الغالف
1
2
الغالف اسود ابيض
3
4
تأيلف
5
6
اية قرآنية {سورة الكهف آية }10
7
8
المحتويات
املحتويات9......................................................................................... االهداء11........................................................................................... شكر ودعاء13..................................................................................... تقديم األستاذ املتمرس األول الدكتور محمد حسني عيل الصغري15................. مقدمة 17........................................................................................... متهيد25.............................................................................................. الفصل األول :التنمية البرشية وأسسها الوضعية37.................................. اوالً :مفهوم التنمية البرشية وعالقتها باملفاهيم االخرى37.......................... -1مفهوم التنمية البرشية لغة واصطالحاً39....................................... -2التنمية البرشية قياساً مبفهوم التنمية53............................................ . -3مفهوم التنمية البرشية وعالقته باملفاهيم األخرى65.......................... . املوارد البرشية71............................................................................. حقوق اإلنسان 75.......................................................................... . الحاجات األساسية82........................................................................ ثانياً :اصالة التنمية البرشية ومراحل تطورها89........................................ -1أسس التنمية البرشية وعمقها التاريخي91......................................... -2تطور مفهوم التنمية البرشية ومراحل نضوجه االصطالحي105........... . -3الرؤية العرصية للتنمية البرشية (التنمية البرشية املستدامة)133........ ثالثاً :منظومة التنمية البرشية 149....................................................... .
االهداء
9
-1موضوع التنمية البرشية151.............................................................. -2أهداف التنمية البرشية161............................................................... -3مقاييس التنمية البرشية179.............................................................. الفصل الثاين :التنمية البرشية منهج قرآين193......................................... . أوالً :الخصائص القرآنية ملفهوم التنمية البرشية وموضوعه193.................. . -1مفهوم التنمية البرشية عىل وفق املنظور القرآين195........................... -2موضوع التنمية البرشية يف القرآن الكريم213................................... . -3خصائص التنمية البرشية يف ضوء القرآن الكريم225............................ ثانياً :غايات ومقاييس التنمية البرشية ومعوقاتها يف القرآن الكريم251...... . -1أهداف التنمية البرشيـة فـي القرآن الكريـــم وغاياتها253................ . -2مقاييس التنمية البرشية يف املنظور القرآين285.................................. -3تخلف التنمية البرشية ومعوقاتها -رؤية قرآنية299......................... . الفصل الثالث :ميادين ومبادئ التنمية البرشية يف القرآن الكريم 321......... أوال :ميادين التنمية البرشية يف القرآن الكريم321.................................... -1التنمية البرشية وميدانها الفكري فـي القرآن الكريم327.................... -2التنمية البرشية وميدانها األخالقي يف القرآن الكريم341..................... -3التنمية البرشية وميدانها االقتصادي يف القرآن الكريم361................. . -4التنمية البرشية وميدانها االجتامعي يف القرآن الكريم379................. . ثانياً :نظرية الخالفة اإللهية يف القرآن الكريم وعالقتها بالتنمية البرشية 397.... -1مبدأ االستخالف 403........................................................................ -2مبدأ التسخري والتمكني 415.............................................................. -3مبدأ عامرة األرض واصالحها 433.................................................... . الخامتة451.................................................................................................. املصادر463................................................................................................. 10
أصل هذا الكتاب رسالة ماجستري تقدمت هبا اىل كلية الفقه /النجف االرشف فحازت درجة االمتياز والتوصية بالطبع عىل جامعة الكوفة. طالل فائق الكمالي
11
12
ودعاءودعاء شكر شكر
ت ع يَل وع ىَل والِِدَ ي و َأ ْن َأعم َل ص حِحِ ﴿ رب َأو ِزعن ِِي َأ ْن َأ ْ شكك َُرُر ننِِ ْعع َممتت ََ ضاا ُُهه َك ا َّلتِِي ََأ ْن َعم َ ت ََع يَ َّل ََو ََع ىَل ََوالدَ ََّّ ال ًًاا تت َْْرَر ََض ال ي ََو َأ ْن َأ ْْع ََم َل ََص ﴿ ََر ِِّّب َأ ْْو ِز ْْعني َأ ْن َأ ْش َ ْ َ َك ا َّلتي أ ْن َع ْْم َ َّ اد َك الص حِِحِِ ك يِف ِِعب ِِ و َأد ِِ ِ حتتِِ ََ ال اد َك ََّّ ي ببِِ ََرر مْمْ ََ من ال املصطفى «« iمن قول املصطفىi من قول انطالق ًًاا من ،19انطالق ني﴾.النمل،19 : الني﴾.النمل: ال الص ك يِف ع ََب ح خ ْْللننِي ََو َأ ْْدخ .339-4 (.339-4 )1954 والصلة ()1954 الرب والصلة كتاب الرب الرتمذي ،كتاب سنن الرتمذي، اهلل» سنن يشكر اهلل» ال يشكر الناس ال يشكر الناس يشكر ِ فإين ِ «رمحهام أشكر ّّ به ََّّ والدي «رمحهام والدي ثم أشكر البحث ،ثم هذا البحث، إمتام هذا ن إمتام عيل ِممن عيل ن به ما ََمم ََّّن عىل ما واشكر ُُهه عىل وتعاىل واشكر هللَ وتعاىل أمحِدُدُ ااهللَ فإين أمح ِِ من ِِ املحسنني. اجل عني ََ جزاء املحسنني. خري جزاء خري اهلل عني فجزامها اهلل قلبي فجزامها يف قلبي الكريم يف القرآن الكريم حمبة القرآن غرس حمبة غرس اجل جهادمها من اهلل» جهادمها اهلل» ِِ بجزيل ُُ عيل أتقدم حسني عيل حممد حسني الدكتور حممد املتمرس الدكتور األول املتمرس األستاذ األول إىل األستاذ االمتنان إىل وعظيم االمتنان كر وعظيم الشكر الش بجزيل أتقدم املحسنني. جزاء املحسنني. خري جزاء عني خري اهلل عني فجزاه اهلل الرسالة فجزاه هذه الرسالة عىل هذه باإلرشاف عىل لتفضله باإلرشاف الصغري لتفضله الصغري
طف ًً يف ال يف ال كنت طف منذ كنت وشيوخي منذ أساتذيت وشيوخي لكل أساتذيت واحرتامي لكل شكري واحرتامي جزيل شكري هنا جزيل اسجل هنا أن اسجل أريد أن أريد ِِ ِِ ِِ ِِ بحق واحلوزة يف يف كانوا بحق فهم كانوا األرشف ،فهم النجف األرشف، يف النجف العلمية يف العلمية الكلية واحلوزة الكلية وشاب ًًاا يف الثانوية وشاب الثانوية وفت ًًاا يف االبتدائية وفت االبتدائية مشاعل ٍٍ ََ واملعرفة. العلم واملعرفة. طريق العلم يل طريق أضاءت يل نور أضاءت نور مشاعل سيام ال سيام تدريسي ًًةة ،،ال وهيأة تدريسي عميد ًًاا وهيأة – عميد الفقه – كلية الفقه – كلية الكلية – يف الكلية أساتذيت يف جلميع أساتذيت الشكر جلميع بجزيل الشكر وأتقدم بجزيل وأتقدم معارفهم. موائد معارفهم. من موائد وتناولت من أيدهيم وتناولت عىل أيدهيم تعلمت عىل من تعلمت من البحث هبذا البحث املتعلقة هبذا القيمة املتعلقة بمالحظاهتم القيمة غمروين بمالحظاهتم الذين غمروين األساتذة الذين إىل األساتذة شكري إىل أقدم شكري أن أقدم يفوتني أن ال يفوتني ال مقوم ًًاا اخلفاجي مقوم عبيد اخلفاجي حكمت عبيد الدكتور حكمت األستاذ الدكتور بالذكر األستاذ واخص بالذكر مكتباهتم واخص قبل مكتباهتم قلوهبم قبل يل قلوهبم وفتحوا يل وفتحوا املساعد واألستاذ املساعد املناقشة واألستاذ للجنة املناقشة رئيس ًًاا للجنة علوان رئيس عمران علوان عامر عمران الدكتور عامر واألستاذ الدكتور للبحث ،،واألستاذ علمي ًًاا للبحث علمي
مطرود .. متعب مطرود اسيل متعب الدكتورة اسيل املساعد الدكتورة واألستاذ املساعد عضو ًًاا واألستاذ اجلنايب عضو الزهرة اجلنايب عبد الزهرة سريوان عبد الدكتور سريوان الدكتور أعانني ٍٍ أو الغيب ،أو بظهر الغيب، يل بظهر دعا يل أو دعا تشجي ٍٍعع أو أو تشجي برأي أو برأي أو أعانني نصيحة ،أو يل نصيحة، أسدى إإ ّّيل من أسدى كل من إىل كل شكري إىل شكري ومتامه. البحث ومتامه. انجاز البحث مراحل انجاز عن مراحل سألني عن سألني
باملوفقية هلم باملوفقية الدعاء هلم عن الدعاء عاجز عن غري عاجز فإين غري وتقديرهم فإين شكرهم وتقديرهم عن شكرهم هذا عن كل هذا يف كل عاجز ًًاا يف كنت عاجز فإن كنت فإن العاملني .. رب العاملني هلل رب احلمد هلل أن احلمد دعوانا أن آخر دعوانا والسداد وو آخر والسداد
المؤلف المؤلف
13
14
تقديم األستاذ المتمرس األول الدكتور محمد حسين علي الصغير. بسم اهلل الرمحن الرحيم هند األستاذ طالل فائق الكاميل بأعداد هذه الرسالة القيمة ( التنمية البرشية يف القرآن الكريم /دراسة موضوعية ) فكان مؤه ً ال هلذا املوضوع إن مل يكن مؤسس ًا فيه وقد قدم بذلك عم ً ال مبتكر ًا سبق إليه بام خطط له من فصول ومباحث . والقرآن الكريم ال تنتهي عجائبه وال تُفنى غرائبه ،فهو موئل كل فن وملتقى كل توجه أصيل ومنبع كل حكمة باهرة . وإذا كان األمر كذلك وهو كذلك فقد جاءت هذه الرسالة الفريدة يف موضوعها معل ًام بارز ًا جديد ًا يستنبط من نفحات القرآن العظيم روائعه ومعطياته املواكبة ملسرية االنسانية يف التجديد والتطوير والعطاء اجلزل ،لتقدمه نتاج ًا متألق ًا يف مشاهد البحوث املتميزة جود ًة ونام ًء وإثارة لكل ما هو رفيع يف املستوى وجليل يف املحتوى. وكان البحث املوضوعي واملنهج العلمي رائد هذه الرسالة يف االستنتاج واستكناه حقائق االشياء يف جمال حتديد مفاهيم التنمية البرشية يف ظل تطبيقاهتا احلضارية يف ميادين القرآن الكريم فكان للمؤلف ما أراد. ولقد اعتمد الباحث ال ّفذ عىل مصادر قديمة مؤسسة وعىل مراجع حديثة متجددة وأخذ من هذين خالصة اآلراء وزبدة األقوال وصهرها جمتمعة يف أطروحة متكاملة االجزاء ومتامسكة احللقات . أما اسلوب الباحث يف العرض واملناقشة وصياغة العبارة فكان مجي ً ال جد ًا وبعيد ًا 15
عن التعقيد واالغراق يف االغالق واملبهامت ووضوح الرؤية يف هذا املجال مما يزيد البحث حسن ًا واحلديث روعة والنتائج مقبولة . إن ارشاق العبارة ورقة االسلوب ودقة املالحظة يف هذا املرشوع مما جعل ُه من الرفعة العلمية واألدبية ٍ بأفق سليم يعيد اىل االذهان أصالة البحث اجلديد . رشف مابعدَ ُه شرَ ف وآخر دعوانا أن أمتنى للمؤلف التوفيق خلدمة القرآن فذلك ٌ احلمدهلل رب العامليـن.
محمد حسين علي الصغير النجف االشرف /24جمادي اآلخرة1435/هـ
16
المقدمة
17
18
بسم اهلل الرمحن الرحيم احلمد هلل الذي هدانا هلذا وما كنا لنهتدي لوال أن هدانا اهلل والصالة والسالم عىل سيد املرسلني وحبيب قلوب املؤمنني أيب القاسم حممد iوعىل آل بيته الطيبني
الطاهرين وصحبه املنتجبني ومن تبعهم بإحسان إىل يوم الدين. واحلمد هلل الذي وفقني لكتابة الكلامت األوىل هلذا الكتاب حتت قبة رضيح سيد الشهداء اإلمام احلسني بن عيل Aيف يوم عرفة املبارك. أما بعد : فإن اإلنسان ليقف حائر ًا مدهوش ًا أمام روعة األعجاز القرآين والسحر البياين الذي أخذ األلباب وعجزت عن جماراته العقول ،فشمرت عن سواعد اجلد واالجتهاد يف تدبره والتفكر يف سوره وآياته الستخراج مكنون علومه ومعارفه فمذ صدح به الروح األمني وانزله عىل صدر حبيب رب العاملني رسول اهلل حممد iتالقفه املسلمون بالدراسة واحلفظ والتالوة وهم مطمئنون ملعرفة دقائق أرساره لوجود الرسول األعظم حممد iبين ظهرانيهم يفرس هلم ما ُأهبم عليهم ويوضح هلم مشكالته وغوامضه بعد أن جعل اهلل سبحانه وتعاىل من أوىل وظائفه بعد التبليغ ك ِّ ِ ﴿و َأن َز ْلنَا إِ َل ْي َ الذك َْر ل ُت َبينِّ َ واإلنذار هي وظيفة التوضيح والبيان كام يف قوله تعاىلَ : لِلن ِ َّاس َما ُنز َِّل إِ َل ْي ِه ْم َو َل َع َّل ُه ْم َي َت َفك َُّرونَ﴾ النحل ، ٤٤فقام بمهمة البيان والتوضيح عىل أكمل وجه وأوكل من بعده هذه املهمة ملجموعة من الصحابة الكرام وعىل رأسهم إمام املتقني وأمري املؤمنني اإلمام عيل بن أيب طالب ،Aفكان الرائد واملؤصل ملا جاء يف التفسري وعلوم القرآن بعد حبيب اهلل رسول اهلل حممد . i واستمرت اجلهود كذلك قوية بعد الرعيل األول من الصحابة يف تناول القرآن 19
الكريم بالدرس والتفكر واستخراج األحكام حتى زمن التدوين يعضد ذلك كله اجلهد التفسريي العظيم الذي قام به أئمة أهل البيت Aليشكل ذلك كله جهد ًا معرفي ًا متوازي اخلطني ،كل ذلك خلدمة كتاب اهلل واستجالء داللته ومكامن اعجازه. فالقرآن الكريم كتاب هداية قد احتوت مضامينه الكربى عىل ثالثة أركان :هي الرشيعة والعقيدة والسلوك وما من رسالة جاءت من السامء إال هي مستندة عىل هذه األركان الاليت تضمن عند حتقيقها بشكلها األكمل الذي أراده اهلل سبحانه وتعاىل أن إعامر األرض وتشيد احلضارات ،واجلميع يعلم ّ أن انبثاق احلضارات وانبعاثها وحتديد مالمح نضوجها ال يكون إال بالتنمية البرشية لقصد االرتفاع باإلنسان من موطن الشهوات ومنزلق احلروب واالعتداءات ،لذا جيب ان ننظر اىل التنمية البرشية عىل أهنا غاية سامية جيب االرتقاء هبا فلذلك نرى املذاهب الوضعية قد حددت فيام بعد مفاهيم متعددة هلذه التنمية. وبسبب كل ما تقدم أراد الباحث أن يستنري بالقرآن الكريم من خالل ما يفهم من ظاهره وبمساعدة املفرسين قدماء منهم وحمدثني يف استجالء فهم خاص للتنمية البرشية يف املنظومة املعرفية القرآنية موازنة بام عرف يف املذاهب الوضعية، ال ألن القرآن الكريم قد سبق تلك املذاهب والنٌظم بأشواط بعيدة يف حتديد مالمح التنمية البرشية ويف تطبيق إجراءاهتا عىل احلضارة اإلسالمية بقدر إرادتنا لتأصيل منهج للقرآن متكامل يف حتديد مفاهيم التنمية البرشية بوصف تطبيقاهتا يف النظم اإلسالمية املتعددة التي أكدت يف كل ميادينها املتنوعة اإلنسان فرد ًا كان ام جمموعة افراد ،ألهنا ترى أن صالح املجتمع وبناء احلضارة ال يكون إال بصالح 20
الفرد ولذلك أطلق عىل أهم تلك النظم وهو النظام الترشيعي الذي أساسه الفرد بـ (الفقه الفردي) فكانت هذا الكتاب بعنوان( :التنمية البرشية يف القرآن الكريم دراسة موضوعية).واستهدف الباحث من دراسته هذه الكشف عن بيان عظمة القرآن الكريم يف تنمية اإلنسان ومكانته وسعة خياراته وطموحاته ومنهجية حتقيقها ،وكذا بيان السبل الكفيلة بانتشاله من غياهب الظلمة واجلهل لالرتقاء به نحو املكانة املثىل التي يستحقها يف عامل متطور ملؤه العلم واملعرفة عىل وفق مناهج الرشيعة اإلسالمية الغراء وحتت مظلة الرؤية القرآنية له بإجياد كل احللول واإلمكانات التي تتناسب مع رفعة العقل السليم بحيث ال تتقاطع مع الرشيعة املقدسة. وأظن أن الباحثني مل يسبقوين ملثل هذه الدراسة – يف حدود ما اطلعت عليه- وخصوص ًا يف جمال البحوث األكاديمية إال بالعنوان العام اقصد يف النظرية اإلسالمية حول التنمية البرشية ولكن يبقى هلم فضل السبق بام أناروا يل الطريق يف كتابة هذا الكتاب فجزاهم اهلل خري اجلزاء. وقد اعتمدت يف بحثي هذا عىل مناهج علمية وبحثية متعددة ،غري أن املنهج املوضوعي والتحلييل قد طغى عىل كثري من مباحث هذ الكتاب ،معرج ًا يف حنايا هذين املنهجني عىل املنهج املقارن ،كلام استدعت الرضورة إىل ذلك ،والسبب يف اختياري هلذه املناهج العلمية مل يكن من مبتكرات البحث بقدر اضطراري إىل الولوج هبذه املناهج ّ ألن موضوع التنمية البرشية من العلوم املستحدثة والكثرية التش ُعبات ،بحيث يدخل علم التنمية البرشية يف كثري من العلوم ،اقتصادية كانت أم اجتامعية بل يصل األمر إىل كثري من النظريات السياسية واإلدارية ألهنا قائمة 21
عليه ومعتمدة عىل أسسه ،كل ذلك جعلني مضطر ًا إىل اختاذ هذه املناهج عامد ًا وأساس ًا هلذه الدراسة ،وخصوص ًا إذا ما علمنا أننا نؤسس فيها نظري ًة قرآنية ومفهوم ًا إسالمي ًا سريى القارئ أثره يف كل مفاصل هذا الكتاب . وقد اقتضت طبيعة الكتاب أن يقسم عىل :مقدمة ومتهيد وثالثة فصول وخامتة اردفتها بقائمة املصادر واملراجع. أما املقدمة – هذه – فقد تناولنا فيها سبب اختيار هذا املوضوع وب ًينا املنهج الذي اختططته فيها. ثم عقدنا الفصل األول "التنمية البرشية وأسسها الوضعية" لكي نوضح أبعادها واآلماد التي وصلنا إليها وقصدنا بذلك تقسيم الفصل عىل ثالثة حماور ،األول يف مفهوم التنمية البرشية وعالقته باملفاهيم األخرى تندرج حتته ثالثة نقاط وهي: مفهوم التنمية البرشية لغ ًة واصطالح ًا ،وكذلك مفهومها موازنة بمفهوم التنمية بشكلها العام ،والتنمية البرشية وعالقتها بام جياورها من مفاهيم ،أمثال املوارد البرشية ،وحقوق اإلنسان ،واحلاجات األساسية ،وسعيت يف كل ذلك أن أكون حمل ً ال ومقارن ًا ومنتقي ًا ملا أراه صحيح ًا بالدليل. وعطفنا بعد ذلك يف املحور الثاين للحديث عن "أصالة التنمية البرشية ومراحل تطورها" فكان عىل شكل نقاط ثالث ،أوهلا :أسس التنمية البرشية وعمقها التأرخيي ،والثاين :تطور مفهومها ومراحل نضوجها املفهومي ،والثالث :يف الكالم عىل الرؤية العرصية للتنمية البرشية ونقصد (التنمية البرشية املستدامة). وعرضنا بعد ذلك كله املحور الثالث فتحدثنا فيه عن منظومة التنمية البرشية، فكان عىل شكل نقاط ثالث وهي األول :موضوع التنمية البرشية ،والثاين :كان 22
حتديد ًا ألهدافها الكربى ،اردفناه بثالث ألهم مؤرشات التنمية البرشية وأبرزها. واتسعت صفحات الفصل الثاين للمنهج القرآين يف التنمية البرشية فكانت حمورين اثنني األول :يف اخلصائص القرآنية ملفهوم التنمية البرشية وموضوعه ،وكان عىل شكل نقاط ثالث أيض ًا األول :هو مفهوم التنمية البرشية عىل وفق املنظور القرآين، والثاين :حتدث يف موضوع التنمية البرشية يف القرآن الكريم ،اتبعناها بثالث يف خصائص التنمية البرشية يف ضوء الفهم البرشي للقرآن الكريم. أما املحور الثاين :فقد كان يف غايات ومقاييس ومعوقات التنمية البرشية يف القرآن الكريم وقد بني هذا املحور عىل نقاط ثالث ،أوهلا :يف غايات التنمية البرشية عىل وفق الرؤية القرآنية ،والثاين :يف مقاييس التنمية البرشية يف القرآن الكريم ،والثالث يف ختلف التنمية البرشية ومعوقاهتا – رؤية قرآنية ،فكان هذا الفصل واضح ًا يف إيراد األمثلة والتطبيقات التي تناولت تلك املوارد مجيع ًا وهبذا يكون هذا الفصل من هذه الزاوية أخصبها وأكثرها موارد وتطبيقات. إن التنمية البرشية يف القرآن الكريم هي القمة يف اهلرم املعريف للمفاهيم القرآنية الذي بدأ بقاعدته العريضة وقد نشأت التنمية البرشية حسب الرؤية القرآنية من يوم تكليف اإلنسان كفرد وجمتمع عىل األرض ،ومن ثم إرسال األنبياء والرسل له وبناء احلضارات املذكورة يف القرآن الكريم وغري املذكورة فيه ،فبينا ذلك من خالل ميادين التنمية البرشية يف القرآن الكريم بكافة اجتاهاهتا الفكرية ،واألخالقية، واالقتصادية ،واالجتامعية متخذين من مبدأ االستخالف واالستمكان ،ومبدأ عامرة األرض وكذلك مبدأ التغيري واإلصالح فكان الفصل الثالث واألخري تبيان ًا وجتلي ًة هلا. 23
وما كان هلذا الكتاب أن يبلغ هناية مطافه من دون خامتة أوجزت فيه أهم النتائج والتوصيات وهو ما فعلته واردفته بقائمة مصادر البحث ومراجعه. أما مصادري يف هذا البحث فكانت تعوي ً ال عىل كتب التفسري املعتمدة عند املسلمني وكذلك املجاميع احلديثية املعتمدة واستعنا أيض ًا بأغلب مؤلفات املحدثني واملعارصين ممن كتب يف موضوع (التنمية والتنمية البرشية) وقد أرشت إىل ما صح وثوق ًا عندي من مباحثها وما خالفته منها ألسباب مذكورة يف مكاهنا من البحث. إن هذا الكتاب حاول تقيص مفاهيم التنمية البرشية ومبادئها يف القرآن الكريم وحتدد بعض تطبيقاهتا ولعلها أول حماولة تذهب إىل البحث يف تأصيل التنمية البرشية بوصفه عل ًام حديث ًا ومعارص ًا ُأسس له يف القرآن الكريم. وبعد .......فإنني ال ادعي جلهدي هذا ما ليس فيه وال أنزهه من أن يكون عرضة للنقد واختالف الرأي غري أن عذري يف ذلك كله أنني بذلت فيه جهد ًا صادق ًا، راجي ًا أن يكون عميل هذا خالص ًا لوجه اهلل تعاىل وما توفيقي إال باهلل العيل العظيم.
المؤلف
24
التمهيد
25
26
تمهيد مناهج التنمية البرشية وآلياهتا بني املذاهب الوضعية والقرآن الكريم. من املسلم به أن تكون املباحث القرآنية مباحث تنبثق منها مجلة من العلوم واملعارف ،تأسيس ًا عىل أن القرآن الكريم هو الدستور الساموي املعصوم من الزلل والسهو ،الذي ضم بني دفتيه مداليل ومعاين ملنظومة معرفية علمية متكاملة وشاملة استوعبت كل االجتاهات بمختلف مواضيعها. ويف الوقت نفسه نجد أن القرآن الكريم قد بينّ سامت العقل البرشي وإمكاناته وقدراته عىل استنباط منابع املعرفة وصوالً اىل هدم املجهول املتوافر عن طريق التدبر والتأمل ،فقد أشار بالترصيح تارة والتلميح تارة اخرى إىل بعض احلقائق العلمية والكونية التي عجز اإلنسان عىل أن يدركها بعقله بادئ ذي بدء ،ليس ألن القرآن هو كتاب علمي حيمل بني طياته الكثري من احلقائق العلمية الرصفة أو الكونية فحسب ،بل ألنه استوعب اإلنسان واهتامماته وما حييط به من مفردات تعني اإلنسان والكون واحلياة ،فكان بضميمتها بعض تلك احلقائق العلمية. وكان من بني تلك العلوم واالهتاممات التي تبناها القرآن الكريم هو علم التنمية البرشية الذي نحن بصدد احلديث تفصي ً ال عنه ،حيث كان اهتاممه به مبني ًا عىل أساس أمهيته وجوهر موضوعه ،ومنهجه الذي يعد أحد السبل واآلليات املوصلة إىل مبتغى القرآن الكريم الذي صبت معطيات هذا العلم ونتائجه بمصبه نفسه ،فاستبطنت من اآليات القرآنية كثري ًا من معاين التنمية البرشية ومفرداته. فالقرآن هو كتاب إرشاد وهداية ،وفكر وعقيدة ،وان متبنياته يف الغالب األعم بيان األحكام الرشعية التي تقود اإلنسان إىل مراتب الطاعة ،وما تبنيه للقضايا 27
والعنوانات الكلية إال مصداق ًا ألحكام الرشيعة الساموية ،وبضميمة تلك املعطيات والكليات ،كانت بعض من اخلطوات املنهجية يف بناء اإلنسان واملجتمع ،وأخرى يف بيان مفردات ترعى جماالت ومتعلقات احلياة املختلفة ،لتصب مجيع تلك الروافد يف ذات املصب ،لذا كان القرآن الكريم املصدر اإلسالمي األول واألصل للترشيع ،يف الوقت الذي تبنت السنة الرشيفة البحث يف جزيئيات تلك الكليات أو بيان تفاصيل املفردات فكانت مب ّينة ملجمله ،وخمصصة لعامه ،ومق ّيدة ملطلقه، حتى باتت السنة الرديف الثاين ملصدر الترشيع اإلسالمي. أما ما ذكره القرآن الكريم لبعض املفاهيم وموضوعاهتا أو بذكر مناهجها وآلياهتا ،أو لكشفه عن علل بعض الظواهر واحلاالت أو يف تبيان هوية بعض العناوين واملفردات أو باستعراض أدوات وتطبيقات ،من بني كل ذلك وجد علم التنمية البرشية لنفسه حيز ًا وسط تلك املفاهيم القرآنية ،بل وجدنا له مساح ًة واسع ًة يف آياته ،فوجدناها قد أولت اهتامم ًا ألسسه وملعطياته ،ورسمت بعض ًا من صور معامله ،وحددت بعض ًا آخر من عنارصه ومنهجه ،بينام أكدت آيات أخر عىل أهدافه وغاياته ،وذكرت غريها الكثري من مصاديق نتائجه ،حتى بات كوليد بكر أوىل القرآن الكريم احتضانه فرتعرع بتوارد نزول الوحي لتتكامل أسسه وقواعده وتنضح أفكاره ورؤاه ،هكذا تنامى وبانت آياته بني آيات اهلل ،قبل أن ينضج ويتكامل بني ٍ ٍ ٍ وتقرير خلليفة اهلل تطبيق ًا. وفعل قول فعىل الرغم من حداثة والدة هذا العلم الذي اخذ قالبه االصطالحي عام
28
،)1(1990فإن أن والدته احلقيقية يف ضوء الرشيعة املقدسة تزامنت مع أول آية نزل هبا الوحي عىل املصطفى ،nوترعرع تواص ً ال بتواصل الوحي ،ويف السنة الرشيفة ،حتى باتت أسسه ومناهجه وغاياته واضحة يتلمسه املسلم وغريه ،ال ليشء إال ألن موضوع التنمية البرشية هو اإلنسان ،وهو ذات موضوع القرآن الكريم وغاية رسالة السامء تشخيص ًا وحتديد ًا. ومن اجل ذلك كان علم التنمية البرشية له املرتبة الرفيعة وسط مجلة العلوم، فبات عل ًام ركز لواءه بني علوم الفكر واملعرفة فزامحها ،ناهيك عن كونه قد اثبت نفسه رائد ًا لبعض العلوم ،والعمود الفقري لبعضها اآلخر ،وحمور ًا يتمحور حوله ريادة كل علم موضوعه اإلنسان ،فال مبالغ ًة وال جتاوز ًا إن ادعينا ذلك ملا شمل هذا العلم من جدية وتفاعل لتلبية اهتاممات وطموحات ورؤى اإلنسان ،هذا إذا ما قلنا إن اإلنسان هو أفضل ما موجود يف هذا الوجود بأرسه بحسب النظرية اإلسالمية والرؤية القرآنية وهو مادة كل العلوم وأصل نشؤها ومنشأها. نعم عىل أساس اهتامم علم التنمية البرشية باإلنسان والسعي اىل حتقيق خياراته ومتطلباته املرشوعة ،استحق أن يكون قطب الرحى ونواة بعض العلوم ،وعىل أساس التباين يف حتديد مفهومه ،وتباين بعض املطالب ،ويف سعة املساحة التي يقف عليها ،واملؤرشات الدالة عليه أصبح موضوع ًا يف غاية األمهية وعىل هذا األساس كان هذا البحث ،الذي جلأ إىل القرآن الكريم لبيان رؤية السامء فيه. فال غرابة حني جيعل القرآن الكريم من اإلنسان موضوع ًا لرسالته ،والذي إذا
((( ظ :د .أسامة عبد املجيد العاين ،املنظور اإلسالمي للتنمية البرشية.11 ،
29
غاب أسدل الستار لتنتهي القصة وتنتهي احلياة ،وال غرابة أيض ًا أن يكون للقرآن الكريم منهج فريد يف بناء اإلنسان وقيمومته ،وكذلك حني تنطبق مجيع معايري علم التنمية البرشية لتوافق رشيعة رسالة اإلسالم ،إال أن الغريب أن تغفل مجيع النظريات غري اإلسالمية تلك احلقائق التي تعامل معها القرآن الكريم بوصفها مسلامت ًا غري قابلة للتأويل ،واألغرب من هذا كله أهنا مل تدرك تلك احلقائق عىل الرغم من نضوج العقل البرشي وتطوره املتسارع إال بعد حماوالت كان ضحيتها اإلنسان نفسه ،الذي أضاع من عمره احلضاري قرون ًا من الزمن من دون أن يضع يده عىل الصائب من األفكار إىل حني أن استقر أخري ًا عند هذا العلم ،حيث باتت األفكار الوضعية تتخبط جمتهد ًة من غري علم ودراية بمصري املاليني من البرش عىل مر العصور واألزمان ،فكان اإلنسان هو هو ضحية جتارب تلك النظريات التي كلام حاولت أن تقف عىل قدميها نجدها رسعان ما هتاوت مرة أخرى لتخلد إىل األرض. فعىل الرغم من معاناة اإلنسان وجراحاته املثخنة باآلالم واألوجاع جراء تلك األفكار املعوجة واملنحرفة ،فإنه وجد نفسه أخري ًا أمام علم تطابقت مجيع رؤاه رؤى اإلسالم ،علم ولد أخري ًا بعد خماض عسري لريى النور ،ويدرك أن ال خيار غري اإلسالم ،وال هدى إال هدى القرآن ،وال رصاط إال سنة خري األنام وآله الكرام. وتأسيس ًا عىل ما تقدم يستلزم أن نسترشف هدى القرآن الكريم برؤية عرصية كونه صاحل ًا لكل عرص ،وما علينا إال أن نستنطق القرآن لعلمنا أن فيه علم ما كان وعلم ما يأيت ،الن فيه دواء دائنا ،وفيه نظم ما بيننا ،وفيه ما يمكن أن نستشف منه 30
مواقف السامء جتاه جتربة األرض(.)1 وألمهية التنمية البرشية وموضوعها كان هذا البحث حب ًا وتعبد ًا وطاع ًة هلل تعاىل وخدم ًة لرسالة اإلسالم وعرفان ًا بمنزلة اإلنسان ومكانته ،بغية الوصول به إىل أفضل درجات الكامل والتطور ،من املنظور القرآين والرؤية الكونية له ،بإجياد كل السبل واإلمكانات التي تتناسب وتتناغم مع العقل السليم ،وال تتقاطع مع الرشيعة املقدسة ،بل تستظل بظله وتسقى من ذات فوارة الترشيع وصوالً إىل حتقيق متطلبات اإلنسان املرشوعة لتأمني حاجاته وتلبية متطلباته وسعة خياراته وطموحاته املرشوعة. وإلنجاح هذا املرشوع يقتيض وجود منظومة معرفية مرتكزة عىل فوارة علم السامء تالزمها خطة ومنهج علمي وخارطة تصل بالبحث والباحث إىل املبتغى املنشود. وبام أن الباحث جلأ إىل املالذ احلقيقي لإلنسان أال وهو القرآن الكريم ،فإن مقصده استنطاقه وانتزاع مدلوالته للكشف عن أسس ومناهج وغايات وخصائص التنمية البرشية وبقية مفرداته ،فكان منهج البحث موضوعي ًا ،لتنحى من سبقتها من الدراسات يف تبني أحد العنوانات القرآنية بغية دراسته دراسة مستفيضة ومركزة ،ألن وظيفة هذا اللون من الدراسة هو اختيار موضوع من موضوعات احلياة العقائدية أو االجتامعية أو الكونية بغاية حتديد موقف نظري
((( ظ :حممد باقر الصدر ،املدرسة القرآنية.91 ،
31
للقرآن الكريم وللرسالة اإلسالمية من ذلك املوضوع( ،)1فهو املنهج (الذي
يشخص ما يف اخلارج لريكن نحو البحث إىل ما يف الداخل)( ،)2كام يعطي هذا املنهج للباحث فسحة التخصص والتعمق والتفقه يف املوضوع الواحد ،بانتزاع واستنطاق كافة املداليل واألفكار من شذرات اآليات املتناثرة بني دفتي القرآن الكريم ومجعها ،مما ُيعدّ ذلك عام ً ال حقيقي ًا ودافع ًا لإلبداع يف كشف جزئيات وتفاصيل املوضوع ،وهلذا ُعد هذا اللون من التفسري (تفسري ًا مناسب ًا ملواكبة تطورات العلم ،وزمحة التخصص العلمي ومسايرة متطلبات احلياة ،وهو التفسري الدقيق الذي يشبع املوضوع الواحد بحث ًا ،واستقصا ًء ،وتفسري ًا)( )3وصوالً إىل
نظرة تكاد تكون متكاملة عىل وفق قابلية عقل اإلنسان عىل الربط واالستنتاج وصوالً حلل املشكل اخلارجي باملنطوق النظري داخل النص القرآين . فاملباحث القرآنية ذات املنهج املوضوعي توظف دراسة استقرائية للنظرية القرآنية لكل مفردة من مفردات احلياة ،ألهنا تنظر للبحث من ذات الواقع اخلارجي للتجربة البرشية التي حتتم عىل الباحث أو املفرس املوضوعي أن يبدأ (من الواقع ويعود إىل القرآن الكريم ،بينام التفسري التجزيئي يبدأ من القرآن وينتهي إىل ((( ظ :حممد باقر الصدر ،املدرسة القرآنية.11 ،
((( (بحث) املصباح ،توظيف املنهج املوضوعي يف تفسري القرآن الكريم لقراءة إشكاليات الواقع – إشكالية (قيمة املرأة) يف املجتمع إنموذج ًا ،سريوان عبد الزهرة اجلنايب ،العدد الثالث.481، ((( حكمت عبيد اخلفاجي ،التفسري املوضوعي للقرآن الكريم وموضوعاته.63 ،
32
القرآن)( ،)1ويف احلالة األوىل نجد فرصة اإلنامء واإلبداع ومرونة الطرح اإلجيايب، وهذا ما أكده أستاذنا حممد حسني الصغري إذ يرى :إن يقوم مجلة من املتخصصني عىل دراسة شذرات ونجوم من القرآن الكريم كل حسب ختصصه ،فيجمع مادة موضوع من مواضيع القرآن ويستقصيها إحصا ًء لتكون هيك ً ال مرتابط ًا يشكل
وحد ًة موضوعي ًة متكامل ًة واحد ًة( ،)2لذا عُدَّ هذا اللون من البحث عبارة عن حماولة علمية لتبني موضوع ًا معرفي ًا يف قالب متكامل من حيث التحقيق والتدقيق واالستقصاء الستكشاف ما خفي وإظهاره بصورة حمكمة ،معززة بالتحقيق والعمق الدقيق ،لذا قيل يف هذا املنهج البحثي (هو الفحص والتقيص املنظم ملادة أي موضوع من أجل إضافة املعلومات الناجتة إىل املعرفة اإلنسانية أو املعرفة الشخصية)( ،)3لذا نجد املنهج املوضوعي الفكري هو الذي (يتناول األفكار
واملعارف وقضايا العقيدة واحلياة االجتامعية واالقتصادية)(.)4 من هنا كان الباحث قد حاول جاد ًا أن تكون دراسته موضوعية ،فحدد التنمية البرشية بوصفه موضوع ًا مه ًام بحكم واقعه اخلارجي متجه ًا به إىل القرآن الكريم،
(((حممد باقر الصدر ،املدرسة القرآنية.22 ،، ((( ظ :حممد حسني الصغري ،املبادئ العامة لتفسري القرآن الكريم ،دراسة مقارنة.121 ، (((المكتبة الشاملة ،محمد عجاج بن محمد تميم بن صالح بن عبد هللا الخطيب ،لمحات في المكتبة والبحث والمصادر ،موقع الكتروني.shamela.ws/index.php/book/11365 ،
((( حممد كاظم البكاء ،نظرية النص يف تفسري القرآن الكريم.6 ،
33
بحث ًا عن أسسه ومناهجه ومصاديقه عىل وفق الرؤية القرآنية ،وهذا ال يعني أن الباحث حاول زج إحدى نظريات التجربة البرشية لغرض تطبيقها عىل القرآن الكريم إذ مل يكن من وكده هذا مطلق ًا (ففرق بني أن يقول الباحث عن معنى آية من اآليات :ماذا يقول القرآن؟ أو يقول :ماذا جيب أن حيمل عليه اآلية)(،)1 إذ حاول الباحث (أن ينسى كل أمر نظري عن البحث وأن يتكئ عىل ما ليس
بنظري)( ،)2حمدد ًا موضوع ًا للتنمية البرشية ليس إال ،باحث ًا بني شذرات القرآن الكريم عن آيات حتدد معامل تلك النظرية ،كام حاول أن يكون بحثه بطول مدلول آيات القرآن ال بعرضها ،بل بام يوافق رأي الكتاب الكريم والسنة الرشيفة ،فلم يسع ألن يحُ ِّمل النص اكثر مما يتحمل بل سعى ألن ينهل من النص بقدر ما حيتمل من داللة ومضمون. فعىل الرغم من سعة املنهج املوضوعي هلذه الدراسة فإهنا مل تتغافل عن املنهج التحلييل االستكشايف الذي حاول الباحث فيه أن حيلل النص القرآين( ،)3بعد جتزئة
((( حممد حسني الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القرآن.9 ،1، (((املصدر نفسه .9،1 ((((إن املنهج التحلييل هو الذي يغوص يف أعامق النص ,كلم ًة وسبب ًا ومناسب ًة وقراءة ًوإعراب ًا ومعنى واستخالص فوائد ,فهذا األسلوب يوصل الباحث إىل اهلدف الذي يسعى من وبالغ ًة ً أجله ,وهو كشف اللثام عام غمض من النص ,وإزالة االلتباس ,وإظهار األسلوب املعجز له, ومناقشة اآلراء وترجيح الصائب منها بالدليل) .ملتقى أهل التفسري. ، http://www.tafsir.net/vb/tafsir29663/#ixzz2B4DHB7eNموقع الكتروني
34
مفاصله األولية للخروج بنتائج تطابق الواقع ،باالعتامد عىل التفاسري املعتربة للبحث عن مفهوم التنمية البرشية فيها ،لعلمنا أن (حركة الفكر يف التفسري ال متناهية ،وآفاق املعاين فيه متنامية ،إذ إن فهم كالم اهلل تعاىل ال غاية له ،كام ال هناية
للمتكلم به)( ،)1و للسبب نفسه اضطر الباحث أن يقرأ جتارب األمم الكتشاف ما للتنمية البرشية من اثر عند الشعوب السالفة ،حيث ُيعدّ ذلك بحث ًا حتليلي ًا أيض ًا لقراءة حركة التنمية البرشية وتطورها يف املجتمعات ونقدها نقد ًا استداللي ًا حتليلي ًا. وكذا تضمن البحث شيئ ًا من املنهج الوصفي ،حيث تبنى وصف بعض نظريات دول ومؤسسات ودراسات وأيديولوجيات يف التنمية البرشية ،والتي تظهر ما تتبناه من خلفية فكرية لرؤية كونية ،ويتجىل املنهج الوصفي جال ًء حني تتعمق الدراسة يف جمال املؤرشات البيانية للنمو البرشي باعتامد أهم وأدق املقاييس املعتمدة لذلك. ونستطيع أن نقول إن الباحث انتهج املنهج املقارن أيض ًا يف بعض مطالب دراسته ،حيث عدها الوسيلة ملعرفة خصائص نظرية التنمية البرشية القرآنية ومقاييسها موازن ًة بالنظريات األخرى. وقد وجد الباحث نفسه مضطر ًا أن يطرق باب املنهج املنطقي الذي يعرب عن رصانة وعلمية أي مبحث يف حالة امتثاله إىل القواعد التفكريية ،كونه (أي املنطق يتكفل ببيان الطرق العامة الصحيحة التي يتوصل هبا الفكر إىل احلقائق ((( بدر الدين الزركيش ،الربهان يف علوم القرآن.551 ،2،
35
املجهولة)( ،)1وكذا وجد الباحث نفسه أسري ًا إلرادة ووطأة القواعد العامة للتفكري التي قادته هي األخرى لتحصيل املعرفة ،واملنهج املنطقي االستداليل املبني عىل االستقراء واالستنباط ،حيث وجد نفسه منقاد ًا آللياته وأدواته ،لذا نستطيع أن ندعي أننا وضعنا أيدينا عىل بعض النتائج السليمة والصحيحة التي مل تطرق أبواهبا من قبل. وكذا نجد أن الدراسة قد وقفت عند أطراف ساحة االستنباط حيث حاول الباحث أن ينتزع معنى التنمية البرشية ومفرداهتا من مداليل آيات القرآن الكريم، حماوالً قطف بعض ًا من ثامرها املتعددة وصوالً إىل مراد اهلل تعاىل ،الن احد الطرق للوصول إىل ذلك هو طريق االستدالل املرهون بالتحقيق ،إذ قسم أبن تيمية العلم
عىل نوعني ألن العلم (إما نقل مصدق ،وإما استدالل حمقق)( ، )2وهذا يعني أن هكذا مطالب عملية تفتقر إىل االستدالل املحقق مستندة عىل ذات القرآن والسنة واملنهج العلمي الدقيق ومنهج النقد الرصني. وأخري ًا فإن القارئ الكريم سيجد أن الباحث قد ألزم نفسه بكل ما ذكره يف هذا التمهيد مثبوت ًا يف طيات هذا الكتاب " املوسوم بالتنمية البرشية يف القرآن الكريم – دراسة موضوعية « إن شاء اهلل تعاىل.
((( حممد رضا املظفر ،املنطق.01 ، ((( مركز الثقافة واملعارف القرآنية ،علوم القرآن عند املفرسين.953 ،3 ،
36
الف�صل الأول
37
الفصل األول :التنمية البشرية وأسسها الوضعية.
أوالً :مفهوم التنمية البرشية وعالقته باملفاهيم األخرى. -1التنمية البرشية لغ ًة واصطالح ًا. -2مفهوم التنمية البرشية مقارن ًا بمفهوم التنمية. -3التنمية البرشية وعالقاهتا بام جياورها من مفاهيم. • املوارد البرشية. • حقوق اإلنسان. • احلاجات األساسية.
38
ً لغة واصطالحًا. ( : )1التنمية البشرية
التنمية لغ ًة :
إذا ما شئنا معرفة (التنمية) يف املعجم العريب فإننا سنجدها حتت مادة (نام)، وهي بمعنى الرفع والصعود والزيادة . ُمو ًا ،ون ََمى َينْمي نام ًء أيض ًا. إذ قال الفراهيدي (ت 175هـ) ( :نام الشيَّ ْ ء َين ُْمو ن ّ ِ ُمو ًا إذا زاد محر ًة وسواد ًا، ضاب َين ُْمو ن ّ وأنامه اهللَ :ر َف َع ُه ،وزاد فيه......،ونام اخل ُ حل َسب ،أي :رفعته ،فانتمى يف َح َس َبه)( )1فالنامء الرفع والزيادة ، ُ ونميت فالن ًا يف ا َ
ومل خيرج إسحاق الشيباين عام قرره الفراهيدي يف معنى هذه املفردة ،إذ يقول ( َنماَ يف الشجرة أي صعد فيها َ :ينْمو ن ُُمو ًا)(.)2
وقد وافق أبو عبيد(ت224:هـ) ما ذهب اليه الشيباين والفراهيدي من قبل إذ يقول( :وكل يَشء رفعته فقد نّميته ...وهلذا قيل :نمي ِ اخلضاب يف اليد والشعر َ ْ
َوإِ َّنماَ هو ارتفع وعىل)(.)3 ّ املعتل أصل واحد ويقول ابن فارس (ت395:هـ) (النون وامليم واحلرف
((( اخلليل بن امحد الفراهيدي :العني.583 -483، 8 ، (((إسحاق بن مرار الشيباين :اجليم. 062 ،3، (((أبو عبيد القاسم بن سالم اهلروي البغدادي :غريب احلديث.043 ،1 ،
39
يدل عىل ارتفاع وزيادة. ونمى ُ ارتفع من مكان إىل مكان..... وتنمى الشيَّ ء َ املال ينمي :زادَّ .... ، َ ون َّّم ْي ُت احلديد :أشعتُه ،ون ََم ْيتُه بالتخفيف ،والقياس فيهام واحد. ألقيت يت النار .إذا َ نم ُ والنَّام َية :اخلَ ْلق ألنهَّ م ّين ُْمون ،أي يزيدون ،ويقالَّ : ِ ارتفعت وغابت ثم ماتت ،وأنْامها الر ِم ّي ُة ،إذا ْ عليها َش ُيوع ًا .ويقال :ن ََمت ّ
صاح ُبها)( ،)1هبذا أن النامء هو الزيادة واالرتفاع وهلذا املضمون ارتباط بمفهوم التنمية البرشية كام سريد الحق ًا.
البرشية لغ ًة .
لفظة البرشية مأخوذة من نسبة لفظة (البرش) ،يقول الفراهيدي (البرش: اإلنسان الواحد رج ً ال كان أو امرأةً ،هو برش وهي برش ،وهم برش ،ال يثنى وال جيمع ....والبرشة أعىل جلد الوجه واجلسد يف اإلنسان وهو البرش إذا مجعته)(،)2 هبذا ندرك أن البرش هو االنسان وتعني اعىل اجللد ايظ ًا ،إذ يقول اجلوهري (ت: 393هـ ) (البرشة والبرش :ظاهر جلد اإلنسان ،وبرشة األرض -:ما ظهر من نباهتا وقد أبرشت األرض وما أحسن برشهتا .والبرش :اخللق .ومبارشة املرأة :
(((ابن فارس بن زكريا القزويني :مقاييس اللغة .084 – 974 ،5 ، ((( الفراهيدي :العني.483، 8،
40
مالمستها)( ،)1وأورد معاين أخرى :منها البرشى والبشارة ،والتبرش وغريها(.)2 هبذا نلحظ أن اجلوهري قد زاد عىل معنى البرش الذي ذكره الفراهيدي ،إذ أضاف داللة مالمسة املرأة وظهور النبات عىل األرض. وقال ابن فارس«( :برش» الباء والشني والراء أصل واحد ظهور اليشء مع حسن ومجال ،فالبرشة ظاهر جلد اإلنسان ،ومنه بارش الرجل املرأة وذلك إفضاؤه ببرشته إىل برشهتا ،وسمي البرش برش ًا لظهورهم .والبشري احلسن الوجه
.والبشارة اجلامل ،)3().....نفهم من كالم ابن فارس أن اصل املعنى هو الظهور
وسميت البرشة أي اعىل اجللد هبذا األسم ألهنا ظاهر اجلسد وسميت مالمسة النساء مبارشة ألن اعىل اجللد يالمس اآلخر ،وسميت النباتات اخلارجة من األرض برشة ألهنا ظاهر األرض ،فكان اصل املعنى هو الظهور وسمي األنسان برش ألن جلده ظاهر مبارش للعني وقال ابن منظور (ت711:هـ)( :برش :البرش الخَ ْل ُق يقع عىل األنثى والذكر والواحد واالثنني واجلمع ال يثنى وال جيمع ،يقال:هي برش وهو برش ومها برش وهم برش. :البرش اإلنسان الواحد واجلمع واملذكر واملؤنث يف ذلك أما ابن سيده فقال ُ
((( اجلوهري :الصحاح .195 ،2 ، ((( ظ :املصدر نفسه . 295-195 ،2 ، ((( ابن فارس ،مقاييس اللغة.252 ،1 ،
41
سواء ،وقد يثنى ،ويف التنزيل العزيزَ : ﴿أن ُْؤ ِم ُن لِ َبشرَ َ ْي ِن ِم ْثلِنَا﴾( )1واجلمع أبشار، والبرشة :أعىل جلدة الرأس والوجه واجلسد من اإلنسان ،وهي التي عليها الشعر،
وقيل :هي التي تيل اللحم .)2() ... وعند اجلمع بني اللفظني بعد إحلاق ياء النسبة فيهام تكون عبارة (التنمية البرشية) وبعد استحضار معنى لفظة (التنمية) بالزيادة واالرتفاع والصعود ولفظة (البرش) باإلنسان مطلق ًا يمكن أن تقول :التنمية البرشية لغ ًة هي تلك الزيادة املطردة لإلنسان عن بقية املخلوقات عىل وفق النواميس الطبيعية والقوانني الكونية ك ًام كانت أم نوع ًا مما يؤدي باالرتفاع به نحو السمو واالرتقاء وبناء احلضارات وهبذا نقرتب جدا من مفهوم التنمية البرشية يف االصطالح وهذا ما سنعرضه الحق ًا.
التنمية البرشية اصطالح ًا:
إن مصطلح التنمية البرشية من املصطلحات احلديثة التي تزامنت مع العرص احلديث ،والسيام يف العقد األخري من القرن العرشين ،وهو مصطلح مل تنضج أفكاره ومل حتدد أسسه وقواعده ،وال عنارصه وآلياته ،ناهيك عن بقية األدوات التي جتتمع مع ًا لتحدد النطاق العام ملفهوم هذا العلم من جهة ،ومن جهة ثانية فإن علم التنمية البرشية حاله حال العلوم االجتامعية األخرى التي تتباين تعريفاهتا، ((( املؤمنون74 : ((( ابن منظور ،لسان العرب.06 ،4 ،
42
عرف للمفهوم ،وال غرابة يف أن يكون مفهوم ألن التعريف ُيبنى عىل أساس فهم ا ُمل ِّ التنمية البرشية مما ُأختلف يف حتديد ماهيته ،ومعايري ومؤرشات حتقيق النمو فيه، وغريها من االختالفات يف وجهات النظر التي اعتادت العلوم اإلنسانية عليها، بوصفه أن املفهوم ذو مساحة قابلة للزيادة أو النقيصة نتيجة تباين الرؤى الثقافية والفكرية واملعرفية لرواده. إال أن من أهم التعريفات التي اشتهرت بني الباحثني هو تعريف (األستاذ
حمبوب احلق)( )1الذي ُيعدّ الرائد األول يف بيان معامل التنمية البرشية ،الذي اعد التقرير اإلنامئي األول لألمم املتحدة ،حينها(حصلت قفزة نوعية مع صدور تقرير
التنمية البرشية لعام .)2()1990 وبحسب منظور(حمبوب احلق) فالتنمية هي (عملية هتدف إىل زيادة القدرات
املتاحة أمام اإلنسان)( ،)3فهي من وجهة نظره هتدف لتحقيق ما تبغيه ،أال هو توسيع خيارات األفراد ،وهذا املعيار أعطى لإلنسان مرونة يف احلركة ،وسعت رقعة يف اختياراته ،وانتخاب ما يراه مناسب ًا لسد حاجاته املتغرية ،ومنح حرية يف
((( حمبوب احلق عامل اقتصاد شهري ،باكستاين اجلنسية ،ولد يف مدينة جامو ,كشمري .22فرباير ، 4391يعد من أشهر خرباء االقتصاد يف العرص احلديث ،اهتم بنظريات تطور املجتمع اإلنساين ،له بحوث ودراسات عديدة هبذا الشأن ،اسهم مسامهة كبرية يف إنشاء مؤرش التنمية البرشية النابع من األمم املتحدة(.املوسوعة احلرة .)ar.wikipedia.org/wik (((أسامة العاين ،املنظور اإلسالمي للتنمية البرشية .31 ، ((( املصدر نفسه.31 ،
43
االختيار ،لذا فقد عرف -حمبوب احلق -التنمية البرشية عىل( :أهنا عملية ترمي إىل توسيع نطاق خيارات األفراد وحرياهتم)(.)1
أما (امارتيا سني)( )2الذي ُيعدّ من مؤسيس منهج التنمية البرشية فقد عرفها
قائالً( :إن التنمية هي عملية ترمي إىل توسيع احلريات الفعلية لألفراد)( ،)3غي أن
هذا لتعريف حمل نظر ألن (سني) مل حيدد يف أي نطاق هذه احلريات لذا اطلق ومل يقيد ،وعليه ُيعدّ تعريفه غري مانع. غري أنه من مجلة أخرى يمكن القول ً بإن ما كتبه (امارتيا سني) ُيعدّ اساس ًا واضح ًا يف تطوير مفهوم التنمية البرشية فلسفي ًا ،حيث نظر إىل احلرية بوصفها حمور ًا هلا ،وإهنا العلة واملنطلق لتحقيق وبقاء هيكل التنمية البرشية وديمومته، عرف التنمية البرشية بغايتها التي تسعى وراء حتقيقها . فكأنه قد ً هلذا اقتىض الرتكيز عىل هذا املحور الذي ينضم حتت لوائه الكثري من املفردات لش�موليته ،ب�دالً م�ن أن ُيس�تهلك املشروع التنموي بوس�ائل وأدوات هامش�ية (((ضمري للتنمية البرشية https://sites.google.com/site/dhamirtunis/concepts.موقع الكرتوين. ((( أمارتيا كومار سني من أشهر علامء االقتصاد احلديث ،هندي اجلنسية ،ولد يف 3نوفمرب 1933م ،درس الرياضيات والفيزياء قبل استقراره عىل االقتصاد ،فاز بجائزة نوبل يف االقتصاد عام 8991لعمله عن املجاعة ونظرية تطوير اإلنسان والرفاه االقتصادي وأساس الفقر والليربالية السياسية (املوسوعة احلرة .)kiw/gro.aidepikiw.ra . ((( مسار التنمية البرشيةwww.reefnet.gov.sy/boosproject/fikr/8/nathrat.pdf ،6 ، موقع ألكرتوين.
44
وجزئية. ومما يؤخذ باحلسبان أن (امارتيا سني) قد حدد هذا املعيار لتكامل التنمية البرشية ،من ثم عدَّ أن التنمية هبذا املنظور تستدعي أن نجعل منها حدث ًا مه ًام ومفص ً ال واضح ًا يف حياة اإلنسان. أما الدكتور عبد اهلادي اجلوهري ،فقد عرفها بأهنا (التحريك العلمي املخطط ملجموعة من العمليات االجتامعية واالقتصادية من خالل إيديولوجية معينة لتحقيق التغيري املستهدف من اجل االنتقال من حالة غري مرغوب فيها إىل حالة
مرغوب الوصول إليها)( ،)1لعل هذا التعريف أوىف من سابقه ألنه أوضح أن عملية التنمية البرشية ال جتري إال عىل وفق مجلة من الرشائط هي :التخطيط ، الربجمة العلمية ،الغاية التي تكمن من استحصال األفضل دائ ًام والتي هي غاية التنمية البرشية ،غري أن ما يؤاخذ عليه أن اغفل مسألة منح حرية االختيار لإلنسان فض ً ال عن أن من كينونات ما يؤخذ عليه أيض ًا أنه حدد مسار التنمية يف اجلانب االجتامعي واالقتصادي فقط دون ذكر اجلوانب األخرى ،عىل حني أن التنمية تشمل كل توجهات اإلنسان عموم ًا من دون استثناء ألهنا متنح الفرد مجلة أدوات او وسائل يستطيع أن يستثمرها يف أي جمال من أجل بلوغ النجاح . وبمقتىض تعريف الدكتور اجلوهري نجد أن التنمية ستُظهر أثرها عىل األفراد وتحُ ركهم باالجتاه الصحيح إىل مستوى الطموح إذا ما اقرتنت باسترشاف املستقبل املعبأ عىل وفق أيديولوجيا تسعى لالرتقاء بمستوى امليدان االقتصادي واالجتامعي (((عبد اهلادي اجلوهري وأخرون ،دراسات يف التنمية االجتامعية ،مدخل إسالمي.111 ،
45
حسب وجهة نظره. (فالتنمية هي :النمو املدروس عىل ُاسس علمية ،والذي قيست أبعاده بمقاييس عملية ،سواء كانت تنمية شاملة ،أم تنمية يف أحد امليادين الرئيسة ،مثل امليدان االقتصادي أو االجتامعي أو السيايس أو امليادين الفرعية كالتنمية الصناعية أو
الزراعية)( ،)1وبمقتىض ما قدمه الدكتور اجلوهري ،سيضيق نطاق مفهوم التنمية البرشية إال ما يتعلق باملقاييس العملية وسينحرس يف جماالت معينة رئيسة كانت أم فرعية كام سبق احلديث عن هذا. بينام نجد أن (حممد توفيق صادق) قد جتلت صورة التنمية عنده ،فعرف التنمية تعريف ًا قارب فيه مفهوم التنمية البرشية حتى كاد يلتصق به ،إذ أشار إىل أهنا (عملية جمتمعية تراكمية تتم يف إطار نسيج من الروابط ،بالغ التعقيد بسبب تفاعل متبادل بني العديد من العوامل االقتصادية واالجتامعية والسياسية واإلدارية ،اإلنسان
هدفها النهائي ووسيلتها الرئيسية)(.)2 فهذا الباحث قد عرف التنمية ومل يقصد التنمية البرشية يف حينها ،إال أنه استطاع أن يرتقي هبا إىل مستوى التنمية البرشية التي مل تلد بعد إال يف ذهنه وأذهان املهتمني هبذا امليدان احليوي ،ألن بحثه قد نُرش عام ،1986أي أنه حاول عرض مفهوم التنمية البرشية يف وقت مبكر ،إال أن تعريفه كان يفتقر لالختزال، وللصياغة الفنية. (((عبد اهلادي اجلوهري وأخرون ،دراسات يف التنمية االجتامعية ،مدخل إسالمي.111 ، (((جملة املعرفة ،التنمية يف دول جملس التعاون ،العدد . 75 ،301
46
أما الدكتور عبد الكريم بكار فإننا نجده يرى التنمية البرشية من زاوية أخرى، إذ يعرفها بأهنا( :جمموعة اجلهود املتنوعة واملنسقة التي تؤهل املجتمع املسلم للقيام
بأمر اهلل تعاىل)(.)1 فمن خالل تأملنا هلذا التعريف نحرز أهم معيار للمفهوم وهي جمموعة اإلجراءات واخلطوات التي جيب أن تُقرتن بضابطة جماالت احلياة املختلفة التي عرب عنها بـ(املتنوعة) وضابطة اإلدارة والتخطيط التي عرب عنها بـ(املنسقة) ،إال أن الباحث يقف متحفظ ًا عند هذا التعريف يف نقطتني ومها :إنه نظر من خالل منطوق تعريفه إىل أن التنمية البرشية مؤثرة يف املجتمع ،يف الوقت الذي من املمكن أن تؤثر يف الفرد الواحد ويف جمموعة أفراد بغض النظر عن كوهنم يمثلون جمتمع ًا أم ال ،ثم أنه قيد تعريفه باملجتمع املسلم عل ًام أن التنمية البرشية حتدث أثرها يف املجتمعات اإلسالمية وغري اإلسالمية. نعم ال بأس أن نطرح فلسفة الوجود والغاية من خلق اإلنسان ورضورة امتثاله ألمر اهلل تعاىل ،وعالقة كل ذلك بالتنمية البرشية ،إال أن ذلك ُيعدّ من ضمن رشح التعريف ،كام أشار األستاذ البكار إىل ذلك معلق ًا عىل تعريفه (ونحن نرى أن مسوغ اجلهود التنموية هو حتقيق األهداف والغايات املرحلية والنهائية التي يتطلع إليها جمتمع من املجتمعات........كل ذلك هيدف إىل يشء واحد، هو تأهيل املسلم ورفع كفاءته وهتيئة املناخ البيئي واالجتامعي الذي يساعده عىل أداء حقوق العبودية لرب العاملني والقيام بواجبات االستخالف يف األرض عىل
(((عبد الكريم بكار ،مدخل إىل التنمية املتكاملة.10،
47
الوجه األكمل )( ،)1وكأن د.عبد الكريم أراد بـ (أمر اهلل) مفهوم االستخالف
باعتبار أن اإلنسان خليفة اهلل ،وال يمكنه أن يصل اىل هذه املستوى من األنموذج
األسمى الذي تبتغيه السامء له مامل يو ًظف مفهوم التنمية البرشية يف حياته لكي يتطور سلوكي ًا ويتهذب اخالقي ًا ويرتقي عقلي ًا فيكون األنموذج األستخاليف يف
األرض ،غري أن األستخالف ُيعدّ من لوازم التنمية ال جزء ًا من ماهيتها (املفهوم) ألن التنمية تطور ومن لوازم التطور البرشي وحمصلته هو (األستخالف) أي
بلوغ املستوى ألرفع من األنموذج البرشي ،لذا كان عىل د.عبد الكريم أال يقيد
التعريف بقيد (أمر اهلل تعاىل) ويعده جزء ًا من مفهوم التنمية اصالة ألنه ُيعدّ جزء ًا باملآل ال بالكينونة وهبذا ال ُيعدّ أصال من التعريف يف ما نحسب.
يف حني نجد أن الباحثة سامح طه امحد الغندور ،حاولت استخالص تعريف
لِتعرضه عىل صفحات رسالتها ،إذ قالت( :إن التنمية البرشية تدور حول تطوير
القدرات البرشية بأمور يتمكن اإلنسان من خالهلا سد حاجاته املادية واملعنوية واالجتامعية والعقلية)(.)2
فقد أكدت الباحثة أن التنمية البرشية تتمحور حول تطوير القدرات البرشية
لسد بعض احلاجات ،وهذه هي كينونة التنمية البرشية غري أهنا مل تلتفت إىل أهنا جيب أن ترتكز عىل أسس علمية وخلفية فكرية ،وهذا يعني أن التنمية من وجهة
(((عبد الكريم بكار ،مدخل إىل التنمية املتكاملة .10– 9، (((سامح طه امحد الغندور ،التنمية البرشية يف السنة النبوية (دراسة موضوعية).3 ،
48
نظرها ستؤكد املهارات سعي ًا اىل بعض احلاجات ليس إال ،كام نجدها قد حددت
بعض امليادين احلياتية دون غريها.
بينام نجد أن السيدة أشواق الساعدي قد عرفت التنمية البرشية تعريف ًا إجرائي ًا
قائل ًة( :أهنا العملية التي تستهدف اإلنسان وتعمل جاهدة عىل وضع كل ما
يفيده وخيدمه يف متناول يده خاصة ،أن حييا حياة طويلة ويكتسب املعرفة ويتمتع
بمستوى معيشة كريمة ،فض ً ال عن تطوير مجيع طاقاته وإمكانياته هلذا الغرض بأنه
أساس احلركة التنموية يف أي جمتمع)(.)1
وعند تأملنا للتعريف أعاله نحدد عدة مالحظات منها :إن تعريفها غري
مخُ َتزل متام ًا والشاهد عىل ذلك هو التفريق بني أن يكون اإلنسان هو املستهدف
يف التنمية البرشية يف الوقت الذي يكون هو األساس أيض ًا يف احلركة التنموية، فيجب توحيد الصياغة هنا لتحقيق املطلب ،ثم نجدها قد خصصت احلياة الطويلة
وكسب املعرفة كمصداق للتنمية البرشية يف حني نجد هناك مصاديق أخرى ومهمة كمستوى دخل الفرد الذي مل تتعرض إليه ،والذي كان يكفي اإلشارة إليه ،كام
اكتفت بام قالته (أن يتمتع بمتسوى معيشة كريمة) ،فتعريفها كان يفتقر إىل اإلعداد واإلخراج ،وللتقديم والتأخري ،فض ً ال عن افتقاره إىل االختزال.
فمع تباين تلك التعريفات فيام بينها ،إال أننا نستطيع أن نقول إن هناك معاين
(((أشواق عبد احلسن الساعدي ،الثقافة والتنمية البرشية ،دراسة نظرية لبعض املتغريات الثقافية.23 ،
49
جيب حضورها بوصفها قاس ًام مشرتك ًا يف التعريف ،بحيث تعد هوية التنمية البرشية وحمدداهتا ،وأسس قواعدها كي تشكل البعد احلقيقي ملفهوم التنمية البرشية ،إال أن
فقدان بعض هذه املفاصل من تعريف هذا أو ذاك شكل خل ً عرف، ال يف مدلول ا ُمل ً
أو أظهر نقص ًا مل تكتمل صورته الذهنية لدى املتلقي ،لذا علينا أن نحدد بعض هذه الثوابت من ثم نعرف التنمية البرشية ،ومن الثوابت واألسس هي:
•اإلنسان هو رأسامل التنمية البرشية وموضوعها ،وهو الوسيلة والغاية يف الوقت نفسه.
•إن مصداق التنمية البرشية ال يتحقق إال من خالل تطبيقات عملية عىل ارض الواقع.
•إن مفهوم التنمية البرشية جيب أن تكون أسسه ومبانيه مرتكزة عىل أفكار رؤى كونية.
•للتنمية البرشية مساحة واسعة تسع مجيع جماالت احلياة الفكرية واالقتصادية والسياسية والذاتية وغريها من املجاالت األخرى.
•اعتبار أن حمددات مفهوم التنمية البرشية هي عملية االرتقاء باملهارات وتفجري الطاقات وتطوير القدرات وترمجتها إىل سلوك ،ال عملية تعظيم
املنفعة كام كان ينظر إىل التنمية.
•استمرارية دوران عجلة التطور وعدم االكتفاء بوصوهلا إىل مراتب حمددة. وقبال ذلك ارتأى الباحث أن يكون تعريفه اإلجرائي كام يأيت:
التنمية البرشية هي :عبارة عن عمليات إجرائية منظمة عىل وفق رؤية فكرية 50
منتخبة هتدف لتطوير القوى الكامنة يف اإلنسان بصقلها وتوجيهها نحو حتقيق
طموحاته بغية إشباع حاجاته املرشوعة يف شتى جماالت احلياة.
51
52
( : )2التنمية البشرية قياس ًا بمفهوم التنمية.
قبل الدخول يف احلديث عن مفهوم التنمية البرشية موازن ًة بينه وبني مفهوم التنمية عموم ًا فإنه من األوىل أن نسلط الضوء عىل معنى النمو ابتداء. إن النمو ُيعدّ الزيادة التلقائية أو الطبيعية من دون دخل من اخلارج ،أي (هي عملية الزيادة الثابتة أو املستمرة ،التي حتدث يف جانب معني من جوانب احلياة)
( ،)1وهذا يعني أن النمو حيدث من غري تدخل اإلنسان أو العوامل اخلارجية عىل زيادة اإلنتاج. بينام نجد أن التنمية لغة كام ذكرناها سابق ًا هي (النامء) ،أي الزيادة امل َط ِردة ك ًام كانت أم نوع ًا ،أو الزيادة والكثرة كام ذهب إىل مدلوهلا بعض من الباحثني ،وهلذا املعنى رابط باملفهوم االصطالحي للتنمية عموم ًا ،ذلك بأن التنمية (هي عملية االنتقال باملجتمعات من حالة ومستوى أدنى إىل حالة ومستوى أفضل ،ومن نمط تقليدي إىل نمط آخر متقدم ك ًام ونوع ًا ،وتعد ح ً ال البد منه يف مواجهة املتطلبات الوطنية يف ميدان اإلنتاج واخلدمات )( ،)2فالتنمية ختضع لإلرادة البرشية وتفتقر إليه ولدفعات قوية حتركها قدرات إنسانية خرية خترج املجتمع من حالة الركود إىل حالة احلركة والتقدم.
((( هشام إخزام ،عبد الفتاح حلوة ،دور املجتمع املدين يف التنمية البرشية ،اجلمعيات أنموذجا .جامعة الرسالة. ( )http://www.universiterissala.maktoobblog.com/264267موقع الكرتوين. ((( أمحد زكي بدوي ،معجم مصطلحات العلوم االجتامعية.187 ،
53
وللتنمية غايات ودوافع قال فيها القرنشاوي( :هي إحداث جمموعة من التغريات اجلذرية يف جمتمع معني ،هبدف إكساب ذلك املجتمع القدرة عىل التطور الذايت واملستمر ،بمعدل يضمن التحسن املتزايد يف نوعية احلياة لكل أفراده ،بمعنى زيادة قدرة املجتمع عىل االستجابة للحاجات األساسية واملتجددة ألعضائه، بالصورة التي تكفل زيادة درجات إشباع تلك احلاجات عن طريق الرتشيد
املستمر الستغالل املوارد املتاحة ،وحسن توزيع ذلك االستغالل)(.)1 فنجده قد أكد دوافع وغايات التنمية كالتغري والتطور املستمر والتحسن املتزايد وزيادة القدرة واستغالل املوارد البرشية من دون أن يؤكد املجاالت األخرى كاألدوات والدراسات وامليادين والسقف الزمني والواقعية فض ً ال عن أن تعريفه شم منه رائحة حرص مفهوم (التنمية)باجلانب االقتصادي لإلنسان للتنمية هذا ُي ُّ بدليل قوله ( الرتشيد املستمر الستغالل املوارد املتاحة). نقول إن للتنمية أبعاد َا مهم َة وأثار َا واضح َة يف امليدان العميل من املمكن عده معيار ًا حلجم التنمية ومقاس ًا ُيعتد به وهي الزيادة أو اإلنتاج بأنواعها كافة من دون االقتصار عىل جانب دون آخر ،وأول ما يراعى فيها هو اإلنسان والزمان واملكان، غري أن صاحب التعريف مل يذكر ركائز هذه املراعاة يف تعريفه. وبمقتىض األبعاد التي عدت مقياسا للحركة التنموية سيكون قبال ذلك مساحة متغرية ،بحسب النسبة العملية إىل العلمية أو النظرية ،وهذا ما نلمسه
((( حامد القرنشاوي ،تساؤالت حول اقتصاديات التعليم وقضايا التنمية يف الوطن العريب.25 ،
54
عند بعض الباحثني حني يؤكد عىل أثر التنمية من دون املعاين األخرى ،وما هذا املنطوق إال مثال عىل ما ورد أعاله( :إن التنمية هي عملية االنتقال باملجتمعات من حالة ومستوى أدنى إىل حالة ومستوى أفضل ،ومن نمط تقليدي إىل نمط أخر متقدم ك ًام ونوع ًا ،وتعد ح ً ال ال بد منه يف مواجهة املتطلبات الوطنية يف ميدان
اإلنتاج واخلدمات)(.)1 بينام ُعرف مفهوم التنمية من وجهة نظر فلسفية ،فقيد املفهوم بحجم تأثري النمو الثقايف عىل املجتمع والذي ُيعدّ دافع ًا لسد احلاجات األساسية فهو( :ذلك الشكل املعقد من اإلجراءات والعمليات املتتالية واملستمرة التي يقوم هبا اإلنسان للتحكم بقدر ما بمضمون واجتاه ورسعة التغيري الثقايف واحلضاري يف جمتمع من املجتمعات هدف إشباع حاجاته)(.)2 ونستخلص من مجلة ما أوردناه من تباين واضح يف حتديد مفهوم التنمية، نال مفاصله مجيع ًا من حيث األسس والفئة املستفيدة والغاية واألدوات والسبل واملؤرشات ،فإن ذلك يدل عىل أن مفهوم التنمية يتباين عىل أساس التباين الفكري للباحث من جهة ،وعىل أساس تطور ذات املفهوم عىل مر العصور منذ خلق اإلنسان إىل ما شاء اهلل من جهة ثانية ،وتباين رغبات اإلنسان عىل وفق حاكمية
((( هشام إخزام ،عبد الفتاح حلوة ،دور املجتمع املدين يف التنمية البرشية ،اجلمعيات أنموذجا .جامعة الرسالة(http://www.universiterissala. . ) maktoobblog.com/264267موقع الكرتوين. ((( املصدر نفسه.
55
الظروف وتباين حتقيق طموحاته وسد حاجاته من جهة ثالثة. إن تتبع الوالدة االصطالحية للتنمية يثبت ما تبنيناه يف حتديد العلة احلقيقية وراء هذا التباين ،أو سبب احتساب التنمية عىل املجال االقتصادي دون بقية املجاالت، ولعل (أول من استعمل هذا املصطلح هو «يوجني استييل» حني اقرتح خطة تنمية
العامل سنة 1889م)(.)1 وواقع احلال أن مفهوم التنمية ولد يف حاضنة علم االقتصاد حيث استعمل تعبري ًا عن جمموعة إجراءات جوهرية لتطور ماكينة االقتصاد ،وان هذه املاكينة هي السبب إلحداث أي تغري ،وهلذا ُعرفت التنمية عند هذه املدرسة بأهنا( :جمموعة الوسائل واجلهود املختلفة التي من خالهلا يتم االستخدام األمثل للثروة بشقيها املادي والبرشي والتي بدورها تؤدي إىل إحداث تغيري يف أنامط السلوك وأنواع العالقات االجتامعية)(.)2 وكذا هي احلال ملن ينسب والدة التنمية آلدم سمث ،فهو ال خيرج عن النطاق العام الذي حدد ملفهوم التنمية ،إذ بقي رهن تصورات من عده قرين ًا للامكينة االقتصادية ،وان استعامل (هذا املفهوم منذ ظهوره بصورة أولية يف عرص
((( هشام إخزام ،عبد الفتاح حلوة ،دور املجتمع املدين يف التنمية البرشية ،اجلمعيات أنموذجا .جامعة الرسالة(http://www.universiterissala.maktoobblog. . ) com/264267موقع الكرتوين. ((( رمزي زكي ،املحنة األسيوية :قصة صعود وهبوط دول املعجزات األسيوية، .29-28
56
االقتصادي الربيطاين ادم سميث يف الربع األخري من القرن الثامن عرش ،وحتى احلرب العاملية الثانية ،إال عىل سبيل االستثناء ،فاملصطلحان اللذان استخدما للداللة عىل حدوث التطور املشار إليه يف املجتمع مها :التقدم املادي ،التقدم
االقتصادي)(.)1 هكذا بدأ تطور مفهوم التنمية بحسب الظروف االقتصادية والسياسية واالجتامعية من جهة ،فض ً ال عن أنه بات ذات داللة متطورة بحسب ارتباطه باحلقول املعرفية من جهة أخرى ،فعىل الرغم من إجيابية هذا املفهوم وبقائه عىل مزية التطور املطرد والزيادة الرسيعة املستمرة فإنه بقي أسري البعد الدنيوي واملادي املجرد ،والنظر إليه عىل أساس الزيادة يف اإلنتاج ،والتقدم الكمي فحسب ومدى تأثرياته عىل املنظومة االجتامعية التي تستحق هي األخرى تنميتها ،هلذا فقد قسمت التنمية عند بعض من املفكرين والسيام االقتصاديني واالجتامعيني إىل( تنمية اقتصادية وتنمية اجتامعية ،وكان من املستحيل الفصل بني النوعني ألن كل منهام
رشط لتحقيق األخرى)( )2بحسب وجهة نظرهم . وهكذا بقي مفهوم التنمية ال يتعدى مساحة االقتصاد ،وأن أراده بعض من الباحثني أن يتألق هبذا املفهوم فاألمر ال يتعدى كونه توفري فرصة الرتباطه بالنظم السياسية واإلدارية واالجتامعية فيه عالوة عىل الرابط األساس أال هو االقتصاد ((( مجال حالوة وعيل صالح ،مدخل إىل علم التنمية.20 ، ((( مها سهيل املقدم ،مقدمات التنمية االجتامعية وحتدياهتا ،تطبيقات عىل الريف اللبناين.27 ،
57
الذي ُيعدّ العمود الفقري له. واألمر سيبقى عىل ما هو عليه برأي أصحاب هذا املذهب ْ وإن ُف ِّر َق بعض منهم بني النمو االقتصادي والتنمية ،عىل أساس أن النمو االقتصادي هو عبارة عن الزيادة يف متوسط الدخل الفردي ،إال أن التنمية بقيت عىل أهنا ظاهرة ُيعدّ النمو االقتصادي احد أركاهنا ،غري أن الفارق هو اقرتان ــالتنمية ــ باملتغريات األساسية واالجتامعية فض ً ال عن النظام االقتصادي ،كل ذلك مبني عىل أساس أن ملفهوم التنمية خصائص يتميز هبا من غريه من املفاهيم ،عل ًام أن تلك اخلصائص هي التي متيز املفهوم االقتصادي من مفهوم التنمية البرشية الذي سعى األخري أن تكون أهم خصائصه الشمولية التي ترضب جذورها يف مجيع جماالت احلياة املختلفة بخالف مفهوم التنمية الذي تبنى االقتصاد هدف ًا أوحد عن بقية جماالت احلياة وإن أ ّثر أثره يف املجاالت األخرى. وبمقتىض ما تقدم سيكون لدينا خصائص عديدة متيز مفهوم التنمية وهي: •اعتامد املعيار املادي املبني عىل املشاهدة واملحسوس معيار ًا وحيد ًا. •اقرتانه بفعاليات الفرد واملجتمع. •إحراز آثار واضحة بفعل العامل االقتصادي عىل الصعيد االقتصادي والصعيد السيايس واالجتامعي بحسب منظور بعضهم. •اعتبار أن التنمية جمموعة من العمليات واإلجراءات فهي ليست بحالة. •اعتامد الدراسات العلمية الدقيقة واملتأنية. •وجود أهداف عليا ممكنة وواقعية. •العمل عىل رضورة وجود عقل اسرتاتيجي خيطط إلدارة دقيقة وحازمة. 58
•اعتبار الزمن أحد مؤرشات حتقيق التطور واإلنامء. •اعتبار أن الغاية من التنمية هي الزيادة املطردة يف اإلنتاج وان اإلنسان أحد العنارص املكملة لعملية اإلنامء. فبمقتىض ما تقدم وبعد ما أوردناه من بعض خصائص وضوابط مفهوم التنمية يمكننا أن نتوصل إىل مجلة من هذه الضوابط التي استخلصناها من التعاريف السابقة هي :التغري االجيايب ،استمرارية التغري ،اإلرادة والعزم ،دراسة علمية، أهداف معقولة قابلة للتحقيق ،خمطط اسرتاتيجي ،وجود حاجات أساسية أو غري أساسية ،سقف زمني ،آليات وأدوات وغريها من الضوابط. وهلذا سيكون غاية التنمية هو التغيري االجيايب ال السلبي عىل وفق خطوات علمية مدروسة ومتأنية تصل إىل هدفها املرسوم بأقرص طريق واقل كلفة وبزمن قيايس. لذا فالتنمية من وجهة نظر الباحث :هي عملية تغري حسنة مدروسة وموجهة هدفها إشباع حاجات اإلنسان وتؤثر اجيابي ًا يف نمط العالقات املختلفة بأقرص وقت ممكن ،وبعبارة أخرى نقول إن التنمية هي :دراسة علمية دقيقة يرتتب عىل أثرها مرتسم خلارطة طريق تتضمن حتقيق أهداف واقعية تسعى إىل زيادة مطردة حتت سقف زمني معقول. فعىل أساس ما تقدم وقبل أن نلج موازنة التنمية البرشية بالتنمية يستدعي علينا أن نؤكد أن مصطلح التنمية قد أخذ حيز العموم ،إال أنه بقي حمافظ ًا عىل مدلوله االصطالحي بالقرب من املعنى اللغوي واشتقاقات الكلمة بني الزيادة واالنتشار، وقد بقي حمافظ ًا عىل نطاقه العام عىل الرغم من ختصصه حني اقرتن مع أحد العلوم 59
أو املعارف أو يف حالة اإلضافة(. )1 إن تطور مفهوم التنمية كان مقرون ًا بارتباط العلوم األخرى به ،وبتطور ذات املفهوم ،يضاف اىل ذلك بقاء املفهوم حبيسا يف معناه اللغوي مع بعض من املرونة االصطالحية لذات املفهوم التي اكتسبها بني مدة وأخرى أو بني حضارة وأخرى حتى استصعب أن خيرج من نطاقه العام إال إذا أقرتن بعلم آخر ،حيث بقي املصطلح يراوح يف مكانه ،بالرغم من تقلب الظروف الفكرية والسياسية واالجتامعية واالقتصادية التي حتيط به وعىل الرغم من الوالدات اجلديدة التي تطورت نتيجة تالقح مفهوم التنمية من قريب أو بعيد مع علوم أخرى ،فاكتسبت تلك الوالدات اجلديدة شمولية ضمت حتت جناحيها ذات مفهوم التنمية ،ومن تلك املفاهيم التي استحدثت هو مفهوم التنمية البرشية الذي اهتم باهتاممات شتى ،ومنها اهتاممات جماالت التنمية ذاهتا ،حيث نجد هذا املفهوم قد قفز من حيز مساحة التنمية عىل مساحة التنمية إىل مساحة أوسع وأشمل ،وذلك من خالل رؤية جديدة ملفهوم سعى لالرتقاء باإلنسان بتنمية مهاراته ،وتفجري قدراته، مستثمر ًا إياها يف جماالت احلياة مجيع ًا ،خدمة وتلبية خلياراته ومتطلباته ،وحتقيق ًا لطموحاته وسد حاجاته املرشوعة.
((( لقد ( تطورمفهوم التنمية لريتبط بالعديد من احلقول املعرفية ،فأصبح هناك التنمية الثقافية التي تسعى لرفع مستوى الثقافة يف املجتمع وترقية اإلنسان ،وكذلك التنمية االجتامعية التي هتدف إىل تطوير التفاعالت املجتمعية بني أطراف املجتمع......باإلضافة إىل ذلك استحدث مفهوم التنمية البرشية الذي هيتم بدعم حمددات الفرد وقياس مستوى معيشته وحتسني أوضاعه يف املجتمع) مجال حالوة وعيل صالح ،مدخل إىل علم التنمية البرشية.21 ،
60
وعىل هذا األساس رصح حمبوب احلق ليبني التنمية البرشية بقوله( :هي أكثر من ارتفاع أو هبوط الدخل الوطني ،إنام هي استحداث بيئة يمكن لألفراد من
خالهلا تطوير كامل إمكانياهتم وعيش حياة منتجة وفق ًا حلاجاهتم ومصاحلهم) هبذا نلحظ أن املصطلح أصبح يغطي كثري ًا من االهتاممات ضمن العلوم األخرى من الناحية الفكرية ،ومل يغفل هذا املفهوم اجلانب النظري له ،وما تواردت عليه من استفهامات واحتامالت مفاهيمية هتم العوامل املسامهة فيه وعنارص تكوينه، ومتعلقاته من أسس وقواعد ،وأهداف وغايات ،إال إنه عىل الرغم من اإلشكاالت املفاهيمية التي تواردت عليه خاصة بني العموم واخلصوص ،مل يغب عن هذا املفهوم رؤيته للجانب التطبيقي ورؤيته الواقعية والعملية واجلوانب املتعقلة باملحددات أيض ًا فض َ ال عىل التباين الواضح يف مؤرشات التنمية ومقاييسها عند الدول والشعوب ،وهذا ما سنتعرض إليه الحق ًا يف املباحث القادمة إن شاء اهلل. فالتنمية البرشية هي عملية علمية مدروسة ،خمطط هلا ،حمددة األهداف ،تدار من الفرد أو املجتمع أو من كليهام ،تسعى اىل إحداث تطور وتقدم ،وتنعطف باملستويات كافة ،ال حتدها حدود فهي تطرق مجيع أبواب جماالت احلياة كافة التي تؤثر يف الفرد واملجتمع ،فكل تلك األهداف تُسقى من منبع رؤية كونية حمددة هتدف لتحقيق التطور امل ّعول عليه ،والتعامل مع كافة الوسائل املمكنة واملسموح هبا من آليات برشية ومادية ومعنوية ،هدفها التغيري الشامل بطفرة
()1
((( مسار التنمية البرشيةwww.reefnet.gov.sy/boosproject/fikr/8/nath� 21، rat.pdfموقع لكرتوين.
61
تنموية خدمة لإلنسان والزمن الذي يعيشه واملكان الذي يستوطنه ،وذلك ببعث اإلجيابية واملستوى األفضل واألجدر منتقلني به – اإلنسان– من غري املرغوب إىل املرغوب ،ومن احلسن إىل األحسن. وبمقتىض أمهية اإلنسان وحموريته يف التنمية البرشية فان الربنامج اإلنامئي
لألمم املتحدة قد حدد التنمية البرشية عىل أهنا (توسيع خيارات البرش)(.)1 فالبد من أن يكون اخلطاب النظري والفكري ملفهوم التنمية البرشية عىل أساس ثقافة واقعية تتبنى الثوابت وقابلة للتغريات اجلزئية ،لغرض التعاطي معه بجدية متفاعلة معه بالتطبيق واملامرسة العملية ،أي أن ينتقل بالنظرية وخطاهبا الفكري إىل واقع وسلوك إجرائي يروض وينمي مهارات اإلنسان اللينة عرب البيئة االجيابية التي حتيط به منتق ً ال هبذا التغري االجيايب إىل أفراد آخرين لتعميم تلك الظاهرة الفردية إىل ظاهرة اجتامعية ،إذ املجتمع التنموي جمموعة من أفراد تنمويني. وهلذا نستطيع القول إن مفهوم التنمية البرشية هو من جنس املفاهيم القليلة والنادرة التي جتمع بني البعد النظري و العمق العميل ،وأن نظريته هلا القدرة عىل الفعل والتفاعل لتجسيد اجلانب التطبيقي وتفعيله عىل أرض الواقع. إذن فبغض النظر عن االنتقال والتطور للبناء املفاهيمي للتنمية البرشية -الذي سنتحدث عنها يف مباحث الحقة -فإنه استطاع بعد عدة قفزات أن يكون أكثر شموالً ،حيث أصبح يمس مجيع املجاالت احلياتية للبرش ،املادية منها واملعنوية، متعايش ًا مع كل بيئة اجتامعية بظروفها اخلاصة ،وذلك للمرونة النظرية التي ((( تقرير التنمية البرشية العربية للعام 2004م.1 ،
62
أكدناها سلف ًا ،والتي تعطي اخليار للفرد أو ملجموعة أفراد أن خيتاروا ما يناسبهم، عىل أساس أن الغاية هو تلبية حاجات الفرد ،وسعة خياراته املبنية عىل األسس النظرية للقناعات الفكرية. وبمقتىض حتديد األمم املتحدة لتعريف التنمية البرشية سندخل يف مشكلة نظرية من جهة وعملية تطبيقية يف الوقت نفسه ،حني نرفع حمددات التنمية البرشية ونطلقها بوصفها (توسيع خيارات البرش) ،عندها سنجد عىل أساس ذلك تباين ًا بني جمتمع وآخر يف توسيع هذه اخليارات ،من دون االلتفات إىل ضوابط وأسس، وهذا ما ستعم عىل أثره الفوىض ،مما اضطر الباحث اىل أن يؤكد يف تعريفه اإلجرائي قيد اخليارات واحلاجات باملرشوعة ،حني قال :التنمية البرشية هي :عبارة عن عمليات إجرائية منظمة عىل وفق رؤية فكرية منتخبة هتدف لتطوير القوى الكامنة يف اإلنسان بصقلها وتوجيهها نحو حتقيق طموحاته بغية إشباع حاجاته املرشوعة يف شتى جماالت احلياة.
وعليه فأبعاد مفهوم التنمية البرشية سيكون ذا بعدين رئيسني: البعد األول :االهتامم باإلنسان وبمستوى تطوره يف كافة مراحل جماالته بغية االرتقاء بقدراته وإمكاناته وطاقاته البدنية والروحية والعقلية والنفسية ،والذاتية واالجتامعية ،وبقية املجاالت األخرى ،بوصفه هو اهلدف وهو األداة والوسيلة يف الوقت نفسه ،لذا ُعد مفهوم التنمية البرشية مفهوم ًا مركب ًا ،كونه جمموعة من العمليات التي تسعى لتحقيق خيارات اإلنسان املرشوعة بوصفه موضوع وجوهر العملية التنموية. البعد الثاين :إن مفهوم التنمية البرشية له من املرونة ما يؤهله أن يتصل مبارشة 63
باستثامر كافة املوارد التي ّتولد منها نتاج ًا ينمي القدرة البرشية ويطور اهليكل ال ومتفاع ً البنائي والتنظيمي واإلداري لتلك املوارد ،التي سيكون نتاجها متداخ ً ال لينتهي باملنفعة لإلنسان. وأخري ًا نستطيع أن نستخلص أن العالقة بني املفهومني عالقة وثيقة يمكن تصويرها بعالقة التالزم التي ال تنفك إال بإلغائهام مع ًا ،وإن تباينا يف حمدداهتام وغاياهتام ومنهجهام ،الفتقار التنمية البرشية إىل روافد اقتصادية وكذا يف التنمية االجتامعية أو االقتصادية أو أي تنمية أخرى البد هلا من روافد برشية ،وما هذا إال آلية واقعية لتكامل املفهومني مع ًا عىل حد ًا سواء.
64
( : )3مفهوم التنمية البشرية وعالقته بالمفاهيم األخرى.
سبق أن حتدثنا عن التنمية البرشية حتت عنوان التنمية البرشية اصطالح ًا ،وعن عالقتها بالتنمية بمفهومها العام ،والستيعاب صور البحث مجيع ًا إىل رؤية متكاملة عن مفهوم التنمية البرشية صار لزام ًا العودة مرة أخرى اىل مفاهيم جديدة لبيان عالقتها بموضوع البحث. إن اهتاممنا بأي مفهوم يعني اهتاممنا بامهية املوضوع ،وهلذا نجد أن جهد الباحثني ُيكرس يف مثل هكذا مواضيع لتكون منطلق ًا لبيان متبنياهتم ،وما تعريف التنمية البرشية وحتديد مفهومها بخارج عن هذا ،حيث يرتتب عىل ذلك بعد ًا واضح املعامل ملا ينتهجه ،فعىل ضوء املفهوم والتعريف تتضح األسس ويرتتب بناء الصريورة التنموية هلذا املجتمع أو ذاك ،بل حلارضه ولبيان معامل مستقبله ،وعىل أساس ما تقدم سيتضح حجم حضارة هذا املجتمع أو ذاك. لقد ذكرنا يف ما تقدم انه قد يتبادر للمتلقي عند سامعه لكلمة التنمية إهنا مرتبطة باجلانب االقتصادي ،أو بعبارة أدق أهنا مرتبطة بعلم االقتصاد ،و ذكرنا إنه إىل حد ما نستطيع أن نؤيد ذلك باعتبار أن العمق التأرخيي هلذه الكلمة قد أخذ هذا احليز فعالً ،فقد استعملت هذه الكلمة للتعبري أو للداللة عىل إجراء جمموعة من اخلطوات املدروسة والعلمية لغرض بث الروح فيها عىل شكل إجراءات عملية هتدف وتؤثر تأثري ًا جذري ًا يف حتسني اإلنتاج والنمو االقتصادي ،ومن ثم يكسب الفرد واملجتمع القوة عىل النهوض واالرتقاء بنفسه إلمتام عملية التطور والتقدم. والتنمية البرشية هي عملية ترمي إىل توسيع خيارات اإلنسان املرشوعة 65
وتطوير قدراته وإسنادها من أجل استثامرها خدمة ملرشوع يكون رأسامله اإلنسان وهو الوسيلة والغاية ،ألنه هو جوهر التنمية وموضوعها وحمورها وهو رأسامل احلضارات. ولكي يكون هذا املرشوع أشمل وأعم جيب أن يغطي جماالت احلياة كافة، ويكون أحد أركاهنا اجلانب االقتصادي لتغطية متطلبات احلياة وتكتمل لتسع اجلانبني املادي واملعنوي خدمة وتلبية ملتطلبات واحتياجات اإلنسان األساسية حتى الكاملية عىل حد وجهة نظر بعض من املهتمني بالتنمية البرشية ،فهي تعني االنعطاف بإمكانات اإلنسان من َأسرْ اجلهل واملرض والفقر ،وكل املصاديق ذات البعد التخلفي واالرتقاء به إىل أعىل مراتب الرقي والكامل لبناء حضارة إنسانية مبنية عىل أساس العلم والعقل واملعرفة واإلرادة واحلرية وباقي املصاديق ذات البعد التقدمي واحلضاري. وبعد أن توصلنا إىل رؤية إمجالية ملفهوم التنمية البرشية ،ارتأينا أن نعرض بعض املفاهيم التي ترادف هذا املفهوم أو قد تشاطر تكامل مفهومه ،أو التي تُعد احد العنارص التكميلية املكونة ملفهوم التنمية البرشية ،عل ًام أن اغلب هذه املفاهيم التي سنتناوهلا تُعد مقدمة تسامت لتّكون األرضية األوىل هليكلية التنمية البرشية. ومن هذه املصطلحات أو املفاهيم هي: •املوارد البرشية. •احلاجات األساسية. •حقوق اإلنسان. قبل بيان عالقة مفهوم التنمية البرشية هبذه املفاهيم واملصطلحات فإنه قد 66
يثار تساؤل او اشكال يدور يف أذهان املهتمني واملطلعني بخصوص علة التمييز بني التنمية البرشية والتنمية بمفهومها العام وبني عالقة املفهوم نفسه باملفاهيم املذكورة آنف ًا ،نقول :نعم ،قد يكون هذا اإلشكال يف حمله ،هذا ْ إن مل نعرف الغاية من هذا التمييز بني مفهوم التنمية واملفاهيم املذكورة آنف ًا ،قياس ًا بمفهوم التنمية البرشية ،والواقع أن املفهوم األول "التنمية" ُيعدّ مفهوم ًا مستق ً ال متام ًا عن مفهوم التنمية البرشية ،خيتلف عنه يف األسس واملوضوع واملنهج واألدوات والغايات واألهداف بل حتى النتائج ،وهذا ما وضحناه يف املطلب السابق ،لذا كانت غايتنا يف إفراده كمفهوم يف مطلب مستقل عن بقية املفاهيم األخرى التي سنتناوهلا يف هذا البحث وذلك لبيان أمهيته ومزاياه. والواقع إن (اإلنسان) بوصفه عنرص ًا يف مفهوم التنمية هو وسيلة مهمة وعنرص أساس يف اإلنتاج ،أي يف النمو بغض النظر عن أي تنمية كانت ،تنمية اقتصادية أو ٍ مساو اجتامعية أو ثقافية.....الخ ،وسيكون اإلنسان يف هذا امليدان بمثابة رأسامل لبقية رؤوس األموال األخرى ،وهلذا ذهب بعض الكتّاب (إىل االهتامم والرتكيز عىل أمهية العنرص البرشي يف اإلنتاج ،وجعلوا اهلدف من تنمية املوارد البرشية حتقيق التنمية االقتصادية ،كام جعلوا تنمية هذه املوارد بمثابة رأس املال البرشي الذي يقابل رأس املال املادي)(.)1 وهلذا كان ُينظر إىل اإلنسان نظرة اقتصادية بحتة ،وقيمته النقدية عىل قدر انتاجه ،ومكانته عىل قدر تفاعله يف دوران عجلة املاكينة االقتصادية ،فهو احد ((( مجال حممد أمحد عبدة ،دور النهج اإلسالمي يف تنمية املوارد البرشية.89 ،
67
عنارص رأس املال ،و ُينظر إليه أيض ًا عىل أنه أحد أنواع رؤوس األموال املتباينة لتباين جهد كل إنسان عن اآلخر يف قدراته ومؤهالته مقاس ًا بحسب إمكانياته عىل العطاء واإلنتاج. وتأسيس ًا عىل ما تقدم فالتنمية هي عملية تغري حسنة مدروسة وموجهة هدفها إشباع حاجات اإلنسان وتؤثر اجيابي ًا يف نمط العالقات املختلفة بأقرص وقت ممكن ،هذا هو مفهومها عموم ًا ْ وإن كان ينظر إليها عىل أهنا نتاج احلدث القادح لديمومة أو حلاجة اجلوانب األخرى( ،فقد أرتبط مفهوم التنمية يف كثري من املناسبات والدراسات بالتنمية االقتصادية باعتبارها أوضح صوره للتنمية ،إذ ُي ّعرفها االقتصاديون بأهنا عملية زيادة الدخل القومي احلقيقي واطراد هذه الزيادة
خالل مدة زمنية طويلة بحيث تكون هذه الزيادة أكرب من زيادة عدد السكان)(.)1 واحلق أن التنمية قد يكون املحور واملعيار فيها اجلانب االقتصادي ،وقد يكون ذاته أحد مصاديق التنمية البرشية املهمة واألساسية ،إال أننا ال نستطيع أن ندعي أنه الوحيد ،وكذا هي احلال لبقية املجاالت كالتنمية االجتامعية أو غريها من جماالت التنمية األخرى ،ويبقى ملفهوم التنمية مساحة تسع للمجاالت األخرى عىل الرغم من حتمية وأمهية اجلانب االقتصادي ،وبالرغم من تأثرياته عىل الفرد واملجتمع والذي سيلبي احتياجات اإلنسان ومتطلباته الكثرية ،فإن وجهة نظر الباحث تشري إىل أن تأثري النمو االقتصادي ،بل حتى تأثري التنمية بمفهومها العام ال ُيلبي احتياجات ومتطلبات اإلنسان مادام موضوع املفاهيم خيتلف ،والذي سيرتتب عىل ((( مجال حالوة وعيل صالح ،مدخل إىل علم التنمية.65 ،
68
تباين املفاهيم ،تباين موضوعاهتا والرؤية واملنهج والسبيل ،والدليل عىل ما ذهب إليه الباحث هو :أن التنمية ال تتحقق يف حال ارتفاع متوسط دخل الفرد ،وكذا هو احلال للتنمية البرشية ،لذا فسوف ال نستطيع تسميته بالعنوان نفسه لعدم انطباقه عىل ا ُملعنون ،لعدم منال وإحراز أهدافه العليا ألن ذلك سوف يؤول إىل أن يكون هناك نضوج يف جمال دون جماالت احلياة األخرى ،مما سيفقد املفهوم خصائص مهمة تربك ماهيته بفقدان بعض عنارصه أو خصائصه كالتكامل والشمول ،ومن هنا نستطيع حتديد الفارق احلقيقي بني مفهوم التنمية التي مرادها تلبية طموحات معينة حمدودة منحرسة وبني مفهوم التنمية البرشية التي تُعد التنمية أحدى جماالته، خدمة لتنمية اإلنسان وما حييط به. بينام نجد أن املفاهيم األخرى التي سنتناوهلا يف هذا املطلب قبال التنمية البرشية ليس هلا تلك االستقاللية الواضحة كام هي حال التنمية ،إذ أن مفهوم ( املوارد البرشية ،حقوق اإلنسان ،االحتياجات األساسية) جاءت مقدمة للتنمية البرشية، وبعبارة أدق نستطيع أن ندعي أن والدة التنمية البرشية مل تأت من فراغ بل جاءت نتيجة طبيعية لتالقح األفكار ونضوج تلك املفاهيم التي توارثها العقل البرشي بعد احلرب العاملية الثانية وما قبلها ،حيث بدأ اإلنسان يبحث بجدية عن بديل لينقذ نفسه والعامل ،فجاءت فكرة املفاهيم املذكورة آنف ًا والتي عدت طريق ًا مؤدي ًا وموص ً ال إىل التنمية البرشية ونضجها االصطالحي. وبعبارة أدق نقول :بام أن هنج التنمية البرشية يسعى لتغيري نمط اإلنسان وحياته من حال إىل أحسن حال بتوسيع خياراته املرشوعة التي تليق بمقامه ،زيادة عىل انه النهج الذي يرتكز إىل الواقعية املستمدة من التجارب احلياتية ،وانه مفهوم متحرك 69
مرن بعيد األفق والرؤية ،ومنفتح ًا يؤمن بالتطور عىل نفسه وعىل الصعيدين النظري والعميل ،رشيطة البقاء عىل الثوابت الرئيسة واملعطيات الرضورية ،وبام أن املنهج هيتم أيضا باألولويات األساسية والرضورية ،فإن هذا سيتطلب مقدمة هلذا املنهج وان يكون هناك مبدأ احلاجات األساسية وحقوق اإلنسان وغريها من املفردات التي كانت والدهتا متتالية قبل والدة مفهوم التنمية البرشية الذي تكاملت صورته هبا. وهذا ما ملسناه جلي ًا (يف العقد األخري من القرن املايض ،حيث تنامى الوعي بقيمة اإلنسان هدف ًا ووسيل ًة يف منظومة التنمية الشاملة ،وبناء عىل ذلك كثرت الدراسات والبحوث واملؤمترات التي عقدت لتحديد مفهوم التنمية البرشية وحتليل مكوناهتا وأبعادها ،كإشباع احلاجات األساسية ،التنمية االجتامعية، وتكوين رأس املال البرشي ،أو رفع مستوى املعيشة أو حتسني نوعية احلياة)(.)1
((( املكتبة اإلسالمية عىل شبكة إسالم ويب ،حسن بن إبراهيم اهلنداوي ،التعليم وإشكالية التنمية ،مفهوم التنمية ،موقع إلكرتوين، http://www.islamweb.net/newlibrary/index.php .
70
•الموارد البشرية(.)1 قبل أن نتوسع يف حقيقة وماهية هذا املفهوم البد من أن نشري إىل موقع هذا املفهوم من خريطة عملية اإلنامء ،ويف الواقع أن حمل املوارد البرشية ُيعدّ عنرص ًا مه ًام من عنارص التخطيط الذي لواله مل يتحقق املبتغى واهلدف ،فهو أحد مخسة عنارص مهمة ،وهي( :السياسات ،والوسائل واألدوات"املوارد املادية والبرشية،
اإلجراءات ،الربامج الزمنية ،املوازنة التخطيطية "التقديرية)(.)2 ومن خالل قراءتنا ملوقع خارطة اإلنامء نجد للمورد البرشي مكانة رفيعة ،إذ بدونه ال يفلح أي عمل وال تطبق أي خطة ،ومن هنا نجد هناك تداخ َ ال واضح َا من حيث هوية املفهوم والوظيفة والسبل بني مفهوم رأس املال البرشي (الذي نشأ يف الستينات وهو يتناول رأس املال البرشي من حيث التعليم واملهارات واملعارف، من منظور مشابه لرأس املال املادي كاآلالت وسواها ،وهذا يتطلب منا الرتكيز عىل تعزيز قدرات األفراد ،وحتديد ًا بتزويدهم باملهارات والتحصيل العلمي وقد
((( هناك فرق بني رأس املال البرشي وبني املوارد البرشية ،فقد فرق بينهام الباحثون واملهتمون ،عرف األول :ويقصد به القدرات اإلنتاجية لألفراد سواء املوروثة أو املكتسبة بينام عرف الثاين عىل أنه :تنمية اإلنسان باعتباره املحرك الرئيس لعمليات اإلنتاج كام انه يف نفس الوقت املستهلك ،ويتوقف استغالل املوارد الطبيعية عىل قدرة اإلنسان عىل االبتكار وتطور املوارد ،ومن هنا كان التدخل بني هذين النوعني من املوارد .ظ :حسام الدين الرب ،معجم مصطلحات التنمية البرشية.115 ، ((( حممد عساف ،أصول اإلدارة.152 – 151 ،
71
أثر هذا املنهج عىل نشأت هنج التنمية البرشية)(.)1 فعىل الرغم مما ُأكِّد بأن هنج املوارد البرشية كان مؤثر ًا يف نشأة مفهوم التنمية البرشية ووالدته فإن الكثري من املفكرين كان قد عمل عىل (تضمني مفهوم التنمية البرشية يف هنج املوارد البرشية ،لكن منهج املوارد البرشية يبقى حمدد ًا باملقارنة مع وحدد هنج التنمية البرشية كمورد من منظور التنمية البرشية الواسع والشاملُ ، موارد اإلنتاج ،ملا ي ُعزز الفكرة القائلة بأن األفراد هم فقط وسيلة للتنمية ،وإذا كان البد من االعرتاف بقيمة األفراد كوسيلة من وسائل اإلنتاج ،يبقى من غري العادل النظر إليهم من هذا املنظور احلرصي)(.)2
وبسبب حموريته يف عملية اإلنامء وبرضورة االعرتاف بقيمته كوسيلة مهمة من وسائل اإلنتاج نجد أن اهتامم أصحاب الشأن هبذا املفهوم كان واضح ًا فبالرغم من تباينهم يف حتديد منطوق حيد ُه ،فإهنم اتفقوا عىل انه مصدر النفع واإلنتاج ،فهو ٍ إنسان يكون مصدر ًا للنفع ،أو مكان ًا للنفع ،أو طريق ًا إليه ،أو يمكن له أن (كل يكون كذلك)(.)3 ويظهر من هذا التعريف أن للموارد البرشية احتاملني :أحدمها فاعل فيعد مصدر ًا للنفع ،واآلخر كامن يف طريقه للنفع واإلنتاج.
