رواية
ٌ رجــــل مـن مدينـــــة اهلل ت�أليف :د.منقذ عقاد
الكتاب :رجل من مدينة اهلل امل�ؤلف :منقذ نادر العقاد الت�صنيف :رواية
النا�شر :مجموعة دار �أبي الفداء العالمية للن�شر والتوزيع والترجمة الطبعة الأولى :يناير (كانون الثاين) 1997
لال�ستف�سار عن الكتاب يرجى االت�صال على:
اجلمهورية العربية ال�سورية00963951211079 : الإمارات العربية املتحدة00971508289982 :
الكتاب متوفر على الإنرتنت: 4shared www.4shared.com
�سوريا ،حماة� ،ساحة العا�صي ،مقابل الربيد �ص.ب ،132 :هاتف 033-2224438 :فاك�س033-2224439 : موبايل00963951211079 :
Syria, Hamah, Sahet Al Assy. P.O.Box: 132, Tel: 033-2224438 Fax: 033-2224439 Mobile: 00963951211079
جميع حقوق الطبع و�إعادة الطبع والن�شر والتوزيع حمفوظة لـ«جمموعة دار �أبي الفداء العاملية للن�شر والتوزيع والرتجمة» ال ي�سمح ب�إعادة �إ�صدار هذا الكتاب �أو �أي جزء منه� ،أو تخزينه يف نطاق ا�ستعادة املعلومات �أو نقله ب�أي �شكل من الأ�شكال ،دون �إذن خطي من جمموعة دار �أبي الفداء العاملية للن�شر والتوزيع والرتجمة. abdullahalakkad8
جمموعة-دار�-أبي-الفداء-العاملية-للن�شر-والتوزيع-والرتجمة
الف�صل الأول
رجل من مدينة اهلل
بد�أ حامد زوج املرحومة «�صباح جميل ال�سعيد» بقراءة مذكراتها التي وجدها يف درجها اخلا�ص املجاور ل�سريرها .كان يبدو كئيب ًا �إلى حد ما ،لكنه ا�ستطاع التغلب على حزنه وكمده بطريقته اخلا�صة * فهو ٍّ �أدرى بنف�سه و�أ�سرارها كما يقول دائم ًا� .أطف�أ الفانو�س خلم�س دقائق ثم �أ�شعله من جديد وقد ظهر وجهه ب�سحنة جديدة �أكرث �إ�شراق ًا ،فتح الدفرت و ربط املنبه على ال�ساعة الثالثة كي يوقظه من رحلته يف هذه املذكرات بالوقت املنا�سب ،وبوا�سطة ال�سبابة والإبهام قلب ال�صفحة الأولى و�شرع يف القراءة: مل �أعتد يوم ًا على كتابة املذكرات بيد �أنني عندما تزوجت من حامد و�سافرنا مع ًا �إلى �أمريكا �أح�س�ست بفراغ كبري ،خا�ص ًة و�أننا بع ُد مل ننجب �أطفا ًال� ،أ�ضف �أن الدرا�سة ت�سرق من زوجي الكثري من وقته، لذا فقد خطرت ببايل فكرة كتابة مذكراتي مع عائلتي قبل زواجي بحامد .بالت�أكيد لن �أقارن نف�سي ب�أخي مرهف �إذ �أنه الأف�ضل بال منازع يف كتابات كهذه ،لكنني �أ�شعر اليوم بحاجة �إلى رواية ذلك اجلزء من حياتي ولو لهذه الورقات. بد�أت حكايتي يف كانون الأول من عام 1985حيث �أقطن وعائلتي مدينة حماة تلك املدينة الهادئة املحبة للعزلة من املدن ال�سورية ،والتي متتاز بنواعريها التاريخية الرائعة وطبيعتها الأندل�سية اخلالبة، يق�سمها نهر العا�صي �إلى جز�أين :احلا�ضر و ال�سوق وي�صل بينهما ج�سر ال�سرايا يف مركز املدينة ،غري �أن هذه الق�سمة الطبيعية قد ق�سمت �أهلها �إلى فئتني� :أهل احلا�ضر و�أهل ال�سوق� .أما �أهل احلا�ضر في�صفون �أنف�سهم بال�شهامة والرجولة ويل�صقون ب�أهل ال�سوق امليوعة 4
منقذ نادر العقاد
واخلنوثة ،و�أما �أهل ال�سوق في�شهدون لأنف�سهم بالتمدن واملعا�صرة ويتهمون اجلانب الأول بالبداوة وعدم التمدن ،ومل يقف الطرفان عند هذا بل تعدياه �إلى املذاهب الفقهية ،فج ُّل �أهل احلا�ضر على املذهب ال�شافعي وغالبية �أهل ال�سوق على املذهب احلنفي ،وال �أدري �إن كان للحكم العثماين واالحتالل الفرن�سي من بعده ي ٌد يف ذلك. رمبا �أ�سرفت قلي ًال يف احلديث عن �أهل مدينتي على ح�ساب مدينتي ،وعزائي �أن تراث املدن حمفوظ يف �سجالت ودفاتر� ،أما طباع �أهلها فال يعرفها حق ًا �إال �أهلها. واليوم وهلل احلمد باتت معامل تلك الفرقة منح�سرة عن املجموع با�ستثناء قلة قليلة ال �شاغل لها �إال هذه املهاترات ،فقد لعب العلم والوعي دورهما القوي يف ر�أب ال�صدع� ،إذ العلم عد ُّو اجلهل ومن نعرات كهذه. احلمق تزكية ٍ �أعود الآن �أدراجي لعائلتي حيث كنا ن�سكن يف حي جنوب الثكنة، �ستت�ساءلون بال ريب �أي ثكنة؟ ف�أجيبكم ب�أنها ثكنة املحتل الفرن�سي �آنذاك ومنذ ذلك احلني تدعى منطقتنا بجنوب الثكنة .كان والدي موظف ًا يف مديرية الرتبية و�أمي معلمة يف مدر�سة العبا�سية ،الذكور من �إخوتي� :أحمد ومرهف ،والإناث :عائ�شة و�أنا� ..أوه ن�سيت �أن �أع ِّرفكم (�ص ُّبوحة) .وذات يوم بعيد با�سمي� :أدعى �صباح وينادونني يف البيت َ عندما كنت ال �أزال تلميذة يف مدر�سة العبا�سية عدت �إلى البيت باكر ًا على غري عادتي فاملعلمة اعتذرت عن الدر�س الأخري لوعكة �صحية �أملَّت بها ،وحينما و�صلت �إلى البيت وهممت بقرع اجلر�س �سمعت �صوت بكاءٍ 5
رجل من مدينة اهلل
ونحيب َّ فدق قلبي ب�ش ّدة وخ�شيت من فاجعة ح ّلت بنا لكنني متالكت نف�سي وقرعت الباب وملّا دخلت و�شاهدت والدي و�إخوتي �أُث ِلج �صدري و�سكنت هواج�سي .كانت عمتي خديجة من ينتحب ،مل �ألق التحية على �أحد منهم ،بل دخلت �إلى غرفتي بهدوء ،غيرّ تُ مالب�سي ثم ت�سللت خفي ًة �إلى جوار �أختي عائ�شة و�س�ألتها هم�س ًا عما يحدث ،ف�أجابتني ب�صوت يحاول تطويق ت�سا�ؤالتي :ا�صمتي ،لقد ُط ِّلقت عمتك! ٍ وملاذا؟ ت�ساءلت ب�صوت مل ت�صل ذبذباته �إ ّال لها.�أن�صتي حلديث عمتك و�سوف تعرفني ما جرى.كانت عمتي تبدو منفعلة وكلما حتدثت رفعت يدها اليمنى ثم هوت بها على فخذها املك َّور .مل �ألتقط اجلواب ،فعمتي تتحدث بع�صبية مفرطة و�أنا مل �أعتد بع ُد متابعة �أنا�س ير�شون كلماتهم على الأ�سماع دفعة واحدة. يف امل�ساء ،وجدت الفر�صة مواتية ملعرفة ما حدث ونحن يف فرا�ش النوم �إذ �أخربتني عائ�شة احلكاية ،فعمتي قد طلقت من زوجها لأنه رجل فظ غليظ القلب� ،سكري من الدرجة الأولى ،يتذرع دوم ًا بعقمه يف تربير �سكراته و�سوء معاملته لها ،وكلما حاولت عمتي �إفهامه �أنها را�ضية مبا هو كائن ،و�أنّ اخلمرة لي�ست احل ّل املنا�سب ،ظنها تلوي يده فيزيد الطني ِب ّل ًة وي�شرب �أكرث من باب ال ِنكاية ،وقد قام م�ؤخر ًا ب�ضربها وتخوينها بل وحاول قتلها �أكرث من مرة وهو �سكران خمبول. ..يا له من زوج قذر ،هكذا كانت تقول والدتي ،ومبا �أنها ت�أثرت 6
منقذ نادر العقاد
حلالها و�أ�شفقت عليها فقد ملّحت لوالدي ب�إمكانية �إقامتها معنا، فا�ستجاب والدي وح�صل ما متنت .بيد �أن الأمور مل جتر على خري ما يرام الحق ًا ،فها هي �أمي قد بد�أت تت�ضايق من تدخل عمتي يف �ش�ؤوننا �صغريها وكبريها وقد �ص ّرحت لوالدي بذلك �أكرث من مرة و�أخربته �أنَّ عليه �إيجاد ٍّ حل لتلك امل�شكلة فهي �أخته وهو �أدرى بها من غريه ،فما يكون من والدي �إال �أن ُير ِّبت على كتفها ويقول مازح ًا: • ُك ّفي بالءك عنا يا امر�أة. فرت ُّد عليه �أمي بلهجة املقهور: •�صدق من قال :افعل خري ًا جتن �شر ًا ثم تلتفت لعائ�شة فتنهرها قائلة: •هيا اذهبي لدرو�سك ،ف�أنت مقبل ٌة على فح�ص ال�شهادة الإعدادية ،وتعلمني ما لهذه ال�شهادة من � ٍأثر يف م�ستقبلك. فرت ُّد �أختي قائلة: •حا�ضر ،دقيقة و�أذهب ،ولكنها ما �إن تدخل غرفتها حتى تخاطب نف�سها وهي تنظر للمر�آة وتقول: •درا�سة ،درا�سة� ،أُ ٍف ..لقد مللتُها .ف�أجيبها �أنا: •�إن �أمك تريد م�صلحتك ،ثم �إن الدرا�سة �شيء جميل ولي�س مم ًال كما ت َّدعني ( يف احلقيقة كنت هنا �أمثل دور النا�صحة 7
رجل من مدينة اهلل
لال�ستفزاز لي�س �إال ) •ا�سكتي �أنت ،وهل درو�سك كدرو�سي؟ اقرئي مث ًال هذه الفقرة وا�شرحيها يل �إن كنت فاحلة كما تقولني. •وكيف �أ�شرحها لك وهي لي�ست من درو�سي؟ �أال تذكرين كيف كنت ت�ست�صعبني درو�سي التي ُت ِّ �سخ ِفي َنها الآن؟ •اذهبي عن وجهي و�إال �ضربتك. نور.
فكنت �أَ ِف ُّر منها �إلى ال�صالون خ�شية وعيدها ،فالغ�ضب نار بال
يف اليوم التايل زارتنا جارتنا �أم ح�سان ،وح�سان هذا �صديق لأخي مرهف منذ املهد و�أمه �صديقة لأمي �أي�ض ًا ،فقد �سك ّنا مع ًا هذا احلي منذ وقت طويل ،وقد تويف زوج �أم ح�سان بحادث طائرة ولهذا فهي تعي�ش وحيد ًة مع ابنها وهو يعني لها كل �شيء يف هذه احلياة. ح�سان ومرهف مقبالن �أي�ض ًا على امتحان ال�شهادة الإعدادية ،فقد فاتني �أن �أخربكم �أن مرهف وعائ�شة تو�أم فال عجب �أن يكونا يف ال�سنة الدرا�سية نف�سها .هما تو�أم �أجل ،لكنَّ الطبائع خمتلفة ،فعائ�شة �سريعة االنفعال ،متقلبة الأمزجة وامل�شاعر ،ال تدع ل�صدرها �سر ًا يحظى به �إ َّال ووزعته جمان ًا على �صدور الآخرين من الأقارب والأباعد ،غريب ٌة �أختي حق ًا ،لكنها وعلى الرغم من ذلك فهي ت�سلب منهم االحرتام ب�شكل يثري العجب .و�أما مرهف فهادئ ،كتو ٌم� ،صدره كزمرة دمه ي�أخذ وال يعطي �أحد ًا ،ووجهه مثل وجه الليل ي�ستميلك �إلى الكالم من دون �أن ي�صرح 8
منقذ نادر العقاد
بذلك ،تنب�أ له �أ�ستاذ اللغة العربية �أنه �سي�صبح �أديب ًا حمرتف ًا ،وهو ُيل َّقب بيننا باملت�أمل� ،أما عائ�شة فلقبها “مونتي كارلو” العائلة. � ..أم ح�سان ت�س ُّر لأمي: جاءين منذ يومني حممود وهو يريد الزواج مني. �أجاد ٌة �أنت فيما تقولني؟ �أق�سم لك ،حتى �أنه كان برفقة والدته العجوز. وما موقف ح�سان من ذلك؟ اخف�ضي �صوتك ،ف�أنا مل �أخربه� ..إذ كان وقتها خارج البيت،لهذا فال تخربي �أحد ًا من �أوالدك وخ�صو�ص ًا مرهف .هنا نه�ضت �أمي و�أخذت تتجول يف ال�صالون للت�أكد من خلوه منا ،فتبعتها اجلارة مت لهما القهوة ونظرت يف بالنهو�ض ثم وقفتا �أمام ال�شرفة ..ق َّد ُ عيني والدتي التي �أوم�أت يل باالن�صراف ،تظاهرت بعدم االكرتاث أ�صبحت خارج ال�صالون حتى حلديثهما كي ال ينتبها يل ولكنني ما �إن � ُ رحت �أن�صت لهما من وراء باب غرف ٍة جماورة. ُ احت�ست �أمي قلي ًال من القهوة ،وفعلت جارتنا ال�شيء نف�سه ثم عادتا �أدراجهما �إلى(الكنبة). هم�ست �أمي لها: 9
رجل من مدينة اهلل
وماذا �ستفعلني؟ ال �أعرف. هل ترغبني بالزواج منه؟� ..صمتت اجلارة قلي ًال ثم قالت بنربة تعلوها م�سحة حياء: ل�ست مت�أكدة بعد ،فمحمود رجل م�ستقيم وو�سيم وفوق هذاقد م َّر بنف�س جتربتي� ،إال �أ ّنه خرج منها دون �أطفال �أما �أنا فخرجت بح�سان ،وتعلمني ما يعني يل� ،إنه دنياي كلها و�أنا ال �أريد �أن �أخ�سره. لك َّن ِك ب�ش ٌر ،ومن حقك �أن تتزوجي وتلتفتي حلياتك ف�أنت الأدراك �أن ح�سان �سيبقى �إلى تزالني يف العقد الثالث من عمرك ،وما � ِ جوارك العمر كله؟ ِ ماذا تعنني؟يوم �شاب ًا وال ريب �أنه وقتها �سيفكر �أعني �أنه �سيغدو ذات ٍبالزواج واال�ستقالل. ال ..ال ..لن يفعلها. بل �سيفعلها ،فهذا حقه الطبيعي. يا �إلهي ماذا �أفعل ،قالتها وقد و�ضعت الفنجان بح َّدة على10
منقذ نادر العقاد
الطاولة ثم ا�ستدركت و�س�ألت �أمي :لو كنت مكاين فماذا تفعلني؟ أطرقت والدتي يف الأر�ض ف� أوج�ست يف نف�سي خيف ًة و�أنا ُ حينها � ْ �أترقب جوابها ،فقد قررت يف نف�سي �أال �أكلمها �أبد ًا �إن قالت�( :أتزوج). لكنها تركت الأمر معلق ًا وقالت: ال �أ�ستطيع �أن �أجيبك ،فالأمر لي�س �أمر ت�صور بقدر ما هو �أمر�إح�سا�س وجتربة. اجلارة وقد تنف�ست ال�صعداء: ح�سن ًا ،لن �أتزوج منه ..يبدو �أن الأمر فوق ا�ستطاعتي� ،س�أعتنيبولدي حتى يغدو رج ًال� .أ�ضيفي �أنَّ الأرامل يف جمتمعاتنا �إن �أردن الزواج ُن ِظر �إليهُنَّ على �أنهُنَّ يرك�ضن وراء الرجال ،ال على �أ َّنهُنَّ ُير ْدنَ ال�سرتة وتلبية حاجاتهنَّ امل�شروعة. ال تكرتثي لكالم النا�س. كيف ال �أكرتث ،ف�أنا ال �أعي�ش يف جزيرة نائية �أو �أر�ض مهجورة،بل بني �أنا�س يهمني �أن �أعلم كيف ينظرون يل. دار بعدها نقا�ش مل �أ�ستطع �سماعه �إذ ك�شفني �أخي �أحمد، فحملني �إلى ال�شرفة املقابلة وقال موبخ ًا: أحد فالتج�س�س حرا ٌم كم مر ٍة �س�أقول لك �أال تتج�س�سي على � ٍوعيب. 11
رجل من مدينة اهلل
هذه �آخر مرة�َ ،صد ْقني.وعدته بذلك ويف �صوتي غ�صة ُبكاءٍ . ح�سن ًا ،مبا �أنك قد اعرتفت بخطئك فقد �ساحمتك ،هيا اذهبيللفرا�ش. ذهبت للفرا�ش وال �أظن �أن احلديث بينهما قد طال كثري ًا �إذ عادت عمتي وعائ�شة من بيت عمي عبد اهلل ،وال ريب �أنهما قد طويتا املو�ضوع �أمام عمتي و�إ َّال لعلم جميع اجلريان به ،و�أنا فعلت ال�شيء نف�سه مع عائ�شة ،فقد ورثت الرثثرة من عمتي .لهذا مل �أبح لها بكلم ٍة ،لكنها بدت كئيبة وخاملة ،بفعل لزومها البيت حت�ضري ًا لالمتحان خا�ص ًة و�أنها ال تدر�س مع �أحد كما يفعل مرهف الذي يدر�س مع ح�سان ،لهذا �أردت الرتويح عنها ف�أخربتها مبا كتمته عنهاَ ،ف َر َب ْت وانت ََ�ش ْت ل�سماع َ املت�شائم �إلى وجه ال�شاحب العبو�س وخالل دقائق تب َّد َل الوجه اخلرب ُ ُ ُ فردت يديها ومطتها يف كل أخذت نف�س ًا عميق ًاْ ، ومرحْ � . ُم ٍ حيوي ٍ نب�سط ٍ اجلهات وقالت يل: علمت بذلك؟ كيف ِف�أجبتها ب�شيء من احلرج: هذا �سر.مل تكرتث كثري ًا لطريقة معرفتي اخلرب بقدر ما جذبها اخلرب. 12
منقذ نادر العقاد
كم �أخط�أت ب�إخبار عائ�شة ،فكي �أ�سليها بحت لها مبا ال يباح، �سر� ،إذ تغلب رغبة الكالم عندها على �إرادة فمثلها ال ت�ؤمتنُ على ٍ ال�صمت .فها هي ذا قد �أخربت عمتي وعلمت واهلل من تخرب� ،إنها ِ ثرثارة مثلها فال عجب �أن تبتدئ بها فالطيور على �أ�شكالها تقع. خالل �أيام معدودات علم اجلريان كلهم بالأمر وبد�أ الغمز واللمز ،لقد كانت �أم ح�سان حمقة فيما ذهبت �إليه ،فها هو جارنا “�أبو رئيف” ي�صفها بال�شهوانية وتلك جارتنا “�أم �سامي” �شرعت تحُ و ِق ُل وتقول: ماذا جرى لعقل املر�أة ،هل تريد �أن تتزوج وترمي بابنها يفال�شارع؟ (ن�سوان �آخر زمن) ..فتجيبها “�أم عبدو”� :أي واهلل (ن�سوان �آخر زمن) فحتى تربة زوجها مل جتف بعد ( ،لك تفو عليها وعلى �أمثالها ). وهنا تتدخل احلاجة «�أم علي» وتقول بحزم وانفعال: كفاكنَّ خو�ض ًا يف �أعرا�ض النا�س ( يا عيب ال�شوم ) ،هل � نُ َّأنت حق ًا ن�سا ٌء م�سلمات؟ وقد نه� َّ شنت يف �أختكنَّ �أم ح�سان كما تنه�ش الكالب جيف ًة ن ِتن ًة ،ثم رفعت غطاء ال�صالة عن ر�أ�سها و�أكملت :واهلل �أمركم عجيب� ،أال يوج ُد �شي ٌء �آخر ت َُخ ْ�ضنَ فيه غري �أعرا�ض النا�س؟ � نُ َّ أل�ست متزوجات وت�أوي الواحدة ِمن ُكنَّ �إلى �صدر زوجها كل ليلة (ولو قللت حياء) معكنَّ ثم لت�أتي وتقول :هذا يجوز وهذا ال يجوز. عند هذا احلد �سكتت «�أم علي» فتابعت �أمي بحزم� :إنه الفراغ يا 13
رجل من مدينة اهلل
هم لهنَّ �سوى حاجة ،فه�ؤالء الن�سوة بعد �أن يطبخن ومي�سحن البيت ال َّ هذا احلديث لأنه ال يتطلب �إعمال �شيء �سوى الل�سان ،وما �شاء اهلل �أل�سنتنا تتنامى كل يوم. هذه هي املرة الأولى التي تبدي فيها �أمي وجهة نظرها احلقيقية يف ن�ساء َح ِّينا ،ولهذا فقد القت ِمنهُنَّ فيما بعد العداء واملجافاة ،قامت يعر ْفن كيف يجمعن �أنف�سهن ،فهذه ال تعرف اجلارات بعدها وهنَّ ال ِ كيف ترتدي العباءة وتلك ال تعلم �أين و�ضعت خمارها وال تتجر�أ �أن ت�س�أل احلاجة “�أم علي” خ�شية �أن ُتو ِّبخها �أو تنهرها ،ثم ان�صرفن �أخري ًا يجررن بع�ضهن كالعميان� ،أما والدتي فبقيت قلي ًال ثم ذهبت هي الأخرى. و»�أم علي» هذه عجوز وحيدة ت�سكن الطابق الأخري من بنايتنا روح ومتلك املال الكثري فزوجها كان من عائلة �إقطاعية �إال �أنها ذاتُ ٍ متوا�ضعة وهي ال ت�ؤيد مثل هذه الطبقات يف جمتمعنا .يعتربها �أهل البناية ج ّدة اجلميع وهي فع ًال مرجعنا جميع ًا عند � ِّأي خالف �أو م�صيبة ال ق َّدر اهلل .تق�ضي ُج َّل وقتها يف العبادة والذكر ،وما تبقى أ�سر فقرية جماورة لت�س َّد عوزها من دون �أن تذكر منه تفت�ش فيه عن � ٍ ا�سمها �أو مكان �إقامتها لتلك الأ�سر .كم كان والدي معجب ًا بها ،فقد كان يقول دوم ًا� :إنها امر�أة تفهم مقا�صد الزكاة متام ًا ،فهي ال تعطي الفقري ما ي�س ُّد رمقه �إلى حني بل ما يمُ ِّكنه من �سدِّ ه على الدوام� ،إذ بروح بر�أي والدي �أنه لو فعل جميع �أغنيائنا مثلها و�ساعدوا الفقراء ٍ متوا�ضعة كروحها ملا بقي وح�ش الفقر فاحت ًا فمه وهو يتل ّق ُف طاقاتنا و�إبداعاتنا ثم ُيخ ِّل ُف لنا الأمرا�ض والعلل. 14
منقذ نادر العقاد
�أنبني �ضمريي ملا حدث ولمِ ُت نف�سي كثري ًا لإخباري عائ�شة الرثثارة ،ولكن ما باليد حيلة فقد حدث ما حدث وانتهى الأمر. خا�صمت عائ�شة بعدها وكنت يف خ�صامي جادة وكذا �أمي خا�صمت ُ عمتي لل�سبب نف�سه .لكننا �أنا وعائ�شة ت�صاحلنا بعد يوم واحد ،فكيف �أ�صرب على نظرات الندم يف عينيها و�أنا �أحبها �أيمَّ ا حب ،وفح�صها فوق هذا على الأبواب� .أما �أمي فا�ستمرت يف خما�صمتها لعمتي التي �أبت �أن تعرتف بخطئها ولو مع نف�سها ،لتبد�أ منذ ذلك احلني اخلالفات فيما بينهما. طلبت مرهف لغرفتي ،اعرت�ضت �أمي عند امل�ساء قبيل النومُ ، فتحججت �أنه �سي�شرح يل ق�صيدة �صعبة خ�شية تعطيله عن درو�سه َّ الفهم .قالت يل �أمي على الفور :هاتها� ،س�أ�شرحها لك �أنا. ف�أجبتها ب�شيءٍ من الغنج: أنت ،فهو ي�شرحها � َ منك� .ضحكت �أمي ال ،ال ،ال �أريد ُِك � ِأف�ضل ِ َّثم �أوم�أت لنا بالذهاب. وعندما دخلنا الغرفة بادرين مرهف بالقول: �أين الق�صيدة� ،أرين �إ ّياها.� ُّأي ق�صيدة؟وقت مزاحك. لي�س الآن ُ15
رجل من مدينة اهلل
أتيت َ بك لهذا. �أنا ال �أمزح فما � ُ�إذ ًا فمن �أجل ماذا؟�أردت �أن �أ�س�ألك عن �أحوال ح�سان ف�أنت �أقرب �شخ�ص منه.ح�سان؟ومن غريه �إذ ًا؟َ ..ه َّم بالنهو�ض ف�أم�سكته راجي ًة �إياه �أن يخربين احلقيقة .تر َّدد يف البداية ولكنه ملَّا �شاهد الت�صميم يف عي َّني بادرين بال�س�ؤال: فلماذا �إذ ًا ُك ُّل هذا ِّاللف والدوران؟ لأننا �إن مل جنل�س هنا �سنجل�س يف ال�شرفة ويف ال�شرفة يجل�س�أحمد� ،أو يف ال�صالون وفيه �أمك وعائ�شة ،وعائ�شة ثرثارة� ،أما هنا فنحن يف �أمان والق�صة بعد هذا حمبوك ٌة جيد ًا كما ترى. �إذ ًا �أعطني كتاب الن�صو�ص ،ف�إن دخل علينا �أحدهم بغتة ُك َّنايف م�أمن وحيطة من �أمرنا .بلمح الب�صر جئته بالكتاب ،ق َّلبه حتى ا�ستق َّر على ق�صيد ٍة ل�سليمان العي�سىَّ ، لف ِرج َل ُه ال ُيمنى على ال ُي�سرى، التفت �إ َّ يل وقال بهدوءٍ :ا�ستقبل ح�سان اخلرب فكان عليه كال�صاعقة ُث َّم ّ يف ُمباغتتها وح َّدتها لكنه عندما علم باملو�ضوع من البداية حتى النهاية التم�س لوالدته ُعذر ًا وهكذا انتهت العا�صفة دون خ�سائر. َ 16
منقذ نادر العقاد
احلمد هلل ،احلمد هلل ،ودرا�سته؟عادت كما كانت بف�ضل اهلل ونحن الآن على �أبواب االمتحانفاتركيني و�ش�أين وان�صريف. حت ملا قال فرح ًا �شديد ًا حتى فر ُ قالها مازح ًا ،ثم ان�صرف وقد ِ علي عائ�شة �أم�سكتها ِ�صرت �أرق�ص من �شدة الطرب ،وعندما دخلت َّ من يديها ورحت �أُرا ِق ُ�صها فترُ ا ِق ُ�صني والده�ش ُة تكا ُد ال تفارق وجهها.. وهكذا عدت مع �أختي �سمن ًا وع�س ًال ،فالعا�صفة قد انتهت ومل تطلنا �آثارها �إال من �صوب والدتي وعمتي� ،إذ ا�ستمر اخل�صام فيما خاطر وال بال. بينهما لتبد�أ م�شكالتٌ لي�ست على ٍ
17
الف�صل الثاين
رجل من مدينة اهلل
كان �صيف هذا العام حار ًا .الطاعنون يف ال�سن يقولون :غ�ضب من اهلل ،فبعد �أن كربت �أج�سادهم وخبت �شهواتهم �أ�ضحوا الناقدين ملجريات ع�صر باتوا �شيئ ًا ف�شيئ ًا يخرجون منه و�إلى الأبد ،و�أما اجلدد على احلياة فيقولون :يهذي العجائز ،كل �شيء غ�ضب من اهلل ،لقد عا�شوا زمانهم وتنعموا يف رحابه واليوم يريدون �أن ال نعي�ش زماننا. ال تهمنا مناق�شة �آرائهم كثري ًا ،فح ُّر ال�صيف يعني لنا نحن عائلة ال�سيد جميل �شيئ ًا �آخر� .إذ قد وافق والدي وللمرة الأولى يف حياته على ذهابنا للبحر ،ف�إخوتي مرهف وعائ�شة قد جنحا يف ال�شهادة الإعدادية وبتفوق ،وانتقلت �أنا بامتياز �إلى مرحلة الدرا�سة الإعدادية بينما ح�صل �أحمد على ال�شهادة الثانوية وبعالمات ت�ؤهله لدخول كلية الطب. �أما �أمي وعمتي فقد ت�صاحلتا مب�ساعي والدي اجلادة وترقت �أمي من معلمة �إلى مديرة مدر�سة. �إذ ًا اجتمعت لهذا ال�صيف �أ�شياء كثرية مفرحة فك�أنها باقة ورد متنوعة �أهدتها ال�سماء لنا .ق�صدنا ر�أ�س الب�سيط على ال�ساحل ال�سوري، فر�أ�س الب�سيط من �أماكن اال�صطياف اجلميلة كما يقول والدي ،وهو فوق ذلك غري مزدحم كغريه من �أجزاء ال�ساحل .مكثنا هناك ثالثة �أيام فقط ،فقد اختلف والدي و�أخي �أحمد يف م�ساء اليوم الثاين. �أحمد يريد �أن يدر�س يف كلية الهند�سة امليكانيكية ووالدي يريده طبيب �أ�سنان وبينما نحن نحت�سي ال�شاي حتت �ضوء القمر و�أمواج البحر بني و ٍّد وخ�صام و�إذ بوالدي يوميء لأحمد بالتم�شي معه قلي ًال ،وبعد ن�صف زيت مغلي على وجهيهما .كنت �ساعة عادا و�أمارات الغ�ضب بادية كبقع ٍ �أنا ومرهف نلعب ال�شطرجن عندما جل�س والدي �صارخ ًا يف وجه �أمي: 20
منقذ نادر العقاد
�أر�أيت ماذا يريد ابنك املحرتم �أن يدر�س؟�أمي ب�صوت ي�شبه املواء: على ر�سلك ،ماذا يريد؟يريد ح�ضرته �أن يدر�س هند�سة ميكانيكية.وماذا يف ذلك ،دع ابنك يختار درا�سته بنف�سه؟نعم ،نعم .قالها بنربة حادة ت�ستجر والدتي للم�شاجرة.�أ�شارت �أمي ملرهف ويل باالبتعاد قلي ًال فرف�ضت حمتجة بالنعا�س. �أمي لوالدي ب�شيء من الغ�ضب: ملاذا تزعق هكذا ،هل تظن نف�سك يف بيتك؟عمتي وقد �أخذتها احلمية لأخيها: ال ت�صرخي بوجه �أخي هكذا ،احت�شمي يا امر�أة.قويل لأخيك هذا الكالم .ولي�س يل �أنا.هل تظنني �أن على ر�أ�سك ري�شة؟ال ت�سخري يا طويلة الل�سان و�إال..21
رجل من مدينة اهلل
�أي�ض ًا؟
-و�إال ماذا يا ح�ضرة املديرة� ..أم تخالني نف�سك مديرة هنا
كان اجل ُّو بارد ًا ،فان�سحبت من املكان نحو اللحاف ود�س�ست نف�سي حتته و�أ�سناين ي�صطك بع�ضها ببع�ض ومع هذا مل ينتبه �إ ّ يل � ّأي واحد منهم فك�أنّ �إبلي�س قد ذهب بنور عقولهم و�إدراك حوا�سهم و�أبقى لهم الرماد ،وهل ي�أتي الرماد �إال من �شيء يحرتق؟ ومما زاد الط ِني ب َّل ًة ،هو �أن والدي قد انحاز لعمتي فنهر والدتي و�شتمها لأول مرة يف حياته ،ول�ش ّدة ما �أخذتني احلمية لأمي حملقت يف �أخـي و�صـرخت فيـه� :أنت ال�سبب (اهلل يقطع عمرك) وعمر درا�ستك. لكنني ندمت بعدها ندم ًا �شديد ًا ،فكيف �أكلم �أخي الكبري هكذا؟ كل اخلط�أ من الكبار ،جرين خ�صامهم ل�شتم �أخي ،فاحلق مع �أمي ملاذا علي ،بل ال يرتكونه يختار طريقه بنف�سه؟ والغريب �أن �أحمد مل يرد َّ اكتفى بالقول متمتم ًا :ب�سيطة ،ب�سيطة ،اهلل يفرجها. ثم التفت للمجموع وقال كلمته الأخرية: ح�سن ًا �س�أكون كما تريدون.ما يريده �أبوك ولي�س �أنا.�أعلم يا �أمي ،ولكن �أرجوكم يكفي.م�ضى �أ�سبوع على حادثة الت�شاجر ،وال تزال الأجواء م�شحونة 22
منقذ نادر العقاد
بالغ�ضب والتنافر بعد تلك النـزهة ،حيث عادت �أمي وعمتي للخ�صام، �أما �أبي فلم �أعد �أ�شاهده يحت�سي القهوة كعادته مع �أمي كل �صباح، بل بات يخرج باكر ًا ثم يعود من عمله فيتناول غداءه وينام وعندما ي�ستيقظ يخرج وال يعود �إال للنوم وهكذا دواليك يف كل يوم. وذات �صباح ذهبت مع �أخي �أحمد �إلى مكان عمل والدي يف مديرية الرتبية ،فقد كان علينا �أن ن�ساعده يف حمل ( �سحارة امل�شم�ش ) قال لنا: خذا ن�صفها و�أنا �أحمل الباقي ،خذاها قبل �أن تنفد ،فكل منعلي هذا اليوم يقول يل :من �أين لك هذه ( اللقطة ) ثم ي�ستبيح ي�سلم َّ لنف�سه تناول ب�ضع م�شم�شات بق�صد التذوق ،وهكذا لن يرتكوا لكم �شيء حتى �ساعة االن�صراف. ُث َّم ا�ستطرد يف �أمر �آخر فقال وهو ينه ُر �أخي: ملاذا جئت ب�أختك معك� ..أين مرهف �أفندي؟يف البيت.وماذا يفعل ح�ضرته؟يفك مذياع ًا قدمي ًا ويحاول تركيبه بنف�سه.هنا دخل امل�ستخدم �إلى الغرفة التي ي�شغلها عادة والدي وزميله ب�صب ال�شاي وخالل ذلك التفت �إلى والدي وقال :هل خلدون ،و�شرع ُّ 23
رجل من مدينة اهلل
املحرو�س �أحمد؟ نعم هو.ما �شاء اهلل� ،أ�صبح رج ًال.�أجل ،و�سيدخل اجلامعة.وب�أي كلية �سيلتحق؟ بكلية طب الأ�سنان ،مع �أنه يدعي رغبته بدرا�سة هند�سةامليكانيك .عندها و�ضع امل�ستخدم �إبريق ال�شاي على الطاولة ،ا�ستقام ثم ق ّو�س ظهره قلي ًال للوراء و�أخذ �سحبة من ال�سيجارة وهو يحدق يف ال�سقف ثم نفث الدخان وقال ( :ما بتلزملك ) هند�سة امليكانيك يا (عمو) ،ادخل كلية الطب وتوكل على اهلل� .أما زميل والدي خلدون فقال موجه ًا كالمه للم�ستخدم :ما �ش�أنك �أنت ،دعوه يختار وفق رغبته. فر ّد عليه امل�ستخدم على الفور :ك�أنك ال تعي�ش بيننا �أو ت�أكل من خبزنا، يا رجل ماذا �سيفعل ب�شهادة الهند�سة �إن تخرج ..قل يل ،موظف بثالثة �آالف لرية ال غري ،هذا �إن وظفوه باخت�صا�صه ( لفها يا رجل ) ..طب الأ�سنان �أف�ضل له و�أكرث ربح ًا� ،أ�ضف �أنه هنا لن يكلف �أهله �شيئ ًا �سوى ثمن الكتب والت�سجيل .تردد خلدون قلي ًال ثم قال له :بل ي�ستطيع ب�شهادة الهند�سة �أن يفتح مكتب ًا ف�إن مل ي�ستطع وحده فبم�شاركة بع�ض زمالئه ،و�إن وفقهم اهلل د َّر عليهم املكتب ذهب ًا. تدخل والدي وب�شيء من الع�صبية قال :ومن �أين لنا القدرة على 24
منقذ نادر العقاد
�شراء مكتب �أو امل�شاركة يف ثمنه؟ �أنت �أدرى ( بالبري وغطاه ). باهلل عليك الذي ال ميلك ثمن مكتب �سوف ميلك ثمن عيادةمبليوين لرية على �أقل تقدير؟ غادرنا مديرية الرتبية ،ويف نف�س �أحمد �أمل �أن يغيرِّ والده ر�أيه بعد الذي جرى. وعندما و�صلنا البيت وجدت جارتنا �أم ح�سان ب�صحبة احلاجة �أم علي التي مل نرها قط تزور �أحد ًا غرينا ،فهي ت ُو ُّد �أمي كثري ًا و ُت ِكنُّ لها االحرتام ،وكعادتها �أمي �أوم�أت يل بتح�ضري القهوة فعائ�شة تزور �صديقة لها .بعد ع�شر دقائق عدت بالقهوة التي يثري فينا بخارها النـزوع للق�ص�ص و�سرد احلكايات وما �إن تخطيت عتبة ال�صالون حتى زفني �صوت اجل ّدة بحما�س ( :ي�سلمو ،ي�سلمو )� ..صارت �صبية ما �شاء اهلل� ،أطال اهلل عمرها ..قالتها وقد التفتت نحو �أمي التي �أجابتها بحبور وا�ضح :حفظك اهلل يا ج ّدة و�أدامك فوق ر�ؤو�سنا .احت�ست �أم ح�سان بع�ض القهوة ثم و�ضعت الفنجان وقالت� :أفكر يا �أم �أحمد بالعودة للتعليم فراتب املرحوم ال يكفينا. ال يكفي؟�أجل ،وما وجه الغرابة يف ذلك؟ابنك وم�صروفه ال يزال ال ُيذكر. ال �شيء ،لكنك ال ُتعيلني �سوى ِ25
رجل من مدينة اهلل
لقد فاتك �أن �أق�ساط بيتنا مل تنته بعد و�أنّ ح�سان خاللثالث �سنوات �سيكون طالب ًا جامعي ًا مب�شيئة اهلل وم�صروفه �سيزيد. هنا �صمتت �أمي و�أطرقت يف الأر�ض� ..أظنها كانت تفكر ب�أخي �أحمد. الحظتها احلاجة �أم علي ف�س�ألتها :ما الأمر؟ تداركت �أمي املوقف و�أجابتها :ال �شيء يا حاجة كنت �أفكر بحديث �أم ح�سان. �شعرتُ بحرج �أمي و�أردت �أن � ُ أخفف عنها ف�أ�شعلت التلفاز ولكنني من حيث ال �أدري زدت الطني ِب َل ًة فقد كانت القناة الأولى تعر�ض الدرجات الدنيا للقبول اجلامعي� ،أ�صغى اجلميع ملقدم الربنامج مبا فيهم �أنا وخالل ذلك عادت عمتي �إلى البيت وحلقتها عائ�شة بعد فرتة ق�صرية .دخلت عمتي ال�صالون� ،ألقت التحية وجل�ست� ،أ�صغت معنا للربنامج وعندما انتهى طلبت مني فنجان ًا من القهوة و�س�ألت ال�ضيوف ع َّل �إحداهُ نَّ ترغب باملزيد .نادت عمتي على عائ�شة فدخلت و�سلمت ثم �س�ألتها :ماذا تريدين يا عمتي؟ اهلل ير�ضى عليك خذي من يدي ( املانطو واملنديل ) و�ضعيهمايف اخلزانة .ل ّبتها عائ�شة ثم عادت وجل�ست على ( كنبة م�ستقلة ) �أمام بال�س َّبحة ال ُبن َّية التي التلفاز .كانت احلاجة �صامتة و�أخالها تذكر اهلل ُ ال�س َّبابة والإبهام� ،أما �أم ح�سان فبدت مرتبكة ،تارة كانت تمُ ر ُرها بني ُ ت�شغل نف�سها ب�ضبط �ساعتها وهي م�ضبوطة و�أخرى مب�شاهدة التلفاز وهي غائبة عنه ،ولعل ال�سبب هو علم اجلميع بالتوتر ال�سائد بني �أمي وعمتي. وعندما عاد والدي �إلى املنزل نادته عمتي �إلى غرفتها .غاب 26
منقذ نادر العقاد
ن�صف �ساعة ثم خرج �إلينا وال�شرر يتطاير من عينيه ،نظر َّيف وقال: �أين �أحمد؟ ال �أدري ،رمبا يف.ال تقويل رمبا� .إما �أجيبيني عن يقني �أو ا�صمتي .عندها �صمتتو�أخذتُ �أت�شاغل مبتابعة برامج التلفاز و�أنا �صراح ًة ما عدت قادرة على الرتكيز �إذ راحت اخلواطر ال�سيئة متطر خيايل ب�شتى �صور الب�ؤ�س وال�ش�ؤم. جل�س والدي بجواري حيث كانت جتل�س احلاجة �أم عليَّ ، لف ِرج ًال على الأخرى وراح يهز الأخرية بع�صبية ويف الوقت نف�سه �أخذ يحرك �أ�صابع يده الي�سرى بتوتر ونزق ،وملا فتح �أحمد الباب واجتاز عتبته انت�صب والدي دفع ًة واحدة ومل ينتظر حتى يبدل �أحمد ثيابه بل بد�أه بحد ٍة قائ ًال� :أين كنت حتى الآن؟ عند �صديقي حمزة.�أما قلت لك �أال تت�أخر حتى هذا الوقت.لكنها العا�شرة والن�صف فقط.يكفي ،قلت لك �أال تت�أخر ،يعني ال تت�أخر.هم بامل�ضي نحو غرفته لكنَّ والدي تابع مل يجبه �أحمد بكلمة بل َّ فقال :هل �أح�ضرت ورقة املفا�ضلة؟ 27
رجل من مدينة اهلل
نعم �أح�ضرتها.وهل دونت فيها الرغبات التي �أمليتها عليك؟لكن يا �أبي �أنا ال �أريد �أن �أكون طبيب �أ�سنان �أرجوك �أن تتفهمرغبتي. وب�صوت مرات عدة ٍ ال �أريد �أن �أتفهم رغبتك ،ال �أريد ....كررها ٍعال � ٍّ أج�ش ف�أجابه �أحمد بانفعال وقد �شحب وجهه :لكنني ال �أريده، ٍ ال �أريده .حاولت والدتي �أن تتدخل غري �أن مرهف �أم�سك مع�صمها وارمتت عليها عائ�شة ترجوها الهدوء فا�ستجابت لهما والدتي وملَّا ر�آها والدي وقد عادت �إلى مكانها نظر يف �أحمد بق�سوة وقال بحزم� :إما �أن تنت�سب �إلى كلية طب الأ�سنان و�إال �أق�سم باهلل العظيم �أنني لن �أ�صرف عليك وال حتى ( فرنك ). ليكن ذلك ،واهلل العظيم لن �أدخلها ولو تركت الدرا�سة.ف�أجابه والدي ملوح ًا بيده كمن يطرد �أحد ًا :يف �ستني �ألف جهنم، لن جتني �إال على نف�سك .هنا خرجت عمتي وهي ت َّدعي الرباءة وت�س�أل عما يحدث رغم �أن والدتي �أق�سمت لنا ب�أنها من �أوغل �صدر �أبي غ�ضب ًا وق�سوة على �أحمد .التفت �إليها والدي وقال :ال �شيء ،ال�شيء. كيف ال �شيء و�صوتكما قد و�صل �إلى ال�شارع؟عندها نهرها �أحمد من �شدة انفعاله وقال لها :عودي �إلى 28
منقذ نادر العقاد
غرفتك وال تتدخلي يف �ش�ؤوين .وما �أخاله قال هذا �إال ليغ�ضبها كما �أغ�ضبته انتقام ًا منها وملّا مل تكرتث كثري ًا له تابع :اذهبي من وجهي، ال �أريد �أن �أراك ..فردت عليه عمتي :ق َّبح اهلل وجهك يا �سافل ثم بد�أت بالبكاء. ال تتباكي يا عمتي فدموعك دموع من يحاول التهام فري�ستهدفعة واحدة .هنا التفت �إليه والدي وبلمح الب�صر �صفعه على خده �صفعة �أ�سقطته �أر�ض ًا فراح يبكي كال�صغار .مل ت�ستطع والدتي متالك نف�سها فانتف�ضت من مكانها كاملجنونة وارمتت عليه �ضمته �إلى �صدرها و�أخذت مت�سح �شعره وتبكي ثم قالت لعمتي ( :يا قليلة الذوق �أودعناك ح�ضننا فرحت تنتفني ذقننا ) ..اخرجي من بيتنا ال �أريد �أن �أراك �أبد ًا. وقتها ما عدتُ �أعرف ما �أفعل ف�شرعت بالبكاء وكذا عائ�شة� ،أما ب�صمت ،بعدها ارمتت عمتي على مرهف فكانت الدموع ت َُ�س ُّح من عينيه ٍ الهاتف وات�صلت بعمي عبد اهلل وطلبت ح�ضوره فور ًا .وعندما جاء عمي دخل وهو يقول بقلق :ماذا هنالك ..ماذا هنالك؟كان يوجه ال�س�ؤال لنا واحد ًا واحد ًا وهو يت�صفح وجوهنا بيد �أن �أحد ًا مل يجبه حتى و�صل �إلى عمتي فبادرته بالبكاء والعويل وهي تقول :طردوين من عندهم يا عبد اهلل .طردوين. �أحمد.
