اأ�سدرته منظمة اليون�سكو عام 1996
عدد – 146الأربعاء 6ت�رشين ( 1اأوكتوبر) 2010
�سالّمة الق�س ّ رواية تاريخية
علي اأحمد باكثري ر�سوم :خالد خ�سري
املوؤ�س�سة الراعية
ال�رشيك الثقايف
اجلابر MBI Al Jaberاملبعوث اخلا�س ملنظمة اليون�سكو للت�سامح والدميقراطية وال�سالم. معايل ال�سيدة اإيرينا بوكوفا ،Irina Bokovaاملديرة العامة ملنظمة الأمم املتحدة للرتبية والعلم والثقافة -اليون�سكو -ومعايل ال�سيخ حممد بن عي�سى َ
�إميان ًا منه� ب�أهمية ن�رش املعرفة وت�شجيع القراءة ودعم الفن الت�شكيلي ملواجهة الأزمة الثق�فية اخل�نقة يف الع�مل العربي ،و�إ�سهام ًا يف اإعداد ع�رشي عربي ق�در على امل�ش�همة يف بن�ء احل�ش�رة احلديثة جيل ّ والتو�شل عرب الرتبية والعلم والثق�فة اإىل اإدراك الدميقراطية وال�شالم مت�شي ً� مع مب�دئ امليث�ق الت�أ�شي�شي لليون�شكوُ ،ت�شد ُِر م�ؤ�س�سة حممد ّ بن عي�سى �جلابر MBI Al Jaber Foundationب�لتع�ون مع منظمة اليون�شكو UNESCO /وب�ل�شرتاك مع كربي�ت ال�شحف العربية توؤازره� نخبة من كب�ر الأدب�ء والك ّت�ب ومن ورائهم اليومية ّ ّ املاليني من الق�رئني،
كتاب يف جريدة
القراء يف �شهري ً� وب�شكل جم�ين ومنتظم ّ هدي ًة منه� اإىل اأكرب فئة من ّ جميع العوا�شم العربية والعرب يف الع�مل.
ال�سفحة الرئي�سية للموقع اللكرتوين ل"كتاب يف جريدة" الأربعاء الأول من كل �سهر على www.kitabfijarida.com
2
«�سالمة الق�س» والرواية التاريخية.. علي اأحمد ب�كثري ،ك�تب م�رشحي ،وروائي،
و�ش�عر ،ومرتجم من اليمن. ولد ع�م ،1910يف اندوني�شي� لأبوين عربيني من ح�رشموت ،حيث ك�ن اأبوه يعمل يف التج�رة هن�ك. ويف الع��رشة من عمره ،ع�د به والده اإىل ح�رشموت لين�ش�أ فيه� ن�ش�أة عربية ،حيث تلقى تعليمه يل وظهرت مواهبه الأدبية يف وقت مبكر ،فبداأ ال َّأو ُّ ثم َعمِ لَ بنظم ال�شعر وهو يف الث�لثة ع�رشة من عمرهَّ ،
مد ِّر�ش ً� بعد تخرجه.
وتوجه اإىل عدن غ�در ح�رشموت ع�م ،1931 َّ
زوجته امل�رشية.
ك�نت متنحه� ال�شيدة «قوت القلوب الدمردا�شية» وهي
الإم�ش�ك ب�حلدث واإدارته ،والربط بني اأحداثه.
اإذا ك�ن معروف ً� عن علي اأحمد ب�كثري اإ�شه�م�ته
ابنة موؤ�ش�س الطريقة الدمردا�شية يف الت�شوف عبد
ت�شلط هذه الرواية �شوءاً على ج�نب من طبيعة
الوا�شحة يف امل�رشح العربي يف اجليل الث�ين من اأجي�ل
الرحيم الدمردا�س ،وك�نت تكتب الرواية ب�لفرن�شية .ثم
احلي�ة الجتم�عية م� بني مكة واملدينة ،وتعيد تقدمي
النه�شة العربية ،ف�إنن� نق َّدمه اليوم رائداً يف جم�ل اآخر
َ�س» اإىل فيلم �شينم�ئي غن�ئي حتولت رواية « �شالمة الق ّ
اجل�نب احل�ش�ري من الإ�شالم ،بنكهة فنية تخرج
مالمح هو جم�ل «الرواية الت�ريخية» التي ت�شتعيد َ مطمو�شة من الت�ريخ العربي الإ�شالمي لإع�دة اإحي�ئه�
ل�ش ِّيدة الغن�ء العربي :اأم كلثوم.
يف �شورة مدنية من خالل عمل روائي ر�شني.
حتولَ حب ع�ث ٍر َّ القرن الث�ين للهجرة ،وت�رشد ف�شول ٍ ّ حب ُم�شتحيل يف ظروف اجتم�عية و�شي��شية جعلت اإىل ٍ ّ
تدور اأحداث الرواية بني مكة واملدينة يف اأوائل
َ�س» واحدة من تلك الرواي�ت و«�شالمة الق ِّ ج�شدت مراآ ًة عميقة لنعك��س ج�نب الت�ريخية التي َّ
العذري. للحب ِّ منه منوذج ً� تراجيد َّي ً� �رشيح ً� ِّ
من تلك املالمح املطمو�شة.
لكن من اأين ا�شتقى «ب�كثري» ق�شة هذا احلب
وا�شتقر زمن ً� يف احلِج�ز. ومنه� اإىل ال�شوم�ل واحلب�شة َّ
الع�ثر بني �ش�ب ع�بد زاهد ،ومغنية �ش� َّبة؟
الت�ريخ من �رشامة وث�ئقيته التدوينية ،نحو حراكه للحب اليومي احلي ،من خالل مق�ربته� منوذج ً� ٍّ الر�شني يف دولة بداأت تتجه نحو املدنية. كم� تق ِّد ُم هذه الراوية �شورة املراأة يف املجتمع الإ�شالمي خالل الع�رش الأموي ،بطريقة اأخرى ُمتلفة، وبعيدة عن منطيته� املعهودة ،اإذ ل يعيد الك�تب تقدمي
م� يوؤخذ على الرواية الت�ريخية يف واإذا ك�ن ِ َّ الأدب العربي ،خ��شة يف منوذجه� البدئي الذي مثله
يقول اأبو الفرج الأ�شفه�ين يف ف�شل «ذكر
اجلديدة ،خ��شة طروح�ت ال�شيد حممد ر�شيد ر�ش� يف
جرجي زيدان ،ب�أنه� تيه روم�ن�شي يف الت�ريخ اأكرث
�شالمة الق�س وخربه�» يف اجلزء الث�من من كت�ب
وذج ً� اجتم�ع َّي ً� ُمتف�عالً ،واإن ظلت تخ�شع جل�نب َمن َ من التق�ليد الجتم�عية لذلك الع�رش .وقد اأث�رت
جملة (املن�ر) كم� كتب فيه� م�رشحيته الأوىل« :هم�م
من كونه� ك�شف ً� فني ً� تنويري�ً ،وبكونه� مل ت�شتكمل
الأغ�ين[ك�نت �شالمة مو ًلّدة من مو َلّدات ْاملدينة وبِه�
الرواية يف حينه� ردود الأفع�ل املتب�ينة حول هذه
يف بالد الأحق�ف» التي ظهر فيه� ت�أثره مب�رشحي�ت
ال�رشوط الفنية للرواية ،ول تعدو �شوى نوع من العبث
�شوقي.
ي�شتخدم «ب�كثري» يف هذه الراوية بالغة متينة،
انتقل اإىل م�رش ،1934يف مرحلة مثلت انعط�فة
ب�ملدون�ت واإع�دة �شحنه� بوق�ئع ُمتخ َّيلة ذات بعد َّ اأيديولوجي ،ف�إن رواي�ت «ب�كثري» ،يف هذا املج�ل،
ن�ش�أت -واملولدة هي اجل�رية املَولُود ُة بني العرب، والتي َتن�ش ُ�أ مع َاأولدهم ،و ُيع ِلّمونه� مِ ن الأدب مثل م�
املع�جلة ب�لذات.
مهمة يف حي�ته الثق�فية ،والتحق بج�معة فوؤاد الأول
وجميلة وم�لك بن اأبي ال�شمح وذويهم فمهرت .واإمن�
ترد يف �شي�ق الرواية ،قمن� ب�رشحه� يف الهوام�س،
«ج�معة الق�هرة ح�لي�ً» حيث ح�شل على لي�ش�ن�س
لت ُمق�ربة حذرة للت�ريخ ،ب�عتم�د ن�شقه الأ�شلي م َّث ْ
ُيع ِلّمون اأول َدهم -اأخذت الغن�ء عن معبد وابن ع�ئ�شة
ولغة ذات نكهة اإعرابية ،ولذلك ف�إن مفردات ق�مو�شية
وحم�ولة التدخل يف امل�ش�ح�ت احلرة والتف��شيل
الآداب ق�شم اللغة النكليزية يف ع�م ،1939وخالل
الجتم�عية خللق تراجيدي� يقت�شيه� الن�س.
َ�س ل َّأن رج ًال ُيعرف بعبد الرحمن بن �شميت �شالمة الق ّ
ت�شهي ًال ملهمة الق�رئ ،كم� يورد الك�تب بع�س الأ�شع�ر
وخالل هذه الفرتة بدا ت�أثره ب�لأفك�ر الإ�شالمية
اجل�رية رمزاً ُم�شخ�شن ً� للمتعة اجل�شدية ،واإمن� يق ِّد ُمه�
درا�شته يف اجل�معة ترجم م�رشحية «روميو وجولييت»
لقد كتبت هذه الرواية يف �شي�ق نزوع فني
ل�شك�شبري ب�ل�شعر امل ُْر َ�شل ،كم� كتب م�رشح َّيته
ات�شمت به تلك املرحلة ،فقد بداأ جنيب حمفوظ من
َ�س اأبي عم�ر اجل�شمي من ق َُّراء اأهل مكة ،وك�ن يل َّق ُب ب�لق ِّ ِف بِه� َو�شُ هِ َر ،فغلب عليه� لقب ُه .وا�شرتاه� لعب�دته� ،شُ غ َ
«اأخن�تون ونفرتيتي» ب�ل�شعر احل ِّر ،فك�نت جتربة رائدة يف هذا املج�ل.
الت�ريخ ،يف مع�جلته الفنية براوي�ته الثالث الأوىل:
يزيد بن عبد امللك يف خالفة ُ�شليم�ن ،وع��شت بعده].
من رواية الأ�شفه�ين هذه ،جند ا َّأن اأبط�ل هذه
ومن هن� ف� َّإن من املهم التنبيه اإىل اإن جميع
«عبث الأقدار» و«رادوبي�س» و«كف�ح طيبة» وبينم�
�ش�فر اإىل فرن�ش� ع�م 1954يف بعثة درا�شية. ا�شتغل ب�لتدري�س خم�شة ع�رش ع�م ً� ثم انتقل
كت يف طبق�ت حتر ْ ك�نت رواي�ت جنيب حمفوظ تلك قد َّ
أ�شخ��س حقيقيون ،نعرفهم من كتب الرواية هم ا ٌ الت�ريخ وم�ش�در الأدب العربي ،وتكمن اأهمية هذا
الهوام�س الواردة يف هذا الكت�ب هي م� مل يرد يف
الت�ريخ الفرعوين البعيد ،ف�إن «ب�كثري» اجته اإىل ف�ش�ء
العمل يف اأ َّن ُه جعل العديد من �شخ�شي�ت ذلك الع�رش،
للعمل يف وزارة الثق�فة والإر�ش�د القومي مب�رش وظ َّل
اآخر ،هو الف�ش�ء العربي الإ�شالمي .وك�ن يجد نزوعه
واأعالمه تلتقي يف ف�شوله ،حتى واإن ك�نت بينه�
يعمل فيه�.
نحو هذا التوجه �رشوري ً� بفعل �شيوع ظ�هرة الدعوات
م�ش�ف ٌة م� يف تلك احلقبة الت�ريخية التي ع��شوا به�.
تزوج يف م�رش ع�م من �شيدةٍ م�رشية ،وح�شل
الإقليمية .لهذا ف�إن «اإحي�ء روح الأمة ظلت رائدي يف
على اجلن�شية امل�رشية مبوجب مر�شوم ملكي يف ع�م .1951
ن�ت الت�ريخ مدو ُ ومن هن� �شنجد ا َّأن م� تخلقه َّ من قلقٍ فني يف امل�ش�حة ال�رشدية يف العمل الروائي
التجربة مع احل��رش ،فقد
الت�ريخي ،قد توؤدي اإىل مت ُّدد بنيته احلك�ئية بني
كتبه� «ب�كثري» بعدم�
تنوع اإنت�جه الأدبي بني الرواية -الت�ريخية
التخيل والواقع ،ولعل هذا م� دفع جنيب حمفوظ اإىل
اأبحر اإبح�راً عميق ً� يف
ب�شكل خ��س -وامل�رشحية ال�شعرية والنرثية ،ومن
مغ�درة هذه املنطقة مت�م�ً .اأم� «ب�كثري» ف�إنن� جند ُه ظل حم�فظ ً� على خي�راته ،وداأب يف اجل�نب املق�بل قد َّ
امل�ش�در الت�ريخية ،وتت َّبع
م�ش�در هذه احلك�ية
رش َ�س» اأم� اأ�شهر اأعم�له امل�رشحية فهي «� ُّ و« �شالمة الق ّ رش �شهر زاد» التي ترجمت اإىل احل�كم ب�أمر اللـه» و«� ُّ
على اإغن�ء ع�مله الروائي بخي�رات جديدة ،م�شتفيداً من
وتف��شيله� يف الرتاث
تي�رات الثق�فة العروبية يف ذلك الوقت ،وكذلك «ل َّأن
العربي وخ��شة الأغ�ين
الفرن�شية و«م�أ�ش�ة اأوديب» امل�شتوح�ة من «اأدويب
اأحداث الت�ريخ التي تبلورت وتخل�شت من التف��شيل»
لأبي الفرج الأ�شفه�ين
�شوفوكلي�س» وقد ترجمت اإىل الإنكليزية.
كم� يقول ،تتيح للك�تب حرية اأف�شل يف العمل الفني
وم�ش�رع الع�ش�ق لل�رشاج
مل ين�رش «ب�كثري» اأي ديوان �شعري يف حي�ته لكنه
تتحمله من ا�شتيع�ب الرموز والإيح�ءات ،حيث مب� َّ
لبن
تبقى الدللت الكربى جم� ًل حيوي ً� وحراً ملق�ربته�
اجلوزي و�شواه� ،وبعد اأن
ون�رش له بعد وف�ته ديوان «اأزه�ر الربى يف اأ�شع�ر
من قبل الك�تب.
ع��س زمن ً� ل ب�أ�س به يف
ب�لإ�ش�فة اإىل لغته الأم :العربية.
اأ�شهر اأعم�له الروائية «وا اإ�شالم�ه» و«الث�ئر الأحمر»
ن�رش ق�ش�ئ َد ُمتف ِّرق�ت يف ال�شحف واملجالت.
�شم ق�ش�ئد من اأ�شع�ره التي كتبه� عندم� ال�شب�» الذي َّ
تع ُّد « �شالمة الق�س» ا َّأول رواية من�شورة لب�كثري،
الغزل العرب يف تلك احلقبة ،وهو م� قمن� بن�شبته اإىل اأ�شح�به اعتم�داً على تخريجه� من امل�ش�در الرتاثية.
الأ�شل املن�شور للرواية ،واإمن� هو من َو ْ�شعِن� يف «
كت�ب يف جريدة»
حممد مظل�م
َ�س» هي رواية التث�قف مع ورواية «�شالمة الق ّ
م� كتبت من م�رشحي�ت وق�ش�س» كم� يقول.
ك�ن يجيد اللغ�ت :الإجنليزية والفرن�شية واملالوية
واملجتزاآت من الق�ش�ئد التي تعود لعدد من �شعراء
الت�ريخ ،ويف الوقت عينه، ت�شتفيد
واأخب�ر
من
الن�ش�ء
معطي�ت
البيئة الأوىل التي ع��س
خالد خ�سري
ك�تب ور�ش�م ون�قد ت�شكيلي من مواليد حزيران 1956الب�رشة ،العراق.
ح�ئز على بك�لوريو�س ر�شم من كلية الفنون اجلميلة يف ج�معة الب�رشة و دبلوم ع�يل -اإت�ش�لت -من املعهد الع�يل لالإت�ش�لت .1978 ع�شو احت�د الأدب�ء والكت�ب العراقيني ،ع�شو جمعية الت�شكيليني ،ع�شو نق�بة الفن�نني ،ع�شو احت�د الت�شكيليني الرواد ،مدرب دويل ب�ل�شطرجن. عم�ن األف كت�ب «ه��شم حنون ..الواقعة ال�شيئية» اإ�شدار دار الأديب يف ّ
2009وكت�ب ً� بعنوان «الر�شم -العراقي مق�لت يف طوبولوجي� اللوحة و�شيئيته�». كتب العديد من املق�لت الثق�فية والنقدية يف العديد من ال�شحف واملجالت العربية ور�شم العديد من اأغلفة الكتب. كر�شت العديد من ال�شحف واملجالت ملف�ت خ��شة عن ف ّنه مثل جملة ّ
«األواح – اأ�شب�ني�» و«الطليعة الأدبية» و «الأقالم».
حيث �شدرت عن «جلنة الن�رش للج�معيني» وذلك يف
فيه� اأبط�ل تلك الرواية،
له مدونت�ن الكرتونيت�ن :
تويف يف م�رش يف 10ت�رشين الث�ين /نوفمرب
الع�م ،1944بعدم� ف�زت ب�ملرتبة الأوىل من��شفة
فج�ء العمل ينطوي على
،1969ودفن مبدافن الإم�م ال�ش�فعي يف مقربة ع�ئلة
مع رواية جنيب حمفوظ «رادوبي�س» يف اجل�ئزة التي
مت��شك فني وقدرة على
http://khalidkhkh.maktoobblog.com http://khalidkhkh.blogspot.com
ك�ن يعي�س يف ح�رشموت ،قبل انتق�له اإىل الق�هرة .
3
عدد 144
6ت�رشين 2010 1
الراعي
حممد بن عي�سى اجلابر
ت�صميم و اإخراج
Mind the gap, Beirut
MBI AL JABER FOUNDATION
امل�ؤ�ص�س
الإ�صت�صارات الفنية
�سوقي عبد الأمري
�سالح بركات غالريي اأجيال ،بريوت.
املدير التنفيذي
املطبعة
�صكرتاريا وطباعة
الإ�صت�صارات القان�نية
املحرر الأدبي
املتابعة والتن�صيق
املَقَّ ر
كتاب يف جريدة
ندى ّ دلل دوغان هناء عيد
حممد مظلوم
بريوت ،لبنان ي�سدر بالتعاون مع وزارة الثقافة
پول نا�سيميان "القوتلي وم�ساركوه -حمامون" حممد ق�سمر
�شنرت دلفن ،الطابق ال�شاد�ض �شارع �شوران ،الرو�شة بريوت ،لبنان تلفون /فاك�ض +961 )0(1 868 835 kitabfj@cyberia.net.lb kitabfijarida@hotmail.com
عدد رقم ( 6ت�رشين اأول )2010 146
ال�صحف ال�رشيكة
الهيئة الإ�صت�صارية
الأحداث -اخلرطوم الأيام -رام اللـه الأيام -املنامة ت�رشين -دم�شق الثورة � -شنعاء اخلليج -الإمارات الد�ستور -ع ّمان الراأي -ع ّمان الراية -الدوحة الريا�ض -الريا�ض ال�سعب -اجلزائر ال�سعب -نواك�شوط ال�سباح -بغداد العرب -تون�ض ،طرابل�ض الغرب ولندن جملة العربي -الكويت القاهرة -القاهرة القد�ض العربي -لندن النهار -بريوت الوطن -م�شقط
اأدوني�ض اأحمد ال�س ّياد اأحمد بن عثمان التويجري اأحمد ولد عبد القادر جابر ع�سفور جودت فخر الدين �سيد يا�سني عبد اللـه الغذامي عبد اللـه يتيم عبد العزيز املقالح عبد الغفار ح�سني عبد الوهاب بو حديبة فريال غزول حممد ربيع مهدي احلافظ نا�رش الظاهري نا�رش العثمان نهاد ابراهيم با�سا ه�سام ّ ن�سابة مينى العيد
خ�سع ترتيب اأ�سماء الهيئة الإ�ست�سارية وال�سحف للت�سل�سل الألفبائي ح�سب ال�سم الأول.
4
�سالّمة الق�س* ّ علي اأحمد باكثري
ب�سم �هلل �لرحمن �لرحيم «ولقد ه ّم ْت ب ِه وه َ ّم برهان ر ِّبهِ» � -لقر�آن �لكرمي بها ل�ال � ْأن ر�أى َ
�لف�سل �الأول
ا�شتيقظ عبد الرحمن بن عبداللـه بن اأبي عم�ر يف الهزيع الأخري من الليل على �شوت الآذان الأول ل�شالة ال�شبح ،فنه�س عن فرا�شه، وفتح كُ َّو ًة من كُ وى غرفته ،ف�أط َّل منه� على الف�ش�ء املنب�شط اأم�مه وقد ا�شتملت اأق��شيه ب�لظالم ال�ش�بغ ،وبقيت تختلج يف اأدانيه ،وعلى روؤو�س التالل البعيدة من اجل�نب الآخر ،وعلى اأع�يل ق�شور مكة البي�ش�ء عن ميينه و�شم�له أطي�ف من �شي�ء القمر الغ�رب يف الأفق. ا ٌ و�شعر عبد الرحمن بت َّي ٍ�ر من ريح ال�شت�ء جيب قمي�شه، البليلة يت� َّ رشب اإىل الغرفة ،ف�أ�شلح َ رداءه فل َّفه حول عنقه ،واأرخى طرفيه وتن�ول َ أح�س بدف ٍء لذيذ اأغراه ب�لعودة على �شدره ،ف� َّ اإىل فرا�شه ريثم� يطلع الفجر الأول ،ولكنه مل أح�س ب�لنع��س يداعب يكد يفعل ذلك حتى ا َّ جفنيه واأيقن اأنه �شينتهي به اإىل �شب�ت عميق وتذكر قد يف ِّوت عليه �شالة اجلم�عة يف امل�شجدَّ ، 1 اأي�ش ً� اأنه مل يكمل تلك الليلة حزبه من القراآن ، ف��شتع�ذ ب�للـه من ال�شيط�ن ،ورمى حل� َف ُه عنه وتو�ش�أ ورجع بقوة ،وق�م اإىل املي�ش�أة فتط َّهر َّ اإىل الغرفة ينتف�س من الربد ،ف�أم�ط فرا�شَ ُه عن احل�شري فوقف عليه و�ش َلّى ركعتي الو�شوء. مت �شالته ك�ن اأول خ�طر هجم عليه اأن فلم� اأ َّ الربة التي ك�نت ُتعنى ب�أمر َّ تذك َر ا َّأمه العجو َز ِ َّ �شالته وقي�مه ،فك�ن ين�م كم� ي�ش�ء ُمطمئن ً� اإىل اإيق�ظه� اإي�ه يف الوقت املطلوب. وك�نت اأم عبد الرحمن امراأة �ش�حلة ر َّبته منذ �شغره على التقوى والعب�دة ،وزرعت يف حب الفقه يف الدين .وك�نت تكفيه هموم قلبه َّ عي�شه وتقوم بتدبري امل�ل الذي تركه اأبوه لهم� اإذ م�ت ومل� ي�شلخ عبد الرحمن الث�نية
وتتهج ُد معه ،حتى اإذا دن� وتقرب له الو�شوء، َّ وقت ال�شالة ن َّبهته للخروج اإىل امل�شجد ،و�ش َّيعته زودته ب�شيء من التمر والقديد اإىل الب�ب بعد اأن َّ يتبلغ 2به يف امل�شجد اإذا هو نوى العتك�ف فيه، اأو يفطر عليه اإذا ك�ن �ش�ئم�ً. ا�شرت�شل عبد الرحمن كذلك يف ذكري�ت اأمه ،ولكنه ذكر مرة م� مل يكمله تلك الليلة من آين ،وك�ن عليه اأن يكمله قبل خروجه حزبه القرا ِّ اإىل امل�شجد ،ف�قتلع نف�شه من تلك الذكري�ت وترحم عليه� ،وم�شح الع�ر�شة بعد اأن دع� لأمه َّ بردائه عربة ك�نت ترتقرق يف عينيه ،ثم طفق يقراأ القراآن ب�شوته احلنون احلزين .وك�ن اإذا قراأ القراآن ا�شتغرق فيه ون�شي م� حوله ،حتى اإنه ك�ن ل ينتبه ملرور الوقت اإل مب� ي�أتي عليه من اأجزاء القراآن ،اأو يتمه من �شوره ،فيعرف الوقت بذلك .ولكن ا�شرت�ش�له يف ذكري�ته تلك الليلة قد اأخذ جزءاً غري قليل من وقته ،ف�أخط�أ يف تقديره فم� ن َّبهه اإىل ذلك اإل َخفْقُ النع�ل يف ال�ش�رع، فعرف من ذلك اأن جريانه يف تلك املح َلّة قد اأخذوا يتوجهون اإىل امل�شجد ل�شهود �شالة ال�شبح .وك�ن من ع�دته اأن يخرج قبل هوؤلء؛ فنه�س قبل اأن يتم حزبه من القراآن وفتح الك َُّو َة مرة اأخرى فراأى نور الفجر قد انت�رش يف الأفق، ف�رتدى ثي�به ولب�س ُخ َّفيه ،واألقى على كتفيه عب�ءته البي�ش�ء ،وتن�ول رداءه من الك َّت�ن كوره على راأ�شه ،وخرج الأبي�س ف�أداره ثم َّ م�رشع ً� يقرع ال َّد َرج ب ُِخ َّف ْيه حتى انتهى اإىل الب�ب ففتحه فخرج ثم اأغلقه ،وانتزع اأقليده 3من الفتحة ال�شغرية التي على ج�نب الب�ب فغرزه يف و�شطه ،وم�شى منطلق ً� يف طريقه اإىل امل�شجد وهو يقراأ م� بقي عليه من حزبه. ينهب الأر�س بخطواته �ش�ر عبد الرحمن ُ الوا�شعة ال�رشيعة ل يلوي على �شيء؛ ف�شبق كثرياً من الرج�ل الذاهبني اإىل ال�شالة من �شب�ب يخطون وكهول مي�شون بقوة ،و�شيوخ ُع ِّجز ُّ خط�ً ،فخلفهم جميع ً� وراءه .فقد ك�ن الأر�س َّ مل به من احلزن لوف�ة اأمه – واعتالل على م� اأ َّ قوي البنية �شديد الأ�رش ن�شيط �شحته لذلك – َّ احلركة .فلم� دن� من امل�شجد راأى الن��س يدخلون اإليه اأفواج ً� من اأبوابه املختلفة ،فدخل هو من اأحده� .وبين� هو يف طريقه ق��شداً جهة الكعبة اإذ ملح على مقربة منه �شيخ ً� هرم ً� قد ق�رب الثم�نني من عمره ،يدب دبيب ً� اإىل جهة الكعبة وقد تقو�س ظهره وته َّدل جفن�ه على عينيه ،فدن� منه عبد الرحمن وحي�ه ق�ئالً« :ال�شالم عليك ي� اأب� الوف�ء». فر َّد العجوز ال�شالم ورفع راأ�شه يف �شيء
من عمره ،فتو َلّت تربيته و�ش َلّمته لأحد اأق�ربه� فحفظ عنه القراآن قبل الع��رشة ،وح َّببت اإليه امل�شجد احلرام ،فك�ن يعتكف فيه اأغلب الأي�م ،يروى عن علم�ئه احلديث ويتل َّقى عنهم الفقه ،ول يرجع اإىل بيته يف اأطراف مكة اإل اآخر النه�ر، فيجل�س اإىل اأمه يدار�شه� القراآن ويذاكره� احلديث. ك�ن همه� منذ توفى زوجه� اأن ين�ش�أ ابنه� الوحيد ع�مل ً� فقيه ً� ك�شعيد ابن امل�شيب اأو كعط�ء بن اأبي رب�ح ،وك�نت تدعو اللـه يف �شالته� اأن يح ِّقق له� هذا الأمل ،ف��شتج�ب اللـه دعوته� فلم مت ْت حتى راأت ابنه� ال�ش�ب م�رشب املثل مبكة َُ يف فقهه وعب�دته ،حتى ل َّقبه اأهل مكة« :الق�س» وغلب عليه هذا اللقب حتى ك�د ل ُيعرف اإ ّل به. وك�ن ا�شم عبد الرحمن الق�س عنوان ً� لل�ش�ب العفيف الن��شئ يف عب�دة اللـه ،املالزم للم�شجد، الفقيه يف الدين .وك�ن ال�شيوخ والكهول يروون عنه احلديث ول يجدون حرج ً� يف ا�شتفت�ئه وتل ِّقي العلم عنه .وا�شتهر اأمره فلم يكن من بيت مبكة مل ي�شمع به .ك�نت املراأة من ن�ش�ئه� ُتع ِلّلُ الق�س ،وك�ن الرجل ابنه� الر�شيع ب�أن ين�ش�أ ن�ش�أة ِّ يتم َّنى على اللـه لو رزقه ولداً مثله. تذك َر عبد الرحمن اأمه ال�ش�حلة وتذكر ح�شن َّ تربيته� له وقي�مه� عليه وكف�يته� اإي�ه هموم العي�س ليتفرغ للعب�دة والعلم ،فع�وده احلنني خف عنه اإليه� وا�شت َّد به احلزن عليه� ،وك�ن قد َّ ذلك بعدم� ان�رشم على وف�تِه� ع�م ق�ش�ه عبد أم�س الذكرى ،حتى الرحمن يف اأ�شد احلزن وا ِّ اعت َلّت �شحته و�ش�ء ح�له ولكنه ك�ن ي�أخذ نف�شه ب�ل�شرب والر�ش� بق�ش�ء اللـه ،ويلج�أ اإىل ال�شالة والبث، والعب�دة كلم� ط�ف به ط�ئف من اللوعة ِّ والرتحم عليه� .وك�ن يف مكتفي ً� ب�لدع�ء له� ُّ ذلك يعمل ج ْهده بو�شيته� له وهي حتت�رش ،اإذ ق�لت له يف �شكرات املوت« :اأ�شتودعك اللـه ي� عبد الرحمن .ل اأراك جتزع ملوتي وتن�شى الأن�س ب�للـه». ولكن عبد الرحمن ك�ن رقيق القلب ،دقيق احل�س ،فلم يفلح يف اقتالع احلزن على اأمه من فظل يع�وده الفينة بعد الفينة ،على اأنه قلبهَّ ، ك�ن ل يفت�أ يج�هد نف�شه على العمل بو�شية اأمه؛ وك�ن يجد يف العب�دة اأكرب عون له على تن��شي اآلمه ،لول اأن هذه العب�دة ك�نت كثرياً م� تثري �شجونه ،لقرتان اأ�شب�به� بذكري�ت اأمه التي ك�نت توقظه يف ال�ش�عة املطلوبة من الليل،
من ا َ جل ْهد ،فظهر وا�شح ً� وجهه ذو التج�عيد، وح�جب�ه الأبي�ش�ن ،وحليته البي�ش�ء ال�ش�ربة وج َّمته 4املر�شلة اإىل �شحمتي اأذنيه، يف �شدرهُ ، تطل اأطرافه� من حتت عم�مته اخل�رشاء ك�أنه� الف�غية5؛ فلم� راأى عبد الرحمن ملعت عين�ه بربيق الفرح ،حتى ك�أن �شب�به امل��شي كله قد ع�د اإليه متجمِّ ع ً� يف عينيه وق�ل« :مرحب ً� ي� بن اأبي عم�ر ...اأه ًال بك ي� ب َن َّي .اأين كنت اأم�س فقد بحثت عنك فلم اأجدك؟ اإين اأريدك يف اأمر َجلل!». ف�أج�به عبد الرحمن ق�ئالً« :خرياً ي� عم». ق�ل ال�شيخ�« :ش�أحدثك به بعد ال�شالة فال تن�رشف حتى اأراك». فق�ل عبد الرحمن�« :شمع ً� ي� اأب� الوف�ءِ». ونظر اإىل وجه ال�شيخ كمن يح�ول اأن يعرف م� ذلك الأمر اجلَلل الذي يريد ال�شيخ اأن يتحدث اإليه فيه ،ولكن ال�شيخ مل ميهله اأن ق�ل« :انتظرين عند حلقة الدر�س» ،وم�شى اإىل �شبيله اإىل حيث ي�أخذ مك�نه يف ال�شالة ،وكذلك فعل عبد الرحمن.
�لف�سل �لثاين
�شمط�ء يف يف ذلك احلني ك�نت عجوز ُ نحو ال�ش�د�شة واخلم�شني من عمره� مت�شي يف دهليز �شيق يف بيته� ال�شغري الواقع يف طَ َرف من اأطراف مكة م� يلي احل َُّجون .وك�نت حتمل يف يده� �شمعة ت�شيء له� الدهليز حتى وقفت عند ب�ب غرفة �شغرية ف�أخذت تقرعه وت�شيح من�دية�« :شالّمة! �شالّمة! �شالّمة! قومي ي� بنت! اإ�شحي ي� ج�رية قد طلعت ال�شم�س واأنت ن�ئمة!». وقرعت الب�ب قرع ً� اأ�شد من الأول فلم يجبه� اأحد ،ففتحته ف�إذا غرفة �شيقة قد ظهر رث يف ج�نب منه� على �شو ِء ال�شمعة �رشير ٌّ تن�م عليه فت�ة مدثرة بلح�ف قدمي .اقرتبت العجوز من ال�رشير وهي تقول�« :شالّمة ..قومي ي� �شقية» .و�شحبت اللح�ف عن الفت�ة ف�أخذت وتتث�ءب وتتق َلّب من جنب اإىل جنب تتمطى َّ َ وهي تقول« :اآه ..دعيني ي� مولتي ن�ئمة – م� يزال الوقت مبكراً» .ق�لت ذلك واأع�دت اللح�ف على ج�شمه� .لكن العجوز ع�ودت �شحب اللح�ف عن الفت�ة وهي تر ُّدد الكلم�ت ذاته� « قومي ي� �شقية .الوقت مت�أخر ،ولي�س مبكراً ،لقد ح�ن وقت ال�شالة واأنت ن�ئمة» نه�شت الفت�ة من نومه� وهي تقول «اآه ب� مولتي ليلة الب�رحة مل اأمن اإل قلي ًال بعد منت�شف الليل ،ك�نت دار ج�رن� اأبن �شهيل ت�شج ب�أ�شوات الغن�ء واملرح ،وقد ك�ن �شوت غن�ء جميل ي�أتي من تلك الدار واأن� ا�شتمع اإليه طوال الليل ،ك�ن ال�شوت العذب هو �شوت
* اعتمدنا في نشر الرواية طبعة مكتبة مصر -القاهرة 1977
5
عدد 144
6ت�رشين 2010 1
جميلة مطربة املدينة امل�شهورة» فتنهدت العجوز وق�لت يف لهجة ي�شوبه� ال�شتنك�ر وال�شم�تة« :نعم ..اأي �شيء ي�أتين� من اأهل املدينة اإل هذا؟ ا َّأوا ُه من ف�ش�د الزم�ن!!». «اآه ي� مولتي م� اأعذب �شوته� واأجمل غن�ءه�!». َ «هل كنت تت�شمعني اإليه�؟ ويل لك ،مل�ذا مل َت�ش ِّدي اأذنيك وتن�مي؟» انفجرت اجل�رية �ش�حكة �شحك�ت متقطعة، ك�أنه� ت�شتغرب هذا القول من �شيدته� وق�لت: ين واأن�م؟ هِ ْئ هِ ْئ هِ ْئ هِ ْئ ..وهل ك�ن يف «ا ُأ�شد اأذ َّ رشب اإىل و�شعي ذلك؟ اإن �شوته� ي� مولتي ليت� َّ يهب الن�شيم اأذين كم� يت�رشب الأمل احلُلو – كم� ُّ العذب – كم� يداعب النع��س الأجف�ن!». ومتيلُ راأ�شه� مينة واأخذت اجل�رية تتث َّنى ُ وي�رشة ،ثم
نه�شت عن �رشيره� يف ن�شوة وهي ترتمن« :تن تن تن تن تن تن تن! تن تن تن تن تن تن تن!». فق�طعته� العجوز وهي يف ح�لة و�شط بني الغ�شب وال�شحك ق�ئلة�« :شه ،ا�شكتي ي� ف�علة!» ولكن اجل�رية مل ت�ش�أ اأن ت�شمع ملولته� وا�شتمرت مرتمنة« :تن تن تن تن تن تن!» وطفقت ترق�س يف انت�ش� ٍء وغنج وهي تغني: أجن َز ْت َن� َم� َت ِع ْد َو�شَ ف َْت اأَ ْنف َُ�شن� «ل َْي َت هِ ْنداً ا ْ َ جت ْد م� َ ِ َِ 6 مر ًة َواحِ د ًة».. .. َو ْ ا�ش َتب ّد ْت َّ وراأت اأم الوف� ِء اأنه� قد �شربت ل�ش َالّمة اأكرث وو�شعت م� ينبغي له� اأن ت�شرب عليه� ،فنهرته� ْ يده� على فمه� ق�ئلة�« :شه ا�شكتي! مل يبق اإ ّل اأن ترق�شي وتغني هن� .ه َّي� اذهبي ف�شلّي واحلبي اللنب ثم اخرجي
ب�ل ُغ َن ْيم�ت اإىل املرعى لتعودي اإلين� قبل الظهر». وعرفت �ش َالّمة اجل َّد يف مولته� فم� و�شعه� اإ ّل اأن تطيع اأمره� ق�ئلة�« :شمع ً� ي� مولتي، عب�ءته� ف�ألقته� على ه�اأنذا ن�زلة» .واأخذت َ كتفه� مت�أهبة للخروج ،ولكنه� ع َّز عليه� اأن ل تتمكن من اإمت�م رق�شته� واأغنيته� فخرجت من الب�ب وهي ترق�س وتغني« :اإمن� الع�جز من ل ي�شتبد». وراءه� تتبعه� وهي وم�شت اأم الوف� ِء َ تقول« :ح�شبك اللـه ي� جميلة! �شتف�شدين علين� جوارين�».
�لف�سل �لثالث
ونعود اإىل امل�شجد احلرام فرنى الن��س قد فرغوا من �شالة ال�شبح ،فمنهم من رجع اإىل بيته ،اأو ان�رشف اإىل عمله ،ومنهم من بقي يف امل�شجد يذكر اللـه ،اأو يتلو القراآن ،ويطوف ب�لكعبة ،اأو ي�شتمع اإىل حلقة من حلق�ت الدر�س ،حتى تطلع ال�شم�س وترتفع قدر رمح في�شلون الن�فلة ثم ين�رشفون ،اإل من نوى العتك�ف ب�مل�شجد فيبقى فيه ول يرجع اإىل بيته اإل بعد �شالة الع�ش�ءِ. وهذا ج�نب من امل�شجد قد ا�شتدارت فيه حلقة ي�شتمع الن��س فيه� اإىل اأحد العلم� ِء وهو يقول: « ...عن النبي �شلى اللـه عليه و�ش َلّم اأنه ق�ل( :خري القرون قرين ،ثم الذين يلونهم ،ثم الذين يلونهم) ..ف�أب�رشوا اأيه� الن��س اإنكم من خري القرون ،احمدوا اللـه تع�ىل مل يجعلكم من خري القرون اإل لتقوموا خري القي�م بط�عته، وتكونوا بذلك اأه ًال لب�ش�رة نب ِّيه. األ فمن خ�لف منكم كت�ب اللـه و�ش َّنة ر�شوله ف�شوف يح��شبه اللـه حِ �ش� َبني ع�شريين على ذنبه ،وعلى م� اأ�ش�ع من نعمته.»... طلعت وك�نت ال�شم�س قد ْ حتل ال�شالة ،واأخذ الن��س بحيث ُّ يتنفلون ،وهذا ال�شيخ اأبو الوف� ِء ُي َ�ش ِل ُّم من �شالة ال َّنفْل ويدعو: «ربن� اآتن� يف الدني� ح�شنة ويف الآخرة ح�شنة وقن� عذاب الن�ر». واإىل ج�نبه رجالن كهالن من اأ�شح�به قد فرغ� اأي�ش ً� من
6
�شالته� ،واأخذا يدعوان .وم� انتظر الثالثة طوي ًال حتى اأقبل عليهم عبد الرحمن ابن اأبي عم�ر ف�ش َلّم عليهم فردوا عليه ال�شالم ،ونه�شوا له ف�ش�فحهم وق�ل« :كيف اأنت ي� اأب� الوف�ءِ؟ أخوي؟». كيف اأنتم� ي� ا َّ ف�أج�ب اأحد الكهلني« :اإنن� بخري ي� بن اأبي عم�ر ..ولكن اأين كنت اأم�س؟ لقد التم�شن�ك فلم جندك ل يف امل�شجد ول يف البيت». عقب �شالة ق�ل عبد الرحمن« :لقد ُ خرجت َ ال�شبح اإىل �شيعتن� ب�لوادي اأنظر يف �ش�أنه� ،ومل اأعد اإ ّل ل َْيالً». والتفت الكهل اإىل ال�شيخ ق�ئالً« :األ تخربه ي� اأب� الوف� ِء ب�لأمر؟». فتنحنح اأبو الوف� ِء ونظر اإىل عبد الرحمن نظرة ملوؤه� احلب والعطف ق�ئالً« :اإن� نريد اأن نتحدث اإليك يف اأمر خطري ،ف�أعرين �شمعك ي� بني». َّ فق�ل عبد الرحمن« :خرياً ي� عم». وا�شتمر اأبو الوف� ِء ق�ئالً« :اإنك تعلم م� لَكَ من مك�نة يف الن��س ل�شالحك وتقواك وفقهك يف الدين على حداثة �شنك ،حتى ل َّقبك اأهلُ مكة بحق خليفة عط� ِء بن اأبي رب�ح، َ�س ،واعتربوك ٍ ّ الق َّ واأن جميلة املغنية قد وردت اإىل هذا البلد الأمني ونزلت عند جريانن� اآل �شهيل ،وقد �شغلتني عن �شالتي الب�رح َة والليلة التي قبله� بغن�ئه� وب�طله� ،فهل لك اأن تكلم الوايل يف �ش�أنه� ع�شى اأن ي�أمر ب�إخراجه� قبل اأن تف�شد علين� فتي�نن� وفتي�تن�». أمر عبد الرحمن يده على جبينه ق�ئالً: ف� َّ «اأجل ي� عم قد بلغني ذلك ف�غتممت لأمره ول حول ول قوة اإ َّل ب�للـه .اإن ال�شيط�ن قد يئ�س فج�ء اأهله� من طريق من هذه البلدة الط�هرة َ الغن�ء». ق�ل ال�شيخ« :ف�ذهب الغدا َة اإىل الوايل، �ش�ء اللـه م�شموعة». فكلمتكم اإن َ ف�عرت�س عبد الرحمن ق�ئالً« :ولكني نويت العتك�ف يف امل�شجد هذا اليوم» .ف�أج�به اأبو الوف�ءِ« :اإن العتك�ف �شنة وهذا فر�س عليك ي� بني ،فال عليك اأن ُتق ِّد َم الفر�س على ال�ش َّنة». �شكت عبد الرحمن هنيهة ثم ق�ل�« :شمع ً� ي� اأب� الوف�ءِ ..واإن كنت ل اأجد لذلك ف�ئدة كبرية، دت اإىل الوايل اأكلمه يف اأمر ال�ش�عر فط�مل� تر َّد ُ يتعر�س للمح�شن�ت الف�جر عمر بن اأبي ربيعة اإذ َّ في�ش ِّبب بهن ويفرتي عليهن.»... ومل ميلك اأبو الوف� ِء نف�شه اأن �ش�ح قبل اأن يتم عبد الرحمن جملته ق�ئالً« :اأجل وهل ت َغ َّن ْت الف�جر ُة الب� ِر َحة اإ َّل ب�شعر هذا الف�جر؟».
