الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
َّالراحَّلَّون تعددت أسبابُ الرحيل ،والفرا ُ ق واح ُد
أحمد إبراهيم موسى
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
اعتذار
ُكلهم يبدأونَ ُكتُبَهم بإهداء إال أنا ،أبدأ ُ كتابي باعتذار.. اعتذا ٌر لك سيدتي، فبع َد ُك ِّل ما لقنتيني من أشكال الحروف ومنطوق الكلمات وبعد ُكل ما عجز ُ ت أن علمتيني من دروس النحو والصرف والبالغة واألدبَ ، ٌ ب إهدا ًء يلي ُ وصف ير ُس ُم ق بك ،فال َكل ٌم يُداني حُسنَ شملك ،وال أكتُ َ جميل سمتك ،وال شع ٌر يُوفي حلي َم طبعك ،وال نث ٌر يجزي رفي َع قدرك.. َ ب حرفًا وأال أر ُس َم وصفًا وأال أ ُخط سردًا يُنافي ما وأ ُعاه ُدك أال أكتُ َ ربيتيني وشببتيني عليه..
من شرفَهُ هللاُ بأن يكونَ ابنًا لك
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
الفصلُُاألول ُ قدُتبكيناُأشيا ٌءُصغيرةٌُُألنُُأشياءُأكبرُُتراكمتُقبلهاُ ُ
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
1 لم يستطع القمر -رغـم اكتماله -تبديد ظلمة السماء من حوله، ٌ ٌ ضبابية فظهر باه ًتا وتائهًا وسط آالف النجوم غمامة غشيته التي تناثرت تراقب حيرته من بعيد ،حاول جاه ًدا مضاعفة توهجه آم ًًل في إنارة الطريق أمام تلك الفتاة السائرة بخطىً حثيث ٍة في الشارع الرئيسي للمدينة التي انقطعت عنها الكهرباء للمرة الثالثة هذا اليوم ،اتسعت عيناها عن آخرهما محاو ً لة استشكاف الطريق المعتم أمامها ،كان سيرها في الشارع الذي خًل أو كاد من المارة ش ً ذوذا عن المنطق ،لم تبعث وحشة الظًلم فيها الخوف كما فعلت عيون القطط الًلمعة التي تناثرت على جانبي الطريق بعدما فشلت في العثور على شي ٍء حفز عندما ارتفع تأكله ،هرَّ ت القطط وحرَّ كت ذيولها في ت ٍ صوت هاتف الفتاة ،طالعت االسم الظاهر عليه في المباالة دون أن تجيب ،صعدت إلى منزلها وحيَّت أبويها في عجل ٍة ثم دلفت إلى غرفتها عندما عاود هاتفها الرنين للمرة الخامسة فأجابته هذه المرة ،جاء صوته م ً حتدا يسألها عن سبب تأخرها الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
حتى الحادية عشرة ً ليًل فأخبرته أنها كانت تتنزه برفقة صديقاتها ،انفعل أكثر فقاطعته: أنا حرة ،أنا مكنتش بعمل حاجة غلط وبابا نفسه مزعقليشزيك كدا.. يعنى إيه إنتي حرة؟ ال طبعًا مش حرة ،ومن النهاردة مفيشخروج مع صحباتك تاني بالليل.. ً ضحكة ساخرة ،وقالت : ضحكت نعم؟ ليه خير يارب معلش مش واخده بالي ،تكونش جوزيأو حتى خطيبي؟ ،بقولك إيه ،لما تبقى دبلتك في صباعي إبقى قول اللي تقوله بس قبل كدا إنت ملكش كلمة عليا ،ويلًل علشان عايزه أنام.. كنتي البسه إيه؟.. وإنت مالك؟.. أنا لما أسألك تجاوبي..الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
يعنى إيه لما تسألني أجاوبك دي؟ إنت اشترتني ولًلحاجة؟ومع ذلك كنت البسة بنطلون وشيميز.. بلغ انفعاله منتهاه وهو يصرخ في أذنها: بنطلون بردو؟ ،مفيش فايدة يا مها؟ مش قلتلك ألف مرةمتلبسيش زفت؟.. أنا كدا وهفضل كدا يا حسام وانسى إني أتغير ،متقبلني زيمانا كدا يا أخي.. يعني إيه مش هتتغيري ،إنتي هتلبسي زي مانا عايز مشزي مانتي عايزة ،معنديش استعداد أبقى ماشي في يوم من األيام طرطور ماشي مع الهانم والناس كلها بتتفرج عليكي، ومش هقبلك كدا ألن اللي بقوله هو الصح ،لبسك دا مش مقبول في الدين وإنتي عارفه كدا كويس.. بقولك إيه ،لما تبقى أنت صح في كل حاجة بتعملها ابقىتعالى كلمني بالدين ،قبل كدا متتكلمش معايا ال في خروج وال الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
في لبس وال في أي حاجة ً أبدا ،أنا عايزة أعيش حياة تبسطني مش حياة تخنقني ،لو بتحبني هتتغير علشاني ألني ببساطة مبتغيرش علشان حد.. قالتها وأنهت االتصال بدون حر ٍ ف إضافي ،عندما وضعت الهاتف إلى جوارها حدث شي ٌء نادر الحدوث في حياتها ،بكت بدون إراد ٍة منها ،سالت دموعها كجدولين رقيقين على وجنتيها الخمر َّيتين وانزلقت تروي الزهور الحمراء المرسومة على وسادتها ،آالف األسئلة بدأت تغمر عقلها ،لماذا يصر على أن يح َّبها بهذه الطريقة؟ لماذا ال يحبها على طريقتها هي وليس ً رجًل يسألها أين تذهب على الطريقة الشرقية؟ هي ال تريد ومتى ستعود؟ ال تريد رج ًًل يأمرها بفعل هذا وينهاها عن فعل ذاك ،تريد رج ًًل يكملها ال رج ًًل يحتويها داخله وهو يريدها ط ً فلة يخاف عليها ،هي ليست كذلك ولن تكون أب ًدا ،ماذا يضيره إن تأخرت في العودة إلى المنزل وما يؤذيه من طريقة هندامها؟ لماذا ال يحاول فهمها؟ لماذا ال يدرك أنها متمردةٌ بطبعها؟ تعشق االنطًلق وال تخشى نظرة أح ٍد إليها أب ًدا ،تفعل الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
ك َّل ما تحب دون محاذير أو خوف ،لماذا ال يمنحها مساحتها الشخصية فًل يتدخل في أي شيء ليس له ع ً ًلقة به؟ لم يسبق لها الدخول في عًلقا ٍ ت سابقة حتى إنَّ صديقاتها كنَّ يعجبن منها ،تعترف داخلها أنها أخطأت عندما سمحت له بالولوج إلى حياتها وبعثرة مخططاتها لنفسها ،صحي ٌح أنها لم تقل أب ًدا له أنها تحبه على يقينها من ذلك لكنها على أتم االستعداد لنسف هذا الشعور إن ظنت لوهل ٍة أنه قد يؤثر في شخصيتها أو ينتقص من تقديرها لذاتها ،لم تبن كيانها وكينونتها على مدار سنواتها الفائتة حتى يأتي رج ٌل مهما كانت مكانته فيفكر مجرد تفكير في التغيير منها ،تفضل دهس قلبها تحت قدميها بًل ٍ رحم ٍة على أن يحدث ذلك ،ستبقى كما هي أب ًدا حتى لو كان آخر الرجال على وجه األرض ،إن أرادها ً حقا فليتقبلها على حالتها هذه وإال فليرحل عن عالمها بسًلم ،كشطت دموعها بأطراف أصابعها ونهضت من فراشها ،وقفت أمام المرآة ونظرت إلى وجهها في تحد صارم ،ضاقت حدقتاها وهي تتمتم في صو ٍ ت عميق" :أنا قوية بنفسي ولنفسي ومش الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
هضعف لحد مهما كان" ،عادت إلى فراشها بنفس الهدوء، التقطت الدمية التي أهداها إليها يومًا ما ثم ألقتها على األرض َّ عميق وكأنَّ شي ًئا لم يحدث.. نوم ٍ بمنتهى القوة وغطت في ٍ
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
2 أمعنت الشمس في رفع درجة حرارتها غير آبه ٍة ً أبدا لهؤالء ص دت السائرين تحت أشعتها في هذا الوقت من النهار ،تف َّ جلودهم عر ًقا في محاول ٍة لتلطيف حرارة أجسادهم الملتهبة، ظليل يأوون إليه، كن ٍ زاغت أعينهم وهم يبحثون عن ر ٍ أخرجوا محارمهم ومسحوا بها قطرات العرق التي أغرقت جباههم ورقابهم ليمنعوها قبل أن تلحق بسابقاتها إلى داخل مًلبسهم ،على جانب الطريق وقف شاب في أواخر العشرينيات من عمره وتثبتت عيناه تراقب حركة السيارات، اشتعل عقله باألفكار حتى صار لهيب الشمس في هذه اللحظة ً سحابة من الجليد تظلل رأسه ،اقتربت سيارة أجر ٍة فتأهب لها الجميع ،تزاحموا عليها وكأنها الصراط الذي سيحملهم من الجحيم إلى النعيم ،تكالبوا يحاول كل واحد منهم الفوز بأحد المقعدين الشاغرين ،اشرأبت األعناق وتشابكت األذرع وتناحرت األجساد ،وسط الحشد صرخت فتاةٌ ما ثم سقطت على الرصيف من فرط التدافع ،لم يكترث أح ٌد لمعاونتها على الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
النهوض بل بدا أ َّنهم لم يسمعوها على اإلطًلق فجميع حواسهم ٌ بكثير من االطمئنان على فتا ٍة بأمر مختلفٍ تمامًا ،أهم نشغلة م ٍ ٍ ضعيف ٍة سقطت م ً غشيا عليها ،لم يكن الشاب قد انخرط في منازعتهم على المقعدين م ً فضًل انتظار سيارة تالية ،التفت إلى جسد الفتاة الممدد في وضعي ٍة مفزع ٍة بًل حراك ونظر إليها نظر ًة شارد ًة جوفاء ،لم تصدر منها أية تأوها ٍ ت وظلَّت عيناها مغلقتين لفتر ٍة أطول من المعتاد ،أنفاسها البطيئة ترددت في خفو ٍ ت شديد وأنبأته أنها ما زالت على قيد الحياة ،أخرج طر صغير ٍة من جيب بنطاله وأشار بها إلى فتا ٍة قارورة ع ٍ أخرى وطلب منها محاولة إفاقة الفتاة المغشي عليها ،لم يهتم ً ثانية إلى الطريق الذي ظهرت الستعادة قارورته وأعاد النظر عند بدايته سيارة أجر ٍة أخرى ،قاتل هذه المرة على المقاعد الجديدة الذاهبة إلى الجنة ونجح في الظفر بإحداها م ً ستغًل قوة ً سريعة إلى الفتاة التي بدأت جسده بالنسبة للباقين ،نظر نظر ًة تسترد وعيها والتقت عيناهما في لحظ ٍة خاطف ٍة لم تتجاوز مدتها الثانية ثم انطلقت سيارته ،بدا المشهد أمامه مختن ًقا الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
بعوادم السيارات وسباب الذين لم يتمكنوا من الركوب، اعتصرت قبضته هاتفه المحمول حتى كاد أن يتحطم وعقله يستعيد كل تفاصيل الليلة الفائتة ،آالف الكلمات والحروف تداعت داخل خًليا مخه الرمادية مكو ً نة عشرات الجمل الصادمة والقاتلة بصوتها ،شجا ٌر يتكرر مع كل مر ٍة تخرج فيها للتنزه مع صديقاتها حتى صار الشجار ركيزة أحاديثهم وال شيء سواهَّ ، هز رأسه محد ًثا نفسه ،إلى متى سيظل محتم ًًل كلماتها وأفعالها؟ تلك التي دخلت حياته بصور ٍة مفاجئ ٍة فزلزلت بصلفها عرش رجولته وأفاقته من سكرة تسلطه وجرَّ عته كأس الصبر في صم ٍ ت وأسقطته من قمة البأس إلى قاع الًلحيلة وأهوته من علياء التمكن إلى قعر التودد ،كلما ً تدليًل ازدادت عنا ًدا حتى تقرَّ ب منها تم َّنعت عنه وكلما زادها أصبح ال يملك من أمر قلبه شي ًئا ،كل قطر ٍة من دمه تحمل هواها إلى كل خلي ٍة في جسده وتغذيها به حتى تشبعت روحه بعشقها ح َّد االرتواء ،فعلت به ما لم تفعله أية أنثى قبلها بل فعلت به ك َّل ما فعله هو بكل سابقاتها ،لربما ساقها القدر الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
للقصاص لهنَّ منه ،كم من عبرا ٍ ت أجراها على وجوه من تركهنَّ خلفه ،وجوهٌ ما كانت تستحق أن تبكي لكنه أبكاها- بقص ٍد أو بدون قصد -فأتت من تذيقه من نفس الكأس حتى صار يسأل نفسه عن الطرف األقوى في تلك العًلقة المرهقة آن واحد ،ترميه في خضم صراعا ٍ ت نفسي ٍة لقلبه وعقله في ٍ داخلي ٍة حتى أوشكت طاقة الصبر لديه على النفاد بينما تحيا هي بمنتهى البرود غير آبه ٍة له ،لم تتصل منذ الصباح وال يعتقد أنها ستفعل فقد س َّنت هي قانو ًنا غير مكتو ٍ ب بينهما منذ تعارفا ،أن يتصل هو بها ويسترضيها في حالة الشجار حتى لو كانت هي التي أغضبته ،في البداية طاب له ذلك لكن األمر صار ً ثقيًل عليه ،في كل مر ٍة تبوء محاوالته لرأب الصدع الذي أصاب عًلقتهما بالفشل ألنها تعتبر محاوالته المستميتة تلك ضع ًفا منه يستوجب قسو ًة منها فتمتطي جواد تكبرها أكثر وأكثر ،هي ال تهتم على اإلطًلق ويبدو أنها لن تتغير في المستقبل المنظور على األقل ،أكثر ما يوجع استجداء االهتمام أشخاص نهتم بهم ،يعلم علم اليقين أنها لم تفكر في من ٍ الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
االتصال به مطل ًقا منذ أمس فيما فكر هو في ذلك ألف مر ٍة خًلل الدقيقة الماضية ،عندما وصل إلى المنزل مسح اسمها من هاتفه فسخرت منه نفسه وسألته" :هل هكذا إذن ستمنع نفسك من االتصال بها؟ على من تكذب؟ أال تحفظ رقمها عن ظهر قلب؟ أنت تعلم أنك ستتصل حتمًا عاج ًًل أو آجًل"، وتمامًا كعشرات المرات السابقة أجرى االتصال..
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
3 فترةٌ من الصمت جاوزت الدقيقة ظلَّت ألسنتهم ساك ً نة في ٌ دقيقة خلت من أية تسليما ٍ ت أو أسئل ٍة عن األحوال مرابضها، حتى إ َّنها خلت من كل أنواع التحايا وبقيت أنفاسهم وحدها هي التي تتردد عبر األثير ،استدارت أطراف الحديث بعي ًدا عن عقليهما وانحسرت أمواج الحروف عن شواطئ أفواههم فلم يجد أي منهما نقطة بداي ٍة لنفث الجحيم الذي يستعر داخله، أخيرً ا نطقت هي ،جاء صوتها مبحوحً ا فخان قسوة كلماتها: خير؟ عايز إيه؟..لم يجب السؤال ،مأل صدره بالهواء عن آخره ومع زفرته جاء سؤاله معجو ًنا بالمرارة : لحد إمتى يا مها؟ لحد إمتى يا بنت الحًلل؟ أنا تعبت منحرقة األعصاب دي كل يوم..
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
إنت اللي بتحرق أعصاب نفسك فمتحملنيش ذنبك ،إنت الليغيور أوفر وبتهتم بتفاصيل زيادة ،ارتاح يا حسام ،كبر دماغك شوية وفكر في األهم ،سيبك من لبسي وخروجي ودماغي وفكر في اللي بعد كدا لما نكون سوا ،هنعيش فين وهناكل إيه؟ مش التفاهات اللي كل شويه بتتكلم فيها دي.. تفاهات ،غيرتي عليكي تفاهات؟.. حسام! طريقتك دي مش نافعة معايا ،غيَّر طريقتك يمكنتنفع ،أنا مبحبش أتجبر على حاجة ،أنا لما أعمل حاجة أعملها بمزاجي.. قاطعها م ً وبانفعال غير محدود: حتدا ٍ ً أصًل مش هتتغيري وال عندك أساسًا استعداد للتغيير، إنتيً أصًل ،وبعدين إنتي عاجبك نفسك كدا ومبتقتنعيش بكًلم حد طالما أنا مقتنع إن اللي بقوله صح مش هغيره ،المفروض حضرتك تشوفي اللي بقوله صح ولًل غلط ،لو صح تنفذيه ولو غلط متنفذيش ،لكن المسخرة بتاعتك دي ودماغك الناشفة الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
عمرهم ما هينفعوا غير مع واحد معندوش دم ودا أكيد مش أنا ،بجد أنا زهقت.. زهقت؟ طب تمام ،بس متبقاش تقول إنك بتحبني لما مشقادر تتقبلني زي مانا ،روح شوف واحدة على مزاجك ألني عمري ما هكون على مزاجك ،إنت عايز تهدني وتبنيني من جديد ودا مش هيحصل أب ًدا ،مش هيحصل.. أنا لو عايز أهد وأبني كنت شفت واحده تانيه هدها أسهلبكتير منك لكن إنتي عمرك ما هتفهمي دا ،لو مبحبكيش مكنتش استحملت كل الشهور اللي فاتت دي وأنا بسمع منك كًلم ميقبلوش أي راجل في الدنيا بس أنا خًلص زهقت ومبقتش قادر أتحمل أكتر ،بصي أنا خًلص مش عايز أكمل، إنتي لو آخر بنت على وجه األرض مش هادعي ربنا ً أبدا إنها تكون نصيبي.. طب تمام ،كويس إنها جت منك علشان متشيلنيش ذنبنا بعدكدا ،سًلم.. الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
ً جامدا ينظر لهاتفه ثم أعاد أنهت االتصال فيما ظ َّل هو االتصال من جديد عدة مرات ،في المرة السابعة أتاه صوتها ً باردا يسأل: أفندم؟.. إنتي لسه بتكلمى هشام؟.. إنت متصل علشان تسألني السؤال دا؟.. ردي على سؤالي ،لسه بتكلميه؟.. أيوه لسه بكلمه..سحقت إجابتها قلبه ،ألف مر ٍة طلب منها أال تتحدث إلى زميلها في العمل الذى سبق وأن طلب يدها للزواج ،صرخ حتى أسمعت صرخته الكون كله: ليييييه؟ لسه بتكلميه ليه؟ ،سايباله الباب متوارب ليه؟ً أصًل راضية مبتقطعيش عًلقتك بيه ليه؟ يهمك في إيه؟ إزاي إني أتحرق ألف مرة وإنتي بتردي عليه؟.. الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
علشان إنت قلتلي اقطعي عًلقتك بيه ،مش هعمل حاجة حدقالي إعمليها حتى لو كانت صح.. وإنتي عارفه ومتأكده إنه لسه بيفكر فيكي ،أنا بلعتلك كلحاجة قبل كدا بس دي مش هعديها ،كله إال غيرتي ،غيرتي هي رجولتي ولو سامحتك في دي مش هسامح نفسي أب ًدا طول ً أصًل وال بتحسي ولو عندك ذرة حياتي ،إنتي مش بني آدمة عقل مكنتيش تضحي بحد بيحبك بالطريقة دي.. بدون حرفٍ إضافي أنهى هو االتصال هذه المرة ثم قذف هاتفه بمنتهى الغضب في زاوية الغرفة فته َّشم تمامًا وتهشمت معه الثقة بينهما..
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
الفصلُُالثاني ُ ُ صِ رناُنبنيُجدرانُالصمتُِحولناُكيُالُيسمعُاآلخرونُ ُفيُقلوبنا ُالوجع ضجيج ِ ِ
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
1 لم تأبه -كعادتها -للحرارة المرتفعة وخرجت من بيتها لتبدأ يومًا جدي ًدا من أيام حياتها الروتينية ،حرارة الجو -مثلها مثل ً خلية واحد ًة في رأسها ،أسدلت الكثير من األشياء -ال تشغل غطاء رأسها بني اللون ليقي عينيها الحساستين من أشعة الشمس مخفيًا عن الناظرين إليها آثار الزمن الذي نحتها على وجهها النحيل ،هبطت من سيارة األجرة التي استقلتها من قريتها ثم سارت ألكثر من ربع الساعة ،أبطأت في سيرها ثم عبرت الطريق في هدوء لكن سيارة أجر ٍة ما ظهرت من خلفها فجأة ،نجح السائق المتهور في تفادي الكتلة الحية المتحركة أمامه مطل ًقا سبا ًبا بذي ًئا لم يصل إلى مسامعها منه شي ٌء ،أما هي فأطلقت زفيرً ا قو ًيا من أنفها مع تسارع أنفاسها ،سارعت إلى بوابة مصنع المًلبس الجاهزة التي تعمل به عاملة نظافة منذ أكثر من سبع سنوات ،أشارت إلى عامل البوابة كى يدون اسمها في دفتر الحضور بيدها التي لم تمسك بها قلمًا يومًا قط.. الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
منزل قديم متهالك يتكون من طابقين لم يكن المصنع سوى ٍ فقط ،يشمل الطابق السفلي غرف المشغل وغرف العاملين، فيما الطابق العلوي يحتوي على غرف اإلدارة والمعرض.. دلفت إلى غرفة العاملين ،خلعت عنها عباءتها التي حاكتها لها أمها قديمًا ،العباءة التي تقاسمها حرَّ الصيف وبرد الشتاء وتقلبات الربيع ،عباءةٌ لم تبرز يومًا هذا الجسد اآلخذ في االنكماش حتى صار كالعرجون القديم وسترت عن األعين آال ًفا من خطوط اإلهانة واأللم ،وضعت عليها رداء العمل البالي رمادي اللون ،تركت جسدها مم ًدا على األريكة الخشبية المتهالكة في زاوية الغرفة للحظات ،أطلقت من صدرها زفرا ٍ زمن ت حار ًة أحرقت شفتيها الجافتين اللتين لم تعرفا منذ ٍ بعي ٍد انفراجة الفرح أو شكوى الحال ،ارتكزت على يدها وتحسست تجاعيد خديها الملتهبة من صفعات زوجها في ٌ صفعات اعتادتها دومًا من هذا الزوج العاق الذي لم الصباح، يعترف يومًا بتفانيها في خدمته وخدمة أمه المسنة.. الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
جمعت أدوات النظافة وبدأت عملها ،لم تستطع مغالبة الدموع التي سالت على األرض ثم اختلطت بالماء الذي سكبته، كفكفت دمعاتها ومسحتها بطرف ردنها ،نثرت قلي ًًل من ً رائحة منعشة أخذت تمأل قطرات المعطر الذى أكسب المكان بها رئتيها اللتين اعتادتا على تنفس الدخان المنبعث من نارجيلة زوجها يوم ًيا ،مرت على مكتب رئيس العمال سريعة م ً ً ً لقية عليه تحية الصباح فر َّد الرجل ابتسامة وابتسمت بال طالبًا منها تنظيف مكتبه الح ًقا، النحيل تحيتها بوج ٍه ال م ٍ أومأت برأسها ثم أكملت طريقها في اتجاه غرفة األستاذ كامل ً قائلة في ود: المشرف العام على المصنع ،ابتسمت له صباح الورد يا أستاذ كامل..ر َّد عليها الرجل الوقور وهو منهم ٌ ك في لملمة أوراقه المبعثرة بفعل المروحة التي تسرى عليه حرارة الجو: صباح الفل يا أم محمد ،لما ترتاحي شوية الضهرية كده ابقيافتكرينا يا ستي بدل ما إحنا قاعدين في الفوضى دي.. الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
ردت واالبتسامة تمأل فمها: انت تؤمر يا أستاذ كامل ،ده إحنا ننضفهالك برموش عنينا..ضحك الرجل لكلماتها ثم سألها سؤا ًال معتا ًدا عن حالها وحال أوالدها فحمدت هللا وشكرت له سؤاله عليها ،أتمت عملها عند الظهيرة ثم عادت إلى غرفتها ،تناولت كسرا ٍ ت من الخبز وقلي ًًل من الجبن القريش والجرجير ثم اغتسلت وأدت صًلتها، ذهبت إلى مكتبي األستاذين سعيد وكامل ،قامت بتنظيفهما ولما انتهت منهما عادت أدراجها إلى غرفتها دون ابطاء ،خلعت عنها رداء العمل وارتدت عباءتها األثيرة في ود وكأنها شاق معتاد ،يومها هذا تتكرر تفاصيله يوم ٍ اشتاقت إليها بعد ٍ الدقيقة بمنتهى االنتظام والرتابة ،أيامها ال تتشابه فقط بل تكاد تتطابق تمامًا كالنسخ الكربونية.. خرجت من المصنع مشير ًة إلى عامل البوابة كي يوقع لها في دفتر االنصراف ،سارت في طريق عودتها يفكر عقلها في الًلشيء مطاب ًقا الطريق الذي تسير فيه بصورة الطريق الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
المطبوعة فيه طيلة السنوات التي قضاها داخل جمجمة هذه المرأة البائسة ،تفاصيل صغيرة تغيرت لكنه اعتادها بمرور األيام ربما ألنه تطبَّع بعادتها ،ال تفكر إال في األشياء المهمة فقط والتي غالبًا ال تدور سوى حول أبنائها األربعة ،حتى هي نفسها صارت مجرد تفصيل ٍة صغير ٍة في حياتها.. الشمس في شفقها األحمر آخذةٌ في المغيب خلف حقول القمح وجم ٌع من الفًلحين منهم ٌ ك في حصد المحصول ،تناثر غبار الحصاد في الهواء و َّ حط على مًلبس المارة ،لم تتأفف ولم ٌ عًلمات للضيق ،سارت في الطريق ال ترتسم على وجهها تلقي با ًال ألي شيء حولها ،ال إلى الطريق غير الممهد المليء بمخلفات الحيوانات وال إلى الروائح الكريهة المنبعثة من مصرف المياه الذي تسير بجواره وال إلى الحشرات التي تطن فوق رأسها طيلة الوقت ،صارت من فرط ما مرَّ بها من أزما ٍ مثال متحركٍ ال ينبض فيه بالروح إال قلبها وعقلها، ت كت ٍ عالم فًل وج ٌع يؤثر فيه وال مرضٌ يقعده ،عقلها أصبح في ٍ عالم ملي ٍء بالحزن والضيق ،لكنه عال ٌم لم يتطرق إليه خاص، ٍ
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
يومًا التذمر أو السخط ،فاتصالها بربها هو الذي يجعلها صامد ًة حتى اآلن.. وصلت إلى منزلها لتجد أم زوجها الحاجة هانم مفت ً رشة نوم عميق ،فيما كان محمود - أرضية غرفة المعيشة تغط في ٍ ابنها الصغير ذو األربعة أعوام -يلهو بدميته إلى جوار جدته، نادتها بصو ٍ ئ حتى ال تفزعها: ت هاد ٍ أما ،إيه اللي نيمك كده؟ مش كنتي ترتاحي جوه عالسريربدل نومة األرض اللي تكسر العضم دي؟.. أفاقت حماتها ثم ردت بصو ٍ ت مكتوم به حشرجة واضحة: اتغديت يا بنتي ومقدرتش أقوم من مكاني ،ناوليني شربة ميهيا بنتي هللا يسترك ريقي ناشف من الحر.. ناولت حماتها كوبًا من الماء ثم عادت فمألته وتركته إلى جوارها ،عرَّ جت على غرفة ابنتها هند فلم تجدها ،تساءلت في نفسها عن سر تأخر ابنتها وقد أوشك الظًلم أن يح َّل على الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
البلدة ،ذهبت إلى غرفتها وخلعت مًلبسها ثم ارتدت جلبابًا قطن ًيا ناعمًا ووضعت غطاء رأسها ثم صعدت إلى سطح المنزل ،على الحصيرة المهلهلة رقد جس ٌد شبه ميت ،مغطى ال اتسخ حتى صار له لون الرماد ،إلى جواره الوجه بش ٍ تنتصب أرجيلته المعتادة وأحجارٌ متناثرة وقلي ٌل من قًلحات الذرة المتفحمة ،على مقرب ٍة من يد الجسد استقرت قطعٌ من مخدر الحشيش في مندي ٍل ملوَّ ن ،التقطت المنديل ثم ألقت به في بيت الدجاج القابع في زاوية السطح.. تذكرت أباها الراحل ،لكم كانت تود لو أنها تعاتبه اآلن على هذه الزيجة من هذا الرجل الفاسد الذي ال يقدر لها سعيها عليه ً خاصة أنه مصابٌ بمرض عضال ينتشر في أنحاء جسده ٍ وبالكاد تستطيع أن توفر من أجرها ما يتطلبه مرضه من أدوي ٍة تعلم أن ال جدوى وال طائل من شرائها ،لم تفكر أب ًدا في التوقف عن شرائها وهذا الزوج الوضيع يبدد إيراد إيجار أرض أمه في شراء تلك المخدرات التي تفسد جسده أكثر مما يفسده المرض.. الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
انتهت من تنظيف سطح المنزل في حدود السابعة ،أعدت ً بسيطا أخذت في تناوله هي ومحمود الصغير في الوقت طعامًا الذي دخلت فيه ابنتها هند المنزل ،هند – التي على وشك االنتهاء من شهادتها اإلعدادية بعد أقل من شهر -ذات وج ٍه ستدير وبشر ٍة خمري ٍة وعينين سوداوين كعيني أمها ،كانت م ٍ بمتجر لبيع المواد المنظفة بالمدينة التي عائد ًة لتوها من عملها ٍ تبعد عن قريتهم بضعة كيلو مترات ،أرسلتها أمها للعمل بالمتجر بنا ًء على نصيحة صديقتها أم حسن كي تبعد ابنتها بعض من عن صنائع أبيها من ناحي ٍة وأم ًًل في توفير ٍ احتياجات األسرة من المال من ناحي ٍة أخرى خاصة بعدما أخبرتها أم حسن أنَّ صاحب المتجر رج ٌل يحسن معاملة من يعملون لديه.. مسحت هند حبات العرق من على جبهتها ثم ارتمت على أريك ٍة بسيط ٍة بجوار جدتها الممددة على األرض وقالت بصو ٍ ت منهك: الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
أنا هسيب الشغل ده إمتى يا أما؟ دي االمتحانات لسالها تًلتأسابيع بس.. ردت أمها في عطف: معلش يا ضنايا استحملي لنص الشهر وبعدها سيبيه وفوقيلمذاكرتك ،بس إنتى إيه اللي أخرك كده لحد دلوقتي؟.. أصل وأنا مروحة عديت على بيت سماح اللي معايا فيالشغل وأمها حلفت آلكل معاهم.. بدا الضيق جل ًيا في صوت أمها ،وهي تقول: ليه يا بنتي كده بس ،محنا لينا بيت ناكل فيه ،ليه ناكل عندالناس؟.. نهضت هند ،وقالت منفع ً لة بصو ٍ مرتفع أيقظ جدتها: ت ٍ فين البيت دا؟ بيت منعرفش فيه مين الراجل ومين الست،بيت إيه اللي تشتغل فيه عيلة عندها خمستاشر سنة وأبوها طول اليوم بيشرب حشيش فوق السطح؟.. الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
متعليش صوتك ألبوكي يسمعك ويدور فينا الضرب وإحنامش ناقصين هم يا هند ،معلش يا بنتي بكره تتعدل وتتجوزي راجل يسترك ويريحك من هنا.. ومين ده المغفل اللي هيرضى يدخل بيتنا ويناسب واحد زيأبويا؟.. كانت قد احتدت أكثر في انفعالها الًلمحسوب فبلغ صوتها مسامع أبيها الذي هبط متك ًئا على عصاه ،جسده الذي أبًله المرض يئن من الحركة غير المعتادة ،حاول سيد ذو الوجه الغليظ والشفتين البارزتين فتح عينيه الغائرتين بصعوبة، زمجر بصو ٍ ت أجش سائ ًًل عن سبب الصوت المرتفع ،أجابته أمه أنَّ هند كانت تنادي أمها طا ً لبة الطعام بعد عودتها من العمل.. ارتفع صوته أكثر وهو ما زال غاضبًا:
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
إيه؟ هي خًلص علشان راحتلها الشغل أسبوعين هتعمل فيهافالحة؟ صوتها ميعًلش تاني وإال قسمًا عظمًا ما في خروج تاني ال لشغل وال لمدرسة.. حمدت أحًلم ربها على أنه لم يسمع كلمات ابنته وإال كان أذاقها من ألوان التعذيب ما ال يطيقه جسدها الضعيف ،وجهت ً حاولة تهدئة مزاجه وسألته عما إذا كان جائعًا حديثها إليه م فتحضر له الطعام ،وجَّ ه نظره إليها بعينيه المحمرتين وسأل: مين اللي نضف السطح يا أحًلم؟ كان فيه منديل جنبي وأنانايم ،راح فين؟.. مشفتوش يا خويا ،دور في جًلبيتك ولًلأشفهولك تحتالحصيرة؟.. المنديل كان جنبي يا أحًلم وأنا نايم ،مكانش فاضي ،كان فيهحتة كيف..
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
تعلم أنه لن يدع األمر يمر بسًلم فإما أن تقول له ماذا فعلت بالمنديل وساعتها لن تسلم من بطش يديه وإما أن تستمرَّ في المداراة وعندها سيستمر غضبه وهللا وحده يعلم إلى أي شي ٍء سينتهي هذا اليوم.. قطعت زمجرته الغاضبة وتلويحه بعصاه أفكارها عند هذا الحد ،بدا متأك ًدا تمامًا أنها هي من خبأت ما يبحث عنه، حاولت اإلنكار لكنها لم تتمكن من ذلك فقد سبقت عصاه -التي هوت على منتصف ظهرها -لسانها قبل أن ينطق بشيء ،أخذ ينهال عليها ضربًا بًل رحمة ،حاولت أمه دفعه بعي ًدا عنها إال أنه استمر في سبه ولعنه غير مكتر ٍ ث بلعنات ودعوات أمه ً دفعة أخير ًة ارتطمت على التي تصبها فوق رأسه ،دفع زوجته أثرها بزاوية األريكة فسالت دماؤها على ثياب أمه ،شعرت بدوار قوي إال أنها جاهدت لترك عينيها مفتوحتين انتظارً ا ٍ لمزي ٍد من اإلهانات ،لكنه فتح الباب وخرج ثم صفقه خلفه بقو ٍة فاستسلمت أخيرً ا للنوم على قدمي حماتها.. الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
استيقظت بعد ساعتين ،تح َّسست رأسها فوجدته معصو ًبا بقطعة قماش تفوح منها رائحة البن الذي وضعوه على جرحها الدامي ٍ إليقاف نزيفه ،عندما رأتها هند تفيق قالت: محمد اتصل يا أما وقال إنه جاي في الطريق..ابتسمت أحًلم لسماعها الخبر الذي أذهب عنها بعضًا مما هي فيه ،محمد ابنها يقضي آخر فتر ٍة من فترات تجنيده اإلجباري ،لم تره منذ أكثر من شهر في آخر إجاز ٍة له ،ارتفع صوت النداء الخالد من الخارج ،رددت كلماته ثم أوصت ابنتها بأال تقصَّ شي ًئا مما حدث ألخيها.. طويل وبشر ٍة قبل أن ينتصف الليل حضر محمد ،ذو جس ٍد ٍ سمراء لفحتها شمس الصحراء أكثر وعينين عسليتين داكنتين، وجد جدته وحدها في غرفة المعيشة فسلَّم عليها وقبَّل يديها ثم سألها عن أمه فأشارت إليه أنها في غرفتها ،ما أن رآها على ضيق وقال: حالتها تلك حتى ضاقت عيناه في ٍ الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
كنت عارف ،طالما مستنيتينش بره يبقى فيه حاجه ،مالك ياأما وإيه اللي حصل؟.. قبَّل يديها ورأسها المعصوب ثم أعاد سؤاله فلم تجبه إال بلمس ٍة ٌ دركة تمامًا أنه يعرف السبب فوجَّ ه حاني ٍة على وجهه وهي م سؤاله لهند: عرفنا إنه أبويا يا هند ،بس إيه السبب؟..ً ثانية ورأى في عينيها أخبرته هند بما كان من أبيه فنظر ألمه رفضًا أقوى للخوض في هذا الموضوع ،خرج ثم اغتسل وارتدى جلبابًا أبيض ،بعد أن فرغ من تناول الطعام استلقى إلى جوار أمه وسألها: صحيح يا أما ،سعاد عاملة إيه هي وابنها؟ مشفتهاش بقاليشهرين ،مكلمتكيش من زمان؟.. متصلتش من أسبوع يا محمد ،مانتا عارف جوزها مانعهاتكلم أى حد من قرايبها ،هللا يسامحه ويهديه.. الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
طب وإيه اللي يصبرنا عليه يا أما؟ مناخدها تعيش بيننا.. والناس تقول علينا إيه يا بني؟ خدوا بنتهم وطلقوها منجوزها؟ ال يبني الصبر ،يمكن الحال يتعدل.. أومأ برأسه مطيعًا ثم حكى لها بعضًا من المواقف التي حدثت له بالمعسكر لعله يسلَّيها ويخرجها قلي ًًل عن همومها ،خرج بعدها ليلتقي بأصدقائه الذين لم يرهم منذ أكثر من شهر ثم عاد ً قبل الفجر بقليل ،سمع أصوا ًتا وضحكا ٍ مرتفعة أعلى من ت صوت الموسيقى المصاحب لها ،ذهب إلى غرفة أمه ليستفسر منها فوجدها تبكي بكا ًء مريرً ا وتقطعات أنفاسها تكاد تزهق روحها ،اندفع مسرعًا إلى السطح في اتجاه مصدر الصوت، يعرف أنَّ أباه اعتاد التسامر مع رفقاء السوء فوق سطح المنزل وأنهم يتعاطون كافة أنواع المحرمات فما الذي يبكي أمه هكذا؟ ما الجديد؟ عندما صعد إلى السطح كاد أن يصعق لما رأى ،أبوه ورفقاؤه كالمعتاد متحلقون لكن ليس حول نج بينهم كالحية ،كتم النارجيلة ،بل حول غاني ٍة تتمايل في غ ٍ الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
انفعاله ونادى أباه بهدو ٍء شديد ،التفت إليه أبوه لكنه لم يتب َّينه ً ثانية وهو يصم مسامعه عن فحيح ضحكات بعد فكرر نداءه المرأة: آبا ،أنا محمد يا آبا ،لسه واصل دلوقتي..رد أبوه في ال وعي: إزيك يا محمد؟ انزل إنت وأنا هجيلك كمان شوية..أدار وجهه ناحية رفيقه المجاور الذي ناوله النارجيلة وأخذ هم شديد ،أغمض محمد عينيه وأحنى رأسه في يتنفس دخانها بن ٍ خزي وامتأل صدره بالغضب الشديد ،كم كان يتمنى لو كان هو أبًا ألبيه فيمسك بتًلبيب ثوبه وينهره علَّه يزدجر عن أفعاله المشينة ،نظر نظر ًة أخير ًة إليهم وخطر بباله أن يركل أشياءهم بقدميه ويطردهم خارج المنزل الذي دنسوه بالمخدرات والعاهرات وهو متأك ٌد أ َّنه لن يقدر عليه أح ٌد في ً ثانية وأدار وجهه ثم هبط إلى حيث حالتهم هذه ،أطرق رأسه أمه فوجدها على بكائها المؤلم ،ضاق صدرها وسعلت سعا ًال الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
جا ًفا كاد يمزق أحشاءها ،ناولها كوب الماء فأبت أن تشرب، لحظات حتى َّ ٌ غطت في أراحت رأسها على وسادتها ولم تمض نوم عميق وهو بجوارها ،تطلَّع ً مليا في وجهها الناعس ،كم ٍ عجيبة ً ٌ جدا! ،تبكي وكأنها تبكي ألول مر ٍة في حياتها هي وتضحك كأنها لن تضحك بعدها ،وعلى الرغم من حزنها كطفل وكمدها بمجرد أن وضعت رأسها على وسادتها نامت ٍ ولي ٍد ال يدرك ماهية الحياة وال يعي أعباءها التي ستثقل كاهله حين من الزمن ،أية شخصي ٍة هذه وأية طبيع ٍة تلك؟ تتراكم بعد ٍ األحمال والهموم فوق رأسها لكنها ال تمل وال تضجر أب ًدا ،ال تشكو وال تسخط أب ًدا ،قبَّل رأسها ثم أطفأ مصباح الغرفة وذهب لغرفته ونام هو اآلخر..