-من طردك؟ فالتفتت �إلى والدتي و�أ�شارت �إليها :هذه وابنها
29
رجل من مدينة اهلل
�أمعقول هذا؟ ح َّدق ب�أحمد فوجده ال يقوى على النطق بكلمةفتوجه بب�صره لوالدتي وعندها انفجرت بالبكاء هي الأخرى و�أخربته عندئذ توجه بعتاب رقيق لوالدي فقال له :ملاذا الق�صة دفع ًة واحدة.. ٍ فعلت هذا يا �أخي �أعرفك عاق ًال �أكرث من ذلك. الذي ي�أكل الع�صي ال كمن يع ُّدها ،وماذا ينق�صك �أنت ،ف�سفرك�إلى الإمارات حقق لك كل ما ت�صبو �إليه ولهذا ت�ستطيع وبكل ب�ساطة �أن تدع ابنك �أو ابنتك يدر�سان ما ي�شاءان لأنك متلك املال. لكنك وزوجتك تعمالن� ،أفال ت�ستطيعان �إدخال �أحمد اجلامعةالتي يرغب؟ يا له من �س�ؤال �ساذج وك�أنك ل�ست ابن هذا الواقع .،بالت�أكيدال يكفي. �أمن �أجل بع�ض املال تدفن ذكاء ابنك وطموحه ،لقد تفوق علىرفاقه �أفهكذا تكون مكاف�أته؟ ارمتى والدي على ( الكنبة ) ثم قال :لي�س الذنب ذنبي �إنه ذنب املجتمع وولدي لن يكون �إال �ضحي ًة من �ضحاياه .راح عمي يحوقل ويقول: ما هذا املنطق يا جميل ..ما دخل املجتمع يف اختيار ولدك لدرا�سته؟ هنا خرجت عمتي من غرفتها وقد حزمت �أمتعتها وقررت املكوث عند عمي عبد اهلل ،فتوقف الأخري عن النقا�ش وما �إن �شرعا يهبطان الدرج حتى عادا ل�صراخنا فقد �أغمي على �أحمد .بعد ربع �ساعة جاء 30
منقذ نادر العقاد
الطبيب وبعد املعاينة خرج وهو يقول لعمي :ال تدع �أحد ًا يدخل عليه، دعوه ينام بهدوء. تركنا يف تلك الليلة غرفة �أحمد م�شرع ًا بابها كي ن�سمع �صوته �إذا طلبنا لأن مرهف رف�ض النوم معه ،مل ي�صرح بال�سبب لكنني فهمت فتى ح�سا�س ،ال يحتمل ر�ؤية �أخيه على هذه ال�شاكلة. عليه �إنه ً يف ال�صباح جاءنا عمي يف فرتة غياب والدي حوايل ال�ساعة العا�شرة .كان �أحمد قد �صحا من نومه فا�ست�أذن بالدخول عليه و�أبدى لوالدتي رغبته باالنفراد به .نزلنا عند رغبته ومل نقاطعهما �إال عندما �أدخلت لهما ك�أ�سي لنب وبعد ن�صف �ساعة نادانا عمي فدخلنا م�سرعني ،التفت لوالدتي وقال لها :ما ر�أيك يا �أم �أحمد �أن �أ�صطحب معي املحرو�س �إلى ال�شارقة؟ ال�شارقة .قالتها �أمي بذهول وتوج�س.�أجل ال�شارقة.ودرا�سته؟�سي�سجل يف كلية الهند�سة امليكانيكية ومن ثم يوقف ت�سجيلهمعقول عاد �إليكم من جديد. مبلغ ٍ وي�سافر معي حتى �إذا ما ح�صل على ٍ �أ�صيبت �أمي باالرتباك والده�شة و�سرعان ما �أر�سلت نظرة �إلى �أحمد وقالت له بغ�صة وحزن� :أ�صحيح ما قاله عمك يا ولدي؟ ف�أجابها 31
رجل من مدينة اهلل
�أخي با�ستحياء وحزن� :أجل يا �أمي فلي�س يف اليد حيلة .غرغرت الدموع يف عينيها و�س�ألته ب�صوت يرجتف :يا ولدي �أترحل عنا وقد عيني بر�ؤيتك �شاب ًا يربق يف عينيه الطموح واحليوية ،يا ربيتك لأكحل َّ ولدي متهل ع َّل هناك خمرج ًا �آخر� .أبيع لك حليتي �أو �أ�ستدين مبلغ ًا �أو .فقاطعها عمي وقال لها :لو كان ير�ضى بذلك لأنفقت عليه حتى يتخرج لكن ابنك عنيد .ثم نظر يف �أحمد مبت�سم ًا وقال لها :هاك ابنك �سليه فقد جف ريقي من نقا�شه ومل يوافقني .نظرت �إليه �أمي وقبل �أن تنطق بكلمة قاطعها بحزم وقال� :أنت �أدرى النا�س بي يا �أمي ف�أنا منذ نعومة �أظفاري ال �أقبل م�ساعدة �أحد وقبويل م�ساعدتكم اليوم يعني يل انهزامي منذ اخلطوة الأولى ،دنت منه �أكرث ثم قالت بعطف� :أرجوك يا بني �أال يوجد حل �آخر؟ أرجوك حاويل �أن تفهميني. ال يا �أمي ،ال يوجد �إال هذا احللِ � ..عندها و�ضعت كفها على فمها و�أ�سرعت باخلروج والدموع تتدفق من عينيها فخرج وراءها عمي وخالل ذلك �سكن �أحمد يف فرا�شه وقد ث َّبت عينيه �إلى ما وراء النافذة �أما مرهف فجل�س يف زاوية بعيدة، يراقب بتفاعل �صامت الأحداث .عاد عمي و�أمي التي بدت مبالمح جديدة �أكرث �إ�شراق ًا وتفا�ؤ ًال حتى �صوتها قد تغريت نربته ف�أ�ضحى �أكرث ان�سجام ًا وان�سيابية .نظرت يف �أحمد وقالت له وقد و�ضعت يديها على حافة ال�سرير :ح�سن ًا يا بني افعل ما تراه منا�سب ًا� ،ستجدين �إن �شاء اهلل من ال�صابرات ،عندها وثب �أحمد �إليها و�ض ّمها بقوة قائ ًال :لن �أن�ساك يا �أمي ،لن �أن�ساك �أبد ًا و�س�أعود قريب ًا محُ ّم ًال بالب�شرى فانتظريني. علي. هنا قال عمي :تنق�صنا موافقة والدك وهذه اتركها ّ 32
الف�صل الثالث
رجل من مدينة اهلل
باد يف عينيه ،غيرَّ مالب�سه، عاد مرهف من املدر�سة والقلق ٍ وجه الكالم لوالدي ونظره غ�سل يديه ،وملّا حتلقنا على مائدة الغداءّ ، يف الأر�ض: أمر مهم. �أريد �أن �أ�س�ألك يف � ٍبلع والدي اللقمة ثم نظر يف وجهه بح ّدة وقال: قل ما لديك� ،أنا �أ�سمعك.يا �أبي ،ملاذا� .إحم� ،إحم ،...ملاذا ن�ؤمن بوجود اهلل؟ قالها وقداختل�س نظرة �سريعة يف وجه والدي. �إذ ًا مباذا ن�ؤمن بر�أيك؟ قالها ب�سخرية وتهكم.ال �أق�صد ذلك� ،إمنا الذي �أردت قوله هو �أننا كيف علمنا �أن اهللموجود ،رمبا. رمبا ماذا! �صرخ �أبي وقد هوى مبلعقته على الطاولة .ا�ضطربمرهف وقال ب�صوت خمنوق: ال �شيء ،ال �شيء .ان�س املو�ضوع.انتفخت �أوداج �أبي واحمر وجهه ،قال وال�شرر يتطاير من عينيه: ما ق�صدك يا ولد ،هل تتجاهلني؟34
منقذ نادر العقاد
معاذ اهلل يا �أبي ،لكن ال �أريد �أن �أكمل .ال �أريد.بل �ستكمل رغم �أنفك.قلت لك ال �أريد� ،أرجوك دعني و�ش�أين .ثم نه�ض م�سرع ًا �إلىغرفته. �شرب والدي كوب ًا من املاء ،ومتتم :احلمد هلل ،ثم نظر �إلى والدتي التي ظلت �صامتة طوال وجبة الغداء وقال: من يا ترى يلعب بعقله ،ظننته نا�ضجا ف�إذا به �أحمق على �شفاالإحلاد، ب�س �أمي بكلمة قالت عائ�شة وهي تفرم حبات وقبل �أن َت ْن ْ الطماطم :لقد تعلمنا هذا يف املدر�سة. يف املدر�سة ت�ساءلت �أمي؟يف مقرر الفل�سفة� ،إنها الفل�سفة املادية وفيها يقولون �أنّ الدين�أفيون ال�شعوب و�أنّ الكون وجد من دون خالق ،و .ال �أدري ماذا بعد فاليوم قد تعلمنا ذلك. �أخذ �أبي يه ُّز بر�أ�سه ويقول: ما هذا اجليل كلمة ت�أخذه وكلمة ت�أتي به وك�أنه ورقة يف مهبمدعم ًة الريح� .إنها فل�سفة بال دليل و�صنعت به هكذا فكيف �إن كانت َّ 35
رجل من مدينة اهلل
بالأدلة؟ لقد واجهنا نحن �أبناء ال�ستينات فل�سفات وتيارات كثرية ومع ذلك بقينا حمافظني على ديننا ومل ننحرف عنه قيد �شعرة. ابت�سمت والدتي وهي ته ُّم بالنهو�ض ،ف�أم�سكها وا�ستحلفها باهلل �أن تخربه عن �سبب ابت�سامتها ،ف�أجابته قائل ًة: لقد كاد والدكم �أن يعتنق ذات الفل�سفة لوال لطف اهلل وتدخلجدكم حفظه اهلل. �أطرق والدي يف الأر�ض وقد ارت�سمت على وجهه ابت�سامة ذكريات م�ضت ثم قال� :أوه ،على ذكر والدي ملاذا ال ا�سرتجع وراءها ٍ �أر�سل له مرهف ،ع�سى �أن يعيده لر�شده. –فكرة معقولة� ،أجابته وهي تتناول املالعق املتناثرة من على الطاولة وت�ضعها يف الزبدية الكبرية ثم ا�ستطردت :والدك رجل مثقف يكلله الإميان والعزمية لكنه مغمور. كان جدي ي�سكن هو وجدتي يف حي البارودية قرب جامع البح�صة يف زقاق قدمي حيث البيت العربي ال يزال مفعم ًا بعبق املا�ضي .دخلنا عليهما� ،سلمنا وقبلنا يديهما كالعادة .مرت حلظات مغلف ٌة بال�صمت بعدها قالت جدتي: هيا يا �صبوحة� ،ساعديني على النهو�ض.�إلى �أين يا جدتي؟36
منقذ نادر العقاد
�س�أ�ضع �إبريق البابوجن على النار.�أ�أ�ضعه عنك؟اتك�أت بيدها اليمنى على ع�صاها ثم و�ضعت يدها الأخرى على كتفي ومتتمت: هيا ،هيا� .سن�ضعه مع ًا ( ففي احلركة بركة ) .خرجنا �إلى�ساحة الدار كانت متطر ،لذلك �أ�سرعنا نحو املطبخ ،وهناك بد�أنا بتح�ضري البابوجن .كان املطبخ ُقبال َة الغرفة التي يجل�س فيها جدي ومرهف ،لهذا بد�أت �أراقبهم بحرية ،ولكنَّ امل�شكلة �أن �صوتهما مل يكن م�سموعا فقد تفوق عليه �صوت وقع املطر الذي كان ين�ساب على تالفيف �أذين لذا �سرحت قليال ثم انتف�ضت فج�أة حينما مل�ستني جدتي ،التي راحت ت�ضحك من قلبها وقد �أغلقت باب املطبخ بع�صاها قائلة: هل كنت �شاردة؟�أظن ذلك.ح�سن ًا دعينا جنل�س هنا ون�شرب البابوجن حتى ينتهيا منحديثهما. �أوه فهمت� ،إذ ًا لقد �أخرجتني جدتي من الغرفة لهذا ال�سبب،حق ًا �إنها تعرف الأ�صول وت�شعر بالآخرين. �شرعنا ن�شرب البابوجن ،لكم هو �شعور رائع �أن جتل�س يف بيت 37
رجل من مدينة اهلل
يعبق بالأ�صالة ثم تنـزوي يف غرفة �صغرية ب�سيطة تراقب املطر مع جدتك وحتت�سي ك�أ�س بابوجن �ساخن .بعد ذلك قمنا �إليهما و�شاركناهما املجل�س ،مكثنا هناك ن�صف �ساعة ،ثم ان�صرفنا عند توقف املطر .ويف طريق العودة �س�ألت مرهف عن الأمور كيف جرت ف�أجابني والفرح يراق�ص �صوته :لقد �أراحني جدنا� ،أت�صدقني �أنني مل �أكن �أت�صوره هكذا ،فكم زرناه وجال�سناه لكنه مل يتكلم �أمامي كما تكلم اليوم ،لقد �صال وجال ك ُمثقف حمنك �أو حكيم مجُ ِّرب ،احلمد هلل �أنه يوجد يف العائلة من يفهمني. عندما و�صلنا �إلى البيت دخلت غرفتي فوجدت عائ�شة فيها اند�س حتت الو�سادة ،دنوت وقد ارمتت على �سريرها تبكي ور�أ�سها قد ّ فانتف�ضت من مكانها فج�أ ًة، منها بلطف ،هممت باجللو�س �إلى جوارها ْ نظرت �إ َّ يل بحدة ،كانت مقطبة اجلبني ،ويف عينيها تورم من �شدة البكاء ،راحت مت�سح الدموع عن خديها بيديها وهي ت�أخذ َن َف�س ًا عميقا وت�ستجمع قوتها ثم قالت :متى عدمتا؟ لقد جئنا منذ قليل.وهل كانت الزيارة موفقة؟لقد كانت كذلك.احلمد هلل.نعم احلمد هلل.38
منقذ نادر العقاد
فج�أة غاب �صوتها عن احل�ضور �إذ �أنهت �أ�سئلتها ولي�س يف ذهنها حاولت تذكر � َّأي �شيء يجعلني �شيء �آخر تقوله لذا بدت مرتبكة ،وقد ْ �أن�سى �س�ؤالها عن �سبب بكائها لكنني �سارعت �إلى اقتنا�ص حلظات �صمتها ف�س�ألتها وهي يف ذروة االرتباك ..:ما بك؟ ال�شيء ،ال �شيء� .أجابتني وهي تق�ضم �أظافرها.كيف ال �شيء ..ويف عينيك ُحمرة من �شدة البكاء؟قلت ال �شيء وكفى.حاولت �أن �أ�ستخدم الورقة الأخرية معها فقلت متظاهر ًة باحلزم :ح�سن ًا ،ال تقويل �س�أ�س�أل �أمك عن ال�سبب. ما بي.
أرجوك ،ال تخربيها �أنني �أبكي ،ال تخربيها و�س�أ�شرح لك -ال ،الِ � .
تربعت يف جل�ستي على ال�سرير وو�ضعت الو�سادة يف ح�ضني لأ�ستند �إليها� ،أما هي فجل�ست بطريقة جعلت ذقنها ت�ستقر بني ركبتيها بينما طوقت �ساقيها بذراعيها وقالت :يف غيابكما جاءتنا خاطبة وطلبتني البنها ف�أجابتها �أمك ب�صوت ي�شوبه �شيء من ال�سرور: وهل م�صري الفتاة �إال الزواج؟ ولكن البد من اال�ستف�سار �أوالعن و�ضع ال�شاب و�أخالقه. وهل ت�شرتطني يف ال�شاب �أن يحمل �شهادة جامعية؟39
رجل من مدينة اهلل
بقيت أمك م�ستنكرة ،ولكنني ُ لي�س �ضروريا ،هنا نظرتُ يف � ِ�صامت ًة حتى قالت اخلاطبة: �إن ابني يعمل حدادا وهو مي�سورَ ،ح َ�سنُ اخللقة واخللق فهلتقبلون به �إن طلبنا يد امل�صونة؟ عندها انت�صبت واقفة ،وقد فقدت تقدير الأمور وقلت للخاطبة دون وعي ملا �أقول: ال ن�صيب لك عندنا ،ف�أنا ال �أريد زوج ًا جاهال.هرعت �إ ّ يل �أمك حتاول دفعي للخارج و�إخرا�سي وب�آن ارت ّدت نحو اخلاطبة تعتذر منها وجت ُّد يف اختالق التربيرات ،ولكنَّ اخلاطبة كانت قد اتخذت موقف ًا نهائي ًا فحملت نف�سها وغادرتنا وقبل �أن تغلق باب أمك وقالت: الدار خلفها التفتت ل ِ ع ِّلمي ابنتك الأدب لأنها تفتقده.�أغلقت �أمك الباب يف وجهها بقوة ثم �شرعت تفت�ش عني حتى وجدتني هنا ،ف�أخذت توبخني وت�صفني بالوقاحة والغباء لدرجة ِب ُّت معها غري واعية لنف�سي فانفجرت يف وجهها غا�ضبة واتهمتها �أنها تريد اخلال�ص منا ب�أية و�سيلة وب�أنها ووالدك ال يحباننا بل فقط يريدان حت�ضرينا للزواج وك�أننا �سلعة تباع وت�شرتى بال م�شاعر �أو قلوب تفقه خرجت �شعرتُ بغ�ص ٍة كنت قا�سية مع �أمي حق ًا ،ولهذا عندما �شيئا .لقد ُ ْ �شديد ٍة. 40
منقذ نادر العقاد
فعلت يا عائ�شة ،لقد ارتكبت حماقة وا�ضحة. ماذا ِ�أعلم ذلك ،لقد �أراحتني الدموع قلي ًال ،لكنني ال �أزال �أ�شعربالذنب� ،أوه ت ّب ًا لل�شيطان لقد �أخط�أت ،خرجت عائ�شة م�سرعة �إلى املغ�سلة وغ�سلت وجهها� ،س َّرحت �شعرها ثم ت�سللت �إلى ال�صالون، كانت �أمي جتل�س وحدها تتابع برنامج درا�سات قر�آنية الذي يقدمه ال�شيخ البوطي ،انتظرتها حتى انتهت ثم ارمتت عليها و�أخذت تقبلها، تظاهرت �أمي بال�سخط واالنزعاج ولكنها عندما �شاهدتها يف ذروة ال�شعور بالذنب واالعرتاف باخلط�أ بادلتها القبل وراحت ُت�س ِّرح �شعرها بيدها اليمنى وهي تقول: ملاذا فعلت هذا يا عائ�شة ،ما يجدر بك ذلك.�ساحميني يا �أمي ،مل �أكن �أق�صد ما تفوهت به من كلماتمبالغ فيها� ،إذ �شعرت للحظات �أنني �سلعة تباع وت�شرتى و�أنكم تودون اخلال�ص مني. �إنك واهمة ،وتتخيلني �أ�شياء ال وجود لها ثم �أ�شارت �إيلبالدخول ففعلت وجل�ست بجانب �أمي ،فل َّفت يدها الي�سرى على كتفي وقالت: ا�سمعاين جيدا ،ال توجد �أم يف العامل تكره بناتها �أو تتمنىاخلال�ص منهنّ ،ما �أريده لكما -ي�شهد اهلل -هو �أن �أراكما يف بيوت �أزواجكن �سعيدات م�ستقرات. 41
رجل من مدينة اهلل
هنا و�ضعنا اجل َّمال يا �أمي ،كل �أم ترى يخ�ضور �أحالم الفتاةالزواج والأ�سرة ،خذيني مث ًال ف�أنا ال �أرى الزواج تاج �أما َّ فلدي �آمال ين َّ لدي درا�ستي� ،أحالمي اخلا�صة، �أخرى ال تق ُّل عن الزواج �شرف ًا و�أهميةَّ . رغبتي يف االرحتال وال�سفر. والزواج.خجول ثم هم�ست: كرنج�س تو ّرد وجه عائ�شة ،حنت ر�أ�سها ٍ ٍ �أفكر فيه يا �أمي ،لكنه ..لكنه لي�س كل �شيء يف حياتي ،هناوقلت بثق ٍة :و�أنا �أرى ال�شيء نف�سه يا �أمي. تدخلت ُ ففركت �أمي �صيوان �أذين اليمنى وقالت �ضاحك ًة :و�أنت ترين نظرات مل �أفهمها ال�شيء نف�سه �أي�ض ًا ثم رفعت حاجبيها و�صوبت نحوي ٍ وقالت :عندما تفق�سني من البي�ضة �سن�ستمع �إليك يا �صباح خانوم. خت على عيني فخبا اتقادهما، تفاج�أت بقولها وك�أن الده�شة َن َف ْ ونَثرَ ْت الرماد على �شفتي فذب ُلت ابت�سامتها .كان وجهي كم�سرحي ٍة كوميدية �أ�ضحكت �أمي و�أختي .وبعد دقائق �سكنتا� ،أخذت �أمي َن َف�س ًا عميق ًا ثم قالت: هداك اهلل يا �صباح ،هل هذا وقت تهريجك؟ ثم ابت�سمتِ ن�صف ابت�سامة �أ�شاحت اللثام عن �ضاحكها الأمين وقالت: �ستدركني يوم ًا يا عائ�شة �أن الزواج لي�س قيد ًا بل حياة جديدة42
منقذ نادر العقاد
يتوجها الدفء وال�سكينة� .إنه حاج ٌة روحية وج�سدية ب� ٍآن مع ًا. ولكن يا �أمي .ها هي مرمي قد ُط ِّلقت وتلك �سعاد قد �ضربهازوجها .و .قاطعتها �أمي بهدوء: كلهن �ضحايا ل�سوء اختيارهن للزوج �أو لت�سرع �أهلهن يفتزويجهن. �صمتت عائ�شة و�أطرقت يف الأر�ض فا�ستطردت �أمي: افعلي ما ترينه منا�سبا لكن تذكري :الزواج حياة وا�ستقرارولي�س قرب ًا معتم ًا. �صارت عائ�شة بعد ذلك تدخل على اخلاطبات كلما جئن لر�ؤيتها ،تقدم لهن القهوة وجتال�سهن قلي ًال ،ثم بعدها تن�صرف ،ف�إن طلنب يدها يكون لها الكالم النهائي وهكذا ر�ضيت عائ�شة بهذا احلل و�أر�ضت �أمها �أي�ض ًا. يوم �أ�صابت عمتي نزلة برد ف�أر�سلتنا �أمي لعيادتها وذات ٍ و�إعطائها الدواء .كان اجلو ماطر ًا واحلافالت مزدحمة ،لهذا �آثرنا ( ال�سرفي�س ) ،كان ن�صفه ممتلئ ًا فظل واقف ًا يف مركز انطالقه حوايل 10دقائق ينتظر االمتالء بالركاب ،و�صدف وقتها �أن خرجت ح�شود ال�شباب من دار ال�سينما فاختارت جمموعة من ال�شباب الركوب يف ( ال�سرفي�س ) نف�سه ،جل�س وراءنا اثنان منهم ،كانا يتكلمان عن املمثلة وال ُق َبل ثم َ�س َّولت لأحدهما نف�سه �أن ي�سلل �أ�صابع يده الي�سرى املتو�ضعة 43
رجل من مدينة اهلل
على م�سند مقعدنا خلف ( خمار ) عائ�شة ..فاحمر وجهها ثم �أ�سبل يده بني ظهرها وامل�سند .عندها �صرخ �أحدهم: �أبعد يدك يا حمرتم.وما �ش�أنك �أنت؟�أبعدها و�إال ك�سر ُتها لك.�أرين كيف �ستفعل ذلك.ام�ض بنا (خيو) �إلى �أقرب خمفر .ف َّرد عليه ال�سائق: ح�سن ًاِ .،( لفها دخيلك ) لي�س وقتها الآن ،ف�أجابه الراكب بحزم:قلت لك �أو�صلنا لأقرب خمفر ،و�أنا �س�أتكفل بخ�سارتك.بدت عائ�شة مرتبكة ،نظرت �إليها ثم �صرخت بال�سائق: �أنزلنا هنا من ف�ضلك.بل �ستبقيان ،متتم ذلك الوغد ثم �أردف متوجه ًا لعائ�شة:لقد �أغريتني ثم ها�أنت تن�سلني من املو�ضوع وك�أنه ال دخل لك.فما كان من عائ�شة �إال �أن ازداد بكا�ؤها ف�صرخت �إحدى الن�سوة وهي بعمر والدتي: 44
منقذ نادر العقاد
عيب عليك هذا الكالم يا ولد� ،ألي�س لك �أخوات� .ألي�س لكعائلة؟ حقا جيل �آخر زمن. فرد عليها بوقاحة:اخر�سي يا عجوز .ال ينق�صني �إال �أنت.�صرخت بكل �صوتي: هناُ هيا �أنزلنا� .أنزلنا �أرجوك فتوقف ( ال�سرفي�س ) .وملّا هممنا�شاب هم �أحد �أفراد هذه املجموعة مبنعنا ،عندها انتف�ض ٌّ بالنـزول َّ تبدو عليه ال�سكينة والوقار من مقعده الواقع يف زاوية ال�سرفي�س اخللفية و�صرخ: ابتعد عنهما يا وقح و�إ َّال.و�إال ماذا يا حلو .ثم تناوله ب�ضربة على وجهه جعلت الدماءتندلقُ من فمه وظ ّل ي�صرخ غا�ضب ًا: انزلوا يا �أوغاد ،هيا انزلوا.فر ّد عليه �أحدهم: ال ينق�صنا �إال �أنت ،ا�صمت و�إال �أرديتك �أر�ض ًا يف ال�ضربةالثانية. 45
رجل من مدينة اهلل
هنا تدخل �أحدهم وقال للركاب: انزلوا من ف�ضلكمُ ،ث َّم نظر �إلينا وقال: انزال� .س�أعرف كيف �ألقن هذه احلثالة در�س ًا ال تن�ساه.تابعنا طريقنا �سري ًا على الأقدام وطوال الطريق كانت عائ�شة تبكي وملّا و�صلنا �إلى بيت عمتي كان املطر قد بللنا فجففنا عندها ثيابنا و�أعطيناها الدواء مع ك�أ�س ليمون .مكثنا عندها ن�صف �ساعة ثم عدنا �أدراجنا ونحن ندعو اهلل �أال يحدث معنا يف الإياب ما حدث يف الذهاب. *** اليوم جاءتنا الر�سالة الثانية من �أحمد وفيها يطمئننا على �صحته وظروف عمله ويو�صي مرهف بالذهاب ل�صندوق الربيد �آخر الأ�سبوع حيث �ست�صله ر�سالة منه .وفع ًال جلب مرهف الر�سالة ،ولج غرفته م�سرع ًا� ،أغلق الباب وارمتى على الفرا�ش ثم فتح الر�سالة وراح ف�سمعت كل �شيء ،حاولت حب�س يت�صفحها بعينيه وب�آن ب�صوت مرتفع، ُ نف�سي عن ال�ضحك ولكنني مل �أ�ستطع ،وثب مرهف من الفرا�ش وتوجه نحو م�صدر ال�صوت ،ثم رفع الغطاء فوجدين حتت �سريره �أم�سكني من يدي بقوة وقال: هل يجوز هذا يا �شقية؟ف�أجبته مب�سكنة وخنوع: 46
منقذ نادر العقاد
ال .ال .لقد �أخط�أت.عليك .املهم �أال تفعليها ثانية ثم �أردف� :أتعلمني ،كنت ال ِ�س�أطلعك عليها من تلقاء نف�سي لكنك تعجلت الأمور. �أنا �آ�سفة� ،صدقني �آ�سفة.ح�سن ًا هذه املرة �س�أ�ساحمك ،ثم رمقني بنظرة خاطفة و�أردف:هذه املرة فقط. موافقة.والآن اجل�سي �س�أ�سمعك ما كتب فيها ولكن ب�شرط �أن يبقىهذا �سر ًا بيننا� .شرع يقر�أ الر�سالة بت�أثر ،و�أنا �أ�صغي �إليه ب�إخال�ص، كانت الر�سالة ال�ساد�سة بينهما منذ �سفر �أحمد ويف تلك الر�سائل علي ما �أر�سله كانا يطرحان م�شكالتهما ومعاناتهما الذاتية� .أخذ يتلو ّ لأحمد ،كان وقتها متعب ًا �شاحب الوجه كئيب ال�سحنة ،ال �أدري ما به، يبدو �أن هناك �أمر ًا ُي�ؤ ِّرق م�ضجعه ،راح يقر�أ حتى و�صل لعبارة :يا �أخي، �إنني �أ�شعر بال�ضياع� ،أجل �أنا �ضائعَ ،م َثلي َك َم َث ِل من َو َج َد نف�سه يف بقعة ملمر رئي�سي تتفرع عنه ممرات فرعية لها �سبعة �أبواب وكل باب ُيف�ضي ٍ بع�ضها م�سدود وبع�ضها الآخر يو�صل �إلى املخرج حيث النور .النور يا �أخي. علي �أ�ساعدك. افتح يل بوابة �صدرك و�أدخلني مملكتكّ ،47
رجل من مدينة اهلل
ابت�سم ابت�سامة ت�شبه �شكل املنجل حماوال ح�صاد تطلعاتي من منبتها .وا�ستدرك قائال: لن ت�ستطيعي ،فالذي �سيدخل مملكتي عليه �أوال �أن يحيطهابوعيه وجتاربه الغنية وثاني ًا �أن يدخلها فيعي�ش فيها بغذاء الروح وال�شعور. لك لن ت�ستطيعي معي تب�سم وقال� :أمل �أقل ِ مل �أفهم ق�صدكَّ .�صرب ًا ف�إن كانت روحك بذرة فروحي ف�سيلة وكيف لبذرة �أن تدرك فراغ �شتلة؟ تركت مكاين من�سحبة �إلى كر�سي يف زاوية الغرفة و�أجبته بغيظ: وكيف ل�شتلة �أن تدرك تطلعات البذرة؟�ضحك �ضحكا �شديد ًا بعدها �أخذ نف�سا عميقا وقال :هذا ما �أ�سميه ال�سف�سطائية ب�أم عينها. ماذا تعني بقولك؟و�ضع الو�سادة �أمام وجهه للمداعبة وقال: ال �شيء ،ال �شيء ،ثم عاد لل�ضحك جمدد ًا ف�ضحكت ل�ضحكهوك�أين �شعرت به قد ح َّرر ب�ضحكته طاق ًة مكبوتة ،وقبل �أن ي�ستعيد روحه الأولى ال�ساجية �س�ألته :ملاذا ال ت�شرح همومك لوالدك �أو لأمك؟ 48
منقذ نادر العقاد
�أطرق قلي ًال ثم رفع ر�أ�سه و�س َّدد نظراته احلادة نحوي وقال: والدك ال يفهم من الكالم �إال ثماره ونتائجه ،بيد �أنه عاجز عناحلياة يف اجلذع ومراقبة تدفق الن�سغ وكيفية �إبداع احلياة يف العمق وراء ال�صور والأ�شكال .و�أمك هي الأخرى عاجزة عن ذلك� ،أ�ضيفي �أنها حنون ٌة لدرجة متنعني من م�صارحتها ب� ِّأي �شيءٍ يعذبني� ،إين لأر�ضى �أن �أتعذب � َ تتعذب عني ولو مرة. أجد �أمك ألف مرة وال � َ ُ ويف غمرة حديثه ح�صلت منه على عنوان �أحمد اجلديد وبعثت له ر�سالة �شرحت فيها حال مرهف كما ر�أيتها وطلبت منه العون والن�صيحة ،فجاءين ر ٌّد م�ستعج ٌل منه �أخربين فيه �أنه مطل ٌع على املو�ضوع و�أنه يرى �أن يتع ّرف مرهف على �صديق مقرب له ا�سمه حامد احلامد يدر�س هند�سة ميكانيك وميلك روح ًا تتغذى وروح مرهف من املنبع نف�سه ،ويف نهاية ر�سالته كتب يل عنوانه مف�صال وطلب مني �أن �أعطيه ملرهف .ت�ساءلت يف نف�سي :ملاذا مل يخربه بذلك يف ر�سالته، فجاءين اجلواب مبا�شرة من خالل مالحظة َّ خطها يف �آخر الر�سالة حيث كتب ( :ال ريب �أنك �ستت�ساءلني ملاذا مل �أخرب مرهف مبا�شرة واجلواب :لأنني ال �أريده �أن يظنني راغب ًا يف التخل�ص منه ،وثاني ًا لأنني مررت بتجربته نف�سها ولكنني خرجت منها بحلول متمردة �أنا نف�سي ال �أقرها متام ًا فلي ظرويف اخلا�صة). حققت لأخي رغبته و�أخربت مرهف �أنَّ لأحمد �صديق ًا عميق الفهم غني الروح يدر�س الهند�سة ويعي�ش مع جدته مبفرده وقد ي�ستطيع م�ساعدته فقال يل: 49
رجل من مدينة اهلل
ح�سن ًا� ،س�أ�ستف�سر من �أحمد عنه.فقلت له حمذر ًة من العواقب: لو �أخربته بالأمر و�أظهرت رغبتك بالتعرف على �صديقه هذا،�سيظن �أنك قد تخليت عنه وعن م�شورته ورمبا �سيعتربها �إهان ًة له فينقطع ما بينكما من و ٍّد و�صراحة. ال �أدري كيف ت�سللت كلماتي لقلبه مع �أنني مل �أكن مقتنعة بها متام ًا ،ف�أجابني� :س�أبحث عن حامد هذا و�س� ِأج ُّد يف اكت�شاف طريق ٍة ب�شكل يظهر له ولأخي فيما بعد �أن امل�صادفة وحدها من جتمعني به ٍ رتَّب لذلك. �أر�سل �أحمد ر�سالة �إلى حامد �أخربه فيها عن حالة مرهف النف�سية و�آفاق فكره النامي ودعاه فيها �إلى م�ساعدته قدر الإمكان ُم َب ِّين ًا له الطريق التي �ستمكنهما من اللقاء والتعارف من دون �إدراك مرهف التخطيط امل�س َّبق لذلك .وافق حامد على مدِّ يد املعونة ،وبعد علي �أن �أُق ِن َع مرهف بالذهاب �إلى املركز الثقايف الواقع يف �أ�سبوع كان َّ �ساحة العا�صي حل�ضور �أم�سية �شعرية من �أجل تعارفه مع حامد .قال يل با�ستغراب: كيف علمت مبجيئه �أم�سية اليوم؟ف�أجبته ب�شيء من الثقة: 50
منقذ نادر العقاد
كان �أحمد يقول يل دوم ًا �أن له �صديق ًا ال ُيف ِّوتُ �أم�سية �أدبية،وقد علمت فيما بعد �أن ا�سمه حامد. وكيف �ستميزينه عن غريه �إن كنت ال تعرفني �شكله.بلى ر�أيته.والتفت �إ َّ يل وقال بنظرات حادة: عندها �أطف�أ التلفازَ متى كان ذلك؟حينما ح�ضرت مع �أحمد �إحدى الأم�سيات ال�شعرية ،حينهاالتقيا وتبادال �أطراف احلديث ،ويف طريق العودة �أخربين �أحمد عن ا�سمه خالل درد�شة عابرة. هنا �أ�سند ظهره �إلى م�سند الأريكة وقال: ح�سن ًا ،ح�سن ًا .ثم �أردف:�إذ ًا جهزي نف�سك لأم�سية اليوم.خالل الأم�سية ال�شعرية كان حامد يجل�س يف ال�صف الأخري ولهذا مل يلفت خروجه انتباه �أحد �إال �أنا �إذ كنت �أراقبه منذ بداية الأم�سية ،وكزت مرهف وهم�ست يف �أذنه :ها هو حامد. ح�سنا دعينا نخرج خلفه.51
رجل من مدينة اهلل
وعند بهو املركز كان حامد يقف ووجهه �صوب ال�شارع اخلارجي.، َح َّياه مرهف و�س�أله م�ستف�سر ًا: الأخ حامد؟�أجل �أنا حامد.ومن تكون ح�ضرتك؟�أنا مرهف ،و�أخي �صديقك �أحمد.نظر �إ ّ يل ثم عاد بنظره �إلى مرهف وقال م�ستو�ضح ًا: من �أحمد؟�أحمد ال�سعيد ..قالها وقد بدت عليه عالمات االرتباك واحلرجوك�أين �أخاله قد نوى االعتذار واالن�سحاب بيد �أن تغري نربة حامد فج�أ ًة طم�أن مرهف قلي ًال و�أعاد �إليه ثقته بنف�سه� .صمت لربهة ثم �س�أله: كيف �أحوال �أحمد؟بخري واحلمد هلل. لقد كان �أحمد �شريكي يف مقعد الدرا�سة ،كان متفوق ًا متوقدالذهن �صايف النف�س ،كبري القلب .كان بحق �شاب ًا مثالي ًا على درجة عالية من الفهم والطيبة. 52
منقذ نادر العقاد
وتابع :لقد حدثني عنك �أحمد ،و�أخربين فيما �أخربين عن ميولك الأدبية ،ثم �أوم�أ لنا بيده اليمنى للخروج �إلى ال�شارع .مت�شينا قلي ًال بعيد ًا عن املركز الثقايف باجتاه حديقة �أم احل�سن ،وخالل الطريق قال حامد خماطب ًا مرهف: �أتكتب �شعر ًا �أم ق�صة؟�أكتب الق�صة ،وعندي بع�ض الن�صو�ص النرثية.ه َّز ر�أ�سه ومتتم :جيد ثم �أردف :وملن تقر�أ من الكتاب والأدباء؟ �أقر�أ لروائيني عرب كنجيب حمفوظ ،ورو�س كد�ستوف�سكيوتول�ستوي .وقر�أت وحي القلم للرافعي والأجنحة املتك�سرة جلربان. وغري ذلك من الق�ص�ص والق�صائد املتناثرة يف املجالت العربية وال�صحف املحلية .عندها ه َّز ر�أ�سه ب�شكل �أكرب وقال: �إذن �سيكون لنا لقاءات عديدة �إن �شاء اهلل.منذ ذلك الوقت �صار مرهف �أف�ضل حال مما �سبق ،وكم كرر على �سمعي عبارات الود واالحرتام حلامد وملَّح �أكرث من مرة �أنه �أخري ًا وجد ال�شخ�ص الذي ي�ستطيع فهمه وتذوق �أحواله الداخلية .كنت �أ�شعر بال�سعادة الغامرة ل�سعادته وبالغرية املكتومة الجنذابه حلامد ون�سيانه إياي بيد �أنني يف احلقيقة �صرت �أي�ض ًا م�شدودة حلامد ولو كنت من � َّ بت به اليوم �سيكون زوجي عج ُ املُ َّط ِلعات على الغيب لعلمت �أن من �أُ ِ الحق ًا. 53
