ألمصير

Page 1

‫المصير‬ ‫مذكرات مواطن عراقي‬

‫رياض القاضي‬

‫دار الحكمة‬ ‫لندن‬


‫ مذكرات مواطن عراقي‬..‫• المصير‬ ‫ رياض القاضي‬:‫ • المؤلف‬ 2014 ‫ األولى‬:‫ • الطبعة‬ ‫ دار الحكمة ـ لندن‬:‫ • الناشر‬ ‫ ـ لندن‬MBG INT ‫ شركة‬:‫ • التصميم‬

ISBN: 978 1 78481 004 7

‫© حقوق الطبع محفوظة‬

DAR ALHIKMA

Publishing and Distribution

Chalton Street, London NW1 1HJ Tel: 44 (0) 20 7383 4037 Fax: 44 (0) 20 7383 0116 88

E-Mail: hikma_uk@yahoo.co.uk Website: www.hikma.co.uk


‫الفهرست‬ ‫المقدّ َمة ‪7........................................‬‬ ‫ُ‬

‫البداية ‪11........................................‬‬ ‫نبذة عن عائلتي ‪12. .............................‬‬ ‫اليوم األول في البصرة‪16. .........................‬‬ ‫البصرة ‪22. ....................................‬‬ ‫عباس البارودي متعهد حفالت الفنان كاظم الساهر في البصرة ‪24.‬‬ ‫إعدام ميت‪27. .................................‬‬ ‫تبييض السجون في صيف ‪30. ............... 1995‬‬ ‫هجوم على مقر القيادة الحزبية في منطقة البصرة القديمة ‪32. ..‬‬ ‫وفاة والدتي وخطوة االلف ميل‪35. ..................‬‬ ‫يوم الوداع ‪37. .................................‬‬ ‫اليوم االول في مديرية أمن التأميم (كركوك) ‪38. .......‬‬ ‫التخطيط للهروب‪40. ............................‬‬ ‫المخيف ‪48. ............................‬‬ ‫المسير ُ‬ ‫‪3‬‬


‫اليوم االول في كردستان ـ ربيع ‪ 1999‬ـ نيسان‪55........‬‬ ‫التحقيق ‪59. ...................................‬‬ ‫اعتقالي في سد مديرية أمن دربندخان ‪63. ............‬‬ ‫أيامي في مديرية امن السليمانية‪72. .................‬‬ ‫ما بعد السجن ‪81. ..............................‬‬ ‫في استضافة المخابرات االيرانية ‪84...................‬‬ ‫المحاولة الثانية الى ايران ‪92. ......................‬‬ ‫الرجوع الى كردستان العراق ‪96. ....................‬‬ ‫عبور جبل خورمال العالي‪103......................‬‬ ‫الطريق الى طهران (هشكرد)‪111...................‬‬ ‫اليوم االول في حقول الكرز ‪117....................‬‬ ‫لشكر أباد االيرانية ‪123...........................‬‬ ‫التحرك الى برديس ‪129...........................‬‬ ‫زيارة كردستان العراق ‪132................... 2000‬‬ ‫الحب وأشياء أخرى ‪135..........................‬‬ ‫السفر الى السليمانية ‪138.........................‬‬ ‫‪4‬‬


‫التش ُيع ‪142....................................‬‬ ‫الهروب الى تركيا ‪145............................‬‬ ‫الى تركيا ‪149..................................‬‬ ‫أسطنبول مدينة االحالم ‪160......................‬‬ ‫الطريق الى اليونان ‪163...........................‬‬ ‫المحتم ومالئكة الرحمة ‪166.................‬‬ ‫الغرق ُ‬ ‫‪ 40‬يوما في الكمب اليوناني ‪172...................‬‬ ‫تركيا ترحب بنا ‪174.............................‬‬ ‫تركيا ـ ايران ـ الحدود الروسية بانتظارنا ‪177...........‬‬ ‫الى إيران ‪194..................................‬‬ ‫شكرا يا ضوء القمر ‪198..........................‬‬ ‫الى احضان اسطنبول ‪204.........................‬‬ ‫الهروب من سجن اسطنبول ‪209....................‬‬ ‫الطريق الى اليونان ‪216......................2003‬‬ ‫‪ 2003/4/9‬سقوط بغداد ‪224....................‬‬ ‫ايطاليا ـ المانيا ـ باريس ‪227.................. 2005‬‬ ‫لندن ‪234.....................................‬‬ ‫‪5‬‬



‫قد َمة‬ ‫املُ ّ‬

‫العراق لي�س البلد الوحيد يف العامل الذي يتميز باختالف‬ ‫تكوينيه العجيبة قيا�سا باملذاهب املتعددة يف الهند وغريها‬ ‫من الدول‪ ،‬لو �أردنا ان نقارن مقارنة عقالنية‪ ..‬بل وحتى‬ ‫البلدان املتخلفة اتفقوا فيما بينها‪� ..‬إال ان هذا الوطن املنكوب‬ ‫الذي �سيطرت عليه قوى خمتلفة مازال �ضحية �أالعيب الدول‬ ‫املجاورة‪ ..‬والتي حتاول و�ضع العراق داخل الدائرة الطائفية‬ ‫وتغليفها بق�رشة التفرقة‪ ..‬ولكنها ف�شلت يف تر�سيخ العداء‬ ‫القاتل بني مكونات ال�شعب العراقي احلر‪ .‬بل وما زالت‬ ‫االحزاب العراقية التي دخلت بعد �سقوط بغداد ت�سعى اىل بذر‬ ‫جبهة لالنتقام الطائفي بني �صفوف �أبناء الوطن الواحد بدال‬ ‫من حقن الدماء و�أعمار ما خربته احلروب و�سيا�سات �صدام‬ ‫ح�سني املجنونة‪ .‬وعملت الأحزاب على التنكيل بني �صفوف‬ ‫‪7‬‬


‫مناف�سيها وذلك بزرع كب�سولة القتل لل�شعب ومن ثم اتهام‬ ‫اجلهات الأخرى بتنفيذ خمططات تهدف اىل زعزعة اال�ستقرار‬ ‫االمني مما ا�ضطر ال�شعب اىل متني بالرجوع اىل عهد الطاغية‬ ‫العراقي ال�سابق‪.‬‬

‫�صدام ح�سني ا�ستلم العراق وهو ب�أْوج ح�ضارته‪ ..‬وملا‬ ‫كاد البلد على و�شك ان يخرج من عامل البلدان النامية قبل‬ ‫ا�ستالم الرئي�س اجلديد ال�سلطة‪ ...‬غلب غروره وكرهه لإيران‬ ‫َ‬ ‫وحال دون نقل البلد اىل‬ ‫ال�سوء يف �ألإ�رساع من بتدمري العراق‬ ‫مرتبة الدول املتقدمة وهذا ما ال يتقبله االغلبية من فئات طبقية‬ ‫معينه يف العراق امتع�ضوا من تهم�شهم مما و�صل اليه العراق‬ ‫من ظروف م�ستميت‪ ..‬بل و�أ�رصوا على انه بطل قومي ولكنه‬ ‫كان يف الواقع بطل ورقي �صنعته امريكا �ضد ايران ومن ثم‬ ‫مزقته ومزقت معه وطن ًا كام ً‬ ‫ال‪.‬‬ ‫ال�رصاعات على خريات وتراب العراق كانت حتى قبل‬ ‫بعثة الر�سول «عليه ال�صالة وال�سالم» وا�ستهداف ح�ضارته‬ ‫احتل تفكري املحتلني الذين ق�صدوا زرع بذرة الفتنة الطائفية‪..‬‬ ‫ولكن رغم تلك الظروف فالعراق مازال ينب�ض باالمل‪ ..‬وها‬ ‫نحن و�صلنا اىل قمة الدمار وهتك االعراف يف ظل دولة طاملا‬ ‫حلمت ب�سقوط بغداد‪ ..‬فهي �صفوية حاقدة على ح�ضارة‬ ‫وادي الرافدين ومب�ساعدة فيالقها التي ترعرعت حتت رايات‬ ‫‪8‬‬


‫الفُر�س املجو�س‪.‬‬ ‫حيث بد�أت ايران من قبل بعثة الر�سول بالتدخل يف ال�ش�أن‬ ‫العراقي وال يخفي علينا عهدا الر�شيد واملعت�صم كيف �أراد‬ ‫الربامكة ن�رش الفنت وتنفيذ م�شاريع االغتياالت لهدم الدولة‬ ‫العراقية �آنذاك بل وحتى الأولياء ال�صاحلني مل ي�سلموا من فتنهم‬ ‫و�سنة الر�سول بعد‬ ‫وحتريفهم بكل وقاحة للكتب اال�سالمية ُ‬ ‫وفاة عمر بن اخلطاب و�أبو بكر ال�صديق‪ ،‬ر�ضوان اهلل تعاىل‬ ‫ال�سنة وا�ستعمال التقية‬ ‫عليهما‪ ،‬وخلق البدع وتكفري اهل ُ‬ ‫املُخزية دليل على ُجنب من يحاولون هدم ح�ضارة ا�سالمية‬ ‫عمرها مئات ال�سنني‪� ،‬شهد لها القيا�رصة وامللوك‪ .‬بل وقد‬ ‫و�ضع اهلل عالمة كربى لهم وهي قربا ابو بكر وعمر جنب قرب‬ ‫احلبيب امل�صطفى لتكون اكرب دليل على نفاقهم املزعوم بان‬ ‫ال�صحابة قد خانوا الر�سول بعد موته وت�آمروا على �سيد البلغاء‬ ‫علي بن ابي طالب‪ ،‬كرم اهلل وجهه ال�رشيف‪ ،‬يف موقعة عرفت‬ ‫با�سم ال�سقيفة امل�شهورة يف كتب الفر�س‪.‬‬ ‫و�صل العراق اىل ا�سو�أ نقطة يف تاريخه الدامي والطويل‬ ‫بعد ان نفذت امريكا م�آربها يف العراق وتركها لإيران كي‬ ‫تهدد دول اجلوار بها‪ ..‬وجعل اخلليج لعبة يف ايديهم لت�سويق‬ ‫ا�سلحتها لهم‪ ،‬كلما نفخت ايران �صدرها واطلقت زئريها‬ ‫خافت العرب وا�ستنجدوا ب�شيطانهم االكرب ل�ضخ اغلى‬ ‫‪9‬‬


‫اال�سلحة لهم وال�ضحك على عقولهم وت�أمني بقاء اال�رسة‬ ‫احلاكمه يف ال�سلطة‪.‬‬ ‫�صدرة والتي عرفت بالربيع‬ ‫ثم جاءت �أدوار الثورات املُ ّ‬ ‫العربي‪ ،‬التي من املفرو�ض انهاء خريف الديكتاتورية‪..‬‬ ‫ولكن ما فاتنا هي انها رخ�صة امريكية من لقيام هكذا ثورات‬ ‫واال�ستغناء عن عمالئهم من الر�ؤ�ساء‪.‬‬ ‫ال ت�ستغرب فكلها ت�سويق امريكي لل�رشق‪ ،‬فما دام العرب‬ ‫يريدون ثورة فلنعطها لهم لأن كل من �سي�أتي �سيكون عميال‬ ‫خمل�صا‪ ،‬فهذه منطقتهم و�إذا ما زالت الأخطار والتهديدات‬ ‫من املنطقه ف�ستكون امريكا و�أعوانها يف م�أزق كبري‪ .‬هذا‬ ‫الكتاب الذي اقدمه لكل �شخ�ص هو بع�ض من معاناة‬ ‫العراقيني و�إحداثها التي خلت كانت حقيقة ُكتبت لكي‬ ‫يطلع عليها العامل على او�ضاع الالجئني وهم يف طريقهم اىل‬ ‫البالد االوروبية ورغم ذلك مل ي�سرتح املواطن من وعثاء ال�سفر‬ ‫فلجو�ؤه اما ُيقبل او ُيرف�ض وتلك اعظم امل�صائب‪.‬‬

‫ريا�ض القا�ضي‬ ‫لندن ـ ‪2014/04/12‬‬

‫‪10‬‬


‫البداية‬

‫الأحوال املعي�شية يف العراق باتت ال ت�رس اخلواطر‪،‬‬ ‫فال�شعب امتع�ض كثريا ب�سبب ت�رصيحات القائد امل�ؤ�س�س‬ ‫والرفيق املنا�ضل والأب و‪ ...‬و‪ ...‬و الخ‪ ...‬فقد ا�ضحت له‬ ‫الع�رشات من امل�سميات التي بتنا نحفظها عن ظهر قلب‪.‬‬ ‫يف بداية الت�سعينات دخل �صدام ح�سني الكويت وجردها‬ ‫‪11‬‬


‫من كل خرياتها‪ ،‬وبدال من ك�سب ت�أييد ال�شعب الكويتي‬ ‫ح�صل العك�س‪ ..‬ففتح الطريق جلنوده لالغت�صاب والقتل‬ ‫ونهب البلد التي كان ي�سجل فيها انت�صارات وهمية‪ ..‬و�أعاد‬ ‫الأحداث نف�سها التي جرت يف املحمرة ومناطق عربية عديدة‬ ‫التي تقع يف �ضمن مناطق ايران ال�سوء يف بداية احلرب‪ ..‬حيث‬ ‫خرج ال�شعب العربي االيراين خمل�صني وم�ؤيدين لقائد ال�رضورة‬ ‫فرد عليهم بالقتل والتنكيل و�أي�ضا تكرر القتل يف الكويت‪،‬‬ ‫ومازال ال�شعب الكويتي يتذكر تلك امل�أ�ساة ال�صدامية‪..‬‬ ‫وخطف الرهائن التي عبرّ ت عن مدى وح�شية �صدام انذاك‬ ‫يف الكويت‪.‬‬

‫نبذة عن عائلتي‪:‬‬ ‫ننحدر من عائلة غنية ـ بيت القا�ضي ـ حيث اغلب افراد‬ ‫عائلتي �شغلوا منا�صب يف الدولة ونحن من ا�رسة كبرية تنق�سم‬ ‫اىل �شيعه و�سنه ومل نعرف قط خالل حياتنا ما تعني تلك‬ ‫امل�سميات او الفوارق املذهبية �إال بعد �سقوط �صنم �صدام‬ ‫ح�سني ‪ 2003‬والتي اتاحت لأمريكا ان حتتوي نقطة الطائفية‬ ‫يف العراق والتي راح �ضحاياها من الأبرياء ال�رشفاء من كال‬ ‫املذهبني‪.‬‬ ‫‪ 1989‬انهيت درا�سة املتو�سطة فقد كان حلمي الكتابه‬ ‫‪12‬‬


‫ون�رش م�ؤلفاتي وبد�أت اكتب من ال�سن ‪ 15‬مت�أثرا بروايات‬ ‫جنيب حمفوظ و�إح�سان عبد القدو�س و�شاركت يف م�رسحية‬ ‫للمخرج العراقي املرحوم واجب �سعيد‪ .‬واذكر ا�سمها‪ :‬عندما‬ ‫عاد الفار�س مبدينة املو�صل العراقية يف الثمانينات‪� ،‬إ�ضافة اىل‬ ‫ق�ص�ص ق�صرية ن�رشتها يل جمالت االطفال يف الثمانينات‪.‬‬ ‫كان عمي مديرا لل�سجون يف العراق‪ ،‬ويف ال�سبعينات‬ ‫بالتحديد‪ ..‬ويل اخ كان يعمل كملحق جتاري يف ال�سفارة‬ ‫ال�سوي�رسية و�أما االخر فقد كان معاونا ملدير �رشطة احلدود يف‬ ‫�شمال العراق واملعروفة االن بكرد�ستان العراق‪.‬‬ ‫والدي متزوج من امر�أتني االوىل من النجف‪ ،‬اما الثانية‬ ‫فهي والدتي من القومية الرتكمانية التي تعود ا�صل �شجرة‬ ‫العائلة اىل تركيا‪ ،‬وكانت ت�سكن التون كوبري يف �شمال‬ ‫العراق‪.‬‬ ‫كان والدي مديرا للمالية ولد عام ‪ 1912‬وبطاقته كانت‬ ‫�صادرة من الدولة العثمانية‪ ..‬ورغم ا�رصار العديد من املقربني‬ ‫لتغيري بطاقته كانت ردة فعله النفي القاطع‪ ،‬فهو يعتز بالبطاقة‬ ‫رغم ا�صفرارها‪ ،‬فلم يكن يرغب بحمل هوية �صادرة يف‬ ‫عهود بعد العهد امللكي‪ ،‬الن اخلري قد �شح يف تلك االنظمة‬ ‫وخ�صو�صا من بعد مقتل امللك في�صل‪ ،‬هكذا كان يقول بكل‬ ‫قناعه اىل ان تويف �سنة ‪.1992‬‬ ‫‪13‬‬


‫ابان حرب حترير فل�سطني وقبل اخليانة العربية الكربى ُج ِند‬ ‫والدي للم�شاركة باحلرب قبل زواجه الثاين‪ ،‬واختار ان ينقل‬ ‫ملكيته اىل زوجته لكي ي�ضمن لها حقوقها‪ ،‬ولكن بعد اخليانة‬ ‫العربية عاد اجلي�ش العراقي ادراجه من احلدود ال�سورية يحمل‬ ‫خيبات امل اخليانة العربية‪.‬‬ ‫ع�شت فرتة طفولة مميزة مل اتعب فيها‪ ،‬مدلال‪ ،‬وال اذكر‬ ‫�أنني قد جربت العمل يوما يف حياتي‪� ،‬أو اتعب يف ان انال‬ ‫ما اريد‪ ...‬حتى بداية الت�سعينات بعد دخول �صدام ح�سني‬ ‫الكويت والتي ُم َني ْت بهزمية كبرية اثرت على ال�شعب العراقي‬ ‫بدرجة تفوق الت�صور‪..‬‬ ‫اذ مل يكتفي ذلك القائد املجنون الذي اعدم ع�رشات‬ ‫املقربني منه لينفرد بال�سلطة من �رسقة الكويت والتباهي‬ ‫بانت�صاراته الكارتونية‪ ..‬بل بعد احلرب غيرّ عملة البلد اىل‬ ‫�سجل‬ ‫عملة ورقيه عاديه ي�سهل تزويرها يف الأ�سواق وبذلك ّ‬ ‫نك�سة اقت�صاديه كربى‪.‬‬ ‫مل�صالح املواطن العراقي الذي حتمل جنون وويالت انفراد‬ ‫قائد العراق ب�أحكامه غري العادلة‪.‬‬ ‫قررت ان �أترك معهد �إعداد املعلمني بعد �شبه افال�سنا‬ ‫و�إ ّبان ال�رضبة االقت�صادية ال�صدامية واحل�صار الذي فُر�ض على‬ ‫العراق قررت ترك املعهد والتقدم بالعمل يف �سلك امن الدولة‬ ‫‪14‬‬


‫ـ الإعالم والتوجيه ال�سيا�سي ـ الذي كان يعترب �سلطة ثانية بعد‬ ‫احلزب يف العراق انذاك‪.‬‬ ‫كل اقربائي عار�ضوا فقد كانوا ينتظرون مني ان �أنهي‬ ‫درا�ستي وال�رشوع بن�رش م�ؤلفاتي‪ ،‬واخربوين ب�أن هذا الطريق‬ ‫لي�س �سهال بل هو االنتحار بعينه و�إنني �س�أدفن نف�سي يف‬ ‫وظيفة �سيا�سية كافية بقتل �أحالمي كلها‪� ..‬إال انني مل اعر‬ ‫اهتماما وجربت ما خططت له ظنا مني انه �سيتم ا�صالح‬ ‫احلال املعا�شي لنا بعد النك�سة وتدارك االفال�س‪.‬‬ ‫ا�صبحت حياة العراقيني يف ذلك الوقت يف و�ضع ال‬ ‫ُيح�سدون عليه‪ ..‬تف�شي الأمرا�ض والفقر غري املتوقع ا�ضافه‬ ‫اىل ادخال الب�ضائع امل�رضوبة الغالية الثمن من قبل ازالم �صدام‬ ‫وال�سيما عدي‪ ،‬الذي لعب دورا فاعال يف ت�رصيف منتجاته‬ ‫امل�رضوبة اىل ال�شعب العراقي‪.‬‬ ‫مل يعد العراق كما كان‪ ،‬والعي�ش فيه ا�صبح م�ستحيال‪،‬‬ ‫ومازال �صدام ح�سني يعر�ض انت�صاراته املزعومة على اجهزة‬ ‫التلفاز‪ ،‬وال�شعب بات يتذمر من ذلك ا ُ‬ ‫حلكم الذي دمر كل‬ ‫من�شاته احليوية‪.‬‬

‫‪15‬‬


‫اليوم الأول يف الب�رصة‪:‬‬ ‫مدر�سة تدريب الأمن الكائنة يف �صدر القناة ببغداد‪...‬‬ ‫�أ�صوات منت�سبي طوارئ الأمن وهم ي�صعدون الربج اجلبلي‬ ‫العايل وتدريبات ال�صاعقة وهتافاتهم اثناء التدريب‪� :‬صاعقة‬ ‫فداء حديد ونار‪ ..‬انا للموت ول�ست للعار‪ ...‬ـ كانت تهتف‬ ‫بعزمية �صلبة وي�ؤمنون بهذه الهتافات ويعملون بها وكانوا‬ ‫يفدون ارواحهم لأجل ذلك ـ ‪..‬‬ ‫عامل غريب وجديد مل ي�رسين ما ر�أيت و�أنا ادخل اول ايام‬ ‫التدريب وبلبا�س ع�سكري حتت �أمرة عقيد االمن‪ :‬حم�سن علي‬ ‫حم�سن‪ ،‬الذي ابلى بالء قاتال يف اجلنوب وال�شمال لدرجة لو‬ ‫�أن الطفل اذا رف�ض النوم تخيفه والدته قائلة‪ :‬نام و�إال �س�أجلب‬ ‫لك حم�سن‪.‬‬ ‫�شهر متوز و�أنا جال�س على اال�سفلت يف �ساحة العر�ضات‬ ‫و�أ�سلحتنا على االر�ض و�أي خط�أ �سرنفع اال�سلحة على‬ ‫االكتاف والهرولة بها اىل ابعد م�ساحة من ال�ساحة التي ت�شتعل‬ ‫�إ�سفلتها بحرارة ال�صيف اجلهنمية‪ ..‬والرجوع يجب ان يتم‬ ‫خالل دقائق اىل نقطة التجمع‪.‬‬ ‫كل �شيء مقزز‪ ،‬تدريبات عنيفة حياة قا�سية وجوع‪ ،‬مل‬ ‫اتعود عليها فبغداد ا�ضحت جحيما يف هذا ال�صيف ال�شاق‬ ‫ال تنتهي م�آ�سيها‪.‬‬ ‫‪16‬‬


‫بعد مرور ثالثة �شهور مت تعيني كل املتخرجني يف حمافظات‬ ‫العراق‪ ،‬اما انا فكان يل ن�صيب ان �أخدم يف مديرية �أمن‬ ‫الب�رصة‪ ..‬كانت �صدمة وندم ًا ومتنيت لو انني مل اقدم على مثل‬ ‫هذا العمل والبقاء لإنهاء درا�ستي املرحلة الثالثة ملعهد اعداد‬ ‫املعلمني يف كركوك‪.‬‬ ‫بعد ا�سبوع من االجازة �شددت رحايل اىل الب�رصة مدينة‬ ‫ال�صمود كما ي�سمونها‪ ،‬فانا مل ارى قط حمافظات اجلنوب ومل‬ ‫ي�سبق يل ان تعاملت معهم‪.‬‬ ‫و�صل القطار اىل الب�رصة يف ظهرية يوم حار جدا ومل اح�س‬ ‫بهكذا حر ابدا‪ ...‬اول �شخ�ص دلني على مديرية امن الب�رصه‬ ‫كان لطيفا وفاجئني بكرمه‪� ،‬شكرته لأق�صد املديرية التي‬ ‫ي�سمونها بالليث االبي�ض لبيا�ضها وما حتمل من معامل خوف‬ ‫اثناء الليل على وجه اخل�صو�ص لدرجة ان املواطن الفقري مل‬ ‫يكن يتجر أ� حتى على جمرد القاء نظرة خل�سة باجتاه املديرية‪.‬‬ ‫احلر�س كانوا يف �أوج التعب بل كلهم كانوا م�ستاءين من‬ ‫بع�ضهم البع�ض‪ ..‬مل ت�رسين احوالهم فعلمت ان امل�شقة بد�أت‬ ‫الآن‪.‬‬ ‫مت تعييني يف احدى املعاونيات وبالتحديد �شارع ب�شار‬ ‫امل�شهور بالدعارة وبيع اال�سماك‪ ...‬النفايات يف كل مكان‪...‬‬ ‫حلوم وا�سماك قدمية ترمى على جوانب الطرق‪ ،‬ولي�ست هناك‬ ‫‪17‬‬


‫خدمات لتنظيفها اما يف الليل فاجلرذان تتعارك مع الكالب‬ ‫ال�سائبة واجلو احلار ي�شوي الوجوه‪ ،‬مما يكفي ان يجعل‬ ‫املالب�س تلت�صق بج�سدي الغارق بالعرق وال من حمامات يف‬ ‫املعاونية للتخل�ص من كل هذه امل�آ�سي‪.‬‬ ‫�شهور ق�ضيتها بالعمل يف املعاونية ومن بعدها نقلني املعاون‬ ‫ال�سيا�سي اىل �شعبة التحقيق ال�سيا�سي للمديرية وهناك بد�أت‬ ‫بالتدريب على كيفية البدء بالتحقيق مع جمرمني �سيا�سيون القي‬ ‫القب�ض عليهم اثناء املداهمات او اال�شتباكات التي كانت تدور‬ ‫بني املت�سللني من ايران اىل االهوار العراقية‪.‬‬ ‫مل تكن فرتة التدريب �سهلة‪ ..‬فعلينا ان نتعامل بجديه مع‬ ‫املتهمني وبطريقة حكيمة لكي ن�ستطيع ك�سب اعرتاف املتهم‪..‬‬ ‫تدريبات �صعبة خ�ضعنا لها ودر�سنا احلركات والإمياءات التي‬ ‫تف�رس ردة فعل املتهم يف حالة كذبه او ِ�صدق ُه‪.‬‬ ‫اول درو�س التحقيق التي تلقيتها كانت مع عملية �ساعة‬ ‫ال�صفر التي نفذتها جماميع من حزب اهلل العراقي املتدرب‬ ‫يف ايران‪ ،‬مبحاولة ل�رضب مديرية �أمن الب�رصة �صيف ‪1994‬‬ ‫ب�صواريخ كاتيو�شا حملية ال�صنع‪ ...‬القب�ض على منفذي‬ ‫العملية‪ ..‬من قبل لواء الأمن مهدي الذي كان مديرا للأمن يف‬ ‫الب�رصة يف ذلك الوقت والذي خطط لتنفيذ عملية اعتقالهم‬ ‫ب�شكل كامل‪ ...‬اعجبتني �شخ�صيته وفطنته وكيفية تخطيطه‬ ‫‪18‬‬


‫لعمليات اغتياالت �ضد بع�ض اال�شخا�ص اللذين تنتهي‬ ‫�صالحيتهم يف خدمتنا او من يثبت انه عميل مزدوج‪ ..‬ويتميز‬ ‫اللواء مهدي ب�أ�سلوب حتقيق نادر اعجب به الرئي�س العراقي‬ ‫�صدام ح�سني وكان �سببا كافيا ان يكون مقربا من �سبعاوي‬ ‫ابراهيم احل�سن مدير االمن العام او ال�سيد العام انذاك ـ �شقيق‬ ‫�صدام ـ‬ ‫ال�شخ�صية الثانية هي �شخ�صية العقيد كامل البطاط‪ ،‬الرجل‬ ‫الثاين يف املديرية وكان �صديقا للعائلة وجار اخي و�سام �آنذاك‬ ‫ات�صاالت والدتي به وخوفها علي كان كافيا ان ينقلني العقيد‬ ‫كامل اىل �شعبة املرية املعنية بالأ�سلحة لكي يحفظني من خماطر‬ ‫اال�شتباكات التي تواجهنا بني حني و�آخر مع االحزاب املعادية‪.‬‬ ‫بعد مرور �شهور تعرفت على اثنني من اهم الرجال واملقربني‬ ‫اىل اللواء مهدي وهما الرائد(ا ـ �س ـ العاين) و(م ـ خ الدليمي)‬ ‫اللذان كانا عقل املديرية ويتمتعان بذكاء بارع يف ت�سيري‬ ‫امور العمليات ال�سيا�سية وجتنيد ا�شخا�ص اذكياء كجوا�سي�س‬ ‫و�إر�سالهم اىل ايران ال�سوء‪ ،‬لغر�ض جلب املعلومات ال�رسية‬ ‫وعن ما يتم تدبريه من خطط �ضد البلد من قبل ر�ؤو�س التنظيم‬ ‫للأحزاب املعار�ضه �آنذاك‪.‬‬ ‫وبعد فرتة من التعارف مت �سحبي والعمل معهم يف �شعبة‬ ‫تدعى ق�سم املتابعة والتن�سيق ال�سيا�سي وال�سيطرات‪ ،‬وهذه‬ ‫‪19‬‬


‫ال�شعبة رغم انها احدى ال�شعب ال�سيا�سية �إال انها م�ستقلة‬ ‫ب�إدارتها وطرق عملها ال�رسي يف املديرية‪ .‬ويتمتع الأمن‬ ‫العراقي بجديته يف حفظ االمن‪ ،‬فبالرغم من الظروف املعي�شية‬ ‫ال�صعبة �إال �أن الأمن كان م�ستتب ًا يف العراق‪.‬‬ ‫�شدين العمل يف �شعبة املتابعة كثريا‪ ،‬فلي مكتب خا�ص‬ ‫ّ‬ ‫�أحتكم يف تق�سيم عنا�رص الأمن اىل ال�سيطرات‪ ،‬عالوة كنت‬ ‫التقي ب�أ�شخا�ص لغر�ض تزويدهم ب�أجهزة جت�س�س ل�صالح‬ ‫عملنا الأمني و�إر�سالهم اىل ايران‪.‬‬ ‫غرفة العمليات كانت كبرية تت�ضمن خرائط تنظيم الأحزاب‬ ‫والر�ؤو�س التي تقوم بتنفيذ عمليات االغتيال مل�س�ؤويل حزب‬ ‫البعث مر�سومة على �شكل مثلث هرمي على اوراق مل�صوقة‬ ‫باحلائط وال ُي�سمح لأي احد بالدخول اىل الغرفة ال�رسية‪.‬‬ ‫يق�سم اال�شخا�ص الذين يعملون ل�صالح الأمن اىل ق�سمني‪:‬‬

‫• الأ�صدقاء‪ :‬وهم ا�صدقاء الدائرة يتم ك�سبهم اثناء تقدميهم‬ ‫لطلب موافقة امنية للعمل يف الدوائر احلكومية او فتح متجر‬ ‫او �صالون حالقة من كال اجلن�سني ويعملون بدون �أجر للدائرة‬ ‫مقابل تزويدهم باملوافقة‪ ..‬وغالبا ما يتم ا�ستغالل احلالقات‬ ‫جن�سيا من قبل منت�سبي الأمن‪.‬‬ ‫• امل�ؤمتنون‪ :‬وهم من يتم تعيينهم لقاء �أجر ب�سيط وزجهم‬ ‫بني االحزاب املعار�ضة �سواء يف ايران او اي بلد �آخر ي�سهل‬ ‫‪20‬‬


‫الو�صول اليه‪ ،‬واغلبهم من الفارين من اخلدمة الع�سكرية‬ ‫ويتم تزويدهم ب�أوراق مزورة بالتن�سيق مع املخابرات �أو‬ ‫اال�ستخبارات او التجنيد ل�ضمان مرورهم او اجتيازهم‬ ‫للحدود وت�أمني و�صول املعلومات الينا‪.‬‬ ‫كال ال�صنفني يقومون بعمليات قتل الهاربني ال�سيا�سيني‬ ‫اىل ايران وبدعم امني كبري‪ ،‬ويف حالة انتهاء �صالحية العميل‬ ‫الذي يعمل ل�صالح املديرية تتم ت�صفيته بكل �سهولة‪.‬‬ ‫امل�ؤمتن عبد االمري معلة او ابو زهرة (اال�سم امل�ستعار) كان‬ ‫اكرث اال�شخا�ص من يزودنا مبعلومات خطرية و�أ�سماء لكبار‬ ‫�أع�ضاء التنظيم يف اجلانب االيراين‪ ...‬حيث كنا على مناف�سة‬ ‫مع عنا�رص املخابرات العراقية يف ك�سبه و�ضمان �سالمته على‬ ‫عك�س عنا�رص املخابرات الذين د�أبوا على قتله يف احلدود‬ ‫بق�صد اف�شال خططنا االمنية‪.‬‬ ‫كان امل�ؤمتن �أعاله ر�شيقا يف التنقل من واىل ايران عرب‬ ‫ال�رشيط احلدودي‪ ،‬ويف احد االيام مت القاء القب�ض عليه من‬ ‫قبل اال�ستخبارات وحاولوا اخفاءه عنا �إال اننا بعد جهد‬ ‫كبري ا�ستطعنا اطالق �رساحه وجلبه اىل املديرية واالحتفاظ‬ ‫به لل�سالمة ال�شخ�صية‪ ..‬وما فاجئني انه كان �ضيفي يف نف�س‬ ‫غرفة نومي و�سي�شاركني بكل �شيء اىل حني خروجه‪ ،‬هكذا‬ ‫امر ال�سيد املدير‪.‬‬ ‫‪21‬‬


‫الب�رصة‪:‬‬ ‫فوجئت بالب�رصة ـ من حيث احوالها املعي�شية ـ و�سكانها‬ ‫فالفقر فيها كثري والغني ال يهتم بالفقري والعمل احلر ب�أجر‬ ‫بخ�س ال يغني الفقراء خ�صو�صا يف حمافظات اجلنوب التي‬ ‫ا�شبعها احل�صار االقت�صادي فقرا‪ ..‬ورب العائلة يحتار يف‬ ‫اطعام �صغاره فكل �شيء غايل‪ ..‬بينما تف�شت حينها نوع‬ ‫من الأجبان الرخي�صة واخلطرية املعروفه باحتوائها على مادة‬ ‫الزرنيخ (جبنة الكريي) املحلية ال�صنع جل�أ اليها ارباب الأ�رس‬ ‫لغالء بقية االطعمة ل�سد رمق عوائلهم وجهلهم مبخاطر تلك‬ ‫االجبان‪ ..‬كنت على عالقة وثيقة مع تلك العوائل وكنت‬ ‫ارى اغلبهم يتوجهون اىل البقال بق�صد �رشاء هذا النوع من‬ ‫اجلنب الرخي�ص‪ ..‬فاملواطن ُحرم من كل �سبل العي�ش التي‬ ‫من املفرو�ض ان يعي�شها العراقي بعد حروب �آلت بالبلد اىل‬ ‫اخلراب‪.‬‬ ‫املواطن الب�رصي انهكه �رصاع العي�ش وبالكاد كان يبحث‬ ‫عن لقمة ي�سد بها رمقه‪ ..‬خوفه من اجهزة الدولة كان ق�ضية‬ ‫م�أ�ساوية اخرى ا�صابته كلعنة �سماوية يجهل متى تُرفع عنه‪..‬‬ ‫اثناء تلك الفرتة القاين �صدفة يف �شارع الكويت �شخ�ص كان‬ ‫زميلي يف معهد �إعداد املعلمني يبحث عن ريا�ض القا�ضي‬ ‫وبعد الرتحيب احلار �س�ألني‪:‬‬ ‫‪22‬‬


‫ـ �أبحث عن �شخ�ص م�س�ؤول عن ال�سيطرات يدعى ريا�ض‬ ‫القا�ضي‪.‬‬ ‫ـ وما ذا تريد منه؟ (�س�ألته)‬ ‫ـ ُيقال انه م�س�ؤول ال�سيطرات و�أنا احتاجه لأمر عاجل‪،‬‬ ‫وهو ال�سبب يف اعاقتي عن اداء اعمايل و�أريد ان اجده ب�أي‬ ‫طريقة‪.‬‬ ‫ـ قلت خريا؟ حاولت ان افهم ا�سباب بحثه عني �إال انني‬ ‫�سكت للحظة لأفاجئه‪:‬‬ ‫كنت عبث ًا �أحاول‪ ،‬ثم‬ ‫ُ‬ ‫ـ انا ريا�ض القا�ضي‪.‬‬ ‫كان من ال�صعب اجعله ي�صدق فا�ضطررت ان ا�صطحبه‬ ‫اىل احد الباعة ممن يعرفونني ثم �س�ألت البائع‪:‬‬ ‫من �أنا؟‬ ‫�أجاب البائع‪:‬‬ ‫ـ وهل يخفى الطيب‪ ..‬ريا�ض القا�ضي الو�سيم دائما‬ ‫والطيب‪.‬‬ ‫ح�ضنني �أياد ب�شدة ثم توجهنا ل�رشب القهوة‪.‬‬

‫‪23‬‬


‫عبا�س البارودي متعهد حفالت الفنان كاظم ال�ساهر يف‬ ‫الب�رصة‪:‬‬ ‫بعد ان اقتنع اياد ب�أنني ريا�ض القا�ضي مت حتديد موعد مع‬ ‫عبا�س البارودي‪ ،‬وعندما �س�ألته من هو عبا�س؟ اجابني انه كان‬ ‫مدير اعمال كاظم ال�ساهر انذاك وانه عمل مع النجم �آنذاك‬ ‫كمتعهد حلفالته‪ ..‬مل ا�صدق ما قاله ومل ا�ستبعد ان يكون حمتاال‬ ‫اي�ضا لكرثة حاالت االحتيال التي �صادفتني اثناء ادائي واجبي‬ ‫الأمني يف مناطق الب�رصة واق�ضيتها‪.‬‬ ‫ح�رضت املوعد يف احد فنادق الب�رصة الفخمة ا�ستقبلني اياد‬ ‫ف�س�ألته عن ا�ستاذ عبا�س ف�أجابني انه �سيح�رض بعد ثوان‪ ..‬مل‬ ‫خيل يل بادى‬ ‫نطل احلديث حتى ح�رض �شخ�ص �ضعيف جدا ّ‬ ‫االمر انه مل ي�أكل ل�شهور او خرج للتو من معتقل‪� ..‬سلم علي‬ ‫ودعانا للع�شاء على الفور‪.‬‬ ‫جل�سنا يف مطعم فخم للفطور حيث كان �شهر رم�ضان‬ ‫وبد أ� بالتعريف عن نف�سه وعن تاريخه مع الفنان كاظم ال�ساهر‬ ‫قبل ان ينف�صال‪ ،‬وبينما كنا نتجاذب اطراف احلديث لفت‬ ‫نظري اطفال فقراء جتمعوا على نافذة املطعم جائعني يراقبون‬ ‫الزبائن ويلعقون زجاج نافذة املطعم من اجلوع‪.‬‬ ‫ت�أملت كثريا ثم ما لبث ان ار�سل �صاحب املطعم عماله‬ ‫ليطردوا االطفال‪ ..‬وا�صلنا احلديث �إال انني مل ا�صدق كلمة مما‬ ‫‪24‬‬


‫قيل من قبل عبا�س البارودي ثم �س�ألته بعد فراغ �صربي‪:‬‬ ‫ـ ما املطلوب مني ا�ستاذ عبا�س؟‬ ‫ـ احلقيقة اخ ريا�ض انا ب�صدد ان �أقيم حفال يف الب�رصة‬ ‫(وذكر ا�سم املكان) و�أمتنى ان ت�ساعدين ببيع البطاقات عن‬ ‫طريق ت�رصيح لبيعها يف ال�سيطرات وعندما �س�ألت من ال�شخ�ص‬ ‫الذي ي�ستطيع ان ي�صدر هذا الت�رصيح قالوا‪ :‬ريا�ض القا�ضي‪.‬‬ ‫ـ انا فعال م�س�ؤول على ال�سيطرات ولكن ال اعرف اي �شيء‬ ‫ب�ش�أن الت�رصيح وال ا�ستطيع تقدمي الطلب اىل املدير للح�صول‬ ‫على موافقة الت�رصيح بدون ر�ؤيتي البطاقات لإرفاق النماذج‬ ‫ومنوذج لكتاب موافقة من حمافظة الب�رصة ارفقهما بطي‬ ‫الكتاب‪.‬‬ ‫اخرج من جيبه ت�رصيح املحافظة وال�رشطة و�ألقيت نظرة اىل‬ ‫الورقتني وت�أكدت من �صحة ال�صدور وكلفته ب�إعطائي ن�سخه‬ ‫من املوافقة لتقدميها للمعاون ال�سيا�سي‪.‬‬ ‫ا�ستغرق الت�رصيح اكرث من ا�سبوع وانتهى �شهر رم�ضان‪،‬‬ ‫وكثف عبا�س من الوالئم وال�رشب وجل�سات الن�ساء‪ ،‬ويف‬ ‫نهاية كل �سهرة كان يو�صيني بالإ�رساع ب�إ�صدار املوافقة‪ ...‬مل‬ ‫يك�سب ثقتي ولن يك�سبها حتى ولو كان �صادقا‪ ،‬فه�ؤالء ال‬ ‫هوية لهم وقد كرث من امثالهم هذه ال�سنني وبدعم من جهات‬ ‫م�س�ؤولة‪.‬‬ ‫‪25‬‬


‫يف احد االيام وبينما كنا مدعوين يف �شقة عبا�س اخرج‬ ‫فيديو كا�سيت وعر�ضه لنا‪ ،‬و�شاهدت بعيني ح�ضور الفنان‬ ‫كاظم ال�ساهر مع �سهري اياد اىل كركوك يرتدي التي �شريت‬ ‫املخطط‪ ،‬كما ظهر يف اول م�سل�سل له يف بداية الت�سعينات مع‬ ‫اثنني من احلر�س ال�شخ�صي‪ ،‬ومت ذبح خروف حتت قدميه‪ ..‬مل‬ ‫يكن ما �شاهدت اذن عالقة �سطحية بينه وبني القي�رص‪ ..‬ويف‬ ‫تلك الفرتة عر�ض تلفزيون ال�شباب م�سل�سل (ذئاب الليل)‬ ‫وجنح جناحا كبريا‪،‬ودعا عبا�س البارودي �أبطال امل�سل�سل اىل‬ ‫بيته لأكل ورق العنب املح�شي بالرز الذي ي�شتهر به مناطق‬ ‫الرتكمان يف العراق‪.‬‬ ‫اذن عبا�س هو متعهد و�صديق لكاظم قلت يف نف�سي‪..‬‬ ‫بعد فرتة ا�صبحت املوافقة يف متناول يدي ورغم كل ذلك مل‬ ‫ا�ستبعد ان يكون يف العملية ن�صب‪� ،‬إال انني لن اخ�رس �شيئا من‬ ‫ناحية �سالمتي القانونية‪ .‬وبعد فرتة من تاريخ اال�صدار مت بيع‬ ‫كل البطاقات وبدون اي م�شاكل تذكر‪ ،‬وقبل موعد احلفل‬ ‫ب�أيام اختفى ِظل عبا�س ومعاونه اياد من الب�رصة فاحلفلة كانت‬ ‫وهمية‪.‬‬ ‫بعد �سنة وجـدت اياد يبحث عني جمددا ليبيع بطاقات‬ ‫حملة تنظيف �شوارع الب�رصة للمواطنني‪ ،‬واخربين ان عبا�س‬ ‫قد غدر به و�أخذ كل االموال اىل جهة جمهولة‪� ...‬ضحكت‬ ‫‪26‬‬


‫ورف�ضت م�ساعدته رغم حماوالته لإقناعي بان يل ن�صف الربح‬ ‫فهددته ب�إلقاء القب�ض عليه ان لن يغادر الب�رصة يف احلال‪...‬‬ ‫وبعدها اختفى اياد فورا وبدون اي اثر يذكر‪.‬‬

‫�إعدام ميت‪:‬‬ ‫يف �صبيحة احد الأيام احلارة �شاهدت جتمعا على �شباك‬ ‫املديرية املطل على ال�ساحة يف الطابق االول وت�ساءلت فيما لو‬ ‫ان احل�صة التموينية ال�شهرية ح�رضت ام ال‪ ..‬فو�ضع املنت�سبني‬ ‫ا�صبح مزريا يف ظل تلك الظروف ال�صعبة حيث االخ يتقاتل‬ ‫مع اخيه من اجل لقمة العي�ش‪ ..‬بعد دقائق قليلة ح�رضت‬ ‫�شاحنتان حتمالن اعمدة �شنق مفككة تفاج�أت بها تدخل‬ ‫من باب بوابة املديرية وبعد تفريغ ال�شاحنه من الأعمدة‪ ..‬مت‬ ‫تركيبها ب�رسعة ثم ُح ّملت مره ثانيه لتتجه اىل �سايلو الب�رصة‪.‬‬

‫�س�ألت املنت�سبني عن هذه الأعمدة فقالوا �إن مدير االمن‬ ‫وعد موظفي �رشكة حبوب الب�رصة بحفلة جميلة وها هو ير�سل‬ ‫املفاج�أه ليفتتح بها احلفل املُنتظر‪.‬‬ ‫مل افهم بال�ضبط تفا�صيل الق�ضية فطلبت املزيد من التو�ضيح‬ ‫من احد اال�شخا�ص الذين يعملون يف التحقيق ال�سيا�سي‬ ‫ف�أجابني‪:‬‬ ‫‪27‬‬


‫قبل فرتة مت القاء القب�ض على ع�صابة تهريب احلبوب من‬ ‫�سايلو الب�رصة عددهم �ستة‪ ..‬اما ال�ساد�س فنعلم انه بريء وكنيته‬ ‫جيدة ولكن �صاحبه الذي هو الآن احد ا ُ‬ ‫جلناة قد ورطه يف‬ ‫هذه الق�ضية وال ت�س�ألني كيف ارجوك‪( .‬ثم ان�رصف ب�رسعة)‪.‬‬ ‫�شهد احلادث و�صفه كما‬ ‫مل اح�رض م�شهد االعدام �إال ان من َ‬ ‫يلي‪:‬‬ ‫الن�ساء يتربجن والرجال ميرحون وي�ضحكون ظنا منهم ان‬ ‫هناك حفلة ملنا�سبة معينة فالعراق ايامه كلها منا�سبات وطنية‬ ‫النت�صارات وهمية‪ ...‬ثم دخلت �سيارات �سوداء اللون‪،‬‬ ‫يتو�سط املوكب �سيارتا مدير االمن و�أحد م�س�ؤويل قيادة الفرع‬ ‫ثم ترجال من �سيارتيهما حتت ت�صفيق حار وهتافات ت�شيد‬ ‫بحياة الرئي�س �صدام ح�سني‪.‬‬ ‫اعتلى امل�س�ؤول املن�صة بد�أ ب�إلقاء خطابات نارية وغا�ضبة‬ ‫ت�سول له نف�سه ان ي�رسق املال العام‪ ..‬اختفت‬ ‫وتهديد لكل من ِ ّ‬ ‫وعم اخلوف وبعدها دخلت‬ ‫ال�ضحكة من وجوه احلا�رضين ّ‬ ‫ال�شاحنتان حتمالن اعمدة ال�شنق ف�أغ�شي على بع�ض النا�س‬ ‫ودب الرعب بني املوظفني حتت �ضحكة املدير وامل�س�ؤول‬ ‫ومنت�سبي االمن‪.‬‬ ‫ـ هذه حفلتكم التي وعدتكم بها‪ ...‬اكمل امل�س�ؤول‪.‬‬ ‫‪28‬‬


‫ُ�أنزلوا االعمدة واخرجوا املحكومني من الأقفا�ص‬ ‫واملوظفون ازداد خوفهم‪ ..‬انهمك بع�ضهم يف ايقاظ من‬ ‫اغ�شي عليهن حتى �أن بع�ض الرجال تبولوا على بناطيلهم‬ ‫من �شدة فزع املنظر‪ ..‬اذ اعتقد اجلميع ان االعمدة هي لهم‬ ‫ولي�ست للمحكومني بادئ االمر‪.‬‬ ‫ُعلقت احلبال على الأعناق ومن ثم بد�أت عمليات ال�شنق‬ ‫الوح�شية والكل ي�شاهد العملية ومنهم من مل يتحمل فبد�أ‬ ‫بالتقي�ؤ والآخر �أغمي عليه‪ ...‬املنظر مل يكن �سهال لهم فالواقعة‬ ‫�ضن يف �أجواء‬ ‫مهولة بالن�سبة لأنا�س م�ساملني بعد يوم عمل ُم ٍ‬ ‫هذا البلد الغريب‪ ..‬وهذه من �سوء احلظ مل تكن النهاية‪.‬‬ ‫طلب مدير االمن من الدكتور ان يفح�ص املوتى‪ ..‬حترك‬ ‫الدكتور امل�ستاء واخلائف يف نف�س الوقت اىل فح�صهم ثم‬ ‫تفاج�أ ان احدهم اي ـ الربيء ـ مازال على قيد احلياة ويعاين‬ ‫من ك�رس يف الرقبة‪ ...‬امر املدير الدكتور ان يرتكه ثم قال‬ ‫بربود لعنا�رص طوارئ االمن الذين يرتدون لبا�س الكوماندوز‪:‬‬ ‫�أوالدي تكفلوا به‪.‬‬ ‫وما ان انهى كلمته حتى انهال عليه اكرث من �شخ�صني‬ ‫حماولني قلع رقبته والأخر يخنقه اىل ان طقطقت ب�شدة رقبة‬ ‫الرجل وت�أكدوا من موته ثم تركوه‪.‬‬ ‫هذه ق�صة من �آالف الق�ص�ص املرعبة ع�شناها يف ظل باين‬ ‫‪29‬‬


‫جمد العراق حيث ان امل�صيبة ب�أن تكتمت اجلهات االمنية على‬ ‫براءته ومل ير�سلوا حتى بر�سالة اعتذار اىل ذويه ليخربوهم ب�أن‬ ‫اجهزتهم قد اعدموه �سهوا كما فعلوا ب�آالف ال�شباب الذين مت‬ ‫اعدامهم يف احداث ‪ 1991‬عندما �شارف حكم �صدام على‬ ‫االنتهاء لوال تلقيه دعم ًا من امريكا لإعادته اىل احلكم جمددا‪.‬‬

‫تبيي�ض ال�سجون يف �صيف ‪:1995‬‬ ‫يف ذلك الوقت عانت ال�سجون العراقية من زخم كبري‬ ‫بالنزالء فمنهم الربيء وينتظر االفراج ومنهم من مل تثبت‬ ‫ادانتهم‪ ،‬ومنهم من كان ف ّعاال يف العمليات الهجومية‬ ‫والتج�س�س ل�صالح ايران ال�سوء‪ .‬مديرية امن الب�رصة كانت‬ ‫لها ح�صتها يف تبيي�ض ال�سجون ومت ت�شكيل جلنة ُم ّ�شكلة من‬ ‫قا�ضي التحقيق ومدير �أمن الب�رصة واملعاون ال�سيا�سي ومدير‬ ‫التحقيق وبع�ض من منت�سبي مديرية �أمن الب�رصة على ان يتم امر‬ ‫التنفيذ يف غ�ضون ايام قالئل وت�سفري �أ�صحاب امللفات العالقة‬ ‫والقدمية واملنتهية اىل االمن العام يف بغداد ولتتم ت�صفيتهم‬ ‫هناك‪.‬‬ ‫مت اح�ضار املن�ش�آت و�أدرجت ا�سما�ؤنا لل�سفر مع امل�سجونني‬ ‫اىل بغداد‪ ،‬كانت وجوههم بي�ضاء ونحيفي البنية جدا وال حياة‬ ‫فيهم‪ ،‬وفوق كل ذلك مكبلني بالأ�صفاد‪ ،‬ال امل فيهم‪ ..‬فهم‬ ‫‪30‬‬


‫يعرفون م�صريهم عندما ي�صلون اىل بغداد فال حماكمة وال‬ ‫ح�ساب‪ ،‬ال�شنق م�صريهم الوحيد‪.‬‬ ‫مل احتمل رائحة ال�سجناء اال انني جمرب على البقاء قريبا منهم‪،‬‬ ‫وكان معي مدير �شعبة القانونية وبع�ض من طوارئ االمن‪،‬‬ ‫احد املعتقلني قال‪ :‬ا�ستاذ تف�ضل باجللو�س‪.‬‬ ‫ـ ال �شكرا ا�ستطيع حتمل الوقوف‪.‬‬ ‫ـ معقولة �ستقف ‪� 10‬ساعات على قدميك‪� ...‬أو رمبا �ستقف‬ ‫اكرث‪ ،‬فالطريق طويل و�صعب يف هذا اجلو احلار‪.‬‬ ‫ـ اذن اين �ستجل�س انت ان اعطيتني مقعدك؟‬ ‫ـ هناك (ا�شار اىل ار�ضية احلافله) جميبا‪.‬‬ ‫ـ وكيف اتركك جتل�س هناك وانا اخذ مقعدك‪( .‬قلت له‬ ‫ب�إ�شفاق)‪.‬‬ ‫ـ اعرف م�صريي بعد هذا ال�سفر‪ ..‬اذن ال حاجة يل ملقعد‬ ‫انت اوىل بها مني‪.‬‬ ‫�أدركت حينها انهم يعلمون م�صريهم ففيهم الربيء ومنهم‬ ‫من كان ينتظر االفراج ون�سوه يف املعتقل �شهوراً‪ ..‬بل حتى مل‬ ‫يكلف القا�ضي نف�سه مبراجعة ق�ضاياهم‪ ...‬ثم وا�صلنا ال�سفر‬ ‫اىل م�صري قا�س ال يعرف ق�سوته اال من �سيواجه املوت وكانت‬ ‫ايديهم مكبلة ب�شكل ي�شفق الكافر عليهم‪.‬‬ ‫‪31‬‬


‫هجوم على مقر القيادة احلزبية يف منطقة الب�رصة القدمية‪:‬‬

‫�آخر ما توقعته ان يهاجم اثنان من احلزب املُعادي املت�سلل‬ ‫من ايران مقرا للفرقة احلزبية التي احت�ضنت اجتماعا مهما‬ ‫لأع�ضائها يف �صيف ‪ 1994‬يف منطقة الب�رصة القدمية القريبة‬ ‫من جامع الب�رصة القدمي‪.‬‬ ‫كان االع�ضاء من�شغلني بح�ضور م�س�ؤول كبري يف احلزب‬ ‫يحا�رض فيهم ويقوي عزميتهم ويحثهم على ال�شهادة يف �سبيل‬ ‫الوطن‪ ،‬ومن هذا القبيل من حما�رضات �صداميه التي اعتاد ان‬ ‫ينهكنا بها طيلة فرتة حكمه‪ ..‬وما هي �إال دقائق حتى اقتحم‬ ‫اثنان من العنا�رص امل�ستميتة موقع االجتماع وذلك بعد قتل‬ ‫احلار�سني اللذين مل ميلكا اي �سالح‪ ،‬وبعد االنفجار الثاين‬ ‫داخل القاعة ادرك اجلال�سون بان هناك عملية القتحام الفرقة‬ ‫احلزبية وكان اول الفارين من فتحة التهوية امل�س�ؤول الكبري‪..‬‬ ‫فر من ا�ستطاع الفرار وقُتل اثنان من اع�ضاء احلزب ا�ضافة‬ ‫اىل االنتحاريني ومت ت�صويرهما و�إر�سال تقرير اىل ال�سيد العام‬ ‫�سبعاوي ابراهيم احل�سن‪.‬‬ ‫الب�رصة كانت مركز عمليات للمت�سللني‪ ،‬فطبيعتها اجلغرافية‬ ‫ت�ساعدهم على التنقل عن طريق االهوار بني االق�ضية املحايدة‬ ‫للحدود لتنفيذ عملياتهم‪ ..‬يف احد االيام وبينما كنت اقلب‬ ‫�صور املطلوبني ر�أيت اثنني قد قُتال ومت ت�صويرهما وا�ستف�رست‬ ‫‪32‬‬


‫من �صديقي احمد هارون ـ الذي ا�ست�شهد بعد ‪ 2003‬اثناء‬ ‫الواجب ـ ف�أخربين ب�أنها لعبه بني املالزم االول مثنى واملدير‬ ‫لتمويه ال�سيد العام ب�أنهم نفذوا هذه العملية والغر�ض طبعا‬ ‫هو للح�صول على مكاف�أة وان االع�ضاء الداخلية والقولون‬ ‫والدماء هي للحيوانات التي مت بعرثتها عليهما لكي يظهرا‬ ‫كقتلى نتيجة ا�شتباك دام ح�صل يف احدى مناطق االهوار‬ ‫اجلنوبية‪.‬‬ ‫كان البلد مير كل يوم ب�أزمات لكي ين�شغل املواطن العراقي‬ ‫ب�ش�ؤون احلياة ال�صعبة ويرتك التفكري يف امور تخ�ص الدولة‪..‬‬ ‫فكل يوم تفتعل احلكومة ازمة الكهرباء ويوم اخر ازمة املياه‬ ‫ويوم تفتعل احلكومة ازمة للخبز كل يوم ق�صه جديدة ي�صحو‬ ‫على اثرها املواطن العراقي الكادح وال رغبة له بالعي�ش او‬ ‫ال�ضحك‪ ،‬فكل ما يهم املواطن ان يوفر �سعر رغيف اخلبز‬ ‫وبع�ضا من الطماطم والزيت ويطعم اوالده‪ ...‬ال احد يح�س‬ ‫بنعمة العي�ش‪ ،‬الكل غا�ضب ولي�س هناك من حل يخرجهم من‬ ‫ورطة احلكم ال�صدامي‪.‬‬ ‫انفجار كبري يف ت�سجيالت الر�سالة ب�شارع الكويت‬ ‫اودى بحياة �صاحب املحل وابنته‪ ،‬بعد يومني مت العثور على‬ ‫اكيا�س مليئة بقليل من ال�سكر والزيت والفواكه‪ّ � ..‬أما حتت‬ ‫هذه الأغرا�ض فهي متفجرات‪ .‬لدرجة ان يف احدى املرات‬ ‫‪33‬‬


‫حاولت امر�أة عجوز ان ت�ستقل حافلة للركاب وكانت حتمل‬ ‫كي�سا من الطحني فركلها ال�سائق قبل ان ت�صعد احلافلة ظنا‬ ‫منه انها حتمل متفجرات‪ ...‬قوى االمن واملخابرات بعد فرتة‬ ‫وجيزة ا�ستطاعت الو�صول اىل منفذي العمليات التخريبية‬ ‫ويف وقت وجيز جدا‪.‬‬ ‫يف هذه الفرتة تذمرت كثريا من �صعوبة البقاء وما �أراه‬ ‫لي�س ب�سهل‪ ..‬اىل ان راودتني فكرة الهروب من العراق‪،‬‬ ‫ف�أنا ال ا�ستطيع التحمل اكرث‪ ..‬اذ �أن كل �شيء يدعو اىل احلزن‬ ‫و�ضنك العي�ش املزري‪ ..‬فكيف ال�سبيل اىل الهروب والنجاة‬ ‫من جحيم العراق العظيم‪ ..‬ولكن ان ف�شلت حماولة الهرب‬ ‫فالإعدام م�صريي حتما‪.‬‬

