فصول في اإلمامة والبيعة
للشيخ
أبي المنذر الشنقيطي حفظه اهلل
1435ه | 2013م
فصول في اإلمامة والبيعة
محتويات الكتاب املقدمة فصل يف وجوب نصب اإلمام فصل وجوب نصب اإلمام على الفور ال على الرتاخي فصل وجوب نصب اإلمام منوط بوجود اجلماعة ال مبظنة اخلالف فصل التمكني والشوكة ليس شرطا لصحة البيعة فصل أهل احلل والعقد ال يشرتط أن يكونوا هم أهل الشوكة فصل ال تتعني مشورة من غاب عن جملس العقد فصل جيب الدخول يف بيعة من كان جامعا للشروط وحيرم االعرتاض عليها فصل ال يشرتط للبيعة عدد حمدود فصل إذا دار األمر بني انعدام اإلمام وجهالة عينه ثبتت البيعة ولو مع اجلهالة اخلامتة
منرب التوحيد واجلهاد
()1
فصول في اإلمامة والبيعة
بسم اهلل الرحمن الرحيم المقدمة احلمد هلل رب العاملني وصلى اهلل على نبيه الكرمي وعلى آله وصحبه أمجعني. وبعد :فقد ثارت يف الفرتة املاضية بعض النقاشات وترددت بعض الشبهات حول موضوع البيعة واإلمامة وما يلزم فيه من شروط ويتعني من أركان .. وقد كتب بعض اإلخوة يف هذا الباب فأفادوا وأجادوا وأحسنوا ما بنوه وشادوا. لكن رأينا من ركب املوج العباب وأفرغ بدلوه يف هذا الباب إال أنه أطال يف غري طائل وعاد بغري نائل .. فأحببت أن أكتب يف املسألة خمتصرا معدودا وضابطا حمدودا يبني ما التبس من مشكالت وجيمع ما تناثر من مهمات يكون ساملا من الطول املمجوج والقصر املخدوج فال السَرعان وال يستقله الظمآن .. ميلّه ّ واجتهدت قدر املستطاع أن أحتاشى ما ال يدخل يف مسائل النزاع . وقد جعلته على شكل فصول وقواعد ،ينطلق منها الشارد ويعود إليها الوارد. وال بد من التنبيه إىل أن باب " اإلمامة وبيعة األمراء " من األبواب اليت ضاقت فيه النصوص واتسعت اآلراء . ونرى أن العصمة فيه من ولوج األخطاء ،وركوب األهواء ،ال تكون إال باتباع النصوص الظاهرة ،واقتفاء اجلماعة الوافرة ،واالعتماد على دقة االستنباط واالستدالل ،ال جمرد حكايات األقوال . فنسأل اهلل تعاىل أن يرزقنا التوفيق واإلصابة يف األقوال واألعمال .
منرب التوحيد واجلهاد
()2
فصول في اإلمامة والبيعة
فصل
في وجوب نصب اإلمام ال بد للناس من أمام جيمع الكلمة ويسوس الرعية ويدفع العادية . وبانعدام اإلمام ختتل مصاحل األنام وتتعطل مجلة من األحكام . وقد قيل أنه كان من عادة الفرس وشؤوهنم كلما مات ملك من ملوكهم أن يرتكوا الناس مخسة أيام بال سلطان وال زمام ،وال رادع يردع الطغاة أو يقمع اجلناة ،حىت تضطرب األمور وتعم الشرور ،فيدرك الناس ضرورة السلطان وينقادوا له بالطاعة واإلذعان . قال اإلمام اخلطايب( :ال بد للناس من إمام يقوم بأمر الناس وميضي فيهم أحكام اهلل ويردعهم عن الشر ومينعهم من التظامل والتفاسد) معامل السنن6/3 ، وقال حممد بن عمر بن مبارك احلمريي " حبرق " : الضرر ،أل ّن النّاس إذا كان هلم رئيس قاهر انتظمت يتضمن دفع ّ ( فإ ّن نصب اإلمام ّ الشريف فيما شرع اهلل ورسوله فيه من األحكام الشرع ّ مصاحل دينهم ودنياهم ،أل ّن مقاصد ّ وإما آجال، واحلدود ،وإظهار شعائر ال ّدين ،إّّنا هي مصاحل عائدة إىل اخللقّ ،إما عاجال ّ وإال ألفضى ذلك إىل اهلالك. يتم ّإال بإمام يرجعون إليه عند اختالفهمّ ، ومعلوم أ ّن ذلك ال ّ األئمة ،حبي يقطع بأ ّهنا لو متادت لتعطّلت أمور ويشهد لذلك ما يثور من الفنت عند موت ّ املعاش واملعاد) حدائق األنوار لبحرق( ،ص)393-393 : وقال الغزايل: ( ال يتمارى العاقل يف أن اخللق على اختالف طبقاهتم وما هم عليه من تشتت األهواء وتباين اآلراء لو خلوا وآراءهم ومل يكن رأي مطاع جيمع شتاهتم هللكوا من عند آخرهم، وهذا داء ال عالج له إال بسلطان قاهر مطاع جيمع شتات اآلراء ،فبان أن السلطان ضروري يف نظام الدنيا ،ونظام الدنيا ضروري يف نظام الدين ،ونظام الدين ضروري يف الفوز بسعادة اآلخرة وهو مقصود األنبياء قطعا ،فكان وجوب نصب اإلمام من ضروريات الشرع الذي ال سبيل إىل تركه) االقتصاد يف االعتقاد للغزايل ،ص.823: وما أحسن قول عبد اهلل بن املبارك -رمحه اهلل:
منرب التوحيد واجلهاد
()3
فصول في اإلمامة والبيعة
بالسلطان معضلة ..عن ديننا وبه إصالح دنيانا اهلل يدفع ّ األئمة مل تأمن لنا سبل ..وكان أضعفنا هنبا ألقوانا لوال ّ وقد دلت النصوص الصرحية من األحادي يف الدوام على وجه اإللزام ،ومن هذه النصوص:
الصحيحة على وجوب بيعة اإلمام ’ونصبه
-8حدي عبد اهلل بن عمر رضي اهلل عنهما أن النيب -صلى اهلل عليه وسلم – قال: « من مات وليس يف عنقه بيعة مات ميتة جاهلية »رواه مسلم . -2حدي أيب سعيد اخلدري ،أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال« :إذا خرج ثالثة يف سفر فليؤمروا أحدهم»رواه أبو داود. -3حدي عبد اهلل بن عمرو ،أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال ...« :وال حيل لثالثة نفر يكونون بأرض فالة إال أمروا عليهم أحدهم».رواه أمحد والطرباين يف املعجم الكبري . وهذا دال باألحرى على وجوب نصب اإلمام األعظم . ويف ذالك يقول الشوكاين : ( وإذا شرع هذا لثالثة يكونون يف فالة من األرض أو يسافرون فشرعيته لعدد أكثر يسكنون القرى واألمصار وحيتاجون لدفع التظامل وفصل التخاصم أوىل وأحرى ،ويف ذلك دليل لقول من قال :إنه جيب على املسلمني نصب األئمة والوالة واحلكام )..نيل األوطار: . 292/3 وقال شيخ اإلسالم ابن تيمية رمحه اهلل: أقل اجلماعات وأقصر االجتماعات ،أن يويل أحدهم ،كان ( فإذا كان قد أوجب يف ِّ هذا تنبيها على وجوب ذلك فيما هو أكثر من ذلك ) احلسبة يف اإلسالم ،أو وظيفة احلكومة اإلسالمية ص9 : وقد نقل اإلمجاع على وجوب نصب اإلمام غري واحد من األئمة األعالم .