الف�صل الرابع
رجل من مدينة اهلل
م�ضى عام على ذلك اللقاء ،تر َّدد مرهف خالله على حامد ثالث مرات فقط� ،إذ مر�ضت جدته ما جعلها طريحة الفرا�ش فكان على حامد �أن يبقى �إلى جوارها معظم �ساعات اليوم ،ما ا�ضطره �إلى قطع التزاماته كافة مع مرهف وغريه من الأ�صدقاء .حتى كتاباته الأدبية كادت �أن تنعدم يف تلك الفرتة �إال من ب�ضع ق�صائد كانت مبثابة ق�صب الناي لروحه ال�شاكية ه َّمها �إلى اهلل� ،إلى �أن جت َّلت العناية الإلهية فعربت بروح اجلدة �إلى مثواها الأبدي .افتقدها كثري ًا �إذ كانت له مبثابة النور الذي يطرد �شبح الوحدة والك�آبة عن الت�سلل لفراغ البيت والروح ،واملدِّ الأخري املتبقي من موج العائلة حيث فارق والداه احلياة �أثناء عودتهما من العمرة وهو يف العا�شرة من عمره فتو َّلت بيت يفقد احلياة جدته العناية به ،ولهذا فقد �أ�ضحى غريب ًا ي�سكن يف ٍ ب�صخبها وهدير �أجيالها املتعاقبة واحل�ضن ال�صدوقة بدفئها وعنايتها �إال �أنه ميتلك يف ذات الوقت ما ت�سعى �إليه خاليا املجتمع و ُتف ِّرخ يف ع�شه لقمة العي�ش� .إنه املال �أجل املال الوفري املتمثل يف بناية من �ستة طوابق ومزرعة م�ساحتها خم�سمائة دومن و�سيولة مالية ال تقل عن مائتي �ألف لرية .هذه حال حامد� ،أما عائ�شة فقد خطبها حمام موظف يف دائرة �سد َل ال�ستار على الف�صل حكومية وا�سمه �سمري عبد الباقي وبهذا فقد �أُ ِ الأول من حياة عائ�شة يف هذا البيت ليبقى لها منه الذكريات. �أ�ضحت املر�آة لعائ�شة �صديقتها املقربة فهي ال تكاد تفارقها وكنت كلما م ّرت بي حتى تعود فتالقيها ولو كان لإلقاء نظرة عابرةُ ، �أخاطبها مازح ًة: (زفوا العرو�س زفوها وبالدبابي�س ِخزُوها )..56
منقذ نادر العقاد
علي �ضاحكة: فرتد َّ نحن ال�سابقون و�أنتم الالحقون.هكذا كنا نظن جميع ًا لكن كما يقولون� :أنت ت�شاء و�أنا �أ�شاء والدي م�ساء اليوم، واهلل يفعل ما ي�شاء ،فقد تق َّدم حامد خلطبتي من َّ �أخربهم ق�صته بالكامل وو�ضعه احلايل و�ساعده مرهف يف �إكمال ال�صورة وو�ضع النقاط على احلروف ،وحينما غادر ناداين والدي وقال: �سمعت احلديث الذي جرى فما ر�أيك؟ لقدِ الر�أي ر�أيكما �أنت و�أمي.فنظر �إلى والدتي و قال بحزم: من املفرو�ض �أن �أ�س�أل عن �أخالقه و�أ�سرته ب َيد �أنه كما �سمعتمقطوع من �شجرة وق�صته تكاد متزق و�شائج القلوب فهو وحيد بال أهل وال �أقارب والذي يطمئنني �أنه بالن�سبة لأحمد �صديق العمر فال � ٍ ريب �أنه خلوق مثله ،ومع هذا �س�أبعث بر�سالة لأحمد ف�إن كان جوابه مـا �أتوقع توكلنا على اهلل وح َّددنا موعد الزفاف لكما �أنت وعائ�شة يف الليلة ذاتها .بعد ذلك نظر �إلى �أمي وقال: ما ر�أيك فيما قلت؟ال تعقيب يل على كالمك ،غري �أين �أرى �أن تكون هناك فرتةخطوبة حتى يتمكنا من التعرف �أحدهما على الآخر فرمبا مل ين�سجما 57
رجل من مدينة اهلل
�أو يتوافقا يف الطباع وامليول ،فهذا م�شروع حياة دائمة ولي�س حت�ضري ًا للقاءٍ عابر �أو �صحبة عار�ضة ،وقبل �أن ينطق والدي بحرف واحد قلت لهما باندفاع: ال داعي يا �أمي لفرتة اخلطوبة ،فال�شاب جيد!أدركت الزلة التي هنا ح ّدق اجلميع ّيف با�ستغراب وده�شة ف� ُ جت حرج ًا عظيم ًا لدرجة مل �أ�ستطيع معها متالك نف�سي أحر ُ وقعت بها و� ِ ف�سرتت وجهي امللتهب الندي بباطن كفي وغمغمت من ورائهما: مل�أق�صد مل�أق�صد.ف�ضحكاجلميعلت�صريفهذاوحتديد ًاعائ�شةحتى �إذا ما �سكنوا جمدد ًا �أردفت قائل ًة: �إنني �أق�صد �أن الأمر �إن كان يتوقف على فرتة اخلطوبة لأعرفهويعرفني ف�أنا موافقة عليه من الآن �إن كان كما حدثني عنه �أحمد. نرثتُ كلماتي كحبات القمح ثم �أ�سرعت باخلروج وباطن كفي ال يزال ي�سرت وجهي خملف ًة ورائي ت�سا�ؤالت اعتقدت �أنها �ست�شغل بالهم ،لكنَّ عائ�شة �أكدت يل فيما بعد �أن الأمر ُف�سر على �أ�سا�س رغبتي يف الزواج منه لي�س �إ َّال وبهذا تب ّددت ظنوين يف �أن ُيخ َّيل �إليهم �أن بيننا �شيئ ًا من وراء ظهورهم �أو �أن اخلطوبة دبرت م�س َّبق ًا من كلينا مع ًا. ***
58
منقذ نادر العقاد
بعث والدي ر�سالة م�ستعجلة لأحمد يطلب منه ر�أيه و�أن ي�أتي ب�سرع ٍة يف حال املوافقة على حامد فجاءنا الر ُّد الذي كان مفاجئ ًا للجميع ب�سبب اجلفاف الطاغي على ف�ضاء الر�سالة .كان جوابه مقت�ضب ًا �إلى درجة جعلتني �أحفظه عن ظهر قلب ( :ال�سالم عليكم ورحمة اهلل .وبعد :و�صلني مطلبكم �أما من حيث ر�أيي بحامد ف�إنه الزوج املثايل ل�صباح الغالية كما �أت�صور ،و�أما من حيث �إمكانية قدومي لأح�ضر حفلة الزفاف ف�أنا �أعتذر �أ�ش َّد االعتذار .حتيتي و�أ�شواقي لكم أخ�ص بها �أمي الغالية وال�سالم عليكم ). جميع ًا و� ُّ ا�ستغرب اجلميع موقفه ،فلي�س من عادته يف منا�سبات كهذه �أن يكون جدي ًا وحازم ًا �إلى هذه الدرجة� .أر�سل والدي لعمي عبد اهلل ي�ستف�سر منه عن ال�سبب وي�ستو�ضح الأمر� ،إال �أنّ عمي اكتفى باالعتذار يخ�ص �أحمد وحده. وقال :هذا �أمر �شخ�صي ُّ أمر ُيعيقُ لقد زاد ر ُّد عمي الطني ِب َّل ًة ،فك�أنه ُيل ِّمح بطريقة ما �إلى � ٍ �أحمد عن القدوم ولكن ما هو هذا الأمر يا ترى؟ �أخذ مرهف يت�صفح ر�سائلهما لبع�ضهما بع�ض ًا ،ثم �أ�س َّر يل قائ ًال: لقد الحظت فع ًال تغري ًا يف خطابه معي ،وخا�صة يف ال�شهورروح مائلة للعزلة �أ�ضحت الأخرية ،فقد بد�أت ر�سائله يل تنم عن ٍ ت�ستقبل وال تر�سل وقد بلغ هذا ذروته يف ر�سالته الأخرية حيث قال( : �أن�صحك يا �أخي بحامد فهو ميلك روح ًا غنية طموحة� ،أما �أنا فدعني و�ش�أين �أرجوك ). 59
رجل من مدينة اهلل
وهنا �صرخت يف وجهه ب�صوت جمروح: وملاذا مل تخربنا هذا ،قل يل ملاذا؟ُب ِه َت ل�صراخي ثم راح يدعك وجهه بكفه اليمنى ومتتم ب�صوت خمنوق: حقل مليءٍ بالورد مل �أرغب �أن �أعكر ِعليك �صفوك و�أنت يف ٍ أدخل �إلى ف�صلك الربيعي غيوم �شتاء رمادية. والفرا�شات و�أن � ِ ق َّدرت م�شاعره جتاهي ،ومعاناته ،ولهذا �صمت و�أنا �أرنو بب�صري �إلى القمر ف ُيخ َّيل �إ ّ يل �أين �أراه �شاحب ًا مري�ض ًا. *** حلمت �أمي يف حلم ًا مزعج ًا كما روت لنا يف ال�صباح ،لكننا جميع ًا �أخذنا نقول لها� :إنها �أ�ضغاث �أحالم� ،إال �أخي مرهف �صمت وغادر املجل�س فلحقت به �إلى غرفته وقلت له: -يبدو على وجهك عالمات القلق واالنزعاج .نه�ض من مكانه حماو ًال الت�شاغل ب�أي �شيء وهو يقول :هيا اذهبي ،ال �شيء بي. فنهرته بحزم: مرهف� ،أخربين �أرجوك.60
منقذ نادر العقاد
تب�سم ابت�سامة �شاحبة وقال ب�صوت غارق يف احلزن والقلق: �سمعت احللم الذي روته �أمك منذ قليل.بلى �سمعته ،ولكن :ملاذا ت�س�ألني؟لقد حلمت باحللم نف�سه يف الليلة املا�ضية.و�أردف :حلمت �أنَّ �أحمد ميلك حق ًال وا�سع ًا من ال�سنابل اخلا�شعة لرب ال�سماء وكلما حاول جنيها و�أم�سك ب�سنبلة ا�ستحالت يف يده �إلى ِّ �سراب ،ثم بعدها ا�ستاء من الأمر و�أراد �إحراق احلقل ،ف�أتى بعود ثقاب و�أ�شعل احلقل كله لكنه فوجئ بال�سماء متطر بغزارة فك�أنها �سمعت �شكوى ال�سنابل العابدة و�أنين ًا بعيد ًا لروح �أحمد يف بئر ال�ضياع والغربة. أمر اق�شعر ج�سدي للخرب ق�شعريرة ت�شبه من وقف دقيقة �صمت ل ٍ جلل .رمقته بنظرة حائرة فبادلني النظرة ذاتها ومتتم: – هذا ما حدث ،ثم هم�س: �صباح ،لقد �أ�شبعت ف�ضولك ومل �أر َّدك خائبة و�أنت باملقابل�صوين الأمانة وال تخربي �أحد ًا .هززت له ر�أ�سي ثم خرجت من عنده و�شي ٌء ما ُيعيقني عن التنف�س بارتياح. ذهب مرهف مع والده مل�ساعدة عمتي يف نقل حقائبها �إلى بيت بيت �صغ ٍري جدي فعمي م�صطفى قد غادره لي�ستقر هو وزوجته يف ٍ خا�ص بهما ،لهذا انتهزت عمتي الفر�صة وقررت العودة لبيتها الأول 61
رجل من مدينة اهلل
والذي �أبت الرجوع �إليه حينما كانت زوجة عمي موجودة� ،إذ كانت تقول مقولتها امل�شهورة: ( �أبيت على الر�صيف وال �أقعد مع زوجة م�صطفى حتت �سقف رب املعمورة� .أما واحد ) .فبينهما خالفات ن�سائية ال َي ِف ُّك ُعراها �إال ُّ نحن �أي �أبي و�أمي وعائ�شة فقد قمنا بزيارة احلاجة �أم علي وهنالك التقينا مع �أم ح�سان ووافدة جديدة ا�سمها عبري كانت تبدو �صغرية و�أظنها بعمر �أخي �أحمد وقد �صدق ظني فيما بعد� .س�ألتها �أمي عن برجل يكربها بع�شرين �سنة ،فارتبكت واحمر وجهها �سبب زواجها ٍ لكنها متالكت نف�سها وهم�ست ب�صوت مبحوح: �آ�سفة ،هذا �شيء خا�ص ،كررتها مر ًة �أخرى ثم �صمتتف�أحرجت �أمي جلوابها وظلت بعدها طوال اجلل�سة �شبه �صامتة �إال عن قول عبارات تثري لدى احلا�ضرين �سحاب ًة من الذكريات والأحاديث الطريفة. ويف امل�ساء عندما جل�سنا �أمام التلفاز ن�شاهد امل�سل�سل اليومي ذهب �أبي �إلى غرفة النوم و�أ�شعل مذياعه ال�صغري لي�ستمع لآخر الأنباء من �إذاعة لندن لكنه كعادته نام من �شدة الإعياء تارك ًا املذياع مفتوح ًا حتى جاءت �أمي لتنام و�أطف�أته .بقيت �أنا وعائ�شة وحدنا يف ال�صالون، كانت متطر بغزارة و�شجرة الكينا خلف النافذة تتمايل ب�سكينة كعابد تتنـزل عليه �أنوا ٌر لطيفة فيميد حلالوتها يف قلبه وتربو كل �أجزائه ن�شو ًة وحبور ًا. 62
منقذ نادر العقاد
مل �أنتبه لعائ�شة التي غفت على ( الكنبة ) فهي منذ �صغرها ُي�صيبها ا َ خلد ُر التدريجي لدى �سماعها �صوت املطر يرتطم ب�أوراق ال�شجر و�سطوح احلجر ثم ال تلبث �أن تغو�ص يف نوم عميق� .أيقظتها و�أو�صلتها �إلى غرفتها ،كانت تهذي وتقول� :س�أخربكم الآن �أطرف ما حدث معي ثم تبت�سم ،الظاهر �أنها مل تتمكن اليوم من احلديث للجارات ف�شرعت ُتفرغ رغبتها يف الأحالم ،لكم �أغبطها على تلك الب�ساطة التي متتلكها. جل�ست بعدها يف ال�صالون وحيد ًة متكور ًة عند طرف الكنبة �أراقب املطر و�أت�أمل ترمن تلك ال�شجرة ،وحينما خطر ببايل �أن �أتفقد علي فرح ًا وهو يقول: مرهف تراه ماذا يفعل ف�إذا به يدخل َّ لقد انتهيت لتوي منها.من ماذا؟من ق�صة ق�صرية برحت يف رحم الالوعي لدي �أ�سبوع ًا كام ًالواليوم جاءها املخا�ض �إلى �ساحل الوعي فولدت جنني فكرة ح ّية وما علي �إال �أن �أك�سوها ثياب اللفظة املزخرفة. كان ّ قربت اللحاف من حافة ذقني و�س�ألته: ولهذا دخلت فرح ًا؟�أجل.63
رجل من مدينة اهلل
أتعلم ،كنت الآن �أفكر يف �أرفع ن�شوة قد ينالها الإن�سان ومل � ْ�أعرف ما هي متام ًا ،هنا خلع نعليه وتكور على نف�سه ثم هم�س: �إنها ن�شوة الإلهام لأنك ت�شعرين معها وك�أنك مع اهلل �أقرب ماتكونني. �أ�صلح جل�سته وتابع بحبور: �إنك جلي�سة مفعمة باحلياة :لقد اختار اهلل حلامد زوجةحقيقية تالئم روحه متام ًا .خفق قلبي لكلماته حتى كاد يطري وارتع�شت �شفتي ابت�سام ًة خجلة. ع�ضالتي ال�ضاحكة ملغالبتي لها فرتكت على َّ وقتها رنَّ الهاتف ،كانت �أنفا�س عمتي ت�سبق �صوتها ،طلبت والدي و�أخربته عن تدهور �صحة جدي ومع انت�شار رائحة ال�صباح والقهوة خرج الطبيب من غرفته و�أخربنا �أنه م�صاب بق�صو ٍر كلوي ،حاولت جدتي التربع بكليتها له فوافق الطبيب على �أن جتري الفحو�ص الالزمة �أو ًال ،ولكم كانت ده�شتنا كبرية ملَّا تبني �أنها �أي�ض ًا م�صاب ٌة بالق�صور الكلي ذاته. علم عمي بذلك فعزم على القدوم ب�صحبة �أحمد نهاية ال�شهر. ا�ستغربنا جميع ًا قرار �أحمد لكنَّ حبه العارم جلده ُيف�سر ُك َّل �شيء. انتقلت عمتي لبيت عمي عبد اهلل لتنظفه وترتبه قبل جميئه، بقيت �أنا ومرهف عند جدنا وجدتنا ملراقبتهما وخدمتهما. وخالل ذلك ُ �صار مرهف مالزم ًا جلده ي�ستمع �إليه ويحاوره لري�صد الزاوية 64
منقذ نادر العقاد
التي �شاهد منها جده الدنيا� ،أما �أنا فكان علي �أن �أقوم برتتيب البيت وتنظيفه يومي ًا .من كان يت�صور �أننا �سنق�ضي العطلة املدر�سية هنا. على كل حال لقد تعلم مرهف فيما يبدو يل الكثري و�أدرك �س ّر العالقة القوية التي تربط �أحمد بجده قال جدي بينما نحن بني ال�صحو والنوم: لو كنت �أعلم �أن �سبب �سفر �أحمد �إلى ال�شارقة ما رويتموه يل ماتركته يفعلها ولو على جثتي ،ولكن يبدو �أن الأقدار هكذا َّ خط ْت الدرب. رفع مرهف ر�أ�سه عن الو�سادة و�أ�سنده على باطن كفه قائ ًال: ما دمت قد ذكرت �سرية الق�ضاء والقدر فما ر�أيك يا جدي :هل نحن خمريون �أم م�سريون؟ �صمت جدي لربهة ثم �س�أل �أخي مرهف :هل ت�ستطيع يا مرهف �أن متنع قدوم ال�صباح؟ �أجاب :ال .ف�أردف جدي :وال حتى وقوع جرمي ٍة رمبا الآن يجري تب�سم جدي وقال: تنفيذها؟ ف�أكد مرهف جمدد ًا :بالت�أكيد ال يا جديَّ . وملاذا يا عزيزي؟ َّ ان�سل مرهف �أكرث من فرا�شه وقال :لأنني يف الأولى غ ُري م�س�ؤول عن نوامي�س الكون ويف الثانية ال �أعلم مبكان وال زمان وقوع هذه اجلرمية ..ابت�سم جدي ابت�سامة �أكرب وقال ب�صوت حنون: لهذا يا عزيزي فقد قال الإمام الغزايل رحمه اهلل ( :الإن�سان65
رجل من مدينة اهلل
مخُيرَّ فيما يعلمُ ،م�سيرَّ فيما ال يعلم ). َ فهمت ق�صدك يا جدي. فكر مرهف ثم هز ر�أ�سه متمتم ًا :الآن ُ بعدئذ نام اجلميع وبقيت وحدي م�ستيقظ ًة �أت�أمل هطول املطر، ٍ ت�ساءلت و�أنا يف فرا�شي الدافئ عن غرابة الأقدار فاليوم نحن وجدي حتت �سقف واحد جتمعنا احلياة نف�سها ،ويف الغد تربز دروب جديدة ال يعلم �إ َّال ُ أ�سراب هي �أم واح ٌة خ�ضراء؟ اهلل ماهيتها � ٌ كنا قد ق�ضينا مع جدي وجدتي �أ�سبوع ًا �سيبقى �أبد ًا حمفور ًا يف ذاكرتينا �أنا ومرهف ،حالنا حال من يرافق عزيز ًا عليه �إلى حمطة القطار وينتظر معه حتى رحيله �إلى حمطة جديدة وعا ٍمل جديد خمتلف متام ًا. وذات مر ٍة �س�ألت مرهف حينما كنا نقر�أ رواي ًة لتوفيق احلكيم وبعد �أن ا�ست�سلم جدي وجدتي ل�سبات عميق :منذ فرتة و�أنا �أعي�ش الهاج�س الآتي :يا ترى ،ما دام حامد �صديق ًا حميم ًا لأحمد وميلك ثروة كبرية فلماذا مل يقدم له العون املادي ويكفيه �شقاء الغربة وال�سفر؟ لأنه مل يكن يعلم �شيئ ًا عن ثروته حتى ماتت ج َّدته �إذ �أخفتعنه رحمها اهلل تلك احلقيقة لرتبيه على الثقة باهلل واالعتماد على النف�س وملَّا وافاها الأجل ..جاء محُ ٍام كانت اجلدة قد وكلته بالأمر قبل وفاتها و�أظهر حلامد ما خفي عنه طوال �سنني خلت. كانت �إذ ًا فطن ًة وحكيمة؟66
منقذ نادر العقاد
و�ضع ُ�س َّبابته الي�سرى مكان ال�صفحة التي كنا نقر�أها وتابع:ما يخ�شاه حامد الآن هو ُ رف�ض �أحمد مل�ساعدته �إن عر�ضها عليه يف هذه الزيارة ،ثم فتح الكتاب وعدنا للرواية من جديد. ها قد و�صل عمي عبد اهلل وعائلته� ،أما �أحمد فقد قرر املكوث لب�ضعة �أيام يف العا�صمة .مل يرق لنا ت�صرفه الغريب هذا لدرجة �أن �أمي يف م�ساء الأم�س كادت �أن تتهاوى على قدمي عمي تقبلهما راجي ًة �إياه �أن يبوح بال�سر وهي تقول له: يكفيك ممانع ًة يكفي� ،إما �أن تقول ما عندك �أو غادرنا بهدوءوهم باملغادرة بعد رجا ًء ..ظل عمي �صامت ًا للحظات ثم انت�صب واقف ًا َّ �أن رمقه والدي بنظرة مملوءة بالوعيد فتلقاها برحابة �صدر وم�ضى. ُجنَّ جنون والدي ل�سلوكه هذا فكان كمن كويته بالنار فما عاد يطيق جمل�س ًا وقرر يف معمعة انفعاله �أن يذهب �إلى دم�شق للبحث عنه واملجيء به �إلينا� .آزرته �أمي يف القرار ،ومع ب�شائر ال�صباح انطلقا ،لكنهما قفال يف امل�ساء عائدين بخفي حنني فو�صل اخلرب لعمي الذي ات�صل ب�أحمد هاتفي ًا و�أبلغه احلال التي �آلت �إليها �أ�سرته ثم قام بزيارتنا .كان يبدو عليه اال�ضطراب والقلق ،فكم ر�أيته يع�ض �أطراف �أ�صابعه وي�سبح يف فجر والدي فراغ خميلته ،تبدو على �سحنته عالمات التوج�س والهلعَّ ، �صمته بكلمة� ،إذ قال له :هل علمت منه متى �سي�أتي؟ �أنا؟ومن غريك �إذ ًا؟ �أجابه والدي ب�سخري ٍة ُم ّبطنة. 67
رجل من مدينة اهلل
نزع النظارة عن عينيه وقد انزلقت �أ�صابع كفه �إليهما ،فركهما َّ وا�سرتق الطرف لوالدتي ومتتم :ال قلي ًال ثم نظر �إلى والدي با�ستحياء �أعلم ماذا �أقول لكم �أخرج كلماته ثم �أتبعها ب َن َف�س عميق وعاد جمدد ًا ل�شروده احلزين ..قاطعه والدي وقال� :أخربنا ما حدث؟ و�أردف: فو�ضنا �أمرنا هلل يا �أخي وال حول وال قوة �إال به� .إن كان قد تويف يف ال�شارقة ف�إنا هلل و�إنا �إليه راجعون ،و�إن كان ال يريدنا �أه ًال �أو بالأحرى ال يريدين �أنا �أب ًا فقد �أخط�أت يف حقه وله العتبى حتى ير�ضى� ،أخذت �سد َّثم انهار دموعه جتري من عينيه كماءٍ حب�س لوقت طويل وراء ٍّ ال�س ُّد دفعة واحدة وتدفق املاء .هكذا ت�صورت والدي حينها �إذ �إنها املرة الأولى التي �أراه فيها يبكي وبتلك القوة حتى �أن حاله انتقل �إلينا ف�أجه�شنا بالبكاء لوال �أن تداركنا �صوت عمي وهو ي�صرخ :ف�أل اهلل يا جماعة وال ف�ألكم هذا� ،أو ًال �أحمد ال يزال على قيد احلياة ،وثاني ًا ما فكر يوم ًا بفراقكم و�أخري ًا هو يحبك يا جميل� ،أجل يحبك حب ًا حقيقي ًا و�صادق ًا. �إذ ًا ما به؟ �س�ألت �أمي بتوج�س ي�صاحبه ا�ستب�شار.ال �شيء مما ت�صورمت ،يف احلقيقة لقد تعر�ض هناك حلادث�سري ..انتف�ضنا جميع ًا بذهول وقلنا ب�صوت واحد� :أكمل وقد ُ�ش َّدت �أع�صابنا فك�أنها ع�صب واحد �سيتداعى لنقرة ته ُّز م�سامعنا و�أظن عمي الحظنا على تلك ال�صورة ف�أبى �صوته �إال االرتداد حللقه مع كل حماولة ي�سعى فيها للكالم .كان كمن ينتظر وم�ضة خ�ضراء ليفتح الطريق ل�صوته ،وفع ًال جاءته الوم�ضة من �أبي �إذ رجاه قائ ًال: 68
منقذ نادر العقاد
هيا ح ّل اللغز فتلقي امل�صيبة يا �أخي �أهون من ترقب تلقيها،فر َّد عليه مبا�شرة: لقد ُ�ش َّلت �أطرافه ال�سفلى و�أ�ضحى جال�س ًا على كر�سي متحرك.كر�سي متحرك ..ر َّدد والدي كمن ال ي�صدق ما ي�سمع وقد �شحبوجهه �شحوب ًا �شديد ًا ..على الفور هم�س مرهف يف �أذن �أمي منبه ًا �إياها �إلى خطورة لوم �أبي الآن لأنها قد تكون القا�ضية ،فا�ستجابت له و�أجه�شت بالبكاء يف حني �شرع والدي يت�صفح ر�سال ًة تناولها من يد عمي فبد�أت مالمح وجهه تتغري ،كانت تتوزع بني احلزن العميق وال�سكينة الوادعة .قر�أها مرار ًا وتكرار ًا ويف �آخر مرة �أخذ يقر�ؤها ب�صوت م�سموع .كان �صوته يرجتف يف حلقومه َّثم يحلق فوق �شفتيه بعيد القرار ،وكان من جملة ما بقي يف ذاكرتي« :ال �أ�ستطيع بهدوء ِ يا �أبي �أن �أعرتف لك مبا يجول الآن يف �صدري وجه ًا لوجه لأنك ما عودتني على البوح لك ،ما عودتني االرمتاء على �صدرك والبكاء يف ح�ضنك .لقد �ألفتك �صلب ًا ،قا�سي ًا كاحلجارة ،لكنني وملَّا ابتعدت عنك بت �أ�سمع خرير املاء العذب يف قلبك احلنون .يا والدي لقد �ساحمتك، ُّ �أق�سم لك باهلل العظيم �أنني قد �ساحمتك �أبد الآبدين ..فال حتمل نف�سك بعد اليوم فوق طاقتها». *** جاء �أحمد حممو ًال على كر�سيه املتحرك ،فكان احلزن والفرح وكانت �أمواج الروح املتالطمة وغابات العيون املنداة بالدموع .كان 69
رجل من مدينة اهلل
يختل�س النظر �إلى والدي فرتى احلزن والإ�شفاق وقد طغيا على �سطح عينيه .مل يحاول �أن ُيث ِّبت نظره ولو ملرة واحدة يف عيني �أمي حتى ال كطفل �صغري ،ولهذا وحتى يخفف من وط�أة ينفجر �أمامها بالبكاء ٍ والدي �أن املواجهة امل�ستمرة و يتكيف مع الو�ضع اجلديد طلب من َّ ي�سمحا له يف املكوث عند جدي لبع�ض الوقت مربر ًا رغبته هذه بحبه العارم جلده و�إح�سا�سه بحاجته لقربه �أكرث من �أي وقت م�ضى. *** كنت بعدها ،لدى انتهائي من يومي املدر�سي �أع ِّرج على بيت جدي ف�أجل�س هناك قلي ًال من الوقت �أ�شاهد �أخي �أحمد �إما مع جده يرتل القر�آن ترتي ًال فيم�سح الأخري دموعه ب�سكينة وخ�شوع� ،أو مع حامد الذي �أ�صبح يزوره يومي ًا فيتبادالن �أطراف احلديث يف مو�ضوعات �شتى و�أحيان ًا ي�ستمعان �إلى مقاطع مو�سيقية �أو يلعبان ال�شطرجن فك�أن ذلك ُيخرجه من دهاليز الك�آبة وي�ضعه �أمام بوابة احلياة والنور� .شيئ ًا ف�شيئ ًا ا�ستطاعت روحه �أن تكت�سي طيف ًا جديد ُا فتغلبت بذلك �إرادة احلياة على نزعة املوت اخلفية ،بيد �أن ما حدث لوالدي خالل هذه الفرتة عك�س ذلك متام ًا �إذ دخلت روحه يف �سبات عميق تعداه �إلى تراب اجل�سد َّ فجف وانح�سر عن روابيه ماء احلياة وهكذا انت�صرت حقيقة املوت على �أ�سطورة احلياة ،وامليدان يف هذه املرة كان والدي رحمه اهلل .مل يحتمل ت�صور ما حدث البنه وو�ضع ُج َّل الالئمة على نف�سه رغم �أن �أحد ًا مل يوجه له �إ�صبع االتهام لكن للعيون لغتها. مات والدي وحزن اجلميع لفراقه حزن ًا �شديد ًا ،مل ُنق ّيد التعزية بثالثة �أيام نزو ًال عند و�صيته ،وكذلك مل ن�ست�أجر قارئ ًا للقر�آن .لقد 70
منقذ نادر العقاد
�أح�س بال ريب بدنو �أجله فكتب هذه الو�صية لأنه خ�شي �أن نقلد الآخرين يف مرا�سيم كهذه ،خا�صة و�أنه كان يرى فيها بدع ًا قد �ألفها النا�س و�س ّن ًة مطهرة. ف�صاروا يخالونها من الدين �شرع ًا ُ مي�ض �شهر على وفاة والدي حتى حلقته جدتي رحمها اهلل، مل ِ كان احت�ضارها حمفوف ًا باملالئكة كما قال جدي ،فال الأنوار فارقت وجهها وال االبت�سامة تخلت عن ثغرها �إلى �أن �صعدت روحها ب�سكينة مهيبة �إلى الرفيق الأعلى تارك ًة ج�سدها يعود جم َّدد ًا �إلى وطنه الأم: الأر�ض. علي رجع عمي �إلى ال�شارقة م�صطحب ًا معه عمتي يف حني بقي ٌّ عند جده مع �أحمد الذي ا�ستقر تقريب ًا هناك واعتزل النا�س ُك َّل النا�س �إال �إيانا. *** بد�أت �أمي ت�ألف تدريجي ًا ا�ستقرار �أحمد يف بيت جد ي ،وقد بد أ� يكب على درا�سة التاريخ والفل�سفة م�ستعين ًا بتوجيهات جدي وم�ؤازرة ُّ حامد الذي كان يرفده بكل ما يحتاج �إليه ويجال�سه ل�ساعات طوال يحاوره فيما قر�أ وا�ستنتج ،هذا يف الأيام الثالثة الأولى من كل �أ�سبوع �أما بقية الأ�سبوع فكان يخ�ص�ص فيه يوم ًا حلفظ القر�آن ودرا�سة ال�سرية النبوية و ما تبقى من �أيام يجعلها لدرا�سة امليكانيك مبفرده �إر�ضا ًء ل�شغفه القدمي �إذ مل ي�ش�أ العودة للجامعة بل �آثر الدرا�سة اخلا�صة على ذلك. *** 71
رجل من مدينة اهلل
كان من املفرو�ض �أن تلتقي اجلارات عند �أم علي يف ال�سابعة والن�صف لكنَّ �أمي دعت �أم ح�سان لعندنا قبل املوعد ب�ساعة و عندما جاءت �أدخلتها غرفة اجللو�س وقعدنا على الأريكة املقابلة لل�صالون. كانت �أ�صوات ال�صبية يف ال�شارع تثري �ضو�ضاء وا�ضطراب ًا ل�سكان احلي ومبا �أنّ ال�صوت كان وا�ص ًال لتلك الغرفة غادرتاها لل�صالون حيث كنت بعدئذ نه�ضت عائ�شة �إلى وعائ�شة ن�شاهد برنامج ( افتح يا �سم�سم )ٍ . غرفتها من تلقاء نف�سها� ،أما �أنا فطلبت �أمي مني اخلروج فق�صدت غرفة اجللو�س .بداية مل �أ�ستطع فهم ما تقوالن ذاك �أن �صوت الأطفال ي�ساوي تواتر �صوتهما فتهوي كلماتهما يف الفراغ قبل �أن يلتقطها �سمعي، ا�ضطجعت على الأريكة وقد انتابني �شعور بالتعب واال�ستكانة للنوم، وملّا كدت �أدخل حدوده انقطع التيار الكهربائي فخلت �شوارع احلي �صمت �إ َّال من �سيارات مت ُّر بني الفينة والأخرى عندها و�ساد املكانَ ٌ ُب ُّت قادر ًة على التقاط الأ�صوات املن�سابة من ال�صالون .كانت الأريكة مقابلة للمو�ضع الذي جل�ستا فيه� ،أ�شعلت �أمي �شمعة كبرية ثم دخلت بلحاف خفيف ثم لتتفقدين فتظاهرت بالنوم ،عندها عمدت لتغطيتي ٍ عادت ملكانها .احت�ست قلي ًال من فنجانها وقالت� :أت�شكني يف الأخوة التي جتمعنا واجلرية التي تربطنا؟ بالت�أكيد ال ،ولكن مل هذا ال�س�ؤال؟�أعادت �أمي جذعها للوراء قلي ًال ثم هوت بيديها على فخذيها وقالت بحزم� :إن ولدك كولدي يهمني م�ستقبله و�سمعته ،ومن الواجب علي �إخبارك مبا �أعرف قبل فوات الوقت. ّ 72
منقذ نادر العقاد
قويل باهلل عليك ما لديك ،ماذا فعل ح�سان؟يف احلقيقة �أخربين مرهف �أن ابنك مع بداية هذا الف�صلعلي �أال �أخربك حتى ال يخا�صمه �صار يقف �أمام مدار�س البنات ،و�أكد ّ ابنك لكن الأمر و�صل لدرجة م�صاحبته ل�شاب لوطي ،ولهذا قررت �إخبارك وليحدث ما يحدث بعدها .رجعت جارتنا قلي ًال للوراء وت�ساءلت با�ستنكار: ح�سان يفعل ذلك؟ عجيب لمِ َ لمَ ْ �أنتبه له �أو �أحلظ تغري ًا يف�سلوكه؟ رمبا لأنه �أجاد ت�ضليلك .و�أردفت :املهم عليك �إيجاد طريقةتن�شلينه فيها من الوحل قبل �أن يغو�ص ،ويل عندك رجاء وهو رجاء مرهف كذلك ب�أن ،.فقاطعتها �أم ح�سان قائلة: فهمت ق�صدك� ،.أ�شكرك وابنك على �إخال�صكما ،فلو و�صلاخلرب لإحدى اجلارات الن ّمامات لكنت الآن وابني على كل ل�سان. حلقت بهما �إلى احلاجة �أم علي ،ف�س�ألتني �أمي عن بعد قليل ُ �سبب جميئي� ،أخربتها �أنني مل �أجد ما �أفعله فقررت املجيء قلي ًال. كانت احلاجة تتو�سط اجلل�سة ،على ميينها �أم ح�سان ووالدتي، ويف الطرف الآخر �أنا واجلارة اجلديدة. قالت احلاجة :ال يوجد عندي �شيء �أعظم من لقاءٍ حميم كهذا 73
رجل من مدينة اهلل