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
2 مرَّ شهرٌ والحال هو الحال ،ففي كل ليل ٍة يغلق محمد الباب على أمه وأخته وجدته حتى ال تصل إليهم تلكم األصوات المنكرة واألدخنة المقيتة فتدنس البقية الباقية من حيائهن الفطري الذي قتل معظمه هذا األب الجاحد.. وفي ليل ٍة ما عندما بلغ الصبر منتهاه صعد الولد وحادث أباه، لين كي ال يستف َّز أخًلق أبيه الفاسدة: قال في ٍ يابا! هللا يخليك إنت عندك بنت ومينفعش البت تشوف أبوهاجايب رقاصة في البيت ،يابا! هللا يخليك فكر شوية ،فكر في صحتك علشانك يابا حتى مش علشانا وإن كنت مصمم يبجى بًلش هنا ،خليها في بيت تاني من بيوت أصحابك.. إنت هتحاسبني يا قليل األدب؟..قالها السيد منفع ًًل ثم رفع يمناه ليصفع ابنه لكن يد محمد استوقفته ثم دفعته إلى الخلف ،استشاط األب غضبًا ،كيف الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
جرؤ هذا الولد على تحديه؟ رفع عصاه ثم هوى بها يريد بها رأس ابنه ،تنحى االبن جانبًا بعي ًدا عن العصا ثم أمسك بها وجذبها بقو ٍة من يد أبيه ورفعها عاليًا ،لم ينطق بحر ٍ ف واحد ت وأس ٍ وهو ينظر في عيني أبيه بكل مق ٍ ف ،أراد الولد إيصال رسالته ألبيه ،أراد أن يخبره أنَّ زمان قسوته المفرطة واستبداده الفاسد قد ولَّى وأنه ما عاد يملك بأسه القديم ،أراد أن يخبره أنهم ما عادوا يطيقون أفعاله وأنَّ أبوته قد صارت اسم يقترن بأسمائهم في شهادات الميًلد فقط ،حضرت مجرد ٍ ً مرفوعة أمام أمه في هذه اللحظة لتجد ابنها ممس ًكا بالعصا وجه أبيه ،ذهلت وتخيلت ما كان سيحدث لو لم تأت في هذه اللحظة ،فصرخت: ال يا محمد إياك ،ده أبوك..وبكثير من األلم ،إنه ال يستحق لقب األب هذا، قالتها بمرار ٍة ٍ نزعت العصا من يد ابنها ودفعته ليهبطا درجات السلم معًا
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
ً تاركة زوجها وحي ًدا يلملم شتات نفسه ويلعن هذا الولد الذي تجرَّ أ على الوقوف في وجهه.. استيقظت أحًلم في السادسة صباحً ا كعادتها ،ذهبت إلى المطبخ كي تع َّد طعام اإلفطار قبل خروجها إلى عملها ،وجدت بن عليها آثار الخبز ،باب طب ًقا من العسل األبيض وقطعة ج ٍ خال ودافئ ،أين ذهب مبكرً ا هكذا غرفة ابنها مفتو ٌح وسريره ٍ ولم لم يخبرها لي ًًل بعزمه على الخروج صباحً ا؟ ولم ولم؟ ألف لم دارت برأسها ،عادت من عملها بحير ٍة أكثر من تلك التي ذهبت بها ،دخلت عليه غرفته لتجده يجهز حقيبته ،بمنتهى الدهشة واالستغراب سألته: بتعمل إيه يا محمد؟ ورايح فين الساعة دي يا ابني؟..لم يجبها ولم يلتفت إليها كيًل تلتقي عيونهما ،نمت هواجسها بسرع ٍة رهيبة ،يبدو أنه عاز ٌم على السفر ،ما الذي سيفعله غير ذلك وهو يعد حقيبته رافضًا اإلفصاح عن نيته؟ وجهت عينيها نحو عينيه مباشر ًة وقالت: الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
محمد ،هتسيبني لمين يا محمد؟ دانا قلت إنت اللي هتريحنيمن همي ،دانت سندي وضهري يا ابني.. بكت َّ فمزقت بآهاتها نياط قلبه ،أخذت تكرر اسمه في كل جمل ٍة علَّه يرق لها ،لمحته وهو يضع شي ًئا ما في حقيبته ،شهقت ً ش ً روعة واتسعت عيناها ح َّد الهلع ،صحي ٌح أنها ال تقرأ هقة م وال تكتب لكنها تعرف تمامًا ماهية هذا الكتيب األخضر الصغير ،إنه جواز سفر ،تعالى صوت نشيجها وسالت دموعها كنهر فاض بعدما انهدم سده.. ٍ ركع على ركبتيه أمامها ،أمسك بيديها وقبلَّهما ثم قال بصو ٍ ت مختنق: غصب عني يا أما ،عايز أشق طريقي.. تقوم تسيبنا يا ابني وإحنا اللي ملناش غيرك ،تسيبنا وتروحبره البلد ،طب خليك في أي حتة تانيه جوه ،ساعتها نعرف نتطمن عليك.. الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
البلد تعبانة يا أما وأبويا إنتي شايفاه عمره ما هيعملنا حاجة.. هتسيبني يا محمد؟..أوجعته بسؤالها ،أطرق رأسه ألسفل في أسى ولم يجبها، مسحت دموعها بيديها وانتصبت واقفة ،ثم أدارت له ظهرها وقالت: اللي تشوفه يا محمد ،اللي تشوفه يا ابني..زاغت عيناها واستحالت الرؤية أمامها ضبابية ،كانت تنتظر أن يفرغ من أداء خدمته العسكرية حتى يزيح عن كاهلها بعضًا من مشاق الحياة فإذا به يضيف ألمًا أش َّد وط ًئا عليها ،ألم فراقه ،رفعت يديها إلى ربها وسألته التوفيق البنها والعون لها ثم افترشت األرض ،ض َّمت يديها ووضعتهما تحت خدها ت راض ً األيمن وتركت دموعها تسيل في صم ٍ ية بتصاريف القدر..
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
أخذ يجاهد في وقف نزاعاته الداخلية ،خذلها ألول مرة في حياته ،اختار الهرب من جحيم أبيه على الكفاح معها واختار المستقبل المجهول على الحاضر القاسي ،أخذ ضميره يلعنه ويسأله" :أتترك أمك وحدها تصارع الزمان والبشر؟ أتجاهد ابن أنت وأي أمك الحياة بالصبر وتطعنها أنت بالهرب؟ أي ٍ إنسان أنت؟".. رجل أنت؟ بل أي ٍ ٍ ارتمى على السرير للحظا ٍ ت محاو ًال قمع الضجيج الذي أحدثه ً وداعية على ضميره ،نهض وع َّدل هندامه ،بعدما ألقى نظر ًة باب غرفة أمه قتل ضميره بهدو ٍء ،ورحل..
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
الفصلُُالثالث ُ
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
1 انتهت هند من اختبارات نهاية العام وقبل أن تستمتع بإجازتها ً ثانية ،آثرت أن تبعد ابنتها عن الصيفية أعادتها أمها إلى العمل ً خاصة أنَّ أباها قد فسدت طباعه أكثر أجواء البيت المقيتة بفعل المرض الذي أخذ ينتشر بسرع ٍة أكبر في جسده ولم يعد يهتم بالدواء مما خفف من ضغوط االلتزامات المالية الملقاة ً كئيبة بطيئة ولم تكن على عاتق زوجته التي مرَّ ت أيامها تتناول من الطعام إال ما يقيم صلبها ،على حالها المستديم ما بين بكا ٍء على رحيل ولدها ومجاهدة زوجها الفاسد وما بين مشقة العمل وضيق الحياة ،تنظر إلى حماتها وتتساءل كيف يكون هذا ولدها وهل كرر محمد معها عقوق أبيه لجدته؟ هل كان لخروجه من صلب هذا األب ما يبرر فعلته؟ نفضت عن رأسها تشبيه ولدها بزوجها فمهما فعل محمد فإنه يومًا لم يقم شخص آخر.. باإلساءة ألمه أو ألي ٍ
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
في ظهيرة أحد األيام أتى رج ٌل في الخمسينيات من عمره ً ً طوية ثم أوصاها بسرعة اتخاذ ما يلزم ،لم ورقة م وسلَّم الجدة تفهم منه سوى أ َّنه محضر المحكمة ،عندما عادت أحًلم من عملها أعطتها حماتها الورقة ،لم تفهم أحًلم شي ًئا بالطبيعة لكن قلبها أخبرها أنَّ شي ًئا كبيرً ا سيحدث وأنَّ حضور محض ٍر إلى خير ً أبدا ،هرعت من فورها إلى منزل بيتها ال ينم عن ٍ صديقتها أم حسن ،تسارعت خفقات قلبها حتى صارت أسرع من خطوات قدميها كأنما تتسابقان لمعرفة سر الورقة الكمين قبل أحًلم نفسها ،دفعت أحًلم الورقة إلى صديقتها طال ً بة منها تفسير محتواها ،ولما كان ضوء النهار قد رحل وأم حسن ال ترتدي نظارتها طلبت من أحًلم الدخول حتى يتسنى لها قراءتها فرفضت وأخبرتها أنها ستنتظر ،مرت ثواني االنتظار كامل وتخيلت فيها ك َّل أنواع الكوارث التي كدهر على أحًلم ٍ ٍ أحزان يمكن أن تحملها هذه الورقة ،ماذا يا ترى سينقش من ٍ على جدار حياتها الليلة؟ عادت أم حسن ووجهها ممتقعٌ لكن الظًلم حجب مًلمحها عن أحًلم التي بادرتها في لهف ٍة: الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
خير يا أم حسن ،طمنيني هللا ال يسيئك..بلعت المرأة ريقها وبصو ٍ ت متهدج أفصحت عن فحوى الورقة ،قطعت صرخة أحًلم المدوية كلمات صديقتها ثم سقطت على األرض مغش ًيا عليها.. بعد ساع ٍة تقريبًا أفاقت من إغماءتها ،بدأت في تحريك رأسها وفتحت عينيها ،حاولت االعتدال وهي تقول فيما يشبه الهذيان: أم حسن؟ الورقة..ر َّدت هند الجالسة على طرف السرير: أم حسن لسه ماشية يا أما مع ابنها ،هللا يباركلهم لما وقعتيعندهم جابولك الدكتور وكشف عليكي وبعدين جابوكي هنا، بيقولوا الزم ترتاحي علشان ضغطك عالي.. ارتفع صوت أحًلم وهي تسأل من جديد: فين الورقة؟..الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
ناولتها ابنتها الورقة فأشارت إليها أن تقرأها ،قرأت هند سكون تام حتى دخلت الورقة بينما تستمع أحًلم إليها في ٍ الحاجة هانم فسألتها: إيه يا أما اللي مكتوب في الورقة ده؟ إنتى صحيح يا أمابعتي البيت؟.. والنبي يا بنتي ما بعت حاجة وال فاهمة أي حاجة؟.. أمال إيه يا أما؟ ده مكتوب إن الحاج عبد هللا جارنا عايزيخلي البيت علشان يهده؟.. سكتت قلي ًًل وكأنها تفكر في شي ٍء ما ثم نفضت عنها غطاءها واستطردت: قومي بينا يا أما نروحله ونستفهم منه..حاولت حماتها إثناءها عن عزمها م ً تعللة بتأخر الوقت وضعف إصرار عجي ٍ ب ثم صحتها لكن أحًلم نهضت من فراشها في ٍ ارتدت مًلبسها وانطلقتا إلى بيت جارهم ،طرقت باب المنزل الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
بعصبي ٍة الواعي ٍة بصور ٍة أزعجت ساكنيه ،فتحت لهم فتاةٌ ً طالبة منهم االنتظار في غرفة الضيوف صغيرةٌ ورحَّ بت بهم حتى توقظ أباها ،بعد ربع ساع ٍة أتاهم الحاج عبد هللا مرحبًا سائ ًًل عن حاليهما فر َّدت أحًلم في جفاء: حال ميسرش يا حج عبد هللا ،إيه اللي حصل ده يا حج؟ إيهالورقة اللي مبعوتالنا مع المحضر دي؟ ومن إمتى والبيت اللي إحنا ساكنينه بتاعك؟.. هو السيد مقالش ليكم؟ غريبة! مع إنه حلفلي إنكم عارفين،وقالي كمان إنكم ناويين تسيبوا البيت وتروحوا تعيشوا في المنصورة.. طلبت الحاجة هانم توضيحً ا أكثر ،فابتلع الرجل ريقه ثم قال: الحكاية يا حاجة إن السيد كان سالف مني قرشين من زمانولما جه معادهم قالي اصبر شوية علشان بيخلص في بيت هيشتريه في المنصورة وإنكم هتنقلوا فيه ،وعرض عليا يبيعلي البيت فأنا وافقت خصوصً ا إن الجدار في الجدار ،فكملتله بقية الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
المبلغ وكل لما أسأله هتخلوا البيت إمتى يقولي اصبر شوية عليا ،فعملت المحضر ده علشان أستعجله وأنا معرفش يا حاجة إنه مخبي عليكم.. كانتا تستمعان إليه في ذهول وكلماته تهوي كالمطارق على رأسيهما ،لم يتخيًل أب ًدا أن تبلغ الوقاحة بسيد إلى هذه الدرجة فيبيع المنزل الذي يؤوي أمه وزوجته وأوالده ،بعد لحظا ٍ ت من سكون ما بعد الصدمة قالت الحاجة هانم في انكسار: طب يا حاج عبد هللا بًلش تمشي في إجراءات اإلخًل ،إحنايا ابني ملناش غير البيت ده يتاوينا ،وإحنا جيرة أبوك وأمك هللا يرحمهم.. قالتها وهي تهوي على يد الحاج عبد هللا تريد تقبيلهما وساعدها على العودة إلى مكانها وقال: جيرتكم على راسي يا أم السيد بس السيد خد مني فلوس..قالت أحًلم بصو ٍ ت ه َّده األلم: الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
هنردهالك يا حاج عبد هللا ،لو هنقطع من جلدنا الحيهنردهالك ،بس بحق الجيرة يا حاج تصبر علينا ويبقى جميلك على راسنا طول العمر.. أومأ الرجل برأسه ولم يدر ما يقول في هذا الموقف العصيب، انصرفتا ولساناهما يلهجان بالشكر لتفضله عليهما ثم عادتا إلى منزلهما ترفًلن في االنكسار والحيرة ،بعد ساع ٍة أو أقل عاد السيد من الخارج ،صرخت أمه في وجهه عندما رأته: أنت رايح تبيع البيت اللي آوينا يا فاجر علشان تصرففلوسه عالخمرة والحشيش والنسوان ،يلعن البطن اللي شالتك، يا ريتك كنت مت وال نزلتش من بطني يا فاجر.. انتفخت أوداجها واحمرَّ ت عيناها مع االنفعال الشديد فيما لم يلق السيد با ًال لها وكأ َّنه لم يسمعها ثم صعد إلى السطح وكأنَّ شي ًئا لم يحدث.. كل هذا وأحًلم لم تنطق بحرفٍ واح ٍد تفكر في كيفية تجهيز المبلغ ،والتفكير في الكارثة المحدقة بعائلتها يكاد يقتلها ،قفزت الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
صورةٌ ما إلى مخيلتها من وسط أفكارها ،صورة ابنها محمد، تتمنى لو أنه معها اآلن كي تضع رأسها على صدره وتبكي، افتقادها له وحنينها إليه طغى على التفكير في حل للكارثة تمتمت بشفاهها واض ً عة يديها أعلى رأسها "آه يا محمد ،آه يبني ،يا ترى أنت فين؟ شفت أمك والحزن اللي هي فيه؟".. ظلَّت تتقلب في فراشها ولم يغمض لها جفنٌ طيلة الليل ،عند الفجر سمعت صوت خطوات حماتها بالخارج ،خرجت لتجدها ً تصلي راف ً سائلة ربها أن يساعدها في محنتها، عة يديها للسماء توضأت أحًلم وبينما هي تصلي سمعت صوت الباب يقفل من الخارج ،أت َّمت صًلتها ولم تجد حماتها ،ما الذي تنتويه هذه العجوز وجعلها تخرج في هذه الساعة المبكرة من الصباح؟ افترشت األرض فغلبها التعب أخيرً ا واستغرقت في النوم حتى أيقظتها حماتها ،أفاقت ورأت أمامها م ً نشفة كبير ًة بداخلها كيسٌ من البًلستيك أذهلها بمحتواه ،ك ٌ مية كبيرةٌ ج ًدا من النقود، اندهاش عظيم: اتسعت عيناها في شدة وسألت حماتها في ٍ الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
جبتي منين الفلوس دي يا أما؟..لملمت حماتها المنشفة وأمرتها بالذهاب معها إلى منزل الحاج عبد هللا قبل خروجه ،نهضت مذهولة وتبعت حماتها في صم ٍ ت يتنافى مع ضجيج األسئلة في رأسها ،من أين أتت هذه العجوز بكل هذا المال؟ ،وكيف بهذه السرعة؟ أخرجتها طرقات حماتها على باب منزل الحاج عبد هللا من بحر الًلوعي الذي غمر عقلها ،فتح لهم الرجل منده ًشا لقدومهما في هذا الوقت ،بعدما رحَّ ب بهما قال: وهللا يا ستي أنا كنت ناوي أروح النهاردة بعد الضهر أوقفإجراءات اإلخًل ،بس باهلل عليكي يا أم السيد تسامحيني.. ر َّدت الحاجة هانم في هدوء: وال يهمك يا حاج عبد هللا ،لو كنا مكانك كنا عملنا كده..قاطعها ً قائًل:
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
ال طبعًا يا أم السيد دانتي أم األصول ،لو العيبة طلعت منناعمرها ما تطلع منك أب ًدا.. تسلم يا حاج عبد هللا ،إحنا جايينلك في كلمة ورد غطاها،إحنا يا حاج جبنالك الفلوس ،خد منها اللي سيد خده منك وبعدين تعملنا عقد بيع جديد باسم أحًلم.. خجل قالتها وفتحت الكيس البًلستيكي أمامه ،أحنى رأسه في ٍ ثم نظر إلى السيدتين وقال: حد هللا أحط إيدي في فلوسك يا أم السيد ،سيد كان خد منيتسعين ألف.. ً ً مكتومة ود َّقت صدرها بقوة ،ماذا فعل شهقة شهقت أحًلم السيد بهذا المبلغ الكبير؟ تسعون أل ًفا؟ وكيف ب َّدد ك َّل هذا المال؟ وفيم؟.. م َّدت أم سيد يدها للرجل بالمبلغ المطلوب ثم لملمت منشفتها وقامت من جلستها ،أصرَّ أال تخرج من بيته قبل أن تتناول الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
طعام اإلفطار لكنها اعتذرت طال ً بة منه في أد ٍ ب أن يقوم بكتابة عقد البيع في أسرع وقت وشكرت له صنيعه معهما وتفضله عليهما ثم انصرفتا إلى منزلهما ،ه َّمت أحًلم بإلقاء أسئلتها والفضول يقتلها إال أنَّ حماتها ذكرتها بتأخرها عن العمل مشير ًة إلى الساعة المعلقة على الحائط ،اتجهت عيناها دون قص ٍد إلى الصورة ذات اللونين األبيض واألسود المجاورة للساعة ،صورة زفافها إلى سيد وقد ابتسمت ناظر ًة إلى عينيه ً واضعة يديها على كتفيه فيما أحاط هو خصرها النحيف بيديه، يوم مرَّ ت به في حياتها ،تمتمت لم تعلم حينها أنه سيكون أسوأ ٍ بحمد هللا على قضائه ثم ارتدت مًلبسها ،أيقظت هند التي زمجرت من تحت غطائها لكنها لم تجد ً مفرا من النهوض، عادت أحًلم لتودع حماتها فوجدتها قد استسلمت للنوم وعلى ٌ ابتسامة خفيفة، شفتيها ارتسمت ابتسامة رضًا وارتياح..
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
2 المس الندى وجنتيها في حميمي ٍة واستنشقت نسمات الصباح بانتعاش خفيف ،ربما كان الفضول يقتلها إال أنها لم فأحست ٍ تدعه يفسد عليها سرور انفراج األزمة ،رفعت عينيها إلى السماء فلما غشيتها الشمس بنورها رفعت يمناها وصنعت منها واقيًا لعينيها.. ماجت شوارع القرية بالحركة ،قاد الفًلحون عرباتهم المحملة بروث البهائم بوجو ٍه جامد ٍة خالي ٍة من أي انفعاالت ،فقط آثار النوم الذي ما زال يتململ في أعينهم يحارب أجفانهم في إصرار وكل منهم يجالده بفرك عينيه أو بتمط ٍع لذي ٍذ من ذراعيه ،لماذا لم يكن زوجها فًلحً ا مثلهم؟ يستيقظ فجرً ا ال أن ينام صباحً ا ،يجتهد في فًلحة أرض أمه ويقتات منها فيكفيهم بعضًا من حاجتهم بد ًال من تركها تستهلك من قبل مستأجريها نفع يعود عليهم.. بًل ٍ
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
وصلت إلى المصنع وأشارت اإلشارة المعتادة لعامل البوابة، في غرفتها سمحت لنفسها بأن تتم َّدد فوق األريكة ناظر ًة ألعلى واضعة ذراعها األيمن على جبهتها ،احتلت صورة ابنها كالمعتاد تفكيرها بالكامل ،انفرجت شفتاها وكأنها تود أن تخبره بما حدث من أبيه وكيف قامت جدته بحل الموقف بطريقة ما ثم بدا وكأنها تعده بإخباره بقية القصة حينما تعرفها من جدته ،نهضت ثم جمعت أدواتها وبدأت تؤدي عملها الروتيني ،مرَّ ت على غرفة األستاذ سعيد فنظفتها ثم على غرفة األستاذ كامل الذي تجاذب معها أطراف الحديث سائ ًًل اهتمام لما روته إياها عن أحوالها وأحوال أسرتها ،استمع في ٍ عن قصة بيع المنزل ثم هنأها بانفراج األزمة سريعًا داعيًا لها بدوام راحة البال فأ َّمنت على دعائه وشكرت له حسن إصغائه وسعة صدره.. بًل أدنى اختًلفٍ عن سابقيه انتهى هذا اليوم من العمل، وصلت منزلها في تمام السابعة تقريبًا ،وجدت حماتها المس َّنة مفترشة األرض كعادتها تار ً ً كة النافذة نوم عميق تغط في ٍ
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
ً مفتوحة على مصراعيها حتى تسمح لتيارات الهواء بالمرور علَّها تخفف من درجة الحرارة التي على ما يبدو لم تعد تفرق بين النهار والليل وعلى ذراعها األيمن ينام محمود الصغير سكون مًلئكيٍ بريء.. في ٍ مرَّ ت كعادتها على غرفة ابنتها فوجدتها خالية ،رفعت حاجبيها فًل تدري أكان رفعهما لًلستغراب أم للقلق أم للغضب أم لثًلثتها معًا ،انتهت من استحمامها لتجد ابنتها قد دخلت لتوها، ً خاطفة إلى الساعة ثم سألت ابنتها في غضب: نظرت نظر ًة اتأخرتي ليه يا هند ،كنتي فين كل ده؟ الساعة سبعة ونص..ر َّدت هند وهي تتحرك في اتجاه غرفتها: وأنا مروحة عديت مع سماح على بيتهم وقعدت مع أمهاشوية وبعدين وصلتني للموقف فركبت وجيت.. جذبت أحًلم ذراع ابنتها بمنتهى العنف ثم صرخت في وجهها: الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
هو كل يوم تعدي على بيت سماح دي ،حسك عينك تتأخريبعد كده وسماح دي متعتبيش بيتها تاني ،مفهوم؟.. تأوهت هند من شدة قبضة أمها فأذعنت لألمر في خضوع حتى تتفادى انفعال أمها ثم دخلت غرفتها ،ارتمت على سريرها وأخذت تعاتب نفسها ،لقد أصبحت تتأخر كثيرً ا هذه األيام حتى أثارت غضب أمها والخوف كل الخوف أن تثير شكوكها أيضًا ،عليها أن تكون أكثر حذرً ا في األيام القادمة وأن تعمل على العودة مبكرً ا قدر اإلمكان.. ٌ طرقات عصبية د َّقت باب المنزل وانتزعتها من تفكيرها، ً سرعة لترى من يكون الطارق فيما انتصبت أمها ذهبت م ً واقفة تضع شي ًئا يغطي رأسها ،فتحت هند لتندفع أختها سعاد ً باكية نحو أمها التي ذهلت ل َّما رأتها ،ارتمت في أحضان أمها بكا ًء هيستير ًيا ،لم يكن سبب ذهول أحًلم رؤية ابنتها المفاجئة أو بكائها الرهيب ،لم تسأل ابنتها عن سبب مجيئها أو حتى عن
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
سبب بكائها فهي تعلم مسب ًقا ،كان سؤالها ملتاعًا بكل معنى الكلمة: فين حامد يا سعاد؟..نظرت سعاد ألمها بوج ٍه متسرب ٍل بالقهر وتدلَّت من عينيها إلحاح عناقيد المرارة واالنكسار ،كررت أم محمد السؤال في ٍ قاس غير آبه ٍة لحال ابنتها رعبًا على الطفل الوليد الذي لم ٍ يتجاوز عمره السبعة أشهر ،سعلت سعاد س ً عاال شدي ًدا فجاءت ً معجونة بالدم ،ر َّدت والتشنجات تذبح صدرها: نخامتها طردوني يا أما وخدوه مني؟ شدوه وقالولي زي ما جيتي هنالوحدك هتمشي لوحدك ،ده ابننا مش ابنك.. تضاعف ارتياع أحًلم ألف مرة حتى بدا وكأنَّ وجهها على وشك االنفجار وأنَّ عينيها صارتا فتي ًًل لهذا االنفجار ،من لهذا الطفل الوليد؟ من يغذيه وقد أبعدوه عن أمه؟ أي قلو ٍ ب تنبض شر هم؟ قالت في صو ٍ خفيض وكأنها ت ٍ في صدورهم وأي ب ٍ تحدث نفسها: الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
ومين هيرضعه؟ ده لسه متمش سنة..انفجرت سعاد في البكاء وكأنَّ تساؤل أمها يخطر على بالها ألول مرة ،ض َّمتها أحًلم إلى صدرها في قوة فتسلل صوت كين باردة ،نظرت نشيج ابنتها المكتوم إلى قلبها فمزقه كس ٍ عيناها إلى الًل شيء ودار عقلها في الًلوعي ،تثبتت كالصنم وقد أسندت ذقنها إلى قمة رأس ابنتها ،تخيلت حفيدها الوليد يتلوى من األلم والجوع ،تتمزق أحشاؤه وهو يصرخ بصوته الحاد ضاربًا الهواء بكفيه الرقيقتين ً باحثا عن ثديي أمه التي ال يعرف لماذا هجرته وض َّنت عليه بعطفها؟ رفعت عينيها إلى السماء وطلبت من ربها العون وأن يلهم ابنتها الصبر.. أسبو ٌع مرَّ وسعاد لم تبدل ثيابها ولم تغير جلستها منذ دخلت المنزل ،ترتكن إلى الجدار بكتفها األيمن فيما انثنت ساقاها إلى جانبها ،ال تنقطع عن البكاء إال عندما تفقد وعيها حتى إذا عادت إليه لطمت صدغيها وش َّدت شعرها حتى تخلعه من منبته صار ً خة باسم فلذة كبدها ،ال تذوق طعامًا وال يغمض لها الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
جفن ،يغشاها الوهن حي ًنا فيجبرها على النوم لهنيها ٍ ت بسيطة ً ابتسامة ال ثم تفيق على اسم ابنها ،تتخيله أمامها فتبتسم ً شعورية وتمد يدها لتتحسسه فًل تجد شي ًئا ،تصرخ ثم تبكي وكأنَّ ينابيع العبرات في مقلتيها ال تنضب ً أبدا ،ال تشعر بأمها التي تحيطها بجسدها بين الحين واآلخر تخفي ًفا عنها وال تسمع اللعنات التي تصبها جدتها على رأس زوجها وأمه التي حرمت أ ًما من وليدها.. عزمت أحًلم على الذهاب إلى قرية زوج ابنتها لتحاول أن تقنع العجوز القاسية بإعادة الولد إلى كنف أمه حتى ترضعه أسبوع كامل ،استيقظت فجرً ا وهو الذي لم يذق طعم لبنها منذ ٍ كتمثال ألم شدي ٍد إلى ابنتها التي بدت ٍ وأ َّدت صًلتها ،نظرت في ٍ من الشمع يستند إلى الجدار ،مسحت بكفها على رأس ابنتها فأفاقت من غفوتها ونظرت إلى أمها بعينين غائرتين كبئرين ٌ عشرات من الهاالت السوداء ثم انكمشت سحيقتين وحولهما في مكانها أكثر تريد أن تتًلشى في الجدار ،أحنت رأسها بين هن من جديد.. ركبتيها وبدأت تبكي في و ٍ
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
خرجت أحًلم مع خيط الشمس األبيض األول ،وجهت بصرها شطر السماء واستنشقت الهواء في قو ٍة ثم تمتمت" :يارب"، ارتفعت مخاوفها وانخفضت آمالها بقدر ارتفاعات وانخفاضات الطريق غير الممهد الواصل بين قريتها وقرية زوج ابنتها ،ال تدري ماذا ستقول لحماة ابنتها وكيف ستستدر عطف تلك الشمطاء لتعطيها الرضيع الذي أوشك على الموت جوعًا؟ وصلت البلدة في وق ٍ قصير ج ًدا وعلى باب البيت المنشود ت ٍ طرقت بهدوء ،فتحت امرأةٌ في العقد الثالث من عمرها تحمل الطفل نائمًاَّ ، نفور حتى التصقا عندما رأت قطبت حاجبيها في ٍ أحًلم التي م َّدت يدها في لهف ٍة تريد تقبيل حفيدها الحبيب، أبعدته المرأة عنها وذهبت إلى الداخل دون أن تدعوها للدخول ثم عادت بعد دقائق مشير ًة ألحًلم بالدخول بًل ترحي ٍ ب أو مودة ،في الداخل أسندت المرأة العجوز ظهرها إلى وساد ٍة كبيرة ولم تكترث بثني قدميها من باب التأدب بل قالت في جفا ٍء واضح: خير يا أحًلم؟ إيه اللى جابك الساعة دي؟..الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
أجبرت أحًلم شفتيها على االبتسام وهي تقول: خير يا حاجة إن شاء هللا ،أنا كنت جاية علشان أشوف الليمتتسماش سعاد عملت إيه؟ وندر عليا يا حاجة لو طلعت غلطانة ألجرجرهالك من شعرها لحد هنا وأرميها تحت رجليكي خدامة.. معملتش حاجة ،أهي غارت وجتلكم ،إحنا مش عايزينها..جنحت أحًلم للتلطف في الكًلم بعدما رأت حدة العجوز: طب يا حاجة أنا طمعانة في كرمك تسيبيلنا الولد لحد مايتغذى من لبن أمه دي أمه مموته نفسها من العياط وال داقت لقمة وال نومة وانتي ربنا يديكي الصحة أم وعارفه.. يعني إيه أسيبلكم الولد؟ هو إحنا ملناش فيه زي ما ليكوا فيهولًل إيه؟..
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
يا حاجة ال سمح هللا هو ابنكم قبل ما يكون ابننا وهو شايلاسمكم إنتم ،بس الواد بقاله أسبوع مرضعش ونخاف يتعب ولًل يجراله حاجة.. قالت العجوز في سخرية: ال اتطمني مش مقصرين ،بنشربه لبن بقري وأعشاب..ارتاعت أحًلم ل َّما سمعت "لبن بقري وأعشاب" ودار هاجسٌ ً قائلة: مرعب بخلدها لكنها كالعادة تماسكت يا حاجة أنا طمعانة في كرمك ،عهد عليا آخد الواد ألمهالنهاردة يشبع منها مرة واحدة وأجيبهولك تاني بكره ،واللي تطلبيه ضمان دلوقتي أعمله يا حاجة.. أطرقت العجوز رأسها تفكر ،ثم قالت: إخلعي الحلق اللي إنتي البساه وهاتيه ،وهتاخديه لما تجيبيالواد.. الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
لم تفكر أحًلم في حقارة المرأة وال في قيمة قرطيها الذهبيين اللذين لم تخلعهما منذ زواجها ،لم تفكر إال في ابنتها وحفيدها فخلعت قرطيها وناولتهما للعجوز التي أشارت البنتها بأن تعطي الطفل ألحًلم ،تلقفته ثم ض َّمته إلى صدرها في قو ٍة غير حنان افتقده كثيرً ا ،شكرت للعجوز فضلها -رغم مؤلم ٍة وفي ٍ فعلتها الوضيعة بضمان حفيدها مقابل قرطين -ثم انصرفت من فورها خشية أن تعود العجوز عن قرارها ،ابتسمت في رضًا وراح ٍة شاكر ًة ربها على فضله وأقسمت أال تستر َّد قرطيها قط ،وجه الطفل الشاحب وجسده الواهن جعًلها تحدثه مس من قلبها" :ال تقلق يا صغيري ،دقائق وتكون بين يدي به ٍ ً قاطعة أمك وتعود حفيدي الذي أعرفه" ،هرولت في مشيتها زمن أقل من الذي استغرقته ذهابًا ،انتفضت سعاد الطريق في ٍ عندما وقع بصرها على وجه ابنها وم َّدت يدها لتختطف الطفل من يدي أمها في لهف ٍة ملتاعة ،انهمرت دموعها فتساقطت على ضين وارتفع صوت نهنهاتها فاستيقظ الطفل فزعًا خديه الغ َّ باكيًا وراح صراخه يشق سكون البيت ،في عفوي ٍة حانية الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
ً صرخة كادت أخرجت ثديها وألقمته فلذة كبدها لكنها صرخت ٌ صرخة حملت ك َّل رعب وألم وقهر أن تفجر بها أذني وليدها، الكون ،هنا تأ َّكد ألحًلم هاجسها الذي دار بخلدها في بيت حماة ابنتها ،لقد رفض الوليد ثدي أمه بعدما منعوه عنه قسرً ا لمدة أسبوع وهذا ما كانت تخشاه.. قربت سعاد ثديها من فمه مرارً ا حتى كادت تخنق أنفاسه لكنه في كل مر ٍة يرفض فارتفع صوت شهقاتها وهي ترى ابنها يرفض ثديها ،ص َّبت ببكائها المكتوم كل عذاباتها ولعناتها على رأس زوجها وأهله ،لقد فطم الطفل قبل أن يكمل عامه األول، حرموه من غذائه الذي منحه إياه ربه وهو في بطن أمه ،أين تذهب المسكينة باللبن الذى يمأل ضرعيها؟ ،ولدها يتلوى ويتمزق أمام ناظريها جوعًا وألمًا وال تملك له من أمرها شي ًئا، ً ً ً خارجة من المنزل ثابتة حانية ثم انطلقت ضمة ض َّمتها أمها االنفعال يحثها على اإلسراع صراخ حفيدها وبكاء ابنتها، ذهبت إلى منزل الدكتور أحمد واعتذرت منه لقدومها في وق ٍ ت مبك ٍر ً صت عليه ك َّل شيء ،دوَّ ن لها شي ًئا ما على جدا ث َّم ق َّ
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
ورقة ذهبت بها إلى صيدلية القرية فابتاعت المطلوب ثم عادت إلى المنزل ،سعاد ما زالت تبكي في مرار ٍة أقسى من ذي قبل وهند تحمل الطفل وتهدهده أم ًًل في أن يكفَّ صراخه ،دخلت ضع أحًلم المطبخ وأع َّدت اللبن المخصص لغذاء األطفال الر َّ بالطريقة التي وصفها الدكتور أحمد ثم مألت به قنينة الصغير نهم واستسلم لها التي يشرب منها ،أخذ الطفل يشرب في ٍ تمامًا ،قرَّ بته من أمه وهو يتغذى كي تقرَّ عينها وال تحزن، زن كأنها تعاتبه على تغذيه من زجاج ٍة نظرت إليه في ح ٍ ص َّماء ً بدال من التغذي منها وهي التي أنجبته ثم ض َّمته في حنو وبدأت تتكيف مع الوضع القائم ،رفعت عينيها المبتلتين بدموع االمتنان إلى أمها ثم قبَّلت يديها ،ربتت أحًلم على كتف رفق كأنها تقول إنَّ العذابات آن لها ابنتها وأغمضت عينيها في ٍ أن تنتهي..