منرب التوحيد واجلهاد
()4
فصول في اإلمامة والبيعة
قال النووي رمحه اهلل ( :وأمجعوا على أنه جيب على املسلمني نصب خليفة .)..شرح النووي على مسلم202 /82 ، وقال ابن حزم : ( اتفق مجيع أهل السنة ومجيع املرجئة ومجيع الشيعة ومجيع اخلوارج على وجوب اإلمامة وأن األمة واجب علي ها االنقياد إلمام عادل يقيم فيهم أحكام اهلل ويسوسهم بأحكام الشريعة اليت أتى هبا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم) الفصل يف امللل واألهواء والنحل، 32/2 وقال حبرق: الصحابة رضي األمة ،إلمجاع ّ السنّة أ ّن نصب اإلمام واجب على ّ (اعلم أ ّن مذهب أهل ّ خلو الوقت عن خليفة له اهلل عنهم بعد وفاة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على امتناع ّ وإمام الص ّديق رضي اهلل عنه يف خطبته يف سقيفة بين ساعدة بني املهاجرين واألنصار: وقد قال ّ الكل إىل قبول "أال وإ ّن ّ حممدا قد مات ،وأنّه ال ب ّد هلذا ال ّدين من إمام يقوم به" .فبادر ّ قوله ،ومل يقل أحد ال حاجة يل إىل ذلك ،بل اتّفقوا عليه ،واجتمعوا له) حدائق األنوار، ص393 : وإذا كان وجوب نصب اإلمام دلت عليه النصوص وأمجع عليه أهل اإلسالم ،فهو واجب على املسلمني يف كل مصر ومكان وال خيتص به زمان عن زمان . ومن زعم أن نصب اإلمام غري واجب يف هذه األيام فقد افرتى على اهلل ألنه عارض االئتالف وزعم أن الشرع أقر الناس على التفرق واالختالف. وإذا مل يتيسر نصب اإلمام إال لطائفة من املسلمني تعني األمر عليها وحتتم على سائر املسلمني متابعتها والدخول يف بيعتها . تنبيه: ومن املهم التنبيه إىل أن البيعة املقصودة يف قوله -صلى اهلل عليه وسلم – « :من مات وليس يف عنقه بيعة مات ميتة جاهلية » ليست كل بيعة على اإلطالق وإّنا هي بيعة اإلمام
منرب التوحيد واجلهاد
()5
فصول في اإلمامة والبيعة
العام على السمع والطاعة ،وال تنوب عنها أي بيعة أخرى كبيعة أمري يف احلرب على جهاد العدو الصائل ،أو بيعة شيخ أو مجاعة على األمر باملعروف والنهي عن املنكر . فهذه البيعات وإن كانت مشروعة فهي ال تنوب عن بيعة اإلمام الواجبة. فال يشرع تأخري نصب اإلمام إن عدم ،أو التأخر عن بيعته إن وجد ،حبجة وجود مثل هذه البيعات ،بل مىت كانت هذه البيعات مانعة من بيعة اإلمام أو مزامحة هلا فهي غري مشروعة .
منرب التوحيد واجلهاد
()6
فصول في اإلمامة والبيعة
فصل وجوب نصب اإلمام على الفور ال على التراخي إذا تقرر وجوب نصب اإلمام فاعلم أنه واجب على الفور ال على الرتاخي ؛ ألن ما يتعلق به من مهمة وأحكام ال حيتمل التأخري . فإذا كان املسلمون بال إمام حيكمهم وال خليفة جيمعهم فمن أهم ما جتب املبادرة إليه هو السعي إىل نصب اإلمام ملا يتوقف على غياب بيعته من تعطل مصاحل األنام وغياب الشريعة واألحكام . قال اجلويين: (الغرض من نصب اإلمام حفظ احلوزة ،واالهتمام مبهمات اإلسالم ،ومعظم األمور اخلطرية ال يقبل الري واملك ،ولو أخر النظر فيه جلر ذالك خلال ال يُتالفا ،وخبال متفاقما ال يستدرك ).غياث األمم ص.63 : وهلذا بادر الصحابة رضي اهلل عنهم إىل عقد البيعة أليب بكر رضي اهلل عنه قبل دفن النيب صلى اهلل عليه وسلم حىت اضطرهم ذالك إىل تأخري دفنه ألكثر من 22ساعة ! . قال النووي رمحة اهلل عليه: ( وإّنا أخروا دفنه صلى اهلل عليه وسلم من يوم االثنني إىل ليلة األربعاء أواخر هنار الثالثاء لالشتغال بأمر البيعة ليكون هلم إمام يرجعون إىل قوله إن اختلفوا يف شيء من أمور جتهيزه ودفنه وينقادون ألمره لئال يؤدي إىل النزاع واختالف الكلمة وكان هذا أهم األمور واهلل أعلم) شرح النووي على مسلم 36 /3 وقال الغزايل : ( فليال حظ العصر االول كيف تسارع الصحابة بعد وفاة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم اىل نصب االمام وعقد البيعة وكيف اعتقدوا ذلك فرضا حمتوما وحقا واجبا على الفور والبدار وكيف اجتنبوا فيه التواين واالستئخار حىت تركوا بسبب االشتغال به جتهيز رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وع لموا انه لو تصرم عليهم حلظة ال إمام هلم فرمبا هجم عليهم حادثة ملمة ،وارتبكوا يف حادثة عظيمة تتشتت فيها اآلراء ،وختلف متبوع مطاع ،جيمع شتات
منرب التوحيد واجلهاد
()7
فصول في اإلمامة والبيعة
اآلراء ،ال خنرم النظام وبطل العصام وتداعت باالنفصام عرى األحكام فألجل ذلك آثروا البدار إليه ومل يعرجوا يف احلال إال عليه) فضائح الباطنية ،ص.838: وليت شعري إذا كان الرسول صلى اهلل عليه وسلم وهو أشرف خملوق واألوىل بأداء ما له من حقوق يشرع تأخري دفنه تالفيا لتعطيل منصب اإلمامة وغياب السلطة والزعامة .. أو يسوغ بعد هذا أن يزعم زاعم مشروعية تأخري نصب اإلمام أو يدعي أن املبادرة إىل نصبه ليست على وجه اإللزام ؟ بل إن فعل الصحابة هذا فيه دليل قاطع وبرهان ساطع على وجوب املبادرة إىل عقد الوالية الشرعية وتقدميها على سائر املهمات الدينية والدنيوية . أما تأخريها فهو معصية يأمث هبا املسلمون مجيعا .
منرب التوحيد واجلهاد
()8
فصول في اإلمامة والبيعة
فصل وجوب نصب اإلمام منوط بوجود الجماعة ال بمظنة الخالف قال بعض اإلخوة الفاضلني :ال مشاحة يف وجوب االجتماع واالنضواء حتت راية أمري مطاع ،لكن احلكمة من االجتماع هي حصول األلفة واالتفاق والفرار من اخلالف واالفرتاق ،فمىت كان االجتماع سببا يف الفرقة ،عاد األمر إىل عكسه وانقلب احلكم إىل ضده ومل يعد االجتماع مأمورا به ! قلت :واجلواب على هذا يف مسألتني: المسألة األولى: أن اهلل سبحانه وتعاىل جعل نصب اإلمام سببا من أسباب األلفة واالتفاق فمن زعم أنه سبيل إىل التنازع والشقاق وبريد إىل التباغض واالفرتاق ،فقد كذب خرب اهلل تعاىل ،وحذر مما هنى عنه وزعم أن ما أنزل اهلل من الدواء قد يكون سببا إىل زيادة الداء !! ِ َّ ِ ين فَ َّرقُوا ِدينَ ُه ْم َوَكانُوا ِشيَعاً وهل يكون يف التفرق خري بعد أن قال اهلل تعاىل{ :إ َّن الذ َ ت ِم ْن ُه ْم فِي َش ْيء}...؟ لَ ْس َ وقال تعاىل{ :وا ْعتَ ِ ص ُموا بِ َح ْب ِل اللَّ ِه َج ِم ًيعا َوَال تَ َف َّرقُوا .} ... َ قال ابن كثري : (وقوله{ :وال تفرقوا} أمرهم باجلماعة وهناهم عن التفرقة ،وقد وردت األحادي املتعددة بالنهي عن التفرق ،واألمر باالجتماع واالئتالف .... ،وقد ضمنت هلم العصمة عند اتفاقهم من اخلطأ ،كما وردت بذلك األحادي املتعددة أيضا ،وخيف عليهم االفرتاق واالختالف ) ،تفسري ابن كثري 33 /2: وقد أخرب النيب صلى اهلل عليه وسلم يف مجلة من أحاديثه بأن يد اهلل مع اجلماعة.. عن عرفجة بن ضريح األشجعي ،قال رأيت النيب صلى اهلل عليه وسلم وهو على املنرب خيطب الناس ،فقال:
منرب التوحيد واجلهاد
()9
فصول في اإلمامة والبيعة
(إنه سيكون بعدي هنات وهنات ،فمن رأيتموه فارق اجلماعة أو يريد أن يفرق أمر أمة حممد صلى اهلل عليه وسلم كائنا من كان فاقتلوه ،فإن يد اهلل على اجلماعة ،وإن الشيطان مع من فارق اجلماعة يركض)رواه النسائي. وعن أسامة بن شريك ،قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم: (يد اهلل على اجلماعة ،فإذا شذ الشاذ منهم اختطفه الشيطان كما خيتطف الذئب الشاة من الغنم)رواه الطرباين يف املعجم الكبري. المسألة الثانية: أن قائل هذا الكالم التبست عليه األمور يف قواعد األحكام . فال بد من التفريق بني العلة واحلكمة . فالعلة هي الوصف الذي يدور معه احلكم وجودا وعدما ،فمىت عدم ذالك الوصف عدم احلكم . كاإلسكار بالنسبة للخمر فمىت كان الشراب مسكرا فهو حرام ومىت كان غري مسكر فهو حالل . أما احلكمة فهي املعىن الذي من أجله صار الوصف علة . قال سيدي عبد اهلل يف مراقي السعود يف تعريف احلكمة: وهي اليت من أجلها الوصف جرى ...علة حكم عند كل من درى . فعلة حرمة اخلمر هي اإلسكار واحلكمة من ذالك هي احلفاظ على العقل . واحلكم يدور وجودا وعدما مع العلة ال مع احلكمة . فإذا وجد اإلسكار وجدت احلرمة وإذا عدم اإلسكار عدمت احلرمة . فإن حدث يف بعض احلاالت أن وجد شخص ال يغلب على عقله اخلمر وال يسكره، فال يقال إن اخلمر بالنسبة له حالل .
