رواية سلامة القس رواية بكاء الرجال

Page 1

‫اأ�سدرته منظمة اليون�سكو عام ‪1996‬‬

‫عدد ‪ – 146‬الأربعاء ‪ 6‬ت�رشين ‪( 1‬اأوكتوبر) ‪2010‬‬

‫�سالّمة‬ ‫الق�س‬ ‫ّ‬ ‫رواية تاريخية‬

‫علي اأحمد باكثري‬ ‫ر�سوم‪ :‬خالد خ�سري‬

‫املوؤ�س�سة الراعية‬

‫ال�رشيك الثقايف‬


‫اجلابر ‪ MBI Al Jaber‬املبعوث اخلا�س ملنظمة اليون�سكو للت�سامح والدميقراطية وال�سالم‪.‬‬ ‫معايل ال�سيدة اإيرينا بوكوفا ‪ ،Irina Bokova‬املديرة العامة ملنظمة الأمم املتحدة للرتبية والعلم والثقافة ‪-‬اليون�سكو‪ -‬ومعايل ال�سيخ حممد بن عي�سى‬ ‫َ‬

‫�إميان ًا منه� ب�أهمية ن�رش املعرفة وت�شجيع القراءة ودعم الفن الت�شكيلي‬ ‫ملواجهة الأزمة الثق�فية اخل�نقة يف الع�مل العربي‪ ،‬و�إ�سهام ًا يف اإعداد‬ ‫ع�رشي عربي ق�در على امل�ش�همة يف بن�ء احل�ش�رة احلديثة‬ ‫جيل‬ ‫ّ‬ ‫والتو�شل عرب الرتبية والعلم والثق�فة اإىل اإدراك الدميقراطية وال�شالم‬ ‫مت�شي ً� مع مب�دئ امليث�ق الت�أ�شي�شي لليون�شكو‪ُ ،‬ت�شد ُِر م�ؤ�س�سة حممد‬ ‫ّ‬ ‫بن عي�سى �جلابر ‪ MBI Al Jaber Foundation‬ب�لتع�ون مع‬ ‫منظمة اليون�شكو ‪ UNESCO /‬وب�ل�شرتاك مع كربي�ت ال�شحف‬ ‫العربية توؤازره� نخبة من كب�ر الأدب�ء والك ّت�ب ومن ورائهم‬ ‫اليومية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املاليني من الق�رئني‪،‬‬

‫كتاب يف جريدة‬

‫القراء يف‬ ‫�شهري ً� وب�شكل جم�ين ومنتظم ّ‬ ‫هدي ًة منه� اإىل اأكرب فئة من ّ‬ ‫جميع العوا�شم العربية والعرب يف الع�مل‪.‬‬

‫ال�سفحة الرئي�سية للموقع اللكرتوين ل"كتاب يف جريدة" الأربعاء الأول من كل �سهر على ‪www.kitabfijarida.com‬‬

‫‪2‬‬


‫«�سالمة الق�س» والرواية التاريخية‪..‬‬ ‫علي اأحمد ب�كثري‪ ،‬ك�تب م�رشحي‪ ،‬وروائي‪،‬‬

‫و�ش�عر‪ ،‬ومرتجم من اليمن‪.‬‬ ‫ولد ع�م ‪ ،1910‬يف اندوني�شي� لأبوين عربيني من‬ ‫ح�رشموت‪ ،‬حيث ك�ن اأبوه يعمل يف التج�رة هن�ك‪.‬‬ ‫ويف الع��رشة من عمره‪ ،‬ع�د به والده اإىل‬ ‫ح�رشموت لين�ش�أ فيه� ن�ش�أة عربية‪ ،‬حيث تلقى تعليمه‬ ‫يل وظهرت مواهبه الأدبية يف وقت مبكر‪ ،‬فبداأ‬ ‫ال َّأو ُّ‬ ‫ثم َعمِ لَ‬ ‫بنظم ال�شعر وهو يف الث�لثة ع�رشة من عمره‪َّ ،‬‬

‫مد ِّر�ش ً� بعد تخرجه‪.‬‬

‫وتوجه اإىل عدن‬ ‫غ�در ح�رشموت ع�م ‪،1931‬‬ ‫َّ‬

‫زوجته امل�رشية‪.‬‬

‫ك�نت متنحه� ال�شيدة «قوت القلوب الدمردا�شية» وهي‬

‫الإم�ش�ك ب�حلدث واإدارته‪ ،‬والربط بني اأحداثه‪.‬‬

‫اإذا ك�ن معروف ً� عن علي اأحمد ب�كثري اإ�شه�م�ته‬

‫ابنة موؤ�ش�س الطريقة الدمردا�شية يف الت�شوف عبد‬

‫ت�شلط هذه الرواية �شوءاً على ج�نب من طبيعة‬

‫الوا�شحة يف امل�رشح العربي يف اجليل الث�ين من اأجي�ل‬

‫الرحيم الدمردا�س‪ ،‬وك�نت تكتب الرواية ب�لفرن�شية‪ .‬ثم‬

‫احلي�ة الجتم�عية م� بني مكة واملدينة‪ ،‬وتعيد تقدمي‬

‫النه�شة العربية‪ ،‬ف�إنن� نق َّدمه اليوم رائداً يف جم�ل اآخر‬

‫َ�س» اإىل فيلم �شينم�ئي غن�ئي‬ ‫حتولت رواية « �شالمة الق ّ‬

‫اجل�نب احل�ش�ري من الإ�شالم‪ ،‬بنكهة فنية تخرج‬

‫مالمح‬ ‫هو جم�ل «الرواية الت�ريخية» التي ت�شتعيد‬ ‫َ‬ ‫مطمو�شة من الت�ريخ العربي الإ�شالمي لإع�دة اإحي�ئه�‬

‫ل�ش ِّيدة الغن�ء العربي‪ :‬اأم كلثوم‪.‬‬

‫يف �شورة مدنية من خالل عمل روائي ر�شني‪.‬‬

‫حتولَ‬ ‫حب ع�ث ٍر َّ‬ ‫القرن الث�ين للهجرة‪ ،‬وت�رشد ف�شول ٍ ّ‬ ‫حب ُم�شتحيل يف ظروف اجتم�عية و�شي��شية جعلت‬ ‫اإىل ٍ ّ‬

‫تدور اأحداث الرواية بني مكة واملدينة يف اأوائل‬

‫َ�س» واحدة من تلك الرواي�ت‬ ‫و«�شالمة الق ِّ‬ ‫ج�شدت مراآ ًة عميقة لنعك��س ج�نب‬ ‫الت�ريخية التي َّ‬

‫العذري‪.‬‬ ‫للحب‬ ‫ِّ‬ ‫منه منوذج ً� تراجيد َّي ً� �رشيح ً� ِّ‬

‫من تلك املالمح املطمو�شة‪.‬‬

‫لكن من اأين ا�شتقى «ب�كثري» ق�شة هذا احلب‬

‫وا�شتقر زمن ً� يف احلِج�ز‪.‬‬ ‫ومنه� اإىل ال�شوم�ل واحلب�شة‬ ‫َّ‬

‫الع�ثر بني �ش�ب ع�بد زاهد‪ ،‬ومغنية �ش� َّبة؟‬

‫الت�ريخ من �رشامة وث�ئقيته التدوينية‪ ،‬نحو حراكه‬ ‫للحب‬ ‫اليومي احلي‪ ،‬من خالل مق�ربته� منوذج ً�‬ ‫ٍّ‬ ‫الر�شني يف دولة بداأت تتجه نحو املدنية‪.‬‬ ‫كم� تق ِّد ُم هذه الراوية �شورة املراأة يف املجتمع‬ ‫الإ�شالمي خالل الع�رش الأموي‪ ،‬بطريقة اأخرى ُمتلفة‪،‬‬ ‫وبعيدة عن منطيته� املعهودة‪ ،‬اإذ ل يعيد الك�تب تقدمي‬

‫م� يوؤخذ على الرواية الت�ريخية يف‬ ‫واإذا ك�ن ِ َّ‬ ‫الأدب العربي‪ ،‬خ��شة يف منوذجه� البدئي الذي مثله‬

‫يقول اأبو الفرج الأ�شفه�ين يف ف�شل «ذكر‬

‫اجلديدة‪ ،‬خ��شة طروح�ت ال�شيد حممد ر�شيد ر�ش� يف‬

‫جرجي زيدان‪ ،‬ب�أنه� تيه روم�ن�شي يف الت�ريخ اأكرث‬

‫�شالمة الق�س وخربه�» يف اجلزء الث�من من كت�ب‬

‫وذج ً� اجتم�ع َّي ً� ُمتف�عالً‪ ،‬واإن ظلت تخ�شع جل�نب‬ ‫َمن َ‬ ‫من التق�ليد الجتم�عية لذلك الع�رش‪ .‬وقد اأث�رت‬

‫جملة (املن�ر) كم� كتب فيه� م�رشحيته الأوىل‪« :‬هم�م‬

‫من كونه� ك�شف ً� فني ً� تنويري�ً‪ ،‬وبكونه� مل ت�شتكمل‬

‫الأغ�ين[ك�نت �شالمة مو ًلّدة من مو َلّدات ْاملدينة وبِه�‬

‫الرواية يف حينه� ردود الأفع�ل املتب�ينة حول هذه‬

‫يف بالد الأحق�ف» التي ظهر فيه� ت�أثره مب�رشحي�ت‬

‫ال�رشوط الفنية للرواية‪ ،‬ول تعدو �شوى نوع من العبث‬

‫�شوقي‪.‬‬

‫ي�شتخدم «ب�كثري» يف هذه الراوية بالغة متينة‪،‬‬

‫انتقل اإىل م�رش ‪ ،1934‬يف مرحلة مثلت انعط�فة‬

‫ب�ملدون�ت واإع�دة �شحنه� بوق�ئع ُمتخ َّيلة ذات بعد‬ ‫َّ‬ ‫اأيديولوجي‪ ،‬ف�إن رواي�ت «ب�كثري»‪ ،‬يف هذا املج�ل‪،‬‬

‫ن�ش�أت ‪ -‬واملولدة هي اجل�رية املَولُود ُة بني العرب‪،‬‬ ‫والتي َتن�ش ُ�أ مع َاأولدهم‪ ،‬و ُيع ِلّمونه� مِ ن الأدب مثل م�‬

‫املع�جلة ب�لذات‪.‬‬

‫مهمة يف حي�ته الثق�فية‪ ،‬والتحق بج�معة فوؤاد الأول‬

‫وجميلة وم�لك بن اأبي ال�شمح وذويهم فمهرت‪ .‬واإمن�‬

‫ترد يف �شي�ق الرواية‪ ،‬قمن� ب�رشحه� يف الهوام�س‪،‬‬

‫«ج�معة الق�هرة ح�لي�ً» حيث ح�شل على لي�ش�ن�س‬

‫لت ُمق�ربة حذرة للت�ريخ‪ ،‬ب�عتم�د ن�شقه الأ�شلي‬ ‫م َّث ْ‬

‫ُيع ِلّمون اأول َدهم‪ -‬اأخذت الغن�ء عن معبد وابن ع�ئ�شة‬

‫ولغة ذات نكهة اإعرابية‪ ،‬ولذلك ف�إن مفردات ق�مو�شية‬

‫وحم�ولة التدخل يف امل�ش�ح�ت احلرة والتف��شيل‬

‫الآداب ق�شم اللغة النكليزية يف ع�م ‪ ،1939‬وخالل‬

‫الجتم�عية خللق تراجيدي� يقت�شيه� الن�س‪.‬‬

‫َ�س ل َّأن رج ًال ُيعرف بعبد الرحمن بن‬ ‫�شميت �شالمة الق ّ‬

‫ت�شهي ًال ملهمة الق�رئ‪ ،‬كم� يورد الك�تب بع�س الأ�شع�ر‬

‫وخالل هذه الفرتة بدا ت�أثره ب�لأفك�ر الإ�شالمية‬

‫اجل�رية رمزاً ُم�شخ�شن ً� للمتعة اجل�شدية‪ ،‬واإمن� يق ِّد ُمه�‬

‫درا�شته يف اجل�معة ترجم م�رشحية «روميو وجولييت»‬

‫لقد كتبت هذه الرواية يف �شي�ق نزوع فني‬

‫ل�شك�شبري ب�ل�شعر امل ُْر َ�شل ‪ ،‬كم� كتب م�رشح َّيته‬

‫ات�شمت به تلك املرحلة‪ ،‬فقد بداأ جنيب حمفوظ من‬

‫َ�س‬ ‫اأبي عم�ر اجل�شمي من ق َُّراء اأهل مكة‪ ،‬وك�ن يل َّق ُب ب�لق ِّ‬ ‫ِف بِه� َو�شُ هِ َر‪ ،‬فغلب عليه� لقب ُه‪ .‬وا�شرتاه�‬ ‫لعب�دته‪� ،‬شُ غ َ‬

‫«اأخن�تون ونفرتيتي» ب�ل�شعر احل ِّر‪ ،‬فك�نت جتربة‬ ‫رائدة يف هذا املج�ل‪.‬‬

‫الت�ريخ‪ ،‬يف مع�جلته الفنية براوي�ته الثالث الأوىل‪:‬‬

‫يزيد بن عبد امللك يف خالفة ُ�شليم�ن‪ ،‬وع��شت بعده‪].‬‬

‫من رواية الأ�شفه�ين هذه‪ ،‬جند ا َّأن اأبط�ل هذه‬

‫ومن هن� ف� َّإن من املهم التنبيه اإىل اإن جميع‬

‫«عبث الأقدار» و«رادوبي�س» و«كف�ح طيبة» وبينم�‬

‫�ش�فر اإىل فرن�ش� ع�م ‪ 1954‬يف بعثة درا�شية‪.‬‬ ‫ا�شتغل ب�لتدري�س خم�شة ع�رش ع�م ً� ثم انتقل‬

‫كت يف طبق�ت‬ ‫حتر ْ‬ ‫ك�نت رواي�ت جنيب حمفوظ تلك قد َّ‬

‫أ�شخ��س حقيقيون‪ ،‬نعرفهم من كتب‬ ‫الرواية هم ا‬ ‫ٌ‬ ‫الت�ريخ وم�ش�در الأدب العربي‪ ،‬وتكمن اأهمية هذا‬

‫الهوام�س الواردة يف هذا الكت�ب هي م� مل يرد يف‬

‫الت�ريخ الفرعوين البعيد‪ ،‬ف�إن «ب�كثري» اجته اإىل ف�ش�ء‬

‫العمل يف اأ َّن ُه جعل العديد من �شخ�شي�ت ذلك الع�رش‪،‬‬

‫للعمل يف وزارة الثق�فة والإر�ش�د القومي مب�رش وظ َّل‬

‫اآخر‪ ،‬هو الف�ش�ء العربي الإ�شالمي‪ .‬وك�ن يجد نزوعه‬

‫واأعالمه تلتقي يف ف�شوله‪ ،‬حتى واإن ك�نت بينه�‬

‫يعمل فيه�‪.‬‬

‫نحو هذا التوجه �رشوري ً� بفعل �شيوع ظ�هرة الدعوات‬

‫م�ش�ف ٌة م� يف تلك احلقبة الت�ريخية التي ع��شوا به�‪.‬‬

‫تزوج يف م�رش ع�م من �شيدةٍ م�رشية‪ ،‬وح�شل‬

‫الإقليمية‪ .‬لهذا ف�إن «اإحي�ء روح الأمة ظلت رائدي يف‬

‫على اجلن�شية امل�رشية مبوجب مر�شوم ملكي يف ع�م‬ ‫‪.1951‬‬

‫ن�ت الت�ريخ‬ ‫مدو ُ‬ ‫ومن هن� �شنجد ا َّأن م� تخلقه َّ‬ ‫من قلقٍ فني يف امل�ش�حة ال�رشدية يف العمل الروائي‬

‫التجربة مع احل��رش‪ ،‬فقد‬

‫الت�ريخي‪ ،‬قد توؤدي اإىل مت ُّدد بنيته احلك�ئية بني‬

‫كتبه� «ب�كثري» بعدم�‬

‫تنوع اإنت�جه الأدبي بني الرواية ‪ -‬الت�ريخية‬

‫التخيل والواقع‪ ،‬ولعل هذا م� دفع جنيب حمفوظ اإىل‬

‫اأبحر اإبح�راً عميق ً� يف‬

‫ب�شكل خ��س ‪ -‬وامل�رشحية ال�شعرية والنرثية‪ ،‬ومن‬

‫مغ�درة هذه املنطقة مت�م�ً‪ .‬اأم� «ب�كثري» ف�إنن� جند ُه‬ ‫ظل حم�فظ ً� على خي�راته‪ ،‬وداأب‬ ‫يف اجل�نب املق�بل قد َّ‬

‫امل�ش�در الت�ريخية‪ ،‬وتت َّبع‬

‫م�ش�در هذه احلك�ية‬

‫رش‬ ‫َ�س» اأم� اأ�شهر اأعم�له امل�رشحية فهي «� ُّ‬ ‫و« �شالمة الق ّ‬ ‫رش �شهر زاد» التي ترجمت اإىل‬ ‫احل�كم ب�أمر اللـه» و«� ُّ‬

‫على اإغن�ء ع�مله الروائي بخي�رات جديدة‪ ،‬م�شتفيداً من‬

‫وتف��شيله� يف الرتاث‬

‫تي�رات الثق�فة العروبية يف ذلك الوقت‪ ،‬وكذلك «ل َّأن‬

‫العربي وخ��شة الأغ�ين‬

‫الفرن�شية و«م�أ�ش�ة اأوديب» امل�شتوح�ة من «اأدويب‬

‫اأحداث الت�ريخ التي تبلورت وتخل�شت من التف��شيل»‬

‫لأبي الفرج الأ�شفه�ين‬

‫�شوفوكلي�س» وقد ترجمت اإىل الإنكليزية‪.‬‬

‫كم� يقول‪ ،‬تتيح للك�تب حرية اأف�شل يف العمل الفني‬

‫وم�ش�رع الع�ش�ق لل�رشاج‬

‫مل ين�رش «ب�كثري» اأي ديوان �شعري يف حي�ته لكنه‬

‫تتحمله من ا�شتيع�ب الرموز والإيح�ءات‪ ،‬حيث‬ ‫مب�‬ ‫َّ‬

‫لبن‬

‫تبقى الدللت الكربى جم� ًل حيوي ً� وحراً ملق�ربته�‬

‫اجلوزي و�شواه�‪ ،‬وبعد اأن‬

‫ون�رش له بعد وف�ته ديوان «اأزه�ر الربى يف اأ�شع�ر‬

‫من قبل الك�تب‪.‬‬

‫ع��س زمن ً� ل ب�أ�س به يف‬

‫ب�لإ�ش�فة اإىل لغته الأم‪ :‬العربية‪.‬‬

‫اأ�شهر اأعم�له الروائية «وا اإ�شالم�ه» و«الث�ئر الأحمر»‬

‫ن�رش ق�ش�ئ َد ُمتف ِّرق�ت يف ال�شحف واملجالت‪.‬‬

‫�شم ق�ش�ئد من اأ�شع�ره التي كتبه� عندم�‬ ‫ال�شب�» الذي َّ‬

‫تع ُّد « �شالمة الق�س» ا َّأول رواية من�شورة لب�كثري‪،‬‬

‫الغزل العرب يف تلك احلقبة‪ ،‬وهو م� قمن� بن�شبته اإىل‬ ‫اأ�شح�به اعتم�داً على تخريجه� من امل�ش�در الرتاثية‪.‬‬

‫الأ�شل املن�شور للرواية‪ ،‬واإمن� هو من َو ْ�شعِن� يف «‬

‫كت�ب يف جريدة»‬

‫حممد مظل�م‬

‫َ�س» هي رواية التث�قف مع‬ ‫ورواية «�شالمة الق ّ‬

‫م� كتبت من م�رشحي�ت وق�ش�س» كم� يقول‪.‬‬

‫ك�ن يجيد اللغ�ت‪ :‬الإجنليزية والفرن�شية واملالوية‬

‫واملجتزاآت من الق�ش�ئد التي تعود لعدد من �شعراء‬

‫الت�ريخ‪ ،‬ويف الوقت عينه‪،‬‬ ‫ت�شتفيد‬

‫واأخب�ر‬

‫من‬

‫الن�ش�ء‬

‫معطي�ت‬

‫البيئة الأوىل التي ع��س‬

‫خالد خ�سري‬

‫ك�تب ور�ش�م ون�قد ت�شكيلي من مواليد حزيران ‪ 1956‬الب�رشة‪ ،‬العراق‪.‬‬

‫ح�ئز على بك�لوريو�س ر�شم من كلية الفنون اجلميلة يف ج�معة الب�رشة و دبلوم‬ ‫ع�يل ‪ -‬اإت�ش�لت ‪ -‬من املعهد الع�يل لالإت�ش�لت ‪.1978‬‬ ‫ع�شو احت�د الأدب�ء والكت�ب العراقيني‪ ،‬ع�شو جمعية الت�شكيليني‪ ،‬ع�شو‬ ‫نق�بة الفن�نني‪ ،‬ع�شو احت�د الت�شكيليني الرواد‪ ،‬مدرب دويل ب�ل�شطرجن‪.‬‬ ‫عم�ن‬ ‫األف كت�ب «ه��شم حنون ‪ ..‬الواقعة ال�شيئية» اإ�شدار دار الأديب يف ّ‬

‫‪ 2009‬وكت�ب ً� بعنوان «الر�شم ‪ -‬العراقي مق�لت يف طوبولوجي� اللوحة‬ ‫و�شيئيته�»‪.‬‬ ‫كتب العديد من املق�لت الثق�فية والنقدية يف العديد من ال�شحف واملجالت‬ ‫العربية ور�شم العديد من اأغلفة الكتب‪.‬‬ ‫كر�شت العديد من ال�شحف واملجالت ملف�ت خ��شة عن ف ّنه مثل جملة‬ ‫ّ‬

‫«األواح – اأ�شب�ني�» و«الطليعة الأدبية» و «الأقالم»‪.‬‬

‫حيث �شدرت عن «جلنة الن�رش للج�معيني» وذلك يف‬

‫فيه� اأبط�ل تلك الرواية‪،‬‬

‫له مدونت�ن الكرتونيت�ن ‪:‬‬

‫تويف يف م�رش يف ‪ 10‬ت�رشين الث�ين ‪/‬نوفمرب‬

‫الع�م ‪ ،1944‬بعدم� ف�زت ب�ملرتبة الأوىل من��شفة‬

‫فج�ء العمل ينطوي على‬

‫‪ ،1969‬ودفن مبدافن الإم�م ال�ش�فعي يف مقربة ع�ئلة‬

‫مع رواية جنيب حمفوظ «رادوبي�س» يف اجل�ئزة التي‬

‫مت��شك فني وقدرة على‬

‫‪http://khalidkhkh.maktoobblog.com‬‬ ‫‪http://khalidkhkh.blogspot.com‬‬

‫ك�ن يعي�س يف ح�رشموت‪ ،‬قبل انتق�له اإىل الق�هرة ‪.‬‬

‫‪3‬‬

‫عدد ‪144‬‬

‫‪ 6‬ت�رشين ‪2010 1‬‬


‫الراعي‬

‫حممد بن عي�سى اجلابر‬

‫ت�صميم و اإخراج‬

‫‪Mind the gap, Beirut‬‬

‫‪MBI AL JABER FOUNDATION‬‬

‫امل�ؤ�ص�س‬

‫الإ�صت�صارات الفنية‬

‫�سوقي عبد الأمري‬

‫�سالح بركات‬ ‫غالريي اأجيال‪ ،‬بريوت‪.‬‬

‫املدير التنفيذي‬

‫املطبعة‬

‫�صكرتاريا وطباعة‬

‫الإ�صت�صارات القان�نية‬

‫املحرر الأدبي‬

‫املتابعة والتن�صيق‬

‫املَقَّ ر‬

‫كتاب يف جريدة‬

‫ندى ّ‬ ‫دلل دوغان‬ ‫هناء عيد‬

‫حممد مظلوم‬

‫بريوت‪ ،‬لبنان‬ ‫ي�سدر بالتعاون مع وزارة الثقافة‬

‫پول نا�سيميان‬ ‫"القوتلي وم�ساركوه ‪ -‬حمامون"‬ ‫حممد ق�سمر‬

‫�شنرت دلفن‪ ،‬الطابق ال�شاد�ض‬ ‫�شارع �شوران‪ ،‬الرو�شة‬ ‫بريوت‪ ،‬لبنان‬ ‫تلفون‪ /‬فاك�ض ‪+961 )0(1 868 835‬‬ ‫‪kitabfj@cyberia.net.lb‬‬ ‫‪kitabfijarida@hotmail.com‬‬

‫عدد رقم‬ ‫(‪ 6‬ت�رشين اأول ‪)2010‬‬ ‫‪146‬‬

‫ال�صحف ال�رشيكة‬

‫الهيئة الإ�صت�صارية‬

‫الأحداث ‪ -‬اخلرطوم‬ ‫الأيام ‪ -‬رام اللـه‬ ‫الأيام ‪ -‬املنامة‬ ‫ت�رشين ‪ -‬دم�شق‬ ‫الثورة ‪� -‬شنعاء‬ ‫اخلليج ‪ -‬الإمارات‬ ‫الد�ستور ‪ -‬ع ّمان‬ ‫الراأي ‪ -‬ع ّمان‬ ‫الراية ‪ -‬الدوحة‬ ‫الريا�ض‪ -‬الريا�ض‬ ‫ال�سعب‪ -‬اجلزائر‬ ‫ال�سعب‪ -‬نواك�شوط‬ ‫ال�سباح‪ -‬بغداد‬ ‫العرب‪ -‬تون�ض‪ ،‬طرابل�ض الغرب ولندن‬ ‫جملة العربي ‪ -‬الكويت‬ ‫القاهرة ‪ -‬القاهرة‬ ‫القد�ض العربي ‪ -‬لندن‬ ‫النهار ‪ -‬بريوت‬ ‫الوطن ‪ -‬م�شقط‬

‫اأدوني�ض‬ ‫اأحمد ال�س ّياد‬ ‫اأحمد بن عثمان التويجري‬ ‫اأحمد ولد عبد القادر‬ ‫جابر ع�سفور‬ ‫جودت فخر الدين‬ ‫�سيد يا�سني‬ ‫عبد اللـه الغذامي‬ ‫عبد اللـه يتيم‬ ‫عبد العزيز املقالح‬ ‫عبد الغفار ح�سني‬ ‫عبد الوهاب بو حديبة‬ ‫فريال غزول‬ ‫حممد ربيع‬ ‫مهدي احلافظ‬ ‫نا�رش الظاهري‬ ‫نا�رش العثمان‬ ‫نهاد ابراهيم با�سا‬ ‫ه�سام ّ‬ ‫ن�سابة‬ ‫مينى العيد‬

‫خ�سع ترتيب اأ�سماء الهيئة الإ�ست�سارية وال�سحف للت�سل�سل الألفبائي ح�سب ال�سم الأول‪.‬‬

‫‪4‬‬


‫�سالّمة‬ ‫الق�س*‬ ‫ّ‬ ‫علي اأحمد باكثري‬

‫ب�سم �هلل �لرحمن �لرحيم «ولقد ه ّم ْت ب ِه وه َ ّم‬ ‫برهان ر ِّبهِ» ‪� -‬لقر�آن �لكرمي‬ ‫بها ل�ال � ْأن ر�أى‬ ‫َ‬

‫�لف�سل �الأول‬

‫ا�شتيقظ عبد الرحمن بن عبداللـه بن اأبي‬ ‫عم�ر يف الهزيع الأخري من الليل على �شوت‬ ‫الآذان الأول ل�شالة ال�شبح‪ ،‬فنه�س عن فرا�شه‪،‬‬ ‫وفتح كُ َّو ًة من كُ وى غرفته‪ ،‬ف�أط َّل منه� على‬ ‫الف�ش�ء املنب�شط اأم�مه وقد ا�شتملت اأق��شيه‬ ‫ب�لظالم ال�ش�بغ‪ ،‬وبقيت تختلج يف اأدانيه‪ ،‬وعلى‬ ‫روؤو�س التالل البعيدة من اجل�نب الآخر‪ ،‬وعلى‬ ‫اأع�يل ق�شور مكة البي�ش�ء عن ميينه و�شم�له‬ ‫أطي�ف من �شي�ء القمر الغ�رب يف الأفق‪.‬‬ ‫ا ٌ‬ ‫و�شعر عبد الرحمن بت َّي ٍ�ر من ريح ال�شت�ء‬ ‫جيب قمي�شه‪،‬‬ ‫البليلة يت� َّ‬ ‫رشب اإىل الغرفة‪ ،‬ف�أ�شلح َ‬ ‫رداءه فل َّفه حول عنقه‪ ،‬واأرخى طرفيه‬ ‫وتن�ول َ‬ ‫أح�س بدف ٍء لذيذ اأغراه ب�لعودة‬ ‫على �شدره‪ ،‬ف� َّ‬ ‫اإىل فرا�شه ريثم� يطلع الفجر الأول‪ ،‬ولكنه مل‬ ‫أح�س ب�لنع��س يداعب‬ ‫يكد يفعل ذلك حتى ا َّ‬ ‫جفنيه واأيقن اأنه �شينتهي به اإىل �شب�ت عميق‬ ‫وتذكر‬ ‫قد يف ِّوت عليه �شالة اجلم�عة يف امل�شجد‪َّ ،‬‬ ‫‪1‬‬ ‫اأي�ش ً� اأنه مل يكمل تلك الليلة حزبه من القراآن ‪،‬‬ ‫ف��شتع�ذ ب�للـه من ال�شيط�ن‪ ،‬ورمى حل� َف ُه عنه‬ ‫وتو�ش�أ ورجع‬ ‫بقوة‪ ،‬وق�م اإىل املي�ش�أة فتط َّهر‬ ‫َّ‬ ‫اإىل الغرفة ينتف�س من الربد‪ ،‬ف�أم�ط فرا�شَ ُه عن‬ ‫احل�شري فوقف عليه و�ش َلّى ركعتي الو�شوء‪.‬‬ ‫مت �شالته ك�ن اأول خ�طر هجم عليه اأن‬ ‫فلم� اأ َّ‬ ‫الربة التي ك�نت ُتعنى ب�أمر‬ ‫َّ‬ ‫تذك َر ا َّأمه العجو َز ِ َّ‬ ‫�شالته وقي�مه‪ ،‬فك�ن ين�م كم� ي�ش�ء ُمطمئن ً�‬ ‫اإىل اإيق�ظه� اإي�ه يف الوقت املطلوب‪.‬‬ ‫وك�نت اأم عبد الرحمن امراأة �ش�حلة ر َّبته‬ ‫منذ �شغره على التقوى والعب�دة‪ ،‬وزرعت يف‬ ‫حب الفقه يف الدين‪ .‬وك�نت تكفيه هموم‬ ‫قلبه َّ‬ ‫عي�شه وتقوم بتدبري امل�ل الذي تركه اأبوه‬ ‫لهم� اإذ م�ت ومل� ي�شلخ عبد الرحمن الث�نية‬

‫وتتهج ُد معه‪ ،‬حتى اإذا دن�‬ ‫وتقرب له الو�شوء‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫وقت ال�شالة ن َّبهته للخروج اإىل امل�شجد‪ ،‬و�ش َّيعته‬ ‫زودته ب�شيء من التمر والقديد‬ ‫اإىل الب�ب بعد اأن َّ‬ ‫يتبلغ‪ 2‬به يف امل�شجد اإذا هو نوى العتك�ف فيه‪،‬‬ ‫اأو يفطر عليه اإذا ك�ن �ش�ئم�ً‪.‬‬ ‫ا�شرت�شل عبد الرحمن كذلك يف ذكري�ت‬ ‫اأمه‪ ،‬ولكنه ذكر مرة م� مل يكمله تلك الليلة من‬ ‫آين‪ ،‬وك�ن عليه اأن يكمله قبل خروجه‬ ‫حزبه القرا ِّ‬ ‫اإىل امل�شجد‪ ،‬ف�قتلع نف�شه من تلك الذكري�ت‬ ‫وترحم عليه�‪ ،‬وم�شح‬ ‫الع�ر�شة بعد اأن دع� لأمه‬ ‫َّ‬ ‫بردائه عربة ك�نت ترتقرق يف عينيه‪ ،‬ثم طفق‬ ‫يقراأ القراآن ب�شوته احلنون احلزين‪ .‬وك�ن اإذا قراأ‬ ‫القراآن ا�شتغرق فيه ون�شي م� حوله‪ ،‬حتى اإنه‬ ‫ك�ن ل ينتبه ملرور الوقت اإل مب� ي�أتي عليه من‬ ‫اأجزاء القراآن‪ ،‬اأو يتمه من �شوره‪ ،‬فيعرف الوقت‬ ‫بذلك‪ .‬ولكن ا�شرت�ش�له يف ذكري�ته تلك الليلة قد‬ ‫اأخذ جزءاً غري قليل من وقته‪ ،‬ف�أخط�أ يف تقديره‬ ‫فم� ن َّبهه اإىل ذلك اإل َخفْقُ النع�ل يف ال�ش�رع‪،‬‬ ‫فعرف من ذلك اأن جريانه يف تلك املح َلّة قد‬ ‫اأخذوا يتوجهون اإىل امل�شجد ل�شهود �شالة‬ ‫ال�شبح‪ .‬وك�ن من ع�دته اأن يخرج قبل هوؤلء؛‬ ‫فنه�س قبل اأن يتم حزبه من القراآن وفتح الك َُّو َة‬ ‫مرة اأخرى فراأى نور الفجر قد انت�رش يف الأفق‪،‬‬ ‫ف�رتدى ثي�به ولب�س ُخ َّفيه‪ ،‬واألقى على كتفيه‬ ‫عب�ءته البي�ش�ء‪ ،‬وتن�ول رداءه من الك َّت�ن‬ ‫كوره على راأ�شه‪ ،‬وخرج‬ ‫الأبي�س ف�أداره ثم َّ‬ ‫م�رشع ً� يقرع ال َّد َرج ب ُِخ َّف ْيه حتى انتهى اإىل‬ ‫الب�ب ففتحه فخرج ثم اأغلقه‪ ،‬وانتزع اأقليده‪ 3‬من‬ ‫الفتحة ال�شغرية التي على ج�نب الب�ب فغرزه‬ ‫يف و�شطه‪ ،‬وم�شى منطلق ً� يف طريقه اإىل امل�شجد‬ ‫وهو يقراأ م� بقي عليه من حزبه‪.‬‬ ‫ينهب الأر�س بخطواته‬ ‫�ش�ر عبد الرحمن‬ ‫ُ‬ ‫الوا�شعة ال�رشيعة ل يلوي على �شيء؛ ف�شبق‬ ‫كثرياً من الرج�ل الذاهبني اإىل ال�شالة من �شب�ب‬ ‫يخطون‬ ‫وكهول مي�شون بقوة‪ ،‬و�شيوخ ُع ِّجز‬ ‫ُّ‬ ‫خط�ً‪ ،‬فخلفهم جميع ً� وراءه‪ .‬فقد ك�ن‬ ‫الأر�س َّ‬ ‫مل به من احلزن لوف�ة اأمه – واعتالل‬ ‫على م� اأ َّ‬ ‫قوي البنية �شديد الأ�رش ن�شيط‬ ‫�شحته لذلك – َّ‬ ‫احلركة‪ .‬فلم� دن� من امل�شجد راأى الن��س يدخلون‬ ‫اإليه اأفواج ً� من اأبوابه املختلفة‪ ،‬فدخل هو من‬ ‫اأحده�‪ .‬وبين� هو يف طريقه ق��شداً جهة الكعبة‬ ‫اإذ ملح على مقربة منه �شيخ ً� هرم ً� قد ق�رب‬ ‫الثم�نني من عمره‪ ،‬يدب دبيب ً� اإىل جهة الكعبة‬ ‫وقد تقو�س ظهره وته َّدل جفن�ه على عينيه‪ ،‬فدن�‬ ‫منه عبد الرحمن وحي�ه ق�ئالً‪« :‬ال�شالم عليك ي�‬ ‫اأب� الوف�ء»‪.‬‬ ‫فر َّد العجوز ال�شالم ورفع راأ�شه يف �شيء‬

‫من عمره‪ ،‬فتو َلّت تربيته و�ش َلّمته‬ ‫لأحد اأق�ربه� فحفظ عنه القراآن‬ ‫قبل الع��رشة‪ ،‬وح َّببت اإليه امل�شجد‬ ‫احلرام‪ ،‬فك�ن يعتكف فيه اأغلب‬ ‫الأي�م‪ ،‬يروى عن علم�ئه احلديث‬ ‫ويتل َّقى عنهم الفقه‪ ،‬ول يرجع اإىل‬ ‫بيته يف اأطراف مكة اإل اآخر النه�ر‪،‬‬ ‫فيجل�س اإىل اأمه يدار�شه� القراآن‬ ‫ويذاكره� احلديث‪.‬‬ ‫ك�ن همه� منذ توفى زوجه�‬ ‫اأن ين�ش�أ ابنه� الوحيد ع�مل ً� فقيه ً�‬ ‫ك�شعيد ابن امل�شيب اأو كعط�ء بن‬ ‫اأبي رب�ح‪ ،‬وك�نت تدعو اللـه يف �شالته� اأن‬ ‫يح ِّقق له� هذا الأمل‪ ،‬ف��شتج�ب اللـه دعوته� فلم‬ ‫مت ْت حتى راأت ابنه� ال�ش�ب م�رشب املثل مبكة‬ ‫َُ‬ ‫يف فقهه وعب�دته‪ ،‬حتى ل َّقبه اأهل مكة‪« :‬الق�س»‬ ‫وغلب عليه هذا اللقب حتى ك�د ل ُيعرف اإ ّل به‪.‬‬ ‫وك�ن ا�شم عبد الرحمن الق�س عنوان ً� لل�ش�ب‬ ‫العفيف الن��شئ يف عب�دة اللـه‪ ،‬املالزم للم�شجد‪،‬‬ ‫الفقيه يف الدين‪ .‬وك�ن ال�شيوخ والكهول يروون‬ ‫عنه احلديث ول يجدون حرج ً� يف ا�شتفت�ئه‬ ‫وتل ِّقي العلم عنه‪ .‬وا�شتهر اأمره فلم يكن من بيت‬ ‫مبكة مل ي�شمع به‪ .‬ك�نت املراأة من ن�ش�ئه� ُتع ِلّلُ‬ ‫الق�س‪ ،‬وك�ن الرجل‬ ‫ابنه� الر�شيع ب�أن ين�ش�أ ن�ش�أة ِّ‬ ‫يتم َّنى على اللـه لو رزقه ولداً مثله‪.‬‬ ‫تذك َر عبد الرحمن اأمه ال�ش�حلة وتذكر ح�شن‬ ‫َّ‬ ‫تربيته� له وقي�مه� عليه وكف�يته� اإي�ه هموم‬ ‫العي�س ليتفرغ للعب�دة والعلم‪ ،‬فع�وده احلنني‬ ‫خف عنه‬ ‫اإليه� وا�شت َّد به احلزن عليه�‪ ،‬وك�ن قد َّ‬ ‫ذلك بعدم� ان�رشم على وف�تِه� ع�م ق�ش�ه عبد‬ ‫أم�س الذكرى‪ ،‬حتى‬ ‫الرحمن يف اأ�شد احلزن وا ِّ‬ ‫اعت َلّت �شحته و�ش�ء ح�له ولكنه ك�ن ي�أخذ نف�شه‬ ‫ب�ل�شرب والر�ش� بق�ش�ء اللـه‪ ،‬ويلج�أ اإىل ال�شالة‬ ‫والبث‪،‬‬ ‫والعب�دة كلم� ط�ف به ط�ئف من اللوعة‬ ‫ِّ‬ ‫والرتحم عليه�‪ .‬وك�ن يف‬ ‫مكتفي ً� ب�لدع�ء له�‬ ‫ُّ‬ ‫ذلك يعمل ج ْهده بو�شيته� له وهي حتت�رش‪ ،‬اإذ‬ ‫ق�لت له يف �شكرات املوت‪« :‬اأ�شتودعك اللـه ي�‬ ‫عبد الرحمن‪ .‬ل اأراك جتزع ملوتي وتن�شى الأن�س‬ ‫ب�للـه»‪.‬‬ ‫ولكن عبد الرحمن ك�ن رقيق القلب‪ ،‬دقيق‬ ‫احل�س‪ ،‬فلم يفلح يف اقتالع احلزن على اأمه من‬ ‫فظل يع�وده الفينة بعد الفينة‪ ،‬على اأنه‬ ‫قلبه‪َّ ،‬‬ ‫ك�ن ل يفت�أ يج�هد نف�شه على العمل بو�شية‬ ‫اأمه؛ وك�ن يجد يف العب�دة اأكرب عون له على‬ ‫تن��شي اآلمه‪ ،‬لول اأن هذه العب�دة ك�نت كثرياً‬ ‫م� تثري �شجونه‪ ،‬لقرتان اأ�شب�به� بذكري�ت اأمه‬ ‫التي ك�نت توقظه يف ال�ش�عة املطلوبة من الليل‪،‬‬

‫من ا َ‬ ‫جل ْهد‪ ،‬فظهر وا�شح ً� وجهه ذو التج�عيد‪،‬‬ ‫وح�جب�ه الأبي�ش�ن‪ ،‬وحليته البي�ش�ء ال�ش�ربة‬ ‫وج َّمته‪ 4‬املر�شلة اإىل �شحمتي اأذنيه‪،‬‬ ‫يف �شدره‪ُ ،‬‬ ‫تطل اأطرافه� من حتت عم�مته اخل�رشاء ك�أنه�‬ ‫الف�غية‪5‬؛ فلم� راأى عبد الرحمن ملعت عين�ه‬ ‫بربيق الفرح‪ ،‬حتى ك�أن �شب�به امل��شي كله قد‬ ‫ع�د اإليه متجمِّ ع ً� يف عينيه وق�ل‪« :‬مرحب ً� ي� بن‬ ‫اأبي عم�ر‪ ...‬اأه ًال بك ي� ب َن َّي‪ .‬اأين كنت اأم�س فقد‬ ‫بحثت عنك فلم اأجدك؟ اإين اأريدك يف اأمر َجلل!»‪.‬‬ ‫ف�أج�به عبد الرحمن ق�ئالً‪« :‬خرياً ي� عم»‪.‬‬ ‫ق�ل ال�شيخ‪�« :‬ش�أحدثك به بعد ال�شالة فال‬ ‫تن�رشف حتى اأراك»‪.‬‬ ‫فق�ل عبد الرحمن‪�« :‬شمع ً� ي� اأب� الوف�ءِ»‪.‬‬ ‫ونظر اإىل وجه ال�شيخ كمن يح�ول اأن يعرف م�‬ ‫ذلك الأمر اجلَلل الذي يريد ال�شيخ اأن يتحدث اإليه‬ ‫فيه‪ ،‬ولكن ال�شيخ مل ميهله اأن ق�ل‪« :‬انتظرين عند‬ ‫حلقة الدر�س»‪ ،‬وم�شى اإىل �شبيله اإىل حيث ي�أخذ‬ ‫مك�نه يف ال�شالة‪ ،‬وكذلك فعل عبد الرحمن‪.‬‬

‫�لف�سل �لثاين‬

‫�شمط�ء يف‬ ‫يف ذلك احلني ك�نت عجوز‬ ‫ُ‬ ‫نحو ال�ش�د�شة واخلم�شني من عمره� مت�شي يف‬ ‫دهليز �شيق يف بيته� ال�شغري الواقع يف طَ َرف‬ ‫من اأطراف مكة م� يلي احل َُّجون‪ .‬وك�نت حتمل‬ ‫يف يده� �شمعة ت�شيء له� الدهليز حتى وقفت‬ ‫عند ب�ب غرفة �شغرية ف�أخذت تقرعه وت�شيح‬ ‫من�دية‪�« :‬شالّمة! �شالّمة! �شالّمة! قومي ي�‬ ‫بنت! اإ�شحي ي� ج�رية قد طلعت ال�شم�س واأنت‬ ‫ن�ئمة!»‪.‬‬ ‫وقرعت الب�ب قرع ً� اأ�شد من الأول فلم‬ ‫يجبه� اأحد‪ ،‬ففتحته ف�إذا غرفة �شيقة قد ظهر‬ ‫رث‬ ‫يف ج�نب منه� على �شو ِء ال�شمعة �رشير ٌّ‬ ‫تن�م عليه فت�ة مدثرة بلح�ف قدمي‪ .‬اقرتبت‬ ‫العجوز من ال�رشير وهي تقول‪�« :‬شالّمة‪ ..‬قومي‬ ‫ي� �شقية»‪ .‬و�شحبت اللح�ف عن الفت�ة ف�أخذت‬ ‫وتتث�ءب وتتق َلّب من جنب اإىل جنب‬ ‫تتمطى‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫وهي تقول‪« :‬اآه‪ ..‬دعيني ي� مولتي ن�ئمة – م�‬ ‫يزال الوقت مبكراً»‪ .‬ق�لت ذلك واأع�دت اللح�ف‬ ‫على ج�شمه�‪ .‬لكن العجوز ع�ودت �شحب اللح�ف‬ ‫عن الفت�ة وهي تر ُّدد الكلم�ت ذاته� « قومي ي�‬ ‫�شقية‪ .‬الوقت مت�أخر‪ ،‬ولي�س مبكراً‪ ،‬لقد ح�ن وقت‬ ‫ال�شالة واأنت ن�ئمة» نه�شت الفت�ة من نومه�‬ ‫وهي تقول «اآه ب� مولتي ليلة الب�رحة مل اأمن اإل‬ ‫قلي ًال بعد منت�شف الليل‪ ،‬ك�نت دار ج�رن� اأبن‬ ‫�شهيل ت�شج ب�أ�شوات الغن�ء واملرح‪ ،‬وقد ك�ن‬ ‫�شوت غن�ء جميل ي�أتي من تلك الدار واأن� ا�شتمع‬ ‫اإليه طوال الليل‪ ،‬ك�ن ال�شوت العذب هو �شوت‬

‫* اعتمدنا في نشر الرواية طبعة مكتبة مصر ‪ -‬القاهرة ‪1977‬‬

‫‪5‬‬

‫عدد ‪144‬‬

‫‪ 6‬ت�رشين ‪2010 1‬‬


‫جميلة مطربة املدينة امل�شهورة»‬ ‫فتنهدت العجوز وق�لت يف لهجة ي�شوبه�‬ ‫ال�شتنك�ر وال�شم�تة‪« :‬نعم‪ ..‬اأي �شيء ي�أتين� من‬ ‫اأهل املدينة اإل هذا؟ ا َّأوا ُه من ف�ش�د الزم�ن!!»‪.‬‬ ‫«اآه ي� مولتي م� اأعذب �شوته� واأجمل‬ ‫غن�ءه�!»‪.‬‬ ‫َ‬ ‫«هل كنت تت�شمعني اإليه�؟ ويل لك‪ ،‬مل�ذا مل‬ ‫َت�ش ِّدي اأذنيك وتن�مي؟»‬ ‫انفجرت اجل�رية �ش�حكة �شحك�ت متقطعة‪،‬‬ ‫ك�أنه� ت�شتغرب هذا القول من �شيدته� وق�لت‪:‬‬ ‫ين واأن�م؟ هِ ْئ هِ ْئ هِ ْئ هِ ْئ‪ ..‬وهل ك�ن يف‬ ‫«ا ُأ�شد اأذ َّ‬ ‫رشب اإىل‬ ‫و�شعي ذلك؟ اإن �شوته� ي� مولتي ليت� َّ‬ ‫يهب الن�شيم‬ ‫اأذين كم� يت�رشب الأمل احلُلو – كم� ُّ‬ ‫العذب – كم� يداعب النع��س الأجف�ن!»‪.‬‬ ‫ومتيلُ راأ�شه� مينة‬ ‫واأخذت اجل�رية تتث َّنى ُ‬ ‫وي�رشة‪ ،‬ثم‬

‫نه�شت عن �رشيره� يف ن�شوة وهي ترتمن‪« :‬تن‬ ‫تن تن تن تن تن تن! تن تن تن تن تن تن تن!»‪.‬‬ ‫فق�طعته� العجوز وهي يف ح�لة و�شط‬ ‫بني الغ�شب وال�شحك ق�ئلة‪�« :‬شه‪ ،‬ا�شكتي ي�‬ ‫ف�علة!»‬ ‫ولكن اجل�رية مل ت�ش�أ اأن ت�شمع ملولته�‬ ‫وا�شتمرت مرتمنة‪« :‬تن تن تن تن تن تن!»‬ ‫وطفقت ترق�س يف انت�ش� ٍء وغنج وهي تغني‪:‬‬ ‫أجن َز ْت َن� َم� َت ِع ْد َو�شَ ف َْت اأَ ْنف َُ�شن�‬ ‫«ل َْي َت هِ ْنداً ا ْ َ‬ ‫جت ْد‬ ‫م� َ ِ‬ ‫َِ‬ ‫‪6‬‬ ‫مر ًة َواحِ د ًة‪».. ..‬‬ ‫َو ْ‬ ‫ا�ش َتب ّد ْت َّ‬ ‫وراأت اأم الوف� ِء اأنه� قد �شربت ل�ش َالّمة اأكرث‬ ‫وو�شعت‬ ‫م� ينبغي له� اأن ت�شرب عليه�‪ ،‬فنهرته�‬ ‫ْ‬ ‫يده� على فمه� ق�ئلة‪�« :‬شه ا�شكتي! مل يبق اإ ّل اأن‬ ‫ترق�شي وتغني هن�‪ .‬ه َّي� اذهبي ف�شلّي واحلبي‬ ‫اللنب ثم‬ ‫اخرجي‬

‫ب�ل ُغ َن ْيم�ت اإىل املرعى لتعودي اإلين� قبل‬ ‫الظهر»‪.‬‬ ‫وعرفت �ش َالّمة اجل َّد يف مولته� فم� و�شعه�‬ ‫اإ ّل اأن تطيع اأمره� ق�ئلة‪�« :‬شمع ً� ي� مولتي‪،‬‬ ‫عب�ءته� ف�ألقته� على‬ ‫ه�اأنذا ن�زلة»‪ .‬واأخذت‬ ‫َ‬ ‫كتفه� مت�أهبة للخروج‪ ،‬ولكنه� ع َّز عليه� اأن ل‬ ‫تتمكن من اإمت�م رق�شته� واأغنيته� فخرجت من‬ ‫الب�ب وهي ترق�س وتغني‪« :‬اإمن� الع�جز من ل‬ ‫ي�شتبد»‪.‬‬ ‫وراءه� تتبعه� وهي‬ ‫وم�شت اأم الوف� ِء‬ ‫َ‬ ‫تقول‪« :‬ح�شبك اللـه ي� جميلة! �شتف�شدين علين�‬ ‫جوارين�»‪.‬‬

‫�لف�سل �لثالث‬

‫ونعود اإىل امل�شجد احلرام فرنى الن��س قد‬ ‫فرغوا من �شالة ال�شبح‪ ،‬فمنهم من رجع اإىل‬ ‫بيته‪ ،‬اأو ان�رشف اإىل عمله‪ ،‬ومنهم من بقي‬ ‫يف امل�شجد يذكر اللـه‪ ،‬اأو يتلو القراآن‪ ،‬ويطوف‬ ‫ب�لكعبة‪ ،‬اأو ي�شتمع اإىل حلقة من حلق�ت‬ ‫الدر�س‪ ،‬حتى تطلع ال�شم�س وترتفع قدر رمح‬ ‫في�شلون الن�فلة ثم ين�رشفون‪ ،‬اإل من نوى‬ ‫العتك�ف ب�مل�شجد فيبقى فيه ول يرجع اإىل‬ ‫بيته اإل بعد �شالة الع�ش�ءِ‪.‬‬ ‫وهذا ج�نب من امل�شجد قد ا�شتدارت‬ ‫فيه حلقة ي�شتمع الن��س فيه�‬ ‫اإىل اأحد العلم� ِء وهو يقول‪:‬‬ ‫«‪ ...‬عن النبي �شلى اللـه‬ ‫عليه و�ش َلّم اأنه ق�ل‪( :‬خري‬ ‫القرون قرين‪ ،‬ثم الذين يلونهم‪ ،‬ثم‬ ‫الذين يلونهم)‪ ..‬ف�أب�رشوا اأيه� الن��س‬ ‫اإنكم من خري القرون‪ ،‬احمدوا اللـه‬ ‫تع�ىل مل يجعلكم من خري القرون‬ ‫اإل لتقوموا خري القي�م بط�عته‪،‬‬ ‫وتكونوا بذلك اأه ًال لب�ش�رة نب ِّيه‪.‬‬ ‫األ فمن خ�لف منكم كت�ب اللـه‬ ‫و�ش َّنة ر�شوله ف�شوف يح��شبه‬ ‫اللـه حِ �ش� َبني ع�شريين على‬ ‫ذنبه‪ ،‬وعلى م� اأ�ش�ع من‬ ‫نعمته‪.»...‬‬ ‫طلعت‬ ‫وك�نت ال�شم�س قد‬ ‫ْ‬ ‫حتل ال�شالة‪ ،‬واأخذ الن��س‬ ‫بحيث ُّ‬ ‫يتنفلون‪ ،‬وهذا ال�شيخ اأبو الوف� ِء‬ ‫ُي َ�ش ِل ُّم من �شالة ال َّنفْل ويدعو‪:‬‬ ‫«ربن� اآتن� يف الدني� ح�شنة ويف‬ ‫الآخرة ح�شنة وقن� عذاب الن�ر»‪.‬‬ ‫واإىل ج�نبه رجالن كهالن من‬ ‫اأ�شح�به قد فرغ� اأي�ش ً� من‬

