مقتطفات من
)) أناشيد ال مثثم و البراءة(( مصطفى محمود
و المحصول صفر ل يوجد وهم يبدو كأنه حقيقة مثل الحب.. و ل حقيقة نتعامل معها و كأنها الوهم مثل الموت!! فليس هناك أمر مؤكد أكثر من
الموت ،و مع ذلك ل نفكر أبدا بأننا سنموت ،و اذا حدث و فكرنا ل يتجاوز تفكيرنا وهما عاب ار عبور النسيم.
و العكس في حالة الحب ،فرغم أن الحب دائما أمر يزينه الخيال و يضخمه الوهم و يجسمه التصور و تنفخ فيه الشهوات ،و رغم أن الحب يشتعل و ينطفئ و يسخن و يبرد و
رغم أن أحواله و تقلباته تشهد بأنه وهم كبير ،ال أننا نتعامل معه بالرهبة و التقديس و الحترام و الخضوع ..و نظل على هذا الخلط و الختلط حتى نفيق على الصدمة
فنصحو و نستعيد رشدنا ليام أو شهور أو سنوات و لكن ل نلبث أن نستسلم الى اغماء جديد. و سبب الخلط و الختلط هو دائما خطأ في النسبة ..فنحن دائما ننسب الجمال الذي شاهدناه و الحنان الذي تذوقناه الى صاحبته مع أنها ليست صاحبته و ل مالكته ..و لو
امتلكت امرأة جمالها لدام لها ..و لكن الجمال لم يدم لحد ،لنه منحة و اعارة من ال بأجل و ميقات و هو قرض يسترده في حينه ..فصاحبه و مالكه هو ال و ليس أي امرأة. و كذلك كل ما نعشق من حنان و مودة و رأفة و حلم و كرم كلها خلع و منح و أوصاف مستعارة من الودود الرؤوف الحليم الكريم ..و هو مالكها بالصالة ..و نحن نملكها عنه بالقرض و العارة.
و لكن العين التي تعشق الجمال تخطئ نسبته و ملكيته فتظنه لصاحبته فتعشق صاحبته و تعبد صاحبته.
و هي تظل في هذا الوهم حتى تفيق على القبح يطل من تحت المساحيق و القسوة تظهر
من وراء الهداب فتصحو على الصدمة و تعاني و تتعذب و تندم و تعتبر و تتوب ثم تعود فتنسى و تنزلق إلى وهم جديد..
و تلك هي الغفلة المستمرة التي نعيش فيها جميعا ..نفيق منها لحظات لنعود فنغرق في سباتها من جديد و ل يسلم من هذا البلء ال نبي معصوم أو ولي عارف يحفظه ربه و يسدل عليه كنفه ..فل يرى حيثما تولى ال وجه ال. )فأينما تولوا فثم وجه ال( فهو الجمال في كل جميل و هو الرأفة و الحنان و الكرم و الحلم و المودة ..فتلك أسماؤه تتجلى في أواني الطين و الخزف الشفافة التي شفها الحساس حتى أصبحت مثل
الكريستال المضيء تماما كما يرى الفلكي نور القمر فيعرف أنه ليس نوره بل نور الشمس
تجلى عن وجهه.
و هكذا ل يرى هذا العارف أينما تولى ال وجه ال ..و هو دائم الهمس ال ..ال ..ال.. ال ..ال ..و هو ناظر دائما الى الظاهر و ليس الى المظاهر ..ناظر الى ال الظاهر
دائما في كل شيء ..ل يطرف ..متعلق بالمعاني و ليس بالواني.
و هو لهذا ل ينقسم و ل يتشتت و ل يضيع في التلفت ،و انما هو مجذوب الفؤاد الى ال على الدوام.
و لكن أمثال هذا الرجل قليل نادر مثل اللماس و اليورانيوم و أمثاله ل يتجاوزون أفرادا و آحادا بين ألوف المليين من الحشد المغمى عليه و هي غفلة عامة غالبة ل ينجي فيها علم و ل ثقافة و ل دكتوراه و ل ماجستير ،فتلك
أبواب غرور تزيد من الغفلة ..فنرى العالم يضع علمه في خدمة هواه ،و عقله في خدمة عاطفته ،و مواهبه في خدمة شهواته .فتصبح بلواه مضاعفة و صدمته قاصمة للظهر.
و يمضي العمر في سلسلة من الغفلت و الغماءات مجموعها في الختام صفر ،أو هي في الحقيقة حاصل طرح و ليست حاصل جمع .فمجموعها في النهاية بالسالب و ليس
بالموجب فحياة صاحبها الى نقصان يوما بعد يوم و سنة بعد سنة ..يخرج من وهم الى وهم و من خدعة الى خدعة ..حاله مثل حال الشارب من ماء مالح ،كلما ازداد شربا ازداد
عطشا ..ل يحصل على سكينة و ل يبلغ اطمئنانا ،و انما هو هابط دوما من قلق الى قلق،
و من تمزق الى تمزق ،و من تشتت الى تشتت ،حتى تنتهي حياته بل ثمرة ،و ينتهي تحصيله بل جدوى.
و تلك هي العقلية الستمتاعية السائدة اليوم في عالم وثني ،أصنامه اللذة و الغلبة و الهوى ..معبود كل واحد نفسه و كتابه رأيه و دستوره مصلحته.
و الحال في المم المتخلفة و النامية أسوأ مما هو في المم المتقدمة ..و هي أمم مجموعها أحيانا ))حاصل طرح أفرادها ( ( و ليس حاصل جمعهم ،لنهم منفرطون منقسمون
متباعدون كالجزر التائهة في البحر ..يضرب بعضهم بعضا ..و عزمهم مستهلك ..و قوتهم ل شيء.. يتحدثون عن الوحدة. و ل وحدة ال بالواحد. هو وحده الواحد ل اله ال هو .الذي يخرج به كل واحد من شتات نفسه و تخرج به المم من تفرقها و يخرج به العالم من انقسامه. و القضية بالدرجة الولى قضية ايمان. هي قضية رؤية.. كيف نرى العالم..؟ و كيف ننظر فيما حولنا..؟ و كيف نحب..؟ هل نستطيع أن نكون ذلك العارف الذي ل يرى في كل شيء ال الواحد ..و ل يبصر ال
وجه ربه في كل محبوب.
هل يمكن أن نكون مصداق الية:
)أينما تولوا فثم وجه ال.( و في هذا الطار نحب و في هذا الطار نكره ..فنبذل المروءة و المعروف و المودة للجميع و ل يكون لنا تعلق و ل يكون لنا حب ال ال و بال و في ال. ذلك هو الجهاد الصعب. و ل اختيار.. و ل طريق آخر. و كل واحد و عزمه. و كل واحد و همته.. و عبرة كل حياة بختامها ..فلنسارع الى المجاهدة و لنشمر السواعد حتى ل يكون محصول حياتنا صف ار و حتى ل يمضي بنا كل يوم الى نقصان و حتى ل يصبح كل يوم من أيامنا
مطروحا من الذي قبله.
انما خلق ال الغواية لمتحان القلوب و ليعرف الكبار أنفسهم و ليعرف الصغار أنفسهم من البداية..
الشجرة المرأة كالدنيا فيها تقلبات الفصول الربعة.
تفيء إليها ذات يوم فتجد الظل و الخضرة و العبير و الثمر و تلجأ إليها في يوم آخر فتراها تعرت عن أوراقها و جفت فيها الحياة و توقف العطاء ل ظل و ل زهر و ل ثمر. تتداول عليها الحوال تداول الليل و النهار و الربيع و الخريف و المطر و الجفاف و الجدب و النماء. فإن كنت عشقت الظل و الخضرة و العبير و الثمر فذلك ليس وجه المرأة فإن للمرأة كل وجوه الدنيا و هي تشرق و تغرب مثل القمر و تطلع و تأفل مثل الشمس و تورق و تذبل
مثل الورد ..فإن كان ما تنورت به عيناها ذات مساء هو ما عشقت فما عشقت وجهها بل وجه ال الذي أشرق عليها و عليك ذات مساء. و حيثما يشرق وجه ال تتنور المظاهر و يورق الشجر و يتفتح الزهر و يجود الثمر و يبتسم الولدان و تهفو قلوب العشاق إلى من تعلقت به النعمة و تجلى فيه الجود. و ساعتها تخطئ أقدامنا العنوان و تخطئ ألسنتنا السم الذي تسبح له ..و ننسى بارئ النعمة و ننسى أنه ل أنا و ل أنت و ل هي لنا من المر شيء.. و إنما كل ما حدث أن ال قال بلسان المظاهر ..ذات مساء في لحظة تجل ..أنا موجود.. أنا بديع السماوات و الرض.. تتوقف هذه العين عند اللحظة و تتجمد عند القد و الخد و الخصر و النهد ..و تنسى مصدر الجود فينساها صاحب الفضل و يشيح عنها بوجهه الكريم ..فيذيقها ال الهجر و
هي في القرب و يريها خيبة المل و هي في ذروة العمل و يختم لها بالخذلن و هي في غفلة الهيمان.