منرب التوحيد واجلهاد
()11
فصول في اإلمامة والبيعة
ألن احلكم منوط باملظنة والغالب ،وختلفهما يف بعض اجلزئيات ال يؤثر على احلكم . فالصوم أبيح يف السفر ألنه مظنة للمشقة ،فإذا كان السفر يف بعض احلاالت ال توجد فيه مشقة فال تأثري لذالك على احلكم بل يبقى الفطر مشروعا وإن كان السفر غري شاق . والقاعدة أن " املعلل باملظان ال يتخلف فيه احلكم بتخلف احلكمة " . يقول ابن القيم رمحه اهلل: ( شأن الشرائع الكلية أن تراعي األمور العامة املنضبطة ،وال ينقضها ختلف احلكمة يف أفراد الصور ،كما هذا شأن اخللق؛ فهو موجب حكمة اهلل يف خلقه وأمره يف قضائه وشرعه، ) إعالم املوقعني عن رب العاملني 63/2: وهلذا فإن علة الرخصة يف الفطر اليت يدور معها احلكم وجودا وعدما هي "السفر" ال وجود املشقة . وأما التعليل باحلكمة فقد أشار إىل اخلالف فيه صاحب املراقي بقوله: ويف ثبوت احلكم عند االنتفا ...للظن والنفي خالف عرفا. وأصح األقوال يف هذه املسألة هو عدم مشروعية التعليل باحلكمة ،ومن األدلة على ذالك: أوال :أن احلكمة الغالب فيها اخلفاء ،وعدم االنضباط ،واالختالف حبسب األحوال واألشخاص واألزمان. فخشية املشقة هي احلكمة من مشروعية الفطر يف السفر ،وهذه املشقة ختتلف من شخص آلخر حسب جلد الشخص وقوته ومن وقت آلخر حسب فصول السنة برودة وحرا وظروفا مناخية ،وحسب تفاوت وسائل النقل من الدابة إىل الطائرة . فلو جعلنا العلة يف الفطر يف السفر هي "خشية املشقة" فقلنا " (ال حيل الفطر إال ملن كان سفره شاقا) لرتتب على ذالك اضطراب احلكم وتغريه من حالة حلالة ،ومن شخص آلخر ،ومن وقت آلخر .
منرب التوحيد واجلهاد
()11
فصول في اإلمامة والبيعة
وأما لو جعلنا العلة جمرد السفر فقلنا " :كل مسافر حيل له الفطر" فهذا وصف ظاهر منضبط ال يتغري حبسب األشخاص واألحوال واألزمان وبذالك يندفع االضطراب عن احلكم. ثانيا: أن التعليل باحلكمة يؤدي على ختلف احلكم عن علته (أي وجود العلة مع عدم وجود احلكم) . مثال ذالك : العلة يف وجوب حد الزنا هي اإليالج احملرم ،واحلكمة يف حرمة الزنا هي خشية اختالط النسب . فإذا عللنا باحلكمة يف هذه املسألة كان احلد واجبا على كل من تسبب يف اختالط النسب (كقابلة استبدلت مولود امرأة بغريه عمدا) وإن مل حنكم عليها باحلد كان ذالك خالف األصل ألن احلكم يدور مع علته وجودا وعدما ،فمىت وجد اختالط النسب تعني أن يوجد احلد . وإّنا جعلت العلة هي مناط احلكم ألهنا مكان نوطه أي تعليقه فحيثما وجدت وجد. كما قال أبو متام : بالد هبا نيطت على متائمي ... ...وأول أرض مس جلدي تراهبا *** إذا تقرر هذا الكالم ،واطمأنت له القرائح واألفهام ،فاعلم بأن اهلل تعاىل أوجب على عباده التوحد واالعتصام واالنضواء حتت راية اإلمام . وأن علة هذا الوجوب اليت يدور معها وجودا وعدما هي وجود اجلماعة اليت ال يستقيم أمرها إال بالسمع والطاعة ،لقول النيب صلى اهلل عليه وسلم يف حدي عبد اهلل بن عمرو: « ...وال حيل لثالثة نفر يكونون بأرض فالة إال أمروا عليهم أحدهم».رواه أمحد والطرباين يف املعجم الكبري . منرب التوحيد واجلهاد
()12
فصول في اإلمامة والبيعة
وأما " خشية التفرق واالختالف " فهي حكمة هذا الوجوب ال علته . واحلكم يدور مع العلة ال مع احلكمة . ولو جعلنا احلكمة ه ي مناط احلكم يف هذه املسألة لكان بإمكان البعض أن يقول" :ال جيب علينا نصب اإلمام ألنا ال خنشى من الفرقة واالنقسام " !! وهذا من أشنع ما تتفتق عنه القرائح واألفهام !..
منرب التوحيد واجلهاد
()13
فصول في اإلمامة والبيعة
فصل التمكين والشوكة ليس شرطا لصحة البيعة إذا بايع املسلمون إماما هلم وهم يف حالة ضعف وعدم متكني فال يقدح ذالك يف أمري املؤمنني ،وال يوهن عقد بيعة املبايعني .. ولنا يف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أسوة حسنة فقد بايع من وفد إليه من األنصار ليلة العقبة ومل يكن آنذاك له قوة أو شوكة . قال جابر ،رضي اهلل عنه يف ذكر بيعة األنصار للنيب صلى اهلل عليه وسلم يف العقبة الثانية ( :فرحل إليه منا سبعون رجال ،حىت قدموا عليه يف املوسم فواعدناه بيعة العقبة، فاجتمعنا عندها من رجل ورجلني ،حىت توافينا ،فقلنا :يا رسول اهلل عالم نبايعك؟ قال: «تبايعوين على السمع والطاعة يف النشاط والكسل ،والنفقة يف العسر واليسر ،وعلى األمر باملعروف والنهي عن املنكر ،وأن يقوهلا ال يبايل يف اهلل لومة الئم ،وعلى أن تنصروين، ومتنعوين إذا قدمت عليكم مما متنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ،ولكم اجلنة» ،فقمنا إليه فبايعناه) ،رواه ابن حبان . ففي هذا احلدي صرح جابر رضي اهلل عنه أهنم بايعوا النيب صلى اهلل عليه وسلم على السمع والطاعة يف النشاط والكسل وتلك بيعة على اإلمامة . وقد كان صلى اهلل عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل يف موسم احلج ويدعوهم إىل نصرته وإيوائه ،وروى ابن كثري يف سريته أنه عرض نفسه على بين عامر ابن صعصعة ،فقال رجل منهم يقال له حبرية ابن فارس ":واهلل لو أين أخذت هذا الفىت من قريش ألكلت به العرب" ..مث قال للنيب صلى اهلل عليه وسلم: ( أرأيت إن حنن تابعناك على أمرك ،مث أظهرك اهلل على من خيالفك أيكون لنا األمر من بعدك؟ قال :األمر هلل يضعه حي يشاء" .. فقال له :أفنهدف حنورنا للعرب دونك ،فإذا أظهرك اهلل كان األمر لغرينا! ال حاجة لنا بأمرك) السرية النبوية البن كثري 823 /2: والشاهد من القصة أن النصرة اليت كان يطلبها النيب صلى اهلل عليه وسلم كانت متضمنة بيعته على اإلمرة واإلمامة ومل تكن منفصلة عنها .
