العدد 150 أبريل 2020

Page 1


‫ميشيل بوتور‬

‫بحوث‬

‫‪98‬‬ ‫ميشيل بوتور‬ ‫بحوث في الرّ وَ اية َ‬ ‫الجديدة‬ ‫يوليو ‪2019‬‬

‫ترجمة‪:‬‬

‫فريد أنطونيوس‬

‫‪97‬‬

‫صانع الـمرايا‬ ‫مختارات شعرية‬ ‫ترجمة‪ :‬خالد الريسوني‬

‫لِ‬ ‫نَّنِي إِ ْذ أَمْشِ ـي بِاتِّجَا ِه ِه‬ ‫أَتَذكّ ُر أَ َّن مر‬ ‫َ ْكَ َز ذَاتِـي ِفـي ِفلِسْ طِ نيْ‪.‬‬ ‫َوإِذَا ق َ‬ ‫َال لِـي أَ َ‬ ‫ح ٌد لَي َ‬ ‫ْس ث َـ َّم َة ِفلِسْ طِ نيْ‪،‬‬ ‫حِي َنئِذٍ َمركَز‬ ‫ْ ُ ذَاتِـي سَ يَسْ قِي ِه العَالَمُ‪،‬‬ ‫حيْثُ لَي‬ ‫ُه َو ُهنَال َِك‪َ ،‬‬ ‫ْس‬ ‫ث‬ ‫َـ‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫ة‬ ‫َ‬ ‫خ‬ ‫ر‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ِي‬ ‫َ‬ ‫ط‬ ‫ِ‬ ‫ة‬ ‫ٍ‪،‬‬ ‫ف‬ ‫ـي‬ ‫ال ُ‬ ‫حلْمِ سَ َيكُونُ‪.‬‬

‫خوان مانويل روكا‬

‫ُ‬ ‫ني‬ ‫أ ْغ ِن َّي ُة ِفلِ ْ‬ ‫سطِ ْ‬ ‫َرأَي ُ‬ ‫ْت َز ْهر ًة‬ ‫َ تُشْ ِب ُه ِم ْنقَا َر الطُّوقَانِ ‪،‬‬ ‫َرأَي ُ طِ‬ ‫ْت ْفالً يَ ْعز ُِف الك َ‬ ‫َم َن ِفـي ال َ‬ ‫حدِ ي َقةِ‪،‬‬ ‫َرأَي ُ‬ ‫ْت ال ِّريحَ تَع ُ‬ ‫ْب ُمت َ ْ‬ ‫َس ِبلَ ًة ِبأَشْ جَا ِر الج ْو ِز‬ ‫لَ ِكنِّي اليوم‬ ‫حدَّثَ‬ ‫َ ْ َ الَ أسْ تَطِ ي ُع أَ ْن أَتَ َ‬ ‫ش ٍء آ َ‬ ‫عَنْ َ ْ‬ ‫خر سِ و‬ ‫َ َى َزهْر ِة دَمٍ ِفـي ب َْيُوتَ ‪،‬‬ ‫ُم ْ‬ ‫خ َتلِ َف ٍة عنْ طِ‬ ‫جهٍ‪،‬‬ ‫فْلِ ب َْيوتَ ب َِال َو ْ‬ ‫ُم ْ‬ ‫خ َتلِ َف ٍة عَنِ ال ِّري‬ ‫حا‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫مل‬ ‫ت‬ ‫ِ‬ ‫َس‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ة‬ ‫ب‬ ‫ِ‬ ‫ِاال‬ ‫ن‬ ‫ت‬ ‫ْ‬ ‫ح‬ ‫َا‬ ‫ب‬ ‫َاتْ ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫كل‬ ‫ٍ‬ ‫ِفـي صَ مْت ث َـم َة‬ ‫يني مُتخ ٍ‬ ‫َّ َرج ٌُل ِفلِسْ طِ ٌّ‬ ‫َف‪.‬‬ ‫الطَّر ُ‬ ‫ِيق إلَـى بَيتِي يَ ْغدُو طَوِيالً‬

‫يونيو ‪2019‬‬

‫‪112‬‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫يف ال ّر َواية ال َ‬ ‫جديدة‬

‫ترجمة‪ :‬فريد أنطونيوس‬

‫العـامل الـذي‬ ‫نعيـش فيـه يتغـر ب‬ ‫ِّ رسعـة كبـرة‪ .‬والتقنيـات‬ ‫التقليديـة ل‬ ‫لـرسد‪ ،‬مل تعد صالحة السـ‬ ‫ال‬ ‫تيعاب جميع العالقات‬ ‫جديـدة التـي تنشـأ عـن‬ ‫هـذا‬ ‫ا‬ ‫لوضـع‬ ‫ال‬ ‫جديـد‪ .‬وإن التفتيـش‬ ‫عـن األشـكال ال‬ ‫جديـدة الخياليـة التـي‬ ‫بقـوة اسـتيعاب‬ ‫تتمتَّـع ّ‬ ‫كـرى‪ ،‬ي‬ ‫لعـب‪،‬‬ ‫ً‬ ‫دور‬ ‫ا‬ ‫حاسـا يف‬ ‫تحيـن مفهومنـا للواقـع‬ ‫اآلين‪..‬‬ ‫لكننـا‬ ‫نعـرف‬ ‫جيـداً أن هنالـك أ‬ ‫وضاعـ ًا تتصـف بعـدم‬ ‫القـدرة عـى‬ ‫االنعـكاس‪ ،‬وال تقـوم ّإال‬ ‫بالوهـم الـذي تسـبغه‬ ‫عـى موض‬ ‫وعهـا‪ ،‬وإليهـا تنتمـي تلـك ا‬ ‫ألعـال األدبيـة التـي ال‬ ‫ميكـن‬ ‫أن تظهـر الوحـدة يف‬ ‫دا‬ ‫خلهـا‪،‬‬ ‫وإليهـا‬ ‫تنتمـي مواقـف‬ ‫الروائيـن الذيـن ال‬ ‫ِّ‬ ‫يتس‬ ‫ـاءلون‬ ‫عـن‬ ‫طبيعـة‬ ‫صحة‬ ‫عملهـم وعن ّ‬ ‫األشـكال التـي‬ ‫يسـتعملونها‪ ،‬هـذه األ‬ ‫تن‬ ‫شـكال التـي ال ميكـن أن‬ ‫عكـس‬ ‫دون‬ ‫أن‬ ‫تك‬ ‫شـف‪ ،‬عـى الفـور‪،‬‬ ‫عـن تقصرهـا وكذبهـا‪،‬‬ ‫وهـذه‬ ‫األ‬ ‫شـكال‬ ‫التـي تعطينـا صـورة‬ ‫عـن الحقيقـة تناقـض كلّ‬ ‫املناقضـة ال‬ ‫حقيقـة التـي جعلتها تـرى‬ ‫النور‪،‬‬ ‫والتـي‬ ‫تحاول‬ ‫ت‬ ‫أن‬ ‫خفيهـا‪ .‬هنـا خـداع ينبغي‬ ‫للناقـد أن يكشـفه‪ ،‬ألن أعا ً‬ ‫ال أدبية‬ ‫كهـذه‪ ،‬مـع‬ ‫كلّ مـا تتمتَّـع بـه مـن‬ ‫روعـة‪ ،‬تُبقـي عـى الظـالم‪،‬‬ ‫وتزيـده حلكـة‪،‬‬ ‫وتبقـي‬ ‫ال‬ ‫ضمـر‬ ‫يف‬ ‫متناقضاتـه‪ ،‬ويف عـاه‬ ‫الـذي‬ ‫يخـى أن يقـوده إىل‬ ‫أسـوأ حـاالت الفـوىض‪.‬‬

‫خْ و ْ‬ ‫َان َمان ِْويلْ رُّوكَا‬

‫َصان ِ ُع الـ َم َرايَا‬ ‫مختارات شعرية‬ ‫تر‬ ‫جمة‪ :‬خالد الريسوني‬


‫رئيس التحرير‬

‫فـالــح بن حســـني الهـاجـــري‬

‫مدير التحرير‬

‫خـــالد العــودة الفـضـــيل‬

‫التحرير‬

‫محـســن العـتيقـي‬ ‫نور الهدى سعودي‬

‫التنفيذ واإلخراج‬

‫رشا أبوشوشة‬ ‫هـــنـد البنسعيد‬ ‫فلوه الهاجري‬

‫جميــع املشــاركات ترســل باســم رئيــس‬ ‫التحريــر عــر الربيــد االلكــروين للمجلــة أو‬ ‫عــى قــرص مدمــج يف حــدود ‪ 1000‬كلمــة‬ ‫عــى العنــوان اآليت‪:‬‬ ‫ص‪.‬ب‪ - 22404 :.‬الدوحة ‪ -‬قطر‬

‫البريد اإللكتروني‪:‬‬

‫‪editor-mag@mcs.gov.qa‬‬ ‫‪aldoha_magazine@yahoo.com‬‬ ‫تليفون ‪)+974( 44022295 :‬‬ ‫فاكس ‪)+974( 44022690 :‬‬

‫ُعــر عــن‬ ‫املــواد املنشــورة يف املجلــة ت ِّ‬ ‫ُعــر بالــرورة عــن رأي‬ ‫آراء كتّابهــا وال ت ِّ‬ ‫الــوزارة أو املجلــة‪ .‬وال تلتــزم املجلــة بــردّ‬ ‫أصــول مــا ال تنــره‪.‬‬

‫ملواجهة «كورونا»؟‬ ‫ومثقَّف ًا‬ ‫َ‬ ‫كيف نبني مجتمع ًا واعي ًا ُ‬ ‫ويقــال في تعريــف الثقافة‬ ‫ُيقــال فــي تعريــف‬ ‫ُّ‬ ‫التخصــص «إنــه معرفة كلّ شــيء عن شــيء»‪ُ ،‬‬ ‫ـاء علــى‬ ‫«إنهــا معرفــة شــيء عــن كلّ شــيء»‪ ،‬وهنــا وجــدت مج ّلــة «الدوحــة» ضالتهــا‪ ،‬وبنـ ً‬ ‫الثقافية‪.‬‬ ‫رشــدت بوصلتهــا‬ ‫ذلــك ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـلبية الراهنــة التــي تحيــط بنــا‪،‬‬ ‫والكتشــاف دور الثقافــة الكبيــر علينــا النظــر إلــى النتائــج السـ ّ‬ ‫أو نقــع بهــا‪ ،‬ثــم نبتعــد قليـ ً‬ ‫ا لنــرى مــا هــي األســباب الكامنــة وراء هــذه النتائــج‪ ،‬وهنــا نــرى‬ ‫وربما الفســاد‬ ‫أســباب ًا شـ َّتى للتخ ُّلــف فــي كلّ المياديــن‪ ،‬مثــل اإلهمــال‬ ‫ـي‪َّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫اإلداري ُ‬ ‫والمؤسسـ ّ‬ ‫ً‬ ‫ـرع عــن‬ ‫ـ‬ ‫وتتف‬ ‫ـدر‬ ‫ـ‬ ‫تنح‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫جميع‬ ‫ـباب‬ ‫ـ‬ ‫األس‬ ‫ومــا شــابه‪ ،‬ولكــن لــو ابتعدنــا أكثــر لوجدنــا أن هــذه‬ ‫َّ‬ ‫ِع ّلــة واحــدة كامنــة وراءهــا جميع ـاً‪ ،‬أال وهــي ِع ّلــة الوعــي‪ ،‬فعندمــا يحضــر الوعــي تغيــب‬ ‫وتقويته‬ ‫هــذه العلــل‪ ،‬وعندمــا يغيــب تتفاقــم‪ ،‬والعالقــة عكســية‪ ،‬والثقافــة هــي رافد الوعــي‬ ‫ّ‬ ‫وتوســيع دائرتــه‪.‬‬ ‫ـم‬ ‫هنــا تلعــب المنابــر الرائــدة دورهــا الحاســم‪ ،‬وتؤتــي أكلهــا فــي إدارة الوعــي الفـ ّ‬ ‫ـردي‪ ،‬وأهـ ّ‬ ‫قضيتنــا العضــال فيــه‪ ،‬فبالدنــا مليئــة‪ ،‬وللــه الحمــد‪،‬‬ ‫منــه الوعــي الجمعــي‪ ،‬الــذي تكمــن‬ ‫ّ‬ ‫بالمواهــب والعطــاءات والبــراءات‪ ،‬ولكنهــا‪ -‬غالباً‪ -‬ما تكــون‬ ‫فردية متناثــرة ال تكفي للنهوض‬ ‫ّ‬ ‫المجتمعي ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الرقي عند االزدهار‪ ،‬وهــي درج اإلنقاذ عند األزمات وحدوث الكوارث‪،‬‬ ‫ـلم‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ل‬ ‫أو‬ ‫ـي‬ ‫الثقافــة هـ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫حد‬ ‫على‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫جميع‬ ‫ـدول‬ ‫ـ‬ ‫ال‬ ‫ـال‬ ‫ـ‬ ‫ويط‬ ‫ـوم‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫الي‬ ‫ـره‬ ‫ـ‬ ‫بأس‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫العال‬ ‫د‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ي‬ ‫ـذي‬ ‫ـ‬ ‫ال‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الكارث‬ ‫ـال‬ ‫ـ‬ ‫المث‬ ‫وال ســيما‬ ‫ُ ِّ‬ ‫ٍّ‬ ‫عالمي‪.‬‬ ‫الصحــة العالمية إلى وبــاء‬ ‫ـول بتقدير منظَّ مة‬ ‫َّ‬ ‫ســواء‪ ،‬وهــو وبــاء «كورونــا»‪ ،‬الذي تحـ َّ‬ ‫ّ‬ ‫الطبيــة لضــخ‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫الثقاف‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫تتدخ‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ـإن‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫‪،‬‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ثقاف‬ ‫ـاط‬ ‫ـ‬ ‫من‬ ‫طبيـ ًا فإنــه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫قبــل أن يكــون منــاط األمــر ّ‬ ‫ّ‬ ‫تتدخــل‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫وإن‬ ‫ـر‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫خطي‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫ج‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫فاألم‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫اجتناب‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫يج‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫وم‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫فعل‬ ‫اإلرشــادات وتكشــف مــا يجــب‬ ‫ّ‬ ‫االجتماعيــة للنهــي عــن الحشــود ومراكــز االزدحــام وتقليــص الزيــارات والواجبــات‬ ‫الثقافــة‬ ‫ّ‬ ‫االجتماعية والحفاظ على مســافة كافية‪ ،‬فإن التفشــي‬ ‫االلتزامات‬ ‫ـات‬ ‫ـ‬ ‫الجماع‬ ‫ـف‬ ‫وتخفيـ‬ ‫وكلّ‬ ‫ّ‬ ‫واقــع ال محالــة‪ ،‬وإن الوبــاء سيستشــري فــي الشــعوب كالنــار فــي الهشــيم‪ .‬ولعــلّ الجانــب‬ ‫الســن والرفــق بهم‪ ،‬وهــم األكثر عرضة‬ ‫ـاني كطمأنــة كبار ِّ‬ ‫ـي األهــم هــو الجانــب اإلنسـ ّ‬ ‫التثقيفـ ّ‬ ‫للهــاك بهــذا الفيــروس‪ ،‬ولتالفــي حــاالت العــدوى العمــد التــي يقــوم بهــا بعــض المصابيــن‬ ‫ـقٍ‬ ‫ـي ليحــلَّ باآلخريــن مــا حــلَّ بهــم‪ ،‬ولتخفيــف تهافــت النــاس علــى تخزيــن‬ ‫مــن منطلـ أنانـ ّ‬ ‫ـم‬ ‫التموينيــة‬ ‫المــواد‬ ‫والطبيــة‪ ،‬والــذي مــن شــأنه أن يتسـ َّـبب بســوء التوزيــع‪ ،‬فيســتأثر قسـ ٌ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫األنانيــة بســبب الخــوف‪.‬‬ ‫ـزداد‬ ‫ـ‬ ‫وت‬ ‫ـم‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫غيره‬ ‫دون‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫بالبضائ‬ ‫ـاس‬ ‫ـ‬ ‫مــن الن‬ ‫ّ‬ ‫بالمثقَّفيــن فــي هــذه المرحلة مثــل دور مضيفــي الطيران عنــد الكوارث‬ ‫ـوط‬ ‫ـ‬ ‫المن‬ ‫ـدور‬ ‫ـ‬ ‫ال‬ ‫يشــبه‬ ‫ُ‬ ‫ـراري‪ ،‬حيــث يكــون الخــوف ســيد الموقــف‪ ،‬فيكــون عمــل‬ ‫الجويــة وحــاالت الهبــوط االضطـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫المضيــف مضاعــف المشــقة‪ ،‬فعليــه أن يتجــاوز خوفــه‪ ،‬وأن يعمــل علــى طمأنــة الــركاب‪،‬‬ ‫وإرشــادهم إلــى الخطــوات التــي قــد تنفعهــم‪ ،‬وتخ ِّفــف مــن صدمتهــم‪ ،‬وقــد تكــون طــوق‬ ‫وإل ســينقلب اإلعالم‬ ‫المثقَّفيــن والمنابر المســموعة عملــه‪ّ ،‬‬ ‫نجاتهــم‪ ،‬وهــذا مــا ينبغــي علــى ُ‬ ‫مــن نعمـ ٍ‬ ‫ـة إلــى نقمــة‪ ،‬وســيكون فعــل فعلــه فــي إثــارة الرعــب بيــن النــاس‪ ،‬ولم يفعــل فعله‬ ‫فــي إنــارة الطريــق ووضــع التدابيــر‪.‬‬ ‫تميــزت بــه مج ّلــة «الدوحــة» التــي ال تغيــب فــي هــذه األوقــات‪ ،‬بــل تكــون أكثــر‬ ‫وهــذا مــا َّ‬ ‫ـوي الكبيــر‪ ،‬وهــذا ال ينفصــل عــن برنامج الدوحــة عموم ًا‬ ‫ـ‬ ‫التوع‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ودوره‬ ‫ـا‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫بطروحاته‬ ‫حضــور ًا‬ ‫ّ‬ ‫واالهتمــام مــن أعلــى المســتويات والوقــوف علــى الكارثة بكلّ الطاقات‪ ،‬والســهر علــى تدابير‬ ‫الوقايــة‪ ،‬ال مــكان لالســتهتار‪ ،‬وال مجــال لدفــن الــرؤوس فــي الرمــال‪ ،‬وال يمكــن تخطــي هذه‬ ‫والجمعيــة العاليــة‪.‬‬ ‫الفرديــة‬ ‫بمعيــة الثقافــة‬ ‫المرحلــة ّإل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫رئيس التحرير‬


‫‪150‬‬ ‫‪AL-DOHA MAGAZINE‬‬

‫السنة الثالثة عرشة ‪ -‬العـدد مئة وخمسون‬ ‫شعبان ‪ - 1441‬أبريل ‪2020‬‬

‫السنة ‪ - 13‬العدد ‪ - 150‬شعبان ‪ - 1441‬أبريل ‪2020‬‬

‫)‪Young man plays the violin on the balcony during the coronavirus quarantine in Italy (Poigina Elena‬‬

‫إدارة اإلصدارات والرتجمة‬

‫وزارة الثقافة والرياضة‬ ‫الـــدوحــــة ‪ -‬قـــــطــــر‬

‫صـــدر الــعــدد األول يف نــوفــمــر ‪ ،1969‬ويف يــنــايــر ‪ 1976‬أخـــذت توجهها الــعــريب واســتــمــرت‬ ‫يف الـــصـــدور حــتــي يــنــايــر عــــام ‪ 1986‬لــتــســتــأنــف الـــصـــدور مـــجـــدد ًا يف نــوفــمــر ‪.2007‬‬

‫األفراد ‬

‫الدوائــر الرســمية‬

‫خارج دولة قطر‬ ‫دول الخليــج العــريب‬

‫‪ 120‬ريــا ً‬ ‫ال‬ ‫‪ 240‬ريــا ً‬ ‫ال‬

‫‪ 300‬ريــال‬

‫باقــــــي الدول العربية‬ ‫أمـــــــــــــــــــيــــركـــــــا‬

‫‪ 100‬دوالر‬ ‫‪ 150‬دوالر ًا‬

‫كــــنــــدا وأسرتالــــيا‬

‫عودة الوباء ‪ -‬املجهول يف الجائحة ‪ -‬تربية العالم ‪ -‬عولـمة الفزع ‪ -‬لقاح‬ ‫ضد الخوف ‪ -‬عالم غيـر آمن ‪ -‬أدب الفواجع واالستشـراف‪...‬‬

‫‪ 75‬يــورو‬

‫فاكس ‪)+974( 44022690 :‬‬ ‫الربيد اإللكرتوين‪:‬‬

‫‪distribution-mag@mcs.gov.qa‬‬

‫مانغويل في تونس‬ ‫انتصار الخيال على الواقع‬

‫‪doha.distribution@yahoo.com‬‬

‫الشؤون المالية واإلدارية‬ ‫‪finance-mag@mcs.gov.qa‬‬

‫‪4‬‬

‫‪6‬‬ ‫‪@aldoha_magazine‬‬ ‫‪Doha Magazine‬‬

‫‪10‬‬

‫(مي ممدوح)‬

‫فيروس القرن‬ ‫المستفادة من الجائحة‬ ‫الدروس ُ‬

‫الموزعون‬ ‫وكيل التوزيع يف دولة قطر‪:‬‬ ‫دار الرشق للطباعة والنرش والتوزيع ‪ -‬الدوحة ‪ -‬ت‪ 44557810 :‬فاكس‪44557819 :‬‬

‫‪12‬‬

‫وكالء التوزيع يف الخارج‪:‬‬ ‫فاكــس‪ /0096824649379 :‬الجمهورية اللبنانية ‪ -‬مؤسســة نعنوع الصحفيــة للتوزيع ‪ -‬بريوت ‪ -‬ت‪:‬‬

‫‪ - 009611666668‬فاكــس‪ /009611653260 :‬جمهورية مرص العربية ‪ -‬مؤسســة األهرام ‪ -‬القاهرة ‪-‬‬ ‫ت‪ - 002027704365 :‬فاكس ‪ /002027703196‬اململكة املغربية ‪ -‬الرشكة العربية اإلفريقية للتوزيع‬

‫‪14‬‬

‫والنرش والصحافة‪ ،‬سربيس ‪ -‬الدار البيضاء ‪ -‬ت‪ - 00212522249200 :‬فاكس‪00212522249214:‬‬

‫دولة قطر‬

‫‪ 10‬رياالت‬

‫اململكة املغربية‬

‫‪ 15‬دره ً‬ ‫ام‬

‫سلطنة عامن‬

‫‪ 800‬بيسة‬

‫الجمهورية اللبنانية‬

‫‪ 3000‬لرية‬

‫جمهورية مرص العربية‬

‫‪ 10‬جنيهات‬

‫(شيرين ماهر)‬

‫«رأس المال واأليديولوجيا»‬ ‫ماضي ومستقبل األنظمة التفاوتية‬

‫‪16‬‬

‫األسعار‬

‫(ربيع ردمان)‬

‫َّ‬ ‫االصطناعي‬ ‫الذكاء‬ ‫ّ‬ ‫في مواجهة الوباء‬

‫ســلطنة ُعامن ‪ -‬مؤسســة ُعامن للصحافة واألنباء والنرش واإلعالن ‪ -‬مســقط ‪ -‬ت‪- 009682493356 :‬‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫(محمد مستعد)‬

‫ُك َّتاب الصين يواجهون‪:‬‬ ‫زهرة برقوق ال تسقطها الرياح‬

‫مواقع التواصل‬

‫‪aldoha_magazine‬‬

‫(آدم فتحي)‬

‫األدبي لفرانز كافكا في المحاكم‬ ‫اإلرث‬ ‫ّ‬ ‫سياسي بالنسبة إلسرائيل‬ ‫صراع‬ ‫ّ‬

‫ترســـل قـيمة االشـــتراك بموجـب حـــوالة مصـــرفية أو شـــيك بالريال القــطـري‬ ‫باســم وزارة الثقافــة والرياضــة علــى عنــوان المجلة‪.‬‬

‫‪2‬‬

‫صدمـة الـجائحـة‬

‫تليفون ‪)+974( 44022295 :‬‬

‫‪ 300‬ريــال‬

‫دول االتحــاد األورويب‬

‫‪Year 13 - No. 150 Shaaban 1441 - April 2020‬‬

‫االشتراكات السنوية‬

‫التوزيع واالشتراكات‬

‫العدد ‪ - 150‬أبريل ‪2020‬‬

‫ملتقى اإلبداع العريب والثقافة اإلنسانية‬

‫‪Doha Magazine‬‬

‫تصدر عن‪:‬‬

‫داخل دولة قطر‬

‫‪@aldoha_magazine‬‬

‫ثــقــافـيـة شــــهــريــة‬

‫‪aldoha_magazine‬‬

‫‪150‬‬

‫الغالف‪:‬‬

‫العدد‬

‫(عثمان عثمانية)‬

‫ُ‬ ‫«الـناطق باسم»‬ ‫ُ‬ ‫الج ْبن والتزييف‬ ‫قناع ُ‬

‫‪18‬‬

‫(محمد برادة)‬


‫ملفات | قضايا |‬

‫‪42-49‬‬

‫بصمات‪..‬‬

‫صدمة الجائحة‬

‫‪22-41‬‬

‫مجيد طوبيا‬

‫كوفيد ‪ ..19‬عوملة الفزع‬

‫جان كالبيسرت‪ :‬العالم غري آمن‬

‫رسديّة مجيد طوبيا‪ :‬شكل آخر من الكتابة‬

‫املجهول يف زمن الجائحة‬

‫سقوط ح ّر نحو حالة من الذعر‬

‫«كورونا» الذي يُعيد «تربية» العالم‬

‫أوريان غيلبو‪« :‬عودة األوبئة»‬

‫(محمد الشحات)‬

‫«الهؤالء»‪ ..‬رصخة يف وجه التسلّط والالإنسانية‬ ‫(حسن‪ ‬المودن)‬

‫(محمد مروان)‬

‫(خالد بلقاسم)‬

‫(عبدالرحيم العطري)‬

‫مالمح قصصية‪ :‬املدينة والعالم‬

‫يف الحاجة إىل لقاح ضد الخوف!‬

‫(رضا عطية)‬

‫‪48‬‬

‫جان برينيت‪ :‬الفكر باللّغة‬ ‫العربية (حوار‪ :‬ليسبث آرمان ‪ -‬تــ‪ :‬عبدالله بن محمد)‬ ‫ّ‬

‫‪58‬‬

‫حين أصبحا داروين وماركس شخصيتين روائيتين (رشيد بنحدو)‬

‫‪75‬‬

‫الماسي (قصص‪ :‬فانغ فانغ‪ -‬تــ‪ :‬ميرا أحمد)‬ ‫الحلم‬ ‫ّ‬

‫‪80‬‬

‫محمد الحارثي األخيرة (إبراهيم سعيد)‬ ‫رحلة‬ ‫َّ‬

‫ضيف غير مرتقَ ب (قصص‪ :‬فريد ادغو‪ -‬تـ‪ :‬صفوان الشلبي)‬

‫‪72‬‬ ‫‪77‬‬

‫روبي كُ ـور‪ ..‬ملكة شعراء إنستغرام (تــ‪ :‬بشير رفعت)‬

‫جوائح في الفن التصويري بين القرنيين الرابع عشر والتاسع عشر (أثير محمد علي)‬

‫انتصار الموت (نورة محمد فرج)‬

‫‪82‬‬

‫‪94‬‬

‫‪100‬‬

‫ٍ‬ ‫الصراع (ربيع ردمان)‬ ‫رحلة بوتا إلى اليمن‪ ..‬مرثيةٌ‬ ‫لبالد أرهقها ِّ‬

‫‪104‬‬

‫التأخر! (فيصل أبو الطُّ فَ ْيل)‬ ‫مديح‬ ‫ُّ‬

‫‪110‬‬

‫ذكريات شخصية عن طه حسين‪ ..‬الحلقة الرابعة (صبري حافظ)‬

‫‪106‬‬

‫‪52-64‬‬

‫أدب األ ْوبِئة‪..‬‬

‫فواجع االسترشاف!‬ ‫عم تدور روايات العدوى؟‬ ‫إياك أن تقرتب!‪ّ ..‬‬

‫يف عصور مختلفة‬

‫تُبهر العالم بتنبؤاتها‬

‫األدب والوباء‬

‫تزدهر ثم تختفي‪ ..‬قصص الخوف والبطوالت‬ ‫(توبياس كارول‪ -‬تــ‪ :‬عبدالله بن محمد)‬

‫(حوار‪ :‬بول سوجي‪ -‬تــ‪ :‬مروى بن مسعود)‬

‫حوارات | نصوص | ترجمات‬

‫النقدية (فخري صالح)‬ ‫فن المراجعة‬ ‫جيمس وود‪ّ ..‬‬ ‫ّ‬

‫(نبيل‪ ‬موميد)‬

‫(نورمان لويس ‪ -‬تــ‪ :‬مروى بن مسعود)‬

‫(محمد اإلدريسي)‬

‫تقارير | أدب | فنون | مقاالت | علوم |‬

‫(جيل ليبور‪ -‬تــ‪ :‬مجدي عبد المجيد خاطر)‬

‫(حوار‪ :‬ماريا ماست‪ -‬تــ‪ :‬شيرين ماهر)‬

‫(أثير محمد علي)‬

‫(سارة كولين‪ -‬تــ‪ :‬حسام حسني بدار)‬

‫‪52‬‬

‫إرنيستو كاردينال‬

‫شاعر الثورة السندينية‬ ‫(تــ‪ :‬خالد الريسوني)‬

‫‪56‬‬

‫مازن أكثم سليمان‪..‬‬

‫ِّ‬ ‫وري يف زمن الحرب‬ ‫الس ّ‬ ‫الشعر ُّ‬ ‫(حوار‪ :‬عماد الدين موسى)‬

‫‪90‬‬

‫يوميات يف الحجر‬

‫لحظات أخرية قبل الهروب‬ ‫(يوسف وقاص)‬

‫‪92‬‬

‫إلغاء رحلة‬

‫اختبار الهشاشة البرشيّة!‬

‫(جمال الموساوي)‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪3‬‬


‫اليشء باليشء يُذكر‬

‫مانغويل يف تونس‬

‫انتصار الخيال عىل الواقع‬ ‫أتيــح يل أن أحــاور عــدداً مــن الكُ َّتــاب والشــعراء األعــام الذيــن تركــوا يف عقــي ووجــداين أثــراً ال ُي َحــى‪ ،‬أذكــر‬ ‫مــن بينهــم ‪-‬عــى ســبيل املثــال‪ -‬محمــود املســعدي وتوفيــق بــكّ ار ومحمــود أمــن العــامل وممــدوح عــدوان‬ ‫بأن حواري مــع ألربتو مانغويل‬ ‫واألبنــودي‬ ‫والبيــايت وإيــف بونفــوا‪ ،‬والقامئــة أطــول مــن هــذا بكثــر‪ .‬لك ّني أعرتف ّ‬ ‫ّ‬ ‫مبناســبة زيارتــه إىل تونــس يف ‪ 22‬فرباير‪/‬شــباط ‪ 2020‬سـ ّ‬ ‫ـيظل ذا نكهــة مختلفــة‪...‬‬

‫آدم فتحي‬ ‫(تونس)‬

‫‪4‬‬

‫يعــود ذلك إلى أسـ ٍ‬ ‫بميزات الرجل‬ ‫ـباب عديــدة‪ ،‬يتعلَّق بعضهــا ّ‬ ‫حف بهــذه الزيارة من محطَّ ات‬ ‫وحضــوره‪ ،‬ويتع َّلــق بعضها بما ّ‬ ‫خاصـاً‪ .‬وهــي فرصــةٌ ســأظلّ مدينـ ًا‬ ‫دراماتيكيــة منحتهــا مذاقـ ًا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫للروائــي كمــال الرياحــي‪ ،‬مديــر «بيــت الروايــة»‪ ،‬الــذي‬ ‫بهــا‬ ‫ّ‬ ‫ـي بمحــاورة الرجــل‪ ،‬وهــو يعــرف صلتــي بأعمالــه منــذ‬ ‫ـ‬ ‫إل‬ ‫ـد‬ ‫عهـ‬ ‫ّ‬ ‫صــدور مؤلَّفــه الشــهير «تاريــخ القــراءة» في طبعته الفرنسـ ّـية‬ ‫سنة ‪.1998‬‬ ‫لــم يتو َّقــع أحــد أن تحظــى هــذه الزيــارة بمــا حظيــت بــه مــن‬ ‫ـتثنائي»‬ ‫االهتمــام‪ .‬ولعلّهــا مــا كانت لتصبــح هذا «الحدث االسـ‬ ‫ّ‬ ‫لــوال رغبــة وزيــر الثقافــة فــي إلغائهــا‪ ،‬وإصــرار نخبــة مــن‬ ‫بــأن مــن األفضــل‬ ‫المثقَّفيــن علــى إنجازهــا‪ .‬تعلّــل الوزيــر‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫«إرجــاء» الزيــارة إلــى حين تسـلُّم الحكومة الجديــدة عهدتَها‪.‬‬ ‫وحين ُجوبِه بمبدأ «اســتمرار الدولة» واســتمراره في الموافقة‬ ‫أن الرجــل‬ ‫ثمــة مــن «أشـ َ‬ ‫ـاع» ّ‬ ‫علــى تظاهــرات أخــرى‪ ،‬ا ّتضــح ّ‬ ‫أن ّ‬ ‫ألن والــده عمــل في إســرائيل حين كان‬ ‫طبــع»! ال لشــيء ّ‬ ‫إل ّ‬ ‫ُ‬ ‫«م ِّ‬ ‫هــو فــي الســنة األولــى مــن عمــره‪ ،‬وغادرهــا حيــن كان هــو في‬ ‫الم ِ‬ ‫ناصرة‬ ‫الرابعــة! ّ‬ ‫أمــا مواقــف الرجــل ونصوصــه وتصريحاتــه ُ‬ ‫ـطينية فقد ا ّتضح أ ّنها ليســت بالشــفيع الكافي!‬ ‫ـ‬ ‫الفلس‬ ‫للقضية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ـلِ‬ ‫ـر دون «فضيحــة‬ ‫ـ‬ ‫يم‬ ‫أن‬ ‫ـح‬ ‫ـ‬ ‫الواض‬ ‫ـط‬ ‫ـ‬ ‫التخب‬ ‫ـذا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ـ‬ ‫ث‬ ‫لم‬ ‫مــا كان‬ ‫ْ‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫تونــس الجديــد ُة‬ ‫مدويــة‪ .‬لذلــك هالَنــا أن تفقــد‬ ‫إعالميــة»‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫إل الحســابات‬ ‫بســبب‬ ‫تهــا‬ ‫مصداقي‬ ‫تصــرف ال موجــب لــه ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ـرف‬ ‫ـواتية‬ ‫الضيقــة‪ .‬وبــدا لنــا ّ‬ ‫ّ‬ ‫السياسـ ّ‬ ‫أن فــي القبــول بهــذا التصـ ّ‬ ‫المبنــي علــى فق ـ ٍر ثقافــي مدقــع ني ـ ً‬ ‫المثقَّفيــن‬ ‫ا مــن كرامــة ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التونسـ ّـيين‪ .‬وكان أمــام مديــر «بيــت الروايــة» أن ينتصــر فــي‬ ‫للمثقَّفيــن ولموظّ فــي وزارة الثقافــة أيضـاً‪ ،‬فهــو فــي‬ ‫شــخصه ُ‬ ‫ـد منهــم‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫واح‬ ‫النهايــة‬ ‫ٌ‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫لــم يخــلُ المشــهد مــن محــاوالت االنتقــاص من قيمــة الضيف‬ ‫بدعــوى أ ّنــه ليــس بماركيــز الروايــة‪ ،‬وليــس بأفالطــون الفكــر!‬ ‫كمــا لــم يخــلُ من محــاوالت الطعنِ فــي مضيفيه على أســاس‬ ‫والحق‬ ‫إل أل ّنه راحل!‬ ‫أ ّنهــم لــم يقفوا من الوزير موقفهــم ذاك ّ‬ ‫ّ‬ ‫أ ّنهــم لــم ينتظــروا هــذه «التظاهــرة» لمواجهــة خيــارات الوزير‬ ‫أن إصرارهم على إنجــاز التظاهرة لم يكن‬ ‫بمــا اســتطاعوا‪ .‬كمــا ّ‬ ‫ـن َهــب أ ّنهــم وجــدوا فــي «الخطــأ‬ ‫ـ‬ ‫لك‬ ‫ـخص‪.‬‬ ‫ألي شـ‬ ‫ْ‬ ‫اســتهداف ًا ّ‬ ‫ـون ت ُزو «التوقيــت المناســب والميدان‬ ‫الـ‬ ‫ـميه ُسـ ْ‬ ‫ّ‬ ‫ـوزاري» مــا يسـ ّ‬ ‫سـ ِ‬ ‫لكَ‬ ‫ـب المعركــة‪ ،‬فمــا العيــب فــي ذلك؟‬ ‫ـم»‬ ‫ـ‬ ‫المالئ‬ ‫ْ‬ ‫أمــا قيمــة الرجــل فــا تحتــاج إلــى برهــان بعــد قرابــة الثالثيــن‬ ‫ّ‬ ‫األدبية‬ ‫الفكرية‬ ‫والمقاربة‬ ‫والقصة‬ ‫كتاب ًا ح ّتى اآلن‪ ،‬في الرواية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫العابــرة لألجنــاس‪ .‬صحيــح أ ّنــه لــم يصبــح ماركيــز الروايــة وال‬ ‫أفالطــون الفكــر‪ ،‬وليــس ذلــك مــن غاياتــه‪ ،‬لك ّنــه صــار َعلَم ـ ًا‬ ‫فــي ميدانــه‪ .‬فهــو ذاكــر ُة القــراءة والكتابــة فــي العا َلــم بمــا‬ ‫ُيشــبه اإلجمــاع‪ .‬كمــا اســتطاع بأســلوبه القريــب مــن أســلوب‬ ‫«م َعل ِ‬ ‫ِّمــه» بورخيــس أن يحقِّــق أصعــب معادلــة‪ :‬احتــرام‬ ‫ُ‬ ‫ـراء فــي وقـ ٍ‬ ‫ـت واحــد‪ ،‬فــي‬ ‫ـ‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫الماليي‬ ‫ـاب‬ ‫ـ‬ ‫وإعج‬ ‫ـاد‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫َّ‬ ‫القُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫العالميــة التــي ُت ِ‬ ‫رج َمــت إليهــا أعما ُلــه‪ .‬هكــذا‬ ‫ـات‬ ‫ـ‬ ‫ّغ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ـف‬ ‫ـ‬ ‫مختل‬ ‫ّ‬ ‫ـتحق لقــب «الرجــل المكتبــة» بامتيــاز‪ .‬ومــا انفكّ ــت زياراتــه‬ ‫اسـ َّ‬ ‫إلــى مختلــف بــاد العالــم تحظــى باالهتمــام وتتــرك أثــر ًا فــي‬ ‫عقــول المســتمعين إليــه ووجدانهــم‪.‬‬ ‫يحدثني حديث‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫وه‬ ‫معه‬ ‫ـت علــى ذلــك من خالل حــواري‬ ‫ّ‬ ‫َو َق ْفـ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ـه إلى تعميــم «البؤس‬ ‫ـ‬ ‫بعض‬ ‫ـعى‬ ‫ـ‬ ‫يس‬ ‫َم‬ ‫ل‬ ‫عا‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـاب‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ال‬ ‫ـق‬ ‫عاشـ‬ ‫ٍ‬ ‫ُ ُ‬ ‫«المســتهلكين»‪ ،‬حيث ال شــيء‬ ‫الفكـ ّ‬ ‫ـري» لفبركــة المزيــد مــن ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫أهم ّيــة االنتباه‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫ث‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫‪.‬‬ ‫ـادي‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـردود‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫إل‬ ‫ـض‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ي‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫إن‬ ‫مهمـ ًا‬ ‫َّ ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫إلــى عالقة الكتابة بالجســد وعالقة الجســد بالقراءة‪ ،‬فالخطر‬


‫ـدد المحامــل‬ ‫المحــدق بالكتــاب اليــوم‪ ،‬فــي نظــره‪ ،‬ليــس ناجم ـ ًا عــن تعـ ُّ‬ ‫قميــة بقــدر مــا هــو ناجــم عــن الهجــوم المنظّ ــم علــى‬ ‫اإللكترونيــة أو َّ‬ ‫الر ّ‬ ‫ّ‬ ‫النوعيــة» التــي مــن شــأنها أن تســاهم فــي تحريــر الجســد والفكــر‬ ‫«القــراءة‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ألن‬ ‫ـعي البعــض إلــى إلغــاء الكتــاب مــن المشــهد‪ّ ،‬‬ ‫والمخيلــة‪ .‬مــن ثـ َّ‬ ‫ّ‬ ‫ـم سـ ُ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫ـم أن يفكّ ر بنفســه‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ث‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫وم‬ ‫ـه‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫نفس‬ ‫»‬ ‫ِك‬ ‫ر‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫«ي‬ ‫أن‬ ‫ـارئ‬ ‫ـ‬ ‫الق‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫تع‬ ‫ـاب‬ ‫ـ‬ ‫الكت‬ ‫قــراءة‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ـرر ويعمــل علــى تغييــر واقعــه‪ ،‬وقد بــات منتجـ ًا ال مســتهلكاً‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫يتح‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫فــإذا‬ ‫َّ‬ ‫ومبدعـ ًا ال م ّتبعـاً‪ ،‬ومواطنـ ًا ال جــزء ًا مــن قطيــع‪.‬‬ ‫ـوار إلــى بورخيــس‪ ،‬معلِّمــه وقدوتــه‪ ،‬الــذي حــاور فــي نصوصــه‬ ‫أخذَ نــا الحـ ُ‬ ‫ـامية‪ ،‬بدايــةً مــن القــرآن‪ ،‬مــرور ًا بابــن ســينا‬ ‫ـ‬ ‫اإلس‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫العربي‬ ‫ـار‬ ‫ـ‬ ‫اآلث‬ ‫الكثيــر مــن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والخيــام والرومــي والقزوينــي والجاحــظ وغيرهــم‪ ،‬وصــو ً‬ ‫ال إلــى‬ ‫وابــن رشــد‬ ‫ّ‬ ‫ألــف ليلــة وليلــة التــي كانــت مثــار إعجابــه الكبيــر‪ ،‬ولكــن ال شــيء ُيذكــر‬ ‫ـي تو َّقــف عنــد تلــك المرحلــة التــي نعتـ ّز بهــا‬ ‫بعــد ذلــك‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وكأن األدب العربـ ّ‬ ‫ً‬ ‫عربية حديثــة لمحمود درويش‪،‬‬ ‫ا‬ ‫نصوص‬ ‫ـاول‬ ‫ـ‬ ‫تن‬ ‫الذي‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫وه‬ ‫ه‬ ‫ت‬ ‫ـأل‬ ‫ـ‬ ‫فس‬ ‫طبعـاً‪...‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ومحمــد البســاطي‪ ،‬وســنان أنطــون‪ ،‬لمــاذا ظــلّ حضــور‬ ‫ـدرة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫بوج‬ ‫ورشــيد‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫«معلِّمــه» بالقيــاس إلــى‬ ‫ـدى‬ ‫ـ‬ ‫ول‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫لدي‬ ‫ا‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫محتش‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫الحديث‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫العربي‬ ‫ـة‬ ‫المدونـ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫المدونــة مــن أعمــالٍ‬ ‫مهمــة‪ ...‬مــا هــي األســباب التــي‬ ‫مــا تزخــر بــه هــذه‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫تقــف وراء التركيــز علــى األدب القديــم؟ هــل هــي مســألة ذائقــة وتقييــم أم‬ ‫أن لألمــر عالقة بضرب من االستشــراق المزمن؟‬ ‫مســألة اطّ ــاع وترجمــة‪ ،‬أم ّ‬ ‫ـرب ح ّتــى مــن األســئلة‬ ‫ـ‬ ‫يته‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ـؤال‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫أي‬ ‫ّ‬ ‫ـرب الرجــل مــن ّ‬ ‫َّ‬ ‫لــم يتهـ َّ‬ ‫القضيــة‬ ‫المتعلِّقــة بمواقفــه السياسـ ّـية‪ ،‬وتحديــد ًا بموقفــه مــن‬ ‫المحرجــة ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ـطينيين‪ ،‬واضح في‬ ‫ـ‬ ‫الفلس‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫إل‬ ‫ـازه‬ ‫ـ‬ ‫انحي‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـح‬ ‫ـ‬ ‫واض‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ـإذا‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ة‪...‬‬ ‫ـطيني‬ ‫ـ‬ ‫الفلس‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اســتنكاره خفــوت أصــوات الكثيــر مــن زمالئــه فــي الغــرب كلّمــا تع َّلــق األمــر‬ ‫للمث َّقــف‬ ‫بالفظائــع اإلسـ‬ ‫ـرائيلية‪ ،‬مؤكِّ ــد ًا انتمــاءه إلــى رؤيــة إدوارد ســعيد ُ‬ ‫ّ‬ ‫باعتبــاره «شــخص ًا ال يبحــث عــن اإلجمــاع‪ ،‬بــل ينحــاز وفــق مــا يمليــه عليــه‬ ‫ـدي ال يتو ّقــف»‪.‬‬ ‫ـي نقـ ٌّ‬ ‫وعـ ٌ‬ ‫الحــوار أثــرى مــن هــذا بكثيــر‪ .‬وفــي وســع الراغبيــن فــي االطّ ــاع عليــه كام ً‬ ‫ال‬

‫أن يقصــدوا اإلنترنــت‪ ،‬حيــث تو ّلــى موقــع «بيــت الروايــة» وموقــع «المكتبــة‬ ‫لكــن الحــوار علــى ثرائــه ليــس ســوى جــزء‬ ‫الوطنيــة» توفيــره للعمــوم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـزي»‪ ،‬وأتاحت‬ ‫ـ‬ ‫«الرم‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫عد‬ ‫ب‬ ‫ـارة‬ ‫ـ‬ ‫الزي‬ ‫هذه‬ ‫ـبت‬ ‫ـ‬ ‫أكس‬ ‫بســيط مــن العناصــر التــي‬ ‫ُ َ َ‬ ‫ّ‬ ‫تعاملهــم مــع أنفســهم‬ ‫تغيــر طريقــة‬ ‫للمثقَّفيــن تســجيل نقــاط‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫مهمــة‪ ،‬قــد ِّ‬ ‫ومــع واقعهــم‪.‬‬ ‫من بين هذه النقاط‪:‬‬ ‫صاليــة‬ ‫ت‬ ‫ا‬ ‫ـارات‬ ‫ـ‬ ‫مه‬ ‫ـت‬ ‫ـ‬ ‫وليس‬ ‫ـروع‬ ‫ـ‬ ‫ومش‬ ‫ـ‬ ‫رؤي‬ ‫ـة»‬ ‫ـ‬ ‫الثقافي‬ ‫ة‬ ‫ـؤولي‬ ‫ـةٌ‬ ‫ّ‬ ‫أوالً‪ّ :‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أن «المسـ ّ‬ ‫يتصرف المســؤولون‬ ‫أل‬ ‫ـور‪ ،‬ومن تبعــات ذلك ّ‬ ‫الصـ َ‬ ‫لجمــع األصــوات وتلميــع ّ‬ ‫َّ‬ ‫انتخابيــة‪.‬‬ ‫الثقافيــون كأ ّنهــم فــي حملــة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـب علــى أســاس رؤيـ ٍ‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫خ‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ـذي‬ ‫ـ‬ ‫ال‬ ‫»‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الثقاف‬ ‫أن علــى «المســؤول‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ثاني ـاً‪ّ :‬‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫والمبدعيــن‪ ،‬وليــس‬ ‫المثقَّفيــن‬ ‫ومشــروع ّ‬ ‫ُ‬ ‫أل ينســى أ ّنــه فــي خدمــة أفــكار ُ‬ ‫«مكلَّف ـاً» بالتفكيــر عوض ـ ًا عنهــم‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫مهمــةٌ عســيرة‪ ،‬يســتحيل أن ينهــض بهــا‬ ‫ــة»‬ ‫الثقافي‬ ‫«المناصــب‬ ‫أن‬ ‫ً‪:‬‬ ‫ا‬ ‫ثالثــ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫الثقافيــة على حســاب‬ ‫ـر ال ّزاهــد فيهــا‪ ،‬المنحــاز بالضــرورة إلــى الخيــارات‬ ‫ّ‬ ‫غيـ ُ‬ ‫منــاورات السياســة مهمــا كان مأتاهــا‪.‬‬ ‫«القيميــة» أخطــر مــن أن نتركهــا بيــن أيــدي‬ ‫أن المســائل‬ ‫رابعــاً‪ّ :‬‬ ‫ّ‬ ‫يتغيــر‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫وق‬ ‫ـدأ‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫مب‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫االنتهازي‬ ‫ـون‬ ‫ـ‬ ‫ِّب‬ ‫ل‬ ‫غ‬ ‫ي‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫الذي‬ ‫ين»‪،‬‬ ‫ـواتي‬ ‫كلّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫«السياسـ ّ‬ ‫مــر ًة فــي الســاعة‪.‬‬ ‫ين‬ ‫ت‬ ‫ســ‬ ‫لديهــم‬ ‫البوصلــة‬ ‫اتِّجــاه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المبدعيــن متــى تحكَّ مــوا فــي نرجسـ ّـياتهم‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫َّفي‬ ‫ق‬ ‫ث‬ ‫الم‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫وس‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫أن‬ ‫ً‪:‬‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫خامس‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وتضامنــوا مــن أجــل مشــروع‪ ،‬أن ينجــزوا أحالمهــم وأن ينتزعــوا «القــرار‬ ‫ـي» مهمــا كانــت ِق ّلــة مواردهــم‪.‬‬ ‫الثقافـ ّ‬ ‫الحقيقيــة غيــر القابلــة للنفــاد‪ ،‬أل ّنــه يصنــع‬ ‫ـروة‬ ‫ـ‬ ‫الث‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ـال‬ ‫ـ‬ ‫الخي‬ ‫أن‬ ‫ً‪:‬‬ ‫سادسـا ّ‬ ‫ّ‬ ‫بحر ّيــة بعيــد ًا عــن كواليــس التبــاس‬ ‫العمــل‬ ‫ويتيــح‬ ‫ً‪،‬‬ ‫ة‬ ‫قــو‬ ‫الضعــف‬ ‫مــن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـم‪ -‬يســتطيع‬ ‫الدعــم والتمويــل بالضغــط واالبتــزاز‪ .‬وأل ّنــه ‪-‬وهــذا هــو األهـ ّ‬ ‫متــى صــدق العــزم وتوفَّــرت اإلرادة أن ُي ِ‬ ‫ترجــم الحلــم إلــى حقيقــة‪ ،‬وأن‬ ‫ويغيــره‪.‬‬ ‫ينتصــر علــى الواقــع‬ ‫ِّ‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪5‬‬


‫تقارير وقضايا‬

‫األدبي للروايئ فرانز كافكا يف املحاكم‬ ‫اإلرث‬ ‫ّ‬

‫يس بالنسبة إلرسائيل‬ ‫رصاع سيا ّ‬ ‫مؤخــراً الرتجمــة الفرنسـ ّـية لكتــاب «املحاكمــة األخــرة لكافــكا‪ ،‬الصهيونيــة وإرث الشــتات» مــن تأليــف‬ ‫صــدرت‬ ‫َّ‬ ‫*‬ ‫بنيامــن بالينــت وترجمــة فيليــب بينيــار (دار النــر الديكوفــرت)‪ .‬ويتنــاول الرصاع الطويل الذي دار بني إرسائيل‬ ‫ـص اإلنجليــزي األصــي كان عنوانــه «املحاكمــة األخــرة‬ ‫وأملانيــا حــول أرشــيف فرانــز كافــكا (‪ .)1924 - 1883‬النـ ّ‬ ‫مؤخــراً أيض ـ ًا ترجمــة فرنسـ ّـية جديــدة ملذكــرات‬ ‫أديب» بــدون تلميحــات سياسـ ّـية‪ .‬وصــدرت‬ ‫لكافــكا‪ .‬قضيــة إرث‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫متقطــع مــن ‪ 1909‬إىل غايــة وفاتــه يف ‪ .1924‬أنجــز الرتجمــة‬ ‫كافــكا «اليوميــات» (دار النــر نــو) التــي كتبهــا بشــكل‬ ‫الخاصــة للكاتــب العاملــي‪.‬‬ ‫ألول مـ ّـرة معلومــات وحقائــق عــن الحيــاة‬ ‫ّ‬ ‫روبــر كاهــن‪ ،‬وهــي أكــر شــمولية تكشــف ّ‬

‫هل كان كافكا ح ّقاً‬

‫من دعاة إنشاء‬ ‫دولة إرسائيل؟ أم‬ ‫َّ‬ ‫يتعلق‬ ‫أن األمر‬ ‫بتسييس مقصود‬ ‫إلبداعه وإعادة تأويل‬ ‫ملواقفه الشخص ّية‬ ‫والسياس ّية اليت‬ ‫عب عنها أساساً يف‬ ‫ّ‬ ‫يومياته؟‬

‫‪6‬‬

‫«المحاكمــة األخيــرة لكافــكا»‪ ،‬هــو العنــوان الذي اختــاره الكاتب‬ ‫األميركي‪-‬اإلســرائيلي بنياميــن بالينــت لكتــاب فــي غايــة الدقــة‬ ‫ـي اســتمر لمــدة طويلــة ولــه خلفيات‬ ‫ـي وثقافـ ّ‬ ‫حــول صــراع سياسـ ّ‬ ‫صهيونيــة عميقــة حول أرشــيف الكاتب التشــيكي اليهــودي فرانز‬ ‫كافــكا‪ ،‬أحــد كبــار قصاصــي وروائيــي القــرن العشــرين‪ .‬العنــوان‬ ‫يحيــل علــى «المحاكمــة»‪ ،‬الروايــة الشــهيرة لكافكا‪ ،‬الــذي توفي‬ ‫قبــل حوالــي ‪ 100‬عــام‪ .‬وقــد جــاء هــذا الكتــاب ليكشــف عــن‬ ‫تفاصيــل صــراع كافــكاوي تتشــابك فيــه لعبــة السياســة بغرائــز‬ ‫الصداقــة والوفــاء والشــهرة والمال‪ .‬وإذا كانــت إبداعات الروائي‬ ‫ـي واإلعجــاب عالميـاً‪ ،‬فــإن‬ ‫الراحــل مــا زالــت تثيــر النقــاش األدبـ ّ‬ ‫ـي ومن يوظفه سياسـ ّـي ًا‬ ‫ـ‬ ‫الفن‬ ‫ـن يمتلك هــذا اإلرث‬ ‫الجــدل حــول َمـ ْ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫مؤخــر ًا مــا‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫حس‬ ‫ـون‬ ‫ـ‬ ‫يك‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫وق‬ ‫ـنوات‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫لس‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫محتدم‬ ‫وثقافي ـ ًا ظــلّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫لــم تظهــر مســتقب ً‬ ‫ال عناصــر جديــدة‪ .‬جــاء كتــاب بنياميــن بالينت‬ ‫للتحقيــق بشــكلٍ بــارع فــي خبايــا هاتــه القضيــة التــي تمــس فــي‬ ‫ـرائيلي‪ .‬فهي تثير أســئلة استراتيجية‬ ‫العربي‪-‬اإلسـ‬ ‫العمق الصراع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أهمهــا‪ :‬هــل كان كافــكا ح ّقـ ًا مــن دعــاة إنشــاء دولــة إســرائيل؟‬ ‫ّ‬ ‫أم أن األمــر يتع َّلــق بتســييس مقصــود إلبداعــه وإعــادة تأويــل‬ ‫عبــر عنهــا أساســ ًا فــي‬ ‫الشــخصية‬ ‫لمواقفــه‬ ‫والسياســية التــي ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يومياته؟‬ ‫وسياســية داخــل‬ ‫ــة‬ ‫قانوني‬ ‫مواجهــة‬ ‫حصلــت‬ ‫ـراع‬ ‫ـ‬ ‫الص‬ ‫فــي هــذا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـي تمثلــه أساسـ ًا‬ ‫ـ‬ ‫ألمان‬ ‫ل‬ ‫األو‬ ‫ـن‪:‬‬ ‫ـ‬ ‫طرفي‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫بي‬ ‫ة‬ ‫ـرائيلي‬ ‫ـ‬ ‫اإلس‬ ‫ـم‬ ‫المحاكـ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫امــرأة اســمها «إيفــا»‪ ،‬وهــي ابنة «إيســتر هوف» كاتبة ومســاعدة‬ ‫ماكــس بــرود صديق كافكا الحميم‪ .‬وكانــت عائلة هوف مدعومة‬ ‫ـي على‬ ‫أدبيــة‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫بمؤسســات ّ‬ ‫ألمانيــة تريــد الحفــاظ علــى إرثه الثقافـ ّ‬ ‫ً‬ ‫باأللمانيــة‪ .‬قبــل وفاتــه فــي‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫يكت‬ ‫ا‬ ‫ـيكي‬ ‫ـ‬ ‫تش‬ ‫كان‬ ‫ـكا‬ ‫اعتبــار أن كافـ‬ ‫ّ‬ ‫‪ ،1968‬كان ماكــس قــد تــرك األرشــيف إليفــا مــع توصيــة بــأن‬ ‫تســلمه إلــى مكتبــة داخــل أو خــارج إســرائيل‪ .‬لكنهــا لــم تحتــرم‬ ‫الوصيــة مثلمــا لــم يحتــرم هو ســابق ًا أيضـ ًا وصية صديقــه كافكا‪.‬‬ ‫ـرائيلية‬ ‫أمــا الطــرف الثانــي فــي هذه القضيــة‪ ،‬فهــو الحكومة اإلسـ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التــي تب َّنــت هــذا الملــف‪ ،‬وإن بشــكلٍ‬ ‫متأخــر‪ ،‬ودافعــت بقــوة عن‬ ‫ّ‬ ‫ملكيتهــا لألرشــيف ألغـ ٍ‬ ‫ـراض سياسـ ّـية واضحــة‪.‬‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫قصة أرشيف كافكا‬ ‫ّ‬

‫قصــة هوليووديــة مع َّقــدة‪ .‬فــي ‪ ،1939‬اســتطاع‬ ‫لهــذا األرشــيف ّ‬ ‫ماكــس بــرود أن يهاجــر إلــى فلســطين هربـ ًا مــن اجتيــاح قــوات‬ ‫هتلــر لتشيكوســلوفاكيا‪ ،‬وليحقــق حلــم الهجــرة إلــى إســرائيل‬ ‫«أرض الميعــاد» فــي ســياق حملــة االســتيطان التــي عرفتهــا‬ ‫فلســطين‪ .‬هاجــر إليها وهــو يحمل معه حقيبة مملوءة بأرشــيف‬ ‫وكتابــات كافــكا بعــد أن كان قــد أصــدر فــي بــراغ ثالث ًا مــن روايات‬

‫ماكس برود ▲‬


‫الســترجاع األرشــيف ووكلــت للدفــاع عنهــا المحامــي ماييــر هيلــر‬ ‫الشــهير بفصاحتــه‪ ،‬والــذي ســيقول خــال إحــدى مرافعاته ذات‬ ‫النبــرة السياسـ ّـية القويــة ذات الداللــة‪« :‬مثــل العديد مــن اليهود‬ ‫اآلخريــن الذيــن ســاهموا فــي الحضــارة الغربيــة‪ ،‬نحــن نعتقــد‬ ‫أن إرث كافــكا ومخطوطاتــه ينبغــي أن توضــع هنــا فــي الدولــة‬ ‫اليهودية»‪.‬‬ ‫األلماني‪،‬‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫األدب‬ ‫ـيف‬ ‫ـ‬ ‫لألرش‬ ‫ـاخ‬ ‫ـ‬ ‫مارب‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫مؤس‬ ‫رت‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫ـا‪،‬‬ ‫مــن جهتهـ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تخصصــة في العالم‪ ،‬أن تطالب أيض ًا‬ ‫الم‬ ‫ـات‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫المؤس‬ ‫أهم‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫إحــدى ّ‬ ‫ُ‬ ‫باســترجاع هــذا األرشــيف‪ .‬وكانــت قــد دخلــت بمــوازاة ذلــك فــي‬ ‫مفاوضــات مــع عائلــة هــوف لشــراء منــزل ماكــس بــرود نفســه‬ ‫ـتمرت القضيــة معروضــة علــى‬ ‫لتحويلــه إلــى متحــف‪ .‬وهكــذا اسـ َّ‬ ‫ـرائيلية فــي جلســات عديــدة علــى مــدى ســنوات‪.‬‬ ‫المحاكــم اإلسـ‬ ‫ّ‬ ‫وتوجت في ‪ 2016‬بقرار نهائي للمحكمة العليا اعتبر أن األرشيف‬ ‫يعــود إلــى ملكيــة دولــة إســرائيل ولــم يتــم تقديــم أي تعويــض‬ ‫لعائلــة هــوف‪ .‬وقــد توفيــت «إيفــا» بعــد صــدور الحكــم بمــدة‬ ‫قصيــرة فــي ‪ .2018‬وفــي ‪ ،2019‬قامــت ألمانيــا بتســليم المكتبــة‬ ‫ـرائيلية مخطوطــات لكافــكا كانــت مســروقة علــى مــا يبــدو‪.‬‬ ‫اإلسـ‬ ‫ّ‬ ‫كمــا تسـلَّمت المكتبــة من بنك ‪ UBS‬في سويســرا مــا كان يحتويه‬ ‫صنــدوق حديــدي يضــم أرشــيف ًا مماثـاً‪.‬‬

‫عالقة كافكا «امل ُبهمة» مع إرسائيل والنساء‬

‫صديقــه غيــر المكتملــة التــي ســتصبح مــن كالســيكيات األدب‬ ‫الم ِ‬ ‫عاصــر وهــي‪« :‬المحاكمة»‪« ،‬القصــر» و«أميركا» رغم‬ ‫الروائــي ُ‬ ‫أن كافــكا كان قــد أوصــاه بإحــراق كلّ مــا كتبــه وعدم نشــره‪ .‬بعد‬ ‫فتــرة‪ ،‬ســيتم تهريــب جــزء مــن هــذا األرشــيف‪ ،‬وفيــه «يوميــات»‬ ‫كافــكا وكتابــات أخــرى‪ ،‬خــال خمســينيات القــرن الماضــي مــن‬ ‫إســرائيل‪ ،‬ليعــود فــي غفلــة مــن ماكــس بــرود إلــى ألمانيــا عــن‬ ‫طريــق ســلمان شــوكن‪ ،‬وهــو الناشــر األلمانــي لكتــب كافــكا‪.‬‬ ‫ـرر الناشــر أن يخفي‬ ‫ونظــر ًا لقيمتــه الماديــة والرمزيــة الكبيــرة‪ ،‬قـ َّ‬ ‫هــذا األرشــيف الجزئــي العائــد والغالــي القيمــة فــي خزنــة مــن‬ ‫ـتتدخل عائلــة‬ ‫حديــد فــي أحــد األبنــاك فــي سويســرا‪ .‬وهنــا سـ‬ ‫ّ‬ ‫األلمانيــة لتطالــب‬ ‫متخصــص فــي الثقافــة‬ ‫هــوف بواســطة أســتاذ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يفســر‬ ‫ما‬ ‫وهو‬ ‫ـفورد‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫أوكس‬ ‫إلى‬ ‫نقله‬ ‫ـيتم‬ ‫ـ‬ ‫وس‬ ‫باســترجاع األرشــيف‬ ‫ِّ‬ ‫أن أرشــيف كافــكا مــازال موزع ًا إلى غاية اليــوم بين ثالث دول هي‬ ‫ألمانيــا (أرشــيف ماربــاخ ‪ ،)Marbach‬وإنجلتــرا (مكتبــة بودليــان‬ ‫‪ Bodleian‬فــي أوكســفورد)‪ ،‬وإســرائيل‪.‬‬

‫تفاصيل املحاكمة‬

‫ـم مــا كشــفه كتاب بالينت هــو أن حكومة إســرائيل لم تعر‬ ‫مــن أهـ ّ‬ ‫أي اهتمــام ألرشــيف كافــكا طيلــة حوالــي ‪ 40‬عامـاً‪ ،‬بــل إنهــا لــم‬ ‫تبـ ِ‬ ‫ـد أي اهتمــام بالموضــوع حتــى عندمــا قامت إيســتر هــوف ببيع‬ ‫أجــزاء منــه فــي المــزاد العلني‪ ،‬والــذي كانت تحتفظ بــه في بيتها‬ ‫فــي «تــل أبيــب» فــي نفــس منــزل ماكــس بــرود‪ .‬وكان األرشــيف‬ ‫مهمـ ً‬ ‫ا بشــكل كبيــر‪ ،‬بحيــث كانــت تلعــب فوقــه القطــط‪ ،‬كمــا أن‬ ‫ـرض للســرقة‪ .‬وكان الخبــراء يقــدرون قيمتــه بمالييــن‬ ‫ـ‬ ‫تع‬ ‫ـه‬ ‫بعضـ‬ ‫َّ‬ ‫الــدوالرات فــي بدايــة األلفيــة الحاليــة‪ .‬فــي العــام ‪ 2009‬فقــط‬ ‫ـرك بسـ ٍ‬ ‫ـرعة مباشــرة بعــد قيــام‬ ‫ـتقرر حكومــة تــل أبيــب أن تتحـ َّ‬ ‫سـ ّ‬ ‫إيســتر هــوف بكتابــة وصيــة تســمح البنتيهــا بــأن ترثــا األرشــيف‪.‬‬ ‫الوطنيــة إلســرائيل» برفــع دعــوى قضائية‬ ‫حيــث قامــت «المكتبــة‬ ‫ّ‬

‫يــرى عالــم االجتمــاع األلمانــي اليهــودي الشــهير تيــودور أدورنــو‬ ‫أن كافــكا «لــم يكــن شــاعر ًا ألرض اليهــود» وهــي اســتعارة تعنــي‬ ‫المؤيديــن لفكــرة إقامــة أرض لليهــود فــي‬ ‫أن كافــكا لــم يكــن مــن‬ ‫ّ‬ ‫فلســطين إلــى درجــة أن يكتــب شــعر ًا يمــدح ويحلــم بهــذا األفق‪.‬‬ ‫ـتقر بها‪ ،‬كان‬ ‫فعكــس صديقــه برود الذي هاجر إلى إســرائيل واسـ َّ‬ ‫كافــكا غيــر مقتنــع بمشــروع إقامــة دولــة إســرائيل‪ ،‬ولــم يهاجــر‬ ‫إليهــا‪ ،‬علــى الرغــم مــن ذكــر بعــض المصــادر أنــه كان يخطــط‬ ‫بهمة»‬ ‫لذلــك‪ .‬كمــا أن عالقتــه بأصوله وبثقافته‬ ‫«م َ‬ ‫ّ‬ ‫اليهوديــة تبقى ُ‬ ‫حســب العديــد مــن المختصيــن‪ .‬بحيــث إنــه كان متشــبث ًا بهــا‪،‬‬ ‫وخاصــة مســرح الييديش‪ ،‬وهي‬ ‫وحريصـ ًا علــى دراســتها بعمــق‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫خاصــة تكلمهــا اليهــود منــذ القــدم فــي ألمانيا وفــي أوروبا‬ ‫لهجــة‬ ‫ّ‬ ‫ـرقية‪ .‬وقــد كتــب كافــكا صفحــات طويلــة فــي يومياتــه عــن‬ ‫الشـ ّ‬ ‫ـوف والالعقالنيــة في هذا‬ ‫ـ‬ ‫التص‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫وع‬ ‫ـش‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫الييدي‬ ‫ـص‬ ‫ـ‬ ‫وقص‬ ‫مســرح‬ ‫ُّ‬ ‫التــراث‪ .‬وكان حســب بنياميــن بالينــت معجب ـ ًا بهــذا المســرح‪،‬‬ ‫و «متأثّــر ًا بصدقــه وقــوة نبرتــه‪ ،‬وبدرجــة الســخرية فــي لغتــه‬ ‫التــي كان يتحــاور ويتصــادم فيهــا مــا هــو عالــي القيمــة مــع مــا‬ ‫هــو متواضــع‪ ،‬والمكتــوب مــع العامــي»‪ .‬وعلــى الرغــم مــن هــذا‬ ‫حد‬ ‫االهتمــام‪ ،‬ظــلّ كافــكا يحتفــظ بمســافة وجوديــة وعبثيــة إلى ٍّ‬ ‫مــا مــع أصولــه‪ ،‬وهــي ميــزة أساسـ ّـية فــي كتاباتــه‪ .‬فــكان يطــرح‬ ‫أفكار ًا ذات نبرة متهكمة حول معاني ودالالت عالقته بإســرائيل‪،‬‬ ‫بــل وحتــى باليهــود‪ ،‬حيث يتســاءل فــي يومياته‪« :‬ما هــي العالقة‬ ‫ـدي بالكاد‬ ‫التــي تجمعنــي باليهــود؟» فيجيــب قائـاً‪« :‬أنا ليســت لـ ّ‬ ‫عالقــة حتــى بنفســي»‪ .‬هــذه التســاؤالت حــول الوجــود والعالقــة‬ ‫ـانية عمومـ ًا جعلــت البعــض يعتبــر‬ ‫التــي تربطــه بواقعــه وباإلنسـ ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ـرائيلياً‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫إس‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫يهودي‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫كاتب‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫من‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫أكث‬ ‫كافــكا كاتب ـ ًا كوني ـ ًا وإنســاني ًا‬ ‫ّ‬ ‫بهمــة بإســرائيل تشــبه عالقتــه‬ ‫الم َ‬ ‫ويــرى بالينــت أن هــذه العالقــة ُ‬ ‫بالنســاء اللواتــي تعــرف علــى الكثيــر منهــن دون أن يرتبط رســمي ًا‬ ‫أو يتــزوج نظــر ًا لميلــه إلــى الفردانية الشــديدة واإلنعــزال‪ .‬ويقول‬ ‫بالينــت فــي هــذا الصــدد إن كافــكا كان يحــب النســاء‪ ،‬ولكــن عن‬ ‫وتــردد كافــكا فــي مــا يخــص‬ ‫بعــد‪ ،‬حيــث يكتــب‪« :‬إن تناقــض‬ ‫ُّ‬ ‫الصهيونيــة ليــس غريبـ ًا عــن تع ُّقــد عالقتــه مــع «فيليــس بويــر»‬ ‫ّ‬ ‫(خطيبتــه) والنســاء األخريــات‪ ،‬فهــو كان يحبهــن جميعـاً‪ ،‬ولكــن‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪7‬‬


