الاثم والبراءة[1]..مصطفى محمود

Page 1

‫مقتطفات من‬

‫)) أناشيد ال مثثم و البراءة((‬ ‫مصطفى محمود‬

‫و المحصول صفر‬ ‫ل يوجد وهم يبدو كأنه حقيقة مثل الحب‪..‬‬ ‫و ل حقيقة نتعامل معها و كأنها الوهم مثل الموت!! فليس هناك أمر مؤكد أكثر من‬

‫الموت‪ ،‬و مع ذلك ل نفكر أبدا بأننا سنموت‪ ،‬و اذا حدث و فكرنا ل يتجاوز تفكيرنا وهما‬ ‫عاب ار عبور النسيم‪.‬‬

‫و العكس في حالة الحب‪ ،‬فرغم أن الحب دائما أمر يزينه الخيال و يضخمه الوهم و‬ ‫يجسمه التصور و تنفخ فيه الشهوات‪ ،‬و رغم أن الحب يشتعل و ينطفئ و يسخن و يبرد و‬

‫رغم أن أحواله و تقلباته تشهد بأنه وهم كبير‪ ،‬ال أننا نتعامل معه بالرهبة و التقديس و‬ ‫الحترام و الخضوع‪ ..‬و نظل على هذا الخلط و الختلط حتى نفيق على الصدمة‬

‫فنصحو و نستعيد رشدنا ليام أو شهور أو سنوات و لكن ل نلبث أن نستسلم الى اغماء‬ ‫جديد‪.‬‬ ‫و سبب الخلط و الختلط هو دائما خطأ في النسبة‪ ..‬فنحن دائما ننسب الجمال الذي‬ ‫شاهدناه و الحنان الذي تذوقناه الى صاحبته مع أنها ليست صاحبته و ل مالكته‪ ..‬و لو‬


‫امتلكت امرأة جمالها لدام لها‪ ..‬و لكن الجمال لم يدم لحد‪ ،‬لنه منحة و اعارة من ال‬ ‫بأجل و ميقات و هو قرض يسترده في حينه‪ ..‬فصاحبه و مالكه هو ال و ليس أي امرأة‪.‬‬ ‫و كذلك كل ما نعشق من حنان و مودة و رأفة و حلم و كرم كلها خلع و منح و أوصاف‬ ‫مستعارة من الودود الرؤوف الحليم الكريم‪ ..‬و هو مالكها بالصالة‪ ..‬و نحن نملكها عنه‬ ‫بالقرض و العارة‪.‬‬

‫و لكن العين التي تعشق الجمال تخطئ نسبته و ملكيته فتظنه لصاحبته فتعشق صاحبته و‬ ‫تعبد صاحبته‪.‬‬

‫و هي تظل في هذا الوهم حتى تفيق على القبح يطل من تحت المساحيق و القسوة تظهر‬

‫من وراء الهداب فتصحو على الصدمة و تعاني و تتعذب و تندم و تعتبر و تتوب ثم تعود‬ ‫فتنسى و تنزلق إلى وهم جديد‪..‬‬

‫و تلك هي الغفلة المستمرة التي نعيش فيها جميعا‪ ..‬نفيق منها لحظات لنعود فنغرق في‬ ‫سباتها من جديد و ل يسلم من هذا البلء ال نبي معصوم أو ولي عارف يحفظه ربه و‬ ‫يسدل عليه كنفه‪ ..‬فل يرى حيثما تولى ال وجه ال‪.‬‬ ‫)فأينما تولوا فثم وجه ال‪( ‬‬ ‫فهو الجمال في كل جميل و هو الرأفة و الحنان و الكرم و الحلم و المودة‪ ..‬فتلك أسماؤه‬ ‫تتجلى في أواني الطين و الخزف الشفافة التي شفها الحساس حتى أصبحت مثل‬

‫الكريستال المضيء تماما كما يرى الفلكي نور القمر فيعرف أنه ليس نوره بل نور الشمس‬

‫تجلى عن وجهه‪.‬‬


‫و هكذا ل يرى هذا العارف أينما تولى ال وجه ال‪ ..‬و هو دائم الهمس ال‪ ..‬ال‪ ..‬ال‪..‬‬ ‫ال‪ ..‬ال‪ ..‬و هو ناظر دائما الى الظاهر و ليس الى المظاهر‪ ..‬ناظر الى ال الظاهر‬

‫دائما في كل شيء‪ ..‬ل يطرف‪ ..‬متعلق بالمعاني و ليس بالواني‪.‬‬

‫و هو لهذا ل ينقسم و ل يتشتت و ل يضيع في التلفت‪ ،‬و انما هو مجذوب الفؤاد الى ال‬ ‫على الدوام‪.‬‬

‫و لكن أمثال هذا الرجل قليل نادر مثل اللماس و اليورانيوم و أمثاله ل يتجاوزون‬ ‫أفرادا و آحادا بين ألوف المليين من الحشد المغمى عليه‬ ‫و هي غفلة عامة غالبة ل ينجي فيها علم و ل ثقافة و ل دكتوراه و ل ماجستير‪ ،‬فتلك‬

‫أبواب غرور تزيد من الغفلة‪ ..‬فنرى العالم يضع علمه في خدمة هواه‪ ،‬و عقله في خدمة‬ ‫عاطفته‪ ،‬و مواهبه في خدمة شهواته‪ .‬فتصبح بلواه مضاعفة و صدمته قاصمة للظهر‪.‬‬

‫و يمضي العمر في سلسلة من الغفلت و الغماءات مجموعها في الختام صفر‪ ،‬أو هي‬ ‫في الحقيقة حاصل طرح و ليست حاصل جمع‪ .‬فمجموعها في النهاية بالسالب و ليس‬

‫بالموجب فحياة صاحبها الى نقصان يوما بعد يوم و سنة بعد سنة‪ ..‬يخرج من وهم الى وهم‬ ‫و من خدعة الى خدعة‪ ..‬حاله مثل حال الشارب من ماء مالح‪ ،‬كلما ازداد شربا ازداد‬

‫عطشا‪ ..‬ل يحصل على سكينة و ل يبلغ اطمئنانا‪ ،‬و انما هو هابط دوما من قلق الى قلق‪،‬‬

‫و من تمزق الى تمزق‪ ،‬و من تشتت الى تشتت‪ ،‬حتى تنتهي حياته بل ثمرة‪ ،‬و ينتهي‬ ‫تحصيله بل جدوى‪.‬‬

‫و تلك هي العقلية الستمتاعية السائدة اليوم في عالم وثني‪ ،‬أصنامه اللذة و الغلبة و‬ ‫الهوى‪ ..‬معبود كل واحد نفسه و كتابه رأيه و دستوره مصلحته‪.‬‬


‫و الحال في المم المتخلفة و النامية أسوأ مما هو في المم المتقدمة‪ ..‬و هي أمم مجموعها‬ ‫أحيانا ))حاصل طرح أفرادها‪ ( ( ‬و ليس حاصل جمعهم‪ ،‬لنهم منفرطون منقسمون‬

‫متباعدون كالجزر التائهة في البحر‪ ..‬يضرب بعضهم بعضا‪ ..‬و عزمهم مستهلك‪ ..‬و‬ ‫قوتهم ل شيء‪..‬‬ ‫يتحدثون عن الوحدة‪.‬‬ ‫و ل وحدة ال بالواحد‪.‬‬ ‫هو وحده الواحد ل اله ال هو‪ .‬الذي يخرج به كل واحد من شتات نفسه و تخرج به المم‬ ‫من تفرقها و يخرج به العالم من انقسامه‪.‬‬ ‫و القضية بالدرجة الولى قضية ايمان‪.‬‬ ‫هي قضية رؤية‪..‬‬ ‫كيف نرى العالم‪..‬؟‬ ‫و كيف ننظر فيما حولنا‪..‬؟‬ ‫و كيف نحب‪..‬؟‬ ‫هل نستطيع أن نكون ذلك العارف الذي ل يرى في كل شيء ال الواحد‪ ..‬و ل يبصر ال‬

‫وجه ربه في كل محبوب‪.‬‬

‫هل يمكن أن نكون مصداق الية‪:‬‬


‫)أينما تولوا فثم وجه ال‪.( ‬‬ ‫و في هذا الطار نحب و في هذا الطار نكره‪ ..‬فنبذل المروءة و المعروف و المودة‬ ‫للجميع و ل يكون لنا تعلق و ل يكون لنا حب ال ال و بال و في ال‪.‬‬ ‫ذلك هو الجهاد الصعب‪.‬‬ ‫و ل اختيار‪..‬‬ ‫و ل طريق آخر‪.‬‬ ‫و كل واحد و عزمه‪.‬‬ ‫و كل واحد و همته‪..‬‬ ‫و عبرة كل حياة بختامها‪ ..‬فلنسارع الى المجاهدة و لنشمر السواعد حتى ل يكون محصول‬ ‫حياتنا صف ار و حتى ل يمضي بنا كل يوم الى نقصان و حتى ل يصبح كل يوم من أيامنا‬

‫مطروحا من الذي قبله‪.‬‬

‫انما خلق ال الغواية لمتحان القلوب و ليعرف الكبار أنفسهم و ليعرف الصغار أنفسهم من‬ ‫البداية‪..‬‬

‫الشجرة‬ ‫المرأة كالدنيا فيها تقلبات الفصول الربعة‪.‬‬


‫تفيء إليها ذات يوم فتجد الظل و الخضرة و العبير و الثمر و تلجأ إليها في يوم آخر فتراها‬ ‫تعرت عن أوراقها و جفت فيها الحياة و توقف العطاء ل ظل و ل زهر و ل ثمر‪.‬‬ ‫تتداول عليها الحوال تداول الليل و النهار و الربيع و الخريف و المطر و الجفاف و‬ ‫الجدب و النماء‪.‬‬ ‫فإن كنت عشقت الظل و الخضرة و العبير و الثمر فذلك ليس وجه المرأة فإن للمرأة كل‬ ‫وجوه الدنيا و هي تشرق و تغرب مثل القمر و تطلع و تأفل مثل الشمس و تورق و تذبل‬