منرب التوحيد واجلهاد
()14
فصول في اإلمامة والبيعة
ومن ذالك أيضا حدي عبادة بن الصامت ،قال« :بايعنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على السمع والطاعة يف املنشط واملكره ،وأن ال ننازع األمر أهله ،وأن نقوم أو نقول باحلق حيثما كنا ،ال خناف يف اهلل لومة الئم» رواه البخاري. وقد بوب البخاري هلذا احلدي بقوله( :باب :كيف يبايع اإلمام الناس) ،أي أن البيعة الواردة يف احلدي بيعة على اإلمامة العظمى . وقد كانت هذه البيعة ليلة العقبة الثانية ،وقد ورد يف بعض ألفاظها البيعة على نصرة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إذا قدم املدينة ،كما يف رواية أمحد يف املسند: (فقال :عبادة أليب هريرة :يا أبا هريرة إنك مل تكن معنا إذ بايعنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إنا بايعناه على السمع والطاعة يف النشاط والكسل ،وعلى النفقة يف اليسر والعسر ،وعلى األمر باملعروف والنهي عن املنكر ،وعلى أن نقول يف اهلل تبارك وتعاىل وال خناف لومة الئم فيه ،وعلى أن ننصر النيب صلى اهلل عليه وسلم إذا قدم علينا يثرب فنمنعه مما ّننع منه أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا ،ولنا اجلنة ..)... وقال احلافظ ابن رجب تعليقا على هذا احلدي : (وقد خرجه اهليثم بن كليب يف " مسنده " من رواية ابن إدريس ،عن ابن إسحاق وحيي بن سعيد وعبيد اهلل بن عمر ،عن عبادة بن الوليد أن أباه حدثه ،عن جده قال :بايعنا صلَّى اهللُ َعلَْي ِه َو َسلَّ َم يف العقبة اآلخرة على السمع والطاعة ،فذكره......وهذا رسول اهلل َ يدل على أن هذه البيعة كانت قبل اهلجرة وذلك ليلة العقبة )..فتح الباري البن رجب /8 30 فأنت ترى أن حدي جابر وحدي عبادة ابن الصامت كالمها ورد فيه البيعة على السمع والطاعة يف املنشط واملكره وهذا هو الذي تنعقد به اإلمامة وتلزم به املتابعة وأن البيعة الواردة فيهما كانت يف ليلة العقبة وأن الصحابة كانوا يف حالة ضعف وعدم متكني حىت أهنم كانوا خيفون هذا االجتماع الذي عقدت فيه البيعة ،ويشهد لذالك قول جابر يف حديثه السابق( :فواعدناه بيعة العقبة ،فاجتمعنا عندها من رجل ورجلني) . وإّنا حصل التمكني بعد جميء النيب صلى اهلل عليه وسلم إىل املدينة . كما قال ابن هشام يف سريته:
منرب التوحيد واجلهاد
()15
فصول في اإلمامة والبيعة
(قال ابن إسحاق :فلما اطمأن رسول اهلل -صلى اهلل عليه وسلم -باملدينة ،واجتمع إليه إخوانه من املهاجرين ،واجتمع أمر األنصار ،استحكم أمر اإلسالم ،فقامت الصالة، وفرضت الزكاة والصيام ،وقامت احلدود ،وفرض احلالل واحلرام ،وتبوأ اإلسالم بني أظهرهم، ) سرية ابن هشام .888 /2 فهل يسوغ بعد هذا أن يقول قائل" :ال عربة بالبيعة يف حال عدم التمكني" ؟ وكما أنه ال عربة هبذا القول من جهة األثر فال عربة له أيضا من جهة النظر، وذالك من وجوه : -8أن القول باشرتاط التمكني لعقد البيعة ابتداء يفضي إىل القول ببطالن البيعة وانعزال اإلمام كلما عدمت القوة والشوكة بعد وجودها . -2أن هذا القول يفضي إىل التشكيك يف إمامة علي رضي اهلل عنه فقد انعقدت له البيعة يف أيام فتنة وغياب شوكة ،ومل يستطع القصاص من قتلة عثمان رضي اهلل عنه لعدم القدرة . -3أن األمور اليت ندب الشرع إليها وحض املسلمني عليها مل جيعل هلا شروطا مانعة وال حدودا رادعة ،ومن ذالك االجتماع والتوحد فإن الشرع أمر به أمرا مطلقا ومل جيعل دونه بابا مغلقا . فمن قال ال يشرع االجتماع حتت راية أمري إال يف حالة التمكني فقد قيد ما أطلقه الشرع. -2أن اإلمامة معقودة الجتماع الكلمة وجمانبة الفرقة واألخذ بأسباب القوة ،ولعمري إن أهل الضعف أشد حاجة إىل هذا من أهل القوة .. ومىت يبلغ املسلمون ما يرجونه من القوة والتمكني إن بقوا على حاهلم متفرقني ؟ وإن من املنايف ملقاصد الشرع وقرائح الطبع أن يقال :تفرقوا فإنكم ضعفاء ! بل إن الشرعة احلكيمة والفطرة السليمة جعلتا وجود الضعف داعيا إىل االجتماع أمال يف حصول القوة والظفر واالتساع .
منرب التوحيد واجلهاد
()16
فصول في اإلمامة والبيعة
فصل أهل الحل والعقد ال يشترط أن يكونوا هم أهل الشوكة ذهب بعض أهل العلم كشيخ اإلسالم ابن تيمية والغزايل واجلويين وغريهم إىل أن أهل احلل والعقد الذين تنعقد هبم البيعة هم الذين تتحقق هبم الشوكة .. والرد على هذا القول من وجوه: الوجه األول :أن ما ذكرناه يف الفصل السابق من األدلة على عدم اشرتاط القوة والشوكة لعقد البيعة ،يدل باللزوم على عدم اشرتاط الشوكة يف من تنعقد هبم البيعة . الوجه الثاني :أن أهل الشوكة املذكورين ليس هلم نصاب حمدود وال قدر معدود . والشروط اليت من خالهلا حيكم بالعدم والوجود ال بد أن تكون مقدرة احلدود. الوجه الثالث :أن اشرتاط القوة والشوكة يفضي إىل مفسدة كربى وهي مشروعية نقض البيعة بعد إبرامها كلما عدمت الشوكة وأرباهبا ! الوجه الرابع :إذا كانت اإلمامة ال تثبت أركاهنا وال يستقر حاهلا إال بعد حصول الشوكة فلك أن تتخيل أن الزمن الفاصل بني عقد البيعة وحصول الشوكة قد يتسع فيه اجملال ويقتتل الرجال ألن البيعة مل تتأكد يف احلال ! وهذا خمالف للحكمة من وجوب نصب اإلمام على الفور واالستعجال . الوجه الخامس :مؤدى هذا القول هو أن البيعة الشرعية ال تتحقق إال ملن له القوة والشوكة .. وهذا يضعنا أمام إشكال ظاهر وخلل سائر ألن الشوكة والقوة كثريا ما تكون مع فاقد األهلية ! فإذا بايع بعض أهل احلل والعقد ملن كان جامعا لألوصاف ومل تكن له شوكة مانعة وال قوة رادعة وبايع آخرون فاقد األهلية ذا املال الغزير واجلمع الوفري .. فأيهما أعظم ميزة ؟
منرب التوحيد واجلهاد
()17
فصول في اإلمامة والبيعة
ومن منهما أعلى ركيزة ؟ هل تقدم الشوكة والغلبة وتلغى سائر األوصاف اليت هلا السبق يف احللبة ؟ وهل جتب طاعة املتغلب الغاصب وتشرع معصية املبايَع الراتب ؟ كان شيخ اإلسالم ابن تيمية رمحة اهلل عليه ممن يعترب الغلبة ووقوع التمكني شرطا لإلمامة وركنا للبيعة ويغلب جانب القوة على جانب الشرعية وهلذا فإنه يصف أهل احلل والعقد بأهنم أهل القوة والشوكة . فاإلمامة عند شيخ اإلسالم ال تتحقق إال بالتغلب والقوة بغض النظر عن مدى شرعية هذا املتغلب !.. يقول شيخ اإلسالم رمحة اهلل عليه: ( فاحلل واحلرمة متعلق باألفعال ،وأما نفس الوالية والسلطان فهو عبارة عن القدرة احلاصلة ،مث قد حتصل على وجه حيبه اهلل ورسوله ،كسلطان اخللفاء الراشدين ،وقد حتصل على وجه فيه معصية ،كسلطان الظاملني )..منهاج السنة النبوية ()230 /8 وكالمه يعين أن االستيالء على اإلمامة بالغلبة مع فقد أركان البيعة وشروط اإلمامة يفيد احلرمة وال يقدح يف شرعية إمامة املتغلب !.. فكأنه رمحه اهلل جعل لشرعية اإلمامة شرطا واحدا هو القوة ،وأما بقية األركان فهي بالنسبة له واجبة غري شرط يف صحة اإلمامة !! وانطالقه من هذا املبدأ هو الذي جعله دائما يصف أهل احلل والعقد بأهنم " أهل القدرة والشوكةّ " دون ذكر لسائر األوصاف اليت اتفق أهل العلم على ذكرها كالعلم والعدالة .. بل ذهب رمحه اهلل إىل أن اإلمام ال يصري إماما إال مببايعة أهل القدرة والشوكة له . فقال: (..مىت صار إماما ،فذلك مببايعة أهل القدرة له ).منهاج السنة النبوية 230 /8
منرب التوحيد واجلهاد
()18
فصول في اإلمامة والبيعة
و يرى أن كل بيعة ال حتدث من طرف أهل الشوكة والقدرة فهي باطلة غري نافذة: (وال يصري الرجل إماما حىت يوافقه أهل الشوكة عليها الذين حيصل بطاعتهم له مقصود اإلمامة ،فإن املقصود من اإلمامة إّنا حيصل بالقدرة والسلطان ،فإذا بويع بيعة حصلت هبا القدرة والسلطان صار إماما )..منهاج السنة النبوية 223 /8 ويرى أن بيعة أيب بكر رضي اهلل عنه إّنا متت مببايعة أهل القدرة والشوكة ال مبجرد بيعة أهل السقيفة !.. قال رمحه اهلل: (ولو قدر أن عمر وطائفة معه بايعوه ،وامتنع سائر الصحابة عن البيعة ،مل يصر إماما بذلك ،وإّنا صار إماما مببايعة مجهور الصحابة ،الذين هم أهل القدرة والشوكة )...منهاج السنة النبوية 230 /8 وهو أيضا يرى أن الوصية بالعهد ال تنفذ حىت يرضى هبا أهل القدرة والشوكة ويقبلوها ! يقول رمحه اهلل( :وكذلك عمر ملا عهد إليه أبو بكر ،إّنا صار إماما ملا بايعوه وأطاعوه، ولو قدر أهنم مل ينفذوا عهد أيب بكر ومل يبايعوه مل يصر إماما ،سواء كان ذلك جائزا أو غري جائز) منهاج السنة النبوية 230 /8 قلت :وهذه العبارة األخرية من كالمه وهي قوله( :سواء كان ذلك جائزا أو غري جائز)، دالة على أنه رمحة اهلل عليه يغلب جانب القوة على جانب الشرعية .. إذ كيف يكون هذا املتغلب وصل لإلمامة بطريقة غري شرعية ومع ذالك نعترب إمامته شرعية ..؟ فهذا خمالف للقاعدة املعلومة عند أهل األصول " :املعدوم شرعا كاملعدوم حسا " . والعربة من الناحية الشرعية إّنا تكون ملن حاز أوصاف اإلمامة ومجع الشروط املعتربة . وأما من هجم على اإلمامة بالقوة وانتزعها بطريق الغلبة فال يعترب إماما شرعيا ،ألن املعدوم شرعا كاملعدوم حسا .