‫‪34‬‬


‫وفاة والدتي وخطوة االلف ميل‪:‬‬ ‫الب�رصة جميلة تعرفت فيها على اجمل الن�ساء و�أطيب النا�س‪،‬‬ ‫واكت�سبت منها خربة يف التعامل مع ا�شخا�ص ي�صعب التعامل‬ ‫معهم‪ ،‬اال انني مل اكن قا�سيا اال على من مل يحرتم املواطنه من‬ ‫املحتالني وال�سرُ اق الذين كانوا ي�صادفونني اثناء عملي او يف‬ ‫فرتات التحقيق التي عملت بها‪.‬‬ ‫عملت يف االعالم والتوجيه ال�سيا�سي‪ ،‬و�أك�سبتني خربة‬ ‫يف كيفية الكتابة و�إي�صال الفكرة اىل القارئ‪ ،‬ومن ثم فكرت‬ ‫ان اكمل درا�ستي وان ابلغ رتبة عالية ك�ضابط �أمن‪ ..‬رغم اننا‬ ‫موظفون ونختلف عن بقية اجهزة الدولة االخرى اال انني‬ ‫اردت حتقيق حلم والدتي التي فقدتها يف ‪1995 /06 /20‬‬ ‫مما اثار يف داخلي احلزن الكبري لفقدانها وك�أنه كابو�س مل افق‬ ‫منه اال ب�صعوبة‪.‬‬ ‫تقدمت اىل كلية ال�رشطه اجلناح االعدادي لإكمال الدرا�سة‬ ‫ومت قبويل والتفرغ من الدائرة ملدة عامني كانت فر�صة جيدة‬ ‫يل لبدء م�شوار جديد من حياتي وانتظار الرتقية اىل رتبة اعلى‬ ‫بدال من بقائي موظفا مدنيا‪ ...‬التدريب كان �شاقا‪ ،‬فالكثري من‬ ‫تدريبات ال�صاعقة وال�رضب والإزعاجات والعقوبات الليلية‬ ‫التي ارهقتني وجعلتني منهكا جدا‪ ..‬فنحن نتلقى تدريبات‬ ‫عنيفة من عنا�رص الكلية الع�سكريه‪ ..‬رقم الدورة ‪� ..49‬شتاء‬ ‫‪35‬‬


‫‪ 1996‬وقد هجم علينا اجلوع والربد وال من معني اال اهلل‪..‬‬ ‫حتملنا امل�شقة يف تلك الفرتة التي زامنت ح�صار البلد‪.‬‬ ‫فعال ّ‬

‫الغريب يف ال�سنة االوىل عندما �صادفنا �شهر رم�ضان‪..‬‬ ‫�ضباط ال�رشطة امل�رشفون علينا كانوا ي�ستلذون مبعاقبتنا‬ ‫خ�صو�صا بعد ال�سحور اال �ضابط �رشطة واحداً هو ابن اخت‬ ‫الوزير ـ طارق عزيز ـ الذي كان يحرتم �صومنا كم�سلمني رغم‬ ‫انه يعتنق الديانة امل�سيحية‪ .‬كان طيبا ُيعرب عن اخالقه ال�سمحة‬ ‫وعن دينه عن طريق ال�سماح لنا بالذهاب اىل النوم بعد فرتة‬ ‫ال�سحور او االفطار بدون عقوبات احرتاما ل�شهر رم�ضان‪،‬‬ ‫مما اثار �ضغينة الباقني والتخطيط البعاده من جناح التدريب‬ ‫لطيبته‪.‬‬ ‫يف ‪ 1998/4/24‬انهينا الدورة وتخرجنا باحتفال‬ ‫وا�ستعرا�ض ع�سكري كبري ح�رضه وزير الداخلية والعديد‬ ‫من ال�شخ�صيات املهمة يف الدولة انذاك‪ ..‬مل اكن فرحا بقدر‬ ‫حاجتي و�سعادتي للخروج ب�رسعة من كلية ال�رشطة التي‬ ‫كرهتها اىل ابعد حد فرميت زي التخرج واخذين ال�شوق اىل‬ ‫اللبا�س املدين‪ ..‬ثم اطلقت �ساقي اىل الريح لأرى مناطق بغداد‬ ‫كاملجنون والتنزه يف مناطقها بعد �سنتني من التعب وال�شقاء‪.‬‬

‫بعد راحة ا�سبوع توجهت اىل الب�رصة وبقيت يف �شعبة‬ ‫املتابعة والتن�سيق ال�سيا�سي ل�شهور ثم تعرفت على لينا ال�سناري‬ ‫‪36‬‬


‫وهي �سورية حلبية ولدت عام ‪ 1983‬يف الب�رصة تعلقت بها‬ ‫كثريا وع�شقتها اىل ابعد حدود وكانت تبادرين ال�شعور نف�سه‬ ‫بل واكرث وكانت لقاءاتنا خمتلفة‪ ..‬حيث كدنا نحرتق من �شدة‬ ‫ال�شوق لنلتقي ونرت�شف القهوة على كورني�ش الب�رصة ويف‬ ‫كافترييات البواخر العائمة‪.‬‬ ‫املقابله لل�شرياتون يف الب�رصة‪.‬‬

‫يوم الوداع‪:‬‬ ‫مل ا�ستمتع بعالقة كهذه التي مررت بها‪ ..‬ف�أنا واقف بني‬ ‫يدي ان�ستي‪ ..‬نلتقي ل�ساعات وال نكاد نفرتق‪ ..‬تغريت حياتي‬ ‫فال ا�صدق انني احببت هكذا من قبل‪ .‬كانت تتكلم ال�سورية‬ ‫وجتيدها وكلماتها املع�سولة ت�أخذين ب�سكراتها اىل عامل جمنون مل‬ ‫افق منها اال يوم وداعي لها‪ ...‬يف يوم حتمي كان يل �أن ا�شهده‬ ‫رغما عني‪.‬‬ ‫قبل التعرف عليها طلبت نقل وظيفتي اىل كركوك‬ ‫حيث ت�سكن اختي فزوجها او�صاين انه �سيهرب اىل اوروبا‬ ‫و�ستحتاج اختي يل بدون �شك‪ ..‬فلبيت له طلبه وقدمت على‬ ‫م�رشوع النقل قبل التعرف على لينا‪.‬‬ ‫و ّدعتها بحزن كبري‪ ..‬فقد التقينا يف بيتها خل�سة وعندما‬ ‫�سجلت اول قبلة على جبينها انقطع التيار الكهربائي وفتح‬ ‫‪37‬‬


‫اجلريان ابواب بيوتهم للتهوية اذ كنا يف حر حزيران اجلهنمي‬ ‫فف�ضلت اخلروج قبل ان يراين احد ويخرب والدها‪.‬‬ ‫يف الطريق كنت احمل منها الورد وقطعة دائرية كبرية من‬ ‫الكيك َ�صنعتها لينا يل مبنا�سبة عيد ميالدي‪ ،‬كنت انظر اىل كل‬ ‫م�ساحات الب�رصة ف�أرى �صورتها وا�سمع �صدى �صوتها الذي‬ ‫مل يفارق خميلتي‪ ..‬كل �شيء هنا �أراها فيه‪ ..‬تلك مع�ضلة احلب‬ ‫�أن ت�صادفك �أمور ال ترحمك ك�إن�سان‪.‬‬ ‫و�صلت كركوك وحملت ابن اختي ال�صغري‪ ..‬انه مي�شي‬ ‫الآن ويرك�ض بطريقة جميلة وم�ضحكة وله عطر خا�ص ي�شدين‬ ‫اىل ان اح�ضنه وا�ستن�شق �شعره بكل عنفوان‪ ..‬وبا�ستطاعته ان‬ ‫ينادي ا�سمي رغم عدم اتقانه للفظ الكلمات ب�سبب �صغر‬ ‫�سنه‪ ..‬مل ين�ساين ابدا وك�أنني كنت ملت�صقا يف ذاكرته‪ ..‬اتذكر‬ ‫انني تركته يحبو وهاهو االن مي�شي‪ ..‬بكت اختي قليال‬ ‫ف�صبرّ تها على الفراق وطم�أنتها بكلمات البد منها‪.‬‬

‫اليوم االول يف مديرية �أمن الت�أميم (كركوك)‪:‬‬ ‫ما زالت فكرة الهروب تراودين اىل خارج العراق‬ ‫وخ�صو�صا بعد ان ار�سل ن�سيبي �صورته من ميناء بريا باليونان‪..‬‬ ‫�صور �شجعتني لرتك العراق وما فيها‪..‬‬ ‫‪38‬‬


‫دخلت املديرية وتوج�ست منهم القلق من اجلو غري ال�سار‪..‬‬ ‫ه�ؤالء ع�صابة وال ا�ستطيع ان اخو�ض معهم اي حتد وعلي‬ ‫ب�إيجاد �شعبه بعيده عن العيون للعمل فيها‪ .‬كانت م�س�ؤولية‬ ‫ال�سيطرات من �ضمن واجبات الأمن وكانت العنا�رص الأمنيه‬ ‫تك�سب باليوم املاليني من الدنانري العراقية وقبل نقلي ب�أيام اىل‬ ‫كركوك مت �سحب امل�س�ؤولية من االمن والغا�ؤها‪ ..‬مما اثار زوبعة‬ ‫كبرية يف نظامهم الداخلي‪ ..‬لأنهم تعودوا على اختال�س مبالغ‬ ‫طائلة ولكنهم أ�لآن فقدوا كل ال�سبل التي تك�سبهم املاليني‪.‬‬ ‫نقلت اىل امن املن�صور وانتظر مني املعاون االداري ان ادفع‬ ‫ر�شوة لقاء تعيينه يل يف هذه املعاونية‪ ..‬فرف�ضت وعلى اثرها‬ ‫مت الغاء امر تعييني فيها‪ ..‬ثم �أعادوين اىل �شعبة القيود العامة‬ ‫التي تعنى بالعديد من امل�س�ؤوليات ال�رسية والهامة كالتعامل مع‬ ‫بريد اال�ستخبارات الع�سكرية والأمن اخلا�ص وفدائيي �صدام‬ ‫وترقية ال�ضباط الع�سكريني وال�رشطة والكثري من املهام التي‬ ‫ترتبط بالأجهزة الأمنية واال�ستخباراتية يف املحافظة‪.‬‬ ‫با�رشت العمل يف املكتب وتعرفت على جمموعة جيدة من‬ ‫ا�صدقاء اوفياء بالإ�ضافة اىل انني ك�سبت خربة جديدة يف تبني‬ ‫ر�سائل وتقارير مهمة اىل اجلهات املهمة وا�ستمر عملي اىل‬ ‫�سنة ‪ 24/4/1999‬حيث مت التحول اجلذري يف حياتي‪..‬‬ ‫و�أ�ستطيع القول ب�أنني على و�شك خو�ض مغامرة هي يف عني‬ ‫‪39‬‬


‫القانون خيانة عظمى لرجل �أمن‪ ..‬ولكن يف نظر �ألإن�سانيه‬ ‫هي تعترب البحث عن حرية م�رشوعة‪ ..‬يفكر يف نيلها الفرد‬ ‫املظلوم بعد �أن يفقد مقومات احلياة الهانئة يف بلده‪.‬‬

‫التخطيط للهروب‪:‬‬ ‫مل تكن فكرة الهروب لأنفذها لوال ا�ستيائي من النظام والتي‬ ‫�شجعتني الظروف امل�أ�ساويه على اتخاذي لقرار حتمي‪..‬‬ ‫و�أعلم ب�أن م�صري هذا العمل لو ف�شل هو االعدام امل�ؤكد يف‬ ‫ظل ذلك الوقت ال�صعب الذي مررت به وخ�صو�صا بعد ان‬ ‫تر�شحت ملعهد ال�ضباط العايل لدورة مدتها ت�سعة �شهور‪..‬‬ ‫ورغم انني كنت ا�سعى دائما لبلوغ ما �أ�صبو اليه من طموح‬ ‫اعلى لنيل مرتبه تليق بعائلتي ويف وظيفتي‪� ..‬إال �أنّ حبي‬ ‫للحرية كانت فوق كل �شيء‪ .‬ولكن امل�صائب حالت بني كل‬ ‫ذلك عندما طرق م�س�ؤول حزبي باب البيت ليتحقق ب�ش�أن‬ ‫‪40‬‬


‫هروب ن�سيبي‪ ..‬و�ساومني على مبلغ من املال كثمن ل�سكوته‬ ‫ووعدين بعدم اف�شاء ذلك لأحد وبالأخ�ص املديرية وعقوبة‬ ‫اخفاء معلومات امنية ال تُغتفر بل �س�أواجه ب�إنزال العقوبة‬ ‫الق�صوى برجل االمن بتهمة اخليانة ال ُعظمى‪ .‬وما زاد من‬ ‫جنوين هو و�صول ر�سالة من �سوريا ار�سلتها ـ لينا ـ اثارت ّ‬ ‫يف‬ ‫ما كنت اخفيه من معاناة فراقها ولن اتردد بالتوجه هربا اىل‬ ‫�أربيل ومن ثم اىل �سوريا حيث لينا التي كانت ت�سكن يف حلب‬ ‫بعد ان ترك والدها العراق ورجع اىل م�سقط ر�أ�سه‪.‬‬ ‫يف ابريل ‪ 1999‬بد�أت امريكا بق�صف دوائر الدولة‬ ‫املهمة وكانت دائرتنا على قائمة اال�ستهداف ّ‬ ‫فتعذر علينا‬ ‫ق�ضاء اخلفارة داخل املديرية او حتى العمل بداخلها خوف ًا من‬ ‫الق�صف املُك ّثف الذي مل ُيفرق بني احلجر والإن�سان‪ ..‬فنقلنا‬ ‫على �أثر هذا الهجوم املباغت كل اال�ضابري املهمة اىل بيوت‬ ‫�أمنه وبع�ضها كان غري م�سكون‪ ..‬وجع ِلها مقرا لنا‪ ،‬ومما زاد‬ ‫يف الطني بلة تهديدات قوات املعار�ضة العراقية بالدخول اىل‬ ‫بغداد يف عا�شوراء وتوعدوا برفع ما �أ�سموها ـ راية العبا�س‬ ‫ـ يف هذا ال�شهر مما زاد من خطورة املوقف و�إجبارنا على‬ ‫املوافقة بالتوقيع على �أمر اعدامنا يف حال تخاذلنا عن تلبية‬ ‫النداء الوطني وقطع االجازات وامل�شاركة يف القتال التي باتت‬ ‫حتمية‪.‬‬ ‫‪41‬‬


‫و�صل معدل االنذار اىل ‪ 150‬باملائة و�أ�صبحت كركوك‬ ‫لفت‬ ‫حماطة بكمائن من اال�ستخبارات واحلزب‪ .‬كنت قد ُك ُ‬ ‫باخلفارة هذه الليله امل�ش�ؤومة‪ ..‬ولكنني قبلها ب�أيام خططت‬ ‫للهرب وبعثت ر�سالة عاجلة اىل احلزب الكرد�ستاين الذي‬ ‫كان ب�إمرة جالل الطالباين و�إبداء رغبتي بالهرب من جهاز‬ ‫الأمن العام اىل جهتهم‪ ..‬تلقيت الرد من احد عنا�رصهم الذي‬ ‫خريين بالهروب او العمل معهم لقاء �أجر‪ ..‬فرف�ضت ذلك‬ ‫و�أعربت عن رغبتي بالهروب‪ ...‬ال العمل كعميل مزدوج‪...‬‬ ‫ف�أجابني ال�شخ�ص‪ :‬اذن �سنحدد لك يوم الهروب‪.‬‬ ‫مت تهريب ملفات مهمة من قبلي اىل اجلانب الثاين بق�صد‬ ‫اثبات ح�سن النية ح�سب طلبهم‪ ..‬وعلي �أن �أثبت انني غري‬ ‫مند�س وارغب بقناعتي ال�شخ�صية بالهروب اىل جانبهم‬ ‫وبدون اي �ضغط او �إكراه‪ ..‬و�أنني ال ارغب بالعمل مع النظام‬ ‫ابدا‪ .‬مت حتديد يوم الهروب امل�صادف نف�س يوم اخلفارة‪..‬‬ ‫ات�صلت اختي وقت الظهر حيث كنت يف املديرية وقالت ب�أن‬ ‫ْ‬ ‫الطبخة قد ا�ستوت و�إنها تنتظرين على الغداء‪ ..‬كان ال�شخ�ص‬ ‫يف بيتنا ينتظر قدومي لننطلق وقت الغروب وي�سلمني اىل‬ ‫اخيه (ع) الذي قام ب�إح�ضار �سائق التاك�سي ليقلنا اىل حدود‬ ‫كركوك يف منطقة رحيم اوه ومن ثم اكمال امل�سري م�شيا على‬ ‫االقدام اىل ال�سليمانية‪.‬‬ ‫‪42‬‬


‫هكذا كانت اخلطة يف ذلك اليوم الذي مل اكن متوقعا‬ ‫ب�أنني �س�أقدم على خطوة خطرية تكلفني حياتي وحياة عائلتي‬ ‫وبالأخ�ص يف هذا اليوم املُغبرِ ْ ‪ ..‬انها خماطرة ومغامرة ف�أغلب‬ ‫من يخططون للهروب يختارون اياما و�أوقات منا�سبة ال يوما‬ ‫كهذا اليوم الذي تلتهب احلدود به من كرثة الكمائن ودوريات‬ ‫�أال�ستخبارات واحلزب‪.‬‬ ‫ا�ست�أذنت من مدير اخلفر لتناول الغداء يف البيت‪ ..‬بعد �أن‬ ‫اذن يل غادرت الدائرة برفقة ثالثة من اال�صدقاء احدهم يدعى‬ ‫(م الدليمي) وهو من ا�صدقائي املقربني الذي يعلم باخلطة‬ ‫والآخران حديثا العهد بالوظيفة‪ ..‬متلكتني فكرة املزاح‬ ‫معهم ونحن يف الطريق اىل البيت‪ ..‬ثم توقفنا بانتظار احلافلة‬ ‫للذهاب اىل بيوتنا ثم نرجع بعد �ساعتني لإكمال اخلفارة‪.‬‬ ‫قلت ممازحا الحد ا�صدقائي‪ :‬لو هربت اليوم من العراق‬ ‫مباذا �ست�صفونني؟‬ ‫ـ واهلل �ستكون َمثلي االعلى لو هربت اليوم‪ .‬قالها يل‬ ‫�ضاحكا‪.‬‬ ‫ـ وماذا بعد؟ �س�ألت‪.‬‬ ‫ـ �ستكون بطال و�سنعطيك ما ت�شاء من القاب‪.‬‬ ‫�صديقي ـ م ـ كان ي�ضحك وتبادلت معه نظرات ال�سخرية‬ ‫‪43‬‬


‫على هذين ال�شخ�صني ثم قلت‪:‬‬ ‫ـ اذن على بركة اهلل �س�أرى ان كنتم �صادقني‪.‬‬ ‫�ضحكنا قلي ً‬ ‫ال‪ ..‬ثم جاءت احلافلة وق�صد كل منا بيته‪..‬‬ ‫تكلمت مع ـ م ـ الذي ي�سكن قريبا من دارنا و�أو�صيته ببع�ض‬ ‫الأمور املهمة وان ال ي�س�أل عن اختي مهما حدث لكي يبعد‬ ‫عن ال�شكوك التي �ستنجم بعد هروبي‪.‬‬ ‫تعانقنا عناق الوداع‪ ..‬ثم تركته ذاهبا اىل البيت ويف ر�أ�سي‬ ‫تدور الف م�س�ألة‪ ..‬ماذا لو ف�شل هروبي و�أم�سكوا بي عنا�رص‬ ‫احلزب؟ وكيف �س�أت�رصف لو ظفروا بي على احلدود‪ ،‬فكل‬ ‫ت�رصف حم�سوب علينا وهذه عملية خطرية ان تهرب يف مثل‬ ‫هذا اليوم بالذات‪.‬‬ ‫و�صلت البيت وتلقاين املدعو (�أ) وقال انه رتب كل �شيء‬ ‫لإجناح هروبي و�إنني �س�أحتاج اىل ال�سالح لأحمله معي يف‬ ‫حال لو �صادفني اي مكروه يف الطريق‪ ...‬فاليوم الطرق غري‬ ‫�آمنه ب�سبب االنذارات احلربية واحلدود يف هذه الأيام ت�شهد‬ ‫نوع ًا من الطوق االمني اخلانق‪.‬‬ ‫قبيل الغروب ودعت اختي وقبلت ابنها الذي با�رش بالبكاء‬ ‫ثم طلبت من (�أ) �أن ميهلني حلظات لتوديع �صديقي (م)‪..‬‬ ‫حذرين من خطورة ما �أقوم به �إال انني ا�رصرت على توديعه‪.‬‬ ‫‪44‬‬


‫تكلمنا لدقائق و�أخربته ب�أنني �سوف ات�صل به لو �سمحت‬ ‫يل الفر�صة بذلك‪ ..‬غادرته بكل �أ�سى‪ ..‬فاملنطقة رغم م�آ�سيها‬ ‫احدثت يف داخلي فجوة من نوع خا�ص‪ ..‬ا�ستوقف ـ �أ ـ‬ ‫�سيارة اجره قا�صدين منطقة اال�سكان الكردية وكان اجلو مغربا‬ ‫وكئيبا‪ ..‬ال كهرباء وال ماء‪ ..‬فاملدينة ميتة فقط اج�ساد تتحرك‬ ‫بال معنى‪ .‬مل ارغب يف �أن اطيل النظر اىل هذه املدينة لكي ال‬ ‫ت�أكلني حدة وحزن ما �أراه‪ ..‬جو متجهم وجوه بائ�سة‪ ..‬حتى‬ ‫ال�سماء حزينة على ما يجري على �أر�ضنا‪ ..‬كارثة ان�سانية يف‬ ‫بلد غني‪.‬‬ ‫�س�ألته ـ �أـ متى �سي�أتي املُهرب لقد ت�أخرنا؟‬ ‫ـ ال اعرف املفرو�ض انه ينتظرنا هنا وال اعلم ما ح�صل‪..‬‬ ‫ثمة �شيء منعه من املجي يف وقته املحدد‪.‬‬ ‫ت�أخرنا كثريا فالوقت لي�س ب�صاحلي ان لن ي�أتي فمعناه ان‬ ‫ارجع اىل املديرية خائبا وعلي �إيجاد عذر م�رشوع لت�أخريي‪.‬‬ ‫تنف�ست بقلق وتذكرت احد ا�صدقائي عندما حاول مرة ان‬ ‫يجتاز احلدود من املو�صل اىل اربيل فتم القاء القب�ض عليه وكاد‬ ‫وح ّلت الق�ضية مبعجزة‬ ‫ان ُيعدم لوال ان ع�شريته تداركت االمر ُ‬ ‫�سماوية‪.‬‬ ‫بعد �ساعة و�صل اخوه وقد اظلمت ال�سماء وال�شوارع‬ ‫غدت �شبه خالية �إال من الفواني�س التي باتت ت�ضخ بحرارة‬ ‫‪45‬‬


‫�شعلتها اىل ال�شارع‪ ..‬البيوت فتحت ابوابها على م�رصاعيها‬ ‫لتغيري اجلو امل�سموم‪ ..‬فال تيار كهربائي لكي يطردوا احلر عن‬ ‫طريق املكيفات الباردة‪ ..‬الفواني�س يف كل مكان فهي بدل‬ ‫الكهرباء االن‪ ..‬وقد تعود العامة على �شعلتها‪.‬‬ ‫ـ ملاذا ت�أخرت؟ �س�أل ـ �أـ ‪.‬‬ ‫ـ ال�شخ�ص الذي وثقت به مل ي�أت ف�أمره م�شكوك فيه فلم‬ ‫يهاتفني مما �س�أ�ضطر اىل تغيري اخلطه‪� .‬أجابه اخوه‪.‬‬ ‫ـ اذن �س�أرجع الي�س كذلك؟ �س�ألته‪.‬‬ ‫ـ كال وامنا �سن�ستقل �سيارة اجرة وننطلق من نقطة اخرى‬ ‫من منطقة رحيم اوه‪ .‬اجاب ـ عـ اخ املدعو ـ أ� ـ ‪.‬‬ ‫ـ اال يوجد مكان �آخر؟ �س�ألته �س�ؤا ًال ممزوجا بتخوف وحالة‬ ‫من االرتباك‪.‬‬ ‫ـ ال ولكننا �سنخرج ان�شاء اهلل ال تقلق فلقد تفقدت الطريق‬ ‫لأيام وال توجد كمائن‪ ..‬كل الكمائن مت رفعها قبل فرتة‪.‬‬ ‫ركبنا يف �سيارة االجرة بحذر‪ ..‬املدعو ـ أ� ـ كان يجل�س‬ ‫امامنا وانا وـ عـ جنل�س يف اخللف نتكلم مبوا�ضيع عادية كي ال‬ ‫نثري ال�شكوك ففي مثل هذه الظروف نح�س ب�أننا ُمراقبون‪..‬‬ ‫هواج�س تزور كل من يف هذه الظروف وتق�ضي عليه‪.‬‬ ‫بالقرب من معمل امل�رشوبات الغازية نزلنا ثم ا�ستوقفني ـ ع‬ ‫‪46‬‬


‫ـ وبد أ� يكلمني بكلمات غري مفهومة‪ ..‬ح�سبته يهذي ولكنه‬ ‫جمرد متويه و�أبعاد الظن عن ما نفعله يف هذه املنطقة اخلالية‪..‬‬ ‫التفت ـ ع ـ مينة وي�رسة بحذر ثم قال ب�صوت خافت‪:‬‬ ‫ـ ارك�ض االن‪.‬‬ ‫رك�ضنا عرب ال�شارع ب�رسعة اىل اجلهة التي ت�ؤدي اىل �شمال‬ ‫العراق‪ ..‬املنطقة خالية �إال من تالل و�سهول وطرق وعرة �شبه‬ ‫�صحراء حتى البيوت بعيدة ال تكاد ترى �إال ا�ضواء خافتة تراها‬ ‫بالكاد من بعيد‪ .‬والبداية بد�أت مب�سرية الرك�ض‪ ..‬خفت كثريا‬ ‫ومل ا�ستطع كتم خويف ف�س�ألته‪ :‬ملا نرك�ض؟ �أجابني ب�أن هناك‬ ‫كمائن حزبية على نطاق احلدود و�أن هذه الليلة بالذات خطرة‬ ‫جدا وعلينا ان نبتعد قدر االمكان من هذا املكان بالرك�ض‬ ‫م�سافة ال تقل عن الف مرت‪.‬‬ ‫كنت خائفا لدرجة غري طبيعية ف�أنا تركت وظيفتي احل�سا�سة‬ ‫هاربا من دولة �صدام ح�سني و�أن ُيقب�ض علي ف�إن االعدام هو‬ ‫م�صريي االكيد‪.‬‬ ‫بعد الف مرت بد�أنا نخفف من �رسعة الرك�ض‪ ..‬ورويدا‬ ‫وبت ال احتمل‬ ‫رويدا ابط�أنا الرك�ض و�أكملنا الطريق م�شيا‪ّ ..‬‬ ‫التعب فرجوت الرجل ان نرتاح فقال‪ :‬ال جمال للراحة االن‬ ‫فنحن ما نزال يف مرحلة اخلطر بعد �سويعات �سن�صادف‬ ‫مقرا للجي�ش حيث ا�ستخبارات اجلي�ش تتع�سكر يف هذا املقر‬ ‫‪47‬‬


‫وتُخرج كمائن مكثفة‪.‬‬ ‫زاد من خويف هذا احلديث‪ ..‬وازددت بالدعاء وقراءة �سور‬ ‫قر�آنية ودعوات هلل لينجينا‪ ..‬م�شينا ب�رسعة كبرية فهذه اول مرة‬ ‫يل ا�سري يف طرق وعرة وفوق كل هذا خرجت عن القانون‬ ‫وغدا �س�أ�صبح يف �سجالت املالحقني قانوني ًا‪.‬‬

‫امل�سري املُخيف‪:‬‬ ‫و�صلنا اىل مقر اجلي�ش وعلينا ان نكون حذرين يف اجتياز‬ ‫هذا املع�سكر وال بديل �آخر فالأمر معقد وخطري‪ ..‬فقط هي‬ ‫الطريقة الوحيدة التي متكننا من خاللها املرور اىل كرد�ستان‬ ‫العراق ومن ثم �سنكون ب�أمان لو �شاء اهلل‪.‬‬ ‫اوط�أنا ر�أ�سينا حت�سب ًا من ان تقن�صنا عيون �أبراج املراقبة‪..‬‬ ‫ومن خلف التالل ال�صغرية حتركنا ب�رسعة اىل االمام كمحاولة‬ ‫لعبور نقاط املراقبة التي من �ش�أنها ان تف�سد علينا حماولة‬ ‫االجتياز‪ ..‬كان املقر بعيدا عنا حواىل ب�ضعة كيلو مرتات اال‬ ‫اننا ن�ستطيع م�شاهدة بع�ض احلرا�س بو�ضوح يت�سامرون فيما‬ ‫بينهم‪ ..‬وا�صلنا امل�شي اكرث من ربع �ساعة تخللته ا�سرتاحة‬ ‫ق�صرية‪ ..‬كنا نحر�ص على العبور ب�سالمة واحلفاظ على الهدوء‬ ‫لعل اهلل يفرج علينا هذه الليلة‪.‬‬ ‫‪48‬‬


‫بعد �أن ان اجتزنا املقر بب�ضع كيلو مرتات خففنا امل�سري‬ ‫ال�رسيع وهم�س ب�أذين �سرنتاح بعد ب�ضعة كيلومرتات �إال ان‬ ‫بنطالك احلربي كان مريبا قليال‪ ..‬احلمد هلل جتاوزنا امل�صاعب‬ ‫االن و�سيكون با�ستطاعتي ان ادخن �سيكارتي بعد ان اخفي‬ ‫نارها بيدي‪.‬‬ ‫ملحنا يف الطريق �سيارة مك�شوفة‪ ..‬بانت لنا ب�أن �صاحبها‬ ‫ترك االنوار م�ضيئة ولكن بعد ان ا�ستك�شف ـ ع ـ الو�ضع تبني‬ ‫ب�أنها مرتوكة يف العراء وال�ضياء كان جمرد انعكا�س �ضوء القمر‬ ‫عليها‪.‬‬ ‫نحتاج اىل ان ت�سرتخي اج�سادنا خلف تله �صغرية بعد طول‬ ‫هد قوة اجل�سد �أكرث من امل�شي‪..‬‬ ‫م�سري وال�سيما اخلوف قد ّ‬ ‫با�رش ـ ع ـ بالتدخني فقال‪ :‬انت جريء‪.‬‬ ‫ـ كيف وانا خائف؟ �أجبته‪.‬‬ ‫ـ انت �شهم مل تتقبل كرامتك الر�ضوخ للمغريات رغم‬ ‫ح�سب علمي �أنك الآن م�ؤهل لرتبة �ضابط‪ ..‬فلي�س الكل‬ ‫مثلك‪.‬‬ ‫�أراحني قليال ثم عاد ليقول‪:‬‬ ‫ـ �أعطني االن م�سد�سك‪.‬‬ ‫�أخافني كثريا هذه املرة والحظ هو تغري مالمح وجهي‬ ‫‪49‬‬


‫ب�رسعة‪ ..‬ثم قلت ب�صوت مرتبك‪:‬‬ ‫ـ وما حاجتك للم�سد�س �أل�سنا ب�أمان كما تقول؟ ت�ساءلت‬ ‫ب�صوت ممزوج باخلوف وعدم الثقة هذه املرة‪.‬‬ ‫ـ نعم‪� ..‬أجاب ووا�صل قائال‪ :‬انت حملت امل�سد�س ن�صف‬ ‫الطريق ل�سالمتك و�أنا �س�أحمله ن�صف الطريق ل�سالمتي فلرمبا‬ ‫�س�أ�صادف من اعرف من املهربني وال اعرف ما �سيبدر منه وما‬ ‫�سيدور بيننا من كالم ف�أنا لدي خ�صوم‪.‬‬ ‫ـ اخفتني كثريا‪.‬‬ ‫ـ ال‪ .‬ـ قالها �ضاحكا ثم وا�صل ـ ‪ ..‬ال تفزع فقط لالحتياط‬ ‫وال تقلق لن ا�ستطيع تركك يف العراء او حتى افكر بقتلك‪..‬‬ ‫فامل�سئولون يف كرد�ستان ينتظرونك اقولها لكي يطمئن‬ ‫قلبك‪ ..‬ف�أنت مهم االن بحوزتك معلومات امنية ف�أنت ل�ست‬ ‫�رشطي‪ ..‬بل رجل �أمن ال�سلطة الكربى والأوىل يف العراق‪.‬‬ ‫�أعطيته امل�سد�س بثقة ثم قمنا لنكمل امل�سري‪.‬‬ ‫كل خطوة نخطوها كان ي�شري ب�أ�صبعه اىل واقعة قتل‬ ‫حدثت مع رفاقه وعنا�رص �ألآ�ستخبارات‪ ..‬ثم قال م�ستذكرا‬ ‫حادثة قدمية‪:‬‬ ‫ـ كاكا رياز (اي االخ ريا�ض) هناك قَتلوا ا�صدقائي وهنا‬ ‫قب�ضت علينا كمائن اال�ستخبارات وقتلت من قتلت و�أخذت‬ ‫‪50‬‬


‫الباقني اىل اال�رس وكنت انا من بينهم‪.‬‬ ‫هذه املرة مل اخف وح�سب بل ن�شف دمي و�أح�س�ست ان‬ ‫اقدامي تف�ضل الرجوع اىل املديرية ثم وا�صل‪:‬‬ ‫ـ هناك كنا جال�سني يف �أحدى االيام ف�صادفتنا قوة‬ ‫ا�ستطالع قتلت �صديقي على الفور‪ ،‬اما الباقون فمنهم من‬ ‫كان حمظوظا‪ ..‬ومن �سقط يف ايديهم مل نراهم بعد ذلك‪ ..‬انظر‬ ‫اىل هذه احلفر فهي كانت للكمائن و�سرنى املزيد منها الحقا‬ ‫انها مرتوكة ال تقلق‪.‬‬ ‫ـ باهلل عليك كيف ت�أكدت ب�أنها مرتوكة؟ ت�ساءلت بخوف‪،‬‬ ‫فه�سترييا الهلع بد�أت ت�رضبني‪.‬‬ ‫ـ هي كذلك فقبل ان نخرج ا�ستطلعت املكان جيدا و�س�ألت‬ ‫املهربني عن ُ‬ ‫الطرق وامل�سالك الآمنة اىل كرد�ستان‪ ..‬ف�أنا ال‬ ‫اجازف ال بحياتي وال بحياتك اخي العزيز‪.‬‬ ‫و�صلنا اىل تلة كبرية تف�صلها عنا واد وا�سع وعميق ترعى‬ ‫فيه االغنام التي غطت التله وبد�أت الكالب بالنباح‪ ،‬قال‬ ‫هذه اغنام تعود لأقرباء �صدام ح�سني و�سرنى البدو نائمني يف‬ ‫الطرق فال تخاف لأنهم ا�صدقا�ؤنا‪ ..‬ون�ستمد منهم يد العون‬ ‫يف كل مرة‪.‬‬ ‫ـ متى �سن�صل؟ �س�ألته‪.‬‬ ‫‪51‬‬


‫ـ لقد بد�أنا امل�سري التا�سعة م�ساء والآن هي الثالثة �صباحا‬ ‫�سن�صل اخلام�سة والن�صف حدود منطقة جم جمال ثم تعلن‬ ‫عن جلوئك هناك لتح�صل على اجلن�سية الكردية‪ .‬ثم �أطلق‬ ‫قهقهة خافتة‪ ..‬ولكن بدون خوف او حتى مل يح�سب ح�ساب‬ ‫�أن ي�سمعه رجال الدوريات التي تنت�رش يف املنطقة‪.‬‬ ‫�ضحكت فقلت‪ :‬هل نحن االن م�سموح لنا ان نتكلم‬ ‫ب�صوت عال؟ اجابني‪ :‬بنعم‪ .‬اراحني كثريا اذ ال خطورة علي‬ ‫اذن‪ ..‬مررنا بجانب خيام البدو ف�سلم –عـ على احدهم كان‬ ‫نائما يف العراء وبكل �أمان‪:‬‬ ‫ـ �سالم عليكم هل هناك مفارز او كمائن يف الطريق؟‬ ‫اجابه البدوي‪:‬‬ ‫ـ مروا ب�سالم‪ ...‬ـ ثم �أخلد اىل النوم وك�أنها حالة ا�ستمرارية‬ ‫ال تدعو اىل القلق‪.‬‬ ‫ثم بادرين بالقول‪:‬‬ ‫ـ ه�ؤالء طيبون اذ لي�س كل العرب ظاملني فاغلبهم اخوتنا‬ ‫وغري را�ضني عن حكم الدكتاتور‪ ،‬فها انت مثال ب�سيط على‬ ‫ذلك ولو ر�أيت كرد�ستان كيف هي مليئه ب�ضباط ع�سكريني‬ ‫كبار فروا من �صدام ويتجولون بلبا�سهم الع�سكري بحريه بعد‬ ‫�سلموا �أنف�سهم حلكومة اقليم كرد�ستان‪ ..‬ثم قال بقليل من‬ ‫ان ّ‬ ‫‪52‬‬


‫الغ�ضب وعدم الر�ضا‪:‬‬ ‫فقط م�سعود الربزاين خائن فهو ي�سلم كل هارب �سيا�سي‬ ‫اىل �صدام ح�سب اتفاقية بينهما‪.‬‬ ‫ـ هل اقدر ان اهرب اىل �سوريا ف�أنا يل �شخ�ص اوده ي�سكن‬ ‫حلب؟ �س�ألته بخيبة �أمل ع�سى �أن �أجد جوابا �شافيا‪.‬‬ ‫ـ مع اال�سف ال‪ ..‬الطريق الوحيد هو ايران ومن ثم اىل تركيا‬ ‫وت�سلم نف�سك اىل االمم املتحدة وتعلن جلوءك ثم ينقلونك اىل‬ ‫الدوله اىل تر�شحها للذهاب اليها فهكذا يفعلون االن وعليك‬ ‫بالإ�رساع‪.‬‬ ‫ـ نعم كل م�ستنداتي معي وان�شاء اهلل �س�أ�صل اىل بلد االمان‪.‬‬ ‫قلت بثقة عالية‪.‬‬ ‫قاربت ال�ساعة اخلام�سة والن�صف �صباح ًا‪ ..‬وو�صلنا بامل�سري‬ ‫اىل مكان يك�سوه احل�صى مما اثار �صوت ًا عالي ًا اثناء امل�شي عليه‬ ‫�س�ألته‪:‬‬ ‫ـ الي�س هذا ال�صوت بكايف على ان يك�شفنا‪.‬‬ ‫ـ ال‪� ..‬صاح بفرح‪ ...‬و�صلنا اىل احلرية ت�ستطيع �أن تغني‬ ‫كما ت�شاء فاليوم انت حر‪.‬‬ ‫قفزت من �شدة الفرح حيث غمرتني ن�شوة النجاة ولأول‬ ‫مره بعد �سنني من ممار�ستي وظيفتي كرجل امن‪ ..‬ها �أنذا‬ ‫‪53‬‬


‫�س�ألب�س لبا�س الطم�أنينة واملدنية ولرمبا �س�أرجع اىل الكتابة‬ ‫و�أمار�س حقوقي املدنية يف بلد اخر ويف ظروف �أح�سن‪.‬‬ ‫جل�سنا داخل �سيارة حمروقة ومرتوكة على حافة الطريق‬ ‫الرتابي ثم قال‪:‬‬ ‫ـ �سننتظر احد املهربني ليقلنا ب�سيارته‪.‬‬

‫‪54‬‬


‫اليوم االول في كردستان‬ ‫ربيع ‪ 1999‬ـ نيسان‪:‬‬

‫هاهي كرد�ستان‪ ...‬و�صلتها يف �صبيحة ‪24‬ـ ‪4‬ـ ‪..1999‬‬ ‫أح�س ب�أنّ هواء احلرية له طعم خا�ص يختلف عن ال�سموم التي‬ ‫� ّ‬ ‫هواء ال�شمال الأ�شم‪..‬‬ ‫ا�ستن�شقتها من قبل‪ ..‬ن�سمات عذبة من ْ‬ ‫فالبيوت رغم بنائها البدائي �إال انني ارحتت عندما �شاهدتها‬ ‫لأنني اح�س�ست بوجود انا�س رحماء‪.‬‬ ‫ـ �ساخذك اىل بيتي لت�أخذ ق�سطا من الراحة اىل ان ي�أتي ـ �أ ـ‬ ‫لي�أخذك اىل بيته‪.‬‬ ‫اعد ْت لنا‬ ‫دخلت بيته فا�ستقبلتني زوجته با�ستقبال جميل ثم ّ‬ ‫الفطور‪ ..‬اح�س�ست بالتعب ينخر ب�أع�ضائي‪ ..‬الوجع والوهن‬ ‫ثم النعا�س‪ ..‬فاكتفيت باحت�ساء ال�شاي ثم اخللود اىل النوم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫‪55‬‬


‫ـ ا�ستيقظ (قال ـ �أـ مبت�سما) لقد جئت لأخذك‪.‬‬ ‫ولكن الت�شنج يف �ساقي و�أوجاع اجل�سم‬ ‫حاولت النهو�ض‬ ‫ّ‬ ‫التي تق�صم ال�صحة منعتني من القاء حتية ال�سالم عليه ثم ربت ـ‬ ‫�أ ـ على كتفي بابت�سامة ا�شفاق‪.‬‬ ‫ـ �سنغادر االن اىل بيتي‪ ،‬فقط ارتاح ال حتاول التفكري فكل‬ ‫�شيء على ما يرام‪.‬‬ ‫مل تكن حالتي ت�ساعد على الكالم‪ ،‬فما زلت �أعاين من‬ ‫االوجاع والتيب�س يف �أ�ضالعي وت�شنجات قا�سية‪ ..‬نه�ضت‬ ‫ب�صعوبة بالغه وبد�أت اعرج يف امل�شي نتيجة �أوجاع اجل�سد‬ ‫امل�ؤمله‪.‬‬ ‫ـ انت عندك ت�شنجات‪ ..‬ل�ست متعودا على هذا الطريق‬ ‫لأنك مل تواجه ق�ساوة احلياة بعد فهذه ربعها‪.‬‬ ‫ـ امل �أن ال �أرى الوجه املتبقي من الق�سوة فما �أنا عليه‬ ‫يكفيني‪ ..‬ـ �أجبته ـ ‪.‬‬ ‫حتدث قليال مع زوجة اخيه ثم طلب مني توديعها بالعربية‬ ‫و�سيتكفل يف ترجمة ما �س�أقول لها بالكردية‪ ..‬غادرنا املنزل‬ ‫متجهني اىل بيت ـ �أ ـ وك�أنني يف كابو�س ال ير�ضى ان ينتهي‬ ‫ولن ينتهي‪ ..‬هكذا بادرت الق�صة يف ذهني‪.‬‬ ‫و�صلنا اىل بيته فكانوا بانتظاري � ّأما زوجته ـ ف ـ الوحيدة‬ ‫‪56‬‬


‫من تتكلم العربية‪ ..‬عربت عن فرحتها لر�ؤيتي ثم �سلمت على‬ ‫�أهله‪ ..‬قبلت ابنه ال�صغري ذا ال�سنة والن�صف‪� ..‬أ�شقر وجميل‬ ‫يختلف عنهم متاما‪ ..‬دعاين اىل اجللو�س يف غرفة ال�ضيوف‬ ‫و�أو�صى اهله ان يجلبوا لنا الغداء فورا لأنني مل اكل �شيئا منذ‬ ‫البارحة‪.‬‬ ‫بعد الغداء والراحة �س�ألته‪:‬‬ ‫ـ ماذا �سيكون م�صريي وم�صري اختي؟‬ ‫ـ اختك ترف�ض املجيء اىل هنا عندنا عيون تراقبها ولكن لو‬ ‫حب�سها �أمن النظام ف�ستتعقد االمور كثريا‪ ،‬اما انت ف�سيقابلك‬ ‫مدير �أمن جم جمال و�سي�س�ألك بع�ض اال�سئلة العادية التي‬ ‫تخ�ص وظيفتك الأمنية كما �أنت وعدتهم‪ ..‬و�أنا �س�أتكفلك‬ ‫وانق�ضى االمر‪ ..‬وبعدها �ستقرر ان كنت ترغب مبغادرة‬ ‫العراق او البقاء يف كرد�ستان‪.‬‬ ‫ـ امتنى ذلك‪،‬على فكرة م�سد�سي مع اخيك‪.‬‬ ‫أنت يف‬ ‫ـ ال تقلق �س�أح�رضه و�أبيعه لك فهنا ال ي�ضيع حقك‪َ � ،‬‬ ‫مكان �آمن ول�ست بني الوحو�ش‪ ..‬هنا كرد�ستان‪ ..‬كل �شيء‬ ‫خمتلف و�أكرث النا�س طبيون‪.‬‬ ‫م�ضت ليلتان يف بيت ـ �أ ـ ارتاحت �رسيرتي قليال فزوجته‬ ‫طيبة للغاية ووالدته و�أختيه كانتا فعال تبديان الود معي‬ ‫وخ�صو�صا و�أنا ال اجيد الكردية فلأمر كان حمرجا بالن�سبة يل‪..‬‬ ‫‪57‬‬


‫الليله الثالثة كانت مزعجة ومرعبة كانت كافيه لأفقد توازين‪..‬‬ ‫ا�ستيقظت على ا�صوات طلقات نارية كثيفة وك�أننا دخلنا يف‬ ‫هجوم مباغت‪ ..‬خرج ـ �أ ـ و�شقيقه اال�صغر من الغرفه ثم قلت‬ ‫له بخوف‪:‬‬ ‫ـ هل هذا هجوم �صدامي كما توعدكم قبل فرتة يف‬ ‫ا�سرتجاع جم جمال ام ماذا؟‬ ‫ـ ال تخف �س�أرى ما يحدث و�أخربك‪.‬‬ ‫ـ ان�شاء اهلل‪ ..‬هذا كل ما تفوهت به‪ ..‬بكلمات ممزوجة‬ ‫برعب �شديد‪ ،‬فلو �صح ان دخول �صدام لكرد�ستان تزامن مع‬ ‫دخويل لكرد�ستان فهذا يعني ان حظي عقيم ولي�س فقط عاثراً‪.‬‬ ‫نزل ـ �أـ و�أخوه عطار ُليطمئن اهل بيته بالكردية ثم قال يل‪:‬‬

‫ـ انها ت�صفية ح�ساب بني ع�شريتني اخلد للنوم‪ ...‬ـ �ضحك‬ ‫ب�صوت عايل وذهب ليكمل نومه وك�أن م�شاهد احلروب‬ ‫عادية يف كرد�ستان‪.‬‬ ‫ا�ستغربت ثم ت�ساءلت مع نف�سي‪ :‬ت�صفية ح�ساب؟ اذن اين‬ ‫الدولة؟‬ ‫مل امن من �شدة ا�صوات ر�شق الر�صا�ص وال�صياح اىل حني‬ ‫�رشوق ال�شم�س‪ ..‬وبعد ان هد�أت االمور اغم�ضت عيني ومنت‬ ‫وال �أدري ما �سيكمن يل غداً‪.‬‬ ‫‪58‬‬


‫التحقيق‪:‬‬ ‫جاء احد منت�سبي الأمن التابع اىل مديرية �أمن جم جمال‬ ‫ـ نوزاد ـ ‪ ..‬يتمتع بخفة ظل ب�شو�ش الوجه له �شارب هتلري‬ ‫ال�شكل‪ ..‬دعاين اىل الغداء‪ ..‬ما �أفرحني فعال �أنه يجيد اللغة‬ ‫العربية وان كانت احلروف التي ينطق بها مبعرثة وغري‬ ‫منظمة‪ ..‬فقال يل نوزاد بانّ مدير االمن يريد ان ينهي معي‬ ‫ق�ضية التحقيق‪ ..‬و�س�أكون ُحراً طليق ًا‪ .‬مل ت�رسين الأخبار كثرياً‬ ‫لأنني اح�س�ست ب�أنني �س�أواجه م�صاعب �أكرث‪ ،‬فلي�س من‬ ‫أمن ب�سهوله دون ع�رصه واحل�صول على‬ ‫املعقول �أن ُيرت َ​َك رجل � ْ‬ ‫كل ما �أملك من معلومات �أمنية‪� ..‬إال انني كتمت املو�ضوع‪.‬‬ ‫ا�ستقلينا �سيارة الالندكروز من بيتـ �أـ اىل املديرية وكان املدير‬ ‫بنف�سه جال�س ًا يف املقعد الأمامي‪ ..‬ا�ضافه اىل بع�ض من عنا�رص‬ ‫حمايته‪ ..‬ي�ستمعون اىل �أغاين الفنان الراحل ـ ناظم الغزايل ـ‬ ‫كان الطرب م�سيطراً عليهم‪ ..‬رحب بي املدير ـ كاكا عادل ـ‬ ‫وقال يل ان التحقيق �سي�ستمر معي ل�ساعات ثم اكون حرا يف‬ ‫مناطق كرد�ستان و�شكرين جداً على ثقتي به‪.‬‬ ‫رحب بي ال�ضابط امل�س�ؤول‬ ‫بعد و�صولنا اىل مقر املديرية‬ ‫ّ‬ ‫علي يف التحقيق‪ ..‬كان نحيال وطويل القامة قليال ثم قال‪:‬‬ ‫ـ اهال بك �سيد ريا�ض ال تقلق ف�أنت يف امان وت�أكد انك يف‬ ‫�أمان هنا‪ ..‬وال تخف فنحن يف اقليم دميقراطي‪ ،‬والكثريون‬ ‫‪59‬‬


‫هنا امثالك من ذوي الوظائف احل�سا�سة ن�ستقبلهم ونعاونهم‬ ‫على نيل حريتهم‪.‬‬ ‫ـ ل�ست قلقا فال�سيد جالل الطالباين معروف بكرمه و�أمتنى‬ ‫له ال�صحة دائما و�أنا مل امدح رئي�سا بهذه الطريقة من قبل �إال‬ ‫لأنني احبه فعال‪ ،‬ولي�س ما اقوله خوف ًا �أو متلق ًا‪ .‬ـ �أجبته بثقة‬ ‫عالية ـ ‪.‬‬ ‫بد�أ التحقيق معي وكان وجه املحقق با�سم ًا‪ ..‬هيئته تدل‬ ‫على انه يتمتع ب�أخالق جميلة‪ ..‬فلم �أبخل اثناء التحقيق‬ ‫بتزويده ب�أي �شيء عن الأ�رسار الأمنية‪ ..‬عدد اال�سئلة كانت‬ ‫حوايل ‪� 150‬س�ؤا ًال مل اتوقع ان يكون املحقق بهذه الفطنة ف�أنا‬ ‫عملت مع انا�س خمتلفني يف التحقيق ومل �أرى مثله يف ا�سلوب‬ ‫الكالم واللطف �إذ مل يكن مت�صنعا بل بالعك�س كانت تلك‬ ‫حقيقته الأكيدة‪.‬‬ ‫�س�ألني �س�ؤا ًال اتذكره عن خطط �صدام ح�سني بخ�صو�ص‬ ‫�صحة نيته ال�سرتجاع كرد�ستان اجبته‪:‬‬ ‫ـ لوال امريكا ال�سرتجعها فهو بعد حرب الكويت ا�سرتجع‬ ‫العراق من زاخو اىل الب�رصة وان�سحب من كرد�ستان ب�ضغط‬ ‫�أمريكي‪ ،‬والآن لو �أراد هو ال�سرتجعها ب�ساعات �إال ان امريكا‬ ‫املانع القوي يف هذا املو�ضوع‪.‬‬ ‫‪60‬‬


‫حرك ر�أ�سه م�ؤيدا جلوابي‪ ..‬اكملت �رشب ال�شاي‪ ..‬ثم قال‬ ‫يل‪:‬‬ ‫ـ نوزاد �سيح�رض لي�أخذك للغداء ومبجرد اكمال اوراقك‬ ‫�ستكون حرا و�سيكون ب�إمكانك ا�صدار هوية احوال �شخ�صيه‬ ‫تخ�ص كرد�ستان العراق لتكون حرا وتتمتع بحقوق املواطنة‬ ‫على هذه الأر�ض‪.‬‬ ‫�صافحته ثم هممت باالن�رصاف ثم �شكرته على ُح�سن‬ ‫املعاملة وا ُ‬ ‫خللق‪.‬‬ ‫ـ نحن من �صنف واحد �إال اننا ال نقمع ال�شعب بل‬ ‫ن�ساعدهم‪ ،‬اما انت اخ ريا�ض ف�أخالقك كرجل دعتك لأن‬ ‫ترف�ض حكم الدكتاتور وتغامر من اجل نيل حريتك والعي�ش‬ ‫الكرمي فهنيئا لك‪.‬‬ ‫غادرت املديرية را�ضي ًا‪ ..‬ثم دخلت �سوق جم جمال‬ ‫ال�شعبي فر�أيته منق�سما اىل ن�صفني الن�صف االول يبيع اال�سلحة‬ ‫بكل ا�صنافها حيث البنادق والبي كي �سي تغطي االر�ض‬ ‫و�صناديق من الرمانات اليدوية ب�صنفيها ـ الدفاعية والهجومية‬ ‫ـ متلأ �أر�ضية ال�سوق‪ ..‬والن�صف الثاين مواد غذائية معلبه‬ ‫وغريها من اال�صناف التي مل �أرها يف حياتي‪ ..‬ا�ستغربت‬ ‫وقلت لنوزاد‪:‬‬ ‫‪61‬‬


‫ـ كاكا هذه دميقراطيه رائعة فعال‪.‬‬ ‫ـ نعم كل �شيء موجود حتى لو اردت ان تتفرج على افالم‬ ‫اباحية فهناك كازينو خمفي يفي بهذا الغر�ض‪.‬‬ ‫ـ ا�شتقت للن�ساء اال انني يف و�ضع ال ا�شتهي ان ا�ضاجع‬ ‫احداهن فما زلت قلقا على نف�سي وعلى اختي وولدها‪.‬‬ ‫ـ ال تقلق ع�ش حياتك‪ .‬ابت�سم يف وجهي ثم ق�صدنا املطعم‪،‬‬ ‫فرائحة الأكالت مزقت ان�سجة الأنف وع�ضالت البطن‬ ‫تهاوت مع رائحة املرق والرز واللحم والكباب واىل �آخره من‬ ‫�أكالت كرديه ُ�صنعت من الدهن ا ُ‬ ‫حلر اخلال�ص‪.‬‬

‫�شاهدت قدرة النا�س يف كرد�ستان املالية واملعا�شية على‬ ‫�رشاء اللحم والفواكه‪ ..‬اما يف املناطق التي ي�سيطر عليها �صدام‬ ‫ح�سني فال�شعب هناك فاقد ال�ضحكة‪ ..‬ولي�ست هناك اي من‬ ‫اثار املرح مر�سومة على وجه املواطن املنهك‪ ..‬ا�ضحت املدن‬ ‫ُمغربة ال حياة فيها وان العراقي ُحرم من اب�سط حقوقه‪ ،‬فالفقر‬ ‫حال بينه وبني احالمه الب�سيطة‪.‬‬ ‫رجعنا اىل بيت ـ أ� ـ اذا فعال اح�س�ست براحة يف هذه‬ ‫القرية ال�صغرية فكل �شيء رخي�ص �ساندوي�ش �شاورمة بدينار‪،‬‬ ‫بينما يف بقية مناطق العراق التي تخلو من العملة الأ�صلية‪..‬‬ ‫حيث ان ا�صغر عملة هي ‪ 25‬ديناراً طبع عراقي حملي‪� ..‬أما‬ ‫‪62‬‬


‫�ساندوي�ش الفالفل فال يقل من ‪ 250‬دينار وما ما يتقا�ضاه‬ ‫املوظف لي�س اقل من ‪ 3000‬دينار مطبوعة حمليا من الورق‬ ‫العادي اي يعادل ‪ 30‬ديناراً يف الق�سم الكردي الذي مازال‬ ‫حمتفظا بالعملة ال�سوي�رسية القدمية الر�سمية‪.‬‬

‫اعتقايل يف �سد مديرية �أمن دربندخان‪:‬‬ ‫يلق ترحيبا يف نف�سي وهو‬ ‫بعد �أيام جاءين ـ �أ ـ بخرب مريب مل َ‬ ‫ان مدير �أمن دربندخان يريد ان يقابلني لأمر هام‪ ،‬فهو املرجع‬ ‫االعلى لعادل مدير �أمن جم جمال وهناك ا�سئلة حتتاج اىل‬ ‫تو�ضيح اكرث ويجب علي ان �أح�رض ذلك التحقيق‪.‬‬ ‫�سيدير التحقيق معك‪.‬‬ ‫ـ حمه �سور هو من ُ‬

‫�سور يعني احمر بالكردية ولقبوه بهذا اللقب الحمرار‬ ‫وجهه‪ ..‬قلت يف نف�سي ـ اذن �أمري هلل ـ مل اكن مرتاحا لهذا‬ ‫املوعد ف�أح�س�ست �أن هناك لعبة غري نظيفة �س�أواجهها معه‪.‬‬ ‫يف اليوم التايل �صعدنا ال�سيارة اخلا�صة ملديرية امن جم جمال‬ ‫وتوجهنا قا�صدين امن دربندخان‪ ،‬وهناك قابلت �ضابط‬ ‫التحقيق وكان �سلوكه غاية يف الرداءة‪ ..‬وبد�أ بالتحقيق معي‬ ‫بفاحتة ال ت�سرُ ‪:‬‬ ‫ـ لقد قتلتمونا ل�سنني وهذه �صور حلبجة على اجلدران فهي‬ ‫‪63‬‬


‫و�صمة عار على نظام �صدام‪ .‬ـ قالها بغ�ضب وا�ستنكار م�شريا‬ ‫ل�صور ال�ضحايا املعلقه على احلائط‪.‬‬ ‫ـ من فعل ذلك �صدام وجي�شه‪ ،‬اما انا فكنت طفال قا�رصا‬ ‫يف ال�سنة ـ ‪1988‬ـ ول�ست م�س�ؤوال عن ت�رصفات غريي‪.‬‬ ‫ـ ارين حمفظتك‪ .‬قالها غا�ضبا‪.‬‬ ‫ثم بد أ� يقلبها بحقد داخلها وخارجها ثم قال خمرجا بع�ض‬ ‫�صور الفتيات العاريات‪:‬‬ ‫ـ اين تظن نف�سك ما هذه؟‬ ‫ـ اعتقد انك ر�أيت جيدا ماهذا‪ ..‬ثم هذه خ�صو�صيتي‪..‬‬ ‫انت عليك بالتحقيق الذي يهم امر البلد‪ ،‬وهذه �صور الفتيات‬ ‫ال اعتقد انها �ستم�س �أمن البلد �صديقي العزيز هناك ا�شياء اهم‬ ‫من ال�صور‪� ..‬أعجبتني الوجوه فاحتفظت بها و�أعتقد �أن كل‬ ‫�شاب يفعل ما �أفعله‪.‬‬ ‫ـ �س�أ�صادرها‪ .‬ـ قالها غا�ضبا ـ ‪.‬‬ ‫ـ �صادرها لو كانت م�صادرة هذه ال�صور حتل م�شكلة البلد‬ ‫ولكن بعيدا عن منزلك‪ .‬ـ قلت ب�سخرية ـ ‪.‬‬ ‫بعد انتهاء التحقيق تلقى املحقق اوامر باعتقايل يف الزنزانة‬ ‫التي تقع حتت االر�ض حلني التحقق من �صحة اقوايل‪.‬‬ ‫ـ �سوف تكون �ضيفا عندنا وبنف�س املكان الذي �سجن‬ ‫‪64‬‬