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
الفصلُُالرابع ُ
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
1 انطلقت أحًلم وهند تح َّثان الخطى بغية الهرب من ذكرى هذا الصباح المشحون ،ك ٌل منهما توشك أن تكون متخل ً فة عن ميعاد عملها ،أغمضت عينيها طيلة الطريق وراحت تسترجع بعضًا من ذكرياتها القديمة حتى توقفت السيارة فانتبهت كالمستيقظ من نومه ،نظرت البنتها قائ ً لة في حسم: مفيش مرواح مع اللي اسمها سماح دي وإياكي تتأخري،سامعاني؟.. كان صوتها مرتفعًا فلفت انتباه المارة إليهما ،نظرت هند خجل وأومأت برأسها إيجابًا ثم سارت في الطريق حولها في ٍ المعاكس لطريق أمها.. أمام باب المتجر سكبت سماح الماء لتهدئة الغبار المتطاير في الشارع الذي يموج بالحركة ،استنكرت تأخر صديقتها على غير عادتها فقصت عليها هند كل ما حدث ،استمعت سماح في اهتمام شدي ٍد فشهقت تارة ود َّقت صدرها تارا ٍ ت أخرى وكأنَّ ٍ
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
األحداث تدور أمام عينيها ،بعد نحو الساعة حضر الحاج شرف صاحب المتجر واطمأن إلى سير العمل ،سأل الفتاتين عن حاليهما ثم نقدهما ثمن طعام اإلفطار وانصرف ألداء بعض أعماله ،لم تجلس هند إلى الطعام فلكزتها سماح بمرفقها ً ضاحكة غامز ًة بإحدى عينيها: وقالت أنا عارفة بتفكري في إيه ،الصبر يا ختي الصبر ،كلها كامساعة ،نخلص الشغل ونروح البيت سوا.. لم تستجب هند لغمزات صديقتها ،نهضت وحاولت التشاغل بالعمل من جديد بينما يسترجع عقلها تنبيهات وتحذيرات أمها صباحً ا ،ماذا تفعل في سماح التي بدأت في اإللحاح عليها من اآلن فكيف بها عندما يحين وقت االنصراف؟ قطعت سماح ً استفهام ملح: سائلة في أفكارها ٍ فيه إيه يا بت مالك؟..ظلَّت هند على صمتها فتمتمت سماح بكلما ٍ ت غير مفهومة وباشرت عملها من جديد حتى حضر الحاج شرف في الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
الخامسة وأذن لهما باالنصراف ،سارا معًا لمساف ٍة قصير ٍة شارع جانبي لكن هند ج ًدا ،ه َّمت سماح باالنعطاف إلى ٍ ً قائلة: استوقفتها أنا هروح أنا يا سماح ،أمي الحظت إني بتأخر كل يوموبهدلتني إمبارح وأنا خايفة.. يعني إيه؟ معنتيش ناوية تيجي تاني ولًل إيه؟.. ال يا سماح ،يومين بس لحد ما أمي تنسى وأبقى آجيمعاكي.. طب ولوهو سألني عليكي ،أقوله إيه؟.. قوليله تعبت في الشغل ومقدرتش تيجي وكمان أمها بدأتتاخد بالها إنها بتتأخر.. َّ مطت سماح شفتيها في استنكار وقالت: ماشي ،أنا هقوله اللي قولتيه ،بس إنتي عارفاه ،ميحبشالكًلم ده.. الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
حاولي تفهميه إن ده مؤق ًتا بس يا سماح ،غصب عني..قالتها بصو ٍ ختنق ثم مضت في طريقها وعادت إلى المنزل تم ٍ في السادسة ،تل َّمست وجود أمها فلم تجدها فقط جدتها المسنة تهدهد حامد الرضيع وتًلمس باطن قدميه وراحتيه بأطراف ً ضفية أصابعها فيبتسم رغمًا عنه وترتفع ضحكاته الطفولية م ً مرحة لم تعتدها جدرانه وشاركها محمود على المنزل أجوا ًء الصغير في مًلعبة الطفل الوليد الذي كان بالنسبة له د ً مية بالحجم الطبيعي.. دخلت غرفتها وبدأت في تغيير مًلبسها ،ف َّكت ضفيرتها ً غبية حين ونظرت إلى وجهها في المرآة تفكر ،كم كانت تركت األمور تسير بهذه الطريقة حتى أصبحت واق ً عة بين مطرقة أمها وسندانه وال تستطيع الفكاك من أحدهما ،خطرت ٌ لها فكرةٌ بسيطة ،ستقول إنَّ الحاج شرف قرر زيادة عدد ً ساعة إضافية كما هو معتاد في بقية المتاجر ساعات العمل ً ً طامة كبرى إذا اكتشفت خاصة خًلل فترة الصيف ،ستكون الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
أمها عدم صحة هذا الخبر لكن من عساه يخبرها؟ هذه أمها فماذا عنه؟ ماذا تفعل معه وهو ال يصبر وال يتفاهم؟ لقد وجدت مهربًا مؤق ًتا اليوم فماذا عن الغد وما بعده؟ لم يهتد عقلها لشي ٍء حتى سمعت صوت أمها بالخارج.. اجتمعن على الطعام ألول مر ٍة منذ زمن بعي ٍد ،الحاجة هانم وأحًلم وهند وسعاد التي تب َّدل حالها تمامًا ،ارتدت عباء ًة وردية اللون وأسدلت شعرها الممشط بعناية على كتفيها طر فواح وطفلها الرضيع على يديها يرتشف اللبن متعطر ًة بع ٍ من زجاجته الصغيرة في استسًلم ،نظرت أحًلم إليهما بابتسامة رضًا أبعدها األسى سريعًا عن شفتيها م ً حتًل وجهها بالكامل ،تذكرت محمد الذي ال تعلم عنه شي ًئا منذ غادرهم، دمعت عيناها وسألت هللا أن يعيده إليها سالمًا ثم انخرطت في األحاديث معهنَّ ،للحظ ٍة بدا أنها تذكرت شي ًئا ما ،لم تخبرها حماتها عن كيفية تجهيز النقود يوم مشكلة بيع المنزل فسألتها عن ذلك ،أدارت الحاجة هانم وجهها كي ال تواجه عيناها عيني أحًلم وقالت: الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
رحت بعت السبع قراريط للحاج منصور اللي مأجراألرض ،كان نفسه يشتريها من زمان علشان يضمها ألرضه وياما اتحايل عليا علشان أبيعله وكنت عارفه إنه جاهز بالفلوس في أي وقت.. امتعضت أحًلم في أسفٍ معق ً بة: ليه كده يا أما؟ ده إيرادها كان بيساعد في مصاريف البيتوبيجيب تمن دوا سيد.. انفعلت الحاجة هانم بمنتهى العصبية صار ً خة: إن شاهلل عنه ما أخد دوا وال يجعله يعيش ساعة واحدة،جايبلنا الفقر ورايح يبيع البيت اللي آوي أمه ومراته وعياله، متجيبليش سيرته ،ربنا ياخده.. أطبق الصمت ً ٌ طرقات قوية كادت قليًل حتى د َّقت على الباب ً غليظا متجهما لوج ٍه تخلعه من مكانه ،كان الطارق رج ًًل
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
ً يرتدي لباس الشرطة قال بصو ٍ سؤاال ت أجش دون أن ينتظر من أحد: عايزين الست أحًلم تيجي تستلم ابنها محمد من القسم..اتسعت عيناها وارتفع حاجباها حتى المسا منبت شعرها، شهقت من هول المفاجأة ود َّقت صدرها بكفها ثم انفجرت براكين األسئلة في رأسها ،ما الذي فعله محمد حتى يصير حبيس الشرطة؟ وكيف انتهى به الحال هكذا وهو الذي غادر المنزل مسافرً ا خارج البًلد ً بحثا عن عمل؟ ألم يسافر أص ًًل؟ أم تراه قد سافر فع ًًل ثم عاد لسب ٍ ب ما؟ سألت الشرطي عن سبب احتجاز ابنها فأخبرها بأ َّنها ستعرف ك َّل شي ٍء الح ًقا، عرضت بنتاها الذهاب معها فرفضت وكأ َّنما ال تريد أن تشاركاها فرحة لقائه حتى ولو كان المكان هو مركز الشرطة، اندفعت تسابق شوقها إليه وتسبقها أسئلتها التي لم تبرح بعد خًليا مخها ،انتظرت للحظا ٍ ت كالدهر حتى أتاها الشرطي به، كان أشع ً ث نامي اللحية هندامه غير متناسق وعيناه الزائغتان الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
ً طويًل طويًل تدالن على عدم نومه لفتر ٍة طويلة ،احتضنته وذابت في جسده ،أبعدته قلي ًًل ثم نظرت إلى وجهه الشاحب، وتحسسته براحتيها لتتأكد أنه بين يديها ح ًقا وليس مجرد خياال ٍ ت في أحد أضغاث أحًلمها ،أما هو فلم تذرف عيناه ً دمعة واحدة وظ َّل صام ًتا ،عندما هدأت انفعاالت اللقاء واستقرت القلوب بعد اضطرابها انصرفا من المركز ،تأبطت ً ثانية، ذراعه كاأليام الخوالي وتشبثت به كأنها تخشى أن تفقده في المنزل تجددت االنفعاالت من جديد ،نظر إليها راجيًا غفرانها بينما الفضول يقتلها ،سمعا سعال السيد وهو يهبط على درجات السلم ،أشار إلى ابنه بعصاه وهو يقول متهكمًا: حمدهلل عالسًلمة يا سبع البرمبة ،مش عملت فيها راجلوقلت مسافر أشتغل ،رجعت تاني ليه؟.. وكأنَّ ك َّل متاعب األسابيع الفائتة لم تكفه فأتى أبوه بسخريته السخيفة لزيادتها ،لم يرد على أبيه الواقف على عتبة الباب خارجً ا وأكمل سخريته لكن ألحًلم هذه المرة: الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
أهو رجعلك ياختي ،مش كنتي بتقعدي تعيطي عليه؟ أهورجعلك من القسم.. أرادت أن تصرخ في وجهه بكل كرهها وغيظها ومقتها كي يصمت لكن ما لم تستطعه هي فعلته حماتها: يا أخي ارحم نفسك واتهد واسكت بقى ،إنت مش مكفيك إننامستحملين قرفك وعارك وساكتين ،وإنت وال ليك الزمة وعايش على قفا مراتك ،غور في ستين مصيبة ،داهية ال ترجعك ،قلتك أحسن.. خرج وصفق الباب خلفه في عنفٍ فيما ربتت الجدة على كتف حفيدها م ً هونة عليه ،قبَّل يدها ويد أمه ثم ذهب إلى غرفته ليستريح.. لم تنم أحًلم وظلت األسئلة تتقلب معها في الفراش طيلة الليل حتى الصباح ،نهضت في لهف ٍة فوجدته يصلي بهدوء حليق الذقن تبدو عليه أمارات الراحة ،أت َّم صًلته ونظر إليها ،يعلم أنَّ التساؤالت تمأل رأسها فابتسم لها في حنو وجلس إلى الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
جوارها ،لم يرد أن تأكلها الحيرة أكثر من ذلك ،التمعت عيناه وهو يتذ َّكر كل ما مضى ً قائًل بصو ٍ ت متهدج: كنت متفق أنا وواحد صحبي مع راجل فالمنصورة إنهيسفرنا إيطاليا في مركب ،اديتله خمس تًلف كنت محوشهم وصحبي زيهم ،الراجل اتفق معانا نقابله في مطروح ،لما ركبنا المركب شوية شوية بدأ البحر يهيج ،كنا تعبانين جدا بس كنا الزم نستحمل ،من بعيد ظهرت لينا أرض افتكرناها إيطاليا ،لما قربنا من األرض لقينا خفر السواحل بيسحبوا المركبة وبيجروها للشط ،نزلونا وركبونا عربيات البوليس استغربنا منهم ألنهم كانوا بيتكلموا عربي بس مش بلهجتنا، عرفنا بعدها إننا في ليبيا وإن الراجل نصب علينا وخلى المركب تلف بينا في البحر بالليل وتودينا ليبيا بدل ما تروح إيطاليا ،وبعدين هناك رحلونا على مصر.. استمعت أحًلم إليه واج ً مة تتخيل األحداث منذ رأته يعد حقيبته حتى اآلن وكأنها فيل ٌم مصورٌ أمامها ،تخيلت لو كان حدث له الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
مكروه ماذا كانت تفعل؟ هكذا اإلنسان دومًا يتخيل األسوأ إن حدث األفضل ،ها هو ابنها عاد أسرع مما توقعت أو تم َّنت وتراه رأى العين فلماذا تصر خياالتها على إفساد هذه اللحظة؟ ً ارتياح عميق ثم ثانية وابتسمت ألول مر ٍة فى نظرت إليه ٍ ودعته مصطح ً بة هند وانطلقتا إلى عمليهما كالمعتاد..
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
2 ألقت هند تحية الصباح على سماح فنظرت إليها األخيرة في نفور ثم أدارت وجهها وتشاغلت بأداء عملها ،انقبض صدر ٍ هند من نظرة صديقتها وسألتها في خوفٍ : سماح ،طمنيني ،عمل إيه؟.. قعد يزعقلي ويقولي مجتش معاكي ليه؟ معرفتش أنطق،قلتله تعبت وأمها جت عدت عليها وخدتها من الشغل.. وجمت هند وأسهمت تفكر في العواقب ،حاولت االنهماك في عملها وتناسي األمر فلم يتأت لها ذلك ،عندما د َّقت الساعة الخامسة لملمت متعلقاتها واستدارت تنادي سماح ،شهقت ووضعت يدها اليمنى على فمها كي تكتم صرختها فيما د َّقت باليسرى على صدرها لمَّا رأته يقف أمامها ،حاولت التحدث والتغلب على المفاجأة التي ألجمت لسانها ،بلعت ريقها وتلعثمت عدة مرات وهي تقول: الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
و ..ولـ ..وليد ،إيه ..إيه اللي جابك ،إحم ،هنا؟..حدق في عينيها بصور ٍة جعلت كيانها من الداخل يرتعد خو ًفا وبطريق ٍة خلعت قلبها من مكانه وألقته عند قدميه ،استمر في صمته متلذ ًذا بتعذيبها ،أخيرً ا نطق بصو ٍ خفيض عميق ت ٍ وببط ٍء مقصو ٍد هدم البقية الباقية من احتمالها: مجيتيش إمبارح ليه يا هند؟..امتقع وجهها أكثر ودارت عيناها في محجريهما ،تجاهد لمنع دموعها التي تأهبت كي تسيل على خديها واندفعت كل الدماء إلى وجنتيها استعدا ًدا لتلقي صفعاته حتى أكسبها توردهما منظرً ا رائعًا يتنافى تمامًا مع جحيم الموقف الذي تحياه، انكسار وقلة حيلة بعدما طأطأت رأسها ونظرت بين قدميها في ٍ عجز لسانها عن إجابته برد يرضيه ،استدار ثم انصرف تحت ً صامتة تراقبهما ،بعد لحظا ٍ ت قًلئل أنظار سماح التي وقفت حضر الحاج شرف والحظ الوجوم البادي على وجه هند الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
ً وعكة شديد ًة أل َّمت بها هذا الصباح ،ر َّبت فأخبرته سماح بأنَّ الرجل على كتف هند ثم دعا لها بالسًلمة وودعهما.. قادتها سماح كالمسحورة عبر األزقة وانعطفت بها ي ً منة ويسر ًة بدون أدنى مقاومة منها حتى دخًل المنزل وما إن رأتها أم وليد حتى مصمصت شفتيها وقالت في غض ٍ ب ساخر: مجيتيش إمبارح ليه يا غندورة؟ عامله فيها بنت ناس؟..لم تجب هند فردت سماح في سرعة: أصل يا أما عندهم مشاكل في البيت وكمان محمد أخوهارجع مالسفر.. انفجرت هند باكية مع ذكر أخيها وكأنما لم تتذكر عودته إال اآلن ،نظرت أم وليد إلى ابنتها وأشارت إليها بإشارا ٍ ت ما فأخذتها سماح إلى دورة المياه ،خلعت عنها مًلبسها وألبستها قميصًا شفا ًفا أبيض اللون ثم قادتها إلى غرف ٍة جانبية ،نظرت هند إليها تستعطفها كي ال تتركها وحيد ًة لكن سماح خفضت الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
رأسها هربًا من عيني صديقتها ولم تستجب الستغاثتها قليل سمعت صوت أخيها المكتومة ثم أغلقت الباب عليها ،بعد ٍ الغاضب وصراخ هند ،هرولت إلى الغرفة واندفعت داخلها ً عارية تمامًا على األرض تبكي بكا ًء دون استئذان ،وجدت هند شدي ًدا وقد وضعت يديها على وجهها خو ًفا من صفعا ٍ ت جديد ٍة محتمل ٍة بينما وليد يرتدي مًلبسه ،خرج من الغرفة مندفعًا وهو يكيل سبابًا بذي ًئا لهند ،ض َّمت سماح صديقتها إلى صدرها وحاولت تهدئتها فلما سكنت ً قليًل ألبستها مًلبسها وقادتها إلى مكان تجمع سيارات األجرة ،ودعتها وق َّبلت وجنتيها في هدوء فيما لم تنبس هند ببنت شفة منذ صراخها حتى اآلن ،مع تحرك السيارة بدأت في تذكر هذا الجحيم الذي بدأ منذ بداية العام الدراسي المنتهي ،رأته يومًا مع سماح بجوار سور المدرسة، أخوها الذي يكبرها بثًلثة أعوام ،كانت تحكي لها أخباره يوم ما أتاها اتصا ٌل مفاج ٌئ منه عبر بصور ٍة عفوية ،في ٍ هاتفها ،سألها عن سماح مدعيًا أنها تأخرت عن ميعاد عودتها، لم تكن سماح إلى جواره حين اتصل بها إذن مما يعني أنه أخذ الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
رقم هاتفها عن عم ٍد مسب ًقا من هاتف أخته ثم تحيَّن الفرصة لًلتصال بها ،أغلقت االتصال في وجهه يومها لكنه عاود كلل أو ملل حتى رضخت إللحاحه المحاولة مر ًة بعد مر ٍة دون ٍ وأجابته ،أخبرها أنه وجد فيها شي ًئا ما مختل ًفا على الرغم من أنه لم يرها سوى مر ٍة واحد ٍة فقط ،كانت تعلم أنه يكذب وأنه قال هذه الكلمات للكثيرات قبلها كما أخبرتها سماح عن عًلقاته بفتيا ٍ ت أخريات ،لم ينف ما قالته أخته لكنه أكد لها أنها مختل ٌ فة تمامًا عن سابقاتها وأنه رأى فيها من الذكاء والنضج ما لم يره في أي فتا ٍة تعرَّ ف عليها من قبل ،كانت هذه طريقته في خداع الفتيات إذن ،يسير ببراع ٍة على نهج بني جلدته من الذكور عندما ينصبون شباكهم العنكبوتية الستدراج أي أنثى، الطريقة التي خدعت ك َّل أنثى على مر العصور مهما بلغت درجة ذكائها ومهما كان عمرها هي إخبارها أنها مختلفة حتى لو لم يكن بها أي شيء يميزها ح ًقا وحتى لو كانت هي نفسها تعلم ذلك ،يروق لألنثى دومًا االستماع لهذه الكلمات فًل تأخذ حذرها من هذا الذكر الذي ينوي الطرق على مشاعرها، الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
كثرت أحاديثهما عبر الهاتف كل ليل ٍة بصور ٍة مستمرة حتى صارا يتقابًلن يوم ًيا بعد المدرسة ،حدث كل هذا تحت رعاية أخته سماح ،تطورت اللقاءات أكثر فصارت تتهرب من الذهاب إلى المدرسة ،تحمل مًلبس أخرى في حقيبتها لترتديها بد ًال من الزي المدرسي ثم تمضي اليوم معه وفي نهايته تعود فترتدي مًلبسها المدرسية ثم تعود إلى بيتها وكأنَّ شي ًئا لم يكن ،عندما عرضت عليها أمها العمل بمتجر المنظفات لم ً ً خاصة أن فرصة أكبر للقائه قبل الذهاب للعمل تمانع ،كانت منزله قريبٌ ج ًدا من المتجر ،كان يمر عليها يوم ًيا مع نهاية فترة العمل وفي بعض األحيان كانت تذهب معه وأخته إلى منزلهما وتجلس قلي ًًل مع أمهما ثم تعود إلى قريتها ،تعددت مرات ذهابها إلى منزله حتى صار شي ًئا اعتياد ًيا ،كانت سماح ً تاركة الفرصة للعاشقين في بعض األحيان تنسحب بعي ًدا عنهما لًلختًلء ببعضهما ،ظفر منها بالكثير من القبًلت المختلسة، ً رغبة أكثر في البداية كانت تقاومه في خجل فيزيده تمنعها لكنها بعد ذلك صارت تبادله القبًلت في نهم ،حتى كان ذلك الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
اليوم الذي تركتهما فيه سماح وحدهما بالمنزل ،لعب الشيطان لعبته ،أسكر رأسيهما وأضرم النيران في جسديهما فأحرق بها أخضرها ويابسه ،لم تستشعر فداحة الكارثة إال بعد وقوعها، لحظة لذ ٍة امتصَّ فيها رحيق زهرتها فذبلت حياتها قبل أن تبدأ، انقطعت عن الذهاب إليه لفتر ٍة لكنها عادت إليه ثانية ،الحظت أنَّ طباعه تغيرت منذ ظفر بها ،لم يعد ذلك القلب الحاني الذي يحتويها وال األذن المصغية التي تستمع إليها ،أصبحت كالدمية بين يديه يحركها كيفما شاء ،ينهل من نبع جسدها ما يروي ظمأه ويطفئ شهوته ،غرقت في مستنقعه اآلسن حتى قمة رأسها لكنها لم تتوقف عن الذهاب إليه فامتناعها قد يقطع عليها فرصة زواجه منها ،الزواج وحده هو الذي سيمنع الفضيحة ،وعدها بأنه سيتزوجها لكنها ال تعلم متى يفي ً ورقة حقير ًة تعهد فيها بالزواج منها متى بوعده؟ أعطاها زواج هذا الذي يتعهد به وصلت إلى السن القانونية لكن أي ٍ وهو الذي لم ينه بعد دراسته في المعهد وما زال يعتمد على أمه في نفقاته؟.. الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
توقفت السيارة على مشارف القرية فتوقف معها سيل ذكرياتها ،تخطت الساعة السابعة بقليل بما يعني أنها تأخرت ً جدا ،هرولت في مشيتها تكاد تنكفئ على وجهها ،ترى وجه أمها عابسًا في كل عثر ٍة من عثرات الطريق ومظلمًا كالليل الذي بدأ يحيط بها ،مسحت دموعها المرتعبة التي انسلت خ ً لسة على خديها ،قلبها يزداد خفقانه أكثر كلما اقتربت من البيت واندفاع األدرينالين في جميع عروقها يرفع حالة التأهب إلى اللون األحمر ،ماذا ستقول وبم ستتعلل؟ ترنح عقلها داخل تهم في القفص ينتظر خروج القاضي من غرفة رأسها كم ٍ المداولة للنطق بالحكم ،دخلت المنزل بهدو ٍء شديد ،لم تجد أح ًدا بغرفة المعيشة ولم تسمع أيَّ صو ٍ ت على اإلطًلق، تباطأت ضربات قلبها شي ًئا فشي ًئا وبدأ روعها يهدأ وزفرت في ارتياح حذر ،دخلت غرفتها المظلمة ووضعت يدها على زر ٍ ً صرخة مدوية ،أمها تقف هناك في الظًلم اإلضاءة وصرخت ووجهها ال يرى منه شيء ،اعتصرت أحًلم ذراع هند بيمناها وصرخت: الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
كنتي فين واتأخرتي ليه؟ مش قلتلك متتأخريش تاني؟..فعل ال إرادي ،دفعتها وضعت هند كفيها على خديها في رد ٍ أمها بقو ٍة شديد ٍة فارتطمت بالمرآة التي تهشمت محد ً ثة دو ًيا كبيرً ا ثم خرجت من الغرفة.. ارتمت هند على األرض إلى جوار سريرها تبكي ،هل انتهى الموقف أم ما زالت له بقية؟ ولماذا لم تصر أمها على معرفة السبب ككل مرة؟ هل ملَّت أمها من نهرها فعزمت على منعها ً ثانية أم أنها تضمر شي ًئا ما؟ انتفض جسدها من الخروج وفقدت الشعور بما حولها ،مع الهاجس الذي اجتاح رأسها كبير ،ماذا إن كانت نية أمها أن توكل مهمة تقصي كطوفان ٍ ٍ سبب تأخيرها ألخيها محمد؟ انفجرت في البكاء أكثر وارتعش جسدها من قمته إلى أخمصه ،آ ٍه لو علم محمد أنها تذهب إلى بي ٍ ت آخر وأنها ترتمي في أحضان شاب ال يعلم عنه شي ًئا وتتعامل معه كزوجها ،أية فضيح ٍة وأي عار؟ ،بل أي جزا ٍء لها على فعلتها؟ سيذبحها ذبحً ا يليق بجريمتها ،ال بل سيغلق الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
ً عارية في صقيع البرد مق َّيد ًة إلى السقف ويتركها عليها غرفتها تموت ببط ٍء ثم يحرق جثتها كما فعل أحدهم بابنته في القرية المجاورة منذ عدة أشهر ،غاص جسدها النحيل في مًلبسها لمقاومة البرودة التي انتشرت فيه ،لم يعد عقلها يحتمل أكثر ً مغشيا عليها.. فانهارت "نظر محمد في عيني أخته بمق ٍ ت لم تر مثله في حياتها ،اقترب منها ثم رفع عصاه وهوى بها على رأسها بًل رحم ٍة فانفجرت منها الدماء كنافور ٍة صغيرة َّ لطخت الجدار خلفها باللون األحمر وأصابت بعضًا منها مًلبسه ،لم يأبه للدماء التي سالت على وجهها ولملم خصًلت شعرها في يده اليمنى ثم جذبها منه إلى الخلف بًل أدنى شفقة ،انثنت رقبتها للخلف ولم يتحرك جسدها معه فانتبهت إلى أنَّ يديها مقيدتان خلف ظهرها بنفس القيد الذى يلف قدميها ،من خلف دمائها رأت شررً ا من اللهب يتطاير من عينيه وقد عضَّ بأسنانه العلوية على شفاهه السفلى ،وضع يسراه على رقبتها ثم قبض على قصبتها الهوائية واعتصرها بين أصابعه ،اختنقت حتى أح َّست أنَّ الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
روحها تج َّمعت في حنجرتها تنتظر انفراجة يده حتى تفارق جسدها ،حاولت أن تشهق لتدفع بعضًا من الهواء إلى رئتيها أو تزفر لتخرج روحها وتستريح من العذاب فلم تسمح يده ال بهذا وال بذاك ،صوت تق َّطع أنفاسها التي تجاهد للمرور يعذبها أكثر ويخبرها بأنَّ أجلها قد دنا ،ش َّدد الضغط أكثر وأكثر فيما ترتجف هي في قيدها كالعصفور الذي تقاوم روحه الخروج من جسده ،حاولت أن ترفع جفنيها لتستعطف أخاها حتى يرفع عنها بعضًا من العذاب الذي يسومه لها لكنهما أبيا أن ينفرجا وصبغت الدماء اللزجة الرؤية المشوشة أمامها باللون األحمر، انتفض جسدها عدة مرات فأسلمت أمرها لبارئها وانتظرت لحظة انقضاء أجلها".. كسا اللون الرمادي الفراغ أمامها ،هل صارت اآلن في الحياة اآلخرة أم أنها ال زالت في حياتها البرزخية؟ سمعت صو ًتا شعور منها بدأت ينادي عليها من بعيد لم تستطع تمييزه ،دون ٍ في تحريك رأسها وحاولت فتح عينيها فاستجابتا لها في وه ٍن ً مقاومة للضوء المباشر الذي آلم منتصف ثم انغلقتا بسرع ٍة الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
رأسها ،ضغطت بيديها على جبهتها محاو ً لة تخفيف األلم فانتبهت إلى أنهما حرتان ،تذكرت قدميها وسألت نفسها هل ً ً إجابة إراديا تحررتا أيضًا أم ال تزاالن رهن القيد؟ تحركتا ال لسؤالها ،ب َّددت اللطمة الخفيفة على خدها ك َّل تساؤالتها وأعادتها إلى الحياة البائسة مر ًة أخرى ،عاد الصوت يناديها فميزت فيه صوت أمها وفتحت عينيها في بط ٍء محاو ً لة استيعاب ما يدور حولها ،أمها والدكتور أحمد وأخوها محمد متحلقين حول سريرها ،عندما رأت أخاها ارتعدت واسترجعت في أقل من لحظ ٍة ك َّل ما فعله بها أثناء إغماءتها ،دوَّ ن الدكتور أحمد الدواء الخاص بها في ورقته ثم ناولها لمحمد ليحضر الدواء ،خرج فبكت من جديد تحت نظر أمها التي حاولت أن تستشفَّ ما يدور في عقل ابنتها ،ما سبب نظرة الرعب في عينيها ل َّما أفاقت ورأت أخاها وما يبكيها اآلن؟ لم تسألها عن شيء ،تعلم علم اليقين أنَّ هناك سببًا ما وحتمًا ستعرفه قري ًبا، س َّددت إليها نظر ًة متوعد ًة ثم خرجت وتركت هند تستعيد تفاصيل كابوسها الدموي من جديد.. الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
الفصلُُالخامس ُ ُُ الليلُيزدادُظ ً يأسُويمضيُسري ًعاُباألمل لمةُبال ِ
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
1 في تمام التاسعة انطلق صوت المنبه البغيض ،وضع يده بسرع ٍة عليه وكتم صوته ،عندما قرر مخترع المنبه تنفيذه لم يدر بذهنه أنَّ هناك أناسً ا سيستخدمونه إلراحة ضمائرهم فقط، يضبطونه لي ًًل وكأنهم سيلتزمون به عندما يوقظهم وعندما ينطلق يقتلون صرخته في مهدها ،وضع الوسادة فوق رأسه ثانية ،سيأخذ نصف ساعة على األقل حتى يتخذ قراره ٌ ساعة بأكملها قبل أن يقرر النهوض من بالنزول ،مضت فراشه ،فرك عينيه بيمناه ثم نظر إلى شاشة حاسوبه ،ال جديد ٌ صديق غير صورة حسابه وآخ ٌر يشعر في الفيس بوك، ٌ صديق آخر بالغضب ألن سيارته قد صدمت الليلة الماضية، أعلن خطبته فانض َّم بتعليقه إلى عشرات المهنئين ،بعدما انتهى ٌ غارقة في برك ٍة من من استحمامه توجَّ ه إلى المطبخ ،األطباق الماء في وسط الحوض ورائحة القمامة تثير الغثيان ،أنوا ٌع من الحشرات الزاحفة تتجول على األرض وكأنما نقلت عوالمها من أسفل إلى أعلى ،فتح باب الثًلجة التي خوت على الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
عروشها تقريبًا وشرب قلي ًًل من العصير المعلَّب ثم عاد إلى غرفته ،لم يكن البيت كريهًا مقي ًتا هكذا عندما كانت روح أمه الراحلة تتجول فيه ،ارتدت جدران المنزل ثوبًا من الغبار أكسبها لو ًنا رم ً اديا داك ًنا ح ً دادا عليها وركد الهواء بعدما أصابه الهرم خلف النوافذ المغلقة ،ارتدى مًلبسه وهو ال يدري هل ٌ نظيفة أم ال ث َّم غادر البيت تار ًكا الوحشة تفرض سلطانها هي عليه من جديد ،استق َّل سيارة أجرة وانحشر بين ركابها ،لو أ َّنه سار على قدميه لتس َّنى له الوصول إلى وجهته في وق ٍ ت أقل من الوقت الذي قضاه في السيارة ،هبط تمامًا أمام الصيدلية التي ترفع الفتتها اسمه "صيدلية الدكتور حسام عبد هللا" ،تذكر أباه الراحل الذي ابتاعها له فور تخرجه من كلية الصيدلة ناق ًًل حياة األسرة من القرية إلى المنصورة ،أمام الباب وقف عم السعدني بواب البناية مبتسمًا ،يقولون إنَّ االبتسامة تجعل وجه صاحبها أجمل لكنَّ هذه المقولة أفسدها الرجل األصلع تمامًا فهو عندما يبتسم تنفرج شفتاه للغاية وتظهر من خلفها بقايا أسنانه المتفحمة بسبب حرائق الدخان التي يشعلها ويتنفسها كل الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
لحظة ،ال يتذكر حسام أنه رأى عم السعدني يومًا بدون سيجارته ،رائحة الدخان في أي مكان من البناية تشي بأنه مرَّ ٍ فيه ،رفع حسام يمناه ور َّد تحية الرجل ثم دخل صيدليته.. ٌ مضت فترةٌ طويلة دون أن يتحدث إلى مها ،راودته نفسه كثيرً ا عن االتصال بها بعدما قرر إنهاء عًلقتهما لكنه استطاع – حتى اآلن -الصمود أمام إغراءات نفسه ،ال يعلم لماذا طاوع نفسه األمارة بالسوء هذه المرة واتصل بها؟ قبل أن يتحدث بادرته هي: طب وهللا كويس إنك لسه فاكرني ،افتكرتك نسيتني.. إنتي عارفه إني أنسى نفسي وال أنساكي يا مها..تردد كثيرً ا قبل أن يسألها طلبه الغريب: مها ،عايز أشوفك؟..األغرب من طلبه كانت موافقتها على النقيض تما ًما من طباعها في المواقف المشابهة.. الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
في اليوم التالي وفي المكان المتفق عليه وقفت تنتظره ،تأخر ٌ دقيقة إضافية احترق عليها وهي تكره االنتظار ،كلما مرَّ ت عقلها من الحيرة وقلبها من الغضب ،رفعت عينيها إلى الجهة المقابلة من الطريق تستطلع قدومه ،تعجبت ل َّما رأته يراقب حيرتها في جمود ،ضاقت حدقتاها وهي تستغرب جموده هذا، لماذا لم يأتها أو يشر إليها؟ لكن مه ًًل ،لقد استدار مبتع ًدا عنها، اتصلت به فلم يجبها ،طاح عقلها من الثورة بعدما تركها هكذا في الشارع خلفه ،نقمت عليه وأقسمت أال تجيب له اتصا ًال مر ًة أخرى ،أما هو فقد اجتاز االختبار الذي وضعه لنفسه، أثر كان عليه أن يطهر قلبه من عشقها وأن يزيل من عقله ك َّل ٍ ينتمي لحقبتها وأول الطريق لنسيانها هو تحمل رؤيتها دون أن يعاوده الحنين إليها.. هذه المرة أجرى اتصا ًال مختل ًفا ،اتصل بياسر ،صديقه القديم..