منرب التوحيد واجلهاد
()19
فصول في اإلمامة والبيعة
فوطء الزوجة وهي حائض ال حيلل املبتوتة ،وال يعترب به الزوج حمصنا ،وال حتصل به الرجعة يف العدة للمطلقة ،وال حتصل به الفيئة من الزوج املويل ،ألن الوطء حمرم شرعا، حسا ،فكأنه مل يكن . واملعدوم شرعا كاملعدوم ًّ وإّنا أفىت أهل العلم بطاعة املتغلب اضطرارا إذا مل يوجد غريه أو كان يف إزاحته فتنة تدوم. كما قال ابن مجاعة: (إن خال الوقت من إمام فتصدى هلا من ليس من أهلها ،وقهر الناس بشوكته وجنوده بغري بيعة أو استخالف ،انعقدت بيعته ،ولزمت طاعته؛ لينتظم مشل املسلمني ،وال يقدح يف إمامته كونه فاسقا أو جاهال ،ما دام قد متت له الغلبة). وفرق بني القول بأن املتغلب يطاع اضطرارا ،والقول بأن له الشرعية ابتداء . الوجه السادس :القول بأن اإلمامة ال تنعقد إال ملن له الغلبة يوهن عقد البيعة وجيعله إجراء شكليا ال أثر له ،ألنه ال يؤخر من قدمته القوة ’ وال يقدم من أخره الضعف ! قال اإلمام اجلويين: ( فالوجه عندي يف ذلك أن يعترب يف البيعة حصول مبلغ من األتباع واألنصار واألشياع، حتصل هبم شوكة ظاهرة ،ومنعة قاهرة ،حبي لو فرض ثوران خالف ،ملا غلب على الظن أن يصطلم أتباع اإلمام ،فإذا تأكدت البيعة ،وتأطدت بالشوكة والعدد والعدد ،واعتضدت، وتأيدت باملنة ،واستظهرت بأسباب االستيالء واالستعالء ،فإذا ذاك تثبت اإلمامة ،وتستقر، وتتأكد الوالية وتستمر ) ،غياث األمم يف التياث الظلم ،ص.38-30 : وحاصل هذا الكالم أن البيعة ال تنعقد بعقد البيعة نفسه وإّنا تنعقد بظهور القوة وتأكد الشوكة ! فمن عقدت له البيعة يف جملس عقد البيعة فال حق له يف اإلمامة حىت حيصل على "مبلغ من األتباع واألنصار واألشياع ،حتصل هبم شوكة ظاهرة" !! فأين أثر العقد إذن ؟؟!
منرب التوحيد واجلهاد
()21
فصول في اإلمامة والبيعة
واحلق أن أهل االدين والرأي هم رؤوس الناس والقدوة واألساس ،وسائر الناس هلم تبع، فمن اختاروه وبايعوه تعني على سائر الناس أن ينقادوا له ويطيعوه ،فإن صادف ذالك أن الشوكة والقوة عند غريه ورام هبا نقض ما أبرموه فال يعطي على ذالك وال يتابع يف املهالك . وإال كانت الشوكة والقوة راجحة على بيعة أهل العلم واملشورة . وإذا تقرر هذا فليس من السائغ اشرتاط عقد البيعة من طرف أصحاب القوة والشوكة .. ألن انعقاد اإلمامة إما أن يكون بالبيعة نفسها وإما أن يكون بالقوة والغلبة .
منرب التوحيد واجلهاد
()21
فصول في اإلمامة والبيعة
فصل : ال تتعين مشورة من غاب عن مجلس العقد يكفي يف انعقاد البيعة ولزومها مشورة من حضر من أهل احلل والعقد جمللسها وال يتعني مشورة من مل يتيسر حضوره . فأهل السقيفة الذين بايعوا أبا بكر رضي اهلل عنه مل يستشريوا من غاب عن اجمللس ،وقد كانت بيعتهم ملزمة وماضية .. ويف هذا دليل على أنه ال تشرتط مشورة من مل يتيسر حضوره جمللس البيعة . وأما قول عمر رضي اهلل عنه ...( :من بايع رجال عن غري مشورة من املسلمني فال يبايع هو وال الذي بايعه ،تغرة أن يقتال.).. فقد برت عن سياقه وحاد به البعض عن نطاقه ،ألنه رضي اهلل عنه قال ذالك ردا على من قال ( :واهلل لو قد مات عمر بايعت فالنا ). ورد يف حدي ابن عباس أن عمر رضي اهلل عنه قال: ( إنه بلغين أن قائال منكم يقول :واهلل لو قد مات عمر بايعت فالنا ،فال يغرتن امرؤ أن يقول :إّنا كانت بيعة أيب بكر فلتة ومتت ،أال وإهنا قد كانت كذلك ،ولكن اهلل وقى شرها، وليس منكم من تقطع األعناق إليه مثل أيب بكر ،من بايع رجال عن غري مشورة من املسلمني فال يبايع هو وال الذي بايعه ،تغرة أن يقتال) ،رواه البخاري . واحلق أن املشورة قبل البيعة ال بد منها لقوله تعاىل{ :وأمرهم شورى بينهم}. والبيعة من أهم املهمات وأعم العمومات فال ينبغي التقحم يف باهبا إال بعد املشورة والنظر يف مآهلا.. وال يشرع للفرد الواحد أن يبادر إىل بيعة أحد قبل مشاورة من تيسر من أهل احلل والعقد ،وهلذا اعتذر عمر رضي اهلل عنه عن مبايعته أليب بكر دون مشورة من أحد ملا كان يرجوه من قطع النزاع ومنع الصراع .