‫�صدام عوائلنا‪.‬‬ ‫مل اتكلم فال فائدة من الكالم مع عقول متحجرة همها‬ ‫االنتقام‪ ،‬نزلت اىل الزنزانة‪ ..‬وكانت جديدة من الداخل مما‬ ‫يدل على انها قد انتهت من ا�صالحات البناء حديثا‪� ..‬شاهدت‬ ‫يف داخل الزنزانات �ضباطا ومراتب ع�سكرية ُ�سجنوا معا اال‬ ‫ان ال�سجان قال انه �سي�سجنني لوحدي ل�سالمتي االمنية‪.‬‬ ‫دخلت الزنزانة وجل�ست يف زوايتها و�أ�سندت ر�أ�سي على‬ ‫احلائط لأت�أمل ما و�صلت اليه حالتي‪ ..‬فكلي يقني ان ـ �أ ـ لن‬ ‫يرتكني على حالتي �أواجه ق�سوة الذل‪ ..‬نعم فهذه مذلة بعينها‬ ‫ان تُعامل يف وطنك كمجرم‪ ..‬اذن كيف يريد من يحكمنا‬ ‫ان نكون وطنيني وحكامنا يعاملوننا بكل ظلم ويهينوننا رغم‬ ‫ان ثرواتهم هي منا‪ ..‬الرئي�س هو مافيا ولكن حتت ت�سميات‬ ‫خمتلفة حتميهم قوانني �صارمة‪.‬‬ ‫االكراد جيدون ولهم مواقف عرفتهم بها مل �أرها تبدر حتى‬ ‫من العرب �أنف�سهم‪ ..‬فالكردي له �شيمة و�أ�صالة واعتزازه‬ ‫بالكردية ورغم ما القوه من تنكيل وقتل من الطاغيه �صدام‬ ‫ح�سني اال انهم مازالوا يحت�ضنون العرب الفارين من نظام‬ ‫البعث ويوفرون العمل للعرب يف ذلك الوقت يف احلقول‬ ‫وغريها بل حتى يتزوجون هناك‪ .‬مل اح�س بالغربة معهم‬ ‫فاغلبهم ت�سكنهم الطيبة‪.‬‬ ‫‪65‬‬


‫يف اليوم الثاين دخل معي اىل الزنزانة �شاب كان ح�سن‬ ‫ال�شكل يف الع�رشينات من عمره �سلم علي وجل�س متكئا على‬ ‫احلائط ثم حان وقت الغداء فاح�رضوا لنا غذاء فاخرا من مرقه‬ ‫البامية ورز ابي�ض ذي منظر �شهي وحلم يف اطباق نظيفة وك�أننا‬ ‫يف هوتيل فخم‪ ،‬تذكرت مديريات االمن عندما كانوا ي�صبون‬ ‫الزيت املغلي يف قدر ماء كبري ثم يخلطون بع�ض الطماطم‬ ‫والب�صل ويقدمونه بع�ض االحيان بدون رغيف اىل املعتقلني‬ ‫يف �سجون �صدام‪ ..‬وحتى الرغيف مل يكن يتجاوز كف اليد‬ ‫ولونه ا�سمر حالك خملوط ب�أ�شياء اخرى غري الطحني العادي‪..‬‬ ‫والذي ال ُي�شبع وال يغني من اجلوع‪.‬‬

‫�أكلنا و�شبعنا ثم �أخذت قيلولة بعد ان اح�س�ست بثقل‬ ‫ونعا�س‪ ..‬نف�س احلالة تكررت وقت الع�شاء‪ ..‬فالوجبات‬ ‫خمتلفة بل و�أح�سن عن �سابقتها‪� .‬س�ألني ال�شاب عن جرميتي‬ ‫ف�أخربته عن نف�سي ب�أنني كل ما احتاجه هو الكفالة داخل‬ ‫كرد�ستان وفقط انتظر الكفيل و�أعمل �أعماال حرة‪ ،‬اما هو فهو‬ ‫مهرب اثار حاول بيع قطع �أثرية اىل �أنا�س من خارج العراق‬ ‫�أو املناطق التي ت�سيطر عليها حكومة م�سعود الربزاين املُعادي‬ ‫حلكومة جالل يف ذلك الوقت‪ .‬اال ان �سوء حظه �صادف انه‬ ‫كان يتعامل مع �أ�شخا�ص من اجلهاز االمني التابعني حلكومة‬ ‫جالل وكانوا متخفني يف �شخ�صيات وهميه لإيقاع الفتى يف‬ ‫‪66‬‬


‫الكمني ومت القب�ض عليه متلب�سا‪ ،‬ولكن لن ُيحاكم لو ارجع‬ ‫قطع االثار هذه هي فر�صته الوحيدة لكي ي�سقط احلب�س عنه‪.‬‬ ‫ا�ستغربت فحكومة كرد�ستان تت�ساهل حتى مع املهربني‪..‬‬ ‫حتت م�سميات الدميقراطية �أو بالأحرى فكرد�ستان حديثة‬ ‫العهد وال تريد حكومتها ان تبني دولتها على القمع‪ ..‬ولكنها‬ ‫بالوقت نف�سه ال تت�ساهل مع االرهاب‪.‬‬ ‫كان احلديث ممتعا معه اىل ان غادر ال�سجن بعد ان خرج‬ ‫بكفالة ثم ا�ست�ضافت زنزانتي �صائغا يجيد العربية وكان حمرتما‬ ‫يف حديثه ومل مت�ض ايام معدودات حتى افرجوا عنه‪ .‬يا ل�سهولة‬ ‫االفراج هنا ولكن ماذا عني؟‬ ‫كنت افكر كثريا بلينا وحزنت اكرث عندما علمت ان ال‬ ‫�سبيل للو�صل اىل حلب ثم اليها‪ ،‬فاجلانب الذي ت�سيطر عليه‬ ‫احلكومة الكردية لديها اتفاقيات مع �صدام لإرجاع املطلوبني‬ ‫للق�ضاء‪.‬‬ ‫تذكرت اثناء فرتة عملي يف مديرية امن كركوك ـ �شعبة‬ ‫القيود بالتحديد ـ عندما كنا ن�ستلم برقيات ُيعلموننا ب�أ�سماء‬ ‫ا�شخا�ص قد مت ترحيلهم من تركيا اىل زاخو ـ الأرا�ضي العراقية‬ ‫ـ لغر�ض التدقيق يف ا�سمائهم فيما لو كان بينهم مطلوبون‬ ‫للنظام العراقي �أم ال‪ ..‬وكان هذا احد اال�سباب يف عدم‬ ‫اختياري اربيل لغر�ض الأقامه بعد هروبي من الق�سم البعثي‪.‬‬ ‫‪67‬‬


‫بقيت وحيدا وال املك �سوى ملعقة طعامي بني يدي‪..‬‬ ‫نظرت اىل احلائط االبي�ض وكان حديث البناء وتذكرت‬ ‫كلمات اغنية للمطرب عا�صي احلالين‪ ..‬كنت انا ولينا‬ ‫نتذاكرها يف ر�سائلنا‪ ..‬وهي‪:‬‬ ‫لو تدري بيا �ش�صار كل الذنب بهواك‬ ‫زرعوا القلب بالنار حتى القلب ين�ساك‬ ‫وعذبوين ودمروين وجرحوين وجرحوك‬ ‫خططت هذا على احلائط ومن ثم ختمتها ب� ْإ�سمينا ـ ‪.‬‬

‫مل متر االمور ب�سهولة كما اعتقدت‪ ..‬فما ان دخل ال�سجان‬ ‫القروي ور�أى احلائط م�شوه ًا مل يغفر يل وكاد ان يركلني‬ ‫بغ�ضب ثم �صاح علي ونعتني ـ بالعربي الكلب ـ ثم �أب ّلغ الرائد‬ ‫مدير ال�سجن لرييه رذاذ الغبار االبي�ض املت�ساقط على االر�ض‬ ‫وظن انني كتبت �شعارات معادية �ضد الدولة الكردية‪.‬‬ ‫�أتى الرائد وقر�أ ما هو مكتوب ثم �صاح بوجهي‪:‬‬ ‫ـ �ستبقون كالب ًا �أنتم هكذا وال تتغريون‪ ..‬من الذي عذبك‬ ‫ودمرك �أتكتب هذا الكالم علينا بعد ان �ساعدناك و�أنقذنا‬ ‫حياتك من الدكتاتور ايها الوغد‪.‬‬ ‫ـ مل يعذبني احد ولكنها ا�شعار كتبتها فقط عن ُح�سن نية‬ ‫وفعال اقدم اعتذاري لكما‪.‬‬ ‫‪68‬‬


‫ـ للتو مت اعمار هذا ال�سجن و�أنت كتبت ترهاتك لتخرب‬ ‫علينا االعمار‪.‬‬ ‫ثم توجه بالكالم اىل ال�سجان‪:‬‬ ‫ـ خذه اىل التواليت وا�سجنه اىل �أن يحني وقت الع�شاء‬ ‫كعقوبة له‪.‬‬ ‫اقتادين ال�سجان ورماين يف ا�صغر حمام بالكاد ا�ستطيع‬ ‫الوقوف فيه ل�ضيق امل�ساحة ومل ي�سعني اال االبت�سامة واعتقد ان‬ ‫احلياة هكذا لن تنتهي‪.‬‬ ‫يف اليوم ال�سابع تذكرين حمه �سور املدير ثم زار ال�سجناء‬ ‫ووقف امام زنزانتي و�س�ألني بتكبرّ ‪:‬‬ ‫ـ هل انت رجل االمن الذي حل �ضيفا علينا م�ؤخرا؟‬

‫مل يعجبني ا�سلوبه بل واكد يل غباءه النهم حذروين بادئ‬ ‫االمر من اخفاء هويتي عن كل �شخ�ص يف املعتقل او خارج‬ ‫املعتقل وذلك ل�ضمان �سالمتي‪.‬‬ ‫اكتفيت بالإمياء بر�أ�سي فانا ل�ست وحيدا يف ال�سجن‪..‬‬ ‫والآن افت�ضح امري من قبل ذلك املدير الغبي‪ ..‬نظر ال�سجني‬ ‫ايل وبد أ� ي�صغي باهتمام كبري ملا يدور بيني وبني مدير االمن‪.‬‬ ‫ـ �أذن اكتب لنا كل اعرتافاتك هنا و�سنعطيك اوراقا لتدون‬ ‫ما لديك �أو �س�أعدمك االن‪.‬‬ ‫‪69‬‬


‫ـ االعدام ت�صدره املحكمة ول�ست انت‪..‬‬ ‫ـ نحن هنا دولة و�أنت جمرد هارب �أكتب ما طلبناه‪ .‬ـ ثم‬ ‫غادر ـ ‪.‬‬ ‫ـ �أ �أنت رجل امن‪ ..‬؟ �س�أل الرجل املعتقل بف�ضول‪.‬‬ ‫ـ هل من اعرتا�ض؟ ـ �أجبته بامتعا�ض ـ ‪.‬‬ ‫ـ كال كال ولكنك مل تخربين �أبدا عن نف�سك و�شدين الف�ضول‬ ‫اىل �أن اتعرف على ق�صتك‪ ..‬فللعرب ق�ص�ص عجيبة وعندما‬ ‫يقدمون اىل كرد�ستان يروون ق�ص�ص ًا عجيبة عن قمع النظام‬ ‫و�أجهزته الأمنية لهم‪.‬‬ ‫ـ ارجو ان تهتم مب�شاكلك وال ت�سال اي �شيء عني ف�أنا رجل‬ ‫عادي‪– .‬‬ ‫حاولت �أن اتخل�ص من ف�ضوله‪ .‬غ�ضبت من معاملة املدير‬ ‫الغبي الذي لوال ظروف �ساعدته يف الرتقية اىل رتبة مدير لكان‬ ‫الآن يف اجلبال ُمطارداً‪ ..‬بعد �أيام ر�أيت �صدفة �شخ�صا ُيدعى‬ ‫غريب نزل اىل داخل الزنزانة لزيارة �شخ�ص وناديته‪ ..‬مل يت�أخر‬ ‫الرجل يف تلبية ندائي‪ ..‬جاء لكي يعرب عن فرحه لر�ؤيتي‪:‬‬ ‫ـ احلمد هلل ر�أيتك فالكل قلق عليك وال احد يعرف اين‬ ‫انت‪ ..‬حمه �سور اخرب اجلميع ب�أنه قد مت االفراج عنك وفق‬ ‫�أوراق ثبوتية‪ ،‬وقال �أي�ضا انك طلبت منه امل�ساعده للذهاب اىل‬ ‫‪70‬‬


‫ايران‪ ..‬احلمد هلل انك مازلت هنا يا الهي ال �أ�صدق ما �أرى‪.‬‬ ‫ـ ملاذا اال يعلمون اين هنا؟ ت�ساءلت بكل ا�ستغراب‪.‬‬ ‫ـ ال احد يعلم اين انت حتى كاكا عادل مدير االمن‪ ،‬ال‬ ‫تقلق �سوف اخرب ما ر�أيت ولكن مدام الأمر كذلك ان�صحك‬ ‫ب�أن ترتك الباقي علي‪.‬‬ ‫ـ تغريت مالمح وجهي ثم قلت‪� :‬أيعقل ذلك؟ انا هنا منذ‬ ‫‪ 10‬ايام وال �أحد يتكلم معي �أو يخربين عن م�صريي‪.‬‬ ‫اخرج من جيبه ‪ 100‬دينار عراقي ـ العملة اال�صلية ـ‬ ‫وناولني النقود مبت�سما‪ ..‬ثم قال �ستحتاجها وحل�سن احلظ‬ ‫ال�سجان �صديقي ولن يخرب احداً انني ر�أيتك و�س�أو�شي اخلرب‬ ‫ل ـ �أ ـ لكي يتخذ االجراءات الالزمة لإخراجك خ�صو�صا بعد‬ ‫ان علمت مكانك فال تقلق‪.‬‬ ‫�شكرته كثريا فاملبلغ كان يكفيني لأيام‪ ،‬كنت منفعال‬ ‫وبنف�س الوقت مرتاحا الن هذه ال�صدفة كانت ال�سبيل الوحيد‬ ‫لإنقاذي من م�شاكل خمفية‪ ..‬و�أي�ضا حتمية وخ�صو�صا بعد ان‬ ‫ت�أكدت من كالم ال�سيد غريب حول حقيقة اختفائي‪.‬‬ ‫بعد يومني افرجوا عني ب�أمر من ال�سيد مدير امن ال�سليمانية‬ ‫الذي غ�ضب على حمه �سور وعلى طريقته القذرة يف اخفائي‬ ‫بدون �سبب وات�ضح بعد ذلك انني كنت �ضحية مناف�سة بينه‬ ‫وبني عادل من اجل �أمور تخ�ص بالن�شاطات الأمنية التي‬ ‫‪71‬‬


‫ُ�سجل لهم‪.‬‬ ‫ت ّ‬

‫ثم ا�ستقليت �سيارة �أجرة مع امل�أمور لنتوجه اىل مقر مديرية‬ ‫�أمن ال�سليمانية‪.‬‬

‫�أيامي يف مديرية امن ال�سليمانية‪:‬‬ ‫دخلت املديرية ولكنني بد�أت اح�س ببع�ض االرتياح‬ ‫ا�ستقبلني مدير ال�سجن قائال‪:‬‬ ‫و�صانا عليك‬ ‫ـ اهال بك اخ ريا�ض احلمد هلل انك بخري لقد ّ‬ ‫املدير بنف�سه‪� ..‬سنعتربك �ضيفا ول�ست �سجينا فال تقلق‪..‬‬ ‫والغاية هي لن�ضمن �سالمتك االمنية و�إخفائك عن عيون ازالم‬ ‫�صدام التي ت�رسح يف كرد�ستان‪ ،‬فقط �ستغري ا�سمك وحتافظ‬ ‫على �رسية �شخ�صيتك بني النزالء وان ال تثق بهم الن اغلبهم‬ ‫يزود النظام‬ ‫جوا�سي�س يعملون ل�صالح م�سعود الربزاين الذي ّ‬ ‫العراقي بكل ما يريد من معلومات وت�سليمهم املطلوبني‬ ‫ال�سيا�سيني وغريهم‪.‬‬ ‫ـ اطمئن �أنا و�أثق من كالمك‪ ..‬و�أ�شكرك حل�سن ا�ستقبالك‪.‬‬ ‫ـ �أجبته مبت�سما‪.‬‬ ‫ـ ال ت�شكرين‪ ،‬على فكرة �سنحقق معك لآخر مرة لكي‬ ‫ُنكمل ا�سئلة التحقيق معك‪ ..‬املالزم احمد يجيد العربية وكل‬ ‫‪72‬‬


‫�شيء �ستديل به �سي�ساعدنا يف عملنا االمني‪.‬‬ ‫جاء امل�أمور لكي يقتادين اىل الزنزانة‪ ..‬طرق باب النزانة‬ ‫ومن خالل النافذة ال�صغرية على الباب فتح ال�سجان الباب‬ ‫ليت�أكد من الطارق قبل ان يفتح‪ ،‬له نظرة حادة لون عينيه ازرق‬ ‫ال يتما�شى مع لون �شعره الأ�سود يتظاهر ب�أنه جمرم وله �شخ�صية‬ ‫هزلية ومما اثار �ضحكي هو حتدثه بالعربية فقد حول امل�ؤنث‬ ‫اىل مذكر واملذكر �أىل م�ؤنث وينطق ال�ضاد والذال كالزاي‪.‬‬ ‫ـ من؟ �س�أل من وراء النافذة ال�صغرية‪ .‬ـ وعندما ت�أكد م ّنا فتح‬ ‫الباب على الفور ـ ‪.‬‬ ‫ـ هذا ريا�ض وقد اخرتنا له ا�سم ًا م�ستعاراً وهو ـ احمد علي‬ ‫ـ ل�ضمان �سالمته االمنية‪ .‬قالها امل�أمور لل�سجان ثم غادر‪.‬‬ ‫ـ �إذن انت املجرم رياز؟‬ ‫ـ جمرم هل تعتقد �أنني جمرم؟‬ ‫ـ كلكم �شاركتم بقتلنا والآن حتاولون تدمري كرد�ستان‬ ‫بقدومكم الوح�شي وطلب الأمان هنا‪.‬‬ ‫ـ اعتقد ان كرد�ستان جزء من العراق ويحق لنا العي�ش اينما‬ ‫ن�شاء‪.‬‬ ‫زجرين بغ�ضب‪ :‬ا�سكتي يا قاتل دعني افت�شك قبل الدخول‪.‬‬ ‫فت�شني بحزم مع �شخ�ص �آخر ثم قال حمدثا زميله‪:‬‬ ‫‪73‬‬


‫ـ ه�ؤالء العرب ي�ستحقون القتل‪ .‬ثم نظر اىل حمفظتي‬ ‫وقال لديك ‪ 100‬دينار ال تقلق لن ن�رسقها كما كنتم تفعلون‬ ‫باملعتقلني‪.‬‬ ‫ثم هم�س يل حمذرا‪:‬‬ ‫ا�سم ِك الآن احمد‪ ،‬ثم رفع �صوته‬ ‫ـ ا�سمعي جيدا ِ‬ ‫انت ُ‬ ‫غا�ضبا‪:‬‬ ‫ا�سمك لأحد من املعتقلني‬ ‫ك�شفت‬ ‫ـ واهلل ثم واهلل لو‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫أعدمك مفهوم‪.‬‬ ‫�س�‬ ‫ِ‬ ‫ـ اوم�أت بر�أ�سي مبت�سما ثم اجبته‪:‬‬ ‫ـ ال تقلق كل �شيء �سيكون على ما يرام كاكا‪.‬‬ ‫دخلت ال�سجن وتعرفت على من فيه‪ ،‬ا�شخا�ص خمتلفون‬ ‫عرب واكراد ق�ضايا خمتلفة احدهم ُم�سن ور�سخ يده اليمنى‬ ‫مقطوع وما زال لديه االمل يف احلياة رغم انه فقد ا�سنانه‬ ‫ولكنه كثري الكالم والكذب اال انه مرح‪.‬‬ ‫احدهم ُ�سجن يف املخابرات االيرانيه ‪� 5‬سنوات ومن ثم‬ ‫افرجوا عنه لال�شتباه يف انه جا�سو�س ومازال يحمل عالمات‬ ‫التعذيب على ظهره رغم مرور فرتة طويلة على خروجه من‬ ‫�سجن املخابرات ومت ت�سفريه اىل �سجن االمن يف كرد�ستان‬ ‫العراق‪.‬‬ ‫‪74‬‬


‫�أما الوجه البارز االخر فهو مدر�س ثانوية يحمل اثار �رضب‬ ‫على ظهره‪ ،‬ي�سكن ال�سليمانية التي كانت حتت �سيطرة حزب‬ ‫جالل الطالباين ويعمل ُمدر�سا يف اربيل حيث مركز حكم‬ ‫م�سعود الربزاين احلزب املعار�ض �آنذاك جلالل‪ ..‬فاالثنان‬ ‫يتمتعان ب�سلطة منفردة داخل اقليم كرد�ستان واملعروفان‬ ‫بعدائهما لبع�ضهما البع�ض‪ .‬وح�سبما ذكر املدر�س يف �رسد‬ ‫ق�صته لنا كانت كالأتي‪ :‬ت�أخر املدر�س عن ت�صليح دفاتر طالبه‬ ‫فقرر ان ينجز ما تبقى من عمل يف بيته ويف نقطة التفتي�ش‬ ‫ا�شتبهوا ب�أنه جا�سو�س عميل ل�صالح حزب جالل الطالباين‪..‬‬ ‫وعندما �ضبطت الدفاتر املدر�سية يف حوزته ظنوا ب�أنه ُيهرب‬ ‫خطط التدري�س اىل الطرف املعادي‪ ..‬ف�أو�سعوه �رضبا ثم‬ ‫نقلوه اىل �سجنهم لينال ن�صيبه من التعذيب‪ ،‬وعالوة على‬ ‫ذلك مت طرده من وظيفته‪ ..‬وبعد ثبوت براءته نقلوه اىل �سجن‬ ‫ال�سليمانية لكي ُيكمل اجراءات خروجه من ال�سجن بعد �أن‬ ‫يتم الت�أكد من براءته‪.‬‬ ‫يف اليوم الثاين طلبني اىل احل�ضور يف مكتبه املالزم احمد‪،‬‬ ‫رجل يف اخلم�سني من العمر ق�صري القامه فا�ستقبلني بابت�سامة‬ ‫�أح�س�ست انها ابت�سامة م�صطنعة ال اكرث‪ ..‬فكل من يبت�سم يف‬ ‫وجهك من االمن يحاول منحك �إح�سا�س ًا باالطمئنان لكي‬ ‫تفي�ض بكل ما عندك من االعرتاف اراديا هذه و�سيلة من‬ ‫‪75‬‬


‫احدى و�سائل التحقيق القذرة‪.‬‬ ‫بد أ� التحقيق معي‪ ..‬وكانت اال�سئلة ال تقل عن ‪� 200‬س�ؤال‬ ‫او اكرث‪� ..‬س� َأل عن كل �صغرية وكبرية‪ ..‬وعن ا�ضابري وملفات‬ ‫اال�ستخبارات واملخابرات التي كانت بحوزتي طوال فرتة‬ ‫عملي كرجل �أمن يف حمافظات العراق وما �شاهدته وتعلمته‬ ‫من ا�ساليب التحقيق وعن كل امور وق�ضايا تخ�ص امللفات‬ ‫الأمنية وال�سيا�سية �ضمن عملي خالل هذه ال�سنني‪.‬‬ ‫بعد ان انهكني التعب من كرثة الأ�سئلة التي وجهها يل‪..‬‬ ‫�س�ألني �س�ؤا ًال غريب ًا اثار ُ�سخريتي‪ ..‬قائال‪:‬‬ ‫ـ ماهي عالقتك بح�سني كامل ابن عم �صدام ح�سني‬ ‫و�صهره؟‬ ‫ـ هل انت جاد؟ ـ �س�ألته با�ستغراب‪.‬‬ ‫ـ ومل ال‪� .‬أجابني بثقة‪.‬‬ ‫ـ ال �أعرفه‪ ..‬ومل تربطني اي عالقة ب�أي احد من اال�رسة‬ ‫احلاكمه �سواء من قريب او من بعيد‪ ،‬ف�أنا رجل عبد م�أمور‬ ‫عملت يف االمن و�أعرف عددا حمدوداً من اال�شخا�ص‪،‬‬ ‫ول�ست من املقربني لأي احد من ه�ؤالء لأطلع على حياتهم‬ ‫ال�شخ�صية‪.‬‬ ‫�رضب بقوة القلم على الطاولة وقال بغ�ضب �شديد حتى‬ ‫‪76‬‬


‫كاد ان يختنق‪:‬‬ ‫ـ يا �أخي ملا هربت اذن‪ ،‬هل ت�ستطيع ان تخربين ما فائدتك‬ ‫اذا كنت ال تعرف �شيئا عنهم؟ ماذا تعرف اذن باهلل عليك؟‬ ‫�أنت رجل �سلطه وجتهل الأمور املهمة‪.‬‬ ‫ـ ح�سني كامل مات قتلوه قبل �سنني وت�س�ألني عن �شخ�ص‬ ‫�ضاعت ا�شال�ؤه بني الرتاب‪ ،‬ا�س�ألني �شيئا اقدر االجابة عليه‬ ‫و�سبب هروبي ل�ست امل�س�ؤول عنه‪ ..‬ف�أنا حر يف اختيار‬ ‫م�صريي و�أين �أعي�ش‪ ..‬اجبتكم على اكرث من ‪� 500‬س�ؤال‬ ‫وتتهمني ب�أين مل ازودكم مبعلومات كافية‪ ..‬هل �أنا بني دولة‬ ‫�أم مافيا‪.‬‬ ‫م�سح املالزم عرق وجهه ثم قال بهدوء ت�ستطيع ان تغادر‬ ‫و�سيخلى �سبيلك مبجرد اح�ضار الكفيل يف اي وقت‪� ..‬إال �أننا‬ ‫ُ‬ ‫دولة ول�سنا مافيا كما يفعل �صدام بالعراق‪.‬‬ ‫غادرت غري را�ض عن نف�سي‪ ،‬اي نوع من النا�س نحن؟‬ ‫كيف تتعامل الدوائر االمنية مع الب�رش‪ ،‬ما قيمة االن�سان يف‬ ‫وندعي ثقافة‬ ‫بلداننا‪ ،‬او هل بعد كل هذا ن�سعى للح�ضارة ّ‬ ‫مزيفة ن�ضحك بها على انف�سنا‪ ..‬كيف مت�ضي ال�شعوب قدما‬ ‫مادامت احلكومات تقب�ض على ارواح كل من يفكر ان يعي�ش‬ ‫بكرامته‪.‬‬ ‫‪77‬‬


‫كنت �صامتا طول الوقت يف ال�سجن افكر‪ ،‬وعندما �س�ألت‬ ‫كم ال�ساعة قطع اجلميع حديثهم ليلتفتوا ايل ظنا منهم انني‬ ‫�س�أقول �شيئا مهما ثم قال يل احدهم‪:‬‬ ‫ـ هل تعلم عندما تكلمت التفتنا اليك لن�سمع ما �ستقول‬ ‫فكرثة �صمتك اثار فينا الف�ضول لنعرف من انت‪.‬‬ ‫ابت�سمت ومل اجبه‪ ،‬ويف اليوم الثاين �صاح ال�سجان‪:‬‬ ‫ـ رياز رياز‪.‬‬ ‫مل اجبه فقد حذروين من كتم ا�سمي احلقيقي وهاهو الغبي‬ ‫ينادي با�سمي هل ُج ّن ام ماذا؟ ت�ساءلت يف قراره نف�سي‪.‬‬

‫عليك؟ ـ كان يتكلم مع‬ ‫ـ ملاذا ال جتاوبني يا رياز؟ اال انادي ِ‬ ‫املذكر ب�صفة امل�ؤنث فلأكراد عندهم تتكرر مثل هذه الأخطاء‬ ‫ال�شائعة‪.‬‬ ‫ـ انا ل�ست رياز انا احمد هل ن�سيت ا�سمي ام ماذا؟‬ ‫كلمته بعد ان اقرتبت منه‪� ،‬أوم�أت له بعيني على �أمل �أن‬ ‫يعدل عن غبائه‪ ..‬فاالتفاق الذي بيننا ال ي�رسي كما يجب‪.‬‬ ‫ـ �آه �صحيح اذن تعال معي �سنفرج عنك‪.‬‬ ‫كان ابراهيم ينتظرين يف غرفة ال�ضابط وفرحت جدا لر�ؤيته‪،‬‬ ‫ت�صافحنا بحرارة ثم قال يل‪:‬‬ ‫ـ اعرف كم عانيت واحلمد هلل لو مل يو�سف يرك يف ال�سجن‬ ‫‪78‬‬


‫�صدفة ُ‬ ‫نت يف خرب كان‪.‬‬ ‫لك ً‬ ‫بعد اكمال اوراق الكفالة قال ال�ضابط يل‪:‬‬ ‫ـ قبل ان تخرج ال�سيد معاون مدير االمن العام ـ العقيد �سه‬ ‫ركوت ـ يريد ان يراك بالنيابة عن مدير االمن الذي �سافر اىل‬ ‫ايران يف مهمة ر�سمية‪.‬‬ ‫قابلت العقيد �سه ركوت املعاون وا�ستقبلني بكل �رسور ثم‬ ‫جل�سنا نناق�ش بع�ض االمور حول م�صريي‪:‬‬ ‫ـ االخ ريا�ض اهال بك يف بلدك كرد�ستان العراق وقد‬ ‫فرحت جدا عندما افرجوا عنك وعلى هذا اال�سا�س ف�أنا‬ ‫اعر�ض عليك عر�ضا ي�ضمن لك م�ستقبلك يف هذا البلد‪.‬‬ ‫ـ تف�ضل ا�ستاذ �سه ركوت‪.‬‬ ‫ـ كما ت�أكدنا انك م�ؤهل ملعهد ال�ضباط العايل يف العراق‬ ‫ولديك خربة جيدة يف اال�سلحة اخلفيفة عالوة اىل خرباتك يف‬ ‫جمال ال�شعبة ال�سيا�سية‪ ..‬ونريدك معنا يف ا�ستخبارات الكلية‬ ‫الع�سكرية وبلبا�س مدين و�ست�شملك دورة ال�ضباط التي فقدت‬ ‫فر�صة اللحاق بها يف العراق و�ستعو�ضها هنا‪.‬‬ ‫ـ ب�رصاحة ات�رشف بهذه الفر�صة اال انني ال ارغب بالعمل يف‬ ‫هذا امل�سلك بعد االن اريد احلرية والتفرغ لأموري اال�سا�سية‪.‬‬ ‫ـ امور ا�سا�سية؟ ح�سب علمي انت تريد ان تغادر اىل اوروبا‬ ‫‪79‬‬


‫الي�س كذلك؟‬ ‫ـ نعم �صحيح فما زلنا نعاين من تهديدات �صدام ورغبته يف‬ ‫ا�ستعادته لكرد�ستان‪.‬‬ ‫ـ من قال لك هذا نحن لدينا قوات بي�شمركه م�ستميتة ولن‬ ‫تتخلى عن �شرب واحد عن ار�ضها لهذا الطاغية االرعن‪.‬‬ ‫ـ انا ات�رشف بالعمل لديكم ولكن �صدقني انني ال اطيق‬ ‫العي�ش هنا‪ ،‬ف�أنا اريد ان ان�سى العراق فلم اجد يوم ًا جميال‬ ‫ي�شجعني على البقاء اكرث‪.‬‬ ‫وقبلها)‬ ‫ـ لو �سافرت اىل اخلارج (ثم قرب يده اىل فمه ّ‬ ‫�ستقبل االيادي هكذا لرتجع وحتلم بفر�صة العمل هنا‪.‬‬ ‫ـ ان�شاء اهلل لن ا�صل لهذا امل�ستوى‪ ،‬فرتبيتي الأ�رسيه مل‬ ‫تعلمني تقبيل الأيادي‪ ..‬بل تربيتي علمتني ان ام�شي بر�أ�س‬ ‫مرفوع دائما‪.‬‬ ‫يف النهاية ودعني العقيد م�صافحا‪:‬‬ ‫ـ امتنى لك املوفقية وكتاب ت�سهيل �سفرك اىل ايران �سيكون‬ ‫جاهزا خالل ‪� 24‬ساعة‪.‬‬ ‫�شكرته على ح�سن املعاملة ثم خرجت من غرفته وكان ـ �أ ـ‬ ‫ينتظرين يف اخلارج لي�سمع مني ما دار بيني وبني ال�سيد العقيد‬ ‫بلهفة‪.‬‬ ‫‪80‬‬


‫ما بعد ال�سجن‪:‬‬ ‫ـ �أنا الآن ُحر‪ .‬قلت ل ـ �أـ ونحن متوجهني ب�سيارته اىل جم‬ ‫جمال‪.‬‬ ‫ـ نعم ُحر �سرتتاح ثم نخطط خروجك اىل ايران‪ ،‬عندي‬ ‫�صديق ُيدعى اماجن انه االن يف ا�صفهان مع زوجته اال�صفهانية‬ ‫�سيجلبها هنا لي�ستقر يف كرد�ستان ثم يرجع لكي يبيع اغرا�ض‬ ‫بيته يف ايران لكي يغادر اىل اوروبا ويطلب اللجوء هناك‪.‬‬ ‫�شمال العراق او كرد�ستان يف ذلك الوقت كانت العوائل‬ ‫تعي�ش �سباقا غري عادي يف ار�سال ابنائهم اىل اوروبا لغر�ض‬ ‫اللجوء‪ ،‬املاليني غادروا‪ ..‬منهم من و�صل ومنهم من لقوا‬ ‫حتفهم‪.‬‬ ‫وكلما كنت ا�سمع بفالن غادر كرد�ستان وو�صل اىل لندن‬ ‫او املانيا كنت ات�شوق لأن اجرب و�أعمل جاهدا على ان ا�صل‬ ‫هذه البالد لأحقق حلمي‪ ،‬زوجة اخي كانت دائما تقول ب�أنني‬ ‫فا�شل ولن اكون ناجحا ك�أخيها الذي و�صل بذكائه اخلارق اىل‬ ‫هولندا‪ ،‬هكذا كانت تُ�سمعني كالما كال�سم وتنعتني برتبية غري‬ ‫متح�رضة‪ ..‬وف�شل والدتي يف �إي�صايل اىل امل�ستوى املطلوب‪.‬‬ ‫متلكتني الرغبة يف ان احتدى كالمها لأنني بالفعل قد‬ ‫كرهتها وكرهت ا�سلوبها اجلاف‪ .‬و�صلنا جم جمال ثم نزلنا‬ ‫‪81‬‬


‫اىل بيت ـ �أـ لرنتاح بعد ان اكلنا وجبة د�سمة يف احد مطاعم‬ ‫ال�سليمانية من اللحم والرز واملرق االحمر‪.‬‬ ‫اخرج �صباحا واجل�س يف‬ ‫مت�شيت يف مناطق جم جمال‪ُ ،‬‬ ‫املقهى و�أ�شاهد التلفزيون الرتكي حيث ا�ستمتع ب�أغانيه ثم اعود‬ ‫ادراجي اىل البيت وقت الع�شاء‪ ،‬اىل ان جاء �أماجن وقابلني يف‬ ‫ام�سية حزيراني ٍة حارة‪.‬‬ ‫كان �شابا ملتحيا يجيد اللغتني االيرانية والعربية ا�ضافة اىل‬ ‫لغته االم الكردية‪ ..‬اتفقنا ان نبيع امل�سد�س املوجود عندي‬ ‫والت�رصف بق�سم من املال لي�ساعدنا يف �إكمال الطريق‪..‬‬ ‫اما الباقي ف�سيعيلني على الذهاب اىل مدينة ـ وان ـ الرتكية‬ ‫للإعالن جلوئي يف االمم املتحدة حيث كانت تكتظ بالالجئني‬ ‫العراقيني‪.‬‬ ‫اخربين اماجن ب�أن رفاقه يف املجل�س االعلى العراقي يف ايران‬ ‫ينتظروين ومل اكن على دراية كافيه ب�أو�ضاع ايران او ما حتتويه‬ ‫من م�شاكل‪ ،‬حيث ان اغلب العراقيني من العرب‪ ،‬يعملون‬ ‫ل�صالح املخابرات االيرانية وال �سيما يف منطقة بطهران تُدعى‪:‬‬ ‫كوجه مروي او كوجه عرب‪ .‬اي احلي العربي‪.‬‬ ‫اتفقنا على ال�سفر اىل ايران وبد�أنا الرحلة من اول قرية على‬ ‫احلدود االيرانية العراقية‪ ..‬ويف ال�صباح كنا يف القرية التي‬ ‫تف�صلنا عن ايران فقط خندق �صغري‪ ..‬االن علينا ان نق�ضي‬ ‫‪82‬‬


‫ليلة يف بيت اقربائه لإكمال ما ينق�صنا من حوائج‪ ،‬و�أول‬ ‫�شيء �صنعت هو انني بحثت عن اال�سكايف لكي ي�ساعدين يف‬ ‫دفن هوية االمن ودفرت اخلدمة الع�سكرية يف حذائي لأ�ضمن‬ ‫�سالمتي‪ ،‬وجدت �شخ�صا يقوم بهذا العمل ب�شكل ِح َريفْ‪..‬‬ ‫وبعد انهاء ما كلفته به عدت مع اماجن اىل بيت �صديقه وق�ضينا‬ ‫الليلة هناك‪.‬‬

‫‪83‬‬


‫في استضافة املخابرات االيرانية‬

‫م�شينا يف االحرا�ش طويال اىل ان و�صلنا اىل مكان تك�سوه‬ ‫اغ�صان اال�شجار وما خلف تلك الأغ�صان كان يجل�س انا�س‬ ‫يتبادلون اطراف احلديث وي�ضحكون ك�أنهم جال�سون يف‬ ‫بيوتهم‪ ،‬وما ان ك�شفنا ما وراء تلك الأغ�صان املتدلية الطويلة‬ ‫حتى بانت لنا جمموعة من املهربني جمتمعني يف الظل ليقيهم حر‬ ‫ال�شم�س‪ ..‬ينتظرون اكمال عدد زبائنهم ممن ينوون الهروب‬ ‫اىل �إيرن ب�سيارات الالندكروز العائدة للمهربني‪ ،‬حيث يبد�أ‬ ‫امل�سري بقطع احلدود العراقية االيرانية متوجهة اىل همدان نقطة‬ ‫التهريب االخرية‪ ..‬حيث ال �شيء يهدد املت�سللني هناك من‬ ‫خطر املفارز املخابراتية‪.‬‬ ‫املنطقة هناك وعرة تتميز بتالل ومنخف�ضات‪ ..‬فقط‬ ‫�سيارات الالند كروز قادرة على املرور عليها ب�سهولة وتتحمل‬ ‫‪84‬‬


‫مطبات ُ‬ ‫الط ُرق‪ ،‬اما املهربون فيتفقون مع حر�س احلدود لتمرير‬ ‫زبائنهم بطريقة غري م�رشوعة من العراق اىل ايران لقاء اجر يتم‬ ‫االتفاق عليه بني املُهرب واجلندي‪ّ � .‬أما عنا�رص املخابرات فهي‬ ‫كثيفة هناك‪ ..‬تخرج على �شكل دوريات متنع دخول املت�سللني‬ ‫ولكنهم يف الوقت نف�سه يتفقون مع املهربني لتمرير ا�شخا�ص‬ ‫�أو �أدوية �أو النحا�س املُ ّهرب من العراق اىل �إيران‪.‬‬

‫اتفقنا مع املهرب على املبلغ‪ ..‬وبعد اكتمال عدد الركاب‬ ‫�صعدنا �سيارته ثم انطلقنا ب�رسعة ظننت �أننا �سننقلب جراء‬ ‫وحولت هدوء‬ ‫�رسعة اللالندكروز التي اثارت �سكون الأتربة ّ‬ ‫الأر�ض اىل عا�صفة‪ ..‬وك�أنها تعر�ضت لإع�صار مفاجئ‪ ..‬فال‬ ‫�أرى �أالن من زجاج ال�سيارة �سوى الأتربة املت�صاعدة’ تك�رست‬ ‫ا�ضالعي من املطبات العالية ثم �صادفتنا تلة او مرتفع �صغري‪،‬‬ ‫وما ان اجتزناها حتى مرت �سيارة املخابرات االيرانية ب�رسعة‬ ‫حتى ملحتنا ثم توقفت لتتوجه الينا وك�أنها تنذر بق�صة خميفة‪.‬‬ ‫تقبل حدوث مثل هذه ال�صدفة‪ ،‬الباقون‬ ‫مل يكن �سهال يل ُ‬ ‫ال حرج عليهم فهم عابرو �سبيل‪ ،‬اما انا فلدي م�ستم�سكات‬ ‫ان ح�صلوا عليها فالويل يل حينها‪ ..‬حيث انني احتفظ ببع�ض‬ ‫�صور التقطتها يف كلية ال�رشطة لأقدمها كدليل اىل االمم املتحدة‬ ‫التي �ستطلب بدورها ادلة على ا�سباب هروبي من العراق‪.‬‬ ‫ارجتلنا من ال�سيارة خائفني‪ ..‬و�سلمنا م�ستم�سكاتنا الثبوتية‬ ‫‪85‬‬


‫اىل احد عنا�رص املخابرات ليحتفظ بها بدوره‪ ..‬ثم امر املُهرب‬ ‫ان نكمل امل�سري اىل نقطة التفتي�ش التي �ستواجهنا يف الطريق‬ ‫وهناك علينا �أن ننزل لكي ت�أخذ �ألإجراءات القانونيه جمراها‪.‬‬ ‫انتظرنا يف نقطة التفتي�ش كثريا حتى جاءت �سيارة‬ ‫املخابرات‪ ،‬ف�أمروا املُهرب ان يتبعهم اىل دائرة املخابرات‪.‬‬ ‫انتابني �شعور باخلطر ويف الطريق مزقت كل �صوري بالزي‬ ‫الع�سكري مما اثار �شكوك ال�سائق‪ ،‬اخذ اماجن �صورة يل كنت‬ ‫احمل فيها �سيفا ومتو�شحا بو�شاح العلم العراقي ويل �شارب‪،‬‬ ‫�صاح ال�سائق‪ :‬اهلل اكرب هل هو �صدام بحق اهلل؟ مزقوا ال�صوره‬ ‫قبل ان جتلب لكم الويالت و ُنه َلك‪.‬‬ ‫مزقت كل ال�صور ونرثتها عرب النافذة اال انني ما زلت‬ ‫احتفظ يف جوف حذائي ب�أوراقي املهمة‪.‬‬ ‫و�صلنا دائرة املخابرات وكنت يف قرارة نف�سي ارجتف‬ ‫ومتوتر االع�صاب ومبجرد �أن دخلنا الباب مت توثيقنا وتع�صيب‬ ‫اعيننا‪ ،‬ثم اقتادونا اىل الداخل وم�شينا طويال حتى اجل�سونا‬ ‫ووجوهنا على مقابل احلائط ك�أ�رسى‪.‬‬ ‫والع�صابة عن عيوننا‪ ..‬ثم لنجد انف�سنا يف‬ ‫فكوا وثاقنا‬ ‫َ‬ ‫غرفة مبنية للتو و�أمامي كانت غرفة �صغرية مظلمة مل ُيكمل بناء‬ ‫�سقفها عدا ال�سقف الثانوي التي هي عبارة عن ِ�شباك فقط‪.‬‬ ‫‪86‬‬


‫بد�أ التحقيق بالتناوب‪ ..‬ندخل واحدا تلو �ألآخر ولديهم‬ ‫رجل بدين كردي ايراين يقوم بالرتجمة ولعله من عنا�رصهم‪..‬‬ ‫فف�ضل �أن يتكلم الفار�سية‬ ‫اماجن خاف �أن يف�صح ب�أنه كردي ّ‬ ‫بدال من الكردية لكي ال ُيتهم ب�أنه مهرب للمجموعة‪.‬‬

‫اما انا فبدوري تكلمت الرتكمانية معهم فبدت الراحة‬ ‫باحلديث معي على وجوه املحققني‪ ..‬فهم اتراك ويحبون جدا‬ ‫لغتهم �أو من يتكلمها‪ ،‬بادئ االمر �ساورهم ال�شك ب�أنني من‬ ‫اتراك تركيا اال ان هوية االحوال ال�صادرة يف العراق كانت‬ ‫برهانا كافيا ب�أنني عراقي اجلن�سية‪.‬‬ ‫انتهى التحقيق مع اجلميع ب�سالم على عك�س ما توقعت‪..‬‬ ‫�سب ُيذكر‪ ..‬حت�رضنا للخروج وكنت ال اكاد ان‬ ‫ال �رضب او ٍ‬ ‫اخفي �رسوري ثم فج�أه �صاح احد رجال املخابرات‪:‬‬ ‫ـ هناك �شخ�ص مند�س‪ ،‬وقد مزق �صوراً مهمة‪ ،‬م�ؤكد انه‬ ‫جا�سو�س‪.‬‬ ‫ـ مل افهم ما قال اال ان حا�ستي �أدركت معاين ما يق�صده‪..‬‬ ‫فهناك �صور وكالم عن جا�سو�س‪ ..‬ومل يكن حد�سي خمطئا‪.‬‬ ‫ـ لقد ُك�شف امرنا‪ .‬ـ قالها اماجن خائفا ـ ‪.‬‬ ‫ـ هل هو اعدام ام �سجن م�ؤبد‪.‬‬ ‫ـ ال‪ ..‬ال تخف فقط انكر ما ي�س�ألونك و�أنا بدوري �س�أنكر‬ ‫‪87‬‬


‫�أي�ضا‪ ..‬ال تخف وال تن�سى ب�أننا املفرو�ض هنا ال نعرف بع�ضنا‪..‬‬ ‫فقط انكر اي �شيء وقل ال اعرف‪.‬‬ ‫ارجعونا اىل الغرفة املهجورة‪ ..‬وجل�سنا ووجوهنا اىل‬ ‫احلائط ومل نكن ُمقيدين‪ ،‬ثم ادخلوا اماجن بالبداية وبد�أت‬ ‫االتهامات توجه اليه ثم بد�أت ال�صفعات تنهال عليه‪ ..‬ثم‬ ‫حتولت اىل ال�رضب بالكايبل اكاد ا�سمع �صوته بكل و�ضوح‬ ‫فهو ي�رصخ من �شدة الأمل‪.‬‬ ‫اخرجت امل�ستم�سكات من حذائي ب�رسعة‪ ..‬و�سحبت‬ ‫نف�سي من بني اجلال�سني وتوجهت اىل الغرفة احلديثة املظلمة‪..‬‬ ‫التي مل ُيكمل بنا�ؤها‪ ..‬ثم اخفيت الهوية يف ال�سقف الثانوي‬ ‫ـ امل�صنوع من اال�شباك ـ ‪ .‬رجعت ادراجي وبعد حلظات‬ ‫ادخلوين‪ ..‬وطلب املرتجم الكردي من اماجن ان يرتجم يل‪..‬‬ ‫وتف�سريا حول ما مزقته من �صور وعن �أ�سباب نرثها والتخل�ص‬ ‫منها من ال�شباك‪ .‬مل يقتنعوا ب�سهولة وكنا على هذه احلاله‬ ‫�ساعات‪ .‬بعد حلظات قا�سيه من تعب و�رضب و�شتم تلقيناه‬ ‫منهم‪ ..‬حاولت �أن اقنعهم ب�أن لي�ست لدي �أي فكرة عما‬ ‫يقولون‪ ..‬ثم طلبت من اماجن ان ي�س�ألهم‪:‬‬ ‫ـ عن اي �صور يتحدثون؟‬ ‫كانوا هذه املرة دقيقني يف التحقيق وقد �سيطر الغ�ضب‬ ‫عليهم‪ ..‬انهم يحققون االن مع جا�سو�س ح�سب ظنهم‬ ‫‪88‬‬


‫و�ستكون عاقبة االمور غري حممودة لو ف�شلنا يف اقناعهم عك�س‬ ‫ذلك‪.‬‬ ‫ـ اي �صور تق�صدون؟ ـ �س�ألهم اماجن و�أثار الوجع تظهر على‬ ‫وجهه كلما حرك فكيه ليتكلم‪.‬‬ ‫ـ هل هذا غبي ام ماذا ال�صور التي مزقها ورماها من �شباك‬ ‫ال�سيارة‪.‬‬ ‫تظاهرت قليال بال�سذاجة وطلبت من اماجن التو�ضيح اكرث‪..‬‬ ‫ف�أردفت قائال‪:‬‬ ‫ـ انا كنت املك �صور خالعة لن�ساء وعندما دخلت‬ ‫اجلمهوريه اال�سالمية االيرانية اخربين ال�سائق ب�أنها حمرمه‬ ‫هنا‪ ،‬فاحرتمت االمام اخلميني فمزقت ال�صور ورميتها اكراما‬ ‫ل�شخ�صه الكرمي‪ ،‬فهذه ار�ض طيبة طاهرة تلم يف ثراها ج�سد‬ ‫اعظم واطهر امام‪.‬‬ ‫تنف�س اجلميع براحة هذه املرة واح�س�ست ب�أنهم اقتنعوا‬ ‫فهموا بتفتي�ش امتعتي على‬ ‫بالكالم والتمثيل قد انطلى عليهم ّ‬ ‫الفور‪ ،‬ق ّلبوا البوم ال�صور ف�أثار غ�ضبهم �صورة فتاة ترتدي‬ ‫قمي�صا مر�سوم ًا عليه علم �أمريكي و�أظهروا ا�ستياءهم من‬ ‫�صور عارية لفنانات عرب‪ ..‬اخذوا ماعندي من الكا�سيتات‬ ‫التي اعتز بها‪ ..‬ومما جلب انتباههم واحد من الكا�سيتات‬ ‫‪89‬‬


‫يحمل �صورة لراق�صة �رشقية‪ ..‬ثم اعادوا يل بقية االغرا�ض‪..‬‬ ‫فاملو�ضوع الآن قد انتهى وك�أنه نذير �ش�ؤم لبداية �سفرة قد‬ ‫تطول يف انهاء م�أ�ساتها او قد تف�شل فكرة ال�سفر اىل الأبد‪..‬‬ ‫انتهوا منا وت�أكدوا ان ما مزقته جمرد �صور عادية ال ت�ستدعي‬ ‫كل هذا التحقيق‪.‬‬ ‫خيمت فرتة من ال�سكون ا�ستطعت من خاللها ا�ستغالل‬ ‫الظرف وارجاع م�ستم�سكاتي من تلك الغرفة التي انقذتني‬ ‫من حب�س حمتم‪ ..‬خب�أتها يف حذائي ب�أحكام ولعلني مل �أخرت‬ ‫الوقت ال�صحيح‪.‬‬ ‫ـ رياز‪.‬‬ ‫نادى علي احدهم واقتادين اىل الداخل وتبعني اماجن‪..‬‬ ‫دخلنا الغرفة التي تتو�سطها �صورة اخلميني وعلى جانبي‬ ‫ال�صورة ـ �صورتان خلامنئي ورف�سنجاين الرئي�س ال�سابق‬ ‫لإيران‪.‬‬ ‫�صفع احدهم فج�أة اماجن بقوه‪ ،‬مما اثار ّ‬ ‫يف اخلوف والهلع‪..‬‬ ‫فاملو�ضوع مل ينتهي كما ت�صورنا‪ ..‬ا�سلوب ال�رضب ا�شارة غري‬ ‫جيدة تدل على �أننا مل ننته بعد من التهمة‪ ..‬وظننت ب�أن �أمري‬ ‫قد انك�شف حينما ارجعت اغرا�ضي من الغرفة‪ .‬طلبوا من‬ ‫اجلندي العربي �أن يفت�شني‪ ..‬تقدم ايل ثم �س�ألني بهدوء‪:‬‬ ‫‪90‬‬


‫ـ انت عربي؟‪.‬‬ ‫ـ نعم‪� .‬أجبته‪.‬‬ ‫ـ �س�أفت�شك ح�سب طلبهم و�ساحمني فهي لي�ست رغبتي‪.‬‬ ‫بد أ� التفتي�ش ح�سب طلب رجال املخابرات منه‪ ..‬فهذا‬ ‫اجلندي كان يتمتع بروح عربية تكره �أنظمة الفُر�س‪..‬‬ ‫ـ �آ�سف اخي و�ساحمني‪ .‬متتم بحزن‪ ..‬يحر�ص بان ال ي�سمعه‬ ‫الآخرون فت�ش يف البداية قدمي اليمنى حيث �أُخبئ الهوية‪،‬‬ ‫قر�أت‬ ‫(وجعلت من بني ايديهم �سدا ومن خلفهم‬ ‫يف داخلي �سرِ ّا‬ ‫ُ‬ ‫�سدا ف�أغ�شيناهم وهم ال ُيب�رصون) نفخت على نف�سي بهدوء‪،‬‬ ‫ثم طلب مني �أن �أخلع احلذاء‪ ..‬ما �أخافني هذه املرة �أن جزءا من‬ ‫الهوية ظاهره ب�شكل وا�ضح‪ ..‬فلم �أ�ستطع خلع حذائي ب�شكل‬ ‫كامل فت�صنعت ال�سقوط على ا ُ‬ ‫جلندي لكي اجتنب التفتي�ش‪..‬‬ ‫�أ�ستعدلت يف وقفتي ومل انتظر ان يطلب مني نزع احلذاء االي�رس‬ ‫فبا�رشت بخلعه بل ورجه امامهم ‪ ,,‬التفت اجلندي اىل املرتجم‬ ‫قائال‪:‬‬ ‫ـ كل �شيء على ما يرام‪ .‬ـ قال اجلندي مطمئنا اجلميع ـ ‪.‬‬ ‫بان االرتياح على وجه اجلميع ثم �أمرونا باخلروج‪ .‬مت‬ ‫ترتيب اوراق االفراج ب�شكل نهائي‪ .‬نقلونا ب�سيارتهم اىل‬ ‫‪91‬‬


‫مركز ال�رشطة التي �ستتوىل هي االخرى مهمة ت�سفرينا اىل‬ ‫حدود كرد�ستان اجلانب الذي ي�سيطر عليه حزب جالل‬ ‫الطالباين يف منطقة تدعى بنجوين‪.‬‬

‫املحاولة الثانية اىل ايران‪:‬‬ ‫يف �سجن مريوان االيراين ق�ضينا يومني‪ ،‬كان مليئا بالعراقيني‬ ‫الفارين من العراق عربا واكرادا‪ ،‬واما املتزوج في�ضعون زوجته‬ ‫واطفاله يف ال�سجن املخ�ص�ص للن�ساء‪ ..‬وكان بيننا اتراك من‬ ‫العراق احدهم مت االفراج عنه من �سجون اال�ستخبارات بعد‬ ‫نيله ن�صيبا من ال�رضب املربح‪ ..‬حذرين اماجن على ان ال اتكلم‬ ‫مع �أحد الن جوا�سي�س النظام البعثي يتواجدون يف مثل هذه‬ ‫االماكن وبكرثة فهي فر�صتهم الختطاف �أ�شخا�ص يف مثل‬ ‫هذه الظروف‪ .‬احد اال�شخا�ص كان ميزح كثريا رغم انهم‬ ‫ف�صلوا زوجته واطفاله وو�ضعوهم يف ال�سجن الثاين للن�ساء‪..‬‬ ‫كان غا�ضبا من املعار�ضة العراقية املوجودة يف اخلارج وال�سيما‬ ‫يف �إيران‪ ..‬وكان ي�شتم حممد باقر ال�صدر ويقول عنه انه عميل‬ ‫ويت�سول املال من الكويت ليملأ جيبه‪ .‬هم�ست ل اماجن قائال‪:‬‬ ‫ـ كاكا اماجن هذا ال�شخ�ص ال يكذب وهاهو يقول ب�أن‬ ‫املجل�س االعلى خائن اذن كيف �س�أثق بهم انا؟‬ ‫‪92‬‬


‫ـ �صح ولكنني مل اكن احب ان اخيفك‪.‬‬ ‫ـ كان عليك ان تقول يل ب�أنهم غري جادين يف م�ساعدة‬ ‫العراقيني ولو ا�ستعنت بهم م�ؤكد �سيلعبون علي فهم جمرمون‪،‬‬ ‫كنت ارى �سجالتهم قبل هروبي‪ ..‬كلهم جمرمون خمربون‪..‬‬ ‫كال لن اذهب اليهم املال املوجود معك �س�آخذه ثم اعمل يف‬ ‫ايران و�أ�سافر اىل مدينة ـ وان ـ الرتكية وال �أريد التورط مع احد‬ ‫�أرجوك‪.‬‬ ‫ـ عندي ا�صدقاء �سيعطونك العمل ال تقلق‪ ..‬واذا كنت‬ ‫ال ترغب بت�سليم نف�سك للمجل�س االعلى فهذا امر يخ�صك‬ ‫�إال انني �س�أ�ساعدك قدر االمكان على �أن �أحافظ عليك ف�أنت‬ ‫امانة‪.‬‬ ‫بعد ايام خرجنا من ال�سجن حيث نقلتنا �سيارات اجلي�ش‬ ‫اىل احلدود العراقية االيرانية‪ ..‬قطعنا �شوطا كبريا للو�صول‬ ‫اىل مكان وجود املهربني‪ ..‬و لكي نعاود املحاولة ونذهب‬ ‫اىل طهران‪� ..‬أثناء امل�شي عبورا اىل احلدود العراقية االيرانية‬ ‫�سمعنا انفجار لغمني‪ ..‬كان ال�صوت مدويا‪ ..‬مل نهتم ووا�صلنا‬ ‫امل�سري‪ ...‬هم�س يل اماجن‪:‬‬ ‫ـ ننف�صل عن هذه الفئة ب�أقل فر�صة عندي �صديق ي�سكن يف‬ ‫قرية قريبة �سن�أوي اليه‪.‬‬ ‫ان�سلخنا من رفقة املجموعة ب�رسعة م�ستغلني غفلة اجلميع‪..‬‬ ‫‪93‬‬


‫فو�صلنا اىل القريه التي مل تكن تبعد كثريا ع ّنا‪ ..‬ا�ستقبلنا �صديق‬ ‫اماجن‪ ..‬وكان �شيخا كهال‪ ..‬عبرّ عن �رسوره ور�ؤيته اماجن فقام‬ ‫بواجب ال�ضيافة كما يجب‪.‬‬ ‫مل نعلم ما تخبئه االيام‪ ،‬فالوقت يخيفني‪� ،‬صعب ان ال اتقن‬ ‫عر�ضا‬ ‫لغة البلد الذي �سنذهب اليه وال�سيما انني �س�أكون ُم ّ‬ ‫مل�شاكل قد تكلفني حياتي‪ ،‬فاحلذر مطلوب‪..‬‬ ‫ال�ساعة ال�ساد�سة �صباحا االن وقد بد�أنا امل�سري‪ ..‬ورغم‬ ‫ف�صل ال�صيف فقد كان جو احلدود باردا‪ ..‬املنطقة جميلة‪..‬‬ ‫خ�رضاء تك�سو اله�ضاب والأرا�ضي ورائحة ن�سيم نقي ن�ستمتع‬ ‫يف ا�ستن�شاقها‪ ،‬احل�صن االيراين �أمامي ا�ستطيع ان اراه ب�سهولة‪..‬‬ ‫فهي ت�شبه قالع ك�رسى التي كنت اراها يف افالمنا التاريخية‪.‬‬ ‫و�صلنا احلدود االيرانية واختب�أنا يف احرا�شها لكي‬ ‫الت�صطادنا عيون الدوريات التي على احلدود‪� ،‬سيارات‬ ‫دورياتهم متر كل ‪ 10‬دقائق وعلينا ان جنتاز ال�شارع الطويل‬ ‫يف غ�ضون حلظات اىل جهة التلة الكبرية املحاذية لل�شارع‪ .‬ما‬ ‫ان مرت الدورية حتى رفعت حقيبتي ا�ستعدادا لالنطالق اىل‬ ‫اجلهة املقابلة‪ ،‬وما كدنا ن�صل التلة حتى باغتتنا �سيارة الدورية‬ ‫وبا�رشوا باطالق النار يف الهواء الخافتنا‪ ،‬اما انا واماجن فقد‬ ‫�صعدنا التلة ب�أ�رسع ما ميكن‪ ..‬ترجل اجلنود وبد�أوا مبالحقتنا‪.‬‬ ‫‪94‬‬