‫صورة أرشيف كافكا ▲‬

‫دائمـ ًا مــن بعيــد»‪.‬‬ ‫يتعرض البطل واســمه اســمه «ك» لالعتقال ذات يوم‬ ‫ـة»‬ ‫ـ‬ ‫«المحاكم‬ ‫فــي روايــة‬ ‫َّ‬ ‫ـدم للمحاكمــة بتهمــة ارتكابــه لخطــأ يجهــل حتــى طبيعتــه‪،‬‬ ‫فــي الصبــاح ويقـ َّ‬ ‫ثــم يتو َّلــى محاكمتــه قضــاة ال يراهــم أبــداً‪ ،‬وذلــك تطبيقـ ًا لقوانيــن ال يعرفهــا‬ ‫«ك»‪ ،‬بــل ال يريــد أي أحــد أن يشــرحها لــه‪ .‬هــذه األجــواء تلخصهــا أيض ًا إحدى‬ ‫ـرض لمثــل هــذه المحاكمــة‬ ‫شـ‬ ‫ـخصيات الروايــة عندمــا تقــول‪« :‬إن َمـ ْ‬ ‫ـن يتعـ َّ‬ ‫ّ‬ ‫محكــوم عليــه مســبق ًا بــأن يخســرها»‪ .‬إنهــا قولــة تجســد إحــدى الخالصــات‬ ‫األساسـ ّـية لروايــة عــن عبثيــة الحيــاة كمــا يراهــا كافــكا‪ .‬وقــد يكــون هــذا هو ما‬ ‫وقــع فــي النهايــة لعائلــة هــوف فــي محاكمــة األرشــيف‪ ،‬بحيــث إنهــا خســرت‬ ‫الدعــوى‪ ،‬وخســرت إرثـ ًا تاريخيـ ًا ارتبــط باســمها مئــة عــام‪ .‬لكــن هــل ســتكون‬ ‫هــذه القضيــة هــي فع ـ ً‬ ‫ا «المحاكمــة األخيــرة لكافــكا»‪ ،‬كمــا يقــول عنــوان‬ ‫الكتــاب؟ أم أن إســرائيل يمكــن أن تطالــب مســتقب ً‬ ‫ال بملكيــة األجــزاء المتبقيــة‬ ‫مــن أرشــيف كافــكا في إنجلترا وألمانيــا؟ يبقى هذا أمر ًا محتم ً‬ ‫ال ووارد ًا بحســب‬ ‫ـرائيلية‬ ‫الصهيونية واســتراتيجية الدفاع التي تبناها محامي المكتبة اإلسـ‬ ‫منطق‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫نفســه‪ .‬ووفــق المنطــق نفســه أيض ـاً‪ ،‬يمكــن أن تطالــب إســرائيل باســترجاع‬ ‫يهوديــة حتــى إذا لــم يكــن يؤمــن‬ ‫أرشــيف أي كاتــب عبــر العالــم لــه أصــول‬ ‫ّ‬ ‫ـرائيلية‪ ■ .‬محمــد مســتعد (المغــرب)‬ ‫بالدولــة اإلسـ‬ ‫ّ‬

‫كافكا مع خطيبته فيليس باور «‪▲ »1917‬‬

‫‪8‬‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫*بنياميــن بالينــت‪ :‬كاتــب فــي األربعينــات مــن العمــر‪ ،‬ومــن األســماء الصاعــدة فــي دراســات‬ ‫ة‪-‬اليهوديــة‪ُ .‬ولــد فــي الواليــات الم َّتحــدة‬ ‫األميركي‬ ‫الثقافيــة‬ ‫متخصــص فــي العالقــات‬ ‫اإلنســانيات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـرائيلية‪ .‬يكتــب باإلنجليزيــة والعبريــة فــي كبــار الصحــف‬ ‫ويحمــل الجنســيتين األميركيــة واإلسـ‬ ‫ّ‬ ‫العالميــة مثــل «وول ســتريت جورنــال» و«دي تزايــت» و«هآرتــز»‪ .‬كمــا أنــه عضــو باحــث فــي‬ ‫ّ‬ ‫واالجتماعيــة‬ ‫ـانية‬ ‫الم ّ‬ ‫«معهــد فــان ليــر» ‪ُ the Van Leer Institute‬‬ ‫ّ‬ ‫تخصــص فــي العلــوم اإلنسـ ّ‬ ‫فــي القــدس التــي يعيــش فيهــا‪ .‬مــن بيــن مؤلَّفاتــه كتــاب مشــترك مــع «ميــراف مــاك» يحمــل‬ ‫عنــوان‪« :‬القــدس‪ :‬مدينــة الكتــاب» ويبحــث فــي التاريــخ القديــم والحديــث للمكتبــات الخفية في‬ ‫تجســده مــن مرجعيات ســكّ انها وثقافاتهــا المنتمية إلــى الديانات‬ ‫القــدس وكنوزهــا مــن خــال ما‬ ‫ّ‬ ‫حولــت‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الت‬ ‫ـدل‬ ‫ـ‬ ‫للج‬ ‫ـرة‬ ‫ـ‬ ‫المثي‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫المج‬ ‫ـري‪:‬‬ ‫ـ‬ ‫«كومنت‬ ‫ـوان‬ ‫ـ‬ ‫بعن‬ ‫ـاب‬ ‫ـ‬ ‫كت‬ ‫ـماوية الثــاث‪ .‬ولــه أيض ـ ًا‬ ‫السـ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫والمفكِّ ريــن‬ ‫اليهــود اليســاريين إلــى محافظيــن جــدد»‪ .‬ويتنــاول فيــه مســارات جيــل مــن األدبــاء ُ‬ ‫األميركييــن ذوي األصــول اليهوديــة مثــل فيليــب روث‪ ،‬وجيمــس بالدويــن وهانــه أرنــدت‪ ...‬الذيــن‬ ‫بــرزوا فــي مج ّلــة «كومنتــري» وتحلَّقــوا حولهــا وكانــوا متعاطفيــن سياسـ ّـي ًا مــع اليســار‪ ،‬لكــن‬ ‫المحا ِفــظ‪.‬‬ ‫المج ّلــة َّ‬ ‫تحولــت مــع مــرور الســنوات إلــى ناطقــة باســم اليميــن ُ‬


Doha

9

Magazine

150 2020 ‫أبريل‬

aldoha_magazine

@aldoha_magazine


‫ُك َّتاب الصني يواجهون‪:‬‬

‫زهرة برقوق‬ ‫ال تسقطها الرياح‬

‫وترتجــل عــن‬ ‫ربــا تذبــل‬ ‫ـي ملدينــة ووهــان‪ -‬تعصــف بهــا ريــاح أمشــر ومــا يليــه‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫زهــرة الربقــوق ‪-‬الرمــز التاريخـ ّ‬ ‫وتتوســد الــراب يف انتظــار بعـ ٍ‬ ‫ـث جديــد‪ .‬يف ووهــان ال تــرك زهــرة الربقــوق شــجرتها‪ ،‬بــل تظـ ّ‬ ‫متمســكة‬ ‫ـل‬ ‫عرشــها‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫بهــا إىل الرمــق األخــر وحتــى تخمــد العاصفــة‪.‬‬ ‫هنا عىل األرض‪ ،‬أسطورة نضال وتكاتف وصمود تعكسه ردود أفعال أدباء الصني ومفكِّريها حول وباء كورونا‬ ‫ّ‬ ‫واملجلت داخل الصني وخارجها‪ ،‬والتي زرعت األمل يف النفوس‪.‬‬ ‫الذي رضب الصني كام تناقلتها الصحف‬

‫تيه نينغ‪:‬‬

‫نتشــارك جميعنــا اآلن وقتـ ًا عصيبـاً‪ .‬فتؤ ِّثــر علينــا‬ ‫فثمة‬ ‫المع َّقــدة والتــي تخلخل أرواحنــا‪ّ .‬‬ ‫عواطفنــا ُ‬ ‫آالف الســنين قد تشــكِّ ل خاللها الخــوف الغريزي‬ ‫لــدى البشــر فــي مواجهــة األمــراض الوبائيــة‪،‬‬ ‫فتبلــورت لدينــا مشــاعر ُحفــرت بالوجــدان فيمــا‬ ‫ـي الذي نعتمــد عليه في‬ ‫يتع َّلــق بالمجتمــع الوطنـ ّ‬ ‫حياتنــا ومماتنــا‪ ،‬كمــا أوجــدت داخلنــا مشــاعر‬ ‫األســف حيــال تلــك األرواح المفقــودة؛ ومشــاعر‬ ‫الطبيــة بأعدادهــا الكثيفــة‪ ،‬كذلك‬ ‫اإلعجــاب الممــزوج بالقلــق حيــال الكــوادر‬ ‫ّ‬ ‫أولئــك المناضليــن الذين يتشـ َّـبثون بمواقعهــم في مواجهة الوبــاء ويندفعون‬ ‫صــوب الصفــوف األماميــة فــي المعركــة‪« .‬كلّ شــخص بمثابــة قطعـ ٍ‬ ‫ـة صغيــرة‬ ‫مــن األرض‪ ،‬ت َّتصــل ببعضهــا البعــض لتشــكل أرض ـ ًا يابســة»‪ .‬فــي مثــل هــذا‬ ‫الوقــت‪ ،‬نــدرك بعمــق الصلة التــي تجمعنا باآلخرين‪ ،‬فيصبــح فقدان اآلخرين‬ ‫فقدانـ ًا لذواتنــا‪ ،‬وتضحــى آالم اآلخريــن آالمنــا‪ .‬بينمــا أولئــك الذيــن يمضــون‬ ‫قدمـ ًا ويندفعــون بشــجاعة فــي وقــت األزمــات‪ ،‬هــم بمثابــة العمــود الفقــري‬ ‫لألمــة‪ ،‬وهــم الضيــاء الــذي يشــرق فــي ســماء الــروح الوطنيــة‪ ،‬فهــم مصــدر‬ ‫ّ‬ ‫األمــة الدائمــة التــي ال تنضــب‪ ،‬والتــي تمكّ نهــا مــن الصمــود خــال كافــة‬ ‫قــوة ّ‬ ‫وتحمــل المشــاق‪ .‬ينبغــي علينــا أن نبــذل قصــارى جهدنــا للتغ ُّلــب‬ ‫التجــارب‬ ‫ُّ‬ ‫علــى الصعوبــات مع ـاً‪ .‬يرتبــط األدب بالذاكــرة‪ ،‬ويهتــم بالجوهــر‪ ،‬ويتط َّلــب‬ ‫االلتــزام‪ ،‬ويحتــاج إلــى عمــق التفكيــر‪ .‬وأنــا علــى ثقــة مــن أن زمالئــي الكُ َّتــاب‬ ‫قــادرون بطــرق شــتى علــى توثيــق هــذا الوقــت العاصــف‪ ،‬وتجســيد اإلرادة‬ ‫لألمــة والوطــن‪.‬‬ ‫التــي ال تتزعــزع ّ‬

‫‪10‬‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫يل جينغ تسه‪:‬‬

‫وأمتنــا الصامــدة‬ ‫ســتجتاز بلدنــا العظيمــة ّ‬ ‫الموحدة الشــتاء القاســي وتســتقبل الربيع‪ .‬وفي‬ ‫َّ‬ ‫ـد بصــري إلــى ووهــان‬ ‫مثــل هــذه اللحظــات‪ ،‬أمـ ُّ‬ ‫وهوبــي‪ ،‬واتط َّلــع للنــاس هنالــك؛ أولئــك الذيــن‬ ‫أعرفهــم أو ال أعرفهــم‪ ،‬الذين قاتلوا بشــجاعة في‬ ‫ـط المواجهــة والذيــن التزمــوا بيوتهــم‪ ،‬متمنيـ ًا‬ ‫خـ ّ‬ ‫لهــم الســامة‪ .‬ســامتكم هــي الربيــع‪.‬‬

‫مويان‪:‬‬

‫ســنطارد بقلــب رجــلٍ واحــد شــبح الوباء‪ ،‬و ُنشـ ِّـيد‬ ‫ســور الصيــن العظيــم بــإرادة الجماهير‪.‬‬

‫وانغ منغ‪:‬‬

‫مع ّلــق القلــب بووهــان‪ ،‬مرسـ ً‬ ‫ا التحايــا للطواقــم‬ ‫الطبيــة‪ .‬ليكــن الدفــاع محكمــاً‪ ،‬حتــى يندحــر‬ ‫ّ‬ ‫الوبــاء‪ .‬وليكــن الحــرص علــى القــراءة والكتابــة‬ ‫وبالصحــة والتفاؤل‪،‬‬ ‫قائمـاً‪ ،‬فالوقــت مــن ذهــب‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ـد االبتــاءات‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫أش‬ ‫ـي‬ ‫تتح َّقــق أفضــل النتائــج فـ‬ ‫ّ‬


‫يه شني‪:‬‬

‫يساورني القلق على ووهان‪،‬‬ ‫الهم روحي على هوبي‪،‬‬ ‫ويثقل‬ ‫ّ‬ ‫يضطــرب فــؤادي علــى النــاس المحــدق بهــم‬ ‫الوبــاء‪.‬‬ ‫لتنقشع أيها الوباء سريعاً‪ ،‬فلتسرع!‬ ‫ليقبل الربيع‪.‬‬ ‫ويمضي قطار الصين مسرعاً‪.‬‬

‫جي دي ماجيا‪:‬‬

‫ـدم دائم ـ ًا جوائــح‬ ‫ـري والتقـ ُّ‬ ‫ـور البشـ ّ‬ ‫يواكــب التطـ ُّ‬ ‫األمــة الصينية بأن‬ ‫ـخ‬ ‫ـ‬ ‫تاري‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ويخبرن‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫غيــر متوقَّعـ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ممهــد ًا أبــداً‪.‬‬ ‫ا‬ ‫سلســ‬ ‫يكــن‬ ‫لــم‬ ‫م‬ ‫للتقــد‬ ‫الطريــق‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ولكــن علينــا اإليمــان بــأن الصيــن اليــوم ســتخبر‬ ‫العالــم أجمــع مــن خــال الحقائــق أن مواطنيهــا‬ ‫البالــغ عددهــم مليــار وأربعمئة مليون نســمة لن‬ ‫ينهزمــوا فــي مواجهــة أي مخاطــر أو صعوبــات‪.‬‬ ‫وســيقبل حتمـ ًا ذلــك الغــد المشــرق الرائــع الذي‬ ‫نتط َّلــع إليــه‪.‬‬

‫خه جيان مينغ‪:‬‬

‫يكافــح البشــر كلّ يــوم مــن أجــل بقائهــم‪،‬‬ ‫فالســعادة والمعانــاة ترافقنا دائمـاً‪ .‬فبعد تجاوز‬ ‫تجربــة وبــاء ســارس فــي بكيــن فيمــا ســبق‪ ،‬أفكــر‬ ‫فــي أن أقــول لمواطنــي ووهان‪ :‬فــي الصين اليوم‪،‬‬ ‫يمكننــا التغ ُّلــب علــى كافــة الجوائــح‪ ،‬وفــي نهاية‬ ‫المطاف ســتدفئ الشــمس كلّ شــبر من األراضي‬ ‫الصينية‪.‬‬

‫جيا بينغ وا‪:‬‬

‫ـرة‬ ‫لــم نخبــر الحــرب‪ ،‬غيــر أننــا نعانــي هــذه المـ ّ‬ ‫بالتأكيــد مــن كارثـ ٍ‬ ‫ـاء»‪.‬‬ ‫ـة جســيمة ونحــارب «وبـ ً‬ ‫ُتم ِّثــل ووهــان ســاحة المعركــة‪ ،‬بينمــا كلّ فــرد‬ ‫بالبــاد هــو مقاتــل‪ .‬وعندمــا ح َّلــت بنــا الكارثــة‪،‬‬ ‫فكّ رنــا جميعــ ًا فــي العالقــة بيــن اإلنســان‬ ‫الصحــة‬ ‫وتدبرنــا الحيــاة والمــوت‪،‬‬ ‫والطبيعــة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫والمــرض‪ ،‬األمــن والخــوف ومــا إلــى ذلــك‪ ،‬وهو‬ ‫الوطني‪ ،‬وما‬ ‫مــا يدفعنــا إلدراك ماهية الشــعور‬ ‫ّ‬ ‫ـميه اإلرادة الجماعية ســور حصين‪ ،‬وما قد‬ ‫نسـ ّ‬ ‫ـب بين الناس‪ .‬وخالل عشــرات‬ ‫ـ‬ ‫الح‬ ‫عليه‬ ‫ـق‬ ‫نطلـ‬ ‫ّ‬ ‫األيــام الماضيــة‪ ،‬وعلــى الرغــم مــن انعزالــي بالمنــزل وعــدم قدرتــي علــى‬ ‫ّ‬ ‫إل أننــي أتابــع األخبــار عــن كثــب‪ ،‬وقــد تأ َّثــرت للغايــة بالكثيــر‬ ‫مغادرتــه‪ّ ،‬‬ ‫مــن األبطــال واألعمــال البطوليــة‪ .‬وباعتبــاري كاتبـاً‪ ،‬فمــا يمكننــي القيــام‬ ‫بــه يتم َّثــل فــي تســجيل مــا يحــدث كلّ يــوم‪ ،‬حيث أكتــب المقاالت بنفســي‬ ‫أو أتواصــل عبــر الهاتــف وأنظــم الكثيــر مــن المقــاالت التــي كتبهــا الكُ َّتــاب‬ ‫اآلخــرون‪ ،‬وذلــك لتصبــح صرخــة مــن أجــل هــذا الوطــن‪ ،‬وكذلــك دعم ـ ًا‬ ‫نقدمــه للكــوادر الطبيــة وكافــة العامليــن بالخطــوط األماميــة‪ .‬حتمــ ًا‬ ‫ِّ‬ ‫ســننتصر‪.‬‬

‫ليو جني يون‪:‬‬

‫خــال مســيرة مكافحــة الوبــاء‪ ،‬بــرزت الكثيــر‬ ‫ـخصيات الجديــرة باالحتــرام‪ ،‬عــاوة‬ ‫مــن الشـ‬ ‫ّ‬ ‫الطبــي الذيــن‬ ‫علــى العامليــن فــي المجــال‬ ‫ّ‬ ‫هرعــوا إلى ووهــان‪ ،‬فكانت أصواتهم وكفاءتهم‬ ‫المهنيــة وحيواتهــم قوام أغنية تمــس القلوب‪،‬‬ ‫وســتصبح ضــوء الشــمعة الــذي ينيــر اليــوم‬ ‫مــر الســنين‪ ،‬لــن تظــلّ‬ ‫والمســتقبل‪ .‬وعلــى ّ‬ ‫هــذه الكارثــة ماثلــة فــي أذهاننــا فحســب‪ ،‬بــل‬ ‫ســنظلّ نتذكَّ ــر أســماء هــؤالء األشــخاص كذلــك‪.‬‬

‫سو تونغ‪:‬‬

‫يمكــن لهــذا الوبــاء أن يصبح ذاكرة ال ُتنســى لدى‬ ‫ـد وأن تحمــل بيــن‬ ‫كلّ صينــي‪ .‬فهــذه الذاكــرة البـ ّ‬ ‫طياتهــا األلــم والتفكــر‪ ،‬بيــد أن هــذه الذكريــات‬ ‫جميعهــا تســاهم فــي صياغة المســتقبل‪ .‬فقلوب‬ ‫الصينييــن اآلن مشــقوقة نصفيــن‪ ،‬أحــد هذيــن‬ ‫فأمــة تعبــر‬ ‫النصفيــن يقبــع هنالــك فــي ووهــان‪ّ .‬‬ ‫ٍ‬ ‫بقــارب واحــد‪ ،‬يمكنهــا حتمــ ًا أن تصــل‬ ‫النهــر‬ ‫للجانــب اآلخــر‪ ،‬حيــث اإلشــراق والجمــال‪.‬‬

‫ماي جيا‪:‬‬

‫عشــية عيــد الربيــع‪ ،‬كانــت الهجمــة الشرســة‬ ‫الطبية‬ ‫للوبــاء‪ ،‬رأيــت بــأم عيني نقــص اإلمــدادات‬ ‫ّ‬ ‫فــي الصيــن‪ ،‬فكّ ــرت فــي المســاعدة بشــيء مــا‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫لســنوات عديــدة بالخــارج‪،‬‬ ‫فا ّتصلــت بشــركائي‬ ‫وكلفــت فــرع شــركة كتــب الصيــن المحــدودة‬ ‫بالواليــات الم َّتحــدة األميركيــة لشــراء المــواد‬ ‫الالزمــة‪ .‬ومــع ذلــك‪ ،‬لــم يكن هذا الســبيل سلسـ ًا‬ ‫كمــا كان متوقَّعـاً‪ ،‬حيث أقدمــت المتاجر القائمة‬ ‫التســوق األميركيــة بالتوالــي علــى رفــع‬ ‫بمراكــز‬ ‫ُّ‬ ‫األســعار وفــرض القيــود على المشــتريات وغيرها‬ ‫مــن اإلجــراءات‪ ،‬كانــت بعــض المــواد المطلوبــة بشــكلٍ عاجــل غيــر متو ِّفــرة‪،‬‬ ‫كمــا ألغيــت الرحــات الجويــة المباشــرة إلــى الصيــن جزئي ـاً‪ ...‬أحدقــت بــي‬ ‫الصعوبــات‪ ،‬غيــر أننــي تشـ َّـبثت بمأربي‪ ،‬وفــي النهايــة أمكنني اختــراق العديد‬ ‫مــن الحواجــز‪ ،‬وإدراك الهــدف األصلــي‪.‬‬

‫يش تشان جون‪:‬‬

‫إن فقـد الكثيـر مـن األرواح النابضـة بالحيـاة‬ ‫ّ‬ ‫جـراء هذا الوباء تصيب المرء بحزنٍ ال متنا ٍه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫بينما صار هذا الربيع هو موعد اختبار وتنقيح‬ ‫الوطنيـة الهائلة‪ .‬تحية لألطباء‬ ‫وتوحيـد القوة‬ ‫ّ‬ ‫اإلنسانية! وتحية‬ ‫روح‬ ‫من‬ ‫قلوبهم‬ ‫لما تحتويه‬ ‫ّ‬ ‫لكل األبطال الذين يقاتلون بالصفوف األمامية‬ ‫ّ‬ ‫لمكافحـة الوبـاء مـن خلال كافـة األعمـال‬ ‫والتخصصـات! ونظـر ًا لوجـود حصـن اإلرادة‬ ‫ُّ‬ ‫الجماعيـة‪ ،‬يجـب أن يكـون هـذا العـام وقتـ ًا‬ ‫األمـة الصينيـة‬ ‫تسـطر فيـه‬ ‫تاريخيـ ًا عظيمـ ًا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تحقيـق انتصـار مجيد!‬ ‫ترجمة عن الصينية‪ :‬مي ممدوح (مصر)‬

‫‪۹‬‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪11‬‬


‫جائحة‪ ‬القرن‬

‫الـمستفادة‬ ‫الدروس ُ‬ ‫يتأكّ ــد لنــا مـ ّـر ًة أخــرى عــر جائحــة كورونــا حقيقــة املصــر ا ُ‬ ‫للبرشيــة الــذي ينبغــي أن يكــون منطلــق‬ ‫ملشــرك‬ ‫ّ‬ ‫السياســات والعالقــات بــن الــدول يف أوقــات الرخــاء أو‪ ‬الكــوارث‪ ،‬كــا تظهــر لنــا الجائحــة مــدى صغــر حجــم‬ ‫قريتنــا الكونيــة التــي تقاربــت املســافات بــن مدنهــا واتّصلــت أطرافهــا البعيــدة بواســطة وســائل املواصــات‬ ‫الحديثة‪ .‬ومــن املفارقــة أن الطائــرات التــي تعـ ّـد الوســيلة األكــر فعاليــة يف التنقــل بــن أرجــاء الكوكــب واألكــر‬ ‫تحولــت خــال األســابيع املاضيــة إىل‬ ‫رسعــة يف نقــل اإلمــدادات الطبيــة واإلغاثيــة ملواجهــة الكــوارث بأنواعهــا‪ّ ،‬‬ ‫مــا يشــبه طائــر النار‪( ‬الحدأة)‪ ‬املتهــم بنقــل أعــواد النــار وتوســيع بــؤر الحرائــق يف مناطــق الغابــات‪ ،‬ففــي ظــرف‬ ‫ـام قليلــة انتقــل فــروس كورونــا برسعــة مذهلــة مــن بؤرتــه األوىل يف مدينة‪ ‬ووهان‪ ‬الصينيــة إىل مناطق واســعة‬ ‫أيـ ٍ‬ ‫توجهــت بوصلــة معظــم حكومات العامل نحو عد ٍو واحد مشــرك‬ ‫وقصيــة يف الغــرب والرشق‪ .‬ومــع بدايــة مــارس َّ‬ ‫تكافــح ملحاولــة احتــواء انتشــاره مــن خــال اتخــاذ تدابــر مشــركة كتعليــق حركــة الطــران وإغــاق مــدن بكاملهــا‬ ‫وســعي بعــض الــدول إىل إغــاق الحــدود الربيــة والبحريــة ووضــع املاليــن مــن البــر قيــد الحجــر الصحــي‪ .‬‬

‫دعــا المليارديــر األميركــي بيــل جيتــس فــي مقــال لــه («نيو‪ ‬إنجالند‪ ‬جورنال أو‬ ‫ف‪ ‬ميديســن»‪ 28 ،‬فبراير‪ )2020 ‬إلى جملــة مــن اإلجراءات الســريعة كتدابير‬ ‫ـرة كلّ مئــة‬ ‫الحتــواء الفيــروس الــذي رأى أنــه مــن تلــك الجوائــح التــي تأتــي مـ ّ‬ ‫يتصرف بهــا الفيروس‪،‬‬ ‫عــام‪ ،‬وبــدا لــه هذا االســتقراء من خالل الطريقــة التي‬ ‫ّ‬ ‫فهنــاك ســببان يجعــان (كوفيــد‪ )19 -‬يم ِّثــل هــذا التهديد‪« ،‬فهــو أو ً‬ ‫ال قــادر‬ ‫علــى قتــل البالغيــن األصحــاء‪ ،‬باإلضافــة إلــى المســنين الذيــن يعانــون مــن‬ ‫مشــاكل صحيــة مزمنة‪ .‬وتشــير البيانــات حتــى اآلن إلــى أن الفيــروس قــد‬ ‫ـدل مــن شــأنه أن‬ ‫يتســبب فــي وفــاة حالــة واحــدة حوالــي‪ ،% 1 ‬وهــذا المعـ َّ‬ ‫ـرات مــن األنفلونــزا الموســمية النموذجيــة‪ ،‬األمــر‬ ‫يجعلــه أكثــر حــدة عــدة مـ ّ‬ ‫الــذي يضعــه فــي مــكان ما بيــن وبــاء األنفلونزا فــي عــام‪ )% 6 .0( 1957 ‬ووباء‬ ‫األنفلونــزا في عــام‪ .»)% 2( 1918 ‬‬ ‫ثانياً‪ ،‬ينتقل (كوفيد‪ )19 -‬بكفاءة تامة‪ .‬فالشــخص المصاب ينشــر المرض في‬ ‫المتوســط إلــى اثنيــن أو ثالثــة آخرين‪ ،‬وهو معدل زيادة بالغ الســرعة‪ .‬وهناك‬ ‫أيضـ ًا أدلــة قويــة علــى أنــه يمكــن أن ينتقــل عــن طريــق أشــخاص يعانــون مــن‬ ‫المــرض بشــكلٍ طفيــف أو حتــى لــم تظهــر عليهــم أعراضه‪ .‬وهــذا يعنــي أن‬ ‫احتــواء مــرض (كوفيــد‪ )19 -‬ســوف يكــون أصعــب كثيــر ًا مــن احتــواء متالزمــة‬ ‫الشــرق األوســط التنفســية أو مرض ســارس‪ .‬وفي الواقع فإن‪( ‬كوفيد‪ )19 -‬قد‬ ‫تســبب بالفعل بعشــرة أضعاف عدد حاالت انتشــار السارس في‪ ‬ربع‪ ‬الوقت‪ .‬‬ ‫مــن جانبــه يتســاءل جســتن فوكــس مديــر التحريــر الســابق لمج ّلــة هارفــارد‬ ‫بيزنــس ريفيــو (وكالة‪ ‬بلومبرغ‪ 7 ‬مــارس‪/‬آذار‪ :)2020 ‬إذا كان مــرض ســارس‬ ‫ـم القضــاء عليــه فــي حوالي‪ ‬عام‪ ،‬فــي‬ ‫أكثــر فتــك ًا مــن (كوفيــد‪ )19 -‬فلمــاذا تـ ّ‬ ‫حيــن أن بعــض الخبــراء يحــذرون مــن أن (كوفيــد‪ )19 -‬قــد يكــون موجــود ًا‬

‫‪12‬‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫إلــى األبــد؟ ألن ســارس عــاد ًة ال يصبــح معديـ ًا ّإل بعــد عــدة أيــام مــن ظهــور‬ ‫وإن كان‬ ‫األعــراض‪ ،‬ويبــدو أن (كوفيــد‪ )19 -‬ينتقــل قبــل أن تظهــر األعــراض ْ‬ ‫جداً‪ .‬‬ ‫بمعدل قليــل ّ‬ ‫شــك أن البشــرية تمــر اآلن بكارثــة لــم تكــن فــي الحســبان إذ يواصــل‬ ‫ال‬ ‫ّ‬ ‫(كوفيــد‪ )19 -‬تمــدده المســتمر فــي مناطــق جديــدة مــن العالــم فيرتفــع‬ ‫بذلــك عــدد اإلصابــات وتــزداد أرقــام الضحايــا‪ ،‬ومــا زاد األمــر ســوءاً‪ ،‬كمــا‬ ‫يكتــب «آالن‪ ‬ليفينوفيتــز» أســتاذ الفلســفة والديانــة الصينيــة بجامعــة‬ ‫جيمــس ماديســون (مجلّــة السياســة الخارجية‪ 5 ،‬مــارس‪/‬آذار‪،)2020 ‬‬ ‫أن خطــاب أصحــاب الخبــرات المســؤولة ينــزاح إلــى الخلــف وتحــلّ مح ّلــه‬ ‫الصحة‬ ‫همســات التآمــر لــدى أولئــك الذين يزعمــون معرفــة الحقيقة‪ .‬فهــواة‬ ‫ّ‬ ‫الطبيعيــة المناهضــون للقاحــات يتهمــون شــركات األدويــة بإثــارة الذعــر بيــن‬ ‫الســكّ ان لبيــع منتجاتهــا‪ ،‬فــي حيــن يــرى النباتيــون والمدافعــون عــن حقــوق‬ ‫الحيــوان أن أســواق اللحــوم هــي مصــدر األمــراض القاتلــة‪ .‬إن ردود األفعــال‬ ‫الصحة‬ ‫المضخمــة أيديولوجيـ ًا تجــاه (كوفيــد‪ )19 -‬غالبـ ًا مــا تتجــاوز مجــاالت‬ ‫ّ‬ ‫والطــب‪ ،‬وتصبــح فــي المقــام األول سياســية والهوتية‪ .‬فالساســة اليمينيــون‬ ‫فــي جميــع أنحــاء العالــم يــرون الفيــروس عقابـ ًا علــى انفتــاح الحــدود تجــاه‬ ‫المهاجرين‪ .‬وبطبيعــة الحــال فالمتعصبــون الدينيــون يــرون ذلــك كعقوبــة‬ ‫علــى خطايانا‪ .‬وهــؤالء جميعـ ًا يســتغلون الرغبــة اإلنســانية فــي إقامــة نظــام‬ ‫يعبــر عنــه تقليدي ـ ًا باألنظمــة‬ ‫ثنائــي تبســيطي لتفســير الخيــر والشــر‪ ،‬الــذي ّ‬ ‫الطبيعيــة وغيــر الطبيعية‪ .‬عليــك أن تطيــع قوانيــن تلك األنظمــة لتنجو‪ ،‬وإذا‬ ‫خالفتها ســتعاني‪ .‬‬ ‫يرى‪« ‬ليفينوفيتز»‪ ‬أن‪ ‬الالطبيعية‪ )unnaturalness( ‬كانــت تســتخدم منــذ‬


‫فتــرة طويلــة لتفســير كلّ أشــكال الخلــل الوظيفي‪ .‬ففــي جميــع مســرحيات‬ ‫شكســبير‪ ،‬علــى ســبيل المثــال‪ ،‬تعمــل كلمة‪« ‬الالطبيعية»‪ ‬كمــرادف للنقــص‬ ‫األخالقــي‪« :‬غيــر طبيعــي وغيــر لطيــف»‪ ،‬و«غيــر جديــر وغيــر طبيعــي»‪،‬‬ ‫و«بربــري وغيــر طبيعــي»‪ ،‬و«غيــر إنســاني وغيــر طبيعي»‪ .‬ففــي عصــر‬ ‫شكســبير‪ -‬وقبلــه‪ -‬كانــت الوالدة‪« ‬غيــر الطبيعية»‪ ‬تعنــي طفــ ً‬ ‫ا يولــد مــع‬ ‫التشــوه‪ .‬والموت‪« ‬غير الطبيعي»‪ ‬يعنــي‪ ،‬وال يــزال‪ ،‬الحيــاة التــي‬ ‫بعــض‬ ‫ُّ‬ ‫تنتهــي مبكــر ًا بســبب القتــل أو وقوع حادث‪ .‬وفيما يتعلق بالنشــاط الجنســي‪،‬‬ ‫الســلطة‬ ‫فــإن تعبير‪« ‬غيــر الطبيعي»‪ ‬هــو توصيــف النحرافــات الرغبــة‪ ،‬وفــي ُّ‬ ‫الحاكمــة‪ ،‬توصيــف النحرافــات العدالــة‪ .‬‬ ‫تعودنا على فكرة الشر غير الطبيعي إلى الدرجة التي يبدو معها النشاط‬ ‫لقد ّ‬ ‫غيــر الطبيعــي وكأنه األصل البديهــي لجميع الويالت‪ .‬لكن‪ ‬الالطبيعية‪ ‬ليســت‬ ‫تفســير ًا للخلــل الوظيفي‪ .‬بعــض األنظمــة الطبيعيــة‪ -‬كالــوالدة الطبيعيــة‬ ‫المحســنة اصطناعياً‪ .‬واألشــكال‬ ‫مثالً‪ -‬هــي أدنــى بشــكلٍ واضــح مــن إصداراتنا‬ ‫َّ‬ ‫المتقدمــة لتوليــد الطاقــة مثــل األلــواح الشمســية هــي أفضــل‬ ‫التكنولوجيــة‬ ‫ّ‬ ‫للعالــم الطبيعــي مــن التنقيــب عــن الفحــم وإشــعال النــار فيــه‪ ،‬برغــم كــون‬ ‫مجــرد‬ ‫األخيــر مــادة طبيعيــة‪ .‬إن كلمة‪« ‬الطبيعي»‪ ‬و«غيــر الطبيعي»‪ ‬هــي‬ ‫َّ‬ ‫أوصــاف‪ ،‬ورغــم ذلــك فإننــا نصــر علــى اســتخدامها كأحكام‪ .‬‬ ‫يخلــص «ليفينوفيتــز» إلــى أن الحديــث عــن المــرض باعتبــاره نتاج ـ ًا لنشــاط‬ ‫غيــر طبيعــي يفتــح المجــال إلبــراز األســباب والحلــول المؤدلجــة‪ ،‬وعندمــا‬ ‫ـدد فيــروس آخر العالم‪ ،‬ســيكون هنــاك سياسيون‪ ‬شعبويون‪ ‬يســتخدمونه‬ ‫يهـ ّ‬ ‫لزيــادة الكراهيــة وكراهيــة األجانب‪ .‬وســوف يــرون فــي شــبح المــرض مبــرراً‬ ‫ـر منه‪ .‬ولكــن إذا لــم‬ ‫الخاص‬ ‫لميولهــم األيديولوجيــة‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ة‪ .‬ربمــا هــذا أمــر ال مفـ ّ‬ ‫ـدث بهــا عــن أســباب أزمتنــا‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫نتح‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الت‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫الكيفي‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫لتغيي‬ ‫نتخــذ التدابيــر الالزمــة‬ ‫ّ‬

‫بدايــة بـ«كوفيــد‪ ،»19 -‬فــإن جــزء ًا مــن اللــوم ســوف يقــع علينــا‪ .‬‬ ‫ج ٍ‬ ‫هــة أخــرى يــرى بيل‪ ‬ماكيبين‪ ‬الكاتــب والمدافــع عــن‬ ‫مــن‬ ‫ممــا قد ينجم‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫الرغ‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫مارس‪/‬آذار‪ )2020 ‬أن‬ ‫ـر‪5 ،‬‬ ‫ـ‬ ‫ّة‪ ‬النيويورك‬ ‫ل‬ ‫البيئة‪( ‬مج‬ ‫ّ‬ ‫ثمــة دروس ـ ًا يمكننــا‬ ‫مــن خســائر بشــرية كبيــرة بســبب هــذه الجائحــة ّإل أن ّ‬ ‫تعلمهــا‪ ،‬وبعــض هــذه الــدروس تبــدو واضحــة‪ ،‬فســفن الرحــات العمالقــة‬ ‫ـول إلــى عنابــر عائمــة‬ ‫هــي عبــارة عــن قاتــل للمنــاخ‪ ،‬ومــن الممكــن أن تتحـ ّ‬ ‫للمرضى‪ .‬ومــن الجديــر أن نالحــظ الكيفيــة التــي بــدا فيهــا أن المالييــن مــن‬ ‫النــاس قــد تعلّمــوا بشــكل أســرع أنماطــ ًا جديدة‪ .‬فالشــركات مثــ ً‬ ‫ا تكافــح‬ ‫اليــوم مــن أجــل الحفــاظ علــى إنتاجيتهــا‪ ،‬ولــو عمــل العديــد مــن النــاس مــن‬ ‫منازلهم‪ .‬كمــا أن فكــرة أننــا نحتــاج إلــى ســفر يومــي إلــى موقــع مركــزي للقيام‬ ‫بعملنــا قــد تكــون فــي كثيــر مــن األحيــان نتيجــة حالــة مــن الجمــود أكثــر مــن‬ ‫أي شــيء آخر‪ .‬وفــي ظــل حاجتنــا الفعليــة إلــى التنقــل بالمــاوس بــد ً‬ ‫ال مــن‬ ‫ربمــا ســنرى أن فوائــد المرونــة فــي مــكان العمــل تمتــد لتشــمل كلّ‬ ‫الســيارة َّ‬ ‫شــيء بــدء ًا مــن اســتهالك البنزيــن إلــى مــدى حاجتنــا إلــى مجمعــات مكتبيــة‬ ‫متراميــة األطــراف‪ .‬‬ ‫تجمــع الموظفيــن بالنســبة للعمــل‬ ‫ويضيف‪ ‬ماكيبيــن‪ ‬أن الع ّلــة الكامنــة وراء ّ‬ ‫هــي تالقــح األفــكار لزيــادة اإلنتاجيــة‪ ،‬وبالنســبة للمجتمــع فــإن الغايــة مــن‬ ‫التجمــع انتفــاع النــاس مــن بعضهــم البعــض‪ ،‬وهــو أمــر يــزداد صعوبــة‬ ‫فــي الوقــت الراهن‪ .‬ولكن‪« ‬اإلبعــاد االجتماعي»‪ ‬الــذي يطالبنــا بــه علمــاء‬ ‫األوبئــة اآلن لوقــف انتشــار المــرض المعــدي مألــوف بالفعــل لــدى العديــد‬ ‫وربمــا تقودنــا‬ ‫مــن األميركيين‪ .‬فنحــن نعيــش حيــاة مــن العزلــة النســبية‪َّ ،‬‬ ‫احتمــاالت العزلــة القســرية علــى نحــو غريب إلــى أن نغدو اجتماعيين بشــكلٍ‬ ‫أكبــر حيــن يختفــي الفيــروس‪ ■ .‬ربيــع ردمــان (اليمــن)‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪13‬‬


‫االصطناعي‬ ‫ال َّذكاء‬ ‫ّ‬

‫يف مواجهة الوباء‬

‫والحـ ّـد مــن الزحــف الوبــايئ لفريوس «كورونا» ا ُ‬ ‫ـتجد؟ بالطبع اإلجابة‬ ‫هــل بإمــكان التكنولوجيــا إنقــاذ األرواح‬ ‫ملسـ َ‬ ‫َ‬ ‫ليســت ســهلة‪ ،‬ولكــن األمــر املؤكّ ــد هــو أن أهميــة التكنولوجيــا قــد اتّضحــت هــذه األيــام أكــر مــن أي وقـ ٍ‬ ‫ـت مــى‪.‬‬ ‫ـي كأحــد أهــم أذرع التكنولوجيــا التــي ميكــن االســتعانة بهــا يف مواجهــة‬ ‫مــن هنــا يتعاظــم دور الــذَّكاء االصطناعـ ّ‬ ‫هــذه األزمــة‪ ،‬إذ ميكــن للخوارزميــات أن تســاعد يف تشــخيص الحــاالت ا ُ‬ ‫ملصابــة بـ«فــروس كورونــا املســتجد‬ ‫(‪ ،»)Covid-19‬وكذلــك العثــور عــى البــؤر اإليجابيــة‪ ،‬إىل جانــب التنبــؤ مبســتوى انتشــار الفــروس‪ .‬وهــو بالفعــل‬ ‫مــا تعكــف عليــه أغلــب الــدول ا ُ‬ ‫تقدمــة يف محاولـ ٍـة إليجــاد مخــرج‪.‬‬ ‫مل ِّ‬ ‫لمكافحــة وبــاء كورونــا‪ ،‬صــار لزامـ ًا علــى األطبــاء والصيادلــة فــي جميــع أنحــاء‬ ‫المتــاح معرفتــه فــي وقتنــا الحاضــر‪ ..‬بمعنــى‬ ‫العالــم تحقيــق قفــزات تتعـ َّ‬ ‫ـدى ُ‬ ‫المســبب للمــرض‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫العام‬ ‫ـتهدف‬ ‫ـ‬ ‫تس‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫فعلي‬ ‫ـات‬ ‫ـ‬ ‫أنــه ال توجــد حتــى اآلن لقاح‬ ‫ُ‬ ‫ثم وجــب البحث عن ُســبل‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫وم‬ ‫ـار‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫االنتش‬ ‫ـريع‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫داخــل خليــة ذلــك الفيــروس‬ ‫َّ‬ ‫ـن تظهــر عليــه إصابــات الرئــة الناتجــة‬ ‫تســاعد فــي التعــرف ســريع ًا علــى كل َمـ ْ‬ ‫عــن عــدوى فيــروس (‪ .)Covid-19‬فــي الصيــن يوجــد حليــف جديــد إلــى جــوار‬ ‫ـي‬ ‫الصيادلــة واألطبــاء والفنييــن لمواجهــة المــرض‪ ،‬أال وهــو‪ :‬الــذَّكاء االصطناعـ ّ‬ ‫قميــة أن معاهدهــا البحثيــة‬ ‫(‪ ،)AI‬حيــث أعلنــت بعــض شــركات التكنولوجيــا َّ‬ ‫الر ّ‬ ‫ـورت خوارزميــة أمكنهــا تشــخيص مــا يقــرب مــن ‪ 96‬بالمئــة مــن الحــاالت‬ ‫قــد طـ َّ‬ ‫ٍ‬ ‫صابة بمضاعفات رئوية ناتجة عن فيروس كورونا‪ ،‬وذلك بواســطة اســتخدام‬ ‫الم َ‬ ‫ُ‬ ‫التصويــر المقطعــي بالكمبيوتــر‪.‬‬ ‫ـي هنــا هــو فــي واقــع األمــر «التع ُّلــم اآللــي» أو‬ ‫مــا يُشــار إليــه بالـذَّكاء االصطناعـ ّ‬ ‫ـم أو ً‬ ‫ال تزويــد الخوارزميــة ببيانات تتعلَّق بصور األشــعة‬ ‫«التع ُّلــم العميــق»‪ ،‬إذ يتـ ُّ‬ ‫المقطعية لرئتي األشــخاص الذين ثبتت إصابتهم بالفيروس‪ .‬وكلما زادت نســبة‬ ‫التطابــق فــي فحــص المقارنــة الــذي تلتقطه الخوارزميــة‪ ،‬كانت هذه إشــارة على‬ ‫تفوق برنامــج الفحص‬ ‫وجــود إصابــات جديــدة‪ ..‬بالتدريــج يمكــن مالحظة مــدى ُّ‬ ‫اإللكترونــي علــى األطبــاء أنفســهم‪ ،‬مهمــا بلغــت خبرتهــم‪ ،‬حيــث يمكنــه التقاط‬ ‫تفاصيــل صغيــرة ربمــا ســقطت مــن أعيــن األطبــاء‪ .‬كمــا ال يمكــن إغفــال أهميــة‬ ‫عامــل الســرعة فــي التشــخيص‪ ،‬إذ إنــه خــال مــا ال يزيــد علــى ‪ 20‬ثانيــة فقــط‬ ‫ـراء فيــروس‬ ‫يســتطيع برنامــج الفحــص اإللكترونــي التمييــز بيــن رئــة ُم َ‬ ‫صابــة جـ َّ‬ ‫صابة ألي سـ ٍ‬ ‫ـمية‪ ،‬وهذا‬ ‫ـ‬ ‫الموس‬ ‫ـبب آخر كعــدوى األنفلونزا‬ ‫كورونــا وببــن أخــرى ُم َ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫الفــارق ليــس مــن الســهل علــى األطبــاء اكتشــافه فــي وقــت قصير‪.‬‬ ‫ـخيصية والتداخليــة فــي‬ ‫يــرى مايــكل فورســتينج‪ ،‬رئيــس معهــد األشــعة التشـ‬ ‫ّ‬ ‫ـم حاليـ ًا البحــث واالرتــكاز بقــوة علــى حلــول‬ ‫مستشــفى جامعــة إيســن‪ ،‬أنــه يتـ ُّ‬ ‫طبية موثوقة‬ ‫ـات‬ ‫ـ‬ ‫تقييم‬ ‫على‬ ‫ـول‬ ‫ـ‬ ‫الحص‬ ‫يمكن‬ ‫الطبيــة؛ حيــث‬ ‫ـي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الــذَّكاء االصطناعـ ّ‬ ‫رقميــة دقيقــة للخوارزميــات‪ ..‬وتســعى مختبرات‬ ‫ـات‬ ‫ـ‬ ‫بيان‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫توفي‬ ‫تمامـ ًا فــي حــال‬ ‫ّ‬ ‫مصممة‬ ‫المؤسســات‪ ،‬فهــي‬ ‫التكنولوجيــا الصينيــة إلــى إتاحــة برمجياتهــا لمئات‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫المصابين بفيروس كورونا‪،‬‬ ‫ـخاص‬ ‫إلراحة الفنيين وتحســين فرص معالجة األشـ‬ ‫ُ‬ ‫فيمــا يســعى الباحثــون اآلن إلــى تعضيــد «طــرق التشــخيص الداعمــة»‪ ،‬فهــذا‬

‫‪14‬‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫ـر مهــم‪ :‬خاصــة وأن الخوارزميــة الجديــدة لــم تصــل إلــى اســتنتاجات نهائيــة‬ ‫أمـ ٌ‬ ‫بخصــوص المــرض‪ ،‬والقــرار النهائــي ال يــزال بيــد األطبــاء‪ .‬يتابــع فورســتينج‬ ‫ـدث حاليـ ًا عــن آليــات ُمسـ ِ‬ ‫طبيــة دقيقة‪.‬‬ ‫قولــه‪« :‬نحــن نتحـ َّ‬ ‫ـاعدة ال ّتخــاذ قــرارات ّ‬ ‫ـي فــي فــرز النتائــج غيــر القاطعة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫االصطناع‬ ‫ـذَّكاء‬ ‫ـ‬ ‫ال‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫إل‬ ‫ـتناد‬ ‫نعــم‪ ،‬يمكــن االسـ‬ ‫ّ‬ ‫األمــر الــذي ســيتيح ألخصائيــي األشــعة مزيــد ًا مــن الوقــت لفحــص الحــاالت‬ ‫األكثــر خطــورة»‪.‬‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫االصطناع‬ ‫ـذَّكاء‬ ‫ـ‬ ‫ال‬ ‫ـام‬ ‫ـ‬ ‫نظ‬ ‫أن‬ ‫ـرى‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الت‬ ‫ـوات‬ ‫ـ‬ ‫األص‬ ‫ـض‬ ‫ـ‬ ‫بع‬ ‫ـاك‬ ‫ومــع ذلــك‪ ،‬هنـ‬ ‫ّ‬ ‫ربمــا يعمــل مــن وجهــة نظــر ُمطوريــه فحســب‪ ،‬وهــو األمــر الــذي تســبب فــي‬ ‫توجيــه بعــض االنتقــادات لهــذه اإلجــراءات‪ .‬فعلــى ســبيل المثــال‪ ،‬رصــدت‬ ‫دراســة أميركيــة ســابقة في عــام ‪ 2018‬كيفية قيــام نظام للخوارزميات بالكشــف‬ ‫عــن مصابــي االلتهــاب الرئــوي عبــر صــور األشــعة الســينية فــي العديــد مــن‬ ‫ـي‬ ‫المستشــفيات‪ .‬والنتيجــة كانــت‪ :‬طالمــا تـ َّ‬ ‫ـم تطبيــق نظــام الــذَّكاء االصطناعـ ّ‬ ‫ـكلٍ‬ ‫جيــد‪ .‬ولكــن‬ ‫ـ‬ ‫بش‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫يعم‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫فإن‬ ‫ـل‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ـم فيــه مــن األص‬ ‫داخــل المشــفى الــذي ُص ِّمـ َ‬ ‫ّ‬ ‫ـدالت‬ ‫طبيــة أخــرى‪ ،‬تنخفــض معـ َّ‬ ‫بالمقارنــة مــع بيانــات واردة مــن َّ‬ ‫مؤسســات ّ‬ ‫االكتشــاف‪.‬‬ ‫يفنــد «مايــكل فورســتينج» ذلــك القصــور‪ ،‬قائــاً‪« :‬نســبية برامــج الــذَّكاء‬ ‫االصطناعــي ال تــزال تمثــل مشــكلة فــي الوقــت الحالــي‪ ،‬خاصــة مــع أجهــزة‬ ‫ّ‬ ‫المص ِّنعة‬ ‫التصوير بالرنين المغناطيســي‪ ،‬حيث إن االختالفات ما بين الشــركات ُ‬ ‫ـداً‪ ،‬لدرجــة أن بعــض أطبــاء األشــعة يعانــون أيض ًا من مشــاكل‬ ‫ال تــزال كبيــرة جـ ّ‬ ‫ـاء علــى ذلــك‪ ،‬هنــاك محــاوالت للتغ ُّلــب‬ ‫فــي تفســير الصــور التشـ‬ ‫ـخيصية»‪ .‬وبنـ ً‬ ‫ّ‬ ‫علــى هــذه اإلشــكالية وصــو ً‬ ‫ال إلــى ذلك المســتوى األعمــق من التشــخيص‪ .‬ومن‬ ‫المتوقــع أن تكــون هنــاك حلــولٌ وشــيكة مــن خــال العمــل علــى دمــج ســجالت‬ ‫ـددة‪ .‬ورغــم هــذه الثغــرات‪ ،‬ال يمكــن التغاضــي‬ ‫البيانــات مــن مستشــفيات متعـ ِّ‬ ‫عــن الــدور الــذي اضطلعــت بــه التكنولوجيــا فــي مســاعدة أطبــاء األشــعة فــي‬ ‫المصابيــن بفيــروس كورونــا‬ ‫جميــع أنحــاء الصيــن‪ ،‬ســعي ًا للعثــور ســريع ًا علــى ُ‬ ‫المستجد»‪.‬‬

‫كيف يمكن االستعانة بالذَّكاء االصطناعيّ للتنبؤ باألوبئة؟‬

‫ـي فقــط علــى تشــخيص المــرض‪ ،‬ولكــن‬ ‫لــم يقتصــر دور الــذَّكاء االصطناعـ ّ‬


‫أيض ـ ًا تجــري االســتعانة بــه فــي البحــث عــن اللقاحــات واألدويــة المضــادة‬ ‫للفيروس‪ ،‬حيث تطبق شــركة ‪ DeepMind‬التابعة لشــركة ‪ Alphabet‬حالي ًا‬ ‫طــرق التع ُّلــم العميــق لدراســة الهيــاكل البروتينية للفيــروس‪ ،‬نظــر ًا ألهميتها‬ ‫فــي البحــث عــن لقاحــات‪ ،‬ألن األجســام المضــادة للقــاح تســتهدف بروتينات‬ ‫الفيــروس مــن أجــل تحييــده‪ .‬ومثــل هــذه العمليــات الطويلــة مــن األبحــاث‬ ‫يمكــن تســريع وتيرتهــا عــن طريــق البرمجــة الحســابية «الخوارزميــات»‪.‬‬ ‫يعكــف الباحثــون أيضـ ًا فــي شــركة ‪ Benevolent‬البريطانيــة الناشــئة للذَّكاء‬ ‫ـي علــى إيجــاد عناصــر فعالــة بيــن األجســام المضــادة الخاصــة‬ ‫االصطناعـ ّ‬ ‫باألدويــة المتاحــة لعــاج ســارس واإليــدز والروماتويــد‪ ،‬إذ يمكــن لتركيبهــا‬ ‫ـتجد‪،‬‬ ‫المسـ َ‬ ‫الكيميائــي أن يكــون إيجابي ـ ًا فــي القضــاء علــى فيــروس كورونــا ُ‬ ‫حيــث صــرح إيفــان جريفيــن‪ ،‬مؤســس الشــركة‪ ،‬بــأن مثــل هــذه النتائــج ال‬ ‫يمكــن أن تكــون متاحــة خــال ذلك الوقــت القصير ّإل بواســطة قاعــدة بيانات‬ ‫صعب رفع ســقف‬ ‫ـي‪ .‬وفــي الوقت نفســه‪َ ،‬ي ُ‬ ‫ضخمــة يتيحهــا الــذَّكاء االصطناعـ ّ‬ ‫طبيــة‪ ،‬مــا لــم‬ ‫التوقُّعــات‪ ،‬فليــس بإمــكان الخوارزميــات تقديــم أيــة توصيــات ّ‬ ‫يتــم تأكيــد النتائــج أو ً‬ ‫ال عــن طريــق االختبــارات الســريرية‪.‬‬

‫السبق فى التنبؤ‬ ‫الذَّكاء االصطناعيّ له َ‬

‫ـي أن‬ ‫اســتطاعت شــركة ‪ BlueDot‬الكنديــة الناشــئة لخدمــات الــذَّكاء االصطناعـ ّ‬ ‫ـص‬ ‫تكــون األســرع فــي تحليالتهــا مقارنــةً بمنظمــة الصحــة العالميــة فيمــا يخـ ُّ‬ ‫فيــروس كورونــا‪ .‬وتحديــد ًا فــي ‪ 31‬ديســمبر‪/‬كانون األول‪ ،‬أي قبــل تســعة أيــام‬ ‫الصحــة العالميــة تحذيرهــا األول مــن فيــروس شــبيه‬ ‫مــن إصــدار منظمــة‬ ‫َّ‬ ‫ســمى «كورونــا»‪ ،‬كان باحثــو ‪ BlueDot‬قــد تمكّنــوا‬ ‫ي‬ ‫الصيــن‬ ‫باألنفلونــزا فــي‬ ‫ُ َّ‬ ‫مــن اكتشــاف العالمــات األولــى لتفشــي المــرض فــي مدينــة ووهــان الصينيــة‪،‬‬ ‫حيــث تعتمــد خوارزمياتهــم علــى آالف المصــادر المختلفــة والمواقــع اإلخبارية‬ ‫الحيوانية‬ ‫والمنتديــات والمدونــات ومعلومات الوكاالت الحكومية واإلحصاءات‬ ‫ّ‬ ‫تطــورات‬ ‫والديموغرافيــة وحــركات الطيــران لمعرفــة مــا إذا كانــت هنــاك أي‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ملحوظــة فــي أي مــكانٍ فــي العالــم‪.‬‬ ‫لــم يكــن باحثــو ‪ BlueDot‬قادريــن فقــط علــى تحديــد أن مركــز تفشــي المــرض‬

‫ســيكون فــي مدينــة ووهــان الصينيــة‪ ،‬لكنهــم تمكّنــوا أيض ـ ًا مــن التنبــؤ بشــكلٍ‬ ‫صحيــح بوقــوع حــاالت أخــرى فــي ُمــدن؛ بانكــوك وســوول وطوكيو خــال األيام‬ ‫التاليــة مــن بــدء ظهــور المــرض‪ .‬يقــول «كامــران خــان»‪ ،‬مؤســس ‪:BlueDot‬‬ ‫«بإمكانــك تدريــب اآلالت تمامـ ًا مثــل البشــر‪ ..‬الفــارق أن اآللــة تعمــل علــى مدار‬ ‫‪ 24‬ســاعة‪ ،‬ممــا يجعلهــا أســرع وأكثــر كفــاءة»‪.‬‬

‫اإلجراءات الوقائية‪ ..‬رضورة ذات وجهني‬

‫الســلطات فــي الصيــن توســيع نطــاق تفعيــل أنظمــة المراقبــة الضخمة‬ ‫تواصــل ُّ‬ ‫ـتخدم ماســحات درجة الحــرارة في محطــات القطارات‬ ‫داخــل البــاد‪ ،‬حيــث ُتسـ َ‬ ‫بالحمى‪ .‬إلــى جانب مراقبة‬ ‫المصابيــن‬ ‫َّ‬ ‫فــي المــدن الرئيســية لتحديد األشــخاص ُ‬ ‫تتبع أماكن المواطنين ومعرفة وســائل‬ ‫بيانــات الهواتــف المحمولة‪ ،‬حيث يمكن ُ‬ ‫ســفرهم‪ .‬كمــا ُي ِ‬ ‫ـم تعميمــه داخــل‬ ‫رســل تطبيــق الهاتــف الذَّكــي الجديــد الــذي تـ َّ‬ ‫الصحيــة لألفــراد اســتناد ًا إلــى الموقــع وتفاصيــل‬ ‫البــاد تقريــر ًا عــن الحالــة‬ ‫ِّ‬ ‫الحمــى‪.‬‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫يعان‬ ‫أو‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫خط‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫منطق‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـخص‬ ‫االتصــال ســواء كان الشـ‬ ‫َّ‬ ‫ـم اســتخدام هــذا التطبيــق الذَّكي‬ ‫ـ‬ ‫يت‬ ‫ـو‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫هانغتش‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫مدين‬ ‫وفــي مــدن صينيــة‪ ،‬مثــل‬ ‫ُّ‬ ‫ضمــن اإلجــراءات التــي ُتم ِّكــن المواطنيــن مــن الوصــول إلــى محطــات متــرو‬ ‫األنفــاق‪ :‬فقــط أولئــك الذيــن ُيظ ِهرهــم التطبيــق علــى وضــع «األمــان» أي باللــون‬ ‫ســمح لهــم بالركــوب‪ .‬كمــا يرســل التطبيــق بيانــات خاصــة إلــى‬ ‫«األخضــر» ُي َ‬ ‫ـتخدم‬ ‫ـ‬ ‫تس‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الت‬ ‫ـراءات‬ ‫ـ‬ ‫اإلج‬ ‫كل‬ ‫ـت‬ ‫ـ‬ ‫ليس‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫والواق‬ ‫ـح‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫م‬ ‫كل‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫مــزود الخدمــة م‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ـي مفيــدة‪ ،‬إذ إنــه مــن الجائــز فيمــا بعــد‬ ‫البيانــات الضخمــة والــذَّكاء االصطناعـ ّ‬ ‫ـي إلنشــاء تحليــات مع ّقــدة للحركــة‬ ‫ـ‬ ‫االصطناع‬ ‫اســتخدام خوارزميــات الــذَّكاء‬ ‫ّ‬ ‫ـرية‪ ،‬وهــو مــا يخشــاه نشــطاء الحقــوق المدنيــة مــن إمكانيــة اســتخدام‬ ‫البشـ ّ‬ ‫هــذه التكنولوجيــا فــي مراقبــة البشــر لبعضهــم البعض عــن كثب‪ ،‬فربما أُســيء‬ ‫صممــة فــي األصــل للتحكــم فــي حركــة األفــراد‬ ‫الم َّ‬ ‫اســتخدام هــذه التطبيقــات‪ُ ،‬‬ ‫ـخصية‪ .‬ففــي النهاية‬ ‫ـ‬ ‫الش‬ ‫راقبة‬ ‫الم‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫تدابي‬ ‫ـديد‬ ‫ـ‬ ‫لتش‬ ‫المصابيــن بفيــروس كورونــا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ـي علــى األطبــاء فحســب‪ ■ .‬أيــكا كويــل‬ ‫ـ‬ ‫االصطناع‬ ‫ال تقتصــر مســاعدة الــذَّكاء‬ ‫ّ‬ ‫ترجمــة عــن األلمانيــة‪ :‬شــيرين ماهــر (مصــر)‬

‫‪۹‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫المصدر ‪ :‬موقع «‪ / Die Zeit‬دى تسايت» األلماني‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪15‬‬


‫«رأس املال واأليديولوجيا»‬

‫مايض ومستقبل‬ ‫األنظمة التفاوتية‬ ‫يحــذر بيكيتــي مــن أنــه إذا مل نحـ ِّـول بعمــق النظــام االقتصــادي الحــايل لجعلــه أقــل تفاوت ـ ًا‪ ،‬أكــر عــد ً‬ ‫ال وأكــر‬ ‫اســتدامة بــن الــدول مثــل داخــل ّ‬ ‫كل دولــة‪ ،‬فــإن الشــعبوية املعاديــة لألجانــب ونجاحاتهــا االنتخابيــة املحتملــة‬ ‫قميــة لســنوات ‪.1990-2020‬‬ ‫والر ّ‬ ‫القادمــة‪ ،‬ميكــن أن تبــدأ برسعــة حركــة التدمــر للعوملــة الرأســالية الجامحــة َّ‬

‫توماس بيكيتي ▲‬

‫‪16‬‬

‫منـ�ذ فتـ�رة قصيرة‪ ،‬لم يكن توماس بيكيتي( (�‪Thomas Piket‬‬ ‫‪ ،)ty‬االقتصــادي الفرنســي الشــاب‪ ،‬معروفــ ًا فــي األوســاط‬ ‫األكاديمية العالمية‪ ،‬إلى غاية ســنة ‪ 2014‬عندما ترجم كتابه‬ ‫«رأس المال في القرن الحادي والعشــرين‪ »،‬الذي كتب ســنة‬ ‫قبــل ذلــك باللغــة الفرنســية‪ ،‬إلــى اللغــة اإلنجليزيــة ليصبــح‬ ‫أكثر كتب االقتصاد مبيعا في العالم‪ .‬وقد أســهمت مســارعة‬ ‫االقتصاديــان األميركيــان الحائــزان على جائــزة نوبل لالقتصاد‬ ‫جوزيــف ســتيغليتز ‪ Joseph Stiglitz‬وبــول كروغمــان ‪Paul‬‬ ‫‪ Krugman‬تأكيــد ومباركــة نتائــج بيكيتــي‪ ،‬فــي نشــر أفــكاره‬ ‫علــى المســتوى العالمــي‪ ،‬ليصبــح نجــم االقتصــاد الصاعــد‪،‬‬ ‫والوريــث األكثــر حظـ ًا لعــرش االقتصــادي البريطانــي الراحل‬ ‫أب التفاوت‪ :‬أنثوني آتكينســون ‪.Anthony Atkinson‬‬ ‫حقَّ ــق كتــاب بيكيتــي الســابق رأس المــال فــي القــرن الحــادي‬ ‫والعشــرين مبيعــات قياســية نســبة لكتــاب كبيــر الحجــم فــي‬ ‫االقتصــاد (حوالــي ‪ 700‬صفحــة للنســخة اإلنجليزيــة)‪ ،‬وقــد‬ ‫كشــف فيــه أنه «عندما يتجاوز العائــد على رأس المال معدل‬ ‫نمــو الناتــج والدخــل‪ ،‬كمــا كان الحــال فــي القــرن التاســع‬ ‫ـول مــن اســتثناء إلــى‬ ‫عشــر‪ ،‬وكمــا هــو مــن المحتمــل أن يتحـ َّ‬ ‫قاعــدة فــي القرن الحــادي والعشــرين‪ ،‬فإن ذلك يو ّلــد تلقائي ًا‬ ‫تفاوتــات اعتباطيــة ال يمكــن تحملهــا»‪ .‬وهــذا فيــه مناقضــة‬ ‫لألرثوذكســية التــي كانــت ســائدة لنصــف قــرن‪ ،‬والقائمة على‬ ‫منحنــى كوزنتــز‪ ،‬الــذي يشــير إلــى أن التفــاوت يزيــد مــع بداية‬ ‫عمليــة التنميــة‪ ،‬لكنــه ينخفــض فيمــا بعــد‪ .‬واألهــم مــن ذلــك‬ ‫أن مــا توصــل إليــه بيكيتي يشــير إلــى عودة الرأســمالية اإلرثية‬ ‫التــي كانــت ســائدة فــي القــرن التاســع عشــر‪.‬‬ ‫وفــي الثانــي عشــر مــن ســبتمبر‪/‬أيلول ‪ ،2019‬نشــر بيكيتــي‬ ‫كتابه الجديد «رأس المال واأليديولوجيا » �‪Capital et Idéol‬‬ ‫‪ ogie‬باللغــة الفرنســية‪ ،‬ثــم باللغــة اإلنجليزيــة فــي العاشــر‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫مــن مــارس ‪ .2020‬هــذا الكتــاب كبيــر الحجــم (‪ 1232‬صفحــة‬ ‫للنســخة الفرنســية) يتضمــن دراســة تاريخيــة مســتفيضة‬ ‫ألبعــاد التفــاوت االقتصاديــة‪ ،‬االجتماعيــة والسياســية مــن‬ ‫المجتمعات ثالثية الوظائف ومجتمعات الرق إلى مجتمعات‬ ‫مــا بعــد االســتعمار والرأســمالية الجامحــة‪ .‬وإضافــة إلــى أنه‬ ‫كتــاب عــن الماضــي‪ ،‬يشــير بيكيتــي إلــى أن كتابــه أيضــا عــن‬ ‫«مســتقبل األنظمــة التفاوتيــة»‪.‬‬ ‫تمــت اإلشــارة إليــه ســابقاً‪ ،‬اعتمــد بيكيتــي‬ ‫ومثــل كتابــه الــذي َّ‬ ‫علــى مجموعــة واســعة مــن الروايات األدبية‪ ،‬ولــم يكتف هذه‬ ‫المــرة بروايــات بلــزاك وجايــن أوســتن‪ ،‬بــل أضــاف كارلــس‬ ‫فونتس‪ ،‬برامويديا أنانتاتور‪ ،‬شــيمامندا كفوزي أديشــي‪...‬كما‬ ‫أضــاف مصــدر ًا آخر وهــو الحمالت االنتخابيــة للقرن الماضي‪.‬‬ ‫لكــن هــذه المــرة‪ ،‬الكتــاب لــن يكــون مركــز ًا فقــط علــى الغرب‬ ‫مثــل األول‪ .‬إذ إن نجــاح كتــاب رأس المــال في القــرن الحادي‬ ‫والعشــرين فتــح البــاب أمــام بيكيتــي للحصــول علــى بيانــات‬ ‫تاريخيــة كثيــرة مــن بلــدان خــارج الغــرب‪ ،‬مثــل‪ :‬البرازيــل‪،‬‬ ‫جنــوب إفريقيــا ولبنــان‪ .‬وإضافــة إلــى ذلــك‪ ،‬فهــو يعتــرف‬ ‫أيضــا بــأن كتابــه الســابق تعامــل مــع التطــورات السياســية‪-‬‬ ‫األيديولوجيــة حــول التفــاوت والتوزيــع كعلبة ســوداء‪.‬‬ ‫يشــير بيكيتــي إلــى أن كتابــه هــذا هــو محاولــة «فهــم تحت أية‬ ‫شــروط تحالــف سياســي مســاواتي ‪Coalitions Politiques‬‬ ‫‪ égalitaires‬التــي شــكلت فــي منتصــف القــرن ‪ 20‬مــن أجــل‬ ‫تخفيــض التفــاوت المــوروث اآلتــي مــن الماضي‪ ،‬لمــاذا انتهى‬ ‫التفــاوت باالنخفــاض‪ ،‬وتحــت أيــة شــروط ال تفاوتيــة جديــدة‬ ‫يمكــن أن تنجــح فــي البــروز فــي بدايــة هــذا القــرن ‪21‬؟»‪.‬‬ ‫الفكــرة األساســية التــي يخاطبهــا الكتــاب‪ ،‬والتــي يحــاول‬ ‫بيكيتــي ترســيخها مــن خــال بحثــه كبيــر الحجــم هــذا‪ ،‬هــي‬ ‫أن «التفــاوت ليــس اقتصاديـ ًا أو تكنولوجيـاً‪ :‬هــو إيديولوجــي‬