وده�س ال�شيخ اإذ �شمع اأحد الكهلني ي�ش�أله يف اهتم�م وا�شح« :ب�أي �شعره تغنت؟» وك�ن الكهل النبو فعال وجهه اأدرك م� يف �شوؤاله هذا من ّ اخلجل .ولكن اأب� الوف� ِء مل ير ب�أ�ش ً� يف اأن يجيبه فق�ل وقد األن من لهجته« :بقوله – حل�ه اللـه – ليت هندا اأجنزتن� م� تعد» .فتب�شم عبد الرحمن وق�ل الكهل الآخر« :ولكني �شمعت من حدثني اأنه �شمع ابن عب��س ين�شد بع�س هذا ال�شعر يف امل�شجد». فع�ودت احل َّدة اأب� الوف� ِء وق�ل« :مع�ذ اللـه ،لقد كذب عليه من ح َّدثك .اللـه للن��س! اأمل يكذبوا على �ش�حبن� عط� ِء بن اأبي رب�ح ويجروؤ �ش�عرهم اأن يقول: �ل ْفت ٍَي ْ َ َ�س ُل ُ�� ْ ُ �لك َ ِّي َه ْل ِيف َت َز� ِو ٍر َاح؟ َو�س َ ّم ِة ُم�سْ ت ِ َاق �ل ُف�ؤ�د ُجن ُ َفقَالَ َم َعا َذ �للـه � ْأن ُيذهِ َب �ل ُ ّتقَي �ح ر ت ُ َال�سقُ �أَكْ َبادٍ ِب ِه َ ّن ِج َ ُ ف�شكت الكهالن ومل يجيب� وطفق كالهم� ينظر اإىل الآخر. وحلظ عبد الرحمن حريتهم� فق�ل لأبي الوف� ِء يف لهجة ن�عمة« :كال ي� عم مل يكذب حمدثه ،لقد حدثني الثقة اأي�ش ً� اأنه �شمع ابن عب��س ين�شد بع�س هذه الأبي�ت». فنظر اإليه ال�شيخ م�شتغرب ً� وا�شتمر يقول: «ولكن الإن�ش�د غري الغن� ِء الذي يغزو قلوب الن��س ب�لإثم ويلهيهم عن ذكر اللـه». ف�رشي عن الكهلني وخف�س اأبو الوف� ِء راأ�شه ُ ِّ وق�ل ب�شوت رقيق« :على اأي ح�ل اأن�شدك اللـه ي� بني اإل م� ذهبت الغداة اإىل الوايل ل َعله ي�شمع ق�لتك 7هذه املرة ،فيطرد عن� هذه الف�جرة؟». فق�ل« :ط�عة ي� اأب� الوف�ءِ� ..ش�أفعل». «ب�رك اللـه فيك ي� بني ووفقك للخري» .ق�ل هذا اأبو الوف� ِء واجته �شوب الب�ب ليخرج وتبعه الثالثة �ش�متني.
�لف�سل �لر�بع
خرجت �ش َالّمة ب�شويه�ته� اإىل املرعى بعد اأن �ش َلّت ال�شبح وحلبت اللنب ملولته� العجوز، وك�ن ذلك قبل �رشوق ال�شم�س ،وك�نت غداة ب�ردة من غدوات ال�شت� ِء حتمل ال�ش�ئر على الن�ش�ط واحلركة ،وتبعث يف النفو�س البهجة وال�شت�ء مبكة ك�لربيع يف غريه� من والن�رشاح، ُ البلدان املعتدلة ،ولذلك ك�ن َ�رش َوا ُة اأهل احلج�ز ي�شتون مبكة وي�شيفون ب�لط�ئف ،وك�ن هذا عنوان ال�رشاوة والرتف عندهم. ك�نت �ش َالّمة ج�رية من مولدات املدينة، ابت�عه� اأبو الوف� ِء �شغرية مل تتج�وز الث�منة
لت�ش�عد زوجه اأم الوف� ِء يف القي�م ب�شوؤون بيته�، فرتعرعت اجل�رية يف كنف هذا البيت ال�ش�لح، واأح َّبته� ا ُّأم الوف� ِء ف�أح�شنت تربيته� ،وعلّمته� الرب به� ُ�ش َوراً من القراآن ،ومل ت�أل جهداً يف ِ ِّ والعطف عليه� ،وم� زاده� حب ً� يف اجل�رية يئ�شت ي�شل َُموا له� ،وقد ْ وتع ُلّق ً� به� اأن اأولده� مل ْ رب زوجه� فك�نت تعترب من الولد حني كَ ِرب ْت وكَ ِ َ �ش َالّمة ك�بنته� ،ومل ت�شن عليه� ب�لتدليل كم� تفعل الأم مع ابنته� ،فن�ش�أت �ش َالّمة لذلك متدللة ت�شعر اأن له� �شلط�ن ً� على مولته� ،واأنه� اأ�شبه ب�بنة البيت منه� بج�ريته. وك�ن اأبو الوف� ِء يحنو عليه� اأي�ش ً� ويرفق به� ،وك�نت حترتمه وجت ُلّه ،اإل اأنه� مل تكن تتط َلّقُ له َتطَ ُّلقَه� لأم الوف�ءِ ،وذلك مل� يك�شو طلعته من امله�بة والوف�ر ولقلّة ع�رشته� له ،اإذ ك�ن يق�شي ُج َّل نه�ره يف امل�شجد ،فك�نت ل تراه اإل ن�دراً يف وقت الظهرية حني يرجع للغداء ،اأو يف طرف الليل حني ي�أوي للمبيت. وك�نت �شالّمة من �شغره� �شبيحة الوجه، ف�شيحة الل�ش�ن ،حلوة احلديث ،متوقدة الذهن، لعوب ً� متيل اإىل الدع�بة والنكة .وك�نت جميلة ال�شوت يف �شوته� رخ�مة وحن�ن .ولو ن�ش�أت يف بيت اآخر غري هذا البيت ال�ش�لح بني اأم الوف� ِء واأبي الوف� ِء مل� بقيت – وقد ج�وزت الرابعة ع�رشة من �شنه� – تخدم املنزل وترعى الغنم .ك�نت على حبه� ملولته� وموله� ت�شعر يف قرارة نف�شه� �شعوراً مبهم ً� ب�أنه� مل تخلق لهذا البيت ،واأنه� خلقت ل�شيء اآخر ل تعرفه مت�م املعرفة ،ولكنه� حتِ ُّ�س به اإح�ش��ش ً� عميق�ً. ك�نت متيل اإىل الغن� ِء فال تك�د ت�شمع حلن ً� حتى حتفظه ،اإل اأنه� ك�نت قلي ًال م� جتد ال�شبيل اإىل احلي الذي ي�شكن فيه اأبو �شم�ع الغن�ء يف ذلك ِّ الوف� ِء األلهم اإل م� ت�شمعه من الأحل�ن الدارجة تتغنى به� اجلواري والغلم�ن يف �شوارع مكة ،اأو تلك التي ترتمن به� الراعي�ت والرع�ة يف مواقع الكالإ خ�رجه� حني ك�نت تخرج اإليه� بغنم مواليه�. �رشا ِة 8اأهل مكة ا�شرتى – ِّ ولكن َ�رش ًّي� من َ َ لع�م م�شى ذلك احلني – حديقة كبرية بجوار بيت اأبي الوف� ِء يف طرف من مكة ،وابتنى به� داراً فخمة �ش�مقة البن�ءِ ،وعنى ب�حلديقة حتى جعله� بهجة للن�ظرين ،فتغري ذلك احلي ال�ش�كن ال�رشي و�ش�عت فيه املتوا�شع منذ نزل به هذا ُّ احلركة والبهجة ،واكت�شى ثوب ً� من العظمة والبذخ .وك�ن ابن �شهيل قد ورث م� ًل كثرياً عن اأبيه ون�ش�أ ن�ش�أة النعمة والي�ش�ر .وك�ن حمب ً� للغن� ِء واللـهو مولع ً� مبن�دمة ال�شعرا ِء واملغنني
ي�شتقدمهم من الآف�ق ويغدق عليهم الأموال. فقلم� ا�شتهر �ش�عر يف ذلك الع�رش اأو نبه �شيت مغن اأو مغنية اإل ك�نت لبن �شهيل �شلة به. ٍ وك�ن حللول هذا ال�رشي املنخرق الكف املولع ب�لغن�ء وال�شعر يف هذا احلي من اأحي� ِء مكة اأثره الكبري يف حي�ة �شالّمة .وك�أمن� ك�ن ذلك تدبرياً مق�شوداً من الق�ش�ء ليطلع يف امل�شتقبل من تلك اجل�رية املجهولة يف بيت اأبي الوف� ِء �شم�ش ً� �ش�طعة يف الغن�ءِ ،ت�رشق اأنواره� على اأو�ش�ط النعمة يف احلج�ز وق�شور اخلالفة يف ال�ش�م. قدمت جميلة كبرية مغني�ت املدينة قدمته� تلك اإىل مكة فنزلت عند ابن �شهيل يف هذه الدار اجلديدة ،ولقيت عنده م� يليق مبق�مه� و�شهرته� من احلف�وة والإكرام ،واأحيت به� لي�يل للغن�ء حمبي �شطع فيه� فنه� الرفيع و�شهده� كثري من ّ الغن� ِء مبكة وذاع بع�س اأحل�نه� حتى تغ َّنى به الن��س يف ال�شوارع .واأحدث مقدمه� �شجة كبرية الفقه�ء ورج�ل ال�شالح والتقوى من اأن واأ�شفق ُ يفتنت به� الن��س ،ول�شيم� الفتي�ن والفتي�ت، ف�شعوا يف اإخراجه� من مكة ،وك�ن من اآث�ر ذلك م� ق�م به اأبو الوف� ِء لدى ابن اأبي عم�ر لي�شكو اأمره� اإىل وايل البلد. ك�نت تلك اللي�يل الق�ش�ر التي اأحيته� جميلة يف دار ابن �شهيل نعمة كبرية على �شالّمة اإذ ا�شتط�عت – وهي م�شتلقية على فرا�شه� – اأن ت�شتمتع ب�شم�ع اأحل�نه� التي ك�نت ترتجع يف �شكون الليل وك�أنه� نغم�ت احلور يف ق�شور اجلن�ن. مل تنم �شالّمة ليلته� تلك اإل قلي ًال بعد منت�شف الليل .وك�نت حتلم بتلك الأغ�ين حتى يف نومه� .ومل تكد مولته� توقظه� كع�دته� مطلع الفجر حتى ترمنت ببع�شه� خ�شية اأن تن�شى م� حفظت منه� ،ولكن اأم الوف� ِء مل تدع له� ذلك فوجدت �شالّمة يف خروجه� لرعي الغنم ذلك اليوم فر�شة كبرية لتتغنى يف ذلك املرعى ت�ش�ء ،دومن� رقيب. الف�شيح كم� ُ ك�ن هذا املرعى الف�شيح قليل الع�شب اإذ ذاك ،فك�ن الرع�ة يتنقلون لذلك من مو�شع اإىل مو�شع ،وظهرت �شالّمة يف ن�حية منه وهي ت�شوق غنمه� وتغني: أن َزتْنا َما تَعِ ْد ليت هِ ْن َد�ً � ْ َ َ ت ْد َو َ�سف َْت �أَ ْنف َُ�سنَا َ ِّ ما َ ِ �ح ِد ًة و��س َت َب َ ّدت َم َ ّر ًة َو َ ْ اج ُز َم ْن ال َي ْ�ستَب ْد � َ ّإنا �ل َْع ِ وراءه� على بعد منه� غالم وك�ن ي�شري َ يرعى قطيع ً� من الغنم �شمع �شوت �شالّمة
7
ف�أخذ يتن�شت له من حيث ل تراه .وق�ل لنف�شه: «عجب ً� هذا �شوت جميلة! ترى من هذه الراعية التي جتيد هذا ال�شوت هذه الإج�دة حتى اأك�د اأح�شبه� جميلة نف�شه�؟». وا�شتمرت �شالّمة يف غن�ئه�: ار�ت ًلها قالت ِ َ جل ٍ َولق ْد ْ ي�م َوت ََع َ ّر ْت َت ْب َت ْد: ذ�تً ٍ �ص َننِي �أكَ َما َين َْع ُتنِي َت ْب ُ ْ ركن �للـه � ْأم ال َي ْقت َِ�س ْد؟ َع ْم َ ّ احك َْن َو َق ْد ُقل َْن لَها: َفت ََ�س َ ي َم ْن َت َ� ْد ع كل يف ن �س ح ّ ِ َِْ َ ٌ ِ َح َ�سد�ً ُح ِ ّم ْلنَه مِ ْن �أَ ْجلِها �ل َ�س ْد ّا�س ْ َ ان ِيف �ل َن ِ َو َقد ِْمي ًا كَ َ واقرتب الغالم من مو�شع �شالّمة وهو يك�د يطري من الطرب ،فلم ير قبله� راعية تتغ ّنى مبثل هذا الغن� ِء الرفيع ،وعلى هذا النحو من الإج�دة ،وق�ل يف نف�شه« :ي� اللـه! اإن يف �شوت هذه اجل�رية ل ُغ ّنة 9عذبة ل توجد حتى يف �شوت جميلة». وك�نت �شالّمة �ش�ئرة على مهل ،وقد ا�شتغرقت يف غن�ئه� فلم تنتبه للغالم الراعي وراءه� على مقربة منه� .وك�نت الذي ك�ن ي�شري َ كلم� تذكرت بيت ً� من الق�شيدة طربت له ،ورددته على مث�ل اللحن الذي �شمعته عليه ،حتى اإذا غنت قوله: « ُقل ُْت َي� هِ ْن ُد َم َتى مِ ْي َع� ُدن�» مل يتم�لك حكيم اأن غ َّنى مكمالً�« :شحكت هند وق�لت بعد غد». ريعت �شالّمة لهذا ال�شوت املف�جئ، والتفتت وراءه� فراأت الغالم فعجبت كيف يجيد راع مثله ،على اأنه� �رشع�ن م� �شعرت هذا اللحن ٍ ب�أن�س اإليه ،فم� اأن ابت�شم له� حتى ابت�شمت له ك�أمن� قد تع�رف� من قبل. غن�ء ق�ل حكيم« :للـه �شوتك ي� ج�رية ..هذا ُ جميلة ،من اأين اأخذته؟». فق�لت« :واأنت ك�أين بك تعرف هذا اللحن». ق�ل له�« :اأجل اإين اأعرف كثرياً من اأ�شوات جميلة». وم� ك�د الغالم يقول له� هذا حتى ته َلّل وجهه� �رشوراً ك�أنه� عرثت على كنز ثمني أحق م� تقول؟ األ ت�شمعني منه� �شيئ�ً». وق�لت« :ا ٌّ فق�ل له� اإنه �شيفعل ذلك ،ولكنه يريد اأو ًل اأن يعرف َمن هي وم� ا�شمه�؟ ف�أخربته اأنه� ج�رية ال�شيخ اأبي الوف�ءِ ،واأن ا�شمه� �شالّمة فق�ل له� اإن ا�شمه حكيم ،واأخذ يحدثه� عن نف�شه ،وك�ن م� ق�ل له� اإن مواليه ك�نوا من اأهل املدينة ف�نتقلوا اإىل مكة ب�شعة
عدد 144
6ت�رشين 2010 1
8
اأ�شهر ،واأنه ن�ش�أ ب�لعقيق ،فك�ن ي�شهد جم�ل�س الغن� ِء فيه. طربت �شالّمة ل�شم�ع حديث حكيم وقوي اعتق�ده� ب�شحة م� ا َّدع�ه من معرفة كثري من اأ�شوات جميلة ،فزاد ميله� اإليه ،واإقب�له� عليه، وق�لت له« :اأ�شمعني ي� حكيم �شيئ ً� من اأحل�ن جميلة». «اإين لف�عل ولكن خربيني اأو ًل اأترعني �شويه�تك هن� كل يوم؟». «نعم ي� حكيم». كل يوم». «واأن� اأي�ش ً� �ش�أرعى غنمي هن� َّ وبرمت �شالّمة بهذه املط�ولة من حكيم فق�لت يف �شيء من احلدة« :ب�للـه م� لن� ولهذا، اأ�شمعني من اأ�شوات جميلة اأقول لك». راأى حكيم برمه� ف�آثر اأن ير�شيه� وق�ل له��« :ش�أ�شمعك حلن ً� �شنعته جميلة يف �شعر 10 فهلمي بن� نقعد عبيد اللـه بن قي�س الرقي�ت ّ ، على ذلك التل ونر�شل غنمن� يف اأ�شفله» .واأ�ش�ر اإىل ت ّل �شغري اإىل ي�ش�رهم� على اأ�شفله قليل من الع�شب ،فوافقته �شالّمة على م� اقرتح وم�شي� يه�ش�ن غنمهم� ،واأ�شعدا يف التل حتى قعدا على منت�شف ال�شفح ،وانت�رش الغنم يرعى يف اأ�شفله واختلط بع�شه ببع�س. بداأ حكيم يغمغم ب�لغن�ء وم� زال �شوته رن �شداه يف ذلك يرتفع �شيئ ً� ف�شيئ� حتى ّ اخلالء: من ل� م َرّ بر ُد َبنَا ِن ِه « ِب َن ْف�سِ ْي ْ على كَ ِبد ِْي كَ ان َْت َ�سفَا ًء �أَنَامِ ُل ُه كل َ�سيءٍ َو َه ْب ُت ُه َو َم ْن َها َبنِي ِيف ِ ّ 11 َ فَال ُه َ� ُم ْعطِ ْينِي َوال �أنَا َ�سا ِئ ُل ُه» فطربت �شالّمة طرب ً� �شديداً وم� منعه� اأن تقوم فرتق�س اإل اجته�ده� يف حم�ولة حفظ اللحن ،وق�لت« :اأح�شنت ي� حكيم ..بربك اإل م� علي». اأعدته ّ ف�أع�د عليه� اللحن مرة بعد مرة حتى ق�لت ا�ش َمعني �ش�أعيد اللحن له« :ح�شبك ي� حكيمْ .. علي اخلط�أ اإن اأخط�أت». عليك ف�أردد َّ ق�ل له�« :افعلي ونعيم عني». مر بر ُد َب َن� ِن ِه فغ ّنت �شالّمةِ « :ب َنفْ�شِ ْي ْ من لو َّ َ�ء اأَنَ�مِ ُل ُه ». على كَ ِبد ِْي كَ � َن ْت �شَ ف ً ثم وقفت عن الغن�ء وق�لت« :تب� يل! مل اأح�شن اللحن». ف�أع�د حكيم ال�شطر الث�ين وطفق يكرره وهي تكرره معه حتى ق�ل له�« :ه� اأنت ذي اأجدته الآن» .فك�ن جذله� عظيم�ً. ونه�ش� فنزل من ال�شفح يتفقدان غنمهم� ويعيدان م� ن َّد منه وابتعد عن تلك البقعة ،ثم ع�دا
ق�ئالً: «قبلة ي� �شالّمة ..اأو قبلتني». قطبت وجهه�« :ويل لك ..بئ�س م� ق�لت وقد َّ ربتك ا ّأمك ي� حكيم!». ّ ف�أج�به� مبت�شم�ً« :اأجل بئ�س م� ر َّب ْتني اأمي.. ك�نت – يرحمه� اللـه – كثرياً م� تقبلني!». ف�أغرقت �ش َالّمة يف ال�شحك ثم ك َّفت عنه فج�أة وق�لت« :دعن� من هذا ..األ تعلّمني ي� حكيم؟». ق�ل له�« :ومتنحيني القبلة ي� �شالّمة؟». ف�شكتت ..ثم نظرت اإليه �ش�حكة وق�لت: «اأمنحك اإي�ه�». ف�قرتب منه� حكيم ق�ئالً« :ه�تي فواللـه اإن املك�ن خل�ل». ف�رت ّدت �شالّمة قلي ًال اإىل الورا ِء ق�ئلة« :ل.. لي�س الآن ..حتى تع ِل َّمني». ق�ل حكيم وقد ع�د اإىل مك�نه الأول« :ح�شن ً� �ش�أع ِلّمك كل يوم حلن ً� اأو حلنني على اأن تعطيني قبلة على كل حلن». ف�أج�بته �ش�حكة« :قبلت �رشطك ي� م�كر». ف�بت�شم حكيم ابت�ش�مة الظ�فر وق�ل« :اإذن فه�تي القبلة التي ا�شتحققته� عندك ب�للحن الذي علّمتك اإي�ه الآن». ولكن �شالّمة مل تعدم الرد املقنع اإذ ق�لت: «اإنك ع َلّمتنيه قبل اأن نربم بينن� هذا التف�ق، فلي�س لك اأن تط�لبني ب�شيء بعد». ق�ل له� وقد �شعر ب�أنه املغلوب« :ويل لك م� اأذك�ك! غداً اأ�شتحق لديك قب ًال كثرية!» .ف�بت�شمت واأج�بته ق�ئلة« :غداً ي�أتي اللـه ب�لفرج!».
ي�شتبق�ن اإىل مك�نهم� يف ال�شفح ف�رمتت �شالّمة على مقعده� ،وارمتى حكيم قريب ً� منه� ،واأر�شال تن ُّهداً طوي ًال من تعب اجلري تخ�لطه �شحك�ت الرباءة من ج�نب �شالّمة – وب�شم�ت بريئة كل َ من قبل حكيم ل تخلو من مع�ين الغزل. وم� ك�د َنف َُ�س �شالّمة يهداأ حتى طفقت تعيد اللحن وقد ارتفعت عنه� حم�ولة التقليد، واأر�شلت نف�شه� على �شجيته� ،وم َّدت من �شوته� �ش�ءت اأن متد ،ورجعت فيه� م� ط�ب له� م� َ الرتجيع ،فطرب حكيم طرب ً� �شديداً ،ومل ي�شدق اأنه ي�شمع اللحن الذي لقنه� اإي�ه منذ �ش�عة ،ونظر اإىل ال�شي�ه ال�ش�ئمة يف اأ�شفل التل فخ ِّيل له اأنه� قد ك َّفت عن الرعي وا�رشاأبت ب�أعن�قه� اإىل م�شدر ذلك اللحن العلوي البديع ،فم� لبث اأن �ش�ح يف ده�س« :ويل لك م� هذا؟!». وانتبهت �شالّمة لختالف حلنه� عن الأ�شل فق�لت« :ت ًّب� يل! عدت اإىل خطئي». ق�ل له�« :كال واللـه م� هذا بخط�أ ..لقد زدت اللحن بهذا عذوبة لي�س يف الأ�شل ..واللـه لقد خلقت للغن� ِء ي� �شالّمة ،وليكونن لك فيه �ش�أن – واإمن� اأنت يف ح�جة اإىل معلم ت�أخذين الغن�ء عنه». نزلت هذه الكلم�ت ك�لطل الب�رد على قلب �شالّمة ،لأنه� عربت تعبرياً وا�شح ً� عم� لديه� من املوهبة الغن�ئية التي ك�نت حت�س به� اإح�ش��ش ً� مبهم�ً ،فلم يبق لديه� �شك حينئذ يف اأنه� �شت�شري مغنية عظيمة اإذا وجدت من ي�أخذ بيده� يف هذا ال�شبيل ،ونظرت اإىل حكيم نظرة ملوؤه� ال�شكر وق�لت« :لكن من يل بذاك املعلم ي� حكيم؟». اأطرق حكيم حلظة ثم ق�ل له� يف �شيء من الرتدد« :قلت لك اإنني اأعرف �شيئ ً� من اأحل�ن جميلة ،واأزيدك اأنني اأعرف جملة من اأحل�ن غريه� .فهل لك اأن ت�أخذيه� عني؟». فلم ترت َّدد �شالّمة اأن ق�لت« :اأفعل ي� حكيم، ولك امل ّنة والف�شل». رفع حكيم ب�رشه اإليه� ق�ئالً« :م� جزائي عندك اإن علّمتك اإي�ه� ي� �شالّمة؟». ف�شحكت �شالّمة واأج�بته ق�ئلة« :جزاوؤك.. ل اأدري .اإين ل اأملك �شيئ ً� ي� حكيم» .فق�ل له�: «بل متلكني كل �شيء ي� �شالّمة». وفطنت �شالّمة لبع�س م� يريد وق�لت متج�هلة« :واللـه رب هذا البيت ل اأملك �شيئ�ً». ق�ل له�« :ل تقويل هذا وعندك هذا الفم الأرجواين والثن�ي� اللوؤلوؤية!». ف��شطبغ خده� بحمرة اخلجل وق�لت يف «تب ً� لك ..اأتريد» ..فب�دره� حكيم لهجة الع�تبّ :
�لف�سل �خلام�س
مرت الأي�م ترتى على حكيم و�شالّمة وهم� ّ يلتقي�ن كل يوم يف املرعى ،فت�أخذ عنه حلن ً� من الأحل�ن التي ك�ن يعرفه� ،حتى ا�شتنفدت م� عنده منه� ،وظ ّال بعد ذلك يتط�رح�ن الأغ�ين ال�ش�لفة ويعيدانه� حتى اإذا ا�شتقلت ال�شم�س يف كبد ال�شم�ءِ ،رجعت �شالّمة اإىل البيت فق�مت مب� عليه� من �شوؤونه. وك�نت يف خالل ذلك كثرياً م� تت�أخر عن موعد جميئه� اإىل البيت فتع�تبه� مولته�، فتتن�شل من َتب َعته� بعذر من الأعذار تختلقه َّ اختالق�ً؛ وك�نت اأم الوف� ِء تت�ش�مح معه� يف ذلك ل�شدة حبه� له� وتع ُلّقه� به�. وزاد ولوع �شالّمة ب�لغن� ِء حتى ك�نت ل تكف عنه وهي تطبخ الطع�م اأو تكن�س تك�د ُّ املنزل ،وط�مل� ن�شحته� اأم الوف� ِء ب�لكف عن ذلك ،و�شددت عليه� فيه فلم تكن لتنت�شح.
9
وف�ج�أه� اأبو الوف� ِء غري مرة وهي تغني، فزجره� اأ�شد الزجر ،وتوعده� ب�ل�رشب ،فك�نت تكف عن الغن�ء يوم ً� اأو يومني ،ولكنه� ل تلبث ّ جراء ذلك اأنه قلم� ك�ن اأن تعود اإليه .وك�ن من ّ مي�شي يوم ل ي�شتد فيه ال َّتالحي بني اأبي الوف� ِء واأم الوف�ءِ ،اإذ ك�ن يتهمه� ب�لهوادة والت�ش�مح مع اجل�رية ،واأنه� لو ق�شت عليه� واأخذت بج�نب احلزم يف ت�أديبه� لك َّفت عن هذا الب�طل. واحلق اأن اأم الوف� ِء ك�نت تدافع عنه� يف اأول الأمر وتنتحل له� الأعذار ،و ِت ِع ُد زوجه� ب�أن �شتكف عن ب�طله� ،حتى �ش�قت نف�شه� �شالّمة ُّ اآخر الأمر حني راأت ل ف�ئدة من ن�شح �شالّمة، ف�أعلمت زوجه� ب�أنه� عجزت عن ت�أديبه� احلق يف اأن يت�رشف يف اأمره� واأنه� ترتك له َّ ي�ش�ء ،ف�ش�وره� اأبو الوف�ء يف اأمر بيعه� كم� ُ للتخل�س منه� ،وك�ن ذلك �شديداً على اأم الوف� ِء حلبه� ل�شالّمة ،ولكنه� مل جتد عذراً تعرت�س به على هذا الراأي فر�شيت به على كره. رجعت �شالّمة من املرعى ذات يوم وبيده� أف�شت ع�ش� ت�شوق به� غنمه� ،ودخلت البيت ف� َ اإىل �شحن متو�شط يقع على ميينه مطبخ فيه يف من احلج�رة ،و ُت َرى معلقة على احل�ئط اأث� ّ 12 بع�س القدور النح��شية واجلف�ن اخل�شبية ُ وغريه� من الأواين .ويف اجل�نب الآخر من املطبخ تقع رحى املنزل التي تطحن فيه� احلبوب ،وعلى ي�ش�ر ال�شحن مرب�س ت�أوي اإليه الغنم له ب�ب �شغري. الغن�ء وهي تدخل الغنم يف ذكرت �شالّمة َ املرب�س ف�أن�ش�أت تقول لنف�شه�« :ويلي اأظنني ن�شيت حلن اليوم» .ثم طفقت تزمزم ب�لغن�ءِ: قي ب َِع ْي�سِ ُك ْم ال َت ْه ُج ِر ْينا ُر ِ ّ َوم ِنّينا ْ ُ �لنَى ُث َ ّم ْ�مطُ ِل ْينا
13
ونزلت اإليه� حينئذ اأم الوف�ء من الط�بق الأعلى ،فلم� وقع ب�رشه� عليه� ق�لت له�: «اأ�شبحت تت�أخرين كل يوم ي� �شالّمة». ف�أج�بته� �شالّمة ق�ئلة« :ذلك لأين اأذهب اإىل املرعى البعيد». ق�لت له� العجوزَ ِ : «مل ل تخت�رين املراعي القريبة؟». «لأن املراعي القريبة مل َيع ْد فيه� كالأٌ». «هي� اأدخلي الغنم واأ�رشعي بطبخ الغداءِ». رش َي عن �شالّمة اإذ وقف عت�ب العجوز عند ف� ِّ رق قلب هذا وق�لت�« :شمع ً� ي� مولتي» .وك�أمن� َّ العجوز له� اإذ �شمعت هذا اجلواب الن�عم فق�لت: «هداك اللـه ي� بنية .اأوقدي الن�ر و�ش�آتيك بقطعة اللحم .اإن اأب� الوف� ِء ا�شرتى لن� حلم ً� هذا اليوم».
عدد 144
6ت�رشين 2010 1
«ولي�س عندن� �شيف ي� مولتي؟». «ل لي�س عندن� �شيف». وفري يل ن�شيبي من اللحم ف�إين مل «اإذن ِّ اأذقه يف املرة ال�ش�بقة». ف�شحكت العجوز وق�لت« :ول اأن� ي� �شالّمة.. اإن ال�شيف مل يرتك لن� �شيئ�ً» .ق�لت ذلك وخرجت من ب�ب ال�شحن لت�شعد اإىل الط�بق الأعلى. وخرجت �شالّمة من املرب�س ح�ملة بيده� مركن ً� 14فمالأته م�ء من زير كبري يف ال�شحن ،ثم اأع�دته اإىل املرب�س لي�رشب منه الغنم واأو�شدت الب�ب عليه .وذهبت نحو املطبخ ف�أخذت ت�شعل الن�ر بقدح الزن�د على رقيق �شعف النخل الي�ب�س وهي ترتمن: قي ب َِع ْي�سِ ُك ْم ال َت ْه ُج ِر ْينا ُر ِ ّ َوم ِنّينا ْ ُ �لنَى ُث َ ّم ْ�مطُ ِل ْينا عِ ِد ْينَا ِيف غَ ٍد َما ِ�سئ َْت �إ َنّا 15 نُحِ ُ ّبَ .و� ْإن َمطَ لْتِ � ْل َ��عِ ِد ْينَا! وك�نت العجوز قد ع�دت يف هذه اللحظة وبيده� ق َّفة اللحم فوقفت على ب�ب ال�شحن تن�شت للغن�ء معجب ًة به ،ولكنه� كتمت اإعج�به� وظهرت يف �شورة الغ��شبة ودخلت وهي تقول: «جميل واللـه ي� �شالّمة! هذا غن�ء جديد اأتيت به ال�شقي الذي اليوم .بو ّدي واللـه اأن اأعرف من هذا ُّ يعلّمك كل يوم حلن ً� جديداً». فب�درته� �شالّمة ق�ئلةً« :ل اأحد ..اإمن� �شمعته يف طريقي اإىل املرعى فحفظته». ق�لت العجوز مغ�شبة« :اأم� تنتهني عن مزامري ال�شيط�ن هذه – اأمل يكفك م� ع�قبك عليه مولك؟» .ف�أج�بته� �شالّمة ق�ئلة« :اإنني ل اأ�شتطيع اأن اأقوم بعملي �ش�متة ك�حل�ئط!». ق�لت العجوز« :اأم� علم ُتك �شوراً من القراآن فلم ل تقرئينه� بد ًل من هذا الغن�ء الب�طل؟.. رش تي�رش منه� حتى اإذا �شمعك مولك � َّ اقرئي م� َّ ج�ء مولك على غِ َّرة و�شمعك منك ،فو اللـه لو َ نب تغنني بع ُد لي�رشبنك �رشب ً� �شديداً وليغ�ش َّ علي لأين ل اأكفك عن هذا اللغو». ّ �شمتت �شالّمة هنيهة وهي ت�شع القدر على الن�ر وترمي فيه� اللحم ثم ق�لت« :خرياً ي� مولتي �ش�أقراأُ �شيئ ً� من القراآن – �ش�أقراأ وال�شحى». رشت العجوز لقوله� وق�لت« :افعلي ب�رك ف� َّ اللـه فيك» وقعدت على دكة املطبخ تق�رش ثوم ً� بيده� ت�ش�عد بذلك �شالّمة. و�رشعت �شالّمة تقراأ وهي ترمي احلطب على الن�ر« :اأعو ُذ ب�للـه من ال�شيط�ن الرجيم .ب�شم اللـه الرحمن الرحيم» .و�رشع�ن م� ا�شتح�ل �شوته� «وال�ش َحى وا ْلل َْيلِ اإذَا ترجيع ً� وغن�ء وهي تتلو: ُّ
القراآن ك�أنه� تتغ َّنى ب�أبي�ت ال�شعر؟ هذه هي القراءة التي تع َلّمته� منك؟». فوجئت العجوز بهذه اللـهجة الق��شية من أعرف اأن� زوجه� ف��شت�ش�ظت غ�شب ً� وق�لت« :ا َأو ا ُ رجلُ يف ترتوى ي� ُ ب�لغن�ء ف�أعلّمه� اإي�ه؟ اأم� َّ كالمك فتقول خرياً اأو ت�شمت؟». و�شعر ال�شيخ ال�ش�لح اأن قد غلبت عليه احل َّدة، ألن من لهجته ق�ئالً« :وفيم مل تزجريه� عن ف� َ هذا العبث؟». «وم�ذا ع�ش�ي اأن اأ�شنع؟ لقد نهيته� عن هذا مراراً فلم تنته ،اإن �شيط�ن الغن�ء يتالعب براأ�شه� ولي�س يف و�شعي اأن اأطرد ال�شيط�ن». «لكن يف ا�شتط�عي اأن اأطرد هذا ال�شيط�ن من راأ�شه� اأو اأرمي هذا الراأ�س خ�رج البيت». ق�ل ال�شيخ هذا ونظر اإىل وجه اجل�رية ك�أنه �شفحة بي�ش�ء ،وا�شطربت �شالّمة من اخلوف فت�ش�غلت ب�لطبخ ،واقرتب منه� ق�ئالً« :ي� بنية ا ْإن اأبى لك �شيط�نك اإل ا ْأن ُتغ ِّني فغ ِّني بكالم الغ�وين من ال�شعراء ..ولكن حذار اأن ت�شنعي ذلك بكالم رب الع�ملني ،اأت�شمعني؟». ف�أج�بته �شالّمة ب�شوت خ�ف�س« :نعم ي� مولي» .وانفجرت ب�كية. وخرج اأبو الوف�ء ف�شعد ،وبقيت اأم الوف�ء عند �شالّمة فلم� راأته� ت�شتخرط 17يف البك�ء ِ�شت دمعت عين�ه� ،وانحنت عليه� توا�شيه� ،ف�أن ْ اإليه� اجل�رية وم�لت براأ�شه� على حجره� ،وم� زالت العجوز به� ت�ش ِلّيه� ومت�شح على راأ�شه� �رشي عنه� فق�مت اإىل عمله�. وظهره� حتى ُ ِّ ولبثت العجوز تالطفه� وتداعبه� ق�ئلة له�« :ل تبتئ�شي ي� بنية ،ل �شيف عندن� اليوم، ف�ش�أوفر لك ن�شيبك من اللحم» .حتى �شحكت �شالّمة وم� تزال يف م�آقيه� اآث�ر الدمع. �شعدت اأم الوف�ء اإىل زوجه� بعد اأن اطم�أن قلبه� على ج�ريته� ،فم� اأقبلت عليه حتى ق�ل له�« :لقد اأتعبتن� هذه اجل�رية ،واللـه لأبيع َّنه� ولو بدرهم!». فلم جتبه اأم الوف�ء ب�شيء ف��شتمر ق�ئالً« :لقد يل ابن �شهيل يرغب يف �رشائه� ويعطي بعث اإ ّ به� ثمن ً� كبرياً ،ولول معرفتي اأنه اإمن� رغب يف ابتي�عه� ليتخذه� مغنية لبعته� له». �شمتت اأم الوف�ء هنيهة ثم ق�لت« :وم�ذا عليك منه؟ اإن مل يكن لك ب ُّد من بيعه� فبعه� له ي�ش�ء». ولي�شنع به� م� ُ فعلت اأن اأكون معين ً� فق�ل له�« :اأخ�شى اإن ُ على هذه املع�شية». ق�لت« :ل يح��شب الإن�ش�ن اإ َّل على م� نوى. وم�ذا ع�ش�ك تفعل غري هذا؟ اإنه� ُخلقَت مغنية
ري َ�ش َج� • َم� َو َّد َعكَ َر ُبكَ َو َم� َقلَى • َو َلالآخِ َر ُة َخ ْ ٌ لَكَ مِ َن الأُ ْو َىل».. قلت لك مراراً فق�طعته� العجوز ق�ئلة« :قد ُ اأن ل تقراأي القراآن على هذه النغمة» .فغ�شبت �شالّمة وق�لت« :كيف اأقروؤه اإذاً؟ واللـه لقد حِ ْر ُت يف اأمركم ل اأدري كيف اأر�شيكم!». وك�أن اأم الوف�ء �شعرت اأن موقفه� من هذه اجل�رية ل يخلو من التعنت فق�لت له� يف رفق: «اقرئيه كم� اأقراأ ُتك اإي�ه ي� �شالّمة ..اقرئي هكذا: وال�ش َحى والليل اإذَا َ�ش َج� • َم� و َّدعك ر ُّبكَ وم� ّ ُ ري لَكَ مِ َن الأ ْو َىل ..اأفهمت؟» قلى • ولالآخِ ر ُة َخ ْ ٌ وتكلّفت �شالّمة اجلواب ق�ئلة« :نعم فهمت». راأت اأم الوف� ِء اأن قد َبعل َْت 16ب�أمر اجل�رية ت�ش�ء واأن اخلري اأن ترتكه� وحده� تقراأ كم� ُ فح�شبه� اأنه� تقراأ القراآن ،وك�نت قد انتهت ق�رش الثوم ،فو�شعته يف طَ َبق اأم�م �شالّمة، من ْ ِ واكتفت ب�أن اأو�شته� اأن ل تكرث يف املرقة من امللح واأن تن�شج اللحم َج ّيداً ملوله� ال�شيخ وان�رشفت دون اأن تقول له� �شيئ ً� اآخر. وع�دت �شالّمة فقراأت كم� حتب مولته� اأن تقراأ« : «وال�ش َحى وا ْلل َْيلِ اإذَا َ�ش َج� • َم� َو َّد َعكَ ُّ ري لَكَ مِ َن الأُ ْو َىل».. َر ُبكَ َو َم� َقلَى • َو َلالآخِ َر ُة َخ ْ ٌ متت هذه الآي�ت الأوىل من ال�شورة حتى وم� اأ ّ ع�دت من حيث ل تق�شد اإىل نغمته� الغن�ئية «ول ََ�ش ْو َف ُي ْعطِ ْيكَ الأوىل ،وذلك حني اأخذت تقراأَ : مل َي ِج ْدكَ َيت ِْي َم ً� َف� َآوى • َو َو َج َدكَ َرت َ�شى • اأَ َ ْ ر ُّبك ف َ َ َ َ�ش�ل َف َه َدى • َو َو َج َدكَ َع� ِئ ًال َف�أغْ َنى». وطفقت تكرر هذه الآي�ت على نحو م� ت�شنع ب�ل�شعر وتذهب به� مذهبه ،واتفق يف خالل ذلك اأن ج�ء اأبو الوف� ِء من اخل�رج ف�شمع غ َن�ء ثم م� تبني له اأنه قراآن يتلى ،فق�ل يف نف�شه: لبث اأن َّ «�شبح�ن اللـه م� هذا؟ اأتالوة اأم غن�ء؟». ووقف على عتبة ب�ب ال�شحن ي�شتمع اإىل �شالّمة وهي تتلو[ :ف� َّأم� ال َيت ِْي َم فَال َت ْق َه ْر • وا َّأم� ال�ش�ئِلَ فال َت ْن َه ْر • وا َّأم� ِب ِن ْع َم ِة ر ِّبكَ ف ََح ِّد ْث]. َّ فث�ر ث�ئره و�رشب الأر�س بع�ش�ه ،ودخل ال�شحن مغ�شب ً� ق�ئالً« :ويل لك ي� ف�علة! ع َلّمن�ك القراآن لتنتهي عن الغن�ءِ ،فذهبت تتغ َّن ْني ب�لقراآن ..اأين اأم الوف�ءِ؟». ارت�عت اجل�رية فجمدت يف مك�نه� ل تنب�س ببنت �شفة. وا�شتمر ال�شيخ ي�شيح مزجمراً وين�دي« :ا ّأم الوف�ء ..ي� ا ّأم الوف�ء!». واأج�بت اأم الوف�ء من اأعلى «نعم» ،وهبطت ب�رشعة واأقبلت ترعد فرائ�شه� وهي تقول« :م� ب�لك؟». «م� ب�يل؟ اأمل ت�شمعي هذه اخلبيثة تقراأ
10
و�شتن�ش�أ مغنية �شئت اأم اأبيت».