‫‪6‬‬

‫�شالته�‪ ،‬واأخذا يدعوان‪ .‬وم� انتظر الثالثة‬ ‫طوي ًال حتى اأقبل عليهم عبد الرحمن ابن اأبي‬ ‫عم�ر ف�ش َلّم عليهم فردوا عليه ال�شالم‪ ،‬ونه�شوا‬ ‫له ف�ش�فحهم وق�ل‪« :‬كيف اأنت ي� اأب� الوف�ءِ؟‬ ‫أخوي؟»‪.‬‬ ‫كيف اأنتم� ي� ا َّ‬ ‫ف�أج�ب اأحد الكهلني‪« :‬اإنن� بخري ي� بن اأبي‬ ‫عم�ر‪ ..‬ولكن اأين كنت اأم�س؟ لقد التم�شن�ك فلم‬ ‫جندك ل يف امل�شجد ول يف البيت»‪.‬‬ ‫عقب �شالة‬ ‫ق�ل عبد الرحمن‪« :‬لقد‬ ‫ُ‬ ‫خرجت َ‬ ‫ال�شبح اإىل �شيعتن� ب�لوادي اأنظر يف �ش�أنه�‪ ،‬ومل‬ ‫اأعد اإ ّل ل َْيالً»‪.‬‬ ‫والتفت الكهل اإىل ال�شيخ ق�ئالً‪« :‬األ تخربه ي�‬ ‫اأب� الوف� ِء ب�لأمر؟»‪.‬‬ ‫فتنحنح اأبو الوف� ِء ونظر اإىل عبد الرحمن‬ ‫نظرة ملوؤه� احلب والعطف ق�ئالً‪« :‬اإن� نريد اأن‬ ‫نتحدث اإليك يف اأمر خطري‪ ،‬ف�أعرين �شمعك ي�‬ ‫بني»‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫فق�ل عبد الرحمن‪« :‬خرياً ي� عم»‪.‬‬ ‫وا�شتمر اأبو الوف� ِء ق�ئالً‪« :‬اإنك تعلم م� لَكَ‬ ‫من مك�نة يف الن��س ل�شالحك وتقواك وفقهك‬ ‫يف الدين على حداثة �شنك‪ ،‬حتى ل َّقبك اأهلُ مكة‬ ‫بحق خليفة عط� ِء بن اأبي رب�ح‪،‬‬ ‫َ�س‪ ،‬واعتربوك ٍ ّ‬ ‫الق َّ‬ ‫واأن جميلة املغنية قد وردت اإىل هذا البلد الأمني‬ ‫ونزلت عند جريانن� اآل �شهيل‪ ،‬وقد �شغلتني عن‬ ‫�شالتي الب�رح َة والليلة التي قبله� بغن�ئه�‬ ‫وب�طله�‪ ،‬فهل لك اأن تكلم الوايل يف �ش�أنه� ع�شى‬ ‫اأن ي�أمر ب�إخراجه� قبل اأن تف�شد علين� فتي�نن�‬ ‫وفتي�تن�»‪.‬‬ ‫أمر عبد الرحمن يده على جبينه ق�ئالً‪:‬‬ ‫ف� َّ‬ ‫«اأجل ي� عم قد بلغني ذلك ف�غتممت لأمره ول‬ ‫حول ول قوة اإ َّل ب�للـه‪ .‬اإن ال�شيط�ن قد يئ�س‬ ‫فج�ء اأهله� من طريق‬ ‫من هذه البلدة الط�هرة‬ ‫َ‬ ‫الغن�ء»‪.‬‬ ‫ق�ل ال�شيخ‪« :‬ف�ذهب الغدا َة اإىل الوايل‪،‬‬ ‫�ش�ء اللـه م�شموعة»‪.‬‬ ‫فكلمتكم اإن َ‬ ‫ف�عرت�س عبد الرحمن ق�ئالً‪« :‬ولكني نويت‬ ‫العتك�ف يف امل�شجد هذا اليوم»‪ .‬ف�أج�به اأبو‬ ‫الوف�ءِ‪« :‬اإن العتك�ف �شنة وهذا فر�س عليك ي�‬ ‫بني‪ ،‬فال عليك اأن ُتق ِّد َم الفر�س على ال�ش َّنة»‪.‬‬ ‫�شكت عبد الرحمن هنيهة ثم ق�ل‪�« :‬شمع ً� ي�‬ ‫اأب� الوف�ءِ‪ ..‬واإن كنت ل اأجد لذلك ف�ئدة كبرية‪،‬‬ ‫دت اإىل الوايل اأكلمه يف اأمر ال�ش�عر‬ ‫فط�مل� تر َّد ُ‬ ‫يتعر�س للمح�شن�ت‬ ‫الف�جر عمر بن اأبي ربيعة اإذ َّ‬ ‫في�ش ِّبب بهن ويفرتي عليهن‪.»...‬‬ ‫ومل ميلك اأبو الوف� ِء نف�شه اأن �ش�ح قبل اأن‬ ‫يتم عبد الرحمن جملته ق�ئالً‪« :‬اأجل وهل ت َغ َّن ْت‬ ‫الف�جر ُة الب� ِر َحة اإ َّل ب�شعر هذا الف�جر؟»‪.‬‬


‫وده�س ال�شيخ اإذ �شمع اأحد الكهلني ي�ش�أله يف‬ ‫اهتم�م وا�شح‪« :‬ب�أي �شعره تغنت؟» وك�ن الكهل‬ ‫النبو فعال وجهه‬ ‫اأدرك م� يف �شوؤاله هذا من‬ ‫ّ‬ ‫اخلجل‪ .‬ولكن اأب� الوف� ِء مل ير ب�أ�ش ً� يف اأن يجيبه‬ ‫فق�ل وقد األن من لهجته‪« :‬بقوله – حل�ه اللـه –‬ ‫ليت هندا اأجنزتن� م� تعد»‪ .‬فتب�شم عبد الرحمن‬ ‫وق�ل الكهل الآخر‪« :‬ولكني �شمعت من حدثني‬ ‫اأنه �شمع ابن عب��س ين�شد بع�س هذا ال�شعر يف‬ ‫امل�شجد»‪.‬‬ ‫فع�ودت احل َّدة اأب� الوف� ِء وق�ل‪« :‬مع�ذ‬ ‫اللـه‪ ،‬لقد كذب عليه من ح َّدثك‪ .‬اللـه للن��س! اأمل‬ ‫يكذبوا على �ش�حبن� عط� ِء بن اأبي رب�ح ويجروؤ‬ ‫�ش�عرهم اأن يقول‪:‬‬ ‫�ل ْفت ٍَي ْ َ‬ ‫َ�س ُل ُ�� ْ ُ‬ ‫�لك َ ِّي َه ْل ِيف َت َز� ِو ٍر‬ ‫َاح؟‬ ‫َو�س َ ّم ِة ُم�سْ ت ِ‬ ‫َاق �ل ُف�ؤ�د ُجن ُ‬ ‫َفقَالَ َم َعا َذ �للـه � ْأن ُيذهِ َب �ل ُ ّتقَي‬ ‫�ح‬ ‫ر‬ ‫ت ُ‬ ‫َال�سقُ �أَكْ َبادٍ ِب ِه َ ّن ِج َ ُ‬ ‫ف�شكت الكهالن ومل يجيب� وطفق كالهم�‬ ‫ينظر اإىل الآخر‪.‬‬ ‫وحلظ عبد الرحمن حريتهم� فق�ل لأبي‬ ‫الوف� ِء يف لهجة ن�عمة‪« :‬كال ي� عم مل يكذب‬ ‫حمدثه‪ ،‬لقد حدثني الثقة اأي�ش ً� اأنه �شمع ابن‬ ‫عب��س ين�شد بع�س هذه الأبي�ت»‪.‬‬ ‫فنظر اإليه ال�شيخ م�شتغرب ً� وا�شتمر يقول‪:‬‬ ‫«ولكن الإن�ش�د غري الغن� ِء الذي يغزو قلوب‬ ‫الن��س ب�لإثم ويلهيهم عن ذكر اللـه»‪.‬‬ ‫ف�رشي عن الكهلني وخف�س اأبو الوف� ِء راأ�شه‬ ‫ُ ِّ‬ ‫وق�ل ب�شوت رقيق‪« :‬على اأي ح�ل اأن�شدك اللـه‬ ‫ي� بني اإل م� ذهبت الغداة اإىل الوايل ل َعله ي�شمع‬ ‫ق�لتك‪ 7‬هذه املرة‪ ،‬فيطرد عن� هذه الف�جرة؟»‪.‬‬ ‫فق�ل‪« :‬ط�عة ي� اأب� الوف�ءِ‪� ..‬ش�أفعل»‪.‬‬ ‫«ب�رك اللـه فيك ي� بني ووفقك للخري»‪ .‬ق�ل‬ ‫هذا اأبو الوف� ِء واجته �شوب الب�ب ليخرج وتبعه‬ ‫الثالثة �ش�متني‪.‬‬

‫�لف�سل �لر�بع‬

‫خرجت �ش َالّمة ب�شويه�ته� اإىل املرعى بعد‬ ‫اأن �ش َلّت ال�شبح وحلبت اللنب ملولته� العجوز‪،‬‬ ‫وك�ن ذلك قبل �رشوق ال�شم�س‪ ،‬وك�نت غداة‬ ‫ب�ردة من غدوات ال�شت� ِء حتمل ال�ش�ئر على‬ ‫الن�ش�ط واحلركة‪ ،‬وتبعث يف النفو�س البهجة‬ ‫وال�شت�ء مبكة ك�لربيع يف غريه� من‬ ‫والن�رشاح‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫البلدان املعتدلة‪ ،‬ولذلك ك�ن َ�رش َوا ُة اأهل احلج�ز‬ ‫ي�شتون مبكة وي�شيفون ب�لط�ئف‪ ،‬وك�ن هذا‬ ‫عنوان ال�رشاوة والرتف عندهم‪.‬‬ ‫ك�نت �ش َالّمة ج�رية من مولدات املدينة‪،‬‬ ‫ابت�عه� اأبو الوف� ِء �شغرية مل تتج�وز الث�منة‬

‫لت�ش�عد زوجه اأم الوف� ِء يف القي�م ب�شوؤون بيته�‪،‬‬ ‫فرتعرعت اجل�رية يف كنف هذا البيت ال�ش�لح‪،‬‬ ‫واأح َّبته� ا ُّأم الوف� ِء ف�أح�شنت تربيته�‪ ،‬وعلّمته�‬ ‫الرب به�‬ ‫ُ�ش َوراً من القراآن‪ ،‬ومل ت�أل جهداً يف ِ ِّ‬ ‫والعطف عليه�‪ ،‬وم� زاده� حب ً� يف اجل�رية‬ ‫يئ�شت‬ ‫ي�شل َُموا له�‪ ،‬وقد‬ ‫ْ‬ ‫وتع ُلّق ً� به� اأن اأولده� مل ْ‬ ‫رب زوجه� فك�نت تعترب‬ ‫من الولد حني كَ ِرب ْت وكَ ِ َ‬ ‫�ش َالّمة ك�بنته�‪ ،‬ومل ت�شن عليه� ب�لتدليل كم�‬ ‫تفعل الأم مع ابنته�‪ ،‬فن�ش�أت �ش َالّمة لذلك متدللة‬ ‫ت�شعر اأن له� �شلط�ن ً� على مولته�‪ ،‬واأنه� اأ�شبه‬ ‫ب�بنة البيت منه� بج�ريته‪.‬‬ ‫وك�ن اأبو الوف� ِء يحنو عليه� اأي�ش ً� ويرفق‬ ‫به�‪ ،‬وك�نت حترتمه وجت ُلّه‪ ،‬اإل اأنه� مل تكن‬ ‫تتط َلّقُ له َتطَ ُّلقَه� لأم الوف�ءِ‪ ،‬وذلك مل� يك�شو‬ ‫طلعته من امله�بة والوف�ر ولقلّة ع�رشته� له‪ ،‬اإذ‬ ‫ك�ن يق�شي ُج َّل نه�ره يف امل�شجد‪ ،‬فك�نت ل تراه‬ ‫اإل ن�دراً يف وقت الظهرية حني يرجع للغداء‪ ،‬اأو‬ ‫يف طرف الليل حني ي�أوي للمبيت‪.‬‬ ‫وك�نت �شالّمة من �شغره� �شبيحة الوجه‪،‬‬ ‫ف�شيحة الل�ش�ن‪ ،‬حلوة احلديث‪ ،‬متوقدة الذهن‪،‬‬ ‫لعوب ً� متيل اإىل الدع�بة والنكة‪ .‬وك�نت جميلة‬ ‫ال�شوت يف �شوته� رخ�مة وحن�ن‪ .‬ولو ن�ش�أت‬ ‫يف بيت اآخر غري هذا البيت ال�ش�لح بني اأم‬ ‫الوف� ِء واأبي الوف� ِء مل� بقيت – وقد ج�وزت‬ ‫الرابعة ع�رشة من �شنه� – تخدم املنزل وترعى‬ ‫الغنم‪ .‬ك�نت على حبه� ملولته� وموله� ت�شعر‬ ‫يف قرارة نف�شه� �شعوراً مبهم ً� ب�أنه� مل تخلق‬ ‫لهذا البيت‪ ،‬واأنه� خلقت ل�شيء اآخر ل تعرفه‬ ‫مت�م املعرفة‪ ،‬ولكنه� حتِ ُّ�س به اإح�ش��ش ً� عميق�ً‪.‬‬ ‫ك�نت متيل اإىل الغن� ِء فال تك�د ت�شمع حلن ً� حتى‬ ‫حتفظه‪ ،‬اإل اأنه� ك�نت قلي ًال م� جتد ال�شبيل اإىل‬ ‫احلي الذي ي�شكن فيه اأبو‬ ‫�شم�ع الغن�ء يف ذلك ِّ‬ ‫الوف� ِء األلهم اإل م� ت�شمعه من الأحل�ن الدارجة‬ ‫تتغنى به� اجلواري والغلم�ن يف �شوارع مكة‪ ،‬اأو‬ ‫تلك التي ترتمن به� الراعي�ت والرع�ة يف مواقع‬ ‫الكالإ خ�رجه� حني ك�نت تخرج اإليه� بغنم‬ ‫مواليه�‪.‬‬ ‫�رشا ِة‪ 8‬اأهل مكة ا�شرتى –‬ ‫ِّ‬ ‫ولكن َ�رش ًّي� من َ َ‬ ‫لع�م م�شى ذلك احلني – حديقة كبرية بجوار‬ ‫بيت اأبي الوف� ِء يف طرف من مكة‪ ،‬وابتنى به�‬ ‫داراً فخمة �ش�مقة البن�ءِ‪ ،‬وعنى ب�حلديقة حتى‬ ‫جعله� بهجة للن�ظرين‪ ،‬فتغري ذلك احلي ال�ش�كن‬ ‫ال�رشي و�ش�عت فيه‬ ‫املتوا�شع منذ نزل به هذا‬ ‫ُّ‬ ‫احلركة والبهجة‪ ،‬واكت�شى ثوب ً� من العظمة‬ ‫والبذخ‪ .‬وك�ن ابن �شهيل قد ورث م� ًل كثرياً عن‬ ‫اأبيه ون�ش�أ ن�ش�أة النعمة والي�ش�ر‪ .‬وك�ن حمب ً�‬ ‫للغن� ِء واللـهو مولع ً� مبن�دمة ال�شعرا ِء واملغنني‬

‫ي�شتقدمهم من الآف�ق ويغدق عليهم الأموال‪.‬‬ ‫فقلم� ا�شتهر �ش�عر يف ذلك الع�رش اأو نبه �شيت‬ ‫مغن اأو مغنية اإل ك�نت لبن �شهيل �شلة به‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫وك�ن حللول هذا ال�رشي املنخرق الكف‬ ‫املولع ب�لغن�ء وال�شعر يف هذا احلي من اأحي� ِء‬ ‫مكة اأثره الكبري يف حي�ة �شالّمة‪ .‬وك�أمن� ك�ن‬ ‫ذلك تدبرياً مق�شوداً من الق�ش�ء ليطلع يف‬ ‫امل�شتقبل من تلك اجل�رية املجهولة يف بيت اأبي‬ ‫الوف� ِء �شم�ش ً� �ش�طعة يف الغن�ءِ‪ ،‬ت�رشق اأنواره�‬ ‫على اأو�ش�ط النعمة يف احلج�ز وق�شور اخلالفة‬ ‫يف ال�ش�م‪.‬‬ ‫قدمت جميلة كبرية مغني�ت املدينة قدمته�‬ ‫تلك اإىل مكة فنزلت عند ابن �شهيل يف هذه الدار‬ ‫اجلديدة‪ ،‬ولقيت عنده م� يليق مبق�مه� و�شهرته�‬ ‫من احلف�وة والإكرام‪ ،‬واأحيت به� لي�يل للغن�ء‬ ‫حمبي‬ ‫�شطع فيه� فنه� الرفيع و�شهده� كثري من ّ‬ ‫الغن� ِء مبكة وذاع بع�س اأحل�نه� حتى تغ َّنى به‬ ‫الن��س يف ال�شوارع‪ .‬واأحدث مقدمه� �شجة كبرية‬ ‫الفقه�ء ورج�ل ال�شالح والتقوى من اأن‬ ‫واأ�شفق‬ ‫ُ‬ ‫يفتنت به� الن��س‪ ،‬ول�شيم� الفتي�ن والفتي�ت‪،‬‬ ‫ف�شعوا يف اإخراجه� من مكة‪ ،‬وك�ن من اآث�ر ذلك‬ ‫م� ق�م به اأبو الوف� ِء لدى ابن اأبي عم�ر لي�شكو‬ ‫اأمره� اإىل وايل البلد‪.‬‬ ‫ك�نت تلك اللي�يل الق�ش�ر التي اأحيته�‬ ‫جميلة يف دار ابن �شهيل نعمة كبرية على �شالّمة‬ ‫اإذ ا�شتط�عت – وهي م�شتلقية على فرا�شه� – اأن‬ ‫ت�شتمتع ب�شم�ع اأحل�نه� التي ك�نت ترتجع يف‬ ‫�شكون الليل وك�أنه� نغم�ت احلور يف ق�شور‬ ‫اجلن�ن‪.‬‬ ‫مل تنم �شالّمة ليلته� تلك اإل قلي ًال بعد‬ ‫منت�شف الليل‪ .‬وك�نت حتلم بتلك الأغ�ين حتى‬ ‫يف نومه�‪ .‬ومل تكد مولته� توقظه� كع�دته�‬ ‫مطلع الفجر حتى ترمنت ببع�شه� خ�شية اأن‬ ‫تن�شى م� حفظت منه�‪ ،‬ولكن اأم الوف� ِء مل تدع‬ ‫له� ذلك فوجدت �شالّمة يف خروجه� لرعي الغنم‬ ‫ذلك اليوم فر�شة كبرية لتتغنى يف ذلك املرعى‬ ‫ت�ش�ء‪ ،‬دومن� رقيب‪.‬‬ ‫الف�شيح كم� ُ‬ ‫ك�ن هذا املرعى الف�شيح قليل الع�شب اإذ‬ ‫ذاك‪ ،‬فك�ن الرع�ة يتنقلون لذلك من مو�شع اإىل‬ ‫مو�شع‪ ،‬وظهرت �شالّمة يف ن�حية منه وهي‬ ‫ت�شوق غنمه� وتغني‪:‬‬ ‫أن َزتْنا َما تَعِ ْد‬ ‫ليت هِ ْن َد�ً � ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ت ْد‬ ‫َو َ�سف َْت �أَ ْنف َُ�سنَا َ ِّ‬ ‫ما َ ِ‬ ‫�ح ِد ًة‬ ‫و��س َت َب َ ّدت َم َ ّر ًة َو َ‬ ‫ْ‬ ‫اج ُز َم ْن ال َي ْ�ستَب ْد‬ ‫� َ ّإنا �ل َْع ِ‬ ‫وراءه� على بعد منه� غالم‬ ‫وك�ن ي�شري‬ ‫َ‬ ‫يرعى قطيع ً� من الغنم �شمع �شوت �شالّمة‬

‫‪7‬‬

‫ف�أخذ يتن�شت له من حيث ل تراه‪ .‬وق�ل لنف�شه‪:‬‬ ‫«عجب ً� هذا �شوت جميلة! ترى من هذه الراعية‬ ‫التي جتيد هذا ال�شوت هذه الإج�دة حتى اأك�د‬ ‫اأح�شبه� جميلة نف�شه�؟»‪.‬‬ ‫وا�شتمرت �شالّمة يف غن�ئه�‪:‬‬ ‫ار�ت ًلها‬ ‫قالت ِ َ‬ ‫جل ٍ‬ ‫َولق ْد ْ‬ ‫ي�م َوت َ​َع َ ّر ْت َت ْب َت ْد‪:‬‬ ‫ذ�تً ٍ‬ ‫�ص َننِي‬ ‫�أكَ َما َين َْع ُتنِي َت ْب ُ ْ‬ ‫ركن �للـه � ْأم ال َي ْقت َِ�س ْد؟‬ ‫َع ْم َ ّ‬ ‫احك َْن َو َق ْد ُقل َْن لَها‪:‬‬ ‫َفت َ​َ�س َ‬ ‫ي َم ْن َت َ� ْد‬ ‫ع‬ ‫كل‬ ‫يف‬ ‫ن‬ ‫�س‬ ‫ح‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫َِْ‬ ‫َ ٌ ِ‬ ‫َح َ�سد�ً ُح ِ ّم ْلنَه مِ ْن �أَ ْجلِها‬ ‫�ل َ�س ْد‬ ‫ّا�س ْ َ‬ ‫ان ِيف �ل َن ِ‬ ‫َو َقد ِْمي ًا كَ َ‬ ‫واقرتب الغالم من مو�شع �شالّمة وهو يك�د‬ ‫يطري من الطرب‪ ،‬فلم ير قبله� راعية تتغ ّنى‬ ‫مبثل هذا الغن� ِء الرفيع‪ ،‬وعلى هذا النحو من‬ ‫الإج�دة‪ ،‬وق�ل يف نف�شه‪« :‬ي� اللـه! اإن يف �شوت‬ ‫هذه اجل�رية ل ُغ ّنة‪ 9‬عذبة ل توجد حتى يف �شوت‬ ‫جميلة»‪.‬‬ ‫وك�نت �شالّمة �ش�ئرة على مهل‪ ،‬وقد‬ ‫ا�شتغرقت يف غن�ئه� فلم تنتبه للغالم الراعي‬ ‫وراءه� على مقربة منه�‪ .‬وك�نت‬ ‫الذي ك�ن ي�شري َ‬ ‫كلم� تذكرت بيت ً� من الق�شيدة طربت له‪ ،‬ورددته‬ ‫على مث�ل اللحن الذي �شمعته عليه‪ ،‬حتى اإذا‬ ‫غنت قوله‪:‬‬ ‫« ُقل ُْت َي� هِ ْن ُد َم َتى مِ ْي َع� ُدن�»‬ ‫مل يتم�لك حكيم اأن غ َّنى مكمالً‪�« :‬شحكت‬ ‫هند وق�لت بعد غد»‪.‬‬ ‫ريعت �شالّمة لهذا ال�شوت املف�جئ‪،‬‬ ‫والتفتت وراءه� فراأت الغالم فعجبت كيف يجيد‬ ‫راع مثله‪ ،‬على اأنه� �رشع�ن م� �شعرت‬ ‫هذا اللحن ٍ‬ ‫ب�أن�س اإليه‪ ،‬فم� اأن ابت�شم له� حتى ابت�شمت له‬ ‫ك�أمن� قد تع�رف� من قبل‪.‬‬ ‫غن�ء‬ ‫ق�ل حكيم‪« :‬للـه �شوتك ي� ج�رية‪ ..‬هذا ُ‬ ‫جميلة‪ ،‬من اأين اأخذته؟»‪.‬‬ ‫فق�لت‪« :‬واأنت ك�أين بك تعرف هذا اللحن»‪.‬‬ ‫ق�ل له�‪« :‬اأجل اإين اأعرف كثرياً من اأ�شوات‬ ‫جميلة»‪.‬‬ ‫وم� ك�د الغالم يقول له� هذا حتى ته َلّل‬ ‫وجهه� �رشوراً ك�أنه� عرثت على كنز ثمني‬ ‫أحق م� تقول؟ األ ت�شمعني منه� �شيئ�ً»‪.‬‬ ‫وق�لت‪« :‬ا ٌّ‬ ‫فق�ل له� اإنه �شيفعل ذلك‪ ،‬ولكنه يريد اأو ًل اأن‬ ‫يعرف َمن هي وم� ا�شمه�؟‬ ‫ف�أخربته اأنه� ج�رية ال�شيخ اأبي الوف�ءِ‪ ،‬واأن‬ ‫ا�شمه� �شالّمة فق�ل له� اإن ا�شمه حكيم‪ ،‬واأخذ‬ ‫يحدثه� عن نف�شه‪ ،‬وك�ن م� ق�ل له� اإن مواليه‬ ‫ك�نوا من اأهل املدينة ف�نتقلوا اإىل مكة ب�شعة‬

‫عدد ‪144‬‬

‫‪ 6‬ت�رشين ‪2010 1‬‬


8


‫اأ�شهر‪ ،‬واأنه ن�ش�أ ب�لعقيق‪ ،‬فك�ن ي�شهد جم�ل�س‬ ‫الغن� ِء فيه‪.‬‬ ‫طربت �شالّمة ل�شم�ع حديث حكيم وقوي‬ ‫اعتق�ده� ب�شحة م� ا َّدع�ه من معرفة كثري من‬ ‫اأ�شوات جميلة‪ ،‬فزاد ميله� اإليه‪ ،‬واإقب�له� عليه‪،‬‬ ‫وق�لت له‪« :‬اأ�شمعني ي� حكيم �شيئ ً� من اأحل�ن‬ ‫جميلة»‪.‬‬ ‫«اإين لف�عل ولكن خربيني اأو ًل اأترعني‬ ‫�شويه�تك هن� كل يوم؟»‪.‬‬ ‫«نعم ي� حكيم»‪.‬‬ ‫كل يوم»‪.‬‬ ‫«واأن� اأي�ش ً� �ش�أرعى غنمي هن� َّ‬ ‫وبرمت �شالّمة بهذه املط�ولة من حكيم‬ ‫فق�لت يف �شيء من احلدة‪« :‬ب�للـه م� لن� ولهذا‪،‬‬ ‫اأ�شمعني من اأ�شوات جميلة اأقول لك»‪.‬‬ ‫راأى حكيم برمه� ف�آثر اأن ير�شيه� وق�ل‬ ‫له�‪�« :‬ش�أ�شمعك حلن ً� �شنعته جميلة يف �شعر‬ ‫‪10‬‬ ‫فهلمي بن� نقعد‬ ‫عبيد اللـه بن قي�س الرقي�ت ‪ّ ،‬‬ ‫على ذلك التل ونر�شل غنمن� يف اأ�شفله»‪ .‬واأ�ش�ر‬ ‫اإىل ت ّل �شغري اإىل ي�ش�رهم� على اأ�شفله قليل من‬ ‫الع�شب‪ ،‬فوافقته �شالّمة على م� اقرتح وم�شي�‬ ‫يه�ش�ن غنمهم�‪ ،‬واأ�شعدا يف التل حتى قعدا على‬ ‫منت�شف ال�شفح‪ ،‬وانت�رش الغنم يرعى يف اأ�شفله‬ ‫واختلط بع�شه ببع�س‪.‬‬ ‫بداأ حكيم يغمغم ب�لغن�ء وم� زال �شوته‬ ‫رن �شداه يف ذلك‬ ‫يرتفع �شيئ ً� ف�شيئ� حتى ّ‬ ‫اخلالء‪:‬‬ ‫من ل� م َرّ بر ُد َبنَا ِن ِه‬ ‫« ِب َن ْف�سِ ْي ْ‬ ‫على كَ ِبد ِْي كَ ان َْت َ�سفَا ًء �أَنَامِ ُل ُه‬ ‫كل َ�سيءٍ َو َه ْب ُت ُه‬ ‫َو َم ْن َها َبنِي ِيف ِ ّ‬ ‫‪11‬‬ ‫َ‬ ‫فَال ُه َ� ُم ْعطِ ْينِي َوال �أنَا َ�سا ِئ ُل ُه»‬ ‫فطربت �شالّمة طرب ً� �شديداً وم� منعه� اأن‬ ‫تقوم فرتق�س اإل اجته�ده� يف حم�ولة حفظ‬ ‫اللحن‪ ،‬وق�لت‪« :‬اأح�شنت ي� حكيم‪ ..‬بربك اإل م�‬ ‫علي»‪.‬‬ ‫اأعدته ّ‬ ‫ف�أع�د عليه� اللحن مرة بعد مرة حتى ق�لت‬ ‫ا�ش َمعني �ش�أعيد اللحن‬ ‫له‪« :‬ح�شبك ي� حكيم‪ْ ..‬‬ ‫علي اخلط�أ اإن اأخط�أت»‪.‬‬ ‫عليك ف�أردد َّ‬ ‫ق�ل له�‪« :‬افعلي ونعيم عني»‪.‬‬ ‫مر بر ُد َب َن� ِن ِه‬ ‫فغ ّنت �شالّمة‪ِ « :‬ب َنفْ�شِ ْي ْ‬ ‫من لو َّ‬ ‫َ�ء اأَنَ�مِ ُل ُه »‪.‬‬ ‫على كَ ِبد ِْي كَ � َن ْت �شَ ف ً‬ ‫ثم وقفت عن الغن�ء وق�لت‪« :‬تب� يل! مل‬ ‫اأح�شن اللحن»‪.‬‬ ‫ف�أع�د حكيم ال�شطر الث�ين وطفق يكرره وهي‬ ‫تكرره معه حتى ق�ل له�‪« :‬ه� اأنت ذي اأجدته‬ ‫الآن»‪ .‬فك�ن جذله� عظيم�ً‪.‬‬ ‫ونه�ش� فنزل من ال�شفح يتفقدان غنمهم�‬ ‫ويعيدان م� ن َّد منه وابتعد عن تلك البقعة‪ ،‬ثم ع�دا‬

‫ق�ئالً‪:‬‬ ‫«قبلة ي� �شالّمة‪ ..‬اأو قبلتني»‪.‬‬ ‫قطبت وجهه�‪« :‬ويل لك‪ ..‬بئ�س م�‬ ‫ق�لت وقد َّ‬ ‫ربتك ا ّأمك ي� حكيم!»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ف�أج�به� مبت�شم�ً‪« :‬اأجل بئ�س م� ر َّب ْتني اأمي‪..‬‬ ‫ك�نت – يرحمه� اللـه – كثرياً م� تقبلني!»‪.‬‬ ‫ف�أغرقت �ش َالّمة يف ال�شحك ثم ك َّفت عنه‬ ‫فج�أة وق�لت‪« :‬دعن� من هذا‪ ..‬األ تعلّمني ي�‬ ‫حكيم؟»‪.‬‬ ‫ق�ل له�‪« :‬ومتنحيني القبلة ي� �شالّمة؟»‪.‬‬ ‫ف�شكتت‪ ..‬ثم نظرت اإليه �ش�حكة وق�لت‪:‬‬ ‫«اأمنحك اإي�ه�»‪.‬‬ ‫ف�قرتب منه� حكيم ق�ئالً‪« :‬ه�تي فواللـه اإن‬ ‫املك�ن خل�ل»‪.‬‬ ‫ف�رت ّدت �شالّمة قلي ًال اإىل الورا ِء ق�ئلة‪« :‬ل‪..‬‬ ‫لي�س الآن‪ ..‬حتى تع ِل َّمني»‪.‬‬ ‫ق�ل حكيم وقد ع�د اإىل مك�نه الأول‪« :‬ح�شن ً�‬ ‫�ش�أع ِلّمك كل يوم حلن ً� اأو حلنني على اأن تعطيني‬ ‫قبلة على كل حلن»‪.‬‬ ‫ف�أج�بته �ش�حكة‪« :‬قبلت �رشطك ي� م�كر»‪.‬‬ ‫ف�بت�شم حكيم ابت�ش�مة الظ�فر وق�ل‪« :‬اإذن‬ ‫فه�تي القبلة التي ا�شتحققته� عندك ب�للحن‬ ‫الذي علّمتك اإي�ه الآن»‪.‬‬ ‫ولكن �شالّمة مل تعدم الرد املقنع اإذ ق�لت‪:‬‬ ‫«اإنك ع َلّمتنيه قبل اأن نربم بينن� هذا التف�ق‪،‬‬ ‫فلي�س لك اأن تط�لبني ب�شيء بعد»‪.‬‬ ‫ق�ل له� وقد �شعر ب�أنه املغلوب‪« :‬ويل لك م�‬ ‫اأذك�ك! غداً اأ�شتحق لديك قب ًال كثرية!»‪ .‬ف�بت�شمت‬ ‫واأج�بته ق�ئلة‪« :‬غداً ي�أتي اللـه ب�لفرج!»‪.‬‬

‫ي�شتبق�ن اإىل مك�نهم� يف ال�شفح ف�رمتت �شالّمة‬ ‫على مقعده�‪ ،‬وارمتى حكيم قريب ً� منه�‪ ،‬واأر�شال‬ ‫تن ُّهداً طوي ًال من تعب اجلري تخ�لطه �شحك�ت‬ ‫الرباءة من ج�نب �شالّمة – وب�شم�ت‬ ‫بريئة كل‬ ‫َ‬ ‫من قبل حكيم ل تخلو من مع�ين الغزل‪.‬‬ ‫وم� ك�د َنف َُ�س �شالّمة يهداأ حتى طفقت‬ ‫تعيد اللحن وقد ارتفعت عنه� حم�ولة التقليد‪،‬‬ ‫واأر�شلت نف�شه� على �شجيته�‪ ،‬وم َّدت من �شوته�‬ ‫�ش�ءت اأن متد‪ ،‬ورجعت فيه� م� ط�ب له�‬ ‫م� َ‬ ‫الرتجيع‪ ،‬فطرب حكيم طرب ً� �شديداً‪ ،‬ومل ي�شدق‬ ‫اأنه ي�شمع اللحن الذي لقنه� اإي�ه منذ �ش�عة‪ ،‬ونظر‬ ‫اإىل ال�شي�ه ال�ش�ئمة يف اأ�شفل التل فخ ِّيل له اأنه�‬ ‫قد ك َّفت عن الرعي وا�رشاأبت ب�أعن�قه� اإىل م�شدر‬ ‫ذلك اللحن العلوي البديع‪ ،‬فم� لبث اأن �ش�ح يف‬ ‫ده�س‪« :‬ويل لك م� هذا؟!»‪.‬‬ ‫وانتبهت �شالّمة لختالف حلنه� عن الأ�شل‬ ‫فق�لت‪« :‬ت ًّب� يل! عدت اإىل خطئي»‪.‬‬ ‫ق�ل له�‪« :‬كال واللـه م� هذا بخط�أ‪ ..‬لقد زدت‬ ‫اللحن بهذا عذوبة لي�س يف الأ�شل‪ ..‬واللـه لقد‬ ‫خلقت للغن� ِء ي� �شالّمة‪ ،‬وليكونن لك فيه �ش�أن‬ ‫– واإمن� اأنت يف ح�جة اإىل معلم ت�أخذين الغن�ء‬ ‫عنه»‪.‬‬ ‫نزلت هذه الكلم�ت ك�لطل الب�رد على قلب‬ ‫�شالّمة‪ ،‬لأنه� عربت تعبرياً وا�شح ً� عم� لديه�‬ ‫من املوهبة الغن�ئية التي ك�نت حت�س به�‬ ‫اإح�ش��ش ً� مبهم�ً‪ ،‬فلم يبق لديه� �شك حينئذ يف‬ ‫اأنه� �شت�شري مغنية عظيمة اإذا وجدت من ي�أخذ‬ ‫بيده� يف هذا ال�شبيل‪ ،‬ونظرت اإىل حكيم نظرة‬ ‫ملوؤه� ال�شكر وق�لت‪« :‬لكن من يل بذاك املعلم ي�‬ ‫حكيم؟»‪.‬‬ ‫اأطرق حكيم حلظة ثم ق�ل له� يف �شيء من‬ ‫الرتدد‪« :‬قلت لك اإنني اأعرف �شيئ ً� من اأحل�ن‬ ‫جميلة‪ ،‬واأزيدك اأنني اأعرف جملة من اأحل�ن‬ ‫غريه�‪ .‬فهل لك اأن ت�أخذيه� عني؟»‪.‬‬ ‫فلم ترت َّدد �شالّمة اأن ق�لت‪« :‬اأفعل ي� حكيم‪،‬‬ ‫ولك امل ّنة والف�شل»‪.‬‬ ‫رفع حكيم ب�رشه اإليه� ق�ئالً‪« :‬م� جزائي‬ ‫عندك اإن علّمتك اإي�ه� ي� �شالّمة؟»‪.‬‬ ‫ف�شحكت �شالّمة واأج�بته ق�ئلة‪« :‬جزاوؤك‪..‬‬ ‫ل اأدري‪ .‬اإين ل اأملك �شيئ ً� ي� حكيم»‪ .‬فق�ل له�‪:‬‬ ‫«بل متلكني كل �شيء ي� �شالّمة»‪.‬‬ ‫وفطنت �شالّمة لبع�س م� يريد وق�لت‬ ‫متج�هلة‪« :‬واللـه رب هذا البيت ل اأملك �شيئ�ً»‪.‬‬ ‫ق�ل له�‪« :‬ل تقويل هذا وعندك هذا الفم‬ ‫الأرجواين والثن�ي� اللوؤلوؤية!»‪.‬‬ ‫ف��شطبغ خده� بحمرة اخلجل وق�لت يف‬ ‫«تب ً� لك‪ ..‬اأتريد»‪ ..‬فب�دره� حكيم‬ ‫لهجة الع�تب‪ّ :‬‬

‫�لف�سل �خلام�س‬

‫مرت الأي�م ترتى على حكيم و�شالّمة وهم�‬ ‫ّ‬ ‫يلتقي�ن كل يوم يف املرعى‪ ،‬فت�أخذ عنه حلن ً�‬ ‫من الأحل�ن التي ك�ن يعرفه�‪ ،‬حتى ا�شتنفدت‬ ‫م� عنده منه�‪ ،‬وظ ّال بعد ذلك يتط�رح�ن الأغ�ين‬ ‫ال�ش�لفة ويعيدانه� حتى اإذا ا�شتقلت ال�شم�س يف‬ ‫كبد ال�شم�ءِ‪ ،‬رجعت �شالّمة اإىل البيت فق�مت مب�‬ ‫عليه� من �شوؤونه‪.‬‬ ‫وك�نت يف خالل ذلك كثرياً م� تت�أخر عن‬ ‫موعد جميئه� اإىل البيت فتع�تبه� مولته�‪،‬‬ ‫فتتن�شل من َتب َعته� بعذر من الأعذار تختلقه‬ ‫َّ‬ ‫اختالق�ً؛ وك�نت اأم الوف� ِء تت�ش�مح معه� يف ذلك‬ ‫ل�شدة حبه� له� وتع ُلّقه� به�‪.‬‬ ‫وزاد ولوع �شالّمة ب�لغن� ِء حتى ك�نت ل‬ ‫تكف عنه وهي تطبخ الطع�م اأو تكن�س‬ ‫تك�د ُّ‬ ‫املنزل‪ ،‬وط�مل� ن�شحته� اأم الوف� ِء ب�لكف عن‬ ‫ذلك‪ ،‬و�شددت عليه� فيه فلم تكن لتنت�شح‪.‬‬

‫‪9‬‬

‫وف�ج�أه� اأبو الوف� ِء غري مرة وهي تغني‪،‬‬ ‫فزجره� اأ�شد الزجر‪ ،‬وتوعده� ب�ل�رشب‪ ،‬فك�نت‬ ‫تكف عن الغن�ء يوم ً� اأو يومني‪ ،‬ولكنه� ل تلبث‬ ‫ّ‬ ‫جراء ذلك اأنه قلم� ك�ن‬ ‫اأن تعود اإليه‪ .‬وك�ن من ّ‬ ‫مي�شي يوم ل ي�شتد فيه ال َّتالحي بني اأبي الوف� ِء‬ ‫واأم الوف�ءِ‪ ،‬اإذ ك�ن يتهمه� ب�لهوادة والت�ش�مح‬ ‫مع اجل�رية‪ ،‬واأنه� لو ق�شت عليه� واأخذت بج�نب‬ ‫احلزم يف ت�أديبه� لك َّفت عن هذا الب�طل‪.‬‬ ‫واحلق اأن اأم الوف� ِء ك�نت تدافع عنه� يف‬ ‫اأول الأمر وتنتحل له� الأعذار‪ ،‬و ِت ِع ُد زوجه� ب�أن‬ ‫�شتكف عن ب�طله�‪ ،‬حتى �ش�قت نف�شه�‬ ‫�شالّمة‬ ‫ُّ‬ ‫اآخر الأمر حني راأت ل ف�ئدة من ن�شح �شالّمة‪،‬‬ ‫ف�أعلمت زوجه� ب�أنه� عجزت عن ت�أديبه�‬ ‫احلق يف اأن يت�رشف يف اأمره�‬ ‫واأنه� ترتك له َّ‬ ‫ي�ش�ء‪ ،‬ف�ش�وره� اأبو الوف�ء يف اأمر بيعه�‬ ‫كم�‬ ‫ُ‬ ‫للتخل�س منه�‪ ،‬وك�ن ذلك �شديداً على اأم الوف� ِء‬ ‫حلبه� ل�شالّمة‪ ،‬ولكنه� مل جتد عذراً تعرت�س به‬ ‫على هذا الراأي فر�شيت به على كره‪.‬‬ ‫رجعت �شالّمة من املرعى ذات يوم وبيده�‬ ‫أف�شت‬ ‫ع�ش� ت�شوق به� غنمه�‪ ،‬ودخلت البيت ف� َ‬ ‫اإىل �شحن متو�شط يقع على ميينه مطبخ فيه‬ ‫يف من احلج�رة‪ ،‬و ُت َرى معلقة على احل�ئط‬ ‫اأث� ّ‬ ‫‪12‬‬ ‫بع�س القدور النح��شية واجلف�ن اخل�شبية‬ ‫ُ‬ ‫وغريه� من الأواين‪ .‬ويف اجل�نب الآخر من‬ ‫املطبخ تقع رحى املنزل التي تطحن فيه�‬ ‫احلبوب‪ ،‬وعلى ي�ش�ر ال�شحن مرب�س ت�أوي اإليه‬ ‫الغنم له ب�ب �شغري‪.‬‬ ‫الغن�ء وهي تدخل الغنم يف‬ ‫ذكرت �شالّمة‬ ‫َ‬ ‫املرب�س ف�أن�ش�أت تقول لنف�شه�‪« :‬ويلي اأظنني‬ ‫ن�شيت حلن اليوم»‪ .‬ثم طفقت تزمزم ب�لغن�ءِ‪:‬‬ ‫قي ب َِع ْي�سِ ُك ْم ال َت ْه ُج ِر ْينا‬ ‫ُر ِ ّ‬ ‫َوم ِنّينا ْ ُ‬ ‫�لنَى ُث َ ّم ْ�مطُ ِل ْينا‬

‫‪13‬‬

‫ونزلت اإليه� حينئذ اأم الوف�ء من الط�بق‬ ‫الأعلى‪ ،‬فلم� وقع ب�رشه� عليه� ق�لت له�‪:‬‬ ‫«اأ�شبحت تت�أخرين كل يوم ي� �شالّمة»‪.‬‬ ‫ف�أج�بته� �شالّمة ق�ئلة‪« :‬ذلك لأين اأذهب اإىل‬ ‫املرعى البعيد»‪.‬‬ ‫ق�لت له� العجوز‪َ ِ :‬‬ ‫«مل ل تخت�رين املراعي‬ ‫القريبة؟»‪.‬‬ ‫«لأن املراعي القريبة مل َيع ْد فيه� كالأٌ»‪.‬‬ ‫«هي� اأدخلي الغنم واأ�رشعي بطبخ الغداءِ»‪.‬‬ ‫رش َي عن �شالّمة اإذ وقف عت�ب العجوز عند‬ ‫ف� ِّ‬ ‫رق قلب‬ ‫هذا وق�لت‪�« :‬شمع ً� ي� مولتي»‪ .‬وك�أمن� َّ‬ ‫العجوز له� اإذ �شمعت هذا اجلواب الن�عم فق�لت‪:‬‬ ‫«هداك اللـه ي� بنية‪ .‬اأوقدي الن�ر و�ش�آتيك بقطعة‬ ‫اللحم‪ .‬اإن اأب� الوف� ِء ا�شرتى لن� حلم ً� هذا اليوم»‪.‬‬

‫عدد ‪144‬‬

‫‪ 6‬ت�رشين ‪2010 1‬‬


‫«ولي�س عندن� �شيف ي� مولتي؟»‪.‬‬ ‫«ل لي�س عندن� �شيف»‪.‬‬ ‫وفري يل ن�شيبي من اللحم ف�إين مل‬ ‫«اإذن ِّ‬ ‫اأذقه يف املرة ال�ش�بقة»‪.‬‬ ‫ف�شحكت العجوز وق�لت‪« :‬ول اأن� ي� �شالّمة‪..‬‬ ‫اإن ال�شيف مل يرتك لن� �شيئ�ً»‪ .‬ق�لت ذلك وخرجت‬ ‫من ب�ب ال�شحن لت�شعد اإىل الط�بق الأعلى‪.‬‬ ‫وخرجت �شالّمة من املرب�س ح�ملة بيده�‬ ‫مركن ً�‪ 14‬فمالأته م�ء من زير كبري يف ال�شحن‪ ،‬ثم‬ ‫اأع�دته اإىل املرب�س لي�رشب منه الغنم واأو�شدت‬ ‫الب�ب عليه‪ .‬وذهبت نحو املطبخ ف�أخذت ت�شعل‬ ‫الن�ر بقدح الزن�د على رقيق �شعف النخل الي�ب�س‬ ‫وهي ترتمن‪:‬‬ ‫قي ب َِع ْي�سِ ُك ْم ال َت ْه ُج ِر ْينا‬ ‫ُر ِ ّ‬ ‫َوم ِنّينا ْ ُ‬ ‫�لنَى ُث َ ّم ْ�مطُ ِل ْينا‬ ‫عِ ِد ْينَا ِيف غَ ٍد َما ِ�سئ َْت �إ َنّا‬ ‫‪15‬‬ ‫نُحِ ُ ّب‪َ .‬و� ْإن َمطَ لْتِ � ْل َ��عِ ِد ْينَا!‬ ‫وك�نت العجوز قد ع�دت يف هذه اللحظة‬ ‫وبيده� ق َّفة اللحم فوقفت على ب�ب ال�شحن‬ ‫تن�شت للغن�ء معجب ًة به‪ ،‬ولكنه� كتمت اإعج�به�‬ ‫وظهرت يف �شورة الغ��شبة ودخلت وهي تقول‪:‬‬ ‫«جميل واللـه ي� �شالّمة! هذا غن�ء جديد اأتيت به‬ ‫ال�شقي الذي‬ ‫اليوم‪ .‬بو ّدي واللـه اأن اأعرف من هذا‬ ‫ُّ‬ ‫يعلّمك كل يوم حلن ً� جديداً»‪.‬‬ ‫فب�درته� �شالّمة ق�ئلةً‪« :‬ل اأحد‪ ..‬اإمن� �شمعته‬ ‫يف طريقي اإىل املرعى فحفظته»‪.‬‬ ‫ق�لت العجوز مغ�شبة‪« :‬اأم� تنتهني عن‬ ‫مزامري ال�شيط�ن هذه – اأمل يكفك م� ع�قبك‬ ‫عليه مولك؟»‪ .‬ف�أج�بته� �شالّمة ق�ئلة‪« :‬اإنني ل‬ ‫اأ�شتطيع اأن اأقوم بعملي �ش�متة ك�حل�ئط!»‪.‬‬ ‫ق�لت العجوز‪« :‬اأم� علم ُتك �شوراً من القراآن‬ ‫فلم ل تقرئينه� بد ًل من هذا الغن�ء الب�طل؟‪..‬‬ ‫رش‬ ‫تي�رش منه� حتى اإذا �شمعك مولك � َّ‬ ‫اقرئي م� َّ‬ ‫ج�ء مولك على غِ َّرة و�شمعك‬ ‫منك‪ ،‬فو اللـه لو َ‬ ‫نب‬ ‫تغنني بع ُد لي�رشبنك �رشب ً� �شديداً وليغ�ش َّ‬ ‫علي لأين ل اأكفك عن هذا اللغو»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫�شمتت �شالّمة هنيهة وهي ت�شع القدر‬ ‫على الن�ر وترمي فيه� اللحم ثم ق�لت‪« :‬خرياً‬ ‫ي� مولتي �ش�أقراأُ �شيئ ً� من القراآن – �ش�أقراأ‬ ‫وال�شحى»‪.‬‬ ‫رشت العجوز لقوله� وق�لت‪« :‬افعلي ب�رك‬ ‫ف� َّ‬ ‫اللـه فيك» وقعدت على دكة املطبخ تق�رش ثوم ً�‬ ‫بيده� ت�ش�عد بذلك �شالّمة‪.‬‬ ‫و�رشعت �شالّمة تقراأ وهي ترمي احلطب على‬ ‫الن�ر‪« :‬اأعو ُذ ب�للـه من ال�شيط�ن الرجيم‪ .‬ب�شم اللـه‬ ‫الرحمن الرحيم»‪ .‬و�رشع�ن م� ا�شتح�ل �شوته�‬ ‫«وال�ش َحى وا ْلل َْيلِ اإذَا‬ ‫ترجيع ً� وغن�ء وهي تتلو‪:‬‬ ‫ُّ‬

‫القراآن ك�أنه� تتغ َّنى ب�أبي�ت ال�شعر؟ هذه هي‬ ‫القراءة التي تع َلّمته� منك؟»‪.‬‬ ‫فوجئت العجوز بهذه اللـهجة الق��شية من‬ ‫أعرف اأن�‬ ‫زوجه� ف��شت�ش�ظت غ�شب ً� وق�لت‪« :‬ا َأو ا ُ‬ ‫رجلُ يف‬ ‫ترتوى ي� ُ‬ ‫ب�لغن�ء ف�أعلّمه� اإي�ه؟ اأم� َّ‬ ‫كالمك فتقول خرياً اأو ت�شمت؟»‪.‬‬ ‫و�شعر ال�شيخ ال�ش�لح اأن قد غلبت عليه احل َّدة‪،‬‬ ‫ألن من لهجته ق�ئالً‪« :‬وفيم مل تزجريه� عن‬ ‫ف� َ‬ ‫هذا العبث؟»‪.‬‬ ‫«وم�ذا ع�ش�ي اأن اأ�شنع؟ لقد نهيته� عن هذا‬ ‫مراراً فلم تنته‪ ،‬اإن �شيط�ن الغن�ء يتالعب براأ�شه�‬ ‫ولي�س يف و�شعي اأن اأطرد ال�شيط�ن»‪.‬‬ ‫«لكن يف ا�شتط�عي اأن اأطرد هذا ال�شيط�ن‬ ‫من راأ�شه� اأو اأرمي هذا الراأ�س خ�رج البيت»‪.‬‬ ‫ق�ل ال�شيخ هذا ونظر اإىل وجه اجل�رية ك�أنه‬ ‫�شفحة بي�ش�ء‪ ،‬وا�شطربت �شالّمة من اخلوف‬ ‫فت�ش�غلت ب�لطبخ‪ ،‬واقرتب منه� ق�ئالً‪« :‬ي� بنية‬ ‫ا ْإن اأبى لك �شيط�نك اإل ا ْأن ُتغ ِّني فغ ِّني بكالم‬ ‫الغ�وين من ال�شعراء‪ ..‬ولكن حذار اأن ت�شنعي ذلك‬ ‫بكالم رب الع�ملني‪ ،‬اأت�شمعني؟»‪.‬‬ ‫ف�أج�بته �شالّمة ب�شوت خ�ف�س‪« :‬نعم ي�‬ ‫مولي»‪ .‬وانفجرت ب�كية‪.‬‬ ‫وخرج اأبو الوف�ء ف�شعد‪ ،‬وبقيت اأم الوف�ء‬ ‫عند �شالّمة فلم� راأته� ت�شتخرط‪ 17‬يف البك�ء‬ ‫ِ�شت‬ ‫دمعت عين�ه�‪ ،‬وانحنت عليه� توا�شيه�‪ ،‬ف�أن ْ‬ ‫اإليه� اجل�رية وم�لت براأ�شه� على حجره�‪ ،‬وم�‬ ‫زالت العجوز به� ت�ش ِلّيه� ومت�شح على راأ�شه�‬ ‫�رشي عنه� فق�مت اإىل عمله�‪.‬‬ ‫وظهره� حتى ُ ِّ‬ ‫ولبثت العجوز تالطفه� وتداعبه� ق�ئلة‬ ‫له�‪« :‬ل تبتئ�شي ي� بنية‪ ،‬ل �شيف عندن� اليوم‪،‬‬ ‫ف�ش�أوفر لك ن�شيبك من اللحم»‪ .‬حتى �شحكت‬ ‫�شالّمة وم� تزال يف م�آقيه� اآث�ر الدمع‪.‬‬ ‫�شعدت اأم الوف�ء اإىل زوجه� بعد اأن اطم�أن‬ ‫قلبه� على ج�ريته�‪ ،‬فم� اأقبلت عليه حتى ق�ل‬ ‫له�‪« :‬لقد اأتعبتن� هذه اجل�رية‪ ،‬واللـه لأبيع َّنه�‬ ‫ولو بدرهم!»‪.‬‬ ‫فلم جتبه اأم الوف�ء ب�شيء ف��شتمر ق�ئالً‪« :‬لقد‬ ‫يل ابن �شهيل يرغب يف �رشائه� ويعطي‬ ‫بعث اإ ّ‬ ‫به� ثمن ً� كبرياً‪ ،‬ولول معرفتي اأنه اإمن� رغب يف‬ ‫ابتي�عه� ليتخذه� مغنية لبعته� له»‪.‬‬ ‫�شمتت اأم الوف�ء هنيهة ثم ق�لت‪« :‬وم�ذا‬ ‫عليك منه؟ اإن مل يكن لك ب ُّد من بيعه� فبعه� له‬ ‫ي�ش�ء»‪.‬‬ ‫ولي�شنع به� م� ُ‬ ‫فعلت اأن اأكون معين ً�‬ ‫فق�ل له�‪« :‬اأخ�شى اإن‬ ‫ُ‬ ‫على هذه املع�شية»‪.‬‬ ‫ق�لت‪« :‬ل يح��شب الإن�ش�ن اإ َّل على م� نوى‪.‬‬ ‫وم�ذا ع�ش�ك تفعل غري هذا؟ اإنه� ُخلقَت مغنية‬

‫ري‬ ‫َ�ش َج� • َم� َو َّد َعكَ َر ُبكَ َو َم� َقلَى • َو َلالآخِ َر ُة َخ ْ ٌ‬ ‫لَكَ مِ َن الأُ ْو َىل»‪..‬‬ ‫قلت لك مراراً‬ ‫فق�طعته� العجوز ق�ئلة‪« :‬قد ُ‬ ‫اأن ل تقراأي القراآن على هذه النغمة»‪ .‬فغ�شبت‬ ‫�شالّمة وق�لت‪« :‬كيف اأقروؤه اإذاً؟ واللـه لقد حِ ْر ُت‬ ‫يف اأمركم ل اأدري كيف اأر�شيكم!»‪.‬‬ ‫وك�أن اأم الوف�ء �شعرت اأن موقفه� من هذه‬ ‫اجل�رية ل يخلو من التعنت فق�لت له� يف رفق‪:‬‬ ‫«اقرئيه كم� اأقراأ ُتك اإي�ه ي� �شالّمة‪ ..‬اقرئي هكذا‪:‬‬ ‫وال�ش َحى والليل اإذَا َ�ش َج� • َم� و َّدعك ر ُّبكَ وم�‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ري لَكَ مِ َن الأ ْو َىل‪ ..‬اأفهمت؟»‬ ‫قلى • ولالآخِ ر ُة َخ ْ ٌ‬ ‫وتكلّفت �شالّمة اجلواب ق�ئلة‪« :‬نعم فهمت»‪.‬‬ ‫راأت اأم الوف� ِء اأن قد َبعل َْت‪ 16‬ب�أمر اجل�رية‬ ‫ت�ش�ء‬ ‫واأن اخلري اأن ترتكه� وحده� تقراأ كم�‬ ‫ُ‬ ‫فح�شبه� اأنه� تقراأ القراآن‪ ،‬وك�نت قد انتهت‬ ‫ق�رش الثوم‪ ،‬فو�شعته يف طَ َبق اأم�م �شالّمة‪،‬‬ ‫من ْ ِ‬ ‫واكتفت ب�أن اأو�شته� اأن ل تكرث يف املرقة من‬ ‫امللح واأن تن�شج اللحم َج ّيداً ملوله� ال�شيخ‬ ‫وان�رشفت دون اأن تقول له� �شيئ ً� اآخر‪.‬‬ ‫وع�دت �شالّمة فقراأت كم� حتب مولته� اأن‬ ‫تقراأ‪« :‬‬ ‫«وال�ش َحى وا ْلل َْيلِ اإذَا َ�ش َج� • َم� َو َّد َعكَ‬ ‫ُّ‬ ‫ري لَكَ مِ َن الأُ ْو َىل»‪..‬‬ ‫َر ُبكَ َو َم� َقلَى • َو َلالآخِ َر ُة َخ ْ ٌ‬ ‫متت هذه الآي�ت الأوىل من ال�شورة حتى‬ ‫وم� اأ ّ‬ ‫ع�دت من حيث ل تق�شد اإىل نغمته� الغن�ئية‬ ‫«ول َ​َ�ش ْو َف ُي ْعطِ ْيكَ‬ ‫الأوىل‪ ،‬وذلك حني اأخذت تقراأ‪َ :‬‬ ‫مل َي ِج ْدكَ َيت ِْي َم ً� َف� َآوى • َو َو َج َدكَ‬ ‫َرت َ�شى • اأَ َ ْ‬ ‫ر ُّبك ف َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ�ش�ل َف َه َدى • َو َو َج َدكَ َع� ِئ ًال َف�أغْ َنى»‪.‬‬ ‫وطفقت تكرر هذه الآي�ت على نحو م� ت�شنع‬ ‫ب�ل�شعر وتذهب به� مذهبه‪ ،‬واتفق يف خالل ذلك‬ ‫اأن ج�ء اأبو الوف� ِء من اخل�رج ف�شمع غ َن�ء ثم م�‬ ‫تبني له اأنه قراآن يتلى‪ ،‬فق�ل يف نف�شه‪:‬‬ ‫لبث اأن َّ‬ ‫«�شبح�ن اللـه م� هذا؟ اأتالوة اأم غن�ء؟»‪.‬‬ ‫ووقف على عتبة ب�ب ال�شحن ي�شتمع اإىل‬ ‫�شالّمة وهي تتلو‪[ :‬ف� َّأم� ال َيت ِْي َم فَال َت ْق َه ْر • وا َّأم�‬ ‫ال�ش�ئِلَ فال َت ْن َه ْر • وا َّأم� ِب ِن ْع َم ِة ر ِّبكَ ف َ​َح ِّد ْث]‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫فث�ر ث�ئره و�رشب الأر�س بع�ش�ه‪ ،‬ودخل‬ ‫ال�شحن مغ�شب ً� ق�ئالً‪« :‬ويل لك ي� ف�علة!‬ ‫ع َلّمن�ك القراآن لتنتهي عن الغن�ءِ‪ ،‬فذهبت تتغ َّن ْني‬ ‫ب�لقراآن‪ ..‬اأين اأم الوف�ءِ؟»‪.‬‬ ‫ارت�عت اجل�رية فجمدت يف مك�نه� ل تنب�س‬ ‫ببنت �شفة‪.‬‬ ‫وا�شتمر ال�شيخ ي�شيح مزجمراً وين�دي‪« :‬ا ّأم‬ ‫الوف�ء‪ ..‬ي� ا ّأم الوف�ء!»‪.‬‬ ‫واأج�بت اأم الوف�ء من اأعلى «نعم»‪ ،‬وهبطت‬ ‫ب�رشعة واأقبلت ترعد فرائ�شه� وهي تقول‪« :‬م�‬ ‫ب�لك؟»‪.‬‬ ‫«م� ب�يل؟ اأمل ت�شمعي هذه اخلبيثة تقراأ‬