‫اعتمد بيكييت عىل‬ ‫مجموعة واسعة‬ ‫من الروايات األدبية‪،‬‬ ‫ولم يكتف هذه املرة‬ ‫بروايات بلزاك وجاين‬ ‫أوسنت‪ ،‬بل أضاف‬ ‫كارلس فونتس‪،‬‬ ‫برامويديا أنانتاتور‪،‬‬ ‫شيمامندا كفوزي‬ ‫أدييش‪...‬كما أضاف‬ ‫مصدرا ً آخر وهو‬ ‫الحمالت االنتخابية‬ ‫للقرن املايض‬

‫ـدم أســباب ًا طبيعيــة‬ ‫وسياســي»‪ ،‬حيــث يــرى المداخــل التــي تقـ ِّ‬ ‫للتفــاوت بأنهــا خطابــات محافظــة‪ ،‬وهي مختلفة عمــا يراه في‬ ‫هــذا الكتــاب‪ ،‬والتجربــة التاريخيــة تبيــن العكــس‪ ،‬فالتفاوتات‬ ‫ـدتها وفــي هيكلها‪.‬‬ ‫تختلــف بقــوة عبــر الزمــان والمــكان‪ ،‬في شـ ّ‬ ‫تقدمهــا المجتمعــات المعاصــرة‬ ‫لذلــك فالتبريــرات التــي ّ‬ ‫للتفــاوت‪ ،‬والمرتبطــة بالروايــات التملكيــة ‪،propriétaiste‬‬ ‫المقاوالتي ة ‪ entrepreunerial‬واالســتحقاقية �‪Méritocra‬‬ ‫‪ ،tique‬التــي تنــص علــى أن التفــاوت المعاصــر عــادل ألنــه‬ ‫ينطلــق مــن فكــرة أن لــكل شــخص نفــس الفرص‪ ،‬هــي مبررات‬ ‫أيديولوجيــة وسياســية‪.‬‬ ‫نحــول بعمــق النظــام‬ ‫ويحــذر بيكيتــي مــن أنــه إذا لــم‬ ‫ِّ‬ ‫االقتصــادي الحالــي لجعلــه أقــلّ تفاوتــاً‪ ،‬أكثــر عــد ً‬ ‫ال وأكثــر‬ ‫اســتدامة بيــن الــدول مثــل داخــل كلّ دولــة‪ ،‬فــإن الشــعبوية‬ ‫المعاديــة لألجانــب ونجاحاتها االنتخابيــة المحتملة القادمة‪،‬‬ ‫يمكــن أن تبــدأ بســرعة حركــة التدميــر للعولمــة الرأســمالية‬ ‫قمية لسنوات ‪ .1990-2020‬ويرى أن االشتراكية‬ ‫الجامحة‬ ‫َّ‬ ‫والر ّ‬ ‫التشــاركية ‪ socialisme participatif‬هــي الحــل لتقليــص‬

‫التفــاوت اليــوم‪ .‬مــا يمكــن أخــذه علــى كتــاب بيكيتــي الجديــد‪،‬‬ ‫هــو أو ً‬ ‫ال كبــر حجمــه الــذي يعتبــر مشــتت ًا لالنتبــاه والتركيــز‪،‬‬ ‫ـددة بدقــة‬ ‫ويجعــل مــن الحجــج التــي يدافــع عنهــا غيــر محـ ّ‬ ‫وغيــر واضحــة‪ .‬وأيضــ ًا عــدم أصالــة أفــكاره‪ ،‬فكــون ظاهــرة‬ ‫التفــاوت ظاهــرة سياســية كان قــد تناولهــا هــو نفســه قبــل هذا‬ ‫الكتــاب‪ .‬فقــد اســتهل كتابــه «اقتصــاد التفــاوت‪ »،‬الــذي كتبــه‬ ‫ســنة ‪ 1998‬وترجــم حديث ـ ًا إلــى اللغــة اإلنجليزيــة‪ ،‬بالعبــارة‬ ‫اآلتيــة «مســألة التفــاوت وإعــادة التوزيــع هــي مســألة مركزيــة‬ ‫للصــراع السياســي»‪،‬كما ذكــر فــي كتابــه الســابق أن «التفاوت‬ ‫فــي توزيــع الثــروة ال يمكــن تفســيره اقتصاديـ ًا فقــط‪ ،‬بــل هــو‬ ‫سياســي‪ ،‬وهــذا ما يفســر انخفــاض التفاوت بيــن ‪ 1910‬و‪1950‬‬ ‫نتيجــة للحــرب والسياســات التــي تــم اتباعها»‪.‬كمــا أن طبيعــة‬ ‫ـدث عنها بيكيتي هــي موجودة في‬ ‫وبنيــة المجتمعــات التــي تحـ َّ‬ ‫الكثيــر مــن الدراســات التاريخيــة‪ ،‬ويبــدو أن كلّ مــا فعلــه هــو‬ ‫ـرر بنيــة كلّ مجتمــع واعتبــاره مبــرر ًا للتفــاوت‬ ‫البحــث عــن مبـ ّ‬ ‫تاريخيــة‬ ‫كدراســة‬ ‫الكتــاب‬ ‫اعتبــار‬ ‫يمكــن‬ ‫ذلــك‪،‬‬ ‫فيــه‪ .‬ومــع‬ ‫ّ‬ ‫ونظريــة للتفــاوت عبــر العالــم‪ ■ .‬عثمــان عثمانيــة (الجزائــر)‬ ‫ّ‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪17‬‬


‫ُ‬ ‫«الـناطق باسم»‪:‬‬

‫الج ْب والتزييف‬ ‫قنا ُع ُ‬ ‫ـتـمـيـــز «نــــهاية الشجاعة» (دار فـايـــار‪ .)2010 ،‬انطلقت «فـــلوري» من أن الشجاعة ليست‬ ‫يف كتابها ُ‬ ‫الـم ِّ‬ ‫مســألة محــض ذاتيــة‪ ،‬بــل يعـــــــــود وجودهــا أو تـــاشيها إىل سـلـــوك الـــمجتمع وحـــرصه عــى تصـــحيح‬ ‫تـؤدي إىل استــبدال الجنب والتـزيـيـف بالشجاعة والـكـــالم الصـريح ا ُ‬ ‫ملنــتـقد‪ .‬ذلك أن‬ ‫الـمـامرسات التي ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫تح ُ‬ ‫ـيايس إىل ُعـــملة للـ ّتـــدليس‬ ‫يتحول الكـــام السـ‬ ‫ول دون أن‬ ‫أخالق الشــجاعة‪ ،‬بهذا املعنى‪ ،‬هي التي ُ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ـي وحاميــة حقــوق املواطنــة‬ ‫وتربيــر االنزيــاح عــن مبــادئ التعاقــد االجتامعـ ّ‬

‫محمد برادة‬ ‫(المغرب‪ -‬فرنسا)‬

‫‪18‬‬

‫صحيح أن تــــأ ُّزم المجتمع ُيـــعلن عن نفســه مـن خالل مظاهــر‬ ‫ومواقف مـادية‪ ،‬ملموسة‪ُ ،‬تـشـعـر المواطنين أن خـلـ ً‬ ‫ال ّما يعـوق‬ ‫الـحـد المطـلوب للـ ّتـوافُق‬ ‫السـير الطبيعي للعـالئق التي تضـمن‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫ـم ُتـــعلن األزمة عـــن نفسها بـــطرائق‬ ‫وتـدبـيـــر الشـــؤون‪ ،‬ومن ثــ َّ‬ ‫الـمـــمكنة…‬ ‫ُمتـــباينة‪ ،‬ليـبـــدأ التشــخيص والبحـــث عن الحلول ُ‬ ‫ـكن‪ ،‬عنــد التـــدقيق والمراجعــة‪ ،‬يـتـبــ َّـين أن تلــك األزمــة كانت‬ ‫لــ ْ‬ ‫ُتـعـــلن عن نفســها قبل ذلك بكـثـــير‪ ،‬من خالل تـزيـــيف الـــكالم‬ ‫المـتـبـــاينة إلــى‬ ‫ولـــجوء َمـ ْ‬ ‫الســلطة فــي مجاالتهــا ُ‬ ‫ـن يـقتـــسمون ُّ‬ ‫لـعـــبة األقنـــعة الكــــامية التــي ُتـخـفِّـــف مــن وطــأة االنحــراف‪،‬‬ ‫وتســاعد علــى ربــح الوقــت‪ ...‬ذلــك أن «الــكالم» يـضـــطلع بـــدو ٍر‬ ‫خاصــة فــي مجــال‬ ‫أســاس فــي التوصيــل والحــوار واإلقنــاع‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الديموقراطــي‪ .‬الــكالم المنطــوق‬ ‫الصــراع‬ ‫السياســة‬ ‫وسيـــرورة ِّ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫قبل البالغ المكتوب‪ .‬يتـــكلَّم الـــفرد‪ ،‬وتـتكـلَّم الحكومة‪ ،‬وتـتـكلَّم‬ ‫وسائـــط اإلعالم‪ ،‬فـيـ ْن ِ‬ ‫ـتـســــج ذلك الفضاء الواصل مباشر ًة بين‬ ‫لـحـركـيــته‪،‬‬ ‫دبرة‬ ‫ـم ّ‬ ‫الـمــكــــ ّ‬ ‫ـونة للمجـــتمع والـقـُـوى الــ ُ‬ ‫األطراف ُ‬ ‫ّ‬ ‫كـــلّ من مـــوقعه‪ .‬والمفـــروض‪ ،‬ضـمـنيــاً‪ ،‬أن لكلّ مجتمع قـــيم ًا‬ ‫صـونها‪ ،‬وتــعــمــل السياسة على ُمـراعاتها‪.‬‬ ‫أخالقية يحرص على ْ‬ ‫الـمـــمارسة‪ ،‬فــي حيــاة األفـــراد وفــي تـدبـــير الســـياسة‪،‬‬ ‫َّإل أن ُ‬ ‫الـمتــفق‬ ‫والمبادئ‬ ‫األخالقية‬ ‫القيم‬ ‫عن‬ ‫ـد‬ ‫الـتباع‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫خـلـ‬ ‫تـكشـــف‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ـتـمـرير‬ ‫ـم يـــطفو على الســـطح‬ ‫ُ‬ ‫عليها‪ .‬ومن َثــ َّ‬ ‫التحايـل الـكالمي ل ْ‬ ‫االنـحـرافات‪ .‬وكثـيـراً ما استـوقـفـ ْتـني صيـغة «الـنـاطق باسـم‪»...‬‬ ‫ـددة‪ ،‬انطالق ًا من مجال الكتابة‬ ‫التــي‬ ‫تـطالـعـنـــا في مجاالت ُمتعـ ِّ‬ ‫ُ‬ ‫والفكريــة‪ ،‬ووصو ً‬ ‫ال إلى فضاء السياســة‪ .‬في عالم األدب‬ ‫األدبيــة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والفكر‪ ،‬يحـلو للـبعض أن ُيــرفـــــق اسـمه بـصفة الكاتب القومي‬ ‫أو الوطني أو اليـــساري‪ ،‬ليمـــنح لـــنفسه مـصداقية ّمـا ُتـعلي من‬ ‫ـرب إليهــا‬ ‫شـــأنه‪ ،‬وتـــضفي علــى كالمــه هالــةً مـــرجعية ال يتسـ ّ‬ ‫ـجد وظـــيفة‬ ‫الشـ ّ‬ ‫ـد ٍ‬ ‫ـك من قُــ ّ‬ ‫ام أو خــلْــــف‪ .‬وفي نفس االتجاه‪ ،‬نــ ُ‬ ‫«الناطـــق باسم الحكومة» أو باسم الـقصـــر الملكي‪ ،‬أو القصـــر‬ ‫الجمهوري‪ ،‬وكـلّـــها ِ‬ ‫ص َـيـــغ تـضـــع مسافة بيـــن مـــصدر الـــكالم‬ ‫الـمـخـاطَ ـبـيـــن‪ .‬وعـــند التـــدقيق‪ ،‬نـــجد أن هذه المسافة‬ ‫وبيـــن ُ‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫ِ‬ ‫ـي ّإل قنــاع يحتمــي به‬ ‫التــي يـخـــلقها «الناطــق باســم‪ »..‬مــــا هـــــ َ‬ ‫ـصـحـــح» ما‬ ‫«ي‬ ‫أن‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫لـ‬ ‫ـتيح‬ ‫مصـــدر الكالم‪ ،‬ليـكـــتسب فســـحة تــ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫المـخاطبـــين‪ .‬على هذا‬ ‫أخـــطأ الناطــــق باسمه في تـوصيـــله إلى ُ‬ ‫قناع أو واسـ ٍ‬ ‫ـطة‪ ،‬وسيـــلة‬ ‫النحــو‪ ،‬تصبــح لعبــة الــكالم مــن خــال ٍ‬ ‫ـاب‬ ‫للتـحايـــل والتـســ ّتــــر على‬ ‫الـحيـــدان الــذي يلجأ إليه الـكُ ـ ّتـــ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫والـــساسة عند مواجهــــــــة الواقع‪ .‬هذه الــمـمارسة التي تـطبع‬ ‫الـعام‪ُ ،‬تـوضح صـعوبة «الـوفـاء» للـمـبادئ‬ ‫الســلوك البـشـري‬ ‫ّ‬ ‫وعالقة هذا «االنـحــراف» بـعوامل عميــقـــــة تـعـود إلى منطــقة‬ ‫«أخــاق الشــجاعة» وانـــعكاساتها علــى مجــال الســـياسة‪ ،‬كـــما‬ ‫�ت ذلـ�ك الـفيــ�لسوفة الفرنسـ�ية «سانـــ�تيا فْــ�لور ي �‪Cyn‬‬ ‫أوضحـ ْ‬ ‫ـتـمـيـــز «نــــهاية الشــجاعة» (دار‬ ‫الـم‬ ‫‪ »thia Fleury‬فــي كتابهــا ُ‬ ‫ِّ‬ ‫فـايـــار‪ .)2010 ،‬انطلقت فـــلوري من أن الشــجاعة ليســت مسألة‬ ‫محــض ذاتيــة‪ ،‬بــل يعـــــــــود وجودهــا أو تـــاشيها إلــى سـلـــوك‬ ‫تـؤدي إلى‬ ‫الـــمجتمع وحـــرصه على تصـــحيح الـمـــمارسات التي ِّ‬ ‫استــــبدال الجبــن والتـزيـيـــف بالشــجاعة والـكـــــام الصـــريح‬ ‫المنــتـــقد‪ .‬ذلــك أن أخــاق الشــجاعة‪ ،‬بهــذا المعنــى‪ ،‬هــي التــي‬ ‫ُ‬ ‫ـول الكـــام السياســي إلــى ُعــ ٍ‬ ‫ـملة للـ ّتـــدليس‬ ‫ـ‬ ‫يتح‬ ‫أن‬ ‫دون‬ ‫ـ‬ ‫تح‬ ‫ـولُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫وتبريــر االنزيــاح عن مبــادئ التعاقــد االجتماعــي وحماية حقوق‬ ‫الديموقراطي‪:‬‬ ‫الصراع‬ ‫المواطنة‪ ،‬واإلســهام في تـــعطيل آلـيـــات ِّ‬ ‫ّ‬ ‫«أي معنــى لإلنـــسانية مــن دون شــجاعة؟» تــتســـاءل الكاتــــبة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫آلــت إلى العمل‬ ‫والمجتمعات‬ ‫الحضارة‬ ‫ر‬ ‫تطو‬ ‫شـروط‬ ‫أن‬ ‫صحيح‬ ‫ْ‬ ‫ُّ‬ ‫عت على اختفاء‬ ‫ـج ْ‬ ‫على تـسـخـيـــر اإلنســان وتـشــيـيـــئه‪ ،‬كما شـ ّ‬ ‫الشــجاعة والدخــول فــي متاهة اإلســـــهال الكالمي الذي يتـــولى‬ ‫والحواس لــتــنـقاد إلى االنخراط في أوالــيات‬ ‫ـيــن العقول‬ ‫تـلْــيـِ َ‬ ‫ّ‬ ‫ـض الـبـصـــر عن الشـــجاعة الداخلية‪،‬‬ ‫ـرجة وغــ ّ‬ ‫مجتمع الـفُــــــــ ْ‬ ‫الـــضرورية لـوقْــ ِ‬ ‫ـف تـآكُ ــل الديموقراطية وتـــرويض المواطــنين‬ ‫ـعبة الكالم الـفــارغ‪.‬‬ ‫على االستـــسالم لـِلـُــ ْ‬ ‫ـو ُن إبـسـتـــمولوجيا الشــجاعة‪ ،‬أو‬ ‫مــن خــال ثالثــة عناصــر تـكــ ِّ‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫َـتــ‬ ‫ت‬ ‫ـلوري»‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫«فـ‬ ‫ـرح‬ ‫ـ‬ ‫تقت‬ ‫إبسـتـــمولوجيا القلــب كمــا‬ ‫ـم ُمراجعـ ُ‬ ‫ّ‬ ‫المقايـــيس الكفيلــة بــتــــصحيح مســار «سياســة الشــجاعة»‬


‫الشجاعة يف األخالق‬ ‫ْ‬ ‫لـيست‬ ‫والسياسة‬ ‫ٍ‬ ‫ْ‬ ‫جنس‬ ‫وقـفـاً عىل‬ ‫بعـينه‪ ،‬وال هي‬ ‫ميزة للرجال‪ ،‬بل‬ ‫هي قيمة كونية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الحق‬ ‫رضورية لحماية‬ ‫والديموقراطية‪،‬‬ ‫ووسـيلة لـجعل‬ ‫االنتقـاد عـنرصا ً حارضا ً‬ ‫باستـمرار‪ ،‬يـُـذكـي‬ ‫الحوار الديموقراطي‬ ‫وال يـجعله قارصا ً عىل‬ ‫الحمـالت االنتـخاب ّية‬

‫القــادرة علــى إعـــــادة االعتـــبار إلــى الـــقيم المطــــلوبة فــي هذا‬ ‫ـن‬ ‫وثـم ُ‬ ‫ـخيلة الصادقة‪َ ،‬‬ ‫المجال‪ .‬هذه العـنـاصـر الثالثة هي‪ُ :‬‬ ‫الم ّ‬ ‫يـحد من غلواء اآلخــر‬ ‫والـقـوة الـهـ ْزلية‪ .‬كـلّ واحد منها‬ ‫األلــم‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ـطيـــة»‬ ‫«الـوس‬ ‫ـتوى‬ ‫ـ‬ ‫مس‬ ‫ضمن‬ ‫ا‬ ‫توازن‬ ‫م‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫بينه‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫ـ‬ ‫التـمفص‬ ‫ـل‬ ‫ليجعـ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ ّ‬ ‫حددها أرسطـــو‪ .‬ذلك أن الحقيقة ال ُتـــسلم نفسها إلدراكٍ‬ ‫التي ّ‬ ‫َ‬ ‫عبــر‬ ‫ـئ‬ ‫ـ‬ ‫يختب‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـف‬ ‫ـ‬ ‫يكش‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫الفكاه‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫عنص‬ ‫ـإن‬ ‫ـ‬ ‫فـ‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫ث‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫وم‬ ‫ـر؛‬ ‫مباشـ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫ليســعف «الشــجاع» علــى التقــاط الحقيقــة… ال يتســع‬ ‫ـا‬ ‫الثنايـ ُ‬ ‫المجــال الســتعراض تحليــل «فلــوري» لمجمــوع الظاهــرات‬ ‫األخالقيــة‬ ‫عوقــات الشــجاعة فــي الممارســة‬ ‫بم ِّ‬ ‫الم َّتصلــة ُ‬ ‫ّ‬ ‫ـخص هــذه‬ ‫ـ‬ ‫تش‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الت‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫األمثل‬ ‫ـض‬ ‫ـ‬ ‫بعــ‬ ‫ـورد‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫ـك‬ ‫ـ‬ ‫لذل‬ ‫ة‪،‬‬ ‫والسياسـ ّـي‬ ‫ّ‬ ‫اإلشــكالية‪ :‬هنــاك مثــلٌ معاصــر يعيشــه العالــم فــي هــذه‬ ‫الفتــرة والــذي دشـــن ْته بجرأتهــا الســيدة «أديــلْ هائنيــلْ » مــن‬ ‫خــال حركـــــــة «أنـــا أيضـاً»‪ ،‬التــي شــرعت الباب أمــام الفتيات‬ ‫تحرش الرجــال الذين‬ ‫والنســاء ليــ‬ ‫ـر ْ‬ ‫َ‬ ‫ضن لـــه مــن ُّ‬ ‫ـفضحن مــا تعــ َّ‬ ‫يعتبــرون الجنس اللطيف مملكة ُمســتباحة‪ .‬لوال شــجاعة أديل‬ ‫الجـــبن‪،‬‬ ‫لظلت ســـطوة الذكورة وامتيازات الرجل‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫المتحدرة من ُ‬ ‫سائدة وســـاترة لهذا الســـلوك الـمشـيـــن‪.‬‬ ‫والـمـــثال الثانــي الــذي طالمــا أقـلـــقني وطـــرح أمامــي أسئـــلةً‬ ‫«كاميـي كلوديـل ‪Camille‬‬ ‫ـحـيـرة‪ ،‬يـتعـلَّـق بالفـ َّنانة النـحاتة‬ ‫ُم ّ‬ ‫ْ‬ ‫ـت ثالثيــن ســنة محجــوزة‬ ‫‪ )Claudel» (1864- 1943‬التــي أمضـ ْ‬ ‫ِ‬ ‫وج ْـبـن‬ ‫ـها‬ ‫ـ‬ ‫ـ‬ ‫أم‬ ‫رجعية‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫ـفى لألمـــراض العقلية‪ ،‬بـسـبـ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫في مـشــ ً‬ ‫أخيها الشاعـر الكبير «بولْ كلوديلْ » (‪ .)1955-1868‬هذه المرأة‬ ‫النحات‬ ‫المبدعــة التــي عاشــت تجربــة حـ ٍّ‬ ‫ـب جارف مــع ُمعلمهــا ّ‬ ‫ُ‬ ‫وأبانت عن موهبة تجديدية فذّ ة‪ ،‬تنكَّ ـــر‬ ‫«رودان» (‪،)1917-1840‬‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ـت عليهــا األم بالحجــز‬ ‫لهــا الحبيــب ألنــه كان متزوج ـاً‪ ،‬وحكمـ ْ‬ ‫والعـــزلة للـتــســـ ّتر علــى عالقــة غـــرامية تـــسيء إلــى ســمعة‬ ‫ُ‬ ‫كاثوليكيــة‪ ،‬هــي ضـــحية الجبن والالشــجاعة‬ ‫عائـــلة بورجوازيــة‬ ‫ّ‬ ‫فـضل‬ ‫في أكثر من صورة وتـبــريـــر‪ُ :‬جـــبن الف َّنان «رودان» الذي َّ‬ ‫األم التي‬ ‫الحفاظ على ســـمعته والتنـكّ ـــر لعواطفه‪ ،‬ثم قـــسوة ّ‬ ‫لقيم بـــورجوازية مـــغشوشة‪،‬‬ ‫ـت بابنتهــا فــي ســبيل الوفاء‬ ‫ٍ‬ ‫ضحـ ْ‬ ‫ّ‬

‫أخ كانــت شـهـــرته الشـــعرية تطبق‬ ‫ـدن ٍ‬ ‫ـدر الجبــان مــن لــ ُ‬ ‫والـغــ ْ‬ ‫ـضل طموحــه إلــى الحصول عـــلى منصب مهم‬ ‫ـ‬ ‫فـ‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫لكن‬ ‫ـاق‪،‬‬ ‫اآلفــ‬ ‫َّ‬ ‫ـي الفرنســي‪ .‬موقف الشاعر كلوديلْ هـــو‬ ‫في الســلك الدبلوماسـ ّ‬ ‫رت موقفه المتخاذل‬ ‫ّما‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫نفس‬ ‫في‬ ‫الذي يـــبعث الغضب‬ ‫تذكَّ‬ ‫ُ‬ ‫عت إلـــيه في رســائلها وخالل‬ ‫ـذر ْ‬ ‫مــن أختــه الف َّنانــة التي طالما تــ َّ‬ ‫زياراتــه القليلــة لهــا‪ ،‬لكي ُيـــسعفها على الخروج من محبســها‪،‬‬ ‫ـره‪ .‬هــذه فعـاً‪ ،‬حالــة‬ ‫دون أن تــ َّ‬ ‫ـتحرك عواطفــه أو يهـتــ ّز ضميــ ُ‬ ‫تتحدث عـــــنها‬ ‫ملموســة عـــن فــــقدان «شــجاعة القلــب» التــي‬ ‫َّ‬ ‫ـرء السـ ِ‬ ‫ـمات‬ ‫ـ‬ ‫المـ‬ ‫«فلــوري» فــي كتابهــا‪ ،‬والتــي من دونها يـفـــقد‬ ‫ُ‬ ‫التي تجعل منه إنســاناً‪ ،‬قـــبل أن يكون شـاعـــر ًا أو فــ َّناناً‪.‬‬ ‫ـكن‪ ،‬لحســن الحــظ‪ ،‬يحتفــظ ِسجـــلّ التاريــخ بأســماء شــعراء‬ ‫لــ ْ‬ ‫ومفكِّ‬ ‫تشبعــــوا بالشــجاعة فــي معناها العميق‬ ‫ـن‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ومواطني‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ري‬ ‫َّ‬ ‫ومارســوا السياســة مــن خاللهــا‪ ،‬مــن أمثــال ســقراط‪ ،‬وفيكتــور‬ ‫ـوة دكتاتورية شارل‬ ‫هيجو‪ ،‬الشــاعر الشــجاع الذي انتــقــــد بــِقُـــ ّ‬ ‫وخصــص لــه كتابـ ًا «‪Napoléon‬‬ ‫لويــس نابليــون (‪)1873 - 1808‬‬ ‫َّ‬ ‫‪ ،»le petit‬شـــرح فيــه ســلوكه ووعــوده الكاذبــة وتهافتــه علــى‬ ‫ـملَ مــن أجــل ذلــك سـ ٍ‬ ‫ـنوات فــي المنفى‬ ‫تجميــع المالــل‪ ...‬وتـحــ ّ‬ ‫الســبات التــي قــد‬ ‫ـفوة‬ ‫ـ‬ ‫غـ‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـعبه‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫ـاظ‬ ‫دون أن يتخ ّلــى عــن إيقـ‬ ‫ُّ‬ ‫ـؤدي إلــى الموت‪ .‬لحســن الحظ أن أمثال هيــــجو كُ ـثْـــر‪ ،‬أولئك‬ ‫تـ ِّ‬ ‫الذيــن يجـهـــر صو ُتهــم بالحقيقــة الشــجاعة‪ ،‬وال يجعلــون مــن‬ ‫السياســة وســيلة لـتـــزييف الــكالم أو «تـجـيـيـــر» نفــوذ حــ ٍ‬ ‫ـزب أو‬ ‫ـيست‬ ‫تأميــن منـــصب… إن الشــجاعة فــي األخــاق والسياســة لــ‬ ‫ْ‬ ‫وقْـفــ ًا علــى جنـ ٍ‬ ‫ـس بعـــينه‪ ،‬وال هــي ميــزة للرجال‪ ،‬بل هــي قيمة‬ ‫الحق والديموقراطية‪ ،‬ووســـيلة لـــجعل‬ ‫كونية‪ ،‬ضرورية لحماية‬ ‫ّ‬ ‫االنتقـاد عـنصر ًا حاضر ًا باستـمرار‪ ،‬يــذكـي الحوار الديموقراطي‬ ‫ُ‬ ‫االنتـخابية‪ .‬من َث َّم‪ ،‬فإن دراسة‬ ‫وال يـجعله قاصر ًا على الحمـالت‬ ‫ّ‬ ‫فعلت سانتـــيا فـــلوري‪ ،‬هي‬ ‫مثلما‬ ‫شــجاعة األخالق والسياســة‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫نظريــة اإلتيــك للسياســـة فــي‬ ‫فــي اآلن نفســه مدخــل لدراســة‬ ‫ّ‬ ‫نـظرية للشجاعة‪ ،‬مـغايـرة‬ ‫أمامنا‬ ‫تـنــتــظم‬ ‫ُمــجـملـــها‪ .‬وبـذلك‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫الـفردي بالجماعي‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫ــ‬ ‫تـص‬ ‫ـرية‪،‬‬ ‫للشجاعة الـعـنـتــ‬ ‫ـلُ‬ ‫ّ‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪19‬‬


‫السينما العامل ّية‬

‫ِّ‬ ‫حي‬ ‫الص‬ ‫الحجر‬ ‫يف‬ ‫صناعة‬ ‫ّ‬ ‫«الســينام ُمغلقــة حتــى يتو َّقــف الواقــع عــن أن يبــدو كاألفالم‪ .‬حافظــوا عىل ســامتكم وكونــوا بخري»‪ .‬بهذه الالفتة‬ ‫ـرر األعمــق‬ ‫اســتقبلت إحــدى دور الســينام يف واليــة فلوريــدا جائحــة كورونــا‪ ،‬وقــد وضعــت يدهــا عــى مصــدر التـ ُّ‬ ‫ـلبي عــى كافة‪ ‬املناحي‪ .‬‬ ‫للصناعــة جـ َّـراء هــذا الوبــاء الــذي‬ ‫َّ‬ ‫امتد أثره السـ ّ‬ ‫تضرريــن‪،‬‬ ‫الم ّ‬ ‫تصدريــن لصفــوف ُ‬ ‫صناعــة الســينما كانــت بيــن ُ‬ ‫الم ّ‬ ‫بدايةً بالمنع والحذر من التجمعات التي هي أســاس المشــاهدة‬ ‫المهمــة‬ ‫الســينمائية‪ ،‬ومــرور ًا بإيقــاف تصويــر عــدد مــن األفــام‬ ‫ّ‬ ‫خوفـ ًا علــى صناعها مــن االختــاط واإلصابة بالفيــروس‪ ،‬ووصو ً‬ ‫ال‬ ‫بتأجيــل أهــم األفــام الجاهــزة للعــرض والتــي كانــت منتظــرة‬ ‫ممــا‬ ‫فــي مواســم نهايــة الشــتاء والربيــع وترحيلهــا فيمــا بعــد ّ‬ ‫ســيؤثّر بالتبعيــة علــى األفــام المجــدول عرضهــا فــي الصيــف‬ ‫والخريــف‪ ،‬وهــذا يعنــي ثالثــة أمور‪ :‬إمــا مزيــد مــن الترحيــات‬ ‫علــى طريقــة تأثيــر الدومينــو‪ ،‬أو تخمــة مــن األفــام تصــدر تباعـ ًا‬ ‫الغمــة‪ ،‬وهــو موعــد فــي علــم الغيــب‪،‬‬ ‫ـرق كلّهــا بعــد فــوات‬ ‫ّ‬ ‫و ُتحـ َ‬

‫‪20‬‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫ـينمائية وإتاحــة األفــام للمشــاهدة‬ ‫أو التضحيــة بالعــروض السـ‬ ‫ّ‬ ‫عرضة للحرق‬ ‫م‬ ‫ـتكون‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫األفالم‬ ‫أن‬ ‫أي‬ ‫المنصات اإللكترونية‪،‬‬ ‫عبر‬ ‫ّ‬ ‫ُ َّ‬ ‫ـدس المعروض مــرة‪ ،‬والحرق لقدم المعــروض مرة‪ ،‬وكذلك‬ ‫بتكـ ُّ‬ ‫الحــرق بالمشــاهدة المنزليــة ومــا يتبعهــا مــن فــرص للقرصنــة‪ .‬‬ ‫السينمائي أصبح مهيأ تمام ًا لضربة‬ ‫وفي كلّ الحاالت فاالقتصاد‬ ‫ّ‬ ‫كبــرى‪ ،‬بــدأت هذه الضربــة تؤثر على الجميــع بالفعل‪ ،‬من مالك‬ ‫مم ْن‬ ‫شــركات اإلنتــاج وحتــى أصغــر الموظفيــن بتلــك المنظومــة َّ‬ ‫تاريخي ًا‬ ‫يعيشــون بقــوت يــوم العمل‪ .‬هــي فاجعــة غيــر مســبوقة‬ ‫ّ‬ ‫للصناعــة قــد تفــوق مثيالتهــا فــي عصور الكســاد الكبيــر والحرب‬ ‫العالميــة الثانيــة‪ ،‬والفارق أن مع الكوارث الســابقة ظلّت صاالت‬ ‫الســينما ملجــأ للبعــض يهربــون إليــه من‪ ‬كابوســية‪ ‬الواقع‪ ،‬أمــا‬ ‫اآلن فصالة ســينما نصف ممتلئة تعني الكابوس نفســه‪ .‬‬ ‫االقتصاديــة ليســت باألمــر الجلــل مقارنــةً بأصــل‬ ‫الخســائر‬ ‫ّ‬ ‫الفاجعــة‪ ،‬فكســب قــوت اليــوم لــن يجــدي إذا كانــت الحيــاة‬ ‫هــددة‪ ،‬بالتأكيــد لــن نفتقــد مشــاهدة األفــام ألن‪-‬‬ ‫نفســها ُم َّ‬ ‫تعبــر الالفتة‪ -‬الواقــع نفســه أصبــح أكثــر إثــار ًة لالنتبــاه‬ ‫وكمــا ِّ‬ ‫والشــحن العاطفــي مــن أي فيلــم يمكــن أن نــراه اآلن‪ ،‬مهمــا‬ ‫بلــغ مــن الخيــال‪ ،‬ألننــا أصبحنــا نعيــش الخيــال‪ ،‬لدرجــة أن‬ ‫ـرر تفاصيــل أحداثهــا اآلن فــي عالمنــا‪،‬‬ ‫أفــام كــوارث بعينهــا تتكـ َّ‬ ‫كفيلم‪ »Contagion 2011« ‬للمخرج ستيفن‪ ‬ســودربرج‪ ،‬والذي‬ ‫ُ‬ ‫تنبــأت أحداثــه بفيــروس يضــرب العالــم‪ ،‬ويبــدأ مــن الصيــن‪،‬‬ ‫وتتشــابه أعراضــه مــع كورونــا‪ ،‬ويتشــابه فــي طريقــة انتشــاره‪،‬‬ ‫الســلطات بنفــس الشــكل الــذي نشــاهده اليــوم‬ ‫وتتعامــل معــه ُّ‬ ‫فــي البلدان‪ ‬الموبوءة‪ .‬إعــادة مشــاهدة فيلــم كهــذا اآلن بقــدر‬ ‫أهميتــه فــي‬ ‫مــا ُيحســب لخيــال الف َّنــان ويد ّلــل مــن جديــد علــى ّ‬ ‫ـن يبــدأ بــدق أجــراس الخطــر‪ ،‬ويســبق‬ ‫المجتمــع كونــه دائمـ ًا َمـ ْ‬ ‫الساســة بخطــوات أو بأشــواط‪ ،‬ومــع ذلــك فلــم تعــد مشــاهدة‬ ‫الخيــال جاذبــة‪ ،‬بــل قــد تكــون فــي تلــك الحالــة محبطــة‪ .‬‬ ‫تأتــي جائحــة كورونــا فــي موســم نهايــة الشــتاء والخريــف‬ ‫الســينمائي‪ ،‬والمعــروف بأنــه موســم ازدهــار أفــام الرعــب‬ ‫ّ‬ ‫والحركــة والخيــال‪ »A Quiet Place Part II« .‬أحــد أبــرز أفــام‬ ‫للمخــرج جون‪ ‬كراسينســكي‪ ،‬كان مفتــرض‬ ‫الرعــب المنتظــرة ُ‬ ‫عرضــه فــي العشــرين مــن مــارس‪/‬آذار‪ ،‬لكنــه تأجــل ألجــل غيــر‬ ‫تميــز‬ ‫مسـ َّ‬ ‫ـمى بســبب كورونــا‪ ،‬الفيلــم هــو الجــزء الثانــي لفيلــم ُم ِّ‬


‫القصــة فــي مــدن‬ ‫صــدر عــام‪ ،2018 ‬عــن عالــم مــا بعــد قيامــي تــدور أحــداث‬ ‫ّ‬ ‫مهجــورة تم ِّثــل العالــم بعــد غــزو مــن كائنــات غامضــة تفتــرس البشــر حيــن‬ ‫ـاني‬ ‫يصــدرون ّأيــة أصوات‪ ،‬يقبع الناجون في منازلهم ويقتصر تواصلهم اإلنسـ ّ‬ ‫علــى النظــرات وحــركات الشــفاه‪ ،‬هــذا العالم‪ ‬الكابوســي‪ ‬يأتي متوافق ـ ًا مــع‬ ‫العامة التي يعيشــها العالــم اآلن‪ ،‬بالبقاء في‬ ‫الصحــي‬ ‫حالــة الحجــر والعــزل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫االجتماعي القديمة التــي تنقل الفيروس‪،‬‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫التواص‬ ‫طرق‬ ‫ـد مــن‬ ‫المنــازل والحـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ـوق على‬ ‫ـ‬ ‫يتف‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫عالمن‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫لك‬ ‫ـيته‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫عناصر‪ ‬كابوس‬ ‫ة‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫بح‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫قلي‬ ‫ق‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫يتف‬ ‫لعــلّ الفيلــم‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫الفيلــم بأنــه حقيقــي‪ ،‬وال قيمــة ألفــام الرعــب فــي زمــن صــارت فيــه نوبــات‬ ‫بمجرد مشــاهدة نشــرات األخبــار ومتابعة‬ ‫ـاني ًا يومي ًا يحدث‬ ‫َّ‬ ‫الهلــع طقسـ ًا إنسـ ّ‬ ‫عــدادات اإلصابة‪ ‬بكورونا‪ ‬وهــي تقفــز بمختلــف البلــدان‪ .‬‬ ‫تم‬ ‫الفيلــم األحدث من سلســلة جايمــس بونــد‪َّ ،»No Time Time To day« ‬‬ ‫تأجيــل طرحــه عالميـ ًا مــن أبريل‪/‬نيســان إلــى نوفمبر‪/‬تشــرين الثانــي القــادم‪،‬‬ ‫تحملــت الشــركة المنتجــة مصاريــف باهظــة فــي الترويــج والدعايــة‪،‬‬ ‫بعــد أن ّ‬ ‫وإعــادة جدولتــه فــي نوفمبر‪/‬تشــرين الثانــي تعنــي أنــه ســيواجه منافســة‬ ‫شرســة مــع أفــام موســم الجوائــز واألعيــاد‪ ،‬لكــن البعــض يــرى أن التأجيــل‬ ‫نــوع آخــر للفيلــم وزاد الترقُّــب له‪ .‬أفــام‬ ‫حــد ذاتــه صنــع دعايــة مــن‬ ‫فــي‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ـالٍ‬ ‫ـماة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫مس‬ ‫غير‬ ‫أو‬ ‫ـدة‬ ‫ـ‬ ‫بعي‬ ‫ـ‬ ‫آلج‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫العالم‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫عرضه‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫تأجي‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫الضخام‬ ‫ـس‬ ‫بنفـ‬ ‫ّ‬ ‫وعلــى رأســها فيلــم الحركة‪ »F9« ‬وهــو الجــزء التاســع مــن سلســلة‪Fast« ‬‬ ‫‪ ،»& Furious‬كمــا تأجــل عــرض فيلم‪ »Black Widow« ‬وهــو عــن بطلــة‬ ‫ـرة األولى باســتقالل عــن سلســلة‪»Avengers« ‬‬ ‫عالــم مارفــل التــي تظهــر للمـ ّ‬ ‫و«‪ ،»Iron Man‬وقــد كان مــن األفــام التــي تراهــن عليهــا شــركة ديزنــي‪ ،‬ثــم‬ ‫تراجعــت‪ ،‬بعــد أن جازفــت بعــرض فيلمها‪ »Onward« ‬فــي األيــام الماضيــة‬ ‫ولــم يح ّقــق اإليــرادات المتوقّعــة بتأثيــر كورونا مــا اضطر ديزني لحــرق الفيلم‬ ‫بإتاحتــه عــن طريــق المشــاهدة المنزليــة‪ ،‬ولــذا كان حتميـ ًا علــى الشــركة أن‬ ‫تتع َّلــم مــن الــدرس وتــدرك أن كورونــا ليــس مزحــة‪ ،‬فأجلــت عــرض النســخة‬ ‫وأجلــت فيلميــن من أضخــم إنتاجاتها‬ ‫الحيــة الجديــدة مــن فيلــم‪ّ ،»Mulan« ‬‬ ‫لهــذا العــام وهمــا‪ Antlers« ‬و‪ ،»The New Mutants‬وال أحــد يعلــم متــى‬ ‫خصصــت شــهر نوفمبر‪/‬تشــرين‬ ‫ســتصدر ديزنــي تلــك األفــام‬ ‫خاصــة وقــد ّ‬ ‫ّ‬ ‫الثانــي لعــرض فيلــم‪ »The Eternals« ‬الــذي تراهــن عليــه ديزني بعــد انتهاء‬ ‫سلســلة‪ .»Avengers« ‬ديزني التــي ابتلعــت وحدهــا أكثــر مــن‪ % 40 ‬مــن‬ ‫إيــرادات العــام الماضــي‪ ،‬قــد تكــون أكبــر الخاســرين هــذا العــام‪ ،‬ليــس ألنها‬ ‫ـرر األكثــر إنفاقـاً‪ ،‬وليــس أمامهــا اآلن ســوى‬ ‫ـرر الوحيــد‪ ،‬لكنهــا ُ‬ ‫المتضـ ّ‬ ‫المتضـ ّ‬

‫منصتهــا اإللكترونيــة‪ .‬‬ ‫تقليــل الخســائر بعــرض األفــام ســريع ًا علــى ّ‬ ‫ـم تأجيلهــا‪ ،‬هنــاك عدد مــن األفالم‬ ‫وبجانــب األفــام الجاهــزة للعــرض التــي تـ َّ‬ ‫تقــرر إيقــاف تصويرهــا خوفــ ًا مــن كورونــا‪ ،‬علــى رأس‬ ‫فــي مرحلــة اإلنتــاج‬ ‫ِّ‬ ‫هــذه األفــام الجــزء الســابع مــن فيلــم «‪ »Mission Impossible‬والــذي‬ ‫تــدور جــزء مــن أحداثــه فــي إيطاليــا أكبــر المنكوبيــن مــن الفيروس‪ .‬وهنــاك‬ ‫الجزأيــن الثانــي والثالــث مــن فيلم‪ »Avatar« ‬اللذين‪ ‬تنتجهما‪ ‬ديزنــي دفعــة‬ ‫واحــدة بميزانيــة ضخمــة وقــد توقــف تصويــر المشــاهد بســبب كورونا‪ .‬مزيــد‬ ‫مــن األفــام توقــف تصويرها لنفس الســبب مثــل (‪The Batman، Jurassic‬‬ ‫‪ )World: Dominion، Matrix 4، Elvis‬وغيرها‪ .‬‬ ‫امتدت‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫لك‬ ‫ـب‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫وحس‬ ‫اإلنتاج‬ ‫الخســائر لــم تقــف عنــد أفــام هوليــوود ضخمة‬ ‫ّ‬ ‫المســتقلّة والف ِّن ّيــة والتــي فقــدت أكبــر مصــادر ترويجهــا وتوزيعهــا‬ ‫للســينما ُ‬ ‫المتمثِّلــة فــي مهرجانــات الســينما العالميــة وهــي تغلــق أبوابها تباعـاً‪ ،‬التأثير‬ ‫المســتقلّة نجــم مــن إيقــاف مهرجان‪ »SXSW« ‬بمدينــة‬ ‫األكبــر علــى الســينما ُ‬ ‫أوســتن‪ ،‬وهو من أكبر أحداث الصناعة في أميركا الشــمالية‪ ،‬وكانت تســتفيد‬ ‫ـي ليثير‬ ‫األفــام منــه بالــرواج والدعم‪ ،‬ثــم جاء تأجيــل مهرجان «كان» الفرنسـ ّ‬ ‫ـدد ًا‬ ‫ـ‬ ‫مه‬ ‫خاصــة وأن موعــد إقامتــه ســيظل‬ ‫صدمــة فــي الوســط الســينمائي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مــع تفشــي فيــروس كورونــا فــي فرنســا لدرجــة وصلــت إلــى إعــان حالــة‬ ‫الحرب‪ .‬مهرجانــات أخــرى كانــت متنفَّسـ ًا لألفــام الف ّن ّيــة أعلنــت اإليقــاف أو‬ ‫التأجيــل‪ ،‬مثــل «تســالونيك»‪ ‬و«بكين» و«براج»‪ ‬و«ترايبيكا»‪ ‬و«إســطنبول»‪،‬‬ ‫وعربيـ ًا توقَّفــت مهرجانــات «قمــرة» في الدوحة و«عمان» فــي األردن و«البحر‬ ‫العربيــة الســعودية‪ ،‬واألخيــران كانــا يســتعدان‬ ‫األحمــر» فــي المملكــة‬ ‫ّ‬ ‫لدوراتهمــا األولى‪ .‬‬ ‫منصات المشــاهدة‬ ‫لوهلــة ظـ ّ‬ ‫ـن البعــض أن مــا يحــدث قــد يصب فــي مصلحــة ّ‬ ‫ـاهدة المنزليــة أصبــح أمــر ًا واقعـ ًا‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫الم‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫عص‬ ‫وأن‬ ‫ـس‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫مثل‪ ‬نتفليك‬ ‫ـتقرة‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫المسـ ّ‬ ‫ومصيري ـ ًا انتهــى فيــه التنظيــر‪ ،‬إلــى أن أعلنت‪ ‬نتفليكس‪ ‬عــن توقــف تصويــر‬ ‫ّ‬ ‫أغلــب أعمالهــا األصليــة حفاظــ ًا علــى ســامة العامليــن بهــا‪ ،‬وهــو القــرار‬ ‫والمتو َّقــع والــذي عــاد ليؤكِّ ــد مــن جديــد أنهــا ليســت أزمــة ســينما‬ ‫ـي ُ‬ ‫المنطقـ ّ‬ ‫شــاهدة‪ ،‬هــي أزمــة حيــاة أو مــوت تواجههــا حضارتنا‪ .‬والســؤال ليــس‬ ‫أو ُم‬ ‫َ‬ ‫الطبيعيــة التي تحفــظ للخيال‬ ‫متــى تعــود الســينما‪ ،‬ولكــن متى تعــود الحيــاة‬ ‫ّ‬ ‫مهابتــه؟!‪ ■ .‬أمجــد جمــال (مصــر)‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪21‬‬


‫امللف‬

‫‪22‬‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬


‫صدمـة‬ ‫الـجائحـة‬ ‫ِ‬ ‫قبلها‪،‬‬ ‫َمن‬ ‫«ز ُ‬ ‫جائحة «كورونا» ُ‬ ‫غري الزمن الذي كان ْ‬ ‫انتشار‬ ‫ألن‬ ‫وال هو الزمن الذي‬ ‫سيكون َب َ‬ ‫عدها‪ ،‬ال فقط ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ضع‬ ‫صنع حدثا‬ ‫الفريوس‬ ‫كونيا َو َ‬ ‫ض َع كلَّ َشء َم ْو َ‬ ‫َ‬ ‫ًّ‬ ‫ٍ‬ ‫حد الرشوع يف الحديث عن‬ ‫ومراجعة إىل ِّ‬ ‫ُمساءلة ُ‬ ‫العاملي ويف‬ ‫االقتصادي‬ ‫تحولٍ الحق يف النظام‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫الزمن‬ ‫ألن هذا‬ ‫النظام‬ ‫للبلدان‪ ،‬ولكن ً‬ ‫َ‬ ‫أيضا ّ‬ ‫االجتامعي ُ‬ ‫ّ‬ ‫رجةً‬ ‫أعاد‬ ‫النظر يف مفهوم الحياة َ‬ ‫جس ًدا ّ‬ ‫جه ّ‬ ‫بو ْ‬ ‫َ‬ ‫عام‪ُ ،‬م ِّ‬ ‫رجةً‬ ‫إن ما‬ ‫واقعية فحسب‪ّ .‬‬ ‫معرفية َمكينة‪ ،‬وليس ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ترتّب عىل ظهور الفريوس وانتشاره ُيشكِّل إعاد َة نظ ٍر‬ ‫جذرية يف مفهوم الحياة‪»..‬‬ ‫ّ‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪23‬‬


‫عولـمة الفزع‬ ‫ربــا ســاهمت العوملــة يف هــذا االنتشــار ا ُ‬ ‫والفزع‪ ،‬وربــا ســاهمت وســائل اإلعــام أيضـ ًا يف ارتفــاع‬ ‫ملثــر للرعــب‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ٍ‬ ‫تحــول إىل قريــة صغرية‪ .‬الــدول والحكومــات والساســة يفكِّــرون عــاد ًة يف اتخــاذ‬ ‫عــامل‬ ‫يف‬ ‫الفــزع‬ ‫هــذا‬ ‫ة‬ ‫حــد‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫حدهــا األدىن‪ ،‬مســتعينني يف ذلــك‬ ‫اإلجــراءات والتدابــر يف مثــل هــذه الحــوادث قصــد تقليــص الخســائر إىل ِّ‬ ‫ملفكِّرون وا ُ‬ ‫املدين‪ .‬أما ا ُ‬ ‫ملثقَّفون فإن اهتاممهم ينرصف إىل تحليل األسباب‬ ‫سمية واملجتمع‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫الر ّ‬ ‫باملؤسسات َّ‬ ‫ـري يف القــادم مــن األيــام‪ .‬‬ ‫وتقييــم النتائــج البعيــدة املــدى وتأثريهــا عــى الوضــع البـ‬ ‫ّ‬

‫نعتقد أننا نعيش‬ ‫تطوُّراً‪ ،‬بل تحوُّالً‬ ‫جذرياً‪ ،‬لكن الفريوس‬ ‫ّ‬ ‫يذكرنا بأننا نعيش‬ ‫املغامرة؛‪ ‬املغامرة‬ ‫أمام املجهول‬ ‫وداخله‪ ،‬املغامرة اليت‬ ‫لم نسمع عنها من‬ ‫قبل بالنسبة للجنس‬ ‫البرشيّ‬

‫‪24‬‬

‫ـتجد الــذي‬ ‫المسـ َ‬ ‫فــي أواخــر ســنة ‪ 2019‬ظهــر فيــروس كورونــا ُ‬ ‫ليتحول‬ ‫ـرعة‬ ‫ـ‬ ‫بس‬ ‫أصبحت تســميته العلمية «كوفيد ‪ ،»19‬وانتشــر‬ ‫َّ‬ ‫ـول إلــى‬ ‫ـ‬ ‫تح‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫اإلقليمية‪ ،‬ث‬ ‫إلــى وبــاء ضــرب العديــد مــن الــدول‬ ‫َّ‬ ‫جائحـ ٍ‬ ‫العالمية‪ ،‬بعــد أن غزا‬ ‫الصحــة‬ ‫ـة ُمعلَنــة مــن طــرف منظَّ مة‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫مختلــف الــدول والمناطــق في العالم‪ ‬مطلع ســنة ‪ .2020‬صحيح‬ ‫مرة‪ ،‬مــن‬ ‫أن البشـ ّ‬ ‫ـرية عاشــت أهــوال األوبئــة والجوائــح غيرمــا ّ‬ ‫قبيل‪« ‬الطاعــون األسود»‪ ‬و«األنفلونزا‪ ‬اإلســبانية»‪ ‬وغيرهما‪ ،‬إلّ‬ ‫المقلــق والمخيــف فــي هــذا الفيــروس الجديــد هــو ســرعة‬ ‫ا أن ُ‬ ‫انتشــاره وقــوة فتكــه باألجســاد الضعيفــة المنخــورة باألمــراض‬ ‫المزمنــة أو التــي تنقصها المناعــة الكافية‪ .‬‬ ‫ـروج فــي عالــم الفكــر‬ ‫وإذا كان مــن الصعــب اإلحاطــة بــكلّ مــا يـ َّ‬ ‫تقدم‬ ‫أن‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫يمك‬ ‫ـاذج‬ ‫اليــوم حــول هــذه الجائحة‪ ،‬فــإن بعــض النمـ‬ ‫ِّ‬ ‫لنــا صــورة عــن واقــع اليــوم وســيناريوهات المســتقبل‪ .‬لذلك‬ ‫انفتحنــا علــى مفكِّ ريــن لهــم عالقــة وثيقــة بعلــم االجتمــاع‬ ‫والفلســفة وعلم‪ ‬النفس‪ ،‬وهــي المجــاالت المعنيــة أكثــر مــن‬ ‫تمدنــا‬ ‫غيرهــا اآلن بهــذه الجائحــة العابــرة للقارات‪ ،‬فلعلّهــا ّ‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫بإشــارات إلــى الطريــق الــذي يجــب أن نســلكه مســتقبالً‪ .‬‬ ‫تبــدو حالتنــا اليــوم علــى أنهــا حالــة فــزع الــكلّ مــن الكلّ ‪ ،‬حالــة‬ ‫مــن الشــك والريبة وانعــدام اليقين إزاء المجهول؛‪ ‬والســبب في‬ ‫هــذا يعــود إلــى جائحــة «كوفيــد ‪ .»19‬إننا أمــام فــزع ُمعولَم يدل‬ ‫بصحــة البشــر التــي هــي الخير‬ ‫علــى حجــم األزمــة التــي تعصــف‬ ‫ّ‬ ‫ـم دروس هــذه األزمــة‬ ‫ـ‬ ‫أه‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫تعبير‪ ‬ديكارت‪ .‬وم‬ ‫ـد‬ ‫األعظــم علــى حـ ِّ‬ ‫ّ‬ ‫الكبــرى في نظر‪ ‬السوســيولوجي الفرنســي‪« ‬إدغار موران‪Edgar ‬‬ ‫‪ »Morin‬أنه ال يمكننا االنفالت من الريبة والاليقين‪ :‬نحن ال زلنا‬ ‫دائمـ ًا مرتابيــن بصــدد إيجــاد عــاج لهــذا الفيروس‪ ،‬وكذلــك إزاء‬ ‫د‪ ‬موران‪ ‬مهمة‬ ‫ذلك‪ ،‬يحد‬ ‫األزمة‪ .‬بناء علــى‬ ‫ـورات ونتائــج هذه‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫تطـ ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ـن‪ .‬إل أنــه‬ ‫أساسـ ّـية للتربية‪ ،‬تتم َّثــل فــي تدريــس الريبــة والاليقيـ‬ ‫ّ‬ ‫تتضمن فــي نفس الوقــت الخطر‬ ‫مــن مفارقــات هــذه الريبــة أنهــا‬ ‫َّ‬ ‫تحــو ً‬ ‫ال جذرياً‪ ،‬لكــن‬ ‫ً‪ ،‬بــل‬ ‫ا‬ ‫ر‬ ‫تطو‬ ‫واألمل‪ .‬نعتقــد أننــا نعيــش‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫الفيــروس يذكّ رنــا بأننــا نعيــش المغامرة؛‪ ‬المغامــرة أمــام‬ ‫المجهــول وداخله‪ ،‬المغامــرة التــي لــم نســمع عنهــا مــن قبــل‬ ‫البشــري‪ .‬ويبدو‪ ،‬في نظــره‪ ،‬أن الفيــروس‬ ‫بالنســبة للجنــس‬ ‫ّ‬ ‫يقتــل النيوليبراليــة ويقتلنــا معها‪ ‬فــي نفــس الوقت؛‪ ‬ولذلــك‬ ‫ـر‬ ‫فإنــه ســيكون مــن المحــزن جـ ّ‬ ‫ـد ًا ّأل يخــرج مــن هــذه األزمــة فكـ ٌ‬ ‫ـي يرســم طريقـ ًا جديداً‪ .‬مــن هــذه الفكرة‪ ،‬أي ضــرورة فكر‬ ‫سياسـ ٌّ‬ ‫ؤرخ الفرنسي‪« ‬مارســيل‬ ‫والم‬ ‫ـوف‬ ‫ـ‬ ‫الفيلس‬ ‫ـق‬ ‫ـ‬ ‫جديد‪ ،‬ينطل‬ ‫ـي‬ ‫ُ ِّ‬ ‫سياسـ ّ‬ ‫ً‬ ‫ـر بهــا‬ ‫ـ‬ ‫نم‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الت‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫األزم‬ ‫أن‬ ‫ا‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫‪ ،»Marcel‬معتب‬ ‫ـيه‪Gaucher ‬‬ ‫غوشـ‬ ‫ّ‬ ‫هــي فرصــة للحظــة الحقيقة‪ ،‬الرهــان فيهــا يتركــز علــى عالقــة‬ ‫السياسية‪ .‬وينتقد‪ ‬غوشــيه‪ ‬عبارة «إننــا‬ ‫كلّ مواطــن بالجماعــة‬ ‫ّ‬ ‫ـرد وصف‬ ‫ـ‬ ‫مج‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫الواقع‪ ،‬ورب‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ـدة‬ ‫ـ‬ ‫بعي‬ ‫فــي حالــة حرب»‪ ،‬ألنهــا‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫مجــازي لهــول هــذه األزمة‪ ،‬مؤكّ ــد ًا ذلــك بقوله‪« ‬لســنا فــي حالــة‬ ‫حــرب‪ ،‬أو إن األمــر يشــبه الحــرب الزائفة‪ ...‬تذكــرون أنــه خــال‬ ‫حــرب ‪ 1918 - 1914‬ســقط أكثــر مــن عشــرين ألــف قتيــل فــي‬ ‫ـد ًا عــن ذلــك»‪ .‬‬ ‫األول‪ .‬نحن‪ ،‬لحســن الحظ‪ ،‬بعيــدون جـ ّ‬ ‫يومهــا ّ‬ ‫أهــم مــا كشــفت عنــه هــذه األزمــة هــو عــودة مــا هــو‬ ‫إن‬ ‫ّ‬ ‫سياســي‪ ،)le politique( ‬أي‪ ‬مــا يضمــن بقــاء ودوام جماعــة‬ ‫مــا‪ ،‬وقاعدة‪ ‬مشــتركة تلــزم الجميــع ألنهــا تهــم حيــاة ومــوت كلّ‬ ‫عضــو مــن الجماعة‪ .‬ففــي نظر‪ ‬غوشــيه‪ ‬أن الداللــة العميقة لهذا‬


‫المتع ِّلــق بمــا هــو سياســي والــذي نســيناه‬ ‫الحــدث تتم َّثــل فــي صحــوة البعــد ُ‬ ‫ـي يرتبط بحيــاة الجماعة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫سياس‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫عنه‪ .‬م‬ ‫واعتقدنــا أنــه يمكننــا االســتغناء‬ ‫ّ‬ ‫ً؛‪ ‬أمـ�ا االنتخابات‪ ‬البلدية‪ ،‬فهـ�ي ترتبـ�ط بالسياسـ�ة(‪la poli�( ‬‬ ‫وهو‪ ‬األهـ�م حاليا ّ‬ ‫ـن نجح أو خســر فيها‪ ،‬وهــي تافهــة حالياً‪ ،‬بل ومدعاة‬ ‫ـ‬ ‫بم‬ ‫ـم‬ ‫‪ ،)tique‬وهــي تهتـ َ ْ‬ ‫للسخرية والتهكم‪ .‬‬ ‫يتطور بشــكلٍ‬ ‫تصاعدي‪ ،‬إل أنه‬ ‫في تقدير‪ ‬غوشــيه‪ ،‬أن «كوفيد‪ ،»19 ‬رغم كونه‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ـبانية‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫اإلس‬ ‫األنفلونزا‬ ‫أو‬ ‫ـود‬ ‫ـ‬ ‫األس‬ ‫لحــد اآلن‪ ،‬لــم يصــل بعــد إلى هــول الطاعــون‬ ‫ّ‬ ‫وفــي توقّعــه وتســاؤله معـاً‪ :‬أننا‪ ‬ســنعرف فــي القادم مــن األيام‪ ،‬إلــى أي مدى‬ ‫ـدد الفجــوة بيــن الفــرد والجماعة‪ .‬يعنــي هــذا أننــا نعيــش‬ ‫ســتتقلص أو تتمـ َّ‬ ‫اليــوم اختبــار ًا سياسـ ّـي ًا حقيقيـ ًا وعلــى أعلــى مســتوى؛‪ ‬فهل البعــد الفردانــي‬ ‫المهيمــن كلّيــةً علــى مجتمعاتنــا الغربية؟‪ ‬سنكتشــف‬ ‫الليبرالــي والخـ ّ‬ ‫ـاص هــو ُ‬ ‫هــذا األمــر فــي المســتقبل القريــب‪ .‬هــذا هــو مــا يهم‪ ،‬وهــذا هــو األساســي‬ ‫ـد تعبير‪ ‬غوشــيه‪ .‬‬ ‫فــي هــذه األزمــة علــى حـ ِّ‬ ‫وعلــى غرار‪ ‬إدغــار موران‪ ،‬يرى‪ ‬غوشــيه‪ ‬أن العولمــة الليبراليــة قــد ماتــت‪ ،‬وأن‬ ‫المبــدأ القائــل بــأن «التجــارة الناعمة»‪ ‬ســتحلّ ‪ ‬جميع المشــاكل أصبــح‬ ‫ـي‪ ،‬يقول بأنه ليس‬ ‫بائداً‪ .‬وفــي معــرض الحديــث عــن مناعــة الجســم السياسـ ّ‬ ‫ـون مــن أفــراد‪ ،‬أن يضمــن مناعتــه‬ ‫مــن البســاطة والبداهة‪ ،‬فــي مجتمــع يتكـ َّ‬ ‫السياسـ ّـية‪ .‬ذلك أننــا نطلــب مــن األفــراد أن يبتعدوا عن بعضهــم البعض قدر‬ ‫اإلمكان‪( ‬الحجــر الصحي)‪ ،‬لكننــا نقــول لهــم فــي نفــس الوقت‪« ‬فكّ ــروا فــي‬ ‫ـد‬ ‫اآلخريــن فقــد تكونــوا خطــر ًا عليهــم»‪ .‬هكــذا يجــد األفــراد أنفســهم بيــن شـ ٍّ‬ ‫وجــذب‪ ،‬أي فــي حالــة توتــر بيــن المســافة الفردانيــة وااللتــزام الغيري‪ .‬فــي‬ ‫وقوية‪ ،‬وال‬ ‫رجــة فكريــة وخلخلــة أيديولوجيــة كبيــرة‬ ‫ّ‬ ‫األخير‪ ،‬يؤكِّ ــد بــأن هنــاك ّ‬ ‫ـه‪ ،‬إل أننــا فــي حاجــةٍ‬ ‫أحــد يمكنــه التنبــؤ بخطــورة الحدث‪ ‬ومــا ســيترتب عنـ‬ ‫ّ‬ ‫ـي جديد‪ .‬‬ ‫ماســة إلــى برنامــج سياسـ ّ‬ ‫البريطانيــة فــي التعاطــي مــع أزمــة «كوفيــد‬ ‫التجربــة‬ ‫وبالنظــر إلــى فــرادة‬ ‫ّ‬ ‫ً‪ ،‬خاصــة‬ ‫إعالميا‬ ‫‪ ،»19‬ارتأينــا أن ننفتــح علــى بعــض فالســفتها األكثــر حضــور ًا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫على‪ ‬صفحات‪« ‬الغارديان‪ »Guardian ‬وقنــاة الـ«‪ ،»BBC‬يتعلَّــق األمــر‬ ‫بالفيلســوف اإلنجليزي‪« ‬جوليــان باجينــي‪ »Julian Baggini ‬الــذي يتماثــل‬

‫للشــفاء حاليـ ًا مــن أزمة التهــاب رئوي‪ .‬ما يبدو غريب ًا بالنســبة لنــا جميعاً‪ ،‬هو‬ ‫األول‪« ‬بوريس‪ ‬جونســون‪ »Boris Johnson ‬أن المملكــة‬ ‫تأكيــد الوزيــر‬ ‫ّ‬ ‫الم َّتحــدة لــن تتخــذ أي إجــراء مــن قبيــل إغــاق المــدارس وفــرض الحجــر‬ ‫الصحي‪ ،‬إلخ‪ .‬لكــن بالنســبة لهــذا الفيلســوف‪ ،‬يمكن فهــم هذا األمر بســهولة‬ ‫ـن يعــرف طريقــة تفكيــر اإلنجليز‪ .‬فقــد حاول‪ ‬جاهــد ًا في‬ ‫لمـ ْ‬ ‫ووضــوح بالنســبة َ‬ ‫كتابه‪« ‬كيــف يفكّ ر‪ ‬العالــم‪ »How The World Think ‬توضيــح التشــابهات‬ ‫ٍ‬ ‫ـفي الــذي‬ ‫القويــة بيــن الخصائــص المهيمنــة علــى ثقافــة مــا والنمــوذج الفلسـ ّ‬ ‫تجســده‪ .‬ولعلّ األزمــة الحاليــة تجســيد واضــح لهــذه الفكرة‪ .‬فهــو يــرى‬ ‫أن‪ ‬جونســون‪ ‬قدم اســتراتيجيته باعتبارهــا «أمبريقيــة‪ »empirique ‬فــي‬ ‫َّ‬ ‫تعــارض مــع المثاليــة‪ ،‬إذ أوضــح أن القــرار الــذي ا ّتخــذه جــاء بعــد استشــارة‬ ‫العلمــاء المرموقين‪ ‬حــول الموضوع؛‪ ‬وهــؤالء أقنعــوه بأنــه فــي مصلحــة‬ ‫يطــور قدراتــه ودفاعاتــه المناعية‪( ‬مناعــة القطيع)‪ ،‬حتــى لــو‬ ‫الشــعب أن‬ ‫ِّ‬ ‫تكبــد المزيــد مــن الخســائر فــي البداية‪ .‬باإلضافــة إلــى‬ ‫يعنــي‬ ‫كان ذلــك‬ ‫ُّ‬ ‫ذلك‪ ،‬إنهــا مقاربــة ذرائعية‪ .‬ومعلــوم أن هــذه األخيــرة تشــير إلــى مذهــب‬ ‫‪ ‬وأخالقي‪ ،‬تبلور مــع كلّ مــن «جيريمي‪ ‬بنثهــام‪Jeremy ‬‬ ‫سياســي‬ ‫فلســفي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪ )Bentham» (1748-1832‬و«جــون ســتيوارت ميــل »‪John Stuart Mill‬‬ ‫ـد‬ ‫‪ ،)(1806-1873‬ويقــوم علــى مبــدأ عــام هــو تجويــد الوجــود إلــى أقصــى حـ ٍّ‬ ‫ـق بعــض‬ ‫لفائــدة األغلبية‪ ،‬حتــى ولــو تر َّتــب عــن ذلــك إجحــاف أو ظلــم فــي حـ ّ‬ ‫األفــراد‪ ،‬أي حتــى ولــو كان األمــر يتعلَّــق بعــدد مــن الوفيــات فــي الحالــة‬ ‫نتحــدث عنهــا وهــي الجائحة‪ .‬يســعى‪ ‬باجيني‪ ‬من وراء كلّ هــذا إلــى‬ ‫التــي‬ ‫َّ‬ ‫عاطفية‪ ،‬إنهــا تريــد أن تكون‪ ،‬عكــس‬ ‫ـت‬ ‫ـ‬ ‫ليس‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫اإلنجليزي‬ ‫ـفة‬ ‫ـ‬ ‫الفلس‬ ‫أن‬ ‫ـح‬ ‫ـ‬ ‫توضي‬ ‫ّ‬ ‫ـدد‪ ،‬ال‬ ‫ـ‬ ‫تش‬ ‫والم‬ ‫ـارم‬ ‫ـ‬ ‫الص‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫تعبيره‪ .‬فالذرائع‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫ح‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫وعقالنية‪ ،‬عل‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫ذلك‪ ،‬هادئ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫يجــب عليــه فقــط التقليــص مــن عــدد الوفيات‪ ،‬وإنمــا التســاؤل أساسـ ًا عــن‬ ‫جيدة‪ .‬بعبــارة‬ ‫عــدد الذيــن ســينعمون بإمكانيــة العيــش المديــد وبصحــة ّ‬ ‫تواً‪ ،‬فيمــا‬ ‫ـيموت‬ ‫ـن سـ‬ ‫المسـ ّنون فــي البلد‪ ،‬هــم َمـ ْ‬ ‫ّ‬ ‫أخــرى‪ ،‬إذا كان األشــخاص ُ‬ ‫جيد؛‪ ‬ولعــلّ هــذا‬ ‫ِّ‬ ‫ســيطور الشــباب مناعــة ضــد «كوفيد‪ ،»19 ‬فالحســاب ّ‬ ‫إنجليزيـ ًا محضاً‪ .‬يضــاف إلــى ذلــك أن التقليــد الليبرالــي فــي‬ ‫ـدو‬ ‫ـ‬ ‫يب‬ ‫ـتثناء‬ ‫االسـ‬ ‫ّ‬ ‫الفرديــة‬ ‫ة‬ ‫ـؤولي‬ ‫ـ‬ ‫المس‬ ‫ـدأ‬ ‫ـ‬ ‫مب‬ ‫ـاد‬ ‫ـ‬ ‫اعتم‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫الحكوم‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ـرض‬ ‫ـ‬ ‫حدة‪ ،‬يف‬ ‫ت‬ ‫الم‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫المملك‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪25‬‬