�لف�سل �ل�ساد�س
مرت ثالثة اأعوام على هذه احلوادث توفيت ّ يف اأثن�ئه� اأم الوف�ء من مر�س ط�ل به� على اأثر فراقه� ل�شالّمة التي ب�عه� زوجه� جل�ره ال�رشي ابن �شهيل. ووهنت قوة ال�شيخ اأبي الوف�ء وانت�بته اأمرا�س ال�شيخوخة الع�لية فك�نت كثرياً م� تقعده عن �شهود اجلم�عة يف امل�شجد ،اإل اأنه ك�ن �ش�براً حمت�شب ً� للـه ل ي�شكو ول يت�أمل ،وك�ن يجد الأن�س يف روؤية اأ�شدق�ئه ال�شلح�ء الذين ك�نوا يختلفون اإليه ،ويعودونه اإذا مر�س ،وي�شحبونه اإذا وجد يف نف�شه ن�ش�ط ً� للخروج اإىل امل�شجد. وك�ن من اأ�شد هوؤلء ات�ش� ًل به واأكرثهم تردداً عليه �ش�حب�ه الكهالن و�شديقه ال�ش�ب عبد الرحمن بن اأبي عم�ر. مل يطراأ على عبد الرحمن من �شيء جديد يف متر على خالل الأعوام الثالثة ،فك�نت حي�ته ّ وترية واحدة على نحو م� تقدم و�شفه ،فمن البيت اإىل امل�شجد ومن امل�شجد اإىل البيت ،ل يعرف غريهم� اإل اأن يذهب اإىل بيت اأبي الوف�ء يعوده اأو يزوره ،اأو اأن يخرج اإىل �شيعته يف �ش�حية مكة يتعهده�. اأم� �شالّمة فقد تبدلت حي�ته� ،وتغريت عم� تركن�ه� عليه يف الف�شل ال�ش�بق منذ ا�شرتاه� ابن �شهيل ،فوجدت عنده البيئة ال�ش�حلة لنمو مواهبه� واأدا ِء وظيفته� يف احلي�ة ،فقد عنى بتعليمه� عن�ية كبرية ،ووكل به� جم�عة من ال�شعراء واملغ ّنني والع�زفني ،فتعلمت الكت�بة ولقنت فنون ال�شعر ،وحذقت العزف على العود وغريه من اآلت الطرب ..وحظيت عند موله� ال�رشي الطروب و�شغف به� �شغف ً� عظيم ً� حتى ك�ن ل ي�شرب عنه� �ش�عة .وك�ن يعقد له� جم�ل�س الغن� ِء يف داره فت�شهده� الطبق�ت املتخلفة من ال�شعراء واملغ ِّنني وحم ِّبي ال�شعر والغن�ءِ. خرج عبد الرحمن بن اأبي عم�ر ذات يوم اإىل امل�شجد ل�شهود �شالة ال�شبح كع�دته ،فلم� تذكر احللم انتهى من ال�شالة واأخذ يف الدع�ء َّ الذي راآه يف من�مه الليلة الب�رحة ف�متالأَ قلبه رعب�ً ،وق�ل« :اللـهم اإين اأعوذ بك اأن ت�شلني بعد الهدى» .وتال املعوذتني ثم ق�ل« :اللـهم اجعله� اأ�شغ�ث اأحالم». والتم�س اأب� الوف�ء يف املو�شع الذي ي�شلّي فيه فلم يجده ،ووجد �ش�حبيه الكهلني فحي�هم� ثم �ش�ألهم� عنه فعلم منهم� اأنه مري�س ،واأنه مل ي�شهد اجلم�عة منذ يومني ،ف�عتزم عبد الرحمن
اأن يعوده ذلك اليوم. فلم� ع�ده وجده م�شطجع ً� على فرا�س على الأر�س وعنده عبد اأ�شود يقوم بخدمته ف�ش َلّم ورحب به ،واأراد اأن يجل�س عليه فر َّد عليه ال�شالم َّ له فلم ي َد ْع ُه عبد الرحمن يفعل ذلك ،وقعد على احل�شري اإىل ج�نبه وهو يقول« :ل ب�أ�س عليك اأب� الوف�ء� ،شف�ك اللـه وع�ف�ك!». ف�أج�به ال�شيخ ب�شوت منخف�س ق�ئالً« :ل اأراك اللـه ب�أ�ش ً� ي� عبد الرحمن ،اإين ل اآ�شف عن �شيء ي� بني اإل على �شهود اجلم�عة». «كيف جتدك اليوم ي� عم؟». «اأجدين ب�رئ ً� بنعمة اللـه ي� بني ..اإن ج�شم املر ِء ليعتل في�شفى ،واإمن� الط�مة الكربى اأن متر�س الروح». وك�ن لكلمة ال�شيخ هذه وقع خ��س عند اأبي عم�ر ف��شطرب وق�ل�« :شدقت ي� عم ،لقد ذكرتني كلمتك هذه حلم ً� راأيته الب�رحة مالأَ همه طوال وقتي». قلبي رعب�ً ،و�شغلني ّ «م�ذا راأيت ي� بني؟». «راأيت ك�أين كنت يف اجلنة اإذا ب�شوت جميل ا ٍآت من خ�رج ب�ب اجلنة ،ف�نطلقت لأ�شتمع اإليه وخرجت اإىل الأعراف ،حتى اإذا اقرتبت من م� يلي الن�ر َب ُ�رشت على �شفريه� اجل�نب الآخر ّ ب�مراأة ك�أجمل م� راأيت من الن�ش�ء ،حملولة ال�شعر، ع�رية اإل م� ي�شرت و�شطه� ،ويف يده� الي�رشى مزم�ر ،فلم� راأتني فزعت اإيل ك�أمن� تعرفني من قبل ،وطوقتني بيده� اليمنى وت�شبثت بعنقي وهي ت�شيح« :عبد الرحمن اأنقذين! عبد الرحمن و�ش ًدى م� ح�ولت الإفالت من قب�شته� اأغثني!»ُ . ف�أخذت اأجذبه� اإىل جهة اجلنة وهي تنجذب اإىل جهة الن�ر ،حتى وقفن� مع ً� على �شفري اله�وية، ف�رتعت لهول منظره� ،ف�نتبهت على �شوت املوؤذن ب�شالة الفجر!». هب ومل يكد عبد الرحمن يتم حديثه حتى ّ اأبو الوف�ء ك�أن قوة اأع�نته ف��شتوى ج�ل�ش�ً، ولبث هنيهة �ش�مت ً� ك�أنه يدير يف ذهنه هذه الروؤي� الغريبة ثم ق�ل« :م� اأرى هذا احللم اإل من ال�شيط�ن ف��شتعذ ب�للـه عنه ول تق�ش�شه على اأحد ،فقد بلغن� عن النبي �شلّى اللـه عليه و�شلّم اأنه ق�ل: رش ُه فليتعوذ ب�للـه ول «من راأى روؤية ل ت� ُّ يق�ش�شه� على اأحد ف�إنه� ل ت�رشه». فق�ل عبد الرحمن« :اأعوذ ب�للـه من ال�شيط�ن الرجيم». وع�د ال�شيخ للحديث فق�ل« :ل َت َخ ْف ي� بني فلن يجد ال�شيط�ن اإليك �شبيالً ،اإنك ل�ش�ب مب�رك جمتهد يف ط�عة اللـه م� عرف الن��س فيك اإل
«لكني كنت اأعلم اأنه �شيفعل ذلك». «يغفر اللـه لك ي� اأب� الوف�ء ،اإن اللـه لأرحم من اأن يوؤاخذك على جريرة �شواك». «ذلك الظن ب�للـه ي� بني وهو خري الغ�فرين». وا�شت�أذن عبد الرحمن يف الن�رشاف فو َّدعه اأبو الوف�ء �ش�كراً ،واأو�ش�ه اأن ل يغب 18زي�رته لأنه ي�أن�س بقربه ،فوعده عبد الرحمن بذلك وان�رشف.
اخلري .اإنه ال�شيط�ن ي� ُب َن َّي مت َّث َل لك يف �شورة زم�رة ليفتنك عن دينك». امراأة َّ وخرجت من «ويل يل! �شبوت اإىل غن�ئه ُ أمي اللـه لقد هلكت!» .ق�ل هذا عبد اجلنة ..وا ْ ُ الرحمن وانتظر م�ذا ع�شى اأن يقول اأبو الوف� ِء يف ت�أويله هذا. تخ�س ُ�شوءاً ي� وفكر ال�شيخ قلي ًال ثم ق�ل« :ل ُ قَ�س ..اأمل تقل يل اإنك كنت يف اجلنة؟ واإنه ي� بني من دخل اجلنة ل يخرج منه�». «جزاك اللـه �ش�حلة ي� اأب� الوف�ء ،لقد ب�رشك اللـه ه َّداأت روعي وب�رشتني ّ َّ ب�خلري». فحرك اأبو الوف�ء راأ�شه َّ وق�ل وقد ج َلّلت وجهه غ��شية من الهم« :اإنك ي� بني فزعت من روؤي� الن�ر ،فم� قولك يف اأن��س ي�شهدون اأن ل اإله اإل اللـه واأن حممداً ر�شول اللـه يغرقون فيه� اإىل اآذانهم وهم م�شتب�رشون؟ هذا ج�رن� ابن �شهيل – غفر اللـه له وت�ب عليه – يق�شي ليله ونه�ره يف مزامري ال�شيط�ن، وم�ش�مرة اأعوانه من ال�شعراء الغ�وين ،والقي�ن واملغنني ،ينفق عليهم من األوان الطع�م وال�رشاب م� لو اأنفق بع�شه على فقراء مكة واأرامله� واأيت�مه� لدخل اجلنة من اأي اأبوابه� �ش�ء». َ وطفقت الدموع تتح�در من عينيه وهو يقول« :غفرانك ي� اإلهي غفرانك!». فتعجب عبد الرحمن من بك�ء ال�شيخ ف�ش�أله« :م� يبكيك ي� اأب� الوف�ء!!». ق�ل اأبو الوف�ء وهو مي�شح الدمع من عينيه« :اأخ�شى اأن اأكون اأعنته على مع�شية اللـه ي� بني». ف�زداد عجب عبد الرحمن وق�ل له« :مع�ذ اللـه ..كيف ذلك ي� اأب� الوف�ء؟». فق�س عليه ال�شيخ حديث ج�ريته �شالّمة، ّ فق�ل له عبد الرحمن: �س عليك ي� عم ..اإنك غري م�شوؤول عن «خ ِّف ْ عمله».
11
خرج عبد الرحمن من بيت اأبي الوف�ء وم�شى متمه ًال يف الطريق يفكر فيم� ق�له لل�شيخ ،وم� ِّ ق�له ال�شيخ له ،وذكر كلمته عن ج�ره ابن �شهيل، ف�شوب نظره اإىل حيث يقيم هذا اجل�ر الذي �شقى َّ �ش�حبه بقربه وجواره ،فراأى داراً فخمة على �شور ب�شت�ن ثالث طبق�ت ،يحيط به� ٌ ٌ وا�شع عليه ٌ ق�شري تظهر منه روؤو�س اأ�شج�ر النخيل وال�شِّ در، ٌ 19 وراأى يف اجل�نب الأق�شى من الب�شت�ن امل�رشبة التي ي�شتقبل فيه� ابن �شهيل �شيوفه، و يج� ل�س
عدد 144
6ت�رشين 2010 1
ندم�ءه من املغنني وال�شعراء. َ م�شى عبد الرحمن بج�نب ال�شور ف�شمع �شوت ً� ك�لغن� ِء اآتي ً� من قبل امل�رشبة الواقعة يف اأق�شى ال�شور ،وكلم� اقرتب منه� ومن ب�ب ال�شور املف�شي عليه� زاد ال�شوت ارتف�ع ً� وو�شوح�ً، واإذا به يغني: دت �أُو� َر �ل ِ ُّب يف كَ بِدي �إِذ� َو َج ُ بت ُد! ذ ََه ْب ُت ن َْح َ� ِ�سقا ِء ْ�لا ِء �أَ َِ ِب ِد ْ�لَا ِء ظَ اهِ َر ُه َه ْبنِي َب َر ْد ُت ب َ ْ 20 َف َمن لِنا ٍر َعلى �الأَ ْح�سا ِء َت َ ّت ِق ُد؟ واإذا برعدة ت�رشي يف مف��شل عبد الرحمن، واإذا به ي َّث�قل يف م�شيته وهو يقول« :عجب ً� م� اأ�شبه هذا ال�شوت ب�شوت املراأة التي راأيته� يف احللُم ..للـه م� اأعذبه ..اإن له حلالوة يف قلبي». وانتبه فج�أة اإىل موقفه فتك َلّف الإ�رشاع يف امل�شي وهو يقول« :اأعوذ ب�للـه من فتنة ال�شيط�ن» .حتى اإذا ح�ذى ب�ب ال�شور برز ابن �شهيل من الب�ب ،وك�ن ق�م ليتفقد �شيوفه الق�دمني اإليه ذلك اليوم من املغنني وال�شعراء، ف�أب�رش عبد الرحمن يحدر يف م�شيه ،فعرفه ف��شتوقفه ق�ئالً« :مه ًال ي� بن اأبي عم�ر ،األ ُت�شلم علين�؟». ف�لتفت اإليه عبد الرحمن ،وك�ن يعرف ابن �شهيل من قبل وكثرياً م� راآه يف امل�شجد ،فق�ل: «ال�شالم عليك ي� بن �شهيل».
هلم معي اإىل عم�ر ..مل ْ يحن ُ وقت الظهر َب ْع ُدَّ .. متر بب�ب منزيل ول املنزل فلي�س من احلق اأن َّ تع ِّرج عليه ..اأ�ش َه ْد جمل�شن� اليوم ف�شيجتمع عندي ط�ئفة من فحول ال�شعراء يت�ش�جلون ،و�شت�شمع غن�ء مل ت�شمعه يف اإن �شئت من ج�ريتي �شالّمة ً حي�تك». يهم ب�مل�شي« :ولن فق�ل عبد الرحمن وهو ُّ �ش�ء اللـه». اأ�شمعه اإن َ رداء �ش�حبه برفق وق�ل: فجذب ابن �شهيل َ ترب ْح مك�نك حتى تدخل منزيل». «كال ي� ق�س ل ْ فَح ِرج عبد الرحمن وق�ل ب�شوت فيه حدة: «اأتدعوين اإىل اللـهو والغن�ء ي� بن �شهيل؟». علي اأن ل يرتفع «ل ي� بن اأبي عم�ر .لك َّ �شوت ب�لغن� ِء م� بقيت عندي يف املنزل». «�شكراً لك ي� بن �شهيل ،اإنك تعلم اأين اأكره جم�ن ال�شعرا ِء واملغ ِّنني، هذه اجلم�عة من ُ َّ واأ�شيق بروؤية وجوههم التي عليه� غربة الف�شوق والع�شي�ن». و�شمِ َع ْت جلبة من خلف ال�شور فعلم ابن ُ �شهيل اأن �شيوفه قد قدموا ،فق�ل لعبد الرحمن: فهلم ي� بن اأبي عم�ر». «ه� قد اأقبل القوم َّ فق�ل عبد الرحمن« :دعني اأن�رشف ي� بن �شهيل». يتم كلمته حتى ظهر ومل يكد عبد الرحمن ّ اأحدهم ،فق�ل ابن �شهيل وهو يبت�شم« :هذا عمر بن اأبي ربيعة �ش�عر قري�س». فظهرت الكراهية يف وجه عبد الرحمن «تب ً� له من ف�جر». وق�لّ : وم� لبث عمر اأن دن� منهم� فق�ل« :ال�شالم عليكم». ب��ش�« :وعليك ال�شالم ي� ف�أج�به ابن �شهيل ًّ عمر ..اأين بقية القوم؟». فنظر عمر خلفه ق�ئالً« :هم اأولء اآتون على لت «وع ِج ُ اأثري» ..ثم ابت�شم ابت�ش�مة م�جنة وق�لَ : اإليك لتكون يل النظرة الأوىل يف وجه �شالّمة!». والتفت اإىل ال�ش�ب الواقف اأم�م ابن �شهيل ف�شحك وق�ل« :هذا عبد الرحمن بن اأبي عم�ر – ج�ء بك هن�؟ اأتريد اأن ت�شكون� اإىل الوايل كم� م� َ فعلت من قبل؟». ف�ش�ق عبد الرحمن �شدراً وق�ل« :م� تزال ي� عمر �ش�دراً يف اإثمك وفجورك وت�شبيبك ب�ملح�شن�ت حتى ي�شيبك اللـه بق�رعة من عنده». مل يكن من عمر اإل اأن رفع راأ�شه مقهقه�ً ،ثم تنهد ونظر اإىل عبد الرحمن ق�ئالً« :اآه ي� ق�س، وهل اأن� اإل يف قوارع 21العذاب؟ غفر اللـه لبن�ت أ�شالء؟». حواء لقد تركن قلبي ا ً
ف�أج�به ابن �شهيل ووجهه يتهلل من الب�رش: «وعليك ال�شالم ورحمة اللـه ،اأه ًال بك ي� بن اأبي عم�ر» .واأقبل اإليه ي�ش�فحه ق�ئالً« :كيف اأنت ي� ق�س؟». ُّ «بنعمة اللـه ي� بن �شهيل». «من اأين ي� بن اأبي عم�ر؟». «من عند اأبي الوف�ء اأعوده». فظهر الت�أثر على وجه ابن �شهيل وغ��شت ابت�ش�مته قلي ًال وق�ل« :عجل اللـه ب�ل�شف� ِء لأبي الوف�ء ،لقد بلغني اأنه اعت َلّ ،ولول خ�شيتي اأن أحب هذا ي�شيق مبقدمي لعدت ُه ،فو اللـه اإين ل ُّ الرجل ال�ش�لح قدر م� يبغ�شني هو». رشه بهذه ال�شدفة ففرح عبد الرحمن يف � ِّ التي مل يتوقعه� ،وراأى اأن ينتهز هذه الفر�شة ال�ش�نحة ليكلم ابن �شهيل يف �ش�لح اأبي الوف�ء، ب�لكف عن اإزع�جه ب�أ�شوات الغن� ِء وين�شحه ِّ ورن�ت العيدان ،فق�ل له« :اأم� اإنه لعلى حق يف يل اأنك تزعجه بغن�ئك وق�شفك بغ�شك .لقد �شك� اإ َّ وت�شغله عن تالوته و�شالته». فق�ل ابن �شهيل ب�شوت يندى ب�لعطف: لي�شق علي اأن يت�أذى «واللـه ي� بن اأبي عم�ر ُّ مني هذا اجل�ر ال�ش�لح ،ولقد واللـه بنيت هذه امل�رشبة اجلديدة التي تراه� يف هذا اجل�نب الق�شي من احلديقة لأبتعد به� عن داره فال ت�شل اإليه اأ�شوات الغن�ء». «لقد اأح�شنت بهذا ي� بن �شهيل �شنع�ً ،وحبذا لو حت�شن اإىل نف�شك فتقلع عن اللـهو والغن� ِء جملة فت�شرتيح وتريح». فتب�شم ابن �شهيل وق�ل« :ي� ليت ذلك يف ا�شتط�عي ي� بن ابي عم�ر ،ولكني امروؤ ابتلى بهذا اللـهو فم� ي�شتطيع اأن يعي�س بدونه .اآه ي� ق�س اأح�شبني قد اأ�شتغني عن الغذاء ول اأ�شتغني عن الغن�ءِ». فحرك عبد الرحمن راأ�شه ق�ئالً« :م� اأ�ش َّد جنونكم اأرب�ب اللـهو..، اأ�ش�أل اللـه لك الهداية والتوبة ي� بن �شهيل». فق�ل ابن �شهيل ب�شوت خ��شع« :اللـهم اآمني». وتهي�أ عبد الرحمن للم�شي ّ فق�ل له ابن �شهيل« :اإىل اأين ي� بن اأبي عم�ر؟». ق�ل عبد الرحمن: «اإىل امل�شجد». ق�ل ابن �شهيل: «لي�س الآن ي� بن اأبي
12
جي ال�ش�عران، وظهر عند ذلك الأحو�س وال َع ْر ُّ وخلفهم� الغري�س ومعبد املغني�ن ،فق�ل عمر: «ه� هم القوم قد اأقبلوا ي� بن �شهيل!». وطفق الأحو�س والعرجي يتغ�مزان ،يقول اأحدهم� ل�ش�حبه« :اأنظر هذا عبد الرحمن الق�س، هل َُّم نتندر عليه ونغ�شبه» .ف�شحك الآخر وق�ل: «هلم!». واأقبل الأربعة ف�شلّموا ،فر ّد عليهم ال�شالم. و�ش�ح العرجي ق�ئالً« :هي� بن� اإىل ال�رشاب ي� بن �شهيل ..م� اأنتم والوقوف هن�؟». والتفت اإىل عبد الرحمن ك�أنه مل يعلم بوجوده هن�ك من قبل فق�ل« :اأه ًال ي� بن اأبي عم�ر .م� هذا؟ هل اأ�شبحت اليوم من مذهبن�؟». فنظر ابن �شهيل اإليه نظرة الع�تب ف�أم�شك. وق�ل عبد الرحمن« :ويل لك ي� عرجي ،اأم� تكف عن جمونك؟ لبئ�س م� َخ َلف َْت ج َّدك عثم�ن بن عف�ن». فق�ل العرجي بلهجة يخ�لطه� اجلد« :وم�ذا تنتظر مني اأن اأفعل ي� عبد الرحمن؟ اإن بني عمِّ ن� ا�شت�أثروا ب�لأمر من دونن� ونحن اأوىل به، واأق�شون� عن الولي�ت فال اأق ّل ملثلي من اأن يلهو كم� يلهو ال�شب�ب» .ثم طفق يرتمن ق�ئالً: اع�� �ين َو َ�أ َ ّي َفت ًَى َ�أ َ�س ُ �أَ َ�س ُ اع ِ ِل َي ْ� ِم كَ ِر ْي َهةٍ َو ِ�س َد� ِد ثَغْ ِر «مط�لب ب�خلالفة فهز عمر راأ�شه ق�ئالً: ٌ جديد ورب الكعبة!». وت�أ َّفف الأحو�س ف�ش�ح« :اأنحن يف يوم �رشاب اأم يف يوم مواعظ؟ األهذا دعوتن� ي� بن �شهيل؟». ف�لتفت اإليه عبد الرحمن ق�ئالً« :ويل لك ي� اأحو�س ..م� ك�ن اأجدر بك اأن تتبع �ش َّنة �شلفك من �ش�حلي الأن�ش�ر». فتن َّهد الأحو�س وق�ل« :تذكرون الأن�ش�ر وقد ظلمتموهم مرتني .اإن يل اإذا �رشب العرجي ك�أ�ش ً� واحدة اأن اأ�رشب ك�أ�شني اأغرق فيه� اآلمي». فق�طعه عمر ق�ئالً« :واأنت اأي�ش ً� ي� ُلكَع! ويله� مهزول ًة ي�شومه� اأمث�ل هوؤلء!». وا�شتمر الأحو�س يف حديثه ق�ئالً« :رحم اللـه �شعد بن عب�دة ..قتلته قري�س وق�لت قتلته اجلن!!» .ثم اأخذ يقهقه وهو يقول« :دعني ي� بن اجلن!». اأبي عم�ر اأ�رشب ف�آخذ بث�أري من ِّ فنظر اإليه عبد الرحمن �ش�خط ً� وق�ل« :اأمثلك يث�أر لالأن�ش�ر ي� هذا؟ األ�شت الذي هجوتهم يف �شعرك؟». ق�ل الأحو�س« :بلى ..هجوتهم لأنهم ذ َلّوا
لقري�س .وم� ك�ن لهم اأن يذ ُلّوا». أدعي�ء». أكف�ء كرث ال ُ فق�ل عمر« :اإذا م�ت ال ُ وك�أمن� ع َّز على الغري�س اأن ل ي�شرتك يف احلديث وخ�شي اأن ي�شبقه معبد اإليه ،فق�ل الغن�ء ي� يخ�طب عبد الرحمن« :اإذا كنت ل حتب َ ق�س ،ف�ن�رشف ع َّن� ودعن� و�ش�أنن�». فث�ر ث�ئر عبد الرحمن وق�ل له« :قطع اللـه ل�ش�نك! هل جئت اأ�شت�شيفك ي� م َّنث فت�أمرين ب�لن�رشاف؟». «اذه ْب ذهب اللـه ف�أج�به الغري�س ق�ئالًَ : بك!». «م ْه ي� فنظر اإليه ابن �شهيل ع�تب ً� وق�لَ : غري�س ..اإن ابن اأبي عم�ر ل يريد بن� اإل اخلري». فق�ل عبد الرحمن�« :ش�حمك اللـه ي� بن �شهيل ..ا َّأخرتني عن امل�شجد و�شغلتني بجم�عتك هوؤلء» .وان�رشف م�رشع ً� ومل يزد. ووقف القوم �ش�متني ينظرون اإىل ال�ش�ب ف�س َم ْعبد ذلك وهو ي�رشع اخلُطى مولي�ً ،حتى َّ ال�شمت بقوله: «�شب�ك اللـه! لقد اأغ�شبتم الرجل .اإنه واللـه خلري من�». فق�ل عمر« :اأج ْل واللـه اإنه خلري من� ..ه َّي� بن� ي� بن �شهيل». و�شمت ابن �شهيل حلظة ثم ق�ل« :هي� بن�» وتقدم اإىل ب�ب ال�شور وتبعه القوم فدخل ودخلوا معه.
�لف�سل �ل�سابع
تر َّدد ا�شم عبد الرحمن بن اأبي عم�ر .وتكرر احلديث عنه يف جمل�س ابن �شهيل بعدم� ك�ن منه ذلك اليوم خ�رج ال�شور ،وم� جرى بينه ربه وبني ندم�ئه من احلوار .وك�أمن� �ش�قَ خ ُ �شالّمة بوجه خ��س فك�نت ُت�شغِي مل� يق�ل عنه ،وت َّتبعه ب�هتم�م .ولعل ل�شلته مبوله� ال�ش�بق و�شداقته له �شبب ً� يف اهتم�مه� ب�أمره، اإذ ك�ن ذلك يثري يف نف�شه� األوان ً� من ذكرى طفولته� التي ق�شته� يف ذلك البيت ال�ش�لح بني حدب مولته� العجوز وعطفه� عليه� ،وبني عن�ية موله� ال�شيخ ب�أن يجعل منه� ج�رية �ش�حلة على رغم م� ك�ن ي�شطرب يف �شدره� من نزع�ت الفتون وو�ش�و�س الهوى. ومل تن�س م� لقيت يف ذلك البيت من العنت جراء حبه� للغن� ِء وميله� اإليه ،حتى ال�شديد من َّ نقله� اللـه منه اإىل كنف موله� اجلديد – هذا الكنف الذي ت�رشح فيه ومترح متمتعة بحب ال�رشي الذي ح َّقق له� م� ك�نت ت�شبو موله� َّ ِ اإليه من النبوغ يف الغن� ِء حتى عال كعبه� فيه.
ولكنه� مع ذلك ك�نت ل تذكر ذلك العهد ال�ش�لف ترتحم على اأم الوف�ء التي اإل ب�خلري ،فك�نت َّ ق�شت نحبه� على اأثر فراقه� له� ،وت�شفق على اأبي الوف�ء وقد اأ�شبح وحيداً وانت�بته اأمرا�س ال�شيخوخة، املرعى ُّ وحتن اإىل اأي�مه� اجلميلة يف ْ حيث ك�نت تلقى حكيم ً� فيغ ِّني له� الأحل�ن فت�أخذه� عنه .ول تزال تذكر تلك الأحل�ن ومتيل اإىل التغ ِّني به� ،وجتد لذلك لذة خ��شة على ب�ش�طته� وق َلّته� ب�لن�شبة مل� حذقته بعد ذلك من فنون الغن�ء و�رشوب التوقيع. ومل تعرف من اأمر حكيم بعد ذلك �شيئ ً� ك�أمن� ك�ن طيف ً� ع�براً اأراه� فردو�س الغن�ء ،وو�شع يف يده� القب�س ثم اختفى! وك�ن ابن �شهيل ل يفت�أ يتحدث عن ابن اأبي عم�ر ،ويو ُّد لو يراه مرة اأخرى فيدعوه اإىل داره ،ويتحدث اإليه ويعتذر له عم� بدر منه ومن اأ�شح�به يف حقه؛ فك�ن يرتقب مروره حتت داره يف طريقه اإىل بيت اأبي الوف�ء ،واأو�شى �شالّمة اأن ترتقبه اأي�ش ً� حتى اإذا ملحته اأنب�أته به. واأقبل عبد الرحمن يف �شب�ح اليوم الرابع ليعود �ش�حبه ال�شيخ ،فم� ملح دار ابن �شهيل مِ ْن ذكري�ت ذلك اليوم الذي بعد حتى ع�دت اإليه ُ لقي فيه وجوه اأولئك اخللع�ء امل�جنني ،فخ�شي اأن يلق�هم مرة اأخرى ف�أراد اأن ي�شلك طريق ً� اآخر اإىل بيت اأبي الوف�ء ل مير فيه بب�ب امل�رشبة الذي لقيهم دونه .وتذكر ذلك ال�شوت اجلميل الذي �شمعه ذلك اليوم فبقي ع�لق ً� بقلبه ،ف�شعر برغبة خفية يف اأن ي�شمعه مرة اأخرى ،ولكنه قمعه� ب�شدة ودار حول ال�شور من اجل�نب الآخر ليتجنب املرور بب�ب امل�رشبة ،ولكن دار ابن �شهيل مل تختف من عينيه ،فقد ك�نت لعل ِّوه� ت�رشف على اجلوانب كله� ،ومل يكد يقرتب منه� حتى �شمع ال�شوت عينه فعرفه وارت�حت نف�شه اإليه ،ومل يكن ال�شوت يف هذه املرة ع�لي ً� كم� ك�ن يف املرة ال�ش�بقة ،اإل اأنه ك�ن من الو�شوح بحيث تبني له اأن يقول:
الغن�ء ،ف��شت َّد عجبه يكون من اأمره عندم� ي�شمع َ اإذ راأى ال�ش�ب الن��شك يتم َّهلُ يف خطوه ويت�شنت للغن�ءِ ،ف�لتفت اإىل �شالّمة �ش�حك ً� وق�ل له�: «ا�شتمري يف غن�ئك ..هذا الق�س ي�شتمع اإليك.. �ش�أخرج له .»..ق�ل ذلك ونزل م�رشع�ً ،وق�مت �شالّمة حتى دنت من ال�شب�ك تنظر منه والعود يف يده� وهي تغني: َيتُ�قُ َق ْلبِي �إ َل ْي ُك ْم كِ ْي يال ِق َيك ْم كَ َما َي ُت ْ�قُ � َإل َمن ْْجات ِه �لْغَ ِرقُ ! ف�أخذ عبد الرحمن ب�ل�شوت ووقف من حيث ل ي�شعر يف حم�ذاة الدار ،فخرج اإليه ابن �شهيل فف�ج�أه على ح�له هذا ،ف��شطرب عبد الرحمن وتظ�هر ب�ل�شري ،ولكن ابن �شهيل انطلق اإليه ق�ئالً« :رويداً ي� بن اأبي عم�ر ،لقد راأيتك ت�شتمع اإىل غن�ء �شالّمة ،فهل لك اأن تدخل فت�شمع؟». إخف�ء ف�أج�به عبد الرحمن وهو يح�ول ا َ ذاهب ال�شطراب الب�دي عليه ق�ئالً« :كال .اإين ٌ لأعود اأب� الوف�ء». ف�أخذ ابن �شهيل بيده ق�ئالً« :اأدخل ،اأدخل اأو ًل ف��شمع ثم اذهب اإىل اأبي الوف�ء ..ه َّي� بن�». فجذب عبد الرحمن يده وهو يقول« :ل.. اأعفني ي� بن �شهيل». فق�ل له ابن �شهيل« :ل اأعفيك ..واللـه لتدخلن فت�شمع». «ل ي� بن �شهيل ..مع�ذ اللـه اأن اأجل�س اإىل مغنية». «�ش�أقعده� يف مو�شع غن�ءه� ول تراه�». ت�شمع َ «ول هذا ي� بن �شهيل ..خ ِلّني ي� بن �شهيل ل�شبيلي». ابن رش ف�أ� َّ �شهيل على دخول عبد الرحمن ،وق�ل له بلهجة احل�زم« :ل لتدخلن ف�شتمع، واللـه ّ ا ْأو لأدعونه� فتخرج اإليك». وراأى عبد الرحمن اأن ل ف�ئدة من املق�ومة ،وخ�شي اإن هو اأبى الدخول ا ْأن يدعوه� ابن �شهيل فتخرج اإليه ،فطفق يتل َّف ُت وي�رش ًة مين ًة
ُتنِي ُل َنزْر�ً قلي ًال َو ْه َي ُم�سْ ِف َق ٌة اف َم�س ْي َ�س ْ�ل َ ّي ِة �ل َف ِرقُ كَ َما َيخَ ُ ال �أعتقَ �للـ َه ِر ِق ّْي مِ ْن َ�س َبابتكم 22 �سب ِب ُك ْم قلِقُ ما � َصّ ِين �أ َ ّننِي ٌّ فلم ي�شع عبد الرحمن اإل اأن يتمهل يف خطوه وهو يقول�« :شبح�ن اللـه م� اأعجب!». ومل يعلم عبد الرحمن اأن ابن �شهيل ك�ن قد حلظه من الدار على بعد ،وراآه مل� دار حول ال�شور لي�شلك الطريق الآخر ،ف�أوعز اإىل �شالّمة اأن تغ ِّني هذه الأبي�ت حني اقرتب عبد الرحمن من الدار، واأخذ هو يرت�شده من �شب�ك الغرفة لريى م�
13
ك�أنه يخ�شى اأن يراه اأحد وق�ل« :ل ..ل تفعل – �ش�أدخل». دخل الرجالن من ب�ب ال�شور املف�شي اإىل ومرا بفن�ئه� الوا�شع واخرتق� احلديقة الدارَّ ، مي�شي�ن بني النخل وال�شِّ در واأ�شج�ر الليمون، امل�ء ويجوزان اجلداول ال�شغرية يجري فيه� ُ من ج�بية كبرية ينزح اإليه� من البئر ،حتى اإذا امل�ء يف اجلداول امتالأت اأر�شل �شم�مه� فتد َّفق ُ اإىل حيث يروي الزرع والبقل اأو ي�شقي النخل. وك�نت �شالّمة تنظر من �شب�ك الدار اإىل مر بفن�ء ال�شيف الغ�يل اأو ال�شيد الكرمي حني َّ الدار ،وحت ِّدق يف وجهه تت�أمله ت� ُّأم ًال دقيق ً� �ش�ب وتدير طرفه� فيه من راأ�شه اإىل قدمه ،ف�إذا ٌّ يف نحو اخل�م�شة والع�رشين ،معتدل الق�مة عري�س الأكت�ف ،خفيف اللحم دقيق الأطراف، اأبي�س الوجه يف �شمرة ت�شوبه ،وتزينه حلي ٌة �شوداء لي�شت ب�لكثيفة ول ب�خلفيفة ،يت�شل به� ُ ع�ر�ش�ن عليهم� �شعرات غري منتظمة ،اأحفى �ش�ربه فال يبدو منه اإل خ�رشة اأ�شول ال�شعر، 23 �شوداء مر�شلة أهداب طويلة ُ وتظ ِلّل اأنفه الأقنى ا ٌ من عينني �شهالوين عليهم� اآث�ر ال�شهر ،وفوقهم� ح�جب�ن كثيف�ن لو زحف� قلي ًال لقرتن� ،وتلوح على جبهته الوا�شعة �شجدة خفيفة يف مثل لون ي�شك الن�ظر اإليه� اأنه� َج ْبه ُة ع�بد! الر�ش��س .ل ُّ واأدارت �شالّمة يف ذهنه� –
عدد 144
6ت�رشين 2010 1
وهي تنظر اإليه يف تلك اللحظة الع�برة – م� أح�شت ك�نت ت�شمع عنه من تقواه ون�شكه ،ف� َّ بعطف غريب عليه ،و�شعرت برث�ء له ك�أنه� تقول يف نف�شه�« :م�شكني هذا الرجل! ل ينبغي ملثله اأن يدخل اإىل هن�». وتوجه ابن �شهيل بعبد الرحمن اإىل جهة امل�رشبة ،ف�إذا بن�ء مر َّبع مرتفع عن الأر�س قليالً ،له� اأربعة اأبواب من اجله�ت الأربع تك�د ل�شعته� ت�شغل الن�شف من م�ش�حة جدرانه� ،وهي مفرو�شة ب�لطن�ف�س 24الثمينة ،وعلى جوانبه� زرابى 25مبطّ نة ب�ملخمل الوثري الزاهي الألوان. وتردد عبد الرحمن يف الدخول مل� راأى من مظ�هر الرتف التي مل يره� يف حي�ته ،ول تطمئن اإليه� نف�شه الزاهدة يف زبرج احلي�ة ونعيم الدني� الف�نية ،ولكن �ش�حب الدار ق�شى على تر ُّدد ِه اإذ اأخذ بيده ودخل به امل�رشبة يف ترحيب ب�لغ، وب�رش ط�فح ،ف�أجل�شه يف �شدره� املُخمل الن�عم بني الو�ش�ئد الع�لية ا لتي تف�شل
ج�نب احلديقة خلف امل�رشبة ،ف�إذا �شالّمة واقفة والعود يف يده� تغ�لب نف�شه� من ال�شحك ،ودن� منه� ابن �شهيل فق�ل له�« :اجتهدي ي� حبيبتي الق�س ين�رشف من هن� اإل يف �شنعتك .اإن� ل نريد َّ وهو متبول القلب». وغمزت �شالّمة عينيه� مبت�شمة وق�لت: «�ش�أفعل ي� مولي ..ل تخف». ووقف ابن �شهيل على ب�ب امل�رشبة بحيث يرى عبد الرحمن داخله� و�شالّمة خ�رجه� وق�ل« :ا�شمع ي� عبد الرحمن واأ�ش�ر اإىل �شالّمة فطفقت حترك عوده� وتغني:
املق�عد بع�شه� عن بع�س. وغ�ب ابن �شهيل حلظة �شعر يف خالله� عبد الرحمن ب�شيق �شديد ك�أنه ال�شمكة توؤخذ من امل�ء لتتقلب على الأر�س ،ول�شيم� حني نظر يف اجلدران فراأى اأنواع العيدان واملزاهر معلقة على جوانبه�. وع�د �ش�حب الدار فدخل معه غالم اأ�شود يحمل خوان ً�� 26شغرياً ف�أ�ش�ر له موله فو�شعه اأم�م عبد الرحمن ،واأقبلت ج�رية كهلة ب�أطب�ق ملوءة ب�ل�شوا ِء واحللوى والعنب والع�شل َ ف�شفته� على اخلوان ،وقعد ابن �شهيل بج�نب عبد الرحمن فطفق يالطفه ويعزم عليه يف الأكل، ف�أ�ش�ب عبد الرحمن ال�شواء واحللوى ولعق قلي ًال من الع�شل وق�ل« :احلمد للـه الذي اأطعمن� هذا». وق َّدم له ابن �شهيل عنقوداً من العنب ف�أخذ عبد الرحمن ي�أكل منه ح َّبة ح َّبة وقد زالت عنه الوح�شة التي ك�ن يجده� ،واأن�س اإىل �ش�حبه امله َّذب الظريف. وتركه ابن �شهيل كذلك وق�م اإىل
ُتنِي ُل َنزْر�ً قلي ًال َو ْه َي ُم�سْ ِف َق ٌة َ اف َم�س ْي َ�س ْ�ل َ ّي ِة �لف ِرقُ كَ َما َيخَ ُ ال �أعتقَ �للـ َه ِر ِق ّْي مِ ْن َ�س َبابتكم �سب ِب ُك ْم قلِقُ ما � َصّ ِين �أ َ ّننِي ٌّ َيتُ�قُ َق ْلبِي �إ َل ْي ُك ْم كِ ْي يال ِق َيك ْم كَ َما َي ُت ْ�قُ � َإل َمن ْْجات ِه �لْغَ ِرقُ ! فطرب ابن �شهيل طرب ً� �شديداً ،ونظر اإىل عبد �س الب�رش الرحمن ف�ألف�ه �ش�كن الأطراف �ش�خِ َ غري �شدر يرتفع وينخف�س و�شفتني تختلج�ن، ويده اليمنى يف طبق العنب ل يرفعه� من الذهول. وك�نت �شالّمة ط َّبة 27ب�لغن� ِء ت�رشفه وفْقَ م� ت�شتلهمه من مع�ين ال�شعر الذي تغنيه ،جتعل َوكْ َده� اأن تط�بق بني نربات �شوته� وحرك�ت ف�رش املعنى ،فتخرج القطعة من ال�شعر ك�أنه� ُت ِّ بدللة الرتجيع وال�شوت فوق دللة الألف�ظ، لت�أخذ مع�نيه� �شبيله� اإىل نف�س ال�ش�مع ك�أمن� ك�نت هذه املع�ين ت�شطرب يف نف�شه من ق َْبلُ ومل ت� ِأت اإليه� من اخل�رج. ك�نت تعطي كل كلمة م� ين��شبه� من قوة ال�شوت اأو �شعفه ،ورفعه اأو خف�شه ،واطراده اأو تقطعه ،و�رشعته اأو بطئه ،وا�شتوائه اأو التوائه. حتى يخ َّي َل اإىل ال�ش�مع فوق م� ي�شعر به من املع�ين التي ت�رشي من القطعة اإىل نف�شه اأو تفي�س من نف�شه على القطعة – اأنه يرى الكلم�ت وقد �ش�عت فيه� احلي�ة ك�أنه� اأج�ش�م ب�رشية جتيء وتذهب وتقوم وتقعد ،وتلني وتق�شو ،وت�شل وت�شد ،وتذهب مذاهب احلي�ة املختلفة. واأ�ش�ر ابن �شهيل اإىل �شالّمة ا ْأن ح�ش ُبك، والتفت اإىل عبد الرحمن ق�ئالً« :هل اأعجبك َ الغن�ء ي� بن اأبي عم�ر؟». وذُعر عبد الرحمن ل�شوت ابن �شهيل ك�أمن� اأف�ق من حلم ،ومتتم ق�ئالً« :اأجل واللـه لقد ه َّز م�ش�عري». ق�ل ابن �شهيل�« :شيكون اأف�شل لو غ َّن ْت
14
بني يديك ،األ اأدخله� اإليك؟» .فق�ل عبد الرحمن ب�شوت خ�فت «ل ي� بن �شهيل .ح�شبي هذا». ق�ل ابن �شهيل« :اإنه� ج�ريتي وقد اأعجبك غن�وؤه� ،فم� مينعنك اأن تغني بني يديك!». واأع�د عبد الرحمن قوله« :ل ي� بن �شهيل». ولكن �ش�حب الدار مل ميهله اأن التفت اإىل ج�ريته وق�ل له�« :تع�يل ي� �شالّمة ..اأدخلي». ودخلت �شالّمة ب��شمة ك�أنه� رو�شة ت�رشق ب�لزهر وتنفح ب�لعطر. ف�نبهر عبد الرحمن وجعل ينظر اإليه� مذهوب ً� زائغ الب�رش ك�أنه ينظر اإىل �شيء اآخر غريه� ،اإذ متثلت له �شورة املراأة التي راآه� يف من�مه املزعج ،وخيل اإليه اأنه ي�شمع �شوته� وهي تقول« :ي� عبد الرحمن اأنقذين ..ي� عبد الرحمن اأغثني!». ك�ن ذلك كله يف حلظة هي يف ح�ش�ب الزمن ث�ني ٌة اأو بع�س ث�نية ،ويف ح�ش�ب الواقع �شم�ع �شوت جميل ا ٍآت لعبد الرحمن ظَ ُرف َو�شع َ من خ�رج ب�ب اجلنة ،وانطالقه ل�شم�عه حيث انتهى اإىل الأعراف فراأى املراأة اجلميلة الع�رية يف يده� املزم�ر ففزعت اإليه ملّ� راأته ،وت�شبثت بعنقه وهي ت�شيح م�شتغيثة اإىل اآخر الق�شة. م� راعه اإل �شوت �شالّمة وهي تقول: «�شب�ح اخلري ي� بن اأبي عم�ر!» .ف�أف�ق من ذهوله وا�شتمرت �شالّمة ق�ئلة« :م�ذا يخيفك يف من �شيء يخيف؟». مني ..هل َّ فتمتم عبد الرحمن ق�ئالً ..« :نعم ..ل ..ل.».. ق�لت �شالّمة« :األ اأقعد ف�أغني لك؟». ف�شكت عبد الرحمن ومل يجب. ق�ل ابن �شهيل« :اقعدي ي� فت�تي وه�تي م� عندك» .واأ�ش�ر اإىل مقعد يف اجل�نب املق�بل وخطَ ْت اإليه فلمت من اأطراف ذيله�َ ، لل�شدر َّ خ�شب يف�شل و�شطه الدقيق مدبر ٌة ف�إذا قوام ٌ جنتني وا�شعتني ،ثم انثنت م ْقبلة وتهي�أت لتقعد حيث اأ�شري عليه� قُب�لة عبد الرحمن ،ف�إذا ج�رية م�ء ال�شب�ب ،يف وجهٍ كع�ب يحري يف وجنتيه� ُ ٌ يرتدد الطرف فيه طوي ًال دون اأن ي�أخذ �شورة وا�شحة من تق�طعيه املختلفة املوؤتلفة يف وقت واحد ،واأ�رشار تكوينه الإلهي البديع امل�ئج ب�شور �شتى وظالل متلفة واأطي�ف عجب. والتقت عين� عبد الرحمن بعينيه� ،ف�إذا هم� غ ِزلت�ن غ�شي�شت�ن ل ي�شك الن�ظر اإليه� اأن يف و�شعهم� اأن تت�شع� بعد اإذا دع�هم� لذلك داع، وعلى خديه� نونت�ن تغوران كلم� ابت�شمت ،ك�أن نبع ال�شحر الذي اللـه خلقهم� ليجتمع فيهم� ْ يتدفق من عينيه�! وله� �شفت�ن اأرجوانيت�ن �شمتت ف�إنهم� تقولن �شيئ�ً. مهم� ْ
حمراء ،وجعلت على راأ�شه� وقد ارتدت حلة َ بي�ش�ء ت�شرت الن�شف الأعلى من �شعره� غاللة َ الأ�شود املن�شدل على كتفيه� من اخللف. واأ�ش�ر له� �شيده� ف�حت�شنت عوده� ح�نية عليه ،وجعلت حتركه وتغني: وما هِ َي ِ�إ َالّ �أَ ْن �أَ َر�ها ف َُجاء ًة يب فاأُ ْب َه ُت َح َتّى ما �أَكا ُد ُ�أ ِج ُ �ص ُف عن َر�أيِي � َلّذي كُ ن ُْت َ�أ ْر َتئِي و�أَ ْ َ يب و�أَن َْ�سى � َ ّلذِي �أَ ْع َد ْد ُت ِح ْ َ ي تَغِ ُ و ُيظْ ِه ُر َقلْبي ُع ْذ َرها و ُيعِ ينُها 28 َعل َ َّي ،فما ِل ِيف �ل ُف�ؤَ� ِد ن َِ�س ْي ُب ومل ين�شب عبد الرحمن اأن بكى من الت�أثر، ورفع اإىل �شالّمة عينني دامعتني وهو يقول: «اأح�شنت ي� ج�رية الإح�ش�ن كله». وحترك للقي�م فق�ل له ابن �شهيل« :اإىل اأين ي� عبد الرحمن؟ امكث قلي ًال اأي�ش�ً� ..شت�شمعك �شوت ً� غريه». ونظرت �شالّمة اإليه ق�ئلة« :نعم �ش�أغني لك حلن ً� اآخر». فق�ل عبد الرحمن�« :شكراً لكم�� ،ش�أذهب الآن اإىل اأبي الوف� ِء حتى اأدرك �شالة الظهر يف امل�شجد ..اإئذن يل ي� بن �شهيل». ق�ل ابن �شهيل ب��شم�ً« :ل اآذن لك حتى تعطيني موؤثق ً� اأن تختلف اإلين� من حني اإىل حني». فوعده عبد الرحمن ذلك ونه�س ق�ئالً: «�شكراً لك ي� �شالّمة». ووقعت هذه الكلمة ال�شغرية من عبد الرحمن رش ْت موقعه� يف نف�س �شالّمة ،فلم تذكر اأنه� � َّ لكلمة قيلت له� من كلم�ت الإطرا ِء وال�شتح�ش�ن �رشوره� بهذه الكلمة ،ونه�شت اإىل ب�ب امل�رشبة وهي تقول« :اإىل اللق�ء». وخرج ابن �شهيل يو ِّدع �شيفه العزيز اإىل ب�ب ال�شور.