‫‪10‬‬

‫و�شتن�ش�أ مغنية �شئت اأم اأبيت»‪.‬‬

‫�لف�سل �ل�ساد�س‬

‫مرت ثالثة اأعوام على هذه احلوادث توفيت‬ ‫ّ‬ ‫يف اأثن�ئه� اأم الوف�ء من مر�س ط�ل به� على اأثر‬ ‫فراقه� ل�شالّمة التي ب�عه� زوجه� جل�ره ال�رشي‬ ‫ابن �شهيل‪.‬‬ ‫ووهنت قوة ال�شيخ اأبي الوف�ء وانت�بته‬ ‫اأمرا�س ال�شيخوخة الع�لية فك�نت كثرياً م�‬ ‫تقعده عن �شهود اجلم�عة يف امل�شجد‪ ،‬اإل اأنه ك�ن‬ ‫�ش�براً حمت�شب ً� للـه ل ي�شكو ول يت�أمل‪ ،‬وك�ن يجد‬ ‫الأن�س يف روؤية اأ�شدق�ئه ال�شلح�ء الذين ك�نوا‬ ‫يختلفون اإليه‪ ،‬ويعودونه اإذا مر�س‪ ،‬وي�شحبونه‬ ‫اإذا وجد يف نف�شه ن�ش�ط ً� للخروج اإىل امل�شجد‪.‬‬ ‫وك�ن من اأ�شد هوؤلء ات�ش� ًل به واأكرثهم تردداً‬ ‫عليه �ش�حب�ه الكهالن و�شديقه ال�ش�ب عبد‬ ‫الرحمن بن اأبي عم�ر‪.‬‬ ‫مل يطراأ على عبد الرحمن من �شيء جديد يف‬ ‫متر على‬ ‫خالل الأعوام الثالثة‪ ،‬فك�نت حي�ته ّ‬ ‫وترية واحدة على نحو م� تقدم و�شفه‪ ،‬فمن‬ ‫البيت اإىل امل�شجد ومن امل�شجد اإىل البيت‪ ،‬ل‬ ‫يعرف غريهم� اإل اأن يذهب اإىل بيت اأبي الوف�ء‬ ‫يعوده اأو يزوره‪ ،‬اأو اأن يخرج اإىل �شيعته يف‬ ‫�ش�حية مكة يتعهده�‪.‬‬ ‫اأم� �شالّمة فقد تبدلت حي�ته�‪ ،‬وتغريت عم�‬ ‫تركن�ه� عليه يف الف�شل ال�ش�بق منذ ا�شرتاه�‬ ‫ابن �شهيل‪ ،‬فوجدت عنده البيئة ال�ش�حلة لنمو‬ ‫مواهبه� واأدا ِء وظيفته� يف احلي�ة‪ ،‬فقد عنى‬ ‫بتعليمه� عن�ية كبرية‪ ،‬ووكل به� جم�عة من‬ ‫ال�شعراء واملغ ّنني والع�زفني‪ ،‬فتعلمت الكت�بة‬ ‫ولقنت فنون ال�شعر‪ ،‬وحذقت العزف على العود‬ ‫وغريه من اآلت الطرب‪ ..‬وحظيت عند موله�‬ ‫ال�رشي الطروب و�شغف به� �شغف ً� عظيم ً� حتى‬ ‫ك�ن ل ي�شرب عنه� �ش�عة‪ .‬وك�ن يعقد له� جم�ل�س‬ ‫الغن� ِء يف داره فت�شهده� الطبق�ت املتخلفة من‬ ‫ال�شعراء واملغ ِّنني وحم ِّبي ال�شعر والغن�ءِ‪.‬‬ ‫خرج عبد الرحمن بن اأبي عم�ر ذات يوم‬ ‫اإىل امل�شجد ل�شهود �شالة ال�شبح كع�دته‪ ،‬فلم�‬ ‫تذكر احللم‬ ‫انتهى من ال�شالة واأخذ يف الدع�ء َّ‬ ‫الذي راآه يف من�مه الليلة الب�رحة ف�متالأَ قلبه‬ ‫رعب�ً‪ ،‬وق�ل‪« :‬اللـهم اإين اأعوذ بك اأن ت�شلني بعد‬ ‫الهدى»‪ .‬وتال املعوذتني ثم ق�ل‪« :‬اللـهم اجعله�‬ ‫اأ�شغ�ث اأحالم»‪.‬‬ ‫والتم�س اأب� الوف�ء يف املو�شع الذي ي�شلّي‬ ‫فيه فلم يجده‪ ،‬ووجد �ش�حبيه الكهلني فحي�هم�‬ ‫ثم �ش�ألهم� عنه فعلم منهم� اأنه مري�س‪ ،‬واأنه مل‬ ‫ي�شهد اجلم�عة منذ يومني‪ ،‬ف�عتزم عبد الرحمن‬


‫اأن يعوده ذلك اليوم‪.‬‬ ‫فلم� ع�ده وجده م�شطجع ً� على فرا�س على‬ ‫الأر�س وعنده عبد اأ�شود يقوم بخدمته ف�ش َلّم‬ ‫ورحب به‪ ،‬واأراد اأن يجل�س‬ ‫عليه فر َّد عليه ال�شالم َّ‬ ‫له فلم ي َد ْع ُه عبد الرحمن يفعل ذلك‪ ،‬وقعد على‬ ‫احل�شري اإىل ج�نبه وهو يقول‪« :‬ل ب�أ�س عليك اأب�‬ ‫الوف�ء‪� ،‬شف�ك اللـه وع�ف�ك!»‪.‬‬ ‫ف�أج�به ال�شيخ ب�شوت منخف�س ق�ئالً‪« :‬ل‬ ‫اأراك اللـه ب�أ�ش ً� ي� عبد الرحمن‪ ،‬اإين ل اآ�شف عن‬ ‫�شيء ي� بني اإل على �شهود اجلم�عة»‪.‬‬ ‫«كيف جتدك اليوم ي� عم؟»‪.‬‬ ‫«اأجدين ب�رئ ً� بنعمة اللـه ي� بني‪ ..‬اإن ج�شم‬ ‫املر ِء ليعتل في�شفى‪ ،‬واإمن� الط�مة الكربى اأن‬ ‫متر�س الروح»‪.‬‬ ‫وك�ن لكلمة ال�شيخ هذه وقع خ��س عند‬ ‫اأبي عم�ر ف��شطرب وق�ل‪�« :‬شدقت ي� عم‪ ،‬لقد‬ ‫ذكرتني كلمتك هذه حلم ً� راأيته الب�رحة مالأَ‬ ‫همه طوال وقتي»‪.‬‬ ‫قلبي رعب�ً‪ ،‬و�شغلني ّ‬ ‫«م�ذا راأيت ي� بني؟»‪.‬‬ ‫«راأيت ك�أين كنت يف اجلنة اإذا ب�شوت جميل‬ ‫ا ٍآت من خ�رج ب�ب اجلنة‪ ،‬ف�نطلقت لأ�شتمع‬ ‫اإليه وخرجت اإىل الأعراف‪ ،‬حتى اإذا اقرتبت من‬ ‫م� يلي الن�ر َب ُ�رشت على �شفريه�‬ ‫اجل�نب الآخر ّ‬ ‫ب�مراأة ك�أجمل م� راأيت من الن�ش�ء‪ ،‬حملولة ال�شعر‪،‬‬ ‫ع�رية اإل م� ي�شرت و�شطه�‪ ،‬ويف يده� الي�رشى‬ ‫مزم�ر‪ ،‬فلم� راأتني فزعت اإيل ك�أمن� تعرفني من‬ ‫قبل‪ ،‬وطوقتني بيده� اليمنى وت�شبثت بعنقي‬ ‫وهي ت�شيح‪« :‬عبد الرحمن اأنقذين! عبد الرحمن‬ ‫و�ش ًدى م� ح�ولت الإفالت من قب�شته�‬ ‫اأغثني!»‪ُ .‬‬ ‫ف�أخذت اأجذبه� اإىل جهة اجلنة وهي تنجذب اإىل‬ ‫جهة الن�ر‪ ،‬حتى وقفن� مع ً� على �شفري اله�وية‪،‬‬ ‫ف�رتعت لهول منظره�‪ ،‬ف�نتبهت على �شوت‬ ‫املوؤذن ب�شالة الفجر!»‪.‬‬ ‫هب‬ ‫ومل يكد عبد الرحمن يتم حديثه حتى ّ‬ ‫اأبو الوف�ء ك�أن قوة اأع�نته ف��شتوى ج�ل�ش�ً‪،‬‬ ‫ولبث هنيهة �ش�مت ً� ك�أنه يدير يف ذهنه هذه‬ ‫الروؤي� الغريبة ثم ق�ل‪« :‬م� اأرى هذا احللم اإل من‬ ‫ال�شيط�ن ف��شتعذ ب�للـه عنه ول تق�ش�شه على‬ ‫اأحد‪ ،‬فقد بلغن� عن النبي �شلّى اللـه عليه و�شلّم‬ ‫اأنه ق�ل‪:‬‬ ‫رش ُه فليتعوذ ب�للـه ول‬ ‫«من راأى روؤية ل ت� ُّ‬ ‫يق�ش�شه� على اأحد ف�إنه� ل ت�رشه»‪.‬‬ ‫فق�ل عبد الرحمن‪« :‬اأعوذ ب�للـه من ال�شيط�ن‬ ‫الرجيم»‪.‬‬ ‫وع�د ال�شيخ للحديث فق�ل‪« :‬ل َت َخ ْف ي� بني‬ ‫فلن يجد ال�شيط�ن اإليك �شبيالً‪ ،‬اإنك ل�ش�ب مب�رك‬ ‫جمتهد يف ط�عة اللـه م� عرف الن��س فيك اإل‬

‫«لكني كنت اأعلم اأنه �شيفعل ذلك»‪.‬‬ ‫«يغفر اللـه لك ي� اأب� الوف�ء‪ ،‬اإن اللـه لأرحم‬ ‫من اأن يوؤاخذك على جريرة �شواك»‪.‬‬ ‫«ذلك الظن ب�للـه ي� بني وهو خري‬ ‫الغ�فرين»‪.‬‬ ‫وا�شت�أذن عبد الرحمن يف الن�رشاف فو َّدعه‬ ‫اأبو الوف�ء �ش�كراً‪ ،‬واأو�ش�ه اأن ل يغب‪ 18‬زي�رته‬ ‫لأنه ي�أن�س بقربه‪ ،‬فوعده عبد الرحمن بذلك‬ ‫وان�رشف‪.‬‬

‫اخلري‪ .‬اإنه ال�شيط�ن ي� ُب َن َّي مت َّث َل لك يف �شورة‬ ‫زم�رة ليفتنك عن دينك»‪.‬‬ ‫امراأة َّ‬ ‫وخرجت من‬ ‫«ويل يل! �شبوت اإىل غن�ئه‬ ‫ُ‬ ‫أمي اللـه لقد هلكت!»‪ .‬ق�ل هذا عبد‬ ‫اجلنة‪ ..‬وا ْ ُ‬ ‫الرحمن وانتظر م�ذا ع�شى اأن يقول اأبو الوف� ِء‬ ‫يف ت�أويله هذا‪.‬‬ ‫تخ�س ُ�شوءاً ي�‬ ‫وفكر ال�شيخ قلي ًال ثم ق�ل‪« :‬ل ُ‬ ‫قَ�س‪ ..‬اأمل تقل يل اإنك كنت يف اجلنة؟ واإنه ي� بني‬ ‫من دخل اجلنة ل يخرج منه�»‪.‬‬ ‫«جزاك اللـه �ش�حلة ي� اأب� الوف�ء‪ ،‬لقد‬ ‫ب�رشك اللـه‬ ‫ه َّداأت روعي‬ ‫وب�رشتني ّ‬ ‫َّ‬ ‫ب�خلري»‪.‬‬ ‫فحرك اأبو الوف�ء راأ�شه‬ ‫َّ‬ ‫وق�ل وقد ج َلّلت وجهه‬ ‫غ��شية من الهم‪« :‬اإنك ي�‬ ‫بني فزعت من روؤي�‬ ‫الن�ر‪ ،‬فم� قولك يف‬ ‫اأن��س ي�شهدون اأن ل اإله‬ ‫اإل اللـه واأن حممداً ر�شول‬ ‫اللـه يغرقون فيه� اإىل‬ ‫اآذانهم وهم م�شتب�رشون؟‬ ‫هذا ج�رن� ابن �شهيل –‬ ‫غفر اللـه له وت�ب عليه‬ ‫– يق�شي ليله ونه�ره‬ ‫يف مزامري ال�شيط�ن‪،‬‬ ‫وم�ش�مرة اأعوانه من‬ ‫ال�شعراء الغ�وين‪ ،‬والقي�ن‬ ‫واملغنني‪ ،‬ينفق عليهم من‬ ‫األوان الطع�م وال�رشاب م�‬ ‫لو اأنفق بع�شه على فقراء‬ ‫مكة واأرامله� واأيت�مه�‬ ‫لدخل اجلنة من اأي اأبوابه�‬ ‫�ش�ء»‪.‬‬ ‫َ‬ ‫وطفقت الدموع تتح�در‬ ‫من عينيه وهو يقول‪« :‬غفرانك‬ ‫ي� اإلهي غفرانك!»‪.‬‬ ‫فتعجب عبد الرحمن من بك�ء‬ ‫ال�شيخ ف�ش�أله‪« :‬م� يبكيك ي� اأب� الوف�ء!!»‪.‬‬ ‫ق�ل اأبو الوف�ء وهو مي�شح الدمع من‬ ‫عينيه‪« :‬اأخ�شى اأن اأكون اأعنته على مع�شية‬ ‫اللـه ي� بني»‪.‬‬ ‫ف�زداد عجب عبد الرحمن وق�ل له‪« :‬مع�ذ‬ ‫اللـه‪ ..‬كيف ذلك ي� اأب� الوف�ء؟»‪.‬‬ ‫فق�س عليه ال�شيخ حديث ج�ريته �شالّمة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فق�ل له عبد الرحمن‪:‬‬ ‫�س عليك ي� عم‪ ..‬اإنك غري م�شوؤول عن‬ ‫«خ ِّف ْ‬ ‫عمله»‪.‬‬

‫‪11‬‬

‫خرج عبد الرحمن من بيت اأبي الوف�ء وم�شى‬ ‫متمه ًال يف الطريق يفكر فيم� ق�له لل�شيخ‪ ،‬وم�‬ ‫ِّ‬ ‫ق�له ال�شيخ له‪ ،‬وذكر كلمته عن ج�ره ابن �شهيل‪،‬‬ ‫ف�شوب نظره اإىل حيث يقيم هذا اجل�ر الذي �شقى‬ ‫َّ‬ ‫�ش�حبه بقربه وجواره‪ ،‬فراأى داراً فخمة على‬ ‫�شور‬ ‫ب�شت�ن‬ ‫ثالث طبق�ت‪ ،‬يحيط به�‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫وا�شع عليه ٌ‬ ‫ق�شري تظهر منه روؤو�س اأ�شج�ر النخيل وال�شِّ در‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫‪19‬‬ ‫وراأى يف اجل�نب الأق�شى من الب�شت�ن امل�رشبة‬ ‫التي ي�شتقبل فيه� ابن �شهيل �شيوفه‪،‬‬ ‫و يج� ل�س‬

‫عدد ‪144‬‬

‫‪ 6‬ت�رشين ‪2010 1‬‬


‫ندم�ءه من املغنني وال�شعراء‪.‬‬ ‫َ‬ ‫م�شى عبد الرحمن بج�نب ال�شور ف�شمع‬ ‫�شوت ً� ك�لغن� ِء اآتي ً� من قبل امل�رشبة الواقعة يف‬ ‫اأق�شى ال�شور‪ ،‬وكلم� اقرتب منه� ومن ب�ب ال�شور‬ ‫املف�شي عليه� زاد ال�شوت ارتف�ع ً� وو�شوح�ً‪،‬‬ ‫واإذا به يغني‪:‬‬ ‫دت �أُو� َر �ل ِ ُّب يف كَ بِدي‬ ‫�إِذ� َو َج ُ‬ ‫بت ُد!‬ ‫ذ َ​َه ْب ُت ن َْح َ� ِ�سقا ِء ْ�لا ِء �أَ َِ‬ ‫ِب ِد ْ�لَا ِء ظَ اهِ َر ُه‬ ‫َه ْبنِي َب َر ْد ُت ب َ ْ‬ ‫‪20‬‬ ‫َف َمن لِنا ٍر َعلى �الأَ ْح�سا ِء َت َ ّت ِق ُد؟‬ ‫واإذا برعدة ت�رشي يف مف��شل عبد الرحمن‪،‬‬ ‫واإذا به ي َّث�قل يف م�شيته وهو يقول‪« :‬عجب ً� م�‬ ‫اأ�شبه هذا ال�شوت ب�شوت املراأة التي راأيته� يف‬ ‫احللُم‪ ..‬للـه م� اأعذبه‪ ..‬اإن له حلالوة يف قلبي»‪.‬‬ ‫وانتبه فج�أة اإىل موقفه فتك َلّف الإ�رشاع‬ ‫يف امل�شي وهو يقول‪« :‬اأعوذ ب�للـه من فتنة‬ ‫ال�شيط�ن»‪ .‬حتى اإذا ح�ذى ب�ب ال�شور برز ابن‬ ‫�شهيل من الب�ب‪ ،‬وك�ن ق�م ليتفقد �شيوفه‬ ‫الق�دمني اإليه ذلك اليوم من املغنني وال�شعراء‪،‬‬ ‫ف�أب�رش عبد الرحمن يحدر يف م�شيه‪ ،‬فعرفه‬ ‫ف��شتوقفه ق�ئالً‪« :‬مه ًال ي� بن اأبي عم�ر‪ ،‬األ ُت�شلم‬ ‫علين�؟»‪.‬‬ ‫ف�لتفت اإليه عبد الرحمن‪ ،‬وك�ن يعرف ابن‬ ‫�شهيل من قبل وكثرياً م� راآه يف امل�شجد‪ ،‬فق�ل‪:‬‬ ‫«ال�شالم عليك ي� بن �شهيل»‪.‬‬

‫هلم معي اإىل‬ ‫عم�ر‪ ..‬مل ْ‬ ‫يحن ُ‬ ‫وقت الظهر َب ْع ُد‪َّ ..‬‬ ‫متر بب�ب منزيل ول‬ ‫املنزل فلي�س من احلق اأن َّ‬ ‫تع ِّرج عليه‪ ..‬اأ�ش َه ْد جمل�شن� اليوم ف�شيجتمع عندي‬ ‫ط�ئفة من فحول ال�شعراء يت�ش�جلون‪ ،‬و�شت�شمع‬ ‫غن�ء مل ت�شمعه يف‬ ‫اإن �شئت من ج�ريتي �شالّمة ً‬ ‫حي�تك»‪.‬‬ ‫يهم ب�مل�شي‪« :‬ولن‬ ‫فق�ل عبد الرحمن وهو ُّ‬ ‫�ش�ء اللـه»‪.‬‬ ‫اأ�شمعه اإن َ‬ ‫رداء �ش�حبه برفق وق�ل‪:‬‬ ‫فجذب ابن �شهيل َ‬ ‫ترب ْح مك�نك حتى تدخل منزيل»‪.‬‬ ‫«كال ي� ق�س ل ْ‬ ‫فَح ِرج عبد الرحمن وق�ل ب�شوت فيه حدة‪:‬‬ ‫«اأتدعوين اإىل اللـهو والغن�ء ي� بن �شهيل؟»‪.‬‬ ‫علي اأن ل يرتفع‬ ‫«ل ي� بن اأبي عم�ر‪ .‬لك َّ‬ ‫�شوت ب�لغن� ِء م� بقيت عندي يف املنزل»‪.‬‬ ‫«�شكراً لك ي� بن �شهيل‪ ،‬اإنك تعلم اأين اأكره‬ ‫جم�ن ال�شعرا ِء واملغ ِّنني‪،‬‬ ‫هذه اجلم�عة من ُ َّ‬ ‫واأ�شيق بروؤية وجوههم التي عليه� غربة الف�شوق‬ ‫والع�شي�ن»‪.‬‬ ‫و�شمِ َع ْت جلبة من خلف ال�شور فعلم ابن‬ ‫ُ‬ ‫�شهيل اأن �شيوفه قد قدموا‪ ،‬فق�ل لعبد الرحمن‪:‬‬ ‫فهلم ي� بن اأبي عم�ر»‪.‬‬ ‫«ه� قد اأقبل القوم َّ‬ ‫فق�ل عبد الرحمن‪« :‬دعني اأن�رشف ي� بن‬ ‫�شهيل»‪.‬‬ ‫يتم كلمته حتى ظهر‬ ‫ومل يكد عبد الرحمن ّ‬ ‫اأحدهم‪ ،‬فق�ل ابن �شهيل وهو يبت�شم‪« :‬هذا عمر‬ ‫بن اأبي ربيعة �ش�عر قري�س»‪.‬‬ ‫فظهرت الكراهية يف وجه عبد الرحمن‬ ‫«تب ً� له من ف�جر»‪.‬‬ ‫وق�ل‪ّ :‬‬ ‫وم� لبث عمر اأن دن� منهم� فق�ل‪« :‬ال�شالم‬ ‫عليكم»‪.‬‬ ‫ب��ش�‪« :‬وعليك ال�شالم ي�‬ ‫ف�أج�به ابن �شهيل ًّ‬ ‫عمر‪ ..‬اأين بقية القوم؟»‪.‬‬ ‫فنظر عمر خلفه ق�ئالً‪« :‬هم اأولء اآتون على‬ ‫لت‬ ‫«وع ِج ُ‬ ‫اأثري»‪ ..‬ثم ابت�شم ابت�ش�مة م�جنة وق�ل‪َ :‬‬ ‫اإليك لتكون يل النظرة الأوىل يف وجه �شالّمة!»‪.‬‬ ‫والتفت اإىل ال�ش�ب الواقف اأم�م ابن �شهيل‬ ‫ف�شحك وق�ل‪« :‬هذا عبد الرحمن بن اأبي عم�ر –‬ ‫ج�ء بك هن�؟ اأتريد اأن ت�شكون� اإىل الوايل كم�‬ ‫م� َ‬ ‫فعلت من قبل؟»‪.‬‬ ‫ف�ش�ق عبد الرحمن �شدراً وق�ل‪« :‬م� تزال‬ ‫ي� عمر �ش�دراً يف اإثمك وفجورك وت�شبيبك‬ ‫ب�ملح�شن�ت حتى ي�شيبك اللـه بق�رعة من‬ ‫عنده»‪.‬‬ ‫مل يكن من عمر اإل اأن رفع راأ�شه مقهقه�ً‪ ،‬ثم‬ ‫تنهد ونظر اإىل عبد الرحمن ق�ئالً‪« :‬اآه ي� ق�س‪،‬‬ ‫وهل اأن� اإل يف قوارع‪ 21‬العذاب؟ غفر اللـه لبن�ت‬ ‫أ�شالء؟»‪.‬‬ ‫حواء لقد تركن قلبي ا ً‬

‫ف�أج�به ابن �شهيل ووجهه يتهلل من الب�رش‪:‬‬ ‫«وعليك ال�شالم ورحمة اللـه‪ ،‬اأه ًال بك ي� بن اأبي‬ ‫عم�ر»‪ .‬واأقبل اإليه ي�ش�فحه ق�ئالً‪« :‬كيف اأنت ي�‬ ‫ق�س؟»‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫«بنعمة اللـه ي� بن �شهيل»‪.‬‬ ‫«من اأين ي� بن اأبي عم�ر؟»‪.‬‬ ‫«من عند اأبي الوف�ء اأعوده»‪.‬‬ ‫فظهر الت�أثر على وجه ابن �شهيل وغ��شت‬ ‫ابت�ش�مته قلي ًال وق�ل‪« :‬عجل اللـه ب�ل�شف� ِء لأبي‬ ‫الوف�ء‪ ،‬لقد بلغني اأنه اعت َلّ‪ ،‬ولول خ�شيتي اأن‬ ‫أحب هذا‬ ‫ي�شيق مبقدمي لعدت ُه‪ ،‬فو اللـه اإين ل ُّ‬ ‫الرجل ال�ش�لح قدر م� يبغ�شني هو»‪.‬‬ ‫رشه بهذه ال�شدفة‬ ‫ففرح عبد الرحمن يف � ِّ‬ ‫التي مل يتوقعه�‪ ،‬وراأى اأن ينتهز هذه الفر�شة‬ ‫ال�ش�نحة ليكلم ابن �شهيل يف �ش�لح اأبي الوف�ء‪،‬‬ ‫ب�لكف عن اإزع�جه ب�أ�شوات الغن� ِء‬ ‫وين�شحه‬ ‫ِّ‬ ‫ورن�ت العيدان‪ ،‬فق�ل له‪« :‬اأم� اإنه لعلى حق يف‬ ‫يل اأنك تزعجه بغن�ئك وق�شفك‬ ‫بغ�شك‪ .‬لقد �شك� اإ َّ‬ ‫وت�شغله عن تالوته و�شالته»‪.‬‬ ‫فق�ل ابن �شهيل ب�شوت يندى ب�لعطف‪:‬‬ ‫لي�شق علي اأن يت�أذى‬ ‫«واللـه ي� بن اأبي عم�ر‬ ‫ُّ‬ ‫مني هذا اجل�ر ال�ش�لح‪ ،‬ولقد واللـه بنيت هذه‬ ‫امل�رشبة اجلديدة التي تراه� يف هذا اجل�نب‬ ‫الق�شي من احلديقة لأبتعد به� عن داره فال ت�شل‬ ‫اإليه اأ�شوات الغن�ء»‪.‬‬ ‫«لقد اأح�شنت بهذا ي� بن �شهيل �شنع�ً‪ ،‬وحبذا‬ ‫لو حت�شن اإىل نف�شك فتقلع عن اللـهو‬ ‫والغن� ِء جملة فت�شرتيح وتريح»‪.‬‬ ‫فتب�شم ابن �شهيل وق�ل‪« :‬ي�‬ ‫ليت ذلك يف ا�شتط�عي ي� بن ابي‬ ‫عم�ر‪ ،‬ولكني امروؤ ابتلى بهذا اللـهو‬ ‫فم� ي�شتطيع اأن يعي�س بدونه‪ .‬اآه ي�‬ ‫ق�س اأح�شبني قد اأ�شتغني عن الغذاء‬ ‫ول اأ�شتغني عن الغن�ءِ»‪.‬‬ ‫فحرك عبد الرحمن راأ�شه‬ ‫ق�ئالً‪« :‬م� اأ�ش َّد جنونكم اأرب�ب اللـهو‪..،‬‬ ‫اأ�ش�أل اللـه لك الهداية والتوبة ي� بن‬ ‫�شهيل»‪.‬‬ ‫فق�ل ابن �شهيل ب�شوت‬ ‫خ��شع‪« :‬اللـهم اآمني»‪.‬‬ ‫وتهي�أ عبد الرحمن للم�شي‬ ‫ّ‬ ‫فق�ل له ابن �شهيل‪« :‬اإىل‬ ‫اأين ي� بن اأبي عم�ر؟»‪.‬‬ ‫ق�ل عبد الرحمن‪:‬‬ ‫«اإىل امل�شجد»‪.‬‬ ‫ق�ل ابن �شهيل‪:‬‬ ‫«لي�س الآن ي� بن اأبي‬

‫‪12‬‬

‫جي ال�ش�عران‪،‬‬ ‫وظهر عند ذلك الأحو�س وال َع ْر ُّ‬ ‫وخلفهم� الغري�س ومعبد املغني�ن‪ ،‬فق�ل عمر‪:‬‬ ‫«ه� هم القوم قد اأقبلوا ي� بن �شهيل!»‪.‬‬ ‫وطفق الأحو�س والعرجي يتغ�مزان‪ ،‬يقول‬ ‫اأحدهم� ل�ش�حبه‪« :‬اأنظر هذا عبد الرحمن الق�س‪،‬‬ ‫هل َُّم نتندر عليه ونغ�شبه»‪ .‬ف�شحك الآخر وق�ل‪:‬‬ ‫«هلم!»‪.‬‬ ‫واأقبل الأربعة ف�شلّموا‪ ،‬فر ّد عليهم ال�شالم‪.‬‬ ‫و�ش�ح العرجي ق�ئالً‪« :‬هي� بن� اإىل ال�رشاب ي�‬ ‫بن �شهيل‪ ..‬م� اأنتم والوقوف هن�؟»‪.‬‬ ‫والتفت اإىل عبد الرحمن ك�أنه مل يعلم‬ ‫بوجوده هن�ك من قبل فق�ل‪« :‬اأه ًال ي� بن اأبي‬ ‫عم�ر‪ .‬م� هذا؟ هل اأ�شبحت اليوم من مذهبن�؟»‪.‬‬ ‫فنظر ابن �شهيل اإليه نظرة الع�تب ف�أم�شك‪.‬‬ ‫وق�ل عبد الرحمن‪« :‬ويل لك ي� عرجي‪ ،‬اأم�‬ ‫تكف عن جمونك؟ لبئ�س م� َخ َلف َْت ج َّدك عثم�ن‬ ‫بن عف�ن»‪.‬‬ ‫فق�ل العرجي بلهجة يخ�لطه� اجلد‪« :‬وم�ذا‬ ‫تنتظر مني اأن اأفعل ي� عبد الرحمن؟ اإن بني‬ ‫عمِّ ن� ا�شت�أثروا ب�لأمر من دونن� ونحن اأوىل به‪،‬‬ ‫واأق�شون� عن الولي�ت فال اأق ّل ملثلي من اأن يلهو‬ ‫كم� يلهو ال�شب�ب»‪ .‬ثم طفق يرتمن ق�ئالً‪:‬‬ ‫اع��‬ ‫�ين َو َ�أ َ ّي َفت ًَى َ�أ َ�س ُ‬ ‫�أَ َ�س ُ‬ ‫اع ِ‬ ‫ِل َي ْ� ِم كَ ِر ْي َهةٍ َو ِ�س َد� ِد ثَغْ ِر‬ ‫«مط�لب ب�خلالفة‬ ‫فهز عمر راأ�شه ق�ئالً‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫جديد ورب الكعبة!»‪.‬‬ ‫وت�أ َّفف الأحو�س ف�ش�ح‪« :‬اأنحن يف يوم‬ ‫�رشاب اأم يف يوم مواعظ؟ األهذا دعوتن� ي� بن‬ ‫�شهيل؟»‪.‬‬ ‫ف�لتفت اإليه عبد الرحمن ق�ئالً‪« :‬ويل لك ي�‬ ‫اأحو�س‪ ..‬م� ك�ن اأجدر بك اأن تتبع �ش َّنة �شلفك من‬ ‫�ش�حلي الأن�ش�ر»‪.‬‬ ‫فتن َّهد الأحو�س وق�ل‪« :‬تذكرون الأن�ش�ر‬ ‫وقد ظلمتموهم مرتني‪ .‬اإن يل اإذا �رشب العرجي‬ ‫ك�أ�ش ً� واحدة اأن اأ�رشب ك�أ�شني اأغرق فيه�‬ ‫اآلمي»‪.‬‬ ‫فق�طعه عمر ق�ئالً‪« :‬واأنت اأي�ش ً� ي� ُلكَع!‬ ‫ويله� مهزول ًة ي�شومه� اأمث�ل هوؤلء!»‪.‬‬ ‫وا�شتمر الأحو�س يف حديثه ق�ئالً‪« :‬رحم‬ ‫اللـه �شعد بن عب�دة‪ ..‬قتلته قري�س وق�لت قتلته‬ ‫اجلن!!»‪ .‬ثم اأخذ يقهقه وهو يقول‪« :‬دعني ي� بن‬ ‫اجلن!»‪.‬‬ ‫اأبي عم�ر اأ�رشب ف�آخذ بث�أري من ِّ‬ ‫فنظر اإليه عبد الرحمن �ش�خط ً� وق�ل‪« :‬اأمثلك‬ ‫يث�أر لالأن�ش�ر ي� هذا؟ األ�شت الذي هجوتهم يف‬ ‫�شعرك؟»‪.‬‬ ‫ق�ل الأحو�س‪« :‬بلى‪ ..‬هجوتهم لأنهم ذ َلّوا‬


‫لقري�س‪ .‬وم� ك�ن لهم اأن يذ ُلّوا»‪.‬‬ ‫أدعي�ء»‪.‬‬ ‫أكف�ء كرث ال‬ ‫ُ‬ ‫فق�ل عمر‪« :‬اإذا م�ت ال ُ‬ ‫وك�أمن� ع َّز على الغري�س اأن ل ي�شرتك‬ ‫يف احلديث وخ�شي اأن ي�شبقه معبد اإليه‪ ،‬فق�ل‬ ‫الغن�ء ي�‬ ‫يخ�طب عبد الرحمن‪« :‬اإذا كنت ل حتب‬ ‫َ‬ ‫ق�س‪ ،‬ف�ن�رشف ع َّن� ودعن� و�ش�أنن�»‪.‬‬ ‫فث�ر ث�ئر عبد الرحمن وق�ل له‪« :‬قطع اللـه‬ ‫ل�ش�نك! هل جئت اأ�شت�شيفك ي� م َّنث فت�أمرين‬ ‫ب�لن�رشاف؟»‪.‬‬ ‫«اذه ْب ذهب اللـه‬ ‫ف�أج�به الغري�س ق�ئالً‪َ :‬‬ ‫بك!»‪.‬‬ ‫«م ْه ي�‬ ‫فنظر اإليه ابن �شهيل ع�تب ً� وق�ل‪َ :‬‬ ‫غري�س‪ ..‬اإن ابن اأبي عم�ر ل يريد بن� اإل اخلري»‪.‬‬ ‫فق�ل عبد الرحمن‪�« :‬ش�حمك اللـه ي� بن‬ ‫�شهيل‪ ..‬ا َّأخرتني عن امل�شجد و�شغلتني بجم�عتك‬ ‫هوؤلء»‪ .‬وان�رشف م�رشع ً� ومل يزد‪.‬‬ ‫ووقف القوم �ش�متني ينظرون اإىل ال�ش�ب‬ ‫ف�س َم ْعبد ذلك‬ ‫وهو ي�رشع اخلُطى مولي�ً‪ ،‬حتى َّ‬ ‫ال�شمت بقوله‪:‬‬ ‫«�شب�ك اللـه! لقد اأغ�شبتم الرجل‪ .‬اإنه واللـه‬ ‫خلري من�»‪.‬‬ ‫فق�ل عمر‪« :‬اأج ْل واللـه اإنه خلري من�‪ ..‬ه َّي�‬ ‫بن� ي� بن �شهيل»‪.‬‬ ‫و�شمت ابن �شهيل حلظة ثم ق�ل‪« :‬هي� بن�»‬ ‫وتقدم اإىل ب�ب ال�شور وتبعه القوم فدخل ودخلوا‬ ‫معه‪.‬‬

‫�لف�سل �ل�سابع‬

‫تر َّدد ا�شم عبد الرحمن بن اأبي عم�ر‪ .‬وتكرر‬ ‫احلديث عنه يف جمل�س ابن �شهيل بعدم� ك�ن‬ ‫منه ذلك اليوم خ�رج ال�شور‪ ،‬وم� جرى بينه‬ ‫ربه‬ ‫وبني ندم�ئه من احلوار‪ .‬وك�أمن� �ش�قَ خ ُ‬ ‫�شالّمة بوجه خ��س فك�نت ُت�شغِي مل� يق�ل‬ ‫عنه‪ ،‬وت َّتبعه ب�هتم�م‪ .‬ولعل ل�شلته مبوله�‬ ‫ال�ش�بق و�شداقته له �شبب ً� يف اهتم�مه� ب�أمره‪،‬‬ ‫اإذ ك�ن ذلك يثري يف نف�شه� األوان ً� من ذكرى‬ ‫طفولته� التي ق�شته� يف ذلك البيت ال�ش�لح‬ ‫بني حدب مولته� العجوز وعطفه� عليه�‪ ،‬وبني‬ ‫عن�ية موله� ال�شيخ ب�أن يجعل منه� ج�رية‬ ‫�ش�حلة على رغم م� ك�ن ي�شطرب يف �شدره�‬ ‫من نزع�ت الفتون وو�ش�و�س الهوى‪.‬‬ ‫ومل تن�س م� لقيت يف ذلك البيت من العنت‬ ‫جراء حبه� للغن� ِء وميله� اإليه‪ ،‬حتى‬ ‫ال�شديد من َّ‬ ‫نقله� اللـه منه اإىل كنف موله� اجلديد – هذا‬ ‫الكنف الذي ت�رشح فيه ومترح متمتعة بحب‬ ‫ال�رشي الذي ح َّقق له� م� ك�نت ت�شبو‬ ‫موله� َّ ِ‬ ‫اإليه من النبوغ يف الغن� ِء حتى عال كعبه� فيه‪.‬‬

‫ولكنه� مع ذلك ك�نت ل تذكر ذلك العهد ال�ش�لف‬ ‫ترتحم على اأم الوف�ء التي‬ ‫اإل ب�خلري‪ ،‬فك�نت‬ ‫َّ‬ ‫ق�شت نحبه� على اأثر فراقه� له�‪ ،‬وت�شفق على‬ ‫اأبي الوف�ء وقد اأ�شبح وحيداً وانت�بته اأمرا�س‬ ‫ال�شيخوخة‪،‬‬ ‫املرعى‬ ‫ُّ‬ ‫وحتن اإىل اأي�مه� اجلميلة يف ْ‬ ‫حيث ك�نت تلقى حكيم ً� فيغ ِّني له� الأحل�ن‬ ‫فت�أخذه� عنه‪ .‬ول تزال تذكر تلك الأحل�ن ومتيل‬ ‫اإىل التغ ِّني به�‪ ،‬وجتد لذلك لذة خ��شة على‬ ‫ب�ش�طته� وق َلّته� ب�لن�شبة مل� حذقته بعد ذلك من‬ ‫فنون الغن�ء و�رشوب التوقيع‪.‬‬ ‫ومل تعرف من اأمر حكيم بعد ذلك �شيئ ً� ك�أمن�‬ ‫ك�ن طيف ً� ع�براً اأراه� فردو�س الغن�ء‪ ،‬وو�شع يف‬ ‫يده� القب�س ثم اختفى!‬ ‫وك�ن ابن �شهيل ل يفت�أ يتحدث عن ابن‬ ‫اأبي عم�ر‪ ،‬ويو ُّد لو يراه مرة اأخرى فيدعوه اإىل‬ ‫داره‪ ،‬ويتحدث اإليه ويعتذر له عم� بدر منه ومن‬ ‫اأ�شح�به يف حقه؛ فك�ن يرتقب مروره حتت داره‬ ‫يف طريقه اإىل بيت اأبي الوف�ء‪ ،‬واأو�شى �شالّمة‬ ‫اأن ترتقبه اأي�ش ً� حتى اإذا ملحته اأنب�أته به‪.‬‬ ‫واأقبل عبد الرحمن يف �شب�ح اليوم الرابع‬ ‫ليعود �ش�حبه ال�شيخ‪ ،‬فم� ملح دار ابن �شهيل مِ ْن‬ ‫ذكري�ت ذلك اليوم الذي‬ ‫بعد حتى ع�دت اإليه‬ ‫ُ‬ ‫لقي فيه وجوه اأولئك اخللع�ء امل�جنني‪ ،‬فخ�شي‬ ‫اأن يلق�هم مرة اأخرى ف�أراد اأن ي�شلك طريق ً� اآخر‬ ‫اإىل بيت اأبي الوف�ء ل مير فيه بب�ب امل�رشبة‬ ‫الذي لقيهم دونه‪ .‬وتذكر ذلك ال�شوت اجلميل‬ ‫الذي �شمعه ذلك اليوم فبقي ع�لق ً� بقلبه‪ ،‬ف�شعر‬ ‫برغبة خفية يف اأن ي�شمعه مرة اأخرى‪ ،‬ولكنه‬ ‫قمعه� ب�شدة ودار حول ال�شور من اجل�نب الآخر‬ ‫ليتجنب املرور بب�ب امل�رشبة‪ ،‬ولكن دار ابن‬ ‫�شهيل مل تختف من عينيه‪ ،‬فقد ك�نت لعل ِّوه�‬ ‫ت�رشف على اجلوانب كله�‪ ،‬ومل يكد يقرتب منه�‬ ‫حتى �شمع ال�شوت عينه فعرفه وارت�حت نف�شه‬ ‫اإليه‪ ،‬ومل يكن ال�شوت يف هذه املرة ع�لي ً� كم�‬ ‫ك�ن يف املرة ال�ش�بقة‪ ،‬اإل اأنه ك�ن من الو�شوح‬ ‫بحيث تبني له اأن يقول‪:‬‬

‫الغن�ء‪ ،‬ف��شت َّد عجبه‬ ‫يكون من اأمره عندم� ي�شمع‬ ‫َ‬ ‫اإذ راأى ال�ش�ب الن��شك يتم َّهلُ يف خطوه ويت�شنت‬ ‫للغن�ءِ‪ ،‬ف�لتفت اإىل �شالّمة �ش�حك ً� وق�ل له�‪:‬‬ ‫«ا�شتمري يف غن�ئك‪ ..‬هذا الق�س ي�شتمع اإليك‪..‬‬ ‫�ش�أخرج له‪ .»..‬ق�ل ذلك ونزل م�رشع�ً‪ ،‬وق�مت‬ ‫�شالّمة حتى دنت من ال�شب�ك تنظر منه والعود‬ ‫يف يده� وهي تغني‪:‬‬ ‫َيتُ�قُ َق ْلبِي �إ َل ْي ُك ْم كِ ْي يال ِق َيك ْم‬ ‫كَ َما َي ُت ْ�قُ � َإل َمن ْ​ْجات ِه �لْغَ ِرقُ !‬ ‫ف�أخذ عبد الرحمن ب�ل�شوت ووقف من حيث‬ ‫ل ي�شعر يف حم�ذاة الدار‪ ،‬فخرج اإليه ابن �شهيل‬ ‫فف�ج�أه على ح�له هذا‪ ،‬ف��شطرب عبد الرحمن‬ ‫وتظ�هر ب�ل�شري‪ ،‬ولكن ابن �شهيل انطلق اإليه‬ ‫ق�ئالً‪« :‬رويداً ي� بن اأبي عم�ر‪ ،‬لقد راأيتك ت�شتمع‬ ‫اإىل غن�ء �شالّمة‪ ،‬فهل لك اأن تدخل فت�شمع؟»‪.‬‬ ‫إخف�ء‬ ‫ف�أج�به عبد الرحمن وهو يح�ول ا َ‬ ‫ذاهب‬ ‫ال�شطراب الب�دي عليه ق�ئالً‪« :‬كال‪ .‬اإين‬ ‫ٌ‬ ‫لأعود اأب� الوف�ء»‪.‬‬ ‫ف�أخذ ابن �شهيل بيده ق�ئالً‪« :‬اأدخل‪ ،‬اأدخل‬ ‫اأو ًل ف��شمع ثم اذهب اإىل اأبي الوف�ء‪ ..‬ه َّي� بن�»‪.‬‬ ‫فجذب عبد الرحمن يده وهو يقول‪« :‬ل‪..‬‬ ‫اأعفني ي� بن �شهيل»‪.‬‬ ‫فق�ل له ابن �شهيل‪« :‬ل اأعفيك‪ ..‬واللـه لتدخلن‬ ‫فت�شمع»‪.‬‬ ‫«ل ي� بن �شهيل‪ ..‬مع�ذ اللـه اأن اأجل�س اإىل‬ ‫مغنية»‪.‬‬ ‫«�ش�أقعده� يف مو�شع‬ ‫غن�ءه� ول تراه�»‪.‬‬ ‫ت�شمع َ‬ ‫«ول هذا ي� بن‬ ‫�شهيل‪ ..‬خ ِلّني ي� بن‬ ‫�شهيل ل�شبيلي»‪.‬‬ ‫ابن‬ ‫رش‬ ‫ف�أ� َّ‬ ‫�شهيل على دخول‬ ‫عبد الرحمن‪ ،‬وق�ل‬ ‫له بلهجة احل�زم‪« :‬ل‬ ‫لتدخلن ف�شتمع‪،‬‬ ‫واللـه‬ ‫ّ‬ ‫ا ْأو لأدعونه� فتخرج‬ ‫اإليك»‪.‬‬ ‫وراأى عبد الرحمن‬ ‫اأن ل ف�ئدة من‬ ‫املق�ومة‪ ،‬وخ�شي‬ ‫اإن هو اأبى الدخول‬ ‫ا ْأن يدعوه� ابن‬ ‫�شهيل فتخرج‬ ‫اإليه‪ ،‬فطفق يتل َّف ُت‬ ‫وي�رش ًة‬ ‫مين ًة‬

‫ُتنِي ُل َنزْر�ً قلي ًال َو ْه َي ُم�سْ ِف َق ٌة‬ ‫اف َم�س ْي َ�س ْ�ل َ ّي ِة �ل َف ِرقُ‬ ‫كَ َما َيخَ ُ‬ ‫ال �أعتقَ �للـ َه ِر ِق ّْي مِ ْن َ�س َبابتكم‬ ‫‪22‬‬ ‫�سب ِب ُك ْم قلِقُ‬ ‫ما � َصّ ِين �أ َ ّننِي ٌّ‬ ‫فلم ي�شع عبد الرحمن اإل اأن يتمهل يف خطوه‬ ‫وهو يقول‪�« :‬شبح�ن اللـه م� اأعجب!»‪.‬‬ ‫ومل يعلم عبد الرحمن اأن ابن �شهيل ك�ن قد‬ ‫حلظه من الدار على بعد‪ ،‬وراآه مل� دار حول ال�شور‬ ‫لي�شلك الطريق الآخر‪ ،‬ف�أوعز اإىل �شالّمة اأن تغ ِّني‬ ‫هذه الأبي�ت حني اقرتب عبد الرحمن من الدار‪،‬‬ ‫واأخذ هو يرت�شده من �شب�ك الغرفة لريى م�‬

‫‪13‬‬

‫ك�أنه يخ�شى اأن يراه اأحد وق�ل‪« :‬ل‪ ..‬ل تفعل –‬ ‫�ش�أدخل»‪.‬‬ ‫دخل الرجالن من ب�ب ال�شور املف�شي اإىل‬ ‫ومرا بفن�ئه� الوا�شع واخرتق� احلديقة‬ ‫الدار‪َّ ،‬‬ ‫مي�شي�ن بني النخل وال�شِّ در واأ�شج�ر الليمون‪،‬‬ ‫امل�ء‬ ‫ويجوزان اجلداول ال�شغرية يجري فيه�‬ ‫ُ‬ ‫من ج�بية كبرية ينزح اإليه� من البئر‪ ،‬حتى اإذا‬ ‫امل�ء يف اجلداول‬ ‫امتالأت اأر�شل �شم�مه� فتد َّفق ُ‬ ‫اإىل حيث يروي الزرع والبقل اأو ي�شقي النخل‪.‬‬ ‫وك�نت �شالّمة تنظر من �شب�ك الدار اإىل‬ ‫مر بفن�ء‬ ‫ال�شيف الغ�يل اأو ال�شيد الكرمي حني َّ‬ ‫الدار‪ ،‬وحت ِّدق يف وجهه تت�أمله ت� ُّأم ًال دقيق ً�‬ ‫�ش�ب‬ ‫وتدير طرفه� فيه من راأ�شه اإىل قدمه‪ ،‬ف�إذا ٌّ‬ ‫يف نحو اخل�م�شة والع�رشين‪ ،‬معتدل الق�مة‬ ‫عري�س الأكت�ف‪ ،‬خفيف اللحم دقيق الأطراف‪،‬‬ ‫اأبي�س الوجه يف �شمرة ت�شوبه‪ ،‬وتزينه حلي ٌة‬ ‫�شوداء لي�شت ب�لكثيفة ول ب�خلفيفة‪ ،‬يت�شل به�‬ ‫ُ‬ ‫ع�ر�ش�ن عليهم� �شعرات غري منتظمة‪ ،‬اأحفى‬ ‫�ش�ربه فال يبدو منه اإل خ�رشة اأ�شول ال�شعر‪،‬‬ ‫‪23‬‬ ‫�شوداء مر�شلة‬ ‫أهداب طويلة‬ ‫ُ‬ ‫وتظ ِلّل اأنفه الأقنى ا ٌ‬ ‫من عينني �شهالوين عليهم� اآث�ر ال�شهر‪ ،‬وفوقهم�‬ ‫ح�جب�ن كثيف�ن لو زحف� قلي ًال لقرتن�‪ ،‬وتلوح‬ ‫على جبهته الوا�شعة �شجدة خفيفة يف مثل لون‬ ‫ي�شك الن�ظر اإليه� اأنه� َج ْبه ُة ع�بد!‬ ‫الر�ش��س‪ .‬ل ُّ‬ ‫واأدارت �شالّمة يف ذهنه� –‬

‫عدد ‪144‬‬

‫‪ 6‬ت�رشين ‪2010 1‬‬


‫وهي تنظر اإليه يف تلك اللحظة الع�برة – م�‬ ‫أح�شت‬ ‫ك�نت ت�شمع عنه من تقواه ون�شكه‪ ،‬ف� َّ‬ ‫بعطف غريب عليه‪ ،‬و�شعرت برث�ء له ك�أنه� تقول‬ ‫يف نف�شه�‪« :‬م�شكني هذا الرجل! ل ينبغي ملثله‬ ‫اأن يدخل اإىل هن�»‪.‬‬ ‫وتوجه ابن �شهيل بعبد الرحمن اإىل جهة‬ ‫امل�رشبة‪ ،‬ف�إذا بن�ء مر َّبع مرتفع عن الأر�س‬ ‫قليالً‪ ،‬له� اأربعة اأبواب من اجله�ت الأربع تك�د‬ ‫ل�شعته� ت�شغل الن�شف من م�ش�حة جدرانه�‪ ،‬وهي‬ ‫مفرو�شة ب�لطن�ف�س‪ 24‬الثمينة‪ ،‬وعلى جوانبه�‬ ‫زرابى‪ 25‬مبطّ نة ب�ملخمل الوثري الزاهي الألوان‪.‬‬ ‫وتردد عبد الرحمن يف الدخول مل� راأى من‬ ‫مظ�هر الرتف التي مل يره� يف حي�ته‪ ،‬ول تطمئن‬ ‫اإليه� نف�شه الزاهدة يف زبرج احلي�ة ونعيم الدني�‬ ‫الف�نية‪ ،‬ولكن �ش�حب الدار ق�شى على تر ُّدد ِه اإذ‬ ‫اأخذ بيده ودخل به امل�رشبة يف ترحيب ب�لغ‪،‬‬ ‫وب�رش ط�فح‪ ،‬ف�أجل�شه يف �شدره� املُخمل الن�عم‬ ‫بني الو�ش�ئد‬ ‫الع�لية‬ ‫ا لتي‬ ‫تف�شل‬

‫ج�نب احلديقة خلف امل�رشبة‪ ،‬ف�إذا �شالّمة واقفة‬ ‫والعود يف يده� تغ�لب نف�شه� من ال�شحك‪ ،‬ودن�‬ ‫منه� ابن �شهيل فق�ل له�‪« :‬اجتهدي ي� حبيبتي‬ ‫الق�س ين�رشف من هن� اإل‬ ‫يف �شنعتك‪ .‬اإن� ل نريد َّ‬ ‫وهو متبول القلب»‪.‬‬ ‫وغمزت �شالّمة عينيه� مبت�شمة وق�لت‪:‬‬ ‫«�ش�أفعل ي� مولي‪ ..‬ل تخف»‪.‬‬ ‫ووقف ابن �شهيل على ب�ب امل�رشبة بحيث‬ ‫يرى عبد الرحمن داخله� و�شالّمة خ�رجه�‬ ‫وق�ل‪« :‬ا�شمع ي� عبد الرحمن واأ�ش�ر اإىل �شالّمة‬ ‫فطفقت حترك عوده� وتغني‪:‬‬

‫املق�عد بع�شه� عن بع�س‪.‬‬ ‫وغ�ب ابن �شهيل حلظة �شعر يف خالله� عبد‬ ‫الرحمن ب�شيق �شديد ك�أنه ال�شمكة توؤخذ من‬ ‫امل�ء لتتقلب على الأر�س‪ ،‬ول�شيم� حني نظر يف‬ ‫اجلدران فراأى اأنواع العيدان واملزاهر معلقة على‬ ‫جوانبه�‪.‬‬ ‫وع�د �ش�حب الدار فدخل معه غالم اأ�شود‬ ‫يحمل خوان ً�‪� 26‬شغرياً ف�أ�ش�ر له موله فو�شعه‬ ‫اأم�م عبد الرحمن‪ ،‬واأقبلت ج�رية كهلة ب�أطب�ق‬ ‫ملوءة ب�ل�شوا ِء واحللوى والعنب والع�شل‬ ‫َ‬ ‫ف�شفته� على اخلوان‪ ،‬وقعد ابن �شهيل بج�نب‬ ‫عبد الرحمن فطفق يالطفه ويعزم عليه يف الأكل‪،‬‬ ‫ف�أ�ش�ب عبد الرحمن ال�شواء واحللوى ولعق قلي ًال‬ ‫من الع�شل وق�ل‪« :‬احلمد للـه الذي اأطعمن� هذا»‪.‬‬ ‫وق َّدم له ابن �شهيل عنقوداً من العنب ف�أخذ‬ ‫عبد الرحمن ي�أكل منه ح َّبة ح َّبة وقد زالت عنه‬ ‫الوح�شة التي ك�ن يجده�‪ ،‬واأن�س اإىل �ش�حبه‬ ‫امله َّذب الظريف‪.‬‬ ‫وتركه ابن‬ ‫�شهيل كذلك‬ ‫وق�م اإىل‬