اللقاء ،ثم �أخذن بعدها يتحدثن يف مو�ضوعات �شتى با�ستثناء اجلارة اجلديدة فقد بقيت �صامتة من�شغل ًة مبراقبة طفلتها ال�صغرية .حتدثنّ عن م�شكالت التعليم ومدى ت�أهل املعلمني واملعلمات لهذه امل�س�ؤولية وكنّ كلما حاولن و�ضع يدهنّ على الداء وت�شخي�ص الدواء ي�صلن �إلى نقطة م�سدودة .خالل ذلك الحظت �أمر ًا غريب ًا على وجه اجلارة اجلديدة وانتابني �شعور �أنها تو ُّد احلديث معهنّ لكنها حتجم يف اللحظة الأخرية ف�أردت منحها هذه الفر�صة وب� ٍآن ا�ستغالل تلك الرغبة لديها تلبية لدي .دنوت من اجلارة اجلديدة وهم�ست يف �أذنها: لرغبة دفينة َّ �أت�أذنني مبنحي فر�صة التعرف عليك؟ فابت�سمت قائلة وقد �أحنت ر�أ�سها قلي ًال للأمام وو�ضعت يدها اليمنى على �صدرها :بكل �سرور يا �سيدتي .نظرت ُك ُّل واحدة منا �إلى الأخرى وقد �أ�شرقت على وجهينا �أنوار املحبة واالبت�سام ،وبلمح الب�صر اتخذت القرار احلا�سم وا�صطحبتها �إلى البيت. قالت ونحن نهبط ال�سلم: �أخ�شى �أن يكنّ قد غ�ضنب.ال تخايف� ،إنهنّ طيبات القلوب و�سيتفهمن الأمر بال ريب،ففارق العمر يقف حاجز ًا دون تالقينا معهن. هنا �ضمت �صغريها ل�صدرها وهي تتمتم� :أرجو ذلك. دخلنا البيت وجل�سنا يف ال�صالون ،ويف احلال ذهبت �إلى غرفة 74
منقذ نادر العقاد
جت على غرفة مرهف فلم �أجده هناك، عائ�شة فوجدتها نائمة وع ّر ُ دخلت املطبخ وخالل دقائق كانت القهوة جاهزة ،وعندما عدت �إليها وجدتها تر�ضع �صغريتها فانتظرتها حتى انتهت .نامت ال�صغرية على �صدرها فو�ضعتها برفق على الأريكة املجاورة .قلت لها� :أخ�شى �أن ل�ساعات جنب واحد ٍ ت�سقط .ف�أجابتني :ال تخايف �إنها ممن ينمن على ٍ ابت�سمت لها و�أنا �أناولها فنجان القهوة و�س�ألتها: عديدة. ُ ا�سمك عبري �ألي�س كذلك؟�أجل ،و�أنت ما ا�سمك؟�أال تعرفني؟عذر ًا فنحن مل نلتق �سوى مرة واحدة وخاللها مل تتعرف �إحداناا�سمك وا�سم ا�سمك من �أمك وخلطت فيما بعد بني بالأخرى ،فعلمت ِ ِ �أختك التي تكربك .ارت�شفت بع�ض القهوة و�أجبتها دون �إظهار ال�ضيق: ا�سمي �صباح� ،أما �أختي التي ذكرتها فا�سمها عائ�شة.تابعت� :شعرتُ بك هناك وك�أنك هممت يف اخلو�ض معهن ثم ُ حول م�شكالت التعليم لكنك تراجعت يف اللحظة الأخرية. �صمتت قلي ًال ثم قالت :مل �أكن �أريد اخلو�ض يف املو�ضوع بقدرما �أردت التعقيب عليه ،ف�أغلب معاجلاتنا للأمور تبدو جزئية �سطحية ولي�ست �شمولية جذرية ،ولهذا نخفق عندما نحاول �إيجاد احللول 75
رجل من مدينة اهلل
العملية .هززت لها ر�أ�سي مع �أنني مل �أدرك متام ًا مقا�صدها لكنني وملَّا أكملت قائل ًة: كنت ال �أبغي الوقوف هنا � ُ �إلى �أي مرحلة تعليمية قد و�صلت؟ح�صلت على الثانوية مبجموع جيد ،لكنني بعدها مل �أكمل فقدتزوجت. منْ ؟ِ �أجل منه.ولكنه يكربك بكثري.احت�ست ما تبقى من فنجانها ثم نظرت �إ َّ يل وقد غلبت �شهوة الكالم عندها ف�ضيلة ال�صمت: �أحيان ًا يجرب املرء على فعل �أ�شياء ال ير�ضاها.هل �أجربوك على الزواج؟لي�س متام ًا.كيف ذلك؟هنا �سكتت وك�أنها تنوي االعتذار عن املتابعة فقطعت عليها الطريق قائلة: 76
منقذ نادر العقاد
ما ر�أيك �أن تكوين من الآن ف�صاعد ًا مبنزلة �أختي الكبريةالتي �أ�صارحها مبا ال �أ�صارح به �أحد ًا و�أنا مبنزلة �أختك ال�صغرية التي تخبئني لديها �أ�سرارك فتحفظها لك؟ �أو تقدرين على حفظ ال�سر؟بالت�أكيد �أقدر ،فقد حفظت قبل هذا �أ�سرار ًا كثرية ومل �أبح بها�أفال �أقدر على حفظ �سرك؟ ُبهتت لكلماتي ثم بد�أت ت�ستكني جمدد ًا ل�شهوة الكالم التي بدت ك�أفعى ابتلعت ال�سر ف�أهبطته من فردو�سه العلوي �إلى �سرج الل�سان وتركته ينطلق بال اجتاه .قالت فيما قالت: حينما حملتني �أمي �أق�سم �أبي �أنه �سيطلقها �إذا كان املولود بنت ًا،وفع ًال كنت الفتاة امل�ش�ؤومة التي مل يرحب �أحد مبجيئها� ،إذ ط َّلق �أبي �أمي َ وغا َدرنا دون رجعة .قيل �أنه هجر البالد وقيل �أنه تزوج لعام واحد ثم مات مبر�ض ع�ضال وقيل ،..وقيل ..ربتنا �أمي �أنا و�أخواتي البنات ولكنها بقيت طوال عمرها تراين �سبب ب�ؤ�سها وطالقها من �أبي ،و لهذا قررت تزويجي لأول خاطب يدق بابنا. بعد �أن نلت الثانوية العامة ْ وكان هذا اخلاطب هو.أ�سرعت مب�سح دموعها ودنت �أجل كان هو .حينها ُف ِت َح بابنا ف�ْ فطلبت منها اجللو�س، �إلى طفلتها تت�شاغل بها .كان القادم مرهف ًا، ُ لكنها �أبت وما كادت تكمل عبارتها حتى عادت �أمي ..ف�ألقت عليها 77
رجل من مدينة اهلل
اجلارة التحية وغادرتنا و�أمي تنتظر منها زيارة خا�صة. *** مل ينتقل ابن عمي علي �إلى ال�سنة الثانية ،فاتفق مع والده على البقاء هنا يف هذا ال�شتاء كي يكون على ات�صال �أكرب مع كليته ،لكنه مل يكن ن�شيط ًا بال�صورة التي تخيلها والده فقد بات يركن للعزلة واالنفراد ومالزمة غرفته ،بل حتديد ًا �سريره طوال النهار �إال ما ندر ،بد�أ جدي يلحظه وكذلك �أحمد لكنهما مل يعريا الأمر اهتمام ًا كبري ًا وظنا �أنه مير بحال نف�سي َع َر�ضي �أفرزه ر�سوبه بيد �أن الأمور تطورت فج�أة ب�شكل خطري للغاية ف�أ�صبح انعزاله وتكوره يف �سريره �شيئ ًا غريب ًا وادِّعا�ؤه التهاب الكلية رغم ق�ضائه للوقت مت�سكع ًا يف ال�شوارع واحلدائق �أمر ًا مريب ًا .ح ّدثه جدي �أكرث من مرة م�ستف�سر ًا عن حاله لكنه مل يكن يجيبه ب�شيءٍ ،بل ينتقل به �إلى �أمر �آخر ،ا�ستحلفه جدي مر ًة �أن يقول ما يعاين منه فنظر �إلينا نظر ًة بلهاء وقال: البارحة ذهبت �إلى ال�سوق ..فكان يطاردين..من؟�إنه حممود ..الذي ي�سكن بجوار دكان احلالق �سعيد.حممود! .قال �أحمد بده�شة ثم تابع� :إنه �شاب طيب حديثعلي �أكرث يف �سريره وقال الزواج ال ّ هم له �سوى منـزله وعمله .انزوى ٌّ كطفل خائف: 78
منقذ نادر العقاد
هم بالنـزول ال �إنه يتبعني ،لقد ا�ستق ّل معي البا�ص نف�سه .وحني ّهم�س يف �أذن من معه قائ ًال� :إنه هو حاول متابعته .هنا اقرتب جدي منه وجل�س على �سريره ثم ح�ضنه بحنان وم�سح بيده على جبينه قائ ًال: ال حول وال قوة �إال باهلل ..ال حول وال قوة �إال باهلل ،يا جدي الُت ْت ِعبني� ..إنني مري�ض ،قم ( يا جدو ) ه ّيا �صلي على النبي وقم.. �إلى �أين يا جدي� ..إلى �أين؟�إلى غرفتي كي حتدثني مبا تفكر به هذه الأيام ومتى بد�أتتفكر هكذا. بعدها درج �أحمد بكر�سيه �إلى جوار ال�سرير ثم رفع الو�سادة و�أخرج جريدة قدمية وقال: اقرئي هذا املقال.�شرعت بقراءته وملا انتهيت حدقت فيه بغرابة. بك؟ فقال :ما ِ قلت ال �شيء ولكن ملاذا �أريتني هذا املقال؟ قال :ما عهدتك �إال �سريعة البديهة. ف�أجبته :خانتني بديهتي هذه املرة ،فقل ما َ لديك. 79
رجل من مدينة اهلل
�سحب كر�سيه للوراء و� ْأ�س َل َم ظهره للم�سند ثم تكلم قائ ًال: علي �إال ووجدته يطالع يف هذه اجلريدة. ما دخلت مرة على ٍّوما عالقة هذا بذاك؟�إن هذا املقال ي�صف نف�سية مر�ضى ( الهو�س االكتئابي ) ومن �صفات املري�ض اعتقاده �أنَّ النا�س يراقبونه ويكيدون له املكائد ويتهام�سون عليه ،فكل غمزة وملزة وكل �إ�شارة ونظرة هي ت�صريح باملراقبة و�إ�شار ٌة للمالحقة� ،إنها ح�سا�سية مفرطة تنقلب على �صاحبها بال�سوء. �صمت برهة ثم تابع: َ �أخ�شى �أن الر�سوب قد دفعه للت�أثر بهذه املقالة و�ساعدته عزلتهوانفراده على ذلك ،فتق ّم�ص حال املري�ض نف�سي ًا و�صدق نف�سه. كالمك معقول ولكن؟ مل �أ�ستطع اال�ستدراك �إذ عاد جدي ومعهعلي .انزوى الأخري يف فرا�شه و�ص َّرح وجه جدي بف�شل املحاولة. *** بعد م�ضي وقت لي�س بالطويل خرج �أحمد ولأول مرة منذ جميئه، �إذ بات من اليوم ف�صاعد ًا قادر ًا على مواجهة النا�س وعندما و�صل �إلى بيتنا َق َرع الباب ،قال مرهف :منْ على الباب؟ فجاءه ال�صوت� :أحمد. 80
منقذ نادر العقاد
هُ رعنا جميع ًا �إليه. كان جال�س ًا على كر�سيه ينظر �إ َّ يل بفرح .ت�سمرت يف مكاين فخاطبني: �أت�سمحني يل بالدخول؟عدت �إلى الوراء قلي ًال ولوحت �إليه بيدي قائلة: بالت�أكيد .بالت�أكيد ،تف�ضل.وما �إن جتاوز عتبة البيت حتى ارمتت عليه �أمي تقبله من قدميه �إلى جبينه كانت الدموع تنهمر من عينيها ،وال�صوت يتك�سر يف حلقها حتى ا�ستطاعت جربه فقالت معاتب ًة: هل ن�سيت �أمك يا �أحمد؟ �أمك التي �أحبتك �أميا حب وحت ّرقتلر�ؤيتك �أميا احرتاق. فر َّبت على كتفها وقال: �أنت من �أق�سم �أال يزورين �إن مل �أزرك �أو ًال.رفعت ر�أ�سها ثم ح ّدثته قائل ًة: ْ أزورك و�أنت ُ كيف تريدين �أن � َتعي�ش كمن ال بيت له. �ضغط بكامل يديه على ركيزتي الكر�سي وقال بغ�صة: 81
رجل من مدينة اهلل
كان جدي يعاين من الوحدة ،و�أنا كنت �أطلب العزلة وال�سكونفكان ما كان. والآن؟ �س�ألته �أمي بتوج�س.ال�شيء ..لقد خرجت من خلوتي وهتكت �سرت وحدتي وعدتإليك كما كنتْ � .. أحمد ..ف�أبت فطرتي �إ َّال �أن ت�سوقني �أول ما ت�سو َقني � ِ يا �أمي. كان �أحمد قد قرر البقاء يوما عندنا ويوما عند جده وبهذا ق�سمنا املهمة بيني وبينها �أ�ضحى واجبا علينا �أنا وعائ�شة زيارة جدناّ . يوم ًا بيوم ،وكان على مرهف امل�سكني �أن ي�صطحبنا يف كل مرة. ويف �آخر الأ�سبوع زارنا حامد ،كنا وقتها �أنا و�أمي نعمل على جتهيزات العر�س ومالب�س العرو�س ،وكانت ت�ساعدنا �أم ح�سان واجلارة اجلديدة� .أ�ضحت الأخرية �أختا حقيقية يل حيث �صرت �أتردد عليها بني الفينة والأخرى كلما �ضاقت بي الدنيا و�ضقت بها ،وبينما كنت علي �أحمد وبادرين قائ ًال: �أح�ضر القهوة يف املطبخ دخل ّ �إحم� ..إحم..فارجتفت يف مكاين ومتتمت :ب�سم اهلل ..ب�سم اهلل.. كنت �شاردة؟ �أين ِيف ..يف ،.قاطعني قائ ًال :يكفي ..يكفي ..املكتوب وا�ضح من82
منقذ نادر العقاد
عنوانه� .أحرجني بخطابه لكنَّ غليان املاء �أ�سعفني فقلت: دعني �أكمل القهوة.مينعك؟ تب�سم وقال� :أكمليها ..ومن ِ َّ فنظرتُ �إليه وقلت� :أال تريد �أن تذهب؟ قائ ًال:
ج َّر كر�سيه �إلى موقع �أقرب� ،أمال عنقه �إلى اليمني ونظر مبكر لن �أذهب حتى �أ�سمع موافقتك.-على ماذا؟
على ماذا؟ راح ُّميط الكلمة متعمد ًا الت�شويق فتظاهرتُ بعدم وهممت باخلروج وبينما �أنا �أجتاوزه التقطت �أذين عبارته االكرتاث ُ الوردية ( :على حامد ). ارجتفت يدي وكادت �أن ت�سقط مني فناجني القهوة ..قال ْ �ضاحك ًا: بحرج: وج ٌه وردي على بلوزة �صفراء ين�سجمانُ .فقلت ٍ دقيقة و�أعود � َإليك. رجعت �إليه �سبقته �إلى الكالم فقلت معاتب ًة: وملا ُ 83
رجل من مدينة اهلل
علي بربود ٍة: �أهكذا جتعل الن�سوة يت�ساءلنّ ما بي؟ فر َّد َّوهل يبدو عليك �شيء؟�أوه �أنت حق ًا ( فايق ورايق ) ..ا�ستدرتُ وعدتُ �أدراجي وعندب�صوت يرتاق�ص فرح ًا: التفت �إليه وقلت مدخل ال�صالون ُّ ٍ موافقة ،فتناهت �إلى م�سامعي جملته الأخرية :بنات �آخرزمن ..مل �أعب�أ بها وعدت جمدد ًا لل�صالون وقلبي يكاد يحلق بعيد ًا آخر مدى.. آخرِ � .. خارج �صدري �إلى � ِ *** يف ال�صباح �أقبلت �أمي نحوي مبت�سمة وقالت: أنت و�أحمد بعد �صالة منت � ِ �أوه..لقد ت�أخرت يف النوم ،هل ِالفجر؟ ال.–�إلى الآن؟ �أجل..كانت حتملق َّيف ب�شكل مث ٍري ،ف�س�ألتها با�ستغراب :ملاذا تنظرين �إ َّ يل هكذا؟ 84
منقذ نادر العقاد
ا�ستمرت يف نظراتها وقالت: ما ر�أيك �أن نحقق رغبة والدك رحمه اهلل؟� ّأي رغبة؟يت فرا�شي وه َّويت الغرفة ..بعدها تركتني لدقائق خاللها �س ّو ُ �سمعتها تنادي من ال�صالون� :صباح . .عائ�شة . .الفطور جاهز. ت�ساءلت عائ�شة� :أين �أحمد؟ وعلى املائدة ْ ذهب لبيت جده.لعله حنَّ لتلك الدار؟أدركت �أنها تريد العودة هزَّت �أمي ر�أ�سها ثم نظرت َّيف جمدد ًاُ � .لنف�س احلديث .فابتد�أته من تلقاء نف�سي .و�س�ألتها: � ّأي رغبة تلك؟أختك؟ �أال تذكرين رغبة والدك بتزويجكما يف الليلة ذاتها � ِأنت و� ِ متتمت عائ�شة م�ؤيد ًة :نعم ،نعم ،لقد متنى ذلك .ثم التفتت �إيل وتب�سمت مبكر كابت�سامة �أخيها يف الليلة الفائتة ومتتمت: ّ لو ٌن وردي �إلى جواره بلوزة �صفراء ين�سجمان!85
رجل من مدينة اهلل
�أده�شني كالمها .نظرتُ يف �أمي ثم �أعدتُ ب�صري �إليها وقلت: كيف عرفت؟عرفت ماذا؟�شعرتُ بوجهي يلتهب ..وحلقي يجف ..فقلت مبكر: �أق�صد كيف عرفت �أن اللون الوردي ين�سجم مع البلوزةال�صفراء. لقد �سمعتها ذات يوم.حدجتها بحد ٍة وقلت :ذات يوم! ح�سن ًا كما تريدين . .ذات يوم!. ثم �أعدت ب�صري �صوب والدتي التي كانت تتناول طعامها رويد ًا ق�صدت بحديثك قبل رويد ًا ب�سبب �أ�سنانها املتخلخلة� .س�ألتها :ماذا ِ قليل؟ تعرفني ما ق�صدي ،فال داعي للمناورة.أطرقت بب�صري ..هنا �شعرتُ بدمائي تغلي .فتكوي جلد وجهيُ � . أنت موافقة؟ يف �صحني ثم متتمت .. :ح�سن ًا� ،إذا � ِ �أجل موافقة.حينها نه�ضت عائ�شة لرتى من يقرع الباب .كان �ساعي الربيد. 86
منقذ نادر العقاد
تناولت �أمي الر�سالة وبد�أت فتحها بذيل امللعقة .قالت لها عائ�شة: انتظري دقيقة �س�أح�ضر لك �أداة فتح الر�سائل ،ف�أجابتهابتلهف :ال �أ�ستطيع االنتظار� .إنها من خالكم .و�أنا مت�شوقة لأقر�أ ما بداخلها. قر� ْأت الر�سالة بعينيها ،وملا انتهت من القراءة رمتها يف الهواء عالي ًا وقد وثبت من مكانها كطفلة �سعيدة ،راحت تخاطبنا وا َل َعرباتُ يف عينيها .وت�صرخ� .:إنه قادم� ،إنه قادم يف الأ�سبوع الآتي ،فقلنا �أنا وعائ�شة ب�صوت واحد: �أخري ًا �سرنى خالنا الوحيد .ف�أجابتنا بحبور� :أجل .بعد كل هذهال�سنوات .قالتها بحرقة وقد انهمرت دموعها فك�أنَّ ال�سعادة ا�ستحالت حلزن برهة من الزمن ثم ا�ستفاقت جمدد ًا فرح ًا وحبور ًا. ٍ وبينما نحن على هذا احلال �سمعنا �صراخ ًا على درج البناية ف ُهرعنا ننظر ما يجري .كانت اجلارة اجلديدة تهبط ال�سلم ب�سرعة وطفلتُها على يدها باكية وزوجها من الأعلى ي�صرخ قائ ًال: جن�سك. أنت وبنات اذهبي �إلى اجلحيم ،ملعون ٌة � ِ ِ نادتها �أمي .:عبري ،عبري .فالتفتت �إليها وقد ملأت الدموع وجهها وقالت .:ماذا تريدين يا �أم �أحمد؟ 87
رجل من مدينة اهلل
ادخلي �أو ًال ُث ّم نتح ّدث ،..كانت تبكي ب�شد ٍة ،هد�أتها �أمي، وخففت عنها� .أما عائ�شة فقد �أخذت الطفلة وذهبت بها �إلى ال�شرفة. غ�سلت اجلارة وجهها وخلعت ( مانطوها ) ..خاللها عدت �إليها بك�أ�س بابوجن �ساخن .احت�ست قلي ًال منه ثم تكلمت من تلقاء نف�سها :يريدين �أن �أ�سكن مع �أوالده يف بيت واحد. وماذا يف ذلك؟ �س�ألتها �أمي.و�ضعت الك�أ�س من يدها ..ثم قالت م�ستنكرة.:يف ذلك الكثري، �أو ًال� :أوالده �شباب بعمري ..وثاني ًا :واحد منهم يغيب الأ�سبوع كله يف فقلت لها: اجلامعة و�أما الثاين فيظل هنا ،وب�صراحة مل �أرحت لنظراتهُ . وملاذا مل تخربيه بذلك؟ �أخربته ولكنه ال ي�صدق �إال ما يريد هو..و�أين كان �أوالده؟ �س�ألتها �أمي ،..قبل �أن جتيبها تناولتال�صغرية من عائ�شة التي كانت قد عادت بها نائمة� .ضمتها �إلى �صدرها َّ وغطتها بـ (مانطوها) ثم قالت :لقد كانوا عند جدتهم (والدة �أمهم) وعندما ماتت منذ حني جاء بهم �إلى هنا وهو يريد �أن يوفق بني �أ�شياء ال توافق بينها. وماذا �ستفعلني الآن؟�س�أذهب لأمي .ف�إن �أ�ص َّر على موقفه ف�سوف �أطلب الطالق..88
منقذ نادر العقاد
وطفلتك؟ قالت عائ�شة.�ستكون ح�ضانتها يل .بادلتني نظرة تفي�ض باحلزن والأمل.�شربت ب�سرعة ما بقي من البابوجن وا�ست�أذنت باالن�صراف ،وقبل �أن تغادرنا ح�صلنا منها على رقم هاتفها و�أكدنا عليها �أن تت�صل بنا خالل وقت قريب. *** بعد ذلك عاد �أحمد .كان يت�صبب عرق ًا ووجهه بلون ال�شوندر. قلت له :كان عليك �أن تنتظر حتى الزوال ثم جتيء .ف�أجابني وهو مي�سح عرقه: مل �أ�ستطع البقاء مع الذكريات لقد كادت ت�صرعني فتهوي بييف وادي الك�آبة من جديد .فابت�سمت وقلت: ال عليك ،لكل �شيء �ضريبة.فهز ر�أ�سه متمتم ًا: بلى و�ضريبة الو�صال هنا �أمل الفراق .هُ رعت �إلى املطبخ وعدتبكوب ماء� .شربه على دفعات ،تناولته منه و�س�ألته: لكن ،كيف ا�ستطعت �أن تعود وحدك؟89
رجل من مدينة اهلل
�أو�صلني حامد.و�أين هو .لمِ َ لمَ ْ ي� ِأت معك؟لقد �أو�صلني وم�ضى م�سرع ًا .فبعد �ساعة موعد انطالق الكرنكالذي �سي�ستقله �إلى حلب. *** ها قد و�صل خايل حممد �إلى دم�شق .فات�صل بنا و�أعلمنا بقدومه. كانت �أمي تع ُّد الدقائق والثواين ،فكم هي يف لهفة لر�ؤيته وت�شوق لقربه. وعندما و�صل ا�ستقبلته بالدموع واالبت�سامة حتى خلتها �ستفقد عقلها من كرثة �ضحكها وبكائها .قالت له بعتاب حار: �ساحمك اهلل ،كيف �أطاعك قلبك على تركي ُك َّل هذه ال�سنوات؟و�ضع حقائبه و�أجابها ب�صدق و�سكينة: أحمق �أو هكذا حال الدنيا و�أر�ض اهلل وا�سعة ال ت�ضيق �إال على � ٍحمدود نظر. ه ّمت عائ�شة ب�إغالق الباب فقال لها وهو يحت�ضنها: انتظري قلي ًال فزوجتي و�أبنائي ورائي على الدرج .بعد قليل ُك َّنا90
منقذ نادر العقاد
جميع ًا يف ال�صالون� .شربنا ال�شاي و�أثناء ذلك تعارفنا ،قال خايل: �شابة.
-لقد كرب الأوالد �أحمد والبقية ،حتى �صباح ال�صغرية �صارت
�أجل .و�أوالدك �أي�ض ًا �سامر ووائل �صارا �أكرب مما ت�صورت يفر�سائلك. لك �إنه حال الدنياُ ،ك ُّل �شيءٍ يتغري و ُك ُّل �شيءٍ �إلى زوال. �أمل �أقل ِمل يطيال احلديث حيث توجه خايل و�أ�سرته �إلى الغرفة التي كنا قد �أعددناها لهم. بعدها رجعت عائ�شة مع خطيبها �إذ كانا يتم�شيان على طريق (الربناوي) املطل ب�شكل �ساحر على مدينة حماة ..وكذلك خرج �إلينا خايل وزوجته بعد �أن �أخذا ق�سط ًا من الراحة. قامت �أمي ونزعت ثوب ال�صالة و�أرادت ط ّيه �إال �أن زوجة خايل خاطبتها: من ف�ضلك ..دعيه يف مكانه كي �أ�صلي.جاد ثغر �أمي بابت�سامة عذبة ..و�أفلتت من �أعماقها حالة من ال�سرور والطم�أنينة ..متتمت :ال �إله �إال اهلل ..هل �أنت م�ؤمنة؟ ..فر ّدت زوجة خايل الأملانية با�ستغراب: 91
رجل من مدينة اهلل
بالت�أكيدُ ..ث َّم التفتت �إلى خايل ..ف�ضحك لنظرة ا�ستعطافهاوخاطب �أمي: لقد �أ�سلمت من تلقاء نف�سها عندما تعرفت على ديننا كما هو. تف ّر�ست فيها والدتي هُ نيه ًة ..ثم قالت با�ش ًة: لكم �أنت نبيلة ورائعة ..فرحت الأملانية ملديحها لكنها ارتبكتولب�سها حال من الده�شة ..قالت: �أوه ال �أ�صدق� ..إنك تعطيني �أكرث من قدري ..ما �أنا �إال فتاةعادية عرفت الإ�سالم على حقيقته ف�أعجبني و�آمنت به� .إنكم �أولى منا بالفخار لأن لديكم ر�سالة �سامية وتاريخ ًا جلي ًال وعلى املن�صفني �أن يعرتفوا بكم لين�ش�أ بني ال�شعوب تعارف ومتتد ج�سور من احلوار ل�س َّر من احلديث ). والتفاهم ..قلت يف نف�سي ( :لو كان �أحمد معنا ُ مل �أكمل خاطري حتى فاج�أنا و�صول �أحمد� ،ألقى التحية ودرج �صوب خاله ..مال الأخري عليه وقال: كيف حالك اليوم يا خال؟احلمد هلل..ثم تلفت و�س�أل: �أين مرهف ال �أراه معنا؟92
منقذ نادر العقاد
ف�أجابه �أحمد: �إنه يعمل يف حمل للملبو�سات.ه ّز ر�أ�سه ومتتم :ح�سن ًا ،ح�سن ًا ..ثم التفت لأحمد وقال: ماذا جرى معك يا خال حتى �صرت هكذا؟نظر �أحمد يف الأر�ض ثم رفع ر�أ�سه بهدوء وحدج �أمي بنظرة غريبة وقال: تعر�ضت حلادث �سري يف الإمارات.الإمارات ..ر ّدد مذهو ًال.�أجل ومل العجب ..ت�ساءل �أحمد؟ ..على الفور �أجابه خايل :من املفرو�ض �أنك طالب جامعي.. وهذا يعني �أن تكون هنا ولي�س هناك. �أحرج �أخي وارتبكت �أمي �إذ �شعرت برغبة �أحمد يف التكتم ..لكنَّ اهلل �ساعدنا حيث دخلت الأملانية وقالت له وهي جتفف وجهها باملن�شفة: قم لل�صالة ..هيا لقد ت�أخرنا يف �أدائها.خالل ذلك زارتنا اجلارة ال�شابة ..مل تكن طفلتها معها بينما الحظت خل َّو ذهب خايل و�أحمد �إلى �سوق املدينة فجل�ست زوجته معنا. ُ 93
رجل من مدينة اهلل
�إ�صبع اجلارة عبري من املحب�س ..ف�س�ألتها على �سبيل املزاح: �أين الـ ..و�أ�شرت �إلى �إ�صبعها؟ف�أجابت بهدوء: �أ�ضعته مثلما �ضيعني زمن ًا.ت�صفحت الوجوه ..حتى عدتُ لوجهها فقلت: .. ُ ماذا تق�صدين؟أطلقت ب�صرها �إلى �أبعد نقطة يف الغرفة ..وب�شيء من الالمباالة � ْ �أجابت: لقد ُطلقنا� ..أو بالأحرى لقد طلقني. طلقك� ..صاحت �أمي!�أجل ..لقد فعلها �أخري ًا.وملاذا؟لأنني رف�ضت �أن �أعي�ش مع �أبنائه الذين يف �سني ..خا�صةغبت قلي ًال ثم و�أن �أحدهم كان يرمقني بنظرات غري مريحة �أبد ًاُ . عدتُ بالقهوة ..قامت الأملانية تريد م�ساعدتي ..حاولت منعها بلطف لكنها �أبت �إال �أن ت�ساعدين فنـزلت عند رغبتها را�ضي ًة .تب�سمنا جميع ًا 94
منقذ نادر العقاد
لت�صرفها الربيء ،عادت الأملانية ملكانها ..ارت�شفت �شيئ ًا من القهوة املو�ضوع..افتعلت ال�سعال لت�صفية ال�ساخنة ،ويبدو �أنها تفاعلت مع ْ موجات �صوتها ثم �س�ألت اجلارة قائل ًة: وماذا تنوين الآن �سيدتي؟ل�ست �أدري بعد.�أوه� ..ساعدك اهلل� ..أح�س ب�آالمك..تن ّدت عينا اجلارة وقالت ب�صوت فيه بحة ناي حزين: احلمد هلل ،هكذا ق ّدر ُ�سبحانه وهكذا جتلت �أقداره .هنا�س�ألتها عائ�شة: ذت باحلاجة �أم علي..،فهي مرجعنا هنا وكلمتها م�سموعة.. لو ُل ِ�أخربتها حاجتي فل ّبت ،ووعدت فو ّفت،ك ّلمتُه ب�ش�أين لك ّنهقطع عليها الطريق بفظاظة و�أخربها �أ ّال تتدخل فيما ال يعنيها� ..أوه ال تذكريني� ..أ�شعر �أنني قد �سببت لها حرج ًا .ابتلعت الأملانية ريقها وقالت: �شكر ًا للرب �أنه ع ّرفني على الإ�سالم بالإ�سالم ..ال عليه منخالل معتنقيه و�إ َّال لرف�ضته دون �شك. فقلت للجارة: نظر بع�ضنا يف بع�ض ثم �سبقتهم يف الكالم ُ 95
رجل من مدينة اهلل
وابنتك؟ِ �س�أرعاها حتى تبلغ الثامنة من عمرها ثم تعود لعهدة والدهاحتى بلوغها خريفها الـ ..18 خريفها ..ردّدتُ م�ستغربة؟احت�ست باقي الفنجان وقالت: نعم خريفها ..لأنه خمطط لها من الآن �أن تعي�ش م�أ�ساة �أمهامن جديد. ده�شنا جميع ًا .حتى قالت �إحدانا:من ذا الذي يخطط لهذا ..هل تق�صدين الرب؟ل َّوحت اجلارة بيديها على الفور وهي تقول :ال ..ال ..مل �أق�صد ذلك ..بل ق�صدي والدها. والدها؟ ا�ستو�ضحت �أمي بغرابة ،ف�أكدت اجلارة من جديد:�أجل والدها ،لأنه �أق�سم على �أن يزوجها حينما ت�صبح يفعهدته من عجوز طاعن يف ال�سن. �أ�سندت زوجة خايل ر�أ�سها �إلى يدها ومادت كمن مييد ح�سر ًة و�أمل ًا ثم قالت: 96
منقذ نادر العقاد
�أمعقول �أن يوجد ظلم هكذا� ..أن تر�سم حياة �إن�سانة ال علم لهابالأمر وبهذه ال�صورة الب�شعة؟ �أوه �إن فيكم كفرة ولو قالوا ال �إله �إال اهلل حممد ر�سول اهلل. مل جنبها بكلمة واحدة � ..إذ �أجلم احلق �أل�سنتنا. زفرت اجلارة زفرة عميقة ثم قالت ب�أ�سى: دعونا �أرجوكم من هذا املو�ضوع� ..إنه ي�سبب يل �صداع ًا..عندئذ ُقرع بابنا ف ُهرعت �إليه ..وعندما فتحته ..جمدتُ يف مكاين لقد ٍ أنت، �أ�صابني ذهو ٌل ..ال بل �صرت �أهذي قلت� :أنت ..ال ..ال ..ل�ست � ِ فقالت ب�صوتها امل�ألوف يل وامل�شبع علي.. ْ لكنْ � ..أوه ..الأمر خمتلط َّ عذوب ًة وطفولة: حالك يا �صباح؟ كيف ِ ..لقد �أيقظ �صوتها �شيئ ًا ما يف داخلي� ..شيئ ًا لي�س بالقريب لدرجة التناول ..وال بالبعيد لدرجة الإفالت� ..شيئ ًا �أنطق ذاكرتي بال حروف ..فكانت احلروف على ل�ساين وعيني ..على �أ�سارير وجهي كله، قلت ب�شوق وحنني و�أنا غري عابئة ب�صوت �أمي: أل�ست كيف حالك يا ليلى؟ وهنا انقلبت �إلى ال�صحو و�س�ألتها � ِليلى ..ليلى طه؟ فجاءين �صوتها واثق ًا وم�ؤكد ًا: بالت�أكيد ..ماذا جرى لك ..هل ن�سيتني بهذه ال�سرعة؟97
رجل من مدينة اهلل
ال ..ال ..ولكن. .ولكن ماذا؟ على الأقل قويل يل :تف�ضلي� ..أم تودين �أن �أظلخارج ًا؟ أف�سحت لها الطريق ثم ال ..عفو ًا ..عفو ًا ..مل �أنتبه ..تف�ضلي� .ُ �أغلقت الباب لدى اجتيازها العتبة ودخلنا مع ًا �إلى ال�صالون .هناك.. ذ َّكرت �أمي و�أختي بها وع َّرفتها على زوجة خايل الأملانية ثم �أخذتها وخرجنا �إلى ال�شرفة،حيث جل�سنا ن�ستذكر �أيام ًا خلت� ..إلى �أن و�صلنا �إلى �ساعة جلو�سنا ف�س�ألتُها: ما الذي جاء بك حلماه ..لزيار ٍة �أم لعمل يقوم به والدك؟ال هذا وال ذاك..�إذ ًا ملاذا �أنت هنا؟لأننا و�أ�سرتي قررنا العودة حلماة لن�ستقر فيها من جديد..كنت �أت�أرجح بالكر�سي الهزاز حينما قالت كلماتها ..ف�أوقفتهدفعة واحدة وقلت بفرح: ماذا قلت� . .ست�ستقرون هنا؟�أجل� .أجل.98
منقذ نادر العقاد
قفزتُ من الكر�سي وتناولتها من يدها و�أ�سرعت بها �إلى ال�صالون ،كنت �أ�صرخ :ماما ..ماما. ماذا بك ..لقد �أرعبتني؟ال�شيء ..ال �شيء ..لكن ليلى �ستبقى هنا .هنا معنا؟�أ�صحيح هذا يا ليلى ،ف�أجابتها� :أجل �سنبقى هنا .لقد قرروالدي العودة ..فهنا النا�س مييلون للطيبة ..يجل�سون مع ًا ويتفقدون بع�ضهم بع�ض ًا ،هنا ن�شعر بالراحة� .أما هناك ..فك ٌل م�شغول بنف�سه ولي�س لديه وقت لهذه الأمور ،هناك �شعرنا باجلفاء والغربة. وقتها ارت ََد ْت اجلارة ( املانطو ) وعزمت على الذهاب ..قالت وهي ت�سري نحو الباب :يبدو �أن بينكما �صداقة عميقة ،وبينما هي تفتح الباب وته ُّم باجتيازه فاج�أها كر�سي لقعيد ،كان �أحمد الذي ظهر من وراء خايل و�أوالده ..ت�سلل الأوالد من بني الكر�سي وحافة الباب �إلى الداخل ..نظرت اجلارة فيه وقالت: مرحب ًا .مل يجبها بكلمة فر َّد عليها خايل بد ًال عنه:�أه ًال و�سه ًال ثم نظر يف �أمي وقال لها:ه َّال عرفتنا على الآن�سة؟�إنها تدعى ال�سيدة عبري ..جارتنا اجلديدة ..فنظر فيهاوابت�سم قائ ًال من جديد� :أه ًال و�سه ًال� ..أه ًال و�سه ًال يف حني بقي �أحمد 99
رجل من مدينة اهلل
وتنحى جانب ًا لكي ت�ستطيع املرور فعربت �صامت ًا م�شدوه ًا ثم ترك مكانه ّ الأخرية ،قالت وهي تختل�س النظر �إليه :ت�صبحون على خري. أنت من �أهله� ..أجبناها جميع ًا �إال هو حيث ظل �صامت ًا ومل و� َِي ْنب�س بكلمة. *** درج �أحمد بكر�سيه �صوبي �أنا وعائ�شة يف حني توجه خايل نحو �أمي وزوجته ،قال لنا �أحمد بت�أثر: يف عينيها �س ٌّر ما� ..إن فيهما غابة حياة م�شبع هوا�ؤها ب�ضبابحزن خفي. بعيد .