‫مثل الورد‪ ..‬فإن كان ما تنورت به عيناها ذات مساء هو ما عشقت فما عشقت وجهها بل‬ ‫وجه ال الذي أشرق عليها و عليك ذات مساء‪.‬‬ ‫و حيثما يشرق وجه ال تتنور المظاهر و يورق الشجر و يتفتح الزهر و يجود الثمر و‬ ‫يبتسم الولدان و تهفو قلوب العشاق إلى من تعلقت به النعمة و تجلى فيه الجود‪.‬‬ ‫و ساعتها تخطئ أقدامنا العنوان و تخطئ ألسنتنا السم الذي تسبح له‪ ..‬و ننسى بارئ‬ ‫النعمة و ننسى أنه ل أنا و ل أنت و ل هي لنا من المر شيء‪..‬‬ ‫و إنما كل ما حدث أن ال قال بلسان المظاهر‪ ..‬ذات مساء في لحظة تجل‪ ..‬أنا موجود‪..‬‬ ‫أنا بديع السماوات و الرض‪..‬‬ ‫تتوقف هذه العين عند اللحظة و تتجمد عند القد و الخد و الخصر و النهد‪ ..‬و تنسى‬ ‫مصدر الجود فينساها صاحب الفضل و يشيح عنها بوجهه الكريم‪ ..‬فيذيقها ال الهجر و‬

‫هي في القرب و يريها خيبة المل و هي في ذروة العمل و يختم لها بالخذلن و هي في‬ ‫غفلة الهيمان‪.‬‬


‫و تلك هي صدمة العشاق التي أفاض فيها الشعراء و أطالوا و هي في صميمها لفتة رحمة‬ ‫من ال يوقظ بها الذين أخلدوا الى الرض و اتبعوا الهواء و نسوا المعشوق و المحبوب و‬ ‫صاحب الفضل‪ ..‬و الصل كل الصل‪ ..‬السم الجامع لكل الكمالت‪.‬‬

‫و ذلك هو الكل من الشجرة‪.‬‬ ‫ثم الهباط بعد الكل من الشجرة‪ ..‬و النزول من سماوات المعرفة الرحيبة الى سجون‬ ‫اللذات و زنزانة اللحظات‪.‬‬ ‫تلك هي القصة التي تتكرر كل يوم منذ آدم و حواء و كلما اجتمع ابن لدم و بنت لحواء‪.‬‬ ‫تتكرر الخيبة و يتكرر الخذلن‪.‬‬ ‫و ل يعتبر عاقل و ل جاهل‪.‬‬ ‫و الذين أحبوا أو صدموا يعودون الى حب جديد و الى خيبة أمل جديدة و ل يشبع أهل‬ ‫المل من خيبة المل‪.‬‬

‫و كل مرة تزداد الغواشي على الحس و يضيق مجال الرؤية و تضيق الزنزانة على صاحبها‬ ‫و يغرق أهل الصبابة في بحر الصبابة‪.‬‬

‫و ل ينجو من البحر ال من عصم ربك‪.‬‬ ‫انما هو بحر الظمأ الذي يجري بين ذراعي المرأة كلما شرب منه الشارب ازداد ظمأ و كلما‬ ‫عب منه عبا احترق احتراقا‪ ..‬يظن أنه يرتوي و يبترد‪ ..‬فل يبترد أبدا و ل يرتوي أبدا‪ ..‬و‬ ‫ل يشبع أبدا‪ ..‬و ل يسكن أبدا‪.‬‬


‫انما عنده هو السكن‪.‬‬ ‫و بين يديه القرار و الستقرار‪.‬‬ ‫صدق أبو العتاهية في قوله‪:‬‬ ‫طلبت المستقر بكل أرض فلم أر لي بأرض مستق ار‬ ‫فل مقر لنا في هذه الرض و ل وطن لنا فيها و انما وطننا في بيت المعاد الذي جئنا منه‬ ‫عند شجرة الخلد حقا و ليس عند شجرة الجوع و الظمأ التي أكل منها آدم و مازلنا نحن‬

‫أولده نأكل منها فنزداد جوعا على جوع و ل نعرف شبعا و ل راحة‪.‬‬ ‫انما الحياة بجوعها‪.‬‬ ‫و شجرة النوثة بربيعها و خريفها‪.‬‬ ‫و الزهور بتفتحها و ذبولها‪.‬‬ ‫و الشمس بطلوعها و أفولها‪.‬‬ ‫كلها رموز تتكلم بلسان الحال‪..‬‬

‫بأنها كلها قصاصات و عينات و عبوات صغيرة تشير الى عالم آخر فيه النماذج المثلى و‬ ‫الكمالت و الصول لكل هذا الذي نرى أمامنا في صندوق الدنيا‪ ..‬و كأنما يضع لنا‬ ‫الطاهي قطرة في ملعقة و يقول لنا ذوقوا‪.‬‬


‫و الحكيم هو الذي يذوق و يقول‪ ..‬ال‪ ..‬ما أحلى الطهو‪ ..‬يذوق فقط و ل يفكر في أن‬ ‫يجلس ليأكل‪ ..‬لنه يعلم أن الدنيا مناسبة للتعرف‪ ..‬و عينات للتذوق‪ ..‬و عبور سريع في‬

‫نفق أرضي من أنفاق المترو فيه صور و معروضات‪ ..‬و كل حظ الراكب لفتة هنا و لفتة‬ ‫هناك‪.‬‬

‫أما الجلوس للكل و الشروع في مباشرة الحياة الحقة فذلك لن يكون ال بعد انتهاء الرحلة و‬ ‫الخروج من النفق الرضي الى السطح حيث نجد في انتظارنا نعيم الخلد و الجنة التي‬

‫عرضها السماوات و الرض و الحياة الجديرة بأن نحياها حقا‪ ..‬حيث أرض الكمالت و‬ ‫عالم المثل‪ ..‬و ذلك حظ من اتقى و فهم و عرف‪ ،‬و كان بينه و بين ال عمار و صلة و‬

‫عهد‪.‬‬

‫أما من قطع حبل التصال و عاش حياة النفصال و لم يعرف لذة الوصال و انشغل عن‬

‫الحقيقة بعالم الوهام و تعلقت همته بالصغار‪ ،‬فذلك حظه البقاء في النفق المظلم و نصيبه‬

‫البعاد والهباط من نفق مظلم الى نفق آخر أشد اظلما و ل نهاية‪ ..‬فليس للبعد نهاية‬

‫كما أنه ليس للقرب نهاية‪ ..‬و ليس لنعيم ال حدود كما أنه ليس لعذابه حدود‪.‬‬

‫ومن يتلفت حوله في الدنيا و يتأمل عجائب صنعة ال و غرائب آياته يمكن أن يتصور كم‬ ‫يمكن أن يكون مذهل و مدهشا ذلك العالم الكامل‪ ..‬عالم الملكوت الذي صنعه نفس‬ ‫الصانع و وعد به أحباءه‪.‬‬ ‫ان عظمة الصنعة من عظمة الصانع‪.‬‬ ‫و ليس أعظم من ال‪.‬‬ ‫فكذلك نعيمه و كذلك عذابه‪.‬‬


‫و أهل القلوب ل تجف لهم دموع من تصور يوم الجمع‪ ..‬و ساعة المصير‪.‬‬ ‫و هم الباكون الراجفون الضارعون الداعون الراكعون الساجدون في هذا السامر من الولئم‬ ‫الكاذبة على مائدة الدنيا حيث يعلم كل من يأكل أنه سوف يموت‪ ..‬و مع ذلك يقتل‬ ‫الغافلون بعضهم بعضا على اللقمة و يتنازعون على شربة الماء‪.‬‬ ‫أولئك هم الصارخون في الخلوات‪.‬‬ ‫إلهي‪ ..‬ارزقنا‪ ..‬خوفك‪..‬‬ ‫ضع الموت بين أعيننا‪.‬‬ ‫فل شيء يستحق البكاء سوى الحرمان منك و ل حزن بحق ال الحزن عليك‪.‬‬ ‫أنت الحق‪.‬‬ ‫و أنت ما نرى من جمال حيثما تطلعت عين أو استمعت أذن أو حلق الخيال‪.‬‬ ‫لإله إل أنت‪.‬‬ ‫سبحانك‪.‬‬ ‫إني كنت من الظالمين‪.‬‬


‫العذاب ليس له طبقة‬

‫الذي يسكن في أعماق الصحراء يشكو مر الشكوى لنه ل يجد الماء الصالح للشرب‪.‬‬ ‫و ساكن الزمالك الذي يجد الماء و النور و السخان و التكييف و التليفون و التليفيزيون لو‬ ‫استمعت إليه لوجدته يشكو مر الشكوى هو الخر من سوء الهضم و السكر و الضغط‪.‬‬ ‫و المليونير ساكن باريس الذي يجد كل ما يحلم به‪ ،‬يشكو الكآبة و الخوف من الماكن‬ ‫المغلقة و الوسواس و الرق و القلق‪.‬‬ ‫و الذي أعطاه ال الصحة و المال و الزوجة الجميلة يشك في زوجته الجميلة و ل يعرف‬ ‫طعم الراحة‪.‬‬ ‫و الرجل الناجح المشهور النجم الذي حالفه الحظ في كل شيء و انتصر في كل معركة لم‬ ‫يستطع أن ينتصر على ضعفه و خضوعه للمخدر فأدمن الكوكايين و انتهى إلى الدمار‪.‬‬ ‫و الملك الذي يملك القدار و المصائر و الرقاب تراه عبدا لشهوته خادما لطماعه ذليل‬ ‫لنزواته‪.‬‬ ‫و بطل المصارعة أصابه تضخم في القلب نتيجة تضخم في العضلت‪.‬‬ ‫كلنا نخرج من الدنيا بحظوظ متقاربة برغم ما يبدو في الظاهر من بعد الفوارق‪.‬‬ ‫و برغم غنى الغنياء و فقر الفقراء فمحصولهم النهائي من السعادة و الشقاء الدنيوي‬ ‫متقارب‪.‬‬


‫فال يأخذ بقدر ما يعطي و يعوض بقدر ما يحرم و ييسر بقدر ما يعسر‪ ..‬و لو دخل كلمنا‬ ‫قلب الخر لشفق عليه و لرأى عدل الموازين الباطنية برغم اختلل الموازين الظاهرية‪ ..‬و‬

‫لما شعر بحسد و ل بحقد و ل بزهو و ل بغرور‪.‬‬

‫إنما هذه القصور و الجواهر و الحلي و الللئ مجرد ديكور خارجي من ورق اللعب‪ ..‬و‬ ‫في داخل القلوب التي ترقد فيها تسكن الحسرات و الهات الملتاعة‪.‬‬

‫و الحاسدون و الحاقدون و المغترون و الفرحون مخدوعون في الظواهر غافلون عن‬ ‫الحقائق‪.‬‬

‫و لو أدرك السارق هذا الدراك لما سرق و لو أدركه القاتل لما قتل و لو عرفه الكذاب لما‬ ‫كذب‪.‬‬