منرب التوحيد واجلهاد
()22
فصول في اإلمامة والبيعة
قال عمر رضي اهلل عنه..( :فكثر اللغط ،وارتفعت األصوات ،حىت فرقت من االختالف ،فقلت :ابسط يدك يا أبا بكر ،فبسط يده فبايعته ،وبايعه املهاجرون مث بايعته األنصار)...رواه البخاري . قال ابن حجر: ( وقد بني عمر سبب إسراعهم ببيعة أيب بكر ملا خشوا أن يبايع األنصار سعد بن عبادة قال أبو عبيدة عاجلوا ببيعة أيب بكر خيفة انتشار األمر وأن يتعلق به من ال يستحقه فيقع الشر وقال الداودي معىن قوله كانت فلتة أهنا وقعت من غري مشورة مع مجيع من كان ينبغي أن يشاور) فتح الباري البن حجر 820 /82: ومنع الواحد من املبايعة لرجل دون مشورة من حضر من أهل احلل العقد ال تعين منع مجاعة من أهل احلل والعقد من املبادرة إىل البيعة قبل مشورة سائر أهل احلل والعقد بل يتعني عليهم فقط التشاور مع من تيسر حضوره جملس البيعة . ومن فهم من كالم عمر رضي اهلل عنه أن البيعة اليت يعقدها احلاضرون ال تعد ملزمة حىت يرضى هبا الغائبون فقد جانب الصواب وأسس بنيانه على خراب . ولو قلنا بأن البيعة ال تنعقد إال مبشورة كل من يوصفون بأهل احلل والعقد ممن ال يضمهم جملس واحد التسع اخلرق على الراقع واستمر األمر حىت تتوقف صحة البيعة على مشورة الرؤساء واألشراف يف املدن واألمصار القريبة مث النائية. وهو ما مل حيدث يف العهد األول بل كان األمر موقوفا على مشورة احلاضرين واملتابعة من طرف الغائبني . وقد نص غري واحد من أهل العلم على أن مضي البيعة ال يتوقف على رضا الغائبني وال إمجاع مجيع املسلمني . قال ابن حزم: ( أما من قال أن اإلمامة ال تصح إال بعقد فضالء األمة يف أقطار البالد فباطل ألنه تكليف ما ال يطاق وما ليس يف الوسع ......مع أنه لو كان ممكنا ملا لزم ألنه دعوى بال برهان) الفصل يف امللل واألهواء والنحل 829 /2:
منرب التوحيد واجلهاد
()23
فصول في اإلمامة والبيعة
وقال حممد بن عمر احلمريي "حبرق" : احلل والعقد ،فضال (وال يشرتط يف ّ صحة البيعة إمجاع احلاضرين منهم ببلدها ،من أهل ّ علي عن إمجاع أهل األقطار ،أل ّن ّ الصحابة مل يفتقروا يف عقدها أليب بكر إىل حضور ّ وعبّاس وسائر بين هاشم رضي اهلل عنهم أمجعني ) ،حدائق األنوار ،ص208 : وقال النووي: (األصح :أن املعترب بيعة أهل احلل والعقد من العلماء والرؤساء وسائر وجوه الناس الذين يتيسر حضورهم ،وال يشرتط اتفاق أهل احلل والعقد يف سائر البالد واألصقاع ،بل إذا وصلهم خرب أهل البالد البعيدة ،لزمهم املوافقة واملتابعة ) ،روضة الطالبني وعمدة املفتني 23 /80: وقال أيضا: (وتنعقد اإلمامة بالبيعة واألصح بيعة أهل احلل والعقد من العلماء والرؤساء ووجوه الناس الذين يتيسر اجتماعهم )..منهاج الطالبني وعمدة املفتني يف الفقه :ص292 : وقال الغزايل: (وباطل أن يعترب إمجاع أهل احلل والعقد يف مجيع أقطار األرض ،ألن ذالك مما ميتنع أو يتعذر ....وألنه ملا عقدت البيعة أليب بكر رضي اهلل عنه مل ينتظر انتشار األخبار إىل سائر األمصار ،وال تواتر كتب البيعة من أقاصي األقطار بل اشتغل باإلمامة وخاض يف القيام مبوجب الزعامة) فضائح الباطنية ص.836 -832: وقال اجلويين: (مما يقطع به أن اإلمجاع ليس شرطا يف عقد اإلمامة باإلمجاع والذي يوضح ذلك أن أبا بكر -رضي اهلل عنه -صحت له البيعة ; فقضى وحكم، وأبرم وأمضى ،وجهز اجليوش ،وعقد األلوية ،وجر العساكر إىل مانعي الزكاة ،وجىب األموال، وفرق منها ،ومل ينتظر يف تنفيذ األمور انتشار األخبار يف أقطار خطة اإلسالم ،وتقرير البيعة من الذين مل يكونوا يف بلدة اهلجرة ،وكذلك جرى األمر يف إمامة اخللفاء األربعة ،فهذا مما ال يسرتيب فيه لبيب) غياث األمم يف التياث الظلم ،ص63 :
منرب التوحيد واجلهاد
()24
فصول في اإلمامة والبيعة
وقال القلقشندي: (األصح عند أصحابنا الشافعية رضي اهلل عنهم أهنا تنعقد مبن تيسر حضوره وقت املبايعة يف ذالك املوضع من العلماء والرؤساء وسائر وجوه الناس املتصفني بصفات الشهود .....وال التفات إىل أهل البالد النائية ،بل إذا بلغهم خرب البيعة وجب عليهم املوافقة واملتابعة) مآثر اإلنافة يف معامل اخلالفة.22 /8 : وإّنا ذهب إىل القول باشرتاط اإلمجاع يف البيعة من أراد الطعن يف إمامة علي رضي اهلل عنه . قال ابن حزم: ( هشام بن عمرو الفوطي ،واألصم من أصحابه ،قدحا يف إمامة علي رضي اهلل عنه بقوهلما:إن اإلمامة ال تنعقد إال بإمجاع األمة عن بكرة أبيهم) امللل والنحل.30 /8: ومما يدل على وجوب متابعة املبادرين إىل البيعة املعقودة ،وعدم االكرتاث مبن عارضها مبزاعم مردودة ،أن البيعة رمبا أبرمت من طرف أهلها وأصحاهبا ،مث ال يستمر سرياهنا وال يدوم جرياهنا بسبب دعوة مضادة أو عصبية حادة ! فهل يزعم ذو لب وبصرية ليس له شوى أن بيعة أهل احلل والعقد يف هذه احلالة تلغى وأن أمرها يطوى ؟ وهب أنا غلبنا على عقولنا وقبلنا ذالك ..فما املخرج إن بايعت طائفة أخرى من الصفوة وذوي األلباب ،مث مل تسر البيعة الرتياب مرتاب أوملا تقدم من أسباب ..؟ َأو تربم البيعة من طرف احلاضرين مث يشرع نقضها من جهة الغائبني ؟!!
منرب التوحيد واجلهاد
()25
فصول في اإلمامة والبيعة
فصل يجب الدخول في بيعة من كان جامعا للشروط ويحرم االعتراض عليها املبادرة إىل بيعة من اجتمعت فيه الشروط املعلومة وحاز السبق يف األوصاف املرقومة، توجب على من حضر من أهل احلل والعقد املسابقة إليها والتحريض عليها. وهذا هو املتواتر من فع ل الصحابة رضي اهلل عنهم فإنك ال ترى هلم إال االستجابة الفورية والدخول يف أول بيعة شرعية . لعلمهم أن االعرتاض يف مثل هذه احلال يفضي إىل االختالف واالختالل . وقد سارع عمر يوم السقيفة إىل البيعة للص ّديق دون مشورة ،لدعاية احلال وإمالء الضرورة ،خشية أن يسرع مبادر إىل بيعة غريه من احلضور ،فتحدث الفتنة وتضطرب األمور. ولو مل تكن متابعة املبادر إىل البيعة واجبة متعينة ،وحرمة اإلعراض عنها معلومة بينة ،ملا كان لتخوفه مكان وال لتسرعه إىل البيعة برهان. وهلذا قال عمر رضي اهلل عنه( :وإنا واهلل ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أيب بكر ،خشينا إن فارقنا القوم ومل تكن بيعة :أن يبايعوا رجال منهم بعدنا ،فإما بايعناهم على ما ال نرضى ،وإما خنالفهم فيكون فساد)..رواه البخاري. فكالم عمر رضي اهلل عنه مشعر بوجوب املتابعة ملن بادر إىل املبايعة ونصرته باملشايعة ملا يرتتب على خمالفته من الفساد الذي يشقي به العباد وختتل به أمور البالد. مث إن قول عمر رضي اهلل عنه لسعد "قتله اهلل" يشعر أنه يؤمثه لتخلفه عن البيعة وقد كان حاضرا اجمللس ! وإذا كان احلضور جمللس البيعة قد يأمثون للتخلف عنها فكيف مبن غاب عنها .. بل يتعني عليهم املوافقة واالنقياد ،وليس العرتاضهم بعد إبرام األمر حظ من السداد . وقد نص ابن العريب املالكي على وجوب متابعة املبادرين إىل البيعة فقال: (ألن واحدا أو اثنني تنعقد البيعة هبما وتتم ،ومن بايع بعد ذالك فهو الزم له ،وهو مكره على ذالك شرعا ) العواصم من القواصم (ص.)822 :
منرب التوحيد واجلهاد
()26
فصول في اإلمامة والبيعة
فقوله رمحه اهلل " ومن بايع بعد ذالك فهو الزم له ومكره على ذالك شرعا " صريح يف أنه ال خيار فيه وأنه ال يسع بقية الناس إال متابعة السابق إىل عقد البيعة . وقال النووي: ( ،وال يشرتط اتفاق أهل احلل والعقد يف سائر البالد واألصقاع ،بل إذا وصلهم خرب أهل البالد البعيدة ،لزمهم املوافقة واملتابعة ) ،روضة الطالبني23 /80: وكذالك قال القلقشندي يف كالمه السابق: ( .....بل إذا بلغهم خرب البيعة وجب عليهم املوافقة واملتابعة) مآثر اإلنافة يف معامل اخلالفة.22 /8 : والذي يظهر من خالل "السرب والتقسيم" أن البيعة إذا عقدت من طرف احلضور من أهل احلل والعقد وتوفرت الشروط يف املعقود له وجب الدخول فيها وحرم االعرتاض. ألن املعارض للبيعة ال خيرج عن ثالث احتماالت: -8أن يكون اعرتاضه طلبا ملن هو أعلى مزية وأكمل مرتبة . وهو غري مشروع بعد عقد البيعة لغريه . لقول النيب صلى اهلل عليه وسلم( :فوا ببيعة األول .).. فإذا كانت البيعة للثاين تبطل وترد بعد إبرامها ،فهذا يدل من باب أوىل على حرمة إنشائها . -2أن يكون اعرتاضه ترجيحا للمساوي الذي رجح عليه املبايَع بأسبقية البيعة. وفساد ما قبله يدل على فساده . -3أن يكون اعرتاضه ترجيحا ملن هو أدىن مرتبة من املبايَع وهذا االحتمال أشنع من غريه وأوىل باالضمحالل .