ما هذا يا �أحمد ..لقد و�صفت حالتها وك�أنك تعرفها منذ زمنف�أكملت عائ�شة:
�إنه الإعجاب يا �أختي ..الآن عرفت ملاذا مل ير ّد عليها التحية..لقد كان يقر�أ ما يف عينيها. فنهرنا بلطف وك�أنه يداعبنا: يكفي يا بنات.100
منقذ نادر العقاد
�صاحت �أمي:هيه �صباح ..هل ن�سيت �صديقتك؟فلطمت جبيني قائلة: ُ �أوه ..لقد ن�سيتها فع ًال!� .أين هي الآن؟غرفتك.. يفِ مللمت كتبي املبعرثة على ( الكنبة ) وخاللها �أعلمني ح�سن ًاُ ..خايل �أن �أحمد �أخربه حكايته ف�أيده خايل بهز ر�أ�سه فقط .بعدها اجتهت لغرفتي حيث بق ُيت مع �صديقتي �ساعة كاملة ،حت َّدثنا خاللها ُ يف �أ�شياء كثرية. *** أ�سبوع ّمت عقد قراين على حامد ،ز ّفت �أمي اخلرب �إلى بعد � ٍ املقربني .كانت الأملانية م�سرورة جد ًا باالحتفال حيث بدت م�شدودة تتابع بحبور خطواتنا يف الإعداد للعر�س وجلب الف�ساتني وا ُ حللي ..وما يتبع ذلك .وذات م�ساء بينما كانت الن�سوة م�شغوالت يف هذا الأمر كنت قد انتهيت من تطريز ما تبقى من ثوبي فا�ست�أذنت وذهبت �أنوي ُ النوم ..وبينما �أنا �أجتاز غرفة �أحمد ..ملحت خايل عنده ومعه مرهف فدخلت عليهم و�ألقيت ال�سالم ..قلت: هل متانعون �أن �أجل�س معكم؟101
رجل من مدينة اهلل
فر َّد خايل :بالت�أكيد ال ..تف�ضلي ( يا خالو ) ..ولكن �ألي�س من املفرو�ض �أن تكوين مع الن�سوة؟ �صحيح ..ع ّقب مرهف..علي ..وهنّ جال�سات الآن للدرد�شة فقط .. لقد �أنهيت ما َّوزوجتي معهن؟فابت�سمت وقلت :بلى ،و�إنها مل�سرور ٌة جد ًا ،ف�ضحك وقال� :أجل، ُ �أجل ..ثم تابع حديثه مع �أحمد الذي �س�أله متابع ًا حديث ًا قد ابتد�أه قبل جميئي: وهل هنالك يف �أملانية رف�ض للإ�سالم؟ابت�سم خايل و�أجابه بهدوء: ال يا خايل ..هم ال يرف�ضونه لأنهم �أ�ص ًال ال يعرفونه� ،س�ألهم�ستغرب ًا: �أوال يعرفونه حق ًا؟�إن من يكره الإ�سالم عندهم حكومات الغرب ولي�س �شعوبهمهم �أحمد بالكالم ..فا�ستوقفه نق ٌر على البابُ ..ف ِتح الباب ف�إذا َّ .. بالزائر حامد ،خاطبه خايل قائ ًال: 102
منقذ نادر العقاد
تف�ضل ..تف�ضل� ،أه ًال و�سه ًال.�شكر ًا لك ر َّد عليه حامد وقد جل�س مكان مرهف الذي غلبهالنوم فغادرنا.. تب�سم خايل وخاطبني قائ ًال� :أح�ضري خلطيبك ك�أ�س ًا فارغ ًا.. ّ هيا يا عرو�سنا ..كانت فر�صة �سانحة �أتاحت يل غ�سل وجهي لإطفاء احتقانه ..ثم عدت بالك�أ�س ،ملأته �شاي ًا وقدمته على ا�ستحياء ..تناوله مني وقد بادلني نظرة خاطفة لكنها تنطق بالإعجاب ..ثم عاد للحديث اجلاري ..فخاطب خايل م�ستو�ضح ًا: �إذ ًا �شعوبهم ال تعادي الإ�سالم ،لأنها ال تعرفه �أ�ص ًال؟�أجل� ..أجل ..متتم خايل فتابع الأول:ولكن كيف ال تعرفه والعامل اليوم قري ٌة كونية ينت�شر فيها اخلرببلمح الب�صر؟ معك حق �أن تفكر هكذا لأنك مل تخالطهم ،خذ مث ًال زوجتي..حينما عر�ضت عليها الزواج وافقت وكدنا نقرتب من ليلة الزفاف وما �س�ألتني ما ديانتك. فا�ستغربت قائل ًة: .. ُ �أمعقول هذا يا خايل؟103
رجل من مدينة اهلل
فابت�سم قائ ًال� :أجل معقول ..تلك زوجتي فا�س�أليها. �أنا ال �أكذبك ولكن . .�أعلم� ،أعلم ،هنا ت�ساءل �أحمد وهو ينظر �إلى حامد :ولكن ملاذامل ت�س�ألك� ،إنه لأمر غريب؟ �شرب خايل البقية الباقية من ك�أ�سه ثم ناولني �إياه مكتفي ًا وقال: زوجتي �صورة منوذجية عن ال�شعب الأملاين � ..إنه بب�ساطة �شعبدنيوي ال يفكر بالإله وال بالدين .. ،يعي�ش ليومه ودنياه وال ي�س�أل �أحد ًا عن عقيدته و�إميانه ..الأميان بالغيب عندهم يكاد يختفي ،ولهذا فهم يعي�شون حالة فراغ روحي عميق وحالة ا�ستعداد ال�ستقبال دين يحرتم العقل واملعا�صرة ،و�أي دين �أن�سب لهذه املهمة غري الإ�سالم؟ نظر �أحمد وتب�سم قائ ًال: �إلى حامد ّ �إذ ًا هكذا حال الأملان ..ثم تابع :لكم نحن مق�صرون يف حق�شعوب العامل ..فخالفه حامد قائ ًال: لي�س نحن ،بل من ي ّدعون �أنهم دعاة الإ�سالم �إلى �شعوبالعامل ..ف�أيده خايل و�أكمل: �إن الإعالم اليوم قادر على اخت�صار امل�سافات بني الأمموجمعهم حتت �سقف واحد �صوت ًا و�صورة .اليوم ما عدنا بحاجة �إلى ن�سف الآخر بقدر ما نحن بحاجة �إلى �إعالم يفر�ض وجوده عندهم، 104
منقذ نادر العقاد
ودعاة ميل�ؤون مواقعهم ثقافة وانفتاح ًا� ..صمت �أحمد و�أطرق �ساكن ًا فتابع حامد بد ًال من خايل وقال: لقد �آن لأمم الأر�ض و�شعوبها �أن ت�شق قنوات احلوار بينها مثلماو�أن تتيح لنف�سها ولو فر�صة واحدة يف عمرها �أن تتخلى عن عيونها وتنظر بعيون الآخر� ..أن تن�سى �صوتها وت�سمع �صوت الآخر. عندها ..نظر َّيف خايل وخاطبني �ضاحك ًا: أفهمت �شيئ ًا مما قيل يف النهاية؟ باهلل عليك يا �صباحِ � .ف�أجبته م�ستهجنة �س�ؤاله ،قاطبة اجلبني: بالت�أكيد ،ودعم حامد موقفي قائ ًال:�إنها واعية رغم �صغر �سنها ..جميلة القلب كجمال وجهها.عميقة الفكر كعمق اخل�ضرة يف عينيها� ..إنها� ..أوقفه �أحمد وهو ُير ّدد مبت�سم ًا: يكفي ..يكفي يا �أ�ستاذنا ،ثم التفت �إلى خايل وقال:لقد حتول �صاحبنا من الدفاع �إلى الغزل ف�ضحك خايلوحدجني بنظرة وقال: ما ر�أيك يا �صباح..105
رجل من مدينة اهلل
�أنا؟وهل يوجد غريك بهذا اال�سم؟ ..رحت �أنتف خيوط ًا يف قما�ش تنورتي ..والعرق ُي ّ رطب ب�شرتي هممت بالإجابة ..ف�أنقذين يف اللحظة الأخرية تلعثمت عندما امللتهبة.. ُ ُ و�سكنت نف�سي، �صوت �أمي وهي تناديني فنه�ضت وقد انفرج �صدري ْ قلت وقد زال التلعثم وانطلق الل�سان: ُ هرعت م�سرع ًة ،مبت�سمة ال �ألوي على عذر ًا� ..أمي تنادينيَ ..ف ُ�شيء ..يف حني كانت ال�ساعة تعلن انت�صاف الليل والنوم يتغلغل يف العروق. *** �أخرب مرهف هذا ال�صباح �أحمد �أنه �سيلتقي به يف بيت جدنا ال�ساعة الثانية ظهر ًا ب�صحبة ح�سان ثم �أدار ظهره ..ولدى اجتيازه العتبة التفت وقال مبت�سم ًاُ :ع ِل ْم.. فر ّد عليه �أحمدُ :ع ِل ْم. ر�شفت باقي فنجاين ..و�س�ألت �أحمد على ا�ستحياء� :أميكنني �أن ُ �أكون معكم؟ � ..أطرق قلي ًال ثم قال: 106
منقذ نادر العقاد
ال �أرى ح�ضورك منا�سب ًاوملاذا؟راح يقلب الفنجان مينة وي�سرة لري�سم على جدرانه �أ�شكا ًال جمردة وبينما هو يفعل ذلك ..رمقني بنظرة حا�سمة قائ ًال: وجودك� ..صدقيني ولكن ..قاطعته قائل ًة� :أنا ال كنت �أمتنىِ �أطلب اجللو�س معكم ..بل رمبا �أجل�س يف غرفة جماورة ..املهم �أن �أ�ستمع حلديثكم؟ بدت فج�أة عالمات الذهول على وجهه و�س�ألني بده�شة: وملاذا هذا الإ�صرار على �سماع حديث �شباب قد يكون �صريح ًا�إلى درجة ال متكنني من جعلك �سامعة ملجرياته؟ ..ارتبكت قلي ًال ثم ا�ستعدت ثقتي بنف�سي وقلت بهدوء ،لي�س ق�صدي �إ ّال �سماع مرهف..حدجني قائ ًال: �أنت تغالطني نف�سك..ثم �سكب ما تبقى من قهوة ،ارت�شفها دفعة واحدة وقد �سرح بب�صره يف الأفق حيث بد�أت ال�شم�س تنرث �أ�شعتها يف املدى ،قال: لدي حل. ح�سن ًا َّ107
رجل من مدينة اهلل
ما هو؟�س�أُ�سجل اجلل�سة ..ومن ثم �س�أحذف ما ال ُب َّد من حذفه..نه�ضت فرح ًة وقلت: وبعدها �أعطيك �إياها ..فت�سمعني ما ت�شائني.. ُ موافقة ..ولكن..ولكن ماذا؟قد ميانعون يف الت�سجيل.ال عليك� ،س�أرتب للأمر جيد ًا ..والآن اذهبي و�أيقظي عائ�شة،لت�ساعداين على هبوط الدرج ..يجب �أن �أرتب للأمر من ال�ساعة. ويف امل�ساء .عادا مع ًا ،دخل مرهف غرفته حيث كان يبدو عليه الإعياء والطم�أنينة بوقت واحد ،بينما �سار �أحمد بكر�سيه املتحرك �إلى ال�شرفة ،فلحقته و�س�ألته: تابعت :هل �سجلت ال�شريط؟ ماذا جرى .و عندما ظ ّل �صامت ًا ُعندها ر ّد ب�إيجاز وحزم :ال ،مل �أفعل ..فقلت باندها�ش: وملاذا؟ لقد وعدتني.َحب �سجلت وعمدت �إلى حذف ماال ُي�ست ُّ وعدتك �أجل ..لكنّ :�سماع ِك له .فوجدت �أن الباقي نز ٌر قلي ٌل ..ولهذا حموته كله. ُ 108
منقذ نادر العقاد
بغيظ :والوعد؟ فك ّررتُ ٍ لقد ّلك عذري ،رجع بكر�سيه �إلى الوراء ،وتركني و�ض ُ حت ِ دخلت وراءه ،كان يجل�س مع بحزن وجه ال�سماء .بعد قليل ُ وحدي �أت�أمل ٍ خايل يف ال�صالون بينما الن�سوة م�شغوالت يف غرفتنا. ت�سللت على �أ�صابع قدمي �إلى ال�صالون ،كانا يتحدثان عن مرهف� ( ..أوه الظرف منا�سب لأعرف بع�ض الذي جرى ) ،و�صلتني بع�ض الكلمات ب�صوت خايل: �إنه ال�شباب املراهق ،وكلمات �أي�ض ًا من مثل� :إنَّ و�سائل الإعالمتعر�ض املفاتن ثم تطالب ال�شباب بالعفة ..وخا�صة �أنكم هنا ال تتزوجون ف�سمعت �أحمد يجيبه: يف وقت مبكر ما يزيد الطني ِب َّل ًة،. ُ معك حق� ،أ�ضف �أنه �شاب �ضائع بني قب�ضة الأهل اخلائفة منكل حوار �أو ا�ستيعاب وبني ترحاب ال�شارع لكل تفلُّ ٍت وانحراف. فج�أة فتح باب يف �آخر املمر فانتف�ضت هلعة ودخلت عليهما، الحظ �أحمد هلعي فقال: ما بك م�ضطربة هكذا؟ال�شيء . .ال�شيء.دعها و�ش�أنها .خاطبه خايل ،ثم ابت�سم يل وقال :تعايل يا (خالو ) ..هيا تعايل واجل�سي بقربي. 109
رجل من مدينة اهلل
ما �إن فعلت ذلك حتى م ّر �أمامنا طيف مرهف .ذهب �إلى احلمام ثم عاد بهدوء لغرفته .خاللها َغيرَّ �أحمد املو�ضوع ،و�شرعا يف مو�ضوع �آخر .لقد �أدركت �سبب امتناع �أحمد عن �إخباري مبا جرى� .إذ يبدو الأمر ح�سا�س ًا للغاية .وال ينبغي �أن ت�صارح فيه فتاة يف مثل ُعمري. *** كانت ت�صرفات مرهف قد بد�أت تتغري ..و�أخذ ي�ستعيد تدريجي ًا طباعه الأولى .الظاهر �أن حوار �أحمد قد �أثمر .كذلك �أ�صبح ح�سان كما فهمت من �أخي� .آه لو �أن الكبار يحاوروننا وجها لوجه من غري �أن ي�ضطروننا لرفع ر�ؤو�سنا حتى نراهم ُو ّعاظ ًا على كرا�سيهم العاجية لكانت الأجيال كموج البحر يو�صل بع�ضها بع�ض ًا �إلى �شاطئ الأمان وال�سالم .على كل حال ،ومع �أواخر هذا ال�صيف احلار ُط ِّلقت جارتنا عبري من زوجها وعادت لت�ستقر وابنتها مع والدتها التي ماتت هي الأخرى بعد ذلك ب�شهر واحد� ،أوه لقد ظننا �أن ما مرت به امل�سكينة �آخر م�آ�سيها .فظهر لنا �أنه حلقة يف �سل�سلة م�آ�سي بد�أت تتعر�ض لها هذه الفتاة الرقيقة� .شرعت تبحث عن عمل تقتات منه وطفلتها .فزوجها تخلى عنها و�أخواتها كلهن متزوجات وال ي�ستطعن م�ساعدتها ب�سبب �سيطرة �أزواجهن عليهن� .أ�شفق عليها �أحمد وراح يرعى لها ال�صغرية يف غيابها .تل َّقت �أمي املو�ضوع بتوج�س حتى �أنها �ص ّرحت ب�شكل �أو ب�آخر عن خوفها من تعلق �أحمد بها و�أن ميت ّد تعاطفه معها �إلى حدِّ الزواج منها .لكنه كان دوم ًا ي�ضحك وهو يقول� :إنَّ خيالك يا �أمي خ�صب ثم ي�شري مبرار ٍة �إلى �شلله وعجزه وين�صرف حزين ًا. 110
الف�صل اخلام�س
رجل من مدينة اهلل
م�ضى الآن عام على زواجنا �أنا وعائ�شة� .أ ّما عائ�شة فقد ا�ستق ّرت مع زوجها يف حلب حتى تنهي درا�ستها اجلامعية ..و�أ ّما �أنا فقد �سافرت مع حامد �إلى �أمريكا ليتابع فيها درا�ساته العليا� ..شعرت يف الأ�سبوع الأول الذي ع�شته يف �أمريكا ب�سعادة بالغة..بدء ًا من ر�ؤيتي متثال احلرية ونحن يف الطائرة وانتها ًء بتجوالنا يف والية نيويورك الكبرية ..لكن بعد ذلك بد�أ الع ّد التنازيل الختفاء �سعادتي ..وراحت تظهر حملها م�شاعر الوح�شة واحلنني ..الوح�شة من كل �شيء �إال من حامد � ..إذ بدت الوجوه جميعها هنالك على الرغم من ب�ساطتها يف أح�سه يف وجوه بني قومي ..وما �أحيان كثرية تفتقد �إلى �شيء ما كنت � ّ كنت لأراه �إال يف وجه زوجي الغايل الذي �سعى جهده لكي يخفف عني ويب ّدد ما �سكنني من روح الوح�شة والك�آبة� ..أ�ضف �أن احلنني لبلدي و�أهلي ..لأمي ورفيقاتي ..ملرهف و�أحمد ..كان ميزّق روحي �إرب ًا �إرب ًا.. مل �أكن �أت�صور �أنني حمب ٌة جد ًا للأ�شياء والأ�شخا�ص الذين عا�شرتهم يف طفولتي �إ ّال الآن ..وكم رجوت حامد ًا �أن يعيدين لبالدي ويبقى هو هنا يدر�س املاج�ستري ..لكنه رف�ض ..قال� :إنه ي�شعر بامل�شاعر نف�سها، لكنه ي�ضغط على نف�سه ..كما �أ ّنه يحتاجني كثري ًا يف جمتمع فيه ك ّل فتاة تقول له :هيت لك. أ�ساوي الذي �أعي�شه الآن ..و�أنا ال �أعلم عن �أحوال �إنه لو�ضع م� ٌّ �أهلي �شيئ ًا �إال الذي ي�صلني من ر�سائل �أحمد .فهنا ال جارات �أ�ست�أن�س بهنّ وال �سوق �أرتاده وحدي� ..أتخ ّوف هنا من الل�صو�ص والع�صابات.. ومن املغت�صبني جن�سي ًا� ..أم ٌر ال يطاق بالفعل ..ولهذا فقد �آثرت منذ علي بذلك �أت�أمل ُجزء ًا من مدة وجيزة �أن �أت�س ّلى بكتابة مذ ّكراتيَّ ، 112
منقذ نادر العقاد
حياتي قد و ّلى �إلى الأبد ..ف�أكون من املتّعظات ..املتجاوزات لأخطاء املا�ضي وهفواته ،و�إين ال �أدري كنه �شعو ٍر داخلي عميق للغايةُ ..ي�شعرين �أنني ال �أكتب مذكرات جزء من حياتي بل مذكرات حياتي كلها. ( ال�ساعة اخلام�سة م�سا ًء ) .. انتهى املكتوب يف دفرت املذكرات� ،أغلقه برو ّية وو�ضعه جانب ًا ونظر يف ال�ساعة فكانت اخلام�سة �صباح ًا� .إذ ًا لقد رنّ جر�س املن ّبه عند ال�ساعة الثالثة ومل ينتبه له� ..إذ جعله العامل الذي ر�سمته زوجته يغو�ص �إلى البعيد ..البعيد� ..أطف�أ الفانو�س� ،أزاح ال�ستائر وا�ستلقى على �سريره ي�ستذكر �أيامه اخلوايل معها ،ثم نه�ض فج�أة وعاد بعد قليل وقد ك�ساه الو�ضوء �ألق ًا جديد ًا ..م ّد �سجادة ال�صالة و�صلى الفجر بخ�شوع والدموع ت�س ُّح من عينيه ب�سكينة ،بعدها ا�ستلقى جم َّدد ًا على �سريره وهو يراقب انبالج ال�صباح ..ومع و�صول ر�سل ال�شم�س الأولى.. �شعر ب�صدره وك�أن �ضلوعه قد �أ�ضحت ت ََ�س ُع بينها الكون كله ..كانت دقائق ال�شروق ..دقائق ت�سمح للمرء بالإ�صغاء لت ّدفق احلياة يف قلوب املوجودات ..فرتتع�ش حليوية امل�شهد حتى �أنفا�س امل ّيتني وتخفق قلوبهم لربهة عابرة! ولعل هذا ما حدث مع ف� ٍؤاد متح ّرق كف�ؤاد حامد ..الذي نام بعد ال�شروق لي�ستيقظ بعد �أربع �ساعات وهو يتذكر موعده مع �أحمد ..ويتمتم: -لقد ت�أخرت ..لقد ت�أخرت.
113
رجل من مدينة اهلل
ويف بيت جده القدمي ..جل�س حامد مع �أحمد ..قال له الأخري: –ت�أ ّمل ،يا لغرابة احلياة فها قد م�ضى ما يقرب من �سنتني على وفاة �صباح وك�أنّ ما حدث كان البارحة ،لأنّ احلزن الذي �صاحبنا من ح�س الزمن لدينا ..ف�أجابه زوجها: وقتها �ش ّوه ّ ه ّون عليك� .إنه قدر مكتوب� .أمل ت َر �إلى طريقة موتها ..لقدكانت فوق املعقول .كانت مق َّدرة حق ًا. درج بكر�سيه نحو بهو احلديقة وهناك توقف وقال: معك ح ٌق لقد كنتما يف الطريق من دم�شق �إلى حماة بعد العودةمن �أمريكا.. وفج�أ ًة �أوحت الأقدار الإلهية �إليها �أن تذهب �إلى املقعد الأول خلف ال�سائق لتحادث عجوز ًا كانت قد �ش ّبهتها بجارتكم �أم علي.. لي�صل يف الوقت الذي و�صلت به ر�سول املوت فيذرنا جميع ًا وال ي�أخذ معه �إال هي. متتم �أخوها: احلمد هلل ..ق ّدر اهلل وما �شاء فعل.ج ّر كر�سيه �إلى قلب احلديقة فتبعه حامد ،وعندما و�صال �إلى و�سطها نظر �إلى �شجرة زيتون وقال :لقد كانت موهوبة ،ن�ضجت ثمارها يف عمر مبكر ف�أكد حامد: 114
منقذ نادر العقاد
�أجل ..كانت واعية للكثري مما يزال يجهله �أبناء جيلها ،بعدهااختارا موقع ًا ظلي ًال يف تلك احلديقة ،وبقيا فيه حتى منت�صف النهار يتبادالن �أطراف احلديث ،وعند الأ�صيل عادا للجلو�س مرة �أخرى يف بتعجب: املكان نف�سه حتت �شجرة الزيتون .قال �أحمد وهو يبت�سم ّ علي من رعاية الطفلة. �أتعلم� ،إن والدتي تخ�شى ّ� ّأي طفلة؟ قطب جبينه ثم ب�سطه فج�أة وقال:لقد تذكرت� ..إنها ابنة اجلارة عبري� ..صمت قلي ًال ..وتابع:ولكن ملاذا؟ حب فتاة �إ ّنها تخاف �أن �أميل لعبري من باب ال�شفقة ف�أقع يف ّمتزوجة �سابق ًا ولديها طفلة .ابت�سم ب�سخرية وتابع: وك�أنني �أنا الكامل ال ينق�صني �شيء .ثم نظر بحرارة �إلىقدميه وقال بغ�صة: �إنني �أنا من يثري ال�شفقة ..ثم من هي الفتاة التي �ستقبل بيمهما كان و�ضعها ،وك�أنّ والدتي حتلم بتزويجي من �أجمل فتيات املدينة و�أكرثهنّ ُخلق ًا وعلم ًا؟ كان حامد يجمع �أحجار ًا �صغرية متناثرة يف الرتاب ..ثم راح يرميها تباع ًا وهو يقول: ولكن ما ق�صة عبري هذه ..لقد وعدتني �أكرث من مرة �أن115
رجل من مدينة اهلل
حتدثني عنها ..فه ّال فعلت اليوم؟ ح�سن ًا� .إ ّنها باخت�صار فتاة طلق �أبوها �أمها ب�سببها ..لأنهاجاءت للدنيا فتاة ولي�س فتى. وهكذا �سرقا من الزمن ن�صف �ساعة حكى له فيها ق�صتها .ت�أمل حامد كثري ًا وق ّرر م�ساعدتها ..قال: لي�س من قبيل امل�صادفة �أن جتتمع م�أ�ساة هذه الفتاة مع ماكنت �أنوي م�صارحتك به اليوم. كان اجل ُّو خريف ًا ..الأوراق تت�ساقط حول �شجرة الزيتون ب�ألوانها املتنوعة متدرجة من ال�صفراء ال�شاحبة �إلى البنية الرتابية حتى احلمراء الربتقالية .و�أع�شاب خ�ضراء �صغرية بلون الطحلب تنب�ش الرتاب وتخرج من قبورها ..لت�ش ّكل غابة خ�ضراء لأرتال النمل العامل ليل نهار .رفع حامد �إبريق ال�شاي و�صبه يف ك�أ�سني �صغريين ،فراحت الأبخرة تت�صاعد لتتمزق يف ذروتها مع ن�سمات اخلريف الأولى .تابع حامد: �س�أق ّدم م�ساعدة مالية لهذه الفتاة ..فالأجدر بها �أن تلتفتلرتبية هذه الطفلة ورعايتها. ظ ّل �أحمد �صامت ًا ثم ت�ساءل: رمبا ال تقبلها؟116
منقذ نادر العقاد
هنا ي�أتي دورك يف �إقناعها ،وتو�ضيح املوقف لها.�س�أحاول قدر امل�ستطاع..عندها ارت�شف حامد قلي ًال من ال�شاي ثم قال وهو يحت�ضن الك�أ�س بيده: �أنوي �إن�شاء جمعية خريية لرعاية الأ�سر الفقرية والأفراداملنكوبني �أمثال عبري ..لأنني �أ�شعر بوجود م�ساكني كرث يف هذه املدينة ال تطالهم يد امل�ساعدة. ابتهج �أحمد كثري ًا ..وقال: (يا عيني عليك )� .إنها فكرة رائعة ..ال ريب �أنها �ستخدمفقراء كثريين ،وتن�شل بع�ضهم من وديان الي�أ�س والك�آبة. �ضحك حامد وقال بحزم: توقعت منك هذا..فر ّد عليه �أحمد :و�أنا فوجئت اليوم مببادرتك هذه. ملاذا؟لأننا اعتدنا ومنذ زمن طويل �أن جته�ض الكثري من الأفكاراجليدة املعافاة قبل �أن تولد رغم قابليتها الفورية للتطبيق وفر�صة جني 117
رجل من مدينة اهلل
ثمارها خالل ب�ضع �سنوات .و�ضع ك�أ�سه بني الأوراق املت�ساقطة ..فدنت ب�ضع منالت منه و�صعدت عليه تبغي احلواف املُح ّالة مبا تبقى من �آثار ال�شاي ..ثم �أكمل: خذ على �سبيل املثال ال احل�صر ..الأموال التي تر�صد ال لبناءامل�ساجد بل لتزيينها وزخرفتها ..ف�إن قلت :هذا ال يجوز .حدجوك بنظراتهم وقالوا: وهل �أ�صحاب الديانات الأخرى �أف�ضل منا؟ و�إن قلت� :أنفقوهااملتف�سخة على الفقراء وتزويج ال�شباب وطالب العلم� ،أراحوا �ضمائرهم ِّ بقولهم: توجد جمعيات تقوم بذلك.وك�أنّ جمتمعنا قد انعدم من الفقراء وامل�ساكني والعاجزين عن الزواج ف�ض ًال عن �إيجاد م�أوىً ب�سيط يلوذون به من ال�شارع والأجرة الباهظة� .صمت بعدها وقد �أطرق يف �أر�ض احلديقة ،وك�أنه يراقب منلة حتمل ق�شة وت�سرع بها �إلى وكرها ،.فج�أة قاطعه �صوت حامد: يا �أ�سفي على جمتمع ميلك كل �شيء �إال العقل واحلكمة ،رغم�أنه ي ّدعيها ليل نهار. فع ّقب �أحمد على الفور: �إنها عقدة النق�ص ففاقد ال�شيء ال يعطيه لكنه ي�ستطيع �أن118
منقذ نادر العقاد
يرثثر ويتح ّدث عنه كيفما ي�شاء. *** تتالت الأيام م�سرعة� ..إلى �أن جاء يوم كان فيه بيت ال�س ّيد جميل ال�سعيد ي�شهد تغريات كثرية ،فبينما �أحمد كعادته يرعى الطفلة يف غياب �أمها و�إذ بعائ�شة تدخل فج�أة والدموع متلأ وجهها� ..صرخ �أحمد: عائ�شة ما بك ..ما الذي حدث؟فر ّدت عليه بغ�صة: �س�أعي�ش معكم من جديد..قت؟ هل ُط ّل ِال ..ولكن �أنوي ذلك .حملت حقائبها و�سط ذهول �أحمد ودخلتغرفتها .كانت الغرفة غري نظيفة ي�سكنها العنكبوت يف زوايا ال�سقف. بعد قليل خرجت فوجدت �أمها يف ال�صالون ..فهوت عليها حتت�ضنها وهي تبكي� ،أبعدتها الأم عن كتفها و�س�ألتها: ما الذي جاء بك �إلينا ..هل تخا�صمتما؟فهزت بر�أ�سها امللتوي العنق دون �أن تنطق بحرف ..مل حتاول الأم اال�ستمرار معها يف الأ�سئلة� ..إذ رثت حلالها ،وكذلك فعل �أحمد. بعد قليل جاءت عبري لأخذ طفلتها ولكنها عندما �شاهدت عائ�شة ارمتت 119
رجل من مدينة اهلل
واحت�ضنتها بحرارة ك�أنها حت�ضن روح �صباح العابقة منها ..قالت: نويت زيارتنا؟ �أخري ًا ِوب�شيء من االرتباك �أجابتها: �أجل� ..أجل ،لقد �شعرت عبري �أنّ يف الأمر �س ّر ًا ،فدنت من�أحمد وانحنت لتناول الطفلة ..ارمتت ال�صغرية على �صدرها فرحة م�ستب�شرة ..هم�س يف �أذنها �أحمد� :أريدك لدقائق ،نظرت عبري يف عائ�شة وقالت بحرج: ح�سن ًا قل ما لديك. ..حدج �أحمد �أخته فغادرت على الفور ثم التفت لعبري قائ ًال: ما ر�أيك �أن ترتكي عملك هذا؟وهل لديك البديل؟بكل ت�أكيد..وما هو..املكوث يف البيت..� ..أجل�ست ال�صغرية بجوارها وقالت بنربة م�ستنكرة: 120
منقذ نادر العقاد
ومن �سيطعمنا �أنا وابنتي؟�أنا.أف�صح؟ � ..أطرقت قلي ًال ..وملّا ا�ستفاقت من الذهول قالتْ � : ..ابت�سم قائ ًال: يف احلقيقة يل �صديق يدعى حامد ..فقاطعته:زوج املرحومة �صباح؟�أجل ..هو ذاك..وما �ش�أنه؟نظر �إليها قائ ًال :دعيني �أتابع �أو ًال.. ح�سن ًا� ..أكمل..�أخذ َن َف�س ًا وقال: تعلمني �أن لديه ثروة كبرية و�أنه ..قاطعته جم ّدد ًا:هل يريد �أن يتزوجني �شفقة؟ وبحزم �أكملت� :إين �أرف�ض ذلك. ..ف�ضحك �أحمد ب�صوت مرتفع وال�سعادة ت�ش ُّع من عينيه وقال: 121
رجل من مدينة اهلل
نيتك �سيئة ،ما ق�صدنا ذلك.�إذ ًا ماذا؟ ..ف�أجابها معاتب ًا ،م�ستنكر ًا: ما تدعني يل فر�صة للكالم �إال وتقاطعينني ،رويدك ما عهدتكعجول ًة مثلما �أراك اليوم؟ ..هنا دخلت عائ�شة بالقهوة ف�أ�شار لها �أحمد �أن تبقى خارج ًا للحظات فقط ..بعدها تابع: يريد حامد م�ساعدتك مالي ًا لتتمكني من تربية الطفلة على�أكمل وجه ..وال يريد منك مقاب ًال� ،إنه يب ِغ وجه اهلل وحده. لكنني ال �أريد م�ساعدة من �أحد..ال تكوين عنيدة� ..إنه �سي� ّؤ�س�س جمعية خريية ..وال مانع �أنتكوين ممن �سي�ساعدهنّ �إن كان ذلك �سي�سمح لك برتبية طفلتك كما ينبغي. حملت الطفلة وو�ضعتها يف ح�ضنها ،وهنا دخلت عائ�شة من جديد ..خاللها كانت عبري تقول لأحمد: �أخ�شى �أنك قد مللت منها؟122
منقذ نادر العقاد
ال� ..أق�سم لك ..لكن �أريد م�صلحتك وفقط..� ..أطرقت وهي تقول: ح�سن ًا� ..س�أفكر بالأمر. ..نظرت عائ�شة يف �أحمد م�ستف�سرة� ..إال �أنها �صمتت �إلى �أن غادرت عبري وطفلتها ..عندها �س�ألته باهتمام: مباذا �ستفكر عبري؟وما ر�أيك؟�أنت �أدرى ..ف�أنت من جال�سها حوايل ن�صف �ساعة ال �أنا.�إذا �أنا الأدرى فما �ش�أنك؟غ�ضبت عائ�شة وقالت بنربة حا ّدة: ال تهز�أ بي ..فل�ست عاجزة عن معرفة ما يحدث هنا..وماذا يحدث هنا يا فهيمة؟�أنت تعلم جيد ًا..عندها بد�أ الغ�ضب ي�ستب ّد به ف�صرخ: �أف�صحي ع ّما بداخلك ..فقد �ضقت ذرع ًا من تلميحاتك123
رجل من مدينة اهلل
ال�سخيفة. املكتوب وا�ضح من عنوانه ..وال داعي للإف�صاح.انتفخت �أوداجه ..و�صرخ: ه ّيا ..اغربي عن وجهي ..هيا..وقتها هرعت الأم م�سرعة �إلى ال�صالون حيث كانا يجل�سان.. �س�ألتهما بنربة منخف�ضة: ما بكما ..هداكما اهلل؟�أحمد:
فلم يجبها �أحد منهما ..كررت ال�س�ؤال مرة �أخرى ..ف�أجابها �إنها مثلك ..تظنّ �أنني �أنوي الزواج من عبري..-لقد قلتها مرة واحدة فحفظتها عني ك�أنها كال ٌم ُمنـزّل..