((( مسار التنمية البرشية،34، www.reefnet.gov.sy/boosproject/fikr/8/nathrat.pdfموقع ألكرتوين. ((( املصدر نفسه .34 ، ((( مجال حممد أمحد عبدة ،دور املنهج اإلسالمي يف تنمية املوارد البرشية.45 ،
72
فعىل أساس ما تقدم نُظر للمورد البرشي عىل أنه رأسامل مهم وف ّعال وجوهري، ونُظر إليه أيض ًا عىل أنه املصدر احلقيقي لالرتقاء باملؤسسة أو املنظمة التي ترنوا أن تنتقل بنفسها من حال إىل حال أفضل ،فهو (العنرص التنظيمي الوحيد القادر عىل استيعاب املفاهيم واألفكار اجلديدة التي تساعد عىل استغالل الفرص ومواجهة التحديات التي تفرضها الظروف البيئية اجلديدة)(.)4 فاالهتامم باملوارد البرشية سيختزل اجلهد والوقت واملال وسيوفر الكثري من مبني عىل أساس االهتامم هبذا الطاقات واإلمكانات خدمة للمرشوع ،كل ذلك ٌّ املورد وتطويره وإدارته إىل مستوى الكفاءة واإلخالص للمؤسسة واملنظمة التي ينتمي إليها املورد البرشي كام ذكرنا سلف ًا ،ألن (البرش يشكلون أهم األصول التي يمكن أن متتلكها أي منشأة ........وينبع ذلك من منطلق أمهية التعامل مع العنرص البرشي برعاية وعناية فائقتني ،وأن العنرص البرشي مصدر غري ملموس يستحق أن يعطى الوقت واالهتامم الكافيني ،باإلضافة إىل ذلك ال بد أن ينظر للعنرص البرشي كأصول ذات قيمة عالية وليس كمصدر للتكلفة)( )5فيتحول اهلدف من منظاره اإلنساين اىل منظار آيل أو أدايت او اقتصادي فحسب. فلم يخُ تلف يف أمهية وحمورية العنرص البرشي بتات ًا كونه العنرص القابل للتغيري والتطور والقادر عىل التأثري والتأثر وتطوير ما حييط به ،ال ليشء إال ألن اإلنسان له ملكات وإمكانيات متيز هبا من بقية املوجودات (ليس ألنه ال ينضب فقط ،بل ألنه ((( مؤيد سعيد السامل ،إدارة املوارد البرشية مدخل اسرتاتيجي تكاميل.26 ، ((( جوناثان سيمالنسكي ، ،إدارة املوارد البرشية.8 ،
73
غنى، يتغذى من ذاته ،فبقدر ما يستغل هذا املورد بقدر ما يتعلق ويتطور ويزداد ً وهنا يكمن بعد ُه الوحيد مقارنة مع ثروات الطبيعة األخرى)(.)1 فبمقتىض ما تقدم نجد أنفسنا مرغمني عىل التسليم بجوهرية وحمورية مفهوم املورد البرشي ألنه أحد أهم املوارد املهمة والعنارص األساسية يف عملية اإلنتاج والتطور ،ومتاشي ًا مع رواد هذا املذهب الذين عدوا هذا املفهوم عام ً ال وعنرص ًا يف إنجاح املنظمة أو املؤسسة ورائد ًا متميز ًا عن بقية الثروات الطبيعية ،إال أننا نقف هنا مضطرين لبيان البون الشاسع بينه وبني التنمية البرشية التي تعد املورد البرشي غاية كام هو وسيلة ،بل سعت لتوسيع كافة اخليارات أمامه ،وما هذا إال عني الفارق بني املعنيني ،كون األخري عُدّ مفهوم ًا مركب ًا نابع ًا من مجلة العوامل املتعددة واملتنوعة واملتفاعلة فيام بينها وبني البيئة التي حتيط هبا بغية نيل طموحات وخيارات اإلنسان (املورد البرشي). ولتداخل وتقارب املفهومني فام زال يعمهام الغموض (وال زال اخللط قائ ًام بني التنمية البرشية وتنمية املوارد البرشية .....إال أن للتنمية البرشية جانبني ،األول: هو تشكيل القدرات البرشية مثل حتسني مستوى الصحة واملعرفة واملهارات، والثاين :هو انتفاع الناس بقدراهتم املكتسبة أما بالتمتع بوقت الفراغ أو يف األغراض اإلنتاجية أو يف الشؤون الثقافية واالجتامعية والسياسية)(.)2
((( جان مارك لوغال ،إدارة املوارد البرشية 5 ،و .6 ((( جمموعة من الباحثني ،دراسات يف التنمية البرشية املستدامة يف الوطن العريب، الدكتور :نبيل النواب ،اجلهود العربية يف تبني مفاهيم وإعداد تقارير التنمية البرشية املستدامة (جتربة سلطنة عامن) .351
74
فاملورد البرشي يف مفهوم التنمية البرشية ُيعدّ هدف ًا يف حد ذاته عىل خالف مفهوم املورد البرشي الذي ُينظر إليه عىل أنه وسيلة وأداة ،ومن هنا ُعد املورد البرشي املحور واملنظم واملطور يف ذاته ،والبيئة التي حتيط به يف منظور التنمية البرشية ،فهو يؤثر يف جماالت احلياة كافة االقتصادية والسياسية واالجتامعية ،كام نجده يفتقر خلياراته فيها. وخالصة ما تقدم أن تنمية املوارد البرشية تعني إهنا العملية التي تضمن استثامر املورد البرشي وتنمية قدراته وإمكاناته لتطوير املنظومة التي يرتبط هبا املورد لتحسني مستوى األداء واإلنتاج وإتاحة املنفعة املرجوة من خالل تنمية قدراته البدنية واملعرفية والنفسية والفنية واالجتامعية. لذا نستطيع القول إن التنمية البرشية تتجىل بتعزيز وقبول ما ذكر أعاله يزاد عليه االهتامم بالنمو اإلنساين خدمة لذات اإلنسان ولتحقيق ما يسعى إليه من خيارات. •حقوق اإلنسان . ملفهوم حقوق اإلنسان عالقة واضحة بمفهوم التنمية البرشية ،فإننا نعتقد أن املفهوم األول كان مقدمة حتمية فرضها العقل البرشي حينام سعى جاهد ًا إىل أن يدرك حقيقة التنمية البرشية ،وأوجه التقارب بني العلوم املتباينة يف ميدان املعرفة، فاملتأمل (يف سريورة التأريخ وما يرافقه من تطورات وتغريات عىل مجيع املستويات البد أن يدرك ذلك التقارب والتالقي بني ميدان التنمية البرشية وخطاب حقوق اإلنسان فهناك ٍ تالق متدرج وإجيايب ،إن الرس يف هذا التالقي يكمن يف جوهر
75
منظومة حقوق اإلنسان وجوهر منظمة التنمية البرشية)(.)1 وما يؤكد ذكر أعاله يف قوة اجلذب بني املفهومني هو القول بـ(إن احلق مصلحة ...واملصلحة هي املنفعة ،وال بعد احلق إال إذا قرر الرشع والدين أو القانون والنظام والترشيع والعرف ،ومن ثم يكون معنى احلق يف موضوع حقوق اإلنسان ،مصلحة قررها الرشع لينتفع هبا صاحبها ويتمتع بمزاياها فتكون واجب ًا والتزام ًا)(.)2
ومن هذه املصالح التي ُت ّعد حقوق ًا لإلنسان هي أن للحياة قيمة ُعليا ينبغي أن تصان ،وأن ينعم اإلنسان بحق املساواة العادلة ويف األبعاد كافة ،سواء البعد اإلنساين أم االجتامعي أو االقتصادي أو السيايس أو القضائي ،كام ُيعدّ حق احلرية دعامة أساسية يف هيكل حقوق اإلنسان ،وحق حرية الرأي والتعبري عن املشاركة السياسية ومصاديقها بإجياد أفضل الوسائل املمكنة وصياغتها عرب قرارات ختدم اإلنسان واملجتمع ،ومراعاة وجود رؤية تضمن ضبط احلكام ،واحلد من ظهور حالة االستبداد والظلم من قبلهم بإزاء األمة ،وكذا هي احلال يف وضع املكانة الرفيعة للمرأة واألرسة التي تعد الركيزة األساسية يف بناء املجتمع وترسيخ قيمه، ومن االهتاممات أيض ًا هو رضورة رعاية األطفال ورعاية حقوقهم عىل مكانة العلم والتعلم الذي ُيعدّ من حقوق اإلنسان املهمة ،وكذا هي حال العمل وهتيئة فرص ((( تعقيب يف ندوة احلقوق االقتصادية واالجتامعية والثقافية ،النهضة العربية حلقوق اإلنسان ،الدار البيضاء.2003 ، ((( حممد القطب ،اإلسالم وحقوق اإلنسان.33 ،
76
العاملني ،كام اتسم هذا املفهوم بتأكيد عىل حق التملك وحق الضامن االجتامعي،
وحق صيانة كرامة اإلنسان ،كام ُيعدّ حق التقايض من ابرز احلقوق( )1كذلك. وبعد أن تكشفت لنا مالمح مفهوم حقوق اإلنسان نجد هناك قواسم مشرتكة بينه وبني التنمية البرشية ،خصوص ًا إذا نظرنا إىل هذا املفهوم بوصفه مقدمة لنضوج التنمية البرشية ،فبغض النظر عن العمق التأرخيي ملفهوم حقوق اإلنسان والذي كان حمل لبس وتوهم يف حتديده واثر الرساالت الساموية – ومنها الرسالة اإلسالمية -يف بيان عمق هذا املفهوم يف منظور الرسالة املحمدية ،فإننا نستطيع أن نحدد موقعه من العقل البرشي الوضعي ،حيث نستشف والدته كام ورد يف كتب السياسة والقانون والدراسات االجتامعية أن عهد اإلنسان بالوثائق والرشائع التي بلورت حقوقه اإلنسانية ،قد بدأ بفكر الثورة الفرنسية الكربى التي بدأت أحداثها
((( ظ :غسان السعد ،حقوق اإلنسان عند اإلمام عيل رؤية علمية.476 – 471 ،
77
عام 1789م( ،))1بينام نجد أن هذه املضامني واملعاين اإلنسانية بدأت تشب وتتجىل يف ضمري العامل لتستقر مضطرة عند عصبة األمم املتحدة وميثاقها عام 1920م، ثم يف ميثاق األمم املتحدة 1945م ،ثم أفردت دولي ًا بوثيقة خاصة هي اإلعالن العاملي حلقوق اإلنسان الذي أقرته األمم املتحدة يف 10ديسمرب 1948م(.)2
واملهم من كل ذلك إننا نجد قواسم مشرتكة بينه وبني التنمية البرشية كام أرشنا من قبل ،متلمسني أن أحدمها يكمل اآلخر ،وما يؤكد ما ذهبنا إليه (حمورية البرش وأيض ًا حمورية احلرية ومبدأ اإلنصاف حيث يمثل حمور لكل املنظومتني ،وإذا ما نظرنا يف جوهر منظومة حقوق اإلنسان لوجدنا مبدأ احلرية والتحرر الذي يسمح
((( لقد تبنى أمانول جوزيف سييس وضع وثيقة حقوق اإلنسان التي أقرهتا اجلمعية التأسيسية ،والتي نصت هذه الوثيقة عىل حقوق اإلنسان الطبيعية مثل حقه يف احلرية، وحقه يف األمن وعىل سيادة الشعب كمصدر للسلطات يف املجتمع وعىل سيادة القانون كمظهر إلرادة األمة ،وعىل املساواة بني مجيع املواطنني وغريها من احلقوق ،إذ تعترب هذه الوثيقة هي عني متبنيات نظرية جان جاك روسو يف رؤيته حلقوق اإلنسان،غري أن بعض الباحثني يرى أن والدة هذا املبدأ مل يكن إال عىل خلفية الثورة الفرنسية والتي مل تلد هي األخرى إال كنتيجة طبيعية عن غياب وتغ ّيب حقوق اإلنسان بل مل يلد إال بعد املجازر البرشية التي سببت ردود أفعال كثرية توجت باإلعالن عن وثيقة حقوق اإلنسان بعد أن أقرهتا اجلمعية الوطنية آنذاك ،حيث (رأت أن ما ينزل باملجتمع اإلنساين من الكوارث واخلطوب يرجع إىل سبب واحد هو جهل احلاكمني واملسؤولني هبذه احلقوق أو جتاهلها) املصدر :باقر رشيف القريش ،اإلسالم وحقوق اإلنسان 25 ،ظ: حممد عامرة ،اإلسالم وحقوق اإلنسان ،رضورات ال حقوق.14 – 13 ، ((( ظ :حممد عامرة ،اإلسالم وحقوق اإلنسان ،رضورات ال حقوق.14 – 13 ،
78
باملواساة بمفهومها القانوين والسيايس ،وها نحن نجد احلرية هي جوهر التنمية
البرشية ،ألنه يف تعريفها نرتكز عىل مبدأ احلرية)(.)1 وعىل هذا األساس سوف ال تتضح صورة التنمية البرشية بعيد ًا عن احلرية التي تعد العمود الفقري ملبدأ حقوق اإلنسان ،واملحور األساس للتنمية البرشية، حتى باتت عموم معايري حقوق اإلنسان مؤرش ًا حقيقي ًا وواضح ًا لتنمية هذه األمة عن تلك ،مما شكل اختالف ًا يف الرؤى حول العالقة بينهام طوال العقود املاضية، وخاصة يف ظل األزمات السياسية واالقتصادية واالجتامعية وحتى الثقافية يف بعض األحيان ،حيث اختلفت هذه الرؤى وفق ًا لكل مرحلة ،وجتسدت املرحلة األوىل بام ُيصطلح به اجليل األول حلقوق اإلنسان وكانت حقوق مدنية وسياسية، ثم اجليل الثاين الذي ُيطلق عليه احلقوق االقتصادية واالجتامعية ،والثقافية ،ثم اجليل الثالث وهو احلق يف التنمية والبيئة (.)2
واملتتبع سيجد أن هذه الروابط املشرتكة بني مفهوم التنمية البرشية وحقوق اإلنسان حتمية ،وإال كيف سنرتقي باإلنسان وخياراته واحتياجاته التي متثل التنمية البرشية وهدفها ،إذا كان اإلنسان مسلوب احلرية غري قادر عىل ترمجتها إىل واقع ،ناهيك عن التعبري عن رأيه ،وهلذا نجد أن العقل البرشي قد اضطر إىل
((( أمارتيا سني ،التنمية حرية ،سلسلة عامل املعرفة.16 ، ((( ظ:هشام إخزام ،عبد الفتاح حلوة ،دور املجتمع املدين يف التنمية البرشية ،اجلمعيات أنموذجا، ) (http://www.universiterissala.maktoobblog.com/264267موقع الكرتوين.
79
إقرار حق اإلنسان وحق اخليار وقوة الرابط بني املفهومني ،وهذا ما أكدته أغلب املؤمترات العاملية التي ُأعدت من مفكرين خمتصني يف هذا املجال ،فقد دعم املجتمع الدويل واألمم املتحدة هلذا الرابط ،وذلك من خالل عدة مؤمترات عاملية منذ سنة 1986م ،وكان أمهها :املؤمتر العاملي حلقوق اإلنسان يف فيينا سنة 1993م ،ومؤمتر السكان والتنمية يف القاهرة عام 1994م ،ثم مؤمتر التنمية االجتامعية يف كوب هناكن سنة 1995م .......وقد تبني من خالل دراسات األمم املتحدة أن أكثر القضايا إحلاح ًا هي عملية التنمية البرشية التي تؤثر يف حقوق اإلنسان هي :ختفيف
حدة الفقر ،القضاء عىل مشكلة البطالة ،تعزيز التكامل االجتامعي(.)1 واحلق أن قوة الرابط بني مبدأ حقوق اإلنسان والتنمية البرشية ،مؤسس عىل مدى التقارب والتوافق يف كثري من الرؤى واألهداف والوسائل ومدى جدية حتقيقهام عند املفهومني ،إذ أكدنا سابق ًا أن مبدأ حقوق اإلنسان مقدمة للتنمية البرشية ،فاألول يدعم الرؤى ويرشع القوانني واحلقوق ويعدها رضورة من اجلانب النظري كتنظيم املستحقات وترسيخ سلطة القانون واألفراد وحق املقاضاة ،بينام نجد أن املفهوم الثاين "التنمية البرشية" يسهم برضورة متكني اإلنسان من االستفادة من هذه املعاين عملي ًا حتت مبدأ السعة يف اخليارات أعاله، فكأن الرابط بني املفهومني كالرابط بني املفهوم واملصداق أو بني النظرية وميدان ((( ظ:هشام إخزام ،عبد الفتاح حلوة ،دور املجتمع املدين يف التنمية البرشية ،اجلمعيات أنموذجا، ) (http://www.universiterissala.maktoobblog.com/264267موقع الكرتوين.
80
تطبيقها ،ذلك بان حقوق اإلنسان مصداق من مصاديق التمهيد لتحقيق التنمية رصحنا بأن حقوق اإلنسان من أهم موارد حتقق البرشية ،وال نبالغ يف القول إذا ّ التنمية البرشية إذا مل يكن أصل منطلقها ومنطق تأصيلها يف الفرد واملجتمع عىل حد سواء. ومن خالل قراءتنا لتقرير التنمية البرشية الذي أصدره الربنامج اإلنامئي لألمم املتحدة عام 2000م نجد أنه ربط بشكل مبارش بني حقوق اإلنسان والتنمية البرشية .وبني التقرير أول مرة ،أن ما جيمع بني حقوق اإلنسان والتنمية البرشية هدف مشرتك يتمثل يف تأمني احلرية والرفاه والكرامة للجميع ،وذلك بالعمل عىل التحرر من أشكال التمييز سواء كانت بسبب اجلنس أم العرق أو األثنية أو الدين، إىل جانب التحرر من الفاقه واملرض واخلوف ،وضامن حرية الفكر والكالم
واملشاركة يف صنع القرار واحلق يف مزاولة عمل كريم( ،)1وهذا يعني أن التقرير أقر وخلص هذا التقرير التزاوج بني املفهومني (حيث الرؤية واحدة واهلدف واحد، ّ إىل أن التنمية البرشية ال تتحقق من غري ضامن حقوق اإلنسان ،وكذلك حقوق
اإلنسان ال تثبت يف غياب التنمية البرشية)(.)2 بينام نجد أن (تقرير األمني العام لألمم املتحدة يف عام 2005م حتت عنوان"
((( ظ :كريم أبو حالوة ،دور الثقافة يف التنمية البرشية املستدامة ،مرصد، www.almarsd.net/news.php?id=27موقع ألتكروين. ((( مسار التنمية البرشية،47، www.reefnet.gov.sy/boosproject/fikr/8/nathrat.pdfموقع ألكرتوين.
81
يف جو أفسح من احلرية نحو التنمية واألمن وحقوق اإلنسان للجميع" عىل ترابط مجيع هذه املجاالت ،وأشار التقرير إىل ما يأيت :العامل مدعو إىل االرتقاء بقضايا األمن والتنمية وحقوق اإلنسان جمتمعة ،وإال لن تتحقق أي منها ،ولن تتمتع البرشية باألمن يف غياب التنمية ،ولن تتمتع بالتنمية يف غياب األمن ،ولن تتمتع بالتنمية واألمن يف غياب احرتام حقوق اإلنسان)(.)1
•الحاجات األساسية. ُيعدّ مبدأ احلاجات األساسية أحد املبادئ املهمة التي ترتبط ارتباط ًا وثيق ًا بمفهوم التنمية البرشية لوجود تقارب وتوافق يف الرؤى واألهداف واألسس، إذ نجده قد اخذ حيز ًا منه حاله حال بقية املفردات التي حتدثنا عنها ،فمبدأ االجات األساسية قد تبلور يف (أواسط السبعينات من خالل االعرتاف بأن النمو االقتصادي ال يكفي وحده بالتخفيف عن الفقر ،فالتنمية تستلزم هنج ًا مبارش ًا ملعاجلة حاجات الفقراء ،فإىل هذا ُيعنى هنج احلاجات األساسية بدراسة السلع واخلدمات التي حيتاج إليها الفقراء ،مثل الغذاء ،املأوى ،امللبس ،الرعاية الصحية، واملياه ،ويدعو إىل تكوين احتياطي عام لتلبية هذه احلاجات األساسية. يركز هنج احلاجات األساسية مثل التنمية البرشية عىل الفقراء ويدعو إىل اعتامد املزيد من اإلجراءات العامة ،بينام انبثقت التنمية البرشية من هنج احلاجات
((( مسار التنمية البرشية،48، www.reefnet.gov.sy/boosproject/fikr/8/nathrat.pdfموقع ألكرتوين.
82
األساسية إىل أفق أوسع)(.)1 فعىل الرغم من ذلك التقارب بني املفهومني واالنسجام الواضح يف النهج لكليهام ،فإننا نجد هناك اختالفات عديدة ما تزال قائمة بينهام ( فمنهج احلاجات األساسية يركز أكثر عىل قطاعات حمددة بدالً من الرتكيز عىل جمموعة اخليارات البرشية ،و يركز أكثر عىل توفري السلع واخلدمات بدالً من فوائد هذه السلع واخلدمات بالنسبة إىل األفراد ،كام ُينظر إىل األفراد كمستفيدين من التنمية ،بدالً فنلحظ أن الفارق يكمن يف حتديد القطاع
من اعتبارهم عنارص فاعلة فيه) وتوفري السلع من حيث هي وعملية اإلفادة منها فكأن منطلق مفهوم احلاجات األساسية يعتمد عىل اجلانب املادي والنفعي اكثر من تركيزه عىل اإلنسان املستفيد بوصفه حمور عملية الفائدة وأصل وجودها ،فاملفهوم يعزل اإلنسان عن التفاعل واالنفعال والتطور ويقصيه إىل نطاق املستفيد املادي فالغاية سد حاجات اإلنسان ،ال تطوير اإلنسان والنظر لسد احلاجات باعتبارها جزء ًا من عملية التطوير تلك بل أساس ان سد احلاجات متكن املرء من بناء قدراته وتفتح له آفاق جديدة نحو االبداع والنجاح فض ً ال عن أن احلاجات نفسها والسعي وراء تلبيتها وسدّ ها تعد دافع ًا من دوافع التنمية البرشية. فمفهوم احلاجات األساسية ُولد عىل أساس وجود حاجة فعلية ملفردات ()2
((( مسار التنمية البرشية، 35، www.reefnet.gov.sy/boosproject/fikr/8/nathrat.pdfموقع ألكرتوين. ((( املصدر نفسه. 35 ،
83
رضورية يفتقر إليها اإلنسان و ُيعدّ نقص ًا كام ُيعدّ مطلب ًا رضوري ًا يتناسب مع حاجاته ومتطلباته ،وأن والدة هذا املفهوم يف مدة السبعينات من القرن املايض ينم عن معنى مفاده إن اإلنسان باتت رؤيته تتكامل نتيجة للتجربة العملية التي انبثقت نتيجة عن حتمية واقعية مر هبا اإلنسان خالل تلك احلقبة الزمنية ،أي بعد أن خرج من جتربة احلربني العامليتني األوىل والثانية ،وكأننا نريد أن نقول إن هذه الوالدة – والدة مفهوم احلاجات األساسية– جاءت كرد فعل إلخفاقات نظريات وسياسات وضعية مح ّل ْت اإلنسان يف أغلب دول العامل ما ال يطيقه فبات فقري ًا جاه ً ال مرشد ًا عاري ًا مريض ًا بال مأوى وال سكن. نعم ولد هذا املفهوم من وجهة نظر الباحث كرد فعل عن ويالت ومعاناة َعمرة التي ُفرض عليها التخلف قرصا ،أو لعدم جدية بعض األمم الدول ا ُملست َ والشعوب برتمجة مبادئها إىل واقع ،أو لتبني بعضها اآلخر سياسات ورؤى كونية منحرفة ال تتناسب مع فلسفة وجود الكون واإلنسان وسد حاجاته -وهو أهم عامل من وجهة نظر الباحث -مما خلفت رؤى تنموية منحرفة أيضا مبنية عىل أساس أحادي ،أو عىل أساس أحادية التنمية ،وبتعبري آخر فإننا وجدنا نظرة قارصة إىل الوجود واإلنسان ،إذ كان ُينظر إليهام بعني واحدة بعني اجلانب املادي (االقتصادي) البحت الذي ّأرث لنا إرث ًا فكري ًا وأخالقي ًا ضعيف ًا هش ًا ،حتى بات اإلنسان ضائع ًا بني هذه املعادلة ،فعاش فقري ًا عن كل االعتبارات ضحية النزعة االقتصادية املادية ،ألن أغلب امليادين التنموية كانت تؤكد اجلانب املادي الذي هيتم بالتنمية االقتصادية والتي مساحتها ومهها وهدفها زيادة اإلنتاج وتطويره، ولو كان ذلك عىل حساب اجلانب املعنوي أو ذات اإلنسان ،مما ممثلت هذه 84
الظاهرة صعود ًا وتنامي ًا للقيم الفردية ونزوالً وختلف ًا وتراجع ًا حتمي ًا للقوة املعنوية االعتبارية ،ولو تتبعنا فرتة والدة هذا املفهوم وتارخيه لوجدناها دلي ً ال يرفد الباحث بام ذهب إليه ،فعند (السبعينيات قد شهد العامل والدة منهج تنموي جديد ُيعرف بمنهج احلاجات األساسية ،ولقد كانت منظمة العمل الدولية هي املبادرة إىل طرح
هذا املنهج وتطويره)(.)1 فمن الطبيعي جد ًا أن تكون والدة مفهوم احلاجات األساسية مبنية عىل أنقاض تلك األزمة الفكرية أو األزمة التنموية ،ومما حيز يف النفس أيض ًا أن تلك الوالدة مل ٍ متكامل هو اآلخر ،حني ُحدد تكتمل صورة وليدها يف رحم األزمات فولد غري للحاجات األساسية اجلانب املادي من دون اجلوانب املعنوية إال ما ندر ،مما عدّ هذا املفهوم مقدمة حقيقية إىل حني نضوج الرؤية بتكامل نظرية التنمية البرشية، فأصبح مفهوم احلاجات األساسية أكثر نضوج ًا بل أصبح (نقطة هامة تتعلق بالتحول من مفهوم إشباع احلاجات األساسية الذي يقترص عىل التغذية والصحة
إىل إدخال اجلانب املعريف)( )2فيه. فخالصة مذهب احلاجات األساسية هو االهتامم وتأكيد موضوع الفقر وما يتعلق به من مشاكل اقتصادية واجتامعية وسياسية ،بغية االرتقاء باإلنسان وأحاطته
((( جمموعة من الباحثني ،دراسات يف التنمية البرشية املستدامة يف الوطن العريب، الدكتور :صالح عبد احلسن ،اإلطار املفاهيمي املستخدم يف عمليات قياس التنمية البرشية املستدامة وحتديد مستوياته .77 ، ((( املصدر نفسه.411 ،
85
ببحبوحة العيش الرغيد خارج دائرة الفقر ،لذا ُعدت احلاجات األساسية أحدى السياسات اإلسرتاتيجية لتنمية الشعوب وبلداهنا منتقلة هبا (من التنمية بمفهومها املمتزج بالتصنيع إىل التنمية البرشية مبارشة وذلك من خالل العمل عىل حتقيق العنارص اآلتية: •إتاحة فرص كسب الدخل للفقراء. •توصيل اخلدمات العامة للفقراء. •توفري السلع واخلدمات األساسية من مأكل وملبس وصحة وتعليم. •متكني الفقراء من احلصول عىل احلد األدنى من الفقرة السابقة لتمكينهم من احلياة والعمل. •ارشاك الفقراء يف اختاذ القرارات اخلاصة بالكيفية التي يتم هبا إشباع حاجاهتم األساسية)(.)1 وعىل وفق ما تقدم نقول إن مبدأ احلاجات األساسية وبقية املفاهيم املذكورة آنف ًا كانت بمثابة مقدمة فرضت نفسها حتى نضج مفهوم التنمية البرشية للعقل
البرشي ،كام تُعد هذه املفاهيم جزء ًا ال يتجزأ من تركيبة التنمية البرشية وصريورهتا التكويني. وال يفوتنا أن نشري أن هناك مصطلحات أخرى كثر احلديث عنها كانت بمثابة مقدمة ملفهوم التنمية البرشية ،أو كانت تتداخل معه يف بعض املطالب ،أو تتحد
((( جمموعة من الباحثني ،دراسات يف التنمية البرشية املستدامة يف الوطن العريب، التنمية والتنمية البرشية املستدامة (النشوء واالرتقاء املفاهيمي اإلشكايل).102 ،
86
لتحقيق هدف ما ،كام كان البعض منها تُعد نتيجة له لكوهنا أكثر حداثة منه، ومن تلك املفاهيم أو املصطلحات هي :مفهوم رأس املال البرشي واألمن البرشي وسبل العيش(. )1
((( ُيعد هذا املفهوم من املفاهيم املهمة لقربه وتداخله مع مفهوم التنمية البرشية، ألن هنج سبل العيش يعمل عىل هنج التنمية البرشية ،فهو يشدّ د هذا النهج عىل أمهية دور األفراد يف التنمية من خالل الرتكيز عىل سبل عيش الفقراء ،كام يدعو إىل املشاركة واعتامد هنج املستويات املتعددة كونه يعرتف بالروابط اجلزئية والكلية ذات الصلة بسبل العيش ،كام يعد هذا املفهوم من املفاهيم املتطورة أو املرنة العرتافه باحلاجات الناشئة والتغريات يف أوضاع األفراد. وعىل أساس ما تقدم فإن املوارد واملوجودات املتاحة لألفراد ستدخل يف صميم هنج سبل العيش ،والتي نعني هبا :املوارد الطبيعية ،والتكنولوجيا ،واملعارف ،والصحة، وبال شك سيتأثر األفراد عىل أساس ما ذكرناه إزاء االجتاهات السياسية ،والصدمات الناجتة من الكوارث الطبيعية والتغريات املوسمية يف األسعار وغري ذلك ،وبالتايل سيحتم عىل األفراد اعتامد إسرتاتيجيات معيشية يف ظل تغيرّ الظروف االجتامعية، واملؤسسية ،والسياسية ،والبيئية.
كام ُيعد هنج سبل العيش النهج األقرب إىل هنج التنمية البرشية ،حيث اإلنسان يف احلالتني هو الشاغل األسايس ،واهلدف هو معاجلة خمتلف العنارص األساسية ذات الصلة بالتجربة البرشية ،ويركز عىل ضامن استدامة هنجه فضال عن نموه ،ويركّز أيضا عىل أبعاد ذات أولوية منها توليد الدخل واألنشطة اإلنتاجية .ظ :مسار التنمية البرشية.20، www.reefnet.gov.sy/boosproject/fikr/8/nathrat.pdfموقع ألكرتوين.
87
88
ثانياً :اصالة التنمية البشرية ومراحل تطورها
89
90
( : )1أسس التنمية البشرية وعمقها التأريخي. لقد تعارف عند الباحثني أن التأريخ ُعني بتدوين أحداث املايض واالهتامم بام نُقل من تلك األحداث واملواقف واملواضيع التي مثلت حمور صفحاته ،لذا ُعد التأريخ عند بعض املهتمني عىل (أنه نوع من أنواع البحث العلمي ،الغاية منه
الكشف عن حقيقة األشياء التي تضمنتها جهود اإلنسان يف املايض لتقويمها)(.)1 دأب املهتمون والباحثون إىل معرفة أسس التنمية البرشية وعمقها التأرخيي، واحلق إن البحث عن عمق تأريخ التنمية البرشية ،وأول من أهتم هبا ،موضوع قد ال نستطيع اإلجابة عنه بدقة ،حيث مل يكن يف حينها حمل اهتامم الباحثني به بوصفه عل ًام أو فن ًا مستق ً ال بذاته ،عىل الرغم من ممارستهم هلذا االهتامم من دون إفراده عن بقية املباحث والعلوم. ولكي نسري عىل خطى علمية متأنية ودقيقة ،كان لزام ًا علينا اعتامد قواعد يف منهج البحث العلمي ،لذا اقتىض أن نحدد املفهوم الذي جيب تناوله ثم نحاول البحث والتحقيق عن مصاديقه يف عمر املايض البرشي ،ومن هنا كان اهتامم الباحث وتأكيده املفهوم يف املطالب السابقة ،كونه -املفهوم -سيحدد معامل وحدود املطلب الذي نبحث عنه ،حيث عَدّ الباحث دراسة تأريخ التنمية البرشية هو السبيل للوصول إىل مصداق لوجود هذا املفهوم يف العمق التأرخيي ،كام عد استكشاف اخلطوات العملية لتجارب املاضني واإلفادة منها أمر ًا رضوري ًا لبيان مصداق املفهوم عند األمم السالفة ،رشيطة أن يكون هذا االستكشاف عرب نافذة ((( رابوبرت ،مبادئ الفلسفة.9 ،
91
املوضوعية ملعرفة احلقائق ،الستخالص ما سيرتتب عليه من نتائج تُعني الباحث وطالب العلم بالنظر يف مباحثهم ومطالبهم. وبعد حتديد املفهوم أخذ الباحث منحى بعض الباحثني الذين ذهبوا إىل أن التنمية البرشية كانت هلا حركة ميدانية عىل مدى التأريخ( ،وإن كان األولون مل يستخدموا هذا املفهوم ــ أي التنمية البرشية ــ إال أن املعنى الذي أوردته تلك البحوث يتفق واملعنى الذي ندرسه مع األخذ بنظر االعتبار طبع ًا التذبذب من حيث البعد والقرب من املعنى الذي نطرقه اآلن تبع ًا لطبيعة تلك البحوث
والباحثني)(.)1 بيد أننا إذا أردنا حتديد االنطالقة األوىل هلذا املفهوم فإننا نرى أن انطالقته كانت مع الوالدة األوىل لإلنسان ،كون اإلنسان جمبوالً عىل االرتقاء بنفسه وكذا جمبوالً عىل أن يطرق جماالت احلياة كافة باحث ًا عن ذاته لتحقيق طموحاته الشخصية وحتسني مستواه عىل مجيع األصعدة. فلو تتبعنا األحداث التأرخيية ببعدها الزماين واملكاين لوجدنا أن اإلنسان قد تطور وانتفض وقاتل وثار وزرع وحصد ،وكذا جسد بقية الصور احلياتية لريتقي بنفسه حمقق ًا التطور واإلنامء بوصفه مصداق ًا حقيقي ًا للتنمية البرشية. فالباحث يؤكد أن التنمية البرشية هلا مساحة واقعية عىل مدى التأريخ ،إذ كانت هلا أسس وقواعد قد مارسها اإلنسان األول عملي ًا منذ وجوده ،وظل هكذا ليومنا هذا ،وإن اختلف حتديد مفهومه ومصداقه من أمة ألخرى ،بحسب الظرف ((( اشواق عبد احلسن الساعدي ،الثقافة والتنمية البرشية.43 ،
92
الزماين واملكاين والرؤى الفكرية التي يعتمدون عليها واآلليات واألدوات التي يطبقوهنا لتباينها هي األخرى عىل وفق اخللفية الثقافية لذلك املجتمع أو ذاك، فض ً ال عن تباين ذات مفهوم التنمية البرشية بني املجتمعات ،إذ عُدّ مفهوم ًا متطور ًا مر بمراحل خمتلفة اىل أن تبلور ليأخذ حيزه ومالمح عند بعض املجتمعات ،حيث ّ شكله احلايل. فعىل الرغم من تباين بعض اجلزئيات أواآلليات أو التطبيقات أو املؤرشات، فإننا وجدنا أن مفهوم التنمية البرشية مل يقفز عىل حمدداته أو كلياته وأسسه الرئيسة، بل مل خيرج عن كثري من مضامني ومفردات املناهج التنموية إال نادر ًا خالل احلقب التأرخيية ،حيث بقي متداوالً كمنهج من قبل الفرد واملجتمع واملؤسسة ليكون عىل شكل عمليات ترمي لتطوير القوى الكامنة لدى اإلنسان عىل وفق رؤية كونية منتخبة من قبله أو من العقل اجلمعي أو من مد غيبي ،تعمل هذه الرؤية لتحقيق طموحاته وتأمني حاجاته املختلفة ،و بالرغم من كل ذلك مل يرصح به اصطالح ًا أو ان ينظر إليه بوصفه عل ًام أو فن ًا. مما تقدم نستطيع أن نتبنى مبدأ مفاده :أن اإلنسان األول كان ساعي ًا لتحقيق متطلبات حياته اإلنامئية ،وجماهد ًا وجمتهد ًا لتحقيقها ،لالنتقال بنفسه من حال إىل حال أفضل ،وكذا هي احلال بالنسبة لألجيال التي أعقبته فيام بعد ،وهذا يعني أنه قد سعى عملي ًا إىل التنمية ذاته وما حييط به من بيئة اجتامعية ،كام نجده عىل هذه احلال يف تعامله مع الطبيعة واملحيط اجلغرايف الذي ينتمي إليه ،هادف ًا لتطويره وتطوير ذاته وحتسني مستواه املعايش. نعم قد نجد اإلنسان يف املجتمعات األولوية جمبوالً باالندفاع غريزي ًا 93
باالجتاه نحو األفضل ،ومندفع ًا عىل أساس الوعي واإلدراك لذلك ،فض ً ال عن افتقاره لألدوات واآلليات التي تقوده لزيادة اإلنتاج ومنافعها تلبية لسد حاجاته األساسية ،وافتقاره للنضوج العقيل واخلربة والتجربة ،كام نجده – اإلنسان- قبال ذلك يسعى بكل ما أويت من قوة أن هييئ أو يبتكر سبل ترسيع تلبية حاجاته ومتطلباته بمجموعة من العمليات واملحاوالت باليات وأدوات متجددة لتحقيق مبتغاه ،وما هذه اخلطوات إال هي عني التنمية البرشية. فالتنمية البرشية ُولدت مع والدة اإلنسان وترعرعت بقدر نمو قابلياته ومؤهالته وتألقت بقدر نضوجه العقيل والفكري ،وشبت لتستقيم مع جماالت عدة. هكذا بقيت حال مفهوم التنمية البرشية من منزلة ومرتبة ألخرى ،ومن جيل جليل آخر ومن مكان ملكان آخر عىل الرغم من اختالف الدوافع والغايات واملناهج والسبل حلني أن بانت معامله واتضحت مضامينه ،لذا سنجده حت ًام عند كل الديانات الساموية ومجيع األيديولوجيات الوضعية وعند الفالسفة واملفكرين بل عند كل إنسان ما دامت احلياة تنبض بعروق اإلنسانية ،وكذا هو حاله يف ديانة اإلسالم ويف مصدرها الترشيعي األول القرآن الكريم ،الذي كان سبب ًا لكتابة هذا البحث املتواضع والذي سنتحدث عنه يف الفصل القادم إن شاء اهلل. وهبذا فإن مضامني التنمية البرشية نجدها أين ما وجد اإلنسان ،أي أين ما وجد اإلنسان وجدت التنمية ،بغض النظر عن ميوله واجتاهاته الفكرية والفلسفية، ساموية كانت أم وضعية ،لذا ذهب أغلب الباحثني املهتمني بشأن التنمية البرشية عىل أهنا (ليست هنج ًا مقارب ًة جديد ًا ،فقد ورد عدد من مبادئها األساسية يف 94
مؤلفات تعود إىل ثقافات خمتلفة من شتى أنحاء العامل ،ومنها مؤلفات أرسطو)(.)1 وهلذا يرى الباحث أن سبب استمرار التطور يعود إىل سببني مهمني رئيسني مها :رغبة اإلنسان بالتطور والتغيري اإلنامئي كونه جمبوالً عىل طلب األفضل من جهة ،وباعتباره يتعامل إجيابي ًا لدرء املصاعب البيئية التكوينية املحيطة به ،واملتاعب الترشيعية واملنظومة اإلدارية أو القانونية التي حتكمه إذا كانت تسبب ضغط ًا عىل اإلنسان وتوازنه ،فسنجده حينئذ ينتفض عىل واقعه مغيرّ ًا من أصل هيكله البنائي ونظامه العام عىل املستوى النظري والعميل ،وهلذا عبرّ (كارل ماركس) عىل سبيل املثال قائالً :إن الثورات االجتامعية ضد االستبداد أو الفساد هو العامل الرئيس للتطور والتنمية. علام أن لكل نظرية هلا رؤية خاصة لفلسفة التنمية ،فهناك عدة نظريات تنظر باحثة عن سبب انطالق التنمية وتطورها ،ومنها النظرية اإلسرتاتيجية لالرتقاء واإلسرتاتيجية الثورية ،ونظرية إسرتاتيجية االنفتاح عىل اخلارج وإسرتاتيجية االنكفاء عىل الداخل ،ونظرية إسرتاتيجية النظرة اجلزئية وإسرتاتيجية النظرة الشاملة (.)2
فعىل الرغم من رؤى هذه النظريات وغريها من النظريات األخرى فإن الباحث
((( مسار التنمية البرشيةwww.reefnet.gov.sy/boosproject/fikr/8/nathrat. 9 ، pdfموقع ألكرتوين. ((( ظ :فريوز راد وأمري رضائي ،تطوير الثقافة ،دراسة اجتامعية يف مفهوم التنمية الثقافية عند عيل رشيعتي .55-45،
95
حاول أن يغوص يف عمق النظرية اإلسالمية وبالذات بني آيات القرآن الكريم قال َيوا َما بِ َأن ُف ِس ِه ْم)( ،)1فاآلية املباركة حتدد تعاىلَّ : َي َما بِ َق ْو ٍم َحتَّى ُيغ رِّ ُ (إن اهلل ال ُيغ رِّ ُ احلافز األساس لتحريك اإلنسان وتطوره ونموه وهو العامل الذايت أو النفيس أو الداخيل ،حيث ُيعدّ املؤثر احلقيقي والواقعي يف نمو ذلك املجتمع عن غريه عرب التأريخ ،وهلذا نجد التباين اإلنامئي واضح ًا بني ذلك املجتمع أو ذاك ،بوصف أن املجتمع جمموعة أفراد ،وأن تغري الفرد أو جمموعة األفراد يعني تغيري املجتمع ،وما هذا إال عني النظرية اإلسالمية ،التي تتبنى توثيق العالقة بني الفرد واملجتمع وبني عالقة املجتمع والفرد ،وتأثر أحدمها باآلخر وتأثريمها( ،من هنا فإن النقطة املهمة التي جيب اإلشارة إليها هي أن العنرص اإلنساين ال يهُ مل يف الرؤية التنظيمية ،بل أن الفرد والرتكيب االجتامعي وطبيعة العالقات املتبادلة بينهام ،هي من األسباب
األساسية للتنمية أو عدمها)( )2وهذا ما أكدناه وهو رغبة الفرد واملجتمع بكرس قيد الضغوط املحيطة هبام لغرض االرتقاء والتطور قدم ًا. من هنا نستشف أن أي أمة تتطور وتنمو وتنهض عىل قدر رغبة أبنائها يف ذلك وعىل قدر تفاعلهم االجيايب مع الظروف التي حتيط هبم ،وعىل قدر تنشيط قابليتهم لالرتقاء بأنفسهم منتفضني عىل ما فسد من ظروفهم ،هذا فالباحث يرى أن كل يشء خالف ما ُحدد أعاله من العاملني الرئيسني كان ثانوي ًا ومرجعه ذات العاملني ،لذا فإن اإلنسان األول ليومنا هذا نجده يتعامل اجيابي ًا مع املحورين املذكورين ،وأنه ((( الرعد ،اآلية .11 ((( فريوز راد وأمري رضائي ،تطوير الثقافة.55 ،
96
يتعامل كرد فعل طبيعي أمام كل ما هو خارج الدائرتني ،فهو ينتفض عىل نفسه يف حال إحساسه باليأس واإلحباط بغية االرتقاء ،وكذا نجده يثور عىل الواقع الذي حييط به إذا كان عزفه عىل وتر التخلف بدالً من النمو والتطور ،وهذا ما ملسناه كحقيقة ونحن نقرأ أوراق التأريخ ،حيث نجد ُه ــ أي اإلنسان ــ يتعامل كرد فعل مع أي ظاهرة خالف ما حددناها سلف ًا. إن موقع التنمية بصورة عامة والتنمية البرشية بصورة خاصة كموقع املطرقة من السندان ،فهي القدحة التي تكون كرد ٍ فعل كام أرشنا إليه سابق ًا ،فلو تتبعنا مجيع الثورات والوالدات التنموية نجدها فع ً ال نتيجة رصاع الظامل واملظلوم ورصاع احلق والباطل فض ً ال عن رغبة اإلنسان باالرتقاء والتطور ،فالثورات التي قامت يف أوربا مث ً ال أبان القرون الوسطى تُعد منعطف ًا يف حياة أوربا وشعوهبا ،فهي الوالدة القيرصية التي ولدت كرد فعل عىل الفساد الفكري والتخلف التنموي الذي مارسته السلطتان الدينية والسياسية آنذاك ،مما انتجت طبقة من املفكرين ملواجهة هذا االنحراف الفكري والسلوكي ،فـ( منذ مخس وعرشين أو ستة وعرشين قرن ًا كانت يف أوربا حضارة مزدهرة ،إذ كان فيها مفكرون مثل سقراط وأفالطون وأرسطو وغريهم ،وكان فيها كتّاب وأدباء عظام وفالسفة عظام ال تزال أسامئهم مشهورة يف العامل ،ثم جاءت املسيحية الكاثوليكية وحكمت أوربا باسم الدين، واختنقت أوربا ومل يعد هناك خري عن يشء)(.)1 فاندلعت املعارك التي تُعدّ ردة فعل حقيقي للسلوك التخلفي للسلطة السياسية ((( عيل رشيعتي ،مسؤولية املثقف.66 :16:5 ،
97
وللكنيسة املسيحية الكاثوليكية ولسلطة التزاوج غري مرشوع بينهام ،أي اندلعت الثورة نتيجة للتخلف القيمي واملفاهيمي وكذا السلوكي واإلجرائي ،حتى باتت الكنيسة -متثل العنجهية الدينية بدالً من املعاين الساموية ،مما أضطر الشارعأن يسعى الختيار (الديمقراطية لتحل حمل األرستقراطية الدينية .....ألن دين الكنيسة هو أكرب مؤسس للنظام اإلقطاعي وأكرب مدافع عن العهد اإلقطاعي
والشكل اإلقطاعي)(.)1 بالرغم من أن بعض الباحثني أو املحللني حاول جزاف ًا أن يتعامل مع القضية األوربية أبان العصور الوسطى وأزمة أوربا والثورة الفرنسية باخلصوص تعام ً ال غري موضوعي حماوالً تربير ساحة الكنيسة آنذاك ورجال الدين ،بل حاول البعض أن يجُ ري أحداث تلك الفرتة إىل الكنيسة مدعي ًا بال دليل أن جذور الثورة هي جذور مسيحية ،وهذا ما ادعاه املطران (جورج خرض) عىل سبيل املثال ،حيث ذهب كام ذهب بعضهم اآلخر إىل هذا الرأي بان الثورة تعود جذورها إىل جذور مسيحية، كون الثوار قد رفعوا شعار (احلرية ،املساواة ،اإلخوة) ،وما هذه الشعارات إال (مضامني ذات بعد مسيحي وإن مل يعرتف الثوار بأهنم يوادون اهلل ،فضال أن احلضارة اليونانية والرومانية التي استندت إليها أوربا جزئي ًا ليس فيها أي أساس للحرية واملساواة واإلخوة ،وأن الثورة ولدت كرد فعل عىل ملوك فرنسا)(.)2 ((( عيل رشيعتي ،مسؤولية املثقف .70، ((( ظ :مؤمتر "كلمة سواء” العارش ،موقع الدين يف عملية التنمية ،املطران جورج خرض 154 ،و.155
98
والواقع خالف ذلك ،فالباحث يرى أن تلك املدة التي سميت (بفرتة عرص التنوير) كام يطلق عليها ،هي شاهد تارخيي حقيقي ملا ذهب إليه الباحث بأن التنمية تلد بسبب عاملينّ أساسينّ كام ذكر سلف ًا ،وأن هذه النهضة التنموية ولدت عىل أثر التقهقر الذايت لإلنسان من جهة ،والبيئي وما حييط به من ظروف ونشاطات متخلفة اقتصادية كانت أم اجتامعية أو سياسية أو غريها من جهة أخرى ،مما آل باإلنسان واملجتمع أن يكرس قيد التخلف ويرتدي ثوب التطور ،وما هذا إال منعطف واضح باإلنسان أألوريب بل عىل مستوى العامل أيض ًا. ويرد الباحث عىل ادعاء املطران (جورج خرض) بام يأيت : ·إن شعار الثوار الذي رفع (احلرية ،املساواة ،اإلخوة) هي مضامني قيمية إنسانية تتواجد يف ضمري اإلنسان بغض النظر عن كوهنا ذات جذور مسيحية أم ال. ·أما خلو احلضارات القديمة منها ،فهو إدعاء يفتقر إىل الدليل ،وإال يف أي كفة نضع املضامني املعرفية واإلنسانية واألخالقية التي روج هلا أرسطو وأفالطون وسقراط وغريهم عىل صعيد حضارة اليونان وروما ،هذا فضال عن احلضارات األخرى. ·عىل املطران ابتداء وقبل أي إدعاء عليه أن جييب عن سبب معاداة الثوار للكنيسة واألزمة بينهام آنذاك؟ خاصة أنه أشار بنفسه إىل هذا املعنى قائالً( :هناك شعور مسيحي احتجب بسبب خماصمة الثوار للكنيسة الكاثوليكية ولكن الثورة ضمت املعاين املسيحية إليها ومل تعرتف باملصدر املسيحي بسبب الدم املراق
99
والتمرد عىل الكنيسة كمؤسسة أو كقيادة اكلريوسية)(.)1 وال نجايف احلقيقة إذا قلنا إن هاجس اإلنسان يف تنمية ذاته واخلروج من األزمات يف تلك املرحلة هي دافع آخر ملا حدث فيها ،فالسبات الفردي واالجتامعي عىل األصعدة الفكرية والثقافية واالقتصادية والسياسية ألوربا كان سبب ًا بين ًا لرتبع التخلف عىل صدرها ،مما اضطر اإلنسان بمقتىض ما حددناه أن تتوفر لديه عوامل التنمية ،كأن يسعى إىل النهوض بنفسه من جهة والعودة إىل احلضارة اليونانية والرومانية بنسبة ما من جهة ثانية ،وبالثورة عىل الواقع الفاسد التي كانت امللكية احلاكمة مصداق ًا له من جهة ثالثة ،وباالنقالب عىل صور ختلف الكنيسة الكاثوليكية من جهة رابعة ،الذي كان سبب ًا لرواج املذهب الربوتستانتي الذي روج إليه من قبل مثقفني متدينني أمثال (مارتن لوثر ،وكالفن يف أثناء مقارعتهم ّ لسطوة الدين املتخلف يف العصور الوسطى ،سعوا لتبديل جوهره إىل عامل حركة وإيقاظ)( ، )2بحيث شكل التوجه اجلديد طريق ًا إىل التنمية والتطور.
إن مدة (عرص التنوير) كام هو شائع عند كتاب السياسة والقانون و االجتامع، هي مدة الربزخ ما بني اجلهل والتنوير ،والتخلف والتطوير لتاريخ التنمية البرشية الوضعية التي تدرجت حلني أن استقرت اصطالحي ًا يف عام 1990م ،وان تلك
((( مؤمتر «كلمة سواء» العارش ،موقع الدين يف عملية التنمية ،املطران جورج خرض، .155 ((( فريوز راد وأمري رضائي ،تطوير الثقافة ،دراسة اجتامعية يف مفهوم التنمية الثقافية عند عيل رشيعتي.339 ،
100
الفرتة تُعدّ الرشارة التي أهلبت العقل البرشي نحو املضامني اإلنسانية ،ألن البعض ينظر إليها عىل أن (عهد اإلنسان بالوثائق والرشائع التي بلورت حقوقه اإلنسانية ....قد بدأ بفكر الثورة الفرنسية الكربى التي بدأت أحداثها 1789م فإبان هذه الثورة وضع أمانول جوزيف سييس 1836 -1748م وثيقة حقوق اإلنسان ،تلك التي أقرهتا اجلمعية التأسيسية وأصدرهتا ،كإعالن تارخيي ،ووثيقة
سياسية واجتامعية ثورية يف 26أغسطس 1789م.)1(). فعىل الرغم مما أصلنا خللفية تأريخ هذا املفهوم عىل املستوى الوضعي فإن الباحث يعتقد أن تأصيل هذا املفهوم قد وجد يف أدبيات اإلسالم يف الكتاب والسنة املطهرة بشكل واضح وجيل وال سيام عىل مستوى الفكري ال الفردي، وهذا ال ينايف ما ادعيناه يف اقرتان والدة التنمية البرشية بالوالدة األوىل لإلنسان، ألن الباحث حياول أن يفرق بني التنمية عىل املستوى العميل الفردي والتنمية عىل املستوى الفكري ،فمفهوم التنمية البرشية يف اإلسالم ،قد تقدم يف إطروحته من حيث تأكيده أهنا لإلنسان وباإلنسان ،لنفسه الفاعلة ،ومعارفه املتجددة ،وقدراته املتطورة ؛ بعدما كانت التنمية حمفزة عىل اجلد واملثابرة والكامل واإلتقان وسائر حاالت اإلنامء ،الشاملة واملتكاملة واملرتبطة بحركة املجتمع تأثر ًا وتأثري ًا ،من ثم فهو ليس بجديد عليه ،ولو مل يرد كمصطلح فيه ،ومازال عىل اشتقاقه اللغوي(.)2
((( حممد عامرة ،اإلسالم وحقوق اإلنسان.13 ، ((( ظ :مهرجان ربيع الرسالة الثقايف العاملي السابع ،مدرسة اإلمام الصادق A ودورها اإلنساين – التنمية البرشية أنموذج ًا ،حممد صادق اخلرسان.10 ،
101
وخالصة القول فإننا نؤكد أن أي مطلب بام فيه معرفة البعد التأرخيي وأصالة التنمية البرشية مرهون بفهمنا ملفهوم ذات التنمية البرشية ،لذا كان الباحث حريص ًا كل احلرص عىل حتديد هذا املفهوم وحتديد مدلوله ومعرفة مساحته طوال خطواته البحثية ،إذ عده العامل الرئيس برفع الستار عن كثري من احلقائق التي سعى إليها ومنها هذا املطلب ،وبالعودة إىل تعريف الباحث للمفهوم ،الذي أكد عىل أن
التنمية البرشية هي :عبارة عن عمليات إجرائية منظمة عىل وفق رؤية فكرية منتخبة
هتدف لتطوير القوى الكامنة يف اإلنسان بصقلها وتوجيهها نحو حتقيق طموحاته بغية
إشباع حاجاته املرشوعة يف شتى جماالت احلياة. لذا يرى الباحث أن التنمية البرشية ولدت مع الوالدة األوىل لإلنسان ،وأن اإلنسان جمبول عىل تطور نفسه الن الرغبة يف التطور والتغيرّ االجيايب أمر فطري السبِ َ يل إِ َّما َشاكِر ًا َوإِ َّما َك ُفور ًا﴾ (،)1 أودعه اهلل تعاىل فيه وهداه إليه ﴿ إِنَّا َهدَ ْينَا ُه َّ كام ُيعدّ إصالح ما فسد من النفس اإلنسانية والظروف املحيطة به أمر متاح وممكن إن مل يكن واجباَ ﴿ ،و َن ْف ٍ ور َها َو َت ْق َو َاها* َقدْ َأ ْف َل َح س َو َما َس َّو َاها * َف َأ هَْل َم َها ُف ُج َ اها﴾( ،)2لذلك ليس من املسوغ أن يلقي اإلنسان اب َم ْن َد َّس َ َّاها* َو َقدْ َخ َ َم ْن َزك َ َي َما بِ َق ْو ٍم َحتَّى بتبعات ختلفه عىل ما حييط به من ظروف لقوله تعاىل ﴿ :إِ َّن اللهََّ ال ُيغ رِّ ُ
((( اإلنسان.3 : ((( الشمس .10 -7 :
102
َيوا َما بِ َأن ُف ِس ِه ْم الرعد﴾(.)1 ُيغ رِّ ُ وقد تبنى الباحث رأي ًا مفاده إن ما من فلسفة ساموية كانت أم وضعية إال وهلا رؤي ًة أو منهج ًا تنموي ًا ،عىل اإلنسان أن يدرك أنه هو عنرص التغري والنمو لنفسه وجماالت حياته املختلفة التي حتيط به ،كام ُيعدّ عنرص التخلف يف مراحل السبات والتسليم للظروف التي حتيط به. كام حاول الباحث أن يفرق بني نضج التنمية البرشية الوضعية تأرخيي ًا ،وبني ما أورده القرآن الكريم من رؤية علمية دقيقة للتنمية البرشية ،الذي سنتحدث عنها يف الفصل القادم بعونه تعاىل.
((( الرعد .11 :
103
104
( : )2تطور مفهوم التنمية البشرية ومراحل نضوجه االصطالحي.
سبق أن أكدنا أن دراسة التأريخ تُعدّ رافد ًا نستلهم منها املعلومة الستخالص العربة واإلفادة منها ،غري أننا مل نحدد تأرخي ًا خاص ًا ملفهوم التنمية البرشية ،إال أننا يف الوقت الذي سنحاول من خالل هذا املطلب أن تكون نظرتنا إىل تأرخيه من النافذة التي نطل منها عىل مراحل نضوج مفهوم التنمية. نسب بعض الباحثني مدة تطور التنمية إىل علامء ومفكرين إسالميني خصوص ًا يف (القرن الرابع اهلجري أو ما يقاربه من القرن العارش امليالدي ،حيث شهد تطور ًا يف خمتلف جوانب احلياة برزت من خالله اإلبداعات العلمية والفكرية التي أسهمت يف وضع اللبنات األوىل للتطور العلمي يف العصور التالية ،فخالل ذلك القرن برز العلامء واملفكرون املسلمون كرواد للحضارة اإلنسانية ،ومن خالل أسهامهم العلمي والفكري انطلقت حركة البحث العلمي والتقدم احلضاري، وجاءت الثورة الصناعية واكتشاف اآللة البخارية وغريها كإحدى املراحل التي برزت يف التأريخ بوصفها مؤرش ًا إىل ما وصل إليه اإلنسان يف تلك املرحلة)(،)1 ومع إيامننا بام تقدم فإننا ال نستطيع أن نعد تلك املدة إال حجر ًا أساس ًا للتطور
العلمي ،لعلمنا بإن تطور املفهوم سار عرب التطور الفكري لدى اإلنسان عىل مر التأريخ ،والتي ستمثل مدة القرون الوسطى ،أحدى أهم الفرتات التي مثلت حيز ًا بني التخلف والتطور الوضعي لتلك الشعوب ،والتي ُولدت عىل أثر طوفان من ((( مجال حالوة وعيل صالح ،مدخل إىل علم التنمية .64،
105
اجلهل والعنف والتخلف عم القارة بأرسها مما خ ّلف أنقاض ركام من قيم وبرش. فقد مرت أوربا بمدة عسرية وقاسية ترتب عىل أثرها ردة فعل نقيض االجتاه، خلفت موجة شعبية عارمة حطمت مجيع األغالل التي ق ّيدت التفكري واإلبداع عرب سلسلة من الثورات كُللت بام يسمى بـ(الثورة الصناعية) ،والتي ُعدت حمطة النطالق أوربا وتنميتها ،حينها استطاع األوربيون أن يقفوا عىل أقدامهم متكأين عىل إجراءات عملية وسلوكية للفرد واملجتمع واملؤسسة ،نبذ بعض صور التقليد، صد عن كل صور التخلف ،مقارعة االستبداد ،إرادة وإرصار عىل االستمرار تنموي ًا ،إحياء عنارص التنمية ،احرتام الزمن ،نظم اجتامعية وثقافية وسياسية واقتصادية جديدة مبنية عىل أسس من جتربة املايض تالئم ذوق الثورة ،كل ذلك كانت عوامل مساعدة لالرتقاء بأوربا وأبنائها. وهلذا ذهب بعض الباحثني إىل أن عرص ما بعد القرون الوسطى هو عرص التنوير ،ومنه اشتعلت الرشارة األوىل لبداية تفاعل فكري اجته صوب كثري من املفاهيم االصطالحية ومنها مفهوم التنمية البرشية ،حيث ظهر مفهومنا ابتداء كمفهوم غري متكامل وبتعابري شتى يبحث عن حاضنة ليجد فيها ذاته الذي بات يتطور من عقد آلخر ،متذبذب ًا من حيث البعد والقرب من املعنى الذي ندرسه ،ألنه مر بمراحل خمتلفة اىل أن تبلور ليأخذ مالمح شكله احلايل ،حيث نجده يف كل حقبة قد ُعرب عنه بعدة تعابري للداللة عليه عىل أمل استقراره ،فقد ُعرب عنه بالتنمية بالرغم من التباين الكبري عىل ذات التسمية ومدلوهلا ،كام عرب عنها بـ(تنمية العنرص البرشي أو تنمية رأس املال البرشي أو تنمية املوارد البرشية
106
أو التنمية االجتامعية)(.)1 إن منشأ هذا التباين يف تسمية املفهوم الواحد ناشئ من واقع التباين بني الرؤى الكونية زيادة عىل لظرف أوربا املرير الذي مل تستطع أن تتجاوزه بيرس لعمق رصاعها مع التخلف ،الذي مل تتحقق الغلبة فيه هلا إال بعد جهد جهيد قدمت فيه الكثري من الضحايا والكثري من القيم واملسلامت التي ما زال األوربيون يدفعون ثمنه إىل يومنا هذا ،فالواقع أن أوربا (مل تستطع أن خترج من عباءة القرون الوسطى بكل ختلفها وأقفاهلا إال بعد ما حطمت املؤسسات التي كانت حتجر عىل الفكر، وتضع قيود ًا ال حدود هلا عىل العقل اإلنساين ،بل ومتارس البطش الشديد والقمع بمختلف صوره ....مل تستطع أوربا أن تنفذ من أبواب التقدم إال بعد أن حققت ثورهتا الثقافية الكربى من خالل حتطيم االستبداد)(.)2
إن رده فعل أوربا عىل نفسها وواقعها املؤمل هو الذي دفع بوالدة عرص النهضة الفكري يف مدة ما بعد العصور الوسطى ،وكأن احلياة عادت إىل جسد أخذه السبات واخلمول والكسل لسنني طوال ،فعادت احلياة إليه لينتعش من جديد بفرتة علمية ثقافية بمختلف ميادين احلياة( ،فلم تكن حرية التفكري هي فقط مدخل أوربا للدخول يف عامل احلداثة ،ولكن رافقتها حرية التعبري....ويمكن القول أن أوربا
((( جورج ال ُقصيفي ،التنمية البرشية مراجعة نقدية للمفهوم واملضمون ،التنمية البرشية يف الوطن العريب.81 ، ((( مؤمتر «كلمة سواء» العارش ،التنمية اإلنسانية ،إبعادها الدينية واالجتامعية واملعرفية ،الوجوه الثالثة للثقافة العربية ،السيد يسني.75 ،
107
حلقت يف فضاء التقدم مستخدمة جناحي حرية التفكري وحرية التعبري)(.)1 وال نريد اإلسهاب يف املنعطف الذي تعرضت له أوربا إبان النهضة الصناعية، والطفرة التي كانت باجتاه التنمية والتطور ،إال أن الواقع حتّم أن نذكر هذه
احلقيقة ،لذا فإن الباحث يف هذا املطلب سيعود ليذكر ما كتبناه يف املطلب السابق بخصوص أن التنمية ال تستطيع أن تفرض وجودها إال من خالل عاملني أساسيني مها :رغبة اإلنسان بتطور ذاته لرتكيبته التكوينية من جهة ،ولتعامله اإلجيايب كرد فعل عىل درء أي خطر أو ضغط حييط به ويزيل توازنه من جهة ثانية ،فانتفاضة أوربا جاءت نتيجة رد فعل عىل أزمتني يف آن واحد ،مما دعا اإلنسان األوريب أن ينتفض عىل ذاته وما حييط به من ختلف لالرتقاء بنفسه وللظروف السياسية واالقتصادية واالجتامعية وغريها. وعىل أساس ما تقدم لزم تسليط الضوء عىل زمن ما بعد النهضة األوربية، التي ولدت عىل أثرها ردة فعل عىل الذات واملحيط ،إال أن من املؤسف أن هذا االنقالب الذي كان إجيابي ًا يف جماالت سبق أن ذكرناها فقد كان سلبي ًا يف جمال آخر ،حني تُرجم االنقالب كرد فعل عنيف ،حيث انزاحت فيه املعايري عن حدها املعقول لتحتل مرتبة غري مرتبتها وليختل التوازن من جديد ويربك وضع النظام اهليكيل البنائي مرة أخرى يف مواطن جديدة ،فعدم التوازن غري املسوغ عن حمل
()2
((( مؤمتر «كلمة سواء» العارش ،التنمية اإلنسانية ،إبعادها الدينية واالجتامعية واملعرفية ،الوجوه الثالثة للثقافة العربية ،السيد يسني.77 ، ، ((( راجع ص 95من الكتاب.
108
االعتدال للمفاهيم القيمية ومنها املفهوم الذي بني أيدينا ،هو العامل األساس يف إرباك عمل املنظومة الفكرية لعرص ما بعد ثورة القرون الوسطى ،كون ردة الفعل تقتيض أن تكون متوازنة إذا كان الدافع متوازن ًا وواقع املنتفض عليه غري متوازن، وهذا واقع احلضارة الغربية فعالً(،حيث فرست احلضارة بعامل التطور املادي فحسب من خالل حركة اإلنسان املادية ،وقطعها من مصدر اخلري واحلق واجلامل
يف الوجود)(.)1 إن اخللل يف وضع النظام اهليكيل والبنائي لإلنسان األوريب كان بسبب العدول الذي جاء عنيف ًا نحو املادية البحتة والذي أصبح عنرص ًا سلبي ًا بدالً من أن يكون عنرص ًا إجيابي ًا من عنارص التنمية الشاملة ،هكذا كان الوليد مشوه ًا ناقص األعضاء من أول يوم ُولد فيه ،فكانت التنمية مقترصة عىل البعد املادي لإلنسان دون البعد املعنوي الذي يشكل أحد صور اإلنسان احلقيقية ،مما سبب نظرة أحادية قارصة ترتبت عليها عواقب وخيمة حتم ّلها اإلنسان األوريب من تلك الفرتة إىل يوم نضوج مفهوم التنمية وانزياحه مرة أخرى إىل حالة التوازن حني أستقر عند مفهوم التنمية البرشية ،والعلة يف هذا العدول اجلديد يكمن يف أن اإلنسان حني يرى نفسه أداة للتنمية سيشعر بالضياع ،وستختنق عنده روح اإلبداع ،وتنطفئ شعلة التطور لديه ،وسيهدأ بركان الطاقة منه عىل عكس لو علم أو أدرك أنه
((( حمسن عبد احلميد ،جتديد الفكر اإلسالمي.118 ،
109
هو اهلدف والوسيلة ،وهذا ما أشار إليه (ماكس فيرب)( )1حيث عتقد (إن إحماء الشخصية املرادف لإلنسالب هو من النتائج السيئة للمجتمعات الصناعية، ويعتقد كارل ماهنايم أيض ًا أن عملية التحول الصناعي يف املجتمع تؤدي إىل مسخ
اإلنسان وحتوله إىل موجود يشعر باإلنسالب)(.)2
فام من حضارة ألمة إال وقد مثلت حضارهتا عرب احلركة الفكرية والوعي اإلدراكي والنمو اإلبداعي الذي ينبثق نتيجة تفاعل أفرادها مع خزينها الثقايف املرتاكم عرب احلقب الزمنية ،لذا نجدها تتأثر سلب ًا أو إجياب ًا بذلك املخزون الذي ُيعدّ تطبيقه نسبي ًا من جيل إىل آخر ومن ظرف إىل آخر ،مما يقتيض أن ندرك أننا ال نستطيع أن ندعي أن املثل العليا واحلركة املستديمة لإلبداع ومكانة النمو أخذت حيز ًا ثابت ًا عرب تاريخ اإلنسان ومرشوعه احلضاري ،حيث نجده يمر بمراحل نكوص تارة ومراحل تفاعل تارة أخرى ،كل ذلك جاء مبني ًا عىل أساس الرصاع ((( ماكس فيرب ( :)1920 – 1864أملاين اجلنسية ،درس القانون واالقتصاد ،يف سنة 1893عني أستاذا لالقتصاد يف جامعة “فرايبورج” ,كتب فيرب عددا من الدراسات واملقاالت ,عمل يف جمال السياسة ,يالحظ إن آراءه السياسية كانت ليربالية الطابع فحياته كانت قسمة عادلة بني السياسة والعلم ،له عدة مؤلفات هي :نظرية التنظيم االجتامعي واالقتصادي ،املدنية ،منهجية العلوم االجتامعية ،الدين يف اهلند ،الدين يف اليابان،علم االجتامع الديني ،االقتصاد واملجتمع. ظ :موقع االلكرتوين جلامعة بابل ،كلية االداب ،قسم االجتامع.
http://www.uobabylon.edu.iq/uobcoleges/lecture. aspx?fid=8&lcid=31534 .
((( فريوز راد وأمري رضائي ،تطوير الثقافة.44،
110
احلضاري والتأرخيي لإلنسان مع ذاته والظروف التي حتيط به ،والتي ستقود طريف الرصاع إما إىل املراتب العليا واملعايري والقيم اخلالقة أو العكس. ولقد شخص األستاذ منري شفيق أزمة احلضارة األوربية احلديثة منذ والدهتا وحتى يومنا هذا يف سوء فهمها وتفاعلها مع احلياة واإلنسان ،فكان اهلدف الرئيس يرمي إىل حتقيق أقىص درجات الرفاه املادي أو أقىص مستويات الثروة والقوة املادية ،مما سيرتتب عىل ذلك هنج نتائج مقدماهتا نفسها ،أما إذا كانت النظرة األساسية شاملة ملختلف احلاجات واألهداف األساسية لإلنسان ،فإن السعي وراء القوة املادية سوف هيبط إىل مستوى أدنى من ذلك املستوى لكي يتوازن مع السعي لتحقيق
األهداف األخرى ( .)1وهلذا نجد أن بعض من املفكرين قد شخص ما أوردناه يف هنضة أوربا وتوجهاهتا األحادية التي أدت إىل فهم غري صحيح للكون ومفرداته ومنها التنمية والتنمية البرشية ،لذا قال أحدهم( :ينبغي لنا أن نعرتف بأن افتقارنا الكامل اآلن إىل أي نظرية يف الكون هو املصدر األخري لكل الكوارث وألوان الشقاء التي يعج هبا العرص احلارض ،وهلذا جيب أن نعمل مع ًا من أجل إجياد نظرية يف الكون ويف احلياة ،حتى نستطيع بذلك أن نصل إىل مستوى عقيل جيعلنا متمدنني
حق ًا)( ،)2أما الرئيس األمريكي األسبق نيكسون فقد أكد قائالً( :منذ قرن مىض كانت الثورة الصناعية ماضية يف طريقها ،واألمة أخذة يف التوسع ،وكنا نتحدث بثقة عن املستقبل اجليل ،واليوم فإن معظم األمريكيني متحررون من احلاجة ،لكننا ((( ظ :منري شفيق ،اإلسالم يف معركة احلضارة.36 ، ((( ألربت اشفيترس ،فلسفة احلضارة.8 ،
111
ال زلنا نبدد طاقاتنا اخلالقة يف التكهن جمدد ًا هبويتنا وقيمنا)(.)1 إن العدول عن القيم اخلُلقية والروحية والتقوقع يف خندق املادية ظاهرة عمت العامل عموم ًا ودول الغرب خصوص ًا مما سببت اضمحالل الوازع الديني (وجفاف النبع الروحي وفقدان الفهم الصحيح لرسالة اإلنسان يف هذه احلياة ،زادها ذلك كله يف الوقت نفسه حتل ً ال وتفسخ ًا وانحطاط ًا ومتيع ًا مما جعل جمتمعاهتا تُنخر من داخلها)( ،)2بل ُيعدّ عدول املنظومة الفكرية األوربية عن القيم أزمة تراكمية حتجرت مع مرور الزمن ،عىل الرغم من تنعم اإلنسان مادي ًا وتطوره تكنولوجي ًا، بقي منزوي ًا يف هذا اجلانب دون غريه ،بحيث أصبح اإلنسان ُيعاين معانا ًة فإنه ّ
نفسية وروحية سببت له أزمة الضياع والتيه والعبث. إن التنمية إال كباقي املفاهيم األخرى التي عانت أحادية التفكري ،فهي تنحو منحى الضوابط واملحددات املنبثقة من أساس اخللفية الفكرية لكل أيدلوجيا، إذ سنجدها تتباين من فلسفة إىل أخرى يف الوقت التي تُعدّ يف حقيقتها ( عملية حضارية لكوهنا تشمل خمتلف أوجه النشاط يف املجتمع بام حيقق رفاهية اإلنسان وكرامته ،وهي أيضا بنا ٌء لإلنسان وحترير له ،وتطوير لكفاءاته وإطالق لقدراته،
كام أهنا اكتشاف ملوارد املجتمع وتنميتها وحسن تسخريها)(.)3
((( ريتشارد بيكسون ،نرص بال حدود.28 ، ((( إبراهيم حسني العسل ،التنمية يف الفكر اإلسالمي .211 ، ((( املصدر نفسه .13 ،
112
وال يفوتنا أن نشري إىل أن من أسباب نضج مفهوم التنمية البرشية عند احلضارة الغربية احلديثة ،والتي ُيعدّ أحد أهم أسباهبا ختلف منظومتها الفكرية عن املنظومة العقلية واملنطقية املتكاملة وانحسارها عىل املادة والتجربة والربهان دون غريها من املعايري األخرى ،مما سبب عدم تكامل الصورة وتأخر تكامل املفهوم حلني نضوجه التدرجيي ،يف سبيل التمكني هلذه العقالنية املادية الرصفة ،يذكر األستاذ حمسن عبد احلميد جمموعة من األسباب التي آلت إىل هذا االرتباك ،نذكر بعض
منها لفائدهتا: تأثر مجيع اإليديولوجيات الوضعية الغربية باالجتاه الفلسفي املادي احلديث. •تُعدّ بعض النشاطات عاكسة جلذور الرصاع الصليبي يف العمق التأرخيي. •التعصب العرقي املتعال اجتاه احلضارات والشعوب األخرى. • ُبعد تام عن النظام األخالقي. •اعتامد املنفعة العاجلة. هكذا نجد الدكتور عبد احلميد حياول الوصول إىل نتيجة مفادها إن التنمية املادية احلديثة التي جاءتنا من الغرب ما هي إال تنمية عرجاء الفتقارها إىل العقل والروح واحلياة ،بل هي فوىض ال تنضبط معها حركة احلضارة والتخطيط التنموي ال إىل احلارض وال عىل املستقبل. بينام ونجد أن األستاذ البكار ينظر هلا من زاوية تكاد تقارب مما ذكر ،فهو ينعت حضارة أوربا باملادية والسياسية (فهي حاصل ما ُبذل من جهد خالل القرون ()1
((( ظ :حمسن عبد احلميد ،جتديد الفكر اإلسالمي.127 -126 ،
113
اخلمسة املاضية عىل صعيد حتقيق سيطرة اإلنسان عىل الطبيعة وحتقيق أكرب قدر ممكن من السعادة واملتعة .....وحني ثار الغرب عىل الكنيسة َّ حل الفالسفة واملفكرون واملخرتعون والسياسيون حمل كهنة الكنيسة ،وأخذت احلضارة الغربية تنحو شيئ ًا فشيئ ًا نحو االعتامد عىل العقل والعلم يف رسم األهداف الكربى وأطر البناء واحلركة واملحطات النهائية لكثري من املعايري احلضارية بعيد ًا عن الدين
والوحي والغيب)(.)1 عىل أساس تلك الرؤية الرتاكمية التي اعتمدهتا احلضارة الغربية احلديثة، أصبحت اللغة السائدة هي لغة املادة ،فأصبحت هي احلاكم والفصل يف تفاضل
تطور هذه األمة أو تلك عىل وفق معايري حضارة الغرب(.)2 والباحث مل يقصد مما استعرضه من حتليل أن يسلط الضوء عىل اقتصار احلضارة األوربية احلديثة عىل التنمية االقتصادية والنزعة املادية وما ترتب عليها من إخفاقات عىل مجيع األصعدة ،بل هو بصدد بيان علة اإلخفاق يف سوء اختيار املفهوم املحوري للتنمية واآلثار املرتتبة عىل ذلك ،مما سبب :فقدان اإلنسان السيطرة عىل ذاته يف وسط زمحة من الرصاعات بمختلف ألواهنا ،تفاقم األزمة الداخلية واملحيطة لإلنسان ،إخفاقات يف امليدان الروحي واألخالقي والنفيس، فض ً ال عن املجاالت األخرى التي تأثرت مجيعها بنسبة ما ،إذ زادت نسبة اجلهل ((( عبد الكريم بكار ،من أجل انطالقة حضارية شاملة – أسس وأفكار يف الرتاث والفكر والثقافة واالجتامع.46 ، ((( ظ :مجال داوود سلامن ،اقتصاد املعرفة.223 ،
114
باإلنسان واإلنسانية وارتفعت معدالت اجلريمة ،وعمت األمراض النفسية، وتفككت الروابط األرسية ،وضعفت العالقات االجتامعية ،واهنارت القيم األخالقية ،كل ذلك شكل ناقوس ًا للخطر وألزمة جديدة ألتفت إليها الغرب ومفكروهم مما دعاهم أن يتشاطروا مع غريهم باالنعطاف نحو مفاهيم تنقذ واقعهم املظلم ،وكان أحد تلك اخليارات هو مفهوم التنمية البرشية ،الذي سدَّ جزء ًا من متطلبات حاجاهتم. إن استهالك اإلنسان وقيمته يف مثل هكذا منظومة ُيعدّ أمر ًا طبيعي ًا ،ألن املعيار واملحور يف احلضارة احلديثة هو معيار املادة وليس اإلنسان ،وما أحداث احلركة االستعامرية املادية يف هناية القرن التاسع عرش وبداية القرن العرشين امليالدي، وما احلروب والرصاعات التي افتعلتها (الدول املتقدمة!) إال للسيطرة عىل العامل وخرياته الطبيعية والبرشية ،وما ذلك إال مصداق ملا تبنيناه ،حتى باتت احلضارة الغربية احلديثة (بشقيها الرأساميل والشيوعي قد حتولت إىل حضارة استهلكت اإلنسان والقيم ،ونرشت احلروب والدمار والشقاء يف كل مكان وأهلت أنانيتها وسحقت الشعوب التي استعبدهتا وأبعدت اإلنسانية عن خالقها ووضعت تنمية اجلشع املادية ،والدافع عن أنظمتها فوق كل اعتبار .......هذا الوضع اخلطري أنتبه إليه عقالء الغرب وعلامؤه واثبتوا من خالل أبحاثهم يف واقع هذه احلضارة أهنا بدأت تأكل نفسها من داخلها ،وأهنا عىل الرغم من قوهتا الظاهرية ،فأهنا تعاين من أمراض نفسية وعصبية واجتامعية وسياسية واقتصادية خطرية جد ًا)(.)1 ((( حمسن عبد احلميد ،جتديد الفكر اإلسالمي.53 ،
115
إن تزمت احلضارة األوربية احلديثة يف غيها ،وحتجر مفهوم التنمية لدهيا يف زمن ما بعد الثورة الصناعية والعلمية أنتجت حركة مادية اقتصادية (انطلقت أساس ًا من إنكلرتا لتشمل الحق ًا فرنسا والسويد وأملانيا والواليات املتحدة األمريكية، لقد فتحت هذه الثورة األعني عىل حاجتني أساسيتني ،األوىل :متثلت باحلاجة إىل املواد األولية األساسية حلركة التصنيع التي نمت الحق ًا بوترية عالية ،والثانية:
متثلت باحلاجة إىل األسواق االستهالكية لترصيف املنتجات)(.)1 إن اكتساح موجة املادية لزمن ما بعد ثورة القرون الوسطى ورواج مفهوم التنمية للمدة التي تلتها عندما أطلق (هذا املصطلح «يوجني استييل» حني اقرتح
خطة تنمية العامل سنة 1889م)( )2والرتكيز عىل اجلانب املادي االقتصادي وهتويل فاعليته يف تغري سياسات العامل والشعوب وتقزيم اجلوانب الفعالة األخرىُ ،يعدّ ذلك تقنين ًا حلركة الدول الصناعية الستعامر بقية دول العامل كان أساسها املرشوع االقتصادي – املادي ،وحرص كل املواقع يف ذلك العامل (البنية االقتصادية) حتى بات األمر كأنه مسخ فكري وثقايف ،مما مثلت تلك احلركة ردود أفعال عنيفة، ومسعى للتحرر من قيود الدول االستعامرية ومفهوم التنمية وحمدداته الوضعية الضيقة ،كان دافعها االستحواذ عىل موارد العامل واهليمنة عليها ،وهلذا ظهرت ردود
((( إبراهيم حسني العسل ،التنمية يف الفكر اإلسالمي.218 ، ((( هشام إخزام ،عبد الفتاح حلوة ،دور املجتمع املدين يف التنمية البرشية ،اجلمعيات أنموذجا ،موقع الكرتوين جلامعة الرسالة. http://www.universiterissala.maktoobblog.com/264267)).
116
جت مفاهي ًام مما شكل نخبة من املثقفني ورواد منها سياسية وعسكرية وفكرية َتو ْ الفكر وطالب احلق بالنظر إىل كثري من املفردات ومنها مفردة التنمية بعني الواقع واملوضوعية فربزت عدة والدات كانت مقدمة عجلت والدة التنمية البرشية ،كام تُعدّ زمحة األحداث وتسارعها يف النصف الثاين من القرن العرشين عام ً ال أساسيا لنضوج مفهوم التنمية البرشية ،فض ً ال عن نضوج ذات العقل البرشي وتقبله لسعة املفاهيم. وتأسيس ًا عىل ما تقدم ،أن تطوير مفهوم التنمية البرشية كان مرجعه التطور الفكري التنموي املبني عىل أساس النضوج العقيل املحدود لإلنسان ،وأن تطور هذا املفهوم خاص ًة كان مرتبط ًا بمسريته النظرية التنموية االقتصادية( ،فالتنمية البرشية جزء من كل ،والتي هي عملية التنمية االقتصادية ،وقد تطور مضمون مفهوم التنمية البرشية مع تطور البعد اإلنساين يف الفكر التنموي السائد يف كل
مرحلة)(.)1 فكثرة اجتاهات التنمية وكثرة سبلها وتعدد مدارسها شكلت لنا منعطف ًا لالرتقاء بمفهوم التنمية وتطوره وقد عدت مؤثراهتا العامل األسايس لوالدة أنامط التنمية يف العرص احلديث ،منها ما أكده األستاذ الدكتور نارص يوسف التي دخل بعضهم منها متحف التأريخ اإلنامئي وهي :التنمية بفعل متوازن ،بفعل غري
((( جمموعة من الباحثني ،دراسات يف التنمية البرشية املستدامة يف الوطن العريب،االطار املفاهيمي املستخدم يف عمليات قياس التنمية البرشية املستدامة وحتيديد مستوياهتا،الدكتور صالح عبد احلسن.76 ،
117
متوازن ،فعل قطبي ،بفعل تارخيي ،بفعل بنيوي ،بفعل حر ،بفعل استقاليل ،التنمية بفعل مستديم ،فعل حضاري ،وأخري ًا التنمية بفعل إسالمي(.)1 أما الدكتور عبد اجلبار حممود العبيدي فقد ذهب إىل أن دراسة علم االقتصاد
ونظريته مل تكن وليدة الثورة الصناعية بل هي من القدم ( ،)2كام يرى أن هوس التنمية وحتقيقها يف البلدان املستقلة حديث ًا عم العامل وما هي إال صورة عاكسة
للمشاريع االقتصادية وأحدى املؤامرات االستعامرية ،وكذا هي إحدى التحوالت الالحقة لذات التنمية التي تسعى حماولة إجياد إسرتاتيجية أكثر مواءمة مع النمو الرأساميل واحلركة االقتصادية ،وكأنه يريد أن يشري إىل أن نضوج مفهوم مبني عىل أساس ذات الفكرة االقتصادية حرص ًا ،وما هذه االسرتاتيجيات التنمية ًّ الالحقة إال خرافة ملجاراة السوق ،هدفها األول واألخري اهليمنة االقتصادية التي تكون نافذهتا تلك االسرتاتيجيات اجلديدة مثل (إسرتاتيجية نرش التصنيع التي كانت إسرتاتيجية التصنيع للتصدير بمثابة التعبري النظامي عنها ،وأعقبتها بعد عقد
((( ظ :نارص يوسف ،دينامية التجربة اليابانية يف التنمية املركبة – دراسة مقارنة يف اجلزائر وماليزيا.61 – 53 ، ((( ُعد (بناء النظريات باستخدام أدوات التحليل املنطقي باجتاه االستقالل العلمي، إال أن ذلك ال يعني انفصال الفكر اجلديد عن املايض املاركنتييل ،بقدر ما كان امتداد ًا له ،فلقد بقي املوضوع األول يف دراسة االقتصاد بتحوله إىل علم عىل يد آدم سمث ،هو دراسة ثروة األمم والبحث يف أسباهبا ومصادرها وهو ذاته عنوان كتاب آدم سمث عام 1776م) .املصدر :عبد اجلبار حممود العبيدي ،خرافة التنمية والتنمية البرشية املستدامة – دراسات يف إشكالية الفكر االقتصادي.57 ،
118
واحد إسرتاتيجية احلاجات األساسية ،وتلتها بنفس الفاصلة الزمنية إسرتاتيجية
التنمية البرشية املستدامة)( ،)1حيث يؤكد (أن منشأ هذه الفكرة تم التدريج له يف املركز الرأساميل بدأ من برنامج ترومان عام 1949م ،وخطة كولومبوا عام 1950م
اخلاص بدول الكومنولث)(.)2
فبغض النظر عن وجهة نظر الدكتور العبيدي التي قد نجد فيها شيئ ًا من الصحة ألن حاكمية االقتصاد والسياسة مازالت تتحكم بمصري العامل ،إال أن هذا ال يجُ ايف حقيقة إحراز ما توصل إليه اإلنسان من مفاهييم قيمية إنسانية وإن مل يعمل هبا إال بنسبة ما ،فض ً ال عن أن مفهوم التنمية البرشية ذات طابع شمويل ضم جماالت احلياة كافة ،فهو غري قابل لالختزال أو االنحسار بحدود االقتصاد ونطاقه بل حيتم عليه حتديد رؤية كونية تفلسف احلياة عموم ًا. فعود ًا عىل بدء ولكي نتابع تتدرج تطور مفهوم التنمية البرشية اصطالح ًا، علينا أن نتابع والدة مفهوم التنمية وتطوره أو ما ُأحلق به من مصطلحات ذات مداليل تلتصق به أو جتاوره (حيث مل يستعمل هذا املفهوم منذ ظهوره بصورة أولية يف عرص االقتصادي الربيطاين ادم سميث يف الربع األخري من القرن الثامن عرش ،وحتى احلرب العاملية الثانية ،إال عىل سبيل االستثناء ،فاملصطلحان اللذان استخدما للداللة عىل حدوث التطور املشار إليه يف املجتمع مها :التقدم املادي،
((( عبد اجلبار حممود العبيدي ،خرافة التنمية والتنمية البرشية املستدامة .167 ((( املصدر نفسه.17 ،
119
التقدم االقتصادي)( ،)1يف الوقت نجد متيز املدة -عرص النهضة نفسها -بوعي وإدراك إىل أمهية العنرص البرشي إذ ظهر فيها جمموعة من املفكرين الذين اهتموا هبذا العنرص األساس ،إذ ُأطلق عىل هذه املدة الدكتور خالد اهليتي بمرحلة ما قبل حركة اإلدارة العلمية ،ووصفها بأهنا (متيزت تلك الفرتة التي متتد إىل القرن السابع عرش والثامن عرش بظهور الكثري من الكتابات التي نبهت إىل رضورة االهتامم بالعنرص البرشي بشكل عام والعنرص البرشي خالل فرتة العمل بشكل خاص)(.)2
وبرأي الباحث أن اإلدراك املتأخر للحضارة الغربية احلديثة بخصوص أمهية التنمية الشاملة والعنرص البرشي عد خل ً ال فكري ًا يكمن يف اعتامد تلك احلضارة عىل فلسفة الدليل التجريبي احليس يف األعم األغلب ،مما نجد اإلنسان يرتقب أزمة ليتمخض منها نتائج خمتربية تشكل له فائدة تُعدّ منعطف ًا يف تفكريه وادائه ، ثمنها ذات اإلنسان ،ومن تلك األزمات هي احلرب الكونية األوىل التي متخض منها منعطف جديد لتعزيز أمهية اإلنسان بوصفه مورد ًا مه ًام مع البحث عن ُسبل تطويره وإدارته وتدريبه ،ففي هذه الفرتة ( ُأعد أول برنامج تدريبي ملديري هذه األقسام عام 1915م ،وقامت 12كلية لتقييم وإدارة املوارد البرشية عام 1919م، ويف عام 1920م ُأنشئت كثري من إدارات املوارد البرشية يف الرشكات الكبرية
((( مجال حالوة وعيل صالح ،مدخل إىل علم التنمية. 20 ، ((( خالد عبد الرحيم مطر اهليتي ،إدارة املوارد البرشية – مدخل إسرتاتيجي.22 ،
120
واألجهزة احلكومية)(.)1 إن ما ورد يف أعاله ُيعدّ تأكيد ًا وإدراك ًا حقيقي ًا ألمهية اإلنسان بوصفه مورد ًا برشي ًا و ُعنرص ًا أساسي ًا يف عملية اإلنتاج ،مما استدعى االهتامم بشأن إدارة هذا املورد متزامن ًا بتطور مفهوم التنمية وما حييط به من مقدمات متنامي ًا مع حركة التأريخ ،إذ شهدت هناية العرشينات وبداية الثالثينات من القرن املايض تطورات يف جمال العالقات اإلنسانية ،أما بعد احلرب العاملية الثانية فقد أتسع نطاق العمل يف هذا الشأن إذ شمل تدريب العاملني وتنميتهم ووضع برنامج لتحفيزهم وترشيد العالقات اإلنسانية ،وال زالت هذه االجتاهات مستمرة عىل هذا املنحى لتستمر االجتاهات احلديثة بالرتكيز عىل العالقات اإلنسانية (.)2
فعىل ركام احلرب الكونية األوىل والثانية وعىل أطالل ختلف صناعها شاع الفقر والعوز والكساد واجلهل مما سبب نضوج ًا فكري ًا تنموي ًا مفاده رفض جتربة البلدان الرائدة للعامل إبان احلربني الكونيتني عىل مجيع األصعدة ،وما هذا إال دليل فيام وحد ّدت حركتها عىل نزعم يف كون احلضارة الغربية احلديثة قد تقلص وجودها ُ الساحة العاملية يف مجيع املجاالت إال أللهم بام يتعلق باملحور املادي الذي تبنته ومتيزت به ،فقد ترتب عىل أثر تقلصها اتساع رقعة العوز واجلريمة والفوارق الطبقية واالقتصادية وتقهقر الروابط االجتامعية وغياب الوازع اإلنساين ،كل ((( عبد العزيز عبد احلسن ،اإلدارة املتميزة للموارد البرشية ،متيز بال حدود.18 ، ((( ظ :عبد العزيز عبد احلسن ،اإلدارة املتميزة للموارد البرشية ،متيز بال حدود ، .19
121
ذلك ُيعدّ مؤرش ًا واضح ًا إلخفاق اإلسرتاتيجية االقتصادية وماكينتها التنموية، مما سبب رد فعل مجاهريي يتقدمهم جمموعة من املفكرين واألدباء والفالسفة، فولدت حركات ومؤسسات تُعنى باإلنسان وحقوقه ومكانته أسهمت يف نشوء هنج فلسفي جديد ركز عىل اإلنسان أوالً ،ثم حاولت هذه املؤسسات واجلمعيات أن تبحث عن أدوات وآليات لتطبيق هذا النهج كاالستفتاء وحق االقرتاع وحرية التعبري عن الرأي وحكم الشعب وغريها من العنوانات الاليت تصب يف ذات منحى مغاير ًا لنهج التنمية االقتصادية التي أكدت إنتاج املصب حتى بدأت تنحو ً اإلنتاج ،لتأخذ التنمية منهح ًا جديد ًا باجتاه حمورها اجلديد أال هو اإلنسان الذي ُيعدّ جوهر العملية التنموية. ال شك يف أن احلضارة الغربية احلديثة اعتمدت يف رسم سياستها للتنمية عىل اجلانب املادي لتحقيق النمو االقتصادي (وخصوص ًا "عنرص رأسامل" ،فحتى كارل ماركس الذي أحدث انقالب ًا يف منحى الفكر االقتصادي قد عزا عوامل التغري إىل اجلانب االقتصادي فقط - ......إال أننا– نجد أن شومبيرت ورغم تأثره بالنظرية املاركسية فإن نموذجه أحدث قفزة نوعية يف مفهوم التنمية)(،)1 حني وضح أثر (األوضاع االقتصادية واالجتامعية التي تسود املجتمع وتؤثر يف
نموه االقتصادي)( ،)2لذا ُيعدّ شومبيرت هو أول من وسع رقعة التنمية إىل التنمية االقتصادية واالجتامعية وأثر األخرية عىل ذات التنمية. ((( أسامة العاين ،املنظور اإلسالمي للتنمية البرشية.10 ، ((( حممد فاضل عزيز قفطان ،التنمية االقتصادية.258 ،
122
ويف املطلب نفسه نجد الدكتور أسامة العاين قد سلط الضوء عىل نظرية الدفعة القوية (لريوز شيتن) عام 1959م ،التي نصت أن التنمية هي جمموعة من أجراء تغريات شاملة يف املجتمع املتُخ ِّلف ،ونقله إىل مستوى أعىل ،عالوة عىل عدد من اإلجراءات أمهها أحداث «تغري قوي وجارف يف عقلية اإلنسان نفسه ،ويف تفكريه وثقافته ووضعه احلضاري» ،وبذلك تم تأكيد العنرص البرشي رصاحة(.)1 بينام نجد آخرين قد حددوا أن بداية تطوير مفهوم التنمية البرشية بدأ (منذ آواخر أربعينيات القرن املنرصم وعىل وجه التحديد منذ العام 1949م ،حيث ظهرت التلميحات الرسمية األولية لرضورة حتقيق التنمية يف البلدان الفقرية ،كام جاء يف برنامج ترومان الرئيس األمريكي الثالث والثالثني 1945م – 1953م ،ذي النقاط األربعة ،الذي نص حرفي ًا :االستفادة من تقدمنا اخلاص والتقدم الصناعي
املتاح لتحسني وإنامء املناطق املتخلفة)( )2ومنذ ذلك الوقت يف بنظر بعضهم بدأت تظهر الدراسات والبحوث اخلاصة بالتنمية وتطويرها ،كون تتبع نضوج مصطلح التنمية البرشية يقتيض البحث يف تطور هذا املفهوم وتتبع استخدامه وترتجى نضوجه ،إذ مل يكن شائع ًا ال عىل مستوى التعبري وال عىل مستوى داللته ،بينام نجد قد شاع مفهوم تنمية املوارد البرشية الذي ورد يف التقارير الدولية التي أعقبت احلرب العاملية الثانية وبعد أن شرَ َ َع ْت الشعوب املستضعفة بلملمة جراحها ،مما أوجب تنمية هذه البلدان بوصفها رضور ًة ملح ًة; بل قضية هتم العامل اإلنساين ((( ظ :أسامة العاين ،املنظور اإلسالمي للتنمية البرشية.10 ، ((( عبد اجلبار حممود العبيدي ،خرافة التنمية والتنمية البرشية املستدامة.13 ،
123
أمجع يف أبعاده اإلنسانية واألخالقية التي ُأضفيت عليها لذا( كان املنرب املالئم لطرحها ونرشها هو أعىل وكالة دولية ،إذ ظهرت بشكل رسمي أول مرة عام 1960م ،مع صدور القرار املرقم 1515عن اجلمعية العامة لألمم املتحدة يف
1960م حول العمل املشرتك يف سبيل اإلنامء االقتصادي)(.)1 ونجد تأكيد مفهوم تنمية املوارد البرشية الذي (ورد يف قرار اجلمعية العامة لألمم املتحدة الصادر يف 1962م حول دور األمم املتحدة يف تدريب الكوادر
الوطنية)( ،)2وهكذا نجد أن املفهوم بقيت له الريادة يف أدبيات التنمية والتطوير( حتى منتصف الثامنينات حيث تم اعتبار تدريب الكوادر الوطنية املؤهلة يشكل جزء ًا
مه ًام ال ينفصل عن تنمية املوارد البرشية)(.)3 مما تقدم نستدل عىل أن مفهوم التنمية كانت بداية استعامله مقرون ًة بعلم االقتصاد للداللة عىل جمموعة من اخلطوات املدروسة واملتأنية ألحداث تغري يف جمتمع معني يكسبه تطور ًا يف معيشة كل فرد ،أي يمنح املجتمع الذي هو جمموعة أفراد قدرة سد حاجاته األساسية عن طريق استغالل املوارد االقتصادية ،إال أن مفهوم التنمية بدأ يتطور لينتقل إىل حقل السياسة منذ ستينات القرن العرشين، ((( جمموعة من الباحثني ،دراسات يف التنمية البرشية املستدامة يف الوطن العريب، التنمية والتنمية البرشية املستدامة ،النشؤ واالرتقاء املفاهيمي اإلشكايل،الدكتور عبد اجلبار حممود.93 ، ((( أسامة العاين ،املنظور اإلسالمي للتنمية البرشية .12 ، ((( جورج القصيفي ،التنمية البرشية مراجعة نقدية للمفهوم واملضمون.86 ،
124
حيث أهتم بتطوير البلدان غري األوربية لتكون التنمية تنمية سياسية ،والحقا تطور مفهوم التنمية لريتبط بالعديد من احلقول املعرفية فأصبح هناك تنمية ثقافية
وتنمية اجتامعية (.)1 وبعد احلرب العاملية الثانية سعت التنمية إىل حتسني مستوى املعيشة لإلنسان، إال إن هذا اهلدف االسرتاتيجي انتقل إىل حتوالت عدة رئيسة خالل زمن ما بعد احلرب منها :مرحلة النمو االقتصادي املرحلة املهمة األوىل خالل اخلمسينات
أوائل الستينات التي سادت بني التنمية االقتصادية والنمو االقتصادي( ،)2حيث
تم تعريفها بالزيادة املستدامة حلصة الفرد من إمجال الدخل الوطني (.)3 مرحلة عدالة التوزيع :ونستطيع أن نسميها بمرحلة النمو مع عدالة التوزيع
(ففي أواخر الستينات وأوائل السبعينات حيث ركز عىل النمو مع إعادة التوزيع) وهبذا املنظور يعني أن النمو االقتصادي ما زال له الصدارة واألولوية مع مراعاة ()4
((( ظ :مجال حالوة وعيل صالح ،مدخل إىل عامل التنمية.21 ، ((( النمو االقتصادي :هو زيادة حصة الفرد من إمجايل الناتج املحيل احلقيقي مع مرور الوقت ،أما التنمية االقتصادية ،فهي مفهوم أوسع من مفهوم النمو االقتصادي، فهي تضم مفاهيم مثل حتسني حياة اإلنسان ،املهارات ،اإلمكانات واخليارات ،احلقوق املدنية (.ظ :،االقتصاد البيئي والتنمية املستدامة ،مواد تدريبية).56 ، ((( ظ :دوناتو رومانو ،بالتعاون مع مرشوع GCV/SYR/OO/ITA،االقتصاد البيئي والتنمية املستدامة ،مواد تدريبية.53 ، ((( املصدر نفسه.51،
125
حتسني مستوى الفقراء أصحاب الدخل املحدود. مرحلة احلاجات األساسية :يف هذه املرحلة حاولت التنمية أن تستوعب حاجات اإلنسان الرضورية املادية واملعنوية التي هتدف إىل ختفيف الفقر ،وان هذا املنهج االسرتاتيجي (ظهر من خالل الدعوة إىل إسرتاتيجية االحتياجات األساسية
التي ظهرت يف عام 1976م يف مؤمتر العاملة العاملية ملنظمة العمل الدولية)(.)1 مرحلة التنمية املستدامة :وهي املدة التي منها بدأ ينعطف مفهوم التنمية للجانب اإلنساين واألخالقي ،وكذا سعى ليشرتك (مع إسرتاتيجية االحتياجات األساسية يف الرتكيز عىل حتسني ظروف معيشة الفقراء والتي ال تتحقق إال إذا كانت االسرتاتيجيات التي تم صياغتها وتنفيذها مستدامة من الناحية البيئية
واالجتامعية)(.)2 مما تقدم نستشف أن االستدامة ال تتحقق إال من خالل التوازن والتواصل بني قوى العامل الثالث (الفالسفة ،علامء البيئة ،االقتصاد ،أي :إن االستدامة ستكون انسجام ًا بني النظريات الثالث :النظرية االقتصادية ،النظرية البيئية ،نظرية العدالة واملواقف األخالقية ،ونقتبس حقيقة ذلك من نص املفوضية العليا للبيئة والتنمية عام 1987م " تشمل التنمية املستدامة ما يزيد عىل النمو ،فهي تتطلب تغري ًا يف حمتوى النمو بحيث يصبح أقل مادية واستخدام ًا للطاقة وأكثر عدالة يف تأثرياته
((( دوناتو رومانو ،بالتعاون مع مرشوع ، GCV/SYR/OO/ITAاالقتصاد البيئي والتنمية املستدامة ،مواد تدريبية.51 ، ((( املصدر نفسه.52 ،
126
وجيب حتقيق هذه التغريات يف مجيع الدول جزء من جمموعة اإلجراءات للمحافظة عىل رأس املال البيئي ولتحسني توزيع الدخل وختفيف درجة احلساسية لألزمات
االقتصادية)(.)1 وألن نضج مفهوم التنمية استمر بتطور مفرداته املتجددة يف اذهان رواده كانت والدة التنمية املستدامة ،إذ أكتسب هذا املصطلح اهتامم ًا عاملي ًا كبري ًا خاص ًة بعد ظهور تقرير جلنة (مستقبلنا املشرتك الذي أعدته اللجنة العاملية للبيئة والتنمية يف عام 1987م ،حيث صيغ أول تعريف للتنمية املستدامة يف هذا التقرير علــى أهنا "التنمية التي تلبي االحتياجات احلالية الراهنة دون املساومة علـــى قدرة األجيال املقبلة يف تلبية حاجاهتم")(.)2
أما مفهوم سبل العيش التي تزامنت والدته مع بقية املفاهيم يف العقد الثامن من القرن العرشين وسط صخب وزمحة التنمية ،حيث كثر احلديث عن هنجه ( يف إطار برامج جمموعة من املنظامت اإلنامئية مثل وكالة التنمية الدولية يف اململكة املتحدة وسواها من اجلهات املانحة والوكاالت غري احلكومية)(.)3 إن مفهوم التنمية البرشية قد تطور نتيجة اتساع احلضارة اإلنسانية بصورة
((( دوناتو رومانو ،بالتعاون مع مرشوع ،GCV/SYR/OO/ITAاالقتصاد البيئي والتنمية املستدامة ،مواد تدريبية.53، ((( ريده ديب ،التخطيط من أجل التنمية املستدامة.488 ، ((( مسار التنمية البرشية، 36، www.reefnet.gov.sy/boosproject/fikr/8/nathrat.pdfموقع ألكرتوين.
127
عامة ،وقد نجد أن املفهوم قد ترعرع وسط زمحة األحداث السياسية واالقتصادية ٍ معان جديدة ،ليصبح بعض من متبنياته ،إشباع والفكرية فصار منعطف ًا إىل احلاجات األساسية املادية واملعنوية ،حتسني سبل عيش الفقراء ،النظر بعني اإلنسانية واإلنصاف يف حق األجيال القادمة ،ثم تطور بأثر عوامل مجة ليصبح هدفه اإلنسان وسبل االرتقاء به ،وليستقر عند مصطلح التنمية البرشية ببعده االصطالحي اآلين ،لذا عد الباحث وجود عوامل ساعدت عىل نضج مفهوم التنمية البرشية ،منها ما يأيت: •األيامن بأن العنرص البرش هو الركيزة واملحور األساس يف منظومة التنمية البرشية. •اتساع أفق العقل البرشي نتيجة انطالق املعارف والعلوم العلمية واإلنسانية. •هيمنة العوملة عىل العرص احلديث ودخول اإلنسان جمرب ًا وتأثره هبا. •السري قدم ًا يف البحث والدراسة ملعرفة ماهية وحقيقة اإلنسان. •فشل إيديولوجيات األنظمة السياسية احلاكمة يف إشاعة روح بناء اإلنسان واملجتمع. •حتول الرصاع بني القوى العاملية من رصاع اقتصادي وعسكري إىل سيايس وفكري. •أفول نجم احلضارة الغربية احلديثة بنظر أغلب شعوب األرض األخرى. •تالقح حضارات األمم وكرس طوق العزلة للتقدم املذهل يف برامج التكنولوجيا والتقنية احلديثة. 128
•إيامن اإلنسان عىل أرض املعمورة أمجعها بأن التقدم قيمة حضارية حديثة ال بد منها. •ردم اهلوة بني املبادئ والنظريات من جهة والواقع من جهة أخرى ،ذلك بأتباع املنهج العميل. •االنفالت عن طوق بعض العادات واألعراف املتخلفة التي كانت تشكل عائق ًا يف مسرية تقدم الشعوب. •إشاعة روح علمية املؤمترات والندوات بني املفكرين وفالسفة العرص لشعوب األرض كافة.
•مساندة الشعوب واملؤسسات غري احلكومية (منظامت املجتمع املدين) للوقوف بوجه األنظمة احلاكمة املستبدة.
•إرشاك املرأة يف عملية التفكر بعد أن كان مغيب ًا عند أغلب األمم والشعوب. •اخلشية من نفاذ املصادر االقتصادية الطبيعية والتي ال يمكن جتديدها. •شعور اإلنسان بتلوث بيئته ،مما دعاه للوقوف أمام الكوارث الطبيعية التي تداهم كرته األرضية.
129
ولزيادة الفائدة ارتأى الباحث أن يستعرض أحد مصاديق تدرج احلركة احلضارية املعارصة من وجهة نظر (ألفن تافلر)( )1وكتبه الثالثة " صدمة احلضارة ،وسطوة املعرفة ،واملوجة الثالثة" والتي حتدّ ث فيها عن ثالث موجات رئيسة سادت حركة تغري العامل ،أوهلا اآللة العسكرية :وتعني أن يملك زمام التغري آنذاك هو من كان يمتلك املعدات العسكرية األشد فتك ًا. واملوجة الثانية :هي االزدهار االقتصادي وتعني أن الذي ُيدير دفة التغري وقتها كان من يملك املال ال السالح ،ومن هييمن عىل مقدرات السوق وليس ساحات املعارك. أما املوجة الثالثة :هي التفوق التكنولوجي ،وتعني أن من سيكون بمقدوره اليوم السيطرة عىل زمام األمور ،وإدارة دفة التغيري عاملي ًا ،هو ليس من يملك السالح أو االقتصاد فقط؛ بل هو من جييد فن التعامل مع تكنولوجيا املعلومات، ووسائل وأساليب التفوق التقني املعارصة. بينام كانت املوجة الرابعة هي موجة القيم :بمعنى أن من ستتاح له فرصة توجيه قيم
الشعوب وحتديد اجتاهات الدول سيكون بمقدوره ليس أحداث التغري فحسب ،بل السيطرة ((( مفكر أمريكي وعامل يف جمال دراسات املستقبل ،مواليد 1928م ،تُرمجت كتبه إىل عدة لغات عاملية ،أشهرها كتاب املوجة الثالثة ،الذي يبني فيه ثالثة أنواع من املجتمعات ،،كل موجة تزيح املجتمعات والثقافات األسبق جانب ًا .قام بتدريس رؤساء دول مثل ميخائيل غرباتشوف رئيس االحتاد السوفيتي األخري ،والرئيس اهلندي أبو بكر زين العابدين ،ورئيس وزراء ماليزيا السابق مهاتري حممد ،كام ُعرف بأعامله بمناقشة الثورة الرقمية وثورة االتصاالت وثورة الرشكات والتميز التكنولوجي .ظ: وكيبيديا املوسوعة احلرة ،موقع الكرتوين. ar.wikipedia.org/wiki/
130
عىل تلك البيانات دونام حاجة إىل قوة مادية عسكرية ،أو سيطرة مالية اقتصادية ،أو تفوق
تكنولوجي تقني(.)1
فإن مفهوم التنمية البرشية الذي سبب (قفزة نوعية مع صدور تقرير التنمية
البرشية لعام 1990م)( ،)2قد أخذ حيزه االصطالحي ابتدا ًء من التأريخ أعاله
ليتطور أكثر فأكثر بساحة الباحثني والناشطني واملهتمني يف هذا امليدان املهم واحليوي ،مما عكست نتائج بحوثهم عىل تقارير األمم املتحدة اإلنامئية لألعوام الالحقة والتي حاولت جادة أن تبلور التنمية البرشية بأبعادها املختلفة لرتتقي تباع ًا بمعايري إنسانية وأخالقية ،وهي كاآليت: (1990م مفهوم وقياس التنمية البرشية. 1991م متويل التنمية البرشية. 1992م األبعاد العاملية للتنمية البرشية. 1993م املشاركة الشعبية. 1994م األبعاد اجلديدة لألمن البرشي. 1995م نوع اجلنس والتنمية البرشية. 1996م النمو االقتصادي والتنمية البرشية. 1997م التنمية البرشية للقضاء عىل الفقر.
((( ظ :خالد املدين ،وجمموعة باحثني ،الرخصة الدولية يف التدريب مركز التطوير املتكامل.2 ، ((( أسامة العاين ،املنظور اإلسالمي للتنمية البرشية.13 ،
131
1998م االستهالك من أجل التنمية البرشية. 1999م العوملة ذات الوجه اإلنساين. 2000م حقوق اإلنسان والتنمية البرشية. 2001م توظيف التقنية احلديثة خلدمة التنمية البرشية. 2002م التنمية اإلنسانية /خلق الفرص لألجيال القادمة. 2003م نحو إقامة جمتمع املعرفة. 2004م احلرية الثقافية يف عاملنا املتنوع. 2005م التعاون الدويل عىل مفرتق الطرق املعونة والتجارة واألمن يف عامل غري متساو. 2006م ما هو أبعد من الندرة القوة والفقر وأزمة املياه العاملية. 2007 م – 2008م حماربة تغري املناخ – التضامن اإلنساين يف عامل منقسم. 2009م التغلب عىل احلواجز :قابلية التنقل البرشي والتنمية. 2010م الثروة احلقيقية لألمم :مسارات إىل التنمية البرشية. ()1 2011م االستدامة واإلنصاف :مستقبل أفضل للجميع). وبذلك فإن تقرير عام 1990م قد صور حمددات التنمية البرشية ،وإن كل ما ورد تباع ًا من تقارير ما هي إال بلورة لذات املفهوم ،وأن تقارير األمم املتحدة هلذه األعوام تُعدّ تقارير مستقلة الستنادها إىل حتليل التجارب التي هتتم باملتبنيات والقضايا واالجتهات والتطورات والسياسات اإلنامئية.
((( األمم املتحدة ،موقع الكرتوين.www.un.org/ar/esa/hdr/ ،
132
( :)3الرؤية العصرية للتنمية البشرية (التنمية البشرية المستدامة).