‫و لو علمناه حق العلم لطلبنا الدنيا بعزة النفس و لسعينا في العيش بالضمير و لتعاشرنا‬

‫بالفضيلة فل غالب في الدنيا و ل مغلوب في الحقيقة و الحظوظ كما قلنا متقاربة في باطن‬

‫المر و محصولنا من الشقاء و السعادة متقارب برغم الفوارق الظاهرة بين الطبقات‪..‬‬

‫فالعذاب ليس له طبقة و إنما هو قاسم مشترك بين الكل‪ ..‬يتجرع منه كل واحد كأسا وافية‬

‫ثم في النهاية تتساوى الكؤوس برغم اختلف المناظر و تباين الدرجات و الهيئات‪.‬‬ ‫و ليس اختلف نفوسنا هو اختلف سعادة و شقاء و إنما اختلف مواقف‪ ..‬فهناك نفس‬ ‫تعلو على شقائها و تتجاوزه و ترى فيه الحكمة و العبرة و تلك نفوس مستنيرة ترى العدل و‬ ‫الجمال في كل شيء و تحب الخالق في كل أفعاله‪ ..‬و هناك نفوس تمضغ شقاءها و‬

‫تجتره و تحوله إلى حقد أسود و حسد أكال‪ ..‬و تلك هي النفوس المظلمة الكافرة بخالقها‬

‫المتمردة على أفعاله‪.‬‬


‫و كل نفس تمهد بموقفها لمصيرها النهائي في العالم الخر‪ ..‬حيث يكون الشقاء الحقيقي‪..‬‬ ‫أو السعادة الحقيقية‪ ..‬فأهل الرضا إلى النعيم و أهل الحقد إلى الجحيم‪.‬‬ ‫أما الدنيا فليس فيها نعيم و ل جحيم إل بحكم الظاهر فقط بينما في الحقيقة تتساوى‬ ‫الكؤوس التي يتجرعها الكل‪ ..‬و الكل في تعب‪.‬‬ ‫إنما الدنيا امتحان لبراز المواقف‪ ..‬فما اختلفت النفوس إل بمواقفها و ما تفاضلت إل‬ ‫بمواقفها‪.‬‬ ‫و ليس بالشقاء و النعيم اختلفت و ل بالحظوظ المتفاوتة تفاضلت و ل بما يبدو على‬ ‫الوجوه من ضحك و بكاء تنوعت‪.‬‬ ‫فذلك هو المسرح الظاهر الخادع‪.‬‬ ‫و تلك هي لبسة الديكور و الثياب التنكرية التي يرتديها البطال حيث يبدو أحدنا ملكاو‬ ‫الخر صعلوكا و حيث يتفاوت أمامنا المتخم و المحروم‪.‬‬

‫أما وراء الكواليس‪.‬‬

‫أما على مسرح القلوب‪.‬‬ ‫أما في كوامن السرار و على مسرح الحق و الحقيقة‪ ..‬فل يوجد ظالم و ل مظلوم و ل‬ ‫متخم و ل محروم‪ ..‬و إنما عدل مطلقو استحقاق نزيه يجري على سنن ثابتة ل تتخلف‬ ‫حيث يمد ال يد السلوى الخفية يحنو بها على المحروم و ينير بها ضمائر العميان و‬

‫يلطف أهل المسكنة و يؤنس اليتام و المتوحدين في الخلوات و يعوض الصابرين حلوة‬ ‫في قلوبهم‪ ..‬ثم يميل بيد القبض و الخفض فيطمس على بصائر المترفين و يوهن قلوب‬

‫المتخمين و يؤرق عيون الظالمين و يرهل أبدان المسرفين‪ ..‬و تلك هي الرياح الخفية‬

‫المنذرة التي تهب من الجحيم و النسمات المبشرة التي تأتي من الجنة‪ ..‬و المقدمات التي‬


‫تسبق اليوم الموعود‪ ..‬يوم تنكشف الستار و تهتك الحجب و تفترق المصائر إلى شقاء‬ ‫حق و إلى نعيم حق‪ ..‬يوم ل تنفع معذرة‪ ..‬و ل تجدي تذكرة‪.‬‬ ‫و أهل الحكمة في راحة لنهم أدركوا هذا بعقولهم و أهل ال في راحة لنهم أسلموا إلى ال‬ ‫في ثقة و قبلوا ما يجريه عليهم و أروا في أفعاله عدل مطلقا دون أن يتعبوا عقولهم فأراحو‬

‫عقولهم أيضا‪ ،‬فجمعوا لنفسهم بين الراحتين راحة القلب و راحة العقل فأثمرت الراحتان‬ ‫راحة ثالثة هي راحة البدن‪ ..‬بينما شقى أصحاب العقول بمجادلتهم‪.‬‬

‫أما أهل الغفلة و هم الغلبية الغالبة فمازالوا يقتل بعضهم بعضا من أجل اللقمة و المرأة و‬ ‫الدرهم و فدان الرض‪ ،‬ثم ل يجمعون شيئا إل مزيدا من الهموم و أحمال من الخطايا و‬ ‫ظم ًأ ل يرتوي و جوعا ل يشبع‪.‬‬

‫فانظر من أي طائفة من هؤلء أنت‪ ..‬و اغلق عليك بابك و ابك على خطيئتك‪.‬‬

‫عن النتحار‬ ‫من العجيب أن التقدم الذي جاء بمزيد من وسائل الترف و الراحة و بمزيد من التسهيلت‬ ‫للنسان‪ ..‬قد قابله النسان بمزيد من الرفض و السخط و التبرم‪ ،‬فرأينا إحصائيات‬

‫النتحار ترتفع مع مؤشرات التقدم في كل بلد‪ ..‬كلما ازداد البلد مدني ًة ازداد عدد الذين‬

‫يطلقون على أنفسهم الرصاص و يلقون بأنفسهم من النوافذ و يبتلعون السم و يشربون ماء‬ ‫النار‪ ..‬هذا غير النتحار المستتر بالخمور و المخدرات و التدخين و المنومات و‬

‫المسكنات و المنبهات‪ ..‬و في مقدمة هؤلء المنتحرين طلئع فن و فكر وثقافة تعود الناس‬ ‫أن يأخذوا عنهم الحكمة و العلم و التوجيه‪.‬‬


‫و وصلت الموجة إلى بلدنا فامتلت أعمدة الصحف بأخبار ابتلع السم و إطلق‬ ‫الرصاص و الشنق و الحرق‪ ..‬و قال المختصون إن نسبة الزيادة الحصائية تجاوزت‬

‫العشرين في المائة‪ ..‬و هو رقم كبير‪.‬‬ ‫و الزدياد متواصل سنة بعد سنة‪.‬‬ ‫و السؤال‪ ..‬لماذا‪ ..‬و ما السر؟‬ ‫و ما سبب النتحار؟‬

‫و إذا تركنا التفاصيل جانب ًا و حاولنا تأصيل المشكلة وجدنا جميع أسباب النتحار تنتهي‬

‫إلى سبب واحد‪ ..‬أننا أمام إنسان خابت توقعاته و لم يعد يجد في نفسه العزم أو الهمة أو‬ ‫الستعداد للمصالحة مع الواقع الجديد أو الصبر على الواقع القديم‪.‬‬

‫إنها لحظة نفاد طاقة و نفاد صبر و نفاد حيلة و نفاد عزم‪.‬‬ ‫لحظة إلقاء سلح‪ ..‬يأس‪ ..‬ما يلبث أن ينقلب إلى اتهام و إدانة للخرين و للدنيا ثم عداوة‬ ‫للنفس و للخرين و للدنيا تظل تتصاعد و تتفاقم حتى تتحول إلى حرب من نوع مختلف‬ ‫يعلنها الواحد على نفسه و يشنها على باطنه‪ ،‬و في لحظة ذروة تلتقط يده السلح لتقتلع‬

‫المشكلة من جذورها‪ ..‬و لتقتلع معها الحساس المرير و ذلك بطمس العين التي تبصر و‬ ‫قطع اللسان الذي يذوق و تحطيم الدماغ الذي يفكر و تدمير اليد التي تفعل و القدم الذي‬ ‫يمشي‪.‬‬ ‫و هو نوع من النفراد بالرأي و النفراد بالحل و مصادرة جميع الراء الخرى بل إنكار‬ ‫أحقية كل وجود آخر غير الذات‪.‬‬


‫و لهذا كانت لحظة النتحار تتضمن بالضرورة الكفر بال و إنكاره و إنكار فضله و اليأس‬ ‫من رحمته و اتهامه في صنعته و في عدله و رفض أياديه و رفض أحكامه و رفض‬ ‫تدخله‪.‬‬

‫فهي لحظة كبر و علو و غطرسة و استبداد‪.‬‬ ‫و ليست لحظة ضعف و بؤس و انكسار‪.‬‬ ‫و بدون هذا العلو و الكبر و الغطرسة ل يمكن أن يحدث النتحار أبدا‪.‬‬ ‫فالنسان ل ينتحر إل في لحظة دكتاتورية مطلقة و تعصب أعمى ل يرى فيه إل نفسه‪.‬‬ ‫و النتحار في صميمه اعتزاز بالنفس و تأله و منازعة ال في ربوبيته‪.‬‬ ‫و المنتحر يختار نفسه و يصادر كل أنواع الوجود الخر في لحظة غل مطلق‪ ..‬في لحظة‬ ‫جحيم‪..‬‬ ‫و لهذا يقول ال أن من قتل نفسه يهوي إلى جحيم أبدي‪ ،‬لنه قد اختار الغل و انتصر للغل‬ ‫و أخذ جانب الغل عند الختيار النهائي للمصير‪.‬‬ ‫و النفراد المطلق في الرأي عصبية و غل و نارية إبليسية‪ ..‬و النفس المتكبرة المارة‬ ‫بالسوء هي نار محضة و ظلمة‪..‬‬ ‫و كل منا في داخله عدة احتمالت لنفوس متعددة‪ ..‬في داخل كل منا نفس أمارة ظلمانية‬ ‫توسوس له بالشر و الشهوات‪ ..‬و نفس لوامة نورانية تحضه على الخير ثم كل المراتب‬ ‫ل فوق و تحت هاتين المنزلتين‪.‬‬ ‫النفسية علو ًا و سف ً‬


‫و كل نفس في حالة تذبذب مستمر بين هذه المراتب صاعدة هابطة فهي حين ًا ترتفع إلى‬ ‫آفاق ملهمة و حين ًا تهبط إلى مهاو مظلمة شهوانية‪.‬‬