‫ـق هادئـ ًا وتابــع طريقــك‪ .‬هــذه هــي‬ ‫وكأن الحكومــة تخاطــب األفــراد قائلة‪ :‬ابـ َ‬ ‫الطريقة‪ ‬اإلنجليزيــة فــي كيفيــة مواجهــة الشــدائد‪ .‬وقد الحظ‪ ‬باجينــي‪ ‬أن‬ ‫ّ‬ ‫ـك فــي‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫الوزي‬ ‫ـاب‬ ‫تغييــر نبــرة خطـ‬ ‫األول وبعــض السياسـ ّـيين نابــع مــن الشـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫القرار‪ ،‬والتخــوف مــن عــرض‬ ‫هــذا‬ ‫اتخــاذ‬ ‫فــي‬ ‫المعتمــد‬ ‫العلمــي‬ ‫النمــوذج‬ ‫ُّ‬ ‫جثــث الموتــى بــاآلالف فــي المستشــفيات علــى مختلــف وســائل اإلعــام‬ ‫ـخصي وليــس‬ ‫ـي شـ‬ ‫يحركه‪ ،‬فــي نظــره طمـ ٌ‬ ‫والتواصل‪ .‬هــذا التغييــر ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ـوح سياسـ ٌّ‬ ‫بدافــع الغيرية‪ .‬لكــن يبــدو أن المملكــة الم َّتحــدة رضخــت أخيــر ًا لتتخــذ نفس‬ ‫التدابيــر واإلجــراءات التــي اتخذتهــا الــدول األخرى‪ .‬وفــي عالقــة مــع األزمــة‬ ‫ـر بها‪( ‬التهــاب رئــوي)‪ ‬ودور الفلســفة فيها‪ ،‬انتقــد االعتقــاد‬ ‫ّ‬ ‫الصحيــة التــي مـ ّ‬ ‫الســائد عند الكثيرين في أن الفلســفة تجعلنا سعداء‪ ‬وتســاعدنا على تخطي‬ ‫أهميتها‪ :‬إنهــا تمنحنا فهمـ ًا أوضح‬ ‫المصاعـ‬ ‫ّ‬ ‫ـب‪ ،‬إل أنــه يؤكّ ــد فــي نفس الوقــت ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫كلمــة‬ ‫لمــا نعيشــه‪ ،‬وتحول دون انجرافنــا مــع األهــواء والالمعقول‪ .‬وفــي‬ ‫أخيرة‪ :‬مــا هــو أساسي‪ ،‬بالنســبة إليه‪ ،‬هــو تقبــل الجــواز الــذي يطبــع الوضــع‬ ‫ـري وكــذا طبيعــة الحيــاة العابــرة‪ .‬‬ ‫البشـ ّ‬ ‫السياســي‪ ،‬خصص‬ ‫بالنقــد‬ ‫النفســي‬ ‫التحليــل‬ ‫فيــه‬ ‫يمتــزج‬ ‫منظــور‬ ‫ومــن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الفيلســوف السلوفيني‪« ‬ســافوي جيجيك‪ »Slavoj Zizek ‬مقاالتــه األخيــرة‬ ‫لتقديــم آرائــه حــول جائحــة (كوفيــد ‪ .)19‬وقــد ركّ ــز بدايــة علــى طريقــة ردود‬ ‫أفعالنــا إزاء هــذه الجائحة‪ ،‬معتمــد ًا فــي ذلــك علــى خطاطــة الطبيبــة‬ ‫النفسانية‪« ‬إليزابيث كوبلر‪-‬روس‪ »Elisabeth Kübler-Ross ‬والتي عرضتها‬ ‫ـون هــذه الخطاطــة مــن خمــس‬ ‫فــي كتابها‪« ‬اللحظــات األخيــرة للحياة»‪ .‬تتكـ ّ‬ ‫مراحــل هي‪ :‬اإلنكار‪ ،‬الغضب‪ ،‬المســاومة‪ ،‬اإلحباط والتقبل‪ .‬فــي البداية كان‬ ‫اإلنكار‪( ‬األمــر ليــس علــى هــذه الدرجــة مــن الخطورة)‪ ،‬ثــم الغضب‪« ‬بنبــرات‬ ‫للدول»‪( :‬مــرة أخــرى الخطــأ صــادر عــن‬ ‫ال تخلــو مــن عنصريــة أو عــداء‬ ‫ّ‬ ‫فعالة)‪ ،‬بعــد ذلــك جــاء دور‬ ‫هــؤالء الصينيين)‪( ،‬حكومتنــا ضعيفــة وغيــر ّ‬ ‫ـد من‬ ‫المســاومة‪( ‬هناك طبعـ ًا ضحايا‪ ،‬لكــن يجــب أن نكــون قادريــن علــى الحـ ِّ‬ ‫الخســائر)‪ ،‬وإذا لــم تســر األمــور فــي هــذا االتِّجــاه ســيظهر اإلحباط‪( ‬يجــب‬ ‫عبــر‬ ‫مدانون)؛‪ ‬أمــا‬ ‫ّأل‪ ‬نخــدع أنفســنا‪ ،‬نحن جميعــ ًا‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫مرحلة‪ ‬التقبــل فقــد َّ‬ ‫تقبــل واقــع أن الوبــاء ســيأخذ حتمـ ًا بعــد ًا‬ ‫عنها‪ ‬جيجيك‪ ‬بقوله‪( ‬يجــب علينــا ُّ‬ ‫عالمياً‪ ،‬وأنــه ال يمكــن احتــواؤه عــن طريــق الحجر‪ ‬والعــزل وال عــن طريــق‬ ‫ّ‬ ‫بتقبله‪ ،‬مــع‬ ‫أي تدبيــر وحشــي ناجــم عــن الذعــر والفزع‪ .‬يتع َّلــق األمــر إذن ُّ‬

‫‪26‬‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫الوعــي بــأن معــدل الوفيــات منخفــض نسبياً‪ ،‬وبشــيء مــن الحكمــة ســتكون‬ ‫تقبله‪ ،‬ومــا‬ ‫لنــا فرصــة للنجـ‬ ‫ّ‬ ‫ـاة‪ .)...‬إل أن مــا هــو أعمــق مــن ذلك‪ ،‬ومــا يجــب ُّ‬ ‫يجــب علينــا التوا ُفــق معه‪ ،‬هــو أن الحيــاة كانــت دائم ـ ًا قائمــة علــى أســاس‬ ‫تكرر للفيروســات التي‪ ،‬مثل أموات أحياء‪ ،‬تلقي بظاللها‬ ‫االنتشــار الغبي ُ‬ ‫والم ِّ‬ ‫ـددة بقاءنا‪ .‬هكــذا تذكّ رنــا الفيروســات فــي العمــق بجــواز وعــدم‬ ‫علينا‪ ،‬مهـ ّ‬ ‫ُ‬ ‫أهميــة وجودنــا‪ :‬مهمــا كان حجــم اآلثــار العقليــة الروحيــة التــي أقامتهــا‬ ‫ِّ‬ ‫يدمــر‬ ‫ـرية‪ ،‬فإن طارئـ ًا طبيعيـ ًا غبيـ ًا مثــل فيــروس أو كويكــب يمكنــه أن ِّ‬ ‫البشـ ّ‬ ‫كلّ شــيء‪ .‬هذا دون الحديــث عــن درس اإليكولوجيــا الذي يمكننا اســتخالصه‬ ‫ـانية‪ ،‬من دون قصد‪ ،‬تخاطــر بتعجيــل نهايتها‪ .‬كمــا يؤكِّ ــد‬ ‫مــن هــذا‪ :‬إن اإلنسـ ّ‬ ‫ـد ًا أدنــى مــن الثقة بين ســلطات‬ ‫بــأن الخطــوة األولــى نحــو‬ ‫التقبل‪ ،‬تفتــرض حـ ّ‬ ‫ُّ‬ ‫الــدول وشــعوبها‪ .‬لذلك ينتقد‪ ‬جيجيك‪ ‬الطريقــة التــي تعاملــت بهــا الصيــن‬ ‫أول مــن اكتشــف‬ ‫مــع الدكتور‪« ‬لــي وينليانــغ‪ »Li Wenliang ‬الــذي كان هــو ّ‬ ‫ـر‪ ،‬وتم منعــه وإخضاعــه للرقابــة بدعــوى محاربــة الشــائعات‬ ‫المنتشـ‬ ‫َّ‬ ‫الوبــاء ُ‬ ‫ـد منهــا لتفــادي الذعــر والفزع‪ .‬مــن جهـ ٍ‬ ‫ـة أخرى‪ ،‬يــرى جيجيــك ضــرورة‬ ‫والحـ ّ‬ ‫والمواءمــة بيــن‬ ‫اتخــاذ تدابيــر يعتبــر أغلبنــا بأنهــا شــيوعية‪ ،‬مثل التنســيق ُ‬ ‫المهمــة‬ ‫أن‬ ‫ـع‬ ‫اإلنتــاج والتوزيــع خــارج معاييــر الســوق وبمعــزل عنها‪ .‬والواقـ‬ ‫َّ‬ ‫التــي تنتظرنــا هــي فــي غايــة الصعوبــة والتعقيد‪ :‬يجــب علينا التخ ّلــص من أي‬ ‫ـيوعية القرن العشــرين البائدة‪ ،‬وإبداع أشــكال جديدة متمركزة‬ ‫حنيــن إلــى شـ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫طريقة‬ ‫المج َّنحة االعتقــاد في‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫اليوتوبي‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫لم‬ ‫ـاني؛‪ ‬وإنه‬ ‫ـ‬ ‫اإلنس‬ ‫ـترك‬ ‫حــول المشـ‬ ‫ُ‬ ‫األول‬ ‫أخــرى للخالص‪ .‬فــي معرض هذا الحديث‪ ،‬أشــار‪ ‬جيجيك‪ ‬إلى أن الوزير ّ‬ ‫الســلطات‬ ‫اإلسـ‬ ‫ـرائيلي‪ ،‬ومن أجــل الحـ ِّ‬ ‫ـد مــن انتشــار الفيروس‪ ،‬اقتــرح علــى ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫الفلسطينية‪ ‬المســاعدة والتنســيق‪ ،‬معلِّقا علــى ذلــك بقوله‪ ،‬إن هــذا االقتراح‬ ‫ّ‬ ‫يميــز‬ ‫ال‬ ‫ـروس‬ ‫ـ‬ ‫الفي‬ ‫ـاطة‪ ،‬ألن‬ ‫ـ‬ ‫بس‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ة‪ ،‬وإنما‬ ‫ـاني‬ ‫ـ‬ ‫اإلنس‬ ‫أو‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫الخي‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫ليــس بداف‬ ‫ـكلّ‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫والفلســطينيين‪ .‬إضافة إلــى هذا‪ ،‬فشــعار‪« ‬أميركا‪( ‬أو أي دولــة‬ ‫اليهــود‬ ‫بيــن‬ ‫ّ‬ ‫ـرى)‪ ‬أوالً» انتهــت صالحيتــه فــي ظــلّ عولمــة الفزع‪ .‬وفــي األخيــر يذكّ رنــا‬ ‫أخـ‬ ‫ّ‬ ‫بمــا قالــه مارتــن لوثــر كينــغ منــذ مــا يزيــد علــى نصــف قرن‪« :‬لقــد قدمنــا على‬ ‫مراكــب مختلفة‪ ،‬لكننــا اليــوم جميعـ ًا علــى نفــس الســفينة»‪ .‬وإذا لــم نترجم‬ ‫هــذه األقــوال إلــى أفعال‪ ،‬فإننــا نجــازف بــأن نجــد أنفســنا علــى متن‪« ‬أميــرة‬ ‫الماس»‪ ،‬وهــو اســم الســفينة التــي اجتاحهــا الوبــاء‪ ■ .‬محمــد مــروان‬


‫يف زمن الجائحة‬ ‫ـار‬ ‫قبلهــا‪ ،‬وال هــو الزمــن الــذي سـ‬ ‫ـيكون َب َ‬ ‫عدهــا‪ ،‬ال فقــط ّ‬ ‫ُ‬ ‫زَمـ ُ‬ ‫ألن انتشـ َ‬ ‫ـن جائحـ ِـة «كورونــا» غـ ُ‬ ‫ـر الزمــن الــذي كان ْ‬ ‫ومراجعـ ٍـة إىل حـ ِّـد الــروع يف الحديــث عــن تحـ ُّـولٍ‬ ‫ـع حد ًثــا‬ ‫كونيــا َو َ‬ ‫ـع كلَّ َشء َم ْوضـ َ‬ ‫ضـ َ‬ ‫الفــروس صنـ َ‬ ‫ـع ُمســاءلة ُ‬ ‫ًّ‬ ‫ـن أعــاد النظـ َـر‬ ‫للبلــدان‪ ،‬ولكــن ً‬ ‫ألن هــذا الزمـ َ‬ ‫أيضــا ّ‬ ‫الحــق يف النظــام االقتصـ ّ‬ ‫ـي ُ‬ ‫ـي ويف النظــام االجتامعـ ّ‬ ‫ـادي العاملـ ّ‬ ‫رجــةً‬ ‫رجــةً‬ ‫إن مــا تر ّتــب عــى‬ ‫واقعيــة فحســب‪ّ .‬‬ ‫يف مفهــوم الحيــاة َ‬ ‫معرفيــة َمكينــة‪ ،‬وليــس ّ‬ ‫جسـ ًـدا ّ‬ ‫جــه عـ ّ‬ ‫بو ْ‬ ‫ـام‪ُ ،‬م ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ظهــور الفــروس وانتشــاره ُيشـك ُ‬ ‫جذريــة يف مفهــوم الحيــاة‪..‬‬ ‫ِّل إعــاد َة نظـ ٍر‬ ‫ّ‬

‫صا َر املر ُء مُرتابًا ال من‬ ‫األشياء وحسب‪ ،‬بل‬ ‫حىت من ذاته وهو‬ ‫يُجاب ُه عد ّوًا ال مَرئ ًّيا‪،‬‬ ‫شاع ًرا‪ ،‬يف اآلن ذاته‪،‬‬ ‫يرتصدُ ه‬ ‫أنّ هذا العد َّو‬ ‫ّ‬ ‫يف ّ‬ ‫أدق تفاصيل حياته‬

‫وتمكيــن‬ ‫فــي ُمقابــل َ‬ ‫العولمــة‪ ،‬التــي َ‬ ‫قامــت علــى إلغــاء ُ‬ ‫الحــدود ْ‬ ‫ـرض‬ ‫ـام‪ ،‬فـ َ‬ ‫َخصيصــة العبــور مــن التحكّ ــم فــي نظــام الحيــاة العـ ّ‬ ‫ـتجد إقامــةَ الحــدود ال َبيــن البلــدان وحســب‪،‬‬ ‫المسـ ّ‬ ‫وبـ ُ‬ ‫ـاء كورونــا ُ‬ ‫المصابيــن‬ ‫مــكان‬ ‫بيــن‬ ‫وحتــى‬ ‫الواحــد‪،‬‬ ‫لــد‬ ‫الب‬ ‫ن‬ ‫ــد‬ ‫م‬ ‫بيــن‬ ‫بــل‬ ‫ُ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ـي الواحــد أو‬ ‫والمدينــة التــي فيهــا ُي َ‬ ‫وجــدون‪ ،‬وبيــن ســكّ ان الحـ ّ‬ ‫الح ْجــر‬ ‫أو‬ ‫اإلرادي‬ ‫ل‬ ‫ز‬ ‫ـ‬ ‫الع‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫يقتضي‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫العمــارة الواحــدة‪َ ،‬وفــق‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ـدودا بيــن الفــرد‬ ‫ـ‬ ‫ح‬ ‫ـروس‬ ‫ـ‬ ‫الفي‬ ‫ض‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـك‪،‬‬ ‫ـي‪ .‬أبْعــد مــن ذلـ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫الطّ بـ ّ‬ ‫ومــي‪،‬‬ ‫الي‬ ‫وذاتــه‪ُ ،‬ملز ًِمــا ّ‬ ‫إيــاه بتغييــر عاداتــه‪ ،‬وقلْــب ُســلوكه َ‬ ‫ّ‬ ‫ـاب‬ ‫ـ‬ ‫الخط‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫عن‬ ‫ـح‬ ‫ـ‬ ‫فص‬ ‫ي‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫نح‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ـده‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫بج‬ ‫ُ‬ ‫وتقويــة شــعوره َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫عبر سلسـ ٍ‬ ‫ـلة من األوامــر والنواهي‪:‬‬ ‫تنبيهاته‬ ‫ـي وهــو ُيواصـ‬ ‫ـلُ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫الطبـ ّ‬ ‫التجمعــات»‪« ،‬ال ُتصافــح»‪« ،‬ال ُتعانــق»‪« ،‬ال تلمــس‬ ‫«اِعتــزل‬ ‫ّ‬ ‫األشــياء ّإل وأنــت ُم ْرتـ ٍ‬ ‫غدت‬ ‫أن الحياة َ‬ ‫ـد ق ّفــازات واقيــة»‪ ..‬كما لــو ّ‬ ‫ـمها الفيــروس‬ ‫الحـ َ‬ ‫هــي االنفصــال واالنغــاق‪ّ .‬‬ ‫ـدود التــي َرسـ َ‬ ‫إن ُ‬ ‫ـدا‪ .‬لقد أعاد‬ ‫ـ‬ ‫أح‬ ‫ـتثني‬ ‫ـ‬ ‫َس‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫ع‬ ‫ّب‬ ‫زلةً‬ ‫ً‬ ‫الصرامــة‪ ،‬وهــي تتطل ُ ُ‬ ‫شــديد ُة ّ‬ ‫ـزم بإدماجهــا‬ ‫للعزلــة َو ْ‬ ‫ـي وألـ َ‬ ‫ـاري َ‬ ‫ض َعهــا االعتبـ ّ‬ ‫الفيــروس ُ‬ ‫المنسـ ّ‬ ‫والتو ُّجــس‬ ‫ـراه‬ ‫ـ‬ ‫باإلك‬ ‫وج‬ ‫ز‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫نح‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ولك‬ ‫ـاة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫الحي‬ ‫فــي نَمــط‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ـقِ‬ ‫ـق فــي‬ ‫ـ‬ ‫الح‬ ‫ـ‬ ‫دالل‬ ‫ألن‬ ‫ـان‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫اإلنس‬ ‫ـوق‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫ح‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫كاس‬ ‫م‬ ‫ـ‬ ‫وتعلي‬ ‫والهلــع‬ ‫ـةَ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫مســت‬ ‫ـدال‬ ‫ـ‬ ‫إب‬ ‫ـهد‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫ـاة‬ ‫ـ‬ ‫الحي‬ ‫َ‬ ‫دالليــا‪ ،‬علــى غــرار اإلبــداالت التــي َّ‬ ‫ًّ‬ ‫ـروس‬ ‫العزلــة‬ ‫الضروريــة‪ ،‬مكّ ـ َ‬ ‫ّ‬ ‫كلَّ شــيء‪ .‬إلــى جانــب هــذه ُ‬ ‫ـن الفيـ ُ‬ ‫صارت‬ ‫قوي فــي كلّ الفضاءات‬ ‫الفــراغَ مــن ُحضــور ٍّ‬ ‫العامــة‪ ،‬التي َ‬ ‫ّ‬ ‫بالخــاء‪ ،‬فغــدا الفــراغُ‬ ‫ـورا دا ّلــة ال‬ ‫واإلغــاق‬ ‫شــبيهةً‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫والح ْجــر أمـ ً‬ ‫اآلخــر‪ ،‬بــل علــى احتــرام ح ِّقــه فــي الحيــاة‪.‬‬ ‫علــى ر ْفــض َ‬ ‫نظامــا َوفقها‪،‬‬ ‫ويفــرض‬ ‫بالحــدود َ‬ ‫ً‬ ‫رغــم هــذا َ‬ ‫ـزم ُ‬ ‫المنحــى الــذي ُيلـ ُ‬ ‫ـص مشــدود ٍة إلــى نتائــج العولمة‪ ،‬وال‬ ‫ـ‬ ‫بخصائ‬ ‫ـروس‬ ‫ـظ الفيـ‬ ‫َيحتفـ ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ـك ســمة‬ ‫الرهيــب وانتشــاره الــذي َيمتلـ ُ‬ ‫ســيما فــي نظــام تكا ُثــره ّ‬ ‫ِ‬ ‫ـتبعد احتمالَ‬ ‫ـ‬ ‫تس‬ ‫ال‬ ‫التي‬ ‫تطويقه‬ ‫عوبة‬ ‫ـي‪ ،‬انطال ًقــا مــن ُص‬ ‫ُ‬ ‫الالنهائـ ّ‬ ‫بناء على رحلته‬ ‫الفيروس‪،‬‬ ‫ـلوك‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ى‬ ‫تبد‬ ‫إذ‬ ‫رعب‪،‬‬ ‫الم‬ ‫ـتحالة‬ ‫االسـ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫َّ ُ‬ ‫ُ‬

‫تحــول‬ ‫نســجما مــع‬ ‫انتشــاره‪ُ ،‬م‬ ‫ســمها‬ ‫ً‬ ‫وعلــى الخريطــة التــي َر َ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫العالــم إلــى قريـ ٍ‬ ‫قادمــا مــن أقصــى‬ ‫ـر َك الفيــروس‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ـة صغيــرة‪ .‬تحـ َّ‬ ‫بسـ ٍ‬ ‫ـرعة تَحمــلُ‬ ‫قبــل أن يتـ َ‬ ‫ـو َّزع فــي ُمختلــف بقــاع العالــم‪ُ ،‬‬ ‫مــكان ْ‬ ‫إيقاع‬ ‫‪.‬‬ ‫واالفتراضي‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الرقم‬ ‫الزمن‬ ‫ـاه‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫أر‬ ‫الذي‬ ‫ـاع‬ ‫ـ‬ ‫اإليق‬ ‫ـص‬ ‫ٌ‬ ‫ْ ُ‬ ‫خصائـ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ـي‪ ،‬فــي‬ ‫ـن َّ‬ ‫ـس الزمـ َ‬ ‫يبــدو كمــا لــو ّ‬ ‫المحمـ َ‬ ‫أن تناميــه َ‬ ‫ـوم ُينافـ ُ‬ ‫الضوئـ َّ‬ ‫الصــوت‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـس‬ ‫ـ‬ ‫ناف‬ ‫ت‬ ‫ـخ‬ ‫ـ‬ ‫الصواري‬ ‫‪/‬‬ ‫ـلحة‬ ‫ـ‬ ‫األس‬ ‫ـه‬ ‫ـدت فيـ‬ ‫ـرعةَ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫صــر غـ َ‬ ‫َّ‬ ‫َع ْ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ق‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫وتتف‬ ‫ـب على‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫تر‬ ‫م‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫للجائح‬ ‫ـوم‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫الي‬ ‫‪،‬‬ ‫ـازم‬ ‫ـ‬ ‫الم‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫فالر‬ ‫ـا‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫عليه‬ ‫ّ ُ‬ ‫ُ ّ ٌ‬ ‫ُّ ُ ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫ـ‬ ‫نتش‬ ‫ي‬ ‫ـروس‬ ‫ـ‬ ‫الفي‬ ‫كــون‬ ‫وعبر كلّ‬ ‫َ‬ ‫ـر ِمــن كُ لّ شــيء‪ ،‬وفي كلّ شــيء‪ْ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫مكن‬ ‫الم‬ ‫هو‬ ‫الذي‬ ‫ـار‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫االنتش‬ ‫إبطاء‬ ‫أن‬ ‫كما‬ ‫خيف‪.‬‬ ‫م‬ ‫بإيقاع‬ ‫ـيء‪،‬‬ ‫شـ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫بصــور ٍة‬ ‫ّــب‬ ‫ل‬ ‫تط‬ ‫م‬ ‫للفيــروس‪،‬‬ ‫ي‬ ‫التصــد‬ ‫فــي‬ ‫اآلن‪،‬‬ ‫لحــد‬ ‫تــاح‪،‬‬ ‫الم‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ٌ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫اقتصاديــا‬ ‫ـب علــى هــذا اإلبطــاء‬ ‫ًّ‬ ‫قريبــة مــن اإلعجــاز‪ِ ،‬لمــا يتر ّتـ ُ‬ ‫لمكاســب‬ ‫طب ّية‪ ،‬وتعليقٍ َ‬ ‫ًّ‬ ‫واجتماعيــا‪ ،‬و ِلمــا َيقتضيه ِمن تجهيزات ّ‬ ‫ُحقــوق اإلنســان‪ ،‬وقلـ ٍ‬ ‫الفرد قد‬ ‫نظام الحيــاة ذاتها‪ ،‬مــادام‬ ‫ـب فــي‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ومالبســه‪ ،‬وحذائه‪،‬‬ ‫غــدا‪ ،‬فــي َزمــن كورونــا‪ُ ،‬م ً‬ ‫رتابا فــي أعضائــه‪َ ،‬‬ ‫تهجــى‪ ،‬إلــى‬ ‫واحتكاكاتــه‪ ،‬وفــي الهــواء الــذي َيستنشـ ُ‬ ‫ـقه‪ ،‬وهــو َي ّ‬ ‫ـم َضوابطَ هــا وقواعدها‪.‬‬ ‫جانــب ذلــك ك ّلــه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أبجديــةَ ُ‬ ‫العزلــة ويتع َّلـ ُ‬ ‫ـعر كمــا‬ ‫ـ‬ ‫يش‬ ‫ـار‬ ‫ـ‬ ‫ص‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫حت‬ ‫ـان‬ ‫ـ‬ ‫اإلنس‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ة‬ ‫ـأ‬ ‫ـ‬ ‫فج‬ ‫ـر‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫لقــد التبـ َ‬ ‫ُ‬ ‫ـس األمـ ُ‬ ‫ـخصيةٍ‬ ‫ور شـ‬ ‫ـه ُيـ ّ‬ ‫لــو أ ّنـ ُ‬ ‫ـي‪َ ،‬د َ‬ ‫ّ‬ ‫ـؤدي‪ ،‬دون إرادتــه ودون اســتعداد ْ‬ ‫قبلـ ٍّ‬ ‫ـم مــن أفــام الخيــال‬ ‫ـات‬ ‫ـ‬ ‫رواي‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫رواي‬ ‫فــي‬ ‫الرعــب‪ ،‬أو فــي فيلـ ٍ‬ ‫ّ‬ ‫العلمي ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ـوع ُشــبهة‪.‬‬ ‫ـار موضـ َ‬ ‫المسـ ّ‬ ‫ـتجد‪ ،‬كلُّ شــيء صـ َ‬ ‫فــي زمــن كورونــا ُ‬ ‫أي‬ ‫توسـ َ‬ ‫ـس االرتيــاب علــى نحــو لــم َي ُعــد َيســتثني َّ‬ ‫لقــد ّ‬ ‫ـع هاجـ ُ‬ ‫وضــوع‬ ‫م‬ ‫ــد‬ ‫يع‬ ‫لــم‬ ‫بذاتــه‪.‬‬ ‫الفــرد‬ ‫عالقــة‬ ‫ذلــك‬ ‫فــي‬ ‫بمــا‬ ‫شــيء‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫صار‬ ‫ـتباه‬ ‫االشــتباه‬ ‫خارجيــا‪ ،‬بــل غــدا االشـ ُ‬ ‫ً‬ ‫إحساســا ُتجاه الــذات‪َ .‬‬ ‫ًّ‬ ‫رتابــا ال مــن األشــياء وحســب‪ ،‬بــل حتــى مــن ذاتــه وهــو‬ ‫ـرء ُم ً‬ ‫المـ ُ‬ ‫العــدو‬ ‫هــذا‬ ‫أن‬ ‫ذاتــه‪،‬‬ ‫اآلن‬ ‫فــي‬ ‫ا‪،‬‬ ‫شــاعر‬ ‫ــا‪،‬‬ ‫رئي‬ ‫م‬ ‫ال‬ ‫ا‬ ‫عــدو‬ ‫جابــه‬ ‫ُي‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫َ ًّ‬ ‫ـأن ُيفكّ ــر‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ـرد‬ ‫ـ‬ ‫الف‬ ‫ـزم‬ ‫ـ‬ ‫أل‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫ص‬ ‫َر‬ ‫ت‬ ‫ـه‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫حيات‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫تفاصي‬ ‫أدق‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ه‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫يترص‬ ‫ّ‬ ‫َ ُّ ٌ‬ ‫ّ ُ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪27‬‬


‫ـرض‬ ‫ـر فيــه وانطال ًقــا منــه؛ فـ ُّ‬ ‫ـأي عـ َ‬ ‫علــى امتــداد َيومــه‪ ،‬بالفيــروس‪ ،‬وأن يفكّ ـ َ‬ ‫ـر ُه ب َتوجيـ ٍ‬ ‫ستشـ ِ‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫فس‬ ‫وي‬ ‫إل‬ ‫‪،‬‬ ‫ـتجد‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫الم‬ ‫ـا‬ ‫ـي َي‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ره الفـ ُ‬ ‫ـع ُ‬ ‫ـرد‪ ،‬فــي زمــن كورونـ ُ‬ ‫ُ ّ ُ‬ ‫َمرضـ ّ‬ ‫ـالِ‬ ‫ـرض‬ ‫ـ‬ ‫اس‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫ـروس‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫بالفي‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫اإلصاب‬ ‫ـ‬ ‫احتم‬ ‫مــن‬ ‫ـتيهامات هــذا ال ّزمــن‪ ،‬الــذي فـ َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫وأوهامــا‬ ‫أيضــا خيــال وتوقّعــات‬ ‫ـتنبت ً‬ ‫ال نمــط حيــاة جديــدة وحســب‪ ،‬بــل اسـ َ‬ ‫ً‬ ‫ـزءا من الحياة‪،‬‬ ‫على‬ ‫ـو ًدا‬ ‫وهلعــا‪ .‬كمــا بــدأ‬ ‫وهلوســات‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫جعل الهلع ُجـ ً‬ ‫يفرض تعـ ُّ‬ ‫ْ‬ ‫أن احتمــالَ اإلصابــة‬ ‫ـك‬ ‫ـ‬ ‫ذل‬ ‫ـاهده‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫ومش‬ ‫ره‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫وص‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫الر‬ ‫ـاب‬ ‫ـ‬ ‫خط‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫بالتعايــش‬ ‫ّ‬ ‫ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫بالفيــروس ليــس ُمرتبطً ــا‪ ،‬فــي هــذه الجائحــة‪ ،‬بالغَ يــر‪ ،‬بــل بالذات نفْســها‪ .‬ال‬ ‫ً‬ ‫حامل‬ ‫ـه‬ ‫ـر َ‬ ‫يتع َّلـ ُ‬ ‫ـرد ذاتـ ُ‬ ‫أن يكــون الفـ ُ‬ ‫بخطــر العــدوى مــن الغَ يــر‪ ،‬بــل مــن ْ‬ ‫ـق األمـ ُ‬ ‫عر ًضا لها‪ .‬كلُّ َشــخص‪ ،‬بل كلُّ‬ ‫م‬ ‫ـط‬ ‫ـ‬ ‫فق‬ ‫وليس‬ ‫ـدوى‬ ‫ـ‬ ‫للع‬ ‫ا‬ ‫ـدر‬ ‫ـ‬ ‫مص‬ ‫أي‬ ‫ـروس‪،‬‬ ‫للفيـ‬ ‫ً‬ ‫ُ َّ‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫صح‬ ‫ـت‬ ‫ـ‬ ‫َثب‬ ‫ت‬ ‫أن‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫إل‬ ‫ـروس‬ ‫ـ‬ ‫بالفي‬ ‫ـاب‬ ‫ـ‬ ‫ص‬ ‫م‬ ‫‪،‬‬ ‫ـتجد‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫الم‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫كورون‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ز‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـيء‪،‬‬ ‫شـ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ّ ُ ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ّ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ـد أمام‬ ‫ـه َيبقى ًّ‬ ‫ـن هــذا اإلثبـ َ‬ ‫صمـ َ‬ ‫ـات ذا َتـ ُ‬ ‫وســام ُته‪ ،‬لكـ ّ‬ ‫ـر قادر علــى ْ‬ ‫أن َي ُ‬ ‫هشــا‪ ،‬غيـ َ‬ ‫ـع با ّتســاع انتشــار الفيــروس‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ت‬ ‫ي‬ ‫ـذي‬ ‫ـ‬ ‫ال‬ ‫ـول‬ ‫ـ‬ ‫جه‬ ‫الم‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫وم‬ ‫ـي‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫اآلت‬ ‫الرعــب مــن‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ـلٍ‬ ‫ـي‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫حتم‬ ‫ر‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫لق‬ ‫ـ‬ ‫تأجي‬ ‫ـوى‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـت‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫لي‬ ‫ـاء‬ ‫ـ‬ ‫الوب‬ ‫ـذا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ـك‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫ف‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ة‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫النج‬ ‫أن‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫كم‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ـم‬ ‫وهــذا أحـ ُ‬ ‫تو َّلــد لــدى اإلنســان‪َ ،‬ب ْعــد ْ‬ ‫الرعــب الــذي َ‬ ‫أن تأكّ ــد العا َلـ ُ‬ ‫ـد عوامــل ّ‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫حاض‬ ‫ـت‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫وج‬ ‫األرض‪،‬‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫كوك‬ ‫ـت‬ ‫ـ‬ ‫أصاب‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫غريب‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫بجائح‬ ‫ـق‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫يتع‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫األم‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫مــن ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫أن ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ـتقبل البلــدان التــي مــازال‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫لم‬ ‫ا‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫جس‬ ‫م‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫العا‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ا‬ ‫ر‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫تض‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫األكث‬ ‫ـدان‬ ‫البلـ‬ ‫ُّ ً‬ ‫ُ ِّ ً ُ‬ ‫َ‬ ‫درجــةَ‬ ‫ـاء َيزحـ ُ‬ ‫ـم ْ‬ ‫ت البلـ ُ‬ ‫ـدان َ‬ ‫ـف فيهــا بإيقــاع أبطــأ‪ .‬فالمراحــل التــي بهــا َرسـ َ‬ ‫الوبـ ُ‬ ‫خاضعــا ل ُنمــو هذا الفيــروس‪ ،‬الذي‬ ‫ـار‬ ‫ـ‬ ‫ص‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫الزم‬ ‫أن‬ ‫ت‬ ‫ـ‬ ‫كش‬ ‫ـروس‬ ‫ـ‬ ‫الفي‬ ‫ـار‬ ‫انتشـ‬ ‫ـفَ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫تحكِّ‬ ‫جديدا‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ز‬ ‫ـوغ‬ ‫ـ‬ ‫ص‬ ‫ي‬ ‫ال‬ ‫ـتجد‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫الم‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫كورون‬ ‫إن‬ ‫ـن‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ز‬ ‫ال‬ ‫ـيم‬ ‫ـ‬ ‫تقس‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫غــدا ُ‬ ‫ـرا‬ ‫وحســب‪ ،‬بــل َيفـ ُ‬ ‫المسـ ّ‬ ‫ـرض عالقــةً جديــد ًة بالمــكان‪ ،‬أي ّ‬ ‫أن لكورونــا ُ‬ ‫ـتجد أثـ ً‬ ‫ـور ال ّزمــن والمــكان‪ ،‬وفــي إعــادة ترتيــب العالقــة معهمــا‪ ،‬أي‬ ‫حاسـ ً‬ ‫ـما فــي تصـ ُّ‬ ‫ٍ‬ ‫ـام‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫ج‬ ‫بو‬ ‫ـخ‬ ‫ـ‬ ‫التاري‬ ‫ـز‬ ‫ـ‬ ‫رتك‬ ‫وم‬ ‫ـاة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫الحي‬ ‫ـز‬ ‫ـ‬ ‫رتك‬ ‫م‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ي‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ا‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫أث‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ ُّ ُ‬ ‫أن لــه ً‬ ‫ترتيب‬ ‫ـه‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫غيان‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫وو‬ ‫ـان‬ ‫ـ‬ ‫اإلنس‬ ‫ـ‬ ‫هشاش‬ ‫ـف‬ ‫ـ‬ ‫كش‬ ‫أن‬ ‫عد‬ ‫ب‬ ‫ـروس‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫الفي‬ ‫ـاد‬ ‫لقــد أعـ‬ ‫َ ْ َ طُ‬ ‫َ‬ ‫ـةَ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫عالقـ ِ‬ ‫وباليومــي‪ ،‬وغــدا نمـ َ‬ ‫ـرد‬ ‫ـة الفــرد باألشــياء‬ ‫َ‬ ‫ـط حيــاة‪ ،‬أل ّنــه لــم َيبــق ُمجـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫وميــة‬ ‫أمــر َ‬ ‫ـار ُم ِّ‬ ‫بع ْينــه‪ ،‬بــل صـ َ‬ ‫هاجــس مقصــور علــى ْ‬ ‫وج ًهــا لــكلّ الســلوكات َ‬ ‫الي ّ‬ ‫وأس االنشــغال فــي كلِّ‬ ‫َ‬ ‫ـرء فــي كلّ مــا ُيقْبــل عليه‬ ‫ـ‬ ‫الم‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ـم؛‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫العا‬ ‫ـاع‬ ‫ـ‬ ‫بق‬ ‫َّ‬ ‫ُفكّ ُ َ ُ‬

‫‪28‬‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫دث‬ ‫أح َ‬ ‫ؤسسـ ُ‬ ‫ـات والدول فــي الحاضر واآلتي‪ْ ،‬‬ ‫بعــد أن ْ‬ ‫الم ّ‬ ‫فــي َيومــه‪ ،‬وبــه تُفكّ ُر ُ‬ ‫ـوال فــي نَمــط الحيــاة وفــي نَمــط التعامــل مــع ال ّزمــن والمــكان‪ .‬ضمــن هذا‬ ‫تحـ ُّ‬ ‫ـالَ‬ ‫البعــد‪،‬‬ ‫ـوم‬ ‫ـ‬ ‫لمفه‬ ‫ـار‬ ‫ـ‬ ‫االعتب‬ ‫ـروس‬ ‫ـ‬ ‫الفي‬ ‫ـاد‬ ‫ـ‬ ‫أع‬ ‫ـاة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫الحي‬ ‫ـط‬ ‫ـ‬ ‫نم‬ ‫ـ‬ ‫ط‬ ‫ـذي‬ ‫ـ‬ ‫ال‬ ‫ل‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫التح‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ـي للمــكان‬ ‫ـ‬ ‫االفتراض‬ ‫ـوم‬ ‫ـ‬ ‫المفه‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫ث‬ ‫أحد‬ ‫ـذي‬ ‫ـ‬ ‫ال‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫الق‬ ‫ـذ‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫تغي‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫كان‬ ‫الــذي‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـاق إلــى إبطـ ِ‬ ‫ـرب‬ ‫والزمــن‪ .‬فــي المســعى الشـ ّ‬ ‫ـاء انتشــار َ‬ ‫الوبــاء‪ ،‬لــم َي ُعــد القـ ُ‬ ‫ـرا مقبـ ً‬ ‫ـان ُيفكّ ُك‬ ‫فارقــة‪ ،‬مــا كان اإلنسـ ُ‬ ‫ـول وال ُمستســاغً ا‪ ،‬وهــو‪ِ ،‬لل ُْم َ‬ ‫ـي أمـ ً‬ ‫الفعلـ ُّ‬ ‫َ‬ ‫ـرب بيــن النــاس‬ ‫ـ‬ ‫ـت‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫جع‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫نب‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫عندم‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫وئ‬ ‫ض‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫التقني‬ ‫ة‬ ‫خطــور‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ َ‬ ‫القُ َ‬ ‫تتم‪،‬‬ ‫ُمفت ِقـ ً‬ ‫ـر الحياة والتصـ ّ‬ ‫ـدي للجائحة أمـ ً‬ ‫ـدا للقُ ــرب‪ .‬صـ َ‬ ‫ـورا ُّ‬ ‫ـار التواصــلُ وتدبيـ ُ‬ ‫ـف الحاجــة إلــى التقنيــة‪ ،‬وأبــر َز‬ ‫فــي زمــن كورونــا‪ ،‬مــن ُبعــد‪ ،‬علــى نحــو كشـ َ‬ ‫ِ‬ ‫ـن إمــكانٍ فــي إنجــاز‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫تيح‬ ‫ت‬ ‫ـا‬ ‫ـه َ‬ ‫الوجـ َ‬ ‫ـاني‪ِ ،‬لمـ ُ ُ ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫اآلخـ َ‬ ‫ـر لآللــة‪ ،‬أي َو ْجههــا اإلنسـ ّ‬ ‫ِ‬ ‫ـي‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫قم‬ ‫الر‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ز‬ ‫ال‬ ‫ـاع‬ ‫ـ‬ ‫إيق‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ضاه‬ ‫ي‬ ‫ـاع‬ ‫ـ‬ ‫بإيق‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫تكاث‬ ‫الم‬ ‫ـاء‬ ‫ـ‬ ‫الوب‬ ‫ـذا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ـاء‬ ‫ـ‬ ‫إبط‬ ‫ـاء؛‬ ‫ـ‬ ‫ط‬ ‫اإلب‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫المح ِّقــق لإلبطــاء‪ ،‬كمــا لــو‬ ‫فاآللــة‪ ،‬بهــذا َ‬ ‫الب ْعــد ُ‬ ‫المعنــى‪ ،‬تعمــلُ علــى تأميــن ُ‬ ‫ممــا‬ ‫ـرعة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫الس‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫عال‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ـذي‬ ‫ـ‬ ‫ال‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫َمه‬ ‫ل‬ ‫عا‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫وض‬ ‫ـا‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫نطقه‬ ‫م‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫ض‬ ‫أن اآللــة تشــتغلُ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ ّ‬ ‫ٍ‬ ‫صار‬ ‫كشـ َ‬ ‫ـف عــن َوجــه ُمغايــر َ‬ ‫بالســرعة هــي مــا َ‬ ‫لحقيقتهــا‪ .‬فاآللــة المهووســة ّ‬ ‫ـه الفيــروس ال فــي‬ ‫أح َدثـ ُ‬ ‫ـهم فــي اإلبطــاء‪ .‬إ ّنــه أحـ ُ‬ ‫ـد مظاهــر الق ْلــب الــذي ْ‬ ‫سـ ُ‬ ‫ُي ْ‬ ‫ـور العديــد مــن األشــياء‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫تص‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫أيض‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ـع‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫والوقائ‬ ‫ـلوكات‬ ‫ـ‬ ‫الس‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫العدي‬ ‫ً‬ ‫ُّ‬ ‫ـة إلــى التقنيــة‪ ،‬وهــي حاجــةٌ َتنطَ ــوي علــى‬ ‫ـدت الحاجـ ُ‬ ‫بانتشــار الفيــروس‪ ،‬تبـ َّ‬ ‫العزلــة والتقنيــة‪ ،‬إذ أخذَ ت‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫بي‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫العالق‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫ترتي‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫عي‬ ‫أولهمــا أ ّنهــا ُت‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َم َ‬ ‫ُ‬ ‫حيــن؛ ّ‬ ‫لم ْ‬ ‫س مع غــزو التقنية للحيــاة الحديثة‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫تك‬ ‫ـذي‬ ‫ـ‬ ‫ال‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫غي‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫آخ‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ج‬ ‫تو‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫العالق‬ ‫ـذه‬ ‫هـ‬ ‫َ‬ ‫َ ُّ ً‬ ‫ّ َ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫نمــط حيــاةٍ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ســتجد‬ ‫الم‬ ‫وتحولهــا إلــى نمــط ُوجــود‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫خلــق فيــروس كورونــا ُ‬ ‫التقنيــة فــي تأميــن اال ّتصــال‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ت‬ ‫أتاح‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الت‬ ‫ـات‬ ‫ـ‬ ‫اإلمكان‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ا‬ ‫ـتفيد‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫م‬ ‫ـر‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ً‬ ‫آخـ ُ‬ ‫ّ‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫المكان‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫الب‬ ‫أن‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫كم‬ ‫‪،‬‬ ‫ـاني‬ ‫ـ‬ ‫اإلنس‬ ‫فء‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫ال‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ـاظ‬ ‫ـ‬ ‫الحف‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫وف‬ ‫ـد‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫ـن‬ ‫ِّ‬ ‫ّ ُ ْ َ‬ ‫ِمـ ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ـراري لــم َيكُ ن‬ ‫ـ‬ ‫اضط‬ ‫فء‬ ‫د‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫اآلل‬ ‫ـرود‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ـا‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫كورون‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫زم‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـروض‪،‬‬ ‫المفـ‬ ‫مكّ َ ُ َ‬ ‫ٍّ‬ ‫الم َو َّجــه إلــى التقنيــة‬ ‫ـح الثانــي هــو ّ‬ ‫مــن انشــغاالتها‪َ .‬‬ ‫أن النقــد الفكـ ّ‬ ‫الملمـ ُ‬ ‫ـري‪ُ ،‬‬ ‫ور الــذي تضط ِل ُع‬ ‫الد‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫نس‬ ‫ي‬ ‫أن‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ك‬ ‫م‬ ‫ي‬ ‫ال‬ ‫‪،‬‬ ‫ـاني‬ ‫ـ‬ ‫اإلنس‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫إجهازه‬ ‫وإلــى مظهــر‬ ‫ُ ْ ُ ْ َ‬ ‫َّ َ‬ ‫ّ‬ ‫ـدى مــن تأميــن تدبيــر َمرافــق‬ ‫ـ‬ ‫تب‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫وه‬ ‫ـا‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫لكورون‬ ‫ي‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫التص‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫بــه فــي تأمي‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬


‫ـي فــي‬ ‫ؤد َيــه الـ‬ ‫الحيــاة ِمــن ُبعــد‪ ،‬ومــن الــدور الــذي ُي ْمكــن أن ُي ّ‬ ‫ُ‬ ‫ـذَّكاء االصطناعـ ّ‬ ‫االستشــفاء مــن فيــروس ينتقلُ من اإلنســان إلى اإلنســان‪ ،‬لك ّنــه ال َينتقلُ على‬ ‫االصطناعي‬ ‫كلّ حــال بيــن اإلنســان وداخــل اآللــة‪ /‬الروبــو‪ ،‬التي َيظــلّ ذكاؤُهــا‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ـم‬ ‫خارجهــا‪.‬‬ ‫رمج ُتهــا علــى تعقيـ ِ‬ ‫تمــت َب َ‬ ‫َمصو ًنــا متــى َّ‬ ‫ـن جائحـ ِ‬ ‫قبلهــا‪ ،‬وال هــو الزمــن الــذي‬ ‫كان‬ ‫ـذي‬ ‫ـ‬ ‫ال‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫الزم‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫غي‬ ‫ـا»‬ ‫ـ‬ ‫«كورون‬ ‫ـة‬ ‫َزمـ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ـع كلَّ‬ ‫ـ‬ ‫ض‬ ‫و‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫كوني‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ث‬ ‫حد‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫صن‬ ‫ـروس‬ ‫ـ‬ ‫الفي‬ ‫ـار‬ ‫ـ‬ ‫انتش‬ ‫ألن‬ ‫ـط‬ ‫ـ‬ ‫فق‬ ‫ال‬ ‫ـا‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫عد‬ ‫ب‬ ‫ـيكون‬ ‫سـ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ َ‬ ‫ّ‬ ‫ًّ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫ـولٍ‬ ‫ومراجعــة إلــى حـ ّ‬ ‫َشــيء َم ْوضـ َ‬ ‫ـد الشــروع فــي الحديــث عــن تحـ ُّ‬ ‫ـع ُمســاءلة ُ‬ ‫للبلدان‪ ،‬ولكن‬ ‫االجتماعي‬ ‫ـام‬ ‫ـ‬ ‫النظ‬ ‫وفي‬ ‫العالمي‬ ‫االقتصادي‬ ‫النظام‬ ‫الحــق فــي‬ ‫ّ‬ ‫ّ ُ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ـدا‬ ‫ـ‬ ‫جس‬ ‫م‬ ‫‪،‬‬ ‫ـام‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫ج‬ ‫بو‬ ‫ـاة‬ ‫ـ‬ ‫الحي‬ ‫ـوم‬ ‫ـ‬ ‫مفه‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫النظ‬ ‫ـاد‬ ‫ـ‬ ‫أع‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫الزم‬ ‫ـذا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ألن‬ ‫ً‬ ‫ّ ُ ِّ ً‬ ‫َ‬ ‫أيضــا ّ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫إن مــا تر ّتــب علــى ظهــور‬ ‫ـب‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫فحس‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫واقعي‬ ‫ـ‬ ‫رج‬ ‫ـس‬ ‫ـ‬ ‫ولي‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫كين‬ ‫م‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫معرفي‬ ‫ـ‬ ‫ّ ـةً‬ ‫رجـةً‬ ‫ّ‬ ‫ّ َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـكِّ‬ ‫جذريــة في مفهــوم الحياة‪ ،‬بمــا َم َن َح ُه‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫نظ‬ ‫ة‬ ‫ـاد‬ ‫ـ‬ ‫إع‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫ي‬ ‫ـاره‬ ‫ـ‬ ‫وانتش‬ ‫ـروس‬ ‫ـ‬ ‫الفي‬ ‫لُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫مــن فسـ ٍ‬ ‫للتأمــل في هذا‬ ‫التو ُّجــس والقلــق واالرتيــاب‪،‬‬ ‫ـحة‪ ،‬غيـ ِر ُمنفصلــة عــن َ‬ ‫ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ص‬ ‫ـادة‬ ‫ـ‬ ‫وإع‬ ‫المفهــوم‬ ‫الح ُجب عــن الحيــاة‪ ،‬أي رف ِْعها‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ر‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ص‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫بالح‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫وغ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ويختفــي‪ .‬لقــد كانــت الحيــا ُة‬ ‫عمــا ال ينفـ ّ‬ ‫ـب فيهــا َ‬ ‫ـك ينــأى فــي الحيــاة‪ُ ،‬‬ ‫وي ْح َجـ ُ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫باســم‬ ‫ـها‬ ‫ـ‬ ‫ْس‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ـاد‬ ‫ـ‬ ‫االبتع‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـرع‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ت‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ـف‬ ‫ـ‬ ‫تكش‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫كورون‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫قب‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫حت‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫وجـ ٍ‬ ‫ـولُ البالهــة والتفاهــة‬ ‫ـه َ‬ ‫ـور والتقـ ُّ‬ ‫آخــر للحيــاة َيبنيــه تحـ ُّ‬ ‫التطـ ُّ‬ ‫باســم ْ‬ ‫ـدم‪ ،‬أي ْ‬ ‫ـأي الحيــا ِة عــن َنفْســها ُصــور َة بداهــةٍ‬ ‫والجشــع إلــى أمــو ٍر َ‬ ‫ـس نـ ُ‬ ‫هيــة‪ .‬وقــد لَبـ َ‬ ‫بد ّ‬ ‫لٍ‬ ‫ـح الجائحــة‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ت‬ ‫أن‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫قب‬ ‫ـدة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫عدي‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫بس‬ ‫ـان‬ ‫ـ‬ ‫اإلنس‬ ‫ـش‬ ‫ـ‬ ‫ح‬ ‫تو‬ ‫ال تكُ ـ ُّ‬ ‫ـف عــن تسـ ِ‬ ‫ُ‬ ‫ـويغ َ ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫طغيا‬ ‫ـف‬ ‫ـ‬ ‫تكش‬ ‫أن‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫الطبيع‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـان‬ ‫ـ‬ ‫اإلنس‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫عالق‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫ترتي‬ ‫ـادة‬ ‫ـ‬ ‫إع‬ ‫علــى‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫جاهها‪ ،‬وعلــى إعــادة ترتيب عالقة‬ ‫ـه حقيقــةَ هشاشــته ُت َ‬ ‫ـب عنـ ُ‬ ‫عليهــا‪ ،‬بمــا حجـ َ‬ ‫اإلنســان ب َنفســه‪ ،‬وعالقـ ِ‬ ‫ـة اإلنســان باإلنســان‪.‬‬ ‫أن غريــز َة البقــاء‬ ‫لقــد كشـ َ‬ ‫ـف َزمــن كورونــا‪ ،‬علــى األقــلّ مــن مظاهــره األولــى‪ّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫ضــع‬ ‫الو‬ ‫مــن‬ ‫بهــا‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫تنتق‬ ‫أن‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ك‬ ‫م‬ ‫ي‬ ‫التــي‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫القي‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫تخترقه‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ـان‬ ‫ـ‬ ‫اإلنس‬ ‫لــدى‬ ‫َ ْ‬ ‫ُ ْ ُ ْ‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫غيــر‬ ‫أن غريــز َة البقــاء‬ ‫حبــة الحيــاة‪ .‬ذلــك ّ‬ ‫الر ْحــب َ‬ ‫ّ‬ ‫لم ّ‬ ‫الغريــزي إلــى األفــق ّ‬ ‫ُ‬ ‫محبــة الحيــاة قيمــةٌ ترتك ـ ُز علــى تقديــر الــذات للغَ يــر‪،‬‬ ‫ألن‬ ‫ـاة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫الحي‬ ‫محبــة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـهدتها‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الت‬ ‫ـاع‬ ‫ـ‬ ‫فاألوض‬ ‫‪.‬‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الثقاف‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫نح‬ ‫ـزي‬ ‫ـ‬ ‫الغري‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـذات‬ ‫ـ‬ ‫ال‬ ‫ـروج‬ ‫ـ‬ ‫خ‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫وعل‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ـابق المحمــوم للظفَ ــر‬ ‫ـات‬ ‫المحـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫التجاريــة فــي ُمختلــف بقــاع العالــم‪ ،‬والتسـ ُ‬ ‫الغذائيــة وغيرهــا‪ ،‬وظهــور ُت ّجــار الحــروب واألوبئــة واألزمــات‪ ،‬أي‬ ‫بالمــواد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫شــرية‬ ‫الب‬ ‫تفــر َج‪ ،‬علــى‬ ‫المــوت‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫ُت ّجــار َ‬ ‫ّ‬ ‫حقيقــة الــذات َ‬ ‫أتاحــت لإلنســان أن َي َّ‬

‫ـلٍ‬ ‫ـزي‪،‬‬ ‫ـي‪ ،‬بإبْعــاده عــن الغريـ ِّ‬ ‫التــي لــم تســتطع ْ‬ ‫أن ترقــى َ‬ ‫بالبقــاء إلــى فعـ قيمـ ّ‬ ‫ِ‬ ‫ـه‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫فداح‬ ‫ت‬ ‫ـ‬ ‫تكش‬ ‫ـار‬ ‫ـ‬ ‫نهي‬ ‫ا‬ ‫ـم‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫للقي‬ ‫ـادح‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـار‬ ‫ـ‬ ‫انهي‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ـهد‬ ‫ـفَ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ـت لــه أن يشـ َ‬ ‫ُ‬ ‫وأتاحـ ْ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫أول‬ ‫التــي كانــت‬ ‫ـم ُ‬ ‫ُ‬ ‫قبــل كورونــا‪ ،‬مــع ّ‬ ‫مالمحهــا ترتسـ ُ‬ ‫بصــورة ُمخيفــة حتــى ْ‬ ‫وخطرهــا‪،‬‬ ‫ها‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫اس‬ ‫كان‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫أي‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫الجائح‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫زم‬ ‫أن‬ ‫ـال‬ ‫ـ‬ ‫والح‬ ‫ـوت‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫الم‬ ‫ـاه‬ ‫امتحــان ُتجـ‬ ‫ّ‬ ‫ًّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ضاعـ ٍ‬ ‫ـف‬ ‫م‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫تعقي‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫الب‬ ‫ـم‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫القي‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫العالق‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫ترتي‬ ‫ـادة‬ ‫ـ‬ ‫إلع‬ ‫هــو لحظــة‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ٍ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫صيبــت فــي‬ ‫َيمتـ ّ‬ ‫ـروح وأ َ‬ ‫ـد مــن َجســد اإلنســان إلــى ُروحــه‪ .‬كلّمــا اهتــرأت الـ ّ‬ ‫خرابــا‪ ،‬يبقــى كلُّ تعقيــم وتطهيــر عاجزيْــن عــن‬ ‫ـارت‬ ‫ـ‬ ‫وص‬ ‫ـاني‬ ‫ـ‬ ‫اإلنس‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫وهره‬ ‫َج‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫المــوت‬ ‫َصــون المعنــى َ‬ ‫اآلخــر للحيــاة مــن الوبــاء‪ ،‬المعنــى الــذي ال ُيقابــل َ‬ ‫مفهــوم‬ ‫اليــوم‪،‬‬ ‫‪،‬‬ ‫د‬ ‫هــد‬ ‫ي‬ ‫أن‬ ‫كــن‬ ‫م‬ ‫ي‬ ‫الــذي‬ ‫االجتماعــي‬ ‫االنهيــار‬ ‫إن‬ ‫ّ‬ ‫ُ ِّ َ‬ ‫بالضــرورة‪ّ .‬‬ ‫ُ ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ـادم مــن‬ ‫ـع‬ ‫ويهـ ّ‬ ‫واقعيــا قـ ٌ‬ ‫المجتمــع ُ‬ ‫ـوم المجتمـ ُ‬ ‫ـس التــي عليهــا يقـ ُ‬ ‫األسـ َ‬ ‫ـد َد ُ‬ ‫ًّ‬ ‫ـن حاجـ ٍ‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫وزم‬ ‫ـم‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫قي‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ز‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫صف‬ ‫بو‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫الجائح‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ز‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫القي‬ ‫ـار‬ ‫ـ‬ ‫ُخطــورة انهي‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫حبـ ِ‬ ‫ـة الحيــاة‪ ،‬علــى نحــو مــا‬ ‫م‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫زم‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫فه‬ ‫ـك‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫كذل‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫وبم‬ ‫ـم‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫القي‬ ‫ُم ّ‬ ‫لحــة إلــى َ‬ ‫َ ّ‬ ‫المــرح واألمــل‪ ،‬ومــن‬ ‫ـدى‪ ،‬فــي َمشـ َ‬ ‫تبـ َّ‬ ‫ـاهد عديــدة مــن بقــاع العا َلــم‪ِ ،‬مــن ُروح َ‬ ‫ـول إلــى‬ ‫ـ‬ ‫تتح‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫الهشاش‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ا‬ ‫ـار‬ ‫ـ‬ ‫وانتص‬ ‫ة‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ت‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الت‬ ‫ة‬ ‫ـخري‬ ‫ـ‬ ‫الس‬ ‫روح‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ ّ‬ ‫ْ‬ ‫ـور أو اســتخفاف بالجائحــة أو قـ ٍ‬ ‫ـذف بهــا فــي متاهة الخرافة والهلوســات‪ .‬ال‬ ‫تهـ ُّ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫برؤيــة للحيــاة‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫‪،‬‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫أخالق‬ ‫ـاب‬ ‫ـ‬ ‫بخط‬ ‫ـياق‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫الس‬ ‫ـذا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـا‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫إطال‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫األم‬ ‫ـق‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫يتع‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫باآلخــر‪.‬‬ ‫توقّفً ــا علــى ُن ْبــل العالقــة‬ ‫حب َتهــا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫وتمجيدهــا والفـ َ‬ ‫ـرح بهــا ُم َ‬ ‫تجعــلُ َم ّ‬ ‫ـد إلــى العالقــة بيــن النــاس ليــس‬ ‫ـ‬ ‫وامت‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫الجائح‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫ض‬ ‫فر‬ ‫ـذي‬ ‫ـ‬ ‫ال‬ ‫ـال‪،‬‬ ‫فاالنفصـ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫تأمــل لمفهــوم العالقــة ولمفهــوم الحيــاة‪ ،‬مادامــت الحيــاة‪ ،‬في‬ ‫ة‬ ‫ـاد‬ ‫ـ‬ ‫ســوى إع‬ ‫ّ‬ ‫الخيــوط‪.‬‬ ‫ـعبةَ ُ‬ ‫ُعمقهــا‪ ،‬عالقــةً ُمتشـ ّ‬ ‫ودهشــتها‬ ‫ـرارها‬ ‫ـ‬ ‫ألس‬ ‫الحامي‬ ‫ـها‬ ‫ـ‬ ‫وأس‬ ‫الحياة‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ن‬ ‫ا‬ ‫دوم‬ ‫ـغَ‬ ‫أن المجهولَ كان ً ُ‬ ‫َ‬ ‫رغم ّ‬ ‫ُّ‬ ‫بصورةِ‬ ‫ِ‬ ‫ُّ‬ ‫ومحتفظً ــا َ‬ ‫وتجددهــا‪ ،‬يبــدو مجهــولُ جائحــة «كورونــا» ً‬ ‫للمــوت ُ‬ ‫قاتمــا‪ُ ،‬‬ ‫ـف‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫لرب‬ ‫ـل‪.‬‬ ‫القتـ‬ ‫ـف‪ ،‬من بين ما كشـ َ‬ ‫المضــيء فــي هــذا المجهــول هــو أ ّنه كشـ َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـي‬ ‫العلمــاء‪ ،‬وإلــى نظــام ّ‬ ‫ـاني وإلــى ُ‬ ‫صحـ ٍّ‬ ‫عنــه‪ ،‬عــن الحاجــة إلــى العلــم اإلنسـ ّ‬ ‫القيــم‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫قيم‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫وتطويره‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫التفاه‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ـابق‬ ‫ـةَ‬ ‫َ‬ ‫متطـ ِّ‬ ‫ـور‪ ،‬فــي َزمــن غــدا فيــه التسـ ُ‬ ‫َ‬ ‫لَ‬ ‫ُ‬ ‫ْضى‬ ‫ف‬ ‫أ‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫بم‬ ‫الحديث‪،‬‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫الزم‬ ‫ـ‬ ‫عالم‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫التفاه‬ ‫ـاج‬ ‫ـ‬ ‫إنت‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ـس‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫التنا‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫تح‬ ‫حتــى‬ ‫ـةَ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ـض ال يبــدو‪ ،‬فــي زمــن كورونــا‪ُ ،‬معيقً ــا‬ ‫إلــى إنتــاج فائــض مــن التفاهــة‪ .‬فائـ ٌ‬ ‫ً‬ ‫ـاس‬ ‫عامل من عوامل اإلحسـ‬ ‫وحســب‪ ،‬بل‬ ‫بحد ِة الهشاشــة‪ ■ .‬خالد بلقاســم‬ ‫ّ‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪29‬‬


‫«كورونا»‪ ‬الذي يُعيد‪« ‬تربية»‪ ‬العالم‪ ‬‬

‫العدو‪ ‬الالمريئ‬ ‫ورسديّة الرعب املُعمم‬

‫لربــا مــن الســابق ألوانــه‪ ،‬الدخــول يف محاولــة الســتخالص الــدروس والعــر مــن رعــب كورونا‪« ‬الســائل»‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫لربــا مــن غــر املنطقــي‪ ،‬الحســم يف‪ ‬مآالت‪ ‬الوضــع املربــك واملخيــف الــذي نختــره آنـ ًا‪ ،‬ومــع ذلــك ال بــأس أن‬ ‫َّ‬ ‫نجـ ِّـرب القــراءة ونهفــو إىل‪ ‬ت ّلمــس الخالص‪ .‬األمــر جلــل واملوقــف عــي عــى الفهــم والتأويــل‪ ،‬فالعــامل الــذي‬ ‫كان مطمئنــا إىل يقينياتــه واعتقاداتــه املتص ّلبــة‪ ،‬بــات غائص ـ ًا يف حــرة كــرى‪ ،‬وكأنــه يجــرب دهشــة البدايــات‬ ‫ــؤَول‪ ،‬فقــط هو‪« ‬الاليقني»‪ ‬مــا‬ ‫ــؤَول ُ‬ ‫وقلــق النهايــات كــا يف العــود األبــدي‪ ،‬فــا حقيقــة تصمــد وال معنــى ُي ِّ‬ ‫وي َّ‬ ‫يشــمخ عاليـ ًا يف ّ‬ ‫كل املســالك واملتاهــات‪ ،‬فقــط هــو الضعــف والخــوف واملــرض واملــوت‪ ،‬مــا يعيدنــا إىل الصفــر‬ ‫ويدفعنــا نحــو املجهــول‪ .‬‬

‫من كان يعتقد‪،‬‬ ‫يوماً‪ ،‬أن تصري‬ ‫املطارات والفنادق‬ ‫واملزارات السياحية‬ ‫بال مسافرين‬ ‫وزائرين؟ من كان‬ ‫يتخ ّيل أن تصري‬ ‫فينيسيا‪« ‬البندقية»‪،‬‬ ‫الحب‬ ‫مدينة‬ ‫ّ‬ ‫والجمال‪ ،‬خاوية عىل‬ ‫عروشها؟‬

‫‪30‬‬

‫ال الحكومــات التي أدمنت طويالً‪« ‬البلطجة الدولية»‪ ‬واالســتبداد‬ ‫السياســي‪ ،‬فــي الشــمال أو الجنــوب‪ ،‬اســتطاعت أن تتغلَّــب‬ ‫علــى هــذا العدو‪ ‬الالمرئــي‪ ،‬الــذي ينتشــر ســريع ًا وال يبقــي وال‬ ‫يــذر‪ .‬وال الحكومــات التــي أدمنت‪« ‬التبعية»‪ ‬أو‪« ‬األنفــة وعــزة‬ ‫ـرر مــن لعنــة كورونــا‪ ،‬وتبقــى‬ ‫النفس»‪ ‬اســتطاعت بدورهــا أن تتحـ َّ‬ ‫فــي ِحــلٍّ من‪« ‬رعبه»‪ ‬و«ترعيبــه»‪ ،‬فالفقــراء كمــا األغنيــاء‪،‬‬ ‫المشــاهير والمغمــورون‪ ،‬آل الشــمال وآل الجنــوب‪ ،‬الــكلّ بــات‬ ‫ومو ِقن ـ ًا بــأن رســاميله الرمزيــة والماديــة‬ ‫خائف ـ ًا مــن الجائحــة‪ُ ،‬‬ ‫لــن تمنــع عنه‪« ‬الوبــاء الســائل»‪ .‬‬ ‫فجأة توارت عن قصاصات وكاالت األنباء ومسائيات اإلذاعة والتلفزة‬ ‫أخبار داعش‪ ‬وقفشــات‪ ‬ترامب وتداعيات‪ ‬بريكسيت‪ ‬وثورات‪ ‬الربيع‪،‬‬ ‫تراجــع كلّ ذلــك إلــى الــوراء‪ ،‬ليصيــر خبزنــا اليومــي هــو فيــروس‬ ‫كورونــا القاتــل‪ ،‬نداعب شاشــات الهاتــف وأزرار الريمــوت كونترول‪،‬‬ ‫بحثـ ًا عــن أعــداد القتلــى والمصابين في الهنــا والهنــاك‪ ،‬ونتطلَّع إلى‬ ‫ـد ُر حين ًا بِ ُنكَ ـ ٍ‬ ‫ـت للضحك والتهوين‬ ‫أخبــار ُت ّ‬ ‫بشــر باكتشــاف اللقاح‪َ ،‬ن َت َنـ َّ‬ ‫مــن الواقعــة‪ ،‬أو ننخــرط خطــأ فــي مســارات التهويــل والرفــع مــن‬ ‫منســوب الذعــر جراء تقاســم بعــض األخبار الزائفــة أو الصادقة‪ .‬‬ ‫يبــدو أنه‪« ‬وبــاء ُم َعل ٌِّم»‪ ‬جــاء ليضــع اإلنســانية أمــام ضعفهــا‬ ‫المتأصــل‪ ،‬ليذكّ رهــا بــأال شــيء يمكــن التحكّ ــم فيــه‪ ،‬وأن‬ ‫ّ‬ ‫للطبيعــة منطقــ ًا آخــر‪ ،‬و«رياضيات»‪ ‬أخــرى‪ ،‬ال تخضــع‬ ‫ِ ِ‬ ‫ــي‬ ‫لقوانيــن الســوق ومتاهــات الحداثة‪ ‬المفرطــة‪ ،‬جاء‪ ‬ل ُي ْعل َ‬ ‫مــن فرضية‪« ‬ســردية الرعــب المعمــم»‪ ،‬حيــث قلــق المــوت‬ ‫ينتصــر علــى قلــق المعنى‪ ،‬وحيــث غريــزة البقــاء تحــاور غريزة‬ ‫المــوت‪ ،‬وتفــاوض بشــأن التجــاوز واالنتصــار علــى فيــروس‪،‬‬ ‫يعبــث باألبــدان واألرواح واالقتصاديــات ويقودهــا قســر ًا نحــو‬ ‫أحلــك االحتمــاالت‪ .‬‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫ـول العالــم إلــى محجــر صحــي كبيــر‪ ،‬وانســجن األفــراد‬ ‫لقــد تحـ ّ‬ ‫تحــت ضغــط الجائحــة فــي منازلهــم‪ ،‬وتوقَّفــت دورة اإلنتــاج‬ ‫ــع والكنائــس‬ ‫فــي كثيــر مــن المصانــع واإلدارات‪ ،‬وباتــت الب َِّي ُ‬ ‫والمســاجد‪ ،‬توصــد أبوابهــا في وجــه المصلين‪ ،‬فمــن كان يعتقد‬ ‫يومــ ًا أن يصيــر الحــرم المكــي فارغــاً؟ وأن تنتهــي الســعودية‬ ‫مــن منــح تأشــيرات العمــرة؟ مــن كان يعتقــد‪ ،‬يوم ـاً‪ ،‬أن تصيــر‬ ‫المطارات والفنادق والمزارات الســياحية بال مسافرين وزائرين؟‬ ‫الحــب‬ ‫يتخيــل أن تصيــر فينيســيا‪« ‬البندقية»‪ ،‬مدينــة‬ ‫مــن كان‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والجمــال‪ ،‬خاويــة على عروشــها؟‪ ‬‬ ‫إن ســردية الرعــب المعمــم نابعــة أساسـ ًا مــن خطــاب التهويــن‬ ‫أو التهويــل الــذي رافــق الفيــروس منــذ ظهــوره األول فــي‬ ‫إقليم‪ ‬ووهان‪ ‬الصينــي‪ ،‬فلــم َت ْن َتـ ِ‬ ‫ـه اآللــة اإلعالميــة‪ ،‬ولــو مــن غيــر‬ ‫قصديــة مباشــرة‪ ،‬مــن بــث القلــق والذعــر فــي نفــوس المواطنين‬ ‫فــي أكثــر مــن ســياق‪ ،‬مثلمــا لــم تنتــه قنــوات التواصــل الشــعبية‬ ‫مــن إنتــاج النكت والشــائعات واألخبار الزائفة بصــدد الفيروس‪،‬‬ ‫ليتدخل‪« ‬تجــار الحــروب وأثريــاء األزمــات»‪ ،‬لصــب مزيــد مــن‬ ‫َّ‬ ‫الزيــت علــى النــار‪ ،‬باحتــكار الســلع وتوجيــه المســتهلك نحــو‬ ‫ُســعار الشــراء والتخزين اســتعداد ًا لألســوأ‪ ،‬كلّ ذلك كان ســبب ًا‬ ‫رئيس ـ ًا فــي تعميــم الرعــب والهلــع وفتــح علبــة شــرور العالــم‬ ‫من جديد‪ .‬‬ ‫الفيــروس فعلهــا‪ ،‬وأعــاد كلّ شــيء إلــى الصفــر‪ ،‬أعــاد اإلنســان‬ ‫إلــى ســردية الرعــب الممتــدة عبــر األزمنــة‪ ،‬والتــي دعتــه فــي‬ ‫حالة‪« ‬حــرب الجميــع ضــد الجميع»‪ ‬إلــى االحتمــاء بالســحر‬ ‫والمعتقــد والخيــال لمواجهــة ظــام الجهــل والمــرض وباقــي‬ ‫الشــرور‪ .‬كورونا فعلهــا وأعــاد اإلنســان إلــى ضعفــه وعجــزه‪،‬‬ ‫ـد ًا مــن االختبــاء واالمتنــاع عــن اللقــاء باآلخر‪ .‬إنــه‬ ‫فــا يجــد بـ ّ‬