إن احلديث عن التنمية البرشية املستدامة يكاد خيتلف اختالف ًا كبري ًا عن احلديث كرت سلف ًا ،كون املفردات التي تبنيناها جعلت نفسها مقدمة عن املفاهيم التي ُذ ْ الوصول إىل مفهوم التنمية البرشية أو ركن من أركانه ،بينام نالحظ أن احلديث عن مفهوم التنمية البرشية املستدامة بخالف ذلك متام ًا ،فهو عبارة عن أنموذج ذي رؤية متطورة من زاوية جديدة. ولعل ما أورده الدكتور عدنان ياسني مصطفى من بحثه ُيعدّ مدخ ً ال موفق ًا ملعرفة هوية وماهية التنمية البرشية املستدامة ،وهو ما نسعى إليه ،فقد تضمن بحثه عدة إثارات مجيلة وأستفهامات علمية ،اضطر العقل أن يكون تواق ًا ملعرفة إجاباهتا، فقد ذهب إىل أن صفة االستدامة للتنمية والتنمية البرشية ال تشكل هوية مميزة كام نحن بصدده عىل حد تعبريه( :إذ مل يقل احد من قبل إن التنمية االقتصادية، أو االجتامعية ،أو االقتصادية – االجتامعية ،هي مؤقتة أو ليست مستدامة ،كام مل يقل أحد إن تلك األنامط التنموية كانت تساوم عىل قدرة األجيال القادمة ،إذن ما هو املستدام؟ هل هو جمرد التواصل واملواصلة زمني ًا؟ أم أن يف املفهوم أبعاد أخرى أكثر خطورة؟)(.)1
((( جمموعة من الباحثني ،دراسات يف التنمية البرشية املستدامة يف الوطن العريب، التنمية املستدامة بني أيديولوجيا الشامل ومآزق اجلنوب – رؤية سوسيولوجية ،الدكتور عدنان ياسني مصطفى.232 ،
133
إن مجلة االستفهامات التي آثارها الدكتور عدنان ياسني مصطفى تُعدّ جوهر موضوعنا ،يف الوقت الذي عد رواد هذا اللون من التنمية أن التنمية البرشية هلا حاجة إىل بلورة بعض املعاين ونضج ملفاهيم تتضمن العنوانات اإلنسانية والثقافية والبيئية واالقتصادية. من أجل ذلك ُعرب عن هذا املفهوم بالتعبري اآليت( :توسيع اختيارات الناس وقدراهتم من خالل تكوين رأس مال اجتامعي يقوم بتلبية احتياجات األجيال
احلالية بأعدل صورة ممكنة دون اإلرضار بحاجات األجيال القادمة)( ،)1عل ًام إن التنمية البرشية املستدامة (برزت بوصفها تركيبة مشك ّلة من إسرتاتيجية التنمية البرشية األصلية كام عربت عنها تقارير التنمية البرشية التي يصدرها الربنامج اإلنامئي لألمم املتحدة ،ومفهوم التنمية املستدامة كام طوره املعنيون بالبيئة ،وتم تبنيه من قبل مؤمتر األمم املتحدة حول البيئة والتنمية الذي ُعقد يف ريودي جانريو
عام 1992م)(.)2 وهلذا نجد أن بعض ًا من الباحثني قد ذهب إىل ختصيص مفهوم االستدامة واستعامله ليكون تعبري ًا (يف أغلب األحيان يف معرض اإلشارة إىل البيئة ،لكنه ال ينحرص فيها ،فمفهوم االستدامة عىل مجيع املجاالت االجتامعية والسياسية واملالية
((( جمموعة من الباحثني ،اثر التعليم يف التنمية البرشية املستدامة يف الوطن العريب، الدكتور سوسن شاكر اجللبي.393 ، ((( املصدر نفسه ،اإلطار املفاهيمي املستخدم يف عمليات قياس التنمية البرشية املستدامة وحتديد مستوياته ،الدكتور صالح عبد احلسن.81 – 80 ،
134
واملجاالت األخرى ذات الصلة. وتعني االستدامة البيئية الناتج اإلنامئي من دون تعرض قاعدة املوارد الطبيعية والتنوع البايلوجي للخطر ،ومن دون إحلاق الرضر بقاعدة املوارد املتاحة لألجيال املقبلة .....ويصح املعنى نفسه عىل االستدامة املالية التي يقصد هبا طرق متويل التنمية وتأثريها يف املستقبل ،فالتنمية ال تعني إثقال البلدان بالديون وحتريرها من
املوارد التي ُيفرتض أن تبقى للمستقبل)( ،)1وهكذا هي حاهلا مع بقية أنامط التنمية األخرى. بينام يرى آخرون مفهوم التنمية البرشية املستدامة من زاوية أخرى تُقارب اجلنبة االجتامعية ،إذ حددوا هذا املفهوم عىل أنه هو رأس املال االجتامعي( :والذي هو من األشكال الطوعية من التنظيم االجتامعي الذي يعتمد بصورة أساسية عىل املبدأ القائل بأن عىل املرء أن يتجاوز املصلحة الشخصية ويترصف بموجب مصلحة
املجتمع أو اجلامعة التي ينتمي إليها)(.)2 ومنهم من يرى أن هذا املفهوم -التنمية البرشية املستدامة -بالرغم من تطرقه ملعان جديدة ذات أبعاد معينة ،وعىل الرغم من تداوله يف الساحة التنموية بوضوح وبقوة ،فإنه ليس بالرضورة أن ُيعدّ (املفهوم الوحيد أو األفضل ،وال ينفى عنه
((( مسار التنمية البرشية6، www.reefnet.gov.sy/boosproject/fikr/8/nathrat.pdfموقع ألكرتوين. ((( طارق بانوري وآخرون ،التنمية البرشية املستدامة من املفهوم النظري إىل التطبيق ،برنامج األمم املتحدة اإلنامئي.9 ،
135
األمهية الكبرية التي اكتسبها والتي يمكن مالحظتها من خالل االهتامم الكبري ملنظمة األمم املتحدة هبذا املفهوم وتقديم الدعم الفني واملادي لتطويره وتطبيقه،
فض ً ال عن قيام العدد الكبري من الدول بإصدار تقارير ودراسات حوله)( )1ومن ثم فإن هذا املصطلح قد فرض نفسه كاألكثر حيوية يف أروقة املناقشات التي تدور يف ميدان التنمية والتنمية البرشية. فقد عرفت منظمة الفاو التنمية البرشية املستدامة بإهنا( :هي إدارة ومحاية قاعدة املوارد الطبيعية وتوجيه التغري التقني واملؤسيس بطريقة تضمن حتقيق واستمرار
احلاجات البرشية لألجيال احلالية واملستقبلية)( )2يف حني عرفت بتعبري أخر عىل
أهنا( :التنمية التي تغطي احتياجات احلارض دون اإلرضار بقدرة األجيال املستقبلية
عىل تغطية احتياجاهتا)(.)3 ولو أمعنا النظر يف حمددات مفهوم التنمية البرشية ومفهوم االستدامة عىل وفق ما ورد بضوء التعريفات املذكورة آنف ًا ،لوجدنا أن الغلط كان يكمن يف أصل فهم التنمية البرشية من أول يوم من عام 1990م حني ُعرفت عىل أهنا(:عملية هتدف
((( جمموعة من الباحثني ،دراسات يف التنمية البرشية املستدامة يف الوطن العريب، اجلهود العربية يف تبني مفاهيم وإعداد تقارير التنمية البرشية املستدامة ( جتربة سلطنة عامن) ،الدكتور نبيل النواب.348 ، ((( دوناتو رومانو ،بالتعاون مع مرشوع ، GCV/SYR/OO/ITAمواد تدريبية االقتصاد البيئي والتنمية املستدامة.55 ، ((( املصدر نفسه.55 ،
136
إىل زيادة القدرات املتاحة أمام الناس)( ،)1يف الوقت الذي أدركنا أن والدهتا جاءت نتيجة العدول من احلاضنة االقتصادية واملادية البحتة إىل احلاضنة التي تُعدّ فيها اجلنبة االقتصادية إحدى جوانب احلياة األخرى ،كام كانت الوالدة مبنية عىل أساس حمورية اإلنسان وأمهية املعايري القيمية واألخالقية التي ُالتفت إليها أخري ًا، إال أن الغلط كان يكمن يف مضمون التعريف حني ُحدد اهلدف من التنمية البرشية يف كونه زيادة خيارات الناس من دون النظر إىل اآلليات واألدوات التي حتقق هذا اهلدف ،والتي جيب أن تكون بعيدة الوقوع يف اخلطأ ،فض ً ال عن اخلشية من توسيع مساحة خيارات اإلنسان التي قد تصل لتصادر حق إنسان آخر يف زمن أو مكان آخر ،مع رضورة النظر بمرشوعية ما ُيتاح إىل اإلنسان عمن ال ُيتاح له ،وما هي الضوابط التي تُسوغ إليه تلك السعة ،وما هي حقوقه وواجباته أمام تلك العملية، كل ما أوردناه البد من أن يكون عىل وفق رؤية فكرية معتدلة. إن جمموعة االستفهامات التي أثريت تُعدّ املدخل الطبيعي لتكامل أي هيكل تنظيمي ألي علم أو نظرية ،وما هذه االثارات إال أمر طبيعي قبال تعريف غري متكامل ويفتقر للكثري ،وهذا ال يعني أن الباحث يدعي أن والدة مفهوم التنمية البرشية كان ناقص ًا من حيث كلياته التي مل يخُ تلف عليها تقريب ًا ،والدليل عىل ذلك، أنه مل يكن هناك أي اختالف بشأن املوضوع أو األهداف أو األساليب والعنارص وبقية مفردات العلم إال بقضايا تكاد تكون فنية أو نسبية ،خصوص ًا وأن كل تلك املفردات قد ُأشبعت بحث ًا ودراس ًة وحتليالً.
((( اسامة العاين :املنظور اإلسالمي للتنمية البرشية.13 ،
137
نعم إن ضعف التعريف من جهة وعدم تكامل الرؤية الوضعية للتنمية البرشية أعطى مسوغ ًا للتعليق عىل بعض املطالب أو تغري ًا وعدوالً يف مطالب ُأخر أو توضيح ًا ورشح ًا يف بعضها اآلخر ،وما االستدامة إال إحدى تلك الرشوح بحسب وجهة نظر الباحث ،كام نستطيع أن نعد افتقار التنسيق بني كثرة املفاهيم هي إحدى األسباب التي آلت إىل إضافة االستدامة للتنمية البرشية يف بعض التقارير أو الدراسات األخرية ،فالتنمية البرشية مل تُنكر رضورة النظرية البيئية ،كام مل تُنكر رضورة النظرية االقتصادية أيض ًا ،وال بقية املجاالت األخرى ،بل حاولت أن تفلسف احلياة وتضع هلا معايري ًا وضوابط ًا ،حمورها الرئيس هو اإلنسان ،فمن غري املنصف أن تكون والدة مفهوم التنمية البرشية عىل حساب اإلنسان الذي هو ذات موضوع املفهوم. ولكي نكون موضوعيني فمفهوم التنمية البرشية املستدامة يكاد ال خيتل عن ٍ حماور بحسب وجهة نظر املهتمني باالستدامة نظريه -التنمية البرشية -إال بثالثة وهي :حمور البيئة واالهتامم هبا ،وحمور رضورة النظر للمستقبل وحقوق األجيال القادمة ،واملحور األخري هو العمل عىل استمرارية حركة التطور وديمومتها ،وإن إضافة هذه املنطلقات اجلوهرية واملهمة أعطت للباحثني مسوغات تسمية جديدة هي رأس املال االجتامعي ،تكون متبنياته وعي وإدراك املحاور املذكورة آنف ًا ،كام عد ما تقدم هو الفارق بني التنمية البرشية املستدامة والتنمية البرشية. واحلق إن التنمية البرشية ال تخُ رج هذه املحاور عن دائرهتا ،فهي تسع خيارات اإلنسان عموم ًا بغض النظر عن كونه يف هذه احلقبة الزمنية أو التي بعدها ،أو يف هذه البقعة املكانية أم تلك ،فض ً ال عن حتمية اهتاممها بالبيئة بوصفها ساحة 138
اإلنسان ومنطلقه إىل حتقيق طموحاته ورؤاه ،وأهنا مستمرة يف اإلنامء والتطور طبيعي ًا القرتاهنا بمفردات متطورة بذاهتا ،بحيث ُيعدّ التطور من ماهية متمنياهتا، العتقادها أن اإلنسان مل يخُ لق لتنتهي خياراته وطموحاته حلد معني ،وهبذا سنجد أن ماكينة التطور واإلنامء مستمرة حت ًام من دون حاجتنا لتسمية التنمية البرشية بالتنمية البرشية املستدامة ،كون غاية األوىل هي غاية الثانية نفسها. فعىل الرغم من حتفظنا عىل مصطلح االستدامة الذي أضيف إىل التنمية البرشية، فإنه يمكن القول بإنه جاء نتيجة حماوالت لصياغة مصطلح ملفاهيم بطرق حتاول التقريب بني عدة مفاهيم يف مفهوم واحد ،مما شكل تداخ ً ال بين ًا واختالط ًا واضح ًا يف ماهية كل مفردة ،يف الوقت الذي مل ُيزاود عىل متبنيات االستدامة حيث ( ُاعتربت قضية أخالقية وإنسانية بقدر ما هي قضية تنموية وبيئية ،وهي قضية مصريية ومستقبلية بقدر ما هي قضية تتطلب االهتامم باحلارض أفراد ًا ومؤسسات وحكومات)( ،)1ومن هنا كان يؤ ّمل أن تتجىل الصورة الوضعية للتنمية البرشية من حيث الشمول والكامل والديمومة وبقية السامت األخرى ،كام هي حاهلا يف املنظور القرآين ،والتي سنتحدث عنها يف املبحث األول من الفصل الثاين إن شاء اهلل تعاىل.
((( جمموعة من الباحثني ،دراسات يف التنمية البرشية املستدامة يف الوطن العريب، التنمية املستدامة بني أيديولوجيا الشامل ومآزق اجلنوب – رؤية سوسيولوجية ،الدكتور عدنان ياسني مصطفى.234 ،
139
وما الدراسة املشرتكة بني منظمة األغذية والزراعة لألمم املتحدة ووزارة الزراعة واإلصالح الزراعي السورية لعام 2003م إال دليل عىل حجم التخبط الوضعي للمفاهيم ومنها االستدامة وما تعرتهيا من مشكلة ،ألن مشكلتها تكمن يف التواصل والتنسيق بني تلك املفاهيم املتباينة التي تُطرح من الفالسفة وعلامء البيئة وعلامء االقتصاد ،حيث نتلمس الضعف يف مطالبهم بعدم استيعاب وفهم كل ميدان لآلخر ،وهذا ما نراه واضح ًا حني نسلط الضوء عىل كل علم أو توجه فـ(النظرية االقتصادية تساهم من خالل الرتكيز عىل الكفاءة االقتصادية وحقوق املوارد ،والنظرية البيئية تساهم من خالل الرتكيز عىل تشغيل النظم البيئية واملحافظة عىل اهليكل البيئي ،ونظرية العدالة واملواقف األخالقية التي حتيط هبا
تساهم من خالل الرتكيز عىل العواقب التوزيعية لبدائل السياسات) وبمقتىض ذلك نجد أنفسنا أمام حوار جديد يبحث عن حمورية التنمية البرشية املستدامة وتباين الباحثني واملهتمني يف هذا الشأن لتحديد العنرص األساس هلا بغية تكريس اجلهود النظرية والعملية لالرتقاء باإلنسان ،حيث وجدنا كثرة اخللط داخل الدائرة الواحدة ،ووجدنا تباين االهتامم والرتكيز عىل عنرصها األساس بني العنارص املتعددة ،البيئة ،املوارد الطبيعية ،مصري األجيال احلالية والقادمة ،تعظيم الفائدة ،التفكري باملستقبل ،اإلنسان ،وغري ذلك مما سببت تزامح ًا فكري ًا وتداخ ً ال يف الرؤى عند البعض من الفالسفة واملفكرين. ()1
((( دوناتو رومانو ،بالتعاون مع مرشوع ، GCV/SYR/OO/ITAمواد تدريبية االقتصاد البيئي والتنمية املستدامة .53
140
لذا نستطيع أن نستخلص ما اتفق عليه من معايري لالستدامة وهي (ما يأيت: هي التنمية املتجددة القابلة لالستمرار ،هي التنمية املتجددة التي ال تتعارض مع البيئة ،هي التنمية املتجددة التي تضع هناية لعملية استنزاف ال هنائية للموارد الطبيعية)(.)1 وعىل وفق املعايري أعاله ستكون التنمية البرشية املستدامة هو عبارة عن :عملية ترمي لتطوير القوى الكامنة لدى اإلنسان و عىل فق رؤية كونية منتخبة خدمة لتحقيق طموحاته وتلبية حاجاته املرشوعة هو واألجيال القادمة ،لتكون هذه العملية بمثابة رأس مال اجتامعي.
((( جمموعة من الباحثني ،دراسات يف التنمية البرشية املستدامة يف الوطن العريب، التنمية املستدامة بني أيديولوجيا الشامل ومآزق اجلنوب – رؤية سيولوجية ،الدكتور عدنان ياسني مصطفى.243 ،
141
إال أن احلق نستخلصه يف تأملنا للمعايري ،حيث نستنتج أن مصطلح التنمية البرشية املستدامة ُيعدّ مفهوم ًا جديد ًا نابع ًا من تزاوج التنمية املستدامة والتنمية البرشية ،ليشكل ُبعد ًا جديد ًا هو رأس املال االجتامعي ،تكون من أولوياته الوعي االجتامعي الباعث لاللتزام يف حق األجيال احلالية و ُمراعاة حق االجيال املقبلة، وفيها عدالة التوزيع ،اإلنصاف ،بناء البيئة ،تأهيل اإلنسان ،وتوسيع خياراته مع
مراعاة الفقراء وغريها من الصور التنموية املتكاملة(.)1 فالباحث يرى أن التنمية البرشية مستدامة بطبيعة ماهيتها ،أي هي ليست عملية توسيع خيارات الناس وتطوير قابلياهتم وقدراهتم فحسب ،بل أهنا تتعدى ذلك لرتتقي ُسلم إنسانية اإلنسان ،لتحقيق وتواصل وجتدد معاين التطور واإلنامء
((( ومن اجلدير بالذكر أننا وجدنا أن معايري التنمية املستدامة تقارب معايري التنمية البرشية املستدامة ،حيث يرى بابري أهنا (حتقق التوازن بني النظام البيئي واالقتصادي واالجتامعي وتسهم يف حتقيق أقىص قدر من النمو واالرتقاء يف كل نظام من األنظمة الثالثة ،حيث حدد بابري أربع سامت للتنمية املستدامة :أهنا ختتلف عن التنمية بشكل عام يف كوهنا اشد تداخ ً ال وأكثر تعقيد ًا وخاصة فيام يتعلق بام هو طبيعي وما هو اجتامعي يف التنمية ،التنمية املستدامة تتوجه أساس ًا إىل تلبية متطلبات واحتياجات أكثر الرشائح فقر ًا يف املجتمع وتسعى إىل احلد من تفاقم الفقر يف العامل ،التنمية املستدامة ُبعد نوعي يتعلق بتطوير اجلوانب الروحية والثقافية واإلبقاء عىل اخلصوصية احلضارية للمجتمعات ،ال يمكن يف حالة التنمية املستدامة فصل عنارصها وقياس مؤرشاهتا لشدة تداخل األبعاد الكمية والنوعية .املصدر :جمموعة من الباحثني ،دراسات يف التنمية البرشية املستدامة يف الوطن العريب ،التنمية املستدامة بني أيديولوجيا الشامل ومآزق اجلنوب -رؤية سيولوجية ،د .عدنان ياسني مصطفى.236 ،
142
واستمرارها واستدامتها. فرؤية الباحث بخصوص االستدامة هي ذات رؤيته بخصوص املفاهيم املذكورة آنف ًا التي اقرتنت أو جاورت أو عدت كمقدمة أو مكملة ملفهوم التنمية البرشية بحيث نستطيع أن نسميها بالروافد التي تصب فيه ،وإن أخذت بعض ًا من تلك املصطلحات طابع اإلنفراد ،كحقوق اإلنسان أو سبل العيش أو احلاجات األساسية أو غريها ،إال أن االستدامة اختلفت عن غريها بنسبة ما ،حيث عدت مرحلة متطورة ملفهوم التنمية البرشية ذات رؤية بعيدة املدى ليس إال. ولو دققنا النظر يف موضوع املفهوم والنهج والغايات لوجدنا أن التنمية البرشية حمور موضوعها اإلنسان ،والنهج إعداد القدرة وتعبئتها لديه ُبغية استعامهلا خدمة لتحقيق طموحاته املرشوعة ،بينام نرى أن أغلب املفاهيم األخرى ،تكون الفئة املستهدفة فيها هو اإلنسان الضعيف أو املستضعف ،التي تسعى مناهجها لرفع الكاهل عنه وانتشاله من الواقع املرير وحتويله إىل فرد منتج وفاعل اجتامعي، وبمقتىض ذلك ستكون التنمية البرشية اشمل واعم من املصطلحات األخرى، وهو الدليل الذي دفع الباحث لتبني مفهوم التنمية البرشية حتديد ًا ،وعد كل ما دونه هو ترف فكري أو حلن يف صياغة املصطلحات. والدليل عىل ذلك أن تقارير التنمية البرشية املستدامة مل تزد شيئ ًا عىل ما ذكرته تقارير التنمية البرشية يف بداية نشأهتا ،إال يف الصياغة الفنية أو يف بعض الرشوح أو بيان ما كان جمم ً ال أو ختصيص ما كان عام ًا أو تقيد ما كان مطلق ًا. نعم لقد أدرك الباحثون وجود متطلبات مستحدثة أدركوها من خالل التجربة والبحث ،مما دعاهم اىل العدول يف الرأي ،إال أن الباحث يسعى اىل بيان 143
أن التنمية البرشية بمفهومها العام كلي ًا ال يقتيض االختالف عىل متبنياهتا مع اعتقادنا بمرشوعية جواز التعديل والعدول يف بعض املطالب ،وهذا ما ستوضحه تلك التقارير( ،فالتقارير األوىل للتنمية البرشية أكدت عىل أمهية البيئة وقيمتها، فالتقرير األول حذر من التزايد املطرد يف املخاطر البيئية ومنها املخاطر التي تصيب الصحة ،ومن ارتفاع درجة حرارة األرض ،والرضر الالحق بطبقة األوزون،
والتلوث الصناعي والكوارث البيئية)(.)1 وهكذا هي حال تقرير التنمية البرشية لعام 1994م ،حيث أكد عدم وجود أي تعارض بني مفهومي التنمية البرشية واملستدامة ،فكل منهام راسخ يف حق الثاين ومتبنياته ،وهذا ما يؤكده تقرير التنمية البرشية اإلنامئي لألمم املتحدة لذات العام، حيث أشري إىل هدف التنمية البرشية عىل أنه (إدامة احلريات واإلمكانات التي تفسح املجال أمام الناس ليعيشوا حياة الئقة ،وتعريفنا للتنمية البرشية املستدامة هو تعريف معياري ،فنحن ال ننشد االستدامة ألي حالة من احلاالت ،بل لتلك التي توسع احلريات احلقيقية ،وهذا يعني أن التنمية التي تفتقر إىل اإلنصاف ال
يمكن أبد ًا أن تكون تنمية برشية مستدامة)(.)2 ومن املوضوعات التي يقتيض الوقوف عندها وتسليط الضوء عليها هو أن (اإلنصاف) يف تقارير األمم املتحدة للسنوات األخرية طابقت الرؤية اإلسالمية ((( تقرير برنامج األمم املتحدة اإلنامئي لعام 2011م 14 ،املوقع االلكرتوين الرسميwww.un.org/ar/esa/hdr/hdr09.shtml. . ((( املصدر نفسه ،تقرير برنامج األمم املتحدة اإلنامئي لعام 1994م.
144
االقتصادية بتأكيدها عدالة التوزيع ،فان التقرير ينص عىل ما يأيت( :واإلنصاف يف فهمنا :كانت فكرة اإلنصاف يف املايض تعني مكافئة األفراد حسب مسامهتهم يف املجتمع ،وقد أصبح اإلنصاف بمعناه املرادف للعدالة ،يشري إىل عدالة التوزيع،
أي جتنب حاالت عدم املساواة املجحفة بني الناس)( ،)1وبالنتيجة فاالستدامة واإلنصاف سيشرتكان يقين ًا يف عدالة التوزيع سواء كان بني أفراد اجليل احلارض أم اجليل القادم؛ وهبذا سيكون من البدهيي أن التنمية البرشية ال تتحقق إال من خالل االستدامة واإلنصاف مع ًا. وهكذا نجد أن مفهوم التنمية البرشية أخذ حيز ًا جديد ًا ،إذ نرى أن تقرير التنمية العربية لعام 2002م عىل سبيل املثال ينص عىل أنه ( تم فتح آفاق يف تعزيز مفهوم جديد للتنمية أقرب للمفهوم االجتامعي اإلنساين منه للمفهوم االقتصادي البحت الذي كان شائع ًا يف الفرتة املاضية)(.)2 أما تقرير التنمية البرشية لعام 2010م فلم خيرج عن املجال العام للتقارير السابقة ،بل رفع من شأن االستدامة ،إذ جدد تأكيد أمهية وهنج التنمية البرشية و(التنمية البرشية هي توسيع حلريات البرش ،فيعيشوا حياة مديدة ملئها الصحة واإلبداع ،ويسعوا إىل حتقيق األهداف التي ينشدوهنا ،ويشاركوا يف رسم مسارات
((( تقرير برنامج األمم املتحدة اإلنامئي لعام 2011م 14 ،املوقع االلكرتوين الرسميwww.un.org/ar/esa/hdr/hdr09.shtml. . ((( عبد اهلل حممد الصادق ،ندوة حتديات التنمية البرشية يف الوطن العريب (الواقع واالفاق).89 ،
145
التنمية يف إطار من اإلنصاف واالستدامة عىل كوكب يعيش عليه اجلميع ،فالبرش
أفراد ومجاعات ،هم املحرك لعملية التنمية البرشية وهم املستفيد منها)(.)1 هبذا نجد أن معظم تقارير األمم املتحدة والدراسات والبحوث قد أكدت تعريفات التنمية البرشية مع تركيزها عىل فكرة :أن السعة يف اخليارات املتاحة إلنسان الغد جيب أن ال ختتلف عن سعة خيارات إنسان اليوم ،و ُيعدّ هذا القيد السبب الرئيس يف التفرقة بني املفهومني ،بالرغم من أن مفهوم التنمية البرشية أكد مبدأ السعة يف اخليارات واحلريات ،ألن لإلنسان حق ًا ال يتأثر بزمن معني. فعند اطالعنا عىل بقية التقارير والدراسات والبحوث نجد ما تبنيناه يف أن هنج التنمية البرشية هو األساس ،وما بقية املفاهيم إال مفاهيم تؤازر مفهومنا األول وتنارصه ،وما حمل التمكني واإلنصاف واالستدامة يف تقرير األمم املتحدة بتقريرها اإلنامئي لعام 2011م إال دليل آخر عىل ذلك فـ (هنج التنمية البرشية هو منذ نشأته وسيلة تتيح لنا فهم العامل الذي نعيش فيه اليوم ويف املستقبل ،وقد جدد تقرير التنمية البرشية لعام 2010م التأكيد عىل أمهية مفهوم التنمية البرشية ،فركز عىل التمكني ،واإلنصاف ،واالستدامة يف توسيع اخليارات املتاحة لإلنسان ،كام بني أن هذه األبعاد األساسية ال تتالزم دائ ًام ....إذ هي أبعاد متآزرة ال يتحقق أي منها عىل حساب األخر)( )2مطلق ًا ،وهذا يعني أن التقارير أكدت ما يأيت:
((( تقرير األمم املتحدة اإلنامئي لعام .16 ،2010 ((( تقرير األمم املتحدة اإلنامئي2011،م املوقع االلكرتوين الرسمي /ar/org.un.www .shtml.hdr09/hdr/esa
146
•حتقيق النمو يف املجاالت كافة. •العمل عىل تعزيز متبنيات التنمية البرشية وعدها متآزرة لتحقيق األهداف املرجوة. •تآزر الناس وتنشيطهم بدل من هتميشهم وإرشاكهم باختاذ القرارات. •املحافظة عىل البيئة ،واخلشية من عواقبها اخلطرية التي قد تطال اإلنسان نتيجة التدهور البيئي. •متكني اإلنسان الفقري واملحروم بالعمل عىل سعة خياراته. •توسيع الفوائد ووجوب جعل اإلنصاف والعدل واملساواة جزء ًا ال يتجزأ من املنظومة التنموية. •تأكيد أن لإلنسان حق ًا ال يتأثر بزمن ،مما يقتيض أن ينعم اإلنسان بحرية االختيار من دون اإلرضار باألجيال القادمة. •العمل بمبدأ األولويات ،كأولوية الفقراء والضعفاء. تعزيز األركان الثالثة للعملية التنموية املستدامة :ركن بيئي ،ركن اقتصادي، ركن اجتامعي.
وتأسيسا عىل ما تقدم فإن النتائج املستخلصة أعاله مل تأت بأمر جديد يضيف ملفهوم التنمية البرشية شيئ ًا ،إال اللهم بام ُيعدّ تبيان ًا وتفصي ً ال لبعض املطالب. لذا يقتيض علينا العودة إىل مطلع حديثنا حني تبنينا رأي مفاده :إن التنمية البرشية
املستدامة ما هي إال ترف فكري أو حلن مفاهيمي ،فمتبنياهتا وموضوعها وهنجها وأهدافها وأسسها هي ذات متبنيات التنمية البرشية.
147
148
الفصل األول :التنمية البرشية وأسسها الوضعية.
ثالثاً :منظومة التنمية البشرية . -1موضوع التنمية البرشية. -2أهداف التنمية البرشية.
-3مؤرشات التنمية البرشية.
149
150
( :)1موضوع التنمية البشرية.
تعارف عند بعض علامئنا املتقدمني واملتأخرين أنه ال بد لكل علم من موضوع يميزه من بقية العلوم األخرى ،ويتبني ذلك من اهتاممهم به اهتامم ًا كبري ًا حتى استغرق مساحة واسعة من أبحاثهم ،بحث ًا عن املائز والفارق بني العلوم. ويرى الفالسفة عىل أن (موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية)(،)1 وكذا نجد أن بعض األصوليني قد أكدوا (أن موضوع كل علم هو عني املسائل
التي يبحثها ذلك العلم)( ،)2بينام ذهب آخرون منهم إىل خالف ذلك ،حيث أشاروا إىل أن (ال حاجة إىل االلتزام بأن العلم البد له من موضوع ُيبحث عن عوارضه الذاتية يف ذلك العلم ،كام تساملت عليه كلمة املنطقيني ،فإن هذا ال ملزم له وال دليل عليه)( ،)3وكذا أكد هذا املنحى مجلة من علامئنا األعالم من األصوليني وأهل املنطق معلقني (أن ال دليل عىل أنه يتحتم أن يكون لكل علم موضوع ُيبحث فيه
عنه ،ولعل هذا الذي ذكروه إنام هو لبيان أقرب الطرق للواقع )( ،)4بينام نجد فريق ًا آخر ومنهم السيد اخلوئي يرى لزوم وجود املائز بني العلوم واملبني عىل أساس أحد ثالث (املوضوع ،املحمول ،الغرض) ،حيث أشاروا إىل أن الظاهر أن مركز ((( عيل احلسيني السيستاين ،الرافد يف علم األصول ،احللقة األوىل.59 ،1، ((( حممد جواد مغنيه ،علم أصول الفقه يف ثوبه اجلديد.14 ، ((( حممد رضا املظفر ،أصول الفقه.7 ،1 ، ((( اخلميني ،تنقيح األصول ،تأليف حسني التقوي األشتهاردي.21 ،1،
151
النفي واإلثبات ليس أمر ًا واحد ًا ،فتارة يراد من متايز العلوم مرحلة اإلثبات ملن
جيهلها ،وأخرى يراد منه التاميز يف مرحلة الثبوت ويف مقام التدوين( ،)1فأكدوا (أن
الدواعي ختتلف ،وباختالفها خيتلف ما به التمييز)( ،)2وهذا يعني أن هذا الفريق يؤمن بلزوم املائز بني العلوم إال أنه ال ُيلزم أن يكون باملوضوع.
فعىل الرغم من اعتقاد بعض األصوليني واملناطقة بام ذهبوا إليه ،إىل عدم لزوم
موضوع لكل علم ،فإن الباحث وجد أن هذا الفريق من علامئنا األعالم بالرغم من إنكارهم العتبار املوضوع إال أهنم يسلمون به ضمن ًا ،كقول الشيخ املظفر حني
أشار إىل موضوع العلم أنه (ما تساملت عليه كلمة املنطقيني) ،والتسامل مبني عىل أساس رضورته واالتفاق عليه والتصديق به ،وكذا هو السيد اخلميني حني أشار
بعدم لزوم أن يكون لكل علم موضوع ،ثم عرج ليشري بخصوص من اعتمد عىل رضورة وجود املوضوع قائالً ( :ولعل هذا الذي ذكروه إنام هو لبيان أقرب الطرق
للواقع)( ،)3فإن كان ذلك فهو احلق ،ألن الباحث يرى أن احلق هو ما جاور الواقع.
((( ظ :أبو القاسم املوسوي اخلوئي ،مصابيح األصول.28 ،1 ، ((( املصدر نفسه. ((( اخلميني ،تنقيح األصول.14 ،1،
152
وبالعودة إىل من ذهب من علامئنا األعالم العتبار املوضوع( )1ورضورته لكل
علم ،ومنهم السيد حممد باقر الصدر الذي أكد ذلك يف حلقاته الثالث إذ أشار يف احللقة األوىل إىل أن( :لكل عل ٍم – عادة – موضوع أساس ترتكز مجيع بحوثه عليه
وتدور حوله وتستهدف الكشف عام يرتبط بذلك املوضوع من خصائص وحاالت
وقوانني)( ،)2وأن حتديد موضوع لكل علم (يراد ما يكون جامع ًا بني موضوعات
مسائله ،وينصب البحث يف املسائل عىل أحوال ذلك املوضوع وشؤونه ،كالكلمة العربية بالنسبة إىل علم النحو مثالً)(،)3
((( ذكر األصوليون واملناطقة أدلة عىل اعتبار املوضوع منها -1 :إن لكل علم غرض ًا واحد ًا يتحقق بمعرفة مسائله-2.املالزمة العقلية بني فائدة العلم ووجود املوضوع-3 . الكربى املطروحة يف كلامت الفالسفة « موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية» حيث استفاد منها بعض األصوليني أهنا تدل عىل لزوم وجدود موضوع لكل علم .ظ :عيل احلسيني السيستاين ،الرافد يف علم األصول.101 ،1، ((( حممد باقر الصدر ،دروس يف علم األصول – احللقة األوىل والثانية.49 ، ((( املصدر نفسه.173،
153
وكذا هي حال علم أصول الفقه فإن موضوعه (()1هو كل ما يرتقب أن يكون
دلي ً ال وعنرص ًا مشرتك ًا يف عملية استنباط احلكم الرشعي واالستدالل عليه)(،)2
أي بتعبري آخر هو( :األدلة املشرتكة يف االستدالل الفقهي )( )3ألهنا مادة علم الفقه وموضوعه . ولقد استدل هذا الفريق عىل رضورة وجود موضوع لكل علم بدليلني ،مها: أحدمها :إن التاميز بني العلوم باملوضوعات ،أي اختصاص كل علم بموضوع
((( إن أضخم خالف وقع يف شأن اعتبار املوضوع من عدمه ،عند علامء علم األصول ،حيث وقع خالف بني املولعني حول موضوع علم األصول (هل هو األدلة األربعة ،الكتاب ،والسنة ،واالمجاع والعقل ،بام هي أدلة أو بام هي برصف النظر عن وصف الداللة) أو (ال موضوع لعلم األصول واقع ًا .........أو ال لزوم للموضوع وال دليل عليه). وهلذا ذكر مجلة من األصوليني أن علم األصول ليس له موضوع واحد( ،غري أن باإلمكان ما قيل من كون األدلة هي املوضوع من عدم االلتزام بحرصها يف األدلة األربعة) أو فقل (األدلة املشرتكة يف االستدالل الفقهي) ،ويعد ذلك موضوع ًا كلي ًا لعلم األصول. ظ -:موسوعة اإلمام اخلوئي ،حمارضات يف أصول الفقه ،املقرر حممد إسحاق الفياض، 14 ،43حممد جواد مغنية ،علم أصول الفقه يف ثوبه اجلديد 14 ،املظفر ،أصول الفقه، 7 ،1السيستاين ،الرافد يف علم األصول 115،1 ،اخلميني ،تفتح األصول 2،1 ،حممد باقر الصدر ،دروس يف علم األصول ،احللقة األوىل والثانية .174 ، ((( حممد باقر الصدر ،دروس يف علم األصول ،احللقة األوىل والثانية.174 ، ((( حممد باقر الصدر ،دروس يف علم األصول ،احللقة الثالثة.19 ،
154
كيل يتميز من املوضوع اآلخر ،فالبد من افرتاض املوضوع لكل علم. ّ واآلخر :أن التميز بني العلم إن كان باملوضوع فالبد من موضوع لكل علم، إذن لكي حيصل التاميز وإن كان بالغرض عىل أساس أن لكل علم غرض ًا ،خيتلف عن الغرض يف العلم اآلخر ،وملا كانت مسائل العلم متعددة ومتغايرة فيستحيل
أن تكون هي املؤثرة بام هي كثرية يف ذلك الغرض الواحد( ،)1نستشف مما تقدم أن هناك من جيعل التاميز بني العلوم عىل أساس الغرض من العلم وما يسعى إليه ،وما أكثر التباين بني أغراض وغايات العلوم فيام بينها. والباحث يذهب بام ذهب اليه مد ٍع أن لكل علم موضوع ًا ،حيث ُيعدّ هذا رضورة لبيان مزية هذا العلم وخصائصه وقوانينه عن ذاك ،وقد اعتنى العلامء هبذه الدراسة ألهنا حتدد التاميز والتفاضل بني العلوم ،فال ُيعقل أن ال يكون هناك فارق بني علم الفيزياء الذي هيتم بحاالت الطبيعة وقوانينها وعلم الطب الذي موضوعه سالمة بدن اإلنسان من األمراض والعاهات ،فض ً ال عن التاميز بني رشف هذا العلم عن ذاك ،فإن مجيع العقالء والباحثني والدارسني رشفوا العلم عىل أساس موضوعه أو غايته أي (إن رشف كل علم إنام برشف موضوعه وغاياته، فرشف صناعة الطب عىل صناعة الدباغة ،بقدر رشف اإلنسان وإصالحه عىل جلود البهائم)( ،)2فرشف وقدر كل علم برشف وعظيم موضوعه أو غاياته وشدة االحتياج إليه ،وكذا هي احلال إىل رشف املادة التي بني أيدينا التي أعني هبا التنمية ((( ظ :حممد باقر الصدر ،دروس يف علم األصول ،احللقة الثالثة.20-19 ، ((( حممد مهدي النراقي ،جامع السعادات.59،1 ،
155
مبني عىل رشف اإلنسان الذي ُيعدّ مادة هذا البرشية ،فرشف علم التنمية البرشية ٌ العلم ،ال لكونه مرتكز ًا عىل انتامئه ملنظومة العلوم احلديثة. إن االهتامم بموضوع أي علم يعني االهتامم بمحورية ذلك العلم أو غرضه الذي يقود إىل بيان أسسه ومرتكزاته ومناهجه وغاياته ،والتي تكشف عن حقيقة وماهية العلم ،وعمق املادة التي ترفده ،زيادة عىل ما يرتتب عىل ذلك من آثار ومعطيات تفصيلية دقيقة وأخرى بعيدة املدى تصب خدمة لذات العلم وما يصبو إليه . فعىل الرغم من تأكيدات الكثري من رواد األصول واملنطق والفلسفة رضورة اعتبار املوضوع ألي علم كان ،وألن التنمية البرشية أحد تلك العلوم التي هلا من العمق بام استوعب املفهوم ومصاديقه عىل مدى تاريخ الرساالت الساموية واألفكار الوضعية ،بل وحتى مدة العرص احلديث الذي ذاع صيته وكثر رواده ْهج هذا واتسعت نشاطاته ،فعىل الرغم من كل ذلك فإننا مل نجد من ّبو َب و َمن َ العلم وحدد موضوعه علمي ًا ،ولعل السبب يف ذلك هو حداثة العلم بوصفه مصطلح ًا جديد ًا من جهة ،وندرة املهتمني به من األكاديميني والباحثني الذين هلم امللكة العلمية يف إعداد الدراسات التي خترج هذا العلم بثوب الئق جديد من جهة أخرى. وألن الباحث يسعى ألن يضع بصمته يف هذا امليدان ،حاول أن يقرأ ما بني سطور الباحثني واملهتمني يف التنمية البرشية لغرض تشخيص موضوع هذا العلم من خالل قراءته للتعاريف واملباحث والتقارير والدراسات اخلاصة هبذا املفهوم، لذا فإن تشخيص موضوع التنمية البرشية سيكون بال شك مبني ًا عىل أساس حتديد 156
مفهومه وما حييط به من خصائص وقوانني وغايات ،وبخالف ذلك سيكون موضوع العلم حتت وطأة التباين يف املفهوم الواحد مما يسبب تعدد الغايات ويسبب تعدده. ومن خالل استقرائنا لدراسات هذا العلم ندرك أن موضوع التنمية البرشية هو اإلنسان أن املحور األساس الذي ترتكز عليه مجيع البحوث والنشاطات وتدور حوله ،بل ُيعدّ اجلامع ملسائله والباحث عن شؤونه ،كام يتجىل املوقف وضوح ًا حني نجد أن غرض وغاية التنمية البرشية هي املحاولة اجلادة لردم اهلوة وتقليل الفارق بني ما هو كائن لإلنسان وما ينبغي أن يكون له ،أي االنعطاف به من مستوى إىل مستوى أفضل وأرفع عىل الصعيد النفيس والعقيل والبدين ،وكذا عىل األصعدة لتي حتيط به كافة. والدليل عىل ما أوردناه هي تلك املحاوالت اجلادة التي ظهرت يف هناية القرن املنرصم لتبني مفهوم ًا جديد ًا للتنمية ُيعطي اإلنسان الدور األهم والقدرة عىل النهوض بالتنمية ،حيث تبنت األمم املتحدة عام 1990م ،مفهوم التنمية البرشية
الذي حدد عىل أنه عملية هتدف إىل زيادة القدرات املتاحة أمام الناس( ،)1بغية إحراز األنموذج األمثل( إلنسان التنمية الذي من خالله حيدث النمو الكمي والكيفي املنشود يف اجلوانب املختلفة ،وهو األمر الذي ُيعدّ جوهر عملية
التنمية)(.)2
((( ظ :أسامة العاين ،املنظور اإلسالمي للتنمية البرشية.12-11 ، ((( عبد العزيز حممد احلر ،الرتبية والتنمية والنهضة.27 ،
157
وهذا يعني أن التنمية البرشية تسعى جادة إىل سعة خيارات اإلنسان كي تستوعب مجيع ظروفه الذاتية ،واملوضوعية التي حتيط به ونعني هبا احلريات الفكرية والسياسية واالقتصادية واالجتامعية وما تنضوي حتتها من مفردات تؤهله لالرتقاء بنفسه ،فإن االهتامم باإلنسان بوصفه حمور ًا ووسيل ًة وهدف ًا يعني إنه موضوع التنمية البرشية ،وهذا ما أكده التقرير اإلنامئي لألمم املتحدة لعام 1992م، حيث جرى التشديد عىل مزيتني مها استقاللية مفهوم التنمية البرشية بطابعه االصطالحي اجلديد ،والتشديد عىل اجلانب اإلنامئي لإلنسان ،إذ ذكر التقرير: (إن التنمية البرشية فكرة أوسع وأشمل فهي تعطي مجيع اختيارات اإلنسان يف كل
املجتمعات ويف مجيع مراحل التنمية)( ،)1ثم جاء تعريف التنمية البرشية بشكل أوسع واشمل يف التقرير اإلنامئي لألمم املتحدة لعام 1993م ،حيث بني جلي ًا أن اإلنسان فع ً ال هو املحور وهو اهلدف وهو موضوع التنمية البرشية ،ف ُعرفت التنمية
البرشية بأهنا( :تنمية الناس من أجل الناس بواسطة الناس)( ،)2وهكذا هي حال بقية تقارير األمم املتحدة اإلنامئية ،وكذا هي البحوث والدراسات الدائرة يف هذا املجال املعريف. فاإلنسان هو املحور الذي يدور حوله جزئيات التنمية البرشية ساعية لسعة خياراته املرشوعة بتطوير إمكاناته الذاتية ،مع إجياد سبل حتقيقها ،وصوال باإلنسان إىل موقع الريادة يف العملية التنموية من حيث استقراره وطموحاته ،ونستخلص ((( أسامة العاين ،املنظور اإلسالمي للتنمية البرشية.15 ، ، ((( املصدر نفسه.15،
158
من ذلك أن من املس ّلم به أن موضوع التنمية البرشية هو اإلنسان ،بل هو موضوع ًا ملفهوم مركب ،يكون فيه اإلنسان هو الوسيلة واهلدف يف الوقت نفسه. وعىل أساس حمورية اإلنسان بوصفه موضوع التنمية البرشية ،نتلمس اختالف املعادلة جلي ًا قياس ًا يف العلوم األخرى ،ففرق يف أن يكون – اإلنسان -أحد عنارص اإلنتاج ،وبني أن يكون أهم مورد قياس ًا بباقي املوارد األخرى ،بل عد العنرص األساس يف العملية التنموية بكافة ميادينها خدمة له ،حيث كان ينظر إىل (أن املوارد الطبيعية هي العامل احلاسم يف حتديد الثروة ألي جمتمع)( ،)1فمن الطبيعي جد ًا أن تكون األولوية لعنارص اإلنتاج ومنها املوارد التي ُيعدّ اإلنسان أحدها عىل وفق منظار املنظومة االقتصادية باعتبار اختالف موضوعها ،فيام نرى كيف أصبح اإلنسان موضوع ًا للتنمية والتنمية البرشية عىل حد سواء نتيجة تطور الفهم املوضوعي للعلم ومفهومه ،حتى بات (العنرص األهم بال منازع يف هذا العرص هو اإلنسان......وهو العنرص احلاسم يف حتديد ثروة املجتمع ومدى درجة تقدمه.....من هنا فجوهر احلركة اإلسرتاتيجية املقرتحة هي تطور اإلنسان وتنميته)(.)2
((( عباس آل محيد ،اإلسرتاتيجية اإلسالمية ،كيف تساهم يف النهوض باألمة اإلسالمية.68 ، ((( املصدر نفسه.184 ،
159
160
( :)2أهداف التنمية البشرية. ال شك يف ان مفهوم التنمية البرشية قد وضعت له عدة حمددات ميزته من غريه من املفاهيم ،و ُيعدّ هذا التمييز رضورة للبحث بوصفه اللبنة األوىل التي سيقوم عليها بناء اهليكل التنظيمي لبقية املطالب واملباحث ،مما أقتىض أن يكون ّ جل اهتاممنا هي تلك املحددات التي من خالهلا سترُ سم معامل اخلطوات التالية التي كانت إحداها هذا املطلب. إن الرشوع هبذا املطلب كان مبني ًا عىل أساس الرضورة احلتمية التي ستحدد معامل مسرية أي علم أو فن ،وما علم التنمية البرشية إال أحد تلك املعارف التي نسعى لتحقيق أهدافها وغاياهتا عىل وفق مراحل قريبة املدى أو بعيدة. الشك يف أن التنمية بصورة عامة والتنمية البرشية بصورة خاصة ،تسعى لتحقيق أهدافها بفعل التفاعل والتأثري ،مضاف ًا إليه قوة املؤثرات اخلارجية التي هلا أثر فعال يف انتزاع الكوامن والقدرات التي ال يمكن طبيعي ًا انتزاعها عىل وفق النمو الطبيعي ،لتحقيق ذلك التغري اإلجيايب. فمنذ الوالدة األوىل ملفهوم التنمية البرشية -إن كان بالقوة أو الفعل -تزامنت معها السعي وراء حمور رئيس هو كيفية الوصول باإلنسان إىل املكانة التي يستحقها بوصفه الثروة احلقيقية ألي أمة ،أي اعتبار اإلنسان هدف ًا جلهود اإلنسان أي
لتحقيق ذاته وإنسانيته( ،)1وهبذا ستكون أهداف التنمية البرشية هي حتقيق ذلك التغري اإلجيايب الذي تكمن وراءه أهداف ثانوية ،نستطيع أن نقول إهنا خمتبئة وراء ((( ظ :أشواق عبد احلسن الساعدي ،الثقافة والتنمية البرشية.70-69 ،
161
كل دافع ألي عملية تنموية ،فالذي يسعى لتنمية عامل مصنع عىل سبيل املثال ّ فإن هدفه هو زيادة الفائدة املرتتبة عىل زيادة اإلنتاج واملرتكزة عىل عطاء العامل ا ُملنمى ،وكذا هي احلال لو كانت التنمية هتتم بأمة ما ،فهي هتدف لرتقية تلك األمة ملستوى طموحاهتا اخلاصة هبا وتوسيع خياراهتا املرشوعة من خالل رفع كفاءهتا وهتيئة املناخ اإلجيايب املتمثل باخلطط واآلليات أو السبل لتحقيق ذلك الرفاه اإلجيايب والغاية املنشودة. إن مفهوم التنمية البرشية وإن تعددت معه بعض املفاهيم األخرى أو الزمته أو شاركته يف األهداف فإن غايته األساس هي السعي لتحقيق سعادة اإلنسان ورفاهيته مادي ًا وروحي ًا ،ألنه املوضوع الذي تتمحور حوله مجيع مفردات العلم بجميع مسائله الرئيسة والفرعية ،وإن كل األهداف األخرى تُعدّ ثانوية قياس ًا باهلدف الرئيس الذي تنضوي حتته بقية األهداف ،لذا ُعد اإلنسان اهلدف األول يف التنمية البرشية (ألمهيته ودوره يف احلياة باعتباره أداة التنمية وغاياهتا يف آن واحد بحيث ال يمكن أن تتحقق تنمية أو تقدم أو تطور يف احلياة إال عن طريق اإلنسان وبواسطته)( ،)1وهلذا عدت مقولة ("تنمية اإلنسان والتنمية باإلنسان والتنمية
لإلنسان «شعار التنمية البرشية وهدفها)(.)2
عىل أساس ذلك كان هناك بون شاسع بني أهداف التنمية البرشية بعنواهنا العام ((( عمر حممد التومي ،قضايا اإلنسان.138 ، ((( كريم أبو حالوة ،موقع الكرتوين ،دور الثقافة يف التنمية البرشية املستدامة www.almarsd.net/news.php?id=276.
162
وبني أهداف التنمية أو أهداف تنمية املوارد الطبيعية أو التنمية املادية أو غريها، والتي تسعى كل منها لتحقيق دوافع ذلك املفهوم املبني عىل أساس املوضوع (اإلنسان نفسه). فهناك بعض من الباحثني يرى -وهو احلق -أن أهداف التنمية البرشية أو أي علم إنام حيدد من خالل قراءة املفهوم وعرض مضامينه ،فمن املمكن أن ندرك أمهية أهداف التنمية من خالل عرضها عىل (ماهية التنمية البرشية ،فيمكن اآلن حتديد اهلدف الرئيس الذي تسعى إليه ....وهي زيادة تنمية األفراد من خالل
تطوير وحتسني قدراهتم ومواهبهم من علوم جديدة وغريها)( ،)1وعىل ضوء اهلدف الرئيس هناك أهداف أخرى منها( :إكساب الفرد مهارات ومعلومات وخربات تنقصه ،إكساب الفرد أنامط ًا واجتاهات سلوكية جديدة لصالح العمل، حتسني وصقل املهارات والقدرات املوجودة لدى الفرد)(.)2 إن سعي الباحث إىل معرفة وظيفة أي مفردة من مفردات املفهوم ،اقتضت عليه العودة واللجوء إىل ماهية املفهوم ،إذ تُعدّ عودته هذه رضورة علمية ،ألن املفهوم هو الذي حيدد مطالب العلم ويكشف عن ماهية كل مفردة ،إال أن الدكتور مجال حالوة والدكتور عيل صالح بالرغم من أشارهتام لرضورة هذا املطلب ،فإننا مل نلمس منهام ما أكداه ،خصوص ًا عندما أشارا إىل أن هدف العملية التنموية (هو
((( مجال حالوة وعيل صالح ،مدخل إىل علم التنمية.199 ، ((( عمر وصفي عقييل ،إدارة القوى العاملة.236-235،
163
إزالة جوانب الضعف والقصور يف أداء وسلوك األفراد)(.)1 صور أهداف التنمية عىل شكل أهداف أما الدكتور إبراهيم العسل فقد َّ مزدوجة رئيسة وثانوية ،بحيث جعل حتقيق أي واحدة منهام متعلقة باألخرى، واصف ًا إياها :بأن هدف التنمية األساس هو حتسني حياة البرش ،وهذا يعتمد عىل مستوى إشباع حاجات األفراد األساسية والثانوية ،وكذا يعتمد عىل رفع قدرات األفراد للحصول عليها ،وإن رفع مستوى إشباع احلاجات األساسية يعزز تطلع الفرد إىل رفع مستوى إشباع حاجاته الثانوية وحتقيق ذاته اإلنسانية( ،)2ولقد أجاد
الدكتور العسل يف رسم معامل األهداف ،إال أن الباحث يرى أنه عىل وفق يف تعزيز التنمية بتزاوج اجلزئيات بالكليات وليس العكس ،فاإلنسان يفتقر لتعبئة يحُ ي هبا ما يف داخله من أهداف كربى ،ثم يسعى لرتمجتها عملي ًا تالزم ًا مع األهداف الصغرى التي تُعدّ مقدمة رضورية لتوحيد وحتقيق األهداف برمتها ،من قبيل قاعدة ( مقدمة الواجب واجبة). بينام يرى األستاذ جورج قرم أن هدف التنمية البرشية بحسب وجهة نظره، هي ليست جمرد زيادة يف اإلنتاج ،بل (هو متكني الناس من توسيع نطاق خياراهتم ليعيشوا حياة أطول وأفضل وليتجنبوا األمراض وليملكوا املفاتيح ملخزون العامل من املعرفة إىل آخر ما هنالك ،وهكذا تصبح التنمية عملية تطور القدرات ،ال
((( مجال حالوة وعيل صالح ،مدخل إىل علم التنمية.199 ، ((( ظ :التنمية يف الفكر اإلسالمي ،د .إبراهيم حسني العسل.27،
164
عملية تعظيم املنفعة أو الرفاهية االقتصادية كام ينظر إليها اليوم)( ،)1وقد يؤاخذ األستاذ جورج قرم عىل رؤيته يف حتديد تلك األهداف ،كون ما حدده كان أقرب ملنهج للتنمية البرشية وليس ألهدافها. وبمقتىض أمهية األهداف لزم وجود بعض من املعايري واملواصفات منها (:)2
اإليامن باهلدف ،االقتناع برضورة حتققه ،وضوح اهلدف ،وضوح الرؤية يف رسم خطة التطبيق ،البد من ان يكون اهلدف ممكن التحقق ،أن يكون مقبوالً ومنطقي ًا يف زمانه ومكانه وظروف حتقيقه ،وأن يكون منسج ًام مع املثل والقيم والنظم، ((( حسن بن إبراهيم اهلنداوي ،التعليم وإشكالية التنمية ،مفهوم التنمية. موقع إلكرتوين للمكتبة اإلسالمية عىل شبكة إسالم ويب (.)http://www.islamweb.net/newlibrary/index.php ((( وضعت إحدى الدراسات التي تنسب إىل املفكر املعروف ديكارت مخسة أساسيات ،جيب أن تؤخذ باحلسبان عند وضع األهداف ،تكون احلروف األوىل منها كلمة ( )SMARTوهي: Specificأو حمدد .أن ال يكون اهلدف الذي تطمح لبلوغه عام ًا ،بل يكون واضح ًا وحمدد ًا. Measurableأو قابل للقياس ،جيب أن يكون كل هدف تريد حتقيقه مربوط بكمية .أو يمكنك حتديده . Achievableأو يمكن بلوغه أو حتقيقه ،حينام تبدأ العمل عىل حتقيق اهلدف تعلم بأن هدفك يمكن الوصول إليه. Realisticأو أن اهلدف واقعي ،فال جتعل هلدفك رشوط ًا تعلم أنه من املستحيل حتققها. Timelyأو حمدد بوقت ،أن اهلدف وحتقيقه مربوط بوقت معني. ظ :مدونة زاوية مستقيمة ،موقع الكرتوين،
dralsuraikh.wordpress.com/2011/02/.
165
احتياجه إىل دفق جيد من النشاط والعمل ،إخالص وصدق(.)1 وهلذا ارتأى الباحث كام ارتأى بعض من املهتمني يف ميدان التنمية البرشية ،أنه إذا فككنا عنارص التنمية البرشية بغية حتليلها واستخالص االستدالالت منها، ستكون يف املحصلة النهائية أهنا( :وسيلة وليست غاية؛ هي وسيلة نحو االرتفاع بمستوى اإلنسان االقتصادي واالجتامعي والسيايس والثقايف ،وما دام هذا هو هدف التنمية احلقيقية ،فكل ما يؤدي ،عىل أي نحو ،إىل اإلرضار باإلنسان ،جسد ًا أو روح ًا ،البد وأن يكون عم ً ال معادي ًا للتنمية حتى ولو ُأرتكب باسمها)( ،)2حيث
ذهب الباحث إىل وجود أهداف كربى وغايات عظمى للتنمية البرشية وهذا ال يعني أننا نلغي األهداف الفرعية والثانوية ،بل بالعكس فهو يعتقد أن لكل مفردة ألي علم ومنها مفردات التنمية البرشية هلا أهدافها اخلاصة ،إال أن ما نؤكده هو أن تذوب وتندمج األهداف الصغرى بأهداف كربى وصوالً إىل الغاية الكربى التي تنضوي حتتها كل األهداف ،بحيث تُعدّ كل األهداف الصغرى وسيلة إليه ،فكل هدف صغري هو وسيلة هلدف أكرب منه ،وكل هدف كبري هو غاية هلدف أصغر منه، ووضوح اهلدف األكرب أن كل األهداف الصغرى جيب أن تسهم يف االقرتاب منه والوصول إليه( )3حتقيق ًا .
((( ظ :عبد الكريم بكار ،جتديد الوعي 264-263 ،ظ :عبد الكريم بكار ،العيش يف الزمن الصعب.93 -91، ((( غازي عبد الرمحن القصيبي ،التنمية األسئلة الكربى.24 ، ((( ظ :عبد الكريم بكار ،العيش يف الزمن الصعب.91 ،
166
فالتنمية البرشية وسيلة إىل حد ما مهمتها إتباع جمموعة من اإلجراءات هدفها حتقيق سعادة اإلنسان املادية واملعنوية ( اجلانب العقيل والنفيس والبدين) ألنه حمورها ،فتطوير اإلنسان وتنميته هو اهلدف والغاية ،ولكن يف الوقت نفسه وسيلة
أيضا( ،)1فالتنمية البرشية من وجهة نظر الباحث تُعدّ وسيلة أكثر مما هي غاية ،إال أهنا تتضمن هدفني رئيسني مها: •حماولة تفجري القوى الكامنة لدى اإلنسان بغية االرتقاء به من مستوى إىل مستوى أعىل وأسمى ،بحسب املكانة التي يستحقها والتي حددها اهلل تعاىل إليه. •حماولة توسيع خيارات اإلنسان املرشوعة لسد حاجاته األساسية يف املجاالت كافة ،أي االنعطاف بالظروف املحيطة باإلنسان يف امليادين السياسية واالقتصادية واالجتامعية وغريها ،خدمة له وتلبية لسد حاجاته املعقولة واملمكنة ،جتسيد ًا ملبدأ اعامر األرض ومن فيها ،وهو عني وظيفة اإلنسان ووظيفة التنمية البرشية يف ذات الوقت ،وبتعبري أدق توظيف كل القدرات البرشية واستثامرها لتحقيق متطلبات اإلنسان وطموحاته األساسية املرشوعة. وبام أن اهلدفني يف أعاله ثانويان قياس ًا باألهداف الرئيسة لذا نرى من الرضوري أن ينضويا حتت هدف أكرب خدم ًة لإلنسان بوصفه املحور الرئيس والكائن احلي
((( ظ :عباس آل محيد ،إسرتاتيجية اإلسالم ،كيف تساهم يف النهوض باألمة اإلسالمية.185 ،
167
﴿و َل َقدْ ك ََّر ْمنَا الوحيد الذي كرمه اهلل تعاىل عىل بقية املخلوقات بنا ًء عىل قوله تعاىلَ : ِ ح ْلن ُ يِ ب َوا ْل َب ْحر﴾ ()1وقوله تعاىلَ ﴿ :ل َقدْ َخ َل ْقنَا ا ِ ان يِف َأ ْح َس ِن نس َ َبني آ َد َم َو مَ َ إل َ َاه ْم ف ا ْل رَ ِّ َت ْق ِويم﴾( ،)2وبسبب تتابع وتدرج األهداف والغايات سننظر كيف ستنضوي هذه الغاية هي األخرى حتت غاية كربى يكون حمورها العلة من وجود اإلنسان أساس ًا. ولقناعتنا بأن التنمية البرشية هي وسيلة إىل حد ما هدفها خدمة اإلنسان ،وأن حتقيق أهدافها بل حتى أهداف تلك املفاهيم التي عددناها روافد ًا تصب يف مفهوم التنمية البرشية ،كـ(مفهوم حقوق اإلنسان ،احلاجات األساسية ،األمن البرشي، رأس املال البرشي ،سبل العيش ،االستدامة وغريها من املصطلحات املهمة) ،فإن حتقيقها ُيعدّ أمر ًا رضوري ًا وملزم ًا. فعىل لزوم ما تقدم ،اقتىض أن نحدد بعض تلك األهداف وهي من وجهة نظر الباحث كاآليت: •إزالة مجيع صور التخلف وآثاره وعواقبه(.)3
•حتقيق العدالة ،بتأمني حاجات األجيال احلارضة دون اإلرضار باألجيال القادمة. •فرض فكرة االبتعاد عن العنف بكل أشكاله يف منظومة املجتمع الواحد
((( سورة اإلرساء ،اآلية.70 ((( التني.3 : ((( ملفهوم التخلف داللة علمية اصطالحية ،نتعرض له الحق ًا.
168
واملجتمعات األخرى. •تطوير ظروف اإلنسان والسري به نحو االرتقاء به صحي ًا وتعليمي ًا واقتصادي ًا واجتامعي ًا وسياسي ًا. •سد الفجوات التي تعرتي عالقات الشعوب املستندة عىل أساس اهليمنة. •(االهتامم باألمن الغذائي للبرش ألنه وسيلة املسامهة يف النمو البرشي. •تطوير اجلانب الفكري والعقيل لإلنسان لكونه العامل املؤثر يف رفع مستواه
الثقايف والنفيس)(.)1 •تأمني كرامة اإلنسان ومحاية حقوقه العامة واخلاصة وذلك بتأمني حياة مستقرة له. •تعزيز اجلانب الروحي واألخالقي بوصفهام ركنني أساسني يف عملية التنمية البرشية. •املساواة بني اجلنسني ،وبني اجلنس الواحد يف مشاركتهام الفعالة يف بناء حياة أفضل. •توسيع خيارات اإلنسان املرشوعة ضمن موروث ومعتقد كل جمتمع من املجتمعات. •سيطرة اإلنسان عىل بيئته عىل وفق اإلمكانات املتاحة له يف بناء حارضه
((( هشام إخزام ،عبد الفتاح حلوة ،بحث مقدم لنيل اإلجازة يف العلوم السياسية ،دور املجتمع املدين يف التنمية البرشية ،اجلمعيات أنموذجا.24 ، موقع الكرتوين جلامعة الرسالة (http://www.universiterissala.maktoobblog.com/264267).
169
ومستقبله(.)1 •(توسيع فرص احلريات والقدرات املوضوعية لتوليد تغري رسيع يف بناء
إنسان جديد)(.)2 •(إحداث سلسلة من التغريات الوظيفية وهيكليتها الستغالل طاقة اإلنسان املتاحة إىل أقىص حد ممكن لتوفري احلرية والرفاهية له)(.)3
((( ظ :جملة عامل املعرفة ،التنمية حرية ،العدد.303 ،10 ((( املصدر نفسه . 303 ،10 ((( امحد زكي بدوي ،معجم مصطلحات العلوم االجتامعية.187 ،
170
لقد حاول الباحث أن خيتزل جمموعة األهداف التي أوردها أعاله ،بالرغم من أن بعضهم اجتهد يف وضع جمموعة من أهداف أخرى ،فإن الواقع إن مجيع األهداف األخرى ال خترج عن ما أوردناه باعتقادنا (.)1 ومما تقدم نستفيد أن التنمية البرشية هتدف إىل (خدمة اإلنسان عقلي ًا وجسدي ًا ووجداني ًا وحركي ًا ،وحتقيق توازنه البايلوجي والنفيس يف الوسط االجتامعي ،عرب حتسني ظروفه املادية واالقتصادية واالجتامعية ،وتغري مستوى معيشته من خالل تقديم رعاية صحية الئقة به وحتسني دخله الفردي السنوي وتوفري منظومة تربوية متقدمة تؤهله لالنفتاح واملسامهة يف حتقيق االزدهار والتقدم)(.)2
((( لقد اهتمت األمم املتحدة بدراسة ومناقشة تطوير أهداف التنمية البرشية وفق نظرة إسرتاتيجية من خالل تبني مرشوع األهداف اإلنامئية لأللفية ،ويف مطلع األلفية اجلديدة سعت إىل هذا املرشوع الذي تضمن عىل ثامن مرام ،اتفقت عليها الدول األعضاء يف منظمة األمم املتحدة وعددها 192دولة وما ال يقل عن 23منظمة دولية، حيث حاول هذا املرشوع أن يرسم أهداف حمددة للتنمية البرشية ،عىل أمل حتقيقها عام ،2015وقد تم التوقيع عليه يف سبتمرب من العام 2000م ،حيث يلزم هذا املرشوع الدول األعضاء يف منظمة األمم املتحدة بمكافحة الفقر واجلوع واألمراض واألمية والتميز ضد املرأة ،كام وضعت مؤرشات لقياس التقدم نحو هذه املرامي ،ويف رأي الباحث أن أهداف األلفية مل خترج عن األهداف العامة التي ذكرها املهتمني هبذا الشأن والتي ذكرناها يف متن البحث بحسب وجه نظر الباحث. املصدر :ظ :املوسوعة احلرة ويكيبيديا ar.wikipedia.org/. ((( حسن بن إبراهيم اهلنداوي ،التعليم وإشكالية التنمية ، مفهوم التنمية ،موقع إلكرتوين للمكتبة اإلسالمية عىل شبكة إسالم ويب ، (.)http://www.islamweb.net/newlibrary/index.php
171
فهدف التنمية البرشية قد يضيق عند بعض املهتمني يف هذا الشأن كام هي حال األستاذ حسن اهلنداوي يف ما أورده أعاله ،ليصل إىل مستوى املؤرشات واملقاييس التنموية التي تعتمد لديه للتميز اإلنامئي بني جمتمع أو بلد آلخر ،وهلذا فقد ُحدد هدف التنمية عند بعض من الباحثني عىل أنه( :هتيئة بيئية يعيش فيها األفراد حياة مديدة وصحية وخالقة ،فمهمة التنمية البرشية هي ترسيخ آثار التنمية يف حياة األمم واملجتمعات واملجموعات واألفراد ،فاإلنسان هو جوهر التنمية)(.)1 وبعبارة ادق فمنهج التنمية البرشية هيدف إىل (حتقيق مبادئ التنمية األساسية والتنمية البرشية ،وهي دعوة إىل اإلنصاف واإلنتاجية والكفاءة واملشاركة والتمكني واالستدامة)(.)2 وألمهية موضوع أهداف التنمية البرشية سنفرد مطلب ًا خاص ًا يف املبحث الثاين من الفصل الثاين حتت عنوان (أهداف التنمية البرشية يف املنظور القرآين وغاياهتا)، ليتسنى للقارئ الكريم أن يقارن بني سعة أهداف القرآن الكريم وعظمتها وبني صغر األهداف الوضعية التجريبية ،ألن التنمية البرشية يف املنظار القرآين واإلسالمي شمولية (فهي اقتصادية واجتامعية وبرشية وروحية وثقافية غايتها ِ َاه ْم يِف ح ْلن ُ تكريم اإلنسان)( ،)3لقوله سبحانه وتعاىلَ : ﴿و َل َقدْ ك ََّر ْمنَا َبني آ َد َم َو مَ َ ((( مسار التنمية البرشية7، www.reefnet.gov.sy/boosproject/fikr/8/nathrat.pdfموقع ألكرتوين. ((( املصدر نفسه .22، ((( جمموعة باحثني ،دراسات يف التنمية البرشية املستدامة يف الوطن العريب ،اإلسالم والتنمية البرشية املستدامة مقارنة يف األهداف واملورد.144 ،
172
ِ ِ َاه ْم َع ىَل ك ٍ َثِري مِم َّ ْن َخ َل ْقنَا َت ْف ِضيالً﴾ (،)1 َاه ْم م ْن ال َّط ِّي َبات َو َف َّض ْلن ُ ب َوا ْل َب ْح ِر َو َر َز ْقن ُ ا ْل رَ ِّ فاآلية املباركة قد مجعت مخس منن كان إحداهن التكريم ( فهي مزية خص اهلل بني آدم من بني سائر املخلوقات األرضية ،والتكريم جعله كري ًام أي جعله نفيس ًا غري
مبذول وال ذليل يف صورته)( )2وسمة تكريمه تقتيض تنميته تكريمه حتى يصل إىل مرحلة الرفاه واالنموذج األسمى ،لذا كان حق ًا عىل السامء أن تضع منظومة
متكاملة يف النص القرآين ُينتزع منها مبادئ التنمية البرشية بلحاظ هدفها االنسان من أجل الوصول به إىل ماهية التكريم التي حباها به اهلل سبحانه؛ ذلك بإن اعتبار االنسان موضوع هذا العلم . مبني عىل أساس إن اعتبار اإلنسان موضوع التنمية البرشية يف الرؤية القرآنية ٌّ تكريمه من اهلل تعاىل ،فقيل (كرمه اهلل بالعقل ،والنطق ،والتمييز ،واخلط ،والصورة
احلسنة والقامة املعتدلة ،وتدبري أمر املعاش واملعاد)( ،)3وأن هدف التنمية البرشية هو جتسيد هذا التكريم وهذه املنن ،فهي ناظرة إىل املوهبة اإلهلية التي أوتيها اإلنسان ،كام هي ناظرة للكامل اإلنساين من حيث وجوده الكوين وتكريمه
((( سورة اإلرساء ،اآلية.70 ((( تفسري التحرير والتنوير ،حممد الطاهر ابن عاشور.165 ،15 ،6 ، ((( الكشاف ،عن حقائق التنزيل وعيون األقاويل يف وجوه التأويل ،حممود بن عمر الزخمرشي اخلوارزمي.641 ،1،
173
وتفضيله بالقياس إىل سائر املوجودات الكونية الواقعة حتت النظام الكوين(.)1 فيتضح إن اهلل تعاىل قد م ِّن عىل اإلنسان تلك املنن التي منحها إياه ،والتي ك آلي ٍ ِ ات وما يِف األَر ِ مَِ ِ ِ ات لِ َق ْو ٍم منها َ ض جيع ًا منْ ُه إِ َّن يِف َذل َ َ ْ الس َم َو َ َ ﴿و َسخَّ َر َلك ُْم َما يِف َّ ون﴾(،)2ألنه خليفته يف األرض ﴿إ ج ِ اع ٌل يِف األَ ْر ِ ض َخلِي َفة﴾( )3حيث َي َت َفك َُّر َ ِنيِّ َ نجد أن اهلل تعاىل زود اإلنسان بأدوات وآليات كفيلة بإقداره عىل االستفادة منها، وأمهها قدرته عىل التفكري والتأمل وكشف القوانني الكلية يف الوجود ،وهبا يكون اإلنسان قادر ًا عىل السري بصورة صحيحة يف سلم التكامل الذي تصب يف طريق حتقيق هدفه وغايته( )4بوصفه (اإلنسان) موضوع ًا مستوعب ًا ملنطق التكريم اإلهلي وعام ً ال به. وعىل أساس فلسفة اإلسالم لرؤية اإلنسان تتضح مكانته عن غريه من املوجودات ،وألجل االستفادة مما حوله من الطبيعة ،البد له من إجراء تغريات عليها لكي تكون الطبيعة منسجمة مع حاجاته عىل خالف بقية املوجودات يف
((( ظ :امليزان يف تفسري القرآن ،حممد حسني الطباطبائي .155 ،13 ((( اجلاثية ،اآلية .13 ((( البقرة ،اآلية .30 ((( ظ :كامل احليدري ،فلسفة الدين ،مدخل لدراسة منشأ احلاجة إىل الدين وتكامل الرشائع.90 -98 ،
174
األرض التي تفتقر للطبيعة من دون إجراء أي تغيري لفقداهنا للتكريم ،فض ً ال عن مزية أخرى هي أن اإلنسان كلام ازداد تطور ًا يف العلم ازداد حاجة للطبيعة ،ومن خالل النقطتني نشأت لإلنسان فكرة استخدام اآلخرين لتلبية حاجاته ،وتزداد
فكرة االستخدام كلام ازداد تطور ًا( )1يتضح مما تقدم أن األهداف الثانوية تتسع بمرور الزمن مع تطور اإلنسان ومع سعة حاجاته التي نعدها سب ً ال لتأمني تلك املتطلبات عىل أساس رضورة اعتبار األهداف الصغرى واملتعددة واملتجددة هي سبل لتأمني اهلدف األكرب واألسمى من وجود اإلنسان أصالً ،التي نعني هبا علة خلقه ووجوده وهو الكامل النهائي حني يكون بالقرب من الذات اإلهلية. وآخر ما يريد أن يؤكده الباحث هو أن اهلداية نحو األهداف الصغرى للتنمية البرشية ممكن أن هيتدي إليها اإلنسان بحكم اقرتانه بتلك احلاجات الذاتية ،إال أن املشكلة تكمن يف معرفة الغايات العظمى التي يفتقر إليها اإلنسان ،وأن اهلداية بوحي منه ،فاألهداف السامية واملتكاملة إليها ال تتحقق إال بفعل القائم عليها أو ّ ال تُدرك بكائن ناقص يفتقر إليها أص ً ال ،ولعلل أحد أهم األسباب إلرسال األنبياء والكتب الساموية هو أن يكونوا هداة نحو األهداف الكربى فكل هذه األمور بواعث ووسائل لتحقيق التنمية لإلنسان فكأن موضوع التنمية البرشية (اإلنسان) هو موضوع السامء ذاته وأن كل ما أرسله سبحانه من دواعي توجيه وهداية للبرشية إنام هي مسلطة عىل أساس جتسيد التنمية البرشية يف حياة اإلنسان
((( ظ :كامل احليدري ،فلسفة الدين ،مدخل لدراسة منشأ احلاجة إىل الدين وتكامل الرشائع.101- 100 ،
175
وصوالً لتحقيق الرفاه والنجاح يف الدنيا فض ً ال عن حتقيق املسعى األعظم والغاية املثىل وهي نيل الفالح يف اآلخرة ،وال يتحقق ذلك كله إىل بالتنمية البرشية هلذا قلنا سلف ًا أن التنمية البرشية هي مرشوع إهلي ولد مع والدة اإلنسان نفسه فالتنمية له وبه ومن اجله ،ومن املؤمل أن نجد املاديني حيومون بني أهداف صغرى للتنمية البرشية أو حتى لغريها بعيد ًا عن األهداف الكربى لبعدهم عن رشيعة اهلل تعاىل التي رسمت طريق اهلدى ،والتي تتكفل هداية البرش إىل والغايات األساسية ِ َ ش ٍء َخ ْل َق ُه ُث َّم َهدَ ى﴾(،)1 التي هبا ُينمى اإلنسان ويتكامل ﴿ا َّلذي أ ْع َطى ك َُّل يَ ْ فالتمية البرشية هي اهلداية و(اهلداية إراءة اليشء الطريق املوصل مطلوبه ،إما بإيصاله إليه بنفسه أو إىل طريقه املوصل إليه ،والظاهر أن املراد هداية كل يشء
إىل مطلوبه ،ومطلوبه هو الغاية التي يرتبط هبا وجوده)( ،)2فاآلية املباركة حتمل مدلول اهلداية حيث ظهر (أن املراد باهلداية العامة الشاملة لكل يشء دون اهلداية اخلاصة باإلنسان ،وذلك بتحليل اهلداية اخلاصة وتعميمها بإلقاء اخلصوصيات)
( )3فحذف متعلق الفعل (هدى) يف اآلية يفتح نطاق مضمون اهلداية عىل االطالق ليشمل اهلداية يف كل ما جتد فيه اهلداية ،وهبذا ندرك أن اهلداية هي السبيل واملسلك لنجاح اإلنسان ومن ثم فهي املعادل املوضوعي ملاهية التنمية ،فاهلداية هي أساس
((( طه ،اآلية .50 ((( حممد حسني الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القرآن.166 ،14 ، ((( املصدر نفسه.167 ،14
176
التنمية البرشية وهبذا فإن حق املخلوق (اإلنسان) عىل خالقه (اهلل) هي هدايته ووضع منظومة التنمية البرشية له وصوالً ملرتبة اإلنجاز والنجاح. ومن هنا تكون التنمية البرشية حجة عىل اإلنسان ُيلزم هبا ألهنا نعمة من نعمه سبحانه وتعاىل ،فمن يعرف طريق النجاح والنجاة وال يسلكه فهو آثم ألن اهلل الس ُبل فتجاىف. تعاىل دعاه هلذا وبسط له ُ وقد علق السيد احليدري مشري ًا إىل أهم السامت التي ميزت اإلنسان يف كونه خمتار ًا ،وأن االختيار يستلزم احلرية ،كام نجد اإلنسان قبال ذلك منصاع ًا إلرادة األهداف العليا التي حتكمه وحتكم الوجود بأرسه (فلكي يكون اإلنسان هادف ًا البد أن يكون حر ًا يف الترصف ليتاح له أن يترصف وفقا ملا تنشأ يف نفسه من أهداف ،فالرتابط بني املواقف العملية واألهداف هو القانون الذي ينظم ظاهرة
االختيار لدى اإلنسان)( ،)1ثم يعلق مشري ًا إىل وجود مصالح لإلنسان قسمهام عىل :مصالح طبيعية ممكن الظفر هبا من الطبيعة ،ومصالح اجتامعية التي يكفلها له النظام االجتامعي بوصفه كائن ًا اجتامعي ًا يرتبط بعالقة مع اآلخرين ،ولكي يتمكن اإلنسان من تأمني مصاحله الطبيعية واالجتامعية جيب عليه أن يعرف تلك املصالح وكيف تحُ قق أوالً ،وأن يملك دافع ًا يدفعه بعد معرفتها إىل حتقيقها ثانيا(،)2 وعىل أساس ذلك سيقع اإلنسان يف مأزق التناقض بني أهداف املصالح الطبيعية املنسجمة مع ذات اإلنسان وميوله وبني املصالح االجتامعية التي تسعى لتنظيم ((( كامل احليدري ،املذهب الذايت يف نظرية املعرفة.408 ،33 ، ((( ظ :املصدر نفسه.412 -406 ،
177
كافة العالقات واحلفاظ عىل توازهنا ،وبام أن اإلنسان غري ٍ قادر عىل إدراك القيم ال ،ونجده غري ٍ العليا الفتقاره إليها أص ً قادر عىل استيعاب األزمة وإكامل وإمتام ما نقص بسبب ميوله الذاتية ،لذا سيكون اإلنسان غري قادر عىل حتديد أهدافه العليا، فالرشد اإلنساين مهام بلغ عاجز عن أن حيدد الغايات الكلية للوجود بعيد ًا عن
الوحي(. )1 وهنا يأيت دور السامء لبيان سبل اهلداية ورسم معامل التنمية التي هبا (يتطور
املفهوم املادي لإلنسان عن احلياة وبتطوره تتطور طبيعي ًا أهدافها ومقاييسها)(،)2 ومن هنا ستكون أهداف التنمية البرشية يف املنظور اإلسالمي متوازنة بني تلبية حاجات اإلنسان الطبيعية الذاتية والتي تُعدّ أهداف ًا ثانوية للتوحد حتت األهداف الكربى للتنمية البرشية التي تسعى لتنظيم حياة البرش يف املجاالت كافة عل منظار السامء.
((( ظ :عبد الكريم بكار ،من أجل انطالقة حضارية شاملة ،أسس وأفكار يف الرتاث والفكر والثقافة واالجتامع.186 ، ((( كامل احليدري ،املذهب الذايت يف نظرية املعرفة.417 ،
178
( :)3مقاييس التنمية البشرية.
ارشنا من قبل إىل أن تأكيد أبعاد أي مفهوم ُيعدّ أمر ًا رضوري ًا ،وأن رضورته تكمن يف حتديد الفرق واجلمع بني وظائف مفردات ذات املفهوم ،وكذا قياسه باملفاهيم األخرى. أن هذا املطلب يتحدث عن إحدى أهم املفردات التي ترتبط ارتباط ًا وثيق ًا بقواعد وأسس مفهوم التنمية البرشية والتي نعني هبا مقاييس التنمية البرشية التي تُعدّ أحدى أهم املصطلحات التي ترتبط مع مفهومها ،وإن الدراسات والتقارير والبيانات التي تنضوي حتت هذا املفهوم هلا (أمهية كبرية يف جمال رسم السياسات ويمكن االستفادة من أجزائها الثالثة املتمثلة بالتحليل وجمموعة املؤرشات
االقتصادية واالجتامعية ،ودليل التنمية)(.)1 وما التقارير والبيانات إال مادة هذه األجزاء الثالثة ومعينها الذي من خالله ُيدرك مدى تطور حركة التنمية البرشية ،فعىل سبيل املثال يمكن معرفة مقدار تطور النمو البرشي باالعتامد عىل بيانات النمو االقتصادي ،وكذا هي احلال إىل مقاييس النمو الثقايف أو مقاييس التخلف أيض ًا( ،)2حتى بات من املس ّلم به أن
((( جمموعة من الباحثني ،دراسات يف التنمية البرشية املستدامة يف الوطن العريب، .413 ((( كل مفهوم له طرق وأدوات يقاس هبا ،إال أن الباحث أختار مفهوم التخلف دون غريه من املفاهيم ليسلط الضوء عىل مقاييسه لقناعته بأنه املفهوم املعكوس ملفهوم التطور ،وأن مؤرشاته ستخدم مطلبنا ،لذا سنقف عند هذا املطلب الحق ًا.
179
تكون تلك املؤرشات بمكانة انعكاس ًا للمفهوم ،فكلام تطور املفهوم وأخذ بعد ًا اصطالحي ًا جديد ًا تطورت معه املؤرشات واملقاييس لتتلبس وتتقمص ذلك الثوب االصطالحي ،إال أننا نجد أن بعض الباحثني عدّ مفهوم التنمية البرشية أوسع نطاق ًا من مقياس التنمية البرشية ،وإن هذا االطراد بني املفهوم واملؤرش ال يمثل مطابقته للواقع بالرغم من وجوده والعمل به( ،وبالتايل ومع تطور الدليل "املقياس" فأنه -أي الدليل -لن يعرب تعبري ًا تام ًا عن التنمية البرشية)(.)1 وهذا ما أكده أغلب الباحثني فقد قالوا (التنمية البرشية أوسع نطاق ًا من دليل التنمية البرشية ،فمن املستحيل التوصل إىل مقياس شامل –أو حتى جمموعة شاملة من املؤرشات– ذلك ألن أبعاد حيوية كثرية من أبعاد التنمية البرشية ال
يمكن قياسها كمي ًا)(.)2 وما ُيعزز الرأي أعاله هو أن مكتب القائم عىل إعداد تقرير التنمية البرشية يف برنامج األمم املتحدة اإلنامئي قد شدد عىل أن دليل التنمية البرشية ال يمثل بمفرده مقياس ًا شام ً ال وكافي ًا هلذه التنمية ،وإن البد من الرجوع إىل مؤرشات أخرى تستكمل هذا الدليل ،ومع ذلك يظل هذا الدليل دلي ً ال غري متكامل هدفه
((( جمموعة من الباحثني ،دراسات يف التنمية البرشية املستدامة يف الوطن العريب، مداخلة (البعد الصحي يف التنمية البرشية املستدامة) د .مهدي حمسن العالق.188 ، ((( املصدر نفسه ،اجلهود العربية يف تبني مفاهيم وإعداد تقارير التنمية البرشية املستدامة ،د .نبيل النواب.356 ،
180
تقديم صورة عن اخلطوات التي قطعتها البلدان والتي مازال يتعني قطعها( ،)1ومن اجلدير بالذكر أنه كلام وضعت ضوابط ًا لتحقيق هذا املطلب ،وجدت (أهنا غري متكاملة وال شاملة ،وبالتايل سيتم إعادة النظر يف مناقشتها ،بتوسيعها وتفصيلها، ليمكن اعتامدها كرشوط حتمل إمكانية التحول إىل مؤرشات ليتم اختاذها أساس للمقارنة)(.)2
وألمهية املؤرشات التي تُعدّ داللة عىل تطور النمو من عدمه اعتنى الباحثون والدارسون يف هذا الشأن ،فمنهم من عدّ (الدخل) معيار ًا ومقياس ًا ملستوى النمو، إال أن االعتامد عىل هذا الدليل ُيعدّ أمر ًا جيايف الصواب (ألن املؤرشات التي تعتمد عىل الدخل يف القياس تظل قارصةً؛ ألن الدخل ليس حاصل مجيع حياة اإلنسان، وهو ال يعدو كونه أحد اخليارات املهمة)( ،)3ولقد عانى الباحثون أول وهلة خطأ يف مقاييس التنمية البرشية ،إذ اقترص يف أغلب األحيان عىل اجلانب االقتصادي، حيث ارتبط إىل حد بعيد بالعمل عىل زيادة اإلنتاج الذي يؤدي إىل زيادة االستهالك، لدرجة أن أصبح معها حضارات أمم تقاس بمستوى دخل الفرد بعيد ًا عن تنمية خصائصه ومزاياه ،وإسهاماته اإلنسانية ،وإعداده ألداء الدور املنوط به يف احلياة،
((( ظ:جمموعة من الباحثني ،دراسات يف التنمية البرشية املستدامة يف الوطن العريب، ،356انظر مصادره. ((( مجال حالوة وعيل صالح ،مدخل إىل علم التنمية.207 ، ((( جمموعة من الباحثني ،دراسات يف التنمية البرشية املستدامة يف الوطن العريب، مقاييس التنمية البرشية – عرض وتقديم ،حممد املعموري.112 ،
181
وحتقيق األهداف التي ُخلق من أجلها(.)1 وما هذه النظرة الضيقة ملقاييس التنمية أو التنمية البرشية إال نتيجة حتمية لسوء فهم ماهية املفهوم ومغزاه ،حيث نُظر إليه من زاوية واحدة من دون مالحظة الزوايا األخرى ،حيث ُقيد التطور االجتامعي والسيايس وبقية املجاالت األخرى ألي جمتمع بالنمو االقتصادي وعد الدليل واملؤرش للتعبري عن التطور أو االنتعاش ،يف حني لو عدنا لقراءة مفهوم التنمية البرشية وما حيمل من دالالت ومضامني وأهداف ،لوجدنا أن قياسه عىل أساس مؤرش الدخل هي رؤية قارصة وخمالفة ملقتضيات تعريف املفهوم ،وأنه عىل الرغم من أمهيته وأثره يف سعة خيارات اإلنسان املرشوعة ،فإنه ال يتعدى ان يكون أحد املؤرشات ليس إال. بينام نجد قبال ذلك اهتامم ًا واسع ًا ومتزايد ًا بمقاييس التنمية البرشية منشأه عوامل عديدة خيتزهلا الباحث بام يأيت: 1.1تزايد االهتامم بذات مفهوم التنمية البرشية. 2.2كثرة تباين املقاييس التنموية فيام بينها بالرغم من اعتامدها عىل تقارير ودراسات وبيانات رسمية ودولية غنية بدقتها. 3.3االعتقاد بأن هذا املطلب هو الدليل احلقيقي والعميل الذي يقود إىل حتقيق التنمية البرشية. 4.4تُعدّ املقاييس ومؤرشاهتا أحد احلوافز املهمة لتحقيق التنمية البرشية ألهنا مبنية عىل أساس التحليل والقياس بني فئة أو حالة وأخرى.
((( ظ :إبراهيم حسني العسل ،التنمية يف الفكر اإلسالمي.13 ،
182
5.5النظر إىل أنه (كلام تعددت املتغريات املقاسة والدالة عىل التنمية البرشية كلام أدى ذلك إىل إعطاء صورة أكثر شموالً وأدق قياس ًا للتنمية البرشية)(،)1 لذا كانت العناية باملقاييس امر يف غاية اآلثر. ويرى الباحث أن دقة مقاييس التنمية البرشية وتطورها مرهون بتطور املفهوم، ومرهون بتغطيته جلميع مفرداته ومتطلباته الرئيسة والثانوية ،وكأن املقاييس جيب ال موص ً أن تكون صورة عاكسة ودلي ً ال إىل املفهوم ،وكذا يقتيض عىل مفهوم التنمية البرشية أن يكون بدرجة من الوضوح والبيان من حيث يصبح من املعتاد أن تكون مقاييسه دالة عليه. إن معرفة أمهية مقاييس التنمية البرشية مبنية عىل أساس موضوعها الذي ُيعدّ املحور الذي تدور حوله آلية التعامل مع الواقع الذي يعكس داللة النمو والتطور، فموضوع القياس (هذا ال يعدو كونه التعبري عن الكيفية التي يتم هبا قياس التنمية......وبالتايل يتعني علينا أن نجد أدوات للربط بني املدخالت الداخلة يف التنمية وبني خمرجاهتا بالعالقة مع حمور التنمية وهدفها الذي هو اإلنسان)(.)2 وبالعودة إىل مفهوم التنمية البرشية وموضوعه نجد ما يلفت االنتباه وهو: أن مصاديق مفهوم التنمية البرشية ودليلها خيضع حلركة التطور ،وإن خيارات الفرد الرشعية وما حييط به يف املجاالت كافة كذا تتطور هي األخرى ،مما يستلزم
((( أشواق عبد احلسن الساعدي ،الثقافة والتنمية البرشية.65 ، ((( جمموعة من الباحثني ،دراسات يف التنمية البرشية املستدامة يف الوطن العريب، مقاييس التنمية البرشية -عرض وتقديم ،حممد املعموري.113 – 112 ،
183
أن تتطور معه املؤرشات ومعايريها ،وهبذا سيكتسب مفهوم التنمية البرشية خصائص واحتياجات كل مرحلة ،فخالل اخلمسينات مث ً ال ارتبط املضمون بمسائل الرفاه االجتامعي ،وانتقل بعد ذلك إىل الرتكيز عىل التعليم والتدريب، ثم عىل إشباع احلاجات األساسية ،ليقدم مؤخر ًا برنامج األمم املتحدة اإلنامئي مضمون "القدرات البرشية" و "متتع البرش بقدراهتم املكتسبة"(.)1 ومن خالل قراءتنا ملا تقدم يتضح لدينا أن مقاييس التنمية البرشية تتباين عىل قدر تباين مصاديق مفهوم التنمية البرشية وتباين حاجات اإلنسان ،لذا ال يكون هناك معيار ومقياس خاص ملؤرشات التنمية البرشية عىل طول الوقت بل؛ حتى عىل بقاع األرض املتعددة يف الوقت الواحد ( ،)2إذ من املمكن أن نسمي بلد ًا ما
((( ظ :جورج القصيفي ،التنمية البرشية ،مراجعة نقدية للمفهوم واملضمون81 ، – .99 ((( هذا ال يعني أن مقاييس التنمية البرشية بال فائدة وبال جدوى بل بالعكس فإهنا ساعدت بشكل فعال إىل تكريس وتدعيم العملية التنموية حيث قدمت عدة فوائد منها: -1أمكانية املقارنة بني الوضع احلايل ووضع سابق ،وذلك ألخذ القيمة القصوى والقيمة الدنيا لكل مكون من بيانات النقطتني لغرض إجراء املقارنة. -2املقارنة بني الوضع احلايل واملستهدف ،وهذه املقارنة يمكن أن تكون أساس ًا جيد ًا لتقييم اخلطة ،ومساعدة متخذ القرارعىل تصويب اجتاهها -3.إجراء مقارنة بني دولة ما ودول أخرى متر بنفس املرحلة يف مدة بني نقطتني للتعرف عىل مدى التقدم الذي حققته كل منهام يف جمال التنمية البرشية. املصدر :ظ ،ندوة التحديات العربية للتنمية البرشية ،مركز البحرين للدراسات والبحوث، .61
184
نامي ًا نتيجة انعطافه نحو األفضل باجتاه األهداف املرجوة ،يف الوقت الذي ُيعدّ متخلف ًا قياس ًا بغريه من الدول أو املجتمعات األخرى األكثر تطور ًا وتقدم ًا ،وعليه فإننا نستطيع أن نقول إن عدم قبول اإلنسان لواقعه واالجتاه واالنعطاف بنفسه وحميطه نحو ما هو املستهدف األفضل ُيعدّ عني التنمية البرشية. ولعل السبب يف عدم ثبوت مقاييس التنمية البرشية واستقرارها مرجعه ٍ حمدود (سعة خيارات اإلنسان) كمحور أساس يف املفهوم ،حيث ُيعدّ بند ًا غري إطالق ًا ،مفاده جتدد حاجات اإلنسان املستمرة وعدم الوقوف عند مساحة معينة، إال أنه وعىل الرغم من ذلك كله انحرست تلك اآلراء يف ثالثة مؤرشات تقريب ًا، عدت مقاييس للتنمية البرشية وهي( :العمر املتوقع عند الوالدة ،ومعدل القراءة والكتابة بني الكبار ،ونصيب الفرد من الناتج القومي اإلمجايل)( ،)1أي إن املراد مما تقدم كام صورته بعض التقارير هي (أن حييا الناس حياة طويلة خالية من العلل وأن يكتسبوا املعرفة وأن حيصلوا عىل املوارد الالزمة ملستوى حياة كريمة)(.)2 فعىل الرغم من حتفظ الباحث عىل ما تقدم ملحدودية رؤية املقاييس وضيقها قياس ًا بالرؤية اإلسالمية القرآنية للتنمية البرشية ،فإن يف ما ورد أعاله هو رأي أغلب التوجهات الوضعية ،ومن هنا عد كثري من الباحثني أن مقاييس احلركة ((( جملة مؤتة للبحوث والدراسات ،مؤرشات التنمية البرشية العربية وتطورها، جملد ،8العدد.3،108 ((( جمموعة من الباحثني ،دراسات يف التنمية البرشية املستدامة يف الوطن العريب، اجلهد العربية يف تبني مفاهيم وإعداد تقارير التنمية البرشية املستدامة (جتربة سلطنة ُعامن)،د .نبيل النواب.351 ،
185
التنموية املتكاملة هي ثالثة ،حيث أشري إىل أهنا (قد تم بناء مقياس التنمية البرشية عىل نحو جيعله يعكس أهم أبعاد التنمية البرشية وهو ما يعرف بدليل التنمية البرشية الذي يتكون من ثالثة مكونات هي :الصحة ،التعليم والدخل)(.)1 فخالصة القول إن التباين بني مقاييس التنمية البرشية منشأه التباين يف املفهوم الواحد أو تطور املفهوم أو املفاهيم األخرى املتعددة ،حيث نجد يف حالة اعتامد مفهوم التنمية البرشية عىل احلاجات األساسية مث ً ال سوف ال يتعدى املتطلبات الرضورية ،عىل عكس لو أن املفهوم قد ُأحيط بمفهوم نوعية احلياة( )2الذي
(سيشمل مسائل تتعلق بالصحة والتعليم والسكن وما شابه ذلك ،أي ما أصطلح عليه باحلاجات األساسية ،فض ً ال عن مسائل أخرى كاحلرية واجلامل واالطمئنان واملساواة)( ،)3وكذا ستكون املقاييس متباينة عىل ضوء التباين يف املفهوم ،فاملقاييس عىل وفق مفهوم حتسني نوعية احلياة ستتعدى متطلباته مساحة احلاجات األساسية، ((( املصدر :ندوة التحديات العربية للتنمية البرشية 2004 ،مملكة البحرين ،مركز البحرين للدراسات والبحوث.60 ، ((( هو املفهوم األقرب ملفهوم التنمية البرشية واملوضوع لتقيم علم االجتامعي:وقياس مسألة الرفاه االجتامعي(.فهو مقياس مركب أوجده «جان درونسكي» احد علامء اإلمجاع لقياس نوعية احلياة بني الدول املختلفة والذي طور عام 1974م ،اشتمل عىل عدد كبري من املؤرشات ) املصدر :الثقافة والتنمية البرشية ،أشواق عبد احلسن الساعدي 69،موقع ألكرتوين. thiqaruni.org/gena/77/1%20(20).doc. ((( جمموعة من الباحثني ،دراسات يف التنمية البرشية املستدامة يف الوطن العريب، مقاييس التنمية البرشية ،114،انظر مصادره.
186
من حيث تكون املقاييس مبنية عىل أساس مستوى أعىل للرفاه االجتامعي (.)1
وبمقتىض ما أكدنا يف أن املقاييس تتأثر بتأثر املفهوم ،نجد هناك من أكد هذا
املطلب من باحثني وناشطني يف التنمية والتنمية البرشية ،إذ أشاروا إىل أن معرفة
العوامل االقتصادية واالجتامعية والسياسية للبلدان املتخلفة واملتقدمة يعيننا يف استرشاف معامل الطريق إىل مؤرشات التنمية(.)2
ولكي نكون موضوعيني وواقعيني علينا أن نشري إىل أنه عىل (الرغم من
التنوع الكبري يف املقاييس املطروحة لقياس مديات التنمية البرشية -والذي هو
عائد ومنبثق من أن لإلنسان احتياجات متنوعة -إال أن هناك اتفاق ًا وإمجاع ًا عىل املقاييس الثالثة األساسية املشار إليها يف أغلب تقارير التنمية البرشية التي أصدرها برنامج األمم املتحدة اإلنامئي إىل الوقت احلارض)(.)3
((( يتباين الرفاه االجتامعي وفق مفهوم نوعية احلياة بحسب مقاييسه التي تتباين هي األخرى بني أشهر مدرستني « الذاتية واملوضوعية» فمقاييس املدرسة املوضوعية تركز عىل قياس مؤرشات مثل مستوى التعلم والصحة ،بينام املدرسة الذاتية تعطي أمهية كبرية إلحساس الناس بالسعادة والرفاه والتعلم ،ألن يف كثري من األحيان قد يتوفر إشباع معني يف املستوى املوضوعي ،لكن الناس ألسباب معينة يشعرون بالتعاسة. املصدر:ظ :جمموعة من الباحثني ،دراسات يف التنمية البرشية املستدامة يف الوطن العريب ،مقاييس التنمية البرشية .114، ((( ظ ، :إبراهيم حسني العسل ،التنمية يف الفكر اإلسالمي.44 – 40 ، ((( أشواق عبد احلسن الساعدي ،الثقافة التنمية البرشية.69،
187
وأن املقاييس الوضعية للتنمية البرشية تكاد تنحرس يف األبعاد األتية: أوالً :البعد األول ،الصحة (.)1 ثاني ًا :البعد الثاين ،املعرفة (.)2
ثالث ًا :البعد الثالث ،مستوى املعيشة (.)3
((( قياس هذا املؤرش يكون بمتوسط العمر املتوقع عند الوالدة يف بلد معني واعتامد ذلك القياس بوصفه يمثل املجموعة بكاملها( ،فطول العمر يستخدم كداللة عىل التغذية الكافية والصحة اجليدة ومدى توافر العناية والرعاية واخلدمات الطبية للفرد يف البلد املعني) .املصدر :حمسن عبد احلميد توفيق ،التنمية املتواصلة والبيئة يف الوطن العريب.17، ((( يقوم املؤرش بتسليط الضوء عىل التحصيل العلمي لرصد مستوى التعليم يف بلد معني ،حيث ( يقاس بمزيج من معدل معرفة القراءة والكتابة بني البالغني ،ونسب القيد يف مراحل التعلم االبتدائي والثانوي والعايل ،وأن املتغريات التي يتضمنها هذا املؤرش تتعلق بتكوين رأس املال البرشي الذي يؤدي بدوره إىل زيادة القدرة وأتساع املشاركة يف حياة املجتمع) .املصدر :جمموعة من الباحثني ،دراسات يف التنمية البرشية املستدامة يف الوطن العريب ،مقاييس التنمية البرشية ،حممد املعموري.118، ((( يقاس هذا املؤرش بنصيب الفرد من الناتج املحيل اإلمجايل ،وقد وصف األستاذ املعموري يف تقريره املقدم لدار احلكمة عام 2000م هذا املقياس عىل أنه املؤرش الذي ُيعد كناية عن مجيع أبعاد التنمية البرشية التي ال تنعكس يف البعدين الصحة واملعرفة، وأن هذا البعد أو املؤرش يعرف من نصيب الفرد من الناتج املحيل اإلمجايل ،أي (بأنه الناتج القومي اإلمجايل مقسوما عىل عدد السكان ،ويعرب عن هذا النصيب عادة بالدوالر) أو بغريه من العمالت.املصدر :حمي الدين خريي ،مؤرشات التنمية البرشية العربية وتطورها.18 ،
188
لقد عد بعضهم البيئة ( )1بعد ًا رابع ًا ،كام ذهب آخرون إىل رضورة (توسيع نطاق دليل التنمية البرشية بحيث يشمل الدليل املوسع عىل مؤرشات "خمرجات" للمكونات املختلفة ومنها :البيئة ،الغذاء والتغذية ،األمان الوظيفي ،السكن، األمان الشخيص ،املشاركة واحلرية السياسية ،املياه النقية الصاحلة للرشب ،حمو األمية الوظيفية والتعليم)(.)2
فعىل الرغم من املحاوالت الكثرية لرصد حركة التنمية البرشية ومدى قوة حركتها فإننا ال نستطيع أن نعد ما تقدم هي مقاييس حقيقية للتنمية البرشية، فيجب االنتباه إىل القصور الذي يشوب هذه املقاييس ،حيث مجيع ًا ليست سوى متوسطات حسابية ال يظهر أي منها التباين سوى العمر بني الفئات املختلفة من السكان ،أو مستويات القراءة والكتابة وخصوص ًا بني الذكور واإلناث كذلك ال
يظهر التفاوت يف توزيع الدخل( ،)3نعم بإمكاننا أن نعدها مؤرشات من املمكن للباحث أن يستأنس هبا لقياس حركة التنمية البرشية ،وأن مبنى عدم اعتامد تلك ((( ذهب بعض من الباحثني إىل مقرتح يرمي لتوسيع نطاق دليل التنمية البرشية بحيث يشمل مفردات أخرى تعد مؤرشات إضافية ،مثل البيئة التي كثر احلديث عنها، واملراد من ذلك أن البلد الذي تتسع فيها رقعة األرض اخلرضاء املزروعة ُيعد بلد ًا نامي ًا، أي كلام زادت رقعة اخلضار ،كلام زاد البلد نمو ًا قياس ًا بغريه من البلدان. ((( جمموعة باحثني ،دراسات يف التنمية البرشية املستدامة يف الوطن العريب ،مقاييس التنمية البرشية -عرض وتقديم ،حممد املعموري.133-132 ، ((( ظ :حمسن عبد احلميد توفيق وآخرون ،التنمية املتواصلة والبيئة يف الوطن العريب، .18
189
مبني عىل ما يأيت :رفض اعتامد قياس اجلزء -جمموعة املؤرشات بالصورة القطعية ٌّ أفراد -عىل الكل أوالً ،اجلهل بنمط حتقيق تلك املؤرشات ثاني ًا ،عدم اعتامد تلك املؤرشات وتطبيقاهتا لقياس نوعية احلياة ثالث ًا ،فأن مؤرش (متوسط عمر اإلنسان) أو العمر املتوقع عند الوالدة يف بلد ما ال يعطي لنا تصور ًا عن طبيعة هذه احلياة ألن ذلك مرهون بجملة من األمور قد تكون خارجة عن نطاق العناية بصحة اإلنسان ،لذا ال نستطيع أن نعده مؤرش ًا حقيقي ًا ملقياس سالمة اإلنسان البدنية والنفسية وحتى العقلية التي ترتبط هبذا العامل بنسبة ما ،أما فيام يتصل بمؤرش مستوى دخل الفرد ومقدار نصيبه من الدخل اإلمجايل ،فهو عىل املنحى نفسه من املؤرش السابق ،فالقياس به ال يعني حقيقية مستوى دخل الفرد وال يعكس عدالة توزيع الثروة من عدمها ،أما فيام خيص املؤرش الثالث وهو التعليم ،فكذا هو ال بظهر حقيقة مستوى التعليم وما مدى تأثريه يف إكساب اإلنسان للعلم ،ودوره يف إنامء قدراته ،وهكذا احلال إىل البيئة التي أضيفت مؤخر ًا من قبل البعض كمؤرش مهم، فإن الكثرة يف املساحات اخلرضاء ال ُيعدّ مقياس ًا تنموي ًا مقارنة ببعض الدول ذات املساحات اخلرضاء التي ُيعدّ نموها طبيعي ًا ،وكذا هي حال بقية املؤرشات ،إال أننا نستطيع االستئناس هبا مجيع ًا وبغريها كقرينة ُيقاس هبا نمو هذا الفرد أو ذاك املجتمع أو تلك الدولة ،وهلذا نجد هناك من قسم العامل عىل أساس تلك املؤرشات ومقاييسها إىل بلدان ذات تنمية برشية عالية ،وبلدان ذات تنمية برشية متوسطة، وبلدان ذات تنمية برشية منخفضة ،وذلك اعتامدا عىل دليل التنمية البرشية (.)1 ((( ظ :إبراهيم العسل ،التنمية يف الفكر اإلسالمي ،33 ،انظر مصادره.
190
وأخري ًا فالباحث حيسب أن التنمية البرشية متعددة األبعاد وبعيدة األهداف لذا جيب أن تكون هناك آلية أوسع وأشمل لرصد حركتها ورصد تطورها اإلنامئي عىل صعيد الفرد واملجتمع ،مما يقتيض يف هذه احلالة اعتامد ما يأيت: •اعتامد املقاييس عىل ذات مبادئ املفهوم وعده أس ًا هلا ،فيجب أن تكون هذه املحاوالت جادة ،وتشمل مضامني املفهوم وتستوعب مفرداته. •حتمية االرتقاء بمفهوم التنمية البرشية إىل مرتبة التعبري عن نوعية احلياة (باالنتقال من احلاجات األساسية إىل املستويات العليا من الرفاه والتنعم )(.)1 •رضورة االستعانة باملعايري الفنية التي تبتكر بيانات كمية ونوعية (وتعترب املسوح ،األبحاث امليدانية والبيانات اإلدارية مصادر هامة جلميع البيانات
الالزمة لقياس التنمية)(.)2 •رضورة عدم اعتامد معايري ثابتة ملقياس التنمية البرشية ،واطرادها مع تطور املفهوم وتطور اإلنسان واتساع خياراته ،ألن خيارته تتسع وتتطور وتتغري بمرور الزمن. •عدم الوقوف عند ذات املؤرش يف حالة بلوغه؛ بل يقتيض تغريه تناغ ًام مع التطور احلاصل ،ومثاله عدم االكتفاء بمحو األمية (القراءة والكتابة) يف ((( جمموعة من الباحثني ،لتعديل مقاييس التنمية البرشية .191، HDI ((( مسار التنمية البرشية29 ، www.reefnet.gov.sy/boosproject/fikr/8/nathrat.pdfموقع ألكرتوين.
191
حالة بلوغها ،والعمل عىل حمو األمية الرقمية (أمية احلاسبة) كمرحلة متطورة أخرى ،حيث أصبحت مؤرش ًا يقاس به ختلف الفرد أو املجتمع بالرغم من قراءته وكتابته أو حيازته عىل الدراسة اجلامعية.
192
الثانيالثاين الف�صل :التنمية البشرية منهج قرآني. الفصل أوالً :الخصائص القرآنية لمفهوم التنمية البشرية وموضوعه. -1مفهوم التنمية البرشية يف املنظور القرآين.
-2موضوع التنمية البرشية يف القرآن الكريم.
-3خصائص التنمية البرشية يف ضوء القرآن الكريم.
193
194
( :)1مفهوم التنمية البشرية على وفق المنظور القرآني.
إن مصطلح التنمية البرشية ُيعدّ من املصطلحات احلديثة يف ميدان املعرفة ،إذ شاع صيت ُه يف العقد األخري من القرن العرشين ،وبان أثر حركته من خالل البحوث العلمية والتقارير الدولية التي سعت لرصد حركة اإلنسان وتتبع نموه وتطور مستواه احليايت ،وعىل الرغم من حداثة هذا املصطلح فمفهومه ومضامينه مل تكن جديدة عىل ساحة اإلنسانية ،هذا إذا ما قلنا أن املضمون قد اقرتن بوجود اإلنسان، وامتد بامتداده وتطور بتطوره ،كام ال نجده بعيد ًا عن منأى اإلسالم وميدانه ،فقد حفل القرآن الكريم بكثري من اآليات التي حتمل مضامني التنمية البرشية ،بل نجده حيمل مضامني مفرداهتا حتى وصل إىل رصد بعض املؤرشات التي تُعدّ أحد مقاييس املفهوم ،هذا فض ً ال عن تعرضه – القرآن الكريم– إىل الركائز والعنارص األساسية للتنمية البرشية من خالل فهم السياق القرآين ومدلول آياته. إن النظرة اإلسالمية والقرآنية للتنمية البرشية أكثر شموالً وتكام ً ال واستيعاب ًا عن النظرة الوضعية له ،وللتعرف اىل التنمية البرشية عىل وفق املنظور اإلسالمي يتطلب منّا اإلحاطة بذات املفهوم ،إال إننا استوفينا هذا املطلب يف املباحث السابقة( ،)1كام أستقر رأي الباحث عىل تعريفه اإلجرائي الذي نص عىل أن التنمية البرشية التنمية البرشية هي :عبارة عن عمليات إجرائية منظمة عىل وفق رؤية فكرية منتخبة هتدف لتطوير القوى الكامنة يف اإلنسان بصقلها وتوجيهها نحو حتقيق طموحاته ((( راجع ص 50 - 42من الكتاب.
195
بغية إشباع حاجاته املرشوعة يف شتى جماالت احلياة (.)1
ومن خالل تسليط الضوء عىل هذا التعريف جيد املتتبع أن الباحث أختلف بتعريفه هذا عن بقية التعريفات بام يأيت: أوال :حماولته يف اقرتان النظرية بالعمل ،إذ وجدت بعض من التعريفات تؤكد احد املطالب من دون االلتفات إىل املطلب اآلخر.
ثانيا :رضورة إسناد العمليات اإلجرائية إىل منظومة فكرية أو رؤية كونية ترتكز عليها ،كام هي حال التنمية البرشية يف املنظور اإلسالمي ،وهذا يعني إرواء أبعاد ومعطيات التنمية البرشية من روافد األدلة الرشعية واعتامد مفرداهتا عليها والذي ُيعدّ القرآن الكريم أحدها ،فاإلشارة إىل "املنظومة الفكرية" يف التعريف كان املراد منها ذلك.
()2
((( راجع ص 50من الكتاب. ((( الرؤية الكونية تعني النظم الفكرية والعقائدية التي حيملها اإلنسان لتفسري احلياة يف خمتلف جماالهتا . فهي اإلجابة عن املحاور التالية :معرفة الوجود ،معرفة اإلنسان ،معرفة السبيل. وعىل ضوء هذا التقسيم قسم العلامء احلكمة إىل قسمني: · حكمة نظرية :وهي تصور الوجود كام هو يف اخلارج ،وهي التي هتتم يف معرفة الوجود واإلنسان. · حكمة عملية :وهي فهم خط سرية احلياة كام ينبغي ،وهي احلكمة التي توضح تعرف اإلنسان ماهيته وسبيله ،فام ينبغي نتيجة طبيعية ملا هو موجود. ظ :مرتىض مطهري ،الرؤية الكونية التوحيدية 8 ،كامل احليدري ،مناهج املعرفة عند اإلسالميني.191 ،
196
ثالثا :لقد نص التعريف عىل قيد أن تكون عملية إشباع حاجات اإلنسان وتأمني تلبية طموحاته باملرشوعة ( )1عىل خالف بقية التعريفات التي مل تشرتط هلذا القيد بتات ًا او تشري إليه ،مما اضطروا الحق ًا أن يعلقوا برشوحات أو أن يقيدوا التعريف بقيد آخر كام يف إضافة كلمة (االستدامة) إىل التنمية البرشية ،فحاجات الفرد وطموحاته جيب أن تكون مرشوعة بجانبني اثنني مها :مطابقة حاجات اإلنسان عىل وفق املنظومة الفكرية التي يرتبط هبا ،كام هي حال رشعية حاجات املسلم، الواجب تأمينها عىل وفق الرؤية الكونية ،واجلانب اآلخر هو لزوم أن تكون تلبية احلاجات الفردية أو العامة ال تتقاطع مع القيم اإلنسانية العامة ،فالغاية ال تربر الوسيلة مطلق ًا. رابعا :إن أطالق عبارة «رؤية فكرية منتخبة» من دون تقييدها قصد الباحث منه ،هو تأسيس مفهوم علمي حيمل مضمون التنمية البرشية بموضوعية بعيد ًا عن ضيق األفق قريب ًا ملنهج البحث العلمي. وتأسيس ًا عىل ما تقدم كان قيد عنوان فصلنا اجلديد التنمية البرشية عىل وفق رؤية القرآن الكريم ،كي يتسنى لنا تسليط الضوء عىل املفهوم عىل وفق الرؤية
((( لقد عرف األستاذ حمبوب احلق التنمية البرشية هي( :عملية ترمي لتوسيع خيارات الفرد) ،أو(عملية توسيع للخيارات املتاحة أمام الناس) ،علام أن هذا التعريف قد أقر يف برنامج األمم املتحدة اإلنامئي منذ عام 1990م أيضا. ظ :تقرير األمم املتحدة لعام 1990م أشواق عبد احلسن الساعدي ،الثقافة والتنمية البرشية 20،حمسن عبد احلميد توفيق وآخرون ،التنمية املتواصلة والبيئة يف الوطن العريب 17 ،إبراهيم العسل ،التنمية البرشية يف الفكر اإلسالمي.24 ،
197
القرآنية حرص ًا ،ملا يف القرآن الكريم من آيات حتمل بداللتها الكثري من مضامني التنمية البرشية. أما فيام يتصل بمرادفات التنمية أو التنمية البرشية يف القرآن الكريم فهي كثرية ومتنوعة( ،)1ومن املمكن استنباطها من املفردة القرآنية ومن املعنى اإلمجايل
((( لقد عرض الدكتور مجال حممد أمحد عبده إىل جمموعة من املرادفات للفظ
(التنمية) يف القرآن الكريم ،إال أن الباحث سيذكر البعض منها لقناعته ببعضها تارك ًا البعض اآلخر لبعدها نسبيا بحسب وجهة نظره ،ومرادفات التنمية هي:
َّاها﴾الشمس.9 : أوالً التزكية :إذ تعد الزيادة والكثرة ك ًام ونوع ًا ﴿ َقدْ َأ ْف َل َح َم ْن َزك َ
ثاني ًا :الرتبية :وهي تعني التنمية والزيادة وتتعلق بالقوة اجلسدية ،والعقلية واخلُلقية ومصداقها قوله تعاىلَ ﴿ :و ُق ْل َّر ِّب ْارحمَ ْ ُهماَ َكماَ َر َّب َيانيِ َص ِغري ًا ﴾اإلرساء.24 : ثالث ًا ،التكثري أو التكاثر :واملعنى هنا نقيض التقليل أو القلة وهي الزيادة والتسابق يف الكثرة لقوله تعاىلَ ﴿:وا ْذك ُُروا إِ ْذ كُنت ُْم َق ِلي ً ال َف َك َّث َرك ُْم ﴾األعراف.86 :
رابع ًا ،الربكة :فهي تعني النامء والزيادة والسعادة واخلري ومصداق ذلك قوله تعاىل: ض َو َم َغ ِ ون َم َش ِ ار َق األَ ْر ِ ﴿و َأ ْو َر ْثنَا ا ْل َق ْو َم ا َّل ِذي َن كَانُوا ُي ْست َْض َع ُف َ اربهَ َا ا َّلتِي َب َار ْكنَا َ
فِ َيها﴾األعراف.137 :
خامس ًا ،اإلنبات أو التنبيت :فهي تعني التنشئة والعلو واالرتفاع والربوز ومصداق ذلك قوله تعاىلَ ﴿ :ف َت َق َّب َل َها ر ا بِ َق ُب ٍ ول َح َس ٍن َو َأ ْن َبت ََها َن َبات ًا َح َسن ًا ﴾آل عمران.37 : َ بهُّ َ
عرض الدكتور إىل مرادفات أخرى للتنمية كالتثمري والتنشئة والنشور والنشوز والبناء وعدها مرادفات ملفهوم التنمية إال أننا وجدنا أهنا خارج عن الرتادف املطلوب
198
.