‫ثم في النهاية تستقر‪ ..‬فإذا استقرت على الرفض و الكبر و الغطرسة و الغل ثم اقتلعت‬ ‫أسنانها و لسانها و سمعها و بصرها و قطعت رقبتها في غل نهائي ل مراجعة فيه‪ ..‬هي‬

‫قد اختارت الجحيم بالفعل‪ ..‬بل إنها في ذاتها قبضة نار ل مكان لها إل في الجحيم‪.‬‬ ‫)نار وقودها الناس و الحجارة‪( ‬‬ ‫ ًا‬

‫يقول ربنا إن هذه النفوس هي وقود النار و جمراتها و مصدر الطاقة النارية فيها‪ ،‬و معنى‬ ‫هذا أنها أشد نارية من النار‪.‬‬ ‫و المنتحر يتصور أنه سوف يتخلص من نفسه‪ ،‬و لكن ل خلص و ل مهرب لنسان من‬ ‫ذاته‪ ،‬فهو لن يخرج بالنتحار إلى راحة‪ ،‬بل هو خارج من النار الصغرى إلى النار الكبرى‬

‫و من النار الزمنية إلى النار البدية‪.‬‬

‫ل‪.‬‬ ‫و لنتجنب هذا المصير فإننا لبد أن نتجنب المشكلة أص ً‬ ‫ل هي التعلق‪ ..‬و من ليس له تعلق بشيء ل ينتحر لشيء‪.‬‬ ‫و المشكلة أص ً‬ ‫و ل يجوز عند المؤمنين تعلق إل بال فهو وحده جامع الكمالت‪ ،‬الدائم الباقي الذي ل‬ ‫يتغير و ل تخيب عنده التوقعات و ل تضيع المال‪.‬‬

‫و ال هو المحبوب وحده على وجه الصالة و ما نحب في الخرين إل تجلياته و أنواره‪،‬‬

‫فجمال الوجوه من نوره و حنان القلوب من حنانه فنحن ل نملك من أنفسنا شيئ ًا إل بقدر ما‬

‫يخلع علينا سيدنا و مولنا من أنواره و أسمائه‪.‬‬


‫فنحن ل نحب في بعضنا إل هو‪.‬‬ ‫و هو حاضر ل يغيب و ل يهجر و ل يغدر و ل يغلق بابه في وجه لجىء و ل يطرد من‬ ‫رحابه ملهوف‪.‬‬

‫فالواقفون عنده مطمئنون راضون ناعمون ل يخطر لهم النتحار على بال سعداء في جميع‬

‫الحوال‪.‬‬

‫إنما ينتحر الذي تعلق بغيره‪.‬‬ ‫الذي تعلق بليله و معشوقته و ظن أن جمالها منها فتعلق بها لذاتها تعلق عبادة‪ ،‬و أصبح‬ ‫يتوقع منها ما يتوقع عبد من معبود و ربط نفسه بها رباط مصير‪ .‬و نسى أنها ناقصة‬

‫كسائر الخلق و محل للتغير و التبدل تتداول عليها الحوال و التقلبات فتكره اليوم ما أحبته‬

‫بالمس و تزهد غد ًا فيما عشقته اليوم‪.‬‬ ‫و نسى أن جمالها مستعار من خالقها و أنها إعارة لجل و حينما ينتهي الجل ستعود أقبح‬ ‫من القبح‪.‬‬ ‫مثل هذا الرجل المحجوب الغافل إذا أفاق على الصحوة المريرة و فاجأه الغدر و التحول‪،‬‬ ‫يشعر شعور من فقد كل رصيده و أفلس إفلس الموت و لم يبق له إل النتحار‪.‬‬ ‫و لو أنه رأى جمالها من خالقها لحب فيها إبداع صنعة الصانع و لكان من أهل التسبيح‬ ‫الذين يقولون عند رؤية كل زهرة‪ ..‬ال‪ ..‬فإذا رأوها في آخر النهار ذابلة‪ ..‬قالوا حق ًا ل إله‬

‫إل ال‪ ..‬فحبهم ل و في ال و روابطهم روابط مودة و معروف ل مقصد لها و ل غرض و‬ ‫ل توقع‪ ..‬فالغدر ل يفاجئهم و الهجر ل يصدمهم و شأنهم كما يقول المثل العامي‪ ..‬اعمل‬ ‫الخير و ارمه البحر‪ ..‬يبسطون أيديهم بالمعونة دون حساب لي عائد و دون توقع لثمرة‪.‬‬


‫هؤلء هم أهل السلمة دائم ًا‪.‬‬ ‫و هم أهل الطمأنينة و السكينة ل تزلزلهم الزلزل و ل تحركهم النوازل‪.‬‬ ‫هم أهل الطمأنينة اليوم‪.‬‬ ‫و هم أهل الطمأنينة يوم الفزع الكبر‪ ..‬يوم ل تملك نفس لنفس شيئا‪ ،‬و يوم ل ينفع مال و‬ ‫ل بنون‪.‬‬

‫و هؤلء ل يتعلقون إل بال‪.‬‬ ‫و ل يؤملون إل في ال‪.‬‬ ‫و ل يتوقعون إل من ال‪.‬‬ ‫إن المشكلة هي بالدرجة الولى مشكلة إيمان‪ ..‬فكلما وضعت التكنولوجيا في يد النسان‬ ‫كبر و تمرد ًا‪ ،‬و ازداد تعلق ًا و ارتباط ًا بالصنام‬ ‫غرور و ًا‬ ‫ ًا‬ ‫قوة و ثروة و استغناء ازداد بعد ًا و‬

‫المادية التي خلقها‪ ،‬و ازداد خضوع ًا للملذات التي يسرها لنفسه‪ ..‬و تصور أن قوته سوف‬

‫تعصمه و علمه سوف يحميه فأمعن في غروره‪.‬‬ ‫و هل عصم الجبل ابن نوح من الطوفان ؟!‬ ‫بل كان من المغرقين‪.‬‬ ‫) فل عاصم اليوم من أمر ال إل من رحم ‪.( ‬‬


‫ضع يدك في يد ال و ل تبرح و حسبك من علقتك بالناس أن تبذل لهم مودتك و رحمتك‬ ‫على غير توقع لشيء‪ ..‬فذلك هو قارب النجاة في عالم اليوم‪ ..‬عالم النتحار و‬ ‫المنتحرين‪.‬‬

‫مسرح العرائس‬ ‫أشعر بالندم يا إلهي حتى نخاع العظم من أني ذكرت سواك بالمس و هتفت بغير اسمك و‬ ‫طافت بخاطري كلمات غير كلماتك‪.‬‬ ‫سمحت لنفسي أن أكون مرآة للسراب و مستعمرة للشباح‪.‬‬ ‫جهلت مقامي و نزلت عن رتبتي و ترجلت عن فرسي الصيلة لركب توافه المور و‬

‫لمشي مع السوقة و أزحف على بطني مع دود الرض‪.‬‬

‫خدعني شيطاني و استدرجني إلى مسرح العرائس الذي يديره و إلى تماثيل الطين و الزجاج‬

‫و الحلي المزيفة‪.‬‬

‫استدرجني إلى بيوت القماش و قصور الورق و قدمني إلى ناس يبتسمون للمصلحة و‬

‫يحبون للشهوة و يقتلون للطمع و يتزاوجون للتآمر‪..‬‬

‫رجال وجوههم ملساء مدهونة و نظراتهم خائنة و لمساتهم ثعبانية و نساء تغطيهن‬

‫المساحيق فل تبدو ألوانهن الحقيقية بشرتهن مشدوة و وجوههن مكوية و خطواتهن حربائية‬

‫و أيديهن تتسلل إلى القلوب يسرقن كل شيء حتى الحقائق‪.‬‬


‫عالم جذاب كذاب يضوع بالعطور و يبرق بالكلمات‪ ..‬عالم لزج معسول تغوص فيه‬ ‫الرجل كما يغوص النمل في العسل حتى يختنق بحلوته و يموت بلزوجته‪.‬‬ ‫و الصوات في هذا العالم كلها هامسة مبللة بالشهوة تتسلل إلى ما تحت الجلد و تخترق‬ ‫الضمائر و تأكل اليمان من الجذور‪.‬‬ ‫تذكرتك يارب و أنا أمشي في هذا العالم فشعرت بالغربة و النفصال و لم أجد أحدا أكلمه‬ ‫و يكلمني و أفهمه و يفهمني‪ ..‬نبذوني كلهم و رفضوني كما نبذتهم و رفضتهم‪ ..‬و‬ ‫أحسست بنفسي وحيدا غريبا مطرودا‪ ..‬ملقى على رصيف أبكي كطفل يتيم بل أم‪.‬‬

‫و سمعت في قلبي صراخا يناديك‪.‬‬ ‫كانت كل خلية في بدني تتوب و تئوب و ترجع و سمعتك تقول في حنان‪ ..‬لبيك عبدي‪..‬‬ ‫و رأيت يدك التي ليس كمثلها شيء تلتقطني و تخرجني من نفسي إلى نفسك‪.‬‬ ‫و اختفى ديكور القماش و الورق و ذاب مسرح الخدع الضوئية‪.‬‬ ‫و عاد الل شيء إلى الل شيء‪.‬‬ ‫و عدت أنا إليك‪.‬‬ ‫ل إله إل أنت‪.‬‬ ‫سبحانك‬ ‫و ل موجود سواك‬


‫القرب منك يضيف‪.‬‬ ‫و البعد عنك يسلب‪.‬‬ ‫لنك وحدك اليجاب المطلق‪.‬‬ ‫و كل ما سواك سلب مطلق‪.‬‬ ‫علمت ذلك بالمكابدة و أدركته بالمعاناة و عرفته بالدم و العرق و الدموع و مشوار الخطايا‬ ‫و الذنوب و أنا أقع في الحفر و أتعثر في الفخاخ‪ ..‬و كلما وقعت في حفرة شعرت بيدك‬

‫تخرجني بلطف و كلما أطبق علّي فخ رأيتك تفتح لي سبيل للنجاة‪ ..‬و كلما وضعوني في‬

‫الغلل و أحكموا علّي الوثاق شعرت بك في الوحدة و الظلمة تفك عني أغللي و تربت‬ ‫على كتفي في حنان و إلهامك يهمس في خاطري‪ ..‬أما كفاك ما عانيت يا عبدي‪.‬‬

‫أما اتعظت‪ ..‬أما اعتبرت‪ ..‬أما جاء اليوم الذي تثبت فيه قدمك و تتقر خطاك على‬ ‫الطريق‪.‬‬