�لف�سل �لثامن
ك�ن ذلك اليوم يوم ً� ف��ش ًال يف حي�ة عبد الرحمن ،اأ�شبح بعده ل يفكر اإل يف �شالّمة ،ول يجد الأن�س اإل يف جمل�شه� ،وكرث اختالفه اإىل ابن �شهيل ،واأح َّبه هذا فن�ش�أت بينهم� �شداقة متينة تزداد قوة يوم ً� فيوم�ً. و�شغف عبد الرحمن ب�شالّمة ،فك�ن يحلم به� ليله ونه�ره ،ويت�ش َلّل طيفه� اإليه حتى يف �شالته وقي�مه ،وق�مت بني نف�شه الزاهدة الن��شكة وبني حرب عوان� 29شلي نف�شه املتفتحة للحي�ة ٌ بن�ره� ،وك�ن وقوده� من روحه وج�شمه ،و�شقي �شق�ء مل ي�شق قبله مثله ،كم� �شعد به� �شع�دة به� ً مل يجد له� من قبل مثيالً.
ورجوت األ يكون �شحيح�ً». ف�أج�به الكهل ق�ئالً« :ل ي� اأب� الوف� ِء بل هو �شحيح وااأ�شف�ه! لقد ُج َّن عبد الرحمن بحبه� وتد َلّه حتى ا�شتهر اأمره يف الن��س ،فلم يبق مبكة بيت مل ي�شمع بحديث الق�س و�شالّمة». وا ّأيد الكهل الآخر حديث �ش�حبه ق�ئالً« :بل �شمعت اجلواري والغلم�ن يغ ُّنون ب�أبي�ت يف لقد ُ �ش�أنهم� يف الطرق�ت». فتن ًّهد ال�شيخ ق�ئالً« :ل حول ول قوة اإل العلي العظيم .من ك�ن ي�ش ِّدق قط اأن عبد ب�للـه ّ الرحمن بن اأبي عم�ر يجل�س اإىل مغنية ،وي�شمع مزم�ر ال�شيط�ن؟». وح�نت من اأحد الكهلني التف�تة اإىل الن�فذة املط َلّة على ج�نب الطريق ،ف�إذا به يرى عبد الرحمن مقب ًال يف ال�ش�رع ،فق�ل�« :شبح�ن اللـه. هذا ابن اأبي عم�ر مقبالً ..م� اأح�شبه اإ ّل اآتي ً� لزي�رتك ي� اأب� الوف�ءِ». فته َلّل وجه ال�شيخ وبرقت اأ�ش�ريره من الفرح وق�ل« :احلمد هلل .اإين لفي �شوق اإليه». ق�ل الكهل« :اأرجو ا ْأن تن�شحه ي� اأب� الوف� ِء ورط نف�شه فيه» .فق�ل اأبو ع�ش�ه يعدل عم� َّ الوف�ءِ« :اإين لأ�شتحي اأن اأكلمه يف هذا الأمر». «اأت�شتحي من احلق ي� اأب� الوف�ءِ؟». «بل اأ�شتحي له من نف�شي اأن يقع مثله يف اأمر كهذا». ونظر الكهل الآخر اإىل ب�ب الغرفة ،فلمح عبد الرحمن مقبالً ،ف�لتفت اإىل اأبي الوف� ِء ق�ئالً« :ه� هو ذا اأقبل». وا�شت�أذن عبد الرحمن يف الدخول ،ف�أذن له ورحب به ال�شيخ فدخل م�ش ِلّم ً� فر ُّدوا عليه ال�شالمَّ ، اأبو الوف� ِء ق�ئالً« :اأه ًال بك ي� بن اأبي عم�ر.».. فق�ل عبد الرحمن« :كيف اأنت ي� اأب� الوف�ءِ؟». «بخري ي� ُب َن َّي ..واأين اأنت؟ لقد انقطعت عن زي�رتي منذ زمن!». «معذرة ي� اأب� الوف�ء ..لقد كنت م�شغولً». «اأرجو اأن يكون قد انتهى �شغلك الآن». فتن َّهد عبد الرحمن ق�ئالً« :اأرجو ذلك ي� اأب� الوف�ء». وع�د اأبو الوف� ِء اإىل ال�شوؤال فق�ل« :م� هذا ال�شغل الذي �رشفك عن� ي� بني؟». ففهم عبد الرحمن من نغمة اأبي الوف� ِء اأن ال�شيخ قد علم مب� ك�ن من اأمره ،والتفت اإىل �ش�حبيه الكهلني فك�رشا طرفهم� ك�أمن� اأ�شفق� اأن ينظرا اإىل وجهه ،ف�شكت عبد الرحمن ومل يجب. فق�ل اأبو الوف�ء« :قل يل ي� عبد الرحمن فو اللـه م� كنت تخفي عني �شيئ�ً».
أ�شبح يجد له� وحليت احلي�ة يف عينه ،وا َ مع�ين مل تخطر له من قبل على ب�ل ،وتغريت نظرته اإىل الأ�شي�ء ف�أ�شبح يراه� بعني غري العني التي ك�ن يراه� بِه� ،واإىل الن��س واأعم�لهم، ف�أ�شبح كثري العطف عليهم والعذر لهم. وتفتح قلبه لل�شعر بعد م� ك�ن يزدريه ويعتربه من اللـهو الذي ل يليق ب�ملتقني، ف�أ�شبح يهت ُّز له ويقوله املرة بعد املرة ينف�س به عن الكرب الذي يجده يف �شدره ،اأو ي�شف به ال�شع�دة التي يجده� يف قرب �شالّمة. وا�شتهر مبكة حديث الق�س و�شالّمة فكرثت فيهم� الأق�ويل ،وتز َّيدوا فيه� م� �ش�ء لهم الف�شول واخرتاع الرواي�ت. جراء ذلك اأن ا�شتوح�س عبد الرحمن وك�ن من َّ من جم�ل�س الن��س ،وم�ل اإىل الوحدة والعزلة، فك�ن ي�ش ِلّي يف ركن ق�شي من امل�شجد ،ويخرج منه منفت ًال حتى ل يثري ف�شولهم ،فيعتكف يف بيته اأو يذهب لزي�رة ابن �شهيل. وانقطع برهة عن زي�رة �شديقه ال�شيخ ال�ش�لح اأبي الوف� ِء ك�أنه ك�ن ل يدري كيف يلق�ه وب�أي وجه يق�بله ،حتى ا�شت ّد به ال�شوق اإليه فعزم اأن يلق�ه ويك�شف له ذات اأمره ،لعله يجد عنده راأي ً� يهديه يف حريته ،ومل�ش ً� ينقذه من ورطته. وك�ن اأبو الوف� ِء قد ا�شت�ق اإىل عبد الرحمن وعجب لنقط�عه عن زي�رته ،وقد و�شل اإليه بع�س م� قيل عنه من الأح�ديث ولكنه مل ي�شدق، اأو مل ي�ش�أ اأن ي�شدق �شيئ ً� منه. واأ�شبح ذات يوم ق�عداً على فرا�شه ،متدثراً بلح�فه ،وعنده �ش�حب�ه الكهالن يعودانه فق�ل له اأحدهم�: «اإنك اليوم اأح�شن ح� ًل ي� اأب� الوف�ء» .فق�ل اأبو الوف�ء« :اأجل ي� ولدي هلل احلمد ..هل راأى اأحدكم� عبد الرحمن بن اأبي عم�ر؟». ف�أج�به اأحدهم� ق�ئالً« :اإنن� نراه كل يوم يف امل�شجد كع�دته – اأم� يزورك ي� اأب� الوف�ء؟». فق�ل اأبو الوف�ءِ« :لقد ك�ن يزورين دائم ً� ولكنه انقطع عني منذ ثالثة اأ�ش�بيع ،وم� اأدري م� الذي قطعه عني». فتجراأ اأحد الكهلني وق�ل« :لعل �شالّمة َّ ج�رية ابن �شهيل هي التي قطعته عنك». وذعر اأبو الوف� ِء لهذه الكلمة ك�أمن� مل يتوقع اأن يقوله� اأحد اأ�شح�به اأم�مه ،وق�ل وقد بدا الأمل يف وجهه�« :شالّمة؟ اأتقولن هذا اأنتم� اأي�ش�ً؟ لقد حدثتني اأختي ع�لية اأنه� �شمعت الن��س يتحدثون عنه اأنه ع�شق ج�رية ابن �شهيل ،واأنه يذهب كل يوم ل�شم�عه� ،فلم اأ�شدق هذا القول،
15
فح�ول عبد الرحمن اأن يجيب ال�شيخ ،فثقل عليه ذلك ف�أطرق راأ�شه ومل يجب. ولكن اإطراقه مل يطل اإذ �شمع �شوت ج�رية مت�شي يف ال�ش�رع وتغ ِّني بلحن من الأحل�ن الدارجة الب�شيطة التي يكرث وروده� يف احلج�ز، وتر ّدد بني فرتة واأخرى فت�شيع على الأل�شنة، وت�شري به� الركب�ن .وهي اأ�شبه �شيء ب�حلداء يف ب�ش�طته� و�شهولته� لول خلوه� من تلك الروح البدوية الفحلة ،ولول اأن فيه� من الط�بع احل�رشي الرقيق الن�عم الذي ل يخلو يف كثري من الأحي�ن من روح املج�نة وال�شتهت�ر .كثرياً م� تت�شمن هذه الأغ�ين الدارجة خرب ح�دث من احلوادث الع�مة التي تقع يف احلج�ز اأو غريه من البلدان الإ�شالمية الأخرى ،اأو نقداً لعمل والٍ من الولة اأو ت�شهرياً بف�شيحة اجتم�عية اأو خلقية، فك�أن تلك الأغ�ين ك�نت تقوم يف ذلك الوقت مق�م ال�شحف يف اأي�من� هذه. و�شمع اأبو الوف� ِء واأ�شح�به �شوت اجل�رية وهي منطلقة حل�جته� يف ال�ش�رع ،ك�أمن� تتوىل عن عبد الرحمن م� ثقل عليه من اجلواب وهي تقول: َم ْن �سا َء َت ْه َي َام ْه ِيف ُح ِ ّب �سالّمة! يــامه �ل َ ّد�ئـ ْم ِ�س ُ وليـــل ُه �لقائــ ْم يا بن �أبِي َع َ ّما ْر �ل�س َ ّما ْر! �أُ ْح ُدوث َة ُ ّ �لقـــ ُ ّ�س ِل َيـــ ْهنَكِ َ ْـــ�س! �أَنْــتِ َل ُه َنف ُ
ـعلـن �ال َآن فلــيــُ ْ �لقـ ُ ّ�س ق ْد َ وقـــع َ َْ ل َيـ ْحم ِه �ل َ ّبا وخــ ْ�فه �لر َ ّبـــا َ بـــا َد�تــكْ �أَ ْي َـن عِ َ �أَ ْم َ�س ْت �سباباتُكْ َـ�س! �ســـالّم َة �لق ِ ّ يــا ُم ْن َي َة �ل َ ّنف ِْ�س َ فحمى اأبو الوف�ء غ�شب ً� وق�ل« :ويل لبنة َ الف�علة» .والتفت اإىل اأحد الكهلني ق�ئالً« :اخرج فكم فمه�». ي� عبد اللـه ّ ف��شتجمع عبد الرحمن قوته وق�ل« :بل دعه� ي� عبد اللـه فهي اأبي�ت �ش�ئرة يف اأفواه الع�رشات من اجلواري والغلم�ن يف اأزقة مكة و�شوارعه�». فق�ل اأبو الوف� ِء وهو يرجف من الغ�شب ك�أنه ن�شي م� قد �شمع م� قيل عن �ش�حبة ال�ش�ب الن��شك« :ل بد من �شكواهن اإىل الوايل.. كيف ن�شكت عن هذا البهت�ن؟». فق�ل عبد الرحمن بهدوء« :اإنه لي�س ببهت�ن ي� اأب� الوف�ءِ». فنظر اإليه ال�شيخ ك�أنه ينكر عليه قوله وق�ل: «مع�ذ اللـه اأن يقع منك هذا ي� بن اأبي عم�ر». البك�ء وق�ل ب�شوت فغلب عبد الرحمن ُ تخنقه العربة« :اإنه واللـه قد وقع ي� اأب� الوف�ءِ.. ول حيلة يل فيه».
عدد 144
6ت�رشين 2010 1
ف�شكت اأبو الوف� ِء وهو يغ�لب عربة جتول يف عينيه ثم ق�ل« :اإن تك قد وقعت يف �شيء من أنب اإىل اللـه ف�إن املوؤمن اإذا ت�ب ن�ب اللـه ذلك ف� ْ عليه.»30 فق�ل عبد الرحمن ب�شوت متقطع« :لقد ج�هدت لأ�رشف نف�شي عن روؤية هذه اجل�رية ُ و�شم�عه� ،فلم اأجد اإىل ذلك �شبيالً». ق�ل اأبو الوف�ءِ« :يف و�شعك لو �شئت اأن تنقطع عن دار ابن �شهيل وتفرغ اإىل �شالتك». ف�أج�به عبد الرحمن وقد ع�دت اإليه رب�طة ج�أ�شه ق�ئالً« :لقد فعلت ذلك فوجد ُتني ل اأن�شط اإىل �شالتي يف اليوم الذي ل اأرى �شالّمة فيه». فحوقل اأبو الوف� ِء وق�ل بلهجة فيه� �رشامة وق�شوة« :ا َأو قد بلغ ال�شيط�ن منك هذا املبلغ ي� َ�س حتى ا�شتط�ع اأن يريك الب�طل ح ّق�ً؟». ق ُّ فق�ل عبد الرحمن« :اأبعد من هذا ي� اأب� أ�شك ا َّأن هذا من عمل ال�شيط�ن، الوف�ءِ ،حتى ل َّ فقد وجد ُتني بعد اأن ُبليت بحب هذه اجل�رية اأكرث ن�ش�ط ً� يف عب�دة ر ِّبي ،واأغزر دمعة يف �شالتي، رق قلبي وذاب ،و�شعرت بفي�س واإذا قراأت القراآن َّ علي!». من املع�ين ينث�ل َّ �شكت ال�شيخ هنيهة ك�ملتعب م� �شمع ثم ق�ل« :ل يغرنك هذا ي� عبد الرحمن ،ف�إن لل�شيط�ن أدق من ال�شعرة ،وقد اإىل نف�س املوؤمن مل�ش�رب ا ّ نبيه عليه ال�شالة وال�شالم اأن يعوذ به اأمر اللـه ّ من �رش الو�شوا�س ا َ خل َّن��س ،الذي يو�شو�س يف جل َّن ِة والن��س». �شدور الن��س ،مِ َن ا ِ فق�ل عبد الرحمن وقد ع�دت رقته اإليه« :ا ْإن يكن م� تقول حق ً� في� طول �شق�ئي؟». وك� َّأن ال�شيخ ك�ن م�شغو ًل ب�أفك�ره عن مق�ل عبد الرحمن ،فلم ي�شغ اإليه وا�شت�أنف حديثه ق�ئالً« :اأخ�شى ي� بن اأبي عم�ر اأن اأكون �رشيك ً� يف هذا الذنب ،ف�أن� الذي بعت �شالّمة لبن �شهيل الغن�ء ..ولع ّل اللـه مع علمي ب�أنه �شيع ِلّمه� َ أحب ع�قبني على ذلك ب�أن �ش َلّط فتنته� على ا ِّ الن��س اإ َ يلّ». وابتدره اأحد الكهلني وق�ل« :م� اأ�شد حم��شبتك لنف�شك ي� اأب� الوف�ءِ! اإن اللـه يقول: »ول َت ِز ُر َوا ِز َر ٌة ِو ْز َر اأُ ْخ َرى». ومل يجد ال�شيخ فر�شة ليقول كلمة اأخرى، رن �شوت غالم على حم�ره يف الطريق وهو اإذ َّ يغ ّني: عــلن �ال َآن فـــل ُي ْ َـــ�س ق ْد َوق ََع �لق ُ ّ َْ ل َي ْحم ِه �ل َ ّبا وخ ْ�فــه �لربـــّا َ َ ن �أَ ْي بــا َد�تــــكْ عِ َ َ
يامـ ْه َم ْن �سا َء َت ْه َ حب �سالّمــة! ِيف ِ ّ يـــامه �ل َ ّد�ئــ ْم ِ�س ُ وليـــل ُه �لقائــــ ْم يا بن �أبِي َع َ ّمــا ْر
�أَ ْم َ�س ْت �سباباتُكْ َــــ�س! �سـالّم َة �لق ِ ّ ْــ�س َيا ُم ْن َي َة �ل َ ّنف ِ
�ل�سـّـ َ ّما ْر! �أُ ْح ُدوثـ َة ُ َـــ�س لـــ ِـ َي ْه َنـكِ �لق ُ ّ ْـــــ�س! �أَنْــتِ َل ُه َنف ُ
الفقيه الن��شك ملك�نته يف نفو�س اأهل مكة ،حتى ك�ن ي�رشب به املثل يف ن�شكه وعب�دته. فلي�س بعجيب اأن تكون �شدمته عنيفة اإذ ع��س حتى راأى اأمله يخيب يف �شديقه الق�س الذي ط�مل� اعت َّز به .واعتربه املثل الذي ينبغي اأن يكون عليه �شب�ب الإ�شالم يف هذا العهد الذي اأخذ فيه اللـهو يطغى على اجلد ،واأو�شك حب الرتف وامليل اإىل ال�شتمت�ع مبلذات احلي�ة َّ الف�نية يق�شي على م� بقي يف قلوب الن��س من روح التقوى والورع والزهد. ا�شتجداء عبد الرحمن فتي� �ش�حبه ومل يكن ُ اأبي الوف� ِء مب� ينقع من غلته ،وي�ش ُّد من عزميته، ويوفق بع�س التوفيق بني م� وقع فيه من ال�رشورة واملحنة ،وم� يتطلبه مثله الديني الأعلى – مل يكن ذلك عن جهل منه ب�لدين ،فقد ك�ن عبد الرحمن فقيه�ً ،وك�ن ال�شيوخ والكهول ل يجدون حرج ً� يف الأخذ عنه ،وا�شتفت�ئه فيم� ينوبهم من اأمور دينهم ،ولكنه اأراد اأن ي�شتربئ لنف�شه ولدينه ،وطمع يف �شديقه ال�شيخ اأن يكون عون ً� له على اخلال�س بوجه من الوجوه املعقولة من ذلك امل�أزق الذي وقع فيه ،وظهرياً له ي�ش�عده يف اجتي�ز تلك املحنة النف�شية الكربى التي ل يو َؤم ُن فيه� على مثل �شب�به الع� ِرم اأن يرت َّدى به يف مه�وي الهالك الأكرب. ولكنه مل يجد من اأبي الوف� ِء اإل �شالبة يراه� يف غري حم ِلّه� ،ول مطمع له معه� يف اأن يرباأ من الع ِلّة التي ي�شكو منه� ،فراأى اأن ينقطع عن زي�رته ريثم� ي�شلح بنف�شه من اأمره م� عجز عن اإ�شالحه ب�لتع�ون معه .وك�ن �شديداً على نف�شه اأن يقطع بيده عرى ال�شداقة املتينة التي ربطت بينه وبني ال�شيخ ال�ش�لح برهة من الزم�ن ق�شي�ه� يف تقوى اللـه ،وتع�ون� فيه� الرب والإح�ش�ن ،ولكن ق�شي الأمر ومل يكن على ِ ِّ إبق�ء على حرمة ال�شيخ وتف�دي ً� من بد من ذلك ا ً اإيذائه يف تلك ال�شن الع�لية ب�أكرث م� اأوذي به من املج�دلة واحلج�ج. وك�ن كرور الأي�م قد خ َّفف كثرياً من احلرية التي ك�ن يجده� عبد الرحمن يف اأمر ذلك احل�دث اخلطري الذي طراأ عليه ،واطم� َّأن بع�س الطمئن�ن اإىل موقفه منه اأم�م ربه ،فك�أنه قد وجد من نف�شه الفُتي� التي ط�مل� طمع اأن ين�له� من �ش�حبه ال�شيخ فلم ُي ْق َّدر له ذلك. وهداأت تلك احلرب اجل َّب�رة التي ك�نت ت�شتعر يف راأ�شه بني نف�شه التقية الزاهدة ونف�شه املقبلة على احلب واحلي�ة ،فك�أمن� ت�ش�حلت� على م� فيه اخلري ل�ش�حبهم� ،اأو �شعفت� من طول العراك م�شمى. فتوادعت� اإىل اأجل غري َّ
�لف�سل �لتا�سع
ع�د عبد الرحمن بن اأبي عم�ر لزي�رة �ش�حبه ال�شيخ اأبي الوف� ِء بعد ذلك مرتني، ح�ول فيهم� اأن يقنعه بعذره فيم� اب ُتلِي به من ذلك احلب الذي ل قِ ب َل له بدفعه ،لعله يظفر منه بكلمة ل ِّينة ،تنزل برداً و�شالم ً� على �شدره املت�أجج ب�حلب ،وقلبه الط�فح ب�حلرية ،وت�شع ح َّداً للحرب امل�شتعرة الق�ئمة بني نف�شه الأوىل ونف�شه الث�نية ،فلي�س من احلق عنده اأن ل يكون ملثل هذه احل�لة املوجودة يف �شميم احلي�ة، ويف فطرة اللـه التي فطر الن��س عليهم� جميع�ً، من عالج غري البرت لو ك�ن يف ا�شتط�عته البرت، فكيف ومل يكن له بهذا البرت يدان. ولكن اأب� الوف� ِء ك�ن �شديداً �ش�رم ً� يف موقفه من عبد الرحمن فلم ت�أخذه يف ذلك هوادة اأو لني ،ومت�شك ب�أن م� وقع فيه عبد الرحمن من الفتنة بهذه القينة وال�شم�ع لأحل�نه� اإثم �رشيح ل ت�أويل فيه ،ول يغفره اللـه له حتى يقلع عنه الإقالع ويكف عنه األب َّتة .وك�ن ي�شت ُّد على عبد الرحمن يف ذلك مب� له من ال َّدالة عليه ،ويجتهد بكل و�شيلة اأن يحمله على الرجوع اإىل �شريته الأوىل ،ون�شي م� بينه وبني �شديقه ال�ش�ب من ال�شن ،فم� يراه هو واأمث�له من ال�شيوخ ف�رق ِّ الط�عنني يف ال�شن ،ال�ش�ئرين يف املرحلة الأخرية من احلي�ة ،مكن ً� �شهل النته�ج ،قد يكون يف نظر �ش�ب مثل عبد الرحمن م�شتحي ًال اأو ك�مل�شتحيل. وقد ن�ش�أ اأبو الوف� ِء يف ع�رش عبد الرحمن، واأخذ نف�شه ب�ل�شدة وال�رشامة من �شغره. �شني حي�ته وا�شتغل ب�لتج�رة والك�شب من ِّ الأوىل ،و َ مل َيعِن له من الظروف الق�هرة م� م�ل به عن النهج الذي اختطه لنف�شه يف احلي�ة ،فك�ن �ش�رم ً� على نف�شه وعلى اأهله ،وقد راأين� كيف ا�شت َّد يف مع�ملة ج�ريته �شالّمة التي ر َّب�ه� من �شغره� .وك�ن يح ُّبه� وحت ُّبه� زوجه اأم الوف� ِء ح َّب ً� يقرب من حب الولد .فلم� راأى ميله� للغن� ِء وح�ول �رشفه� عنه فلم يفلح ،ب�عه� غري ن�دم جرا ِء ذلك اأن م�تت زوجه على عليه� فك�ن من َّ اآث�ره� حزن�ً. وراأين� كذلك �ش َّدته على اأرب�ب اللـهو والغن�ءِ، وحملته الق��شية عليهم ،و�شعيه لدى الولة لإخراجهم من مكة حتى ل يف�شدوا فتي�نه�، وراأين� كيف ي�شتعني يف ذلك ب�شديقه ال�ش�ب
16
ولكن ا ْإن هداأت هذه احلرب الق�ئمة يف راأ�شه ،فقد ق�مت حرب اأخرى ل تقلُّ هو ًل عن تلك يف �شدره ،بني �شغفه ب�شالّمة ورغبته الظ�مئة يف احل�شول عليه� ،وبني �شعوره ب�لعقب�ت التي تقوم يف طريقه دونه� .فهو يعلم اأن ابن �شهيل يحب ج�ريته ويوؤثره� ويف�شل على كل م� ميلك يف احلي�ة، ِّ وكل متعة من متع كل نعيم ِّ م�عه� على ِّ َ�ش َ العي�س؛ فال يعقل اأن يبيعه� لأحد ولو اأعطى وه ْب اأن ير�شى به� اأ�شع�ف اأ�شع�ف ثمنه�َ . ببيعه� ف� ُّأي م�ل يف الدني� يقوم بثمن تلك اجلوهرة الغ�لية التي لو مل يكن يف الدني� غريه� مل� نق�شه� ذلك من مت�عه� وزينته� �شيئ�ً .و َب ْع ُد فم�ذا ميلك عبد الرحمن من امل�ل غري تلك ال�شيعة التي ورثه� عن اأبيه والتي ل ت�ش�وي يف نظره نظرة ينظره� يف غن�ءه� وجه �شالّمة ،اأو حلظة ي�شمع فيه� َ العذب. لقد َعل َِم عبد الرحمن اأن �شالّمة ت�شمر له مثل م� ي�شمر له� من احلب ،عرف ذلك من نظرات عينيه� ،وفلت�ت حديثه� ،وخفوفه� للق�ئه كلم� اأقبل ،ون�ش�طه� عند ح�شوره كلم� ح�رش ،ووجومه� عند ان�رشافه من دار موله� .وتلك نعمة كربى ل ي�شتطيع عبد الرحمن القي�م ب�شكره� ،ولكن م� قيمة هذه عنده وغن�ءه� له ،وهو ل ينوي ريبة يريبه� معه� ول يريده� اإل حاللً؟ وهل تدور الريبة قط بخلد عبد الرحمن وهو م� هو يف تقواه وورعه وفقهه ودينه وخوفه من اللـه و�شدة حم��شبته لنف�شه؟ يخر من ال�شم�ء ل ْأه َو ُن عليه من ذلك اأن َّ فتخطفه الطري اأو تهوي به الريح يف مك�ن �شحيق. ومبن يقرتف الريبة؟ اأبتلك التي وهبه� قلبه واأحب احلي�ة من اأجله� وعرف جم�ل الكون مل� عرفه�؟ ومن يخون فيه�؟ اأذلك ال�شديق الكرمي الذي اأحبه واأع َّزه ووط�أ له كنفه واأحله من نف�شه حم ًال كرمي�ً ،وائتمنه على حرمته ووثق بع�شمته ودينه؟ ذلك ال�شديق الكرمي الذي تغ��شى زمن ً� احلب الوليد الذي اأخذ ينمو بينه وبني عن ِّ مر الأي�م ،حتى ج�ريته الأثرية عنده على َّ اإذا ترعرع وبلغ اأ�شده مل يبخل اأن يوؤثر به� على نف�شه ،فيعر�شه� عليه هِ بة خ�ل�شة من عنده على �ش َّدة تعلقه به� ونف��شته� عنده ،فم� ح�ل بينه وبني تخ ِلّيه عنه� لعبد
17
عدد 144
6ت�رشين 2010 1
إب�ء عبد الرحمن. الرحمن اإ ّل ا ُ �س الكرمي من قِ َبلِ ابن على اأن هذا ال َع ْر َ �شهيل الذي اأبى عبد الرحمن قبوله كراهية اأن يرزاأ �شديقه يف م�له – ول�شيم� بعدم� انتهى �رشاً من وقوع ابن �شهيل يف ال�شيق وكرثة اإليه ّ الديون عليه من جراء جوده واإ�رشافه – قد قوى من اأمل عبد الرحمن يف احل�شول على �شالّمة ف�عتزم يف نف�شه اأمراً. وروؤى عبد الرحمن بعد ذلك ي�شتغل ُ ب�ل�شم�رشة يف ال�شوق ويجتهد يف الك�شب ،فلم يعجب الن��س لأمره بعدم� ك�ن منه م� ك�ن؛ ولكن اأحداً مل يعلم م�ذا طوى عزمه عليه .واإذا َّ اأظله الليل وق�شى �شالة الع�ش� ِء الأخرية خرج اإىل العرا ِء خ�رج مكة وارتقى �شعب ً� من �شع�به� فق�شى �شطراً من ليله هن�ك ينظر يف ال�شم�ء ويت�أمل يف النجوم. وب َكّر عبد الرحمن ذات �شب�ح اإىل ابن �شهيل فتلق�ه ب�لب�رش والرتحيب كع�دته ،وجل�س يح�دثه يف امل�رشبة فق�ل له فيم� ق�ل« :لقد اأعجبتني اأبي�تك ي� بن اأبي عم�ر ،اإنك ل�ش�عر». فق�ل عبد الرحمن وقد اأدركه �شيء من اخلجل« :اأي اأبي�ت تعني ي� بن �شهيل؟» .ف�أج�به ابن �شهيل ق�ئالً« :الأبي�ت التي قلته� يف �شالّمة». ف�زداد خجل عبد الرحمن حتى تورد خده ومتتم ق�ئالً« :ولكنني.».. فق�طعه �ش�حبه ق�ئ ًال وهو يبت�شم« :ل إخف�ءه� عني ،لقد اأن�شد ْته� �شالّمة يل حت�ول ا َ
و�شعت له� حلن�ً». بت به� ،وقد ف� ِ أعج ُ ْ واأقبلت �شالّمة عند ذلك ودخلت ب��شمة وق�لت« :اأنعم �شب�ح ً� ي� عبد الرحمن». ف�أج�به� عبد الرحمن ق�ئالً« :عمي �شب�ح ً� ي� �شالّمة ..اإين �ش�خط عليك». ق�لت متدللة« :عالم ي� بن اأبي عم�ر؟». ق�ل له�« :اأمل تعديني ب�أن ل تن�شدي الأبي�ت ملولك؟». فك�رشت طرفه� له وق�لت« :دع عنك هذا.. �رش مولي ب�أبي�تك وو�شعت له� حلن�ً». لقد ُ َّ فق�ل ابن �شهيل« :اإن عبد الرحمن يخ�شى اأن اأغ�ر منه عليك ي� �شالّمة.».. ف�شحكت �شالّمة وق�لت« :ليطمئن ب�لك ..اإن رشه اأن م ْن ي�ش ِّبب بج�ريته بل ي� ُّ مولي ل يغ�ر ِ َّ ي�شمع �شعراً رائع ً� ك�شعرك». فق�ل ابن �شهيل« :اأجل واللـه اإنه ل�شعر رائع – ه�تي اأ�شمعين� ي� �شالّمة». فق�مت اإىل عود مع َلّق يف احل�ئط ف�أخذته، والتفتت اإىل عبد الرحمن ق�ئلة« :اإنه حلن �شيعجبك» .وم�لت بجنبه� متكئة على الو�ش�ئد الع�لية واأخذت جت ِّرب عوده� وت�ش ُّد اأوت�ره، ك�أمن� ت�شبطه على حلنه� اجلديد ،وطفق العود يرتمن يف حجره� وهي تغني:
ف�رشب بيده على ظهره ق�ئالً« :ثق ي� بن اأبي عم�ر اأين لك ملن الع�ذرين!!». وع�د اإىل مقعده وا�شتمرت �شالّمة يف غن�ئه�: َ�س �سالّم ًة أحب �لق ُ ّ قَال�� � َ ّ �لطّاهِ ُر ّا�سكُ َ ّقي �ل َن ِ َو ْه َ� �ل َت ُ ّ كَ اأَ َ ّنا َ ْ ل َي ْدر َق ْبلي � ْل َه�ى َاج ُر �إال �لغ�ي � ْلفَاتِكُ � ْلف ِ ُّ فظهر الت�أثر ال�شديد على عبد الرحمن ،وم� بلغت �شالّمة اإىل قوله�: ين َب َ�صٌ مِ ْث ُل ُك ْم َيا َق ْ� ِم �إِ ِ ّ ْ َو َفاطِ ِر ْي ر ُ ّب ُك ُم � ْل َفاطِ ُر ل كَ ِب ٌد َت ْه ُف ْ� كَ اأَكْ َبادِكُ ْم ِْ ل ُف�ؤَ� ٌد مِ ْث ُل ُك ْم َ�ساعِ ُر! و َِْ حتى طفق عبد الرحمن يبكي ،فق�ل ابن �شهيل« :اأعيدي ي� �شالّمة :ي� قوم.».. ف�أع�دت البيتني فق�ل عبد الرحمن وهو ح�ش ُبك .لك�أين «ح�ش ُبك ي� �شالّمة ْ مي�شح دموعهْ : واللـه مل اأقل هذه الأبي�ت ،لقد ك�شوته� بتلحينك روح ً� مل تكن يل». فق�لت �شالّمة« :اإمن� اأعجبني �شعرك ف�ألهمني هذا التلحني». وبينم� هم يف ذلك اإذ دخل غالم ابن �شهيل، فدن� من موله واأخربه اأن ب�لب�ب ر�شول الق��شي يريد اأن يراه؛ فبدت على وجهه م�شحة من الكدر وق�ل للغالم« :ائذن له ب�لدخول». ف�نطلق الغالم وخرج ابن �شهيل يف اأثره من امل�رشبة ،حتى اإذا بلغ ب�ب ال�شور وجد الر�شول أجب مولن� الق��شي فحي�ه وق�ل له الر�شول« :ا ْ ي� بن �شهيل» .فق�ل ابن �شهيل�« :ش�أحلق بك». ق�ل الر�شول« :ل ي� بن �شهيل ،اإنه ك َلّفني اأن اآتي بك الآن لأن دائنيك قد ح�رشوا هن�ك». فق�ل ابن �شهيل« :ل حول ول قوة اإل ب�للـه.. خرياً ..انتظرين حلظة �ش�أرتدي عب�ءتي». وانطلق ابن �شهيل ن�حية الدار ف�رتدى عب�ءته ،ثم عرج على امل�رشبة فوجد عبد َ الرحمن و�شالّمة ج�ل�شني كم� ك�ن� ،فق�ل لهم�« :لقد دع�ين الق��شي يف اأمر ه�م، ف�بقي� مك�نكم� حتى اأعود اإليكم�». ْ فهم عبد الرحمن ب�لقي�م ق�ئالً: ّ «اإئذ َْن يل ب�لن�رشاف ي� بن �شهيل». ف�أجل�شه ابن �شهيل ق�ئالً« :كال ي� عبد الرحمن ،بحي�تي عليك اإ ّل م� بقيت مك�نك حتى اأعود». والتفت اإىل �شالّمة فق�ل له�« :ا�شتمري يف غن�ئك ول تدعي ابن اأبي عم�ر يخرج حتى اأعود اإليكم�».