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
2 جلست أحًلم في شرفة المنزل وراقبت بًل هد ٍ ف الشارع الذي غاص آخره في عتمة الليل ،انعكس بصيصٌ من ضوء القمر على وجهها فصنع ظًل ًال لتجاعيده منحتها مظهرً ا مخي ًفا ً خاصة مع سكونها هذا ،أخبرها محمد أنه ذاهبٌ للقاء صديقه ياسر الذي لم يره منذ فتر ٍة طويلة ،تبادال نظر ًة ذات معنى عميق لم ينجح الظًلم في طمسه ،حاولت إثناءه عن الذهاب ٍ ً خاصة مع انقطاع التيار الكهربي عن القرية متعلل ًة بالظًلم بأكملها لكنه أصرَّ على الذهاب ،سار مسرعًا حتى ذاب في ظًلم الليل ،أح َّست بانقباض ٍة جديد ٍة في قلبها فعلى الرغم من اعتيادها هذا المشهد المظلم كثيرً ا لكنها هذه المرة وجدته مختل ًفا ،كرهت انبعاثه إلى بيت ياسر ألنها تشعر أنَّ ما حدث بينها وبين ابنها قبل سفره كان هو السبب الرئيس في سفره.. بعد لحظا ٍ ت من سيره عادت الكهرباء للسريان في أوصال القرية وبدأت الشرفات تنير بطريق ٍة غير منتظم ٍة في مشه ٍد الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
مثير ،تحولت القرية إلى المنظر المألوف وتب َّدد الظًلم شي ًئا فشي ًئا ،طفا شبح ابتسامة الذكريات على شفتيه وهو يطرق باب منزل ياسر ،تبادال األحضان بحرار ٍة لفتر ٍة طويل ٍة تدل على صداقتهما التي تعود ألكثر من عشرين سنة ثم رحبت به أم ياسر ،دار بعينيه في أرجاء المنزل بسرع ٍة خاطف ٍة في نظرا ٍ ت بدت عفوية ثم دخل غرفة الضيوف التي لم يلجها منذ عامين تقريبًا وعانق ببصره جدرانها الرمادية التي علقت عليها فرو ٌع من الورد البًلستيكي ،نادى ياسر على أمه حتى تطلب من أخته إعداد الشاي فأخبرته أنها نائمة ،اختلج قلب محمد فقد كان يمني نفسه برؤيتها ،لم يكن ياسر يعلم ما في قلبه ولم يجرؤ محمد يومًا أن يبوح لصديقه بأن قلبه مت َّي ٌم بها ،الحظ ياسر شرود صديقه فسأله عن السببَّ ، هز محمد رأسه بًل إجاب ٍة ثم قصَّ عليه تفاصيل رحلته التي باءت بالفشل وشكا له عمل مناس ٍ ب يوفر له دخ ًًل جي ًدا حتى عدم استطاعته إيجاد ٍ اآلن ،تسامرا حتى الثانية صباحً ا ثم انصرف على وعد اللقاء غ ًدا أو بعد غ ٍد على أقصى تقدير ،خرج حزي ًنا ألنه لم يستطع الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
رؤيتها ،اشتاقت عيناه لعينيها الدافئتين المسكونتين دومًا بالحزن -حتى لو كانت هي في قمة الحبور والفرح – شوق شاطئ لموج ٍة رحلت منذ أم ٍد بعي ٍد وأخلفت موعد اللقاء ال ٍ شاطئ يدري أضلَّت طريقها في البحار أم ذابت على رمال ٍ آخر.. رحاب.. رحاب التي تصغره بثًلثة أعوام ،رحاب التي رافقته هي وأخوها إلى المدرسة صغارً ا ،يتهامسان ويتضاحكان وال يلقيان با ًال ألي شي ٍء في هذه الحياة حتى األمس القريب، لكنهما ما إن صارا في حكم الفتى والصبية حتى باعدت التقاليد بين جسديهما مله ً بة جذوات العشق في قلبيهما وصار الحديث ً بينهما عبر الهاتف فقط ،تمنى كثيرً ا لو كان فتىً غربيا يستطيع أن يحادث فتاته ويسامرها ويضاحكهاَّ ، يتنزه معها ويسكب في مسامعها كلمات الهوى التي يصيغها قلبه بمدا ٍد من دمه ،هل
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
ستواتيه الفرصة لًلعتذار لها عندما سافر دون علمها؟ وهل ستعطيه هي تلك الفرصة فض ًًل عن العفو عنه؟.. توقف عند الجدول الصغير الذي ينساب موازيًا للطريق ،كان الجدول رائ ًقا في منتصفه يعكس ضوء أعمدة اإلنارة الصفراء فيما تهتز صورة القمر في قاعه مع حركة المياه الهادئة على جانبيه ،على الجانب اآلخر تدلَّت وريقات شجرة الصفصاف ناحية الجدول ،لم يتأثر سباتها العميق بصوت الهواء الذي تسلل بين فروعها حتى أيقظتها آيات القرآن الكريم التي انطلقت من مكبرات صوت المسجد المقابل للشارع إعًلمًا بدخول وقت صًلة الفجر.. دخل المسجد ثم توضأ واستع َّد لصًلته ،تأم َّل األعمدة الرخامية واآليات المكتوبة على جدرانه العلوية بمهار ٍة فائقة ،طالع باطن القبة نصف الكروية ثم أغلق عينيه ورفع يديه مناجيًا ربه ،بعد تمام الصًلة بوق ٍ طويل خرج من المسجد ،نازعه ت ٍ الحنين إلى طفولته فارتقى سلم المئذنة ،لطالما ارتقاها صغيرً ا الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
هو وياسر وكان الشيخ عبد اللطيف ينهرهما خو ًفا عليهما ،كم افتقد شيخه كثيرً ا ،لم يره منذ أكثر من خمس سنوا ٍ ت عندما ارتحل الشيخ وعائلته عائدين إلى بلدتهم األصلية بمحافظة الشرقية ،افتقد يده الحانية التي كانت تزرع االطمئنان في قلوب أطفال القرية وصوته الذي كان يبعث الرعب في ً ضجة أثناء أوقات الصًلة.. نفوسهم إذا ما أثاروا مخاض يسير ولد قرص الشمس األصفر من خلف الحقول في ٍ وانكمشت مع والدته قطع الليل الجاثمة على فضاء القرية منذ المغيب أمس ،تسلل الهواء المنعش البكر إلى رئتيه فغسل روحه المضطربة ،كم يعشق هذه اللحظة التي ينبلج فيها النور فيبعث األمل بقلبه ،كم مر ٍة اختفت الشمس وح َّل الليل مكانها ناشرً ا بظًلمه الخوف والفزع ،ق ٌ لة من البشر فقط هم الذين يشعرون بالطمأنينة والسكينة فيه ،هؤالء الذين يعلمون أ َّنه مهما طالت عليهم عتمة الليل ستشرق الشمس من جديد ،كل ما بر ورجاء.. عليهم هو االنتظار بص ٍ الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
اكتمل قرص الشمس الذهبي فكان اكتماله جرسًا دوَّ ى في ً تدريجيا، أرجاء الكون ،خ َّفف الضباب قبضته على األرض انطلقت الطيور خماصًا تبحث عن طعام فراخها التي تتلوى تتابع جوعً ا في أعشاشها ،فتحت أبواب البيوت ونوافذها في ٍ سريع وخرج الفًلحون إما راكبين مطاياهم أو سائرين ٌ ٌ وفتية صغار حملوا مشنات الخبز الشبكية فتيات بجوارها، فوق رؤوسهم قاصدين مخبز القرية.. هبط درجات سلم المئذنة منهيًا صباح الشجن واألمل هذا وسار في طريق عودته الذي تغيرت حاله بعد بضع ساعا ٍ ت فقط من السكون -أو قل الموت -إلى الحياة..
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
3 ككل مسا ٍء انزوت في ركن سريرها الخشبي الذي تعلوه صورة شخصيتها الكارتونية المفضلة ممسك ًة هاتفها ،انزلقت أصابعها المبللة على شاشته بسهولة ،رفعت يدها إلى أنفها وتشممتها ،ما زالت أطرافها تحمل رائحة الصابون الخاص بغسيل األطباق الذي يعد آخر إجراءات روتينها اليومي، تجولت عيناها ببط ٍء في أرجاء غرفتها ،دوالبها الخشبي العتيق يرتجف في مكانه الذي لم يبرحه منذ سنوا ٍ ت وقد التصقت أقدامه باألرض تحته في حميمي ٍة صماء ،رقد سًلم وجاورته بعض الكتب حاسوبها القديم فوق مكتبها في ٍ ٌ ذرات من التي احتفظت بها منذ العام الدراسي الفائت تعلوها ً داللة عن طول الفترة منذ آخر مر ٍة فتحت فيها ،توقفت التراب عطر فارغتين متجاورتين على سطح عيناها عند قارورتي ٍ المكتب ،إحداهما أكبر من األخرى بكثير ،الكبرى كانت آخر هداياه لها قبل أن يرحل كعادة بني جنسه غير آب ٍه لها وتار ًكا بحر من الحيرة بدون أي خيطٍ خلفه يقود إليه، إياها في لجَّ ة ٍ
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
رحل فجأ ًة دون أن يودعها أو يتعلل بأي سبب ،تبخر أو ضت تسامى كأ َّنه كان عدمًا لم يخلق ،بكته كثيرً ا حتى ابي َّ عيناها ولم تنجح األيام في لئم جراحها بل زادتها سوءًا ،أذاقها عذابات الرحيل دون ذن ٍ ب ارتكبته فماذا كان يضيره لو أخبرها؟ أما القارورة الصغرى فكانت تذكر ًة لذاك اليوم الذي سقطت فيه مغش ًيا عليها فأفاقت على رائحتها ،أليست هذه إحدى مفارقات القدر؟ أحدهم أهداها عطرً ا يوجعها ويذكرها ً ثانية إلى برحيله عنها وآخرٌ ترك عطره خلفه كي يعيدها ً رمزا لأللم الراسخ وعيها وإداركها ،صارت القارورة الكبرى ً رمزا لألمل المهترئ في عقلها.. في قلبها وأصبحت الصغرى تصفحت حسابات صديقاتها في موقع التواصل االجتماعي - فيس بوك -مئات الكلمات المتضاربة والمتشابكة عن الرحيل والخيانة وعن التحمل والصبر ،عن الفقد واألسى وعن الحنين والشوق وكأنما اتفقن فيما بينهنَّ اتفا ًقا ضمن ًيا على زيادة أوجاعها وتذكيرها بالهجران باإلضافة إلى إسالة دموعها.. الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
بلَّلت دموعها شاشة هاتفها فوضعته إلى جوارها ثم استلقت على ظهرها تمامًا وأخذت تنظر إلى سقف غرفتها ،ش َّقت دموعها نهرين صغيرين على جانبي رأسها فصبَّا على شطآن وسادتها ،حملت هاتفها من جديد وتص َّفحت رسائله القديمة، استحالت الرسائل إلى مئات األنصال الحادة و َّ مزقت قلبها بًل رحمة ،أجفلت عندما انطلق صوت هاتفها فجأ ًة بين يديها وظهر اسم صديقتها األثيرة بسمة ،ظلَّت تنظر إلى الهاتف في شرود وكأنَّ عقلها لم يستوعب بعد هوية المتصل ،فتحت االتصال دون أن تنطق حر ًفا واح ًدا ،أتى صوت بسمة مفعمًا بالقلق: رحاب مالك؟ مبتتكلميش ليه؟ شكلك كنتي نايمة ،عالعموم أناهاجي وأعدي عليكي بدري علشان نروح الكلية سوا ،الدراسة بدأت بقالها أسبوعين وإنتي منزلتيش الجامعة وال مرة.. بدال من صديقتها ،توجست نفسها خ ً أجابها الصمت ً يفة عندما مرير ،تركتها تفرغ شحنتها في نقل لها الهاتف صوت بكا ٍء ٍ الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
هدو ٍء حتى هدأت وتيرة النحيب شي ًئا فشي ًئا ،لملمت رحاب شتات نفسها ثم قالت في لهج ٍة قاطعة: مش هروح..لم تجد بسمة شي ًئا تقوله ،تعلم ما يدور في نفس صديقتها لكن واجب صداقتهما يحتم عليها أكثر من مجرد الصمت فقالت في حسم: هعدي عليكي الصبح بدري وهخليكي تنزلي غصب عنك،يالًل سًلم.. ً باكية من جديد ولفحت آهاتها الحارقة انفجرت رحاب َّ فغطاها راحتيها ،بقيت على حالتها حتى أنهكها الوجع تمامًا الوسن بجناحيه.. لم تدر كم من الوقت نامت حتى أحسَّت ببسمة عند طرف السرير تهزها ً هزا ،انكمشت في سريرها أكثر وأدارت ظهرها لكن بسمة نفضت عنها الغطاء ثم قالت في غض ٍ ب مصطنع: الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
يالًل يختي مش ناقصين دلع..صرخت رحاب صرختها المكتومة احتجاجً ا ثم اعتدلت في سريرها ثم قالت في تحد: قلت مش رايحة..في نفس الوقت دخلت أمها حام ً لة طعام اإلفطار ،ال مفرَّ إذن من النهوض ،اغتسلت وأ َّدت صًلتها ثم ارتدت مًلبسها في صمت ،لم تذق شي ًئا من الطعام ولم تحاول بسمة نصحها بأن تفعل.. لم تخالف المنصورة عادتها في نفس هذا التوقيت من كل صباح فازدحمت بآالف السيارات والبشر وأدخلتهم في محرق ٍة ً كبير ٍة لألعصاب تأكل ساعا ٍ يوميا ،لم يختنق ت من العمر صدرها من الزحام وال من عوادم السيارات بل على العكس تمامًا كان الزحام الخانق طوق نجاتها الذي يؤخرها ً قليًل عن الجحيم الذي ينتظرها هناك على باب الجامعة ،تطلَّعت إلى وجوه األطفال التي ما زال النوم يمأل تجاويفها الدقيقة ،وجوهٌ الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
ٌ ٌ بريئة لم تختبر بعد قسوة الحياة ،لو أنها علمت كيف حالمة ً يافعة لدعت هللا منذ نعومة أظفارها ستكون حياتها حين تصير ٌ ً طفلة مبلغ همها أن تعقص شعرها طفلة أبد الدهر، أن يبقيها جامح معاند ًة أ َّمها التي تصر أن تجدله على هيئة صان كذيل ح ٍ ٍ ٌ طفلة ال يشغل بالها سوى العرائس والدمى ولون ضفائر، الشمس البرتقالي في أقصى الزاوية العلوية من ورقة الرسم، أغمضت عينيها لوهل ٍة فترقرقت منهما دمعتان صافيتان كحبتين من الماس لم ينجح كحل عينيها في تلويثهما ،على مرمى البصر تنتظرها بوابة الجامعة التي يقبع الجحيم في أقسى صوره خلف قضبانها الحديدية ،جحيم الذكريات ،مرَّ ت بسمة مبرز ًة بطاقتها التعريفية وكذا فعلت رحاب ،شهقت بصعوب ٍة قلي ًًل من الهواء قبل أن تعبر البوابة ومع عبورها أطلقت زفر ًة ظ َّنت بسمة على أثرها أنَّ روح صديقتها قد صعدت إلى السماء بعد أن سقطت رحاب على األرض بًل حراك.. الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
عندما أفاقت من غيبوبتها كانت بسمة تقبض على راحتها ً مسكة باليد األخرى قارورة العطر الصغيرة بمنتهى القوة م ذاتها ،لم يكن ذهنها قد استعاد عافيته بعد لكنَّ آالف المشاهد انقطاع في تتاب ٍع رهيب ،يومًا ما جلسا تتابعت أمام عينيها بًل ٍ هنا وتضاحكا هناك وهنالك كان آخر لقا ٍء لهما ،عندما استعادت رشدها وإدراكها بالكامل استعادت معهما قدرتها على البكاء من جديد وكالعادة لم تفلح بسمة في تهدئتها ،ساعدتها في النهوض آم ً لة أن تكون هذه نهاية األمر لكن على النقيض تمامًا لم تكن هذه سوى البداية ،سارت رحاب كالمسحورة في اتجاه شجر ٍة ما ،تعلم بسمة تمامًا ماهية هذه الشجرة ما جعلها تدعو من أعمق أعماق قلبها "رحمتك يا رب" ،لم تكن الشجرة سوى شجرتهما التي اعتادا اللقاء عندها ،تحسست رحاب جذع الشجرة من زاوي ٍة ما فًلمست أناملها حرفي "ر ،م" منقوشين بمهار ٍة مجموعين داخل قل ٍ ب محفور ،هنا كان دمعها فيضا ًنا حقيق ًيا بكل ما تحمله الكلمة من معنى وكأنَّ ك َّل ما مضى مجرد إحما ٍء لغددها الدمعية ،ظلَّت على حالها حتى عادت إلى الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
المنزل منتصف النهار ،لم تذق طعامًا ولم تنطق بحرفٍ واح ٍد ونامت مبكرً ا بعدما أنهكها اإلعياء.. صوته الضاحك أتاها من بعيد ،نادته فلم يجبها ،ه َّمت بتعنيفه وتوبيخه والصراخ في وجهه لكنه استمرَّ في ضحكاته كأن لم يسمعهاَّ ، هزت رأسها تحاول نفض تهيؤاتها عن رأسها لكن صوته ظ َّل يطاردها حتى في يقظانها ،يتكلم حي ًنا ويضحك حي ًنا ويصمت أحيا ًنا ،زاغت عيناها وهي تفتحهما محاو ً لة استيعاب الموقف ،هل كانت تحلم؟ عاد صوته يتردد من جديد بصور ٍة أوضح هذه المرة أوضح مخال ًطا صوت أخيها ياسر، ليس حلمًا بكل تأكيد ،اقتربت من باب غرفتها واسترقت السمع ،أخوها يناديها لتحضير الشاي لمحمد السيد فترد أمه بأنها نائمة.. ماذا؟ هل هو هو فع ًًل؟ أنصتت جي ًدا إلى صوته الذي تستطيع تمييز نبراته من بين اآلالف ،عصف الذهول بعقلها ،استغرابًا ً فرحة بها؟ ال تدري.. من عودته أم الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
قة بالباب منص ً ظلَّت ملتص ً تة إلى حديثهما حتى انصرف ،بقيت ً تيقظة تسائل نفسها ،ماذا يفعل اآلن؟ هل استيقظ طيلة الليل م من نومه أم ما زال راق ًدا في فراشه متأم ًًل هاتفه انتظارً ا التصالها كما تفعل هي اآلن؟ لم تتخيل أب ًدا أن يأتي اليوم الذي تجهل فيه ك َّل شي ٍء عنه وهي التي تعلم عنه َّ أدق تفاصيل فريق يناصر.. لون يفضل وأي ٍ حياته ،ماذا يحب أن يأكل وأي ٍ لملمت خصًلت شعرها الخشن الملتوي تحت رأسها ،وضعت يديها ملتصقتين تحت خدها األيمن ونظرت عبر النافذة إلى ٌ غيمة ما وخبأت قلي ًًل من الشمس التي اعترضت طريقها ً محاولة اختراقها أو إزاحتها نورها ،دققت النظر في الغيمة عن طريق النور ،انقبض قلبها مع طول فترة غياب الشمس باسم واح ٍد فقط ،حسام ،صديق أخيها وراء الغيمة وأنار عقلها ٍ ياسر وصديق محم ٍد أيضًا والذي اتصل بأخيها من أجل خطبتها بما يعني أنه ال يعلم شي ًئا عنها وعن محمد ،لم تتخيل ً أبدا في أسوأ كوابيسها ما كتبه القدر في صحيفة حياتها ،تسامر محمد وأخوها حتى وق ٍ تأخر أمس فهل أخبره أخوها ت م ٍ
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
ً ً قاتلة تعلم عنف وقعها عليه ألنها طعنة باألمر؟ كم ستكون تجرَّ عتها مرتين قبل ذلك ،ذاقتها يوم أخبرها أنَّ أ َّمه رفضت زواجه منها ،وقتها حاولت احتمال طعنة أمه لع َّل القدر يخبئ لهما تصاريف أخرى ال يعلمانها لكنَّ الطعنة األقسى كانت طعنته هو عندما سافر دون أن يودعها أو حتى يخبرها ،هاتفته كثيرً ا فتجد هاتفه المغلق يجيب بد ًال منه فيزيد قلقها عليه، ً صدفة بأمر سفره، تح َّسست أخباره قدر اإلمكان حتى علمت لطالما دارت فكرة السفر برأسه وكان يخبرها بذلك فيمتلئ قلبها رعبًا ،طلبت منه مرارً ا أال يسافر بدونها فكان يعدها بأ َّنه لن يتركها أب ًدا وأ َّنه حين يعزم على السفر ستكون هي درب سفره وهدى طريقه لكن عندما كتبت قوائم الرحيل كان أول المغادرين دون وداع.. ما الذي دفعه للرحيل يومها إذن؟ ال ب َّد أن يكون سببًا قو ًيا ج ًدا لكن هل كان أقوى من حبها؟ طأطأت رأسها وزوت ما بين َّ وتركزت عيناها للحظا ٍ ت دون أن يرت َّد إليها طرفها، حاجبيها تج َّمعت كل الخيوط والتفاصيل في رأسها ،أخًلق أبيه الفاسدة، الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
رؤيته ألمه تجاهد للحفاظ على األسرة ،عدم نجاحه في العثور عمل مناسب وأخيرً ا رفض أمه المتعسف لزواجه منها، على ٍ ليس هناك تفسيرٌ لرحيله هذا سوى شي ٍء واح ٍد ،الهروب، ألول مر ٍة منذ كانا صغيرين ترى فيه عيبًا ،أهناك أقسى على قلب المحب من أن يرى محبوبه ضعي ًفا ينحني أمام العاصفة كي ال تكسره فينساق لها خائر القوى مغلوبًا على أمره؟ تعلم أ َّنه سيظل محبوبها األبدي وإن فرَّ قت بينهما الظروف لكنها لن تغفر أب ًدا له هروبه وتخليه عنها.. أخرجها صوت هاتفها من أفكارها ،نظرت إليه في تساؤل وقلبها يرتجف ثم زفرت ببط ٍء فًل تعلم أكان زفيرها لًلرتياح أم لألسف،غريبٌ هو قلبها ،تمنى أن يكون هو المتصل ولو كان هو لتمنى َّأال يكون هو ،لم تجب على اتصال بسمة وأنهت الرنين ،ظ َّل إبهامها يتحرك على الهاتف للحظا ٍ ت في ترد ٍد مرتبكٍ كلما ظهر اسمه تعود فتحجبه ،دامت حيرتها ألكثر من خمس دقائق حتى حسمت أمرها واتصلت به ،مضت فترةٌ كالدهر فكرت فيها ألف مر ٍة أن تنهي االتصال لكنَّ أصبعها لم الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
يستجب لتفكيرها على ما يبدو حتى استفاقت من وجومها على صوته: آلو ،إزيك يا رحاب..أجفلت وكأنها ال تتوقع أن صوته حقيقي فما زالت تعتقد أنها ٌ تحلم ،مضت لحظا ٌ غريبة من الصمت استجمعت فيها قواها ت ت أو عتابا ٍ وبدون أية مقدما ٍ ت سألته: ياسر قالك؟.. قالي إيه؟.. مقالكش إن حسام فاتحه علشان يخطبني؟..بال من الحديد هبطت سحقت كلمات جملتها األخيرة عقله كج ٍ على ذرة ملح وتك َّفلت ضلوع صدره بإنقاذ الكون من انفجار قلبه ،انفجا ٌر كان من الممكن أن يعيد تكوين المجرات وتشكيل الكواكب من جديد ،تج َّمدت يده على هاتفه مغل ًقا عينيه ومحتر ًقا بلهيب نحيبهاَّ ، ظًل صامتين حتى كفكفت دموعها الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
وابتلعت ريقها ،حاولت التماسك وإضفاء الهدوء على صوتها المتهدج وقالت: اعمل حاجة يا محمد ،كلم أمك تاني ،أنا ممكن أسامحك علىاللي فات بس أنا مش هستحمل أعيش في بيت تاني مع حد غيرك.. نطقت كلماتها األخيرة بسرع ٍة ومرارة ،خنقها السعال الذي أفرغ كامل الهواء من رئتيها فانتظر حتى فرغت من نشيجها المتقطع ثم قال بصو ٍ خفيض ج ًدا: ت ٍ رحاب ،أنا لما سافرت ،سافرت علشان حاجات كتيرواستحملت حاجات أكتر إال حاجة واحدة مقدرتش عليها ،إني أكلمك وأقولك إني مقدرتش أقنع أمي إننا نتجوز ،هربت، هربت ألني مقدرتش أتجوزك زي ما وعدتك ألني مش هقدر أتجوزك من غير موافقة أمي ،سامحيني يا رحاب ،هتقولي عليا بهرب تاني قولي ،بس هللا وحده يعلم أنا حاولت وتعبت قد إيه.. الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
أنا عارفه إنك تعبت وعلشان كده أنا بردو كلمتك رغم إنكسيبتني قبل كدا وبقولك تاني أنا لسه مستنياك ،حاول تعمل حاجه أبوس إيدك ،صاحبك حسام جاى آخر األسبوع.. قالتها وأنهت االتصال ،لم يدر أب ًدا بذهنها أنَّ البيت الذي ستكون سيدته ليس هو عين البيت الذي سيأوي إليه في نهاية ً باحثا عن الراحة والطمأنينة ،كم مر ٍة اختارا لهذا يوم شاق ٍ البيت لون الحوائط وشكل األثاث وطريقة توزيعه ،كم مر ٍة تشاجرا على أسماء األطفال ،كان يمازحها بأنه سيطلق على طفليهما اسمي "عباس وزغلولة" فتحتد عليه في غض ٍ ب طفولي وتتهمه بأ َّنه يريد ألطفالهما أن يكونوا نزالء المصحات النفسية بسبب اسميهما وكم كان يستلذ بهذا الغضب ،رسما م ًعا محاذير في أدق تفاصيل حياتهما المستقبلية دون وضع أية ٍ الحسبان ولم يتطرقا أب ًدا للتفكير في تقلبات الزمان واستمرا في أحًلم اليقظة وكأنَّ زواجهما أمرٌ حتمي ال مناص منه..
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
4 غار ًقا في الذكريات لم يتوقف عن التفكير طيلة يومه ،استعاد ذكرى يوم فاتح أ َّمه قبل سفره ،رفضت رفضًا صارمًا حينها فعل أكبر وأقوى من المتوقع ،هل كان لرفضه فكرة في ردة ٍ الزواج من ابنة خالته التي حدثته أمه عنها تأثي ٌر في هذا الرفض؟ أم هل أح َّست أمه أنَّ رحاب طغت على تفكيره فغارت منها؟ إن كان هذا صحيحً ا فهذا يعني أنَّ األمر قد انتهى ،رفضت أمه من قبل فحزم حقائبه ورحل فهل يتوقع اآلن أن تستجيب له؟ إن كانت أمه رفضت قب ًًل ألنها تغار فهي اآلن صارت تكره كما أنها تحمل رحا ًبا وزر رحيله حتى لو لم تصرح بهذا ،هل انتقل احتمال زواجه من رحاب إلى خانة المستحيل؟ ال ب َّد من المحاولة مرا ٍ ت أخرى حتى ال يبكي بقية حياته شاعرً ا أنه خذلها وحتى تغفر له وتستيقن أ َّنه لم ي َّدخر وسعًا في سبيل االقتران بها..
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
لم يغمض له جفنٌ طيلة الليل ،ظ َّل يتقلَّب على الفراش كالمتقلب على جمر وبدا أنَّ الوقت ال يمضي ،قام فتوضأ ثم أ َّدى صًلة الفجر وسأل ر َّبه أن يرقق قلب أمه ،منحته لحظات أمل واهيًا لكنه تشبث به ،سمع صوت شروق الشمس بصيص ٍ خطوات أمه التي دخلت المطبخ فعزم على الحديث معها اآلن، جسده المترنح من التعب والسهر ال يسعفه لكنه أجبره على المضي قدمًا ،وقف على باب المطبخ وارتكن إليه بكتفه عاق ًدا ساعديه وقال مبتسمًا في ود: صباح الخير يا أما ،صاحية بدري ليه؟.. صباح الخير يا محمد ،قلت ألحق أعمل الغدا قبل ما أمشيألني احتمال أتأخر شوية في الشغل.. رأى أنَّ الحوار بينهما سيتخذ منحى آخر غير الذي أراد فسألها مباشر ًة: قوليلي يا أما ،هو فيه فرق بين إن الواحد يكون راضي وإنهيكون سعيد؟.. الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
توقفت للحظ ٍة عما تفعل ،رفعت حاجبيها وأخفضتهما في سرع ٍة ثم أجابت: ال مفيش فرق بينهم ،هما االتنين حاجة واحدة ،اإلنسان لمابيرضى بيبقى سعيد.. أيوه يا أما بس الرضا مش معناه أنه يستسلم لحاجة حصلتهو ممكن يغيرها وحاسس إن السعادة في غيرها.. فهمت مقصده فاكتسى صوتها بالحزم أكثر وهي تقول: ال ،هما االتنين حاجة واحدة ،إنت عايز إيه بالضبط؟..صمت قلي ًًل وأحنى رأسه ثم رفعها ونظر إليها نظرة استعطاف: أما ،إنتي مش عايزاني أعيش سعيد بقية حياتي؟..ألقت الملعقة من يدها بعنفٍ واتسعت عيناها بشد ٍة وصرخت في وجهه: الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
هو مش الموضوع ده قفلناه قبل ما تسافر وخلصنا؟ بتفتحهليه تاني؟.. خفض صوته ألقصى حد حتى يتفادى الصدام: يا أما بالراحة بس ،يا أما أنا مش عايز أعيش عيشة زيعيشتك إنتي وأبويا ،يا أما أنا عايز أعيش مع حد أعرفه ويعرفني وأكون أنا وهي واحد ،مش عيشة والسًلم.. أنا قلت متفتحش الموضوع ده تاني ،أنا مش عايزاها..بدأت عيناه تدمعان وهو يقول: بس أنا عايزها يا أما ،أنا اللي هعيش معاها مش إنتي..نظرت إليه في غيظٍ وقالت في قسو ٍة قصمت قلبه: أنا حلفت باهلل لحد آخر يوم في عمري ما هتتجوزها ،لماأموت إبقى روح اتجوزها ،ولًل روح اتجوزها لوحدك بس ساعتها ال إنت ابني وال أعرفك.. الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
يا أما حرام عليكي ،إنتي بتعملي فيا كده ليه؟ دانا ابنك ياأما.. ابني يقولي حاضر ويسكت ،إنت عايز توجع قلبيوتموتني؟.. ه َّمت بمغادرة المطبخ فانكبَّ على قدميها محاو ًال تقبيلهما ثم قال ولعابه يخنق صوته: يا أما أبوس رجلك ،دانتي حتى رافضه من غير سبب ،يا أماإنتي عايزة تكسري قلبي طول حياتي؟.. نزعت قدميها من بين يديه بقسو ٍة ثم صفعته على خده األيسر وصرخت كمن يرى شيطا ًنا أمامه: أنا قلت ال وانتهى الموضوع..دخلت غرفتها وصفقت الباب خلفها بقوة ،ظ َّل جام ًدا إثر صفعتها ،استند بظهره إلى الجدار مغل ًقا عينيه وانهمرت دموعه وأغرقت مًلبسه ،ال يصدق قسوتها وال سخريتها الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
اللتين لم يعتدهما من قبل وال يصدق أنها أنفذت قرارها ضد رغبة ابنها وحالت بينه وبين أكثر مخلوق ٍة أحبها على وجه األرض" ،آآآآآآآه يا رحاب "جاءت من أعمق أعماق قلبه ،من جميع خًليا جسده ومن كل ذرات عظامه ،تحولت أوردته وشرايينه إلى مشانق لخًلياه العصبية والحسية فأطلقت آها ٍ ت حملت ك َّل القهر والبؤس واأللم ،تراءت له رحاب في خياله تبكي ،اقترب منها وحاول مسح دموعها فابتعدت عنه وأدارت له ظهرها ،تسارعت أنفاسه وارتفع صدره وانخفض ،أحسَّ بسخون ٍة غريب ٍة في جسده وشعر بحبات العرق تسري على جلده الملتهب داخل مًلبسه ،نهض من مكانه فتحرك الهواء حوله واستشرت برودته المفاجئة في جسده فأصابته برعش ٍة قوي ٍة كمصا ٍ ب بالحمَّى ،حالته يرثى لها كمن جردوه من مًلبسه في زمهرير إحدى ليالي الشتاء العاصفة ثم ألقوا به في عرض البحرَّ ، هز رأسه في استكان ٍة مريرة ،استكانة المقهور المغلوب على أمره ،رفض أمه من ناحي ٍة وحبه لرحاب يلهبانه نار بًل رحمة كمصلو ٍ ب في ساح ٍة رومانية تبارى بسياطٍ من ٍ الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
فريقان على خلع ذراعيه من الجانبين ومنتظ ٍر األسد الجائع شعور يمكن كي ينهش لحمه ويريحه من آالمه ،أحسَّ بأقسى ٍ أن يشعر به إنسان ،شعور العجز ،تم َّنى لو كانت روحه في زمان آخر فى بل ٍد آخر فى جس ٍد آخر غير جسده ،تحيا في ٍ ب آخر ،نهض من مكانه في وه ٍن شدي ٍد بعد تسع ساعا ٍ كوك ٍ ت كاملة وقام بتغيير مًلبسه ثم خرج من بيته هائمًا على وجهه تغالبه دموعه فيقمعها حتى ال تنتقص رجولته أمام السائرين، قادته قدماه إلى مكان تجمع السيارات فاستقل إحداها بعفوي ٍة دون تفكير وعندما هبط منها كان قد ح َّدد وجهته ،استقل شعور حتى وصل القرية المرجوة.. القطار بًل ٍ عربات تجرها الحمير م ً ٌ حملة بالبرسيم استلقى فوقها رجا ٌل بمًلبسهم الداخلية أقرب للموت منهم للحياة وتصرخ عضًلت طعام أجسادهم طلبًا للراحة ،نسا ٌء يحملن فوق رؤوسهنَّ أوعية ٍ ً ً حصيلة صغير ًة من الخضراوات الطازجة ،أطفا ٌل فارغة أو حفاةٌ في الشوارع يلعبون بأقصى طاقتهم تكو َّنت قشرةٌ سم ٌ يكة ٌ تيارات من الجلد أسفل باطن أقدامهم تقيهم وخزات الحصى، الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
خفيفة من الهواء تحمل معها دخان حرائق القش ورائحة روث البهائم.. كل هذا لم يره أو يشعر به فقط أحسَّ بالرهبة المعتادة كلما وطأ غريبٌ أرض بلد ٍة غريب ٍة عليه ،زاغت عيناه بين البيوت والطرقات المتفرعة ال يدري أيها يسلك ،أمام مدخل أحد راش من الحصير يتسامران، البيوت جلس شيخان على ف ٍ سألهما عن المنزل المنشود فأجاباه أ َّنه يقع في آخر المنعطف التالي.. تأمل البيوت المضيئة المصطفة على جانبي الطريق ،كانت كلها تنبض بالحياة ،أصوات أجهزة التلفاز المرتفعة وصراخ األطفال وقهقهات الرجال وثرثرات النساء وأضواء الشرفات لم تذهب عنه شعوره بالوحشة ،على اليمين من نهاية المنعطف ٌ بيت من الطوب اللبن بين البيوت الضخمة المحيطة به قبع وش جائرة ،ليس هناك دلي ٌل قاط ٌع كحمل مستكي ًنا ٍ وديع بين وح ٍ ٍ على أنَّ هذا المنزل به أنفاسٌ تترد وإال كانت بعضٌ منها الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
نفضت أكوام التراب التي غلَّفت بابه ونوافذه ،تضاعف شعوره بالوحشة أكثر لكنه تق َّدم من الباب وطرقه عدة طرقا ٍ ت سريعة، ٌ لحظات مرَّ ت ولم ينفتح الباب بعد فشعر أنَّ مجهوده في الوصول إلى هنا قد ضاع سدى ،سمع حفيف خطوا ٍ ت من خلف الباب فانتظر حتى فتح ببط ٍء شدي ٍد ورأى بعده ضوءًا خاف ًتا يهرب إلى الشارع ،لم يتبين مًلمح المرأة العجوز التي انحنى ظهرها كثيرً ا بفعل السنوات التي تراكمت عليه ،لم تتعرف عليه مع النظارة السميكة ج ًدا التي ترتديها ،سألته ع َّمن يكون فأخبرها أ َّنه محمد أبو السيد تلميذ الشيخ وأنه أتى لزيارته من البلدة التي سكنوها قبل سنوات ،ذهبت المرأة لتخبر زوجها فيما وقف هو على الباب انتظارً ا إلذن الدخول، ٌ ٌ خشبية معلق ٌة نقشت عليها آية الكرسي بمهار ٍة لوحة أمامه فائقة ،أغمض عينيه وبدأ يتلوها من ذاكرته حتى سمع صوت المرأة تناديه ليدخل ،خفق قلبه بكل قو ٍة عندما رأى شيخه نائمًا على ظهره فوق سريره وعلى جسده غطا ٌء ثقي ٌل يذب عنه برودة الليل ،كم افتقد هذا الوجه الحاني والتي ازدادت شعرات الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
لحيته شيبًا عن ذي قبل ،ارتدى نظار ًة شمس ً ية ال تليق ً أبدا بالوقت وال بالظًلم المحيط ،ألقى السًلم على شيخه ثم م َّد يده ليصافحه لكنَّ الشيخ على ما يبدو لم يفطن إلى اليد الممدودة إليه ،هنا أدرك محمد الموقف ،لقد كفَّ بصر شيخه ،دمعت عيناه وانكبَّ على يدي شيخه وقبَّلهما ،ابتسم الشيخ ور َّبت على رأس محمد في حنو ثم أشار إليه بالجلوس على الكرسي المجاور للسرير وقال: ياه يا ولد يا محمد ،أخيرً ا افتكرت شيخك.. أنا عمري ما نسيتك يا شيخنا وكلنا في البلد فاكرينك وبنجيبفي سيرتك على طول بالخير.. بتجيبوا في سيرتي؟ ،وأنا أقول طول اليوم عمال أكح ليه؟ -يضحك ثم يسعل بقوة – يا ابني بطلوا تيجبوا في سيرتي أنا كنت خًلص افتكرت إني جالي السل.. ابتسم محمد لدعابة شيخه وقال: الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
بعد الشر عليك يا شيخنا ،ربنا يحفظك ويطولنا في عمرك..سعل الشيخ عدة مرا ٍ ت وتفل في منديله ثم وضع يده على صدره حتى استكان وقال في صو ٍ ت متحشرج: قول يا سيدي.. أقول إيه يا شيخنا؟..يعلم جي ًدا مدى فطنة شيخه الذي طلب من زوجته إعداد الشاي ربما إلبعادها عن الغرفة حتى ال يجد محمد حرجً ا في الحديث أمامها ،مرَّ ت فترةٌ من الصمت استجمع خًللها شتات نفسه ثم قصَّ على شيخه كل ما جرى معه منذ أن انتهى من الدراسة حتى اآلن وما كان من أمه وعًلقته برحاب ،لم يقاطعه الشيخ خجل أو إال الستيضاح بعض األمور ومحمد يجيبه بدون أدنى ٍ بعمق لفتر ٍة مواربة حتى فرغ من حديثه ،أخذ الشيخ يفكر ٍ قصير ٍة ثم قال في صو ٍ ت رزين:
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
كل اللي حصل ده هو القدر وإحنا الزم نرضى بالقدر يامحمد ولو كانت نصيبك اللي مكتوبلك من فوق سبع سماوات كانت أمك وافقت.. بس يا شيخنا دي مقالتش حتى سبب ،رافضه كده وخًلص،أروح أنا أسكت وأقول دا القدر والمكتوب؟ ما هي لو كانت وافقت كان هيبقى قدر ومكتوب.. إنت طول عمرك بترضى يا محمد؟.. آه يا شيخنا وهلل الحمد ،عمري ما سخطت ودايمًا أي حاجةخير بتحصلي بحمد ربنا عليها ولو حاجة شر حصلتلي بكون عارف إن نفسي هي السبب أو الشيطان ،مثًل لما دخلت كلية عادية وملحقتش الكلية الكبيرة اللي كنت عايزها قلت الحمد هلل ألني ماستاهلش أدخلها علشان ما اجتهدتش.. إنت فاكر إن ده الرضا؟ اللي إنت قلته ده تسبيب الرضا مشالرضا نفسه ،لألسف غالبية الناس اللي حاسين إنهم راضيين بقدر هللا وقضائه غلطانين -إال من رحم ربي -كل اللي الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
بيعملوه إنهم بيدوروا على سبب ألي حاجة حصلت وبعدها بيقولوا الحمد هلل مع إن المفروض ميدوروش على سبب من األساس.. مش فاهم يا شيخنا.. يعني الناس أربعة أصناف ،فيه ناس مبترضاش وبتسخطودول حاشا هلل ظالمين لنفسهم وفيه ناس بترضى علشان مجبرين على كده ومقدامهمش يعملوا أى حاجة ،ده مش رضا بس علشان هما عاجزين إنهم يعملوا حاجة فبيسكتوا ،وفيه ناس اللي بيقولوا إنهم بيرضوا ،بيدوروا على سبب يريحهم للرضا عن القدر ،مثًل لو حد جاله دور برد ،بيقعد يدور على سبب البرد ده ،يقولك أنا نمت بهدوم خفيفه أو فيه حد كان عنده برد وأنا أخدته منه ولما يوصل لكده يقول الحمد هلل ،ده اسمه تسبيب الرضا وده ملوش عًلقة بالرضا ،أما الرضا بقى بجد إنك تعمل اللي عليك وتتعب وتجتهد وتاخد باألسباب وبعدين اللي يحصل ترضى بيه سواء كان على هواك أو على الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
عكس هواك ودي منزلة كبيرة ً جدا وقليل من الناس اللي بيوصلها ،ستنا هاجر لما أبونا إبراهيم سابها هي وابنها الرضيع في الصحرا الواسعة يدوبك معاهم زاد يكفيهم أسبوع واحد بس ،سألته إنت سايبنا هنا ليه؟ قالها ربنا أمرني بكده، مسألتش عن السبب ومفكرتش ،قالت" :إذن لن يضيعنا"، عارف ليه علشان راضية بقدر ربنا وعارفه حكمته ،مقالتش خًلص طالما ربنا اللي جابنا هنا نستنى لحد ما يبعتلنا الزاد؟ ال ،خدت باألسباب وطلعت الجبل ونزلت وراحت وجت بين الجبلين سبع مرات لحد ما تعبت وهنا ربنا إدالها أكتر من اللي تحلم بيه علشان هي رضيت من غير سؤال ،خلفت سيدنا إسماعيل أبو العرب وكلنا بنحكي عنها لحد دلوقتي ،لكن لو مكانتش رضيت كانت اتجننت وسخطت والعياذ باهلل ،فهمت يا محمد؟.. أطرق محمد رأسه مفكرً ا في حديث شيخه ثم سأل:
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
يعني يا شيخنا تقصد إن رفض أمي ده هو تنفيذ المكتوبعند ربنا مش سبب في حد ذاته؟.. أيوه يا ابني ،الزم قلبك يرتاح وتعرف إن ده مكتوب ربنااللي الزم ترضى بيه ،أنا عارف أنه صعب عليك وإن قلبك مش بإيدك بس صدقني لو رضيت بيه من غير ما تدورله على سبب هيديلك من حيث ال تدري وال تعلم ويمكن أحسن من اللي إنت كنت عايزه بس إنت ترضى.. بكى محمد وأطلق لدموعه العنان فتركه الشيخ يغسل همومه في تفهم ثم نادى زوجته وطلب منها أن تع َّد الغرفة المجاورة لمحمد حتى يتسنى له المبيت معهم ،كان متأك ًدا أنَّ محم ًدا لن يوافق على ذلك فأراد أن يخرجه من حالته تلك حتى يستطيع اللحاق بآخر قطار ،الوسيلة الوحيدة للعودة فالوقت أصبح متأخرً ا ً جدا ،أدرك محمد ذلك أيضًا فنهض من مكانه مقب ًًل يد ورأس شيخه شاكرً ا إياه ثم انطلق أهدأ با ًال من ذي قبل..