‫فأقول باكيا‪.‬‬ ‫سبحانك يارب و هل هناك تثبيت إل بك و هل هناك تمكين إل بإذنك‪.‬‬ ‫أنت وحدك الذي أصلحت الصالحين و ثبت الثابتين و مكنت أهل التمكين‪.‬‬ ‫تعطي لحكمة و تمنع لحكمة و ل تسأل عما تفعل‪.‬‬ ‫شفيعي إليك صدقي‪.‬‬


‫و عذري إليك حبي للحق‪.‬‬ ‫و ذريعتي إلى عفوك رغبتي في الخير‪.‬‬ ‫فمن خطيئاتي نبتت الحكمة كما تنمو أزهار الياسمين من الرض السبخة‪.‬‬ ‫و من دموع ندمي علمت الناس فصدقوني حينما كلمتهم لنهم أروا كلماتي مغموسة بدمي و‬ ‫من عثراتي و سقطاتي أضأت مصباحا هاديا يجنب الناس العثرات‪.‬‬

‫و كل من عبر طريقي قلت له كلمة صدق و دللته على السلمة‪.‬‬ ‫ربنا ما أتيت الذنوب جرأة مني عليك و ل تطاول على أمرك و إنما ضعفا و قصو ار حينما‬ ‫غلبني ترابي و غلبتني طينتي و غشيتني ظلمتي‪.‬‬ ‫إنما أتيت ما سبق في علمك و ما سطرته في كتابك و ما قضى به عدلك‪.‬‬ ‫رب ل أشكو و لكن أرجو‪.‬‬ ‫أرجو رحمتك التي وسعت كل شيء أن تسعني‪.‬‬ ‫أنت الذي وسع كرسيك السماوات و الرض‪.‬‬

‫ل شيء يساوي الحرية‬


‫ل‪:‬‬ ‫حينما رفع النبي يوسف أكف الدعاء لربه مستنجد ًا من غواية النسوة قائ ً‬ ‫) رب السجن أحب إلّي مما يدعونني إليه ‪.( ‬‬ ‫كان يطلب حري ًة و لم يكن يطلب سجن ًا‪.‬‬ ‫و المسألة نسبية‪ ..‬فما يحصل عليه من حرية في زنزانة و هو مقيد اليدين و القدمين أكثر‬ ‫بكثير مما يتبقى له من حرية ساعة شهوة‪ .‬فحينما تجمح الشهوة ل تبقي لصاحبها حرية‬

‫فهو ل يرى إل على مرمى ساقين و ل يسمع إل على مرمى شفتين و ل يعي حكمة و ل‬

‫يبصر عاقبة و ل يحفظ عهد ًا و ل يرعى واجب ًا‪ ..‬و هو أعمى أصم مقيد الذراعين و‬

‫الساقين إلى حركة آلية و فعل ل معقول كل هرموناته و دمه و فكره و حسه و مواهبه في‬

‫خدمة هذه اللحظة اللمعقولة من الشباع و الفناء الذي يشبه السقوط في هّوةة اللشيء‪..‬‬

‫و ذلك هو منتهى السجن و منتهى استنفاد الطاقة و استفراغ القوة و إنهاك العزم و تبديد‬

‫الهمة‪ ..‬ثم ل يكون بعد ذلك إل الخمول و البلدة و السترخاء و الرغبة في النوم و الرغبة‬ ‫في عدم التفكير في شيء‪.‬‬

‫تلك الزوبعة التي تعصف بالدم و تطيش بالعقل و تذيب المفاصل و تأسر الجسد و هي‬ ‫ذروة العبودية‪.‬‬ ‫و لهذا قال النبي يوسف صارخ ًا‪.‬‬ ‫ب السجن أحب إلي من هذا الخضوع لهؤلء النسوة‪ ..‬فالزنزانة و ل شك أرحب و أوسع‬ ‫رّ‬ ‫من قبضة شهوة امرأة حينما تتسلل إلى النخاع و تعتصر المخ و تحجب العينين و تسّد‬ ‫الذنين و تغلق منافذ القلب فل يعود شيء في الكون يسمع إل لهاث أنفاسها‪ ..‬فكأنما‬ ‫أصبحت هي المحراب و الصنم و القبلة‪ ..‬و مائدة القرابين‪.‬‬


‫و السجن هنا منتهى الحرية بالنسبة لهذا القيد الشامل المطلق‪ ..‬و هو أحب ألف مرة لي‬ ‫رجل في كمال و عقل النبي يوسف يريد أن يصعد و يحلق إلى السماوات فل شيء يساوي‬ ‫الحرية أبد ًا‪.‬‬

‫ل محلق ًا و فؤاد ًا‬ ‫ل طليق ًا و خيا ً‬ ‫و أي لذة و أي مقابل فوري مادي أو حسي ل يساوي عق ً‬

‫مسافر و أقدام ًا ساعية ل تحد حركتها حدود‪.‬‬ ‫ ًا‬ ‫مهاجر و قلب ًا‬ ‫ ًا‬ ‫فكر‬ ‫طائر و ًا‬ ‫ ًا‬ ‫مرفرف ًا و وجدان ًا‬

‫نعم ل شيء يساوي الحرية‪.‬‬ ‫و أحسن استثمار للحرية أن تبذلها لوجه ال فتجعلها في خدمة الحق و العدل و الخير‪..‬‬ ‫فالعبودية للخالق تحررك من العبودية للخلق و تخلع الحاكمية عن كل الذين حكموك فل‬

‫يعود يحكمك أحد و ل يعود يحكمك شيء‪ ..‬بل تصبح أنت بحكم الخلفة عن ال حاكم ًا‬ ‫على الكل‪ ..‬و تصبح لكلماتك ربانية على الجميع‪ ..‬و يطيعك البر و البحر و الريح و‬ ‫تنقاد لك الشعوب و يستمع إليك التاريخ‪.‬‬

‫كيف تبلغ هذه الدرجة من الحرية؟‬ ‫يقول سادتنا الكابر‪:‬‬ ‫منذ أن تفتح عينيك لتصحو حتى تغلقهما لتنام ل تعلق همتك بأمر من المور الدون‪.‬‬ ‫ل تنم على غّل و ل تصَح على شهوة و ل تسع إلى طمع و ل تسابق إلى سلطة و إنما‬

‫اجعل همك و اهتمامك في الخير و البر و الحق و الصدق‪ ،‬و المروءة و المعونة قاصدا‬

‫وجه ربك على الدوام‪.‬‬


‫حاول أن يكون فعلك مطابق ًا لقولك‪ ،‬و سلوكك مطابق ًا لدعوتك‪ ..‬فإذا غلبتك بشريتك و‬

‫هزمك هواك في لحظة‪ ..‬ل تيأس و إنما استنجد و استصرخ ربك‪ ..‬و قل ‪ :‬الغوث يارب‪..‬‬ ‫يقل لك لبيك عبدي و يخرجك بيده من ظلمة نفسك إلى نور حضرته‪.‬‬

‫فإنك إن كنت أحد عّم اةل ال في الرض و أحد سفرائه إلى قلوب الناس‪ ..‬فإنه سوف‬

‫يرحمك إذا أخطأت و يغفر لك إذا أسأت و يعيدك إلى الطريق إذا انحرفت‪ ..‬و سوف‬ ‫يرعاك و يتولك لنك من جنده و حاشيته و خاصته‪.‬‬ ‫و ل تيأس مهما بلغت أوزارك و ل تقنط مهما بلغت خطاياك‪ ..‬فما جعل ال التوبة إل‬ ‫للخطاة و ما أرسل النبياء إل للضالين و ما جعل المغفرة إل للمذنبين و ما سمى نفسه‬

‫الغفار التواب العفو الكريم إل من أجل أنك تخطئ فيغفر‪.‬‬

‫جدد استغفارك كل لحظة تجدد معرفتك و تجدد العهد بينك و بين ربك و تصل ما انقطع‬

‫بغفلتك‪.‬‬

‫و اعلم أن ال ل يمل دعاء الداعين‪ ..‬و أنه يحب السائلين الطالبين الضارعين الرافعي‬

‫الكف على بابه‪ ..‬و إنما يمقت ال المتكبر المستغني المختال المعجب بنفسه الذي يظن‬

‫أنه استوفى الطاعة و بلغ غاية التقوى و قارب الكمال‪ ..‬ذلك الذي يكلم الناس من عل و‬ ‫يصافحهم بأطراف النامل‪.‬‬

‫ثم بعد التوبة و الستغفار و التخلي عن الذنوب و التبرؤ من الحول و الطول‪ ..‬يأتي‬ ‫التحبب و التقرب و التخلق و التحقق‪.‬‬

‫حاول أن تتحلى بأخلق سيدك‪ ..‬فإذا كان هو الكريم الحليم الصبور الشكور العفو‬ ‫الغفور‪ ..‬فحاول أن يكون لك من هذه الصفات نصيب‪.‬‬


‫فإذا غالبتك نفسك المارة‪ ..‬اسجد و ابك و تضرع و توسل‪ ..‬و قل بين دموعك‪:‬‬ ‫يا من عطفت على الطين فنفخت فيه من جمالك و كمالك‪.‬‬ ‫يا من أخرجت النور من الظلمة‪.‬‬ ‫يا من تكرمت على العدم‬ ‫أخرجني من كثافتي و حررني من طينتي و خلصني من ظلمتي و قوني على ضعفي و‬ ‫أعني على نفسي‪ ..‬فل أحد سواك يستطيع أن يفعل هذا‪ ..‬أنت يا صانعي بيديك‪.‬‬ ‫ثم يقول سادتنا الكابر ‪:‬‬ ‫إن الجهاد يطول فل تتعجل الثمر‪ ..‬فكلما عظمت الهداف طال الطريق‪ ..‬فل تبرح‬

‫الباب‪ ..‬و أطل السجود‪ ..‬و أدم البكاء‪ ..‬فإنك ل تطلب نيشان ًا أو جائزة و إنما تطلب وجه‬

‫صاحب العرش العظيم‪.‬‬ ‫تطلب رب السماوات‪.‬‬

‫تطلب العزيز الذي ل يرام‪.‬‬ ‫و ذلك مطلب ل يبلغه طالب إل بعد أن يبتلى و يمتحن و يتحقق إخلصه‪ ..‬و يشهد‬ ‫الملئكة منزلته و يرى المل العلى بينته‪.‬‬ ‫فكيف يصحب الملئكة المقربين إل النفر الكرام الذين تخلقوا بأخلقهم‪.‬‬


‫و كيف تصعد إلى السماوات إل بعد أن تلقي بمتاعك الرضي و أثقالك‪ ..‬ثم تلقي بنفسك‬ ‫الحيوانية من حالق‪ ..‬ثم تلقي بغرورك و أنانيتك و شهواتك و أطماعك‪ ..‬و تتجرد من‬ ‫نور من نوره‪.‬‬ ‫دواعي بشريتك‪ ..‬و تعود كما خلقك ال ًا‬