َا�ص؟ َ�س َالّ ُم َهلْ ِ َ ل مِ ْن ُك ْم ن ِ ُ �ج ُر؟ َو َه ْل ِل َق ْلب ِْي َع ْن ُك ُم َز ِ ّا�س ب ُِح ِ ّبي َل ُك ْم ق ْد َ�سمِ َع �ل َن ُ 31 َفمِ ْن ُه ُم �لال ِئ ُم َو�ل َْعاذ ُر ! ومل ميلك ابن �شهيل نف�شه من الطرب اأن ق�م اإىل عبد الرحمن
18
فق�لت �شالّمة�« :شمع ً� وط�عة ي� مولي». وخرج ابن �شهيل ،فلقى الر�شول على الب�ب ف�ش�ر معه. وخال املجل�س بعبد الرحمن و�شالّمة ،و�ش�د فيه ال�شمت برهة من الزمن �شعر يف خالله� عبد الرحمن ب�شعور غريب ،فيه رهبة وفيه �شيق وفيه �شيء من الفرح ،ومت�دى به هذا ال�شعور الغريب حتى ُخ ِّيل اإليه اأنه اأ�شبه م� يكون مبن فخ ن�شب له ،فندم على اأ�شقِط يف يده ،اأو وقع يف ٍ ّ �رش على ابن �شهيل يف طلب الن�رشاف، اأن مل ُي ِ َّ وخطر له اأن يرتك �شالّمة وين�رشف لول اأن راأى ذلك قد يثري يف قلب �شديقه ظ َّنة ل داعي اإليه�، وذكر ثقته بنف�شه ومعرفته لواجبه ف�طم� َّأن اإليهم� ،وعجب كيف �ش�وره ذلك ال�شطراب. اأم� �شالّمة فك�نت اأهداأ من �ش�حبه� اإذ ذاك ،ولكنه� ك�نت ل تخلو مع ذلك من وجوم وارتب�ك ،وك�ن اللـه وحده يعلم م�ذا ك�ن يجول يف خ�طره�. على اأنه� مل ت�شرب على ال�شمت طويالً ،ولعله� اأدركت بب�شرية الأنثى يف مثل هذه املواقف بع�س م� دار يف َخلد جلي�شه� ،فت�ش�غلت ب�لعود وجعلت ت�رشب عليه حلن ً� �ش�مت ً� لعله لو حفظ مو�شيقي واأ�شدقه عن هذه لك�ن اأجمل تعبري ٍّ احل�لة املعقدة من ح�لت النف�س الإن�ش�نية! وو�شعت العود من يده� ونظرت اإىل عبد يف �شعراً اآخر ي� عبد الرحمن ق�ئلة« :اأمل ت�شنع َّ الرحمن؟». فرفع عبد الرحمن ب�رشه اإليه� يف �شيء من ال�شطراب وق�ل« :ل ي� �شالّمة» .ف�بت�شمت ق�ئلة« :ل اأ�شدقك ي� عبد الرحمن .ل بد اأنك قلت �شيئ ً� جديداً». فق�ل عبد الرحمن – وقد �شعر بتب ُّدد النقب��س الذي ك�ن ي�شود املجل�س« :وم�ذا ت�شنعني ب�شعري؟ ل�شت ب�ش�عر .عندك ابن اأبي ربيعة والعرجي ،وعندك الأحو�س وابن قي�س الرقي�ت واأولئك الفحول ،ف�لتم�شي �شعرهم». فق�لت �شالّمة بلهجة يخ�لطه� اجلد« :ل يعجبني �شعر هوؤلء .اإين اأحب �شعرك ي� عبد الرحمن ،واأجده يبلغ مني ويلهمني التلحني غنيت اأبي�تك الب�رع» .ثم �شحكت وق�لت« :لقد ُ اأول اأم�س للغري�س ومعبد فلم ي�ش ِّدق� اأن التلحني وظن كالهم� اأنه من عمل �ش�حبه». من عمليَّ ، ق�ل عبد الرحمن« :م�ذا جتدين ي� �شالّمة يف �شعري؟». ف�شمتت �شالّمة حلظة ثم ق�لت« :ل اأدري ي� عبد الرحمن ،ولكنني اأجده يحركني وت�شتجيب له نف�شي ..فب�للـه عليك ي� عبد الرحمن اأمل تقل
�شيئ ً� جديداً؟». فق�ل عبد الرحمن« :بلى ي� �شالّمة ،ولكني لن اأطلعك عليه». «ومل ي� عبد الرحمن؟». «لأنك نق�شت ميث�قي». «نق�شت ميث�قك؟ مع� َذ اللـه ي� بن اأبي عم�ر.. اإن ميث�قك مكتوب يف قلبي ولن اأنق�شه اأبداً». «اأمل تن�شدي �شعري ملولك؟». «اأم� زلت تع ُّد هذا ذنب ً� ي� عبد الرحمن؟ ِملَن اأن�شده اإن مل اأن�شده ملولي ابن �شهيل؟». «واأن�شدتيه اأي�ش ً� للغري�س وملعبد». «اإمن� فعلت ذلك لأعرف راأيهم� يف اللحن الذي عملته». «اأتعدينني األ تن�شديه ملولك ول لأحد غريه؟». ف�أج�بته �شالّمة ق�ئلة يف �شيغة متري�س: ت�ش�ء ،فه�ت ي� عبد الرحمن». «لك عندي م� ُ ف�أخرج عبد الرحمن من جيبه قرط��ش ً� فدفعه اإىل �شالّمة ،فنظرت فيه ثم ردته اإليه وق�لت« :اقراأه ي� عبد الرحمن» .فقراأه. فت�أثرت �شالّمة ت�أثراً �شديداً ،ولكنه� ح�ولت َبت القرط��س من يد عبد الرحمن، إخف�ءه فَجذ ْ ا َ وو�شعته اأم�مه� وطفقت ت�رشب على عوده� – وهي ن�ظرة يف القرط��س – حلن ً� �ش�مت ً� �شجي ً� غ�م�ش ً� غري م�شتقر ،وم� زالت بعوده� تع�جله حتى ا�شتقر اللحن بع�س ال�شتقرار ،ف�ملتعت عين�ه� ،ونظرت اإىل عبد الرحمن ب� �شمة
واأخذت تغني:
اإليه اأنه يرى طيف ً� يف حلم ،وبقي �ش�مت ً� يدير طرفه يف اأنح�ء امل�رشبة فق�لت �شالّمة« :لي�س عندن� من اأحد غريي وغريك!». ف�نتف�س عبد الرحمن فج�أة ،ونظر اإليه� نظرة ه�ئلة وق�ل« :اأن�شيت اللـه ي� �شالّمة؟». ورفعت ي َده� عن يده، ف��شطربت �شالّمة ْ وك� َّأن ن�راً لذعته� ،فرتاجعت اإىل الورا ِء وعين�ه� الزائغت�ن ل تف�رق�نه ك�أمن� ترى اأم�مه� َه ْو ًل تتقيه. وا�شتمر عبد الرحمن يقول« :ل ي� حبيبتي ل، َّ اإين اأحبك ي� �شالّمة ،واإين �شمعت اللـه عز وجل عدو اإل يقول :الأخالء يومئذ بع�شهم لبع�س ٌّ املتقني» .واأن� اأكره اأن ت�شري اخل َّل ُة التي بينن� عداوة يوم القي�مة!». وغ�مت عين�ه ب�لدموع ،وع�دت �شالّمة اإىل مقعده� وم�لت بوجهه� على املتك�أِ وطفقت تبكي؛ ثم رفعت راأ�شه� وق�لت والدموع تت�ش�قط على خديه�« :معذرة ي� عبد الرحمن .ع�شى اأن ل علي». تكون �ش�خط ً� ّ البك�ء: فق�ل عبد الرحمن ب�شوت يخنقه ُ «كال واللـه ي� حبيبتي ،اأن� را�س عنك ..ولكن ا�شربي حتى يجعل اللـه لن� مرج�ً». ف�شمتت �شالّمة هنيهة ثم ق�لت« :وكيف املخرج ي� عبد الرحمن؟». فق�ل له�« :ل اأدري واللـه ي� �شالّمة». فع�دت اإىل �شمته� ثم ق�لت« :ولكنني اأدري ي� عبد الرحمن ..األ ت�شتوهبني من مولي ابن �شهيل ،ف�إنه واللـه ليح ُّبك ،واإنه لكرمي وم� اأح�شبه ي�شن 33بِي عليك». ُّ ق�ل عبد الرحمن�« :شدقت ي� �شالّمة ،لقد علي منذ اأي�م اأن فعل ابن �شهيل ذلك ..قد عر�س َّ َي َه َبك يل». ف�بتدرته �شالّمة ق�ئلة« :اأح َّق ً� فعل ذلك ي� بن اأبي عم�ر؟». فق�ل له�: :ا ْإي واللـه لقد فعل ..ولكنني مل اأقبل». «وملَ�ذا مل تقبل؟». فق�لت بلهجة الع�تبِ : أرزء هذا الرجل الكرمي يف «لأين مل اأ�ش�أ اأن ا َ م�له ،فقد بلغني اأنه يف �شيق وا ْأن قد ركب ْته ديون كبرية». «وكيف علمت ذلك ي� عبد الرحمن؟». «�شمعت الن��س يتح َّدثون بذلك ي� �شالّمة». ُ حق.. فتنهدت �شالّمة وق�لت« :اأجل هذا ٌّ ني مولي! لقد ج َنى جوده واإ�رشافه عليه». م�شك ٌ فق�ل عبد الرحمن« :اأ�شهد اأنه جلواد كرمي.. حتى يف اأي�مه هذه احلرجة مل ي�ش�أ اإل اأن يفتح وزواره». ب�به ل�شيوفه َّ
الم َ�س َل ْبتِ َيا �سالّ ُم َق ْلبِي؟ َع َ �ل�سالال و��ست ََحلى َ ّ ف ََع َ اف �ل ُرّ�س َد ْ ف�هت َّز عبد الرحمن فرح ً� وق�ل« :م�ذا، ا َأوجدت اللحن؟». وا�شتمرت نعم، ف�أ�ش�رت �شالّمة براأ�شه� ا ْأن ْ ّ تغني: َو َق ْبلَكِ َما َع َرف ُْت ِ�س�ى َ�سالتِي َو َ ْ ل َينَلِ � ْل َه�ى مِ ِنّ�سي َمنَاال َاج َت َ� ِ�ين ن ِْ�سفُ َع ْقلِي َ�سمِ عتُكِ ف ْ َف َل َ ّما ُ ْ تاال لتِ ِل � ْر َ َ ت َل � ْر ِ َ ي�شتقر �شيئ ً� ف�شيئ�ً ،واأخذ واأخذ اللحن ُّ �شو ُته� يعلو وهي تقول: َع ِذِيري �للـه من ب�صي َو َ�س ْمعِ ي! َف َق ْد كَ انَا َعلى َق ْلب ِْي َو َباال بع�س ُل ّبي دعيني �أ�ستقيلك ُ ولُب �لر ِء �أف�سل ما ��ستقاال وارتفع �شوته� اإىل الأوج عندم� غ ّنت: �أَ َها ُبكِ � ْأن َ�أ ُق ْ�لَ َب َذل ُْت َن ْف�سِ ي َولَ� � ِ ّأين �أَطَ ْع ُت � ْل َقل َْب قَاال ثم خف�شت �شوته� حتى ا�شمح َّل يف القرار وهي تقول: َح َيا ًء مِ نْكِ َح َتّى ذَ�ب ِج ْ�سمِ ي لي كِ ْت َم ِاين َوطَ اال!32 َّ و�سق َع َّ وو�شعت العود من يده� يف حجره�، ونظرت اإىل وجه عبد الرحمن نظرة ت�ئِهة فيه� كل مع�ين ال�شت�شالم والغزل ،وقد تورد خ َّداه� ورب� ج�شمه� ك�أمن� ُنف َِخ َّ فيه ف ِزي َد ب�شطة .فنظر اإليه� عبد الرحمن فخف�شت طرفه�، واأخذت تقلب العود يف يده� وهي تقول: «ي� بن عم�ر اإين اأحبك». فق�ل عبد الرحمن وهو ي�شطرب« :واأن� واللـه ي� �شالّمة اأحبك؟». فق�لت وهي تنظر اإليه م�ئلة الراأ�س: «واأحب اأن اأ�شع فمي على فمك». فق�ل له� وب�رشه اإىل الأر�س« :واأن� واللـه اأحب ذلك». ودنت منه فق�مت �شالّمة ْ واأخذت بيده ق�ئلة« :اإذن فم� مينعك؟ فواللـه اإن املو�شع خل�لٍ ». وخ ِّيل فذهل عبد الرحمنُ ،
19
ق�لت �شالّمة« :ولإخوانه ال�شعراء الع�بثني، واملغنني امل�جنني ينفق عليهم بغري ح�ش�ب». ملي ً� ثم ق�ل« :اأجل كنت ف�شكت عبد الرحمن ّ األوم هوؤلء القوم واأحمل عليهم بق�شوة ،حتى انتقم اللـه لهم مني فجعلني مثلهم اأو قريب ً� منهم». «كال ل�شت مثلهم ي� بن اأبي عم�ر .اأنت ل تعبث عبثهم ول ت�أخذ اأخذهم». «اأ�شتغفر اللـه ي� �شالّمة ..بل لعلهم اأح�شن عط�ء بن اأبي رب�ح، ح� ًل م ِّني ،اإنهم مل يج�ل�شوا َ ومل يتفقهوا يف الدين مثلي ،لعلهم لو فعلوا مل� وقعوا فيم� وقعت فيه» .ثم اأخ َذ يقول: َاه ِة � ْأه َل َها �ل�سف َ ق ْد كُ ن ُْت �أَ ْعذِلُ ِيف َ ّ َاع َج ْب ِلَا َتاأتِي ِب ِه �الأ ّيا ُم ف ْ فَا ْل َي ْ� َم �أَ ْع ُذ ُر ُه ْم َو َ�أ ْعل ُم � َ ّإنَا ُ�س ُب ُل �لغَ َ�� َي ِة و� ْل ُه َدى �أَق َْ�سا ُم و�شكتت �شالّمة برهة ك�أنه� جتيل فكره� يف اأمور �شتى ،ثم ق�لت« :قد علمت ي� عبد الرحمن م� وقع فيه مولي من ال�شيق ،واأنه ل حم�لة ب�ئعي ،واأخ�شى اأن ل اأراك بعد ذلك ول تراين». فق�ل عبد الرحمن« :لقد حدثتني نف�شي اأن أبيع م� ًل يل ب�لوادي ورث ُته عن اأبي ،ف�أ�شرتيك ا َ بثمنه ف�أعتقك ف�أتزوجك ..اأتر�شني بهذا ي� �شالّمة؟». ف�أج�بت ق�ئلة« :كيف ل اأر�شى بهذا ي� عبد الرحمن واأن� را�شية مب� دونه؟ بح�شبي اأن اأكون ج�ريتك ،اأقوم بخدمتك ،واأعمل على راحتك.. ولكن اإذا بعت م�لك فمن اأين تعي�س؟». ف�بت�شم عبد الرحمن وق�ل�« :ش�أخرج اإىل ال�شوق واأ�شتغل �شم�ش�راً ،وقد جربت ذلك ي� �شالّمة فنجحت فيه». ف�شحكت �شالّمة وق�لت« :وامل�شجد ي� عبد الرحمن؟». ق�ل له�« :للم�شجد وقت ،ولل�شوق وقت ،ولك اأنت ي� �شالّمة وقت ..ول�شت ب�أف�شل من اأبي بكر ال�شديق وعمر بن اخلط�ب ،وقد ك�ن اأولهم� ت�جراً وث�نيهم� دللً ..واإنهم� لأف�شل من اأبي ال�ش َّفة الذين لزموا امل�شجد هريرة و�ش�ئر اأهل ُّ احلرام ومل ي�شتغلوا ب�لك�شب». ارت�حت نف�س �شالّمة لهذا القول ،وك�أمن� اأرادت اأن ت�شتزيد منه فق�لت« :عجب ً� ي� عبد الرحمن ،من اأين ج�ءك هذا الراأي؟ اأم� �شمعت بهذا من قبل؟» فق�ل له�« :بلى قد �شمعت به من قبل، ولكنني مل اأفقهه فلم اأعمل به ،واإمن� فقهته بعد وفكرت فيك». اإذ عرف ُتك ي� �شالّمة ُ فق�لت �شالّمة يف دلل وقد ملكه� ال َّز ْه ُو:
عدد 144
6ت�رشين 2010 1
تلمني ب�أين �رشفتك عن إذن فال َّ «ا ْ حق اأن ْ اخلري!». فنظر اإليه� عبد الرحمن يف وداعة و�شف�ء، وق�ل له� يف توؤدة وهدوءِ« :اإين واللـه لأح�ر.. واإين واللـه ل اأدري اأ�شغلتني ي� �شالّمة عن يف وفيك اإرادة هو هديتِني اإليه! وهلل ّ اخلري اأم ْ ب�لغه� ..اإين م� كنت يف الزواج حتى عرفتك ففكرت فيه ،وقد تزوج ر�شول اللـه �شلّى اللـه عليه و�شلّم وق�ل« :النك�ح ُ�ش َّنتِي ،فمن رغب عن ُ�ش َّنتِي فلي�س مني» .واإين كنت اأتلو القراآن واأقراأ فيه اآي�ت ال�شم�وات والأر�س والنجوم فم� اأهت ُّز له� كم� اأهت ُّز لآي�ت الوعد والوعيد ،حتى عرفتك ال�ش َح ِر واأ�ش ِلّي يف ي� �شالّمة ُ ف�رشت اأخرج يف َ العرا ِء لأمت َّت َع بجم�ل النجوم واأنظر يف ملكوت اللـه .واإين كنت اأرى ْامل َُّج�ن ف�أبغ�شهم واأق�شو عليهم واأقول لنف�شي :كيف يرتك اللـه هوؤلء؟ حتى عرفتك ف�رشت اأرثي لهم واأعلم اأن هلل حكم ًة فيهم كم� ق�ل يف كت�به« :ولو �ش�ء اللـه لهدى الن��س جميع�ً». وك�نت �شالّمة �ش�كنة ت�شتمع اإليه يف خ�شوع ك�أنه� ت�شغي لق�رئ يرتل اآي�ت اللـه .و�شكت عبد الرحمن قلي ًال ثم تن َّهد وق�ل« :ولكن الن��س َ�س و�شغفته ج�رية ابن �شهيل يقولون ف�شق الق ُّ ح َّب�ً». فق�لت �شالّمة« :دعهم يقولون م� ي�ش�وؤون، فواللـه ي� بن اأبي عم�ر اإنك لط�هر �شديد املخ�فة من اللـه». فق�ل عبد الرحمن ب�شوت حزين« :اأج ْل ي� رش �شق�ئي». �شالّمة ،وهذا � ُّ و�شمت عبد الرحمن برهة طويلة ثم اأخذ يحرك �شفتيه ك�أنه يع ُّد حديث�ً ،فق�لت له �شالّمة: «م�ذا جتمجم 34ي� عبد الرحمن؟». ق�ل« :اإنه� اأبي�ت هجمت على خ�طري». ق�لت« :اأ�شمعنيه�». فو�شع يده على جبينه ك�أنه ي�شتعني بذلك على ا�شرتج�ع �شيء ن�شيه ،واأن�ش�أ يقول: َارع �ل َتّق�ى ِب َق ْلبِي َه َ��كِ َيق ُ َ َفاأ ْ�س َه ُد ِف ْي ِه ح ْر َب ُه َما ِ�س َجاال حم ٍ ّب �س �أَ ْ�سقَى مِ ْن ُ ِ َوه ْل ِيف �الأَ ْر ِ َي ُذ ْو ُب َه ً�ى َوال َي ْر ُج� َن َ��ال؟ �أال َيا َل ْي َت َر ِ ّبي �إ ْذ َه َد ِ�ين �ل�سالال! � َإل َت ْق َ�� ُه َج َ ّن َبنِي َ ّ الحي و�إ ْال َفل ُ ِْي ْحنِي مِ ْن َ�س ِ إين َق ْد َل ِق ْي ُت ِب ِه �ل ّنكَاال َفا ِ ّ ْ ي َتاأتِي َ�س َتاأ ِت ْينِي ْ�لَن َ ّي ُة ِح ْ َ وت ُْ�س ِل ُمنِي � َإل َر ِ ّبي ت ََعال َو َما ِيف � ْل َقل ِْب َيا َ�سالّ ُم َر ْج َ�ى ل َحالال ِ�س َ��كِ َو� ْأن َت ُك ْ� ِين ِ ْ
اأمراً اإذاً؟ يحن اإىل تلك ورجع عبد الرحمن اإىل م��شيهَُّ ، الأي�م ال�ش�فية اإذ ك�ن فيه� خ�يل الب�ل را�شي النف�س م�شرتيح الفكر ،ين�م مطمئ َّن ً� ويقوم من نومه مطمئن�ً ،ويق�شي نه�ره يف امل�شجد يذكر اللـه اأو يتلو القراآن اأو ي�شهد جم�ل�س العلم، معر�ش ً� عن الدني�� ،ش�دق ً� عن ب�طله� وغروره�، �ش�لي ً� همومه� ،مبتعداً عن مدارج الفنت وم�ش�لك يحل له من الطيب�ت الغواية ،ت�رك ً� بع�س م� ُّ العلم�ء يحل له ،يج�ل�س خ�شية اأن يقع فيم� ل ُّ َ وال�ش�حلني ،ل يعرف اأرب�ب النعمة والرثاءِ ،ول ُحم ِّبي اللـهو والغن�ءِ ،وم� ك�ن يعرف من العود اإل ا�شمه ،ومن الغن�ء اإل اأنه َل ْه ٌو ُي�شغلُ عن ذك ِر اللـه ،ومن ال�شعر اإ ّل اأنه َل ْغ ٌو من القول ل يليق ُْ ب�مل َّتقني. م� بدا؟ وم� ب�له اليوم يقعد على فم� عدا ِ َّ الزرابي الوثرية ،ويط�أ على الطن�ف�س الثمينة، وين�دم ابن �شهيل على الغن� ِء وال�شعر ،ويجل�س عنده ا َإىل قينة جميلة ف�تنة يرى حم��شنه�، وي�شتمع حلديثه� ،وي�شتمتع بغن�ئه� وتطريبه�؟ حتى �شلبت ل َّبه و�شغفته ح َّب�ً ،ف�أبدلته ب�أن�شه هم�ً ،وبفراغه �شغالً ،وب�ل�شالمة خطراً وفتنة .ي� َّ ليته ك�ن ا�شتمع لن�شح �ش�حبه ال�شيخ اأبي الوف� ِء أعرف منه مبك�من اخلطر وعمل براأيه ،فقد ك�ن ا َ الغي ومداخل ال�شيط�ن وم�رجه ،اإذ ومراتع ِّ ن�شحه اأن ل يع ِّر�س تقواه للتج�رب م َّتك ًال على �شموده� لهجم�ت الهوى ،وثب�ته� يف مع�ر�س الفتون لعلمه اأن النف�س اأم�رة ب�ل�شوءِ ،واأن مالك التقوى البتع�د عن مواطن ال�رش والفرار من اأم�كن الريبة ،واأن من ح�م حول احلمى يو�شك اأن يقع فيه. ولكنه خ�لف هذا ال�شيخ ال�ش�لح الذي اجتهد بكل م� اأوتي من قوة اأن ي�رشفه عن هذا ال�شبيل املحفوف ب�خلطر ،ل يبتغي بذلك ي�شغ اإليه ،واآثر ج�نب الهوى اإل اخلري له ،فلم ِ على ج�نب التقوى متع ِّل ًال ب�أنه يجد من دينه وفقهه م� يع�شمه عن ارتك�ب الز َلّة ،وين�أى به عن الريبة .ومن راأيه وح�شن ت�رشفه م� ي�شلح من اأمره ويخرج به من ورطته ،ويجعل من ذلك احلب الع�ر�س �شبب ً� اإىل الزواج الث�بت ،ك�أن ِّ 35 الزواج ل يح�شن اإل ب�لقين�ت ،اأو ك� َّأن القين�ت اأ�شلح لذلك من احلرائر ،اأو ك�أن الزوجة ل تكمل اإل اإذا اأح�شنت ُمن�دم َة الرج�ل وحذقت فنون الغن� ِء واأج�دت ال�رشب على املع�زف .اأجل لقد ظلم هو اأب� الوف� ِء اإذ جزاه على ن�شحه القطيعة والهجران وهو يعلم حبه له ،واأن�شه به ،وافتق�ره اإليه يف ح�له تلك من العجز والكرب واملر�س،
فطربت �شالّمة وه َّبت ق�ئلة« :قيده�� ..ش�آتيك ب�لدواة والقلم» .ون�ولته العود الذي يف يده� ق�ئلة« :اأم�شك هذا» .وخرجت من امل�رشبة منطلقة يف خفة الغزال ،ف�شيعه� عبد الرحمن بب�رشه وهو يقول« :تب�رك اللـه اأح�شن اخل�لقني!». واأخذ ينظر اإىل العود ويق ِلّبه يف يده ويقول: لرمب� تهدى اإىل «ويل لك ي� مزم�ر ال�شيط�نَّ ، عب�دة الرحمن!.
�لف�سل �لعا�ص
مل يهداأ عبد الرحمن بق َّية يومه ذاك ،فقد خرج من دار ابن �شهيل ،فق�شد امل�شجد ف�ش َلّى الظهر ،ورجع اإىل بيته لين�م القيلولة كع�دته ي�شتعني به� على القي�م لي ًال لل�شالة وللتع ُّبد، ف��شطجع على فرا�شه وتق َلّب من جنب اإىل جنب، و�شرت وجهه بطرف ردائه يحجب عن عينيه ال�شوء لع َلّهم� تغفوان ،ولكنهم� ظ َلّت� حيتني َ قلقتني م� تك�دان تفلت�ن من �شيطرة الإغم��س حتى يرتفع جفن�هم� ف�إذا هم� مفتوحت�ن ،فك� َّأن جفنيهم� قد �ش َّدا بخيوط وثيقة اإىل قلبه اخل�فق امل�شطرب ،وفكره اله�ئم يف اأودية الأحالم. فكر عبد الرحمن فيم� ح َد َث له �شبيح َة يومه ويف موقفه من �ش َالّمة ،فحمد اللـه على اأن جن� من فتنة ال�شيط�ن وكيده ،ولول ع�شمة اللـه له ولطفه به لوقع يف الإثم ،فم� ك�ن بينه وبني اأن ني قلبه قلي ًال فتطغى عليه �شهوته، َّ يزل اإل اأن يل َ ف�إذا هو من اله�لكني. اح َم َّر ومت َّثلت له �ش َالّمة وهي تقول وقد َ وج ُهه� وفرتت عين�ه�« :ي� عبد الرحمن اإين اأحبك» .فيقول له� هو« :واأن� واللـه ي� �ش َالّمة اأحبك» .فتقول له« :واأ�شتهي اأن اأ�شع فمي على فمك» .فيقول له� هو« :واأن� اأي�ش ً� اأ�شتهي ذلك». فث�ب عبد الرحمن اإىل نف�شه وجعل يكرر هذه الكلمة ،واأن� اأي�ش ً� اأ�شتهي ذلك ،ويقول« :ويل يل! اأاإ�شتهيت اأن اأ�شع فمي على فمه�؟ اأاإ�شتهيت احلرام؟ اأاإ�شتهيت الف�شوق والإثم ،اأهذا اأنت ي� عبد الرحمن؟ ا َأو قد بلغ ال�شيط�ن منك هذا املبلغ حق لك فيه� اإنك ت�شتهي حتى تقول جل�رية ل َّ اأن ت�شع فمك على فمه�؟ م�ذا تركت لل�شيط�ن بعد هذا؟ وم�ذا تخ�شى من الإثم والف�شوق بعده؟ �شبح�ن اللـه ،كيف وقع هذا منه ومل ينفطر فرط يف جنب اللـه ،ومل تبكِ قلبه ندم ً� على م� َّ عين�ه دم�ً؟ لقد ك�ن ح�شبه اأن مير م� دون هذا ج�شم ُه من خوف اللـه ،ويخجل ليق�شعر بخ�طره ُ َّ من الوقوف اأم�مه لل�شالة ،فكيف به وقد نطق به بل�ش�نه ،وذهب عقب ذلك اإىل امل�شجد احلرام املحرم ،ك� ْأن مل ي� ِأت ليمثل اأم�م ربه عند بيته َّ
20
مهم� انتحل لنف�شه يف ذلك من املع�ذير ،وتك َلّف تربير موقفه منه ب�أنه اإمن� فعل لرييح ال�شيخ من جدال ل غن�ء فيه ،ويكفيه م�شقة الإحل�ح عليه الكف عنه. ِّ ب�لكف عم� ل ي�شتطيع َّ وانتقل فكر عبد الرحمن اإىل �ش َالّمة ،ومتثله� مر ًة اأخرى وهي تدنو منه وتراوده عن نف�شه يف اأول خلوة جمعتهم� يف غيبة موله� الكرمي الذي اأح�شن اإليه� ،واأنزله� من نف�شه م ْنزلة ْامل َُح ِّب ُكرم ،فث�ر ث�ئره عليه� ،واأخذ ي�ش�ئل نف�شه: امل َّ هل ت�شلح ج�رية كهذه تخون موله� الذي اأح�شن اإليه� هذا الإح�ش�ن كله ،اأن تكون زوجة له نعم اإنه مل ي�أمتنه� على �رشفه يف م�شهده ومغيبه؟ ْ يزل به� ومل يجبه� اإىل م� دع ْته اإليه ،ف ََ�شل ِم بذلك َّ ولكن م� فَ�شلُه� عِ ُ ر�شه� ،و َ جن ْت من الإِثم الكبريْ ، يف هذا؟ اإنه� قد دع ْته لو اأج� َبه� لز َل ّْت ،فك�أنه� بهذا قد ز َل ّْت .اأم يغفر له� هذا لأنه� ارتكب ْته معه ومل ت�أته مع غريه ،وهو من دينه وتقواه يف منعة يغري من الإثم وع�شمة من املنكر .كال اإن هذا ل ِّ ُ كره� معروف�ً. من �شلوكه� �شيئ�ً ،ول يجعل من ُم ْن َ دعت هذا الأجنبي فح�شبه اأنه اأجنبي عنه� واأنه� ْ يحل له� اأن تدعوه اإليه ،وح�شبه اأنه� اإىل م� ل ُّ ج�رية لرجل واأنه� خ�نت ذلك الرجل .وي ٌل له: اأيف �شبيل هذه اجل�رية ب�ع راحته وطم�أنينته، وعر�س نف�شه لل ُّتهم والأق�ويل ،وقطع اأ�شب�ب َّ ال�شلة بينه وبني اأ�شح�به ال�شلح�ء؟ وقف عبد الرحمن يت�أمل هذا التحول ُّ العظيم يف حي�ته ،والفرق ال�ش��شع بني م��شيه وح��رشه ،ف�نتهى به هذا الت� ُّأمل اإىل ذلك اليوم الذي فيه ليعود اأب� الوف� ِء ف�شمع يف طريقه ذلك لبه ،فك�ن ال�شوت اجلميل من دار ابن �شهيل فملك ّ ج�ء بعده من البالءِ .ثم ع�د ذلك ُ الغن�ء ا ْأ�ش َل م� َ عبد الرحمن ف�ش�أل نف�شه« :م� ذنبه فيم� حدث؟ الم على اأن ذهب لزي�رة �شديق اأيف ِّ احلق اأن ُي َ له ف�شمع يف طريقه �شوت ً� فتنه ف��شتوقفه على 36 غري ق�شد منه ،ف�هتبله� �ش�حب الدار غرة نفذ منه� اإليه وملك به� مذهبه عليه وا�شطره بذلك اإىل دخول منزله فك�ن م� ك�ن .اأك�ن يف حم عليه؟ و�شعه اأن يهرب من هذا الق�ش� ِء الذي َّ لو اأن ذلك ك�ن يف اإمك�نه لقد ك�ن .اأمل يع�شم نف�شه ب�لتقوى مل� راودته �ش َالّمة عن نف�شه؟ اأمل يع�س فيه� الهوى حني اأ�رشف به على الهالك ِ الأكرب؟ اأمل َي ُد ْ�س على ال�شهوة التي ك�نت تت�أجج يف �شدره م�فة ربه؟ بلى اإنه فعل ذلك لأن ذلك ك�ن فيم� ميلك .ا َّأم� افتت�نه بجم�ل �شوته� وغرامه به� فك�ن� فيم� ل ميلك ،فح ٍر األ يوؤاخذه اللـه به واأن يتج�وز له عنه. أ�رش اأريد ثم م� هذه املحن ُة التي بلي به�؟ ا ٌّ
أحق اأن م��شيه خري به اأم اأراد به ربه ر�شداً؟ ا ٌّ من ح��رشه؟ األي�س من اجل�ئز اأن يكون ح��رشه خرياً من م��شيه؟ لِيوا ِز ْن بينهم� يف �شيء لريى اأيه� الراجح .ك�ن يف م��شيه خ�يل الب�ل را�شي خلو الب�ل؟ األي�س معنى النف�س م�شرتيح الفكر .فم� ّ من مع�ين اخلوا ِء والتعطّ ل؟ وم� ِر�شى النف�س؟ األي�س مظهراً من مظ�هر اإخالدهم� اإىل م� هي فيه من النق�س ووقوفه� عن احلركة الدائبة اإىل ق�شور ُه وعجزه الكم�ل؟ وم� راحة الفكر؟ األي�س َ ال�ش ْب ِح يف عج�ئب اخللق عن اأدا ِء م� ُخلق له من َّ واآي�ت اخل�لق؟ ك�ن يف م��شيه يخ�شى اللـه ويتقيه ،ويبكي ذهبت عنه خ�شي ُة يف �شالته وقي�مه ،فهل ْ اللـه وتقواه؟ األي�شت خ�شيته اليوم وقد ح َّفت به رب َجت له الدني� اأعظم من خ�شيته ال�شهوات وت َّ اأم�س حني مل يكن يف م َت َق َلّب عي�شه م� يخ�شى اللـه فيه؟ وهل رق�أ 37دمعه اإذا اأج َّن ُه الليل وق�م يف �شكونه ين�جي اللـه؟ األي�س بك�وؤه اليوم اأغزر أرق وحنينه �رش قلبه ا ّ من بك�ئه اأم�س؟ اأمل َي ِ ْ اأ�شدق و�شعوره اأعمق؟ وك�ن زاهداً يف الدني� ُم ْع ِر َ�ش ً� عن ب�طله� ولكن اأين ُزه ٌد من زهد؟ اأين زهد وغروره�، ْ اخلبري ب�لدني� املتمر�س ب�آف�ته� ،من زهد اجل�هل به� البعيد عنه�؟ هو اليوم يغ�شى ال�شوق وي�شتغل ب�لتج�رة وي َّتقي اللـه يف ذلك كله ،ف�أ َّنى يكون له ف�شلُ الأم�نة وال�شدق يف املع�ملة لو مل يقع فيم� وقع فيه؟ اأم� جم�ل�شته لأ�شح�ب اللـهو والغن� ِء فلم وابن �شهيل رج ٌل يت�شل منهم اإل ب�بن �شهيلُ . �رشي طروب ،ولكنه على طربه ُمتع ِّف ٌف ع�مر ٌ قوام ب�ل�شالة ل يك�د يتخ َلّف القلب ب�لإمي�نَّ ، هل يوم ً� عن �شهود اجلم�عة يف امل�شجد .واإذا م� َّ وتفرغ للعب�دة �شهر رم�ش�ن انقطع عن اللـهو َّ رش الأواخر منه وال�شدقة ،حتى اإذا ك�ن الع� ُ ل ِزم امل�شجد واعتكف فيه بي��س نه�ره ،واأحي� عطوف على لي�ليه� �شالة وقراآن� .وهو بع ُد ُ فقرا ِء مكة وذوي احل�جة من اأهله� ينفق عليهم رش اأكرث م� ينفق عليهم عالنية. يف ال� ِّ أغرم به عبد الرحمن م� هو ُ والغن�ء الذي ا َ وم� اأثره فيه؟ اأمل يف ْد منه ترقيق ً� لقلبه وتلطيف ً� حل�شه؟ اأمل يقتب�س منه تلك اللوعة التي يقوم روح قد ُع ِتق َْت به� لل�شالة ،ف�إذا به ي�شعر ك�أنه ٌ من ِر ِّق اجل�شد ،وارتفعت عن الأر�س فه�مت يف ال�شم� ِء وات�شلت ب�ملالأ الأعلى؟ اأمل ي�أخذ عنه تلك الروعة التي يقراأ به� القراآن ف�إذا ِ ُ عوامل من املع�ين تتك�شف لقلبه ،واإذا اأبواب من املعرفة واألوان من ال�شعور واأطي�ف من الفكر ،واإذا
الظل فعرف اأن وقته� الع�رش؛ فنه�س ونظر يف ِّ قد ح�ن اأو ك�د ،فق�م فتو�ش�أ واأخذ زينته وخرج من بيته يق�شد امل�شجد ،وقد اعتزم يف نف�شه اأمراً، و�شمم على اأن ي�شعى يف بيع �شيعته ب�لوادي َّ فيق ِّدم ثمنه� لبن �شهيل ليبيع �ش َالّمة ،وي�شت�أنيه فيم� يبقى عليه من الثمن ليق�شيه له اأق�ش�ط ً� يجمعه� م� يعود عليه من عمله يف التج�رة، وابن �شهيل قد عر�س عليه �ش َالّمة ليهبه� له فل َْن يعز عليه اأن يجيبه اإىل هذا الطلب ،ويقبل منه هذه الت�شوية على ع َالّته�. انقطع عبد الرحمن ب�شعة اأي�م عن زي�رة ابن �شهيل ك�ن يف خالله� جمتهد اً يف
تقوم عليه كت�ب ُيتلى ،واإذا الكون النظ�م الذي ُ ُ ٌ يل خ�لد؟ حلن اأز ٌّ ال�شم�وات والأر�شون ٌ وا�شتمر عبد الرحمن على هذا النحو يوازن َّ بني ح��رشه وم��شيه فيج ُد الرجح�ن حل��رشه، اأو مييل قلبه اإىل ترجيحه في�شدقه عقله ،ف�أح�س و�شعر ك� َّأن عند ذلك بطم�أنينة تنزل يف قلبه، َ ي�شيع منه ف��شرت َّده ،وع�د �شيئ ً� نفي�ش ً� اأو�شك اأن َ له خي�ل �ش َالّمة ب��شم ًة متطلقة كم� راآه� لأول فحن اإليه� ،وا�شتيقظت اأم�نيه ،وطفقت مرة، َّ اأحالمه ترتاق�س يف عينه! تذك َر ذنبه� غدا َة اليوم ف��شم�أ َّز منه� ولكنه َّ ولكن خ�طراً يف قلبه واأ�ش�ح بوجهه عن خي�له�َّ . حيث ل ي�شعر هو، انتدب للدف�ع عنه� دونه من ُ فعر�س عليه �شورته� وهي تقول له« :ي� عبد الرحمن اإين اأحبك» فيجيبه� هو مبثل قوله�، فتقول له« :واأ�شتهي اأن اأ�شع فمي على فمك» فيقول له� مثل م� ق�لت ،فتقول له« :م� مينعك فواللـه اإن املك�ن خل�ل؟» .فيذكره� هو ب�شهود فتكف وتبكي ندم ً� وا�شتغف�راً .فم�ذا يف اللـه، ُّ هذا؟ اأيف احلق اأن يكون ذنبه� فيه اأعظم من ذنبه؟ األي�س هو الذي دفعه� اإىل هذا املوقف اإذ األهب �شعوره� ب�شعره ،واأث�ر ك�مِ َن وجده� برقيق غزله ،وفتنه� مب� اأودع يف اأبي�ته من روحه؟ وقد ك�نت اأحبته ،ف�عرتفت له به، وق�لت له وق�ل له� ،فلم� ذكره� وندمت على م� ك�ن رت اللـه َّ تذك ْ ْ أفيحق له اأن يط�لبه� منه� .ا ُّ ب�أكرث من هذا الذي �شنعته؟ اإنه� كغريه� لي�شت مع�شومة من أذنبت ف��شتغفرت. الذنب وقد ا ْ ومن يدري لع َّل اللـه غفر له� ذنبه� فيم� دعته اإليه من الإثم ،ومل يغفر له ذنبه فيم� َف َت َنه� وحمله� على م� �شنعت. اأفيغفر لنف�شه اإذاً م� مل يغفر اللـه من ذنبه
ال�شعي لبيع �شيعته ،حتى ذهب اإليه ذات ع�شية، وك�نت ال�شم�س قد م�لت للغروب ،واكت�شت الدني� ُح ّل ًة ذهبية من الأ�شيل ك�أنه� تقول لعبد الرحمن كل �شيء تقع عينه عليه: وهو يرى لون الذهب يف ِّ رشتك!». «م� ا َّ أقل م� حتملُ من هذا يف � َّ خف ابن �شهيل وانطلق َف ِرح ً� مل� ا�ش ُتوؤذِن َّ لعبد الرحمن عليه بعد غيبة اأي�م راآه� اأطول من حقيقته� ،مل� حدث له فيه� من اأمور كبرية جعلته يودع عهداً وي�شتقبل عهداً ،فم� اإن راأى عبد الرحمن حتى ع�نقه عن�ق ً� ح�راً عجب له ألف من �شديقه مثل هذا عبد الرحمن اإذ مل ي� ْ من قبل ،ومل تكن امل َّدة التي غ�به� من الطول بحيث تقت�شي مثل هذه التحية الب�لغة عند اللق�ءِ ،ولكنه مل ي�شعه اإل اأن ج�مل �شديقه فق�بل عن�قه بعن�ق
ويوؤاخذه� مب� غفر اللـه من ذنبه�؟ ا َّإن هذا اإذاً لَظُ ٌلم عظيم. واأف�ق عبد الرحمن من اأحالمه هذه حني ذكر �شالة
21
عدد 144
6ت�رشين 2010 1
مثله .ولو اأن ابن �شهيل نظر يف عيني عبد الرحمن اإذ ذاك لراأى فيه� دلئل ال�شتغراب والت�ش�وؤل، ولكنه ك�ن من ال�شوق واللـهفة للق� ِء عبد الرحمن بحيث مل تكن له معهم� فر�شة ملالحظة م� ترتكه حتيته من الأثر يف �شديقه ،فقد اندفع يف ذلك اندف�ع ال�شقيق لقي �شقيقه بعد غيبة ح َل ّْت يف اأثن�ئه� ك�رثة ب�أحد يع ُّز عليهم� ،ف�عتنق� متوا�شيني! و�ش�أله ابن �شهيل عن �شبب انقط�عه عن زي�رته؟ ف�أج�به عبد الرحمن ق�ئالً« :كنت م�شغو ًل ي� بن �شهيل» .ف�ش�أله ابن �شهيل �شوؤال الع�تب: «اأي �شغل ي� عبد الرحمن؟» .فق�ل له« :بعت م�يل الذي ورثته عن اأبي ب�لوادي» .فعجب ابن �شهيل ومل يفهم م�ذا حمل �شديقه على بيع �شيعته التي يعي�س منه� ،فق�ل وقد اأخذته الده�شة: «بعته؟» فق�ل عبد الرحمن واخلجل يعقد ل�ش�نه: رشة «نعم ..وهذا ثمنه اأتيتك به» .واأ�ش�ر اإىل � َّ و�شعه� اأم�مه« :فهل لك اأن تبيعني �شالّمة ي� بن �شهيل؟». �شك يف �شدره، ف�شعر ابن �شهيل ك�أن خنجراً َّ فتح�مل على نف�شه من الأمل ،فقد �شعر يف تلك اللحظة بعظم املحنة التي نزلت به من احلجر على اأمواله ،حني راأى عبد الرحمن وقد ب�ع م�له واأت�ه ي�شتعني يف �شالّمة فلم يقد ِْر على اأن يحقق له اأمله؛ ولكنه جت َلّد وا�شطنع الهدوء وق�ل: «اأبيعك �شالّمة؟ كيف ي� عبد الرحمن؟ ..اإنه� رم�نة قد بيعت اأم�س لرجل من املدينة من اآل َّ و�شيت�شلمه� ع�شية غد» ف�نتف�س عبد الرحمن وق�ل غ��شب ً� – وك�أنه مل ي�شدق م� �شمع« :ا َأو قد فعلْته� ي� بن �شهيل؟». ف�أج�به ابن �شهيل بلهجة ت�شيل حن�ن ً� ورقة: «ل�شت اأن� الذي بع ُته� ي� بن اأبي عم�ر ،واإمن� ب�عه� عني الق��شي ..لعلك مل تعلم اأنهم حجروا وقوموا ك ّل م� اأملك ،حتى هذا علي حجر تفلي�سَّ ، َّ الق�رش الذي اأ�شكنه ،ل ُيق�شم على َدائن ِّي» .وتو َّق َف لت اإليهم اأن يرتكوا يل تو�ش ُ هنيهة ثم ق�ل« :ولقد َّ �ش َالّمة ،فلم يفعلوا». فوجم عبد الرحمن حلظة ذهب فيه� فكره ك َّل مذهب .ثم ق�ل« :األي�س يف و�شعك اأن حتمل الق��شي على اأن يبيعه� يل؟». فق�ل ابن �شهيل« :ل اأح�شب الرجل املدين ي� عبد الرحمن يتن�زل عن �شفقته ،فهو من ع�ش�ق الغن�ءِ ،وقد �شمع ب�أنه� جتيده ،ف�أغلى ثمنه� حتى دفع فيه� ت�شعم�ئة دين�ر ،فكم عندك من امل�ل؟». ف�أج�به عبد الرحمن ب�شوت خ�ف�س: «م�ئت�ن وخم�شون دين�راً».