و تلك هي صدمة العشاق التي أفاض فيها الشعراء و أطالوا و هي في صميمها لفتة رحمة من ال يوقظ بها الذين أخلدوا الى الرض و اتبعوا الهواء و نسوا المعشوق و المحبوب و صاحب الفضل ..و الصل كل الصل ..السم الجامع لكل الكمالت.
و ذلك هو الكل من الشجرة. ثم الهباط بعد الكل من الشجرة ..و النزول من سماوات المعرفة الرحيبة الى سجون اللذات و زنزانة اللحظات. تلك هي القصة التي تتكرر كل يوم منذ آدم و حواء و كلما اجتمع ابن لدم و بنت لحواء. تتكرر الخيبة و يتكرر الخذلن. و ل يعتبر عاقل و ل جاهل. و الذين أحبوا أو صدموا يعودون الى حب جديد و الى خيبة أمل جديدة و ل يشبع أهل المل من خيبة المل.
و كل مرة تزداد الغواشي على الحس و يضيق مجال الرؤية و تضيق الزنزانة على صاحبها و يغرق أهل الصبابة في بحر الصبابة.
و ل ينجو من البحر ال من عصم ربك. انما هو بحر الظمأ الذي يجري بين ذراعي المرأة كلما شرب منه الشارب ازداد ظمأ و كلما عب منه عبا احترق احتراقا ..يظن أنه يرتوي و يبترد ..فل يبترد أبدا و ل يرتوي أبدا ..و ل يشبع أبدا ..و ل يسكن أبدا.
انما عنده هو السكن. و بين يديه القرار و الستقرار. صدق أبو العتاهية في قوله: طلبت المستقر بكل أرض فلم أر لي بأرض مستق ار فل مقر لنا في هذه الرض و ل وطن لنا فيها و انما وطننا في بيت المعاد الذي جئنا منه عند شجرة الخلد حقا و ليس عند شجرة الجوع و الظمأ التي أكل منها آدم و مازلنا نحن
أولده نأكل منها فنزداد جوعا على جوع و ل نعرف شبعا و ل راحة. انما الحياة بجوعها. و شجرة النوثة بربيعها و خريفها. و الزهور بتفتحها و ذبولها. و الشمس بطلوعها و أفولها. كلها رموز تتكلم بلسان الحال..
بأنها كلها قصاصات و عينات و عبوات صغيرة تشير الى عالم آخر فيه النماذج المثلى و الكمالت و الصول لكل هذا الذي نرى أمامنا في صندوق الدنيا ..و كأنما يضع لنا الطاهي قطرة في ملعقة و يقول لنا ذوقوا.
و الحكيم هو الذي يذوق و يقول ..ال ..ما أحلى الطهو ..يذوق فقط و ل يفكر في أن يجلس ليأكل ..لنه يعلم أن الدنيا مناسبة للتعرف ..و عينات للتذوق ..و عبور سريع في
نفق أرضي من أنفاق المترو فيه صور و معروضات ..و كل حظ الراكب لفتة هنا و لفتة هناك.
أما الجلوس للكل و الشروع في مباشرة الحياة الحقة فذلك لن يكون ال بعد انتهاء الرحلة و الخروج من النفق الرضي الى السطح حيث نجد في انتظارنا نعيم الخلد و الجنة التي
عرضها السماوات و الرض و الحياة الجديرة بأن نحياها حقا ..حيث أرض الكمالت و عالم المثل ..و ذلك حظ من اتقى و فهم و عرف ،و كان بينه و بين ال عمار و صلة و
عهد.
أما من قطع حبل التصال و عاش حياة النفصال و لم يعرف لذة الوصال و انشغل عن
الحقيقة بعالم الوهام و تعلقت همته بالصغار ،فذلك حظه البقاء في النفق المظلم و نصيبه
البعاد والهباط من نفق مظلم الى نفق آخر أشد اظلما و ل نهاية ..فليس للبعد نهاية
كما أنه ليس للقرب نهاية ..و ليس لنعيم ال حدود كما أنه ليس لعذابه حدود.
ومن يتلفت حوله في الدنيا و يتأمل عجائب صنعة ال و غرائب آياته يمكن أن يتصور كم يمكن أن يكون مذهل و مدهشا ذلك العالم الكامل ..عالم الملكوت الذي صنعه نفس الصانع و وعد به أحباءه. ان عظمة الصنعة من عظمة الصانع. و ليس أعظم من ال. فكذلك نعيمه و كذلك عذابه.
و أهل القلوب ل تجف لهم دموع من تصور يوم الجمع ..و ساعة المصير. و هم الباكون الراجفون الضارعون الداعون الراكعون الساجدون في هذا السامر من الولئم الكاذبة على مائدة الدنيا حيث يعلم كل من يأكل أنه سوف يموت ..و مع ذلك يقتل الغافلون بعضهم بعضا على اللقمة و يتنازعون على شربة الماء. أولئك هم الصارخون في الخلوات. إلهي ..ارزقنا ..خوفك.. ضع الموت بين أعيننا. فل شيء يستحق البكاء سوى الحرمان منك و ل حزن بحق ال الحزن عليك. أنت الحق. و أنت ما نرى من جمال حيثما تطلعت عين أو استمعت أذن أو حلق الخيال. لإله إل أنت. سبحانك. إني كنت من الظالمين.
العذاب ليس له طبقة
الذي يسكن في أعماق الصحراء يشكو مر الشكوى لنه ل يجد الماء الصالح للشرب. و ساكن الزمالك الذي يجد الماء و النور و السخان و التكييف و التليفون و التليفيزيون لو استمعت إليه لوجدته يشكو مر الشكوى هو الخر من سوء الهضم و السكر و الضغط. و المليونير ساكن باريس الذي يجد كل ما يحلم به ،يشكو الكآبة و الخوف من الماكن المغلقة و الوسواس و الرق و القلق. و الذي أعطاه ال الصحة و المال و الزوجة الجميلة يشك في زوجته الجميلة و ل يعرف طعم الراحة. و الرجل الناجح المشهور النجم الذي حالفه الحظ في كل شيء و انتصر في كل معركة لم يستطع أن ينتصر على ضعفه و خضوعه للمخدر فأدمن الكوكايين و انتهى إلى الدمار. و الملك الذي يملك القدار و المصائر و الرقاب تراه عبدا لشهوته خادما لطماعه ذليل لنزواته. و بطل المصارعة أصابه تضخم في القلب نتيجة تضخم في العضلت. كلنا نخرج من الدنيا بحظوظ متقاربة برغم ما يبدو في الظاهر من بعد الفوارق. و برغم غنى الغنياء و فقر الفقراء فمحصولهم النهائي من السعادة و الشقاء الدنيوي متقارب.
فال يأخذ بقدر ما يعطي و يعوض بقدر ما يحرم و ييسر بقدر ما يعسر ..و لو دخل كلمنا قلب الخر لشفق عليه و لرأى عدل الموازين الباطنية برغم اختلل الموازين الظاهرية ..و
لما شعر بحسد و ل بحقد و ل بزهو و ل بغرور.
إنما هذه القصور و الجواهر و الحلي و الللئ مجرد ديكور خارجي من ورق اللعب ..و في داخل القلوب التي ترقد فيها تسكن الحسرات و الهات الملتاعة.
و الحاسدون و الحاقدون و المغترون و الفرحون مخدوعون في الظواهر غافلون عن الحقائق.
و لو أدرك السارق هذا الدراك لما سرق و لو أدركه القاتل لما قتل و لو عرفه الكذاب لما كذب.