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
ٌ معدومة وقف على رصيف المحطة منتظرً ا القطار والرؤية تقريبًا ،فقط مصبا ٌح أصفر ضعيف في نهاية الرصيف يحتضر ضوؤه ،تج َّمعت حوله بعض الحشرات الطائرة لتستم َّد الدفء أشخاص ينتظرون مثله ،كانوا منه ،على مقرب ٍة منه وقف عدة ٍ مثل األشباح الرمادية وصوت خطواتهم على الرصيف البارد يقذف الرهبة في قلبه كلما اقتربوا منه ،من بعي ٍد أبصر ضوء مقدمة القطارَّ ، مزق صوت صفارته سكون الليل وأيقظ بها تلك البيوت المصطفة على الجانبين من سباتها العميق ،ال يريدها أن تهنأ بالنوم فيما هو ما زال يعمل حام ًًل أولئك الذين ً ثانية لكن هذه المرة في يجوبون البًلد ،صرخت صافرته ٌ بيوت تؤويكم وجوه المسافرين ولسان حالها يسألهم :أليست لكم في هذا الوقت المتأخر؟ لم يبد أنَّ المسافرين اهتموا بهذا التعنيف بل على العكس ازدادوا اهتمامًا به ،نفث القطار غضبه عبر مدخنته العلوية الشهيرة ثم توقف في استسًلم بعدما ضاع تعنيفه سدى ،استقلوه في سرع ٍة خشية أن ينتفض ً بغتة ويتحرك ويتركهم خلفه.. الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
جلس محمد إلى جوار النافذة عكس اتجاه حركة القطار كعادته ،كل شي ٍء يتحرك حوله ،نتف الغمام في السماء والرياح واألشجار وأعمدة اإلنارة وأسًلك التلغراف ،الشيء الوحيد الثابت كان القمر الذي بدا كأ َّنه مركز الكون والنجوم تدور في فلكه ،شرد بذهنه مفكرً ا في كًلم شيخه ،تب َّدت له أشيا ٌء كان من الصعب على عقله أن يصل إليها إال بعد سنوا ٍ ت من التجربة والخبرة ،تأ َّمل وجوه األشخاص حوله ثم أمال رأسه إلى الخلف وأغمض عينيه ،التقى حاجباه وارتسمت بينهما أمارات التفكير ،الحياة مثل هذا القطار ،كل سن ٍة منها كمحط ٍة من المحطات العديدة التي تنتشر في طول البًلد وعرضها ،أناسٌ يستقلون القطار ويغادرونه دون أن نعرفهم وأناسٌ يستقلونه ويجلسون إلى جوارنا لكننا ال نشعر بما يدور داخلهم ،ومنهم من نتعرف إليهم ونحادثهم ،قد نألفهم حتى نظن أنهم باقون معنا حتى نهاية الحياة لكن عندما يصل القطار إلى حيث وجهتهم يرحلون حاملين معهم قلوبنا وأحًلمنا ومخلفين معنا الذكريات مفرحها وموجعها ،وهناك من فرضتهم علينا الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
وجهة السفر المشتركة ال يريدون إال منافعهم الشخصية ،تمامًا كهؤالء الباعة الجائلين الذي يمتزج صوتهم بصوت عجًلت َّ يتغزلون القطار فيصنع ضجيجً ا اعتاده كل المسافرين بالقطار، في بضاعتهم رغم رداءة جودتها إغواء للمسافرين وهم -مع وش قليل ٍة تغزلهم هذا -أحرص ما يكونون على بيعها لقاء قر ٍ قد تطعم فمًا جائعًا ينتظر هناك في غياهب الفقر المدقع أو تقضي دي ًنا يطوق عن ًقا اعتاد على قسوة الحياة أو تشتري علبة تبغ تنفث بدخانها األبيض بعضًا مما خلَّفته تقلبات األيام ،يا ٍ لحظ هذا القطار ،يجوب البًلد مندفعًا ال يجرؤ على اعتراضه أحد ،طريقه مح َّد ٌد وواضح ال يسير فيه غيره ،يخترق الحقول الخضراء ويمر فوق األنهار الصغيرة ،تغلق الطرق ألجله ويضبط الناس مواعيدهم على توقيته ويهلل األطفال لرؤيته، ٌ ٌ ضخمة من الحديد األصم تتغذى على الفحم أو الوقود كتلة السائل بًل قل ٍ ب يعذبه ،ال يهتم لهؤالء الذين حزموا أمتعتهم عزمًا على الرحيل يمزقهم الحنين ألوطانهم وأهليهم وأحبتهم وال يعير اهتمامًا لكل هذه األحضان الملتاعة على جانبيه وال الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
تؤثر فيه تلك العبرات التي تذرف في أوقات الوداع ،يحملهم أحضان أوطان أخرى أو ربما إلى شعور منه إلى بًل أدنى ٍ ٍ ٍ جديدة..
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
الفصلُُالسادس ُ ُ باتتُالذُكرياتُالسعيدةُتو ِجعناُأكثرُمنُالذكرياتُالحزينة ُ
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
1 امتزجت دموعها بكحل عينيها فرسمت َّ خطين أسودين على بشرتها القمحية وتسللت مرارة الدموع إلى فمها بطريق ٍة ما وامتزجت بريقها حتى بلغت قلبها ،طوَّ قت ركبتيها بيديها ً جالسة على األرض بجوار سريرها، ودفنت وجهها بينهما مكان لنصف الساعة أو أكثر فقدت اتصالها بما حولها من ٍ وزمان ،ألهبت دقات الجرس في الخارج قلبها بسياطٍ من لهب فانتفض محاو ًال الهرب فحاول صدرها قمع الثورة التي اندلعت داخله بكل قسو ٍة ،طرقات يد أمها على الباب أخبرتها أنَّ ما تخشاه قد وقع ،أتاها راجيًا أال ترده خائبًا وهو ال يعلم أن قلبها معلَّ ٌق بصديقه ،أمسكت منديلها ومسحت أنهار دموعها، أعادت تثبيت الكحل ناظر ًة إلى وجهها الذابل في المرآة ،محا ٌ الزمان معالم الطفولة منه وحفر ً دوامة بدال منها أخاديد األلم، من التيه سحقت عقلها ،ف َّتشت في ذاكرتها عن األسماء والوجوه واأللوان ،عن ضحكاتها وأيامها وأحًلمها ،لكن ال شيء ،ال شيء أب ًدا ،عادت طرقات أمها تستحثها للخروج، الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
حاولت المسير لكن قدميها لم تستجيبا لها ،نظرت إليهما في ٌ خفية سيطرت عليهما تمامًا ذهول وكأنما قيَّدتهما أغًل ٌل ٍ فمنعتها من التحرك ،دخلت أمها الغرفة فسقط الجدار الرمادي الذي أحاط بعقلها وأعادها إلى الحياة الواقعية من جديد ،سارت خلف أمها في تثاقل السائر على الرمال وكانا هما ينتظرانها، أخوها وحسام.. تحدث إليها بعدما صارا منفردين تحت نظري أمها وأخيها ٌ صامتة ال ترفع عينيها إليه ،تحدث عن نفسه وعن وهي المستقبل وما ينوي فعله وهي ال تدرك شي ًئا مما يقول على آخر من أفكارها سألت نفسها ،هل ح ًقا أتى اإلطًلق ،في عالم ٍ ٍ آخ ٌر غيره ليخطبها؟ ال بد أنه كابوسٌ مخيفٌ فمتى عساه ينتهي؟ أخذت نفسًا عمي ًقا وحسام مسترس ٌل في حديثه ،شيء ما استفز عقلها وجعلها ً َّ تنظر إليه عاقد ًة حاجبيها فتوقف عن الكًلم فجأة ،سألها ما إذا كانت تريد أن تستفسر عن شيء ما لكنها لم تجبه ،بدون استئذان وبًل أي حر ٍ ف نهضت واندفعت إلى غرفتها بسرعة ،تعجَّ بت األم وغضب ياسر من فعلة أخته الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
المفاجئة فيما سيطرت الحيرة على حسام وعاد يسترجع بينه ً باحثا ع َّما يكون قد أغضبها ،عادت وبين نفسه كلماته األخيرة ً حاملة قارورة العطر الصغيرة بسرع ٍة لتقطع عليهم حيرتهم وأشارت بها إليه فنقل بصره بينها وبين رحاب في دهش ٍة عارمة ،استفسر ياسر عن القارورة وعًلقتها بصديقه فأخبره حسام بواقعة إغماء الفتاة في الطريق والتي لم يعرف أنها رحاب إال اآلن ،وافقته بإيماءات رأسها وهي تتش َّمم رائحة العطر من جديد..
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
2 باتت ليلتها في الجحيم ،للمرة الثانية أخبرها أنه لم يفلح في إقناع أمه ،لو ذبحها بيديه لكان أهون عليها مما هي فيه، احترقت روحها داخلها وأصبحت رما ًدا خنق قلبها المثخن ً قائلة: بالوجع ،احتضنتها بسمة حرام عليكي نفسك يا بنتي ،انسي بقى وفكري في الليجاي.. ً مختنقة بلعابها: أجابت مش هقدر يا بسمة ،مش هقدر أنساه ،دا حبي األولواألخير ،أنا اتولدت وكبرت وعشت معاه ،دا هو الحياة كلها.. مفيش حاجة اسمها مش هتقدري تنسيه ،إنتي اللي بتصعبيهاعلى نفسك ،كلمة مش هقدر أنساه دي هي اللي هتخليكي مش هتقدري ،لو قلتي هنساه علشاني وعلشان نفسي هتقدري.. هو النسيان بالسهولة دي؟..الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
ال طبعًا النسيان مش بالسهولة دي ،بس فكري في اللييساعدك عليه ،فكري في إنه سابك وسافر قبل كدا من غير ما يقولك وقبل كل دا فكري إن دا أمر ربنا.. وكمان مقدرش يقف قدام أمه عشاني.. عايزاني أقولك زي ما أي بنت بتقول لصاحبتها إنهالمفروض يحارب الكون كله عشانك بما فيهم أمه؟ كل دا كًلم أفًلم وروايات بيضحكوا بيه على بعض ،بس أنا مش هخالف ضميري أب ًدا ،محدش بيتجوز واحدة غصب عن أمه ألن رضاها متقدم على رضا اللي هيتجوزها ،لو شايفه إنه عمل اللي عليه معاها ومرضيتش يبقى هو خد باألسباب ودا نصيبكم فترضي باللي ربنا كتبه ،لكن لو مكانش عمل اللي عليه وبيقول كدا وخًلص يبقى ربنا هيحاسبه وساعتها هتكوني إنتي الكسبانة ،المهم دلوقت تفكري في اللي جاي، وبعدين عمر الحياة ما وقفت على حد ،نفضل في وقت الوجع
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
نقول مش هنقدر بس لما األيام تعدي بنتأكد فعًل إنها مبتقفش على حد ،المهم الصبر في وقت الوجع.. أعمل إيه يعني يا بسمة؟.. فكري في حسام ألنه هو األحق دلوقت بالتفكير ،الراجل جهودخل البيت ومستني ردك عليه فشوفي هل يستحق ولًل ال؟ وكمان اعتبريها رسالة ليكي يوم ما كنا ماشيين سوا في المنصورة وأغمى عليكي وإزازة الريحة بتاعته هي اللي فوقتك ،مش يمكن دي رسالة علشان تنسي اللي فات مهما كان كبير وتبصي لقدام؟..
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
3 "بقولك إيه يا محمد ،خطوبتي على رحاب أخت ياسر يوم السبت اللي جاي إن شاء هللا عندهم في البيت ،حبيت أقولك قبل ياسر ما يقولك ،إياك تتأخر" ،هبطت الكلمات على رأسه عبر الهاتف كصاعق ٍة من السماء اختارته هو بالذات لتضربه ً نيابة عن كل سكان الكوكب ،مادت األرض به وارتفع صوت دقات قلبه فوضع يده اليمنى على صدره وكأنما يكتم الصوت مخافة أن يسمعه حسام ،سعل سعا ًال مفتع ًًل محاو ًال استعادة هدوئه وقال: مبروك يا صاحبي ،ألف مبروك ،هكون موجود إن شاءهللا.. تسارعت خطواته في الظًلم الدامس بين البيوت الرابضة في أماكنها كالقبور هربًا من الكلمات التي تًلحقه ،أصبحت الدنيا حوله فضاء رهيبًا ال حدود له واستطال الطريق أكثر وأكثر مكان في الكون، حتى بدا أن ال نهاية له وصار البيت أبعد ٍ الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
ببصيص من الرحمة، اختفى القمر خلف سحاب ٍة ما وضنَّ عليه ٍ توقف الزمن في الوقت الذي وصل فيه إلى البيت ،دفع الباب بقو ٍة فأطلق صريره احتجاجً ا على الطريقة التي دفع بها ،في غرفته ارتكن إلى الجدار بظهره ثم انزلق ألسفل ،وضع وجهه بين كفيه وبكى ،أطلق سراح أوجاعه فانهمرت عبراته والكلمات ما زالت تطن في رأسه ،لم يتصور يومًا حتى في ق َّمة الخصام بينهما أن تكون لغيره ،ولمن؟ لحسام صديقه؟! عندما رفضت أمه رفضها الصارم في المرتين كانت ذؤابة ً باقية في قلبه تقاوم عواصف الزمن ،لكن اآلن صار األمل المستحيل واقعًا وبأقسى صور ٍة ممكنة.. آ ٍه يا رحاب ،هل سيأخذ حسام مكاني في قلبك؟ هل ستحادثينه طيلة الليل كما كنت تحادثينني وهل ستشتاقين إليه كشوقك إليَّ ؟ هل ستهاتفينه صباحً ا عند خروجك إلى الجامعة وهل ستعتادين قلقه عندما تتأخرين في العودة منها؟ آ ٍه يا رحاب..
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
زفرات حارة َّ ٌ مزقت نياط قلبه ،ثنى ركبتيه ووضع وجهه بينهما ثم أحاطهم بساعديه وأغمض عينيه ،تذكر ك َّل الكلمات التي يحب أن يسمعها بصوتها الحاني وهي تعيدها عليه مرارً ا دون أن يم َّل تكرارها ،تذكر عندما كانت تفعل شي ًئا يغضبه بعفوي ٍة وبدون قص ٍد منها فينفعل عليها ثم ينهي االتصال فجأة فتعود لًلتصال به بعدما هدأت ثورته وتعتذر كثيرً ا ،تحتمل عصبيته وتحتويها حتى تتغير حالته المزاجية ،وربما أغلق هاتفه حتى الصباح وهو يعلم أنها تحاول االتصال وعندما يحل حزن الصباح تهاتفه وكأ َّنه لم يوبخها وهي التي باتت ليلتها في ٍ وكمد ،قسا عليها كثيرً ا لكنه في نفس الوقت عشقها أكثر مما عاقل أو مجنون ،كل نعيم الحياة ال يساوي لديه شي ًئا يتخيله أي ٍ عندما يسمع صوتها المبحوح عند استيقاظها من النوم وهي تقول "صباح الخير" فتمس كلماتها شغاف قلبه ،تسأله "هو أنا حبيبتك؟" فيجيبها "ال" ،تصمت ألن جوابه جاء صادمًا على عكس المتوقع ،يتركها قلي ًًل في حيرتها وهو يبتسم في نفسه ثم يعود فيقول "إنتي مش حبيبتي بس ،إنتي بنتي اللي كبرت قدام الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
عينيا يوم بعد يوم" ،كان فع ًًل يعتبرها طفلته ،يألم إذا أصابها الزكام ،يود لو أحاطها بجسده فيمنحها الدفء الذي تحتاجه ويعنفها عندما ال تستطيع ابتًلع أقراص الدواء ،يطمئن عند عودتها من الجامعة وهل قامت باستذكار المحاضرات أم ال؟ كان آخر من يحدثها قبل أداء االختبار وأول من يطمئن عليها بعد انتهائه ،كانت ترفض أن يأتيها أح ٌد غيره بنتيجة االختبارات ،أرادت أن يشاركها أفضل اللحظات الممكنة، ماضيها بأكمله كان له أما حاضرها ومستقبلها فيبدو أنَّ القدر كتبهما لرج ٍل غيره..
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
4 خطواته مرتع ٌ شة وكأنَّ األرض التي يسير عليها أصبحت رخو ًة لسب ٍ ب ما ،ساقته قدماه إلى بيتها كما يساق المذنب إلى حجرة اإلعدام ،تدلَّت من فوق المنزل أضوا ٌء مختلفة األلوان، صفراء وبرتقالية وحمراء ،ربما استم َّدت ألوانها من النار التي تستعر في صدره ،ارتجَّ ت جنبات البيت باألغاني الصادحة وتبارت النساء داخله في إطًلق أطول زغرود ٍة ممكنة وكأنها ً سابقة للزغاريد كل واحد ٍة منها تشق قلبه ككًلبيب صارت م من حديد ،وجوه المدعوين تبتسم في وجهه تهنئه بخطبة ً داعية له بقرب عثوره على ابنة الحًلل ،هذه الوجوه صديقه كانت يجب أن تهنئه هو ال أن تهنئ صديقه ،يبتسم لهم ودمعتاه توشكان على التكون ،تداعت أمام عينيه صورة وجهها في كل وزمان رآها فيه ومرَّ ت أمام عقله كل لحظاته معها، مكان ٍ ٍ استرجعت أذناه كل همساتها وضحكاتها وبكائها وحتى قفص حديدي أخذ صمتها ،ضاق صدره وتحولت ضلوعه إلى ٍ ينكمش شي ًئا فشي ًئا حتى أوشكت أن تعتصر قلبه الذي تلوى الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
مذبوح ،تطلَّع في الوجوه من حوله ،تم َّنى أن يضحك ور كعصف ٍ ٍ أحدهم في سخري ٍة مشيرً ا إليه ويخبره بأنَّ ما يحدث مجرَّ د ً ستيقظا من نومه لكن ذلك لم يحدث، بغيض فينتفض م وس ٍ كاب ٍ إنه واقعٌ من الجحيم إذن.. دوى صوت منبهات السيارات وصنع ضجيجً ا صاخبًا حتى توقفت سيارتهما أمام المنزل تمامًا ،هبط حسام من بابها الخلفي مرتديًا ح ً نق لة فضية اللون وقميصًا أبيض ورابطة ع ٍ زهرية اللون ،رفع يديه محييًا المدعوين ثم دار حول السيارة في سرع ٍة وفتح لها الباب ،استقرت أناملها الرقيقة في راحته اليسرى في استسًلم وهي تهبط من السيارة ،من يراها ال يصدق أنها تمت لهذه القرية المتواضعة بصل ٍة بل يشعر أنها أميرةٌ تطل عليه من إحدى القصص الخيالية ،كانت في أوج ً حريريا زهريَّ اللون تم َّدد على جسدها سحرها ،ارتدت فستا ًنا في دع ٍة وفرح ،كان الفستان مستمتعًا بارتدائها له مستم ًدا رقته ٌ انتظام كأ َّنها حبات المع ٌة بًل منها ،تبعثرت على نصفه السفلي ٍ النجوم في أفًلكها ،لم تضع على وجهها من مساحيق التجميل الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
سوى أحمر شفا ٍه زاد شفتيها لهيبًا وتكحَّ لت عيناها فتب َّدلت نظرة عينيها الحزينة إلى نظر ٍة أكثر غموضًا ،لم تتخ َّل عن حجابها الذي دار حول رأسها في حميمي ٍة حاجبًا عن األعين نحرها العاجي ،أمسكت بيمناها ً باقة من الورد أبيض اللون استخدمتها في التلويح لصديقاتها وكأ َّنها تستثير غيرتهنَّ بها فيما تأ َّبطت ذراع حسام بيسراها ،رآها كما لم يرها من قبل، رائعة وفات ً ً نة بكل المقاييس ،كل هذه السنوات كانت تحت بصره وملء سمعه فلماذا لم يرها بهذه الصورة من قبل؟ تج َّسدت أمام عينيه الحكمة الشهيرة ،ال تشعر بقيمة األشياء إال إذا فقدتها.. أما هي فكانت تبتسم للجميع بًل استثناء حتى رأته ،رأت في عينيه أل ًما مكتومًا ال يشعر به سواها ،أدارت رأسها تكمل توزيع سحرها على النسوة الًلئي التففن حولها وقبَّلنها بحرارة ،انتهز لحظة تركها لذراع خطيبها وانشغالها مع صديقاتها فتق َّدم إليه واحتضنه بحرار ٍة وتم َّنى له السعادة مخلصًا فشكره حسام داعيًا له بالعقبى القريبة.. الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
دخلت وخطيبها المنزل وجلسا في منتصف غرفة المعيشة، الغرفة التي طالما شهدت قصائد عشقهما الصامتة كلما التقت عيناهما في األيام الخوالي والتي تشهد اآلن نعي حبهما على أنغام الموسيقى ،خيل إليه أنَّ جدران الغرفة تستنكر وجوده بعدما عجز عن تحويل الحب إلى زواج وتطالبه باالنصراف، تحاشت النظر إليه وتساءلت فيما بينها ،لماذا جاء؟ هل أراد أن يشهد نهاية قصتهما بعينيه أم أراد أن يعذب نفسه ويعذبها معه؟ عندما هجرها بكته وعندما عاد سامحته قبل أن يعتذر بل وأعطته الفرصة من جديد فماذا يريد منها؟ فليذهب ويلقي ً وفية ألبعد مدى ،أجفلت فجأة اللوم على أمه أما هي فقد كانت عندما وضع حسام يده على يدها برق ٍة ناعمة ،نظر في عينيها خجل بمنتهى األمل مستبشرً ا بحياته معها ،تورَّ د خداها في ٍ وسألت نفسها" :ما ذنب هذا الذي يحتوي كفي بيده؟" ،ال تريد بحر من الهدوء أن تخون التزامها تجاهه ،غمست عقلها في ٍ ألقل من ثاني ٍة وج َّددت عهدها الذي قطعته على نفسها ،ستمنح حسام ك َّل ما يفرضه الواجب عليها من احترام ،رفعت رأسها الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
ً روعة فتهلل وجهه أكثر، ناظر ًة إليه ومنحته أكثر ابتساماتها ً حاملة "الشربات" وق َّدمت كأسًا لكل منهما هنا دخلت أمها وأمرتهما أن يسقي كل منهما اآلخر بيده ،إنها اللحظة األكثر إثارة للحرج خًلل الحفل واألكثر إثارة للحديث بعده ،نظر كل خجل يستعطفانها ،ارتفعت ضحكات المدعوين منهما إليها في ٍ وهم ي َّ بحر ألقى بحر من الخجلٍ ، تلذذون برؤيتهما غارقين في ٍ ببعض الرذاذ على وجهيهما ،أخرج حسام منديله وج َّفف حبات العرق التي تكونت على جبهته فيما فعلت بسمة المثل بوجه رحاب ،ارتفعت همهمات المدعوين مشج ً عة لهما ،يبدو أنه شر وال بد منه ،رفع كل منهما الكأس ويده ترتعش حرجً ا وخو ًفا أن ينسكب الشراب من يد أحدهما على ثياب اآلخر وتصير كاية مضح ً ح ً كة طيلة حياتهما ،تعلقت العيون بهما وهما يسقيان بعضهما وكان هو يشرب معهما أيضًا ،يشرب كأسًا من العلقم الخام مذا ًبا فيه جبا ٌل من المرارة ،أمسكت بسمة صندو ًقا صغيرً ا من القطيفة الحمراء على شكل قل ٍ ب وناولته لحسام فوضع الكأس من يده في سرع ٍة منهيًا تلك الفقرة الضاحكة الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
على المدعوين فارتفعت تأوهاتهم الغاضبة ،لم يتسنَّ لهم رؤية "الشربات" مسكوبًا على ثياب أحدهما ،أمسك حسام بأصابعها الرقيقة كي يقلدها خاتم الخطبة ،انساب خنصرها خًلل الخاتم في هدو ٍء وفعلت هي المثل بيد حسام فالتمع الخاتم الفضي في يده يعكس فرحته العارمة ،هنا كان محمد فع ًًل على شفا حفرة ٌ لمسة واحدةٌ ويرقد فيها إلى األبد ،تراجعت نبضات الموت، قلبه وصار عددها دون المع َّدل ،غامت الدنيا أمام عينيه وشعر أنه ال شيء ،تهاوت سنوات عمره السابقة واندثرت في طرفة عين ،ارتجف جسده واشتعلت النيران في جميع أركانه ،أحسَّ أن خاتم الخطبة ال يطوق إصبعها بل يل َّتف حول رقبته ينفذ على بقية حياته حكم اإلعدام ،في أسوأ كوابيسه لم يتخيل أن يم َّسها غيره ،كانت غيرته تبني حولها حصو ًنا المرئية ،يغار أحدا تعرفه ص ً إن حادثت ً دفة في الطريق ويغار إن اضطرت إلى السًلم بيدها على أي قري ٍ ب من أقاربها ،يغار عليها من إنسان حي أو شي ٍء جام ٍد يراها فماذا اآلن وغيره يمسك كل ٍ يدها وتتأبط ذراعه؟ لم يستطع أن يتحمل أكثر من ذلك فأخرج الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
هاتفه المحمول من جيبه وتص َّنع االنشغال به ثم خرج من المنزل ،لم يحدد وجهته لكنها بالتأكيد ليست المنزل فآخر وج ٍه يريد رؤيته اآلن هو وجه أمه.. أوصدت الحياة بابها في وجهه بمنتهى القسوة واإلحكام ،بابٌ قاس هذا أسود سرمدي من فضا ٍء غير ملموس ،كم هو ٍ الشعور ،عندما تضيق عليك األرض بما رحبت فتصبح سج ًنا جدران وبًل أسًلكٍ شائكة ،تشعر أنك وحي ٌد في هذا كبيرً ا بًل ٍ صدر ترتمي فيه لتبكي فًل تجد ،مجبرٌ أن العالم ،تهفو إلى ٍ تقمع براكين األلمب داخلك في صمت ،تنظر لكل شي ٍء حولك تود لو تبثه ه َّمك فتصطدم بجموديته وعجزه عن فهمك ،أعظم الشعراء وأمهر الكتاب ال يستطيعون وصف حالة قلبه اآلن.. هام على وجهه في طرقات القرية هاربًا منها ومن كل ما يربطه بها ،سار إلى محطة القطار واقتطع تذكر ًة إلى المنصورة ،وقف ينتظر واضعًا يديه في جيبي بنطاله ،ت َّ حفز الباعة الجائلون للوثوب داخل القطار رغم أنهم لن يزاحموا الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
الركاب على المقاعد لكن التحفز صار جزءًا من طبيعتهم، على مقرب ٍة منه شاب وفتاة تشابكت يداهما ،كانا على ما يبدو يمنيان نفسيهما بنزه ٍة على ضفاف النيل ليسرَّ ا إليه بأمانيهم، يرسمان على صفحاته الهادئة تفاصيل حياتهم المستقبلية ويجعًلنه شاه ًدا على كل الوعود التي قطعاها على نفسيهما، مال الفتى على أذن رفيقته وسكب على مسامعها كًلمًا دغدغ مشاعرها فاندفعت الدماء إلى وجنتيها وخضَّبتها خج ًًل، وضعت يدها على فمها قبل أن تنطلق ضحكتها الساحرة خشية لفت األنظار إليهما بينما يرقص قلبها طربًا على وقع كلمات الغزل ،ح َّدق الفضوليون فيهما محاولين قراءة الكلمات التي سنة َّ تنساب من شفتيهما ،بجانبهما سيدةٌ م ٌ مطت شفتيها في امتعاض الع ً نة قلة الحياء التي أصابت جيل هذا الزمان.. ٍ في الناحية األخرى على الرصيف المقابل لهما فتاةٌ وحيدةٌ أخذت تراقبهما في شرود ،لم يتبين مًلمحها المبهمة لكنه شعر أنها تحسد تلك الفتاة التي اختارها ذلك الشاب لترافقه في بقية مشوار حياته بينما هي تنتظر ذاك الذي كتبه القدر في الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
صحيفتها ،لعلَّها اآلن تلعن االنتظار ،عيناها مركزتان على العاشقين محاو ً لة اختراق جسديهما إلى مكنون قلبيهما تريد أن تتبين صدق مشاعرهما ،أجفلت مع سماع صوت القطار القادم من بعيد ،مسحت بسبابتها شي ًئا ما من تحت عينيها ،هل كانت تبكي؟ لم يكن باستطاعة محمد أن يرى دمعها يسيل من مكانه هذا لكنه تأكد من ذلك عندما أخرجت م ً نديًل من حقيبتها ،ربما كانت عاش ً قة رحل عنها حبيبها لسب ٍ ب ما أو حال القدر بينهما كما حال بينه وبين رحاب ،حركت رأسها في عفوي ٍة فوقعت عيناها عليه ،التقت عيناهما عبر الطريق الفاصل بينهما ألقل من ثانية كانت كفيل ًة لتدرك أ َّنه ينظر إليها وكا ً فية له حتى يشعر بكم الحزن الذي يحويه صدرها ،ه َّمت بتحريك حاجبيها تساؤ ًال عن سر تحديقه فيها لكن القطار لم يمنحها الفرصة لذلك ،قطع االتصال بينهما وأنهى عتابها الصامت قبل أن يبدأ، ترك الباعة الجائلين يتدافعون قاطعين الطريق أمام الركاب الهابطين منه ثم صعد خلفهم في خطوا ٍ ت بسيطة وعيناه تبحثان عن الفتاة على الناحية األخرى ،لعله أراد أن يسألها في الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
صم ٍ ت عن سبب حزنها ،وقف على الباب المقابل للناحية التي تقف فيها ،ما زالت تنتظر قطارها الذي سيأخذها إلى وجه ٍة عكس وجهته تمامًا رغم هذا الشعور الذي انتابه من نظرة عينيها أن طريقهما يجب أن يكون واح ًدا ،نظر إليها وضاقت حدقتاه كأ َّنه يسألها ما بك؟ لم تخش نظراته ولم تشح عنه بوجهها ،نظرت إليه في شرو ٍد حتى خيل له أنها ال تراه ،بدأ قطاره في التحرك ،رفع حاجبيه كثيرً ا كأنه يلح في السؤال علَّها تجيبه بسرع ٍة قبل أن يرحل ،انفرجت شفتاها وكأنها ستجيب ،تعلم أنه لن يسمعها لكنه حتمًا سيشعر بها ،راب ٌ ط خفي ربط بين عقليهما ،لكنها أدارت ظهرها إليه وابتعدت في االتجاه المعاكس فظ َّل يتتبعها بنظراته ،دوى صوت القطار القادم من االتجاه اآلخر ،القطار الذي ربما تنتظره ،حانت منها ً التفاتة ناحيته تتحرى هل ما زال ينظر إليها أم ال؟ نظرت في ترق ٍ ب إلى القطار القادم الذي أوشك أن يدخل المحطة ،فجأ ًة وبدون تفكير قفزت أمام القطار ووقفت في طريقه ،تناقصت المسافة بينهما بسرع ٍة كبيرة فصرخ محمد م ً حاوال تحذيرها، الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
صرخته جعلت الركاب حوله
ينظرون إليه في تعج ٍ ب
واستنكار ودفعتهم عًلمات الفزع على وجهه للنظر إلى االتجاه الذي ينظر إليه لكنهم لم يروا شي ًئا يستحق صرخته، كل ما رأوه هو القطار المعتاد اآلتي من االتجاه المقابل، جلسوا في أماكنهم يلمزون هذا الفتى األرعن ،كاد أن يصرخ ً ثانية لكن الصرخة تجمدت في حلقه ولم تتجاوز شفتيه ،القطار الذي رآه يقترب بسرع ٍة كبير ٍة منها لم يرتطم بها أو يدهسها بل تخلَّلها ،بدا له جسدها شفا ًفا في هذه اللحظة ،عبر القطار من خًللها وحرَّ ك الهواء الذي صنعه ك َّل شي ٍء فيها ،شعرها والوشاح الذي ل َّفته حول رقبتها وفستانها لكنه لم ينجح في تحريك نظراتها الجامدة التي تسددها نحو محمد ،روي ًدا روي ًدا اتضحت مًلمح الوجه الشاحب ،إ َّنه وجهها بكل تفاصيله ٌ رعشة باردةٌ في جسده، ورقته وبساطته ،وجه رحاب ،سرت هرب من نظراتها وجلس على مقعده بجوار النافذة يلهث من ً فرط االنفعال ،أعاد النظر في رع ٍ ثانية لكنها ب إلى مكانها اختفت.. الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
َّتذكر ما حدث منذ أقل من ساعة ،لم يستطع طرد صورة حسام ممس ًكا بيدها من مخيلته ،حاصرته كما يحاصر الموج طف ًًل غفل عنه أبواه حتى طلب الغوث ال يقدر عليه ،ضغط جانبي ً خيفة منه وظنوا به ك َّل رأسه براحتيه فتوجس الركاب الظنون ،صرخته السابقة وتأوهاته الحالية لم تدع لهم مجا ًال مرض نفسي ،وكعادة الناس للشك أنه مصابٌ بلوث ٍة عقلي ٍة أو ٍ في هذه المواقف لم يحاولوا مساعدته بل ابتعدوا عنه وهو ال ثانية ً ً بدال من مواجهته ،كم يشعر بهم ،ها هو يهرب من الواقع من الزمن سيمكث عند ابن خالته في المنصورة؟ يوم ،أسبوع، شهر؟ حتمًا سيعود مهما طالت مدة هروبه ،صرخت نفسه "ليتني انتهيت في عرض البحر" ،استعاذ باهلل من شر نفسه وقرأ المعوذتين وبعضًا من اآليات واألذكار.. في التاسعة تمامًا وصل أخيرً ا إلى المنصورة ،المدينة التي قضى بها فترة دراسته الجامعية ،ليس له أقارب بها سوى ابن وابنة خالته التي توفيت منذ عشر سنوات بينما لم يمر على وفاة أبيهما أكثر من عامين ،اصط َّفت سيارات األجرة أمام سلم الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
الخروج من المحطة مطل ً قة أصوات منبهاتها جذبًا للقادمين ً خاصة المنهكين واألغراب منهم ،فضَّل المسير وسط شوارع المدينة التي تتثاءب وال تستطيع النعاس ،ربما ألنَّ قهقهات الجالسين في مقاهيها ال تمنحها الهدوء الًلزم أو ربما تريد االطمئنان على هؤالء الذين قصدوها من أجل زيارة طبي ٍ ب شهير لتخفيف أوجاعهم ،اجتاحت رجف ٌة باردةٌ أنحاء جسده ٍ فنفخ في كفيه بقو ٍة محاو ًال دحرها ،إنها رجفة ليل يناير ،تش َّبع الهواء ببخار الماء وتل َّبدت السماء بالغيوم ،سؤا ٌل يلوح بذهن كل من يرى حالتها هذه ،متى ستمطر؟ لم تتأخر إجابة السماء ٌ كثيرً ا ،نثر ٌ واهنة سقطت تختبر استعداد أهل األرض للمطر ات قبل أن ترسل زخاتها تباعًا ،بدأ الباعة الذين يفترشون الطرقات في تغطية بضائعهم وهرول المشاة لًلحتماء بمداخل المباني ،لم يختبئ مثلهم بل ظ َّل يستمتع بكل قطر ٍة تسيل بين منابت شعره وتنزلق على جبهته ورقبته إلى داخل مًلبسه لع َّل المطر يطفئ أوجاعه التي تأجَّ جت وذكرى حسام ورحاب تعود إلى عقله من جديد ،ماذا تراه يحدث اآلن؟ هل هما اآلن في الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
حرج بعد أن رحل المدعوون؟ غرفة المعيشة يتسامران بدون ٍ هل تبتسم في وجهه اآلن وهل يلقي على مسامعها كلمات ً خجًل؟ أسرع في خطواته أكثر وأكثر الغزل فتتورَّ د وجنتاها هربًا من المشاهد التي تًلحق ذهنه فبدا سيره أقرب للعدو حتى وصل إلى المبنى الذي يسكنه ابن خالته ،فتحت له سمر ابنة خالته ،إن كان اسمها يعني الحديث لي ًًل فصوتها العذب ٌ رقيق يستهويك لسماعه صباحً ا ومسا ًء؛ سمراء ،جلدها ومشدو ٌد على وجهها كتلك التماثيل المنحوتة في أروقة المتاحف ،أنفها وفمها دقيقان وكأنهما لطفل ٍة في السادسة من عمرها ،عيناها الهادئتان وجسدها الضئيل يشعران من يراها أسنان ناصع ٍة بشعور األبوة نحوها ،ابتسمت فأبانت عن ٍ بيضاء است َّقت لونها من صفاء قلبها ،سألها عن أحوالها وعن اختبارات نصف العام فأخبرته أنها انتهت منها أمس فقط ثم أشارت إليه بأنَّ أخاها في غرفته الخاصة ينتظره ،مع دخوله سعل بقوة ،دخان السجائر احت َّل الغرفة بصور ٍة رهيبة حتى إنه س َّد الفراغات بين الكتب المبعثرة على مكتب الحديدي ،رحم الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
هللا أباه ،أراده متفر ًدا فأعطاه لقبًا يصلح لعائل ٍة بأكملها ،ذو وشعر زاده الطول وسامة، هيئ ٍة متناسق ٍة ووج ٍه قمحي باس ٍم ٍ تصافحا في قو ٍة ثم فتح محمد النافذة على مصراعيها ليطلق سراح الدخان فبدأ الهواء البارد يحل محله ،استرسًل في الحديث عن أحوالهما في الوقت الذي كانت فيه أصابع الحديدي بين لحظ ٍة وأخرى تجري على لوحة حاسوبه الذي بكثير من كلمات محمد ،حوَّ ل الحديدي وجهه يجلس إليه أسرع ٍ غموض شدي ٍد امتزج بابتسامته إلى ابن خالته وقال في ٍ الواسعة: روق يا حج ،أوعدك بكام يوم معشتهمش وال هتعيشهم تانيطول حياتك..