لسياق آية أو جمموعة آيات ،بالرغم من عدم عرض القرآن الكريم ملصطلح
خصوص ًا إذا علمنا أن التنمية تعني لنا االجتهاد يف الزيادة غري الطبيعية املطردة بأثر تفاعل املؤثرات اخلارجية ،نعم بإمكاننا أن نجعل مما اعرتضنا عليه مصداقا للتنمية البرشية ،ألن الفارق بني النمو واإلنامء كبريا ،فاألول :يعني النمو الطبيعي ،ويف الثاين: النمو غري الطبيعي احلاصل نتيجة ومؤثرات خارجية غري طبيعية.
بينام نجد الكثري من الباحثني ومنهم الدكتور سعد عبد اهلل حمارب الذي ذكر يف معرض
بحثه املعنون اسس التنمية البرشية من منظور إسالمي ،أن التغري من املرادفات أو من أسس التنمية يف النص القرآين مستشهدا بقوله تعاىل﴿ إِ َّن اللهََّ ال ُي َغيرِّ ُ َما بِ َق ْو ٍم َحتَّى ُي َغيرِّ ُ وا َما بِ َأن ُف ِس ِه ْم ﴾( ،الرعد ،)11:وهو احلق ألن التنمية تسعى لتغري اإلنسان ومهاراته وإمكاناته نحو األفضل ،واكتساب كل جديد عىل أن يكون التغري اجيابيا ،فليس التغري
مطلوبا لذاته ،وإنام لغاية اجيابية يعمل من أجلها.
بينام أشار يف صدد هذا املوضوع األستاذ حممد جواد شبع قائال( :فلم نجد يف القرآن
الكريم استعامال ملصطلح النمو أو التنمية يف معرض احلث واألمر ولكننا نجد بدالً من ذلك عدد ًا من املصطلحات املرادفة ،ومنها االعامر ،االبتغاء من فضل اهلل والسعي يف األرض ،وإصالح األرض وعدم فسادها ،ونشدان احلياة الطيبة)
ظ :مجال عبده ،دور املنهج اإلسالمي يف تنمية املوارد البرشية( .221-217 ،بحث)
املصباح ،التنمية يف القرآن الكريم ،حممد جواد عباس شبع ،العدد 170 ،9جملة الوعي اإلسالمي ،موقع الكرتوين،
alwaei.com/topics/current/article_new.php?sdd=2249&issue=532
199
التنمية رصاحة ،وهذا ال يعني زهده يف هذا املطلب بل العكس ،فالقرآن الكريم مل يعرض ملصطلحات تتغري وتتأثر بحكم الظرف الزماين أو املكاين ،يف حني أن القرآن الكريم ُيعدّ بحكم سامويته عاملي ًا ،متكامالً ،شمولي ًا ،واسع ًا ،معجز ًا ماضي ًا وحارض ًا ومستقبالً ،فمنه نستسقىص منه مفاهيم ومعاين ومضامني كل العلوم، فهو األساس الذي ُيقاس عليه وليس العكس( ،)1إذ ال يصح أن ن ُّح ِمل القرآن الكريم ما ال ينطق به بحجة وجود استدالالت علمية تطبيقية أو عقلية اجتامعية، بحيث ُيعدّ النظر ( يف ذلك تطبيق وليس بتفسري)( )2فهذا ما ال يمكن القول به أو فرضه عىل النص القرآين مطلق ًا . واحلق أن اإلسالم ينظر إىل التنمية البرشية عىل أهنا صومعة بناء اإلنسان وتسخري البيئة له وتذليل الصعاب وتطوير ما حييط به إلسعاده وحتقيق طموحاته ،فاإلنسان يف املنظار القرآينُ : (خلق عىل كامل يف نفسه واعتدال يف جوارحه)( )3لقوله تعاىل: ﴿ َل َقدْ َخ َل ْقنَا ا ِ ان يِف َأ ْح َس ِن َت ْق ِويمٍ﴾( ،)4كام منح أعىل املراتب بتكريم اهلل نس َ إل َ
((( ُينقل عن احلبيب املصطفى nأنه قال(:اذا جاءكم عني حديث فاعرضوه عىل ض احلائط) املصدر: كتاب اللهَّ تعاىل فام وافق كتاب اللهَّ فاقبلوه و ما خالفه فارضبوا به عر حممد الفيض الكاشاين ،تفسري الصايف ج 1ص 36السيد عيل خان بن أمحد كبري املدين، رياض السالكني يف رشح صحيفة س ّيد الساجدين ،ج ،5ص.440
((( حممد حسني الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القرآن.11 ،1 ،
((( الطربيس ،جممع البيان يف تفسري القرآن ،مج.179 ،30 ،6 ((( التني.3 :
200
تعاىل إليه﴿ و َل َقدْ كَرمنَا بنِي آدم وح ْلنَاهم يِف ا ْلب وا ْلبح ِر ور َز ْقنَاهم ِمن ال َّطيب ِ ات َّ ْ َ َ ُ ْ ْ ِّ َ َ َ َ مَ َ ُ ْ رَ ِّ َ َ ْ َ َ َاه ْم َع ىَل ك ٍ َثِري مِم َّ ْن َخ َل ْقنَا َت ْف ِضيالً﴾( )1واستأمنه عىل الوالية اإلهلية واستخلفه َو َف َّض ْلن ُ يف األرض لقوله سبحانه تعاىل﴿ :إ ج ِ اع ٌل يِف األَ ْر ِ ض َخلِي َف ًة ﴾(.)2 ِنيِّ َ فرفعة مكانة اإلنسان يف التنمية البرشية القرآنية ال تضاهيها منزلة قياس ًا بمنزلته يف الدراسات التنموية الوضعية ،بالرغم من وجود بعض املشرتكات بني التنميتني، إذ نجد أن منحى التنمية البرشية يف القرآن الكريم هو ذات منحى التنمية البرشية بمفهومها العام والشائع يف األوساط العلمية ،فإننا نلمس التباين واضح ًا حينام ندخل يف اجلزئيات والتفاصيل ،وكذا يف الغايات وإن اتفقتا يف بعض األهداف واملوارد األخرى. إن اختالف مفهوم التنمية البرشية القرآين عن املفهوم السائد يف الفلسفات الوضعية مرجعه ذات املزية التي متيزت هبا مفاهيم الرؤية اإلسالمية وسامهتا من بقية الرؤى األخرى ،مما عد العلة احلقيقية وراء هذا التباين يف فهم اإلنسان واحلياة والكون ،فالرؤية الكونية هي التي حتدد معامل الطريق حلركة املفاهيم األخرى ورؤاها داخل دائرهتا وهي التي تتحكم بحركة مساراهتا عىل وفق مؤرشات البوصلة الرئيسة التي متثل خلفية أي نظرية. إذ ُيعدّ وقوفنا عند التنمية البرشية القرآنية وقوف ًا عند مضامني الرؤية الكونية اإلسالمية وأحكامها الرشعية ،فالغوص يف معرفة غاية ومقصد التنمية البرشية يف ((( اإلرساء.70: ((( البقرة.30 :
201
القرآن الكريم هو ذات الغوص يف مقصد الرشيعة املقدسة واحكامها ،أذ يعمل احلركة نفسها وبطول مطلب ومنهج رشيعة السامء ،ومن هنا كان االهتامم يف قضية املالك يف احلكم ،لعلمنا أن (يف كل حكم وجويب أو حتريمي مالك أي وجود
مصلحة أو مفسدة موجبة لترشيعه)( )1بنا ًء عىل حكمة املرشع وعدالته. فالتنمية البرشية هلا موقع ريادي يف عموم الرشيعة املقدسة وكذا القرآن الكريم الذي ُيعدّ اصل منابعها األساس ،حيث نلمس ذلك واضح ًا حني نبحث يف مقاصدها بني آية أو رواية أو حكم فقهي ،فنلمس تأصيل ذات هدف الرؤية اإلسالمية يف حتقيق سعادة وطموحات اإلنسان ،وان املتتبع للمصالح التي قصد الفقه حتقيقها جيد ثالثة مقاصد تستقيم احلياة االجتامعية هبا وهتنأ ،ومقصد الرشيعة اإلسالمية هو حتقيق مصالح العباد باإلجياد هلا أوالً ثم حفظها ثاني ًا ،وهذه املصالح
هي حفظ الرضوريات وحتقيق احلاجات وضامن التحسينات( )2وهذا هو عينه غاية التنمية البرشية ومرادها. ولقد فرس الشاطبي املقاصد الرضورية (بأهنا املقاصد التي ال بد منها من قيام مصالح الدين بحيث إذا فقدت لن جتر مصالح الدنيا عىل استقامة بل عىل فساد، والرضوريات التي ال تستقيم احلياة دون حتقيقها هي رضورة حفظ الدين والنفس
((( جلنة التأليف مؤسسة البالغ ،مفاهيم حضارية.33، ((( ظ :عبد الكريم زيدان ،الوجيز يف أصول الفقه.379 ،
202
والعرض واملال والعقل)( ،)1وعند التأمل يف املحاور واملصالح أعاله نجدها هي هي حماور التنمية البرشية فهي تسعى لتحقيق هذه األمور الغري. مبني عىل القاعدة التي تنص عىل»جلب املصالح إن اعتامدنا يف هذا املطلب ٌّ ودرء املفاسد « والتي اعتمدت عىل أساس مبدأ منفعة اإلنسان قبل كل يشء حيث (جيب أن ال ننسى أن الغاية من الرشيعة وبيان األحكام الرشعية هي إجياد احللول واملشاكل التي يعانيها اإلنسان)( ،)2وهذا يستدعي أن نؤكد (أن الترشيع واحلرمة
والوجوب تشخيص حلقائق املوضوعات والسلوكيات اإلنسانية ( )4())3حتديد ًا. وبام أن التنمية البرشية يف اإلسالم عموم ًا ويف القرآن الكريم خصوص ًا تتبنى منهج دفع الرضر عن اإلنسان وجلب املنافع إليه وسد حاجاته وحتقيق طموحاته فهي تعمل بطول األحكام الرشعية وتدخل حتت نطاق الرؤية القرآنية ،فالغاية من األهداف هي معرفة مقاصد الرشيعة و ُيعدّ هذا أمر ًا رضوري ًا للمكلف َّ ألن ( فيه
((( الشاطبي ،املوافقات.504، ((( حممد عيل أيازي ،مقاصد األحكام الرشعية وغاياهتا ،دراسة يف سبل اكتشاف املالكات .27-26 ، 1، ((( استنادا إىل وجود مالك يف كل حكم رشعي يبني مصلح أو مفسدة موجبة لترشيعه أي يعني إن األفعال اإلنسانية واألشياء حتمل وصفا ذاتيا من الرضر والنفع باعتبار أن احلسن والقبح ذاتيان ظ :مؤسسة البالغ ،مفاهيم حضارية.33 ، ((( ظ :مؤسسة البالغ ،مفاهيم حضارية.33 ،
203
كل حركة تكمن يف معرفة الغايات واألهداف العامة لتلك احلركة )(.)1 والبحث يف معرفة غاية الترشيع ُيعدّ وازع ًا لنمو وتطور اإلنسان وأدائه ،حيث نجد العمل التنموي يتجىل نظري ًا وعملي ًا عندما تحُ دد األهداف وتُعرف املقاصد، إال أن األمر مل ينحرس عند حد معرفة علة الترشيع فحسب ،بل عملت التنمية البرشية القرآنية مع باقي مصادر الترشيع عىل ترويض اإلنسان وجتنيده لرضورة
لزوم االمتثال ألمر اهلل تعاىل تعبد ًا( ،)2لتسليمه -اإلنسان -بحكمة الشارع املقدس وملسعاه بكسب رضاه سبحانه وتعاىل الذي ُيعدّ اهلدف األساس للتنمية البرشية يف القرآن الكريم.
فتسليم اإلنسان للرؤية الكونية الساموية والرؤية اإليديولوجية هلا( ،)3يعني االنعطاف به نحو العدالة االجتامعية التي تُعدّ العلة احلقيقية لتطور وإنامء كل األمم والشعوب ،حيث تبنت عالجها املنظومة اإلسالمية والقرآنية من خالل اللجوء إىل فهم واستيعاب ذات املفهوم والتعامل مع نشاطاته التنموية عىل أساس ((( حممد عيل ايازي ،مقاصد األحكام الرشعية وغاياهتا.34 ،1 ،
((( (يراد بالتعبد التسليم هلل تعاىل فيام أمر به وإن كان املأمور به مل نعلم املصلحة فيه) أصول الفقه ،حممد رضا املظفر .69،1 ((( هناك عالقة مرتابطة بني الرؤية الكونية «احلكمة النظرية» وبني الرؤية األيديولوجية « احلكمة العملية» فاألوىل هي القوة التي من شأهنا العلم والثانية من شأهنا العمل . ظ :جعفر سبحاين ،رسالة يف التحسني والتقبيح ،مؤسسة 33،كامل احليدري ،فلسفة الدين.17-16،
204
خريطة الرؤية الكونية وعالقتها مع اإلنسان ،الكون ،احلياة. من هنا نجد اختالف ًا جديد ًا فرض نفسه عىل الساحة الفكرية بني رؤية التنمية البرشية يف اإلسالم والقرآن وبني التنمية البرشية الوضعية أو يف عموم الرؤيتني التي تناولتا املشكلة االجتامعية عىل أساس أهنا العلة وراء التباين لكثري من األبعاد واملعطيات ،حيث عد السيد حممد باقر الصدر أن املصلحة املادية اخلاصة التي أقامها النظام الرأساميل مقياس ًا ومسوغ ًا وهدف ًا وغاي ًة تلك الفكرة هي األساس
للبالء االجتامعي يف فشل حتقيق سعادة اإلنسان وتوفري كرامته (.)1 ثم عرج السيد الصدر إىل أن العقدة يف الفكرة تكمن يف التفسري املادي املحدود للحياة ،وأن اإلنسان يف هذا النظام ال يمكن أن يكسب من هذه احلياة غاية إال
اللذة التي توفرها له املادة ،وان حب الذات( -)2الغريزة الطبيعية لإلنسان- سيكون معيارها مادي ًا بحت ًا ،ومتى أردنا أن نغري من سلوك اإلنسان علينا أن نغري من مفهوم اللذة واملنفعة عنده ،ونُدخل السلوك املقرتح ضمن اإلطار العام
لغريزة حب الذات أي أن يطور املفهوم املادي لإلنسان عن احلياة( )3ومن ثمة فإن تغيري مسار اللذة والنفع من املادي إىل غري املادي (النفسية ،السلوكية ،االجتامعية، ((( ظ حممد باقر الصدر ،فلسفتنا.45 ، ((( يعد السيد الصدر أن غريزة حب الذات غريزة طبيعية لإلنسان فيقول( :إن حب الذات هو الغريزة التي ال نعرف غريزة أعم منها أو أقدم فكل الغرائز فروع هذه الغريزة وشعبها) حممد باقر الصدر ،فلسفتنا.46 ، ((( ظ :حممد باقر الصدر ،فلسفتنا.47 -45 ،
205
نطور مفهوم اإلنسان عن احلياة ،فيجد أن استحصال اجلانب الثقافية) سوف ُ املادي ليس هو اجلانب الوحيد الذي تتجسد فيه تلك اللذة أو تتمثل فيه تلك املنفعة ،فاملسألة أوسع من هذا االنحصار وابعد مرام ًا من هذا االنحسار ،ذلك بإن اللذة واملنفعة تكمن يف مناحي كثرية من احلياة ،ليست املادة إال وجه ًا منها، ويبدو ان نقد السيد الصدر ملفهوم التنمية والتغيري عن اجلانب املادة مؤسسة عىل َيوا َما بِ َأن ُف ِس ِه ْم﴾(. )1 َي َما بِ َق ْو ٍم َحتَّى ُيغ رِّ ُ قوله تعاىل﴿إِ َّن اللهََّ ال ُيغ رِّ ُ لقد تعامل القرآن الكريم مع اإلنسان الذي ُيعدّ موضوع التنمية البرشية عىل أساس التأثر واالستيعاب للمظاهر االجتامعية من خالل فهمه هلا بمنظور جديد، ومن األولويات التي حاول التأثر هبا هو تنمية فهم غريزة حب الذات واملادة، وتأثريمها يف نشاطات التنمية البرشية وجماالهتا احلياتية املختلفة ،كون اإلسالم والقرآن تعامل مع اإلنسان -املحور األساس يف احلياة والتنمية -عىل أنه مركب من العقل والشهوة ،وبحكم غريزته وفطرته يسعى لذاته ،ويطلب لنفسه الكامل غري املتناهي ،وأنه متعدد احلاجات واملطاليب( ،)2من حيث تُعدّ مجيع تلك احلقائق أزمة اجتامعية تُعيق حركة اإلنسان وتطوره يف العملية التنموية التكاملية ،مما يستدعي حينئذ أن نبحث عن منقذ حلل األزمة االجتامعية (وهذا حكمه وجوب اختاذ املدنية واالجتامع التعاوين ،ويلزمه احلكم بلزوم استقرار االجتامع بنحو ينال
((( الرعد.11 : ((( ظ :كامل احليدري ،فلسفة الدين.103 -78 ،
206
كل ذي حق حقه ،وتعادل النسب والروابط ،وهو العدل االجتامعي)( ،)1مما يقتيض بموجب األزمة االجتامعية أن ُيسن لإلنسان واحلياة نظام ًا عادالً ،وهنا يستدعي أما اللجوء إىل النظام املادي بفلسفته الرأساملية أو االشرتاكية أو اللجوء إىل يتطور املفهوم املادي لإلنسان عن الرسالة اإلسالمية الساموية التي عملت عىل أن ّ تتطور طبيعي ًا أهدافها ومقاييسها ،من خالل جعله يؤمن بان حياته احلياة وبتطويره ّ منبثقة عن مبدأ مطلق الكامل ،أي إن اإلسالم جاء ليوحد بني املقياس الفطري للعمل واحلياة وهو :حب الذات ،والقياس الذي ينبغي أن يقام للعمل واحلياة، ليضمن السعادة والرفاه والعدالة( )2وسيكون كل ذلك مرهون ًا بعدة خطوات منها:
وجود رؤية كونية متكاملة ،تعقبها رؤية أيديولوجية واقعية ،إدراك اإلنسان للرؤية وملفرداهتا وفهمه هلا ،حتديد أصل املشكلة االجتامعية والتعامل معها بموضوعية، وضع احللول املنطقية التي ّتؤمن التوازن بني القيم الفردية واالجتامعية ،رضورة إدراك اإلنسان عىل أن احلل والتطور واإلنامء مرهون به وبوعيه وإرادته ،ألنه موضوع التنمية البرشية القرآنية ،فهو الوسيلة واهلدف لتحقيق الغاية الكربى التي ِ باملوجد والوظائف املوكلة إليه كخليفة نعني هبا أصل وجود اإلنسان وعالقته وأمني. فالقرآن الكريم احتوى واستوعب كل املحاور واخلطوات ،فهو املرجع واحلجة البالغة للعلوم واملعارف ،وهو احلاضنة لنشاطات التنمية البرشية وفعالياهتا التي ((( حممد حسني الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القرآن.117 ،2 ، ((( ظ :حممد باقر الصدر ،فلسفتنا.55 -49 ،
207
وجدت متناثرة بني آيات اهلل ،ساعية لتحقيق مرشوع بناء اإلنسان وتطوره ،الذي عد أيض ًا حمور القرآن الكريم والتنمية البرشية بل حمور األرض وخليفتها وحامل رسها ﴿إِنَّا عر ْضنَا األَما َن َة ع ىَل السمو ِ ال َب ِ ض َو جِْ ات َواألَ ْر ِ ي ِم ْلن ََها َّ َ َ َ ال َف َأ َبينْ َ َأ ْن حَ ْ َ ََ ِ ح َل َها ا ِ َان َظ ُلوم ًا َج ُهوالً﴾( ،)1فاآلية املباركة تعرض ان إِ َّن ُه ك َ إلن َْس ُ َو َأ ْش َف ْق َن من َْها َو مَ َ عدة إثارات ومطالب مهمة وجوهرية حتاول من خالهلا بيان املائز بني اإلنسان وبقية املخلوقات. فاآلية أكدت آثر اإلنسان وأمهيته يف حتمل األمانة( )2وأداء الرسالة اإلهلية، بتسنمه ذات (الوالية اإلهلية)( ،)3التي مل تُدرك لوال وجود العقل فإن(احلكمة ((( األحزاب .72 : ((( لقد تباينت أراء املفرسين بخصوص معنى « األمانة» فأوردوا عدة أراء نجملها بام ييل: هي الوالية اإلهلية وكامل صفة العبودية ،صفة االختيار واحلرية واإلرادة ،أعضاء جسم اإلنسان ،األمانات التي يأخذها الناس بعضهم من بعض ،معرفة اهلل تعاىل ،الواجبات والتكاليف ،خالفة اإلنسان هلل ّ جل وعال ،الطاعة والصالة ،مجيع الفرائض ،حفظ الفرج ،التوحيد أو دالئل الوحدانية ،الوفاء بالعهد ،العقل ،الوالية مطلقا ،والية األمام
عيل . A ظ :حممد حسني الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القرآن 355-354 ،16 ،الطربيس ،جممع البيان يف تفسري القرآن مج 174 -173،22 ،5أبن عاشور ،التحرير والتنوير ،مج،9 127 ،22نارص مكارم شريازي ،األمثل يف تفسري كتاب اهلل املنزل 494 ،10 ،هاشم البحراين ،الربهان يف تفسري القرآن،مج .322 -318 ،6 ((( حممد حسني الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القرآن.355 ،16،
208
اقتضت أن يكون اإلنسان مستودع العقل من بني املوجودات)( ،)1وأن اخلالفة "الوالية
اإلهلية" ال تدرك إال بالعقل :فـ(التسليم للقيادة هو األمانة ،وهو من أبرز جتليات
اإلرادة والوعي البرشيني)( ،)2وبمقتىض ذلك ستتجىل األمانة بـ(ما عهد اهلل سبحانه
إىل عباده من أمره وهنيه ،وأنزل فيه الكتب وأرسل الرسل وأخذ عليه الـميثاق)( ،)3مما
يتبني ضمن ًا (أن اإلنسان موجود له استعدادات وقابليات يستطيع من خالهلا استغالهلا
أن يكون أتم مصداق خلليفة اهلل ،ويستطيع أن يصل إىل قمة العظمة والرشف باكتساب املعارف وهتذيب النفس وحتصيل الكامالت)( )4وما تحَ ّ ُمله لتلك األمانة إال عىل أساس
ما تقدم ،إذ من املمكن أن نقول إن األمانة
هي الوالية اإلهلية فهي تعني (الكامل احلاصل من جهة التلبس باالعتقاد والعمل
الصالح وسلوك سبيل الكامل باالرتقاء من حضيض املادة إىل أوج اخلالص الذي هو أن خيلصه اهلل لنفسه فال يشاركه فيه غريه فيتوىل هو سبحانه تدبري أمره وهو الوالية
اإلهلية)( ،)5وعىل أساس اجلعل التكويني اإلهلي لإلنسان الذي محل األمانة اإلهلية
منح (قابلية التكامل غري املحدودة واملمتزجة باإلرادة واالختيار ،والوصول إىل مقام
((( أبن عاشور ،تفسري التحرير والتنوير.131 ،22 ،9، ((( حممد تقي املدريس ،من هدى القرآن.247 ،7 ، ((( الطربيس ،جممع البيان يف تفسري القرآن ،مج .174 ،22 ،5 ((( نارص مكارم شريازي ،األمثل يف تفسري كتاب اهلل املنزل.494 ،10 ، ((( حممد حسني الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القرآن.355 ،16 ،
209
اإلنسان الكامل ،وعبودية اهلل اخلاصة وتقبل والية اهلل)( )1وهنا يكمن ميدان التنمية البرشية يف األنسان.
إن موقع اإلنسان يف ظل اآلية املباركة املتقدمة واضح وجيل ،وأن مرتبة قبوله
لألمانة صارت عىل درجات وأصناف( ،ولذلك نرى اآلية التالية قسمت البرش إىل ثالث ِ ِ ِ ِِ ِ ني ني َوالمُْنَاف َقات َوالمُْشرِْ ك َ فئات "املؤمنني والكفار واملنافقني")(﴿ ،)2ل ُي َع ِّذ َب اللهَُّ المُْنَافق َ َات ويتُوب اللهَُّ ع ىَل المُْ ْؤ ِمنِني والمُْ ْؤ ِمن ِ ِ َان اللهَُّ َغ ُفور ًا َر ِحي ًام﴾( ،)3وعىل ضوء َات َوك َ َ َ َ َوالمُْشرِْ ك َ َ َ َان َظ ُلوم ًا َج ُهوالً ﴾ ،وكأن مراد اآلية وصف اإلنسان عىل ﴿إِ َّن ُه ك َ تصنيف اآلية املباركة ُ تشري إىل (أهنام صفتان مغروزتان يف اإلنسان ومها من طبيعته العدمية الضعيفة)( ،)4إال
أن (الظلم واجلهل إنام يتصف هبام من كان شأنه االتصاف بالعدل والعلم)(.)5
والرابط واملحور بني كل ما استعرضناه من مطالب يف هذه اآلية املباركة هو السبِ َ يل إِ َّما اإلنسان ،إذ قد ُهدي إىل عدة سبل وغرس فيه اخلري والرش﴿ ،إِنَّا َهدَ ْينَا ُه َّ َشاكِر ًا َوإِ َّما َك ُفورا﴾( ،)6لذا فهو يستطيع أن يتحمل أعباء األمانة بحكم العقل الذي ((( نارص مكارم شريازي ،األمثل يف تفسري كتاب اهلل املنزل.495 ،10 ، ((( املصدر نفسه.495 ،10 ، ((( األحزاب ،اآلية .73 ((( من هدى القرآن ،حممد تقي املدريس.7،247 ، ((( حممد حسني الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القرآن.356 ،16 ، ((( اإلنسان.3 :
210
ُيعدّ الباعث عىل التغري واالنتقال من حال إىل حال ومن مكان إىل آخر( )1وبامتثاله ألمر اهلل تعاىل واالنتهاء عن هنيه ،يكون قد نال مرتبة اخلليفة واألمني(.)2
وبالعودة إىل جوهر مطلبنا والعمل عىل مللمة املقدمات التي حتدثنا عنها من حتديد
ملفهوم التنمية البرشية يف املنظور القرآين إىل أمهية الرؤية الكونية فيها ،وإىل أمهية وآثر اإلنسان لفهم املشكلة االجتامعية ،فاملقدمات تستقر عند عتبة حمورية اإلنسان بوصفه
موضوع ًا للتنمية البرشية القرآنية ،فاخلالفة تستلزم التنمية البرشية وهبذا يكون العقل
واالختيار أس ًا وأص ً ال من أصول التنمية البرشية ،فكأن اهلل سبحانه هيء اإلنسان هبذه
السامت وقيض له ميدان التنمية البرشية ليكون خليف ًة وهبذا الزمه باحلجة ،فالعقل
واالختيار أساس ميداهنام التنمية البرشية وغايتهام التمكن من حتقيق االستخالف،
وس ُبلها يف النص القرآين أمر ًا واجب ًا ألنه يمثل لذا كان وجود مفهوم التنمية البرشية ُ جزء ًا أساسي ًا من حتقيق مقاصد الرشيعة وداعي أصيل من دواعي نزول النص ا ُملعجز ابتدا ًء ومطلب ًا وغاي ًة ،لذا ال نغايل إذا قلنا بأن التنمية البرشية هي امليدان والسبيل الذي
ُيتجسد من خالله وبه مسعى السامء جلعل اإلنسان (غاية التنمية) االنموذج االرقى الذي يستحق أن خليفة اهلل يف ارضه عىل وجه الفعلية ال الشكلية .
((( ظ :أبن عاشور ،تفسري التحرير والتنوير،مج .131 - 127 ،22 ،9
﴿و َن ْف ٍ ور َها ((( إشارة لرأي أغلب املفرسين ولقوله تعاىل َ س َو َما َس َّو َاها * َف َأ َلهْ َم َها ُف ُج َ
اها﴾ الشمس.10-7 : اب َم ْن َد َّس َ َو َت ْق َو َاها * َقدْ َأ ْف َل َح َم ْن َزك َ َّاها * َو َقدْ َخ َ
211
212
( :)2موضوع التنمية البشرية في القرآن الكريم. مل يكن القرآن الكريم بمنأى عن التنمية البرشية وموضوعها ،بل العكس فالقرآن الكريم الذي عد احلجة األوىل ملنظومة الفكر اإلسالمي ،أذ أكد حمورية اإلنسان وأثره الريادي عىل األرض الذي اصطفاه اهلل تعاىل عىل بقية املخلوقات، وهذا يعني إن التنمية البرشية يف القرآن الكريم كان مهها اإلنسان ،بل أن نزول الكتب وإرسال الرسل كان عىل أساس ذات الغاية وهي هداية اإلنسان وتطويره وتنميته يف مجيع جوانب شخصيته وذلك عن طريق غرس القيم الساموية فيه وتطوير قدراته الفكرية والسلوكية عىل الصعيدين الذايت واملهني. واإلنسان يف ميزان اإلسالم والقرآن الكريم هو مركز الكون وحموره ،فإذا صح اإلنسان صح الكون ،وإذا فسد فسد هو اآلخر (من أجل ذلك يحُ َف ُل باإلنسان كام ال يحُ َف ُل بغريه ....ألنه أهم العنارص احلضارية وأخطرها ،وألنه املحور الذي تدور عليه حركة معظم املوجودات املتاموجة من حوله؛ وألنه هو الذي س ُيكلف
بتيسريها وتسخريها نحو هدف جدّ عظيم وخطري)( ،)1هو استخالف اهلل يف األرض ،ومن هنا نجد أن اإلسالم هي املنظومة الوحيدة التي بجلت اإلنسان ورفعت من شأنه ،وتبجيلها إليه ليس عىل مستوى األدبيات ،بل من خالل ترشيع
((( حممد سعيد رمضان البوطي ،منهج احلضارة اإلنسانية يف القرآن.41 ،
213
األحكام إليه ( )1ووضع املعايري له حتى أصبح مقياس ًا لكل يشء ألنه رأس مال العقيدة اإلسالمية. لذا نجد أن األعم األغلب من خطاب القرآن الكريم والسنة املطهرة موضوعهام الس ُبل التي اإلنسان وكيفية معاجلة مسائل هنوضه وتطويره واالرتقاء به ،وما هي ُ تساعد عىل االرتقاء به من وحل الشيطان واهلوى ورصاعات النفس وملذات الدنيا ،إىل عامل امللكوت األعىل حيث القيم السامية والكامالت التامة. فاإلنسان هو موضوع القرآن الكريم وحموره األساس؛ ألنه خليفة اهلل يف األرض ،لذا كانت ُأوىل اآليات القرآنية التي نزلت عىل الرسول األعظمn ﴿خ َل َق ا ِ ان ِم ْن َع َل ٍق ﴾( ،)2وهكذا تتابعت حتدثت عن اإلنسان لبيان هويته َ نس َ إل َ اآليات لتبني حقيقة اإلنسان وماهيته ،وحقيقة القوة الكامنة فيه واملتصارعة يف داخله التي عكست حقيقتني متناقضتني بني أن يكون خملوق ًا تافه ًا مذموم ًا ،أو أن يكون ذاك املخلوق املكرم واملعزز املنتخب الذي اصطفاه اهلل تعاىل عن بقية خلقه
((( رعت الرشيعة املقدسة مكانة اإلنسان فرشعت له أحكاما استوعبت أدنى اإلحكام حتى أرش اخلدش ،ثم صانت كرامته وحرمته لتفوق حرمة الكعبة الرشيفة ي َأ َّن َر ُس َ ول اللهَِّ َن َظ َر إِلىَ ا ْل َك ْع َب ِة َف َق َال (ر ِو َ التي تعد رمز التوحيد وقبلة املسلمني ،إذ ُ لأِ ِ ِ َم ْر َحب ًا بِا ْل َب ْي ِ ت َما َأ ْع َظ َم َك َو َأ ْع َظ َم ُح ْر َمت ََك َعلىَ اللهََِّ ،و اللهَِّ َل ْل ُم ْؤم ُن َأ ْع َظ ُم ُح ْر َم ًة من َْك َ َّن ِ ِ ِ ِ ِ الس ْوء) املصدر: اللهََّ َح َّر َم من َْك َواحدَ ًة َو م َن المُْ ْؤم ِن ثَلاَ َث ًة َما َل ُه َو َد َم ُه َو َأ ْن ُي َظ َّن بِه َظ َّن َّ حممد بن أمحد فتال النيسابوري ،روضة الواعظني وبصرية املتعظني ،ج 2ص .29 ((( العلق.2 :
214
نش َأك ُْم ِم ْن األَ ْر ِ ﴿ه َو َأ َ ض َو ْاس َت ْع َم َرك ُْم فِي َه ﴾(.)1 ليكون خليفته يف األرضُ ، وما تأكيد القرآن الكريم عىل اإلنسان بوصفه موضوع ًا للتنمية البرشية إال ألنه القيمة احلقيقية للوجود ،فعىل أساس العملية التنموية بات التطور مطرد ًا مع مستقبل الكون واألرض واملجتمع والفرد والبيئة لكونه مرهون ًا بإنامء اإلنسان وإدراكه ووعيه وحتمل مسؤوليته ﴿إِنَّا عر ْضنَا األَما َن َة ع ىَل السمو ِ ات َواألَ ْر ِ ض َّ َ َ َ َ ََ ِ ال َف َأب َأ ْن حَ ِ َو جِْ ح َل َها ا ِ ان ﴾(.)2 إلن َْس ُ ال َب ِ َ ينْ َ يم ْلن ََها َو َأ ْش َف ْق َن من َْها َو مَ َ ْ
فاإلنسان ُيعدّ مكون ًا أساسي ًا وجوهري ًا متميز ًا عىل وفق املعيار القرآين ،فهو (صفوة اخلليقة وفلذهتا ورسها الكامن يف سلسلة الوجود ،فيه من الصفات
((( هود.61 : ((( األحزاب.72 :
215
وامليزات التي أهلته ليمثل هذه الغاية واحلباء ( ،)2())1عىل خالف الكثري من (احلضارات اإلنسانية األخرى التي قسمت البرشية إىل فئات وطبقات متعددة تتباين يف حظوهتا ومكانتها وتتفاوت مراتبها وفق ًا ملتغريات الدم والعرق واللون
((( لقد كرم اهلل تعاىل اإلنسان فكانت له عدة خصال منها: · (خلقه اهلل بيديه ﴿ َما َمنَ َع َ يَ ﴾احلجرات.75 : ك َأ ْن ت َْس ُجدَ َلمِا َخ َل ْق ُ ت بِ َيدَ ّ
وحي َف َقعوا َله س ِ ِ ت فِ ِيه ِمن ر ِ ين ﴾ص.72 : ·﴿نفخ فيه من روحه َفإِ َذا َس َّو ْي ُت ُه َو َن َفخْ ُ اجد َ ُ ُ َ ْ ُ · أودعه أمانته ﴿ إِنَّا َعر ْضنَا األَما َن َة َعلىَ السمو ِ ض َوالجِْ َب ِ ات َواألَ ْر ِ ال َف َأ َبينْ َ َأ ْن يحَ ْ ِم ْلن ََها َّ َ َ َ َ َو َأ ْش َف ْق َن ِمن َْها َوحمَ َ َل َها ِ اإلن َْس ُ ان ﴾األحزاب.72 :
· علمه األسامء كلها ﴿ َو َع َّل َم آ َد َم األَ ْسماَ َء ُك َّل َها ﴾ البقرة.31 : ِ ِ ِ اس ُجدُ وا آل َد َم َف َس َجدُ وا ﴾البقرة.34 : · اسجد له مالئكته ﴿ َوإِ ْذ ُق ْلنَا ل ْل َمالئكَة ْ · منحه اخلالفة﴿ إِنيِّ ج ِ اع ٌل فيِ األَ ْر ِ ض َخ ِلي َف ًة ﴾البقرة.30: َ · سخر له ما يف الساموات واألرض مجيع ًا ﴿ وس َّخر َلكُم ما فيِ السمو ِ ات َو َما فيِ األَ ْر ِ ض َّ َ َ َ َ َ ْ َ جمَ ِيع ًا ﴾اجلاثية.13 :
نش ْأنَا ُه َخ ْلق ًا َ · ثم بارك نفسه يف هذا اخللف املمتاز ﴿ ُث َّم َأ َ ني ﴾ آخ َر َف َت َب َار َك اللهَُّ َأ ْح َس ُن الخْ َالِ ِق َ املؤمنون).14 : شبهات وردود حول القرآن الكريم ،الشيخ حممد هادي املعرفة ،حتقيق مؤسسة التمهيد ،قم املقدسة ،ط22 ،2006 ،3 ((( املصدر نفسه.
216
وغري ذلك من املتغريات التميزية)(.)1 كام ُيعدّ اإلنسان يف املنظور اإلسالمي هو ذاته موضوع التنمية البرشية يف القرآن الكريم لشمولية عنوان اإلنسان يف منظومة اإلسالم ،وعدم تباينه بني أبناء اجلنس الواحد ،قال الرسول األكرم (: nالنَّاس سواء ك ََأسن ِ َان المُْ ْشط)( ،)2وهكذا ُ َ َ ٌ ْ هي احلال يف اخلطاب القرآين الذي أكد عدم التاميز بني اجلنسني أصالً ،ناهيك عن التاميز يف اجلنس الواحد ،وما صيحات التنمية البرشية هلذه الدعوات التي نضجت يف العرص احلديث بعد جهد جهيد إال خالصة قدمها القرآن الكريم مع اللحظة األوىل لنزول الوحي ،إليضاح مركزية اإلنسان وبيان ما منح من إمكانات وامتيازات تفرد هبا عن بقية أقرانه من املوجودات ليكون كل فرد كيان ًا بذاته ،ولكي نفهم املنظومة اإلسالمية بالصورة الصحيحة ما علينا إال أن نفهم حقيقتني :األوىل إن األمهية احلقيقية يف نظر اإلسالم هي للفرد فكل فرد من أفرادها مسؤول أمامه تعاىل ،أما الثانية :إنه ال يمكن أن يتحقق النمو الصحيح لفردية اإلنسان إال باحلرية يف فكره وعمله( ،)3مما يستدعي أن يكون دور اإلنسان يف العملية التنموية جوهري ًا وأثره فيها أساسي ًا وتنشيطها به رضوري ًا ،كونه القوة التي حترك الذات واملحيط وتأثر يف منظومة العالقات ،بني أن يكون فرد ًا مستق ً ال بذاته ،وبني أن يكون فرد ًا
((( هاين عبد الرمحن الطويل ،اإلدارة باإليامن.237 ، يل الصدوق ،من ال حيرضه الفقيه ،5798ج ، 4ص .379 ((( حممد بن ع ((( ظ :أسامة العاين ،املنظور اإلسالمي للتنمية البرشية.29 ،
217
من بني جمتمع أو أمة ،كي يدرك دوره الف ّعال يف احلاالت كافة ودور تأثريه يف حتديد معامل املجهول ،ألن له أثر ًا متميز ًا يف حارضه ،و(دور ًا يف بناء مستقبله يصدر عن وعي وحرية ،فهو يعي نفسه وحميطه ،وهو يتمكن بحكم قوة العقل واإلدارة من
أن خيتار مستقبله)( )4لذا عد املحور يف العملية التنموية. وخلصوصية اإلنسان عىل وفق النظرة الساموية ،ولرتكيبته العضوية ولتعقيد قواه النفسية اقتضت أن تكون له ملكات ومزايا متصارعة يكون الفوز أو اخلسارة فيها لذات اإلنسان وخياره ،ألن النظرة اإلسالمية إليه مبنية عىل أساس التوازن واالعتدال التي تُعدّ أحد أهم سامت التنمية البرشية ،فهي (ال تتفق مع نظرية الرش املطلق ،وال مع نظرية اخلري املطلق ،بل اإلنسان هو جمموعة طاقات ولياقات وإمكانات مد ّعمة بجموح فطري نحو اخلري ،ولكنها حماطة بموانع ومعوقات ومزالق هي التي يعرب عنها اخلطاب الديني بالشيطان وأحيان ًا باهلوى)( )5وهي ُمعرقالت املسرية نحو النجاح وركوب سمة التطور. ﴿و َن ْف ٍ ور َها َو َت ْق َو َاها قال اهلل تعاىل يف كتابه العزيزَ : س َو َما َس َّو َاها * َف َأ هَْل َم َها ُف ُج َ
اها ﴾(.)6 اب َم ْن َد َّس َ َّاها * َو َقدْ َخ َ * َقدْ َأ ْف َل َح َم ْن َزك َ بعد أن فهمنا أن موضوع التنمية البرشية هو اإلنسان وغاية العلم تنميته ((( مرتىض مطهري ،اإلنسان يف القرآن.33 ،
((( صدر الدين القبانجي ،األسس الفلسفية للحداثة – دراسة مقارنة بني احلداثة واإلسالم.341 ، ((( الشمس.01 -7 :
218
واالرتقاء به إىل مستوى الطموح وتأمني حاجاته املرشوعة ،هو ذات عمل القرآن الكريم الذي يسعى هلداية البرش إىل سبيل اهلل تعاىل الذي هو أعىل مراتب الكامل وأمتها ،ولكي نستوعب كامل الصورة التنموية يف الرؤية القرآنية علينا أن نحلل اإلنسان للبحث عن عنارصه التي تُعدّ موضوع حركة التطور والنهوض وعنواهنا الرئيس ،مما يستلزم علينا أن نفهم رؤية القرآن الكريم لعنارص اإلنسان ومكوناته وآلية حركته وماهيته ،خصوص ًا أن كتاب اهلل املعظم اشبع هذا اجلانب بحث ًا وتفصي ً ال لتبنيه حمورية اإلنسان ودوره الفعال واملؤثر يف بناء ذاته واملجتمع واملرشوع احلضاري ،فض ً ال عن أثره األساس يف جتسيد اجلعل التكويني اإلهلي الستخالفه يف األرض ومتكينه هلا بغية اعامرها ومن فيها. وعىل أساس ذلك كان اخلطاب القرآين لإلنسان بعدة أنامط وألوان ،كان أمهها من وجهة رأي الباحث هو تأكيد اجلانب الفكري والنفيس إلدراك حقيقة ذات اإلنسان وعنارصه التي نعني هبا اجلانب املادي والروحي له ،وأن تأكيدنا هذا مبني عىل تأكيد املنظومة اإلسالمية هلذا اجلانب ،عىل مجيع جماالت حركة املطلب ٌّ اإلنسان وجمرياته وما حييط به ،عىل خالف النظرة ألغلب النظم الوضعية التي نظرت لإلنسان من الزاوية املادية البحتة فقط ،بينام نجد أن القرآن الكريم حاول أن يغرس اجلانب الروحي يف كل عمل أو نشاط أو نظام ألنه ركن وعنرص أسايس لذات اإلنسان الذي ُيعدّ املاكينة واآللة لكل نشاط أو عمل( ،فالروح والبدن حقيقتان اثنتان...واإلنسان جمموع احلقيقتني ،فإذا قارنت الروح اجلسد ،كان إنسان ًا حي ًا ،وإذا فارقت فهو املوت ،فإن اإلنسان واحد حقيقي هو املبدأ الوحيد
219
جلميع آثار البدن الطبيعية واآلثار الروحية)( ،)1قال اهلل تعاىلُ ﴿ :ث َّم َس َّوا ُه َو َن َف َخ فِ ِيه ِمن ر ِ وح ِه ﴾(.)2 ْ ُ صور لنا القرآن الكريم بأن اإلنسان عبارة كيان جتتمع فيه النقائض ،من حيث َّ خري ورش ،ومن حب وكراهية ،ومن تقوى وفجور ،ومن مادة وروح ،وكأن له عاملني أو نشأتني مها(:أوالً :هندسة خارجية هي بدنية وتظهر يف عامل امللك ،ثاني ًا: هندسة باطنية نفسانية يكون يف عامل امللكوت)(.)3
نخلص مما تقدم إن اإلنسان جمموعة رصاعات جوهر هذا الرصاع هو تنازع عنرصي اإلنسان املادة والروح ،فبعض هذه النزاعات والرصاعات بني امللك وامللكوت وبني السامء واألرض ،كون الروح متثل اجلانب امللكويت بدليل﴿َإِ َذا وحي َف َقعوا َله س ِ ِ ت فِ ِيه ِمن ر ِ ت فِ ِيه ِم ْن (و َن َفخْ ُ َس َّو ْي ُت ُه َو َن َفخْ ُ ين﴾( ،)4فقرينة َ اجد َ ُ ُ َ ْ ُ ر ِ وحي) ،أي ان نفخ الروح فيه (جعله ذا نفس حية إنسانية وإضافة الروح إليه ُ تعاىل ترشيفية)( )5وقوله تعاىل ( َف َق ُعوا) فهو (أمر من الوقوع وهو متفرع عىل التسوية
((( حممد حسني الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القرآن.152 ،20 ، ((( السجدة.9 : ((( ميثم السلامن ،صناعة السعادة.22 ، ((( سورة ص.72 : ((( حممد حسني الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القرآن.225 ،14 ،
220
والنفخ)( ،)1فاآلية املباركة تدل عىل أن خلق اإلنسان (موجود عجيب مل يسبق له
عز وجل الطاهرة مع الرتاب ( ،)3())2وكأن مثيل ،وذلك بعد امتزاج روح البارئ ّ السجود ُيعدّ القرينة إلكبار خلق اهلل وإجالله اإلنسان املبني عىل أساس الروح التي هي من روح اهلل ،أما املادة التي أشارت إليها اآلية املباركة ﴿إِنيِّ َخالِ ٌق َبشرَ ًا ِم ْن طِني﴾( ،)4فعىل الرغم من أن الطني أو الرتاب من خلق اهلل إال أن اآلية مل تبني إكبار اإلنسان عىل أساسه ،بينام اقرتن السجود لإلنسان بنفخ الروح ،وهو اجلزء املهم أو العنرص األهم لإلنسان باملنظور القرآين واإلسالمي( ،فالبعد الروحي هو األصيل وهو املحقق إلنسانية اإلنسان ،وبه ينال اإلنسان كامله ،وهو الذي يلتذ ويتأمل ويصل إىل السعادة أو الشقاوة ،أما البعد املادي فهو تابع للبعد الروحي) وعليه جيب ان يكون وسيلة لتكامل البعد األول. وإن ما يلفت االنتباه من خالل قراءتنا آليات القرآن الكريم نجد حقيقة مفادها
()5
((( حممد حسني الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القرآن.225 ،14 ،
((( املراد من سياق الكالم قوله تعاىل ﴿ :إِ ْذ َق َال رب َك لِ ْلم ِ الئك َِة إِنيِّ َخالِ ٌق َبشرَ ًا ِم ْن َ ُّ َ طِ ٍ ني ﴾ سورة ص.71 : ((( ظ :نارص مكارم شريازي ،األمثل يف تفسري كتاب اهلل املنزل.438 ،11 ، ((( سورة ص.71 : ((( كامل احليدري ،فلسفة الدين ،مدخل لدراسة منشأ احلاجة إىل الدين وتكامل الرشائع .88،16
221
أن جترد الروح واملادة عنرصان ينفردان احدمها عن اآلخر ويمثالن يف الوقت نفسه حقيقة اإلنسان ،وإن هذه احلقيقة مل تنحرس يف احلياة الدنيوية فحسب بل كذا هو واقعها يف عامل اآلخرة ،فإن السعادة األخروية كذا هلا لذائذ روحية من قبيل رضوان اهلل ،وهناك سعادة متثل اللذة احلسية التي يصورها القرآن الكريم باألكل والرشب وامللذات األخرى ،كام حال الشقاء األخروي كذلك ،فهناك عذاب روحي كتأنيب الضمري وعذاب الوجدان زياد ًة عىل العذاب احليس كاحرتاق حلم
اإلنسان وجلده و جترعه الرشاب من احلميم واكل الزقوم ونظائر ذلك(.)1 ولعل قوله تعاىلَ ﴿:ل َقدْ َخ َل ْقنَا ا ِ ان يِف َأ ْح َس ِن َت ْق ِويمٍ﴾( ،)2تُعدّ إشارة إىل أن نس َ إل َ
حسن صورة اإلنسان تكمن يف تركيبته املتوازنة واملتكاملة من روح وبدن ومن جمموعة قوى كامنة يف النفس اإلنسانية ،زيادة عىل بقية الصور احلسنة ،فمدلول اآلية املباركة تدل عىل (خلق اإلنسان بشكل متوازن الئق من كل اجلهات اجلسمية
والروحية والعقلية)( )3مع ًا عىل حد سواء ألن البعض يسعى لتحقيق اآلخر األرقى .وهلذا وصف عىل أنه صورة متكاملة ومجيلة من مجيع أبعادها عىل الرغم من تعدد جوانبه التي (تشتبك بعضها ببعض اشتباك ًا كبري ًا إىل درجة أنه يص ُعب عزل جانب
((( ظ :ميثم السلامن ،صناعة السعادة.23 – 22 ، ((( التني ،اآلية .4 ((( نارص مكارم شريازي ،األمثل يف تفسري كتاب اهلل املنزل407 ،15 ،
222
عن جانب آخر إال بصورة نظرية)( )1شكلية. فالباحث يرى أن من أهم األخطاء اإلسرتاتيجية التي وقعت هبا النظريات الوضعية ،هي النظرة األحادية والذاتية لإلنسان وملا يحُ يط به من ظروف ونشاطات للمجاالت كافة ،أي أهنا نظرت إليه وللوجود بعني واحدة مبناها الدليل احليس الذي ُيغيب الروح ودورها يف عملية البناء والتطوير ،مما سبب اختالل املعادلة وإمالة الكفة باالجتاه املخطوء ،حيث يقتيض هنا إعادة فاعلية اإلنسان يف تنمية اجلانب الروحي ،بغية العودة به وبمنظومته إىل مرتبة االتزان واالعتدال ،فالتالزم بني املادة والروح مرتبط عىل حد بعيد يف حتقق االستزادة والنامء للمجاالت املادية واملعنوية. مبني عىل أساس عنرصي املادة نستفيد مما تقدم أن املنظور القرآين لإلنسان ٌّ والروح ،إذ يصورمها القرآن الكريم عىل أهنام حقيقته ،وأن بنيته التحتية منشأها تلك احلقيقة ،وأن كل ما يبنى من عمل أو نشاط جيب أن يكون متوازن ًا ذا بعدين من املادة والروح كام هي حقيقة اإلنسان ،وبام أن اإلنسان هو موضوع التنمية البرشية وحمورها الرئيس ،فبمقتىض ذلك جيب أن تكون مجيع النشاطات التنموية وحركة وفعاليات التنمية البرشية مبنية عىل أساس حقيقة اإلنسان املادية والروحية، مما حيتم أن تكون أهم سامت التنمية البرشية هي التوازن باملعنى األشمل الذي يتضمن االعتدال بني املادة والروح ،فاإلسالم يرى أن مجيع نشاطاته وفعاليته جيب أن تكون عىل مستوى من الوسطية بني املادة والروح أيض ًا .
((( مجال حممد أمحد عبده ،دور املنهج اإلسالمي يف تنمية املوارد البرشية.275 ،
223
إن الغاية من وراء هذا املطلب هو بيان سامت التنمية البرشية يف املنظور اإلسالمي بصورة عامة واملنظور القرآين بصورة خاصة ،ومعرفة حقيقة العملية التنموية وأثرها يف اإلنسان بوصفه حمورها ،وما هو مبتغى القرآن الكريم ومقصد الرشيعة املقدسة من هذا النشاط.
224
(( :)3خصائص التنمية البشرية في ضوء القرآن الكريم. ان الغاية من وراء هذا املطلب هو بيان سامت التنمية البرشية يف املنظور القرآين ومعرفة حقيقة نظرته للعملية التنموية وأثرها يف االنسان ،احلياة ،الكون. كل ذلك سنستشفه من خالل استعراضنا خلصائص التنمية البرشية يف املنظور القرآين ،فض ً ال عن رضورة دراسة ذات النظرية التنموية ومنهجها وجماالهتا وتطبيقاهتا وسامهتا من مجيع زواياها بني دفتي كتاب اهلل تعاىل ملعرفة وظيفة املسلمني يف هذا امليدان العميل ،ولبيان عمق الرسالة اإلسالمية إذا ما قارناها بالنظريات الوضعية ،إذ جيب أن ال نقيم مقارناتنا عىل أساس املعطيات النظرية فحسب ،بل البد من أن يدرس املجال املفروض للتطبيق وخصائصه ورشوطه
ليالحظ ما يقدر لكل منهج من فاعلية لدى التطبيق(.)1 فتأكيد خصائص التنمية البرشية يف القرآن الكريم هو هدف مقصده بيان مزايا العملية التنموية ومواطن قوهتا من خالل تسليط الضوء عىل تلك اخلصائص التي نرى تكاملها بتجانس وتداخل بعضها مع بعضها اآلخر لتعكس حقيقة الرؤية القرآنية للتنمية املتكاملة. ومن خالل قراءة الرؤية التنموية تنكشف حقيقة هي (عبارة عن دفع وحتريك للكينونة الفردية واالجتامعية نحو األفضل ،ندرك أن عمليات الدفع ينبغي أن
((( ظ :حممد باقر الصدر ،اقتصادنا ،مقدمة الكتاب ،هـ -و.
225
تشمل كل اجلوانب احلضارية لألمة)( ،)1ولكي تكون التنمية البرشية متكاملة جيب أن تتميز بعدة سامت موزونة كي هتب هلا صفة التكامل ،وما التنمية البرشية يف القرآن الكريم إال تنمي َة متكامل ًة لتميزها بعدة خصائص قادهتا إىل جوهر التكامل ،وهي ذات اخلصائص والسامت التي اتسمت هبا الرشيعة اإلسالمية بجميع أنظمتها بوصفها ك ً ال ال يتجزأ ،ألن جتزؤ هذه املضامني يقود إىل تفكيك ُعرى املنظومة اإلسالمية ،ومن أهم هذه اخلصائص هي:
· الشمولية:
حاولت أغلب الدراسات التنموية الوضعية بشكل نظري أن جتعل من الشمولية خصيصة مميزة للعملية التنموية ،ألن هذه السمة تظهر سعة أفق تلك الدراسة من جهة وتعطيها فسحة واسعة حللحلة األزمة النظرية والعملية ،إال أن التنمية البرشية عىل وفق الرؤية القرآنية اختلفت متام ًا عن أي نظرية ،فالتنمية فيها (ال تقف عند التطور والتغيري املستمر نحو األحسن فاألحسن ،بل ال بد أن يضاف
إىل ذلك كله ميزة أخرى وهي الشمولية)( ،)2حيث شملت الرؤية القرآنية التزاوج بني املادة والروح( ،فالقرآن ال يعرف الفصل بينام هو مادي وما هو روحي ،وال يفرق بني ما هو دنيوي وما هو أخروي)( ،)3بل نظر إىل اإلنسان بوصفه كيان ًا واحد ًا ((( عبد الكريم بكار ،مدخل للتنمية املتكاملة.22 ، ((( (بحث) املصباح ،التنمية يف القرآن الكريم ،حممد جواد عباس شبع ،العدد التاسع.176 ، ((( إبراهيم العسل ،التنمية يف الفكر اإلسالمي.101 ،
226
يشمل واقعه بام تضمن من عنرصيه( ،)1وكذا نظر إليه ولفلسفة الدنيا واآلخرة. إن التنمية البرشية القرآنية متكاملة ألهنا مبنية عىل (الوحدة الشاملة ،وحدة اخلالق ،ووحدة حقيقة الكون ووحدة الكائنات ووحدة النوع اإلنساين ووحدة
توجهه يف العبادة ووحدة مصدر التلقي عن اإلله الواحد)(،)2ومنها سيتوجه اإلنسان فطري ًا ليتعامل مع (احلياة وحركتها عىل أهنا سلسلة من العبادة املتالحقة
هلل اخلالق رب العاملني)( ،)3فشمولية التنمية القرآنية وتكاملها مبنية عىل أساس ص ْفنَا استيعاهبا ملنظومة احلياة وجماالهتا كافة وتداخلها مع كل مفردة منها َ ﴿و َل َقدْ رَ َّ َّاس يِف َه َذا ا ْل ُق ْر ِ لِلن ِ آن ِم ْن ك ُِّل َم َث ٍل﴾( ،)4كام نجدها كذلك الستيعاهبا حركة اإلنسان التنموية مراعية قدراته وإمكانياته وظروفه واملؤثرات املختلفة التي حتيط به.
إن مبدأ الشمول يف التنمية القرآنية (تقتيض حتقيق االحتياجات البرشية كافة)(،)5 ك ا ْلكِتَاب تِبيان ًا لِك ُِّل يَ ٍ ﴿و َن َّز ْلنَا َع َل ْي َ ح ًة إذ يقول سبحانه وتعاىلَ : شء َو ُهدً ى َو َر مْ َ َ َْ ْ
((( إشارة لعنرصي الروح والبدن ،وإن عد البعض أن شمولية اإلنسان بمجموعة عنارصه( ،فالشمولية هي أن تصل باإلنسان إىل كامل نموه اجلسمي والعقيل والنفيس واالنفعايل واخللقي واالجتامعي .ظ :مدخل إىل الرتبية.20 ، ((( ظ :سيد قطب ،خصائص التصور اإلسالمي.107 ، ((( املصدر نفسه.107 ، ((( اإلرساء.89 : ((( إبراهيم العسل ،التنمية يف الفكر اإلسالمي.101 ،
227
ِِ ِ ني﴾( ،)1وهلذا تُعدّ أحدى مصاديق التبيان الكيل لألشياء النظرة َو ُبشرْ َ ى ل ْل ُم ْسلم َ السبل التي يسلكها ليصل إىل مرحلة استيفاء إىل اإلنسان بشمولية من حيث بيان ُ حاجاته تلبي ًة بال استثناء فهو يبني له كل املسالك والطرق ليبلغ به الوفاء بمتطلباته وحاجاته كافة وعىل وجه الشمولية ،فتبيان كل يشء يعني فتح مجيع املنافذ امام اإلنسان عموم ًا ساعي ًا لتلبية حاجاته األساسية يف جماالت احلياة كافة. فمبادئ املذهبية القرآنية اإلسالمية (إهنا تنظر إىل الكون نظرة شمولية من غري فصل بني أجزائه ،وهذا يتحقق بتوظيف العلوم الطبيعية يف إيامن اإلنسان ألن تلك
العلوم تكشف له حقيقة آيات اهلل يف الكون)(.)2
لقد أحاطت املنهجية القرآنية بشمولية ضمت (مجيع األمور فأقرت اخلالفة وأمرت بالعامرة ،وفرضت الوالية وحاربت الفساد ،فخلقت ترابط ًا شام ً ال بني الفرد واملجتمع ،مل يغفل به أي جانب من جوانبه ،ونظمت العالقة بني االثنني)(،)3 لذا فالشمولية تشمل (اإلنسان والكون واحلياة ،عىل أن ينظر إىل اإلنسان باعتباره روح ًا وعق ً ال وجسد ًا وعاطفة ،وكذا تشمل عالقة حياته العامة واخلاصة ،وكجزء من املجتمع ،وتشمل ما بني املتكامالت بني الدنيا واآلخرة)(.)4 ((( النحل،89 : ((( حمسن عبد احلميد ،اإلسالم والتنمية االجتامعية.132 ، ((( جمموعة من الباحثني ،دراسات يف التنمية البرشية املستدامة يف الوطن العريب، اإلسالم والتنمية البرشية املستدامة ،مقارنة يف األهداف واملوارد.148 ، ((( ظ :طارق حممد السويدان وفيصل عمر بارشاحيل ،صناعة الثقافة.53 ،
228
فالشمول يف العملية التنموية عىل وفق الرؤية القرآنية هو استيعاب جلوانب اإلنسان كافة ( )1واحلياة والكون وصوالً إىل التكامل احلقيقي ،بينام نجد أن السبب الرئيس يف أخفاق أغلب العمليات التنموية الوضعية هو ألهنا مل تكن شاملة حلقيقة اإلنسان وقدراته ولعالقاته مع احلياة والكون.
· التوازن:
﴿وك ََذلِ َ ك َج َع ْلنَاك ُْم ُأ َّم ًة َو َسط ًا لِ َتكُونُوا ُش َهدَ َاء قال اهلل تعاىل يف كتابه العزيزَ : َع ىَل الن ِ الر ُس ُ ول َع َل ْيك ُْم َش ِهيدا ﴾( ،)2إن مبدأ التوازن من املبادئ القرآنية َّاس َو َيك َ ُون َّ التي اعتمدت عليها الفلسفة اإلسالمية ،وأنامزت هبا من سائر األيديولوجيات كافة ،لذا نجد التنمية البرشية يف القرآن الكريم عىل ذات املنحى ،فهي ترفض (أن تنفرد التنمية بالنواحي االقتصادية دون القضايا الصحية أو الثقافية أو االجتامعية، وأن تستأثر الصناعة بالتنمية دون الزراعة)( ،)3وغري ذلك من األمثلة التي تفرض
((( إن العملية التنموية كحال الرشيعة اإلسالمية املقدسة قد اهتمت باإلنسان عموم ًا عىل أنه كيان واحد من روح وجسد ومن ظاهر وباطن ،فهي أوسع نطاق ًا من بقية الرؤى التنموية ،كوهنا تتحكم وهتتم (باملظهر ينفذ إىل الرسائر ويقيس ترصفات الفرد بمعيار مزدوح ،أوالمها معيار ظاهري يتناول الترصف يف مظهره وأثره ،وثانيهام معيار باطني يتغلغل يف خفايا النفس ليكشف دوافع السلوك) مصطفى الزملي وعبد الباقي البكري ،املدخل لدراسة الرشيعة اإلسالمية.42 ، ((( البقرة.143 : ((( إبراهيم العسل ،التنمية يف الفكر اإلسالمي.102 ،
229
حد التوازن يف حركة اإلنسان كام فرضته يف حركة الوجود والكون ويف أسس وكليات النظام اإلسالمي ليعم التوازن يف كل جزء أو مفصل عىل مستوى النظرية والتطبيق ،مستوعبة مصاديق ًا كثرية كالتوازن بني احلقوق والواجبات، الصال ُة َفان َتشرِ ُ وا وبني مصالح الفرد واجلامعة ،بني العبادة والعمل ﴿ َفإِ َذا ُق ِض َي ْ ت َّ يِف األَ ْر ِ ض َوا ْب َتغُوا ِم ْن َف ْض ِل الل ﴾( )1ففي هذه اآلية يلحظ للتوازن بني اجلانب
الروحي (العبادة) واجلانب املادي (الكسب) لديمومة حياة اإلنسان وتلبية مطلبه االقتصادي ،بل عند التأمل يف اآلية نقف عىل حقيقة أن التوازن ليس دعوى يف القرآن؛ بل هي أمر واجب التحقيق يف احلياة بدليل استعامله سبحانه لفعل الدعوة لكسب العيش بعد الصالة بقوله ﴿ َفان َتشرِ ُ وا ﴾. إذن التوازن أمر إهلي لتحقيق كل سامت التنمية البرشية يف حياة اإلنسان لتلبية كل مطلب ال عىل أساس حساب القصور يف املطلب الثاين ،وهبذا يتحقق التوازن الذي ُيعدّ أحد خصائص إنجاح التنمية البرشية وحتقيقها وحتققها يف احلياة، ِ ِ ي ين َآمنُوا إِ َذا نُود َ فاجلانب الروحي مأمور يف قوله سبحانه وتعاىلَ ﴿ :يا َأ هُّ َيا ا َّلذ َ الة ِمن يو ِم جُْ ِ لِلص ِ اس َع ْوا إِ ىَل ِذك ِْر اللهَِّ َو َذ ُروا ا ْل َب ْي َع َذلِك ُْم َخ رْ ٌي َلك ُْم إِ ْن ُكنْت ُْم ْ َْ َّ ال ُم َعة َف ْ
()2 ﴿و َذ ُروا َت ْع َل ُم َ اس َع ْوا ﴾ أمر بالعبادة ألداء اجلانب الروحي وقوله َ ون﴾ فقوله ﴿ َف ْ الصال ُة َفان َتشرِ ُ وا ا ْل َب ْي َع ﴾تعني التوقف عن اجلانب االقتصادي ثم قال ﴿ َفإِ َذا ُق ِض َي ْ ت َّ يِف األَ ْر ِ ض﴾ فوقع التوازن ألنه امر بأداء اجلانب االقتصادي الذي توقف ،لذا
((( اجلمعة.10 : ((( اجلمعة.9:
230
أحتيج إىل التوازن بني املطلبني فوقع ،فقد ورد أن االنتشار وابتغاء فضل اهلل تعاىل يشمل طلب الرزق والكسب والتجارة وأداء الواجبات وطلب العلم واملعرفة بل ليصل املعنى إىل عدم االنحراف عن جادة احلق والعدالة ،فهو مفهوم واسع
يشمل مجيع تلك املعاين وغريها ( ،)1ومن النظر يف اآلية املباركة نجد أن القرآن الكريم ْأو َجدَ حال ًة من االنسجام والتوافق احلقيقي بني العبادة وتأمني متطلبات احلياة ،فال استغراق يف الروحانيات مما ينيس الواجبات احلضارية ،وال انغامس ًا يف
املاديات( ،)2حيث تأيت التنمية البرشية عىل وفق املنظور القرآين لتحقق التوازن بني النزعات والرغبات من غري إفراط وال تفريط ،ألن القرآن الكريم جاء (منهج ًا ال وشام ً كام ً ال ألبعاد احلياة اإلنسانية جعله اهلل متوازن ًا يف أصوله وأحكامه بحيث ال يتضخم بسببه جانب يف حياة اإلنسان عىل حساب جانب آخر ،فهو منهج الدين واآلخرة ،والدين والسياسة ،والروح واجلسد ،وحيث تتكامل شخصية اإلنسان بالوصول إىل املصالح املرشوعة من جانب وبالتزام الواجبات املفروضة من جانب
آخر)(.)3 والتوازن هو التوسط بني طرفني ،وهذا يعني عدم امليل وعدم املغاالة ألي طرف من األطراف ،وهلذا ُوصفت الوسطية بالفضيلة ،ألهنا تعني املحافظة عىل
((( ظ :نارص مكارم شريازي ،األمثل يف تفسري كتاب اهلل املنزل.194 ،14 ، ((( ظ :طارق حممد السويدان وفيصل عمر بارشاحيل ،صناعة الثقافة.60 ، ((( حممد تقي املدريس ،من هدى القرآن.472 ،10 ،
231
حد الوسط ،واجتناب طريف اإلفراط والتفريط اللذين مها الرذائل ،لتصدر منه
أفعال يصل هبا إىل السعادة املرجوة( ،)1فالتوازن يعني االعتدال ،حيث ُعدت سمت االعتدال من أرشف اخلصائص وأفضلها ملا تنفرد به من مزية عن غريها، فهي (أقرب إىل الوحدة وشأهنا اخلروج من االكرتاث ،والتأليف بني املتباينات، ِ 2 َان لِ َي ُقو َم َاب َوالمِْيز َ ﴿و َأ ْن َز ْلنَا َم َع ُه ْم ا ْلكت َ والتسوية بني املختلفات)( ) ،قال اهلل تعاىلَ : النَّاس بِا ْل ِقس ِ ط ﴾(.)3 ُ ْ جتلت صورة التوازن يف النظرية القرآنية ليصل جتليها إىل درجة أن أحاطت بني إرادة اهلل املطلقة وبني إرادة اإلنسان كمختار ،وبني عبودية اإلنسان املطلقة
هلل ومقام اإلنسان الكريم ،فيتحقق وجود اإلنسان من دون أن يتحول إىل إله(. )4 فالرؤية القرآنية تدعو التنمية البرشية بكل مفرداهتا إىل موازنة دقيقة عىل مستوى اإلنسان وما حييط به لتدخل يف أدق التفاصيل لتصل إىل كينونته مستوعبة قواه النفسية والعقلية والروحية والبدنية بغية املوازنة دون أن حيصل أي طغيان
((( ظ :حسني نجيب حممد ،مجال السالكني ،العامل الرباين السيد عبد األعىل السبزواري.106 ، ((( النراقي ،جامع السعادات.113 ، ((( احلديد.25 : ((( ظ :حممد قطب ،مناهج التنمية اإلسالمية.41 ،
232
جلانب عىل جانب آخر ،وكذا هي حاله بعالقاته املتعددة( ،)1وفهمه إىل احلياة والكون ،وكذا نشاطاته يف ميادين احلياة املختلفة.
الثبات(:)2
مما ال شك فيه أن ثبات الرسالة اإلسالمية وسامويتها تُعدّ خصيصة مهمة ألهنا مبنية عىل أساس ترشيع احلاكم املطلق ،وأن قيمة وأمهية "الثبات"غايتها (ضبط احلركة البرشية حتى ال تصل يف مشاعرها وأفكارها وتصوراهتا ونظمها
((( لإلنسان عالقات ثالث وهي -1 ( :العالقة مع اهلل تعاىل -2 .العالقة بالناس. -3العالقة بالنفس ).ظ :حممد مهدي اآلصفي ،يف رحاب القرآن.207 ، ((( هناك من عدّ الساموية كإحدى خصائص التنمية البرشية يف اإلسالم استناد ًا إىل استلهامها من اهلل تعاىل ،فعىل الرغم من سالمة هذه اخلاصية التي ال أشكال فيها فأننا نستطيع أن ندرجها من ضمن سمة الثبات ،ألن سمة الثبات مل تعد مائز ًا إال من خالل ساموية الكتاب والسنة املطهرة ،وأن مسألة الثبات أو الساموية تعني إن الرشيعة اإلسالمية بام فيها التنمية البرشية كإحدى نشاطاهتا أو اهتامماهتا هي جاءت تنزي ً ال من اهلل (فهو مصدرها ،فقد تنزلت عن طريق الوحي معنى ولفظ عىل صورة آيات بينات، أو جاءت وحي ًا باملعنى دون اللفظ عىل سورة السنة املطهرة ،وما جاء من قواعدها عن طريق االجتهاد) وهذا يعطي خاصية للرسالة اإلسالمية ومنها التنمية البرشية ،إذ تعد هذه اخلاصية مائز ًا من غريها من القواعد االجتامعية بأمرين ،مها( :األول :عصمتها من اخلطأ والنقص واجلور واهلوى ،الثاين :قوة سلطاهنا عىل النفوس فيطاع ال خشية جربوته فحسب ،وإنام شغف ًا بطاعته وإجالال حلكمته) .ظ :املدخل لدراسة الرشيعة اإلسالمية ،مصطفى الزملي وعبد الباقي البكري.41 – 40 ،
233
احليوية فتستسلم إىل اهلوى واملجون واخلرافة واألسطورة املادية اآللية)(.)1
وبام أن القيم واملفاهيم اإلسالمية والقرآنية ثابتة لسامويتها( ،)2فمضامني التنمية البرشية ستكون ثابتة بفعل ثبات املوازين واملعايري القرآنية ،وكذا فالقيم والكليات التي تُعدّ أسس ًا للمنظومة الفكرية اإلسالمية تُعدّ ذاهتا ملنظومة التنمية البرشية أيض ًا ِ ٍ ()3 ت ِم ْن َلدُ ْن َحكِي ٍم َخبِري﴾ ت آ َيا ُت ُه ُث َّم ُف ِّص َل ْ َاب ُأ ْحكِ َم ْ الرتكازها عليها﴿ ،الر كت ٌ فإحكام آيات اهلل كان وراء حفاظ الرسالة اإلسالمية عىل هويتها ووجودها ،فال تذوب وسط الثقافات واحلضارات األُخر ،وأن هذا الثبات ال يعني اجلمود أو
التخلف أو حماربة كل جديد ،بل حركة منضبطة( ،)4فكليات املذهبية القرآنية السماَ ِء﴾( ،)5فهي تعني عميقة متجددة ﴿ك ََش َج َر ٍة َط ِّي َب ٍة َأ ْص ُل َها َثابِ ٌ ت َو َف ْر ُع َها يِف َّ كليات اإلسالم يف اخلالق والكون والعامل واإلنسان واليوم اآلخر ،ثابتة قطع ًا يف ((( املدخل لدراسة الرشيعة اإلسالمية ،مصطفى الزملي وعبد الباقي البكري– 40 ، .41 ((( يعلق السيد احليدري بخصوص مطلب الثابت واملتغري بإثارة قائال (:إن الدين الواقعي لدى املعصوم وما هو متداول بأيدينا هو فهم من هذا الدين املتشكل من القرآن ورواية املعصوم ،فام نمتلكه هو معرفة دينية ،فإن الدين ما هو عليه يف الواقع) كامل احليدري ،الثابت واملتغري يف املعرفة الدينية.35 ،43 ، ((( هود.1 : ((( ظ :طارق حممد السويدان وفيصل عمر بارشاحيل ،صناعة الثقافة.59 ، ((( إبراهيم.24 :
234
كتاب اهلل والسنة الرشيفة(.)1 وألن التنمية البرشية تستقي من مجلة روافد أمهها وأوسعها وأعمقها كتاب اهلل تعاىل ،وأن القرآن الكريم غالب عىل نصه ،متجرد عن خصوصية الزمان واملكان، وآياته متثل ثوابت الدين اإلهلي فهو حبل اهلل املتني( ،)2فالتنمية القرآنية هلا خصيصة القرآن من الثبات والعمق ،عل ًام أن الثابت مل يكن ثابت ًا لوال أنه (منصوص عليه بدليل قطعي ،بام جيعله أساس ًا غري خاضع للتغري)( ،)3قال اهلل تعاىل يف كتابه العزيز: ﴿ َف َل ْن جَِ ال َو َل ْن جَِ تدَ لِ ُسن َِّة اللهَِّ َت ْب ِدي ً تدَ لِ ُسن َِّة اللهَِّ حَ ْت ِويالً﴾( ،)4أي أن (سنة اهلل ال تقبل
تبدي ً ال وال حتويالً؛ ألنه تعاىل عىل رصاط مستقيم ال يقبل حكمه تبعيض ًا وال جل وعال﴿ :ال َت ْب ِد َ استثنا ًء)( ،)5وقال اهلل ّ يل َخِل ْل ِق اللهَِّ َذلِ َ ين ا ْل َق ِّي ُم﴾( ،)6و(أن ك الدِّ ُ مجلة "ال تبديل خللق اهلل" وبعدها مجلة "ذلك الدين القيم" تأكيد أن مسألة كون
((( ظ :حمسن عبد احلميد ،جتديد الفكر اإلسالمي.121 ، ((( ظ :نجف عيل مريزائي ،فلسفة مرجعية القرآن املعرفية – يف إنتاج املعرفة الدينية، .154 ((( جواد أمحد البهاديل ،الثابت واملتغري يف الرشيعة اإلسالمية.113 ، ((( فاطر.43 : ((( الطباطبائي امليزان يف تفسري القرآن.58 ،17 ، ، ((( الروم.30 :
235
الدين فطري ًا وعدم أمكان تغري هذه الفطرة)( )1مطلق ًا. التطور ( )2والتغيري (:)3 قبال سمة الثبات التي ذكرناها هناك خصيصة متيزت هبا التنمية البرشية يف القرآن الكريم من بقية الرؤى يف هذا امليدان ،أال هي سمة التطور والتغيري ،كون التنمية أساس ًا هتدف إىل التغيري اإلجيايب الذي ُعد العنرص األساس يف العملية التنموية
((( مكارم الشريازي األمثل يف تفسري كتاب اهلل املنزل ،نارص .158 ،10 ، ((( لقد عد بعض من الباحثني أن «االستمرارية» من خصائص التنمية البرشية يف القرآن الكريم ،يف حني إن إقرارنا بتسمية التطور يعني إقرارنا باالستمرارية ،ألن من خصائص التطور االستدامة واستمرار العملية التنموية ،كون التنمية (ال تتوقف عند حتقيقها ،بل تقتيض تأمني الكثري من احتياجات اإلنسان املتجددة بفعل انعطافه نحو األفضل بشكل دائم. ((( ّ دائام نحو األحسن فاألحسن ،وذلك لوجود إن عملية التغيري تكون يف التنمية ً فرق مهم بني كلمتي التغيري والتنمية؛ فالتنمية دائ ًام تعني التحسيـن والرقي والزيادة يف اليشء ،بينام التغييـر قد يكون ملا هو حسن كام يكون ملا هو سيئ .وقد ورد لفظ التغيري يف موضعـني من القرآن الكريم ،أوهلام يف سورة األنفال يف قوله تعالـىٰ﴿:لِ َك للهَّ لمَ ي ُك م َغ ًا ّنعم ًة َأ ْنعمها َعلىَ َقو ٍم حتَّى ي َغ و ْا ما بِ َأ ْن ُف ِس ِهم و َأ َّن ا َ ِ يع للهَّ َسم ٌ ْ َ بِ َأ َّن ا َ ْ َ ُ يرّ ْ َ َ َ َ ٰ ْ َ ٰ ُ يرّ ُ َ ِ ِ َعل ٌ يم﴾(األنفال ،)53:وثانيهام يف سورة الرعد وهي قول اهلل تعاىل﴿ :إ َّن اللهََّ الَ ُي َغيرّ ُ َما بِ َق ْو ٍم َحت َّٰى ُي َغيرّ ُ و ْا َما بِ َأن ُف ِس ِه ْم﴾ (الرعد .)11:فالتغيري الوارد يف اآلية األوىل إنام هو تغيري نحو السيئ ،بحيث ّ إن اهلل ال ُيـغيرِّ نعمته إىل نقمة إال إذا حصل ما يقتيض ذلك ،وهو التغيري السيئ ألنفس قوم ما .فنظر ًا هلذا الفرق املهم بني التنمية والتغيري ق ّيدت التغيري بكونه «نحو األحسن فاألحسن ».ظ( :بحث) املصباح،التنمية يف القرآن الكريم ،حممد جواد عباس شبع ،العدد .174 ،9
236
َيوا َما بِ َأن ُف ِس ِه ْم﴾( ،)1فالتنمية البرشية َي َما بِ َق ْو ٍم َحتَّى ُيغ رِّ ُ لقوله تعاىل﴿ :إِ َّن اللهََّ ال ُيغ رِّ ُ (دائمة التطور والتغري وختتلف باختالف الزمان واملكان ،ومن جمتمع آلخر ،بل إهنا ختتلف يف داخل املجتمع الواحد)( ،)2وما االنفتاح عىل أنامط التنمية األخرى أو عىل الثقافات والنشاطات التنموية إال من قبيل التكافؤ احلضاري والثقايف، فإن مسايرة احلضارة واملدنية ال ضري فيها إن كان هناك صامم أمان ومرجعية ثابتة وأسس وكليات خالدة ال تقبل التحريف والتأويل ،فعىل الرغم من عدم السامح حلركة اجلزئيات والفروع إال داخل حدودها ،فإهنا خضعت لضابطة أخرى هي أن تكون حتت حاكمية الثوابت والكليات واألصول وداخل حيزها العام ،وعىل أساس ذلك فإن من لوازم التغيري والتطور تغيري ما تسوده من قوانني وترشيعات، وعليه فالبد من وجود جنبة ترشيعية ثابتة للثوابت ،وللجانب املتغري ترشيع متغري(.)3 ولقد ُأستدل عىل جواز حماكاة التغيري وتطور التنمية البرشية لذاهتا وما حييط هبا هو سياق فلسفة اإلسالم وما حتمل من سعة يف احلركة عىل وفق جماالت ومضامني األدلة الرشعية الذي ُيعدّ القرآن الكريم أحدها والذي يجُ يز لإلنسان اكتشاف قوانني احلياة وتسخريها لسعادته ،ومن أجل مراعاة التغيري يف احلياة، ُفسح املجال الكبري أمام العقل اإلنساين أن يتحرك وجيتهد يف داخل الضوابط ((( الرعد.11 : ((( عمر أمحد مهوش ،مدخل إىل الرتبية.20 ، ((( ظ :جعفر السبحاين ،أضواء عىل عقائد الشيعة األمامية.565 ،
237
العامة التي تشكل املحور الثابت( ،)1فض ً ال عن ما ذكره بعض املعارصين من أن العالقات والثقافات البرشية كلها متغرية وتستبطن عنرص الصريورة والتحول يف حركة التكامل البرشي ،وذلك يستدعي نظام ًا منسج ًام مع هذه التغريات ،مع ان الترشيعات اإلسالمية يف جمال "املعامالت ،واحلدود ،والقضاء ،واحلكومة" والغالب فيها أهنا أحكام أمضائية تنسجم مع ذلك املجتمع(.)2 وعىل ما تقدم فالتنمية البرشية تُعدّ أحدى السبل لتحقيق الرشيعة املقدسة وبكال املنهجني الثابت واملتغري ،ولعل مرجعية ذلك عائد إىل أساس الفلسفة اإلسالمية التي تجُ يز احلركة كام أرشنا سلف ًا ولسببني مها أوالً :صالح أحكامها لكل زمان ومكان ،وقد بنيت عىل أساس جلب املصالح للعباد رضورية أو حاجية أو حتسينية ودرء املفاسد عنهم ،وهي تعليل دائ ًام باملصالح ،ثانيا :مرونة قواعدها مرونة تسمح بتطور كثري من أحكامها استجابة لتغيري احلاجات والظروف ،حيث تبدو أن أدلة األحكام الرشعية عىل قدر كبري من املرونة بحيث تُسمح بتطور األحكام بتغاير األزمان ويف مقدمته هذه األدلة ،القياس ،واالستحسان واملصالح املرسلة والعرف( ،)3فبالرغم من إقرارنا إىل سمة التطور والتغري فإن هناك من أدعى عدم
((( ظ :حمسن عبد احلميد ،منهج التغيري يف اإلسالم.55 – 51 ، ((( ظ :منطقة الفراغ مساحة لترشيعات احلداثة واملعارصة ،الشيخ حممد إسحاق الفياض ،جملة النور ،العدد .54 ،171 ((( ظ :مصطفى الزملي وعبد الباقي البكري ،املدخل لدراسة الرشيعة اإلسالمية، .46
238
جواز ذلك(.)1 · االستقاللية: لقد عرف الباحث التنمية البرشية إهنا( :عبارة عن عمليات إجرائية منظمة عىل
وفق رؤية فكرية منتخبة هتدف لتطوير القوى الكامنة يف اإلنسان بصقلها وتوجيهها
نحو حتقيق طموحاته بغية إشباع حاجاته املرشوعة يف شتى جماالت احلياة ،).ومن خالل تسليط الضوء عىل التعريف أعاله نجد تأكيد ضابطة "املنظومة الفكرية" حيث كشف أن التنمية البرشية هلا خصوصية ُمستمدة من املنظومة الفكرية ،وكذا ((( إن موضوع الثابت واملتغري من املواضيع املهمة التي أخذت حيزها الواسع من النقاش ،إال إن املعيار الذي بقي كقاسم مشرتك بني فريقي مدعي الثبات ومدعي التغيري هو أن التغيري ال يصح إال يف اجلزئيات والفروع ،أما الكليات واألسس فهذا أمر غري قابل للنظر فيه لتسليم الطرفني هبام ،فبالرغم من قناعة الباحث جواد أمحد البهاديل بمدرسة الثبات ورضورة عدم السامح بحركة التغيري فإنه أورد مجلة من الضوابط التي يصح فيها التغيري وهي ذاهتا تُعد من املسلامت ملذهب ومدرسة التغيري ومنها :أوالً: ما ذكره الشيخ النائيني إن القابل للتغري هو األحكام السياسية ...ثاني ًا :تغري وتبدل املوضوع اجلزئي يؤدي إىل تغيري األحكام ....ثالث ًا :وجود التزاحم والورود بالعناوين الثانوية....رابع ًا فهم الضوابط التي متنع اإلنسان من الوقوع يف االشتباه عن متيز اجلزئيات....خامس ًا :املوضوعات ذات العالقة باألمور العرفية....سادس ًا :مساحة اإلباحة التي ترك املرشع لإلنسان فيها االختيار بام يناسب مصاحله ورغباته ،بام يالئم كل عرص والذي ابتنت فكرة منطقة الفراغ الترشيعي...سابع ًا :العناوين ذات الطبيعة االستثنائية ،فالواجبات الرشعية مرشوطة بعدم العرس واحلرج واالضطرار واإلكراه... ثامن ًا :القضايا ذات العالقة بالشؤون اخلاصة بالناس واألمة....تاسع ًا :تنظيم وتطبيق الواجبات الكفائية والعينية بام حيقق أهدافها املطلوبة. ظ :جواد الشيخ امحد البهاديل ،الثابت واملتغري يف الرشيعة اإلسالمية.133 – 131 ،
239
هي مزية التنمية البرشية يف القرآن الكريم ،إذ هي تنفرد هبذا املائز من بقية املناهج التنموية األخرى املرتكزة بمساراهتا عىل أيديولوجيات وضعية قلقة ،يف الوقت الذي نجد أن التنمية البرشية يف القرآن الكريم تستمد وجودها من املد الغيبي لكتاب اهلل تعاىل الذي أصبغ األمة ذوق ًا وطباع ًا وثقاف ًة انفردت هبا عن باقي األمم، (وبناء عىل ذلك ،فإن العملية التنموية البد أن تكون نابعة من خصائص ومميزات تلك األمة ،كام البد أن تتم بعيد ًا عن أي نوع من أنواع التبعية ،بحيث يصح أن نطلق عليها تنمية مستقلة)(.)1 من هنا يقتيض أن تكون التنمية البرشية يف املنظور القرآين بمقتىض حاكمية ذات القرآن الكريم ،وما حيمل من رؤية فلسفية لإلنسان والكون واحلياة ،بل ما حيمله من رؤية كونية للوجود ولعلة الوجود ،لذا وجب أن يكون للمنهج اإلسالمي القرآين استقاللية ألنه (إهلي املنشأ سوي البنية ،راسخ األركان ،الستناده إىل الدين الكامل وتولده يف النعمة التامة)( )2قال تعاىل﴿ :ا ْل َي ْو َم َأك َْم ْل ُت َلك ُْم ِدينَك ُْم َو َأتمْ َ ْم ُت يت َلك ُْم ِ اإل ْسال َم ِدين ًا ﴾(.)3 َع َل ْيك ُْم نِ ْع َمتِي َو َر ِض ُ
وبمقتىض ذلك فان من أهم خصائص التنمية البرشية يف القرآن الكريم هي االستقاللية ،ونعني عموم االستقاللية ملرجعيتها له سبحانه تعاىل ،فهي تشمل ((( (بحث) املصباح ،التنمية يف القرآن الكريم ،حممد جواد عباس شبع ،العدد ،9 .178 ((( عيل الرشبجي ،املدخل إىل دراسة الفقه اإلسالمي.57 ، ((( املائدة.3 :
240
الرؤية الثقافية واخلطاب والتبليغ واالستيعاب واملنهج واألحكام والتطبيق ،قال ين الحْ َ ِّق لِ ُي ْظ ِه َر ُه َعلىَ الدِّ ِ ﴿ه َو ا َّل ِذي َأ ْر َس َل َر ُسو َل ُه بِالهْ ُدَ ى َو ِد ِ ين ُك ِّل ِه َو َل ْو اهلل تعاىلُ :
ك َِر َه المُْشرْ ِ ك َ ُون ﴾( )1فاآلية املباركة تؤكد مجلة مطالب منها إثبات صحة أن اهلل تعاىل هو الباعث وا ُمل ِ رسل للرسول والرسالة (أي هو ال غريه أرسل رسوله)( )2اخلاتم وصف بالرسول ،كام (وعرب عن اإلسالم بِالهْ ُدَ ى َو ِد ِ ين الحْ َ ِّق)(،)3 حممد حيث ُ كون دين اإلسالم مشتم ً ال (بالصواب والصالح ومطابقة احلكمة وموافقة املنفعة
يف الدنيا واآلخرة)( ،)4وإن إظهار الدين اإلسالمي بإعالئه عىل مجيع األديان الستقالليته ومرجعيته إىل السامء ،غالب ًا عىل بقية املذاهب (باحلجة والغلبة والقهر
هلا حتى ال يبقى عىل وجه األرض دين إال مغلوب ًا)( )5وهذا يعني أن اإلسالم هو الدين التام واملستقل بذاته عن أي زيادة أو تعديل أو تبديل. وعىل الرغم من خصيصة استقالل الترشيع واستقالل أحد فعالياته وهو التنمية البرشية لتبعيتها هلل الواحد األحد فإن التنمية البرشية جيب أن تكون ذات طابع استقاليل من زاوية أخرى بانطباق رؤاها متشي ًا مع ذوق كل أمة وذلك بالعمل ((( التوبة.33 : ((( حممد أبن عاشور ،تفسري التحرير والتنوير ،مج .173 ،10 ،5 ((( املصدر نفسه. ((( الرازي ،التفسري الكبري ،مج.35 ،16 ،8 ((( الطربيس ،جممع البيان يف تفسري القرآن ،مج.50 ،10 ،3
241
بطول املعطيات النظرية والظروف املوضوعية لألمة وتركيبها النفيس والتأرخيي، ألن األمة هي جمال التطبيق لتلك املناهج ،فمن اخلطأ تفعيل نشاط تنموي من دون أن يؤخذ بعني االعتبار درجة أمكان تفاعل تلك األمة مع هذا املنهج ومدى قدرته عىل االلتحام باألمة(.)1 ·
اإلنسانية (:)2
َّاس إِنيِّ َر ُس ُ ول اللهَِّ إِ َل ْيك ُْم جمَِيع ًا﴾(.)3 قال اهلل تعاىل يف كتابه العزيزُ ﴿ :ق ْل َيا َأ هُّ َيا الن ُ مل يكن دين اإلسالم حكر ًا عىل أمة دون أخرى وأن مدلول ظاهر اآلية يدل
(عىل أن حممد ًا nمبعوث إىل مجيع اخللق)( ،)4ملخاطبة اآلية عموم الناس دون ان ِم ْن َر ِّبك ُْم َو َأن َز ْلنَا اءك ُْم ُب ْر َه ٌ ختصيص ،كام يف قوله تعاىلَ ﴿ :يا َأ هُّ َيا الن ُ َّاس َقدْ َج َ إِ َل ْيك ُْم نُور ًا ُمبِين ًا﴾( ،)5وقد شاع هذا السياق يف اخلطاب القرآين ،مما جعله متميز ًا مبني عىل من بقية اخلطابات الوضعية ،فكانت لغته لغة إنسانية دائ ًام ،بل خطابه ٌّ ((( ظ :حممد باقر الصدر ،اقتصادنا ،مقدمة الكتاب ،و – ز.
((( لقد أفرد بعض الباحثني سمة العاملية بوصفها تنفرد هبا التنمية البرشية يف القرآن الكريم ،يف حني أن ما أوردناه عن خصيصة اإلنسانية يف النشاط التنموي اإلسالمي يعني عاملية الفكر بقبول اإلنسان أينام كان ويف أي زمان. ((( األعراف.158 : ((( الفخر الرازي ،التفسري الكبري ،مج.22 ،15 ،8 ((( النساء.174 :
242
أساس العلة من إرسال الرسالة والرسول ،بغية هداية اإلنسان وإصالح وضعه وشأنه. إن مطلب عاملية القرآن والرسالة الساموية اإلسالمية مطلب مس ّلم به لكثرة ما وردت من آيات بينات هبذا اخلصوص ،وإن عاملية القرآن الكريم وإنسانيته ستكون دافع ًا لرتمجة فعاليات التنمية البرشية التي تُعدّ عاملي ًة أيض ًا ،فض ً ال عن أن ذات التنمية البرشية القرآنية هلا الكثري من املشرتكات مع فنون ومهارات بقية الفلسفات التنموية األخرى خاصة يف العقود األخرية بعد فرتة نضوج العقل البرشي من جهة واكتساب تلك الفلسفات للخربات التجريبية من جهة أخرى. فعىل الرغم من خصوصية أفكار املنظومة اإلسالمية والتنمية البرشية املرتبطة هبا ،إهنا كانت إنسانية بخطاهبا عىل أساس أن اإلنسان موضوع هلا ،فهي (تنظر إىل اإلنسان باعتباره خليفة اهلل يف األرض فتهدف إىل الوصول باإلنسان إىل مرتبة الكامل)( ،)1لذا كان التكريم يف القرآن الكريم مبن ّي ًا عىل أساس اآلدمية فحسب ﴿و َل َقدْ ك ََّر ْمنَا َبنِي آ َد َم﴾( )2من دون النظر إىل مكانه وزمانه ،ومما ُينقل عن أمري َ املؤمنني Aيف هذا الشأن أنه قال( :الناس صنفان :إما أخٍ لك يف الدين أو نظري لك يف اخللق)( ،)3فاإلنسان هو جوهر خواص التنمية البرشية يف القرآن الكريم
((( حممد الطيطي وجمموعة باحثني ،مدخل إىل الرتبية.21 ، ((( اإلرساء ،اآلية .70 ((( العاميل :وسائل الشيعة.12 ،29 ،
243
كون غايته هو أحياء اإلنسان وبناؤه ،لـ(يكون حر ًا ،كري ًام ،يعمر األرض ،ويحُ ي حياته بالعمل الصالح فيحقق رسالة االستخالف)( ،)1ومل تكن التنمية البرشية إنسانية إن مل يكن موضوعها ذات اإلنسان.
· اإللزام:
مل جيد الباحث أن إحدى الفلسفات قد عدت التنمية البرشية أمر ًا ملزم ًا أي أن ترتقي بالتنمية البرشية وعمليتها إىل درجة الوجوب واإللزام ،بينام وجد الباحث عدم اللزوم يف مناهج أغلب الرؤى واأليديولوجيات ،ومل يقف األمر عند هذا احلد فحسب بل تعدت هذه الرؤية لتعم رواد ومؤسيس التنمية البرشية، فقد عرفوا التنمية البرشية عىل أهنا (عملية هتدف إىل زيادة القدرات املتاحة أمام
الناس)( ،)2إذ هي حماولة ومسعى لتحقيق مسارات التنمية البرشية ليس إال ،يف الوقت الذي يرى القرآن الكريم أن التنمية البرشية ليس حق ًا لإلنسان فحسب بل رضورة ملزمة إتياهنا( ،فاألكل واللبس والسكن واألمن ...واحلرية يف الفكر... والعلم والتعلم ...واملشاركة يف صناعة النظام العام للمجتمع ...والثورة لتغيري نظم الضعف أو اجلور والفسق والفساد ،كل هذه حقوق ًا لإلنسان من حقه أن
((( هشام إخزام ،عبد الفتاح حلوة ،دور املجتمع املدين يف التنمية البرشية ،اجلمعيات أنموذجا. موقع ألكرتوين جلامعة الرسالة (http://www.universiterissala.maktoobblog.com/264267). ((( أسامة العاين ،املنظور اإلسالمي للتنمية البرشية.13 ،
244
يطلبها ويسعى يف سبيلها ويتمسك باحلصول عليها ،وحيرم صده عن طلبها...
وإنام هي رضورات واجبة هلذا اإلنسان بل أهنا واجبات عليه أيض ًا)(.)1 إن عرض ما تقدم من معان تُعدّ مفردات تبنتها التنمية البرشية ،وهذا ما أدركناه سلف ًا يف املباحث السابقة ،حيث تعامل القرآن الكريم مع هذه املفردات التنموية وغريها عىل أساس اللزوم ،وعد تركها أو خمالفتها عىل وفق مقتىض املفهوم أمر ًا مذموم ًا يصل درجة احلرمة ،وعىل هذا األساس كانت الرشيعة الساموية تُف ّعل مبدأ الثواب والعقاب ،أو مبدأ الرتغيب والرتهيب الذي ُيعدّ حافز ًا حقيقي ًا ودافع ًا فعاالً لتحقيق التنمية البرشية ،و ُيعدّ احلكم الرشعي بجزاء أبد ًا ،ويبدو يف صورتني :ثواب ًا يغري الناس بطاعتها ،وعقاب ًا يزجر الناس عن خمالفتها ...وقد يكون اجلزاء دنيوي ًا أو أخروي ًا ،فاألحكام الرشعية تقرتن بجزأين أحدمها دنيوي
قضائي والثاين أخروي إهلي(.)2 ِِ ِ ِ ِ اء قال اهلل تعاىل﴿ :ا َّتبِ ُعوا َما ُأن ِْز َل إِ َل ْيك ُْم م ْن َر ِّبك ُْم َوال َت َّتبِ ُعوا م ْن ُدونه َأ ْول َي َ َقلِي ً ون﴾( ،)3فإن مدلول اآلية املباركة أن (وجوب اإلتباع فيام أنزل اهلل ال َما ت ََذك َُّر َ
تعاىل يدخل فيه الواجب والندب املباح ،ألنه جيب أن يعتقد يف كل منها ما أمر
((( حممد عامرة ،اإلسالم وحقوق اإلنسان.15 ، ((( ظ :مصطفى الزملي وعبد الباقي البكري ،املدخل لدراسة الرشيعة اإلسالمية، .49 ((( األعراف.3 :
245
اهلل سبحانه به كام جيب أن يعتقد يف احلرام وجوب اجتنابه)( ،)1حيث يتضح مما
تقدم أن منظومة الترشيع اإلسالمي قد استوعبت مجيع أقسام احلكم ( ،)2وبذلك ندرك حقيقة وأمهية التنمية البرشية يف املنظور اإلسالمي والقرآين التي تدخل بكل فعالياهتا داخل منظومة األحكام اخلمسة ،بحيث ترتقي بعض النشاطات لتصل إىل درجة الوجوب أو الندب ،وقد تُعدّ مصدات ونواهي التنمية البرشية من احلرمة أو الكراهية خصوص ًا حينام تكون عائق ًا لبناء اإلنسان واملجتمع ،وأن ثقل هذه األحكام مبنية عىل أساس أهنا (خطابات إهلية موجهة إىل املكلفني تتضمن األوامر والنواهي وترسم احلدود واملعامل ألفعال املكلفني)()3وهبذا نضيف للتنمية
البرشية خصيصة أخرى تكون بضميمة اخلواص األخرى أنفة الذكر أال وهي لزوم االنضباط واالمتثال ،ونعني هبا أن التنمية البرشية يف القرآن الكريم هلا ضوابط ومقاييس ال تتعدى األدلة الرشعية ،والذي ُيعدّ القرآن الكريم أحدها ،عىل عكس ((( الطربيس ،جممع البيان يف تفسري القرآن ،مج.9 ،8 ،3
((( بام أن احلكم ينقسم بحسب تقسيامت األصوليني إىل حكم تكليفي وحكم وضعي ،فحبذا لو نقف عند أقسام احلكم التكليفي الذي قسموه إىل مخسة أقسام: الوجوب :وهو اإللزام بالفعل ،والندب :وهو دعوة الشارع إىل فعل يشء دون ألزام، والتحريم :وهو اإللزام برتك فعل ،الكراهية :وهو ردع الشارع للكف عن اإلتيان بفعل مع ترخيصه باإلتيان به ،واإلباحة :وهي ختيري الشارع املكلفني بني إتيان فعل وتركه دون ترجيح من قبله ألحدمها عىل األخر .ظ :أمحد كاظم البهاديل ،مفتاح الوصول إىل علم األصول.54 – 37 ،1 ، ((( عيل الرشبجي ،املدخل إىل دراسة الفقه اإلسالمي.64 ،
246
النظريات الوضعية التي نرى فيها التخبط واضح ًا بني جمتمع وآخر وبني فرتة زمنية وأخرى ،حيث نلمس التباين واضح ًا يف املفهوم واملنهج واألهداف والوظائف واألدوات. · التواصل والتتابع: قد يتبادر لذهن القارئ الكريم أن املراد من هذه اخلصيصة ما أرشنا إليه يف خصيصة التطور والتغيري ،فعىل الرغم من أمكانية اعتبار ذلك من قبيل الرتادف، فإن الباحث رام غري ذلك ،حيث وجد هناك خصيصة أخرى انفردت هبا التنمية البرشية يف القرآن الكريم ،ومل جيد من يذكرها من الباحثني إال ما ندر ،مما حدا أن يفردها يف هذا املطلب حتت العنوان أعاله. فالتواصل والتتابع يف التنمية البرشية القرآنية مقصده وعي اإلنسان إىل عدم حمدودية عامل الدنيا وحتمية تواصله بعامل اآلخرة ،عىل أساس التالزم بني الدارين فالتنمية البرشية يف الرؤية القرآنية جيب أن تكون(موصلة باآلخرة وباألهداف ﴿وا ْب َت ِغ فِيماَ آت َ َاك اللهَُّ الكريمة للحياة التي جتد ثواهبا يف اآلخرة)( ،)1قال اهلل تعاىلَ : ِ َنس ن َِصي َب َ ك ِم ْن الدُّ ْن َيا﴾( ،)2قال رسول اهلل ( :nالدنيا مزرعة الدَّ َار اآلخ َر َة َوال ت َ اآلخرة)( ،)3فتتابع التنمية البرشية للدارين الدنيوي واألخروي ُيعطي حافز ًا
((( (بحث) املصباح،التنمية يف القرآن الكريم ،حممد جواد عباس شبع ،العدد ،9 .183 ((( القصص.77 : ((( املجليس ،بحار األنوار. 255 ،67 :
247
إضافي ًا لإلنسان بديمومة واستمرارية التنمية ،فهي ال تتوقف عند حد عامل الدنيا، واإلنسان فيها ال يتقاعس يف عمله لقرب أجله أو لعارض ما ،إليامنه بأن الدنيا حق ًا مزرعة اآلخرة ،عىل عكس الدراسات الوضعية واملادية التي قيدت تنميتها وحددهتا بعامل حمدود ضيق. فعىل الرغم من تعرضنا إىل شمولية التنمية البرشية يف القرآن الكريم ،بل إىل ذات الرسالة اإلسالمية حني استشهدنا بالنظر إىل عامل الدنيا واآلخرة ،فإن الواقع هناك متطلبات فكرية تقتيض عىل اإلنسان االهتامم بعامل اآلخرة أكثر من عامل الدنيا، مما يلزم اإلنسان النظر إىل الدنيا ونشاطها التنموي بصورة التتابع والتواصل. لقد أستطاع القرآن الكريم أن يصور لنا حقيقة هذا التواصل والتتابع بني
دار الدنيا واآلخرة من خالل بناء األمة القادرة عىل العطاء ،واإلنتاج ،والتطور
والتحرض ،وذلك بقراءة املشهد األخروي الذي سوف يرتك أثره عىل طبيعة حركة ﴿و َما ُأوتِيت ُْم اإلنسان وسعيه وطبيعة أماله وتطلعاته يف هذه الدنيا( ،)1قال تعاىلَ : ِمن يَ ٍ َاع حَْ ون ﴾( ،)2وقال ال َي ِاة الدُّ ْن َيا َو ِزي َنت َُها َو َما ِعنْدَ اللهَِّ َخ رْ ٌي َو َأ ْب َقى َأ َفال َت ْع ِق ُل َ شء َف َمت ُ ْ ْ َاع إِ ىَل ِح ٍ ﴿ولك ُْم يِف األَ ْر ِ ني ﴾( ،)3ولعل مراد اآلية املباركة هو ض ُم ْس َت َق ٌّر َو َمت ٌ تعاىلَ :
((( ظ :صدر الدين القبانجي ،األسس الفلسفية للحداثة.407 – 406 ، ((( القصص.60 : ((( البقرة.36 :
248
(أنام ُقدر هلم ذلك ليتخذوها وسيلة إىل دار اآلخرة)(.)1
ِ السا َع ُة َو فيِ َي ِد وبغض النظر عن مراد الرسول nعن ما نقل عنه (:إِ ْن َقا َمت َّ ِ ِ ِ السا َع ُة َحتَّى َي ْغ ِر َس َها َف ْل َي ْغ ِر ْس َها)( ،) 2إال أن اس َت َط َ اع َأ ْن لاَ َت ُقو َم َّ َأ َحدك ُُم ا ْل َفسي َل ُة َفإِن ْ الواقع نلمس لغة خاصة فيها كثري من األبعاد واملعطيات ،قد نجد فيها ما نسعى
إثباته يف مطلبنا هذا من رضورة إدراك واحتساب عامل اآلخرة ،وقد يكون املقصد
منه بعد ًا إرشادي ًا مراده رضورة االهتامم بشؤون احلياة واجلانب االقتصادي ،أو قد
يكون مراده nرضورة تأكيد اإلنسان عىل العمل ،كتأكيده العبادة حتى وإن حل
وقت قيام الساعة ،وغري ذلك كمفاد ذلك التتابع والتواصل.
وخالصة ما تقدم فالباحث تبنى من خالل ما عرضه جمموعة من اخلصائص التي انامزات
هبا التنمية البرشية يف القرآن بالرغم من وجود بعض اخلصائص األخرى ( ،) 3كام نستطيع أن
ندعي أنه ال توجد رؤية تنموية متكاملة وروحانية شمولية واقعية كالرؤية اإلسالمية.
((( حممد حسني الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القرآن.110 ،3 ، ((( حسني بن حممد تقي النوري ,مستدرك الوسائل ومستنبط املسائل ج،13 ص 460اغا حسني الربوجردي ،جامع احاديث الشيعة ،ج ،23ص.958 ((( هناك خصائص أخرى عدها بعض الباحثني كخصائص للتنمية البرشية عىل وفق الرؤية اإلسالمية إال أن الباحث وجدها تكاد تتداخل حتت العنوانات التي ذكرناها، وأن التدبر فيام قلناه يثبت حقيقة ما أوردناه ،ومن هذه اخلصائص الواقعية ،الفعلية، العدالة ،املسؤولية ،الكفاية ،الفردية ،املؤسسية ،الوسطية ،األولوية ،األخالقية، اإليامنية ،الربانية وغري ذلك.
249
250
الفصل الثاين التنمية البرشية منهج قرآين.
ثانياً :غايات ومقاييس التنمية البشرية ومعوقاتها في القرآن الكريم. -1أهداف التنمية البرشية يف القرآن الكريم وغاياهتا. -2مقاييس التنمية البرشية يف املنظور القرآين.
-3ختلف التنمية البرشية ومعوقاهتا – رؤية قرآنية.