مني». «كال ي� بن �شهيل اإين يف غِ َن ًى عنه�، ف�إين اأك�شب من عملي يف ال�شوق م� يزيد على ح�جتي». «منذ كم عملت يف ال�شوق ي� عبد الرحمن؟». «منذ عرفتكم ي� اآل �شهيل». ف�بت�شم ابن �شهيل ابت�ش�مة يخلطه� الأ�شى، عر�شت وق�ل اإنك لأكرم مني ي� عبد الرحمن. ُ عليك بع�س م�يل ف�متنعت ،اأفال اأمتنع اأن� وقد
ق�ل ابن �شهيل« :ي� ليتك ي� عبد الرحمن قبلْته� هب ًة مني حني عر�شته� عليك!». فتن َّه َد عبد الرحمن ق�ئالً« :ليت ذلك ك�ن. واللـه م� منعني من قبول ذلك اإل اأنك كرمي ،وقد بلغني اأنك قد وقعت يف �شيق ،فلم اأ�ش�أ ا ْأن اأرزاأك يف م�لك ،واللـه اإين لأح ُّبه� ُح َّب ً� ف�لق ً� كبدي ،وم� منعني اأن اأ�شكو ب ِّثي اإليك اإل حي�ئي منك». ف�غرورقت عين� ابن �شهيل ب�لدمع وق�ل: أيت كلفك «اإن لهذه اجل�رية نف��شة عندي ،وقد را ُ به� وكلفه� بك ف�أحببت اأن اأوؤثرك به� على نف�شي؛ ول اأكتمك ي� عبد الرحمن اأين قد كنت اأ�شعر اأنه �شيحجرون علي يوم ً� م� ،ولكني م� كنت َّ اأظن اأن احلجر �شيم�شي علي بهذه ال�رشعة ،ولو قد َّ أعتقت رقبته� ل ذلك علمت ُ فال يجدون اإليه� �شبيالً». فبكى عبد الرحمن وق�ل ب�شوت تخن ُق ُه العربة« :م� اأدري واللـه ي� بن �شهيل اأاأبكي مل�ش�بي اأم اأبكي مل�ش�بك». فق�ل ابن �شهيل وقد م�شح دمعة كبرية تدحرجت على خده ،وتظ�هر ب� َ جللَد وال�شدة: «خف�س عليك ي� عبد الرحمن، ف�شيعجل اللـه لك من الع�رش ي�رشاً. اإين اأكرب �شِ َّن ً� منك وقد بلوت من هذا فوجدت اأن لكل �شيء الأمر م� بلوت، ُ نه�ية ..حتى هذا احلب الذي يفلق الكبد، ويحرق حج�ب القلب ،نه�يته ال�شلوان». فق�ل عبد الرحمن وقد ظهرت عليه دلئل حييت، العزم« :لقد علمت اأين لن اأ�شلوه� م� ُ ولكني �ش�أعت�شم ب�ل�شرب حتى يق�شي اللـه اأمراً ك�ن مفعولً .فهل لك اأن جتيبني اإىل رج� ٍء ل يثقل عليك اإن �ش�ء اللـه؟». ق�ل ابن �شهيل« :اطلب م� �شئت فو اللـه ل اأمنعك �شيئ ً� اأقدر عليه!» .فتن�ول عبد الرحمن ال�رشة فقدمه� ق�ئالً« :اقبل هذه مني ت�شتعني به� على بع�س �شوؤونك ،حتى يجعل اللـه لك من �شيقك مرج�ً». ق�ل ابن �شهيل بلهجة ح�زمة :اأم� هذا ي� عبد الرحمن فال ،اإنك اأحوج اإليه�
22
كل م�لك؟ علي َّ َ عر�شت َّ فتنهد عبد الرحمن ق�ئالً« :اإن الدني� كله� ل ت�ش�وي �ش َالّمة يف عيني». ق�ل ابن �شهيل« :فم� الذي منعك من قبوله� اإذ عر�شت عليك؟». فق�ل عبد الرحمن وك�أمن� اقتطعه� من قلبه: علي». ّ «ال�شقو ُة التي غل َبت َّ �شكت ابن �شهيل حلظة ك�أنه ُيف ِك ُّر فيم� عر�شه عليه عبد الرحمن ثم ق�ل« :ل ي� بن اأبي عم�ر ،اأم�شك عليك م�لك ،فلو قب�شته منك ل�شتحقه الدائنون ..وبع ُد ف�إين اأ�شكرك واأعرف لك ف�شلك». فت� ّأوه عبد الرحمن وق�ل: «وارحمت�ه لك ي� بن �ش َهيل!». ك�ن لهذه الكلمة وق ُعه� عند ابن �شهيل ،فع�دت له رقته وغلب عليه البك�ء وهو يقول« :اللـه يل ولك ي� عبد الرحمن! اإين واللـه م� اآ�شف على �شيء ف�تنِي من هذه الدني� اإل اأن يف مكة بيوت ً� لأرامل ويت�مى ل ع�ئل لهم كنت اأنفقُ عليهم ،فم� اأدري واللـه م�ذا يكون ح�لهم بعدي!». فق�ل عبد الرحمن: أكرمك ي� بن «م� ا َ �شهيل! م� ينبغي لكرمي مثلك اأن ل يكون عنده م�لٌ ينفق منه!». أحب ابن وا َّ �شهيل اأن
ي�رشف الكالم عن نف�شه ،وتذكر �ش َالّمة وق َّدر يف نف�شه اأن عبد الرحمن ك�ن يريد ال�شوؤال عنه� فمنعه حتب اأن ترى �ش َالّمة قبل ُ احلي�ء« :األ ُّ رحيله� ي� عبد الرحمن؟». واحلي�ء يعقد فخفق قلب عبد الرحمن وق�ل ُ ل�ش�نه« :بلى ي� بن �شهيل». «اإذاً ف�أتن� غداً يف ال�شب�ح لنتغ َّدى مع ً� ونق�شي يوم ً� �شعيداً». وك�أن عبد الرحمن ا�شتبعد هذا املوعد ،فهو يريد ا ْأن يراه� يف تلك ال�ش�عة ،ولي�س يف و�شعه وخ ِّيل اإليه اأن غداً ِج ُّد بعيد، اأن ينتظر اإىل الغدُ ، وخ�شي اأن جت َّد اأمور فتحول دون روؤيته� فق�ل: «�شكراً �شك ي� بن �شهيل� ،ش�آتي غداً اإن �ش�ء اللـه، ولكن اأين �شالّمة الآن؟». ف�أج�به ابن �شهيل« :اأح�شبه� ذهبت لتو ِّد َع تنتظره� حتى �شواحبه� ومع�رفه� ..اأحتِ ب اأن َ تعود؟». ف��شتحي� عبد الرحمن اأن يقول له نعم – وك�ن بوده ذلك – وتذكر �شالة املغرب فق�ل: «ل ي� بن �شهيل ،بل ت�أذن يل ب�لن�رشاف». ق�ل ابن �شهيل« :على اأن ت�أتين� غداً». ق�ل عبد الرحمن« :اإن �ش�ء اللـه».
�لف�سل �لادي ع�ص
خرج عبد الرحمن من عند ابن �شهيل فق�شد تواً اإىل امل�شجد ف�ش َلّى املغرب ،ثم ط�ف ب�لكعبة َّ اللب م� �ش�ء اللـه اأن يطوف ،وهو يف ذلك �ش�رد ِّ جتيء به اخلواطر وتذهب ،ك�أمن� ذاهل احلِ�س ُ 38 قد األق َِي منه� يف بحر ُ َ جلّي يتالطم ُعب�به، وت�شطخب اأمواجه ،فهو منه� يف كبدٍ ،ترفع ُه موجة وتهبط به اأخرى ،ويرى الن��س يقومون ويقعدون ويطوفون وي�شلون وك�أنه يرى اأخيل ًة ترتاق�س اأم�مه ،واأ�شب�ح ً� ت�شطرب من حوله، ويت�شفح وجوههم فينكره� ول يك�د يعرف فيتلم ُ�س ج�شمه فيه� وجه�ً .ويعود اإىل نف�شه َّ أحي ك�أنه ُّ ي�شك يف موقفه ذاك ويريد اأن يتبني ا ٌّ عث مع ميت قد ُب َ هو ي�شطرب بني الأحي�ء ،اأم ٌ الأموات يف يوم احل�ش�ب!. كل �شيء، ن�شي عبد الرحمن يف ذلك املوقف َّ و�شك يف كل �شيء ،و�شعر ب�خلوف وال�شتيح��س َّ من كل �شيء ،فك� َّأمن� خرج من هذا الع�مل اإىل ع�مل جديد ل �شلة له به ،ول عهد له به من قبل. �شب�ح اأهذا هو امل�شجد احلرام الذي ك�ن يغ�ش�ه َ م�ش�ء من ُذ َعق َل نف�شه؟ اأهذه هي الكعبة التي َ ي�ش ِلّي اإليه� ويطوف به� ويدعو اأم�مه� مراراً كل يوم؟ اأهو عبد الرحمن بن اأبي عم�ر الذي ل َّقبه ن�ئم تتالعب َ�س؟ اأيف يقظة هو اأم ٌ اأهلُ مكة ب�لق ِّ
والتفت ذهنه اإىل موعد الغد فخفق قلبه لذكر �شالّمة ،ونه�س عن فرا�شه ك�أنه يتهي�أ للق�ئه�، وطفق يخطر بني اأرك�ن الغرفة جيئة وذه�ب ً� ك�أنه ي�شتبطئ الغد ويريد اأن يقطع الزمن احل�ئل بع ُد بينه وبني روؤية �شالّمة .اإنه لن يراه� غداً كم� ك�ن يراه� قبلُ ،فهذه اآخر روؤيةٍ رمب� ل يراه� بعده� اأبداً .ي� ويح قلبه! اأيكون الغد اآخر يت�شور هذا عهد ب�ش َالّمة؟ ي�للـه؟ م� اأعظم اأن َّ واأ�ش َّده عليه! كيف ي�شلو وجهه� اجلميل؟ وكيف ي�شرب على احلرم�ن من �شم�ع �شوته� العذب؟ اأيق�شي بقية حي�ته ل ينعم فيه� بنظر ول يحظى منه� ب�شم�ع؟ ويعود في�شلي نف�شه ب�أنه �شرياه� غداً بع ُد، ويجل�س اإليه� وي�شمع �شوته� ،وهذه نعمة ل تق َّدر بثمن ول يقوم به� �شكر .اأمل يكن ج�ئزاً اأن يغيب يومه ذاك ويوم ً� اآخر عن ابن �شهيل فال ي�أتي اإليه اإل بعد رحيل �ش َالّمة فال يودعه� ول يراه� اأبداً؟ ليوقن اأنه بخري بع ُد ،وا َّأن يت�شور هذا ح�ش ُب ُه اأن َ َّ ومن يدري م�ذا م�شيبته مل ت�شل اإىل نه�يته�ْ . ي�أتي به الغد ،واإن يف يوم واح ٍد ملتن َّف�ش�ً ،فرمب� عن فيه من ال�شوؤون م� ير ُّد الأمل اإىل الي�ئ�س َت ُّ ثم م�ذا يحمله على الي�أ�س والفرج اإىل املكروب؛ َّ من �ش َالّمة ،حتى بع َد رحيله� اإىل املدينة؟ األي�س اللـه ق�دراً على اأن يحقق اأمله فيه� يف يوم من الأي�م ب�شبب من الأ�شب�ب؟ لعل اللـه يفتح عليه اأبواب رزقه ،ويي�رش له الغنى من ك�شبه ،فيبت�عه� من موله� اجلديد مب� ير�شيه من امل�ل. الب�شي�س من الأمل يف نف�س وم� ملع هذه ُ وعني به ،وم� زال به عبد الرحمن حتى احتفل له ُ ال ب�ل�شي�ء جوانب َيغذُوه ويف�شح له حتى من� فم أ ملحةٍ يف التنفي�س نف�شه .واأح�س عند ذلك برغبةٍ َّ ذات �شدره ،وارت�ح لقول ال�شعر فق�شى حين ً� عن ِ من الليل يع�جله ويت�ش َّي ُده ،وير�شى منه م� ير�شى ويحذف منه م� يحذف ،وهو يف خالل ذلك ي�شطرب بني الي�أ�س والرج�ءِ ،والنقب��س والرتي�ح ،وينتقل من احل��رش اإىل امل��شي، ومن امل��شي اإىل احل��رش ،يرت َّدد بينهم� وبني امل�شتقبل ،ويفكر حين ً� يف نف�شه وحين ً� يف ولكن خي�ل �ش َالّمة وحين ً� يف �شديقه ابن �شهيلَّ ، �ش َالّمة ك�ن ي�شيطر على فكره يف ذلك كله.. مل ينم عبد الرحمن ليلته هذه بل و�شل ُ�شهده بتهجده ،وبكى يف قي�مه لل�شالة م� �ش�ء اللـه اأن ُّ يبكي؛ ودع� اللـه م� ط�ب له من الدع�ءِ ،ومكث كذلك حتى �ش�ح املوؤذن ب�لفجر. ومل يك ْد ي�شحى النه�ر حتى ك�ن عبد الرحمن ج�ل�ش ً� اإىل اخلوان يف دار ابن �شهيل، وقد ب�شطت عليه امل�ئدة فيه� اأ�شن�ف الطع�م
براأ�شه الأحالم؟ وينظر اإىل ال�رشة التي يحمله� معه فال يدري م� هي ومل�ذا يحمله� ويحتفظ به�؛ وي�شمع اأذان الع�ش�ء فال يعي منه اإل م� يعي ِه املجه ُد من حديث القوم قد غلبه النع��س بينهم! واأقيمت ال�شالة فق�م مع الق�ئمني و�ش َلّى مع امل�ش ِلّني ،ثم خرج من امل�شجد مع اخل�رجني، وحملته قدم�ه من حيث ل ي�شعر اإىل حيث انتهى اإىل ب�ب داره ،ففتح الب�ب ثم اأغلقه عليه ،و�شعد اإىل غرفته ورمى بنف�شه على فرا�شه فوقع جنبه أح�س على ال� َّ رشة التي ك�ن يحمله� يف يده ،ف� َّ ب�أمل �شديد اأيقظه من غمرته ،فجعل يبحث عن رشة فرفعه� ونظر اإليه� م�شدر الأمل فوجد ال� َّ مل َّي ً� فتذكر! تذكر ال�شيعة وكيف ب�عه� ِ َ ومل ب�عه�، وتذكر �ش َالّمة وكيف ع َّز ْت عليه ويئ�س منه� وك�ن يراه� اإىل اأم�س القريب اأم ًال �شهل التحقيق داين املبتغى لوثوقه بكرم ابن �شهيل وعطفه عليه وحبه مل�ش�عدته .ولكن ويح ابن �شهيل! لقد جر عليه ب�لتفلي�س وبيعت اأمالكه واأمواله ومل ُح َ يبقُوا حتى على ق�رشه الذي يقيم فيه وج�ريته التي يوؤثره� ،ف�أ�شبح بعد ذلك الرثا ِء الوا�شع والنعمة ال�ش�بغة ،واملوائد املن�شوبة لل�شيوف واملج�ل�س الع�مرة ب�لأن�س والغن� ِء والندم� ِء من املغنني وال�شعراءِ ،فقرياً ل ميلك اأن ي�شعد �شديق ً� عزيزاً عليه .اأو ينفق على اأهل بيتِ اأخنى الزم�ن 39 عليهم! تذك َر عبد الرحمن �شديقه ابن �شهيل وخفوفه َّ الع�شية للق�ئه فرح ً� ك�أنه ي�شتقبله من �شفر طويل ،فعرف الآن مل�ذا ع�نقه ذلك العن�ق احل�ر وح َّي�ه تلك التحية الب�لغة التي مل يفهم هو م� دع�ه اإليه� ،فلم يزد على اأن ا�شطنع حتية مثله� وتك َلّفه� جم�ملة له .ولو قد علم مب� ك�ن يعتلج يف �شدره عند لق�ئه ذاك ،واأنه ك�ن يعلن بذلك �شكواه وي�شتجديه الإ�شع�د واملوا�ش�ة ،مل� وقف التعجب والرت ُّدد؛ ولندفع يع�نقه منه موقف ُّ بكل قوة وحرارة. وا�شتع�د �شورة �شديقه وهو يذرف تلك قط، الدموع الغ�لية التي مل يجد به� قبل اليوم ُّ فح َّز الأ�شى يف �شدره ،اإذ ذكر اأن هذا ال�شديق مل يبكِ مل�ش�ب نف�شه واإمن� بكى يف املرة الأوىل مل�ش�ب عبد الرحمن حني �شك� اإليه كلفه ب�ش َالّمة ،وبكى يف املرة الث�نية لأولئك الأرامل واليت�مى الذين ك�ن يعولهم وينفق عليهم فال يدري م�ذا يكون ح�لهم بعده .فعجب من �شرب �شديقه واإيث�ره ،ومن جزعه هو واأثرته ،ف�شعر ب�حتق�ر �شديد لنف�شه ،وازداد اإعج�ب ً� ب�شديقه واإكب�راً ملك�نه.
23
والف�كهة .وجل�س ابن �شهيل عن ميينه و�شالّمة اأم�مهم� .وك�ن اأثر ال�شهر ب�دي ً� يف عيني عبد الرحمن واإن مل يبد عليه اأنه متعب .وقد لب�شت ولكن يف وجهه� �شحوب ً� �شالّمة اأح�شن ثي�به� َّ ك�أمن� نقهت 40من �شقم ،ويف حرك�ته� فتوراً ل عهد لذلك اجل�شم املرح الن�شيط به ،وهي ل تنظر لوجه عبد الرحمن اإل م�ش�رقة ك�أنه� ل تقوى على قراءة اآي�ت الأ�شى الب�دية عليه .ومل يعد لبت�ش�مته� اإذا هي ابت�شمت – ذلك الإ�رشاق ذوب من النور يتفجر! حتى احلي الف�ئ�س ك�أنه ٌ ُّ واء ،فك�أنهم� والر الرونق ذلك ف�رقهم� نونت�ه� ُّ ُ نقرت�ن يف اأعلى اجلبل لفحهم� حر ال�شيف فجف م�وؤهم� ال�ش�يف ال�شم! اأم� ابن �شهيل َّ فك�ن اأمرح الثالثة ،واأطفحهم وجه ً� ب�لب�رش، ك�أن الأي�م مل تغري له ح�لً ،ومل تنل منه من�لً، وك�أنه م� زال يف غن�ه ونعمته ،فهو يقبل على الطع�م بنف�س طيبة ،ويقدمه ل�شيفه ويب��شطه، وي�ش�حك ج�ريته ومي�زحه� ،وهو يف ذلك كله ير�شلُ نف�شه على �شجيته� بحيث ل ي�شعر جلي�ش�ه اأنه ي�شطنع ذلك اأو يتك َّلفُه ،ولول م� ي�ش�ورهم� من احلزن ويح ُّز يف �شدرهم� من الأمل ،لظ َّن� اأنف�شهم� مبجل�س ابن �شهيل يف يوم من اأي�مه ال�ش�لفة. وانتهوا من الطع�م فق�ل ابن �شهيل وال�شح�ف ترفع وهو يبت�شم« :اأخ�شى اأن تكون امل�ئدة دون م� يقت�شيه توديع �شالّمة و�شي�فة عبد الرحمن!». فق�ل عبد الرحمن« :يرحمك اللـه ي� بن أقل من �شهيل ،م� ك�ن لك اأن تتكلف كل هذا ،ف� ُّ هذا ك�ن يغني». فق�ل ابن �شهيل« :ل ب�أ�س ي� عبد الرحمن، اإين األب�س لكل ح�لةٍ لبو�شه� ،ولل�رشورة اأحك�م». فنظرت اإليه �شالّمة نظرة م�شفقة وق�لت: «مالأ اللـه يديك ب�خلري ي� مولي .لقد ك�نت موائدك م�رشب املثل يف مكة!». ف�أج�به� ابن �شهيل ق�ئ ًال والبت�ش�مة ب�قية يف ثغره« :نعم ك�نت كذلك ي� �شالّمة .اأم� اليوم ف�إين مل اأ�شتطع اأن اأعِ َّد م�ئدة تليق بتوديع علي». ج�ريتي الأثرية عندي ،الكرمية َّ ق�لت �شالّمة« :ه ِّو ْن عليك ي� مولي� .شتعود �ش�ء اللـه». اأي�مك كم� ك�نت اإن َ «اأج ْل رمب� تعود .ولكنك لن تعودي اإلين� ي� �شالّمة!». «ل تقل هذا ي� مولي .فمن يدري لعل اللـه اأن يعيدين اإليك». فتحرك عبد الرحمن عند �شم�ع هذا وق�ل: أجتهدن يف الك�شب حتى ن�شتعيدك اإلين� «واللـه ل َّ
عدد 144
6ت�رشين 2010 1
ي� �شالّمة ،ونعطي اآل ُر َّم�نة م� ي�شتهون من امل�ل!». فق�ل ابن �شهيل« :اإن هذا اآخر جمل�س لن� معك والتح�رش، ي� �شالّمة ،فال نك ِّد ُر �شفو ُه ب�لأ�شى ُّ فه�ت عودك واأطربين� ب�رك اللـه فيك». فق�مت �شالّمة وهي مت�شح الدموع من عينيه� ،وذهبت حت�رش عوده� ،فلم� ع�دت غ َّن ْت ين �شتى معظمه� من �شعر عبد الرحمن، لهم� اأغ� َ فك�ن� رمب� �ش�ح� من الطرب ،ورمب� بكي� ،ورمب� ا�شتع�داه� بع�س الأبي�ت ل�شعورهم� اأنهم� لن ي�شمع�ه� بعد ذلك اليوم من فم �شالّمة!. ويف خالل ذلك اأخرج عبد الرحمن �شحيفة من جيبه .فلمحه� ابن �شهيل فق�ل« :م� هذا ي� عبد الرحمن؟ لعلك قلت �شعراً جديداً». ق�ل« :نعم� .شنعته الب�رحة». فمد اإليه ابن �شهيل يده ق�ئالً« :اأرنيه�». فن�وله عبد الرحمن ال�شحيفة فنظر فيه� ف�بت�شم ق�ئالً« :هذا جميل واللـه». ونظرت اإليه �شالّمة ك�أنه� ت�شتطلعه م� يف ال�شحيفة وق�لت« :اأهذا �شعر جديد ق�له عبد الرحمن؟». ف�أج�به� ابن �شهيل �ش�حك�ً« :نعم .وفيك اأي�ش ً� ي� �شالّمة». فته َلّل وجهه� �رشوراً وق�لت« :األ تقراأه يل ي� مولي؟». ق�ل ابن �شهيل« :بل تقراأه اأنت ي� عبد
الرحمن». فلم ميتنع عبد الرحمن واأخذ ال�شحيفة فقراأ.
�ش�حبيه ورحمة بهم� ،حتى ح�شح�س 42احلق وظهر املكتوم ،حني نفذ ال�شعر اإىل �رشائرهم الغط�ء ،واأرى َب ْع�شه� فهتك عنه� ال�شرت وك�شف َ بع�س وق�ل له�: حقيق َة ٍ «اأيته� النفو�س املكلومة التي جمعه� امل�ش�ب ،هذا اأوان بك�ئِك ف�جتمعي عليه!». وك�ن عجب ً� اأن يكون اأجلد الثالثة – ابن بك�ء ،واآخِ َر من رق�أ �شهيل – اأ�ش َّدهم حينئذ ً دمعه وانقطع ن�شيجه ،واأن يكون اأج َزعهم وهو عبد الرحمن اأول من َنه َنه دمعه واأن�ش�أ يوا�شي �ش�حبيه وي�شليهم� حتى تعزي� وانقطع� عن ْ البك�ء. ق�ل عبد الرحمن فيم� ق�ل ل�شالّمة« :ال تعملني لهذه الأبي�ت حلن�ً؟» .ف�أج�بته �شالّمة كفكف دمعه� ق�ئلة�« :ش�أعمل له� ي� عبد وهي ُت ُ الرحمن� ،ش�أعمل له�». فق�ل ابن �شهيل« :ولكن� لن ن�شمعه ي� �شالّمة ..اإل اأن ي ِر َد علين� به اأح ُد الق�دمني من قِ َبل املدينة». ق�لت �شالّمة« :اأترى اأهل املدينة َيقدمون ين وعندهم اأغ�ين جميلة؟». ب�أغ� َّ فق�ل ابن �شهيل« :وم� يدريك ي� �شالّمة؟ لع َلّك حني تلقني جميلة وت�أخذين عنه� ف َّنه� ،تفوقني عليه� فتكونني كبرية مغني�ت املدينة!». فبدا ال�رشور يف وجه �شالّمة حني ذكرت اأنه� �شتلقى جميلة عم� قريب فت�أخذ عنه�
�ص؟ �أال قُلْ ِل َهذ� � ْل َقل ِْب َهلْ �أَن َْت ُم ْب ِ َ ْ�ص؟ َو َه ْل �أَن َْت َع ْن َ�سالّم َة � ْل َي ْ� َم ُمق ِ ُ ي َ�سا َر ْت بِها �ل َ ّن َ�ى �أال َل ْي َت � ِ ّأين ِح ْ َ رن مزْه ُر! كلما ى م ل ل�س �س ْ َّ َ َج ِل ْي ٌ َف َيا َر�كِ َب ًا � َ ّإما َبلَغْ َت لطيبة َ َو َ�س َ ّمكَ َو� ِد ْي َها �الأغَ ُرّ ْ�لُن َ ّ� ُر ا�س ٍق ت َ ّي َة َع ِ َفخُ ْذ َر ْب َ� ًة َو� ْق َر�أْ َ ِ ْ�س ج�ؤْ َذ ُر َل ُه ِيف َمغَ ا ِن ْيها مِ َن �الأن ِ �أَ ُق ْ�لُ ِل َق ْلبِي كُ َلّ َما َز� َد َخ ْف ُق ُه إالم ُي َع ِنّيكَ �الأَ َ�سى َو�ل َ ّتذ ُ َّك ُر؟ � َ �ح َت َم ْل ُت ُه اح � ْل َقل ُْب ه ْبنِي ْ ت ََ�س َ ّب! ف ََ�س َ َ ع ِي د ج ي ا م ف ب ِ�س لي �ل َت َّ�س ُ ّ ُب؟ ٍ ب َ ْ َ ُ ْ َ َّ خُ ذَ� �ل َ ّز� َد َيا َع ْين َ َّي مِ ْن ُن ْ� ِر َو ْج ِه َها َف َما َل ُك َما فيه �س�ى �لي�م منظ ُر! �جل ْي َد طُ �لَ َت َل ُفّتٍ ان ْ ِ غد�ً ُتتْعِ َب ِ َف َي ْعيى َو ْيطَ غَ ْى ْ َ �ل ْد َم ُع ْ ُ �ل َتف ِ ِّج ُر �ل ِب ْي َب ِة نَظْ َر ًة ُت ِر ْي َد ِ�ن ِيف َو ْج ِه ْ َ 41 ن ْ� ٌد و�أغ ُ� ُر! َومِ ْن ُد ْو ِن َم ْث َ��ها ُ ُ ومل يكد عبد الرحمن يتم الأبي�ت حتى �ش�ل دمعه وعال ن�شيجه ،فبكى لبك�ئه ابن �شهيل، ورمت �شالّمة عوده� وجل�شت تنتحب. أحره ،وك�أمن� وبكى الثالثة اأ�شدق البك� ِء وا َّ ك�نوا من اأول الأمر بح�جة اإىل هذا البك� ِء يف ِّرجون به عن كربهم احلبي�س ولوعتهم الدفينة، ولكنهم ظلوا ُيدا ِري بع�شهم بع�ش ً� ويك�مته م� يف �شدره ،وي�شطنع اجلَلد وال�شرب اإ�شف�ق ً� على
الغن�ء ،ولكنه� ع�دت فتذكرت ا ْأن ل حق له� يف َ اأن تبتهج ب�شيء يبعده� عن موله� ابن �شهيل تخفي هذا وحبيبه� عبد الرحمن ،ف�جتهدت اأن َ ال�رشور الط�رئ وت�شطنع م� ك�نت فيه منذ ال�ش�عة من الأ�شى. ومل يفت ابن �شهيل م� دار بخلد اجل�رية حت�شي ي� �شالّمة من اأمل الفراق فق�ل له�« :اإنك لن ّ نح�شه .لأنك �شرتحلني اإىل طيبة التي ط�مل� م� ُّ ا�شتقت اإليه� ،و�شرتين العقيق اجلميل وت�شهدين تلقي به جم�ل�س الغن� ِء املمتع ،وح�شبكِ اأن ْ جميلة التي ط�مل� اأعجبت بغن�ئه� ،ون�زعتك نف�شك اإىل روؤيته� والأخذ عنه� .األي�س كذلك ي� �شالّمة؟». ومل َي ُر ْق هذا القول عبد الرحمن وو َّد لو ينكر على �شالّمة اأن جتد ا�شتط�ع تكذيبه ،ك�أنه ُ له� م� تت�شلى به عنهم� يف املدينة ،ولكنه مل يجد م� يقوله يف ذلك فلزم ال�شمت. �شعرت بخطئه� فيم� بدا منه� اأم� �شالّمة فقد ْ من ال�رشور يف موقف ل يجدر به� ذلك فيه؛ فم� ك�ن ينبغي له� اأن توؤثر حمبته� للغن�ء وكلفه� حب البق�ء عند موله� الكرمي. ب�إج�دته على ِّ ولئن ك�ن ذلك �ش�دراً عن نحيزته� 43التي ل تق�وم ،فعليه� على الأقل اأن جتتهد يف كتم�نه ينم وجهه� عنه يف مثل هذا املوقف .ولهذا فال ّ اأج�بت موله� ق�ئلة« :مع�ذ اللـه ي� مولي اأن يكون فيم� ذكرت م� يخفف عني اأمل فراقكم .اإمن� كنت اأحب اأن اأرى املدينة واأهله� واأن� يف ميينك ُ ي� مولي!». ومل تكن �شالّمة �ش�دقة كل ال�شدق فيم� ق�لت ،فقد ك�نت الرغبة الفنية ط�غي ًة عليه� طغي�ن ً� قد ت�شفقُ منه على بع�س م� يعز عليه� من اآم�ل قلبه� ،وتخ�شى اأن ين�شيه� اأع َّز م� ت�شونه من عواطف احلب نحو عبد الرحمن ولالأي�م التي ق�شته� يف املدينة بني دار اأبي الوف�ء ودار ابن �شهل ،فهي ت�شعر اأنه� خلقت للغن�ء ،وهي واإن ريب فيه ،ولكن اأح َّبت عبد الرحمن ،وهذا م� ل َ اأك�نت توؤثر ح َّبه على ف ِّنه� ،اأم توؤثر فنه� عليه؟ يف اليوم الت�يل ج�ء ابن رم�نة ،لي�شطحب �شالمة اإىل املدينة ،اأم� ابن �شهيل وابن اأبن عم�ر فقد و َّدع� �شالّمة على الطريق املوؤدي اإىل املدينة ورجع� اإىل مكة بج�شميهم� ،ا َّأم� قلب�هم� فقد رحال مع الركب.