‫الفيــروس الــذي يعيــد بنــاء المســافة االجتماعيــة ويعمــل فــي اآلن ذاتــه على‬ ‫تحييــن أو تهجيــن الرابــط االجتماعي‪ .‬ففــي لحظــات الخطــر تلــوح الحاجــة‬ ‫إلــى الشــبيه‪ ،‬لمواجهــة عنــف المتوقّع‪ ‬والالمتو ّقــع‪ ،‬فكيــف يســتقيم األمر في‬ ‫ظــل فيــروس يقتضــي التباعــد ال التقــارب؟ هنــا يشــتغل الرمــزي بدرجــة أعلى‬ ‫وتصيــر المســافة‪« ‬صحية‪/‬احترازية»‪ ،‬مــع عــودة دالــة إلى الــذات واآلخر‪ ،‬في‬ ‫أشــكال تضامنيــة وحدويــة لمواجهــة الخطــر‪ ،‬بــل وحتــى في مســتوى أشــكال‬ ‫عدوانيــة تعلــن انتصــار األنانيــة والجشــع واالحتكار‪ .‬وهــو مــا الح بقــوة فــي‬ ‫التســابق نحــو إدخــار الطعــام وإعــادة ترتيــب األولويــات‪ .‬‬ ‫لقــد تنــازل الفرد‪ ،‬مكرهاً‪ ،‬عن طقوســه اليومية‪ ،‬وانســجن‪ ،‬ضــد ًا على رغباته‪،‬‬ ‫فــي بيتــه‪ ،‬مذعــور ًا مــن خطر محدق‪ ،‬قادم من لمــس زر مصعد أو فتح باب أو‬ ‫مصافحة مريض‪ ،‬لم يعد ذات الفرد منشــغ ً‬ ‫ال بالبحث عن األســفار والرحالت‬ ‫ا َ‬ ‫ألقلّ ســعراً‪ ،‬أو مهووساً‪ ‬بالتمشــهد‪ ‬الرقمي لحصد‪ ‬الاليكات‪ ‬وتسويق الذات‪،‬‬ ‫المعمــم هــو البقــاء وتالفــي ممكنــات العــدوى‬ ‫مــا يهمــه فــي ســردية الرعــب‬ ‫ّ‬ ‫واالعتالل‪ .‬‬ ‫ـم الوجــودي لألفــراد والجماعــات هــو تخزيــن الطعام والتســابق‬ ‫ـ‬ ‫اله‬ ‫لقــد بــات‬ ‫ّ‬ ‫نحــو تأميــن أكبــر قــدر مــن الــدواء‪ ،‬وهــو مــا فتــح البــاب لظهــور األنانيــات‬ ‫والهويــات القاتلــة‪ ،‬وكأن األمــر يتع َّلــق‬ ‫المســتحكمة‪ ‬والفردانيات‪ ‬المعطوبة‬ ‫ّ‬ ‫بهندســة اجتماعيــة جديــدة أساســها التباعــد االجتماعــي واإلعــاء مــن شــرط‬ ‫البقاء‪ .‬فــكلّ التعليمــات االحترازيــة توصــي بضــرورة االنتهــاء مــن طقــوس‬ ‫التحيــة والتقبيــل والعنــاق‪ ،‬لصالــح أشــكال جديــدة من‪« ‬اليومــي التواصلي»‪،‬‬ ‫تنبنــي علــى التباعــد ال التقــارب‪ ،‬وعلى االنفصــال ال اال ّتصال‪ .‬وهــو ما تعضده‬ ‫العامة وإغــاق دور العبــادة والمطــارات والمقاهي‬ ‫خيــارات منــع التجمعــات‬ ‫ّ‬ ‫والمطاعم‪ .‬‬ ‫إنها مجتمعات الخطر والمخاطرة التي أهدتنا إياها النيوليبرالية المتوحشــة‪،‬‬ ‫وقادتنــا إليهــا التفكيكات‪ ‬والتذريرات‪ ‬المتواصلــة للرابــط االجتماعــي ولكافــة‬ ‫أشــكال وبنيــات التضامــن والتعاضــد الجمعــي‪ ،‬إنهــا ذات المجتمعــات‪،‬‬

‫تعرضــت‪ ،‬وألســباب تاريخيــة وسياســية واقتصادية‪ ‬صرفــة‪ ،‬للمزيــد‬ ‫التــي َّ‬ ‫مــن التهجيــن والمســخ واالحتبــاس القيمــي‪ ،‬وأنتجــت فــي النهاية‪« ‬مســخ ًا‬ ‫ً»‪ ‬هشـاً‪ ،‬ال يصمــد طويـ ً‬ ‫ا أمــام اختبــارات الجوائح واألوبئة‪ ،‬بل يكشــف‬ ‫إنسانيا‬ ‫ّ‬ ‫المتأصــل فــي أعماقــه‪ ،‬يســتيقظ فيه‬ ‫ســريع ًا عــن الجانــب المخفــق والبائــس‬ ‫ّ‬ ‫الوحــش‪ ،‬ويموت فيه اإلنســان‪ .‬‬ ‫رســائل‪/‬دروس الجائحــة ال تنتهــي‪ ،‬إنهــا تتجــاوز المحلــي إلــى الكونــي‪،‬‬ ‫ـوق علــى كلّ الســرديات الدائــرة بغيــر انقطــاع‪ ،‬لتعلــن للجميــع‪ ،‬وفــي‬ ‫وتتفـ ّ‬ ‫عتبــة العتبــات‪ ،‬أن الجائحــة ديموقراطيــة‪ ،‬فــي اســتهدافها للــدول الغنيــة‬ ‫كمــا الفقيــرة‪ ،‬وللفئــات المهيمــن عليهــا‪ ،‬كمــا األخــرى التــي تهيمــن وتمتلــك‬ ‫وســائل اإلنتــاج واإلكــراه‪ ،‬فهــو فيــروس ال يختــار ضحايــاه بســبب اللــون أو‬ ‫الديــن أو االنتماء‪ ‬المراتبــي‪ ،‬مثلمــا هــو الحــال بالنســبة لمــرض الســل الــذي‬ ‫يصيــب آل القــاع االجتماعــي مــن الذيــن يقيمــون في ســكن حــاط بالكرامة‪ ،‬أو‬ ‫فيروس‪ ‬اإليبوال‪ ‬الــذي اســتهدف مواطنين من إفريقيا الوســطى بالتحديد‪ .‬هنا‬ ‫ـأل واحــدة مــن الــدول الكبرى‬ ‫الجائحــة تعلــن أنهــا جــاءت لتقــول للجميــع‪ ،‬بـ ّ‬ ‫التحصــن ضــد الفيــروس‪ .‬‬ ‫أو الصغــرى بمقدورهــا‬ ‫ّ‬ ‫فــي عتبــة ثانيــة يعلــن الفيــروس للجميــع أن العلــم هــو مفتــاح الفــرج‪ ،‬وأن‬ ‫المراهنــة علــى التفاهــة ونجــوم الكــرة والغنــاء والبالهــة‪ ،‬لن تنقــذ العالم من‬ ‫مصيــر الهاويــة‪ ،‬فقــط هــو البحــث العلمــي مــا قــد يقــود إلــى اكتشــاف اللقاح‬ ‫وتأميــن المســتقبل‪ ،‬وهــو ما يكون قب ً‬ ‫ال باالســتثمار في بنيــات التربية والتعليم‬ ‫ـرة أخــرى أمــام حقيقــة القطاعــات‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـانية‬ ‫والصحة‪ .‬فالفيــروس وضــع اإلنسـ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والمقرِضــة‪،‬‬ ‫الحيويــة التــي أُ ْه ِملــت بســبب توصيــات‬ ‫َّ‬ ‫المؤسســات المانحــة ُ‬ ‫والتــي توصــي دوم ـ ًا بوجــوب تخلــي الدولــة عــن اإلنفــاق العمومــي لصالــح‬ ‫الصحــة والتعليــم وباقــي القطاعــات االجتماعية‪ .‬‬ ‫ّ‬ ‫ثمــة عتبــة أخــرى للفهــم والســؤال المســتفز‪ ،‬تنكشــف مــن خــال‬ ‫ّ‬ ‫تداعيات‪« ‬حــرب كورونــا»‪ ،‬وهي بالضبط عتبة المصير المشــترك‪ ،‬فاإلنســانية‬ ‫المعمــم التــي أفرزتهــا وعززتهــا جائحــة‬ ‫تختبــر اليــوم‪ ،‬عبــر ســردية الرعــب‬ ‫ّ‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪31‬‬


‫إن الحجر الصحي‬ ‫الذي يختربه العالم‬ ‫اليوم‪ ،‬هو أشبه ما‬ ‫يكون بعودة مفروضة‬ ‫إىل الذات‪ ،‬يف شكل‬ ‫خلوة تفكري وتغيري‬ ‫وتنوير‬

‫‪32‬‬

‫كورونــا‪ ،‬تختبــر أن األلــم مشــترك والمعانــاة واحــدة‪ ،‬وأن‬ ‫الخــوف مــن‬ ‫المجهول‪ ‬يتســيد‪ ‬الوضع‪ ،‬ويلقــي بثقلــه علــى كلّ‬ ‫ّ‬ ‫الديناميــات والفعاليــات اإلنســانية‪ ،‬فالــكلّ بــات منشــغ ً‬ ‫ال بعــدد‬ ‫المصابيــن والمتعافيــن والراحليــن تباعـاً‪ ،‬فــي الصيــن وإيطاليــا‬ ‫والمدينــة الفالنيــة والحــي األقــرب‪ ،‬لــم تعــد أهــداف ميســي وال‬ ‫مؤخرة‪ ‬كارديشــيان‪ ‬تغري بالمتابعــة على‪ ‬اليوتيــوب‪ ،‬وتحقّــق‬ ‫بالتالــي أعلــى أرقام‪« ‬الطوندونــس»‪ ،‬فقــط هــو الخــوف مــن‬ ‫ـن الرهــاب‪ .‬‬ ‫ومك َْمـ َ‬ ‫س االنهمــام َ‬ ‫االعتــال مــا يشــكل أُ َّ‬ ‫لقــد أحــدث كورونــا‪ ،‬فينــا ومــن حولنــا‪ ،‬فائــق االرتبــاك وعميــق‬ ‫الصدمــة‪ ،‬لقــد َع َّرانــا مــن الداخل قبــل الخارج‪ ،‬وكشــف جروحنا‬ ‫النرجســية العميقة‪ ،‬وأعطابنا‪ ‬االجتماعيــة والسياســية الثقيلــة‪،‬‬ ‫األهــم‪ ،‬خســائرنا القيميــة الكبــرى‪ ،‬فــي‬ ‫وكشــف‪ ،‬وهــذا هــو‬ ‫ّ‬ ‫إنتاج‪« ‬إنســانية جمعيــة»‪ ‬أو حتى‪« ‬فردانيــة عقالنية»‪ ‬تدبــر‬ ‫والتبصــر واإليثار‪ .‬لهــذا‬ ‫األزمــات العصيبــة بمزيــد مــن الحكمــة‬ ‫ّ‬ ‫يتوجــب علينــا االعتــراف بــأن اإلنســانية رســبت في هــذا االمتحان‬ ‫َّ‬ ‫بشــرت به العولمة والحداثة وحوار الحضارات‪،‬‬ ‫العســير‪ ،‬وأن ما ّ‬ ‫ومــا إلــى ذلــك من‪« ‬مفاهيــم مســكوكة‪ ‬وترحالية»‪ ،‬لــم نجــد لــه‬ ‫ـن‬ ‫مــن أثــر فــي قلــب اإلعصــار‪ ،‬وتحديــد ًا فــي الــدول التــي لــم ُي ْبـ َ‬ ‫فيها اإلنســان‪ ،‬و ُتـر َِك فيهــا منــذور ًا ألدوات‪« ‬التضبيع»‪ ‬والتتفيه‪ .‬‬ ‫بــد مــن التأكيــد علــى أن درس الــدرس الــذي‬ ‫فــي الختــام ال َّ‬ ‫يتوجــب الخلــوص إليــه‪ ،‬مــن هــذي الجائحــة‪ ،‬هــو البنــاء‬ ‫َّ‬ ‫الحضــاري لألمــم والشــعوب‪ ،‬عبــر بنــاء اإلنســان وجعلــه محــور‬ ‫كلّ ‪ ‬االســتهدافات‪ ‬التنموية‪ ،‬مــع مــا يوجبــه هــذا البنــاء مــن‬ ‫تعاقــدات مجتمعيــة جديــدة‪ ،‬ومصالحــات ذكيــة بيــن الطبيعــة‬ ‫الوباء‪ ‬الم َع ْو ِل ُم‪ ‬لأللم‬ ‫واإلنســان‪ ،‬وبين اإلنســان واإلنســان‪ .‬فهذا‬ ‫ُ‬ ‫والفــزع والشــر‪ ،‬ســيغرس فــي ذاكــرة الشــعوب خبــرات مؤلمــة‬ ‫عــن ســوء التدبيــر والتعاطــي مع‪ ‬األزمــات‪ ،‬وســيذكرها‪ ‬بأن مــا‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫حقّقتــه البشــرية مــن انتصــارات مزعومــة علــى الطبيعــة‪ ،‬ومــا‬ ‫كرســته‬ ‫بلغتــه مــن شــأ ٍو فــي بــاب المســتحدثات التقنيــة‪ ،‬وأن ما ّ‬ ‫مــن قيــم االســتهالك واحتمــاالت الضبــط والتوجيــه‪ ،‬بــات بــا‬ ‫معنــى‪ ،‬أمــام فيــروس مجهــري أصــاب العالــم في مقتــل‪ ،‬وعمق‬ ‫مــن جرحه النرجســي‪ .‬‬ ‫ســتدرك البشــرية‪ ،‬ولــو بعــد حين‪ ،‬أن الحيــاة تســتمر بالضروري‬ ‫مــن أساســيات حفــظ النفــس والحيــاة‪ ،‬وأال حاجــة إلــى‬ ‫العالمــات الفاخــرة لتأكيــد التمايــز االجتماعــي‪ ،‬وأال حاجــة‬ ‫إلى‪« ‬المؤثرين»‪ ‬مــن ص َّنــاع التفاهــة والبالهــة‪ ،‬لصناعــة الــرأي‬ ‫العــام‪ ،‬وأن مــا يمكــث وينفــع النــاس هــو العلم‪/‬مفتــاح الفــرج‪ .‬‬ ‫إن الحجــر الصحــي الــذي يختبــره العالــم اليــوم‪ ،‬هــو أشــبه مــا‬ ‫يكــون بعــودة مفروضــة إلــى الــذات‪ ،‬فــي شــكل خلــوة تفكيــر‬ ‫وتغييــر وتنويــر‪ ،‬إلعــادة اكتشــاف األنــا واآلخــر‪ ،‬وإزالــة الســحر‬ ‫عــن الوقائــع واألشــياء‪ ،‬فالمطلــوب أن تصيــر هذه‪« ‬الخلــوة‬ ‫القســرية»‪ ‬عتبة تأسيســاتية فارقة‪ ‬ومائزة‪ ‬إلعــادة قــراءة وتأويــل‬ ‫الحــال والمــآل‪ ،‬عبــر اكتشــاف الذات فــي محدوديتهــا القصوى‪،‬‬ ‫م‪ ‬الهوياتــي‪ .‬‬ ‫التضخ‬ ‫بعيــد ًا عــن وهــم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لربمــا كان مــن الضــروري‪ ،‬أن تصفــع الجوائــح‪ ،‬اإلنســان مــن‬ ‫َّ‬ ‫حيــن آلخــر‪ ،‬ع ّلــه يســتفيق وينتهــي من‪« ‬رأســمالية الكــوارث»‪،‬‬ ‫فعالــم مــا قبــل ســردية الرعب‪ ‬الكوروني‪ ،‬كان غائصـ ًا في بلطجة‬ ‫فجــة‪ ،‬لــم يكــن معهــا يعيــر أدنــى انتبــاه ِ ُ‬ ‫ل ِّم َنــا األرض‪،‬‬ ‫دوليــة ّ‬ ‫ـدالت‪ ،‬كان‬ ‫وال إلــى تلوثهــا ونهبهــا وتدميرهــا الــذي فــاق كلّ المعـ َّ‬ ‫منشــغ ً‬ ‫ال فقــط بالتحريــض على االســتهالك وتوطين قيم الســوق‬ ‫والتفاهة‪ .‬وهــا هــو الفيــروس يصفــع الجميــع‪ ،‬ويعيــد اإلنســان‬ ‫إلــى ُعريــه وضعفــه ودهشــة البــدء‪ ،‬فهــل سيســتوعب الواقعــة‬ ‫تتلخــص فــي هكــذا عبــارة‪« ‬أال مــا أضعفــك أيها‬ ‫والــدرس؟ والتــي ّ‬ ‫اإلنســان»‪ ■ .‬عبــد الرحيــم العطــري‬


‫يف الحاجة‬

‫إىل لقاح ضد الخوف!‬ ‫ـري‪ .‬بــن تفكيــك الهــرم الســكّ اين‪ ،‬إضعــاف‬ ‫عــى مـ ّـر التاريــخ‪ ،‬شــكَّ لت األوبئــة أبــرز تحـ ٍّـد أمــام اســتمرار النــوع البـ‬ ‫ّ‬ ‫واالجتامعيــة وخطــر االنقــراض‪ ،‬ظ ّلــت األمــراض والفريوســات واســعة‬ ‫الطبيعيــة‪ ،‬التمـ ُّـردات السياسـ ّـية‬ ‫املــوارد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اإلنســانية‪ .‬كان علينــا‬ ‫االنتشــار عائقــ ًا حقيقيــ ًّا أمــام تطويــر رشوط العيــش الكريــم بالعديــد مــن املجتمعــات‬ ‫ّ‬ ‫انتظــار بدايــات الثــورة الصناعيــة األوىل خــال القــرن الثامــن عــر مــن أجــل القضــاء عــى العديــد مــن األمــراض‬ ‫البرشيــة لقــرونٍ وقــرون‪ ،‬بفضــل تطـ ُّـور قطــاع الطــب واألدويــة مــن جهـ ٍـة‪ ،‬وحاجــة املصانــع‬ ‫واألوبئــة التــي روعــت‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫والــركات إىل اليــد العاملــة مــن جهــة أخــرى‪ .‬اليــوم‪ ،‬ال يختلــف األمــر كثــراً عــن املــايض فيــا يتع َّلــق باالنتشــار‬ ‫املوسمي لألوبئة والفريوسات‪ ،‬حيث الزال الهلع الجامعي‪ ،‬تسليع األزمات والخوف من خطر االنقراض سيد‬ ‫املوقــف‪ .‬ا ُ‬ ‫الصناعيــة الرابعــة لصالح قوى‬ ‫ـتجد يف هــذا الســياق هــو تطـ ُّـور إمكانــات الــذَّكاء الصناعــي والثــورة‬ ‫ملسـ َ‬ ‫ّ‬ ‫ـي مــع «وبــاء كورونــا‬ ‫الصحــة‬ ‫االقتصــاد والــركات الكــرى عــى حســاب‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫العامــة‪ .‬فكيــف يتفاعــل املجتمــع الفرنـ ّ‬ ‫ملثقَّفــن وا ُ‬ ‫ـي؟ ومــا هــي ردود أفعــال ا ُ‬ ‫ملفكِّريــن‬ ‫‪ )COVID-19) «Coronavirus Disease‬خــال العــر َّ‬ ‫الرقمـ ّ‬ ‫واالقتصاديــة املختلفــة؟‬ ‫االجتامعيــة‬ ‫إزاء الوبــاء وتداعياتــه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫عمل علماء االجتماع‬ ‫والفالسفة عىل‬ ‫تحليل حاالت الهلع‬ ‫الجماهريي والخوف‬ ‫والقلق العام من‬ ‫املرض يف أفق مجاوزة‬ ‫األزمة‪ ،‬والدفاع‬ ‫عن تدابري الحماية‬ ‫دون املس بالح ّريّات‬ ‫الفردية للمواطنني‪،‬‬ ‫والتشديد عىل‬ ‫رضورة الوعي بالبناء‬ ‫ّ‬ ‫والثقايف‬ ‫االجتماعي‬ ‫ّ‬ ‫لألمراض‬

‫الجماعــي المرافــق النتشــار فيــروس كورونــا‬ ‫«يرتبــط الذعــر‬ ‫ّ‬ ‫بالخــوف مــن المجهــول»‪ .‬بهــذه العبــارة يعلــق الفيلســوف‬ ‫الفرنســي «كريســتوف الصالــح ‪ »Christophe Al-Saleh‬علــى‬ ‫التعاطــي الجماعــي مــع الفيــروس منــذ ظهــوره وإلــى حــدود‬ ‫انتشــاره العالمــي الراهــن‪ .‬بالنســبة لــه‪ ،‬يمكــن التمييــز بيــن‬ ‫االجتماعــي مــع فيــروس‬ ‫مرحلتيــن اثنتيــن ضمــن التعاطــي‬ ‫ّ‬ ‫ـم تم ّثــل‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫ـياق‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫الس‬ ‫ـذا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ـي‬ ‫أوالً‪ ،‬مرحلــة الالمبــاالة‪ .‬فـ‬ ‫ّ‬ ‫كورونــا‪ّ :‬‬ ‫وثقافيـاً)‪ ،‬مرتبــط باآلخــر‬ ‫(مجاليـ ًا‬ ‫المــرض علــى أنــه خطــر بعيــد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫(الصينــي بالضــرورة)‪ ،‬مــع محــاوالت إلحيــاء المركزيــة الغربيــة‬ ‫ـي دفيــن مــن األوبئــة‪ .‬ثاني ـاً‪،‬‬ ‫تنبــع بالضــرورة مــن خــوف تاريخـ ّ‬ ‫خاصــة‬ ‫مرحلــة الذعــر‪ .‬فــي هــذه المرحلــة أصبــح الخطــر قريبـاً‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫األوروبيــة‪ ،‬ومازلنــا ال نعــرف جوهــره‪ ،‬فــي‬ ‫بفرنســا وباقــي الــدول‬ ‫ّ‬ ‫ظــلّ غيــاب أي عــاج أو لقــاح للمــرض‪ .‬وبالتالي‪ ،‬يتزاوج الشــعور‬ ‫الم ِ‬ ‫عاصــرة مــع الخــوف مــن المجهــول في‬ ‫بالاليقيــن فــي الحيــاة ُ‬ ‫إنتــاج حالــة مــن الهســتيريا والذعــر الجماعــي التــي تعمينــا عــن‬ ‫حقيقــة المــرض وتجعلنــا قلقيــن مــن شــيء غيــر معــروف أكثــر‬ ‫ـد ذاتــه بلغــة هايدغــر‪.‬‬ ‫مــن خوفنــا مــن شــيء معــروف فــي حـ ِّ‬ ‫البشــرية أوبئــة وأمراضــ ًا فتاكــة (الطاعــون‪،‬‬ ‫لقــد عايشــت‬ ‫ّ‬ ‫الجــدري‪ ،)...‬لكنهــا مــا عــادت تثيــر اهتمامنــا اليــوم رغــم أنهــا‬ ‫مازالــت موجــودة‪ ،‬ليــس ألننــا اخترعنا عالجــات لهــا‪ ،‬وإنما ألنها‬ ‫لــم تعــد بعــد مصــدر قلق أو خوف مــن خطر المــوت واالنقراض‪.‬‬ ‫وإلــى اليــوم‪ ،‬الزالــت العديــد مــن األمــراض واألوبئــة (بمــا فيهــا‬ ‫باقــي أنــواع األنفلونــزا‪ ،‬أمــراض ســوء التغذيــة‪ ،‬الســرطان‪)...‬‬ ‫تحصــد أرواح مئــات المالييــن ســنوي ًا دون أن نعير األمر كثير ًا من‬

‫ضخما من حجم‬ ‫أن اإلعــام واألنفوســفير قــد َّ‬ ‫االهتمــام‪ .‬صحيــح ّ‬ ‫فيــروس كورونــا‪ّ ،‬إل أن الفضــول اإلنســاني والخــوف والاليقيــن‬ ‫إزاء المجهــول والمســتقبل و«الذعــر العاطفــي المنفلــت مــن‬ ‫المحلت‬ ‫يفســر الهلــع العام واســتنزاف‬ ‫ّ‬ ‫شــروط العقلنــة» هو ما ِّ‬ ‫التجاريــة مــن األطعمــة والمســتلزمات الطبية بفرنســا كما بباقي‬ ‫الــدول والمجتمعــات‪ ،‬يضيــف كريســتوف الصالــح‪.‬‬ ‫الم ِ‬ ‫عاصــرة االنخــراط فــي نمــط‬ ‫لقــد فرضــت الحيــاة الحضريــة ُ‬ ‫الحر ّيــة‬ ‫ـد كبيــر قائمــة علــى االســتهالك‪،‬‬ ‫حيــاة مســتقرة إلــى حـ ٍّ‬ ‫ّ‬ ‫ـي‪ .‬لذلــك‪ ،‬أضحينــا نعيــش فيمــا يصطلــح عليه‬ ‫واالســتالب َّ‬ ‫الرقمـ ّ‬ ‫عالـ�م االجتمـ�اع الفرنسـ�ي «باسـ�كال الردييـ�ه �‪Pascal Lardel‬‬ ‫‪« »lier‬مجتمــع المخاطــر المنعدمــة ‪La société du risque -‬‬ ‫‪ ،»zéro‬حيــث يمكــن ألقــلّ اضطــراب أن ُيتمثــل ككارثــة مطلقــة‪.‬‬ ‫وعلــى هــذا‪ ،‬فتحــت أزمــة كورونــا حقبــةً جديــدة مــن الاليقيــن‬ ‫والتشــكيك والهلــع العــام يضيــف الردييــه‪ .‬والواقــع أن هــذا‬ ‫االجتماعيــة قــد ربــط األمــراض واألوبئــة‬ ‫النمــط مــن االســتكانة‬ ‫ّ‬ ‫دائمـ ًا باآلخــر البعيــد والمختلــف‪ ،‬وكلَّمــا اقتربــت هــذه األمراض‬ ‫وانتشــرت علــى نطاقٍ أوســع أعادت إلــى األذهان أحــداث التاريخ‬ ‫والماضــي وأســهمت فــي ســيادة القلــق العــام مــن جديــد‪.‬‬ ‫يعــود عالــم االجتمــاع «جيــرارد ميرميــه ‪،»Gérard Mermet‬‬ ‫االجتماعية‬ ‫مؤلف كتاب (‪ ،»Francoscopie 2030«) 1‬إلى األزمة‬ ‫ّ‬ ‫واالقتصادية التي تعيشــها فرنســا منذ بدايات حركات السترات‬ ‫ّ‬ ‫الصفــراء مــن أجــل تبيــان إســهامها الكبيــر فــي بنــاء الخــوف‬ ‫ـي لدى الفرنســيين‪« .‬فإذا اضطررنــا إلى ابتكار‬ ‫والهلــع االجتماعـ ّ‬ ‫ً‬ ‫ـد مــرض‬ ‫ـ‬ ‫ض‬ ‫ـس‬ ‫ـ‬ ‫ولي‬ ‫ـوف‬ ‫ـ‬ ‫الخ‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫ض‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫لقاح‬ ‫ـون‬ ‫ـ‬ ‫يك‬ ‫لقــاح‪ ،‬فيجــب أن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪33‬‬


‫كورونــا»‪ ،‬يؤكِّ ــد ميرميــه‪ .‬لقــد أســهم الخــوف العــام فــي انتقالنــا مــن مرحلة‬ ‫الصــراع مــن أجــل البقــاء علــى قيــد الحيــاة ومــا‬ ‫البحــث عــن العيــش إلــى ِّ‬ ‫يتر َّتــب عــن ذلــك مــن انسـ ٍ‬ ‫ـداد فــي أفــق التفكيــر والنظــر إلــى المســتقبل‪.‬‬ ‫المتطرف‬ ‫ونتيجــة لذلــك‪ ،‬مــن المرجــح أن تنشــط من جديد حــركات اليميــن‬ ‫ِّ‬ ‫ومعــاداة األجانــب والمســلمين في المســتقبل القريب نظر ًا النتشــار مظاهر‬ ‫االنهزاميــة واالنســحابين بيــن عمــوم الفرنســيين‪ ،‬وكأن األمــر يتع َّلــق بأزمــة‬ ‫نهايــة العالــم مصدرهــا األســاس هــو اآلخــر‪.‬‬ ‫تبيــن‬ ‫فــي تحقيــق نشــرته جريــدة «لــو باريزيــان» (‪ )Le Parisien‬الفرنسـ ّـية‪َّ ،‬‬ ‫أن مــا يقــرب مــن ثلثــي الفرنســيين قلقــون إزاء انتشــار فيــروس كورونــا‪ ،‬وهــي‬ ‫مرتيــن مــن القلــق العــام الــذي رافــق انتشــار فيــروس أنفلونــزا‬ ‫نســبة أعلــى َّ‬ ‫ً‬ ‫ـدة المــرض علــى‬ ‫ـ‬ ‫ح‬ ‫ـار‬ ‫ـ‬ ‫انتش‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫بي‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫طردي‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫التقري‬ ‫ـط‬ ‫ـ‬ ‫يرب‬ ‫‪.2009‬‬ ‫الخنازيــر ســنة‬ ‫ّ‬ ‫ـاقٍ‬ ‫ـي الــذي يتجاوز المرض نفســه‪.‬‬ ‫نطـ عالمــي وتزايــد الخــوف والهلــع الجماعـ ّ‬ ‫اجتماعيــة‪ ،‬كمــا‬ ‫ـاءات‬ ‫ـ‬ ‫بن‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫واألوبئ‬ ‫ـراض‬ ‫ـ‬ ‫األم‬ ‫ـأن‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ـول‬ ‫ـ‬ ‫الق‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫يمك‬ ‫ـع‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫الواق‬ ‫فــي‬ ‫ّ‬ ‫يقــول عالــم االجتماع الفرنســي «جيرالد برونــر ‪ ،»Gérald Bronner‬مرتبطة‬ ‫والثقافيــة التــي قــد تتجــاوز حــدود العقــل‬ ‫االجتماعيــة‬ ‫بطبيعــة التمثّــات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والمنطــق لتســهم فــي نشــر المــرض علــى نطــاقٍ أوســع انطالقـ ًا مــن ســلوكات‬ ‫وطبيـاً‪ .‬لهــذا‪ ،‬يمكــن للتشــكيل الجمعي‬ ‫علميـ ًا‬ ‫جمعيــة عفويــة وغيــر مؤطّ ــرة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لفكــرة المــرض وفكــرة الخــوف منــه أن يفتــح المجــال أمــام انتشــار الخرافــة‪،‬‬ ‫الطبيــة‪.‬‬ ‫ـي علــى حســاب ســلوكيات الوقايــة‬ ‫ّ‬ ‫الشــائعات والقلــق االجتماعـ ّ‬ ‫يعتبــر جيرالــد برونــر أن التعاطــي الفرنســي مــع انتشــار الفيــروس قــد اتخــذ‬ ‫طابــع «الفضيلــة والمهادنــة»‪ ،‬عكس الصيــن وإيطاليا‪ ،‬حيث اإلكــراه واإلجبار‬ ‫ـي منطلقات أســاس لمنع انتشــار المــرض‪ّ ،‬إل أنه لم يمنع من‬ ‫والحجــر ِّ‬ ‫الصحـ ّ‬ ‫العامة الــذي يخرج عن النســق‬ ‫ـي مــن القلــق والســذاجة‬ ‫ّ‬ ‫خلــق ســوق اجتماعـ ّ‬ ‫المؤامــرة بفعــل تأثيــر األخبار‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫فك‬ ‫ـخ‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـقط‬ ‫ـ‬ ‫ويس‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫الغربي‬ ‫العــام للعقلنــة‬ ‫ُ‬ ‫ـكلٍ‬ ‫قمي‪ .‬نتيجة‬ ‫الر‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫العص‬ ‫ضمن‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫كبي‬ ‫ـ‬ ‫بش‬ ‫تفجرت‬ ‫التي‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫الزائف‬ ‫والمعلومــات‬ ‫َّ ّ‬ ‫ـد أيض ـ ًا‬ ‫لذلــك‪ ،‬وباإلضافــة إلــى ضــرورة محاربــة الخــوف والهلــع العــام‪ ،‬البـ ّ‬ ‫المنظّ ــم للمعلومــات‪ ،‬يضيف‬ ‫مــن التفكيــر فــي مواجهــة التد ُّفــق الكبيــر وغيــر ُ‬ ‫برونــر‪ .‬لقــد أثبــت فيــروس كورونــا ضعفـ ًا كبيــر ًا فــي التعاطــي الجماهيري مع‬ ‫المعطيــات العلميــة والطبيــة بالمــوازاة مــع الرغبة في أســطرة الهلــع والقلق‬ ‫العلميــة مــن‬ ‫ـرب المعــارف‬ ‫ّ‬ ‫ـي يفتــرض أن يقـ ّ‬ ‫مــن المجهــول ضمــن عصــر رقمـ ّ‬ ‫المركَّ ب‪.‬‬ ‫العمــوم بــدل تعميــم الجهــل ُ‬ ‫واالقتصادي مع فيــروس كورونا‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫السياس‬ ‫ـي‬ ‫ـد مــن اإلشــارة إلــى أن التعاطـ‬ ‫البـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫‪34‬‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫ـري‪ .‬إن انتهاج تدابير‬ ‫قــد أســهم بدوره في تعزيز نســق الهلــع والقلق الجماهيـ ّ‬ ‫�ي غيـ�ر مسـ�بوقة بأوروبـ�ا‪ ،‬بلغـ�ة «أنطونيـ�و ماتـ�ور و �‪Anto‬‬ ‫احتـ�واء وعـ�زل صحـ ّ‬ ‫‪ ،»nio Maturo‬رغــم الطبيعــة االعتياديــة لألنفلونــزا عمومـاً‪ ،‬هــو بالضــرورة‬ ‫الحر ّية والســلوكات‬ ‫المراقبة الهادفة إلى تقييد‬ ‫ـمالية ُ‬ ‫تجســيد لمخرجات رأسـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـانية وتوجيــه الهلــع العــام نحــو االســتهالك بالدرجــة األولــى‪ .‬ال يجــب‬ ‫اإلنسـ ّ‬ ‫الحر ّيــة‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫تح‬ ‫ـت‬ ‫ـ‬ ‫أضح‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫ـرض‬ ‫ـ‬ ‫الم‬ ‫ـواء‬ ‫ـ‬ ‫احت‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫تدابي‬ ‫ـون‬ ‫ـ‬ ‫ك‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ـي‬ ‫التغاضـ‬ ‫ّ‬ ‫الفرديــة للمواطنيــن وتســتبيح انتهــاك خصوصياتهــم‪ ،‬فــي الحيــاة الواقعيــة‬ ‫قميــة‪ ،‬كمــا أن الهلــع العــام يترافــق مــع نــدرة واحتــكار المنتجــات‬ ‫كمــا َّ‬ ‫الر ّ‬ ‫الطبيــة واألســاس‪ .‬وعلــى هــذا‪ ،‬يصبــح تســليع المــرض والقلــق العــام ســبي ً‬ ‫ال‬ ‫ّ‬ ‫ـاني فــي وضعيــة األزمــات‬ ‫ـ‬ ‫اإلنس‬ ‫ـلوك‬ ‫ـ‬ ‫الس‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫ـام‬ ‫ـ‬ ‫الع‬ ‫ـرأي‬ ‫ـ‬ ‫ال‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫لتوجي‬ ‫والتحكُّ‬ ‫ّ‬ ‫ـي‪.‬‬ ‫بفضــل إمكانــات العصــر َّ‬ ‫الرقمـ ّ‬ ‫حد الزال اإلنســان‬ ‫أي‬ ‫إلى‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫بي‬ ‫ت‬ ‫ـراض‬ ‫ـ‬ ‫واألم‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫األوبئ‬ ‫قصــارى القــول‪ ،‬إن انتشــار‬ ‫ُ‬ ‫ٍّ‬ ‫ِّ‬ ‫هشـ ًا وضعيفـ ًا في مواجهة الطبيعة وطفراتها المســتمرة‪ .‬فرغم عيشــنا‬ ‫كائنـ ًا ّ‬ ‫بمجتمــع التقنيــات العاليــة‪ّ ،‬إل أننــا نشــعر بالتهديــد مــن فيــروس غيــر دقيــق‬ ‫وغيـ�ر محسـ�وس‪ ،‬كمـ�ا تقـ�ول «كلوديـ�ن بورتـ�ون جانجـ�رو س �‪Claudine Bur‬‬ ‫ميــز نظر‬ ‫ـي الــذي َّ‬ ‫‪ ،»ton-Jeangros‬يدفعنــا إلــى إعــادة إنتــاج الهلــع الجماعـ ّ‬ ‫أجدادنــا إلــى مختلــف األوبئــة واألمــراض التــي عرفتهــا البشــرية خــال مئــات‬ ‫تبين‬ ‫اآلالف من الســنين‪ .‬في ظلّ هذا الوضع المركَّ ب والمســتقبل المجهول‪َّ ،‬‬ ‫االجتماعيــة فــي التعاطي مع وبــاء كورونا‪،‬‬ ‫بالملمــوس الــدور الكبيــر للعلــوم‬ ‫ّ‬ ‫أكثــر مــن الطــب والعلــوم الدقيقــة نفســها‪ ،‬ضمــن ســياق المجــال التداولــي‬ ‫ـي‪ .‬لقــد عمــل علمــاء االجتمــاع والفالســفة علــى تحليــل حــاالت الهلع‬ ‫الفرنسـ ّ‬ ‫الجماهيــري والخــوف والقلــق العــام مــن المــرض فــي أفــق مجــاوزة األزمــة‪،‬‬ ‫بالحر ّيــات الفرديــة للمواطنيــن‪،‬‬ ‫والدفــاع عــن تدابيــر الحمايــة دون المــس‬ ‫ّ‬ ‫والثقافي لألمــراض‪ ...‬مع‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫االجتماع‬ ‫والتشــديد علــى ضــرورة الوعــي بالبنــاء‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـي تصــارع مــن أجــل شــرعية‬ ‫ـ‬ ‫العرب‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫بوطنن‬ ‫االجتماعيــة‬ ‫ذلــك‪ ،‬الزالــت العلــوم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫واقتصاديــة‪ ،‬قــد تأتــي أو ال تأتــي‪ ،‬والزالــت غيــر مواكبــة لمثــل هذه‬ ‫اجتماعيــة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والبيئيــة اآلنيــة‪ .‬لهذا‪ ،‬يبــدأ البحث عن عالج‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫حي‬ ‫الص‬ ‫ـتجدات‬ ‫ـ‬ ‫والمس‬ ‫القضايــا‬ ‫ّ‬ ‫ِّ ّ‬ ‫العامــة‬ ‫وتصوراتنــا‬ ‫لفيــروس كورونــا بالبحــث عــن عــاج لتمثُّالتنــا‪ ،‬مخاوفنــا‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫عامة‪ ■ .‬محمد اإلدريســي‬ ‫حــول األمراض ّ‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫الهامش‪:‬‬ ‫‪1- Gérard Mermet, Francoscopie 2030 : nous, aujourd’hui et demain, Larousse, 2018.‬‬


‫جان كالبيترس‪:‬‬

‫آمن وعلينا التك ُّيف‬ ‫غري‬ ‫العالم‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬ ‫املروعــة غابــات أســراليا‪،‬‬ ‫دمــرت الحرائــق‬ ‫كان لعــام ‪ 2020‬اسـ‬ ‫ـتهالل غــر ُمبـ ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ـر‪ :‬ففــي ينايــر‪ /‬كانــون الثــاين‪َّ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫وقت‬ ‫الربيــة‪ ،‬لتصبــح أزمــة «التغيــرات املناخيــة» معضلةً أكرث واقعية من أي‬ ‫والتهمــت النــران آالف الحيوانــات‬ ‫ّ‬ ‫مــى‪ ،‬بينــا تواصــل مئــات اآلالف زحفهــا هرب ـ ًا مــن الحــروب والصِّ اعــات‪ ،‬ليــأيت فــروس «كورونــا» ا ُ‬ ‫ـتجد‬ ‫ملسـ َ‬ ‫ا ُ‬ ‫ملنتــر يف جميــع أنحــاء العــامل‪ ،‬خالق ـ ًا حالــة مــن القلــق وعــدم االســتقرار‪ ،‬فأصبــح الكثــرون يعتكفــون يف‬ ‫جراء نوبات من الهلع االستباقي خشية ما هو ٍ‬ ‫األيام القادمة‪.‬‬ ‫آت وما تحمله ّ‬ ‫املنازل ويتقوقعون عىل ذواتهم َّ‬ ‫أهميــة احتــواء مخــاوف البعــض والتخفيــف مــن تهويــات البعــض اآلخــر‪ ،‬كان ملوقــع «دي تســايت»‬ ‫انطالقـ ًا مــن ِّ‬ ‫ـي مــن جامعــة‬ ‫األملــاين هــذا الحــوار مــع الطبيــب النفــي «جــان كالبيتــر» الحاصــل عــى دكتــوراه الطــب النفـ ّ‬ ‫ـي يف عيــادة أوبريبــرج النهاريــة ‪ Kurfürstendamm‬يف برلــن‪ ،‬الذي‬ ‫كوبنهاغــن‪ ،‬ورئيــس وحــدة العــاج النفـ ّ‬ ‫قميــة‪،»Digitale Paranoia – bleiben /‬‬ ‫الر ّ‬ ‫صــدر لــه العــام املــايض كتــاب بعنــوان «أن تكــون مصابـ ًا بالبارنويــا َّ‬ ‫للحـ ِّـد مــن املخــاوف التــي تحيــط بهــم والتعاطــي‬ ‫أهميــة التواصــل مــع اآلخريــن َ‬ ‫إذ يف ِّنــد «كالبيتــر» يف حــواره ِّ‬ ‫معهــا بصــور ٍة أكــر إيجابيــة‪.‬‬ ‫المعتاد مقارنةً بالماضي؟‬ ‫تخوف ًا من ُ‬ ‫هل أصبح البشر أكثر ُّ‬

‫ نعــم‪ ،‬بالتأكيــد ‪ .‬الحظــت ذلــك فــي مجــال عملــي ســواء علــى‬‫الصعيــد الجماعــي أو الفــردي‪ ،‬وعلى ما يبدو أن األمر في تصاعد‬ ‫بحكــم تزايــد التهديــدات العالميــة التــي صــارت تؤ ِّثــر حاليـ ًا على‬ ‫ـخصية‪ .‬فعلــى ســبيل المثــال‪ ،‬لدينــا فيــروس‬ ‫محيــط حياتنــا الشـ‬ ‫ّ‬ ‫ـتجد ومــا يثيــره مــن حالــة هلــع لــدى المواطنيــن‪،‬‬ ‫المسـ َ‬ ‫كورونــا ُ‬ ‫فبعــض األشــخاص الذيــن يأتــون إلينــا فــي العيــادة الخارجيــة‬ ‫والعيــادة النهاريــة لــم يعــد بإمكانهــم التفكيــر بمعــزل عــن هذه‬

‫األحــداث‪ ،‬وذلــك نظــر ًا لحجــم التهديــدات المباشــرة وتــداول‬ ‫األخبــار الســيئة‪ ،‬التــي لــم يعــد باإلمــكان إيقافهــا أو حجبهــا‪.‬‬

‫إذن أنــت تــرى أن اآللــة اإلعالميــة تلعــب دوراً حاســم ًا فــي‬ ‫مثــل هــذه األحــوال‪..‬‬

‫االجتماعيــة تعــد نافــذة‬ ‫ بالطبــع‪ ..‬الصحــف ووســائل اإلعــام‬‫ّ‬ ‫هامــة ُن ِ‬ ‫أهمية حثيثة‬ ‫بصــر مــن خاللهــا العالم ك ّلــه‪ .‬كذلك هنــاك ِّ‬ ‫ّ‬ ‫لعنصــري الصــورة واللُّغة باعتبارهما عاملين حاســمين في رســم‬ ‫ـم وجــب علــى هــذه الوســائل‬ ‫للمتل ِّقــي‪ ،‬ومــن َثـ َّ‬ ‫الصــورة الذهنيــة ُ‬ ‫الجماهيريــة أن تنقــل صــور ًة حقيقيــة تتماهــى مــع العالــم علــى‬ ‫أرض الواقــع‪ ،‬ولكــن غالبـ ًا مــا يتم ذلــك بصورة يشــوبها القصور‪.‬‬ ‫تتضمــن‬ ‫علــى ســبيل المثــال‪ ،‬نجــد بعــض التقاريــر التليفزيونيــة‬ ‫َّ‬ ‫صــور ًا ألشــخاص مــن أصــل آســيوي يرتــدون أقنعــة التنفــس‬ ‫تعبــر عــن واقــع الحــال فــي‬ ‫والســترات الواقيــة‪ ،‬وهــي صــور ال ِّ‬ ‫ُ‬ ‫دولتنــا اال ّتحاديــة‪ .‬المشــكلة تكمــن أيض ًا فــي اإلشــارات الخاطئة‬ ‫التحيــزات والمخــاوف‪ ..‬ال يمكننــي تأكيــد حجــم‬ ‫التــي تثيــر‬ ‫ُّ‬ ‫الميلودرامــا النفسـ ّـية التــي تخلقهــا مثــل هــذه اإليعــازات غيــر‬ ‫ـق أن نعــي حجــم‬ ‫الدقيقــة فــي شــوارع ألمانيــا‪ .‬مــا نحتاجــه بحـ ّ‬ ‫ـوع مــن التراحــم‬ ‫ـرية ككلّ ‪ ،‬ليكــون بيننــا نـ ٌ‬ ‫المهـ ِّ‬ ‫ـدد للبشـ ّ‬ ‫الخطــر ُ‬ ‫المطلــوب تحديــد ًا فــي أوقـ ٍ‬ ‫ـات كهــذه‪ ،‬بحيــث ال يفكِّ ــر الجميــع‬ ‫فــي خالصهــم فحســب‪ ،‬بــل أيضـ ًا يفكِّ ــرون فــي الصــورة الكبيــرة‬ ‫ـرية‪.‬‬ ‫للبشـ ّ‬

‫نســبية ترتبــط بالفئــة‬ ‫فــي رأيــك‪ ،‬هــل الخــوف مســألة‬ ‫ّ‬ ‫يتخوفــون بالقــدر نفســه‬ ‫ـباب والكبــار‬ ‫العمريــة‪ ،‬أم أن الشـ ّ‬ ‫َّ‬ ‫ممــا يشــهده العالــم حاليــ ًا؟‬ ‫ّ‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪35‬‬


‫ربَّما األحرى بنا يف‬ ‫التعامل مع تحدّ ي‬ ‫فريوس كورونا‬ ‫أن نلتقط الدرس‬ ‫املُستفاد عندما‬ ‫تبدأ مشاعر الخوف‬ ‫والقلق يف االنحسار‬

‫‪36‬‬

‫ الخــوف شــعور فطــري ال إرادي يعتري جميــع الفئات العمرية‪.‬‬‫والمبالــغ فيهــا‬ ‫ْ‬ ‫بــررة ُ‬ ‫وإن كنــت أرى انتشــار المخــاوف غيــر ُ‬ ‫الم َّ‬ ‫باألكثــر لــدى كبــار الســن‪ ،‬كالخــوف مــن اعتــداءات المهاجريــن‬ ‫هام ًا للغاية‪،‬‬ ‫أو جرائــم العصابــات‪ .‬هنــا يلعب اإلعالم أيضـ ًا دور ًا ّ‬ ‫ـوه وســائل التواصــل االجتماعــي‬ ‫فقــد أصبــح مــن الممكــن أن تشـ ِّ‬ ‫أما‬ ‫فحــوى الرســالة الجماهيريــة وتجعلهــا علــى النقيــض تمامـاً‪ّ .‬‬ ‫ـص الشــباب‪ ،‬فهــم بالطبع قلقــون من إيذاء المســتقبل‬ ‫فيمــا يخـ ُّ‬ ‫ومــا يحملــه لهــم‪ .‬ومــع ذلك‪ ،‬فإنهــم غالب ًا ما ينجحــون في إحالة‬ ‫ـي‬ ‫الخــوف إلــى شــعور إيجابــي مــن خــال ممارســة نشــاط سياسـ ّ‬ ‫ـوي‪ .‬هــذا الشــعور بالقــدرة علــى فعــل شــيء يســاعدهم‬ ‫أو توعـ ّ‬ ‫علــى تجــاوز الســياج الســلبي لمشــاعر الخــوف والقلــق‪ ..‬فــا‬ ‫غضاضــة مــن تعامــل شــريحة الشــباب مــع تهديــدات العالــم‪،‬‬ ‫يؤرقنــي ح ّق ـ ًا‬ ‫ألنهــم يســتطيعون بلــورة واســتنفار قدراتهــم‪ .‬مــا ِّ‬ ‫نفســي «األطفــال»‪ ،‬إذ تنبغــي حمايتهــم مــن تســلل‬ ‫كمعالــج‬ ‫ّ‬ ‫مخــاوف اآلبــاء إليهــم‪ ،‬كما ينبغي أن يظ ّلــوا بمعزل عن تهديدات‬ ‫العالــم الصاخــب قــدر المســتطاع‪.‬‬

‫للتغيــرات المناخيــة‪ ،‬يشــعر الغالبيــة‬ ‫فــي ظــلّ التصــدي‬ ‫ُّ‬ ‫باالرتباك والعجز وكونهم بمعزل عن واضعي السياسات‪،‬‬ ‫مــا هــي رؤيتــك حيــال ذلــك؟‬

‫ـم أن تكون هناك‬ ‫ لكــي يصبــح الخــوف نشــاط ًا إيجابيـاً‪ ،‬من المهـ ّ‬‫مســاحة للعمــل المشــترك‪ .‬هــذه هــي أفضــل طريقــة لمواجهــة‬ ‫مشــاعر الخــوف‪ .‬فــإذا كانــت السياســات ُتوضع في األســاس من‬ ‫الصحــة العقليــة‬ ‫أجــل األفــراد‪ ،‬فيمكــن تطويعهــا أيضـ ًا لحمايــة‬ ‫َّ‬ ‫للســكّ ان وتشــجيع المشاركة‪ .‬فعلى ســبيل المثال‪ ،‬يمكن تيسير‬ ‫ـهل علــى ســكّ ان المنــازل تثبيــت‬ ‫ممــا يسـ ِّ‬ ‫شــروط ولوائــح البنــاء‪ّ ،‬‬ ‫أنظمــة الطاقــة الشمســية أو إنشــاء واجهــات خضــراء للمنــازل‪.‬‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫ٍ‬ ‫ـردود‬ ‫مــن حيــث التأثيــر الملمــوس‪ ،‬قــد ال يكــون هــذا األمــر ذا مـ‬ ‫التحديــات‪،‬‬ ‫كبيــر‪ ،‬ولكــن حتــى نتمكَّ ــن مــن اســتيعاب مثــل هــذه‬ ‫ّ‬ ‫يجــب علــى الفــرد أن يكــون قــادر ًا فعليــ ًا علــى القيــام بشــيء‬ ‫لتحســين بيئتــه المعيشــية إلــى جانــب جهــود الدولــة‪.‬‬

‫ـتحدث فــي اللُّغــة اإلنجليزيــة؛ ُيعـ َـرف‬ ‫هنــاك مصطلــح مسـ َ‬ ‫تغيــر المنــاخ‪ ..»Solastalgia /‬تــرى‬ ‫بـ«الحــزن الناشــئ عــن ُّ‬ ‫أي المشــاعر يعكســها هــذا المصطلــح؟‬

‫ مــن الطبيعــي أن تهيمــن مشــاعر الحــزن والخــوف والعجــز‬‫يتوعــد اإلنســان‬ ‫ـرد الطبيعــة الــذي بــات‬ ‫َّ‬ ‫علــى البشـ ّ‬ ‫ـراء تمـ ُّ‬ ‫ـرية جـ َّ‬ ‫المنضبِط معها‪.‬‬ ‫ـراء تعامله غيــر ُ‬ ‫بمخاطــر هــو المتسـ ِّـبب فيها جـ َّ‬ ‫ـك أن النــاس يشــعرون باالرتباك تجاه العديــد من األحداث‬ ‫ال شـ ّ‬ ‫تتطــور مشــاعر‬ ‫األحيــان‬ ‫بعــض‬ ‫فــي‬ ‫ولكــن‬ ‫لآلمــال‪،‬‬ ‫بــة‬ ‫خي‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫الم ِّ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫االرتبــاك بصــورة إيجابيــة يمكنهــا أن ُتحــدث انفراجـاً‪ .‬األخطر هو‬ ‫أن يصبــح االضطــراب حالــةً دائمــة ال تــزول‪ ،‬لكونهــا تلتهــم طاقة‬ ‫ـول هــذه الحالــة فيمــا بعــد إلــى‬ ‫الفــرد كاملــةً ‪ .‬ثــم يمكــن أن تتحـ َّ‬ ‫اكتئــاب‪ .‬وهــو مــا يصيــب البعــض بعــدم التــوازن والعجــز التــام‬ ‫إيــذاء مــا يواجهــون‪ ،‬وكأنهــم يريــدون فقــط االختبــاء وســحب‬ ‫ـد مــن التعامــل مــع األمــر قبيــل‬ ‫األغطيــة فــوق رؤوســهم‪ ..‬البـ ّ‬ ‫الوصــول إلــى مثــل هــذه النقطــة اليائســة‪.‬‬

‫كيف يمكن التعامل مع هذه المشاعر على أرض الواقع؟‬

‫هامــة للغايــة‪ .‬كثيــرون يفضلون االنســحاب‪ ،‬نظر ًا‬ ‫ ردود الفعــل ّ‬‫الملح إلى مســاحات وفرص تجعلهم يشــعرون أنهم‬ ‫الحتياجهم ُ‬ ‫ـم خلق تــوازن صحي بيــن الرجوع‬ ‫ـ‬ ‫المه‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ولك‬ ‫علــى مــا يــرام‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تهددنــا بالخــارج‪.‬‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الت‬ ‫ـات‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫التحد‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫وبي‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫اآلمن‬ ‫إلــى المنطقــة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬


‫يحتــاج البعــض أحيانـ ًا إلــى االنــزواء واالبتعــاد‪ ،‬ولكــن عليهــم ّأل يطيلــوا أمــد‬ ‫ذلــك‪ ،‬فيســقطون مــن حســابات العالــم ويصبحــون معزوليــن عــن الواقــع‬ ‫المعــاش‪ .‬االنســحاب ال يــدرأ مخاطر األشــياء الســلبية فحســب‪ ،‬بل يجعلهم‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫عضديــن لهــم واللحظــات الجميلــة التي‬ ‫الم‬ ‫ـخاص‬ ‫ـ‬ ‫األش‬ ‫ـك‬ ‫ـ‬ ‫أولئ‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫أيض‬ ‫ـدون‬ ‫ـ‬ ‫يفق‬ ‫ُ‬ ‫تسـ ِ‬ ‫ـعدهم‪ .‬وبذلــك يصبحــون بالفعــل خــارج العالــم وخــارج الحيــاة‪ .‬فعندما‬ ‫ـرك فيــه الشــخص أكثــر وأكثــر بســبب المخــاوف‬ ‫ينحصــر اإلطــار الــذي يتحـ َّ‬ ‫ـي»‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫اإليجاب‬ ‫ـز‬ ‫ـ‬ ‫التعزي‬ ‫ـدان‬ ‫ـ‬ ‫بـ«فق‬ ‫ـس‬ ‫ـ‬ ‫النف‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـرف ذلــك‬ ‫واالنســحابات‪ُ ،‬يعـ َ‬ ‫ّ‬ ‫ـور مشــاعر االكتئــاب‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫تط‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ـؤول‬ ‫ـ‬ ‫المس‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫األساس‬ ‫وهــو العامــل‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬

‫النفسي؟‬ ‫كيف يمكن تج ُّنب الوصول إلى ذلك المنعطف‬ ‫ّ‬

‫أو ً‬ ‫ال مــع اآلخريــن حــول هــذه المخــاوف‪ .‬وإخبــار األصدقــاء‬ ‫ يجــب التحـ ُّ‬‫ـدث ّ‬ ‫أو العائلــة أو زمــاء العمــل بالحاجــة إلــى الخــروج تدريجيـ ًا مــن ذلــك النفــق‬ ‫قربيــن‪،‬‬ ‫المظلــم‪ .‬واألفضــل‪ ،‬بالطبــع‪ ،‬أن يكــون ذلــك بمرافقــة أحــد ُ‬ ‫الم َّ‬ ‫للمســاعدة وقــت أن تخــرج األمــور عــن الســيطرة‪ ..‬أولى الخطوات تبدأ بكســر‬ ‫دائــرة الخــوف واالشــتباك الحســي مــع فعــل مغاير كمشــاهدة سلســلة دراما‬ ‫تليفزيونيــة جديدة تســاعد علــى االنفصال اللحظي المؤقت عــن دائرة األفكار‬ ‫ـم اختياره‬ ‫المشــتعلة‪ ،‬وليكــن ذلــك المســاء وكلّ مســاء هــو الموعــد الــذي يتـ ُّ‬ ‫لالمتنــاع عــن الحديــث بشــأن المخــاوف أو حتــى التفكيــر فيهــا‪ ،‬وكأنــه تمريــن‬ ‫يومــي لكســر الدائــرة المحترقــة داخــل العقــل‪.‬‬

‫اجتماعيــة ثابتــة تســاعد‬ ‫إذا لــم تتــح هــذه الفرصــة ولــم تكــن هنــاك بيئــة‬ ‫ّ‬ ‫علــى ذلــك‪ ،‬مــا البدائــل األخرى؟‬

‫ـم الشــعور باالنتمــاء‬ ‫ هنــاك ضــرورة‪ ،‬فــي هــذه الحالــة‪ ،‬إليجــاد مجموعــة يتـ ُّ‬‫ـم وجــود حلفــاء فــي مثــل هــذه المرحلــة‪ .‬يمكــن االنضمــام‬ ‫إليهــا‪ .‬مــن المهـ ّ‬ ‫إلــى جمعيــة أو االشــتراك فــي نشــاط خدمــي تطوعــي ســواء داخــل العمــل‪،‬‬

‫ـد مــن خلــق أهـ ٍ‬ ‫ـداف‬ ‫أماكــن العبــادة‪ ،‬أو غيرهــا مــن الكيانــات‬ ‫المجتمعيــة‪ .‬البـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫أمر حيوي وضروي الســتمرارية المقاومة النفسـ ّـية‪.‬‬ ‫مشــتركة مع آخرين‪ ،‬فهو ٌ‬ ‫ـي للحصــول علــى فــرص‬ ‫ـ‬ ‫قم‬ ‫الر‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫الواق‬ ‫ـات‬ ‫ـ‬ ‫تقني‬ ‫يمكــن االســتفادة أيض ـ ًا مــن‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ـخاص متطابقيــن فــي طريقــة التفكيــر‪ ،‬مــا يجعــل‬ ‫جديــدة للتواصــل مــع أشـ‬ ‫األمــر أكثــر نجاحـاً‪.‬‬

‫تغير المناخ‪ ،‬أو منع الجرائم الفظيعة‪ ،‬أو تعطيل زحف فيروس‬ ‫وقف ُّ‬ ‫قاتــل‪ ،‬كلّهــا أهــداف تبــدو ضخمــة ويصعــب تحقيقهــا‪ .‬كيــف يمكــن إذن‬ ‫خلــق هدف َمـرِن وإدارته…؟‬

‫أو ً‬ ‫ال تحديــد الشــيء أو الهــدف المرجــو الحفــاظ عليــه‪ .‬بالطبــع إنقــاذ‬ ‫ يجــب ّ‬‫ـرية هــدف نبيــل‪ ،‬لكنه غير واقعي‪ .‬ال يمكن ألحــد أن يفعل ذلك بمفرده‪،‬‬ ‫البشـ ّ‬ ‫حتــى الشــخصيات البــارزة مثل غريتا ثونبــرغ‪ ،‬المهاتما غانــدي‪ ،‬روزا باركس‪،‬‬ ‫نيلســون مانديــا… لم يتمكّ نــوا من إحداث تأثي ٍر كبير‪ ،‬لكنهــم بدأوا خطواتهم‬ ‫ـردي‪ .‬وهــذه هــي نــواة أي فعــل عظيــم أن نبــدأ بأنفســنا‬ ‫أيض ـ ًا علــى نطــاقٍ فـ ّ‬ ‫اإلنســانية‬ ‫أوالً‪ ..‬فقــط ينبغــي أن يعمــل كلّ فــرد فــي بيئتــه للحفــاظ علــى‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ككلّ ‪ .‬فاألمــر يتع َّلــق بإبقــاء مســيرة الحيــاة رغــم كلّ المخــاوف والتهديــدات‬ ‫الحقيقيــة‪ .‬بهــذه الطريقــة‪ ،‬يمكــن الحفــاظ علــى مســاحتنا الصغيــرة داخــل‬ ‫ّ‬ ‫المنظومــة األكبر‪.‬‬

‫ألمانيا من الدول ا َ‬ ‫ألقلّ تأ ُّثراً‬ ‫بتغيرات المناخ مقارنةً بالبلدان األخرى‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫نسبي ًا في ألمانيا‪ .‬تنعم دولتنا‬ ‫معدالت اإلصابة بفيروس كورونا قليلة‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫االتّحاديــة بالســام‪ ،‬علــى عكــس أجــزاء أخــرى مــن العالــم‪ُ ،‬تــرى‪ ..‬هل‬ ‫تبــدو مشــاعر الخــوف التــي تعتــري كثيــراً مــن النــاس فــي ألمانيــا أمــراً‬ ‫غيــر منطقــي فــي رأيك؟‬ ‫لتغيــر المنــاخ فــي‬ ‫ إن المخــاوف مــن التأ ُّثــر المباشــر بالكــوارث الشــديدة‬‫ُّ‬ ‫ألمانيــا‪ ،‬هــي أمــر غيــر منطقــي‪ ،‬علــى ا َ‬ ‫ألقــلّ فــي الوقــت الحالــي‪ .‬كذلــك ال‬ ‫يؤ ِّثــر تفشــي فيــروس كورونــا علينــا بصــورة مقلقــة مثــل البلــدان األخــرى‪:‬‬ ‫ـام صحــي أفضــل وسياســة أكثــر فاعليــة وشــفافية‬ ‫لدينــا حـ ٌ‬ ‫ـاالت َأقــلّ ونظـ ٌ‬ ‫ـرر قــد يكــون لــه معنــى أيضاً‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫الم‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫غي‬ ‫ـوف‬ ‫ـ‬ ‫الخ‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫لك‬ ‫ـة‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫مجاني‬ ‫ـام‬ ‫ووســائل إعـ‬ ‫ُ َّ‬ ‫وإن لــم تؤ ِّثــر‬ ‫أننــا نحاكــي مفهــوم اإلدراك الجمعــي لكلمــة «مخاطــر» حتــى ْ‬ ‫تهمنــا باعتبارنــا جــزء ًا مــن ســكّ ان هــذا‬ ‫علينــا شـ‬ ‫ـخصياً‪ ،‬فهــي فــي النهايــة ّ‬ ‫ّ‬ ‫الكوكــب‪ .‬والواقــع أن هــذا يقودنــا إلــى التفكيــر بصــور ٍة أعمــق فــي القضايــا‬ ‫ذات البعــد العالمــي‪.‬‬

‫ٍ‬ ‫أجزاء أخرى من العالم يختلف عن مخاوف‬ ‫هل الخوف لدى أفراد في‬ ‫البعض في ألمانيا؟‬

‫متطرفــة مــن الخــوف يمكــن أن تشــل حيــاة البشــر‪ ،‬ونــادر ًا‬ ‫ هنــاك أشــكال‬‫ِّ‬ ‫الغنيــة‪ .‬ومــع ذلــك‪ ،‬نجــد فــي مخيمــات الالجئيــن‬ ‫ـدول‬ ‫ـ‬ ‫ال‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫مــا يكــون ذلــك‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫اليونانيــة‪ ،‬األطفــال يعيشــون فــي حالــة مــن اليــأس التــام‪ ،‬حيــث تنتــاب‬ ‫بعضهــم حالــة مــن الالمبــاالة‪ ،‬ويلتزمــون الصمــت‪ ،‬وال يكادون يأكلــون‪ ،‬فقط‬ ‫ـانية التــي ينتمــون إليهــا أيضـاً‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫يحدقــون فــي الفضــاء‪ .‬نحــن جــزء مــن اإلنسـ ّ‬ ‫ـانية تحــدث‪ ،‬حتى‬ ‫ـ‬ ‫اإلنس‬ ‫ـوارث‬ ‫ـ‬ ‫الك‬ ‫ـذه‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ـأن‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫وع‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫لدين‬ ‫ـون‬ ‫ـ‬ ‫يك‬ ‫أن‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫المه‬ ‫ـن‬ ‫ومـ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫لــو لــم نتمكَّ ــن مــن رؤيتهــا مباشــرة‪ .‬فاألمــر يتع َّلــق دائمـ ًا بضــرورة االنفصــال‬ ‫عــن وهــم «المدينــة الفاضلــة»‪ .‬نحــن نعلــم أن العالــم ليــس آمنـاً‪ .‬وعلينــا أن‬ ‫ربمــا األحرى‬ ‫نتكيــف مــع هــذه الحقيقــة‪ ،‬فدائمـ ًا مــا نواجــه‬ ‫ّ‬ ‫التحديــات‪ .‬ولكــن َّ‬ ‫َّ‬ ‫المســتفاد‬ ‫ـدرس‬ ‫ـ‬ ‫ال‬ ‫ـط‬ ‫ـ‬ ‫نلتق‬ ‫أن‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ـدي فيــروس كورون‬ ‫بنــا فــي التعامــل مــع تحـ ّ‬ ‫ُ‬ ‫عندمــا تبــدأ مشــاعر الخــوف والقلــق فــي االنحســار‪ ■ .‬حــوار‪ :‬ماريــا ماســت‬ ‫ترجمــة‪ :‬شــيرين ماهــر‬