251
252
( :)1أهداف التنمية البشريـة فـي القرآن الكريـــم وغاياتها. نستطيع أن نستخلص أهداف التنمية البرشية يف الرشيعة اإلسالمية من خالل انتزاع مدلول اآليات القرآنية التي تُعدّ معني القرآن الكريم الذي رسم لنا أسس الرشيعة املقدسة ونواميسها ومنها اإلنسان وأهدافه التي ُعدت رأسامل التنمية البرشية. حيث قال اهلل تعاىل يف كتابه العزيزَ : ﴿أ َف َح ِس ْبت ُْم َأ َّنماَ َخ َل ْقنَاك ُْم َع َبث ًا َو َأ َّنك ُْم إِ َل ْينَا ال
ون﴾ ( ،)1فاآلية املباركة توضح عدم عبثية الكون واإلنسان؛ إذ جيب أن تكون ت ُْر َج ُع َ هناك أهداف ًا عليا خللقه من جهة وجوده ،وأهداف ًا أخرى لتحقيق وجتسيد ذلك الوجود عملي ًا ،فاآلية املباركة حتاور البرش ،مقررة لوجود هدف وغاية وجودهم يف هذه احلياة خماطبة إياهم يف استحالة أن تكون حياتكم الدنيا بال هدف ،وأن اهلل تعاىل أنزه من أن خيلق اإلنسان بال هدف ،خصوص ًا إذا تأملنا يف أنظمة سائر الوجودات ،فإنا نجدها مجيع ًا ختدم وجود البرش ،وكذلك ُخلقت هبدف حمدد، فهل خلق اإلنسان نفسه بغري هدف؟( )2فهذا حمال عقالً. و ُينقل عن اإلمام الصادق Aأنه أجاب عن سؤال أحدهم (لمِ َ خلق اهلل اخللق؟ .فقال :Aأن اهلل تبارك وتعاىل مل خيلق خلقه عبث ًا ومل يرتكهم سدى ،بل
((( سورة املؤمنون.115 : ((( ظ :حممد تقي املدريس ،من هدى القرآن ،دار الكتاب العريب.495 ،5 ،
253
خلقهم إلظهار قدرته وليكلفهم طاعته)(.)1 هنا ندرك حكمة اهلل تعاىل من خالل رؤية القرآن الكريم ،وهو حيدد األهداف األساسية لوجود الكون واإلنسان ،وهدف جتسيد ذلك الوجود بالطاعة التي تعاىل﴿:و َما توضحها الرواية ويبينها القرآن الكريم بوصفه هدف ًا أعىل لقوله َ نس إِالَّ لِ َي ْع ُبدُ ِ ت جِْ ال َّن َوا ِ ون﴾ (.)2 َخ َل ْق ُ إل َ فهدف التنمية البرشية يف القرآن الكريم هو ذات هدف التنمية البرشية اصطالح ًا ،وهو االرتقاء باإلنسان وتطوره يف النشاطات البرشية املختلفة مجيع ًا، والسعي لتحقيق سعادته الدنيوية واألخروية ،وما ذلك إال جتسيد لقوله تعاىل: ِ ﴿َا ْب َت ِغ فِيماَ آت َ َنس ن َِصي َب َ ك ِم ْن الدُّ ْن َيا﴾( ،)3حيث حددت َاك اللهَُّ الدَّ َار اآلخ َر َة َوال ت َ اآلية لزوم امتثال العبد لتحقيق الغاية األساسية التي هي رضا اهلل تعاىل (وهو
أن تعمل يف الدنيا لآلخرة)( ،)4وهذا ما سيتلمسه اإلنسان دنيوي ًا وحيرزه أخروي ًا، ( فهدف التنمية هو اإلنسان ،ولذا تكون العملية التنموية وسيلة غايتها حتقيق سعادة
((( الصدوق ،علل الرشائع ،ج ،1ص .9الفيض الكاشاين ،تفسري الصايف412 ،3 ، املجليس :بحار األنوار. 313 ،5 ، ((( الذاريات.56 : ((( القصص.77 : ((( الشيخ الطربيس ،جممع البيان يف تفسري القرآن ،مج .323 ،20 ،5
254
اإلنسان املادية واملعنوية ،فاإلنسان هو حمور التنمية القرآنية وهدفها الوحيد)(.)1 لذا نجد القرآن الكريم خياطب الرسول األكرم nلبيان علة إرساله وإنزال الذك َْر لِ ُت َبينِّ َ لِلن ِ ك ِّ ﴿و َأن َز ْلنَا إِ َل ْي َ َّاس َما ُنز َِّل إِ َل ْي ِه ْم َو َل َع َّل ُه ْم الذكر عليه بقوله تعاىلَ :
ون﴾ ( ،)2ولبيان حمددات الرسالة الساموية التي تنم عن هنج أدائي ُيعدّ َي َت َفك َُّر َ وسيلة غايتها حتقيق سعادة اإلنسان املادية واملعنوية والدنيوية واألخروية لكونه املحور واملوضوع يف العملية التنموية القرآنية. فلو سلطنا الضوء عىل بعض آيات القرآن الكريم ألدركنا وجود مصاديق أخرى توضح غاية أصل الرسالة والتبليغ ،وهدف ما تروم من البرش من تكاليف تصب مجيعها لبيان متطلباته حلياة َ ح ًة َو ُبشرْ َ ى﴾ ملن آمن بام ﴿أ ْق َو ُم﴾ تكون ُ ﴿هدً ى َو َر مْ َ آن هَ ْي ِدي لِ َّلتِي ِه َي ُأنزل ،ومن تلك املصاديق يف القرآن الكريم قوله تعاىل﴿ :إِ َّن َه َذا ا ْل ُق ْر َ
َأ ْق َو ُم﴾ ( ،)3أي (يدعو للطريقة التي هي أقوم الطرق ،وأشد استقامة)( ،)4وقوله تعاىل: ِِ ِ ك ا ْلكِتَاب تِبيان ًا لِك ُِّل يَ ٍ ﴿و َن َّز ْلنَا َع َل ْي َ ني﴾(،)5 ح ًة َو ُبشرْ َ ى ل ْل ُم ْسلم َ َ شء َو ُهدً ى َو َر مْ َ َ َْ ْ ((( (بحث) املصباح ،التنمية يف القرآن الكريم ،حممد جواد عباس شبع ،العدد ،9 .184 ((( النحل.44 : ((( اإلرساء.9 : ((( حممد حمسن الفيض الكاشاين ،األصفى يف تفسري القرآن.457 ، ((( النحل ،اآلية .89
255
فاآلية املباركة تشري إىل اهلداية عىل وجه اإلطالق ،فيشمل اهلدى أقوام ًا وأجياالً بال حدود من زمان أو مكان ،ويشمل املنهج ،واهلداية إىل العقيدة والتنسيق بني
عقيدة اإلنسان وعمله وإىل العبادة املوازنة ولعالقة الناس بعضهم ببعض(.)1 ال شك من أن نزول القرآن الكريم عىل صدر اخلاتم حممد nوهدفه هو هداية اإلنسان إىل احلالة املثىل والفضىل التي تنقله من حال إىل حال أقوم ،كام أن القرآن كان تبيان ًا لكل شيئ ًا فلم يدع شيئ ًا يفتقر إليه اإلنسان ال من قريب وال من بعيد إال وذكره تلميح ًا أو ترصحي ًا ،إذ ُيروى عن اإلمام الصادق Aأنه قال( :إن اهلل تبارك وتعاىل انزل يف القرآن تبيان كل يشء حتى واهلل ما ترك شيئ ًا حتتاج إليه
العباد إال وقد أنزله اهلل فيه)(.)2
فاآلية املباركة تعلن رصاحة أن القرآن كان تبيان ًا لكل يشء وهدى هيتدي به عباد اهلل وبرشى ملن جعله هنج ًا له ،كون اآلية املباركة( ،ذكرت أربعة تعابري متالزمة حسب تسلسلها لتوضح اهلدف من نزول القرآن .......فاملرحلة األوىل يف مسري اهلداية تستلزم البيان والتعلم ،وبعدها تأيت مرحلة اهلداية ،ومن ثم يأيت العمل املوجب للرمحة ،وأخري ًا البرشى بثواب اهلل ملن آمن وعمل صاحل ًا ورسور مجيع السائرين عن طريق احلق)(.)3
((( ظ :سيد قطب ،يف ظالل القرآن ،مج.2215 ،15 ،4 ((( حممد بن يعقوب الكليني ،الكايف ،ج ،1ص.59 ((( نارص مكارم شريازي ،األمثل يف تفسري كتاب اهلل املنزل.146 ،7 ،
256
إن الرتابط والتالزم بني حماور اآلية املباركة واآليات التي سبقتها توضح اهلدف من نزول القرآن وكيف حياول أن ينتشل اإلنسان من التخلف ،ثم يضعه عىل اجلادة الرشعية املقدسة بخطواهتا األربع التي نعدها ذات الصلة بالتنمية البرشية وصوالً إىل البرشى التي يطمئن هبا اإلنسان وحيقق مبتغاه من خالل املرتسم القرآين اهلادف للوصول إىل املعارف الدينية والدنيوية التي يفتقدها اإلنسان. فعنارص وسامت القرآن الكريم هي التي حددت أهداف املنظور القرآين ومنها أهداف ًا للتنمية البرشية التي تباينت بمقتىض ذلك مع أهداف الدراسات الوضعية؛ حيث عد ذلك السبب الرئيس وراء هذا التباين ،وعىل أساسه كانت حماولة الباحثني يف استظهار األهداف احلقيقية التي تستبطنها اآليات املباركة ،وما حماولتنا هذه إال كباقي املحاوالت التي تسعى النتزاع بعض من مراد اهلل من بني آيات اهلل (.)1
((( من الرضوري أن جيتهد الباحث للكشف عن أهداف القرآن الكريم املرتكزة عىل أساس العنارص والسامت القرآنية وعن الشواهد املتناثرة بني دفتيه، لذا أشار الشيخ ضياء الدين زين الدين إىل هذا املطلب مصور ًا أن هنالك جمموعة من العنارص القرآنية متثل حدوده املوضوعية يقتيض الوقوف عندها الستيضاح العوامل التي تعد مصداق ًا وأهدافا هلا وهي ( :أوالً :عامل االختيار اإلنساين، إذ الدين والقرآن الكريم يف أساسه منهج ذو طبيعة اختياريةُ ،أعد لتنظيم حياة اإلنسان ،حيث نجد كثرة مصاديق هذا االختيار يف كل شأن من شؤون الدين، قال اهلل تعاىل﴿ :ال إِك َْرا َه فيِ الدِّ ِ ين ﴾ البقرة.256 : ثاني ًا :سعة األهداف القرآنية آلفاق احلياة :وهي سعة أمالها شمول احلاجة اإلنسانية إىل اهلدى الرباين ،وعموم الرضورات التي حتكم
257
عالقات اإلنسان املختلفةَ ﴿ ،ما ك َ َان َح ِديث ًا ُي ْفترَ َ ى َو َل ِك ْن ت َْص ِد َيق ا َّل ِذي َبينْ َ َيدَ ْي ِه ِ ش ٍء َو ُهدً ى َو َرحمْ َ ًة لِ َق ْو ٍم ُي ْؤ ِمن َ ُون ﴾يوسف.111 : َو َت ْفص َيل ك ُِّل يَ ْ ثالث ًا :استيعاب األهداف الربانية إذ ما كانت حاجة اإلنسان من اهلدى الرباين
لتقترص عىل فئة من الناس دون فئة ،وال عىل طائفة منهم دون طائفة ،أو عىل جمتمع دون جمتمع ،بل هي حاجة عامة شاملة ،لقوله تعاىلَ ﴿ :و َما َأ ْر َس ْلن َ َاك إِالَّ َّاس َب ِشري ًا َون َِذير ًا َو َل ِك َّن َأ ْك َث َر الن ِ كَا َّف ًة لِلن ِ َّاس ال َي ْع َل ُم َ ون ﴾سبأ.28 : رابع ًا :امتداد األهداف القرآنية مع احلياة فاهلل سبحانه وتعاىل أنزل القرآن هدى
للناس وحجة له عىل البصائر كافة حينئذ فمن الطبيعي أن يمتد دور القرآن ني َر ُسوالً ِمن ُْه ْم َي ْت ُلو َع َل ْي ِه ْم آ َياتِ ِه يف البرشية مع الزمن﴿ ُه َو ا َّل ِذي َب َع َث فيِ األُ ِّم ِّي َ ِ َاب َوالحِْ كْم َة َوإِ ْن كَانُوا ِم ْن َق ْب ُل َل ِفي َض ٍ الل ُمبِ ٍ َو ُي َزك ِ ني * ِّيه ْم َو ُي َع ِّل ُم ُه ْم ا ْلكت َ َ ِ ِ َو َ يم﴾ اجلمعة.3-2 : آخ ِري َن من ُْه ْم لمََّا َي ْل َح ُقوا بهِ ِ ْم َو ُه َو ا ْل َع ِز ُيز الحْ َك ُ خامس ًا :فطرية األهداف القرآنية ،أصبح من املعروف إن إدراك اإلنسان ليشء واعتقاده ٍ بأمر إنام يأتيان له من خالل مسارات تعتمد التعقل واستقامة املنطق
وتسلسل املقدمات والنتائج وغري ذلك ،وهلذا عد القرآن الكريم ذلك حجة مما
لزم عىل اإلنسان تلك املسارات يف بناء حياته والوصول إىل أهدافه العليا ،قال اهلل ِ تعاىلَ ﴿ :ف َأ ِقم وجه َك لِلدِّ ِ ِ ِ َّاس َع َل ْي َها ال َت ْب ِد َيل لخِ َ ْل ِق ين َحنيف ًا ف ْط َر َة اللهَِّ ا َّلتي َف َط َر الن َ ْ َ ْ َ
اللهَِّ َذلِ َك الدِّ ي ُن ا ْل َق ِّي ُم َو َل ِك َّن َأ ْك َث َر الن ِ َّاس ال َي ْع َل ُم َ ون ﴾ الروم .3 :ظ :ضياء الدين
زين الدين ،مبادئ عامة يف أصول التدبر القرآين ،القرآن كتاب اهلل. 99 – 91 ،1 ،
258
ومن أهداف القرآن الكريم بناء اإلنسان من خالل قربه للخط البياين للمعرفة احلقة ،ووضعه ملرتسم يعزز من خارطة البناء بأدوات وآليات عقلية وجتريبية هي بطول وحي السامء ،هذا يف حال عدم عرض القرآن الكريم إىل تلك القوانني أو عدم اإلشارة إليها من قبله ،كونه يتعامل مع املطالب عىل أساس الكليات أو العموم وكذا اإلمجال يف األعم األغلب ،مما يعطي للمفرس أو املتدبر فسحة النظر يف حالة غياب الداللة الواضحة للنص ،وأن يسلك املنهج العقيل يف التفسري للكشف عن بعض بواطن النص القرآين ،وهذا ما أكده استأذنا الدكتور الصغري حني أشار إىل املنهج العقيل القائم عىل احلس والتجربة والذي وصفه عىل أنه( :عبارة عن اجلهد
العقيل يف استنتاج احلوادث عىل أساس التجارب اإلنسانية)(.)1 أما لو أردنا أن نبحث بني شذرات آيات القرآن الكريم ملعرفة غاية التنمية البرشية عىل وفق منظورها ،فسنجد أنفسنا أمام حماور ومطالب تكاد تكون أهداف ًا كام تكون سب ً ال يف الوقت نفسه ،إذ نجد أن اآلية الواحدة قد حتمل مجلة مضامني وقد يتلمس بعضهم منها الترصيح يف مطلب ما وتلميح ملطلب آخر ،ثم نجد آية أخرى تكون وسيلة ملطلب ما ومرة تكون هدف ًا أو غاية ،وما هذا إال رس القرآن الكريم وإعجازه الكامن يف شكله ومباين ألفاظه ومداليله ،وبام أكتنز من نظم معنى ،ومعنى املعنى املخزون يف أبنية ألفاظهُ ،ينقل عن احلبيب اختبأت خلفه ً ِ َاب فِ ِيه َت ْف ِص ٌيل َو َب َي ٌ ان َو تحَ ْ ِص ٌيل َو ُه َو ا ْل َف ْص ُل املصطفى أنه قال هبذا الشأنُ : (ه َو كت ٌ
((( حممد حسني عيل الصغري ،الصورة الفنية يف القرآن الكريم ،دراسة نقدية بالغية، .12
259
اهره حكْم و باطِنُه ِع ْلم َظ ِ ِ ِ يق َو َباطِنُ ُه َع ِم ٌيق اه ُر ُه َأنِ ٌ َل ْي َس بِالهْ َ ْزل َو َل ُه َظ ْه ٌر َو َب ْط ٌن َف َظ ُ ُ ُ ٌ َ َ ُ ٌ َله نُجوم و َعلىَ نُج ِ وم ِه ن ُُجو ٌم لاَ تحُ ْ صىَ َع َج ِائ ُب ُه َو لاَ ُت ْبلىَ َغ َر ِائ ُب ُه ،)1().وبذلك (فقد ُ ُ ُ ٌ َ و ّفق القرآن يف استعامالته للجمع بني معان ظاهرة وأخرى باطنة ،لتفيد كل لفظة معنيني أو معاين مرتاصة ،وربام مرتامية األجيال واألزمان)(.)2 إن ما قصده الباحث وهو يعرض بعض من آيات القرآن الكريم هو ليس حتديد أهداف التنمية البرشية برؤية قرآنية ،وإن تضمن ذلك بعض مطالبها ،إال أن املراد احلقيقي وراء ما استعرضناه هو االستشهاد بآيات تُعدّ مباحث مهمة كام تُعدّ أهداف ًا عليا يف ذات الوقت نسعى الستخراج داللتها واستنطاقها الستكشاف حقيقة تلك األهداف والغايات واملضامني األخرى ،إذ عزم الباحث انتهاج النهج يف أعاله للوصول إىل مراده ملعرفة اآليات التي تُعدّ هدف ًا أو غاي ًة التنمية البرشية. فتعدد األهداف وتباين درجات الغايات واستغراق الوسيلة باهلدف أو نقيضه ،كان مرجعه فخامة الرؤية الكونية اإلسالمية وما يرتتب عليها من تسلسل لألهداف تحُ دد من خالله اهليكل التنموي القرآين ،ولقد صور هذا املعنى األستاذ الدكتور مجال حممد أمحد عبده تصوير ًا جيد ًا حني أشار قائالً( :فإنه البد من وجود أهداف فرعية كالتنمية االقتصادية واالجتامعية وغريها تسهم يف حتقيق اهلدف
((( حممد بن يعقوب بن إسحاق الكليني ،الكايف ،ج ،2ص.599 ((( حممد هادي معرفة ،التفسري واملفرسون يف ثوبه القشيب.86 ،1 ،
260
النهائي)( ،)1ثم يعرج ليعرب عن تصوره بتعبري آخر مستند ًا باالستدالل االستقرائي للكون فقد أشار أن ( ما من يشء إال وله هدف حيققه ،وهذا اهلدف متعلق بغريه، األعىل مستوى منه ،إذ انه ناجته النهائي يصب عند هذا األعىل ،وذلك حتى يصل األمر هناية إىل اإلنسان ،فتنتهي عنده أهداف كل املوجودات ،إذ ًا فالبد أن يكون
هدف اإلنسان راجع ًا إىل ما هو أعىل منه ،وهذا اهلدف من وجود اإلنسان)(.)2 وعىل سبيل املثال ،فتنمية اإلنسان برتويض فكره وإن كان هدف ًا إال أنه ُيعدّ ثانوي ًا أو فرعي ًا مقصده تنمية اإلنسان عقلي ًا ،وكذا ُيعدّ األخري هو ليس هدف ًا أساسي ًا بل هدف ًا يقصد منه تنمية اإلنسان وتكامله كأحد متطلباته الرضوري -التنمية العقلية والبدنية والنفسية -كي يؤهل و ُيعدّ عنرص ًا معطا ًء منتج ًا ُيميلء وجوده وحيقق ذاته. وتأسيس ًا عىل ما تقدم يرى الباحث أن النظرة اإلسالمية بصورة عامة والنظرة القرآنية بصورة خاصة تُبقي األمر متعلق ًا للبحث عن اهلدف األسمى واألكرب بالرغم من أمهية أهداف التنمية البرشية الثانوية ،وهو إحياء اإلنسان وبناؤه من الداخل واخلارج ،إذن فاألهداف مشتقة من بعضها بالتسلسل ،أما اهلدف النهائي فهو حتقيق الغاية من وجود البرش ،وهذا ال يعني أن كل هذه األهداف غري مطلوبة ،بل مطلوبة بكاملها ولكنها متدرجة ،فالبد من أن ترسم أول األهداف،
((( مجال حممد أمحد عبده ،دور املنهج اإلسالمي يف تنمية املوارد البرشية.96 ، ((( املصدر نفسه.96 ،
261
ثم تأيت األهداف التي هي أدنى منه لتحقيقه؛ وذلك لتحقيق وحدة اهلدف( ،)1وما الغاية الكربى واهلدف األساس يف املنظور القرآين إال العلة الكربى وهو اهلل تعاىل، ومن هنا كان تأكيد الرشيعة لزوم متسك اإلنسان بغايته الكربى وتالزم هذا املعنى يف عموم حركاته وسكناته; بل عدت اخللوص يف النية ركن ًا من أركان أي نمط عبادي ،كون حضور الغاية الكربى تستلزم اإلخالص ،واالستمرار ،والصدق، وااللتزام ،ووضوح السبيل ،واطمئنان النفس ،وغريها التي تعني انتهاء األمر إليه
﴿و َأ َّن إِ ىَل َر ِّب َ ك المُْنْت ََهى ﴾( ،)2قال أمري املؤمنني Aواصف ًا املتقني( :عظم سبحانه َ اخلالق يف أعينهم فصغر ما دونه يف أعينهم)( )3وبخالفه أي نسيان الغاية الكربى وعدم دوامها وتالزمها مع العبد يعني نسيان اهلدف األكرب وحضور األهداف الثانوية الزائلة( ،فنسيان الغاية يستعقب نسيان الطريق فمن نيس ربه نيس نفسه، وال ُيعدّ لغده ومستقبل مسريه زاد ًا يتزود به ويعيش باستعامله وهو اهلالك ،وهذا
معنى ما رواه الفريقان عن النبي " : nمن عرف نفسه عرف ربه")(.)4 فالبحث عن علة وجود اخللق ومنها اإلنسان وفلسفته تُعني طالب املعرفة
((( ظ :مجال حممد أمحد عبده ،دور املنهج اإلسالمي يف تنمية املوارد البرشية106 ، – .107 ((( النجم.42 : ((( الرشيف الريض ،هنج البالغة ،رشح حممد عبدة.161 ،2 ، ((( الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القرآن.146 ،6 ،
262
للكشف عن معامل األهداف الرئيسة ،ألهنا تُعدّ الدعامة لبناء اهليكل التنظيمي لكل إيديولوجية أو نظرية ،وهذا يعني إننا ال يصح أن نعمم بعض األهداف الثانوية عىل علم أو ميدان معرفة ،فيكون ذلك عىل حساب األهداف الكلية والرئيسة وعىل فلسفة العلم أيض ًا ،بل إننا نؤمن أن لكل مرحلة هدف ًا خاص ًا هبا تتدرج لرتتقي سلم اهلدف األساس ،وما هذا اهلدف األساس إال علة وجود اإلنسان، الذي سيوضح معامل أهداف التنمية البرشية بغية الرشوع بتطبيقاهتا. لذا يأمل الباحث أنه عىل ِوفق حني وضع يده عىل ثالث آيات مباركة عدها غاية الترشيع ومنتهى فلسفة احلياة واإلنسان ،كام جعلها مصداق ًا ألهداف التنمية البرشية العليا عىل وفق املنظور القرآين بحسب وجهة نظره املتواضعة. اآلية املباركة األوىل:
قال اهلل تعاىل يف كتابه العزيز﴿ :إ ج ِ اع ٌل يِف األَ ْر ِ ض َخلِي َف ًة﴾(.)1 ِنيِّ َ املراد من اآلية املباركة ( خالق يف األرض خليفة ،أراد للخليفة آدم Aفهو
خليفة اهلل يف أرضه حيكم باحلق)( ،)2واملتأمل يف اآلية املباركة واآليات التي سبقتها يدرك أن اآلية بمدلوهلا تؤكد (أن اهلل سبحانه وتعاىل خلق ما يف األرض مجيع ًا لإلنسان ،ويف هذه اآليات تقرير رصيح خلالفة اإلنسان وقيادته ،وتوضيح ملكانته
((( البقرة.30 : ((( الطربيس ،جممع البيان يف تفسري القرآن ،مج .162 ،1، 1
263
املعنوية التي استحق هبا كل هذه املواهب)(.)1 إذن (فهي املشيئة العليا تريد أن تسلم هلذا الكائن اجلديد يف الوجود زمام هذه األرض،وتطلقفيهايده،وتكلإليهإبرازمشيئةاخلالقيفاإلبداعوالتكوين.....وكشف ما يف هذه األرض من قوى وطاقات ......وتسخريها يف املهمة الضخمة التي وكلها اهلل إليه)( ،)2وبذلك سنحرز أن اإلنسان قد ِوهب من (الطاقات الكامنة، واالستعدادات املذخورة كفاء ما يف هذه األرض من قوى وطاقات.....ووهب
من القوة اخلفية ما حيقق املشيئة اإلهلية)( )3التي تُلهم اإلنسان القدرة عىل تنمية نفسه وما حييط به وصوالً إىل مرتبة االستخالف. فعىل الرغم من أن اإلنسان أحد أطراف املنظومة الكونية التي ينتمي إليها ،فإن اهلل تعاىل ّ سخر له آيات كُثر الستخالفه يف األرض ،مما أقتىض أن تكون له مؤهالت وامتيازات تفوق بقية املوجدات األخرى ،إن مل تكن كمثيالهتا كحد أدنى ،لقد عرض الشيخ ضياء الدين زين الدين إىل ضوابط املنظومة الكونية وانتظامها ودقتها التي أيدها اإلنسان املدرك والعلم التجريبي عىل حد سواء ،حتى باتت حقيقة ال تفتقر إىل ذلك اجلهد لالستدالل بمرجعية الوجود إىل خالقها وبارئها، عرج إىل تلك النواحي للنظام الكوين ومدلوالته ومنها اعتبار ويف معرض بحثه ّ
((( نارص مكارم الشريازي ،األمثل يف تفسري كتاب اهلل املنزل.130 ،1 ، ((( سيد قطب ،يف ظالل القرآن ،مج .56 ،1،1 ((( املصدر نفسه مج ..56 ،1،1
264
وجود املوجودات أثر النظم ،أن تكون املوجودات الكونية موحدة االجتاه ،موحدة الرتكيب واجلوهر ،التنامي الدقيق يف النواميس الكونية ،استقامة كل موجود مع
نظمه اخلاص التي حتكمه( )1ألهنا مجيع ًا تسري لغاية واحدة لذا وجب االنتظام. وبعد أن عرض الشيخ تلك النواحي واملدلوالت عرض إىل قضية أن اإلنسان بعض من مظاهر الكون ،وهذا مما يعني استحالة جتريد اإلنسان عن أي جمرى من جمريات الوجود وعن أي رضورة من رضورياته سوية املظاهر األخرى(.)2
عرج لريبط بني دقة النظام الكوين الذي ُيعدّ اإلنسان أحد أطرافه وبني مبدأ ثم ّ االستكامل الذايت (حيث يعترب هذا االستكامل أحد الغرائز الثابتة التي فطر عليها كل مظهر من مظاهر التكوين بدليل الدراسات التجريبية والفلسفية والفكرية، ولعمق هذا االستكامل يف جبلة املوجدات فقد أصبح مبدأ ارتكازي لدى اإلنسان .....إذ كام أن االرتباط الذايت بعلة اإلجياد هو احلاكم عىل الوجود الكوين
يف نفسه ،كذلك هو احلاكم عىل كامل هذا الوجود أيض ًا)(.)3 إن تطابق مدلوالت الوجود عىل اإلنسان أمر مس ّلم به لكونه من معية املنظومة الكونية ،إال أن ما يلفت االنتباه أن حاكمية اإلنسان عىل بقية املوجودات كانت بحكم مبدأ االستكامل الذايت ومبدأ االستخالف وبام متيز به من قوة عاقلة ،فض ً ال
((( ظ :ضياء الدين زين الدين ،مبادئ عامة يف أصول التدبر القرآين.35 ،1 ، ((( ظ :املصدر نفسه.35 ،1 ، ((( املصدر نفسه.36 ،1 ،
265
عن عقد االستخالف الذي أشار إليه السيد حممد باقر الصدر عىل إنه عرض
وقبول بني طرفني (فالعرض هنا عرض تكويني والقبول هنا قبول تكويني(،)2())1 مما وجب عىل اإلنسان أن يدرك رضورة متثيله بوصفه خليفة هلل تعاىل بأهبى صورة ممكنة بحسب ضوابط َم ْن استخلفه أوالً ،كام وجب عليه أن يندفع بكل قابليته نحو تطبيق ما تبناه ثاني ًا ،وهبذا ستكون الفقرة األوىل هدف ًا رئيس ًا برتويض وتنمية الذات نحو مبدأ االستخالف ،بينام تكون الثانية وسيلة تنموية لتحقيق اهلدف الرئيس ،عىل الرغم من أننا نستطيع أن نسمي الفقرة الثانية هدف ًا ثانوي ًا عىل أساس أن تنمية الذات وترويضها هدف آخر. وبالعودة إىل العقل الذي به متيز اإلنسان عن أقرانه من املوجودات األخرى، العقل الذي عد العلة وراء جعل اهلل تعاىل استخالف اإلنسان إليه ،وهو ذات السبب وراء تلك اإلمكانات واالمتيازات التي قادته إىل مراتب الكامل ولوضع أسس بناء منظومة احلياة التي تألقت تراتبي ًا بفعل التنمية العقلية والسلوكية والتجريبية. والدليل الذي نستند إليه يف مزية عقل اإلنسان كمسوغ لغاية االستخالف هو :ما جل وعال﴿:إِ ج ِ اع ٌل فيِ َاأل ْر ِ ((( العرض ُيقصد به اشارة اىل قوله ّ ض نيِّ َ َخ ِلي َفة﴾ولقوله تعاىل أيض ًا ﴿إِنَّا َعر ْضنَا األَما َن َة َعلىَ السمو ِ ض َوالجِْ َب ِ ات َواألَ ْر ِ ال َف َأ َبينْ َ َّ َ َ َ َ َأ ْن يحَ ْ ِم ْلن ََها َو َأ ْش َف ْق َن ِمن َْها ﴾ والقبول إشارة إىل قبول اإلنسان باالستخالف بمقتىض
قوله تعاىلَ﴿:حمَ َ َل َها ِ ان إِ َّن ُه ك َ اإلن َْس ُ َان َظ ُلوم ًا َج ُهوالً﴾ األحزاب.72 : ((( حممد باقر الصدر ،املدرسة القرآنية.111 ،
266
﴿و َع َّل َم آ َد َم األَ ْسماَ َء القي إىل اإلنسان من علم بأثر اجلعل اإلهلي ،بقرينة قوله تعاىلَ : ُك َّل َها ﴾( ،)1من حيث (تَع ّلم كل املعارف اإلهلية ،وما له دخل يف استكامل اإلنسان يف النشأتني)( ،)2وكذا بقرينة اآلية املباركةَ ﴿ :ق َال َيا آ َد ُم َأ ْنبِئ ُْه ْم بِ َأ ْسماَ ئِ ِه ْم﴾( ،)3أي
(أعلمهم باألسامء التي عجزوا عن علمها)( )4والتي تعلمتها من دوهنم.
ويمكن استنطاق قوله تعاىل ﴿إِنيِّ َأ ْع َل ُم َما ال َت ْع َل ُمون﴾( )5بام يأيت: · من خالل منطوق اآلية املباركة والتي تُعدّ جواب ًا عن استفهام املالئكة من اهلل تعاىلَ : ﴿أ جَ ْت َع ُل فِ َيها َم ْن ُي ْف ِسدُ فِ َيها َو َي ْس ِف ُ اء َون َْح ُن ن َُس ِّب ُح بِ َح ْم ِد َك ك الدِّ َم َ َو ُن َقدِّ ُس َلك ﴾( ،)6ما هو إال دليل إدراكهم للعلة والرس من اختاذ هذا املخلوق
خليفة هلل تعاىل ،بعد أن أنبأهم بأسامئهم. · اجلواب كان رد ًا عىل استفهام املالئكة ،يف بيان أن (التسبيح ،والتحميد، والتقديس) هو ليس املعيار لالستخالف ،وكذا ليس مصداق العبادة وإن كان
((( البقرة ،اآلية .31 ((( عبد األعىل السبزواري ،مواهب الرمحن يف تفسري القرآن. 180 ،1 ، ((( البقرة ،اآلية .33 ((( عبد األعىل السبزواري ،مواهب الرمحن يف تفسري القرآن.187 ،1 ، ((( البقرة ،اآلية .30 ((( اآلية نفسها .
267
جزاء ًا منها ،واجلملة االعرتاضية للمالئكة املبنية عىل االستفهام هي :نحن األوىل ﴿ون َْح ُن ن َُس ِّب ُح بِ َح ْم ِد َك َو ُن َقدِّ ُس َل َ ك ﴾. باالستخالف من هذا املخلوق بقرينة َ ستخلف بمستوى الئق عمن است ِ · البد من أن يكون ا ُمل َ ُخلف أو عمن ناب عنه ،وهذا ممكن يف حال تطور اإلنسان لذاته وقابلياته ،وهذا ما صوره لنا القرآن الكريم من خالل انتخاب واصطفاء األنبياء والرسل وبعض ممن اتصفت هبم
صفة اإليامن ،ألن االستخالف هلل يف األرض ال يتناسب مع سفك الدماء(.)1 · هو أن االستخالف كان عىل أساس متيز اإلنسان بالعقل ،وإن اجلعل مبني عىل تسخري الكثري من اآليات له ،ومتكني األرض إليه، اإلهلي الستخالفه ُّ وبموجب ذلك ألزمه اهلل تعاىل أن يدرك وظيفته يف االستخالف ويف اعامر نفسه ﴿ه َو َأ َ نش َأك ُْم واألرض التي تُعدّ هدف ًا ووظيفة التنمية البرشية لقوله جل وعالُ :
((( إشارة إىل ما ذهب إليه بعض املفرسين إىل أن استفهام املالئكة مبني عىل أساس تنبوءهم بإعادة التجربة السابقة مع خملوقات سبقت أدم عليه السالم أو أقوام من املالئكة وقيل من اجلن وقيل من غري ذلك ،وهذه املخلوقات تنازعت وسفكت الدماء ،وذهب بعض آخر إىل أن أستفهامهم ناشئ لعلمهم برتكيبة اإلنسان من قوى اخلري والرش ،أي من قوى متضادة من الشهوة والغضب والقوة والضعف ونحو ذلك، ومن كان هذا حاله هو يف دار الكون والفساد يالزمه سفك الدماء ،فيكون قوهلم من باب كشف امللزوم عن الالزم .ظ :عبد األعىل السبزواري ،مواهب الرمحن يف تفسري القرآن 178 ،1 ،حممد حسني الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القرآن 116 ،1 ،نارص مكارم الشريازي ،األمثل يف تفسري كتاب اهلل املنزل 132 ،1 ،الطويس ،جممع البيان،1 ، 162 ،1هاشم البحراين ،الربهان يف تفسري القرآن.166 ،1 ،
268
ِم ْن األَ ْر ِ ض َو ْاس َت ْع َم َرك ُْم فِ َيها﴾(.)1 ﴿و َع َّل َم آ َد َم · إن انتخاب اإلنسان كخليفة هلل باجلعل اإلهلي لقوله تعاىلَ : األَ ْسماَ َء ُك َّل َها﴾ ،هي القرينة األخرى ملزية العلم واإلدراك املنبعثة من العقل الذي متيز به اإلنسان دون غريه من املخلوقات. والدليل عىل أن العقل هو العلة من استخالف اإلنسان هلل تعاىل وهو املدخل للتنمية البرشية :هو أن قيادة واستخالف األرض تفتقر ملكون يمتلك مؤهالت القيادة واإلدارة واإلدراك ،وأن يكون هذا املكون ذات كفاءة إلدارة ذاته وما حييط به من موجودات ،وهذا ال حيصل إال بالعقل الذي متيز به اإلنسان ،وافتقرت له بقية املوجودات األخرى فكان بذلك مستخلف ًا هلذه العلة واحلكم يدور مع العلة اين ما دارت . ثم تأيت التنمية البرشية لتامرس نشاطها الواضح يف تفعيل أثر اإلنسان بوصفه خليف ًة يف األرض من خالل حتقيق طموحاته عىل وفق املنهج املرشوع وإمتام ما حييط به من ظروف بام فيها البيئة التي حتيط به وباقي صور الطبيعة ،فاهلدف هو االستخالف وما أعظمه من هدف ،حيث عزز لبناء حضارة متثل استخالف اإلنسان لربه عىل وفق منظومة حياتية متكاملة يكون اإلنسان فيها هو املحور كام هو حمور التنمية البرشية. وألمهية ما تقدم عد للتنمية البرشية جانبان مهامن مها :جانب مذهبي نظري "إيديولوجي" يمثل اإلطار املوجه وهذا من مهمة الوحي اإلهلي ،كي يضع
((( هود.61 :
269
اإلنسان عىل الطريق الصحيح ،وجانب معريف بحت يشكل االستفادة القصوى من قوانني الوجود واحلياة يف التخطيط والتنفيذ والتطوير ،وهو من مهمة العقل يف حركته الدائبة الكتشاف قوانني الوجود وتسخريها يف سبيل إخراج التنمية
من حالة االستعداد والقوة إىل حيز الفعل واحلركة( ،)1فإن مساحة العقل يف هذه العوامل تنحرص حدوده يف جمال عامل املادة فقط ،يف الوقت الذي يلغى دوره يف عامل الغيب والقيم وأنظمة احلياة الضابطة حلركة اإلنسان وسعيه يف بناء منظومة حضارية ساموية يكون هو أحد أهدافها وأطرافها ليس إال ،وبخالف ذلك سوف ختتل معادلة منظومة السامء يف ذهن اإلنسان التي متثل الغيب وبني منظومة األرض التي متثل املادة ،والتي تُعدّ املنظومة األوىل ضابطة عىل الثانية. يف هذه املساحة الرحبة سوف حيقق اإلنسان غايته الكربى يف جتسيد االستخالف من خالل تنميته باستلهام املعاين الغيبية من مداركها ،وكذا تفعيل كل إمكانياته لتنمية وضعه وما حييط به بفعل العقل وسلطانه الذي ُيعدّ احلجة التي هبا متيز اإلنسان وهبا كان خليفة اهلل تعاىل. اآلية املباركة الثانية.
نس إِالَّ لِ َي ْع ُبدُ ِ ت جِْ ال َّن َوا ِ ون﴾(،)2 ﴿و َما َخ َل ْق ُ إل َ قال اهلل تعاىل يف كتابه العزيزَ :
لقد عرض الباحث يف ما مىض إىل أن حتقيق التنمية البرشية يتم من خالل تطبيق ((( ظ :حمسن عبد احلميد ،اإلسالم والتنمية االجتامعية.21 ، ((( الذاريات.56 :
270
النهج مرور ًا باهلدف الرئيس ووصوالً إلحراز الغاية الكربى التي تُعدّ بيان العلة من وجود اإلنسان والتي تستظل هبا حتقيق مطالب آنية أو وقتية مرهونة بزمان أو مكان أو حال. مبني عىل أساس ما ارتأته الرؤية القرآنية يف إن تأكيدنا هدف وجود اإلنسان ٌّ نس إِالَّ لِ َي ْع ُبدُ ِ ت جِْ ال َّن َوا ِ ون﴾ ،فاملراد (ما خلقت ﴿و َما َخ َل ْق ُ إل َ بيان علة خلق اخللق َ اجلن واإلنس إال ألجل العبادة ،ومل أرد من مجيعهم إال إياها)( ،)1وكأن مراد اهلل
تعاىل من هو (مل أخلق اجلن واإلنس إال لعباديت واملعنى لعبادهتم إياي)( ،)2ويتضح مما تقدم (إن الالم التي جيء هبا يف سياق بيان اهلدف من اخللق لِ َي ْع ُبدُ ِ ون ....أنه قدّ ر وقىض ليكون ذلك وسيلتنا إليه ،وطريق سعينا ابتغاء مرضاته ،ومدارج كاملنا
يف وجودنا......فإن العبادة غاية اخللق وحمتوى ما أمر اإلسالم به من واجبات)(.)3 واجلدير بالذكر أن للعبادة معاني ًا كثريةً ،ومداليل أوسع مما يتبادر إىل الذهن، فينقل عن اإلمام عيل بن احلسني Aقال( :من عمل بام أفرتض اهلل عليه ،فهو من اعبد الناس)( ،)4وكأن مراد اإلمام Aأن العمل بمقتىض رشيعة اإلسالم
((( الزخمرشي ،الكشاف.1189 ،2 ، ((( الطربيس ،جممع البيان يف تفسري القرآن ،مج .22 ،27 ،6 ((( حممد تقي املدريس ،من هدى القرآن.438 ،9 ، ((( حممد بن يعقوب الكُليني ،أصول الكايف ،376 ،2 ،ح 7الصدوق :اخلصال، 125الصدوق :من ال حيرضه الفقيه.358 ،4 ،
271
العامة من آداب وسلوك ومنهج وطقوس هي العبادة بعينها ،وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم وهو يصور لنا العبادة بمعناها الشمويل ،لقوله تعاىل عن لسان حال لمَِ إبراهيم ُ ﴿ :Aق ْل إِ َّن َص يِ ني﴾(.)1 الت َون ُُسكِي َو حَ ْ م َياي َو مَم َ يِات للِهَِّ َر ِّب ا ْل َعا َ
نجد أن اخلليل إبراهيم Aيصور لنا العبادة بطابعها الشمويل بتضمنها إىل الطقوس العبادية (الصالة والنسك) مضاف ًا إليها (احلياة واملامت) التي متثل حياة اإلنسان بكامل نشاطاته وفعالياته وعالقته الفردية واالجتامعية يف املجاالت كافة. فالعبادة (هي التوحيد بكل أنامط سلوك اإلنسان الداخلية واخلارجية إىل اهلل عز وجل ابتغاء مرضاته ......سواء كانت هذه األنامط من السلوك متعلقة بالفرد ّ
نفسه أو باآلخرين أو باهلل مبارشة)( ،)2بقرينة الصالة ،النسك ،احلياة ،املامت، فالعبادة تشمل الشعائر واملعامالت يف املنظور القرآين. وإن خلق اهلل تعاىل لإلنسان البد له من غاية وهذه الغاية هي السعادة فـ(غاية خلقه التي هي سعادته ومنتهى كامله التقرب العبودي إليه كام قال «لِ َي ْع ُبدُ ِ ون»، وهي الوالية اإلهلية لعبده ،وقد هيئ اهلل سبحانه له كل ما يسعد وينتفع به يف
سلوكه نحو الغاية التي خلق هلا وهي النعم فأسبغ عليه نعمه ظاهر ٌة وباطن ًة)(.)3 وكأن املراد من العبادة هنا عبودية عامة وخاصة ،فاألوىل تعني (خضوع
((( األنعام.162 : ((( سيد قطب ،العدالة االجتامعية يف اإلسالم.18 ، ((( حممد حسني الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القرآن.405 ،20 ،
272
االنفعال الوجودي عن مبدأ الوجود ،وعبودية خاصة :وهو اخلضوع واالنقياد يف
رصاط اهلداية إىل التوحيد)(.)1 أي أن مراد اآلية املباركة هي من قبيل العبودية العامة واخلاصة مع ًا التي يراد هبا اخلضوع هلل تعاىل جتسيد ًا لطاعته وأدا ًء للمناسك والطقوس التي تُعدّ مصداق اإلقرار والتسليم ،بينام أقتىض أن يكون هناك تفاعل جيسد هذا املفهوم إىل واقع وسلوك أدائي وإجرائي يتمثل باملعامالت والنشاطات اإلنسانية العامة ،وكأن املراد منها انعكاس للصورة العبودية احلقة هلل تعاىل واالنقياد ألمره عملي ًا من جهة ،وألحياء رشيعة السامء املتمثلة بإحياء الدين من جهة أخرى. وبام أن العبادة تعني اإلقرار والتسليم واالنقياد إىل املعبود وتعظيمه وإجالله، فيقتيض أن تكون (العبادة يف الفرائض واملستحبات ،وااللتزام باألوامر اإلهلية، واالنتهاء عن نواهي الرشيعة الغراء ،وتتحقق أيض ًا بكل عمل إنساين نافع للناس ودوافعه سليمة ومرضية عند اهلل وعند الناس)(.)2
فعىل الرغم من عرض عدة تصورات عن العبادة والتي عادة ال خترج عن إطار ما استعرضه القرآن الكريم عىل لسان اخلليل إبراهيم ،Aفإن الباحث وجد نفسه مضطر ًا للوقوف عند تصور الدكتور حممود البستاين للعبادة التي نظر إليها من زاوية أخرى ،حيث أرتأى أن يكون فهم "العبودية" عىل أساس أنه جيسد حالة اإليامن أو االعتقاد بحقائق ال سبيل التشكيك هبا ،وتعام ً ال مع الواقع وليس ((( حممد حسني الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القرآن.415 ،1 ، ((( مكي قاسم البغدادي ،أهداف القرآن يف أم الكتاب.135 ،1 ،
273
هروب ًا منه أو مترد ًا عليه ،وإن الشخصية السوية املخلصة يف عبادهتا هلل تتعامل يف جممل سلوكها مع اهلل فحسب ،أي أهنا تتحرك من خالل كوهنا موظف ًا يف مؤسسة رسمية ،يتلزم بتنفيذ مقرراهتا ،وهذا يعني أن العمل ينحرص هلل من حيث ال ترشك معه أي قوة أخرى( ،)1لذا قال اإلمام ( :Aلو أن عبد ًا عمل عم ً ال يطلب به وجه
اهلل والدار اآلخرة وأدخل فيه رضا أحد من الناس كان مرشك ًا)(.)2 فأستاذنا البستاين رمحه اهلل تعاىل أكد أمهية رضورة إدراك العبادة عىل أهنا توظيف إلزامي يستلزم اهلدف أو النية (التي تشكل أساس ًا عام ًا ألي حتريك برشي) ،كام
يصور أن إدخال رضا غري اهلل تعاىل يعني رشك ًا مؤداه السعة للحركة الذاتية( ،)3يف الوقت الذي يقتيض أن تكون حركة اإلنسان (العبد) يف الرؤية اإلسالمية حركة
((( ظ :حممود البستاين ،دراسات يف علم النفس اإلسالمي.288 – 281 ،2 ، ((( احلر العاميل ،وسائل الشيعة إىل حتصيل مقاصد الرشيعة ،الباب عرشة من أبواب مقدمة العبادات ،ح ،11ج.49 ،1 ((( يصور الدكتور البستاين (إن املتعة التي يسعى كل منا إىل حتقيقها متثل نمطني: أحدمها ذايت واآلخر موضوعي ،إال أن النمط األول يعني :إشباع الطليق من كل قيد، واآلخر يعني اإلشباع املقيد بمبادئ خاصة). فهو يرى أن العبادة عبارة عن حركة لإلنسان ،فهي إما حركة ذاتية أو موضوعية ،فإن إدخال رضا غري اهلل :فسح املجال ألن تتحرك ذاتي ًا ،بدالً من أن تتحرك موضوعي ًا يف العمل ،أي أننا سنتعامل بقدر النفع الذي نكسبه لذواتنا ،وليس بقدر ما يتطلب العمل من أمهية. حممود البستاين ،دراسات يف علم النفس اإلسالمي.289 ،2 ،
274
موضوعية ألهنا متثل حقيقة العبادة الصادقة ملعلومية انتامئها ووضوح هدفها البني (االمتثال لرشيعة اهلل تعاىل) ،وبخالف ذلك ستكون عبادة اإلنسان ذاتية بمعزل عن الوظيفة املحددة له ،مما يضطر اإلنسان للبحث عن أهداف عنواهنا ومساحتها حدود ذاته ،وكذا سيكون حال نشاطاته التنموية نشاطات ذاتية مقيدة ،عىل عكس لو كان منهجه التنموي منهج ًا موضوعي ًا يكون فيه هو أحد أطرافها كون العبادة
هي عالقة بني عدة أطراف أحدهم اإلنسان ( ،)1مما يعطيه حافز ًا ودافع ًا لسعة مساحة وأهداف التنمية البرشية لعدة أطراف بدالً من حرصها يف حدود ذاته. ومن هنا نجد أن العبد املؤمن له قدرة عىل تنمية ذاته وتنمية ما حييط به من خالل رغبته باالنتامء إىل العنوان األكرب -وهو اهلل تعاىل -بعيد ًا عن الرغبات واألهواء الشخصية والذاتية ،هلذا فإن أمهية النشاطات التنموية وأهدافها بل مجيع األهداف الفرعية أو الرئيسة لإلنسان ،فأمهية أي منها بقدر القرب أو البعد من اخلط البياين الذي هو العبادة وتعظيم اإليامن يف نفس اإلنسان ،باعتبار أن سمو اهلدف الكبري وإعالئه ،وسعة مساحة التنمية البرشية مرهونان عىل قدر ضعف املصالح املادية الذاتية (األنا) وعىل توسعة مساحة أطراف العبادة (نحن) ،فاألهداف العليا تورث قناعة برضورة تفعيل عدة نشاطات تنموية تتناسب مع سمو اهلدف ،بينام ّ
((( إن عالقة العبد مع ربه مبنية عىل أساس (سعة أمالها شمول احلاجة اإلنسانية إىل اهلدى الرباين ،وعموم الرضورات التي حتكم عالقات اإلنسان املختلفة ،سواء مع نفسه أم مع جمتمعه ام مع املوجودات األخرى ،ومن قبلها مجيع ًا عالقاته بمبادئ وجوده ومدبر حياته – تعاىل شأنه .) -ضياء الدين زين الدين ،مبادئ عامة يف أصول التدبر القرآين.92 ،1 ،
275
نجد أن ضعف األهداف وتدنيها يعني ضعف عطاء اإلنسان ونشاطه التنموي. وتأسيس ًا عىل ما تقدم فاآلية وضحت العلة من وجود اإلنسان وما جيب عليه من آثار تكون أمهها كغاية كربى وهي العبادة بشكلها العام والشمويل التي تتجسد من خالل تنمية اإليامن وديمومته ،والتواصل معه بأنامط سلوكية ظاهرية وباطنية تسع العبد وما حييط به من موجودات أخرى زيادة عىل العالقة مع اهلل تعاىل ،من حيث تكون مجيع تلك األنامط السلوكية مصداق ًا للعبادة ( ،كون تعامل اإلنسان مع خمتلف شؤون حياته الشخصية واملؤسسية واالجتامعية هي رضب من رضوب
العبادة)( ،)1وهلذا اختلفت نظرة اإلسالم إىل العبادة ورفض ما تعارف عن املبدأ الساذج القائل :إىل الفصل بني العبادة واحلياة ،وإىل حرص احلياة يف حيز ضيق العبادة ( ،)2ألن إحياء احلياة مصداق العبادة ،وإحيائها تعني االرتقاء بمستوى مجيع ظروف املعبود التي حتيط به مما يقتيض عليه اإلبداع وبذل اجلهد واالجتهاد لتحقيق غاية االستخالف من جهة وكسب رضا اخلالق َّ جل وعال من جهة ثانية. ومن هنا نجد هناك كثري ًا من اآليات والروايات تؤكد مضامني سلوكية تعدها نمطا ًعبادي ًا ،من حيث نستطيع أن ندعي أن أكرب ضامن لنجاح التنمية البرشية واستمرارها هو (هو رفع اإلسالم بالتنمية إىل مرتبة العبادة ....بل اعترب العمل يف
((( هاين عبد الرمحن الطويل ،اإلدارة باإليامن.239، ((( ظ :حممد باقر الصدر ،نظرة عامة يف العبادات.33-32 ،
276
ذاته عبادة)( )1؛ بل عد اإلسالم التفكري والتدبر وطلب العلم والسعي جللب قوة العيال أو أداء الواجبات ،ومجيع األخالقيات ،وصفاء العالقات ؛ بل حتى الرتفيه عن النفس وغريها عبادة ؛ بل هي من صميم العبادة بالرغم من أهنا خارج عن
أداء الطقوس ( ،)2فـ( املسألة ليست يف الذكر اللساين املسألة يف الذكر الوجداين
والقلبي واحليس أن يكون الوجود كله هلل)( )3وكذا العبادة بجميع رضوهبا. وخالصة القول فإن العبادة يف املنظور القرآين تعني استيعاب (مجيع جنبات احلياة اإلنسانية وآفاقها ،بام فيها عالقة الفرد مع ذاته ،ومع جمتمعه ،أو مع ما حوله من مظاهر الوجود ،لتصبح هذه العالقات مجيعها مظهر ًا من مظاهر العلقة
الذاتية باهلل سبحانه وتعاىل ،وطريق ًا من طرائق توثيقها)( ،)4وهذا يعني أهنا زيادة يف الرتويض اإليامين وسعة يف ا ُملناخ الروحاين والنضوج الذي يعكس جمموعة من انفعاالت ونشاطات داخلية وخارجية للفرد حتقق من ورائها قوة يف الرابط بني
((( إبراهيم حسني العسل ،التنمية يف الفكر اإلسالمي.271 ، ((( إن التكامل يف اإلسالم شمل مفردات العبادات واملعامالت مجيها وشمل تفاصيلها وجزئياهتا ،فعىل الرغم من سعة افق العبادة وشمولية مساحتها ،نجد أن الطقوس العبادية قد أخذت عمق ًا وبعد ًا آخر ،فهناك نوعان من العبادة :عبادة ظاهرية وهي أدائية ،وعبادة باطنية تستحرض فيها املضامني ،عل ًام أن العبادتني تكمل إحدامها األخرى ،حيث تُعد األوىل مقدمة إىل الثانية ،والثانية هي عني التمثل بالعبادة. ((( ميثم السلامن ،صناعة السعادة.145 ، ((( ضياء الدين زين الدين ،مبادئ عامة يف أصول التدبر القرآين.282 ،2 ،
277
أطراف العبادة ،وللنظر بني ما كان ما ينبغي أن يكون ،عىل وفق ضوابط ساموية رشعية ،هلا من الشمول بحيث تسع تلك النشاطات التي عنواهنا رضا اهلل تعاىل، وهبا ستكون مجيع أنامط السلوك التنموية وسيلة هدفها ترمجة العبادة هلل تعاىل. اآلية املباركة الثالثة. قال اهلل تعاىل يف كتاب العزيزَ ﴿ :وك ََذلِ َ ك َج َع ْلنَاك ُْم ُأ َّم ًة َو َسط ًا لِ َتكُونُوا ُش َهدَ َاء َع ىَل الن ِ الر ُس ُ ول َع َل ْيك ُْم َش ِهيد ًا ﴾(.)1 َّاس َو َيك َ ُون َّ إن لفظ (كذلك) :إشارة إىل ما مىض من جعل هدايته قرينة ملعنى الوسطية، واملراد من (اجلعل) :التقدير واخللق( ،األمة) :اجلامعة ،والوسط معروف كمعيار لتعيني الطرفني إن أضيف إىل األجسام أو إىل األعداد ،أما إن أضيف إىل املعنويات يكون معيار ًا لتمييز مرتبتي اإلفراط والتفريط املذمومني ،وقد ُفرس الوسط يف األخبار بالعدل ،ويعرف من اآلية املباركة ال تشمل مجيع األمة ،بل املراد من كان متبع ًا لرشيعة الرسول nوإن دينهم هو احلد الفاصل بني الروحانية البحتة (ش َهدَ َاء َع ىَل الن ِ الر ُس ُ واملادية الرصفة ،وألجل ذلك صاروا ُ ول (و َيك َ َّاس) مجيع ًا َ ُون َّ َع َل ْيك ُْم َش ِهيد ًا) ،ألن الرسول nشهد عليكم بأنكم تتصفون عل ًام وعم ً ال بام علمكم به(.)2 وقد أكد هذا املعنى مكارم الشريازي حني أشار إىل أن الوسط هو ما اعتدل وابتعد عن اإلفراط والتفريط ،والوسط املعتدلة يف العقيدة ،التي ال تسلك طريق ((( البقرة.143 : ((( ظ :عبد االعىل السبزواري ،مواهب الرمحن يف تفسري القرآن.111 – 106 ،2 ،
278
الغلو وال طريق التقصري والرشك ،معتدلة يف القيم املادية واملعنوية ،وكذا معتدلة له يف اجلانب العلمي ويف الروابط االجتامعي ويف اجلوانب األخالقية...معتدلة يف عبادهتا ،يف تفكريها ويف مجيع أبعاد حياهتا(.)1 إن مراد اآلية املباركة أن يكون هناك أنموذج ًا حارض ًا صادق ًا ينظر للحقيقة ويتصدى هلا كقدوةُ ،ينظر إليها كمثل أعىل لتبني الوسطية التي تعني االعتدال واالتزان كسمة أساسية يف النظرة اإلسالمية القرآنية بعيد ًا عن الغلو والتطرف، االعتدال الذي به تستقيم حياة اإلنسان ومن خالل وسطية نشاطات التنمية وجماالهتا ،فبوسطية تلك الصور ستحقق الشمولية املرجوة لكل عمل تنموي ،لذا نجد أن القرآن أكد هذا البند األساس الذي اختذه هدف ًا لتحقيق رشيعة اإلسالم وحتقيق النشاطات التنموية التي ترتقي باإلنسان؛ هلذا كان تأكيد اآلية عىل هذا البند عىل أساس اجلعل اإلهلي (الذي يكون متام سببه كامل العبد يف نفسه بينه وبني ربه .....واجلعل أن أمة حممدnهم الوسط يف مجيع املعارف والكامالت النفسية، ودينهم هو احلد الفاصل بني الروحانية البحتة واملادية الرصفة وألجل ذلك صاروا شهداء عىل الناس جع ً ال َت َف ُضلي ًا)(.)2 من أجل ذلك حتدثت اآلية املباركة عن أمهية الوسطية ،ومثاهلا امة الوسط وما أمهية وظيفتها يف بقعة األرض ،ودورها األساس يف حياة الناس بوصفها هدف ًا وانموذج ًا يحُ تذى به لبقية األمم والشعوب والنظريات والسياسات؛ ألن نموذج ((( ظ :نارص املكارم الشريازي ،األمثل يف تفسري كتاب اهلل املنزل.338 ،1 ، ((( عبد األعىل السبزواري ،مواهب الرمحن يف تفسري القرآن.110 ،2 ،
279
هذه األمة احلقيقي قد استلهم حضوره من شخص الرسول األكرم الذي اصطفاه اهلل تعاىل عن بقية البرش؛ لتكامله واعتداله واتزانه واستقامته. مما تقدم نجد أن اآلية هتدف إىل أن تنطلق هذه األمة كمثل تنموي أنموذجي يكون مصداق ًا للتألق والنمو يف مجيع املجاالت وامليادين التي حتيط به بقرينة ُ (أ َّم ًة َو َسط ًا). فهي األمة (الوسط التي تشهد عىل الناس مجيع ًا ،فتقيم بينهم العدل والقسط وتضع هلم املوازين والقيم ،أو من الوسط بمعنى االعتدال والقصد ،أو من الوسط بمعناه املادي – احليسُ ، (أ َّم ًة َو َسط ًا) ....يف التفكري والشعور....أو يف التنظيم والتنسيق ....أو يف االرتباط والعالقات .....ويف املكان يف رسة األرض، ويف أوسط بقاعها ....يف الزمان)( ،)1أو مجيع ذلك ألن التكامل والشمول التي هي من خصائص التنمية البرشية هو ناتج الوسطية واالعتدال وهذا هو عني ما هتدف إليه التنمية البرشية يف القرآن الكريم. فخالصة القول أن غاية اجلعل اإلهلي أن تكون أمة اإلسالم أنموذج ًا حي ًا وواقعي ًا كمجتمع متطور ومنضبط ومتألق يكون انعطافه قدر اإلمكان نحو ال ومستمر ًا متواص ً األفضل وأن يكون هذا النشاط مثمر ًا وشام ً ال لنمو قدرات هذه األمة املادية واملعنوية لتكون قدو ًة ومثاالً لبقية األمم والديانات ،فهدف التنمية البرشية يف القرآن الكريم هو تكامل اإلنسان (واستثامر مرحلة احلياة الدنيا
((( سيد قطب ،يف ظالل القرآن.132 ،2 ،1 ،
280
لتحقيق القدرة عىل النجاح ،واحلياة األكمل واألسعد يف عامل اآلخرة)( )1وخذه هي حمصلة التنمية البرشية ال غري. قال اهلل تعاىلَّ ﴿ :ل ِذي َخ َل َق المَْ ْو َت َو حَْ ال َيا َة لِ َي ْب ُل َوك ُْم َأ ُّيك ُْم َأ ْح َس ُن َع َم ً ال َو ُه َو ور﴾( ،)2فغاية القرآن الكريم من ذكر خلق املوت واحلياة هو لتكامل ا ْل َع ِزي ُز ا ْل َغ ُف ُ
اإلنسان ورقيه وتناميه للوصول إىل مراتب العمل احلسن والصالح ،والنموذجي لبناء املرشوع اإلسالمي احلضاري الذي يسعى للحفاظ عىل هوية اإلنسان يف منظومة الوجود ضمن علة الوجود. فغاية نزول القرآن هو مصلحة العباد ،وإن متام وتكامل التنمية البرشية باعتدال وتوازن الرؤية الكونية اإلسالمية وهنجها الترشيعي ،إذ من الرضورة احلتمية أن تكون التنمية البرشية متوازنة ومعتدلة هبا دون إفراط وال تفريطُ ،متمثلة الوسطية بني العوامل واملؤثرات ،بني املجاالت االقتصادية والسياسية واالجتامعية وغريها، عازمة عىل نبذ كل حاالت اإلفراط وصور التفريط ،وتعدها خارجة عن رؤية الرشيعة املقدسة. فإن تنمية الفرد واملجتمع جيب أن تكون بكافة امليادين واجلوانب وذلك بعدم التفرد بتأكيد أحد امليادين أو التغايض عن ميادين أخرى أو التقليل من شأهنا، فكل إفراط يف أمر ما ،يقابله تفريط يف أمر آخر( ،فإن إصابة نقطة اهلدف أعرس من
((( صدر الدين القبنجي ،األسس الفلسفية للحداثة – دراسة مقارنة بني احلداثة واإلسالم.141 ،
((( امللك.2 :
281
العدول عنها ولزوم الصواب)(.)1 فاملنظور اإلسالمي للتنمية البرشية عىل وفق هذه اآلية يقتيض أن تكون وسطيتها شمولية ومتكاملة ،ولعل السبب يف ذلك االعتدال رؤية اإلسالم إىل هذا املطلب باعتبار أن أي ميدان تنموي ال ُيعدّ هدف ًا أساسي ًا لإلنسان وإن افتقر إليه ،ألن ذلك املفتقر إليه يقين ًا سوف ال يكون هدف اإلنسان الوحيد ،بالرغم من قناعة الرؤية اإلسالمية برضورته كمطلب بذاته من جهة والنضاممه كجزء إىل املنظومة املتكاملة من جهة أخرى. يأمل الباحث أنه عىل وفق حني انتخب ثالث آيات عدها حموره الرئيس الذي ينطلق من خالله لبيان أهم أهداف أو غايات التنمية البرشية يف القرآن الكريم، كام عد الباحث ذات اآليات غاية رشع اهلل تعاىل ،وهي غاية لكثري من الغايات التي تتمحور عىل حتقيق مصالح العباد ،إذ ذهب أغلب الفقهاء لتأييد القاعدة التي تنص ( :حيثام كانت مصلحة املسلمني ،فثمة رشع اهلل)(.)2
بعد هذه اخلالصة يف التدبر هلذه اآليات املباركة الثالث نستشف أنه كام هناك تدرج واسرتسال يف األهداف صعودا ونزوال ،فكذا كان التدرج الرتاتبي واالسرتسال االنسيايب لغايات آياتنا الثالث والتي ُأنتخب تسلسلها عىل وفق مبني عىل أساس رؤية التدبر القرآين للباحث ،لقوله إن اهلدف الرئيس األول ٌّ اجلعل اإلهلي لفكرة خلق اإلنسان واستخالفه (اإلنسان الذي ُيعدّ رأسامل التنمية ((( حممد مهدي النراقي ،جامع السعادات.95 ،1 ، ((( حمسن عبد احلميد ،اإلسالم والتنمية االجتامعية.16 ،
282
البرشية) ،مما ألزم عىل اإلنسان أن يدرك غاية وجوده بالبحث عن اهلدف الثاين املتمثل بالعبادة التنموية والتي تُعدّ احد اآلليات والسبل لتحقيق االستخالف أيض ًا ،بالرغم من ما حيمل من مضامني تُعدّ غاية خلصوصيتها ،ولكي نضمن لالستخالف والعبادة موقعهام الرفيعني بعني اهلل تعاىل كهدفني تنمويني أساسيني اقتىض أن يكون هناك هدف ثالث رئيس حيقق تكامل تلك املنظومة الساموية، متثل الرؤية الكونية التي جتسد االستخالف والعبادة والتي عرب عنها باألمة الوسط بام حتمل من مضامني وتطبيقات متثل نشاطات اإلنسان لتحقيق أهداف ووسائل التنمية البرشية يف املنظور القرآين من خالل عامرة األرض ،وهذا يعني إن استخالف اإلنسان يف األرض تعني العبادة إتيان اإلنسان بكل تصوراته
عز و جل ،حسب املنهج اإلسالمي(،)1 وحركاته وسكناته عىل وفق ما يرتضيه اهلل َّ وإن حتقيق هذا النموذج املستخلف الوسط واملعتدل ال يتم إال من خالل تنميته ذاتي ًا زيادة عىل تنمية ما حييط به من ظروف عىل األصعدة كافة ،بغية تعميم هذا النموذج التنموي املختار ليشكل مع أقرانه جمتمع ًا يمثل امة ﴿ َو ْل َتك ُْن ِمنْك ُْم ُأ َّم ٌة ون بِالمَْعر ِ ون إِ ىَل خَْ وف َو َين َْه ْو َن َع ْن المُْنْك َِر َو ُأ ْو َلئِ َ ك ُه ْم المُْ ْفلِ ُحون ﴾(،)2 َيدْ ُع َ ال رِْي َو َي ْأ ُم ُر َ ْ ُ لتعميم هذا اإلنامء والتطور عىل املجتمعات اإلنسانية والديانات والسياسات األخرى(أي حتقيق عاملية اإلسالم) من خالل التنمية النظرية والعملية.
((( ظ :عباس آل محيد ،اسرتاتيجية اإلسالم ،كيف تساهم يف النهوض باألمة اإلسالمية.183 ، ((( آل عمران.104 :
283
وخالصة القول إن جوهر وأهداف حركة التنمية البرشية يف القرآن الكريم هو إدراك اإلنسان أمهية دوره يف الوجود بوصفه خليفة يف األرض هلل عز وجل ،مما يقتيض ان يفجر مجيع قواه الكامنة يف داخله لتحقيق تطوير ذاته وتنميتها ،ليكون األمثل الذي يستحق بحق أن يكون خليفة اهلل عىل األرض ،من هنا اودع سبحانه وهيء له الدواعي املادية وقدّ ر له ا َمل َلكات والقدرات يف اإلنسان عىل التطور ّ (الر ُسل والكتب املقدسة) ليصل من كل هذا ملبتغى السامء ،فام الدعوة الساموية ُ دعوة القرآن املعجز إال ملاهية التنمية البرشية التي هي السبيل األمثل للوصول اىل اإلنسان األمثل تحُ ّقق ًا.
284
( :)2مقاييس التنمية البشرية في المنظور القرآني. سبق أن ذكرنا أن القرآن الكريم هو كتاب اهلل تعاىل الذي أنزله للبرشية ليهتدوا هبديه ويتنوروا بنور رشيعته التي رسمت هلم طريق الصالح وحددت هلم سبل الفالح ليصلوا لرضاه تعاىل وهي أعىل مراتب النجاح ،فالقرآن الكريم حيوي بني ﴿ما َف َّر ْطنَا يِف ا ْلكِت ِ َاب ِم ْن دفتيه معاين جليل ًة وأبعاد ًا ملجاالت خمتلفة لقوله تعاىلَ : ش ٍء﴾( ،)1من هنا (يتربهن أسلوب ألالتفريط املأخوذ لفظه من اآلية املشار إليها، يَ ْ وهو باب واسع يمكن عىل أساسه صياغة كثري من األطروحات لكثري من املشاكل
التي قد تثار يف عدد من املواضع واملواضيع)(.)2 فالقرآن الكريم مل يت ّب َن نظرية معينة ألحد العلوم االجتامعية أو التطبيقية عىل مستوى املنهج العلمي املتعارف عليه يف كتب األبحاث ،نعم هناك إشارات كثرية ٍ مفادها الترصيح تارة والتلميح تارة أخرى تُعدّ منهج ًا أو سب ً غايات ال أو أبعاد ًا أو أو قد تكون مجيعها ،بإمكان املفرس والباحث واملتدبر انتزاع هذه الدالالت من اآليات البينات. فحديثنا عن املقاييس التنموية يف القرآن الكريم هي ليست بالرضورة حتكي عن أسس وقواعد املؤرش والدليل التنموي من عدمه ،فض ً ال عن عدم رضورة اإلشارة عالنية إىل ذات التنمية البرشية كعلم له أسسه ومناهجه وخصائصه وأهدافه ،وما
((( األنعام.38 : ((( حممد الصدر ،منة املنان يف الدفاع عن القرآن.15 ،
285
هذا إال الرس احلقيقي وراء أعجاز النص القرآين الذي نستشف كثري ًا من املعطيات ونستكشف العديد من املعادالت ،وأن متابعة املصطلحات احلديثة وأدبيات العلوم االجتامعية والنظر يف املالئم منه عىل وفق املنظور القرآين أو اإلسالمي نمط معريف منقوص ،مقتضاه االنطالقة من القرآن إىل تلك املصطلحات وليس العكس( ،ففرق بني أن يقول الباحث عن معنى آية من اآليات :ماذا يقول القرآن؟ أو يقول :ماذا جيب أن نحمل عليه اآلية؟ فإن القول األول يوجب أن ينسى كل أمر نظري عند البحث ،وأن يتكئ عىل ما ليس بنظري ،والثاين يوجب وضع النظريات يف املسألة وتسليمها وبناء البحث عليها ،ومن املعلوم أن هذا
النحو يف البحث يف الكالم ليس بحث ًا عن معناه يف نفسه)(.)1 ووقوفنا عند املطلب هذا مراده رؤية موقف القرآن الكريم ملقاييس التنمية البرشية أو التخلف -باعتباره عكس التنمية البرشية -هو ليس من قبيل توثيق ما سنرصده من مؤرشات تُعتمد كأسس لقياس أحد جزئيات مفردة علم من العلوم، أو اعتامدها كهدف قرآين أو غري ذلك (فال يوجد دليل عقيل أو نقيل عىل وجود ٍ ٍ معان متباينة هدف لكل واحدة من السور ،بل أن بعض اآليات تعرضت إىل
((( حممد حسني الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القرآن9،1 ،
286
وأهداف متعددة( )2())1كوننا أكدنا أن القرآن الكريم غري ٍ معن هبذه التفاصيل ِ ك ا ْلكِت ِ ﴿و َن َّز ْلنَا َع َل ْي َ ش ٍء َ واجلزئيات ،وقد نطق حمدد ًا غرض نزوله َ َاب ت ْب َيان ًا لك ُِّل يَ ْ ِِ ِ ني﴾(.)3 ح ًة َو ُبشرْ َ ى ل ْل ُم ْسلم َ َو ُهدً ى َو َر مْ َ لقد حددنا فيام سبق أن مؤرشات ومقاييس التنمية البرشية يف املنظور التجريبي قد متحورت يف ثالثة أو أربعة حماور ،كام ذهب بعضهم إىل دعوة سعة تلك املحاور املذكورة آنف ًا لعدم شموليتها واستيعاهبا لرصد العملية التنموية برمتها وحتديد مساراهتا ،إال أننا نجد أن القرآن الكريم له رؤيته اخلاصة يف قراءة العملية التنموية ،مما حدا أن تكون له مقاييس تكاد ختتلف عام تعارف عند بعض املؤسسات واملنظامت الدولية ،لقد أهتم القرآن يف مقاييس تقدم وختلف أي فرد أو جمتمع وجعل لذلك جمموعة من املؤرشات تُعدّ بمثابة مقياس ملفردات التنمية من عدمها ،كان أمهها وأوهلا هو القرب والبعد من ذات املفهوم ،فض ً ال عن رضورة تزاوج املفهوم واملصداق – أي مبدأ انسجام اجلانب النظري والعميل – وانطباق احدمها عىل اآلخر ،وهلذا عد الباحث أن مصطلح "نوعية احلياة" هو أقرب مقياس حلركة اإلنسان وتطوره ،إذ يسعى عىل تأمني احلاجات األساسية لإلنسان وبني إحساسه باملستويات العليا للرفاه ،لذا كانت الرؤية القرآنية يف مقياس التنمية من ((( لقد أشار السيد حممد الصدر قدس اهلل رسه الرشيف ملا أورده مستشهد ًا بقوله ِ ِ يم ُة األَ ْن َعا ِم ﴾ املائدة.1 : تعاىل ﴿ َأ ْو ُفوا بِا ْل ُع ُقود ُأح َّل ْت َلك ُْم بهَ ِ َ ((( حممد الصدر ،منة املنان يف الدفاع عن القرآن.26 ((( النحل.89 :
287
عدمها مرتكزة عىل خصائص من الشمول والتوازن وغريها ،ففرق بني أن تكون الرؤية متكاملة مثل الرؤية القرآنية ،وأن تكون أحادية منقوصة مبنية عىل املقياس املادي البحت( ،لقد حدث ذلك كله انطالق ًا من معيار أسايس حيكم مفهوم التقدم والتأخر ،وهو القياس عىل أساس التقدم املادي ضمن أبعاده املتعلقة بالعلوم
والتقنيات والقوى املنتجة وعالقة اإلنتاج)(.)1 والنكتة املهمة يف حتديد مقاييس التنمية البرشية قرآني ًا ،هي أن اآليات املباركة قد تعاملت مع كل ميدان أو نشاط أو سلوك حيايت بمنأى عن امليادين األخرى، فالقرآن عندما يتحدث عن مقاييس نمو القائد غري ما يتحدث عن املدير ومقاييس تطوره ،وكذا فاحلديث عن مقاييس األمة الفاسدة فكري ًا هي غريها التي تتحدث عن أمة فاسدة ومنحرفة سلوكي ًا ،وهذا ما سنتلمسه ونحن نستعرض بعض املقاييس التي حاول الباحث انتزاعها من مدلول اآليات املباركة. وبالعودة إىل كتاب اهلل العزيز ووقوفنا عند إحدى آياته كقوله تعاىلُ ﴿ :ي ْر ِس ْل ٍ الس ء ع َليكُم ِمدْ رار ًا * ويم ِددكُم بِ َأمو ٍ ِ ي َع ْل َلك ُْم ال َو َبن َ َُْ ْ ْ َْ ي َع ْل َلك ُْم َجنَّات َو جَ ْ ني َو جَ ْ َّ ماَ َ َ ْ ْ َ
َأ هْنَار ًا﴾( ،)2اآلية املباركة تتحدث عن نوح Aوهو ُيعدّ قومه باخلري املناط باإليامن، فهناك (ارتباط بني صالح املجتمع اإلنساين وفساده وبني األوضاع العامة الكونية
((( منري شفيق ،اإلسالم يف معركة احلضارة.132 ، ((( نوح.12 -11 :
288
املربوطة باحلياة اإلنسانية ،وطيب عيشه ونكده)( ،)1وامللفت لالنتباه أن اآلية املباركة توعد قوم نوح باخلري الوفري وتبارش يف حتديد مقاييسه وعالماته ،مبتدئة باإلشارة إىل (نزول املطر الذي به السالمة من القحط وبالزيادة يف األموال ...ويف
هذا داللة عىل أن اهلل جيازي عباده الصاحلني بطيب العيش)( ،)2وورد االستغفار يف َان َغ َّف ًارا ﴾ ( )3أشاره إىل أنه يعني -التكفري قوله تعاىلَ ﴿ :ف ُق ْل ُ ت ْاس َتغ ِْف ُروا َر َّبك ُْم إِ َّن ُه ك َ عن األخطاء والرشوع بالعمل الصالح -يتسبب يف النمو االقتصادي والبرشي ِ السماَ َء َع َل ْيك ُْم ِمدْ َرار ًا﴾بقرينة نزول املطر والبيئي وهذا ما أكدته اآلية املباركة ﴿ ُي ْرس ْل َّ الذي يشري إىل عموم اخلري ،وإىل داللة اآلية ﴿ويم ِددكُم بِ َأمو ٍ ِ ني ﴾حيث تبني ال َو َبن َ َُْ ْ ْ َْ أمهية املورد االقتصادي الذي ُيعدّ من أهم دعائم التنمية البرشية ،وكذا هي احلال ملؤرش املورد البرشي الذي ُيعدّ العمود الفقري للعملية التنموية ،لتختم اآلية بمؤرش ودليل آخر للتنمية البرشية وقياسها ،أما قوله تعاىل﴿ :و جَيع ْل َلكُم جن ٍ َّات ْ َ َ َْ ي َع ْل َلك ُْم َأ هْنَار ًا﴾ فهو تعبري عن أمهية املورد الطبيعي كمؤرش يقاس به حجم َو جَ ْ مستوى اإلنامء( ،حيث تستوعب املياه وتُق ُّلها للشاربني إنسا وحيوانات ،وسقاء للجنان واألشجار واملزارع ،وثابت علمي ًا وعملي ًا أن وجود األهنار من العوامل احلضارية األساسية ،ألنه سبب الزراعة التي هي بدورها من مظاهر احلضارات
((( حممد حسني الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القرآن.30 ،20 ، ((( ابن عاشور ،تفسري التحرير والتنوير،مج .198 ،29 ،12 ((( نوح .10 :
289
ومقوماهتا)(.)1 ُون ِزينَ ُة حَْ ال َي ِاة الدُّ ْن َيا أما فيام ورد يف كتاب اهلل العزيز قوله تعاىل﴿ :المَْ ُال َوا ْل َبن َ ات الص َحِ ِ ات َخ رْ ٌي ِعنْدَ َر ِّب َ ك َث َواب ًا َو َخ رْ ٌي َأ َم ً ال) ﴾( ،)2فاآلية املباركة تشري ال ُ َوا ْل َباق َي ُ َّ رصاحة إىل (وضع املال والثروة والقوة اإلنسانية الذين ُيعتربان ركنني أساسيني يف احلياة الدنيا)(.)3
فاآلية املباركة كالتي سبقتها فهي تشري إىل أهم العنارص لديمومة احلياة، وهي عنرص املوارد االقتصادية ،عنرص املوارد البرشية ،عنرص املوارد البيئية أو مبني عىل أساس أمهيتها ،فض ً ال عن تأكيد القرآن الكريم الطبيعية ،فالتفاخر هبام ٌّ ات الص َحِ ِ أمهية البعد الروحي املتمثل ات﴾ ،فهو خري عند اهلل تعاىل، ال ُ بـ﴿وا ْل َباق َي ُ َّ َ (فتقرير هذا الدليل أن خريات الدنيا منقرضة منقضية وخريات اآلخرة دائ ًام باقية بقرينة ﴿َ ْي ٌر ِعنْدَ َر ِّب َ ك َث َواب ًا َو َخ رْ ٌي َأ َم ً ال ﴾)( ،)4فالقرآن الكريم أشار إىل خري الدنيا ووضع مقاييسها إال أنه ضعف هذا اخلري قبال خري اآلخرة وهي ﴿ وا ْلب ِ ات اق َي ُ َ َ الص َحِ ات﴾. ال ُ َّ والها َب َع ْثنَا َع َل ْيك ُْم ِع َباد ًا َلنَا ُأ يِ ول اء َو ْعدُ ُأ مُ َ أما مدلول قوله تعاىلَ ﴿:فإِ َذا َج َ ((( حممد تقي املدريس ،من هدى القرآن .262 ،11 ، ((( الكهف ،اآلية .46 ((( نارص مكارم الشريازي ،األمثل يف تفسري كتاب اهلل املنزل.591 ،7 ، ٍ الكبري ،مج .120 ،21 ،11 ((( الرازي ،التفسري
290
ب ْأ ٍ ِ ٍ الل الدِّ َي ِ اسوا ِخ َ َان َو ْعد ًا َم ْف ُعوالً ُث َّم َر َد ْدنَا َلك ُْم ا ْلك ََّر َة َع َل ْي ِه ْم ار َوك َ َ س َشديد َف َج ُ و َأمدَ دنَاكُم بِ َأمو ٍ ِ ني َو َج َع ْلنَاك ُْم َأ ْك َث َر نَفِري ًا﴾( ،)1فمدلول اآلية املباركة يصب ال َو َبن َ َ ْ ْ ْ َْ
بذات مصب من سبقتها من آيات ،فهي تشري إىل أمهية املوارد االقتصادية واملوارد البرشية بقرينة (و َأمدَ دنَاكُم بِ َأمو ٍ ِ ني) كمؤرش مهم يقاس به هيمنة وسلطة بني ال َو َبن َ َ ْ ْ ْ َْ إرسائيل. ﴿و َل َقدْ وكذا هو مدلول بقية اآليات التي تعرض هلذا الباب ،ومنها قوله تعاىلَ : ِ ِ ِ ح ْلن ُ يِ َاه ْم َع ىَل ك ٍ َثِري َاه ْم م ْن ال َّط ِّي َبات َو َف َّض ْلن ُ ب َوا ْل َب ْح ِر َو َر َز ْقن ُ ك ََّر ْمنَا َبني آ َد َم َو مَ َ َاه ْم ف ا ْل رَ ِّ مِم َّ ْن َخ َل ْقنَا َت ْف ِضي ً ال ﴾(.)2 فالتفضيل يف اآلية املباركة ٍ مبن عىل أساس تيسري السبل والطرق والدليل للوصول إىل الرزق من الطيبات التي عنواهنا العموم من األرزاق (وقد مجعت اآلية مخس منن ،التكريم ،تسخري املراكب يف الرب ،وتسخري املراكب يف البحر، والرزق من الطيبات ،والتفضيل عىل كثري من املخلوقات)( ،)3فاآلية املباركة تؤكد مخس مزايا خصها اهلل تعاىل لإلنسان دون املخلوقات األخرى ،حتى ُعدت من مزايا التنمية البرشية معيار ًا ومزي ًة ومقياس ًا ملكان البرش ورفعتهم. وضح القرآن الكريم ليشري إىل مطلب مهم هو أن االمتثال ألمر اهلل تعاىل ثم ّ
((( اإلرساء.6 ،5 : ((( اإلرساء.70 : ((( ابن عاشور ،تفسري التحرير والتنوير ،مج .164 ،15 ،6
291
وألوامر منظومته الساموية يكون فيها خالص البرش وسعادهتم دنيوي ًا وأخروي ًا، إل ِ ﴿و َل ْو َأ هَّنُ ْم َأ َق ُاموا الت َّْو َرا َة َوا ِ نج َ يل َو َما ُأ ِنز َل إِ َل ْي ِه ْم ِم ْن َربهِِّ ْم ألَ َك ُلوا ِم ْن َف ْو ِق ِه ْم َ و ِمن حَ ْت ِ ت َأرجلِ ِهم﴾( ،)1فاألكل يف هذه اآلية ﴿ألَ َك ُلوا ِمن َفو ِق ِهم و ِمن حَ ْت ِ ت َ ْ ْ ْ ْ َ ْ ْ ُ ْ َأ ْر ُجلِ ِه ْم﴾ ،كناية عن مستوى السعادة والرتف والرفاه ،فهو (تأكيد أكيد عىل أن أقامة احلق وحفظ الرشائع الساموية توجب السعادة والتنعم بالنعم اإلهلية املعدة لعباده املؤمنني ،واملراد من األكل مطلق الترصف والتنعم....ولكن سيستفاد من
ظاهر اآلية أن هذه النعم كلها ختتص بالدنيا ،فتصلح شؤوهنم فيها)(.)2 وإن داللة هذه اآلية داللة واضحة بإزاء اإلنسان دنيوي ًا وتنعمه مادي ًا بامتثاله لتلك األوامر ،فيكون األكل بتعبريه املجازي مؤرش ًا الرتقاء اإلنسان بنفسه وتنمية
ما حييط به ،فكلام زاد اخلري نال اإلنسان منه ،وأن زيادته إطرادية مع نضوج التنمية البرشية. ِ اء َغدَ ق ًا ﴾( ،)3فسياق ﴿و َأ َّل ْو ْاس َت َق ُاموا َع ىَل ال َّط ِري َقة ألَ ْس َق ْين ُ أما قوله تعاىلَ : َاه ْم َم ً
اآلية يدل عىل بعدين مها :أوال إن امتثال اإلنسان لألمر اإلهلي الذي ُيعدّ مؤرش ًا إىل تنميته ووعيه ونضوج عقله مما يقتيض بموجب اإلدراك أن تتسع خياراته، أما األمر الثاين فإن االمتثال ألمر الرشيعة هو جتسيد ملنظومة العدالة الساموية يف
((( املائدة.66 : ((( عبد األعىل السبزواري ،مواهب الرمحن يف تفسري القرآن.109 ،12 ، ((( اجلن.16 :
292
جماالت احلياة كافة التي تُعدّ سبب ًا وعالمة لسعة الرزق ومؤرش ًا للتنمية البرشية اء َغدَ ق ًا ﴾ فهو احلقيقية التي ترتب عليها هذا اخلري ألن املراد من ﴿ألَ ْس َق ْين ُ َاه ْم َم ً
(مثل أريد به التوسعة يف الرزق)( )1وإن هذه التوسعة عىل مستوى العموم كام هو واضح من سياق اآلية املباركة بدليل استعامل ضمري اجلمع (هم) الذي يدل عىل عموم املجموعة. قال اهلل تعاىلَ ﴿:و َق َال هَُل ْم َنبِ ُّي ُه ْم إِ َّن اللهََّ َقدْ َب َع َ وت َملِك ًا َقا ُلوا َأنَّى ث َلك ُْم َطا ُل َ ك ع َلينَا ونَحن َأح ُّق بِالمُْ ْل ِ ك ِمنْ ُه َو مَل ي ْؤ َت س َع ًة ِم ْن المَْ ِ ال َق َال إِ َّن اللهََّ َيك ُ ُون َل ُه المُْ ْل ُ َ ْ َ ْ ُ َ َ ُْ الس ِم واللهَُّ ي ْؤ يِت م ْل َكه من ي َشاء واللهَُّ و ِ ِ اس ٌع اص َط َفا ُه َع َل ْيك ُْم َوزَا َد ُه َب ْس َط ًة يِف ا ْلع ْل ِم َو جِْ ْ َ ُ ُ ُ َ ْ َ ُ َ َ ْ ِ يم﴾(،)2إن اآلية املباركة تسلط الضوء عىل علة اصطفاء اهلل تعاىل لطالوت A َعل ٌ حمل شاهدنا ،وكيف هو االصطفاء الذي ُعد عالمة للداللة عىل قابلياته وإمكاناته التي تنم عن مرحلة متطورة من اإلنامء الذايت املتضمن لإلنامء العقيل والنفيس والبدين ،وهي صفات مهمة لإلنسان بصورة عامة وللقائد أو املدير بصورة خاصة، وهلذا نجد أن القرآن الكريم قد أكد صفتني (ينبغي وجودمها يف كل ملك وقائد، فإن باألول يدير النظم ويدبر األمور ومها يتطلبان معرفة املصالح واملفاسد ،والعلم بخصوصيات اإلدارة ،أما الثانية :فبها يمكن بسط نفوذه وهيمنته واملجتمع)(.)3
((( حممد حسني الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القرآن.50 ،2 ، ((( البقرة.247 : ((( عبد االعىل السبزواري ،مواهب الرمحن.144 ،4 ،
293
فنجد أن القرآن الكريم يؤكد من خالل سياق اآلية املباركة ركنني أساسيني مها العلم والشجاعة كعالمة يقاس هبام نجاح هذا املجال التنموي واإلداري والسيايس يف الوقت الذي نجد أن اجلانب االقتصادي قد ُضعف يف هذا املطلب وهذا ما تذكره اآلية حيث اشتبه بنو إرسائيل وظنوا أن يكون امللك وإدامته ببسط املال ،حني اعرتضوا عىل نبيهم "اشموئيل» Aحيث قال هلم نبيهم﴿ :إِ َّن اللهََّ َقدْ َب َع َ ُون َل ُه المُْ ْل ُ ك َع َل ْينَا ث َلك ُْم َطا ُل َ وت َملِك ًا﴾ ،فاستنكروا مستفهمنيَ ﴿ ،قا ُلوا َأنَّى َيك ُ ونَحن َأح ُّق بِالمُْ ْل ِ ك ِمنْ ُه) ،وذلك (ألننا أكثر أمواالً منه وامللك جيب أن يكون غني ًا َ ْ ُ َ وليس لطالوت كذلك﴾(.)1 ﴿و مَل ي ْؤ َت س َع ًة ِم ْن المَْ ِ ال) هنا كان ظن بني إرسائيل الذين كانت مقاييسهم َ َ ُْ
مادية بحتة أن تكون مزية القيادة كذلك يف الوقت الذي أشار نبيهم Aقائالً: اص َط َفا ُه َع َل ْيك ُْم َوزَا َد ُه َب ْس َط ًة يِف ا ْل ِع ْل ِم َو جِْ ال ْسمِ﴾ ،أي إن هذه (هي كفاءة ﴿إِ َّن اللهََّ ْ القيادة احلربية أن يكون قادر ًا عليها جسدي ًا وعلمي ًا)(.)2 لقد حاول الباحث متدبر ًا يف سياق بعض اآليات املباركة أن يستنطق مدلوهلا ملعرفة دليل التنمية البرشية ومقاييسها يف املنظور القرآين ،فهو ،حيث وقف عند اآليات التي تؤكد مؤرشات التنمية البرشية ،كام هو واضح مما تقدم ،أما هنا فالباحث يأمل أن يقف عند آية مباركة أخرى كمثال وكنموذج للتحدث عن عنوانات أخرى كالبالء والتخلف والفساد والظلم واملعصية وغريها من ((( حممد تقي املدريس ،من هدى القرآن.329 ،1 ، ((( املصدر نفسه.303 ،
294
العنوانات التي تتضمن بعض املقاييس القرآنية لكل عنوان ،حماوالً أن ينتزع بعض املؤرشات واملقاييس التي إن عكسها ستكون مؤرش ًا للتنمية البرشية ،أي أن ملفهوم التنمية البرشية مؤرشاته ومقاييسه اخلاصة به ،وكذا ملفهوم آخر كالتخلف -الذي هو عكس التنمية والتطور -له مقاييس تدل عليه ،وأن تسليط الضوء عليها من القرآن الكريم واإلشارة إليها يعني اإلشارة إىل مؤرشات املفهوم املعكوس، وبعكس املطلب تتبني مؤرشات مفهوم التنمية البرشية عن طريق آخر. الو ِ فعندما نريد أن نقف عند قوله تعاىل﴿ :و َلنَب ُلو َّنكُم بِ يَ ٍ ِ ف َو جُْ الو ِع شء م ْن خَْ ْ َ ْ َ ْ ْ ِ ص ِم ْن األَم َو ِ ال َواألَن ُف ِ َو َن ْق ٍ ين ﴾( ،)1نجد واقع ما نصبو الصابِ ِر َ س َوال َّث َم َرات َو َبشرِّ ْ َّ ْ إليه ،فداللة اآلية املباركة حتكي عن (االختبار اإلهلي العام واملظاهر املختلفة
باعتباره سنة كونية ال تقبل التغيري)( ،)2كام تطرقت اآلية املباركة إىل مؤرشات عديدة يمكن القياس عليها لعظيم البالء الذي قد ُيربك العملية التنموية املتكاملة ويشل من حركة اإلنسان ،إال إذا عزم عىل حتمل أعباء ذلك البالء بصرب وعزم وإرادة لالنطالقة نحو اإلنامء( ،وملا كان االنتصار يف هذه االختبارات ،ال يتحقق ين﴾ ) (.)3 الصابِ ِر َ ﴿و َبشرِّ ْ َّ إال يف ظل الثبات واملقاومة ،قالت اآلية بعد ذلكَ : وبالعودة إىل املؤرشات القرآنية يف اآلية نجد أهنا مل تغفل شيئ ًا من مؤرشات
((( البقرة.155 : ((( نارص مكارم الشريازي ،األمثل يف تفسري كتاب اهلل املنزل.364 ،1 ، ((( املصدر نفسه.364 ،1 ،
295
البالء التي يقاس هبا حجم ذلك البالء الذي يصيب بعض األمم والتي تربك ﴿و َلنَ ْب ُل َو َّنكُم﴾ (لنختربنكم ،نعاملكم معاملة املختِرب حركتها التنموية ،ومعنى َ ليظهر املعلوم منكم)( ،)1وما البالء إال من قبيل االختبار اإلهلي( ،باعتباره سنة كونية ال تنقض من أجل تفجري الطاقات الكامنة ،ونقلها من القوة إىل الفعل)(ِ ،)2 ﴿م ْن الو ِ ف﴾ يعني (خوف العدو)( ،)3واخلوف من احلروب يسبب عدم االستقرار خَْ ْ ﴿و جُْ الوعِ﴾ قيل التشاغل عن املعاش واحلاجة إليه ،وقيل القحط وفقدان األمانَ ، ص ِم ْن األَم َو ِ ﴿و َن ْق ٍ ال﴾( ،والنقص يأيت بمعنى واجلدب ( )4وهذا يعني الفقر بعينهَ ، ْ اخلرسان ،واملراد باألموال األعم من األعيان واملنافع وما هيتم اإلنسان بحفظه)( ،)5وهو (واألَن ُف ِ س :األمراض)()6و(املوت)(،)7 مؤرش يقاس به خلل املنظومة االقتصاديةَ ، وهذا مؤرش آخر لقياس املورد البرشي يف إرباك حركة األمة التي يعرتهيا البالء،
((( الطربيس ،جممع البيان يف تفسري القرآن،مج.39 ،2 ،1 ((( نارص مكارم شريازي ،األمثل يف تفسري كتاب اهلل املنزل.365 ، 1 ، ((( دار الكتب العلمية ،تنوير املقباس من تفسري أبن عباس.22، ((( ظ :الشيخ الطربيس جممع البيان يف تفسري القرآن ،مج.39 ،2 ،1 ((( عبد األعىل السبزواري ،مواهب الرمحن يف تفسري القرآن.207 ،2 ، ((( الزخمرشي ،الكشاف.59،1 ، ((( الطربيس،جممع البيان يف تفسري القرآن ،مج.39 ،2،1
296
(﴿وال َّثمر ِ ات﴾ ،موت األوالد)( )1وقيل ( أراد ذهاب محل األشجار باجلوائح َ ََ ()2 ّ ولعل املراد عموم اخلري والرزق ،بينام نرى وقلة النبات وارتفاع الربكات) الطباطبائي يلخص رأيه بقوله ( :وعامة الشدائد التي يأيت هبا هو اخلوف واجلوع ونقص األموال واألنفس فذكرها اهلل تعاىل ،وأما الثمرات فالظاهر أهنا األوالد، فإن تأثري احلرب يف قلة النسل بموت الرجال والشبان أظهر من تأثريه يف نقص ثمرات األشجار)(.)3 واحلق أن مؤرشات التنمية البرشية ومقاييسها يف القرآن الكريم تتباين من مورد آلخر بحسب املطلب ،كام هو واضح مما تقدم من اآليات املباركة والتي أوردناها كنموذج فحسب ،فض ً ال عن تأكيده –القرآن الكريم -عملية تزاوج اجلانب املادي والروحي يف املؤرش التنموي ومفهومه.
((( الكشاف ،الزخمرشي.59،1 ، ((( الطربيس،جممع البيان يف تفسري القرآن ،مج.39 ،2،1 ((( حممد حسني الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القرآن.349 ،2،
297
298
( :)3تخلف التنمية البشرية ومعوقاتها -رؤية قرآنية.
إن العمل بمضامني ومقومات التنمية البرشية ُيعدّ سبي ً ال وهدف ًا لبناء احلضارة اإلنسانية وتقويمها ،وبقدر اهتامم الباحث هبذه املضامني واملعطيات التي ولدّ ت تنمية اإلنسان وحضارته ،اهتم الباحث اهتامم ًا كبري ًا باألسباب التي ستؤول باحلضارة واإلنسان إىل التصحر والركود ،الذي سينتهي باغتيال حقيقي للحضارة واإلنسان نتيجة تقهقر اإلبداع والتطور وتعويضها بأنامط من العادات والنشاطات الذميمة واملستقبحة رشع ًا وعق ً ال ووجدان ًا . حيث أكد الباحث يف املطالب السابقة أن التنمية البرشية هي تنمية فكرية وأخالقية وإدارية كام هي تنمية اقتصادية واجتامعية وسياسية ،بحيث تشكل مجيعها منظومة اجتامعية متثل امليادين كافة ،كام تناول ليؤكد امليدان الفكري بحيث عده بمكانة احلجر األساس لتلك املنظومة االجتامعية ،وان مجيع هيكل البناء الفوقي للمجاالت األخرى تبنى تباع ًا فوق هذا اجلانب. وألن التنمية البرشية جمموعة من نظم فكرية معتد هبا ُيعمل عىل ترمجتها سلوكي ًا غايتها االنعطاف باإلنسان من حال إىل أحسن حال ،كان التخلف هو تعطيل تلك اإلجراءات واألدوات العملية لرتمجة ما استخلص من أفكار ،هذا إن مل نقل إن التخلف قد ينبع أساس ًا من فساد فكري يعمل عىل نخر العقل البرشي فيكون اإلنسان فيه أسري ًا ملبادئ خاوية ،كون اخلالصة يف ذلك هو ناتج التأثري والتأثر بني املنظومة الفكرية واإلنسان -الذي هو رأس مال الرؤية القرآنية -وما يعقبها من إجراءات سلوكية ُيعدّ عني االنتقال بني التطور والتخلف. 299
نخلص مما تقدم أن ختلف التنمية البرشية بني عىل ختلف اجلانب الفكري، وهلذا كانت النظرة القرآنية للتخلف هي نظرة فكرية أوالً ومن ثم اقتصادية أو سياسية أو غريمها ،وإن كل ميدان له مساحته يف التأثري يف العملية التنموية كل بقدره ،عىل أساس ما تبنيناه سلف ًا يف أن التنمية تتأثر بجميع العوامل املكونة هلا ،وهذا االستدالل سنستصحبه عىل التخلف أيض ًا بالرغم من قناعة الباحث بأمهية اجلانب الفكري بوصفه حجر األساس لكل عمل ،وهذا ما سنستوضحه من مدلول بعض اآليات التي سنقف عندها ،كون النظرة الفكرية تستوعب كافة مظاهر ونتائج وأسباب التنمية البرشية أو ختلفها ،كام تُعدّ معاجلات التخلف يف املنظور القرآين معاجلات فكرية أيض ًا ،فالقرآن الكريم يصور لنا تلك العلة من خالل االستفهامات االستنكارية الذي تعارف عليه نمط سياقه ،بحيث نستخلص من ذلك أن التخلف مرجعه عزوف اإلنسان عن استثامر املوارد املتاحة – املسخرة – له ،يف الوقت الذي تعاملت النظرية القرآنية مع اإلنسان عىل أنه خليفة اهلل تعاىل يف األرض وحامل أمانته. وعىل أساس ما تقدم نجد هناك تباين ًا واضح ًا بني الفكر الوضعي والرؤية القرآنية حول مفهوم التخلف ،بالرغم من سعة التباين داخل حلبة الفكر الوضعي حرص ًا ،فقد حدد الباحثون هوية هذا املفهوم كل بحسب ختصصه ،فاالقتصاديون عرفوه عىل أنه :جمموعة من الظواهر التي تصاحب انخفاض اإلنتاجية ،و يرى آخرون أنه :انخفاض نسبة املتعلمني بالقياس إىل جمموعة السكان ،أو طبيعة النظام احلقوقي السائد. بينام ُعرف التخلف عىل وفق املنظور اإلسالمي عىل أنه :عجز البنية االقتصادية 300
واالجتامعية عجز ًا كام ً ال أو جزئي ًا عن حتقق معدل استثامر مستمر يعلو عىل معدل الزيادة السكانية ،بام جيعلها – أي البنية – غري قادرة عىل الوفاء باحلاجات األساسية ،بسبب تقصري اإلنسان يف مهامته االستخالفية من اجلهة السياسية واالقتصادية ،أو من جهة عدم استجابة األفراد لربامج االستخالف يف تكليف اإلنسان رشع ًا بعامرة األرض( ،)1بينام ِ وصف التخلف بتعبري آخر عىل أنه (نمط من الوجود تنحط فيه األوضاع النفسية والذهنية والسلوكية واالجتامعية والسياسية واالقتصادية عن املستوى املقبول يف معايري املنهج الرباين ،وعن الوفاء بمتطلبات العيش الكريم املالئم لإلنسان املسلم)(ُ ،)2يعدّ التخلف يف الرؤية اإلسالمية ذا بعدين مها (التخلف عن اهلدى الرباين والتخلف يف املستوى املعييش واملهني واالجتامعي)(.)3 أما الباحث فقد صور التخلف بحسب وجهة نظره عىل أنه عبارة عن ٍ تدن بمستوى اإلنسان عىل صعيد اجلانب الفكري أو عىل أحد أصعدة احلياة املختلفة أو بعض منها أو مجيعها بمنظار الرؤية الكونية التي ينتمي إليها اإلنسان ،وهذا يعني عليه أن يقلص اهلوة أو البون بني ما هو كائن وما ينبغي أن يكون.
((( ظ :األنوار اخلمسة ،شبكة البتول ،املكتبة اإلسالمية التخلف ومفاهيمه يف الفكرين الوضعي واإلسالمي. ، http://www.anwar5.net/albatoul/index.php?id=3961موقع ألكرتوين. ((( عبد الكريم بكار ،جتديد الوعي .113 -112 ، ((( ظ :املصدر نفسه.113 ،
301
ويف ضوء التباين يف حتديد املفهوم تباينت بقية املفردات التي تلتحق به ومنها األدوات التي ُيقاس فيها التخلف وحجمه ومؤرشاته ،حيث عد بعض من الباحثني أن مفهوم التخلف يقاس مقارن ًة بفرتتني زمنيتني أو ببلدين أو هبام مع ًا، فمن املمكن أن يقاس مستوى الدخل مقارن ًة بني مستوى الدخل القومي ومتوسط دخل الفرد ،وكذا قياس مستوى الدخل ببلد آخر ،فض ً ال عن قياسه بالفرتات الزمنية السابقة ،ألن (مفهوم التخلف يقوم عىل أساس املقارنة....مقارنة معدل التنمية البرشية فيام بينها ،مقارنة األوضاع العامة لفرتتني خمتلفتني يف بلد معني، مقارنة بلدين يف مرحلة معطاة من الزمان)( ،)1ثم شخص بعضهم أن معايري التخلف هي ذاهتا معايري قياس التنمية البرشية والتي يقصد هبا (التعليم ،الصحة، دخل الفرد)( )2كون التخلف هو املفهوم املعاكس للتنمية البرشية ،وإن انتكاس وتدين املعايري أعاله ُيعدّ ختلف ًا. فعىل الرغم من صحة ما تقدم بنسبة ما فإن الباحث خيتلف مع بعض الباحثني
يف حتديد هذا املفهوم ومقاييسه كام اختلف معهم يف مقاييس التنمية البرشية( ،)3فهو يرى رضورة سعة مساحة مقاييس التخلف وعدم حرصها يف مؤرشات حمدودة، كام هي حال تبنيه بسعتها يف التنمية البرشية. وألمهية املوضوع كان هذا املطلب الذي تبنى حمور ًا مه ًام لتسليط الضوء عىل ((( إبراهيم حسني العسل ،التنمية يف الفكر اإلسالمي.32 ، ((( راجع ص 192 - 179من الكتاب. ((( راجع ص 183من الكتاب.