�لف�سل �لثاين ع�ص
قدمت �شالّمة املدينة واحتواه� ق�رش موله� اجلديد ابن ُرم�نة ،فنزلت عنده منز ًل كرمي ً� ولقيت منه كل بِر وعن�ية .ذلك اأنه ك�ن
24
قد �شمع مبك�نه� يف الغن� ِء ونبوغه� فيه ،فلم� باله� وجده� فوق م� �شمع ،ففرح به� فرح ً� عظيم ً� واأج َلّه� وعرف له� قدره� ،واأعلى منزلته� بني غريه� من جواريه الكرث .وع َلّق عليه� الآم�ل الكب�ر. وابن ُر َّم�نة هذا رجل ج�وز �شن ال�شب�ب. ق�شى �شنيه الأوىل ت�جراً يرت َّد ُد بني املدينة وال�ش�م حتى جمع له من ذلك ثروة ل ب�أ�س به�. وك�ن يف خالل ذلك مولع ً� ب�لغن�ء والعزف ،وقد ا�شتغل بهم� حتى برع فيهم� .وك�ن م� �ش�عده على ذلك ح�شن �شوته ،وخفة يده ،وقوة عزمه، جره حبه للك�شب اإىل اأن وجلده على العمل .وقد َّ يتخذ من ب�رشه ب�لغن�ء �شبب ً� من اأ�شب�ب التج�رة، ف�أخذ يبت�ع اجلواري ب�أثم�ن رخي�شة فيعلمهن الغن�ء ،حتى اإذا برعن فيه ب�عهن ب�أثم�ن كبرية، َ فربح من عمله هذا مبلغ ً� كبرياً من امل�ل اأغراه ب�لتو�شع فيه والتفرغ له ،فهجر لذلك جت�رته الأوىل .وقد اأك�شبه طول املران خربة ب�جلواري أيهن اأ�شلح للغن�ء واأرجى اأن يتو�شمهن فيعرف ا َّ َّ يتقدمن فيه ،فك�نت له نظرة �ش�ئبة ق َلّم� تخونه يف هذا ال�ش�أن .وك�ن ي�شتعني ببع�س جواريه الالئي قد تقدمن يف الغن� ِء وبرعن فيه فيعلمن اجلواري اجلُدد حتى تقدم عمله ،فك�ن بعد ذلك رمب� ا�شتع�ن يف تعليمهن ببع�س املغنني واملغني�ت وجعل لهم على ذلك اأجوراً كبرية، ول�شيم� حني يتو�شم يف بع�س جواريه ا�شتعداداً كبرياً للنبوغ. ق�شت �شالّمة اأي�مه� الأوىل يف املدينة وقلبه� مبكة ،خ َلّف ْته عند موله� الكرمي ابن �شهيل ،وحبيبه� عبد الرحمن بن اأبي عم�ر :فقد ظ َلّت تذكرهم� ليل نه�ر ،وتت�شور ابن �شهيل وقد رق ح�له ،وفقد ثروته ،واأ�شبح فقرياً معدم ً� ل َّ ميلك حتى داراً ي�شكنه� بعد ذلك الغنى الوا�شع والنعيم الكبري ،وتتمثل عبد الرحمن وقد برح به الوجد ،واأ�شن�ه ال�شقم ،ومل يجد اإىل العزاء �شبيال. تذكر هذا كله ف�إذا قلبه� ينفطر من احلزن ،واإذا �شدره� �ش َّيق َحرج ك�أمن� ي�ش َّعد يف ال�شم�ء ،فال جتد اأم�مه� ملج�أً اإليه اإل الدموع. يخ َف على �شيده� اجلديد م� هي فيه ومل ْ من الكرب وم� تع�نيه من ال�شدة ،وك�ن قد علم الق�س وغرامه� به ،اإذ ا�شتف��شت بحديثه� مع ِّ اأخب�ره مبكة حتى انتهى بع�شه� اإىل املدينة، فراأى من احلكمة اأن يع�مله� ب�لرفق ،وي�أخذه� ب�حل�شنى ،ويتغ��شى عم� يبدو منه� من ذلك حتى ت�شلوه من ذات نف�شه� مبرور الأي�م. وقد اأثمرت هذه ال�شي��شة احلكيمة الثمرة املطلوبة ،اإذ �ش�عدت �شالّمة على ال�شلوان ،كم�
�ش�عده� على ذلك م� ا�شتيقظ من حبه� القدمي للغن�ء ،وكلفه� ب�لتربيز 44فيه ،فقد راأت مغ�ين العقيق التي ط�مل� هف� قلبه� اإليه� ،وع��شت يف جو يختلف عن جو مكة بح�شن ِه واعتداله ،وبني قوم يختلفون عن اأهل مكة برقتهم ودم�ثتهم واحتف�ئهم ب�لغن�ء ،وولعهم به ،وتقديرهم لأقط�به ونوابغه. وك�أمن� �شالّمة قد خلقت للغن�ء ،وك� َّأن يف اأعم�ق نف�شه� �شوت ً� يحدوه� دائم ً� للنبوغ فيه، وي�شوقه� اإىل بلوغ اأعلى درج�ته من الكم�ل .وقد وتلم به� �شواغل احلي�ة، تنزل به� اأحداث الدهرُّ ، خفت هذا ال�شوت يف �شمريه� حين ً� من الزمن ف ُت ُ ل يلبث بعد انق�ش�ع الغمة اأن يعود ح َّي ً� كم� ك�ن، اأو اأقوى م� ك�ن ،وقد تب َلّغ من هذه الظروف واملحن ،واتخذ لنف�شه منه� زاداً ووقوداً – اأنه� ريب فيه ،ولكن اأح َّبت عبد الرحمن ،هذا ٌّ حق ل َ اأك�نت توؤثر ح َّبه على ف ِّنه� ،اأم توؤثر فنه� عليه؟ هذا مو�شع لل�شك ،ومن يدري لعله� م� �ش�نت حب عبد الرحمن واأع َّزته ،واأولته ج�نب الرع�ية، َّ وغ َّذته ب�آم�له� واأحالمه� ،اإل لأنه� وجدت فيه غذاء �شه َّي ً� لهذا اجلنني ال�رشه يف اأح�ش�ئه�.. ً الفن! جنني ِّ وك�نت �شالّمة اأعرف الن��س بقدره� ،فم� ك�ن الغرور ليجد �شبي ًال اإىل نف�شه� فيعميه� عن تبني م� فيه� من موا�شع النق�س لت�ش َّده� ،كم� ُّ ا َّأن توا�شعه� مل يكن لي�رشفه� عن الطمع يف مق�م يوؤهله� له ا�شتعداده� العظيم .من اأجل هذا م� ك�دت ت�شكن اإىل موله� اجلديد حتى اقرتحت وتتدر َب عليه اأن يبعثه� اإىل جميلة لت�أخذ عنه�، َّ هوى يف نف�شه. على يديه� ،ف�ش�دف هذا القرتاح ً وك�ن ابن ُر َّم�نة يعرف جميلة ويعجب بفنه�، وط�مل� اختلف اإىل جمل�شه� ي�شتمتع بغن�ئه� حتى ات�شع عمله ،فح�لت بينه وبني ذلك كرثة اأ�شغ�له .وهذه فر�شة �شنحت ليج ِّدد به� العهد، ويزوره� يف منزله� مع �شالّمة ج�ريته. �شحى ح َّتى فرحت به وم� ا�شت�أذن عليه� ً واأذنت له ،وك�نت ج�ل�شة وبني يديه� عدد من اجلواري ب�أعوادهن تدربهن على الغن�ء ،فنه�شت له وا�شتقبلته ا�شتقب� ًل ح�شن�ً. ق�ل له� ابن ُرم�نة« :كيف اأنت ي� جميلة؟». فق�لت« :بنعمة اللـه ي� بن ُرم�نة ..واأين اأنت فلم نرك منذ زم�ن؟». ق�ل له�« :م�ش�غل الأي�م ي� جميلة �رشفتن� عن جم�ل�شك املمتعة». ونظرت اإىل �شالّمة فق�لت لبن ُرم�نة« :اأه ًال بك ومبن معك ..من هذه التي جئت به�؟». ف�أج�به� ق�ئالً« :هذه ج�ريتي �شالّمة التي
جئت به� اإليك لت�أخذ ا�شرتيته� حديث ً� من مكةُ .. عنك فنون الغن�ء». فجعلت جميلة تت�أمل يف وجه �شالّمة ثم الق�س؟». ق�لت« :اأهذه �شالّمة ّ ف��شطربت �شالّمة وبدا الت�أثر على وجهه�، وابت�شم ابن ُرم�نة ق�ئالً« :اأج ْل هي �شالّمة الق�س». فق�لت جميلة« :مب�ركة عليك ..لقد ظفرت بجوهرة!». ف�ش�أله� ابن ُرم�نة« :هل كنت عرفته�؟». �شمعت بع�س اأحل�نه� ف�أج�بته ق�ئلة« :لقد ُ ف�أعجبتني ،وم� اأح�شبه� بح�جة بع ُد ا َ َ إيلّ». رشج خداه� خجالً« :كال فق�لت �شالّمة وقد ت� َّ ي� مولتي اإين بع ُد بح�جة اإليك ،ومن ذا ي�شتغني الغن�ء اإل من اأحل�نك». تعلمت عنك وم� ُ َ ق�ل ابن ُرم�نة« :اإنه� تلميذتك وهي �شديدة رشه� �شيء يف املدينة كم� الإعج�ب بك ،وم� ي� ُّ رشه� اأن تراك وتتلقى عنك». ي� َّ فق�لت جميلة وقد ملكه� الزهو« :اأجل اإنه� ت�شري على طريقتي ،ولكنه� ت�شيف اإليه� �شيئ ً� من مذهب غريي .على اأين اأتو َّقع له� م�شتقب ًال عظيم ً� يف هذه ال�شنعة». ف�شكرته� �شالّمة على ح�شن راأيه� فيه�، فق�لت جميلة وهي ت�شحك« :اإنك لن تقيمي عندن� طوي ًال حتى تتخطفك ق�شور اأم َّية ب�ل�ش�م». وك�ن لهذه الكلمة وقع �شديد عند �شالّمة، اإذ اأث�رت على غرة منه� اأمني ًة قدمية دفنته� رت ف�شعرت به ّزة طرب، الأي�م يف نف�شه�، َّ وتذك ْ ْ يف نف�س الوقت ح َّبه� لعبد الرحمن ،واأن ق�شور يعت لهذا اأم َّية �شتحول بينه وبينه� اإىل الأبد ،ف ِر ْ اخل�طر فق�لت« :ل ي� مولتي ،ل اأريد بجوار ر�شول اللـه بدلً». البق�ء ف�بت�شم ابن ُرم�نة ق�ئالً« :اإنه� توؤثر َ عندي .األي�س كذلك ي� �شالّمة؟». ق�لت �شالّمة« :بلى ي� مولي». فق�لت جميلة« :م� اأرى يزيد بن عبد امللك اإل �ش�مكِ اإىل قِ ي�ن ِه يف ق�رشه». َّ ف�بتدره� ابن ُر َّم�نة ق�ئالً« :ل واللـه ل اأبيعه� له اأبداً». ف�شحكت جميلة �شحكة ذات معنى ،ونظرت اإىل ابن ُرم�نة ق�ئلة« :هيه ي� ابن ُرم�نة! م� اأح�شبك زاهداً يف ذهب اآل مروان!». اأخذت �شالّمة بعد ذلك تختلف اإىل جميلة ت�أخذ عنه� اأ�شول الغن�ء يف مدر�شته� ،ف�أحبته� جميلة واأكربته� مل� راأت فيه� من املوهبة الفنية العظيمة ،واآثرته� ب�لعن�ية على تلميذاته� الأُ َخر؛ زمن طويل حتى وثقت بقدرته�، مي�س ومل ِ ٌ
25
وعهدت اإليه� بتعليمهن بع�س الأحل�ن التي اأج�دته� ،فك�نت �شالّمة تقوم بذلك خري القي�م. ولكن ظهوره� عليهن يف هذه املدة الوجيزة، لهن اأث�را يف واختي�ر جميلة اإي�ه� رئي�شة َّ أنف�شهن ح�شداً له� وغري ًة منه� ،ف�أخذ َْن يوؤذينه� ا َّ رن بينهن ب�أح�ديث ويتغ�م ْز َن عليه� ،ويتن َّد َ ح ِّبه� للق�س وغرامه� به .فك�نت �شالّمة ُتع ِر�س عنهن وترت ُّفع عليهن، فيزيدهن ذلك وجداً َّ َّ عليه�. فيهن ج�رية رائعة اجلم�ل كثرية وك�نت َّ أ�شهن ِّ الدل �شليطة الل�ش�ن ُتدعى ُحب� َبة ،ك�نت ترتا َّ �شق قبل جميء �شالّمة ،فلم� فقدت زع�مته� َّ ذلك عليه� ،فج َّدت يف من�ه�شته� وتو َلّت كِ رب تعري �شالّمة حين ً� بدم�مة الئتم�ر به� ،فك�نت ِّ الوجه ،وحين ً� بقبح ال�شوت ،وت�ر ًة مبخ�لفته� لأ�شول الغن�ءِ ،وكثرياً م� ت�شمع من �شالّمة مي ًال يف حلن من الأحل�ن وخروج ً� عن اأ�شله فت�أخذ عليه� ذلك ،وترفع اأمره اإىل جميلة ،وت�شت�شهد زميالته� على ذلك في�شهدن له� َف ُبوؤ َْن من جميلة بخيبة امل�شعى و�شوء الرد ،اإذ تقول لهن :اإن ذلك تفوق �شالّمة ون ْزعته� اإىل البتك�ر. دليل على َّ وجل�شت جميلة ذات يوم تلقنهن حلن ً� جديداً َّ قبلهن كداأبه� على ذلك ،فق�لت فح ِذق َْت �شالّمة َّ لتلميذاته�َ « :لك َُّن الآن اأن ت�أخذن هذا ال�شوت عن �شالّمة». فق�لت اإحداهن« :لي�س اليوم ي� �شيدتي فقد تعبن�». ف�ش�قت جميلة ذرع ً� بهن وق�لت« :اآه منكن! تكن مغني�ت ول ت�شربن على العمل! تردن اأن َّ كن فكنت رمب� اأقطع الليل كله لقد كنت يف �شِ ِّن َّ أتدر ُب على حلن واحد لأحذقه». ا َّ فق�لت ج�رية اأخرى« :غداً ن�أخذه عنه�». فنظرت اإليه� جميلة مغ�شبة وق�لت« :م� فيكن. واليكن رج�ء َم بكن! وم� اأخيب َّ َّ اأ�شق�ين َّ َ ان�رشف َْن اإذا �شئنت!». �شن ثبتت اجلواري يف مق�عدهن وخ َّف َ َّ ؤو�شهن ك�أمن� اأ�شف ْق َن من غ�شب جميلة ،ثم رو َّ كل واحدة طفقن ينظر بع�شهن اإىل بع�س ،تنظر ُّ منهن اأخ َته� لتقوم قبله�. َّ ونظرت جميلة اإىل �شالّمة وق�لت وقد �شكت نت ال َّتدريب، نت واأبي َّ عنه� الغ�شب« :اأم� اإذ ك�شل َّ ف�جل�شن قلي ًال لن�شمع اإىل �شالّمة». َ وابت�شمت ل�شالّمة ق�ئلةً« :غنين� ي� �شالّمة اأبي�ت ابن اأبي عم�ر (األ قل لهذا القلب) ،ف�إنه� تعجبني ومل اأ�شمعه� منك منذ زمن». فق�لت �شالّمة« :اأعفيني ي� �شيدتي». ف� َ َ أحل ّْت عليه� جميلة ق�ئلة« :بحي�تي
عدد 144
6ت�رشين 2010 1
عليك اإل م� غ َّنيته� يل» فلم جتد �شالّمة ب ّداً من اإج�بته� اإىل م� �ش�ألت ،ف�أخذت عوده� متث�قلة ك�أمن� تدفع لذلك دفع�ً ،وظ َلّت برهة واجمة تنظر اإىل عوده� ك�أنه� ت�شرتجع �شيئ ً� غ�ب عنه�، واأخذ العرق يرف�س 45من جبينه� حتى اأ�شفقت عليه� جميلة وك�دت تعفيه� م� �ش�ألت ،لول اأن رفعت �شالّمة راأ�شه� وقد ا�شتن�ر وجهه� وبرقت عين�ه� ،وطفقت تداعب عوده� وتغني: �ص؟ �أال ق ْل ِل َهذَ� � ْل َقل ِْب َهلْ �أَن َْت ُم ْب ِ ُ ْ�ص َو َهلْ �أَن َْت َع ْن �س َالّم َة � ْل َي ْ� َم ُمق ِ ُ ح َّتى اإذا بلغت قوله: خُ ذَ� �ل َزّ� َد َيا َع ْين َ َّي مِ ْن ُن ْ� ِر َو ْج ِه َها َف َما َل ُك َما ِف ْي ِه ِ�س َ�ى � ْل َي ْ� َم َمنْظَ ُر خنقه� الن�شيج فلم ت�شتطع اإمت�م ال�شوت. فع َّز ذلك على جميلة ،وك�نت قد ا�شت َّد طر ُبه� روحه� يف �شم�ء الأحالم ،فق�لت« :م�لك وط�رت ُ لغن�ء ي� �شالّمة؟ ا�شتم ِّري يف غن�ئك ،فو اللـه اإنه ٌ م� �شمعت مثله». فق�لت �شالّمة« :ل اأ�شتطيع ي� خ�لة» .وظ َلّت عرب َته� ك�أنه� تتقي �شم�تة حوا�شده� به� تغ�لب ْ حتى اأعجزه� ذلك ،ف�نفجرت ب�كية. ف�شكتت جميلة م�شفقة ،واأخذ بع�س اجلواري بع�شهن ك�أمن� اأُخذ َْن بينهن ،ووجم يتغ�م ْز َن َّ َّ ح�شدهن ل�شالّمة عطف ً� بروعة املوقف ف��شتح�ل َّ عليه�. ثوان ثم ق�لت جميلة وقد اقرتبت ومرت ٍ َّ من تلميذته� الب�كية« :اأاإىل هذا احل ِّد حتبينه ي� ويحكِ ! اإن الرج�ل لأهون من اأن تقتلي �شالّمة؟ ْ نف�شك يف اآث�رهم اأ�شف ً� وا َّإن عهدهم لأوهى من بيت العنكبوت». فق�لت �شالّمة وقد رفعت اإليه� طرفه� الغ�رق يف الدمع« :اإل ابن اأبي عم�ر ،فو اللـه ي� خ�لة اإنه لي�ش ِّعد اأنف��شه من حرقة الوجد فك�أمن� �شك أح�س ك� َّأن قلبي ُي ُّ يلفظ كبده فلذ ًة فلذة ،ف� ُّ ب�خلن�جر!». ق�لت جميلة« :اإنك م� تعرفني ي� ُبنية خداع الرج�ل ومكرهم». فق�لت �شالّمة وقد كفكفت دمعه�« :لي�س ابن اأبي عم�ر مب�كر ول خداع .اإنه بريء ك�لطفل، يي ك�لعذراء ،ط�هر ْ َ ك�مللَك!». َح ٌّ احلنو ف�بت�شمت جميلة ابت�ش�مة يخ�لطه� ُّ وال�شفقة ق�ئلة« :دعي عنك هذا ،ف�شت�شلينه ي�شمكِ ق�رش كل م� يت�شل به عندم� وتن�شني َّ ُّ اخلليفة بدم�شق ،فقد بلغني اأنه يبعث ر�شله يف �رشائك من مولك». فريعت �شالّمة لذكر اخلليفة وق�لت�« :شيكون ْ
أغركَ ي� هذه ا َّأن اخلليفة بعث يف طلبك اأي�ش�ً؟ ا َّ واللـه لن تفلحي هن�ك اإل اإذا ك�نت �شالّمة بقربك تر�شدك يف �شن�عتك». فق�لت �شالّمة« :واللـه ل اأع ِلّمه� ول اأر�ش ُده� بعد اليوم». ف�أخذت جميلة ترت�ش�ه� وتقول له�: «بل تعفني عن اأختك ي� �شالّمة من اأجلي اأن�». واأ�ش�رت ِحلُب�بة ق�ئلة« :اعتذري اإليه� اأنت». فلم ي�شع ُحب�بة اإ ّل اأن ق�لت ل�شالّمة« :معذرة ي� اأختي .واللـه ل اأ�شمعك م� تكرهني اأبداً».
ذلك اأ�شقى حل�يل ،واأتع�س حلظي ،اإ ْذ يزيد �شقة م� بينن� بعداً .ولن يقدر عبد الرحمن بن اأبي عم�ر اأن ي�شرتيني بعد ذلك .م�شكني عبد الرحمن! اإنه يقتل نف�شه ك َّداً يف ك�شب امل�ل ليقدر على �رشائي». فق�لت جميلة يف لهجة فيه� �شيء من ال�ش َّدة: ويحك ي� جمنونة ،اأتف�شلني اأن تقيمي عند رجل فقري يقربك يف ك�رش بيت يف مكة ،على اأن تعي�شي عند اخلليفة يف ق�رش عظيم وملك كبري؟». وك�نت حب�بة يف اأثن�ء ذلك تتح َّفز للقول، واإمن� �شكتت على م�ش�س تنتظر ثُغر ًة يف احلديث تنفذ منه� اإليه� ،وك�ن قد انتهى اإليه� اأن اخلليفة �شمع بجم�له� وغن�ئه� فبعث ر�شله يف طلبه� وكثرياً م� ذكرت ذلك ل�شواحبه� ُمدِل ًة معجبة ،فم� اإن �شمعت �شالّمة تعلن زهده� يف هذا الأمر الكبري لديه� حتى راأت الفر�شة �ش�نحة لالعرتا�س عليه� .فق�لت تخ�طبه�« :هذا واللـه ي�شمني جنون منك ..اأم� اأن� فيكون اليوم الذي ُّ فيه ق�رش اخلليفة بدم�شق اأ�شعد اأي�م حي�تي ،واإين لأع ُّد له الأي�م» .وع َّز على �شالّمة اأن ت�شمع هذا القول من حب�بة يف مثل هذا املوقف ،فق�لت له� ب�زدراء« :ذلك اأ�شبه بك ي� ُحب�بة!». ف��شت�ش�ظت ُحب�بة غ�شب ً� وق�لت« :م� تعنني بهذا! اأتريدينني اأن اأكون متكلفة مثلك ،ت�شدعني عم�ر هذا ك�أن لي�س يف الدني� الروؤو�س ب�بن اأبي َّ رجل مثله!». فق�لت �شالّمة وقد تهي�أت ملن�واأته� ومق�بلة عدوانه� مبثله« :لي�س لك اأن تقويل هذا حتى يحبك رجل ك�بن اأبي عم�ر». «اأف لك .فو اللـه اإن وجهي لأجمل من وجهك هذا ال�ش�حب ،واإن �شوتي لأعذب من �شوتك املبحوح». فق�لت �شالّمة وقد نفد �شربه�« :اأت�شكتني اأو.»... فب�درته� حب�بة ق�ئلة« :اأو م�ذا ي� �شالم َة الق�س؟». ق�لت �شالّمة« :اأو األطمك!». ف�أدارت له� ُحب�بة خ َّده� وق�لت تتحداه�: «هي� األطمي ،اأخزاك اللـه واأخزى ابن اأبي عم�رك!». فهم ْت �شالّمة بلطمه� ،ولكن جميلة ح�لت َّ بينه� وبني ذلك وق�لت« :ل ي� �شالّمة ل تفعلي». والتفتت اإىل ُحب�بة مغ�شبة وهي تقول: «اأهكذا تزعجني �شالّمة ي� حب�بة؟ اأحت�شبني الغن�ء طول نف�شك خرياً منه�؟ واللـه لو تعلمت َ عمرك م� بلغت مبلغه�». فق�لت حب�بة« :اإنه� هي التي �ش َّبتني». ق�لت له� جميلة« :ولكنك كنت الب�دئة..
�لف�سل �لثالث ع�ص
لنعد اإىل مكة لرنى م�ذا فعلت الأي�م ب�بن عم�ر بعد اإ ْذ و َّدع� �شالّمة ورجع� �شهيل وابن اأبي َّ اإىل مكة بج�شميهم� ،ا ّأم� قلب�هم� فقد رحال مع الركب. رجع� اإىل مكة لي�شتقبل اأحدهم� حي�ة الفقر بعد الغنى ،وال�شدة بعد الرخ�ءِ ،وال�شق�ء بعد ذاك النعيم ،وليق�شي الآخر اأي�م ً� كله� وجد وي�أ�س، ولي�يل ك ُلّه� �شهد ودمع! لقد جمعهم� يف ظ�هر الأمر م�ش�ب واحد وهو فِ راقُ تلك املخلوقة التي ك�نت اأن�شهم� يف احلي�ة ،ولكن م� اأ�ش َّد اختالف اأثر هذا امل�ش�ب يف هذين القلبني ،اأم� ابن �شهيل 46 هم غريه عن هم نف�شه ،فجعل وكد ُه فقد �شغله ُّ تعزية �ش�حبه عبد الرحمن وت�شليته وتعليله ب�لأم�ين والأحالم ،و�رشع�ن م� اطم� َّأن اإىل حي�ته اجلديدة وا�شتمراأ 47مريره ك�أمن� مل تنزل به نكبة فقد فيه� كل م� ملكت يده ،ولول م� ُيقلق ب�له م� يرى من اأثره� يف �شديقه عبد الرحمن الذي يبكي بني يديه ك�لطفل ،وم� يوؤ ِّرقه اأحي�ن ً� يف هداأة الليل حني يذكر اأرامل ويت�مى و�شيوخ ً� عجزة ك�ن ينفق عليهم مبكة فال يدري م� ح�لهم حتت �شت�ر ذاك الظالم ،لك�ن موقفه من م�شيبته موقف احل�مل يرى يف نومه ك� َّأن م�شيبة عظيمة نزلت به ،في�شتيقظ مرعوب ً� فال يرى �شيئ ً� فيحمد اللـه على اأنه� مل تكن اإل يف املن�م! همه ف�ش َلّه واأم� عبد الرحمن فقد ا�شتغرقه ُّ عم� �شواه ،واأذهله عم� حوله ،وانح�رش يف نف�شه ،فع��س منه� يف �شجن �شيق ل انطالق له منه ،ف�شعر ك�أنه يعي�س غريب ً� يف هذه الدني� ل َّأن �شالّمة هي الدني� عنده رحلت عنه ،وكذلك حب املراأة عن حب اخللق ،اأحدهم� �شيق يختلف ّ متلوؤه الأثرة ،والآخر وا�شع يعمره الإيث�ر. تعزى ال�شديق�ن بعد فرتة من الزمن واندملت جراحهم� الدامية ،ف� َّإن لالأي�م يداً مت�شح كم� اأن له� يداً جترح ،وع�د الأمل اإىل قلب عبد الرحمن ،وك�ن معظم الف�شل يف هذا يرجع اإىل
26
ابن �شهيل فقد ا�شتط�ع اأن يفي�س من عزائه على عزاء �شلبي ً� قلب �شديقه ،وك�ن يف اأول الأمر ً ولكنه م� لبث اأن �ش�ر يف قلب ال�ش�ب املحب عزاء اإيج�بي�ً ،ثم �ش�ر اأم ًال ثم حتول الأمل عزم�ً، ً حتول العزم اإىل عمل. ثم َّ لقد عرف عبد الرحمن ال�شوق من قبل فلم ل يعود اإىل وا�شتغل ب�ل�شم�رشة فيه فربحَ ، عمله ويجتهد فيه حتى يجمع من امل�ل م� ي�شتطيع اأن يغوي ابن ُر ّم�نة فيبيع له �شالّمة؟ فلم ل ي�شتغل عنده ثمن ال�شيعة التي ب�عه� َ ب�لتج�رة وي�شتثمره� وب�لك�شب؟ ومل ل ي�شرتك مع ابن �شهيل يف هذا العمل؟ ومل يعرف ابن �شهيل ال�شفْق يف الأ�شواق من قبلُ .ومل ي�شبق له ب�لتج�رة عهد؛ فقد ولد ويف مهد النعمة ون�ش�أ يف بحبوحة الي�ش�ر ،فك�أمن� خلق يف الدني� لينفق ل ليك�شب .ومل يكن ن�دم ً� على م� اأ�ش�ع من الدني� فقد ك�ن يراه� عر�ش ً� زائالً ،فق�شى لب�نته منه� اإذ ك�نت مقبلة ،فلم ي�أْ�شف عليه� حني اأدبرت .وقد بقيت له ُ�شب�ب ٌة من امل�ل ي�شتطيع اأن يعي�س به� ق�نع ً� بقية حي�ته ،فعالم يكدح ويتعب يف الأ�شواق ويتكلف تذك َر �شديقه ال�ش�ب من ذلك م� ل يح�شنه؟ ولكنه َّ ال�ش�لح وح َّب ُه ل�شالّمة واأمله يف قربه� ،فع ُّز عليه اأن يدعوه مل�ش�عدته يف الو�شول اإىل اأمله فال يعينه بكل م� يقدر عليه. وراأى الن��س ابن �شهيل وابن اأبي عم�ر مر يعمالن يف ال�شوق وي�شطرب�ن فيه ،فرمب� َّ بهم� من ك�ن يعرفهم� منهم ف�ش َّبح اللـه وعجب من تق ُلّب الأي�م. ع�م ون�شف ق�شي�ه يف العمل اجل�د ومر ٌ َّ املتوا�شل يحدوهم� فيه اأم ٌل واحد يب�شم لهم� يف وجه �شالّمة! وك�ن� كثرياً م� جل�ش� من الليل يت�ش�مران وي�شتعيدان ذكري�ت الأي�م امل��شية في�شحك�ن حين�ً ،وي�أْ�شي�ن حين�ً ،ويفرتق�ن على العزم مل�ش�عفة اجله�د وموا�شلة العمل. أنب�ء �شالّمة وك�ن� يف خالل ذلك يت�شقط�ن ا َ من الواردين عليهم� من املدينة ،ويتلقي�ن م� ت�شري به الركب�ن من اأغ�نيه� .ومل ين�شي� يوم ً� لقِي� فيه وارداً من املدينة وك�ن من حم ِّبي الغن�ء ،ف�أن�شدهم� اللحن الذي �شنعته �شالّمة يف اأبي�ت ابن اأبي عم�ر «األ قل لهذا القلب» ،فك�ذا من طرب يذوب�ن! وب�رك اللـه يف جت�رتهم� فجمع� من امل�ل م� ح�شب�ه ك�في ً� لإر�ش�ء ابن رم�نة ،فعقدا العزم على ال�شفر اإىل املدينة؛ وم� هي اإل اأي�م حتى روؤي� ركب جمد ي�رشب يف يخفق�ن على ذلولني 48يف ٍ ال�شحراء نحو طيبة! وك�ن عبد الرحمن ل مير
برابية اأو م� ٍء اأو حِ لةٍ من احللل اأو عل ٍَم من اأعالم الطريق اإل خفق قلبه ،وق�ل يف نف�شه« :لقد راأت هذا عين� �شالّمة!». واإ ْذ مل يبق دون املدينة اإل يوم واحد اعتزل الركب وانفردا عنه بذلوليهم� ي�شتعجالن الطريق. ولحت لهم� مع�مل املدينة فلم ميلك� دمعهم� فرح�ً .وا�شتيقظت فيهم� ذكري�ت الر�شول عليه ال�شالة وال�شالم واأ�شح�به ،وجه�دهم يف �شبيل اللـه حتى ظهر دينه على الدين ك ِّلهِ. واأقبل ا ُأح ٌد يته َلّل! فته َلّل قلب�هم� له؛ وروى ابن �شهيل ل�شديقه قوله عليه ال�شالة وال�شالم يف ا ُأحد« :هذا جبل يحِ ُّب َن� و ُنح ُّب ُه!». ف�أخذت عبد الرحمن َ�ش ْور ٌة من الطرب ك�أنه مل ي�شمع هذا احلديث اإل تلك ال�ش�عة من ابن �شهيل، وم� ك�ن الأمر كذلك ،واإمن� اأث�ر احلديث �ش�عتئذ يف نف�س عبد الرحمن �شيئ ً� مل يكن يثريه من قبل فخ�له جديداً عليه ولي�س بجديد .فقد �شعر عبد ا ُأحداً لي�س الرحمن يف تلك ال�ش�عة ك�أن
يف �شوارعه� حتى وقف� على دار ابن اأبي عتيق، فنزل عن ذلوليهم� وا�شت�أذن� عليه ،فخرج لهم� رج ٌل كه ٌل ح�شن الهيئة ،فم� اإن راأى ابن �شهيل بن حتى اندفع اإليه يع�نقه ق�ئالً« :اأه ًال ي� َ �شهيل ،مرحب ً� ب�ل�شديق الكرمي!» .ثم �ش�فح عبد الرحمن وق�ل لبن �شهيل« :من هذا ال�رشيف الذي معك؟» .فق�ل ابن �شهيل« :هذا �شديقي عبد عم�ر». الرحمن بن اأبي َّ «الق�س؟ ..اأه ًال بك وبه.. ق�ل ابن اأبي عتيق: ّ هي� بن� اإىل املنزل». فق�ل ابن �شهيل« :م� نريد اأن نثقل عليك ي� بن اأبي عتيق». ق�ل ابن اأبي عتيق« :ل واللـه ل َت ْنزلن اإل عندي». ق�ل ابن �شهيل�« :شكراً ي� بن اأبي عتيق ..األ تد َلّن� على دار ابن رم�نة». ق�ل ابن عتيق« :لعلكم� تريدان اأن تري� �شالّمة؟». ق�ل ابن �شهيل« :هو ذاك». فق�ل ابن اأبي عتيق« :اإذن نذهب مع ً� ل�شم�عه� يف جمل�شه� بعد الع�رش». ف�عرت�س ابن �شهيل ق�ئالً« :ولكن� مل ُن ْد َع اإىل هذا املجل�س فلن نح�رشه». فق�ل ابن اأبي عتيق« :اإنه جمل�س يح�رشه �ش�ء من اأهل املدينة بغري دعوة». من َ ق�ل ابن �شهيل« :كيف ذاك؟». ف�أج�به ابن اأبي عتيق ق�ئالً« :اإن ابن رم�نة رجل ت�جر يحب امل�ل ،فهو يعقد جل�ريته جمل�ش ً� كل اأ�شبوع يح�رشه من ي�ش�ء لي�شتهر اأمره�، فيبيعه� ملن ُيغلي له الثمن». فخفق قلب عبد الرحمن عند �شم�ع هذا، وبرقت اأ�ش�رير وجهه ومل يتم�لك اأن ق�ل« :اإذن فهو يريد بيعه�؟». �شك ..وهذا اأ�شلوبه يف ق�ل ابن اأبي عتيق« :ل َّ التج�رة.».. ونظر اإىل ابن �شهيل ق�ئالً« :ك�أين بك جئت ت�شرتجعه� ي� بن �شهيل». ق�ل ابن �شهيل« :ذلك م� جئن� مِ ْن اأجله». فع َّز هذا على ابن اأبي عتيق ،اإذ ك�ن قد �شمع مب� بعث اخلليفة ل�رشا ِء �شالّمة ،ولكنه اآثر اأن ل يعلم يف�جئ �شديقه بهذا النب�أ ،واأن يرتكه حتى َ ذلك بنف�شه من ابن ُرم�نة؛ فق�ل« :اأم� واللـه اإنه� جلوهرة ل ت�شلح اإل لك». ق�ل ابن �شهيل« :ال نذهب اإليه الآن لنك ِل َّم ُه يف �ش�أنه�؟». ق�ل ابن اأبي عتيق« :لي�س الآن ..حتى ت�شرتيح� وتزيال عنكم� غب�ر ال�شفر ،ف�إذا ك�ن
حي يتنف�س جب ًال من �شخر ا َّ أ�شم ،ولكنه ملوق ٌّ وي�شعر ...ويحب!. ذكر عبد الرحمن احلب فذكر �شالّمة ،ونظر اإىل اجلبل احلبيب فو َّد لو ا�شتط�ع ف�حت�شنه! وج��شت نف�شه ب�شور من املع�ين وع�ه� قلبه وق�رش عنه� عقله ول�ش�نه .هذا جبل يحنو على َّ َ املدينة ويرع�ه� ك�أن اللـه اأق�مه ليحر�شه� ،ويف املدينة حمم ٌد حبيب اللـه وحبيب امل�شلمني ،ويف املدينة �شخ�س اآخر يحب عبد الرحمن ويحبه عبد الرحمن« ...في� اأيه� اجلبل احل�ين على املدينة م� اأحن�ك علين�! وم� اأحبن� اإليك واأحبك اإلين�!!». واأخذا ي�شريان على مهل بني النخيل والزروع يف �ش�حية املدينة ،ك�مل�شفقني على والظل اأن يق�رش ذلك الطريق الوادع بني امل�ء ِّ اأمده ،اأو ك�ملتهيبني داخل مدينة الر�شول. حتى اإذا اأ�رشف� على الدي�ر خفق قلب�هم� ونظر كالهم� اإىل الآخر ك�أنه يقول له« :ه� نحن اأول ِء قد و�شلن�». ق�ل ابن �شهيل« :م� اأجمل املدينة! ليح�س له� ب�ش��شة اإن الق�دم اإليه� ُّ واأن�ش�ً». فق�ل ابن اأبي عم�ر: «�شدقت ي� بن �شهيل ،ولكني ل اأدري مل�ذا اأراه� اليوم اآن�س م� كنت اأراه� من قبل». ف�بت�شم ابن �شهيل وق�ل له« :األ َّأن فيه� �ش َالّمة؟». ف�شكت عبد الرحمن َ هنيهة ثم اأ�ش�ر اإىل اجل�نب الغربي من املدينة وق�ل: «اإين اأجد نف�شه� من هذا اجل�نب!». ق�ل ابن �شهيل: أب�رش ي� عب َد الرحمن «ا ْ ف�شرناه� قريب�ً». ف�ندفع عب ُد الرحمن يقول: «وافرحت�ه! ليت �شعري اأتعود اإلين� �شالّمة؟ اأير�شى موله� اأن يبيعه� لن�؟». فق�ل ابن �شهيل: َِ مل ل؟ نحن ع�ر�شون عليه �شعف امل�ل الذي ا�شرتاه� من� به؟ وقد بلغني اأن من داأب هذا الرجل اأن ي�شرتي الغن�ء حتى اإذا فيعلمهن اجلواري َّ َ ب�عهن ب�أثم�ن كبرية». برعن فيه َ َّ ودخال ب�ب املدينة واأخذا يجولن
27
الع�رش �شهدمت� جمل�شه� فق�بلتم� ابن ُرم�نة». ق�ل ابن �شهيل« :ولكن ل نريد اأن يعرفن� اأح ٌد يف املجل�س». علي ذلك ف�عتمدا ق�ل ابن اأبي عتيق« :لكم� َّ علي». َّ واأمر ابن اأبي عتيق غلم�نه ب�إدخ�ل خرجيهم� والعن�ية براحلتيهم� ،ودخل بهم� املنزل ،فتغدي� عنده ،و�ش ًلّي� الظهر وا�شرتاح�، حتى اإذا ك�ن الع�رش اغت�شال وخرج� مع ابن اأبي عتيق اإىل امل�شجد ،ف�شهدوا اجلم�عة ،ثم خرجوا يق�شدون دار ابن ُرم�نة. دار كبرية حتيط به� واأ�رشفوا عليه� ف�إذا ٌ �شب حديقة غَ َّن ُ�ء ،واإذا ٌ فن�ء وا�شع حتت الدار قد ُن َ حج�ب كثيف يجل�س يف ج�نب منه يف و�شطه ٌ الن�ش�ء ي�أتني اإليه من ال ِّرج�ل ،ويف اجل�نب الآخر ُ بهن. ب�ب خ��س َّ ك�نت �شالّمة ق�عدة على كر�شي مو�شوع بني والن�ش�ء ،وعليه� اجل�نبني بحيث يراه� الرج�ل ُ ح َلّة لزوردية ،واأم�مه� من�شدة ت�شع عليه� العود وال�رشاب .وك�ن الن��س قد دخلوا اأفواج ً� وغ�س فقعدوا على الأر�س املفرو�شة ب�لطن�ف�س، َّ املك�ن ب�حل��رشين ول�شيم� ج�نب الرج�ل. ُ وبداأت �شالّمة تع�لج عو َده� وت�ش ُّد م� ارتخى من اأوت�ره. ج�ءت وجل�شت وك�نت امراأة تقول لأخرى َ بج�نبه�« :اأه ًال بك ي� ع�فية .م� ج�ء بك؟ اإين مل اأرك هن� قبل اليوم». ف�أج�بته� �ش�حبته� بلهجة �ش�كية« :ل ج�ء بك ..لقد ج�ء بي هن� م� َ ت�شليني ي� خديجةَ .. تزو َج َب ْعل ِْي امراأ ًة اأخرى وهجرين ،فجئت اأت�شلى َّ بغن� ِء �شالّمة!». احلب فق�لت املراأة الأوىل« :اأيهجرك بعد ذلك ِّ كله؟». فتن َّهدت �ش�حبته� وق�لت« :هذه ق�شمتي ي� خديجة». وك�ن رجل من احل��رشين يكلم �ش�حبه ويقول له« :حق ً� واللـه اإن �شالّمة لنعمة من اللـه على اأهل طيبة ..اإنه� ت�ش ِلّي همومهم واأحزانهم». فق�ل له �ش�حبه« :لكنه� لن تدوم لن� ..لقد بلغني اأن ُر�شلَ يزيد بن عبد امللك قد ج�وؤوا ل�رشائه� من ابن ُرم�نة». فق�ل الرجل« :ل ح َقّقَ اللـه م� تقول». �شمعت ذلك من بع�س ق�ل �ش�حبه« :اإين ُ الرج�ل الذين لهم �شلة وثيقة ب�بن ُرم�نة». وك�نت �شالمة قد بداأت تغني ،ف�شكت الن��س ك�أمن� على روؤو�شهم الطري ي�شتمعون اإليه� وهي تقول:
عدد 144
6ت�رشين 2010 1
�ص �أال ُق ْل ِل َهذَ� � ْل َقل ِْب َهلْ �أَن َْت ُم ْب ِ ُ ْ�ص َو َهلْ �أَن َْت َع ْن َ�سالّم َة � ْل َي ْ� َم ُمق ِ ُ ي َ�سا َر ْت ِب َها �ل َ ّن َ�ى �أال َل ْي َت � ِ ّأين ِح ْ َ َج ِل ْي ٌ�س ل َِ�س ْل َم ْى كُ َلّ َما َع َ ّج ُمزْهِ ُر ودخل ابن عتيق و�ش�حب�ه يف تلك اللحظة فجل�شوا يف اأخري�ت الن��س ،وذلك عندم� ك�نت �شالّمة تقول: َف َيا َر�كِ َب ًا � َ ّإما َبلَغْ َت لطِ ْيبةٍ َو َ�س َ ّمكَ َو� ِد ْي َها �الأغ ُرّ ْ�لُن َ ّ� ُر ا�س ٍق ت َ ّي َة َع ِ َفخُ ْذ َر ْب َ� ًة َو� ْق َر�أْ َ ِ ْ�س ج�ؤْ َذ ُر َل ُه ِيف َمغَ ا ِن ْي َها مِ َن �الأُن ِ فهم�س ابن �شهيل لعبد الرحمن ق�ئالً« :اإنه� ق�س». اأبي�ته� ي� ّ فق�ل عبد الرحمن« :ب�أبي هي واأمي!». رش اإليهم� ابن اأبي عتيق ق�ئالً« :اإنه� ف�أ� َّ أحب مولع ٌة بهذه الأبي�ت تغ ّنيه� دائم�ً ،وهي ا ُّ اأغ�نيه� اإىل اأهل املدينة». البك�ء: وغ َّن ْت �شالّمة وقد خ�لط �شوته� ُ َ�أ ُق ْ�لُ ِل َق ْلب ِْي كُ َلّ َما َز� َد َخ ْفقُه �إال َم ُي َع ِ ّن ْيكَ �الأَ َ�س ْى َو�ل َ ّتذ ُ َّك ُر؟ �ح َت َم ْل ُت ُه اح � ْل َقل ُْب ه ْبنِي ْ ت ََ�س َ ّب! ف ََ�س َ ب َِ�س ْ ٍب َف َما ُي ْجد ِْي َعل َ َّي �ل َت َّ�س ُ ّ ُب؟ الن�ش�ء يبكني وتع�ىل النحيب من فطفق ُ ج�نبهن. وغلب عبد الرحمن الوجد حتى ك�د يغ�شى عليه ،ف�أخذ ابن �شهيل ي�شنده اأن يقع على الأر�س وهو يقول له هم�ش�ً« :ت�ش َّد ْد ي� عبد الرحمن ول تف�شحن� يف الن��س ،اإنهم بدوؤوا ينظرون اإلين�». ال�شجى فك�د وغ َّنت �شالّمة ب�شوت قد براه َّ يبيد: خُ ذَ� �ل َ ّز� َد َيا َع ْين َ َّي مِ ْن ُن ْ� ِر َو ْج ِه َها َف َما َل ُك َما ِف ْي ِه ِ�س َ�ى � ْل َي ْ� َم َمنْظَ ُر �جل ْي َد طُ ْ�لَ َت َل ُفّتٍ غَ د�ً تُتعِ َبان ْ ِ
ف َي ْع ِي ْى َو َيطْ غَ ى ْ َ مع ْ ُ �ل َتف ِ َّج ُر �ل ْد ُ �ل ِب ْي َب ِة نَظْ َرةً ُت ِر ْي َد ِ�ن ِيف َو ْج ِه ْ َ ن ْ� ٌد و�أغْ ُ� ُر َومِ ْن ُد ْو ِن َم ْث َ��ها ُ ُ
«اأم� راأيت �شالّمة كيف ا�شطربت مل� راأته؟». «نعم اإنه� هي الأخرى حتبه!». اأُخِ َذ عبد الرحمن بن اأبي عم�ر اإىل حجرة فو�ش َع على �رشير اأُعِ َّد وا�شعة يف دار ابن رم�نة ِ وتر�س م�ء له ،وق�مت على راأ�شه �شالّمة تع�جله ُّ الورد على وجهه. ووقف ابن ُرم�نة وابن اأبي عتيق وابن �شهيل يف ركن من الغرفة يتح َّدثون ب�شوت خ�ف�س، في�شكر ابن �شهيل ل�ش�حب الدار كرمه وب َِّر ُه ،ثم يذكر له م� قدم املدينة من اأجله ،فيعلن اإليه ابن رم�نة اأ�شفه ويخربه ب�أن �شالّمة قد اأ�شبحت يف ملك يزيد بن عبد امللك ،واأن ُر�ش َل ُه �شيحملونه� و�شيك ً� اإليه ،واأن �شالّمة يف انتظ�رهم ليع ِّينوا موعد ال�شفر. وك�ن ابن �شهيل ي�شمع حديث �ش�حب الدار وهو ل يك�د يتم��شك من اجلزع والأ�شف ،ول يدري كيف يكون وقع هذا النب�إِ يف نف�س عبد الرحمن. وك�نت �شالّمة يف خالل ذلك ت�شمع م� يدور مع يت�ش�قط من بينهم من احلديث؛ فك�ن ال َّد ُ عينيه� ،وم� منعه� اأن ُت ْع ِولَ ب�لبك�ء اإل مك�ن حبيبه� الف�قد وعيه على الفرا�س وهي جتتهد يف تنبيهه واإنع��شه .واأفرغت قربتني من امل�ء الب�رد على راأ�شه فتحرك وفتح عينيه ،ف�ش�حت �شالّمة« :احلمد هلل لقد اأف�ق من غ�شيته». فدن� الثالثة من ال�رشير وقد بدا على وجوههم ال�رشور يحمدون اللـه على جن�ة �ش�حبهم. فلم� وقع نظر عبد الرحمن عليه� ق�ل ب�شوت مرتع�س�« :شالّمة!». ف�أج�بته �شالّمة« :نعم ي� عبد الرحمن ..اأن� هي اأم�مك». أح�س عبد الرحمن بخفة ف�أراد القعود، وا َّ ف�أع�نه ابن �شهيل حتى اإذا ا�شتوى ق�عداً ق�ل: «هي� ي� �شالّمة نرجع اإىل مكة!». والتفت اإىل ابن �شهيل ق�ئالً« :هل ك َلّمت موله� يف اأمره� ي� بن �شهيل؟». فلم يجبه ابن �شهيل ب�شيء؛ والتفت عبد الرحمن اإىل �شالّمة فراآه� تبكي ف�ش�أله�« :م� يبكيك ي� �شالّمة؟» .فلم جتبه بغري البك�ءِ ،ف�ش�ح عبد الرحمن ق�ئالً: «اأخربوين م�ذا حدث ..ي�بن �شهيل م�ذا حدث؟». فتوىل ابن اأبي عتيق جواب عبد الرحمن ّ فق�ل« :جت َّل ْد ي� بن اأبي عم�ر ..اإن �شالّمة قد بيعت ليزيد بن عبد امللك». فنظر اإليه عبد الرحمن ذاهالً :وق�ل« :بيعت
ومل ي ْق َو عب ُد الرحمن على احتم�ل م� به، ف�شهق �شهقة لفتت اأب�ش�ر الن��س اإليه وهو يبكي ويرت َّنح ،وقد ثقل على �ش�عد ابن �شهيل حتى ك�د وجحظت عين�ه ،واأخذت� واحمر وجهه، ير�شه، ُّ ْ َّ متيالن اإىل م�شدر ال�شوت .فم� اإن اأع�دت �شالّمة قوله: خُ ذَ� �ل َ ّز� َد َيا َع ْين َ َّي مِ ْن ُن ْ� ِر َو ْج ِه َها َف َما َل ُك َما ِف ْي ِه ِ�س َ�ى � ْل َي ْ� َم َمنْظَ ُر حتى ا�شتوى على ركبتيه متط�و ًل وجعل يح ِّدقُ يف وجه �شالّمة وعين�ه زائغت�ن ،فلحظته �شالّمة فعرفت وجهه ،وعرفت ابن �شهيل اإىل ج�نبه ،والتقت عين�ه بعينيه� فوقع عبد الرحمن على الأر�س مغ�شي ً� عليه. فق�ل ابن �شهيل« :اأع ِّني ي� بن اأبي عتيق لنحمله اإىل املنزل». فنه�س ابن اأبي عتيق مع ابن �شهيل فحمال �شديقهم� ال�ش�ب وخرج� به والن��س ينظرون اإليهم�. وارتع�شت اأطرافه�، وتغري وجه �شالّمة ْ َّ أح�شت ك�أن الأر�س تدور به� ،ف�أ�شفقت اأن يراه� وا َّ الندي ،49فق�مت الن��س كذلك اأو ُيغْ�شَ ى عليه� يف ٍّ عن كر�شيه� ودخلت ب�ب الدار م�رشعة. وا�شطرب املجل�س و�ش�أل الن��س بع�شهم بع�ش ً� عن احل�دث حتى ارتفع اللغط. وروؤى �ش�حب الدار يجري ُمنطلق ً� يف اأثر ابن اأبي عتيق وابن �شهيل حتى اأدركهم� عند «هلم� به ب�ب احلديقة ،ف��شتوقفهم� وق�ل لهم�َّ : اإىل الدار لنع�جله». ف�أج�به ابن اأبي عتيق ق�ئالً�« :شنع�جله يف دارن�». فت�ش َّب َث بهم� ابن ُرم�نة ق�ئالً« :ل واللـه ل اأدعكم� تخرج�ن به من هن� فيق�شي يف الطريق». فم� ك�ن منهم� اإل اأن نزل على راأيه، فق�دهم� اإىل الدار من طريق اآخر. وانف�س الن��س ُمن�رشفني ،واأخذ الرج�ل َّ ب�بهن وهم والن�ش�ء من يخرجون من ب�بهم َّ ُ يت�ش�ءلون عن احل�دث ،ويروي بع�شهم لبع�س َ م� راآه اأو �شمعه. َ�س ع��شق �شالّمة». «اإنه الق ُّ يت �شالّمة به». َ�س الذي ُ�شمِّ ْ «الق ُّ «نعم هو». «ويحه م� اأتع�س ح�له!».