‫‪۹‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫المصدر‪ :‬موقع «‪ /Die Zeit‬دى تسايت» األلماني ‪.2020/3/1‬‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪37‬‬


‫الكوين‬ ‫الذعر‬ ‫حافة‬ ‫ّ‬

‫مــع ّ‬ ‫الصحيــن اليقظــة واالســتباقية الحتواء‬ ‫تتوخــى الحكومــات مــع املهنيــن‬ ‫كل ظهــو ٍر حديــث لفــروس جديــد‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫رد الفعــل ا ُ‬ ‫ملتـرِّ ع قــد يكــون تهديــداً أكــر مــن الفــروس بحـ ِّـد ذاتــه‪ .‬حيــث يبــدو‬ ‫التهديــد‪ .‬لكــن وبــاء اإلفــراط يف ِّ‬ ‫واملؤسســات ا ُ‬ ‫ملختلفــة غــر قــادرة عــى االســتجابة لفــروس كورونــا‬ ‫العامليــة‬ ‫أن الحكومــات ووســائل اإلعــام‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫الصحيــن مييلــون إىل أن يكونــوا أكــر‬ ‫بطريقــة هادئــة وعقالنيــة‪ .‬أحــد أســباب ذلــك هــو أن العلــاء واملهنيــن‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ـي تهيمــن عليــه‬ ‫ـروس جديــد مقارنــةً بسـ‬ ‫قلقـ ًا بشــأن انتشــار فـ‬ ‫ـاالت األنفلونــزا األكــر شــيوع ًا‪ .‬يف منـ ٍ‬ ‫ـاخ اجتامعـ ٍّ‬ ‫ثقافــة الخــوف‪ ،‬هنــاك دامئـ ًا تو ُّقــع بــأن يكــون الفــروس الجديــد األخطــر عــى اإلطــاق‪.‬‬

‫لعقود من الزمن‬ ‫ٍ‬ ‫حىت اآلن‪ ،‬استسلمت‬ ‫ثقافتنا لفكرة أن‬ ‫البرش هم مصدر‬ ‫مشاكل العالم‪ .‬يتمُّ‬ ‫تصوير الناس دائماً‬ ‫عىل أنهم املشكلة‪:‬‬ ‫سواء ك ّنا بصدد تدمري‬ ‫الكوكب أو حمل‬ ‫أمراض مهدّ دة‬

‫‪38‬‬

‫غــداة تفشــي وبــاء كورونــا شــهدت أســواق األســهم العالميــة‬ ‫أســوأ أســبوع لهــا منــذ األزمــة الماليــة فــي ‪ ،2008‬بخســارة أكثــر‬ ‫مــن ‪ 6‬تريليونــات دوالر فــي قيمة األســهم‪ ،‬وفي بعض األســواق‪،‬‬ ‫ـجلت‬ ‫ـدل لــم يشــهده العالــم منــذ الكســاد‬ ‫عمليــات بيــع بمعـ َّ‬ ‫سـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫الكبيــر قبــل قــرن تقريب ـاً‪ .‬لمــاذا؟ ألن المســتثمرين العالمييــن‬ ‫المحتملة‬ ‫فــي ذعــر غيــر مســبوق بســبب التداعيــات‬ ‫ّ‬ ‫االقتصاديــة ُ‬ ‫لوبــاء كورونــا‪.‬‬ ‫ـي يرتقــي‬ ‫يشــير العديــد مــن ُ‬ ‫المعلِّقيــن إلــى أن المشــهد العالمـ ّ‬ ‫لحالــة الجنــون‪ .‬يجــادل «روس كالرك» بشــكلٍ مقنــع فــي مج ّلــة‬ ‫«‪ »Spectator‬بــأن «أخطــر شــيء فــي فيــروس كورونــا هــو حالــة‬ ‫محــرر االقتصــاد فــي‬ ‫الهســتيريا»‪ .‬ويوافــق فيليــب ألدريــك‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫صحيفــة «التايمــز»‪ ،‬علــى ذلــك‪« :‬مــا يجــب أن نخافــه هــو حالــة‬ ‫ـد ذاتــه»‪.‬‬ ‫الذعــر أكثــر مــن الفيــروس بحـ ِّ‬ ‫ويلقــى باللــوم علــى نزعتنــا للتفكيــر فــي القــدر والخــوف مــن‬ ‫المجهــول كتفســيرات لهــذا الســلوك‪ .‬إن ثقافــة المخاطــرة‬ ‫رد الفعــل تجــاه التهديــدات همــا بالتأكيــد‬ ‫وميلنــا للمبالغــة فــي ّ‬ ‫أســباب لمــا يحــدث اليــوم‪ .‬لكــن هنــاك عنصــر ًا آخــر ال يقــل‬ ‫أهميــة مرتبــط بهــذه العناصــر لــم يتــم طرحــه ‪ -‬أن هــذا الجنــون‬ ‫ِّ‬ ‫ال يتأ ّتــى مــن «الجماهيــر الجاهلــة‪ ،‬بســيطة المعرفــة‪ ،‬ســهلة‬ ‫االنقيــاد‪ ،‬والســاذجة»‪ ،‬ولكــن مــن الطبقــة الراقيــة المطّ لعــة‬ ‫المثقَّفــة‬ ‫تخرجيــن مــن أعلــى الجامعــات‪ ،‬والنخــب ُ‬ ‫جيــداً‪ُ ،‬‬ ‫والم ِّ‬ ‫ّ‬ ‫والحكومــات‪.‬‬ ‫كان التناقــض بيــن ردود الفعــل تجــاه انتشــار الفيــروس مــن‬ ‫وعامــة النــاس صارخـاً‪ .‬فحتى مــع ارتفاع مســتوى الذعر‬ ‫النخــب‬ ‫ّ‬ ‫فــي التقاريــر المتواتــرة حــول فيــروس كورونــا‪ ،‬واصــل النــاس‬ ‫العاديــون حياتهــم بنســقٍ عــادي‪ .‬النخبــة التــي يفتــرض أنها على‬ ‫جيــدة‪ ،‬والتــي ت ّتهــم فــي كثيــ ٍر مــن األحيــان الجماهيــر‬ ‫درايــة ّ‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫زيفة» بســهولة‪،‬‬ ‫الم َّ‬ ‫«الغبيــة» بأنهــا عرضــة للهســتيريا و«األخبار ُ‬ ‫كانــت تح ّفــز علــى الذعــر‪ .‬فــي هــذه األثنــاء‪ ،‬وباســتثناء مناطــق‬ ‫الصحــي‪ ،‬يواصــل النــاس العاديــون العمــل‪ ،‬والتن ُّقــل‪،‬‬ ‫الحجــز‬ ‫ِّ‬ ‫والذهــاب إلــى المطاعــم‪ ...‬إنهــم ببســاطة يواصلــون حياتهــم‬ ‫المحتملــة‪.‬‬ ‫الطبيعيــة‪ ،‬وفــي الوقــت نفســه ينتبهــون للمخاطــر ُ‬ ‫النخــب فــي سـ ٍ‬ ‫ـر نحــو حالــة مــن الذعــر؛ مثــل قطيــع مــن‬ ‫ـقوط حـ ّ‬ ‫الحيوانــات البريــة‪ ،‬مذعــور مــن رؤيــة حيــوان مفتــرس واندفــاع‬ ‫أعمــى عبــر المياه الموبوءة بالتماســيح‪ ،‬قد يتسـ َّـببون فــي انهيا ٍر‬ ‫ـي محتمــل‪ .‬وفــي الوقــت نفســه‪ ،‬نــرى الحــس‬ ‫اقتصـ ّ‬ ‫ـادي عالمـ ّ‬ ‫الرواقــي الســليم‪ ،‬والحكمــة البســيطة ولكن العميقة‪ ،‬للحشــود‬ ‫تطهرة»‪.‬‬ ‫الم ّ‬ ‫«العظيمــة غيــر ُ‬ ‫ـرف‪ .‬لعقودٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ردود النخبــة‪ ،‬فــي جــزء منهــا‪ ،‬كانــت نتــاج ســوء تصـ ُّ‬ ‫مــن الزمــن حتــى اآلن‪ ،‬استســلمت ثقافتنــا لفكــرة أن البشــر هــم‬ ‫ـم تصويــر النــاس دائم ـ ًا علــى أنهــم‬ ‫مصــدر مشــاكل العالــم‪ .‬يتـ ُّ‬ ‫المشــكلة‪ :‬ســواء ك ّنــا بصــدد تدميــر الكوكــب أو حمــل أمــراض‬ ‫ـددة‪.‬‬ ‫مهـ ّ‬ ‫ـي‪ .‬لويــس‬ ‫ـ‬ ‫الغرب‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫المجتم‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫طوي‬ ‫ـخ‬ ‫ـ‬ ‫تاري‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫له‬ ‫ـرة‬ ‫ـ‬ ‫الظاه‬ ‫ـذه‬ ‫هـ‬ ‫ّ‬ ‫باســتور‪ ،‬العالــم العظيــم في القرن التاســع عشــر الذي اكتشــف‬ ‫حد تعبير‬ ‫الميكروبــات‪ ،‬كان لديــه رعــب من الديموقراطيــة‪ .‬على ِّ‬ ‫«ديفيــد بودانيــس»‪ ،‬اعتبــر باســتور الغوغــاء بأنهــم «مجموعــة‬ ‫ـود النــاس‬ ‫مــن المخلوقــات الصغيــرة المصابــة والتــي لــم يتعـ َّ‬ ‫المحترمــون علــى رؤيتهــا عــادةً‪ ،‬ولكنهــا كانــت موجــودة دائمـاً‪،‬‬ ‫جاهــزة لالنقضــاض‪ ،‬لدخــول مجتمعنــا وتولّــي المســؤولية‬ ‫والتكاثــر»‪.‬‬ ‫اســتعارة هــذا التشــبيه للجماهيــر كبكتيريــا ‪-‬كائنــات صغيــرة‬ ‫تنتشــر في كلّ مكان‪ ،‬وعلى اســتعداد للهجوم والنمو واالنتشار‪-‬‬ ‫تلخــص خــوف اليميــن مــن الجماهيــر فــي ذلــك الوقــت‪.‬‬ ‫ّ‬


‫يمكن لإلبداع البرشيّ‬ ‫وقدرتنا عىل حلّ‬ ‫املشاكل أن تحتوي‪،‬‬ ‫وستحتوي فريوس‬ ‫كورونا بالتأكيد‪.‬‬ ‫األفراد ليسوا املشكل‪،‬‬ ‫لكن النخب العامل ّية‬ ‫هي بالتأكيد كذلك‪،‬‬ ‫إن سلوكهم يثري املزيد‬ ‫ِّ‬ ‫ويهدد‬ ‫من الذعر‪،‬‬ ‫املجتمعات البرشيّة‬ ‫ِ‬ ‫بالركود االقتصاديّ‬

‫خاصة بعد الثورة البلشــفية لعام ‪،1917‬‬ ‫طوال القرن العشــرين‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫اجتماعية وسياسـ ّـية‬ ‫عندمــا أصبحــت الجماهير قــوة‬ ‫حقيقية في‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المجتمع‪ ،‬أصبحت اســتعارة الحشــود ‪ /‬البكتيريا ســائدة بشــكلٍ‬ ‫ـم إرســال لينيــن إلــى روســيا عــام ‪ُ ،1917‬وصــف‬ ‫خـ ّ‬ ‫ـاص‪ .‬عندمــا تـ ّ‬ ‫بـ«طاعــون (بكتيريــا) العصيــة»‪ ،‬وهــو جالــس فــي قطــاره محكــم‬ ‫اإلغــاق‪ .‬اســتخدم قــادة أوروبا الغربية عبــارة «التطويق الصحي‬ ‫ ‪ »cordon sanitaire‬لوصــف سياســة تطويــق الوافــد الجديــد‬‫ـرب بداخله‪.‬‬ ‫(القطــار) هنــاك‪ ،‬لمنــع التلـ ُّ‬ ‫ـوث والعــدوى من التسـ ُّ‬ ‫وفــي عــام ‪ ،1920‬وصــف «ونســتون تشرشــل»‪ ،‬الــذي كان آنــذاك‬ ‫وزيــر الخارجيــة للحــرب والجــو‪ ،‬الثــورة البلشــفية بأنهــا «روســيا‬ ‫المســمومة‪ ،‬وروســيا المصابــة‪ ،‬وروســيا التــي تحمــل الطاعــون‪،‬‬ ‫وروســيا الحشــود المســلَّحة التــي ال تضــرب فقــط بالحربــة‬ ‫ـوام الحاملة‬ ‫والمدفــع‪ ،‬ولكــن ترافقهــا وتســبقها أســراب مــن الهـ ّ‬ ‫للتيفــوس الــذي يقتــل أجســاد الرجــال‪ ،‬والمذاهــب السياسـ ّـية‬ ‫صحــة األمــم وحتــى روحهــا»‪.‬‬ ‫التــي ِّ‬ ‫تدمــر َّ‬ ‫اليهودية فيروســا قاتالً‪،‬‬ ‫فــي تلــك األثنــاء‪ ،‬اعتبــر هتلــر والنازيــون‬ ‫ّ‬ ‫ـن ينقلوه‪ ،‬وبالتالي كان الحــلّ الوحيد هو القضاء‬ ‫ـم َمـ ْ‬ ‫واليهــود هـ ّ‬ ‫نظريــة احتــواء مــا بعــد الحــرب التــي تهــدف إلــى وقــف‬ ‫عليهــم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الشــيوعية‪« ،‬الخطــر‬ ‫الشــيوعية‪ ،‬أو فــي حالــة الصيــن‬ ‫انتشــار‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫األصفــر»‪ ،‬هــي نســخة أكثــر حداثــة مــن نفــس الشــعور اليــوم‪.‬‬ ‫تأسســت المكارثيــة فــي محاولة لوقف‬ ‫وفــي الواليــات الم َّتحــدة‪َّ ،‬‬ ‫ـيوعية مثــل البكتيريــا فــي المنــزل‪.‬‬ ‫انتشــار الشـ‬ ‫ّ‬ ‫هــذا النــوع مــن اللّغــة ال يســتخدم علــى نطــاقٍ واســع فــي حالــة‬ ‫الذعــر اليــوم حــول فيــروس كورونــا‪ ،‬بالطبع‪( .‬رغــم وجود بعض‬ ‫اإلشــارات إلــى «خطــر أصفــر» جديــد)‪ .‬ومــع ذلــك‪ ،‬فإننــا نحمــل‬ ‫ـي بالتأكيــد‪ :‬ســواء كان النــاس يقاطعــون‬ ‫هــذا الشــعور األساسـ ّ‬ ‫ـعبويين‬ ‫الحــي الصينــي فــي مراكــز المــدن‪ ،‬أو السياسـ ّـيين الشـ‬ ‫ّ‬ ‫مثــل ماتيــو ســالفيني أو ماريــن لوبــان الذيــن يلقــون باللــوم علــى‬ ‫تفشــي المــرض‪.‬‬ ‫األجانــب فــي ِّ‬

‫يتــم تصويرهــم‪ -‬عــن غيــر قصــد‬ ‫األفــراد هــم الخطــر ‪-‬هكــذا‬ ‫ُّ‬ ‫يحملــون تهديــد ًا مميت ـ ًا وغيــر مرئــي‪ .‬وهــو اعتقــاد يســتند إلــى‬ ‫روايــة خبيثــة موجــودة مــن قبــل‪ ،‬ولكنهــا ال يمكــن ّإل أن تزيــد‬ ‫مــن تقســيم المجتمــع‪ ،‬وتزيــد مــن الشــعور بالضعــف الــذَّ ري‬ ‫(‪ ،)atomised‬وتنأى بالنخب العالمية غير العقالنية والمذعورة‬ ‫بعيــد ًا عــن مجــال الخطــر فــي هــذه العمليــة‪.‬‬ ‫والوفيـ�ات بسـ�بب فيـ�روس كورونـ�ا( (�‪Cov‬‬ ‫إنهـ�ا حالـ�ة مأسـ�اوية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ســمي‪ ،‬أمــر مؤســف للغايــة‪،‬‬ ‫الر‬ ‫اســمه‬ ‫‪ ،)id-19‬باســتخدام‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ـدل إماتــة‬ ‫ـ‬ ‫مع‬ ‫أن‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫يعتق‬ ‫ـب‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫بالتناس‬ ‫ـاس‬ ‫ـ‬ ‫إحس‬ ‫لكننــا بحاجــة إلــى‬ ‫َّ‬ ‫الفيــروس ال تتجــاوز واحــد ًا فــي المئــة‪ ،‬وهــذا أعلــى بنحــو ســبع‬ ‫ـدل إماتــة األنفلونــزا المألوفــة‪ ،‬ولكنه يم ِّثــل جزء ًا‬ ‫ـرات مــن معـ َّ‬ ‫مـ َّ‬ ‫ً‬ ‫ـادة‬ ‫ـ‬ ‫الح‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫التنفس‬ ‫ـاز‬ ‫ـ‬ ‫الجه‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫متالزم‬ ‫ـات‬ ‫ـ‬ ‫وفي‬ ‫ل‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫مع‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ا‬ ‫ـيط‬ ‫ـ‬ ‫بس‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التنفسية‬ ‫لعام ‪ 9.6( 2003‬في المئة)‪ ،‬ومتالزمة الشــرق األوســط‬ ‫ّ‬ ‫فــي عــام ‪ 34.4( 2012‬فــي المئــة)‪.‬‬ ‫يعتبــر فيــروس كورونــا معديـ ًا أكثر من مرض الســارس ومتالزمة‬ ‫الشــرق األوســط التنفسـ ّـية‪ ،‬لكن العلماء يعملون جاهدين على‬ ‫العالمية‬ ‫الصحــة‬ ‫إيجــاد العالجــات واللقاحــات‪ .‬وتعتقد منظَّ مة‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫طورتــه شــركة «�‪Gilead Sci‬‬ ‫أن عقـ�ار« «‪ ،»remdesivir‬الــذي َّ‬ ‫فعــاالً‪ ،‬وهــو حاليـ ًا في طــور التجارب‬ ‫‪ ،»ences‬قــد يكــون عالجـ ًا ّ‬ ‫اإلكلينيكية‪.‬‬ ‫ـري وقدرتنــا على حلّ المشــاكل أن تحتوي‪،‬‬ ‫ويمكــن لإلبــداع البشـ ّ‬ ‫وســتحتوي فيــروس كورونــا بالتأكيــد‪ .‬األفــراد ليســوا المشــكل‪،‬‬ ‫العالميــة هــي بالتأكيــد كذلــك‪ ،‬إن ســلوكهم يثيــر‬ ‫لكــن النخــب‬ ‫ّ‬ ‫البشــرية بالركــودِ‬ ‫ويهــدد المجتمعــات‬ ‫المزيــد مــن الذعــر‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫االقتصــادي‪ .‬ونحــن بحاجــة اليــوم إلــى تب ِّنــي هــدوء وحكمــة‬ ‫ّ‬ ‫الجماهيــر‪ ،‬بــدل جنــون وهســتيريا النخــب‪ ■ .‬نورمــان لويــس‬ ‫ترجمــة‪ :‬مــروى بــن مســعود (تونــس)‬

‫‪۹‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫المصدر‪www.spiked-online.com :‬‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪39‬‬


‫هل أصبحنا عرضة لها م ّرة أخرى؟‬

‫عودة األوبئة‬

‫إن الوبــاء موضــوع الســاعة قــد شــغل النــاس وقلــب عاداتنــا وأمنــاط حياتنــا ويقيننــا بشــكلٍ غــر مســبوق‪ .‬أعــاد‬ ‫ترتيــب أولوياتنــا وعطَّ ــل حركتنــا لبعــض الوقــت‪ .‬وأصبحنــا نشــعر‪ ،‬بدرجـ ٍ‬ ‫ـات متفاوتــة‪ ،‬بعجزنــا عــن مواجهتــه‪.‬‬ ‫خاصــة وأن‬ ‫ـن نخــاف‪ ،‬أو حتــى مــا إذا كان يجــب أن نخــاف‪،‬‬ ‫ممـ ْ‬ ‫ّ‬ ‫والعجيــب يف األمــر أننــا مل نعــد نعــرف دامئ ـ ًا َّ‬ ‫الفــروس ال يعــرف بالحــدود‪ .‬إن حالــة عــدم اليقــن الســائدة قــد غــذَّ ت أوهام ـ ًا ال حـ َّـد لهــا‪ ،‬وأثــارت شــائعات‬ ‫جامحــة تكــر وتتســارع ككــرة ثلــج‪.‬‬

‫أوريان غيلبو ▲‬

‫‪40‬‬

‫منــذ القدم‪ ،‬كانت الفيروســات والطفيليــات والبكتيريا والكائنات‬ ‫الدقيقــة األخــرى التــي تسـ ِّـبب األمــراض المعديــة تتعايــش مــع‬ ‫العامــة‪ ،‬ال‬ ‫الصحــة‬ ‫وتطــور‬ ‫العلمــي‬ ‫التقــدم‬ ‫البشــر‪ .‬ورغــم‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تــزال األمــراض المعروفــة منــذ قــرونٍ تصيــب البشــر (كالكوليــرا‬ ‫والمالريــا) ‪ ،‬مــع ظهــور أمــراض جديــدة يمكــن أن تنتشــر علــى‬ ‫نطــاقٍ واســع (كاإليــدز والســارس)‪ .‬وبنهايــة القــرن العشــرين‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ـي حقيقــي أمــر ًا غيــر مســتبعد‬ ‫بــدت إمكانيــة انتشــار وبــاء عالمـ ّ‬ ‫ممــا فاقــم شــعورنا بالضعــف‪ ،‬وأذكــى المخاوف من العــودة إلى‬ ‫ّ‬ ‫ـرية عاجــز ًة عــن مواجهــة‬ ‫«العصــر األســود» عندمــا كانــت البشـ ّ‬ ‫ـول‬ ‫األوبئــة‪ .‬لكــن لمــاذا تظهــر (مــن جديــد) هــذه األمــراض وتتحـ َّ‬ ‫إلــى أوبئــة؟ وكيــف يمكننــا محاربتهــا؟ يســتعرض كتــاب «عــودة‬ ‫الوطني‬ ‫األوبئــة»‪ ،‬الــذي شــاركت فــي تأليفــه الباحثة فــي المركــز‬ ‫ّ‬ ‫والم ِ‬ ‫حاضــرة فــي العلــوم السياسـ ّـية‬ ‫للبحــوث‬ ‫العلميــة بفرنســا ُ‬ ‫ّ‬ ‫األوروبيــة فــي جامعــة «باريــس ‪« ،»8‬أوريــان‬ ‫ـات‬ ‫ـ‬ ‫الدراس‬ ‫بمعهــد‬ ‫ّ‬ ‫غيلبــو»‪ ،‬بعــض األوبئــة التــي أ َّثــرت على ســكّ ان العالم فــي بداية‬ ‫العلميــة‬ ‫التحديــات‬ ‫القــرن الحــادي والعشــرين‪ ،‬ويح ِّلــل أبــرز‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫واالجتماعيــة والسياسـ ّـية النتشــارها‪.‬‬ ‫ّ‬

‫ـي بعنــوان «عــودة‬ ‫فــي عــام ‪ ،2015‬قمتــم بنشــر عمــلٍ جماعـ ّ‬ ‫األوبئــة»‪ :‬لمــاذا يتزايــد خطــر انتشــار األمــراض المعديــة‬ ‫علــى نطــاقٍ واســع فــي الســنوات األخيــرة؟‬

‫مرة ليســت‬ ‫ إن فكــرة الظهــور الدائــم لألمــراض المعدية في كلّ ّ‬‫جديــدة‪ :‬كمــا توقَّع تشــارلز نيكــول‪ ،‬الحائز على جائــزة نوبل عام‬ ‫تتكيــف دائمـاً‪ .‬يســاهم فــي هــذا الوضع‬ ‫‪ ،1928‬فــإن الميكروبــات َّ‬ ‫حدتها في الســنوات األخيرة‪،‬‬ ‫العديــد مــن العوامــل التي ازدادت َّ‬ ‫ـي‪ ،‬وزيــادة‬ ‫وال ســيما تطـ ُّ‬ ‫ـي‪ ،‬واالحتــرار العالمـ ّ‬ ‫ـور النقــل الجماعـ ّ‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫عــدد ســكّ ان العالم‪ ،‬وتوســيع الزراعــة وتكثيفهــا‪ ،‬والتكاثر وإزالة‬ ‫ممــا يعنــي زيــادة االتِّصــال بيــن البشــر والحيوانــات‪،‬‬ ‫الغابــات ّ‬ ‫وتعزيــز انتقــال الفيروســات بيــن األنواع‪.‬‬

‫مرة أخرى؟‬ ‫هل أصبحنا أكثر عرضةً لمثل هذه األوبئة ّ‬

‫يقدمــان لنــا آفاقــ ًا أرحــب‬ ‫العلمــي والبحــث‬ ‫التقــدم‬ ‫‬‫الطبــي ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لمكافحــة األوبئــة التــي لــم يكــن مــن الممكــن التفكيــر فيهــا مــن‬ ‫ـدم‬ ‫قبــل‪ ،‬ســواء مــن حيــث الكشــف أو العــاج‪ .‬لكــن هــذا التقـ ُّ‬ ‫تهور للمضادات‬ ‫الم ِّ‬ ‫تقابلــه تطـ ُّ‬ ‫ـورات مقلقة‪ ،‬ال ســيما االســتخدام ُ‬ ‫ـري الــذي يعـ ِّزز المقاومــة‪،‬‬ ‫ـري والبيطـ ّ‬ ‫الحيويــة فــي الطــب البشـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـبي مقابــل التطعيــم‪ .‬وقــد أبــرزت جميــع‬ ‫ـ‬ ‫النس‬ ‫ـض‬ ‫ـ‬ ‫التناق‬ ‫ـودة‬ ‫وعـ‬ ‫ّ‬ ‫ـي‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫الدول‬ ‫ـاون‬ ‫ـ‬ ‫التع‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫أهم‬ ‫ـابقة‬ ‫ـ‬ ‫الس‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫األوبئ‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬

‫المســتفادة التــي تعلَّمناهــا مــن األوبئــة‬ ‫مــا هــي الــدروس ُ‬ ‫السابقة (اإليبوال‪ ،‬فيروس اإلنفلونزا أ ‪ ،H1N1‬السارس…)؟‬

‫ـي وعــدم‬ ‫ أبــرزت جميــع األوبئــة الســابقة ِّ‬‫أهميــة التعــاون الدولـ ّ‬ ‫فعاليــة التدابيــر الجزئيــة والفوضويــة مثــل إغــاق الحــدود‬ ‫بيــن لنــا وبــاء «ســارز» و «‪ »H1N1‬بشــكلٍ‬ ‫بــدون تنســيق‪ .‬وقــد َّ‬ ‫أهميــة التواصــل والشــفافية بيــن الــدول ومــع النــاس‪.‬‬ ‫ـاص ِّ‬ ‫خـ ّ‬ ‫ـرة جهــود ًا كبيــرة فــي هــذا الصــدد بعــد‬ ‫ـ‬ ‫الم‬ ‫ـذه‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫الصي‬ ‫ـت‬ ‫بذلـ‬ ‫ّ‬ ‫انتقــادات إلدارتهــا لفيــروس الســارس فــي عــام ‪ .2003‬وتعمــل‬ ‫للتكيف مع الســياق‬ ‫العالميــة أيضـ ًا علــى ذلــك‪،‬‬ ‫الصحــة‬ ‫منظَّ مــة‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫الحالــي‪ :‬اجتمعــت علــى ســبيل المثــال فــي ‪ 13‬فبراير‪/‬شــباط كلّ‬ ‫للحد من تداول المعلومات‬ ‫من غوغل‪ ،‬وفيســبوك‪ ،‬ويوتيوب‪...‬‬ ‫ِّ‬ ‫الكاذبــة‪.‬‬ ‫ـد المــرض‬ ‫ـ‬ ‫ض‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫المعرك‬ ‫ـت‬ ‫ـ‬ ‫أصبح‬ ‫ـث‬ ‫ـ‬ ‫حي‬ ‫ـر‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫األخي‬ ‫ـوال‬ ‫ـ‬ ‫إيب‬ ‫ـاء‬ ‫أبــرز وبـ‬ ‫ّ‬


‫أهمية‬ ‫صعبــة للغايــة فــي البلــدان التــي تعانــي من خلــل في النظــم‬ ‫الصحيــة‪ِّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫قويــة ومرنــة‪ .‬فــي جميــع هــذه النقــاط‪ ،‬ال يــزال هنــاك‬ ‫صحيــة ّ‬ ‫وجــود أنظمــة ّ‬ ‫ـكلٍ‬ ‫ـاص فيما يتعلَّق‬ ‫ـ‬ ‫خ‬ ‫ـ‬ ‫بش‬ ‫دقيقة‬ ‫الحالة‬ ‫ولكن‬ ‫به‪،‬‬ ‫ـام‬ ‫ـ‬ ‫القي‬ ‫ـن‬ ‫يتعيـ‬ ‫الكثيــر الــذي‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫الطبيــة والبنية التحتية‬ ‫الرعاية‬ ‫إلى‬ ‫الوصول‬ ‫ـان‬ ‫ـ‬ ‫لضم‬ ‫ية‪،‬‬ ‫الصح‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫بتعزيــز النظ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المفاجئة في عــدد المرضى‪.‬‬ ‫الوظيفيــة‪ ،‬القــادرة علــى اســتيعاب الزيــادة ُ‬ ‫ّ‬

‫مما كانت‬ ‫المؤسســات‬ ‫هــل‬ ‫ّ‬ ‫الصحيــة العالميــة مســتعدة بشــكلٍ أفضــل ّ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫عليه قبل بضع سنوات؟ هل ال يزال التفاوت قائما بين دول أو مناطق‬ ‫من العالم؟‬

‫مما كانت عليه‬ ‫الصحة‬ ‫ يبــدو لــي أن منظَّ مــة‬‫ّ‬ ‫العالمية تتواصل بشــكلٍ أفضــل ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـزم أكبــر‪ :‬يمكننــا أن نــرى ذلــك علــى‬ ‫فــي األوبئــة الســابقة وتظهــر وجودهــا بحـ ٍ‬ ‫ســبيل المثــال فــي جهودهــا الراميــة إلــى عــدم التقليــل مــن خطــورة الوضــع‪،‬‬ ‫عالميـاً‪ .‬مــن وجهــة النظــر هــذه‪ ،‬يمكننا‬ ‫ـرع فــي إعــان كورونــا وبــاء‬ ‫دون التسـ ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ـم انتقادهــا‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫ـث‬ ‫ـ‬ ‫(حي‬ ‫ـابق‬ ‫ـ‬ ‫الس‬ ‫‪H1N1‬‬ ‫ـروس‬ ‫ـ‬ ‫في‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـدرس‬ ‫ـ‬ ‫ال‬ ‫ـت‬ ‫ـ‬ ‫َّم‬ ‫ل‬ ‫تع‬ ‫ـا‬ ‫القــول إنهـ‬ ‫َّ‬ ‫ـرعها فــي اإلعــان عــن حالــة وبــاء) ومــع إيبــوال (خــال وبــاء ‪ 2014‬فــي‬ ‫لتسـ ُّ‬ ‫ٍ‬ ‫تعرضــت النتقادات إلعالنها حالة الطــوارئ بعد فوات األوان)‪.‬‬ ‫غــرب إفريقيــا‪َّ ،‬‬ ‫قويــة للغايــة فــي مــا يتع َّلــق بمرونــة النظــم‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫عالمي‬ ‫ـات‬ ‫ـ‬ ‫تفاوت‬ ‫ال تــزال هنــاك‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الصحيــة‪ ،‬األمــر الــذي يمكــن أن يجعــل جميــع جهــود التحضيــر باليــةً ‪ .‬وعلــى‬ ‫ّ‬ ‫الرغــم مــن الــدروس المســتفادة مــن وبــاء اإليبــوال‪ ،‬ال يــزال الوضــع في غرب‬ ‫العالميــة‬ ‫الصحــة‬ ‫إفريقيــا مقلقـاً‪ ،‬علــى ســبيل المثــال‪ ،‬وقــد أعربــت منظَّ مــة‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫اإلفريقيــة علــى التعامــل مــع فيــروس كورونــا‪.‬‬ ‫عــن قلقهــا بشــأن قــدرة القــارة‬ ‫ّ‬

‫الصحــة‬ ‫وخاصــة منظَّ مــة‬ ‫الدولــي‪،‬‬ ‫ــي‬ ‫لقــد انتقدتــم التعــاون‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫الصح ّ‬ ‫العالمية‪ .‬هل ما زالت انتقاداتكم سارية في عام ‪ ،2020‬بينما يستعد‬ ‫ّ‬ ‫العالــم لمواجهــة وبــاء جديــد واســع النطــاق؟‬ ‫العالميــة مــن تجاربهــا الســابقة‪ ،‬لكنهــا ال‬ ‫الصحــة‬ ‫ لقــد تعلَّمــت منظَّ مــة‬‫َّ‬ ‫ّ‬

‫ـم فــي نهايــة المطــاف الــدول‬ ‫حكوميــة‬ ‫تــزال منظَّ مــة‬ ‫دوليــة‪ ،‬وص َّنــاع القــرار هـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫األعضــاء‪ .‬وكمــا هــو الحــال فــي األوبئــة الســابقة‪ ،‬علــى الرغــم مــن إلحاحيــة‬ ‫الوضــع ســواء الســابق أو الحالــي‪ ،‬لــم تكــن التمويــات بالشــكل أو الســرعة‬ ‫المطلوبــة‪ :‬مــن ‪ 61‬مليــون دوالر طلبتهــا المنظَّ مــة لمكافحــة فيــروس كورونــا‬ ‫(‪ ،)COVID-19‬لــم تحصــل ســوى علــى ‪ 1.4‬مليــون حتــى اآلن‪ ،‬و‪ 28‬مليــون‬ ‫دوالر فــي شــكل وعــود‪.‬‬

‫المفارقــات أن كورونــا يأتــي فــي ســياق يشـكِّك فــي التمويــل طويــل‬ ‫مــن ُ‬ ‫العامــة‪.‬‬ ‫المــدى للمستشــفيات والبحــوث‬ ‫ّ‬

‫ـي‪ ،‬مثل األموال‬ ‫ بالنســبة آلليــات التمويــل البديلة التــي يقترحها البنك الدولـ ّ‬‫المتأ ّتيــة مــن شــراء «ســندات كارثــة وبائيــة»‪ ،‬حيــث يخاطــر المســتثمرون‬ ‫ـي الوبــاء‬ ‫بعــدم تل ِّقــي فوائــد أو خســارة جــزء مــن رأســمالهم فــي حالــة تفشـ ّ‬ ‫جــد ًا طالمــا لــم ينتشــر الوبــاء)‬ ‫ولكنهــم يحصلــون علــى عائــدات مرتفعــة‬ ‫ّ‬ ‫‪ ،‬فقــد ثبــت أنهــا غيــر كافيــة‪ .‬فــي عــام ‪ ،2018‬لــم يســمحوا باإلفــراج عــن‬ ‫تمويــات لوبــاء اإليبــوال فــي جمهوريــة الكونغــو الديموقراطيــة‪ ،‬ألن تعريفهــا‬ ‫مقيــد ًا للغايــة‪ .‬وفيمــا يتع َّلــق بوبــاء فيــروس كورونــا الحالــي‪ ،‬حتــى لــو‬ ‫كان َّ‬ ‫ـم اإلفــراج عــن األمــوال‪ ،‬ســيكون ذلــك فــي أحســن األحــوال فــي أبريــل‪/‬‬ ‫تـ َّ‬ ‫نيســان ‪ -‬بعــد فــوات األوان‪...‬‬ ‫يجــب االســتعداد لمكافحــة الوبــاء فــي وقـ ٍ‬ ‫ـت مبكِّ ــر‪ ،‬وعلــى نطــاقٍ‬ ‫ـي‪ ،‬ال‬ ‫ـ‬ ‫عالم‬ ‫ّ‬ ‫الصحــة والبحــوث الدقيقة مــع التمويل‬ ‫ســيما مــن خــال الجمــع بيــن أنظمــة‬ ‫َّ‬ ‫والعالمية‪،‬‬ ‫الوطنيــة‬ ‫العامة‬ ‫الدائــم‪ .‬وهــذا النســيج يقوم على دعــم المصلحة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المفارقــات أن وبــاء‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫وم‬ ‫ـا‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫بعــد أن كشــفت األوبئــة عــن أوجــه القصــور فيه‬ ‫ُ‬ ‫كورونــا يأتــي فــي ســياق يشــكِّ ك فــي التمويــل طويــل المــدى للمستشــفيات‬ ‫العامــة‪ ■ .‬حــوار‪ :‬بــول ســوجي ترجمــة‪ :‬مــروى بــن مســعود‬ ‫والبحــوث‬ ‫ّ‬

‫‪۹‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫المصدر‪ le figaro :‬عدد ‪ 27‬فبراير ‪.2020‬‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪41‬‬


‫بصمات‬

‫بصمات‪..‬‬ ‫مجيد طوبيا‬ ‫مجيد طوبيا▲‬

‫‪42‬‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬


‫رسديّة مجيد طوبيا‪:‬‬

‫شكل آخر من الكتابة‬ ‫املدونــة الرسديــة املرصيــة‬ ‫يف أعقــاب حــرب الخامــس مــن يونيو‪/‬حزيــران ‪1967‬م‪ ،‬أخــذت نصــوص متعـ ّـددة مــن‬ ‫ّ‬ ‫املعارصة تتجاهل مقوالت الرسديات الكربى تارة‪ ،‬وتناوشــها تارة أخرى‪ ،‬يف ســعيها الدائم إىل تأســيس مقوالتها‬ ‫الخاصــة التــي ال تنفصــل عــن خصوصيــة محيطها الوطنــي والقومي (العريب)‬ ‫هويتهــا وإشــكاالتها‬ ‫ّ‬ ‫املح ّل ّيــة التــي تؤكِّ ــد ّ‬ ‫يف آن‪ .‬يف هــذا الســياق الــذي ســعى مــن خاللــه ّ‬ ‫ومحمد‬ ‫كل مــن‪ :‬جــال الغيطــاين‪ ،‬وبهــاء طاهــر‪ ،‬وإبراهيــم أصالن‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ومحمــد إبراهيــم‬ ‫البســاطي‪ ،‬وصنــع اللــه إبراهيــم‪ ،‬وعبدالحكيــم قاســم‪ ،‬ويحيــى الطاهــر عبــد اللــه‪ ،‬وخــري شــلبي‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ومحمــد جربيــل‪،‬‬ ‫مــروك‪ ،‬وعبــد الفتــاح الجمــل‪ ،‬وعــاء الديــب‪ ،‬وأحمــد الشــيخ‪ ،‬وصــري مــوىس‪ ،‬وصالــح مــريس‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫الخاصــة‪ ،‬اســتطاع مجيــد طوبيــا‪ -‬وهــو أحــد‬ ‫رسديتــه‬ ‫ومحمــود ديــاب‪ ،‬ويوســف القعيــد‪ ،‬وآخريــن‪ ،‬إىل تأســيس‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫العالمــات البــارزة يف الرسديــة املرصيــة‪ -‬ابتــكار شــكل آخر مــن الكتابــة القصصيــة‪ ،‬أفلــت مــن خاللــه مــن هيمنــة‬ ‫أســلوب يوســف إدريــس الواقعــي‪ ،‬فجــاءت كتابتــه مزيجـ ًا مــن الواقعيــة والفانتازيــا والســخرية الســوداء‪.‬‬

‫زمن الس ّتينيات وأفول الرسديات الكربى‬ ‫بعــد نكســة الخامــس مــن يونيو‪/‬حزيــران ‪ ،1967‬طالــت أركان‬ ‫المجتمــع المصــري والعربــي ه ّزة عنيفة ســلبت الشــباب الثائر‬ ‫العربيــة‪،‬‬ ‫طموحهــم بالتغييــر‪ ،‬وأجهضــت حلمهــم بالقوميــة‬ ‫ّ‬ ‫وزعزعــت ثقتهــم فــي المســتقبل‪ ،‬حتــى انســرب هــذا الشــعور‬ ‫إلى متون األدب شــعر ًا وســرداً‪ ،‬وكان أبلغ تجســيد له هو ابتكار‬ ‫طرائــق ف ّن ْيــة وجماليــة خلقتهــا النصــوص القصصيــة والروائيــة‬ ‫لمعالجــة األزمــة‪ ،‬ســواء بطــرق مباشــرة وغيــر مباشــرة؛ فطفــا‬ ‫ـت اللحظــة‬ ‫«ج ْلــد الــذات»‪ ،‬وتف ّت َتـ ْ‬ ‫علــى ســطح هــذه النصــوص َ‬ ‫ـت بنية الحدث الروائي‪ ،‬وتشــظَّ ى الزمن‪،‬‬ ‫ثم تفكَّ كَ ـ ْ‬ ‫اآلنيــة‪ ،‬ومــن ّ‬ ‫كليــة المعرفة‬ ‫وتداخــل الواقــع مــع الحلــم‪ ،‬وتخلَّى الــرواة عن ّ‬ ‫كليــة العلــم الــذي دانــت لــه كثيــر ًا الروايــات الكالســيكية‬ ‫أو ّ‬ ‫حتــى المرحلــة الواقعيــة‪ ،‬واعتمــدت روايــات تلــك المرحلــة‬ ‫ســردية مكثّفــة تعتمــد علــى وحــدات‬ ‫وقصصهــا القصيــرة‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫مــاض حميــم وحاضــر‬ ‫قصصيــة متقطّ عــة تتنــاوب مــا بيــن‬ ‫غامــض ومســتقبل مبهــم‪ ،‬فــي بنيــات ومشــاهد متناثــرة ال‬ ‫ومخيلتــه‪ .‬لقــد اســتطاع رواة‬ ‫يجمعهــا ســوى عقــل القــارئ‬ ‫ّ‬ ‫هــذه الســرود‪ ،‬ومــن ورائهــم المؤلّفــون‪ ،‬قــول ما يريــدون قوله‬ ‫ـرديات من‬ ‫ـرض المباشــر لبطــش الحاكــم‪ ،‬فكانــت سـ ّ‬ ‫دون التعـ ّ‬

‫قبيــل (الزينــي بــركات) لجمــال الغيطانــي‪ ،‬و(الهــؤالء) لمجيــد‬ ‫طوبيا‪ ،‬و(في الصيف الســابع والســتين) إلبراهيم عبد المجيد‪،‬‬ ‫و(أيــام اإلنســان الســبعة) لعبــد الحكيــم قاســم‪ ،‬وغيرهــا مــن‬ ‫ّ‬ ‫مدو‬ ‫ـقوط‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ة‬ ‫ثم‬ ‫كان‬ ‫ـل‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫الجي‬ ‫ـذا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ـاب‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫إل‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫تنتس‬ ‫ـوص‬ ‫ـ‬ ‫نص‬ ‫ّ‬ ‫ٍّ‬ ‫ّ‬ ‫للســرديات الكبــرى‪ ،‬والبحــث عــن ســردية بديلــة تالئــم طبيعــة‬ ‫كلّ كاتــب منهــم‪ ،‬وهــم القادمــون مــن بقــاع شــتى مــن شــمال‬ ‫مصــر وجنوبهــا‪.‬‬

‫خاصة‬ ‫البحث عن رسديّة‬ ‫ّ‬

‫ا ّتجــه أغلــب ك ّتــاب الســتينيات إلى مجــاوزة األشــكال التقليدية‬ ‫فــي الســرد العربــي؛ فعكفــوا علــى اســتقراء التــراث العربــي‬ ‫بأشــكال مختلفــة‪ ،‬واســتلهموه فــي عناصــر وأبنيــة جماليــة‬ ‫وثقافيــة متباينــة‪ ،‬فذهــب كلّ واحــد منهــم مذهبــ ًا مســتق ً‬ ‫ال‬ ‫مرجعياتــه الثقافيــة أو موهبتــه الفطريــة‪ ،‬حاولــوا‪-‬‬ ‫حســب‬ ‫ّ‬ ‫ـرديات مغايــرة‪ ،‬فا ّتجــه‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـيس‬ ‫ـ‬ ‫تأس‬ ‫ـا‪-‬‬ ‫ـ‬ ‫طوبي‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫مجي‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫بينه‬ ‫مــن‬ ‫ّ‬ ‫بعضهــم إلــى التراث الكتشــاف عناصره الحيــة ومواطن قابليته‬ ‫إلعــادة الحكــي والتنصيــص فــي ســياقات ســردية وثقافيــة‬ ‫راهنــة‪ .‬مــن هنــا‪ ،‬كتــب مجيــد طوبيــا (تغريبــة بنــى حتحــوت)‬ ‫العربيــة وعناصرهــا‬ ‫التــي اســتلهمت تــراث الســيرة الشــعبية‬ ‫ّ‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪43‬‬


‫الســردية‪ ،‬بــكلّ مــا اشــتملت عليــه مــن قصــص وعجائــب‬ ‫وغرائــب وحكايــات وأمثــال وأشــعار وأغــان ومواويــل‪ .‬ينســج‬ ‫طوبيــا تغريبتــه الســردية علــى منــوال «تغريبــة بنــى هــال»؛‬ ‫فيقســمها إلى تســعة عشــر جزء ًا يشــكّ ل مجموعها رحلة بنى‬ ‫ّ‬ ‫حتحــوت إلــى بــاد الســودان التــي دامــت أربعــة عشــر عامـاً‪،‬‬ ‫ـرض لــه بنــو هــال فــي‬ ‫ـرض خاللهــا أبطــال‬ ‫ّ‬ ‫مرويتــه لمــا تعـ ّ‬ ‫تعـ ّ‬ ‫رحلتهــم الطويلــة إلــى تونــس مــن مصاعــب وأهــوال ش ـ ّتى‪.‬‬ ‫أمــا فــي روايتــي طوبيــا (دوائــر عــدم اإلمــكان) (‪ )1975‬و(حنان)‬ ‫ّ‬ ‫(‪ )1981‬فإنه ســيوظّ ف فيهما نصوص التراث الشــعبي الحاملة‬ ‫نص‬ ‫للمعتقدات‬ ‫والتصورات والطقوس الشــعبية في تشــكيل ّ‬ ‫ّ‬ ‫معاصــر يحمــل أســئلة الراهــن وهمــوم الواقــع المعيــش‪ .‬فــي‬ ‫روايــات مجيــد طوبيا ســوف يختلط الواقع بالحلــم‪ ،‬والحقيقة‬ ‫بالخيــال‪ ،‬وســتظهر الفانتازيــا فــي واحــدة مــن أنصع أشــكالها‬ ‫دون تك ّلــف أو غمــوض‪.‬‬ ‫عــد (تغربيــة بنــي حتحــوت) واحــدة مــن عالمــات الروايــة‬ ‫ُت ّ‬ ‫العربيــة فــي الســنوات الخمســين الماضيــة‪ ،‬حيــث ُت ِ‬ ‫رجمــت‬ ‫ّ‬ ‫إلــى عــدة لغــات‪ ،‬إلــى الدرجــة التــي ارتبطــت باســم مجيــد‬ ‫طوبيــا فــي تاريــخ الســرد العربــي؛ إذ تقــع الروايــة فــي أربعــة‬ ‫أجــزاء تــدور أحداثهــا فــي نهايــة القــرن الثامــن عشــر‪ ،‬ثــم‬ ‫القــرن التاســع عشــر‪ ،‬فــي محاولــة الســتنباط شــكل روائــي‬ ‫جديــد يســتلهم التــراث المصــري الحكائــي فــي ســرد األحداث‬ ‫كمــا فــي كتــب التاريخ والســير الشــعبية و«ألــف ليلــة وليلة»‪،‬‬ ‫ويأخــذ القــارئ معــه إلــى زمــكان مــا قبــل الحملــة الفرنســية‬ ‫ـرب بنــو حتحــوت فــي ربــوع‬ ‫علــى مصــر وأثناءهــا‪ ،‬وفيهــا يتغـ ّ‬ ‫مصــر المحروســة مــن المنيــا إلــى القاهــرة والفيــوم وأســوان‬ ‫ســردية ملحميــة تجمــع بيــن التاريــخ‬ ‫واإلســكندرية‪ ،‬فــي‬ ‫ّ‬ ‫والتوثيــق ورحلــة اإلنســان المغتــرب األبــدي‪.‬‬ ‫أمــا فــي روايتــه «الهــؤالء» التــي تتقاطــع مــع همــوم مجايليــه‬ ‫ّ‬

‫يفضح «الهؤالء»‬ ‫يندسون‬ ‫الذين‬ ‫ّ‬ ‫كالجراد يف حياتنا‪ ،‬أو‬ ‫ّ‬ ‫يتنكرون يف أيّة هيئة‬ ‫ممكنة‪ ،‬لكنهم ّ‬ ‫يظلون‬ ‫دائماً «الهؤالء» الذين‬ ‫يرتصدون ويراقبون‬ ‫ّ‬ ‫ويدوّنون التقارير‬ ‫ويتلصصون‬ ‫الرسية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫عىل املحيطني بهم‬

‫‪44‬‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫من كُ ّتاب السـ ّتينيات‪ ،‬ســيخوض مجيد طوبيا معاناة مواجهة‬ ‫القهــر السياســي واســتبداد الســلطة وتعرية النفــاق والتطبيل‬ ‫يندســون‬ ‫وتزييــف العقــول؛ فتــراه يفضــح «الهــؤالء» الذيــن‬ ‫ّ‬ ‫كالجــراد فــي حياتنــا‪ ،‬أو يتنكّ ــرون فــي ّأية هيئة ممكنــة‪ ،‬لكنهم‬ ‫ويدونون‬ ‫يترصــدون ويراقبــون‬ ‫يظ ّلــون دائمـ ًا «الهــؤالء» الذيــن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ويتلصصــون علــى المحيطيــن بهــم‪ .‬وهنــا‪،‬‬ ‫ـرية‬ ‫ّ‬ ‫التقاريــر السـ ّ‬ ‫على وجه التحديد‪ ،‬ســيلجأ طوبيا إلى ســردية الرمز أو ســردية‬ ‫القنــاع أو بالغــة المقموعيــن الذيــن يمكنهــم قــول مــا يريــدون‬ ‫دون أن يطالهــم ســيف الرقيب‪.‬‬

‫بني الرواية والسينما‬

‫تنوعــت أعمــال مجيــد طوبيــا مــا بيــن القصــص القصيــرة‬ ‫ّ‬ ‫والروايــة وكتابــة بعــض األفــام الســينمائية وبعــض الكتــب‬ ‫المتعــددة‪ .‬فمــن األعمــال القصصيــة‬ ‫الثقافيــة والمقــاالت‬ ‫ِّ‬ ‫نجــد لــه‪« :‬فوســتوك يصــل إلــى القمــر» (‪ ،)1967‬و«خمــس‬ ‫جرائد لم ُتقرأ» (‪ ،)1970‬و«األيام التالية» (‪ ،)1972‬و«الوليف»‬ ‫(‪ ،)1978‬و«الحادثــة التــي جرت» (‪ ،)1987‬و«مؤامرات الحريم‬ ‫وحكايــات أخــرى» (‪ ،)1997‬و«‪ 23‬قصة قصيــرة» (‪ .)2001‬ومن‬ ‫الروايــات أصــدر طوبيــا‪« :‬دوائر عدم اإلمــكان» (‪« ،)1972‬أبناء‬ ‫الصمــت» (‪« ،)1974‬الهــؤالء» (‪« ،)1976‬غرفــة المصادفــة‬ ‫األرضيــة» (‪« ،)1978‬حنــان» (‪« ،)1984‬عــذراء الغــروب»‬ ‫(‪« ،)1986‬تغريبــة بنــي حتحــوت إلــى بــاد الشــمال» (‪،)1978‬‬ ‫«تغريبــة بنــي حتحــوت إلــى بــاد الجنــوب» (‪« ،)1992‬تغريبــة‬ ‫بنــي حتحــوت إلــى بــاد البحيــرات» (‪« ،)2005‬تغريبــة بنــي‬ ‫حتحــوت إلــى بــاد ســعد» (‪ .)2005‬فض ـ ً‬ ‫ا عــن ذلــك‪ ،‬نجــد‬ ‫لــه بعــض الدراســات مثــل كتابــه عــن يحيــى حقــي «عصــر‬ ‫القناديــل» (‪ ،)1999‬و«التاريــخ العريــق للحميــر وابتســامات‬ ‫أخــرى» (‪ ،)1996‬و«غرائــب الملــوك ودســائس البنــوك»‬ ‫(‪ ،)1998‬وقصتيــن لألطفال هما «مغامرات عجيبة» و«كشــك‬ ‫الموســيقى» (‪ ،)1980‬ومسرحية هزلية بعنوان «بنك الضحك‬ ‫المتعددة‪.‬‬ ‫الدولــي» (‪ ،)2001‬وغيرهــا مــن الكتــب والمقــاالت‬ ‫ّ‬ ‫مــن زاويــة مقابلة للنظر في روايــات طوبيا وقصصه القصيرة‪،‬‬ ‫للتحرر‪ ،‬كما‬ ‫تتجســد صــورة المدينة الحديثة بوصفها ســاحة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يقــول حســين حمــودة فــي كتابــه «الروايــة والمدينــة‪ :‬نمــاذج‬ ‫مــن كتــاب السـ ّتيينات فــي مصــر»‪ ،‬خصوصـ ًا في روايتــه «ريم‬ ‫تصبــغ شــعرها» التــي ترســم مالمح هــذا التصور عــن المدينة‬ ‫بمنحــى جزئــي يضعــه فــي ســياق التضــاد مــع قيــم المجتمــع‬ ‫الشــرقي فض ـ ً‬ ‫ا عــن قيــم المجتمــع الصعيــدي‪ ،‬فــي روايــة‬ ‫تشــبه ســيرة شــخصية للفتــاة «ريــم» ابنــة الرجــل الصعيــدي‬ ‫المــزواج وثمــرة زواجــه مــن امــرأة «بحراويــة» تنتمي إلــى دلتا‬ ‫كأن ريــم هــذه صــورة أخــرى من صــور الفتــاة «فتحية»‬ ‫مصــر‪ّ .‬‬ ‫التــي هربــت مــن زوجهــا حامــد التــي يالحقهــا شــباب المدينة‬ ‫(النداهة) ليوســف إدريس‪ ،‬بحيث‬ ‫قصة‬ ‫ّ‬ ‫ويتهافتــون عليهــا في ّ‬ ‫ـرر ســوى‬ ‫ـ‬ ‫التح‬ ‫ـكال‬ ‫ـ‬ ‫أش‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـكل‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫أي‬ ‫ـة‬ ‫ال تــرى ريــم فــي المدينـ‬ ‫ّ‬ ‫هــذا الجانــب المتم ّثــل فــي إطــاق شــعر الفتيــات المدينيــات‬ ‫حر ّيتــه الســافرة‪ ،‬فــي الوقــت ذاته الــذي ال تربطهــا بهذا‬ ‫علــى ّ‬ ‫العالــم صلــة انتمــاء حقيقــي فــي هــذه المدينــة االغترابيــة‬ ‫البــاردة‪ .‬باإلضافــة إلــى ذلــك‪ ،‬تحضــر صــورة أخــرى للمدينــة‬ ‫فــي عالــم مجيــد طوبيــا فــي روايتــه «دوائــر عــدم اإلمــكان»‬ ‫التــي تم ّثــل المدينــة النائيــة فــي جانبهــا الــذي يــرى المدينــة‬ ‫مــن بعيــد‪ ،‬بحيــث يصــل بينهــا وبيــن عالــم الريــف «قطــار»‬ ‫ومؤشــر التوقيــت اليومــي‪ ،‬تمام ًا‬ ‫ينبنــي عليــه مقيــاس الزمــن‬ ‫ّ‬ ‫محمد البســاطي فــي روايتيه‬ ‫مثل‬ ‫كمــا يفعــل بعــض مجايليه‬ ‫َّ‬


‫الالفت للنظر هو‬ ‫انشغال ال ُن َّقاد‬ ‫كثريا ً بروايات مجيد‬ ‫طوبيا‪ ،‬واختزاله‬ ‫عىل وجه التقريب‬ ‫يف عملني اثنني؛‬ ‫أحدهما روايته‬ ‫الرباعية «تغربية‬ ‫بين حتحوت»‬ ‫وثانيهما رواية «أبناء‬ ‫الصمت» اليت أسهم‬ ‫يف ذيوعها الفيلم‬ ‫الذي أعدّ ه بنفسه‬ ‫للسينما عام ‪1974‬‬ ‫مع رفيق دربه املنتج‬ ‫واملُخرج محمَّ د‬ ‫رايض‬

‫أمــا بالنســبة إلــى الكتابة‬ ‫«أصــوات الليــل» و«ويأتــي القطــار»‪ّ .‬‬ ‫الســينمائية فقــد كتــب طوبيــا ثالثــة أفــام روائيــة هــي «أبنــاء‬ ‫محمــد راضــي‪ ،‬و«حكايــة مــن بلدنــا»‬ ‫الصمــت» مــن إخــراج‬ ‫َّ‬ ‫إخــراج حلمــي حليــم‪ ،‬و«قفــص الحريــم» إخــراج حســين‬ ‫ـد «أبنــاء الصمــت» واحــد ًا مــن عالمــات الســينما‬ ‫ويعـ ّ‬ ‫كمــال‪ُ .‬‬ ‫ـور واقع الحروب وحيــاة الجنود‬ ‫المصريــة‬ ‫والعربيــة التــي تصـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـم آنــذاك عــدد ًا مــن النجــوم‬ ‫ـ‬ ‫ض‬ ‫إذ‬ ‫ـة؛‬ ‫ـ‬ ‫الجبه‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ـن‬ ‫المحاربيـ‬ ‫ّ‬ ‫الشــبان فــي ذلــك الوقــت‪ ،‬مثــل أحمــد زكــي ونــور الشــريف‬ ‫ومحمــد صبحــي والســيد زيــان وميرفــت أمين ومديحــة كامل‬ ‫َّ‬ ‫ومحمــود مرســي وآخرين‪.‬‬

‫قصص قصرية يف مرآة النقد‬ ‫الالفــت للنظــر هــو انشــغال ال ُنقَّــاد كثيــر ًا بروايــات مجيــد‬ ‫طوبيــا‪ ،‬واختزالــه علــى وجــه التقريــب فــي عمليــن اثنيــن؛‬ ‫أحدهمــا روايتــه الرباعيــة «تغربيــة بنــي حتحــوت» وثانيهمــا‬ ‫روايــة «أبنــاء الصمــت» التــي أســهم فــي ذيوعها الفيلــم الذي‬ ‫أعــده بنفســه للســينما عــام ‪ 1974‬مــع رفيــق دربــه المنتــج‬ ‫ّ‬ ‫محمــد راضــي‪ .‬بيد أن ما أريد لفــت االنتباه إليه هنا‬ ‫والمخــرج‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫يتم َّثــل فــي القيمــة الف ّن ّيــة والثقافيــة الرفيعــة لقصــص مجيد‬ ‫طوبيــا القصيــرة‪ ،‬فأغلــب مجموعاته القصصية تقتضي درسـ ًا‬ ‫خاصـ ًا ومسـ ّ ً‬ ‫نقديـ ًا‬ ‫ـتقل (أشــار إليــه بعض اإلشــارة سـ ّـيد حامد‬ ‫ّ‬ ‫القصــة القصيــرة المصرية»‪،‬‬ ‫في‬ ‫ـوات‬ ‫ـ‬ ‫«أص‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫كتاب‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـاج‬ ‫النسـ‬ ‫ّ‬

‫القصة المصرية‬ ‫وخيــري دومــة فــي كتابه «تداخل األنواع فــي‬ ‫ّ‬ ‫القصيــرة‪ ،)»1990 - 1960 :‬لمــا تتم َّتــع بــه قصصــه مــن كثافة‬ ‫ســردية رفيعــة المســتوى‪ ،‬وقــدرة علــى التقــاء المشــاهد‬ ‫القصصيــة المتناثــرة كمشــاهد الســينما المتتاليــة بحرفيــة‬ ‫ملموســة‪ ،‬وقــدرة أخــرى علــى نحــت لغــة قصصيــة مكتنــزة‬ ‫التراكيــب مشــبعة الداللــة‪ ،‬لغة غيــر عارية من قضايا البشــر‬ ‫العمال‬ ‫الذيــن يكتــب عنهم طوبيا ســواء كانوا مــن األطفال أو‬ ‫ّ‬ ‫الفلحيــن والتجــار أو العالقــات االجتماعيــة التــي أجــاد‬ ‫أو ّ‬ ‫كثيــر ًا فــي رســمها وتشــخيصها بهــدوء وخبــرة سوســيولوجية‬ ‫ملموســة‪ .‬فــي قصــص طوبيــا القصيــرة نحــن بصــدد عالــم‬ ‫متفســخ‪ ،‬يحيا على‬ ‫يســتغل بــراءة األطفال‪ ،‬وواقع اجتماعي‬ ‫ّ‬ ‫ـدة‪،‬‬ ‫الخرافــة ويطحــن اإلنســان ويعيــد إنتاجهمــا بأشــكال عـ ّ‬ ‫لحر ّية اإلنســان‬ ‫ويتخــذ مــن كلّ هذه المشــاهد مواقف تنتصر ّ‬ ‫وقيمتــه فــي الوجــود بعيــد ًا عــن شــعارات الديــن أو النــزوع‬ ‫الطبقــي أو الزيــف االجتماعــي‪ .‬ويمكننــا أن نضــرب علــى ذلك‬ ‫أمثلــة مــن بعــض القصص األثيرة لديه‪ ،‬مثل «فوســتوك يصل‬ ‫إلــى القمــر»‪ ،‬و«خمــس جرائــد لــم ُتقــرأ»‪ ،‬و«األيــام التاليــة»‪،‬‬ ‫و«طــرح جمــع»‪ ،‬و«الوليف»‪ ،‬و«الحادثــة التي جرت» وغيرها‪.‬‬ ‫فــي قصــص مجيــد طوبيــا القصيــرة إمكانــات ســردية ودرامية‬ ‫مشــحونة ببالغــة التمثيــل والرمــز‪ ،‬قصــص تتنــاول اإلنســان‬ ‫ـواق إلــى مســتقبل‬ ‫المصــري فــي جوهــره المحـ ّ‬ ‫ـب للحيــاة التـ ّ‬ ‫أفضــل‪ ■ .‬محمــد الشــحات (مصــر)‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪45‬‬


‫«الهؤالء»‬

‫رصخة يف وجه‬ ‫التسلّط والالإنسانية‬ ‫روايــة «الهــؤالء» وهــي تحــاول أن تفــرِّ مــا يبــدو غــر قابــل للتفســر‪ ،‬وهــي تقــول الالمعقــول الــذي يبــدو غــر‬ ‫أسســه أدبــاء كبــار مــن مثــل‬ ‫قابــل للوصــف والفهــم العقالنيــن‪ ،‬تكــون بذلــك منتميــة إىل أعــال نــوع مــن األدب ّ‬ ‫حدثنــا‬ ‫فرانز‪ ‬كافكا‪ ‬وألبــر كامــو وجــان بــول ســارتر وصامويل‪ ‬بيكيت‪ ‬وصنــع اللــه إبراهيــم ‪...‬ذلــك األدب الــذي ال ُي ِّ‬ ‫عــن املدينــة الفاضلــة‪ ،‬بــل هــو يقــوم برحلــة يف مدننــا غــر الفاضلــة‪ ،‬لنكتشــف مــا فيهــا مــن الغرابــة املقلقــة‪ ،‬ومــا‬ ‫فيهــا مــن األشــياء‪ ‬الالمعقولة‪ ‬واملخيفة واملرعبــة‪ ..‬لنكتشــف أن وضــع اإلنســان فيهــا هــو وضــع غــر إنســاين‪ :‬هــو‬ ‫وضــع القهــر والكبــت والقمــع‪ ...‬‬

‫الشخصية‬ ‫املحورية يف رواية‬ ‫«الهؤالء»‪ ،‬وهي‬ ‫َّ‬ ‫تتكلف بمهمة‬ ‫اليت‬ ‫الرسد‪ ،‬شخصية‬ ‫أشبه‪ ‬ما تكون‬ ‫باللغز‪ .‬هكذا تبدو‬ ‫عىل األَ ّ‬ ‫قل‪ ‬للهؤالء‪.‬‬ ‫فهي شخصية‬ ‫ِّ‬ ‫ومفكرة‪،‬‬ ‫مث َّقفة‬ ‫لكن أسئلتها حول‬ ‫األرض والزمان تبدو‬ ‫أسئلة‪ ‬المعقولة‪ ‬أو‬ ‫شديدة‪ ‬الخطورة‬

‫‪46‬‬

‫صــدرت روايــة «الهــؤالء» لمجيــد طوبيا‪ ‬ســنة ‪ ،1973‬وهــي روايــة‬ ‫تتأ َّلــف مــن ســبعة فصول‪ ،‬وبعض عناوين الفصول أشــبه ما تكون‬ ‫األول‪:‬‬ ‫بعناويــن الكتب العلميــة والنظرية‪( ‬من مثل عنوان الفصل ّ‬ ‫«آلــة الزمــن الموســيقية»‪ ،‬وعنــوان الفصــل الســادس‪« :‬نظريــة‬ ‫جديــدة فــي نشــوء المــدن وتطورهــا»)‪ ،‬كأن هــذه الرواية‪ ‬بهــذا‬ ‫ـؤدي وظائــف أخــرى غيــر الوظائــف المعروفــة للروايــة‬ ‫تريــد‪ ‬أن تـ ِّ‬ ‫خاصــة وللســرد عموماً‪ .‬‬ ‫ّ‬ ‫تقع‪ ‬الروايــة فــي تســعين صفحــة‪ ،‬وهــي عبــارة عــن محكي شــديد‬ ‫البســاطة يكشــف النقــاب عــن ســيرة إنســان لــم يــأت فــي أقوالــه‬ ‫وأفعالــه بمــا يدعــو إلــى اعتقالــه وإرغامــه علــى القيــام برحلــة ال‬ ‫يجــد لهــا معنــى‪ :‬هــو متهــم ومشــكوك فــي أمــره إلــى أن يعــود‬ ‫مــن كلّ مخافــر الدولة‪ ‬األيبوطية‪ ‬بمــا يثبــت براءتــه؟ لكــن هــذه‬ ‫البســاطة مــن نــوع الســهل‪ ‬الممتنع‪ ،‬فالمحكــي يســتند إلــى بالغة‬ ‫اإليجــاز والترميــز‪ ،‬ويثيــر فــي عــدد قليــل مــن الصفحــات قضايــا‬ ‫كبــرى تتع َّلــق بوجــود اإلنســان ووضعــه الالإنســاني‪ .‬‬ ‫الروايــة عبــارة عــن صرخــة في وجــه التسـلّط والالإنســانية وغياب‬ ‫الحر ّية‪ ‬فــي الدولة‪ ‬والمجتمــع‪ ،‬وهــي قــد نجحــت فــي الكشــف‬ ‫ّ‬ ‫عــن واقــع قاهــر بســخرية ســوداء تفضــح الالمعقول الــذي يقذف‬ ‫باإلنســان فــي رحلــة المتناهيــة أو نهايتهــا المــوت‪ ،‬وهــو مــن دون‬ ‫ـددة‪ ،‬أو كلّ تهمتــه أنــه قــرأ واندهش وتســاءل‪ .‬‬ ‫تهمــة محـ َّ‬ ‫فقــد قــرأ الرجل‪ ،‬موضــوع الروايــة فــي كتــاب صــدر‬ ‫بالديار‪ ‬األيبوطيــة‪ ،‬أن دوران األرض حــول نفســها يحــدث فــي‬ ‫اتِّجــاه مضــاد لــدوران عقارب الســاعة‪ ،‬فاندهش‪ ‬كثيراً‪ ،‬وتســاءل‪:‬‬ ‫لمــاذا تــدور األرض ضــد الســاعة وليــس معهــا؟ وحمل‪ ‬ســؤاله‬ ‫إلى‪ ‬صاحــب الكتــاب وبعــض المســؤولين‪ ،‬وبــدل أن يحصــل‬ ‫ـارد ًا مــن طــرف «الهــؤالء»‪ ،‬وانتهــى األمــر‬ ‫علــى الجــواب‪ ،‬صــار مطـ َ‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫باعتقالــه وإجبــاره علــى اإلتيــان بشــهادات عــن براءتــه مــن كلّ‬ ‫مخافــر الديار‪ ‬األيبوطيــة‪ .‬‬ ‫وتتألَّف‪ ‬الروايــة من‪ ‬عناصــر تجمــع بيــن الواقــع والغرابــة‪ ،‬فتصف‬ ‫ـون مــن النــاس والمــدن والمخافــر والقطــارات‬ ‫عالمـ ًا واقعيـ ًا يتكـ َّ‬ ‫والصحــراء واألحيــاء الفقيــرة ‪ ...‬لكــن مــا يحــدث فــي هــذا العالم‬ ‫يبدو‪ ‬غريباً‪ ،‬المعقوالً‪ ،‬ال إنســانياً‪ ،‬من دون‪ ‬معنى‪ ،‬غير منســجم‪،‬‬ ‫ال يخضــع للمنطــق والعقــل‪ .‬فاإلنســان فــي هــذا العالــم ال يجــد‬ ‫معنــى لمــا يقــع‪ ،‬يبــدو لــه العالم غريبـ ًا ومقلقـ ًا ومخيفـاً‪ .‬واألكثر‬ ‫غرابــة أن «الهــؤالء» وحدهــم يــرون العالــم منســجماً‪ ،‬وما يحدث‬ ‫فيــه معقوالً‪.‬‬