302
ختلف التنمية البرشية ومعوقاهتا ،فإن بيان علة أي نشاط سلبي ًا كان أم اجيابي ًا ُيعدّ املدخل أو نافذة اإلطاللة نحو االجتاه املقصود ،فتشخيص موارد القوة أو الضعف رصح أن هو تشخيص خليار اإلنسان وهدايته إىل احد اخليارين ،ومن هنا فالقرآن ّ الكشف عن معامل أي طريق رضورة رشعية وعقلية كتبها اهلل َّ جل وعال عىل نفسه
ني َحتَّى َن ْب َع َ ث َر ُسوال ﴾( ،)1فالرسول هو الدليل للهداية إىل رضا ﴿و َما ُكنَّا ُم َع ِّذبِ َ َ اهلل تعاىل وطريق السواء والتنمية لبناء احلضارة اإلسالمية ،من خالل االعتقاد برسالة الرسول أوالً وباالمتثال ألمر السامء ثاني ًا ،وما التخلف إال نقصهام مع ًا والعزوف عنهام ،فالقرآن الكريم يعرض كثري ًا من صور قصص األمم التي عاقبها اهلل وانتكست حضارهتم نتيجة انتهاجهم واستخدامهم لنمط وألوان التخلف. ولكي نستوعب هذا املحور علينا تشخيص األسباب احلقيقية للتخلف بغية حتديدها واجتثاثها والسعي للعمل عىل خمالفة هنجها باالنعطاف نحو التنمية والتطور ،مع رضورة وجود املائز للتفريق بني العوارض واملصدات الذاتية واملوضوعية ،أي ما بني أن يكون السبب يف التخلف بعامل الفرد نفسه أو بني أن يكون التخلف موضوعي ًا بسبب عامل الضغط العام كالظروف التي حتيط بالفرد أو املجتمع . وبالنظر إىل آيات القرآن الكريم نجد نمطني من اخلطاب القرآين ،خطاب حياكي اإلنسان مبارشة بصيغة املفرد أو اجلمع إال أن املراد منه خماطبة كل فرد ﴿وا ْب َت ِغ فِيماَ آت َ َاك اللهَُّ الدَّ َار الآْ ِخ َر َة ۖ َولاَ َتن َْس ن َِصي َب َ ك ِم َن الدُّ ْن َيا بعينه كقوله تعاىلَ : ((( اإلرساء.15 :
303
﴿وا ْل َع رِْ ۖ َو َأ ْح ِس ْن َكماَ َأ ْح َس َن اللهَُّ إِ َل ْي َ ان َل ِفي ص * إِ َّن الإِْ ن َْس َ ك﴾( )1وقوله تعاىلَ : ُخ رْ ٍ س﴾( ،)2بينام نجد أن النمط اآلخر من السياق القرآين كان مهمته الرتكيز عىل محل السياق القرآين مسؤولية التطور والتخلف اجلو واملناخ العام للمجتمع ،حيث ّ َيوا َما َي َما بِ َق ْو ٍم َحتَّى ُيغ رِّ ُ إىل املجتمع عموم ًا ،الذي هو جمموعة أفراد ﴿إِ َّن اللهََّ ال ُيغ رِّ ُ بِ َأن ُف ِس ِه ْم﴾( ،)3فالنمطان ال يعني انحسارمها فيام سنذكره ،أي إن هناك جمموعة من
العلل بإمكاننا اعتبارها علة ذاتية وموضوعية يف آن واحد كام هي احلال يف ختلف االسترشاف املستقبيل والتخطيط إليه ،فهذه العلة يتحملها كال الطرفني أي الفرد واملجتمع ،لذا كان االهتامم يف مبدأ التخطيط الفردي والتخطيط املؤسسايت كقوله ف و َأع ِر ْض عن جَْ ِ ِ ِ ني﴾( ،)4وكذا يف قوله تعاىل: تعاىلُ : الاهل َ َ ْ ﴿خ ْذ ا ْل َع ْف َو َو ْأ ُم ْر بِا ْل ُع ْر َ ْ ون بِالمَْعر ِ ون إِ ىَل خَْ وف َو َين َْه ْو َن َع ْن المُْنْك َِر َو ُأ ْو َلئِ َ ك ﴿و ْل َتك ُْن ِمنْك ُْم ُأ َّم ٌة َيدْ ُع َ َ ال رِْي َو َي ْأ ُم ُر َ ْ ُ ون﴾(.)5 ُه ْم المُْ ْفلِ ُح َ بينام نجد أن كال النمطني قد تعامل معهام القرآن الكريم عىل أساس التخلف صورت اآليات الكريمة التخلف عىل أنه وقد وسمهام بتسميات متعددة ،حيث ّ ((( القصص.77: ((( العرص.2-1: ((( الرعد.11 : ((( األعراف.199 : ((( آل عمران.104 :
304
عملية ركود للقيم وإجهاض لإلبداع وإتباع للمفاهيم املتدنية و العمل بسلوك غري سوي ،حتى بات التخلف منعطف ًا سلبي ًا تصحرت فيه التنمية البرشية وتراجعت ك بِ َأ َّن اللهََّ مَل ْ َي ُ خطواهتا من خالل التغري السلبي ،قال تعاىلَ ﴿ :ذلِ َ ك ُمغ رَِّي ًا نِ ْع َم ًة ِ ِ ِ َ يم﴾(.)1 َيوا َما بِ َأن ُفس ِه ْم َو َأ َّن اللهََّ َسم ٌ يع َعل ٌ أ ْن َع َم َها َع ىَل َق ْو ٍم َحتَّى ُيغ رِّ ُ صور القرآن الكريم عملية نكوس التطور وتراجعه بتسميات عدة فقد ّ كالضالل والشقاء والكفر والفسق والفجور واجلحود والظلم واملعيشة الضنك وغري ذلك من مصاديق آياته. اط المُْست َِقيم * رِص َ ِ ِ ت َع َل ْي ِه ْم َغ رِْي ين َأ ْن َع ْم َ اط ا َّلذ َ قال اهلل تعاىلْ : الص َ ْ َ َ ﴿اهدنَا رِّ َ
المَْغ ُْض ِ ني ﴾()2فصيغة الدعاء يف السورة لطلب اهلداية وب َع َل ْي ِه ْم َوال َّ الضا ِّل َ واالستقامة باعتبار أن (املعرفة واالستقامة كلتيهام ثمرة هلداية اهلل ورعايته ورمحته ....فاهلداية إىل الطريق املستقيم هي ضامن السعادة يف الدنيا واآلخرة عن يقني ...فهو طريق اللذين قسم هلم نعمته ،ال طريق اللذين غضب عليهم ملعرفتهم احلق ثم حيدهتم عنه أو الذين ضلوا عن احلق فلم هيتدوا أص ً ال إليه)(.)3 فإن كثري ًا من الناس ينحرفون عن اهلداية واالستقامة لضغوط الشهوات الدنيوية وملذاهتا أو جلهلهم بالدين ،بحيث ُيسلب منهم نور الفطرة ووهج العقل ،فإذا هبم
((( األنفال.53 : ((( الفاحتة.7 -6 : ((( سيد قطب ،يف ظالل القران ،مج.26 ، 1،1
305
يف ظلامت ال ُيبرصون بحيث يكونون بالقرب من غضب اهلل ﴿المَْغ ُْض ِ وب َع َل ْي ِهم﴾ بينام نجد الذين تعمدوا االنحراف سلب اهلل منهم نعمة اهلداية فض ّلوا منحرفني إىل األبد ني﴾ ،لذلك يدعو املؤمنون أن هيدهيم اهلل إىل الرصاط املستقيم من خالل َّ ﴿الضا ِّل َ
التخلص من الضاللة الالواعية أي من االنحراف( ،)1والضالل أو التيه هو ما (يقابل اهلدى ،والضالون هم الذين سلكوا غري طريق اهلدى فأفىض هبم إىل اهلالك األبدي والعذاب الدائمي ،ولكنهم دون املغضوب عليهم يف شدة الكفر ،ألهنم وان ضلوا الطريق املستقيم عن تقصري يف البحث والفحص ،إال أهنم مل يعاندوا
احلق بعد وضوحه)( ،)2ومن هنا يتضح أن الضالل والتيه -بشقيه أي النابع عن تقصري يف النظر أو النابع عن العناد مع العلم – مها ختلف وانحراف عن اجلادة املستقيمة ،ألن التخلف هو َم ْن ّهيد املنظومة الفكرية والعقائدية ومن ثم يوقف حركة التطور والتنمية البرشية. وبام إن التنمية البرشية القرآنية مسعاها درأ الرضر عن البرش وجلب املنفعة هلم، نلمس هذا املحور جلي ًا يف سورة الفاحتة واآليات التي تناولناها ،فطلب اخلضوع أو طلب املعونة منه سبحانه وتعاىل أمر ُمس ّلم ،ألن غريه عاجز ًا عن جلب النفع لنفسه أو دفع الرضر عنها ،وطلب العناية اخلاصة منه بإرشاده للطريق السوي وجتنبه لطريق الذين سخط عليهم والذين ضلوا طريق الصواب فتاهوا يف الضالل
((( ظ :حممد تقي املدريس ،من هدى القران.146، 1، ((( أبو القاسم اخلوئي ،البيان يف تفسري القران.487 ،
306
والظالم( ،)1وإن نبذ التخلف والسري باجتاه الطريق السوي هو عني نشاط التنمية البرشية. قال تعاىل يف كتابه العزيزَ ﴿:ق َال ْاهبِ َطا ِمن َْها جمَِيع ًا َب ْع ُضك ُْم لِ َب ْع ٍ ض َعدُ ٌّو َفإِ َّما ِ ِ اي َفال َي ِض ُّل َوال َي ْش َقى * َو َم ْن َأ ْع َر َض َع ْن ِذك ِْري َي ْأت َينَّك ُْم منِّي ُهدً ى َف َم ْن ا َّت َب َع ُهدَ َ َفإِ َّن َل ُه َم ِع َ يش ًة َضنك ًا َون َْحشرُ ُ ُه َي ْو َم ا ْل ِق َي َام ِة َأ ْع َمى﴾ (.)2 أذ ذهب بعض املفرسين إىل أن آية ﴿ َفال َي ِض ُّل ﴾معناها أن اإلنسان( :إذا اتبع اهلدى الوارد من اهلل عىل لسان رسله َس ِل َم من أن يعرتيه يشء من ضالل...أي فال
يعرتيه ضالل يف الدنيا)(.)3 فاهلداية هو جهد مبذول الستنارة الطريق أو معرفة السبيل بالكشف عن الضالالت وجتنبها وتنحيها ،وذلك بالعمل عىل سنة السامء وترشيعاهتا التي تفتح نافذة االستقرار ونافذة األمان ونافذة السعادة التي هي نوافذ للتطور واالرتقاء التي تطل عىل باحة احلياة الدنيا واآلخرة ،ألن مراد اآلية من( َفال َي ِض ُّل أي فال
يضل يف الدنيا وال يشقى يف اآلخرة)( ،)4كام إن اآلية املباركة تدل عىل (أن املراد باهلدى الذي ضمن اهلل عىل إتباعه ذلك إتباع األدلة ،وإتباعها ال يتكامل إال بان
((( حممد تقي اخلوئي ،قبس من تفسري القرآن.43 ، ((( طه.124-123 : ((( ابن عاشور تفسري التحرير والتنوير ،مج. 330 ،16 ،7 ((( الطربيس ،جممع البيان ،مج.152، 16 ،4
307
يستدل هبا وبأن يعمل هبا ،ومن هذا حاله فقد ضمن اهلل تعاىل له أن ال يضل وال يشقى)( ،)1أما قوله تعاىل﴿ َ :فإِ َّن َل ُه َم ِع َ يش ًة َضنك ًا﴾ (أي عيش ًا ضيق ًا)( ،)2حيث تدلنا اآلية عىل أن الضنك هو عدم القدرة عىل العطاء واإلنتاج االجتامعي الذي يؤمن متطلبات وحاجات الفرد أو األفراد (إذ رتب عىل اإلعراض عن هدى اهلل اختالل حاله يف الدنيا واآلخرة فاملعيشة مراد هبا مدة املعيشة ،أي مدة احلياة)(.)3
كام عرض القرآن الكريم للكفر يف موارد كثرية كمصداق حقيقي للتخلف وكمعوق للتنمية والتطور البرشي ،قال تعاىل َ ﴿ :ف َم ْن َك َف َر َب ْعدَ َذلِ َ ك ِمنْك ُْم َف َقدْ ﴿:و َم ْن َي َت َبدَّ ْل ا ْل ُك ْف َر بِا ِ السبِ ِ يل﴾(،)4وقال سبحانه ّ إليماَ ِن جل وعال َ َض َّل َس َو َاء َّ السبِ ِ يل﴾( ،)5فعملية تبديل الكفر إزاء اإليامن هي عملية ضالل َف َقدْ َض َّل َس َو َاء َّ و خروج عن اجلادة الرشعية املقدسة ،وهي عني التخلف ألن اإليامن هو الطريق الواضح والسبيل القصري للوصول إىل مبتغى اإلنسان يف حتقيق أهدافه العليا وما نشاطات التنمية البرشية عىل سطح األرض إال مصداقها. واآلية املباركة تسعى لتسليط الضوء عىل نكتة هي :إن نشاطات وأعامل ((( الرازي ،تفسري الكبري ،مج.126، 23 ،11 ((( الطربيس ،جممع البيان ،مج.152، 16 ،4 ((( ابن عاشور تفسري التحرير والتنوير ،مج.331 ،16 ،7 ((( املائدة.12 : ((( البقرة.108 :
308
اإلنسان هلا جهة ِع ّلية يف نفس الفاعل فتكون مؤثرة فيه بنحو من االنحاء فيصري علة لعمله ،وعمله علة مؤثرة فيه أيض ًا ،فإذا كان العمل الصادر من اإلنسان خري ًا أثر
فيه واوجب صفاء النفس ونور ًا يف قلبه ،وان كان رش ًا اوجب ظلمة وكدورة ( ، )1فال يستطيع أن هيتدي إىل سبيل التنمية البرشية فيظل يف حيز حمدودية احلياة املتخلفة . وبمقتىض ذلك فإن النتيجة التي نستخلصها من مدلول اآلية املباركة هي :إن العلة تأثر أثرها أينام كانت وان األمر يدل عىل املؤثر وهبذا فعملية تبديل الكفر وإحالله يعني إحالل التخلف والضالل والتيه وضياع اإلبداع والتنمية والتطور. وان عملية سواء السبيل يقين ًا تأيت من اثر وجود اإليامن بفعل ما حيمل من مؤثرات عىل اإلنسان وما حييط به ،وهنا ستنتعش التنمية وسرتكب عجلتها عىل سكة السبيل إىل اهلل تعاىل كحالة طبيعة بفعل تأثرياهتا كوهنا نتيجة طبيعية لعلة املناخ اإليامين . َ ﴿وإِ َذا َأ َر ْدنَا َأ ْن هُنْلِ َ تفِ َيها َف َف َس ُقوا فِ َيها َف َح َّق َع َل ْي َها أما اآلية املاركةَ : ك َق ْر َي ًة أ َم ْرنَا ُم رْ َ
َاها تَدْ مِري ًا﴾( ،)2فهي حتاول أن تستوضح السخط اإلهلي وعقابه، ا ْل َق ْو ُل َفدَ َّم ْرن َ العقاب الذي مل يكن أن ينزل بأمة من دون وجود علة وباعث لذلك ،وهذا ما نستوضحه لو تأملنا بحرف الفاء من قوله تعاىل ﴿ َف َف َس ُقوا﴾ فالفاء سببية ،أي أن سبب نزول العذاب هو الفسق والفجور ،كام ذهب بعضهم يف تفسري اآلية قائ ً ال هي من قبيل قولنا( :أمرته فعصاين ،حيث تكون املعصية وهي منافية لألمر قرينة ((( ظ ،عبد االعىل السبزواري ،مواهب الرمحن.453 ،1 ، ((( اإلرساء.17-16 :
309
عىل كون املأمور به هو الطاعة ،والفسق واملعصية واحد فإن الفسق هو اخلروج عن زي العبودية والطاعة فهو املعصية ويكون املعنى حينئذ :أمرنا مرتفيها بالطاعة ففسقوا عن أمرنا وعصوه ،أو يكون األمر يف اآلية مستعمال استعامل الالزم،
واملعنى توجه أمرنا إىل مرتفيها ففسقوا فيها عنه)(.)1 بغض النظر عن كثري من اآلراء يف تفسري أو تأويل اآلية املباركة إال أن الذي استفدناه من مدلوهلا ،إن هالك أي امة أو قرية مرهون بالفسق وهو اخلروج عن النطاق الرشعي الذي رشع نظام ًا متكام ً ال إلحياء وبناء اإلنسان وتطوير ما حييط به ،وذلك باالستقامة والعدل فكام تُعدّ العدالة هي معيار النهوض والبناء والتطور والتنمية ،فكذا الفسق ُيعدّ احد معوقات التطور واإلنامء بل وصورة حقيقية للتخلف والرتاجع والتقهقر. ِ السبِ ُ ُون يِف َّاس َو َي ْبغ َ ين َي ْظلِ ُم َ ون الن َ يل َع ىَل ا َّلذ َ وبالوقوف عند قوله تعاىل﴿ :إِ َّنماَ َّ ِ ض بِغ رِْ َي حَْ األَ ْر ِ ال ِّق ُأ ْو َلئِ َ يم﴾( ،)2نستفيد من مدلول اآلية إن احلاكم ك هَُل ْم َع َذ ٌ اب َأل ٌ
بصورة عامة هو صاحب التغري وهو القادر عىل تغري املعدالت بحكم امتالكه لألدوات أن ينحو برعيته نحو سبيل اخلري واالطمئنان والسعادة أو العكس ،وهذا ما رصحت به اآلية ،حيث حددت مسؤولية الواقع الفاسد يف األرض عىل احلكام
((( حممد حسني الطباطبائي ،امليزان. 61 ،13، ((( الشورى.42 :
310
الظلمة كوهنم (يريدون السيطرة عىل الناس ونرش الفساد)( ،)1فالظلم يعني كبت احلريات ومصادرة احلقوق واحلكم بالتعسف واجلربوت ،حيث ُيعدّ ذلك نمط ًا من أنامط الفساد الفكري والسلوكي ،ومعوق ًا أمام حركة التنمية البرشية. ض َب اللهَُّ َم َث ً ال َق ْر َي ًة وهكذا هي حال التخلف حني نقف عند قوله تعاىلَ : ﴿و رَ َ َت ِآمنَ ًة ُم ْط َمئِنَّ ًة َي ْأتِ َيها ِر ْز ُق َها َر َغد ًا ِم ْن ك ُِّل َمك ٍ َان َف َك َف َر ْت بِ َأ ْن ُع ِم اللهَِّ َف َأ َذا َق َها اللهَُّ كَان ْ الو ِ ِ ()2 اس جُْ ﴿ض َب اللهَُّ َم َث ً ال ﴾بقرية يف ف بِماَ كَانُوا َي ْصنَ ُع َ الو ِع َو خَْ ْ ل َب َ ون﴾ ،فقد رَ َ اليمن مطمئنةَ ﴿ ،ف َك َف َر ْت بِ َأ ْن ُع ِم اللهَِّ﴾ ختلف ًا منها فاهنار نظامها الفكري واالقتصادي واألخالقي وبقية املنظومة االجتامعية ،حيث أصبحت أنموذج ًا قرآني ًا لتخلف التنمية والتطور ،فاآلية ( تشري إىل قوم سبأ الذين عاشوا يف اليمن ...وكيف كانوا يعيشون عىل ارض ملؤها الثامر واخلريات يف امن وسالم حتى أصاهبم الغرور والطغيان واالستكبار وكفران النعم اإلهلية)( ،)3وما ذلك إال معوقات للتنمية املتكاملة ،فهذا نلحظ أن الكفر بالنعمة هي احد سبل غلق منافذ التنمية البرشية سواء ًا كانت الفكرية ام االقتصادية او أي ميدان من ميادينها االخرى . وكذا هي احلال لبقية اآليات التي أكدت ذات املطلب ،ومنها قوله تعاىلَ ﴿ :ظ َه َر يِ ت َأ ْي ِدي الن ِ َّاس لِ ُي ِذي َق ُه ْم َب ْع َض ا َّل ِذي َع ِم ُلوا َل َع َّل ُه ْم ب َوا ْل َب ْح ِر بِماَ ك ََس َب ْ ا ْل َف َسا ُد ف ا ْل رَ ِّ
((( حممد تقي املدريس ،من هدى القران.408 ،8 ، ((( النحل.112 : ((( نارص مكارم شريازي ،األمثل يف تفسري كتاب اهلل املنزل.189 ،7 ،
311
ك َأ ْخ ُذ َر ِّب َ ﴿وك ََذلِ َ ك إِ َذا َأ َخ َذ ا ْل ُق َرى َي ْر ِج ُع َ ون ﴾( ،)1وكذا قوله سبحانه وتعاىلَ : لمِ ِ ِ يم َش ِديدٌ ﴾( ،)2نجد أن املنظومة القرآنية كانت حريصة كل َوه َي َظا َ ٌة إِ َّن َأ ْخ َذ ُه َأل ٌ احلرص أن تضع آليات لرفع موانع ومصدات التنمية البرشية ،كان أوهلا التحفيز عىل التفكر والتدبر والنظر ،حتى بات هذا النمط من التحفيز نمط ًا قادح ًا يف عقول
ونفوس البرش النتزاع العلم واملعرفة كأحد أهم العوامل لالرتقاء باإلنسان، فض ً ال عن أمهية دور النشاط اجلمعي وتأكيده عىل االنضباط االجتامعي ومنه األمر باملعروف والنهي عن املنكر الذي ُيعدّ أحد أهم أدواته ،كام ُيعدّ القصاص من األدوات املهمة يف إزالة املعوقات التنموية ،من خالل الرضب عىل من يتعمد ﴿و َلك ُْم يِف ا ْل ِق َص ِ اص َح َيا ٌة َيا ُأ ْو يِل عىل خمالفة النظم القرآنية ملجاالت احلياة كافةَ ، األَ ْل َب ِ ون﴾( ،)3فاملنظومة القرآنية تعاملت مع املفسدين عىل أهنم جنود اب َل َع َّلك ُْم َت َّت ُق َ التخلف مما أوجب أن يكون جزائهم هو ﴿ :إِ َّن جز ِ ي ِ ون اللهََّ َو َر ُسو َل ُه ار ُب َ َاء ا َّلذ َ ين حُ َ ماَ َ ُ ض َفساد ًا َأ ْن ي َق َّت ُلوا َأو يص َّلبوا َأو ُت َق َّطع َأيدِهيِم و َأرج ُلهم ِمن ِخ ٍ الف َ ْ ْ َ ْ ُ ُ ْ ْ ْ ُ َ ُ ْ ُ َو َي ْس َع ْو َن يِف األَ ْر ِ َ ِ ِ ِ ِ َأ ْو ُين َف ْوا ِم ْن األَ ْر ِ ض َذلِ َ يم﴾( ،)4بينام ْي يِف الدُّ ن َيا َو هَُل ْم يِف اآلخ َرة َع َذ ٌ ك هَُل ْم خز ٌ اب َعظ ٌ
تعاملت الرؤية القرآنية مع من ينبذ ويرفض التخلف ومصاديقه من فساد وعلو يف
((( الروم.41 : ((( هود.102 : ((( البقرة.179 : ((( املائدة.33 :
312
األرض وظلم أن يتلمسوا سعادة الدنيا وخري اآلخرة ،لقوله تعاىل﴿ :تِ ْل َ ك الدَّ ُار ِ ِ ِ ِ ِ ِ ون ُع ُل ّو ًا يِف األَ ْر ِ ني﴾(.)1 ين ال ُي ِريدُ َ ض َوال َف َساد ًا َوا ْل َعاق َب ُة ل ْل ُمتَّق َ اآلخ َر ُة ن َْج َع ُل َها ل َّلذ َ ان وإِيت ِ أما اآلية املباركة من قوله تعاىل﴿ :إِ َّن اللهََّ َي ْأ ُم ُر بِا ْل َعدْ ِل َوا ِ َاء ِذي إل ْح َس ِ َ ا ْل ُقربى وينْهى عن ا ْل َفح َش ِ ون ﴾( )2فهذه اء َوالمُْنك َِر َوا ْل َبغ ِْي َي ِع ُظك ُْم َل َع َّلك ُْم ت ََذك َُّر َ ْ َْ ََ َ َ ْ اآلية املباركة قد اختزلت جهد ًا كبري ًا من تفكري الباحثني وتأملهم يف صدد هذا العنوان ،لعلمنا أن القران الكريم قد بني حمددات ومسارات التنمية البرشية التي تقود اإلنسان إىل الرقي والتطور ،كام بينّ املفهوم املعاكس له املتمثل بالتخلف صوره ومصاديقه ،فالقرآن الكريم قد أشار إىل هذه املعاين بآيات عدة ،إال أن اآلية املباركة التي نحن بصددها أوجبت االمتثال ألمر اهلل تعاىل لقوله ّ جل وعال﴿:إِ َّن اللهََّ َي ْأ ُم ُر﴾، ان وإِيت ِ فالوجوب يكمن باختاذ ﴿ا ْل َعدْ ِل َوا ِ َاء ِذي ا ْل ُق ْر َبى﴾ بوصفه معيار ًا إل ْح َس ِ َ ﴿و َين َْهى﴾بلزوم للتنمية البرشية كام ارشنا لذلك سلف ًا ،كام هنت اآلية لقوله تعاىلَ : ترك ﴿ا ْل َفح َش ِ اء َوالمُْنك َِر َوا ْل َبغ ِْي﴾ واعتبار ذلك من معوقات التنمية البرشية، ْ ومصداق ًا للتخلف. وما اآلية املباركة إال مسعى لعرض أنموذج من التعليامت اإلسالمية يف شأن املسائل االجتامعية واإلنسانية واألخالقية حيث تضمنت أصول وقواعد ذات طبيعة اجيابية تتظافر مع غريها من القواعد لتشكل مرتكزات املنظومة الفكرية التي تقود األفراد لتحقيق التنمية البرشية وصورها ،مثل ﴿ا ْل َعدْ ِل﴾ الذي ُيعدّ ((( القصص.83 : ((( النحل.90:
313
إل ْح َس ِ قانون ًا تدور حوله مجيع أنظمة الوجود ،إضاف ًة إىل ﴿ا ِ ان﴾ الذي يشكل روح العدل والقانون ،ومصداقهام يف ذلك ﴿إِيت ِ َاء ِذي ا ْل ُق ْر َبى﴾ ،بينام نجد قوله تعاىل: ﴿ينْهى عن ا ْل َفح َش ِ اء َوالمُْنك َِر َوا ْل َبغ ِْي﴾ فالنهي هنا هي الصورة األخرى لبعض من َ َ َ ْ ْ مقومات تنمية الفرد أو األفراد نحو التقدم والتألق حيث يظهر إن ﴿ا ْل َفح َش ِ اء﴾ أشارة ْ ﴿وا ْل َبغ ِْي﴾أشارة إىل إىل الذنوب اخلفيفة﴿ ،والمُْنكَر﴾ أشارة إىل الذنوب العلني ّةَ ، كل جتاوز عن حقوق اإلنسان املعنوية واملادية وذلك بظلم اآلخرين واالستعالء
وغصب حقهم (.)1 عىل أساس ما تقدم من مداليل لآليات التي عرضت ،لزم تأكيد ما ارشنا إليه يف مطلع مطلبنا هذا ،حني قسمنا معوقات التنمية البرشية عىل وفق الرؤية القرآنية عىل قسمني أوالً املعوقات الذاتية :وهي التي سيكون فيها الفرد مسؤوالً عن ختلفه بغض النظر عن ختلف أو تطور حميطه اخلارجي ،وشواهد ذلك اجلهل، الضالل ،عدم وضوح الرؤية ،العبثية ،االزدواجية وانفصام الشخصية ،عدم اقرتان القول بالعمل ،الكذب ،غياب التخطيط الذايت ،عدم الثقة بالنفس ،ضعف اإلرادة والعزم ،االتكالية ،غياب اهلدف ،الفوىض والقلق النفيس والسلوكي، غياب اجلدية ،غياب االنتامء وضياع اهلوية ،ضعف الشخصية وتذبذهبا باعتامد تقليد اآلخرين ،التقاعس والتكاسل ،حب الدنيا بمختلف ألواهنا ،امليل للشهوات وامللذات ،السفاهة بتبني املطالب املتدنية دون املطالب املهمة ،اجلمود والتقوقع، االنغالق بغياب عنرص االنفتاح والتغري ،العبودية واالستسالم....الخ . ((( ظ :نارص مكارم شريازي ،األمثل يف تفسري كتاب اهلل املنزل.150-147 ،7 ،
314
أما املعوق الثاين :املوضوعي الذي نُسب التخلف فيه إىل الظروف اخلارجية الضاغطة عىل الفرد أو جمموع األفراد ،بحيث اصطبغت معوقات هذا اللون بطابع السجية أو العادة التي تط ّبع عليها أفراد املجتمع حتى باتت تشكل معتقدات راسخة قد أخذت حيزها فكري ًا وسلوكي ًا أو أحدمها. وهلذا كان اهتامم الرؤية القرآنية يف معاجلة مسألة التخلف معاجلة جذري َة عميقة ،تبدأ من متكني األفكار يف العقول إىل متكينها عقائد يف القلوب والنفوس، وهبذا يصبح استئصال التخلف تطور ًا مهمته ترمجة األفكار إىل ممارسات سلوكية ألحكام رشعية ترتقي يف بعض األحيان إىل درجة الوجوب ،كون وضعها نابع ًا من تأثريات قيمية قدسية. وللمعوقات املوضوعية صور كثرية تكاد تتداخل مع املعوقات الذاتية تارة وتنفرد عنها تارة أخرى ،ومنها غياب القائد ،هدر املوارد ،ضعف اإلدارة ،كبت القدرات ،إجهاض الكفاءات ،تغيب مبدأ الثواب والعقاب ،اجلهل ،اختالل التوازن االقتصادي ،البطالة ،تفيش األمراض ،خت ّلف الترشيعات وعدم مواكبتها لتطور اإلنسان ،ضغط احلضارات األخرى ،التبعية ،التقليد األعمى ،غياب اهلدف ،غياب التخطيط ،عدم االكرتاث بالتطور....الخ. هناك كم من املعوقات التي حتول دون تطور الفرد أو جمموعة األفراد ،إال أن القرآن الكريم حاول أن يستنهض مهة اإلنسان من خالل وضع اليد عىل أمهات العلل ،ألن ضبط املفصل الرئيس للمشكلة يعني ضبط املشاكل الفرعية التي تأيت تباع ًا بحكم حاكمية العلة األوىل. ومن هنا حاول القرآن أن حياكي املجتمع بصورة عامة واإلنسان بصورة خاصة 315
إىل رضورة حتوطه من اجلهل كآفة حقيقية للتنمية البرشية ،فكام كان العلم وتنمية الفكر الباحة التي منها ينطلق اإلنسان لبناء رصح التنمية البرشية كذا نجد غياهبا أو عدم وضوحها هي املعول األول هلدم اإلنسان واحلضارة واملعوق الرئيس أمام ﴿أال إِ َّن للِهَِّ من يِف السمو ِ التنمية البرشية ،قال اهلل تعاىلَ : ات َو َم ْن يِف األَ ْر ِ ض َو َما َي َّتبِ ُع َّ َ َ َ ْ ا َّل ِذين يدْ ع َ ِ ِ ون إِالَّ ال َّظ َّن َوإِ ْن ُه ْم إِالَّ خَ ْ ون﴾(.)1 ي ُر ُص َ َاء إِ ْن َي َّتبِ ُع َ َ َ ُ شك َ ون م ْن ُدون اللهَِّ رُ َ فاآلية تأسس قاعدة كلية لبيان أمهية تث ّبت وت ّيقن اإلنسان من متبنياته وعدم الركون إىل اجلهل ،لذا كان استقباح الظن ،فـ(املراد بالظن هنا العلم املخطئ ،وقد ﴿وإِ ْن ُه ْم إِالَّ خَ ْ ون﴾، ي ُر ُص َ بينت اجلملة التي بعدها إن ظنهم ال دليل عليه بقوله َ
واخلرص :القول باحلزر والتخمني)(،)2وإن التخمني ال حيكي واقع احلال من يورث هذا النوع من التفكري التخبط وعدم االستقرار علم وإدراك وهبذا سوف ّ والتذبذب والتيه ،فقد روي عن أمري املؤمنني أنه قال( :العامل عىل غري بصرية،
()3 ورث مفسدة كالسائر عىل غري طريق ،ال يزيده رسعة السري إال بعد ًا) ،فاجلهل ُي ّ يف التفكري وختبط يف العمل مما ينتج خسار ًة وتقهقر ًا يف التنمية البرشية ،بل ُيعدّ من أهم معوقاهتا ،ألنه يسبب العبث والتخبط ،وذلك لغياب البصرية وفقداهنا من القاموس الفكري ،وهذا يعني إن اإلنسان اجلاهل غري قادر عىل اختاذ القرارات
((( يونس.66 : ((( ابن عاشور ،تفسري التحرير والتنوير ،مج .226 ،11 ،5 ((( أمحد بن حممد بن خالد الربقي ،املحاسن ،ج ،1ص.198
316
املناسبة يف حتديد املطالب املصريية ،فض ً ال عن استصحاب التخاذل إىل القضايا اجلزئية أيض ًا الفتقاره أساس ًا إىل البنية الفكرية التي تأهله للتنمية والتطور واحلركة
االجيابية( ،من مل يكن عقله أكمل ما فيه ،كان هالكه أيرس ما فيه)(.)1 واجلهل يعني فساد فكري وسلوكي ،مرجعه عدم االكرتاث باإليامن كام يصفه ﴿خت ََم اللهَُّ َع ىَل ُق ُلوبهِِ ْم َو َع ىَل َس ْم ِع ِه ْم َو َع ىَل َأ ْب َص ِ ار ِه ْم جل ّهال قد َ القرآن الكريم ألن ا ُ ِ ِ يل هَُل ْم ال ُت ْف ِسدُ وا يِف األَ ْر ِ ﴿وإِ َذا ِق َ ض يم﴾( ،)2وبقوله أيض ًا َ غ َش َاو ٌة َو هَُل ْم َع َذ ٌ اب َعظ ٌ ون﴾ ( )3وهنا ون َو َلكِ ْن ال َي ْش ُع ُر َ ون * َأال إِ هَّنُ ْم ُه ْم المُْ ْف ِسدُ َ َقا ُلوا إِ َّنماَ ن َْح ُن ُم ْصلِ ُح َ يكون اجلهل يف مثل هكذا حال جه ً ال مركب ًا (فاجلهل يقابل العلم بحسب الذات غري أن الناس ملا شاهدوا من أنفسهم إهنم يعملون ك ً ال من أعامهلم اجلارية عن علم واردة ،وان اإلرادة إنام تكون عن حب ما ،وشوق ما ،سواء كان الفعل مما ينبغي أن يفعل بحسب نظر العقالء يف املجتمع أو مما ال ينبغي أن يفعل ،لكن من له عقل
مميز يف املجتمع عندهم ال يقدر عىل السيئة املذمومة عند العقالء)( ،)4وبام أن ختلف التنمية البرشية هي جهل باملعرفة أو سعة هوة بني املعلوم وعمله ،كان اجلهل من أقوى مصاديقه عىل وجه العموم. ((( املجليس ،بحار األنوار ،ج ،1ص 94و ج.229 ،68 ((( البقرة.7 : ((( البقرة.12 – 11 : ((( حممد حسني الطباطبائي ،امليزان.246-245 ،4 ،
317
أما لو بحثنا ٍ بتأن بني آيات القرآن الكريم عن صور أخرى للتخلف لوجدنا أنه حيذر من تبعات عدم اقرتان الفعل بالقول أو عدم جتسيد املعتقدات إىل سلوك عميل ،من حيث ُيعدّ هذا اجلانب من أخطر معوقات التنمية البرشية الذاتية واملوضوعية ،ألن عملية تفكيك عنارص اإليامن وحل التالزم بني اإليامن والعمل من أولويات التخلف والفشل عىل مستوى الفرد واملؤسسة وفق الرؤية القرآنية ص * إِ َّن ا ِ ﴿وا ْل َع رِْ ان َل ِفي نس َ وهبا تتحقق اخلسارة احلقيقية واحلتمية ،لقوله تعاىلَ : إل َ س * إِالَّ ا َّل ِذين آمنُوا وع ِم ُلوا الص َحِ ِ ُخ رْ ٍ اص ْوا بِ حَْ الص رِْب﴾، َّ َ َ َ َ اص ْوا بِ َّ ال ِّق َوت ََو َ الات َوت ََو َ فمدلول اآلية يعني (إن اإلنسان إذا مل يكن كذلك فهو يف خرس)( )1الن اإليامن من
دون عمل يؤول اىل الفشل لتعطيل جانب التجسيد لإليامن وهبذا يدخل اخلرسان، من هنا لزم أن يقرتن العمل باإليامن وإال خرس اإلنسان نفسه وما حييط به ،وان التنمية تسعى إىل الربح والنجاح والتألق ،فكام كان التالزم بني االعتقاد والعمل كان هناك تالزم ًا بني احلق والصرب ( فاحلق وحده ال يكفي ،ولكن االستقامة والصرب رضورة ،الن عدمه يالزم عدم احلق)(.)2 فالقرآن الكريم بينّ حمددات نجاح اإلنسان وتطوره وإنامءه من فشله وخسارته، حيث ق ّيدت اآليات املباركة رضورة التواصل ،ولكي نزيل معوقات التنمية البرشية علينا التواصل واالجتهاد واملثابرة إلنجاح وإمتام مقوماهتا ،ونجد هناك ك ًام هائ ً ال من اآليات املباركة التي تؤكد حمور التالزم بني اإليامن والعمل الصالح ليكون ((( حممد الصدر ،منة املنان يف تفسري القران.316 ،1 ، ((( املصدر نفسه.326 ،1،
318
مصداق ًا إلنجاح التنمية واخلروج من دائرة االتكال والتقاعس والتذبذب والرتدد وذلك من خالل االعتقاد والعزم واإلرادة لتحقيق متبنيات ذلك االعتقاد ،قال ال ًا يدْ ِخ ْله جن ٍ حِ ِ َّات جَ ْت ِري ِم ْن حَ ْتتِ َها األَ هْنَ ُار ُ َ اهلل تعاىلَ : ﴿و َم ْن ُي ْؤم ْن بِاللهَِّ َو َي ْع َم ْل َص ُ ِ ِ َخالِ ِد ِ ين َآمنُوا ي ا َّلذ َ ين ف َيها َأ َبد ًا َقدْ َأ ْح َس َن اللهَُّ َل ُه ِرزْق ًا﴾(،)1وقوله تعاىل ﴿:ل َي ْج ِز َ َ حِ ِ ِ ِ ِ ِ 2 الص َ الات بِا ْلق ْسط﴾( ) ،وكذا قوله سبحانه َّ ين َآمنُوا َو َعم ُلوا َّ جل وعال﴿ :ا َّلذ َ ِ وع ِم ُلوا الص َحِ ال ِ ات ُطو َبى هَُل ْم َو ُح ْس ُن َم ٍ ين َآمنُوا آب﴾( ،)3وقوله تعاىل﴿ :إِ َّن ا َّلذ َ َّ َ َ وع ِم ُلوا الص َحِ ال ِ ْ رَِ ِ ()4 ات ُأ ْو َلئِ َ ك ُه ْم َخ رْ ُي الب َّية﴾ َّ َ َ فكل آلية ختالف املعادلة اإلهلية من تالزم االعتقاد والعمل تستدعي اهنيار منظومة التنمية البرشية ومقوماهتا وهذا ما س ّلم به الرشع والرؤية القرآنية كام س ّلم به العقل ،لذا ذ َّم القرآن الكريم مستقبح ًا هذا اللون من التخلف ،إذ قال اهلل تعاىل: ِ َب َم ْقت ًا ِعنْدَ اللهَِّ َأ ْن َت ُقو ُلوا َما ال ون َما ال َت ْف َع ُل َ ين َآ َمنُوا مِل َ َت ُقو ُل َ ﴿ َيا َأ هُّ َيا ا َّلذ َ ون * ك رُ َ ون﴾(.)5 َت ْف َع ُل َ فاآلية املباركة توبخ املؤمنني أيض ًا بسخط اهلل عليهم يف حالة عدم رشوعهم يف عمل ما ادعوه ،أو خمالفة ما اعتقدوه ،ألن اخلالف يقتيض لوم اهلل تعاىل وسخطه ((( الطالق. 11 : ((( يونس. 4 : ((( الرعد. 29 : ((( البينة. 7 : ((( الصف ،اآلية. 3 -2،
319
وغضبه ،أي إن مقت اهلل ال يكون حرص ًا بمخالفة القول فحسب بل يشمل مقته َّ جل وعال من عمل خالف معتقده أيض ًا من قبيل القياس باألوىل ،فالتنمية البرشية بأمس احلاجة إىل ذلك التزاوج بني األفكار السليمة والسلوك القويم الذي يمثل األثر املرتتب عليه من حيث يكون صورة مغايرة للمفهوم ،إذ من املستحيل أن يكون هناك تطور وتغري بال حراك وتفاعل ،فبال شك أن ما من مبدأ إال ويفتقر إىل ترمجة املفهوم إىل سلوك وعمل وإال فهو نفاق لعلمنا أن متام احلكمة مأيت من عملية االنسجام والتزاوج بني العقل والقلب واجلوارح وانفتاح احدمها عىل اآلخر. يروى عن الرسول األكرم nأنه قال( :ال تنظروا إىل كثرة صالهتم وصومهم، ()1 وكثرة احلج واملعروف وطنطنتهم بالليل ،انظروا إىل صدق احلديث وأداء األمانة) فهذا هو اجلانب العميل لتلك الدواعي العبادية والعمل واألصل واملراد من الداعي ،فوجود الداعي بال عمل ال يحُ دث أي انتاج ومن ثم يتحقق اإلهنيار. ومن مدلول تلك النصوص الرشعية يتبني أن االنعطاف باإلنسان بغية تنميته واالرتقاء به ال يتحقق إال بصدق احلديث بام يتضمن من أفكار سليمة ،وترمجتها إىل عمل وسلوك لتتحقق األمانة التي هي مطابقة هذا عىل ذاك ،وكذا عليه أن يسعى جاد ًا لردم وتقليص اهلوة أو البون بني ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، وهذا يعني البعد عن مجيع ألوان التخلف – التي ذكرناها والتي مل نذكرها -التي تُعدّ معوقات يف طريق التنمية البرشية عىل وفق الرؤية القرآنية.
((( الصدوق ،من ال حيرضه الفقيه ،ج ،3ص.154
320
الف�صل الثالث الفصل الثالث :ميادين ومبادئ التنمية البشرية في القرآن الكريم أوال :ميادين التنمية البشرية في القرآن الكريم. -1التنمية البرشية وميداهنا الفكري يف القرآن الكريم.
-2التنمية البرشية وميداهنا األخالقي يف القرآن الكريم.
-3التنمية البرشية وميداهنا االقتصادي يف القرآن الكريم. -4التنمية البرشية وميداهنا االجتامعي يف القرآن الكريم.
ثانيا :مبادئ التنمية البرشية يف القرآن الكريم -1مبدأ االستخالف واألستمكان. -2مبدأ عامرة األرض. -3مبدأ التغيري واإلصالح.
321
322
.
ميادين التنمية البشرية في القرآن الكريم.
عىل الرغم من حتفظ الباحث عىل ما شاع يف املباحث العلمية عىل رضورة تصنيف املطالب عىل أساس املصطلحات اجلديدة (الفكرية ،االقتصادية ،االجتامعية ...الخ) فإنه يرى م ِ عتقد ًا إن املنظومة الفكرية ألي أيديولوجية يقتيض النظر إليها ُ كتلة متداخلة متجانسة فيام بينها ،فتجزئة أو تبويب أي منظومة اجتامعية ُيعدّ خرق ًا فكري ًا يف رأي الباحث ،نعم جيوز ذلك من اجل البحث العلمي التخصيص رشيطة عدم اخلروج عن املجال العام ،عل ًام إن دعوة الباحث ليست غريبة عن السياق القرآين ،بل هي من صميمه فقد نجد آية واحدة بالرغم من أن ظاهرها يسوقنا إىل معنى ما ،فإهنا تقودنا إىل معان متعددة أخرى تتداخل مع املعنى األول أو تنفرد عنه مشكل ًة رافد ًا يصب يف بحر النظام اإلسالمي الكبري ،فعندما نتأمل يف قوله ﴿و ُق ْل ا ْع َم ُلوا َف َس رَ َيى اللهَُّ َع َم َلك ُْم َو َر ُسو ُل ُه َوالمُْ ْؤ ِمنُون ﴾( ،)1أو يف ما ينقل تعاىلَ : عن اإلمام الكاظم Aقوله( :أعمل لدنياك كأنك تعيش أبد ًا وأعمل ألخرتك كأنك متوت غد ًا)( ،)2فالعمل يف كال النصني كلية تنطبق عىل الكثري من اجلزئيات، فقد يكون املصداق العبادة أو اإلنتاج أو األداء السلوكي أو النشاط الفكري أو غري ذلك أو مجيعها ،وهذا ما ال نستطيع مناله إال من خالل الوقوف عند النصوص الرشعية. ((( التوبة.105 : ((( الصدوق ،من ال حيرضه الفقيه ،ج ،3ص 156ورام بن أيب فراس ،تنبيه اخلواطر ونزهة النواظر (املعروف بمجموعة بن ورام) نقله عن رسول اهلل nج ،2ص.234
323
فمقصد حديثنا أن املنظومة الفكرية ألي رؤية كونية وبالذات رؤية القران الكريم التي تُعدّ دستور املسلمني واحلجة والدليل الرشعي ،قد انفردت برؤية متجددة من مبحث آلخر مرجعها يف ذلك السياق القرآين املعجز نفسه. إذ جيب (أن ال نفصل بني املذهب اإلسالمي بصيغته العامة ،وبني أرضيته
اخلاصة التي أعدت له ،وهيأ فيها كل عنارص البقاء والقوة للمذهب(.)2())1 فعىل الرغم عام حتفظنا عليه فيام تعارف عن مباحث العلوم االجتامعية يف تقسيم الرؤى واألفكار إىل أنامط ختصصية يكاد حرصها يف ركن من أركان املنظومة املعرفية ،فأنه سلم يف الوقت نفسه عىل رضورة دراستها من مجيع االجتاهات واألركان وبجميع التخصصات الدقيقة واملتناهية ،إال انه يرى أن تقديم األفكار كصفقة واحدة لإلنسان وللحياة والكون تكون اقرب إىل الواقع واحلقيقة . وهلذا سيجد القارئ الكريم أننا سنذكر آية ما يف مورد معني بينام سيجدها يف مورد آخر الستيعاهبا مليادين أو أكثر من جهة والستيعاب العلوم االجتامعية ملحور ما من جهة أخرى ،ومن هنا كان تأكيدنا أن مفهوم التنمية البرشية قد انضوت حتته مفاهيم ومصطلحات ومفردات أخرى ،إذ له من املرونة التداخل
((( ولتوضيح املطلب استشهد حممد باقر الصدر بمثال يف هذا الصدد قائال( :ال جيوز أن ندرس جمموع االقتصاد اإلسالمي ،بوصفه شيئ ًا منفص ً ال وكيان ًا مذهبي ًا مستقالً ،عن سائر كيانات املذاهب االجتامعية والسياسية األخرى ،وعن طبيعة العالقات العامة بني تلك الكيانات) .حممد باقر الصدر ،اقتصادنا.269 ، ((( حممد باقر الصدر ،اقتصادنا.269 ،
324
مع بقية العلوم النضوائه أص ً ال حتت املنظومة اإلسالمية القرآنية ،وبنا ًء عىل ما تقدم فالباحث يدعي أن ما من آية من آيات القران الكريم إال وبإمكاننا إن نتلمس منها أبعاد التنمية البرشية من قريب أو بعيد ،ويمكن أن نتلمس البعد الفكري والعبادي واألخالقي واالجتامعي وغريها من ذاهتا ،وانعطاف ًا عىل ما تقدم لزم أن ُينظر لإلنسان بوصفه كيان ًا واحد ًا متكام ً ال يف حالة دراستنا له ،خصوص ًا إنا نعده موضوع ًا ووسيل ًة وهدف ًا للتنمية البرشية ،إال أن الباحث وجد نفسه مضطر ًا أمام ما تعارف عليه يف البحوث العلمية ،فسلك مسلك من سبقه يف تقسيم التنمية البرشية يف القران الكريم عىل وفق امليادين احلياتية. لقد اهتم اإلسالم بصورة عامة والقرآن الكريم بصورة خاصة بدور الظروف التي حتيط باإلنسان وتأثره هبا سلب ًا وإجياب ًا ،وحجم تأثريها يف عطائه وإنتاجه وسلوكه ،مما وجب االهتامم بكل هذه املجاالت التي تؤدي اثر ًا يف رؤية اإلنسان إىل احلياة و بالعكس ،إذ عرض القرآن الكريم إىل مجيع تلك املجاالت وبينّ آثرها وتأثريها يف اإلنسان وسلوكه إذ عدها مسارات واضحة لتكامل رؤية التنمية البرشية يف القرآن الكريم. ذكر أهم املجاالت املؤثرة يف العملية التنموية؛ لذا لقد كان الباحث حريص ًا أن َي َ كانت تسمية تلك املفردات مقيدة بذكر التنمية البرشية ،فاستيعاب القرآن الكريم ملجاالت احلياة واحتواءه هلا هو وعي عميق مرده (نظرة كلية كاملة نحو احلياة والكون واالجتامع والسياسة واالقتصاد واألخالق ،فهذه النظرة الشاملة هي
325
الوعي اإلسالمي املتكامل)( ،)1واملحاولة الستعراض الرؤية القرآنية هي فلسفة للحياة واإلنسان والكون ،أي فلسفة ترشيعات رؤية اإلسالم لإلنسان وللميادين احلياتية.
((( حممد باقر الصدر ،فلسفتنا.60 ،
326
( )1التنمية البشرية وميدانها الفكري فـي القرآن الكريم. لقد كرم اهلل تعاىل اإلنسان عىل سائر املوجودات بالعقل ،فبالعقل ُعرف اهلل رف اإلنسان نفسه وفهم تعاىل ،وبه صد ّقت دعوات الرسل ورساالهتم ،وبه َع َ
احلياة ،ومأل مساحة الترشيعات (.)1 وألمهية آثر العقل يف قبول هذا املعتقد أو ذاك ،كان اهتاممنا بالرؤية الكونية يف هذا املطلب أيض ًا ،عىل الرغم من أن االهتامم هبا مل يكن أمر ًا اعتباطي ًا نابع ًا من مبني عىل أساس أمهية ما حتمل من مضامني مهمة وجوهرية، فراغ ،بل االهتامم ٌّ تعطي تفسري ًا للوجود بأرسه فض ً ال عن حركة اإلنسان فيه ،وإن القواعد املعرفية واألهداف األساسية واملناهج العملية واملسارات التطبيقية ألي رؤية كونية مبنية عىل أساس تنشيط ذهن اإلنسان ونضوجه الفكري باجتاه الوعي واإلدراك ،وما مرشوع بناء حياة اإلنسان وتسنني ترشيعات هيكله احلضاري إال بمقتىض الرؤية الكونية التي تتبناها كل أيديولوجية. فنتاج الرصاع الذهني بني املعلوم واملجهول ،ما هو إال خالصة العصارات الفكرية واملعلومات املعرفية التي تُعدّ مكتنزات تأهل اإلنسان للحركة باجتاه الوعي واإلدراك بحث ًا عن مرشوع يؤسس رؤية حتقق متطلبات استفهاماته العقلية وتلبي طموحاته املستقبلية ورغباته املادية واملعنوية ،وهلذا قيل إن التفكري بأنامطه
((( إشارة إىل إن العقل حجة كأحد األدلة الرشعية يف بيان معرفة حكم اهلل تعاىل ،يف حالة غياب الدليل القطعي.
327
كافة ُيعدّ الطريق إىل إدراك احلقائق ،فهو مظهر من مظاهر العقل ،وهو عملية تنشيط الذهن البرشي ،حيث يشمل أنواع النشاط الرمزي ،فيشمل االستدالل، والتخيل ،وتكوين املعاين الكلية واالبتكار(.)1 فالتفكري هو اللبنة األساس ألي مرشوع أو نشاط تنموي ،و(القاعدة التي يقوم عىل أساسها البناء الفوقي للمعرفة كله)( )2وإن عملية إنامء جمال التفكري
تُعدّ اخلطوة األوىل للمعرفة بكل ميادينها وملجاالت احلياة كافة ،وهلذا فإننا ندعي جازمني إن اإلنسان ليس بمقدوره حتقيق أي تطور أو تغيري عىل مستوى ذاته أو
ما حييط به (إال بعد املبادرة إىل تنمية وعيه ورفع مستواه الفكري)( ،)3ومن هنا قيل إن العملية العقلية واحلركة الفكرية هلا (بكافة وجوهها االستداللية قائمة عىل أولويات رضورية تنتهي إىل نتائج حتمية ،هلا ما هلذه األولويات من اليقني العلمي
الثابت باعتبار إن املقدمات الرضورية تنتهي بالرضورة إىل نتائج رضورية)(.)4 وما تأكيد القرآن الكريم خاصية التفكر والتدبر والنظر إال ألنه املقدمة األوىل لكل نشاط وأنه السبيل للوصول إىل احلقائق واملعارف ،وأنه القائد نحو ترسيخ
((( ظ :قسم الدراسات والبحوث للتنمية والتطوير ،تنمية العقل البرشي-41 ، .42 ((( حممد باقر الصدر ،األسس املنطقية لالستقراء.160 ، ((( عالء احلسون ،تنمية الوعي.10 ، ((( حممد حسني عيل الصغري ،الصورة الفنية يف املثل القرآين.368،
328
تلك احلقائق إىل متبنيات وعقائد ،وترمجتها إىل سلوك وأفعال ،من هنا عد التفكري املرجع (ألن ليس كل ما يف الكون واضح الرشد ،وليس كل ما ليس له وجود بينّ الغي ،وبعبارة أدق إن وجود كل موجود وعدم كل معدوم ليس أمر ًا بدهيي ًا ،وإال ملا وقع خطأ والتباس أبد ًا)(.)1 من هنا جاء تأكيد القرآن الكريم عىل آثر العلم واملعرفة ،ألنه املائز احلقيقي ما بني احلق والباطل ،حتى باتت (كل آيات القرآن تدعو إىل التدبر ،وكل معانيه تستأهل التفكر)(.)2 ولكي حيرز اإلنسان سمة التفكر بغية االنعطاف بنفسه نحو النضج والتطور جيب أن تُراعى عدة خطوات ( )3لتكامل وتأمني ذلك النضج ،زيادة عىل استثامر نتاج التفكر وتطبيقه ليكون دافع ًا لتحقيق ما سعى إليه اإلنسان ،وبخالف ذلك ((( جوادي آميل ،نظرية املعرفة يف القرآن.84 ، ((( حممد حسني الصغري ،املبادئ العامة لتفسري القرآن الكريم.45 ، ((( استخلص الباحث جمموعة خطوات جيب عىل املتدبر أتباعها بغية حتقيق مراده، وهي ما يأيت: -1هدفية البحث عن احلقيقة. -2موضوعية البحث والتجرد عن كل ميل. -3اعتامد املنهج العلمي يف البحث والتنقيب. -4الدقة والتأين واالتزان يف التحقيق. -5التأكيد عىل املباحث الكلية أوالً. -6ترويض العقل عىل اإلدراك ،وجتديد الوعي. -7حرية واستقاللية التفكري ونبذ التقليد.
329
سيكون مصداق ما نقل عن أمري املؤمنني Aحني قال( :العامل عىل غري بصرية، كالسائر عىل غري الطريق ،ال يزيده رسعة السري إال بعدا)(.)1
وألمهية التفكري يف ميزان القرآن الكريم ،بوصفه أحد وأهم السبل يف رقي اإلنسان وتطوره ،كانت أول آية نزلت عىل صدر النبي األكرم nهي﴿ :ا ْق َر ْأ اس ِم َر ِّب َ ك ا َّل ِذي َخ َل َق﴾( ،)2لبيان أمهية العلم وأثر املعرفة حتى جعلها طريق ًا بِ ْ موص ً حلكم عىل ال إليه سبحانه وتعاىل( ،وقد تقرر يف أصول الفقه :إن تراتب ا ُ ِ كون الوصف علة ،وهذا يدل عىل أن اهلل سبحانه اختص بوصف الوصف ُمشعر بِ ْ األكرمية ،ألنه ع ّلم اإلنسان العلم ،فلو كان يشء أفضل من العلم وأنفس لكان
اقرتانه باألكرمية املؤداة بأفعل التفضيل أوىل)(،)3وهكذا كانت منزلة العلم يف اإلسالم إىل أن جعله مقدم ًا عىل العبادة يف بعض املوارد كام نقل عن أيب عبد اهلل
nأنه قال( :تفكري ساعة خري من عبادة سنة)( ،)4بل عد طلب العلم فريضة
((( الكليني أصول الكايف ،باب من عمل بغري علم ،حديث 29 ،2الفتال النيسابوري ،روضة الواعظني.12 ، ((( العلق.1: ((( زين الدين بن عيل العاميل الشهيد الثاين ،منية املريد يف أدب املفيد واملستفيد، .95 ((( إبن عياش ،تفسري العيايش .208 ،2 ،يف قول عن تفسري قوله تعاىل﴿:إِ َّنماَ َيت ََذك َُّر ُأ ْو ُلوا األَ ْل َب ِ اب﴾ الرعد.19 ،
330
ملزمة عىل كل مكلف ،كام ينقل عن احلبيب حممد nأنه قال( :طلب العلم فريضة عىل كل مسلم ومسلمة)( ،)1وغري ذلك من الروايات املعتربة التي تفيد
االطمئنان لصدورها عن املعصوم بتأكيده أمهية أثر العلم واملعرفة وفضلهام يف تنمية اإلنسان وبنائه ذلك بـ(أن اإلسالم قد أقام بنيانه عىل العلم ،وشيد رصحه عىل املعرفة وقد نطق القرآن الكريم يف بيان خطر العلم ويف تبجيل محلته ورفع ِ ِ ِ ين ين َآمنُوا منْك ُْم َوا َّلذ َ مستواهم عىل غريهم )( ،)2قال اهلل تعاىلَ ﴿ :ي ْر َف ْع اللهَُّ ا َّلذ َ ُأوتُوا ا ْل ِع ْلم درج ٍ ات﴾(.)3 َ ََ َ
إن استنهاض مهة اإلنسان باستفهامات قرآنية يف موارد عدة دليل عىل ما أوردناه، َ ون﴾( ،)4وقوله تعاىلََ ﴿ :ما ِري َأ َفال َت َت َفك َُّر َ كقوله تعاىلَ : ﴿ه ْل َي ْست َِوي األ ْع َمى َوا ْل َبص ُ ِ ِ ِ ِ حَْ ون﴾(،)5 ون َأ َفال َت ْع ِق ُل َ ين َي َّت ُق َ ب َو هَْل ٌو َو َللدَّ ُار اآلخ َر ُة َخ رْ ٌي ل َّلذ َ ال َيا ُة الدُّ ْن َيا إِالَّ َلع ٌ
((( االمام السادس :ينسب إىل الصادق ، مصباح الرشيعة 13 ،و 22الطربيس، مشكاة األنوار يف غرر األخبار 133 ،النوري :مستدرك الوسائل.183 ،11 ، ((( باقر رشيف القريش ،نظام اإلسالم السيايس.389 ، ((( املجادلة.11 : ((( األنعام.50 : ((( األنعام.32 :
331
وقوله تعاىلَ ﴿ :ف ْل َين ُظ ْر ا ِ ان ِم َّم ُخلِق ﴾( ،)1وما هذه االستفهامات االنكارية نس ُ إل َ إال إشارة للزوم تسليم اإلنسان إىل أن النظر يف احلقائق واملعارف من الواجبات املس ّلم هبا ،وان التعليم وطلب العلم واجب فهي دعوة لـ(دفع اإلنسان إىل أن
يتفكر فيام حوله ويستثمر ما منحه اهلل تعاىل من قدرات ذاتية أو من الطبيعة)(،)2 خصوص ًا وأن مقدمات اإلدراك أو وسائل املعرفة متيرسة لدى اإلنسان ولقد ُفطر عليها ،بل ُعدت جزء من كيانه ،فهي عبارة عن (احلس ،اخليال ،الوهم ،العقل،
والقلب ( ،)3عىل أن املدخل احلقيقي يف كل هذه املراحل هي النفس ذاهتا ألن النفس هلا حضور وجودي يف مجيع املراتب ،وهي يف كل مرتبة عني تلك املرتبة من
((( الطارق.5 : ((( مجال حالوة وعيل صالح ،مدخل إىل علم التنمية.60 ، ((( يعد املفكرون أن (القلب يف املصطلح القرآين يشمل العقل أيض ًا ،و أن العقل يشمل القلب كذلك ،والقلب يف اصطالح أهل احلكمة ُيعد من املراتب العقلية العملية، وبعد التخلية والتجلية والتحلية يصل الدور إىل الثناء والشهود) جوادي آميل ،نظرية املعرفة يف القرآن.246 ،
332
دون امتزاج وانحصار (.)2())1 وهلذا نجد أن املهتمني هبذا الشأن ومنهم حممد باقر الصدر قد أهتم بتفسري
املعرفة البرشية وعدّ هلا حمورين مها( :)3األوىل :يف حتديد املصدر األساس للمعرفة، فالتجر ّيب ّيون يؤمنون بأن التجربة واخلربة احلسية هي املصدر الوحيد للمعرفة، والعقليون يؤمنون بوجود قضايا ومعارف يدركها اإلنسان بصورة قبل ّية ومستق ّلة عند احلس والتجربة. الثانية :يف تفسري نمو املعرفة ،فمعناه كيف يمكن أن تنشأ منها معارف جديدة؟
فصل جوادي آميل عن تلك األدوات املعرفية واصف ًا احلواس اخلمسة ((( لقد ّ عىل أهنا مدركات اإلنسان لليشء الذي له ارتباط باملادة بنحو جزئي والتي تسمى باملعرفة احلسية التي تتم بواسطتها ،وقوة اخليال :وهي ذات الصورة املحسوسة التي تكون يف الذهن من دون حضور املادة ،أما القوة العاقلة :وهي األداة التي ُيدرك هبا املعاين الكلية التي حتمل عىل الصورة اخليالية أو احلسية ،والقوة الومهية :وهي التي تدرك املعاين العقلية مضافة إىل الصور اجلزئية ،أي هناك فرق بني العقل والوهم ،وأن الوهم يدرك املفاهيم املضافة إىل الصور اجلزئية ،والعقل يفهم املفاهيم الكلية املجردة، أما القوة القلبية :وهي قوة تدرك املعاين املجردة وهي ختتلف عن إدراك العقل بأمرين: األول :إن أدراك العقل لليشء من بعد عىل صورة مفهوم كيل ،بينام شاهده القلب بسعته الوجودية ،واألمر الثاين :هناك أشياء ال يستطيع أن يدركها العقل النحصاره يف إطار اإلدراك املفهومي ،أما القلب فإلدراكه الشهودي حييط عل ًام بكثري من الكلية واجلزئية. ظ :جوادي آميل ،نظرية املعرفة يف القرآن.245 – 243 ، ((( جوادي آميل ،نظرية املعرفة يف القرآن.243 ، ((( ظ :حممد باقر الصدر ،األسس املنطقية لالستقراء.160 ،
333
وكيف نستنتج من القضايا التي متثل األساس األول للمعرفة ،قضايا أخرى حتى يتكامل البناء. فبغض النظر عام أكده السيد الصدر يف الركيزة األوىل التي تنص عىل حتديد مصدر أساس املعرفة واخلالف بني املاديني والتجريبيني من جهة ،وبني املدرسة العقلية من جهة أخرى ،إال أن ما هيمنا يف هذا النص هو تفسري عملية نمو املعرفة التي من خالهلا نستطيع أن نفعل وننشط هذا النمو ونروضه لتوليد أفكار جديدة وسليمة متوازنة خدمة لإلنسان واحلياة والكون ،إال أننا وجدنا أنفسنا أمام طريقني لنمو املعرفة ،مها( :طريقة التوالد املوضوعي الذي أعرتف هبا املذهب العقيل ،وطريق املذهب الذايت الذي يرى أن يف الفكر طريقتني لنمو املعرفة ،ومها التوالد املوضوعي والذايت ،وأن اجلزء األكرب من معرفتنا هو عىل أساس التوالد الذايت (.)2())1
((( ولكي نعرف الفرق بني التوالد الذايت واملوضوعي علينا أن نقف عىل ما يأيت: إن يف كل معرفة جانب ًا ذاتي ًا وجانب ًا موضوعي ًا ،أحدمها اإلدراك ،وهو اجلانب الذايت من املعرفة ،واآلخر القضية التي أدركناها ،وهذا له دافع مستقل عن اإلدراك ،وهذا هو اجلانب املوضوعي من املعرفة. والتوالد املوضوعي يعني :إنه متى ما وجد تالزم بني قضية أو جمموعة من القضايا األخرى ،فباإلمكان أن تنشأ معرفتنا بتلك القضية. والتوالد الذايت يعني :إن باإلمكان أن تنشأ معرفة ويولد علم عىل أساس معرفة أخرى دون أن تالزم بني موضوعي املعرفتني ،وإنام هو عىل أساس التالزم .ظ :حممد باقر الصدر ،األسس املنطقية لالستقراء.162 – 160 ، ((( ظ :حممد باقر الصدر ،األسس املنطقية لالستقراء.160 ،
334
مل يكن اهتامم القرآن الكريم حاف ً ال بآيات التفكر والتدبر والنظر بوصفها السبيل للوصول إىل اآلفاق فحسب ; بل ّ حذر من عواقب الوقوع يف رشك اجلهل
وبراثن الضالل ،فام نخشاه هو أن يكون هناك فساد يف طريقة التفكري ( )1مما يسبب عائق ًا للنمو العقيل ،بحيث يصبح عائق ًا هو اآلخر أمام تطور اإلنسان كام نخشى ون إِالَّ ال َّظ َّن َوإِ َّن ال َّظ َّن ال أن يكون سبب ًا لالنقالب عىل املفاهيم والقيم ﴿،إِ ْن َي َّتبِ ُع َ ُيغْنِي ِم ْن حَْ ال ِّق َش ْيئ ًا﴾(.)2 هلذا كان اهتامم التنمية البرشية القرآنية بأمهية اجلانب الفكري لكونه سبي ً ال بني الضالل واجلهل من جهة وبني اهلداية والنور والعلم من جهة أخرى ،أي بني أن يكون انحدار ًا للهاوية أو أن يكون أول س ّلم اإلبداع والتطور عىل مستوى الفرد واملجتمع واملؤسسة ،ألن التفكر هو عملية والدة أفكار جديدة ومناسبة ،وال
سيام إذا كانت عىل وفق األسس املنطقية( ،)3فاملنطق ُيعدّ صامم األمان للتفكري من خالل حركة العقل ،فوظيفة املنطق كام أكدنا سلف ًا أن يعصم اإلنسان من اخلطأ يف
((( الشك (إن تورط الفكر البرشي يف اخلطأ له شكالن :هو الطريقة الذاتية :أي استنتاج نتيجة من مقدمات صادقة ال تستلزم تلك النتيجة ،واآلخر :استعامله لطريقة التوالد املوضوعي باستنتاج نتيجة من مقدمات تستلزم تلك النتيجة ،ولكن املقدمة كاذبة) حممد باقر الصدر ،األسس املنطقية لالستقراء.162 ، ((( النجم.28 : ((( عرف الشيخ املظفر املنطق عىل أنه آلة قانونية تعصم مراعاهتا الذهن عن اخلطأ يف التفكري.املنطق.10 ،
335
التفكري ،لذا قيل إن (طريق العقل ودور املنطق يف توزينه ،أي الطريق العقيل هو أحد الطريقني الداخلني الذين يؤديان إىل املعرفة اليقينية واملنطق معيار لسالكي
طريق العقل ،دونام اختصاص بموضوع خاص بموضوعات املعرفة)(.)1 إن تأكيد القرآن الكريم باب التفكر والنظر مقصده الدعوة للوقوف عند ِ َاب َأن َز ْلنَا ُه إِ َل ْي َ ك ُم َب َار ٌك لِ َيدَّ َّب ُروا آ َياتِ ِه َولِ َيت ََذك ََّر ُأ ْو ُلوا احلقائق لقوله تعاىل﴿ :كت ٌ األَ ْل َباب﴾( ،)2فالدعوة إىل التدبر يف القرآن الكريم للوقوف عند أرساره العجيبة
التي حتمل الكثري من املضامني اجلليلة ذات (اخلريات والربكات للعامة واخلاصة
فيهتدوا إىل احلق باستحضار حجته وتلقيها يف بيانه)(َ ،)3 آن َأ ْم ون ا ْل ُق ْر َ ﴿أ َفال َيتَدَ َّب ُر َ َع ىَل ُق ُل ٍ وب َأ ْق َف هَُ الا﴾( ،)4مل تكن دعوة للتدبر والتفكر ملعرفة احلقائق فحسب بل
للوقوف عندها والعمل هبا وجتنب خمالفتها لتحقيق تتمة احلكمة وكامهلا ،ومن هنا قيل إن احلكمة تنقسم عىل نظرية وعملية فالقوة املدركة وهي العقل النظري، وحمركة وهي العقل العميل ،وأن العقل النظري :هو إدراك ما ينبغي أن يعلم من ّ املدرك" ،والعقل العميل :وهو إدراك ما ينبغي أن الوجود والعدم والروابط "فهي َ
((( جوادي آميل ،نظرية املعرفة يف القرآن.157 ، ((( ص .29 : ((( حممد حسني الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القرآن.198 ،17 ، ((( حممد.24 :
336
يعمل وما ال ينبغي ،احلسن والقبح (.)1 ومن هنا تبنت التنمية البرشية القرآنية مرشوع التفكر طريق ًا موص ً ال إىل متام احلكمة التي هي سعادة اإلنسان والتي ال تتوقف عند حد التفكري بل إىل ما بعده، وهلذا فرس التفكري عىل أنه نشاط ال ينحرس يف جمال الكشف عن احلقيقة فحسب، (وإنام يساعدنا عىل تناول املعلومات املتاحة بطريقة جديدة ،تضفي عليها أبعاد ًا جديدة ،مل تكن مألوفة ،كام أهنا تفرسها عىل نحو جديد)( ،)2فعملية ّتولد األفكار ألفكار جديدة وإلباسها ثوب ًا جديد ًا ُيعدّ عني التفكري اإلبداعي ،فـ(اإلبداع هو القدرة عىل التنقل بني امللفات الذهنية للوصول إىل حمصلة مرجوة أو هدف منشود
تتميز بكوهنا ابتكار ًا أو أسلوب ًا أو نتاج ًا فكري ًا جديد ًا)(.)3 لقد عد الباحثون أن عملية االبتكار واإلبداع تستدعي التفكري املنطقي السليم،
و(إن الوقت املستغرق يف التفكري ُيعدّ نوع ًا من العطاء)( )4أيض ًا ،ويتجىل اإلبداع تألق ًا عندما يتكامل بتفكري إبداعي ،وهذا هو ما تسعى إليه الرؤية القرآنية أن يستنفر العقل بقواه وصوالً إىل مطلب اإلدراك احلقيقي للوجود ولنفسه لتحقيق منظومة التنمية البرشية.
((( ظ :جعفر احلكيم ،علم النفس الفلسفي.101 ، ((( عبد الكريم بكا ر ،مدخل إىل التنمية املتكاملة.47 ، ((( ميثم السلامن ،التفكري.125، ((( فاضل الصفار ،إدارة املؤسسات من التأهيل إىل القيادة.377 ،
337
وتزامن ًا مع رضورة النشاط اإلبداعي اقتىض أن تكون هناك حركة تنموية تُولد األفكار اإلبداعية ،لذا قيل إن التنمية الفكرية يلزمها ثالثة أسس رئيسة هي: (التعرف باملبادئ واملنطلقات الصحيحة التي تستخدم يف التفكري ،إىل جانب معرفة بعض التقنيات التي تساعدنا عىل استخدام إمكانياتنا العقلية عىل نحو صحيح ،باإلضافة إىل تسليط الضوء عىل بعض االنحرافات عىل سبيل التفكري
املنهجي)(.)1 وألن مطلبنا هو بيان أمهية اجلانب الفكري يف عملية التنمية البرشية ووظيفته التي تُعدّ ترويض وتربية (تنمية الفكر اإلنساين ،وانطالقه ،وحتريره من ربقة اجلهل والتقليد ،وتنويره بالعرب واألحداث....لترشق بذلك يف عوامل النفس أضواء
العقيدة الواعية التي تدفع اإلنسان إىل التسابق يف ميادين الرب وجماالت اخلري) ،فالبد من أن نعي أمهية اجلانب الفكري ومهاراته يف عملية التنمية البرشية ،ألنه سيؤول باالرتقاء بذات املستوى الفكري من جهة ،وتُعدّ عملية التفكر املنبعثة من احلركة الذهنية نشاط ًا يقود اإلنسان إىل ما يزعم الوصول إليه من جهة أخرى، فض ً ال عن أن ذات التفكري الذي ُيعدّ أحد أهم القواعد املؤثرة يف بناء شخصية اإلنسان وتكاملها ،ومن خالل تكامل الشخصية تتحقق بناء الذات اإلنسانية وتؤهل لالرتقاء بنفسها وما حييط هبا بغية تأمني مرشوعها ،ينقل عن أمري املؤمنني ()2
((( عبد الكريم بكا ر ،مدخل إىل التنمية املتكاملة.51 ، ((( باقر رشيف القريش ،النظام الرتبوي يف اإلسالم.228 ،
338
Aأنه قال( :من مل يكن عقله أكمل ما فيه ،كان هالكه من أيرس ما فيه)( ،)1وألن التنمية القرآنية اإلسالمية ارتأت أن يكون كامل العقل سبي ً ال لكامل اإلنسان كان اهتامم التنمية البرشية بامليدان الفكري.
((( املجليس ،بحار األنوار ،ج ،1ص 94وج ،68ص .229
339
340
( )2التنمية البشرية وميدانها األخالقي في القرآن الكريم. عول هناك مجلة تعريفات ( )1سعت اىل حتديد علم األخالق ،إال أن الباحث ّ ف األخالق عىل عر َ عىل أشهرها من وجهة نظره ،وهو ما نُقل عن الغزايل حني ّ أهنا( :عبارة عن هيأة يف النفس راسخة عنها تصدر األفعال بسهولة ويرس من غري حاجة إىل فكر وروية)(.)2 وبعد أن فكك الغزايل قيود التعريف تبني أنه ركز عىل أربعة حماور هي: -1فعل اجلميل أو القبيح. -2القدرة عليهام.
((( حاول الباحث انتخاب جمموعة من التعريفات عدها أهم ما كُتب يف هذا الشأن، منها ما نُقل عن مسكويه حني عرف علم األخالق عىل أنه (اخلُلق حالة للنفس داعية إىل أفعاهلا من غري فكر وال روية) .هتذيب األخالق وتطهري األعراق ،أبو عيل أمحد بن حممد بن يعقوب الرازي (مسكويه) ت421هـ.51 ، يف حني عرف الشيخ النراقي اخلُلق عىل أنه عبارة عن (ملكة للنفس مقضية لصدور األفعال بسهولة من دون احتياج إىل فكر وروية) .النراقي ،جامع السعادات.55 ،1 ، عرف السيد الطباطبائي علم األخالق بام ييل( :هو الفن الباحث عن امللكات بينام ّ اإلنسانية املتعلقة بقواه النباتية واحليوانية واإلنسانية ،ليميز الفضائل منها عن الرذائل ليستكمل اإلنسان سعادته العلمية ،فيصدر عنه من األفعال ما جيلب احلمد العام والثناء اجلميل من املجتمع اإلنساين) .حممد حسني الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القرآن،1 ، .368 ((( الغزايل،أحياء علوم الدين ،جيم.53 ،3
341
- 3املعرفة هبام. - 4هيأة للنفس هبا متيل إىل أحد اجلانبني ،ويتيرس عليها أحد األمرين إما
حلسن أو القبح(.)1 ا ُ
إذ ُيفهم من التعريف ومدلوله أن النفس اإلنسانية هي وموضوع علم األخالق ،وأن االهتامم هبذا العلم وترشيفه ٍ مبن عىل ضوء االهتامم بالنفس التي هي ذات اإلنسان وجوهره وماهيته ،وهلذا عدت النفس صورة اإلنسان النوعية وهويته احلقيقية ،حيث (جيب أن ينسب مجيع األفعال اإلدراكية والتحريكية لكل
موجود حي إىل صورته النوعية ،ونفس اإلنسان هي صورته النوعية)( ،)2وأن نسبة األفعال إليها لتجردها عن غريها وإحلاق اجلميع هباُ ،مشكل ًة مع البدن هيأة اإلنسان وواقعه ،فهي الوجود احلقيقي له -بالرغم مما ُعرف عن جتردها -الرتباطها به، ألن جتردها (يف الذات دون الفعل الفتقارها فع ً ال إىل اجلسم واآللة ،فحدها :إهنا جوهر ملكوت يستخدم البدن يف حاجاته ....وله قوى أربع ،قوة عقلية ملكية،
((( ظ :الغزايل،أحياء علوم الدين ،جيم.53 ،3 ((( جوادي آميل ،نظرية املعرفة يف القرآن.246 ،
342
وقوة غضبية سبعية ،وقوة شهوية هبيمية ،وقوة ومهية شيطانية (.)2())1 وما اهتامم القرآن الكريم بتنمية األخالق وا ُملثل والقيم العليا إال ألمهيتها يف املنظومة القرآنية ،وخري مثال عىل ذلك ما جاء يف قول اهلل تعاىل بحق النبي األكرم ﴿وإِن َ َّك َل َعىل ُخ ُل ٍق َعظِيم ﴾( ،)3فاآلية نزلت ملدح الرسول األكرم ،أي حممد َ :n إنك يا حممد عىل دين عظيم وهو دين اإلسالم ،وإنك متخلق بأخالقه وعىل طب ٍع
كريم( ،)4وقد فسرّ السيد هاشم البحراين اآلية املباركة بام نقله عن حممد بن يعقوب بسند عن اإلمام الصادق Aإنه قال( :قال رسول اهلل :nأفاضلكم أحسنكم ((( لكل قوة من القوى األربع ميزايا ختتص هبا من غريها ،كام هلا وظيفة معينة تعد فائدة تلك القوة. القوة العقلية :شأهنا إدراك حقائق األمور ،واألمر باألفعال اجلميلة ،والنهي عن الصفات الذميمة. القوة الغضبية السبعية :موجبة لصدور أفعال السباع من الغضب والبغضاء ،والتوثب عىل الناس بأنواع األذى ،وفائدهتا كرس سورة الشهوية والشيطانية. الشهوية البهيمية :ال يصدر عنها إال أفعال البهائم ،ومن فوائدها بقاء البدن الذي هو آلة حتصيل كامل النفس. الومهية :شأهنا استنباط وجوه املكر واحليل وإدراك املعاين اجلزئية ،واستنباط احليل والدقائق التي يتوصل هبا إىل املقاصد الصحيحة .ظ :النراقي ،جامع السعادات،1 ، .64 – 61 ((( ظ :النراقي ،جامع السعادات.61 ،1 ، ((( القلم.4 : ((( ظ :الطربيس ،جممع البيان يف تفسري القرآن ،مج.23 ،29 ،6
343
أخالق ًا ا ُمل َو ّطؤون أكناف ًا الذين يأل ُفون و ُيؤ َل ُفون وتُوطأ ِرحاهلم)( ،)1واحلق إن اخلُلق العظيم هو اخللق األكرم من نوع األخالق وهو البالغ أشد الكامل املحمود يف طبع اإلنسان ،وهو أرفع من مطلق اخللق احلسن(.)2 َان َلكُم يِف رس ِ ول اللهَِّ وقد خاطب القرآن الكريم الذين آمنوا بقوله تعاىلَ ﴿ :ل َقدْ ك َ ْ َ ُ
ُأ ْس َو ٌة َح َسنَ ٌة ﴾( )3أي (أن لكم يف النبي nتأسيس ًا واقتدا ًء جيد ًا ،فأيكم تستطيعون باالقتداء به وأتباعه أن تصلحوا أموركم وتسريوا عىل الرصاط املستقيم)( ،)4وبام أن الرسول nهو املثل احلي لقدوة متثل إحياء القيم اخللقية وجداني ًا وجتسيدها سلوكي ًا( ،فإن أعظم املسلمني شبه ًا به هم أولئك الذين ضاقت اهلوة بني سلوكهم وبني مبادئ اإلسالم وآدابه وتوجيهاته السامية ،وقد عرب عن هذه احلقيقة بشكل
جيل)( )5قوله ( nأفاضلكم أحسنكم أخالق ًا)(.)6 تتضح رفعة مكانة العامل األخالقي يف املنهج القرآين جلي ًا من خالل قراءتنا
((( اهليثمي :نور الدين عيل بن أيب بكر ،جممع الزوائد ومنبع الفوائد.24 ،8، ((( ظ :أبن عاشور ،تفسري التحرير والتنوير،مج .64 ،29 ،12 ((( األحزاب.21 : ((( نارص مكارم الشريازي ،األمثل يف تفسري كتاب اهلل املنزل.360 ،10 ، ((( عبد الكريم بكار ،مدخل إىل التنمية املتكاملة رؤية إسالمية.203 ، ((( الكليني ،الكايف ،ج ،2ص.102
344
آليات اهلل البينات ،فكام عد اإلنسان هو حمور النظرية القرآنية ،فكذا ُعد اخلُلق احلسن وتطويره وتنميته هو حمور اإلنسان وهي اللغة النابضة يف جسده ،وما ﴿و َل َقدْ ك ََّر ْمنَا َبنِي آ َد َم﴾( ،)1إال عىل أساس قيمت ُه تكريم اإلنسان يف قوله تعاىل َ كإنسان ،فقد كرمه سبحانه وتعاىل (بخلقته عىل تلك اهليئة ،وباالستعدادات التي أودعها فطرته)( ،)2وملا له من امتيازات (فمضاف ًا إىل االمتيازات اجلسمية ،فإن روح اإلنسان هلا جمموعة واسعة من االستعدادات والقدرات التي تؤهله لطي
مسرية التكامل)( ،)3فالتكريم جاء عىل أساس النضج املتكامل واملنبعث من التنمية للصعيد البدين والروحي والعقيل والنفيس ،ألن التكريم (معنى نفيس وهو جعله
رشيف ًا ذا كرامة يف نفسه)( ،)4أي أن قيمة كرامته بكيانه ككل متمث ً ال بنفس متكاملة متوازنة من مجيع اجتاهاهتا ،يف الوقت الذي يكون مؤرش تفضيل هذا عن ذاك عىل قدر القرب والبعد من اخلط البياين للقيم األخالقية املتنامية ،واالمتثال لإلحكام الرشعية املقدسة متوجة منضبطة بلغة التوحيد وجتسيد العبودية احلقة ،وهلذا قيل إن (القوانني والسنن وإن كانت عادلة يف حدود مفاهيمها فهي ال تسد باب اخلالف وطريق التخلف إال بأخالق فاضلة إنسانية تقطع دابر الظلم والفساد كملكة إتباع ((( اإلرساء.70 : ((( ظ :سيد قطب ،يف ظالل القرآن ،مج .2241 ،15 ،4 ((( األمثل ،مكارم شريازى.348 ،7 ، ((( حممد حسني الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القرآن.152 ،13 ،
345
احلق واحرتام اإلنسانية والعدالة والكرامة واحلياة ونرش الرمحة ونظائرها)( ،)1أي إن الترشيعات واألحكام الساموية وحدها ال تصنع إنسان ًا متنامي َا فاض ً ال إن مل تأخذ الفضيلة حيزها منه ،بل ألزمت التنمية القرآنية رضورة وجود عالقة مقدسة يتحسسها اإلنسان وجداني ًا تكون بمثابة املظلة للعملية التنموية برمتها ،يقول الطباطبائي( :إن األخالق ال تفي بإسعاد املجتمع وال تسوق اإلنسان إىل صالح العمل إال إذا اعتمدت عىل التوحيد وهو اإليامن بأن للعامل – ومنه اإلنسان – إهل ًا واحد ًا رسمد ًا)( ،)2بحيث ُيعدّ اإليامن بالتوحيد املظلة التي تستظل هبا منظومة الترشيع اإلسالمية وبوابة رصحه ،فض ً ال عن ال ُبعد الروحي واألخالقي الذي
هو الضابط واملعيار يف العالقات ومجيع النشاطات ،وإن عالقة اإلنسان مع ربه أو أخيه اإلنسان مرتبطة مع ما أوردناه (فالبعد الروحي واألخالقي هو املركز واملحور يف هاتني العالقتني ،وحني ينحط اإلنسان يتحول عن عبادته لربه إىل عبادته لذاته وشهواته ،وتسود عالقاته باآلخرين القوة بدل الرمحة ،والتعانف بدل التفاهم ،وينرصف عن العناية الروحية إىل العناية باجلسد ،وعن االهتامم باملبادئ
إىل االهتامم باملصلحة)( ،)3وبمقتىض تضارب الذات واملصالح والشهوات وغياب القانون واألخالق يتحول الفرد إىل وحش كارس يف غابة اسمها املجتمع يسودها
((( حممد حسني الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القرآن.159 ،11 ، ((( املصدر نفسه.160 ،11 ، ((( عبد الكريم بكار ،مدخل إىل التنمية املتكاملة.206 – 205 ،
346
التخلف بدالً من التطور واإلنامء ،وهبذا ينتفي اليشء النتفاء املوضوع ،ذلك بأن آصل التنمية هي حسن السلوك وال يتأتى هذا إال باإلخالف لذا ركز عليها النص القرآين بأمهية عالية . واحلق هو ما نلمسه بوضوح يف احلركة الروحية واألخالقية التنموية التي يصورها القرآن الكريم كوهنا جزء ًا من العقائد واألحكام تسعى لبناء اإلنسان وتطويره بغية انتشاله من وحل اجلهل والظالم واالنحراف والتخلف واالرتقاء به ﴿و ُق ْل لِ ِعب ِ ان َين َز ُغ َب ْين َُه ْم إِ َّن َّ ادي َي ُقو ُلوا ا َّلتِي ِه َي َأ ْح َس ُن إِ َّن َّ َان ان ك َ الش ْي َط َ الش ْي َط َ َ َ نس ِ لِ ِ ان َعدُ ّو ًا ُمبِين ًا﴾( ،)1فالنظام القرآين عمل عىل بناء الفرد بصورة منضبطة إل َ
ليضمن انضباط املجتمع الذي هو عبارة عن جمموع أفراد ،فض ً ال عن أن النظام اإلسالمي جعل يكمل أحدمها اآلخر ليشكالن عاملني العتدال احلضارة وتوازهنا ،فض ً ال عن عامل الفلسفة ودور املؤسسات التي تشكل مجيعها روافد بناء احلضارة ومنها تكريم اإلنسان. ﴿و َل َقدْ ك ََّر ْمنَا َبنِي آ َد َم ﴾ ،ما هو إال تكريم إهلي لإلنسان فالتكريم يف قوله تعاىلَ : التزان ما متيز به من قوى اخلُلق واخلَلق والروح والعقل قياس ًا ببقية اخللق ،بحيث يكون مؤه ً ال ألداء األمانة الكربى وهي حتقيق خالفة اهلل يف األرض وإنشاء احلضارة عليها ،عىل خالف األيديولوجيات األخرى التي فقد اإلنسان فيها تكامله واتزانه ،ألهنا نظرت له وللحضارة بعني التطور املادي بعيد ًا عن عدالة الترشيع وعراقة القيم واملثل األخالقية. ((( اإلرساء.53 :
347
إن تأكيد ما ورد يف التمهيد هلذا املبحث من لزوم أن تكون املنظومة االجتامعية منظومة واحدة ومتجانسة من ضمن غايتها هو أثر األخالق واجلانب الروحي يف العملية االجتامعية برمتها ،فهي تدخل مع االقتصاد والسياسة واإلدارة وبقية املجاالت احلياتية األخرى ،فالنظرة القرآنية لتنمية البرش تذهب إىل أن صحة وسالمة أي منهج اجتامعي يبقى منقوص ًا إذ افتقر إىل لغة األخالق يف كل احلاالت ويف كل الظروف ،فض ً ال عن رضورة النظر إىل املنظومة االجتامعية عىل أهنا وحدة متجانسة بعضها مع البعض اآلخر ،وهذا ما نلمسه ونحن نقرأ مضامني الرؤية الكونية وعنارصها من مفاهيم وقيم ،وسنن وأحكام (فهناك من املفاهيم ما يقوم بدور اإلشعاع عىل بعض األحكام)(.)1
فجميع سنن العالقات( )2واملعامالت ال ّتؤمن رد التخلف والضياع إال إذا تغذت عىل فيض من حركة متنامية من األخالق اإلنسانية واستظهرت هبا لضامن سالمة كامل النظام االجتامعي ،وعىل أساس ذلك انبعث (أساس النظام
األخالقي يف اإلسالم الذي يضبط سلوك الفرد وسلوك املجتمع)( ،)3وهذا ما نلمسه ونحن نطلع عىل ما نُقل عن الرسول األكرمnيف هذا الشأن ،ومنها حني
((( حممد باقر الصدر ،اقتصادنا.345 ، ((( إشارة للعبادات التي هي عالقة بني الفرد وربه ونفسه وبقية البرش. ((( حمسن عبد احلميد ،جتديد الفكر اإلسالمي.117 ،
348
قال( :إنام ُبعثت ألمتم مكارم األخالق)( ،)1إذ تُعدّ هذه الرواية لوحدها دلي ً ال عىل
قيمة األخالق وأثرها يف بناء احلضارة اإلسالمية وبناء الفرد وتطويره وتنميته (،)2 مما يقدم لنا رؤية واضحة إىل أمهية القيم وأولوياهتا يف سلم املنظومة االجتامعية القرآنية ،بل وأولوياهتا وتزامحها مع بقية مفردات املنظومة االجتامعية ،بحيث نجدها قد ترأست عليها وتربعت عىل هرمها بالرغم من إيامننا برضورة تداخل وجتانس املفردات واملجاالت بعضها مع البعض اآلخر ،ينقل بام روي عن حبيب اهلل nأنه قال( :إن اهلل تعاىل استخلص هذا الدين لنفسه وال يصلح لدينكم إال السخاء وحسن اخللق ،أال فزينّوا دينكم هبام)(.)3
نستفيد من الرؤية القرآنية اإلسالمية إن للتنمية األخالقية عدة ثوابت منها: · إن األخالق والقيم موجودة أص ً ال لدى اإلنسان ألنه مفطور عليها ،وهي ٍ معان أصطبغ هبا. عبارة عن ((( حممد بن عيل الكراجكي ،الرسالة العلوية يف فضل أمري املؤمنني ، Aيف املقدمة 12الطربيس ،مكارم األخالق.3 ، ((( قال بعض من علامئنا القدماء أن الدين اإلسالمي املقدس يتكون من ثالثة أقسام اساسية: (القسم األول :وهو ما يتناول املسائل العقلية والفكرية ،ويعرب عنه بأصول العقائد. القسم الثاين :وهو ما يتناول األمور النفسية ،و ُيعرب عنه باألخالق. القسم الثالث :وهو ما يتعلق بالبدن واألفعال ويعرب عنه باألحكام) .مرتىض مطهري، حتقيق نظرية نسبية األخالق.6 ، ((( السيوطي :اجلامع الصغري 256 ،1 ،أبو القاسم باينده ،هنج الفصاحة.289 ،
349
· األخالق مطلقة وليست نسبية( ،)1وأهنا (قيم حقة ثابتة من طبيعة الوجود وهويته ،وليست معطاة له من خارجه ،كام أهنا ليست من صنع اإلنسان وأعتبارته
االجتامعية ،بل هي جزء من احلقيقة الكربى)( )2لذلك أودع سبحانه الداعي الفطري لدى اإلنسان اجتاه مت ّلكه األخالق احلسنة متهيد ًا للخالفة. · تطبيق األخالق نسبي عىل قدر استعداد اإلنسان وفهمه وتعلمه وتربيته عليها. · باإلمكان ترويض النفس اإلنسانية وتنميتها عىل األخالق من خالل الرتبية والتنمية مطلق ًا (.)3
· األخالق تتداخل مع جوانب ونشاطات احلياة الكافة ،ألهنا متثل امليدان التمهيدي لكل نوع من أنواع التنمية البرشية فهي املورد األصل الستظهار التنمية ونموها . · األخالق بوصفها قي ًام ال تتغري وإن التجديد األخالقي هو (ليس عبارة عن نسخ ألخالق وإحالل ألخالق أخرى ،وإنام هو توسيع يف مدلوالت بعض املفاهيم األخالقية وبلورهتا والرتبية عليها ،ومنها أمهية أكرب من النسق األخالقي
((( ظ :مرتىض مطهري ،حتقيق نظرية نسبية األخالق.143 ، ((( صدر الدين القبانجي ،األسس الفلسلفية للحداثة.377 ، ((( هذا ما ذهب إليه عموم الفالسفة واملفكرين إال ما شذ وندر ،وسنعرض يف هذا املطلب مجلة من تلك اآلراء.
350
العام)(.)1 لقد عُدَّ السلوك مرآة عاكسة حلركة النفس اإلنسانية ،وما من سلوك للفرد إال نتيجة ختلق نفسه بام حيمله من معان وقيم حاكي ًة لواقع وجوهر النفس ،وعىل أساس ذلك كانت رؤية التنمية البرشية يف القرآن الكريم تؤكد رضورة االرتقاء بالتنمية األخالقية وتعدها أمر ًا ملزم ًاَّ ، ألن (الشعور بالواجب من أخطر املشكالت األخالقية ،وبسبب ذلك دخلت املجتمعات أنفاق التفكك والفوىض والتخلف)(،)2
ففرق أن ينظر اإلنسان إىل املثل والقيم األخالقية بمعزل عن حركته ونشاطه وبقية تعامله وبنظرة الندب بدالً من الوجوب ،وهلذا نجد قد عنى (اإلسالم عناية بالغة بالفضائل النفسية ،فأرصد هلا منهج ًا خاص ًا يؤدي إىل متاسك الشخصية وصالبتها
وحت ّليها بكل نزعة رشيفة وصفة فاضلة)( ،)3حتى بات املعيار اخللقي أحد أهم املعايري الساموية التي ميزت اإلنسان املتطور من املتخلف ،كونه النشاط التنموي الوحيد الذي حيتاج إىل جهد متميز لتعامله مع قوى النفس اإلنسانية وتعقيداهتا، ألن األخالق تعني( :تنظيم الغرائز وأن اإلنسان له قوى روحية ،له غرائز وأن لكل قوة منها تكاليف جيب عىل اإلنسان أن يعرف حد كل قوة قابلتها وحاجاهتا
((( عبد الكريم بكار ،مدخل إىل التنمية املتكاملة.213 ، ((( املصدر نفسه.231 ، ((( باقر رشيف القريش ،النظام الرتبوي يف اإلسالم.244 ،
351
ويعطيها عىل قدر حاجاهتا دون إفراط أو تفريط)( ،)1وإن عملية االستقامة واالعتدال أمر شاق يفتقر للجهد واالجتهاد هلذا احتاج إىل الرتويض كام سبق القول. وهلذا سعت الرؤية القرآنية -بالرغم من سعتها وانفتاحها الواسع عىل آفاق وتسوره بأسوار نظرية وعملية ،بغية حتصن اإلنسان ّ احلياة وتفرعاهتا كافة -أن ّ حصنت اإلنسان بسور صد رياح التخلف والضياع ،فالرؤية القرآنية للتنمية ّ الرؤية الكونية الذي يو ّلد اإليامن باهلل وبالقيم واملفاهيم ،وسور األحكام والقوانني وسنن املنظومة االجتامعية ،وآخر حيد من التجاوز عىل القوانني واالنحراف عنها، وما التنمية اخللقية والروحية إال سورها األمثل وطوقها الرصني الذي ُيعدّ بمثابة إرادة اخلري بكامل مصاديقه ،بحيث تكون األطواق أحد أهم العوامل يف إنامء اخلري وجتذيره يف النفس اإلنسانية بغية تطويرها خدمة لذات اإلنسان ومرشوعه يف محل األمانة واستخالف السامء( )2الذي هي منطق التنمية البرشية وأصل وجودها يف
القرآن الكريم. ومن أهم العوامل املساعدة لبناء النفس اإلنسانية هو تنمية اخلري وفهمه وترويض
((( مرتىض مطهري ،حتقيق نظرية نسبية األخالق.138 ، ((( لعل رس تأكيد القرآن الكريم بناء اإلنسان وتأهيله هو متثيل لعامل اخلليفة الستخالف اهلل تعاىل يف األرض بالشكل الالئق الذي يتناسب مع أصل موضوع االستخالف ،وما نقل عن الرسول األكرم nبقوله (ختلقوا بأخالق اهلل) وقوله:n (حسن اخللق خلق اهلل األعظم) يعد دليال عىل ذلك ومصداق ًا عليه باللزوم.
352
ف و َأع ِر ْض عن جَْ ِ ِ ِ ني﴾ (،)1 النفس عىل العمل به وإشاعته ُ الاهل َ َ ْ ﴿خ ْذ ا ْل َع ْف َو َو ْأ ُم ْر بِا ْل ُع ْر َ ْ فاآلية املباركة تدل عىل إشاعة اخلري وقبول العذر وترك املؤاخذة باإلساءة ،والعفو والعطاء والتواصل ،بل عموم املعروف وهو كل ما حسن يف العقل فعله أو يف
الرشع ،وقيل كل خصلة محيدة( ،)2ألن هدف التنمية األخالقية يكمن بمواجهة
اجلاهلية الفاحشة والبرشية الضالة ،واألمر الواضح من اخلري الذي تعرفه فطرة
البرش( ،)3لذا روي عن الرسول nأنه قال( :خري الناس من نفع الناس)(،)4 ذلك بأن نكران الغريزة الطبيعية (األنا) برتويض النفس وتربيتها من أجل بناء رصح نفع الناس إنام هو مصداق للخري والقيم اخللقية والتنمية املتكاملة الشاملة واخلري هو القيمة العليا التي يستهدفها علم األخالق ،وعىل أساس الوصول إليها تنتظم مجيع التعاليم ،واملناهج والقوانني التي ترشع للسلوك ،واخلري -كذلك -هو الرصيد الثابت الذي يمكن أن تقاس بموجبه مناهج األخالق االجتامعية املتعارفة لتكون القمة يف هذا اخلري وهو ما يطلق عليه(الفضيلة)(.)5
((( األعراف.199 : ((( ظ :الطربيس ،جممع البيان ،مج .89،9 ،3 ((( ظ :سيد قطب ،يف ظالل القرآن ،مج .1418 ،9،3 ((( عيل بن حممد الليثي والواسطي ،عيون احلكم واملواعظ 239 ،املجليس :بحار األنوار 260 ،78 ،حمسن األمني :أعيان الشيعة.168 ،3 ، ((( ظ :ضياء الدين زين الدين ،مبادئ عامة يف أصول التدبر القرآين.286 ،2 ،
353
فبناء شخصية اإلنسان ما هي إال حركة مستمرة من الفعاليات الكتساب سلوك تنموي جديد حممود ومستحسن عىل مستوى رؤية القرآن والسنة والعقل والعرف،
وهذا يعني أن اإلنسان لغرض تكامل سلوكه يفتقر لعدة خطوات (،)1وما األخالق إال جمموعة اخلطوات التي غايتها تأهيل اإلنسان وتنمية أدائه بسلوك حيكي واقع القيم واملبادئ العليا ،ألن متثل اإلنسان بالقيم اخللقية هي غاية السعادة ،حيث (رصح احلكامء بإن غاية املراتب للسعادة أن يتشبه اإلنسان يف صفاته باملبدأ :بأن يصدر عنه اجلميل لكونه مجيالً ،ال لغرض أخر من جلب منفعة أو دفع مرضة .....فتكون ذاته ((( هناك مجلة من الرشوط لتكامل وإعداد الشخصية ومتثلها بالقيم اخللقية نعد منها: -1حتديد اهلدف:ويقصد به اهلدف الذي يسمو فوق املصالح املاديات﴿....إِنيِّ ج ِ اع ٌل يِف األَ ْر ِ ض َخلِي َفة﴾ البقرة.30: َ
َيوا َما بِ َأن ُف ِس ِه ْم﴾الرعد: َي َما بِ َق ْو ٍم َحتَّى ُيغ رِّ ُ - 2القناعة برضورة التغيري ﴿إِ َّن اللهََّ ال ُيغ رِّ ُ ،11واحلق إن اإلنسان حني يتطلع إىل التفوق عىل ذاته والتغلب عىل الصعاب من إمامه سوف جيد إن إمكانات التحسني أمامه مفتوحة. -3الشعور باملسؤولية ﴿إِنَّا عر ْضنَا األَما َن َة ع ىَل السمو ِ ال َب ِ ض َو جِْ ات َواألَ ْر ِ ال َف َأ َبينْ َ َّ َ َ َ َ ََ ِ َأ ْن حَ ِ ح َل َها ا ِ َان َظ ُلوم ًا َج ُهوالً﴾األحزاب: ان إِ َّن ُه ك َ إلن َْس ُ يم ْلن ََها َو َأ ْش َف ْق َن من َْها َو مَ َ ْ
،72حني يشعر اإلنسان بجسامة األمانة املنوطة به تنفتح له أفاق ال حدود هلا للمبادرة للقيام بيشء ما ،إنا علينا أن نوقن أن التقزم الذي نراه اليوم يف كثري من الناس ما هو إال وليد تبلد اإلحساس باملسؤولية عن أي يشء. -4اإلرادة الصلبة والعزيمة القوية ،وهي رشوط لكل تغيري بل ورشوط لكل ثبات واستقامة ظ :ميثم السلامن ،التحفيز اإليامين.14 – 12 ،
354
غاية فعله ،وفعله غرضه بعينه)(.)1 ِ ين والوصول إىل الرتبة ألخالقية أمر يقتيض جهاد وجماهدة حقيقية ﴿ا َّلذ َ اهدُ وا فِينَا َلن َْه ِد َين َُّه ْم ُس ُب َلنَا﴾( ،)2فاجلهاد هنا (هو استعارة كنائية عن كون جهده َج َ
مبذوالً فيام يتعلق به تعاىل من اعتقاد وعمل)( ،)3وما العمل إال االخالق التي يصل
هلا اإلنسان بمحصلة اعتقاده ،ذلك بأن األخالق سمة كل عمل حسن وصحيح وهلذا روي عن الرسول األعظم nانه قال( :رحم اهلل أمرء ًا عمل عم ً ال صاحل ًا فأتقنه) فنلحظ أن الرسول ق ّيد اإلتقان عىل الرغم من كون العمل صاحل ًا بحد ذاته
غري أن اإلتقان يعني األخالق؛ ألن إتقان اليشء هو الشعور باملسؤولية ونكران الذات وهذه هي حمصلة األخالق احلميدة. فحتى يف العمل الصالح ال ُيؤ َّدى العمل كيف ما كان بحجة أنه صالح بل جيب أن يكون هناك يشء من األخالق حتى يف أداء الصالح اال هو (اإلتقان) فام بالك يف العمل االعتيادي كيف جيب أن تكون نسبة االخالق فيه لذا عرب سبحانه عن األخالق باجلهاد ،وهبذا تتحقق اهلداية إىل سبيله َّ جل وعال (فسبله
هي الطرق املقربة منه واهلدايه إليه تعاىل)( ،)4حيث يتضح يف ضوء مدلول اآلية
((( النراقي ،جامع السعادات.74 ،1 ، ((( العنكبوت.69 : ((( حممد حسني الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القرآن.156 ،16 ، ((( املصدر نفسه.156 ،16 ،
355
املباركة وغريها من اآليات أن القرآن الكريم يتبنى دعوة نسبية تطبيق القيم اخللقية وإمكانية تغيري اإلنسان لسجاياه سلب ًا أو إجياب ًا ،بحيث يكون ذلك عىل قدر جهاده لنفسه بتطويعها وترويضها ملا يسعى إليه. أما قوله تعاىل﴿ :وَ َن ْف ٍ ور َها َو َت ْق َو َاها * َقدْ َأ ْف َل َح س َو َما َس َّو َاها * َف َأ هَْل َم َها ُف ُج َ
اها ﴾( ،)1فاآليات املباركة تعرض النظرية القرآنية اب َم ْن َد َّس َ َّاها * َو َقدْ َخ َ َم ْن َزك َ لكثري من املطالب ومنها نظرهتا إىل النفس اإلنسانية وآلية كسب املعارف ،وأن األخالق مطلقة ،ونسبية التخلق هبا ،واطراد إصالح النفس عىل قدر تربيتها ،وان كل نفس قابلة للتغري ،واإلرادة والعزم هو السبيل للتغري ،وغري ذلك من املحاور. ﴿و َن ْف ٍ ور َها َو َت ْق َو َاها﴾ هو: فاإلهلام من قوله تعاىلَ : س َو َما َس َّو َاها * َف َأ هَْل َم َها ُف ُج َ (اإللقاء يف الروع وهو أفاضته تعاىل الصورة العلمية من تصور أو تصديق عىل النفس ،وتعليق اإلهلام عىل عنواين فجور النفس وتقواها للداللة عىل أن املراد
تعريفه تعاىل لإلنسان صفة فعله من تقوى أو فجور)(.)2 وهذا يعني أن اإلنسان له من املقدمات التي بإمكانه أن خيتار حر ًا سبيل الفجور اها ﴾، اب َم ْن َد َّس َ َّاها * َو َقدْ َخ َ أو التقوى بدليل قوله تعاىلَ ﴿ :قدْ َأ ْف َل َح َم ْن َزك َ فاآليات املباركة تؤكد مطلب (إن بإمكان اإلنسان أن ينمي نفسه ويكملها من
((( الشمس.10 – 7 : ((( حممد حسني الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القرآن.338 ،20 ،
356
خالل طلبه لألخالق احلسنة)(.)1 وإن حجم التغيري عملية مطردة مع مستوى اجلهد املبذول لرتويض وتنمية النفس اإلنسانية باالجتاه املطلوب ،وإن ترويض النفس ال تتم إال من خالل الرتبية والتأديب كام أشار لذلك الشيخ النراقي مستشهد ًا بقول أرسطو طاليس (يمكن صريورة األرشار أخيار ًا بالتأديب ،إال أن هذا ليس كلي ًا ،فإنه ربام أثر يف بعضهم
بالزوال ويف بعضهم بالتقليل ،وربام مل يؤثر أصالً)(( ،)2وهذا يعني أن التغيري يكون نسبي ًا عىل قدر زكاة النفس اإلنسانية ومتسكها بأخالقيات معينة أخذت طابع امللكة أو السجية ،هذا من جهة ،أما اجلهة األخرى عىل قدر وأثر التأديب والتغري ،وإن
التأديب خيتلف باختالف مراتب السياسات والتأديب)(.)3 ومفاد القول إن اآليات املباركة تُعدّ دلي ً ال عىل استعداد اإلنسان للتغري والقدرة لتنمية نفسه وترويضها وتأديبها ،وأن كل فرد له القدرة عىل تطوير نفسه وإنامئها، ألهنا مفطورة عىل اخلري ميالة إليه ،أي (إن خلق النفس ليس كخلق اجلسد فيكون تار ًة كام ً ال ومستوي ًا وتار ًة ناقص ًا وغري مستوي اخللقة ،بل إن مجيع النفوس اإلهلية
مستقيمة يف الفطرة اإلهلية ومستوية باإلهلام اإلهلي)( ،)4وهذا ما نستوحيه أيض ًا
((( كامل احليدري ،يف ظالل العقيدة واألخالق.72 ،26 ، ((( النراقي ،جامع السعادات.58 ،1 ، ((( املصدر نفسه .59 ،1 ((( جوادي آميل ،نظرية املعرفة يف القرآن.252 ،
357
من مدلول روايات املعصومني عليهم السالم يف أمكانية ترويض النفس وتأديبها
كقول الرسول ( nحسنوا أخالقكم)( )1وقوله (:nختلقوا بأخالق اهلل)(،)2
قوله ( nإنام ُبعثت ألمتم مكارم األخالق)(.)3 ونستفيد مما تقدم أن القرآن الكريم ينظر إىل رضورة تنمية اجلانب األخالقي وذلك برتويض النفس اإلنسانية امتثاالً لرشيعة اهلل املقدسة ،ألن عملية التنمية تدخل يف ضبط سلوك الفرد واملجتمع وضبط املنظومة االجتامعية ،ألن كل نظام حيتاج إىل متابعة دؤوبة للرؤى والسلوك لتأمني حالة االستقرار واألمان والعدل بإشاعة اخلري. مل يكن املجهر القرآين الذي رصد حركة الرصاع النفيس داخل حلبة اإلنسان إال ليبني حقيقة النفس وماهيتها وقواها املتنازعة ،وهذه (القوى واألدوات النفسية هي شؤون ومراتب النفس املختلفة ،والنفس حقيقة واحدة يف عني وحدهتا وتشمل مجيع القوى أيض ًا)( ،)4وهذا ينم عن تركيبة معقدة وتداخل واضح للقوى النفسية فيام بينها ،مما حيتم أن يكون السلوك املنبعث من هذا الزحام املعقد سلوك ًا
((( حمسن الكاشاين ،املحجة البيضاء يف هتذيب اإلحياء ،مج 64،5 ،3وانظر مصدره. ((( املصدر نفسه. ((( أبو القاسم باينده ،هنج الفصاحة .289 ،حمسن الكاشاين ،املحجة البيضاء يف هتذيب اإلحياء ،مج.64،5 ،3 ((( جوادي آميل ،نظرية املعرفة يف القرآن.247 ،
358
يشوبه القلق وعدم االتزان ،الفتقار القوى إىل االعتدال بني اإلفراط والتفريط، وأن توازن قواها تسمى اعتداالً وهي عني األخالق وغايتها (فمن اعتدال هذه
األصول األربعة تصدر األخالق اجلميلة كلها)(.)1 نقول ملا جاء القرآن الكريم بنظم شاملة متوازنة معتدلة يف كل مضامينها ومتبنياهتا فإنا نجد نظرته إىل اإلنسان عىل أساس ذلك التوازن واالنضباط والشمول واالعتدال يف العنارص ،أي بني البدن والروح من جهة وبني النفس اإلنسانية وقواها من جهة أخرى ،أي أن تأخذ كل قوة من القوى حقها من دون املساس بحق القوى األخرى. فلم يكن تأكيد القرآن الكريم تنمية األخالق إال ألنه مطلب رضوري مؤداه أن يعم اخلري عىل اإلنسان واحلياة ،وهلذا عد عىل أنه وجه من أوجه العبادة من جهة وطريق موصل لبناء احلضارة اإلنسانية من جهة أخرى ،عىل عكس النظريات الوضعية التي مل تلتفت هلذا الشأن ،بل أنكرت تدخل هذا النمط يف ضبط السلوك االجتامعي ،وعدته شأن ًا فردي ًا بمعزل عن املؤسسات االجتامعية ،وإن منشأ دعوة النظم الوضعية بعزل الدين والقيم واألخالق عن عمل الدولة -التي تدير الفرد ونظامه اإلداري واالقتصادي والسيايس واالجتامعي -منشأه تلك الرؤية الضيقة ألن (عمل الدولة عندهم يقترص عىل تنظيم الشؤون االقتصادية وجتديد وسائل اإلنتاج وحتسينها وإدارة اهليئات السياسية واإلدارية واملؤسسات العسكرية
((( حمسن الكاشاين ،املحجة البيضاء يف هتذيب االحياء ،مج.69 ،5 ،3
359
والثقافية)(.)1 وما شقاء األمم والشعوب وما ذاقته من ويالت إال بسبب غياب الوازع األخالقي واإلنساين الذي أكده القرآن الكريم حتى وصف باحلكمة والفضيلة، وان املتتبع يدرك حقيقة ما ورد يف أمهية حتقيق العدالة التي التفتت إليها أخري ًا األمم والشعوب واملنظامت العاملية والدولية ،وهذا ما نلمسه جلي ًا لو تتبعنا حركة اإلنسان منذ والدة التنمية بمفهومها العام إىل الوالدة االصطالحية للتنمية البرشية ٍ لتقرير األمم املتحدة اإلنامئي عام 1990م حني أقرته األمم املتحدة ،ثم صعود ًا لعام 2012م ،الذي أقر فيه رضورة وجود العدالة واإلنصاف ركن ًا من أركان التنمية البرشية ومتبنياهتا(.)2
((( حمسن عبد احلميد ،اإلسالم والتنمية االجتامعية.145 ، ((( راجع ص 146من الكتاب.
360
( )3التنمية البشرية وميدانها االقتصادي في القرآن الكريم.
لقد ذكرنا يف مطلب التنمية الفكرية أمهية كافة املجاالت التي متثل مجيعها فريق ًا واحد ًا يعكس مضامني الرؤية الكونية بوصفها ميدان ًا تأسيسي ًا ملنظومة متكاملة، وقد ارشنا إىل أن علة أي مسار للمقتضيات االجتامعية مبنية عىل أساس تلك الرؤية وقراءهتا لإلنسان والكون واحلياة ،حيث سنتلمس بوضوح كيفية إنشاء اهليكل الفوقي ما بعد الرؤية الكونية الذي سيعتمد عىل فلسفتها ويستند عىل أسسها، وما اجلانب االقتصادي إال أحد بقية املجاالت التي ستخضع ألسس وضوابط وفلسفة الرؤية الكونية ،وكذا لفهمها لإلنسان وموقعه ومكانته ،وحلركته داخل دائرة احلياة ،وكذا تتابع ذلك الفهم نزوالً إىل كل جزئية أو مفردة من كيانه العام كونه موضوع التنمية البرشية . وألمهية املجال االقتصادي لتكامل التنمية البرشية أقتىض أن نقف عند هذا امليدان وعىل منهج نموه وآلياته ،كونه حمور ًا مه ًام وجوهري ًا يف بناء اهليكل التنظيمي للعملية التنموية خصوص ًا وإننا أكدنا أن من أولويات التنمية البرشية هي تأمني حاجات اإلنسان املرشوعة وحتقيق طموحاته ،وبال شك ستكون هناك كثري من احلاجات اإلنسانية التي ال نستطيع تأمينها إال من خالل هذا امليدان االقتصادي اجلوهري واألسايس. وما التباين بني املدرسة القرآنية واملدرسة الرأساملية واالشرتاكية إال عىل أساس قراءة املفهوم االقتصادي وتأثرياته يف كل مفردة من مفرداته ،ولعل أهم 361
هذه الفروق هي الرؤية لذات تنمية املفهوم االقتصادي الذي يراه كل من املعسكر الرأساميل واالشرتاكي عىل أنه هدف ،يف الوقت الذي يرى القرآن الكريم أن تنمية اجلانب االقتصادي مبني عىل أساس أنه وسيلة وليس هدف ًا( ،فال ينبغي أن يكون
النشاط االقتصادي غاية قصوى بحد ذاته)(.)1 لقد صور بعض من الباحثني أن نشاط التنمية االقتصادية هو عبارة عن( :عملية بموجبها تستخدم دولة مواردها املتاحة لتحقيق معدل رسيع للتوسع االقتصادي يؤدي إىل زيادة مطردة يف دخلها القومي ويف نصيب الفرد من السلع واخلدمات، وتتطلب هذه التنمية التغلب تدرجيي ًا عىل املعوقات االقتصادية وتوافر رؤوس
األموال واخلربة الفنية والتكنولوجيا)( ،)2لكن ال ُيعدّ ذلك مسوغ ًا أن تكون غاية التنمية االقتصادية ذلك النشاط الضيق ذا األفق املحدود. فالتعريف باملنهج اإلسالمي والقرآين للتنمية االقتصادية أكثر شموالً بحيث ُيعدّ تنمية شاملة ومتوازنة غايتها اإلنسان نفسه ،فهي شاملة ألهنا تتضمن توفري احلاجات البرشية كافة ،ومتوازنة ألهنا ال تستهدف الكفاية فحسب ،مثل زيادة ﴿ه َو ا َّل ِذي اإلنتاج ; بل تستهدف حتقيق العدالة وعدالة التوزيع( ،)3قال اهلل تعاىلُ :
((( (بحث) املصباح ،التنمية يف القرآن الكريم ،حممد جواد عباس شبع ،العدد،9 .180 ((( امحد زكي بدوي ،معجم مصطلحات العلوم االجتامعية.123 ، ((( ظ :فؤاد شندي ،التنمية االقتصادية يف اإلسالم.63-61 ،
362
َج َع َل َلك ُْم األَ ْر َض َذ ُلوالً َف ْام ُشوا يِف َمنَاكِبِ َها َو ُك ُلوا ِم ْن ِرز ِْق ِه َوإِ َل ْي ِه الن ُُّشور﴾(،)1 فاآلية املباركة ترشع النشاط االقتصادي عىل أساس اجلعل اإلهلي وتبني مقدمته، كاألرض التي جعلها (مطاوعة منقادة لكم يمكنكم أن تستقروا عىل ظهورها
ومتشوا فيها تأكلون من رزقه الذي قدره لكم بأنواع الطلب والترصف فيه)( ،)2أما قوله تعاىلَ ﴿ :ف ْام ُشوا﴾ فمدلوهلا (اإلباحة توجيه ًا وحث ًا لألمة عىل السعي والعمل
اجلاد وامليش يف مناكب األرض)( )3ويف اآلية إشارة إىل ترشيع النشاط االقتصادي. مل يكن القرآن الكريم عائق ًا أو منكر ًا للجانب االقتصادي يف العملية التنموية، فهو أقر أمهية املجال االقتصادي وآثره علم االقتصاد الذي عده حمور ًا مه ًام يف تكامل املجتمع وإدامة احلياة ،روي عن أمري املؤمنني Aأنه قال( :إذا أعرس أحدُ كم فليرضب يف األرض يبتغي من فضل اهلل وال يغم نفسه)( ،)4وقد بني أمهية تطوير اإلنتاج ورفع مستوى دخل الفرد بغية تأمني متطلباته ،إال إن املوقف انحرس يف
((( امللك.15 : ((( حممد حسني الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القرآن.373،19 ، ((( الشنقيطي ،أضواء البيان يف إيضاح القرآن بالقرآن .1238 ،8 ، ((( النوري ،مستدرك والوسائل ومستنبط املسائل ،ج ،13ص.172
363
املوجه للفعاليات األربع :اإلنتاج، املذهب االقتصادي األيديولوجي ( )1الذي ُيعدّ ّ التوزيع ،التبادل ،االستهالك .بحيث ارتبطت حركة هذه الفعاليات بعملية التنمية االقتصادية ،أما يف املنظور اإلسالمي ترتبط نظرية اإلنتاج بمتطلبات التوزيع العادل ،أما عىل مستوى القيمة فإن اإلسالم ال يربط األمور االقتصادية لإلنسان باحلاجة واملنفعة ; بل يربطها باحلق يف حصول كل فرد عىل قوته وحتسني معيشته.