و لو علمناه حق العلم لطلبنا الدنيا بعزة النفس و لسعينا في العيش بالضمير و لتعاشرنا
بالفضيلة فل غالب في الدنيا و ل مغلوب في الحقيقة و الحظوظ كما قلنا متقاربة في باطن
المر و محصولنا من الشقاء و السعادة متقارب برغم الفوارق الظاهرة بين الطبقات..
فالعذاب ليس له طبقة و إنما هو قاسم مشترك بين الكل ..يتجرع منه كل واحد كأسا وافية
ثم في النهاية تتساوى الكؤوس برغم اختلف المناظر و تباين الدرجات و الهيئات. و ليس اختلف نفوسنا هو اختلف سعادة و شقاء و إنما اختلف مواقف ..فهناك نفس تعلو على شقائها و تتجاوزه و ترى فيه الحكمة و العبرة و تلك نفوس مستنيرة ترى العدل و الجمال في كل شيء و تحب الخالق في كل أفعاله ..و هناك نفوس تمضغ شقاءها و
تجتره و تحوله إلى حقد أسود و حسد أكال ..و تلك هي النفوس المظلمة الكافرة بخالقها
المتمردة على أفعاله.
و كل نفس تمهد بموقفها لمصيرها النهائي في العالم الخر ..حيث يكون الشقاء الحقيقي.. أو السعادة الحقيقية ..فأهل الرضا إلى النعيم و أهل الحقد إلى الجحيم. أما الدنيا فليس فيها نعيم و ل جحيم إل بحكم الظاهر فقط بينما في الحقيقة تتساوى الكؤوس التي يتجرعها الكل ..و الكل في تعب. إنما الدنيا امتحان لبراز المواقف ..فما اختلفت النفوس إل بمواقفها و ما تفاضلت إل بمواقفها. و ليس بالشقاء و النعيم اختلفت و ل بالحظوظ المتفاوتة تفاضلت و ل بما يبدو على الوجوه من ضحك و بكاء تنوعت. فذلك هو المسرح الظاهر الخادع. و تلك هي لبسة الديكور و الثياب التنكرية التي يرتديها البطال حيث يبدو أحدنا ملكاو الخر صعلوكا و حيث يتفاوت أمامنا المتخم و المحروم.
أما وراء الكواليس.
أما على مسرح القلوب. أما في كوامن السرار و على مسرح الحق و الحقيقة ..فل يوجد ظالم و ل مظلوم و ل متخم و ل محروم ..و إنما عدل مطلقو استحقاق نزيه يجري على سنن ثابتة ل تتخلف حيث يمد ال يد السلوى الخفية يحنو بها على المحروم و ينير بها ضمائر العميان و
يلطف أهل المسكنة و يؤنس اليتام و المتوحدين في الخلوات و يعوض الصابرين حلوة في قلوبهم ..ثم يميل بيد القبض و الخفض فيطمس على بصائر المترفين و يوهن قلوب
المتخمين و يؤرق عيون الظالمين و يرهل أبدان المسرفين ..و تلك هي الرياح الخفية
المنذرة التي تهب من الجحيم و النسمات المبشرة التي تأتي من الجنة ..و المقدمات التي
تسبق اليوم الموعود ..يوم تنكشف الستار و تهتك الحجب و تفترق المصائر إلى شقاء حق و إلى نعيم حق ..يوم ل تنفع معذرة ..و ل تجدي تذكرة. و أهل الحكمة في راحة لنهم أدركوا هذا بعقولهم و أهل ال في راحة لنهم أسلموا إلى ال في ثقة و قبلوا ما يجريه عليهم و أروا في أفعاله عدل مطلقا دون أن يتعبوا عقولهم فأراحو
عقولهم أيضا ،فجمعوا لنفسهم بين الراحتين راحة القلب و راحة العقل فأثمرت الراحتان راحة ثالثة هي راحة البدن ..بينما شقى أصحاب العقول بمجادلتهم.
أما أهل الغفلة و هم الغلبية الغالبة فمازالوا يقتل بعضهم بعضا من أجل اللقمة و المرأة و الدرهم و فدان الرض ،ثم ل يجمعون شيئا إل مزيدا من الهموم و أحمال من الخطايا و ظم ًأ ل يرتوي و جوعا ل يشبع.
فانظر من أي طائفة من هؤلء أنت ..و اغلق عليك بابك و ابك على خطيئتك.
عن النتحار من العجيب أن التقدم الذي جاء بمزيد من وسائل الترف و الراحة و بمزيد من التسهيلت للنسان ..قد قابله النسان بمزيد من الرفض و السخط و التبرم ،فرأينا إحصائيات
النتحار ترتفع مع مؤشرات التقدم في كل بلد ..كلما ازداد البلد مدني ًة ازداد عدد الذين
يطلقون على أنفسهم الرصاص و يلقون بأنفسهم من النوافذ و يبتلعون السم و يشربون ماء النار ..هذا غير النتحار المستتر بالخمور و المخدرات و التدخين و المنومات و
المسكنات و المنبهات ..و في مقدمة هؤلء المنتحرين طلئع فن و فكر وثقافة تعود الناس أن يأخذوا عنهم الحكمة و العلم و التوجيه.
و وصلت الموجة إلى بلدنا فامتلت أعمدة الصحف بأخبار ابتلع السم و إطلق الرصاص و الشنق و الحرق ..و قال المختصون إن نسبة الزيادة الحصائية تجاوزت
العشرين في المائة ..و هو رقم كبير. و الزدياد متواصل سنة بعد سنة. و السؤال ..لماذا ..و ما السر؟ و ما سبب النتحار؟
و إذا تركنا التفاصيل جانب ًا و حاولنا تأصيل المشكلة وجدنا جميع أسباب النتحار تنتهي
إلى سبب واحد ..أننا أمام إنسان خابت توقعاته و لم يعد يجد في نفسه العزم أو الهمة أو الستعداد للمصالحة مع الواقع الجديد أو الصبر على الواقع القديم.
إنها لحظة نفاد طاقة و نفاد صبر و نفاد حيلة و نفاد عزم. لحظة إلقاء سلح ..يأس ..ما يلبث أن ينقلب إلى اتهام و إدانة للخرين و للدنيا ثم عداوة للنفس و للخرين و للدنيا تظل تتصاعد و تتفاقم حتى تتحول إلى حرب من نوع مختلف يعلنها الواحد على نفسه و يشنها على باطنه ،و في لحظة ذروة تلتقط يده السلح لتقتلع
المشكلة من جذورها ..و لتقتلع معها الحساس المرير و ذلك بطمس العين التي تبصر و قطع اللسان الذي يذوق و تحطيم الدماغ الذي يفكر و تدمير اليد التي تفعل و القدم الذي يمشي. و هو نوع من النفراد بالرأي و النفراد بالحل و مصادرة جميع الراء الخرى بل إنكار أحقية كل وجود آخر غير الذات.
و لهذا كانت لحظة النتحار تتضمن بالضرورة الكفر بال و إنكاره و إنكار فضله و اليأس من رحمته و اتهامه في صنعته و في عدله و رفض أياديه و رفض أحكامه و رفض تدخله.
فهي لحظة كبر و علو و غطرسة و استبداد. و ليست لحظة ضعف و بؤس و انكسار. و بدون هذا العلو و الكبر و الغطرسة ل يمكن أن يحدث النتحار أبدا. فالنسان ل ينتحر إل في لحظة دكتاتورية مطلقة و تعصب أعمى ل يرى فيه إل نفسه. و النتحار في صميمه اعتزاز بالنفس و تأله و منازعة ال في ربوبيته. و المنتحر يختار نفسه و يصادر كل أنواع الوجود الخر في لحظة غل مطلق ..في لحظة جحيم.. و لهذا يقول ال أن من قتل نفسه يهوي إلى جحيم أبدي ،لنه قد اختار الغل و انتصر للغل و أخذ جانب الغل عند الختيار النهائي للمصير. و النفراد المطلق في الرأي عصبية و غل و نارية إبليسية ..و النفس المتكبرة المارة بالسوء هي نار محضة و ظلمة.. و كل منا في داخله عدة احتمالت لنفوس متعددة ..في داخل كل منا نفس أمارة ظلمانية توسوس له بالشر و الشهوات ..و نفس لوامة نورانية تحضه على الخير ثم كل المراتب ل فوق و تحت هاتين المنزلتين. النفسية علو ًا و سف ً
و كل نفس في حالة تذبذب مستمر بين هذه المراتب صاعدة هابطة فهي حين ًا ترتفع إلى آفاق ملهمة و حين ًا تهبط إلى مهاو مظلمة شهوانية.