‫ُتنِي ُل َنزْر�ً قلي ًال َو ْه َي ُم�سْ ِف َق ٌة‬ ‫َ‬ ‫اف َم�س ْي َ�س ْ�ل َ ّي ِة �لف ِرقُ‬ ‫كَ َما َيخَ ُ‬ ‫ال �أعتقَ �للـ َه ِر ِق ّْي مِ ْن َ�س َبابتكم‬ ‫�سب ِب ُك ْم قلِقُ‬ ‫ما � َصّ ِين �أ َ ّننِي ٌّ‬ ‫َيتُ�قُ َق ْلبِي �إ َل ْي ُك ْم كِ ْي يال ِق َيك ْم‬ ‫كَ َما َي ُت ْ�قُ � َإل َمن ْ​ْجات ِه �لْغَ ِرقُ !‬ ‫فطرب ابن �شهيل طرب ً� �شديداً‪ ،‬ونظر اإىل عبد‬ ‫�س الب�رش‬ ‫الرحمن ف�ألف�ه �ش�كن الأطراف �ش�خِ َ‬ ‫غري �شدر يرتفع وينخف�س و�شفتني تختلج�ن‪،‬‬ ‫ويده اليمنى يف طبق العنب ل يرفعه� من‬ ‫الذهول‪.‬‬ ‫وك�نت �شالّمة ط َّبة‪ 27‬ب�لغن� ِء ت�رشفه وفْقَ‬ ‫م� ت�شتلهمه من مع�ين ال�شعر الذي تغنيه‪ ،‬جتعل‬ ‫َوكْ َده� اأن تط�بق بني نربات �شوته� وحرك�ت‬ ‫ف�رش‬ ‫املعنى‪ ،‬فتخرج القطعة من ال�شعر ك�أنه� ُت ِّ‬ ‫بدللة الرتجيع وال�شوت فوق دللة الألف�ظ‪،‬‬ ‫لت�أخذ مع�نيه� �شبيله� اإىل نف�س ال�ش�مع ك�أمن�‬ ‫ك�نت هذه املع�ين ت�شطرب يف نف�شه من ق َْبلُ‬ ‫ومل ت� ِأت اإليه� من اخل�رج‪.‬‬ ‫ك�نت تعطي كل كلمة م� ين��شبه� من قوة‬ ‫ال�شوت اأو �شعفه‪ ،‬ورفعه اأو خف�شه‪ ،‬واطراده اأو‬ ‫تقطعه‪ ،‬و�رشعته اأو بطئه‪ ،‬وا�شتوائه اأو التوائه‪.‬‬ ‫حتى يخ َّي َل اإىل ال�ش�مع فوق م� ي�شعر به من‬ ‫املع�ين التي ت�رشي من القطعة اإىل نف�شه‬ ‫اأو تفي�س من نف�شه على القطعة – اأنه يرى‬ ‫الكلم�ت وقد �ش�عت فيه� احلي�ة ك�أنه� اأج�ش�م‬ ‫ب�رشية جتيء وتذهب وتقوم وتقعد‪ ،‬وتلني‬ ‫وتق�شو‪ ،‬وت�شل وت�شد‪ ،‬وتذهب مذاهب احلي�ة‬ ‫املختلفة‪.‬‬ ‫واأ�ش�ر ابن �شهيل اإىل �شالّمة ا ْأن ح�ش ُبك‪،‬‬ ‫والتفت اإىل عبد الرحمن ق�ئالً‪« :‬هل اأعجبك‬ ‫َ‬ ‫الغن�ء ي� بن اأبي عم�ر؟»‪.‬‬ ‫وذُعر عبد الرحمن ل�شوت ابن �شهيل‬ ‫ك�أمن� اأف�ق من حلم‪ ،‬ومتتم ق�ئالً‪« :‬اأجل‬ ‫واللـه لقد ه َّز م�ش�عري»‪.‬‬ ‫ق�ل ابن �شهيل‪�« :‬شيكون اأف�شل لو غ َّن ْت‬

‫‪14‬‬

‫بني يديك‪ ،‬األ اأدخله� اإليك؟»‪ .‬فق�ل عبد الرحمن‬ ‫ب�شوت خ�فت «ل ي� بن �شهيل‪ .‬ح�شبي هذا»‪.‬‬ ‫ق�ل ابن �شهيل‪« :‬اإنه� ج�ريتي وقد اأعجبك‬ ‫غن�وؤه�‪ ،‬فم� مينعنك اأن تغني بني يديك!»‪.‬‬ ‫واأع�د عبد الرحمن قوله‪« :‬ل ي� بن �شهيل»‪.‬‬ ‫ولكن �ش�حب الدار مل ميهله اأن التفت اإىل‬ ‫ج�ريته وق�ل له�‪« :‬تع�يل ي� �شالّمة‪ ..‬اأدخلي»‪.‬‬ ‫ودخلت �شالّمة ب��شمة ك�أنه� رو�شة ت�رشق‬ ‫ب�لزهر وتنفح ب�لعطر‪.‬‬ ‫ف�نبهر عبد الرحمن وجعل ينظر اإليه�‬ ‫مذهوب ً� زائغ الب�رش ك�أنه ينظر اإىل �شيء اآخر‬ ‫غريه�‪ ،‬اإذ متثلت له �شورة املراأة التي راآه� يف‬ ‫من�مه املزعج‪ ،‬وخيل اإليه اأنه ي�شمع �شوته�‬ ‫وهي تقول‪« :‬ي� عبد الرحمن اأنقذين‪ ..‬ي� عبد‬ ‫الرحمن اأغثني!»‪.‬‬ ‫ك�ن ذلك كله يف حلظة هي يف ح�ش�ب‬ ‫الزمن ث�ني ٌة اأو بع�س ث�نية‪ ،‬ويف ح�ش�ب الواقع‬ ‫�شم�ع �شوت جميل ا ٍآت‬ ‫لعبد الرحمن ظَ ُرف َو�شع‬ ‫َ‬ ‫من خ�رج ب�ب اجلنة‪ ،‬وانطالقه ل�شم�عه حيث‬ ‫انتهى اإىل الأعراف فراأى املراأة اجلميلة الع�رية‬ ‫يف يده� املزم�ر ففزعت اإليه ملّ� راأته‪ ،‬وت�شبثت‬ ‫بعنقه وهي ت�شيح م�شتغيثة اإىل اآخر الق�شة‪.‬‬ ‫م� راعه اإل �شوت �شالّمة وهي تقول‪:‬‬ ‫«�شب�ح اخلري ي� بن اأبي عم�ر!»‪ .‬ف�أف�ق من‬ ‫ذهوله وا�شتمرت �شالّمة ق�ئلة‪« :‬م�ذا يخيفك‬ ‫يف من �شيء يخيف؟»‪.‬‬ ‫مني‪ ..‬هل َّ‬ ‫فتمتم عبد الرحمن ق�ئالً‪ ..« :‬نعم‪ ..‬ل‪ ..‬ل‪.»..‬‬ ‫ق�لت �شالّمة‪« :‬األ اأقعد ف�أغني لك؟»‪.‬‬ ‫ف�شكت عبد الرحمن ومل يجب‪.‬‬ ‫ق�ل ابن �شهيل‪« :‬اقعدي ي� فت�تي وه�تي‬ ‫م� عندك»‪ .‬واأ�ش�ر اإىل مقعد يف اجل�نب املق�بل‬ ‫وخطَ ْت اإليه‬ ‫فلمت من اأطراف ذيله�‪َ ،‬‬ ‫لل�شدر َّ‬ ‫خ�شب يف�شل و�شطه الدقيق‬ ‫مدبر ٌة ف�إذا قوام‬ ‫ٌ‬ ‫جنتني وا�شعتني‪ ،‬ثم انثنت م ْقبلة وتهي�أت لتقعد‬ ‫حيث اأ�شري عليه� قُب�لة عبد الرحمن‪ ،‬ف�إذا ج�رية‬ ‫م�ء ال�شب�ب‪ ،‬يف وجهٍ‬ ‫كع�ب يحري يف وجنتيه� ُ‬ ‫ٌ‬ ‫يرتدد الطرف فيه طوي ًال دون اأن ي�أخذ �شورة‬ ‫وا�شحة من تق�طعيه املختلفة املوؤتلفة يف‬ ‫وقت واحد‪ ،‬واأ�رشار تكوينه الإلهي البديع امل�ئج‬ ‫ب�شور �شتى وظالل متلفة واأطي�ف عجب‪.‬‬ ‫والتقت عين� عبد الرحمن بعينيه�‪ ،‬ف�إذا هم�‬ ‫غ ِزلت�ن غ�شي�شت�ن ل ي�شك الن�ظر اإليه� اأن يف‬ ‫و�شعهم� اأن تت�شع� بعد اإذا دع�هم� لذلك داع‪،‬‬ ‫وعلى خديه� نونت�ن تغوران كلم� ابت�شمت‪ ،‬ك�أن‬ ‫نبع ال�شحر الذي‬ ‫اللـه خلقهم� ليجتمع فيهم� ْ‬ ‫يتدفق من عينيه�! وله� �شفت�ن اأرجوانيت�ن‬ ‫�شمتت ف�إنهم� تقولن �شيئ�ً‪.‬‬ ‫مهم�‬ ‫ْ‬


‫حمراء‪ ،‬وجعلت على راأ�شه�‬ ‫وقد ارتدت حلة‬ ‫َ‬ ‫بي�ش�ء ت�شرت الن�شف الأعلى من �شعره�‬ ‫غاللة‬ ‫َ‬ ‫الأ�شود املن�شدل على كتفيه� من اخللف‪.‬‬ ‫واأ�ش�ر له� �شيده� ف�حت�شنت عوده� ح�نية‬ ‫عليه‪ ،‬وجعلت حتركه وتغني‪:‬‬ ‫وما هِ َي ِ�إ َالّ �أَ ْن �أَ َر�ها ف َُجاء ًة‬ ‫يب‬ ‫فاأُ ْب َه ُت َح َتّى ما �أَكا ُد ُ�أ ِج ُ‬ ‫�ص ُف عن َر�أيِي � َلّذي كُ ن ُْت َ�أ ْر َتئِي‬ ‫و�أَ ْ َ‬ ‫يب‬ ‫و�أَن َْ�سى � َ ّلذِي �أَ ْع َد ْد ُت ِح ْ َ‬ ‫ي تَغِ ُ‬ ‫و ُيظْ ِه ُر َقلْبي ُع ْذ َرها و ُيعِ ينُها‬ ‫‪28‬‬ ‫َعل َ َّي‪ ،‬فما ِل ِيف �ل ُف�ؤَ� ِد ن َِ�س ْي ُب‬ ‫ومل ين�شب عبد الرحمن اأن بكى من الت�أثر‪،‬‬ ‫ورفع اإىل �شالّمة عينني دامعتني وهو يقول‪:‬‬ ‫«اأح�شنت ي� ج�رية الإح�ش�ن كله»‪.‬‬ ‫وحترك للقي�م فق�ل له ابن �شهيل‪« :‬اإىل اأين‬ ‫ي� عبد الرحمن؟ امكث قلي ًال اأي�ش�ً‪� ..‬شت�شمعك‬ ‫�شوت ً� غريه»‪.‬‬ ‫ونظرت �شالّمة اإليه ق�ئلة‪« :‬نعم �ش�أغني لك‬ ‫حلن ً� اآخر»‪.‬‬ ‫فق�ل عبد الرحمن‪�« :‬شكراً لكم�‪� ،‬ش�أذهب‬ ‫الآن اإىل اأبي الوف� ِء حتى اأدرك �شالة الظهر يف‬ ‫امل�شجد‪ ..‬اإئذن يل ي� بن �شهيل»‪.‬‬ ‫ق�ل ابن �شهيل ب��شم�ً‪« :‬ل اآذن لك حتى‬ ‫تعطيني موؤثق ً� اأن تختلف اإلين� من حني اإىل‬ ‫حني»‪.‬‬ ‫فوعده عبد الرحمن ذلك ونه�س ق�ئالً‪:‬‬ ‫«�شكراً لك ي� �شالّمة»‪.‬‬ ‫ووقعت هذه الكلمة ال�شغرية من عبد الرحمن‬ ‫رش ْت‬ ‫موقعه� يف نف�س �شالّمة‪ ،‬فلم تذكر اأنه� � َّ‬ ‫لكلمة قيلت له� من كلم�ت الإطرا ِء وال�شتح�ش�ن‬ ‫�رشوره� بهذه الكلمة‪ ،‬ونه�شت اإىل ب�ب امل�رشبة‬ ‫وهي تقول‪« :‬اإىل اللق�ء»‪.‬‬ ‫وخرج ابن �شهيل يو ِّدع �شيفه العزيز اإىل‬ ‫ب�ب ال�شور‪.‬‬

‫�لف�سل �لثامن‬

‫ك�ن ذلك اليوم يوم ً� ف��ش ًال يف حي�ة عبد‬ ‫الرحمن‪ ،‬اأ�شبح بعده ل يفكر اإل يف �شالّمة‪ ،‬ول‬ ‫يجد الأن�س اإل يف جمل�شه�‪ ،‬وكرث اختالفه اإىل ابن‬ ‫�شهيل‪ ،‬واأح َّبه هذا فن�ش�أت بينهم� �شداقة متينة‬ ‫تزداد قوة يوم ً� فيوم�ً‪.‬‬ ‫و�شغف عبد الرحمن ب�شالّمة‪ ،‬فك�ن يحلم به�‬ ‫ليله ونه�ره‪ ،‬ويت�ش َلّل طيفه� اإليه حتى يف �شالته‬ ‫وقي�مه‪ ،‬وق�مت بني نف�شه الزاهدة الن��شكة وبني‬ ‫حرب عوان‪� 29‬شلي‬ ‫نف�شه املتفتحة للحي�ة‬ ‫ٌ‬ ‫بن�ره�‪ ،‬وك�ن وقوده� من روحه وج�شمه‪ ،‬و�شقي‬ ‫�شق�ء مل ي�شق قبله مثله‪ ،‬كم� �شعد به� �شع�دة‬ ‫به� ً‬ ‫مل يجد له� من قبل مثيالً‪.‬‬

‫ورجوت األ يكون �شحيح�ً»‪.‬‬ ‫ف�أج�به الكهل ق�ئالً‪« :‬ل ي� اأب� الوف� ِء بل‬ ‫هو �شحيح وااأ�شف�ه! لقد ُج َّن عبد الرحمن بحبه�‬ ‫وتد َلّه حتى ا�شتهر اأمره يف الن��س‪ ،‬فلم يبق مبكة‬ ‫بيت مل ي�شمع بحديث الق�س و�شالّمة»‪.‬‬ ‫وا ّأيد الكهل الآخر حديث �ش�حبه ق�ئالً‪« :‬بل‬ ‫�شمعت اجلواري والغلم�ن يغ ُّنون ب�أبي�ت يف‬ ‫لقد‬ ‫ُ‬ ‫�ش�أنهم� يف الطرق�ت»‪.‬‬ ‫فتن ًّهد ال�شيخ ق�ئالً‪« :‬ل حول ول قوة اإل‬ ‫العلي العظيم‪ .‬من ك�ن ي�ش ِّدق قط اأن عبد‬ ‫ب�للـه‬ ‫ّ‬ ‫الرحمن بن اأبي عم�ر يجل�س اإىل مغنية‪ ،‬وي�شمع‬ ‫مزم�ر ال�شيط�ن؟»‪.‬‬ ‫وح�نت من اأحد الكهلني التف�تة اإىل الن�فذة‬ ‫املط َلّة على ج�نب الطريق‪ ،‬ف�إذا به يرى عبد‬ ‫الرحمن مقب ًال يف ال�ش�رع‪ ،‬فق�ل‪�« :‬شبح�ن اللـه‪.‬‬ ‫هذا ابن اأبي عم�ر مقبالً‪ ..‬م� اأح�شبه اإ ّل اآتي ً�‬ ‫لزي�رتك ي� اأب� الوف�ءِ»‪.‬‬ ‫فته َلّل وجه ال�شيخ وبرقت اأ�ش�ريره من الفرح‬ ‫وق�ل‪« :‬احلمد هلل‪ .‬اإين لفي �شوق اإليه»‪.‬‬ ‫ق�ل الكهل‪« :‬اأرجو ا ْأن تن�شحه ي� اأب� الوف� ِء‬ ‫ورط نف�شه فيه»‪ .‬فق�ل اأبو‬ ‫ع�ش�ه يعدل عم� َّ‬ ‫الوف�ءِ‪« :‬اإين لأ�شتحي اأن اأكلمه يف هذا الأمر»‪.‬‬ ‫«اأت�شتحي من احلق ي� اأب� الوف�ءِ؟»‪.‬‬ ‫«بل اأ�شتحي له من نف�شي اأن يقع مثله يف‬ ‫اأمر كهذا»‪.‬‬ ‫ونظر الكهل الآخر اإىل ب�ب الغرفة‪ ،‬فلمح عبد‬ ‫الرحمن مقبالً‪ ،‬ف�لتفت اإىل اأبي الوف� ِء ق�ئالً‪« :‬ه�‬ ‫هو ذا اأقبل»‪.‬‬ ‫وا�شت�أذن عبد الرحمن يف الدخول‪ ،‬ف�أذن له‬ ‫ورحب به‬ ‫ال�شيخ فدخل م�ش ِلّم ً� فر ُّدوا عليه ال�شالم‪َّ ،‬‬ ‫اأبو الوف� ِء ق�ئالً‪« :‬اأه ًال بك ي� بن اأبي عم�ر‪.»..‬‬ ‫فق�ل عبد الرحمن‪« :‬كيف اأنت ي� اأب�‬ ‫الوف�ءِ؟»‪.‬‬ ‫«بخري ي� ُب َن َّي‪ ..‬واأين اأنت؟ لقد انقطعت عن‬ ‫زي�رتي منذ زمن!»‪.‬‬ ‫«معذرة ي� اأب� الوف�ء‪ ..‬لقد كنت م�شغولً»‪.‬‬ ‫«اأرجو اأن يكون قد انتهى �شغلك الآن»‪.‬‬ ‫فتن َّهد عبد الرحمن ق�ئالً‪« :‬اأرجو ذلك ي� اأب�‬ ‫الوف�ء»‪.‬‬ ‫وع�د اأبو الوف� ِء اإىل ال�شوؤال فق�ل‪« :‬م� هذا‬ ‫ال�شغل الذي �رشفك عن� ي� بني؟»‪.‬‬ ‫ففهم عبد الرحمن من نغمة اأبي الوف� ِء اأن‬ ‫ال�شيخ قد علم مب� ك�ن من اأمره‪ ،‬والتفت اإىل‬ ‫�ش�حبيه الكهلني فك�رشا طرفهم� ك�أمن� اأ�شفق� اأن‬ ‫ينظرا اإىل وجهه‪ ،‬ف�شكت عبد الرحمن ومل يجب‪.‬‬ ‫فق�ل اأبو الوف�ء‪« :‬قل يل ي� عبد الرحمن فو‬ ‫اللـه م� كنت تخفي عني �شيئ�ً»‪.‬‬

‫أ�شبح يجد له�‬ ‫وحليت احلي�ة يف عينه‪ ،‬وا َ‬ ‫مع�ين مل تخطر له من قبل على ب�ل‪ ،‬وتغريت‬ ‫نظرته اإىل الأ�شي�ء ف�أ�شبح يراه� بعني غري العني‬ ‫التي ك�ن يراه� بِه�‪ ،‬واإىل الن��س واأعم�لهم‪،‬‬ ‫ف�أ�شبح كثري العطف عليهم والعذر لهم‪.‬‬ ‫وتفتح قلبه لل�شعر بعد م� ك�ن يزدريه‬ ‫ويعتربه من اللـهو الذي ل يليق ب�ملتقني‪،‬‬ ‫ف�أ�شبح يهت ُّز له ويقوله املرة بعد املرة ينف�س‬ ‫به عن الكرب الذي يجده يف �شدره‪ ،‬اأو ي�شف به‬ ‫ال�شع�دة التي يجده� يف قرب �شالّمة‪.‬‬ ‫وا�شتهر مبكة حديث الق�س و�شالّمة فكرثت‬ ‫فيهم� الأق�ويل‪ ،‬وتز َّيدوا فيه� م� �ش�ء لهم‬ ‫الف�شول واخرتاع الرواي�ت‪.‬‬ ‫جراء ذلك اأن ا�شتوح�س عبد الرحمن‬ ‫وك�ن من َّ‬ ‫من جم�ل�س الن��س‪ ،‬وم�ل اإىل الوحدة والعزلة‪،‬‬ ‫فك�ن ي�ش ِلّي يف ركن ق�شي من امل�شجد‪ ،‬ويخرج‬ ‫منه منفت ًال حتى ل يثري ف�شولهم‪ ،‬فيعتكف يف‬ ‫بيته اأو يذهب لزي�رة ابن �شهيل‪.‬‬ ‫وانقطع برهة عن زي�رة �شديقه ال�شيخ‬ ‫ال�ش�لح اأبي الوف� ِء ك�أنه ك�ن ل يدري كيف‬ ‫يلق�ه وب�أي وجه يق�بله‪ ،‬حتى ا�شت ّد به ال�شوق‬ ‫اإليه فعزم اأن يلق�ه ويك�شف له ذات اأمره‪ ،‬لعله‬ ‫يجد عنده راأي ً� يهديه يف حريته‪ ،‬ومل�ش ً� ينقذه‬ ‫من ورطته‪.‬‬ ‫وك�ن اأبو الوف� ِء قد ا�شت�ق اإىل عبد الرحمن‬ ‫وعجب لنقط�عه عن زي�رته‪ ،‬وقد و�شل اإليه‬ ‫بع�س م� قيل عنه من الأح�ديث ولكنه مل ي�شدق‪،‬‬ ‫اأو مل ي�ش�أ اأن ي�شدق �شيئ ً� منه‪.‬‬ ‫واأ�شبح ذات يوم ق�عداً على فرا�شه‪ ،‬متدثراً‬ ‫بلح�فه‪ ،‬وعنده �ش�حب�ه الكهالن يعودانه فق�ل‬ ‫له اأحدهم�‪:‬‬ ‫«اإنك اليوم اأح�شن ح� ًل ي� اأب� الوف�ء»‪ .‬فق�ل‬ ‫اأبو الوف�ء‪« :‬اأجل ي� ولدي هلل احلمد‪ ..‬هل راأى‬ ‫اأحدكم� عبد الرحمن بن اأبي عم�ر؟»‪.‬‬ ‫ف�أج�به اأحدهم� ق�ئالً‪« :‬اإنن� نراه كل يوم يف‬ ‫امل�شجد كع�دته – اأم� يزورك ي� اأب� الوف�ء؟»‪.‬‬ ‫فق�ل اأبو الوف�ءِ‪« :‬لقد ك�ن يزورين دائم ً�‬ ‫ولكنه انقطع عني منذ ثالثة اأ�ش�بيع‪ ،‬وم� اأدري‬ ‫م� الذي قطعه عني»‪.‬‬ ‫فتجراأ اأحد الكهلني وق�ل‪« :‬لعل �شالّمة‬ ‫َّ‬ ‫ج�رية ابن �شهيل هي التي قطعته عنك»‪.‬‬ ‫وذعر اأبو الوف� ِء لهذه الكلمة ك�أمن� مل يتوقع‬ ‫اأن يقوله� اأحد اأ�شح�به اأم�مه‪ ،‬وق�ل وقد بدا الأمل‬ ‫يف وجهه‪�« :‬شالّمة؟ اأتقولن هذا اأنتم� اأي�ش�ً؟‬ ‫لقد حدثتني اأختي ع�لية اأنه� �شمعت الن��س‬ ‫يتحدثون عنه اأنه ع�شق ج�رية ابن �شهيل‪ ،‬واأنه‬ ‫يذهب كل يوم ل�شم�عه�‪ ،‬فلم اأ�شدق هذا القول‪،‬‬

‫‪15‬‬

‫فح�ول عبد الرحمن اأن يجيب ال�شيخ‪ ،‬فثقل‬ ‫عليه ذلك ف�أطرق راأ�شه ومل يجب‪.‬‬ ‫ولكن اإطراقه مل يطل اإذ �شمع �شوت ج�رية‬ ‫مت�شي يف ال�ش�رع وتغ ِّني بلحن من الأحل�ن‬ ‫الدارجة الب�شيطة التي يكرث وروده� يف احلج�ز‪،‬‬ ‫وتر ّدد بني فرتة واأخرى فت�شيع على الأل�شنة‪،‬‬ ‫وت�شري به� الركب�ن‪ .‬وهي اأ�شبه �شيء ب�حلداء‬ ‫يف ب�ش�طته� و�شهولته� لول خلوه� من تلك‬ ‫الروح البدوية الفحلة‪ ،‬ولول اأن فيه� من الط�بع‬ ‫احل�رشي الرقيق الن�عم الذي ل يخلو يف كثري‬ ‫من الأحي�ن من روح املج�نة وال�شتهت�ر‪ .‬كثرياً‬ ‫م� تت�شمن هذه الأغ�ين الدارجة خرب ح�دث من‬ ‫احلوادث الع�مة التي تقع يف احلج�ز اأو غريه من‬ ‫البلدان الإ�شالمية الأخرى‪ ،‬اأو نقداً لعمل والٍ من‬ ‫الولة اأو ت�شهرياً بف�شيحة اجتم�عية اأو خلقية‪،‬‬ ‫فك�أن تلك الأغ�ين ك�نت تقوم يف ذلك الوقت‬ ‫مق�م ال�شحف يف اأي�من� هذه‪.‬‬ ‫و�شمع اأبو الوف� ِء واأ�شح�به �شوت اجل�رية‬ ‫وهي منطلقة حل�جته� يف ال�ش�رع‪ ،‬ك�أمن� تتوىل‬ ‫عن عبد الرحمن م� ثقل عليه من اجلواب وهي‬ ‫تقول‪:‬‬ ‫َم ْن �سا َء َت ْه َي َام ْه‬ ‫ِيف ُح ِ ّب �سالّمة!‬ ‫يــامه �ل َ ّد�ئـ ْم‬ ‫ِ�س ُ‬ ‫وليـــل ُه �لقائــ ْم‬ ‫يا بن �أبِي َع َ ّما ْر‬ ‫�ل�س َ ّما ْر!‬ ‫�أُ ْح ُدوث َة ُ ّ‬ ‫�لقـــ ُ ّ�س‬ ‫ِل َيـــ ْهنَكِ‬ ‫َ‬ ‫ْـــ�س!‬ ‫�أَنْــتِ َل ُه َنف ُ‬

‫ـعلـن‬ ‫�ال َآن فلــيــُ ْ‬ ‫�لقـ ُ ّ�س‬ ‫ق ْد‬ ‫َ‬ ‫وقـــع َ‬ ‫َْ‬ ‫ل َيـ ْحم ِه �ل َ ّبا‬ ‫وخــ ْ�فه �لر َ ّبـــا‬ ‫َ‬ ‫بـــا َد�تــكْ‬ ‫�أَ ْي َـن عِ َ‬ ‫�أَ ْم َ�س ْت �سباباتُكْ‬ ‫َـ�س!‬ ‫�ســـالّم َة �لق ِ ّ‬ ‫يــا ُم ْن َي َة �ل َ ّنف ِْ�س‬ ‫َ‬ ‫فحمى اأبو الوف�ء غ�شب ً� وق�ل‪« :‬ويل لبنة‬ ‫َ‬ ‫الف�علة»‪ .‬والتفت اإىل اأحد الكهلني ق�ئالً‪« :‬اخرج‬ ‫فكم فمه�»‪.‬‬ ‫ي� عبد اللـه ّ‬ ‫ف��شتجمع عبد الرحمن قوته وق�ل‪« :‬بل‬ ‫دعه� ي� عبد اللـه فهي اأبي�ت �ش�ئرة يف اأفواه‬ ‫الع�رشات من اجلواري والغلم�ن يف اأزقة مكة‬ ‫و�شوارعه�»‪.‬‬ ‫فق�ل اأبو الوف� ِء وهو يرجف من الغ�شب‬ ‫ك�أنه ن�شي م� قد �شمع م� قيل عن �ش�حبة‬ ‫ال�ش�ب الن��شك‪« :‬ل بد من �شكواهن اإىل الوايل‪..‬‬ ‫كيف ن�شكت عن هذا البهت�ن؟»‪.‬‬ ‫فق�ل عبد الرحمن بهدوء‪« :‬اإنه لي�س ببهت�ن‬ ‫ي� اأب� الوف�ءِ»‪.‬‬ ‫فنظر اإليه ال�شيخ ك�أنه ينكر عليه قوله وق�ل‪:‬‬ ‫«مع�ذ اللـه اأن يقع منك هذا ي� بن اأبي عم�ر»‪.‬‬ ‫البك�ء وق�ل ب�شوت‬ ‫فغلب عبد الرحمن‬ ‫ُ‬ ‫تخنقه العربة‪« :‬اإنه واللـه قد وقع ي� اأب� الوف�ءِ‪..‬‬ ‫ول حيلة يل فيه»‪.‬‬

‫عدد ‪144‬‬

‫‪ 6‬ت�رشين ‪2010 1‬‬


‫ف�شكت اأبو الوف� ِء وهو يغ�لب عربة جتول‬ ‫يف عينيه ثم ق�ل‪« :‬اإن تك قد وقعت يف �شيء من‬ ‫أنب اإىل اللـه ف�إن املوؤمن اإذا ت�ب ن�ب اللـه‬ ‫ذلك ف� ْ‬ ‫عليه‪.»30‬‬ ‫فق�ل عبد الرحمن ب�شوت متقطع‪« :‬لقد‬ ‫ج�هدت لأ�رشف نف�شي عن روؤية هذه اجل�رية‬ ‫ُ‬ ‫و�شم�عه�‪ ،‬فلم اأجد اإىل ذلك �شبيالً»‪.‬‬ ‫ق�ل اأبو الوف�ءِ‪« :‬يف و�شعك لو �شئت اأن تنقطع‬ ‫عن دار ابن �شهيل وتفرغ اإىل �شالتك»‪.‬‬ ‫ف�أج�به عبد الرحمن وقد ع�دت اإليه رب�طة‬ ‫ج�أ�شه ق�ئالً‪« :‬لقد فعلت ذلك فوجد ُتني ل اأن�شط‬ ‫اإىل �شالتي يف اليوم الذي ل اأرى �شالّمة فيه»‪.‬‬ ‫فحوقل اأبو الوف� ِء وق�ل بلهجة فيه� �رشامة‬ ‫وق�شوة‪« :‬ا َأو قد بلغ ال�شيط�ن منك هذا املبلغ ي�‬ ‫َ�س حتى ا�شتط�ع اأن يريك الب�طل ح ّق�ً؟»‪.‬‬ ‫ق ُّ‬ ‫فق�ل عبد الرحمن‪« :‬اأبعد من هذا ي� اأب�‬ ‫أ�شك ا َّأن هذا من عمل ال�شيط�ن‪،‬‬ ‫الوف�ءِ‪ ،‬حتى ل َّ‬ ‫فقد وجد ُتني بعد اأن ُبليت بحب هذه اجل�رية اأكرث‬ ‫ن�ش�ط ً� يف عب�دة ر ِّبي‪ ،‬واأغزر دمعة يف �شالتي‪،‬‬ ‫رق قلبي وذاب‪ ،‬و�شعرت بفي�س‬ ‫واإذا قراأت القراآن َّ‬ ‫علي!»‪.‬‬ ‫من املع�ين ينث�ل َّ‬ ‫�شكت ال�شيخ هنيهة ك�ملتعب م� �شمع ثم‬ ‫ق�ل‪« :‬ل يغرنك هذا ي� عبد الرحمن‪ ،‬ف�إن لل�شيط�ن‬ ‫أدق من ال�شعرة‪ ،‬وقد‬ ‫اإىل نف�س املوؤمن مل�ش�رب ا ّ‬ ‫نبيه عليه ال�شالة وال�شالم اأن يعوذ به‬ ‫اأمر اللـه ّ‬ ‫من �رش الو�شوا�س ا َ‬ ‫خل َّن��س‪ ،‬الذي يو�شو�س يف‬ ‫جل َّن ِة والن��س»‪.‬‬ ‫�شدور الن��س‪ ،‬مِ َن ا ِ‬ ‫فق�ل عبد الرحمن وقد ع�دت رقته اإليه‪« :‬ا ْإن‬ ‫يكن م� تقول حق ً� في� طول �شق�ئي؟»‪.‬‬ ‫وك� َّأن ال�شيخ ك�ن م�شغو ًل ب�أفك�ره عن مق�ل‬ ‫عبد الرحمن‪ ،‬فلم ي�شغ اإليه وا�شت�أنف حديثه‬ ‫ق�ئالً‪« :‬اأخ�شى ي� بن اأبي عم�ر اأن اأكون �رشيك ً�‬ ‫يف هذا الذنب‪ ،‬ف�أن� الذي بعت �شالّمة لبن �شهيل‬ ‫الغن�ء‪ ..‬ولع ّل اللـه‬ ‫مع علمي ب�أنه �شيع ِلّمه�‬ ‫َ‬ ‫أحب‬ ‫ع�قبني على ذلك ب�أن �ش َلّط فتنته� على ا ِّ‬ ‫الن��س اإ َ‬ ‫يلّ»‪.‬‬ ‫وابتدره اأحد الكهلني وق�ل‪« :‬م� اأ�شد‬ ‫حم��شبتك لنف�شك ي� اأب� الوف�ءِ! اإن اللـه يقول‪:‬‬ ‫»ول َت ِز ُر َوا ِز َر ٌة ِو ْز َر اأُ ْخ َرى»‪.‬‬ ‫ومل يجد ال�شيخ فر�شة ليقول كلمة اأخرى‪،‬‬ ‫رن �شوت غالم على حم�ره يف الطريق وهو‬ ‫اإذ َّ‬ ‫يغ ّني‪:‬‬ ‫عــلن‬ ‫�ال َآن فـــل ُي ْ‬ ‫َـــ�س‬ ‫ق ْد َوق َ​َع �لق ُ ّ‬ ‫َْ‬ ‫ل َي ْحم ِه �ل َ ّبا‬ ‫وخ ْ�فــه‬ ‫�لربـــّا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫�أَ ْي‬ ‫بــا َد�تــــكْ‬ ‫عِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫يامـ ْه‬ ‫َم ْن �سا َء َت ْه َ‬ ‫حب �سالّمــة!‬ ‫ِيف ِ ّ‬ ‫يـــامه �ل َ ّد�ئــ ْم‬ ‫ِ�س ُ‬ ‫وليـــل ُه �لقائــــ ْم‬ ‫يا بن �أبِي َع َ ّمــا ْر‬

‫�أَ ْم َ�س ْت �سباباتُكْ‬ ‫َــــ�س!‬ ‫�سـالّم َة �لق ِ ّ‬ ‫ْــ�س‬ ‫َيا ُم ْن َي َة �ل َ ّنف ِ‬

‫�ل�سـّـ َ ّما ْر!‬ ‫�أُ ْح ُدوثـ َة ُ‬ ‫َـــ�س‬ ‫لـــ ِـ َي ْه َنـكِ �لق ُ ّ‬ ‫ْـــــ�س!‬ ‫�أَنْــتِ َل ُه َنف ُ‬

‫الفقيه الن��شك ملك�نته يف نفو�س اأهل مكة‪ ،‬حتى‬ ‫ك�ن ي�رشب به املثل يف ن�شكه وعب�دته‪.‬‬ ‫فلي�س بعجيب اأن تكون �شدمته عنيفة اإذ‬ ‫ع��س حتى راأى اأمله يخيب يف �شديقه الق�س‬ ‫الذي ط�مل� اعت َّز به‪ .‬واعتربه املثل الذي ينبغي‬ ‫اأن يكون عليه �شب�ب الإ�شالم يف هذا العهد الذي‬ ‫اأخذ فيه اللـهو يطغى على اجلد‪ ،‬واأو�شك حب‬ ‫الرتف وامليل اإىل ال�شتمت�ع مبلذات احلي�ة‬ ‫َّ‬ ‫الف�نية يق�شي على م� بقي يف قلوب الن��س من‬ ‫روح التقوى والورع والزهد‪.‬‬ ‫ا�شتجداء عبد الرحمن فتي� �ش�حبه‬ ‫ومل يكن‬ ‫ُ‬ ‫اأبي الوف� ِء مب� ينقع من غلته‪ ،‬وي�ش ُّد من عزميته‪،‬‬ ‫ويوفق بع�س التوفيق بني م� وقع فيه من‬ ‫ال�رشورة واملحنة‪ ،‬وم� يتطلبه مثله الديني‬ ‫الأعلى – مل يكن ذلك عن جهل منه ب�لدين‪ ،‬فقد‬ ‫ك�ن عبد الرحمن فقيه�ً‪ ،‬وك�ن ال�شيوخ والكهول‬ ‫ل يجدون حرج ً� يف الأخذ عنه‪ ،‬وا�شتفت�ئه فيم�‬ ‫ينوبهم من اأمور دينهم‪ ،‬ولكنه اأراد اأن ي�شتربئ‬ ‫لنف�شه ولدينه‪ ،‬وطمع يف �شديقه ال�شيخ اأن يكون‬ ‫عون ً� له على اخلال�س بوجه من الوجوه املعقولة‬ ‫من ذلك امل�أزق الذي وقع فيه‪ ،‬وظهرياً له ي�ش�عده‬ ‫يف اجتي�ز تلك املحنة النف�شية الكربى التي ل‬ ‫يو َؤم ُن فيه� على مثل �شب�به الع� ِرم اأن يرت َّدى به‬ ‫يف مه�وي الهالك الأكرب‪.‬‬ ‫ولكنه مل يجد من اأبي الوف� ِء اإل �شالبة‬ ‫يراه� يف غري حم ِلّه�‪ ،‬ول مطمع له معه� يف اأن‬ ‫يرباأ من الع ِلّة التي ي�شكو منه�‪ ،‬فراأى اأن ينقطع‬ ‫عن زي�رته ريثم� ي�شلح بنف�شه من اأمره م�‬ ‫عجز عن اإ�شالحه ب�لتع�ون معه‪ .‬وك�ن �شديداً‬ ‫على نف�شه اأن يقطع بيده عرى ال�شداقة املتينة‬ ‫التي ربطت بينه وبني ال�شيخ ال�ش�لح برهة من‬ ‫الزم�ن ق�شي�ه� يف تقوى اللـه‪ ،‬وتع�ون� فيه�‬ ‫الرب والإح�ش�ن‪ ،‬ولكن ق�شي الأمر ومل يكن‬ ‫على ِ ِّ‬ ‫إبق�ء على حرمة ال�شيخ وتف�دي ً� من‬ ‫بد من ذلك ا ً‬ ‫اإيذائه يف تلك ال�شن الع�لية ب�أكرث م� اأوذي به‬ ‫من املج�دلة واحلج�ج‪.‬‬ ‫وك�ن كرور الأي�م قد خ َّفف كثرياً من احلرية‬ ‫التي ك�ن يجده� عبد الرحمن يف اأمر ذلك‬ ‫احل�دث اخلطري الذي طراأ عليه‪ ،‬واطم� َّأن بع�س‬ ‫الطمئن�ن اإىل موقفه منه اأم�م ربه‪ ،‬فك�أنه قد‬ ‫وجد من نف�شه الفُتي� التي ط�مل� طمع اأن ين�له�‬ ‫من �ش�حبه ال�شيخ فلم ُي ْق َّدر له ذلك‪.‬‬ ‫وهداأت تلك احلرب اجل َّب�رة التي ك�نت ت�شتعر‬ ‫يف راأ�شه بني نف�شه التقية الزاهدة ونف�شه املقبلة‬ ‫على احلب واحلي�ة‪ ،‬فك�أمن� ت�ش�حلت� على م� فيه‬ ‫اخلري ل�ش�حبهم�‪ ،‬اأو �شعفت� من طول العراك‬ ‫م�شمى‪.‬‬ ‫فتوادعت� اإىل اأجل غري َّ‬

‫�لف�سل �لتا�سع‬

‫ع�د عبد الرحمن بن اأبي عم�ر لزي�رة‬ ‫�ش�حبه ال�شيخ اأبي الوف� ِء بعد ذلك مرتني‪،‬‬ ‫ح�ول فيهم� اأن يقنعه بعذره فيم� اب ُتلِي به‬ ‫من ذلك احلب الذي ل قِ ب َل له بدفعه‪ ،‬لعله يظفر‬ ‫منه بكلمة ل ِّينة‪ ،‬تنزل برداً و�شالم ً� على �شدره‬ ‫املت�أجج ب�حلب‪ ،‬وقلبه الط�فح ب�حلرية‪ ،‬وت�شع‬ ‫ح َّداً للحرب امل�شتعرة الق�ئمة بني نف�شه الأوىل‬ ‫ونف�شه الث�نية‪ ،‬فلي�س من احلق عنده اأن ل يكون‬ ‫ملثل هذه احل�لة املوجودة يف �شميم احلي�ة‪،‬‬ ‫ويف فطرة اللـه التي فطر الن��س عليهم� جميع�ً‪،‬‬ ‫من عالج غري البرت لو ك�ن يف ا�شتط�عته البرت‪،‬‬ ‫فكيف ومل يكن له بهذا البرت يدان‪.‬‬ ‫ولكن اأب� الوف� ِء ك�ن �شديداً �ش�رم ً� يف‬ ‫موقفه من عبد الرحمن فلم ت�أخذه يف ذلك هوادة‬ ‫اأو لني‪ ،‬ومت�شك ب�أن م� وقع فيه عبد الرحمن من‬ ‫الفتنة بهذه القينة وال�شم�ع لأحل�نه� اإثم �رشيح‬ ‫ل ت�أويل فيه‪ ،‬ول يغفره اللـه له حتى يقلع عنه‬ ‫الإقالع ويكف عنه األب َّتة‪ .‬وك�ن ي�شت ُّد على عبد‬ ‫الرحمن يف ذلك مب� له من ال َّدالة عليه‪ ،‬ويجتهد‬ ‫بكل و�شيلة اأن يحمله على الرجوع اإىل �شريته‬ ‫الأوىل‪ ،‬ون�شي م� بينه وبني �شديقه ال�ش�ب من‬ ‫ال�شن‪ ،‬فم� يراه هو واأمث�له من ال�شيوخ‬ ‫ف�رق‬ ‫ِّ‬ ‫الط�عنني يف ال�شن‪ ،‬ال�ش�ئرين يف املرحلة‬ ‫الأخرية من احلي�ة‪ ،‬مكن ً� �شهل النته�ج‪ ،‬قد‬ ‫يكون يف نظر �ش�ب مثل عبد الرحمن م�شتحي ًال‬ ‫اأو ك�مل�شتحيل‪.‬‬ ‫وقد ن�ش�أ اأبو الوف� ِء يف ع�رش عبد الرحمن‪،‬‬ ‫واأخذ نف�شه ب�ل�شدة وال�رشامة من �شغره‪.‬‬ ‫�شني حي�ته‬ ‫وا�شتغل ب�لتج�رة والك�شب من‬ ‫ِّ‬ ‫الأوىل‪ ،‬و َ‬ ‫مل َيعِن له من الظروف الق�هرة م� م�ل‬ ‫به عن النهج الذي اختطه لنف�شه يف احلي�ة‪ ،‬فك�ن‬ ‫�ش�رم ً� على نف�شه وعلى اأهله‪ ،‬وقد راأين� كيف‬ ‫ا�شت َّد يف مع�ملة ج�ريته �شالّمة التي ر َّب�ه� من‬ ‫�شغره�‪ .‬وك�ن يح ُّبه� وحت ُّبه� زوجه اأم الوف� ِء‬ ‫ح َّب ً� يقرب من حب الولد‪ .‬فلم� راأى ميله� للغن� ِء‬ ‫وح�ول �رشفه� عنه فلم يفلح‪ ،‬ب�عه� غري ن�دم‬ ‫جرا ِء ذلك اأن م�تت زوجه على‬ ‫عليه� فك�ن من َّ‬ ‫اآث�ره� حزن�ً‪.‬‬ ‫وراأين� كذلك �ش َّدته على اأرب�ب اللـهو والغن�ءِ‪،‬‬ ‫وحملته الق��شية عليهم‪ ،‬و�شعيه لدى الولة‬ ‫لإخراجهم من مكة حتى ل يف�شدوا فتي�نه�‪،‬‬ ‫وراأين� كيف ي�شتعني يف ذلك ب�شديقه ال�ش�ب‬

‫‪16‬‬

‫ولكن ا ْإن هداأت هذه احلرب الق�ئمة يف‬ ‫راأ�شه‪ ،‬فقد ق�مت حرب اأخرى ل تقلُّ هو ًل عن‬ ‫تلك يف �شدره‪ ،‬بني �شغفه ب�شالّمة ورغبته‬ ‫الظ�مئة يف احل�شول عليه�‪ ،‬وبني �شعوره‬ ‫ب�لعقب�ت التي تقوم يف طريقه دونه�‪ .‬فهو‬ ‫يعلم اأن ابن �شهيل يحب ج�ريته ويوؤثره�‬ ‫ويف�شل‬ ‫على كل م� ميلك يف احلي�ة‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫وكل متعة من متع‬ ‫كل نعيم ِّ‬ ‫م�عه� على ِّ‬ ‫َ�ش َ‬ ‫العي�س؛ فال يعقل اأن يبيعه� لأحد ولو اأعطى‬ ‫وه ْب اأن ير�شى‬ ‫به� اأ�شع�ف اأ�شع�ف ثمنه�‪َ .‬‬ ‫ببيعه� ف� ُّأي م�ل يف الدني� يقوم بثمن تلك‬ ‫اجلوهرة الغ�لية التي لو مل يكن يف الدني�‬ ‫غريه� مل� نق�شه� ذلك من مت�عه� وزينته�‬ ‫�شيئ�ً‪ .‬و َب ْع ُد فم�ذا ميلك عبد الرحمن من‬ ‫امل�ل غري تلك ال�شيعة التي ورثه� عن اأبيه‬ ‫والتي ل ت�ش�وي يف نظره نظرة ينظره� يف‬ ‫غن�ءه�‬ ‫وجه �شالّمة‪ ،‬اأو حلظة ي�شمع فيه�‬ ‫َ‬ ‫العذب‪.‬‬ ‫لقد َعل َِم عبد الرحمن اأن �شالّمة ت�شمر له‬ ‫مثل م� ي�شمر له� من احلب‪ ،‬عرف ذلك من‬ ‫نظرات عينيه�‪ ،‬وفلت�ت حديثه�‪ ،‬وخفوفه�‬ ‫للق�ئه كلم� اأقبل‪ ،‬ون�ش�طه� عند ح�شوره‬ ‫كلم� ح�رش‪ ،‬ووجومه� عند ان�رشافه من دار‬ ‫موله�‪ .‬وتلك نعمة كربى ل ي�شتطيع عبد‬ ‫الرحمن القي�م ب�شكره�‪ ،‬ولكن م� قيمة هذه‬ ‫عنده وغن�ءه� له‪ ،‬وهو ل ينوي ريبة يريبه�‬ ‫معه� ول يريده� اإل حاللً؟‬ ‫وهل تدور الريبة قط بخلد عبد الرحمن‬ ‫وهو م� هو يف تقواه وورعه وفقهه ودينه‬ ‫وخوفه من اللـه و�شدة حم��شبته لنف�شه؟‬ ‫يخر من ال�شم�ء‬ ‫ل ْأه َو ُن عليه من ذلك اأن َّ‬ ‫فتخطفه الطري اأو تهوي به الريح يف مك�ن‬ ‫�شحيق‪.‬‬ ‫ومبن يقرتف الريبة؟ اأبتلك التي وهبه�‬ ‫قلبه واأحب احلي�ة من اأجله� وعرف جم�ل‬ ‫الكون مل� عرفه�؟‬ ‫ومن يخون فيه�؟ اأذلك ال�شديق الكرمي‬ ‫الذي اأحبه واأع َّزه ووط�أ له كنفه واأحله من‬ ‫نف�شه حم ًال كرمي�ً‪ ،‬وائتمنه على حرمته‬ ‫ووثق بع�شمته ودينه؟‬ ‫ذلك ال�شديق الكرمي الذي تغ��شى زمن ً�‬ ‫احلب الوليد الذي اأخذ ينمو بينه وبني‬ ‫عن ِّ‬ ‫مر الأي�م‪ ،‬حتى‬ ‫ج�ريته الأثرية عنده على َّ‬ ‫اإذا ترعرع وبلغ اأ�شده مل يبخل اأن يوؤثر به�‬ ‫على نف�شه‪ ،‬فيعر�شه� عليه هِ بة خ�ل�شة‬ ‫من عنده على �ش َّدة تعلقه به� ونف��شته�‬ ‫عنده‪ ،‬فم� ح�ل بينه وبني تخ ِلّيه عنه� لعبد‬


‫‪17‬‬

‫عدد ‪144‬‬

‫‪ 6‬ت�رشين ‪2010 1‬‬


‫إب�ء عبد الرحمن‪.‬‬ ‫الرحمن اإ ّل ا ُ‬ ‫�س الكرمي من قِ َبلِ ابن‬ ‫على اأن هذا ال َع ْر َ‬ ‫�شهيل الذي اأبى عبد الرحمن قبوله كراهية اأن‬ ‫يرزاأ �شديقه يف م�له – ول�شيم� بعدم� انتهى‬ ‫�رشاً من وقوع ابن �شهيل يف ال�شيق وكرثة‬ ‫اإليه ّ‬ ‫الديون عليه من جراء جوده واإ�رشافه – قد قوى‬ ‫من اأمل عبد الرحمن يف احل�شول على �شالّمة‬ ‫ف�عتزم يف نف�شه اأمراً‪.‬‬ ‫وروؤى عبد الرحمن بعد ذلك ي�شتغل‬ ‫ُ‬ ‫ب�ل�شم�رشة يف ال�شوق ويجتهد يف الك�شب‪ ،‬فلم‬ ‫يعجب الن��س لأمره بعدم� ك�ن منه م� ك�ن؛‬ ‫ولكن اأحداً مل يعلم م�ذا طوى عزمه عليه‪ .‬واإذا‬ ‫َّ‬ ‫اأظله الليل وق�شى �شالة الع�ش� ِء الأخرية خرج‬ ‫اإىل العرا ِء خ�رج مكة وارتقى �شعب ً� من �شع�به�‬ ‫فق�شى �شطراً من ليله هن�ك ينظر يف ال�شم�ء‬ ‫ويت�أمل يف النجوم‪.‬‬ ‫وب َكّر عبد الرحمن ذات �شب�ح اإىل ابن‬ ‫�شهيل فتلق�ه ب�لب�رش والرتحيب كع�دته‪ ،‬وجل�س‬ ‫يح�دثه يف امل�رشبة فق�ل له فيم� ق�ل‪« :‬لقد‬ ‫اأعجبتني اأبي�تك ي� بن اأبي عم�ر‪ ،‬اإنك ل�ش�عر»‪.‬‬ ‫فق�ل عبد الرحمن وقد اأدركه �شيء من‬ ‫اخلجل‪« :‬اأي اأبي�ت تعني ي� بن �شهيل؟»‪ .‬ف�أج�به‬ ‫ابن �شهيل ق�ئالً‪« :‬الأبي�ت التي قلته� يف‬ ‫�شالّمة»‪.‬‬ ‫ف�زداد خجل عبد الرحمن حتى تورد خده‬ ‫ومتتم ق�ئالً‪« :‬ولكنني‪.»..‬‬ ‫فق�طعه �ش�حبه ق�ئ ًال وهو يبت�شم‪« :‬ل‬ ‫إخف�ءه� عني‪ ،‬لقد اأن�شد ْته� �شالّمة يل‬ ‫حت�ول ا َ‬

‫و�شعت له� حلن�ً»‪.‬‬ ‫بت به�‪ ،‬وقد‬ ‫ف� ِ‬ ‫أعج ُ‬ ‫ْ‬ ‫واأقبلت �شالّمة عند ذلك ودخلت ب��شمة‬ ‫وق�لت‪« :‬اأنعم �شب�ح ً� ي� عبد الرحمن»‪.‬‬ ‫ف�أج�به� عبد الرحمن ق�ئالً‪« :‬عمي �شب�ح ً�‬ ‫ي� �شالّمة‪ ..‬اإين �ش�خط عليك»‪.‬‬ ‫ق�لت متدللة‪« :‬عالم ي� بن اأبي عم�ر؟»‪.‬‬ ‫ق�ل له�‪« :‬اأمل تعديني ب�أن ل تن�شدي الأبي�ت‬ ‫ملولك؟»‪.‬‬ ‫فك�رشت طرفه� له وق�لت‪« :‬دع عنك هذا‪..‬‬ ‫�رش مولي ب�أبي�تك وو�شعت له� حلن�ً»‪.‬‬ ‫لقد ُ َّ‬ ‫فق�ل ابن �شهيل‪« :‬اإن عبد الرحمن يخ�شى اأن‬ ‫اأغ�ر منه عليك ي� �شالّمة‪.»..‬‬ ‫ف�شحكت �شالّمة وق�لت‪« :‬ليطمئن ب�لك‪ ..‬اإن‬ ‫رشه اأن‬ ‫م ْن ي�ش ِّبب بج�ريته بل ي� ُّ‬ ‫مولي ل يغ�ر ِ َّ‬ ‫ي�شمع �شعراً رائع ً� ك�شعرك»‪.‬‬ ‫فق�ل ابن �شهيل‪« :‬اأجل واللـه اإنه ل�شعر رائع‬ ‫– ه�تي اأ�شمعين� ي� �شالّمة»‪.‬‬ ‫فق�مت اإىل عود مع َلّق يف احل�ئط ف�أخذته‪،‬‬ ‫والتفتت اإىل عبد الرحمن ق�ئلة‪« :‬اإنه حلن‬ ‫�شيعجبك»‪ .‬وم�لت بجنبه� متكئة على الو�ش�ئد‬ ‫الع�لية واأخذت جت ِّرب عوده� وت�ش ُّد اأوت�ره‪،‬‬ ‫ك�أمن� ت�شبطه على حلنه� اجلديد‪ ،‬وطفق العود‬ ‫يرتمن يف حجره� وهي تغني‪:‬‬