‫حينئذ تبلغ الحرية حق ًا‪ ..‬و تشاكل البرار و الشهداء و القديسين و الملئكة‪.‬‬ ‫و ذلك معراج يحتاج إلى عمر بطوله و إلى زاد من التقوى و المحبة و الطاعة و صبر‬ ‫على البلء و ل يقدر على هذا إل آحاد‪.‬‬ ‫و لهذا خلقت الجنة‪.‬‬ ‫و لهذا كانت الكثرية ترتع في النار من الن‪.‬‬

‫دعاء العبد الخطاء‬ ‫إلهي ‪..‬‬ ‫إنك ترى نفسي و ل يراها سواك ‪.‬‬ ‫تراها كالبيت الكبير الذي تصدعت منه الجدران و تهاوت السقوف و انكفأت الموائد ‪.‬‬ ‫مهجور يتعاوى فيه الذئاب و يلهو فيه القردة و تغرد العصافير ‪.‬‬ ‫ ًا‬ ‫بيت ًا‬


‫ساع ًة تتلل فيه النوار و تموج فيه أشعة القمر ‪.‬‬ ‫و ساع ًة أخرى مظلم ًا مطموس ًا محطم المصابيح تسرح فيه العناكب ‪.‬‬ ‫مرة ً تحنو عليه يد الربيع فتتفتح الزهور على نوافذه و تصدح البلبل و تغزل الديدان الحرير‬

‫و تفرز النحلت الطنانة العسل‪.‬‬

‫جدار قائم ًا لول ذلك الحبل الممدود الذي‬ ‫ ًا‬ ‫و مرة ً أخرى يأتي عليه الزلزال فل يكاد يخلف‬ ‫ينزل بالنجدة من سماوات رحمتك ‪.‬‬ ‫حبل ل إله إل أنت سبحانك ‪.‬‬ ‫أنت الفاعل سبحانك و أنت مجري القدار و الحكام ‪ ..‬و أنت الذي امتحنت و قويت و‬

‫أضعفت و سترت و كشفت ‪ ..‬و ما أنا إل السلب و العدم ‪ ..‬و كل توفيق لي كان منك و‬ ‫كل هداية لي كانت بفضلك و كل نور كان من نورك ‪ ..‬ما أنا إل العين و المحل و كل ما‬ ‫جرى علي من استحقاقي و كل ما أظهرت فّي كان بعدلك و رحمتك ‪ ..‬ما كان لي من‬

‫المر شيء ‪.‬‬

‫و هل لنا من المر شيء !؟‬ ‫مولي ‪ ..‬يقولون إن أكبر الخطايا هي خطايا العارفين ‪ ..‬و لكني أسألك يارب أين العارف‬

‫أو الجاهل الذي استطاع أن يسلم من الفتنة دون رحمة منك ‪ ..‬و أنت الذي سويت نفوسنا‬ ‫و خلقتها و وصفتها بأنها‬ ‫) لمارة بالسوء إل ما رحم ربي ‪. ( ‬‬


‫و أين من له الحول و القوة بدونك ‪ ..‬و هذا جبريل يقول لنبيك ل حول من معصية إل‬ ‫بعصمة ال و ل قوة على طاعة ال إل بتمكين ال ‪.‬‬ ‫و هل استعصم الذين استعصموا إل بعصمتك و هل تاب الذين تابوا إل بتوبتك ‪ ..‬و هل‬ ‫استغفروا إل بمغفرتك ‪.‬‬ ‫إلهي ‪ ..‬لقد تنفست أول ما تنفست بك و نطقت بك و سمعت بك و أبصرت بك و مشيت‬ ‫بك و اهتديت بك ‪ ..‬و ضللت عندما خرجت عن أمرك ‪.‬‬ ‫سألتك يارب بعبوديتي أن ترفع عني غضبك ‪ ..‬فها أنا ذا و قد خلعت عن نفسي كل‬ ‫الدعاوي و تبرأت من كل حْو ل ةو طْو ل ةو لبست الذل في رحاب قدرتك ‪.‬‬ ‫إنك لن تضيعني و أنا عبدك ‪.‬‬ ‫لن تضيع عبد ًا ذل لربوبيتك و خشع لجللك ‪.‬‬ ‫و كيف يضيع عبد عند مول ًى رحيم فكيف إذا كان هذا المولى هو أرحم الراحمين ‪.‬‬ ‫ب اجذبني إليك بحبلك الممدود لخرج من ظلمتي إلى نورك و من عدميتي إلى وجودك و‬ ‫رّ‬ ‫من هواني إلى عزتك ‪ ..‬فأنت العزيز حق ًا الذي لن تضرك ذنوبي و لن تنفعك حسناتي ‪.‬‬

‫إن كل ذنوبنا يارب لن تنقص من ملكك ‪.‬‬ ‫و كل حسناتنا لن تزيد من سلطانك ‪.‬‬ ‫فأنت أنت المتعال على كل ما خلقت المستغني عن كل ما صنعت ‪.‬‬


‫و أنت القائل ‪:‬‬ ‫هؤلء في الجنة و ل أبالي و هؤلء في النار و ل أبالي ‪.‬‬ ‫و أنت القائل على لسان نبيك ‪:‬‬ ‫) ما يعبأ بكم ربي لول دعاؤكم ‪( ‬‬ ‫فها أنا أدعوك فل أكف عن الدعاء ‪ ..‬فأنا المحتاج‪ ..‬أنا المشكلة ‪ ..‬و أنا المسألة ‪.‬‬ ‫أنا العدم و أنت الوجود فل تضيعني ‪.‬‬ ‫عاوني يارب على أن اتخطى نفسي إلى نفسي ‪ ..‬أتخطى نفسي المارة الطامعة في حيازة‬ ‫الدنيا إلى نفسي الطامعة فيك في جوارك و رحمتك و نورك و وجهك ‪.‬‬ ‫فقر و كلما طاوعت رغائبي ازدادت جوع ًا و‬ ‫لقد جربت حيازة كل شيء فما ازددت إل ًا‬ ‫إلحاح ًا و تنوع ًا ‪.‬‬

‫حينما طاوعت شهوتي إلى المال ازددت بالغنى طمع ًا و حرص ًا و حينما طاوعت شهوتي‬

‫إلى النساء ازددت بالشباع عطش ًا و تطلع ًا إلى التلوين و التغيير ‪ ..‬و كأنما أشرب من‬ ‫ماء مالح فأزداد على الشرب ظم ًأ على ظمأ ‪.‬‬

‫و ما حسبته حرية كان عبودية و خضوع ًا للحيوان المختفي تحت جلدي ثم هبوط ًا إلى درك‬ ‫اللية المادية و إلى سجن الضرورات و ظلمة الحشوة الطينية و غلظتها ‪.‬‬ ‫كنت أسقط و أنا أحسب أني أحلق و أرفرف ‪.‬‬


‫و خدعني شيطاني حينما غلف هذه الرغبات بالشعر و زوقها بالخيال الكاذب و زينها‬ ‫بالعطور و زفها في أبهة الكلمات و بخور العواطف ‪ ،‬و لكن صحوة الندم كانت توقظني‬

‫المرة بعد المرة على اللشيء و الخواء ‪.‬‬

‫إلهي ‪ ..‬لم تعد الدنيا و ل نفسي الطامعة في الدنيا و ل العلوم التي تسخر لي هذه الدنيا و‬ ‫ل الكلمات التي احتال بها على هذه الدنيا ‪ ..‬مرادي و ل بضاعتي ‪.‬‬

‫و إنما أنت وحدك مرادي و مقصودي و مطلوبي فعاوني بك عليك و خلصني بك من‬ ‫سواك و أخرجني بنورك من عبوديتي لغيرك فكل طلب لغيرك خسار ‪.‬‬

‫أنت أنت وحدك ‪ ..‬و ما أرتضي مشوار هذه الدنيا إل لدللة هذا المشوار عليك و ما‬

‫يبهرني الجمال إل لصدوره عنك و ما أقصد الخير و ل العدل و الحرية و ل الحق إل لنها‬ ‫تجليات و أحكام أسمائك الحسنى يامن تسميت بأنك الحق ‪.‬‬

‫و لكن تلك هجرة ل أقدر عليها بدونك و نظرة ل أقوى عليها بغير معونتك ‪ ..‬فعاوني و‬ ‫اشدد أزري ‪ ..‬فحسبي النية و المبادرة فذلك جهد الفقير ‪ ..‬فليس أفقر مني ‪ ..‬و هل بعد‬

‫العدم فقر ‪ ..‬و قد جئت إلى الدنيا معدم ًا و أخرج منها معدم ًا و أجوزها معدم ًا ‪ ..‬زادي منك‬

‫و قوتي منك و رؤيتي منك و نوري منك ‪.‬‬

‫و اليوم جاءت الهجرة الكبرى التي أعبر فيها بحار الدنيا دون أن أبتل و أخوض نارها دون‬ ‫أن أحترق ‪ ..‬فكيف السبيل إلى ذلك دون يدك مضمومة إلى يدي ‪.‬‬ ‫و هل يدي إل من صنع يدك ؟ ‪ ..‬و هل يدي إل من يدك ؟!‬ ‫و هل هناك إل يد واحدة ؟‬


‫ل إله إل أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ‪.‬‬ ‫سبحانك ل أرى لي يد ًا ‪.‬‬ ‫سبحانك ل أرى سواك ‪.‬‬ ‫ل إله إل ال ‪.‬‬ ‫ل إله إل ال حق ًا و صدق ًا ‪.‬‬ ‫و ذاتك هي واحدة الحسن ‪.‬‬ ‫الحسن كله منها ‪.‬‬ ‫و الحب كله لها ‪.‬‬ ‫و يدك هي واحدة المشيئة ‪.‬‬ ‫الفعل كله منها و القوة كلها بها و إن تعددت اليدي في الظاهر و ظن الظانون تعدد‬

‫المشيئات ‪ ..‬و إن تعدد المحبون و تعددت المحبوبات ‪ ..‬ما يركع الكل إل على بابك و ما‬

‫دينار أو يقبل خد ًا‬ ‫ ًا‬ ‫يلثم الكل إل أعتابك ‪ ..‬مؤمنون و كفرة ‪ ..‬و إن ظن الكافر أنه يلثم‬ ‫فإنما هي أيادي رحمتك أو أيادي لعنتك هي ما يلثم و يقبل دون أن يدري ‪.‬‬