ثم في النهاية تستقر ..فإذا استقرت على الرفض و الكبر و الغطرسة و الغل ثم اقتلعت أسنانها و لسانها و سمعها و بصرها و قطعت رقبتها في غل نهائي ل مراجعة فيه ..هي
قد اختارت الجحيم بالفعل ..بل إنها في ذاتها قبضة نار ل مكان لها إل في الجحيم. )نار وقودها الناس و الحجارة( ًا
يقول ربنا إن هذه النفوس هي وقود النار و جمراتها و مصدر الطاقة النارية فيها ،و معنى هذا أنها أشد نارية من النار. و المنتحر يتصور أنه سوف يتخلص من نفسه ،و لكن ل خلص و ل مهرب لنسان من ذاته ،فهو لن يخرج بالنتحار إلى راحة ،بل هو خارج من النار الصغرى إلى النار الكبرى
و من النار الزمنية إلى النار البدية.
ل. و لنتجنب هذا المصير فإننا لبد أن نتجنب المشكلة أص ً ل هي التعلق ..و من ليس له تعلق بشيء ل ينتحر لشيء. و المشكلة أص ً و ل يجوز عند المؤمنين تعلق إل بال فهو وحده جامع الكمالت ،الدائم الباقي الذي ل يتغير و ل تخيب عنده التوقعات و ل تضيع المال.
و ال هو المحبوب وحده على وجه الصالة و ما نحب في الخرين إل تجلياته و أنواره،
فجمال الوجوه من نوره و حنان القلوب من حنانه فنحن ل نملك من أنفسنا شيئ ًا إل بقدر ما
يخلع علينا سيدنا و مولنا من أنواره و أسمائه.
فنحن ل نحب في بعضنا إل هو. و هو حاضر ل يغيب و ل يهجر و ل يغدر و ل يغلق بابه في وجه لجىء و ل يطرد من رحابه ملهوف.
فالواقفون عنده مطمئنون راضون ناعمون ل يخطر لهم النتحار على بال سعداء في جميع
الحوال.
إنما ينتحر الذي تعلق بغيره. الذي تعلق بليله و معشوقته و ظن أن جمالها منها فتعلق بها لذاتها تعلق عبادة ،و أصبح يتوقع منها ما يتوقع عبد من معبود و ربط نفسه بها رباط مصير .و نسى أنها ناقصة
كسائر الخلق و محل للتغير و التبدل تتداول عليها الحوال و التقلبات فتكره اليوم ما أحبته
بالمس و تزهد غد ًا فيما عشقته اليوم. و نسى أن جمالها مستعار من خالقها و أنها إعارة لجل و حينما ينتهي الجل ستعود أقبح من القبح. مثل هذا الرجل المحجوب الغافل إذا أفاق على الصحوة المريرة و فاجأه الغدر و التحول، يشعر شعور من فقد كل رصيده و أفلس إفلس الموت و لم يبق له إل النتحار. و لو أنه رأى جمالها من خالقها لحب فيها إبداع صنعة الصانع و لكان من أهل التسبيح الذين يقولون عند رؤية كل زهرة ..ال ..فإذا رأوها في آخر النهار ذابلة ..قالوا حق ًا ل إله
إل ال ..فحبهم ل و في ال و روابطهم روابط مودة و معروف ل مقصد لها و ل غرض و ل توقع ..فالغدر ل يفاجئهم و الهجر ل يصدمهم و شأنهم كما يقول المثل العامي ..اعمل الخير و ارمه البحر ..يبسطون أيديهم بالمعونة دون حساب لي عائد و دون توقع لثمرة.
هؤلء هم أهل السلمة دائم ًا. و هم أهل الطمأنينة و السكينة ل تزلزلهم الزلزل و ل تحركهم النوازل. هم أهل الطمأنينة اليوم. و هم أهل الطمأنينة يوم الفزع الكبر ..يوم ل تملك نفس لنفس شيئا ،و يوم ل ينفع مال و ل بنون.
و هؤلء ل يتعلقون إل بال. و ل يؤملون إل في ال. و ل يتوقعون إل من ال. إن المشكلة هي بالدرجة الولى مشكلة إيمان ..فكلما وضعت التكنولوجيا في يد النسان كبر و تمرد ًا ،و ازداد تعلق ًا و ارتباط ًا بالصنام غرور و ًا ًا قوة و ثروة و استغناء ازداد بعد ًا و
المادية التي خلقها ،و ازداد خضوع ًا للملذات التي يسرها لنفسه ..و تصور أن قوته سوف
تعصمه و علمه سوف يحميه فأمعن في غروره. و هل عصم الجبل ابن نوح من الطوفان ؟! بل كان من المغرقين. ) فل عاصم اليوم من أمر ال إل من رحم .(
ضع يدك في يد ال و ل تبرح و حسبك من علقتك بالناس أن تبذل لهم مودتك و رحمتك على غير توقع لشيء ..فذلك هو قارب النجاة في عالم اليوم ..عالم النتحار و المنتحرين.
مسرح العرائس أشعر بالندم يا إلهي حتى نخاع العظم من أني ذكرت سواك بالمس و هتفت بغير اسمك و طافت بخاطري كلمات غير كلماتك. سمحت لنفسي أن أكون مرآة للسراب و مستعمرة للشباح. جهلت مقامي و نزلت عن رتبتي و ترجلت عن فرسي الصيلة لركب توافه المور و
لمشي مع السوقة و أزحف على بطني مع دود الرض.
خدعني شيطاني و استدرجني إلى مسرح العرائس الذي يديره و إلى تماثيل الطين و الزجاج
و الحلي المزيفة.
استدرجني إلى بيوت القماش و قصور الورق و قدمني إلى ناس يبتسمون للمصلحة و
يحبون للشهوة و يقتلون للطمع و يتزاوجون للتآمر..
رجال وجوههم ملساء مدهونة و نظراتهم خائنة و لمساتهم ثعبانية و نساء تغطيهن
المساحيق فل تبدو ألوانهن الحقيقية بشرتهن مشدوة و وجوههن مكوية و خطواتهن حربائية
و أيديهن تتسلل إلى القلوب يسرقن كل شيء حتى الحقائق.
عالم جذاب كذاب يضوع بالعطور و يبرق بالكلمات ..عالم لزج معسول تغوص فيه الرجل كما يغوص النمل في العسل حتى يختنق بحلوته و يموت بلزوجته. و الصوات في هذا العالم كلها هامسة مبللة بالشهوة تتسلل إلى ما تحت الجلد و تخترق الضمائر و تأكل اليمان من الجذور. تذكرتك يارب و أنا أمشي في هذا العالم فشعرت بالغربة و النفصال و لم أجد أحدا أكلمه و يكلمني و أفهمه و يفهمني ..نبذوني كلهم و رفضوني كما نبذتهم و رفضتهم ..و أحسست بنفسي وحيدا غريبا مطرودا ..ملقى على رصيف أبكي كطفل يتيم بل أم.
و سمعت في قلبي صراخا يناديك. كانت كل خلية في بدني تتوب و تئوب و ترجع و سمعتك تقول في حنان ..لبيك عبدي.. و رأيت يدك التي ليس كمثلها شيء تلتقطني و تخرجني من نفسي إلى نفسك. و اختفى ديكور القماش و الورق و ذاب مسرح الخدع الضوئية. و عاد الل شيء إلى الل شيء. و عدت أنا إليك. ل إله إل أنت. سبحانك و ل موجود سواك
القرب منك يضيف. و البعد عنك يسلب. لنك وحدك اليجاب المطلق. و كل ما سواك سلب مطلق. علمت ذلك بالمكابدة و أدركته بالمعاناة و عرفته بالدم و العرق و الدموع و مشوار الخطايا و الذنوب و أنا أقع في الحفر و أتعثر في الفخاخ ..و كلما وقعت في حفرة شعرت بيدك
تخرجني بلطف و كلما أطبق علّي فخ رأيتك تفتح لي سبيل للنجاة ..و كلما وضعوني في
الغلل و أحكموا علّي الوثاق شعرت بك في الوحدة و الظلمة تفك عني أغللي و تربت على كتفي في حنان و إلهامك يهمس في خاطري ..أما كفاك ما عانيت يا عبدي.