منرب التوحيد واجلهاد
()27
فصول في اإلمامة والبيعة
فبان من هذا "السرب والتقسيم" أن املعرتض على البيعة املسبوق إليها واقع ال حمالة يف احملظور وواجل باب فتنة من الشرور . وفرق السلك بعد انتظامه . ألنه نقض األمر بعد إبرامه ّ
منرب التوحيد واجلهاد
()28
فصول في اإلمامة والبيعة
فصل ال يشترط للبيعة عدد محدود وأما من قال :لو مل يبايع إال مخسة أو عشرة ومل يتابعهم الناس على ذالك مل متض البيعة ،فال مستند له على قوله والنصوص أقرب إىل رد هذا من قبوله . فإن الذين عقدوا البيعة أليب بكر رضي اهلل عنه يف السقيفة كانوا عددا حمصورا ال خلقا وفريا أو مجعا غفريا .. قال أنس بن مالك رضي اهلل عنه( :وكانت طائفة منهم قد بايعوه قبل ذلك يف سقيفة بين ساعدة ،وكانت بيعة العامة على املنرب )..رواه البخاري . وقد ورد يف كالم النيب صلى اهلل عليه وسلم ما يدل على أن والية األمر تنعقد حىت وإن كان عدد الرعية حمصورا حمدودا . ومن ذالك حدي أيب أمامة رضي اهلل عنه أن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال: (ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك ،إال أتى اهلل عز وجل مغلوال يوم القيامة يده إىل عنقه ،ف ّكه ّبره ،أو أ َْوبَقه إمثهّ ،أوهلا مالمة ،وأوسطها ندامة ،وآخراه خزي يوم القيامة) . أخرجه اإلمام أمحد يف "املسند" (. )263 / 2 والطرباين يف الكبري ( 202 / 3رقم . )3322 ويف لفظ يف مسند احلارث( :ما من أمري عشرة إال أتى يوم القيامة مغلوال ال يطلقه إال العدل.)... وجه الداللة من احلدي :أن النيب صلى اهلل عليه وسلم أخرب بأن املقصر يف أداء حقوق الرعية حياسب يوم القيامة على تقصريه حىت وإن كان من توىل أمرهم ال يزيدون على العشرة، وهذا على سبيل املبالغة ،لكنه يدل على مشروعية عقد البيعة من طرف العشرة . ومن ذالك أيضا ما فعله عمر رضي اهلل عنه من جعل األمر شورى بني ستة من الصحابة خيتارونه منهم ومل يعرتض عليه أحد من الصحابة فكان ذالك إمجاعا . وهذا أيضا يدل على مشروعية عقد البيعة من طرف اخلمسة . منرب التوحيد واجلهاد
()29
فصول في اإلمامة والبيعة
فإذا ثبت أن العدد القليل احملصور كاخلمسة والعشرة تنعقد به البيعة ومل يدل دليل على حتديد عدد معني فالصواب أن يقال بأن أقل ما تنعقد به البيعة هو أقل اجلمع . وقد ذهب بعض أهل العلم إىل أن أقل اجلمع هو اثنان . والصحيح أن أقل اجلمع من الناحية الشرعية ثالثة ،ومن األدلة على ذالك: -8حدي أيب سعيد اخلدري أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال: (إذا خرج ثالثة يف سفر فليؤمروا أحدهم).. قال ابن عبد الرب: ( ويف هذا احلدي ما يدل على أن االثنني ليسا جبماعة فتدبره جتده كذلك إن شاء اهلل )..التمهيد3 /20 : قلت :ووجه الداللة من احلدي أن اإلثنني ال جيب عليهما تأمري أحدمها ،فامتاز الثالثة عن االثنني بتعلق الوجوب هبم فدل ذالك على أن أقل اجلمع ثالثة . -2حدي عمرو بن شعيب ،عن أبيه ،عن جده ،قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم( :الراكب شيطان ،والراكبان شيطانان ،والثالثة ركب)رواه مالك وأمحد وأبو داود . وجه الداللة من احلدي :أن املقصد الشرعي املرجو من رفقة اجلماعة ال يتحقق إال مع وجود الثالثة فصاعدا ،فدل ذالك على أن الثالثة هي أقل اجلمع. -3ما رواه مالك مرسال عن سعيد ابن املسيب ووصله ابن عبد الرب يف التمهيد عن أيب هريرة ان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال: (الشيطان يهم بالواحد واالثنني فإذا كانوا ثالثة مل يهم هبم). قال ابن عبد الرب: ( وهذا يف معىن ما ذكرنا أن االثنني ال حيكم هلما حبكم اجلماعة إال فيما خصته السنة ومل خيتلف العرب أن نون االثنني مكسورة ونون اجلمع مفتوحة ففرقت بني االثنني واجلماعة )..التمهيد .3 /20:
منرب التوحيد واجلهاد
()31
فصول في اإلمامة والبيعة
كذا قال رمحه اهلل ’ إال أنه رجح يف أكثر من موضع يف"االستذكار" أن أقل اجلمع اثنان! -2حدي أيب الدرداء قال :مسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول " :ما من ثالثة يف قرية ال يؤذن وال تقام فيهم الصالة إال استحوذ عليهم الشيطان ،فعليك باجلماعة، فإن الذئب يأكل القاصية " رواه أمحد وأبو داود والنسائي وابن خزمية . وجه الداللة من احلدي :أنه ملا تعلق وجوب صالة اجلماعة بالثالثة دون من دوهنم دل ذالك على أن الثالثة هي أقل اجلمع . وحىت من الناحية اللغوية فقد ذهب بعض أهل العلم إىل أن أقل اجلمع ثالثة . قال النووي: ( اجلمهور يقولون أقل اجلمع ثالثة فجمع االثنني جماز وقالت طائفة أقله اثنان )..شرح النووي على مسلم ((82 /86 وقال احلافظ العراقي : (قوله حافظوا على الصلوات يدل على ثالثة من الصلوات إذ أقل اجلمع ثالثة على األصح) طرح التثريب يف شرح التقريب ()838 /2 وقد ذهب مجع من أهل العلم إىل أن البيعة تنعقد من طرف شخص واحد وجيب على الناس متابعته . قال النووي: (ال يتعني لالعتبار عدد ،بل ال يعترب العدد ،حىت لو تعلق احلل والعقد بواحد مطاع، كفت بيعته ;) روضة الطالبني وعمدة املفتني ()23 /80 وقال القرطيب: (فإن عقدها واحد من أهل احلل والعقد فذلك ثابت ويلزم الغري فعله ،خالفا لبعض الناس حي قال :ال تنعقد إال جبماعة من أهل احلل والعقد ودليلنا أن عمر رضي اهلل عنه
منرب التوحيد واجلهاد
()31
فصول في اإلمامة والبيعة
عقد البيعة أليب بكر ومل ينكر أحد من الصحابة ذلك ،وألنه عقد فوجب أال يفتقر إىل عدد يعقدونه كسائر العقود) تفسري القرطيب 269 /8 وقال القلقشندي: احلل والْعقد بِو ِ احد ُمطَاع كفى) مآثر اإلنافة يف معامل اخلالفة 22 /8: (لَو تعلق ْ َ َ وقال حممد بن عمر بن مبارك احلمريي " حبرق " : ( بل يكتفى ببيعة واحد منهم يف ثبوت اإلمامة ملن عقدها له ،ووجوب اتّباع املعقود له الصحابة مع صالبتهم يف ال ّدين بعقد عمر أليب بكر كما على سائر أهل اإلسالم ،الكتفاء ّ الرمحن بن عوف لعثمان كما سيأيت).. سبق ،وعقد عبد ّ والصحيح أن البيعة ال تنعقد إال من طرف مجاعة ،وذالك ألمور : األول :ألن األمر يتعلق مبسألة عامة ختص مجيع املسلمني فال يشرع أن يقضي فيها شخص واحد برأيه أو اجتهاده ،وإّنا جيب أن يكون األمر صادرا عن شورى من املسلمني لقوله تعاىل{ :وأمرهم شورى بينهم}. الثاني :حدي عمر الذي حيذر فيه أن يبايع أحد أمريا دون مشورة املسلمني . الثالث :أن ويل األمر يعهد ملن بعده باألمر ويأمر الناس مببايعته كما فعل أبوبكر رضي اهلل عنه بالعهد باألمر من بعده لعمر وأمجع الصحابة على وجوب إنفاذ عهده . وإذا قلنا بأن الناس ملزمون ببيعة صادرة من شخص واحد ،فقد ألزمناهم باختياره ومل يكن للوالية بالعهد من طرف اإلمام مزية على بيعة سائر الناس !.. أي أنه ال فرق بني والية األمر بالعهد ووالية األمر بالبيعة . تنبيه: جعل عمر رضي اهلل عنه األمر شورى بني ستة من الصحابة فيه دليل على مشروعية اختيار مجاعة حمدودة مكلفة بنصب اإلمام وبيعته ختتاره حسب اتفاقها إما باألغلبية أو مبا تتفق عليه من مرجحات .