�أنا مل �أتذكرها عمد ًا لكن الكيل طفح منك �أنت وابنتك ..ثمتابع :رحم اهلل �صباح ..كانت تفهمني من دون �أن �أنطق بحرف واحد. انفجرت الأم بالبكاء وهي ت�صرخ: ملاذا تكلمني هكذا� ..أن�سيت من �أنا..124
منقذ نادر العقاد
فدنت منها عائ�شة واحت�ضنتها خمففة عنها فانفجر �أحمد �صارخ ًا: تظنان �أنّ ن�ساء املدينة ترغب بالزواج مني وك�أنكما تن�سيان�أنني عاجز ..عاجز ..عاجز.. بعدها خرج وقد �أغلق الباب بع�صبية مفرطة ..وعلى الدرج التقى بحامد ..فخاطبه بحزم قائ ًال: خذين بعيد ًا عن هنا �إلى �أي مكان ..حتى ولو كانت اجلحيم.*** ات�صل زوج عائ�شة ،و�أخرب �أحمد �أنه لن ي�أتي ويعيدها لبيتها مهما حدث..ف�إن �شاءت العودة فيا مرحب ًا و�إن �شاءت البقاء عندكم فالباب يتّ�سع جلمل .ا�ستاء �أحمد من طريقة كالمه ..و�ص ّرح لأخته بهذا ف�أق ّرته و�شرحت له �سبب اللجوء �إليهم ..قالت :كنت �أظنه رج ًال كمحام ،لكنني اكت�شفت �شيئ ًا �آخر ،اكت�شفت م�ؤمن ًا م�ستقيم ًا يف عمله ٍ حيل غري �أنه نافر من الدين واملتدينني ..منحرف يف عمله ..ويعمد �إلى ٍ م�شروعة� ..إنني �أكرهه ..وال �أريده.. درج بكر�سيه �إلى النافذة وفتحها ليف�سح للنور طريق ًا �إلى الغرفة ..ثم قال: على كل حال ..ال تخ�شي �شيئ ًا� ،س�أكون �إلى جانبك ..بل �سنكون125
رجل من مدينة اهلل
جميع ًا �إلى جانبك .ابت�سمت فرح ًة ثم �أ�سهبت يف ذكر ما اعرت�ضها من عقبات يف حياتها معه حتى قالت :كان ال يحرم نف�سه من النظر ملفاتن الن�ساء ،وكلما �صارحته برف�ضي لت�صرفه هذا ..يجيبني بلكنة �ساخرة: لي�س الذنب ذنبي� ..إنه ذنب بنات جن�سك اللواتي ال يخفنيزينتهن حتى � ّ أغ�ض ب�صريّ .ثم انظري �إلى نف�سك ..رائحتك رائحة الطبخ ،وهي�أتك ال تبعث يف النف�س ال�سرور وتريدين مني �أال �أنظر.. فكنت �أجيبه: وما ذنبي �أنا ..هل تريد مني �أن �أكون كن�ساء ال�شارع اللواتيت�شاهدهن �صباح م�ساء؟ ..تلت عائ�شة لأحمد بع�ض الذي كان يدور بينهما �إلى �أن قرع الباب ..كان القادم حامد ًا ..قال وال�سعادة تخلع على وجهه �سكينة جليلة: لقد �أ�س�ست �أخري ًا اجلمعية و�سيكون رئي�سها ع ّمك م�صطفىفهو �صحايف يعمل يف مكتب احلوادث االجتماعية وال ريب �أنه �سريفدنا باملعلومات الغزيرة عن واقع املجتمع احلقيقي. �أ�صبت ..ر ّدد �أحمد ..ثم بعدها تناول القهوة من �أخته وق ّدمالفنجان حلامد وتابع: و�أين �سيكون مق ّرها؟126
منقذ نادر العقاد
نحن ال نريد ت�شكيل جمعية ر�سمية بقدر ما نريد ت�شكيل جمعيةخا�صة ت�ساعد الفقراء ومت ّد يد العون لهم. ّ �أين؟ ك ّرر �أحمد..يف بيتي ..و�س�أعلن عنها وعن مها ّمها يف اجلريدة ..و�أتركللقراء عنوان ًا يبعثون من خالله بر�سائلهم �إلينا.. ح�سن ًا على م�شيئة اهلل .فلنبد�أ العمل..*** مع بداية ت�شرين الثاين ،ومع قب�ض املوت لروح احلياة املاثلة يف الطبيعة �إ ّال من �شجر الكينا و �شجر ال�سرو بد�أت رحلة الأ�صدقاء يف البحث عن البائ�سني واملغمورين ،عن ك ّل م�سكني �أرهقه املجتمع ..وكان الو�سطاء يتزايدون يوم ًا بعد يوم و�أولهم �أم �أحمد ..فقد د ّلت ولدها و�صهرها على فقراء من بني تالميذها .ومن �أولئك تلميذ فقري قد �أغمي عليه ذات يوم ..وعندما ا�ستفاق � ..ض ّمته �أم �أحمد كما روت �إلى �صدرها و�س�ألته: ني؟ هل �أنت مري�ض يا ُب ّف�أجابها بب� ٍؤ�س: ال �إنني جائع .جائع جد ًا يا مع ّلمتي .قالت :فهرعت �إلى غرفةاملع ّلمات و�أح�ضرت له بع�ض الطعام ..وعندما �شبع نظر �إ ّ يل ومتتم 127
رجل من مدينة اهلل
خج ًال :هال �أطعمت �أختي يف الغد؟ �أختك؟�أجل� ..إ ّنها معي يف ال�صف املجاور ل�صفنا.ح�سن ًا ،ح�سن ًا . .لك هذا .قالت :فابت�سم لوعدي ابت�سامةرا�ض ّية مطمئنة ..ف�س�ألته: ولكن هل يل �أن �أعرف ملاذا مل ت�أكل يف البيت ..وملاذا �أطعم�أختك يف الغد بد ًال عنك؟ وب�صوت يكاد يجه�ش بالبكاء قال: يا �آن�سة ،نحن ال نفطر كل يوم ،فيوم �أتناول الفطور �أنا ويوم�أختي ،وهكذا. وما فطوركما؟ن�أكل اخلبز املغمو�س باملاء والزعرت.املاء والزعرت .ر ّددتها يف داخلي ولكي ال يالحظ ده�شتي �ضبطت م�شاعري و�أبديت له �أن الأمر عادي و�أنّ كثري ًا من النا�س حالهم هكذا. هنا ،قال �أحمد بحما�س :هال �أخربتنا عن ا�سمه .ع ّلنا نق ّدم له يد امل�ساعدة؟ ففعلت الأم ما ُط ِلب منها .وبعد �شهور �أ�ضحت القائمة 128
منقذ نادر العقاد
مليئة بالأ�سماء والأ�سر.. وحينما جل�ست الأ�سرة مع بع�ضها م�ساء ..قالت عائ�شة: هل ميكنني �أن �أرى ما لديك من �أ�سماء يف القائمة؟ف�أجابها �أحمد� :إنهم كرث� ،س�أحدثك عن بع�ضهم ..ثم تابع.. ا�سمعي مث ًال عن �أحدهم ..ثم �أخذ ّ �صححت يف�ض القائمة ..خاللها ّ عائ�شة جل�ستها ..وتك ّورت على نف�سها بحيث تالم�س ذقنها ركبتيها .. يف حني ظلت الأم �صامتة تغزل معطف ًا ملرهف .قال :مل يك ّلفه �أهله يوم ًا وال حتى �شراء ربطة خبز ..كان والده يقوم بكل �شيء ..وفج�أة وجد نف�سه م�س�ؤو ًال عن ك ّل �شيء ،ال معيل له �إال اهلل .فقاطعته عائ�شة :كيف حدث ذلك. لقد ّمت اتهام والده بق�ضية ر�شوة ..و�أ�سدل ال�ستار على املو�ضوعمنذ �سنوات عدة خلت ..واليوم بعد �أن تقاعد والده وا�ستق ّر بني �أبنائه.. و�ص ّرح �أنه �سي�شرع بكتابة مذكراته ومالزمة البيتُ ..فتح ّ ملف الق�ضية على حني غرة ..وق ّرروا متابعة املو�ضوع واحلكم على املتّهمني ..ف�ألقوا وزجوا به يف ال�سجن ..قاطعته عائ�شة ثانية: القب�ض على والده ّ وماذا ُح ِكم عليه؟مل ي�صدر احلكم بعد ..وقد م�ضى على �إيقافه �سنة كاملة..خاللها كاد ابنه اجلامعي ُي َجنّ � ،إذ وجد نف�سه يف مواجهة مباغتة مع املجتمع ..فكم من �أبواب �أغلقت يف وجهه ..وكم من دروب �س ّدت ،وكم 129
رجل من مدينة اهلل
من �أ�شخا�ص كانوا يف املا�ضي �أ�صدقاء وهم اليوم �أعداء ..حتى �أعمامه رف�ضوا م�ساعدته .قالوا له: عمل يطعمك و�أ�سرتَك. اترك اجلامعة واعمل � ّأي ٍولكن..ولكن ماذا؟ �أال تفهم؟ نحن ال نقدر على �إطعام �أبنائنا حتىنطعم غريهم. فخرج من عندهم يائ�س ًا ،واعتزل �أ�صدقاءه و�صار كتوم ًا جا ّد ًا و�شر�س ًا حا ّد ًا ..بات ال يفكر �إال يف اللرية كيف يجنيها ومن �أين؟ وكم كان حيا�ؤه ورهافته ي�سببان له احلرج لدرج ٍة �أنه ما كان يطلب م�ساعدة من �أحد �إن ظنّ �أنه لن يق ّدمها له. يبدو �أن الأمر �ش ّد انتباه الأم ف�أ�سقطت املعطف من يديها ومل ت�شعر ..ثم انتبهت ..فا�ستعادته و�س�ألت ولدها: وكيف عرفت بوجود هذا ال�شخ�ص؟�إنه �صديق حامد ..وقد حكى له ق�صته بعد �أن علم مب�ساعدتهللبائ�سني واملحتاجني ..فتمتمت ب�سعادة: جزاكم اهلل خري ًا يا �أبنائي ..ال �شك �أن اهلل يباهي بكم املالئكة.�أعادت عائ�شة ظهرها للوراء ،وقالت برتقب: 130
منقذ نادر العقاد
هل لديك املزيد من مثل هذه الق�ص�ص امل�ؤثرة؟أعجبك .ع ّلق �أحمد مبت�سم ًا ..فر ّدت عليه: يبدو �أن الأمر � ِال ..لي�س الأمر �أمر ا�ستمتاع ب�أوجاع الآخرين بقدر ما هوموا�ساة لنف�سي لتعلم �أنها لي�ست الوحيدة البائ�سة ،فهناك الكثري من البائ�سني على هذه الأر�ض. اختفت على الفور ابت�سامته يف ظل التغريات ال�سريعة الطارئة على وجهه� ..أطرق وقال بغ�صة: �أجل ..من ر�أى م�صيبة غريه هانت عليه م�صيبته� ..أخذ ُيق ِّلب�أوراق القائمة ..حتى ا�ستوقفه �أحد الأ�سماء فتمتم: نحن الآن �أمام م�أ�ساة من نوع �آخر ،اجنذبت �أنظارهما وترقبتاكلماته قال: �إنها م�أ�ساة �شاب مبدع ،ترك اجلامعة لأنه مل ي�ستطع ت�ضميدجرحه. � ّأي جرح؟ �س�ألت عائ�شة.كان من املتفوقني ..دوم ًا الأول على رفاقه ،وعندما و�صل �إلىبجد وح�صل على عالمات طيبة .لكن: مرحلة ال�شهادة الثانوية در�س ٍّ هنا امل�أ�ساة. 131
رجل من مدينة اهلل
هنا! علقت �أمه با�ستغراب.وب�صوته الهادئ املن�ساب قال: �أجل ..هنا امل�أ�ساة� ..إذ نق�صه عن املجموع الذي ي�ؤهله لدرا�سةالطب درجة واحدة فقط. .هذه الدرجة هي التي كانت م�صدر ب�ؤ�سه و�شقائه.. وملاذا مل يدر�س � ّأي تخ�ص�ص �آخر؟ ع ّقبت الأم� ،أو يعيد درا�سةالثانوية العامة؟ قالت عائ�شة.. لأنه يحب درا�سة الطب ووالده طبيب يكاد يغلق العيادة ب�سببكربه يف ال�سن ،وقد كان ُحل ُمه �أن يرثها ابنه من بعده� ،أ�ضيفي �أنه بات مي ُّل الدرا�سة ويخ�شى �أن تتجدد معه امل�أ�ساة لو �أعاد الثانوية العامة.. بعدها ابت�سم مبرارة وقال :والأنكى من كل هذا تلك الطرفة التي حدثت معه. � ّأي طرفة؟ ت�ساءلت عائ�شة..حينما كان يف امتحان اللغة العربية يف اليوم الأخري ..كان �أحداملراقبني يريد انق�ضاء الوقت ب�أ�سرع ما ميكن ..فكان يحثُّ الطالب على اخلروج ..وقبل ربع �ساعة مل يبق �سواه ..كان يحاول تذكر مو�ضوع التعبري ..حينما �أنطق القدر ل�سان املراقب بكلمة عجيبة فقال له: أنت ..هيا خل�صني .هل �سيتوقف م�صريك على الك ّل خرج �إال � َ132
منقذ نادر العقاد
درج ٍة واحدة زياد ًة �أو نق�صان ًا� ..أم �أنك �ستدخل بها كلية الطب و�أنا ال �أعلم؟ لطمت عائ�شة وجهها وقالت بده�شة: يا �إلهي �أجا ٌّد فيما تقول؟نعم ..نعم ..ومتتمت الأم :يا �سبحان اهلل ..هلل يف خلقه �ش�ؤون..ثم �أردفت قائلة: و�إالم �آل حاله اليوم؟�إنه اليوم من �أتع�س النا�س ..فوالده قد �أغلق العيادة لكربه يفال�سن ..وهو بعد �أربع �سنوات ال يزال حائر ًا ومت�شرد ًا ..ينظر للم�ستقبل ب�سوداو ّية. وماذا �ستفعلون له؟ �س�ألت �أخته..�أظن �أننا �سوف ن�سعى لإقناعه كي يدر�س من جديد ..وال ريبح�صل جمموع الطب. �أنه �إن �أخذ الأمور بجد ّية �س ُي ِّ بعدها �صار يقلب الأوراق على عجالة حتى ختم عر�ضه بق�صة م�ؤملة المر�أة عجوز� ..صادفها حامد وهي تق�صد حافة الر�صيف .قال يل: عندئذ �س�ألتها �أتودين امل�ساعدة يا ج ّدة؟ فرحبت مب�ساعدتي..ٍ 133
رجل من مدينة اهلل
ني ..فال �أحد عندي؟ �أو�صلتها حتى بيتها ،قالت :ادخل يا ُب َّ قلت� :أين �أبنا�ؤك يا ج ّدة؟ ُ قالت :كلهم تركوين� ..إنهم يقرفون مني ..ف�أنا عجوز طاعنة يف فت عنها قدر ا�ستطاعتي، ال�سن ..ثم راحت تن�شج وتبكي مبرارة .خ َّف ُ تابعت: ثم ْ قال �أحدهم خذوها لبيت العجزة وقال �آخر :بل دعوها متوتعلي باملوت. هنا ونرتاح منها� ..أما ابنتي فكانت تدعو ّ ..رمت �أمه ال�صوف من يدها بع�صبية وقالت بح ّدة: يا لل�سماء .ال ريب �أنك تبالغ..�أق�سم لك �أنها احلقيقة.وهل �ست�ساعدونها؟بالت�أكيد ..فهي ال حتتاج للمال بقدر ما حتتاج ملن ي�أتي لهابالطعام والدواء ويتفقدها كل حني.. هنا راحت الأم حتوقل وقد و�ضعت مو�ضع �سرتها كف ًا فوق كف وقالت: ذ َّكرتني بامل�سكينة �أم علي ،ف�أوالدها ال يزورونها رغم مر�ضها134
منقذ نادر العقاد
ال�شديد ..ولوال مالها ورعاية اجلريان لها لكانت م�أ�ساتها ال تق ّل مرار ًة عن م�أ�ساة هذه العجوز. عند هذا احل ّد توقف �أحمد ثم �شرع يجر كر�سيه �إلى غرفته وهو يتمتم مقولة ل�شاعر �إنكليزي « �أال يحقّ يل �أن �أبكي ملا فعله الإن�سان بالإن�سان؟». *** كانت �أ�صوات الأطفال مفعمة باحلياة و�صخبها ،وهم يهبطون �أدراج البنايات وينت�شرون يف الأزقة وال�شوارع ،بع�ضهم ي�سري �إلى مدر�سته منفرد ًا و �آخرون ي�سريون على هيئة زمر وجماعات .نظرت الأم من النافذة ،وهي تقول� :سقى اهلل �أيام كنت معلمة .كنت �أ�شعر بن�شوة و�أنا �أرى التالميذ وهم يتجمعون حويل يف زقاق احلي ويقولون: �صباح اخلري يا �آن�سة .فكنت �أجيبهم فرح ًة� :صباح النور يا �أوالد ،هل در�ستم جيد ًا؟ فكان �أحدهم يجيبني: نعم يا �آن�سة .ولكنَّ فالن ًا من التالميذ مل يدر�س ،فكنت �أوبخهف�أقول: وما �ش�أنك �أنت بغريك؟ عليك بنف�سك .فيخرج له الآخرالتفت �إليه والحظني يتظاهر فور ًا بالتثا�ؤب ،ف�أقول له و�أنا ل�سانه ..ف�إن ُّ ال �أ�ستطيع حب�س نف�سي عن ال�ضحك: ملاذا تتثاءب ول�سانك خارج فمك ..فيجيبني بارتباك وقد و�ضع135
رجل من مدينة اهلل
يده كعادة الأطفال مكان نقرته و�أخذ يحك �شعره: لقد ن�سيت يا �آن�سة ..لقد ن�سيت ثم ي�أخذ بالرك�ض م�سرع ًا نحواملدر�سة. يبدو �أنك يا �أمي حتنني ب�شدة �إلى �أيام املدر�سة .قال �أحمد.ف�أجابت بغ�صة وهي تعيد فرد ال�ستار املزموم: �أجل �أحنّ � ..أحنّ كثري ًا ..ثم �أكملت :رحم اهلل والدكم ..كانيحب كثري ًا ر�ؤية الأطفال وهم يف طريقهم �إلى املدر�سة .كان يردِّد دوم ًا: ُّ مالئكة مت�شي على الأر�ض ..ثم التفتت �إلى �أحمد وقالت� :أال تذكر ذلك؟ فر َّد رمبا .تلعثم يف الكالم وك�أنه �أراد �أن يقول �شيئ ًا فقاطعته: عليك يا حبيبتي �صباح .كانت �أختكم ال يفوتها �ألف رحمة تنـزل ِ�شيء من هذه الطرائف ال�صغرية..ثم �أخذت تبكي �أقبلت عليها عائ�شة و�ضمتها قائلة: ما ذكرك بهما الآن يا �أمي؟وهل تظنني �أنني �أن�ساهما؟ ثم متتمت :احلمد هلل ..احلمد هلل.�إنا هلل و�إنا �إليه راجعون. خالل ذلك كان �أحمد قد ان�سحب من املكان ودخل غرفته دون �أن يقول كلمة واحدة. 136
منقذ نادر العقاد
بعدئذ ..ذهبت الأم �إلى احلاجة �أم علي لتق�ضي لها حوائجها، ٍ يف حني �شرعت عائ�شة برتتيب البيت وخالل ذلك رنّ جر�س الهاتف.. فخرج �أحمد ب�سرعة وقبل �أن ترفع �أخته ال�سماعة قال لها� :إن كان املت�صل �أحد �أ�صدقائي فقويل له �أنني ل�ست هنا ..وا�ضمري يف نيتك: ( �أي ل�ست هنا يف ال�صالون) ثم عاد جمدد ًا لغرفته ..فدخلت عليه الغرفة وقالت� :إنه حامد. وماذا يريد؟قال �إنه م ّر اليوم �صباح ًا ..ومتتمت بينها وبني نف�سها� :إذ ًاهو من كان ينقر الباب �صباح ًا ..ثم ا�ستدركت :وقال �إنه يريد ر�ؤيتك أمر �ضروري� .صمتت قلي ًال وتابعت ..:لكنَّ �أغرب ما يف الأمر عبارته ل ٍ الأخرية. � ّأي عبارة؟ �س�ألها �أحمد باهتمام.قال يل قبل �أن ينهي املكاملة :اذهبي وقويل له �أنني �أو ُّد ر�ؤيته.وما الغرابة يف ذلك؟�أمل تالحظ؟ ا�ستعاد العبارة يف نف�سه مرة �أخرى حتى ا�ستوقفتهنف�س الكلمة ..فراح يتمتم دون �أن ي�شعر بنف�سه :اذهبي وقويل له، اذهبي � . .أوه� ..صحيح� ..صحيح ..ولكن كيف عرف �أنني هنا.. عادت عائ�شة �أدراجها �إلى املطبخ� .أما �أحمد فخرج �إلى ال�شرفة 137
رجل من مدينة اهلل
بع�ض الوقت ثم عاد لل�صالون جم ّدد ًا ،وبينما هو منغلق على خواطر نف�سه رنّ جر�س الباب� ..صاحت عائ�شة من الداخل� :أحمد افتح الباب ف�أنا م�شغولة ..اجته �إلى الباب وهو �شارد الذهن ثم فتحه ..نظر يف الطارق ..للوهلة الأولى ظ ّل عادي ًا ثم ارت َّد للخلف بكر�سيه جف ًال وهو يقول: ما الذي جاء بك �إلى هنا؟جئت لأجلك ..نظر �إليه متب�سم ًا و�أردف� :ألن ت�سمح يلبالدخول؟ ظ ّل �أحمد جامد ًا يف مكانه للحظات ثم �أخري ًا �أزاح كر�سيه وقال بربودة: تف�ضل� ،أدخل..لقد انزعج كثري ًا من زيارته الق�صرية تلك ..وبقي خاللها مظهر ًا اجلفاء واملقاطعة بيد �أنه بعدها عندما زارتهم عبري تغيرَّ حاله وارت�سمت على وجهه ب�سمة م�شرقة ..م ّد يده ليتناول منها الطفلة، وبعد �أن �صارت يف ح�ضنه� ..أخذ يداعب �شعرها وهو يقول لأمها: كيف جرى ور�أيناك؟كنت م�شغولة بالعمل.و�أين كنت تودعني الطفلة؟�صرت �أ�صطحبها معي �إلى العمل.138
منقذ نادر العقاد
كيف هذا؟�..أطرقت قلي ًال ..ثم رفعت ر�أ�سها على ا�ستحياء ومتتمت: كنت �أ�ضعها يف غرفة اال�سرتاحة على �أريكة منعزلة ..فت�ساءلتعائ�شة: وهل كانت ت�سكت من دونك؟ متتمت بارتباك� ( :إم� ..إم )..�أمعقول هذا ..ع َّلق �أحمد..ومل ال؟ ا�ستنكرت عبري.لأنه ي�ستحيل على طفلة يف عمرها �أن تظل �أربع �ساعات بطولهادون �أن تتحرك �أو تبكي �أو ..فقاطعته: كنت �أو�صي بها م�ستخدمة طيبة ،فكانت تتفقدها كل حني.ال �أدري ملاذا ال �أ�ستطيع �أن �أ�صدقك؟ احم ّر وجه عبري ونظرت�إلى عائ�شة ف�أكمل �أحمد قائ ًال: أح�سه ..و�أنا بالت�أكيد جتدين كالمي غريب ًا..لكنني �أحدثك مبا � ُّما تعودت يف حياتي �إال ال�صراحة ..رمقها بنظرة خاطفة ومتتم: �ساحميني ف�أنا �صريح� ،صريح جد ًا ،مل جتب عبري بكلمة ..ظهرعليها االرتباك وحماولة الهروب من املوقف ..ف�أنهت احلديث بقولها: 139
رجل من مدينة اهلل
على كل حال �أنا اليوم مل � ِآت من �أجل الطفلة بل جئتك مبو�ضوع�آخر .فقاطعها: قررت؟ �أوه ..فهمت..ثم تابع :وماذا ِموافقة.موافقة؟ قالها بنربة حادة بع�ض ال�شيء.أكملت� :شعرت بك وك�أنك تريدين �أن �أوافق ،وملَّا ر�ضيت بالأمر � ْ �أراك ت�ستنكر ..عجيب �أمرك اليوم! انتبه �أحمد لنف�سه فرتاجع ب�سرعة عن موقفه وقال: عفو ًا ..عفو ًا ،ما ق�صدت ذلك ،لقد فهمتني ب�شكل خاطئ..ثم تابع :ح�سن ًا مع بداية ال�شهر القادم خذي �إجازة مفتوحة وتفرغي لرتبية ابنتك اجلميلة .عندها ت�ساءلت عائ�شة؟ عم تتحدثان؟ّ ف�أ�سكتها �أحمد ،تناولت عبري الطفلة .ودثرتها جيد ًا ،قالت وهي جتتاز عتبة الدار: ح�سن ًا� ..س�أم ّر عليك الحق ًا لتعطيني اخلرب اليقني .بعدها متتم�أحمد بغبطة : 140
منقذ نادر العقاد
يا لها من امر�أة رائعة ،ترينها مبت�سمة رغم ُك ِّل الذي تعانيه..�إنها رائعة حق ًا. على ر�سلك ..قلت لك يف الأم�س� :إنك معجب بها فخا�صمتنيوكدت تنفجر يف وجه �أمك ..وها �أنت اليوم متدحها مدح املحبني. مل يعر كالمها با ًال ،بل درج بكر�سيه �إلى ال�صالون و�س�ألها: �أين �أمك .مل �أرها هنا؟�صعدت �إلى احلاجة �أم علي فهي مري�ضة جد ًا.كان اهلل يف عونها فهي امر�أة نبيلة .ثم دخل �إلى ال�صالون.فلحقت به وقالت: والآن �أخربين ما امل�ساعدة التي تنتظرها منك عبري؟ح�سن ًا..اجل�سي �أحدثك . .ثم راح يروي لها الق�صة كاملة،حينها كانت طبول ال�سماء تتوعد ال�ساهرين بليل ٍة ماطرة. *** بعد ع َّدة �أيام ات�صلت عبري وقالت: ماذا جرى بخ�صو�ص املو�ضوع؟�أخربت عمي م�صطفى و�أ�ضحى الأمر جاهز ًا ،عليك �أن ت�أخذي141
رجل من مدينة اهلل
�إجازة مفتوحة وانتهى الأمر. قالت ب�صوت تك�سوه نربة الفرح: ح�سن ًا..ح�سن ًا ..وقبل �أن تنهي املكاملة ..باغتها �صوته الهادئحينما قال ُمل ِّمح ًا: يف املرة القادمة �أرجو �أال تعطي ابنتك حب ًا منوم ًا.غرق �صوتها يف ِّلج خواطرها املتالطمة ،قالت :من �أخربك بذلك؟ هذا لي�س من �ش�أنك ..املهم �أال تتكرر ثاني ًة..�أرجوك قل يل من �أخربك؟لك من وقتها �أنني ال �أ�صدق ادعاءك ..ولهذا ذهبت �إلى قلت ِ�شخ�ص يعمل هناك �أنك تعطني ابنتك ح ّب ًا مكان عملك وعلمت من ٍ منوم ًا. ظلت �صامت ًة و�أحمد يردِّد� :ألو� ..ألو� ..ألو ..عبري هل ت�سمعينني، فج�أ ًة عاد �صوتها من جديد ..كان هذه املرة خمنوق ًا مرجتف ًا ..قالت: �شكر ًا . .ثم �أغلقت اخلط دون �أن تزيد على ذلك حرف ًا .يف تلكالليلة ظ ّل �أحمد �ساهر ًا حتى الفجر ..يراجع كلماته ،وكلما تذكر �صوتها وهي تقول� :شكر ًا لك ..ي�شعر بغ�صة وبالعربات تفلت من عينيه ..قال 142
منقذ نادر العقاد
يف نف�سه: �أخ�شى �أنني قد جرحتها �أو �أيقظت وح�ش احلزن يف غابتها .يا�إلهي ال ب ّد �أنه �سيفرت�سها� ،إنها ذات طبيعة رقيقة .هوى بقب�ضته على الو�سادة ومتتم: ال ب ّد �أن �أعتذر لها� ،أجل ال ب ّد من ذلك .كان املطر وقتها قدتوقف فبان القمر �صغري ًا با�سم ًا بعامله ال�ساحر وخيمته الف�ضية امل�شعة. ومع هطول �شالل الفجر وامتداد ال�صباح ،زحف �أحمد على كفيه �إلى طرف ال�سرير ..فتح النافذة� .أخذ نف�س ًا عميق ًا .كان ال�صباح �صافي ًا م�شرق ًا ،والهواء مفعم ًا بالرطوبة .اقرتب من كر�سيه املتحرك، جل�س عليه ثم حترك نحو ال�صالة ومنها �إلى ال�شرفة .ففوجئ ب�أمه جال�س ًة هناك يف الزاوية حتت�سي القهوة�..ألقى عليها حتية ال�صباح ثم قال: أراك م�ستيقظة. � ِ�أجل ..ر�أيت الطق�س جمي ًال ف�أحببت �أن �أغتنمها فر�ص ًة و�أحت�سيقهوتي هنا قبل �أن يداهمنا ال�شتاء فج�أة ف�أحرم من ذلك ف�ص ًال كام ًال. معك حق ..فاحلديقة التي نط ُّل عليها ،و�شجرة الكينا الوا�صلة�إلينا تخلع على �شرفتنا �شيئ ًا ما من دفء الطبيعة ون�ضرة خ�ضرتها. نه�ضت �أمه وقالت :انتظرين قلي ًال� ..س�أح�ضر القهوة لك و�أعود �سريع ًا.. احت�ساها �أحمد على دفعتني ..ونظر �إلى �أمه يت�أملها ..فابت�سمت وقالت: 143
رجل من مدينة اهلل
ما بك؟ هل تراين لأول مرة؟ابت�سم وقال :ال �أدري ما �أقول .حق ًا �إن احلياة غريبة .ال �أدري ملاذا �أ�شعر �أن يف ال�صباح �س ّر ًا خا�ص ًا .متتمت الأم� ( :إم ) ..وك�أنها تريده �أن يتابع .قال: �أ�شعر يف ال�صباح �صفاء وراحة ..وك�أنني �أجاور الغيوم و�أو�شك�أن �أمل�س حدود ال�سماء! ..دمعت عني الأم وقالت ب�صوت ج ْر�سه كج ْر�س الندى: ..كالمك م�ؤثر ،ثم نظرت �إليه وت�ساءلت :هل حق ًا �أنت ولديالذي خرج من جويف؟ ثم �أردفت :يا �سبحان اهلل� ..إن بني �آدم يت�شابهون يف �أج�سادهم لكن �أرواحهم ت�سبح يف ملكوت خا�ص وتنهل من معينها هم �أحمد بالتعقيب مع دخول عائ�شة ف�أم�سك عن الكالم. اخلا�صّ ، قالت عائ�شة :الفطور جاهز. متى َّح�ضرته؟ ت�ساءلت الأم بده�شة فابت�سمت عائ�شة و�أجابتها: ا�ستيقظت ف�شاهدتكما يف ان�سجام ووفاق �إلى �أبعد حد ..فقلتيف نف�سي: يا بنت ..دعيهم يف حالهم وفاجيئيهم بفطو ٍر فاخر.وبينما هم يتناولون طعام الفطور� ،شرع املذيع يتلو ن�شرة الأخبار امل�ص ّورة ..كان اخلرب امل�ص ّور الثاين يت�ضمن م�شهد ًا لفتاة فل�سطينية 144
منقذ نادر العقاد
يف نهاية طفولتها وهي حما�صرة بجنود �صهاينة ي�ضربونها بع�شوائية ووح�شية ب�أقدامهم وبنادقهم ،ثم جروها من �شعرها �إلى ال�سيارة.. عندها رجفت عائ�شة ل�صوت الزجاج الذي تناثر يف �أر�ض ال�صالون.. فقد ت�أثر �أحمد بامل�شهد فرمى الك�أ�س من يده وراح يبكي كال�صغار وهو ي�صيح: كيف ننعم بالراحة ..والقد�س ت�ستغيث بنا ،هاكم �أخواتناتحُ قرن �أمامنا ..هاكم �أطفالنا تقاوم باحلجارة ونحن جال�سون هنا. �أال ليتني مل �أخلق يف ع�صرنا هذا ..ثم تابع �صارخ ًا: كم �أكره العجز ،كم �أكرهه ،كم �أكرهه.رعت �سقط من كر�سيه على الأر�ض ..فارمتت عليه �أمه وهُ ْ عائ�شة للمطبخ وعادت بك�أ�س ليمون� ..شربها وخرج �إلى ال�شرفة ..قال: دعوين �أرجوكم وحيد ًا لبع�ض الوقت وعندما عاد ..قالت له �أمه: ا�ستحلفك باهلل �أال تغ�ضب مرة �أخرى هكذا.ال �أ�ستطيع يا �أمي ..ال �أ�ستطيع.ني ما باليد حيلة هكذا م�شيئة اهلل. يا ُب َّف�صرخ :ال ،لي�ست م�شيئة اهلل� ..أنتم دوم ًا تتجنبون مواجهة �ضعفكم وتن�سبون ف�شلكم �إلى م�شيئة من اهلل.. ولكن .قاطعها :ولكن ماذا؟ ال تخدعي نف�سك كما الآخرين145
رجل من مدينة اهلل
يا �أمي ..فما كان اهلل ليغري نعمة �أنعمها علينا �إال �إن نحن �أ�س�أنا له وع�صينا �أمره� ..صمت برهة ثم �أكمل� :أعجب ملاذا نفهم كل �شيء يف الإ�سالم على نقي�ض معناه؟ على ر�سلك ،على ر�سلك ..قالت عائ�شة ..ثم تابعت :بعد قليلتكفرنا جميع ًا. �أنا مل �أق�صد هذا ..ولكن كل �شيء باملقلوب� ،إن قلت :الإميانبالق�ضاء الإلهي واجب قالوا :بلى ،ثم ف�سروه ا�ست�سالم ًا وجمود ًا .و�إن قلت :الزهد يف الدنيا �أكمل ..قالوا� :أ�صبت ..ثم راحوا يتق�شفون يف امل�أكل وامللب�س وقلوبهم ال تزال معلقة يف ج ّرة فخار .قاطعته �أمه: �إيه� ..إيه ..ماذا جرى لك ..قنبلة وانفجرت ..انظر �إلى نف�سككنت حتتاج �إلى كلمة حتى تقذف من جوفك منذ ال�صباح مليون كلمة. على ر�سلك ..ما بالك وقد انتفخت �أوداجك ..و�شحب وجهك ،هل تريد �إ�صالح العامل مبفردك؟ ال تكن �أبله ًا .ثم نظرت �إلى عائ�شة وقالت: �أنا �صاعدة �إلى احلاجة �أم علي ،اعتني يف غيابي باملنزل. ..كانت عائ�شة قد مللمت ال�صحون التي على الطاولة� ..س�ألها �أحمد ب�صوت مبحوح: هل معك رقم هاتف عبري؟معي ..ولكن :ملاذا؟146
منقذ نادر العقاد
البارحة ات�صلت بي من �أجل ذلك املو�ضوع ..ف�صارحتهامبو�ضوع احلبوب املنومة. وملاذا فعلت هذا؟ال �أدري ..كنت غا�ضب ًا منها ..فلم �أ�ستطع �إخفاء م�شاعري،ولكنني ت�ضايقت بعدها �إلى درجة جعلتني ليلة البارحة عاجز ًا عن النوم.. �ألهذا كنت �شديد االنفعال؟ال ..ولكنها حقائق م�ؤملة اجتمعت كلها يف وقت واحد.بد�أ يت�صل مر ًة تلو الأخرى فال يجيبه �أحد و�أخري ًا طرق �صوتها �سمعه فاعتذر لها عما بدر منه البارحة وهي باملقابل وعدته بن�سيان املو�ضوع. *** دخل مرهف عائد ًا من اجلامعة ،و�ضع حقيبته على الأر�ض و�سار �إلى ال�صالة ،ارمتى على �أمه يقبلها وهو يقول :لقد ا�شتقت �إليك. ثم التفت لعائ�شة وقال� :أراك هنا؟ مللت مني؟ وهل َ147
رجل من مدينة اهلل
ال .ولكن ،قاطعته :مل يحدث �شيء بعد..ح�سن ًا ..تلفت مينة وي�سرة وت�ساءل:�أين �أحمد؟يف غرفته.�إذ ًا �سوف �أ�ستحم �أو ًال ثم �أدخل لأحدثه يف بع�ض الأمور. وبينما كانت عائ�شة مت�سح الغبار عن الأثاث ،رنّ جر�س الهاتف، كانت عبري� ..ألقت التحية على عائ�شة ثم �س�ألتها عن �أحمد ..ف�أجابتها بجفاءٍ وارتياب: يا عبري ابتعدي عن �أخي ودعيه و�ش�أنه.هل فعلت �شيئ ًا ما ال �سمح اهلل حتى تقويل يل هذا الكالم؟يف احلقيقة ال .. ،لكنني �أخ�شى على �أخي منك.مني؟�أجل ..ف�أنا �أ�شعر وكذلك �أمي �أن �أحمد يتعلق بك يوم ًا بعد يوم،و�أنت تعلمني �أنه عاجز ونحن ال نريد له �أن يطارد �سراب ًا ..هنا َّ انق�ض عليها �أحمد كالوح�ش الغا�ضب ووقع �أر�ض ًا ،فقفزت عائ�شة هلع ًة ثم قالت مذعورة :ما بك ،ملاذا فعلت هكذا؟ 148
منقذ نادر العقاد
متفجر بالغ�ضب قال: وب�صوت ٍ ا�س�أيل نف�سك.ماذا تق�صد؟لقد �سمعت حديثك مع عبري ثم تابع :من �سمح لك �أن تفعلياقرتبت هذا؟ �إنه ظلم . .ظلم ثم راح ي�ضرب الأر�ض بيده وهو يبكي. ْ منه تنوي م�ساعدته على النهو�ض �إلى الكر�سي ف�أبى ونهرها بنربة حادة :هيا ابتعدي عني ثم زحف بوا�سطة يديه �إلى غرفته تارك ًا يف ال�صالون كر�سي ًا فارغ ًا ور�أ�س ًا مليئ ًا باملخاوف. وعندما عادت الأم ،وقفت جامدة يف مكانها ،و�أ�شارت بفزع �إلى الكر�سي الفارغ و�صاحت: �أين �أحمد� ،أين هو يا عائ�شة؟يف غرفته.يف غرفته؟�أجل.كيف والكر�سي هنا؟ ثم �أردفت ب�صوت مرجتف:هل جرى له مكروه؟149
رجل من مدينة اهلل
ال ،ال ق ّدر اهلل..�إذ ًا ما هذا؟ هيا قويل.دنت عائ�شة من �أمها ،و�أخذتها �إلى الأريكة املتو�ضعة ببهو ال�صالة ،ثم حكت لها الق�صة كاملة فوقفت الأم منت�صبة ،واجتهت �إلى غرفة �أحمد. دقت على الباب نقرات عدة فلم يجيبها �أحد ،حاولت فتحه فوجدته مقف ًال من الداخل فراحت تبكي وتتو�سل �إليه �أن يفتح� ،أخري ًا ا�ستبان نور خافت �سقط على �أر�ض املمر املظلم .هرعت الأم �إلى الباب ف�أكملت فتحه ثم دخلت و�أغلقته وراءها .يف تلك احلني ظلت عائ�شة واقفة يف مكانها و�سط ال�صالة متوج�سة هلعة وملَّا عاد مرهف ور�آها هكذا خاف خوف ًا �شديد ًا وب�صوت ال يكاد يظهر قال :عائ�شة هل �أ َّمل ب�أحد مكروه؟ ب�صوت يغرقه �س ُّح الدموع:ال ،مل يقع �شيء من هذا. ف�أجابته ٍ �إذ ًا ماذا جرى؟ ..وقد �سكنت قلي ًال نف�سه ،لكنّ املخاوف ظلتتقفز �إلى �صهوة �صوته ثم تقع عند �أول كلمة. انظر هناك.�أين؟ ثم متتم :الكر�سي� .أوه �أين �أحمد؟يف غرفته.150
منقذ نادر العقاد
كيف هذا؟ راحت حتكي له ما جرى يف حني كانت الأم يف تلكالغرفة حتاول ا�سرت�ضاء �أحمد .قالت له بحنني دافق :يا بني� ،أرجوك كلمني� ..أرجوك ،ثم هوت عليه تبكي .كان مند�س ًا حتت حلافه ومل يحرك �ساكن ًا ومل ي�سمح لأمه �أن ترفع الغطاء عنه .فج�أة ومن تلقاء نف�سه �أخرج ر�أ�سه �شاحب .رفعت الأم ر�أ�سها ،ودنت منه ثم �ضمته �إليها فظهر وج ٌه ٌ وقالت: �أتبكي يا ولدي و�أنت رجل قوي.ال بل �ضعيف� ،ضعيف.كنت حتاكم الأمور هكذا. ني ما َ ال يا ُب َّلقد مللت يا �أمي ،مللت .ثم �أردف� :أ�شعر �أن العامل مليءبالزيف واخلداع. بالآالم والأوجاع� ،أ�شعر بالغربة . .ثم جاءت عائ�شة و�أغرقت �آخر ق�شة كنت �أتعلق بها. عبري؟ال �أق�صدها حتديد ًا.�إذ ًا ماذا؟151
رجل من مدينة اهلل
كنت �أُقنع نف�سي دائم ًا �أنني �أ�ستطيع االعتماد عليها� ،أننيقادر على مدِّ يد العون للآخرين ،ولكم كنت �أ�شعر بالغبطة و�أنا �أ�ساعد املحتاجني واملغمورين .لن ت�ستطيعي ت�صور فرحتي يا �أمي..ثم جاءت عائ�شة فج�أة وهدمت كل �شيء ،وبلمح الب�صر وجدت نف�سي �أمام احلقيقة� :أنا �شخ�ص عاجز ومثار �شفقة ورحمة .كنت �أظن نف�سي �أ�ستطيع م�ساعدة عبري وطفلتها لكنَّ عائ�شة غرزت اخلنجر يف قلبي.. فوجدتني �أرمتي على قاتلي �أحاول منعه ف�سقطت عن الكر�سي ،وما عدت راغب ًا بالعودة �إليه. وعندما خرجت الأم نظرت �إلى عائ�شة وقالت� :ساحمك اهلل ماذا فعلت؟ وقالت:
�أطرقت عائ�شة تنظر يف الأر�ض ثم رفعت ر�أ�سها على ا�ستحياء
ماذا جرى معك؟ال �شيء.كيف هذا؟�س�ألها مرهف� .صمتت قلي ًال ثم قالت:لقد قرر مالزمة الفرا�ش على الدوام.والكر�سي؟ قال مرهف بده�شة.لن ي�ستخدمه �إال لق�ضاء حاجة ملحة.152
منقذ نادر العقاد
فعلت؟ لقد َّ مت �أخي ومل �أنتبه ملا اقرتفه حط ُ يا �إلهي ماذا ُل�ساين ،ثم نظرت �إلى �أمها وقالت: بر�أيك هل هي زوبعة غ�ضب و�ستزول عما قريب؟ال �أظن ذلك .ف�أنتما تعرفانه جيد ًا� ،إنه ال يرتاجع بب�ساطة عن�شيء قاله. حتى ولو كان منفع ًال؟ �س�ألتها عائ�شة.حتى ولو كان منفع ًال ،لأنَّ االنفعال عنده لي�س وليد اللحظة بلنتيجة تراكمات طويلة. راحت عائ�شة تندب حظها .بعدها التفتت ملرهف و�س�ألته: بر�أيك.هل ي�ستطيع حامد �إخراجه من عزلته هذه؟ال.وملاذا؟ تابعت عائ�شة..�صمت مرهف قلي ًال ثم قال :لأنهما على خالف حالي ًا.على خالف! قالت الأم مت�سا ِئل ًة.نعم.153
رجل من مدينة اهلل
ولكنني ر�أيتهما يتحادثان يف الأم�س فمتى تخا�صما؟هما يتحادثان نعم .ولكن ب�شكل ر�سمي� .إذ فج�أة تال�شت كلالروابط بينهما .ومل يبق من املا�ضي �إال عبقه. كيف هذا؟ال �أدري ،ولكنني علمت من عمي م�صطفى �أن الذي ابتد�أباالبتعاد واجلفاء هو �أحمد ولي�س حامد. ماذا يجري لولدي؟اهلل �أعلم ،متتم مرهف .بعدها قامت الأم وعائ�شة �إلى املطبخلتح�ضري الغداء ،يف حني ظ ّل مرهف يف ال�صالون يزرع املكان ب�أقدامه حتى م ّل فخرج �إلى ال�شرفة. م�ضى �أ�سبوع و�أحمد على حاله مل يتغري� .صار مالزم ًا للفرا�ش. على ي�سار �سريره جمموعة من الكتب والروايات ومذيا ٌع �صغري يخفي َط َرف ًا من منبه �أخ�ضر اللون ،ال�ستار منح�سر عن النافذة والنور رغم �أنه رمز البهجة وال�سرور �إال �أنه وب�سبب الغيم الرمادي..يرتك يف النف�س �إح�سا�سا بالك�آبة وامللل .كان هذا �شعور اجلميع �إ َّال �أحمد الذي كان �سعيد ًا و�سعادته تنبع من �أنه مل يكن ملتفت ًا �إلى اجل ِّو وتقلباته بل كان منقطعا عن هذا كله ،خمتلي ًا مع الكتاب ،غارق ًا يف �شخو�ص رواياته ناظر ًا فكري ًا لأفكار و�آراء كتب �أخرى ،ولهذا ما ومفاج�آت �أحداثها ،و ُم ِ عاد يتذكر عجزه و�ضعفه �إال قلي ًال .وكان كلما �شعر برغبة يف �شحذ 154
منقذ نادر العقاد
تي�سر له من نف�سه بقوة روحية جديدة مي�سك القر�آن الكرمي ويتلو ما ّ الآيات بتدبر وتذوق� ،أو يقر�أ يف كتاب حياة ال�صحابة (للكاندهلوي) ل ُي َّل ِقنَ َنف�سه در�س ًا يف ال�صرب والإميان احلقيقي. دخلت عليه �أمه فر�أته يبكي .ف�س�ألته عن ال�سبب. مر ًة ْ نظر �إلى ما وراء النافذة وقال ب�صوت دافئ :تذكرت حممد ًا!...عليه ال�صالة وال�سالم ،متتمت الأم.عليه ال�صالة وال�سالم ( ،قال مثلها ).وهل نحن نن�ساه حتى نتذكره؟حدجها بنظرة حادة وقال م�ؤكد ًا :تذكرته حق ًا ،ثم �أردف: تذكرت يوم وفاة هذا الر�سول العظيم .حق ًا يا �أمي الأمر جلل� .أ�ستطيع الآن �أن �أت�صور الفاجعة التي �أملّت ب�صحابة الر�سول� .إذ اعتادوا ردح ًا من الزمان على تديل ال�سماء..وعلى قربها حتى تكاد تكون معهم يف كل حلظة .تق ّوم �أفعالهم ،وتز ّكي نفو�سهم .متنحهم قوة تخ ُّر �أمامها اجلبال وت�صبح هبا ًء منثور ًا�..صمت قلي ًال ُي�ص ِغ للقطرات الأولى التي بد�أت تهبط على الأوراق ثم تابع :كانوا يدركون متام ًا بقلوبهم الوا�سعة معنى كونه ر�سول اهلل. قاطعته �أمه :وهل نحن ال نعلم �أنه ر�سول اهلل؟ حدجها مرة �أخرى وقال :نحن نكررها يف حياتنا مليون مرة 155
رجل من مدينة اهلل
وال نعيها ولو مر ًة واحدة ،ثم �أردف :عندما �شعر �أنها ت�صغي �إليه :هم وعوها متام ًا .كانوا يرونه ر�سول اهللُ ، اهلل� .إل ُه هذا العامل ال�شا�سع. ولهذا كانوا حينما يرجعون �إليه فهم يلوذون باهلل .وفج�أ ًة ُ�ص ِع ُقوا بنب�أ وفاته .فج�أة وجدوا �أنف�سهم وقد عادوا جم ّدد ًا غرباء على هذه الأر�ض. ارت ّدوا لل�ساحل وراحوا يتل ّم�سون الأثر وي�ست�ضيئون بالكتاب والعقل بعد �أن كانوا يف بحر النور. هنا بد�أت الأم تبكي .تفاعل لبكائها ثم �أنهى حديثه بقوله: فج�أ ًة يا �أمي عادت ال�سماء لل�صمت ينطق عنها كتابها ،و�ستبقىهكذا حتى القيامة الكربى. م�سحت الأم دموعها وا�ستغلت الفر�صة �إذ ر�أتها �سانحة فقالت: عائ�شة على الباب تريد �أن ت�ستميحك عذر ًا.عائ�شة .هزَّت ر�أ�سها وهي تتمتم� ( :إم ) �صمت قلي ًال وهو يرنوبب�صره �إلى ما وراء النافذة ثم قال وب�صره حيث كان:دعيها تدخل. على الفور ارمتت الأم على الباب وفتحته.غابت للحظات ثم عادت بعائ�شة التي دخلت وهي الوية العنق ،متوج�سة من املواجهة .قالت: �أحمد .فنظر �إليها مبت�سم ًا و�أجابها :نعم يا عائ�شة. �ساحمني �أرجوك� .شعر �أنها تكاد جته�ش بالبكاء فلم ي�ش�أ �أنيعذبها �أكرث فقال لها: 156
منقذ نادر العقاد
لقد �ساحمتك ولكن �أرجو �أال تعيديها ثاني ًة .هنا ارمتت عائ�شةعلى �سريره وقد انفجرت بالبكاء وهي تقول� :شكر ًا لك� ،شكر ًا لك. نظرت حولها وت�ساءلت: �أين �أمك ،لتوها كانت هنا؟�شرعت فيها ابت�سم وقال جميب ًا :لقد خرجت منذ اللحظة التي ِ بالكالم. حق ًا!�أجل� .ضحكت قلي ًال .نه�ضت عن الفرا�ش .قالت وهي تتجه�صوب الباب: هل �ستطول �صحبتك لهذا الفرا�ش؟ فابت�سم و�أجابها بطم�أنينة:دعي الأمور ت�أخذ �أجلها .لقد تعلمت �أنه لن ت�سقط ثمر ٌة حتىت�ؤتي �أ�ؤكلها .ولن حتني نهاية حتى تلوح يف الأفق بداية جديدة.