‫و إنما هي أسماء و أفعال و أوصاف ‪.‬‬ ‫و المسمى واحد ‪.‬‬ ‫و الفاعل واحد ‪.‬‬


‫و الموصوف واحد ‪.‬‬ ‫ل إله إل هو ‪.‬‬ ‫ل إله إل ال ‪.‬‬ ‫الحمد له في الول و الخر ‪.‬‬ ‫رفعت القلم و طويت الصحف و انتهت الكلمات ‪.‬‬

‫الحب ما هو؟‬ ‫لو سألني أحدكم‪ ..‬ما هي علمات الحب و ما شواهده لقلت بل تردد أن يكون القرب من‬ ‫المحبوبة أشبه بالجلوس في التكييف في يوم شديد الح اررة و أشبه باستشعار الدفء في يوم‬ ‫بارد‪ ..‬لقلت هي اللفة و رفع الكلفة و أن تجد نفسك في غير حاجة إلى الكذب‪ ..‬و أن‬

‫يرفع الحرج بينكما‪ ،‬فترى نفسك تتصرف على طبيعتك دون أن تحاول أن تكون شيئا آخر‬

‫لتعجبها‪ ..‬و أن تصمتا أنتما الثنان فيحلو الصمت‪ ،‬و أن يتكلم أحدكما فيحلو الصغاء‪..‬‬

‫و أن تكون الحياة معا هي مطلب كل منكما قبل النوم معا‪ ..‬و أل يطفئ الفراش هذه‬

‫الشواق و ل يورث الملل و ل الضجر و إنما يورث الراحة و المودة و الصداقة‪ ..‬و أن‬

‫تخلو العلقة من التشنج و العصبية و العناد و الكبرياء الفارغ و الغيرة السخيفة و الشك‬

‫الحمق و الرغبة في التسلط‪ ،‬فكل هذه الشياء من علمات النانية و حب النفس و ليست‬


‫من علمات حب الخر‪ ..‬و أن تكون السكينة و المان و الطمأنينة هي الحالة النفسية‬ ‫كلما التقيتما‪.‬‬ ‫و أل يطول بينكما العتاب و ل يجد أحدكما حاجة إلى اعتذار الخر عند الخطأ‪ ،‬و إنما‬ ‫تكون السماحة و العفو و حسن الفهم هي القاعدة‪ ..‬و أل تشبع أيكما قبلة أو عناق أو أي‬ ‫مزاولة جنسية و ل تعود لكما راحة إل في الحياة معا و المسيرة معا و كفاح العمر معا‪.‬‬

‫ذلك هو الحب حقا‪.‬‬ ‫و لو سألتم‪ ..‬أهو موجود ذلك الحب‪ ..‬و كيف نعثر عليه؟ لقلت نعم موجود و لكن نادر‪..‬‬ ‫و هو ثمرة توفيق إلهي و ليس ثمرة اجتهاد شخصي‪.‬‬ ‫و هو نتيجة انسجام طبائع يكمل بعضها البعض الخر و نفوس متآلفة متراحمة بالفطرة‪.‬‬ ‫و شرط حدوثه أن تكون النفوس خيرة أصل جميلة أصل‪.‬‬ ‫و الجمال النفسي و الخير هو المشكاة التي يخرج منها هذا الحب‪.‬‬ ‫و إذا لم تكن النفوس خيرة فإنها ل تستطيع أن تعطي فهي أصل فقيرة مظلمة ليس عندها‬ ‫ما تعطيه‪.‬‬

‫و ل يجتمع الحب والجريمة إل في الفلم العربية السخيفة المفتعلة‪ ..‬و ما يسمونه الحب‬ ‫في تلك الفلم هو في حقيقته شهوات و رغبات حيوانية و نفوس مجرمة تتستر بالحب‬

‫لتصل إلى أغراضها‪.‬‬ ‫أما الحب فهو قرين السلم و المان و السكينة و هو ريح من الجنة‪ ،‬أما الذي نراه في‬ ‫الفلم فهو نفث الجحيم‪.‬‬


‫و إذا لم يكن هذا الحب قد صادفكم و إذا لم يصادفكم منه شيء في حياتكم فالسبب أنكم‬ ‫لستم خيرين أصل فالطيور على أشكالها تقع و المجرم يتداعى حوله المجرمون و الخير‬ ‫الفاضل يقع على شاكلته‪..‬‬

‫و عدل ال ل يتخلف فل تلوموا النصيب و القدر و الحظ و إنما لوموا أنفسكم‪.‬‬ ‫و قد يمتحن ال الرجال البرار بالنساء الشريرات أو العكس و ذلك باب آخر له حكمته و‬ ‫أس ارره‪.‬‬ ‫و قد سلط ال المجرمين و القتلة على أنبيائه و امتحن بالمرض أيوب و بالفتنة يوسف و‬ ‫بالفراعين الغلظ موسى و بالزوجات الخائنات نوحا و لوطا‪.‬‬ ‫و أسرار الفشل و التوفيق عند ال‪ ..‬و ليس كل فشل نقمة من ال‪.‬‬ ‫و قد قطع الملك هيرودوس رأس النبي يوحنا المعمدان و قدمها مه ار لبغي عاهرة‪.‬‬ ‫و لم يكن هذا انتقاصا من قدر يوحنا عند ال‪ ..‬و إنما هو البلء‪.‬‬ ‫فنرجو أن يكون فشلنا و فشلكم هو فشل كريم من هذا النوع من البلء الذي يمتحن النفوس‬

‫و يفجر فيها الخير و الحكمة و النور و ليس فشل النفوس المظلمة التي ل حظ لها و ل‬ ‫قدرة على حب أو عطاء‪.‬‬ ‫و نفوسنا قد تخفي أشياء تغيب عنا نحن أصحابها‪ .‬و قد ل تنسجم امرأة و رجل لن‬ ‫نفسيهما مثل الماء و الزيت متنافرتان بالطبيعة‪ ،‬و لو كانا مثل الماء و السكر لذابا و‬

‫امتزجا و لو كانا مثل العطر و الزيت لذابا و امتزجا‪ ..‬و المشكلة أن يصادف الرجل‬ ‫المناسب المرأة المناسبة‪.‬‬


‫و ذلك هو الحب في كلمة واحدة‪ :‬التناسب‪ .‬تناسب النفوس و الطبائع قبل تناسب الجسام‬ ‫و العمار و الثقافات‪.‬‬ ‫و قد يطغى عامل الخير حتى على عامل التناسب فنرى الرسول محمدا عليه الصلة و‬ ‫السلم يتزوج بمن تكبره بخمسة و عشرين عاما و يتزوج بمن تصغره بأربعين عاما فتحبه‬

‫الثنتان خديجة و عائشة كل الحب و ل تناسب في العمر و ل في الثقافة بينهما فهو النبي‬ ‫الذي يوحى إليه و هما من عامة الناس‪.‬‬ ‫و نراه يتزوج باليهودية صفية صبيحة اليوم الذي قتل فيه جيشه زوجها و أباها و أخاها و‬ ‫شباب قومها و زهرة رجالهم واحدا واحدا على النطع في خيبر‪ ..‬يتزوجها بعد هذه المذبحة‬ ‫فنراها تأوي إلى بيته و تسلم له قلبها مشغوفة مؤمنة و لم تكد دماء قومها تجف‪ ..‬فكيف‬

‫حدث هذا و ل تناسب و إنما أحقاد و أضغان و ثارات‪..‬‬ ‫إنه الخير و الخلق السمى في نفس الرسول الكريم – صلى ال عليه و سلم‪ -‬هو الذي‬ ‫قهر الظلمة و هو الذي حقق المعجزة دون شروط‪..‬‬ ‫إنه النور الذي خرج من مشكاة هذا القلب المعجز فصنع السحر و أسر القلوب و طوع‬ ‫النفوس حتى مع الفوارق الظاهرة و عدم التناسب و مع الضغان و الحقاد و الثارات‪..‬‬ ‫إنما نتكلم نحن العاديون عن التناسب‪..‬‬ ‫أما في مستوى النبياء فذلك مستوى الخوارق و المعجزات‪..‬‬ ‫و ما زالت القلوب الخيرة و النفوس الكاملة التي لها حظ من هذا المستوى قادرة على بلوغ‬ ‫الحب و تحقيق النسجام في بيوتها برغم الفروق الظاهرة في السن و الثقافة‪..‬‬


‫ذلك أن الحب الذي هو تناسب و انسجام بالنسبة لنا نحن العاديين‪ ..‬هو في المستوى‬ ‫العلى من البشر نفحة إلهية‪..‬‬ ‫و من ذا الذي يستطيع أن يقيد على ال نفحاته أو يشترط عليه في هباته‪..‬‬ ‫و إذا شاء ال أن يرحم أحدا فمن ذا الذي يستطيع أن يمنع رحمته‪..‬‬ ‫و الحب سر من أعمق أسرار رحمته‪..‬‬ ‫و ل ينتهي في الحب كلم‪..‬‬

‫البتهال‬

‫إلهي‪ ..‬يا منبع جميع النوار‬ ‫ترى من نحب حينما ننظر إلى بعضنا البعض‪..‬؟!‬ ‫و هل نحب إل نورك أنت و أثر يديك على الصلصال‬ ‫و هل يسكرنا إل نفخة روحك التي نفختها فينا‬


‫و هل نطالع في كل جميل إل وجهك‬ ‫و هل كل يد شافية و كل قبلة رحيمة إل ترجمان رحمتك‬ ‫فكيف يا إلهي تضل بنا الودية و تتفرق بنا السكك و نخرج من اسمك إلى أسمائنا فنسجن‬ ‫أنفسنا في هذا الصدر أو نتوه في ذلك العنق أو نهاجر في تلكما العينين و تتسكع أيدينا‬

‫على نحاس الضرحة فنلثم الشفاه و يخيل إلينا أننا نذوق خمرك و ما نذوق إل زجاج‬ ‫الكؤوس التي أودعت فيها ذلك الرحيق الخفي الذي هو سر أسرارك‪.‬‬

‫و يخيل إلينا أننا بلغنا المنتهى و ما بلغنا إل لمس الغلف و تحسس المحارة أما اللؤلؤ‬ ‫داخل المحارة‪ ..‬و النور المغيب في شغاف القلوب و السر المودع في العيون فليس لنا منه‬

‫إل حظ القرب و المطالعة و الستشراف من بعد حيث ل وصال و ل اتصال و ل انفصال‬ ‫و ل نوال‪ ..‬و إنما في الذروة من الحساس‪ ..‬يأتي ذلك الغماء‪ ..‬و تلك الغيبوبة‬