أما اتعظت ..أما اعتبرت ..أما جاء اليوم الذي تثبت فيه قدمك و تتقر خطاك على الطريق.
فأقول باكيا. سبحانك يارب و هل هناك تثبيت إل بك و هل هناك تمكين إل بإذنك. أنت وحدك الذي أصلحت الصالحين و ثبت الثابتين و مكنت أهل التمكين. تعطي لحكمة و تمنع لحكمة و ل تسأل عما تفعل. شفيعي إليك صدقي.
و عذري إليك حبي للحق. و ذريعتي إلى عفوك رغبتي في الخير. فمن خطيئاتي نبتت الحكمة كما تنمو أزهار الياسمين من الرض السبخة. و من دموع ندمي علمت الناس فصدقوني حينما كلمتهم لنهم أروا كلماتي مغموسة بدمي و من عثراتي و سقطاتي أضأت مصباحا هاديا يجنب الناس العثرات.
و كل من عبر طريقي قلت له كلمة صدق و دللته على السلمة. ربنا ما أتيت الذنوب جرأة مني عليك و ل تطاول على أمرك و إنما ضعفا و قصو ار حينما غلبني ترابي و غلبتني طينتي و غشيتني ظلمتي. إنما أتيت ما سبق في علمك و ما سطرته في كتابك و ما قضى به عدلك. رب ل أشكو و لكن أرجو. أرجو رحمتك التي وسعت كل شيء أن تسعني. أنت الذي وسع كرسيك السماوات و الرض.
ل شيء يساوي الحرية
ل: حينما رفع النبي يوسف أكف الدعاء لربه مستنجد ًا من غواية النسوة قائ ً ) رب السجن أحب إلّي مما يدعونني إليه .( كان يطلب حري ًة و لم يكن يطلب سجن ًا. و المسألة نسبية ..فما يحصل عليه من حرية في زنزانة و هو مقيد اليدين و القدمين أكثر بكثير مما يتبقى له من حرية ساعة شهوة .فحينما تجمح الشهوة ل تبقي لصاحبها حرية
فهو ل يرى إل على مرمى ساقين و ل يسمع إل على مرمى شفتين و ل يعي حكمة و ل
يبصر عاقبة و ل يحفظ عهد ًا و ل يرعى واجب ًا ..و هو أعمى أصم مقيد الذراعين و
الساقين إلى حركة آلية و فعل ل معقول كل هرموناته و دمه و فكره و حسه و مواهبه في
خدمة هذه اللحظة اللمعقولة من الشباع و الفناء الذي يشبه السقوط في هّوةة اللشيء..
و ذلك هو منتهى السجن و منتهى استنفاد الطاقة و استفراغ القوة و إنهاك العزم و تبديد
الهمة ..ثم ل يكون بعد ذلك إل الخمول و البلدة و السترخاء و الرغبة في النوم و الرغبة في عدم التفكير في شيء.
تلك الزوبعة التي تعصف بالدم و تطيش بالعقل و تذيب المفاصل و تأسر الجسد و هي ذروة العبودية. و لهذا قال النبي يوسف صارخ ًا. ب السجن أحب إلي من هذا الخضوع لهؤلء النسوة ..فالزنزانة و ل شك أرحب و أوسع رّ من قبضة شهوة امرأة حينما تتسلل إلى النخاع و تعتصر المخ و تحجب العينين و تسّد الذنين و تغلق منافذ القلب فل يعود شيء في الكون يسمع إل لهاث أنفاسها ..فكأنما أصبحت هي المحراب و الصنم و القبلة ..و مائدة القرابين.
و السجن هنا منتهى الحرية بالنسبة لهذا القيد الشامل المطلق ..و هو أحب ألف مرة لي رجل في كمال و عقل النبي يوسف يريد أن يصعد و يحلق إلى السماوات فل شيء يساوي الحرية أبد ًا.
ل محلق ًا و فؤاد ًا ل طليق ًا و خيا ً و أي لذة و أي مقابل فوري مادي أو حسي ل يساوي عق ً
مسافر و أقدام ًا ساعية ل تحد حركتها حدود. ًا مهاجر و قلب ًا ًا فكر طائر و ًا ًا مرفرف ًا و وجدان ًا
نعم ل شيء يساوي الحرية. و أحسن استثمار للحرية أن تبذلها لوجه ال فتجعلها في خدمة الحق و العدل و الخير.. فالعبودية للخالق تحررك من العبودية للخلق و تخلع الحاكمية عن كل الذين حكموك فل
يعود يحكمك أحد و ل يعود يحكمك شيء ..بل تصبح أنت بحكم الخلفة عن ال حاكم ًا على الكل ..و تصبح لكلماتك ربانية على الجميع ..و يطيعك البر و البحر و الريح و تنقاد لك الشعوب و يستمع إليك التاريخ.
كيف تبلغ هذه الدرجة من الحرية؟ يقول سادتنا الكابر: منذ أن تفتح عينيك لتصحو حتى تغلقهما لتنام ل تعلق همتك بأمر من المور الدون. ل تنم على غّل و ل تصَح على شهوة و ل تسع إلى طمع و ل تسابق إلى سلطة و إنما
اجعل همك و اهتمامك في الخير و البر و الحق و الصدق ،و المروءة و المعونة قاصدا
وجه ربك على الدوام.
حاول أن يكون فعلك مطابق ًا لقولك ،و سلوكك مطابق ًا لدعوتك ..فإذا غلبتك بشريتك و
هزمك هواك في لحظة ..ل تيأس و إنما استنجد و استصرخ ربك ..و قل :الغوث يارب.. يقل لك لبيك عبدي و يخرجك بيده من ظلمة نفسك إلى نور حضرته.
فإنك إن كنت أحد عّم اةل ال في الرض و أحد سفرائه إلى قلوب الناس ..فإنه سوف
يرحمك إذا أخطأت و يغفر لك إذا أسأت و يعيدك إلى الطريق إذا انحرفت ..و سوف يرعاك و يتولك لنك من جنده و حاشيته و خاصته. و ل تيأس مهما بلغت أوزارك و ل تقنط مهما بلغت خطاياك ..فما جعل ال التوبة إل للخطاة و ما أرسل النبياء إل للضالين و ما جعل المغفرة إل للمذنبين و ما سمى نفسه
الغفار التواب العفو الكريم إل من أجل أنك تخطئ فيغفر.
جدد استغفارك كل لحظة تجدد معرفتك و تجدد العهد بينك و بين ربك و تصل ما انقطع
بغفلتك.
و اعلم أن ال ل يمل دعاء الداعين ..و أنه يحب السائلين الطالبين الضارعين الرافعي
الكف على بابه ..و إنما يمقت ال المتكبر المستغني المختال المعجب بنفسه الذي يظن
أنه استوفى الطاعة و بلغ غاية التقوى و قارب الكمال ..ذلك الذي يكلم الناس من عل و يصافحهم بأطراف النامل.
ثم بعد التوبة و الستغفار و التخلي عن الذنوب و التبرؤ من الحول و الطول ..يأتي التحبب و التقرب و التخلق و التحقق.
حاول أن تتحلى بأخلق سيدك ..فإذا كان هو الكريم الحليم الصبور الشكور العفو الغفور ..فحاول أن يكون لك من هذه الصفات نصيب.
فإذا غالبتك نفسك المارة ..اسجد و ابك و تضرع و توسل ..و قل بين دموعك: يا من عطفت على الطين فنفخت فيه من جمالك و كمالك. يا من أخرجت النور من الظلمة. يا من تكرمت على العدم أخرجني من كثافتي و حررني من طينتي و خلصني من ظلمتي و قوني على ضعفي و أعني على نفسي ..فل أحد سواك يستطيع أن يفعل هذا ..أنت يا صانعي بيديك. ثم يقول سادتنا الكابر : إن الجهاد يطول فل تتعجل الثمر ..فكلما عظمت الهداف طال الطريق ..فل تبرح
الباب ..و أطل السجود ..و أدم البكاء ..فإنك ل تطلب نيشان ًا أو جائزة و إنما تطلب وجه
صاحب العرش العظيم. تطلب رب السماوات.
تطلب العزيز الذي ل يرام. و ذلك مطلب ل يبلغه طالب إل بعد أن يبتلى و يمتحن و يتحقق إخلصه ..و يشهد الملئكة منزلته و يرى المل العلى بينته. فكيف يصحب الملئكة المقربين إل النفر الكرام الذين تخلقوا بأخلقهم.