‫ف�رشب بيده على ظهره ق�ئالً‪« :‬ثق ي� بن اأبي‬ ‫عم�ر اأين لك ملن الع�ذرين!!»‪.‬‬ ‫وع�د اإىل مقعده وا�شتمرت �شالّمة يف‬ ‫غن�ئه�‪:‬‬ ‫َ�س �سالّم ًة‬ ‫أحب �لق ُ ّ‬ ‫قَال�� � َ ّ‬ ‫�لطّاهِ ُر‬ ‫ّا�سكُ َ‬ ‫ّقي �ل َن ِ‬ ‫َو ْه َ� �ل َت ُ ّ‬ ‫كَ اأَ َ ّنا َ ْ‬ ‫ل َي ْدر َق ْبلي � ْل َه�ى‬ ‫َاج ُر‬ ‫�إال‬ ‫�لغ�ي � ْلفَاتِكُ � ْلف ِ‬ ‫ُّ‬ ‫فظهر الت�أثر ال�شديد على عبد الرحمن‪ ،‬وم�‬ ‫بلغت �شالّمة اإىل قوله�‪:‬‬ ‫ين َب َ�صٌ مِ ْث ُل ُك ْم‬ ‫َيا َق ْ� ِم �إِ ِ ّ ْ‬ ‫َو َفاطِ ِر ْي ر ُ ّب ُك ُم � ْل َفاطِ ُر‬ ‫ل كَ ِب ٌد َت ْه ُف ْ� كَ اأَكْ َبادِكُ ْم‬ ‫ِْ‬ ‫ل ُف�ؤَ� ٌد مِ ْث ُل ُك ْم َ�ساعِ ُر!‬ ‫و‬ ‫َِْ‬ ‫حتى طفق عبد الرحمن يبكي‪ ،‬فق�ل ابن‬ ‫�شهيل‪« :‬اأعيدي ي� �شالّمة‪ :‬ي� قوم‪.»..‬‬ ‫ف�أع�دت البيتني فق�ل عبد الرحمن وهو‬ ‫ح�ش ُبك‪ .‬لك�أين‬ ‫«ح�ش ُبك ي� �شالّمة ْ‬ ‫مي�شح دموعه‪ْ :‬‬ ‫واللـه مل اأقل هذه الأبي�ت‪ ،‬لقد ك�شوته� بتلحينك‬ ‫روح ً� مل تكن يل»‪.‬‬ ‫فق�لت �شالّمة‪« :‬اإمن� اأعجبني �شعرك ف�ألهمني‬ ‫هذا التلحني»‪.‬‬ ‫وبينم� هم يف ذلك اإذ دخل غالم ابن �شهيل‪،‬‬ ‫فدن� من موله واأخربه اأن ب�لب�ب ر�شول الق��شي‬ ‫يريد اأن يراه؛ فبدت على وجهه م�شحة من الكدر‬ ‫وق�ل للغالم‪« :‬ائذن له ب�لدخول»‪.‬‬ ‫ف�نطلق الغالم وخرج ابن �شهيل يف اأثره من‬ ‫امل�رشبة‪ ،‬حتى اإذا بلغ ب�ب ال�شور وجد الر�شول‬ ‫أجب مولن� الق��شي‬ ‫فحي�ه وق�ل له الر�شول‪« :‬ا ْ‬ ‫ي� بن �شهيل»‪ .‬فق�ل ابن �شهيل‪�« :‬ش�أحلق بك»‪.‬‬ ‫ق�ل الر�شول‪« :‬ل ي� بن �شهيل‪ ،‬اإنه ك َلّفني اأن‬ ‫اآتي بك الآن لأن دائنيك قد ح�رشوا هن�ك»‪.‬‬ ‫فق�ل ابن �شهيل‪« :‬ل حول ول قوة اإل ب�للـه‪..‬‬ ‫خرياً‪ ..‬انتظرين حلظة �ش�أرتدي عب�ءتي»‪.‬‬ ‫وانطلق ابن �شهيل ن�حية الدار ف�رتدى‬ ‫عب�ءته‪ ،‬ثم عرج على امل�رشبة فوجد عبد‬ ‫َ‬ ‫الرحمن و�شالّمة ج�ل�شني كم� ك�ن�‪ ،‬فق�ل‬ ‫لهم�‪« :‬لقد دع�ين الق��شي يف اأمر ه�م‪،‬‬ ‫ف�بقي� مك�نكم� حتى اأعود اإليكم�»‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫فهم عبد الرحمن ب�لقي�م ق�ئالً‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫«اإئذ َْن يل ب�لن�رشاف ي� بن �شهيل»‪.‬‬ ‫ف�أجل�شه ابن �شهيل ق�ئالً‪« :‬كال ي� عبد‬ ‫الرحمن‪ ،‬بحي�تي عليك اإ ّل م� بقيت مك�نك‬ ‫حتى اأعود»‪.‬‬ ‫والتفت اإىل �شالّمة فق�ل له�‪« :‬ا�شتمري يف‬ ‫غن�ئك ول تدعي ابن اأبي عم�ر يخرج حتى اأعود‬ ‫اإليكم�»‪.‬‬

‫َا�ص؟‬ ‫َ�س َالّ ُم َهلْ ِ َ‬ ‫ل مِ ْن ُك ْم ن ِ ُ‬ ‫�ج ُر؟‬ ‫َو َه ْل ِل َق ْلب ِْي َع ْن ُك ُم َز ِ‬ ‫ّا�س ب ُِح ِ ّبي َل ُك ْم‬ ‫ق ْد َ�سمِ َع �ل َن ُ‬ ‫‪31‬‬ ‫َفمِ ْن ُه ُم �لال ِئ ُم َو�ل َْعاذ ُر !‬ ‫ومل ميلك ابن �شهيل نف�شه من الطرب‬ ‫اأن ق�م اإىل عبد الرحمن‬

‫‪18‬‬

‫فق�لت �شالّمة‪�« :‬شمع ً� وط�عة ي� مولي»‪.‬‬ ‫وخرج ابن �شهيل‪ ،‬فلقى الر�شول على الب�ب‬ ‫ف�ش�ر معه‪.‬‬ ‫وخال املجل�س بعبد الرحمن و�شالّمة‪ ،‬و�ش�د‬ ‫فيه ال�شمت برهة من الزمن �شعر يف خالله�‬ ‫عبد الرحمن ب�شعور غريب‪ ،‬فيه رهبة وفيه �شيق‬ ‫وفيه �شيء من الفرح‪ ،‬ومت�دى به هذا ال�شعور‬ ‫الغريب حتى ُخ ِّيل اإليه اأنه اأ�شبه م� يكون مبن‬ ‫فخ ن�شب له‪ ،‬فندم على‬ ‫اأ�شقِط يف يده‪ ،‬اأو وقع يف ٍ ّ‬ ‫�رش على ابن �شهيل يف طلب الن�رشاف‪،‬‬ ‫اأن مل ُي ِ َّ‬ ‫وخطر له اأن يرتك �شالّمة وين�رشف لول اأن راأى‬ ‫ذلك قد يثري يف قلب �شديقه ظ َّنة ل داعي اإليه�‪،‬‬ ‫وذكر ثقته بنف�شه ومعرفته لواجبه ف�طم� َّأن‬ ‫اإليهم�‪ ،‬وعجب كيف �ش�وره ذلك ال�شطراب‪.‬‬ ‫اأم� �شالّمة فك�نت اأهداأ من �ش�حبه� اإذ‬ ‫ذاك‪ ،‬ولكنه� ك�نت ل تخلو مع ذلك من وجوم‬ ‫وارتب�ك‪ ،‬وك�ن اللـه وحده يعلم م�ذا ك�ن يجول‬ ‫يف خ�طره�‪.‬‬ ‫على اأنه� مل ت�شرب على ال�شمت طويالً‪ ،‬ولعله�‬ ‫اأدركت بب�شرية الأنثى يف مثل هذه املواقف‬ ‫بع�س م� دار يف َخلد جلي�شه�‪ ،‬فت�ش�غلت ب�لعود‬ ‫وجعلت ت�رشب عليه حلن ً� �ش�مت ً� لعله لو حفظ‬ ‫مو�شيقي واأ�شدقه عن هذه‬ ‫لك�ن اأجمل تعبري‬ ‫ٍّ‬ ‫احل�لة املعقدة من ح�لت النف�س الإن�ش�نية!‬ ‫وو�شعت العود من يده� ونظرت اإىل عبد‬ ‫يف �شعراً اآخر ي� عبد‬ ‫الرحمن ق�ئلة‪« :‬اأمل ت�شنع َّ‬ ‫الرحمن؟»‪.‬‬ ‫فرفع عبد الرحمن ب�رشه اإليه� يف �شيء‬ ‫من ال�شطراب وق�ل‪« :‬ل ي� �شالّمة»‪ .‬ف�بت�شمت‬ ‫ق�ئلة‪« :‬ل اأ�شدقك ي� عبد الرحمن‪ .‬ل بد اأنك قلت‬ ‫�شيئ ً� جديداً»‪.‬‬ ‫فق�ل عبد الرحمن – وقد �شعر بتب ُّدد‬ ‫النقب��س الذي ك�ن ي�شود املجل�س‪« :‬وم�ذا‬ ‫ت�شنعني ب�شعري؟ ل�شت ب�ش�عر‪ .‬عندك ابن اأبي‬ ‫ربيعة والعرجي‪ ،‬وعندك الأحو�س وابن قي�س‬ ‫الرقي�ت واأولئك الفحول‪ ،‬ف�لتم�شي �شعرهم»‪.‬‬ ‫فق�لت �شالّمة بلهجة يخ�لطه� اجلد‪« :‬ل‬ ‫يعجبني �شعر هوؤلء‪ .‬اإين اأحب �شعرك ي� عبد‬ ‫الرحمن‪ ،‬واأجده يبلغ مني ويلهمني التلحني‬ ‫غنيت اأبي�تك‬ ‫الب�رع»‪ .‬ثم �شحكت وق�لت‪« :‬لقد‬ ‫ُ‬ ‫اأول اأم�س للغري�س ومعبد فلم ي�ش ِّدق� اأن التلحني‬ ‫وظن كالهم� اأنه من عمل �ش�حبه»‪.‬‬ ‫من عملي‪َّ ،‬‬ ‫ق�ل عبد الرحمن‪« :‬م�ذا جتدين ي� �شالّمة يف‬ ‫�شعري؟»‪.‬‬ ‫ف�شمتت �شالّمة حلظة ثم ق�لت‪« :‬ل اأدري ي�‬ ‫عبد الرحمن‪ ،‬ولكنني اأجده يحركني وت�شتجيب‬ ‫له نف�شي‪ ..‬فب�للـه عليك ي� عبد الرحمن اأمل تقل‬


‫�شيئ ً� جديداً؟»‪.‬‬ ‫فق�ل عبد الرحمن‪« :‬بلى ي� �شالّمة‪ ،‬ولكني‬ ‫لن اأطلعك عليه»‪.‬‬ ‫«ومل ي� عبد الرحمن؟»‪.‬‬ ‫«لأنك نق�شت ميث�قي»‪.‬‬ ‫«نق�شت ميث�قك؟ مع� َذ اللـه ي� بن اأبي عم�ر‪..‬‬ ‫اإن ميث�قك مكتوب يف قلبي ولن اأنق�شه اأبداً»‪.‬‬ ‫«اأمل تن�شدي �شعري ملولك؟»‪.‬‬ ‫«اأم� زلت تع ُّد هذا ذنب ً� ي� عبد الرحمن؟ ِملَن‬ ‫اأن�شده اإن مل اأن�شده ملولي ابن �شهيل؟»‪.‬‬ ‫«واأن�شدتيه اأي�ش ً� للغري�س وملعبد»‪.‬‬ ‫«اإمن� فعلت ذلك لأعرف راأيهم� يف اللحن‬ ‫الذي عملته»‪.‬‬ ‫«اأتعدينني األ تن�شديه ملولك ول لأحد‬ ‫غريه؟»‪.‬‬ ‫ف�أج�بته �شالّمة ق�ئلة يف �شيغة متري�س‪:‬‬ ‫ت�ش�ء‪ ،‬فه�ت ي� عبد الرحمن»‪.‬‬ ‫«لك عندي م� ُ‬ ‫ف�أخرج عبد الرحمن من جيبه قرط��ش ً�‬ ‫فدفعه اإىل �شالّمة‪ ،‬فنظرت فيه ثم ردته اإليه‬ ‫وق�لت‪« :‬اقراأه ي� عبد الرحمن»‪ .‬فقراأه‪.‬‬ ‫فت�أثرت �شالّمة ت�أثراً �شديداً‪ ،‬ولكنه� ح�ولت‬ ‫َبت القرط��س من يد عبد الرحمن‪،‬‬ ‫إخف�ءه فَجذ ْ‬ ‫ا َ‬ ‫وو�شعته اأم�مه� وطفقت ت�رشب على عوده� –‬ ‫وهي ن�ظرة يف القرط��س – حلن ً� �ش�مت ً� �شجي ً�‬ ‫غ�م�ش ً� غري م�شتقر‪ ،‬وم� زالت بعوده� تع�جله‬ ‫حتى ا�شتقر اللحن بع�س ال�شتقرار‪ ،‬ف�ملتعت‬ ‫عين�ه�‪ ،‬ونظرت اإىل عبد الرحمن‬ ‫ب� �شمة‬

‫واأخذت تغني‪:‬‬

‫اإليه اأنه يرى طيف ً� يف حلم‪ ،‬وبقي �ش�مت ً� يدير‬ ‫طرفه يف اأنح�ء امل�رشبة فق�لت �شالّمة‪« :‬لي�س‬ ‫عندن� من اأحد غريي وغريك!»‪.‬‬ ‫ف�نتف�س عبد الرحمن فج�أة‪ ،‬ونظر اإليه�‬ ‫نظرة ه�ئلة وق�ل‪« :‬اأن�شيت اللـه ي� �شالّمة؟»‪.‬‬ ‫ورفعت ي َده� عن يده‪،‬‬ ‫ف��شطربت �شالّمة‬ ‫ْ‬ ‫وك� َّأن ن�راً لذعته�‪ ،‬فرتاجعت اإىل الورا ِء وعين�ه�‬ ‫الزائغت�ن ل تف�رق�نه ك�أمن� ترى اأم�مه� َه ْو ًل‬ ‫تتقيه‪.‬‬ ‫وا�شتمر عبد الرحمن يقول‪« :‬ل ي� حبيبتي ل‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫اإين اأحبك ي� �شالّمة‪ ،‬واإين �شمعت اللـه عز وجل‬ ‫عدو اإل‬ ‫يقول‪ :‬الأخالء يومئذ بع�شهم لبع�س ٌّ‬ ‫املتقني»‪ .‬واأن� اأكره اأن ت�شري اخل َّل ُة التي بينن�‬ ‫عداوة يوم القي�مة!»‪.‬‬ ‫وغ�مت عين�ه ب�لدموع‪ ،‬وع�دت �شالّمة‬ ‫اإىل مقعده� وم�لت بوجهه� على املتك�أِ وطفقت‬ ‫تبكي؛ ثم رفعت راأ�شه� وق�لت والدموع تت�ش�قط‬ ‫على خديه�‪« :‬معذرة ي� عبد الرحمن‪ .‬ع�شى اأن ل‬ ‫علي»‪.‬‬ ‫تكون �ش�خط ً� ّ‬ ‫البك�ء‪:‬‬ ‫فق�ل عبد الرحمن ب�شوت يخنقه‬ ‫ُ‬ ‫«كال واللـه ي� حبيبتي‪ ،‬اأن� را�س عنك‪ ..‬ولكن‬ ‫ا�شربي حتى يجعل اللـه لن� مرج�ً»‪.‬‬ ‫ف�شمتت �شالّمة هنيهة ثم ق�لت‪« :‬وكيف‬ ‫املخرج ي� عبد الرحمن؟»‪.‬‬ ‫فق�ل له�‪« :‬ل اأدري واللـه ي� �شالّمة»‪.‬‬ ‫فع�دت اإىل �شمته� ثم ق�لت‪« :‬ولكنني اأدري‬ ‫ي� عبد الرحمن‪ ..‬األ ت�شتوهبني من مولي ابن‬ ‫�شهيل‪ ،‬ف�إنه واللـه ليح ُّبك‪ ،‬واإنه لكرمي وم� اأح�شبه‬ ‫ي�شن‪ 33‬بِي عليك»‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫ق�ل عبد الرحمن‪�« :‬شدقت ي� �شالّمة‪ ،‬لقد‬ ‫علي منذ اأي�م اأن‬ ‫فعل ابن �شهيل ذلك‪ ..‬قد عر�س َّ‬ ‫َي َه َبك يل»‪.‬‬ ‫ف�بتدرته �شالّمة ق�ئلة‪« :‬اأح َّق ً� فعل ذلك ي�‬ ‫بن اأبي عم�ر؟»‪.‬‬ ‫فق�ل له�‪: :‬ا ْإي واللـه لقد فعل‪ ..‬ولكنني مل‬ ‫اأقبل»‪.‬‬ ‫«وملَ�ذا مل تقبل؟»‪.‬‬ ‫فق�لت بلهجة الع�تب‪ِ :‬‬ ‫أرزء هذا الرجل الكرمي يف‬ ‫«لأين مل اأ�ش�أ اأن ا َ‬ ‫م�له‪ ،‬فقد بلغني اأنه يف �شيق وا ْأن قد ركب ْته‬ ‫ديون كبرية»‪.‬‬ ‫«وكيف علمت ذلك ي� عبد الرحمن؟»‪.‬‬ ‫«�شمعت الن��س يتح َّدثون بذلك ي� �شالّمة»‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫حق‪..‬‬ ‫فتنهدت �شالّمة وق�لت‪« :‬اأجل هذا ٌّ‬ ‫ني مولي! لقد ج َنى جوده واإ�رشافه عليه»‪.‬‬ ‫م�شك ٌ‬ ‫فق�ل عبد الرحمن‪« :‬اأ�شهد اأنه جلواد كرمي‪..‬‬ ‫حتى يف اأي�مه هذه احلرجة مل ي�ش�أ اإل اأن يفتح‬ ‫وزواره»‪.‬‬ ‫ب�به ل�شيوفه َّ‬

‫الم َ�س َل ْبتِ َيا �سالّ ُم َق ْلبِي؟‬ ‫َع َ‬ ‫�ل�سالال‬ ‫و��ست َ​َحلى َ ّ‬ ‫ف َ​َع َ‬ ‫اف �ل ُرّ�س َد ْ‬ ‫ف�هت َّز عبد الرحمن فرح ً� وق�ل‪« :‬م�ذا‪،‬‬ ‫ا َأوجدت اللحن؟»‪.‬‬ ‫وا�شتمرت‬ ‫نعم‪،‬‬ ‫ف�أ�ش�رت �شالّمة براأ�شه� ا ْأن ْ‬ ‫ّ‬ ‫تغني‪:‬‬ ‫َو َق ْبلَكِ َما َع َرف ُْت ِ�س�ى َ�سالتِي‬ ‫َو َ ْ‬ ‫ل َينَلِ � ْل َه�ى مِ ِنّ�سي َمنَاال‬ ‫َاج َت َ� ِ�ين ن ِْ�سفُ َع ْقلِي‬ ‫َ�سمِ عتُكِ ف ْ‬ ‫َف َل َ ّما ُ ْ‬ ‫تاال‬ ‫لتِ ِل � ْر َ َ‬ ‫ت َل � ْر ِ َ‬ ‫ي�شتقر �شيئ ً� ف�شيئ�ً‪ ،‬واأخذ‬ ‫واأخذ اللحن‬ ‫ُّ‬ ‫�شو ُته� يعلو وهي تقول‪:‬‬ ‫َع ِذِيري �للـه من ب�صي َو َ�س ْمعِ ي!‬ ‫َف َق ْد كَ انَا َعلى َق ْلب ِْي َو َباال‬ ‫بع�س ُل ّبي‬ ‫دعيني �أ�ستقيلك ُ‬ ‫ولُب �لر ِء �أف�سل ما ��ستقاال‬ ‫وارتفع �شوته� اإىل الأوج عندم� غ ّنت‪:‬‬ ‫�أَ َها ُبكِ � ْأن َ�أ ُق ْ�لَ َب َذل ُْت َن ْف�سِ ي‬ ‫َولَ� � ِ ّأين �أَطَ ْع ُت � ْل َقل َْب قَاال‬ ‫ثم خف�شت �شوته� حتى ا�شمح َّل يف القرار‬ ‫وهي تقول‪:‬‬ ‫َح َيا ًء مِ نْكِ َح َتّى ذَ�ب ِج ْ�سمِ ي‬ ‫لي كِ ْت َم ِاين َوطَ اال‪!32‬‬ ‫َّ‬ ‫و�سق َع َّ‬ ‫وو�شعت العود من يده� يف حجره�‪،‬‬ ‫ونظرت اإىل وجه عبد الرحمن نظرة ت�ئِهة‬ ‫فيه� كل مع�ين ال�شت�شالم والغزل‪ ،‬وقد‬ ‫تورد خ َّداه� ورب� ج�شمه� ك�أمن� ُنف َِخ‬ ‫َّ‬ ‫فيه ف ِزي َد ب�شطة‪ .‬فنظر اإليه� عبد‬ ‫الرحمن فخف�شت طرفه�‪،‬‬ ‫واأخذت تقلب العود يف‬ ‫يده� وهي تقول‪:‬‬ ‫«ي� بن عم�ر اإين‬ ‫اأحبك»‪.‬‬ ‫فق�ل عبد الرحمن‬ ‫وهو ي�شطرب‪« :‬واأن� واللـه ي�‬ ‫�شالّمة اأحبك؟»‪.‬‬ ‫فق�لت وهي تنظر اإليه م�ئلة الراأ�س‪:‬‬ ‫«واأحب اأن اأ�شع فمي على فمك»‪.‬‬ ‫فق�ل له� وب�رشه اإىل الأر�س‪« :‬واأن�‬ ‫واللـه اأحب ذلك»‪.‬‬ ‫ودنت منه‬ ‫فق�مت �شالّمة‬ ‫ْ‬ ‫واأخذت بيده ق�ئلة‪« :‬اإذن فم�‬ ‫مينعك؟ فواللـه اإن املو�شع‬ ‫خل�لٍ »‪.‬‬ ‫وخ ِّيل‬ ‫فذهل عبد الرحمن‪ُ ،‬‬

‫‪19‬‬

‫ق�لت �شالّمة‪« :‬ولإخوانه ال�شعراء الع�بثني‪،‬‬ ‫واملغنني امل�جنني ينفق عليهم بغري ح�ش�ب»‪.‬‬ ‫ملي ً� ثم ق�ل‪« :‬اأجل كنت‬ ‫ف�شكت عبد الرحمن ّ‬ ‫األوم هوؤلء القوم واأحمل عليهم بق�شوة‪ ،‬حتى‬ ‫انتقم اللـه لهم مني فجعلني مثلهم اأو قريب ً�‬ ‫منهم»‪.‬‬ ‫«كال ل�شت مثلهم ي� بن اأبي عم�ر‪ .‬اأنت ل‬ ‫تعبث عبثهم ول ت�أخذ اأخذهم»‪.‬‬ ‫«اأ�شتغفر اللـه ي� �شالّمة‪ ..‬بل لعلهم اأح�شن‬ ‫عط�ء بن اأبي رب�ح‪،‬‬ ‫ح� ًل م ِّني‪ ،‬اإنهم مل يج�ل�شوا‬ ‫َ‬ ‫ومل يتفقهوا يف الدين مثلي‪ ،‬لعلهم لو فعلوا مل�‬ ‫وقعوا فيم� وقعت فيه»‪ .‬ثم اأخ َذ يقول‪:‬‬ ‫َاه ِة � ْأه َل َها‬ ‫�ل�سف َ‬ ‫ق ْد كُ ن ُْت �أَ ْعذِلُ ِيف َ ّ‬ ‫َاع َج ْب ِلَا َتاأتِي ِب ِه �الأ ّيا ُم‬ ‫ف ْ‬ ‫فَا ْل َي ْ� َم �أَ ْع ُذ ُر ُه ْم َو َ�أ ْعل ُم � َ ّإنَا‬ ‫ُ�س ُب ُل �لغَ َ�� َي ِة و� ْل ُه َدى �أَق َْ�سا ُم‬ ‫و�شكتت �شالّمة برهة ك�أنه� جتيل فكره� يف‬ ‫اأمور �شتى‪ ،‬ثم ق�لت‪« :‬قد علمت ي� عبد الرحمن‬ ‫م� وقع فيه مولي من ال�شيق‪ ،‬واأنه ل حم�لة‬ ‫ب�ئعي‪ ،‬واأخ�شى اأن ل اأراك بعد ذلك ول تراين»‪.‬‬ ‫فق�ل عبد الرحمن‪« :‬لقد حدثتني نف�شي اأن‬ ‫أبيع م� ًل يل ب�لوادي ورث ُته عن اأبي‪ ،‬ف�أ�شرتيك‬ ‫ا َ‬ ‫بثمنه ف�أعتقك ف�أتزوجك‪ ..‬اأتر�شني بهذا ي�‬ ‫�شالّمة؟»‪.‬‬ ‫ف�أج�بت ق�ئلة‪« :‬كيف ل اأر�شى بهذا ي� عبد‬ ‫الرحمن واأن� را�شية مب� دونه؟ بح�شبي اأن اأكون‬ ‫ج�ريتك‪ ،‬اأقوم بخدمتك‪ ،‬واأعمل على راحتك‪..‬‬ ‫ولكن اإذا بعت م�لك فمن اأين تعي�س؟»‪.‬‬ ‫ف�بت�شم عبد الرحمن وق�ل‪�« :‬ش�أخرج اإىل‬ ‫ال�شوق واأ�شتغل �شم�ش�راً‪ ،‬وقد جربت ذلك ي�‬ ‫�شالّمة فنجحت فيه»‪.‬‬ ‫ف�شحكت �شالّمة وق�لت‪« :‬وامل�شجد ي� عبد‬ ‫الرحمن؟»‪.‬‬ ‫ق�ل له�‪« :‬للم�شجد وقت‪ ،‬ولل�شوق وقت‪ ،‬ولك‬ ‫اأنت ي� �شالّمة وقت‪ ..‬ول�شت ب�أف�شل من اأبي بكر‬ ‫ال�شديق وعمر بن اخلط�ب‪ ،‬وقد ك�ن اأولهم�‬ ‫ت�جراً وث�نيهم� دللً‪ ..‬واإنهم� لأف�شل من اأبي‬ ‫ال�ش َّفة الذين لزموا امل�شجد‬ ‫هريرة و�ش�ئر اأهل ُّ‬ ‫احلرام ومل ي�شتغلوا ب�لك�شب»‪.‬‬ ‫ارت�حت نف�س �شالّمة لهذا القول‪ ،‬وك�أمن�‬ ‫اأرادت اأن ت�شتزيد منه فق�لت‪« :‬عجب ً� ي� عبد‬ ‫الرحمن‪ ،‬من اأين ج�ءك هذا الراأي؟ اأم� �شمعت‬ ‫بهذا من قبل؟»‬ ‫فق�ل له�‪« :‬بلى قد �شمعت به من قبل‪،‬‬ ‫ولكنني مل اأفقهه فلم اأعمل به‪ ،‬واإمن� فقهته بعد‬ ‫وفكرت فيك»‪.‬‬ ‫اإذ عرف ُتك ي� �شالّمة‬ ‫ُ‬ ‫فق�لت �شالّمة يف دلل وقد ملكه� ال َّز ْه ُو‪:‬‬

‫عدد ‪144‬‬

‫‪ 6‬ت�رشين ‪2010 1‬‬


‫تلمني ب�أين �رشفتك عن‬ ‫إذن فال َّ‬ ‫«ا ْ‬ ‫حق اأن ْ‬ ‫اخلري!»‪.‬‬ ‫فنظر اإليه� عبد الرحمن يف وداعة و�شف�ء‪،‬‬ ‫وق�ل له� يف توؤدة وهدوءِ‪« :‬اإين واللـه لأح�ر‪..‬‬ ‫واإين واللـه ل اأدري اأ�شغلتني ي� �شالّمة عن‬ ‫يف وفيك اإرادة هو‬ ‫هديتِني اإليه! وهلل ّ‬ ‫اخلري اأم ْ‬ ‫ب�لغه�‪ ..‬اإين م� كنت يف الزواج حتى عرفتك‬ ‫ففكرت فيه‪ ،‬وقد تزوج ر�شول اللـه �شلّى اللـه‬ ‫عليه و�شلّم وق�ل‪« :‬النك�ح ُ�ش َّنتِي‪ ،‬فمن رغب عن‬ ‫ُ�ش َّنتِي فلي�س مني»‪ .‬واإين كنت اأتلو القراآن واأقراأ‬ ‫فيه اآي�ت ال�شم�وات والأر�س والنجوم فم� اأهت ُّز‬ ‫له� كم� اأهت ُّز لآي�ت الوعد والوعيد‪ ،‬حتى عرفتك‬ ‫ال�ش َح ِر واأ�ش ِلّي يف‬ ‫ي� �شالّمة‬ ‫ُ‬ ‫ف�رشت اأخرج يف َ‬ ‫العرا ِء لأمت َّت َع بجم�ل النجوم واأنظر يف ملكوت‬ ‫اللـه‪ .‬واإين كنت اأرى ْامل َُّج�ن ف�أبغ�شهم واأق�شو‬ ‫عليهم واأقول لنف�شي‪ :‬كيف يرتك اللـه هوؤلء؟‬ ‫حتى عرفتك ف�رشت اأرثي لهم واأعلم اأن هلل حكم ًة‬ ‫فيهم كم� ق�ل يف كت�به‪« :‬ولو �ش�ء اللـه لهدى‬ ‫الن��س جميع�ً»‪.‬‬ ‫وك�نت �شالّمة �ش�كنة ت�شتمع اإليه يف خ�شوع‬ ‫ك�أنه� ت�شغي لق�رئ يرتل اآي�ت اللـه‪ .‬و�شكت‬ ‫عبد الرحمن قلي ًال ثم تن َّهد وق�ل‪« :‬ولكن الن��س‬ ‫َ�س و�شغفته ج�رية ابن �شهيل‬ ‫يقولون ف�شق الق ُّ‬ ‫ح َّب�ً»‪.‬‬ ‫فق�لت �شالّمة‪« :‬دعهم يقولون م� ي�ش�وؤون‪،‬‬ ‫فواللـه ي� بن اأبي عم�ر اإنك لط�هر �شديد املخ�فة‬ ‫من اللـه»‪.‬‬ ‫فق�ل عبد الرحمن ب�شوت حزين‪« :‬اأج ْل ي�‬ ‫رش �شق�ئي»‪.‬‬ ‫�شالّمة‪ ،‬وهذا � ُّ‬ ‫و�شمت عبد الرحمن برهة طويلة ثم اأخذ‬ ‫يحرك �شفتيه ك�أنه يع ُّد حديث�ً‪ ،‬فق�لت له �شالّمة‪:‬‬ ‫«م�ذا جتمجم‪ 34‬ي� عبد الرحمن؟»‪.‬‬ ‫ق�ل‪« :‬اإنه� اأبي�ت هجمت على خ�طري»‪.‬‬ ‫ق�لت‪« :‬اأ�شمعنيه�»‪.‬‬ ‫فو�شع يده على جبينه ك�أنه ي�شتعني بذلك‬ ‫على ا�شرتج�ع �شيء ن�شيه‪ ،‬واأن�ش�أ يقول‪:‬‬ ‫َارع �ل َتّق�ى ِب َق ْلبِي‬ ‫َه َ��كِ َيق ُ‬ ‫َ‬ ‫َفاأ ْ�س َه ُد ِف ْي ِه ح ْر َب ُه َما ِ�س َجاال‬ ‫حم ٍ ّب‬ ‫�س �أَ ْ�سقَى مِ ْن ُ ِ‬ ‫َوه ْل ِيف �الأَ ْر ِ‬ ‫َي ُذ ْو ُب َه ً�ى َوال َي ْر ُج� َن َ��ال؟‬ ‫�أال َيا َل ْي َت َر ِ ّبي �إ ْذ َه َد ِ�ين‬ ‫�ل�سالال!‬ ‫� َإل َت ْق َ�� ُه َج َ ّن َبنِي َ ّ‬ ‫الحي‬ ‫و�إ ْال َفل ُ ِْي ْحنِي مِ ْن َ�س ِ‬ ‫إين َق ْد َل ِق ْي ُت ِب ِه �ل ّنكَاال‬ ‫َفا ِ ّ ْ‬ ‫ي َتاأتِي‬ ‫َ�س َتاأ ِت ْينِي ْ�لَن َ ّي ُة ِح ْ َ‬ ‫وت ُْ�س ِل ُمنِي � َإل َر ِ ّبي ت َ​َعال‬ ‫َو َما ِيف � ْل َقل ِْب َيا َ�سالّ ُم َر ْج َ�ى‬ ‫ل َحالال‬ ‫ِ�س َ��كِ َو� ْأن َت ُك ْ� ِين ِ ْ‬

‫اأمراً اإذاً؟‬ ‫يحن اإىل تلك‬ ‫ورجع عبد الرحمن اإىل م��شيه‪َُّ ،‬‬ ‫الأي�م ال�ش�فية اإذ ك�ن فيه� خ�يل الب�ل را�شي‬ ‫النف�س م�شرتيح الفكر‪ ،‬ين�م مطمئ َّن ً� ويقوم من‬ ‫نومه مطمئن�ً‪ ،‬ويق�شي نه�ره يف امل�شجد يذكر‬ ‫اللـه اأو يتلو القراآن اأو ي�شهد جم�ل�س العلم‪،‬‬ ‫معر�ش ً� عن الدني�‪� ،‬ش�دق ً� عن ب�طله� وغروره�‪،‬‬ ‫�ش�لي ً� همومه�‪ ،‬مبتعداً عن مدارج الفنت وم�ش�لك‬ ‫يحل له من الطيب�ت‬ ‫الغواية‪ ،‬ت�رك ً� بع�س م� ُّ‬ ‫العلم�ء‬ ‫يحل له‪ ،‬يج�ل�س‬ ‫خ�شية اأن يقع فيم� ل ُّ‬ ‫َ‬ ‫وال�ش�حلني‪ ،‬ل يعرف اأرب�ب النعمة والرثاءِ‪ ،‬ول‬ ‫ُحم ِّبي اللـهو والغن�ءِ‪ ،‬وم� ك�ن يعرف من العود‬ ‫اإل ا�شمه‪ ،‬ومن الغن�ء اإل اأنه َل ْه ٌو ُي�شغلُ عن ذك ِر‬ ‫اللـه‪ ،‬ومن ال�شعر اإ ّل اأنه َل ْغ ٌو من القول ل يليق‬ ‫ُْ‬ ‫ب�مل َّتقني‪.‬‬ ‫م� بدا؟ وم� ب�له اليوم يقعد على‬ ‫فم� عدا ِ َّ‬ ‫الزرابي الوثرية‪ ،‬ويط�أ على الطن�ف�س الثمينة‪،‬‬ ‫وين�دم ابن �شهيل على الغن� ِء وال�شعر‪ ،‬ويجل�س‬ ‫عنده ا َإىل قينة جميلة ف�تنة يرى حم��شنه�‪،‬‬ ‫وي�شتمع حلديثه�‪ ،‬وي�شتمتع بغن�ئه� وتطريبه�؟‬ ‫حتى �شلبت ل َّبه و�شغفته ح َّب�ً‪ ،‬ف�أبدلته ب�أن�شه‬ ‫هم�ً‪ ،‬وبفراغه �شغالً‪ ،‬وب�ل�شالمة خطراً وفتنة‪ .‬ي�‬ ‫َّ‬ ‫ليته ك�ن ا�شتمع لن�شح �ش�حبه ال�شيخ اأبي الوف� ِء‬ ‫أعرف منه مبك�من اخلطر‬ ‫وعمل براأيه‪ ،‬فقد ك�ن ا َ‬ ‫الغي ومداخل ال�شيط�ن وم�رجه‪ ،‬اإذ‬ ‫ومراتع ِّ‬ ‫ن�شحه اأن ل يع ِّر�س تقواه للتج�رب م َّتك ًال على‬ ‫�شموده� لهجم�ت الهوى‪ ،‬وثب�ته� يف مع�ر�س‬ ‫الفتون لعلمه اأن النف�س اأم�رة ب�ل�شوءِ‪ ،‬واأن مالك‬ ‫التقوى البتع�د عن مواطن ال�رش والفرار من‬ ‫اأم�كن الريبة‪ ،‬واأن من ح�م حول احلمى يو�شك‬ ‫اأن يقع فيه‪.‬‬ ‫ولكنه خ�لف هذا ال�شيخ ال�ش�لح الذي‬ ‫اجتهد بكل م� اأوتي من قوة اأن ي�رشفه عن‬ ‫هذا ال�شبيل املحفوف ب�خلطر‪ ،‬ل يبتغي بذلك‬ ‫ي�شغ اإليه‪ ،‬واآثر ج�نب الهوى‬ ‫اإل اخلري له‪ ،‬فلم‬ ‫ِ‬ ‫على ج�نب التقوى متع ِّل ًال ب�أنه يجد من دينه‬ ‫وفقهه م� يع�شمه عن ارتك�ب الز َلّة‪ ،‬وين�أى به‬ ‫عن الريبة‪ .‬ومن راأيه وح�شن ت�رشفه م� ي�شلح‬ ‫من اأمره ويخرج به من ورطته‪ ،‬ويجعل من ذلك‬ ‫احلب الع�ر�س �شبب ً� اإىل الزواج الث�بت‪ ،‬ك�أن‬ ‫ِّ‬ ‫‪35‬‬ ‫الزواج ل يح�شن اإل ب�لقين�ت ‪ ،‬اأو ك� َّأن القين�ت‬ ‫اأ�شلح لذلك من احلرائر‪ ،‬اأو ك�أن الزوجة ل تكمل‬ ‫اإل اإذا اأح�شنت ُمن�دم َة الرج�ل وحذقت فنون‬ ‫الغن� ِء واأج�دت ال�رشب على املع�زف‪ .‬اأجل لقد‬ ‫ظلم هو اأب� الوف� ِء اإذ جزاه على ن�شحه القطيعة‬ ‫والهجران وهو يعلم حبه له‪ ،‬واأن�شه به‪ ،‬وافتق�ره‬ ‫اإليه يف ح�له تلك من العجز والكرب واملر�س‪،‬‬

‫فطربت �شالّمة وه َّبت ق�ئلة‪« :‬قيده�‪� ..‬ش�آتيك‬ ‫ب�لدواة والقلم»‪ .‬ون�ولته العود الذي يف يده�‬ ‫ق�ئلة‪« :‬اأم�شك هذا»‪ .‬وخرجت من امل�رشبة منطلقة‬ ‫يف خفة الغزال‪ ،‬ف�شيعه� عبد الرحمن بب�رشه‬ ‫وهو يقول‪« :‬تب�رك اللـه اأح�شن اخل�لقني!»‪.‬‬ ‫واأخذ ينظر اإىل العود ويق ِلّبه يف يده ويقول‪:‬‬ ‫لرمب� تهدى اإىل‬ ‫«ويل لك ي� مزم�ر ال�شيط�ن‪َّ ،‬‬ ‫عب�دة الرحمن!‪.‬‬

‫�لف�سل �لعا�ص‬

‫مل يهداأ عبد الرحمن بق َّية يومه ذاك‪ ،‬فقد‬ ‫خرج من دار ابن �شهيل‪ ،‬فق�شد امل�شجد ف�ش َلّى‬ ‫الظهر‪ ،‬ورجع اإىل بيته لين�م القيلولة كع�دته‬ ‫ي�شتعني به� على القي�م لي ًال لل�شالة وللتع ُّبد‪،‬‬ ‫ف��شطجع على فرا�شه وتق َلّب من جنب اإىل جنب‪،‬‬ ‫و�شرت وجهه بطرف ردائه يحجب عن عينيه‬ ‫ال�شوء لع َلّهم� تغفوان‪ ،‬ولكنهم� ظ َلّت� حيتني‬ ‫َ‬ ‫قلقتني م� تك�دان تفلت�ن من �شيطرة الإغم��س‬ ‫حتى يرتفع جفن�هم� ف�إذا هم� مفتوحت�ن‪ ،‬فك� َّأن‬ ‫جفنيهم� قد �ش َّدا بخيوط وثيقة اإىل قلبه اخل�فق‬ ‫امل�شطرب‪ ،‬وفكره اله�ئم يف اأودية الأحالم‪.‬‬ ‫فكر عبد الرحمن فيم� ح َد َث له �شبيح َة يومه‬ ‫ويف موقفه من �ش َالّمة‪ ،‬فحمد اللـه على اأن جن�‬ ‫من فتنة ال�شيط�ن وكيده‪ ،‬ولول ع�شمة اللـه له‬ ‫ولطفه به لوقع يف الإثم‪ ،‬فم� ك�ن بينه وبني اأن‬ ‫ني قلبه قلي ًال فتطغى عليه �شهوته‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫يزل اإل اأن يل َ‬ ‫ف�إذا هو من اله�لكني‪.‬‬ ‫اح َم َّر‬ ‫ومت َّثلت له �ش َالّمة وهي تقول وقد َ‬ ‫وج ُهه� وفرتت عين�ه�‪« :‬ي� عبد الرحمن اإين‬ ‫اأحبك»‪ .‬فيقول له� هو‪« :‬واأن� واللـه ي� �ش َالّمة‬ ‫اأحبك»‪ .‬فتقول له‪« :‬واأ�شتهي اأن اأ�شع فمي على‬ ‫فمك»‪ .‬فيقول له� هو‪« :‬واأن� اأي�ش ً� اأ�شتهي ذلك»‪.‬‬ ‫فث�ب عبد الرحمن اإىل نف�شه وجعل يكرر‬ ‫هذه الكلمة‪ ،‬واأن� اأي�ش ً� اأ�شتهي ذلك‪ ،‬ويقول‪« :‬ويل‬ ‫يل! اأاإ�شتهيت اأن اأ�شع فمي على فمه�؟ اأاإ�شتهيت‬ ‫احلرام؟ اأاإ�شتهيت الف�شوق والإثم‪ ،‬اأهذا اأنت ي�‬ ‫عبد الرحمن؟ ا َأو قد بلغ ال�شيط�ن منك هذا املبلغ‬ ‫حق لك فيه� اإنك ت�شتهي‬ ‫حتى تقول جل�رية ل َّ‬ ‫اأن ت�شع فمك على فمه�؟ م�ذا تركت لل�شيط�ن‬ ‫بعد هذا؟ وم�ذا تخ�شى من الإثم والف�شوق بعده؟‬ ‫�شبح�ن اللـه‪ ،‬كيف وقع هذا منه ومل ينفطر‬ ‫فرط يف جنب اللـه‪ ،‬ومل تبكِ‬ ‫قلبه ندم ً� على م� َّ‬ ‫عين�ه دم�ً؟ لقد ك�ن ح�شبه اأن مير م� دون هذا‬ ‫ج�شم ُه من خوف اللـه‪ ،‬ويخجل‬ ‫ليق�شعر‬ ‫بخ�طره‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫من الوقوف اأم�مه لل�شالة‪ ،‬فكيف به وقد نطق‬ ‫به بل�ش�نه‪ ،‬وذهب عقب ذلك اإىل امل�شجد احلرام‬ ‫املحرم‪ ،‬ك� ْأن مل ي� ِأت‬ ‫ليمثل اأم�م ربه عند بيته‬ ‫َّ‬

‫‪20‬‬

‫مهم� انتحل لنف�شه يف ذلك من املع�ذير‪ ،‬وتك َلّف‬ ‫تربير موقفه منه ب�أنه اإمن� فعل لرييح ال�شيخ من‬ ‫جدال ل غن�ء فيه‪ ،‬ويكفيه م�شقة الإحل�ح عليه‬ ‫الكف عنه‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫ب�لكف عم� ل ي�شتطيع َّ‬ ‫وانتقل فكر عبد الرحمن اإىل �ش َالّمة‪ ،‬ومتثله�‬ ‫مر ًة اأخرى وهي تدنو منه وتراوده عن نف�شه يف‬ ‫اأول خلوة جمعتهم� يف غيبة موله� الكرمي الذي‬ ‫اأح�شن اإليه�‪ ،‬واأنزله� من نف�شه م ْنزلة ْامل َُح ِّب‬ ‫ُكرم‪ ،‬فث�ر ث�ئره عليه�‪ ،‬واأخذ ي�ش�ئل نف�شه‪:‬‬ ‫امل َّ‬ ‫هل ت�شلح ج�رية كهذه تخون موله� الذي‬ ‫اأح�شن اإليه� هذا الإح�ش�ن كله‪ ،‬اأن تكون زوجة له‬ ‫نعم اإنه مل‬ ‫ي�أمتنه� على �رشفه يف م�شهده ومغيبه؟ ْ‬ ‫يزل به� ومل يجبه� اإىل م� دع ْته اإليه‪ ،‬ف َ​َ�شل ِم بذلك‬ ‫َّ‬ ‫ولكن م� فَ�شلُه�‬ ‫عِ ُ‬ ‫ر�شه�‪ ،‬و َ‬ ‫جن ْت من الإِثم الكبري‪ْ ،‬‬ ‫يف هذا؟ اإنه� قد دع ْته لو اأج� َبه� لز َل ّْت‪ ،‬فك�أنه�‬ ‫بهذا قد ز َل ّْت‪ .‬اأم يغفر له� هذا لأنه� ارتكب ْته معه‬ ‫ومل ت�أته مع غريه‪ ،‬وهو من دينه وتقواه يف منعة‬ ‫يغري‬ ‫من الإثم وع�شمة من املنكر‪ .‬كال اإن هذا ل ِّ ُ‬ ‫كره� معروف�ً‪.‬‬ ‫من �شلوكه� �شيئ�ً‪ ،‬ول يجعل من ُم ْن َ‬ ‫دعت هذا الأجنبي‬ ‫فح�شبه اأنه اأجنبي عنه� واأنه� ْ‬ ‫يحل له� اأن تدعوه اإليه‪ ،‬وح�شبه اأنه�‬ ‫اإىل م� ل ُّ‬ ‫ج�رية لرجل واأنه� خ�نت ذلك الرجل‪ .‬وي ٌل له‪:‬‬ ‫اأيف �شبيل هذه اجل�رية ب�ع راحته وطم�أنينته‪،‬‬ ‫وعر�س نف�شه لل ُّتهم والأق�ويل‪ ،‬وقطع اأ�شب�ب‬ ‫َّ‬ ‫ال�شلة بينه وبني اأ�شح�به ال�شلح�ء؟‬ ‫وقف عبد الرحمن يت�أمل هذا‬ ‫التحول‬ ‫ُّ‬ ‫العظيم يف حي�ته‪ ،‬والفرق ال�ش��شع بني م��شيه‬ ‫وح��رشه‪ ،‬ف�نتهى به هذا الت� ُّأمل اإىل ذلك اليوم‬ ‫الذي فيه ليعود اأب� الوف� ِء ف�شمع يف طريقه ذلك‬ ‫لبه‪ ،‬فك�ن‬ ‫ال�شوت اجلميل من دار ابن �شهيل فملك ّ‬ ‫ج�ء بعده من البالءِ‪ .‬ثم ع�د‬ ‫ذلك‬ ‫ُ‬ ‫الغن�ء ا ْأ�ش َل م� َ‬ ‫عبد الرحمن ف�ش�أل نف�شه‪« :‬م� ذنبه فيم� حدث؟‬ ‫الم على اأن ذهب لزي�رة �شديق‬ ‫اأيف ِّ‬ ‫احلق اأن ُي َ‬ ‫له ف�شمع يف طريقه �شوت ً� فتنه ف��شتوقفه على‬ ‫‪36‬‬ ‫غري ق�شد منه‪ ،‬ف�هتبله� �ش�حب الدار غرة‬ ‫نفذ منه� اإليه وملك به� مذهبه عليه وا�شطره‬ ‫بذلك اإىل دخول منزله فك�ن م� ك�ن‪ .‬اأك�ن يف‬ ‫حم عليه؟‬ ‫و�شعه اأن يهرب من هذا الق�ش� ِء الذي َّ‬ ‫لو اأن ذلك ك�ن يف اإمك�نه لقد ك�ن‪ .‬اأمل يع�شم‬ ‫نف�شه ب�لتقوى مل� راودته �ش َالّمة عن نف�شه؟ اأمل‬ ‫يع�س فيه� الهوى حني اأ�رشف به على الهالك‬ ‫ِ‬ ‫الأكرب؟ اأمل َي ُد ْ�س على ال�شهوة التي ك�نت تت�أجج‬ ‫يف �شدره م�فة ربه؟ بلى اإنه فعل ذلك لأن‬ ‫ذلك ك�ن فيم� ميلك‪ .‬ا َّأم� افتت�نه بجم�ل �شوته�‬ ‫وغرامه به� فك�ن� فيم� ل ميلك‪ ،‬فح ٍر األ يوؤاخذه‬ ‫اللـه به واأن يتج�وز له عنه‪.‬‬ ‫أ�رش اأريد‬ ‫ثم م� هذه املحن ُة التي بلي به�؟ ا ٌّ‬


‫أحق اأن م��شيه خري‬ ‫به اأم اأراد به ربه ر�شداً؟ ا ٌّ‬ ‫من ح��رشه؟ األي�س من اجل�ئز اأن يكون ح��رشه‬ ‫خرياً من م��شيه؟ لِيوا ِز ْن بينهم� يف �شيء لريى‬ ‫اأيه� الراجح‪ .‬ك�ن يف م��شيه خ�يل الب�ل را�شي‬ ‫خلو الب�ل؟ األي�س معنى‬ ‫النف�س م�شرتيح الفكر‪ .‬فم� ّ‬ ‫من مع�ين اخلوا ِء والتعطّ ل؟ وم� ِر�شى النف�س؟‬ ‫األي�س مظهراً من مظ�هر اإخالدهم� اإىل م� هي‬ ‫فيه من النق�س ووقوفه� عن احلركة الدائبة اإىل‬ ‫ق�شور ُه وعجزه‬ ‫الكم�ل؟ وم� راحة الفكر؟ األي�س‬ ‫َ‬ ‫ال�ش ْب ِح يف عج�ئب اخللق‬ ‫عن اأدا ِء م� ُخلق له من َّ‬ ‫واآي�ت اخل�لق؟‬ ‫ك�ن يف م��شيه يخ�شى اللـه ويتقيه‪ ،‬ويبكي‬ ‫ذهبت عنه خ�شي ُة‬ ‫يف �شالته وقي�مه‪ ،‬فهل‬ ‫ْ‬ ‫اللـه وتقواه؟ األي�شت خ�شيته اليوم وقد ح َّفت به‬ ‫رب َجت له الدني� اأعظم من خ�شيته‬ ‫ال�شهوات وت َّ‬ ‫اأم�س حني مل يكن يف م َت َق َلّب عي�شه م� يخ�شى‬ ‫اللـه فيه؟ وهل رق�أ‪ 37‬دمعه اإذا اأج َّن ُه الليل وق�م‬ ‫يف �شكونه ين�جي اللـه؟ األي�س بك�وؤه اليوم اأغزر‬ ‫أرق وحنينه‬ ‫�رش قلبه ا ّ‬ ‫من بك�ئه اأم�س؟ اأمل َي ِ ْ‬ ‫اأ�شدق و�شعوره اأعمق؟‬ ‫وك�ن زاهداً يف الدني� ُم ْع ِر َ�ش ً� عن ب�طله�‬ ‫ولكن اأين ُزه ٌد من زهد؟ اأين زهد‬ ‫وغروره�‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫اخلبري ب�لدني� املتمر�س ب�آف�ته�‪ ،‬من زهد‬ ‫اجل�هل به� البعيد عنه�؟ هو اليوم يغ�شى ال�شوق‬ ‫وي�شتغل ب�لتج�رة وي َّتقي اللـه يف ذلك كله‪ ،‬ف�أ َّنى‬ ‫يكون له ف�شلُ الأم�نة وال�شدق يف املع�ملة لو‬ ‫مل يقع فيم� وقع فيه؟‬ ‫اأم� جم�ل�شته لأ�شح�ب اللـهو والغن� ِء فلم‬ ‫وابن �شهيل رج ٌل‬ ‫يت�شل منهم اإل ب�بن �شهيل‪ُ .‬‬ ‫�رشي طروب‪ ،‬ولكنه على طربه ُمتع ِّف ٌف ع�مر‬ ‫ٌ‬ ‫قوام ب�ل�شالة ل يك�د يتخ َلّف‬ ‫القلب ب�لإمي�ن‪َّ ،‬‬ ‫هل‬ ‫يوم ً� عن �شهود اجلم�عة يف امل�شجد‪ .‬واإذا م� َّ‬ ‫وتفرغ للعب�دة‬ ‫�شهر رم�ش�ن انقطع عن اللـهو‬ ‫َّ‬ ‫رش الأواخر منه‬ ‫وال�شدقة‪ ،‬حتى اإذا ك�ن الع� ُ‬ ‫ل ِزم امل�شجد واعتكف فيه بي��س نه�ره‪ ،‬واأحي�‬ ‫عطوف على‬ ‫لي�ليه� �شالة وقراآن�‪ .‬وهو بع ُد‬ ‫ُ‬ ‫فقرا ِء مكة وذوي احل�جة من اأهله� ينفق عليهم‬ ‫رش اأكرث م� ينفق عليهم عالنية‪.‬‬ ‫يف ال� ِّ‬ ‫أغرم به عبد الرحمن م� هو‬ ‫ُ‬ ‫والغن�ء الذي ا َ‬ ‫وم� اأثره فيه؟ اأمل يف ْد منه ترقيق ً� لقلبه وتلطيف ً�‬ ‫حل�شه؟ اأمل يقتب�س منه تلك اللوعة التي يقوم‬ ‫روح قد ُع ِتق َْت‬ ‫به� لل�شالة‪ ،‬ف�إذا به ي�شعر ك�أنه ٌ‬ ‫من ِر ِّق اجل�شد‪ ،‬وارتفعت عن الأر�س فه�مت يف‬ ‫ال�شم� ِء وات�شلت ب�ملالأ الأعلى؟ اأمل ي�أخذ عنه‬ ‫تلك الروعة التي يقراأ به� القراآن ف�إذا ِ ُ‬ ‫عوامل من‬ ‫املع�ين تتك�شف لقلبه‪ ،‬واإذا اأبواب من املعرفة‬ ‫واألوان من ال�شعور واأطي�ف من الفكر‪ ،‬واإذا‬

‫الظل فعرف اأن وقته�‬ ‫الع�رش؛ فنه�س ونظر يف ِّ‬ ‫قد ح�ن اأو ك�د‪ ،‬فق�م فتو�ش�أ واأخذ زينته وخرج‬ ‫من بيته يق�شد امل�شجد‪ ،‬وقد اعتزم يف نف�شه اأمراً‪،‬‬ ‫و�شمم على اأن ي�شعى يف بيع �شيعته ب�لوادي‬ ‫َّ‬ ‫فيق ِّدم ثمنه� لبن �شهيل ليبيع �ش َالّمة‪ ،‬وي�شت�أنيه‬ ‫فيم� يبقى عليه من الثمن ليق�شيه له اأق�ش�ط ً�‬ ‫يجمعه� م� يعود عليه من عمله يف التج�رة‪،‬‬ ‫وابن �شهيل قد عر�س عليه �ش َالّمة ليهبه� له فل َْن‬ ‫يعز عليه اأن يجيبه اإىل هذا الطلب‪ ،‬ويقبل منه‬ ‫هذه الت�شوية على ع َالّته�‪.‬‬ ‫انقطع عبد الرحمن ب�شعة اأي�م عن‬ ‫زي�رة ابن �شهيل ك�ن‬ ‫يف خالله�‬ ‫جمتهد اً‬ ‫يف‬

‫تقوم عليه‬ ‫كت�ب ُيتلى‪ ،‬واإذا‬ ‫الكون‬ ‫النظ�م الذي ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫يل خ�لد؟‬ ‫حلن اأز ٌّ‬ ‫ال�شم�وات والأر�شون ٌ‬ ‫وا�شتمر عبد الرحمن على هذا النحو يوازن‬ ‫َّ‬ ‫بني ح��رشه وم��شيه فيج ُد الرجح�ن حل��رشه‪،‬‬ ‫اأو مييل قلبه اإىل ترجيحه في�شدقه عقله‪ ،‬ف�أح�س‬ ‫و�شعر ك� َّأن‬ ‫عند ذلك بطم�أنينة تنزل يف قلبه‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ي�شيع منه ف��شرت َّده‪ ،‬وع�د‬ ‫�شيئ ً� نفي�ش ً� اأو�شك اأن‬ ‫َ‬ ‫له خي�ل �ش َالّمة ب��شم ًة متطلقة كم� راآه� لأول‬ ‫فحن اإليه�‪ ،‬وا�شتيقظت اأم�نيه‪ ،‬وطفقت‬ ‫مرة‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫اأحالمه ترتاق�س يف عينه!‬ ‫تذك َر ذنبه� غدا َة اليوم ف��شم�أ َّز منه�‬ ‫ولكنه َّ‬ ‫ولكن خ�طراً يف قلبه‬ ‫واأ�ش�ح بوجهه عن خي�له�‪َّ .‬‬ ‫حيث ل ي�شعر هو‪،‬‬ ‫انتدب للدف�ع عنه� دونه من ُ‬ ‫فعر�س عليه �شورته� وهي تقول له‪« :‬ي� عبد‬ ‫الرحمن اإين اأحبك» فيجيبه� هو مبثل قوله�‪،‬‬ ‫فتقول له‪« :‬واأ�شتهي اأن اأ�شع فمي على فمك»‬ ‫فيقول له� مثل م� ق�لت‪ ،‬فتقول له‪« :‬م� مينعك‬ ‫فواللـه اإن املك�ن خل�ل؟»‪ .‬فيذكره� هو ب�شهود‬ ‫فتكف وتبكي ندم ً� وا�شتغف�راً‪ .‬فم�ذا يف‬ ‫اللـه‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫هذا؟ اأيف احلق اأن يكون ذنبه� فيه اأعظم من‬ ‫ذنبه؟ األي�س هو الذي دفعه� اإىل هذا املوقف اإذ‬ ‫األهب �شعوره� ب�شعره‪ ،‬واأث�ر ك�مِ َن وجده� برقيق‬ ‫غزله‪ ،‬وفتنه� مب� اأودع يف اأبي�ته من روحه؟‬ ‫وقد ك�نت اأحبته‪ ،‬ف�عرتفت له به‪،‬‬ ‫وق�لت له وق�ل له�‪ ،‬فلم� ذكره�‬ ‫وندمت على م� ك�ن‬ ‫رت‬ ‫اللـه َّ‬ ‫تذك ْ‬ ‫ْ‬ ‫أفيحق له اأن يط�لبه�‬ ‫منه�‪ .‬ا ُّ‬ ‫ب�أكرث من هذا الذي �شنعته؟‬ ‫اإنه� كغريه� لي�شت مع�شومة من‬ ‫أذنبت ف��شتغفرت‪.‬‬ ‫الذنب وقد ا ْ‬ ‫ومن يدري لع َّل اللـه غفر‬ ‫له� ذنبه� فيم� دعته اإليه‬ ‫من الإثم‪ ،‬ومل يغفر له ذنبه‬ ‫فيم� َف َت َنه� وحمله�‬ ‫على م� �شنعت‪.‬‬ ‫اأفيغفر لنف�شه اإذاً‬ ‫م� مل يغفر اللـه‬ ‫من ذنبه‬