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
الفصلُُالسابعُ
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
1 د َّقت الساعة السادسة إعًل ًنا عن انتهاء فترة العمل الصباحية في مصنع المًلبس فبدأت العامًلت في لملمة حاجياتهنَّ الخاصة استعدا ًدا لًلنصراف وتوافد العاملون الذكور على المشغل لبدء فترتهم المسائية ،أتوا منهكين تفوح من أجسادهم رائحة العرق الذي جفَّ على أجسادهم من أثر أعمالهم في أماكن أخرى منذ الصباح ،بعضهم أخذ في تدخين سجائره بشراهة وانشغل اآلخرون في الثرثرة مع العامًلت ً ورجاال المنصرفات ،كانت الفترة االنتقالية بالنسبة لهم -نسا ًء تفريغ لشحنات الكًلم التي مألتهم بها المواقف على بمثابةٍ مدار اليوم ،لم يلتفتوا إلى عاملة النظافة التي تؤدي عملها في آلي ٍة اعتادوها منها ،وجهها جام ٌد فيما قلبها يغلي من الثورة، أيام مع أخبرها محمد منذ ٍ قليل عبر الهاتف أ َّنه سيقضي عدة ٍ ابن خالته في المنصورة والسبب المبهم الذي لم يصرح به هو رحاب ،كم تمقتها بقدر حب ابنها ،تمقتها أل َّنها أح َّست أن حبها صار في قلبه أقوى من أي شي ٍء في الكون لدرج ٍة دفعته الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
للرحيل عن أمه عندما رفضتها وهي ليست على استعدا ٍد ألن ً ثانية حتى لو على حساب سعادته هو ،كل من يعرفها تخسره لم يصدق أب ًدا صنيعها مع ابنها ،قسوتها عليه وعدم تفهمها لمشاعره تجاه رفيقة قلبه ولم يجدوا تفسيرً ا لهذا التغير في شخصيتها ،هل تط َّبعت رغمًا عنها بطباع زوجها القاسية على مدار السنوات التي عاشتها معه؟ هل كان لنشئتها في كنف أبيها المسافر على الدوام لظروف عمله وزوجته التي تزوجها بعدما ماتت أمها يوم والدتها فلم تذق حنا ًنا في أكثر األوقات احتياجً ا إليه؟ هل كان لذلك كله أثرٌ في تحول قلبها تجاه ابنها؟ ال أحد يدري.. انتهت من عملها وانطلقت تحث خطاها وسط الزحام ،لم تتأثر تعبيرات وجهها المتغضن بصوت منبهات السيارات التي زمجرت في أذنيها وكأنها أصيبت بالصمم فما يدور برأسها بكثير ً جدا من غضب هؤالء الذين يقطعون الطرقات أهم ٍ بسياراتهم ومشاكلهم السخيفة ،خطر ببالها خاط ٌر ما فب َّدلت طريقها في اتجاه المتجر الذي تعمل فيه هند ،بادرها الحاج الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
حسن بالتحية وتساءل عن سر حضورها بعد انصراف هند، أخبرته كذبًا أنها انتظرت ابنتها كثيرً ا عند مكان تجمع ً خاصة أنها سبق وأخبرتها أن ميعاد السيارات لكنها لم تأت انصرافها من المحل قد تغير للسادسة ،نفى الرجل تمامًا زيادة فترة العمل ولو لخمسة دقائق إضافية وأخبرها أنَّ هند انصرفت مع سماح في تمام الخامسة ،استأذنته أن يصف لها الطريق إلى منزل سماح ،نادى الحاج حسن أحد الصبية من الورشة المقابلة ووصف له طري ًقا ما ثم أمره أن يقود السيدة خًلله ،شكرته وسارت خلف الصبي وصدرها يفيض بغض ٍ ب ووعي ٍد ال حدود لهما ،أشار الصبي إلى المنزل المنشود فاقتربت منه وطرقت بابه بقوة ،فتحت سماح وهي تضع شي ًئا على رأسها لتغطي به شعرها المكشوف ،ارتاعت عند رؤية أم صديقتها ،اتسعت عيناها حتى أقصاهما واحتبست الكلمات في فمها وأفلتت يدها المرتعشة غطاء رأسها فسقط على األرض، رد الفعل هذا فجَّ ر هواجس أحًلم وشكوكها ألف مرة وأك َّد لها أنَّ ثمة أمرً ا ً جلًل على وشك أن يتك َّشف أمامها ،دفعت سماح الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
بعي ًدا عن طريقها بمنتهى القوة واندفعت إلى الداخل بدون حر ٍ ف واح ٍد ،لم تأبه للعجوز الجالسة القرفصاء في وسط غرفة المعيشة والتي أخذت تصرخ وهي ال تعلم من تكون هذه جنون ً بحثا المرأة التي اقتحمت بيتها وأخذت تفتح ك َّل األبواب ب ٍ ً عن ابنتها ،سمعت تأوها ٍ خافتة تأتي من خلف الباب الوحيد ت المغلق ،نظرت في سرع ٍة خاطف ٍة ناحية سماح التي أوشكت على االنهيار وأم وليد التي تجاهد جسدها الضخم حتى تمنع أحًلم من فتح الباب التي َّ دق قلبها بعنفٍ كطبول الحرب في حومات القتال ،اقتحمت الغرفة بعنف فاحتبست التأوهات في ً عارية كيوم ولدتها أمها التي تراها اآلن ووليد حلق هند ،كانت رجل وامرأته ،تج َّمدت ضع فج ال يكون سوى بين ٍ يعلوها في و ٍ مثال من الشمع وتوقف كل شي ٍء في أحًلم في مكانها كت ٍ جسدهاعن العمل من هول الموقف ،وحده قلبها الذي لم يتوقف بل على العكس تمامًا أخذ يضخ الدماء بصور ٍة أسرع لمعادلة تلك البرودة التي أصابت ك َّل خلي ٍة في جسدها بالشلل ،ارتفع ضغط الدم في عروقها وانفجرت الشعيرات الدموية في أنفها، الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
َّ تركزت نظراتها لم يبد أنها تأثرت بالرعاف الذي أصابها، التي تحرك الصخر على عيني هند الزائغتين ،احمرَّ ت عينا األم كجمرتين من جه َّنم وابيضَّ جسد االبنة الغض كأجساد الموتى بعدما ماتت كل كريات الدم الحمراء فيه من الرعب.. أطبق سكونٌ رهيبٌ على المكان وبدا المشهد أقرب للصورة الفوتوغرافية منه للحياة حتى إنَّ الستائر المعلَّقة على النافذة كسرت قانون الطبيعة في هذه اللحظة ووقفت في وجه الهواء المتسلل من الزجاج المفتوح احترامًا لهذا الموقف الجلل ،قطع وليد ثبات المشهد ونهض من الفراش ،أحاط خصره بمنشف ٍة ليواري سوأته فيما نهضت هي من نومتها ولملمت غطاء السرير لتحجب عورتها ،انكمشت إلى الوراء والتصقت بحاجز السرير لتحتمي به من إعصار أمها الهادر المنتظر، تم َّنت لو أنَّ األرض ابتلعتها اآلن أو أنها حتى ما وجدت في هذه الحياة ،تحوَّ ل وجهها إلى أسفل في خزيٍ وسوَّ ده العار الذي جلبته ألمها قبل أن تجلبه لنفسها.. الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
اتجهت أم وليد إلى أحًلم في قمة التبجح مستنكر ًة اقتحامها لمنزلهم بهذه الصورة ،لم تكتف بهذا بل هوت بالصاعقة الكبرى على رأس أحًلم وأخبرتها أن وليد متزوج بهند عرف ًيا ،لم يكن من الطبيعي أب ًدا أن يتحمل عقلها البشري هذه الصواعق المتتابعة فخرَّ ت مغش ًيا عليها ،ارتطم وجهها باألرض وانكسرت إحدى أسنانها األمامية ،عندما أفاقت وجدت نفسها مم َّدد ًة على نفس السرير الذي اقترفت فوقه ابنتها جريمتها ملو ً ثة شرف أسرتها بالدنس ،قفزت بصور ٍة ال تتناسب ً أبدا مع سنها وإعيائها من عليه في تقز ٍز شديد ،كانت ً رتدية كامل مًلبسها فنظرت إليها أمها نظر ًة هند تقف أمامها م فيها مقت الدنيا كلهاَّ ، تنخمت أحًلم ثم بصقت في وجه ابنتها وابل من اللعنات ولطمتها عليه ،تتابعت اللطمات واللكمات مع ٍ ً دمعة واحدة ،بم تفيد الدموع اآلن والشتائم لكنَّ هن ًدا لم تذرف أمام هذا الجحيم الذي انفتح على مصراعيه؟ توقفت أحًلم عن الضرب ثم جذبت ابنتها من يدها في صم ٍ ت وخرجت بها تحت نظري سماح وأمها. الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
2 ً حلقة ألحد المسلسًلت المدبلجة جلست هي وابنتها تتابعان قليل في منزلهما ليس بذي أهمي ٍة على وكأنَّ ما حدث منذ ٍ اإلطًلق لكلتيهما ،حتى وليد عندما خرج من غرفته طلب من أمه ً ماال فأشارت دون أن تتكلم إلى جوار التلفاز فأخذ النقود كلها ولم يترك شي ًئا ثم خرج من المنزل ،أشعل إحدى سجائره ً بصديق له وأخبره أنه قاد ٌم في اتصاال رخيصة الثمن ثم أجرى ٍ الحال ،الطريق الذي يسير فيه لم يعد مع َّب ًدا بعد أن تجاهله المارة منذ أم ٍد بعي ٍد ،الرائحة القذرة خنقت الهواء المحيط لكنها يوان ناف ٍق لم تخنق رئتيه اللتين تعودتاه ،داست قدماه جثة ح ٍ جاج فوثب بسرع ٍة إلى األمام فتهشمت تحت قدميه بقايا ز ٍ مكسور ،نبحت عدة كًل ٍ حذر ب في اتجاهه ثم اقتربت منه في ٍ وتش َّممته ،تمتم لها بكلما ٍ ت ما فرقدت في مكانها بعد أن ميزت صوته وأطاعت سيدها المهيب ،أخيرً ا الحت له المملكة ،عربة طار تم إحالتها إلى التقاعد في المحطة القديمة المهجورة ،لو ق ٍ كان لها وصفٌ أدق لسميت مملكة الظًلم والدخان ،وضع الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
مرتادوها قطعًا من القماش والكرتون المقوى على جميع أبوابها ونوافذها حتى مدخلها الخلفي الذي يدخلون منه وتش َّبع هواؤها بالكامل بأدخنة مخدرات الحشيش والبانجو ،األعمدة المعدنية الصماء وما تبقى من المقاعد الخشبية تشاطرهم أنفاسهم ،الضوء الوحيد الذي يتمرد على قوانين الظًلم تلك هو ً حاملة نزق لعاب كل ضوء لفافات السجائر التي تدور بينهم منهم إلى فم اآلخر ،صمتهم يدوم ما دامت اللفافة مشتعلة تقديسًا لمراسم التعاطي ،قام جًلل بتشغيل إحدى األغاني ً نشازا اختلط بعدة كلما ٍ ت سوقي ٍة الشعبية من هاتفه ،كانت لح ًنا منحطة لكنها على ما يبدو أشعلت فتيل إثارته فأخذ يتمايل ويرقص بنصف جسده العلوي جالسً ا في مكانه لكن يد وليد امتدت إلى الهاتف لتطفئ إثارة جًلل فنظر إليه صديقاه في دهشةً ، فعليا هما ال يريانه لكن العجيب أنه شعر بنظرتيهما فأدار وجهه في االتجاه اآلخر ونفث دخان سيجارته ،خرج السؤال من فم متولي بطي ًئا ً ثقيًل كأ َّنه عجو ٌز أصاب الشلل لسانه: الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
مالك يا صاحبي؟..أفرد وليد إحدى قطع الكرتون ثم تم َّدد فوقها ،وضع يديه إلى جواره ملتص ً قة بجسده كجث ٍة تنتظر التكفين ،تنحنح جًلل وتن َّخم ثم بصق إلى جواره وكرَّ ر سؤال متولي: مالك يا ليدو؟..لم يكن متولي على استعدا ٍد لمعاودة سؤاله مرا ٍ ت أخرى فركل قدم وليد بقدمه اليمنى ثم صرخ فيه: متنطق يا زفت!.. البت هند..في لحظ ٍة واحد ٍة تقريبًا انطلق صوتا جًلل ومتولي في حير ٍة وفضول: مالها؟.. أمها شافتني أنا وهي النهاردة عندنا في البيت..الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
سعل متولي سعا ًال جا ًفا ،ناول لفافة البانجو لجًلل في تلقائية ثم قال بصو ٍ ت خفيض وكأنما يحدث نفسه: كنت عارف إن ده هيحصل ،والعمل دلوقتي؟ هتعمل إيه؟..أتى صوت جًلل بار ًدا وهو يقول: إنت مزعل نفسك أوي كدا ليه؟ هي دي أول مرة تخلىبواحدة؟ اقلبها وفكك يا معلم وشوف نفسك.. استنكر متولي كلمات صديقه ،وقال: يقلبها إزاي يا جلجل؟ دي بنت ناس مش بنت كلب يا عم..احت َّد جًلل ً قائًل: إييييه يا عم؟ هتعملنا فيها شيخ ولًل إيه؟ محنا ياما نهشنا لحمطري ورميناه عضم ناشف عالسكك ،ولًل نسيت؟.. تجاهل متولي جًلل هذه المرة ثم وجَّ ه حديثه إلى وليد: اتجوزها يا ليدو ،وكويس إن مفيش حد قبلك لمسها..الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
أتجوز مين يا ميتو؟ إنت اتجننت؟ إحنا من إمتى فكرنانتجوز واحدة دقناها ولًل حتى مشينا معاها؟ إحنا نمشي مع ألف واحدة وندوق ألف واحدة تانية بس لما نيجي نتجوز تبقى واحدة مش من األلفين دول خالص ،واحدة لسه بكيستها، الدبان نفسه محطش عليها.. يعني ناوي تعمل إيه؟.. مش عارف ،بس األكيد الزم أخلص منها قبل ما أخوهايعرف ،علشان لو عرف هتحصل مشاكل كبيرة.. ألقى متولي لفافته على األرض ثم سحقها بقدمه بقوة ،إن كان زمن بعي ٍد فإن ضميره ما زال في ضميرا جًلل ووليد ماتا منذ ٍ طور االحتضار ينازع سكرات الموت وهو ال يريده أن يموت دون إعطائه قبلة الحياة ،فقال: طب مانت اللي فاكك كيستها ومسويها بإيدك يا ليدو وإنتعارف إن محدش قبلك لمسها ،متتجوزها يا عم وإبقى طلقها بعدين ،وأهو تبقى ريحت ضميرك ومرميتش البت.. الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
تاني أتجوزها؟ أتجوز مين يا متولي ،أتجوز مين؟ إنتاتجننت ولًل إيه؟ دي واحدة باعت جسمها.. صرخ متولي فتجاوز صوته حدود المملكة وهو يقول: هي باعته بفلوس؟ دي حبتك إنت ،وبعدين دي لسه عيلهوإنت اللي ضحكت عليها.. العيلة والغبية تاخد فوق دماغها ،إحنا في زمن مفيهوشمكان لألغبيا ،علشان كدا البت دي الزم تموت.. كقاض أصدر حكم إعدا ٍم سريع التنفيذ ثم نهض من مكانه قالها ٍ وغادر المملكة دون أي حرفٍ إضافي وعندما عاد إلى المنزل أخبر أ َّمه بالحكم الذي أصدره سل ًفا: أما ،البت دي الزم تموت ،مش عايزين مشاكل..بمنتهى البرود أجابه الشيطان على لسان أمه وكأن ما يقوله ابنها شيء عادي ومنطقي: خًلص سيبلي الموضوع ده وأنا هتصرف..الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
الفصُلُُالثامن ُ
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
1 ش َّد الهواء البارد وجهيهما وتب َّدت لهما أنفاسهما الحارة التي اختلطت بعوادم السيارات السائرة بجوارهما ،سارا إلى ٌ ٌ فارهة تصدح منها سيارات المنطقة التي يقع فيها النادي، ٌ األغاني بصو ٍ ت مرتفع، فتيات يرتدين مًلبس زادت أنوثتهنَّ توهجً ا بصور ٍة أغرت الشباب المتسكع حول النادي فأطلقوا صافرات اإلعجاب وألقوا على آذانهنَّ كلمات الغزل غير العفيف ،نسا ٌء يسرن بجوار أزواجهن ويتزين بأثمن الحلي يكاد محمد والحديدي أن يشت َّما روائح عطورهنَّ النفاذة من مكانهما هذا ،أشعل الحديدي سيجارته الرابعة منذ خروجهما ثم راقب تعبيرات وجه محمد الذى لم يتأثر بأي شيء يراه أمامه، فبغض النظر عن اعتياده هذه المظاهر إبان دراسته بالجامعة فإنَّ ما يعتمل بقلبه يمنعه من التأثر بها ،ابتسم الحديدي ولكز محمد بمرفقه وغمز بإحدى عينيه سائ ًًل إياه عن رأيه فيما ضيق شديد: يرى فأجاب محمد في ٍ الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
رأيي في إيه يا حديدي؟ إنت جايبني علشان نتفرج عالبنات؟هو إحنا لسه عيال؟ وبعدين منتا عارف إن الكًلم دا مش في دماغي.. اتسعت ابتسامة الحديدي أكثر وأكثر ثم جذب محمد من ذراعه وسارا بمحاذاة النيل في اتجاه الكوبري الحديدي الذي يربط بين ض َّفتيه ،مرَّ ا على بائعة الترمس التي أخذت تحضهما على شرائه ،اقتربت منهما طفل ٌة سمراء في السابعة من عمرها ً حافية على الرصيف البارد ،نحيف ٌة يكاد بنطالها تقريبًا تسير يسقط وهي تجره ً جرا ،لها شعرٌ مج َّعد يحاول ال َّتمرد على قطعة القماش التى ق َّيدته بها ،جذبت طرف قميص محمد في استعطافٍ حتى يبتاع منها علبة مناديل ،أعطاها الحديدي جنيهًا دون أن يأخذ منها شي ًئا في المقابل فرحلت عنهما سعيد ًة بالغنيمة التي حازتها دون أن تخسر في المقابل جزءًا من رأس مالها..
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
على امتداد بصريهما تراصَّ العاشقون يتأملون صفحة النيل الهادئة ،دفء قلوبهم يسري عنهم برودة الجو ويمرق الوقت عليهم فًل يشعرون به ،ال يقطع عليهم لحظاتهم الحالمة إال بائعو الفل ،يصدرون الحرج للفتيان أمام فتياتهم فيجبرونهم على الشراء ،دعوتهم المعتادة ومفتاح رزقهم "ربنا يخليهالك يا بيه وال يحرمك منها أب ًدا" ،دعوةٌ يؤمن عليها الشاب في غيظٍ وهو يدس يده في جيبه ليخرج لهذا اللعين جنيهًا أو أكثر.. سبحت عينا محمد في مياه النهر وغرق في همومه من جديد، لطالما تخيَّل نفسه هنا مع رحاب ،يتأمل معها صورة القمر الراقصة على صفحة الماء ،يسترجعان ذكرى أحاديثهما ٌ الهاتفية ويضحكان ملء قلبيهما ،تكونت دمع ٌ ملتهبة في ات عينيه فمحاها بطرف أصابعه قبل أن تسيل على وجهه مخافة أن يفطن إليها الحديدي..
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
ٌ أربعينية كاش ً انتهيا إلى الكوبري أخيرً ا ،تمددت تحته امرأةٌ فة عن قدمها المبتورة حتى تستدرَّ بها عطف المارة ،تتسول بإلحاح وتكرر دعوا ٍ ت تحفظها عن ظهر قلب ،تتباين كل دعو ٍة ٍ على حسب الشخص المار أمامها ،فالطالب الذي يحمل أوراقه تدعو له بالنجاح والفتاة التي بلغت سن رشدها تدعو لها بالزواج من شاب يجعل عيشها رغ ًدا واألم التي تصطحب أوالدها تدعو لها بطول العمر حتى ترى أحفاد أحفادها وهل َّم جرَّ ا ،إلى جوارها رقد طفًلها نائمين دون غطا ٍء يدفع عنهما مخالب البرد القارس ،مشه ٌد وخز قلب الحديدي بشدة ،أشاح ً عجزا وشفقة ال نفورً ا وكبرً ا ،وضع ما استطاع بوجهه عنهما في يدها ومضى دون أن يلتفت إليها ،كان يحمل في صدره قلبًا رقي ًقا ال يتناسب مع شراهته في التدخين وال مع ابتسامته التي تعطي انطباعًا لكل من يراه بأنه ال يكترث ألي شي ٍء في هذه الدنيا.. بدأت المدينة تهدأ أكثر إال من حركة الدراجات البخارية التي نشطت في هذا الوقت بصور ٍة كبيرة ،عمال التوصيل يحملون الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
إما دوا ًء لمريض أو طعامًا لجائع ،تًلقت ذرات بخار الماء فيما بينها وتًلحمت بان ً ية جدارً ا عزلت به العيون عن منتهى البصر ،أعمدة اإلنارة لم تستطع تبديد الضباب فنصفها مكسور ً ونصفها اآلخر ال يعمل بكل طاقته ،ركل الحديدي ع ً فارغة لبة لمشرو ٍ ب غازى شهير فأفزعت القطط المتجمعة حول صندوق القمامة ،رائحة العطن التي تفوح من القمامة حول الصندوق المعدني لم تفسد عليها لذة وجبة السمك الفاسدة ،تسمرَّ ت وأضاءت عيونها بقو ٍة ناظر ًة إلى الحديدي في تحفز ،يرقد على الناحية األخرى من الصندوق رج ٌل عجو ٌز أصلع نمت ً بالية وقفازين من الصوف كبير ،يرتدي خر ًقا بشكل لحيته ٍ ٍ َّ ٌ نابتة منهما ،وضع غطيا راحتيه فقط فيما بدت أصابعه وكأنها على ركبتيه جوا ًال من الخيش الخشن محاو ًال منع تيارات ٌ قطة صغيرة الهواء من التسلل إلى عظامه ،بين قدميه سكنت ج ًدا لم تستطع على ما يبدو مناحرة القطط الكبيرة للظفر بشيء خبز من وجبة السمك الفاسدة فلجأت إليه ،رمى إليها بكسرة ٍ تش َّممتها ثم الكتها في سرع ٍة ورفعت رأسها إليه طال ً بة المزيد الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
فأشار إليها بيديه الخاليتين في أسف ،هل يعتقد أنها ستفهمه؟ الغريب أنها أحنت رأسها في تفهم ،مسحت رأسها في باطن حذائه وأخذت تلعقه باح ً ثة بين ثناياه عن أي شيء يسد جوعها لكنها لم تجد فعادت إلى كنفه خائبة المسعى واستسلمت للنوم.. طفرت عينا الحديدي بالدموع ،تذكر أبويه الراحلين ،أمه التي بعام واحد فقام األب بدورها إلى جانب رحلت بعد والدة أخته ٍ دوره حتى لحق بزوجته عند خالقهما وتركه هو وأخته يجابهان الحياة وحدهما ،تخرَّ ج منذ عامين من كلية الهندسة وق َّدم أوراقه مرارً ا للعمل بنفس المصنع الذي عمل فيه أبوه كعامل ألكثر من ثًلثين عا ًما ،األولوية لمثله من أبناء العاملين ٍ لكن حتى اآلن لم يصدر القرار بتعيينه ،استأثر أبناء العاملين باإلدارة العليا بكل الوظائف المتاحة ولم يتركوا شي ًئا ألبناء العمال ،لم تشفع له شهادته الجامعية وتقديره الجيد لدى القائمين على المصنع ،الشفاعة في هذه األيام للوساطة وليس للمؤهل أو الخبرة ،نظر إلى الطريق المظلم أمامه ورأى األمل يرتجف في برودة الليل ،ما حدث في األيام الثًلثة الماضية الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
أخرج األمل من تابوته مرتقبًا قبلة الحياة فهل تراه يعود ح ًيا أم يدفن إلى األبد؟.. عادا إلى المنزل فوجدا سمر في انتظارهما ً قلقة كعادتها على بأمان إال ودخان سجائره يعبئ المكان ،تعشقه أخيها ،ال تشعر ٍ لدرج ٍة أبعد من حب األخت ألخيها ،تعتبره األبَّ الذي لم تهنأ فق على عدم به واألم التي رحلت ولم تحن عليها ،عاتبها في ر ٍ نومها حتى اآلن ،ذهبت لتشاهد التلفاز في غرفتها وذهبا إلى غرفتيهما لتبديل مًلبسهما ،ارتمى مح َّمد على السرير محاو ًال النوم ،أشعل الحديدي إحدى سجائره ثم جلس أمام شاشة حاسوبه يتابع األخبار التي تتوالى في سرع ٍة على مواقع التواصل االجتماعي ،انتهى من جلسته وذهب إلى غرفة أخته، َّ عميق فيما التلفاز ال يزال يعمل ،ف َّكك أصابعها نوم ٍ غطت في ٍ المتجمدة حول أداة التحكم عن بعد -الريموت كنترول -ثم وضع على جسدها غطا ًء ثقي ًًل ،جلس إلى جوارها وتأ َّمل وجهها الطفولي البريء مداعبًا شعرها المتهدل ،أمسك بيديها محاو ًال تدفئتهما ثم طبع ً قبلة على جبينها َّ بث فيها ك َّل حبه الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
وحنانه ،اطمأنَّ إلى أنَّ الدفء بدأ يسري في أوصالها فأغلق عليها الباب وعاد إلى غرفته.. نام جسده لكن عقله لم يذق طعم النعاس ،أحًلمه الوردية تأبى االكتمال حتى ال تصدمها قسوة المستقبل ويبقى الزمن هو الفيصل الوحيد بين المأمول والمكتوب ،استفاق وأ َّدى صًلة ً ثانية ،الكلمات على مواقع الفجر ثم جلس إلى حاسوبه التواصل االجتماعي تتضاعف ك َّل لحظ ٍة آالف المرات، ٌ ٌ وتنبيهات قرأها في تمعن ،ه َّم بإشعال إحدى سجائره تحذيرات لكنه نظر إلى وجه محمد النائم على السرير المقابل ،الدخان حتمًا سيخنقه ،صعد إلى سطح البناية ،تابع شروق الشمس في ترق ٍ ب ث َّم نظر إلى علبة سجائره في سخرية ،تعجَّ ب من تلك الملعونة الصغيرة التي أدمن دخانها الذي يحرق عظامه في الداخل ،أفرغ ك َّل ما تحويه العلبة على األرض ثم فرمها بقدميه بصور ٍة بعثرت أحشاءها من التبغ في جريم ٍة مروع ٍة سيقاضيه بسببها كل المدخنين في هذا الكوكب ،أراد لهذا اليوم بشكل جيد ،نظر إلى السحب التي أن يكون مختل ًفا وأن يبدأه ٍ
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
تتهادى فوقه وتمر أمام الشمس كغًلل ٍة شفافة ،سربٌ من الطير اختفى خلفها للحظا ٍ ت ثم عاد للظهور في مشه ٍد هادئ ،قائد السرب يستشكف األرض التي يحلقون فوقها وهم يسيرون خلفه في طاع ٍة عمياء ث ً قة في خبرته ،في المقابل ترك لهم حرية تشكيل السرب على النحو الذي يريدون ،تار ًة يأخذ وس يقوده هو وتار ًة يكون شك ًًل مثلث ًيا يترأسه، السرب شكل ق ٍ تختلف أفكار ورؤى كل فر ٍد في السرب لكن دومًا الهدف عمل في واح ٌد ،الطعام ،المحرك الرئيسي والدافع الفطري ألي ٍ هذه الدنياَّ ، حط القائد على سطح إحدى البنايات فتبعوه ببساطة تتابع منظم.. في ٍ دار الحديدي بعينيه في أسطح البيوت والمباني التي تناثرت فوقها أطباق االستقبال وأبراج الحمام وأخشابٌ قديمة وأجهزةٌ مستهلكة في فوضى رهيبة ،اختلفت ارتفاعات المنازل وألوانها ً ً غاية في الغموض ،تخفي لوحة لكنها رسمت مع بعضها ً آوية داخلها أسرارً ا وحكايا ال تكفيها كل أوراق وأقًلم الدنيا ً جائعة وأنفسًا خائفة وأجسا ًدا مريضة وربما بداخلها أفواهًا الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
ً ثانية إلى البيت ليجد سمر حان الوقت لتغيير هذا الواقع ،هبط تنتظره كعادتها ،نظرت إليه نظرة استغراب بعدما لم تلمح في يديه علبة السجائر وبد ًال من أن تسأله ألقت بنفسها بين ذراعيه فاحتوى جسدها الضئيل بكل جوارحه ،رفعت إليه عينيها الدامعتين ووجهت إليه نظر ًة تحمل ك َّل معاني االستعطاف والرجاء ث َّم استحلفته أال يخرج اليوم ،لم يبق لها في هذه الدنيا سواه وهي ال تريد أن تفقده كما فقدت أبويها ،لم يجبها بحرفٍ واح ٍد بل ض َّمها في قو ٍة أكثر كأنه يطمئنها ،يعلم حجم الخوف الذي يجتاحها وال يعلم كيف السبيل إليقافه ،لم يكن األمر -من وجهة نظره -يستدعي كل هذا القلق ،بدأت دموعها في السريان فمسحها بإبهاميه ،لم تكن يداه تحمًلن رائحة التبغ المحروق كالمعتاد ،طلب منها تجهيز طعام اإلفطار قبل ً محمدا نائمًا النزول ألداء صًلة الجمعة ثم دخل غرفته فوجد على ظهره شار ًدا موجهًا نظره إلى السقف فقال في سخرية: صباح الخير يا حاج ،إيه؟ فيه حاجه في السقف عاجباك؟قوم يلًل علشان نفطر وننزل نصلي.. الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
لم يجبه محمد وذكرى الليلة الماضية تتكرَّ ر أمامه بكل تفاصيلها المريرة ،تململ ً قليًل قبل أن ينهض من فراشه ثم ذهب لًلغتسال ،أغلق الحديدي الغرفة عليه من الداخل ثم أجرى اتصا ًال هاتف ًيا ،سمعته سمر من خلف الباب يحتد على الطرف اآلخر وعندما خرج كانت أمارات الغضب محفور ًة في قسمات وجهه ،تناولوا الطعام جميعًا في صم ٍ ت تام كأنما على رؤوسهم الطير فبرأس كل منهم ما يشغله عن محاولة إثارة الحديث.. ه َّما بالخروج للصًلة لكن سمر جذبت أخاها من ذراعه واستوقفته ،احتضنته ثم نظرت في عينيه نظرة رجا ٍء أخير، ً ابتسامة حانية ثم خرج مغل ًقا تركها تفرغ انفعاالتها وابتسم لها الباب عليها من الخارج بمفتاحه الخاص ،في الشارع كان الجو ٌ ً نسمات من الهواء البارد تهب ك َّل فتر ٍة ما وتختلط صحوا، بآيات القرآن التي ترتفع من مكبرات الصوت فتصنعان مزيجً ا ً رجفة لذيذة ،الشوارع شبه خالي ٍة من يبعث في األجساد السيارات فيما المارة يحملون على أكتافهم سجادات الصًلة الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
شاغر داخل المسجد أو بغية مكان الصغيرة تحسبًا لعدم وجود ٍ ٍ الجلوس في الخارج تلمسًا لدفء الشمس ،خلعا حذاءيهما وعبرا باب المسجد ،استشعر محمد شي ًئا غريبًا في عيون الشباب الذين امتألت بهم جنبات المسجد ،أ َّديا صًلة تحية المسجد وارتكن الحديدي بظهره إلى أحد األعمدة فيما جلس جًلل محمد القرفصاء إلى جواره ،ارتفع صوت األذان ب ٍ فانخفضت الرؤوس في خشوع ،ارتقى الخطيب المنبر وبدأ في إلقاء خطب ٍة َّ حث فيها الجميع على العمل من أجل رفعة الوطن ووحدته وحذرَّ هم من االنسياق وراء دعاوى التفرق ،ارتسمت ٌ ابتسامات ساخرةٌ على وجوه الشباب لكنهم ظلوا على صمتهم كل يعتمل بقلبه وعقله ما يعتمل ،بعدما انتهت الصًلة مباشر ًة قام الحديدي سريعًا إلى حذائه فتبعه محمد في آلي ٍة ثم وقف ينظر للجموع الغفيرة التي تخرج من المسجد كأنما تتكاثر بداخله وتلتحم بالحشود األخرى التي قدمت من المساجد القريبة ،ش َّد الحديدي ظهره في اعتدا ٍد وقال لمحمد في صرامة: الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
دايمًا خلي عينك عليا ،أنا مش هبقى مركز معاك ،لو حصلحاجه متفكرش فيا وروح البيت على طول.. اندفع الحديدي وسط الحشود قبل أن يسأله محم ٌد عن ماهية الحدث ثم رفعه أحد الشبان على كتفيه ،صوته الجهوري أشعل الحماسة في الحشود فانطلقت حناجرهم تردد هتافه الصادم: "الشعب يريد إسقاط النظام" ،زئيرٌ ولد من رحم الخنوع ممز ًقا مشيمة الجمود فارتجَّ ت بصداه جنبات المدينة ،ح َّل الغضب محل الدم في عروق الشبان ،مظاهراتهم يوم الثًلثاء الماضي ضت مضجع النظام الحاكم ،غضب ٌة في وجه الظلم والفساد أق َّ والقهر والقمع وهب ٌَّة من أجل إيجاد ما يسد رمق الجوعى في الشوارع وثورةٌ من أجل تحرير األفكار في العقول والمعتقلين من السجون وانتفاض ٌة من أجل عدال ٍة هي مل ٌ ك لهم لكنَّ القوانين الجائرة صادرتها وألقت بها في غياهب النسيان حتى أصبحت العدالة تر ًفا ال يحوزه سوى علية القوم دون غيرهم مز للنظام الحاكم أسقطوه من المظلومين الفقراء ،كلما مروا بر ٍ حتى وصلوا إلى مقر أمانة الحزب الوطني ،المكان الفعلي الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
الذي تنهب من خًلله مقدرات المحافظة ،لم تكن في صدورهم ً محاطا بأي تلك الرهبة المعتادة تجاهه ،الغريب أنه لم يكن نوع من أنواع الحراسة حتى أبوابه المغلقة فتحت أمامهم ٍ بسهول ٍة أكثر من المتوقع ،بدا أنَّ النظام الحاكم ضحى به من أجل أن يفرغ هؤالء الشباب شحنات غضبهم فيه لك َّنه لم يضع عال في حسبانه أنَّ هذه الشحنات لم تكن لتفنى بمجرد اشت ٍ ثير مما تخيل أي للنيران في مبنىً جام ٍد فالغضب أعتى بك ٍ كن من أركان النظام ،وصلت الجموع إلى مبنى المحافظة ر ٍ حيث يختلف الموقف تمامًا في ظل تواج ٍد أمني م َّ كثف ،رت ٌل من العربات المصفحة أحاط بالمبنى واعتلتهم جنو ٌد لوَّ حوا بأسلحتهم في غطرس ٍة واضحة ،اصطفَّ عساكر األمن المركزي بطول جانبي الشارع المؤدي إلى المبنى متحصنين بدروعهم البًلستيكية الشفافة وشاحذين هرواتهم السوداء الغليظة انتظارً ا لألوامر من أجل سحق هؤالء األطفال الذين اجترأوا على المطالبة بإسقاط النظام ،لم ترتجف ذرةٌ في قلوب الفتية بل زادتهم نظرات المقت تلك إصرارً ا على المضي قدمًا الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
في طريق ثورتهم الوليدة ،ارتفعت وتيرة الهتافات أكثر حتى زلزلت المباني الشاهقة المحيطة بهم وارتفعت حتى عنان السماء فاستحت أمام لهيبها حرارة الشمس حتى ارتفع صوت النداء الخالد معل ًنا دخول وقت صًلة العصر فراحت ذاكرة الحديدي تسترجع األحداث منذ بدايتها.. في الخامس عشر من يناير بدأت الدعاوى في مصر عبر ت واحتجاجا ٍ مواقع التواصل االجتماعي لتنظيم مسيرا ٍ ت مماثل ٍة لما حدث في تونس خًلل الشهر الفائت وأجبرت الرئيس هناك على الهرب من البًلد ،القت الدعاوى صدىً واسعًا وتجاوبًا صريحً ا يطابق ما تهفو إليه القلوب منذ سنوات ،حددت المواقع والصفحات يوم الثًلثاء الخامس والعشرين من يناير ميعا ًدا لبدء تلك االحتجاجات ،نجحت الوقفات األولى في لفت أنظار المسئولين إلى جديتها فعقدوا العزم على تكرارها يوم الجمعة وبضجيج أصدح وبدوي أعنف ،بعثت الحياة من بقو ٍة أكبر ٍ جدي ٍد في جسد المارد الذي وصفوه بخائر القوى فراح يتململ الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
في قمقمه نافضًا عنه غبار اليأس وهادمًا الخوف الذي قبروه فيه منذ عقود.. ران الصمت على المكان حتى ليسمع صوت نبضات القلوب، استقبل الفتية القبلة واصطفوا في صفو ٍ ف متوازية ،جعلت لهم األرض على اتساعها مسج ًدا وطهورا ،أخفضوا رؤوسهم في حضرة اإلله الواحد في خشوع ،سجدت جباههم وأنوفهم على األسفلت الملتهب وقلوبهم بين يدي خالقهم تجأر إليه بالشكوى، شحنتهم سجداتهم بالعزم الًلزم لمواصلة الكفاح ،بكت العيون واختلطت عبراتها بالتراب وارتفعت األكف في ضراع ٍة تستسقي النصر ،انتهوا من صًلتهم وعادوا لهتافاتهم بقوَّ ٍة أكبر" ،ثورة ثورة حتى النصر ،ثورة في كل شوارع مصر" حتى صارت الساعة الرابعة والنصف ،تواترت األنباء عن اجتماعا ٍ ت بين القيادات األمنية تراقب الموقف المتوتر وسط تعتيم إعًلمي حول ما يجري على األرض ،قللت أبواق ٍ اإلعًلم المحسوبة على النظام من شأن حركة االحتجاجات ول األقوى في تاريخ البًلد واتهمت الداعين إليها بالعمالة لد ٍ
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
معادية وصوَّ رتهم على أ َّنهم شرذم ٌة من مثيري الشغب والفوضى ينفذون مخططا ٍ ت أجنبية لزعزعة االستقرار الذي تحياه مصر ،مع مغيب الشمس هدأ الموقف إلى حد ما لكنه كان هدوء ما قبل العاصفة ،تحركت العربات المدرَّ عة وأشهرت فوهات مدافعها في وجوه المحتجين فتوجَّ ست نفوسهم خيف ًة وسرت موجات التوتر بينهم ،أحاط الفتية بالفتيات وطلبوا منهنَّ االنصراف من أحد الطرق الجانبية ،لم يكن الموقف يحتمل مجرد التفكير فض ًًل عن الرفض فانصعن للطلب في حزن وبدأن في التحرك في نفس اللحظة التي صدرت فيها األوامر بفض المظاهرات بالقوة ،رفع الفتية أيديهم الخالية أمام العربات المدرَّ عة وهتفوا "سلمية ،سلمية"، لكنَّ أبواب الجحيم لم تعبأ بسلم َّيتهم تلك وانفتحت في وجوههم على مصراعيها ،انهمرت قنابل الغاز المسيل للدموع كمط ٍر من الجمر الملتهب ،تك َّسرت مئات النوافذ الزجاجية في المباني المحيطة واقتحم الغاز المنازل على حين غرَّ ٍة من قاطنيها، صوتها عند االنطًلق يصم اآلذان لكنها لم تزعزع ولو الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