و كيف تصعد إلى السماوات إل بعد أن تلقي بمتاعك الرضي و أثقالك ..ثم تلقي بنفسك الحيوانية من حالق ..ثم تلقي بغرورك و أنانيتك و شهواتك و أطماعك ..و تتجرد من نور من نوره. دواعي بشريتك ..و تعود كما خلقك ال ًا
حينئذ تبلغ الحرية حق ًا ..و تشاكل البرار و الشهداء و القديسين و الملئكة. و ذلك معراج يحتاج إلى عمر بطوله و إلى زاد من التقوى و المحبة و الطاعة و صبر على البلء و ل يقدر على هذا إل آحاد. و لهذا خلقت الجنة. و لهذا كانت الكثرية ترتع في النار من الن.
دعاء العبد الخطاء إلهي .. إنك ترى نفسي و ل يراها سواك . تراها كالبيت الكبير الذي تصدعت منه الجدران و تهاوت السقوف و انكفأت الموائد . مهجور يتعاوى فيه الذئاب و يلهو فيه القردة و تغرد العصافير . ًا بيت ًا
ساع ًة تتلل فيه النوار و تموج فيه أشعة القمر . و ساع ًة أخرى مظلم ًا مطموس ًا محطم المصابيح تسرح فيه العناكب . مرة ً تحنو عليه يد الربيع فتتفتح الزهور على نوافذه و تصدح البلبل و تغزل الديدان الحرير
و تفرز النحلت الطنانة العسل.
جدار قائم ًا لول ذلك الحبل الممدود الذي ًا و مرة ً أخرى يأتي عليه الزلزال فل يكاد يخلف ينزل بالنجدة من سماوات رحمتك . حبل ل إله إل أنت سبحانك . أنت الفاعل سبحانك و أنت مجري القدار و الحكام ..و أنت الذي امتحنت و قويت و
أضعفت و سترت و كشفت ..و ما أنا إل السلب و العدم ..و كل توفيق لي كان منك و كل هداية لي كانت بفضلك و كل نور كان من نورك ..ما أنا إل العين و المحل و كل ما جرى علي من استحقاقي و كل ما أظهرت فّي كان بعدلك و رحمتك ..ما كان لي من
المر شيء .
و هل لنا من المر شيء !؟ مولي ..يقولون إن أكبر الخطايا هي خطايا العارفين ..و لكني أسألك يارب أين العارف
أو الجاهل الذي استطاع أن يسلم من الفتنة دون رحمة منك ..و أنت الذي سويت نفوسنا و خلقتها و وصفتها بأنها ) لمارة بالسوء إل ما رحم ربي . (
و أين من له الحول و القوة بدونك ..و هذا جبريل يقول لنبيك ل حول من معصية إل بعصمة ال و ل قوة على طاعة ال إل بتمكين ال . و هل استعصم الذين استعصموا إل بعصمتك و هل تاب الذين تابوا إل بتوبتك ..و هل استغفروا إل بمغفرتك . إلهي ..لقد تنفست أول ما تنفست بك و نطقت بك و سمعت بك و أبصرت بك و مشيت بك و اهتديت بك ..و ضللت عندما خرجت عن أمرك . سألتك يارب بعبوديتي أن ترفع عني غضبك ..فها أنا ذا و قد خلعت عن نفسي كل الدعاوي و تبرأت من كل حْو ل ةو طْو ل ةو لبست الذل في رحاب قدرتك . إنك لن تضيعني و أنا عبدك . لن تضيع عبد ًا ذل لربوبيتك و خشع لجللك . و كيف يضيع عبد عند مول ًى رحيم فكيف إذا كان هذا المولى هو أرحم الراحمين . ب اجذبني إليك بحبلك الممدود لخرج من ظلمتي إلى نورك و من عدميتي إلى وجودك و رّ من هواني إلى عزتك ..فأنت العزيز حق ًا الذي لن تضرك ذنوبي و لن تنفعك حسناتي .
إن كل ذنوبنا يارب لن تنقص من ملكك . و كل حسناتنا لن تزيد من سلطانك . فأنت أنت المتعال على كل ما خلقت المستغني عن كل ما صنعت .
و أنت القائل : هؤلء في الجنة و ل أبالي و هؤلء في النار و ل أبالي . و أنت القائل على لسان نبيك : ) ما يعبأ بكم ربي لول دعاؤكم ( فها أنا أدعوك فل أكف عن الدعاء ..فأنا المحتاج ..أنا المشكلة ..و أنا المسألة . أنا العدم و أنت الوجود فل تضيعني . عاوني يارب على أن اتخطى نفسي إلى نفسي ..أتخطى نفسي المارة الطامعة في حيازة الدنيا إلى نفسي الطامعة فيك في جوارك و رحمتك و نورك و وجهك . فقر و كلما طاوعت رغائبي ازدادت جوع ًا و لقد جربت حيازة كل شيء فما ازددت إل ًا إلحاح ًا و تنوع ًا .
حينما طاوعت شهوتي إلى المال ازددت بالغنى طمع ًا و حرص ًا و حينما طاوعت شهوتي
إلى النساء ازددت بالشباع عطش ًا و تطلع ًا إلى التلوين و التغيير ..و كأنما أشرب من ماء مالح فأزداد على الشرب ظم ًأ على ظمأ .
و ما حسبته حرية كان عبودية و خضوع ًا للحيوان المختفي تحت جلدي ثم هبوط ًا إلى درك اللية المادية و إلى سجن الضرورات و ظلمة الحشوة الطينية و غلظتها . كنت أسقط و أنا أحسب أني أحلق و أرفرف .
و خدعني شيطاني حينما غلف هذه الرغبات بالشعر و زوقها بالخيال الكاذب و زينها بالعطور و زفها في أبهة الكلمات و بخور العواطف ،و لكن صحوة الندم كانت توقظني
المرة بعد المرة على اللشيء و الخواء .
إلهي ..لم تعد الدنيا و ل نفسي الطامعة في الدنيا و ل العلوم التي تسخر لي هذه الدنيا و ل الكلمات التي احتال بها على هذه الدنيا ..مرادي و ل بضاعتي .
و إنما أنت وحدك مرادي و مقصودي و مطلوبي فعاوني بك عليك و خلصني بك من سواك و أخرجني بنورك من عبوديتي لغيرك فكل طلب لغيرك خسار .
أنت أنت وحدك ..و ما أرتضي مشوار هذه الدنيا إل لدللة هذا المشوار عليك و ما
يبهرني الجمال إل لصدوره عنك و ما أقصد الخير و ل العدل و الحرية و ل الحق إل لنها تجليات و أحكام أسمائك الحسنى يامن تسميت بأنك الحق .
و لكن تلك هجرة ل أقدر عليها بدونك و نظرة ل أقوى عليها بغير معونتك ..فعاوني و اشدد أزري ..فحسبي النية و المبادرة فذلك جهد الفقير ..فليس أفقر مني ..و هل بعد
العدم فقر ..و قد جئت إلى الدنيا معدم ًا و أخرج منها معدم ًا و أجوزها معدم ًا ..زادي منك
و قوتي منك و رؤيتي منك و نوري منك .
و اليوم جاءت الهجرة الكبرى التي أعبر فيها بحار الدنيا دون أن أبتل و أخوض نارها دون أن أحترق ..فكيف السبيل إلى ذلك دون يدك مضمومة إلى يدي . و هل يدي إل من صنع يدك ؟ ..و هل يدي إل من يدك ؟! و هل هناك إل يد واحدة ؟
ل إله إل أنت سبحانك إني كنت من الظالمين . سبحانك ل أرى لي يد ًا . سبحانك ل أرى سواك . ل إله إل ال . ل إله إل ال حق ًا و صدق ًا . و ذاتك هي واحدة الحسن . الحسن كله منها . و الحب كله لها . و يدك هي واحدة المشيئة . الفعل كله منها و القوة كلها بها و إن تعددت اليدي في الظاهر و ظن الظانون تعدد
المشيئات ..و إن تعدد المحبون و تعددت المحبوبات ..ما يركع الكل إل على بابك و ما
دينار أو يقبل خد ًا ًا يلثم الكل إل أعتابك ..مؤمنون و كفرة ..و إن ظن الكافر أنه يلثم فإنما هي أيادي رحمتك أو أيادي لعنتك هي ما يلثم و يقبل دون أن يدري .