‫ال�شعي لبيع �شيعته‪ ،‬حتى ذهب اإليه ذات ع�شية‪،‬‬ ‫وك�نت ال�شم�س قد م�لت للغروب‪ ،‬واكت�شت الدني�‬ ‫ُح ّل ًة ذهبية من الأ�شيل ك�أنه� تقول لعبد الرحمن‬ ‫كل �شيء تقع عينه عليه‪:‬‬ ‫وهو يرى لون الذهب يف ِّ‬ ‫رشتك!»‪.‬‬ ‫«م� ا َّ‬ ‫أقل م� حتملُ من هذا يف � َّ‬ ‫خف ابن �شهيل وانطلق َف ِرح ً� مل� ا�ش ُتوؤذِن‬ ‫َّ‬ ‫لعبد الرحمن عليه بعد غيبة اأي�م راآه� اأطول‬ ‫من حقيقته�‪ ،‬مل� حدث له فيه� من اأمور كبرية‬ ‫جعلته يودع عهداً وي�شتقبل عهداً‪ ،‬فم� اإن راأى‬ ‫عبد الرحمن حتى ع�نقه عن�ق ً� ح�راً عجب له‬ ‫ألف من �شديقه مثل هذا‬ ‫عبد الرحمن اإذ مل ي� ْ‬ ‫من قبل‪ ،‬ومل تكن امل َّدة التي غ�به�‬ ‫من الطول بحيث تقت�شي مثل‬ ‫هذه التحية الب�لغة عند‬ ‫اللق�ءِ‪ ،‬ولكنه مل ي�شعه‬ ‫اإل اأن ج�مل �شديقه‬ ‫فق�بل عن�قه بعن�ق‬

‫ويوؤاخذه� مب�‬ ‫غفر اللـه من‬ ‫ذنبه�؟ ا َّإن هذا‬ ‫اإذاً لَظُ ٌلم عظيم‪.‬‬ ‫واأف�ق عبد‬ ‫الرحمن من اأحالمه‬ ‫هذه حني ذكر �شالة‬

‫‪21‬‬

‫عدد ‪144‬‬

‫‪ 6‬ت�رشين ‪2010 1‬‬


‫مثله‪ .‬ولو اأن ابن �شهيل نظر يف عيني عبد الرحمن‬ ‫اإذ ذاك لراأى فيه� دلئل ال�شتغراب والت�ش�وؤل‪،‬‬ ‫ولكنه ك�ن من ال�شوق واللـهفة للق� ِء عبد الرحمن‬ ‫بحيث مل تكن له معهم� فر�شة ملالحظة م�‬ ‫ترتكه حتيته من الأثر يف �شديقه‪ ،‬فقد اندفع يف‬ ‫ذلك اندف�ع ال�شقيق لقي �شقيقه بعد غيبة ح َل ّْت‬ ‫يف اأثن�ئه� ك�رثة ب�أحد يع ُّز عليهم�‪ ،‬ف�عتنق�‬ ‫متوا�شيني! و�ش�أله ابن �شهيل عن �شبب انقط�عه‬ ‫عن زي�رته؟‬ ‫ف�أج�به عبد الرحمن ق�ئالً‪« :‬كنت م�شغو ًل‬ ‫ي� بن �شهيل»‪ .‬ف�ش�أله ابن �شهيل �شوؤال الع�تب‪:‬‬ ‫«اأي �شغل ي� عبد الرحمن؟»‪ .‬فق�ل له‪« :‬بعت م�يل‬ ‫الذي ورثته عن اأبي ب�لوادي»‪ .‬فعجب ابن �شهيل‬ ‫ومل يفهم م�ذا حمل �شديقه على بيع �شيعته‬ ‫التي يعي�س منه�‪ ،‬فق�ل وقد اأخذته الده�شة‪:‬‬ ‫«بعته؟» فق�ل عبد الرحمن واخلجل يعقد ل�ش�نه‪:‬‬ ‫رشة‬ ‫«نعم‪ ..‬وهذا ثمنه اأتيتك به»‪ .‬واأ�ش�ر اإىل � َّ‬ ‫و�شعه� اأم�مه‪« :‬فهل لك اأن تبيعني �شالّمة ي� بن‬ ‫�شهيل؟»‪.‬‬ ‫�شك يف �شدره‪،‬‬ ‫ف�شعر ابن �شهيل ك�أن خنجراً َّ‬ ‫فتح�مل على نف�شه من الأمل‪ ،‬فقد �شعر يف تلك‬ ‫اللحظة بعظم املحنة التي نزلت به من احلجر‬ ‫على اأمواله‪ ،‬حني راأى عبد الرحمن وقد ب�ع م�له‬ ‫واأت�ه ي�شتعني يف �شالّمة فلم يقد ِْر على اأن يحقق‬ ‫له اأمله؛ ولكنه جت َلّد وا�شطنع الهدوء وق�ل‪:‬‬ ‫«اأبيعك �شالّمة؟ كيف ي� عبد الرحمن؟‪ ..‬اإنه�‬ ‫رم�نة‬ ‫قد بيعت اأم�س لرجل من املدينة من اآل َّ‬ ‫و�شيت�شلمه� ع�شية غد» ف�نتف�س عبد الرحمن‬ ‫وق�ل غ��شب ً� – وك�أنه مل ي�شدق م� �شمع‪« :‬ا َأو قد‬ ‫فعلْته� ي� بن �شهيل؟»‪.‬‬ ‫ف�أج�به ابن �شهيل بلهجة ت�شيل حن�ن ً� ورقة‪:‬‬ ‫«ل�شت اأن� الذي بع ُته� ي� بن اأبي عم�ر‪ ،‬واإمن�‬ ‫ب�عه� عني الق��شي‪ ..‬لعلك مل تعلم اأنهم حجروا‬ ‫وقوموا ك ّل م� اأملك‪ ،‬حتى هذا‬ ‫علي حجر تفلي�س‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫الق�رش الذي اأ�شكنه‪ ،‬ل ُيق�شم على َدائن ِّي»‪ .‬وتو َّق َف‬ ‫لت اإليهم اأن يرتكوا يل‬ ‫تو�ش ُ‬ ‫هنيهة ثم ق�ل‪« :‬ولقد َّ‬ ‫�ش َالّمة‪ ،‬فلم يفعلوا»‪.‬‬ ‫فوجم عبد الرحمن حلظة ذهب فيه� فكره‬ ‫ك َّل مذهب‪ .‬ثم ق�ل‪« :‬األي�س يف و�شعك اأن حتمل‬ ‫الق��شي على اأن يبيعه� يل؟»‪.‬‬ ‫فق�ل ابن �شهيل‪« :‬ل اأح�شب الرجل املدين ي�‬ ‫عبد الرحمن يتن�زل عن �شفقته‪ ،‬فهو من ع�ش�ق‬ ‫الغن�ءِ‪ ،‬وقد �شمع ب�أنه� جتيده‪ ،‬ف�أغلى ثمنه�‬ ‫حتى دفع فيه� ت�شعم�ئة دين�ر‪ ،‬فكم عندك من‬ ‫امل�ل؟»‪.‬‬ ‫ف�أج�به عبد الرحمن ب�شوت خ�ف�س‪:‬‬ ‫«م�ئت�ن وخم�شون دين�راً»‪.‬‬

‫مني»‪.‬‬ ‫«كال ي� بن �شهيل اإين يف غِ َن ًى عنه�‪،‬‬ ‫ف�إين اأك�شب من عملي يف ال�شوق م� يزيد على‬ ‫ح�جتي»‪.‬‬ ‫«منذ كم عملت يف ال�شوق ي� عبد الرحمن؟»‪.‬‬ ‫«منذ عرفتكم ي� اآل �شهيل»‪.‬‬ ‫ف�بت�شم ابن �شهيل ابت�ش�مة يخلطه� الأ�شى‪،‬‬ ‫عر�شت‬ ‫وق�ل اإنك لأكرم مني ي� عبد الرحمن‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫عليك بع�س م�يل ف�متنعت‪ ،‬اأفال اأمتنع اأن� وقد‬

‫ق�ل ابن �شهيل‪« :‬ي� ليتك ي� عبد الرحمن‬ ‫قبلْته� هب ًة مني حني عر�شته� عليك!»‪.‬‬ ‫فتن َّه َد عبد الرحمن ق�ئالً‪« :‬ليت ذلك ك�ن‪.‬‬ ‫واللـه م� منعني من قبول ذلك اإل اأنك كرمي‪ ،‬وقد‬ ‫بلغني اأنك قد وقعت يف �شيق‪ ،‬فلم اأ�ش�أ ا ْأن اأرزاأك‬ ‫يف م�لك‪ ،‬واللـه اإين لأح ُّبه� ُح َّب ً� ف�لق ً� كبدي‪ ،‬وم�‬ ‫منعني اأن اأ�شكو ب ِّثي اإليك اإل حي�ئي منك»‪.‬‬ ‫ف�غرورقت عين� ابن �شهيل ب�لدمع وق�ل‪:‬‬ ‫أيت كلفك‬ ‫«اإن لهذه اجل�رية نف��شة عندي‪ ،‬وقد را ُ‬ ‫به� وكلفه� بك ف�أحببت اأن اأوؤثرك به� على‬ ‫نف�شي؛ ول اأكتمك ي� عبد الرحمن اأين‬ ‫قد كنت اأ�شعر اأنه �شيحجرون‬ ‫علي يوم ً� م�‪ ،‬ولكني م� كنت‬ ‫َّ‬ ‫اأظن اأن احلجر �شيم�شي‬ ‫علي بهذه ال�رشعة‪ ،‬ولو قد‬ ‫َّ‬ ‫أعتقت رقبته�‬ ‫ل‬ ‫ذلك‬ ‫علمت‬ ‫ُ‬ ‫فال يجدون اإليه� �شبيالً‪».‬‬ ‫فبكى عبد الرحمن وق�ل‬ ‫ب�شوت تخن ُق ُه العربة‪« :‬م�‬ ‫اأدري واللـه ي� بن �شهيل اأاأبكي‬ ‫مل�ش�بي اأم اأبكي مل�ش�بك»‪.‬‬ ‫فق�ل ابن �شهيل وقد م�شح‬ ‫دمعة كبرية تدحرجت على‬ ‫خده‪ ،‬وتظ�هر ب� َ‬ ‫جللَد وال�شدة‪:‬‬ ‫«خف�س عليك ي� عبد الرحمن‪،‬‬ ‫ف�شيعجل اللـه لك من الع�رش ي�رشاً‪.‬‬ ‫اإين اأكرب �شِ َّن ً� منك وقد بلوت من هذا‬ ‫فوجدت اأن لكل �شيء‬ ‫الأمر م� بلوت‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫نه�ية‪ ..‬حتى هذا احلب الذي يفلق الكبد‪،‬‬ ‫ويحرق حج�ب القلب‪ ،‬نه�يته ال�شلوان»‪.‬‬ ‫فق�ل عبد الرحمن وقد ظهرت عليه دلئل‬ ‫حييت‪،‬‬ ‫العزم‪« :‬لقد علمت اأين لن اأ�شلوه� م�‬ ‫ُ‬ ‫ولكني �ش�أعت�شم ب�ل�شرب حتى يق�شي اللـه‬ ‫اأمراً ك�ن مفعولً‪ .‬فهل لك اأن جتيبني‬ ‫اإىل رج� ٍء ل يثقل عليك اإن �ش�ء‬ ‫اللـه؟»‪.‬‬ ‫ق�ل ابن �شهيل‪« :‬اطلب م�‬ ‫�شئت فو اللـه ل اأمنعك �شيئ ً� اأقدر‬ ‫عليه!»‪ .‬فتن�ول عبد الرحمن‬ ‫ال�رشة فقدمه� ق�ئالً‪« :‬اقبل‬ ‫هذه مني ت�شتعني به� على‬ ‫بع�س �شوؤونك‪ ،‬حتى يجعل اللـه‬ ‫لك من �شيقك مرج�ً»‪.‬‬ ‫ق�ل ابن �شهيل‬ ‫بلهجة ح�زمة‪ :‬اأم�‬ ‫هذا ي� عبد الرحمن‬ ‫فال‪ ،‬اإنك اأحوج اإليه�‬

‫‪22‬‬

‫كل م�لك؟‬ ‫علي َّ‬ ‫َ‬ ‫عر�شت َّ‬ ‫فتنهد عبد الرحمن ق�ئالً‪« :‬اإن الدني� كله� ل‬ ‫ت�ش�وي �ش َالّمة يف عيني»‪.‬‬ ‫ق�ل ابن �شهيل‪« :‬فم� الذي منعك من قبوله�‬ ‫اإذ عر�شت عليك؟»‪.‬‬ ‫فق�ل عبد الرحمن وك�أمن� اقتطعه� من قلبه‪:‬‬ ‫علي»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫«ال�شقو ُة التي غل َبت َّ‬ ‫�شكت ابن �شهيل حلظة ك�أنه ُيف ِك ُّر فيم�‬ ‫عر�شه عليه عبد الرحمن ثم ق�ل‪« :‬ل ي� بن‬ ‫اأبي عم�ر‪ ،‬اأم�شك عليك م�لك‪ ،‬فلو قب�شته منك‬ ‫ل�شتحقه الدائنون‪ ..‬وبع ُد ف�إين اأ�شكرك واأعرف‬ ‫لك ف�شلك»‪.‬‬ ‫فت� ّأوه عبد الرحمن وق�ل‪:‬‬ ‫«وارحمت�ه لك ي� بن �ش َهيل!»‪.‬‬ ‫ك�ن لهذه الكلمة وق ُعه� عند‬ ‫ابن �شهيل‪ ،‬فع�دت له رقته وغلب‬ ‫عليه البك�ء وهو يقول‪« :‬اللـه يل ولك‬ ‫ي� عبد الرحمن! اإين واللـه م� اآ�شف‬ ‫على �شيء ف�تنِي من هذه الدني� اإل‬ ‫اأن يف مكة بيوت ً� لأرامل ويت�مى ل‬ ‫ع�ئل لهم كنت اأنفقُ عليهم‪ ،‬فم�‬ ‫اأدري واللـه م�ذا يكون‬ ‫ح�لهم بعدي!»‪.‬‬ ‫فق�ل عبد الرحمن‪:‬‬ ‫أكرمك ي� بن‬ ‫«م� ا َ‬ ‫�شهيل! م� ينبغي‬ ‫لكرمي مثلك اأن ل‬ ‫يكون عنده م�لٌ ينفق‬ ‫منه!»‪.‬‬ ‫أحب ابن‬ ‫وا َّ‬ ‫�شهيل اأن‬


‫ي�رشف الكالم عن نف�شه‪ ،‬وتذكر �ش َالّمة وق َّدر‬ ‫يف نف�شه اأن عبد الرحمن ك�ن يريد ال�شوؤال عنه�‬ ‫فمنعه‬ ‫حتب اأن ترى �ش َالّمة قبل‬ ‫ُ‬ ‫احلي�ء‪« :‬األ ُّ‬ ‫رحيله� ي� عبد الرحمن؟»‪.‬‬ ‫واحلي�ء يعقد‬ ‫فخفق قلب عبد الرحمن وق�ل‬ ‫ُ‬ ‫ل�ش�نه‪« :‬بلى ي� بن �شهيل»‪.‬‬ ‫«اإذاً ف�أتن� غداً يف ال�شب�ح لنتغ َّدى مع ً�‬ ‫ونق�شي يوم ً� �شعيداً»‪.‬‬ ‫وك�أن عبد الرحمن ا�شتبعد هذا املوعد‪ ،‬فهو‬ ‫يريد ا ْأن يراه� يف تلك ال�ش�عة‪ ،‬ولي�س يف و�شعه‬ ‫وخ ِّيل اإليه اأن غداً ِج ُّد بعيد‪،‬‬ ‫اأن ينتظر اإىل الغد‪ُ ،‬‬ ‫وخ�شي اأن جت َّد اأمور فتحول دون روؤيته� فق�ل‪:‬‬ ‫«�شكراً �شك ي� بن �شهيل‪� ،‬ش�آتي غداً اإن �ش�ء اللـه‪،‬‬ ‫ولكن اأين �شالّمة الآن؟»‪.‬‬ ‫ف�أج�به ابن �شهيل‪« :‬اأح�شبه� ذهبت لتو ِّد َع‬ ‫تنتظره� حتى‬ ‫�شواحبه� ومع�رفه�‪ ..‬اأحتِ ب اأن‬ ‫َ‬ ‫تعود؟»‪.‬‬ ‫ف��شتحي� عبد الرحمن اأن يقول له نعم –‬ ‫وك�ن بوده ذلك – وتذكر �شالة املغرب فق�ل‪:‬‬ ‫«ل ي� بن �شهيل‪ ،‬بل ت�أذن يل ب�لن�رشاف»‪.‬‬ ‫ق�ل ابن �شهيل‪« :‬على اأن ت�أتين� غداً»‪.‬‬ ‫ق�ل عبد الرحمن‪« :‬اإن �ش�ء اللـه»‪.‬‬

‫�لف�سل �لادي ع�ص‬

‫خرج عبد الرحمن من عند ابن �شهيل فق�شد‬ ‫تواً اإىل امل�شجد ف�ش َلّى املغرب‪ ،‬ثم ط�ف ب�لكعبة‬ ‫َّ‬ ‫اللب‬ ‫م� �ش�ء اللـه اأن يطوف‪ ،‬وهو يف ذلك �ش�رد ِّ‬ ‫جتيء به اخلواطر وتذهب‪ ،‬ك�أمن�‬ ‫ذاهل احلِ�س‬ ‫ُ‬ ‫‪38‬‬ ‫قد األق َِي منه� يف بحر ُ َ‬ ‫جلّي يتالطم ُعب�به‪،‬‬ ‫وت�شطخب اأمواجه‪ ،‬فهو منه� يف كبدٍ‪ ،‬ترفع ُه‬ ‫موجة وتهبط به اأخرى‪ ،‬ويرى الن��س يقومون‬ ‫ويقعدون ويطوفون وي�شلون وك�أنه يرى اأخيل ًة‬ ‫ترتاق�س اأم�مه‪ ،‬واأ�شب�ح ً� ت�شطرب من حوله‪،‬‬ ‫ويت�شفح وجوههم فينكره� ول يك�د يعرف‬ ‫فيتلم ُ�س ج�شمه‬ ‫فيه� وجه�ً‪ .‬ويعود اإىل نف�شه‬ ‫َّ‬ ‫أحي‬ ‫ك�أنه ُّ‬ ‫ي�شك يف موقفه ذاك ويريد اأن يتبني ا ٌّ‬ ‫عث مع‬ ‫ميت قد ُب َ‬ ‫هو ي�شطرب بني الأحي�ء‪ ،‬اأم ٌ‬ ‫الأموات يف يوم احل�ش�ب!‪.‬‬ ‫كل �شيء‪،‬‬ ‫ن�شي عبد الرحمن يف ذلك املوقف َّ‬ ‫و�شك يف كل �شيء‪ ،‬و�شعر ب�خلوف وال�شتيح��س‬ ‫َّ‬ ‫من كل �شيء‪ ،‬فك� َّأمن� خرج من هذا الع�مل اإىل‬ ‫ع�مل جديد ل �شلة له به‪ ،‬ول عهد له به من قبل‪.‬‬ ‫�شب�ح‬ ‫اأهذا هو امل�شجد احلرام الذي ك�ن يغ�ش�ه‬ ‫َ‬ ‫م�ش�ء من ُذ َعق َل نف�شه؟ اأهذه هي الكعبة التي‬ ‫َ‬ ‫ي�ش ِلّي اإليه� ويطوف به� ويدعو اأم�مه� مراراً كل‬ ‫يوم؟ اأهو عبد الرحمن بن اأبي عم�ر الذي ل َّقبه‬ ‫ن�ئم تتالعب‬ ‫َ�س؟ اأيف يقظة هو اأم ٌ‬ ‫اأهلُ مكة ب�لق ِّ‬

‫والتفت ذهنه اإىل موعد الغد فخفق قلبه لذكر‬ ‫�شالّمة‪ ،‬ونه�س عن فرا�شه ك�أنه يتهي�أ للق�ئه�‪،‬‬ ‫وطفق يخطر بني اأرك�ن الغرفة جيئة وذه�ب ً�‬ ‫ك�أنه ي�شتبطئ الغد ويريد اأن يقطع الزمن احل�ئل‬ ‫بع ُد بينه وبني روؤية �شالّمة‪ .‬اإنه لن يراه� غداً‬ ‫كم� ك�ن يراه� قبلُ ‪ ،‬فهذه اآخر روؤيةٍ رمب� ل‬ ‫يراه� بعده� اأبداً‪ .‬ي� ويح قلبه! اأيكون الغد اآخر‬ ‫يت�شور هذا‬ ‫عهد ب�ش َالّمة؟ ي�للـه؟ م� اأعظم اأن‬ ‫َّ‬ ‫واأ�ش َّده عليه! كيف ي�شلو وجهه� اجلميل؟ وكيف‬ ‫ي�شرب على احلرم�ن من �شم�ع �شوته� العذب؟‬ ‫اأيق�شي بقية حي�ته ل ينعم فيه� بنظر ول يحظى‬ ‫منه� ب�شم�ع؟‬ ‫ويعود في�شلي نف�شه ب�أنه �شرياه� غداً بع ُد‪،‬‬ ‫ويجل�س اإليه� وي�شمع �شوته�‪ ،‬وهذه نعمة ل تق َّدر‬ ‫بثمن ول يقوم به� �شكر‪ .‬اأمل يكن ج�ئزاً اأن يغيب‬ ‫يومه ذاك ويوم ً� اآخر عن ابن �شهيل فال ي�أتي اإليه‬ ‫اإل بعد رحيل �ش َالّمة فال يودعه� ول يراه� اأبداً؟‬ ‫ليوقن اأنه بخري بع ُد‪ ،‬وا َّأن‬ ‫يت�شور هذا‬ ‫ح�ش ُب ُه اأن‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ومن يدري م�ذا‬ ‫م�شيبته مل ت�شل اإىل نه�يته�‪ْ .‬‬ ‫ي�أتي به الغد‪ ،‬واإن يف يوم واح ٍد ملتن َّف�ش�ً‪ ،‬فرمب�‬ ‫عن فيه من ال�شوؤون م� ير ُّد الأمل اإىل الي�ئ�س‬ ‫َت ُّ‬ ‫ثم م�ذا يحمله على الي�أ�س‬ ‫والفرج اإىل املكروب؛ َّ‬ ‫من �ش َالّمة‪ ،‬حتى بع َد رحيله� اإىل املدينة؟ األي�س‬ ‫اللـه ق�دراً على اأن يحقق اأمله فيه� يف يوم من‬ ‫الأي�م ب�شبب من الأ�شب�ب؟ لعل اللـه يفتح عليه‬ ‫اأبواب رزقه‪ ،‬ويي�رش له الغنى من ك�شبه‪ ،‬فيبت�عه�‬ ‫من موله� اجلديد مب� ير�شيه من امل�ل‪.‬‬ ‫الب�شي�س من الأمل يف نف�س‬ ‫وم� ملع هذه‬ ‫ُ‬ ‫وعني به‪ ،‬وم� زال به‬ ‫عبد الرحمن حتى احتفل له ُ‬ ‫ال ب�ل�شي�ء جوانب‬ ‫َيغذُوه ويف�شح له حتى من� فم أ‬ ‫ملحةٍ يف التنفي�س‬ ‫نف�شه‪ .‬واأح�س عند ذلك برغبةٍ َّ‬ ‫ذات �شدره‪ ،‬وارت�ح لقول ال�شعر فق�شى حين ً�‬ ‫عن ِ‬ ‫من الليل يع�جله ويت�ش َّي ُده‪ ،‬وير�شى منه م�‬ ‫ير�شى ويحذف منه م� يحذف‪ ،‬وهو يف خالل‬ ‫ذلك ي�شطرب بني الي�أ�س والرج�ءِ‪ ،‬والنقب��س‬ ‫والرتي�ح‪ ،‬وينتقل من احل��رش اإىل امل��شي‪،‬‬ ‫ومن امل��شي اإىل احل��رش‪ ،‬يرت َّدد بينهم� وبني‬ ‫امل�شتقبل‪ ،‬ويفكر حين ً� يف نف�شه وحين ً� يف‬ ‫ولكن خي�ل‬ ‫�ش َالّمة وحين ً� يف �شديقه ابن �شهيل‪َّ ،‬‬ ‫�ش َالّمة ك�ن ي�شيطر على فكره يف ذلك كله‪..‬‬ ‫مل ينم عبد الرحمن ليلته هذه بل و�شل ُ�شهده‬ ‫بتهجده‪ ،‬وبكى يف قي�مه لل�شالة م� �ش�ء اللـه اأن‬ ‫ُّ‬ ‫يبكي؛ ودع� اللـه م� ط�ب له من الدع�ءِ‪ ،‬ومكث‬ ‫كذلك حتى �ش�ح املوؤذن ب�لفجر‪.‬‬ ‫ومل يك ْد ي�شحى النه�ر حتى ك�ن عبد‬ ‫الرحمن ج�ل�ش ً� اإىل اخلوان يف دار ابن �شهيل‪،‬‬ ‫وقد ب�شطت عليه امل�ئدة فيه� اأ�شن�ف الطع�م‬

‫براأ�شه الأحالم؟ وينظر اإىل ال�رشة التي يحمله�‬ ‫معه فال يدري م� هي ومل�ذا يحمله� ويحتفظ‬ ‫به�؛ وي�شمع اأذان الع�ش�ء فال يعي منه اإل م� يعي ِه‬ ‫املجه ُد من حديث القوم قد غلبه النع��س بينهم!‬ ‫واأقيمت ال�شالة فق�م مع الق�ئمني و�ش َلّى‬ ‫مع امل�ش ِلّني‪ ،‬ثم خرج من امل�شجد مع اخل�رجني‪،‬‬ ‫وحملته قدم�ه من حيث ل ي�شعر اإىل حيث انتهى‬ ‫اإىل ب�ب داره‪ ،‬ففتح الب�ب ثم اأغلقه عليه‪ ،‬و�شعد‬ ‫اإىل غرفته ورمى بنف�شه على فرا�شه فوقع جنبه‬ ‫أح�س‬ ‫على ال� َّ‬ ‫رشة التي ك�ن يحمله� يف يده‪ ،‬ف� َّ‬ ‫ب�أمل �شديد اأيقظه من غمرته‪ ،‬فجعل يبحث عن‬ ‫رشة فرفعه� ونظر اإليه�‬ ‫م�شدر الأمل فوجد ال� َّ‬ ‫مل َّي ً� فتذكر!‬ ‫تذكر ال�شيعة وكيف ب�عه� ِ َ‬ ‫ومل ب�عه�‪،‬‬ ‫وتذكر �ش َالّمة وكيف ع َّز ْت عليه ويئ�س منه�‬ ‫وك�ن يراه� اإىل اأم�س القريب اأم ًال �شهل التحقيق‬ ‫داين املبتغى لوثوقه بكرم ابن �شهيل وعطفه‬ ‫عليه وحبه مل�ش�عدته‪ .‬ولكن ويح ابن �شهيل! لقد‬ ‫جر عليه ب�لتفلي�س وبيعت اأمالكه واأمواله ومل‬ ‫ُح َ‬ ‫يبقُوا حتى على ق�رشه الذي يقيم فيه وج�ريته‬ ‫التي يوؤثره�‪ ،‬ف�أ�شبح بعد ذلك الرثا ِء الوا�شع‬ ‫والنعمة ال�ش�بغة‪ ،‬واملوائد املن�شوبة لل�شيوف‬ ‫واملج�ل�س الع�مرة ب�لأن�س والغن� ِء والندم� ِء من‬ ‫املغنني وال�شعراءِ‪ ،‬فقرياً ل ميلك اأن ي�شعد �شديق ً�‬ ‫عزيزاً عليه‪ .‬اأو ينفق على اأهل بيتِ اأخنى الزم�ن‬ ‫‪39‬‬ ‫عليهم!‬ ‫تذك َر عبد الرحمن �شديقه ابن �شهيل وخفوفه‬ ‫َّ‬ ‫الع�شية للق�ئه فرح ً� ك�أنه ي�شتقبله من �شفر‬ ‫طويل‪ ،‬فعرف الآن مل�ذا ع�نقه ذلك العن�ق احل�ر‬ ‫وح َّي�ه تلك التحية الب�لغة التي مل يفهم هو م�‬ ‫دع�ه اإليه�‪ ،‬فلم يزد على اأن ا�شطنع حتية مثله�‬ ‫وتك َلّفه� جم�ملة له‪ .‬ولو قد علم مب� ك�ن يعتلج‬ ‫يف �شدره عند لق�ئه ذاك‪ ،‬واأنه ك�ن يعلن بذلك‬ ‫�شكواه وي�شتجديه الإ�شع�د واملوا�ش�ة‪ ،‬مل� وقف‬ ‫التعجب والرت ُّدد؛ ولندفع يع�نقه‬ ‫منه موقف‬ ‫ُّ‬ ‫بكل قوة وحرارة‪.‬‬ ‫وا�شتع�د �شورة �شديقه وهو يذرف تلك‬ ‫قط‪،‬‬ ‫الدموع الغ�لية التي مل يجد به� قبل اليوم ُّ‬ ‫فح َّز الأ�شى يف �شدره‪ ،‬اإذ ذكر اأن هذا ال�شديق‬ ‫مل يبكِ مل�ش�ب نف�شه واإمن� بكى يف املرة‬ ‫الأوىل مل�ش�ب عبد الرحمن حني �شك� اإليه كلفه‬ ‫ب�ش َالّمة‪ ،‬وبكى يف املرة الث�نية لأولئك الأرامل‬ ‫واليت�مى الذين ك�ن يعولهم وينفق عليهم فال‬ ‫يدري م�ذا يكون ح�لهم بعده‪ .‬فعجب من �شرب‬ ‫�شديقه واإيث�ره‪ ،‬ومن جزعه هو واأثرته‪ ،‬ف�شعر‬ ‫ب�حتق�ر �شديد لنف�شه‪ ،‬وازداد اإعج�ب ً� ب�شديقه‬ ‫واإكب�راً ملك�نه‪.‬‬

‫‪23‬‬

‫والف�كهة‪ .‬وجل�س ابن �شهيل عن ميينه و�شالّمة‬ ‫اأم�مهم�‪ .‬وك�ن اأثر ال�شهر ب�دي ً� يف عيني عبد‬ ‫الرحمن واإن مل يبد عليه اأنه متعب‪ .‬وقد لب�شت‬ ‫ولكن يف وجهه� �شحوب ً�‬ ‫�شالّمة اأح�شن ثي�به�‬ ‫َّ‬ ‫ك�أمن� نقهت‪ 40‬من �شقم‪ ،‬ويف حرك�ته� فتوراً‬ ‫ل عهد لذلك اجل�شم املرح الن�شيط به‪ ،‬وهي ل‬ ‫تنظر لوجه عبد الرحمن اإل م�ش�رقة ك�أنه� ل‬ ‫تقوى على قراءة اآي�ت الأ�شى الب�دية عليه‪ .‬ومل‬ ‫يعد لبت�ش�مته� اإذا هي ابت�شمت – ذلك الإ�رشاق‬ ‫ذوب من النور يتفجر! حتى‬ ‫احلي الف�ئ�س ك�أنه ٌ‬ ‫ُّ‬ ‫واء‪ ،‬فك�أنهم�‬ ‫والر‬ ‫الرونق‬ ‫ذلك‬ ‫ف�رقهم�‬ ‫نونت�ه�‬ ‫ُّ ُ‬ ‫نقرت�ن يف اأعلى اجلبل لفحهم� حر ال�شيف‬ ‫فجف م�وؤهم� ال�ش�يف ال�شم! اأم� ابن �شهيل‬ ‫َّ‬ ‫فك�ن اأمرح الثالثة‪ ،‬واأطفحهم وجه ً� ب�لب�رش‪،‬‬ ‫ك�أن الأي�م مل تغري له ح�لً‪ ،‬ومل تنل منه من�لً‪،‬‬ ‫وك�أنه م� زال يف غن�ه ونعمته‪ ،‬فهو يقبل على‬ ‫الطع�م بنف�س طيبة‪ ،‬ويقدمه ل�شيفه ويب��شطه‪،‬‬ ‫وي�ش�حك ج�ريته ومي�زحه�‪ ،‬وهو يف ذلك كله‬ ‫ير�شلُ نف�شه على �شجيته� بحيث ل ي�شعر جلي�ش�ه‬ ‫اأنه ي�شطنع ذلك اأو يتك َّلفُه‪ ،‬ولول م� ي�ش�ورهم�‬ ‫من احلزن ويح ُّز يف �شدرهم� من الأمل‪ ،‬لظ َّن�‬ ‫اأنف�شهم� مبجل�س ابن �شهيل يف يوم من اأي�مه‬ ‫ال�ش�لفة‪.‬‬ ‫وانتهوا من الطع�م فق�ل ابن �شهيل‬ ‫وال�شح�ف ترفع وهو يبت�شم‪« :‬اأخ�شى اأن تكون‬ ‫امل�ئدة دون م� يقت�شيه توديع �شالّمة و�شي�فة‬ ‫عبد الرحمن!»‪.‬‬ ‫فق�ل عبد الرحمن‪« :‬يرحمك اللـه ي� بن‬ ‫أقل من‬ ‫�شهيل‪ ،‬م� ك�ن لك اأن تتكلف كل هذا‪ ،‬ف� ُّ‬ ‫هذا ك�ن يغني»‪.‬‬ ‫فق�ل ابن �شهيل‪« :‬ل ب�أ�س ي� عبد الرحمن‪،‬‬ ‫اإين األب�س لكل ح�لةٍ لبو�شه�‪ ،‬ولل�رشورة اأحك�م»‪.‬‬ ‫فنظرت اإليه �شالّمة نظرة م�شفقة وق�لت‪:‬‬ ‫«مالأ اللـه يديك ب�خلري ي� مولي‪ .‬لقد ك�نت‬ ‫موائدك م�رشب املثل يف مكة!»‪.‬‬ ‫ف�أج�به� ابن �شهيل ق�ئ ًال والبت�ش�مة‬ ‫ب�قية يف ثغره‪« :‬نعم ك�نت كذلك ي� �شالّمة‪ .‬اأم�‬ ‫اليوم ف�إين مل اأ�شتطع اأن اأعِ َّد م�ئدة تليق بتوديع‬ ‫علي»‪.‬‬ ‫ج�ريتي الأثرية عندي‪ ،‬الكرمية َّ‬ ‫ق�لت �شالّمة‪« :‬ه ِّو ْن عليك ي� مولي‪� .‬شتعود‬ ‫�ش�ء اللـه»‪.‬‬ ‫اأي�مك كم� ك�نت اإن َ‬ ‫«اأج ْل رمب� تعود‪ .‬ولكنك لن تعودي اإلين� ي�‬ ‫�شالّمة!»‪.‬‬ ‫«ل تقل هذا ي� مولي‪ .‬فمن يدري لعل اللـه‬ ‫اأن يعيدين اإليك»‪.‬‬ ‫فتحرك عبد الرحمن عند �شم�ع هذا وق�ل‪:‬‬ ‫أجتهدن يف الك�شب حتى ن�شتعيدك اإلين�‬ ‫«واللـه ل‬ ‫َّ‬

‫عدد ‪144‬‬

‫‪ 6‬ت�رشين ‪2010 1‬‬


‫ي� �شالّمة‪ ،‬ونعطي اآل ُر َّم�نة م� ي�شتهون من‬ ‫امل�ل!»‪.‬‬ ‫فق�ل ابن �شهيل‪« :‬اإن هذا اآخر جمل�س لن� معك‬ ‫والتح�رش‪،‬‬ ‫ي� �شالّمة‪ ،‬فال نك ِّد ُر �شفو ُه ب�لأ�شى‬ ‫ُّ‬ ‫فه�ت عودك واأطربين� ب�رك اللـه فيك»‪.‬‬ ‫فق�مت �شالّمة وهي مت�شح الدموع من‬ ‫عينيه�‪ ،‬وذهبت حت�رش عوده�‪ ،‬فلم� ع�دت غ َّن ْت‬ ‫ين �شتى معظمه� من �شعر عبد الرحمن‪،‬‬ ‫لهم� اأغ� َ‬ ‫فك�ن� رمب� �ش�ح� من الطرب‪ ،‬ورمب� بكي�‪ ،‬ورمب�‬ ‫ا�شتع�داه� بع�س الأبي�ت ل�شعورهم� اأنهم� لن‬ ‫ي�شمع�ه� بعد ذلك اليوم من فم �شالّمة!‪.‬‬ ‫ويف خالل ذلك اأخرج عبد الرحمن �شحيفة‬ ‫من جيبه‪ .‬فلمحه� ابن �شهيل فق�ل‪« :‬م� هذا ي�‬ ‫عبد الرحمن؟ لعلك قلت �شعراً جديداً»‪.‬‬ ‫ق�ل‪« :‬نعم‪� .‬شنعته الب�رحة»‪.‬‬ ‫فمد اإليه ابن �شهيل يده ق�ئالً‪« :‬اأرنيه�»‪.‬‬ ‫فن�وله عبد الرحمن ال�شحيفة فنظر فيه� ف�بت�شم‬ ‫ق�ئالً‪« :‬هذا جميل واللـه»‪.‬‬ ‫ونظرت اإليه �شالّمة ك�أنه� ت�شتطلعه م� يف‬ ‫ال�شحيفة وق�لت‪« :‬اأهذا �شعر جديد ق�له عبد‬ ‫الرحمن؟»‪.‬‬ ‫ف�أج�به� ابن �شهيل �ش�حك�ً‪« :‬نعم‪ .‬وفيك‬ ‫اأي�ش ً� ي� �شالّمة»‪.‬‬ ‫فته َلّل وجهه� �رشوراً وق�لت‪« :‬األ تقراأه يل‬ ‫ي� مولي؟»‪.‬‬ ‫ق�ل ابن �شهيل‪« :‬بل تقراأه اأنت ي� عبد‬

‫الرحمن»‪.‬‬ ‫فلم ميتنع عبد الرحمن واأخذ ال�شحيفة فقراأ‪.‬‬

‫�ش�حبيه ورحمة بهم�‪ ،‬حتى ح�شح�س‪ 42‬احلق‬ ‫وظهر املكتوم‪ ،‬حني نفذ ال�شعر اإىل �رشائرهم‬ ‫الغط�ء‪ ،‬واأرى َب ْع�شه�‬ ‫فهتك عنه� ال�شرت وك�شف‬ ‫َ‬ ‫بع�س وق�ل له�‪:‬‬ ‫حقيق َة ٍ‬ ‫«اأيته� النفو�س املكلومة التي جمعه�‬ ‫امل�ش�ب‪ ،‬هذا اأوان بك�ئِك ف�جتمعي عليه!»‪.‬‬ ‫وك�ن عجب ً� اأن يكون اأجلد الثالثة – ابن‬ ‫بك�ء‪ ،‬واآخِ َر من رق�أ‬ ‫�شهيل – اأ�ش َّدهم حينئذ‬ ‫ً‬ ‫دمعه وانقطع ن�شيجه‪ ،‬واأن يكون اأج َزعهم وهو‬ ‫عبد الرحمن اأول من َنه َنه دمعه واأن�ش�أ يوا�شي‬ ‫�ش�حبيه وي�شليهم� حتى تعزي� وانقطع� عن‬ ‫ْ‬ ‫البك�ء‪.‬‬ ‫ق�ل عبد الرحمن فيم� ق�ل ل�شالّمة‪« :‬ال‬ ‫تعملني لهذه الأبي�ت حلن�ً؟»‪ .‬ف�أج�بته �شالّمة‬ ‫كفكف دمعه� ق�ئلة‪�« :‬ش�أعمل له� ي� عبد‬ ‫وهي ُت ُ‬ ‫الرحمن‪� ،‬ش�أعمل له�»‪.‬‬ ‫فق�ل ابن �شهيل‪« :‬ولكن� لن ن�شمعه ي�‬ ‫�شالّمة‪ ..‬اإل اأن ي ِر َد علين� به اأح ُد الق�دمني من‬ ‫قِ َبل املدينة»‪.‬‬ ‫ق�لت �شالّمة‪« :‬اأترى اأهل املدينة َيقدمون‬ ‫ين وعندهم اأغ�ين جميلة؟»‪.‬‬ ‫ب�أغ� َّ‬ ‫فق�ل ابن �شهيل‪« :‬وم� يدريك ي� �شالّمة؟ لع َلّك‬ ‫حني تلقني جميلة وت�أخذين عنه� ف َّنه�‪ ،‬تفوقني‬ ‫عليه� فتكونني كبرية مغني�ت املدينة!»‪.‬‬ ‫فبدا ال�رشور يف وجه �شالّمة حني ذكرت‬ ‫اأنه� �شتلقى جميلة عم� قريب فت�أخذ عنه�‬

‫�ص؟‬ ‫�أال قُلْ ِل َهذ� � ْل َقل ِْب َهلْ �أَن َْت ُم ْب ِ َ‬ ‫ْ�ص؟‬ ‫َو َه ْل �أَن َْت َع ْن َ�سالّم َة � ْل َي ْ� َم ُمق ِ ُ‬ ‫ي َ�سا َر ْت بِها �ل َ ّن َ�ى‬ ‫�أال َل ْي َت � ِ ّأين ِح ْ َ‬ ‫رن مزْه ُر!‬ ‫كلما‬ ‫ى‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ل�س‬ ‫�س‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َج ِل ْي ٌ‬ ‫َف َيا َر�كِ َب ًا � َ ّإما َبلَغْ َت لطيبة‬ ‫َ‬ ‫َو َ�س َ ّمكَ َو� ِد ْي َها �الأغَ ُرّ ْ�لُن َ ّ� ُر‬ ‫ا�س ٍق‬ ‫ت َ ّي َة َع ِ‬ ‫َفخُ ْذ َر ْب َ� ًة َو� ْق َر�أْ َ ِ‬ ‫ْ�س ج�ؤْ َذ ُر‬ ‫َل ُه ِيف َمغَ ا ِن ْيها مِ َن �الأن ِ‬ ‫�أَ ُق ْ�لُ ِل َق ْلبِي كُ َلّ َما َز� َد َخ ْف ُق ُه‬ ‫إالم ُي َع ِنّيكَ �الأَ َ�سى َو�ل َ ّتذ ُ َّك ُر؟‬ ‫� َ‬ ‫�ح َت َم ْل ُت ُه‬ ‫اح � ْل َقل ُْب ه ْبنِي ْ‬ ‫ت َ​َ�س َ ّب! ف َ​َ�س َ‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫ِي‬ ‫د‬ ‫ج‬ ‫ي‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ف‬ ‫ب‬ ‫ِ�س‬ ‫لي �ل َت َّ�س ُ ّ ُب؟‬ ‫ٍ‬ ‫ب َ ْ َ ُ ْ َ َّ‬ ‫خُ ذَ� �ل َ ّز� َد َيا َع ْين َ َّي مِ ْن ُن ْ� ِر َو ْج ِه َها‬ ‫َف َما َل ُك َما فيه �س�ى �لي�م منظ ُر!‬ ‫�جل ْي َد طُ �لَ َت َل ُفّتٍ‬ ‫ان ْ ِ‬ ‫غد�ً ُتتْعِ َب ِ‬ ‫َف َي ْعيى َو ْيطَ غَ ْى ْ َ‬ ‫�ل ْد َم ُع ْ ُ‬ ‫�ل َتف ِ ِّج ُر‬ ‫�ل ِب ْي َب ِة نَظْ َر ًة‬ ‫ُت ِر ْي َد ِ�ن ِيف َو ْج ِه ْ َ‬ ‫‪41‬‬ ‫ن ْ� ٌد و�أغ ُ� ُر!‬ ‫َومِ ْن ُد ْو ِن َم ْث َ��ها ُ ُ‬ ‫ومل يكد عبد الرحمن يتم الأبي�ت حتى �ش�ل‬ ‫دمعه وعال ن�شيجه‪ ،‬فبكى لبك�ئه ابن �شهيل‪،‬‬ ‫ورمت �شالّمة عوده� وجل�شت تنتحب‪.‬‬ ‫أحره‪ ،‬وك�أمن�‬ ‫وبكى الثالثة اأ�شدق البك� ِء وا َّ‬ ‫ك�نوا من اأول الأمر بح�جة اإىل هذا البك� ِء‬ ‫يف ِّرجون به عن كربهم احلبي�س ولوعتهم الدفينة‪،‬‬ ‫ولكنهم ظلوا ُيدا ِري بع�شهم بع�ش ً� ويك�مته م�‬ ‫يف �شدره‪ ،‬وي�شطنع اجلَلد وال�شرب اإ�شف�ق ً� على‬

‫الغن�ء‪ ،‬ولكنه� ع�دت فتذكرت ا ْأن ل حق له� يف‬ ‫َ‬ ‫اأن تبتهج ب�شيء يبعده� عن موله� ابن �شهيل‬ ‫تخفي هذا‬ ‫وحبيبه� عبد الرحمن‪ ،‬ف�جتهدت اأن‬ ‫َ‬ ‫ال�رشور الط�رئ وت�شطنع م� ك�نت فيه منذ‬ ‫ال�ش�عة من الأ�شى‪.‬‬ ‫ومل يفت ابن �شهيل م� دار بخلد اجل�رية‬ ‫حت�شي ي� �شالّمة من اأمل الفراق‬ ‫فق�ل له�‪« :‬اإنك لن ّ‬ ‫نح�شه‪ .‬لأنك �شرتحلني اإىل طيبة التي ط�مل�‬ ‫م� ُّ‬ ‫ا�شتقت اإليه�‪ ،‬و�شرتين العقيق اجلميل وت�شهدين‬ ‫تلقي‬ ‫به جم�ل�س الغن� ِء املمتع‪ ،‬وح�شبكِ اأن‬ ‫ْ‬ ‫جميلة التي ط�مل� اأعجبت بغن�ئه�‪ ،‬ون�زعتك‬ ‫نف�شك اإىل روؤيته� والأخذ عنه�‪ .‬األي�س كذلك ي�‬ ‫�شالّمة؟»‪.‬‬ ‫ومل َي ُر ْق هذا القول عبد الرحمن وو َّد لو‬ ‫ينكر على �شالّمة اأن جتد‬ ‫ا�شتط�ع تكذيبه‪ ،‬ك�أنه ُ‬ ‫له� م� تت�شلى به عنهم� يف املدينة‪ ،‬ولكنه مل‬ ‫يجد م� يقوله يف ذلك فلزم ال�شمت‪.‬‬ ‫�شعرت بخطئه� فيم� بدا منه�‬ ‫اأم� �شالّمة فقد‬ ‫ْ‬ ‫من ال�رشور يف موقف ل يجدر به� ذلك فيه؛ فم�‬ ‫ك�ن ينبغي له� اأن توؤثر حمبته� للغن�ء وكلفه�‬ ‫حب البق�ء عند موله� الكرمي‪.‬‬ ‫ب�إج�دته على ِّ‬ ‫ولئن ك�ن ذلك �ش�دراً عن نحيزته�‪ 43‬التي ل‬ ‫تق�وم‪ ،‬فعليه� على الأقل اأن جتتهد يف كتم�نه‬ ‫ينم وجهه� عنه يف مثل هذا املوقف‪ .‬ولهذا‬ ‫فال ّ‬ ‫اأج�بت موله� ق�ئلة‪« :‬مع�ذ اللـه ي� مولي اأن‬ ‫يكون فيم� ذكرت م� يخفف عني اأمل فراقكم‪ .‬اإمن�‬ ‫كنت اأحب اأن اأرى املدينة واأهله� واأن� يف ميينك‬ ‫ُ‬ ‫ي� مولي!»‪.‬‬ ‫ومل تكن �شالّمة �ش�دقة كل ال�شدق فيم�‬ ‫ق�لت‪ ،‬فقد ك�نت الرغبة الفنية ط�غي ًة عليه�‬ ‫طغي�ن ً� قد ت�شفقُ منه على بع�س م� يعز عليه�‬ ‫من اآم�ل قلبه�‪ ،‬وتخ�شى اأن ين�شيه� اأع َّز م� ت�شونه‬ ‫من عواطف احلب نحو عبد الرحمن ولالأي�م التي‬ ‫ق�شته� يف املدينة بني دار اأبي الوف�ء ودار ابن‬ ‫�شهل‪ ،‬فهي ت�شعر اأنه� خلقت للغن�ء‪ ،‬وهي واإن‬ ‫ريب فيه‪ ،‬ولكن‬ ‫اأح َّبت عبد الرحمن‪ ،‬وهذا م� ل َ‬ ‫اأك�نت توؤثر ح َّبه على ف ِّنه�‪ ،‬اأم توؤثر فنه� عليه؟‬ ‫يف اليوم الت�يل ج�ء ابن رم�نة‪ ،‬لي�شطحب‬ ‫�شالمة اإىل املدينة‪ ،‬اأم� ابن �شهيل وابن اأبن عم�ر‬ ‫فقد و َّدع� �شالّمة على الطريق املوؤدي اإىل املدينة‬ ‫ورجع� اإىل مكة بج�شميهم�‪ ،‬ا َّأم� قلب�هم� فقد‬ ‫رحال مع الركب‪.‬‬

‫�لف�سل �لثاين ع�ص‬

‫قدمت �شالّمة املدينة واحتواه� ق�رش‬ ‫موله� اجلديد ابن ُرم�نة‪ ،‬فنزلت عنده منز ًل‬ ‫كرمي ً� ولقيت منه كل بِر وعن�ية‪ .‬ذلك اأنه ك�ن‬

‫‪24‬‬


‫قد �شمع مبك�نه� يف الغن� ِء ونبوغه� فيه‪ ،‬فلم�‬ ‫باله� وجده� فوق م� �شمع‪ ،‬ففرح به� فرح ً�‬ ‫عظيم ً� واأج َلّه� وعرف له� قدره�‪ ،‬واأعلى منزلته�‬ ‫بني غريه� من جواريه الكرث‪ .‬وع َلّق عليه� الآم�ل‬ ‫الكب�ر‪.‬‬ ‫وابن ُر َّم�نة هذا رجل ج�وز �شن ال�شب�ب‪.‬‬ ‫ق�شى �شنيه الأوىل ت�جراً يرت َّد ُد بني املدينة‬ ‫وال�ش�م حتى جمع له من ذلك ثروة ل ب�أ�س به�‪.‬‬ ‫وك�ن يف خالل ذلك مولع ً� ب�لغن�ء والعزف‪ ،‬وقد‬ ‫ا�شتغل بهم� حتى برع فيهم�‪ .‬وك�ن م� �ش�عده‬ ‫على ذلك ح�شن �شوته‪ ،‬وخفة يده‪ ،‬وقوة عزمه‪،‬‬ ‫جره حبه للك�شب اإىل اأن‬ ‫وجلده على العمل‪ .‬وقد َّ‬ ‫يتخذ من ب�رشه ب�لغن�ء �شبب ً� من اأ�شب�ب التج�رة‪،‬‬ ‫ف�أخذ يبت�ع اجلواري ب�أثم�ن رخي�شة فيعلمهن‬ ‫الغن�ء‪ ،‬حتى اإذا برعن فيه ب�عهن ب�أثم�ن كبرية‪،‬‬ ‫َ‬ ‫فربح من عمله هذا مبلغ ً� كبرياً من امل�ل اأغراه‬ ‫ب�لتو�شع فيه والتفرغ له‪ ،‬فهجر لذلك جت�رته‬ ‫الأوىل‪ .‬وقد اأك�شبه طول املران خربة ب�جلواري‬ ‫أيهن اأ�شلح للغن�ء واأرجى اأن‬ ‫يتو�شمهن فيعرف ا َّ‬ ‫َّ‬ ‫يتقدمن فيه‪ ،‬فك�نت له نظرة �ش�ئبة ق َلّم� تخونه‬ ‫يف هذا ال�ش�أن‪ .‬وك�ن ي�شتعني ببع�س جواريه‬ ‫الالئي قد تقدمن يف الغن� ِء وبرعن فيه فيعلمن‬ ‫اجلواري اجلُدد حتى تقدم عمله‪ ،‬فك�ن بعد‬ ‫ذلك رمب� ا�شتع�ن يف تعليمهن ببع�س املغنني‬ ‫واملغني�ت وجعل لهم على ذلك اأجوراً كبرية‪،‬‬ ‫ول�شيم� حني يتو�شم يف بع�س جواريه ا�شتعداداً‬ ‫كبرياً للنبوغ‪.‬‬ ‫ق�شت �شالّمة اأي�مه� الأوىل يف املدينة‬ ‫وقلبه� مبكة‪ ،‬خ َلّف ْته عند موله� الكرمي ابن‬ ‫�شهيل‪ ،‬وحبيبه� عبد الرحمن بن اأبي عم�ر‪ :‬فقد‬ ‫ظ َلّت تذكرهم� ليل نه�ر‪ ،‬وتت�شور ابن �شهيل وقد‬ ‫رق ح�له‪ ،‬وفقد ثروته‪ ،‬واأ�شبح فقرياً معدم ً� ل‬ ‫َّ‬ ‫ميلك حتى داراً ي�شكنه� بعد ذلك الغنى الوا�شع‬ ‫والنعيم الكبري‪ ،‬وتتمثل عبد الرحمن وقد برح به‬ ‫الوجد‪ ،‬واأ�شن�ه ال�شقم‪ ،‬ومل يجد اإىل العزاء �شبيال‪.‬‬ ‫تذكر هذا كله ف�إذا قلبه� ينفطر من احلزن‪ ،‬واإذا‬ ‫�شدره� �ش َّيق َحرج ك�أمن� ي�ش َّعد يف ال�شم�ء‪ ،‬فال‬ ‫جتد اأم�مه� ملج�أً اإليه اإل الدموع‪.‬‬ ‫يخ َف على �شيده� اجلديد م� هي فيه‬ ‫ومل ْ‬ ‫من الكرب وم� تع�نيه من ال�شدة‪ ،‬وك�ن قد علم‬ ‫الق�س وغرامه� به‪ ،‬اإذ ا�شتف��شت‬ ‫بحديثه� مع ِّ‬ ‫اأخب�ره مبكة حتى انتهى بع�شه� اإىل املدينة‪،‬‬ ‫فراأى من احلكمة اأن يع�مله� ب�لرفق‪ ،‬وي�أخذه�‬ ‫ب�حل�شنى‪ ،‬ويتغ��شى عم� يبدو منه� من ذلك‬ ‫حتى ت�شلوه من ذات نف�شه� مبرور الأي�م‪.‬‬ ‫وقد اأثمرت هذه ال�شي��شة احلكيمة الثمرة‬ ‫املطلوبة‪ ،‬اإذ �ش�عدت �شالّمة على ال�شلوان‪ ،‬كم�‬