م�ضى �شهر كامل ،وال يزال �أحمد م�صر ًا على عزلته ،ال يربح الفرا�ش ،ال يلتقي ب�أحد ،وقد تفرغ للقراءة والت�أمل� .إلى �أن جاء يوم، كانت وقتها ال�ساعة العا�شرة �صباح ًاُ .ن ِقر الباب ،ف�أجاب �صوت من الداخل :من؟ 157
رجل من مدينة اهلل
�أنا �أمك.ادخلي �إذ ًا.لكن معي �ضيف.�ضيف؟�أجل .غاب �صوته قلي ًال� .أخري ًا قال.:ح�سن ًا �أدخليه .على الفورُف ِتح الباب وظهرت الأم وحدها .كان �أحمد مت�شوق ًا ملعرفة الزائر. جتاوزت عتبة الباب نظرت وهي تبت�سم وقالت: هيا ادخلي يا عبري.عبري! �صرخ منده�ش ًا.�أجل عبري .وما الغرابة؟ �أجابته عبري م�ستنكرة.ال ،ال .ل�ست م�ستغرب ًا ..ولكن ،فقاطعته بحزم:ولكن ماذا؟ابت�سم وقال :ال�شيء ،ال�شيء .ثم �أردف :ه ّال ناولتني الطفلة ف�أنا م�شتاق �إليها. لك هذا .ثم �أقبلت عليه وو�ضعتها يف ح�ضنه .راحت ال�صغريةتعبث مبا حولها وكلما م َّلت ترمتي �إلى ح�ضنه .فكان ي�ضمها بحنان 158
منقذ نادر العقاد
ودفء كما ي�ضم �أب عطوف ابنته الأولى. ماذا ت�شربني؟ �س�ألت الأم.ال �شيء �شكر ًا.ال يجوز ،ال ب ّد من ال�ضيافة.تناولت عبري كر�سي ًا من ركن الغرفة ،ثم و�ضعته بني ال�سرير والنافذة وجل�ست عليه .بعدها نظرت �إلى �أم �أحمد من جديد .ابت�سمت وقالت على ا�ستحياء: ح�سن ًا �أريد كوب ًا من ال�شاي.على الفور نادت الأم على عائ�شة ،وطلبت منها حت�ضري ال�شاي.وبينما كان �أحمد يداعب ال�صغرية ،ان�سل �صوت عبري بهدوء. قالت :هل �ستطول عزلتك؟ ف�أجابها:ل�ست �أدري ،لعلها لن تطول. �سكتت عن الكالم زمن ًا ثم عادت �إليه ف�س�ألته وقد ظهر عليها االرتباك: هل �أ�ستطيع �أن �أودع عندك الطفلة ليوم كامل؟159
رجل من مدينة اهلل
بالت�أكيد ،بالت�أكيد �أجابها �أحمد .وقالت �أمه:ن�ضعها يف عيوننا ..على الرحب وال�سعة..على الرحب وال�سعة.ُ�س ّرت عبري لذلك �سرور ًا كبري ًا .بعدها قالت: ال �شك �أنكم �ستت�ساءلون :ماذا �س�أفعل باليوم الذي �س�أترك فيهالطفلة عندكم؟ لي�س �ضروري ًا �أن تخربينا�،إن كان الأمر حمرج ًا.�أجل�،أجل � . .أكدت �أمه.ال ،ال �أ�شعر باحلرج منكم .ف�أنتم مثل �أهلي.يف تلك اللحظة دخلت عائ�شة وهي حتمل فناجني ال�شاي ،راحت تدير عليهم الك�ؤو�س واحد ًا واحد ًا ،ابتداء من عبري ثم جل�ست بجوار علي �أن �أمها .ارت�شفت عبري قلي ًال من ال�شاي ثم قالت :يف احلقيقة ّ أمر �ضروري� .شعر �أحمد بحرجها فقاطعها: �أ�سافر �إلى العا�صمة ل ٍ لي�س �ضروري ًا �أن تتابعي و�س�أتعهد ال�صغرية بالعناية ريثماتعودين .ا�صطبغ وجهها بحمرة زاهية ومتتمت وهي مطرقة: �أخ�شى �أن تتعبك� ،إنها فتاة م�شاغبة ،كثرية احلركة.ال تخايف� ،س�أ�شغلها بالألعاب.160
منقذ نادر العقاد
و�أنا كذلك �سوف �أ�ساعده�..ص ّرحت عائ�شة.ال �أعرف كيف �أعبرِّ لكم عن �شكري.ابت�سمت الأم وقالت :ا�شكرينا يف وقتها ولي�س الآن. فع َّقبت عائ�شة مازحة :ال يا �أمي ،دعيها ت�شكرنا الآن ويف وقتها. فنحن �سنقوم بخدمة �صعبة. قالت عبري وهي تخرج من الباب� :شكر ًا لكم.ثم التفتت لعائ�شة وهم�ست يف �أذنها� :أو�صلي �شكري لأحمد ،ف�أجابتها عائ�شة بحزم: �سي�صله �شكرك حا ًال .رمقتها عبري بنظرة با�سمةُ ،ث َّم �شرعت تهبط الدرج وقتها كان ي�صعد �أحدهم ،فج�أ ًة تب َّدت مالحمه .كان زوجها ال�سابق� .أم�سك مع�صمها بقوة ومتتم .:ماذا تفعلني هنا يا حمرتمة؟ ح ّررت مع�صمها من قب�ضته ،وه َّمت بالنـزول غري عابئة به ولكنه مل يدعها و�ش�أنها ،فحاول جم ّدد ًا �إعاقتها والتحر�ش بها ،وبينما هما يتجادالن على الدرج م َّر من جوارهما مرهف� ،ألقى ال�سالم على اجلار وهو ينظر �إلى تعابري وجه عبري ثم �أكمل �صعوده .وبعد قليل ُ�س ِم َع ُ�صرا ٌخ وا�ستغاثة امر�أة .هُ ِر َع بع�ض �سكان البناية �إلى م�صدر ال�صوت� .صرخ �أحمد من الداخل� :أمي ..عائ�شة� .أجيبوين. نحن هنا ماذا تريد؟ماذا هنالك� ،إنها عبري ت�صرخ .ف�أجابته الأم مطمئنة :عبريذهبت منذ ن�صف �ساعة فقاطعها مرهف :رمبا هي. 161
رجل من مدينة اهلل
كيف ذلك؟لقد �شاهدتها مع زوجها ال�سابق على الدرج كان يبدو عليهااالرتباك و. . وماذا؟و . .وك�أنها تريد �أن ت�ستغيث ب�أحد.وملاذا مل ت�ساعدها؟ �أنكرت عليه عائ�شة.مل �أ�ستطع �أن �أت َّدخل بينهما ،خ�صو�ص ًا و�أنني ما �سمعت هذامنها بل قر�أته يف وجهها. تناولت الأم معطفها وخرجت فلحقتها عائ�شة ومرهف .دنت الأم من الزوج .وقالت له :ابتعد عنها� ،إنها الآن حرة ال يربطها �شيء معك. ال تتجاوزي حدودك يا �أم �أحمد ،و�إ َّال .وقبل �أن يكمل قاطعه�صوت عبري وهي ت�صرخ بهلع: �أين ال�صغرية؟ ثم راحت تتلفت حولها.معك؟ �س�ألتها �أم �أحمد. �أمل تكن ِنعم كانت ،ولكنه عندما ا�ستوقفني ومنعني من النـزول �أنزلت162
منقذ نادر العقاد
ال�صغرية �إلى الأر�ض قلي ًال..بعدها دخلت معه يف معركة كالمية حتى ارتفع �صوتنا ،وو�صلت ا�ستغاثتي لل�سكان فلم �أعد �أ�شعر مبن حويل. �صاح �أحد اجلريان: لقد ر�أيتها تنـزل الدرج..�أين؟ �صرخت �أمها..ال �أدري ،كانت هناك . .و�أ�شار �إلى �أ�سفل الدرج .لكنَّ �أحداملوجودين نفى ما جاء به الأول.قال :بل ر�أيتها ت�صعد الدرج! يا الهي لقد �ضاعت ابنتي .لقد �ضاعت.هوين عليك� ،أين �ستذهب .ال ب ّد �أنها قريبة من هنا .ثم �أ�شارت�أم �أحمد ملرهف وعائ�شة لل�شروع يف البحث عنها ،وكذا فعل ُك ُّل من كان واقف ًا .يف حني جل�ست عبري على الدرج تتو�سل وتت�ضرع هلل �أن يحمي لها ابنتها و�أن يجدها الباحثون عنها .راحوا يزرعون الأدراج �صعود ًا ونزو ًال..فت�شوا يف الأزقة املجاورة� ..س�ألوا عنها يف الدكاكني املجاورة حتى �أنهم �صعدوا �إلى �سطح البناية ،وحينما مل تفلح م�ساعيهم بد�أ الي�أ�س واخلوف يت�سلل �إلى قلوبهم ،كانت وجوههم ال�صفراء و�شفاههم اجلافة ُتنبئ �أمها مبخاوفهم وف�شلهم من دون �أن ينطقوا بحرف واحد ..راحت �أمها ت�صرخ وتندب حظها .فتجمع ال�سكان حولها. ويبدو �أن �أحمد �سمع �صوتها.فراح ينادي على �أهل البيت فلم يجبه �أحد فاجلميع يف اخلارج .لكنَّ اخلوف والقلق د ّبا يف نف�سه ومت َّكنا من عقله، �شم فما عاد يخطر على ف�ؤاده �إال �صور وم�شاهد تنبئ باخلطر .فج�أ ًة ّ 163
رجل من مدينة اهلل
رائحة حريق .يف البداية مل يعب�أ بها .لكنها ملَّا قويت وت�سللت �إلى غرفته �أدرك امل�أزق الذي وقع فيه ،وراح ي�صرخ فلم يجبه �أحد ،فنـزل من الفرا�ش وزحف على الأر�ض حتى و�صل �إلى كر�سيه القابع يف الزاوية. حاول �صعوده مرار ًا ويف كل مرة كان يف�شل وي�سقط �أر�ض ًا� .أخري ًا.. زحف �صوب الباب ،ارتقى بجذعه حتى ا�ستطاع فتحه ثم خرج �إلى ال�صالون .نظر �إلى باب الدار فوجده مغلق ًا ،ثم اجته بنظره �إلى الغرفة ال�صغرية فر�أى ُ�س ُحب ًا من الدخان الرمادي تخرج من �شقوق بابها .وملَّا هم باالجتاه �صوب الباب اخلارجي ِليف َّر بنف�سه �سمع بكاء �صغرية يف ّ الداخل� .أ�صغى لل�صوت �أكرث ثم �صاح بده�شة: �إنه �صوتها� .إنها ابنة عبري ..ثم �صار يدور يف مكانه .و�أ�صبحوجهه كمنظفي املداخن ..يف حني تهتَّك جزء من بنطاله وهو يزحف على الأر�ض بحث ًا عن م�صدر ال�صوت ..كان كامل�صروع ..كمن م�سته اجلن� ..أخري ًا ارمتى على الأر�ض من الإعياء .كان �أهل البناية يف اخلارج يفت�شون يف ال�شوارع والأحياء املجاورة ومل يخطر ببالهم �شقة �أم �أحمد التي ترك �أوالدها الباب مفتوح ًا .كانت ال�صغرية تبكي و�أحمد مرمي على الأر�ض يف و�سط ال�صالة .وفج�أ ًة اختفى �صوت ال�صغرية، ٌّ ومل يعد ُي�س َمع �إال �سعال متقطع يدلل على و�ضع متدهور .تن َّبه �أحمد �إلى باب الغرفة ال�صغرية ،فزحف �إليه ..ثم ارتقى ملقب�ضه بكل ما �أوتي مغمي عليها بني جمموعة من عيدان من قوة وفتحه و�إذ بال�صغرية ٌّ أطراف الكربيت ونار ت�ضطرم .وهنا ح�صلت املعجزة ،ود ّبت احلياة يف � ٍ ميتة ..اتك�أ بيده على م�سند الكر�سي ثم ا�ستند على ركبتيه .و�ضع قدمه اليمنى على الأر�ض وحاول النهو�ض لكنها يف البداية مل ُت ِع ْنهُ .بعدها 164
منقذ نادر العقاد
و�ضع يديه على امل�سند ونه�ض بقوة خارقة .م�شى الهوينى �إلى حيث ترقد ال�صغرية .حملها على يديه ،وخرج بها �إلى ال�صالون .فج�أ ًة �شعر بدوار يف ر�أ�سه ،فو�ضع الطفلة على الأر�ض وارمتى مغ�ش ّي ًا عليه .عندما �أفاق وجد نف�سه حماط ًا ب�أهله نظر فيمن حوله ف�شاهد حامد ًا ،وعمه م�صطفى ..وعبري ًا� ..أعاد ر�أ�سه للو�سادة وهو يتمتم: �أنقذوا ال�صغرية ..و�ضعت �أمه يدها على جبينه وقالت بثقة:لقد �أنقذناها ..اطم�أن.قال والدموع تت�سلل من �أجفانه املطبقة :هل فعلتم ذلك؟�أجل� ..أجابت عبري ..فابت�سم ابت�سامة را�ضية ومتتم :احلمدهلل ،احلمد هلل ..ثم عاد للنوم جمدد ًا.
165
الف�صل ال�ساد�س
رجل من مدينة اهلل
ها قد تعافى �أحمد من العجز وتخل�ص من كر�سيه املتحرك ومن �إعاقته احلركية ،و�أ�صبح مب�سوط ال�سرائر با�سم الثغر ..على جبينه تقر�أ الت�صميم ويف عينيه يطالعك بريقها بحياة ال تن�ضب وعزمية ال تخور .ذلك هو �أحمد بعد �أن �أكرمه اهلل و�أجزل �إليه العطاء ف�صار العب ُد �شاكر ًا لربه واثق ًا برحمته .و�صارت النف�س متعلقة بتلك الطفلة الربيئة ..والتي �شاءت الأقدار �أن تكون البل�سم وال�شفاء�( .أيا ليت رحمتك يا ربي ت�سع ُك َّل عاجز وم�سكني كما و�سعتني وغمرتني بلطائفها) كان هكذا يت�ضرع �إلى ربه وهو يتدرب على ال�سري من جديد مب�ساعدة الأ�صدقاء واملقربني �إليه حتى �أ�صبح قادر ًا على ال�سريْ .مل تكن �سعادته وهو ي�سري لأول مرة وحده تقل عن �سعادة طفل حدث معه ال�شيء نف�سه. وذات م�ساء زاره عمه م�صطفى فجل�سا على ال�شرفة ،قال له عمه وهو يحت�سي ال�شاي: �أما �آن لك �أن ت�صطلح مع حامد ..ويحك �أن�سيت من هو؟ال يا عماه ما ن�سيت يوم ًا قدره و�صنيعه معي..�إذ ًا؟ال �شيء ،ال �شيء..كيف هذا يا ولدي؟قلت ال �شيء� ..أرجوك.168
منقذ نادر العقاد
و�ضع الك�أ�س ال�شاي وهو يقول: باهلل عليك �أن تقول .ثم �أردف :يا �أحمد ما بك� ..أال ت�شعرمبعاناة �صديقك ..لقد �أ�شعرته �أن به �شيئ ًا قبيح ًا جعلك تنفر منه. ال ،معاذ اهلل.�إذ ًا ماذا؟قلت ال �شيء.بني ..لقد بد�أنا مع ًا م�سرية طيبة يف م�ساعدة الفقراء يا ّوامل�ساكني ويف دعم املبدعني� ،أفما �آن لك وقد عافاك اهلل من �أعظم بلية ابتليت بها �أن ترجع �إلينا ملزاولة عملك معنا جنب ًا �إلى جنب لإكمال الطريق؟ ه ّز �أحمد ر�أ�سه وهو يتمتم� :إن �شاء اهلل. متى؟قريب ًا يا عماه� ،صدقني قريب ًا.وذات �صباح من �صباحات الربيع ،ومع قرع الندى لأجرا�س ال�صباح� .صنع �أحمد قهوة ال�صباح له ولأمه وجل�سا على ال�شرفة يحت�سيان القهوة .نظرت �إليه �أمه وقالت: م�ضى وقت طويل على �آخر مرة جل�سنا فيها هنا.169
رجل من مدينة اهلل
�أجل .ثم راح ينظر يف الأفق .قال هام�س ًا:ما ر�أيك بعبري؟عبري؟َ أيي؟ارتبك بع�ض ال�شيء �أجل� .صمتت ثم قالت :وملاذا تطلب ر�لكنه متالك نف�سه وقال: ب�صراحة ،ر�أيك يهمني ..حدجته �أمه ثم ابت�سمت وقالت:�أتريد �أن ..فقاطعها�أجل .احت�ست باقي الفنجان وقالت:أنت الآن واحلمد هلل ما عاد �شي ٌء يعيقك عن ني � َ ولكن يا ُب ّالزواج من �أي فتاة كانت .فلماذا عبري بالذات؟ قطب جبينه وقال: هل �صار �شفائي حاجز ًا؟ مل تدر �أمه ما جتيبه فظلت �صامته..التفت �أحمد �إلى �شحرور ّ حط على ال�شجرة ثم عاد بنظره �إلى �أمه و�أردف :يا �أمي �أرجوك افهميني ،لقد ع َّلمني عجزي �أال �أن�سى معروف �أحد ..علمني �أنَّ الإن�سان لي�س بق�شوره و�إن كانت جميلة بل بروحه �أي�ض ًا ..و�أنت تعلمني علم اليقني �أن عبري متلك روح ًا رائعة ف�ض ًال عن جمال �صورتها .بقيت �أمه �صامتة فتابع :لقد جعل اهلل على يد ابنتها �شفائي و�أنا �س�أذكر هذا �أبد ًا ،لن �أن�ساه حتى لو ن�سيت نف�سي. 170
منقذ نادر العقاد
وبينما هو كذلك ..جاءه �صوت �أمه مفعم ًا بالب�شرى..قالت: �أحمد..فالتفت �إليها و�أجاب مبت�سم ًا را�ضي ًا:نعم يا �أمي..�أنا موافقة .رجع بر�أ�سه للوراء كمن تلقى �صدمة ..متتم:موافقة .فج�أة ت�شكلت على ثغره ابت�سامة كزورق وجد َّ ال�شط ..وتلألأت يف بلور عينيه َعبرَ اتٌ ك�أنها النجوم الزهر ..ارمتى على �أمه� ،ض ّمها.. قفز عالي ًا ..رجع �إليها وقال: �أتقولني ال�صدق؟فابت�سمت ور َّدت: �أجل� ..أجل .ثم �أردفت� :ألهذا احلد �أفرحتك العرو�س؟ بعدهاتتمتم: �ضحكت وهي ُ لقد ذهب عقل ولدي ..وبينما هي كذلك ..دخلت عليهماعائ�شة وهي ت�س�أل: ماذا هنالك؟ال �شيء� ..أجابتها �أمها..171
رجل من مدينة اهلل
كيف هذا ..وقد �سمعت �أ�صوات ًا و�ضحك ًا و؟�إنه �أحمد..ما به؟ال �شيء ،ر ّد عليها �أحمد ..و�أردف :كل ما يف الأمر �أن �أمكوافقت. وافقت على ماذا؟على زواجه من عبري� ..أكملت �أمه عنه.قالت:
-عبري! �صرخت عائ�شة..ثم نظرت �إليه ورمقته بنظرة حادة..
لك � َ منذ البداية و�أنا �أقول َعجب بها ،فكنت تغ�ضب وتقول: أنك ُم ٌ ال..ال� ..أنت واهمة!.قاطعها :كفاك �شطط ًا. أنت .قالتها ثم غادرته مع �أمها لق�ضاء بع�ض �أنا يا �أحمد� ..أم � َاحلوائج. ذهبت عائ�شة لعبري َّ لتزف لها اخلرب .كان �أحمد ينتظرها على �أح َّر من اجلمر..يف حني �صعدت �أمه �إلى احلاجة �أم علي املري�ضة جد ًا ..وبينما هو يزرع املكان ذهاب ًا و�إياب ًا دخلت عائ�شة ومل تنتظره حتى ي�س�ألها �إذ قالت فور ًا :لقد وافقت .وما كادت تقولها حتى قفز من 172
منقذ نادر العقاد
الفرح ..لكنها �أردفت: انتظر حتى �أنهي كالمي..توقف وقال� :أمل تنته بعد؟ال ،لي�س بعد ..ثم �أردفت ..:وافقت ولكنْ ..ولكن ماذا؟ارمتت على ( الكنبة ) ..رفعت ر�أ�سها �إليه وتابعت:..امل�شكلة يف الطفلة!أنت تعلمني ما تعني يل هذه الطفلة!..ر َّدد منده�ش ًا ثم تابعِ � :الطفلة..فكيف تكون هي امل�شكلة؟ مل تفهم ق�صدي..ماذا تعنني؟�أعني �أنها تق�صد والد الطفلة ..فهي �إذا تزوجت ذهبت ُعهدتُالطفلة �إلى �أبيها..ووالدها حلف �إذا عادت �إليه ابنته �أن يزوجها قبل �أن تبلغ الـ 18من عمرها. وملاذا؟كيد ًا ب�أمها.يا لغبائه ..ما ذنب هذه الطفلة..ثم تابع:173
رجل من مدينة اهلل
وما احلل؟احلل �أال تتزوجا حتى تبلغ الطفلة ال�سن القانوين الذي يتيحلها االختيار. �أمعقول هذا� ..سن�صرب �أحد ع�شر عام ًا حتى نتزوج� .صمتحلظة ثم �أردف: �س�أكون حينها يف الأربعني وهي قد �شارفت على ذلك �أي�ض ًاُّ � .أيحل هذا؟ أنت ُح ٌّر من االرتباط وافقت كان به ،و�إ َّال ف� َ �إنه احلل الوحيد ف�إن َلكَ � : أقول َ بها وبظروفها ،وقد طلبت مني �أن � َ إنك ح ٌّر يف اختيار الأن�سب َ تعذرك. لك ،ولو �أنها ترى �أنّ احلل الثاين هو الأن�سب ول�سوف نه�ض متجه ًا �إلى غرفته وهو يقول :دعيني �أفكر و�س�أخربك بردي الحق ًا .وقبل �أن يدخل باب غرفته �س�أل عائ�شة: هل �ستنام �أمك عند احلاجة �أم علي؟رمبا�..إنها متعبة جد ًا ،ورمبا كانت حتت�ضر.يا �إلهي� ،ألهذا احلد حالتها متدهورة ،وال ي�س�أل عنها �أوالدها؟زيتون: 174
�إنها ّ تتغ�ضب عليهم �صباح م�ساء ثم �أردفت وهي تتناول حبة
منقذ نادر العقاد
من يت�صور �أنَّ نهاية هذه ال�صاحلة تكون هكذا؟�إنّ اهلل �إذا �أحب عبد ًا ابتاله.يف تلك الليلة وحينما �شرع الفجر ي�شقّ �أقني ًة يف الليل احلالك ليف�سح ل�صاحبة اجلاللة (ال�شم�س) طريق ًا ت�سري من خالله ب�ضوئها املعهودُ . .ق ِر َع الباب .يف البداية كان هناك نق ٌر عليه ّثم �أ�صبح اجلر�س يرن .هرع �أحمد وعائ�شة �إلى ال�صالون .نظرا �أحدهما يف الآخر ثم اجته �أحمد والى الباب .نظر فلم ير �أحد ًا ب�سبب الظالم. قال :من الطارق؟ �أنا �أمك ،هيا افتح الباب .كانت �شاحبة الوجه ،يف عينيها حزنعميق .هرعت �إليها عائ�شة ،و�س�ألها �أحمد بخوف :ما اخلطب يا �أمي؟ نظرت �إليه وقالت :لقد ماتت احلاجة �أم علي .ثم راحت تبكي بحرقة. ماتت؟ �صاح �أحمد .وكذلك فعلت عائ�شة.�أجل ماتت ..ماتت .وهي َّتتغ�ضب على �أوالدها الذين ر َّبتهم و�أح�سنت ترتيبهم ..فقاطعوها وتخ ّلوا عنها يف �أ�صعب �أحوالها و�أم ِّر �أوقات حياتها. ه ِّوين عليك يا �أمي ..هكذا �صار جمتمعنا نحن �أ�صحاب القيمواحل�ضارة. 175
رجل من مدينة اهلل
ال �أ�ستطيع� .أنا ال �أبكيها لأنها ماتت فاملوت حق علينا ..ولكنني�أبكيها لأنها ماتت وقلبها يحرتق غيظ ًا وقهر ًا ،وعيناها تت�شهى ر�ؤية ولو طيف �أحد �أبنائها. والآن ما العمل يا �أمي؟ كفكفت الأم دموعها� ،أغلقت البابثم دخلت �إلى ال�صالة ،دنا �أحمد من الهاتف وقال :هل �أت�صل ب�أحد �أبنائها؟ ال ،لقد �أو�صتني قبل وفاتها �أال �أُخرب �أحد ًا منهم ،و�أال يخرج�أحد منهم يف جنازتها. �إذ ًا ما العمل؟ ات�صل بعمك م�صطفى ..و�أطلب منه �أخذ �إجازة مل�ساعدتنا يف�ش�ؤون اجلنازة والدفن. فكر ٌة معقولة� ..أجابها وهو ِيه ُّم باخلروج .يف حني ظلت عائ�شة�إلى جوارها ريثما ينبلج ال�صباح. م�ضى على وفاة احلاجة �أم علي ما يقارب ال�شهر .وبينما كان �أفراد العائلة يحت�سون القهوة على ال�شرفة قرع العم م�صطفى الباب جت عليكم قبل �أن �أذهب للجريدة لأ�شرب من يد ودخل ّثم قال :ع َّر ُ عائ�شة فنجان ًا من القهوة .ابت�سمت الأخرية وقالت: �سيكون عندك خالل دقائق ثم �أ�سرعت لتح�ضريه .خالل ذلك176
منقذ نادر العقاد
نظر العم م�صطفى �إلى �أحمد وقال :جئت خ�صي�ص ًا من �أجلك. من �أجلي �أنا؟ ت�ساءل �أحمد م�ستغرب ًا.�أجل .ثم �أردف معاتب ًا� :أما �آن لك �أن ت�صطلح مع حامد .يا بن�أخي ت�صرفك هذا خمالف ملا هو معروف عنك من �أخالق وذكاء ،ف�أين كل ذلك من فعلتك هذه؟ ني .لقد �آن لك �أن ت�صاحله ،فهذا ال يجوزّ .ثم تابعت: فع ًال يا ُب َّال يجوز للم�ؤمن �أن يهجر امل�ؤمن فوق ثالث. �أنا مل �أهجره يا �أمي ،فنحن نتحادث ولكننا مل نعد كما كنا�سابق ًا. و�إلى متى هذا يا بن �أخي؟نظر �أحمد �إلى عائ�شة التي عادت بفنجان القهوة وبينما كان العم يتناول الفنجان ويه ُّم بارت�شاف الر�شفة الأولى خاطبه �أحمد: ح�سن ًا يا عمي� .أخرب حامد �أن يزورين يف الغد متى �شاء.ويف م�ساء اليوم التايل ّ مت�شى حامد برفقة �أحمد على طريق (الربناوي).. وهناك انتقيا �شجرة ُمع َّمرة فجل�سا حتتها وهما ي�شرفان على مدينة حماة يف �أجواء �ساحرة� .سيطر ال�صمت يف البداية ..ثم التفت 177
رجل من مدينة اهلل
حامد �إليه وقال: والآن ،نحن وحدنا ف�أخربين �سبب مقاطعتك املفاج�أة يل.ال �أدري ما �أقول لك� .أو ًال �أريد �أن تعلم �أن ما �أبعدين عنك لي�س�سوء ًا بدر منك ف�أنت ال تزال يف نظري كما �أنت. تناول حامد عود ًا ياب�س ًا وراح ينب�ش الرتاب وهو يقول: �إن كان الأمر كذلك فما الذي فعلته ومل تر�ضه مني حتىجافيتني هكذا؟ اتك�أ �أحمد �إلى جذع �شجرة و قال: يف احلقيقة هناك ثالثة �أ�سباب لهذه املقاطعة ،ال�سبب الأولمنها هو ت�سرعك يف القرارات وخلطك بني العاطفة والعقل.. وكيف هذا؟�أتذ ُكر يوم جئتنا بر�سالة من �إحدى الفتيات وقد غ َّرر بها�أحدهم و. . قاطعه� :أذكر�..أذكر� .إنها �سماح خطيبتي!خطيبتك؟�أترى كم �أنت مت�سرع يا حامد؟178
منقذ نادر العقاد
ملاذا؟ لأنني مددت يد العون لفتاة ت�ستغيث ،فرميت لها حبلالإنقاذ و�أخرجتها من �إع�صار كاد يفتك بها؟ ولكنك ال تعرفها ..رمبا كانت كاذبة� ،أو رمبا عادت للخطيئةجمدد ًا �أو . .قاطعه حامد: يكفي .هذه حجج واهية...ف�أنا قد التقيت بها و�أدركت �صدقها،حتى انتهى بي املطاف خلطبتها ،ولكم كانت فرحتها عظيمة حينما �أعلنت لها ذلك� .صدقني كانت �أ�سعد من رجل ُل َّف حول عنقه حبل امل�شنقة ويف اللحظة التي �س ُين َّفذ فيها احلكم جاءه العفو� .إنها اليوم فتاة طاهرة ووقورة..بل ولقد ذهبت �أكرث من ذلك� .أتعلم ماذا قررت؟ قررت االن�ضمام �إلينا ،وم�ساعدتنا يف ن�شل من وقعن مثلها يف الربكة ذاتها ..فالبع�ض منهن �ضحايا ،وما �أكرثهنّ يف هذا العامل. �صمت �أحمد لبع�ض الوقت ثم قال :ح�سن ًا يف هذه غلبتني ،ثم تابع :و�أما ال�سبب الثاين فعدم احرتامك لروح �صباح� .صباح التي �أخل�صت لك �أميا �إخال�ص ،و�أحبتك �أميا حب �أفهكذا جزاء الإح�سان يا �أخي؟ �أن ت�ستبدل بها واحدة �أخرى ومل مي�ض على موتها �إال القليل؟ مال وجه حامد للحزن العميق �أم�سك بعود خ�شب ياب�س من طرفيه ثم ك�سره وقال� :إنها هنا وقد �أ�شار لقلبه و�أردف :ما احلب �إال للحبيب تحرك القلب يف حبه َك َم ِثل �صغري احليوان ف�أول خملوق ُم ٍ الأولَ .م َث ُل ِ تراه عيناه هو �أمه وكذا حال القلب.. نظر حامد قلي ًال �إلى م�شهد تداخل ال�ضوء مع قبة الفراغ املهيمن 179
رجل من مدينة اهلل
على �أجواء املدينة ،وقال� :س�أبوح اليوم َ لك ب�سرُ :قبيل وفاة املرحومة، رفعت ر�أ�سها �إلى �صدري فنظرت �إيل والدموع وبينما هي حتت�ضر ُ تنهمر من عينيها وقالت: ابتلعت ريقها ثم تابعت: �أرجوك افعل ما �س�أو�صيك به الآن.ْ تزوج يا حامد .تزوج من �أول فتاة تعجبك خ�صالها ولو لقيت مثل هذه الفتاة يف الغد .ثم ابت�سمت والدموع تلثم �شفاهها ومتتمت :احلمد هلل. لقد �شاء ربي �أ َّال �أكون يف غدكم ذاك ،بعدها �أ�سلمت روحها والب�سمة ما برحت ثغرها .راح �أحمد يبكي بحرقة لدرجة غادر معها �صديقه َ بع�ض الوقت ثم عاد �إليه وقد جفت دموعه ،ومن دون �أن يعود لذكر �أخته جمدد ًا ..تابع :و�أما ال�سبب الثالث فهو الأهم واملنطقي من بني تلك الأ�سباب .ا�ضطجع حامد على جنبه الأمين و�أ�سند ر�أ�سه على باطن كفه الأمين ثم قال: ح�سن ًاُ .ك َّلي �آذا ٌن �صاغية ..اتك�أ �أحمد جم ّدد ًا �إلى جذع ال�شجرةقال وهو يرنو بب�صره �إلى الأفق� :س�أطرح عليك الآتي. تف�ضل.�أت�ؤمن بالكذب؟ال..وبجدال الأحمق واجلاهل؟180
منقذ نادر العقاد
بالت�أكيد ال..ح�سن ًا� .أت�ؤمن بالرثثرة؟�إنني �أمقتها جد ًا..�سم ما �أجبتني عليه �سابق ًا �أنه قناعاتٌ �شخ�صية ح�سن ًا ..دعنا ُن ِّومبادئ اتخذتها ُم ُث ًال. ليكن هذا .ما اخلطب يف ذلك؟كذبت مث ًال �أو جادلت �أحمق ًا �س�آتيك بالكالم .الآن ت�صور �أنك ََ موقفك من نف�سك؟ �أو �صرت ثرثار ًا ولو �ساع ًة ..فما �إن حدث ما تقول ف�إنني لن �أ�ساحمها �أبد ًا ..بل رمبا �س�أقرفمنها و�أكره اليوم الذي ولدت فيه. جيد .هذا ما �أريده ..هنا قام حامد� ،ص ّلح جل�سته ونظر �إلى�أحمد وقال باهتمام �شديدّ : و�ضح يل ب�سرعة �أرجوك .ولأول مرة منذ عاد ابت�سم �أحمد ثم قال :يا �صديقي لقد جتاوزنا يف �صداقتنا الكثري من احلواجز التي تف�صل بني �شخ�ص و�آخر حتى �صارت َن ْف ُ�س َك جارة نف�سي ،ف�صرتُ �أراين من خاللك ..وغدوتُ �أراق ُب َك يف كل حركاتك و�سكناتك..ف�إن ارتكبت نف�سنا ما ال نر�ضاه مقتناها ونفرنا منها..وهذا ما حدث يل متام ًا ،لقد رحت �أراقبك وا�ستنكر بع�ض ال�صغائر التي ال �أ�سامح نف�سي عليها فرتاكمت حتى �صارت جب ًال جاثم ًا على �صدري 181
رجل من مدينة اهلل
فتعبت من حمله وقررت االبتعاد عنك كي �أر ّد نف�سي �إلى مر�آة ذاتها، ُ فكان تهورك �آنئذ �أو قل كما ر�أيته �أنا هو اليد التي و َّقعت على ذلك القرار .ثم تابع فقال: �إنّ �شدة القرب و�شدة البعد �س ّيان ..وهما ي�ؤديان �إلى االفرتاق،هذا من ا�ستحالة التفاهم واالن�سجام وذاك من �شدة التفاهم والت�آلف حتى درجة التماهي.. ابت�سم حامد يف وجه �صديقه �أحمد وقد اتفقا على موا�صلة �صداقتهما و�شراكتهما يف الأعمال االجتماعية اخلريية.