‫ملخص‪ ‬الحكاية‬ ‫فــي البدايــة انتبــه الســارد الشــخصية المحوريــة إلــى أن عقــارب‬ ‫الســاعة تــدور عكــس دوران األرض‪ ،‬هــذا ما قرأه فــي كتاب أصدره‬ ‫أحــد علمــاء الديار‪ ‬األيبوطيــة‪ .‬أثارتــه المســألة‪ ،‬فبــدأ يســأل عــن‬ ‫صحتهــا‪ ،‬زار صاحــب الكتــاب‪ ،‬فاتهمــه بالتجســس والتشــويش‬ ‫على ابتكاره فطرده‪ ،‬وحاول استفســار بعض المســؤولين ففشــل‬ ‫وصــار مطــارد ًا من طرف «الهؤالء»‪ ،‬يطارده الواحد منهم بأســئلته‬ ‫وفضولــه‪ ،‬ويتهــم أقوالــه بالرمزيــة‪ ،‬فالمســألة التــي يثيرهــا‪ ‬ال‬ ‫تعنــي‪ ‬إال أن ديــار أيبــوط تســير ضــد الزمــن وليــس معــه‪ ،‬وهــذا‬ ‫كالم فــي السياســة‪ ،‬وحــاول أن يدفــع النــاس فــي ملعــب الكــرة‬ ‫إلــى التفكيــر فــي المســألة‪ ،‬فاتهــم بإثــارة الفتنــة‪ .‬‬ ‫بعــد أن فشــل في‪ ‬فهــم المســألة‪ ‬التي شــغلته ودفــع النــاس إلــى‬ ‫جيــداً‪ ،‬ثــم‬ ‫التفكيــر معــه فــي حلّهــا‪ ،‬الذ بشــقته‪ ،‬وأغلــق البــاب ّ‬ ‫راح يســتحضر حبيبتــه إلــى أن صــارت حقيقــة أمــام عينيــه‪ ،‬لكــن‬ ‫«الهؤالء»‪ ‬الجاحظون‪ ‬ســيفاجئونه فــي ســريره‪ ،‬ويرغمونــه علــى‬


‫ـددة‪ ،‬فلــكلّ إنســان تهمــة‪ ،‬ولــكلّ تهمــة أدلتهــا‪،‬‬ ‫مرافقتهــم‪ ،‬والتهمــة غيــر محـ َّ‬ ‫ـد أن للســارد تهمــة وأدلتهــا موجــودة؟‪ ‬‬ ‫والبـ ّ‬ ‫حمــل «الهؤالء»‪ ‬الجاحظون‪ ‬الســارد إلى غرفة الرجــل المضغوط‪ ،‬وبعد انتظار‬ ‫الموجهــة إليــه‪،‬‬ ‫قاتــل‪ ،‬ظهــر الرجــل المضغــوط‪ .‬ســأله الســارد عــن التهمــة‬ ‫َّ‬ ‫رده أنــه ال يعــرف تهمتــه بالتحديــد‪ ،‬لكــن ســلوكه قــد خــرج عــن حــدود‬ ‫فــكان ّ‬ ‫ـدل الســلوك يكــون فــي حالــة أزمــة عاطفيــة أو في حالة الشــروع‬ ‫ـ‬ ‫وتب‬ ‫ـوف‪،‬‬ ‫المألـ‬ ‫ّ‬ ‫فــي عمــل غيــر مشــروع ضــد دولــة أيبــوط وضــد زعيمها‪ ‬الديجــم‪ .‬والســارد‬ ‫ال يشــكو مــن أزمــة عاطفيــة‪ ،‬ولــه حبيبــة رائعــة تــدل علــى ذوقــه الراقــي فــي‬ ‫الجمــال‪ ،‬ويبقــى أنه‪ ‬متهــم بالشــروع فــي عمــل مريــب إلــى أن تثبــت براءتــه؟‪ ‬‬ ‫عيــن الرجــل المضغــوط مندوبـ ًا عنــه يأخــذ صاحبنــا فــي‬ ‫وللتأكــد مــن براءتــه‪ّ ،‬‬ ‫ـم لــه‬ ‫ـ‬ ‫ويت‬ ‫ـوط‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫أيب‬ ‫ـاء‬ ‫ـ‬ ‫أنح‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـرة‬ ‫ـ‬ ‫المنتش‬ ‫ـرطة‬ ‫ـ‬ ‫الش‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫مخاف‬ ‫طــواف إلــى جميــع‬ ‫ّ‬ ‫فــي جميــع المخافــر عــرض قانونــي للبــث فيمــا إن كان مطلوبـ ًا فــي إحداهــا أم‬ ‫ـر شــريف كمــا ادعــى لنفســه؟‪ ‬‬ ‫ال‪ ،‬وإذا لــم يكــن مطلوبـ ًا فــي ّ‬ ‫أي منهــا فهــو حـ ّ‬ ‫حــي‪ ،‬بــدأ الســارد يحصــل علــى‬ ‫إلــى‬ ‫حــي‬ ‫ومــن‬ ‫ومــن مخفــر إلــى مخفــر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫شــهادات براءتــه‪ ،)40 ،39 ،23 ،7 ،3( :‬ومــع هــذا الرقــم األخيــر ســوف يتــرك‬ ‫الســارد والمنــدوب العاصمــة ليطوفــا بشــتى المخافــر المنتشــرة فــوق أراضــي‬ ‫أيبــوط المتراميــة‪ .‬وفــي محطّ ــة العاصمــة ســيالحظ الســارد أزواجـ ًا كثيــرة مــن‬ ‫الرجــال وأزواج ـ ًا كثيــرة مــن النســاء‪ ،‬وهــي أزواج تشــبه الــزوج الــذي يشــكِّ له‬ ‫هــو والمنــدوب‪ ،‬أي أن كلّ زوج إال ويتكــون مــن متهــم أو متهمــة ومنــدوب أو‬ ‫مندوبــة‪ ،‬والســارد إذاً‪ ‬ليــس الوحيــد فــي هــذه الحالــة؟‪ ‬‬ ‫فــي المخفــر األربعيــن ســيعرض علــى كالب أعجميــة‪ ،‬فإن أفتــت جميع الكالب‬ ‫بأنــه بــريء انصــرف إلــى حاله؟ بعــد أن حصل علــى براءته من الــكالب؟ انصرف‬ ‫ـرا‬ ‫والمنــدوب فــي اتِّجــاه مخافــر أخــرى‪ ،‬وفــي الطريــق إلــى محطــة القطــار مـ ّ‬ ‫ـولين‬ ‫بمــدن صغيــرة وأحيــاء فقيــرة‪ ،‬وصادفــا عــدد ًا مــن المتســكِّ عين والمتسـ ّ‬ ‫واألطفــال الحفــاة ‪ ...‬ومــن القطــار تــراءت لــه حبيبتــه فــي القطار المضــاد وقد‬ ‫فقــدت جمالهــا وروعة‪ ‬بهائهــا‪ ،‬أتكــون هــي األخــرى متهمــة وتقــوم بالطــواف‬

‫مــن أجــل الحصــول على البــراءة؟‪ ‬‬ ‫يحصــل الســارد علــى بــراءات جديــدة‪ ،‬ويتضاعــف الــورق فــي الحقيبــة التــي‬ ‫يحملهــا المنــدوب‪ ،‬ويبــدو الطــواف كأنــه النهائــي‪ ،‬وفكــرة الهــروب مســتحيلة‪،‬‬ ‫ألن محــاوالت كلّ الســابقين بــاءت بالفشــل‪ ،‬وكانــت وبــا ً‬ ‫ال عليهــم‪ .‬‬ ‫وكان الســفر أخيراً‪ ‬إلــى مخفــر الرمــال‪ ،‬وهــو بنايــة عمالقــة فــي خــاء ممتــد‬ ‫أجــرد‪ .‬وعندمــا ســأل الســارد المنــدوب لماذا‪ ‬هناك‪ ‬مخفــر فــي هــذا الخــاء‪،‬‬ ‫رده أن المــدن فــي القــدم كانــت تنشــأ حــول منابــع الميــاه أو حــول مركــز‬ ‫كان ّ‬ ‫المواصــات‪ ،‬أمــا فــي العصــر الحديــث فالمــدن تنشــأ حــول المخافــر‪ ،‬ففــي‬ ‫ـم األمــن فــي الخــاء المحيــط بــه‪ ،‬وعندئــذ تبنــى‬ ‫البدايــة يجــيء المخفــر فيعـ ّ‬ ‫ـون المــدن؟‪ ‬‬ ‫البيــوت ثــم تتكـ ّ‬ ‫يحث الســارد‪،‬‬ ‫المندوب‬ ‫كان‬ ‫الصحراء‪،‬‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫مخف‬ ‫داخل‬ ‫إلى‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫األول‬ ‫فــي الخطــوات‬ ‫ّ‬ ‫وهــو ينعتــه بالطيب‪ ‬الوديــع‪ ،‬علــى‪ ‬أن يتبعــه وســط أحجــار هــي شــواهد قبــور‬ ‫الســابقين مثلــه‪ ،‬ولمــا ســأل الســارد عــن هــذه األحجــار القبــور‪ ،‬كان جــواب‬ ‫المنــدوب أن كلّ المتهميــن الســابقين الذيــن قامــوا برحلة إلى مخفــر الصحراء‬ ‫فضلــوا البقــاء هنــا عــن خــوض تجربــة اإلياب‪ .‬‬ ‫ّ‬ ‫شخصية‪ ‬في‪ ‬وضعية‪ ‬غير‪ ‬قابلة‪ ‬لإلدراك‪ :‬‬ ‫لقــد اختــار مجيــد طوبيــا لروايتــه شــخصية تطــرح أســئلة قــد تبدو‪ ‬المعقولــة‪ ‬أو‬ ‫الخطورة؛‪ ‬ووضعها فــي وضعيــة تبدو‪ ‬المعقولة‪ ‬من‬ ‫لهــا حمولــة رمزيــة شــديدة‬ ‫َ‬ ‫منظــور الســارد الضحيــة‪ ،‬وتبدو طبيعيــة وضرورية من منظــور «الهؤالء»‪ .‬‬ ‫الشــخصية المحوريــة فــي روايــة «الهــؤالء»‪ ،‬وهــي التــي تتكلَّــف بمهمــة‬ ‫السرد‪ ،‬شــخصية أشــبه‪ ‬ما تكــون باللغــز‪ .‬هكــذا تبــدو علــى ا َ‬ ‫ألقلّ ‪ ‬للهــؤالء‪.‬‬ ‫فهــي شــخصية مثقَّفــة ومفكِّ ــرة‪ ،‬لكــن أســئلتها حــول األرض والزمــان تبــدو‬ ‫أســئلة‪ ‬المعقولة‪ ‬أو شــديدة‪ ‬الخطورة؛ وهي‪ ‬شــخصية‪ ‬وديعة وطيبة‪ ،‬وال تواجه‬ ‫مطارديهــا‪ ،‬لكــن تنتهــي كلّ مقابلــة لواحــد منهــم بالهــروب بعيــداً‪ .‬‬ ‫ممــا‬ ‫أكثــر‬ ‫وهذه‪ ‬الشــخصية هــي مــن دون‪ ‬اســم‪ ،‬وهي‪ ‬تعيــش فــي الوهــم‬ ‫ّ‬ ‫وخاصــة‬ ‫ـتيهامات‪،‬‬ ‫تعيــش فــي الواقــع‪ ،‬ومــن هنــا كثــرة الــرؤى واألحالم‪ ‬واالسـ‬ ‫ّ‬ ‫عندمــا يتع َّلــق األمــر بالحبيبــة‪ ،‬وهــي تخضــع للســلطة القاهــرة وتقبــل الطــواف‬ ‫الالنهائــي‪ ،‬وتستســلم‪ ‬للهؤالء‪ ‬وهم يقودونهــا فــي رحلــة فــي اتِّجــاه المــوت‪ .‬‬ ‫هــي شــخصية ال تســتطيع أن تفهم‪ ‬الالمعنى‪ ‬الــذي يســود العالــم الــذي يحيــط‬ ‫بهــا‪ ،‬فتصــاب نفســيتها باالضطــراب وتدخــل دائــرة الفــراغ والتشــاؤم‪ ،‬وهــذا مــا‬ ‫يفســر الحضــور الالفــت للمحكيــات النفسية‪ ‬والمونولوجات‪ ‬والرؤى‪ ‬واالســتيه‬ ‫ِّ‬ ‫امات‪ ‬فــي كالم شــخصية مقهورة‪ .‬‬ ‫ـص يبــدأ بتقديــم الشــخصية‪ :‬رجــل مث َّقــف يطــرح أســئلة ويقــول كالمـ ًا هــو‬ ‫والنـ ّ‬ ‫حمــال أوجــه‪ ،‬فيطــارد مــن طــرف «الهــؤالء» وينتهــي األمــر باعتقالــه‪ ،‬وبراءتــه‬ ‫ّ‬ ‫ـرض علــى كلّ مخافــر الدولة‪ ‬األيبوطيــة‪ .‬‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ي‬ ‫أن‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫بع‬ ‫إل‬ ‫ـون‬ ‫ـ‬ ‫تك‬ ‫ـن‬ ‫لـ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫كررتــه الشــخصية مــرار ًا‬ ‫مــا‬ ‫وهــذا‬ ‫عبثية‪ ‬والمعقولــة‪،‬‬ ‫الوضعيــة‬ ‫تبــدو‬ ‫هكــذا‬ ‫َّ‬ ‫ـددة‪ ،‬تجــد الشــخصية نفســها فــي وضعيــة غيــر‬ ‫وتكــراراً‪ .‬فمــن دون تهمــة محـ َّ‬ ‫عقالنيــة‪ :‬مــن أجــل الحصــول علــى براءتهــا‪ ،‬علــى الشــخصية أن تطــوف علــى‬ ‫كلّ مخافــر الشــرطة بالديار‪ ‬األيبوطية‪ ‬المتراميــة‪ ،‬وأن تحصــل مــن كلّ مخفــر‬ ‫على شــهادة البــراءة‪ .‬‬ ‫تفســر‬ ‫هــذه الشــخصية هــي نفســها التــي تســرد حكايتهــا‪ ،‬وهــي ال تســتطيع أن ِّ‬ ‫مــا يحــدث بواســطة خطــاب فكري عقالنــي‪ ،‬ألن الالمعقول ينفلت مــن المنطق‪.‬‬ ‫ـدم مــن المالحظــات واألســئلة واألقــوال الســاخرة مــا يــدلّ‬ ‫ومــع ذلــك فهــي تقـ ِّ‬ ‫علــى الظلــم والقهــر الــذي يمارســه «الهــؤالء» وبراءتهــا مــن التهمــة الموجهــة‬ ‫إليهــا‪ .‬وهــي بهــذا نجحــت فــي دفع‪ ‬القارئ‪ ‬إلــى التعاطــف معهــا باعتبارهــا‬ ‫والحر ّية‪ .‬‬ ‫ضحيــة الظلــم والقهــر وغيــاب العــدل‬ ‫ّ‬ ‫لقــد نجــح الســارد فــي إدخال‪ ‬القارئ‪ ‬إلــى عالــم مقلــق وغريــب ومظلــم‪،‬‬ ‫ودفعــه إلــى مشــاركته البحــث عــن معنــى لمــا َيحــدث‪ ،‬وزرع فــي نفســه األمــل‬ ‫فــي الحصــول علــى البــراءة األخيــرة‪ ،‬وتركــه مــع نهايــة غامضــة مفتوحــة‪ ،‬كأن‬ ‫الالمعقــول ال يمكــن أن تكون نهايته إال‪ ‬المعقولة‪ ■ ..‬حســن‪ ‬المودن (المغرب)‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪47‬‬


‫مالمح قصصية‬

‫الذات‪،‬املدينة والعالم‬ ‫ينتمــي مجيــد طوبيــا إىل جيــل الســتينيات الــذي ســعى أدبــاؤه‪ ،‬بفعــل إتاحــة وســائل النــر الصحــايف لنصوصهــم‪،‬‬ ‫القصــة املرصيــة عــى غــرار مــا أىت بــه رواد ثــاث موجــات ســابقة؛ محمــود تيمــور‬ ‫إىل تأســيس موجــة جديــدة يف‬ ‫ّ‬ ‫يف املوجــة األوىل‪ ،‬توفيــق الحكيــم ونجيــب محفــوظ ويحيــى حقــي يف الثانيــة‪ ،‬ويوســف إدريــس ويوســف الشــاروين‬ ‫يف الثالثــة‪ .‬ليدخــل طوبيــا ورفاقــه يف اختبــار وتحـ ٍّـد مــن أجــل تجديــد دمــاء النــوع القصــي مبواكبــة التحـ ُّـوالت‬ ‫السياســية واالجتامعيــة يف ذلــك الوقــت‪.‬‬

‫‪48‬‬

‫«القصــة» مشــروع مهــم وتجربــة‬ ‫لمجيــد طوبيــا فــي كتابــة‬ ‫ّ‬ ‫قصتــه «فوســتوك يصــل‬ ‫ـذ‬ ‫ـ‬ ‫من‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫الف‬ ‫ّ‬ ‫ثريــة‪ ،‬تشــكَّ لت مالمحهــا ّ ّ‬ ‫إلــى القمــر» التــي كانــت عنوانـ ًا لمجموعتــه األولــى الصــادرة‬ ‫القصــة‪،‬‬ ‫ســنة ‪ .1967‬وقــد اســتطاع طوبيــا مــن خــال هــذه‬ ‫ّ‬ ‫التــي نشــرها لــه يحيــى حقــي فــي مج ّلــة «المجلة»‪ ،‬أن يشــكِّ ل‬ ‫هويــة جماليــة تأكَّ دت من خــال مجموعاتــه التالية‪:‬‬ ‫لتجربتــه ّ‬ ‫خمــس جرائــد لم تقــرأ (‪ ،)1970‬األيام التاليــة (‪ ،)1972‬الوليف‬ ‫(‪ ،)1978‬الحادثــة التــي جــرت (‪.)1987‬‬ ‫انطالقـ ًا مــن رؤيــة فلســفية وحضاريــة تشــتبك قصــص مجيــد‬ ‫طوبيــا بأحــداث العصر الكبرى‪ .‬وعبر هذا االشــتباك يســتوعب‬ ‫ـوالت الفارقــة فــي حيــاة اإلنســان‪ .‬علــى‬ ‫خطابــه الســردي التحـ ّ‬ ‫التقــدم العلمــي فــي ارتيــاد‬ ‫ســبيل المثــال؛ كانــت جهــود‬ ‫ُّ‬ ‫الفضــاء ومنهــا الوصــول إلــى ســطح القمــر حدثــ ًا جليــ ً‬ ‫ا‬ ‫وفارقــ ًا فــي ســتينيات القــرن العشــرين‪ ،‬صــوره طوبيــا فــي‬ ‫قصــة «فوســتوك يصــل إلــى القمــر»‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫(«إلى القمر بالسالمة يا فوستوك»‬ ‫ربمــا‬ ‫وقــف الســائق يقرؤهــا مكتوبــة علــى‬ ‫ِّ‬ ‫مؤخــرة الســيارة‪َّ ..‬‬ ‫ـرة المئــة فــي خــال اليوميــن األخيريــن‪ .‬ويبتســم لنفســه‬ ‫المـ ّ‬ ‫فــي زهــو‪ ..‬كان صاحــب الســيارة يريــد أن يكتــب مكانهــا عبــارة‬ ‫تمســك‬ ‫أخــرى‪« ..‬يــا خفــي األلطــاف ّ‬ ‫نجنــا ّ‬ ‫مما نخــاف»‪ ..‬وإزاء ّ‬ ‫الســائق بجملتــه‪ ..‬قنــع بــأن تنــزوي عبارتــه علــى بــاب الســيارة‬ ‫المؤخــرة بطولهــا وعرضهــا‬ ‫حيــث هــي مكتوبــة اآلن‪ ..‬وتــرك‬ ‫ِّ‬ ‫لســائقه يكتــب عليهــا مــا بــدا لــه‪ ..‬فكتــب جملتــه الســابقة‪..‬‬ ‫ورســم أعالهــا صاروخ ـ ًا صغيــر ًا فــي طريقــه إلــى قمــر رســم‬ ‫علــى هيئــة وجــه إنســان يطــل باســم ًا فــي ســعادة مــن خــال‬ ‫زهــور جميلــة زاهيــة تحيــط بــه)‪.‬‬ ‫األول خطــاب‬ ‫خطابيــن‪،‬‬ ‫بيــن‬ ‫القصــة الجــدل‬ ‫تجســد هــذه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫صاحــب الســيارة الــذي يبــدو محافظ ـ ًا ومؤثــر ًا الســامة فــي‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫مؤخــرة الســيارة‪« :‬يــا‬ ‫الشــعار الــذي كان ِّ‬ ‫يفضــل وضعــه علــى ِّ‬ ‫ً‬ ‫ـعبوي ًا‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫وعي‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫ث‬ ‫يم‬ ‫ـذي‬ ‫ـ‬ ‫ال‬ ‫ـاف»‬ ‫ـ‬ ‫نخ‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫مم‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫خفــي األلطــاف ّ‬ ‫نجنــا ّ‬ ‫تقليديـاً‪ ،‬وهــو كذلك وعــي البورجوازية الصغيــرة التي تتجنب‬ ‫ّ‬ ‫ـر الســائق‬ ‫ـ‬ ‫أص‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الت‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫المارق‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫الجمل‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫مقاب‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـرة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫المخاط‬ ‫ّ‬ ‫مؤخــرة الســيارة‪« :‬إلــى القمــر بالســامة يــا‬ ‫وضعهــا علــى‬ ‫ِّ‬ ‫فوســتوك» وهــو الخطــاب الذي يم ِّثــل روح التط ّلــع والمغامرة‬ ‫والرغبــة فــي االنفتــاح علــى المجهــول والتط ّلــع علــى الغريــب‬ ‫والمختلــف‪ ،‬كمــا يربــط الســائق فــي رســمه بيــن الصــاروخ‬ ‫الصغيــر الصاعــد فــي طريقــه إلــى القمــر الــذي يرســمه علــى‬ ‫هيئــة وجــه إنســان كإشــارة إلــى التطلّع لوجــود إنســاني جديد‬ ‫ووعي ـ ًا‬ ‫حس ـ ًا وثاب ـ ًا‬ ‫فــي بقعــة جديــدة مــن الكــون‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وكأن ّ‬ ‫ثمــة ّ‬ ‫ّ‬ ‫وكأن‬ ‫رومانسـ ّـي ًا يمــازج الجمــوح اإلنســاني الرتيــاد المجهــول‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ثمــة جــد ً‬ ‫ال مــا بيــن ثقافــة مترســبة كمــا فــي الوعــي المحافــظ‬ ‫ّ‬ ‫لمالــك الســيارة وثقافــة أخــرى بازغــة‪ ،‬متطلِّعــة إلــى الجديــد‬ ‫ومتسـلِّحة بــروح المغامــرة‪.‬‬ ‫‪...‬‬ ‫اتجــه جانــب مــن الخطــاب القصصــي لمجيــد طوبيــا نحــو نقد‬ ‫قصــة «الوجــه اآلخــر» التــي‬ ‫حــروب العالــم المســتمرة‪ .‬ففــي ّ‬ ‫يبــرز مــن خاللهــا تأ ُّثــر بطلهــا بمتابعــة أخبــار الحــروب عبــر‬ ‫التليفزيــون‪ ،‬نقــرأ‪:‬‬ ‫(«صــراع حتــى المــوت بيــن نصفــي دولــة أوروبيــة»‪ ..‬هابيــل‬ ‫لمــاذا تقتــل أخــاك قابيــل؟!‪..‬‬ ‫«احتمــال نشــوب حــرب ذريــة عالميــة»‪« ..‬إعصــار يجتــاح‬ ‫اســتراليا»‪« ..‬تفجيــر قنبلــة جديــدة تحــت األرض»‪ ..‬نجازاكــي‬ ‫أيــن ذهبــت أختــك هيروشــيما؟!‬ ‫وينهض ثائراً‪ ..‬أين األنباء الطيبة؟!)‬ ‫القصــة يعتمــد مجيــد طوبيــا تقنيــة «الكــوالج» بإيــراد‬ ‫وفــي‬ ‫ّ‬ ‫مقتطفــات مقتطعــة مــن عناويــن األخبــار التليفزيونيــة لتبــدو‬


‫كطرقــات صادمــة بتدافعهــا علــى الوعــي تكثِّــف المأســاة‬ ‫اإلنســانية والمــأزق الوجودي الذي بلــغ ذورته‪ ،‬حيث الصراع‬ ‫القصــة‬ ‫بيــن شــطري ألمانيــا الغربــي والشــرقي ليــرد بطــل‬ ‫ّ‬ ‫ـعر الحالة ويتمثَّل جذور الصراع اإلنســاني منذ‬ ‫بتســاؤل ُي َشـ ِّ‬ ‫وكأن الوعــي‬ ‫ـل)‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫وقابي‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫(هابي‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫قص‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫كم‬ ‫أزليــة التاريــخ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فــي تشــبيه ضمنــي يعيد قــراءة الراهــن في ضــوء التاريخي‪.‬‬ ‫القصــة علــى نبــأ االختبــارات باســتعادة تاريــخ‬ ‫ثــم يــرد بطــل‬ ‫ّ‬ ‫المأســاة النوويــة الكبــرى في الحرب العالميــة الثانية بضرب‬ ‫الواليات الم َّتحدة األميركية لهيروشيما ونجازاكي المدينتين‬ ‫اليابانيتيــن‪ ،‬فتبــدو الــذات فــي حالــة تســاؤل وجــودي حائــر‬ ‫إزاء مــا تعايــن من أحداث مدمرة وأخطار مفنية للبشــرية‪...‬‬ ‫‪...‬‬ ‫فــي قصــص مجيد طوبيــا تحضر كثير ًا صورة الــذات المغتربة‬ ‫التــي تواجــه ضغوطــات العالــم الماديــة والنفســية كمــا هــو‬ ‫ـدم فيهــا‬ ‫قصــة «خمــس جرائــد لــم ُتقــرأ» التــي ُيقـ ِّ‬ ‫حــال بطــل ّ‬ ‫صــورة الريفــي النــازح إلــى المدينــة والمركــز‪ ،‬العاصمــة‪،‬‬ ‫«القاهــرة»‪ .‬ففــي إحســاس مضمــر بتغــول المدينــة وقدرتهــا‬ ‫علــى التهــام األشــخاص‪ُ ،‬يســاكن الــذات شــعور بالهشاشــة‬ ‫والضعــف‪ ،‬كمــا تتبــدى حساســية الــذات إزاء مدينــة ُتم ِّثــل‬ ‫نمطــ ًا ثقافيــ ًا واجتماعيــ ًا مغايــر ًا لنمــط الريــف أو األقاليــم‬ ‫البعيــدة عــن ضجيــج المدينة‪ .‬وفي صورة مثــل هذا التناقض‬

‫يتشــكَّ ل الخطاب القصصي عند مجيد طوبيا بأســلوب ســاخر‬ ‫يتج َّلــى فــي المبالغــة التهكميــة التــي تعكــس شــعور ًا بعبثية‬ ‫األوضــاع مــن ناحيــة وعجــز الــذات عــن تعديلهــا مــن ناحيــة‬ ‫أخــرى‪ ،‬فتتعالــى عليهــا وتحــاول أن تتجاوزهــا بالســخرية‪.‬‬ ‫قصــة «خمــس جرائــد لــم ُتقــرأ»‪:‬‬ ‫نقــرأ فــي ّ‬ ‫ـت فوقه ســاعات طويلة‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫وقف‬ ‫ـرة‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫القاه‬ ‫ـرج‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ـوق‬ ‫ـدت فـ‬ ‫(صعـ ُ‬ ‫ُ‬ ‫لــت‬ ‫ُ‬ ‫تأم ُ‬ ‫عقــدت مقارنــة بيــن حجمــي وحجــم المدينــة‪َّ .‬‬ ‫العمــارات العاليــة‪ ،‬وشــاهدت النــاس مهروليــن‪ ،‬آكليــن‬ ‫وقوفـاً‪ ،‬ولمــا قالــت البدينــة لزوجهــا إننــي أنــام كالموتــى؛‬ ‫ـت إلــى لوكانــدة في شــارع كلوت بك لرخص ســعرها‪،‬‬ ‫انتقلـ ُ‬ ‫ومنــذ اللحظــة األولــى حــدث أمــر غريــب‪ :‬إذ اتســعت أذنــي‬ ‫العمــال ومــدوا شــريط التــرام داخلهــا‬ ‫وكبــرت‪ ،‬وجــاء‬ ‫ّ‬ ‫فســارت العربــات‪ :‬بأجراســها‪ ،‬بصريــر عجالتهــا‪ ،‬بشــتائم‬ ‫ـكارو‪ ،‬وبخناقــات الكمســاري‬ ‫ســائقيها لســائقي عربــات الـ ُّ‬ ‫مــع الراكبيــن‪ ،‬وظ ّلــت هــذه الترامــات تدخــل أفواج ـ ًا إلــى‬ ‫داخــل رأســي!! تدخــل وال تعــود‪ .‬علقــت الفتــة خــارج أذني‬ ‫مكتــوب عليهــا‪ :‬ممنــوع الدخــول‪ ،‬ولكــن ذلــك لــم ينفــع‪.‬‬ ‫ـاس؛ فتحــدث‬ ‫وأحيان ـ ًا كثيــرة كانــت أســاك الكهربــاء تتمـ ُّ‬ ‫فنقلت وضع السرير‬ ‫شــرارة وفرقعة صاعقة داخل رأســي!!‬ ‫ُ‬ ‫اليم َنــى جهــة الشــارع؛ ذلــك‬ ‫ونمـ ُ‬ ‫ـت‪ ،‬بحيــث كانــت أذنــي ُ‬ ‫أل ّنهــا ثقيلــة الســمع)‪ ■ .‬رضــا عطيــة (مصــر)‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪49‬‬


‫جيمس وود‪ :‬‬

‫فن املراجعة النقديّة‬ ‫ّ‬ ‫الخاصــة مبراجعــات الكتــب‪ ،‬وغيــاب اهتــام كثــر منهــا بهــذا النــوع‬ ‫رغــم تقليــص الصحــف واملجـ ّـات لألقســام‬ ‫ّ‬ ‫اليوميــة يف غا ِبــر األيــام‪ ،‬فقــد ظ ّلــت بعــض الصحــف‬ ‫مــن الكتابــة الــذي كان يتصـ َّـدر مالحقهــا وحتــى صفحاتهــا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مطولــة للكتــب‪ ،‬كــا هــو حــال مجلــة «لنــدن ريفيــو‬ ‫واألمريكيــة تهتــم بنــر مراجعــات‬ ‫الربيطانيــة‬ ‫واملجــات‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أوف بوكــس»‪ ،‬و«نيويــورك ريفيــو أوف بوكــس» اللتــن أرشت إليهــا يف املقالــة الســابقة‪ .‬عــى صفحات هاتني‬ ‫املج ّلتــن ا ُ‬ ‫الربيطانيــة‪،‬‬ ‫تخصصتــن يف مراجعــات الكتــب‪ ،‬وكذلــك عــى صفحــات صحيفــة «الغارديــان»‬ ‫مل ّ‬ ‫ّ‬ ‫ين «جيمــس وود ‪ ،»James Wood‬الــذي ُي َ‬ ‫نظــر إليــه‬ ‫ومج ّلــة نيويوركــر‬ ‫األمريكيــة‪ ،‬بــرز اســم الناقــد الربيطــا ّ‬ ‫ّ‬ ‫بوصفــه واحــداً مــن أملــع مراجعــي الكتــب يف عرصنــا‪...‬‬

‫فخري صالح‬ ‫(األردن)‬

‫‪50‬‬

‫ٍ‬ ‫جنــس‬ ‫فــي مقالتــي الســابقة ســعيت إلــى لفــت االنتبــاه إلــى‬ ‫الم ِ‬ ‫عاصــرة‪ ،‬أو أنــه علــى‬ ‫أدبــي يبــدو شــبه غائــب فــي الكتابــة ُ‬ ‫ّ‬ ‫األقــلّ لــم يعــد يســتأثر باالهتمــام الكبيــر الــذي كان يحــوزه‪،‬‬ ‫الم ِ‬ ‫عاصــر‪ ،‬خصوصـ ًا‬ ‫والمكانــة‬ ‫ّ‬ ‫النقديــة التــي احتلهــا فــي النقــد ُ‬ ‫عامــة‪.‬‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫األوروبي‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫الثقاف‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫وف‬ ‫ـوني‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫األنجلوساكس‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫فــي العال‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫األدبي في‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫النق‬ ‫الت‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫تح‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ا‬ ‫ـزء‬ ‫ـ‬ ‫ج‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫األدبي‬ ‫ـات‬ ‫ـ‬ ‫المراجع‬ ‫كانــت‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫األول مــن القــرن العشــرين‪ ،‬كمــا أنهــا جذبــت عــدداً‬ ‫النصــف ّ‬ ‫المؤسســة‬ ‫ـارج‬ ‫ـ‬ ‫خ‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫يعم‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫بعضه‬ ‫كان‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫الذي‬ ‫ـاد‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫ن‬ ‫َّ‬ ‫مــن كبــار ال ُ‬ ‫َّ‬ ‫المؤسســة‪،‬‬ ‫ـك‬ ‫ـ‬ ‫تل‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ضم‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫يعم‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫اآلخ‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫وبعضه‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫األكاديميـ‬ ‫َّ‬ ‫للمســاهمة فــي كتابــة مراجعــات للكتــب الصــادرة حديثـاً‪ .‬وقــد‬ ‫والم ِ‬ ‫عاصــر إلى الناس‪،‬‬ ‫قربــت تلــك المراجعــات األدب الحديــث ُ‬ ‫َّ‬ ‫األكاديمية والجمهور العام‬ ‫المؤسسة‬ ‫وشكَّ لت حلقة وصل بين‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ـراء الصحــف‪ .‬ويمكــن القول إن أولئــك ال ُن َّقــاد الذين كانوا‬ ‫مــن قـ َّ‬ ‫البريطانيــة‬ ‫ـات‬ ‫المراجعــات فــي الصحــف والمجـ ّ‬ ‫يكتبــون تلــك ُ‬ ‫ّ‬ ‫األكاديميون‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫نال‬ ‫ا‬ ‫مم‬ ‫بكثير‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫أكث‬ ‫ـهرة‬ ‫ـ‬ ‫الش‬ ‫من‬ ‫ـوا‬ ‫واألميركيــة‪ ،‬نالـ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الذيــن اكتفــوا بالبقــاء خلــف أســوار الجامعــة يكتبــون أبحاث ـ ًا‬ ‫المهتميــن‪.‬‬ ‫ـدد محـ ٌ‬ ‫خصــص ال يقرؤهــا ّإل عـ ٌ‬ ‫شــديدة ال ّت ُّ‬ ‫ـدود مــن ُ‬ ‫الخاصــة‬ ‫والمجــات لألقســام‬ ‫لكــن رغــم تقليــص الصحــف‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بمراجعــات الكتــب‪ ،‬وغيــاب اهتمــام كثيــر منهــا بهــذا النــوع من‬ ‫ـدر مالحقها وحتــى صفحاتها اليومية في‬ ‫الكتابــة الــذي كان يتصـ َّ‬ ‫البريطانيــة‬ ‫ـات‬ ‫غابِــر األيــام‪ ،‬فقــد ظ ّلــت بعــض الصحــف والمجـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫مطولــة للكتــب‪ ،‬كمــا هــو‬ ‫واألميركيــة تهتــم بنشــر مراجعــات‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫حــال مجلّــة «لنــدن ريفيــو أوف بوكــس»‪ ،‬و«نيويــورك ريفيــو‬ ‫أوف بوكــس» اللتيــن أشــرت إليهمــا فــي المقالــة الســابقة‪ .‬علــى‬ ‫تخصصتين في مراجعات الكتب‪،‬‬ ‫الم ّ‬ ‫صفحــات هاتيــن المجلّتين ُ‬ ‫البريطانية»‪ ،‬ومجلّة‬ ‫ـان‬ ‫ـ‬ ‫«الغاردي‬ ‫صحيفة‬ ‫وكذلــك علــى صفحات‬ ‫ّ‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫ـي «جيمــس‬ ‫«نيويوركــر»‬ ‫ّ‬ ‫األميركيــة‪ ،‬بــرز اســم الناقــد البريطانـ ّ‬ ‫وود ‪ ،»James Wood‬الــذي ُينظَ ــر إليــه بوصفــه واحد ًا من ألمع‬ ‫مراجعــي الكتــب فــي عصرنــا‪ ،‬وأكثرهــم مقروئيــة‪ ،‬وأقربهــم فــي‬ ‫ـور النقــد األنجلوساكســوني‬ ‫نقــده إلــى مرحلــة مــن مراحــل تطـ ُّ‬ ‫المتفحصــة الســابرة‬ ‫والقــراءة‬ ‫النــص‬ ‫الــذي يهتــم بتحليــل‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫األدبــي‪ ،‬واالهتمــام بالتفاصيــل الصغيــرة والمســائل‬ ‫للعمــل‬ ‫ّ‬ ‫األدبيــة‬ ‫النظريــة‬ ‫الجماليــة التــي تهملهــا العديــد مــن تيــارات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الم ِ‬ ‫عاصــرة‪ ،‬مركِّ ــز ًة بصــور ٍة أساسـ ّـية علــى الشــروط السياسـ ّـية‬ ‫ُ‬ ‫ـض‬ ‫واأليديولوجيــة‬ ‫ـص ممكنـاً‪ .‬وبغـ ِّ‬ ‫والثقافيــة التــي جعلــت النـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الموجــه إلــى جيمــس وود‪ ،‬مــن ِقبــل تيــارات‬ ‫النظــر عــن النقــد‬ ‫َّ‬ ‫ـي ومــا بعــد الكولونيالــي والنســوي‪ ،‬بوصفــه ناقــد ًا‬ ‫النقــد الثقافـ ّ‬ ‫ـص علــى حســاب شــروطه‬ ‫ـ‬ ‫الن‬ ‫ـات‬ ‫ـ‬ ‫بجمالي‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫يهت‬ ‫ـق‬ ‫ـ‬ ‫مــن طــراز عتي‬ ‫ّ‬ ‫والثقافيــة‪ ،‬فقــد احتــلّ الناقــد‬ ‫ــة‬ ‫واالجتماعي‬ ‫ــة‬ ‫األيديولوجي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـزي‪ ،‬الــذي يعيــش فــي أميركا هــذه األيام ويعمل أســتاذ ًا‬ ‫اإلنجليـ ّ‬ ‫النقديــة ‪ »Practice of Criticism -‬فــي جامعــة‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫لـ«الممارس‬ ‫ّ‬ ‫ـي فــي‬ ‫«هارفــارد»‬ ‫ّ‬ ‫األميركيــة‪ ،‬مكانــة رفيعــة فــي المشــهد األدبـ ّ‬ ‫النظرية‪،‬‬ ‫أميــركا‪ .‬ولــم َي ُحــل دون صعــود نجمــه ســيطر ُة تيــارات‬ ‫ّ‬ ‫الجماليــات لصالح دراســة آليــات الهيمنــة والتمييز‬ ‫التــي تهمــل‬ ‫ّ‬ ‫والســعي إلــى قــراءة ميــراث االســتعمار وجرحــه فــي وعــي‬ ‫عمرين‪ ،‬وكذلــك قــراءة التمييــز ضــد النســاء فــي اآلداب‬ ‫المسـ َت َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫المعاصــرة‪.‬‬ ‫الغربيــة ُ‬ ‫بــدأ جيمــس وود (مواليــد ‪ )1965‬الكتابــة وهــو فــي العشــرينات‬ ‫مــن العمر فــي صحيفة «الغارديان» البريطانيــة‪ ،‬وأصبح ناقدها‬ ‫رئيســي ًا فــي مجلّــة‬ ‫حــرر ًا‬ ‫ّ‬ ‫األول‪ ،‬ثــم انتقــل بعدهــا ليصبــح ُم ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫األميركيــة‪ ،‬وهــو اآلن يعمــل‬ ‫‪»New‬‬ ‫‪Republic‬‬ ‫ــك‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫ريب‬ ‫«نيــو‬ ‫ّ‬ ‫َْ‬ ‫فــي هيئــة تحريــر مج ّلــة «نيويوركــر»‪ ،‬إضافــة إلــى عملــه أســتاذ ًا‬


‫ـي‬ ‫فــي «هارفــارد»‪ .‬ومــع أنــه أصــدر روايتيــن‪ّ ،‬إل أن شــهرته وإســهامه الحقيقـ ّ‬ ‫المطولــة التــي ينشــرها عــن الكتب‬ ‫النقديــة ومقاالتــه‬ ‫يصــدران مــن مراجعاتــه‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫مم ْن ينتمون إلى العصور الســابقة‪ ،‬أو‬ ‫منهم‪،‬‬ ‫الروائيين‬ ‫والمؤلِّفيــن‪ ،‬خصوصـ ًا‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫الم ِ‬ ‫تضم فــي مجملها‬ ‫عاصريــن لنــا‪ .‬كمــا أن الكتــب التــي نشــرها «وود»‬ ‫ُّ‬ ‫أولئــك ُ‬ ‫ـات مراجعــات الكتــب‪.‬‬ ‫مراجعاتــه‬ ‫النقديــة التــي نشــرها فــي الصحــف ومجـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫األكاديمية‪،‬‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫المؤس‬ ‫في‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫انغماس‬ ‫وعدم‬ ‫ـاط‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫النش‬ ‫ـذا‬ ‫ـ‬ ‫به‬ ‫ـاءه‬ ‫ـ‬ ‫اكتف‬ ‫ويبــدو أن‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ـري‪ ،‬تنبــع‬ ‫ـي النظـ ّ‬ ‫أو انقطاعــه لكتابــة دراســات يغلــب عليهــا الطابــع األكاديمـ ّ‬ ‫ـد نفســه لــه منــذ الصبــا‪ .‬لقــد أراد‪ ،‬كمــا ُيشــير فــي مقابــات أُجريــت‬ ‫ممــا أعـ َّ‬ ‫معــه‪ ،‬أن يكــون مراجــع كتــب يكتــب عــن الروائييــن الذيــن يحبهــم‪ ،‬ويجلُّهــم‪،‬‬ ‫ـكلٍ‬ ‫ـي‪ .‬وهــو‪ ،‬انطالقـ ًا مــن‬ ‫ـأوج فـ ّ‬ ‫ويــرى فيهــم تـ ُّ‬ ‫ـن الروايــة وصعودهــا كشـ أدبـ ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ـر الكتابة‬ ‫هــذا الشــغف‪ ،‬يقــرأ الروايــة بعيــن ناقــد يعمــل علــى الكشــف عــن سـ ِّ‬ ‫الروائيــة‪ ،‬وكأنــه يرقــد تحــت جلــد مبدعهــا ليــرى كيــف تشــكَّ ل ذلــك العالــم‬ ‫ـخصياته وتقنياتــه إلــى كــونٍ أشــبه بالواقــع‪.‬‬ ‫وتحولــت تفاصيلــه وشـ‬ ‫ـي‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫الروائـ ّ‬ ‫ـي غوســتاف‬ ‫وليــس غريبـاً‪ ،‬إذاً‪ ،‬أن يكــون‬ ‫الم َّ‬ ‫روائيــه ُ‬ ‫ُّ‬ ‫فضــل هــو الكاتــب الفرنسـ ّ‬ ‫فلوبيــر (الــذي يعثــر فــي عملــه علــى كلّ شــيء أنجزتــه الروايــة الحديثــة)‪ ،‬وأن‬ ‫يمقــت العديــد مــن روائيــي مــا بعــد الحداثــة‪.‬‬ ‫فــي كتــاب جيمــس وود «كيــف تعمــل الروايــة ‪،»How Fiction Works‬‬ ‫ـي ومفاصله‬ ‫ـص‬ ‫الصــادر عــام ‪ ،2008‬نـ ٌّ‬ ‫ٌّ‬ ‫نقدي الفت يشــرح أســرار ُ‬ ‫الصنع الروائـ ّ‬ ‫ٍ‬ ‫النظرية موجــودة هناك في‬ ‫ـدة‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫نظري‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫لغ‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫إل‬ ‫الجوهريــة دون أن يلجــأ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ ُ‬ ‫ثنايــا االســتعراض الثــري بالمعرفــة للروايــات والشــخصيات وأشــتات اللُّغــات‬ ‫الناقد الواســع المعرفة‬ ‫واألســاليب والتقنيــات التــي يسـلّط الضوء عليها هــذا‬ ‫ُ‬ ‫ـي فــي ثيــاب ناقد‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫روائ‬ ‫ـاب‬ ‫الغربيــة‪ .‬وهــو فــي هــذا الكتـ‬ ‫واالطــاع علــى الروايــة‬ ‫ّ‬ ‫ٌّ‬ ‫والتفحــص الســابر‬ ‫الروائــي‬ ‫ــات‬ ‫تأم‬ ‫بيــن‬ ‫الدمــج‬ ‫مــن‬ ‫فضــل نوعــ ًا‬ ‫ولذلــك ُي ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫للنصــوص‪ .‬كمــا أنــه ُيقيــم حــوارا غيــر مباشــر مــع ناقديــن أساســيين عارفيــن‬ ‫ـي فكتــور شكلوفســكي‬ ‫ـي‪ ،‬همــا الناقــد الشــكالني الروسـ ّ‬ ‫بأســرار الصنــع الروائـ ّ‬ ‫ـي «روالن بــارت»‪ ،‬ألنهمــا‪ ،‬بســبب‬ ‫ـ‬ ‫الفرنس‬ ‫ـوي‬ ‫ـ‬ ‫البني‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫بع‬ ‫والناقــد البنيــوي ومــا‬ ‫ّ‬

‫اهتمامهمــا بالشــكل‪ ،‬يصنعــان صنيــع الروائييــن الذيــن يعنــون باألســلوب‬ ‫والكلمــات واالســتعارات والصــور‪ .‬يركِّ ــز وود‪ ،‬انطالقـ ًا مــن هــذا التأثيــر‪ ،‬علــى‬ ‫ـن الحكــي والتفاصيــل (التــي تجعــل عم ـ ً‬ ‫ـي‬ ‫ا‬ ‫فـ ّ‬ ‫َّ‬ ‫روائي ـ ًا يتفـ َّ‬ ‫ـرد عــن عمــلٍ روائـ ٍّ‬ ‫الحر غير المباشــر‪،‬‬ ‫آخــر)‪ ،‬والشـ‬ ‫ـخصية‪ ،‬وأنــواع اللّغات‪ ،‬والحوار‪ ،‬واألســلوب ُ‬ ‫ّ‬ ‫ـور الروايــة يتم َّثــل‬ ‫ـ‬ ‫تط‬ ‫أن‬ ‫ـر‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫فلوبي‬ ‫ـتاف‬ ‫ـ‬ ‫غوس‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫عم‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ـزه‬ ‫ـ‬ ‫تركي‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫مســتنتجاً‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ـور هــذه التقنيــة الســردية‪ ،‬علــى مــدار تاريــخ الكتابــة‬ ‫ـ‬ ‫تط‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫الحقيق‬ ‫فــي‬ ‫ُّ‬ ‫ً‬ ‫ـباني العظيــم ميغيــل دي‬ ‫ـي اإلسـ ّ‬ ‫الروائيــة‪ ،‬بــدءا مــن «دون كيخوتــه» للروائـ ّ‬ ‫ســيرفانتيس‪.‬‬ ‫فــي «كيــف تعمــل الروايــة» نعثــر علــى حشـ ٍ‬ ‫ـد كبيــر مــن الروائييــن عبر مــا يربو‬ ‫علــى أربعــة قــرون مــن الروايــة‪ :‬ســيرفانتيس‪ ،‬دانييــل ديفــو‪ ،‬هنــري فيلدنــغ‪،‬‬ ‫دينيــس ديــدرو‪ ،‬جيــن أوســتن‪ ،‬ســتندال‪ ،‬بلــزاك‪ ،‬ديكنــز‪ ،‬فلوبيــر‪ ،‬تولســتوي‪،‬‬ ‫دستويفســكي‪ ،‬هنــري جيمــس‪ ،‬موباســان‪ ،‬تشــيخوف‪ ،‬تومــاس مــان‪ ،‬جوزيف‬ ‫كونــراد‪ ،‬مارســيل بروســت‪ ،‬جيمــس جويــس‪ ،‬فيرجينيــا وولــف‪ ،‬إيفليــن وو‪،‬‬ ‫نابوكــوف‪ ،‬تشــيزاري بافيســي‪ ،‬صــول بيللــو‪ ،‬فــي‪ .‬إس‪ .‬نايبــول‪ ،‬جــون أبدايــك‪،‬‬ ‫تومــاس بينشــون‪ ،‬خوســيه ســاراماغو‪ ،‬فيليــب روث‪ ،‬كازو إيشــيغورو‪ ،‬إيــان‬ ‫مــاك إيــوان‪ ،‬جــي‪ .‬إم‪ .‬كويتســي‪ ،‬ديفيــد فوســتر‪ ،‬واالس‪ ،‬وآخريــن‪.‬‬ ‫المحطمــة‪ :‬مقاالت عــن األدب واإليمان‪The« :‬‬ ‫فــي كتــب وود األخــرى‪ :‬األرض ُ‬ ‫‪« ،)Broken Estate Essays on Literature and Belief» (1999‬الذات غير‬ ‫المسـ�ؤولة‪ :‬عـ�ن الضحـ�ك والروايـ�ة �‪The Irresponsible Self: On Laugh‬‬ ‫ـادة‪ :‬مقــاالت مختــارة‬ ‫‪ ،)ter and the Novel» (2004‬وأخيــراً‪« :‬مالحظــات جـ َّ‬ ‫‪ ،)Serious Noticing: Selected Essays» (1997- 2019) (2020‬نعثر على‬ ‫الذَّكيــة التــي تقتــرب مــن‬ ‫الجديــة نفســها‪ ،‬ومالحقــة التفاصيــل‪ ،‬والتعليقــات‬ ‫ّ‬ ‫ـي‪ ،‬وتجعــل‬ ‫ـ‬ ‫الروائ‬ ‫ـداع‬ ‫ـ‬ ‫اإلب‬ ‫صميــم عمــل الروائــي‪ ،‬والمالحظــات التــي تضــيء‬ ‫ّ‬ ‫ـدي‬ ‫القــارئ يــرى ذلــك العمــل بعينــي الناقــد‪ .‬بهــذا المعنــى يكـ ُّ‬ ‫ـف العمــل النقـ ّ‬ ‫عــن كونــه عمـ ً‬ ‫األدبيــة‪ ،‬ليصبــح جنسـ ًا‬ ‫ـرد تعليــق علــى األعمــال‬ ‫ا‬ ‫َّ‬ ‫ثانويـاً‪ ،‬مجـ َّ‬ ‫ّ‬ ‫ـد ذاتــه‪.‬‬ ‫أدبيـ ًا فــي َحـ ِّ‬ ‫َّ‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪51‬‬


‫غياب‬

‫إرنيستو كاردينال‬

‫شاعر الثورة السندينية‬ ‫األول إرنيســتو كاردينــال عــن عاملنــا عــن عمــر ناهــز‬ ‫يف بدايــة مــارس‪/‬آذار مــن هــذه الســنة رحــل شــاعر نيكاراغــوا ّ‬ ‫‪ 95‬عامـ ًا‪ ،‬بعدمــا «أمــى أكــر مــن عــام كامــل مــن األمــراض والعالجــات يف املستشــفيات مل يتو َّقــف أبــداً خاللهــا‬ ‫عــن كتابــة الشــعر ونــره» كــا جــاء يف ترصيــح الكاتبــة لــوث مارينــا أكوســتا مســاعدة كاردينــال‪ .‬ومــا بــن الدمــوع‬ ‫ـردد‬ ‫واألحاديــث الحزينــة تجمــع النــاس‬ ‫ّ‬ ‫ليودعــوا شــاعر الثــورة الســندينية الــذي كانــت أشــعاره امللتهبــة والعميقــة تـ َّ‬ ‫عــى األفــواه‪ ،‬ملهمــة حــاس شــعب‪ .‬رحــل الشــاعر وهــو يقــف يف املواجهــة ضــد الطغــاة جارح ـ ًا مثــل شــوكة يف‬ ‫الحلــق أعــداء شــعبه‪ ،‬فنــال احــرام العــدو قبــل الصديــق‪ ،‬فقــد أشــار بيــان الرئاســة املو َّقــع مــن طــرف دانييــل أوتيغــا‬ ‫وزوجتــه روســاريو موريــو‪« :‬إننــا نعــرف بإســهاماته يف نضــال الشــعب النيكاراغــوي‪ ،‬كــا أننــا نعــرف أيضـ ًا بجميــع‬ ‫مزايــاه الثقافيــة والف ِّن ّيــة واألدبيــة‪ ،‬وبشــعره االســتثنايئ»‪.‬‬ ‫ولــد إرنيســتو كاردينــال فــي غرناطــة (نيكاراغــوا) فــي ‪ 20‬يناير‪/‬كانــون الثانــي‬ ‫‪ .1925‬وهــو الوريــث لتقاليــد شــعرية عريقــة مــع شــعراء بارزين مثــل‪ :‬روبين‬ ‫داريــو‪ ،‬كارلــوس مارتينيــث ريبــاس‪ ،‬بابلو أنطونيو كــوادرا‪ ،‬كالريبيــل أليغريا‪،‬‬ ‫فرانسيســكو دي أســيس فرنانديــث وجيوكنــدا بيلي‪...‬‬ ‫درس كاردينال األدب والفلســفة في ماناغوا وفي المكســيك‪ ،‬وتابع دراســات‬ ‫تمت تســميته «كاهناً»‬ ‫أخــرى فــي الواليــات الم َّتحدة وأوروبا‪ .‬في ســنة ‪ّ ،1965‬‬ ‫وفيمــا بعــد سيســتقر فــي أرخبيــل ســولينتينامي الواقــع فــي بحيــرة نيكاراغوا‬ ‫سيؤســس مجتمع ـ ًا مــن الصياديــن والف َّنانيــن البدائييــن‪،‬‬ ‫العظمــى‪ ،‬حيــث‬ ‫ّ‬ ‫وهــو مجتمــع ســيصبح مشــهور ًا عالميـاً‪ .‬هنــاك ســوف يكتــب الشــاعر كتابــه‬ ‫الشــهير «إنجيــل ســولينتينامي»‪ .‬ويعتبــر هــذا األرخبيــل محــج أتبــاع الشــاعر‬ ‫المخلصيــن‪ .‬وقــد كان إرنســتو كاردينــال يقضي عطلته في تلــك الجزر‪ ،‬حيث‬ ‫كان يقــرأ أعمــال روبيــن داريو الكاملة‪ ،‬ويكتب أشــعاره أو يتــرأس قداس عيد‬ ‫الفصــح فــي كنيســة القريــة الصغيــرة التي ســتصير أحــد المعاقل األساســية‬ ‫المعارضــة لنظام ســوموزا‪ .‬من هنالك سـ ُـيطرد كاردينــال ومجتمعه الصغير‪،‬‬ ‫ودمــر‬ ‫مــن طــرف حــرس ســوموزا الــذي اجتــاح الجــزر الصغيــرة‪ ،‬وهاجــم َّ‬ ‫الفلحــون والصيــادون والف َّنانــون المتحلِّقــون حول الشــاعر‪...‬‬ ‫كلّ مــا شـ ّـيده ّ‬ ‫ـول إلــى لســان ناطــق باســم الثــورة الســندينية فــي‬ ‫ســيغادر كاردينــال ليتحـ َّ‬ ‫المحافــل السياســية وفــي المهرجانــات الشــعرية‪ ،‬بحيــث ســيلقي قصائــده‬ ‫فــي كلّ مــن ســنتياغو بالشــيلي وبســان خوســيه بكوســتاريكا وبالعديــد مــن‬ ‫ـتتردد علــى األســماع قصائــد‬ ‫البلــدان األوروبيــة وغيــر األوروبيــة‪ ،‬هكــذا سـ َّ‬ ‫ملتهبــة بحمــى الثــورة‪ ،‬مثــل قصيــدة‪« :‬ســماء مفتوحــة» أو «ســوموزا يزيــح‬ ‫الســتار عــن تمثــال ســوموزا فــي ملعــب ســوموزا»‪ ...‬وكان الشــاعر يدعــم‬ ‫بشــعره الحماســي الســندينيين مــن خالل زياراتــه لجبهات القتــال‪ ،‬وبإيصال‬ ‫صــوت الثائريــن فــي وطنــه إلــى باقــي العالــم فاضح ـ ًا تجــاوزات دكتاتوريــة‬ ‫ســوموزا وفســادها‪ ،‬وانتهاكاتهــا الجســيمة لحقــوق اإلنســان‪ .‬وبعــد انتصــار‬ ‫تحمــل إرنيســتو كاردينال‬ ‫الثــورة وســقوط النظــام العســكري الســابق ورموزه ّ‬ ‫مســؤولية وزارة الثقافــة (‪ )1987 - 1979‬فــي الحكومــة الســندينية لدانييــل‬ ‫أجــج غضــب الفاتــكان عليــه باعتبــاره «كاهنــاً»‪،‬‬ ‫أورتيغــا األولــى‪ ،‬وهــو مــا َّ‬ ‫وجعــل البابــا يوحنــا بولــس الثانــي يبعــده ســنة ‪ 1984‬بالقانــون الكنســي‪،‬‬

‫‪52‬‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫ـرة‪،‬‬ ‫لكــن كاردينــال واصــل مشــروعه التنويــري ضمــن حكومــة نيكاراغــوا الحـ ّ‬ ‫إلــى آخــر محطَّ اتــه‪.‬‬ ‫ـدة لغــات نذكــر من هــذه األعمال‪:‬‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫إل‬ ‫ـال‬ ‫ـ‬ ‫كاردين‬ ‫ـتو‬ ‫ـ‬ ‫إيرنس‬ ‫ترجمــت أشــعار‬ ‫ّ‬ ‫«ســاعة الصفــر»‪« ،‬إنجيــل ســولينتينامي»‪« ،‬صــاة مارليــن مونــرو وقصائــد‬ ‫أخــرى»‪« ،‬أهجيــات»‪« ،‬مزاميــر» و«هكــذا في األرض مثلما في الســماء»‪ .‬وفي‬ ‫الســيرة الذاتيــة ترجمــت لــه‪« :‬حيــاة ضائعــة»‪« ،‬ســنوات غرناطــة»‪« ،‬الثــورة‬ ‫الضائعــة» إلــى أكثــر مــن ‪ 20‬لغــة‪.‬‬ ‫المؤسســات الثقافية وشــخصيات من عالم‬ ‫ســنة ‪ 2018‬بــادرت مجموعــة من‬ ‫َّ‬ ‫ـن واآلداب والسياســة مــن أجــل ترشــيح الشــاعر لجائــزة نوبــل لــآداب‪،‬‬ ‫الفـ ّ‬ ‫المروجين لملف‬ ‫رأس‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫موخيكا‬ ‫بيبي‬ ‫ـواي‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫لألوروغ‬ ‫ـابق‬ ‫ـ‬ ‫الس‬ ‫ـس‬ ‫ـ‬ ‫الرئي‬ ‫وكان‬ ‫ّ‬ ‫ترشــيح إيرنســتو كاردينــال‪ ،‬فضـ ً‬ ‫ا عــن تبنــي مهرجــان ميالنــو الدولي للشــعر‬ ‫تتكون‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫الداعم‬ ‫اللجنة‬ ‫ـت‬ ‫ـ‬ ‫وكان‬ ‫فيرنانديث‪،‬‬ ‫للملــف مــن خــال مديــره ميلتــون‬ ‫َّ‬ ‫مــن الطبيب جيوســيبي ماســيرا‪ ،‬والشــاعر غيــدو أولداني‪ ،‬والصحافيــة أندريا‬ ‫سيمليتســي‪ ،‬لكــن هــذا الترشــيح تالشــى مــع الفضيحــة التــي رافقــت نوبــل‬ ‫كمؤسســة‪ ،‬وكان كاردينــال قــد اق ُت ـرِح مــن قبــل رســمي ًا لجائــزة نوبــل عــام‬ ‫َّ‬ ‫العامــة للمؤلِّفيــن والناشــرين فــي إســبانيا‪ ،‬لكــن‬ ‫‪ 2010‬مــن طــرف الجمعيــة‬ ‫ّ‬ ‫الشــاعر النيكاراغــوي فــي تلــك المناســبة أخبــر وســائل اإلعــام أن الجائــزة‬ ‫ال تهمــه‪ .‬والواقــع أن كاردينــال ليــس مــن الشــعراء الذيــن يحتفــون كثيــر ًا‬ ‫ويترصدونهــا‪ ،‬ومــع ذلــك فقد اســتلم من قبل علــى ا َ‬ ‫بالجوائــز الشــعرية‬ ‫ألقلّ‬ ‫َّ‬ ‫مهمتيــن همــا‪ :‬جائــزة بابلــو نيــرودا ســنة ‪ ،2009‬وجائــزة‬ ‫جائزتيــن شــعريتين ّ‬ ‫األول‬ ‫ترشــيحه‬ ‫ــان‬ ‫وإب‬ ‫‪،2012‬‬ ‫ســنة‬ ‫اإليبيروأميركــي‬ ‫للشــعر‬ ‫الملكــة صوفيــا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لجائــزة نوبــل‪ ،‬كان الشــعراء المشــاركون فــي المهرجــان الدولــي الســادس‬ ‫للشــعر بغرناطــة (‪ )2010‬علــى لســان الشــاعر اإلســباني دانيــال رودريغيــث‬ ‫ـروا بقيمــة الشــاعر إيرنســتو كاردينال باعتبــاره واحــد ًا من أعظم‬ ‫مويــا‪ ،‬قــد أقـ ّ‬ ‫الشــعراء فــي أميــركا الالتينيــة وفــي العالــم‪ ،‬وهــذه حقيقــة ال يجــادل فيهــا‬ ‫أحــد ألن أميــركا الالتينيــة عرفــت خــال تاريخها الحديث شــاعرين أساســين‪،‬‬ ‫همــا روبيــن داريــو وبابلــو نيــرودا‪ ،‬اللــذان عمــا علــى ترســيخ قالــب معيــاري‬ ‫للقصيــدة الحديثــة لــم يســتطع أي شــاعر أن يزحزحــه بعدهمــا قبــل نيكانــور‬ ‫بــارا وإيرنســتو كاردينــال‪ ■ .‬تقديــم وترجمــة‪ :‬خالــد الريســوني (المغــرب)‬


‫مختارات شعرية‬ ‫(إرنستو كاردينال)‬

‫هنا كان يعربُ عىل قدميه يف هذه الشوارع‪،‬‬ ‫بال عمل أو منصب وبال مال‪.‬‬ ‫وحدهم الشعراء والغاضبون‪...‬‬ ‫عرفوا أشعاره‪.‬‬ ‫لم يكن أبدا ً يف الخارج‪.‬‬ ‫كان سجيناً‪.‬‬ ‫واآلن قد مات‪.‬‬ ‫وليس له أي نصب تذكاري ‪...‬‬ ‫لكن‬ ‫تذكروه ملَّا تكون لديكم جسور خرسانية‪،‬‬ ‫عنفات ضخ َمة‪ ،‬وجرارات‪ ،‬وحظائر من فضة‪،‬‬ ‫وحكومات ج ّيدة‪.‬‬ ‫شع ِب ِه‪،‬‬ ‫ائد ِه لغَ ة ْ‬ ‫ألنه َص َّفى يف َ‬ ‫قص ِ‬ ‫َ‬ ‫التجارة‪،‬‬ ‫اليت يف يوم ما‬ ‫َب بها اتفاقياتُ‬ ‫سوف تُكت ُ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ب‪،‬‬ ‫الح ِّ‬ ‫ال ُّدستورُ‪ ،‬ورسائ ُل ُ‬ ‫واملراسيم‪.‬‬ ‫ُ‬

‫سوموزا يزيح الستار عن تمثال سوموزا يف‬ ‫ملعب سوموزا‬ ‫أقام يل هذا التمثا َل‬ ‫ليس أنين أعتقد أن‬ ‫َ‬ ‫الشعب َ‬ ‫ألنين أعرف أفضل منكم أنين أصدرت األم َر بذلك بنفيس‪.‬‬ ‫وال أنين أدعي أن أنتقل عربها إىل األجيال القادمة‬ ‫ُ‬ ‫يهدمها ذات يوم‪.‬‬ ‫أعرف أن الشعب سوف‬ ‫ألنين‬ ‫ُ‬ ‫أرفع ذايت منتصبا يف الحياة‬ ‫كنت‬ ‫وال أنين ُ‬ ‫أرغب أن َ‬ ‫ُ‬ ‫ألين لحظة سأموتُ لن ترفعوين‪ :‬أنتم‬ ‫ِّ‬ ‫نصبت هذا التمثال ألنين أعلم أنكم تكرهونه‬ ‫لكن‬ ‫ُ‬ ‫‪ ‬‬ ‫الحرس الوطين يميض بحثا ً عن رجل‪.‬‬ ‫رجل ينتظر هذه الليلة أن يصل إىل الحدود‪.‬‬ ‫اسم ذلك الرجل غري معروف‪.‬‬ ‫ث ّمة رجال عديدون مدفونون‬ ‫يف خندق‪.‬‬ ‫واسم هؤالء الرجال ليس‬ ‫عد ُد‬ ‫ُ‬ ‫معروفا‪ً.‬‬ ‫وال ي ُ ُ‬ ‫عرف مكان وال عدد‬ ‫الخنادق‪.‬‬ ‫الحرس الوطين يميض بحثا ً‬ ‫عن رجل‪.‬‬ ‫رجل ينتظر هذه الليلة أن يغادر‬ ‫نيكاراغوا‪.‬‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪53‬‬


‫ماء‬ ‫هكذا يف‬ ‫األرض كما يف َّ‬ ‫الس ِ‬ ‫ِ‬ ‫(مقطع)‬

‫كُ ُّل ما خُ ِلق ِم َن اإللَ ِه‬ ‫َم َع َنا ي َ ُعو ُد إىل اإللَ ِه‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫ال ُك ُّ‬ ‫ل َمولو ٌد ِم ْن اث َن ْ ِ‬ ‫َمخْ لُ ٌ‬ ‫ب‬ ‫وق ِم َن ُ‬ ‫الح َّ‬ ‫َ‬ ‫وم ِف األ ْع َل‬ ‫ت ال ُّن ُ‬ ‫ج ُ‬ ‫ل ْي َس ِ‬ ‫ِه َي َذرَّاتٌ ِم ْثلَ َنا‬ ‫جوم‬ ‫ن َْح ُن امل ُ َولَّ ُدون من ُغبار ال ُّن‬ ‫ِ ْ َ ِ ً ُ ِ‬ ‫وم ْن ذاكَ الغُ َبار ِ ِه َي أيْضا‬ ‫ِ‬ ‫جوم ُم ْدرِكَ ٌة‬ ‫ني ال ُّن‬ ‫َمالي‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫َقرابِي ُن َها تَلْت َِم ُع خال َل اللَّ ْيل كُلِّ ِه‬ ‫ِ‬ ‫انف َ ُ‬ ‫الع ْظ َمى‬ ‫رات ُ‬ ‫ِ‬ ‫جارُ امل ْست َِع ِ‬ ‫َو ِه َي ت ُ َعلِّ ُم َنا كَ ْي َف ن َ ُموتُ‬ ‫ألجل ال َّتط َ ُّور‬ ‫املوتُ َضُ ٌّ‬ ‫وري ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وم ُة وهي ت ْن َقس ُم ال ت َ ُموتُ أبَدا ً‬ ‫ُ‬ ‫الج ْرث ُ َ‬ ‫ِ َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫وال تتط َّورُ‬ ‫ِّ‬ ‫يد‬ ‫الز َ​َّم ُن ِف ات ٍ‬ ‫جاه َو ِح ٍ‬ ‫َ‬ ‫اآلت ال َبار ِ ِد‬ ‫اض َّ‬ ‫الس ِ‬ ‫ِم َن امل ِ‬ ‫اخ ِن إىل ِ‬ ‫الح َرارِي َّ ِة‬ ‫ام َّي ِة َ‬ ‫ال َقان ُو ُن ال َّث ِان للدِّي َن ِ‬ ‫أن ي َ ُموتَ‬ ‫ش ٍء ي َ ِح ُ‬ ‫َّ‬ ‫ب ْ‬ ‫أن كُ َّل َ ْ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ش ٍء ما‬ ‫َغر ِ ٌ‬ ‫يب ْ‬ ‫أن يَكو َن ثانِيا ل ِ ْ‬ ‫َ‬ ‫إدي ْنغْ تُون‬ ‫َقان ُو ٌن أ ْعل َس َّما ُه ِ‬ ‫ان ْب َع ُ‬ ‫ين‬ ‫اث امل َ ْو َت ي َ ْع ِن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫امنا ً َم َع امل َ ْو َت‬ ‫َض‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫س‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ج‬ ‫د‬ ‫َق‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ش ٍء‬ ‫ْ‬ ‫ادرا ً َع َل كُ ِّل َ ْ‬ ‫إن كَا َن َق ِ‬ ‫أن ي َ ُكو َن ال ُك ُّل َقادرا ً‬ ‫وما ْ‬ ‫أج َم َل ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫قادرا ِض َّد امل ْو ِت‬ ‫ِ‬ ‫امل َ ْوتُ َح ٌّق‬ ‫ليس ن َهائ ّيا ً‬ ‫لَ ِك َّن ُه َ ِ ِ‬ ‫يش ٍء َم َع امل َ ْو ِت‬ ‫ال ي َ ُموتُ كُ ُّل ْ‬ ‫الحت ِْم ِّي؟‬ ‫أم ْ‬ ‫َّالش َ‬ ‫ح ُك ُ‬ ‫َ‬ ‫ومو َن بالت ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ام ُل للك ْو ِن‬ ‫َّالش الك ِ‬ ‫َو َه ِل الت ِ‬ ‫ُ‬ ‫أن ي َ ْنتَه َي الك ُّل إىل َع َدم؟‬ ‫هو‬ ‫َُ ْ ِ‬ ‫ُ ٍ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫خُ‬ ‫ح ِويلهُ؟‬ ‫ك ي َ ِت َّم ت ْ‬ ‫ْ‬ ‫أم ِل َق ل ِ ْ‬