‫�ش�عده� على ذلك م� ا�شتيقظ من حبه� القدمي‬ ‫للغن�ء‪ ،‬وكلفه� ب�لتربيز‪ 44‬فيه‪ ،‬فقد راأت مغ�ين‬ ‫العقيق التي ط�مل� هف� قلبه� اإليه�‪ ،‬وع��شت يف‬ ‫جو يختلف عن جو مكة بح�شن ِه واعتداله‪ ،‬وبني‬ ‫قوم يختلفون عن اأهل مكة برقتهم ودم�ثتهم‬ ‫واحتف�ئهم ب�لغن�ء‪ ،‬وولعهم به‪ ،‬وتقديرهم‬ ‫لأقط�به ونوابغه‪.‬‬ ‫وك�أمن� �شالّمة قد خلقت للغن�ء‪ ،‬وك� َّأن يف‬ ‫اأعم�ق نف�شه� �شوت ً� يحدوه� دائم ً� للنبوغ فيه‪،‬‬ ‫وي�شوقه� اإىل بلوغ اأعلى درج�ته من الكم�ل‪ .‬وقد‬ ‫وتلم به� �شواغل احلي�ة‪،‬‬ ‫تنزل به� اأحداث الدهر‪ُّ ،‬‬ ‫خفت هذا ال�شوت يف �شمريه� حين ً� من الزمن‬ ‫ف ُت ُ‬ ‫ل يلبث بعد انق�ش�ع الغمة اأن يعود ح َّي ً� كم� ك�ن‪،‬‬ ‫اأو اأقوى م� ك�ن‪ ،‬وقد تب َلّغ من هذه الظروف‬ ‫واملحن‪ ،‬واتخذ لنف�شه منه� زاداً ووقوداً – اأنه�‬ ‫ريب فيه‪ ،‬ولكن‬ ‫اأح َّبت عبد الرحمن‪ ،‬هذا ٌّ‬ ‫حق ل َ‬ ‫اأك�نت توؤثر ح َّبه على ف ِّنه�‪ ،‬اأم توؤثر فنه� عليه؟‬ ‫هذا مو�شع لل�شك‪ ،‬ومن يدري لعله� م� �ش�نت‬ ‫حب عبد الرحمن واأع َّزته‪ ،‬واأولته ج�نب الرع�ية‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫وغ َّذته ب�آم�له� واأحالمه�‪ ،‬اإل لأنه� وجدت فيه‬ ‫غذاء �شه َّي ً� لهذا اجلنني ال�رشه يف اأح�ش�ئه�‪..‬‬ ‫ً‬ ‫الفن!‬ ‫جنني ِّ‬ ‫وك�نت �شالّمة اأعرف الن��س بقدره�‪ ،‬فم�‬ ‫ك�ن الغرور ليجد �شبي ًال اإىل نف�شه� فيعميه� عن‬ ‫تبني م� فيه� من موا�شع النق�س لت�ش َّده�‪ ،‬كم�‬ ‫ُّ‬ ‫ا َّأن توا�شعه� مل يكن لي�رشفه� عن الطمع يف‬ ‫مق�م يوؤهله� له ا�شتعداده� العظيم‪ .‬من اأجل هذا‬ ‫م� ك�دت ت�شكن اإىل موله� اجلديد حتى اقرتحت‬ ‫وتتدر َب‬ ‫عليه اأن يبعثه� اإىل جميلة لت�أخذ عنه�‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫هوى يف نف�شه‪.‬‬ ‫على يديه�‪ ،‬ف�ش�دف هذا القرتاح ً‬ ‫وك�ن ابن ُر َّم�نة يعرف جميلة ويعجب بفنه�‪،‬‬ ‫وط�مل� اختلف اإىل جمل�شه� ي�شتمتع بغن�ئه�‬ ‫حتى ات�شع عمله‪ ،‬فح�لت بينه وبني ذلك كرثة‬ ‫اأ�شغ�له‪ .‬وهذه فر�شة �شنحت ليج ِّدد به� العهد‪،‬‬ ‫ويزوره� يف منزله� مع �شالّمة ج�ريته‪.‬‬ ‫�شحى ح َّتى فرحت به‬ ‫وم� ا�شت�أذن عليه�‬ ‫ً‬ ‫واأذنت له‪ ،‬وك�نت ج�ل�شة وبني يديه� عدد من‬ ‫اجلواري ب�أعوادهن تدربهن على الغن�ء‪ ،‬فنه�شت‬ ‫له وا�شتقبلته ا�شتقب� ًل ح�شن�ً‪.‬‬ ‫ق�ل له� ابن ُرم�نة‪« :‬كيف اأنت ي� جميلة؟»‪.‬‬ ‫فق�لت‪« :‬بنعمة اللـه ي� بن ُرم�نة‪ ..‬واأين اأنت‬ ‫فلم نرك منذ زم�ن؟»‪.‬‬ ‫ق�ل له�‪« :‬م�ش�غل الأي�م ي� جميلة �رشفتن�‬ ‫عن جم�ل�شك املمتعة»‪.‬‬ ‫ونظرت اإىل �شالّمة فق�لت لبن ُرم�نة‪« :‬اأه ًال‬ ‫بك ومبن معك‪ ..‬من هذه التي جئت به�؟»‪.‬‬ ‫ف�أج�به� ق�ئالً‪« :‬هذه ج�ريتي �شالّمة التي‬

‫جئت به� اإليك لت�أخذ‬ ‫ا�شرتيته� حديث ً� من مكة‪ُ ..‬‬ ‫عنك فنون الغن�ء»‪.‬‬ ‫فجعلت جميلة تت�أمل يف وجه �شالّمة ثم‬ ‫الق�س؟»‪.‬‬ ‫ق�لت‪« :‬اأهذه �شالّمة ّ‬ ‫ف��شطربت �شالّمة وبدا الت�أثر على وجهه�‪،‬‬ ‫وابت�شم ابن ُرم�نة ق�ئالً‪« :‬اأج ْل هي �شالّمة‬ ‫الق�س»‪.‬‬ ‫فق�لت جميلة‪« :‬مب�ركة عليك‪ ..‬لقد ظفرت‬ ‫بجوهرة!»‪.‬‬ ‫ف�ش�أله� ابن ُرم�نة‪« :‬هل كنت عرفته�؟»‪.‬‬ ‫�شمعت بع�س اأحل�نه�‬ ‫ف�أج�بته ق�ئلة‪« :‬لقد‬ ‫ُ‬ ‫ف�أعجبتني‪ ،‬وم� اأح�شبه� بح�جة بع ُد ا َ َ‬ ‫إيلّ»‪.‬‬ ‫رشج خداه� خجالً‪« :‬كال‬ ‫فق�لت �شالّمة وقد ت� َّ‬ ‫ي� مولتي اإين بع ُد بح�جة اإليك‪ ،‬ومن ذا ي�شتغني‬ ‫الغن�ء اإل من اأحل�نك»‪.‬‬ ‫تعلمت‬ ‫عنك وم�‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ق�ل ابن ُرم�نة‪« :‬اإنه� تلميذتك وهي �شديدة‬ ‫رشه� �شيء يف املدينة كم�‬ ‫الإعج�ب بك‪ ،‬وم� ي� ُّ‬ ‫رشه� اأن تراك وتتلقى عنك»‪.‬‬ ‫ي� َّ‬ ‫فق�لت جميلة وقد ملكه� الزهو‪« :‬اأجل اإنه�‬ ‫ت�شري على طريقتي‪ ،‬ولكنه� ت�شيف اإليه� �شيئ ً�‬ ‫من مذهب غريي‪ .‬على اأين اأتو َّقع له� م�شتقب ًال‬ ‫عظيم ً� يف هذه ال�شنعة»‪.‬‬ ‫ف�شكرته� �شالّمة على ح�شن راأيه� فيه�‪،‬‬ ‫فق�لت جميلة وهي ت�شحك‪« :‬اإنك لن تقيمي عندن�‬ ‫طوي ًال حتى تتخطفك ق�شور اأم َّية ب�ل�ش�م»‪.‬‬ ‫وك�ن لهذه الكلمة وقع �شديد عند �شالّمة‪،‬‬ ‫اإذ اأث�رت على غرة منه� اأمني ًة قدمية دفنته�‬ ‫رت‬ ‫ف�شعرت به ّزة طرب‪،‬‬ ‫الأي�م يف نف�شه�‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫وتذك ْ‬ ‫ْ‬ ‫يف نف�س الوقت ح َّبه� لعبد الرحمن‪ ،‬واأن ق�شور‬ ‫يعت لهذا‬ ‫اأم َّية �شتحول بينه وبينه� اإىل الأبد‪ ،‬ف ِر ْ‬ ‫اخل�طر فق�لت‪« :‬ل ي� مولتي‪ ،‬ل اأريد بجوار‬ ‫ر�شول اللـه بدلً»‪.‬‬ ‫البق�ء‬ ‫ف�بت�شم ابن ُرم�نة ق�ئالً‪« :‬اإنه� توؤثر‬ ‫َ‬ ‫عندي‪ .‬األي�س كذلك ي� �شالّمة؟»‪.‬‬ ‫ق�لت �شالّمة‪« :‬بلى ي� مولي»‪.‬‬ ‫فق�لت جميلة‪« :‬م� اأرى يزيد بن عبد امللك اإل‬ ‫�ش�مكِ اإىل قِ ي�ن ِه يف ق�رشه»‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ف�بتدره� ابن ُر َّم�نة ق�ئالً‪« :‬ل واللـه ل‬ ‫اأبيعه� له اأبداً»‪.‬‬ ‫ف�شحكت جميلة �شحكة ذات معنى‪ ،‬ونظرت‬ ‫اإىل ابن ُرم�نة ق�ئلة‪« :‬هيه ي� ابن ُرم�نة! م�‬ ‫اأح�شبك زاهداً يف ذهب اآل مروان!»‪.‬‬ ‫اأخذت �شالّمة بعد ذلك تختلف اإىل جميلة‬ ‫ت�أخذ عنه� اأ�شول الغن�ء يف مدر�شته�‪ ،‬ف�أحبته�‬ ‫جميلة واأكربته� مل� راأت فيه� من املوهبة الفنية‬ ‫العظيمة‪ ،‬واآثرته� ب�لعن�ية على تلميذاته� الأُ َخر؛‬ ‫زمن طويل حتى وثقت بقدرته�‪،‬‬ ‫مي�س‬ ‫ومل‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬

‫‪25‬‬

‫وعهدت اإليه� بتعليمهن بع�س الأحل�ن التي‬ ‫اأج�دته�‪ ،‬فك�نت �شالّمة تقوم بذلك خري القي�م‪.‬‬ ‫ولكن ظهوره� عليهن يف هذه املدة الوجيزة‪،‬‬ ‫لهن اأث�را يف‬ ‫واختي�ر جميلة اإي�ه� رئي�شة َّ‬ ‫أنف�شهن ح�شداً له� وغري ًة منه�‪ ،‬ف�أخذ َْن يوؤذينه�‬ ‫ا‬ ‫َّ‬ ‫رن بينهن ب�أح�ديث‬ ‫ويتغ�م ْز َن عليه�‪ ،‬ويتن َّد َ‬ ‫ح ِّبه� للق�س وغرامه� به‪ .‬فك�نت �شالّمة ُتع ِر�س‬ ‫عنهن وترت ُّفع عليهن‪،‬‬ ‫فيزيدهن ذلك وجداً‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫عليه�‪.‬‬ ‫فيهن ج�رية رائعة اجلم�ل كثرية‬ ‫وك�نت‬ ‫َّ‬ ‫أ�شهن‬ ‫ِّ‬ ‫الدل �شليطة الل�ش�ن ُتدعى ُحب� َبة‪ ،‬ك�نت ترتا َّ‬ ‫�شق‬ ‫قبل جميء �شالّمة‪ ،‬فلم� فقدت زع�مته� َّ‬ ‫ذلك عليه�‪ ،‬فج َّدت يف من�ه�شته� وتو َلّت كِ رب‬ ‫تعري �شالّمة حين ً� بدم�مة‬ ‫الئتم�ر به�‪ ،‬فك�نت ِّ‬ ‫الوجه‪ ،‬وحين ً� بقبح ال�شوت‪ ،‬وت�ر ًة مبخ�لفته�‬ ‫لأ�شول الغن�ءِ‪ ،‬وكثرياً م� ت�شمع من �شالّمة مي ًال‬ ‫يف حلن من الأحل�ن وخروج ً� عن اأ�شله فت�أخذ‬ ‫عليه� ذلك‪ ،‬وترفع اأمره اإىل جميلة‪ ،‬وت�شت�شهد‬ ‫زميالته� على ذلك في�شهدن له� َف ُبوؤ َْن من جميلة‬ ‫بخيبة امل�شعى و�شوء الرد‪ ،‬اإذ تقول لهن‪ :‬اإن ذلك‬ ‫تفوق �شالّمة ون ْزعته� اإىل البتك�ر‪.‬‬ ‫دليل على َّ‬ ‫وجل�شت جميلة ذات يوم‬ ‫تلقنهن حلن ً� جديداً‬ ‫َّ‬ ‫قبلهن كداأبه� على ذلك‪ ،‬فق�لت‬ ‫فح ِذق َْت �شالّمة‬ ‫َّ‬ ‫لتلميذاته�‪َ « :‬لك َُّن الآن اأن ت�أخذن هذا ال�شوت عن‬ ‫�شالّمة»‪.‬‬ ‫فق�لت اإحداهن‪« :‬لي�س اليوم ي� �شيدتي فقد‬ ‫تعبن�»‪.‬‬ ‫ف�ش�قت جميلة ذرع ً� بهن وق�لت‪« :‬اآه منكن!‬ ‫تكن مغني�ت ول ت�شربن على العمل!‬ ‫تردن اأن َّ‬ ‫كن فكنت رمب� اأقطع الليل كله‬ ‫لقد كنت يف �شِ ِّن َّ‬ ‫أتدر ُب على حلن واحد لأحذقه»‪.‬‬ ‫ا َّ‬ ‫فق�لت ج�رية اأخرى‪« :‬غداً ن�أخذه عنه�»‪.‬‬ ‫فنظرت اإليه� جميلة مغ�شبة وق�لت‪« :‬م�‬ ‫فيكن‪.‬‬ ‫واليكن‬ ‫رج�ء َم‬ ‫بكن! وم� اأخيب‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫اأ�شق�ين َّ‬ ‫َ‬ ‫ان�رشف َْن اإذا �شئنت!»‪.‬‬ ‫�شن‬ ‫ثبتت اجلواري يف‬ ‫مق�عدهن وخ َّف َ‬ ‫َّ‬ ‫ؤو�شهن ك�أمن� اأ�شف ْق َن من غ�شب جميلة‪ ،‬ثم‬ ‫رو‬ ‫َّ‬ ‫كل واحدة‬ ‫طفقن ينظر بع�شهن اإىل بع�س‪ ،‬تنظر ُّ‬ ‫منهن اأخ َته� لتقوم قبله�‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ونظرت جميلة اإىل �شالّمة وق�لت وقد �شكت‬ ‫نت ال َّتدريب‪،‬‬ ‫نت واأبي َّ‬ ‫عنه� الغ�شب‪« :‬اأم� اإذ ك�شل َّ‬ ‫ف�جل�شن قلي ًال لن�شمع اإىل �شالّمة»‪.‬‬ ‫َ‬ ‫وابت�شمت ل�شالّمة ق�ئلةً‪« :‬غنين� ي� �شالّمة‬ ‫اأبي�ت ابن اأبي عم�ر (األ قل لهذا القلب)‪ ،‬ف�إنه�‬ ‫تعجبني ومل اأ�شمعه� منك منذ زمن»‪.‬‬ ‫فق�لت �شالّمة‪« :‬اأعفيني ي� �شيدتي»‪.‬‬ ‫ف� َ َ‬ ‫أحل ّْت عليه� جميلة ق�ئلة‪« :‬بحي�تي‬

‫عدد ‪144‬‬

‫‪ 6‬ت�رشين ‪2010 1‬‬


‫عليك اإل م� غ َّنيته� يل» فلم جتد �شالّمة ب ّداً من‬ ‫اإج�بته� اإىل م� �ش�ألت‪ ،‬ف�أخذت عوده� متث�قلة‬ ‫ك�أمن� تدفع لذلك دفع�ً‪ ،‬وظ َلّت برهة واجمة تنظر‬ ‫اإىل عوده� ك�أنه� ت�شرتجع �شيئ ً� غ�ب عنه�‪،‬‬ ‫واأخذ العرق يرف�س‪ 45‬من جبينه� حتى اأ�شفقت‬ ‫عليه� جميلة وك�دت تعفيه� م� �ش�ألت‪ ،‬لول اأن‬ ‫رفعت �شالّمة راأ�شه� وقد ا�شتن�ر وجهه� وبرقت‬ ‫عين�ه�‪ ،‬وطفقت تداعب عوده� وتغني‪:‬‬ ‫�ص؟‬ ‫�أال ق ْل ِل َهذَ� � ْل َقل ِْب َهلْ �أَن َْت ُم ْب ِ ُ‬ ‫ْ�ص‬ ‫َو َهلْ �أَن َْت َع ْن �س َالّم َة � ْل َي ْ� َم ُمق ِ ُ‬ ‫ح َّتى اإذا بلغت قوله‪:‬‬ ‫خُ ذَ� �ل َزّ� َد َيا َع ْين َ َّي مِ ْن ُن ْ� ِر َو ْج ِه َها‬ ‫َف َما َل ُك َما ِف ْي ِه ِ�س َ�ى � ْل َي ْ� َم َمنْظَ ُر‬ ‫خنقه� الن�شيج فلم ت�شتطع اإمت�م ال�شوت‪.‬‬ ‫فع َّز ذلك على جميلة‪ ،‬وك�نت قد ا�شت َّد طر ُبه�‬ ‫روحه� يف �شم�ء الأحالم‪ ،‬فق�لت‪« :‬م�لك‬ ‫وط�رت ُ‬ ‫لغن�ء‬ ‫ي� �شالّمة؟ ا�شتم ِّري يف غن�ئك‪ ،‬فو اللـه اإنه‬ ‫ٌ‬ ‫م� �شمعت مثله»‪.‬‬ ‫فق�لت �شالّمة‪« :‬ل اأ�شتطيع ي� خ�لة»‪ .‬وظ َلّت‬ ‫عرب َته� ك�أنه� تتقي �شم�تة حوا�شده� به�‬ ‫تغ�لب ْ‬ ‫حتى اأعجزه� ذلك‪ ،‬ف�نفجرت ب�كية‪.‬‬ ‫ف�شكتت جميلة م�شفقة‪ ،‬واأخذ بع�س اجلواري‬ ‫بع�شهن ك�أمن� اأُخذ َْن‬ ‫بينهن‪ ،‬ووجم‬ ‫يتغ�م ْز َن‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ح�شدهن ل�شالّمة عطف ً�‬ ‫بروعة املوقف ف��شتح�ل‬ ‫َّ‬ ‫عليه�‪.‬‬ ‫ثوان ثم ق�لت جميلة وقد اقرتبت‬ ‫ومرت ٍ‬ ‫َّ‬ ‫من تلميذته� الب�كية‪« :‬اأاإىل هذا احل ِّد حتبينه ي�‬ ‫ويحكِ ! اإن الرج�ل لأهون من اأن تقتلي‬ ‫�شالّمة؟ ْ‬ ‫نف�شك يف اآث�رهم اأ�شف ً� وا َّإن عهدهم لأوهى من‬ ‫بيت العنكبوت»‪.‬‬ ‫فق�لت �شالّمة وقد رفعت اإليه� طرفه�‬ ‫الغ�رق يف الدمع‪« :‬اإل ابن اأبي عم�ر‪ ،‬فو اللـه ي�‬ ‫خ�لة اإنه لي�ش ِّعد اأنف��شه من حرقة الوجد فك�أمن�‬ ‫�شك‬ ‫أح�س ك� َّأن قلبي ُي ُّ‬ ‫يلفظ كبده فلذ ًة فلذة‪ ،‬ف� ُّ‬ ‫ب�خلن�جر!»‪.‬‬ ‫ق�لت جميلة‪« :‬اإنك م� تعرفني ي� ُبنية خداع‬ ‫الرج�ل ومكرهم»‪.‬‬ ‫فق�لت �شالّمة وقد كفكفت دمعه�‪« :‬لي�س ابن‬ ‫اأبي عم�ر مب�كر ول خداع‪ .‬اإنه بريء ك�لطفل‪،‬‬ ‫يي ك�لعذراء‪ ،‬ط�هر ْ َ‬ ‫ك�مللَك!»‪.‬‬ ‫َح ٌّ‬ ‫احلنو‬ ‫ف�بت�شمت جميلة ابت�ش�مة يخ�لطه�‬ ‫ُّ‬ ‫وال�شفقة ق�ئلة‪« :‬دعي عنك هذا‪ ،‬ف�شت�شلينه‬ ‫ي�شمكِ ق�رش‬ ‫كل م� يت�شل به عندم�‬ ‫وتن�شني َّ‬ ‫ُّ‬ ‫اخلليفة بدم�شق‪ ،‬فقد بلغني اأنه يبعث ر�شله يف‬ ‫�رشائك من مولك»‪.‬‬ ‫فريعت �شالّمة لذكر اخلليفة وق�لت‪�« :‬شيكون‬ ‫ْ‬

‫أغركَ ي� هذه ا َّأن اخلليفة بعث يف طلبك اأي�ش�ً؟‬ ‫ا َّ‬ ‫واللـه لن تفلحي هن�ك اإل اإذا ك�نت �شالّمة بقربك‬ ‫تر�شدك يف �شن�عتك»‪.‬‬ ‫فق�لت �شالّمة‪« :‬واللـه ل اأع ِلّمه� ول اأر�ش ُده�‬ ‫بعد اليوم»‪.‬‬ ‫ف�أخذت جميلة ترت�ش�ه� وتقول له�‪:‬‬ ‫«بل تعفني عن اأختك ي� �شالّمة من اأجلي اأن�»‪.‬‬ ‫واأ�ش�رت ِحلُب�بة ق�ئلة‪« :‬اعتذري اإليه� اأنت»‪.‬‬ ‫فلم ي�شع ُحب�بة اإ ّل اأن ق�لت ل�شالّمة‪« :‬معذرة ي�‬ ‫اأختي‪ .‬واللـه ل اأ�شمعك م� تكرهني اأبداً»‪.‬‬

‫ذلك اأ�شقى حل�يل‪ ،‬واأتع�س حلظي‪ ،‬اإ ْذ يزيد �شقة م�‬ ‫بينن� بعداً‪ .‬ولن يقدر عبد الرحمن بن اأبي عم�ر اأن‬ ‫ي�شرتيني بعد ذلك‪ .‬م�شكني عبد الرحمن! اإنه يقتل‬ ‫نف�شه ك َّداً يف ك�شب امل�ل ليقدر على �رشائي»‪.‬‬ ‫فق�لت جميلة يف لهجة فيه� �شيء من ال�ش َّدة‪:‬‬ ‫ويحك ي� جمنونة‪ ،‬اأتف�شلني اأن تقيمي عند رجل‬ ‫فقري يقربك يف ك�رش بيت يف مكة‪ ،‬على اأن تعي�شي‬ ‫عند اخلليفة يف ق�رش عظيم وملك كبري؟»‪.‬‬ ‫وك�نت حب�بة يف اأثن�ء ذلك تتح َّفز للقول‪،‬‬ ‫واإمن� �شكتت على م�ش�س تنتظر ثُغر ًة يف‬ ‫احلديث تنفذ منه� اإليه�‪ ،‬وك�ن قد انتهى اإليه�‬ ‫اأن اخلليفة �شمع بجم�له� وغن�ئه� فبعث ر�شله‬ ‫يف طلبه� وكثرياً م� ذكرت ذلك ل�شواحبه� ُمدِل ًة‬ ‫معجبة‪ ،‬فم� اإن �شمعت �شالّمة تعلن زهده� يف‬ ‫هذا الأمر الكبري لديه� حتى راأت الفر�شة �ش�نحة‬ ‫لالعرتا�س عليه�‪ .‬فق�لت تخ�طبه�‪« :‬هذا واللـه‬ ‫ي�شمني‬ ‫جنون منك‪ ..‬اأم� اأن� فيكون اليوم الذي‬ ‫ُّ‬ ‫فيه ق�رش اخلليفة بدم�شق اأ�شعد اأي�م حي�تي‪ ،‬واإين‬ ‫لأع ُّد له الأي�م»‪ .‬وع َّز على �شالّمة اأن ت�شمع هذا‬ ‫القول من حب�بة يف مثل هذا املوقف‪ ،‬فق�لت له�‬ ‫ب�زدراء‪« :‬ذلك اأ�شبه بك ي� ُحب�بة!»‪.‬‬ ‫ف��شت�ش�ظت ُحب�بة غ�شب ً� وق�لت‪« :‬م� تعنني‬ ‫بهذا! اأتريدينني اأن اأكون متكلفة مثلك‪ ،‬ت�شدعني‬ ‫عم�ر هذا ك�أن لي�س يف الدني�‬ ‫الروؤو�س ب�بن اأبي َّ‬ ‫رجل مثله!»‪.‬‬ ‫فق�لت �شالّمة وقد تهي�أت ملن�واأته� ومق�بلة‬ ‫عدوانه� مبثله‪« :‬لي�س لك اأن تقويل هذا حتى‬ ‫يحبك رجل ك�بن اأبي عم�ر»‪.‬‬ ‫«اأف لك‪ .‬فو اللـه اإن وجهي لأجمل من وجهك‬ ‫هذا ال�ش�حب‪ ،‬واإن �شوتي لأعذب من �شوتك‬ ‫املبحوح»‪.‬‬ ‫فق�لت �شالّمة وقد نفد �شربه�‪« :‬اأت�شكتني‬ ‫اأو‪.»...‬‬ ‫فب�درته� حب�بة ق�ئلة‪« :‬اأو م�ذا ي� �شالم َة‬ ‫الق�س؟»‪.‬‬ ‫ق�لت �شالّمة‪« :‬اأو األطمك!»‪.‬‬ ‫ف�أدارت له� ُحب�بة خ َّده� وق�لت تتحداه�‪:‬‬ ‫«هي� األطمي‪ ،‬اأخزاك اللـه واأخزى ابن اأبي‬ ‫عم�رك!»‪.‬‬ ‫فهم ْت �شالّمة بلطمه�‪ ،‬ولكن جميلة ح�لت‬ ‫َّ‬ ‫بينه� وبني ذلك وق�لت‪« :‬ل ي� �شالّمة ل تفعلي»‪.‬‬ ‫والتفتت اإىل ُحب�بة مغ�شبة وهي تقول‪:‬‬ ‫«اأهكذا تزعجني �شالّمة ي� حب�بة؟ اأحت�شبني‬ ‫الغن�ء طول‬ ‫نف�شك خرياً منه�؟ واللـه لو تعلمت‬ ‫َ‬ ‫عمرك م� بلغت مبلغه�»‪.‬‬ ‫فق�لت حب�بة‪« :‬اإنه� هي التي �ش َّبتني»‪.‬‬ ‫ق�لت له� جميلة‪« :‬ولكنك كنت الب�دئة‪..‬‬

‫�لف�سل �لثالث ع�ص‬

‫لنعد اإىل مكة لرنى م�ذا فعلت الأي�م ب�بن‬ ‫عم�ر بعد اإ ْذ و َّدع� �شالّمة ورجع�‬ ‫�شهيل وابن اأبي َّ‬ ‫اإىل مكة بج�شميهم�‪ ،‬ا ّأم� قلب�هم� فقد رحال مع‬ ‫الركب‪.‬‬ ‫رجع� اإىل مكة لي�شتقبل اأحدهم� حي�ة الفقر‬ ‫بعد الغنى‪ ،‬وال�شدة بعد الرخ�ءِ‪ ،‬وال�شق�ء بعد ذاك‬ ‫النعيم‪ ،‬وليق�شي الآخر اأي�م ً� كله� وجد وي�أ�س‪،‬‬ ‫ولي�يل ك ُلّه� �شهد ودمع! لقد جمعهم� يف ظ�هر‬ ‫الأمر م�ش�ب واحد وهو فِ راقُ تلك املخلوقة التي‬ ‫ك�نت اأن�شهم� يف احلي�ة‪ ،‬ولكن م� اأ�ش َّد اختالف‬ ‫اأثر هذا امل�ش�ب يف هذين القلبني‪ ،‬اأم� ابن �شهيل‬ ‫‪46‬‬ ‫هم غريه عن هم نف�شه‪ ،‬فجعل وكد ُه‬ ‫فقد �شغله ُّ‬ ‫تعزية �ش�حبه عبد الرحمن وت�شليته وتعليله‬ ‫ب�لأم�ين والأحالم‪ ،‬و�رشع�ن م� اطم� َّأن اإىل‬ ‫حي�ته اجلديدة وا�شتمراأ‪ 47‬مريره ك�أمن� مل تنزل‬ ‫به نكبة فقد فيه� كل م� ملكت يده‪ ،‬ولول م� ُيقلق‬ ‫ب�له م� يرى من اأثره� يف �شديقه عبد الرحمن‬ ‫الذي يبكي بني يديه ك�لطفل‪ ،‬وم� يوؤ ِّرقه اأحي�ن ً�‬ ‫يف هداأة الليل حني يذكر اأرامل ويت�مى و�شيوخ ً�‬ ‫عجزة ك�ن ينفق عليهم مبكة فال يدري م� ح�لهم‬ ‫حتت �شت�ر ذاك الظالم‪ ،‬لك�ن موقفه من م�شيبته‬ ‫موقف احل�مل يرى يف نومه ك� َّأن م�شيبة عظيمة‬ ‫نزلت به‪ ،‬في�شتيقظ مرعوب ً� فال يرى �شيئ ً� فيحمد‬ ‫اللـه على اأنه� مل تكن اإل يف املن�م!‬ ‫همه ف�ش َلّه‬ ‫واأم� عبد الرحمن فقد ا�شتغرقه ُّ‬ ‫عم� �شواه‪ ،‬واأذهله عم� حوله‪ ،‬وانح�رش يف‬ ‫نف�شه‪ ،‬فع��س منه� يف �شجن �شيق ل انطالق‬ ‫له منه‪ ،‬ف�شعر ك�أنه يعي�س غريب ً� يف هذه الدني�‬ ‫ل َّأن �شالّمة هي الدني� عنده رحلت عنه‪ ،‬وكذلك‬ ‫حب املراأة عن حب اخللق‪ ،‬اأحدهم� �شيق‬ ‫يختلف ّ‬ ‫متلوؤه الأثرة‪ ،‬والآخر وا�شع يعمره الإيث�ر‪.‬‬ ‫تعزى ال�شديق�ن بعد فرتة من الزمن‬ ‫واندملت جراحهم� الدامية‪ ،‬ف� َّإن لالأي�م يداً مت�شح‬ ‫كم� اأن له� يداً جترح‪ ،‬وع�د الأمل اإىل قلب عبد‬ ‫الرحمن‪ ،‬وك�ن معظم الف�شل يف هذا يرجع اإىل‬

‫‪26‬‬

‫ابن �شهيل فقد ا�شتط�ع اأن يفي�س من عزائه على‬ ‫عزاء �شلبي ً�‬ ‫قلب �شديقه‪ ،‬وك�ن يف اأول الأمر ً‬ ‫ولكنه م� لبث اأن �ش�ر يف قلب ال�ش�ب املحب‬ ‫عزاء اإيج�بي�ً‪ ،‬ثم �ش�ر اأم ًال ثم حتول الأمل عزم�ً‪،‬‬ ‫ً‬ ‫حتول العزم اإىل عمل‪.‬‬ ‫ثم َّ‬ ‫لقد عرف عبد الرحمن ال�شوق من قبل‬ ‫فلم ل يعود اإىل‬ ‫وا�شتغل ب�ل�شم�رشة فيه فربح‪َ ،‬‬ ‫عمله ويجتهد فيه حتى يجمع من امل�ل م�‬ ‫ي�شتطيع اأن يغوي ابن ُر ّم�نة فيبيع له �شالّمة؟‬ ‫فلم ل ي�شتغل‬ ‫عنده ثمن ال�شيعة التي ب�عه� َ‬ ‫ب�لتج�رة وي�شتثمره� وب�لك�شب؟ ومل ل ي�شرتك‬ ‫مع ابن �شهيل يف هذا العمل؟‬ ‫ومل يعرف ابن �شهيل ال�شفْق يف الأ�شواق من‬ ‫قبلُ ‪ .‬ومل ي�شبق له ب�لتج�رة عهد؛ فقد ولد ويف‬ ‫مهد النعمة ون�ش�أ يف بحبوحة الي�ش�ر‪ ،‬فك�أمن�‬ ‫خلق يف الدني� لينفق ل ليك�شب‪ .‬ومل يكن ن�دم ً�‬ ‫على م� اأ�ش�ع من الدني� فقد ك�ن يراه� عر�ش ً�‬ ‫زائالً‪ ،‬فق�شى لب�نته منه� اإذ ك�نت مقبلة‪ ،‬فلم‬ ‫ي�أْ�شف عليه� حني اأدبرت‪ .‬وقد بقيت له ُ�شب�ب ٌة‬ ‫من امل�ل ي�شتطيع اأن يعي�س به� ق�نع ً� بقية‬ ‫حي�ته‪ ،‬فعالم يكدح ويتعب يف الأ�شواق ويتكلف‬ ‫تذك َر �شديقه ال�ش�ب‬ ‫من ذلك م� ل يح�شنه؟ ولكنه َّ‬ ‫ال�ش�لح وح َّب ُه ل�شالّمة واأمله يف قربه�‪ ،‬فع ُّز عليه‬ ‫اأن يدعوه مل�ش�عدته يف الو�شول اإىل اأمله فال‬ ‫يعينه بكل م� يقدر عليه‪.‬‬ ‫وراأى الن��س ابن �شهيل وابن اأبي عم�ر‬ ‫مر‬ ‫يعمالن يف ال�شوق وي�شطرب�ن فيه‪ ،‬فرمب� َّ‬ ‫بهم� من ك�ن يعرفهم� منهم ف�ش َّبح اللـه وعجب‬ ‫من تق ُلّب الأي�م‪.‬‬ ‫ع�م ون�شف ق�شي�ه يف العمل اجل�د‬ ‫ومر ٌ‬ ‫َّ‬ ‫املتوا�شل يحدوهم� فيه اأم ٌل واحد يب�شم لهم�‬ ‫يف وجه �شالّمة! وك�ن� كثرياً م� جل�ش� من الليل‬ ‫يت�ش�مران وي�شتعيدان ذكري�ت الأي�م امل��شية‬ ‫في�شحك�ن حين�ً‪ ،‬وي�أْ�شي�ن حين�ً‪ ،‬ويفرتق�ن‬ ‫على العزم مل�ش�عفة اجله�د وموا�شلة العمل‪.‬‬ ‫أنب�ء �شالّمة‬ ‫وك�ن� يف خالل ذلك يت�شقط�ن ا َ‬ ‫من الواردين عليهم� من املدينة‪ ،‬ويتلقي�ن م�‬ ‫ت�شري به الركب�ن من اأغ�نيه�‪ .‬ومل ين�شي� يوم ً�‬ ‫لقِي� فيه وارداً من املدينة وك�ن من حم ِّبي‬ ‫الغن�ء‪ ،‬ف�أن�شدهم� اللحن الذي �شنعته �شالّمة يف‬ ‫اأبي�ت ابن اأبي عم�ر «األ قل لهذا القلب»‪ ،‬فك�ذا‬ ‫من طرب يذوب�ن!‬ ‫وب�رك اللـه يف جت�رتهم� فجمع� من امل�ل‬ ‫م� ح�شب�ه ك�في ً� لإر�ش�ء ابن رم�نة‪ ،‬فعقدا العزم‬ ‫على ال�شفر اإىل املدينة؛ وم� هي اإل اأي�م حتى روؤي�‬ ‫ركب جمد ي�رشب يف‬ ‫يخفق�ن على ذلولني‪ 48‬يف ٍ‬ ‫ال�شحراء نحو طيبة! وك�ن عبد الرحمن ل مير‬


‫برابية اأو م� ٍء اأو حِ لةٍ من احللل اأو عل ٍَم من اأعالم‬ ‫الطريق اإل خفق قلبه‪ ،‬وق�ل يف نف�شه‪« :‬لقد راأت‬ ‫هذا عين� �شالّمة!»‪.‬‬ ‫واإ ْذ مل يبق دون املدينة اإل يوم واحد اعتزل‬ ‫الركب وانفردا عنه بذلوليهم� ي�شتعجالن الطريق‪.‬‬ ‫ولحت لهم� مع�مل املدينة فلم ميلك� دمعهم�‬ ‫فرح�ً‪ .‬وا�شتيقظت فيهم� ذكري�ت الر�شول عليه‬ ‫ال�شالة وال�شالم واأ�شح�به‪ ،‬وجه�دهم يف �شبيل‬ ‫اللـه حتى ظهر دينه على الدين ك ِّلهِ‪.‬‬ ‫واأقبل ا ُأح ٌد يته َلّل! فته َلّل قلب�هم� له؛ وروى‬ ‫ابن �شهيل ل�شديقه قوله عليه ال�شالة وال�شالم‬ ‫يف ا ُأحد‪« :‬هذا جبل يحِ ُّب َن� و ُنح ُّب ُه!»‪.‬‬ ‫ف�أخذت عبد الرحمن َ�ش ْور ٌة من الطرب ك�أنه مل‬ ‫ي�شمع هذا احلديث اإل تلك ال�ش�عة من ابن �شهيل‪،‬‬ ‫وم� ك�ن الأمر كذلك‪ ،‬واإمن� اأث�ر احلديث �ش�عتئذ‬ ‫يف نف�س عبد الرحمن �شيئ ً� مل يكن يثريه من قبل‬ ‫فخ�له جديداً عليه ولي�س بجديد‪ .‬فقد �شعر عبد‬ ‫ا ُأحداً لي�س‬ ‫الرحمن يف تلك ال�ش�عة ك�أن‬

‫يف �شوارعه� حتى وقف� على دار ابن اأبي عتيق‪،‬‬ ‫فنزل عن ذلوليهم� وا�شت�أذن� عليه‪ ،‬فخرج لهم�‬ ‫رج ٌل كه ٌل ح�شن الهيئة‪ ،‬فم� اإن راأى ابن �شهيل‬ ‫بن‬ ‫حتى اندفع اإليه يع�نقه ق�ئالً‪« :‬اأه ًال ي� َ‬ ‫�شهيل‪ ،‬مرحب ً� ب�ل�شديق الكرمي!»‪ .‬ثم �ش�فح‬ ‫عبد الرحمن وق�ل لبن �شهيل‪« :‬من هذا ال�رشيف‬ ‫الذي معك؟»‪ .‬فق�ل ابن �شهيل‪« :‬هذا �شديقي عبد‬ ‫عم�ر»‪.‬‬ ‫الرحمن بن اأبي َّ‬ ‫«الق�س؟‪ ..‬اأه ًال بك وبه‪..‬‬ ‫ق�ل ابن اأبي عتيق‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫هي� بن� اإىل املنزل»‪.‬‬ ‫فق�ل ابن �شهيل‪« :‬م� نريد اأن نثقل عليك ي�‬ ‫بن اأبي عتيق»‪.‬‬ ‫ق�ل ابن اأبي عتيق‪« :‬ل واللـه ل َت ْنزلن اإل‬ ‫عندي»‪.‬‬ ‫ق�ل ابن �شهيل‪�« :‬شكراً ي� بن اأبي عتيق‪ ..‬األ‬ ‫تد َلّن� على دار ابن رم�نة»‪.‬‬ ‫ق�ل ابن عتيق‪« :‬لعلكم� تريدان اأن تري�‬ ‫�شالّمة؟»‪.‬‬ ‫ق�ل ابن �شهيل‪« :‬هو ذاك»‪.‬‬ ‫فق�ل ابن اأبي عتيق‪« :‬اإذن نذهب مع ً�‬ ‫ل�شم�عه� يف جمل�شه� بعد الع�رش»‪.‬‬ ‫ف�عرت�س ابن �شهيل ق�ئالً‪« :‬ولكن� مل ُن ْد َع‬ ‫اإىل هذا املجل�س فلن نح�رشه»‪.‬‬ ‫فق�ل ابن اأبي عتيق‪« :‬اإنه جمل�س يح�رشه‬ ‫�ش�ء من اأهل املدينة بغري دعوة»‪.‬‬ ‫من َ‬ ‫ق�ل ابن �شهيل‪« :‬كيف ذاك؟»‪.‬‬ ‫ف�أج�به ابن اأبي عتيق ق�ئالً‪« :‬اإن ابن رم�نة‬ ‫رجل ت�جر يحب امل�ل‪ ،‬فهو يعقد جل�ريته جمل�ش ً�‬ ‫كل اأ�شبوع يح�رشه من ي�ش�ء لي�شتهر اأمره�‪،‬‬ ‫فيبيعه� ملن ُيغلي له الثمن»‪.‬‬ ‫فخفق قلب عبد الرحمن عند �شم�ع هذا‪،‬‬ ‫وبرقت اأ�ش�رير وجهه ومل يتم�لك اأن ق�ل‪« :‬اإذن‬ ‫فهو يريد بيعه�؟»‪.‬‬ ‫�شك‪ ..‬وهذا اأ�شلوبه يف‬ ‫ق�ل ابن اأبي عتيق‪« :‬ل َّ‬ ‫التج�رة‪.»..‬‬ ‫ونظر اإىل ابن �شهيل ق�ئالً‪« :‬ك�أين بك جئت‬ ‫ت�شرتجعه� ي� بن �شهيل»‪.‬‬ ‫ق�ل ابن �شهيل‪« :‬ذلك م� جئن� مِ ْن اأجله»‪.‬‬ ‫فع َّز هذا على ابن اأبي عتيق‪ ،‬اإذ ك�ن قد �شمع‬ ‫مب� بعث اخلليفة ل�رشا ِء �شالّمة‪ ،‬ولكنه اآثر اأن ل‬ ‫يعلم‬ ‫يف�جئ �شديقه بهذا النب�أ‪ ،‬واأن يرتكه حتى َ‬ ‫ذلك بنف�شه من ابن ُرم�نة؛ فق�ل‪« :‬اأم� واللـه اإنه�‬ ‫جلوهرة ل ت�شلح اإل لك»‪.‬‬ ‫ق�ل ابن �شهيل‪« :‬ال نذهب اإليه الآن لنك ِل َّم ُه‬ ‫يف �ش�أنه�؟»‪.‬‬ ‫ق�ل ابن اأبي عتيق‪« :‬لي�س الآن‪ ..‬حتى‬ ‫ت�شرتيح� وتزيال عنكم� غب�ر ال�شفر‪ ،‬ف�إذا ك�ن‬

‫حي يتنف�س‬ ‫جب ًال من �شخر ا َّ‬ ‫أ�شم‪ ،‬ولكنه ملوق ٌّ‬ ‫وي�شعر‪ ...‬ويحب!‪.‬‬ ‫ذكر عبد الرحمن احلب فذكر �شالّمة‪ ،‬ونظر‬ ‫اإىل اجلبل احلبيب فو َّد لو ا�شتط�ع ف�حت�شنه!‬ ‫وج��شت نف�شه ب�شور من املع�ين وع�ه� قلبه‬ ‫وق�رش عنه� عقله ول�ش�نه‪ .‬هذا جبل يحنو على‬ ‫َّ َ‬ ‫املدينة ويرع�ه� ك�أن اللـه اأق�مه ليحر�شه�‪ ،‬ويف‬ ‫املدينة حمم ٌد حبيب اللـه وحبيب امل�شلمني‪ ،‬ويف‬ ‫املدينة �شخ�س اآخر يحب عبد الرحمن ويحبه عبد‬ ‫الرحمن‪« ...‬في� اأيه� اجلبل احل�ين على املدينة م�‬ ‫اأحن�ك علين�! وم� اأحبن� اإليك واأحبك اإلين�!!»‪.‬‬ ‫واأخذا ي�شريان على مهل بني النخيل‬ ‫والزروع يف �ش�حية املدينة‪ ،‬ك�مل�شفقني على‬ ‫والظل اأن يق�رش‬ ‫ذلك الطريق الوادع بني امل�ء‬ ‫ِّ‬ ‫اأمده‪ ،‬اأو ك�ملتهيبني داخل مدينة الر�شول‪.‬‬ ‫حتى اإذا اأ�رشف� على الدي�ر خفق قلب�هم�‬ ‫ونظر كالهم� اإىل الآخر ك�أنه يقول له‪« :‬ه� نحن‬ ‫اأول ِء قد و�شلن�»‪.‬‬ ‫ق�ل ابن �شهيل‪« :‬م� اأجمل املدينة!‬ ‫ليح�س له� ب�ش��شة‬ ‫اإن الق�دم اإليه�‬ ‫ُّ‬ ‫واأن�ش�ً»‪.‬‬ ‫فق�ل ابن اأبي عم�ر‪:‬‬ ‫«�شدقت ي� بن �شهيل‪ ،‬ولكني‬ ‫ل اأدري مل�ذا اأراه� اليوم اآن�س‬ ‫م� كنت اأراه� من قبل»‪.‬‬ ‫ف�بت�شم ابن �شهيل وق�ل‬ ‫له‪« :‬األ َّأن فيه� �ش َالّمة؟»‪.‬‬ ‫ف�شكت عبد الرحمن‬ ‫َ‬ ‫هنيهة ثم اأ�ش�ر اإىل اجل�نب‬ ‫الغربي من املدينة وق�ل‪:‬‬ ‫«اإين اأجد نف�شه� من هذا‬ ‫اجل�نب!»‪.‬‬ ‫ق�ل ابن �شهيل‪:‬‬ ‫أب�رش ي� عب َد الرحمن‬ ‫«ا ْ‬ ‫ف�شرناه� قريب�ً»‪.‬‬ ‫ف�ندفع عب ُد الرحمن يقول‪:‬‬ ‫«وافرحت�ه! ليت �شعري اأتعود اإلين�‬ ‫�شالّمة؟ اأير�شى موله� اأن يبيعه�‬ ‫لن�؟»‪.‬‬ ‫فق�ل ابن �شهيل‪:‬‬ ‫َِ‬ ‫مل ل؟ نحن ع�ر�شون‬ ‫عليه �شعف امل�ل الذي‬ ‫ا�شرتاه� من� به؟ وقد بلغني‬ ‫اأن من داأب هذا الرجل اأن ي�شرتي‬ ‫الغن�ء حتى اإذا‬ ‫فيعلمهن‬ ‫اجلواري‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ب�عهن ب�أثم�ن كبرية»‪.‬‬ ‫برعن فيه‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ودخال ب�ب املدينة واأخذا يجولن‬

‫‪27‬‬

‫الع�رش �شهدمت� جمل�شه� فق�بلتم� ابن ُرم�نة»‪.‬‬ ‫ق�ل ابن �شهيل‪« :‬ولكن ل نريد اأن يعرفن� اأح ٌد‬ ‫يف املجل�س»‪.‬‬ ‫علي ذلك ف�عتمدا‬ ‫ق�ل ابن اأبي عتيق‪« :‬لكم� َّ‬ ‫علي»‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫واأمر ابن اأبي عتيق غلم�نه ب�إدخ�ل‬ ‫خرجيهم� والعن�ية براحلتيهم�‪ ،‬ودخل بهم�‬ ‫املنزل‪ ،‬فتغدي� عنده‪ ،‬و�ش ًلّي� الظهر وا�شرتاح�‪،‬‬ ‫حتى اإذا ك�ن الع�رش اغت�شال وخرج� مع ابن اأبي‬ ‫عتيق اإىل امل�شجد‪ ،‬ف�شهدوا اجلم�عة‪ ،‬ثم خرجوا‬ ‫يق�شدون دار ابن ُرم�نة‪.‬‬ ‫دار كبرية حتيط به�‬ ‫واأ�رشفوا عليه� ف�إذا ٌ‬ ‫�شب‬ ‫حديقة غَ َّن ُ�ء‪ ،‬واإذا ٌ‬ ‫فن�ء وا�شع حتت الدار قد ُن َ‬ ‫حج�ب كثيف يجل�س يف ج�نب منه‬ ‫يف و�شطه‬ ‫ٌ‬ ‫الن�ش�ء ي�أتني اإليه من‬ ‫ال ِّرج�ل‪ ،‬ويف اجل�نب الآخر‬ ‫ُ‬ ‫بهن‪.‬‬ ‫ب�ب خ��س َّ‬ ‫ك�نت �شالّمة ق�عدة على كر�شي مو�شوع بني‬ ‫والن�ش�ء‪ ،‬وعليه�‬ ‫اجل�نبني بحيث يراه� الرج�ل‬ ‫ُ‬ ‫ح َلّة لزوردية‪ ،‬واأم�مه� من�شدة ت�شع عليه�‬ ‫العود وال�رشاب‪ .‬وك�ن الن��س قد دخلوا اأفواج ً�‬ ‫وغ�س‬ ‫فقعدوا على الأر�س املفرو�شة ب�لطن�ف�س‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫املك�ن ب�حل��رشين ول�شيم� ج�نب الرج�ل‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وبداأت �شالّمة تع�لج عو َده� وت�ش ُّد م� ارتخى‬ ‫من اأوت�ره‪.‬‬ ‫ج�ءت وجل�شت‬ ‫وك�نت امراأة تقول لأخرى َ‬ ‫بج�نبه�‪« :‬اأه ًال بك ي� ع�فية‪ .‬م� ج�ء بك؟ اإين مل‬ ‫اأرك هن� قبل اليوم»‪.‬‬ ‫ف�أج�بته� �ش�حبته� بلهجة �ش�كية‪« :‬ل‬ ‫ج�ء بك‪ ..‬لقد‬ ‫ج�ء بي هن� م� َ‬ ‫ت�شليني ي� خديجة‪َ ..‬‬ ‫تزو َج َب ْعل ِْي امراأ ًة اأخرى وهجرين‪ ،‬فجئت اأت�شلى‬ ‫َّ‬ ‫بغن� ِء �شالّمة!»‪.‬‬ ‫احلب‬ ‫فق�لت املراأة الأوىل‪« :‬اأيهجرك بعد ذلك ِّ‬ ‫كله؟»‪.‬‬ ‫فتن َّهدت �ش�حبته� وق�لت‪« :‬هذه ق�شمتي ي�‬ ‫خديجة»‪.‬‬ ‫وك�ن رجل من احل��رشين يكلم �ش�حبه‬ ‫ويقول له‪« :‬حق ً� واللـه اإن �شالّمة لنعمة من اللـه‬ ‫على اأهل طيبة‪ ..‬اإنه� ت�ش ِلّي همومهم واأحزانهم»‪.‬‬ ‫فق�ل له �ش�حبه‪« :‬لكنه� لن تدوم لن�‪ ..‬لقد‬ ‫بلغني اأن ُر�شلَ يزيد بن عبد امللك قد ج�وؤوا‬ ‫ل�رشائه� من ابن ُرم�نة»‪.‬‬ ‫فق�ل الرجل‪« :‬ل ح َقّقَ اللـه م� تقول»‪.‬‬ ‫�شمعت ذلك من بع�س‬ ‫ق�ل �ش�حبه‪« :‬اإين‬ ‫ُ‬ ‫الرج�ل الذين لهم �شلة وثيقة ب�بن ُرم�نة»‪.‬‬ ‫وك�نت �شالمة قد بداأت تغني‪ ،‬ف�شكت الن��س‬ ‫ك�أمن� على روؤو�شهم الطري ي�شتمعون اإليه� وهي‬ ‫تقول‪:‬‬

‫عدد ‪144‬‬

‫‪ 6‬ت�رشين ‪2010 1‬‬


‫�ص‬ ‫�أال ُق ْل ِل َهذَ� � ْل َقل ِْب َهلْ �أَن َْت ُم ْب ِ ُ‬ ‫ْ�ص‬ ‫َو َهلْ �أَن َْت َع ْن َ�سالّم َة � ْل َي ْ� َم ُمق ِ ُ‬ ‫ي َ�سا َر ْت ِب َها �ل َ ّن َ�ى‬ ‫�أال َل ْي َت � ِ ّأين ِح ْ َ‬ ‫َج ِل ْي ٌ�س ل َِ�س ْل َم ْى كُ َلّ َما َع َ ّج ُمزْهِ ُر‬ ‫ودخل ابن عتيق و�ش�حب�ه يف تلك اللحظة‬ ‫فجل�شوا يف اأخري�ت الن��س‪ ،‬وذلك عندم� ك�نت‬ ‫�شالّمة تقول‪:‬‬ ‫َف َيا َر�كِ َب ًا � َ ّإما َبلَغْ َت لطِ ْيبةٍ‬ ‫َو َ�س َ ّمكَ َو� ِد ْي َها �الأغ ُرّ ْ�لُن َ ّ� ُر‬ ‫ا�س ٍق‬ ‫ت َ ّي َة َع ِ‬ ‫َفخُ ْذ َر ْب َ� ًة َو� ْق َر�أْ َ ِ‬ ‫ْ�س ج�ؤْ َذ ُر‬ ‫َل ُه ِيف َمغَ ا ِن ْي َها مِ َن �الأُن ِ‬ ‫فهم�س ابن �شهيل لعبد الرحمن ق�ئالً‪« :‬اإنه�‬ ‫ق�س»‪.‬‬ ‫اأبي�ته� ي� ّ‬ ‫فق�ل عبد الرحمن‪« :‬ب�أبي هي واأمي!»‪.‬‬ ‫رش اإليهم� ابن اأبي عتيق ق�ئالً‪« :‬اإنه�‬ ‫ف�أ� َّ‬ ‫أحب‬ ‫مولع ٌة بهذه الأبي�ت تغ ّنيه� دائم�ً‪ ،‬وهي ا ُّ‬ ‫اأغ�نيه� اإىل اأهل املدينة»‪.‬‬ ‫البك�ء‪:‬‬ ‫وغ َّن ْت �شالّمة وقد خ�لط �شوته�‬ ‫ُ‬ ‫َ�أ ُق ْ�لُ ِل َق ْلب ِْي كُ َلّ َما َز� َد َخ ْفقُه‬ ‫�إال َم ُي َع ِ ّن ْيكَ �الأَ َ�س ْى َو�ل َ ّتذ ُ َّك ُر؟‬ ‫�ح َت َم ْل ُت ُه‬ ‫اح � ْل َقل ُْب ه ْبنِي ْ‬ ‫ت َ​َ�س َ ّب! ف َ​َ�س َ‬ ‫ب َِ�س ْ ٍب َف َما ُي ْجد ِْي َعل َ َّي �ل َت َّ�س ُ ّ ُب؟‬ ‫الن�ش�ء يبكني وتع�ىل النحيب من‬ ‫فطفق‬ ‫ُ‬ ‫ج�نبهن‪.‬‬ ‫وغلب عبد الرحمن الوجد حتى ك�د يغ�شى‬ ‫عليه‪ ،‬ف�أخذ ابن �شهيل ي�شنده اأن يقع على الأر�س‬ ‫وهو يقول له هم�ش�ً‪« :‬ت�ش َّد ْد ي� عبد الرحمن ول‬ ‫تف�شحن� يف الن��س‪ ،‬اإنهم بدوؤوا ينظرون اإلين�»‪.‬‬ ‫ال�شجى فك�د‬ ‫وغ َّنت �شالّمة ب�شوت قد براه َّ‬ ‫يبيد‪:‬‬ ‫خُ ذَ� �ل َ ّز� َد َيا َع ْين َ َّي مِ ْن ُن ْ� ِر َو ْج ِه َها‬ ‫َف َما َل ُك َما ِف ْي ِه ِ�س َ�ى � ْل َي ْ� َم َمنْظَ ُر‬ ‫�جل ْي َد طُ ْ�لَ َت َل ُفّتٍ‬ ‫غَ د�ً تُتعِ َبان ْ ِ‬

‫ف َي ْع ِي ْى َو َيطْ غَ ى ْ َ‬ ‫مع ْ ُ‬ ‫�ل َتف ِ َّج ُر‬ ‫�ل ْد ُ‬ ‫�ل ِب ْي َب ِة نَظْ َرةً‬ ‫ُت ِر ْي َد ِ�ن ِيف َو ْج ِه ْ َ‬ ‫ن ْ� ٌد و�أغْ ُ� ُر‬ ‫َومِ ْن ُد ْو ِن َم ْث َ��ها ُ ُ‬