‫كان حملي ثقيال مما �أجربين على رمي حقيبتي‪ ،‬نهاين ئاماجن‬ ‫عن رميها فلم ا�صغ اليه من �شدة التعب‪ ..‬نزل ئاماجن بكل‬ ‫ر�شاقة جللب احلقيبة وجنح يف ارجاعها واللحاق بي ب�رسعة‬ ‫اىل اعلى التل‪.‬‬ ‫كدنا ن�صل تقريا اىل اعلى القمه‪ ،‬جل�سنا لربهة لنت�أكد‬ ‫من رجوع الدوريه‪ ،‬ثم ذهب اماجن لي�ستطلع الو�ضع ثم عاد‬ ‫مبت�سما‪:‬‬ ‫ـ لقد يئ�سوا من القب�ض علينا ورحلوا‪.‬‬ ‫انتظر هنا �س�أجلب تاك�سي واتفق معه لي�أخذنا اىل همدان‪..‬‬ ‫ال تغادر مهما ح�صل‪ ..‬ـ اعطاين ربع املبلغ من املال الذي معه‬ ‫ـ ثم قال يل‪:‬‬ ‫ـ هذا احتياط احتفظ به‪ ..‬اما بقية مالك ف�س�أرجعها لك‬ ‫حينما ن�صل ا�صفهان‪.‬‬ ‫غادرين �رسيعا‪ ..‬ثم جل�ست وحيدا على التلة الكبرية خمتبئا‬ ‫بني �شجرياتها التي تغطي �سفوحها واطرافها‪.‬‬ ‫بعد ن�صف �ساعة كنت م�ستلقيا على االر�ض حينما �سمعت‬ ‫�صوت اقدام تخطو اىل مكان رقودي‪:‬‬ ‫ـ من؟‬ ‫ـ ال تخف انا اماجن انه�ض �رسيعا عرثت على �سائق ي�أخذنا‬ ‫‪95‬‬


‫اىل همدان‪ ..‬ب�رسعة انه حتت التل‪.‬‬ ‫نزلنا �رسيعا ثم �صعدنا ال�سيارة ب�رسعة وانطلقنا‪ ..‬قلت‬ ‫لئاماجن‪:‬‬ ‫ـ هل انتهى اخلطر؟‬ ‫ـ لي�س بعد عندنا نقاط تفتي�ش يجب ان جنتازها ب�سالم‪.‬‬ ‫و�صلنا نقطة التفتي�ش فا�ستوقفنا اجلندي ي�س�أل عن‬ ‫االوراق‪ ..‬اخرج ئاماجن وثيقة الزواج ليوهم اجلندي ب�أنه ايراين‬ ‫و�أجاب على ا�سئلة الأخري باللغة االيرانية حتى اقتنع اجلندي‬ ‫ب�أن ئاماجن هو ايراين ولي�س مت�سلال‪ ..‬توجه اجلندي اىل �س�ؤايل‬ ‫عن اوراقي‪ ..‬حاول ال�سائق اقناعه برتكي ان امر ب�سالم فلم‬ ‫جتدى نفعا حماوالته‪ ..‬ثم امرين اجلندي بالنزول من ال�سيارة‪.‬‬ ‫اختفت ال�سيارة عن انظاري حتمل معها ئاماجن وال�سائق وما‬ ‫كنت املكه من مال‪ ..‬تركوين مع مبلغ �صغري اواجه به قدري‬ ‫املجهول لوحدي‪.‬‬

‫الرجوع اىل كرد�ستان العراق‪:‬‬ ‫اقتادين اجلنود ال�شباب اىل غرفة �صغرية وفت�شوين‪ ..‬كانوا‬ ‫متعاطفني معي عندما �شاهدوا خالل التفتي�ش بع�ض �صور يل‬ ‫يف العراق وخ�صو�صا �صورة لينا التي كانت تتو�سط البومي‬ ‫‪96‬‬


‫ال�صغري‪ ..‬فابت�سم ال�شاب وارجع يل اغرا�ضي ثم طمئنني ب�أنهم‬ ‫�سيفرجون عني قريبا‪ ..‬دخل �شاب اخر حاول ان يفت�شني‬ ‫بقوة وقلة ادب فا�ستوقفوه ثم �أخرجوه‪.‬‬ ‫ا�ستوقفوا �شخ�صا باخلم�سني حاول اجتياز احلدود باجتاه‬ ‫العراق قادما من طهران مل �أدرك انه ُمهرب‪� ..‬إال بعد فرتة‬ ‫ولكنني �شاهدت القلق على وجهه غري عادي وك�أنه يخاف �أن‬ ‫ي�سلبوه �شيئا مهما‪ .‬يجيد اللغة العربية و�س�ألني بف�ضول كيف‬ ‫مت القاء القب�ض علي ف�أخربته بالق�صة‪ ..‬وعندما �س�ألته قال انه‬ ‫او�صل احد اقربائه اىل طهران لغر�ض العمل وانه ينوي العودة‬ ‫اىل كرد�ستان العراق يف اقرب وقت ممكن‪.‬‬ ‫وبعد فرتة ق�صرية دخل �شخ�ص ُم�سن لي�شاركنا يف م�ساحة‬ ‫الغرفة ال�صغرية ف�أ�صبحنا ثالثة االن‪ ..‬كان طيبا وودودا‪ ،‬مل يكن‬ ‫يخفي �شيئا غري قلقه يف كيفية اعانة عائلته‪ ،‬حاول الو�صول اىل‬ ‫طهران يف عدة حماوالت ولكنها باءت بالف�شل‪ ..‬وال ميلك‬ ‫املال الكايف االن للرجوع اىل كرد�ستان �أو حتى تعوي�ض ما‬ ‫خ�رسه‪.‬‬ ‫بعد الظهر �صعدنا �سيارة مك�شوفة لتتجه بنا اىل املخفر‪،‬‬ ‫وهناك ُحب�ست للمرة الثالثه فما ُعدت االن اخاف كما كنت‬ ‫يف بادئ االمر‪ ..‬فكل واحد ُيلقى القب�ض عليه ُي ّ�سفر اىل بلده‬ ‫وهذا كل ما تفعله ال�سلطات االيرانية من اجراءات للمت�سللني‬ ‫‪97‬‬


‫داخل ارا�ضيها يقدمون لغر�ض العمل فقط‪.‬‬ ‫ح�رض م�أمور ال�سجن وقال يل‪:‬‬ ‫ـ رياز انت جمددا؟‬ ‫ثم طلب من الرجل الذي ي�شاركنا احلب�س ان يرتجم لنا ما‬ ‫�سيقوله‪:‬‬ ‫ـ لن ن�أخذكم اىل املحكمة �سنحل ق�ضيتكم االن ومببلغ مايل‬ ‫قدره ‪ 20‬الف تومان‬ ‫التومان عمله ايرانيه و‪ 20‬الف تومان لي�س مببلغ كبري‬ ‫ولكن بع�ض النا�س ال ميلكونه‪ .‬بد أ� ال�شخ�ص الطيب يولول‬ ‫فلي�س لديه ذلك املبلغ من املال وهذا يعني انه �سيبقى يف احلب�س‬ ‫لفرتة اطول‪.‬‬ ‫دخل الرجل االخر اىل الغرفة املجاورة ثم اخرج مبلغا من‬ ‫املال من لفة القما�ش املربوط على خ�رصه‪ ..‬ر�أيت ذلك عندما‬ ‫حاولت ان ادخل عليه لأ�ستعجله بالقدوم‪ ..‬اما الرجل الثاين‬ ‫فلم يكن له اي امل يف اخلروج‪ .‬رجع الرجل من الغرفه ويف‬ ‫يده املبلغ ثم توجه بال�س�ؤال اىل الرجل الثاين الذي كان ي�شكو‬ ‫من قلة احليلة‪:‬‬ ‫ـ من �سيدفع عنك؟‬ ‫ـ ال �أعلم‪ .‬ـ �أجابه الرجل الطيب ـ ‪.‬‬ ‫‪98‬‬


‫ـ اهلل �سيفرجها‪ ..‬انا ب�رصاحة احمل ما يكفي فقط حاجتي‬ ‫وال اعرف ما اقول حظا �سعيدا لك‪.‬‬ ‫ـ �أنا من �سيدفع لكلينا‪.‬‬ ‫انتبه الرجالن ايل با�ستغراب ثم قال الرجل االول‪:‬‬ ‫ـ �آه جيد‪� ..‬إذن حينما يح�رض ال�سجان �س�أقول له ان امل�س�ألة‬ ‫قد مت حلها؟‬ ‫ـ نعم قل له ان املال حا�رض‪� .‬أخرجت على الفور املال‬ ‫و�أعطيته للرجل‪� ..‬شكرين الرجل الطيب بالعربية ثم بعد فرتة‬ ‫متت املوافقة على االفراج عنا‪.‬‬ ‫نقلتنا �سيارة مك�شوفة اىل احلدود وبد�أت اتعاي�ش مع‬ ‫املوقف‪ ،‬ف�أنا االن وحدي وعلي مواجهة االمور وحدي‪ ،‬وان‬ ‫اكون �شجاعا يف مواجهة كل ما �سيواجهني من م�صاعب رغم‬ ‫ان اتقان اللغة مهم يف هذه الظروف ال�صعبة‪.‬‬ ‫و�صلنا احلدود ثم نزلنا نحن الثالثة لنعرب اىل اجلهة الكردية‬ ‫ثم م�شينا فرته لن�صل اىل مطعم مزدحم بالزبائن يف منطقة‬ ‫بنجوين الكردية كان الرجل الطيب جائعا طلبت لنف�سي كباب ًا‬ ‫عراقي ًا مع لنب ثم �س�ألته‪:‬‬ ‫ـ هل انت �شبعان الوقت االن ‪ 4‬ظهرا وال �أظنك �شبعان‪.‬‬ ‫ـ ال �أملك املال لأكل وال حتى لكي ارجع اىل ال�سليمانية‬ ‫‪99‬‬


‫وارى اْ�رستي‪.‬‬ ‫ربت على كتفه ثم قلت له‪:‬‬ ‫ّ‬

‫ـ �أطلب ما حتب و�س�أو�صلك اىل �أُ�رستك‪.‬‬ ‫ـ ابت�سم الرجل و�شكرين جمددا وب�شدة ثم قلت له‪:‬‬

‫ت�صدع ب�سبب‬ ‫ـ ارجو ان تتوقف عن �شكري ف�أنا ر�أ�سي قد ّ‬ ‫قلة النوم‪ ،‬هيا اطلب غداءك لنعود اىل بيتنا ب�رسعة‪.‬‬ ‫بعد الغداء �صعدنا �سيارة الندكروز ثم توجهنا اىل ال�سليمانية‬ ‫وكانت ال�صعوبة فقط عندما كانت الدوريات التي يف الطريق‬ ‫ت�ستوقفنا لغر�ض ال�س�ؤال عن ا�سمائنا و�سبب ال�سفر اىل ايران‪..‬‬ ‫ثم قال الرجل الطيب‪:‬‬ ‫ـ ا�ستاذ ريا�ض اين �ستذهب؟‬ ‫ـ جم جمال حيث املفرو�ض ان ارجع اىل بيت �شخ�ص‬ ‫�ساعدين كثريا والآن �سي�ساعدين جمددا‪.‬‬ ‫ـ الال بعد الغروب الطريق من ال�سليمانية اىل جم جمال غري‬ ‫�آمن ب�سبب قُطاع الطرق‪� ،‬ستبقى يف بيتي ثم �صباحا �ستغادر‬ ‫اىل حيث ت�شاء‪.‬‬ ‫ـ �شكرا �س�أت�أخر اريد الو�صول اليوم‪.‬‬ ‫�أم�سك الرجل من يدي قائال‪:‬‬ ‫ـ ا�ستاذ مل �أرى مبثل طيبتك �أنت �ساعدتني كثريا‪ ..‬ولن ان�سى‬ ‫‪100‬‬


‫ما فعلت من �أجلي ولن ادعك متوت ب�أيدي قطاع الطرق فهم‬ ‫اكراد متع�صبون على العرب خ�صو�صا‪ ..‬ف�أرجوك كن �ضيفي‪.‬‬ ‫قبلت الدعوة منه واحللول �ضيفا عليه‪ ..‬الرجل ي�سكن يف‬ ‫�رسداب مع عائلة كبرية فقرية احلال‪ .‬ا�ستقبلتني زوجته بكل‬ ‫�أدب بعد ان ق�ص على عائلته ماحدث له فرحب بي ولده‬ ‫الذي يبلغ من العمر ‪� 18‬سنة‪.‬‬ ‫ق�ضيت الليلة معهم ن�ضحك ونت�سامر مع االطفال الذين‬ ‫�شدهم الف�ضول لي�سمعوا مني بع�ض الق�ص�ص‪ ..‬كان اخوهم‬ ‫يتكلم العربية ويرتجم لأخوته بالكردية ثم �شاهدوا �صوري‬ ‫يف االلبوم فلفتت انتباههم �صورة يل بزي كلية ال�رشطة احمل‬ ‫�سيفا‪ ..‬نال اعجابهم كثريا ثم قال الفتى‪:‬‬ ‫ـ �رشفتنا ا�ستاذ ريا�ض ف�أنت بطل ان تواجه كل هذه االمور‪.‬‬ ‫ـ احلمام جاهز‪ .‬ـ قالت والدته مقاطعة حديثنا ـ ‪..‬‬ ‫بعد احلمام مبا�رشة خلدت اىل فرا�شي يف �ساعة هادئة‬ ‫ومت�أخرة من الليل‪ ..‬ذهب اجلميع اىل النوم و�أطفئت زوجة‬ ‫الرجل الطيب االنوار و�أغم�ضت عيني على الفور‪ ..‬ا�ستيقظت‬ ‫�صباحا على حوار هم�س خافت بني الرجل وزوجته‪:‬‬ ‫ـ ابعثي ولدنا ليجلب لنا اح�سن الفطور ل�ضيفنا‪.‬‬ ‫ـ نحن ال منلك املال لن�شرتي الفطور االطفال مل ي�أكلوا منذ‬ ‫‪101‬‬


‫البارحة‪.‬‬ ‫ـ عيب يا امراءه ما تقولينه االن‪ ..‬لن �أترك الرجل يغادر‬ ‫ببطن فارغة‪ ..‬ابعثي الولد ليجلب الفطور ولو بالدين من‬ ‫البقال‪.‬‬ ‫بعد انتهاء احلوار ت�صنعت بعد فرتة ب�أنني �أ�ستيقظ من النوم‪..‬‬ ‫كدت انفجر من �شدة احلزن على ما �سمعت‪ ..‬طيبه غري معقولة‬ ‫مل �أرى �أو �أواجه مثل هذا املوقف من قبل‪ .‬عدت من احلمام‬ ‫لأرى مائدة طويلة من ما لذ وطاب من اجلنب والع�سل والخ‬ ‫من الفطور‪ .‬جل�ست و�أكلت قليال ثم ان�سحبت‪..‬‬ ‫ـ معقولة هل هذا فطورك ا�ستاذ ريا�ض؟‬ ‫ـ نعم انا ال افطر �صباحا و�شكرا على كل هذه االنواع من‬ ‫الفطور‪.‬‬ ‫كنت الآن بني �أ�رستي‪.‬‬ ‫ـ ال ت�شكرين فلوالك ما ُ‬ ‫ـ ال تكرر هذا ارجوك فهذا واجبي‪.‬‬ ‫طلبت من الرجل ان يو�صلني اىل كراج ال�سيارات‪ ،‬فعلي‬ ‫الذهاب يف �أقرب وقت اىل جم جمال‪ ..‬ثم طلبت منه ان‬ ‫اتكلم معه على انفراد خارج الدار‪ ..‬اخربته مبا �سمعته مبا دار‬ ‫من احلديث هذا ال�صباح مع زوجته‪ ..‬اغرورقت عينا الرجل‬ ‫بالدموع ثم اخرجت ما تي�رس من املال‪ ..‬تفاج�أ الرجل فهد� ُأت‬ ‫‪102‬‬


‫من روعه قائال‪:‬‬ ‫ـ متنيت لو �أملك كنزا لدفعت لك اكرث‪.‬‬ ‫مل يقبل الرجل باملال‪� ..‬شعر باحلزن ثم قال‪:‬‬ ‫ـ انت حتتاج اىل املال اكرث مني‪.‬‬ ‫ـ انت لديك عائلة وحتتاج املال اما انا فبمفردي �أ�ستطيع ان‬ ‫ادبر اموري ب�سهولة‪.‬‬ ‫ودعته ثم او�صى ابنه بان ال يرتكني حتى يت�أكد ب�أنني قد‬ ‫وجدت ال�سيارة املطلوبة‪ ...‬و�صلنا الكراج وهناك اجريت‬ ‫ات�صاال هاتفيا مع كاكا عادل مدير امن جم جمال‪ ..‬فتكلم‬ ‫الفتى مع زوجته كونها ال تتكلم العربية‪ ..‬و�أخربته هي بان‬ ‫�أطمئن وال �أخاف من نقاط التفتي�ش و�أو�صتني �أن احتفظ برقم‬ ‫الهاتف‪ ..‬اغلق �سماعة الهاتف ثم او�صلني اىل �سيارة االجرة‪..‬‬ ‫فعر�ضت عليه قبل ان اغادر مبلغا ب�سيطا من املال فرف�ض ان‬ ‫ي�أخذه ولكن ب�إ�رصار مني جعلته يقبل املبلغ‪ .‬ت�صافحنا ثم دعا‬ ‫يل ان ي�سهل اهلل طريق العودة‪.‬‬

‫عبور جبل خورمال العايل‪:‬‬ ‫و�صلت جم جمال بال م�شاكل تُذكر‪ ،‬فمنطقة االكراد‬ ‫جميلة والنا�س ب�سطاء رغم �إح�سا�سي بال�ضياع‪� ..‬أال انني يف‬ ‫‪103‬‬


‫�أمان بني الأكراد‪ ..‬فعال وجدت طيبة غري اعتيادية يف هذه‬ ‫املنطقه التي عانت ويالت الظلم خالل الثمانينات على وجه‬ ‫اخل�صو�ص‪.‬‬ ‫ا�ضطررت اىل ال�سكن يف بيت ـ �أ ـ عدة ايام اىل ان يحني‬ ‫وقت ال�سفر اىل ايران‪ ..‬ويف احد االيام عرفني ـ ا ـ ب�شخ�ص‬ ‫ُيدعى حممود و�أخربين ب�أنني �س�أخرج معه اىل ايران لأنه يعمل‬ ‫هناك و�س�أكون برفقة �شخ�ص اخر ا�سمه ـ ا�سو ـ �أ�ضافة اىل‬ ‫�شخ�صني �آخرين يودان ال�سفر اىل تركيا عرب ايران‪ ..‬كنا يف‬ ‫املقهى نتبادل �أطراف احلديث ومل �أبد ارتياحا لكالم حممود‪..‬‬ ‫�أذ يبدو انه ل�ص ولكن ل�ص غبي ولي�س حمرتف ًا‪.‬‬ ‫يف طريق العودة اىل البيت اعلنت عن قلقي جهرا لـ ـ �أ ـ‬ ‫و�أخربته عن اح�سا�سي باخلوف من هذه النماذج وخ�صو�صا‬ ‫اننا �سنكون على �سفر يف طريق غري قانوين يكرث فيه القتل‬ ‫وال�سلب‪ ..‬ف ّند ـ �أ ـ خماويف و�شكوكي وقال ان هذا ال�شخ�ص‬ ‫ال ي�ستطيع ان يغدر بي لأنه يعرف ا�رسته بالإ�ضافة اىل املدعو‬ ‫ـ ا�سو ـ فهو معروف يف جم جمال وال ميكنه �أن يت�رصف‬ ‫بحماقة معي‪.‬‬ ‫اتفقنا على اخلروج مع بداية وقت الفجر‪ ..‬كنا خم�سة‬ ‫ا�شخا�ص مل ارحت ابدا لت�رصفاتهم وال لأ�شكالهم رغم ـ �أ ـ اكد‬ ‫يل ب�أنهم طيبون‪ ..‬و�صلنا مناطق كانت حتت �سيطرة احلزب‬ ‫‪104‬‬


‫اال�سالمي الكردي وكانت نقاط تفتي�ش مناطقهم تت�ألف من‬ ‫�شخ�ص واحد ملتح يرتدي جالبية ق�صرية مي�سك ع�صا يتحرى‬ ‫ويمُ عن يف وجوه الراكبني ثم ي�أذن لل�سائق بالتحرك‪ .‬و�صلنا‬ ‫منطقة خورمال‪ ..‬حتيطها اجلبال العالية ّاما الطق�س فكان‬ ‫ملتهبا جدا‪ ..‬جل�سنا لن�أكل قليال ثم قال �أ�سو ين�صحنا‪:‬‬ ‫ـ عليكم باللنب والتمر‪ ..‬اترون هذا اجلبل (ا�شار اىل جبل‬ ‫ت�صل قمته اىل ال�سحاب) �سنعربه و�سنحتاج ما اليقل عن الت�سع‬ ‫�ساعات �صعوداً وما يقارب اخلم�س �ساعات نزوال‪� ..‬أذن‬ ‫عليكم بالتمر واللنب يا اخوان‪.‬‬ ‫مل �أعر اهتماما للكالم ظنا مني �أنه ميزح معنا‪ ..‬وبعد الغداء‬ ‫الب�سيط تركنا الدكان البدائي الب�سيط‪ ..‬توجهنا اىل �أر�ض‬ ‫خ�رضاء جميلة وجل�سنا يف ظالل الأ�شجار مقابلني اجلبل الذي‬ ‫�سن�صعده يف وقت حمدد من اليوم‪.‬‬ ‫اخرج زجاجة الوي�سكي ثم اكملها بعد ثوان رغم �سخونة‬ ‫اجلو‪ ..‬تباهى ب�أنه يقدر على �رشب اكرث من زجاجتني ولكنه‬ ‫�رشب الوي�سكي لكي ال يح�س بالتعب فلدينا جبل يجب ان‬ ‫نعربه‪ .‬كرثة احلديث عن اجلبل �أثارت اهتمامي مما جعلني‬ ‫�أ�صدق و�أدرك فعال ب�أننا �سنعرب هذا اجلبل وال �سبيل غري ذلك‬ ‫وق�ضي االمر‪.‬‬ ‫خيم الغروب علينا ثم ايقظنا ا�سو من النوم قائال‪:‬‬ ‫‪105‬‬


‫ـ هيا يا �شباب �سنبد أ� ال�صعود‪.‬‬ ‫كان ُيجيد العربية وكان �شجاعا‪ ..‬يت�شاجر بال�سكني وال‬ ‫يهمه قوة خ�صمه �أو حتى حجمه‪ ..‬يتمتع باالعتماد والثقة‬ ‫الكبريه يف نف�سه‪.‬‬ ‫نه�ض اجلميع بك�سل من النوم وبد�أنا بامل�سري‪ ..‬فبد�أنا‬ ‫ب�صعود اجلبل و�أح�س�ست بعد دقائق بالتعب والإرهاق‪ ..‬اخذ‬ ‫حممود حقيبتي رغم �ضعف بدنه لي�ساعدين‪ ..‬رحلة ال�صعود‬ ‫�شاقة وال ترحم اما انا فك�أنني اموت يف كل حلظة �أخطو بها‬ ‫ال�سفح العايل‪.‬‬ ‫نحو ُ‬ ‫ـ احذروا فهذا اجلبل مليء بالألغام وان�أ احاول جهدي ان‬ ‫نبتعد عن الأماكن التي دفنت فيها االلغام‪.‬‬ ‫بعد �ساعات خذالين �ساقاي من التعب‪ ..‬نظر حممود ايل‬ ‫وقال ال�سو‪:‬‬ ‫ـ الفتى العربي تعبان فهو خلفنا وال ي�ستطيع ان يوا�صل‪،،‬‬ ‫لرنحت قليال‪.‬‬ ‫ـ اتركاه ونكمل امل�سري ال احد �ضغط عليه باملجيء معنا‪ ..‬ـ‬ ‫�صاح ال�شابان االخران بكل وقاحة ـ ‪.‬‬ ‫ـ ال لن نرتاح االن فعلينا الو�صول اىل القمة قبل الواحدة‬ ‫ليال‪ ..‬فبعد هذا اجلبل قرية ان مل ن�صلها يف فرتة من الزمن‬ ‫‪106‬‬


‫�سنكون فري�سة �سهلة لدورياتهم ويذهب تعبنا �سدى‪.‬‬ ‫مل اتعب هكذا يف حياتي ف�صعود قمة عالية من جبال‬ ‫خورمال كان اخر �شيء يخطر على بايل‪ ،‬ومما زاد من خويف‬ ‫هو �سماع �صوت انفجار ه ّز اجلبل وكدنا ن�سقط من املنحدر‬ ‫من �شدة االرجتاج‪ ،‬اخربنا ا�سو بانه انفجار لغم قدمي مت زرعه‬ ‫من قبل جنود �صدام يف الثمانينات‪ ..‬مثل هذه االنفجارات‬ ‫تبدو م�ألوفة لل�سكان �إذ مل ا�شاهد دوريات �أو اي �شخ�ص قد‬ ‫�أخافه ما حدث االن غرينا‪.‬‬ ‫ولكن الي�س من املفرو�ض ان ي�س�ألوا �أو حتى يدققوا يف‬ ‫�سبب االنفجار؟ ولرمبا قتل �شخ�ص ما اثناء حماولة عبوره‬ ‫احلدود‪ ،‬ولكن للآ�سف ال قيمة للإن�سان حتى وهو يف وطنه‬ ‫اذن ملاذا القلق‪.‬‬ ‫مل يكن با�ستطاعتي �صعود القمة‪ ..‬فالطريق اللولبي حول‬ ‫اجلبل وعر وحممود يحاول ما بو�سعه م�ساعدتي‪ ..‬وكان‬ ‫ي�سحب يدي تارة ويدفعني تارة من اخللف مما اثار غ�ضب‬ ‫االخرين ومنعهم له من م�ساعدتي‪.‬‬ ‫�ساعات من العط�ش واجلوع بل كدت افقد الوعي من �شدة‬ ‫الهالك‪ ..‬الطريق املليء باالحجار قد ت�ؤدي اىل �سقوطي اىل‬ ‫الهاوية يف ا�سفل اجلبل العايل‪ ..‬مل نتوقف طيلة الت�سع �ساعات‬ ‫�سوى دقائق‪ .‬اعطيت االذن ملحمود �أن يرمي حقيبتي ولكنه‬ ‫‪107‬‬


‫رف�ض وقال يل ب�أين �س�أحتاج اىل ما بداخلها عندما ن�صل‬ ‫طهران‪.‬‬ ‫ويف الليل بعد ما ا�صابنا من ال�ضعف والوهن ما يكفينا‬ ‫و�صلنا �سفح اجلبل غري م�صدقني‪ ..‬فهوينا على االر�ض كجثث‬ ‫هامدة ال نكرتث على ما ن�ستلقي عليه‪� ..‬سوى ان نرتاح من‬ ‫التعب‪ ..‬ا�سرتحنا القيلولة ثم حذرنا �أ�سو قائال‪:‬‬ ‫ـ عند النزول احذروا ال�صخور احلادة فانها تنغرز ب�سهولة‬ ‫يف ال�ساق ومتزقها وهي ا�شد من ال�سكني‪.‬‬ ‫�سن�ستعد االن لأخطر مغامرة يف جمابهة ال�صخور التي ال‬ ‫ترحم احد لو وقع عليها‪ ..‬مزقت ال�صخور بنطال ال�شابني‪،‬‬ ‫اما انا فكنت اتوقى احلذر لكي ال القى ما ال ي�رسين من هذه‬ ‫ال�صخور اخلالية من الرحمة‪.‬‬ ‫مت اجتياز ال�صخور والهبوط �ساملني ونكاد نرى الكمائن‬ ‫متر من خالل الوديان ونحن نتوخى احلذر يف االختباء منهم‪..‬‬ ‫�شيخ اجلامع يف الطرف الثاين ينتظر قدوم الزبائن غري ال�رشعيني‬ ‫ال�ستقبالهم يف فندق اجلامع‪.‬‬ ‫بعد �ساعتني من امل�شي واجلو احلار الذي كاد ان يخنقنا‬ ‫و�صلنا اىل اجلامع فدخل �أ�سو واخرب ال�شيخ بوجودنا يف‬ ‫اخلارج‪ ..‬نزل ال�شيخ وقال‪:‬‬ ‫‪108‬‬


‫ـ اهال بكم ادخلوا اجلامع واغت�سلوا من غبار الطريق‪.‬‬ ‫مكان الو�ضوء كان جميال جدا‪ ..‬نهر بارد وجار يتو� أض�‬ ‫منه امل�صلون حيث ان امل�سجد كان مبنيا بطريقة هند�سية رائعة‬ ‫على نهر جاري‪ ..‬اغت�سلنا و�رشبنا حتى كدنا ان ال نفارق‬ ‫جمرى النهر ال�صايف‪ ..‬نادى �أ�سو بنا‪:‬‬ ‫ـ لندخل اجلامع قبل �أن تك�شفنا الدوريات االيرانية وي�ضيع‬ ‫تعبنا �سدى‪.‬‬ ‫دخلنا الفندق حيث اكرث من خم�سني �شخ�صا ينامون يف‬ ‫غرفة �صغرية كدنا ان ندو�س على ر�ؤو�سهم لوال انارة ال�شيخ‬ ‫ال�شاب القنديل لرنى ما حتت اقدامنا من حلوم ب�رشية نائمة‪..‬‬ ‫كل ما نفكر به االن مكان ننام فيه ونرتاح فغدا لدينا طريق‬ ‫اطول‪.‬‬ ‫اقبل ال�صباح اجلميل وتناولنا فطورنا‪ ..‬ثم بد�أ احلديث يدور‬ ‫بالكردية مع ا�سو و�شيخ اجلامع واملهرب ـ الطرف الثالث ـ ومت‬ ‫االتفاق على املبلغ‪ ..‬ويف احلال ح�رضت �سيارة نوع بيكان‬ ‫ايرانية لتقلنا اىل همدان حيث ينتهي اخلطر هناك‪.‬‬ ‫مناطق كرد�ستان العراق وبع�ض من كرد�ستان ايران اغلبها‬ ‫تتكلم ال�سورانية الكردية ولهذا ال�سبب جتدهم مت�آخني بينهم‬ ‫ويتزاوجون فيما بينهم‪ ..‬فالتعاون بينهم قائم منذ البداية‪ ،‬فهم‬ ‫‪109‬‬


‫قد تعر�ضوا للقمع ايام �شاه ايران وعهد �صدام ح�سني على‬ ‫وجه اخل�صو�ص بعد ان متادى الأخري يف تدمري قراهم وهتك‬ ‫اعرا�ضهم مما زاد من غ�ضب االكراد و�سعيهم لإن�شاء اقليمهم‬ ‫ليعي�شوا يف �أمان من العرب والعامل الذي دور املتفرج بينما‬ ‫كان �صدام يحاربهم بال�سالح الكيميائي ومب�ساعدة امريكية‪.‬‬ ‫كانت ال�سيارة متر مبناطق وعرة جدا‪ ..‬على الطريق الرتابي‬ ‫وذلك لتجنب الدوريات‪ .‬ا�ستغرقت الرحلة يوم ًا ون�صف اليوم‬ ‫وبعدها و�صلنا اىل احدى القرى الكردية فرنلنا من ال�سيارة ثم‬ ‫قال املهرب‪:‬‬ ‫ـ هذه قرية يقطن فيها �أقربا�ؤنا فت�رصفوا فيها ب�شكل طبيعي‬ ‫ولو �شاهدمت اي دورية ال تهربوا وت�صنعوا ب�أنكم من �سكان‬ ‫هذه املنطقة‪ ..‬حقائبكم �ستظل هنا حلني �أن ارجع اليكم‪ ..‬ف�أن‬ ‫اريد التزود بالوقود‪.‬‬ ‫مت�شينا طويال يف القرية وفج�أة قطع �صفو حديثنا �أحد‬ ‫نداءات ال�سماعات ل�سيارة متجولة‪ ..‬فظننا انها ال�رشطة تنادي‬ ‫علينا وما ان َهممنا بالفرار حتى �صاح بنا �أ�سو ي�ستوقفنا‪:‬‬ ‫ـ قفوا ال تخافوا هذه �سيارة ا ُ‬ ‫خل�ضار اجلوالة‪ُ ..‬يعلمون النا�س‬ ‫بقدوم الب�ضاعة لكي ُيقبلوا عليه‪.‬‬ ‫�ضحكنا قليال على �سذاجة عقولنا ثم قمنا ب�رشاء االكل لقتل‬ ‫‪110‬‬


‫اجلوع الذي هجم على اح�شائنا‪.‬‬ ‫جاءت ال�سيارة بعد �ساعات و�صعدنا‪ ..‬التفت الينا ال�سائق‬ ‫قائال‪:‬‬ ‫ـ لقد اجتزنا حزام اخلطر و�سننقلكم اىل همدان وك�أنكم‬ ‫و�صلتم اىل طهران‪ ..‬ففي همدان تنتهي م�سرية القلق وتبد�أون‬ ‫�سفرتكم اىل طهران دون ان تعرت�ضكم دوريات او نقاط‬ ‫تفتي�ش‪.‬‬

‫الطريق اىل طهران (ه�شكرد)‪:‬‬ ‫يف همدان قطعنا التذاكر و�صعدنا �إحدى حافالتهم االنيقة‬ ‫وتوجهت بنا اىل طهران‪ ..‬هناك حيث املدينة يتم بنا�ؤها‬ ‫وعمالها الأكفاء من االكراد العراقيون الذين ُعرفوا باحرتافهم‬ ‫البناء يف ذلك الوقت الذي كانت ايران حتتاج فيه لأيد عاملة‬ ‫يف بناء مدنها احلديثة‪..‬‬ ‫وددت بعد وقت لو انني مل ارافق هذه املجموعة‪ ،‬فمتاعبهم‬ ‫�ستبد�أ‪ ..‬ففي حواىل ال�ساعة الثالثه �صباحا نزلنا من احلافلة يف‬ ‫منطقة ه�شكرد ثم تابعت احلافلة طريقها اىل طهران‪ ..‬اخربنا‬ ‫ا�سو اننا و�صلنا مدينتنا والغرفة التي ي�سكنون فيها ال تبعد‬ ‫�سوى دقائق‪.‬‬ ‫‪111‬‬


‫دخلنا اىل الغرفة غري مهتمني مبنظرها‪ ،‬فاملهم هو النوم قبل‬ ‫كل �شيء‪ ..‬ارمتينا على الأر�ض ثم غط�سنا يف نوم عميق اىل‬ ‫ظهرية اليوم الثاين حيث ا�ستيقظنا على �صوت حممود‪.‬‬ ‫يف بادئ االمر بدت لنا املدينة التي هي يف طور البناء‬ ‫�آمنة اىل ان فاج�أتنا دوريات ليلية باغتتنا اثناء نومنا وبد�أت‬ ‫حملتها يف القب�ض على العراقيني ويف �أوقات الليل املت�أخرة‬ ‫م�ستغله انغما�سنا بالنوم العميق‪ .‬كنا جنري كاجلرذان من �سطح‬ ‫اىل �سطح ونختبئ باحلفر يف �ساعات مت�أخرة من الليل‪..‬‬ ‫فالدوريات جتمع معلومات عن طريق م�صادرها ثم تباغت‬ ‫النائمني فج�أة‪.‬‬ ‫بتنا على هذا املنوال ا�سبوع‪ ..‬مل نعرف النوم واالطمئنان‪..‬‬ ‫بد�أ �أ�سو وحممود با�ستغالل اجلميع وكانوا حري�صني على تقليب‬ ‫اجليوب و�أخذ ما ي�ستطيعون �أخذه بطريقة ذكية‪ ..‬يف �أحد‬ ‫الأيام عندما �س�ألوين كم �أملك اخربتهم ب�أين ال �أملك �سوى‬ ‫القليل ولكنني مل اجن من طلباتهم وتهديداتهم فبد�أوا بحياكة‬ ‫خطة دنيئة �ضدي‪.‬‬ ‫اجلميع م�ستعدون ل�رضبي وقبيل تنفيذ اخلطة بدقائق قالئل‬ ‫دخل �شاب كردي يدعى خالت يبحث عن عمال ليعملوا‬ ‫حل�سابه يف مزرعة الكرز‪ ..‬نظر ايل ثم اختارين من بني اجلميع‬ ‫لي�أخذنني معه ورف�ض الباقني‪ ..‬ثم التفت اىل حممود قائال‪:‬‬ ‫‪112‬‬


‫ـ هذا العربي قد اثر يف قلبي ومن الظاهر انه يعاين منكم‪..‬‬ ‫لقد جئت قا�صدا ان اجمع ثالثني عام ً‬ ‫ال ولكنني �س�آخذه‬ ‫لوحده فال �ضري من م�ساعدته ولن اتركه هكذا‪.‬‬ ‫ـ نعم خذه انه �شاب فقري‪ .‬ـ �أيده حممود متظاهرا بالطيبة ثم‬ ‫وا�صل كالمه‪:‬‬ ‫وظن ب�أننا ن�ستغله‪.‬‬ ‫ـ نحن اردنا ان ن�ساعده ولكنه ال يثق فينا ّ‬

‫جميء خالت يف اللحظة املنا�سبة قد انقذين من �رشهم‬ ‫وخ�صو�صا بعد ان �صدق حد�سي ب�أنهم كانوا ينوون �رضبي‬ ‫بالإجماع وذلك ب�سبب املال القليل الذي املكه‪ ..‬فلي�س من‬ ‫حقي ان احتفظ ب�شيء لأنهم ال يحتفظون ب�شيء وعلي ان‬ ‫ا�ساعدهم جربا ك�أن ا�شرتي لهم ال�سجائر والع�صائر والطعام‪.‬‬ ‫فعال اعتقد ب�أنهم جمانني‪.‬‬ ‫غادرنا املدينة ويف الطريق كنت مت�شوقا بالنظر اىل �شوارعهم‬ ‫النظيفة و�أخذين الف�ضول يف النظر اىل وجوه االيرانيني‪ ..‬فهم‬ ‫لي�سوا كما �شاهدناهم على �أجهزة التلفاز‪ ..‬بلحى كثيفة‪..‬‬ ‫�شعر جمعد ووجوه بائ�سة كان اجلي�ش العراقي يقتادهم للأ�رس‬ ‫وكنا نالحظ عالمات اخليبة على وجوههم حينما كانت تبث‬ ‫قناة العراقية �صور من املعركة يف الثمانينات‪.‬‬ ‫و�صلنا مزارع نظر اباد االيرانية يف وقت الغروب‪ ..‬وطول‬ ‫‪113‬‬


‫الطريق يبت�سم خالت يف وجهي ليح�س�سني بالأمان ويخرج‬ ‫كل ن�صف �ساعة �سيجارة ويدخنها ب�شوق ك�أنه مل يدخن منذ‬ ‫فرته طويلة‪.‬‬ ‫عربنا نهراً جاري ًا يف احلقل‪ ،‬عرفني على اقرانه وا�ستقبلوين‬ ‫بابت�سامة وكلمات كردية جميلة‪ ..‬وك�أنهم يقولون ال تخف‬ ‫انت بيننا يف امان ايها الغريب‪.‬‬ ‫عرفني خالت على احد اال�شخا�ص من حمافظة الت�أميم‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫فرحت كثريا عندما ر�أيته فها انا اقابل �شخ�صا من نف�س املحافظة‬ ‫التي ع�شت فيها‪ ..‬ال�صديق اجلديد يدعى ـ عدنان ـ هارب من‬ ‫اخلدمة الع�سكرية ويعاين من م�شاكل عائلية مع اخوته مما دفعته‬ ‫الظروف ال�صعبة اىل الهروب من اخلدمة الع�سكرية �أاللتزاميه‬ ‫يف العراق‪ ..‬وتطلع ال�شاب اىل ان يغري حياته بال�سفر اىل‬ ‫اوروبا ويعي�ش كالآخرين يف �سالم‪ ..‬كان ماهرا يف حياكة‬ ‫املدا�س و�سجادة ال�صالة‪ ..‬ميلك انامل ذهبية‪ ..‬وبارع ًا يف كل‬ ‫عمل يقوم به ومهما كان نوع العمل‪ ،‬فقد كان ي�ؤدي ما عليه‬ ‫بامتياز‪ ..‬وحاز على اعجاب ا�صحاب العمل وبال مناف�س‪.‬‬ ‫تكلمت معه باللغة الرتكمانية او الرتكية العراقية‪ ..‬رحب‬ ‫بي ثم اخذين اىل خيمة مت ن�صبها قريبا من �سكن العمال ي�شاركه‬ ‫�صديقه‬ ‫ـ هاوري ـ وهو كردي القومية من حمافظة اربيل يجيد اللغة‬ ‫‪114‬‬


‫العربية‪ ..‬قوي البنية وطويل القامة يخاف منه العمال‪ ..‬حاول‬ ‫العديد منهم ن�صب فخ له لكي ي�رضبوه انتقاما لهم لأنه كان‬ ‫ي�سيء معاملتهم‪ ..‬ولكن حماوالتهم كانت تف�شل دائما‪.‬‬ ‫كان الظالم حالك ًا ف�أ�شعل عدنان الكربيت ليتعرف على‬ ‫وجهي‪ ..‬ثم قال ب�أنه �سوف ُيعرفني على �صاحب اخليمة يف‬ ‫ال�صباح‪.‬‬ ‫حل ال�صباح الرائع‪ ..‬فاملزرعة كجنة اهلل على الأر�ض‪..‬‬ ‫ا�صوات ع�صافري‪ ..‬ن�سيم بارد و�صوت النهر اجلاري يبعث يف‬ ‫النف�س الطيبة والتفا�ؤل بيوم رائع‪ .‬جل�سنا انا وعدنان لنفطر ثم‬ ‫�س�ألني ما ق�صتي‪ ..‬اخذ اللقمة وقربها من فمه لي�أكلها ثم �سمع‬ ‫مني جوابا كان كافيا لتتجمد اللقمة قرب فمه ويفتح عينيه‬ ‫فزعا من اجابتي‪:‬‬ ‫ـ انا هارب من االمن والكل يبحث عني‪.‬‬ ‫رجال الأمن يف العراق هم ثاين �سلطة يف العراق ولذلك‬ ‫خاف عدنان يف بادئ االمر من الق�صة ولكن بعد ان ت�أكد من‬ ‫انني �صادق قال‪:‬‬ ‫ـ ماذا تقول؟ هل انت جاد؟ باهلل امل يبعثك �أحد لتخطفني؟‬ ‫اخربين احلقيقة‪.‬‬ ‫حاولت ان اقنعه ب�أين االن مطلوب ول�ست مع النظام‬ ‫‪115‬‬


‫يف بداية الكالم ولكنه اتعبني جدا‪ ..‬اىل ان طم�أنته و�أقنعته‬ ‫ب�صدقي ثم قلت‪:‬‬ ‫ـ ال تخف انا ب�أمان احلكومة الكردية �ساعدتني‪ ،‬انا يف نيتي‬ ‫العمل فقط ملدة �شهرين ثم اذهب اىل حمافظة ـ وان ـ الرتكية‬ ‫لت�سليم نف�سي‪.‬‬ ‫ـ علي ان اخرب هاوري بذلك فهو �صاحب اخليمة و�سي�أتي‬ ‫بعد قليل‪ .‬ـ قال عدنان بقليل من اخلوف ـ ‪.‬‬ ‫مل مت�ض حلظات حتى ح�رض هاوري و�سلم علي ب�رسور‬ ‫وكان �سعيدا بوجودي معهم‪ ..‬جل�سنا لنكمل االفطار وكان‬ ‫ن�صيب من ال�صدمة‪ ،‬اذ مل يت�أخر عدنان يف اخباره وكان‬ ‫له‬ ‫ٌ‬ ‫هاوري يف تلك اللحظة جائعا وبد أ� يف الأكل‪ ..‬ولكن اللقمه‬ ‫ما كادت ت�صل فمه حتى توقفت عند �شفتيه مت�سمرا‪ ،‬فقد �سمع‬ ‫ما الي�رس خاطره ومل تكن ردة فعله اخلائفة اقل من عدنان‪: ..‬‬ ‫ـ �صحيح؟ ـ �س�ألني بغ�ضب ـ ثم وا�صل‪:‬‬ ‫ـ لو اكت�شفت انك جا�سو�س �س�أقتلك‪.‬‬ ‫ـ لن ت�ستطيع‪� ،‬سيالحقك اقربائي ولن تنجو منهم‪ .‬ـ قلت‬ ‫مبت�سما وبكل ثقة ـ‬ ‫تغري وجه هاوري قليال ومل يجبني‪ ،‬اما انا وعدنان فاكتفينا‬ ‫باالبت�سامة ثم وا�صلنا االكل‪.‬‬ ‫‪116‬‬


‫اليوم االول يف حقول الكرز‪:‬‬ ‫انه اليوم االول االن للعمل ولأول مرة يف حياتي �س�أعمل‪.‬‬ ‫لب�ست البنطال والقمي�ص وتوجهت مع عدنان وهاوري اىل‬ ‫احلقل‪ ..‬رمقني احد االكراد العاملني قائال‪:‬‬ ‫ـ اخي هل انت يف نزهة؟ هذا البنطال غايل الثمن وغري‬ ‫معقول ان تعمل به‪.‬‬ ‫اجابه عدنان بالنيابه عني بالكرديه‪:‬‬ ‫ـ ال تقلق فهو �أمري لديه الكثري من البناطيل‪.‬‬ ‫مل �أكن �أجيـد التكلم باللغة الكردية ومل اتخيل يوما انني‬ ‫�س�أتعلم الفار�سية والكردية من خالل اختالطي بالأغراب‪...‬‬ ‫هنا يف احلقل يتواجد الع�رشات من االكراد العراقيني‬ ‫والإيرانيني‪ ،‬ي�أتون من كل �صوب للعمل وك�سب قوتهم‪..‬‬ ‫اذ �أن او�ضاع كرد�ستان العراق كانت يف الت�سعينات مزرية‪..‬‬ ‫تتقاتل فيه االحزاب الكردية لنيل ال�سلطة و�أحالم ال�شعب‬ ‫الكردي و�آمالهم �ضاعت يف تلك الفرتات‪ ..‬وبدال من اجللو�س‬ ‫يف بيوتهم‪ ..‬يغادرون اىل ايران التي ا�صبحت وك�أنها حمافظة‬ ‫داخل العراق‪ ..‬يتنقلون من طهران االيرانية اىل ال�سليمانية‬ ‫الكرة‬ ‫العراقية بكل �سهولة‪ ..‬ولو ف�شل احدهم بالعبور ُيعيد ّ‬ ‫حتى ي�صل �ضالته‪.‬‬ ‫‪117‬‬


‫دخلنا حقول الكرز والتي كانت كاخليال‪ ..‬نظرت اىل‬ ‫ا�شجار الكرز احلمراء التي حتمل ما ّ‬ ‫لذ وطاب من الكرز‬ ‫االيراين ثم قال يل عدنان مبت�سما‪:‬‬ ‫ـ افتح عينك جيدا وا�شبع نظرك‪ ..‬ففي العراق مل ار حتى‬ ‫كرزا ا�صطناعيا اال يف �صورة واحدة مرت امام عيني �صدفة‪.‬‬ ‫ـ نعم ايه واهلل‪ ..‬انظر اىل اال�شجار‪ ،‬اىل احلقول اىل ن�سيم‬ ‫ال�صباح و�أ�صوات االنهار‪� ..‬أي طبيعة هذه باهلل عليك‪..‬‬ ‫االيرانيون ي�أكلون الكرز وكل �أنواع الفواكه‪ ..‬ونحن يف‬ ‫العراق قد دمرنا القهر واحلرمان وما زال بطلنا الورقي يردد‬ ‫وي�رص ب�أننا منت�رصون‪ ..‬ال جند حتى لقمة اخلبز لن�أكلها‪ ..‬نحن‬ ‫مل نر �أي �شيء من حياتنا غري الذل‪ ..‬وهنا يف الغربة تعي�ش‬ ‫معززا مكرما وبالأخ�ص لو جربت العي�ش بعيدا عن العراقيني‬ ‫�ستكون يف خري‪.‬‬ ‫وافقني عدنان على كالمي‪ ..‬ثم بد�أ يعلمني العمل وكيفية‬ ‫قطف الكرز بكل حذر و�إيداعه يف الدلو امل�صنوع من اجللد‬ ‫بكل رفق حتى ال يتم ت�شويه �شكل الفاكهة احلمراء‪.‬‬ ‫يف ال�ساعة اخلام�سة ع�رصا انهينا العمل وعدنا ادراجنا‬ ‫مرهقني اىل اخليمة‪ ..‬كنت اذهب بعد العمل يوميا مع عدنان‬ ‫للت�سوق وحر�صت اي�ضا على الت�سوق بالعملة االيرانية‬ ‫والتعامل بها‪ ..‬كان عدنان يعلمني بع�ض االمور التي اجهلها‬ ‫‪118‬‬


‫يف هذا البلد‪ ..‬ومن املفارقات التي واجهتني يف ال�سوق كان‬ ‫النا�س ي�س�ألونني من اي البلد انا؟ فكنت اجيبهم من ا�سطنبول‬ ‫وذلك لتقارب بع�ض الكلمات الرتكية العراقية من الرتكية فلم‬ ‫اخربهم حقيقة انتمائي للعراق وذلك لتجنب املتاعب‪ ..‬ثم‬ ‫ات�ضح بعد فرتة ان االيرانيني يحبون ال�شعب الرتكي ب�شكل‬ ‫غري طبيعي وكان ذلك ال�رس �سبب جناحي يف الولوج اىل داخل‬ ‫جمتمعهم والتعاي�ش معهم‪� ..‬س�ألني البقال‪:‬‬ ‫ـ هل انت تركي ا�سطنبويل؟‬ ‫ـ ال‪� .‬أجبته‪.‬‬ ‫ـ الالال انت متزح وال تريدين �صديق ًا لك‪� ..‬أنت تركي ومن‬ ‫ا�سطنبول‪ ..‬لهجتك تدل على ذلك ف�أنا من معجبي املطرب‬ ‫الرتكي ابراهيم طاطلي �س�س‪ ...‬باهلل عليك ما هي احواله؟ ما‬ ‫هي �آخر ن�شاطاته؟‬ ‫مل يكن مبقدوري ان ا�ستمر بالنفي مما اجربين على الكذب‪:‬‬ ‫نعم انا تركي واعمل هنا لأت�سلى فقط و�س�أرجع قريبا اىل‬ ‫ا�سطنبول‪.‬‬ ‫ما هي �إال ثواين �أكملت احلديث حتى �صاح البقال كل بعيد‬ ‫وقريب و�صغري وقريب وك�أنه يريهم عجائب الدنيا الثامنة‪:‬‬ ‫ـ هيا اقرتبوا تركي ا�سطنبويل هنا‪ ..‬هيا ب�رسعة قبل ان‬ ‫‪119‬‬


‫يختفي‪ .‬ـ �صاح البقال ملن حوله حتى جتمع حويل ن�صف‬ ‫ال�سوق وكان معي �صبي �صغري جاء لي�ساعدين يف التب�ضع‪..‬‬ ‫قال ال�صبي بخوف‪:‬‬ ‫ـ يا �إلهي كل ه�ؤالء �سيقب�ضون علينا؟ ماذا قلت لهم؟‬ ‫ـ كال يظنون انني من ا�سطنبول‪� .‬أجبته بالعربية‪.‬‬ ‫ـ �أذن حاول ان ت�ستمر معهم لعلهم �سيعفوننا من الدفع‪ .‬ـ‬ ‫�ضحك ال�صبي ـ ‪.‬‬ ‫كان دكان احد احلالقني بجانب دكان البقال‪ ..‬حاول‬ ‫ان ي�شغل البقال لي�رسقني منه خل�سة ثم ادخلني دكانه واقفل‬ ‫الباب وك�أنه ربح غنيمة وقال بلهفة‪:‬‬ ‫ـ نورتنا يا �صديقي‪ ..‬ارجوك ان لأتكلم احدا يف هذه‬ ‫القرية‪ ..‬كلهم �سيحاولون ا�ستغاللك‪ ..‬انا هنا �س�أ�ساعدك‬ ‫كثريا‪.‬‬ ‫مل يرق يل الو�ضع كثريا‪ ..‬النا�س يف ازدياد تام ولعل هذه‬ ‫احلادثه العجيبة �ستكون �سببا يف جلب ال�رشطة اي�ضا وينك�شف‬ ‫�أمرينا‪.‬‬ ‫ت�صنعت باالبت�سامة والراحة وكلي امل �أن اجنو منهم ب�أي‬ ‫ثمن‪ ..‬ا�ستطعت التخل�ص من التجمع ب�أعجوبة‪ .‬رجعنا وقد‬ ‫ت�سوقنا بدون ان ندفع اي �شيء بل دفعها بع�ض املعجبني‪..‬‬ ‫‪120‬‬


‫احلقل الذي كنا نعمل به فيه مزرعة للأ�سماك‪ ،‬وال�شخ�صان‬ ‫اللذان يقومان بحرا�ستها هما احمد وحممد من منطقة‬ ‫بلوج�ستان‪ ..‬كانا �شخ�صني يف غاية االحرتام وقد قدما يل‬ ‫ولعدنان واجب �ضيافة ال تو�صف‪.‬‬ ‫بعد ا�شهر ح�رض رجل يدعى خطاب مع �شخ�صني مل يكونوا‬ ‫م�صدر راحة‪ ،‬فقد قلبوا ميزان العمل وبد�أ خطاب بالتخل�ص‬ ‫مني ومن عدنان لكي ي�ستقروا براحة يف خيمة هاوري‪..‬‬ ‫فقد ت�شاجرنا معهم وتركنا انا وعدنان اخليمة لي�ستقبلنا‬ ‫احمد وحممد بكرم ورحابة �صدر‪ ..‬مما اثار �سخط هاوري‬ ‫وخطاب‪ ..‬االخري بد أ� العمل ب�شكل عادي ثم بد�أ يخطط‬ ‫لال�ستيالء على احلقل واالنفراد يف قيادة جمموعة معينة �إال ان‬ ‫وقت اجلني انتهى ب�رسعة يف احلقل فحال دون تنفيذ خمططه‪،‬‬ ‫ثم غادر اىل تركيا مع بع�ض من جالوزته بعد ان زرع الفتنة‬ ‫بني العاملني كادت ان ت�صل اىل القتل‪.‬‬ ‫كنت على عالقة مع احدى الفتيات التي تعمل يف احلقل‬ ‫وكانت من عائله كرديه تُدعى مرمي‪ ،‬مل يكن العاملون فرحني‬ ‫مبا يحدث‪ ..‬اي عالقة بنت كرديه مع �شخ�ص عربي‪ ..‬اال ان‬ ‫املتاعب مل تنته‪ ،‬فمنهم من كان يخطط للق�ضاء علي ولكن مل‬ ‫ت�ساعدهم الفر�صة وكنت حمظوظا يف جناتي منهم‪.‬‬ ‫انتهى وقت العمل يف حقل العم خالت‪ ،‬فبعد التوديع‬ ‫‪121‬‬


‫انتقلت انا وعدنان للعمل يف حقل �أخر والتابعه لإحدى‬ ‫اكرب ال�شخ�صيات االيرانية التي تدير احلكم يف ايران وبعد‬ ‫فرتة انتهينا من هناك وانتقلنا للعمل يف حقل امر�أة تدعى‬ ‫(روناك)‪ ..‬كانت جميلة جدا كحيلة العينني‪ ..‬قدها فاتن‬ ‫وابهرتنا بارتفاع نهديها مما ا�ضفى على �سمرة ب�رشتها �سحرا‬ ‫�شهويا عجيبا والردفني املكورين ك�أنهما ا�سفنجة هائلة م�شبعة‬ ‫باملاء وال�ساقني املكورتني‪ ..‬اعجبتني قيادتها للعمال وكانت‬ ‫جتيد التكلم باللغة العربية ولها ابنتان وولدان وكان ابنها‬ ‫الثاين مع والده يعي�شان يف اليونان‪ ..‬ـ روناك اجلميلة تعي�ش‬ ‫مع الفتاتني والولد‪ ..‬كنت معجب ًا جدا ب�شخ�صيتها وال �سيما‬ ‫�صوتها الذي مازال ي�صدح يف ا�سماعي عندما كانت حتث‬ ‫العمال على العمل‪.‬‬ ‫واعجبني جمال ابنتها ـ جرا ـ وال انكر ب�أنني كنت ا�ستغل‬ ‫ان�شغالها لكي ادقق يف تقا�سيم وجهها وانفها املنقاري اجلميل‬ ‫وال�شعر املتديل من حتت احلجاب على جبينها‪ ..‬و�أي�ضا جلو�سها‬ ‫وترتيبها ل�صناديق الفواكه‪ ..‬كنا خم�سة جمعتنا الظروف لكي‬ ‫نعمل �سويا واختارت لنا روناك خان غرفة �صغرية لكي من�ضي‬ ‫فرتة ال�سكن امل�ؤقتة هناك‪.‬‬ ‫نزلت اىل القرية للتب�ضع‪ ،‬دخلت متجرا جميال كان‬ ‫ال�شخ�ص ُيدعى عبا�س وهو تركي ايراين‪� ..‬س�ألني عن هويتي‬ ‫‪122‬‬


‫ف�أجبته تركي ا�سطنبويل وا�سمي احمد‪ ..‬فرح كثريا ثم دعاين‬ ‫اىل الع�شاء يف بيته بعد ان انتهي من العمل‪ .‬قبلت منه الدعوة‬ ‫وكنت �سعيدا جدا مبعرفته‪ ،‬فقد كان �شخ�صا طيبا جدا وكذلك‬ ‫عرفني عليهم‪.‬‬ ‫ا�صدقا�ؤه ممن ّ‬

‫ل�شكر �أباد االيرانية‪:‬‬ ‫احلقل ال يبعد �سوى خطوات قليلة عن القرية‪ ..‬ففيها‬ ‫ق�ضيت اجمل الأوقات مع انا�س تعرفت عليهم وتعودت‬ ‫عليهم رغم انني اخفيت عنهم حقيقتي‪ .‬ذاع �صيتي يف القرية‬ ‫ف�أنا احمد ا�سطنبويل القادم من ا�سطنبول ب�سبب م�شاكل عائلية‬ ‫واعمل مع اكراد من العراق يف هذا احلقل‪ ..‬هكذا ا�شتهرت‬ ‫ق�صتي يف القرية وال �سيما بني طالبات املدار�س عندما �أمر قريبا‬ ‫من املدر�سه الثانوية‪.‬‬ ‫تعرفت على ا�شخا�ص ظرفاء وتوطدت عالقتي بهم اىل‬ ‫ابعد حد‪ ..‬وبت ال افارقهم ال يف افراحهم وال يف �أحزانهم‬ ‫ولكن ماذا لو كانوا يعرفونني كعراقي؟‬ ‫عالقتي ب�أ�صدقائي بد�أت ت�ضطرب وال�سيما بعد �أن تودد‬ ‫االيرانيون ايل‪ ..‬وبت اح�رض جل�ساتهم وحفالتهم والوالئم‬ ‫مما ادت هذه االمور اىل توتر عالقتي ب�أ�صدقائي ممن مل يرق لهم‬ ‫‪123‬‬