و إنما هي أسماء و أفعال و أوصاف . و المسمى واحد . و الفاعل واحد .
و الموصوف واحد . ل إله إل هو . ل إله إل ال . الحمد له في الول و الخر . رفعت القلم و طويت الصحف و انتهت الكلمات .
الحب ما هو؟ لو سألني أحدكم ..ما هي علمات الحب و ما شواهده لقلت بل تردد أن يكون القرب من المحبوبة أشبه بالجلوس في التكييف في يوم شديد الح اررة و أشبه باستشعار الدفء في يوم بارد ..لقلت هي اللفة و رفع الكلفة و أن تجد نفسك في غير حاجة إلى الكذب ..و أن
يرفع الحرج بينكما ،فترى نفسك تتصرف على طبيعتك دون أن تحاول أن تكون شيئا آخر
لتعجبها ..و أن تصمتا أنتما الثنان فيحلو الصمت ،و أن يتكلم أحدكما فيحلو الصغاء..
و أن تكون الحياة معا هي مطلب كل منكما قبل النوم معا ..و أل يطفئ الفراش هذه
الشواق و ل يورث الملل و ل الضجر و إنما يورث الراحة و المودة و الصداقة ..و أن
تخلو العلقة من التشنج و العصبية و العناد و الكبرياء الفارغ و الغيرة السخيفة و الشك
الحمق و الرغبة في التسلط ،فكل هذه الشياء من علمات النانية و حب النفس و ليست
من علمات حب الخر ..و أن تكون السكينة و المان و الطمأنينة هي الحالة النفسية كلما التقيتما. و أل يطول بينكما العتاب و ل يجد أحدكما حاجة إلى اعتذار الخر عند الخطأ ،و إنما تكون السماحة و العفو و حسن الفهم هي القاعدة ..و أل تشبع أيكما قبلة أو عناق أو أي مزاولة جنسية و ل تعود لكما راحة إل في الحياة معا و المسيرة معا و كفاح العمر معا.
ذلك هو الحب حقا. و لو سألتم ..أهو موجود ذلك الحب ..و كيف نعثر عليه؟ لقلت نعم موجود و لكن نادر.. و هو ثمرة توفيق إلهي و ليس ثمرة اجتهاد شخصي. و هو نتيجة انسجام طبائع يكمل بعضها البعض الخر و نفوس متآلفة متراحمة بالفطرة. و شرط حدوثه أن تكون النفوس خيرة أصل جميلة أصل. و الجمال النفسي و الخير هو المشكاة التي يخرج منها هذا الحب. و إذا لم تكن النفوس خيرة فإنها ل تستطيع أن تعطي فهي أصل فقيرة مظلمة ليس عندها ما تعطيه.
و ل يجتمع الحب والجريمة إل في الفلم العربية السخيفة المفتعلة ..و ما يسمونه الحب في تلك الفلم هو في حقيقته شهوات و رغبات حيوانية و نفوس مجرمة تتستر بالحب
لتصل إلى أغراضها. أما الحب فهو قرين السلم و المان و السكينة و هو ريح من الجنة ،أما الذي نراه في الفلم فهو نفث الجحيم.
و إذا لم يكن هذا الحب قد صادفكم و إذا لم يصادفكم منه شيء في حياتكم فالسبب أنكم لستم خيرين أصل فالطيور على أشكالها تقع و المجرم يتداعى حوله المجرمون و الخير الفاضل يقع على شاكلته..
و عدل ال ل يتخلف فل تلوموا النصيب و القدر و الحظ و إنما لوموا أنفسكم. و قد يمتحن ال الرجال البرار بالنساء الشريرات أو العكس و ذلك باب آخر له حكمته و أس ارره. و قد سلط ال المجرمين و القتلة على أنبيائه و امتحن بالمرض أيوب و بالفتنة يوسف و بالفراعين الغلظ موسى و بالزوجات الخائنات نوحا و لوطا. و أسرار الفشل و التوفيق عند ال ..و ليس كل فشل نقمة من ال. و قد قطع الملك هيرودوس رأس النبي يوحنا المعمدان و قدمها مه ار لبغي عاهرة. و لم يكن هذا انتقاصا من قدر يوحنا عند ال ..و إنما هو البلء. فنرجو أن يكون فشلنا و فشلكم هو فشل كريم من هذا النوع من البلء الذي يمتحن النفوس
و يفجر فيها الخير و الحكمة و النور و ليس فشل النفوس المظلمة التي ل حظ لها و ل قدرة على حب أو عطاء. و نفوسنا قد تخفي أشياء تغيب عنا نحن أصحابها .و قد ل تنسجم امرأة و رجل لن نفسيهما مثل الماء و الزيت متنافرتان بالطبيعة ،و لو كانا مثل الماء و السكر لذابا و
امتزجا و لو كانا مثل العطر و الزيت لذابا و امتزجا ..و المشكلة أن يصادف الرجل المناسب المرأة المناسبة.
و ذلك هو الحب في كلمة واحدة :التناسب .تناسب النفوس و الطبائع قبل تناسب الجسام و العمار و الثقافات. و قد يطغى عامل الخير حتى على عامل التناسب فنرى الرسول محمدا عليه الصلة و السلم يتزوج بمن تكبره بخمسة و عشرين عاما و يتزوج بمن تصغره بأربعين عاما فتحبه
الثنتان خديجة و عائشة كل الحب و ل تناسب في العمر و ل في الثقافة بينهما فهو النبي الذي يوحى إليه و هما من عامة الناس. و نراه يتزوج باليهودية صفية صبيحة اليوم الذي قتل فيه جيشه زوجها و أباها و أخاها و شباب قومها و زهرة رجالهم واحدا واحدا على النطع في خيبر ..يتزوجها بعد هذه المذبحة فنراها تأوي إلى بيته و تسلم له قلبها مشغوفة مؤمنة و لم تكد دماء قومها تجف ..فكيف
حدث هذا و ل تناسب و إنما أحقاد و أضغان و ثارات.. إنه الخير و الخلق السمى في نفس الرسول الكريم – صلى ال عليه و سلم -هو الذي قهر الظلمة و هو الذي حقق المعجزة دون شروط.. إنه النور الذي خرج من مشكاة هذا القلب المعجز فصنع السحر و أسر القلوب و طوع النفوس حتى مع الفوارق الظاهرة و عدم التناسب و مع الضغان و الحقاد و الثارات.. إنما نتكلم نحن العاديون عن التناسب.. أما في مستوى النبياء فذلك مستوى الخوارق و المعجزات.. و ما زالت القلوب الخيرة و النفوس الكاملة التي لها حظ من هذا المستوى قادرة على بلوغ الحب و تحقيق النسجام في بيوتها برغم الفروق الظاهرة في السن و الثقافة..
ذلك أن الحب الذي هو تناسب و انسجام بالنسبة لنا نحن العاديين ..هو في المستوى العلى من البشر نفحة إلهية.. و من ذا الذي يستطيع أن يقيد على ال نفحاته أو يشترط عليه في هباته.. و إذا شاء ال أن يرحم أحدا فمن ذا الذي يستطيع أن يمنع رحمته.. و الحب سر من أعمق أسرار رحمته.. و ل ينتهي في الحب كلم..
البتهال
إلهي ..يا منبع جميع النوار ترى من نحب حينما ننظر إلى بعضنا البعض..؟! و هل نحب إل نورك أنت و أثر يديك على الصلصال و هل يسكرنا إل نفخة روحك التي نفختها فينا
و هل نطالع في كل جميل إل وجهك و هل كل يد شافية و كل قبلة رحيمة إل ترجمان رحمتك فكيف يا إلهي تضل بنا الودية و تتفرق بنا السكك و نخرج من اسمك إلى أسمائنا فنسجن أنفسنا في هذا الصدر أو نتوه في ذلك العنق أو نهاجر في تلكما العينين و تتسكع أيدينا
على نحاس الضرحة فنلثم الشفاه و يخيل إلينا أننا نذوق خمرك و ما نذوق إل زجاج الكؤوس التي أودعت فيها ذلك الرحيق الخفي الذي هو سر أسرارك.