‫«اأم� راأيت �شالّمة كيف ا�شطربت مل�‬ ‫راأته؟»‪.‬‬ ‫«نعم اإنه� هي الأخرى حتبه!»‪.‬‬ ‫اأُخِ َذ عبد الرحمن بن اأبي عم�ر اإىل حجرة‬ ‫فو�ش َع على �رشير اأُعِ َّد‬ ‫وا�شعة يف دار ابن رم�نة ِ‬ ‫وتر�س م�ء‬ ‫له‪ ،‬وق�مت على راأ�شه �شالّمة تع�جله‬ ‫ُّ‬ ‫الورد على وجهه‪.‬‬ ‫ووقف ابن ُرم�نة وابن اأبي عتيق وابن �شهيل‬ ‫يف ركن من الغرفة يتح َّدثون ب�شوت خ�ف�س‪،‬‬ ‫في�شكر ابن �شهيل ل�ش�حب الدار كرمه وب َِّر ُه‪ ،‬ثم‬ ‫يذكر له م� قدم املدينة من اأجله‪ ،‬فيعلن اإليه ابن‬ ‫رم�نة اأ�شفه ويخربه ب�أن �شالّمة قد اأ�شبحت يف‬ ‫ملك يزيد بن عبد امللك‪ ،‬واأن ُر�ش َل ُه �شيحملونه�‬ ‫و�شيك ً� اإليه‪ ،‬واأن �شالّمة يف انتظ�رهم ليع ِّينوا‬ ‫موعد ال�شفر‪.‬‬ ‫وك�ن ابن �شهيل ي�شمع حديث �ش�حب الدار‬ ‫وهو ل يك�د يتم��شك من اجلزع والأ�شف‪ ،‬ول‬ ‫يدري كيف يكون وقع هذا النب�إِ يف نف�س عبد‬ ‫الرحمن‪.‬‬ ‫وك�نت �شالّمة يف خالل ذلك ت�شمع م� يدور‬ ‫مع يت�ش�قط من‬ ‫بينهم من احلديث؛ فك�ن ال َّد ُ‬ ‫عينيه�‪ ،‬وم� منعه� اأن ُت ْع ِولَ ب�لبك�ء اإل مك�ن‬ ‫حبيبه� الف�قد وعيه على الفرا�س وهي جتتهد‬ ‫يف تنبيهه واإنع��شه‪ .‬واأفرغت قربتني من امل�ء‬ ‫الب�رد على راأ�شه فتحرك وفتح عينيه‪ ،‬ف�ش�حت‬ ‫�شالّمة‪« :‬احلمد هلل لقد اأف�ق من غ�شيته»‪.‬‬ ‫فدن� الثالثة من ال�رشير وقد بدا على وجوههم‬ ‫ال�رشور يحمدون اللـه على جن�ة �ش�حبهم‪.‬‬ ‫فلم� وقع نظر عبد الرحمن عليه� ق�ل ب�شوت‬ ‫مرتع�س‪�« :‬شالّمة!»‪.‬‬ ‫ف�أج�بته �شالّمة‪« :‬نعم ي� عبد الرحمن‪ ..‬اأن�‬ ‫هي اأم�مك»‪.‬‬ ‫أح�س عبد الرحمن بخفة ف�أراد القعود‪،‬‬ ‫وا َّ‬ ‫ف�أع�نه ابن �شهيل حتى اإذا ا�شتوى ق�عداً ق�ل‪:‬‬ ‫«هي� ي� �شالّمة نرجع اإىل مكة!»‪.‬‬ ‫والتفت اإىل ابن �شهيل ق�ئالً‪« :‬هل ك َلّمت‬ ‫موله� يف اأمره� ي� بن �شهيل؟»‪.‬‬ ‫فلم يجبه ابن �شهيل ب�شيء؛ والتفت عبد‬ ‫الرحمن اإىل �شالّمة فراآه� تبكي ف�ش�أله�‪« :‬م�‬ ‫يبكيك ي� �شالّمة؟»‪ .‬فلم جتبه بغري البك�ءِ‪ ،‬ف�ش�ح‬ ‫عبد الرحمن ق�ئالً‪:‬‬ ‫«اأخربوين م�ذا حدث‪ ..‬ي�بن �شهيل م�ذا‬ ‫حدث؟»‪.‬‬ ‫فتوىل ابن اأبي عتيق جواب عبد الرحمن‬ ‫ّ‬ ‫فق�ل‪« :‬جت َّل ْد ي� بن اأبي عم�ر‪ ..‬اإن �شالّمة قد بيعت‬ ‫ليزيد بن عبد امللك»‪.‬‬ ‫فنظر اإليه عبد الرحمن ذاهالً‪ :‬وق�ل‪« :‬بيعت‬

‫ومل ي ْق َو عب ُد الرحمن على احتم�ل م� به‪،‬‬ ‫ف�شهق �شهقة لفتت اأب�ش�ر الن��س اإليه وهو يبكي‬ ‫ويرت َّنح‪ ،‬وقد ثقل على �ش�عد ابن �شهيل حتى ك�د‬ ‫وجحظت عين�ه‪ ،‬واأخذت�‬ ‫واحمر وجهه‪،‬‬ ‫ير�شه‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫متيالن اإىل م�شدر ال�شوت‪ .‬فم� اإن اأع�دت �شالّمة‬ ‫قوله‪:‬‬ ‫خُ ذَ� �ل َ ّز� َد َيا َع ْين َ َّي مِ ْن ُن ْ� ِر َو ْج ِه َها‬ ‫َف َما َل ُك َما ِف ْي ِه ِ�س َ�ى � ْل َي ْ� َم َمنْظَ ُر‬ ‫حتى ا�شتوى على ركبتيه متط�و ًل وجعل‬ ‫يح ِّدقُ يف وجه �شالّمة وعين�ه زائغت�ن‪ ،‬فلحظته‬ ‫�شالّمة فعرفت وجهه‪ ،‬وعرفت ابن �شهيل اإىل‬ ‫ج�نبه‪ ،‬والتقت عين�ه بعينيه� فوقع عبد الرحمن‬ ‫على الأر�س مغ�شي ً� عليه‪.‬‬ ‫فق�ل ابن �شهيل‪« :‬اأع ِّني ي� بن اأبي عتيق‬ ‫لنحمله اإىل املنزل»‪.‬‬ ‫فنه�س ابن اأبي عتيق مع ابن �شهيل فحمال‬ ‫�شديقهم� ال�ش�ب وخرج� به والن��س ينظرون‬ ‫اإليهم�‪.‬‬ ‫وارتع�شت اأطرافه�‪،‬‬ ‫وتغري وجه �شالّمة‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫أح�شت ك�أن الأر�س تدور به�‪ ،‬ف�أ�شفقت اأن يراه�‬ ‫وا َّ‬ ‫الندي‪ ،49‬فق�مت‬ ‫الن��س كذلك اأو ُيغْ�شَ ى عليه� يف‬ ‫ٍّ‬ ‫عن كر�شيه� ودخلت ب�ب الدار م�رشعة‪.‬‬ ‫وا�شطرب املجل�س و�ش�أل الن��س بع�شهم‬ ‫بع�ش ً� عن احل�دث حتى ارتفع اللغط‪.‬‬ ‫وروؤى �ش�حب الدار يجري ُمنطلق ً� يف اأثر‬ ‫ابن اأبي عتيق وابن �شهيل حتى اأدركهم� عند‬ ‫«هلم� به‬ ‫ب�ب احلديقة‪ ،‬ف��شتوقفهم� وق�ل لهم�‪َّ :‬‬ ‫اإىل الدار لنع�جله»‪.‬‬ ‫ف�أج�به ابن اأبي عتيق ق�ئالً‪�« :‬شنع�جله يف‬ ‫دارن�»‪.‬‬ ‫فت�ش َّب َث بهم� ابن ُرم�نة ق�ئالً‪« :‬ل واللـه‬ ‫ل اأدعكم� تخرج�ن به من هن� فيق�شي يف‬ ‫الطريق»‪.‬‬ ‫فم� ك�ن منهم� اإل اأن نزل على راأيه‪،‬‬ ‫فق�دهم� اإىل الدار من طريق اآخر‪.‬‬ ‫وانف�س الن��س ُمن�رشفني‪ ،‬واأخذ الرج�ل‬ ‫َّ‬ ‫ب�بهن وهم‬ ‫والن�ش�ء من‬ ‫يخرجون من ب�بهم‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫يت�ش�ءلون عن احل�دث‪ ،‬ويروي بع�شهم لبع�س‬ ‫َ‬ ‫م� راآه اأو �شمعه‪.‬‬ ‫َ�س ع��شق �شالّمة»‪.‬‬ ‫«اإنه الق ُّ‬ ‫يت �شالّمة به»‪.‬‬ ‫َ�س الذي ُ�شمِّ ْ‬ ‫«الق ُّ‬ ‫«نعم هو»‪.‬‬ ‫«ويحه م� اأتع�س ح�له!»‪.‬‬

‫‪28‬‬

‫ليزيد بن عبد امللك!»‪.‬‬ ‫ف�أج�به ابن اأبي عتيق‪« :‬نعم للخليفة‪،‬‬ ‫وفو�س اأمرك اإىل اللـه»‪.‬‬ ‫ف��شرب ي� بني ّ‬ ‫ق�ل عبد الرحمن‪« :‬اأين ابن ُرم�نة‪ ،‬اأين موىل‬ ‫�شالّمة؟»‪.‬‬ ‫فق�ل ابن رم�نة‪« :‬ه� اأن� ذا هو ي� بن اأبي‬ ‫عم�ر»‪.‬‬ ‫فق�ل له عبد الرحمن‪« :‬ل ي� بن رم�نة ل‬ ‫تبعه� ليزيد‪ ..‬بعه� لن�‪ ،‬نحن اأوىل به� منه»‪.‬‬ ‫فق�ل ابن اأبي عتيق‪« :‬اإن اخلليفة دفع فيه�‬ ‫ع�رشين األف دين�ر ي� ابن اأبي عم�ر»‪.‬‬ ‫فق�ل عبد الرحمن‪« :‬ع�رشين األف دين�ر؟»‪.‬‬ ‫ق�ل ابن �شهيل‪« :‬نعم ع�رشين األف دين�ر‪،‬‬ ‫ولي�س معن� اإل األف وثم�من�ئة دين�ر»‪.‬‬ ‫فق�ل عبد الرحمن‪�« :‬شالّمة اأغلى من ذلك‪..‬‬ ‫اإن الدني� ك َلّه� ل تكفي ثمن ً� له�‪ .‬اأمهلن� ي� بن‬ ‫رم�نة �شن�أتيك ب�أكرث من ع�رشين األف دين�ر‪.‬‬ ‫�شن�أتيك مب� تريد»‪.‬‬ ‫ف�أج�به ابن رم�نة‪« :‬اإنه� خرجت من ملكي‬ ‫اإىل ملك اخلليفة‪ ،‬ولو اأنكم جئتم قبل ذلك لآثرتكم‬ ‫وقبلت منكم م� عندكم»‪.‬‬ ‫به�‬ ‫ْ‬ ‫فكرب على عبد الرحمن اخلطب فلم يجد‬ ‫�شيئ ً� يقوله‪ ،‬وبقي �ش�مت ً� برهة من الزمن ك�أنه‬ ‫إلم تطمعني يف �شيء‬ ‫يح�ور نف�شه ويقول له�‪« :‬ا َ‬ ‫مل ي�ش�أ اللـه اأن يكون»‪.‬‬ ‫وقت ان�رشافهم‬ ‫وراأى ابن �شهيل اأن قد ح�ن ُ‬ ‫من بيت ابن رم�نة‪ ،‬فقد ا�شتف�ق عبد الرحمن‬ ‫ال�شوء‪ ،‬ف�أوم�أ لبن اأبي عتيق بذلك‪،‬‬ ‫وذهب عنه‬ ‫ُ‬ ‫ففهم ابن اأبي عتيق م� اأراد وق�ل‪« :‬ن�شكرك ي�‬ ‫بن ُرم�نة على ِب ِّركَ ومعروفِ ك‪ ،‬واإن� نرى اأن ت�أذن‬ ‫لن� فنن�رشف»‪.‬‬ ‫فق�ل ابن ُرم�نة‪« :‬اإنكم مل تذوقوا عندن� �شيئ ً�‬ ‫بع ُد‪ ،‬فال تن�رشفوا حتى ن�شنع لكم طع�م�ً»‪.‬‬ ‫َ�س‬ ‫فق�ل ابن �شهيل‪« :‬لي�س بن� الليلة َنف ٌ‬ ‫لطع�م‪ ،‬وح�شبن� م� لقين� من ف�شلك وتكرمتك»‪.‬‬ ‫فق�ل ابن رم�نة‪« :‬اإنكم اأح َّب ُ�ء �شالّمة‬ ‫ومواليه�‪ ،‬واإن ل�شالّمة ملك�نة عندي‪ .‬ولن اأدعكم‬ ‫تن�رشفون حتى تعدوين ب�أن تقبلوا �شي�فتي‬ ‫غداً»‪.‬‬ ‫فق�ل ابن �شهيل – وقد فهم من عيني �شالّمة‬ ‫اأنه� ترتج�ه اأن ل يرف�س دعوة موله�‪« :‬اإذا اأَذ َِن‬ ‫ابن اأبي عتيق ف�إنن� نقبل»‪.‬‬ ‫فق�ل ابن اأبي عتيق‪« :‬لي�س يل اأن اأ�شت�أثر بكم‬ ‫دون ابن ُرم�نة»‪.‬‬ ‫وتهيئوا لالن�رشاف‪ ،‬فنه�س عبد الرحمن‬ ‫ونظر اإىل �شالّمة فراأى ابت�ش�مة خفيفة على‬ ‫ثغره� ك�أمن� تقول له‪« :‬غداً �ش�أراك»‪.‬‬


‫�خلامتة‬

‫اأث�رت روؤية عبد الرحمن وابن �شهيل وجداً‬ ‫قد دفنته الأي�م يف نف�س �شالّمة حتى ك�دت اأن‬ ‫ت�شلوه‪ ،‬فقد ك�نت تطمع يف قربهم� منذ علمت‬ ‫اأنهم� ي�شتغالن ب�لك�شب ليجمع� م� ًل ي�شرتدانه�‬ ‫به‪ ،‬فع��شت دهراً على هذا الأمل‪ .‬ومل� علمت ب�أن‬ ‫اخلليفة قد بعث ُر ُ�ش َل ُه يف �رشائه�‪ ،‬واأن موله�‬ ‫لن يرغب عن امل�ل الذي يعر�شونه عليه فيه�‪،‬‬ ‫حزنت لذلك واأيقنت اأن ل اأم َل له� يف الرجوع اإىل‬ ‫فوطنت نف�شه� على ال ِّر�شى مب� لي�س له�‬ ‫مكة‪َّ ،‬‬ ‫منه بد‪ ،‬واأخذت حتيي يف نف�شه� م� ك�نت حتلم‬ ‫به يف اأي�مه� الأوىل من البلوغ اإىل قمة ال�شهرة‬ ‫ب�شطوع جنمه� يف ق�شور اخلالفة بدم�شق‪ ،‬تريد‬ ‫�ش�ءت‬ ‫بهذا اأن تخفف عنه� بع�س امل�ش�ب‪ .‬ولكن َ‬ ‫الأقدار اأن تنك�أ اجلرح املندمل يف قلبه�‪ ،‬اإذ بعثت‬ ‫حبيبيه� القدميني لي�شرت َّداه� اإليهم� يف اليوم‬ ‫الذي ك�نت تت�أهب للرحيل يف غده مع ُر�شل‬ ‫اخلليفة اإىل ال�ش�م‪ ،‬حني مل يبق يف ا�شرتداده�‬ ‫ج�ءا قبل ذلك‪ ،‬واإل فليتهم� مل‬ ‫مطمع‪ ..‬ي� ليتهم� َ‬ ‫يجيئ� اأبداً‪.‬‬ ‫وك�نت قد اأن�شت اإىل اأهل املدينة مل� راأت‬ ‫من ح ِّبهم له�‪ ،‬وتقديرهم لفنه�‪ ،‬م� زهده� يف‬ ‫البق�ء يف‬ ‫ال�ش�م وق�شور ال�ش�م‪ ،‬وجعله� توؤثر‬ ‫َ‬ ‫احلج�ز واإن يئ�شت من قرب حبيبه� فيه‪ ،‬فكيف‬ ‫وقد قدم هذا احلبيب واأو�شك اأن يحوزه� وحتوزه‬ ‫كت�ب �شبق!‬ ‫لول‬ ‫ٌ‬ ‫ودنت �ش�عة الفراق‪ ،‬وا�شتدت رغبته� يف‬ ‫البق�ء ب�ملدينة ولو اأي�م ً� معدودة تتم َلّى فيه�‬ ‫العبقري‪،‬‬ ‫بروؤية حبيبه�‬ ‫وتتزود من لق�ئه لل�شفر‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫الطويل‪.‬‬ ‫فرجت اإىل موله� – وك�نت تعرف اأنه‬ ‫يعزه� ويكربه� – اأن يك ِل َّم ُر�شل اخلليفة يف‬ ‫ت�أجيل �شفره� ثالثة اأي�م اأو يومني‪.‬‬ ‫ير�ش ْون بذلك‬ ‫فق�ل ابن ُرم�نة‪« :‬م� اأح�شبهم َ‬ ‫ي� �شالّمة»‪.‬‬ ‫ق�لت له‪« :‬قل لهم اإنك تهيئون يل م� يلزمني‬ ‫من الثي�ب واحللي»‪.‬‬ ‫ف�أج�به� اإىل م� �ش�ألت‪ ،‬ولكن الر�شل رف�شوا‬ ‫ت�أجيل ال�شفر‪ .‬ق�ل لهم‪« :‬اإنكم ق�دمون به� على‬ ‫اخلليفة‪ ،‬ف�أمهلون� ثالثة اأي�م اأو يومني لنجهزه�‬ ‫مب� ي�شبهه� من الثي�ب واحللي والطيب»‪.‬‬ ‫فق�لوا له‪« :‬هذا كله معن� قد اأعددن�ه‪ ،‬فال‬ ‫ح�جة بن� اإىل �شيء منه»‪.‬‬ ‫ق�ل لهم‪« :‬اأمهلون� اإذاً يوم ً� واحداً لتو ِّدع‬ ‫�شواحبه� ومع�رفه�»‪.‬‬ ‫فق�لوا‪« :‬لي�س عندن� اإذن بذلك‪ ،‬وقد اأمرن�‬

‫ب�لرحيل غداً‪ ،‬فلن نت�أخر غداً حلظة»‪.‬‬ ‫اأم� عبد الرحمن ابن اأبي عم�ر فقد ق�ش�ه�‬ ‫ليلة ن�بغية‪ 50‬يف دار ابن اأبي عتيق‪ ،‬ك�أمن�‬ ‫قرب منه� وم�‬ ‫ُجمِ َع ْت فيه� اآلم حي�ته كله� م� ُ‬ ‫ب ُعد‪ ،‬فح�شى به� �شدره جملة واحدة!‬ ‫انف�س ال�ش�مر يف الدار واأوى ك ٌّل اإىل مرقده‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫حتى اإذا غفت اجلفون ت�ش َلّل عبد الرحمن من‬ ‫ج�نب �شديقه ابن �شهيل ف�شعد ال�شطح‪ ،‬ف�نتبذ‬ ‫منه ركن ً� ل تراه فيه العيون اإ ّل عين ً� واحدة ل‬ ‫تن�م!‬ ‫‪51‬‬ ‫قر ًة ميرق فيه� الربد اإىل‬ ‫وك�نت ليل ًة َّ‬ ‫العظم‪ ،‬وك�ن ج�شم عبد الرحمن يرتعد من �شدته‪،‬‬ ‫والندى يت�ش�قط عليه‪ ،‬ول يك�شوه اإل قمي�س‬ ‫خفيف‪ .‬ولكنه مل ي�شعر بذلك ك�أمن� ك�ن يف منعة‬ ‫منه ب�شواظ الن�ر التي َت َت�ش َّعر يف �شدره‪.‬‬ ‫واأخذ ين�جي اللـه ويبكي‪ ،‬ويركع وي�شجد‪،‬‬ ‫ويقوم ويقعد‪ ،‬ويدعو اللـه ويرجوه‪ ،‬وي�شكو‬ ‫اإليه وي�شتغفره‪ ،‬وي�ش�أله اللطف فيم� ق�شى‪،‬‬ ‫وي�شتلهمه الر�شد والهدى‪ ،‬وي�شتعيذ به من غلبة‬ ‫الهوى وفتنة ال�شيط�ن‪.‬‬ ‫ن�شي عبد الرحمن يف هذا املوقف كل �شيء‪..‬‬ ‫اإل �شالّمة‪ ،‬وقد ع َّزت عليه يف الدني� فطمع اأن‬ ‫تكون له يف الآخرة‪ ،‬ودع� اللـه دعوة هف� له�‬ ‫قلبه‪،‬‬ ‫واق�شعر بدنه‪ ،‬ونظر اإىل ال�شم� ِء فراأى نوراً‬ ‫َّ‬ ‫�شوت ك�أنه �شدى‬ ‫مع‬ ‫ٌ‬ ‫و�ش َ‬ ‫ا َ‬ ‫أ�ش�ءه� حلظة ف�ختفى ُ‬ ‫يرتجع يف ال�شع�ب «اآمني!»‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ف�طم�أن عبد الرحمن و�شعر ك�أن قِ رب ًة ب�ردة‬ ‫فخبت! وتد َّفق احلمد‬ ‫اأفرغت على الن�ر يف �شدره‬ ‫ْ‬ ‫من فِ ي ِه ك�أمن� ك�ن عليه �شم�م ف�نطلق‪ ،‬ورق�أ‬ ‫دمعه اإل بقية ع�لقة ب�أهدابه تلمع يف �شوء‬ ‫النجوم!‬ ‫ومل يلبث اأن �شعر ب�لربد يف ج�شمه والبلل‬ ‫يف ثوبه‪ ،‬فربح ال�شطح ورجع اإىل مك�نه حيث‬ ‫وجد ابن �شهيل يغط يف نومه‪ ،‬ف��شتبدل بقمي�شه‬ ‫واند�س حتت حل�فه فن�م‪.‬‬ ‫قمي�ش�ً‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ثم دخل ابن اأبي عتيق على �ش�حبيه‬ ‫ف�أيقظهم�‪ ،‬فتطهروا لل�شالة و�شهدوا‬ ‫اجلم�عة يف امل�شجد‪.‬‬ ‫َ�س‬ ‫وعجب ابن �شهيل اإذ راأى �شديقه الق َّ‬ ‫ن�شط ً� طيب النف�س على غري م� توقعه منه‪ :‬وق�ل‬ ‫لبن اأبي عتيق يف ذلك ف�ش�ركه العجب ون�شحه‬ ‫اأن ل يقول له �شيئ ً� فيهيجه‪.‬‬ ‫‪52‬‬ ‫واأجيبت دعوة ابن ُرم�نة حني متع‬ ‫ال�شحى فحفلت داره ب�أحب�ب �شالّمة �شيوف ً�‬ ‫أعزاء بولغ يف اإكرامهم واإين��شهم‪ ،‬فم َّد لهم‬ ‫ا َ‬ ‫وحيوا‬ ‫ال�شم�ط‪ ،‬وق َّدمت األوان الطع�م والف�كهة‪ُ ،‬‬ ‫ب�لريح�ن ون�شحوا مب� ِء الورد‪ ،‬واأديرت عليهم‬

‫جم�مر العود والند‪.‬‬ ‫واأ�رش ابن اأبي عتيق اإىل ابن رم�نة يقرتح‬ ‫عليه اأن يدعو عبد الرحمن للق� ِء �شالّمة يف مك�ن‬ ‫منفرد‪ ،‬لعله يريد اأن يقول له� �شيئ�ً‪ ،‬ولع َلّه�‬ ‫ترغب اأن تف�شي اإليه ب�شيء قبل رحيله�‪ ،‬فق�ل‬ ‫«حب ً� وكرامة»‪.‬‬ ‫ابن ُرم�نة‪ّ :‬‬ ‫فك�نت يداً لبن اأبي عتيق ظل احلبيب�ن‬ ‫يذكرانه� م� ع��ش�‪.‬‬ ‫وخال احلبيب�ن فحي� كالهم� الآخر حتية‬ ‫ومرت‬ ‫اأف�شح عنه� القلب حني ق�رش الل�ش�ن‪َّ ،‬‬ ‫حلظ�ت غ�لية من الزمن ق�شي�ه� يف �شمت‬ ‫يتكلم!‬ ‫وك�نت �شالّمة بطبيعة الأنثى فيه� اأحر�س‬ ‫من �ش�حبه� على نفي�س الوقت‪ ،‬فبداأت احلديث‬ ‫تقول‪« :‬م� ب�ل عينيك حمراوين ي� عبد الرحمن؟‬ ‫اأمل تنم الب�رحة؟»‪.‬‬ ‫فنظر عبد الرحمن يف عينيه� وق�ل‪:‬‬ ‫«ت�ش�ألينني عن َع ْي َن َّي‪ ..‬وعين�ك ي� �شالّمة؟»‪.‬‬ ‫فق�لت �شالّمة‪« :‬هذه ق�شمتن� ي� بن اأبي‬ ‫عم�ر»‪.‬‬ ‫ق�ل عبد الرحمن‪« :‬نعم هذه ق�شمتن� ي�‬ ‫�شالّمة‪ ..‬على اأنه ل ينبغي لك اأن جتزعي‪ ..‬اإنك‬ ‫ذاهبة اإىل ق�شور اأم َّية‪ ،‬وواجدة فيه� م� ي�ش ِلّيك‬ ‫البك�ء‬ ‫وين�شيك م�شكين ً� مثلي‪ ..‬اأم� اأن�‪ .»..‬وغلبه‬ ‫ُ‬ ‫دون اإمت�م جملته‪.‬‬ ‫أمية تن�شيني‬ ‫فق�لت �شالّمة‪« :‬ا ُّ‬ ‫أتظن ق�شور ا ّ‬ ‫اإي�ك؟ ل واللـه ي� بن اأبي عم�ر‪ ،‬لأنت اأح�شن‬ ‫ح� ًل مني‪ .‬اإنك تلج�أ يف عب�دة ربك بجوار الكعبة‬ ‫كل �شيء‬ ‫عزاء عني وعن ِّ‬ ‫فتجد يف من�ج�ة ربك ً‬ ‫يف هذه الدني� الف�نية‪ ،‬اأم� اأن� فلي�س يل وجه‬ ‫اأق�بل اللـه به»‪.‬‬ ‫«فيم ي� �شالّمة؟ األ�شت ت�شومني الفر�س؟»‪.‬‬ ‫«بلى ي� عبد الرحمن»‪.‬‬ ‫«وت�شلني اخلم�س؟»‪.‬‬

‫‪29‬‬

‫«اأ�شلي حين ً� واأترك حين�ً»‪.‬‬ ‫«ل ي� �شالّمة ل‪ ..‬اإين لن اأتركك حتى‬ ‫تع�هديني على اأن ل ترتكي �شال ًة منذ اليوم‪..‬‬ ‫األ�شت حتبينني ي� �شالّمة؟»‪.‬‬ ‫«بلى ي� عبد الرحمن اإين اأحبك»‪.‬‬ ‫«اأم� حتبني اأن تكوين يل واأكون لك؟»‪.‬‬ ‫«تلك الأمن َّية ي� عبد الرحمن‪ .‬ولكن كيف‬ ‫ال�شبيل اإىل ذلك وقد ا�شرتاين اخلليفة ف�نقطع كل‬ ‫اأمل يف �شريورتي اإليك؟»‪.‬‬ ‫فق�ل عبد الرحمن والدمع يرتقرق يف عينيه‪:‬‬ ‫يل يف هذه‬ ‫«اأجل انقطع كل اأمل يف �شريورتك اإ َّ‬ ‫احلي�ة الدني�‪ ،‬اأم� يف احلي�ة الأخرى ف�إن الأمل‬ ‫ب�قٍ ي� �شالّمة‪ ،‬واإنه لأم ٌل كبري!»‪.‬‬ ‫لقينة مثلي تنفق‬ ‫فق�لت �شالّمة‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫«ولكن اأ َّنى ْ‬ ‫�ش�ع�ته� يف جم�ل�س الغن� ِء وال�رشاب اأن ت�أمل‬ ‫يف احلي�ة الأخرى؟»‪.‬‬ ‫ق�ل له� عبد الرحمن‪« :‬اأم� ال�رشاب ففي‬ ‫الغن�ء ف�أنت حممولة‬ ‫و�شعك اأن تك ِّفي عنه‪ .‬واأم�‬ ‫ُ‬ ‫عليه وهو �شن�عتك‪ ،‬واأرجو ا ْأن ل حرج عليك فيه‬ ‫اإذا اأنت ح�فظت على �شالتك و�شي�مك‪ ،‬وع�شمت‬ ‫نف�شك ب�لتقوى‪ ،‬حتى يجعل اللـه لك منه مرج�ً‪.‬‬ ‫و�ش�أ�شتغفر اللـه لك واأت�ش َّدقُ عنك بكل م� يف�شل‬ ‫من ك�شبي‪ ،‬و�ش�أجتهد يف عب�دة ربي ع�شى اأن ل‬ ‫اأكو بعب�دة ربي �شق َّي�ً»‪.‬‬ ‫ق�لت له �شالّمة‪« :‬م� اأطيب قلبك ي� عبد‬ ‫الرحمن واأ�شمى روحك! وم� اأجدرك اأن ي�شتجيب‬ ‫أح�فظن‬ ‫أمتنعن عن ال�رشاب وا‬ ‫اللـه لك‪ .‬واللـه ل‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫أع�شمن نف�شي ب�لتقوى‪،‬‬ ‫على ال�شالة وال�شوم‪ ،‬وا‬ ‫َّ‬ ‫بكل م� ت�شل اإليه يدي‪ ،‬واللـه يغفر يل‬ ‫قن ِّ‬ ‫ول َّأ�ش ِّد َّ‬ ‫م� دون ذلك»‪.‬‬ ‫فق�ل عبد الرحمن وقد ا�شتن�ر وجهه‪« :‬اإفعلي‬ ‫ي� �شالّمة‪ ،‬واجعلي ذلك اآية بق�ئك على عهدي»‪.‬‬ ‫ق�لت له �شالّمة‪« :‬اطمئن ي�‬ ‫عبد الرحمن من قبلي‪ ،‬فو اللـه‬

‫عدد ‪144‬‬

‫‪ 6‬ت�رشين ‪2010 1‬‬


‫ني على عهدك حتى األقى اللـه‪ ..‬م� اأهون‬ ‫لأبق َّ‬ ‫احلي�ة بدونك ي� بن اأبي عم�ر!!»‪.‬‬ ‫ق�ل له� عبد الرحمن‪« :‬لعلك تذكرين قول‬ ‫�س َع ُد ٌّو‬ ‫الء َي ْو َم ِئ ٍذ َب ْع ُ�ش ُه ْم ِل َب ْع ِ‬ ‫اللـه تع�ىل «الأخِ ُ‬ ‫اإل ْ ُ‬ ‫امل َّتق ِْني»‪.‬‬ ‫حتب‬ ‫فتغري وجه �شالّمة ك�أنه� ذكرت �شيئ ً� ل ُّ‬ ‫اأن تذكره‪ ،‬وق�لت‪« :‬عف� اللـه عنك ي� عبد الرحمن‪،‬‬ ‫اأاأردت اأن تبكيني وتذكرين ب�شيء يوؤملني ويجرح‬ ‫قلبي؟»‪.‬‬ ‫فعرف عبد الرحمن م� تق�شد‪ ،‬واأ�شف‬ ‫لإيالمه� من حيث ل يريد فق�ل له�‪« :‬ل وربي م�‬ ‫اأردت تبكيتك ي� �شالّمة‪ ،‬واإمن� اأردت اأن اأب�رشك‬ ‫واأذكرك قوله عز وجل«اإل املتقني»‪ ،‬ف�إنهم‬ ‫أخالء يوم القي�مة»‪.‬‬ ‫�شيبقون ا َ‬ ‫ف�رشى عن �شالّمة وع�د الإ�رشاق اإىل‬ ‫وجهه� وق�لت‪« :‬ف�ش�أذكره� اإذاً ي� عبد الرحمن‬ ‫الء َي ْو َم ِئ ٍذ َب ْع ُ�ش ُه ْم‬ ‫ولن اأن�ش�ه� م� حييت‪« :‬الأخِ ُ‬ ‫�س َع ُد ٌّو اإل ْ ُ‬ ‫امل َّتق ِْني»‪.‬‬ ‫ِل َب ْع ِ‬ ‫فق�ل عبد الرحمن‪« :‬الآن اطم� َّأن قلبي‬ ‫ف�ذهبي ي� حبيبتي حيث �شئت‪ ،‬ف�إنك يل اإن �ش�ء‬ ‫اللـه»‪.‬‬ ‫فق�لت �شالّمة‪« :‬نعم ي� حبيبي‪ ..‬اأن� لك اإن‬ ‫�ش�ء اللـه»‪.‬‬ ‫مر ْت على احلبيبني‬ ‫م� اأق�رشه� من �ش�عة َّ‬ ‫خيل اإليهم� اأنه� حلظة مل يق�شي� فيه� �شيئ�ً‪ ،‬وقد‬ ‫ق�شي� كل �شيء‪.‬‬ ‫و َّدع كالهم� �ش�حبه بعني دامعة ولكن‬ ‫بنف�س مطمئ َّنة‪.‬‬ ‫أزف الرحيل‬ ‫وم� هي اإل �ش�عة و�ش�عة حتى ا َ‬ ‫وخرج املعجبون ب�شالّمة من اأهل املدينة – وهم‬ ‫كثري – ي�ش ِّيعو َنه� من رج�ل ون�ش� ٍء وعلى‬ ‫ٌ‬ ‫خلق ْ ٌ‬ ‫وجوههم الك�آبة واحلزن‪ ،‬فم�شوا خلفه� وهي‬ ‫راكبة على بغله� ف�رهة‪ ،53‬حتى و�شلوا اإىل‬ ‫�شق�ية �شليم�ن بن عبد امللك يف خ�رج املدينة‬ ‫بجم�لهم‬ ‫حيث ك�ن ُر ُ�شل اخلليفة ينتظرونه� ِ‬ ‫وهوادجهم‪ ،‬ف َنزلت عن بغلته� وق�لت للر�شل‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫«قوم ك�ن يغْ�شَ ْو َنني وي�ش ِلّمون علي ول ب َّد يل‬ ‫ٌ‬ ‫من وداعهم وال�شالم عليهم‪ ،‬فهل ت�أذنون لهم‬ ‫لي�شمعوا مني يف هذه الرحبة‪ ،54‬واأ�ش�رت اإىل‬ ‫رحبة وا�شعة لق�رش هن�ك‪.‬‬ ‫ف�أخذ الر�شل يت�ش�ورون‪ ،‬فمنهم من اأج�ز‬ ‫ومنهم من منع‪ ،‬وطفق الذين اأج�زوا ي�شتنزلون‬ ‫رفق�ءهم اإىل راأيهم يقولون لهم‪ :‬اأترغبون عن‬ ‫َ‬ ‫غلف‬ ‫�شم�عه� فيتح َّدث عنكم اأهل املدينة ب�أنك ُ‬ ‫القلوب‪ ،55‬غِ الظ الأكب�د؟ وم� زالوا بهم حتى‬ ‫وافقوا ل�شالّمة‪« :‬افعلي م� �شئت على اأن ل تطيلي‬ ‫اللبث»‪.‬‬

‫َيا َح ِب ْيبِي � ْإن َجا َر َد ْهرٌ َع َل ْينَا‬ ‫�ب‬ ‫َو َ�سقَانا بِا ْل َب ْ ِ‬ ‫�ل�ص ِ‬ ‫ي ُم َرّ َ ّ َ‬ ‫اق‬ ‫فَا ْل َل َي ِال َت ْفنَى َو ُح ُ ّبكَ َب ٍ‬ ‫ِيف ف�ؤ�دِي َومِ ْث ُل َما بِكَ َما ب ِْي‬ ‫َ�س ِه َد �للـ ُه � َ ّأن ُح َ ّبكَ َع ٌّف‬ ‫اب‬ ‫َ�س َي ُك ْ� ُن َ ّ‬ ‫�ل�س ِف ْي َع َي ْ� َم ْ ِ‬ ‫�ل َ�س ِ‬

‫ف�أ�ش�رت �شالّمة اإىل الن��س اأن يدخلوا الرحبة‬ ‫لتودعهم بلحن تغ ِّنيه لهم‪ ،‬فك�دوا يطريون من‬ ‫الفرح‪ ،‬واأخذوا يلهجون ب�لثن�ء عليه� ويدعون‬ ‫له�‪.‬‬ ‫وتدفقوا اإىل الرحبة حتى غ�شت بهم‪،‬‬ ‫‪56‬‬ ‫وا�رشاأبت اأعن�قهم اإىل �شالّمة وجعلوا يتط�ألون‬ ‫لريوه� حيث فرح الطوالُ ب�أنف�شهم وك�أن لهم يداً‬ ‫يف طولهم‪ ،‬واأ�شِ ف الق�ش�ر لأنهم مل يكونوا طوالً‪،‬‬ ‫ومت ّنوا لو زيدوا �شِ رباً لريوا �شالّمة وقد وقفت‬ ‫على مو�شع مرتفع خ�رج الرحبة وبيده� العود‪،‬‬ ‫ف�أخذت ت�رشبه وتغني بلحن حزين و�شوت‬ ‫مكلوم‪:‬‬

‫و�شمتت حلظة ثم ق�لت وهي جت ِّفف دمعه�‪:‬‬ ‫«�شكراً ي� اأحب�ئي حل�شن وداعكم‪ ..‬اأ�شتودعكم اللـه‬ ‫جميع ً� ي� اأهل طيبة! اأ�شتودعكم اللـه ي� جرية‬ ‫الر�شول!»‪.‬‬ ‫وك�نت ال ُّدموع تنهمر من عيون القوم‪ ،‬وم�‬ ‫منعهم من اأن ي�شيحوا ب�لبك�ء وقت غن�ء �شالّمة‬ ‫اإل اإ�شف�قهم اأن يف�شدوه عليه�‪ ،‬فلم� انتهت من‬ ‫ذلك واأخذت ت�شكرهم وت�شتودعهم اللـه اأطلقوا‬ ‫اأ�شواتهم و�ش�حوا يبكون ويقولون‪:‬‬ ‫«ن�شتودعك اللـه ي� �شالّمة! يحفظك اللـه ي�‬ ‫�شالّمة!»‪.‬‬ ‫‪59‬‬ ‫ونزلت �شالّمة عن الن�زش وم�شت تخرتق‬ ‫اجلمع حتى وقفت اأم�م هودجه�‪ ،‬فتلق�ه� ابن‬ ‫رم�نة ف�ش�فحه� مو ِّدع�ً‪ ،‬وتاله ابن اأبي عتيق‬ ‫وج�ء ابن �شهيل ف�ش�فحه�‬ ‫فودعته �ش�كرة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫فقبلت يده ب�كية‪ ،‬وتقدم ابن اأبي عم�ر ف�ش�فحه�‬ ‫ق�ئالً‪« :‬اأ�شتودعك اللـه ي� �شالّمة!»‪.‬‬ ‫ف�أج�بته ب�كية‪ :‬اأ�شتودعك اللـه ي� بن اأبي‬ ‫عم�ر»‪.‬‬ ‫ق�ل له�‪« :‬ل تن�شي ي� �شالّمة اآية الذكرى»‪.‬‬ ‫فق�لت‪« :‬لن اأن�ش�ه� ي� عبد الرحمن»‪.‬‬ ‫الء َي ْو َم ِئذٍ‪.»......‬‬ ‫ق�ل‪ « :‬الأخِ ُ‬ ‫�س َع ُد ٌّو اإل ْ ُ‬ ‫امل َّتق ِْني »‪.‬‬ ‫فق�لت‪َ « :‬ب ْع ُ�ش ُه ْم ِل َب ْع ِ‬ ‫وا�شتوت على هودجه� فنه�س اجلمل الب�رك‬ ‫وحترك الركب فتع�ىل �شي�ح اجلميع‪ ،‬وطفقت‬ ‫ووقعت عينه� على‬ ‫�شالّمة ت�شري بيديه� حتييهم‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫رت ثغره‬ ‫عبد الرحمن بن اأبي عم�ر ينظر اإليه� ويف ُّ‬ ‫عن ابت�ش�مة تلمع بني الدموع وهو ير َّدد‪ ٌ « :‬اإل‬ ‫ِني‪ ..‬اإل ْ ُ‬ ‫ُْ‬ ‫امل َّتق ِْني‪.».‬‬ ‫امل َّتق ْ َ‬ ‫وك�نت تلك اآخر نظرة ل�شالّمة يف عبد‬ ‫الرحمن ولعبد الرحمن يف �شالّمة‪.‬‬ ‫وك�نت هذه اآخر كلمة �شمعته� �شالّمة من‬ ‫عبد الرحمن‪...‬‬

‫ِمت َيقِين ًا‬ ‫فَا َر ُق ْ� ِين َو َق ْد َعل ُ‬ ‫اب‪.‬‬ ‫َما ِل َْن ذَ�قَ فُر َق ًة مِ ْن �إ َي ِ‬ ‫ين‬ ‫اب َق ْد ت َركُ ْ� ِ ْ‬ ‫� َ ّإن �أه َل ْ ِ‬ ‫�ل َ�س ِ‬ ‫‪57‬‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫اب‬ ‫�س‬ ‫�ل‬ ‫ْ‬ ‫ه‬ ‫ا‬ ‫أ‬ ‫ب‬ ‫ي‬ ‫ر‬ ‫خ‬ ‫ا‬ ‫لع‬ ‫�‬ ‫م‬ ‫لِ‬ ‫ِ‬ ‫اطِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫َ ِ‬ ‫ُْ‬ ‫ْ‬ ‫فق�ل رجل من امل�شيعني‪« :‬وا اأ�شف�ه عليك ي�‬ ‫�شالّمة! اإن� لن ن�شمعك بعد اليوم!»‪.‬‬ ‫وق�ل اآخر‪« :‬م� اأ�شعد اأهل ال�ش�م بك!»‪.‬‬ ‫و�ش�حت اإحدى الن�ش�ء‪�« :‬شالم على اأي�مك‬ ‫ي� �شالّمة!»‪.‬‬ ‫وا�شتمرت �شالّمة يف غن�ئه�‪:‬‬ ‫اب َق ْد َت َركُ ْ� ِين‬ ‫� َ ّإن �أَ ْه َل ْ ِ‬ ‫�ل َ�س ِ‬ ‫اب‬ ‫ُم ْ� َلـ َع ًا َخاطِ ِر ْي َباأَهِ لِ ْ ِ‬ ‫�ل َ�س ِ‬ ‫ان َع َل ْي ُه ُم‪،‬‬ ‫�أه ُل َب ْيتٍ َجار �ل َزّ َم ُ‬ ‫تاب‪.‬‬ ‫َما َعلَى �ل َ ّد ْه ِر َب ْع َد ُه ْم مِ ْن عِ ِ‬ ‫�ن مِ ْن ِح ِ ّي ِ�س ْد ٍق‬ ‫كَ ْم ِبذَ�كَ ْ�ل ُ​ُج ِ‬ ‫‪58‬‬ ‫َ‬ ‫اب‬ ‫�ســـــ َب ِ‬ ‫َوكُ ــــ ُه ْ�لٍ �أعـــــ ِـ َفّةٍ َو َ‬ ‫وجعلت تك ِّر ُر هذا البيت وهي تدور بعينه�‬ ‫يف اجلمع حتى ملحت عبد الرحمن بن اأبي عم�ر‬ ‫واقف ً� يف اأخري�ت الن��س واإىل ج�نبه ابن �شهيل‬ ‫وابن اأبي عتيق وك ُلّهم ينتحب‪ .‬فطفر ال َّدمع من‬ ‫عينه� واأخذت مت�شحه مبنديله�‪ ،‬واأخذت تغني‬ ‫بنغمة متلفة عم� قبل وقد ارتفع �شوته� وا�شتد‬ ‫رنينه‪« :‬ي� حبيبي! ي� حبيبي! ي� حبيبي!‬ ‫َ�ب‬ ‫يا َح ِب ْيبِي َي ْ� ُم � ْل ِف َر�ق َعذ ُ‬ ‫َ�ب!‬ ‫ذ‬ ‫ع‬ ‫ن‬ ‫مِ‬ ‫ِل ْل ُمحِ ِ ّب ْ َ‬ ‫ي َيا له ْ َ ِ‬ ‫لي � ْأن َل ْي َ�س عِ ْندِي‬ ‫َو َع ِز ْيزٌ َع َ ّ‬ ‫اب‬ ‫َيا َح ِب ْيبِي ِلكَ�سْ ِف َهذَ� ْ�ل َُ�س ِ‬ ‫غَ ْ ُي نَا ٍر ِيف ُم ْه َجتِي ِيف � ِ ّتقَادٍ‬ ‫َاب!‬ ‫َو ُد ُم ْ� ٍع مِ ْن ُم ْق َلتِي ِيف �نْ�سِ ك ِ‬ ‫��سطَ ْع ُت ب ِْع ُت ُع ْم ِر ْي ِب َي ْ� ٍم‬ ‫َولَ� ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫اب!‬ ‫�ل�س َح ِ‬ ‫ِف ْي ِه �أ ْلقَاكَ َيا �أ َع َزّ ِ ّ‬ ‫ثم غريت نغمته� اأي�ش ً� وغ ّنت ب�شوت اأهداأ‬ ‫واأنعم‪.‬‬ ‫ي� حبيبي! ي� حبيبي! ي� حبيبي!‬

‫‪30‬‬


‫‪ -1‬ا ِ‬ ‫الرجل على نف�شه من قراءةٍ‬ ‫حل ْز ُب‪ :‬م� يجع ُل ُه َّ‬ ‫يل حِ ْزبي َمن الق ُْرا ِآن‪،‬‬ ‫و�شالةٍ ك�ل ِو ْرد‪ .‬ويف احلديث‪ :‬طَ َراأَ َ َ َّ‬ ‫ْ�ش َيه‪ « .‬املحرر»‬ ‫ف�أَ ْح َب ْب ُت اأَن ل اأَ ْخ ُرج حتى اأَق ِ‬ ‫واملج َفّف يف‬ ‫‪ -2‬القديد‪ :‬اللحم املق َّدد ٍاملُم َلّح ٍ‬

‫‪ -17‬ا�شتخرطت ب�لبك�ء‪ :‬اأي ا�شت َّد بك�وؤه�‪.‬‬

‫ال�شم�س‪ .‬وال ُبلغة‪ :‬الكف�ية « املحرر»‬

‫‪ -18‬اأي ل يرتك زي�رته بل يع�وده�‪.‬‬

‫‪ -16‬بعلت‪ :‬اأكرثت اجلدال‪ ،‬ج�ء يف حديث ال�شورى‬ ‫«فم ْن َب َعلَ عليكُم ا ْأم َركُ م ف� ْق ُتلوه»‬ ‫لعمر بن اخلط�ب َ‬

‫‪ -42‬ح�شح�س‪ :‬ب�ن وظهر‪ ،‬ج�ء يف �شورة‬ ‫�س احلق‪ ،‬اأ َن� َر َاو ْد ُته عن َنفْ�شِ ِه واإنه‬ ‫�شح َ‬ ‫يو�شف‪ «:‬الآن َح َ‬ ‫َمل َِن ال�ش�دقني»‬

‫‪ -19‬امل�رشبة‪ :‬الغرفة‪ ،‬و�شميت كذلك لأنه� تكون‬

‫‪ -4‬اجل َُّمة‪ :‬هي جمتمع �شعر الراأ�س وهي اأكرث من‬

‫‪ -43‬النحيزة‪ :‬الطبيعة وقيل النف�س‪.‬‬

‫م�ش�شة لل�رشب‪.‬‬

‫الوفرة كم� ج�ء يف ال�شح�ح« املحرر»‬

‫‪ -44‬التربيز‪ :‬ال�شبق والتفوق‪ ،‬ومنه الربوز‪.‬‬

‫‪ -20‬البيت�ن من �شعر عروة بن اأذينة وهو من‬

‫‪ -5‬الف�غية‪ :‬فروع‬

‫تر�ش َ�س من العينيني‪.‬‬ ‫‪ -45‬رف�س الدمع‪ :‬اإذا َّ‬

‫�شعراء املدينة يف القرن الث�ين للهجرة‪.‬‬

‫�شجر احل َّن�ء‪.‬‬ ‫‪ -6‬الأبي�ت من �شعر‬ ‫عمر بن اأبي ربيعة‪ ،‬وك�ن‬

‫‪ -46‬الوكد‪ :‬اجلهد وال�شعي‪.‬‬

‫‪ -21‬قوارع العذاب‪ :‬اأي اأعلى مو�شع يف العذاب‪..‬‬

‫‪ -47‬ا�شتمراأ‪ :‬تق َّبل وا�شت�ش�غ‪.‬‬

‫‪ -22‬الأبي�ت للح�رث املخزومي وهو �ش�عر اأموي‬

‫كل دابة ي�شهل ركوبه� من الإبل‬ ‫‪ -48‬الذلول‪ُّ :‬‬

‫من اأهل مكة‪.‬‬

‫املغنون يغنون به� يف‬

‫واخليول و�شواهم�‪.‬‬

‫‪ -23‬اأنف اأقنى‪ :‬مرتفع من الأعلى وحمدودب من‬

‫املدينة « املحرر»‬

‫و�شطه‪.‬‬

‫‪ -7‬الق�لة‪ :‬القول‪.‬‬

‫الندي‪ :‬جمل�س القوم‪ ،‬ومنه الندوة والن�دي‬ ‫‪-49‬‬ ‫ُّ‬ ‫واملنتدى‪.‬‬

‫‪ -24‬الطن�ف�س‪ :‬ال ُب ُ�شطُ ‪. .‬‬

‫‪ -8‬ال�رشو‪ :‬ال�شخ�ء‪ ،‬وقوم‬

‫‪ -25‬الزرابي‪ :‬الو�ش�ئد‪.‬‬

‫�رشاة‪ ،‬اأي كرميون ذوو غنى‪.‬‬

‫‪ -50‬ب�ت ليلة ن�بغية‪ :‬اأي ليلة �شديدة وق��شية‪،‬‬ ‫وهي م�أخوذة من قول الن�بغة‪:‬‬

‫‪ -26‬اخلوان‪ :‬امل�ئدة‪.‬‬

‫‪ -9‬ال ُغ َّنة يف ال�شوت‪ :‬الرتخيم‪.‬‬ ‫‪� -10‬ش�عر قري�شي من الع�رش‬

‫‪ -27‬ط َّبة يف الغن�ء‪ :‬اأي دائبة يف تنميقه‬

‫�ور ْتنِي َ�شئ ِْيلَة‬ ‫َفب ُِّت كَ � ِّأين َ�ش َ‬ ‫ال�ش ُّم نَ�قِ ُع‬ ‫الرق ِ‬ ‫ْ�س يف اأَ ْن َي� ِب َه� ُّ‬ ‫مِ َن ُّ‬

‫‪ -28‬الأبي�ت لعروة بن حزام يف حبيبته عفراء‪.‬‬

‫َِ‬ ‫حلل ِْي ال َّن�ش� ِء ِيف َي َد ْي ِه َق َع�قِ ُع « املحرر»‬

‫وحت�شينه‪.‬‬

‫أموي‪ ،‬ولقب ب�لرق َّي�ت‪ ،‬لأنه تغ َّزل ب�أكرث‬ ‫ال ِّ‬ ‫من ثالث ن�ش�ء كل واحدة منهن ا�شمه� ُرق َّية‪.‬‬ ‫«املحرر»‬

‫‪ -11‬الأبي�ت كم� ي�شري �ش�حب‬ ‫الأغ�ين ليزيد بن الطرثية‪ ،‬وهو‬

‫�م َ�شل ِْي ُمه�‬ ‫ُي َ�ش َّه ُد مِ ْن ل َْيلِ ال َّت َم ِ‬

‫‪ -29‬حرب َعوان‪ :‬اأي حرب م�شتمرة ل تنتهي‪.‬‬

‫‪ -51‬قرة‪� :‬شديدة الربد‪.‬‬

‫‪ -30‬ن�ب‪ :‬اأي َقبِلَ توبته‪.‬‬

‫‪ -52‬متع‪ :‬ارتفع وط�ل‪.‬‬

‫‪ -31‬البيت�ن من �شعر عبد الرحمن بن عم�ر الق�س‪.‬‬

‫‪ -53‬ف�رهة‪ :‬ن�شطة‪.‬‬

‫كم� وردا يف الأغ�ين‪ «.‬املحرر»‬

‫اأح ُد اأ�شهر �شعراء احلب يف العهد‬ ‫الأموي‪.‬‬ ‫‪-12‬‬

‫الأرا�شي املنحف�شة‪.‬‬

‫«املحرر»‬

‫‪ -3‬القليد‪ :‬املفت�ح‪ ،‬معرب‪« ..‬املحرر»‬

‫اجلف�ن‪:‬‬

‫‪ -41‬النجود‪ :‬الطرق املرتفعة‪ ،‬والأغُ ور‪ :‬الأغوار اأي‬

‫‪ -32‬البيت�ن من �شعر عبد الرحمن بن عم�ر الق�س‪.‬‬ ‫كم� وردا يف الأغ�ين‪ «.‬املحرر»‬

‫الِق�ش�ع‬

‫‪ -54‬الرحبة‪ :‬الف�شحة‪.‬‬ ‫‪ -55‬قُلوب غُ لف‪:‬اأي اأحيطت بغالف فهي ُ�ش ٌّم‪،‬‬ ‫ويف احلديث‪َ :‬ي ْف َتح قُلوب ً� غُ لْف ً� اأَي ُم َغ َّ�ش�ة مغط�ة‪.‬‬

‫ي�شن‪ :‬يبخل‪.‬‬ ‫‪ُّ -33‬‬

‫الكبرية‪.‬‬

‫‪ -34‬جمجم الرجل بكالمه‪ :‬اأي تلفظ بكالم غري‬

‫‪ -13‬هذه الأبي�ت هي لعبيد اللـه‬

‫‪ -56‬يتط�ألون‪ :‬يتط�ولون‪ ..‬اأي يرفعون من‬ ‫ق�م�تهم بني اجلموع‪.‬‬

‫مفهوم‪.‬‬

‫بن قي�س الرق َّي�ت واملطل‪ :‬الت�شويف يف‬

‫‪ -35‬القين�ت‪ :‬جمع قينة وهي اجل�رية‪.‬‬

‫اأجن�ز الوعد « املحرر»‬

‫‪ -36‬اهتبله�‪ :‬انتهزه�‪ ..‬وغرة‪ :‬غفلة‪.‬‬

‫‪ -14‬املركن‪ :‬وع�ء كبري‬

‫‪ -37‬رق�أ دمعه‪� :‬شكن‪.‬‬

‫ك�لط�شت‪ ،‬تغ�شل فيه الثي�ب‪.‬‬

‫‪ -38‬بحر جلي‪ :‬كثري املوج‪.‬‬

‫‪ -15‬هذه الأبي�ت هي لعبيد‬

‫‪ -57‬احل�ش�ب‪ :‬مو�شع رمي احل�شى مبنى يف‬ ‫مكة‪.‬‬ ‫‪ -58‬احلجون‪ :‬جبل ب�أعلى مكة فيه مدافن اأهله�‬ ‫كم� ج�ء يف معجم البلدان« املحرر»‬ ‫‪ -59‬الن�زش‪ :‬املك�ن املرتفع‪.‬‬

‫‪ -39‬اأخنى عليه الزم�ن‪ :‬م�ل عليه ب�شدائده‪.‬‬

‫اللـه بن قي�س الرقي�ت « املحرر»‬

‫َهت‪ :‬اأف�قت‪.‬‬ ‫‪َ -40‬نق ْ‬

‫‪31‬‬

‫عدد ‪144‬‬

‫‪ 6‬ت�رشين ‪2010 1‬‬



Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.