‫ما يح�صل وحاولوا ك�شفي يف اكرث من خطة ولكنهم ف�شلوا‪.‬‬ ‫اقرتحت روناك ان اترك اجلني وان ا�ساعد ابنتها جرا‬ ‫وتعلمني تغليف الفواكه يف �صناديق خ�شبية ولتكون جاهزة‬ ‫للت�سويق‪ ..‬مل اتردد يف قبول الفكرة فانا منذ فرته �أع�شق‬ ‫اجللو�س بقرب ـ جرا ـ وال�سيما انني االن امل�س يديها اكرث من‬ ‫خم�س مرات يوميا لتعلمني وظيفتي اجلديدة‪.‬‬ ‫مر َ�ضت ـ جرا ـ وكان عليها ان تُغادر اىل العراق للعالج‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫فهي تُعاين من �آالم الر�أ�س وال ت�ستطيع ال�صرب اكرث‪ ،‬فال�صداع‬ ‫كنت اريد �شيئا من العراق بعد‬ ‫دمر �سعادتها‪� ..‬س�ألتني فيما لو ُ‬ ‫�أن ترجع‪ ..‬مل اطلب �سوى ال�سالمة فيوم وداعها كانت ترتدي‬ ‫اروع ما لديها وتفننت هي يف جعلي ان�شغل بها طيلة فرتة‬ ‫غيابها‪.‬‬ ‫كليا يف احلقل‪ ..‬كنت انتظر‬ ‫اقرتب العمل على االنتهاء ّ‬ ‫رجوع ـ جرا ـ بفارغ ال�صرب وا�س�أل اختها كل يوم عنها‪..‬‬ ‫وفعال توقف العمل فج�أة وا�ستلم اجلميع االجور وحان وقت‬ ‫املغادرة‪ ..‬روناك طلبت منا البقاء يف الغرفه فلعلها �ست�أخذنا‬ ‫اىل �شرياز عندما يتم االتفاق مع احد الو�سطاء للبدء يف العمل‬ ‫هناك يف احد احلقول‪ ..‬ولكن مل جتر الرياح مبا ن�شتهي نحن‬ ‫فاالنتظار قد طال والوقت كال�سيف‪.‬‬ ‫جاء من طهران �شخ�ص يدعى نزاد احليدري يدعي ب�أنه‬ ‫‪124‬‬


‫عمل خمرجا يف تلفزيون احلزب ال�شيوعي‪ ..‬كان �شاعرا‬ ‫وعازف جيتار بارع ًا ر�أيته يعزف عندما زرنا �صديقه بائع‬ ‫اجليتار االيراين ـ �أر�ش ـ يف منطقة جتري�ش االيرانية ويتقن فن‬ ‫ال�صباغة باحرتاف‪.‬‬ ‫ادعى اي�ضا انه ُيح�رض االرواح وكان يعتمد على �أحد‬ ‫اليمنى‬ ‫معاونيه‪،‬وهو �شخ�ص ُيدعى علي لطاملا كان اليد ُ‬ ‫لروناك يف ت�سيري اعمالها‪� ..‬أعجب نزاد كثريا �أن نعمل �سويا‬ ‫وا�ستغل فكرة الكنوز املدفونة يف ايران مب�ساعدة اح�ضار اجلن‬ ‫وكان يدعي ب�أنه يتقن ال�سحر‪ ،‬فقرر ان يبا�رش بالفكرة والعمل‬ ‫مل�ساعدة االيرانيني يف الك�شف عن االثار املدفونة‪ ..‬لأنها تدر‬ ‫امواال طائلة‪.‬‬ ‫عر�ضت الفكرة على واحد ممن اثق بهم من ا�صدقائي‬ ‫االيرانيني‪ ..‬فالحظت اهتماما كبريا منه ثم خاطبني بكل‬ ‫جدية‪:‬‬ ‫ـ احمد‪( ..‬خاطبني احدهم)‪:‬‬ ‫ـ عندما كنت انت ترانا ن�أخذ معاولنا بعد منت�صف الليل كنا‬ ‫نحن نبحث عن كنوز دفينه وها �أنت قد انقذتنا‪ ..‬عن طريق‬ ‫�صاحبك فنحن باحتياج لهكذا �شخ�ص‪�( .‬سكت ثم اخرج‬ ‫�سيجارة و�ضعها يف فمه ثم با�رش الكالم)‪:‬‬ ‫‪125‬‬


‫ـ احمد لقد ام�سك بنا النظام االيراين و�صادر كل ما وجدناه‬ ‫من الكنوز فخ�رسنا كل �شيء‪ ..‬هنا يف املنطقه توجد كنوز‬ ‫كثرية‪ ..‬واملكان مليء بالقرى املدفونة التي فنت يف ال�سنني‬ ‫املا�ضية وت�ستطيع ان جتد معاملها بكل �سهوله بعد ان حتفر اكرث‬ ‫من ‪ 20‬مرتاً حتت االر�ض‪.‬‬ ‫ـ بلغ �شيخك هذا ليقابلنا و�سندفع لكما ما ت�شاءان‪.‬‬ ‫قال احدهم‪ ..‬ثم �أيده الباقون ب�شدة‪.‬‬ ‫�أخربت نزاد مبوافقة الآخرين ف�أعرب عن ارتياحه واملبا�رشة‬ ‫بالعمل‪ .‬ال�ساعة الثانية ويف ليل مقمر �صاف التقينا يف مقربة‬ ‫وكان ال�شباب يحملون معاول للحفر‪ ..‬فقد كان علينا ان‬ ‫نكتم االمر ونتحرك بكل �رسية فالنظام يحا�سب ب�شدة على‬ ‫مثل هذه االمور وعواقبها فعال وخيمة ال تحُ مد عليها‪..‬‬ ‫انطلقنا وكنت اتبع نزاد يف م�سريته هو يكلمهم بالفار�سية و�أنا‬ ‫اخاطبهم بالرتكية‪� .‬أخرج جواد وهو �رشيكهم رقعة ثم بد�أو�أ‬ ‫بتحديد امل�سري ثم قال‪ :‬هنا يجب ان تكون ويجب علينا ان‬ ‫نت�أكد كيف نبد�أ باحلفر من جهة اليمني ام الي�سار‪.‬‬ ‫ـ �سوف ينام احمد (�أنا) قال نزاد‪ :‬ومن ثم �س�أبد�أ بجلب‬ ‫االرواح للت�أكد من وجود الكنز قبل احلفر‪.‬‬ ‫ا�ستلقيت على ظهري فوق الرتاب ثم بد�أ نزاد برتديد‬ ‫‪126‬‬


‫طال�سيمه‪ ..‬بد�أ ج�سدي بالنهو�ض تارة واال�ستلقاء تارة ثم‬ ‫امر يدي ب�إر�شادنا اىل مكان الكنز‪ ..‬حتركت يدي اليمنى ثم‬ ‫عادت م�ستلقية كما كانت‪� ..‬س�ألني نزاد هل ر�أيت احدا من‬ ‫اجلن ف�أجبته بالنفي‪� ..‬س�ألني اجلميع ما ح�صل يل ف�أخربتهم‬ ‫ب�أن ج�سدي ويداي حتركتا رغما عني‪ ..‬وفعال هكذا كان ومل‬ ‫�أكذب بحرف‪ ،‬فقد اح�س�ست ال تلقائيا بارتفاع وحترك يدي‬ ‫بدون ارادتي‪.‬‬ ‫با�رش الكل باحلفر اكرث من ‪� 5‬ساعات وو�صلنا باحلفر اىل‬ ‫اكرث من ‪ 10‬امتار‪ ،‬فال�شباب كانوا اقوياء ومل ي�شعروا بالتعب‪..‬‬ ‫اذ �أن ال�سنني املا�ضية التي ق�ضوها باحلفر كافية لتقوية �سواعدهم‬ ‫وامل�ضي قُدما باحلفر من �أجل الكنز دون كلل‪.‬‬ ‫بعد �ساعات من العمل ال�شاق خاب ظن ال�شباب‪ ،‬فكل‬ ‫الذي عرثوا عليه مطبخ حتت اخلراب واوان قدميه ال قيمة لها‪.‬‬ ‫ـ تب ًا هذا املكان ال يدل على وجود الكنز فلقد ق�ضينا‬ ‫اعمارنا يف احلفر وكان علينا ان نت�أكد من عالمات ودالالت‬ ‫على وجود كنز او ال يف هذا املكان‪.‬‬ ‫غادرنا املكان بكل هدوء وحذر‪ ..‬بعد �أن غطينا احلفرة‬ ‫الكبرية ثم عدنا اىل بيوتنا مرهقني‪.‬‬ ‫بعد �أيام �سمعت بعودة ـ جرا ـ من العراق‪ ..‬وذهبت على‬ ‫‪127‬‬


‫الفور ال�س�أل عنها‪ ..‬وما �أعظم فرحتي عندما فتحت هي الباب‬ ‫و�سلمت عليها با�شتياق‪ .‬بعد ان انهيت الزيارة غادرت‪ ..‬فج�أه‬ ‫ا�ستوقفني نداء جرا با�سمي احلقيقي‪ :‬ريا�ض‪..‬‬ ‫هي الوحيدة من تعرف ا�سمي احلقيقي ا�ضافة اىل عدنان‬ ‫اول �صديق يل يف ايران‪.‬‬ ‫ـ هذا الكا�سيت للمطرب هيثم يو�سف جلبته خ�صي�صا لك‪.‬‬ ‫كدت اطري من الفرح ال�ستلم �شيئا و�أمل�س جمددا يدها وهي‬ ‫تناولني هديتي‪ ..‬ولكن بعد هذه اللحظة ب�أيام قالئل مل يبقى‬ ‫منا �إال الذكرى يف هذه القرية التي ق�ضينا فيها اوقات ًا رائعة‪.‬‬ ‫كان نزاد معجب ًا بروناك ويت�صنع �أمامنا ب�أنه يحبها ك�أخ‬ ‫ولكن بال جدوى‪ ،‬فحديثه عنها قد ف�ضح مدى ع�شقه لها‪ ..‬مل‬ ‫ترق يل طبيعته‪ ،‬فهو كالثعلب يبحث عن م�صلحته وح�سب‪..‬‬ ‫وبعد فرتة اختفت روناك من القرية ك�أنها �شيئا مل تكن هناك‪.‬‬ ‫مما �ساعد على بث اال�شاعات ب�أنها كانت عميلة للمخابرات‬ ‫االيرانية وتتمتع بنفوذ قوي يف املنطقة و�إنها على عالقة وثيقة‬ ‫ب�أهم رجال ال�سا�سة يف ايران‪ .‬ا�شاعات مل �أحكم عليها ال بالنفي‬ ‫وج عنها‬ ‫وال بالقبول‪ ،‬فلقد كانت لطيفة معي وال يهمني ما ُر ّ‬ ‫من ا�شاعات بعد اختفائها املفاجئ‪.‬‬

‫‪128‬‬


‫التحرك اىل بردي�س‪:‬‬ ‫حتولنا اىل غجر متح�رضين الآن بعد االرحتاالت املتعددة‬ ‫من حقل اىل �آخر‪ ..‬كان اجلو قاتال‪ ..‬كاجلمر يكاد يحرق‬ ‫اال�سفلت من ا�شعة ال�شم�س التي ال ترحم اجلماد وال الب�رش‪..‬‬ ‫�سننتقل مع عدنان ونزاد وبع�ض اال�شخا�ص ممن بقوا معنا اىل‬ ‫بردي�س‪ ..‬مدينة جديدة مت تخطيط بنائها ايام �شاه ايران وبا�رشت‬ ‫احلكومة االيرانية بتطبيق خطة البناء يف عام ‪ ..1999‬حيث‬ ‫ي�سكنها القليل من ال�سكان يف االبنية التي مت انهاء بنائها‪..‬‬ ‫العراقيون االكراد الذين �ساهموا يف البناء انهوا اعمالهم‬ ‫ورجعوا اىل العراق وق�سم منهم قد غادروا اىل تركيا كبداية‬ ‫رحلة اىل اوروبا‪.‬‬ ‫و�صلنا بردي�س ففيها ا�سو�أ العراقيني االكراد او العرب او‬ ‫حتى الرتكمان‪ ..‬عراك واحتيال تخلو من الرحمة‪ ..‬مل ارحت فيها‬ ‫عملت مع نزاد يف ال�صباغة وكان يحتال على االيرانيني حيث‬ ‫اوهمهم ب�أنه ي�ستطيع �إح�ضار روح االمام علي (عليه ال�سالم)‬ ‫لهم وهم يف بيوتهم‪ ..‬وانه ي�ستطيع ان يك�شف ال�رسقات‬ ‫وك�شف �سلوك الأ�شخا�ص ال�سيئني وما �شابه من ترهاته‬ ‫املجنونة وامل�صيبة ذوي العقول اخلفيفة ي�صدقون‪ ،‬وكان له‬ ‫ن�صيب كبري من الهدايا املقدمة من ال�سكان‪ .‬مل ترق يل طباعه‪..‬‬ ‫ثم مالبث ان ذاع �صيته وبد أ� ب�إجراء عمليات التنومي املغناطي�سي‬ ‫‪129‬‬


‫على �شخ�ص كردي يدعى علي و�آخر ايراين كان يف الع�رشين‬ ‫من عمره‪ ..‬ا�ستمر احلال كذلك اىل �أن و�صل اىل بردي�س اربعة‬ ‫ا�شخا�ص كانوا يحتالون على ال�شباب العراقي ويدفعونهم لبيع‬ ‫الكلية بالتعاون من املخابرات الإيرانية ُي�ستدرجونهم للوقوع‬ ‫بالفخ ثم يتم ا�سكانهم يف غرفة فيها اكرث من ‪ 10‬افراد من‬ ‫ال�ضحايا والتي ت�سعهم بالكاد‪ ..‬ينتظر الفرد دوره يف عملية‬ ‫ا�ستخراج كليته حتت موافقته بعد ان يتم اغرا�ؤه باملخدرات‬ ‫ويكون حتت ت�أثري املخدر اىل يوم امتام العملية‪ ..‬وبعد االجناز‬ ‫ُيرمى ال�ضحية يف ال�شارع مع مبلغ ‪ 100‬دوالر وي�ستقطعون‬ ‫اي�ضا ما ا�ستهلكه من خمدرات وم�أكل وم�رشب‪ .‬ا�سلوب قذر‬ ‫�شارك فيها �سه ركوت واحمد الفيلي‪ ..‬كانا يجيدان عمل‬ ‫تركيب الزجاح وال�سرياميك وبع�ض احلرف اليدوية اي�ضا‪..‬‬ ‫قدما االخريان اىل بردي�س هربا من العدالة ومن ذوي‬ ‫ال�ضحايا ثم ازدادا تقربا من نزاد وكانوا ‪ 4‬ا�شخا�ص‪ ..‬يف تلك‬ ‫الفرتة عانت املنطقة من �رسقات ب�سبب العمال العراقيني الذين‬ ‫و�صلوا يف الفرتة االخرية فخطر يل ان اترك املكان مهما بلغ‬ ‫الثمن‪.‬‬ ‫هجر عدنان بردي�س ليعمل يف احد امل�صانع املحلية يف‬ ‫منطقة �شهريار ـ طهران‪ ..‬اما انا فرتكت العمل مع نزاد يف‬ ‫الدهان وعملت كحداد مع احد املحتالني االيرانيني‪� ..‬سكنت‬ ‫‪130‬‬


‫معنا زمرة من ع�صابة وكان علينا ان نتحمل اعباءهم‪ ..‬كانوا‬ ‫يعتا�شون على ما نك�سبه من قوت‪ ..‬مل يكن لدي خيار �آخر‬ ‫للعي�ش حتى اال�ستحمام كان ُحلما بالن�سبة يل‪ ..‬ويف احد‬ ‫االيام و�صل اىل عدنان نب�أ معاناتي ورغم اننا كنا نتخا�صم يف‬ ‫كل االوقات اال انه جاء لكي ي�ساعدين‪ ..‬تخل�صنا ب�أعجوبة‬ ‫ممن كانوا هناك ثم توجهنا ب�سيارة اجرة اىل منطقة �شهريار‬ ‫وبالتحديد ـ ا�سد اباد ـ ‪.‬‬ ‫ال�شخ�صيات االكرث �إثاره يف امل�صنع ال�صغري هما امري خان‬ ‫املدير وح�سن ك�شاورزي وهو �شقيق املالك الذي عمل يف‬ ‫اليابان ب�أعمال م�شبوهة لكي يجمع ثورة وير�سلها اىل ايران‪..‬‬ ‫العائلة ب�أكملها تنفي ما متلك وكانوا يدعون الفقر ومل يكن‬ ‫احد يف القرية يرغب يف ان يتعامل معهم نظرا ل�سوء اخالقهم‬ ‫والبخل‪.‬‬ ‫عملت يف هذا امل�صنع اكرث من �سنة وكانت ت�صنع فيه قطع‬ ‫غيار لل�سيارات‪ ..‬كنت على عالقة جيدة مع عدنان �إال ان‬ ‫عالقتنا بد�أت تتوتر عندما ارتبطت بعالقة مع فتاة ايرانية‬ ‫كانت غاية يف اجلمال تدعى مرمي‪ ..‬فبدا يتعقبنا كاملخرب‬ ‫ال�رسي بطريقة مل اتوقعها من �صديق‪.‬‬

‫‪131‬‬


‫زيارة كردستان العراق ‪:2000‬‬

‫ا�شتقت ان ازور العراق قليال وبالتحديد اختي وابنها اذ مل‬ ‫ي�صلني اي رد على ر�سائلي التي بعثتها لها‪ ..‬اخربت عدنان‬ ‫و�أمري خان بفكرة الزيارة فلم يمُ انع‪ ..‬كوابي�س اعدامي كانت‬ ‫تزورين يف اوقات النوم‪ ..‬م�شاهد ال تُ�صدق ولكنني كنت اعي‬ ‫بانها كوابي�س فقط عندما كنت افيق منها‪ .‬عدنان بد أ� ي�ضايقني‬ ‫وغروره زاد من توتر العالقة‪ ..‬نحن يف بلد الغربة وكان لزاما‬ ‫علينا ان نتجاوز االمور ال�سلبية ولكن دون جدوى‪ .‬عدنان مل‬ ‫يكن مت�أكدا من ذهابي واعتقد ب�أنني �س�أخاف من تنفيذ فكرة‬ ‫الزيارة وتفاج�أ حلظة ذهابي‪.‬‬ ‫يف �صبيحة احد االيام‪� ..‬سافرت اىل مريوان االيرانية‬ ‫القريبة من حدود با�شماخ العراقية‪ ..‬مررت ب�سالم من‬ ‫ل منطقة كرد�ستان ايران‪ ..‬العديد من‬ ‫نقاط التفتي�ش التي مت أ‬ ‫‪132‬‬


‫اال�شخا�ص العراقيني مت القب�ض عليهم وانزالهم من احلافلة‬ ‫بقيت انا فت�صنعت ب�أنني نائم وما ان حتركت احلافلة مررت‬ ‫بنظري على املقاعد اخلاليه من ا�صحابها ثم عدت ف�أغم�ضت‬ ‫عيني مبت�سما فاخلطر قد زال‪ ..‬واالن �س�أ�صل كرد�ستان العراق‬ ‫ب�سالم وبالتحديد با�شماخ العراقية ومن ثم اىل بنجوين‪.‬‬ ‫لدي ثقه كبرية بنف�سي االن‪ ..‬ف�أنا االن اجيد التكلم‬ ‫بالكردية والفار�سية بطالقه وعندي ما يكفيني من املال‪..‬‬ ‫اعرت�ضني �صبي يف ‪ 18‬من عمره يف منطقة بنجوين العراقية‬ ‫وكان يحمل �سالحا ف�أت�ضح يل انه �رشطي‪ ..‬تكلم معي بحده‬ ‫ف�سخرت منه و�أخربته ان يتحلى بالأدب فو�صل االمر اىل‬ ‫ال�شجار بيننا اىل �أن تدخل احد املواطنني االكراد لين�صفني‪..‬‬ ‫انتهى ال�شجار و�شكرت الرجل على طيب اخالقه ثم م�ضيت‬ ‫يف طريقي م�ستقال �سيارة اجرة اىل ال�سليمانية‪.‬‬ ‫و�صلت اىل جم جمال وزرت الرجل الذي طاملا ا�ستقبلني‬ ‫يف بيته ـ أ� ـ فا�ستقبلتني عائلته بكل كرم �ضيافة وازدادوا فرحا‬ ‫عندما كلمتهم بالكردية‪ ..‬اح�س�ست نف�سي �شخ�صا خمتلفا هذه‬ ‫املرة‪ ..‬قوي لدي ثقة كاملة يف نف�سي رغم انني ال املك جواز‬ ‫�سفر ومالحق من قبل القانون‪ ..‬حان وقت الغداء ومل يلبث‬ ‫كثريا حتى جاء ـ �أـ �سلم علي بحرارة غري م�صدق ر�ؤيتي‪..‬‬ ‫تغدينا ثم �رشحت له ما عانيته من م�صاعب و�سجون يف ايران‬ ‫‪133‬‬


‫واين االن اعمل واموري قد حت�سنت ب�شكل كبري‪.‬‬ ‫ـ كنت واثقا من انك �ستعود لتخربين بذلك لأنك ذكي يا‬ ‫ريا�ض‪ .‬قالها بكل راحة‪.‬‬ ‫�س�ألته عن اختي فامتع�ض وجهه ثم اخربين انها يف �سجن‬ ‫النظام‪ ..‬مل يخربين ب�أنها كانت تتلقى التعذيب امام عني ابنها‪..‬‬ ‫ا�ضافة اىل اخي و�سام الذي نال ن�صيبه من ال�رضب‪ ،‬اما باقي‬ ‫اخوتي فتخل�صوا من ال�سجن ب�أعجوبة‪ ..‬ا�صدقائي كانت لهم‬ ‫ح�صة من ال�رضب وبع�ضهم تلقوا تهديدا بال�سجن‪.‬‬ ‫ام�ضيت اياما يف جم جمال مل يرق يل ما ا�سمعته‪ ،‬كل �شيء‬ ‫حمزن‪ ..‬فهاهو –�أـ مهدد بال�سجن وانه ال ي�ستطيع دخول‬ ‫حمافظة الت�أميم ب�سببي فقد ُك�شف امن الدوله ب�أنه �ضالع يف‬ ‫تهريبي اىل اجلهة املعادية اي كرد�ستان‪ ..‬يف ال�ساعه ‪ 12‬ليال‬ ‫قُطع التيار الكهربائي فافرت�ش ـ ا ـ يف نف�س الغرفه التي �س�أنام‬ ‫فيها لكي ال يرتكني وحيدا‪ ..‬خلدنا اىل النوم يف الغرفة املظلمة‬ ‫ثم بد�أ الكابو�س ي�رسي بخطواته ويغزو نومي‪ ..‬حبل امل�شنقة‬ ‫يتدىل بالقرب من رقبتي و�صوت احلاكم وهو يقر�أ ا ُ‬ ‫حلكم‪:‬‬ ‫ـ حكمت املحكمه با�سم ال�شعب على اخلائن ريا�ض حممود‬ ‫عمران بالإعدام �شنقا حتى املوت‪.‬‬ ‫اقرتب احلبل من الرقبة وما ان الم�ستني‪ ..‬حتى ا�ستيقظت‬ ‫من الكابو�س هلعا �رصخت ـ ال ـ فنه�ضت على الفور ثم‬ ‫‪134‬‬


‫رك�ضت من نومي بال هوادة ال�صطدم بحائط الغرفة‪ ..‬احدث‬ ‫ارتطامي �صوتا قويا كان كافي ًا لإيقاظ كل من يف البيت‪..‬‬ ‫ام�سكني ـ �أ ـ وحاول ان ُيهد�أين من �شدة الفزع‪.‬‬ ‫ـ لن ابقى �س�أرحل غدا �صباحا‪ .‬و�رشحت له الكابو�س ثم‬ ‫اخربين ـ �أـ ان الكابو�س نف�سه قد زاره‪.‬‬ ‫يف �صبيحة اليوم الثاين توجهت اىل ايران وكالعاده دخلت‬ ‫بطريقة غري �رشعية مع مهرب ومل يطل بي الوقت لأ�صل‬ ‫طهران‪ ..‬و�صلت اىل املعمل حتت ده�شة عدنان وغيظه من‬ ‫هذه اجلولة ال�رسيعة اذ مل يتوقع مني ان اعود‪ ..‬وبهذا توقف هو‬ ‫عن �رسد ق�ص�صه وانه بطل لأنه زار العراق وعاد‪ ..‬مل اكن اكرث‬ ‫�سعادة بعودتي لأنني خلفت ورائي م�شاكل ال ي�ستهان بها‪.‬‬

‫احلب و�أ�شياء �أخرى‪:‬‬ ‫�شهريار مكان مليء باحلقول وجميل جدا‪ ،‬ان ت�شعر ب�شيء‬ ‫من اال�ستقرار وان تكون وحيدا لكي تُعيد ح�سابات املا�ضي‬ ‫والآتي‪� ..‬ساعدت عدنان كثريا عندما غادر اىل تركيا ف�شعر‬ ‫باالحباط ثم رجع اىل العراق ثم اىل �شهريار‪ ..‬ومل يكف‬ ‫عن ايذائي‪ ،‬فلرمبا �سوء الفهم كان ال�سبب اال�سا�سي او كونه‬ ‫ي�شعر بنق�ص وهذا هو �سبب تدخله يف كل �شيء لكي يثبت‬ ‫�شخ�صيته‪ ..‬عيبه الغرور رغم اعرتايف بذكائه يف العمل‪..‬‬ ‫‪135‬‬


‫ولكن ان يحفر ل�صاحبه مكائد خفية كانت م�صيبة اخرى‬ ‫ولكنه ودود مع من تربطه معهم م�صالح �شخ�صية‪..‬‬ ‫ع�شت قرابة ‪� 3‬سنني يف ايران منها ايام الع�سل ومنها ايام‬ ‫احلنظل املُرة‪ ..‬اىل ان عر�ض علي احد ال�شباب االيراين يدعى‬ ‫حممد الزواج من اخته اكرام فوافقت على الفور‪ .‬ولكنه ا�شرتط‬ ‫ال�سني وان �أمثل عليهم دور ال�شيعي‪.‬‬ ‫علي �أن اخفي مذهبي ُ‬ ‫كنت حينها يف ‪ 25‬من العمر وتلك جتربة من نوع خا�ص يف‬ ‫بلد غريب‪.‬‬ ‫امل�شاكل الطائفية يف ايران ا�شد‪ ..‬يكفرون ال�سنة ولكنهم ال‬ ‫يعلنون عنها ويظهرون الود وال يربزون العداء ب�شكل ظاهري‬ ‫وبطريقة بارعة‪ ..‬وما زلت اذكر املوظف احلكومي عندما‬ ‫يكمل اوراقك الر�سمية ي�س�ألك‪:‬‬ ‫ـ ماهي ديانتك؟ م�سلم (اي �شيعي) ام �سني‪ .‬وهذه اال�سئلة‬ ‫ال�شائعة موجودة يف قائمة اال�سئله بعد اال�سم والكنية والعمر‪.‬‬ ‫ا�ستغربت كثريا ففي العراق المنلك مثل هذه الرتهات‬ ‫فال�سنة وال�شيعة مل يفرقهم يوما اي معتقد وما �أراه غريب‪..‬‬ ‫ومن املفارقات التي ت�ؤكد يل كرههم لنا كالق�صة التي واجهتني‬ ‫مع الفتاة الفار�سية التي كنت خطبتها‪:‬‬ ‫تقدمت خلطبة الفتاة ـ اكرام ـ بعد ان جل�سنا ل�ساعات لنتفهم‬ ‫وجهات النظر واال�ستماع ل�رشوط املقابل‪ ..‬ومما الاخفيه بانني‬ ‫‪136‬‬


‫قد اعجبتني‪ ،‬طولها و�أخالقها وذكا�ؤها وطبعا جمالها‪..‬‬ ‫اخربين احد ا�صدقائي االيرانيني ب�أنهم يف فرتة اخلطوبة يقوم‬ ‫ال�شيخ بقراءة كلمات والعملية تُدعى ـ ال�سيغة ـ اي ان ُيحل‬ ‫املر�أة للرجل طيلة فرتة اخلطوبة وتكون على ذمته كما انها‬ ‫زوجته‪ .‬والطريف باالمر ان ال�شيخ الذي ح�رض و�أمت مو�ضوع‬ ‫وحب�س بتهمة اللواط فالق�صة تقول‪:‬‬ ‫ال�سيغة كان �شاذا جن�سيا ُ‬

‫يف احدى ال�صلوات اعجبه طفل قا�رص كان ي�صلي وراءه‬ ‫فحاول اغت�صابه اال ان الطفل جنح يف الفرار ثم ُ�سجن ال�شيخ‪..‬‬ ‫علم والد ال�شيخ بهذا االمر ثم زار ولده يف احلب�س وا�شرتط‬ ‫عليه ب�أنه �سيخرجه من احلب�س اذا كف االخري عن لب�س العمامة‬ ‫والزي اال�سالمي‪ ..‬وال�ضري من لب�سها يف امل�سجد ويف وقت‬ ‫ال�صالة فقط‪ ..‬وبعد ان وافق ابنه على �رشوط ابيه اخرجه والده‬ ‫بكفالة‪.‬‬ ‫ق�صة عجيبة‪ ..‬وامل�صيبة مل جند احدا غريه يتمم علينا مو�ضوع‬ ‫اخلطوبة يف ذلك اليوم‪ .‬بعد ا�شهر فكرت ان ابعث بر�سالة اىل‬ ‫ـ �أ ـ ع�ساه ُيخربين �شيئا عن اختي وابنها‪ ..‬و�شاءت ال�صدفة ان‬ ‫ت�صل الر�سالة اىل يد زوجها الذي عاد من بريطانيا يف زيارة اىل‬ ‫ال�سليمانية ليتفقد احوالهم والتخطيط لتهريبهما اىل كرد�ستان‬ ‫العراق ليكونا ب�أمان‪.‬‬ ‫كنت قد كتبت رقم هاتف منزل اكرام‪ ..‬وبعد �شهر جاءين‬ ‫‪137‬‬


‫حممد ليخربين بان زوج اختي ات�صل من لندن ويريد ان ُيكلمني‬ ‫يف اقرب فر�صة‪ ..‬مل ت�سعني تلك اللحظات فرتكت حممد يف‬ ‫املعمل لكي يت�سنى يل التحدث مع زوج اختي‪.‬‬ ‫حل �شقيق اكرام مكاين يف العمل‪ ..‬فرحت جدا فقد غريت‬ ‫تلك املكاملة جمرى حياتي كلها‪ ..‬فقد كنت مدفونا يف ايران‬ ‫بال �أمل وهذا االت�صال ب�صي�ص امل �سيفرج عني كل معاناتي‪.‬‬ ‫رن الهاتف‪ ..‬قفزت خطيبتي بفرح لتناولني �سماعة‬ ‫الهاتف‪� ..‬سارعت يف تناول ال�سماعة لأ�ستغرق معه يف‬ ‫حديث طويل‪ ..‬ثم طلب مني ان �أجلب اختي اىل ايران لكي‬ ‫يت�سنى لنا اكمال اوراقها و�إر�سالها اىل بريطانيا‪ ..‬مل اتردد‬ ‫بالقبول فوافقت على الفور ثم انطلقت اىل كرد�ستان العراق‬ ‫بعد ايام من احلديث معه‪.‬‬

‫ال�سفر اىل ال�سليمانية‪:‬‬ ‫يف ذلك الوقت من عام ‪ 1999‬بد�أت العوائل يف ال�سفر‬ ‫اىل اوروبا عندها يبد�أ رب اال�رسة ب�إكمال اوراقهم من داخل‬ ‫البلد االوروبي املوجود فيه ل�سحب ابنائه وزوجته اىل بر‬ ‫الأمان‪ ..‬بعث زوج اختي اوراق الدعوة اىل ايران لكي اكمل‬ ‫لها االجراءات بعيدا عن فخ املهربني وبذلك مت توفري مبالغ‬ ‫طائلة كان من الالزم �رصفها ولكن تداركنا ذلك حيث ان كل‬ ‫‪138‬‬


‫�شيء متوفر لدي فال حاجه يل ل�رصف ذلك املبلغ وال حتى ان‬ ‫ا�ستعني مبرتجم او حتى �شخ�ص ليكمل اوراق ال�سفر لأختي‪..‬‬ ‫ف�أنا اجيد اللغة واعرف طهران وكل م�سالكها و�شوارعها‪.‬‬ ‫و�صلت احلدود االيرانية العراقية يف الفجر‪ ..‬و�إثناء حماوالتي‬ ‫لقطع احلدود االيرانية باجتاه با�شماخ العراقية‪ ..‬القي القب�ض‬ ‫علي ومت اخالء �سبيلي بعد �ساعات‪ ..‬هكذا يح�صل دائما مع‬ ‫كل من يحاول الرجوع بطريقة غري �رشعية اىل العراق‪.‬‬ ‫بت ليلة يف بيت احد االقرباء ثم قادين احد املعارف اىل‬ ‫مكان تواجد اختي‪ ..‬و�صلنا اىل مكانها فطلبت من ال�شخ�ص‬ ‫الذي قادين اليها ان انتظر يف الباب وان يكون جميئي مفاج�أه‬ ‫لها‪ ..‬اخربوها ب�شخ�ص يود مقابلتها‪ ..‬ظهرت عليها بوادر‬ ‫القلق ثم ما لبثت ان ظهرت من وراء الباب‪ ..‬حلظة اللقاء‬ ‫ب�أختي كانت حلما و�أنا اح�ضنها اح�س�ست فعال ب�أن يف تلك‬ ‫اللحظات ب�أنني كنت �ضائعا وها �أنا اجد اهلي بعد عناء غربة‬ ‫مل ترحمني ابدا‪.‬‬ ‫مكثت ايام ًا قليلة يف كرد�ستان العراق‪ ..‬فقررت ان‬ ‫اعجل يف ال�سفر اىل ايران ف�أخذت اختي وابنها متوجهني اىل‬ ‫طهران‪ ..‬كانت متلك ورقة مرور وقتية ت�سمح لها بالدخول‬ ‫اىل مريوان ـ حمافظة ايرانية ـ ولكن يجب ان حت�صل على امر‬ ‫الدخول من املحكمة وال وقت يل لكي ننتظر فا�ضطررت اىل‬ ‫‪139‬‬


‫اللجوء اىل طريقة غري قانونية لكي تعرب ب�سالم اىل طهران‪.‬‬ ‫بعد ‪� 24‬ساعة من و�صولنا وبعد جهد كبري والتعب الذي‬ ‫عانيناه يف احلدود االيرانية العراقية و�صلنا اىل طهران‪..‬‬ ‫ا�ستقبلتني خطيبتي و�أهلها بفرح كبري يف احتفال متوا�ضع‬ ‫كتعبري عن مدى �رسورهم بو�صول اختي �ساملة‪ ..‬رجعت اىل‬ ‫مكان عملي يف املعمل لأبا�رش العمل من جديد‪ ..‬جاء ايل احد‬ ‫االكراد العراقيني ويدعى ـ �سوران ـ وبد�أ ب�رسد مقدمة عن حياته‬ ‫العملية‪ ،‬و�أخربين اي�ضا انه على عالقة مع ابن �شقيقة خامنئي‬ ‫املر�شد االعلى يف ايران وحاول ان يقنعني بانه قادر على‬ ‫اكمال اعمال اجلالية العراقية يف ايران مهما كانت االوراق‬ ‫معقدة‪ ..‬ف�أجبته مبت�سما ب�أنني ال اقل عنه يف الرتجمة و�أنني‬ ‫قادر على انهاء االوراق بنف�سي‪ ..‬مل يلق االخري هذه االجابة‬ ‫برحابة �صدر وبد�أ ي�سخر من قدراتي الجناز اعمايل بنف�سي ثم‬ ‫تركته وم�شيت دون اال�صغاء اىل ن�صائحه‪.‬‬ ‫ابد�أ العمل ال�ساعه ‪ 6‬ع�رصا وانهيه ‪� 6‬صباحا‪ ..‬املعمل‬ ‫توقف عن العمل والعمال غادروا ا�ستنكارا على �سيا�سة امري‬ ‫مدير االدارة‪ ..‬ا�ضافة اىل ان املعمل مل ُيخل�ص يف العمل لأنه‬ ‫يعتمد على الغ�ش يف ت�صنيع مواده‪.‬‬ ‫ترك اجلميع العمل‪ ..‬با�ستثناء انا و�أمري‪ ..‬كنت ا�ستعني يف‬ ‫حرا�سة املعمل بثالثة كالب غالية الثمن‪ .‬كنت انهي عملي‬ ‫‪140‬‬


‫ال�ساد�سة �صباحا وبعدها اتوجه اىل منزل خطيبتي حيث اقامة‬ ‫اختي ونتوجه اىل طهران التي تبعد عنا حواىل ن�صف �ساعة‬ ‫لإمتام اوراق اختي‪ ..‬وا�ستمرت على هذا املنوال قرابة ثالثة‬ ‫�شهور‪ ..‬مل مت�ض على خري‪ ،‬فقد واجهت اختي خطر الرتحيل‬ ‫اىل العراق‪ ..‬ومل يروق ملدير الهجرة ان ُي�سهل امورها لل�سفر‪..‬‬ ‫حتى االمم املتحدة املوجودة هناك عجزت عن م�ساعدة اختي‬ ‫ويف احدى املرات طردنا �ضابط اجلوازات من مكتبه ورمى‬ ‫�أوراق �سفرها علينا ثم اجربنا على قبول االمر الواقع بت�سفري‬ ‫اختي اىل حيث اتت‪ ..‬يف �صالة االنتظار احد العراقيني اخذه‬ ‫الف�ضول يف معرفة ما يجري ف�أخربته مبا ح�صل وعلى الفور‬ ‫انقذين بفكرة ان ا�شتكي عند املدير العام للقانونية فهو رجل‬ ‫طيب ال يرد مظلوم وبالفعل نفذت الفكرة‪.‬‬ ‫دخلت عليه ا�شتكي من اجلور والإهانة التي تلقيتها على‬ ‫يد �ضابط اجلوازات‪� ..‬رشحت له الق�ضية وكيف طردنا‬ ‫ال�ضابط وان حياة اختي وابنها يف خطر لو مت ت�سفريها وكل‬ ‫ما هي بحاجه اليه تي�سري امور �سفرها وهذا ال�شيء الذي بات‬ ‫م�ستحيال الآن‪..‬‬ ‫ات�صل مدير القانونية بال�ضابط و� ّأنبه بكلمات قا�سية كانت‬ ‫كافية ان تطفئ نار الغ�ضب التي بداخلنا واكتفيت بال�شكر‬ ‫للمدير‪ ..‬وكل ماعلينا ان نح�صل على موافقة من املحكمه‬ ‫‪141‬‬


‫التي �ست�سمح الختي بالبقاء يف ايران لإكمال اوراقها‪.‬‬ ‫انتهت املحكمة بتغرمي اختي ‪ 3‬دوالرات ليت�سنى لها ال�سفر‬ ‫القانوين‪ ..‬يف دائرة اجلوازات طلبوا منها كفيال قانونيا‪..‬‬ ‫اخرجت اوراق اقامتي فتكفلتها وبذلك طوينا اطول �صفحة‬ ‫من معاناة اختي يف ايران‪.‬‬ ‫وقبل ال�سفر كانت �صالة اختي ال�سنية كفيلة ان تفتح لنا‬ ‫م�شكلة من نوع طائفي �آخر وك�شفت كذبتي التي كنت قد‬ ‫ادعيت ب�أنني �شيعي‪ ،‬فهم قد راقبوا �صالة اختي وك�شفوها‬ ‫ب�سهولة‪ .‬وكالعادة يف مثل كل يوم بعد العمل توجهت‬ ‫اىل بيت اكرام‪ ..‬مل ي�رسين ما ر�أيت‪ ..‬اختي وابنها جال�سان‬ ‫يف ف�سحة الدار يبدو على وجههما احلزن واخلوف معا‪..‬‬ ‫وخطيبتي خرجت لتوها من امل�ست�شفى ب�سبب �سماع اخبار‬ ‫ال�سنية‪ ..‬وهي راقدة مغ�شية عليها ويف يدها قد ثبت‬ ‫حقيقتي ُ‬ ‫انبوب املغذي‪ ..‬مل يرق يل املنظر لأنني اعلم ما �سينتظرين من‬ ‫متاعب وعلي اال�ستعداد واملواجهة بكل حكمة وبال غ�ضب‪.‬‬

‫الت�شيُع‪:‬‬

‫وعلي الت�شيع‪ ..‬هكذا طلبوا مني‪ ..‬مل‬ ‫اذن الأمر انك�شف‬ ‫ّ‬ ‫اكن اعري اهتماما لأمر الت�شيع فكل ما يهمني اختي‪ ..‬انا مل‬ ‫ارتد عن ديني بل ال�شيعي كال�سني وال فرق بينهم عندنا يف‬ ‫‪142‬‬


‫العراق‪ ،‬فاالثنان ي�ؤمنان باهلل و�أما بقية الفوارق فهي مرتبطة‬ ‫بثقافة حاملها‪� ..‬إال ان املتطرفني بنوا هذه التفرقه بعد ‪..2003‬‬ ‫عملية الت�شيع يف ايران هي كالآتي االغت�سال ثالث مرات‪..‬‬ ‫الر�أ�س واجلانب االمين والأي�رس‪ ..‬و�آخرها نطق ال�شهادتني‬ ‫وب�أن عليا ويل اهلل‪.‬‬ ‫مل ارف�ض‪ ..‬بل رف�ضت �أن انفذ مطلبهم املجنون مما �أثار‬ ‫غ�ضبي‪ ..‬وهو ان �أُخنت وهذا االمر م�ستحيل‪ ..‬فكيف �س�أخنت‬ ‫مرتني؟ حاولت ان اقنعهم مرات وان اكتبها يف قامو�س‬ ‫ادمغتهم ولكن بال جدوى‪ ..‬والعجيب انهم اكدوا يل ان‬ ‫ال�سني لي�س مب�سلم بل وال يعرتف ب�أمور اال�سالم‪ ..‬اما والدها‬ ‫العجوز فقد ك�شف يل عن فكرته امل�أ�ساوية وذلك ان لكل‬ ‫�سني ذيل ق�صري كعقوبة من اهلل على ع�صيانهم له‪ُ ..‬جننت من‬ ‫اقوالهم وهممت بنزع �رسوايل فمنعوين من ذلك‪ ..‬مل تكن‬ ‫تلك احلالة لأ�صل اليها لوال عناد اختي ف�أنا يف و�ضع �صعب‬ ‫فعال‪ ...‬ولكن يف النهاية ر�ضخت لأمور الت�شيع كونها ال ت�رض‬ ‫وال تنفع‪ ..‬اما مو�ضوع اخلتان فبمعجزة ربانية اقنعتهم ب�أننا يف‬ ‫العراق نختلف متاما عن ما در�سوه يف كتبهم عنا من اكاذيب‬ ‫�صفوية‪.‬‬ ‫بعد ‪� 3‬شهور اكملت اوراق �سفر اختي وحان موعد‬ ‫�سفرها‪ ..‬التذاكر �أالن جاهزة وهي االن يف لندن بعد خم�س‬ ‫‪143‬‬


‫�ساعات رحلة من طهران اىل لندن‪ ..‬لقد وعدتني اختي ب�أن‬ ‫تنقذين وها انا االن ا�ستعد للمغادرة ولكن التحلي بال�صرب‬ ‫مهم‪ ..‬فالإجراءات لي�ست �سهلة‪ ..‬اما عن ا�سمي اجلديد فانا‬ ‫ا�سمي االن ال ُع َمري ا�سو ًة ب�سيدنا عمر‪ ..‬ولكن �أ�رسة خطيبتي‬ ‫لقبوين بهذا اللقب النني كنت اكره ان اكل بع�ض انواع‬ ‫�أطعمتهم‪ ..‬ويف كتبهم روايات �رضب علي عليه ال�سالم لعمر‬ ‫ب�سبب كره االخري ان ي�أكل من االطعمة التي يختارها علي له‬ ‫وحا�شا ان يكون االمر كذلك‪ ،‬فكالهما من احباب الر�سول ـ‬ ‫عليه ال�صالة وال�سالم ـ ‪.‬‬ ‫اليوم �صباحا وكل القنوات التلفازية نقلت حدثا مفاده‬ ‫ان طائرة اخرتقت املركز التجاري االمريكي‪ ..‬والإيرانيون‬ ‫فرحون ـ احداث �سبتمرب امل�ش�ؤومة ـ ‪ ..‬اخربين حممد ـ اخوها ـ‬ ‫ب�أن امريكا قد انتهى �أمرها و�إنني �س�أكون اكرث راحة من اختي‬ ‫املتواجدة يف اوروبا‪ ..‬تظاهرت بقبول ر�أيه ورحبت كثريا به‬ ‫فقلت له ان ايران اعظم مكان ي�سكنه االن�سان و�إنني لن اتركه‬ ‫�رسه كالمي جدا ثم عاد ادراجه اىل البيت بعد‬ ‫حتى �أدفن فيه‪ّ ..‬‬ ‫ان ترك يل ال�صحيفه التي ن�رشت اخلرب‪.‬‬ ‫ح�رض�صديق قدمي يل من كرد�ستان العراق من منطقة حلبجة‬ ‫التي ق�صفها �صدام بال�سالح الكيميائي �سنة ‪ 1988‬وكان‬ ‫والده احد �ضحايا الق�صف ورغم ذلك ففرج كان ُيدافع عن‬ ‫‪144‬‬


‫�صدام ب�شدة رغم انه كردي‪ .‬ا�سكنته معي ثم اخربته بان يجد‬ ‫يل مهربا يثق به لي�ساعدين على الهروب اىل تركيا‪ ..‬وعدين‬ ‫فرج ب�أنه �سيتكفل باالمر ثم وجد عمال كحداد يف منطقة‬ ‫قريبة من ا�سد اباد الواقعة �ضمن خريطة �شهريار‪ ..‬اقنعت‬ ‫اكرام ب�أن علي ان اجلب كل م�ستم�سكاتي من العراق للتطوع‬ ‫يف احدى م�ؤ�س�سات الدولة ويف نف�س الوقت اتفقت مع فرج‬ ‫يف ان يقبلني �ضيفا م�ؤقتا عنده يف املحل‪ ..‬وافق �صاحب‬ ‫املحل االيراين املُغرم باملخدرات ب�أن اق�ضي انا وابن اخت‬ ‫فرج املدعو ف�ؤاد ك�ضيفني يف املحل اىل ان يحني موعد جميء‬ ‫املهرب من تركيا‪.‬‬

‫الهروب اىل تركيا‪:‬‬ ‫مل تكن فكرة الهروب �سهلة كما كنت اعتقد‪ ..‬فكل �شيء‬ ‫ا�صبح خميفا مبجرد ان اختب�أت يف املكان الذي يعمل فيه فرج‪..‬‬ ‫قبل ان اختبئ بعت اغرا�ض البيت اىل احد اال�شخا�ص ومن ثم‬ ‫�سلمت مفتاح البيت اىل اكرام و�أخربتها ان ال تدخل لتنظيف‬ ‫البيت اال بعد ‪ 3‬ايام‪ ..‬وبعد انق�ضاء الأيام الثالثة دخلوا اىل‬ ‫البيت ليتفاج�أوا بان البيت فارغ وال يوجد اي اثار للأثاث وال‬ ‫اي م�ؤ�رش لرجوعي‪� ..‬أما زوج اختها الذي يعمل يف حزب‬ ‫اهلل ك�ضابط مهم فقد كتب عن تقريراً يفيد ب�أنني جا�سو�س‬ ‫‪145‬‬


‫وبحوزتي ا�سلحه و�صور‪ ..‬و�سبب هذا التقرير لأنني قد دفعته‬ ‫لدفع مبلغ التامني ل�صاحب الدار الذي ا�سكنه مقداره اكرث من‬ ‫‪ 300‬دوالر انذاك‪ ..‬وهو �شخ�ص معروف ببخله‪.‬‬ ‫كنت مع فرج ومل يخطر ببال احد منا ان ُيك�شف عن مكان‬ ‫وجودنا‪ ..‬فهو ما �أن وجد العمل حتى اختفى عن انظار النا�س‬ ‫ولكنه خب�أين يف مكان عمله لكي ي�ضمن جناتي منهم ا�ضافة‬ ‫اىل ذلك فان املهرب يف الطريق اىل ايران‪.‬‬ ‫يف �صبيحة احد االيام ا�ستيقظت من نومي وكان فرج يعمل‬ ‫ب�شكل عادي يف اعداد بع�ض ال�شبابيك‪ ..‬ومل اجد ماء لغ�سل‬ ‫الوجه‪ ..‬غ�ضبت ثم ار�شدين فرج اىل معمل املوزييك الذي ال‬ ‫يبعد عنا �سوى مئات االمتار جللب املاء‪ .‬حاول ف�ؤاد ان يقوم‬ ‫بذلك فمنعته و�أخربته ب�أنني �س�أذهب بدال عنه‪ ..‬وافق ف�ؤاد ثم‬ ‫�أخذت الدلو جللب املاء‪ ..‬وما ان و�صلت اىل حنفية املاء دنوت‬ ‫بر�أ�سي حتت املاء البارد للتخل�ص من حرارة اجلو‪ ..‬مل يطل‬ ‫ا�ستمتاعي بربودة املاء ف�صوت ف�ؤاد قطع علي ا�ستجمامي‪..‬‬ ‫مل يكن ك�أي �صوت‪ ،‬فقد كان ممزوجا بالرعب والقلق معا‪..‬‬ ‫ف�ؤاد يرك�ض نحوي وتكاد انفا�سه تنقطع من اجلري‪:‬‬ ‫ـ جئت احذرك من والد خطيبتك فقد ك�شف مكاننا‪.‬‬ ‫رفعت ر�أ�سي متفاجئا باخلرب ثم �صحت به‪:‬‬ ‫ـ كيف؟‬ ‫‪146‬‬


‫ـ ال �أعلم‪ ..‬ما ان خرجت انت حتى نزل هو من �سيارة‬ ‫االجرة و�صاح بخايل و�أخريا وجدتك يا فرج‪.‬‬ ‫ـ وكيف علم باملكان؟‬ ‫ـ واهلل ال اعلم ولكنه جال�س مع خايل االن يف مكتب‬ ‫الدكان‪ ..‬يتحدثان بكل جدية عنك واخربنا ب�أنه مت رفع تقرير‬ ‫عليك يف املخابرات االيرانية‪ ..‬وقد �أمهلك ‪ 10‬ايام لكي‬ ‫تُ�سلم نف�سك او ان يقب�ض علينا‪.‬‬ ‫ـ جمنون ـ متتمت ثم با�رشت بالقول‪ :‬ح�سنا �سنذهب خل�سة‬ ‫اىل املحل اعطني بنطايل وقمي�صي و�س�أتوجه اىل طهران و�أعود‬ ‫يف وقت الغروب‪.‬‬ ‫كنت ا�سمع تهديده وهو يتكلم بكل �رصامة‪ ..‬عجوز عمره‬ ‫فوق ال ‪ 70‬اال انه يدرك االمور وله فرا�سة غري عادية يف‬ ‫معرفة اال�شخا�ص ولكنه كتوم‪ ..‬اعتربته االن حتدي ًا بيني وبني‬ ‫املخابرات االيرانية‪ ..‬اما ان مي�سكوا بي وهذه املرة �س�أكون‬ ‫قد انتهيت‪ ،‬واما ان اك�سب التحدي واكون قد قطعت �شوطا‬ ‫كبريا من حياتي الجنو بجلدي فانا االن ُمطارد من قبل عنا�رص‬ ‫�صدام االمنية وعنا�رص الأمن االيرانية‪.‬‬ ‫توجهت اىل طهران‪ ..‬وبت على هذا املنوال مدة ا�سبوعني‪..‬‬ ‫ويف احد االيام انهكني التعب وغلبني النوم وكنا نحن الثالثة‬ ‫‪147‬‬


‫نائمني يف الدكان‪ ..‬اىل ان �سمعنا �صوتا يحاول فتح الدكان‬ ‫ولكنه توقف وك�أنه رجع عن فكرة فتحه ثم ا�ستدار وم�شى‪.‬‬ ‫بعد ايام عاد فرج من بيت والد اكرام واكد ان القادم كان‬ ‫اخوها حممد حيث اراد فتح الدكان ولكنه ظن ان ال احد ثم‬ ‫غادر‪.‬‬ ‫بعد انتظار ع�سري عاد املهرب من تركيا‪ ..‬جاء الينا وحتدثت‬ ‫معه ب�ش�أن فكرة ذهابي اىل تركيا‪ ..‬اخذين اىل بيته لأق�ضي فرتة‬ ‫ق�صرية حلني اكتمال املجموعة من اال�شخا�ص وبعدها �سنبا�رش‬ ‫امل�سري اىل تركيا‪.‬‬ ‫احول‬ ‫حان وقت الدفع‪ ..‬ولكن امل�شكلة انني احتاج الن ّ‬ ‫املال اىل نقد‪ ..‬اح�رض املهرب �شخ�صا من اكراد العراق غني ًا‬ ‫جدا وتعهد بتحويل ال�شيك اىل نقد‪ ..‬اعطيته ال�شيك وبعد يوم‬ ‫اتاين يولول وليقول مبكر ظاهر‪ :‬احلمدهلل ان موظف امل�رصف‬ ‫قد اخذ ال�شيك منه بحجة انها مزور‪ ..‬قمت من مكاين ثم‬ ‫م�سكته من خناقه فقلت له‪:‬‬ ‫ـ فرج اخربكم ب�أنني مطلوب للمخابرات ولكنه ن�سي ان‬ ‫يقول ب�أنني ال �أرحم من ي�رسقني‪.‬‬ ‫هممت ب�رضبه فقام اجللو�س ُليخل�صا بيننا ثم قذفته ب�أقذع‬ ‫ال�سباب‪.‬‬ ‫ـ كال ارجوك ف�أنا رجل كبري وال احتاج ملالك‪.‬‬ ‫‪148‬‬


‫ـ �أذن اعد ال�صك و�إال لقيت مني ما ال ي�رسك وهذا وعد‪..‬‬ ‫�س�أمنحك اليوم فقط وغدا ال�صك �سيكون يف يدي‪.‬‬ ‫عار�ضني اجلميع على طريقة ت�رصيف معه‪ ..‬ثم قلت لهم‪:‬‬ ‫ـ ال تتدخلوا و�إال �ستلقون مني ما ال ي�رسكم ابدا‪..‬‬ ‫يف اليوم التايل �أعاد ال�صك ف�أخذه املهرب لي�رصفه مبعرفته ثم‬ ‫اتفقنا على يوم ال�سفر‪.‬‬ ‫كانت مباراة املنتخب العراقي والإيراين قد انتهى بفوز ايران‬ ‫والتي �صادفت نف�س اليوم ال�سفر‪ ..‬حزنت و�أدمعت عيناي‬ ‫ولكن لي�س من فائدة تُذكر‪ ،‬فالتجاهل اروع حل يف مثل هذه‬ ‫االمور على االقل االن‪ ..‬كنت جال�سا يف احلافلة املتوجهة اىل‬ ‫تربيز لكي نبد�أ يف جتاوز احلدود االيرانية اىل تركيا‪.‬‬

‫اىل تركيا‪:‬‬ ‫عبارة تنقل املدنيني اىل اجلهة‬ ‫و�صلنا اىل تربيز‪ ..‬هناك ّ‬ ‫الثانية‪ ..‬تقطع البحر باجتاه اروميه و�سكان تلك املنطقه هم من‬ ‫اتراك ايران‪ ..‬ت�أخذك املناظر اخلالبة والطبيعة التي انعم بها اهلل‬ ‫على هذه االر�ض اىل عامل اخليال‪ ،‬فللبحر كلمات تعرب عنها من‬ ‫العباره مينة وي�رسه‪ .‬و�صلنا‬ ‫خالل �أمواجها ال�ساكنه التي حترك ّ‬ ‫اىل بيت املهرب االيراين ثم وا�صلنا يف اليوم التايل ال�سفر اىل‬ ‫‪149‬‬


‫احدى القرى اجلبلية االيرانية‪ ..‬وب�رسعة كبريه كانت تقطعها‬ ‫ال�سفح‬ ‫ال�سيارة نوع بيك اب عرب التواءات اجلبال وقادتنا اىل ُ‬ ‫املخيف‪� ..‬شيء خرايف فقد ظننا اننا �سوف نقع ا�سفل القاع لو‬ ‫اخط أ� ال�سائق �سريه‪ ..‬غطت الرمال ر�ؤو�سنا مل نع ما حدث لقد‬ ‫دخنا من هول القيادة اىل ان بلغنا القمة يف نقطة معينة حيث‬ ‫بيوت القرويني املقيمني هناك‪ ..‬نزلنا وكان علينا امل�شي اياما‬ ‫لنقطع طريق اجلبال والتالل ون�صل اىل اماكن مل ي�سبق يل ان‬ ‫ر�أيت مثلها حياة بدائية النا�س يعي�شون بال كهرباء او خدمات‬ ‫اخرى‪ .‬انهم مهربون يتعاونون مع حزب العمال الكرد�ستاين‪.‬‬ ‫ويقدمون لهم الطعام وامل�سكن‪ ..‬وي�ساعدون عنا�رص حزب‬ ‫العمال يف جمع تربعات جربية من اال�شخا�ص امثالنا حتت‬ ‫تهديد ال�سالح‪ ..‬ويف اوقات اخرى تكون اجلماعات من‬ ‫اتباعهم‪ ..‬هذه املنطقة مليئة ب�أكراد يدعونهم ـ ال�شكاك ـ‬ ‫يحملون الهويتني االيرانية والرتكية‪.‬‬ ‫ندفع او منوت؟ طبعا ندفع‪ ..‬ـ يقول االغلب ممن ي�أتون يف‬ ‫�ضيافة ه�ؤالء الل�صو�ص ـ ‪.‬‬ ‫دفعت بع�ض املال لكي ا�ست�أجر ح�صانا قويا ي�ساعدين‬ ‫يف عبور املرتفعات والطرق ال�صعبة‪ ..‬رغم انني مل اجرب‬ ‫الفرو�سية‪ ..‬ولكن لوعورة املكان ا�ضطررت �أن ا�ستعني‬ ‫باحل�صان‪ ..‬كنت احاول جتنب التعب‪ ..‬وان اعمل جاهدا‬ ‫‪150‬‬


‫على �ضبط النف�س يف هكذا مراحل‪ .‬حان موعد ال�سفر‪..‬‬ ‫جلبوا يل ح�صان ًا عمالق ًا امتطيته ب�صعوبة‪ ..‬ظننت انني امتطي‬ ‫ناطحة �سحاب لعلوه و�ضخامته‪ ..‬ثم انطلقنا‪.‬‬ ‫وما هي �إال دقائق من انطالقنا حتى ملحنا �ضوء �سيارة‬ ‫دوريه قادمة من بعيد‪ ..‬ما ان اطلق املهربون التحذير حتى‬ ‫ذاب اجلميع من املكان‪ ..‬حاولت ان ا�رضب احل�صان لريك�ض‬ ‫ولكن حظي العاثر مل ينجدين‪ ..‬فدخل اال�سالك ال�شائكة على‬ ‫احلدود ورف�ض ان يتحرك‪..‬‬ ‫غ�ضب املهرب ثم انزلني بقوة‪ ..‬وما هي �إال دقائق حتى‬ ‫اخرج احل�صان من اال�سالك‪ ..‬يف حني ان �سيارة الدورية كانت‬ ‫على و�شك الو�صول ولكن حتى تلك االثناء كان احل�صان‬ ‫واملهرب قد اختفيا وك�أن �ساحرا اخفاهما بلمح الب�رص‪ .‬ظللت‬ ‫وحدي اهيم وابحث عن الباقني اىل ان �سمعت �صوت ف�ؤاد‬ ‫ي�صيح بي ب�صوت خافت‪:‬‬ ‫ـ ريا�ض تعال اىل هنا ب�رسعة على اليمني‪.‬‬ ‫وجدتهم خمتبئني بني ال�صخور اىل ان م�ضت الدورية‬ ‫االيرانية ب�سالم‪ ..‬اخذت ف�ؤاد لنمتطي احل�صان معا ثم وا�صلنا‬ ‫امل�سري اكرث من ‪� 4‬ساعات‪ ..‬و�صلنا اىل احلدود الرتكية ثم‬ ‫ُ�سحبت منا الدواب لنكمل امل�سري �سريا على االقدام‪.‬‬