‫الصاحية‪ ..‬و تلك النشوة الغامرة‪ ..‬حينما نوشك أن نكون قاب قوسين أو أدنى من لقاء‬

‫السر بالسر‪.‬‬ ‫و ل سر إل سرك و إن تعددت السماء و تنوعت المفاتن و اختلفت الوجوه‪.‬‬ ‫إنما هو أنت وحدك المحبوب أينما توجه قلب محب‪ ..‬و أنت وحدك المعبود أينما توجهت‬ ‫نظرات عابد‪.‬‬

‫و أنت وحدك الرزاق و إن تعددت اليدي التي تعطي‪.‬‬ ‫إنما تستمد جميع المصابيح نورها من نورك‪.‬‬ ‫كل مصباح يأخذ منك على حسب استعداده‪ .‬و يعطي من نورك على حسب شفافيته‪.‬‬


‫و لكن العطاء في الصل منك و الجمال منك و النور منك‪.‬‬ ‫سبحانك ل شريك لك‪.‬‬ ‫سبحانك و الحمد لك‪.‬‬ ‫سبحانك والحب لك‪.‬‬ ‫يارب‪ ..‬سألتك باسمك الرحمن الرحيم أن تنقذني من عيني فل تريني الشياء إل بعينك‬ ‫أنت و تنقذني من يدي فل تأخذني بيدي بل بيدك أنت تجمعني بها على من أحب عند‬

‫موقع رضاك‪ ..‬فهناك الحب الحق‪ ..‬و هناك أستطيع أن أقول‪ ..‬لقد اخترت‪ ..‬لنك أنت‬ ‫الذي اخترت‪ ..‬و أنت الوحيد الذي توثق جميع الختيارات و تبارك كل الحريات‪ ..‬أنت‬ ‫الحرية و منك الحرية و بك الحرية و أنت الحب و منك الحب و بك الحب‪.‬‬

‫أنت الحق و الحقيقة‪.‬‬ ‫و ما عدا ذلك أضرحة و نحاس و خشب و صلصال و حجارة و أهداب و عيون و محاجر‬ ‫و أوثان تسجد لوثان‪.‬‬ ‫ل تدعني يا إلهي في الظلمة ألثم الحجارة و أعانق الصلصال و أعبد الوثن‪.‬‬ ‫بشفة الشيطان لثمت هذه الشياء و ظننت أنها شفتي و بذراعي الشيطان عانقت و ظننت‬

‫أنهما ذراعاي‪.‬‬

‫استحلفتك بضعفي و قوتك‬ ‫و أقسمت عليك بعجزي و اقتدارك‬


‫إل جعلت لي مخرجا من ظلمتي إلى نوري و من نوري إلى نورك‬ ‫سبحانك‪...‬‬ ‫ل إله إل أنت‬ ‫ل إله إل ال‪.‬‬

‫أراد أن يرحمها‬ ‫هي صاحبة مال و جمال و دلل‪.‬‬ ‫في أناملها الرقيقة المرصعة من خواتم الماس و الزمرد ما يكفي لبناء جامعة‪.‬‬ ‫و على كتفيها معطف أنيق من فراء الفيزون النادر يكفي للنفاق على مستشفى‪.‬‬ ‫و في جراج بابا ثلث عربات مرسيدس أمد ال في عمره و هو ل يرد لها طلبا‪ ..‬و كلما‬ ‫رفض لها عريسا زادها في أصابعها خاتما‪.‬‬ ‫و هي بعد أن امتلكت الدنيا ل تعرف ماذا تريد بالضبط‪.‬‬ ‫و هي و إن كانت ل تعرف ماذا تريد فإنها تعرف تماما ماذا ترفض‪.‬‬


‫و هي ترفض كل ما يطرق عليها الباب‪.‬‬ ‫حتى الطقس ترفضه‪ ..‬فهو دائما حار أكثر من اللزم أو بارد أكثر من اللزم‪ ..‬أو غائم‬

‫أكثر من اللزم أو صحو أكثر من اللزم أو رطب أكثر من اللزم‪.‬‬

‫كما أن الطعام دسم أكثر من اللزم أو مملح أكثر من اللزم أو مسكر أكثر من اللزم أو‬ ‫ساخن أكثر من اللزم أو بارد أكثر من اللزم‪.‬‬

‫و لبد أن ترى في كل شيء عيبا‪.‬‬ ‫نوع من الدلع و سوء التربية‪.‬‬ ‫عقدة الترف و الوفرة‪.‬‬ ‫و أف من هذا‪.‬‬ ‫و أف من ذاك‪.‬‬ ‫بردانة‪ ..‬حرانة‪ ..‬متضايقة‪ ..‬قلقانة‪ ..‬زهقانة‪ ..‬يرن تليفونها كل ثلث دقائق‪.‬‬ ‫تبكي بل سبب‪.‬‬ ‫من الضجر أحيانا‪..‬‬ ‫أو من عبء حرية ل تعرف فيما تنفقها و ل كيف تنفقها‪.‬‬ ‫أو من أثقال ثروة ل تعرف كيف تبددها‪.‬‬


‫أو من وطأة زمن ل معقول يجرجر وراءه العقم و اللجدوى‪ ..‬و العبث الفارغ‪.‬‬ ‫رأيتها تدور كالفراشة حول غرفة نوم في معرض موبيليا‪ ..‬و تحملق في الثاث المترف‬

‫بعيون نائمة‪ ..‬على السرير بطاقة بالثمن ‪ 26‬ألف جنيه‪.‬‬

‫و من خلل أهدابها المطلية بالماسكا ار تتأمل وسائد ريش النعام و الدولب المكسو بالشاموا‬ ‫و الزرار اللكترونية في متناول اليد التي تطفئ و تدير و تغير قنوات التليفزيون المثبت‬ ‫في أقصى السرير و تشغل الستريو و البيك آب و الكاسيت‪.‬‬ ‫و سمعتها تمط شفتيها و تهمس في نبرة ل مبالية‪ ..‬موش بطال‪.‬‬ ‫ل شك أنها سوف تحدث صاحبها في التليفون بعد دقائق في شأن هذه الغرفة‪.‬‬ ‫و ل شك بعد ذلك أنها سوف تنسى الموضوع‪.‬‬ ‫ثم إنها لن تفاجأ كثي ار حينما تطرق بابها عربة الثاث تحمل إليها غرفة النوم النيقة‪.‬‬ ‫و ل شك أنها سوف تتمدد عليها كقطة‪ .‬و ل شك أنها سوف تتثاءب في ملل بعد دقائق‪..‬‬ ‫ثم ما تلبث أن تفقد الشعور بجمالها و طرافتها‪.‬‬ ‫فإنها كالعادة‪ ..‬كل شيء تملكه ما تلبث أن تزهده‪.‬‬ ‫ثم يعود كابوس الملل و الضجر‪ ..‬و الزمن الثقيل الذي يجرجر قطار اللجدوى يضغط‬ ‫على أعصابها‪.‬‬

‫ل تحتقروها يا سادة‪.‬‬


‫و لكن أشفقوا عليها‪.‬‬ ‫فإن ال لم يحتقر شيئا حين خلقه‪.‬‬ ‫و لو أنه احتقر شأنها لما خلقها من البداية‪ .‬و لكن كل ما في المر‪ ..‬أنها امرأة مدللة لم‬ ‫تجد الب الذي يؤدبها و ل الم التي تنهرها و ل الدنيا التي تقهرها‪.‬‬ ‫و لكن ال ل يهمل أحدا‪..‬‬ ‫و قد كتب على نفسه في أزله الرحمة للجميع‪.‬‬ ‫و قال عن نفسه أنه الرب ل رب سواه‪ ..‬و قد اقتضت رحمته أن يقسو أحيانا على بعض‬ ‫خلقه ليصلحهم‪..‬‬ ‫فإنه ل يرضى أن تكون لنا عيون و ل نبصر و تكون لنا آذان و ل نسمع‪.‬‬ ‫و قد شق اللحم ليفتح عيون الجنة في الرحام كما شق الرءوس ليفتح مجاري الذان‪.‬‬ ‫و قد شاء ربنا عناية منه بهذه المرأة أن يرحمها‪.‬‬ ‫فصحت الجميلة ذات صباح لتكتشف أنها مسلوبة نعمة البصر‪.‬‬ ‫انطبقت الظلمة على عينيها تماما فلم تعد تبصر شيئا‪.‬‬ ‫و صرخت و بكت و ارتعدت رعبا‪.‬‬ ‫و اجتمع على رأس فراشها طب المريكان و النجليز و الفرنسيين و السبان‪.‬‬


‫و تداول علماء الشرق و الغرب و انفضوا و هم يقلبون الكف يأسا و عجزا‪.‬‬ ‫و ل شفاء‪..‬‬ ‫و ل حل‪..‬‬ ‫و ل أمل في حل‪..‬‬ ‫و في الظلمة المطبقة المطلقة‪ ..‬كانت تتحسس وجه حبيبها و تبكي في حرقة و تهمس‪.‬‬ ‫هل تصدق أني لم أرى وجهك‪ ..‬حينما كانت لي عينان و حينما كان لي بصر لم أكن‬ ‫أراك‪.‬‬

‫لم أكن أرى سوى رغباتي‪.‬‬ ‫لم أكن أشعر إل بنفسي‪.‬‬ ‫لم أكن أرى أحدا‪.‬‬ ‫كان العالم كله مجموعة من المرايا ل أرى فيها إل وجهي أنا‪ ..‬و جمالي أنا‪ ..‬و رغباتي‬ ‫أنا‪..‬‬ ‫اليوم فقط أحاول أن أستشف ملمحك بأناملي و أحاول أن أتعرف عليك‪ ..‬و أحاول أن‬ ‫أقترب منك‪.‬‬ ‫يا حبيبي كم أتمنى أن أراك‪ ..‬و أن أعاشر وجهك بعيني‪.‬‬ ‫و بكت و غسلت يديه بدموعها‪.‬‬


‫صدقوها يا سادة‪.‬‬ ‫فهذه أول مرة تطلب شيئا بحق و تتمنى شيئا بحق‪ ..‬و تشعر على وجه اليقين أن هناك‬

‫شيئا يسعدها‪.‬‬

‫صدقوها‪ ...‬و اسألوا لها الشفاء‪.‬‬ ‫فاليوم ولدت إنسانيتها‪ ..‬بفعل من أفعال الرحمة اللهية‪ ..‬و بسر من أسرار ال الذي يخفي‬ ‫رحمته في عذابه‪.‬‬

‫بتصرف‬

‫مع تحيات موقع ‪ :‬السثثاخر‬ ‫‪www.alsakher.com‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.