بينام نجد أن اهلدف من االستهالك يف التنمية االقتصادية اإلسالمية هو حتقيق املزيد من اإلنتاج والنمو من خالل استثامر اجلهد البرشي ،وهذا ُيعدّ أفضل طريق
نحو حتقيق النمو االقتصادي وخلق فعل التوازن بني االستهالك واإلنتاج(.)2 فقد روي عن اإلمام الصادق Aيف شأن إدامة احلياة واالهتامم يف العمل واملثابرة من أجله أنه قال( :ال تدع طلب الرزق من ح ّله ،فإنه عون لك عىل
دينك ،وأعقل راحلتك وتوكل)( ،)3فاملنظور القرآين واإلسالمي مل يرفض النمو االقتصادي ،إال انه يرفض أن يكون معيار النمو االجتامعي وتكامله عىل أساسه،
((( هناك فرق بني علم االقتصاد واملذهب االقتصادي( :فعلم االقتصاد هو جمموعة قوانني الفاعلية االقتصادية ،أما املذهب االقتصادي:فهي األطر األيدلوجية املوجهة للفعاليات «اإلنتاج ،االستهالك ،التوزيع ،التبادل» العلم واملذهب خمتلفان يف طريقة البحث يف األهداف وليس االختالف يف املوضوع واملجال ) ظ:قراءات يف الفكر اإلسالمي املعارص ،عبد األمري كاظم زاهد. 347-346، ((( ظ :نارص يوسف ،دينامية التجربة اليابانية يف التنمية املركبة.76 – 75 ، ((( املفيد :األمايل.172 ،
364
فمن اخلطأ أن تكون التنمية البرشية هلا وضع أن (يجُ عل من اإلنتاج مقياس ًا هلا
بحيث إذا توفر نمو وزيادة يف اإلنتاج كانت هناك تنمية ،وإذا انتفى انتفت)( ،)1فال يصح إطالق ًا أن يكون املعيار التنموي مادي ًا بحت ًا متمث ً ال يف اإلنتاج واالستهالك ملا أنتج ،بل تُعدّ التنمية االقتصادية جزء ًا من كل يف منظومة التنمية البرشية عموم ًا. لقد أهتم القرآن الكريم اهتامم ًا كبري ًا يف رضورة تفعيل وإنامء نشاطات اجلانب االقتصادي وعده رضورة طبيعية كونه السبيل لتأمني حاجات اإلنسان املختلفة الشهو ِ واملبنية بمقتىض غريزة طبيعية نابعة من كينونته ﴿ ُز ِّي َن لِلن ِ ات ِم ْن ب َّ َ َ َّاس ُح ُّ ِ ِ الذ َه ِ ب َوا ْل ِف َّض ِة َو خَْ ني َوا ْل َقنَاطِريِ المُْ َقنْ َط َر ِة ِم ْن َّ ال ْي ِل المُْ َس َّو َم ِة َواألَ ْن َعا ِم الن َِّساء َوا ْل َبن َ الر ِ ال َي ِاة الدُّ ْن َيا َواللهَُّ ِعنْدَ ُه ُح ْس ُن المَْ ِ َاع حَْ ث َذلِ َ آب﴾(( ،)2فاآلية املباركة تبني ك َمت ُ َو حَْ ْ
طبع اإلنسان عىل نحو القضية احلقيقية ،كام أهنا ليست يف مقام حرص الشهوات) ذلك بأن اإلنسان له حاجة ملحة هلذه األمور يف حياته لكن عىل أساس التنظيم والترشيع قطع ًا. وقد جاء يف مورد آخر من القرآن الكريمُ ﴿ :ق ْل َم ْن َح َّر َم ِزينَ َة اللهَِّ ا َّلتِي َأ ْخ َر َج ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِِ ين َآمنُوا يِف حَْ ال َي ِاة الدُّ ْن َيا َخالِ َص ًة َي ْو َم ا ْل ِق َي َام ِة الرز ِْق ُق ْل ه َي ل َّلذ َ لع َباده َوال َّط ِّي َبات م ْن ِّ ()3
((( املكتبة اإلسالمية ،مفهوم التنمية ،موقع ألكرتوين. www.islamweb.net/newlibrary/ummah_Chapter.php?lang ((( آل عمران.14 : ((( عبد األعىل السبزواري ،مواهب الرمحن يف تفسري القرآن.135 ،5 ،
365
ك ُن َفص ُل اآلي ِ ِ ون﴾( ،)1فاآلية املباركة توضح جلي ًا أن االستفهام ات لِ َق ْو ٍم َي ْع َل ُم َ ك ََذل َ ِّ َ االستنكاري باختاذ الزينة ما يرفع به لعيب ،وأن ابتناء حياة اإلنسان السعيدة ال تتحقق إال بام يالئم طباع قواه وأدواته التي جهز هبا ويساعده عىل بقاء تركيبه الذي
ركب به(( ،)2وأن أباحة زينة اهلل والطيبات من الرزق مما ال ينبغي أن يرتاب فيها
فهو من أمضاء الرشع حلكم العقل والقضاء الفطري)(.)3 فإمضاء اآلية املباركة للشهوات والزينة تُعدّ قرينة ألمهية اجلانب االقتصادي ومصداق ًا الهتامم القرآن الكريم يف هذا الشأن ،كام أنه أقر ذلك يف موارد أخرى ِ ٍ ِ ِ ِ اش ُبوا َوال ت رِْ ُس ُفوا كقوله تعاىلَ ﴿ :يا َبني آ َد َم ُخ ُذوا زينَ َتك ُْم عنْدَ ك ُِّل َم ْسجد َو ُك ُلوا َو رْ َ حُِ ب المُْ رِْ سفِني﴾( ،)4فالقرآن الكريم أكد ذات التنمية االقتصادية لكنه يف إِ َّن ُه ال ي ُّ الوقت نفسه رشع ضوابط ًا للمنهج االقتصادي غايته أن تقيد اإلنسان كونه حريص ًا بحكم طبيعته البرشية ،حيث يمكن أن ُييسء استخدام النعمة بالشكل حُِ ب المُْ رِْ ﴿وال ت رِْ سفِني﴾. ُس ُفوا إِ َّن ُه ال ي ُّ املعقول واملعتدل( )5لذا جاء يف قوله تعاىلَ : فاملشكلة ال تكمن يف املنظومة االقتصادية أويف تنمية هذا املجال املهم أو بتنعم ((( األعراف.32 : ((( ظ :حممد حسني الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القرآن.82 – 81 ،8 ، ((( املصدر نفسه.83 ، ((( األعراف.32 : املنزل.351 ،4 ، ((( ظ :نارص مكارم الشريازي ،األمثل يف تفسري كتاب اهلل ّ
366
اإلنسان أو تأمني حاجاته ،إال أن القيد الذي قيدت ُه اآلية املباركة هو عدم اإلرساف أي رضورة وجود التوازن كخاصية رضورية فرضها اهلل تعاىل ال يف املجال االقتصادي فحسب بل يف كل مفصل من مفاصل املنظومة اإلسالمية ،وهذا ما نستشفه من مدلول اآلية املباركة حيث (حث اهلل سبحانه وتعاىل عىل تناول الزينة عند كل مسجد ،وندب إىل األكل والرشب ،وهنى عن اإلرساف)( ،)1أي أهنا أجازت ما ُعد من احلقوق الطبيعية والفطرية يف الوقت الذي هنت عن اإلرساف وعدم التوازن ،وأكدت االعتدال الذي ُعد املعيار يف العملية االقتصادية عىل وفق املنظور القرآين ،وهو املحور املهم واحلد الفاصل بني بقية املدارس االقتصادية. مل تكن سمة االعتدال واالتزان سمة خاصة باجلانب االقتصادي بل أصبحت سمة تعم املنظومة اإلسالمية بكامل مفرداهتا ،كذلك دعا اإلسالم إىل اعتامد
سياسته املالية يف االعتدال باإلنفاق واالستهالك من دون اإلرساف والتقتري(،)2 ِ ين إِ َذا َأن َف ُقوا مَل ْ ُي رِْ َان َبينْ َ َذلِ َ ك َق َوام ًا﴾ ( ،)3اآلية تؤكد (سمة توا َوك َ ﴿َا َّلذ َ س ُفوا َو مَل ْ َي ْق رُ ُ اإلسالم التي حيققها يف حياة األفراد واجلامعات ،ويتجه إليها يف الرتبية والترشيع،
((( الطربيس ،جممع البيان،مج .16 ،8 ،3 ((( ظ. :إبراهيم العسل ،التنمية يف الفكر اإلسالمي.70 ((( الفرقان.67 :
367
يقيم بناءه كله عىل التوازن واالعتدال( )2())1ولعل اهتامم اإلسالم بعدالة التوزيع نابع من أن املوارد الطبيعية مجيعها التي سخرها اهلل هي خدمة لإلنسان (واإلنسان ﴿ه َو ا َّل ِذي َخ َل َق َلك ُْم َما هنا هو العام الذي يشمل األفراد مجيع ًا)( )3يف قوله تعاىلُ : يِف األَ ْر ِ ض جمَِيع ًا﴾( )4لذا ال جيوز االعتداء عىل الرصيد العام للامل باإلرساف حتى
لو كان اإلنسان حاك ًام عىل ماله.
نُقل عن أمري املؤمنني Aأنه قال( :ما جاع فقري إال بام متع به غني)( ،)5فاإلمام عيل Aحيدد سوء التوزيع عىل أنه علة التخلف االقتصادي و ُيعدّ اجلوع مؤرش ًا واضح ًا لقياس ختلف التوزيع ،كام نفهم منه ( Aأن التنمية ليس زيادة اإلنتاج أو رفع مستوى الدخل القومي أو مضاعفة متوسط دخل الفرد ،وإنام تتطلب إىل ((( وضح سيد قطب أن اجلانب االقتصادي يف مورد اآلية يعني أن مع اعرتاف اإلسالم بامللكية الفردية املقيدة كام هو احلال يف النظام الرأساميل ،إنام هو مقيد بالتوسط يف األمرين واإلرساف والتقتري ،فاملال أداة اجتامعية لتحقيق خدمات اجتامعية، واإلرساف والتقتري حيدثان اختالالً يف املحيط االجتامعي واملجال االقتصادي ،بحيث اإليامن﴿وك َ َان َبينْ َ َذلِ َك َق َوام ًا﴾ظ :سيد قطب ،يف ظالل جيعل االعتدال سمة من سامت َ القرآن،مج .2579 ،19 ،5 ((( سيد قطب ،يف ظالل القرآن،مج .2578 ،19 ،5 ((( حممد باقر الصدر ،اقتصادنا.508 ، ((( البقرة.28 : ((( حسن بن سليامن بن حممد احليل ،خمترص البصائر ص.385
368
جانب ذلك عدالة توزيع الدخل ورفع مستوى االستهالك جلميع أفراد املجتمع)(.)1 هكذا بقي قيد العدالة معيار ًا رئيس ًا ُيعتد به يف العملية التنموية االقتصادية وبقية املجاالت ،لذا مل نجد القرآن الكريم قد اعرتض عىل تباين دخل األفراد ،بل عده
حق ًا مرشوع ًا يف املنظور االقتصادي اإلسالمي( )2كونه مبني ًا عىل أساس التباين بني ﴿واللهَُّ َف َّض َل َب ْع َضك ُْم َع ىَل َب ْع ٍ الرز ِْق﴾( ،)3بل عد اجلهد واخلربات واملهارات َ ض يِف ِّ ات ﴿ولِك ٍُّل َد َر َج ٌ التباين يف مستوى الدخل حافز ًا للعمل مما يسبب زيادة اإلنتاج َ ِ مِ ِ ()4 مبني مَّا َعم ُلوا َول ُي َو ِّف َي ُه ْم َأ ْعماَ هَُل ْم َو ُه ْم ال ُي ْظ َل ُمون ﴾ ألن عموم اجلزاء القرآين ٌّ عىل أساس العمل ،وكذا سيكون دخل الفرد بال شك فكل بقدر عمله وجهده ٍ ِ ٍ ِ ش ًا َي َره﴾( )5الن العمل ﴿ ََم ْن َي ْع َم ْل م ْث َق َال َذ َّرة َخ رْي ًا َي َره * َو َم ْن َي ْع َم ْل م ْث َق َال َذ َّرة رَ ّ ماكينة النظام االقتصادي بل هو سبيله لإلنجاح ،ينقل عن أمري املؤمنني Aأنه
((( إبراهيم العسل ،التنمية يف الفكر اإلسالمي.122 ، ((( ُينقل عن عيل Aأنه خاطب أحد والته ً قائال( :واعلم إن الرعية طبقات ال يصلح بعضها اال ببعض وال غنى ببعضها عن بعض).املصدر :ابن شعبة احلراين ،حتف العقول عن آل الرسول ،ص.131 ((( النحل.71 : ((( األحقاف.19 : ((( الزلزلة.8 -7 :
369
قال( :طوبى ملن ّ ذل يف نفسه وطاب كسبه )( ،)1وهذا ال يعني أن اإلسالم مل جيعل غنى فاحش ًا ،فاإلسالم ضوابط ًا لتفاوت دخل األفراد (فهو ال يعني فقر ًا مدقع ًا أو ً مع اعرتافه هبذا التفاوت من خالل القرآن إال إنه يسعى من خالل آياته إزالة آثار الفقر والقضاء عليه من خالل الزكاة والصدقة)(.)2
إن النشاط التنموي القرآين مل يعرتض عىل تباين مستوى الدخل ،كذا نجده غري معرتض لتباين امللكية ،إذ نجد أن النظام االقتصادي اإلسالمي ينظر إىل امللكية اخلاصة نظرة خمتلفة متام ًا عماّ تعارف عليه يف النظم الوضعية ،فاإلسالم تعامل مع امللكية اخلاصة عىل أساس مفهوم اخلالفة ،حتولت امللكية يف اإلسالم إىل أداة ال غاية ،وسيلة لتحقيق اهلدف من اخلالفة العامة وإشباع حاجاته اإلنسانية(ََ ﴿)3أن ِْف ُقوا
ِ مِ ني فِ ِيه﴾( ،)4مما يقتيض عىل اخلليفة أن يكون وكي ً مَّا َج َع َلك ُْم ُم ْستَخْ َلف َ ال مستأمن ًا عماّ وكل عليه ،وكذا فإن (طبيعة اخلالفة تفرض عىل اإلنسان أن يتلقى تعليامته بشأن الثروة املستخلف عليها ممن منحه تلك اخلالفة)(.)5
((( الرشيف الريض ،هنج البالغة ،حتقيق صبحي الصالح.490 ، ((( (بحث) املصباح ،وسطية القرآن الكريم يف دعم النظام االقتصادي ،أنور زهري نوري ،العدد .155 -154 ، 10 ((( ظ :حممد باقر الصدر ،اقتصادنا.511 ، ((( احلديد.6 : ((( حممد باقر الصدر ،اقتصادنا.507 ،
370
إن من مقتضيات هذه اخلالفة الربانية أن يكون اخلليفة –اإلنسان-مسؤوالً
بني يدي اهلل تعاىل عىل ما استخلفه ،خاضع ًا لرقابته يف كل ترصفاته وأعامله ﴿ ُث َّم ف يِف األَ ْر ِ ض ِم ْن َب ْع ِد ِه ْم لِنَنْ ُظ َر َك ْي َ َج َع ْلنَاك ُْم َخالئِ َ ون﴾(.)1 ف َت ْع َم ُل َ
مل يقف األمر عند جعل اإلنسان خليفة اهلل تعاىل يف األرض بل تعدى ذلك ليصل األمر أن سخر له ما فيها خدمة له ولتنمية ذاته وما حييط به ،وقد عدت املوارد الطبيعية مجيع ًا طريق ًا موص ً ال لسد حاجاته وتأمني متطلباته. والدليل عىل أن املوارد الطبيعية التي تُعدّ أحد أهم عنارص العملية االقتصادية وتكاملها هي مسخرة لإلنسان باملنظور القرآين ،قال اهلل تعاىل﴿ :اللهَُّ ا َّل ِذي َسخَّ َر ِ ي ا ْل ُف ْل ُ ون َو َسخَّ َر َلك ُْم ك فِ ِيه بِ َأ ْم ِر ِه َولِ َت ْب َتغُوا ِم ْن َف ْضلِ ِه َو َل َع َّلك ُْم ت َْشك ُُر َ َلك ُْم ا ْل َب ْح َر لت َْج ِر َ ك آلي ٍ ِ ات وما يِف األَر ِ مَِ ِ ِ ات لِ َق ْو ٍم َي َت َفك َُّرون ﴾(.)2 ض جيع ًا منْ ُه إِ َّن يِف َذل َ َ ْ الس َم َو َ َ َما يِف َّ والتسخري أي انه تعاىل خلقها مجيع ًا النتفاع اإلنسان هبا ،فهي مسخرة له من حيث االنتفاع هبا عىل الوجه الذي يريده( ،)3ومعنى (أنه سخر هذه األشياء كائنة منه وحاصلة من عنده أنه تعاىل مكوهنا وموجودها بقدرته وحكمته ثم مسخرها
خللقه)(.)4
((( يونس .41 : ((( اجلاثية.13 – 12 : ((( ظ :الطربيس ،جممع البيان ،مج.129 ،25 ،5 ((( الفخر الرازي ،التفسري الكبري ،مج.232 ،27 ،14
371
فالتنمية البرشية وجماهلا االقتصادي يف القرآن الكريم واسع ورحب وله صور متعددة ،اعتمدت عىل استيعاب العملية االقتصادية مادي ًا وروحي ًا الن التنمية هبذا النمط تصنع احلياة ،وأن التنمية -التنمية االقتصادية عىل سبيل املثال -تتجىل يف العمل عىل ترسيخ القيم اإلنسانية العليا ،فإذا غلبت هذه القيم عىل االهتاممات املادية سينقلب الركود االجتامعي إىل حراك ،والتدهور االقتصادي إىل رفاه،
والفوىض السياسية إىل استقرار ،والعبث الثقايف إىل وعي والتزام( ،)1وما اخللل الروحي واألخالقي إال أحد أهم العوامل لتقهقر وتراجع اإلنسان ومنظومته
اإلدارية بصورة عامة واالقتصادية بصورة خاصة ( ،)2ألن التنمية البرشية التي تُعدّ متكاملة جيب أن تكون شاملة ،وأن شموليتها بال شك تقتيض أن تأخذ لون ونمط وحركة اإلنسان الذي ُيعدّ هو املوضوع فيها وهو اهلدف والوسيلة ،ورؤية الدكتور عيل رشيعتي تصب يف ذات املصب حيث نفهم منه أن التنمية هي( :حصيلة تضافر عوامل مادية ومعنوية معقدة ،فهو يرى أن العالقة بني االقتصاد والثقافة ،أو بحسب املصطلح املعارص التنمية االقتصادية والتنمية الثقافية هي عالقة متبادلة
((( ظ :نارص يوسف ،دينامية التجربة اليابانية يف التنمية املركبة.68 ، ((( يرى اآلصفي إن قيام الدولة هلا عدة أسس ،منها اجلانب االقتصادي،وان نجاح هذا اجلانب يتم من خالل سياسات جيب إتباعها أمهها -1 :مراقبة السوق -2التسامح يف جباية اخلراج -3عدم التأخري يف توزيع أموال العامة -4التوزيع بالسوية .ظ:يف رحاب القران،حممد مهدي اآلصفي. 163-159،
372
وثنائية)( )1وذلك لقوله يف هذا اخلصوص (من غري املمكن أن يبلغ جمتمع من املجتمعات مرحلة االستقالل االقتصادي قبل مرحلة االستقالل املعنوي ،كام ال
يمكن لألمة أن تنال االستقالل املعنوي من دون االستقالل االقتصادي )(.)2 فاقتصار (هذه الرؤية عىل البعد االقتصادي للتنمية فقط أي عىل البعد املادي يف حياة اإلنسان ،وغضت الطرف عن العبد املعنوي يف املسألة ،ال شك يف أن هذه النظرة االُحادية عن حياة اإلنسان تنطوي عىل عواقب وخيمة ،وتؤدي إىل شعور البرشية بالغربة والضياع ،ليصبح اإلنسان أداة للتنمية من دون أن يتمكن
من تفجري طاقاته يف هذه العملية ) (.)3
فالتنمية البرشية وجانبها االقتصادي يف املنظور القرآين هلا جماالت وصور متعددة استطاعت احتواء مفاصل املسارات االقتصادية كافة ،مما ألزم وجود حمددات ملنهجها تكون ضابط ًة لتحقيق عملية االنسجام بني رضورة تلبية احلاجات البرشية واحلفاظ عىل القيم واملثل وفلسفة أصول وجود اإلنسان،
((( فريوز راد و أمري رضائي ،تطور الثقافة.189 ، ((( عيل رشيعتي ،األعامل الكاملة.154-153 ،20 ، ((( فريوز راد وأمري رضائي ،تطوير الثقافة.43،
373
وبني أهدافه الدنيوية وغاياته األخروية ،لكي تكون تلك املحددات ( )1منعطف ًا إلنجاح الرؤية االقتصادية املتوازنة مما يسبب جتانس ًا واضح ًا بني اإلنسان وعالقته بزيادة اإلنتاج وعدالة التوزيع كقضية صغروية من جهة ،وبني اإلنسان وعالقته باملنظومة الق ّيمية وآثارها من جهة أخرى ،ألن املشكلة االقتصادية ال تكمن يف عملية اإلنتاج والتوزيع فحسب ،بل تفتقر لفهم اإلنسان إىل ذات املفهوم ،كام تفتقر لدافع اإلنتاج وحمرك ديمومته الذي يشكل اهليكل التنظيمي للمرشوع االقتصادي وسياسته ولعنارص املناهج االقتصادية ،وهذا ما عُدَّ سبب ًا واقعي ًا يف تباين املدارس االقتصادية نظري ًا وتطبيقي ًا. فاالختالف بني مناهج املذاهب االقتصادية قد يتعدى اجلزئيات ليصل إىل الكليات التي تغري أصل املسار االقتصادي ،وهذا ما ملسناه حني نُظر إىل اإلنسان ُ القرآن إليه عىل نظر عىل سبيل املثال عىل أنه أحد عنارص العملية اإلنتاجية يف حني َ أنه الفاعل يف عملية اإلنتاج واملحرك واملستفيد والغاية ،وهلذا يمكن رؤية قصور املذهب االقتصادي االشرتاكي والرأساميل لعدم شموليتهام حلركة التنمية املتكاملة ومفرداهتا وعىل رأسها فهمهام لإلنسان ،حيث (وقعتا يف خطأ التعامل مع اإلنسان،
((( لقد عد الدكتور نارص يوسف عدة حمدادت يف املنظار اإلسالمي للحركة االقتصادية أمهها :تقوى اهلل ،احرتام اإلنسان ،إتقان العمل ،مراعاة امللكية ،ترشيد اإلنفاق ،الزكاة ،حتريم الربا ،حيازة التقنيات «التكنولوجيا» ظ :نارص يوسف ،دينامية التجربة اليابانية يف التنمية املركبة.74-70 ،
374
فاالشرتاكية أمهلت حضوره البيولوجي ،والرأساملية رفضت أصله االجتامعي) ،وهكذا هي احلال يف تثبيت املسار الرئيس يف احلركة التنموية وأساسها الذي تباينت عىل ضوئه املدارس االقتصادية ،واملبني عىل حمورية "الفرد أو اجلامعة أو ()1
كالمها"( ،)2يتضح من خالل الدراسات (أن مفهوم التنمية يف النظام الرأساميل هو
يف األساس مسؤولية الفرد أو القطاع اخلاص ،وهو يف املذهب االشرتاكي مسؤولية الدولة أو القطاع العام ،أما يف الرشيعة اإلسالمية فهو مسؤولية الفرد والدولة مع ًا
أي القطاعني العام واخلاص ،بحيث يكمل احدمها اآلخر)( ،)3وذهب بعضهم إىل أن من أساسيات االختالف بني التنمية البرشية وميداهنا االقتصادي يف القرآن الكريم وغريها هو رؤية كل منها إىل اإلنسان واألخالق أيض ًا ،فاألخالق مسألة هامشية يف التنمية الرأساملية واالشرتاكية ،بينام األخالق يف التنمية االقتصادية يف
منظور القرآن الكريم هي مدعاة لكل نجاح إنامئي(.)4
((( نارص يوسف،دينامية التجربة اليابانية يف التنمية املركبة.24 ، ((( ُيعد هذا املحور املائز بني املدارس االقتصادية لذا قيل إن (ما يميز الفكر اللربايل يف اعتامده عىل امللكية الفردية كأساس للنظام االقتصادي ،بينام نجد النظام االشرتاكي ينبذ امللكية الفردية ويضع املوارد حتت سيطرة الدولة أو املجتمع يف ما ُيعرف بامللكية العامة) ظ :املوسوعة العربية للمعرفة من أجل التنمية املستدامة ،األكاديمية العربية للعلوم ،املجلد الرابع البعد االقتصادي ،عن الليربالية ،د .حازم البيالوي.65 ، ((( إبراهيم العسل ،التنمية يف الفكر اإلسالمي .248 ، ((( نارص يوسف ،دينامية التجربة اليابانية يف التنمية املركبة.76 ،
375
ونتيجة لقصور املدارس الوضعية وختبطها بدأ اإلنسان يبحث عن نظم تنقذه من براثن اجلهل ،حيث ولدت فلسفات جديدة حتاول جماورة احلقيقة وفهم اإلنسان بالشكل الالئق ،مما ُاسهمت سلسلة من املؤسسات والقيم والنظريات االقتصادية يف تشكيل اقتصاد جديد مرتكز عىل املعرفة ُيعدّ رأس املال الفكري األساس يف خلق أفضلية تنافسية( ،)1فإلباس االقتصاد هذا الثوب اجلديد (اقتصاد املعرفة) يعني (أن االقتصاد مبني عىل التنمية البرشية ،وتنمية معرفة اإلنسان وقدرته عىل
التفكري والفهم)( ،)2فليس غريب ًا أن يدرك اإلنسان أن سبب تقهقره مادي ًا وروحي ًا وعىل األصعدة كافة هو جمافاته لرسالة القرآن الكريم التي رسمت خارطة النجاة ِ ِ للبرشية ﴿وما َأن َز ْلنَا ع َلي َ ِ ح ًة َاب إِالَّ لِ ُت َبينِّ َ هَُل ْم ا َّل ِذي ْ ك ا ْلكت َ اخ َت َل ُفوا فيه َو ُهدً ى َو َر مْ َ َ ْ ََ ُون)﴾(.)3 لِ َق ْو ٍم ُي ْؤ ِمن َ فاخلالصة :إن صالح أمر اإلنسان (هو السري هبدي القرآن العظيم ،وحينام يرصد الكاشف عن أرسار القرآن :احلياة املادية املحضة ويتعرف الرصاع االقتصادي املرير ،يدرك جيد ًا أن نفحة من األثر الروحي قد تشق طريقها باطمئنان رتيب
((( ظ :املوسوعة العربية للمعرفة من أجل التنمية املستدامة ،االقتصاد اجلديد، عاطف قبيص .307 ،4، ((( عباس آل محيد ،اإلسرتاتيجية اإلسالمية.166 ، ((( النحل.64 :
376
إىل هذا األفق اخلانق لتنقذه من االنجراف ،وتتداركه من االنحراف)( ،)1فالقرآن الكريم حبذ إنامء اجلانب االقتصادي بِروحه ،وكذا إنامئه متالزم ًا مع بقية املجاالت
األخرى( )2لتحقيق الشمولية والتكامل الذي يسعى إليها القرآن الكريم كمصداق للتنمية البرشية.
((( حممد حسني الصغري ،املبادئ العامة لتفسري القرآن الكريم.37 ، ((( لقد تبنى السيد حممد باقر الصدر قدس اهلل رسه الرشيف أن الرؤية اإلسالمية االقتصادية جيب أن تكون بمعية اجلوانب األخرى التي تكمل احدمها اآلخر ،حيث قال( :وإنام جيب أن نعي االقتصاد اإلسالمي ضمن الصيغة اإلسالمية العامة ،التي تنظم شتى نواحي احلياة يف اجلميع ...وهو بدوره جزء من صيغة عامة للحياة ) حممد باقر الصدر ،اقتصادنا.270 -269 ،
377
378
( )4التنمية البشرية وميدانها االجتماعي في القرآن الكريم. إن لإلسالم بصورة عامة والقرآن بصورة خاصة رؤية هتتم بفلسفة املنظومة االجتامعية ومكوناهتا وعنارصها ومقوماهتا وتنميتها ،وإن منشأ هذا االهتامم مرده أن املجتمع ميدان النظم القرآنية وساحتها احلقيقية لتطبيق نظرياهتا وتصوراهتا. لقد وضع القرآن الكريم حمددات للمجتمع اإلسالمي وحاول أن يطور و ُينمي تلك املحددات واألسس التي ستنتهي طبيعي ًا إىل تنمية وتطور املجتمع ،فالقرآن
الكريم عد املجتمع (جمموعة أفراد تربطهم أنظمة وتقاليد وآداب وقوانني معينة)(.)1 ُون إِ ْخ َوةٌ﴾( ،)2فاآلية املباركة جاءت بصيغة احلرص قال اهلل تعاىل﴿ :إِ َّنماَ المُْ ْؤ ِمن َ لتؤكد أن اإليامن الذي ال يرفع املنتمني إليه إىل حالة األخوة ،إيامن ضعيف وناقص، وهي إشارة إىل أن الصلة بني املنتمني للدين ليست مادية ،وإنام هي مبدئية ناشئة من صلة كل واحد منا بدينه(.)3 وهذا يعني أن القرآن الكريم ينظر إىل املجتمع عىل أساس النظم الفكرية والعقائدية ال عىل أساس األرض أو اللون أو البيئة أو اجلنس أو اللغة ،وسيكون
((( مرتىض مطهري ،املجتمع والتأريخ ،القسم األول.21 ، ((( احلجرات.01 : ((( ظ :حممد تقي املدريس ،من هدى القرآن.923 - 723 ،9 ،
379
املجتمع عبارة عن (جمموعة أفراد يعيشون يف إطار جمموعة من االحتياجات، 1 ﴿و ِم ْن وحتت ظل سلسلة من األفكار واملعتقدات واألهداف)( ) ،قال اهلل تعاىلَ : ك آلي ٍ ِ ِ اختِ ُ ِ ِ آياتِ ِه َخ ْل ُق السمو ِ ات َواألَ ْر ِ ات ض َو ْ َّ َ َ الف َأ ْلسنَتك ُْم َو َأ ْل َوانك ُْم إِ َّن يِف َذل َ َ َ ِ لمِِ ني ﴾(.)2 ل ْل َعا َ
مبني عىل لبنة الرؤية الكونية وما ّتولده من وبام أن معيار التنمية االجتامعية ٌّ أفكار وعقائد وأخالقيات وأدبيات ،فالبد من أن يكون التوحيد هو من أولويات الرؤية الكونية القرآنية ،لذا نجد أن عقيدة التوحيد هي التي جتمع أفراد املجتمع اإلسالمي بعيد ًا عن كل الصور األخرى ،فقد ذكر الشيخ الصدوق يف جملس درسه العبارة التالية املستوحاة من النصوص املعتربة( :ومن شهد الشهادتني فقد حقن
غز وجل )(.)3 ماله ودمه إال بحقهام وحسابه عىل اهلل ّ وتأسيس ًا عىل ما تقدم ُيستدل من مدلول اآلية املباركة وما نُقل عن الرسول nأن احلاكم والفيصل يف املجتمع اإلسالمي هي الرشيعة املقدسة وما حتمل من أحكام ومضامني ،فمن (رضوريات املجتمع أن ُيعدّ له نظام عتيد ،يقرر فيه احلقوق، ويضبط منه احلدود ،ويشد العالقات ويقسم الواجبات)( ،)4بحيث تصبح تلك ((( مرتىض مطهري ،املجتمع والتأريخ ،القسم األول.12 ، ((( الروم.22 : ((( الصدوق ،األمايل ،املجلس الثالث والتسعون ،ص.640 ((( حممد أمني زين الدين ،اإلسالم ينابيعه مناهجه غاياته.90،
380
النظم واألحكام معيار املجتمع اإلسالمي ،وهي ذاهتا –األحكام ــ التي (توجه املجتمع نحو الوحدة والعقيدة االجتامعية)( ،)1أن األحكام الرشعية املقدسة بام فيها األوامر والنواهي مبني ًة عىل أساس قاعدة (جلب املصلحة ودرأ املفسدة) فبام
أن غاية الترشيع هي جلب املنفعة لإلنسان ودرأ الرضر عنه ،لذا فإن مجيع األوامر والنواهي باعثها العلة أعاله ،هبذا تصب مجيع تلك األحكام خدمة للمنظومة االجتامعية وجمموعة أفرادها ،وما ذلك إال عني التنمية البرشية. وبمقتىض ذلك جيب أن تكون جمموعة أحكام وسنن النظام االجتامعي منبثقة أساس ًا من أفكار تلك الرؤية هدفها حتقيق الغايات املرجوة ،ألن النظم االجتامعية تعني جمموعة األحكام املستنبطة من الرؤية الكونية ،بحيث يتعامل معها الفرد واملجتمع عىل أهنا جمموعة عقائد من قوانني وسنن تنظم سلوك املجتمع بأفراده ويرسم معامل تألقه وتنميته ،كام تصبح النظم االجتامعية عبارة عن (عمليات تغري اجتامعي للبناء ولوظائفه ،وذلك من اجل إشباع احلاجات االجتامعية لألفراد، والتغري االجتامعي للبناء االجتامعي يتناول كل تغري يف الرتكيب السكاين للمجتمع، أو يف بناء طبقات املجتمع أو نظمه االجتامعية ،أو أنامط العالقات االجتامعية فيه، أو يف القيم واملعايري التي تأثر يف سلوك األفراد)( ،)2وما مفاد الفكرة القرآنية يف
اجلانب االجتامعي ودور التنمية فيها إال هو حتول (أفراد املجتمع إىل كيان تتوحد فيه األفكار واملشاعر واملامرسات العملية ،لتنطلق من ذلك عالقات الرتابط التي ((( حمسن عبد احلميد ،التنمية االجتامعية.71 ، ((( مجال حممد امحد عبدة ،دور املنهج اإلسالمي يف تنمية املوارد البرشية.94،
381
تنتهي إىل الوحدة االجتامعية التي هي أساس القوة......ثم مالحقة كل عوامل
االنحراف وأشخاصه ملنعهم عن كل عمل يرض هبذه الوحدة يف أي جانب)(،)1 مسعى لتحقيق الغاية القرآنية التي خلق اإلنسان بحيث تُعدّ مجيع تلك املقدمات ً ألجلها ،وبمقتىض ذلك ستكون عموم النشاطات االجتامعية سبيل لتحقيق الغاية الكربى للرؤية القرآنية وفهمها لإلنسان واحلياة والكون. ومن هنا نجد أن لغة القرآن الكريم يف بيان هوية اإلنسان وحتديدها كوهنا عنرص ًا أساسي ًا يف النظام االجتامعي لغة واضحة ورصحية ،قال اهلل تعاىلَ ﴿ :يا َأ هُّ َيا َّاس إِنَّا َخ َل ْقنَاك ُْم ِم ْن َذك ٍَر َو ُأن َثى َو َج َع ْلنَاك ُْم ُش ُعوب ًا َو َق َبائِ َل لِ َت َع َار ُفوا إِ َّن َأك َْر َمك ُْم الن ُ ِ ِ بِري﴾( ،)2فاآلية املباركة ختاطب مجيع البرش ،حيث عنْدَ اللهَِّ َأ ْت َقاك ُْم إِ َّن اللهََّ َعل ٌ يم َخ ٌ َّاس﴾ دون املؤمنني للمناسبة بني هذا العنوان وبني ما صدر (نودوا بعنوان ﴿الن ُ به الغرض من التذكر بإن أصلهم واحد ،أي أهنم يف اخللقة سواء ليتوسل بذلك إىل أن التفاضل والتفاخر إنام يكون بالفضائل إىل أن التفاضل يف اإلسالم بزيادة
التقوى)( ،)3أي إن القرآن فرض وألزم املساواة بني البرش قاطبة وجعل الفارق بني فرد أو جمتمع وأخر هو (التفاوت بالتقوى وحتمل اخلري ال بمجد اآلباء واألجداد وال باملال واملتاع ،وال بغري ذلك من زخارف احلياة ،ثم جعل املساواة تشتمل
((( حممد حسني فضل اهلل ،اإلسالم ومنطق القوة.141 ، ((( احلجرات.13 : ((( أبن عاشور ،تفسري التحرير والتنوير ،مج.258 ،26 ،10
382
عىل مجيع عوامل النهوض واالرتقاء ،وحتتوي عىل مجيع وسائل التعاون والتآزر
والتآلف)( )1االجتامعي. إن الرؤية القرآنية للمجتمع ونظامه هي رؤية شاملة متوازنة متكاملة ،وهلذا فهو (ليس جمتمع ًا مغلق ًا بل هو جمتمع مفتوح ،ال ُي ّقيم اإلسالم فيه العالقات االجتامعية العامة عىل أساس التعصب العنرصي أو الطائفي أو الديني املغلق، وينطلق املجتمع اإلسالمي يف ذلك من أناس كلهم عيال اهلل وإهنم سواء أمام اهلل، وانه ال فضل ألحد عىل احد إال بالتقوى والعمل الصالح)(.)2
فاملعيار اإلسالمي للمفاضلة بني أفراد املجتمع هو ضابطة القرآن الكريم التي تنص عىل ﴿إِ َّن َأك َْر َمك ُْم ِعنْدَ اللهَِّ َأ ْت َقاك ُْم﴾ ،من حيث تكون هذه الضابطة بمثابة العنوان الكيل الذي يدخل حتته كل إنسان بغض النظر عن أي مقياس آخر ،كون التقوى هي الفضيلة يف أرقى معانيها ودرجاهتا ،وما تأكيد التقوى كفضيلة إال ألجل الفائدة من جعلها (مث ً ال أعىل للحياة هو أن يكون مفهوم الطبقة الذي يستتبع حك ًام تقويمي ًا لطائفة من الناس منبثق ًا من التقوى ،بدالً من أن ينبثق هذا املفهوم من االقتصاد أو احلرب ،وبذلك تكون الطبقات ظاهرة اجتامعية تعود عىل املجتمع
باخلري)( ،)3مما ُيعدّ ذلك حافز ًا يندفع فيه األفراد بقوة نحو املنظومة االجتامعية
((( باقر رشيف القريش ،نظام اإلسالم السيايس.208 ، ((( حمسن عبد احلميد ،اإلسالم والتنمية االجتامعية.73، ((( حممد مهدي شمس الدين ،دراسات يف هنج البالغة.203،
383
لريتبط ويوثق عالقته هبا ،كلهم سيدرك أن التفاضل واإلكبار يف املؤسسة القرآنية عىل قدر العطاء والتطور والتغري اإلجيايب ،فـ(ال فرق بني عريب وأعجمي إال سو ِ بالتقوى)(َّ ،)1 احدَ ٍة﴾ ،فقوله تعاىل ألن اجلميع سيدخل حتت عنوان اسمه ﴿ َن ْف ٍ َ ﴿يا َأيا النَّاس ا َّت ُقوا ربكُم ا َّل ِذي َخ َل َقكُم ِمن َن ْف ٍ ِ ٍ َّاس﴾ س َواحدَ ة﴾( )2حياكي ﴿لن ُ ْ ْ ُ َ َّ ْ َ هُّ َ ٍ ِ ِ ﴿خ َل َقك ُْم م ْن َن ْف ٍ س َواحدَ ة﴾ ّفرعكم من أصل عموما دون ختصيص (يا بني ادم َ واحد وهو نفس آدم أبيكم )( )3التي حتملوهنا مجيع ًا لذا فكلكم من ماهية واحدة وهبذا فأنتم جمتمع واحد باملحصلة بحكم املاهية. فاآلية املباركة ترصح عالني ًة أن الرؤية القرآنية مع الناس عموم ًا ،فتشمل كل ما ينطبق عىل نوع اإلنسان ،كام (اشتملت عىل معظم أحكام األحوال الشخصية واألحكام االجتامعية اجلارية عىل حقيقية العدل وناموس الفطرة)( ،)4وتتضمن
أيض ًا عىل لزوم (االنقياد لتكاليف اهلل تعاىل واخلضوع ألوامره ونواهيه)( ،)5وأن االنقياد ألمره تعاىل بالتقوى لقوله ّ جل وعال﴿ :ا َّت ُقوا َر َّبك ُْم﴾ ،فسبحانه تعاىل ( َأ َم َر بتحصيل ملكة التقوى التي هي القضية األوىل يف القرآن الكريم واألصل ((( متقي اهلندي ،كنز العامل ، 699 ، 3 ،ح .8502 ((( النساء.1 : ((( الزخمرشي ،الكشاف.212 ،1 ، ((( عبد األعىل السبزواري ،مواهب الرمحن.224 ،7 ، ((( الرازي ،التفسري الكبري ،مج.135 ،9 ،5
384
عز وجل مجيع أفراد البرش من الثابت الذي ال يقبل التغيري والتبديل وقد حكم ّ
لدن آدم Aإىل انقراض العامل)( ،)1فدعوة مجيع الناس إىل تقوى اهلل متالزم ًة مع بيان علة انقيادهم له سبحانه وتعاىل ،بحيث تُعدّ التقوى بالرؤية القرآنية هي املعيار لالرتباط بمنظومتها االجتامعية بعيد ًا عن أي رابط آخر ،حيث ُينقل عن الرسول األكرم nانه قال( :يا أهيا الناس إن اهلل قد أذهب عنكم عيبة اجلاهلية وتعاظمها باهبا ،فالناس رجالن رجل بر تقي كريم عىل اهلل ،وفاجر شقي هني عىل اهلل والناس بنو آدم وخلق اهلل آدم من تراب)( ، )2كام ينقل عنه nأنه قال ( :ال البن بيضاء عىل ابن سوداء إال احلق)(.)3 وهلذا فإن التنافس والتحفيز لتنمية املجتمع القرآين مؤسس عىل أساس القرب والبعد عن اخلط البياين للتقوى واالنتامء هلل تعاىل ،فكلام أدرك أفراد املجتمع أن الدافع وراء االرتقاء هو التقوى ليس إال ،كان ذلك دافع ًا لتنمية املجتمع وتطويره، ألن املعيار القرآين هو أن اجلميع ولدوا من جوهر النفس الواحدة وأهنم من ذكر وأنثى ،وسيدرك غري املسلم أن نظم املجتمع اإلسالمي ال تخُ رج من حميط دائرهتا وضعت ضوابط ًا حفظت من هو خارج اإلسالم ،لذا نجد أن النظم القرآنية قد َ
((( عبد األعىل السبزواري ،مواهب الرمحن.227 ،7 ، ((( القايض حممد بن عبد اهلل االشبييل املالكي ،أحكام القرآن ،ج ،4ص.158 ((( الكليني :الكايف 229 ،2 ،اهليثمي :جممع الزوائد.85 ،8 ،
385
حق غري املسلمني وحددت واجباهتم ومنحتهم حقوقهم ﴿ال إِك َْرا َه يِف الدِّ ِ ين﴾ فالقران الكريم دعا إىل تكافئ الفرص من حقوق وواجبات للناس مجيع ًا ،كون سو ِ ِ احدَ ٍة﴾و ﴿إِ َّن َأك َْر َمك ُْم ِعنْدَ اللهَِّ َأ ْت َقاك ُْم﴾ أي إن العنوان فيه َ ﴿خ َل َقك ُْم م ْن َن ْف ٍ َ املعيار هو القرب من اهلل والتقوى والعمل الصالح واخلري ،الذي ّيولد العطاء واإلنامء والتطور. فإن الضامن االجتامعي (يعني التزام الدولة اإلسالمية نحو كافة املقيمني فيها، أي ًا كانت جنسياهتم أو دياناهتم ،وذلك بتقديم املساعدة للمحتاجني منهم يف ()1
احلاالت املوجبة)( )2ألن النظام االجتامعي يف الرؤية القرآنية تفهم احلياة عىل أهنا
(تواد وتعاون وتكافل حمدد األسس مقرر النظم ،بني املسلمني عىل وجه خاص، وبني مجيع أفراد اإلنسانية عىل وجه عام)(.)3 وهذا ما نلمسه جلي ًا يف بنود حلف املهاجرين و األنصار الذي أقره النبي حممد n عىل سبيل املثال حيث نص البند الثاين من هذه الوثيقة املهمة التي رسمت معامل التنمية البرشية وأثرها يف بناء املجتمع ،فهي نصت (عىل أن املؤمنني امة واحدة من دون الناس و ُيفهم من ذلك حتديد هوية هذه األمة حيث صهرت هذه الوثيقة مجيع
((( البقرة.256 : ((( أسامة العاين ،املنظور اإلسالمي للتنمية البرشية.50، ((( سيد قطب ،العدالة االجتامعية يف اإلسالم.29 ،
386
األحالف والروابط القديمة ضمن بوتقة األمة اإلسالمية) (.)1 فالرؤية القرآنية ترى أن اتساع رقعة املنظومة االجتامعية اإلسالمية لغري املسلمني مبتغاها حتقيق غايات كربى ،منها بناء اإلنسان عموم ًا واإلنسان املسلم خصوص ًا يف ظل حضارة إسالمية ،وما القاسم املشرتك الذي اعتمدته بعض املدارس والنظريات لوجود املجتمع إال سب ً ال لبناء اهليكل التنظيمي ،حيث بات من ا ُملس ّلم به ما من جمتمع برشي إال ولزم (أن يستند إىل تنظيمه وتسيريه عىل نظرية حضارية أو قاعدة حضارية مستخلصة من تأريخ األمة وتطورها ،نابعة من حاجاهتا متفقة مع أعراقها وخصائصها ،مستفيدة من جتارب اإلنسانية كلها، كي توحد بني أبنائها وتدفعهم إىل التفاهم املشرتك والتعاون يف بناء احلياة والعمران)(،)2
وبمقتىض ذلك ُعدت الرؤية القرآنية هي الكيل الذي ترد إليه مجيع اجلزئيات وهي القاعدة التي تبنى عليه مشاريع التنمية البرشية يف جماالت احلياة كافة ،وهي اللبنة التي بني عليها اهليكل االجتامعي اإلسالمي ووحدته ووحدة مفرداته ،فقد نظرت إىل (وحدة الروح واجلسد يف الفرد ،وإىل وحدة املعنويات واملاديات يف احلياة، ووحدة اهلدف بني الفرد واجلامعة ،ووحدة املصلحة بني اجلامعات املختلفة يف األمة الواحدة ،ووحدة الغاية بني األمم اإلنسانية ،ووحدة الصلة بني األجيال
((( أسامة العاين ،املنظور اإلسالمي للتنمية البرشية.73، ((( حمسن عبد احلميد ،اإلسالم والتنمية االجتامعية.71 ،
387
املتعاقبة)(.)1 ون بِالمَْعر ِ ون إِ ىَل خَْ وف َو َين َْه ْو َن ﴿و ْل َتك ُْن ِمنْك ُْم ُأ َّم ٌة َيدْ ُع َ قال اهلل تعاىلَ : ال رِْي َو َي ْأ ُم ُر َ ْ ُ َع ْن المُْنْك َِر َو ُأ ْو َلئِ َ ون﴾( ،)2فاآلية املباركة تُلزم املؤمنني بالسعي للعمل ك ُه ْم المُْ ْفلِ ُح َ ﴿و ْل َتك ُْن ِمنْك ُْم ُأ َّم ٌة﴾، لتنمية وتكامل اآلخر بعد تنمية وتكامل أنفسهم؛ ألن صيغة َ (صيغة وجوب ألهنا أرصح من األمر من صيغته أفعلوا؛ ألن أصلها ،فإذا كان األمر باملعروف والنهي عن املنكر غري معلوم بينهم من قبل نزول هذه اآلية ،فاألمر لتفريع الوجوب ،وإذا كان ذلك حاص ً ال بينهم من قبل كام يدل عليه قوله ﴿ ُكنْت ُْم ون بِالمَْعر ِ ت لِلن ِ وف َو َتن َْه ْو َن َع ْن المُْنكَر﴾( ،)3فاألمر لتأكيد َخ رْ َي ُأ َّم ٍة ُأ ْخ ِر َج ْ َّاس ت َْأ ُم ُر َ ْ ُ ما كانوا يفعلونه ووجوبه ،وفيه زيادة األمر بالدعوة إىل اخلري وقد كان الوجوب اص ْوا بِ حَْ الص رِْب﴾،أو بأوامر اص ْوا بِ َّ ال ِّق َوت ََو َ ﴿وت ََو َ مقرر ًا من قبل بآيات أخرى مثل َ نبوية ،فاألمر لتأكيد الوجوب أيض ًا للداللة عىل الدوام والثبات عليه مثل ﴿ َيا َأ هُّ َيا ِ ين َآمنُوا ِآمنُوا بِالل﴾)(.)4 ا َّلذ َ وقد نقل ابن ع ّياش يف تفسري هذه اآلية املباركة بام نقل (عن أيب عمرو الزبريي ون إِ ىَل خَْ ون ال رِْي َو َي ْأ ُم ُر َ ﴿و ْل َتك ُْن ِمنْك ُْم ُأ َّم ٌة َيدْ ُع َ عن أيب عبد اهلل Aقال يف قوله تعاىل َ : ((( سيد قطب ،العدالة االجتامعية يف اإلسالم.35 ، ((( آل عمران.104 : ((( آل عمران.110 : ((( أبن عاشور ،تفسري التحرير والتنوير ،مج .37 ،4 ،2
388
بِالمَْعر ِ وف َو َين َْه ْو َن َع ْن المُْنْك َِر﴾قال :يف هذه اآلية تكفري أهل القبلة باملعايص ،ألنه ُْ من مل يكن يدعو إىل اخلريات ويأمر باملعروف وينهى عن املنكر من املسلمني فليس من األمة التي وصفها اهلل ألنكم تزعمون أن مجيع املسلمني من أمة حممد ،وقد بدت هذه اآلية وقد وصفت أمة حممد بالدعاء إىل اخلري واألمر باملعروف والنهي عن املنكر ،ومن مل يوجد فيه الصفة التي وصفت هبا فكيف يكون من األمة وهو
عىل خالف ما رشطه اهلل يف األمة ووصفها به)(.)1 وبام أن اآلية ُيستدل من مدلول ظاهرها بوجوب أن تكون هناك أمة أفرادها يمثلون األنموذج احلقيقي للمجتمع القرآين ،كام ُيستدل منها أيض َا بلزوم االرتقاء وتنمية هذا املجتمع اإلسالمي لتحقيق اخلري وكافة صوره ومصاديقه ومنها األمر باملعروف والنهي عن املنكر ،وما الدعوة إىل اخلري والرتغيب إليه إال دعوة لتنمية األنموذج ألمة اإليامن وتنمية مصاديقه َّ ألن اخلري هو (كل ما له دخل يف االعتصام بحبل اهلل سواء كان من املعارف احلقة أو األعامل الصاحلة أو مكارم األخالق، عز وجل يف املقام ترغيب ًا إىل اخلري الذي تدعو إليه فطرة العقول وحيبه كل وما ذكره ّ إنسان وال يمكن أن جيهله احد ،ولبيان أن املجتمع الذي يكون اخلري هو مطلبهم
ومنهاجهم وعملهم هو املجتمع السعيد واألمة الراقية)(.)2 فاآلية تسعى إىل رضورة تطوير املجتمع اإلسالمي وتنميته بوصفه إنموذج ًا،
((( أبن ع ّياش ،تفسري الع ّيايش.218 ،1 ،
((( عبد األعىل السبزواري ،مواهب الرمحن.216،6،
389
وعىل غريه إلشاعة اخلري واملعروف من خالل األمر به والنهي عن التخلف واملنكر (،)1 الذي ُيعدّ احد سبل تنمية املجتمع فهو يسعى جللب املنفعة ودرأ السوء والرضر عنه( ،فإن قوام املجتمع اإلسالمي هو األمر باملعرف والنهي عن املنكر ،فاألمر باملعرف يتضمن حتقيق التنمية الشاملة ،والنهي عن املنكر يتطلب أساسا القضاء عىل أهم معوقاهتا أال وهو التخلف والفقر اللذان يؤديان إىل الذلة واملسكنة ،واىل كثري من املساوئ االجتامعية واالنحرافات اخللقية)(.)2
فقد نقل عن اإلمام الباقر Aانه قال( :إن األمر باملعروف والنهي عن املنكر سبيل األنبياء ومنهاج الصلحاء فريضة عظيمة هبا تقام الفرائض ،وتأمل املذاهب، وحتل املكاسب ،وترد املظامل ،وتعمر األرض وينتصف من األعداء ويستقيم األمر)(.)3 و نجد النبي حممد nحيذر من االبتعاد عن اخلط البياين للتقوى والعدالة واخلري وعن سبل الوصول إليها باألمر باملعروف والنهي عن املنكر ،فقد نقل عنه nأنه قال( :ال تزال أمتي بخري ما أمروا باملعروف وهنوا عن املنكر وتعاونوا
((( إن (عطف األمر باملعروف والنهي عن املنكر عىل دعوة اخلري هو من عطف اخلاص عىل العام فيكون من قبيل عطف أفضل األفراد عىل الكل ) عبد األعىل السبزواري،مواهب الرمحن.218 ،6، ((( إبراهيم العسل ،التنمية يف الفكر اإلسالمي.272، ((( الكليني ،الكايف ،ج ،5ص 55الطويس :هتذيب األحكام 181 ،6 ،احلر العاميل، وسائل الشيعة.119 :16 ،
390
عىل الرب فإذا مل يفعلوا ذلك نزعت منهم الربكات وسلط بعضهم عىل بعض ،ومل
يكن هلم نارص يف األرض وال يف السامء)( ،)1ونقل عنه nأيض ًا أنه قال( :وال ترتكوا األمر باملعروف والنهي عن املنكر فيويل اهلل أمركم رشاركم ثم تدعون فال
يستجاب لكم )(.)2
فكام جعل القرآن الكريم العقائد واألفكار واملساواة واخلري طرق ًا لبناء املجتمع، كذا جعل من العدالة مرشوعا آخر لبنائه وديمومة تطوره ،فإن استقامة النظام االجتامعي وديمومته وتنميته ال يتم إال من خالل إدامة العدالة ،قال اهلل تعاىلَ َ﴿ :قدْ َان لِي ُقوم النَّاس بِا ْل ِقس ِ لمِْ ِ ِ ط﴾(،)3 ُ َأ ْر َس ْلنَا ُر ُس َلنَا بِا ْل َب ِّينَات َو َأ ْن َز ْلنَا َم َع ُه ْم ا ْلكت َ ْ َاب َوا يز َ َ َ وإن نزول امليزان غرضه (ليقوم الناس بالعدل يف معامالهتم فال خيرسوا باختالل األوزان والنسب بني األشياء فقوام حياة اإلنسان باالجتامع ،وقوام االجتامع باملعامالت)( )4العادلة ،فقد أولت الرؤية القرآنية اهتاممها بالقسط والعدل كأحد أهم ركائز اهليكل البنائي االجتامعي وكأحد الطرق املوصلة لتحقيق صورة التنمية املتكاملة ملجتمع متزن متكامل ،لكي ال يظهر نظام طبقي (بحيث يعيش أناس حياة متفرقة بينام يوجد غريهم يعانون من الفقر واحلرمان ،ويتعرضون لصنوف ((( الطويس ،هتذيب األحكام ،ج ،6ص 181النوري :املستدرك.258 ،16 ، ((( الكليني ،الكايف ،ج ،7ص.52 ((( احلديد.25 : ((( حممد حسني الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القرآن.178 ،19 ،
391
الظلم واالستغالل واهلوان مما ينايف القاعدة العامة التي أرساها القرآن بموجب ان وإِيت ِ إقامة العدل الذي بنى اهلل عليه الكون)(﴿ ،)1إِ َّن اللهََّ َي ْأ ُم ُر بِا ْل َعدْ ِل َوا ِ َاء إل ْح َس ِ َ
ِذي ا ْل ُقربى وينْهى عن ا ْل َفح َش ِ ون﴾( )2وقوله اء َوالمُْنك َِر َوا ْل َبغ ِْي َي ِع ُظك ُْم َل َع َّلك ُْم ت ََذك َُّر َ َْ ََ َ َ ْ ْ ِ ِ َ ون﴾( ،)3وهلذا بِري بِماَ َت ْع َم ُل َ تعاىل ﴿ا ْعد ُلوا ُه َو أ ْق َر ُب لل َّت ْق َوى َوا َّت ُقوا اللهََّ إِ َّن اللهََّ َخ ٌ عُدّ ت العدالة يف ضوء الرؤية القرآنية (رضورة إنسانية تقود إىل انتظام العالقات االجتامعية واالقتصادية ،وهي قوام أمر املجتمع ومنطلق هنضته وتقدمه)( ،)4من هنا عدت سيادة العدل أحدى طرق استقامة اهليكل االجتامعي ومتاسكه ،وكأن اآليات تسوق املتدبر إىل أن العدالة بكامل صورها من شؤون دين ودنيا هي طريق التقوى ،والتقوى هي املائز بني أفراد املجتمع الواحد وهي ذاهتا السبيل إلنجاح التنمية البرشية وتكاملها يف عموم املنظومة االجتامعية. وما اهتامم القرآن باملجتمع إال عىل أساس اهتاممه باإلنسان ،ألن املجتمع جمموعة أفراد وأن رعاية األفراد يعني رعاية وبناء املجتمع بأرسه ،حيث عدت املنظومة القرآنية أن الطريق املوصل لتغري وإصالح وتنمية املجتمع هو تغري َي َما بِ َق ْو ٍم وإصالح الفرد ألنه رأسامل املنظومة القرآنية ،قال تعاىل﴿ :إِ َّن اللهََّ ال ُيغ رِّ ُ ((( (بحث) املصباح ،التنمية يف القرآن ،حممد جواد عباس شبع ،العدد.180 ، 9 ((( النحل.90 : ((( املائدة.8 : ((( إبراهيم العسل ،التنمية يف الفكر اإلسالمي.92 -91 ،
392
َيوا َما بِ َأن ُف ِس ِه ْم﴾( ،)1وبمعنى آخر فالواجب أن يكون تنظيم شتات الفرد َحتَّى ُيغ رِّ ُ من خالل انتظامه مع املجتمع ،وانتظام املجتمع من خالل استكامله بأفراده ،فلكل
من الفرد واملجتمع تأثريه يف الطرف اآلخر( )2فأحدمها يكمل اآلخر واخللل يف أحدمها يصيب اآلخر ،لذا علينا العناية هبام مجيع ًا. فعىل الرغم من ذلك فإن اإلسالم نظر إىل أن املصلحة االجتامعية تتقدم عىل املصلحة الفردية يف حالة تعارض املصلحتني (وهذا ما نلمسه واضح ًا يف مجلة من األحكام والترشيعات اإلسالمية كحرمة االحتكار مثالً.....والنتيجة يف ضوء النظرية القرآنية هو تقديم املصلحة اإلسالمية وجعلها املحور يف الترشيعات دون املصلحة الفردية )( ،)3بل كان اهتامم اإلسالم باحلفاظ عىل اهليكل االجتامعي واضح ًا من خالل ما نقل عن الرسول األكرم nحني قال( :كلكم راع وكلكم
مسؤول عن رعيته)( ،)4حيث نستفيد أن احلفاظ عىل هذا اهليكل يعتمد عىل عدة خطوات هرمية تصب يف خدمة املجتمع ،خطوات هتم اجلميع من دون استثناء بام فيه الدولة وأفراد املجتمع فكل واحد من املسلمني وغريهم يتحمل املسؤولية تبع ًا للمساحة التي يشغلها واملسؤولية التي يعمل هبا ،لتنتهي النتيجة إىل (نظام ثابت ((( الرعد.11 : ((( ظ :ضياء الدين زين الدين ،مبادئ عامة يف أصول التدبر القرآين.282 ،2 ، ((( كامل احليدري ،فلسفة الدين.126-125 ، ((( حممد بن حممد الشعريي ،جامع األخبار.119 ،
393
مطرد ،يقيم االجتامع فيه عىل أساس العدل ،ويركز عىل مبدأ املساواة ،ويطهر من
رجس الظلم ومن دنس االستئثار)(.)1 وقبال ذلك نتلمس عني التوازن يف الرؤية القرآنية وهي تنظر بعني اإلنصاف بني الفرد واملجتمع( ،فكام أن للفرد كيانه اخلاص الذي البد للدين من مالحظته والعناية به وتنظيم ما بني شتات أجزائه ،كذلك للمجتمع كيانه اخلاص أيض ًا، وجيب أيض ًا أن ينظم ما بني أفراده كافة ،و ُيمنهج خمتلف عالئقه ضمن كيانه
اخلاص ،كام حيدد روابطه مع املجتمعات األخرى)( ،)2ومن هنا رفضت الرؤية القرآنية تأليه الفرد وكذا املجتمع وجعلت من الفرد عنرص ًا متوازن ًا يف جمتمع
منضبط ،وبذلك ستنتهي املشكلة االجتامعية وينتهي التزاحم بني الفرد واملجتمع،
وذلك (عن طريق جتنيد الدوافع الذاتية حلساب املصلحة العامة)( ،)3كام سيدرك الفرد أن خدمة القطاع االجتامعي يعني خدمة نفسه ،عىل عكس النظريات الوضعية كاالشرتاكية التي أهلت وعظمت املجتمع وألغت الفرد ،والنظرية الرأساملية التي عظمت الفرد وبجلته عىل حساب الروابط االجتامعية املجهضة (فانه ال تزال توجد فكرة تنادي بسلب حقوق الفرد بصورة تامة ودفع املجتمع إىل مستوى اإلله املعبود......وتقابلها فكرة متطرفة تنادي بوجوب إعطاء الفرد
((( حممد أمني زين الدين ،اإلسالم ينابيعه مناهجه غاياته.90، ((( ضياء الدين زين الدين ،مبادئ عامة يف أصول التدبر القرآين.282 ،2 ، ((( حممد باقر الصدر ،اقتصادنا.286 ،
394
كامل حريته وجعله إهل ًا من دون املجتمع)( )1وكال املنطلقني ليس عىل صواب، ألن األصل العدالة والتوازن بني الفرد واملجتمع عىل ٍ حد سواء. عت من رقعة مساحة أفراد املجتمع وس ْ وبعد أن سلمنا أن النظم اإلسالمية ّ اإلسالمي وذلك باحتضان املسلمني وغريهم ،إال إن القرآن أراد أن يكون هناك حي للمجتمع القرآين يتحقق فيه اخلري والصالح والعدالة التي تسعى إليها نموذج ّ كل الشعوب واألمم ،يكون هذا النموذج "انتامئه هلل تعاىل " قبال النموذج األريض "االنتامء االجتامعي" عىل حد تعبري أستاذنا البستاين الذي قال (إن االنتامء إىل اهلل ال يعني االنسالخ من الدائرة االجتامعية بل يعني االنسالخ من احلامية التي يوفرها االنتامء إىل املجتمع)( ،)2وهنا تساق الروابط االجتامعية الثانوية غري اإليامنية عىل
أهنا وسائل لتلبية متطلبات جمتمع ما وسبل لتحقيق العناية الكربى ،فحقيقة الفرق أن الرؤية القرآنية ال تنفي وجود بعض الروابط التي تُعدّ قاس ًام مشرتك ًا بني جمموعة من األفراد ،إال أن القرآن الكريم عد االنتامء إىل السامء ورشيعتها هو الرابط احلقيقي وهو اهلدف األكرب واألساس من وجود اإلنسان ،وكل ما هو خارج عن نطاق عالقة السامء فهو غري مقبول ،فإذا كانت العالقات والروابط االجتامعية يف طول العالقة مع السامء فال ضري منها بل هي املحثوث عليها وبخالف ذلك ُيعدّ خروج ًا عن نطاق (الوسطية) أي العدالة والصلة بني الرابطني االجتامعي والساموي ذلك بأن الرابط االجتامعي الصحيح هو املوصل إىل الرابط الساموي، ((( حممد تقي املدريس ،الفكر اإلسالمي مواجهة حضارية.366، ((( حممود البستاين ،دراسات يف علم النفس اإلسالمي.202 ،1 ،
395
ك َج َع ْلنَاك ُْم ُأ َّم ًة َو َسط ًا لِ َتكُونُوا ُش َهدَ َاء َع ىَل الن ِ تعاىل﴿:وك ََذلِ َ ُون قال اهلل َّاس َو َيك َ َ الر ُس ُ ول َع َل ْيك ُْم َش ِهيد ًا﴾( ،)1ويف معرض األمة الوسطى يفرس العيايش عام نقل َّ (عن أيب عمرو الزبريي عن أيب عبد اهلل Aيف قول اهلل تعاىلُ ﴿ :كنْتُم َخي ُأمةٍ ْ رْ َ َّ ون بِالمَْعر ِ ت لِلن ِ وف َو َتن َْه ْو َن َع ْن المُْنكَر﴾ ،قال :يعني األمة التي ُأ ْخ ِر َج ْ َّاس ت َْأ ُم ُر َ ْ ُ وجبت هلا دعوة إبراهيم Aفهم األمة التي بعث اهلل فيها ومنها وإليها ،وهم
األمة الوسطى وهم خري أمة أخرجت للناس)( ،)2يف حني عدت األمة الوسطى- االجتامعيات املوصلة لرىض اهلل وتوحيده-إحدى أهم أهداف التنمية البرشية يف
القرآن الكريم ،كام وضح هذا املحور سلف ًا(.)3
فالباحث يستخلص مما تقدم أن املجتمع اإليامين هو ذاته األمة الوسطى وهي الداعية للخري والعدالة ،وان مجيع تلك املعاين واملضامني هي من فعاليات التنمية االجتامعية التي تتآلف مع تنمية بقية املجاالت مشكلة التنمية البرشية املتكاملة يف ضوء القرآن الكريم. .
((( البقرة.143 : ((( أبن ع ّياش ،تفسري الع ّيايش.219 ،1 ، ((( راجع ص 284- 278من الكتاب.
396
الف�صل الثالث
397
398
نظرية الخالفة اإللهية في القرآن الكريم وعالقتها بالتنمية البشرية .ة
مل يكن تأكيد الباحث مفردات املفهوم أو مضامني الرؤية الكونية نابع ًا عن فراغ ،إنام مبناه نابع من اعتقاده بأن مجيع املضامني التي تنبثق لبناء اهليكل املعريف مبني عىل أساسها فض ً ال عن اجلانب الفكري ألي فلسفة، بكافة جزئياته وتفرعاته ٌّ وهلذا فان أي مفهوم أو مضمون ال بد من أن يكون له مرجعية من قيم ومعتقدات تُالئم مناخ الرؤيا الكونية له ،من ثم تؤثر أثرها يف فهم اإلنسان ورؤيته للمحاور الرئيسة وهي اإلنسان ،احلياة ،الكون ،كون الرؤية الكونية كانت وما زالت وضيفتها فلسفة تلك املحاور حماولة االجابة عىل استفهامات متطلباهتا ،وما هي إال حركة استداللية استقرائية واستنباطية من النشاط الذهني واملعريف لإلنسان، حتاول هذه احلركة أن تُف ّعل خطوات حركتها الذهنية االستداللية صعود ًا ونزوالً من البدأ باجلزئيات تارة لتنطلق للكليات ،وتبدأ من الكليات لتصل إىل أدق التفرعات والتفاصيل تارة أخرى ،لتكون كلتا احلركتني من الصعود والنزول طريق ًا موص ً ال للمعرفة وتطورها ،حيث (عد التفتح الذهني عند اإلنسان ذو
عالقة بتطور املعارف) (.)1 أن احلديث عن التنمية البرشية يف القرآن الكريم يرد لبيان وجهة نظر اإلسالم عموم ًا والقرآن خصوص ًا يف تفسري ظاهرة التطور واإلنامء والتغري االجيايب عىل ((( صباح عباس عنوز ،هنج البالغة صوت احلقيقة.83،
399
وفق املنظور العام الذي تشكله العقيدة اإلسالمية ،أي االطمئنان عىل أن هذه القيمية بل الظاهرة منسجمة مع العقيدة اإلسالمية وال تتعارض مع منظومتها ّ هي تعمل بطوهلا وال تتقاطع مع متبينات الرؤية الكونية التي ُيعدّ القرآن الكريم الركيزة األساسية يف بيان مضامينها وبيان عالقة ظاهرة التطور والتنمية البرشية هبا. وهبذا فإننا َسنَحصل عىل مفهوم معريف أكده اإلنسان استداللي ًا وولج به إىل النص اإلهلي القرآين ،وبذلك يعني إننا سنصل إىل مفهوم متكامل مبني عىل أساس إدراك اإلنسان إليه ومنضبط بضابط النص ،ويف هذه احلالة ستتحقق لنا عالقة تفاعلية بني اهلل تعاىل واإلنسان ،أو قل بني ترشيعات اهلل تعاىل وإدراك اإلنسان. وللوقوف عىل االنسجام الذي نسعى إليه بني حاكمية اهلل تعاىل عىل اإلنسان والكون وبني حاكمية اإلنسان عىل الكون بفعل استخالفه للحاكم املطلق ،فهذا االنسجام هو عني االنسجام بني املبدأ القرآين ونظرته لفلسفة اإلنسان والكون واحلياة وبني التنمية البرشية التي تُعدّ وسيل ًة وهدف ًا لتلك الفلسفة. لذا كان هذا املبحث الذي سنحاول فيه بيان عالقة التنمية البرشية ورضورة انطالقها من منطلقات إهلية قرآنية مؤيدة متام ًا هلذا النشاط ،فكام وجدنا أن التنمية البرشية منهج قرآين طرق شتى أبواب جماالت احلياة ،لذا سنجده أيض ًا يف هذا املبحث وهو يطرق جمال الفكرة والفلسفة من خالل الوقوف عند املبدأ القرآين لإلنسان وعمله ومتثيله كخليفة اهلل يف األرض ،ومبدأ لزوم عامرة األرض بإحياء عنارصها ،وكذا مبدأ التغيري واإلصالح ،وغريها من املبادئ التي لو عرضناها مجيعها لوجدنا أننا أمام عامل فسيح من االنسجام املتكامل بني مضامني مفهوم 400
التنمية البرشية والعقيدة اإلسالمية ،التي ستصب مجيعها يف مصب نظرية اخلالفة اإلهلية. وال يفوتنا أن نؤكد أن للقرآن الكريم مبادئ كثرية هلا ارتباط وثيق بالتنمية البرشية ،إال أن اختيار الباحث إىل حمور معني دون غريه ،كان يقصد منه اختيار إنموذج واحد مع كافة تفرعاته دلي ً ال عىل ما يدعيه ،وذلك من خالل تسليط الضوء حي عليه كمثال ليس إال ،وما مضمون نظرية اخلالفة اإلهلية إال انموذج جوهري ّ كأحد املضامني القرآنية التي عدت مصداق ًا لذلك. ولتكامل نظرية اخلالفة اإلهلية و ُبعدها الفلسفي التي عدت أحد مصاديق التنمية البرشية عىل وفق الرؤية القرآنية ولتجسيدها عىل أرض الواقع اقتضت حكمة اهلل تعاىل أن تهُ يئ عدة مقدمات لتفعيلها وهي: أوالً :اجلانب الفكري للنظرية القرآنية اإلهلية والذي نعني به مبدأ االستخالف كوننا بصدد عرضه عىل طاولة البحث ،والذي سلطنا الضوء عليه يف املطلب السابق. ثاني ًا :تسخري وهتيئة أدوات االستخالف لإلنسان ليتحقق توافر الداعي لألداء. ثالث ًا :تطويع تلك األدوات لتمكني اخلليفة منها لتسيري املهمة. رابع ًا :ترمجة مفردات املبدأ القرآين بعامرة اإلنسان واألرض. خامس ًا :إزالة معوقات ومصدات اإلستخالف وإصالح ما فسد منها يف حالة التخلف بغية العودة إىل دائرة نظرية اخلالفة اإلهلية كلية ،كون نجاح هذه الفكرة للمستَخ َلف ،فهي تفتقر يقين ًا إىل احلركة اجلليلة ومتامها لن تكتمل من دون متثيل ُ واجلهد والعمل اجلاد لتحقيق تلك النظرية اإلهلية والسعي إىل إزالة العوارض 401
واملصدات إليها بالتغيري واإلصالح . وبام إن فكرة نظرية اخلالفة اإلهلية لن تتحقق من دون ما أرشنا إليه سلف ًا اقتىض عىل الباحث أن يكمل مشواره يف عرض متام الفكرة بعد أن ذكر أسسها ومقدماهتا يف املطلب السابق ،إذ وجد نفسه مضطر ًا أن يقف عند هذه املفردات ولو بالصورة اإلمجالية. وبتأملنا للخطوات أعاله يتضح منها أننا دخلنا إىل التنمية البرشية من أوسع أبواهبا ،كون التنمية البرشية تقتيض وجود فكرة أو نظرية ،ثم وجود أدوات وسبل لتحقيق تلك النظرية ،ولزم وجود غاية تكون بمثابة الدافع واحلافز ،كام اقتضت الرضورة عىل ترمجة هذه األفكار إىل خطوات إجرائية مبتغاها حتقيق رؤية تلك النظرية وفلسفتها ،كان من أولوياهتا االرتقاء باإلنسان من حال إىل أحسن حال .
402
( )1مبدأ االستخالف.
تكاد تكون نظرة اإلسالم والقران الكريم إىل اإلنسان نظرة تنفرد متام ًا عن كافة الرؤى والفلسفات الوضعية والساموية األخرى ،فالدين اإلسالمي وضع مكان ًة خاص ًة لإلنسان ارتقت به إىل درجة استخالف علة العلل املوجد إليه ،ألن الدين (هو العالقة التفاعلية بني اهلل واإلنسان ،وإذا كان اهلل سبحانه وتعاىل هو الدَ ى َو ِد ِ ين حَْ ﴿ه َو ا َّل ِذي َأ ْر َس َل َر ُسو َل ُه بِ هُْ ال ِّق ﴾( )1فإن العلة العلة الفاعلة للدينُ ، الغائية للدين إنام هي اإلنسان) ( )2باحلتمية. فاإلنسان هو الغاية الرئيسة من دين اإلسالم ،ويف الوقت نفسه هو الغاية ملرشوع التنمية البرشية القرآنية فـ( اإلنسان حيىض بعناية خاصة من اخلالق جتعله يف موقع متم ّيز عىل سائر املخلوقات ،وهذه العناية تبدأ من أصل تكوينه واستمرت
معه إىل حني اختاره خليفة اهلل عىل هذه األرض)( ،)3فاعتبار اإلنسان غاية القرآن مبني عىل ضوء اعتباره خليف َة اهللِ يف األرض عىل وفق الكريم والتنمية البرشية ٌّ اجلعل اإلهلي ﴿إ ج ِ اع ٌل يِف األَ ْر ِ ض َخلِي َف ًة﴾( ،)4وبام إن هناك غايات صغرى ِنيِّ َ ((( التوبة.33 : ((( شفيق جرادي ،مقاربات منهجية يف فلسفة الدين.55 ، ((( صدر الدين القمنجي ،األسس الفلسفية للحداثة.135 ، ((( البقرة :اآلية.30 ،
403
عدت وسائل لتحقيق الغايات الكربى والتي نعني هبا بناء اإلنسان واالرتقاء به إىل درجة االستخالف لتحقيق نظرية اخلالفة اإلهلية ،اقتىض تالزم بناء اهليكل العلوي هلذا املرشوع بركيزتني أوالمها البناء الداخيل لإلنسان املتمثل بإصالح رصاعاته النفسية وترويضها خدمة للمرشوع كي يؤهل إىل الدرجة التي رسمها اهلل تعاىل له والركيزة الثانية هي البناء اخلارجي للهيكل العلوي املتمثل بذات أدوات االستخالف املتمثلة بإقامة وترمجة حكم اهلل يف األرض لقوله تعاىل﴿ :إِ ْن حُْ الك ُْم ِ ِ إِالَّ للِهَِّ َي ُق ُّص حَْ ني﴾(.)1 ال َّق َو ُه َو َخ رْ ُي ا ْل َفاصل َ ك لِ ْلمالئِك َِة إ ج ِ اع ٌل يِف األَ ْر ِ ض َخلِي َف ًة ِنيِّ َ وبالعودة لقوله تعاىلَ : ﴿وإِ ْذ َق َال َر ُّب َ َ اء َون َْح ُن ن َُس ِّب ُح بِ َح ْم ِد َك َو ُن َقدِّ ُس َل َ َقا ُلوا َأ جَ ْت َع ُل فِ َيها َم ْن ُي ْف ِسدُ فِ َيها َو َي ْس ِف ُ ك ك الدِّ َم َ ون﴾(.)2 َق َال إِنيِّ َأ ْع َل ُم َما ال َت ْع َل ُم َ
نستطيع أن نستشف من اآلية املباركة أن اهلل تعاىل ينبئ املالئكة بإنشاء جمتمع عىل األرض ،أوجب وجوده ثالثة عنارص هي اإلنسان ،واألرض أو الطبيعة، والعالقة املعنوية التي تربط اإلنسان بالطبيعة وبأخيه اإلنسان ،مع افرتاض وجود طرف رابع ُيعدّ مقوم ًا من املقومات األساسية للعالقة االجتامعية ،عىل الرغم من
((( األنعام.57 : ((( البقرة .30:،
404
أنه خارج نطاق املجتمع ،وهو العالقة التي سميت قرآني ًا باإلستخالف ( ،)1كون ف ومستخ َل ٍ مستخل ٍ ِ ِ ف ستخلف ًا أيض ًا ،البد من اعتامد هذا املبدأ يفرتض وجود ُم مستخل ٍ ِ ف وهو اهلل تعاىل ،واملستخ َلف ف ،إذ ال استخالف من دون عليه ومستخ َل ْ
وهو اإلنسان ،واملستخ َلف عليه هو األرض وما عليها و َم ْن عليها(.)2 املستخلف ﴿إ ج ِ ِ اع ٌل﴾ الذي اخرب اهلل وبذلك لزم ملبدأ االستخالف وجود ِنيِّ َ تعاىل املالئكة حني حدد املستخ َلف عليه وهو يِ ﴿ف األَ ْر ِ ض﴾ و َم ْن عليها ،وحدد ﴿خلِي َف ًة﴾ وهو اإلنسان ،وكذا حني استمكنه يف إدراك احلقائق وظيفة املستخ َلف َ
واملعارف ليكون مؤه َ ال وأنموذج ًا حقيقي ًا لالستخالف حني شاء اهلل بأمره ﴿َ َع َّل َم آ َد َم األَ ْسماَ َء ُك َّل َها﴾( )3فتعليم اهلل تعاىل آلدم بعلم مبارش ،يعني انه تعاىل (ميزه عن سائر خلقه هبذا املقام اخلطري بان علمه ما مل يعلم)( )4وهي أجىل أدوات
((( ذهب الباحث إىل تسمية هذا املطلب بـ(نظرية اخلالفة اإلهلية) التي تنضوي حتتها عدة مبادئ وخطوات منها :مبدأ التسخري ،مبدأ التمكني ،مبدأ االستخالف ،مبدأ عامرة األرض ،مبدأ اإلصالح ،بحيث تعد مجيع تلك املبادئ هي عنارص تتجانس فيام بينها لتشكل الصورة املتكاملة لنظرية اخلالفة اإلهلية ،فهي أجزاء تشكل جمتمعة هيكل النظرية وفكرهتا وأدوات تطبيقها ،يف حني ذهب غريه من الباحثني إىل تسمية اجلزء بالكل ،ال بداعي أمهية اجلزء ،بل لتبنيهم أن اخلالفة اإلهلية موقوفة عىل مبدأ االستخالف. ((( ظ :حممد باقر الصدر ،املدرسة القرآنية.107-106 ، ((( البقرة.32 ، ((( عبد األعىل السبزواري ،مواهب الرمحن يف تفسري القران.180 ،1 ،
405
اإلستخالف. ولعل استمكان اإلنسان لألرض والساموات وتسخري ذلك من اهلل تعاىل هلا نابع عىل أساس عملية االستخالف ،كون اإلنسان خليفة اهلل تعاىل من جهة، وانصياع السموات واألرض وما بينهام لقيادة اإلنسان كون املوجودات أبت محل أمانة اهلل تعاىل وهي اخلالفة ،مع قبول اإلنسان بحملها من جهة ثانية ،فانضوت بقية املوجودات بام فيها الساموات واألرض حتت نطاق اخلالفة ﴿إِنَّا َع َر ْضنَا األَ َما َن َة ِ ال َف َأب َأ ْن حَ ِ ع ىَل السمو ِ ض َو جِْ ح َل َها ا ِ ات َواألَ ْر ِ ان إِ َّن ُه إلن َْس ُ ال َب ِ َ ينْ َ َّ َ َ َ يم ْلن ََها َو َأ ْش َف ْق َن من َْها َو مَ َ ْ
َان َظ ُلوم ًا َج ُهوالً﴾( ،)1أي إن هذا العرض اإلهلي لألمانة عىل اإلنسان عرض ك َ تكويني ال عرض ترشيعي ،وأن هذه العطية الربانية كانت تفتيش عن املوضع املقابل هلا يف الطبيعة ،املوضع املنسجم معها بطبيعته ليكون اإلنسان هو الكائن الوحيد الذي كان بحكم تركيبته ،بحكم بنيته ،بحكم فطرة اهلل ،كان منسج ًام مع هذه األمانة ،وتصبح خالفة ،إذ ًا فالعرض هنا عرض تكويني والقبول من اإلنسان
إىل ذلك العقد قبول تكويني أيض ًا(.)2
فاآليات السابقة قد حددت لنا معامل مبدأ استخالف اإلنسان هلل تعاىل واستمكانه األرض والطبيعة التي سخرها اهلل تعاىل إليه لغرض تفعيل وتأمني مبدأ االستخالف الذي هو مبدأ ساموي هدفه وغرضه ﴿إِنَّا َع َر ْضنَا األَ َما َن َة﴾
((( األحزاب . 72 : ((( ظ :حممد باقر الصدر ،املدرسة القرآنية.111 ،
406
أي (التكليف وهو األمر بخالف ما يف الطبيعة) ( ،)1لقد حتدث القرآن الكريم عن عملية (حتمل اإلنسان ألعباء هذه اخلالفة بوصفها أمانة عظيمة ينوء الكون بحملها)( ،)2وبمعنى آخر أن (الوالية اإلهلية واالستكامل بحقائق الدين احلق عل ًام
وعم ً ال وعرضها هو اعتبارها مقيسة إىل هذه األشياء)(.)3 ح َل َها ا ِ ان﴾ فاملراد منه أن اإلنسان (اشتمل عىل إلن َْس ُ أما قوله تعاىلَ : ﴿و مَ َ
صالحيتها والتهيؤ للتلبس هبا عىل ضعفه وصغر حجمه)( ،)4وقوله تعاىل﴿ :إِ َّن ُه َان َظ ُلوم ًا َج ُهوالً﴾ ،فقد ذهب بعض املفرسين إىل أن (اإلنسان نظر إىل جانب ك َ املكلف ،وقال املودع عامل قادر ال يعرض األمانة إال عىل أهلها ،وإذا أودع ال يزكها ِ اك َن ْع ُبدُ َوإِ َّي َ بل حيفظها بعينه وعونه فقبلها وقال﴿ :إِ َّي َ ني﴾( ،)6())5وبغض اك ن َْستَع ُ النظر عن سالمة وصحة هذا الرأي من عدمه ،إال إنه يكاد يطابق ما نسعى إليه من نتيجة خاصة لو تأملنا بمدلول ظاهر اآلية املباركة كدليل من جهة ،وبحكم
((( الرازي ،التفسري الكبري مج 204 ،25 ،13 ((( حممد باقر الصدر ،اإلسالم يقود احلياة.127 ، ((( حممد حسني الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القران.375 ،16 ، ((( املصدر نفسه.375 ،16 ، ((( الفاحتة.5 : ((( الرازي ،التفسري الكبري ،مج .205 ،25 ،13
407
الدليل العقيل من جهة أخرى الذي يقر عىل أن اختيار اهلل تعاىل لإلنسان يف محله لألمانة واستخالفه إليه مبني عىل ما استعرضناه من مقدمات ،منها الفطرة ،العقل، املؤهالت ،اإلرادة والعزم ،الرتكيبة ،البنية. َان َظ ُلوم ًا َج ُهوالً﴾ مشري ًا إىل أهنا وقد علق ابن عاشور عىل قوله تعاىل﴿ :إِ َّن ُه ك َ
مجلة استئناف بياين وليست مجلة تعليلية( ،)1وهبذا سيكون اإلنسان (ظامل ًا لنفسه
جاه ً ال بام تعقبه هذه األمانة لو خاهنا من وخيم العاقبة واهلالك الدائم)(.)2 ومن خالل التدبر يف اآليات املذكورة آنف ًا ُيستنتج إن اإلنسان قد قبل تكويني ًا حتمل األمانة فأخذ موقع االستخالف ،وهبذا سيكون اإلنسان عىل وفق الرؤية القرآنية أمام مفرتق طريق بني أن يكون مؤه ً ال قادر ًا لتلبس هذا النمط من الوجوب بحيث يكون أه ً ال لنظرية اخلالفة اإلهلية انسجام ًا مع فطرته وإرادة عقله ومنهج التنمية البرشية ،أو أن يكون ظامل ًا لنفسه فاسق ًا فاجر ًا بمخالفة أمر اهلل تعاىل ،وهذا ما وضحه األعم األغلب من السياق القرآين ،حيث خاطب اإلنسان بلزوم امتثال ك لِلدِّ ِ أمر اهلل تعاىل واالنتهاء عن هنيه ﴿ َف َأ ِق ْم َو ْج َه َ ين َحنِيف ًا فِ ْط َر َة اللهَِّ ا َّلتِي َف َط َر َّاس َع َل ْي َها ال َت ْب ِد َ يل َخِل ْل ِق اللهَِّ َذلِ َ ين ا ْل َق ِّي ُم﴾(.)3 الن َ ك الدِّ ُ ك لِلدِّ ِ فاألمر بقوله تعاىلَ ﴿ :ف َأ ِق ْم َو ْج َه َ ين﴾ ما هو إال أمر وجويب أي (أقم
((( ظ :أبن عاشور ،تفسري التنوير والتحرير ،مج.129 ،22 ،9 ((( املصدر نفسه ،مج.130 ،22 ،9 ((( الروم.30 :
408
﴿حنِيف ًا﴾ قصدك للدين .....ودم عىل االستقامة)( ،)1بينام ذكر القرآن الكريم َ إشار ًة إىل أن يكون عمل اإلنسان ومسعاه هلل (مائ ً ال إليه ثابت ًا عليه مستقي ًام فيه ال
تراجع عنه إىل غريه)(.)2 وبمقتىض ذلك نلحظ أن اإلنسان يفتقر إىل اجلهاد والرتويض والسعي لتحقيق مبدأ االستخالف وهو منهج تنموي يلزم اإلنسان باالرتقاء بنفسه للوصول إىل مبتغى اهلل سبحانه ،فاآلية تؤكد هذا املطلب وهي تشري خماطب ًة اإلنسان إذا أردت أن تعبد اهلل حق ًا عليك أن تنحرف عن كل الضغوط والقيام بمعنى الكامل ،كام تعرب اآلية عن رضورة خلوص العمل بالدين من شوائب الرشك بـ﴿ َف َأ ِق ْم َو ْج َه َ ك لِلدِّ ِ ين﴾ ألن جمرد قبول الدين ال يكفي ،بل ينبغي تطبيق التوجيهات الساموية(،)3
وبخالف ذلك يكون اإلنسان خارج دائرة االستخالف ومحل األمانة ،وحينذاك ُيعدّ مصداق ًا لقوله تعاىلَ ﴿ :ظ ُلوم ًا َج ُهوالً ﴾. من هنا نجد أن القرآن الكريم قد سلط الضوء عىل أهم العنارص األربعة يف عملية االستخالف ،وهو اإلنسان بعد اهلل تعاىل ،ألنه هو القادر عىل التأثري والتأثر وهو العنرص األساس لتحقيق مبدأ االستخالف بوصفه وسيل ًة مهم ًة ،فض ً ال عن أنه الغاية ،وبالعودة ملنهج وحركة التنمية البرشية نجد أهنا تتحرك مع هذا النشاط،
((( الطربيس ،جممع البيان يف تفسري القرآن ،ج.25 ،21 ،5 ((( املصدر نفسه ،ج.25 ،21 ،5 ((( حممد تقي املدريس ،من هدى القرآن.38 ،7 ،
409
لذا فإن اآليات املذكورة آنف ًا حاولت أن تصور اإلنسان عىل الرغم من أنه مأمور ومكلف فإننا نجده قادر ًا حر ًا مميز ًا لتبني مبدأ االستخالف ،لذا كرمه اهلل تعاىل، ِ ِ ِ ح ْلن ُ يِ َاه ْم َاه ْم م ْن ال َّط ِّي َبات َو َف َّض ْلن ُ ب َوا ْل َب ْح ِر َو َر َز ْقن ُ ﴿َ َل َقدْ ك ََّر ْمنَا َبني آ َد َم َو مَ َ َاه ْم ف ا ْل رَ ِّ َع ىَل ك ٍ َثِري مِم َّ ْن َخ َل ْقنَا َت ْف ِضيالً﴾(.)1 ولعل انصع أوجه تكريم اإلنسان هو ما عرضه القرآن الكريم يف قوله وحي َف َقعوا َله س ِ ِ ت فِ ِيه ِمن ر ِ ين﴾( ،)2فاآلية حتمل بني تعاىلَ﴿:إِ َذا َس َّو ْي ُت ُه َو َن َفخْ ُ اجد َ ُ ُ َ ْ ُ
طياهتا ك ًام هائ ً ال من الدالالت التي توحي إىل رفعة وجاللة هذا املخلوق من خالل أمر املالئكة بالسجود كرامة له كداللة للعناية اإلهلية هبذا املخلوق الذي ُرسمت َاه ْم َع ىَل إليه السيادة والريادة منذ الوهلة األوىل خللقه ،لذا قال ّ عز وجل فيه ﴿َ َف َّض ْلن ُ ك ٍ َثِري مِم َّ ْن َخ َل ْقنَا َت ْف ِضيالً﴾ ،وبمقتىض(هذه اخلالفة استحق أن تسجد له املالئكة،
وتدين له بالطاعة كل قوى الكون املنظور وغري املنظور)( )3وال بد من اإليضاح بأن السجود ههنا ليس سجود ًا عبادي ًا آلدم ألن السجود كان هلل تعاىل اجالالً خللقه آدم ألنه أودع فيه مؤهالت اخلالفة ،والالم يف ﴿ َل ُه﴾ سببية أي اسجدوا يل بسبب خلق آدم. فبحكم نظرية اخلالفة اإلهلية يكون اإلنسان مأمور ًا يف مبدأ استخالف اهلل يف
((( اإلرساء.70 : ((( ص.72 : ((( حممد باقر الصدر ،اإلسالم يقود احلياة.127 ،
410
األرض من خالل إحيائه إليها وبناء احلضارة عليها ،لذا مكنه اهلل تعاىل األرض وما فيها من طبيعة ،وأودع فيه كافة القوى العقلية والبدنية والروحية والنفسية المتالك األرض ومن عليها وتطويعها إليه وتنميتها بغية إشباع حاجاته وحتقيق طموحاته املرشوعة ،وهبذه املؤهالت نال رشف اخلالفة من اهلل تعاىل من دون ف يِف األَ ْر ِ سائر املخلوقات ﴿ ُث َّم َج َع ْلنَاك ُْم َخالئِ َ ض﴾(.)1
نخلص مما تقدم اىل أن مبدأ االستخالف جزء من منظومة اخلالفة اإلهلية ،وأن تكريم اإلنسان باالستخالف مبني عىل اجلعل التكويني منه سبحانه ،واالستخالف منوط باألرض حرص ًا فهو مقيد بعامل الدنيا تنتهي بانتهائها أو بانتهاء قيام اإلنسان عليها ،وأنه منوط باحلياة لذا فهو استخالف مؤقت ينتقل من إنسان آلخر، االستخالف مقيد بادراك والتزام اإلنسان وعمله وحسن تدبره وتنمية قدراته. فاالستخالف مبدأ قرآين تنموي هدفه بناء اإلنسان واالرتقاء به إىل مستوى خالفة اهلل والتخلق بخلقه والتشبه به تعاىل ،إذ روي عن رسول اهلل nأنه قال:
( ختلقوا بأخالق اهلل)( )2ونقل عنه أيض ًا أنه قال( :حسن اخللق خلق اهلل األعظم)(.)3 فبمقتىض االستخالف لزم عىل اإلنسان القيام بدوره يف تنمية ذاته وما حييط به كام أمره اهلل سبحانه وتعاىل من خالل تنمية مكوناته اإليامنية والعملية ،وما
((( يونس.14 : ((( حمسن الكاشاين ،املحجة البيضاء ،مج ،64 ،5 ، 3وانظر مصادره. ((( املصدر نفسه ،مج.64 ،5 ، 3
411
ذلك إال عني التنمية البرشية واساسها ،وهذا ما نلمسه بوضوح ونحن نتطلع إىل احلرضة اإلهلية وهي ختاطب داود Aحمدد ًة له وجوب متثيل مبدأ خالفة اهلل تعاىل يف األرض من خالل "احلق" الذي يمثل اجلانب اإليامين (الفكري والعقائدي)، وبالسلوك القويم الذي ُيعدّ الركن الثاين لتنمية اإلنسان واحلياة واحلضارة التي تسعى ملرشوع التكامل من خالل نبذ السلوك الشاذ املقرون باهلوىَ ﴿ ،يا َد ُاوو ُد َّاس بِ حَْ احك ُْم َبينْ َ الن ِ َاك َخلِي َف ًة يِف األَ ْر ِ إِنَّا َج َع ْلن َ ال ِّق َوال َت َّتبِ ْع هَْال َوى َف ُي ِض َّل َ ك ض َف ْ
َع ْن َسبِ ِ يل اللهَِّ﴾( ،)1وهبذين املعيارين سيحدد خليفة اهلل تعاىل من عدمه ،أي إن اإلنسان سيكون خليفة اهلل عىل قدر قربه وبعده من اخلط البياين لتمثيل اهلل تعاىل ف األَ ْر ِ ﴿و ُه َو ا َّل ِذي َج َع َلك ُْم َخالئِ َ ض بدرجة عالية من املناخ اإليامين والسلوكيَ ، ض درج ٍ ات﴾ ،نستفيد من مدلول اآلية املباركة أن هناك َو َر َف َع َب ْع َضك ُْم َف ْو َق َب ْع ٍ َ َ َ تباين ًا يف مرتبة متثيل اهلل تعاىل للخالفة التي تُعدّ رفعتها وعلوها بقدر االرتقاء الذي ِ ستخلف ( ،)2كام نستفيد من مدلوهلا أيض ًا أن اخلالفة يتناسب ومستوى ومقام َم ْن ُا
((( ص.26 : ((( لعل السبب من عصمة األنبياء واألوصياء هو أهنم عليهم السالم يمثلون السفارة اإلهلية النابعة من إرادة اهلل تعاىل ،وهم يمثلون عني خالفة اهلل يف األرض كوهنم رسله إىل البرشية بام حيملون من كتب حتمل بني حناياها أحكام السامء ،قال اهلل تعاىلَ ﴿:يا َد ُاوو ُد َاك َخ ِلي َف ًة فيِ األَ ْر ِ احك ُْم َبينْ َ الن ِ َّاس بِالحْ َ ِّق َوال َتتَّبِ ْع الهْ َ َوى َف ُي ِض َّل َك َع ْن َسبِ ِ إِنَّا َج َع ْلن َ يل ض َف ْ
الل﴾.
412
اإلهلية ليست مقترصة عىل األنبياء فحسب بل كل النوع البرشي من دون متييز كون دعوة استخالف اهلل يف األرض قائمة لغري األنبياء واألوصياء من بقية البرش الذي قد يرقي بعض منهم باالجتهاد واملثابرة والتنمية والتطور إىل درجة اخلليفة، خرج حينئذ الكفرة والفسقة من بقية البرش عن دائرة اخلالفة. ل ُي ّ ﴿و َل َقدْ َك َت ْبنَا لتكون هذه اخلالفة امتداد ًا طبيعي ًا لتمثيل اهلل تعاىل يف األرضَ ، ادي الص ُحِ الذك ِْر َأ َّن األَر َض ي ِر ُثها ِعب ِ يِف ال َّز ُب ِ ور ِم ْن َب ْع ِد ِّ ون﴾( ،)2وهبذا سيكون ال َ َّ َ َ َ ْ
()1
املعيار يف احلرضة اإلهلية هو معيار الصالح املتمثل يف موردين اثنني مها اجلانب النظري الفكري "اإليامن" واجلانب اإلجرائي السلوكي "العمل الصالح" ﴿إِ َّن س* إِالَّ ا َّل ِذين آمنُوا وع ِم ُلوا الص َحِ ِ ا ِ ان َل ِفي ُخ رْ ٍ اص ْوا بِ حَْ اص ْوا نس َ َّ َ َ َ َ ال ِّق َوت ََو َ الات َوت ََو َ إل َ
الص رِْب﴾( )3مما يقتيض حينئذ بناء مرشوع تنموي جبار يطرق اجلانب الفكري بِ َّ
ومنظومتها كحجر أساس للتنمية البرشية وجانب سلوكي أدائي يطرق جماالت احلياة العملية املختلفة بحيث تكون التنمية البرشية يف هذا املرشوع بمثابة الوسيلة لتحقيق مبدأ االستخالف الذي هو جزء من نظرية اخلالفة اإلهلية عموم ًا.
((( ظ :التحفيز اإليامين ،ميثم السلامن.49 ، ((( احلج.105 : ((( العرص. 3 -2 :
413
414
( :)2مبدأ التسخير والتمكين .
إن مبدأ االستخالف هو ليس مرشوع ًا يفرض وجوده بعرض بنوده من دون إمكانية متثيله عىل أرض الواقع ; بل هي جمموعة من األفكار والرؤى تنسجم عملي ًا مع الواقع والساحة احلياتية من جهة ،من خالل مزية واعتبار اإلنسان ورفعة مكانته عن بقية املخلوقات من جهة أخرى ﴿ َل َقدْ َخ َل ْقنَا ا ِ ان يِف َأ ْح َس ِن نس َ إل َ
َت ْق ِوي ٍم ﴾(.)1 ولكي نؤصل هذا املبدأ قرآني ًا وواقعي ًا علينا أن ننظر إىل القرآن الكريم بام رصح به ملبدأ التسخري كمرحلة الحقة تيل فكرة مبدأ االستخالف ،كام علينا أن ننظر بعني الواقع إىل الطبيعة لتثبيت ذلك التأصيل القرآين هلذا املبدأ الذي اقتضت حكمة السامء أن تطوع وتسخر األرض خدمة لإلنسان بوصفه (املستأمن من قبل اهلل تعاىل عىل مصادر الثروة يف الكون ليدبر أمرها ويدير شأهنا وفق ًا للروح العامة
مللكية اهلل تعاىل)(.)2 وكأن املراد من هذه احللقة أن ترتبط باحللقة التي سبقتها لتشكل صورة متكاملة عن فلسفة نظرية اخلالفة اإلهلية ،التي تُعدّ تسخري الكون أحد أهم حلقاهتا لتفعيل النظرية وتثبيت دعائمها ،وتُعدّ مجيع ما سخر لإلنسان هي املادة التي استأمنها اهلل تعاىل لديه وهي الوسيلة يف الوقت نفسه لبلوغ مبدأ االستخالف ،ألن التسخري ((( التني. 4: ((( حممد باقر الصدر ،اإلسالم يقود احلياة.35 ،
415
يعني (قهر الفاعل يف فعله بحيث يفعله عىل ما يستدعيه القاهر ويريده ،كتسخري الكاتب القلم للكتابة ،وكام يسخر املوىل عبده واملخدوم يف أن يفعل باختياره وإرادته ما خيتاره ويريده املوىل واملخدوم واألسباب الكونية كائنة ما كانت تفعل
بسبب ّيتها اخلاصة ما يريده اهلل من نظام يدبر به العامل اإلنساين)(.)1 ونستطيع أن نقول أنه كام سخر اهلل تعاىل األرض وما فيها وما عليها كوسيلة لتحقيق مبدأ االستخالف لإلنسان ،كوهنا ُخلقت من اجله مسخرة لتأمني حاجاته املرشوعة ،كذا نستطيع أن ندعي أن هذه الوظيفة تأيت بمرتبة ومنزلة أحدى وظائف التنمية البرشية حني تُعدّ األهداف الثانوية كوسيلة لتحقيق األهداف والغايات الكربى ،وبام أن هدف التنمية البرشية هو اإلنسان فإننا نجد أنفسنا أمام مضامني فلسفة نظرية اخلالفة التي جتعل من أولوياهتا اإلنسان ،فض ً ال عن اعتبار أن البيئة التي حتيط باإلنسان هي من أهم موارد التنمية البرشية وعنارصها األساسية ،وهذا ما نلمسه جلي ًا يف القرآن الكريم ونحن نرتل آيات التسخري ،بحيث يدرك املتدبر يف اآليات املباركة متانة الرابطة وقوة االنسجام بني اإلنسان والطبيعة دون عناء سري ًا يف نطاق حتقيق منظومة التنمية البرشية ِ املوصلة لتحقيق اخلالفة . ِ ِ ي ا ْل ُف ْل ُ ك فِ ِيه بِ َأ ْم ِر ِه قال سبحانه وتعاىل ﴿:اللهَُّ ا َّلذي َسخَّ َر َلك ُْم ا ْل َب ْح َر لت َْج ِر َ ون * وسخَّ ر َلكُم ما يِف السمو ِ ِِ ِ ِ ات َو َما يِف األَ ْر ِ ض َّ َ َ َول َت ْب َتغُوا م ْن َف ْضله َو َل َع َّلك ُْم ت َْشك ُُر َ َ َ َ ْ َ ك آلي ٍ ِ مَِ ِ ون﴾( ،)2اآلية املباركة تؤكد مطلب تسخري ات لِ َق ْو ٍم َي َت َفك َُّر َ جيع ًا منْ ُه إِ َّن يِف َذل َ َ ((( حممد حسني الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القرآن.234 ،16، ((( اجلاثية.13 -12 :
416
عموم ما يف الكون بداللة استعامل االسم املوصول﴿ َما﴾ مع السامء ومع األرض إذ تدل﴿ َما﴾ عىل العموم االستغراقي أي كل ما يف السموات من إمكانية وما يف ﴿و َسخَّ َر األرض كذلك هو يف خدمة اإلنسان ،وكذا هو املدلول يف قوله تعاىلَ : َلكُم ما يِف السمو ِ ات َو َما يِف األَ ْر ِ ض جمَِيع ًا﴾ عىل الرغم من أن اآلية التي سبقتها قد َّ َ َ ْ َ ِ ِ ِ ِ ي ا ْل ُف ْل ُ ك فيه بِ َأ ْم ِره﴾ ﴿سخَّ َر َلك ُْم ا ْل َب ْح َر لت َْج ِر َ خصصت التسخري مصور ًة إياه يف َ
فهو(تعميم بعد ختصيص اقتضاه االهتامم أوالً ثم التعميم ثاني ًا)( ،)1واملراد من معنى التسخري هو تذليل ما يف السموات واألرض مجيع ًا ،وقد أكد هذا املعنى الطربيس حينام قال( :ومعنى تسخريها لنا أنه تعاىل خلقها مجيع ًا النتفاعنا هبا ،فهي
مسخرة لنا من حيث إنا ننتفع هبا عىل الوجه الذي نريده)( ،)2ومفاد اآلية أن ما يف الكون مجيع ًا خلق ألجل انتفاع اإلنسان به ،فسبحانه وتعاىل (سخر هذه األشياء كائنة منه وحاصلة من عنده يعني أنه تعاىل مكوهنا وموجدها بقدرته وحكمته ثم
مسخرها خللقه)(.)3 أما الطباطبائي فقد أشار إىل أن (معنى تسخريها لإلنسان أن أجزاء العامل املشهود جتري عىل نظام واحد حيكم فيها ويربط بعضها ببعض ويربط اجلميع باإلنسان فينتفع يف حياته من علوهيا وسفليها وال يزال املجتمع البرشي يتوسع يف
((( إبن عاشور ،تفسري التحرير والتنوير ،مج.337 ،25 ،10 ((( الطربيس ،جممع البيان ،مج.129 ،25 ، 5 ((( الرازي ،التفسري الكبري ،مج.232 ،27 ،14
417
االنتفاع هبا واالستفادة من توسيطها والتوسل بشتاهتا يف احلصول عىل مزايا احلياة
فالكل مسخر له)( )1فالطبطبائي حياول أن يوضح قوة الرابطة بني اإلنسان والكون وانسجام احلركة بينهام عىل أساس تسخري الكون لإلنسان من جهة ورضورة رعاية اإلنسان لتلك املوجودات املسخرة إليه وخدمة له ،فهي حماولة علمية دقيقة لبيان معامل التنمية البرشية عىل وفق الرؤية القرآنية ومن مبدأ التسخري. والنكتة املهمة التي نستشفها من مدلول اآلية املباركة أيض ًا أن التسخري ليس موقوف ًا عىل أساس جتسيد االستخالف فقط ،بل هو دليل عىل رفعة هذا املخلوق ومنزلته عند اهلل تعاىل الذي كرمه يف موارد كثرية ،حني ميزه بعقله وحسن خلقه من غريه من املخلوقات ،وعند استخالفه عىل األرض ،وكرمه هنا أيض ًا حني سخر له الكون ،وما ذلك إال دليل عىل انسجام وتكامل النظرية القرآنية وترابط فروعها بأصوهلا. ان مفاد القول إن مرحلة االستخالف تقتيض التسخري ،ألن اإلنسان بحكم أنه خملوق من قبل ا ُملوجد ال يستطيع أن يقوم بمهمة االستخالف يف األرض من دون أن ُيسخر له سبحانه وتعاىل إمكانات تُعدّ مقدمات وأدوات إىل حتقيق تلك اخلطوة املهمة ،التي هي إحدى حلقات نظرية اخلالفة اإلهلية ،وقد يرس اهلل ّ جل وعال كافة املخلوقات والكائنات يف األرض لإلنسان ،حني قال سبحانه تعاىل: ﴿ مََل تَروا َأ َّن اللهََّ سخَّ ر َلكُم ما يِف السمو ِ ات َو َما يِف األَ ْر ِ ض َو َأ ْس َبغَ َع َل ْيك ُْم نِ َع َم ُه َّ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ
((( حممد حسني الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القرآن.165 ،18 ،
418
َّاس من جُي ِ ِ ِ ِ َاب ُم ٍ اد ُل يِف اللهَِّ بِغ رِْ َي ِع ْل ٍم َوال ُهدً ى َوال كِت ٍ نِري﴾(.)1 َظاه َر ًة َو َباطنَ ًة َوم َن الن ِ َ ْ َ فاآلية املباركة تتحدث عن عامة النعم بعد أن خصصتها يف آيات تلت هذه اآلية ،فهي ختاطب عموم البرش عىل الرغم من وجود رشحية خماطبة بعينها – عىل أساس أن العربة بعموم اللفظ ال بخصوص السبب( -أي سخر ألجلكم ما يف الساموات ....وسخر ما يف األرض ألجل عباده)( ،)2واحلق ما ذهب إليه صاحب
امليزان حني قال( :املراد بتسخري الساموات واألرض لإلنسان و هم يرون ذلك ما نشاهده من ارتباط أجزاء الكون بعضها ببعض يف نظام عام يدبر أمر العامل عامة واإلنسان خاصة لكونه أرشف أجزاء هذا العامل املحسوس بام فيه من الشعور
اإلرادة فقد سخر اهلل الكون ألجله)(.)3 ﴿و َأ ْس َبغَ َع َل ْيك ُْم واآلية املباركة تنعطف زيادة عىل ذكر التسخري إىل مصداقه َ ﴿أ َّن اللهََّ سخَّ ر َلكُم ما يِف السمو ِ نِعمه َظ ِ اه َر ًة َو َباطِنَ ًة﴾ فأعظم نعمه تعاىلَ : ات َو َما يِف َّ َ َ ََُ َ َ ْ َ األَ ْر ِ ض﴾ ،وهو (ما ال يمكنكم جحده من خلقكم وأحياكم واقداركم)(،)4فظاهر
اآلية أن مرادها أن اهلل تعاىل قد َسخر لإلنسان مجيع ما يف الكون وأسبغ عليه النعم الظاهرة والباطنة ،أي التي يدركها اإلنسان ويتحسسها والتي ال يدركها
((( لقامن.20 : ((( الرازي ،التفسري الكبري ،مج.132 ،25 ،13 ((( حممد حسني الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القرآن.233 ،16، ((( الطربيس ،جممع البيان ،مج.60 ،21 ،5
419
وغري ذلك لتأمني حاجاته ومتطلباته الذاتية الفردية واملوضوعية االجتامعية، وكذا الذاتية الشخصية أو املؤسساتية الكلية ،والتي تصب مجيعها يف حتقيق مرشوع التنمية البرشية الذي هو جزء من نظرية اخلالفة اإلهلية ،وما تسخري الكون لإلنسان إال ألنه أحد الطرق املؤدية لتحيق مرشوع التنمية احلضارية ،فإن معنى واسع ًا يشمل األمور التي (لتسخري املوجودات الساموية واألرضية لإلنسان ً يف قبضته واختياره ،ويستخدمها برغبته وإرادته يف طريق حتصيل منافعه ككثري من املوجودات األرضية ،كام تشمل األمور التي ليست حتت ترصفه واختياره ،لكنّها
ختدم اإلنسان بأمر اهلل ّ جل وعال)(.)1 فالقرآن الكريم قد عرض إىل عدد من اآليات التي رصحت تارة وملحت تارة أخرى ملبدأ التسخري ونستشف من هذا العرض أن أهم ما يف هذا املطلب ما نستفيده هو: أوالً :إن اإلنسان أكمل من مجيع املوجودات بدليل أن سخر له كل ما يف الكون. ثاني ًا :إن املقصود من التسخري هو ليس أن تكون الكائنات مجيع ًا حتت إمرة
اإلنسان ،بل هي تدخل ضمن منافعه وخدمته(.)2 وإن ما ورد أعاله نتلمسه واضح ًا ونحن نقرأ قوله تعاىل﴿ :اللهَُّ ا َّل ِذي َر َف َع السمو ِ ات بِغ رِْ َي َع َم ٍد ت ََر ْو هَنَا ُث َّم ْاست ََوى َع ىَل ا ْل َع ْر ِ ش َو َسخَّ َر َّ الش ْم َس َوا ْل َق َم َر ك ٌُّل َّ َ َ
((( نارص مكارم شريازي ،األمثل يف تفسري كتاب اهلل املنزل.246 -245 ،10، ((( ظ :املصدر نفسه.393 ،6،
420
اء ربكُم ت ِ ِ ِ ِ ُون﴾(،)1 ُوقن َ جَ ْ ي ِري ألَ َج ٍل ُم َس ًّمى ُيدَ ِّب ُر األَ ْم َر ُي َف ِّص ُل اآل َيات َل َع َّلك ُْم بِل َق َ ِّ ْ فاآلية املباركة ختتزل جمموعة مضامني منها ما نسعى إلثباته يف بيان معامل فلسفة التسخري وأثرها يف املنظومة الكونية وعالقتها كلي ًا باحلق سبحانه وتعاىل .ألن مبدأ التسخري كام أكدنا يرتبط باهلل تعاىل وجعله التكويني الذي فرض حاكميته سبحانه عىل الوجود بأرسه واإلنسان ،فمن الواجب أن يلتفت اإلنسان إىل إعداد ذاته إعداد ًا يتناسب مع ما كلف به كخليفة اهلل يف األرض قد سخر له الكون كله ،من خالل تنمية مهاراته وقدراته وتصوراته للتعامل مع ما سخر اهلل له حتى يستطيع أن يقوم بذلك عىل الوجه الذي أمر سبحانه وتعاىل به واالرتقاء إىل مرتبة نظرية يكمل اآلخر.....حاكمية اخلالفة اإلهلية ،وهبذا (ويتكامل هذان األصالن ،كل منهام ّ اهلل تعاىل يف حياة اإلنسان ،وخالفة اإلنسان عن اهلل تعاىل عىل األرض)(.)2
فلم يكن تأكيد مبدأ التسخري إال ألنه أحد أهم العالقات التي تشكل منظومة نظرية اخلالفة اإلهلية ،فهو نابع من واقع ما يرسه اجلليل ّ جل وعال لإلنسان ،مما يقتيض هنا أن يدرك اإلنسان رضورة حسن التعامل مع املسخرات (الطبيعية)، بحيث يكون هذا اإلحسان عىل وفق الرؤية الساموية وبنائها الرشعي الذي رشع الوجود عىل أساس التكامل والعدالة ،وللحفاظ عىل ذات املنهج اقتىض التعامل مع املخلوقات والكائنات والطبيعة عىل وفق هذا الذوق ،الذي ُيعدّ نشاط ًا يصب يف ذات بناء اإلنسان وتنميته ،فاحرتام السنة الكونية التي رشعها اهلل تعاىل للبرش ((( الرعد.2 : ((( حممد مهدي األصفي ،يف رحاب القرآن.135 ،
421
ُيعدّ إقرار ًا بالعبودية هلل تعاىل واحرتام ًا لإلنسان وما حييط به من سنن كونيه سخرت له ،وخلقت خلدمته وتأمني حاجته وتنميته باالرتقاء به من حال إىل أحسن حال. لذا يرى الباحث أن خمالفة اإلنسان لتلك السنن ومنها االنحراف عن فلسفة التسخري ومهمتها هو خرق اللتزاماته الرشعية والعقلية والطبيعية ،فسوء استخدام اإلنسان للموارد الطبيعية ،والعبث بتعامله مع الكائنات املختلفةُ ،يعدّ اختالالً يف النظم واملوازين التي تربك حركة اإلنسان ونشاطه التنموي وتربك ما حييط به يِ ت َأ ْي ِدي الن ِ َّاس ب َوا ْل َب ْح ِر بِماَ ك ََس َب ْ من موجودات يف هذا الكون ﴿ َظ َه َر ا ْل َف َسا ُد ف ا ْل رَ ِّ ون﴾(.)1 لِ ُي ِذي َق ُه ْم َب ْع َض ا َّل ِذي َع ِم ُلوا َل َع َّل ُه ْم َي ْر ِج ُع َ ﴿ه َو ا َّل ِذي َج َع َل َلك ُْم األَ ْر َض َذ ُلوالً َف ْام ُشوا يِف أما قوله سبحانه وتعاىلُ : ِ ِِ ِ ِ ور﴾(.)2 َمنَاكبِ َها َو ُك ُلوا م ْن ِرزْقه َوإِ َل ْيه الن ُُّش ُ فنستدل من ظاهر اآلية املباركة أن اهلل تعاىل ذلل األرض بجعل تكويني لإلنسان عىل أساس اآلية التي كانت حمور حديثنا ﴿إ ج ِ اع ٌل يِف األَ ْر ِ ض َخلِي َف ًة﴾( ،)3فهي ِنيِّ َ
ذات األرض التي ذللت وسخرت إليه ليقيم حدود اهلل سبحانه وتعاىل ،وبمعنى آخر كان البد من وجود أدوات وآليات تسخر لإلنسان كاألرض وبقية الكون لقيام أمره وتطبيق فصول نظرية اخلالفة.