182
الف�صل ال�سابع
رجل من مدينة اهلل
قفزت اجلمعية قفزات وا�سعة و�صار لها ا�سمها وم�ؤيدوها .لقد ا�ستطاعت حتى الآن م�ساعدة الكثري من الأ�سر الفقرية ..كما متكنت من ت�سليط ال�ضوء على بع�ض املغمورين املبدعني ال�ساقطني يف �شباك الإحباط والي�أ�س .بيد �أنها مل تتوقف عند هذا احل ّد بل جتاوزته �إلى تنفيذ فكرة جديدة ملعت يف ذهن �أحمد وا�ستوحاها من الع�صور يخت�ص الذهبية للأمة..تلك الفكرة تتمثل يف �إن�شاء فرع من اجلمعية ّ مب�ساعدة ال�شبان املقدمني على الزواج ..لكنهم وب�سبب �إقبال الكثريين على طلب العون و�ضعت اجلمعية �شروط ًا ملن ي�ستحق احل�صول على تلك امل�ساعدة املالية حتى ال يت�سلل بع�ض الطامعني في�سلب احلق من املحتاجني .وبينما هم يكتبون قوائم ب�أ�سماء املر�شحني من ال�شبان �إذا ب�شاب طويل القامةّ ، رث الثياب يدخل عليهم� ..ألقى ال�سالم ثم �أخذ يخربهم عن عجزه عن العفة ،قائ ًال� :إنني �أنفق �أجرتي اليومية على اخلمر والزنى .قاطعه العم م�صطفى وقد نه�ض من مكانه م�ستنكر ًا: وملاذا تطلب م�ساعدتنا ما دمت تتلذذ باحلرام ك ّل ليلة؟ هيا اذهب من هم ال�شاب بالنهو�ض لكنّ حامد �أ�شار �إليه �أن ال يتحرك من حيث �أتيتّ . مكانه ثم التفت للعم م�صطفى وقال� :إن ال�شاب ي�صارحنا ب�أ�شياء تدل على �صدقه مع نف�سه ومع الآخرين؟ �أت�سمي هذا �صدق ًا مع النف�س؟ هنا تدخل �أحمد وقال:دعنا ن�سمعه للنهاية يا عماه ثم بعدها نتباحث يف الأمر .ثم�أوم�أ لل�شاب باملتابعة فقال :ال �أخفيكم �شهوتي للن�ساء وتعلقي باخلمرة على الرغم من �أنني �أ�ؤمن باهلل و�أعلم �أنّ الزنى فاح�شة و�أعي �أن اخلمرة �ضارة ..ولكنني. 184
منقذ نادر العقاد
-لكنك ماذا �س�أله حامد؟ -لكنني قرفت من معا�شرة ن�ساء تعا�شر غريي ،لقد مللت ك ّل هذا وعندما �سمعت بجمعيتكم هرعت �إليكم لأطلب يد امل�ساعدة.. _ نظر الثالثة بع�ضهم يف بع�ض .ثم قال �أحدهم: ح�سن ًا �أيها ال�شاب� ،سن�ساعدك قدر الإمكان ولن ندع �شاب ًامثلك يريد التوبة مما تلطخت به روحه �أن يغرق يف الوحل من جديد. نه�ض ال�شاب مبت�سم ًا ،وقد بدت عليه عالمات الغبطة وال�سرور.
و�ضعت عائ�شة القهوة على الطاولة ثم جل�ست وهي ت�شري بيدها �إلى الفناجني وتقول :احت�سوها قبل �أن تربد وبد�أت بنف�سها فتناولت فنجانها .تناول حامد فنجانه .نظر يف عائ�شة وقال: �سمعنا �أنك �ستعودين لزوجك؟ ابت�سمت و�أجابت على ا�ستحياء:�أجل� .أجل..و�أخري ًا قرر ح�ضرته ا�سرتجاعك؟لقد �أدرك خط�أه واعرتف �أنني على �صواب.هنا قال �أحمد لها� :سنفتقدك كثري ًا ..فاغرورقت عيون الأم 185
رجل من مدينة اهلل
بالدموع ومتتمت: �أجل..بعدها التفت �أحمد لأمه وقال: تذكرين ق�صة هرب مي�سون مع �أحد زمالئها يف املعهد؟هزت �أمه ر�أ�سها ومتتمت� :أجل �أذكر .فتابع :وكيف �أن �أهلها باتوا منك�سرين ،مهطعي ر�ؤو�سهم ،فقاطعته �أمه: نعم� ،ساعدهم اهلل .حتى �إن �أ ّم الفتاة �أ�صيبت مبر�ض نف�سيوهي حتى ال�ساعة ال ت�صدق �أن ابنتها فعلت ذلك. قلبت عائ�شة فنجانها ثم رفعته و�أخذت تت�أمله وهي تقول: من كان ي�صدق يوم ًا �أن مي�سون تلك الفتاة اخلجولة ،املحافظة تفعل ذلك؟ تابع �أحمد حديثه قائ ًال :اليوم التقيت بخطيب و�إمام م�سجدنا و�سردت له ق�صة تلك الفتاة دون ذكر �أ�سمها ف�أخذ يت�أ�سف وهو يتمتم: �أر�أيت �إلى الن�ساء ال يجلنب �إال البالء. فقلت له :رويدك يا �شيخنا .ملاذا ُنح ّمل الن�ساء دوم ًا امل�س�ؤولية دون الرجال؟ 186
منقذ نادر العقاد
فحدجني وقال :ومن بر�أيك امل�س�ؤول؟ كلنا �شركاء يف امل�س�ؤولية.ماذا تق�صد؟�أق�صد �أننا ُنح ّمل يف حالتنا هذه مث ًال الفتاة كل امل�س�ؤولية ونتنا�سى م�س�ؤولية ال�شاب الذي حر�ضها �أي�ض ًا .وكذلك نتنا�سى دور الأ�سرة اجلاهلة التي �أ�سدلت اخلمار على عقل الفتاة ،قبل �أن ت�سدله على وجهها. كيف هذا؟ �س�ألني بح ّدة؟ف�أجبته� :إن فتياتنا كالدمى يفعلن ما ي�ؤمرن من دون �أن يحطن علم ًا بالأ�سباب واحلكمة ،ولهذا ي�أتي �إميانهنّ ناق�ص ًا..مبتور ًا. فنه�ض و�صاح يف وجهي :ويحك ثم �أ�شار ب�إ�صبعه املرجتفة وقال: �أنت و�أمثالك �سبب تخلفنا؟بل واهلل �أنتم يا �أن�صاف املتعلمني .قاطعه حامد مت�سائ ًال:�أهكذا قلت له؟ �أجل..وماذا �أجابك؟ �س�ألته عائ�شة.187
رجل من مدينة اهلل
ظل �صامت ًا فتابعت قائ ًال� :إنكم تقلدون الكبار �إلى درجة تثري الغثيان ،فقاطعني :لقد جتاوزت حدودك ..مل �أعب�أ بتهديده وتابعت: �أل�ستم كذلك؟ �ألي�ست عقولكم بيوت ًا مهجورة بدل �أن تكونحجرات م�ضيئة؟ قاطعه حامد قائ ًال: لقد ق�سوت على الرجل فلي�س الأمر �إلى هذا احلد.بل هو كذلك ..فال تدافع عنهم .ثم تابع:يا رجل يتهمون غريهم �أنهم عقبة يف طريق التقدم وهم املتخلفون حق ًا ولكنهم ال ي�شعرون. �ألهذا احلدِّ �أنت م�ستاء منهم؟بل و�أكرث من ذلك� ..صمت حلظة ثم �أردف� :أنا �أعجب ممنيق�صي ك�أ�س ًا عن املاء وال�صابون ،ممن مينع وجه ًا من االغت�سال ثم ي�أتي ويقول لك: انظر �إلى هذا الك�أ�س ما �أو�سخه �إنه بيت الداء ،وت�أمل ذلكالوجه كم هو خامل وباعث للتكا�سل .فرك حامد جبينه قائ ًال: ماذا تق�صد بال�ضبط؟188
منقذ نادر العقاد
�أق�صد �أننا ن�شري �إلى املر�أة ب�أ�صابع االتهام ونتهمها بالتخريبونحن �أول من خ ّربها. �أو�ضح �أكرث.بيد املر�أة �صالح املجتمع �أو ف�ساده .لأنها الأم ،والأم هي الأ�صلو�إن ف�سد الأ�صل ف�سدت الفروع .لذا علينا �أو ًال �إ�صالح املر�أة قبل �إ�صالح الرجل .لأن الرجل �أي ًا كان يخرج من مدر�ستها .وهذا ما ال نراه يف جمتمعنا. �صدقت� ..صدقت! .هنا دخلت عائ�شة عليهما وقالت:هل تريدان �شيئ ًا قبل �أن �أذهب �إلى النوم؟ف�أجاباها بالنفي و�شكراها ل�س�ؤالها ،ثم ا�ست�أذن حامد ينوي االن�صراف ،ف�أو�صله �أحمد �إلى منت�صف الطريق..وخالل �سريهما ع َّقب حامد: عليك �أن تعلم �أن خطباءنا لي�سوا كلهم كذلك.�أعلم ذلك ،فها هو اخلطيب اجلديد مث ًال � ..إنه رجل مثقفوع�صري يف تفكريه وحياته دون �أن ُيخ َّل بتعاليم الدين ومبادئه.. قاطعه حامد قائ ًال: نعود ملو�ضوعنا الرئي�سي ..كيف بر�أيك نحن نف�سد املر�أة؟ 189
رجل من مدينة اهلل
نف�سدها حينما نق�صيها عن �أماكن الطهارة �إلى الربك املوحلة.كيف هذا؟بر�أيي لقد �آن للمر�أة �أن ت�صطلح مع امل�سجد� ،آن لها �أن حت�ضرخطبة اجلمعة وتعلم �شيئ ًا عن دينها ..يف املا�ضي �أ�صاب بع�ض الفقهاء حينما قالوا مبنع ذهاب املر�أة �إلى امل�سجد ب�سبب ما كان يحدث يف زمانهم من فنت وحماقات� ،أما اليوم وبو�ساطة تقنيات الع�صر �صار مبقدورنا �أن نتالفى الكثري مما كان يقع يف زمانهم. وجهة نظر معقولة� ..أجابه حامد ..ثم توقفا عند مدخل بابالنهر وافرتقا هناك.
190
منقذ نادر العقاد
الف�صل الثامن
191
رجل من مدينة اهلل
هاهي عدة �أعوام مت ُّر على اجلمعية ،وهم يعملون ليل نهار ..ويف كل يوم كانوا يزيحون فيه �ستار ًا من �ستائر الواقع كانت ت�ضاف حجر ٌة من �أحجار احلزن �إلى قلب �أحمد .التفت حامد لأحمد وهما يف طريق العودة من اجلمعية وقال له: منذ مدة و�أنا �أالحظ �أنك ل�ست على ما يرام..علي �شيء ما؟ فابت�سم حامد و�أجابه: هل يبدو ّلي�س من ال�ضروري �أن يبدو عليك �شيء من هذا القبيل ف�أنا�أ�شعر بك و�إن مل ي�صرح �شيء منك بذلك؟ ابت�سم �أحمد وظل �صامت ًا مطرق ًا بب�صره يف الأر�ض..يبدو عليه هم بذلك �أحجم يف اللحظة �أنه يريد قول �شيء ما ل�صاحبه وكلما ّ الأخرية� .إال �أنه يف اخلتام ا�ستجمع قواه ،وقال ل�صاحبه حامد: لقد قررت �أمر ًا مهم ًا.وما هو؟نظر �إليه ملي ًا بينما كانت ال�سيارات مت ّر بجوارهماتباع ًا حتى �إذا ما خلى الطريق منها� ،أطرق جمدد ًا ثم �س�أل حامد :هل مزرعتك جمهزة لل�سكن .ح ّدق فيه و�أجابه :نعم جمهزة ولكن :ملاذا؟ �إنني �أحتاجها؟حتتاجها؟192
منقذ نادر العقاد
�أجل ،لبع�ض الوقت ..فهل متانع يف ذلك؟بالت�أكيد ال �أمانع ،ولكن �أريد �أن �أعرف ال�سبب؟ ..قطعا ال�شارع �إلى الر�صيف املقابل ..بعدها كرر حامد ت�سا�ؤله: �ألن تخربين ال�سبب؟ ح�سن ًا �س�أخربك�..أريدها كي �أخلو مع نف�سي فرتة من الزمن؟وملاذا؟لأنني بحاجة خللوة مع نف�سي ..بحاجة العتزال النا�س وت�أملالأمور من بعيد ..بعيد جد ًا� ..أثناء ذلك كانا قد و�صال �إلى البيت، فاختارا ال�شرفة لكن حرارة اجلو �أرغمتهما على دخول ال�صالة .. جلبت لهما عائ�شة القهوة وان�صرفت ..تابعها حامد بب�صره حتى �إذا ما خرجت التفت �إلى �أخيها و�س�أله م�ستغرب ًا: �ألي�س من املفرو�ض �أن تكون عائ�شة يف بيت زوجها؟الآن.
-لقد �سافر �إلى الإمارات فرتكها عندنا ..ولن يعود قبل عام من
احت�سى حامد قلي ًال من القهوة ..ثم �أخرج مندي ًال وجفف به عرقه ،بعدها حدق يف �صاحبه وقال� ..:إنَّ لهجتك �أ�شبه ما تكون بلهجة حكيم يائ�س ويف قلبه �صورة املدينة الفا�ضلة وقد اعرتاها الذبول واالنح�سار. 193
رجل من مدينة اهلل
نظر �أحمد �إلى ما وراء النافذة ..كان يبدو عليه الإعياء والي�أ�س.. َف َ�ش ْع ُر ُه كموج بحر متك�سر وقد جت ّمد يف مكانه ويف عينيه قط ٌع �شاردة من الليل البهيم .ظل ينظر �إلى ما وراء النافذة ثم ابت�سم فج�أة وقال: كفاين ما ر�أيته من النا�س ..يقولون �شيئ ًا ويفعلون �شيئ ًا �آخر يخالفه. لي�س كلهم هكذا.�أجل .ولكنّ غالبيتهم كذلك.وما �ش�أنك بهم؟�أنت تقول هذا؟�أجل �أنا وما الغرابة يف هذا؟�أعاد �أحمد ظهره للوراء ثم قال� :أنت �أول من حت ّم�س لفكرة �إن�شاء جمعية خريية و�أنت املمول الأ�سا�سي لها وتقول هذا ،تقول �إنه ال �ش�أن لنا باملجتمع! انحنى حامد قلي ًال للأمام واتك�أ ب�ساعديه على فخذيه ثم قال: �أريد �أن �أ�ساعدك ولكنك ترف�ض امل�ساعدة ،فلو �أنك ت�ستطيع �أن تتجاوز عرثات املجتمع لتمكنت من العي�ش فيه ولكنك ترف�ض مثل هذه احللول وتختار دوم ًا ما يدعم �أفكارك. تب�سم وقال م�ستنكر ًا: انحنى �أحمد مثله ثم ّ 194
منقذ نادر العقاد
يا �صاحبي ما تريدين �أن �أجتاوزه لي�س عرثات بقدر ما هيوحل �أخطاء فادحة ..فجدار الكالم (املُز َّوق) والذي يخفي وراءه برك ٍ قذرة هي جرمية ب�شعة� ،أخذ �شيء من الإ�سالم وترك �شيء �آخر مهزلة كربى. ارت�شف ما تبقى من قهوته ثم �أردف :لقد �أفادتني اجلمعية وعملي يف م�صنع الأحذية �أن ع َّرفاين على �أ�صناف من النا�س ما كنت �أتوقعها �أبد ًا. قاطعه حامد: لكنك لو ا�ستمعت لر�أي ال�سائحني لوجدتهم يعرتفون بنا ك�أمةح�ضارية �إال �أنها م�شلولة الأطراف. هم يرون ما ي�شاهدونه عندنا مقارنة مبا عندهم ح�ضارةقائمة ونحن نراه بقايا ح�ضارية من تاريخ �أمة عريقة. هنا دخلت �أمه فلحقتها عائ�شة وبعدها جاء العم م�صطفى. حاول اجلميع تغيري قراره ولكنهم رفعوا الراية البي�ضاء �أمام ت�صميمه وعناده ..ج ّرب معه عمه فقال� :أنا �أ�سمي هذا هروب ًا من حتمل امل�س�ؤولية وحماولة الإ�صالح. �أتريدين �أن �أجنّ �أم �أن �أ�شتمهم وي�شتمونني؟ال هذا وال ذاك.195
رجل من مدينة اهلل
�إذا دعني و�ش�أين يا عماه ..فقد �ضقت ذرع ًا ب�أمة �ضائعة..ثم ا�ستطرد :يا عماه نحن �أمة مغ�ضوب عليها ..لأن اهلل اخت�صنا من بني جميع �أمم الأر�ض بالر�سالة فال نحن متثلناها يف �سلوكنا وال نحن نقلناها كما هي �إلى �شعوب العامل. ح�سن ًا .ح�سن ًا ال تغ�ضب وافعل ما تراه منا�سب ًا .ثم نظر لأمهالتي ظلت �صامتة ،مطرقة بنظرها �إلى الأر�ض وقد ظهر عليها االكتئاب واال�ست�سالم .كانت بني الفينة والأخرى ت�سرق من �ألبوم الزمن �صورة لولدها الواقف �أمامها وتخفيها يف تالفيف الذاكرة .نظرت �إليه وقالت ب�صوت عاله �صد�أ احلزن: هل عزمت على اعتزالنا؟�أجل يا �أمي� ،أريد �أن �أراجع نف�سي مب�سائل كثرية ..و�أن �أ�سرت ّدال�صفاء امل�سروق مني. ومن �سرقه منك؟�س�ألته عائ�شة.�أنتم واملجتمع وك ّل من يبيعنا الكالم� ..أيا ليتنا نخلع عن �أنف�سناثوب التدين الكاذب ونبدو على حقيقتنا فراغا يحتويه فراغ. يف تلك الأثناء عاد مرهف �إلى البيت ..وما �إن دخل وجل�س حتى تف َّر�س ب�أحمد و�س�أله: يبدو �أنك يف م�أزق يا �أخي.196
منقذ نادر العقاد
�أنا ..وملاذا؟لقد ا ّدعى خطيب امل�سجد ال�سابق �أنك م�شو�ش الفكر والدين،و�أنك من املخدوعني بظلم املجتمع للمر�أة. وهل يخدع املرء باحلقيقة؟ هذه لعمري طامة جديدة.وماذا �أجبته؟ �س�أله حامد وقد تناول ك�أ�س ال�شاي من عائ�شةالتي عادت قبل حلظات. قلت له �إن �أحمد مل يق�صد ذلك ..ووعدته �أن �أجيء بك �إليه يف�أقرب فر�صة لتعتذر منه. �أنا� ..صاح �أحمد؟ومل ال؟ فقد �أخط�أت وعليك االعتذار .هنا ت ّدخل عمهم وقال:ال تفتحوا لنا باب النقا�ش بينكما من جديد ..فالتفت �إليه �أحمد وقال: لدي. فقط دعني �أقول ما ّ لي�س الآن ..لي�س الآن ..ر ّدد عمه ..لكنه �أ�ص ّر على موقفه ثمالتفت ملرهف وقال: علي �أنني خمطئ �سلف ًا و�أنت بعد مل ت�سمع وجهة كيف حتكم َّنظري؟ �إنك موهوب يف احلوار كما قال عنك خطيب امل�سجد ،ولكنك197
رجل من مدينة اهلل
تهمل املنقول من الأثر على ح�ساب املعقول من املقا�صد. ولكنه املنقول من اجتهادات الفقهاء والعلماء ولي�س املنقولمن الكالم املُنزّل؟ �أترمي بعر�ض احلائط اجتهادات الأئمة؟هنا نه�ض �أحمد فنه�ضت �أمه ..وقال بانفعال: تب ًا لك ولهم� ..إلى متى �س�أحتمل جهلكم وق�صر نظركم؟�أحمد ..مرهف اجل�سا و�إال غ�ضبت عليكما� ..صاحت �أمهمابهما� ،أم�سك �أحمد ك�أ�س ال�شاي بيده ثم قال: حامد� ..أعطني مفتاح املزرعة لو �سمحت..ولكن ..قاطعه:�أال تريد م�ساعدتي؟بلى ..بلى..�إذ ًا �أعطني �إياه..يا عماه ال حترج �صديقك .فالتفت �إليه وقال:�أنا �أ�س�أله با�سم الأخوة وهو ح ٌّر يف النهاية.198
منقذ نادر العقاد
�أخرج حامد املفتاح من جيبه ثم و�ضعه على الطاولة ..فتناوله �أحمد وراح يت�أمله بغبطة ثم متتم :هذا مفتاح املدينة الفا�ضلة ،هذا مفتاح املدينة الفا�ضلة. ** * ومع تبا�شري ال�صباح جل�س �أحمد مع �أفراد عائلته يتناق�شون فيما عزم عليه ..حاولت �أمه جاهدة �إقناعه لكنها عبث ًا حاولت� ..أخري ًا نه�ض مرهف وقال لهم: دعوه و�ش�أنه فلن يفعل �إال ما يفكر به.تهم بالذهاب �إلى املطبخ رنّ جر�س خالل ذلك وبينما كانت الأم ّ الهاتف رفعت عائ�شة ال�سماعة فجاءها منها �صوت يرق�ص طرب ًا وحيوية ..يف البداية مل تتعرف على �صاحبة ال�صوت ،لكنها تداركت املوقف وقالت بارتياب� :أل�ست عبري؟ بلى� ،أما عرفتني؟لقد اعرتاين ال�شك ..اعذريني ثم �أردفت :ففي العادة يعلو�صوتك م�سحة حزن واليوم �أراه موار ًا بالفرح. �ضحكت عبري للحظات ثم قالت :معك حق..فقد كنت يوم ًا ما هكذا ،على كل حال� ..إنها �أيام وم�ضت. �أيام م�ضت ..قالت عائ�شة بذهول..والتفتت لأمها التي �أ�شارت199
رجل من مدينة اهلل
�إليها م�ستف�سرة .فرفعت عائ�شة ال�سماعة عن �أذنها وغطت طرفها بيدها ثم قالت لأمها� :إنها عبري .بعدها �أعادتها لأذنها فوجدت عبري تقول لها: وملاذا ت�ستغربني؟ فقد مات زوجي ال�سابق.من؟
مات! �صرخت عائ�شة..فهرع اجلميع �إليها و�صاحوا بتوج�س:التفتت �إليهم عائ�شة وابت�سمت قائل ًة :ما بكم؟ من الذي مات؟ �س�ألتها �أمها.�إنه زوج عبري ال�سابق.�-أمات حق ًا؟ متتم �أحمد بني م�صدق وغري م�صدق.
�أجل مات� .أجابت عائ�شة ..ثم عادت لعبري وقالت لها :ح�سن ًالن ينفع احلديث على الهاتف ،دعينا نراك اليوم ثم �أنهت املكاملة. بعدها �شرعوا بتناول الطعام ب�شكل عادي ..كانوا متفائلني بعدول �أحمد عن قراره بعد الذي جرى قبل قليل ..لكن �آمالهم ذهبت مع الريح �إذ اقتلعها �أحمد من قلوبهم دفعة واحدة حينما �أخرج من جيبه املظروف ومتتم :هذه الر�سالة �أعطوها لعبري حينما تزوركم اليوم. 200
منقذ نادر العقاد
و�أنت؟ �س�ألت عائ�شة.ذاهب ال�ساعة. �أنا ذاهب �إلى املزرعةٌ ..�أمه.
�-أما عدلت عن ر�أيك بعد الذي �سمعته من �أخبار �سارة؟ �س�ألته
ف�أجابها وقد ارت�سمت على وجهه ابت�سامة �صغرية :بل ازددت �إ�صرار ًا على الذهاب ..لقد �أك�سبني اخلرب قوة وحياة ..لأنني اليوم لن �أذهب من �أجل نف�سي بل ومن �أجل غريي �أي�ض ًا .ثم نه�ض و�سط ذهول �أهله وحريتهم ..دخل غرفته وغاب فيها حوايل ال�ساعة ثم خرج ،يف يده اليمنى حقيبة كبرية ويف الي�سرى معطف قدمي .وعندما �صار يف نهاية ال�صالة و�ضع احلقيبة على الأر�ض واملعطف على الأريكة ثم دنا من �أمه التي نه�ضت �إليه بعفوية فاحت�ضنها بقوة ثم ابتعد عنها �إلى الوراء خطو ًة � ..أجال النظر يف املجموع ..ورفع حقيبته عن الأر�ض وهم باخلروج التفت �إليهم وقال ب�صوت ك�أنه وعندما و�صل �إلى الباب ّ � ٍآت من بعيد: �أراكم بخري� ..إلى اللقاء .ثم م�ضى وقد خ ّلف وراءه طيورال�صمت حتوم يف املكان وتلتقط الكلمات اخلارجة من �أوكارها ،ليبقى ال�صمت وحده �س ّيد هذه اللحظات يف نهر الزمان املتدفق.. ***
201
رجل من مدينة اهلل
..م�ضى �شهر على عزلة �أحمد ومل يت�ضح بعد لأحد متى �سيقرر الرجوع �إليهم .قال حامد ذات مرة لعمه م�صطفى: �إنه غريب الأطوار ت�صور �أنه ال يكلمني حينما �أح�ضر له الطعام�إال قلي ًال. �صرب ًا عليه ..لعله يرى يف ال�صمت كوخ ًا للت�أمل في�ؤثره علىالكالم. �إنها كلماته نف�سها ..ر ّدد حامد مذهو ًال ،ف�ضحك العمبت �أعرف طريقة تفكري ابن �أخي� ..إنه �إن�سان م�صطفى وقال :لقد ُّ يطمح لأن جترب روحه �أكرث من حياة قبل �أن يفنى ج�سده ،..وهو يحلم ليل نهار �أن ي�ستيقظ ذات �صباح فيجد املدينة الفا�ضلة على �سطح الأر�ض وقد غطى احلمام الأبي�ض خط الأفق وح ّل ال�سالم يف �أرجاء املعمورة بدل احلرب ..و�صار النا�س قلبهم قلب رجل واحد ...و�أ�ضحت الأمم متفاهمة متعاونة وكلها ترى الطريق �إلى اهلل لي�س طق�س ًا بقدر ما هو ر�سالة للإعمار. وما �أدراك بكل هذا؟ �س�أله حامد ثم �أردف :حتى �أنا ال �أعلمعنه كل هذه الأ�شياء. عندها �أخرج العم م�صطفى ر�سالة من جيبه وو�ضعها على الطاولة وتابع قائ ًال: من هذه عرفت كل هذه الأ�شياء.202
منقذ نادر العقاد
وما هذه؟ �-إنها ر�سالة منه. -متى �أعطاك �إياها؟ -قبل �أن يغادرنا بيوم واحد. �-إذ ًا هكذا؟ ثم قال وهو يغالب ال�ضحك: ذاهب �إليه؟ -ح�سن ًا هل تريد منه �شيئ ًا ،ف�أنا اليوم ٌ �-أبلغه �سالمي فح�سب. *** هناك ،حينما و�صل حامد �إلى املزرعة ..فت�ش عنه فلم يجده.. قال يف نف�سه: ( �أين ذهب يا ترى..هل عاد �إلى بيته �أم رمبا رحل ملكان �آخر �أو . .؟ يا �إلهي �أين �س�أجده؟) ثم �صعد �إلى �سطح الدار ونظر منه �إلى ما حوله وفج�أ ًة ملحه.. كان يجل�س حتت �شجرة زيتون يراقب �شيئ ًا ما وهو متكور على نف�سه. و�ضع له حامد الطعام وترك على الطاولة ورقة مكتوب عليها: ( جئت ومل �أجدك هنا فرتكت لك هذا الطعام).. 203
رجل من مدينة اهلل
..وهكذا م�ضت الأيام و�أحمد على هذه احلال و�صديقه املخل�ص يرعى �ش�ؤونه من بعيد من دون �أن يع ّكر خلوته� ..إلى �أن جاء يوم من �أيام اخلريف كان فيه حامد كعادته ذاهب ًا �إلى املزرعة بالطعام هم باملغادرة جاءه �صوت من الداخل ..كان وبالثياب النظيفة وحينما ّ �أحمد الذي خرج �إليه وهو يقول: �أريد �أن �أرى �أمي لقد ا�شتقت �إليها كثري ًا� ..صمت بره ًة ثم�أردف :وكذلك ا�صطحب معك عبري و�إخوتي� ..أريدهم جميع ًا ..جميع ًا يا حامد. كما تريد �س�أ�صطحبهم معي يف املرة القادمة .ابت�سم �أحمدجلوابه ثم عاد جم ّدد ًا �إلى غرفته ..بعد �أ�سبوع التقى �أحمد ب�أهله.. و�س َّر الطرفان لذلك� ..س�ألته �أمه: ُ �أمل يحن بعد وقت عودتك �إلينا؟ابت�سم ب�شحوب وقال: قريب ًا يا �أمي قريب ًا.لقد ا�شتقنا �إليك ..قالت عبري.و�أنا ا�شتقت �إليكم ..ولكن..ولكن ماذا؟ �س�أل مرهف..204
منقذ نادر العقاد
فحدجه قائ ًال :ولكن مل يحن وقت احل�صاد. � ّأي ح�صاد؟ ت�ساءلت عائ�شة ..فابت�سم وقال:�أنت دائم ًا ت�س�ألني �أ�سئلة مثل هذه الأ�سئلة ،ثم �أردف بعد �أن�أخذ نف�س ًا عميق ًا: عندما خلوت بنف�سي ا�صطبغ كل �شيء فيها بال�صمت كماي�صبغ النهار الليل بطالء ال�ضوء ..و�أنا الآن �أت�أمل ليلي و�أنتظر حلظة االنبالج ّ مطت عائ�شة �شفتها ال�سفلى وقالت :مل �أفهم ق�صدك؟ ف�ضحك وقال :وال �أنا؟ ماذا تعني؟ عقبت عائ�شة. �إنه يعني �شيئ ًا �آخر ..ع ّلق مرهف ،فالتفتت �إليه عائ�شة وقالت:ح�سن ًا� ...أخربين به.�إنه يعني �أنه مل يدرك بعد غاية وجوده.�أعوذ باهلل من هذا الكالم ..قالت �أمه ..ثم �أردفت :لقد خلقنااهلل لنعبده. ولكن ما معنى العبادة هنا؟ �س�ألها مرهف..205
رجل من مدينة اهلل
..تلعثمت �أمه يف البداية ثم قالت� :أي ننفذ �أوامره وجنتنب نواهيه ثم نظرت �إلى �أحمد فابت�سم قائ ًال: �أو�صال �سالمي لعمي م�صطفى .نظر بع�ضهم �إلى بع�ض ثمتوجهوا �إليه بنظرهم فقالت �أمه: بني ..عد ح�سن ًا �سرناك قريب ًا ثم التفتت حلامد وقالت :هيا يا ّبنا �إلى املدينة. ح�سن ًا ..تف�ضلوا وقد �أ�شار للجميع مبغادرة املكان .فخرجوابا�ستثناء عبري التي ت�أخرت عنهم لكي تنفرد ب�أحمد ..دنت منه وقالت: عدين ب�أال تت�أخر علينا.�أعد بذلك.متى؟�صمت برهة وهو ينظر �إلى ما وراء النافذة ثم قال: مع بداية ف�صل الربيع .ت�أملته عبري ملي ًا ثم ا�ستجابت لأ�صواتهموخرجت خلفهم. ***
206
منقذ نادر العقاد
..مع بداية ف�صل ال�شتاء �صار الو�صول �إلى املزرعة ع�سري ًا ومع هذا ا�ستمر حامد يف عمله وحافظ على وفائه ل�صديقه .وباملقابل خ�صه �أحمد دون غريه بر�سائل خا�صة .كان حامد كلما �أح�ضر له مع بداية الأ�سبوع الطعام والثياب يجد على الطاولة ر�سالة ..فيتناولها ومي�ضي. لقد كان �أحمد ميلأ ر�سائله ب�أفكاره اجلديدة و�أحواله اخلا�صة فكانت ر�سالة �أول الأ�سبوع تخت�صر بكلماتها جتربة ذلك الأ�سبوع .وذات يوم.. بينما كان حامد يرتب �أوراق درجه وقعت حتت يده تلك الر�سائل فراح ي�ستذكرها برتتيبها الزمني حتى و�صل �إلى �إحداها فا�ستوقفته كثري ًا، �إذ كانت حتتوي خال�صة عقلية جديرة بالتدبر كتب يقول فيها: بت اليوم �أكرث وعي ًا ملجريات الأمور و�أكرث �إن�صاف ًا ( يا �صديقي ُّ للحقائق ..ثم �أردف يف الن�صف الثاين من الر�سالة� .إن �أمم الأر�ض عرب تاريخها كانت و�ستبقى �أمم ًا ت�سودها احلروب ويحكمها قانون الإن�سان ..ذاك املخلوق ال�ضعيف �أمام رغباته ،القا�صر النظر �أمام خمططاته� .إنها مدن الإن�سان ..ت�صطدم مع بع�ضها بع�ض ًا وما تفرز �إال الف�ساد والويالت واملجرمني .يا �صديقي :ذات يوم غابر من �أيام التاريخ برزت مدينة اهلل على وجه الأر�ض ،لكنها مل تبق �إال بقاء الومي�ض ثم اختفت ..اختفت حلظة تدخل الإن�سان من جديد يف قانون اهلل� ..إنها املدينة الفا�ضلة وهي قابعة الآن يف قلب التاريخ. ثم ختم ر�سالته بقوله ..:يا �صديقي� ..إنّ عودة ظهور مدينة اهلل على الأر�ض بيد اهلل وحده� ،أما ظهورها فينا فب�أيدينا نحن ،لذا فكل �إن�سان لو �شاء ي�ستطيع �أن يبني �صورة لتلك املدينة يف قلبه و�سيكون حينها رج ًال من مدينة اهلل ..رج ًال قادم ًا من قلب التاريخ ..ي�ش ُّع من 207
رجل من مدينة اهلل
�صدره نو ٌر هو نور اهلل وتبدو عليه مالمح ح�ضارية هي من ح�ضارة الإن�سان الأول. �أعاد الر�سالة ملظروفها وقد �أطرق فرت ًة من الزمن ثم ا�ستفاق على ارتطام حبات املطر بوجه الأر�ض. *** ومع حلول ربيع هذا العام ترك �أحمد ل�صديقه ر�سالة يخربه فيها �أن ي�أتي مع بداية الأ�سبوع القادم ال�صطحابه �إلى بيته وطلب منه �أال يخرب �أحد ًا لوقتها و�أن ينتظره ب�سيارته على حافة الطريق العام يف �أ�صيل يوم ال�سبت القادم ..قال له �أي�ض ًا: �إنني الآن �أ�شرف على االنتهاء من رواي ٍة كنت قد بد�أت بها منذ�أول يوم جئت به �إلى هنا ..ولقد �سميتها ( :رج ٌل من مدينة اهلل!) و�س�أطلعك عليها يف الأ�سبوع الآتي مب�شيئة اهلل. انتظر حامد ذلك اليوم بفارغ ال�صرب وحت ّمل كتم خ ٍرب كهذا عمن حوله نزو ًال عند رغبة �صاحبه ،حتى جاء اليوم املوعود فذهب حامد قبل املوعد ب�ساع ٍة كاملة وتوقف عند حافة الطريق العام ونهاية طريق املزرعة ثم راح ينتظر قدوم �صاحبه. يف ذلك احلني كان �أحمد قد حزم �أمتعته وو�ضعها عند بهو يوم �آخر ..فقد كان يحمل �أوراق ًا ال�صالة عازم ًا يف نف�سه �أخذها يف ٍ 208
منقذ نادر العقاد
كثرية يقب�ض عليها ب�شدة وقد ارتدى معطفه القدمي ثم و�ضع رجله عند عتبة البيت ..كان اجلو غائم ًا والرياح قوية .نظر �أحمد يف الأفق وما �إن و�ضع قدمه على �أول الطريق وقد ان�شغل ذهنه مب�شهد الطبيعة حتى كانت الرياح العا�صفة قد �س ّلت الأوراق من بني يده فتطايرت يف كل مكان ،حاول يف البداية جمعها وراح يلتقطها كاملجنون ولك ّنه ملَّا ي�أ�س من ذلك ..ارمتى على الأر�ض راكع ًا على ركبتيه وراح يت�أمل الأوراق كيف تذروها ريا ٌح غربية يف كل مكان ثم يجذبها طني الأر�ض ال�شرقية �إليه فيذهب مبالحمها وكلماتها وال يبقى منها �إال �أ�شكال بحزن عارم واكتئاب �شديد م�شوهة مم�سوخة ..كان يت�أمل املنظر ٍ ولكن ما �إن ارتطمت بوجهه واحد ًة من الورقات الكثرية حتى ّ ف�ضها فوجدها حتمل العنوان ..العنوان فقط ..فاعت�صرها يف ثم راح ي�ضحك ب�شكل ه�ستريي ..بعدها نه�ض من جديد على قدميه وو ّلى وجهه �شطر الطريق العام ..كان ي�سري بتثاقل وقد خ ّلف وراءه �أوراقه و�آثار �أقدامه املغمو�سة يف الطني ..ظل ي�سري ونظره معلق يف �أقرب �أفق حتى �إذا ما و�صل �إلى �أول الطريق العام توقف فج�أة ..خلع معطفه وو�ضعه جانب ًا ثم نظر يف يده اليمنى ففتحها وراح ينظر يف الورقة امل�ضغوطة على نف�سها ..بعدها غر�س كرة الورق تلك يف جوار املعطف ثم تناول حجر ًا قريب ًا وو�ضعه فوقها عند �آخر �أثر من �آثار �أقدامه ..واجته �إلى ال�سيارة فا�ستقبلها قا�صد ًا مدينة الإن�سان . .ومن وقتها غاب �أحمد يف مدينة الإن�سان ومل يعد حتى هذه اللحظة.
209