28
ليزيد بن عبد امللك!». ف�أج�به ابن اأبي عتيق« :نعم للخليفة، وفو�س اأمرك اإىل اللـه». ف��شرب ي� بني ّ ق�ل عبد الرحمن« :اأين ابن ُرم�نة ،اأين موىل �شالّمة؟». فق�ل ابن رم�نة« :ه� اأن� ذا هو ي� بن اأبي عم�ر». فق�ل له عبد الرحمن« :ل ي� بن رم�نة ل تبعه� ليزيد ..بعه� لن� ،نحن اأوىل به� منه». فق�ل ابن اأبي عتيق« :اإن اخلليفة دفع فيه� ع�رشين األف دين�ر ي� ابن اأبي عم�ر». فق�ل عبد الرحمن« :ع�رشين األف دين�ر؟». ق�ل ابن �شهيل« :نعم ع�رشين األف دين�ر، ولي�س معن� اإل األف وثم�من�ئة دين�ر». فق�ل عبد الرحمن�« :شالّمة اأغلى من ذلك.. اإن الدني� ك َلّه� ل تكفي ثمن ً� له� .اأمهلن� ي� بن رم�نة �شن�أتيك ب�أكرث من ع�رشين األف دين�ر. �شن�أتيك مب� تريد». ف�أج�به ابن رم�نة« :اإنه� خرجت من ملكي اإىل ملك اخلليفة ،ولو اأنكم جئتم قبل ذلك لآثرتكم وقبلت منكم م� عندكم». به� ْ فكرب على عبد الرحمن اخلطب فلم يجد �شيئ ً� يقوله ،وبقي �ش�مت ً� برهة من الزمن ك�أنه إلم تطمعني يف �شيء يح�ور نف�شه ويقول له�« :ا َ مل ي�ش�أ اللـه اأن يكون». وقت ان�رشافهم وراأى ابن �شهيل اأن قد ح�ن ُ من بيت ابن رم�نة ،فقد ا�شتف�ق عبد الرحمن ال�شوء ،ف�أوم�أ لبن اأبي عتيق بذلك، وذهب عنه ُ ففهم ابن اأبي عتيق م� اأراد وق�ل« :ن�شكرك ي� بن ُرم�نة على ِب ِّركَ ومعروفِ ك ،واإن� نرى اأن ت�أذن لن� فنن�رشف». فق�ل ابن ُرم�نة« :اإنكم مل تذوقوا عندن� �شيئ ً� بع ُد ،فال تن�رشفوا حتى ن�شنع لكم طع�م�ً». َ�س فق�ل ابن �شهيل« :لي�س بن� الليلة َنف ٌ لطع�م ،وح�شبن� م� لقين� من ف�شلك وتكرمتك». فق�ل ابن رم�نة« :اإنكم اأح َّب ُ�ء �شالّمة ومواليه� ،واإن ل�شالّمة ملك�نة عندي .ولن اأدعكم تن�رشفون حتى تعدوين ب�أن تقبلوا �شي�فتي غداً». فق�ل ابن �شهيل – وقد فهم من عيني �شالّمة اأنه� ترتج�ه اأن ل يرف�س دعوة موله�« :اإذا اأَذ َِن ابن اأبي عتيق ف�إنن� نقبل». فق�ل ابن اأبي عتيق« :لي�س يل اأن اأ�شت�أثر بكم دون ابن ُرم�نة». وتهيئوا لالن�رشاف ،فنه�س عبد الرحمن ونظر اإىل �شالّمة فراأى ابت�ش�مة خفيفة على ثغره� ك�أمن� تقول له« :غداً �ش�أراك».
�خلامتة
اأث�رت روؤية عبد الرحمن وابن �شهيل وجداً قد دفنته الأي�م يف نف�س �شالّمة حتى ك�دت اأن ت�شلوه ،فقد ك�نت تطمع يف قربهم� منذ علمت اأنهم� ي�شتغالن ب�لك�شب ليجمع� م� ًل ي�شرتدانه� به ،فع��شت دهراً على هذا الأمل .ومل� علمت ب�أن اخلليفة قد بعث ُر ُ�ش َل ُه يف �رشائه� ،واأن موله� لن يرغب عن امل�ل الذي يعر�شونه عليه فيه�، حزنت لذلك واأيقنت اأن ل اأم َل له� يف الرجوع اإىل فوطنت نف�شه� على ال ِّر�شى مب� لي�س له� مكةَّ ، منه بد ،واأخذت حتيي يف نف�شه� م� ك�نت حتلم به يف اأي�مه� الأوىل من البلوغ اإىل قمة ال�شهرة ب�شطوع جنمه� يف ق�شور اخلالفة بدم�شق ،تريد �ش�ءت بهذا اأن تخفف عنه� بع�س امل�ش�ب .ولكن َ الأقدار اأن تنك�أ اجلرح املندمل يف قلبه� ،اإذ بعثت حبيبيه� القدميني لي�شرت َّداه� اإليهم� يف اليوم الذي ك�نت تت�أهب للرحيل يف غده مع ُر�شل اخلليفة اإىل ال�ش�م ،حني مل يبق يف ا�شرتداده� ج�ءا قبل ذلك ،واإل فليتهم� مل مطمع ..ي� ليتهم� َ يجيئ� اأبداً. وك�نت قد اأن�شت اإىل اأهل املدينة مل� راأت من ح ِّبهم له� ،وتقديرهم لفنه� ،م� زهده� يف البق�ء يف ال�ش�م وق�شور ال�ش�م ،وجعله� توؤثر َ احلج�ز واإن يئ�شت من قرب حبيبه� فيه ،فكيف وقد قدم هذا احلبيب واأو�شك اأن يحوزه� وحتوزه كت�ب �شبق! لول ٌ ودنت �ش�عة الفراق ،وا�شتدت رغبته� يف البق�ء ب�ملدينة ولو اأي�م ً� معدودة تتم َلّى فيه� العبقري، بروؤية حبيبه� وتتزود من لق�ئه لل�شفر َّ َّ الطويل. فرجت اإىل موله� – وك�نت تعرف اأنه يعزه� ويكربه� – اأن يك ِل َّم ُر�شل اخلليفة يف ت�أجيل �شفره� ثالثة اأي�م اأو يومني. ير�ش ْون بذلك فق�ل ابن ُرم�نة« :م� اأح�شبهم َ ي� �شالّمة». ق�لت له« :قل لهم اإنك تهيئون يل م� يلزمني من الثي�ب واحللي». ف�أج�به� اإىل م� �ش�ألت ،ولكن الر�شل رف�شوا ت�أجيل ال�شفر .ق�ل لهم« :اإنكم ق�دمون به� على اخلليفة ،ف�أمهلون� ثالثة اأي�م اأو يومني لنجهزه� مب� ي�شبهه� من الثي�ب واحللي والطيب». فق�لوا له« :هذا كله معن� قد اأعددن�ه ،فال ح�جة بن� اإىل �شيء منه». ق�ل لهم« :اأمهلون� اإذاً يوم ً� واحداً لتو ِّدع �شواحبه� ومع�رفه�». فق�لوا« :لي�س عندن� اإذن بذلك ،وقد اأمرن�
ب�لرحيل غداً ،فلن نت�أخر غداً حلظة». اأم� عبد الرحمن ابن اأبي عم�ر فقد ق�ش�ه� ليلة ن�بغية 50يف دار ابن اأبي عتيق ،ك�أمن� قرب منه� وم� ُجمِ َع ْت فيه� اآلم حي�ته كله� م� ُ ب ُعد ،فح�شى به� �شدره جملة واحدة! انف�س ال�ش�مر يف الدار واأوى ك ٌّل اإىل مرقده، َّ حتى اإذا غفت اجلفون ت�ش َلّل عبد الرحمن من ج�نب �شديقه ابن �شهيل ف�شعد ال�شطح ،ف�نتبذ منه ركن ً� ل تراه فيه العيون اإ ّل عين ً� واحدة ل تن�م! 51 قر ًة ميرق فيه� الربد اإىل وك�نت ليل ًة َّ العظم ،وك�ن ج�شم عبد الرحمن يرتعد من �شدته، والندى يت�ش�قط عليه ،ول يك�شوه اإل قمي�س خفيف .ولكنه مل ي�شعر بذلك ك�أمن� ك�ن يف منعة منه ب�شواظ الن�ر التي َت َت�ش َّعر يف �شدره. واأخذ ين�جي اللـه ويبكي ،ويركع وي�شجد، ويقوم ويقعد ،ويدعو اللـه ويرجوه ،وي�شكو اإليه وي�شتغفره ،وي�ش�أله اللطف فيم� ق�شى، وي�شتلهمه الر�شد والهدى ،وي�شتعيذ به من غلبة الهوى وفتنة ال�شيط�ن. ن�شي عبد الرحمن يف هذا املوقف كل �شيء.. اإل �شالّمة ،وقد ع َّزت عليه يف الدني� فطمع اأن تكون له يف الآخرة ،ودع� اللـه دعوة هف� له� قلبه، واق�شعر بدنه ،ونظر اإىل ال�شم� ِء فراأى نوراً َّ �شوت ك�أنه �شدى مع ٌ و�ش َ ا َ أ�ش�ءه� حلظة ف�ختفى ُ يرتجع يف ال�شع�ب «اآمني!». َّ ف�طم�أن عبد الرحمن و�شعر ك�أن قِ رب ًة ب�ردة فخبت! وتد َّفق احلمد اأفرغت على الن�ر يف �شدره ْ من فِ ي ِه ك�أمن� ك�ن عليه �شم�م ف�نطلق ،ورق�أ دمعه اإل بقية ع�لقة ب�أهدابه تلمع يف �شوء النجوم! ومل يلبث اأن �شعر ب�لربد يف ج�شمه والبلل يف ثوبه ،فربح ال�شطح ورجع اإىل مك�نه حيث وجد ابن �شهيل يغط يف نومه ،ف��شتبدل بقمي�شه واند�س حتت حل�فه فن�م. قمي�ش�ً، َّ ثم دخل ابن اأبي عتيق على �ش�حبيه ف�أيقظهم� ،فتطهروا لل�شالة و�شهدوا اجلم�عة يف امل�شجد. َ�س وعجب ابن �شهيل اإذ راأى �شديقه الق َّ ن�شط ً� طيب النف�س على غري م� توقعه منه :وق�ل لبن اأبي عتيق يف ذلك ف�ش�ركه العجب ون�شحه اأن ل يقول له �شيئ ً� فيهيجه. 52 واأجيبت دعوة ابن ُرم�نة حني متع ال�شحى فحفلت داره ب�أحب�ب �شالّمة �شيوف ً� أعزاء بولغ يف اإكرامهم واإين��شهم ،فم َّد لهم ا َ وحيوا ال�شم�ط ،وق َّدمت األوان الطع�م والف�كهةُ ، ب�لريح�ن ون�شحوا مب� ِء الورد ،واأديرت عليهم
جم�مر العود والند. واأ�رش ابن اأبي عتيق اإىل ابن رم�نة يقرتح عليه اأن يدعو عبد الرحمن للق� ِء �شالّمة يف مك�ن منفرد ،لعله يريد اأن يقول له� �شيئ�ً ،ولع َلّه� ترغب اأن تف�شي اإليه ب�شيء قبل رحيله� ،فق�ل «حب ً� وكرامة». ابن ُرم�نةّ : فك�نت يداً لبن اأبي عتيق ظل احلبيب�ن يذكرانه� م� ع��ش�. وخال احلبيب�ن فحي� كالهم� الآخر حتية ومرت اأف�شح عنه� القلب حني ق�رش الل�ش�نَّ ، حلظ�ت غ�لية من الزمن ق�شي�ه� يف �شمت يتكلم! وك�نت �شالّمة بطبيعة الأنثى فيه� اأحر�س من �ش�حبه� على نفي�س الوقت ،فبداأت احلديث تقول« :م� ب�ل عينيك حمراوين ي� عبد الرحمن؟ اأمل تنم الب�رحة؟». فنظر عبد الرحمن يف عينيه� وق�ل: «ت�ش�ألينني عن َع ْي َن َّي ..وعين�ك ي� �شالّمة؟». فق�لت �شالّمة« :هذه ق�شمتن� ي� بن اأبي عم�ر». ق�ل عبد الرحمن« :نعم هذه ق�شمتن� ي� �شالّمة ..على اأنه ل ينبغي لك اأن جتزعي ..اإنك ذاهبة اإىل ق�شور اأم َّية ،وواجدة فيه� م� ي�ش ِلّيك البك�ء وين�شيك م�شكين ً� مثلي ..اأم� اأن� .»..وغلبه ُ دون اإمت�م جملته. أمية تن�شيني فق�لت �شالّمة« :ا ُّ أتظن ق�شور ا ّ اإي�ك؟ ل واللـه ي� بن اأبي عم�ر ،لأنت اأح�شن ح� ًل مني .اإنك تلج�أ يف عب�دة ربك بجوار الكعبة كل �شيء عزاء عني وعن ِّ فتجد يف من�ج�ة ربك ً يف هذه الدني� الف�نية ،اأم� اأن� فلي�س يل وجه اأق�بل اللـه به». «فيم ي� �شالّمة؟ األ�شت ت�شومني الفر�س؟». «بلى ي� عبد الرحمن». «وت�شلني اخلم�س؟».
29
«اأ�شلي حين ً� واأترك حين�ً». «ل ي� �شالّمة ل ..اإين لن اأتركك حتى تع�هديني على اأن ل ترتكي �شال ًة منذ اليوم.. األ�شت حتبينني ي� �شالّمة؟». «بلى ي� عبد الرحمن اإين اأحبك». «اأم� حتبني اأن تكوين يل واأكون لك؟». «تلك الأمن َّية ي� عبد الرحمن .ولكن كيف ال�شبيل اإىل ذلك وقد ا�شرتاين اخلليفة ف�نقطع كل اأمل يف �شريورتي اإليك؟». فق�ل عبد الرحمن والدمع يرتقرق يف عينيه: يل يف هذه «اأجل انقطع كل اأمل يف �شريورتك اإ َّ احلي�ة الدني� ،اأم� يف احلي�ة الأخرى ف�إن الأمل ب�قٍ ي� �شالّمة ،واإنه لأم ٌل كبري!». لقينة مثلي تنفق فق�لت �شالّمة: ْ «ولكن اأ َّنى ْ �ش�ع�ته� يف جم�ل�س الغن� ِء وال�رشاب اأن ت�أمل يف احلي�ة الأخرى؟». ق�ل له� عبد الرحمن« :اأم� ال�رشاب ففي الغن�ء ف�أنت حممولة و�شعك اأن تك ِّفي عنه .واأم� ُ عليه وهو �شن�عتك ،واأرجو ا ْأن ل حرج عليك فيه اإذا اأنت ح�فظت على �شالتك و�شي�مك ،وع�شمت نف�شك ب�لتقوى ،حتى يجعل اللـه لك منه مرج�ً. و�ش�أ�شتغفر اللـه لك واأت�ش َّدقُ عنك بكل م� يف�شل من ك�شبي ،و�ش�أجتهد يف عب�دة ربي ع�شى اأن ل اأكو بعب�دة ربي �شق َّي�ً». ق�لت له �شالّمة« :م� اأطيب قلبك ي� عبد الرحمن واأ�شمى روحك! وم� اأجدرك اأن ي�شتجيب أح�فظن أمتنعن عن ال�رشاب وا اللـه لك .واللـه ل َّ َّ أع�شمن نف�شي ب�لتقوى، على ال�شالة وال�شوم ،وا َّ بكل م� ت�شل اإليه يدي ،واللـه يغفر يل قن ِّ ول َّأ�ش ِّد َّ م� دون ذلك». فق�ل عبد الرحمن وقد ا�شتن�ر وجهه« :اإفعلي ي� �شالّمة ،واجعلي ذلك اآية بق�ئك على عهدي». ق�لت له �شالّمة« :اطمئن ي� عبد الرحمن من قبلي ،فو اللـه
عدد 144
6ت�رشين 2010 1
ني على عهدك حتى األقى اللـه ..م� اأهون لأبق َّ احلي�ة بدونك ي� بن اأبي عم�ر!!». ق�ل له� عبد الرحمن« :لعلك تذكرين قول �س َع ُد ٌّو الء َي ْو َم ِئ ٍذ َب ْع ُ�ش ُه ْم ِل َب ْع ِ اللـه تع�ىل «الأخِ ُ اإل ْ ُ امل َّتق ِْني». حتب فتغري وجه �شالّمة ك�أنه� ذكرت �شيئ ً� ل ُّ اأن تذكره ،وق�لت« :عف� اللـه عنك ي� عبد الرحمن، اأاأردت اأن تبكيني وتذكرين ب�شيء يوؤملني ويجرح قلبي؟». فعرف عبد الرحمن م� تق�شد ،واأ�شف لإيالمه� من حيث ل يريد فق�ل له�« :ل وربي م� اأردت تبكيتك ي� �شالّمة ،واإمن� اأردت اأن اأب�رشك واأذكرك قوله عز وجل«اإل املتقني» ،ف�إنهم أخالء يوم القي�مة». �شيبقون ا َ ف�رشى عن �شالّمة وع�د الإ�رشاق اإىل وجهه� وق�لت« :ف�ش�أذكره� اإذاً ي� عبد الرحمن الء َي ْو َم ِئ ٍذ َب ْع ُ�ش ُه ْم ولن اأن�ش�ه� م� حييت« :الأخِ ُ �س َع ُد ٌّو اإل ْ ُ امل َّتق ِْني». ِل َب ْع ِ فق�ل عبد الرحمن« :الآن اطم� َّأن قلبي ف�ذهبي ي� حبيبتي حيث �شئت ،ف�إنك يل اإن �ش�ء اللـه». فق�لت �شالّمة« :نعم ي� حبيبي ..اأن� لك اإن �ش�ء اللـه». مر ْت على احلبيبني م� اأق�رشه� من �ش�عة َّ خيل اإليهم� اأنه� حلظة مل يق�شي� فيه� �شيئ�ً ،وقد ق�شي� كل �شيء. و َّدع كالهم� �ش�حبه بعني دامعة ولكن بنف�س مطمئ َّنة. أزف الرحيل وم� هي اإل �ش�عة و�ش�عة حتى ا َ وخرج املعجبون ب�شالّمة من اأهل املدينة – وهم كثري – ي�ش ِّيعو َنه� من رج�ل ون�ش� ٍء وعلى ٌ خلق ْ ٌ وجوههم الك�آبة واحلزن ،فم�شوا خلفه� وهي راكبة على بغله� ف�رهة ،53حتى و�شلوا اإىل �شق�ية �شليم�ن بن عبد امللك يف خ�رج املدينة بجم�لهم حيث ك�ن ُر ُ�شل اخلليفة ينتظرونه� ِ وهوادجهم ،ف َنزلت عن بغلته� وق�لت للر�شل: ِ «قوم ك�ن يغْ�شَ ْو َنني وي�ش ِلّمون علي ول ب َّد يل ٌ من وداعهم وال�شالم عليهم ،فهل ت�أذنون لهم لي�شمعوا مني يف هذه الرحبة ،54واأ�ش�رت اإىل رحبة وا�شعة لق�رش هن�ك. ف�أخذ الر�شل يت�ش�ورون ،فمنهم من اأج�ز ومنهم من منع ،وطفق الذين اأج�زوا ي�شتنزلون رفق�ءهم اإىل راأيهم يقولون لهم :اأترغبون عن َ غلف �شم�عه� فيتح َّدث عنكم اأهل املدينة ب�أنك ُ القلوب ،55غِ الظ الأكب�د؟ وم� زالوا بهم حتى وافقوا ل�شالّمة« :افعلي م� �شئت على اأن ل تطيلي اللبث».
َيا َح ِب ْيبِي � ْإن َجا َر َد ْهرٌ َع َل ْينَا �ب َو َ�سقَانا بِا ْل َب ْ ِ �ل�ص ِ ي ُم َرّ َ ّ َ اق فَا ْل َل َي ِال َت ْفنَى َو ُح ُ ّبكَ َب ٍ ِيف ف�ؤ�دِي َومِ ْث ُل َما بِكَ َما ب ِْي َ�س ِه َد �للـ ُه � َ ّأن ُح َ ّبكَ َع ٌّف اب َ�س َي ُك ْ� ُن َ ّ �ل�س ِف ْي َع َي ْ� َم ْ ِ �ل َ�س ِ
ف�أ�ش�رت �شالّمة اإىل الن��س اأن يدخلوا الرحبة لتودعهم بلحن تغ ِّنيه لهم ،فك�دوا يطريون من الفرح ،واأخذوا يلهجون ب�لثن�ء عليه� ويدعون له�. وتدفقوا اإىل الرحبة حتى غ�شت بهم، 56 وا�رشاأبت اأعن�قهم اإىل �شالّمة وجعلوا يتط�ألون لريوه� حيث فرح الطوالُ ب�أنف�شهم وك�أن لهم يداً يف طولهم ،واأ�شِ ف الق�ش�ر لأنهم مل يكونوا طوالً، ومت ّنوا لو زيدوا �شِ رباً لريوا �شالّمة وقد وقفت على مو�شع مرتفع خ�رج الرحبة وبيده� العود، ف�أخذت ت�رشبه وتغني بلحن حزين و�شوت مكلوم:
و�شمتت حلظة ثم ق�لت وهي جت ِّفف دمعه�: «�شكراً ي� اأحب�ئي حل�شن وداعكم ..اأ�شتودعكم اللـه جميع ً� ي� اأهل طيبة! اأ�شتودعكم اللـه ي� جرية الر�شول!». وك�نت ال ُّدموع تنهمر من عيون القوم ،وم� منعهم من اأن ي�شيحوا ب�لبك�ء وقت غن�ء �شالّمة اإل اإ�شف�قهم اأن يف�شدوه عليه� ،فلم� انتهت من ذلك واأخذت ت�شكرهم وت�شتودعهم اللـه اأطلقوا اأ�شواتهم و�ش�حوا يبكون ويقولون: «ن�شتودعك اللـه ي� �شالّمة! يحفظك اللـه ي� �شالّمة!». 59 ونزلت �شالّمة عن الن�زش وم�شت تخرتق اجلمع حتى وقفت اأم�م هودجه� ،فتلق�ه� ابن رم�نة ف�ش�فحه� مو ِّدع�ً ،وتاله ابن اأبي عتيق وج�ء ابن �شهيل ف�ش�فحه� فودعته �ش�كرة، َ فقبلت يده ب�كية ،وتقدم ابن اأبي عم�ر ف�ش�فحه� ق�ئالً« :اأ�شتودعك اللـه ي� �شالّمة!». ف�أج�بته ب�كية :اأ�شتودعك اللـه ي� بن اأبي عم�ر». ق�ل له�« :ل تن�شي ي� �شالّمة اآية الذكرى». فق�لت« :لن اأن�ش�ه� ي� عبد الرحمن». الء َي ْو َم ِئذٍ.»...... ق�ل « :الأخِ ُ �س َع ُد ٌّو اإل ْ ُ امل َّتق ِْني ». فق�لتَ « :ب ْع ُ�ش ُه ْم ِل َب ْع ِ وا�شتوت على هودجه� فنه�س اجلمل الب�رك وحترك الركب فتع�ىل �شي�ح اجلميع ،وطفقت ووقعت عينه� على �شالّمة ت�شري بيديه� حتييهم، ْ رت ثغره عبد الرحمن بن اأبي عم�ر ينظر اإليه� ويف ُّ عن ابت�ش�مة تلمع بني الدموع وهو ير َّدد ٌ « :اإل ِني ..اإل ْ ُ ُْ امل َّتق ِْني.». امل َّتق ْ َ وك�نت تلك اآخر نظرة ل�شالّمة يف عبد الرحمن ولعبد الرحمن يف �شالّمة. وك�نت هذه اآخر كلمة �شمعته� �شالّمة من عبد الرحمن...
ِمت َيقِين ًا فَا َر ُق ْ� ِين َو َق ْد َعل ُ اب. َما ِل َْن ذَ�قَ فُر َق ًة مِ ْن �إ َي ِ ين اب َق ْد ت َركُ ْ� ِ ْ � َ ّإن �أه َل ْ ِ �ل َ�س ِ 57 َ ً اب �س �ل ْ ه ا أ ب ي ر خ ا لع � م لِ ِ اطِ َ ِ ْ ِ َ ِ ُْ ْ فق�ل رجل من امل�شيعني« :وا اأ�شف�ه عليك ي� �شالّمة! اإن� لن ن�شمعك بعد اليوم!». وق�ل اآخر« :م� اأ�شعد اأهل ال�ش�م بك!». و�ش�حت اإحدى الن�ش�ء�« :شالم على اأي�مك ي� �شالّمة!». وا�شتمرت �شالّمة يف غن�ئه�: اب َق ْد َت َركُ ْ� ِين � َ ّإن �أَ ْه َل ْ ِ �ل َ�س ِ اب ُم ْ� َلـ َع ًا َخاطِ ِر ْي َباأَهِ لِ ْ ِ �ل َ�س ِ ان َع َل ْي ُه ُم، �أه ُل َب ْيتٍ َجار �ل َزّ َم ُ تاب. َما َعلَى �ل َ ّد ْه ِر َب ْع َد ُه ْم مِ ْن عِ ِ �ن مِ ْن ِح ِ ّي ِ�س ْد ٍق كَ ْم ِبذَ�كَ ْ�ل ُُج ِ 58 َ اب �ســـــ َب ِ َوكُ ــــ ُه ْ�لٍ �أعـــــ ِـ َفّةٍ َو َ وجعلت تك ِّر ُر هذا البيت وهي تدور بعينه� يف اجلمع حتى ملحت عبد الرحمن بن اأبي عم�ر واقف ً� يف اأخري�ت الن��س واإىل ج�نبه ابن �شهيل وابن اأبي عتيق وك ُلّهم ينتحب .فطفر ال َّدمع من عينه� واأخذت مت�شحه مبنديله� ،واأخذت تغني بنغمة متلفة عم� قبل وقد ارتفع �شوته� وا�شتد رنينه« :ي� حبيبي! ي� حبيبي! ي� حبيبي! َ�ب يا َح ِب ْيبِي َي ْ� ُم � ْل ِف َر�ق َعذ ُ َ�ب! ذ ع ن مِ ِل ْل ُمحِ ِ ّب ْ َ ي َيا له ْ َ ِ لي � ْأن َل ْي َ�س عِ ْندِي َو َع ِز ْيزٌ َع َ ّ اب َيا َح ِب ْيبِي ِلكَ�سْ ِف َهذَ� ْ�ل َُ�س ِ غَ ْ ُي نَا ٍر ِيف ُم ْه َجتِي ِيف � ِ ّتقَادٍ َاب! َو ُد ُم ْ� ٍع مِ ْن ُم ْق َلتِي ِيف �نْ�سِ ك ِ ��سطَ ْع ُت ب ِْع ُت ُع ْم ِر ْي ِب َي ْ� ٍم َولَ� ْ َ َ اب! �ل�س َح ِ ِف ْي ِه �أ ْلقَاكَ َيا �أ َع َزّ ِ ّ ثم غريت نغمته� اأي�ش ً� وغ ّنت ب�شوت اأهداأ واأنعم. ي� حبيبي! ي� حبيبي! ي� حبيبي!
30
-1ا ِ الرجل على نف�شه من قراءةٍ حل ْز ُب :م� يجع ُل ُه َّ يل حِ ْزبي َمن الق ُْرا ِآن، و�شالةٍ ك�ل ِو ْرد .ويف احلديث :طَ َراأَ َ َ َّ ْ�ش َيه « .املحرر» ف�أَ ْح َب ْب ُت اأَن ل اأَ ْخ ُرج حتى اأَق ِ واملج َفّف يف -2القديد :اللحم املق َّدد ٍاملُم َلّح ٍ
-17ا�شتخرطت ب�لبك�ء :اأي ا�شت َّد بك�وؤه�.
ال�شم�س .وال ُبلغة :الكف�ية « املحرر»
-18اأي ل يرتك زي�رته بل يع�وده�.
-16بعلت :اأكرثت اجلدال ،ج�ء يف حديث ال�شورى «فم ْن َب َعلَ عليكُم ا ْأم َركُ م ف� ْق ُتلوه» لعمر بن اخلط�ب َ
-42ح�شح�س :ب�ن وظهر ،ج�ء يف �شورة �س احلق ،اأ َن� َر َاو ْد ُته عن َنفْ�شِ ِه واإنه �شح َ يو�شف «:الآن َح َ َمل َِن ال�ش�دقني»
-19امل�رشبة :الغرفة ،و�شميت كذلك لأنه� تكون
-4اجل َُّمة :هي جمتمع �شعر الراأ�س وهي اأكرث من
-43النحيزة :الطبيعة وقيل النف�س.
م�ش�شة لل�رشب.
الوفرة كم� ج�ء يف ال�شح�ح« املحرر»
-44التربيز :ال�شبق والتفوق ،ومنه الربوز.
-20البيت�ن من �شعر عروة بن اأذينة وهو من
-5الف�غية :فروع
تر�ش َ�س من العينيني. -45رف�س الدمع :اإذا َّ
�شعراء املدينة يف القرن الث�ين للهجرة.
�شجر احل َّن�ء. -6الأبي�ت من �شعر عمر بن اأبي ربيعة ،وك�ن
-46الوكد :اجلهد وال�شعي.
-21قوارع العذاب :اأي اأعلى مو�شع يف العذاب..
-47ا�شتمراأ :تق َّبل وا�شت�ش�غ.
-22الأبي�ت للح�رث املخزومي وهو �ش�عر اأموي
كل دابة ي�شهل ركوبه� من الإبل -48الذلولُّ :
من اأهل مكة.
املغنون يغنون به� يف
واخليول و�شواهم�.
-23اأنف اأقنى :مرتفع من الأعلى وحمدودب من
املدينة « املحرر»
و�شطه.
-7الق�لة :القول.
الندي :جمل�س القوم ،ومنه الندوة والن�دي -49 ُّ واملنتدى.
-24الطن�ف�س :ال ُب ُ�شطُ . .
-8ال�رشو :ال�شخ�ء ،وقوم
-25الزرابي :الو�ش�ئد.
�رشاة ،اأي كرميون ذوو غنى.
-50ب�ت ليلة ن�بغية :اأي ليلة �شديدة وق��شية، وهي م�أخوذة من قول الن�بغة:
-26اخلوان :امل�ئدة.
-9ال ُغ َّنة يف ال�شوت :الرتخيم. � -10ش�عر قري�شي من الع�رش
-27ط َّبة يف الغن�ء :اأي دائبة يف تنميقه
�ور ْتنِي َ�شئ ِْيلَة َفب ُِّت كَ � ِّأين َ�ش َ ال�ش ُّم نَ�قِ ُع الرق ِ ْ�س يف اأَ ْن َي� ِب َه� ُّ مِ َن ُّ
-28الأبي�ت لعروة بن حزام يف حبيبته عفراء.
َِ حلل ِْي ال َّن�ش� ِء ِيف َي َد ْي ِه َق َع�قِ ُع « املحرر»
وحت�شينه.
أموي ،ولقب ب�لرق َّي�ت ،لأنه تغ َّزل ب�أكرث ال ِّ من ثالث ن�ش�ء كل واحدة منهن ا�شمه� ُرق َّية. «املحرر»
-11الأبي�ت كم� ي�شري �ش�حب الأغ�ين ليزيد بن الطرثية ،وهو
�م َ�شل ِْي ُمه� ُي َ�ش َّه ُد مِ ْن ل َْيلِ ال َّت َم ِ
-29حرب َعوان :اأي حرب م�شتمرة ل تنتهي.
-51قرة� :شديدة الربد.
-30ن�ب :اأي َقبِلَ توبته.
-52متع :ارتفع وط�ل.
-31البيت�ن من �شعر عبد الرحمن بن عم�ر الق�س.
-53ف�رهة :ن�شطة.
كم� وردا يف الأغ�ين «.املحرر»
اأح ُد اأ�شهر �شعراء احلب يف العهد الأموي. -12
الأرا�شي املنحف�شة.
«املحرر»
-3القليد :املفت�ح ،معرب« ..املحرر»
اجلف�ن:
-41النجود :الطرق املرتفعة ،والأغُ ور :الأغوار اأي
-32البيت�ن من �شعر عبد الرحمن بن عم�ر الق�س. كم� وردا يف الأغ�ين «.املحرر»
الِق�ش�ع
-54الرحبة :الف�شحة. -55قُلوب غُ لف:اأي اأحيطت بغالف فهي ُ�ش ٌّم، ويف احلديثَ :ي ْف َتح قُلوب ً� غُ لْف ً� اأَي ُم َغ َّ�ش�ة مغط�ة.
ي�شن :يبخل. ُّ -33
الكبرية.
-34جمجم الرجل بكالمه :اأي تلفظ بكالم غري
-13هذه الأبي�ت هي لعبيد اللـه
-56يتط�ألون :يتط�ولون ..اأي يرفعون من ق�م�تهم بني اجلموع.
مفهوم.
بن قي�س الرق َّي�ت واملطل :الت�شويف يف
-35القين�ت :جمع قينة وهي اجل�رية.
اأجن�ز الوعد « املحرر»
-36اهتبله� :انتهزه� ..وغرة :غفلة.
-14املركن :وع�ء كبري
-37رق�أ دمعه� :شكن.
ك�لط�شت ،تغ�شل فيه الثي�ب.
-38بحر جلي :كثري املوج.
-15هذه الأبي�ت هي لعبيد
-57احل�ش�ب :مو�شع رمي احل�شى مبنى يف مكة. -58احلجون :جبل ب�أعلى مكة فيه مدافن اأهله� كم� ج�ء يف معجم البلدان« املحرر» -59الن�زش :املك�ن املرتفع.
-39اأخنى عليه الزم�ن :م�ل عليه ب�شدائده.
اللـه بن قي�س الرقي�ت « املحرر»
َهت :اأف�قت. َ -40نق ْ
31
عدد 144
6ت�رشين 2010 1