و يخيل إلينا أننا بلغنا المنتهى و ما بلغنا إل لمس الغلف و تحسس المحارة أما اللؤلؤ داخل المحارة ..و النور المغيب في شغاف القلوب و السر المودع في العيون فليس لنا منه
إل حظ القرب و المطالعة و الستشراف من بعد حيث ل وصال و ل اتصال و ل انفصال و ل نوال ..و إنما في الذروة من الحساس ..يأتي ذلك الغماء ..و تلك الغيبوبة
الصاحية ..و تلك النشوة الغامرة ..حينما نوشك أن نكون قاب قوسين أو أدنى من لقاء
السر بالسر. و ل سر إل سرك و إن تعددت السماء و تنوعت المفاتن و اختلفت الوجوه. إنما هو أنت وحدك المحبوب أينما توجه قلب محب ..و أنت وحدك المعبود أينما توجهت نظرات عابد.
و أنت وحدك الرزاق و إن تعددت اليدي التي تعطي. إنما تستمد جميع المصابيح نورها من نورك. كل مصباح يأخذ منك على حسب استعداده .و يعطي من نورك على حسب شفافيته.
و لكن العطاء في الصل منك و الجمال منك و النور منك. سبحانك ل شريك لك. سبحانك و الحمد لك. سبحانك والحب لك. يارب ..سألتك باسمك الرحمن الرحيم أن تنقذني من عيني فل تريني الشياء إل بعينك أنت و تنقذني من يدي فل تأخذني بيدي بل بيدك أنت تجمعني بها على من أحب عند
موقع رضاك ..فهناك الحب الحق ..و هناك أستطيع أن أقول ..لقد اخترت ..لنك أنت الذي اخترت ..و أنت الوحيد الذي توثق جميع الختيارات و تبارك كل الحريات ..أنت الحرية و منك الحرية و بك الحرية و أنت الحب و منك الحب و بك الحب.
أنت الحق و الحقيقة. و ما عدا ذلك أضرحة و نحاس و خشب و صلصال و حجارة و أهداب و عيون و محاجر و أوثان تسجد لوثان. ل تدعني يا إلهي في الظلمة ألثم الحجارة و أعانق الصلصال و أعبد الوثن. بشفة الشيطان لثمت هذه الشياء و ظننت أنها شفتي و بذراعي الشيطان عانقت و ظننت
أنهما ذراعاي.
استحلفتك بضعفي و قوتك و أقسمت عليك بعجزي و اقتدارك
إل جعلت لي مخرجا من ظلمتي إلى نوري و من نوري إلى نورك سبحانك... ل إله إل أنت ل إله إل ال.
أراد أن يرحمها هي صاحبة مال و جمال و دلل. في أناملها الرقيقة المرصعة من خواتم الماس و الزمرد ما يكفي لبناء جامعة. و على كتفيها معطف أنيق من فراء الفيزون النادر يكفي للنفاق على مستشفى. و في جراج بابا ثلث عربات مرسيدس أمد ال في عمره و هو ل يرد لها طلبا ..و كلما رفض لها عريسا زادها في أصابعها خاتما. و هي بعد أن امتلكت الدنيا ل تعرف ماذا تريد بالضبط. و هي و إن كانت ل تعرف ماذا تريد فإنها تعرف تماما ماذا ترفض.
و هي ترفض كل ما يطرق عليها الباب. حتى الطقس ترفضه ..فهو دائما حار أكثر من اللزم أو بارد أكثر من اللزم ..أو غائم
أكثر من اللزم أو صحو أكثر من اللزم أو رطب أكثر من اللزم.
كما أن الطعام دسم أكثر من اللزم أو مملح أكثر من اللزم أو مسكر أكثر من اللزم أو ساخن أكثر من اللزم أو بارد أكثر من اللزم.
و لبد أن ترى في كل شيء عيبا. نوع من الدلع و سوء التربية. عقدة الترف و الوفرة. و أف من هذا. و أف من ذاك. بردانة ..حرانة ..متضايقة ..قلقانة ..زهقانة ..يرن تليفونها كل ثلث دقائق. تبكي بل سبب. من الضجر أحيانا.. أو من عبء حرية ل تعرف فيما تنفقها و ل كيف تنفقها. أو من أثقال ثروة ل تعرف كيف تبددها.
أو من وطأة زمن ل معقول يجرجر وراءه العقم و اللجدوى ..و العبث الفارغ. رأيتها تدور كالفراشة حول غرفة نوم في معرض موبيليا ..و تحملق في الثاث المترف
بعيون نائمة ..على السرير بطاقة بالثمن 26ألف جنيه.
و من خلل أهدابها المطلية بالماسكا ار تتأمل وسائد ريش النعام و الدولب المكسو بالشاموا و الزرار اللكترونية في متناول اليد التي تطفئ و تدير و تغير قنوات التليفزيون المثبت في أقصى السرير و تشغل الستريو و البيك آب و الكاسيت. و سمعتها تمط شفتيها و تهمس في نبرة ل مبالية ..موش بطال. ل شك أنها سوف تحدث صاحبها في التليفون بعد دقائق في شأن هذه الغرفة. و ل شك بعد ذلك أنها سوف تنسى الموضوع. ثم إنها لن تفاجأ كثي ار حينما تطرق بابها عربة الثاث تحمل إليها غرفة النوم النيقة. و ل شك أنها سوف تتمدد عليها كقطة .و ل شك أنها سوف تتثاءب في ملل بعد دقائق.. ثم ما تلبث أن تفقد الشعور بجمالها و طرافتها. فإنها كالعادة ..كل شيء تملكه ما تلبث أن تزهده. ثم يعود كابوس الملل و الضجر ..و الزمن الثقيل الذي يجرجر قطار اللجدوى يضغط على أعصابها.
ل تحتقروها يا سادة.
و لكن أشفقوا عليها. فإن ال لم يحتقر شيئا حين خلقه. و لو أنه احتقر شأنها لما خلقها من البداية .و لكن كل ما في المر ..أنها امرأة مدللة لم تجد الب الذي يؤدبها و ل الم التي تنهرها و ل الدنيا التي تقهرها. و لكن ال ل يهمل أحدا.. و قد كتب على نفسه في أزله الرحمة للجميع. و قال عن نفسه أنه الرب ل رب سواه ..و قد اقتضت رحمته أن يقسو أحيانا على بعض خلقه ليصلحهم.. فإنه ل يرضى أن تكون لنا عيون و ل نبصر و تكون لنا آذان و ل نسمع. و قد شق اللحم ليفتح عيون الجنة في الرحام كما شق الرءوس ليفتح مجاري الذان. و قد شاء ربنا عناية منه بهذه المرأة أن يرحمها. فصحت الجميلة ذات صباح لتكتشف أنها مسلوبة نعمة البصر. انطبقت الظلمة على عينيها تماما فلم تعد تبصر شيئا. و صرخت و بكت و ارتعدت رعبا. و اجتمع على رأس فراشها طب المريكان و النجليز و الفرنسيين و السبان.
و تداول علماء الشرق و الغرب و انفضوا و هم يقلبون الكف يأسا و عجزا. و ل شفاء.. و ل حل.. و ل أمل في حل.. و في الظلمة المطبقة المطلقة ..كانت تتحسس وجه حبيبها و تبكي في حرقة و تهمس. هل تصدق أني لم أرى وجهك ..حينما كانت لي عينان و حينما كان لي بصر لم أكن أراك.
لم أكن أرى سوى رغباتي. لم أكن أشعر إل بنفسي. لم أكن أرى أحدا. كان العالم كله مجموعة من المرايا ل أرى فيها إل وجهي أنا ..و جمالي أنا ..و رغباتي أنا.. اليوم فقط أحاول أن أستشف ملمحك بأناملي و أحاول أن أتعرف عليك ..و أحاول أن أقترب منك. يا حبيبي كم أتمنى أن أراك ..و أن أعاشر وجهك بعيني. و بكت و غسلت يديه بدموعها.
صدقوها يا سادة. فهذه أول مرة تطلب شيئا بحق و تتمنى شيئا بحق ..و تشعر على وجه اليقين أن هناك
شيئا يسعدها.
صدقوها ...و اسألوا لها الشفاء. فاليوم ولدت إنسانيتها ..بفعل من أفعال الرحمة اللهية ..و بسر من أسرار ال الذي يخفي رحمته في عذابه.
بتصرف
مع تحيات موقع :السثثاخر www.alsakher.com