((( الروم.14 : ((( امللك. 15 : ((( البقرة :اآلية.30 ،
422
﴿ه َو ا َّل ِذي َج َع َل َلك ُْم األَ ْر َض وعند تأملنا يف ﴿ َذ ُلوالً﴾ من قوله جل وعالُ :
َذ ُلوالً﴾ نستفيد أنه تعاىل طوع األرض وأالهنا وسهل ما فيها وما عليها لإلنسان (،)1 وما التذليل إال التسخري الذي نسعى لتحديده كمرحلة من مراحل نظرية اخلالفة ﴿ج َع َل َلك ُْم﴾ ،هذا فض ً ال اإلهلية ،والدليل عىل أهنا مسخرة لإلنسان قوله تعاىلَ : عن مدلول ما عرضنا إليه يف مدلول ﴿ َذ ُلوالً﴾ والتي تعني أن األرض (مطيعة مسخرة خلدمة اإلنسان يف مجيع املجاالت والظروف)( ،)2وهذا ما أكده صاحب امليزان حني قال :إن (تسمية األرض ذلوالً وجعل ظهورها مناكب هلا يستقر عليها
ويميش فيها باعتبار انقيادها ألنواع الترصفات اإلنسانية من غري امتناع)(.)3 وبعيد ًا عن أبعاد اآلية املباركة ومدلوالهتا الواسعة التي تكاد ال تعد وال حتىص، فإننا نحرز يقين ًا أهنا تصب يف مصب مطلب التسخري الذي نحاول إثباته كأحد أدوات نظرية اخلالفة القرآنية من جهة وكأحد مصاديق التنمية البرشية وأدواهتا عىل وفق الرؤية القرآنية ،ألن (اهلل جعل األرض ذلوالً بآالف من املوافقات
((( ﴿ َذ ُلوال﴾ الكلمة مشتقة من الذل وهو اهلوان واالنقياد ....فاستعري الذلول لألرض يف تذليل االنتفاع هبا مع صالبة خلقها تشبيه ًا بالدابة املسوسة املرتاضة بعد الصعوبة عىل طريقة املرصحة.ظ :ابن عاشور ،تفسري التحرير والتنوير ،مج،29 ،12 .33 ((( نارص مكارم شريازي ،األمثل يف تفسري كتاب اهلل املنزل.322 ،14 ، ((( حممد حسني الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القرآن.373 ،19،
423
الرضورية لقيام احلياة)( ،)1واحلياة كام أكدنا هي ساحة التنمية البرشية وميداهنا من جهة أخرى. ونكتة هذه اآلية املباركة هي عملية التالزم بني التسخري كأحدى حلقات نظرية اخلالفة اإلهلية واحللقة أو املرحلة التي تليها وترتبط هبا وهي مرحلة التمكني ،فآية ﴿ َف ْام ُشوا يِف َمنَاكِبِ َها) ﴾كناية عن كوهنا هناية يف الذلولية)( ،)2فـ(بعد وصفه تعاىل
﴿منَاكِبِ َها ﴾)( )3وهذا يعني أنه تعاىل لألرض بأهنا ذلول أمر لعباده بأن يسريوا يف َ قد مكن األرض لإلنسان كمرحلة متطورة ومتقدمة من مرحلة التسخري ،فهي ﴿واللهَُّ َج َع َل َلك ُْم األَ ْر َض بِ َساط ًا * لِت َْس ُلكُوا ِمن َْها ُس ُب ً ال فِ َجاجا﴾(،)4 قوله تعاىلَ : فاألرض هي (كالبساط الواسع اجلاهز املتوفر فيه مجيع متطلباتكم املعيشية)(.)5 أما ابن عاشور فقد أكد ما نسعى إثباته حني أشار إىل أن البساط :هو ما يفرش للجلوس عليه ،وليس املراد أن اهلل جعل حجم األرض كالبساط ألن حجم األرض كروي ،وقد نبه عىل ذلك بالعلة الباعثة يف قوله ﴿ َلك ُْم﴾ ،والعلة الغائية يف قوله ﴿لِت َْس ُلكُوا ِمن َْها ُس ُبالً﴾ وحصل من جمموع العلتني اإلشارة إىل مجيع النعم التي ((( سيد قطب ،يف ظالل القرآن ،مج.3639 ،29 ،6 ((( الرازي ،التفسري الكبري ،مج.63 ،30 ،15 ((( نارص مكارم شريازي ،األمثل يف تفسري كتاب اهلل املنزل.322 ،14 ، ((( نوح.20 – 19 : ((( نارص مكارم شريازي ،األمثل يف تفسري كتاب اهلل املنزل.466،14 ،
424
حتصل للناس من تسوية سطح األرض( ،)1بحيث تُعدّ هذه السبل والطرق واسع ًة مؤدي ًة إىل اهلدف املقصود وهي األمانة اإلهلية الكربى( ،ومن أجل أن يستطيع اإلنسان القيام باألمانة الكربى ،سخر اهلل له الكون وقوانينه لكي يستثمرها وينتفع هبا يف إقامة احلياة املتحرضة ،ويتحرك يف ظل منهج علمي عقيل ....إلحداث التغيري املطلوب واملتجدد املستمر يف احلياة اإلنسانية واملجال الكوين)(.)2
إال أن مبدأ التسخري ليس هو املبدأ الوحيد يف إمتام مفاصل نظرية اخلالفة اإلهلية ،فالنظرية تفتقر إىل مبدأ التمكني الذي ُيعدّ مرتبة متطورة من مبدأ التسخري كام أرشنا إليه ،ألن مفهوم التمكني يعني أن يرشع اإلنسان عملي ًا بتكاليف االستخالف من خالل بسط اليد عىل ما مكَّنه اهلل تعاىل من تسخري ما يف الكون. فالتمكني قد ورد يف القرآن الكريم عدة مرات وبسياقات خمتلفة ،قال الراغب
أن املكان عند أهل اللغة (املوضع احلاوي لليشء)( ،)3وبام أن االستخالف يفتقر للموضع الذي حيوي عىل تطبيق املبدأ كان التمكني الذي هو :إقرار اليشء وتثبيته يف مكان ،وهو ذات ما ورد يف القرآن الكريم حني نسب فعل متكني الكون من َّاه ْم فِيماَ إِ ْن َم َّكنَّاك ُْم فِ ِيه﴾(،)4 ﴿و َل َقدْ َم َّكن ُ اهلل عز وجل إىل اإلنسان ،قال اهلل تعاىلَ : ((( إبن عاشور ،تفسري التحرير والتنوير ،مج.205 ،29 ،12 ((( حمسن عبد احلميد ،جتديد الفكر اإلسالمي.116 ، ((( الراغب االصفهاين ،مفردات ألفاظ القرآن الكريم.772 ، ((( االحقاف.26 :
425
ض﴾(َ ،)1 ﴿َن َُمك َِّن هَُل ْم يِف األَ ْر ِ ﴿أ َو مَل ْ ن َُمك ِّْن هَُل ْم﴾( ،)2وكذا قوله جل وعالَ﴿ :ك ََذلِ َ ك ِ ف يِف األَ ْر ِ وس َ ض﴾(،)3فاملكان هو مقر اليشء يف األرض ،اإلمكان َم َّكنَّا ل ُي ُ والتمكني اإلقرار والتقرير يف املحل ،وربام يطلق املكان املكانة ملستقر اليشء من األنوار املعنوية كاملكانة يف العامل وعند الناس ،ويقال :أمكنته من اليشء( ،)4لذا
أشار الطباطبائي يف مورد آخر إىل أن التمكني بإنه (اإلقدار يقال :مكنت له أي
أقدرته فالتمكن يف األرض القدرة عىل الترصف فيه بامللك كيفام شاء وأراد)(.)5 والناظر يف موارد لفظة التمكني يف القرآن الكريم ،يميز بني صيغتني له :صيغة التمكني يف اليشء ،وصيغة متكني اليشء .األوىل خاصة بالتمكني يف األرض، والثانية عامة تشمل متكني الدين والقوة والسلطة واملال ،وهذا يعني أن التمكني لإلنسان يتم عرب مستويني: األول :حيس مادي ،يتم فيه متكني اإلنسان من الترصف يف األرض ،ولذلك ﴿و َل َقدْ َم َّكنَّاك ُْم يِف األَ ْر ِ ض َو َج َع ْلنَا جاء ذكر (املعايش) مع التمكني يف األرضَ :
((( القصص.6 : ((( القصص.57 : ((( يسف.57 : ((( حممد حسني الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القرآن.112 ،11، ((( االحقاف.26 :
426
َلك ُْم فِ َيها َم َعايِ َش َقلِي ً ون﴾( )1أي بام يضمن استقرار احلياة ومستلزماهتا ال َما ت َْشك ُُر َ َّاه ْم فِيماَ إِ ْن َم َّكنَّاك ُْم فِيه﴾(،)2 ﴿و َل َقدْ َم َّكن ُ وديمومتها ،وهو ما أشار إليه قوله تعاىلَ : ِ ين َآمنُوا ﴿و َعدَ اللهَُّ ا َّلذ َ والثاين :معنوي ،يتم فيه متكني الدين واألمن لإلنسانَ : ض َك استَخْ َل َ ِ ِ ِمنْكُم وع ِم ُلوا الص َحِ ِ ين ِم ْن َق ْبلِ ِه ْم َّ ْ َ َ ف ا َّلذ َ الات َل َي ْستَخْ ل َفن َُّهم يِف األَ ْر ِ ماَ ْ َو َل ُي َم ِّكن ََّن هَُل ْم ِدين َُه ْم ا َّل ِذي ْارت ىََض هَُل ْم َو َل ُي َبدِّ َلن َُّه ْم ِم ْن َب ْع ِد َخ ْوفِ ِه ْم َأ ْمن ًا﴾( ،)3وهذا
مستوى من التمكني حيرز بموجبه اإلنسان أهم األسس الداعمة للحياة الكريمة. وبوجود هذين املستويني من التمكني ،يرتبط املادي بالروحي يف تنمية اإلنسان ،وال يصبح عامر األرض وصالحها إال هبام ،ولعل هذا ما يفرس قصور مفهوم (التنمية البرشية) املتداول عن اإليفاء بالرشوط احلقيقية لنمو املجتمعات ورقيها وأمنها املادي والروحي(.)4 فقد عرض القرآن الكريم عدة شواهد لتصوير مبدأ التمكني ودوره يف منظومة نظرية اخلالفة اإلهلية ،ومنها ما قاله سبحانه وتعاىل يف حمكم كتابه العزيز وهو ِ يصف "ذو القرنني" ﴿ : Aإِنَّا َم َّكنَّا َل ُه يِف األَ ْر ِ ش ٍء َس َبب ًا * ض َوآ َت ْينَا ُه م ْن ك ُِّل يَ ْ
((( األعراف.10 : ((( االحقاف.26 : ((( النور.55 : ((( ظ :ميثاق الرابطة ،جريدة الكرتونية أسبوعية ،د .فريدة زمرد ،مفهوم التمكني يف القرآن الكريم ،موقع ألكرتوين www.almithaq.ma/contenu.aspx?C=3000
427
َف َأ ْت َب َع َس َبب ًا﴾( ،)1أي (منحناه سبل القوة والقدرة واحلكم)( )2يف األرض ليحكمها، ألن التمكني مدلوله يف اآلية املباركة هو (جعل اليشء ممكن ًا ،أي راسخ ًا ،وهو متثيل لقوة الترصف بحيث ال يزعزع قوته أحد.......فمعنى التمكني يف األرض
إعطاء املقدرة عىل الترصف)(.)3
ولعل الدليل إىل ما ذهب إليه الباحث يف كون مبدأ التمكني ُيعدّ بمثابة الوسيلة واألداة لتطبيق فكرة نظرية اخلالفة وكذا يف كون التنمية البرشية هي وسيلة لتحقيق األهداف العليا ،هو ما ورد يف اآليتني املباركتني من تتابع ،فاملتأمل يف اآلية يدرك ِ ش ٍء َس َبب ًا﴾، أن اهلل اقرن التمكني بمنته سبحانه حني قال تعاىلَ : ﴿وآ َت ْينَا ُه م ْن ك ُِّل يَ ْ والسبب (الوصلة والوسيلة فمعنى إيتائه سبب ًا من كل يشء أن يؤتى من كل يشء
يتوصل به إىل املقاصد اهلامة احليوية ما يستعمله ويستفيد منه)( ،)4وبتعبري آخر
(أعطيناه من كل يشء من األمور التي يتوصل هبا إىل حتصيل ذلك اليشء)( )5وهذا ما توضحه اآلية الالحقة ﴿ َف َأ ْت َب َع َس َبب ًا﴾ ،فـ(اإلتباع اللحوق أي حلق سبب ًا واختذ
((( الكهف.85 – 84 : ((( نارص مكارم شريازي ،األمثل يف تفسري كتاب اهلل املنزل.573 ،7 ، ((( ابن عاشور ،تفسري التحرير والتنوير ،مج.23 ،16 ،7 ((( حممد حسني الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القرآن.355 ،16 ، ((( الرازي ،التفسري الكبري ،مج.150 ،21 ،11
428
وصلة وسيلة يسري هبا)(.)1 فاإلنسان الذي يسعى لتمثيل اهلل يف األرض عليه أن تكون إحدى أدواته أن يلتفت إىل ما سخر إليه اهلل تعاىل ومكنه منه لينطلق به ،ألنه الطريق والسبيل القصري لتحقيق مراده ،كام جيب عىل اإلنسان أن يلتفت إىل مورد مهم يف تطوير وتنمية ذاته ،فكام ُيعدّ استثامر الكون وعنارصه مورد ًا لتأمني حاجات اإلنسان ومتطلباته املرشوعة ،كذا ُيعدّ التتابع والتواصل مع تلك األسباب والسبل تواص ً ال يف تنمية اإلنسان وتطويره. ﴿وك ََذلِ َ ك َم َّكنَّا أما قوله تعاىل يف ما ورد عن قصة يوسف Aكمثال آخرَ : ِ ف يِف األَ ْر ِ وس َ ض﴾( ،)2فـ(املراد من متكني يوسف يف األرض إقراره فيه بام يقدر ل ُي ُ
معه عىل التمتع من مزايا احلياة والتوسع فيها)( ،)3وهذا من عناية اهلل تعاىل إليه كون شاهد اآلية املباركة بعد خروجه من غيابة اجلب ،وكذا ورد متكينه يف مورد آخر بعد خروجه من سجن العزيز وتنصيبه خزائن أرض مرص حيث قال تعاىل: ث ي َشاء ن ُِصيب بِر ِ ِ ِ ف يِف األَ ْر ِ ﴿وك ََذلِ َ وس َ اء َ ُ َ مْ َ ك َم َّكنَّا ل ُي ُ حتنَا َم ْن ن ََش ُ ض َي َت َب َّو ُأ من َْها َح ْي ُ َ ُ
((( حممد حسني الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القرآن.356 -355 ،16 ، ((( يوسف.21 : ((( حممد حسني الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القرآن.112 ،11،
429
ِ ِ ِ ني﴾( )1والعناية يف املوضعني واحدة(.)2 يع َأ ْج َر المُْ ْحسن َ َوال نُض ُ نخلص مما تقدم أن مبدأ تسخري الطبيعة لإلنسان ومتكينه منها هي الوسيلة لتحقيق نظرية اخلالفة اإلهلية ،ألن التمكني يعني أن يعطى لإلنسان (ما يستطيع بواسطته تنفيذ مآربه ،وهتيئة أدوات العمل له ،ورفع املوانع وإزالتها عن طريقه)(،)3
فام وجود الطبيعة وعنارصها إال خدمة لإلنسان ولتنميته وتطويره بغية ارتقائه إىل مرتبة االستخالف ،وهبذا اختار اهلل تعاىل هذا املخلوق – اإلنسان -ليقوم بأصعب وأخطر وأهم مهمة أال وهي استخالف اهلل يف األرض ،حيث كلف اهلل تعاىل اإلنسان هبذا املرشوع العظيم تكليف ًا إلزامي ًا للقيام بدور اخلالفة اإلهلية يف األرض ،كام هيأ له ﴿و َل َقدْ َم َّكنَّاك ُْم يِف األَ ْر ِ ض سبل القيام هبذه املهمة ومكّن له ما يف األرض بقوله تعاىلَ : َو َج َع ْلنَا َلك ُْم فِ َيها َم َعايِ َش َقلِي ً ون﴾( ،)4أي (جعلنا لكم فيها مكان ًا وقرار ًا ال َما ت َْشك ُُر َ
ومكناكم فيها وأقدرناكم عىل الترصف فيها وجعلنا لكم معايش)( )5أي (منحناكم امللكية واحلاكمية وسلطناكم عىل األرض.....وأعطيناكم وسائل العيش بجميع
((( يوسف.56 : ((( ظ :حممد حسني الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القرآن.113 ،11، ((( نارص مكارم شريازي ،األمثل يف تفسري كتاب اهلل املنزل.311 ،4 ، ((( األعراف.10 : ((( الرازي ،التفسري الكبري ،مج.25 ،14 ،7
430
أنواعها)(.)1 واجلدير بالذكر يف كل ما تقدم أن أغلب اآليات القرآنية التي وردت فيها "التمكني" كانت تفيد إقرار الترصف وليونة احلركة بامتالك زمام القرار يف اخليار، وهذا هو أهم حمور من حماور التنمية البرشية عىل مستوى الدراسات القرآنية وحتى الوضعية منها ،ألن فلسفة التمكني يف التنمية البرشية تعني توسيع قدرات اإلنسان لتوسيع خياراهتم ،بحيث يكون ذلك دافع ًا النفتاح آفاق حريته ،لتصل العالقة بينهام عالقة طردية ،إذ بسعة خيارات اإلنسان ومتكينه منها تتحقق التنمية البرشية وتتسع مساحتها ،وبالعودة إىل تعريف الباحث للتنمية البرشية نجد أن مفهوم التمكني له الريادة يف حتقق هدف التنمية البرشية ،كون مسعاه الزيادة يف سعة خيارات اإلنسان وتأمني متطلباته وحاجاته املرشوعة عىل وفق الرؤية الكونية التي ينتمي إليها(.)2
وهبذا نعد مبدأ التسخري ومبدأ التمكني مكم ً ال ملبدأ االستخالف إذ يشكل كل عنرص منها تكام ً ال ملنظومة النظرية القرآنية للخالفة اإلهلية ،التي هي من التنمية البرشية يف القرآن الكريم.
((( نارص مكارم شريازي ،األمثل يف تفسري كتاب اهلل املنزل.311 ،4 ، ((( راجع ص 50:من الكتاب.
431
432
( : )3مبدأ عمارة األرض واصالحها .
حاول الباحث أن ي ّثبت حمور ًا ملبحثه هذا يستند فيه إىل الرؤية القرآنية لينطلق به إىل عني موضوع التنمية البرشية يف القرآن الكريم ،حيث اعتمد عىل مبدأ االستخالف كأحد أركان نظرية اخلالفة اإلهلية ،كام وجد نفسه مرغ ًام بعدم الزيغ وامليل عن هذه املركزية التي فرضت وجودها عىل املتأمل يف آيات اهلل املباركة فلم جيرأ أن حييد عنها ،فهو املبدأ الذي تزامن حموره مع االنطالقة األوىل خللق اإلنسان، وكذا تزامن مع اإلرادة التكوينية هلل تعاىل حني خاطب املالئكة بقوله تعاىل﴿ :إِنيِّ ج ِ اع ٌل يِف األَ ْر ِ ض َخلِي َف ًة﴾(.)1 َ وبام إننا قد فرغنا من املعنى اإلمجايل ملبدأ االستخالف ،التسخري ،التمكني، واملقرونة مجيعها بحمل األمانة اإلهلية من قبل اإلنسان ،لذا كان لزام ًا عىل اإلنسان أن ُيدرك أن لألمانة ضوابط وحمددات تُلزمه االلتفات إىل عظيم ما وكل إليه وما يرتتب بذلك من خطوات عملية لتمثيل الئق ملبدأ االستخالف ولالستفادة مما ُسخر إليه ولتطويع الكون والتمكني منه ،كل ذلك خدمة للرشوع بأداء األمانة اإلهلية وتطبيق بنودها. وبمقتىض ذلك نستطيع أن نقول إن اإلنسان استحق رشف خالفة اهلل يف األرض (ألن االستخالف يعني اإلحساس باملسؤولية ورشف األمانة ،واإلنسان
((( البقرة.31 :
433
هو الكائن األريض املتميز باإلحساس باملسؤولية)( ،)1ولكي ينال اإلنسان متام هذا
الرشف العظيم لزم عليه أن يدرك معنى حقيقة اخلالفة ورفعتها من جهة ،ويسعى ألقامتها من خالل اعامر األرض وإصالحها من جهة ثانية ،بحيث يقوم عىل بناء وإحياء عالقة سوية مع ربه ونفسه وبقية جنسه ،ويقوم بإحياء البيئة التي يعيشها وما حييط به أيض ًا ،كل ذلك بمقتىض إقراره التكويني لقبول اخلالفة والعبودية املتمثلة بطاعته وامتثاله حلكم اهلل تعاىل ،بحيث تُعدّ العبودية والطاعة والوقوف عند حدود اهلل تعاىل هي مرآة عاكسة للخالفة اإلهلية. ِ فاخلالفة تعني أن يكون اخلليفة ممث ً ف ،وهذا يعني أن ال حقيق ًا ملن استخل ْ اإلنسان يف مثل هكذا حالة (هو عامل ،واع ،مطيع هلل ،يقوم يف األرض بتحقيق سلطان اهلل تعاىل وسيادته يف حياة اإلنسان وتنفيذ أمره وهنيه يف اعامر اإلنسان، تكون هذه اخلالفة هي الوعي واإلرادة والطاعة، واإلنسان خليفة اهلل ،والعنارص التي ّ
فإذا اكتملت هذه العنارص يف اإلنسان كان هلل تعاىل خليفة يف األرض)(. )2 نش َأك ُْم ِم ْن األَ ْر ِ ﴿ه َو َأ َ ض َو ْاس َت ْع َم َرك ُْم قال سبحانه وتعاىل يف حمكم كتابه العزيزُ :
((( حممد باقر الصدر ،اإلسالم يقود احلياة.61 ، ((( حممد مهدي األصفي ،يف رحاب القرآن.135 ،
434
فِ َيها﴾( ،)1أي (ابتدأ خلقكم من األرض ...بأن مكنكم من عامرهتا)( ،)2وهذا ما ذهب إليه الرازي أيض ًا حني أشار إىل أن املراد هو جعلكم عامرها كون األرض قابلة للعامرات النافعة لإلنسان ،وأن اإلنسان قادر عىل ذلك ،لقدرته عىل الترصفات،
وكون األرض موصوفة بصفات مطابقة للمصالح موافقة للمنافع(.)3 ﴿و ْاس َت ْع َم َرك ُْم فِ َيها﴾ تعني إن العامرة هي (حتويل األرض إىل حال تصلح فآية َ هبا أن ينتفع من فوائدها املرت ّقبة ...واالستعامر هو طلب العامرة بأن يطلب من
اإلنسان أن جيعل األرض عامرة تصلح ألن ينتفع بام يطلب من فوائدها)(.)4 مل يكن اخلطاب القرآين بغريب عن اإلنسان وواقعه وحميطه ل ُيدرك أنه ُخلق من أديم األرض التي استوطنها وترعرع هبا ونام وتطور ،كام ُيدرك أن اهلل تعاىل هو الذي أودع فيه (الطموح وأعطاه القدرة ،وطوع له ما يف األرض ،وتلك هي
رشوط عامرة األرض)(. )5 نش َأك ُْم ِم ْن األَ ْر ِ ﴿ه َو َأ َ ض﴾ التي تُعدّ فمطلع اآلية املباركة ابتدأت بصيغة ُ
((( هود.61 : ((( الطربيس ،جممع البيان يف تفسري القرآن ،مج.178 ،12 ،3 ((( ظ :الرازي ،التفسري الكبري ،مج.14 ،18 ،9 ((( حممد حسني الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القرآن.298 ،10 ، ((( حممد تقي املدريس ،من هدى القرآن.56 ،4 ،
435
(يف موضع التعليل لألمر بعبادة اهلل ونفي إهلية غريه)( )1ثم اقرتن هذا التعليل األمر بالعبادة أن يكون اعامر األرض وجه ًا من أوجه العبادة ،فإن اهلل تعاىل ألزم
اإلنسان وأمره يف عامرة األرض بام حيتاج إليه( ،)2كام حيرز املتدبر بوضوح (الداللة عىل وجوب عامرة األرض للزراعة والغراس واألبنية ،أي إن الدين مل جيعل عامرة األرض من النوافل أو املندوبات ،بل جعلها من الشعائر الواجبة ،التي يثاب
فاعلها ،ويعاقب وحيكم بالفسق عىل ناكرها)( ،)3لذا نجد أن مفهوم العامرة قد استعمله القرآن الكريم نظري ًا ملفهوم االستخالف ومبدأه ،بحيث نجد كالمها
يصبا يف مصب نظرية اخلالفة اإلهلية التي تلزم اإلنسان عىل إحياء نفسه واألرض التي يستوطنها بل عموم الكون ،فاستعامر اإلنسان لألرض يعني تفويضه لعامرهتا وإحيائها بإنامئها وإصالحها بحيث تهُ يء لتصري قابلة لالنتفاع هبا ،وهبذا يكون اإلنسان هو املحور الرئيس والفاعل األساس يف عامرة األرض وتأهيلها وهتيئتها كساحة للحياة بغية جتسيد مبدأ العامرة من خالل سعة رقعة خيارات اإلنسان وتأمني حاجاته املرشوعة التي تُعدّ من األهداف األساسية للتنمية البرشية. فعملية إنابة اإلنسان هلل تعاىل يف األرض وتفويضه يف عامراهتا واقرتان عموم ذلك بالعبادة ،ما هي إال داللة واضحة لعظيم هذا املبدأ ورفعته من بني مبادئ ((( إبن عاشور ،تفسري التحرير والتنوير ،مج.106 ،12 ،5 ((( ظ :جمموعة باحثني ،دراسات يف التنمية البرشية املستدامة ،اإلسالم والتنمية البرشية املستدامة -مقارنة يف األهداف واملوارد ،أسامة العاين.150 ، ((( املصدر نفسه ،وانظر مصادره.
436
نظرية اخلالفة اإلهلية ،لذا عد (إدراك حقيقية االستخالف اإلهلي ،ومعرفة دور اإلنسان املسلم يف تغيري األوضاع وبناء احلضارة وصنع املستقبل من املنطلقات
األساسية لإلسالم عقيد ًة ورشيع ًة وسلوك ًا)( ،)1الذي بات رشط ًا الزم ًا للتنمية اإلنسانية الفاعلة. والدليل عىل ما ذهبنا إليه يف اقرتان مبدأ عامرة األرض مع بقية املبادئ األخرى وارتباطها مجيع َا بمنظومة نظرية اخلالفة اإلهلية هو قوله تعاىلُ ﴿ :ث َّم َج َع ْلنَاك ُْم ف يِف األَ ْر ِ ض ِم ْن َب ْع ِد ِه ْم لِنَنْ ُظ َر َك ْي َ َخالئِ َ ون﴾( ، )2فالقرآن الكريم يرصح ف َت ْع َم ُل َ
معلن ًا أن اإلرادة اإلهلية تُلزم َم ْن استخلفه اهلل وأناب عنه أن يكون أه ً ال لألمانة، وأن اإلرادة اإلهلية ترتقب ﴿لِنَنْ ُظ َر َك ْي َ ون﴾ ،ألن القرآن الكريم رصح عن ف َت ْع َم ُل َ رفضه ملبدأ العبثية والفوىض ،فهو يرفض أن حييد اإلنسان عن االنضباط والدقة والقانون والناموس اإلهلي وعن علة خلقه َ ﴿أ َف َح ِس ْبت ُْم َأ َّنماَ َخ َل ْقنَاك ُْم َع َبث ًا َو َأ َّنك ُْم
ون﴾(.)3 إِ َل ْينَا ال ت ُْر َج ُع َ فالنظرة القرآنية لإلنسان والكون واحلياة نظرة سامية رفيعة الشأن تكاد ختتلف متام ًا عن مجيع الرؤى الوضعية ،فالتصور القرآين مبني عىل أنه ليس للهو
((( حمسن عبد احلميد ،جتديد الفكر اإلسالمي.76 ، ((( يونس.14 : ((( املؤمنون.115 :
437
ِ ِ ني﴾( )1فاآلية الس َم َوات َواألَ ْر َض َو َما َب ْين َُهماَ العبِ َ وللعب وللعبثَ ، ﴿و َما َخ َل ْقنَا َّ املباركة تستوضح أن اإلنسان مل خيلق سدى ،وال الكون خلق عبث ًا ،فالبد من أن يستثمر اإلنسان حياته لتنمية ما يف الكون ،وهي املتمثلة يف عملية اعامر األرض وإحيائها(.)2
ومما ال شك فيه أن اإلنسان بحكم ما متيز به من خصائص وبحكم مرتبة االستخالف يستطيع أن يقوم بام كلف به من وظائف لبناء هيكل رصح احلضارة الساموية يف األرض (اخلالفة اإلهلية) ،فهو (يستطيع أن يقوم هبذا العمل احلضاري عىل األرض ،ألنه من اختصاص عقله وطاقته التي زود هبا ،ولكن يف ضوء الوحي
اإلهلي الذي وضع احلقائق الكلية عن الوجود أمامه)(.)3 ومصداق ذلك ما استشهدنا به من قوله تعاىلُ ﴿ :ث َّم َج َع ْلنَاك ُْم َخالئِ َ ف يِف األَ ْر ِ ض ِم ْن َب ْع ِد ِه ْم لِنَنْ ُظ َر َك ْي َ ون﴾( )4واملتأمل يف اآلية املباركة جيد هناك ف َت ْع َم ُل َ مرحلة مهمة من مراحل نظرية االستخالف هي ﴿لِنَنْ ُظ َر َك ْي َ ون﴾ والتي ف َت ْع َم ُل َ نعني هبا مرحلة عامرة األرض ،ومراد اآلية املباركة (أي استخلفناكم يف األرض
((( الدخان.38 : ((( ظ :املصباح :العدد التاسع ،التنمية يف القرآن الكريم ،حممد جواد عباس شبع. ((( حمسن عبد احلميد ،جتديد الفكر اإلسالمي.116، ((( يونس . 14 :
438
بعد القرون التي أهلكنا ﴿لِنَنْ ُظ َر﴾ أتعملون خري ًا أم رش ًا)(.)1 ِ ين ْاست ُْض ِع ُفوا يِف األَ ْر ِ ض َون َْج َع َل ُه ْم ﴿ون ُِريدُ َأ ْن ن َُم َّن َع ىَل ا َّلذ َ أما قوله تعاىلَ : ِ ِ ني﴾( ،)2فاجلعل اإلهلي من متكني املستضعفني ورث ًة لألرض َأئ َّم ًة َون َْج َع َل ُه ْم ا ْل َو ِارث َ بإحيائها هو دليل آخر عىل ارتباط وتعانق األسباب بمسبباهتا وجتانس املبادئ القرآنية فيام بينها لتشكل منظومة نظرية اخلالفة ،وما اآلية املباركة التي تيل هذه ﴿ون َُمك َِّن هَُل ْم يِف األَ ْر ِ ض﴾(،)3 اآلية إال لتوضح وتكمل مطلب النظرية القرآنية َ
والتي تعني تفعيل مبدأ عامرة األرض من خالل متكينهم األرض ،بمعنى (أن ننعم عىل هؤالء الذين استضعفوا من كل وجه نعمة تثقلهم وذلك بأن نجعل أئمة يقتدى ِ ني﴾)( )4أي (نجعلهم ﴿ون َْج َع َل ُه ْم ا ْل َو ِارث َ هبم فيكونوا متبوعني بعد أن كانوا تابعني َ
حيكمون يف األرض وتكون السلطة والقدرة وغريها هلم وحتت ترصفهم)(.)5 مل تكن وراثة األرض من قبل املستضعفني باألمر اليسري ناهيك أن يكونوا بجعل من اهلل تعاىل أئمة فيها ،فاألمر حيتم إيامن ًا صادق ًا وسلوك ًا معرب ًا عنه ،ينطق بالسعي واجلهد والعزم ويوجب اإلخالص بالرغم من منة اهلل تعاىل يف هتيئة سبل ((( الزخمرشي ،الكشاف.473 ،1، ((( القصص.5 : ((( القصص.6 : ((( حممد حسني الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القرآن.9 ،16، ((( الطربيس ،جممع البيان يف تفسري القرآن ،مج.264 ،20 ،5
439
ف يِف األَ ْر ِ اخلالفة لقوله ّ ض ِم ْن َب ْع ِد ِه ْم لِنَنْ ُظ َر َك ْي َ جل وعالُ ﴿ :ث َّم َج َع ْلنَاك ُْم َخالئِ َ ف
ون﴾( ،)1أي جيب أن يرتقي اإلنسان بنفسه وينمي قابليته ويطور مؤهالته َت ْع َم ُل َ ليصل إىل الدرجة التي يرتضيها اهلل تعاىل لعباده الصاحلني واملصلحني من خالل البناء الذايت واملوضوعي ملنهج التنمية البرشية عىل وفق الرؤية القرآنية التي تصل باإلنسان إىل مرتبة إمامة األرض ،التي حتتم عىل اإلنسان أن ينطلق نحو األرض وإحيائها من منطلق املسؤولية ،كونه احتل منصب اإلمامة وورث األرض بام فيها ،حيث ُيعدّ اإلحساس باملسؤولية من الركائز والدعائم التي ت ّقوم عملية البناء عىل املستوى الشخيص يف بناء الذات أو املؤسسايت يف عامرة األرض ،لذا نجد أن التنمية البرشية اهتمت يف هذا الشأن وعدت عملية اخلطوات اإلجرائية هي نابعة من إحساس اإلنسان باملسؤولية ،حتى بات الباعث وراء تنمية اإلنسان لنفسه وما حييط به ،مما تطلب منه أن يطور مهاراته لتهيئة سبل التنمية والتطوير واإلبداع ،قال إلن َْس ِ ﴿و َأن َّل ْي َس لِ ِ ان إِال َما َس َعى﴾(.)2 تعاىلَ :
بينام نجد ما يالزم املسؤولية عزم اإلنسان عىل العمل الصالح املطابق لواقع نظرية اخلالفة اإلهلية ومبادئها املتعددة ،وبالعودة إىل آيات اهلل البينات يستوقفنا قوله تعاىل﴿ :لِنَنْ ُظ َر َك ْي َ ون﴾ التي اقرتنت بخالفة األرض كام مر ذكرها، ف َت ْع َم ُل َ فالعمل هو املحور الذي تدور حوله عملية التنمية البرشية ،إذ إن اإلنسان الذي يؤدي العمل -ناهيك عن إمامة األرض -حيتاج إىل رياضة عقلية ونفسية وبدنية ((( يونس.14 : ((( النجم.39 :
440
ّتورث له كفاءة شخصية ومهنية تؤهله للقيام بدوره يف املهام والوظائف العملية، فلم يكن اهتامم القرآن الكريم بالعمل إال ألنه املصداق لإليامن ،لذا نجد أن األعم األغلب من اآليات القرآنية ما إن ذكرت اإليامن إال وتالزم معه العمل ،فض ً ال ال تعبدي ًا أو مهني ًا ،قال ّ عن اآليات التي انفردت للحث عليه سواء كان عم ً جل ِ وعال﴿ :إِ َّن ا َّل ِذين آمنُوا وع ِم ُلوا الص َحِ ِ ()1 يع َأ ْج َر َم ْن َأ ْح َس َن َع َمال﴾ َّ َ َ َ َ الات إِنَّا ال نُض ُ ون إِ ىَل ﴿و ُق ِل ا ْع َم ُلوا َف َس رَ َيى اللهَُّ َع َم َلك ُْم َو َر ُسو ُل ُه َوالمُْ ْؤ ِمن َ ت ُّد َ وقال تعاىلَ : ُون َو َس رُ َ َعالمِِ ا ْل َغ ْي ِ ب َو َّ ون﴾(.)2 الش َها َد ِة َف ُينَ ِّب ُئكُم بِماَ ُكنْت ُْم َت ْع َم ُل َ
وال شك يف أن اإلنسان الذي يراد له أن يؤدي وظيفته خليف ًة هلل تعاىل البد له من أن جيتهد يف عمله وجياهد إلتقانه ويسعى لتطويره متأم ً ال االرتقاء به إىل املستوى الذي يليق بمن أناب عنه ،وما هذا إال من صميم عمل التنمية البرشية . ﴿و ْاس َت ْع َم َرك ُْم فِ َيها﴾ تعني وخالصة القول إن عامرة األرض أو استعامرها َ طلب تعمري األرض وإحيائها ،وإن معنى العامرة فيها يتضمن: أوالً :أن ال تفسد الصالح ،وهو االمتناع من الرش. ثاني ًا :أن ترتقي بالصالح ،وهو اإلقبال عىل اخلري. ثالث ًا :أن نبتدع سب ً ال جديد ًة للصالح.
()3
((( الكهف.30 : ((( التوبة.205 : ((( ظ :حممد متويل الشعراوي ،قضايا معارصة.23 ،
441
بينام نالحظ أن االلتفاتة التي التفت إليها الدكتور مجال حممد أمحد عبدة يف غاية الدقة ،فهو يرى – وهو احلق -أن ما أشار إليه الشعراوي خاص باملصالح، فام العمل أذن إذا وجد الفاسد؟. فقد ذهب إىل رضورة وجود نوعني آخرين من النشاطات واألعامل السلوكية خاصني بالفساد ومها: (أوالً :أن تصلح الفاسد ،وهو اإلقبال عىل اخلري. ثاني ًا :أن ال ترتقي " أي أن ال تزيد الفاسد فساد ًا " ،وهو االمتناع عن الرش. وبذا فإن عمران األرض يتطلب أمرين مها: أوالً :اإلقبال عىل اخلري ،باالرتقاء بالصالح ،ك ًام ونوع ًا ،وبإصالح الفاسد. ثاني ًا :االمتناع من الرش ،بأن ال تفسد الصالح ،وبأن ال ترتقي بالفاسد ،ك ًام أو
نوع ًا)(.)1 ثالث ًا :ابداع طرائق جديدة لفتح منافذ اخلري للناس. ِ وعند تأملنا لقوله تعاىلَ ﴿:وا ْب َت ِغ فِيماَ آت َ َنس ن َِصي َب َ ك َاك اللهَُّ الدَّ َار اآلخ َر َة َوال ت َ حُِ ك َوال َت ْب ِغ ا ْل َف َسا َد يِف األَ ْر ِ ِم ْن الدُّ ْن َيا َو َأ ْح ِس ْن َكماَ َأ ْح َس َن اللهَُّ إِ َل ْي َ ب ض إِ َّن اللهََّ ال ي ُّ ِ ِ ين﴾( )2نلحظ أن القرآن الكريم قد حدد خصائص التنمية البرشية يف آياته المُْ ْفسد َ ومنها اآلية التي نحن بصددها ،حيث نلحظ تكامل املنظومة الفكرية ،العدالة، التوازن ،الشمولية ،الواقعية ،الساموية ...وغريها من اخلصائص ،إال إننا نجد ((( مجال حممد أمحد عبدة ،دور املنهج اإلسالمي يف تنمية املوارد البرشية.248 ، ((( القصص.77 :
442
أن خصصية لزوم أو وجوب االمتثال ألمر اهلل تعاىل املتمثل بأعامر األرض ال شام ً وإصالحها لزوم ًا متوازن ًا عادالً متكام ً ال يف الوقت نفسه ،فاألمر اإلهلي حيدد مسار خارطة األرض لإلنسان حني (كلفه بأمانة تعمري األرض وإقامة
املجتمع الفاضل عليها)( ،)1وأن إحياء اإلنسان واألرض ال يتحقق إال من خالل وضع رؤية فلسفية تفرض أدوات البناء واإلصالح مع ًا. لح ُق بركب املبادئ األخرى ومن هنا سنجد أن هناك حمور ًا جديد ًا ومبد ًأ َي َ التي تشكل مجيعها منظومة نظرية اخلالفة اإلهلية ،فاآلية املباركة توضح هذا املحور اجلديد الذي ُعد باملنظور القرآين هو نصيب اإلنسان الدنيوي ا ُملشرّ ع واملرشوع ﴿وال َت ْب ِغ من قبل اهلل تعاىل ،فبات هذا املحور املتمثل باإلصالح ودرأ التخلف َ ا ْل َفساد﴾ متالزم ًا مع البناء واإلصالح الذي عرب عنه القرآن الكريم َ ِ َ َ َ ﴿وأ ْحس ْن َكماَ َأ ْح َس َن اللهَُّ إِ َل ْي َ ك﴾. فأمر السامء باإلحسان والنهي عن الفساد هو عني عامرة األرض وإحيائها، فالرشيعة اإلسالمية حريص ًة أن تنتقل برؤيتها الكونية ونواميسها الرشعية إىل درجة اللزوم يف التنمية ،واحلرمة عن التخلف ،بحيث ُيعدّ كل من احلكمني العامل املؤثر يف بناء احلضارة اإلنسانية عىل وفق الرؤية القرآنية ،لذا نلحظ أن اآلية ذكرت ﴿وال َت ْب ِغ ا ْل َف َسا َد يِف األَ ْر ِ ض﴾ غرضه (التحذير العاملني وميزت بينهام ،فعطف َ من خلط اإلنسان اإلحسان بالفساد فإن الفساد ضد اإلحسان ،فاألمر باإلحسان
((( حمسن عبد احلميد ،اإلسالم والتنمية االجتامعية.131 ،
443
يقتيض النهي عن الفساد)(.)1
فعىل ضوء أمهية مبدأ اإلصالح ( )2يف الرؤية القرآنية ويف نظرية اخلالفة اإلهلية كان اهتامم الباحث يف تسليط الضوء عىل هذا الركن املهم والفعال يف ترمجة النظرية والناطق عن رؤيتها ،وقد ُعد هذا املبدأ من أساسيات التنمية البرشية بكافة جماالهتا الفكرية واألخالقية واالقتصادية واالجتامعية واإلدارية وغريها ،ألن املرشوع اإلصالحي مل تكن مساحته منحرس ًة عىل ميدان دون ميدان آخر ،إذ يقوم هذا املبدأ عىل السري ُقدم ًا نحو أهم أولوياته يف تبنيه إلصالح الفرد الذي ُيعدّ رأسامل النظرية ((( ابن عاشور ،تفسري التحرير والتنوير ،مج.180 ،20 ،8 ((( تباين الفالسفة واملنكرون يف حتديد مبدأ الصالح ،حيث ذهبت املدرسة األوربية عموم ًا ومنها املدرسة اليونانية خصوص ًا ،إىل أن الصالح يتعلق بتغيري صورة األشياء ال مادهتا ،بينام نجد أن اإلصالح يف املرجعية اإلسالمية ال يطرح فيها عىل هذا الشكل ،ألنه ال يتعلق بالعالقة بني الصورة واملادة ،بل بحصول الفساد يف اليشء ،مادة وصورة ،ومن ثم تؤول قضية اإلصالح فيه إىل الرجوع به إىل احلال التي كانت عليه. فيالحظ أن التباين انحرس يف معنيني اثنني يف األعم الغالب ومها -1 :يرجع إىل شكله األصيل -2.جيعل منه شك ً ال جديد ًا ،لكن فكرة تغري يشء إىل األفضل مرتبطة ارتباط ًا وثيق ًا بفكرة اسرتجاع حالة سابقة أقل فساد ًا. واحلق إن إزالة الفساد يف املنظور اإلسالمي ال يعني أبد ًا إرجاعه إىل السابق ،ألنه قد يكون فاسد ًا أصالً ،فال سابق صالح له ،وقد ال يصح بإرجاعه إىل ما سبق ،قال اهلل تعاىل: آخ ُر َ ال َصالحِ ًا َو َ ﴿و َ ون ا ْعترَ َ ُفوا بِ ُذنُوبهِ ِ ْم َخ َل ُطوا َع َم ً آخ َر َس ِّيئ ًا﴾التوبة.102 : َ فالقرآن الكريم ذكر شواهد كأمثلة للفساد ،القتل ،سفك الدماء ،الزنا ،فال يمكن العودة باحلالة السابقة كمصداق إلصالح ما فسد هلذه احلاالت.ظ :إحسان األمني ،نظرية اإلصالح من القرآن الكريم.23 – 20،
444
القرآنية ،فيكون عنرص ًا جوهري ًا ومؤثر ًا وعام ً ال خلدمة املبادئ الق ّيمية الساموية واإلنسانية له كفرد وللمنظومة االجتامعية ،ألن مبدأ اإلصالح قائم عىل أساس إصالح اإلنسان وتنميته والنهوض به ،فهي غايته الكربى وهدفه األخري ،إال إن مفهوم اإلصالح يف الرؤية القرآنية ذو نظرة شاملة عىل خالف الرؤى األخرى فهو حياكي جانب اإليامن واألخالق كقضية نظرية من جهة ،والسلوك واملعامالت كتطبيق من جهة ثانية ،بام فيها جانب املهارات واملعارف واإلمكانات أيض ًا ،حتى بات مبدأ الصالح كأحد أهم نظرية اخلالفة اإلهلية ،فهو منهج األنبياء والرسل ت وما تَوفِ ِ عليهم السالم وغايتهم مجيع ًا ﴿إِ ْن ُأ ِريدُ إِال ا ِ يقي إِال الح َما ْاس َت َط ْع ُ َ َ ْ إل ْص َ ِ ِ يب﴾(.)1 بِاللهَِّ َع َل ْي ِه ت ََو َّك ْل ُ ت َوإِ َل ْيه ُأن ُ ومن خالل قراءتنا الدقيقة هلذا املبدأ القرآين اجلبار نجد أن اإلصالح موقوف ًا عىل القناعة به وذلك بإزالة التخلف ومظاهر الفساد وكذا إىل العزم بإرادة متينة تسعى إىل التغري لتحقيق اإلصالح وذلك باالنعطاف من السيئ إىل احلسن ومن احلسن إىل األحسن ،كون التغري اإلجيايب( )2من دعائم فكرة التنمية البرشية عىل وفق املنظور القرآين وكذا الوضعي. فإن كانت التنمية البرشية تسعى لتغيري إمكانات اإلنسان ومهاراته الكامنة يف داخله نحو األفضل باجتاه هتيئة حياة مستقرة تلبي طموحاته الدنيوية املرشوعة، ((( هود.88 : ((( سبق أن حتدثنا عن التغري يف كونه نمطني أحدمها تغيري إجدايب ،والثاين تغيري سلبي. راجع ص 439من الكتاب.
445
فإنا نلحظ أن التغيري اإلجيايب يف الرؤية القرآنية املراد منه هو الذي يعود بالنفع والصالح والعدل عىل اإلنسان وحميطه ،أي سيكون أحد السبل لتحقيق مبدأ اإلصالح الذي ينظم مع بقية املبادئ األخرى مشكل ًة نظرية اخلالفة اإلهلية وهبذا يلتقي التغيري من منظور قرآين مع هدف التنمية البرشية. نخلص أن التغيري ليس مطلوب ًا لذاته ،وإنام هو مرجو هلدف إجيايب يعمل من أجله ،لذا بني القرآن الكريم إىل أن إرادة التغيري للفرد أو للمجتمع منحرس ًة بإرادة اإلنسان ذاته ،قال ّ َيوا َما بِ َأ ْن ُف ِس ِه ْم﴾(،)1 َي َما ب َق ْو ٍم َحتَّى ُيغ رِّ ُ جل وعال﴿ :إِ َّن اللهََّ ال ُيغ رِّ ُ فالقرآن الكريم قد أوىل اإلنسان بالدرجة األوىل مسؤولية إصالح الفرد واملجتمع بالرغم من علمنا بأن للفساد مظهرين( تارة يظهر يف سلوك فردي وتارة يظهر
يف سلوك مجاعي)( ،)2حيث نلمس (يف املقابل ،عىل مستوى اإلصالح ،نقرأ كل الصيغ :الفردية ،الثنائية واجلامعية ،لإلصالح ،ألنه مطلوب عىل كل املستويات، وال يصلح املجتمع إال بإصالح أفرده ومؤسساته)(.)3 وبمقتىض ذلك نفهم أن اخلالفة اإلهلية هي أن اهلل تعاىل أناب اإلنسان احلكم وقيادة األمم وإعامر األرض وإصالح املجتمع وتطبيق العدالة ،وهي ذاهتا -
((( الرعد.11 : ((( إحسان األمني ،نظرية اإلصالح من القرآن الكريم.209 ، ((( املصدر نفسه.210 ،
446
اخلالفة – التي هبا يتحقق ما يأيت(:)1 · انتامء الكتل البرشية إىل مصدر واحد يف احلكم وهو اهلل تعاىل واإلعراض عن االنتامءات األخرى. · إقامة املجتمع الرباين وصياغة العالقات عىل أساس العبودية احلقة هلل وحترير اإلنسان من عبادة الطاغوت. · تفعيل املساواة واألخوة اإليامنية بني عموم البرش. · بعث اهلمم وتأجيج اإلرادات ،وحتفيز املجتمع الرباين خلدمة املرشوع اإلهلي املقدس كمصداق حلمل األمانة. واجلدير بالذكر أن التنمية البرشية يف القرآن الكريم عبارة عن جمموعة أجزاء تتكامل لتشكل كلية تنضوي حتت املنظومة الفكرية القرآنية والرؤية الكونية اإلسالمية ،فاملنظومة الفكرية اإلسالمية كام أكدنا ذلك سابق ًا جيب أن ُينظر إليها كمنظومة متكاملة ال جيوز جتزئتها إال لغرض التخصص أو الدراسة أو التحليل، فهي حال بقية الرؤى الساموية والوضعية األخرى ،فال جيوز النظر إىل اجلانب االقتصادي منفرد ًا عن بقية امليادين وجماالت احلياة املختلفة ،ومفاد ذلك أن مبدأ اإلصالح بقدر ما ُيعدّ هدف ًا أساسي ًا وركن ًا ملنظومة اخلالفة اإلهليةُ ،يعدّ يف الوقت نفسه هدف ًا للتنمية البرشية عموم ًا ،وهذا ما أوردنا ذكره فيام سبق حني ذكرنا قوله ون بِالمَْعر ِ ون إِ ىَل خَْ وف َو َين َْه ْو َن َع ْن المُْنْك َِر ﴿و ْل َتك ُْن ِمنْك ُْم ُأ َّم ٌة َيدْ ُع َ تعاىلَ : ال رِْي َو َي ْأ ُم ُر َ ْ ُ
((( ظ :ميثم السلامن ،التحفيز اإليامين.54 -53،
447
َو ُأ ْو َلئِ َ ون﴾( ،)1فاآلية املباركة تأمر اإلنسان كفرد واألمة كمجموعة ك ُه ْم المُْ ْفلِ ُح َ أفراد عىل لزوم حتمل األمانة والدعوة إىل اخلري والصالح املتمثل باألمر باملعروف، واإلصالح املتمثل بالنهي عن املنكر ،فاآلية حتكي واقع (أمر سبحانه وتعاىل بتكميل الغري بعدما أمرهم بتكميل أنفسهم ....والدعوة إىل اخلري هي من أهم األسباب التي تكون دخيلة يف رقي األمة وتقدمها يف كل املجاالت)(.)2
أقول مما تقدم :إن إي رؤية كونية مهام اجتهدت يف بناء حضارهتا لن تستقيم إال من خالل مأل الفراغ الفكري الناطق بتكريم اإلنسان وتعزيز مكانته وكرامته التي تتناسب مع كونه القيمة العليا يف الكون ،حيث َعدت الرؤية القرآنية اإلنسان تكويني ًا خليف ًة هلل تعاىل يف احلرضة اإلهلية يف السامء ويف حرضته يف األرض متمث ً ال به سبحانه وتعاىل ،فالقرآن الكريم نظر إىل اإلنسان مرشوع ًا حضاري ًا نابع ًا من الرتاكامت اإلجيابية ،لذا عد العنرص األساس يف صناعة التأريخ واحلضارة. وما نظرية اخلالفة التي عرضنا إليها بصورة إمجالية ما هي إال عملية حتكي واقع التنمية البرشية ،ألن نظرية اخلالفة اإلهلية تلزم كل مكلف إلزام ًا عيني ًا بتمثيل مضمون املبدأ ،ويلزم النهوض بعامرة األرض وإصالحها ،وإن هذا اإلصالح ملزم لكل مكلف بالتكليف العيني أن يسعى لديمومة اعامر األرض وإصالح ما فسد منها يف حالة وجود ما ُي ّعوق أو ُيربك ديمومتها ،ناهيك عن وجوب إكرام اإلنسان ،وتنميته وحمافظته عىل البيئة وتطويره العالقات االجتامعية وإشاعة ((( أل عمران.104 : ((( عبد األعىل السبزواري ،مواهب الرمحن يف تفسري القرآن.215 ،6 ،
448
اخلري واستقباح الرش واألمر باملعروف والنهي عن املنكر وغري ذلك مما رشعه اهلل تعاىل والذي مثل صورة الرسالة اإلسالمية التي عدت منظومة فكرية متكاملة ال نستطيع فصل أجزاء بعضها عن بعضها اآلخر. فإذا ما اقرتن التكليف باخلالفة مع لزوم النهوض بعامرة األرض واستغالل ما سخر فيها ،يمكن حتديد نظرة اإلسالم عموم ًا والقرآن الكريم خصوص ًا لنظرية اخلالفة اإلهلية -وما يتعلق هبا من مبادئ -وعالقتها بالتنمية البرشية، والتي تتجسد من خالل السامح لإلنسان باستغالل املوارد (املسخرة له) كافة من أجل (عامرة األرض) للقيام بواجب اخلالفة التي تتضمن مجيع األحكام الرشعية
وضوابطها(.)1 وهبذا فإن الصلة والعالقة بني املبادئ القرآنية والتنمية البرشية كعالقة الرأس من اجلسد ،ألن اإلنسان الذي عد خليفة اهلل يف األرض هو ذات موضوع القرآن الكريم وهو الغاية والوسيلة للتنمية البرشية عىل وفق الرؤية القرآنية.
((( ظ :جمموعة باحثني ،دراسات يف التنمية البرشية املستدامة ،اإلسالم والتنمية البرشية املستدامة -مقارنة يف األهداف واملوارد ،أسامة العاين.151 ،
449
450
الخاتمة
451
452
الخاتمة بعد أن أمتمت بتوفيق من اهلل سبحانه وتعاىل فصول هذا البحث ،البد من أن نستخلص أهم ما توصلنا إليه من نتائج موزعة عىل تلك الفصول واملباحث ،التي أعرضها بإجياز عىل النحو اآليت: • إن من أهم سامت مفهوم التنمية البرشية هي سمة الشمولية ألهنا ترضب جذورها يف مجيع جماالت احلياة املختلفة عىل نقيض من مفهوم التنمية الذي تبنى أثر أثره يف املجاالت االقتصاد بوصفه هدف ًا أوحد عن بقية جماالت احلياة وإن ّ األخرى ،وبالرغم من حمورية اجلانب االقتصادي ،الذي ُيعدّ أحد مصاديق التنمية البرشية األساسية ،إال فإننا ال نستطيع أن ندعي أنه الوحيد ،وهلذا تُعدّ النظرة إىل تورث إرث ًا فكري ًا التنمية البرشية بعني اجلانب املادي (االقتصادي) نظرة احادية ّ وأخالقي ًا ضعيف ًا هش ًا. • إن والدة التنمية البرشية مل تأت من فراغ بل جاءت نتيجة طبيعية لتالقح األفكار ونضوج جمموعة من املفاهيم كاملوارد البرشية ،سبل العيش ،األمن الغذائي ،حقوق اإلنسان ،احلاجات األساسية ،والتي توارثها العقل البرشي فأصبحت طريق ًا مؤدي ًا وموص ً ال إىل التنمية البرشية ونضجها االصطالحي ،لذا فهو مفهوم متحرك مرن بعيد األفق والرؤية ،ومتفتح يؤمن بالتطور عىل نفسه وعىل الصعيدين النظري والعميل ،رشيطة البقاء عىل الثوابت الرئيسة واملعطيات الرضورية والقيم األخالقية ،وهلذا نجد أن والدة التنمية نتيجة خماض عسري َعمرة والتي ُفرض عليها التخلف قرص ًا ،أو لعدم جدية بعض عانته الدول ا ُملست َ األمم والشعوب برتمجة مبادئها إىل واقع ،أو لتبني -بعض آخر من تلك الشعوب 453
املتخلفة -سياسات ورؤى كونية منحرفة ال تتناسب مع فلسفة وجود الكون واإلنسان وسد حاجاته ومتطلباته. • إن االنطالقة األوىل ملفهوم التنمية البرشية كانت مع الوالدة األوىل لإلنسان ،ألنه جمبول عىل االرتقاء بنفسه وجمبول عىل أن يطرق جماالت احلياة كافة باحث ًا عن ذاته ،فهي مطردة عىل قدر نمو االنسان ونمو قابلياته ومؤهالته ونضوجه العقيل والفكري ،وهلذا فالتنمية البرشية ال تستطيع أن تفرض وجودها إال من خالل عاملني أساسيني مها :رغبة اإلنسان بتطور ذاته لرتكيبته التكوينية من جهة ،ولتعامله اإلجيايب كرد فعل عىل درء أي خطر أو ضغط حييط به ويزيل توازنه من جهة ثانية. • إن تأصيل التنمية البرشية قد ورد يف الكتاب والسنة املطهرة بشكل واضح وجيل وال سيام عىل املستوى الفكري ال الفردي ،ألن الباحث فرق بني التنمية عىل املستوى العميل الفردي والتنمية عىل املستوى الفكري ،ويرى أيض ًا أن ما من فلسفة ساموية كانت أو وضعية إال وهلا رؤية أو منهج تنموي ،وعىل اإلنسان أن يدرك أنه هو عنرص التغري والنمو ،و ُيعدّ عنرص التخلف يف مراحل السبات. • إن والدة النهضة التنموية األوربية ولدت كانقالب وردة فعل عىل الذات واملحيط ،إال أن من املؤسف أن هذا االنقالب الذي كان إجيابي ًا متوازن ًا يف جماالت ما ،كان سلبي ًا غري متوازن يف جماالت أخرى ،مما أربك توازن النظام اهليكيل البنائي االجتامعي مشك ً َفت إليها الغرب ومفكروهم ال أزمة جديدة ألت َ مما دعاهم أن يتشاطروا مع غريهم باالنعطاف نحو مفاهيم تنقذ واقعهم املظلم، وكان أحد تلك اخليارات هو مفهوم التنمية البرشية ،الذي سدَّ جزء ًا من متطلبات 454
حاجاهتم. • إن التنمية البرشية املستدامة ما هي إال ترف فكري أو حلن مفاهيمي، فمتبنياهتا وموضوعها وهنجها وأهدافها وأسسها هي ذات متبنيات التنمية البرشية ،فكل منهام راسخ يف حق الثاين ومتبنياته. • إن موضوع التنمية البرشية هو اإلنسان ،بل هو موضوع ملفهوم مركب، يكون فيه اإلنسان هو الوسيلة واهلدف يف الوقت نفسه ،ويتجىل ذلك وضوح ًا حني نجد أن غرض وغاية التنمية البرشية هي املحاولة اجلادة لردم اهلوة وتقليل الفارق بني ما هو كائن لإلنسان وما ينبغي أن يكون ،والتنمية البرشية هلا أهدافها اخلاصة بحيث تُعدّ كل األهداف الصغرى وسيلة إليه ،فكل هدف صغري هو وسيلة هلدف أكرب منه ،وكل هدف كبري هو غاية هلدف أصغر منه وصوالً إىل الغاية الكربى التي تنضوي حتتها كل األهداف لتأمني الغاية الكربى من وجود اإلنسان أصالً ،والتي نعني هبا علة خلقه ووجوده وهو الكامل النهائي حني يكون بالقرب من الذات اإلهلية ،وأن األهداف الثانوية تتسع بمرور الزمن مع تطور اإلنسان مع سعة حاجاته واملتعددة واملتجددة التي نعدها سب ً ال لتأمني هدف التنمية البرشية األسمى ،والذي يلفت االنتباه أن اإلنسان بإمكانه أن هيتدي إىل تلك األهداف الصغرى ،وذلك بحكم اقرتانه بتلك احلاجات الذاتية ،إال إن املشكلة تكمن يف معرفة األهداف الكربى للتنمية البرشية التي يفتقر إليها اإلنسان ،فاهلداية إليها ال تتحقق إال بفعل القائم عليها – اهلل تعاىل -أو بوساطة منه ،ألن األهداف السامية واملتكاملة ال تُدرك بكائن ناقص يفتقر إليها أصالً. • إن مقاييس التنمية البرشية تتباين عىل قدر تباين مصاديق مفهومها وتباين 455
حاجات اإلنسان ،لذا سوف ال يكون هناك معيار ومقياس خاص ملؤرشات التنمية البرشية عىل طول الوقت ،بل حتى عىل امتداد بقاع األرض املتعددة ،وعدم ثبوت مقاييس التنمية البرشية واستقرارها مرجعه هو سعة خيارات الفرد. • إن اختالف مفهوم التنمية البرشية القرآين عن املفهوم الدارج يف الفلسفات الوضعية مرجعه ذات املزية التي متيزت هبا مفاهيم الرؤية اإلسالمية وسامهتا من بقية الرؤى األخرى ،مما عدت العلة احلقيقية وراء هذا التباين يف فهم اإلنسان واحلياة والكون ،وأن التنمية البرشية يف القرآن الكريم كان مهها اإلنسان وغايتها تطوير قدراته الفكرية والسلوكية عىل الصعيدين الذايت واملهني، وإن القاعدة األصولية التي تنص "جلب املصالح ودرء املفاسد " تعمل بطول التنمية البرشية ،فهام يتبنيان منهج دفع الرضر عن اإلنسان وجلب املنافع إليه وسد حاجاته وحتقيق طموحاته ،لذا عد اإلنسان يف ميزان اإلسالم والقرآن الكريم هو مركز الكون وحموره ألنه خليفة اهلل يف األرض. • إن من أهم األخطاء االسرتاتيجية التي وقعت هبا النظريات الوضعية، هي النظرة األحادية التي مبناها الدليل احليس الذي ُيغ ّيب الروح وآثرها يف عملية البناء والتطوير ،مما سبب اختالل املعادلة وإمالة الكفة باالجتاه املغلوط ، حيث يقتيض هنا إعادة فاعلية اإلنسان يف تنمية اجلانب الروحي ،بغية العودة به وبمنظومته إىل مرتبة االتزان واالعتدال ،فالتالزم بني املادة والروح مرتبط عىل حد بعيد يف حتقق االستزادة والنامء للمجاالت املادية واملعنوية. • إن تأكيد خصائص التنمية البرشية يف القرآن الكريم هو هدف مقصده بيان مزايا العملية التنموية ومواطن قوهتا من خالل تسليط الضوء عىل تلك 456
اخلصائص التي نرى تكاملها بتجانسها وتداخلها مع بعضها بعض ًا لتظهر حقيقة الرؤية القرآنية للتنمية املتكاملة التي تستمد وجودها من املد الغيبي لكتاب اهلل تعاىل الذي أصبغ األمة ذوق ًا وطباع ًا وثقاف ًة انفردت هبا عن باقي األمم. • إن الرؤية القرآنية عدت التنمية البرشية أمر ًا ملزم ًا أي أهنا ارتقت بإجرائاهتا إىل درجة الوجوب واإللزام ،يف حني وجد الباحث عدم اإللزام يف مناهج أغلب الرؤى األخرى ،بل عد تركها أو خمالفتها عىل وفق مقتىض املفهوم أمر ًا مذموم ًا يصل إىل درجة احلرمة ،و ّعد التواصل والتتابع يف التنمية البرشية القرآنية مقصده وعي اإلنسان إىل عدم حمدودية عامل الدنيا وحتمية تواصله بعامل اآلخرة ،عىل أساس التالزم بني الدارين ،عىل عكس الدراسات الوضعية التي قيدت تنميتها وحددهتا بعامل حمدود ضيق. • إن الرؤية الكونية القرآنية ملنهج التنمية البرشية وأهدافها تكمن يف حاكمية اإلنسان عىل بقية املوجودات بحكم مبدأ االستكامل الذايت ومبدأ االستخالف وبام متيز به من قوة عاقلة ،وهو ذات السبب وراء تلك اإلمكانات واالمتيازات التي قادته إىل مراتب الكامل ولوضع أسس بناء منظومة احلياة التي تألقت تراتبي ًا بفعل التنمية العقلية والسلوكية والتجريبية ،املبنية عىل أساس اجلعل اإلهلي لفكرة خلق اإلنسان واستخالفه ،مما ألزم اإلنسان أن يدرك غاية وجوده ،ثم وعيه ملاهية العبادة التي تُعدّ إحدى اآلليات والسبل لتحقيق االستخالف أيض ًا ،ولكي نضمن لالستخالف والعبادة موقعهام الرفيعني بعني اهلل تعاىل بوصفهام هدفني تنمويني أساسيني اقتىض أن يكون هناك هدف ثالث رئيس حيقق تكامل تلك املنظومة الساموية ،متثل الرؤية الكونية التي جتسد االستخالف والعبادة والتي عرب عنها 457
باألمة الوسط بام حتمل من مضامني وتطبيقات متثل نشاطات اإلنسان لتحقيق أهداف ووسائل التنمية البرشية يف املنظور القرآين من خالل عامرة األرض ،وهذا يعني أن استخالف اإلنسان يف األرض تعني العبادة إتيان اإلنسان بكل تصوراته وحركاته وسكناته ،وهلذا فإن جوهر حركة التنمية البرشية يف القرآن الكريم هو إدراك اإلنسان أمهية آثره يف الوجود كخليفة يف األرض هلل عز وجل ،مما يقتيض ان يفجر قواه الكامنة يف داخله مجيع ًا لتحقيق تطوير ذاته وتنميتها. • لقد أهتم القرآن يف مقاييس تقدم وختلف أي فرد أو جمتمع ،من خالل جعل جمموعة من املؤرشات تُعدّ بمثابة مقياس ملفردات التنمية من عدمها، كان أمهها وأوهلا هو القرب والبعد من ذات املفهوم ،فض ً ال عن رضورة تزاوج املفهوم واملصداق ،وانطباق احدمها عىل اآلخر ،وهلذا عد الباحث أن مصطلح "نوعية احلياة" هو أقرب مقياس حلركة اإلنسان وتطوره ،حيث يسعى إىل تأمني احلاجات األساسية لإلنسان وبني إحساسه باملستويات العليا للرفاه ،والنكتة املهمة يف حتديد مقاييس التنمية البرشية قرآني ًا ،هي أن اآليات املباركة قد تعاملت مع كل ميدان أو نشاط أو سلوك حيايت بمنأى عن امليادين األخرى ،فالقرآن عندما يتحدث عن مقاييس نمو القائد غري ما يتحدث عن املدير ومقاييس تطوره ،وكذا فاحلديث عن مقاييس األمة الفاسدة فكري ًا هي غريها التي تتحدث عن أمة فاسدة ومنحرفة سلوكي ًا. • لقد كان اخلطاب القرآين لإلنسان بعدة أنامط وألوان ،كان أمهها من وجهة رأي الباحث هو تأكيد التنمية النفسية -التنمية االخالقية -فهو النشاط التنموي الوحيد الذي حيتاج إىل جهد متميز لتعامله مع قوى النفس اإلنسانية 458
وتعقيداهتا ،لذا يعتقد الباحث أنه كام ُعد اإلنسان هو حمور النظرية القرآنية ،كذا ُعد اخلُلق احلسن وتطويره وتنميته هو حمور اإلنسان وهي احلياة النابضة يف جسده. • ُيعدّ التفكري أحد أهم القواعد املؤثرة يف بناء شخصية اإلنسان وتكاملها فإن اهتامم التنمية البرشية القرآنية بأمهية اجلانب الفكري كونه جري ًا بني الضالل واجلهل من جهة وبني اهلداية من جهة أخرى ،أي بني أن يكون انحدارا للهاوية أو أن يكون أول سلم اإلبداع والتطور عىل مستوى الفرد واملجتمع واملؤسسة، وهلذا عد ختلف التنمية البرشية بني عىل ختلف اجلانب الفكري ،وهلذا كانت النظرة القرآنية للتخلف هي نظرة فكرية أوالً ومن ثم اقتصادية أو سياسية أو غريمها، وهلذا فالباحث يرى أن التخلف بحسب وجهة نظره عىل أنه عبارة عن ٍ تدن بمستوى فرد أو جمموعة أفراد عىل صعيد اجلانب الفكري أو عىل أحد أصعدة احلياة املختلفة أو بعض منها أو مجيعها بمنظار الرؤية الكونية التي ينتمي إليها الفرد أو األفراد ،وهذا يعني أن عىل الفرد أن يقلص اهلوة أو البون بني ما هو كائن وما ينبغي أن يكون ،كام تبنى وجود مائز للتفريق بني التخلف الذايت واملوضوعي، أي ما بني أن يكون السبب يف التخلف بعامل الفرد نفسه أو بني أن يكون التخلف موضوعي ًا بسبب عامل الضغط العام كالظروف التي حتيط بالفرد أو املجتمع . • يرى الباحث م ِ عتقد ًا أن املنظومة الفكرية ألي أيديولوجية تقتيض النظر ُ إليها ككتلة متداخلة متجانسة فيام بينها ،فتجزئة أو تبويب أي منظومة اجتامعية ُيعدّ خرق ًا فكري ًا يف رأيه ،نعم جيوز ذلك من اجل البحث العلمي التخصيص رشيطة عدم اخلروج عن اإلطار العام. • حيسب الباحث أن ما من آية من آيات القران الكريم إال وبإمكاننا أن 459
نتلمس منها أبعاد التنمية البرشية من قريب أو بعيد. • لقد اهتم اإلسالم بصورة عامة والقرآن الكريم بصورة خاصة بدور الظروف التي حتيط باإلنسان وتأثره هبا سلب ًا وإجياب ًا ،وحجم تأثريها يف عطائه وإنتاجه وسلوكه ،مما وجب االهتامم بكل هذه املجاالت التي تنهض بدور أسايس يف رؤية اإلنسان إىل احلياة و بالعكس ،إذ عرض القرآن الكريم إىل تلك املجاالت مجيع ًا وبينّ دور تأثريها عىل اإلنسان وسلوكه ،إذ اعتربها مسارات واضحة لتكامل رؤية التنمية البرشية يف القرآن الكريم. • تُعدّ الرؤية القرآنية هي الكيل الذي ترد إليه مجيع اجلزئيات وهي القاعدة التي تبنى عليها مشاريع التنمية البرشية يف جماالت احلياة كافة وإن لإلسالم بصورة عامة والقرآن بصورة خاصة رؤية هتتم بفلسفة املنظومة االجتامعية ومكوناهتا وعنارصها ومقوماهتا وتنميتها ،وإن منشأ هذا االهتامم مرده إىل أن املجتمع ميدان النظم القرآنية وساحتها احلقيقية لتطبيق نظرياهتا وتصوراهتا ،بحيث تكون جمموعة أحكام وسنن النظام االجتامعي اإلسالمي منبثقة أساس ًا من أفكار تلك الرؤية و هدفها حتقيق الغايات املرجوة ،ألن النظم االجتامعية تعني جمموعة األحكام املستنبطة من الرؤية الكونية ،بحيث يتعامل معها الفرد واملجتمع عىل أهنا جمموعة عقائد من قوانني وسنن تنظم سلوك املجتمع بأفراده ويرسم معامل تألقه وتنميته ،لذا ُيعدّ التنافس والتحفيز لتنمية املجتمع القرآين مبني ًا عىل أساس القرب والبعد عن اخلط البياين للتقوى واالنتامء إىل اهلل تعاىل ،فكلام أدرك أفراد املجتمع أن الدافع وراء االرتقاء هو التقوى كان ذلك دافع ًا إىل تنمية املجتمع وتطويره، وألمهية التنمية االجتامعية نظر القرآن الكريم إىل املصلحة العامة يف حالة تعارض 460
املصلحتني ،وقبال ذلك نتلمس عني التوازن يف الرؤية القرآنية وهي تنظر بعني اإلنصاف بني الفرد واملجتمع. • إن نظرية اخلالفة االهلة تتضمن مبادئ ،اإلستخالف ،التسخري ،التمكني، عامرة األرض ،اإلصالح والتغيري ،إذ مجيعها تشكل حقيقة النظرية وتظهر واقع التنمية البرشية . وأخري ًا فمهام يكن من أمر هذا البحث فهو جهد برشي مفتقر إىل الكامل لعلمنا املطلق أن الكامل هلل سبحانه وتعاىل وحده ،غري أن الذي جيعلني اشعر بالطمأنينة والراحة أنني واصلت الليل بالنهار ودعوت اهلل عز وجل ورجوت عونه عىل متام هذا الكتاب الذي اعتز هبه كوين قد رسمت أول حروفه حتت قبة سيدي وحبيبي اإلمام احلسني Aوقد انطلقت من حتتها بعد أن خططت آخر حروفه قاصد ًا مدينة سيد األوصياء موالي اإلمام عيل Aألضعه بني أسفار كليتي الغالية كلية الفقه – جامعة الكوفة. فإذا كان البد من وجود قصور أو تقصري يف أي جهد برشي فإن ذلك ال يقدح بالطموح املرشوع للفوز باجر املجتهد ،واهلل املوفق للسداد. وآخر دعوانا أن احلمد هلل رب العاملني.
المؤلف
461
462
463
464
اوالً :خير ما نبتدأ به القرآن الكريم. ثانياً :الكتب.
•اآلصفي :حممد مهدي ،يف رحاب القرآن ،ط ، 1املرشق للثقافة والنرش، 2008م. •جلنة تأليف :مفاهيم حضارية ،مؤسسة البالغ ،ط2002 ، 8م. •آميل :جوادي ،نظرية املعرفة يف القرآن ،ط ،1ترمجة دار اإلرساء للتحقيق والنرش ،دار الصفوة ،بريوت – لبنان1996 ،م. •األمني :إحسان ،نظرية اإلصالح من القرآن الكريم ،ط ،1معهد األبحاث والتنمية احلضارية ،العارف للمطبوعات ،بريوت -لبنان2010 ،م. •األمني :حمسن العاميل ،أعيان الشيعة ،ط ،1دمشق1936 ،م. •أجيازي :حممد عيل مقاصد األحكام الرشعية وغاياهتا ،دراسة يف سبل اكتشاف املالكات، ،تعريب عيل عباس الوردي ،ط ،1مركز احلضارة لتنمية الفكر اإلسالمي ،بريوت2009،م. •بانوري ،طارق وأخرون ،التنمية البرشية املستدامة من املفهوم النظري إىل التطبيق ،برنامج األمم املتحدة اإلنامئيُ ،طبع يف مطابع االسكوا1996 ،م. •باينده :أبو القاسم( 1404هـ) ،هنج الفصاحة ،ط ،4النارش :دنياىدانش، طهران1424 ،هـ. •البحراين :هاشم( .ت1107-هـ)،الربهان يف تفسري القرآن ،مؤسسة األعلمي للمطبوعات ،ط ،2بريوت لبنان2006 ،م. 465
•بدوي :امحد زكي ،معجم مصطلحات العلوم االجتامعية ،ط ،2مكتبة لبنان – بريوت1989 ،م. •البستاين :د .حممود ،دراسات يف علم النفس اإلسالمي ،ط ،4دار الباقر للطباعة والنرش والتوزيع2008 ،م.
•البغدادي :مكي قاسم ،أهداف القرآن يف أم الكتاب ،ط 1دمشق 2008 ،م. •البكاء :حممد كاظم ،نظرية النص يف تفسري القرآن الكريم /نحو ثقافة النص وكشف عن اإلعجاز املنهجي /سورة البقرة أنموذجا ،إصدارات اهليأة الثقافية العليا ملكتب السيد الشهيد الصدر (قدس) ،مركز اهلدى الثقايف2010 ،م. •بكار :د .عبد الكريم ،جتديد الوعي ،موسوعة الرحلة إىل الذات ،دار القلم ،دمشق2010 ،م. •مدخل إىل التنمية املتكاملة ،ط ،4دار القلم ،دمشق2011 ،م. •من أجل انطالقة حضارية شاملة – أسس وأفكار يف الرتاث والفكر والثقافة واالجتامع ،ط ،4دار القلم ،دمشق2011م. •البهاديل :أمحد كاظم ،مفتاح الوصول إىل علم األصول ،ط ،1رشكة حسام للطباعة الفنية املحدودة ،بغداد1994 ،م. •البهاديل :جواد أمحد ،الثابت واملتغري يف الرشيعة اإلسالمية ،ط2009 ،1م، مطبعة جممع أهل البيت. •البوطي :د .حممد سعيد رمضان ،منهج احلضارة اإلنسانية يف القرآن، ط ،10دار الفكر ،دمشق – سوريا ،ط2009 ،10م. 466
•الزركيش :بدر الدين حممد بن عبد اهلل (ت794 :هـ) ،الربهان يف علوم القرآن ،ط ،2حتقيق :حممد أبو الفضل ابراهيم ،مطبعة عيسى البايب احللبي، القاهرة. •توفيق :حمسن عبد احلميد وآخرون ،التنمية املتواصلة والبيئة يف الوطن العريب ،املنظمة العربية والثقافة والعلوم ،تونس1992 ،م. •جرادي :سفيق ،مقاربات منهجية يف فلسفة الدين ،ط ،1مركز احلضارة لتنمية الفكر اإلسالمي ،سلسلة الدراسات احلضارية ،بريوت 2010م. •اجلوهري :عبد اهلادي ،وآخرون ،دراسات يف التنمية االجتامعية ،مدخل إسالمي ،ط ،1مكتبة النهضة الرشق ،القاهرة1982 ،م. •اجلوهري :أبو نرص إسامعيل بن محاد( ت393 :هـ) تاج الصحاح العربية، حتقيق إميل بديع يعقوب و حممد نيل طريفي ،ط ،1مطبعة دار الكتب العلمية ،بريوت -لبنان 1420هـ 1990 -م. •احلر :د .عبد العزيز حممد ،الرتبية والتنمية والنهضة،ط ،1رشكة املطبوعات للتوزيع والنرش ،بريوت – لبنان2003 ،م. •احلر العاميل :حممد بن احلسن( ت1104 :هـ ) ،وسائل الشيعة إىل حتصيل مسائل الرشيعة منشورات مؤسسة األعلمي للطباعة ،بريوت ط،1 : 2007م 1427 -هـ. •احلسون :عالء ،تنمية الوعي ،رابطة أهل البيت عليهم السالم اإلسالمية العاملية ،ط ،1مؤسسة الثقلني2008 ،م. •احلكيم :جعفر ،علم النفس الفلسفي ،ط ،1األمرية للطابعة والنرش 467
والتوزيع ،بريوت – لبنان2013 ،م. •حالوة :د .مجال والدكتور عيل صالح ،مدخل إىل علم التنمية ، ،ط،1 عامن :دار الرشوق للنرش والتوزيع2009 ،م.
•احليل :حسن بن سليامن بن حممد(ت :القرن الثامن اهلجري) ،خمترص البصائر ،ط ،1حتقيق مشتاق صالح املظفر مؤسسة النرش اإلسالمي، إيران؛ ق م 1421هـ. •آحلميد :عباس ،اإلسرتاتيجية اإلسالمية ،كيف تساهم يف النهوض باألمة اإلسالمية ،ط ،3سلطنة عامن2011 ،م. •ابن حنبل :أمحد بن حممد(،ت241 :هـ) ،املسند ،رشح شاكر حممد شاكر، ط ، 2دار املعارف للطباعة والنرش ،مرص1949 ،م. •احليدري :كامل ،املذهب الذايت يف نظرية املعرفة ،ط ،2دار القارئ ،دار فراقد للطباعة والنرش ،إيران -قم املقدسة2005 ،م . •الثابت واملتغري يف املعرفة الدينية ،بقلم :الدكتور عىل العيل ،ط ،1دار القارئ ،دار فراقد للطباعة والنرش ،إيران – قم1429 ،هـ. •فلسفة الدين ،مدخل لدراسة منشأ احلاجة إىل الدين وتكامل الرشائع، ط ،7بقلم الشيخ عيل محودي العبادي ،دار القارئ للطباعة والنرش والتوزيع2010 ،م. •يف ظالل العقيدة واألخالق ،ط ،1دار القارئ ،دار فراقد للطباعة والنرش2004 ،م. •مناهج املعرفة عند اإلسالميني ،دار القارئ ،دار فراقد للطباعة والنرش، 468
1426هـ. •اخلفاجي :حكمت عبيد ،التفسري املوضوعي للقرآن الكريم وموضوعاته،ط ،1دار الرضوان للنرش والتوزيع ،عامن 2012م ،مؤسسة دار الصادق الثقافية.
•اخلميني ،روح اهلل املوسوي :تنقيح األصول ،تأليف الشيخ حسني التقوي األشتهاردي ،ط ،2مؤسسة تنظيم ونرش آثار اإلمام اخلميني 1385هـ ( ت1385-هـ). •اخلوئي :أبو القاسم املوسوي ،مصابيح األصول ،السيد عالء الدين بحر العلوم ،مؤسسة إحياء أثار اإلمام اخلوئي. •البيان يف تفسري القرآن ،ط ،3منشورات مؤسسة األعلمي للمطبوعات، بريوت – لبنان1974 ،م. •اخلوئي :حممد تقي ،قبس من تفسري القرآن ،مؤسسة إحياء تراث اإلمام اخلوئي ،ط ،2ايران– قم2003 ،م. •راد :فريوز وأمري رضائي ،تطوير الثقافة ،دراسة اجتامعية يف مفهوم التنمية الثقافية عند عيل رشيعتي،تعريب أمحد املوسوي ،ط ،1سلسلة الدراسات احلضارية ( ،)31مركز احلضارة لتنمية الفكر اإلسالمي ،بريوت 2009م. •الراغب األصفهاين :احلسني بن حممد بن الفضل( ،ت :يف حدود 425هـ)،مفردات ألفاظ القرآن الكريم ،حتقيق :صفوان عدنان داوودي، ط ،6النارش :ذوي القربى ،قم املقدسة 1431هـ. •زاهد :د .عبد األمري كاظم ،قراءات يف الفكر اإلسالمي املعارص ،دار 469
الضياء للطباعة والتصميم ،النجف االرشف. •الزركيش :بدر الدين حممد بن عبد اهلل (ت794 :هـ) ،الربهان يف علوم القرآن ،ط ،2حتقيق :حممد أبو الفضل ابراهيم ،مطبعة عيسى البايب احللبي، القاهرة.
•زكي :رمزي ،املحنة األسيوية :قصة صعود وهبوط دول املعجزات األسيوية ،ط ،1دمشق ،دار املدى للثقافة والنرش2000 ،م. •الزملي :الدكتور مصطفى واألستاذ عبد الباقي البكري املدخل لدراسة الرشيعة اإلسالمية ،املكتبة القانونية ،رشكة العاتك لصناعة الكتاب، 2006م. •الزخمرشي ،جار اهلل حممود بن عمر ،أساس البالغة ،ط :الثانية ،مطبعة اهليئة املرصية العامة للكتاب 1985،م (ت467-هـ). • الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون األقاويل يف وجوه التأويل ،مصححة عىل نسخة خطية د .عبد الرزاق املهدي،ط ،1دار إحياء الرتاث العريب، بريوت -لبنان. •زيدان :عبد الكريم ،الوجيز يف أصول الفقه ،ط،6طهران ،دار إحسان للنرش والتوزيع. •زين الدين :ضياء الدين ،مبادئ عامة يف أصول التدبر القرآين ،احللقة األوىل ،القرآن كتاب اهلل ،دار الضياء للطباعة والتصميم ،العراق -النجف األرشف. •زين الدين :حممد أمني ،اإلسالم ينابيعه مناهجه غاياته ،ط ،2مطبعة 470
األدراب يف النجف األرشف1978 ،م. •السامل :د .مؤيد سعيد ،إدارة املوارد البرشية مدخل اسرتاتيجي تكاميل، ط2009 ، 1م ،مكتبة اجلامعة الشارقة ،إثراء للنرش والتوزيع األردن. •السبحاين :جعفر ،أضواء عىل عقائد الشيعة األمامية ،ط ،1مطبعة مؤسسة الصادق 1421 ،هـ ،قم املقدسة. •رسالة يف التحسني والتقبيح ،ط ،1مؤسسة اإلمام الصادق ،قم املقدسة •السبزواري :عبد االعىل املوسوي ،مواهب الرمحن يف تفسري القرآن ،مطبعة اآلداب ،النجف األرشف1986 ،م(ت1414-هـ). •السعد :د .غسان ،حقوق اإلنسان عند اإلمام عيل رؤية علمية ،النجف االرشف ،عاصمة الثقافة اإلسالمية2012 ،م ،العتبة العلوية املقدسة- قسم الشؤون الفكرية والثقافية. •سلامن :د .مجال داود ،اقتصاد املعرفة ،دار اليازوري العلمية للنرش والتوزيع – عامن2009 ،م. •السلامن :ميثم ،صناعة السعادة ،دار الوالء ،بريوت – لبنان . •التفكري ،ط ،2مؤسسة أمحد للمطبوعات ،بريوت -لبنان2008 ،م . صناعة السعادة ،ط ،1دار الوالء ،بريوت – لبنان2009 ،م. • •سيد قطب:العدالة االجتامعية يف اإلسالم ،دار الرشوق ،بريوت – لبنان، 1974م( .ت1966-م ). •خصائص التصور اإلسالمي ط ،1القاهرة1962 ،م. •يف ظالل القرآن ،ط ، 37دار الرشوق ،القاهرة 2008 ،م. 471
•السيستاين :عيل احلسيني ،الرافد يف علم األصول ،بقلم السيد منري عدنان القطيفي ،احللقة األوىل ،مهر -قم1414 ،هـ. •سيمالنسكي ،جوناثان ،إدارة املوارد البرشية ،ترمجة هند رشدي ،كنوز للنرش والتوزيع ،مرص القاهرة.
•السيوطي :جالل الدين عبد الرمحن بن أيب بكر(ت 911 :هـ) ،اجلامع الصغري يف أحاديث البشري النذير ،ط ، 4مطبعة مصطفى البايب احللبي، مرص 1373 ،هـ 1954 -م. •الرشبجي :عيل ،املدخل إىل دراسة الفقه اإلسالمي ،ط ،1الياممة للطباعة والنرش والتوزيع ،دمشق 2002م. •رشيعتي :عيل ،األعامل الكاملة ،دار أبن طاووس ،ط2010 ،3م. •الرشيف الريض:حممد بن حسني( ت406 :هـ(هنج البالغة ،رشح حممد عبدة ،دار التعارف للمطبوعات ،بريوت – لبنان. •ابن شعبة احلراين :احلسن بن عيل( ت :القرن الرابع اهلجري ) ،حتف العقول عن آل الرسول ،ط ،2قم املقدسة1404 ،هـ. •الشعراوي :حممد متويل ،قضايا معارصة ،إعداد عامد عبد الطيف ،ط،1 القاهرة :مكتبة القرآن1981 ،م. •شفيق :منري ،أنظر اإلسالم يف معركة احلضارة ،ط ،1دار الرباق للنرش – تونس1991 ،م. •شمس الدين :حممد مهدي دراسات يف هنج البالغة ،ط ،2الدار االسالمية، بريوت -لبنان 1392هـ. 472
•شندي :فؤادي ،التنمية االقتصادية يف اإلسالم ،ط ،1األندلس لإلعالم، القاهرة 1987م. •الشنقيطي :حممد األمني حممد املختار بن عبد القادر اجلكني ،أضواء البيان يف إيضاح القرآن بالقرآن ،املتوىف1393هـ ،دار الفكر للطباعة والنرش والتوزيع ،بريوت -لبنان1995 ،م.
•الشهيد الثاين :زين الدين بن عيل العاميل ،منية املريد يف أدب املفيد واملستفيد ،حتقيق رضا خمتاري. •الشيباين :ابو عمرو اسحاق بن مرار،اجليم ،حتقيق :إبراهيم األبياري وحممد أمحد ،اهليئة العامة لشؤون املطابع األمريية ،القاهرة1974 ،م. •الشريازي :نارص مكارم ،األمثل يف تفسري كتاب اهلل املنزل ،ط ،1دار النرش ملدرسة اإلمام عيل بن أين طالب عليه السالم ،ايران– قم1426 ،هـ. •الصدر :حممد باقر ،اقتصادنا ،دار الكتاب اللبناين ،بريوت – لبنان، 1977م( .ت1980-م). •األسس املنطقية لالستقراء ،موسوعة اإلمام الشهيد حممد باقر الصدر ط ،1رشيعت -قم1429 ،هـ . •املدرسة القرآنية ،موسوعة اإلمام الشهيد السيد حممد باقر الصدر ،مركز األبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر ،ط،1شؤيعت– قم، 1429هـ. •دروس يف علم األصول ،احللقة األوىل والثانية ،موسوعة اإلمام الشهيد السيد حممد باقر الصدر ،ط ،1مركز األبحاث والدراسات التخصصية 473
للشهيد الصدر ،رشيعت -قم1429 ،هـ. •دروس يف علم األصول ،احللقة األوىل والثانية ،موسوعة اإلمام الشهيد السيد حممد باقر الصدر،ط ،1مركز األبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر ،رشيعت -قم1429 ،هـ. •اإلسالم يقود احلياة ،ط،1مركز األبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر ،رشيعت – قم1429 ،هـ . •فلسفتنا، ،موسوعة اإلمام الشهيد السيد حممد باقر الصدر ،مركز األبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر ،ط ،5رشيعت– قم1429 ،هـ . •نظرة عامة يف العبادات، ،دار الكتاب اإلسالمي.2004 ، •املدرسة القرآنية ،ط ،1مؤسسة الثقلني2011 ،م. •الصدر :حممد حممد صادق ،منة املنان يف الدفاع عن القرآن ،هيئة تراث السيد الشهيد الصدر ،النجف األرشف2010،م دار مكتبة البصائر، بريوت -لبنان( ت1999 -م.) . •الصدوق :ابو جعفر ،حممد بن عيل( ت 381:هـ( ،ط ،6األمايل ،النارش: كتابچى ،طهران 1418 ،هـ. •من ال حيرضه الفقيه،ط ،2مؤسسة النرش اإلسالمي ،قم – غريان، 1413هـ. •علل الرشائع ،ط ، 1مطبعة اآلفتاب ،طهران1376 ،هـ(ت381 :هـ) .، •كتاب اخلصال ،صححه وعلق عليه :عيل أكرب غفاري ،النارش :مكتبة الصدوق ،طهران – إيران1389 ،هـ(ت381 :هـ.) . 474
•الصغري :د .حممد حسني ،املبادئ العامة لتفسري القرآن الكريم ،دراسة مقارنة ،ط ،2مطبعة املؤسسة اجلامعية للدراسات والنرش والتوزيع، بريوت 1983م. •الصورة الفنية يف القرآن الكريم ،دراسة نقدية بالغية ،دار الرشيد للنرش، 1981م.
•الصفار :فاضل ،إدارة املؤسسات من التأهيل إىل القيادة ،ط ،1دار العلوم، بريوت – لبنان2002 ،م. •الطباطبائي :حممد حسني ،امليزان يف تفسري القرآن،ط ،1مؤسسة االعلمي للمطبوعات1977 ،م (ت1402-هـ.) . •الطربيس :أبو عيل الفضل بن احلسن ،جممع البيان يف تفسري القرآن( ،من أكابر علامء اإلمامة يف القرن السادس) ،منشورات دار مكتبة احلياة ، بريوت ،لبنان. •الطربيس :ابو نرص احلسن بن الفضل (من أعالم القرن السادس) ،مكارم األخالق ،منشورات املطبعة احليدرية ،النجف األرشف1971 ،م. •الطربيس :ابو الفضل عيل بن احلسن ،مشكاة األنوار يف غرر األخبار(،ت: 400هـ ) ،ط ،2املكتبة احليدرية ،النجف األرشف1385 ،هـ. •الطويس :أبو جعفر حممد بن احلسن(ت460 :هـ) ،هتذيب األحكام، حتقيق :السيد حسن املوسوي اخلرسان ،ط ،2مطبعة النعامن /النجف، 1378هـ 1959 -م. •الطويل :د .هاين عبد الرمحن ،اإلدارة باإليامن – أبدال يف أدارة النظم 475
الرتبوية وقيادهتا ،اجلامعة األردنية 2006م.
•الطيطي :د .حممد وآخرون ،ط ،2دار املسرية للنرش والتوزيع والطباعة، 2009م عامن. •ابن عاشور :حممد الطاهر( ت1393-هـ )،تفسري التحرير والتنوير ،دار سحنون للنرش والتوزيع ،تونس. •العاين :اسامة عبد املجيد ،املنظور اإلسالمي للتنمية البرشية ،مركز اإلمارات للدراسات والبحوث االسرتاتيجية ،احتاد كتاب وإحياء االمارات2003 ،م . •عبد احلسن :د .عبد العزيز ،اإلدارة املتميزة للموارد البرشية ،متيز بال حدود ،ط ،1املكتبة العرصية للنرش والتوزيع ،مرص2009 ،م. •عبد احلميد :د .حمسن ،جتديد الفكر اإلسالمي ،دار الصحوة للنرش ،دار النرص للطباعة اإلسالمية ،مرص 1985م. •منهج التغيري يف اإلسالم ،ط ،1مؤسسة الرسالة ،بريوت 1983 ،م. •عبده :د .مجال حممد أمحد ،دور النهج اإلسالمي يف تنمية املوارد البرشية، ط ،1دار الفرقان للنرش والتوزيع /األردن ،مؤسسة الرسالة /بريوت، 1984م.
•أبو عبيد :القاسم بن سالم اهلروي البغدادي( ت224 :هـ) ،غريب احلديث ،ط ،1حتقيق :حممد خان ،مطبعة دائرة املعارف العثامنية ،حيدر آباد1964 ،م. •العبيدي :د .عبد اجلبار حممود ،خرافة التنمية والتنمية البرشية املستدامة – دراسات يف إشكالية الفكر االقتصادي ،ط ،1دار احلامد للنرش والتوزيع، 476
2012عامن. •عدس :حممد عبد الرحيم ،من خصائص النفس اإلنسانية يف القرآن الكريم، ط ،1مكتبة املنار ،األردن – الزرقاء1985 ،م.
•عساف :د .حممد ،أصول اإلدارة ،الكاتب ،القاهرة 1979،م. •العسل :د .إبراهيم حسني ،لتنمية يف الفكر اإلسالمي مفاهيم -عطاءات- معوقات -أساليب ،ط ،1جمد املؤسسة اجلامعة للدراسات والنرش والتوزيع2006 ،م. •عقييل :عمر وصفي ،دارة القوى العاملة ،دار زهران للنرش والتوزيع، عامن -االردن.1996 ، •عامرة :د .حممد ،اإلسالم وحقوق اإلنسان ،رضورات ال حقوق ،دار الرشوق ،القاهرة1989 ،م. •عنوز :صباح عباس ،هنج البالغة /صوت احلقيقة ،ط ،1دار املعمورة للطباعة والنرش ،بغداد2013 ،م. •الغزايل :أبو حامد حممد بن حممد( ت505 :هـ)،أحياء علوم الدين،دار املعرفة ،بريوت1402 ،هـ 1982 -م. •الفارايب :أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم بن احلسني(،ت350 :هـ)،معجم ديوان األدب ،حتقيق :أمحد عمر ،ط ،1مؤسسة دار الشعب للصحافة والطباعة والنرش ،القاهرة2003 ،م. •ابن فارس :أبو احلسني امحد بن فارس بن زكريا القزويني( ،ت395 :هـ)، مقاييس اللغة ،حتقيق عبد السالم هارون ،ط ،1مطبعة دار الفكر1979 ،م. 477
•الفخر الرازي :حممد بن عمر بن احلسني بن احلسن بن عيل التميمي، ٍ الكبري أو مفاتيح الغيب604 – 544 ،هـ ،تقديم وحتقيق هاين التفسري احلاج عامد زكي البارودي ،املكتبة التوفيقية ،القاهرة – مرص ،دار التوفيقية للطباعة.
•الفراهيدي :أبو عبد الرمحن اخلليل بن أمحد(ت175:هـ) ،العني ،حتقيق: د .مهدي املخزومي ،د .إبراهيم السامرائي ،ط ،1مؤسسة االعلمي للمطبوعات ،بريوت ،لبنان1408 ،هـ 1956 -م . •فضل اهلل :حممد حسني ،اإلسالم ومنطق القوة ،ط ،1الدار اإلسالمية للطباعة والنرش والتوزيع ،بريوت – لبنان. •الفيض الكاشاين :حممد حمسن ( ) 1091 – 1007األصفى يف تفسري القرآن ،تقديم وتصحيح مهدي األنصاري القمي ،ط ،1النارش لوح املحفوظ ،طهران. •تفسري الصايف ،النارش:مكتبة الصدر ،طهران – إيران1415 ،هـ. •القبانجي :صدر الدين ،األسس الفلسفية للحداثة – دراسة مقارنة بني احلداثة واإلسالم ،أعداد عادل الفتالوي،ط ،1مركز احلضارة لتنمية الفكر اإلسالمي ،بريوت 2011م. •القرنشاوي :حامد ،تساؤالت حول اقتصاديات التعليم وقضايا التنمية يف الوطن العريب ،الكويت1999 ،م. •القريش :باقر رشيف ،اإلسالم وحقوق اإلنسان ،دار اهلدى2005 ،م. (ت1433 -هـ ) ،النظام الرتبوي يف اإلسالم – دراسة مقارنة، 478
ط،2دار الرتبية1978 ،م. •نظام اإلسالم السيايس ،ط ،2دار التعارف للمطبوعات ،بريوت – لبنان، 1978م. •قسم الدراسات والبحوث للتنمية والتطوير ،تنمية العقل البرشي ،سلسلة إصدارات مركز صدر العراق للتنمية الفقهية والتطوير احلوزوي ،ط،1 2011م. •القصيبي :غازي عبد الرمحن التنمية األسئلة الكربى ،،ط ،2املؤسسة العربية للدراسات والنرش ،بريوت 2004 ،م ،توزيع دار الفارس للنرش والتوزيع ،األردن. •القصيفي :جورج ،التنمية البرشية مراجعة نقدية للمفهوم واملضمون، التنمية البرشية يف الوطن العريب ،مركز دراسات الوحدة العربية ،بريوت لبنان 1995م. •القطب :د .حممد ،اإلسالم وحقوق اإلنسان ،ط 2:القاهرة ،دار الفكر العريب 1984م. •مناهج التنمية اإلسالمية ،ط .3دار إحسان للنرش والتوزيع ،طهران، 2003م. •قفطان :حممد فاضل عزيز ،التنمية االقتصادية ،مطبعة احلوادث بغداد، .1984 •كبري املدين :السيد عيل خان بن أمحد( ت1120 :هـ(رياض السالكني يف رشح صحيفة س ّيد الساجدين ،ط ،1مؤسسة النرش اإلسالمي، 479
إيران 1409،هـ. •الكليني :حممد بن يعقوب بن إسحاق(ت329 :هـ) ،أصول الكايف ،ط،4 دار الكتب اإلسالمية ،طهران1407 ،هـ.
•جلنة تأليف :مفاهيم حضارية ،مؤسسة البالغ ،ط2002 ، 8م. •لوغال :جان مارك ،إدارة املوارد البرشية ،ترمجة العميد الركن د .نبيل جواد ،ط ،1املؤسسة اجلامعية للدراسات والنرش والتوزيع ،مؤسسة حممد بن راشد آل مكتوم2008 ،م. •املجليس :حممد باقر(ت1111 :هـ) ،بحار األنوار يف خمتارات الروايات واألخبار ،تصحيح :حممد تقي اليزدي ،املطبعة احليدرية ،النجف، 1386هـ. •جمموعة من الباحثني :دراسات يف التنمية البرشية املستدامة يف الوطن العريب ،أعامل الندوة املنعقدة يف بيت احلكمة 2000م ،الربنامج اإلنامئي لألمم املتحدة املطبعة العربية. •الفيض الكاشاين :حممد حمسن( املتوىف 1091هجري) ،املحجة البيضاء يف هتذيب اإلحياء ،مؤسسة االعلمي للمطبوعات ،بريوت-لبنان ،صححه وعلق عليه عيل األكرب الغفاري. •حممد :حسني نجيب ،مجال السالكني -العامل الرباين السيد عبد األعىل السبزواري ،ط ،1دار التفسري ،قم املقدسة1427 ،هـ. •املدريس :حممد تقي ،من هدى القرآن ،ط ،2دار الكتاب العريب ،دار القارئ للطباعة والنرش والتوزيع2008 ،م. 480
•املدين :د .خالد وآخرون ،الرخصة الدولية يف التدريب ،أعداد املدربني، ، مركز التطوير املتكامل ،اسطنبول 2012م. •مركز الثقافة واملعارف القرآنية ،علوم القرآن عند املفرسين :ط ،2مؤسسة بوستان كتاب(مركز الطباعة والنرس التابع ملكتب اإلعالم اإلسالمي، 1428هـ.) .
•مسكويه :أبو عيل أمحد بن حممد بن يعقوب الرازي ت421هـ ،هتذيب األخالق وتطهري األعراق ،قدم له حسن متيم القايض الرشعي ،هتذيب األخالق ،حققه :قسطنطني زريق ،اجلامعة األمريكية ،منشورات العيد املئوي1966 ،م. •مطهري :مرتىض ،اإلنسان يف القرآن ،ط ،3رابطة أهل البيت عليهم السالم اإلسالمية العليا ،مؤسسة الثقلني2008 ،م . •الرؤية الكونية التوحيدية ،رابطة أهل البيت اإلسالمية العاملية ،مؤسسة الثقلني. •املجتمع والتأريخ ،ط ،1تعريب حممد عىل آذر شب ،رابطة أهل البيت عليهم السالم اإلسالمية العاملية ،مؤسسة الثقلني. •حتقيق نظرية نسبية األخالق ،رابطة أهل البيت عليهم السالم اإلسالمية العاملية. •املظفر :حممد رضا ،أصول الفقه ،دار النعامن – النجف االرشف1971 ،م. •املنطق ،حتقيق :رمحة اهلل رمحتي ،ط ،3مؤسسة دار النرش اإلسالمي ،قم املقدسة -إيران1424 ،هـ( ت1383 :هـ.) . 481
•معرفة :حممد هادي ،التفسري واملفرسون يف ثوبه القشيب ،ط ،3اجلامعة الرضوية للعلوم اإلسالمية – مشهد . •شبهات وردود حول القرآن الكريم،ط ،3حتقيق مؤسسة التمهيد ،قم املقدسة( .2006 ،ت1979-م).
•مغنية :حممد جواد ،علم أصول الفقه يف ثوبه اجلديد ،ط ،1دار العلم للماليني ،بريوت – لبنان1975،م. •املفيد :حممد بن حممد (ت 413هـ) ،األمايل ،ط ،1مؤمتر الشيخ املفيد ،قم املقدسة 1413 ،هـ. •املقدم :مها سهيل ،مقدمات التنمية االجتامعية وحتدياهتا ،تطبيقات عىل الريف اللبناين ،ط ،1معهد اإلنامء العريب ،بريوت 1978م. •ابن منظور :حممد بن كرم بن منظور األفريقي املرصي( ت 711 :هـ)، لسان العرب ،دار صادر للطباعة والنرش والتوزيع ،بريوت1956 ،م. •مريزائي :نجف عيل ،فلسفة مرجعية القرآن املعرفية – يف إنتاج املعرفة الدينية ، ،ترمجة د .دالل عباس ،ط ،1مركز احلضارة لتنمية الفكر اإلسالمي ،بريوت 2008م. •النراقي :حممد مهدي ،جامع السعادات،ط ،4مؤسسة األعلمي للمطبوعات ،بريوت -لبنان. •هنج البالغة لإلمام عيل ،رشح حممد عبدة ،دار املعرفة للطباعة والنرش، بريوت -لبنان النورى :حسني بن حممد تقي(ت1320 :هـ) ،مستدرك الوسائل ومستنبط املسائل ،ط ،1مؤسسة آل البيت عليهم السالم، 482
1408هـ ،قم املقدسة – إيران. •النيسابوري :حممد بن أمحد الفتال(ت 508هـ) ،روضة الواعظني وبصرية املتعضني ،حتقيق :السيد حممد مهدي اخلرسان ،املطبعة احليدرية ،النجف، 1966م. •نيكسون :ريتشارد ،نرص بال حدود ،إعداد وتقديم حممد عبد احلليم أبو غزالة ،ط ،1مركز األهرام للرتمجة والنرش ،القاهرة1987 ،م. •مهيش :د .عمر أمحد ،مدخل إىل الرتبية ، ،دار صفا للنرش والتوزيع ،ط،2 2007م. •اهلندي :عالء الدين عيل املتقي بن حسام الدين(ت – 975هـ) ،كنز العامل يف سنن االقوال واالفعال حتقيق الشيخ بكري حياي صفوت السقا ،مؤسسة الرسالة ،ط1989 1م . •اهليثمي :نور الدين عيل بن أيب بكر(ت807 :هـ) ،جممع الزوائد ومنبع الفوائد ،ط ،2دار الكتاب ،بريوت 1967 ،م. •الواسطي الليثي :عيل بن حممد الليثي(ت :القرن السادس اهلجري) ،عيون احلكم واملواعظ ،ط ،1دار احلديث ،قم املقدسة1418 ،هـ. •ورام :ابن أيب فراس املالكي األشرتي(ت 605 :هـ) ،تنبيه اخلواطر ونزهة ورا م ) ،ط ،1مكتبة الفقيه،قم املقدسة 1410،هـ. النواظر (جمموعة ّ •يوسف :د .نارص ،دينامية التجربة اليابانية يف التنمية املركبة – دراسة مقارنة يف اجلزائر وماليزيا ،مركز دراسات الوحدة العربية ،بريوت.
483
ثالثاً :اهم الدوريات والمجالت .
•أوقاف :جملة نصف سنوية حممكمة ،تعنى بشؤون الوقف والعمل اخلريي، العدد ،21السنة احلادية عرش -ذي احلجة 1432هـ ،نوفمرب 2011م، تصدرها األمانة العامة لألوقاف – دولة الكويت ،إدارة الدراسات والعالقات اخلارجية. •املصباح ،جملة فكرية فصلية ختصصية ،العتبة احلسينية املقدسة ،العدد الثالث -خريف 2010م. •العدد التاسع -ربيع 2012م. •العدد العرش -صيف 2012م. •املعرفة ،الكويت ،العدد ، 103متوز 1986م. •الوعي اإلسالمي ،موقع الكرتوين ،مؤتة للبحوث والدراسات ،جملد،8 العدد1993 ،3م. •جملة جامعة دمشق للهندسة ،ديب ،املهندسة ريده ،رسالة ،إرشاف د. املهندس سليامن مهنا ،التخطيط من أجل التنمية املستدامة ،جملد ،25 العدد األول2009 ،م.
رابعاً :المؤتمرات والندوات.
•ندوة احلقوق االقتصادية واالجتامعية والثقافية ،النهضة العربية حلقوق اإلنسان ،الدار البيضاء2003 ،م. •ندوة حتديات التنمية البرشية يف الوطن العريب (الواقع واالفاق) ،مركز البحرين للدراسات والبحوث ،مملكة البحرين2004 ،م ،بحث:البعد 484
العريب يف التنمية البرشية القطرية ،د .عبد اهلل حممد الصادق. •مهرجان ربيع الرسالة الثقايف العاملي السابع ،كربالء – العتبة احلسينة املقدسة16 ،ربيع األول 1434هـ 2013 – 1 – 28 ،م ،بحث :مدرسة االمام الصادق ودورها اإلنساين – التنمية البرشية إنموذج ًا ،حممد صادق السيد حممد رضا اخلرسان.
خامس ًا :البحوث والدراسات.
•الساعدي :أشواق عبد احلسن ،الثقافة والتنمية البرشية ،دراسة نظرية لبعض املتغريات الثقافية ،ط ،1معهد األبحاث والتنمية احلضارية ،مؤسسة العارف للمطبوعات ،بريوت – لبنان (،متوز 2008م رسالة ماجستري) . •الغندور :سامح طه امحد ،التنمية البرشية يف السنة النبوية( دراسة موضوعية)، 2011م رسالة ماجستري ،اجلامعة اإلسالمية – غزة ،كلية أصول الدين.
سادساً :اهم المواقع االلكترونية.
•األمم املتحدة ،موقع الكرتوين،
"http://www.un.org/ar/esa/hdr/"www.un.org/ar/esa/hdr/ HYPERLINK
•تقارير األمم املتحدة لعام 1990م . •رومانو ،دوناتو ،االقتصاد البيئي والتنمية املستدامة ،مواد تدريبية ،بالتعاون مع مرشوع ، GCV/SYR/OO/ITAاملرحلة الثانية (وزارة الزراعة 485
واإلصالح الزراعي السورية) ،التعاون اإليطايل ،منظمة األغذية والزراعة لألمم املتحدة ،النارش املركز الوطني للسياسات الزراعية مرشوع الفاو ، GCV/SYR/OO/ITAدمشق 2003م. •تقرير األمم املتحدة اإلنامئي لعام 2010م. •تقرير األمم املتحدة اإلنامئي لعام 2011م. •تقرير األمم املتحدة اإلنامئي2011،م املوقع االلكرتوين الرسمي www.un.org/ar/esa/hdr/hdr09.shtml
•تقرير التنمية البرشية العربية للعام 2004م. •تقرير التنمية البرشية لعام 2003م. •قسم الدراسات والبحوث للتنمية والتطوير ،تنمية العقل البرشي ،سلسلة إصدارات مركز صدر العراق للتنمية الفقهية والتطوير احلوزوي ،ط،1 2011م. •جامعة الرسالة موقع الكرتوين،
• •مدونة زاوية مستقيمة ،موقع الكرتوين،
(http://www.universiterissala.maktoobblog.com/264267).
dralsuraikh.wordpress.com/2011/02
•مفهوم التنمية ،املكتبة اإلسالمية ،موقع ألكرتوين، www.islamweb.net/newlibrary/ummah_Chapter.php?lang. •املكتبة الشاملة ،ملحات يف املكتبة والبحث واملصادر،موقع الكرتوين، shamela.ws/index.php/book/11365.
486
• ، كلية االداب، •موقع االلكرتوين جلامعة بابل ar.wikipedia.org/.املوسوعة احلرة ويكيبيديا
http://www.uobabylon.edu.iq/uobcoleges/lecture.aspx?fid=8&lcid=3153
، املكتبة اإلسالمية، شبكة البتول، •موقع األنوار اخلمسة www.almarsd.net/news.php?id=27. ، مرصد، •موقع ألتكروين منتدى، •املوقع الرسمي لألستاذ الدكتور ابراهيم بن عبد اهلل املحيسن ، موقع الكرتوين،الدراسات العليا والبحوث
• ejabat.google.com. . •موقع الكرتوين ، •موقع إلكرتوين للمكتبة اإلسالمية عىل شبكة إسالم ويب (http://www.islamweb.net/newlibrary/index.php).• ، •ضمري للتنمية البرشية" موقع الكرتوين ، موقع ألكرتوين، •مؤرشات التنمية البرشية العربية وتطورها www.mohyssin.com/forum/index.php
thiqaruni.org/gena/77/1%20(20).doc.
• http://www.anwar5.net/albatoul/index.php?id=3961• http://www.tafsir.net/vb/tafsir29663/#ixzz2B4DHB7eN• https://sites.google.com/site/dhamirtunis/concepts.• 6 ، •مسار التنمية البرشية
alwaei.com/topics/current/article_new.php?sdd=2249&issue
، موقع ألكرتوينwww.reefnet.gov.sy/boosproject/fikr/8/nathrat.pdf 487
ميثاق الرابطة ،جريدة الكرتونية أسبوعية ،د .فريدة زمرد ،مفهوم التمكني يف القرآن الكريم ،موقع ألكرتوين، www.almithaq.ma/contenu.aspx?C=3000
488
489
490