‫كان املهرب يحمل م�شتقات نفطية ليبيعها على احلدود‬ ‫‪151‬‬


‫الرتكية على ظهر البغال ثم افرتق عنا ليرتكنا مع املهرب‬ ‫البديل‪ ..‬وظللنا من�شي مع املهرب الآخر‪ ..‬فو�صلنا مقر اجلي�ش‬ ‫الرتكي‪ ..‬وكانت اال�ضواء تتحرك ميينا ثم ي�سارا لك�شف‬ ‫املت�سللني‪ ..‬كل ما علينا ان نفعله االن ان ن�سري خلف اجتاه‬ ‫ال�ضوء وب�رسعة قبل ان تنتهي دورته ونكون بذلك قد تخل�صنا‬ ‫من ذلك اخلطر وقد يك�شفنا نور الربوجكتور فيما لو ت�أخرنا‬ ‫باملرور‪.‬‬ ‫�أهلكنا التعب‪ ..‬و�صلنا اىل اول قرية تركية تدعى ـ بابل�سان‬ ‫ـ ‪ ..‬نزلنا يف بيت �شخ�ص كردي‪ ،‬تع�شينا ثم مننا يف زريبة ابقار‬ ‫ومل يكن طعامنا �سوى الطماطم واخلبز الرتكي‪ .‬احد املهربني‬ ‫قال ان الطريق بعيدة و�سوف يخت�رصها ب�إح�ضاره �شاحنة وكل‬ ‫�شخ�ص يجب ان يدفع خم�سني دوالرا �أ�ضافية‪ .‬ولول ف�ؤاد‬ ‫كثريا ثم ترجاين ب�أن ادفع له املبلغ‪ ..‬وتعهد بكلمة �رشف ب�أن‬ ‫ُيرجع ايل املبلغ فور و�صولنا اىل ا�سطنبول ثم حلف باهلل وبقي‬ ‫للحظة‪ ..‬دفعت عنه املبلغ ثم انطلقنا رغم انه مل يعجبني تنازله‬ ‫غري املنا�سب له كرجل وانطلقنا بال�شاحنة وكان املهربون‬ ‫يدعوننا ب�أ�شنع االلقاب عالوة على كلمة عراقي كلب ومل‬ ‫يكونوا مييزون عربيا او كرديا‪ .‬وقفت ال�شاحنة وبد�أ املهربون‬ ‫انزالنا ق�رسا ا�ضافة اىل ال�شتم وال�رضب وك�أننا قطيع اغنام‪.‬‬ ‫م�شينا ا�سابيع‪ ..‬ننام يف العراء ون�رشب املاء العكر وبع�ضنا‬ ‫‪152‬‬


‫ي�أكل احل�شي�ش من اجلوع‪ ..‬وما كانت فكرة ال�شاحنة �إال لعبه‬ ‫رخي�صة منهم‪.‬‬ ‫وا�صلنا امل�سري ال�صعب‪ ..‬وكلنا امل يف النوم ولو لن�صف‬ ‫�ساعة‪ ..‬اما انا فقد اح�س�ست ان قدمي لي�ستا يل‪ ..‬اىل ان و�صل‬ ‫بنا املطاف اىل قرية قريبة من وان‪ ..‬اخربنا املهرب اننا �سننام‬ ‫يف بيت احد اال�شخا�ص‪ ..‬ولكن ياللهول‪ ..‬املكان مليء‬ ‫بالأكراد وال مكان للجلو�س يف تلك الغرفة الكريهة الرائحة‪.‬‬ ‫تركنا املهرب قائال انه �سوف يعود بعد �ساعات‪ ..‬ولكنه‬ ‫ت�أخر ايام ًا‪ ..‬الحظت وجود مهرب اخر ُيدعى �شريكو طبعا‬ ‫الي�رسى ولكنه يتنقل كالغزال بعكازتيه يف‬ ‫كردي‪ ..‬فقد قدمه ُ‬ ‫االدغال واجلبال وك�أنه مي�شي على قدمني‪ .‬اقرتبت منه و�أخربته‬ ‫ان ي�أخذين معه اىل ا�سطنبول‪ ..‬طلب مني اخذ موافقة املهرب‬ ‫امل�س�ؤول عني اوال‪ ..‬ف�أجبته ب�أنه اختفى منذ ايام‪ ..‬ثم طلب‬ ‫مني �شريكو ان اقدم �ضمانات بدفع املبلغ فيما لو و�صلت تركيا‬ ‫ب�سالم‪ .‬اعطيته رقم هاتف زوج اختي وكان مغلقا‪ ..‬اجهدين‬ ‫االت�صال به وكل مرة كنت احاول اقناع املهرب ب�أن يرتيث‬ ‫وي�صدقني‪ ..‬فقال يل‪:‬‬ ‫ـ تعذرين زوج اختك هاتفه مغلق وال ا�ستطيع �أن �آخذك‬ ‫معي اخي املحرتم‪.‬‬ ‫هممت ب�إقناعه و�أخربته بان زوج اختي �سيجيبه الحقا‬ ‫‪153‬‬


‫لو ترك له ر�سالة �صوتيه‪ ..‬فكر قليال ـ �شريكو ـ ثم وافق على‬ ‫ان ارافقه يف املغامرة‪ .‬ا�ستودعت رفاقي و�أكدت لف�ؤاد ب�أنني‬ ‫�س�آخذ الدين منه لو و�صلنا ا�سطنبول وعدين االخري ب�أنه �سوف‬ ‫يفي بوعده فاخلم�سون دوالر هو ربع م�رصفه اليومي وال‬ ‫داعي لأن �أقلق‪ ..‬ا�شاد مبوقفي معه وو�صفني برجل املواقف‬ ‫ال�صعبة وانه �سيعيد املبلغ م�ضاعف ًا يل‪ ..‬قلت له ب�أن ُيعيد يل‬ ‫فقط اخلم�سني دوالر وال اريد غري ذلك‪ ..‬هز ر�أ�سه موافقا ثم‬ ‫انف�صلت عن جمموعتي الن�ضم اىل جمموعة �شريكو‪.‬‬ ‫�أح�رض �شريكو �شاحنة كبرية‪ ..‬لتقلنا اىل نقطة معينة ومن ثم‬ ‫نقطع اجلبل اىل ـ وان ـ م�شيا‪ .‬مل يكن هناك اي عربي بينهم‬ ‫�سواي ولهذا عانيت من �ضو�ضائهم كثريا‪ ..‬بع�ضهم احبني‬ ‫وبع�ضهم مل يرق له ان ا�صاحبه يف رحلته‪ ..‬وما ان �أ�صبحنا‬ ‫قريبني من اجلبال حتى ع�سكرنا يف قرية مهجورة ثم اقرتح‬ ‫علينا �شريكو ان ننام النهار ونبا�رش امل�سري عرب اجلبال ليال‪..‬‬ ‫لكي ال نكون هدفا للطائرات املقاتله الرتكية ومن ثم نكون‬ ‫حلوما م�شوية قبل ان نبلغ ا�سطنبول‪ ..‬كما حدث للكثري من‬ ‫اال�شخا�ص‪.‬‬ ‫مننا يف القرية املهجورة‪ ..‬فقط هياكل البيوت كانت‬ ‫قائمة وبع�ض اجلدران‪� ..‬أما يف البناية التي مننا بداخلها ففيها‬ ‫بع�ض ال�سالمل التي تربط الطابق ال�سفلي بالأعلى الذي يتكون‬ ‫‪154‬‬


‫من جدار واحد‪ ،‬و�أما االماكن الباقية منها فهي جمردة من‬ ‫اجلدران‪ ..‬تغطينا ب�أكيا�س بي�ضاء طويلة لنقي انف�سنا من رماد‬ ‫النار التي اوقدها البع�ض لتدفئنا لهيبها‪ ..‬وما ان �صحينا �صباحا‬ ‫حتى وجدنا ان ال�سماء تثلج رغم اننا كنا يف ال�شهر العا�رش من‬ ‫ال�سنة وكان رماد احلطب قد غطى الر�ؤو�س بكرثة‪.‬‬ ‫توقف الثلج عن الت�ساقط ثم ا�رشقت ال�شم�س وتوجهنا اىل‬ ‫التل لن�ستلقي حتت ا�شعة ال�شم�س بعد ان اح�رضوا لنا الوجبة‬ ‫الذهبية‪ ..‬لكل �شخ�ص طماطم وخبز وب‪ 10‬دوالرات؟‪.‬‬ ‫كانت اجلبال حتيط بنا من كل �صوب‪ ..‬ولكن هناك جبال‬ ‫غطاها ال�سحاب وكنت ات�ساءل و�أنا م�ستلق على ظهري من‬ ‫�سي�صعد هذا املرتفع العايل؟ قطعت تفكريي وت�أملي ا�صوات‬ ‫مل تكن غريبة علي‪ ..‬الكل نائم وال احد قد ايقظه �صوت‬ ‫املروحيات‪ ..‬نعم انه �صوت مروحيات مقاتلة �ست�شوينا‬ ‫قنابلهم ان مل نختفي عن انظارها‪ ..‬نه�ضت على الفور ثم‬ ‫�صحت ب�أعلى �صوتي‪:‬‬ ‫ـ ا�ستيقظوا مروحيات تركية �ستهاجمنا اختبئوا‪.‬‬ ‫نه�ض اجلميع ثم نزلوا كالوعل اجلبلي من �أعلى التل اىل‬ ‫اال�سفل لنختبئ خلف اعمدة البيوت املهجورة‪ .‬املروحيات‬ ‫حل�سن احلظ توجهت ب�شكل م�ستقيم لتختفي وراء اجلبال‬ ‫املحاذية ومل تتجه نحونا‪ ..‬وهكذا جنونا ب�أعجوبة ر ّبانية‪.‬‬ ‫‪155‬‬


‫جاء عدد من املهربني من اكراد تركيا ثم اخذوا على‬ ‫عاتقهم مهمة اي�صالنا اىل وان‪ ..‬ان�ضم �شريكو الينا وبهذا‬ ‫انتهت �صالحيته لقيادة املجموعة فهو االن حتت ت�رصف اكراد‬ ‫تركيا اي�ضا ولكنه يبقى هو امل�س�ؤول عنا‪ ..‬ويف حال حدوث‬ ‫�شجار او اي م�شكلة اخرى فعليه ان يهدئ االمور‪� ..‬صعدنا‬ ‫اجلبل الذي كان دائما يف دائرة خميلتي ومركز اهتمامي‪ ..‬فها‬ ‫انا و�شريكو واملجموعة ن�صعد القمة �ساعات و�ساعات‪ ..‬انظر‬ ‫اىل ا�سفل القمة ومل ارى �سوى الوديان التى حتولت اىل خطوط‬ ‫وك�أنني انظر اليها من خالل نافذة طائرة‪.‬‬ ‫ت�شاجر االكراد فيما بينهم يف اعلى القمهة‪ ..‬وو�صلت اىل‬ ‫حد ال�سكاكني‪ ..‬يا للغباء نحن االن اهداف �سهلة للطائرات‬ ‫وبني ال�سحب التي حتيط بهذا اجلبل العمالق‪ ،‬فماذا �سيكون‬ ‫موقفنا االن؟‪ ..‬انتهى العراك بعد وقت ق�صري بف�ضل �شريكو ثم‬ ‫وا�صلنا امل�سري ا�سبوعني وبعدها اقلتنا �سيارتان كبريتان من نوع‬ ‫دومل�ش اي ـ فان ـ اىل منطقة قريبة من ـ وان ـ الرتكية‪ ..‬دخلنا‬ ‫اىل زريبة االبقار وافرت�شناها ثم راح كل منا يغت�سل وبع�ضهم‬ ‫�صلى حتى حل الليل ومننا‪.‬‬ ‫كنت اغط يف نوم عميق بعد ال�ساعة الثانية �صباح ًا حتى‬ ‫ايقظني �ضوء م�صباح يدوي ودوي �صوت ذبذبات �أجهزة‬ ‫الال�سلكي التي ي�ستعملها ال�رشطة للتحدث بينهم‪ ..‬مل ا�ستطع‬ ‫‪156‬‬


‫ان اركز على ال�شخ�صني اللذين �سلطا ال�ضوء على عيني‬ ‫ولكنهما ركزا على حقيبة �سوداء �صغرية فوق ر�أ�سي‪ ،‬ادارا‬ ‫امل�صباح اىل حقيبتي‪ ..‬كنت ا�ضع فيها امل�شط ومثبت ال�شعر‬ ‫وفر�شاة ا�سناين‪ ..‬ت�صورا انني ا�ضع فيها املال ف�أخذ احدهما‬ ‫ب�رسعة وجنون يحاول فتحها ومل ي�ستطع‪ ..‬ثم حدثني بالرتكية‬ ‫ان افتح الرمز‪ ..‬تناولت احلقيبة ثم فتحتها له وناولته اياها‬ ‫بهدوء‪ ..‬فت�ش داخلها و�أخرج حمتواها ثم رمى احلقيبة على‬ ‫وجهي‪ ..‬علمت انهم من االمن الرتكي املدين‪ ..‬توجهوا اىل‬ ‫االخرين ثم امروهم ب�أن يقفوا بانتظام ليتم تفتي�شهم وكانوا‬ ‫اربعة عنا�رص يحملون ال�سالح اخلفيف‪ .‬من كان ميلك املال‬ ‫فقد خ�رسه ومن كان بارعا يف اخفاء م�صاريفه من الدوالرات‬ ‫فقد ظفر‪ .‬امرونا ان ندير ظهورنا اىل حائط الزريبة وغادروا‬ ‫خل�سة دون ان نراهم وبعد دقائق من مغادرتهم ايقنا انهم قد‬ ‫ذهبوا ثم ادار كل واحد منا ر�أ�سه اىل اخللف لنجد ان الزريبة‬ ‫قد خلت منهم فان�سحاب ال�رشطه كان �صامتا‪ ..‬كنا نح�سب‬ ‫ب�أن امرنا قد ُح�سم ولكنها ات�ضحت ب�أنها خطة مري�ضة نفذتها‬ ‫ال�رشطة مع �صاحب املكان ل�رسقة اموالنا‪.‬‬ ‫يف اليوم التايل جاء �شريكو املهرب و�أكد لنا تعاون �صاحب‬ ‫املكان مع ال�رشطة‪ ..‬ثم اخربنا ب�أنه �سيح�رض �سيارات خا�صة‬ ‫لينقلنا اىل ا�سطنبول حفظا ل�سالمتنا وان علينا ان نغادر ب�أ�رسع‬ ‫‪157‬‬


‫وقت ممكن‪ ..‬احدنا كانوا يدعونه �شيخ وكان ي�ؤم �صالة‬ ‫اجلماعة‪ ..‬يغ�ضب ب�رسعة ومل �أر فيه روح االن�سانية‪ ..‬انتظر‬ ‫دوره مع االخرين لي�صعد ال�سيارة املخ�ص�صة ويذهب‪ ..‬كان‬ ‫قلقا بل رف�ض �أن ي�ؤم بامل�صلني حينها و�أخربهم ب�أن ي�صلوا‬ ‫بدونه‪� .‬صلى اجلميع وعندها جاء �شريكو م�رسعا ف�أخرب اجلميع‬ ‫بان العمليه قد ف�شلت وال�سيارات رجعت‪ ..‬ازداد غ�ضب هذا‬ ‫ال�شيخ ال�شاب ثم عاد ادراجه ُلي�صلي‪.‬‬ ‫مدينة ـ وان ـ هي مدينة كبرية توجد فيها االمم املتحدة‬ ‫ولهذا فان اغلب الفارين من بالدهم ومن ال ت�ساعده االمكانية‬ ‫املاديه يلجئون اىل مدينة ـ وان ـ لنيل احلماية من االمم املتحدة‪..‬‬ ‫ولكن الدوريات تفرت�سهم حال اقتنا�صها الفر�صة املنا�سبة‪ .‬كنا‬ ‫يف حال ال ُيح�سد عليه حتى اخربنا �شريكو ان هناك �سيارة‬ ‫�ست�أخذنا اىل �ساحل البحر ومن هناك �سن�ستقل مراكب �صغرية‬ ‫اىل اجلهة الثانية من ال�شاطئ ومن ثم �سوف تنتظرنا �شاحنتان‬ ‫لتقالنا اىل ا�سطنبول ب�سالم‪.‬‬ ‫وفعال مت تنفيذ املخطط وو�صلنا اىل ال�شاطئ‪ ..‬ثم نقلتنا‬ ‫املراكب اىل اجلهة الثانية‪ ..‬كان اجلو خميف ًا جدا وتالطم االمواج‬ ‫يرفع املركب ثم ينزله بقوة على موجها الغا�ضب حتى اعتقدنا‬ ‫ب�أن موتنا قد اقرتب‪ .‬و�صلنا ال�ضفة االخرى رك�ضا بال توقف‬ ‫حتى �صعدنا تلة �صغرية تطل على �شارع ترابي حيث تنتظرنا‬ ‫‪158‬‬


‫�شاحنتان‪ ..‬تدافع اجلميع نحوهما ك�أنه يوم احل�رش‪ ..‬امتلأت‬ ‫ال�شاحنة وتلقت امرا بال�سري‪ ..‬كان ق�سم من اال�شخا�ص‬ ‫ملت�صقني مب�ؤخرة ال�شاحنة ولكنهم �رسعان ما وقعوا منها دون‬ ‫ان يلتفت احد اليهم او ينجدهم‪ ..‬اقرتبت ال�شاحنة الثانية‬ ‫رميت بثقلي لأدخلها ثم ارمتى علي االخرون حماولني الت�شبت‬ ‫بال�شاحنة واالحلقاق بالركب‪ ..‬مل نكن ن�ستطيع رفع ر�ؤو�سنا‬ ‫اىل اعلى‪ ..‬الن املهربني ق�سموا عربة ال�شاحنة اىل ن�صفني‪..‬‬ ‫الن�صف العلوي كد�ست فيه مواد منزلية قدمية لتمويه ال�رشطه‪،‬‬ ‫اما ا�سفلها فكان خمب أ� لنا حيث يف�صلنا �سقف خ�شبي‪.‬‬ ‫اماكننا �ضيقة جدا اما التبول فهو يف قنينة ماء نتداولها بيننا‬ ‫وقد ملئت بالبول من قبل ا�شخا�ص اخرين‪ ..‬كان بجانبي‬ ‫�شخ�ص كردي يجيد العربية ناولته القنينة وكدنا نح�س‬ ‫بحرارتها‪ ..‬اخذ القنينة وحاول التبول فيها فلم ي�ستطع رغم‬ ‫حاجته املا�سة لق�ضاء حاجته‪ .‬ارجعها ايل وقال يل �أن حالته‬ ‫النف�سيه م�ضطربة وال ي�ستطيع التبول‪� 3 .‬أيام يف الطريق نزلنا‬ ‫مرتني‪ ..‬يخبئوننا يف الزريبة كاملوا�شي بالإ�ضافة اىل ال�سب‬ ‫وال�شتم من قبل اكراد تركيا ـ املهربون ـ ‪..‬‬ ‫كلنا نت�ساءل متى �سن�صل؟ نعد ال�ساعات وال تنتهي اوقاتها‪..‬‬ ‫ثم �أخريا و�صلنا اىل ا�سطنبول مدينة الفن والدين التي مات‬ ‫الكثريون من اجل الو�صول اليها ومل ُيعرث على جثثهم‪.‬‬ ‫‪159‬‬


‫�أ�سطنبول مدينة االحالم‪:‬‬ ‫و�صلنا اىل منطقة حملة غازي التي اغلب �سكانها من الغجر‬ ‫والأكراد الكرماجن‪� ..‬أما ال�رشطه فهم مع اتفاق تام مع املهربني‬ ‫ب�إيواء اال�شخا�ص غري القانونيني هناك يف بيوت تُعد ملثل هذه‬ ‫االغرا�ض‪.‬‬ ‫�أيدن �شهرزوري من كبار املهربني �آنذاك‪ ..‬ذاع �صيته ثم‬ ‫تدنت �شعبيته بعد ‪ ..2003‬جاء ليتفقد احوال املوجودين‪..‬‬ ‫دفعت ما علي من ديون وخرجت من املنزل املزدحم‬ ‫باال�شخا�ص‪ ..‬كان يل �صديق هناك �ساعدين قليال ثم �أو�صاين‬ ‫بالعمل يف معمل احد اكراد تركيا‪ ،‬ومل يكن ي�شجعني ان اقيم‬ ‫يف منزل احد اال�شخا�ص الذي يدعى ـ نوزاد ـ وادعى بنف�س‬ ‫الوقت بانه �صديق حميم لأخي وزوج اختي لكي ي�سهل‬ ‫عملية ا�ستغاليل ماديا‪.‬‬ ‫تركيا جميلة حتى ار�صفتها وموانئها التي تطل على مناظر‬ ‫عجيبة تنقلك اىل عامل رومان�سي خمتلف‪ .‬ا�ضافة انني ع�شقت‬ ‫طرقاتها وحاناتها بل وحتى ن�ساءها‪ ..‬كنت اتخيل بحرها‬ ‫حبيبة عمري و�أمواجها هي خ�صلة �شعر املر�أة التي ر�سمتها يف‬ ‫داخلي فيالها من دولة خلق اهلل فيها كل �شيء جميال‪..‬‬ ‫علمت بعد حني ان ف�ؤاد وجمموعته قد القي القب�ض عليهم‬ ‫وهم االن يف العراق مع املهرب‪ ..‬بعد �شهور رجع ف�ؤاد بعد‬ ‫‪160‬‬


‫حماوالت عديدة اىل ا�سطنبول واخذ يعمل يف غ�سل ال�سيارات‬ ‫هم يف ا�ستغالله ماديا‪ ..‬كان ف�ؤاد حري�صا على‬ ‫مع نوزاد الذي َ‬ ‫اخفاء معلومات وجوده عني ولكنني ذهبت اليه وتفاج�أت‬ ‫بقلة ادبه معي وقال م�ستهزئ ًا‪ :‬اي حق تطلبه مني انا ال �أعرتف‬ ‫بهذه التفاهات وال اعرتف بالذي خلق احلق‪.‬‬ ‫ابت�سمت وقلت له‪:‬‬ ‫ـ �ستندم على ذلك‪ ..‬خذ الدين وال �أريده‪ ..‬لأنك �س ُتقبل‬ ‫يدي لرتجع ايل حقي‪.‬‬ ‫تركته وم�شيت‪ ..‬كنت املك حينها هوية �أ�صدرها يل‬ ‫احلزب الرتكماين يف ا�سطنبول وهذا ما �شجعني على ان اكيد‬ ‫له‪.‬‬ ‫توجهت اىل مركز ال�رشطة و�سجلت �شكوى ولكن ف�ؤاد‬ ‫قد اختفى حينما و�صل اليه اخلرب‪ ..‬تكلمت مع نوزاد ثم‬ ‫ت�شاجرنا ف�أجربين على �رضبه‪ ..‬هرب ف�ؤاد لأ�سابيع لكي ال‬ ‫ي�سدد دينه‪ ..‬ثم و�أخريا بلغني انه عاد‪ ..‬عندما التقيته يف بيت‬ ‫ايدن �شهرزوري وعلى الفور ام�سكته من خناقه وتدخل بع�ض‬ ‫اال�شخا�ص لكي ا�ساحمه‪ ..‬مل يكن مطلبهم من�صفا‪ ..‬فف�ؤاد‬ ‫مدين يل ويجب ان ا�ستعيد ديني ولو كان دوالرا واحدا‪..‬‬ ‫تو�سل ف�ؤاد بي ان اتركه و�ش�أنه ولكن ت�رصفه غري االخالقي‬ ‫جعلني ا�شدد من قب�ضتي على خناقه وا�ستعدت مايل منه بالقوه‬ ‫‪161‬‬


‫يف نهاية االمر‪� ..‬شاهدت اخليبة على وجهه فالرجولة حينها‬ ‫كانت بريئة منه‪.‬‬ ‫با�رشت العمل يف معمل البال�ستيك العائد الحد اكراد‬ ‫تركيا‪ ..‬يعمل فيه اي�ضا اكراد من العراق وال ُي�سمح لهم‬ ‫باخلروج �إال ‪ 6‬او ‪� 7‬ساعات فقط يوم االحد ـ عطلة اال�سبوع ـ‬ ‫‪ُ ..‬يعاملونهم معاملة �سيئة وك�أنهم ُ�سجناء‪ ..‬وجوههم ُم�صفّرة‬ ‫واملكان مليء بالقمل‪ ،‬مل امتالك نف�سي من رائحة االج�ساد‬ ‫وك�أنني بني اموات‪ ..‬ع�شت وعملت فرتة �شهرين‪ ،‬اما االجر‬ ‫فال �شيء‪ ..‬فكل ما نقب�ضه من راتب قدره ‪ 200‬دوالر و‪10‬‬ ‫ماليني لرية ا�سبوعي ًا ال يكفي ل�رشاء بنطال‪.‬‬ ‫ت�شاجرت مع احد العمال العراقيني ـ االكراد ـ لأنه حاول‬ ‫�رسقتي فنقلني �صاحب املعمل اىل معمله الثاين يف منطقة‬ ‫�سامنجالر يف ا�سطنبول‪ ..‬ا�شاد ب�أخالقي وكان �سعيدا بي‪..‬‬ ‫با�رشت العمل يف منطقة �سامنجالر حيث ق�ضيت ف�صل ال�شتاء‬ ‫هناك اىل ان القت ال�رشطة القب�ض علينا ولكنها اخلت �سبيلنا‬ ‫بالر�شوة ثم عادت والقت القب�ض علينا مرة اخرى وانذرت‬ ‫�صاحب املعمل بعدم تكرار ت�شغيلنا بدون اوراق ثانية‪ ..‬كان‬ ‫يل �صديق يف ايران ُيدعى عرفان ومل اتردد يف ان ات�صل به يف‬ ‫تركيا‪ ،‬لي�ساعدين يف ايجاد عمل يل‪ ..‬ق�ضيت ليلتني معه ثم‬ ‫وجدت عمال بالقرب منه يف معمل بال�ستيك‪ .‬وكم كانت‬ ‫‪162‬‬


‫�صدفة غريبة حنت قابلني �صديقي عدنان‪ ..‬يوم ال�سفر كنا على‬ ‫موعد ولكن ال�شجار رغم معرفتي الطويلة به مل ينته وكنا دائما‬ ‫متخا�صمني‪.‬‬ ‫قيا با�شي‪ ..‬ا�سم املنطقة التي اعمل بها‪ ..‬معمل كبري‬ ‫ل�صناعة االدوات البال�ستيكية يدعى ال بال�ستيك‪ ..‬عملت‬ ‫اكرث من �سنة ثم بعد وقت طويل اعلنت اليونان ب�أنها �ست�ستقبل‬ ‫كل الالجئني من جميع االطياف‪ ..‬مل �أتردد يف ان اقتن�ص هذه‬ ‫الفر�صه فدفع ‪ 100‬دوالر اح�سن من دفع ‪� 3‬آالف دوالر‬ ‫وهذا الظرف ال يعو�ض ابدا‪.‬‬ ‫اخربت عدنان بذلك و�أو�صيته ب�أن اترك معه تلفوين مع‬ ‫ال�رشيحة وان يتوا�صل مع اختي‪ ..‬كنت احفظ رقمي ولذلك‬ ‫مل اكن قلقا من عدنان فهو امني جدا على مال غريه وكنت‬ ‫مطمئن ًا من ناحيته‪.‬‬

‫الطريق اىل اليونان‪:‬‬ ‫ها �أنا اخو�ض جتربة جديدة‪ ..‬بلد ال �أتقن لغته البتة‪..‬‬ ‫فالرتكية والفار�سية والكردية اتقنتها‪ ..‬فكيف �س�أحفظ لغة‬ ‫�سقراط؟ اتفقت مع املهرب ان ارافق املجموعة يف الرحلة لقاء‬ ‫‪ 150‬دوالر‪ ..‬ال ميكن الوثوق باملهرب ابدا‪ ..‬فهم انا�س من‬ ‫عامل �آخر ال رحمة لديهم يعبدون الدوالر وال يهمهم م�صري‬ ‫‪163‬‬


‫املر�أه او الطفل والرجل‪..‬‬ ‫طريق اليونان اخلطري �شهد ق�ص�ص ًا طويلة وحزينة‪ ..‬كانت‬ ‫الن�ساء �ضحايا التهريب‪ ..‬فاملر�أة ترافق زوجها م�شيا لأ�سابيع‬ ‫من تركيا وعرب الطرق الربية اخلطرية اىل اليونان‪ ..‬اما املهرب‬ ‫فهمه اغت�صاب امر�أة وال يهم من تكون وما هي حالتها‪ ..‬يتفق‬ ‫مع �رشيكه لي�شغل زوجها ثم يرتكه يف الربية لوحده وينفرد‬ ‫بزوجته حتى اثينا‪ ..‬املر�أة اما ان ُي�رشدوها او تكون ع�شيقة‬ ‫املهرب وبالإكراه‪.‬‬ ‫هكذا كانت حالة العوائل يف مثل هذه االوقات ال�صعبة‪..‬‬ ‫ال يرحمون ال�ضعيف وعليك ان تقاتل حتى املوت‪ ..‬وهذا‬ ‫املوقف كاد ان يحدث يل يف رحلتي الثانية اىل اليونان‪.‬‬ ‫رجعت اىل معمل البال�ستيك الرى من يريد ال�سفر من‬ ‫العراقيني االكراد املتواجدين يف املعمل‪ ..‬احدهم يدعى‬ ‫برهان طلب مني ان ا�ساعده ب‪ 50‬دوالر مل اتردد ووعدته‬ ‫ب�أن ا�ساعده‪ .‬اتفقنا مع املهرب على تاريخ ال�سفر ثم توجهنا‬ ‫ب�سيارة تاك�سي اىل بيت قدمي وانتظرنا قرابة �ساعتني‪� ..‬سمعنا‬ ‫�صوت �سيارتني نوع دومل�ش –فانـ وكان املهربون يتكلمون‬ ‫الرتكمانية العراقية‪ ..‬مل ارتاح وكنت على و�شك ان اتركهم لوال‬ ‫�صديقي ـ برهان ـ طلب مني وبكل احلاح البقاء معه‪ ..‬اخربته‬ ‫ان اتراك العراق ال وعود لهم‪ ..‬و�إنهم غري قادرين على اي�صالنا‬ ‫‪164‬‬


‫اىل اليونان فهم فقط كالم ال افعال‪ .‬رف�ض برهان ان ي�سمعني‬ ‫ثم ا�ضطررت ان اجرب هذه املرة واخرج معهم‪ .‬نقلونا يف‬ ‫ال�سيارات وكنت مت�أكدا ان رحلتنا �ستف�شل‪ .‬يف الطريق بد�أ‬ ‫املهربون بال�رصاخ والعويل عندما اختلفوا على امر اجهل ما‬ ‫هو بال�ضبط‪ ..‬ثم ارتبكوا عندما �شاهدوا دوريات ال�رشطة‬ ‫الرتكية متر بجانبهم‪ ..‬ون�رشوا دعاية بيننا ب�أنهم ُمراقبون وهذه‬ ‫الدوريات هي قد اتت لتقب�ض عليهم‪ ..‬مل يرق يل ما كانوا عليه‬ ‫من خوف‪ ..‬فا�ضطررت ان احر�ض املجموعة على ال�ضغط‬ ‫عليهم ب�إرجاعنا من حيث اتينا‪.‬‬ ‫املهرب كعادته اكد انه العلم له مبا حدث وبد�أ يربر و ُيف�رس‬ ‫ان ما حدث ما هي �إال �أخطاء حتدث يف الطريق ولكن لي�س‬ ‫دائما وطبعا يتظاهر ب�أنه ال�ضحية �أي�ضا‪.‬‬ ‫مل ا�صدق تفاهاته ولكني مرغم على �سماعه طبعا‪ ..‬فلو‬ ‫كان املهرب نوراً على نور ف�أنه �سيظل �ساف ً‬ ‫ال‪ .‬يف ليلة هادئة‬ ‫من احدى الليايل املقمرة نقلتنا �سيارات الدومل�ش اىل احلدود‬ ‫الرتكية بهدوء كبري‪ ..‬املكان كان �ضيقا و�أ�صوات ال�شتم وال�سب‬ ‫مل تفارق افواه من معنا فالكل كامت على اع�صابه من �شدة احلر‬ ‫واخلوف‪ .‬و�صلنا احلدود الرتكية اليونانية‪� 4 ..‬ساعات تف�صلنا‬ ‫عن النهر الكبري بني تركيا واليونان‪ ..‬نزلنا ولكن ال يجب ان‬ ‫نخطئ و�إال فال�رضب املربح من قبل ـ خالد ـ املهرب و�أعوانه‬ ‫‪165‬‬


‫�سيطرز وجوهنا و�أج�سادنا‪ .‬نحن مغلوبون على امرنا يف هذه‬ ‫اللحظة لأننا ل�سنا ملك انف�سنا بل �سلعة ميلكها املهربون‪..‬‬ ‫يحافظون علينا او يتخل�صون منا ب�سهولة‪ .‬مت�شينا يف احلقول‬ ‫ومن بعيد توارت لنا ا�ضواء اجلانب اليوناين وك�أنها م�صابيح‬ ‫مزروعة على التالل‪ .‬و�صلنا غابة خميفة ومظلمة‪ ..‬اجذاع‬ ‫اال�شجار ت�صطدم بها اقدامنا نتعرث تارة ونقع تارة‪ ..‬النرى‬ ‫غري اخلوف الذي يقودنا اىل مغامرة جمهولة‪.‬‬

‫الغرق املُحتم ومالئكة الرحمة‪:‬‬ ‫اهلل امل�ستعان الآن‪ ..‬ما اقبح ان يكون الكابو�س حقيقة‪..‬‬ ‫و�صلنا اىل النهر‪ ..‬ثم التفت املهرب الينا وطلب منا ان نعرب‬ ‫النهر اىل جهة الياب�سة التي نراها بالكاد من حلكة الظالم‪.‬‬ ‫الغريب ان عوائل كردية وتركمانية �شاركتنا الرحلة‪ ..‬بل‬ ‫انها ان�ضمت الينا فج�أة حلظة و�صولنا احلدود ومل نح�س بهذا‬ ‫االن�ضمام ومل نعلم كيف دجمهم املهربون معنا رغم اننا كنا فقط‬ ‫من الذكور‪ ..‬عندما و�صلنا اىل النهر بد�أت الن�ساء بالرثثرة‬ ‫الفارغة‪ ..‬لقد دفعت كل عائلة �أكرث من ‪� 10‬آالف دوالر‬ ‫ودمج املهرب االفراد مع الت�شكيلة الرخي�صة‪ ..‬الهم يعرفون‬ ‫كم دفعنا وال نحن كنا نعرف كم دفعوا‪ ،‬بل كل فرد كان يظن‬ ‫ب�أننا دفعنا نف�س املبلغ‪ ،‬هذه هي �سيا�سة التهريب الوقحة يف‬ ‫‪166‬‬


‫كل االوقات‪ .‬و�صلنا اىل ار�ض ياب�سة بعد ان اكملنا العبور ثم‬ ‫�سمعنا �صوت املهرب يقول لنا‪:‬‬ ‫ـ مبجرد و�صولكم الياب�سة اجتهوا ميينا ثم خذوا جهة الي�سار‬ ‫�ستقابلون مركز �رشطة‪ ..‬هناك �سي�ستقبلونكم كالجئني‪،‬‬ ‫وهكذا امتمت عليكم �ضمانة و�صولكم‪.‬‬ ‫فعال و�صلنا الياب�سة وحاولنا �سماع كالم املهرب يف ت�سليم‬ ‫انف�سنا ولكن؟‬ ‫نحن يف جزيرة حمرمه ال يدخلها احد‪ ..‬الهي تركية والهي‬ ‫يونانيه تركنا املهربون فجاه بعد ان اذاقونا طعم الطعم‪...‬‬ ‫اطراف الياب�سة االربعة يحتلها نهر جاري قوي‪ ..‬ال يتحداه‬ ‫ال�سباح املاهر �إال مبعجزة قد ينجو او يغرق‪ ...‬الوقت الثالثه‬ ‫�صباحا‪ ..‬بد�أ اجلميع باال�ضطراب‪ ..‬ارقام هواتف املهربني‬ ‫كلها مغلقة‪ ..‬واال�ستنجاد ال ينفع‪ ..‬ا�صوات طلقات نار من‬ ‫اجلانب الرتكي و�صوت النهر القوي كلها كانت �سببا يف خلق‬ ‫الرعب يف قلوبنا‪� ..‬صديقي ـ برهان ـ و�شخ�ص �آخر ا�رصا على‬ ‫ان يقطعا اىل ال�ضفة الثانية‪ ..‬وفعال و�صال بعد جهد كبري‪..‬‬ ‫كنا ن�سمع ا�ستنجادهما ببع�ضهما البع�ض ظنا من اجلميع انهما‬ ‫�سيغرقان ولكن جنحا يف العبور‪ .‬حل الفجر وبد�أ كل �شيء‬ ‫يت�ضح لنا‪ ..‬املهرب تركنا يف مكان ال ي�صله احد‪ ..‬ولذلك‬ ‫قررت عائله كرديه من العبور ب�صناعة قارب بدائي من احزمة‬ ‫‪167‬‬


‫البناطيل وغطاء الر�أ�س الن�سائي ـ احلجاب ـ ‪ ..‬احلقيقة انني مل‬ ‫ا�شارك بحزامي الن بنطايل كان مبتال وكنت ب�أ�شد احلاجة اىل‬ ‫احلزام‪.‬‬ ‫مغامرة �صعبة فعال‪ ..‬عائلة �ستعرب اىل ال�ضفة االخرى‬ ‫وجمرى املاء قوي يقودك اىل دوامة غا�ضبة يف جانب اجلرف‬ ‫املحاذي لليونان‪ .‬ولو ف�شلت العائله بالعبور ف�سيطفئون �آخر‬ ‫ال�شموع يف هذا النهر املخيف‪ ..‬مت اكمال عمل القارب من‬ ‫جذع اال�شجار وربطها ب�إحكام‪ ..‬جربها رجالن وعربا ب�سالم‬ ‫بعد مقاومه طويلة مع املوج‪ ..‬احدهم انتظر يف الطرف الثاين‬ ‫بعد ان �صنعا حبال طويال من القم�صان والبناطيل كان طوله‬ ‫اكرث من ‪ 20‬مرتا‪ُ ..‬ربطت مقدمتها يف جذع �شجرة ثم اخذ‬ ‫الرجل الثاين على عاتقه ربط الطرف االخر للحبل بالقارب‬ ‫وعاد اىل جهتنا‪ ...‬كانوا يعملون بكل جدية على اي�صال‬ ‫العائلة اىل اجلهة الثانيه‪ ..‬ال�شباب كانوا ي�سبحون بحما�س‬ ‫ويتفانون ل�ضمان �سالمة االطفال والن�ساء‪ ..‬هم وعودنا ان‬ ‫ي�ساعدونا بعد هذه العملية وكلنا كنا ننتظر االيفاء بكلمتهم‬ ‫بكل نفاد �صرب‪...‬‬ ‫ا�ستغرقت العملية اكرث من ‪� 3‬ساعات‪ ...‬و�صل اجلميع‬ ‫ب�سالم‪ ..‬وعليهم االن ان يفوا بوعدهم ولكن؟‬ ‫احدهم قام بتفكيك القارب خفية ثم تظاهر ب�أنه يرميه‬ ‫‪168‬‬


‫اىل جهتنا ولكن ما ان ارتطم على �سطح النهر حتى تفكك‬ ‫و�ضاعت االجزاء بني امواج النهر‪ ..‬اما البكاء و�رصخات‬ ‫الن�ساء فلم تتوقف‪.‬‬ ‫طبيعة النهر هي كالآتي ـ اجلانب الرتكي ي�صل م�ستوى‬ ‫النهر اىل مدى الركبة‪ ..‬ولو ا�ستمريت يف امل�شي داخل النهر‬ ‫اىل اجلانب اليوناين لو�صل م�ستوى النهر اىل م�ستوى الر�أ�س ثم‬ ‫يزداد عمقا اىل اكرث من ‪ 20‬مرتا‪ ..‬يجرفك التيار قويا وبعيدا‬ ‫ورمبا تكون من ح�صة الدوامة التي ال تبعد كثريا عن الياب�سة‬ ‫اليونانية‪ ..‬طبيعة غريبة وخطرية يف نف�س الوقت‪ ..‬بع�ضنا االن‬ ‫يقفون يف منت�صف النهر‪ ..‬الن�ساء والأطفال وبع�ض ال�شباب‬ ‫دب الي�أ�س فينا‪..‬‬ ‫يقفون على الياب�سة يرتقبون م�صريهم‪ّ ..‬‬ ‫ر�أينا جذع �شجرة كبريه قادمة من بعيد اردت ان ام�سكها‬ ‫وا�ستخدمها كقارب اال انني مل ا�ستطع االم�ساك بها ل�شدة‬ ‫�رسعتها يف االجنراف مع التيار‪ ..‬ولكنها تبقت طافية وت�سع‬ ‫ل ‪ 5‬ا�شخا�ص‪ ..‬خاف احدهم من جلب اجلذع لنا فرتكها متر‬ ‫رغم �صيحاتنا له بجلبها ولكن اخلوف �سبق �شجاعته‪.‬‬ ‫حل منت�صف النهار‪ ..‬كل من و�صل اجلانب اليوناين‬ ‫ي�ستلقي ب�أمان تام حتت ا�شعة ال�شم�س والن�ساء مي�شطن وي�رسحن‬ ‫�شعرهن‪ ..‬اما نحن يف الطرف الرتكي فننظر بكل دمار اع�صاب‬ ‫اليهم وعيوننا تدمع‪ ..‬نخاف ان تطولنا ايادي رجال ال�رشطة‬ ‫‪169‬‬


‫الرتكية وتعيدنا اىل العراق‪ ...‬اما انا فاحلكم بالإعدام علي‬ ‫�سيكون حتميا وم�ؤكدا‪ ..‬كنت غارقا يف التفكري‪� ..‬سارح يف‬ ‫طبيعة االر�ض اليونانية التي اراها امامي لأنه من امل�ستحيل ان‬ ‫ا�ست�سلم ملوت ينتظرين يف بلدي‪ ..‬ثم قررت �أن‪...‬‬ ‫قمت على الفور وبيدي كي�س �صغري ا�ضع فيه بع�ض امتعة‬ ‫الرحلة‪ ..‬واجتهت اىل و�سط النهر م�صمما على ان اعرب رغم‬ ‫انني اعجز عن ال�سباحة‪ ...‬انتبه اجلميع اىل ما اقوم به‪ ..‬قام من‬ ‫قام مدهو�شا مبا افعله من حماقة لأنهم يعلمون انني ال اجيد‬ ‫العوم‪ ..‬حتى الن�ساء يف اجلانب اليوناين ملا �شاهدن ما اقوم به‬ ‫بد�أن ي�رصخن على الفور واجلميع يحاول منعي وين�صحونني‬ ‫بالرجوع‪ ..‬ثم ازداد ال�رصاخ‪ ..‬مل اهتم وتوجهت لأقطع التيار‬ ‫النهري‪ ..‬واما ان اقهره واما ان يقهرين فالأمر مل يعد يفرق‬ ‫عندي‪...‬‬ ‫ازداد املاء باالرتفاع من الركبة اىل الرقبة كلما تقدمت يف‬ ‫قطع �شوط العبور‪� ..‬أنتظر معجزة تنقذين‪ ..‬الكل فقد ال�سيطرة‬ ‫على اع�صابه ف�أمامهم م�شهد �شخ�ص �سيغرق‪ ..‬الرجال‬ ‫يتخبطون مينة وي�رسة يحاولون ان يجدوا جذعا لينقذوين‬ ‫والن�ساء يلطمن‪ ..‬اما انا فغط�ست‪.‬‬ ‫رفعني املوج مرتني اىل الأعلى‪ ..‬يف املرة االوىل عندما‬ ‫رفعني النهر من القاع ر�أيت ن�ساء يلطمن على الر�ؤو�س ويدفعن‬ ‫‪170‬‬


‫بالرجال اىل اخراجي‪ ..‬ثم غط�ست‪ ..‬ويف املرة الثانية عندما‬ ‫ُطفت على �سطح النهر ر�أيت اثنني قد اح�رضا جذع �شجرة مل‬ ‫يكن طوي ً‬ ‫ال جدا املآ منهم ان يتلقفني اجلذع ولكن؟‪.‬‬ ‫حمال ان ا�صل اجلذع‪ ..‬اجلذع بعيد جدا عني وانا ادور‬ ‫يف املوج وبيني وبني الدوامة ما هي �إال ب�ضعة امتار و�أغو�ص‬ ‫يف اعماقها‪ ..‬عمق النهر يكفي ب�أن �أقطع االمل من النجاة‪.‬‬ ‫غط�ست‪ ..‬ومل اح�س ب�شيء‪ ..‬غري املوت الذي تف�صلني عنه‬ ‫ثوان ف�أنا االن يف عداد االموات‪ ..‬فج�أة تلك املعجزة الربانية‬ ‫حدثت‪ ..‬فتحت عيني يف القاع من غري ان اعلم كيف ولكنني‬ ‫خيل يل ب�أن نورا قد �سطع �ضيا�ؤه امامي‬ ‫ا�شعر مبا يحدث‪ ..‬ثم ّ‬ ‫واكاد ان اح�س به‪ُ ..‬رفعت اىل الأعلى تلقائيا ثم وجهتني قوة‬ ‫دفع مل اعلم م�صدرها اىل ناحية اجلذع البعيدة عني مب�سافة‬ ‫والتي ال يعقلها العقل للو�صول اىل جذع بعيد ومن ثم لتطوله‬ ‫يدي ب�سهوله بالغة وتنتهي م�أ�ساتي على يد �شخ�صني �سحباين‬ ‫عن طريق اجلذع اىل الياب�سة‪.‬‬ ‫ـ معجزة‪ ..‬معجزة‪ ..‬ـ �صاحوا ـ ثم وا�صل احدهم‪:‬‬ ‫ـ لقد غط�ست طويال ومل نكن نعقل ان ت�صل اجلذع لطول‬ ‫امل�سافة ولكن هاج�س ما بداخلنا جعلنا ن�ستمر يف امل�ساعدة‪..‬‬ ‫كيف جتر�ؤ على فعل مثل هذه الفعلة؟ انظر اىل من حولك‬ ‫كيف يبدون‪.‬‬ ‫‪171‬‬


‫منظر مرعب مر�سوم على وجه كل �شخ�ص‪ ،‬الذهول‬ ‫واخلوف معا‪ ..‬فتحت عيني ب�صعوبة‪ ..‬تال�شت ال�صور امامي‬ ‫ثم اغمي علي جمددا‪.‬‬

‫‪ 40‬يوما يف الكمب اليوناين‪:‬‬

‫جاءت دورية يونانية على الفور لتلقي القب�ض علينا‪..‬‬ ‫ا�ستنجدت العوائل العالقة يف املنطقه املحرمة بالدورية ولكن‬ ‫االخرية كانت عاجزة عن انقاذها‪ ..‬اخذونا فيما بعد اىل مركز‬ ‫ال�رشطة اليوناين وكانت معاملتهم غري م�ؤدبة فهم ينعتوننا ب‬ ‫(مو�سل)‪ ..‬اي م�سلم‪ ..‬عندما يغ�ضبون علينا يدعوننا ب ايها‬ ‫املو�سل الغبي �س�أ�رضبك ان مل تتوقف عن‪..‬‬ ‫فح�صونا يف املركز الطبي اوال ثم اخذونا اىل الكمب‬ ‫ب�سيارات ع�سكرية‪ ..‬اما العائلة التي بقيت وراءنا فقد مت‬ ‫انقاذها وبح�ضور التلفزيون واالعالم الغربي كمحاولة‬ ‫بالإ�شادة بالدور اليوناين االن�ساين ـ دعاية مغفلة ـ ‪ ..‬الكمب‬ ‫كان خمزن ًا للحبوب‪ ..‬وكان الكمب ي�شمل كل االجنا�س وكل‬ ‫�صنف عربي‪ ..‬وكل من ي�أتي من العرب يقول ب�أنه عراقي لكي‬ ‫احلمامات فهي بدائيه جدا م�صنوعة‬ ‫ي�ضمن حق اللجوء‪ ..‬اما ّ‬ ‫من ال�صفائح املعدنية وكنت ت�ستطيع ان ترى ب�سهوله طابورا‬ ‫طويال لالجئني من �أجل ق�ضاء احلاجة او حتى اال�ستحمام‪.‬‬ ‫‪172‬‬


‫الفرح عم كل العراقيني وحتى اجلن�سيات الباقية‪ ..‬فها‬ ‫هم قد حققوا حلمهم بالو�صول اىل اوروبا وب�أ�سعار زهيدة‬ ‫و�آخرون حالفهم احلظ وو�صل بال مقابل‪ّ .‬اما انا ف�سعادتي ال‬ ‫تقل عنهم‪ ..‬انا االن يف االمان ال خطر من الرجوع‪ ..‬ال مزيد‬ ‫من الكوابي�س ورغم انني فقدت حذائي يف النهر وقدماي‬ ‫متزقتا من اال�شواك واحل�صى‪ ..‬اال انني اجول وا�رسح وامرح‬ ‫دون ان اعري اهتماما لقدمي العاريتني فاحلريه ان�ستني جروح‬ ‫قدمي‪..‬‬ ‫كنت اكافئ من انقذوين كل يوم بعلب �سجائر‪ ..‬مل يرق‬ ‫لهم ما �أفعله فهم قاموا بواجبهم كرجال‪ ..‬كانوا ظرفاء معي‬ ‫و�سعداء على بقائي حيا ارزق بعد فرته �شاهدت �شخ�صا ي�شبه‬ ‫ـ احمد الفيلي ـ الذي كان يف ع�صابة بيع الكلى فلم اتردد‬ ‫من ان اقرتب منه و�أ�صيح بوجهه ـ يا �سارق الكلى‪ ..‬تفاج�أ‬ ‫وبد أ� يعاملني بلطف ومتلق غري عاديني‪ ..‬تبني بعدها انه قد باع‬ ‫كليته وبثمن اع�ضائه و�صل اىل اليونان‪ ..‬كانت حالته مزرية‪..‬‬ ‫انتفاخ ثم امل ثم اىل امل�ست�شفى اليوناين‪ .‬تركته و�ش�أنه اذ انه االن‬ ‫�شبه حي وال فائدة من ت�أنيب ميت‪ .‬بعد فرتة قامت جمموعة‬ ‫من ال�شباب العراقي مبظاهرة كبرية يف الكمب ب�سبب ت�أخري‬ ‫ترحيلنا اىل اثينا‪ ..‬و�أعمال �شغب تركمان وعرب العراق‬ ‫اثرت علينا �سلبا‪ ..‬ولكنها يف حقيقة االمر مل جتد نفعا‪ ،‬فقد‬ ‫ا�ستمر احلال على ماهو عليه بل مت �رضب كل من �شارك يف‬ ‫‪173‬‬


‫عملية ال�شغب التي اندلعت فج�أة‪.‬‬ ‫ق�ضينا اكرث من �شهر وكل يوم كانت هناك حافالت ع�سكرية‬ ‫تقل وجبات الالجئني اىل اثينا‪ ..‬وكنا على احر من اجلمر‬ ‫ليحني دورنا اي�ضا‪ ..‬بعد �شهر جاءت �سيارة م�صفحة لتقلنا‬ ‫اىل اثينا ح�سب ادعائهم‪ ..‬فرحنا بذلك الأمر جدا‪ ..‬مل ت�سعني‬ ‫الفرحة عندما نادوا ب�أ�سمائنا‪ ..‬انطلقت ال�سيارة امل�صفحة مع‬ ‫عدد من ال�سيارات امل�صفحة حتمل عوائل كثرية من �ضمنهم‬ ‫العائله التي كانت معنا ثم انطلقت بنا‪ ..‬ولكن �أىل �أين؟‬

‫تركيا ترحب بنا‪:‬‬ ‫يف الطريق كان اجلميع يت�سامرون فرحني بنهاية امل�أ�ساة‪..‬‬ ‫مل افارق ال�شباك ال�صغري كنت ارتقب الطريق ال�رسيع الذي‬ ‫�سيقودنا اىل اثينا ثم فج�أه �رصخت م�صدوما‪:‬‬ ‫ـ يا الهي تركيا‪ ..‬القطعة على الطريق مكتوب عليها اننا‬ ‫نتوجه اىل تركيا‪.‬‬ ‫قام اجلميع مذعورين غري م�صدقني‪:‬‬ ‫ـ هيا ال تكن بهذه ال�سذاجة تركيا ا�صبح م�ستحيال ب�أن نعود‬ ‫اليها‪ ..‬نحن يف حماية االمم املتحدة هنا اوروبا يا �صاح‪.‬‬ ‫ثم قام احد اكراد العراق ي�سخر مني ف�أ�ستطرد قائال‪:‬‬ ‫‪174‬‬


‫ـ حبيبي تركيا باالنكليزي يعني ـ اخلط ال�رسيع ـ و�أنت ايها‬ ‫العربي دائما ثقافتكم حمدودة‪.‬‬ ‫�سخر اجلميع مني وكانوا كلهم اكراد‪ ..‬مل ي�صدقني احد‬ ‫ثم جل�س اجلميع بعد ان افزعتهم بكلمة تركيا‪ .‬مل ا�صدق ما‬ ‫�سمعت من هذا الغبي ف�أنا اعرف كيف تُكتب تركيا باالجنليزية‬ ‫ولي�ست كما يقول االخ الكردي‪ .‬بعد منت�صف الظهر وقفت‬ ‫امل�صفحة واحلافلة يف نقطة تفتي�ش وكان وا�ضحا ب�أنه معرب‬ ‫حدودي‪ ..‬ج�رس �صغري يربط بالطرف الرتكي ولكنهم اخفوا‬ ‫ملحت‬ ‫ذلك ب�إيقاف ال�سيارات بطريقه حتجب عنا الر�ؤية‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫اجل�رس االزرق الذي ميثل علم اليونان اما الن�صف الثاين فكان‬ ‫احمر اي ميثل العلم الرتكي‪ ..‬نبهت الباقني وامل�صيبة انهم‬ ‫اتهموين بالتخريف وغ�ضبوا مني ثم قال احدهم‪:‬‬ ‫ـ متى �ستتحرك ال�سيارة فلقد ا�شتقت لر�ؤية اثينا‪ ..‬ه�ؤالء‬ ‫يحاربوننا نف�سيا لكي ينالوا من �شهيتنا لر�ؤية بالد االغريق‪..‬‬ ‫تخاريفي ا�صبحت حقيقة‪ ،‬فرجال ال�رشطه الرتكي’ توافدوا‬ ‫من احلدود اىل االرا�ضي اليونانية ب�سياراتهم لكي ي�أخذونا اىل‬ ‫جانبهم ف�صحت‪:‬‬ ‫ـ تف�ضلوا يا ايها ال�سادة ال�رشطة الرتكية جاءت ال�ستقبالكم‬ ‫على اخلط الرتكي ال�رسيع‪ ..‬ـ ثم �ضحكت باكيا يائ�سا فجل�ست‬ ‫على ركبتي يائ�سا‪.‬‬ ‫‪175‬‬


‫تدافع اجلمع ليت�أكدوا من �صحة كالمي بل حتى بكى‬ ‫بع�ضهم وندب حظه‪ ..‬جن جنونهم وبد�أوا ي�رضبون على‬ ‫جدران امل�صفحة احتجاجا على ما يح�صل ثم‪ ..‬تعالت‬ ‫ا�صوات البكاء والنجدة ولكن دون جدوى وتنبه ال�سجناء‬ ‫يف امل�صفحات الباقية ثم بد�أت اال�صوات تتزايد من �شدة‬ ‫اخلوف‪ ..‬انتبه رجال ال�رشطة ثم تقدموا بالع�صي باجتاهنا‬ ‫وبد�أوا يهددونا بال�رضب بل واخرجوا ق�سما من ال�سجناء وبد�أ‬ ‫وابل ال�رضب ينزل على جلودهم دون رحمة‪ ..‬مل ي�أبه احد‬ ‫بهم ف�أزداد ال�رضب على جدران امل�صفحة ا�ضافة اىل ا�صوات‬ ‫الن�ساء التي مل تتوقف‪.‬‬ ‫بعد �ساعات من تبادل ال�رشطه الرتكية واليونانية لبع�ض‬ ‫االوراق‪ ..‬ح�رض �رشطي تركي بدين وفتح علينا الباب ثم �صاح‬ ‫علينا بغ�ضب‪:‬‬ ‫ـ هيا انزلوا اوروبا ترحب بكم‪ .‬ـ �ضحك �ضحكه كادت‬ ‫ان متزق طبول اذاننا ـ ‪.‬‬ ‫جمموعة رف�ضت النزول وطالبت بح�ضور م�س�ؤويل حقوق‬ ‫االن�سان؟ اال ان ال�رشطي اخذ ع�صاه الغليظة فقال‪:‬‬ ‫ـ ال�ضري من ذلك فانا احب ال�رضب كثريا ابقوا و�س�أ�صعد‬ ‫اليكم يا �أحبائي‪.‬‬ ‫ت�سابقنا بالنزول خوفا‪ ..‬كانوا يرتاك�ضون نحو الباب‬ ‫‪176‬‬


‫لينفذوا بجلودهم‪ ..‬يتحقق من �أ�سمائهم في�أذن لهم بالنزول‬ ‫وركوب احلافلة الرتكية التي تنتظرنا‪ ..‬حتقق من ا�سمي ف�أجبته‪:‬‬ ‫ـ علي ر�ضا من ايران‪.‬‬ ‫ـ ولكن ا�سمك غري موجود؟ غري مهم �س�أحل امل�شكله هيا‬ ‫انزل‪.‬‬ ‫نزلت من امل�صفحة‪ ..‬كانت حافلة تركية بانتظارنا لتنقلنا‬ ‫اىل حمافظه تركية حدودية يكرث فيها غجر تركيا ال يح�رضين‬ ‫ا�سمها‪..‬‬ ‫يف ذلك الوقت املُغرب قام االحتاد االوروبي بتكفل م�صاريف‬ ‫الت�سفري وخ�ص�صت مبالغ لذلك مب�ساعدة تركيا‪ ،‬وكنا نحن‬ ‫احدى الوجبات التي َ�سفرت حينها‪ ..‬ولكن باقي الالجئني‬ ‫يف الكمب فكان م�صريهم اثينا‪ .‬وبهذه اخلطة طويت اول‬ ‫�صفحه من �صفحات خمططي للتوجه اىل اوروبا‪.‬‬

‫تركيا ـ ايران ـ احلدود الرو�سية بانتظارنا‪:‬‬ ‫توجهت احلافلة بنا اىل احدى املحافظات احلدودية اجلميلة‬ ‫يف تركيا‪ ..‬يف الطريق بد�أت العائله التي انقذتني من الغرق‬ ‫والتي ا�ستقلت معنا احلافلة يف توجيه ا�سئلة لكل الراكبني وعن‬ ‫املبالغ التي ُدفعت للو�صول اىل اليونان‪ ..‬عن نف�سي اخربتهم‬ ‫‪177‬‬