بالشيء اليسير إيمان الفتية بعدالة قضيتهم ،راحوا يلملمونها كما يلملم األطفال ألعابهم ثم ردوها إلى مرسليها ببساط ٍة فهبطت عليهم كحجار ٍة من سجيل ،تع َّبأ الجو تمامًا بالغاز الخانق ،يعمل الغاز المسيل للدموع على تهييج األنسجة المخاطية في األنف والفم والرئتين فتتم َّدد تلك األنسجة قدر من األكسجين لكنَّ الغاز يصل إليها بد ًال منه الحتواء أكبر ٍ فيزداد العذاب الذي يشوي الوجوه ويلهب العيون ويمزق الصدور ،امتزج صوت السعال بصوت قذائف الخرطوش واأللم باألمل ،بعض قنابل الغاز سقطت على أسًلك الكهرباء فقطعتها مصدر ًة قرقعا ٍ ت مخيف ًة وانعدمت الرؤية تمامًا ،امتدت أيدي البعض في عفو َّي ٍة إلى الحجارة وألقتها تجاه قوات الشرطة ،كانت السلمية في هذا الوقت بالنسبة لهم إغرا ًقا في ً خاصة أنَّ عدوَّ هم لم يتورَّ ع عن إمطارهم بالرصاص المثالية المطاطي والحي ،بعث الموت صقوره لتحوم فوق الطرفين ً س هناك، وح هنا أو نف ٍ المتشابكين متحينة الفرصة اللتقاط ر ٍ دامت المواجهات لم َّدة الساعة ما بين كر وفر من الطرف الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
األعزل الذي ال يحمل سًلحً ا سوى اإلصرار الذي يمأل ك َّل ً تاريخا جدي ًدا ينهي به عقو ًدا من خل َّي ٍة فيجسده مسطرً ا الخضوع واالستسًلم ،فجأ ًة توقف الجنود عن إطًلق قنابل الغاز والرصاص المطاطي فظنَّ الشباب أنَّ ذخيرتهم قد نفدت ،تقدموا أكثر ناحية السيارات التي تقهقرت أمامهم ثم انسحبت تمامًا في مشه ٍد ضاعف حماستهم آالف المرات، سناج المطاط المحترق خنق الهواء بالكامل لكنه لم يستطع كتم صيحات الفرح التي انطلقت من حلوقهم منتشين بهذا النصر السريع الذي لم يتوقعوا أن يكون بهذه السرعة والسهولة فهل كان النظام ً هشا على عكس الصورة التي كان يرسمها إعًلمه لدرجة أنه لم يصمد سوى ساعا ٍ ت قليل ٍة أمام هؤالء الفتية الع َّزل؟.. ألول مرَّ ٍة منذ اندالع المواجهات تذ َّكر الحديدي ابن خالته محمد فأجرى االتصال به ،حاول عدة مرا ٍ ت لكنَّ شبكة االتصاالت كانت مقطوع ًة عن المنطقة بأكملها ،أمام مبنى المحافظة راودته األفكار عن األسباب التي دفعت قوات األمن الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
ً سهلة بين أيدي الثائرين ،لم للتخلي عن المبنى وتركه فريس ًة تطل تساؤالته كثيرً ا ففي نهاية الطريق ظهرت اإلجابات قليل لم تكن سوى الموجة األولى سريعًا ،هجمة الشرطة منذ ٍ التى يشنها النظام الفاسد عليهم فالموجة الثانية اآلخذة في التكون والتي تستعد للهجوم ستكون أعتى بكثير ،جموعٌ من الهمج والبلطجية يدقون األرض بأقدامهم ويلوحون بأسلحتهم البيضاء من بعيد ،ال طاقة للفتية بهذه الجموع فأغلبهم طلبة ت وحملة مؤهًل ٍ جامعا ٍ ت عليا لم يحمل أي منهم سًلحً ا أبيض قط كما أنهم ليسوا مدرَّ بين على الدفاع عن أنفسهم مما ينذر بمذبح ٍة رهيب ٍة في عرض الشارع ،اقترب البلطجية أكثر لكنهم لم يتجهوا ناحية الثائرين بل اتجهوا إلى البنوك والشركات المحيطة بمبنى المحافظة وأعملوا سيوفهم ومطارقهم في ب تام للشرطةَّ ، حطموا ماكينات أبوابها وواجهاتها وسط غيا ٍ ٍ ٌ ٌ وخاصة عامة صرف األموال وكاميرات المراقبة ،أموا ٌل نهبت بمنتهى البساطة ،حملت دراجاتهم النارية أجهز ًة كهربائية وحواسب ً آلية بدون أدنى راد ٍع أو مقاومة ،حتى الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
المحال الصغيرة البائسة وأكشاك بيع السجائر المجاورة لم تسلم من بطشهم ثم رحلوا بغنائمهم بعدما أحدثوا تلك الفوضى الرهيبة.. َّ تمزق قلب الحديدي وقلب ك َّل من تابع المشهد المروع ،أحسوا بألم رهي ٍ ب بعدما عجزواعن دفع هذا االجتياح الهمجي فلم يكن ٍ هذا أب ًدا ما تمنوه في بداية اليوم ،دناءة النظام ووضاعته فاقت ك َّل التصورات ،أدار الحديدي وجهه وهو على وشك البكاء ثم سلك أحد الشوارع الجانبية ،غرقت قدماه في مستنق ٍع من المياه الناضحة من إحدى البالوعات المفتوحة وأزكمت رائحتها الكريهة أنفه تمامًا ،وصل إلى منتصف البركة ونظر بعفوي ٍة إلى مدخل المبنى السكني على يساره ،وقفت فتاتان في ركنه المظلم تراقبان الشارع في حذر ،ربما تختبئان حتى تزول الموجة الهمجية التي ش َّنها البلطجية ،أشفق عليهما من الرعب الذي يمأل قلبيهما ،منذ بدأت الدعوات إلى التظاهرات كان ض َّد تواجد الفتيات في الشارع ألنه يعرضهنَّ لمخاطر ال داعي لها فالفتية قادرون على الصمود أكثر منهنَّ والركض إذا لزم الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
األمر ،و َّد لو أنه يستطيع االنتظار معهما لكن ليس من الحكمة أب ًدا أن يقف وحده مع فتاتين في أحد األركان المظلمة حتى لو كان بهدف حمايتهما وقد تخافاه إذا اقترب منهما؟ تضاعف ألم لكن شعوره بالعجز داخله أكثر وأكثر ثم واصل طريقه في ٍ صوت إحدى الفتاتين مناديًا باسمه اخترق قلبه كالسهم المسموم ال من الرخام ،أدار وجهه ببط ٍء شدي ٍد فتسمَّر في مكانه كتمث ٍ ناحيتها بينما ما زالت أذناه تترجمان الصوت لعقله الرافض للتصديق ،خرجت الفتاة من دائرة الظًلم إلى بصيص الضوء الذي تسلل على استحيا ٍء إلى الشارع الضيق ،وقفت على حافة الرصيف تفرك يديها في عصبية ،اتجه إليها في خطوا ٍ ت آلي ٍة، لم يعبأ بالمياه العطنة التي تسللت إلى حذائه وأغرقت حافة بنطاله من أسفل ،نظر إليها بطريق ٍة عصفت بكيانها بالكامل فانعكس ذلك على عينيها الزائغتين ،قبل أن تنطق بأي حر ٍ ف ألم لك َّنها لم تحاول أمسك بعضدها بمنتهى القسوة فتأوَّ هت في ٍ انتزاع ذراعها من قبضته ،صرخ في وجهها بمنتهى الغضب: هو أنا مش قلت متنزليش؟ إيه اللي خًلكي تنزلي؟ انطقي!..الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
لم يبال للموقف الذي يحيط بهم وال بالبيوت المحيطة بل لم يبال بألمها هي نفسها ،لم تجبه وبدأت البكاء في صمت ،ش َّدد قبضته أكثر بدون أن يشعر حتى كادت أطراف أصابعه أن تخترق لحمها لتحطم عظامها من الداخل ،رفعت عينيها الغارقتين في الدموع ونظرت إليه وقالت: مقدرتش أفضل في البيت والناس كلها في الشارع ،وبعدينصاحباتي كلهم نزلوا اشمعنى أنا يعني منزلش؟.. زادته كلماتها تلك غضبًا على غضب ،أمسك عضدها اآلخر بيده األخرى ثم َّ هزها بقو ٍة صار ًخا في وجهها بكل انفعال الدنيا: متنزليش علشان أنا قلت متنزليش..متأوه ًة في أل ٍم شديد كاد يفقدها الوعي قالت: على فكرة دي أول مرة تلمسني ،أول مرة تلمسني فيهاتوجعني.. الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
أنا بتكلم في إيه وإنتي بتتكلمي في إيه؟ أنا قلت متنزليشونزلتي ،يعني محترمتينيش ،مين فينا بقى اللي وجع التاني؟ انطقي.. أطرقت رأسها ولم تحر جوابًا ،أفلتها من قبضتيه فاقتربت منها صديقتها وضمتها إلى صدرها مهون ًة عليها ،أدار ظهره وقال في حسم: امشوا ورايا علشان أوصلكم البيت..سارتا خلفه في طاع ٍة عمياء ،كان قلبها محطمًا ،أخطأت لكن ثير فعلتها تلك ،هل هناك عقابٌ أقسى من أال عقابه لها يفوق بك ٍ ينطق اسمها؟ تنظر في عينيه فًل تجد فيهما سوى الغضب خاليتين من أية عاطف ٍة ناحيتها ،ألول مر ٍة وقفت شخصيتها أمر له ،اعتادت منذ أحبته َّأال تعصي له أمرً ا، العنيدة أمام ٍ طاعتها له ليست وليدة حبها وإنما لثقتها فيه وفي رجاحة عقله وحسن نواياه أكثر مما تثق في نفسها ،فالحب هو أن تثق في من تحب أكثر من ثقتك في نفسك إيما ًنا منك بأنه لن يقوم بفعل الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
شي ٍء يسيء إليك فلماذا تمرَّ دت اليوم على هذه الثقة؟ لماذا ضربت بأمره عرض الحائط وقررت النزول على غير رغبته؟.. سار بخطوا ٍ ين ليطمئن أنهما ما ت منتظمة ناظرً ا خلفه ك َّل ح ٍ زالتا تقتفيان أثره ،ترفع عينيها الذابلتين من البكاء إليه كلما حانت التفاتته لكنه لم ينظر إلى وجهها قط وكان هذا يقتلها أكثر ،الشوارع خلت تما ًما من المارة رغم أنَّ الساعة لم تتجاوز السابعة بعد ،األنباء عن المناوشات وانتشار البلطجية أجبر العامة على التزام منازلهم وأغلقت المتاجر أبوابها ،كان يختار أوسع الطرق وأقصرها متجنبًا المظلمة منها ،قبل أن ينعطف إلى الشارع الذي تسكن فيه عاد إليهما ،ظ َّنت أنه سيسامحها لكنه لم يوجه حديثه وإنما سأل صديقتها عن مكان إقامتها فأخبرته أنها تسكن في نفس المبنى الذي تسكنه علياء، أومأ برأسه ثم أكمل طريقه أمامهما حتى وصلتا إلى باب المنزل ،توقفت قلي ًًل علَّه ينظر إليها لكنه لم يفعل واستكمل طريقه يتأرجح عقله بين الغضب ألنها عصت أمره واألسف الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
ألنه أمسك بذراعيها ،ليس من حقه أن يم َّسها تحت أي ظر ٍ ف من الظروف مهما كانت درجة حبه لها ومهما كانت ثقتها فيه، أعاد ترتيب أفكاره منذ البداية ،طلبت منه النزول في بداية األمر فرفض تقديرً ا لألحداث المتوقعة وحدث أسوأ مما توقع مما يؤدي بالتبعية إلى كونها أخطأت ،زرع هذا الموقف أشجار القلق بداخله لم يتخيل أنها قد تنمو يومًا من األيام، أمسك هاتفه واتصل بها ،سمع صوت الرنين لمر ٍة واحد ٍة فقط ثم أنهى االتصال ،تراجع عن الحديث إليها فمهما كان خطؤه بتعنيفها بهذه الصورة كبيرً ا فهو ال يساوي أب ًدا عصيانها ألمره وتعريض حياتها للخطر ..وصل إلى شارعه ووجد محم ًدا جالسًا على الرصيف أمام المنزل فسأله: إيه يا ابني ،واقف هنا من إمتى؟ ومطلعتش فوق ليه؟..أشار محمد إلى أعلى ،وقال: عايزني أطلع فوق وإنت مش معايا؟ إنت عايز يجيلها سكتةقلبية لما أطلع وإنت مش معايا؟.. الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
ابتسم الحديدي مستحس ًنا صنع ابن خالته ثم ارتقيا درجات السلم ،قبل أن يعبر الحديدي الباب إلى الداخل أتت سمر وأثر البكاء يبلل وجهها الرقيق ثم ضربت أخاها في صدره بكل قو ٍة لكنه لم يتأثر بضرباتها حملها بكلتا يديه كالطفلة الصغيرة فنظرت في عينيه نظر ًة فيها كل الخوف والشوق والحب والغضب ،طوقت عنقه بيديها وأطلقت لدموعها العنان حتى هدأت ثم قالت: حرام عليك يا أخي إنت بتعمل فيا كدا ليه؟ اتصلت بيك كتيرموبايلك مقفول وكأنك عايز تموتني من الخوف عليك.. أنزلها ثم أخرج شي ًئا من جيبه وقال: أقفل موبايلى ليه يا هبله إنتي؟ يا بت كانوا قاطعيناالتصاالت في المناطق الحيوية في البلد كلها ،بس أنا بردو هعرف أصالحك.. م َّد إليها قطعة شيكوالتة من النوع الذي تفضله ،تب َّدل وجهها وحلَّت فرحة طفل ٍة صغير ٍة مح َّل دموع عينيها ثم انتزعتها من الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
يديه انتزاعًا ،أدارت ظهرها إليه وهى تفتح غًلف قطعة الشيكوالتة ،ثم قالت: بردو لسه مخاصماك..انطلق صوت هاتفه ع َّدة مرات فه َّم بفتح الباب ،اندفعت سمر حائ ً لة بينه وبين أخيها ثم قالت في عصبية: رايح فين تاني؟ الدنيا بقت كحل.. إيه يا بت إنتي؟ طالع السطح..عاود هاتفه الرنين فأداره إليها حتى تستطيع قراءة االسم الذي يظهر على شاشته ،اقترب حاجباها من بعضيهما وقالت: بردو؟ طيب.. هو إنتي مش هتعقلي بقى؟..ترك الباب خلفه مفتوحً ا حتى تتأكد أنه صعد إلى أعلى ،ظلَّت ً استأثرت بقلبه ،تغار منها إلى أبعد واقف ًة تفكر في هذه التي الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
مدى ،تحب أخاها وال تريد أن يشغل غيرها تفكيره ،هي نفسها أقفلت قلبها عليه ،لم تستجب ولو للحظ ٍة واحد ٍة ألي شا ٍ ب تقرَّ ب منها في الجامعة ،ضربت حصارً ا على قلبها فباؤوا ٌ جميعًا بالفشل حتى ظنوا أنها فتاةٌ منغلقة منطوية وكانت صديقاتها يتهمنها بالجنون ألنَّ حبها ألخيها مبال ٌغ فيه ويتعدى ح َّد المعقول.. في األعلى ذهب إلى أقصى زاوي ٍة في السطح ثم أجابها: آلو ،أيوه يا آنسة..آنسة ،كم تكره هذه الكلمة ،تمامًا ككلمة حضرتك عندما ينطقها ٌ كلمات تبني مئات األسوار والحواجز بينهما في بلهج ٍة رسمية، ٌ غريبة عنه ،ابتلعت الكلمة بمرار ٍة كما يبتلع لحظة فتشعر أنها الطفل كبسولة الدواء ،أخذت نفسًا عمي ًقا ،ثم قالت: -إنت مبتردش على طول ليه؟ بقالي كتير برنلك..
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
معلش ،كنت لسه داخل البيت حتى لسه مغيرتش هدومي،خير؟ فيه حاجة؟.. حديدي ،فيه إيه؟ متعملش فيا كده ،أنا آسفة ومعترفة إنيغلطانة ،خًلص بقى.. آسفة؟ آسفة إيه؟ أصرفها منين دي؟..ً دفعة واحد ًة صمتت قلي ًًل لتسمح له أن يفرغ شحنات غضبه لكنه لم يسترسل ،صمت محاو ًال ترتيب أفكاره وبعد لحظا ٍ ت قال بهدو ٍء يحسد عليه: علياء ،عارفه أنا زعًلن ليه؟ علشان سمعتي كًلم نفسكوخليتيه ألول مرة يغلب كًلمي ليكي ،مع إنك واثقة مليون في المية إني مبطلبش منك تعملي حاجة على حساب شخصيتك، كًلمي كله مبني على أساسين اتنين ملهمش تالت ،حبي ليكي وخوفي عليكي ،أنا آسف إني مسكت إيدك ووجعتك ،آسف، بس في عز ثورتي دي مكنتش أقدر أطبطب عليكي ،إنتي لو الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
جرالك حاجة محدش هيطبطب عليا ساعتها ،ألني ساعتها هموت يا علياء.. ٌ واقفة أمامه اآلن كتلمي ٍذ يستمع لتعنيف أخفضت رأسها وكأنها أستاذه ولم تجد الكلمات المناسبة للرد عليه ،سألها عن كل ما مرَّ ت به منذ خرجت من المنزل إلى أن قابلها قصَّت عليه ك َّل شيء حتى تعنيف أبيها عندما تأخرت في العودة منذ قليل، تر َّدد السؤال المعتاد في ذهنها ،متى سيأتي إلى أبيها طالبًا زواجها حتى يخلصها من هذه العزلة التي تحياها في هذا البيت؟ أبوها وإخوتها الذكور يعتبرونها مجرَّ د طفل ٍة صغير ٍة ال يقيمون لها وز ًنا ،كل أهميتها بالنسبة لهم هي مساعدة أمها في شئون البيت عًلو ًة على خدمتهم ،تعد الطعام لهذا وتغسل مًلبس ذاك ،بينما أمها -التي من المفترض أن تكون األقرب إليها -غير مدرك ٍة بعد أنَّ ابنتها قد ش َّبت عن طوق المراهقة وأصبحت في أمس الحاجة إلى من يحتويها ويستمع إلى مكنون صدرها ،كم كان القدر رحيمًا بها عندما بعث به إليها فمأل الفراغ الذي تحياه ،ترى فيه منقذها الذي سيخرجها من الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
لل أو هذا المنزل الذي أصبحت تعمل فيه كالجارية بًل ك ٍ هوادة ،قرأ أفكارها فقال: يا علياء أنا كمان نفسي نتجوز بسرعة ،بس مش هقدر أدخلبيتكم من غير ما يكون معايا شغًلنة أأكلك منها عيش وإال ساعتها أبوكي هيطردني.. استمعت إليه دون أن تجيب ،لديه الحق فيما يقول لكن إلى متى ستظل منتظرة؟ تأرجحت أحاسيسها ما بين البًلدة واالحتراق، يشعر تمامًا بكل هذه الدوامات التي تحيط بعقلها لكن ليس بيدهما شيء سوى الصبر ،الركن الركين الذي يستند إليه الحب في هذا الزمان..
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
2 ساخن تمامًا كمنزل صفيح أسبوعان مرَّ ا والبًلد على ٍ ٍ الحديدي ،كلما تج َّ هز للنزول في مظاهرات أيام األحد والثًلثاء والجمعة صرخت سمر في وجهه وتظل على بكائها المرير حتى يعود إليها في المساء منه ًكا حتى كانت تلك الليلة التي دخلت فيها عليه غرفته فوجدته يعد حقيبة الظهر الخاصة به، وضع بهاعباءة والده السوداء وبعض متعلقاته الشخصية، نظرت إليه في استغراب فض َّم رأسها إلى صدره كأنما يكتم تساؤالتها ،ضمته هذه لم تهدئ من روعها بل زادتها قل ًقا على حيرة ،نزعت رأسها من بين ذراعيه وصوبت أول أسئلتها ناحية عينيه مباشر ًة: رايح فين؟..كانت األمور جل َّي ًة واض ً حة كشمس الظهيرة لكن ربما الحقيقة تفكير أو أدنى يكون لها وق ٌع أعنف عندما تلفظ ،بدون مجرد ٍ موارب ٍة أجابها: الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
التحرير..رددت في ذهول كمن ذهب عقلها: التحرير؟!..تابع إعداد حقيبته فصرخت: إنت مش شايف الناس اللي بتموت؟ إنت ليه يا أخي عايزتسيبني لوحدي في الدنيا دي؟ مش كفاية أبوك وأمك سابونا؟.. وضع راحته اليمنى على فمها ليمنعها من االسترسال في ً ثانية، الكًلم الذي ال تعيه ،سالت دموعها على يديه فضمها وقال: إياكي أب ًدا تقولي الكًلم دا تاني ،أبوكي وأمك مسابوناش،دي إرادة ربنا ،وأنا كمان مش عايز أسيبك وال حاجة ،بس إنتي عارفة إني كان نفسي إن البلد تتغير وإن الثورة تقوم من زمان فمش يوم ما هتقوم الثورة هقعد في البيت يا سمر.. ما أنت بتنزل هنا عند المحافظة ،هنا زي هناك..الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
يا سمر الثورة بجد اللي في الميدان ،ليها طعم تاني وأناعايز أدوقه فأرجوكي متحرمينيش منه.. كمطرق ٍة ثقيلة هوت فوق رأسه باغته سؤالها الجديد: قلت لعلياء؟..نظر إلى عينيها منده ًشا ،لم يتخيل هذا السؤال منها أب ًدا فعلياء ٌ نافسة على قلبه وآخر أنثى على وجه األرض قد بالنسبة لها م تهتم بعًلقتها به ،بدا وأنها تستعين بتأثير علياء عليه فأرادت أن تضعه بين ش َّقي الرَّ حى ،أخته وحبيبته.. ر َّد مشيحً ا بوجهه عنها: مقلتلهاش ومش هقولها.. إشمعنى مقلتلهاش؟ خايف تزعلها لما تعرف إنك رايحالتحرير؟ شاطر توجع قلبي أنا بس لكن هي ال؟.. "يا هللا" ،قالها وهو يزفر من أعماق قلبه ،حتى في هذه اللحظة ال تنسى غيرتها ،إنهنَّ الفتيات ،االستئثار بالشيء هو شغلهنَّ الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
الشاغل دون أية اعتبارات للموقف أو التوقيت ،كل منهما ترى َّ أحق به من األخرى ،ظلَّت تنظر إلى عينيه في تحد نفسها قنع توشك على تصديق نفسها ،لو لم يجبها فورً ا برد قاطع م ٍ ٍ ستصدق أ َّنه يخاف على مشاعر حبيبته أكثر من خوفه على مشاعرها هي وسيخسر ثقتها إلى األبد ،اقترب منها وأمسك بكتفيها ثم نظر في عينيها مباشر ًة ،وقال: طبعًا مش هخاف على مشاعرها أكتر منك ،إنتو االتنينعندى زي -ضغط على الكلمة بقوة -بعض بالضبط ،بس أنا مقدرش أنزل من البيت كده وأسيبك عادي من غير ما تشوفيني ،هتتجنني وأنا مرضالكيش الجنان -يبتسم -لكن هي مش شايفاني وسهل ج ًدا أخبي عليها وأقولها إني هنا مش هناك ،فهمتي؟.. لم تبتلع الر َّد الذي لم يقنعها ،الح في عقلها شيء ما اعتبرته حبل نجاتها األخير..
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
خًلص سافر إنت وسيبني لوحدي في الشقة من غير مايكون حد معايا خصوصًا في الظروف اللي إحنا فيها دي وال فيه أمن في البلد وال أي حاجة ،وحد ييجي يكسر عليا الباب ويموتني علشان ترتاح وتروق لحبيبة القلب.. ضحك وهو يدفعها إلى غرفتها ،فتح دوالبها ،وقال: ومين قال إني هسيبك لوحدك؟ جهزي هدومك علشانهنسافر البلد دلوقتي ،محمد ابن خالتك مستنينا عالمحطة ،يلًل ربع ساعة وتكوني جاهزة.. في الطريق إلى محطة القطار لم تستجب لمحاوالته إلثارة الحديث ولم تبتسم لدعاباته التي حاول بها تغيير حالتها المزاجية ،مع تحرك القطار انطلق رنين هاتفه ،نظرت إليه في تحد وهي تستمع إلى الرنين الخاص برقم علياء مر ًة بعد مرة وهو ال يجيب ،يعلم أنَّ ك َّل مر ٍة ال يجيب علياء فيها يتضاعف قلقها ألف مر ٍة وما زالت سمر تسدد نظراتها القاسية إليه، نظرا ٍ ت تتهمه فيها بالجبن أمام علياء بينما كان قو ًيا فقط أمامها الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
وهي التي تحبه أكثر من حبيبته ،أصابه الرنين الذي استمرَّ ً طويًل بالتوتر فانتزع بطارية الهاتف ثم ألقاها من نافذة القطار دون تفكير ،ردة فعله كانت مبال ًغا فيها بالنسبة لمحمد الجالس أمامه ،تلك المرة األولى التي يرى فيها ابن خالته يفقد أعصابه بسهول ٍة وبدون سب ٍ ب يستدعي ذلك ،لم يعلم قدر الضغوط التي يكابدها الحديدي بداخله ،خوفه على أخته وقلقه على حبيبته والموازنة بينهما باإلضافة إلى سفره هذا وأشياء أخرى ال أحد يعلمها سواه.. اقترب القطار من المحطة فنهض محمد وحمل الحقيبة ،حاول الحديدي مصافحة أخته لكنها رفضت ثم توجَّ هت إلى الباب، تطلع محمد إلى ابن خالته وسأله: هو إنت مش هتيجي معانا ولًل إيه؟..بنبر ٍة تملؤها السخرية المريرة أتاه الجواب من خلف ظهره، من سمر التي لم تنبس بحرفٍ واح ٍد منذ أن استقلوا القطار: الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
هو كمان مقالكش؟ الظاهر إنه مبقاش يقول أي حاجة أليحد ،ال مش هييجي معانا.. صافحه الحديدي في قوة وقال له: خلوا بالكم منها كويس يا محمد ،وأنا إن شاء هللا لما أوصلهشتري بطارية جديدة وهكلمكم.. ماشي يا صاحبي ،توصل بالسًلمة..تعانقا ثم هبط محمد من القطار وسار إلى جوار سمر على الرصيف فيما كان الحديدي يراقبها ،تمنى لو أ َّنها ترفع عينيها إليه وتلوح له مود ً عة لكنها لم تفعل ،ظلَّت تنظر إلى األرض حتى غادر القطار المحطة ومعه غادرت دموعها محبسها، ً ً صافية ولمعت على خديها األسمرين كغديري رقراقة انهمرت ما ٍء عذب ،تسلل صوت بكائها المكتوم إلى أذني محمد فسبقها بخطوا ٍ ت معدودة كي يعطيها حريتها في التنفيث عن لهيب صدرها دون حرج ،لم يتبادل معها حر ًفا واح ًدا حتى وصًل الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
إلى المنزل حيث كان الجميع في انتظارهما ،ضمتها خالتها إلى صدرها في حنان فيما ما زالت عيناها مبتلتين بالدموع..
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
الفُصُلُُالتاسع ُ ُ لوُعلِمناُكيفُستكونُالنهاياتُُماُكانُللبِداياتُِمعنىُ ُ
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
1 نظر إلى هاتفه الذي خبا ضوء الحياة منه ،انفعاله الًلمحسوب حين انتزع البطارية كان عني ًفا ،لع َّل عقله الباطن هو من أملى ً ترضية ألخته ،أراح رأسه إلى الخلف وأغمض عليه هذا الفعل عينه وراح يفكر في علياء ،يتخيلها اآلن تدور في غرفتها كالمجنونة ،تضغط أزرار هاتفها في عصبية فتجيبها السيدة ذات الصوت البارد "الهاتف الذي تحاول االتصال به ربما يكون مغل ًقا" ،ثم تشير عليها بنصيحتها األكثر سخافة "من فضلك حاول االتصال في وق ٍ ت الحق" ،يعلم أنها لن تنام ولن يهدأ لها بال حتى يجيبها ،احت َّل القلق ك َّل خلي ٍة من عقلها وقلبها وفعل بهما األفاعيل حتى ظهر اسمه على هاتفها في الحادية عشرة مسا ًء ،ظلت محد ً قة في الهاتف في شرود كأنها لم تستوعب بعد أنه هو المتصل ،لم تجبه على الفور ،هل تحاول أن تذيقه بعضًا مما أذاقها؟ سخرت من نفسها فمثله ال يشعر أب ًدا بالقلق ،أتاها صوته معتذرً ا ومتعل ًًل بأنه كان خارج المنزل وأن بطارية هاتفه قد فرغت ولم يستطع االتصال بها حتى عاد الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
لكن الضوضاء من حوله َّ كذبت عودته المزعومة ،عندما بخير تغيرت طبيعتها إلى النقيض تمامًا من القلق اطمأنت أنه ٍ عليه إلى الغضب منه ،نعتته بقسوة القلب واتهمته بعدم احترامها ثم أنهت االتصال فجأة ،هنا فقط يمكن لقلبها أن يهدأ، قليل لم يصبه سوء وهي ال تريد أكثر من ذلك ،تعلم أنه بعد ٍ سيتصل بها معتذرً ا ومحاو ًال استرضاءها فتتق َّمص دور الغاضبة بعضًا من الوقت ثم تعود األمور إلى طبيعتها تمامًا مثل المرات الخمسين السابقة.. لم يحاول معاودة االتصال بل وضع الهاتف في جيبه ببساط ٍة وسار في طريقه إلى الميدان الذي يقع على مرمى بصره، تمثال الفريق عبد المنعم رياض يقف شام ًخا على رأس الشارع يراقب الداخلين إلى الميدان وكأنه يستحثهم على المضي قدمًا في طريق الحرية ،وجَّ ه نظرة عتا ٍ ب إلى التمثال ألنه لم يستطع الوقوف في وجه البلطجية الذين هاجموا المحتجين يوم األربعاء الماضي -الثاني من فبراير -ممتطين أحصنتهم وجمالهم مخلفين عشرات القتلى والجرحى فيما الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
أيام على المذبحة عرف تاريخ ًيا بموقعة الجمل ،مرت ثمانية ٍ وما زال األسفلت مضرَّ جً ا بالدماء ينتظر القصاص من القتلة، مرت جمعتان منذ بدء االحتجاجات ،الغضب والرحيل وغ ًدا ستكون الجمعة الثالثة ،وقف عند حاجز التفتيش على حدود الميدان ،ابتسم في وجهه أحد القائمين على الحراسة وطلب منه بطاقة التعريف الشخصية فناولها له ببساطة ،ف َّتش حقيبته ثم سمح له بالولوج ،مع دخوله ارتفع صوت المذيع الشهير من بيان جدي ٍد لرأس مكبرات الصوت في جنبات الميدان معل ًنا عن ٍ النظام يوجهه لعموم الشعب ،تجمهر الجميع بالقرب من عرض كبيرة ،تعالت همهماتهم ما المنصة الرئيسية أمام شاشة ٍ آمل بأن يكون هذا هو البيان بين م ستبشر بقرب سقوط النظام ٍ ٍ األخير وما بين مترق ٍ ذر يشعر أنَّ السبعة عشر يومًا ب ح ٍ ً كافية بعد إلزاحة هذا النظام الذي جثم على الماضية ليست صدور المصريين ألكثر من ثًلثين عا ًما ،بعد لحظات أط َّل وجه رأس النظام المقيت ،وج ٌه يحمل ك َّل مًلمح الخبث والمكر ،أمارات الشيخوخة تنضح من كل قسم ٍة من قسمات الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
وجهه ،بدأ خطابه الخبيث بالترحم على الضحايا الذين سقطوا جرَّ اء السياسات القمعية ألجهزته األمنية في األسبوعين الماضيين متناسيًا اآلالف الذين ماتوا خًلل عصره إما محترقين في القطارات أو غرقى في البحار والنيل أو صرعى على الطرقات أو تحت أنقاض عقاراتهم أو مرضى بمختلف األمراض المزمنة أو تحت وطأة التعذيب في المعتقًلت والسجون في ظل حكمه الذي اتسم بالفساد واإلهمال ،أبان عن خططه للتعديل في مواد الدستور وتغ َّنى ببطوالته المجيدة ومجهوداته الحثيثة في سبيل هذا الوطن وتأ َّسف لما يًلقيه من القلَّة -من أبناء وطنه فيما األغلبية الكاسحة تعرف حقيقةنواياه الطيبة ،لعب على وتر العاطفة التي تمأل قلوب هذا الشعب الذي أنهكه بالفقر والجهل والمرض ،رفع البعض أحذيتهم في وجهه كأنما يقولون له إنَّ خطاباتك العاطفية ووعودك الزائفة لن تؤثر فينا بعد اآلن ،مللناها طيلة ثًلثة عقو ٍد ذاقت فيها البًلد ويًلت العوز والفاقة والعجز ،ارتفعت الهتافات من جديد بمق ٍ زم أقوى" ،ارحل ،ارحل، ت أكبر وع ٍ الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
ارحل" ،انتهى من خطابه الذي سلَّم فيه بعضًا من اختصاصاته لنائبه ،شعر الحديدي أنَّ الخطاب كان لقياس مدى ثبات المحتجين في الميدان ،هل سيمضون في طريق ثورتهم المجيدة أم سيستجيبون لهذا الخطاب العاطفي ويسمحون له أشهر هي الفترة الباقية من م َّدته آمن بعد تسعة بخروج ٍ ٍ ٍ الرئاسية الحالية وكأنَّ ما أفسده نظامه من مؤسسا ٍ ت وأجهز ٍة وذم ٍم وضمائر على مدار الثًلثين عامًا سيكون قادرً ا على إصًلحهم في تلك األشهر التسع ،يبدو أنَّ النضال سيستمر لمدىً أطول ال يعلمه إال هللا.. أجرى الحديدي اتصاله بعلياء فوجد هاتفها مغل ًقا كما توقع، أجرى اتصاله بمحمد واطمأنَّ على أخته ثم تحدث إلى خالته أحًلم التي أقسمت عليه أن يكون حذرً ا وحريصًا على نفسه قدر المستطاع ،تحرك إلى المناطق الخلفية ً بحثا عن أفضل األماكن الممكنة للمبيت وسط كل هذه الخيام التي اكتظت بها ٌ مجموعة بجوار خيم ٍة يرددون أغاني أرجاء الميدان ،تحلقت ٌ ً مجموعة أخرى في انتبا ٍه إلى رج ٍل وطنية قديمة وأنصتت
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
ً ً لشاعر راحل ،لم يكن للثورة قائ ٌد حماسية ثورية يلقي قصيد ًة ٍ يحركها بل كانت فكرة الثورة هي التي تحرك العقول وتشحذ الهمم ،وجد مكا ًنا صالحً ا للنوم على الحشائش الخضراء في أحد الشوارع الجانبية ،نام على ظهره ثم التحف بعباءة والده، رائحة أبيه والذكريات المنسوجة مع خيوطها أمدته بالدفء المطلوب وأذهبت عنه برودة فبراير.. مع شعاع الشمس األول استيقظ ،سمع زئيرً ا لمجموع ٍة من حماس ونشاطٍ كبيرين كأنهم الشباب يدورون حول الميدان في ٍ يقومون بعمليا ٍ ليوم جدي ٍد من أيام كفاحهم ت إحمائي ٍة استعدا ًدا ٍ ً مجموعة أخرى تجمع القمامة من أرض السلمي ورأى الميدان ،في الحادية عشرة والنصف أقام األقباط ق َّداسًا تغنوا َّ حث فيها فيه بعظمة مصر وتاريخها ثم تبعته خطبة الجمعة الخطيب الجميع على الصمود والثبات واالعتصام بحبل هللا وعدم التخلي عن مطالب ثورتهم الوليدة ،انتهت صًلة الجمعة ثم أعلنت المنصة عن صًلة الجنازة على جثمان الفريق أول سعد الدين الشاذلي رئيس أركان القوات المسلحة األسبق الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
وصاحب خطة "المآذن العالية" االسم الحركي لخ َّطة حرب أكتوبر المجيدة ،الرَّ جل الذي أذاق إسرائيل أقسى هزيم ٍة في تاريخها وتدرَّ س خططه الحربية في أكبر المعاهد العسكرية على مستوى العالم ،الرجل الذي ظلمه الرئيسان المتعاقبان وأمعنا في التنكيل به فنفياه إلى خارج البًلد وصادرا ممتلكاته ومؤلفاته وعندما عاد إلى مصر وضعوه قيد اإلقامة الجبرية إشعار في حتى توفاه هللا في العاشر من فبراير بدون أي ٍ اإلعًلم الرسمي وكأنه مجهو ٌل من نكرات الزمان ،اقشعرَّ بدن الحديدي لمهابة الموقف ،أكثر من مليوني إنسان اصطفوا للصًلة على جثمان الفريق الراحل وكأنها إرادة هللا لتكريم وتشريف هذا الرجل الذي أفنى السواد األعظم من حياته في الدفاع عن تراب هذا الوطن فكان جزاؤه النفي واإلبعاد واإلذالل ،فقط ألنَّ آراءه الحربية والسياسية ناطحت أطماع َّ شق زئير رؤوس األنظمة الفاسدة ،بعدما انتهت الصًلة المتظاهرين حجب السماء" :ارحل ،ارحل" ،بعد صًلة العصر تضاربت األنباء حول اجتماع المجلس العسكري وقيادات الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
ٌ ٌ تنبؤات هناك بشأن إرهاصات هنا و الجيش بدون الرئيس، البيان الذي أعلن عنه منذ قليل ،في تمام السادسة كان البيان الذي تص َّدر شاشات النقل الحي والمباشر في جميع أرجاء ٌ صمت رهيبٌ خيَّم على المكان ،توقف الشباب عن البًلد، الحديث والسائرون عن المشي والباعة الجائلون عن اإلعًلن عن بضاعتهم حتى القطط التي كانت تلهو في األنحاء توقفت عن المواء ،تسمرت األجساد وتركزت العيون وأنصتت اآلذان وارتجفت القلوب أمام الكلمات البطيئة التي ألقاها نائب الرئيس ،أعلن الرئيس تنحيه عن حكم البًلد وأوكل مهمة الحكم المؤقت إلى القيادة العامة للقوات المسلحة ،انفجرت الدموع من األحداق ولهجت األلسنة بحمد هللا ،انطلقت حلوق السيدات بالزغاريد فيما صرخ الرجال بالفرحة العارمة ،آالف األلعاب النارية انفجرت في سماء القاهرة وفي كل ربوع مصر ،سجد الحديدي في مكانه بين يدي ربه ،لم يكن يتوقع انتصارً ا سريعًا كهذا ففي ثمانية عشر يومًا فقط سقط النظام وتهاوى أمام صًلدة هؤالء الفتية وعزيمتهم ،اهتزاز هاتفه في الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
جيبه نبهه من فرحته وأتاه صوتها يحمل ك َّل ألوان البهجة والفرح: مبروك يا حبيبي ،ألف مبروك ،ربنا استجاب لدعائنا ،أنامش مصدقة نفسي لحد دلوقتي ،مقدرتش أمسك نفسي وقعدت أعيط.. ألف مبروك على مصر كلها يا علياء ،ربك مبينساش دمالمظلومين ،أكيد الشهدا فوق مبسوطين دلوقتي ،الحمد هلل.. الحمد هلل يا حبيبي ،إيه الدوشة اللي حواليك دي؟ إنت عندالمحافظة في االحتفال؟ هلبس وهنزل أنا وماما علشان أشوفك من بعيد وأفرح معاك في اليوم دا.. ال يا حبيبتي أنا مش عند المحافظة.. مش عند المحافظة؟! بس أصوات الفرحة حواليك عاليةج ًدا..