منرب التوحيد واجلهاد
()32
فصول في اإلمامة والبيعة
فمع وجود هذه اهليئة وتعيينها فاإلمام الشرعي هو املبايع من طرفها . وأما مع عدم وجودها فاإلمام الشرعي هو أول حائز على الشروط بايعته مجاعة من أهل احلل والعقد .
منرب التوحيد واجلهاد
()33
فصول في اإلمامة والبيعة
فصل إذا دار األمر بين انعدام اإلمام وجهالة عينه ثبتت البيعة ولو مع الجهالة إذا كان إخفاء اسم اإلمام وعينه لغرض احلفاظ على منصب اإلمامة وأخذ احليطة للسالمة فال ينبغي أن يكون الشرتاط معرفته مكان وال لالعرتاض عليه وجه أو لسان. ألن نصب اإلمام عبادة ،والعبادة ال يسقط كلها بتعذر بعضها .. لقوله صلى اهلل عليه وسلم( :صل قائما فإن مل تستطع فقاعدا فإن مل تستطع فعلى جنب ) رواه البخاري. والقاعدة أن "امليسور ال يسقط باملعسور"، فإذا تعذر اإلعالن عن اسم الشخص املبايع بعينه فال يسقط وجوب نصب اإلمام جبملته . فيسقط شرط اإلعالن وتثبت البيعة مع هذا النقصان . ألن االجتماع حتت راية من مل جيمع األوصاف أوىل من التفرق وبقاء االختالف ويف مثل هذا يقول الغزايل: ( فلو انتهض هلذا األمر من فيه الشروط كلها سوى شروط القضاء ولكنه مع ذلك يراجع العلماء ويعمل بقوهلم فماذا ترون فيه ،أجيب خلعه وخمالفته أم جتب طاعته؟ قلنا :الذي نراه ونقطع أنه جيب خلعه إن قدر على أن يستبدل عنه من هو موصوف جبميع الشروط من غري إثارة فتنة وهتييج قتال ،وإن مل يكن ذلك إال بتحريك قتال وجبت طاعته وحكم بإمامته ألن ما يفوتنا من املصارفة بني كونه عاملا بنفسه أو مستفتيا من غريه دون ما يفوتنا بتقليد غريه إذا افتقرنا إىل هتييج فتنة ال ندري عاقبتها .ورمبا يؤدي ذلك إىل هالك النفوس واألموال ،وزيادة صفة العلم إّنا تراعى مزية وتتمة للمصاحل فال جيوز أن يعطل أصل املصاحل يف التشوق إىل مزاياها وتكمالهتا.......فإن قيل فإن تساحمتم خبصلة العلم لزمكم التسامح خبصلة العدالة وغري ذلك من اخلصال ،قلنا :ليست هذه مساحمة عن االختيار ولكن الضرورات تبيح احملظوارت ،فنحن نعلم أن تناول امليتة حمظور ولكن املوت أشد منه ،فليت شعري من ال يساعد على هذا ويقضي ببطالن اإلمامة يف عصرنا لفوات
منرب التوحيد واجلهاد
()34
فصول في اإلمامة والبيعة
شروطها وهو عاجز عن االستبدال باملتصدي هلا بل هو فاقد للمتصف بشروطها ،؟!! ....ومعلوم أن البعيد مع األبعد قريب ،وأهون الشرين خري باالضافة ،وجيب على العاقل اختياره)... ،االقتصاد يف االعتقاد للغزايل ،ص830-829 : والذي يظهر واهلل اعلم أن املتعني هو معرفة املبايَع بأوصافه وأحواله ال بامسه وومسه. ألن الشرع مل يشرتط لإلمام امسا معينا وال صورة ثابتة ،وإّنا اشرتط له أوصافا حمددة فحيثما وجدت هذه األوصاف كان أهال لإلمامة سواء كان امسه عمرا أو زيدا وسواء كان أبيض او أسود أو طويال أو قصريا. فال يشرتط يف البيعة معرفة هيئة املبايع وال صفة شكله . وقد كان مع النيب صلى اهلل عليه وسلم يف املدينة من ال يعرفه بعينه .. عن أنس بن مالك رضي اهلل عنه ،قال :مر النيب صلى اهلل عليه وسلم بامرأة تبكي عند قرب ،فقال« :اتقي اهلل واصربي» قالت :إليك عين ،فإنك مل تصب مبصيبيت ،ومل تعرفه ،فقيل هلا :إنه النيب صلى اهلل عليه وسلم ،فأتت باب النيب صلى اهلل عليه وسلم ،فلم جتد عنده بوابني ،فقالت :مل أعرفك ،فقال" :إّنا الصرب عند الصدمة األوىل" رواه البخاري. وال شك أن كل من كان يبايع اإلمام يف األقطار النائية ال يعرف أوصافه إال بالسماع، ومع هذا مل يقل أحد منهم :ال بيعة إال بعد املعاينة واالجتماع .
منرب التوحيد واجلهاد
()35
فصول في اإلمامة والبيعة
الخاتمة تبني من خالل الفصول السابقة أن نصب اإلمام واجب على املسلمني وأن وجوبه على الفور ،وأنه ال مانع مينع املسلمني اليوم من نصبه وال عذر هلم يف تركه . أما من يقولون بتعطيل البيعة الواجبة وبقاء املسلمني على حال من الفرقة إىل أن يرضى بالبيعة جل املسلمني فال يدل لقوهلم نص صريح وال عقل صحيح. وق د عجبت من موقف بعض الشيوخ الفاضلني الذين قالوا بأن كل البيعات املوجودة اليوم ما هي إال بيعات على اجلهاد وليس فيها أي بيعة على اإلمامة ! وكأهنم هبذا الكالم يستنكرون أن تقوم اجلماعات اجملاهدة بتنصيب اإلمام ومبايعته على تطبيق الشريعة واألحكام ! وردا على ذالك نقول: -8هذا الكالم بريد إىل وقوع النزاع وفيه حض على ترك فريضة نصب اإلمام الواجبة باإلمجاع ..وحتريض للجماعات اجملاهدة على أن تبقى بال راية مرفوعة وال قيادة متبوعه، وهذا هو عني ما حذر منه الشرع احلكيم ،وجعله من أسباب اخلالف األثيم.. قال اجلويين يف بيان ما يرتتب على تعدد األمراء من املفاسد : ( داعية التقاطع والتدابر والشقاق ربط األمور بنظر ناظرين ،وتعليق التقدم بأمريين ،وإّنا تستمر أكناف املمالك برجوع أمراء األطراف إىل رأي واحد ضابط ،ونظر متحد رابط ،وإذا مل يكن هلم موئل عنه يصدرون ،ومطمح إليه يتشوفون ،تنافسوا وتتطاولوا ،وتغالبوا وتصاولوا، وتواثبوا على ابتغاء االستيالء واالستعالء ،وتغالبوا غري مكرتثني باستئصال اجلماهري والدمهاء، فتكون الداهية الدهياء ،وهذا مثار الباليا ،ومهلكة الربايا ،وفيه تنطحن السالطني والرعايا) غياث األمم يف التياث الظلم ص832 : فواجب ع لى أهل العلم أن يبينوا للناس وجوب هذه الفريضة ويدعوهم إىل العمل هبا ال أن ينفروهم منها .. -2ما هو املانع من كون بعض البيعات املوجودة بيعة على اإلمامة الشرعية ؟ أألن مبايعة اإلمام ونصبه يف زماننا غري واجب وغري مشروع ؟ منرب التوحيد واجلهاد
()36
فصول في اإلمامة والبيعة
أم ألن اجلماعات اجملاهدة كلها ليست أهال ألن يكون من ضمنها مجاعة من أهل احلل والعقد الذين تنعقد هبم بيعة اإلمامة ؟ أال فليتق اهلل تعاىل من يروج هلذه الشبهات .. وليعلموا أن كل دعوة إىل ترك فريضة نصب اإلمام ،فمآهلا إىل تفريق اجلماعة واالعرتاض على الواجب والطاعة .. ونسأل اهلل تعاىل أن يكون فيما ذكرناه جتلية للصواب وبيانا للحق يف هذا الباب . ونسأله أن جيمع كلمة املسلمني ويوفقهم للتمسك بالسنة والكتاب . وآخر دعوانا أن احلمد هلل رب العاملني . كتبه: أبو المنذر الشنقيطي الثالثاء 03صفر 8232هـ . 80ديسمرب 2083م .
منبر التوحيد والجهاد *** //www.tawhed.ws //www.almaqdese.net //www.abu-qatada.com //www.mtj.tw
http: http: http: http:
ـ منرب التوحيد واجلهاد
()37