‫انني دفعت ‪ 150‬دوالر فبهر احدهم ويدعى (عثمان) وهو‬ ‫الذي انقذين من املوت‪ ..‬فقال لنا ب�أنهم دفعوا اكرث من ع�رشة‬ ‫�آالف دوالر لكل عائله او اكرث‪ ..‬انك�شفت االمور لنا ليت�ضح‬ ‫فارق املبالغ التي مت دفعها وخلط املهربني للعوائل ممن دفعوا‬ ‫االلآف معنا‪.‬‬ ‫و�صلنا اىل مركز ال�رشطة الرتكية احتجزونا يف �ساحة املركز‬ ‫وذلك ل�صغر م�ساحة ال�سجن‪ ..‬ثم امرونا بالهدوء اىل ان يحني‬ ‫موعد املحكمة‪ ..‬اما يف امل�ساء فقاموا بالتقاط �صورنا وحتديد‬ ‫ا�شارة خلف ال�صورة ب�أ�سمائنا لت�سهيل التعداد اليومي لنا‪..‬‬ ‫ا�صبحنا فري�سة �سهلة للبعو�ض مما اخذت على عاتقي باالنتقام‬ ‫من كل بعو�ضة �أراها مليئة بالدم‪ ..‬وكنت �أعده انت�صارا يل‬ ‫قتلي ب�ضع ًا منها‪ ..‬حتى اتت �سيارة الر�ش التي خل�صتنا منها‪..‬‬ ‫الغجريات اجلميالت ميلأن املكان ويطرزن مفارق الطرقات‬ ‫ب�ألوان الف�ساتني املزرك�شة وك�أنهن قطع حلوى تناثرن يف‬ ‫ال�شارع ال�شعبي‪.‬‬ ‫ابو زهراء رجل عراقي برفقة زوجته االيرانية اال�صل‬ ‫وابنتيهما احداهما ر�ضيعة والثانية زهراء عمرها اقل من �سنتني‬ ‫مرحة وذكية تلهو بال خوف يف �ساحة املركز‪ ....‬مل ابخل‬ ‫عليهم يف �شيء وكنت ا�ساعدهم حينما يطلب مني الرجل اي‬ ‫�شيء‪ ..‬ابو زهراء كان لطيفا معي ولكنه يحر�ص كثريا على ان‬ ‫‪178‬‬


‫ال يزعج زوجته‪ ..‬زمام االمور كلها كانت بيدها‪ ..‬ا�ستطيع ان‬ ‫اميز خوفه منها وك�أنها متلك م�صري حياته بيدها‪..‬‬ ‫مازلت ال املك حذاء فقدماي فقدتا االح�سا�س‪..‬‬ ‫فم�شكلتي االن انني عزمت على الهروب مع �شخ�ص اخر‬ ‫ولكن يجب علي ان ادبر ما انتعله لكي اطفئ �شكوك املواطنني‬ ‫ممن �س�أالقيهم يف الطريق‪.‬‬ ‫يف م�ساء اليوم التايل بد أ� حتقيق روتيني معنا وحان دوري‬ ‫لأدخل‪ ..‬جل�ست مع ال�رشطي وكنت احاول ان جلب انتباهه‬ ‫حتى يخلي �سبيلي بالر�شوة‪ ..‬وكان كلما ي�س�ألني عن �شيء‬ ‫يخ�ص الق�ضية ملّحت له ب�أنني املك ما ًال ادفعه له ويرتكني‬ ‫ُحرا‪.‬‬ ‫ـ من اي بلد انت؟‬ ‫�أجبته‪:‬‬ ‫ـ عندي مبلغ جيد من املال �س�أهديه لك على ان تخلي‬ ‫�سبيلي‪..‬‬ ‫غ�ضب ال�رشطي املحقق ولكنه كرر ال�س�ؤال‪:‬‬ ‫ـ من اي بلد انت؟‬ ‫ـ ايراين‪..‬‬ ‫ـ وكم عمرك؟‬ ‫‪179‬‬


‫ـ ا�ستطيع ان اعطيك ‪ 500‬دوالر و�أكون حرا‪.‬‬ ‫ـ انا ال اخذ ر�شوة‪ ..‬اجبني على عدد ا�سئلتي فقط ـ قالها‬ ‫بع�صبية قليال ـ ‪ ..‬لقد دمرت يل اع�صابي �س�أدخن ال�سيجار‬ ‫و�أعود اليك ال ت�ساومني باملال فهمت؟‬ ‫اوم�أت بر�أ�سي بنعم ثم غادر املكتب‪.‬‬ ‫بعد �ساعة اكمل معي التحقيق و�س�ألني كيف تعلمت‬ ‫اللغة الرتكية؟ ف�أخربته ب�أن والدتي من اتراك العراق‪ ..‬عدت‬ ‫وجل�ست مع ابو زهراء‪ ..‬كان معنا ا�شخا�ص ايرانيون كانوا‬ ‫يظنون ب�أنني ايراين وكنت اتكلم معهم االيرانية بطالقه‪ ..‬اىل‬ ‫ان حل الليل اتفقت مع احدهم ان يعطيني حذاءه لأهرب ثم‬ ‫اتفقت مع �شخ�صني ان نهرب �سوية‪ ..‬ال�شيء الذي �شجعنا‬ ‫على الهروب ان الحرا�سة علينا فنحن ننام يف �ساحة املركز‬ ‫وهروبنا �سهل للغاية‪ ..‬ولكن اهايل املنطقة لو قب�ضوا علينا‬ ‫�سي�شبعوننا �رضب‪ ..‬ويف الفجر هرب االثنان ولكن ال�شخ�ص‬ ‫الذي �سيعطيني حذاءه قد غيرّ ر�أيه‪� ..‬شعرت باالحباط فبدون‬ ‫احلذاء ال ميكن الهروب‪ .‬فعدلت عن الفكرة‪ ..‬وبعد الفجر‬ ‫ف�ضح امر ال�شخ�صني اللذين هربا‪ ..‬وبد�أت ال�رشطة تبحث عن‬ ‫ال�شخ�صني والأهايل يعاونون ال�رشطة بكل اخال�ص وتفان‪ ..‬مت‬ ‫اح�ضار ال�صور وعلى اثرها بد�أ التعداد للموجودين‪ ..‬ف�صاح‬ ‫ال�رشطي غا�ضبا‪:‬‬ ‫‪180‬‬


‫ـ ال�شخ�ص الذي يرتدي التي �شريت االحمر غري موجود‬ ‫وهذا يعني عندنا ‪ 3‬هاربني‪..‬‬ ‫ركز يف الوجوه ومل يجد ال�شخ�ص الثالث ثم بد�أ القلق‬ ‫ينتابنا‪ ..‬ثم �صاح ال�رشطي جمددا‪:‬‬ ‫ـ �سوف تن�شوي جلودكم من ال�رضب االن ولن ت�أكلوا �شيئا‬ ‫اليوم ايها ال�سفلة العرب‪.‬‬ ‫على �أثر �أح�سا�س غريب انتابني وف�ضول عميق اقرتحت‬ ‫على ال�رشطي ان ارى �صورة ال�شخ�ص الثالث ولأنني احتدث‬ ‫الرتكية‬ ‫�ساعدين جدا يف ان اتعامل معهم بحكمة وبالأخ�ص يف‬ ‫مثل هذه الظروف‪ ..‬ثم قلت له مبت�سما‪:‬‬ ‫ـ هذا انا‪.‬‬ ‫خطف ال�رشطي الغا�ضب ال�صوره ثم قال‪:‬‬ ‫ـ كيف؟‪ ..‬فارق كبري‪.‬‬ ‫ـ نعم هذا انا‪ .‬ثم اخرجت التي �شريت من الكي�س لأريها‬ ‫لهم كدليل على كالمي‪.‬‬ ‫تنف�س رجال ال�رشطة ال�صعداء ثم �رصفونا اىل ال�ساحة حتت‬ ‫حرا�سه اثنني من ال�رشطة هذه املرة‪ ..‬وكعادتي كنت ابادلهم‬ ‫احلديث لق�ضاء الوقت الطويل‪ ..‬و يف وقت الظهر القت‬ ‫‪181‬‬


‫ال�رشطة القب�ض على الهاربني و�أ�شبعوهما �رضبا مربحا‪..‬‬ ‫حان وقت الرتحيل اىل املحكمة‪ ..‬ف�شاهدنا االفارقة‬ ‫ل املكان ف�إخالء �سبيلهم �سهل‬ ‫وجن�سيات خمتلفة ال حت�صى مت أ‬ ‫ولي�س هناك امر برتحيلهم‪ ..‬اما العراقيون فكانوا ينتحلون‬ ‫اجلن�سيات الفل�سطينية خوفا من ت�سفريهم اىل العراق‪ ..‬فتم‬ ‫عر�ضهم على �شخ�ص فل�سطيني و�أو�شى لل�رشطة ب�أنهم لي�سوا‬ ‫من فل�سطني رغم تو�سل ال�شباب اليه لكي يخفي حقيقة امرهم‬ ‫ولكن بال جدوى‪.‬‬ ‫بعد ان ُح�سمت اوراقنا �صعد كل واحد يف حافلة خا�صة‬ ‫ثم انطلقت بهم اىل حدود بالدهم‪ ..‬اما العراقيون من مل تثبت‬ ‫�صحة ادعائهم فن�سبوهم اىل اجلن�سيات املجهولة و�صنفوهم‬ ‫ب�شكل ع�شوائي اىل اجلن�سيه االيرانية والأفغانية (علما ان اكرث‬ ‫االيرانيني ادعوا ب�أنهم افغانيون خوفا من ال�سجن) ورغم ذلك‬ ‫مل ي�شي االفغان اال�صليون كذب ادعاء االيرانيني لظروف‬ ‫ان�سانية‪.‬‬ ‫الطريق طويل اىل ايران فنحن يف اق�صى احلدود االوروبية‬ ‫الرتكية وهناك حافالت خ�ص�صتها االحتاد االوروبي مدفوعة‬ ‫االجر وقد تعهدت تركيا ب�إرجاع الالجئني اىل ديارهم بقرار‬ ‫دويل تنفذها تركيا باعتبارها اجل�رس امل�ؤدي اىل اوروبا‪.‬‬ ‫كبلونا بالأ�صفاد‪ ..‬كان املكبل معي �شخ�ص ايراين ويف‬ ‫‪182‬‬


‫مقدمة احلافلة امر�أة ايرانيه وابنتيها‪ ..‬يحملن اجلمال الفار�سي‬ ‫النادر واما االم فكانت رغم كرب �سنها اجمل من ابنتيها‪ ..‬مل‬ ‫يعرفني احد كعراقي �إال ابو زهره‪ ..‬كنت اظن ب�أنهم �سيخلون‬ ‫�سبيلنا على احلدود ولكن ما حدث قلب موازين ح�ساباتي‬ ‫بت�سليمنا �شخ�صيا ل�رشطة احلدود ح�سب االتفاق االوربي‪...‬‬ ‫انطلقت احلافلة من الأرا�ضي الرتكية القريبه من اليونان قا�صده‬ ‫احلدود االيرانية‪ ..‬فقررت ان اغفو قليال الن الطريق طويل‪..‬‬ ‫بعد اقل من �ساعة فتحت عيني �سارحا يف الوان الطبيعة التي‬ ‫ال تقاوم‪ ..‬وكان خلفي �شخ�ص عراقي ُيدعى حازم ق�ضى‬ ‫كل الرحله نائما‪ ..‬مما اثار غ�ضبي ولكن كانت لنا ق�صه غريبة‬ ‫فيما بعد‪ ..‬فقد �ساعدته يف ال�سفر اىل ا�سطنبول ب�سالم رغم‬ ‫تخلي اخيه الذي يعمل طبيبا يف املانيا عنه‪ .‬طلبت من احد‬ ‫ال�رشطيني اجلال�سني يف املقعد اخللفي ان يعريين موبايله‪ ..‬كنت‬ ‫طوال الطريق احاول ان اتقرب منهما النني كنت الوحيد‬ ‫الذي يتكلم الرتكية فكانا ي�س�أالن بف�ضول عن ظروف بلداننا‬ ‫وانا اجيبهما مما ك�سبت ودهما‪ ..‬ات�صلت بعدنان ثم اغلقت‬ ‫الهاتف وانتظرت من عدنان ان يعيد االت�صال واثناء ذلك دار‬ ‫حديث بيني وبني ال�رشطيني‪..‬‬ ‫ـ هل �ستعود اىل تركيا؟ �س�ألني ال�رشطي‪.‬‬ ‫ـ نعم �س�أعود وبكل ب�ساطة‪.‬‬ ‫‪183‬‬


‫ـ رغم ماعانيته‪ .‬؟ الطريق اكرث من ‪� 58‬ساعة كما ترى �إال‬ ‫يتعبك هذا هل انت جمنون؟‬ ‫ـ نعم انا اعي�ش من اجل حريتي‪ ..‬و�س�أعمل امل�ستحيل‬ ‫لأنالها‪.‬‬ ‫ـ �أال تريد ان ترتاح يف بيتك وترتك فكرة خو�ض املغامرات‬ ‫يف اجلبال والغابات؟‬ ‫ـ انا ا�ستمتع بهكذا مغامرات فق�صتي طويلة و�أنا عازم على‬ ‫اكمال م�سريتي‪.‬‬ ‫رن هاتف املوبايل ف�أجاب ال�رشطي‪ :‬هذا �صاحبك عدنان‪..‬‬ ‫ثم اجاب املكاملة‪:‬‬ ‫ـ لديك �صديق عراقي يدعى احمد هل تعرفه؟‬ ‫اعطاين املوبايل وكم كانت فرحة عدنان كبرية‪:‬‬ ‫ـ اين انت؟ اختك ت�سال عنك كل ثانية لقد متر�ضت‬ ‫هي ب�سببك‪ ..‬هل انت بخري؟ هي او�صتني ان اقول لك لو‬ ‫ح�صل لك مكروه ماعليك اال ان تت�صل بي وانا اتكفل مببالغ‬ ‫و�صولك اىل ا�سطنبول وال عليك كم �سيكلف ذلك الن اختك‬ ‫من �ستدفع لك‪.‬‬ ‫ـ انا يف طريقي اىل ايران لقد غرقت وجنوت ب�أعجوبة ومت‬ ‫ترحيلنا من كمب اليونان اىل ايران بعد �شهر من مكوثنا يف‬ ‫‪184‬‬


‫احلدود اليونانية‪ ..‬ا�سمع عدنان انا عائد ال تقلق فهذه امل�شاكل‬ ‫لن تعيقني من الرجوع اىل ا�سطنبول‪ ..‬ال تهتم انا قادم ان�شاء‬ ‫اهلل‪.‬‬ ‫ـ ومتى تعود؟‬ ‫ـ ال اعلم فقط كن على ا�ستعداد لرتد على مكاملاتي وال‬ ‫تقلق‪.‬‬ ‫اغلقت املوبايل ثم �شكرت ال�رشطي و�أغم�ضت عيني‬ ‫بابت�سامة تدل على ارتياحي‪.‬‬ ‫يف الطريق اخذنا ق�سطا من الراحة‪ ..‬توقفت احلافلة يف‬ ‫مكان على الطريق لق�ضاء حاجة ال�سجناء‪ ..‬ولكن ظروف‬ ‫الهرب مل تكن م�سموحة ل�شدة احلرا�سة‪ ...‬م�ضت احلافله يف‬ ‫رحلتها الرعناء وانا مازلت اح�س بالغ�ضب على نف�سي كلما‬ ‫ر�أيت حازم نائما ال يفتح عينيه اال يف حاالت نادرة‪ ..‬و�س�ؤاله‬ ‫ُ‬ ‫وا�شتعل امتعا�ضا‬ ‫الوحيد‪:‬متى �سن�صل اىل احلدود االيرانية؟‪..‬‬ ‫على نف�سي النني اراقبه ف�أ�ضيق ذرعا بت�رصفاته فوددت لو‬ ‫انق�ض على رقبته لأخنق هذا البارد‪.‬‬ ‫بعد رحلة دامت اكرث من ‪� 50‬ساعة و�صلنا اىل مدينة ـ وان‬ ‫الرتكية ـ ‪ ..‬ولأن احلافلة و�صلت اىل املدينه يف �ساعة مت�أخرة‬ ‫من الليل‪ ..‬اجربنا على النوم يف احلافلة حلني طلوع الفجر‬ ‫حيث كما علمنا فان امل�ساجني من االيرانيني �سيتم ت�سليمهم‬ ‫‪185‬‬


‫يدا بيد اىل ع�ساكر احلدود االيرانية وهذا ما �أثار يف داخلي‬ ‫اخلوف النني كما ادعيت على احلدود اليونانية ب�أنني ايراين‬ ‫لتفادي ت�سفريي اىل العراق ـ زاخو ـ ‪..‬‬ ‫ففكرت يف ان ادعي ب�أنني من جن�سية ثانية بدال من االيرانية‬ ‫ف�أجربت على االعالن عن نيتي يف اليوم التايل من ت�سليم‬ ‫املواطنني اىل حر�س احلدود االيراين‪� ..‬أثار هذا االعرتاف‬ ‫الغريب حفيظة الن�ساء االيرانيات وبع�ض ال�شباب النني طول‬ ‫الطريق كنت �أُمثل دور ال�شاب االيراين لكي ابعد نف�سي عن‬ ‫ال�شبهات‪ ..‬حيث انني اخ�شى من ان حزب حكومة م�سعود‬ ‫الربزاين كانوا ينفذون اتفاقية تبادل الهاربني بينهم وبني حزب‬ ‫البعث انذاك‪.‬‬ ‫طلبت من ابو زهرة ان يقنعهم بان يكتموا امري‪ ..‬ب�سبب‬ ‫ظروف العراق‪ ..‬بل حتى �رشيكي املكبل معي ا�شفق علي‬ ‫وتكفل ب�أمر م�ساعدتي وطلب مني عدم التكلم بالفار�سية بعد‬ ‫االن لكي ي�ستطيع ان يقنع احلر�س احلدودي ب�أنني عراقي وان‬ ‫االتراك ادرجوين على القائمه االيرانية لتغطية احد الهاربني‬ ‫و�إكمال اعداد املحبو�سني لديهم‪ ...‬وفعال �سارت االمور على‬ ‫ما يرام‪.‬‬ ‫يف ال�صباح الباكر اخربت ال�رشطي الرتكي ب�أنني فل�سطيني‬ ‫ول�ست ايرانيا‪ ..‬نظر ايل بع�صبية‪� ..‬ضغط ب�أ�سنانه على �شفتيه‬ ‫‪186‬‬


‫كور قب�ضته لكي ي�رضبني‪ ..‬ويف احلال جاء الغوث من‬ ‫ثم ّ‬ ‫ال�ضابط االيراين قائال‪:‬‬ ‫ـ �أرجو ان تكون القوائم جاهزة‪.‬‬ ‫ـ نعم نعم انها جاهزة‪ ..‬ـ ثم توجه ال�رشطي ايل بالكالم‬ ‫هام�سا يل بع�صبية‪ :‬ا�سمع ايها الوغد لو تفوهت ب�أي كلمة‬ ‫�س�أدفنك حيا على احلدود‪� ..‬ستم�ضي وك�أنك ايراين مفهوم‪..‬‬ ‫ـ مفهوم �سيدي‪ ..‬ـ اجبته بخوف ـ ‪.‬‬ ‫تقدمنا اىل ال�ضابط االيراين ثم اخربه ال�شاب الذي معي‪:‬‬ ‫ـ �سيدي هذا الذي معي جمهول الهوية ولي�س ايراني ًا‪ ..‬لقد‬ ‫ادرجوا ا�سمه معنا وذلك لهروب احد االيرانيني من ال�سجن‪.‬‬ ‫م�سح ال�ضابط الكهل على ر�أ�سي ب�شفقة كبرية وقال‬ ‫لل�شاب‪:‬‬ ‫ـ اخربه بالرتكية انه يف امان هنا و�إنني لن ا�ستلمه‪.‬‬ ‫ثم تكلم مع ال�رشطي الرتكي‪:‬قبل ان تغادر او ان نعلمكم‬ ‫ب�أننا ال ن�ستلم ا�شخا�صا غري ايرانيني فخذوا هذا ال�شخ�ص‪.‬‬ ‫ا�ستلمني ال�رشطي الرتكي بغ�ضب �شديد وكادت عيناه‬ ‫تخرجان من وجهه‪:‬‬ ‫ـ �إذن اخربتهم ايها الوغد‪..‬‬ ‫‪187‬‬


‫ثم �س�ألني عن جن�سيتي ف�أجبته‪ :‬فل�سطيني‪ ..‬ف�أمر ال�رشطي‬ ‫الآخر ان يدرج ا�سمي يف قائمة جمهويل اجلن�سيه مع الباقني‪..‬‬ ‫نحن على املثلث احلدودي ـ تركياـ ايران ورو�سيا وبالتحديد‬ ‫حدود ـ باكو ـ ‪ ..‬منطقة جبلية ت�سكنها قطعان الذئاب‪ ،‬ال‬ ‫احد يهتم بالآخر فكل املوجودين هم مهربون يتعاملون مع‬ ‫اجلنود‪ ..‬ثم اجتهت احلافلة اىل ـ وان ـ لتتجول بنا ل�ساعات‬ ‫تبحث عن جهة تقبل با�ستالمنا ولكن ال احد من الدوائر‬ ‫االمنية تقبل باال�ستالم‪ ..‬اجلوع واحلر والعط�ش بد�أوا يهتكون‬ ‫بنا‪.‬‬ ‫اثناء املفاو�ضة بني مديرية االمن الرتكية وال�رشطة حول‬ ‫ت�سليمنا لهم كانت احلافلة فارغة وك�أنها ر�سالة منهم لنا‬ ‫تقول‪ :‬هيا اهربوا ـ ‪ ..‬حاولت ان اتخل�ص من القيد احلديدي‬ ‫ولكن دون جدوى‪ ..‬ال�شخ�ص الذي كنت معه كان يدخل‬ ‫ويخرج مع�صمه بكل راحة يف القيد‪ ..‬ن�صحته بالهروب بينما‬ ‫ال�رشطه م�شغولة ولكنه كان مرتددا‪ ..‬وبقينا على هذه احلالة‬ ‫قرابة �ساعة ثم امتلأت احلافلة بال�رشطة فقد ف�شلت املفاو�ضة‬ ‫والآن ال�رشطه �ستحاول التوجه اىل فيلق اجلي�ش املتواجد على‬ ‫احلدود لتعر�ض عليها مفاو�ضة اخرى‪ ..‬وق�صة خمتلفة‪ ..‬فقد‬ ‫قبل اجلي�ش بنا وهنا بد�أت مفارقات اخرى‪..‬‬ ‫و�صلنا مع�سكر اجلي�ش على احلدود ومعنا ‪ 2‬من اتراك العراق‬ ‫‪188‬‬


‫ـ الرتكمان ـ و�أبو زهرة‪ ،‬بنغالدي�شي و�أفغاين‪ 6 ،‬من امل�سيحيني‬ ‫العراقيني وعدد من االفغان املعروفني بالربابرة‪ ..‬ال�شخ�صان من‬ ‫تركمان العراق مل يكونا بامل�ستوى االخالقي اجليد‪ ..‬لديهما‬ ‫افواه فارغة فقط يجيدون الكالم‪ ..‬الرجولة ت�سكن داخلهما‪..‬‬ ‫احدهما كان يحلق �شعره كما يقال ـ القزع ـ ‪.‬‬ ‫وجدت �ساعة مك�سورة على االر�ض الرتابية حال نزويل‬ ‫من احلافلة‪� ..‬صاح علي احد اجلنود‪:‬‬ ‫ـ هذه ُم�صادرة‪ ..‬اعطيني اياها اليحق لكم ان متتلكوا اي‬ ‫�شيء يا عرب‪ ..‬يكفيكم النفط‪.‬‬ ‫ـ يا �أهل البرتول‪ ...‬ـ اكمل اجلندي االخر �ساخرا منا نحن‬ ‫كعرب ـ ‪.‬‬ ‫حل الغروب وكنا ال نخفي خوفنا الظاهر على وجه كل‬ ‫فرد منا‪...‬‬ ‫كان رئي�س العرفاء ميثل دور الودود والطيب‪ ..‬ولكنني‬ ‫ا�ستطيع ان ارى مكره من خالل ت�صنعه معنا بالطيبة لكي‬ ‫يكون با�ستطاعته ان ي�سلب ما بو�سعه من املال‪ .‬كنت املك‬ ‫‪ 700‬دوالر مت لفها على �شكل قلم رفيع �ساعدين يف �صنعها‬ ‫عدنان الذي ميلك ا�صابع ذهبية لإجادته البارعة يف امور‬ ‫احلرف اليدوية‪.‬‬ ‫مل يرق يل كالمه املع�سول فهو تركي‪ ،‬والأتراك هم عبدت‬ ‫‪189‬‬


‫املال‪ ..‬هكذا كانت جتاربي معهم اذ مل ا�صادف خمل�صا طوال‬ ‫فرتة معاملتي معهم‪.‬‬ ‫حذرت اجلميع بالفار�سية والعربية من خطر الوقوع يف‬ ‫كمني اجلندي الرتكي ولكن بال فائدة الكل �سخر مني �إال ابو‬ ‫زهرة قال‪:‬‬ ‫ـ احمد ال تتكلم مع احلائط فهم اغبياء‪.‬‬ ‫مل احاول ان اقنع ه�ؤالء الن الكالم ال جدوى له معهم ثم‬ ‫طلبت من اجلندي ان ي�سمح يل بق�ضاء حاجتي‪ ..‬ومل تكن يل‬ ‫حاجة لأق�ضيها لومل يكن بحوزتي دوالرات وعلي اخفائها‪.‬‬ ‫رجعت اىل املجموعة ثم طلبت من ابو زهره ان يخفي يل‬ ‫ال‪ 200‬دوالر فزوجته لن يفت�شها احد فنجحت الفكرة‪.‬‬ ‫اجلندي قال لنا ـ طلب مني ان اترجم اىل اللغتني العربية‬ ‫والفار�سية ـ ‪:‬‬ ‫ـ �سناخذكم اىل ا�سطنبول بطريقتنا اخلا�صة وال تقلقوا فقط‬ ‫اخربونا كم لديكم و�سنت�ساهل معكم بدورنا‪.‬‬ ‫عند الرتجمة كنت احذرهم من كذب هذا ال�شخ�ص ثم‬ ‫قاطعني احد العراقيني قائال‪:‬‬ ‫ـ اخي ملاذا انت دائما مت�شائم اخربه ب�أن لدينا الكثري من‬ ‫املال‪.‬‬ ‫‪190‬‬


‫�أغبياء كنت امتنى لو ام�سك بخناقهم فهم مازالوا ي�صدقون‬ ‫هذا الرتكي‪.‬‬ ‫اجلميع وافق اما انا ف�أخربت اجلندي بان مايل يف ـ وان ـ‬ ‫وعند الو�صول هناك �س�أعطيه حقه‪.‬‬ ‫�ضحك اجلندي بوقاحة كبرية‪ ..‬ثم �رسعان ما نفذ �صربه‬ ‫ف�صاح‪:‬‬ ‫ـ الكل اىل اخليمة ف�أنا اعرف الطريقه ال�صحيحة لإخراج‬ ‫املال من عيونكم‪.‬‬ ‫خاف اجلميع‪ ..‬فتو�سل كل �شخ�ص بلغته الأم من اجلندي‬ ‫ان يعطيهم فر�صة ولكن دون جدوى‪ ..‬فقد اقتادونا كاخلراف‬ ‫اىل خيمة كبرية وبد�أ التفتي�ش الق�رسي والوح�شي ثم �رضبوا‬ ‫االفغانيني بق�سوة‪ .‬تفتي�ش قوتهم داخل اخلبز‪ ..‬فتتوه بحث ًا عن‬ ‫املال الذي يخفونه بداخله‪ ..‬كنت ا�سمع ا�صوات ال�رضب‬ ‫وا�ستنجاد االفغانيني باجلنود‪ ..‬اما حازم فكان بربود يريح‬ ‫قدميه على جدار اخليمة يغم�ض عينيه وك�أنه واثق ب�أنه يف امان‬ ‫من كل هذا احلدث‪.‬‬ ‫حان االن تفتي�شنا‪ ..‬جاء دوري مل يجدوا لدي اي �شيء؟‬ ‫ا�ستغرب رئي�س العرفاء فقال يل‪:‬‬ ‫ـ ايها ال�سافل اين مالك؟ تريد ان ت�صل اىل ا�سطنبول و�أنت‬ ‫‪191‬‬


‫�شحات‪ ...‬ـ �ضحك و�سمح يل باملغادرة بعد تفتي�ش دقيق‪.‬‬ ‫هممت باخلروج وكان اجلنود من�شغلني بالتفتي�ش وعند‬ ‫مدخل اخليمة اعطاين خل�سة احد العراقيني حقيبته ف�أخذتها‬ ‫دون ان اعرف ما بداخلها ولكنني فهمت ان الغر�ض هو انقاذ‬ ‫حمتواها‪ ..‬ففيها �صليب ذهبي لكل واحد منهم وبع�ض اال�شياء‬ ‫الثمينة‪.‬‬ ‫بعد ان انتهوا من التفتي�ش ب�سالم ارجعت لهم احلقيبة‬ ‫�سيفت�ش هو حازم؟‬ ‫و�شكروين والآن اخر �شخ�ص من ُ‬

‫جاء دور حازم يف التفتي�ش تقدم بني واثق اخلطى‬ ‫واخلائف‪ ...‬ولكنه فقد الثقة وبد�أ باالرتباك‪ ..‬عندما امره‬ ‫احد اجلنود بخلع حذائه مبا�رشة‪ ..‬ماح�صل ان اجلندي بعد‬ ‫ان اكمل تفتي�ش حازم امر االخري ان يلب�س حذاءه ومي�ضي‬ ‫فقد انتهى التفتي�ش‪ ..‬حازم مل يفهم ما يعنيه اجلندي فظن بان‬ ‫عليه ان يرج بقوة احلذاء االي�رس‪ ..‬رفع حازم احلذاء فا�ستغرب‬ ‫اجلنود‪ ..‬وكلما امروه بان يغادر ازداد حازم يف هز احلذاء‬ ‫وهو يظن انهم ي�أمرونه بذلك ف�سقط فج�أءة ‪ 50‬يورو ليكون‬ ‫حازم كي�سا للكم وال�رضب اىل ان ركله احد اجلنود بركبته‬ ‫بكل ق�سوة قائال‪:‬‬ ‫ـ القواد لديه يورو‪ ..‬ا�سحقوه ليخرج كل ما لديه‪.‬‬ ‫‪192‬‬


‫هم اجلنود عليه بال�رضب والركل‪ ..‬م�شهد عراقي ُي�رضب‬ ‫حتت اقدام اجلنود االتراك لي�س بالأمر ال�سهل و�أمام عيني‬ ‫ي�سبون وطنه ويلعنون ا�صله‪ .‬وانا عاجز عن ا�سعافه‪ ...‬فقد‬ ‫ته�شم وجهه وانفه‪.‬‬ ‫حملوه اىل اخليمة كجثة هامدة‪ ..‬ثم رموه على ار�ض‬ ‫اخليمة بكل برود وتركوه ا�سري االمل‪ ...‬ف�أ�رسعت اليه لكي‬ ‫انظف وجهه من الدماء ثم انفجرت عليه غا�ضبا بعد ان عاد‬ ‫حازم اىل بروده ورفع قدميه لرييحهما على عمود اخليمة‪:‬‬ ‫ـ باهلل عليك انزل قدميك‪ ...‬يارجل دمرتني هل �ستنام‬ ‫كال�سابق؟‬ ‫ـ وماذا تريدين ان افعل‪ .‬؟ ـ رمقني بطرف عينيه ثم‬ ‫اغم�ضهما‪ ...‬ورجع ل�سباته املعهود‪.‬‬ ‫�رضبت بيدي على ر�أ�سي ثم نه�ضت وتركت اخليمة‬ ‫ُ‬ ‫غا�ضبا‪ ..‬وقفت بعيدا عن اخليمة ات�أمل اجلبال‪ ..‬ثم قاطع‬ ‫�سكوين جندي تركي يحر�س املكان‪:‬‬ ‫ـ هل �ستعود اىل تركيا؟ �س�ألني مبت�سما‪.‬‬ ‫اوم�أت بر�أ�سي بنعم‪ ..‬ثم ارجعت ب�رصي لأكمل ت�أملي‬ ‫تاركا اجلندي يراقبني با�ستغراب‪...‬‬ ‫‪193‬‬


‫اىل �إيران‪:‬‬

‫ّ‬ ‫حل الظالم والربد معا‪ ..‬نحن على �سفح اجلبال نحمل‬ ‫غالونات نفط فارغة وال نعرف ملاذا ننتظر �شيئا وال ندري‬ ‫ماهو‪ ..‬ثم بد�أت ا�شباح ب�رشية قادمة من الطرف االيراين تتجه‬ ‫الينا‪ ..‬حتمل يف وجوهها ب�شارة وفرحا غري عاديني‪.‬‬ ‫ت�صافحوا بحرارة مع اجلنود ثم ا�ستلمونا لقاء ‪ 20‬دوالراً‬ ‫على كل �شخ�ص منا‪ ..‬اذا اتفاقيات تهريب النفط والأ�شخا�ص‬ ‫تتم هنا وهذه لي�ست املرة االوىل‪ .‬اخذنا املهربون فنحن االن‬ ‫ملكهم‪� ..‬سيتم ت�صفيتنا حال و�صولنا اىل مقراتهم املوجودة‬ ‫على احلدود‪.‬‬ ‫خم�س �ساعات من امل�شي بني اله�ضاب ويف الليل‬ ‫بالتحديد‪ ..‬واملهرب مازال يردد مل يبق اال الربع الي�سري‪ ...‬فال‬ ‫تقلقوا‪� ..‬ست�صلون اىل خيمنا وترتاحون وتاكلون وت�شبعون‬ ‫ومن ثم �سنو�صلكم اىل حيث ت�شا�ؤون‪.‬‬ ‫ثم حذرنا من رمي الغالونات ولكننا �رسعان مارمينا‬ ‫الغالونات احتجاجا قائلني‪:‬‬ ‫ـ ل�سنا بغاال مفهوم‪.‬‬ ‫ـ ال انتم اخوتنا هات عنك‪ .‬ـ ف�أخذ من احدنا الغالون‬ ‫ليهدئ الغ�ضب والتعب الذي بات يحتل الوجوه ـ و�صلنا بعد‬ ‫‪194‬‬


‫�ساعات اىل اماكنهم ثم دخلنا خيمة كانت مقامة خ�صي�صا‪،‬‬ ‫وبعد الع�شاء نام كل واحد منا يف الفرا�ش املخ�ص�ص لنا‪.‬‬ ‫ه�ؤالء يف ال�صيف ميار�سون التهريب حيث يع�سكرون مع‬ ‫اهاليهم وبخيامهم على �سفوح اجلبال بحجة رعي االغنام‬ ‫ويف نف�س الوقت ُيهربون النفط والأ�شخا�ص من واىل تركيا‪.‬‬

‫ويف �صباح اليوم التايل كنت مع ابو زهرة نتبادل احلديث‬ ‫على نهر جار ف�أخرجت الدوالرات لأغ�سلها يف النهر‪:‬‬ ‫ـ اين كان هذا املبلغ فرائحتها تكاد ان تخنقني‪.‬‬ ‫فعال الطبيعة جميله فكل �شيء من حولنا اخ�رض وجبال‬ ‫�شاهقة القمم حتيط بنا وتبهرنا بارتفاعاتها‪ .‬وجدت التفافة‬ ‫غريبة من قبل جمموعتي حول املهرب وهو ي�رسد لهم خطة‬ ‫الذهاب اىل تركيا فان�ضممت اليهم لأ�سمع ما يقول انه يكذب‬ ‫ولكن ال ب�أ�س نحن بحاجه اىل الكذب احيانا لكي ترتاح‬ ‫اع�صابنا‪.‬‬ ‫كنت احب اخلبز احلار الذي ت�صنعه الن�ساء ومل امنع نف�سي‬ ‫من االقرتاب منهن واطلب �شيئا من اخلبز اللذيذ‪ ..‬العب مع‬ ‫االطفال كل يوم يف الربية‪ ..‬فعال الراحة بد�أت ترجع يل‪..‬‬ ‫وخ�صو�صا يف هذا املكان ال�سحري اجلميل‪.‬‬ ‫مل يرق يل االختالط مبجموعتي ف�أنا ال اعرفهم ولكن ـ حازم ـ‬ ‫كان �شخ�صا فريدا من نوعه‪ ،‬فبالرغم من �آالمه فهو مازال نائما‬ ‫‪195‬‬


‫على طريقته املعهودة‪ ..‬طلب املهرب ان يق�سم ًا املجموعة‬ ‫التي تود الرجوع اىل العراق او طهران او تركيا‪ ..‬ثم اخذ‬ ‫ق�سم منا ب�سيارته اىل مركز املدينة ليت�صلوا بذويهم لتلقي مال‬ ‫ال�سفر‪ .‬رف�ض �شقيق حازم ان ي�ساعده رغم انه يعمل دكتورا‬ ‫يف املانيا‪ ..‬ورجع الينا يبكي وي�شتكي ق�سوة اخيه عليه‪ .‬نقلنا‬ ‫املهربون اىل اماكن اخرى لكي نبد�أ بال�سفر ولكن كالعادة كنا‬ ‫نت�أخر عن موعد اخلروج‪ ..‬تارة يبعدوننا عن اخليمة ويخيفوننا‬ ‫بالتزام ال�صمت لأنهم يتعر�ضون حلمالت دوريات ال�رشطه‬ ‫ولكنها كانت جمرد اكاذيب لكي يوفروا م�صاريف الطعام‪..‬‬ ‫وبعد ايام اجتمعنا عليهم و�أم�سكت بخناق احدهم قائال‪:‬‬ ‫ـ ان مل نخرج ف�سوف لن تلقوا ما ي�رسكم‪ ..‬ولن نرتك اخليمة‬ ‫بعد الآن مفهوم؟‬ ‫مل ينب�س املهربون بكلمة بعد ان ر�أوا تكاتفنا‪ ،‬بل كنا ن�ستيقظ‬ ‫وقت ما ن�شاء دون ان ي�سوقونا خارج اخليمة �صباحا اىل اخر‬ ‫النهار‪ ..‬حتى انهم كانوا يجلبون لنا بدل اللنب واخلبز الرز‬ ‫واللحم يف اغلب االوقات‪.‬‬ ‫ا�ستطاع املهربون ان ي�ستولوا على الذهب الذي كان بحوزة‬ ‫العراقيني رغم انهم كانوا يعتربون ال�صليب اغلى �شيء لديهم‪،‬‬ ‫فهو تذكار غال من امهاتهم اليهم‪ .‬قلت معاتبا احدهم‪:‬‬ ‫ـ انت غبي كيف تدعي ب�أنك مهرب وقد �ضحك عليكم‬ ‫‪196‬‬


‫املهربون فاخذوا منكم كل ما متلكون‪.‬‬ ‫كانوا نادمني ولكن فات االوان وقد انتهى كل �شيء ومل يبق‬ ‫على موعد االنطالق �إال ايام قالئل‪.‬‬ ‫و�صل املهربان من تركيا لكي ننطلق معهما‪ ،‬هما كرديان‬ ‫من ا�صل تركي يتكلمون الكرماجنيه‪ ..‬وما ان با�رشنا امل�سري‬ ‫حتى بد�أت ال�سماء متطر ثم اثلجت ثم امطرت والغريب اننا‬ ‫يف ال�صيف‪.‬‬ ‫الرحله كانت يف الليل جنتاز التالل العالية ب�صعوبة ب�سبب‬ ‫لزوجة االر�ض التي حتولت اىل طني‪ ..‬ال نكاد نرى االر�ض‬ ‫من �شدة التعب ولكن التزم كل واحد منا ب�صربه الذي كان‬ ‫�سبب و�صولنا ب�سالم اىل االرا�ضي الرتكية بعد �ساعات من‬ ‫امل�شي‪ ..‬قال لنا املهرب‪:‬‬ ‫ـ املفارز متلأ املكان �سوف نرتاح يف احد البيوت لكي‬ ‫نوا�صل م�سريتنا غدا ليال‪� ..‬س�أت�صل ب�أحد عمالئنا ليقلنا اىل‬ ‫املكان‪.‬‬ ‫كان جادا يف كالمه ومل يكذب معنا طول الطريق وهو يعلم‬ ‫ب�أننا المنلك �شيئا فكل ما منلكه قد اخذوه لقاء ان ن�صل مدينة‬ ‫ـ وان ـ جل�سنا بني االحرا�ش ننتظر �سيارة العميل باملجئ‪..‬‬ ‫نرجف من �شدة الربد ف�أج�سادنا مبلوله من املطر ولكن ال�سماء‬ ‫�صافيه االن وهذا يعني ان المطر �سيهددنا جمددا‪ .‬ت�أخرت‬ ‫‪197‬‬


‫�سيارة العميل ثم قال لنا املهرب‪:‬‬ ‫ـ العميل ت�أخر وهذا يعني انه و�شى بنا‪� ،‬سنغري هذا املكان‪.‬‬ ‫وفعال انطلقنا اىل تغيري مكاننا وبعد ن�صف �ساعة جاءت‬ ‫�سيارات ال�رشطة تبحث عنا يف تلك النقطه التي ع�سكرنا بها‪.‬‬ ‫ـ انتم االن ب�أمان ال تتحركوا علي ان اجد �شخ�صا يف هذه‬ ‫القرية لإيوائنا لهذه الليله ال تتحركوا مهما ت�أخرت‪.‬‬ ‫ت�أخر الرجالن وال�ساعة االن اخلام�سة فجرا‪ ..‬بد�أنا ن�شك‬ ‫ب�أمر رجوعهما‪ ..‬ثم طلب مني اجلميع ان ابحث مكان لإيوائنا‬ ‫مل يروق يل تلك االفكار ولكن احلاح اجلميع وتو�سالتهم‬ ‫جعلني افكر يف ا�صطحاب االفغاين معي لنبحث عن مكان‬ ‫لق�ضاء الليلة بعيدا عن خطر ال�رشطة‪ ..‬ولكن هل �س�أجنح؟‬

‫�شكرا يا �ضوء القمر‪:‬‬ ‫ولعل يف االمطار الغزيرة فائدة لكي ا�ستدل على رفاقي بعد‬ ‫ان افقدهم وهذا ال�شيء كان مهما جدا يل‪..‬‬ ‫تركت الرفاق اخلونة لأبحث عن �شخ�ص ي�ساعدنا بعد ان‬ ‫وعدين اجلميع بانهم لن يرتكوين مهما يحدث‪ ..‬ا�صطحبت‬ ‫االفغاين معي ثم دخلت القرية فبد�أت كالبها تنبح علينا‪..‬‬ ‫عربنا نهرا �صغريا ثم ازداد نباح الكالب‪ ..‬واجتهت اىل دار‬ ‫‪198‬‬


‫مظلمة ال�ستنجد ب�صاحبها‪ ..‬طرقت الباب ا�شعل �صاحب‬ ‫الدار االنوار ثم خرج علينا م�ستغربا‪ ..‬كان اعور ال يب�رش‬ ‫وجهه باخلري ف�س�ألنا‪:‬‬ ‫ـ من انتم؟ ـ قالها بقلق �شديد ـ ‪.‬‬ ‫ـ نحن فل�سطينيون قدمنا من هذه اجلبال‪ .‬ـ �أجبته م�شريا اىل‬ ‫اجلبال ـ ‪.‬‬ ‫نظر الرجل اىل اجلبال املحيطة بالقرية ثم ا�ستطرد وقال‪:‬‬ ‫ـ وكيف و�صلتما اىل هنا؟ امل ت�صادفكما قطعان الذئاب؟‬ ‫ـ ال‪ ..‬انا وا�صدقائي نريد مكانا للمبيت‪.‬‬ ‫ـ �إذن انتم جمموعة؟ ت�ساءل الرجل‪.‬‬ ‫ـ �أجل ولكن ارجوك اريد بع�ض املاء من ف�ضلك ف�أنا عط�شان‬ ‫منذ البارحة‪.‬‬ ‫�أمر ابنه ال�صغري بجلب غالون كبري من املاء‪ ...‬حملها الينا‬ ‫ب�صعوبة‪� ...‬رشبت اىل ان اكتفيت ثم اعطيت االفغاين الباقي‬ ‫لي�رشبه‪.‬‬ ‫ـ هل عندك مكان للنوم؟ ال تقلق �ست�أخذ اجرك‪.‬‬ ‫ـ نعم‪ ..‬كم عددكم؟‬ ‫ـ ما بني ‪ 12‬او ‪.13‬‬ ‫‪199‬‬


‫ـ �ستنامون يف حظرية االبقار وكل �شخ�ص يدفع خم�سني‬ ‫دوالرا‪.‬‬ ‫ـ موافقون �س�أجلبهم و�آتي اليك‪.‬‬ ‫انطلقت مع االفغاين ب�رسعة اىل املجموعة لكي اب�رشهم‬ ‫باخلرب‪ ..‬اح�س�ست ان امرا ما ح�صل فانا ال اجدهم يف اماكنهم؟‬ ‫ت�ساءلت فيما لو ا�ضعت الطريق؟ ثم امعنت النظر اىل‬ ‫مكان جلو�سهم‪ ..‬نعم هذا مكانهم ولكن ماذا حل بهم؟ قلق‬ ‫االفغاين وبدا بالنحيب‪ .‬قلت له بالفار�سية‪:‬‬ ‫ـ اهد�أ �س�أجد احلل‪.‬‬ ‫ـ وكيف �ستجد احلل لقد ذهبوا وتركونا نواجه قدرنا‪.‬‬ ‫ـ اهد�أ �سنجدهم‪.‬‬ ‫جل�سنا نفكر ثم خطرت يل فكرة مل تكن يف احل�سبان فقلت‬ ‫له‪...‬‬ ‫ـ وجدتها‪.‬‬ ‫ـ ماذا وجدت؟‬ ‫ـ الطريق ياغبي‪.‬‬ ‫ـ وكيف وقد تال�شت �آثارهم؟‬ ‫كانت اثارهم مازالت موجودة وبف�ضل �ضوء القمر ا�ستطيع‬ ‫ان اقتفي االثار وا�صل اليهم مطمئنا‪.‬‬ ‫‪200‬‬


‫ـ هذه اثارهم انظر اتبعني و�سن�صل اليهم‪.‬‬ ‫االفغاين اعتربها فكرة غبية ولكنني مل اهتم به اال انني كنت‬ ‫حري�صا على تنفيذ ما بر�أ�سي اىل ان و�صلنا اىل بركة ماء‪ ..‬لقد‬ ‫فقدت االثر ثانية‪ ..‬هل عربوا الربكة؟ ام تلقفتهم ال�سماء؟‪.‬‬ ‫ال ارى لهم اثراً ما بعد الربكه اذن اين هم؟ ثم �سمعت �صوتا‬ ‫يناديني ب�صوت خافت‪:‬‬ ‫ـ احمد نحن هنا‪.‬‬ ‫ـ اوغاد تفكرون يف انف�سكم وح�سب‪ .‬ـ قلت لهم غا�ضبا‬ ‫ـ ‪...‬‬ ‫ـ نعم يا �أحمد (كان احمد ا�سمي امل�ستعار) نحن هنا داخل‬ ‫االحرا�ش فقط تعال ارجوك‪.‬‬ ‫تنف�ست ال�صعداء ثم توجهنا اليهم بكل نفاد �صرب‪ .‬ما �أن‬ ‫ر�أيتهم حتى انهلت عليهم بال�سب وال�شتم‪:‬‬ ‫ـ ايها الكالب تركت مكاين من اجلكم وانتم تتخلون‬ ‫عني‪.‬‬ ‫ـ كال لقد اخربنا املهرب انه لن يرجع الينا حتى يعود بكما‬ ‫فاطمئن يا �صاحبي‪.‬‬ ‫ـ و�أين هو االن؟‬ ‫مل اكمل حديثي حتى �سمعت احدا قادم ًا الينا من بعيد‪..‬‬ ‫‪201‬‬


‫فالرجالن عادا بعد ان يئ�سا من البحث عني وما ان ر�آين‬ ‫املهرب حتى قال يل‪:‬‬ ‫ـ اين كنت؟ كيف جتر�ؤ على ترك مكانك؟ لقد وعدناكم‬ ‫بالرجوع وكان عليك ان ت�صدقنا‪ ..‬انتم دفعتم كل ما لديكم‬ ‫فكيف �س�أترككم يف بلد غريب اين ذهبت الرحمة‪.‬‬ ‫حتركنا اىل البيت الذي �سنق�ضي فيه ليلتنا‪ ..‬كنا ندخل بكل‬ ‫هدوء لكي ال يح�س بنا اجلريان‪ ..‬ثم دخلنا اىل حظرية فارغة‬ ‫ونظيفة ومفرو�شة وعلى على االر�ض تنور يف داخله ي�شتعل‬ ‫نار هادئة ال حترق من يحاول ان ينال الدفء منه‪..‬‬ ‫وعند ال�صباح ا�ستيقظنا للفطور‪ ..‬وق�ضينا اليوم كله داخل‬ ‫احلظرية الفارغة ننتظر الليل لنكمل امل�سري‪ ..‬الطريق كان‬ ‫ملغوما بدوريات ال�رشطة‪ ..‬كلما اقرتبت دوريه انبطحنا‬ ‫لن�ستوي مع االر�ض الرملية لنتجنب �سياراتهم‪ .‬طال بنا امل�سري‬ ‫ايام ًا ننام يف النهار بني االحرا�ش ون�سري يف الليل‪ ..‬حذائي‬ ‫املتهرئ ال ي�صلح للم�سري و�أوجاع �ساقي ال تنتهي وال منلك‬ ‫غري ان نتحمل االعباء لن�صل ب�سالم‪ .‬قرية مهجورة �صادفتنا‬ ‫فيها بع�ض البيوت امل�سكونة‪ ..‬دخلنا اىل بيت مهجور مفرو�ش‬ ‫ثم اغلقوا الباب واقفلوه باملفتاح علينا‪ ..‬مننا كنوم ا�صحاب‬ ‫الكهف‪ ،‬و�ضعنا يرثى له‪.‬‬ ‫حل ال�صباح واقرتب وقت الظهر‪ ..‬بد�أنا نفيق الواحد‬ ‫‪202‬‬


‫تلو االخر ال حمامات وال مطبخ‪ ،‬االبواب مو�صده‪ .‬نادينا‬ ‫بالأ�شخا�ص اللذين ينظرون الينا وي�ضحكون ولكن بدون‬ ‫جدوى‪ .‬فا�ضطررت ان اق�ضي حاجتي داخل احلذاء القدمي‬ ‫وان اعطي الزوج االخر من احلذاء ل�شخ�ص اخر‪ .‬تخل�صنا من‬ ‫االحذية بوا�سطة كي�س عن طريق ال�شباك ولكن ل�سوء احلظ‬ ‫فالرمية جاءت بالقرب من ال�شباب وكان كافيا يف اندالع‬ ‫حرب وم�شادة كالميه طويلة‪.‬‬ ‫مل اعد املك حذاء اكمل فيه م�سريتي ال�شاقة‪ ...‬اخرج‬ ‫احدهم حذاءا جديدا ليتفقده ثم طلبت ان يعريين القدمي ولكنه‬ ‫رف�ض ب�شده وبال�ضغط عليه ا�ستطعت ان اح�صل على احلذاء‬ ‫لإكمال الرحله ال�شاقة‪.‬‬ ‫اثناء امل�سري عانى حازم من �آالم القدم فا�ضطررت اىل ان‬ ‫�أت�أخر عن الرفاق و�أ�ساعده يف امل�شي‪ ..‬ولكنهم جتاهلونا‬ ‫و�ساروا م�سافة كدنا ان نفقدهم‪ ..‬فناديت بغ�ضب عليهم‬ ‫لكي ي�ساعدونا‪ ..‬خاف اجلميع من ان يف�ضح امرهم ف�أجربهم‬ ‫املهرب على العودة وم�ساعدتنا‪.‬‬ ‫و�صلنا بعد م�سرية ايام اىل مدينة ـ وان ـ وهناك اخذ املهربون‬ ‫كل الذهب واملال من رفاقي وال خيار لهم بالرف�ض فاالتفاق‬ ‫�سار على هذا اال�سا�س وكانت امالكهم مرهونة لدى املهربني‬ ‫منذ البداية‪.‬‬ ‫‪203‬‬


‫اىل اح�ضان ا�سطنبول‪:‬‬ ‫مكثنا يف بيت احد املهربني لكي نتهي�أ للمرحلة االخرية‬ ‫وهي ا�سطنبول ولكن علينا ان نختار بحذر ال�شخ�ص الذي‬ ‫�سيتكفل ب�إي�صالنا دون متاعب وعليه ان يكون ذكيا جدا‪ ..‬يف‬ ‫البيت انا وحازم وحوايل خم�سه من اخوتنا امل�سيح وبنغالد�شي‬ ‫و�أفغاين و‪ 2‬من تركمان العراق‪ .‬مل يخرجنا احد لق�ضاء احلاجة‬ ‫منذ ال�صباح فا�ضطررت اىل التبول يف ا�صي�ص االزهار‪.‬‬ ‫عار�ضني اجلميع ولكنني جتاهلتهم فهنا يف الغربة تعمل ما ال‬ ‫تتوقعه لكي تعي�ش‪ ..‬ولأنك ل�ست يف بيتك لت�صنع ما ت�شاء‪..‬‬ ‫فال �ضري من بع�ض الت�رصفات غري الالئقة لل�سالمة ال�صحية‪.‬‬ ‫بعد ايام قالئل ح�رض ابن �صاحب املنزل ليحمل لنا خرب‬ ‫التهي�ؤ لل�سفر و�أكد والده ذلك‪ ..‬ولكن عندما جاء �شخ�صان‬ ‫لكي ي�أخذانا اىل ا�سطنبول ا�ستوقفت جمموعتي الن ال�شخ�صان‬ ‫ال يت�سمان بال�صدق‪ ..‬ولكن امل�سيحيني ا�رصوا على الذهاب‬ ‫وودعونا بالفعل‪..‬‬ ‫حازم ا�شتعل من االنتظار وكان يتحايل عليهم‬ ‫با�صطحابهم‪ ..‬منعته ومل يكن لي�صغي حتى قال املهرب‪:‬‬ ‫ـ ال مكان للآخرين‪.‬‬ ‫وودعونا فرحني‪� ...‬س�ألني احدهم قبل ان يذهب‪:‬‬ ‫ـ احمد انا معجب بتقديرك للأمور فماذا تعتقد هل �سن�صل؟‬ ‫‪204‬‬


‫ـ ال ا�ستطيع اجلزم فاهلل يعلم ولكن خذوا حذركم وال‬ ‫ت�صدقوا كل ما يقال لكم‪..‬‬ ‫غابوا عنا وحازم الذي اجه�ش بالبكاء ويلومني تارة ثم‬ ‫ربت على كتفه ثم‬ ‫ينظر من خالل ال�شباك تارة كاملجنون‪ُ ...‬‬ ‫قلت بثقة‪:‬‬ ‫ـ حازم وعد مني �سرتافقني‪ ..‬ف�أنا يف حياتي مل يخب يل‬ ‫طلب عند احد‪ ...‬واالن �ستجدين معك رغم انك ثقيل الظل‬ ‫وع�سري اله�ضم ولكنني �س�أ�ساعدك‪.‬‬ ‫طال البقاء وها نحن نعي�ش يف حرب اع�صاب ال نعلم‬ ‫م�صرينا‪ ..‬حازم قلق على و�ضعه و�أنا قلق من اخلطوة االتية فلو‬ ‫ف�شلنا ال قدر اهلل ف�أن االمور �ستزداد تعقيدا‪ .‬بعد ايام جاء رجالن‬ ‫ومن اول كالم معهما ت�أكدت ب�أنهما ذكيان فال�شجاعة ت�ضيء‬ ‫وجهيهما ومل اتردد باملقابل ان اعقد معهما اتفاقا وننطلق‪ ..‬مل‬ ‫يرف�ضا ا�صطحاب حازم لأنهم علموا بق�صته و�سي�أخذونه لأنه‬ ‫�صديقي هكذا قال املهرب ومل مت�ضي �إال حلظات حتى كنا يف‬ ‫داخل ال�سيارة لننطلق اىل بيت اخر لكي ننطلق كمجموعه اىل‬ ‫ا�سطنبول‪.‬‬ ‫ا�ستغرقت الرحلة ايام ًا‪ ...‬مل نرتجل يوما لنم�شي او نقطع‬ ‫جبال �سوى لق�ضاء حاجتنا بني اال�شجار‪ ..‬كنا منر ب�أماكن‬ ‫جميلة‪ ..‬طبعا مل يكن مبقدورنا ان نرى الطريق‪ ..‬ال نوافذ وال‬ ‫‪205‬‬


‫�شعاع �شم�س يخرتق مكاننا �إال اننا كنا ننزل بني فرتة و�أخرى‬ ‫لنغت�سل قليال من العرق الذي غطى اج�سادنا من احلر ال�شديد‬ ‫ثم ن�صعد ال�سيارة وننطلق‪ ..‬كنا وجبتني انق�سمنا يف �سيارتني‬ ‫من نوع ـ فان ـ ‪..‬‬ ‫اللحية غطت الوجه و�أكاد ا�شعر انني ا�صبحت بيتا للقمل‪..‬‬ ‫ففي احدى املرات و�أنا اغ�سل وجهي اح�س�ست بهذه احل�رشة‬ ‫املربكة ت�سري على حافة املالب�س‪ ..‬مما اثار يف نف�سي القلق‪.‬‬ ‫ا�ستغرقت رحلتنا ا�سابيع بني القرى تارة وبني الطرق‬ ‫ال�صحراويه تارة اخرى‪ ...‬انهكنا احلر ال�شديد‪ ..‬كانت ثالث‬ ‫مركبات االوىل ت�ستك�شف الطريق وتر�سل اال�شعارات اىل‬ ‫املركبتني اللتني حتمالن اال�شخا�ص‪.‬‬ ‫و�أخريا ـ ا�سطنبول ـ هتف املهرب من جهة االمام‪ ..‬مل يكن‬ ‫مبقدورنا ان نرى من يف اخلارج الن ال�سيارة مغلفة بالأخ�شاب‬ ‫من الداخل لكي ال نكون وا�ضحني للعيان‪ ...‬ولكن الفرحة‬ ‫عمت وجوهنا‪ ..‬دخلنا منطقة تق�سيم وارجتلنا ب�رسور وخائفني‬ ‫ّ‬ ‫يف نف�س الوقت من املركبه اىل �شقه خا�صة كانت مليئة بالأفراد‬ ‫الذين و�صلوا قبلنا وهم ينتظرون االفراج حال دفع املبالغ‬ ‫التي عليهم‪ .‬املنطقه ب�أ�رسها وحتى ال�رشطة كانت تابعه للمافيا‬ ‫الكردية التي جاءت بنا اىل ا�سطنبول‪ ..‬وكل البيوت املجاورة‬ ‫كانت تنقل االخبار اىل املهربني‪ ...‬ففي احد االيام حاول‬ ‫‪206‬‬


‫احدنا ان يك�رس حديد ال�شباك‪ ...‬فات�صلت فتاة ب�أحد املهربني‬ ‫لكي تنقل له االحداث‪ .‬ويف مره من املرات قرر املهرب‬ ‫تق�سيمنا اىل �شقق متفرقة لكرثة اعدادنا‪ ..‬وكان البنغالد�شي‬ ‫له الن�صيب يف نقله اىل �شقة اخرى وحاول الهرب‪ ...‬التزم‬ ‫رجال املافيا الثبات يف اماكنهم وكنت مدهو�شا لردة فعلهم‪..‬‬ ‫ولكن بعد دقائق مت اح�ضاره اىل املهربني ب�سيارة ال�رشطة‪...‬‬ ‫وكانت جنايته كافية لأن يتلقى جزاء هروبه ال�رضب حتى‬ ‫تدفق الدم من وجهه وفقد وعيه ثم ارجعوه اىل ال�شقة حمموال‬ ‫بني ايدي املافيا‪.‬‬ ‫ت�أخر موعد دفعي للمبلغ ثم قال يل املهرب‪:‬‬ ‫ـ �أنا مل ا�صدق احدا يف حياتي‪ ،‬ولكنني عندما اتفقت معك‬ ‫يف ـ وان ـ ادركت انك ابن حالل وال تكذب ولهذا ال�سبب‬ ‫�ساخذك اىل �صاحبك الذي تكفلك لكي يدفع املبلغ عنك‬ ‫وعن حازم‪.‬‬ ‫ـ حازم لن اقدر دفع مبلغه الن اخاه قد نكل به‪ ...‬ولكنه‬ ‫�شاب جيد وارجو ان تت�ساهلوا معه‪.‬‬ ‫ـ ان لن يقدر ان يدفع �سنرتكه لأجلك‪ ...‬لأنك �شاب‬ ‫مثقف‪ ..‬و�سن�آخذك اىل عدنان لكي يدفع املبلغ‪ ..‬ولكن‬ ‫�صدقني مل افعل هكذا �شيء من قبل‪ ...‬فكل من اليدفع ي�شتغل‬ ‫يف احد م�صانعنا ثم نع�رصه جيدا ومن ثم نعلن حريته مبزاجنا‪.‬‬ ‫‪207‬‬