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
ً بداية منذ يوم صمتت قلي ًًل ،تشابكت جميع الخيوط أمام عينيها أمس ،عدم رده عليها لمد ٍة طويلة وإغًلقه لهاتفه ،حديثه معها يوم من أيام دومًا عن رغبته في الذهاب إلى التحرير وقضاء ٍ ً جلية اآلن ،سألته في تردد: الثورة هناك ،تك َّشفت الحقائق حديدي ،إنت في التحرير؟..ً خائفة أن يصدق حدسها وو َّدت لو أنه يقول ال ،صمت كانت عميق أجاب: شهيق قلي ًًل وبعد ٍ ٍ أيوه يا علياء أنا في التحرير..أضاع عليها فرحة اليوم ،ألم يقم الدنيا ولم يقعدها ألنها خرجت دون إخباره منذ أسبوعين فكيف به يذهب إلى أتون األحداث دون أن يخبرها؟ فكرت مل ًيا في طريقة رد فعلها ،هل تكون ً عصبية مثلما كان أم تمتص عصبيتها وتؤجل هذا الحديث لما بعد؟ آثرت الثانية ولم تنفعل ،فوجئ بهدوئها فداعبها:
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
لو كنت أعرف إن الثورة هتعقلك كده كنت دعيت ربنا تقوممن زمان ،عارفة يا بت؟.. نعم؟.. بحبك..ابتسمت في خجل ،شعرت ألول مر ٍة أنها مختلفة وأنه أيضًا كذلك ،بالهدوء استطاعت أن تتجنب خًل ًفا وشي ًكا يحرق األعصاب وهو أيضًا الحظ ذلك ،عاهد نفسه وعاهدها على مصارحتها بكل شيء بعد اآلن إن ظلَّت على تعقلها هذا فوعدته بدورها أ َّنها ستزن األمور بروي ٍة أكثر وأنها لن تترك ً فريسة لًلنفعال بعد اآلن ،لم يكن هناك أفضل من نفسها األجواء المحيطة حتى يبث كل منهما بعضًا من عشقه لآلخر ثم أخبرها أنه سيبقى بالقاهرة أسبوعًا آخر لحضور مقابلة عمل ،بعدما انتهيا أتاه اتصا ٌل من محمد وهو في قمة الحبور: حديدي ،ألف بركة وحمد هلل عالسًلمة يا حاج ،يا ريتك كنترحت هناك من زمان وخلصت الليلة بدري بدري.. الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
هللا يبارك فيك يا محمد ،مبروك على البلد كلها ،المهم اسمعكًلمي اللي هقوله وركز فيه كويس.. أنصت محمد البن خالته بكل حواسه في ذهول تام ،اعتقد أنَّ ٍ الحديدي يهذي وأنَّ نشوة االنتصار أسكرته وذهبت بعقله ،كان كًلمًا يتع َّدى حدود العقل والحكمة بمًليين السنين الضوئية ً ثانية للتأكد من أنَّ محم ًدا قد وعى ك َّل كرر الحديدي ما قاله حرفٍ من كًلمه ث َّم أنهى االتصال وترك ابن خالته يصارع الجنون..
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
2 تم َّدد جسدها بًل أدنى حرك ٍة على األرضية الباردة ،منذ ذلك اليوم المشؤوم صارت تنام على األرض ،ربما تحاول التكفير كنوع من التوبة عن شيء من ذنبها بتعذيب جسدها ومجاهدته ٍ أو ربما حتى ال تستسلم لراحة الفراش فتقل بالتالي درجة حساسيتها تجاه الخطر ،تنام وعقلها مضا ٌء باللون األصفر على وضع االستعداد ،تنتظر اليوم الذي ستشنقها أمها بيديها فيه أو الليلة التي سينحر محمد عنقها فيها ،فمتى؟ إن كان الموت هو النهاية المحتومة لها فليعجًل به فعذاب انتظار الموت أقسى آالف المرات من الموت نفسه مهما كانت كيفيته.. من وسط أفكارها سمعت صوت رسال ٍة أتتها على هاتفها المحمول" :يا هند ،أنا ثناء ،إلحقيني وتعالي بسرعة أنا شكلي بولد" ،لم يكن الرقم هو رقم ثناء الخاص لكنها ردت على الرسالة بأخرى "هحاول آجي ً حاال" ،ثناء صديقتها وزميلتها في الدراسة في األسابيع األخيرة من فترة حملها ،كانت قد الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
نسيتها في خضم مشاكلها ولم تتذكرها إال الليلة الماضية فقط عندما اتصلت سماح تستفسر عن أحوالها ،كان غريبًا ً جدا أن تتصل سماح ألول مر ٍة منذ ما حدث في منزلها للسؤال عن ثناء وليس للسؤال عن هند نفسها وكأنها ما عادت تعنيها في شيء ،أخبرتها هند أنَّ ثناء على ما يبدو في أواخر فترة حملها.. ٌ مسكينة أنت يا ثناء ،في سن الخامسة عشرة توشكين على ً مسئولة عن أسر ٍة لكن وضع مولودك األول وتجدين نفسك بكثير من حالي ،أنا التي أصبحت عاهر ًة بالتأكيد حالك أفضل ٍ منبوذة ،زلَّت قدماي في مستنقع الرذيلة تحت غطا ٍء وهمي من الحب ،كم أحسدك على الحًلل الذي تعيشينه فهو بالتأكيد أطهر ألف مر ٍة من ال َّدنس الذي أرفل فيه.. ارتدت مًلبسها وخرجت من غرفتها ،جدتها ومحمود الصغير يفترشان أرضية غرفة المعيشة بينما سعاد وسمر تتسامران في الشرفة الخارجية وال وجود ألمها كي تأخذ إذنها ،صعدت الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
ألعلى وألقت نظر ًة خاطفة ،أبوها يدخن بشراه ٍة كعادته ال يكاد يعي ما حوله وال أثر ألمها ،سألت سعاد عن أمها فأخبرتها ٌ ذاهبة إلى أنها ذهبت لزيارة صديقتها أم حسن ،أعلمتها بأنها بيت ثناء التي تعاني آالم المخاض ،استنكرت سعاد خروجها ً خاصة أنَّ الشوارع في هذا الظًلم الدامس والطريق الموحلة خلت تمامًا من المارة وأضافت أن أمها ما كانت لتسمح بخروجها في هذه الظروف مهما كانت المبررات ،عللت هند إصرارها باستنجاد صديقتها بها ثم خرجت ،سارت في الظًلم ً ستعينة بإضاءة هاتفها الخافتة ،حذاؤها الصغير كل بسرعة م ً طبقة جديد ًة من الوحل فتضطر ك َّل بضع لحظا ٍ ت خطو ٍة يجمع للتوقف لتنظيف حذائها ثم تعاود سيرها ،يقع بيت ثناء على أطراف النصف اآلخر من القرية التي تنشطر إلى نصفين بواسطة ترع ٍة كبير ٍة يوازيها الطريق الرئيسي ،وصلت إلى الجسر البدائي المصنوع من جذوع األشجار والذي يربط شطري القرية ببعضهما فوق الترعة الرئيسية ،ح َّكت حذاءها باألسفلت بقو ٍة حتى تتخلص من طبقة الوحل الجديدة ،لم الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
شعور باألمان، تمنحها اإلضاءة الصفراء على الجسر أدنى ٍ خلفية صوت ً ً ية صوت حذائها على األلواح الخشبية للجسر صنع امتزجت مع األجواء الماطرة المظلمة وأكملتا المشهد المخيف ،لمحت على الناحية األخرى من الجسر امرأ ًة ترتدي ردا ًء أسود بالكامل وتحمل حذاءها بيدها ،يبدو أنها خافت عليه من الوحل فآثرت أن تتسخ قدماها بد ًال منه ،طريقة سيرها ً مألوفة لهند لكنها ال تعرف أح ًدا يسكن في الناحية تبدو األخرى من القرية سوى صديقتها ثناء ،سارتا في طريقيهما مقتربتين من بعضيهما وعند المنتصف تواجها ،أفسحت هند الطريق للمرأة لكنَّ المرأة توقفت أمامها مباشر ًة وكشفت عن وجهها ،ألجمت المفاجأة صرخة هند واتسعت عيناها في رعب فالوجه الذي رأته كان آخر وج ٍه تتوقع رؤيته على اإلطًلق في هذه اللحظة ،وج ٌه جام ٌد خًل من أية انفعاالت وأكسبه الظًلم بع ًدا شيطان ًيا مخي ًفا ،أكمل صفير الرياح التي حركت غطاء رأسها أركان المشهد الرهيب ،بسرع ٍة خاطف ٍة دفعتها المرأة بكل قوتها نحو حاجز الجسر الخشبي المتهالك ،حاولت الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
هند التشبث بمًلبس المرأة لكنها لم تفلح ،حاجز الجسر أيضًا لم يسعفها فتهشم وسقط معها إلى أسفل ،ارتطم جسدها بالمياه الباردة بمنتهى القوة ،أطلقت ص ً راخا بائسًا لع َّل أحدهم يسمعها فينقذها ضار ً بة سطح المياه مرارً ا بيديها ،ذراعاها الواهنان لم ً طافية يستطيعا قيادتها إلى أحد جانبي الترعة فقط أبقياها للحظا ٍ ت أخرى حتى خارت قواها ،لم تستجب المياه الراكدة لنداءات غريزة البقاء التي أطلقتها الفتاة ،انتفض الجسد الرقيق ً تاركة إياه يغوص عدة مرات قبل أن تفارقه روحه إلى األبد ببط ٍء إلى مستقره األخير بين مخلفات القاع وعاد الهدوء من جدي ٍد إلى سطح المياه العطنة القاتمة..
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
3 عادت أحًلم من الخارج بعد ساع ٍة تقري ًبا ،أخبرتها سعاد أنَّ ً هندا ذهبت لزيارة صديقتها ثناء التي تعاني آالم المخاض ،لم يكف فمها عن توعد الفتاة التي تأخرت ً جدا بالعقاب طيلة الليل ثم افترشت أرضية غرفة المعيشة انتظارً ا لعودة ابنتها التي لم تعد ،في الصباح الباكر طلبت من سعاد االتصال بثناء التي نفت قدوم هند على اإلطًلق ،ارتدت أحًلم مًلبسها وانطلقت إلى مركز الشرطة لتبلغ عن اختفاء ابنتها ،هناك نصحوها أن تبحث عن ابنتها جي ًدا في كل األماكن الممكنة ألنه لم يمر يو ٌم كام ٌل بعد على اختفائها وإن لم تتمكن من العثور عليها يمكنها الحضور غ ًدا للبدء في إجراءات البحث ،عادت إلى المنزل وسط قلق وتوتر كل من فيه ،عند الظهيرة أتاهم شرطي طالبًا من أحًلم أن تذهب معه إلى قسم الشرطة ،هناك استقبلها الضابط المسئول ثم قادها الى غرف ٍة ملحق ٍة بالمبنى ،الغرفة ٌ سرير متهالك تم َّدد فوقه جس ٌد له نفس طول خالية تما ًما إال من ٍ جسد هند ،قال الضابط بنبر ٍة هادئة: الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
بعد ما خرجتي من عندنا الصبح بساعتين ،جالنا واحد يقولناإنه لقى جثة بنت في الترعة ،شكينا إنها ممكن تكون بنتك فبعتنالك على طول.. تركزت نظراتها على الجسد المسجى تود لو أنَّ لعينيها القدرة على اختراق الغطاء إلى ما دونه ،اقترب الضابط من الجثة ثم أزاح الغطاء األبيض ببط ٍء كاش ًفا عن وجهها وسأل أحًلم: هي دي بنتك يا أحًلم؟..كان وجه الجثة شاحبًا أكسبه الموت بياضًا غريبًا ،تعابير وجه أحًلم تكاد تجزم أنَّ هذه البنت ال تمت إليها بصلة ،كست فعل مختلفة عن الحيرة وجه الضابط ،كان ينتظر منها ردة ٍ ارتياح لو لم تكن المتوفاة هي ابنتها أو جمودها هذا ،فإما زفرة ٍ ً ً قاسية قد تفضي إلى غيبوب ٍة ال تفيق منها أو موت لو صدمة كانت الجثة البنتها لكنها لم تحرك ساك ًنا ،اقترب الضابط كتمثال من الشمع ،هنا نظرت إليه ليتح َّسسها بعدما تصلبت ٍ وقالت في صو ٍ ت متحشرج: الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
أيوه بنتي يا حضرة الضابط..تضاعف استنكار واستغراب الضابط ألف مرة ،لم يخبروه من بأس إلى هذا الحد ،لم تتكون قبل أنَّ النساء في القرى ذوات ٍ دمعة واحد ٌة في إحدى عينيها بل لم يبد أنها تأثرت على اإلطًلق وكأنَّ األمر ال يعنيها ،طلب منها مرافقته الستكمال اإلجراءات ،جلست أمامه في شرو ٍد وتثبتت عيناها كأنها ال تبصر ،قال الضابط وهو يقلب في األوراق: تفتكري إن بنتك ممكن تكون وقعت غصب عنها من فوقالجسر يا ست أحًلم ولًل نكشف عليها علشان نشوف إذا كانت وفاتها ليها طبيعة جنائية.. لم تكن تريد أن يت َّم تشريح الجثة خو ًفا من افتضاح أمر ابنتها، أجابته بدون تردد: ال يا حضرة الضابط ،بنتي لسه عيلة وملهاش أعداء نهائيوحتى لو فيه حد بيكرهها مفتكرش إن األمر يوصل بيه إنه يقتلها.. الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
طيب عندك معلومة توضحيها لنا بسبب خروجها في الوقتدا ولوحدها؟.. كانت رايحة لصاحبتها علشان بتولد.. يعني نقفل المحضر يا ستي؟..أومأت برأسها إيجابًا ببطء دون أن تتفوه بحرفٍ واحد ،أمر الضابط كاتبه بإقفال المحضر على أنَّ الوفاة قدرية ،أعطاها الكاتب قلمًا كي توقع فوضعت بصمتها وقامت من جلستها، كاد الفضول يقتل الضابط فلم يستطع منع نفسه من سؤالها: اعذريني يا ست أحًلم في كًلمي بس أنا مش حاسس إنكاتأثرتي نهائي وكأن اللي ماتت دي مش بنتك.. نظرت إليه مباشر ًة في عينيه ،وقالت في جمود: الحزن حزن القلب يا حضرة الضابط ،وأنا ست مؤمنة إنكل شيء متقدر ومكتوب ويمكن موتها خير ،مين يعرف؟.. الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
كاد يصرخ في وجهها" :أنا حاسس من برودك دا إنك كنتي بتكرهيها وبتتمني موتها" ،لكنه حافظ على هدوئه وهو يطلب من أحد العساكر مرافقتها حتى تستخرج تصريح الدفن.. عندما عادت إلى المنزل كانت الحيرة تأكل عقول النسوة، حماتها وسعاد وسمر حتى محمود الصغير ترك ألعابه التي يلهو بها وتطلع الى أمه في براءة ،على عكس المتوقع كان سيد هو أول من سأل: إيه اللي حصل يا أحًلم؟..نظرت إليه نظر ًة مقيتة؟ كادت تسأله ما الذي دعاك إلى االستيقاظ مبكرً ا يا سي السيد؟ هل ً فعًل تذكرت أن لك ابنة ً أصًل؟ لكنها أجابت: ربما أصابها مكروه؟ بل هل تتذكر اسمها لقوها واقعة في الترعة الكبيرة..اشرأبت األعناق إليها في حير ٍة ملهوفة فأدارت وجهها وجسدها بالكامل عن الجميع ،وأردفت: الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
ميتة..ً صرخة أسمعت القرية بأكملها ،اتسعت عينا صرخت سعاد حماتها بشدة ود َّقت صدرها بيدها ،شهقت سمر ثم انهارت ً مغشيا عليها ،سقط سيد أرضًا ووجهه ينم عن شيء من الصدمة لكنه لم يذرف عبر ًة واحدة بعدما أفقدت المخدرات قدرة عينيه على تكوين الدموع ،حتى محمود الصغير انفجر في البكاء عندما رأى ردات الفعل هذه..
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
الفصلُُاألخير ُ
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
1 طوى الليل المنطقة بأكملها تحت جناحيه ومنع ضوء القمر من كن من الشارع ،أعمدة اإلنارة تواطأت فيما الوصول إلى أي ر ٍ بينها على العطب في نفس الوقت وفرضت النوافذ الخشبية حصارً ا على األضواء الداخلية للبيوت فمنعتها من التسلل إلى الخارج ،القطط النائمة بجوار جدران البيوت على امتداد الشارع استيقظت على صوت خشخشة أقدام أحدهم ،كان القادم من نهاية الشارع يترنح كمصا ٍ ب نزف كثيرً ا يقاوم السقوط، تحفزت القطط وبدأت التجمع إلى جوار بعضها البعض ،لم يبد أنَّ المترنح رآها أو شعر بها على األٌقل ،مرَّ من أمامها وعيناه تكادان تتدليان من رأسه ،فجأة فزعت القطط وانفرط عقد تجمعها وذهبت كل واحد ٍة في اتجا ٍه ما فمن خلفها تمامًا انفصل ٌ ٌ بروز التحم مع الجدار على بروز ما عن جدار أحد المنازل، مدى الساعتين الماضيتين فلما اقترب منه هذا الجسد المترنح استفزه ليبرح مكانه ،حاول وليد تحريك أجفانه الثقيلة لتتسع أكثر حتى يتبين ماهية هذا الشيء لكنها لم تستجب له ،سأل في الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
عصبية "إنت مين؟" ،لم يجبه البروز وإنما التف حوله بسرعة ،وضع يسراه على فم وليد كي يمنعه من الحديث ثم أخرج سكي ًنا حا ًدة من جيبه الخلفي في خفة ووضع مقدمة نصلها على صدر وليد أمام القلب مباشرة ،بصو ٍ ت أشبه بالفحيح همس المجهول في أذن وليد بكلما ٍ ت ما ،بلغ ارتياع وليد مداه وسقط األسمنت من على أجفانه فارتفعت حتى التصقت بحاجبيه ،حاول الصراخ لكن اليد القابضة على فمه وأدت صرخته في مهدها ،انتفخت أوداجه وانفتحت مسام جلده على مصارعها تطرد العرق ولم تستطع طرد الرعب معه، ً عبثا حاول التشبث بأي شيء لكن اليد التي توجه السكين إلى قلبه ضغطته أكثر فتوقف عن المقاومة ،استمع في رع ٍ ب ج َّمد أوصاله إلى صوت الملثم فاستسلم تمامًا آلسره ،كانت أمنيته ً فرصة أخرى للتكفير في تلك اللحظة أن يعطيه هذا المجهول عن جريمته لكن الملثم لم يكن على استعدا ٍد للتفاوض ،يبدو أنه جاء لتنفيذ مهمته بدون استعدا ٍد لسماع أي حر ٍ ف من هذا الحقير ،بدون مقدما ٍ ت انغرزت السكين في صدر وليد بمنتهى الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
ً شاقة القسوة ،عبرت جلده ولحمه واخترقت قفصه الصدري طريقها إلى القلب مباشر ًةَّ ، مزق نصلها جدار القلب واقتحم بطينيه من أسفل بًل رحمة ،لم يسحب المجهول سكينه من قلب وليد وظ َّل م ً تشبثا بها بكل قو ٍة وغضب ،اندفع الدم األحمر الدافئ من القلب الم َّمزق وسال منزل ًقا على قبضة محمد ليطفئ نيران قلبه المستعرة ،خارت قوى جسد وليد فأسجاه محمد انتقام كجزار يتج َّهز لنحر ذبيحته ،لم يكن مجرد على األرض ٍ ٍ لنفسه ولشرفه فقط بل انتقامًا ألخته البريئة التي دنسها هذا الحقير مستبيحً ا جسدها فدفعت حياتها ثم ًنا لخ َّسته وحقارته، حاول جسد وليد التمسك بروحه التي بدت وكأنها تنتظر هذا زمن بعيد ،انفجرت الدماء من فمه وأنفه في وجه الخًلص منذ ٍ محمد لكنه لم يكترث لها ولم يحاول مسحها ،دما ٌء نجسة تطهر الرجس الذى علق بشرفه ،سحب السكين من صدر ضحيته بمنتهى البطء ودار حول الجسد ورفع رأسه إلى أعلى ً قليًل وبمنتهى البرود ذبح عنقه ،اندفعت الدماء من بين لحم الرقبة المشقوق كنافور ٍة أفقية ،انتفض الجسد للحظا ٍ ت في تتابع الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
تنازلي ثم سكن إلى األبدَّ ، مزق محمد ثياب الجثة التي انخفضت حرارتها شي ًئا فشيئا ،مسح بيده الدماء اللزجة من ً كلمة من أربع حروف" ،قصاص" ثم فوق البطن ونقش عليها نظر إلى ذبيحته في رضًا تام ،أت َّم ثأره على النحو الذى أراد، و َّد لو أنه يستطيع دعوة بعض الذئاب إلى هذه الوليمة الطازجة ،تل َّفت حوله في حرك ٍة غريزي ٍة مطمئ ًنا إلى أنَّ أح ًدا لم يره ،فقط عيون القطط الًلمعة في نهاية الشارع هي التي تراقب الموقف ،ترك الجثة في عرض الشارع ثم اتجه إلى منزل وليد ،فتح الباب الذي لم يكن موص ًدا بإحكام ،نظر إلى بحر من الدماء وإلى جوارها أمها جثة سماح الغارقة في ٍ المغشي عليها ،قتل االبن واالبنة وترك أمهما تحيا بدونهما في جحيم أبدي جزا ًء لما فعلته بأمه ،روت الدماء عطش غضبه ٍ حتى الثمالة ،ألقى نظر ًة أخير ًة على جثة وليد وتفل عليها ،أعاد لثامه المضرَّ ج بالدماء وغطى به وجهه من جديد ثم ترك رائحة الموت تحل مح َّل الظًلم.. 2 الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
التمعت عينا أحًلم بشد ٍة كنجمتين متوهجتين عندما أشار إليها ضبة بالدماء ،لقد أنجزت المهمة على أكمل وجه بيده المخ َّ وانتقمت من أم وليد وابنها وبنتها ،تذكرت يوم أن رأت ابنتها في غرفة وليد ،تذكرت حقارة أمه وهي ترعى عًلقة ابنها اآلثمة مع هند وتذكرت ليلة أن دفعت ابنتها من فوق الجسر الخشبي ،لم تكن هذه النهاية التي أرادتها لها عندما أنجبتها، كانت تتمنى يومًا أن تحمل أطفالها وتداعبهم ال أن تحمل ألم قتلها في صدرها إلى األبد ،لم تكن تتخيل أنَّ حياة ابنتها حيوان آسن كأي ستنتهي على يديها في ظًلم الليل في ما ٍء ٍ ٍ نافق ،تحسست الجزء من عباءتها الذي مزقته هند عندما حاولت التشبث بها ،دوت صرخة هند في أذنيها من جديد واستعاد عقلها منظر عيني ابنتها الذاهلتين وهي تهوي في المياه ،وقتها أخذت شهي ًقا قو ًيا مشبعًا بالهواء الذي دنسته جريمتها الشنعاء وتلفتت حولها في حذر ،لم يكن هناك سوى أشجار الكافور التي ن َّكست رؤوسها حتى ال تشاهد أ ًما تنهي حياة ابنتها ،اطمأنت إلى أنَّ ال أحد يراقبها من أي مكان الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
فخلعت جوربيها المتسخين وألقتهما بجوار كوم ٍة من القمامة ثم ارتدت حذاءها وعادت إلى المنزل كأنَّ شي ًئا لم يكن، أخبرتها سعاد بأنها حاولت إثناء هند عن الخروج لكنها لم تفلح ،تص َّنعت الغضب وتوعدت هذه الفاسدة بقاسي العقاب، خلعت مًلبس الجريمة وفي الصباح ذهبت إلى قسم الشرطة إمعا ًنا في إتقان المهمة ،ظلَّت تكتم ك َّل شي ٍء بداخلها حتى انتهت مراسم العزاء ثم أخبرت ابنها بكل شيء ورسمت له دوره المطلوب وها هو قد أدى مهمته على النحو األمثل كما أرادت تمامًا ،آن األوان ليهدأ عقلها ويطمئنَّ قلبها ويرتاح جسدها.. دخلت إلى غرفتها ثم استلقت على سريرها ونامت، نامت إلى األبد..
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
3 ما زال هاتفه مغل ًقا ،راسلته عبر الفيس بوك لكنه لم ير الرسائل بعد ،صارت كالمجنونة ال تنام ،تطالع هاتفها في الساعة مائة مرة لعله يبعث إليها بشيء يهدئ جنونها ويطفئ هلعها ،أسبوعٌ مرَّ ولم يرسل أيَّ شيء وهو يعلم تمامًا كيف تكون حالتها عندما تجهل مكانه.. رق ٌم غريبٌ يتصل بها عدة مرا ٍ ت وال تجيبه رغم أنَّ قلبها يحدثها أنه هو ،أجبرها يومًا ما على القسم بأال تجيب رقمًا ٌ غريبًا ً رسالة من نفس الرقم "ردي عليا يا علياء ،أنا أبدا ،أتتها سمر" ،بصو ٍ مبحوح من شدة البكاء أبلغتها سمر أن ت ٍ صل على منح ٍة للدراسات الحديدي سافر إلى إسبانيا بعد أن تح َّ العليا هناك وأقسمت لها أنها مثلها لم تكن تعرف شي ًئا حتى أبلغها قبل دقائق فقط طالبًا منها أن تخبر علياء باألمر ألنه لم يجد لديه القدرة على إبًلغها بنفسه..
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
لو هزم الرعد في أذنيها لكان هزيمه أهون عليها مما سمعت، ولو سحقتها صاع ٌ قة وأحالتها عدمًا لكان أرحم بها مما تشعر به اآلن ،تباعدت األشياء حولها وتضاءل جسدها حتى قارب ٌ الفناء وابتلعتها هوَّ ةٌ سحيقة ألقت بها إلى قعر الجحيم ،بدت كتمثال أصم في قلب كهفٍ مهجور ،حركتها الصدمة لدقائق ٍ نحو حاسوبها ففتحت صفحتها على الفيس بوك وبمدا ٍد من لظى صاغت كلماتها: ما بالكم؟.. تلقون إلينا بقصاصا ٍ ت فيها أرقام هواتفكم أو تدفعون صديقاتنا الجتذاب اهتمامنا.. نصم آذاننا عن معسول كًلمكم ونقاوم طرقاتكم على أبواب قلوبنا.. نبلو صبركم ونختبر صدقكم ،ننظر من خلف األسوار إلى مكامن أعماقكم حتى إذا ما وجدنا في أنفاسكم بصيصًا من الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
الحب فتحنا لكم أفئدتنا على مصارعها وجعلناكم ملو ًكا على عروشها فتعيدون تكوينها من جديد.. روي ًدا روي ًدا نثق فيكم.. نصدق عهودكم ومواثيقكم بأن حيواتنا معكم ستكون فراديس سعادة وجنان حب وحدائق بهجة.. وآفاق مًلئكية ،نبحر معكم في نسافر معكم إلى عوالم وردي ٍة ٍ بحار العشق ونحلق معكم في سماوات الوله.. نذوب على وقع قسمكم بأنَّ ما يجمع قلوبنا بكم سيظل خال ًدا أبد اآلبدين وأنَّ انطباق السماوات على األراضين لن يمحو أثره.. نرضى منكم بالقليل من كًلم الهوى ألنه ينتقص من رجولتكم على حد زعمكم فيما نتقرَّ ب به إليكم آناء الليل وأطراف النهار.. نقبل ثوراتكم ونمتص غضبكم سواء كان بسب ٍ ب أو كالمعتاد بًل سبب.. الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
تنصبون محاكمكم وتصدرون أحكامكم ،تعدون مشانقكم وتسنون مقاصلكم إذا ما بدرت منا فقط بادرة خطأ.. حتى إذا ما تملكتمونا وصرنا كالجواري أمام عروش رجولتكم ،ترحلون.. ترحلون عندما تكونون أنتم الخبز والملح والماء ،وتغلقون ك َّل ً واحدا على حافة الهاوية.. أبواب الحياة علينا وتتركون بابًا ترحلون هكذا ،بًل سب ٍ إشعار بل حتى بًل كذب.. ب وبًل ٍ أيها الراحلون لماذا رحيلكم دومًا يكون عند ق َّمة تعلقنا بكم وعندما تكون دنيانا قاصر ًة عليكم؟..
تصرون أن يكون رحيلكم قاسيًا ،صادمًا ومفاج ًئا ،كاإلعصار الهادر يسحق األشجار ويدهس األزهار ،يمحق األماني وينسف اآلمال في البحار ،حتى إنه ينزع األلوان من قوس قزح.. الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
تركتم قلوبنا كالخرق البالية أو كأعجاز النخل الخاوية بعد أن كانت البًلبل على فروعها المورقة تصدح بحروف أسمائكم.. ذبحتم البسمة على شفاهنا وأجريتم العبرات على وجوهنا، تركتم اللوعة تحرق أفئدتنا وأطلقتم الكمد يأكل أكبادنا.. رحلتم بعد أن أضفتمونا إلى قوائم ضحاياكم التي تبرزونها في مقاهيكم ومجالسكم ،تدخنون آالمنا وتلوكون عذاباتنا وتحتسون أوجاعنا.. نركع ونجثو أمام الزمان كي ينسينا رحيلكم ونكفكف الدمع لدمع آخر ما زال في طور التكون على حتى نفسح الطريق ٍ شطآن أجفاننا.. تمر األيام والشهور والسنون تحاول مداواة جروحنا ،تلتئم أو هكذا نظن.. حتى إذا نسيناكم وارتحلت ذكراكم ع َّنا كما ارتحلتم من قبل، عدتم.. الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
عدتم تغمسون أصابعكم في جراحنا ،وتلهبون قلوبنا بسياط الذكريات التي قتلتموها أنتم.. عدتم تذكرونا باأليام الخوالي والليالي الطوال.. عدتم تذكرونا بالعهود والمواثيق وبما ع َّقدتم من األيمان التي كافر بها.. كنتم أنتم أول ٍ تسوقون أعذارً ا وتذرفون من مآقيكم أنهارً ا ،تعضون أنامل الندم معلنين التوبة النصوح راجين منا أن نوقع لكم على صكوك الغفران.. م َّنا من يسقطن أمام حنينهن إليكم ،يضعن أيديهنَّ بإرادتهنَّ في جحور الكاذبين المخادعين للمرة الثانية ،ال يعلمن أنكم ستحطمون قلوبهنَّ مرارً ا وتكرارً ا ثم تعودون فتتركونهنَّ كذرات الرماد على أرصفة الحياة ،وم َّنا من يتركن األمر لرب األرباب كي يجبر كسرهنَّ ويقتصَّ لهنَّ منكم.. باسم كل من تعللتم لهنَّ بالقدر والحظ والنصيب.. الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
باسم كل الفتيات والنساء الًلئي عبثتم بأرواحهنَّ ورقصتم ساخرين على إيقاع دقات قلوبهنَّ منذ بدء التاريخ وحتى فناء الخليقة.. باسم كل األجساد التي استبحتموها ود َّنستموها ورفعتم عليها رايات انتصاركم الحقير.. باسم كل امرأ ٍة أنهت حياتها بيديها بعد أن امتصصتم رحيق روحها وتركتموها م ً علقة على شفير الجحيم.. باسم كل الًلئي واعدتموهنَّ س ًرا وتركتموهنَّ جهرً ا.. باسم الم َّ عذبات الباكيات في هجيع الليل.. باسم التائهات الحائرات على قارعة المستقبل.. باسمهنَّ كلهنَّ .. سح ًقا لكم .. المنصورة -سبتمبر 2112 الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
رسالة إلى ك ِّل الكادحات في هذا الوطن وفي هذا الزمان، إلى ك ِّل ال ُمهمشات الالئي عشنَ حياةً لم يبتسمنَ فيها يو ًما. ُ الزمان إلى ك ِّل اللواتي ُولدنَ فعـشنَ ألجل غيرهن ثم رحلن ولم يعُد ق من ذكرهن إال دع ُ وات أبنائهن بالرحمة. يذكرهُن بشيء ولم يب َ شقاؤ ُكن في هذه الحياة ينف ُد وما عن َد هللا باق..
الراحلون – أحمد إبراهيم موسى
ِلنَّ الشعر يبقى
ارتحلنا وصا َر الهوى أم ًسا ي بعدك أال تَد َم ُع فكيفَ لعينا َ وكيفَ أه َج ُع في ليل كاحل وأ ُ ُ ذن غيري لصوتك تس َم ُع أتُو ُ ق لخن َجر الردَى يُمزقُني فال يت ُر ُ صبًا يتوج ُع ك في َجسدي َع َ هو الق َد ُر طُويَت صحائفُه طو ُل البُكاء لديه ال يشفَ ُع أحمد إبراهيم موسى
تمت بحمد هللا تعالى الراحلون – أحمد إبراهيم موسى