‫يف اليوم التايل ذهبت معه و�صاحبه اىل عدنان الذي �سيدفع‬ ‫املبلغ وطوال الطريق ونحن من�شي يف ا�سطنبول ويف االماكن‬ ‫املزدحمة تركاين حرا وبال مراقبه كان املهرب يبت�سم يف وجهي‬ ‫وي�س�ألني لو كنت جائعا او ال‪ ..‬وجهاهما اليدالن على ال�رش‬ ‫وكان �صاحبه الثاين ي�صلي يف وقته ومل ار اي ت�رصفات �سيئة‬ ‫منهما غري االحرتام‪ ..‬لأنني يف االيام االخرية كنت اق�ضي فرتة‬ ‫احتجازي يف بيتهما‪..‬‬ ‫وقت الغروب و�صلنا اىل منطقة قا يا با�شي‪ ..‬معمل‬ ‫قدمي جدا حتى ال�سقف مليء بالثقوب وال يحمي احد من‬ ‫االمطار‪ ..‬ميلأ املكان رمل ا�سود الن امل�صنع يعمل قوالب‬ ‫تعتمد على �صب احلديد امل�صهور يف قوالب رملية‪� ..‬سيارات‬ ‫ومعادن كاجلبال متلأ اطراف املكان القذر واملهجور‪ ..‬قال يل‬ ‫املهرب‪:‬‬ ‫ـ �ستكون مفاج�أة ل�صاحبك انتظر هنا و�سنباغته كالع�صابات‬ ‫لرنى ردة فعله ولكن ال ت�ضحك‪.‬‬ ‫ابت�سمت ثم بلغنا غرفة عدنان‪ ..‬كان االخري م�شغوال يف‬ ‫غرفته املتوا�ضعة ال�صغريه حينما دخلوا عليه ب�رسعة كانت‬ ‫كافيه لإرباكه‪.‬‬ ‫ـ انت عدنان؟ اجب ب�رسعة‪.‬‬ ‫ـ نعم‪ .‬ـ اجابهم حماوال ان ي�سيطر على رباطة ج�أ�شه ـ ‪.‬‬ ‫‪208‬‬


‫ـ تعرف احمد؟‬ ‫ـ من احمد؟اجابهم‪.‬‬ ‫انطلت املزحة عليه ولكنهم �رسعان ما ك�شفوا عن لعبتهم‬ ‫ثم ناداين احدهم اىل الداخل‪ ..‬ا�ستقبلني عدنان بحرارة‬ ‫�صادقة تنا�سينا كل ما �صادفنا من م�شاكل وك�أنني التقي به‬ ‫لأول مرة‪ ..‬جل�سنا ثم اتفقنا على موعد ت�سليم املبلغ واخرب‬ ‫عدنان ال�شخ�صني ـ كما او�صيته ـ ب�أن يل اه ً‬ ‫ال يف العراق قد‬ ‫باعوا لوازم بيتية لت�أمني املال يل‪ ..‬ويف ال�شقة ا�ستطعت ان‬ ‫احلق حليتي وا�ستحم ثم انتظر عدنان لي�أتي و ُيفرج عني‪.‬‬ ‫و�صلنا ـ قا يا با�شي ـ مع عدنان ب�سالم‪ ..‬وعملت مع عدنان‬ ‫�شهراً ثم انف�صلنا ب�سبب امل�شاكل‪ ،‬مما ا�ضطررت اىل الرجوع‬ ‫اىل معمل البال�ستيك الذي تغريت ادارته اىل اال�سو أ� ثم ابد�أ‬ ‫رحله جديدة من م�شوار العمر ال�صعب‪.‬‬

‫الهروب من �سجن ا�سطنبول‪:‬‬ ‫اداره جديدة ووجوه جديدة يف املعمل الذي تركته قبل‬ ‫�شهور‪ ..‬االخوان من اذربيجان كانا يعمالن ويقيمان يف‬ ‫امل�صنع‪ ..‬فان�ضممت اليهما‪ ..‬كانا رائعني وكانا يعامالنني‬ ‫بلطف‪ ..‬بد�أت اول ا�سبوع عمل‪ ...‬وما �أن ّ‬ ‫حل يوم االحد‬ ‫‪209‬‬


‫حتى ق�صدت ا�سطنبول للرتفيه كعادتي‪ ..‬وعندما كنت اق�صد‬ ‫ا�سطنبول كنت ازور حانات ا�سطنبول لال�ستمتاع بالأغاين‬ ‫الرتكية القدميه وال�رشاب الرتكي املف�ضل لدي واق�ضي وقتا‬ ‫�سحريا ان�سى فيه تعب العمل وبعدها اعود ادراجي اىل حيث‬ ‫اعمل و�أقيم‪.‬‬ ‫و�صلت اىل ا�سطنبول وجتولت يف �شوارعها وكان يوم‬ ‫االحد ـ عطلتي اال�سبوعية ـ ‪ ..‬وا�ستن�شقت هواء البحر اجلميل‬ ‫واملنظر اخلالب لل�صيادين وهم يدلون ب�سناراتهم من �أعلى‬ ‫اجل�رس اىل النهر‪ ...‬مدينة �ساحرة ع�شقتها كثريا ومتنيت لو انني‬ ‫ا�ستقر بها للأبد‪.‬‬ ‫نه�ضت من املقعد لكي اق�صد ال�سينما‪ ..‬ا�شرتيت تذكرة ثم‬ ‫جل�ست يف قاعة ال�سينما ا�ستمتع مب�شاهدة الفلم اىل �أن جرت‬ ‫الرياح مبا ال ت�شتهي ال�سفن‪ ..‬اناروا ا�ضواء ال�سينما فج�أة‪..‬‬ ‫ودخلوا �رشطة االداب ب�رسعة ثم طلبوا من اجلال�سني بطاقاتهم‬ ‫ال�شخ�صية‪ ..‬و�صل ايل الدور ف�أجبت ال�رشطي بالرتكية ـ ب�أنني‬ ‫ن�سيت بطاقتي يف البيت ـ ‪ ..‬ف�أمرين ب�أن انتظره يف زاوية‬ ‫ال�سينما مع الباقني‪.‬‬ ‫كان هذا ما يخيفني فبعد م�شقة القدوم اىل ا�سطنبول يتم‬ ‫القب�ض علي يف مكان تافه ومن ثم االقي ما ال ير�ضاه احد‬ ‫على حالتي‪ ..‬جمعت رباطة ج�أ�شي وتقدمت اىل الزواية‬ ‫‪210‬‬


‫البعيدة بكل ثقة‪� ..‬أم�شي اىل نقطة املوت‪ ..‬نقطة الف�صل‪..‬‬ ‫نقطة ته�شيم العظام لو ف�شلت يف الهروب‪ ..‬ف�أمامي �أرى‬ ‫ُانا�سا مدنيني اتراك ًا ولي�سوا اغراب ًا ت�رضبهم ال�رشطة بق�سوة‪..‬‬ ‫فما بايل �أنا غري القانوين؟ ماذا �س�أقول لهم؟‬ ‫و�صلت نقطة التجمع وا�ستدرت جهة ال�شمال القريبة منهم‬ ‫ال�ستغل ان�شغال ال�رشطة املدنية ب�رضب املدنيني ثم اطلقت �ساقي‬ ‫للريح‪� ..‬صعدت ال�سالمل ب�رسعة من دون ان يلحظني احد‪..‬‬ ‫قابلني على ال�سالمل مدير ال�سينما الذي كان يق�صد ال�صالة ومل‬ ‫ينب�س بكلمة عندما ر�آين اهرب‪ ..‬اىل ان حالفني احلظ وبلغت‬ ‫الباب اخلارجي لل�سينما ثم اختفيت من املنطقة‪.‬‬ ‫ال ا�صدق ف�أنا حمظوظ‪ ،‬فتلك حركة تودي ب�صاحب من‬ ‫يفعلها اىل تك�سري ا�ضالعه ال حمالة من ال�رضب‪ ..‬فكيف‬ ‫جنوت؟ وكيف جتر�أت على مثل هذه الفعلة؟‬ ‫قررت الذهاب اىل اجلامع لق�ضاء حاجتي وما �أن دخلت‬ ‫باب اجلامع حتى ر�أيت ان بع�ضا من ا�صحابي ـ �أكراد العراق‬ ‫ـ يف قب�ضة رجال ال�رشطة فعدلت عن فكرتي لأرجع ادراجي‬ ‫من مدخل اجلامع وكنت م�صمم ًا على ان ال يروين‪ ..‬و�صعدت‬ ‫احلافلة لتقلني اىل منطقة �سامنجالر‪ ..‬املنطقة القدمية التي كنت‬ ‫ا�شتغل يف احد معاملها �سابقا‪ ..‬جل�ست يف احلديقة قليال ثم‬ ‫مرت دورية ال�رشطة من غري ان تنتبه لوجودي‪ ..‬رن هاتفي‬ ‫‪211‬‬


‫املحمول‪� ..‬صديق كردي قدمي يدعى ـ خو�شناو ـ تعرفت عليه‬ ‫يف ايران بات عندي ليلة قبل ان يغادر اىل تركيا حينذاك‪ ..‬وها‬ ‫نحن نلتقي بعد �سنتني على غري موعد‪ ..‬ات�صل و�أعرب عن‬ ‫ا�شتياقه ملعرفة اخباري وطلب ر�ؤيتي‪ ..‬فهو �سينتظرين على‬ ‫ال�ساحل‪ ..‬اخربته بق�صة حادثة ال�سينما واين �س�آتي لأراه بعد‬ ‫ان انهي املكاملة فورا‪.‬‬ ‫نه�ضت وركبت احلافلة اىل منطقة ـ اك�رساي ـ ‪� ..‬رشد‬ ‫ذهني قليال اىل عامل العراق ومل انتبه ملفرزة ال�رشطة التي كانت‬ ‫مقامة امامي وح�صل ما مل اكن اتوقعه‪ ..‬ا�ستوقفوين فج�أة ثم‬ ‫�س�ألوين عن بطاقتي ال�شخ�صية ف�أخربتهم انها يف البيت‪ ..‬قال‬ ‫يل ال�رشطي ـ انت ل�ست من تركيا ـ ف�أجبته ـ انا من اذربيجان ـ‬ ‫‪ ..‬متعن ال�رشطي جيدا يف ا�سناين ثم قال بابت�سامه خبيثة‪:‬‬ ‫ـ االذربيجانيون لديهم ا�سنان من ذهب و�أنت ال‪ ..‬ا�صعد‬ ‫يف ال�سيارة ويف املركز قل ما ت�شاء‪.‬‬ ‫قيدوين بالأ�صفاد لأكون ال�شخ�ص الثالث يف ال�سيارة ممن‬ ‫القوا القب�ض عليه‪ ..‬ال�شخ�صان من اتراك تركيا ولكن ال�رشطة‬ ‫دائما تطلب الدليل ومبا انهما عاجزان عن اثبات هويتهما‬ ‫فعليهما اثبات ذلك يف التحقيق‪ .‬انتهت عمل الدورية اليوم‬ ‫وتوجهوا بنا اىل مركزهم الكائن يف منطقة تدعى ـ توب قا بي‬ ‫ـ هذه املنطقة مليئه بفتيات الليل من خمتلف الدول ـ رومانيا ـ‬ ‫‪212‬‬


‫بلغاريا ـ ورو�سيا وب�أرخ�ص االثمان‪ ..‬اتذكر جيدا عندما كنت‬ ‫ا�صطحبهن اىل الفندق‪ ..‬كنت احمل هوية احلزب الرتكماين‬ ‫�آنذاك لكي اجتنب املتاعب مع ال�رشطة‪.‬‬ ‫و�صلنا مركز ال�رشطه‪ ..‬كان ال�رشطي يقول دائما‪:‬‬ ‫ـ ال تخافوا �سوف نفرج عنكم‪.‬‬ ‫اكذوبة جميلة لكي ال نقدم على الهروب‪ ...‬هنا فقدت‬ ‫االمل‪ ..‬ف�أنا مكبل فكيف �س�أهرب؟‬ ‫ارجتلنا من ال�سيارة ثم اقتادونا اىل املركز‪ ..‬دخلت املركز‬ ‫ب�صحبة ال�رشطة وك�أنني اعي�ش يف كابو�س لن ينتهي‪ ،‬ف�أمري‬ ‫قد ُح�سمته هذه اللحظات‪ ..‬تعبت وقدماي ال تكادان ان‬ ‫حتمالين و�صور اجلبال والوديان واملغامرات العنرتية تزور‬ ‫بخبث خميلتي‪ ..‬الوطن‪ ..‬ال والدان‪ ..‬وال من معني اال من هو‬ ‫العظيم ـ اهلل ـ ماذا �س�أعمل؟ ا�ست�سلم؟‪.‬‬ ‫مررت باال�ستعالمات‪ ،‬ا�ستقبلونا بال�سخرية وكلمات تدل‬ ‫فرحتهم بالقب�ض علينا‪ ..‬اقرتب احد رجال ال�رشطه ليفك‬ ‫قيدي ثم ادار بيديه كتفي با�ستهزاء لأدخل الزنزانة املليئة‬ ‫ب�سجناء غري �رشعيني‪ ..‬ما ان فتح ال�رشطي باب الزنزانة وقدمني‬ ‫لأدخل‪ ..‬حتى ركلته من اخللف بكعب احلذاء بقوة لأهرب‬ ‫من مركز ال�رشطة‪ ..‬وقف اجلميع على ارجلهم متفاجئني‪..‬‬ ‫‪213‬‬


‫تغريت االجواء بد أ� ال�صياح والتهديد ـ قف �سنقتلك ـ وتاره‬ ‫ي�صيحون‪ :‬انت ايها الغبي االرهابي �سرنيك ما �سنفعله بك‪..‬‬ ‫مل ت�ستوقفني �صيحاتهم بل زادتني ا�رصارا على الهروب‪..‬‬ ‫خرجت اىل ال�شارع اجري بني االزقة وخلفي �سيارتان من‬ ‫نوع رينو تطارداين و�أنا ارك�ض بكل قوة والنا�س تتدافع مع‬ ‫بع�ضها لكي تهرب مني‪ ..‬وعدد من افراد ال�رشطة يطاردونني‬ ‫بال �سيارات‪ ،‬ويهتفون باملواطنني‪ :‬ارهابي‪� ..‬أوجالين ـ اي‬ ‫من حزب عبد اهلل اوجالن ـ لكي يجعلوا املدنيني مي�سكون‬ ‫بي ولكنهم ازدادوا خوفا ف�أنا بنظرهم ارهابي وال ي�ستبعدون‬ ‫ب�أنني انتحاري �أي�ضا‪.‬‬ ‫رك�ضت م�سافة طويلة ثم مالبث ان مد احد الواقفني من‬ ‫النا�س بهدوء يده اىل قمي�صي ليم�سك بي وانا منهك القوى‪..‬‬ ‫وما ان حاولت �رضبه حتى احاطتني �سيارتا ال�رشطة‪ .‬على‬ ‫الفور و�ضعوا اال�صفاد يف يدي‪ ..‬اداروا ظهري جهة ال�سيارة‬ ‫للتفتي�ش من اعلى الر�أ�س اىل ال�ساق‪ ..‬اقرتب مني ال�رشطي‬ ‫الذي ركلته وكان يعرج من الوجع ثم ار�سل ايل لكمة بقب�ضته‬ ‫وكان يف ا�صبعه خامت ف�ضي مر�صع بحجر‪ ..‬فاخرتق اخلامت‬ ‫جلدي ليمزقه وبد�أت �أنزف دما اختلط بلون ا�صفر قليال‪.‬‬ ‫منعه احد رجال ال�رشطة من �رضبي �صارخا يف وجهه‪:‬‬ ‫ـ ال ت�رضبه فهو االن ينزف‪ ..‬كم انت بليد‪.‬‬ ‫‪214‬‬


‫قادوين اىل ال�سيارة ويف الطريق اىل املركز ابت�سم رجال‬ ‫ال�رشطة وقال احدهم مازحا‪:‬‬ ‫ـ ملاذا مل تك�رس �ساقه فنحن نكره ذلك ال�رشطي‪.‬‬ ‫�أحرجني جدا فيما اجيبه؟ ف�أنا انزف وال اريد ان اكون‬ ‫كي�س ًا للمالكمة يفرغون بي غ�ضبهم‪.‬‬ ‫يف تلك االثناء و�صلت مركز ال�رشطة اجلميع ينظرون ايل‬ ‫بده�شة عظيمة يتكلمون عن هروبي و�شجاعتي يف تنفيذ‬ ‫الفكرة‪ ..‬ا�صبحت م�صدر حديثهم وك�أنني �شغلهم ال�شاغل‪..‬‬ ‫غري ان الدم اقلقهم كثريا وحاولوا التخل�ص مني ب�أية طريقة‬ ‫لأنهم �سي�ساءلون قانونيا‪.‬‬ ‫ال�رشطي طلب مني وهو يفتح باب ال�سجن االنفرادي ان‬ ‫اغ�سل اجلرح و�أعالج النزيف ولكن دون جدوى‪ ،‬فاجلرح‬ ‫عميق‪ ..‬اخربت ال�رشطي ب�أنني م�ستعد ان اهديه هاتفي‬ ‫املحمول لو اخرجني‪ ..‬نظر اىل الهاتف املحمول القدمي‪ ..‬هز‬ ‫ر�أ�سه بالنفي‪ ..‬ت�شاوروا فيما بينهم وبعد حلظات جاء ال�رشطي‬ ‫ُليطلق �رساحي‪.‬‬ ‫�صعدت معهم يف �سيارتهم لكي يو�صلوين اىل املكان الذي‬ ‫�س�أختاره ف�أخربتهم ب�أنني اود ان اذهب اىل منطقة ال�ساحل‬ ‫الرى �صديقي الذي ينتظرين هناك‪..‬‬ ‫‪215‬‬


‫يف تلك الفرتة كانت تركيا متر مبناف�سات انتخابية وكان‬ ‫اردوغان قد ر�شح نف�سه لأول مره وما زلت اتذكر تلك الفرتة‬ ‫االنتخابية التي مرت بها تركيا‪ ..‬نزلت من ال�سيارة ثم التقيت‬ ‫بخو�شناو ولفرتة ق�صرية ثم عدت اىل امل�صنع يف ـ قايه با�شي ـ ‪.‬‬

‫الطريق اىل اليونان ‪:2003‬‬ ‫حل ال�شتاء ونحن يف نهاية ‪ 2002‬وما هي �إال اياما معدودة‬ ‫و�سنودع ال�سنه القدمية‪ ..‬ومازلت اعبث ب�أيامي والأيام تعبث‬ ‫بي بال رحمة وكما ت�شاء‪ ..‬مل ان�سى ذكريات امي املتوفية‬ ‫و�أ�صدقائي‪ ..‬فالغربة ت�شدك اىل حب الوطن اكرث وجتعل‬ ‫منك وطنيا ويف نف�س الوقت تكره وطنك‪ ،‬معادلة معقدة‪..‬‬ ‫ا�ستقبلنا را�س ال�سنه اجلديدة ‪ 2003‬وحتت طرقات منا�شري‬ ‫االعياد احتفلنا يف داخل امل�صنع الذي نعمل فيه‪ ..‬انا وبع�ض‬ ‫العمال‪ ..‬االتراك احت�سوا كثريا من الكحول وتقي�أ احدهم مما‬ ‫ا�ضطررنا اىل حمله اىل منزله‪.‬‬ ‫تناقلت ال�صحف تهديد جورج دبليو بو�ش ل�صدام ح�سني‪،‬‬ ‫ون�رشت اخلطط الع�سكريه التي مت و�ضعها من قبل القيادات‬ ‫الع�سكرية �أي احللفاء يف ال�صحف الرتكية و�أ�صبح العراق‬ ‫حديث االتراك يف كل مكان‪ ..‬اما انا فكالعادة كنت اظن‬ ‫انها متثيلية حت�صل مثل كل وقت ولن تغري هذه التهديدات من‬ ‫‪216‬‬


‫الو�ضع �شيئا‪ ..‬دافع االتراك عن �صدام‪ ،‬بينما كنت م�ستاء حتى‬ ‫من ا�سمه‪ ..‬مل اعلق بل اكتفيت باالن�رصاف اىل عملي‪..‬‬ ‫يف الليل عندما ينتهي عملي انام من �شدة التعب وا�ضع‬ ‫كي�سا ككي�س القمح حتت فرا�شي لئال يت�سخ‪ ..‬اجلب الكي�س‬ ‫من املخزن فهو فارغ من الب�ضاعة وال �ضري من ا�ستعماله لأنني‬ ‫انام على االر�ض‪ ..‬الحظ ذلك �صاحب امل�صنع املليونري وجاء‬ ‫لي�سحب الكي�س بغ�ضب قائال‪:‬‬ ‫ـ اال تعرف ان هذه االكيا�س نحن نبيعها بعد ان نفرغ املواد‬ ‫منها؟ كيف جتر�ؤ على ا�ستعمالها هذه خ�سارة لنا‪...‬‬ ‫قطع الكهرباء لأنها مكلفه ف�أ�صبحنا نعي�ش يف الظالم‪..‬‬ ‫ويف احدى الليايل كنت اتكلم مع اختي وارجتف من �شدة‬ ‫الربد القار�س‪ ..‬ف�أ�رصت ان اترك املعمل وابحث عن مهرب‬ ‫مهما كان الثمن لكي اتخل�ص من عذاب الربد‪ ،‬ومل اتردد حلظة‬ ‫بعد هذه املكاملة من ترك العمل والعمل بو�صيتها‪.‬‬ ‫غ�ضب �صاحب املعمل بل ومل يعطني ربع �أجري‪ ..‬ورف�ض‬ ‫ان ميهلني ايام ًا لكي اجمع اغرا�ضي او حتى ترتيب اموري‬ ‫فغادرت ويف نف�سي كربياء وفرح لأنني �س�أتقدم اىل خطوة‬ ‫مهمة جدا لطاملا انتظرتها‪.‬‬ ‫بقينا ايام ًا يف بيت املهرب اجلديد ومل احتمل ال�ضجيج‪..‬‬ ‫ال�شقة تعج بالزبائن الذين ينوون اخلروج اىل اليونان‪ ..‬جل�سنا‬ ‫‪217‬‬


‫لأيام ثم حاول املهرب ان يبعثنا مع اتراك ليتخل�ص من‬ ‫العدد‪ ..‬توجهوا بنا اىل ا�سطنبول ال�رشقية يف �شاحنة مغلقة‪..‬‬ ‫نزل اجلميع ليق�ضي حاجته‪ ..‬نزلت فلمحت اننا اجتزنا ج�رس‬ ‫ا�سطنبول الذي يربط بني املنطقه ال�رشقية والغربية‪ ..‬مل يفلح‬ ‫املهرب يف ت�ضليله لنا مما دفعني اىل ان اخرب االكراد بالأمر‪ ..‬مل‬ ‫يكونوا على دراية كافيه باملنطقة ولهذا ال�سبب كانوا ي�س�ألونني‬ ‫كل �شيء عن ا�سطنبول ومل ابخل عليهم بتزويدهم باملعلومات‬ ‫حول املدينة‪.‬‬ ‫عدنا ادراجنا اىل بيت املهرب ثم حدد لنا يوما للخروج‬ ‫ب�شاحنة حمولتها ـ فرا�ش من اال�سفنج ـ ووعدنا بان رحلتنا‬ ‫�ستكون ممتعة ومريحة‪ .‬مت و�ضعنا يف �سيارة خا�صة وكانت‬ ‫معنا عائلة م�سيحية عراقية وبنت كردية جتيد العربية تدعى ـ‬ ‫ابت�سام ـ وكانت رائعة اجلمال �سمراء مل اتوقع ب�أنها �سرتافقني‬ ‫يف الرحلة وبلغ عددنا االجمايل يف الرحله ‪� 42‬شخ�صا‪.‬‬ ‫و�صلنا اىل �رشكة للت�صدير الرتكية وكان اليوم هو االحد‬ ‫لكي يتم ختم ال�شاحنة باخلتم االحمر‪ ..‬وما ان تتم عملية‬ ‫اخلتم �سننطلق اىل اثينا‪ ..‬كانت العائلة تنتظر يف غرفة االدارة‬ ‫بينما االخرون الذين كانوا من االكراد العراقيني ينتظرون يف‬ ‫�ساحة ال�رشكة املغلقه واخلالية من املوظفني‪ .‬تكلم ال�سائق معي‬ ‫كثريا وعرب عن ارتياحه النني اجيد الرتكيه ثم او�صاين ب�أن‬ ‫‪218‬‬


‫افت�ش امل�سافرين لئال يكون احدهم يحمل ادوات جارحة او‬ ‫كربيت‪ ..‬اال انه �سمح يل بحمل �سكني �صغري ا�ستعمله للظرف‬ ‫الطارئ لو واجهنا حادث‪ ،‬وحيث ا�ستطيع �شق غطاء املركبة‬ ‫وتخلي�ص امل�سافرين‪.‬‬ ‫بعد الغروب �صعدنا ال�شاحنة ومت غلق االبواب و�إجراء‬ ‫كل االحتياطات الالزمة ل�ضمان و�صولنا اىل اثينا‪ ..‬و�ستلتقي‬ ‫ابت�سام بزوجها الذي �سيقدم من املانيا اىل اثينا ثم يعود معها‪..‬‬ ‫او�صيت اجلميع ان يتجنبوا ال�رشب الع�شوائي للماء وان يكتفوا‬ ‫بالأكل الب�سيط‪� ..‬سخر الرجل الكبري مني ولكنه بعد ع�رش‬ ‫�ساعات من الرحله طلب قنينة ماء فارغة ليق�ضي حاجته ب�سبب‬ ‫�رشبه للماء والأكل املفرط يف ال�شاحنة مما ازدادت احواله �سوءا‬ ‫ولكنه بعد ان ق�ضى حاجته التزم الهدوء وقطع الرثثرة‪.‬‬ ‫مل اعان من اجلوع او العط�ش فمرت الرحلة علي ب�سالم‪..‬‬ ‫و�صلت ال�شاحنة اىل منطقة التفتي�ش‪ ..‬توقفت للتفتي�ش‪..‬‬ ‫وبد�أت حمادثة �شديدة اللهجة بني ال�سائق واملوظف يف نقطة‬ ‫التفتي�ش �سمعنا �صوت �صفعة قوية يف منطقة اخلد‪ ..‬توقفت‬ ‫ال�شاحنة مده طويلة‪ ..‬انتابنا القلق وكنت اترقب الهاتف‬ ‫املحمول يف يدي ان يرن لعلني اجدا تف�سرياً ملا يحدث من‬ ‫ال�سائق‪ ..‬نحن خائفون من املوقف واما نقا�ش ال�سائق فقد‬ ‫حتول اىل تو�سالت‪ ..‬واجلميع م�ضطرب وطلبوا مني بال توقف‬ ‫‪219‬‬


‫ان اترجم ما يحدث‪ ..‬بعد ن�صف �ساعة حتركت ال�شاحنه‬ ‫والنعرف بعد ما ح�صل واىل اين �سيتوجه بنا ال�سائق‪ ..‬بعد‬ ‫ربع �ساعة و�صلني ر�سالة بالرتكية على هاتفي ثم تاله ات�صال‬ ‫من ال�سائق يقول م�ستب�رشا ـ ‪:‬‬ ‫ـ احمد ال تخافوا نحن بطريقنا اىل اثينا‪ .‬ـ كانت �ضحكتة‬ ‫عالية وكافيه لأن تبت�سم ابت�سام من غري ان تفهم ن�ص احلديث‪.‬‬ ‫كانت ب�رشى للم�سافرين‪ ..‬واخربت امل�سافرين ان يلتزموا‬ ‫ال�صمت قليال فاالحتياط واجب ثم �سمحت لنف�سي ب�إغما�ض‬ ‫عيني الرتاح قليال‪.‬‬ ‫ا�ستغرقت رحلتنا يومني ثم يف �ساعة مت�أخرة من الليل ويف‬ ‫اليوم االخري و�صلنا اىل منطقة �صحراوية‪ ..‬كانت هناك �شاحنة‬ ‫ثانيه فارغة بانتظارنا لتقلنا اىل اثينا‪ ..‬علمت فيما بعد ان ‪ 3‬من‬ ‫االكراد خططوا لقتلي ليت�سنى لهم اغت�صاب ابت�سام وكادوا‬ ‫ان ينتظروا اللحظة املنا�سبة‪ .‬ت�أبطت االخرية ذراعي ونزلنا‬ ‫و�أ�رصت على البقاء معي ومرافقتي‪.‬‬ ‫كنت اح�س بحرارة يدها وهي ملت�صقة بي داخل ال�شاحنة‬ ‫ونحن نتوجه اىل اثينا ثم قالت يل‪:‬‬ ‫ـ الظروف يا احمد اجربتني ان اختاره وال اعرف ما‬ ‫�سيكون م�صريي مع زوجي الذي مل اتعرف عليه ب�شكل كاف‬ ‫‪220‬‬


‫ولوال ا�رصار والدي ملا تزوجته‪ ..‬فعال اعجبت ب�شخ�صيتك‬ ‫الظريفة و�أمتنى ان نتقابل ثانيه بعد ان ن�صل اىل بر االمان‪.‬‬ ‫�صياح احدهم قطع علينا ن�شوة احلديث رغم �صوت‬ ‫ال�شاحنة املزعج وهدير املحرك‪:‬‬ ‫ـ اخ احمد هناك م�ؤامرة على الفتاة ولكن التقلقك نحن‬ ‫�سن�ساعدك‪.‬‬ ‫احاطونا بدائرة حلمايتنا؟ موقف رجويل مل اكن اتوقعه‪..‬‬ ‫ولكن كيف يفكرون يف اغت�صاب فتاة واال�ستعداد لقتلي‬ ‫ونحن يف مثل هذه الظروف؟‬ ‫كارثة جديدة‪ ..‬حيث يحاول ‪ 3‬من االكراد التورط بعمليه‬ ‫حمقاء الغت�صاب البنت‪ ..‬ولكن احلمد هلل بف�ضل اهلل وف�ضل‬ ‫ا�صدقاء الطريق و�صلنا ب�سالم اىل اثينا دون اي حادث ولكن‬ ‫احد الثالثة هددين انه لن يرتكني لو راين يف اي مكان من‬ ‫العا�صمه‪ .‬نزلنا من ال�شاحنة ثم قطعنا الطريق م�شيا ب�صحبة‬ ‫�شخ�صني تابعني ل�شبكة التهريب‪ .‬اعربت ابت�سام عن رغبتها‬ ‫يف ان تتعرف علي اخرجت من جيبها ـ خم�سة يورو ـ ثم‬ ‫طلبت مني ان اكتب لها رقم هاتف ليت�سنى لها االت�صال بي‪...‬‬ ‫و�صلنا اىل البيت املخ�ص�ص لنا لت�صفية ح�سابات الطريق‪.‬‬ ‫غادرت هي قبلي مع زوجها ومل نلتق بعدها‪ ..‬وتذكرت ان‬ ‫رقم الهاتف كان ينق�صه رقم ومل اكتبه وبذلك فقدنا االت�صال‪.‬‬ ‫‪221‬‬


‫دفعت كل ما علي من مبالغ وخرجت اىل �شوارع اليونان‬ ‫لكي اتعرف على احوال اليونان‪ ،‬فها هي حياة جديدة‬ ‫بانتظاري و�أمتنى ان اجتاز �صعوبة اللغة لكي اعتمد على نف�سي‬ ‫يف البحث عن العمل‪ .‬وعلمت بعدها من احد اال�صدقاء ان‬ ‫اال�شخا�ص العراقيني الذين توجهوا اىل ا�سطنبول هم االن يف‬ ‫العراق‪.‬‬ ‫يف اليونان العمل كان متوفرا �آنذاك �إال ان الالجئني كانوا‬ ‫يعتمدون يف ك�رس البيوت املهجورة وال�سكن فيها ومن ثم‬ ‫�سحب التيار الكهربائي من اعمدة الكهرباء لينعموا بال�ضوء‬ ‫الن احلكومة ال تعري اي اهتمام مبنحها حقوق ًا لالجئني هناك‪.‬‬ ‫اما يف ق�ضايا اللجوء فكل الجئ يح�صل على الورقة البي�ضاء ـ‬ ‫خرتيا ـ وبعد �شهور تتغري اىل بطاقه حمراء‪ ..‬ولكن بعد �شهور‬ ‫من احل�صول عليها يتم �سحبها من قبل احلكومة ويتم طرد‬ ‫�صاحب البطاقة احلمراء وال ُي�سمح لهم بطلب اي جلوء يف‬ ‫دولة وبهذا تتم عملية الق�ضاء على احالمه بكل ب�ساطة‪.‬‬ ‫التقيت ب ـ بدر ـ �شاب كردي �ساعدين على تخطي مراحل‬ ‫العي�ش ال�صعبة وبعد ا�سبوعني من بقائي يف اليونان وبالتحديد‬ ‫يف مقهى يوناين تعمدت امر�أة يونانية جميلة ان جتل�س على‬ ‫نف�س الطاولة التي كدنا ان جنل�س عليها يف نف�س الوقت‪..‬‬ ‫ولكننا تربعنا باملكان لها ثم اخرتت انا وبدر اجللو�س يف‬ ‫‪222‬‬


‫مكان بقرب طاولتها‪� .‬شدتني انوثتها بان اراقبها من مكاين‪..‬‬ ‫تدعى ـ الك�ساندرا ـ ‪ 38‬عاما وكانت تكربين بع�رشة اعوام‪..‬‬ ‫جل�ست مع �صديقتها ثم مالبثت ان ا�شارت ايل لأ�شاركها‬ ‫�رشب القهوة‪.‬‬ ‫طبعا كان بدر يعرف ما تي�رس من اللغة التي تعلمها ليكون‬ ‫اجلانب املهم يف ترجمة بع�ض ما تقوله الك�ساندرا‪ .‬يف نهاية‬ ‫اللقاء تبادلنا ارقام الهواتف ثم وعدتني باالت�صال يف اليوم‬ ‫التايل‪.‬‬ ‫مل اتوقع ات�صالها ومل اكن اتوقع ان عالقتنا �ست�ستمر ثالث‬ ‫�سنني‪ ..‬كانت غنية جدا‪ ،‬طفنا جزر اليونان طوال مدة‬ ‫اقامتي‪ ..‬تعرفت من خاللها على الثقافة اليونانية وطبيعة‬ ‫عي�شهم وتفكريهم‪ ..‬ويف خالل ‪� 8‬شهور اتقنت الكثري من‬ ‫املفردات اليونانية قيا�سا لأغلب اال�شخا�ص الذين مل يتقنوا اللغة‬ ‫رغم مرور اعوام على اقامتهم يف اليونان‪ .‬بعد ا�شهر عملت‬ ‫مع اليونانيني يف تن�سيق احلدائق وكنت �سببا يف ايجاد عمل‬ ‫للعراقيني املغرتبني‪ ..‬الك�ساندرا تكفلت بت�أثيث الدار اجلديد‪..‬‬ ‫وها نحن نعي�ش يف فرتة كانت كافية يف حت�سني و�ضعي املعا�شي‬ ‫واخذ ق�سط من الراحة بعد �سنني من م�شقات الغربة‪.‬‬

‫‪223‬‬


‫‪ 2003/4/9‬سقوط بغداد‬

‫بغداد تواجه االن م�صريا ال يعلمه �إال اهلل‪ ..‬بانتظار حربا‬ ‫�ست�شنه امريكا على العراق وكل فرد يوناين او عراقي يرتقب‬ ‫ب�شدة ما �سيحدث‪ .‬كنت مازلت ا�سكن معـ بدر ـ يف غرفة‬ ‫�صغرية‪.‬‬ ‫اجهزة التلفاز اليونانية �آنذاك اوقفت بث كل براجمها‪..‬‬ ‫وكانت تركز كامرياتها على برج بغداد الدويل بعد انتهاء مهلة‬ ‫جورج بو�ش ل�رضب بغداد‪ .‬ومل تبث قنواتها غري منظر الربج‬ ‫بغية ت�صوير ال�رضبة االوىل التي �ستتم وكانت حري�صة ان ال‬ ‫يفوتها تلك اللقطه التي ابهرت العامل‪ .‬وكان التلفاز يف غرفتنا‬ ‫ي�شتغل حتى ونحن نيام لكي نواكب احلدث وكنا حري�صني‬ ‫على ان ال تفوتنا تلك اللحظات املهمة‪ ..‬وما كنا ال نتوقعه‬ ‫‪224‬‬


‫قد وقع‪ ..‬ففي احدى الليايل ا�ستيقظنا انا وبدر على ا�صوات‬ ‫الق�صف على بغداد وبد�أت �صفارات االنذار ت�صفر وبغداد يف‬ ‫حالة حرب االن‪ ..‬احلرب بد�أت‪ .‬واملرا�سل اليوناين كان ينقل‬ ‫اخلرب ب�صوت عال‪ ..‬تركنا النوم وترقبنا تلك ال�رضبات على‬ ‫بغداد‪ .‬كنا نح�رض يف املقاهي لكي ن�شاهد احلدث على قناة‬ ‫اجلزيرة‪ ..‬احدى القنوات اليونانيه ح�رضت اىل املقهى وبد�أت‬ ‫ت�ستطلع �آراءنا ثم وجه املذيع املايكروفون ايل لكي اعرب عن‬ ‫ر�أيي عن حرب العراق‪ ..‬ولل�رصاحة كنا يف حالة غ�ضب‬ ‫من ت�رصفات �صدام وكان ال�شعب انذاك يريد ب�أي و�سيله ان‬ ‫يتخل�ص منه وهاهي امريكا كما زرعته �ستقلعه‪ ..‬ولكن ماذا‬ ‫حدث بعدما خلعت �صدام ح�سني؟‪.‬‬ ‫انتهت احلرب والقوات االمريكية ا�صدرت قرارات‬ ‫بالقب�ض على �صدام وجنليه‪ ..‬اختفيا فج�أه وال�شعب مازال‬ ‫خائفا‪ ..‬فهم ال ي�صدقون ب�سهوله انزياح ال�صنم و�صاحب‬ ‫ال�صنم الذي طاملا بقي جاثما على حياة ال�شعب العراقي‬ ‫املنكوب‪.‬‬ ‫وبينما كنت يف جزيرة كريتي اق�ضي عطلتي ال�صيفية مع‬ ‫الك�ساندرا �شاهدت على اوىل �صفحات اجلرائد اليومية‬ ‫�صور دامية ل�شخ�صني مقتولني مل اميز �شكلهما بينما ال�سياح‬ ‫كانوا يتطلعون اىل ال�صوره بكل اهتمام‪ ..‬اردت ان اغادر‪..‬‬ ‫‪225‬‬


‫فاوقفتني الك�ساندرا قائله‪:‬‬ ‫ـ على ر�سلك يا رجل اال ترى ما يح�صل؟ هذان عدي‬ ‫وق�صي جنلي �صدام ح�سني رئي�سك‪..‬‬ ‫تفاج�أت و�صدمت ب�شكل كبري ورجعت يف خطواتي اىل‬ ‫الوراء ب�رسعة لأدقق يف ال�صور من جديد‪ ..‬يا �إلهي مل ا�صدق‬ ‫ما اراه بحق اهلل‪ ،‬معقول؟‬ ‫احلرب على بغداد كان حلما مل اعد ا�صدقه اىل ان تلقيت‬ ‫خربا من �صديقي ان �صدام ح�سني القي القب�ض عليه وهو‬ ‫ملتح‪ ..‬وعلى الفور غريت مالب�سي لأق�صد مقهى امل�رصي‬ ‫و�أ�شاهد �صحة اخلرب على اجلزيرة وكانت �صدمه‪.‬‬ ‫مل ا�صدق ما ا�شاهده‪ ،‬نهاية دكتاتور‪ ،‬ولكن هل انتهى‬ ‫الظلم؟ �صدام ح�سني يف قب�ضة االمريكان؟‬ ‫اتكلم مع نف�سي �سنة غري م�صدق نهاية �صدام و�أوالده‬ ‫والعراق‪ ..‬كل من دخل العراق بعد الغزو �شارك يف كتابة‬ ‫الد�ستور ولكن الفرتة املظلمة ومل يفقه العراقيون ب�أنهم قد‬ ‫دخلوا ع�رصا جديدا من القتل كما يف ع�رص هوالكو �إال بعد‬ ‫فوات الأوان‪ ..‬ر�ؤو�س تُنحر وجثث جمهولة الهوية كل يوم‪..‬‬ ‫ا�ضافه اىل عراقيني ُيحرقون يف ال�شوارع جراء االنفجارات‪،‬‬ ‫فبغداد ودعت ال�سالم على يد ابنائها وللأ�سف مل ندرك �إال‬ ‫‪226‬‬


‫بعدما فقدنا كل �شيء‪..‬‬ ‫الك�ساندرا يف تلك الفرتات خ�صو�صا كانت لطيفة معي‬ ‫وذات يوم طلبت مني تغيري ديني اىل امل�سيحية ثم بد�أت‬ ‫ت�رص على ذلك االمر‪ ..‬فرف�ضت مما �أثرت على عالقتنا �سلبيا‬ ‫وفكرت حينها بالتوجه اىل لندن عام ‪.2005‬‬

‫ايطاليا ـ املانيا ـ باري�س ‪2005‬‬ ‫حان الآن يف ان افكر يف تغيري البلد‪ ..‬فمنذ عام ‪2003‬‬ ‫اعي�ش ترفا غري متوقع ولكن حياتي غري م�ستقرة‪ ..‬فكيف‬ ‫ت�ستقر االمور اذا كانت احوال البلد ا�صال غري م�ستقرة‪..‬‬ ‫هاتفت اختي فرحبت هي بفكرة قدومي‪ ،‬ثم اكدت يل ان‬ ‫املبلغ جاهز على �رشط �أن اختار ا�سهل و�أح�سن و�سيلة لكي‬ ‫اجيء اىل بريطانيا‪ .‬ت�شجعت على تنفيذ الفكرة‪ ..‬ف�أ�ستقر ر�أيي‬ ‫على ان ا�سافر عن طرق املطار‪.‬‬ ‫اخربين احد ا�صدقائي ـ اليك�س ـ اوكراين اجلن�سية بان‬ ‫اليونان �ستواجه اياما �سوداء بعد اوملبياد اثينا‪ ،‬ولن يكون‬ ‫مبقدورنا العمل او العي�ش فيها‪ .‬مما �شجعني على ان ادرك‬ ‫نف�سي قبل ان اخ�رسها بال�ضياع جمددا‪.‬‬ ‫املحاولة االوىل ف�شلت‪� ..‬أمن املطار مل ينطل عليهم اجلواز‬ ‫‪227‬‬


‫الفرن�سي املزور‪ ..‬ومت ت�سفريي اىل �سجن املطار وكان اليوم هو‬ ‫اجلمعة وعلي ان ات�صل ب�أحد اال�صدقاء لكي يتم اح�ضار حمام‬ ‫يوم ال�سبت ويفك ا�رسي‪ ..‬وبعك�س ذلك فانا �سوف اكون‬ ‫�ضيفا ملدة �ستة �شهور على االقل يف �سجن املطار و�س�أخ�رس‬ ‫موعد املحكمة‪ .‬ا�ستطعت ان اكلم �صديقي ـ �شاهني ـ من‬ ‫داخل ال�سجن لكي ي�ساعدين يف اخلروج بعدما اعارين احد‬ ‫االلبانيني كارت تلفون لأجنز به مكاملتي‪ ..‬اخرجني ال�رشطي‬ ‫وات�صلت ب�شاهني احد ا�صدقائي الذي مل يق�رص وعلى الفور‬ ‫وعدين بانه �سوف ينقذين من حمنتي‪ .‬يف �صباح اليوم التايل‬ ‫�شاهدت �شاهني يح�رض مع احد املحاميني فحييته من نافذة‬ ‫احلافلة‪.‬‬ ‫عند املحاكمة كنت حمظوظا‪ ..‬جل�سة �رسيعة ا�ستغرقت‬ ‫دقائق من قبل القا�ضية بالإفراج فورا عني وعن غريي‪ ..‬وعلي‬ ‫الكره واال ف�س�أ�سجن ‪� 6‬شهور‪.‬‬ ‫ان اتعهد بعدم اعادة ّ‬

‫�شكرت �شاهني واعدت له ما �رصفه من مال ثم بعد ايام‬ ‫اتفقت مع احد املهربني امل�رصيني ب�أن ي�ساعدين على اخلروج‬ ‫عن طريق احدى البواخر اىل ايطاليا وبجواز تركي‪.‬‬ ‫كل �شيء ا�صبح جاهزا االن لل�سفر‪ ..‬و�صلت مرف�أ باترا‬ ‫اليونانية ودخلنا الباخرة ب�سالم وا�ستغرقت الرحلة يومني على‬ ‫ما اذكر‪ ..‬ولكن املحاولة باءت بالف�شل ففي مرف�أ ايطاليا مت‬ ‫‪228‬‬


‫�إلقاء القب�ض علي و�أعادتني ال�رشطة االيطالية اىل اليونان‪.‬‬ ‫افرجوا عني حواىل ال�ساعة ‪ 12‬ليال ثم توجهت اىل اثينا‬ ‫قا�صدا منزل �شاهني‪ ..‬انهكني التعب جدا‪ ..‬وبعد فرتة �سمعت‬ ‫مبقدم احد املهربني يحمل معه بطاقات �شخ�صية املانية‪ ..‬مل‬ ‫اتردد باالت�صال به‪ ..‬اخربين ب�أنه �سي�صاحبني يف الرحلة اىل‬ ‫دو�سل دولف االملانية فقط مببلغ ‪ 1500‬يورو‪ ..‬مل اتردد يف‬ ‫القبول فهذه فر�صة ال تعو�ض‪.‬‬ ‫مت اكمال تزوير البطاقة اخل�رضاء دون ان ترتك اي �شكوك‬ ‫بالتالعب وخ�صو�صا الف�سفور الذي يعترب من اهم العالمات‬ ‫التي تدل على �سالمة البطاقة‪ ..‬دخلنا املطار وال�شخ�ص يوجهني‬ ‫يف كل خطوة اخطوها داخل املطار لئال اثري ال�شكوك‪..‬‬ ‫نحافظ على امل�سافة ويتم تلقيني عرب الهاتف احيانا‪ ..‬حان‬ ‫وقت االقالع‪ ..‬فح�صت املوظفه البطاقة راودتها ال�شكوك‪..‬‬ ‫كنت اتظاهر بعدم الراحة على ت�أخريها ل�سفري ويف نف�س‬ ‫الوقت اكتم خويف فهذه اللحظات هي من �ستقرر‪ ..‬اما‬ ‫ال�سجن او احلرية‪ .‬وبعد حلظات �سمحت املوظفه يل باملرور‪.‬‬ ‫ا�شتعل وجهي باالبت�سامة ومررت ب�سالم اىل الطائرة‪.‬‬ ‫ا�ستعمال الهاتف ممنوع وكنت اجهل هذه التعليمات‪،‬‬ ‫ف�أخذت على عاتقي بت�صوير الغيوم ومل يرق ذلك للم�سافر‬ ‫الذي بجانبي ولكنني �رسعان ما اخفيت الهاتف املحمول‪.‬‬ ‫‪229‬‬


‫و�صلت الطائرة اىل �صالونيكي ـ ترانزيت ـ وبعد حلظات‬ ‫اقلعت الطائرة �ساعات لت�ستقر يف اخر مطافها يف دو�سل‬ ‫دولف‪ ..‬تخطينا امن املطار ب�سالم‪ ..‬توجهنا اىل مطعم تركي‬ ‫بعد ان انهكنا اجلوع‪ ..‬كنت تواقا لكي اتناول ال�شاورمه‬ ‫الرتكية ف�أنا مل اذق تلك الوجبات منذ �سنني‪.‬‬ ‫بالرغم من كرثة عدد افراد ال�رشطة ولكننا جنونا ب�أعجوبة‬ ‫منهم‪ ..‬كنت اختبئ عنهم بينما كان املهرب م�شغو ًال بتغيري‬

‫العملة‪ ..‬ثم انتهت اجلولة لكي ا�ستقل القطار يف نهاية املطاف‬ ‫اىل باري�س‪ ..‬فهم�ست يف اذنه‪:‬‬ ‫ـ ولأنك كنت كرميا معي فكلمة ال�رس هي ـ القا�ضي ـ لكي‬ ‫ت�ستلم مالك من امني املكتب و�أ�شكرك على رجولتك اخ ـ‬ ‫علي ـ ‪.‬‬ ‫ـ هل انت مت�أكد من اطمئنانك ايل؟‬ ‫ـ نعم و�سعيد جدا مبعرفتك‪ .‬ـ ثم ودعته فتحرك القطار‬ ‫مغادرا اىل بلجيكا ومن ثم اىل باري�س‪.‬‬ ‫مررت بربوك�سل مل ت�سنح الفر�صة ب�سبب �ضيق الوقت‬ ‫مب�شاهدة ما يكفي من معامل تلك العا�صمة‪ ..‬ثم بعد �ساعات‬ ‫من ال�سفر و�صلت باري�س عا�صمة العطور‪ .‬ما اذهلني ان‬ ‫البلدان االوروبية حدودها مفتوحة على بع�ضها الن لديها‬ ‫‪230‬‬


‫االمان‪ .‬وبالرغم من انفتاح احلدود على بع�ضها ف�إنها تدل‬ ‫على قوة الدول االوروبية وثقتها بقوتها وعدم خوفها من‬ ‫ذلك عك�س الدول العربية فبالرغم من االجراءات امل�شددة �أال‬ ‫انها مل تُعتق من االرهاب الذي قلب االمور ر�أ�سا على عقب‪..‬‬ ‫والدكتاتوريات بعرثتنا و�أ�صبحنا ال جند انف�سنا يف انف�سنا‪ ..‬بل‬ ‫مغرتبني م�شتتني �ضائعني حتى ولو كنا ن�سكن بلداننا فالأمن‬ ‫فيها كالغريب ال وجود له �إال �صدفه‪ .‬ولكن الغريب غريب‬ ‫الدار والأمان‪ ..‬فان مل تكن يف امان يف بلدك فما فائدة الوطن؟‬ ‫و�صلت باري�س‪ ..‬ويف املحطة مبجرد نزويل من القطار‬ ‫انق�ض علي �شخ�ص ا�سمر من ا�صول مغربية مع‬ ‫وعلى الفور‬ ‫ّ‬ ‫�شخ�ص فرن�سي كدت على و�شك ان اوجه لكمة اىل وجه‬ ‫االخري ولكنه �رسعان ما اخرج بطاقة تعريفية تو�ضح انه خمرب‬ ‫مدين‪ ..‬وات�ضح انه يفت�ش فقط عن مواد خمدرة ال غري �سوى‬ ‫ذلك‪� .‬س�ألني‪ :‬ـ من اي بلد انا؟ ـ ف�أجبته‪ :‬ايران ـ طبعا لغة التفاهم‬ ‫الرئي�سية هي اال�شارات وال�شخ�ص املغربي كال�صنم جاثم‬ ‫بجانبي يخزرين بنظراته احلقرية‪ ..‬واخريا �سمح يل باملرور‪..‬‬ ‫وعلى الفور بد�أت رحلة التفتي�ش على برج ايفل حتى وجدته‬ ‫بعد عناء‪ .‬جتولت يف �شوارع باري�س‪ ..‬وت�شبعت عيناي من‬ ‫ازقتها و�أبنيتها واملعامل الكال�سيكية‪ ..‬ومن ثم رجعت اىل حمطة‬ ‫القطار فالتقيت ب�شاب م�رصي و�ساعدين يف �رشاء بطاقة اىل‬ ‫‪231‬‬


‫حمافظة ـ كايل ـ لأبحث هناك عن خمرج يقودين اىل لندن‪.‬‬ ‫بقيت يف كايل ا�سبوعني وكانت مليئة مبطاردات ال�رشطه‬ ‫ليال ونهارا لالجئني الذين كانوا من كل انواع االوطان‪..‬‬ ‫مرة من املرات القيت بنف�سي بني االحرا�ش ال�شائكة الختفي‬ ‫عنهم ومرة يف بركة قاذورات ومرات كنا نتهرب منهم و ُيلقى‬ ‫القب�ض علينا ويتم ابعادنا اىل مناطق بعيدة من كايل ثم ارجع‬ ‫من دون كلل اىل ـ كايل ـ ‪.‬‬ ‫يف منطقة معينة خالية من االبنية والب�رش يتم فتح باب‬ ‫ال�شاحنة من قبل املهربني اثناء ا�ستدارتها من املنعطف متجهة‬ ‫اىل املرف�أ الفرن�سي ـ الربيطاين‪ ..‬ويف خالل اقل من دقائق‬ ‫يجب ان يدفع املهرب خم�سة ا�شخا�ص داخل ال�شاحنة قبل‬ ‫ان ت�ستعدل يف ال�سري وتزيد �رسعتها واال ف�سيفقد ال�شخ�ص‬ ‫الفر�صة يف الهروب‪ ..‬فج�أة باغتتنا كمائن ال�رشطة وحدث‬ ‫انهم القوا القب�ض على الكثريين منا‪ ..‬ا�ستطعت الهرب مع‬ ‫ق�سم قليل ممن كانوا معي واالختباء يف احرا�ش و�سط الغابة‪..‬‬ ‫طوقتنا ال�رشطة بكالبها ال�رش�سة التي قادت ال�رشطة اىل مكان‬ ‫تواجدنا‪ ..‬ف�أ�رشت اىل اجلميع ان يغطوا انوفهم بالأقم�شة‬ ‫ويقللوا من التنف�س قدر ا�ستطاعتهم او حتى يقطعوه لب�ضع‬ ‫ثوان‪ .‬لأنني علمت ان الكالب ت�ستدل علينا من خالل التنف�س‬ ‫وهذه التجربة ت�أكدت منها حينما جنونا بف�ضل اخلطه التي‬ ‫‪232‬‬


‫اتفقنا عليها‪ ..‬ال�شاب االفغاين تردد خائفا‪ ..‬ولكنني �ضغطت‬ ‫وق�سوت عليه ان ينفذ اخلطه‪ .‬احاطتنا الكالب وبد�أت‬ ‫تبحث عنا وقد كتمنا ما ن�ستطيع من االنفا�س م�ستخدمني‬ ‫و�ضع مالب�سنا على انوفنا لكي ننجو منها‪ ..‬كدت اختنق‪..‬‬ ‫كانت الكالب تقتاد ال�رشطة ب�شكل دائري حول االحرا�ش‬ ‫الطويلة التي كنا نختبئ بينها دون جدوى‪ ..‬فاكتفى رجال‬ ‫ال�رشطة بهذا القدر من امل�شقة وغادروا يائ�سني‪ ..‬ـ �سلمنا منهم‬ ‫ب�أعجوبة ـ ‪ ..‬اخرجنا ر�ؤو�سنا من االحرا�ش لنملأ ال�صدور‬ ‫بجرعات من الهواء النقي‪ ..‬ثم بعدها مل اتردد يف البحث عن‬ ‫اف�ضل �شخ�ص يف املنطقة ليو�صلني اىل لندن وب�أي ثمن‪.‬‬ ‫التقيت ب�أحدهم كان حديث العهد بالتهريب واو�ضح يل‬ ‫ب�أن هناك و�سيلة جيدة لركوب ال�شاحنة حيث يكون ال�سائق‬ ‫نائما يف الكراج لينال ق�سطا من الراحة قبل ان يتجه اىل‬ ‫بريطانيا عرب امليناء الذي يف�صلها عن فرن�سا‪ .‬اتفقنا على تنفيذ‬ ‫اخلطة وانطلقنا من�شي �ساعات حتى و�صلنا اىل نقاط تواجد‬ ‫ال�سواق قبيل طلوع الفجر ب�ساعة‪� .‬صعد منا الكثري ومل تبق‬ ‫�إال اعداد قليلة‪ ..‬اراد املهرب ان يرجع بنا الن خيوط الفجر‬ ‫اعلنت البزوغ وباتت ال�سماء ترفع �ستار الظالم لت�ضيء النهار‬ ‫بنور ال�شم�س‪ ..‬ولكنني اقنعته ب�أن يجد لنا عالمة على ال�شاحنة‬ ‫تدل على انها ذاهبة اىل بريطانيا‪ ..‬وافق على الفكرة ثم وجد‬ ‫‪233‬‬


‫�شاحنة حتمل املربى تق�صد بريطانيا‪� ..‬صعدنا ثم اغلق الباب‬ ‫علينا‪ ..‬وماهي اال �ساعات حتى حتركت ال�شاحنة ودخلت‬ ‫الباخرة لتتجه بذلك اىل بلد احالمنا بريطانيا‪.‬‬

‫لندن‪:‬‬ ‫الق�صه مل تنته مبجرد و�صويل‪ ،‬فقد بد�أت مع الغربه �صفحه‬ ‫جديدة ومن لندن بالتحديد‪ ..‬ومل يكتب اللجوء يل الراحة‬ ‫بعد‪ ..‬فبمجرد ان و�صلت ازداد علي العبء‪ ..‬وعلي ان‬ ‫اواجه �صعوبة العي�ش بعد ان رف�ضت بريطانيا جلوئي وبد�أت‬ ‫اعمل يف املطاعم لك�سب يومي‪.‬‬ ‫بعد �سنوات من العناء و�رصاع قا�س مع العي�ش يف لندن‬ ‫ح�صلت على اقامتي الدائمة بفر�صة مل تكن تخطر على البال‪..‬‬ ‫و كان علي ان اقدم على طلب احل�صول على اجلن�سية الربيطانية‬ ‫بعد �سنة من االقامة‪ ..‬وعلي ان اح�صل على �شهادة من احد‬ ‫املعاهد ت�ؤيد ب�أنني اتكلم االنكليزية وهذه طبعا احد �رشوط‬ ‫اجلن�سية الربيطانية‪ .‬وهناك حيث كانت املدر�سة ال�شقراء‪ ..‬و‬ ‫هي من بد أ� معها ق�صة احلب ـ ن�رسين ـ والتي من انطلق لأجلها‬ ‫كتابي الأول‪ ..‬وتتالت كتبي اىل ‪ 14‬كتاب كتبتها بحقها‬ ‫وع�شقها‪ .‬تاريخ ميالدها ما زال عالقا يف ذهني فلم ان�س �شهر‬ ‫اب من كل �سنه حينما يحل‪ ..‬لكي اهنئ �صورتها بال�سنة‬ ‫‪234‬‬


‫اجلديدة التي ت�ضئ عمرها بها‪ ،‬فهي كال�شم�س ال تنطفئ‬ ‫ن�ضارتها‪ .‬وهنا كانت ق�صتي مع احلياة طوال اكرث من ثماين‬ ‫�سنني‪ ..‬وكم اتذكر من عراقيني ماتوا او قتلوا ومل ي�صلوا ملا‬ ‫كانوا ين�شدون‪ ..‬بع�ضهم احرتقت جثثهم وبع�ضهم من ق�ضى‬ ‫نحبه غريقا وهناك ماليني الق�ص�ص مل تذكر بعد‪ ..‬وال�سيما يف‬ ‫ظل ظروف البلد االخرية بعد �سقوط بغداد‪ ..‬ولن نتعلم حتى‬ ‫نتعلم‪.‬‬ ‫ال اعلم فلرمبا كان لهذا الكتاب جزء ثان‪.‬‬

‫‪235‬‬


236


237


238


‫الق�صة الكاملة لرجل عراقي مغرتب‪ ..‬كتاب �سريته وبع�ض‬ ‫من م�ؤلفاته ال�شعرية جتدونها على �أمازون‪ ..‬ـ مدونات ريا�ض‬ ‫القا�ضي –‬ ‫‪On amazon now:‬‬

‫‪239‬‬


240


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.