‫‪54‬‬

‫س َس َ‬ ‫َّ‬ ‫حر ِ ُق َنا‬ ‫وف ت ُ ْ‬ ‫الش ْم ُ‬ ‫اح ِم َرارا ً هائِال ً‬ ‫إن َصارَ ِت ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ض‬ ‫َ‬ ‫وس َي ِثريُ امل ْدفونو َن يف األرْ ِ‬ ‫ين َّ‬ ‫الش ْمس‬ ‫َد ِف ِ‬ ‫ِ‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫صغريَ ًة‬ ‫صريُ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫وبعدئذ َس ْو َف ت َ ِ‬ ‫َقز َ​َم ًة ب َ ْي َضا َء‬ ‫ُ‬ ‫ون قابال ً‬ ‫للس َكن‬ ‫وال كَ ْوكَ َ‬ ‫ب َس َيك ُ ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫وب إىل امل ِّريخ؟‬ ‫َه ْل َس َن ْست َِط ُ‬ ‫يع ال ُه ُر َ‬ ‫ِ‬ ‫ج َّر َد تَأجيل لل ِّن َهاي َ ِة‬ ‫و ُه َو ما ي ُ ْم ِك ُن أن ي َ ُكو َن ُم َ‬ ‫ٍ‬ ‫َح ّقا ً َم ْوتُ ال َك ْو ِن‬ ‫َ‬ ‫ض وبال َش ْمس و َف َقط‬ ‫وق ْد َصارَ بال أرْ ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ح ٌر ِم ْن ن ُ​ُجوم َم ِّيت ٍَة‬ ‫بَ ْ‬ ‫ٍ‬ ‫أجل ن ُ​ُجوم َ‬ ‫أكث‬ ‫ني من‬ ‫ون ِهي ْدرُ ِ‬ ‫وج ٍ‬ ‫ب ِ ُد ِ‬ ‫ْ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫كَ ْو ٌن بَار ِ ٌد فقط‬ ‫ُ​ُ‬ ‫وب َس ْو َدا َء‬ ‫ِم ْن ثق ٍ‬ ‫ون ُ​ُجوم َم ِّيت ٍَة‬ ‫ٍ‬ ‫ني ت َ ْنط َ ِفئ ُ ن َْج َم ٌة‬ ‫ح َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫تغْ‬ ‫أس َو َد‬ ‫ب ْ‬ ‫َر ُق ِف ثق ٍ‬ ‫وه َي أيْضا ً ن َْج َم ٌة َس ْو َدا ُء‬ ‫ِ‬ ‫َولَ ْن ت َ ُكو َن َف َقط ن ِ َهاي َ ُة َّ‬ ‫الش ْمس‬ ‫ِ‬ ‫ب َ ْل أيضا ً ن ِ َهايَة كُ ِّل ال َك ْو ِن‬ ‫ش ٍء ب ِ ِب َداي َ ٍة لَ ُه ن ِ َهاي َ ٌة‬ ‫ك ُّل َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ون؟‬ ‫ون َ‬ ‫كيف َس َي ُك ُ‬ ‫الحا ُل بال ك ٍ‬ ‫وء ن ِ َهايَتَه؟‬ ‫َه ْل َس َي َّ‬ ‫تأم ُل اإلل ُه ِف ُه ُد ٍ‬ ‫ُ‬ ‫وي َ ُكو َن َم َّر ًة أخْ َرى امل َت َو ِّح َد َّ‬ ‫الض ِج َر لألب َ ِدي َّ ِة‬ ‫ال‬ ‫لن ي ُ ِعي َد ال ُك َّل إىل ال َف َراغ الذي ِم ْن ُه أىت‬ ‫ْ‬ ‫ْ ً ِ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫خَ‬ ‫ج َع ُل لقا َج ِديدا قا َل ل َنا‬ ‫َس ْوف ي َ ْ‬ ‫ً‬ ‫عاملا ً َج ِديدا ب ِ ُدون َدرَ َج ِة ت َ َعا ُدل َح َراريٍّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ش ٍء ي ُ ْس َت ْن َف ُد‬ ‫لَ ْي َ‬ ‫فيه كُ ُّل َ ْ‬ ‫س َذاكَ الذي ِ‬ ‫َح ِّررُو َن ِم َن الز َ​َّمن ذلكَ ال َو ْه ُم‬ ‫ُمت َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫الذي قال ُه أينشتاين‬ ‫اض ِ املُتَأب ِّ ِد‬ ‫ِف َ‬ ‫الح ِ‬ ‫ُ‬ ‫ب‬ ‫الح ِّ‬ ‫َح ِّولو َن َع ْبَ ُ‬ ‫ُمت َ‬ ‫أن ن َصريَ ن َ ْوعا ً َجديدا ً‬ ‫ِ‬ ‫إىل ْ ِ‬ ‫ْ‬ ‫يد‬ ‫ِف انتظار ِ خَ ل ٍق َج ِد ٍ‬ ‫َسان ْتا ترييسا دي ليزيو‬ ‫ت ب ِ ِغ َواي َ ِة َه ْرط َ َق ٍة‬ ‫َمات َ ْ‬ ‫َ‬ ‫الغ َواي َ َة ب ِ َق ْول ِ َها‬ ‫ت ِ‬ ‫ل ِك َّن َها َهز َ​َم ِ‬ ‫ً‬ ‫أح ُّبكَ ‪.‬‬ ‫َح َّت لَ ْو لَ ْم ت َ ُك ْن َم ْو ُجودا َفأن َا ِ‬


Doha Magazine

55

150 2020 ‫أبريل‬

aldoha_magazine

@aldoha_magazine


‫حوار‬

‫مازن أكثم سليمان‪..‬‬

‫ِّ‬ ‫وري يف زمن الحرب‬ ‫عر‬ ‫الش‬ ‫الس ّ‬ ‫ُّ‬ ‫الشــعر‬ ‫الدراســات‬ ‫األدبية من جامعة دمشــق (‪ .)2015‬بدأ بنرشِ ِّ‬ ‫شــاعر وناقد وأكادميي ســوري‪ ،‬حائز عىل دكتوراه يف ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ـوان ِشــع ٍر صـ ِ‬ ‫بعنوان‬ ‫ـادر عــن «دار‬ ‫ِّ‬ ‫قديــة منــذُ العــام (‪ ،)1999‬ولــه ديـ ُ‬ ‫والدراســات ال َّن ّ‬ ‫الفاضل» بدمشــق‪ ،‬يف العــام (‪ُ )2006‬‬ ‫(قبـ َ‬ ‫للدراســات وال َّنرش يف اســطنبول‪ ،‬بعنوان‬ ‫قديــة صــادر عــن «دار موزاييــك» ِّ‬ ‫ـل غزالــة ال َّنــوم)‪ ،‬وكتــاب يف ِّ‬ ‫الدراســات ال َّن ّ‬ ‫الشـ ِ‬ ‫ـايب‪ ،‬يف دور ِتهــا ال ّت ِ‬ ‫اســعة (‪ ،)2019‬يف‬ ‫ـاغالت‬ ‫(حركيــة ّ‬ ‫ميــة لإلبــداع الكتـ ّ‬ ‫الكيانيــة)‪ .‬نــال جا ِئــزة الطَّ ِّيــب صالــح العا َل ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫طابقات‬ ‫م‬ ‫بني‬ ‫ة‬ ‫اإلبداعي‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫الكتاب‬ ‫يف‬ ‫الوجود‬ ‫ـاليب‬ ‫ـ‬ ‫أس‬ ‫(انزياح‬ ‫ــ‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ن‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫ع‬ ‫مل‬ ‫ا‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫كتاب‬ ‫ـوط‬ ‫ـ‬ ‫خط‬ ‫م‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ـة)‬ ‫ـ‬ ‫قدي‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫ـات‬ ‫ـ‬ ‫راس‬ ‫الد‬ ‫ـال‬ ‫(مجـ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫ِّ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫ّ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫كرية‪..‬‬ ‫ف‬ ‫وال‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫قدي‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫ـات‬ ‫ـ‬ ‫راس‬ ‫والد‬ ‫قاالت‬ ‫مل‬ ‫وا‬ ‫ـوص‬ ‫ـ‬ ‫ص‬ ‫ن‬ ‫وال‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫ئ‬ ‫القصا‬ ‫ـرات‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫ـا)‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ت‬ ‫واختالفا‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫العومل‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ـعري ًا‪/‬‬ ‫ـ‬ ‫(ش‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫يان‬ ‫ب‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫أط‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ك‬ ‫)‪،‬‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ج‬ ‫ـقَ‬ ‫بعنــوان (اإلعـ ُ‬ ‫َ‬ ‫يف العــام (‪ )2015‬أط َلــقَ مــازن أكثــم ســليامن َ‬ ‫ّ‬ ‫(بيان ـ ًا ِشـ ّ‬ ‫ـعري ًا) ُ‬ ‫ـان ال َّت ُ‬ ‫خار ُّ‬ ‫ِ‬ ‫اقي ا ُ‬ ‫ويعـ ّـد ال ّناقــد الوحيــد (ح ّتــى‬ ‫االنتصاليــة‪/‬‬ ‫ضاعــف ‪-‬‬ ‫مل َ‬ ‫ّ‬ ‫البينشـ ّ‬ ‫ـعرية) يف العــام (‪ُ .)2018‬‬ ‫نقديـ ًا) ُ‬ ‫ّ‬ ‫بعنــوان (الجـ َـدل ال ِّن ْسـ َـي ّ‬ ‫َ‬ ‫ـوري‪ ،‬فضـ ً‬ ‫كَ‬ ‫الس‬ ‫ـعر‬ ‫ـ‬ ‫الش‬ ‫يف‬ ‫ـرب‬ ‫ـ‬ ‫والح‬ ‫ـورة‬ ‫ـ‬ ‫ث‬ ‫ال‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫وضوع‬ ‫م‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ـة)‬ ‫ـ‬ ‫وتطبيقي‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫ري‬ ‫(نظ‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫نقدي‬ ‫ـات‬ ‫ـ‬ ‫دراس‬ ‫ـلة‬ ‫ـ‬ ‫سلس‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫ـذي‬ ‫ـ‬ ‫ال‬ ‫اآلن)‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫تنوعــة يف هــذا ا ِ‬ ‫ُ‬ ‫ملضــار‪.‬‬ ‫مل‬ ‫ا‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫الفكري‬ ‫ه‬ ‫ت‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ودراس‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫قاال‬ ‫وم‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫ُصوص‬ ‫عــن قصا ِئـ ِـد ِه ون‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬

‫َ‬ ‫الكيانية‪-‬‬ ‫الشاغالت‬ ‫قدي الجديد‬ ‫نبدأ من‬ ‫«حركية ّ‬ ‫كتابك ال َّن ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫سورية (‪2011‬‬ ‫عرية في زمن الثَّورة والحرب في‬ ‫ّ‬ ‫مهيمنات ش ّ‬ ‫ ‪ ،»)2018‬الــذي صــدر‪ ،‬حديثــ ًا‪ ،‬عــن «دار موزاييــك» فــي‬‫نقــدي يعالــج قضايــا تتعلَّــق‬ ‫أول كتــاب‬ ‫وي َع ّ‬ ‫ّ‬ ‫إســطنبول‪ُ ،‬‬ ‫ــد َّ‬ ‫أسســت عليهــا‬ ‫التــي‬ ‫األســس‬ ‫مــا‬ ‫والحــرب‪.‬‬ ‫بشــعر الثَّــورة‬ ‫َّ‬ ‫البحــث؟‬

‫‪56‬‬

‫ـر ُتها‬ ‫ ُتم ِّثــلُ دراســات هــذا الكتــاب‪ ،‬التــي كتب ُتها في دمشــق‪ ،‬ونشـ ْ‬‫المســارات‬ ‫ـدة َ‬ ‫الممتـ ّ‬ ‫بين ‪ 2015‬و‪َ ،2018‬مســار ًا من َ‬ ‫خــالَ األعــوام ُ‬ ‫يتشــاب ُك فيهــا‬ ‫والتــي‬ ‫عليهــا‪،‬‬ ‫ْــت‬ ‫ل‬ ‫عم‬ ‫التــي‬ ‫دة‬ ‫تعــد‬ ‫الم‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّقافيــة ُ‬ ‫الث ّ‬ ‫العربــي‪،‬‬ ‫بيــع‬ ‫والر‬ ‫ة‪،‬‬ ‫ــوري‬ ‫الس‬ ‫َّــورة‬ ‫ث‬ ‫ال‬ ‫أحــداث‬ ‫بــة‬ ‫م‬ ‫ســتوى‬ ‫ُم‬ ‫واكَ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫مع ُمســتوى‬ ‫وتفحصهــا‪ ،‬وتحليلهــا‪ ،‬وال َّتنظيــر لها‪ ،‬من‬ ‫أول‪َ ،‬‬ ‫ُّ‬ ‫جانب َّ‬ ‫والفكريــة‪ ،‬بمــا‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫قدي‬ ‫ن‬ ‫وال‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫الف‬ ‫ـة‪/‬‬ ‫ـ‬ ‫اإلبداعي‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫العام‬ ‫ـاريعي‬ ‫َمشـ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ـانٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ـد لــي‬ ‫ـ‬ ‫الب‬ ‫كان‬ ‫إذ‬ ‫‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ث‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫جان‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ً‪،‬‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫عرفي‬ ‫م‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ك‬ ‫ترا‬ ‫م‬ ‫ـوط‬ ‫ـ‬ ‫ط‬ ‫خ‬ ‫ـي‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫هـ َ‬ ‫ــوري فــي‬ ‫الس‬ ‫َّقافــي‬ ‫ث‬ ‫ال‬ ‫ــز‬ ‫نج‬ ‫الم‬ ‫قــراءة‬ ‫ــرة‬ ‫غام‬ ‫لم‬ ‫ي‬ ‫صــد‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫مــن‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ ُّ‬ ‫نحـ ٍو‬ ‫نجــز ِّ‬ ‫ِحقبــة ال َّثــورة‪ ،‬ال سـ ّـيما مــا يتع َّلـ ُ‬ ‫بالم َ‬ ‫الشـ ّ‬ ‫ـعري‪ ،‬علــى ْ‬ ‫ـق ُ‬ ‫ـدي على ُب ْعـ ٍ‬ ‫تجريبي‪ ،‬على‬ ‫ـد‬ ‫نه َض ْ‬ ‫المســألة التــي َ‬ ‫ت لـ َّ‬ ‫ـي َ‬ ‫خـ ّ‬ ‫ـاص‪ ،‬وهـ َ‬ ‫ّ‬ ‫ـع ‪-‬فــي آنٍ‬ ‫ويتقاطَ‬ ‫ً‬ ‫ـ‬ ‫ـوازى‬ ‫ـ‬ ‫يت‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫بم‬ ‫ً‪،‬‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫وتطبيق‬ ‫ا‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫تنظي‬ ‫ـد‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫ـتوى‬ ‫ُمسـ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫ِ‬ ‫ويتنامــى‪ُ ،‬موا ِكب ـ ًا‬ ‫كان‬ ‫المن َتــج ِّ‬ ‫ـعري الــذي َ‬ ‫ـر َ‬ ‫الشـ ّ‬ ‫مع ـاً‪ -‬مــع ُ‬ ‫ينتشـ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الحــرب‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ومنه‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ل‬ ‫خت‬ ‫الم‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ت‬ ‫وتداعيا‬ ‫ـورية‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫الس‬ ‫ـورة‬ ‫أحــداث ال َّثـ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫حاولــة‬ ‫بم‬ ‫ـبه‬ ‫ـ‬ ‫أش‬ ‫ـوص‬ ‫ـ‬ ‫ص‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫ه‬ ‫ـذ‬ ‫ـ‬ ‫له‬ ‫ـاتي‬ ‫ـ‬ ‫دراس‬ ‫ـدو‬ ‫ـ‬ ‫تب‬ ‫‪،‬‬ ‫ـك‬ ‫ـ‬ ‫طبع ـاً؛ لذل‬ ‫ُّ‬ ‫ُ َ‬ ‫ِ‬ ‫ـت فــي‬ ‫ـ‬ ‫انفتح‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫كم‬ ‫ة‬ ‫ـعري‬ ‫ـ‬ ‫الش‬ ‫ـ‬ ‫َّحظ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ـت‬ ‫ـ‬ ‫واكب‬ ‫ـة)‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫(بانورامي‬ ‫إضــاءة‬ ‫ـةَ ِّ‬ ‫َ ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫تلـ َ‬ ‫ـوري‬ ‫أهم ّيــة قــراءة ِّ‬ ‫َّوريــة‪ ،‬إذ تكمــن ِّ‬ ‫السـ ّ‬ ‫ـك الحقبــة الث ّ‬ ‫الشــعر ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـروري‬ ‫ـ‬ ‫الض‬ ‫ـدي‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫ـيس‬ ‫ـ‬ ‫أس‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫‬‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫أعتق‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫كم‬‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫قب‬ ‫الح‬ ‫ه‬ ‫ـذ‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫فــي‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫المدرسـ ّـية)‬ ‫ـة‪/‬‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫(الف‬ ‫ـاد‬ ‫ـ‬ ‫األبع‬ ‫ـس‬ ‫ـ‬ ‫تلم‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫بأهم‬ ‫ـط‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ترت‬ ‫أي‪:‬‬ ‫ً؛‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫تأريخي‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ِّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫لهـ ِ‬ ‫وض ِعها في‬ ‫حاولــة ْ‬ ‫ـذ ِه ال َّتجــارِب الغزيــرة جـ ّ‬ ‫وم َ‬ ‫ـداً‪ ،‬بــا ُمبالَغــة‪ُ ،‬‬ ‫ت‪ ،‬في‬ ‫ـعي‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫وقد‬ ‫ً‪،‬‬ ‫ا‬ ‫نقدي‬ ‫‪،‬‬ ‫عرفي‬ ‫الم‬ ‫ـام‬ ‫ـ‬ ‫لالنتظ‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫ِل‬ ‫ب‬ ‫قا‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫فهومي‬ ‫م‬ ‫ـر‬ ‫ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫أُطُ ـ َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫هـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـي واســع‪،‬‬ ‫حاولــة القيــام‬ ‫بعمليــة َســبر ِّ‬ ‫ـذ ِه القــراءات‪ ،‬إلــى ُم َ‬ ‫ّ‬ ‫نصـ ّ‬ ‫الشـ ِ‬ ‫الشــعر‪ ،‬وإلى‬ ‫يانية» في هذا ِّ‬ ‫كيــة ّ‬ ‫ـي‪ ،‬لـــ ِ َ‬ ‫ـاغالت الكَ ّ‬ ‫«ح َر ّ‬ ‫وتأصيلـ ّ‬ ‫وأؤر َخ ‪-‬ف ِّن ّياً‪ -‬ال ّتجاهاتها‪ُ ،‬مفكِّك ًا‬ ‫ـه‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫في‬ ‫ـائدة‬ ‫ـ‬ ‫الس‬ ‫ارات‬ ‫ي‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫ـف‬ ‫أن أُص ِّنـ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫(الم ِ‬ ‫هيمنــة)‬ ‫ـات‬ ‫ـ‬ ‫رجعي‬ ‫والم‬ ‫ـارات‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫الم‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫مل‬ ‫ج‬ ‫ـتطاع‪-‬‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫الم‬ ‫قـ ْ‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ـد َر ُ‬ ‫الرئيســة‪ ،‬بوص ِف ِ‬ ‫ــه ِحقبــةً قابلــةً ‪ -‬مــن‬ ‫عليــه‪ُ ،‬‬ ‫ومقارِبــ ًا ِســما ِت ِه َّ‬ ‫نقدي ـاً‪ ،‬وال َّتبويــب ال َّنظَ ــري‪،‬‬ ‫نهجيــة‪،‬‬ ‫الم‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫لإلحاط‬ ‫ـدأ‪-‬‬ ‫ـ‬ ‫المب‬ ‫ـث‬ ‫حيـ ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫جريبيــة‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫ــح‬ ‫م‬ ‫ال‬ ‫الم‬ ‫بعــض‬ ‫ــس‬ ‫تلم‬ ‫عــن‬ ‫ا‬ ‫ــ‬ ‫فض‬ ‫ً‪،‬‬ ‫ا‬ ‫ــ‬ ‫مالي‬ ‫وج‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫ف ِّن ّيــ ًا َ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫الطَّ‬ ‫ـكِّ‬ ‫حاولــة اســتقراء‬ ‫لم‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫عريض‬ ‫ـق‬ ‫ـ‬ ‫ري‬ ‫ـح‬ ‫ـ‬ ‫يفت‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫بم‬ ‫ـه‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫في‬ ‫لة‬ ‫المتشـ‬ ‫ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫آفا ِقـ ِ‬ ‫لية‪.‬‬ ‫ـتقب‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫الم‬ ‫ـه ُ‬ ‫َ ّ‬


‫ـتقبلي قابــل لل َّتشــكُّ ل؛‬ ‫لتيــار ُمسـ‬ ‫وضــع معالــم (حدسـ ّـية‪ /‬كُ ل ِّّيــة) ّ‬ ‫ّ‬ ‫الممكــن الحديــث عــن وجــود إرهاصــات وتجــارب‬ ‫فــإذا َ‬ ‫كان مــن ُ‬ ‫ِ‬ ‫ـم اإلشــارة إلــى‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫الم‬ ‫ـإن‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫قادم‬ ‫ـدة‬ ‫ـ‬ ‫جدي‬ ‫ة‬ ‫ـعري‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫بحقب‬ ‫بشــر‬ ‫ُت ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ ّ‬ ‫ـتقرة‪ ،‬بعد‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫الم‬ ‫ها‬ ‫ت‬ ‫ـما‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـف‬ ‫ـ‬ ‫تتكش‬ ‫ولم‬ ‫اآلن‪،‬‬ ‫ى‬ ‫ت‬ ‫ح‬ ‫ـج‬ ‫ـ‬ ‫تنض‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫أ َّنه‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬

‫اإلبداعيــة التــي ظهــرت فــي شــعر الثَّــورة‬ ‫اإلشــكاليات‬ ‫مــا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ســورية‪ ،‬كمــا تعتقــد؟‬ ‫فــي‬ ‫والحــرب‬ ‫ّ‬

‫مازن أكثم▲‬

‫ـورية‬ ‫قيم مازن أكثم ســليمان المرحلة ِّ‬ ‫السـ ّ‬ ‫الشـ ّ‬ ‫ـعرية ُّ‬ ‫كيف ُي ِّ‬ ‫فــي زمــن الثَّورة والحرب؟‬

‫مَوضوعة َّ‬ ‫الثورة‬ ‫والحَ رب قد باتَتْ‬ ‫عندَ جيل ِ‬‫كامل‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫الشعراء‪ -‬تُ ِ‬ ‫ُّ‬ ‫شب ُه‬ ‫ِمنَ‬ ‫املُوضة ِّ‬ ‫الشعريّة‪،‬‬ ‫طبيعي‬ ‫وهذا أم ٌر‬ ‫ٌّ‬ ‫َ‬ ‫عليه‪،‬‬ ‫اعرتاض‬ ‫ال‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫حيث املَبدأ‪،‬‬ ‫من‬ ‫غري أنَّ املَسألة َ‬ ‫أكث‬ ‫تعقيدا ً ممّ ا نظنُّ ؛‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫هذ ِه‬ ‫ذلك أنَّ تحوُّل ِ‬ ‫املَوضوعة‪ ،‬عندَ كثري‬ ‫من ُّ‬ ‫الشعراء‪ ،‬إىل‬ ‫ِ‬ ‫(الق َ‬ ‫ناع‬ ‫ما يُشب ُه ِ‬ ‫ِّ‬ ‫ب‬ ‫الشعريَّ )‪ ،‬قد غ َّي َ‬ ‫عددا ً من ال َقضايا‬ ‫املَسكوت عنها‬

‫اريخيــة الكُ بــرى‪ ،‬وفــي‬ ‫ـوالت ال ّت‬ ‫عاصــر ُة ُّ‬ ‫ ُتم ِّثــلُ ُم َ‬‫الشــعراء لل َّتحـ ُّ‬ ‫ّ‬ ‫قدموا شــهاداتهم‬ ‫ي‬ ‫كي‬ ‫ً؛‬ ‫ة‬ ‫نادر‬ ‫روب‪،‬‬ ‫والح‬ ‫ـورات‬ ‫قدمتهــا ال َّثـ‬ ‫فرصةً‬ ‫ُ ِّ‬ ‫ُم ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫داثية‪-‬‬ ‫الح‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫فاهيم‬ ‫م‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫أح‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬‫ـعر‬ ‫ـ‬ ‫فالش‬ ‫ـم‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫عصره‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ة‬ ‫ـعري‬ ‫ـ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫الش ّ‬ ‫َ ّ‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫لِّ‬ ‫وهو ِّي ٍة فريدة‪،‬‬ ‫ـرة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫غا‬ ‫م‬ ‫ُغة‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫‪،‬‬ ‫جديد‬ ‫ر‬ ‫عص‬ ‫روح‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫تعبي‬ ‫ـو‬ ‫كُ‬ ‫ُ‬ ‫هـ َ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬ ‫وجمــالٍ ُمختلــف؛ لذلـ َ‬ ‫الشــعراء للثَّورة‬ ‫عاصر ُة ُّ‬ ‫ـك‪ ،‬بقــدر ما تبــدو ُم َ‬ ‫َ‬ ‫ـعري ًا عظيمـاً‪،‬‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫الته‬ ‫وتحو‬ ‫ة‪،‬‬ ‫ـوري‬ ‫ـ‬ ‫الس‬ ‫المفصليــة الكبيــرة‪َ ،‬‬ ‫حدثـ ًا ِشـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫َخ ًا ف ِّن ّي ًا‬ ‫نحـ ٍو‬ ‫ماليـاً‪ ،‬وف ّ‬ ‫الم َ‬ ‫ّ‬ ‫علــى ْ‬ ‫خاص‪ُ ،‬تشــكِّ لُ هذه ُ‬ ‫عاصرة َمأزق ًا َج ّ‬ ‫باشــرة‪،‬‬ ‫ـع‬ ‫تخار َج ُهــم ِّ‬ ‫الم َ‬ ‫الشـ ّ‬ ‫الوعــورة‪ ،‬قــد ُيو ِقـ ُ‬ ‫ـعري فريســةَ ُ‬ ‫با ِلــغَ ُ‬ ‫ُ‬ ‫أو االستســهال‪ ،‬ال سـ ّـيما فــي َضــوء اإلغــواء العــارِم‪ ،‬والطُّ غيــان‬ ‫الض ِ‬ ‫اغطة على‬ ‫الشــديد الذي ُت‬ ‫الر ُ‬ ‫ـه اللّحظـ ُ‬ ‫َّ‬ ‫بوقا ِئعهــا ّ‬ ‫مارسـ ُ‬ ‫اهنة‪َ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫ـة ّ‬ ‫ـي‪ /‬األصيــل)‬ ‫ـ‬ ‫(الحقيق‬ ‫ـوري‬ ‫ـ‬ ‫الس‬ ‫ـاعر‬ ‫ـ‬ ‫الش‬ ‫ـاج‬ ‫ـ‬ ‫يحت‬ ‫ـذا‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫له‬ ‫ـوص؛‬ ‫ـ‬ ‫ص‬ ‫ال ُّن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫جريبيــة‪ ،‬كــي‬ ‫ت‬ ‫وال‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫والف‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫عرفي‬ ‫الم‬ ‫ـروط‬ ‫ـ‬ ‫الش‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫مل‬ ‫ج‬ ‫ـى‬ ‫إلـ‬ ‫ُّ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ـاء‬ ‫ـ‬ ‫امت‬ ‫ـئ‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫مت‬ ‫ي‬ ‫أن‬ ‫ـك‬ ‫ـ‬ ‫ذل‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫وم‬ ‫ً‪،‬‬ ‫ا‬ ‫ـعري‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫‪،‬‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫مال‬ ‫الج‬ ‫ه‬ ‫ـور‬ ‫ـ‬ ‫ض‬ ‫ح‬ ‫ـز‬ ‫ـ‬ ‫نج‬ ‫ُي‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫المرحلــة العابِــرة‪ ،‬من ناحيـ ٍ‬ ‫ً‬ ‫ـة أولى‪ ،‬وبال َّزمــن الكُ ل ِّّي‪،‬‬ ‫وح‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫حيوي‬ ‫َ‬ ‫ّ ُ‬ ‫بمعرفـ ٍ‬ ‫مــن ناحيـ ٍ‬ ‫عمقــة‬ ‫ـة ثانيــة‪ْ ،‬‬ ‫جمـ ًا َ‬ ‫ـة نظَ ّ‬ ‫ـزو َد تـ ُّ‬ ‫ريــة ُم َّ‬ ‫وأن يتـ َّ‬ ‫ـزود ًا ّ‬ ‫ـي‪،‬‬ ‫ـي) ِّ‬ ‫السـ ّ‬ ‫للشــعر ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ـوري‪ ،‬والشــعر العالمـ ّ‬ ‫ـي‪ -‬الف ّنـ ّ‬ ‫بالبعــد (التأريخـ ّ‬ ‫ِ‬ ‫العقــود األخيــرة‪ ،‬علــى أقــلّ تقديــر؛‬ ‫المختلفــة فــي ُ‬ ‫وتيارا ِت ِهمــا ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ليكــون كلُّ‬ ‫ــو ُم‬ ‫جــاوز ٍة‪ُ ،‬يبــذَ لُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫نح َ‬ ‫ذلــك أساســ ًا صلبــ ًا لالنطــاق ْ‬ ‫مــن أجلهــا كُ لُّ غــالٍ ونفيــس‪ ،‬وهــي ا ُ‬ ‫ـعراء‬ ‫الشـ‬ ‫ألمــور التــي َ‬ ‫ـع ّ‬ ‫َ‬ ‫تضـ ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫بأن‬ ‫َبين‬ ‫ل‬ ‫طا‬ ‫م‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ف‬ ‫بوص‬ ‫ـق‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ـد عمي‬ ‫ـن) فــي تحـ ٍّ‬ ‫ـن‪ /‬األصيليـ َ‬ ‫(الحقيقييـ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫وأن‬ ‫ـعر‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫الش‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫األصيل‬ ‫ـة)‬ ‫ـ‬ ‫ُّغوي‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ـة‪/‬‬ ‫ـ‬ ‫(الوجودي‬ ‫وح‬ ‫ـر‬ ‫ِّ‬ ‫ْ‬ ‫ينفخــوا الـ ُّ َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أي جديـ ٍ‬ ‫وأن َيسـ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫وغائب‪،‬‬ ‫ـد‪،‬‬ ‫َيبعثـ ُ‬ ‫ـراً‪ْ ،‬‬ ‫ـتنطقوا َ‬ ‫ماليـاً‪َّ -‬‬ ‫ـوه صا ِفيـ ًا ُحـ َّ‬ ‫ج ّ‬‫ـولٍ‬ ‫ـاوزة‪ ،‬في‬ ‫أن ُّ‬ ‫ومجهـ ‪ .‬وأظـ ُّ‬ ‫ـن َّ‬ ‫المجـ َ‬ ‫َ‬ ‫الشــعراء الذيــن حقَّقــوا هــذه ُ‬ ‫مرحلــة شــعر ال َّثــورة والحــرب‪ ،‬مــا زالــوا قليلــي العــدد‪ ،‬واألفضــلُ‬ ‫ـت فــي قصائــد أو نصوص أو‬ ‫ـاوزة قــد تحقَّقـ ْ‬ ‫أن أقــولَ َّ‬ ‫ْ‬ ‫المجـ َ‬ ‫إن هــذه ُ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫زت‪ ،‬في دراســاتي‪،‬‬ ‫لذلك‬ ‫كاملة؛‬ ‫تجارب‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ال‬ ‫ـا‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫بعي‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫مقاط‬ ‫ركَّ‬ ‫ُ‬ ‫ـبياً؛ ســعي ًا م ِّنــي إلــى‬ ‫علــى ال ُّنصــوص التــي وجد ُتهــا ُمق ِنعــةً ‪ ،‬نسـ ّ‬

‫ــة ِ‬ ‫تحقيبي ٍ‬ ‫قار ٍ‬ ‫والحــرب‪،‬‬ ‫لشــعر الثَّــورة‬ ‫بــة‬ ‫ تبــدو لــي َّ‬‫َ‬ ‫أن ّأيــة ُم َ‬ ‫ّ‬ ‫بالحــذَ ر وال َّتحذيــر‪ ،‬فــي آنٍ‬ ‫ـق‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫الع‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫َب‬ ‫ل‬ ‫طا‬ ‫م‬ ‫ـةٌ‬ ‫َ‬ ‫فــي ُسـ ّ‬ ‫ُ ْ‬ ‫ـورية‪ُ ،‬‬ ‫ض‬ ‫ـ‬ ‫(غ‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫أن‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ـعر‬ ‫ـ‬ ‫الش‬ ‫ـذا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ـوع‬ ‫ـ‬ ‫وض‬ ‫م‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫عام‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫ِّ‬ ‫ـر ٌ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫مع ـاً‪ ،‬مــن َّ ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫تك‬ ‫إن‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ً‪،‬‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫تلقائي‬ ‫َ‪،‬‬ ‫ة‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫القصي‬ ‫ـ‬ ‫دخ‬ ‫ي‬ ‫)‪،‬‬ ‫ـلُ‬ ‫ـون َمكتوبةً‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ـعري ِسـ ّ‬ ‫ِشـ ّ‬ ‫ـحري ُ‬ ‫ّ‬ ‫والجمــال‪،‬‬ ‫ـعرية‪،‬‬ ‫ـت ُعنــوان ال َّثــورة‬ ‫والحــرب‪ ،‬إلــى ج ّنــة ِّ‬ ‫تحـ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الشـ ّ‬ ‫ـد‬ ‫ـت ‪-‬عنـ َ‬ ‫والحــرب قــد با َتـ ْ‬ ‫ـاوزة‪ .‬وأعتقــد َّ‬ ‫أن َموضوعــة ال َّثــورة َ‬ ‫والمجـ َ‬ ‫ُ‬ ‫ـر‬ ‫الموضــة ِّ‬ ‫ـن ُّ‬ ‫جيــلٍ كا ِمــلٍ ِمـ َ‬ ‫الشـ ّ‬ ‫الشــعراء‪ُ -‬تشـب ُِه ُ‬ ‫ـعرية‪ ،‬وهــذا أمـ ٌ‬ ‫ـراض عليـ ِ‬ ‫المســألة‬ ‫ـي ال اعتـ َ‬ ‫ـه‪ ،‬مــن حيـ ُ‬ ‫المبــدأ‪ ،‬غيــر َّ‬ ‫أن َ‬ ‫ـث َ‬ ‫طبيعـ ٌّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫لَ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫عن‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫وضوع‬ ‫الم‬ ‫ه‬ ‫ـذ‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫تح‬ ‫أن‬ ‫ـك‬ ‫ـ‬ ‫ذل‬ ‫؛‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫نظ‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫مم‬ ‫ا‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫تعقي‬ ‫أك َثــر‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ـب‬ ‫ـاع ِّ‬ ‫كثيــر مــن ُّ‬ ‫الشــعراء‪ ،‬إلــى مــا ُيشـب ُِه (القنـ َ‬ ‫غيـ َ‬ ‫الشـ َّ‬ ‫ـعري)‪ ،‬قــد َّ‬ ‫المفكَّ ــر‬ ‫عــدد ًا مــن القَ ضايــا َ‬ ‫ر َّبمــا‪ -‬غيــ ِر ُ‬‫المســكوت عنهــا‪ ،‬أو ُ‬ ‫إن عــدد ًا‬ ‫المبالَغــة القــول‪َّ :‬‬ ‫فيهــا‪ ،‬علــى أقــلّ تقديــر! ليـ َ‬ ‫ـس مــن ُ‬ ‫الر ِ‬ ‫الحــرب‪،‬‬ ‫ـوع‬ ‫ـ‬ ‫وض‬ ‫م‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـدوا‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫وج‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫اهنــة‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫مــن ُشــعراء لحظ ِتنــا ّ‬ ‫ـون بـ ِ‬ ‫ـدوع ضعـ ِ‬ ‫ـف ذخير ِتهِم‬ ‫ـ‬ ‫ص‬ ‫‬‫عتقدون‬ ‫ي‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫كم‬‫ـه‬ ‫َ‬ ‫ـو َق نَجــا ٍة‪ ،‬يرأبـ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫طـ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ظَ‬ ‫ضــون عــن ِغ ِ‬ ‫شــاريع ِهم ذات‬ ‫يــاب َم‬ ‫عو‬ ‫وي‬ ‫ــة‪،‬‬ ‫ري‬ ‫ن‬ ‫وال‬ ‫ــة‪،‬‬ ‫عرفي‬ ‫الم‬ ‫َ‬ ‫ُ ِّ‬ ‫َ‬ ‫َّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫أن بعض ـ ًا مــن هــؤالء لــم يكونــوا‬ ‫الخ‬ ‫ُ‬ ‫ـرد‪ ،‬ال سـ ّـيما َّ‬ ‫صوصيــة وال َّتفـ ُّ‬ ‫ّ‬ ‫قبــلَ ال َّثــورة‪ ،‬من عبـ ِ‬ ‫ـاءات اآلبـ ِ‬ ‫ين‪.‬‬ ‫ـاء ِّ‬ ‫ـعري َ‬ ‫الشـ ّ‬ ‫أصـاً‪ -‬قــد َ‬‫خرجــوا‪ْ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫أضحــوا‬ ‫الجانــب‪،‬‬ ‫هــذا‬ ‫ضــور‬ ‫ح‬ ‫ُي‬ ‫أن بعــض ُّ‬ ‫الشــعراء ْ‬ ‫َّ‬ ‫ضــاف إلــى ُ‬ ‫ـف ِسياســي ِ‬ ‫ـون مــن ا ّتخــا ِذ َمو ِقـ ٍ‬ ‫واضــح‪ ،‬بإغــراقِ قَصا ِئ ِد ِهــم‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫تهر‬ ‫ي‬ ‫َ َّ َ‬ ‫ٍّ‬ ‫ِ‬ ‫نح َو‬ ‫نين في‬ ‫الحــرب‬ ‫توجيه أب َلـ ِ‬ ‫اليوميــة‪ُ ،‬متف ِّن َ‬ ‫بمفــردات َ‬ ‫ـغ اللَّعنات ْ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫قســو ِتها األليمــة‪ ،‬بمــا ال ُي ِ‬ ‫(نوعي ـاً‪-‬‬ ‫ـد كبيــر‪ -‬ف َْرق ـ ًا‬ ‫ضيـ ُ‬ ‫ـف ‪-‬إلــى حـ ٍّ‬ ‫ّ‬ ‫الحــرب‪ .‬لعــلَّ‬ ‫أي ٍ‬ ‫ف ِّن ّيـاً) علــى ِّ‬ ‫ـح َ‬ ‫كالم اعتيـ ٍّ‬ ‫ـذم ق ُْبـ َ‬ ‫ـادي ُمتـ َ‬ ‫ـداولٍ قــد يـ ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫بالحديــث عن‬ ‫‪،‬‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ياس‬ ‫الس‬ ‫ـف‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫و‬ ‫الم‬ ‫ـاب‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫غ‬ ‫غون‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ي‬ ‫ـؤالء‬ ‫أمثــال هـ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أن تس ـق َ‬ ‫ـلَ‬ ‫ُط‬ ‫ـ‬ ‫مقت‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫به‬ ‫ن‬ ‫َج‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫‪،‬‬ ‫ـام‬ ‫ـ‬ ‫الع‬ ‫ـاني‬ ‫ـ‬ ‫اإلنس‬ ‫ـف‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫و‬ ‫الم‬ ‫ُشـ‬ ‫ُّ‬ ‫ْ‬ ‫ـمولية َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫ـة بسـ ٍ‬ ‫أن ّأيــةَ َمعرِفـ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـيطة‬ ‫إل‬ ‫‪،‬‬ ‫ة‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ياس‬ ‫الس‬ ‫ة‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫باش‬ ‫الم‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫قصائد‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫السياســي‪ِ ،‬‬ ‫الشــعر‪،‬‬ ‫ــعر‬ ‫الش‬ ‫بيــن‬ ‫ــي‬ ‫ن‬ ‫الف‬ ‫باالختــاف‬ ‫وسياســة ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫المتها ِفتــة هـ ِ‬ ‫ـف انتقال َُهــم مــن تَحاشــي‬ ‫ـذ ِه‪ ،‬وتكشـ ُ‬ ‫ـري ُد َ‬ ‫فوعهــم ُ‬ ‫ُتعـ ِّ‬ ‫نمـ ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ـط‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫إل‬ ‫‪،‬‬ ‫ـون‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫يد‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫كم‬ ‫ـا‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ة‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫باش‬ ‫م‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـوع‬ ‫ـ‬ ‫الوق‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫الوقــوع فــي َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـنِ‬ ‫ـ‬ ‫يتح‬ ‫ـث‬ ‫ـ‬ ‫حي‬ ‫‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫اه‬ ‫الر‬ ‫ـط‬ ‫ـ‬ ‫بضغ‬ ‫ة‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫حاص‬ ‫الم‬ ‫ة‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫باش‬ ‫الم‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـر‬ ‫آخـ‬ ‫ـولُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ّ‬ ‫ومجموعــة ُمنتقاة‬ ‫قة‪،‬‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫م‬ ‫ة‬ ‫قصدي‬ ‫ة‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫إل‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫رب‬ ‫الح‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫م‬ ‫ج‬ ‫ع‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُم ْ َ ُ ُ‬ ‫ّ ُ َ َّ‬ ‫َ ّ‬ ‫ِ‬ ‫الشــعراء‬ ‫هؤالء‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫به‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫حض‬ ‫ي‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الت‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫كراري‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫قني‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫ـات‬ ‫ـ‬ ‫اآللي‬ ‫ُّ‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ ّ‬ ‫مــن ّ‬ ‫ُ‬ ‫طابقــةٍ‬ ‫ِ‬ ‫وصف ّي ـاً‪ -‬مــن الخــارِج‪ُ ،‬متمركزيـ َ‬‫ـن عليهــا‪ ،‬فــي ُم َ‬ ‫َ‬ ‫ـر َب ْ‬ ‫الحـ ْ‬ ‫كشـ ٍ‬ ‫ـوي ُمغا ِيــر‪ ،‬وفــي ظــلِّ‬ ‫ـ‬ ‫يوم‬ ‫ـف‬ ‫أي‬ ‫ـوغ‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫َخل‬ ‫ت‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ِّ‬ ‫ـي‪ ،‬أو ُرؤيـ ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫باعد‪،‬‬ ‫ت‬ ‫وال‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫هش‬ ‫الد‬ ‫ـؤرة‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫هو‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫بم‬ ‫‪،‬‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫مال‬ ‫الج‬ ‫ـود‬ ‫ـ‬ ‫ج‬ ‫للو‬ ‫ح‬ ‫د‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـاب‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫غ‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ـون‪.‬‬ ‫ـر ُ‬ ‫أن يكـ َ‬ ‫ض ْ‬ ‫واالختــاف‪ ،‬كمــا ُيفتـ َ‬

‫َ‬ ‫ياسي‬ ‫الس‬ ‫كيف ُيمكن تحقيق ال َّتوازن ِّ‬ ‫الش ّ‬ ‫عري بين الموقف ِّ‬ ‫ّ‬ ‫والموقف الف ِّن ّي؟‬

‫ناســبة‪ ،‬عــن إيجــاد دالالت جديــدة لمفهوم‬ ‫ َّ‬‫تحدثـ ُ‬ ‫ـت‪ ،‬فــي غيــر ُم َ‬ ‫ــعري» الــذي ال يعنــي فــي ‪-‬رأيــي‪ ،‬بتاتــاً‪ -‬تقديــم‬ ‫الش‬ ‫«االلتــزام‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِّ‬ ‫ِخطـ ٍ‬ ‫ـيطي َينفــي ‪-‬ح ْتماً‪-‬‬ ‫ـاب ُم َ‬ ‫باشــر فــي القصيــدة؛ فهــذا ٌ‬ ‫وعي تبسـ ٌّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أكذَ‬ ‫ـه؛‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫الش‬ ‫ـذب‬ ‫ـ‬ ‫أع‬ ‫إن‬ ‫ً‪-‬‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫قديم‬‫ـرب‬ ‫ـ‬ ‫الع‬ ‫ـت‬ ‫ـ‬ ‫قال‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫وق‬ ‫ها‪،‬‬ ‫ت‬ ‫ِّ‬ ‫ـعري َ‬ ‫ُ ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ِشـ َّ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ممــا‬ ‫أن نســبةً ال ُي‬ ‫ــد مــن‬ ‫الب َّ‬ ‫اإلشــارة إلــى َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫لذلــك‪ُ ،‬‬ ‫ســتهان بهــا ّ‬ ‫ـب عليــه‪،‬‬ ‫ـت ُعنــوان ِشــعر ال َّثــورة‬ ‫ـب‬ ‫اآلن‪ -‬تحـ َ‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫والحــرب‪ ،‬يغلـ ُ‬ ‫ُيك َتـ ُ‬ ‫ـي‪ ،‬الــذي َيبقــى‬ ‫ـ‬ ‫االنطباع‬ ‫ـجيلي‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫الجان‬ ‫ـدأ‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫الم‬ ‫ـث‬ ‫ـ‬ ‫حي‬ ‫مــن‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أســير‬ ‫أو‬ ‫‪،‬‬ ‫الكتابــة‬ ‫فــي‬ ‫فــر‬ ‫الص‬ ‫درجــة‬ ‫حبيــس‬ ‫بعيــد‪-‬‬ ‫حــد‬ ‫إلــى‬‫ٍّ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫طابيـ ِ‬ ‫ـة ِ‬ ‫(صــوت‪َ /‬ضجيــج) ال َّتع ِب َئـ ِ‬ ‫فض ً‬ ‫ال عن عج ِز‬ ‫ـة‬ ‫القاصر ف ِّن ّيـاً‪ْ ،‬‬ ‫الخ َّ‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪57‬‬


‫هذ ِه املَرحلة‬ ‫ما يهمُّ يف ِ‬ ‫ال ّزائغة‪ ،‬ه َو أنْ تتجذ َرّ‬ ‫ِ‬ ‫تَ ِ‬ ‫ب شعْ ِر َّ‬ ‫ورة‬ ‫الث‬ ‫جار‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫والحَ ِ‬ ‫رب يف ُسوريّة‪،‬‬ ‫وأنْ تتن ّقى‪ ،‬وتَنضجَ‬ ‫جَ مال ّياً‪ -‬بمُ رورِ‬‫ِ َ ُ ِ‬ ‫ات‬ ‫ال َّزمَن‪ ،‬وتراكم ِخ ْب ِ‬ ‫َدات‬ ‫ال ِّد ْرب َِة‪ ،‬ومُكاب ِ‬ ‫ن‪ِ .‬‬ ‫الفعل َ‬ ‫الف ِّ ِّ‬ ‫ومنَ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫املُفيد أنْ أتذك َر‪ ،‬يف‬ ‫السياق «أندريه‬ ‫هذا ِّ‬ ‫جيد» الذي لم ُ‬ ‫يكنْ‬ ‫يه َتمُّ ‪-‬كما كانَ يُر ِّددُ‪-‬‬ ‫بأنْ يكونَ ّ‬ ‫الشاع ُر‬ ‫كبرياً‪ْ ،‬‬ ‫بقد ِر ما يهمُّ ُه‬ ‫ً‬ ‫أنْ يكونَ‬ ‫صافيا‪!..‬‬ ‫ِ‬

‫‪58‬‬

‫ـأس بهــا مــن القَ صا ِئـ ِ‬ ‫نسـ ٍ‬ ‫المجــدي‬ ‫ـبة ال بـ َ‬ ‫ـد‪ ،‬عــن تحقيــقِ االنتقــالِ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫العامــة‪.‬‬ ‫ـانية‬ ‫اتيــة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الخاصــة‪ ،‬إلــى ال َّتجرِبــة اإلنسـ َّ‬ ‫مــن ال َّتجرِبــة الذّ َّ‬ ‫لكن‪ ،‬ما‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫م‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫عالمي‬ ‫ِب‬ ‫ر‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫َج‬ ‫ت‬ ‫ـروب‬ ‫ـ‬ ‫والح‬ ‫ـورات‬ ‫أن ال َّثـ‬ ‫ـح َّ‬ ‫ـتركة‪ْ .‬‬ ‫صحيـ ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ّ ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ِج‬ ‫ر‬ ‫الخا‬ ‫ـطح‬ ‫ـ‬ ‫الس‬ ‫ة‬ ‫ـاكا‬ ‫ـ‬ ‫ح‬ ‫م‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ـرج‬ ‫ـ‬ ‫تخ‬ ‫ال‬ ‫ة‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫قصي‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ضي‬ ‫ت‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫الــذي ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬ ‫ـلِ‬ ‫دونِ‬ ‫ليــة‪،‬‬ ‫األو‬ ‫ـرب‬ ‫ـ‬ ‫الح‬ ‫ة‬ ‫ـاد‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـ‬ ‫تحوي‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫أن‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ث‪،‬‬ ‫ـد‬ ‫تتمكَّ‬ ‫للحـ َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ ّ‬ ‫ض َمع ًنــى‪ ،‬بوص ِفـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫الحضــور‪ ،‬إلــى فا ِئ ِ‬ ‫ـه اختراق ًا‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـ‬ ‫إقام‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ف‬ ‫بوص‬ ‫ـةً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫بي‬ ‫ـودي‬ ‫ـ‬ ‫ج‬ ‫الو‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ضا‬ ‫ت‬ ‫بال‬ ‫ـق‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫تح‬ ‫ي‬ ‫ـذي‬ ‫ـ‬ ‫ال‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫األم‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫وه‬ ‫ـاب؟!؛‬ ‫ـ‬ ‫للغي‬ ‫َّ‬ ‫ُ َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ليــة الــذّ ات‬ ‫ـدة عميقــة‪ُ ،‬بؤر ُتهــا َ‬ ‫كابـ َ‬ ‫ـر ُم َ‬ ‫ال َّتجرِبــة وال َّتجريــب‪ ،‬عبـ َ‬ ‫جد ّ‬ ‫مالية‬ ‫الج‬ ‫ة‬ ‫صوصي‬ ‫الخ‬ ‫ـوغ‬ ‫ـ‬ ‫بل‬ ‫وهدفها‬ ‫ً‪،‬‬ ‫ا‬ ‫ُر‬ ‫ف‬ ‫والموضــوع‪ ،‬ائتالفـ ًا أو تنا‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫نظَ‬‫َّ‬ ‫الحيـ ُز الف ِّن ُّي‪،‬‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ي‬ ‫أن‬ ‫ً‪-‬‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫وفع‬ ‫ً‪،‬‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫ِي‬ ‫ر‬ ‫ض‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫فت‬ ‫الم‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫إذ‬ ‫ً؛‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ َ‬ ‫ْ ّ‬ ‫نص ّ‬ ‫ِ‬ ‫ـلَ‬ ‫ـون ســجين ًا لمــا هــو ُم َسـ َّـبق فــي‬ ‫ال‬ ‫‪،‬‬ ‫ـص‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫ـ‬ ‫داخ‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫ينم‬ ‫وأن‬ ‫َّ‬ ‫أن يكـ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫أن إحــدى ق ِ‬ ‫العا َلــم الوقائعــي‪ ،‬ذلـ َ‬ ‫قديــة األساسـ ّـية‬ ‫ـك َّ‬ ‫َواعــدي ال َّن ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـبياً‪َ -‬موضــوع القصيــدة؛‬ ‫المهـ ّ‬ ‫فــي اعتقــادي‪ -‬تقــولُ ‪ :‬ليـ َ‬‫ـس ُ‬ ‫ـم ‪-‬نسـ ّ‬ ‫ِ‬ ‫ـط بهــا أســاليب‬ ‫خييليــة) التــي‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫(الو‬ ‫إ َّنمــا‬ ‫تنبسـ ُ‬ ‫جوديــة‪َّ /‬‬ ‫ّ‬ ‫الكيفيــة ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وكيــف‬ ‫جــي‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وجــود هــذا َ‬ ‫الموضــوع فــي عالَــم القصيــدة ال َّت ُ‬ ‫خار ّ‬ ‫ـوه جاداميــر‪« :‬ال ِّزيــادة في‬ ‫َينبغــي لـ ُ‬ ‫ـح أُفُقـ ًا َجديــداً‪َ ،‬يدعـ ُ‬ ‫ـه ْ‬ ‫أن َيفت ِتـ َ‬ ‫إن هذا‬ ‫ـ‬ ‫«ش‬ ‫«ريكور»‬ ‫دعوه‬ ‫وي‬ ‫ـود»‪،‬‬ ‫الوجـ‬ ‫ُ‬ ‫المحدود»‪َّ .‬‬ ‫ـيء ال َّن ِّ‬ ‫َ‬ ‫ص غيــر َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫لمفهــوم «االلتــزام» في‬ ‫ح‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ي‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫‪:‬‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫دي‬ ‫الج‬ ‫ـعري‬ ‫ـ‬ ‫الش‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫العا َل‬ ‫ِّ‬ ‫ّ َ‬ ‫َ ْ َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ـوغ غايا ِتـ ِ‬ ‫الفكري‬ ‫للمو ِقف‬ ‫ِّ‬ ‫الشــعر ببلـ ِ‬ ‫الوفــاء َ‬ ‫عبر َ‬ ‫ّ‬ ‫ـه الف ِّن ّيــة ُ‬ ‫المثلى‪َ ،‬‬ ‫مالية)‪ ،‬من‬ ‫الج‬ ‫ة‪-‬‬ ‫جودي‬ ‫(الو‬ ‫ـتويات‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫وللم‬ ‫ناحية‪،‬‬ ‫من‬ ‫‪،‬‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ياس‬ ‫والس‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الر ِ‬ ‫اهنــة ‪-‬على هذا ال َّنحــو‪ -‬قصيد ًة‬ ‫ناحيــة ثانيــة؛ لتصبـ َ‬ ‫ـح القصيد ُة ّ‬ ‫ُم ِ‬ ‫ـي قصيدة تَحتفــي بأصا َل ِتها؛‬ ‫والحــرب‪ْ ،‬‬ ‫عاصــر ًة لل َّثــورة َ‬ ‫بقد ِر ما هـ َ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ـن ال َّزمــن َ طِّ‬ ‫مانيــة تكــرار‬ ‫الخـ ّ‬ ‫ـدل َ‬ ‫ِت ْبعـ ًا للجـ َ‬ ‫ـاق بيـ َ‬ ‫ـي‪ ،‬و َز ّ‬ ‫ـي األفُقـ ّ‬ ‫الخ ـ ّ‬ ‫ـر‪ ،‬وتلـ َ‬ ‫الج ّمــة‪،‬‬ ‫االختــاف؛ ليكشـ َ‬ ‫غامــرة َ‬ ‫الم َ‬ ‫ـف هــذا ال َّتو ُّتــر ُ‬ ‫ـك ُ‬ ‫الحـ ّ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫الدا ِئمة‬ ‫ـ‬ ‫ج‬ ‫والم‬ ‫ـاب‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫والغ‬ ‫االختالف‪،‬‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫لعا‬ ‫ـد‬ ‫االنبثـ َ‬ ‫الجديـ َ‬ ‫ـاوزة ّ‬ ‫ـاق َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫نهائياً‪،‬‬ ‫)‪،‬‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫الف‬ ‫(االلتزام‬ ‫فهوم‬ ‫بم‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫أعن‬ ‫ال‬ ‫‪،‬‬ ‫لذلك‬ ‫ـول؛‬ ‫ـ‬ ‫جه‬ ‫الم‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫ـو َ‬ ‫نحـ َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ظَ‬ ‫ً‬ ‫ريــات‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫فــي‬ ‫ما‬ ‫ســي‬ ‫ال‬ ‫‪،‬‬ ‫قليــدي‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫(االلتــزام)‬ ‫فهــوم‬ ‫لم‬ ‫ا‬ ‫تكــرار‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫تحقيق‬ ‫الواقعيــة والماركسـ ّـية‪ ،‬وغيرِها؛ إ َّنمــا أعني‬ ‫األيديولوجيــة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ال َّتــوازنِ‬ ‫ـعرية‬ ‫ـ‬ ‫لش‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫في‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫األولوي‬ ‫ـون‬ ‫ـ‬ ‫تك‬ ‫ـذي‬ ‫ـ‬ ‫ال‬ ‫)‪،‬‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫مال‬ ‫الج‬ ‫‪/‬‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫(الفَ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫يمنــع‬ ‫أن‬ ‫َــم ش‬ ‫ــح عال ٍ‬ ‫الوجــود فــي ُمنف َت ِ‬ ‫ــعري ُمغايِــرٍ‪ ،‬مــن دون ْ‬ ‫َ‬ ‫ٍّ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫مالي ـاً؛‬ ‫وج‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫ف‬ ‫‪،‬‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ياس‬ ‫والس‬ ‫‪،‬‬ ‫ـري‬ ‫ـ‬ ‫الفك‬ ‫ـف‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫و‬ ‫الم‬ ‫ـث‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ـكان‬ ‫ـ‬ ‫إم‬ ‫ـك‬ ‫ـ‬ ‫ذل‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫بطِّ‬ ‫ً‬ ‫ـص في‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫و‬ ‫ي‬ ‫وال‬ ‫‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫اإلبداعي‬ ‫ـاد‬ ‫ـ‬ ‫األبع‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫ا‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫نص‬ ‫ع‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫بوص‬ ‫أي‬ ‫ـةَ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ ُ ُ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ّ‬ ‫ومـ ِ‬ ‫قريريـ ِ‬ ‫طابيـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـة‪.‬‬ ‫ـة‪ ،‬أو فــي ال َّت‬ ‫الم َ‬ ‫َّ‬ ‫ذم َ‬ ‫ـر ِة َ‬ ‫الم ُ‬ ‫ـة‪ ،‬أو فــي ُ‬ ‫باشـ َ‬ ‫الخ َّ‬

‫هل نســتطيع أن نســتنتج‪ ،‬من إجابات َ‬ ‫الســابقة‪ ،‬أ َّن َك تنفي‬ ‫ُك ّ‬ ‫وري في زمن‬ ‫الس‬ ‫عر‬ ‫الش‬ ‫عرية جديدة في‬ ‫ظُ هور‬ ‫ِّ‬ ‫ُّ ّ‬ ‫حساسية ِش ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ؤسسة وكبيرة؟‬ ‫م‬ ‫ة‬ ‫عري‬ ‫ش‬ ‫تجارب‬ ‫والدة‬ ‫أو‬ ‫والحرب‪،‬‬ ‫َّورة‬ ‫الث‬ ‫ّ ُ ِّ‬

‫ـعري ٍة َجديــدة‪ ،‬فــي ِشــعر الثَّورة‬ ‫ لعــلَّ َمســألةَ و َ‬‫ِالد ِة َحساسـ َّـي ٍة ِشـ َّ‬ ‫َ‬ ‫أن‬ ‫ذلك‬ ‫؛‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫أظ‬ ‫كما‬ ‫بة‬ ‫م‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫فهومي‬ ‫م‬ ‫ـألة‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫م‬ ‫ة‪،‬‬ ‫ـوري‬ ‫ركَّ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫والحــرب فــي ُسـ ّ َ‬ ‫ّ ُ‬ ‫هـ ِ‬ ‫نتظَ‬ ‫َّ‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫تتو‬ ‫ال‬ ‫ـا‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫فيه‬ ‫ـوب‬ ‫ـ‬ ‫رغ‬ ‫والم‬ ‫ـرة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫الم‬ ‫ـدة‬ ‫ـ‬ ‫دي‬ ‫الج‬ ‫ُ‬ ‫الحساسـ ّـية َ‬ ‫ـذ ِه َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ومجازا ِتها‪،‬‬ ‫ـا‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ِه‬ ‫ب‬ ‫َراكي‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫ـرب‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫والح‬ ‫َّورة‬ ‫ث‬ ‫ال‬ ‫ـردات‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫م‬ ‫ـور‬ ‫ـ‬ ‫ض‬ ‫بح‬ ‫ـط‪-‬‬ ‫ـ‬ ‫فق‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫بعض ُهــم؛ بــل فــي‬ ‫ـرديا ِتها فــي َعوا ِلـ ِ‬ ‫ـب ُ‬ ‫َ‬ ‫وسـ ّ‬ ‫ـم ال ُّنصــوص‪ ،‬كمــا يذهـ ُ‬ ‫طابقــاتِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫العوالــم ِّ‬ ‫الم َ‬ ‫َمــدى ُقــدرة هــذه َ‬ ‫ـعرية علــى ُمجـ َ‬ ‫الشـ ّ‬ ‫ـاوزة ُ‬ ‫نوعيـ ٍ‬ ‫ـة‪َ /‬ف ِّن َّيـ ٍ‬ ‫جوديـ ٍ‬ ‫(تناصـ ٍ‬ ‫الم َسـ َّـب ِ‬ ‫الوقائعيـ ِ‬ ‫قة‪ ،‬بتحقيــقِ‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـة‬ ‫ـات) ُو‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ـة ُ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ضيــف إليــهِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ــدث‪ ،‬و ُت‬ ‫ُ‬ ‫الح َ‬ ‫الجديــدة التــي ُتغنــي َ‬ ‫ــج انزياحاتهــا َ‬ ‫ُتن ِت ُ‬ ‫ِ‬ ‫عليــه؛ أي‪:‬‬ ‫تكــون ِعبئــ ًا‬ ‫خاصــاً‪ ،‬وال‬ ‫ماليــاً)‬ ‫(و‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فا ِئضــ ًا ُ‬ ‫جوديــاً‪َ -‬ج ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُــم تَقتــر ُِح‬ ‫ث‬ ‫‪،‬‬ ‫ث‬ ‫ــد‬ ‫الح‬ ‫ــص‬ ‫ت‬ ‫تم‬ ‫ة‬ ‫ــعري‬ ‫الش‬ ‫ــم‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫الع‬ ‫ه‬ ‫هــذ‬ ‫بوصــف‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫الكَ‬ ‫يانيــة ‪-‬مــن‬ ‫ها‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫شــاغ‬ ‫ــط‬ ‫تنبس‬ ‫َــم‬ ‫ل‬ ‫‪،‬‬ ‫ة‬ ‫ِــر‬ ‫ي‬ ‫غا‬ ‫م‬ ‫جــود‬ ‫و‬ ‫أســاليب‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ّ‬ ‫ـألة التــي‬ ‫المسـ ُ‬ ‫ـر ٌ‬ ‫ـي َ‬ ‫قبــلُ ‪ -‬علــى هــذا ال َّن ْحـوِ‪ ،‬كمــا هـ َ‬ ‫ـو ُمفتـ َ‬ ‫ْ‬ ‫ض‪ .‬وهـ َ‬ ‫تتبعهــا بحــذَ ٍر فــي بعـ ِ‬ ‫أسســنا‬ ‫ُيم ِكـ ُ‬ ‫ـض ال َّتجــار ِ​ِب‪ ،‬ال سـ ّـيما إذا َّ‬ ‫ـن ُّ‬ ‫أدبيـ ِ‬ ‫الجديـ ِ‬ ‫بحتميـ ِ‬ ‫ـات‬ ‫ـي‬ ‫ـة و َ‬ ‫َ‬ ‫ِالد ِة َ‬ ‫اعتقادنــا َ‬ ‫ـد ُ‬ ‫َّ‬ ‫والمغا ِيـ ِر علــى ّ‬ ‫المبدئـ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـوي؛ لذلـ َ‬ ‫َت‬ ‫ـاف‬ ‫ـ‬ ‫االخت‬ ‫فكـ ِر‬ ‫ـن القــولُ ‪ :‬إذا كان ْ‬ ‫ـودي اللُّغـ ِّ‬ ‫الوجـ ِّ‬ ‫ـك ُيمكـ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫هـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ـاقٍ‬ ‫ـعري ٍة‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫ة‬ ‫ر‬ ‫لظاه‬ ‫ـوس‬ ‫ـ‬ ‫لم‬ ‫وم‬ ‫ـح‬ ‫ـ‬ ‫واض‬ ‫ـ‬ ‫انبث‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫إل‬ ‫ـير‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫ت‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫قب‬ ‫الح‬ ‫ه‬ ‫ـذ‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫كان ال منــاص‬ ‫وإذا‬ ‫دة‪،‬‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫تع‬ ‫م‬ ‫ـات‬ ‫ـ‬ ‫رجعي‬ ‫وم‬ ‫ـارات‬ ‫ـ‬ ‫َي‬ ‫ت‬ ‫ذات‬ ‫‪،‬‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫ريض‬ ‫َع‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ـلٍ‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫بأ‬ ‫ـف‬ ‫ـ‬ ‫وص‬ ‫ي‬ ‫‪،‬‬ ‫ـعري‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫ـ‬ ‫جي‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫‬‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫اريخ‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عن‬ ‫بالم‬‫ـكالم‬ ‫ـ‬ ‫ال‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ٍّ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫ــي‪ ،‬وتعييــن‬ ‫والحــرب‪،‬‬ ‫جيــلُ الثَّــورة‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫فــإن َمســألةَ ال َّتحقيــب الفَ ِّن ّ‬ ‫ؤسســة علــى قطيعـ ٍ‬ ‫ـة مــا‪ ،‬ال‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫وعي‬ ‫ن‬ ‫راكُ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫الم َّ‬ ‫ميــة‪ ،‬أو ُ‬ ‫ّ‬ ‫اإلضافــات ال ّ‬ ‫ٍ‬ ‫تــزالُ بحاجـ ٍ‬ ‫ـي األصيــل‪ ،‬ال‬ ‫ـ‬ ‫ص‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫ـدي‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫الج‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫زي‬ ‫م‬ ‫ـى‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫ـة إلـ َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـلِ‬ ‫ـلِّ‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫ويصع‬ ‫ـعر‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫الش‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـخ‬ ‫ـ‬ ‫ض‬ ‫ي‬ ‫ـذي‬ ‫ـ‬ ‫ال‬ ‫ـ‬ ‫ئ‬ ‫الها‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫الك‬ ‫ـ‬ ‫سـ ّـيما فــي ظ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫المتصارِعــة‪-‬‬ ‫ـوش‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫الج‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫جا‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫إل‬‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫وج‬ ‫ت‬ ‫ة‬ ‫ـوري‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـي‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ـر ُه‪ ،‬ففـ ُ ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫حصـ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ــف‬ ‫ــاعر‬ ‫والش‬ ‫ــعراء‪،‬‬ ‫الش‬ ‫ــن‬ ‫م‬ ‫يــوش‬ ‫ُج‬ ‫الواحــد نفســه‪ ،‬قــد ُت َص َّن ُ‬ ‫ٌ‬ ‫َ ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫المســألة‬ ‫ـن أك َثــر مــن ا ّتجــاه أو ت َّيــار‪ْ ،‬‬ ‫ـه ضمـ َ‬ ‫ُنصوصـ ُ‬ ‫فضـا عــن َّ‬ ‫أن َ‬ ‫بحـ ٍ‬ ‫فــي أحـ ِ‬‫ـث‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫‬‫ـد‬ ‫ـي َمســألة وثيقــة ِّ‬ ‫ريــة ال َّنقــد‪ ،‬فـ ُّ‬ ‫الصلــة بنظَ ّ‬ ‫ـأي ْ‬ ‫َ‬ ‫المرحلــة‪ ،‬عليـ ِ‬ ‫لشــعر هـ ِ‬ ‫بالبعــد (الجينيالوجــي) ِ‬ ‫أن‬ ‫ـه ْ‬ ‫ـذ ِه َ‬ ‫َيحتفــي ُ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫داعها بإظها ِر ِه‬ ‫خ‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫خ‬ ‫ت‬ ‫ـه‪-‬‬ ‫ـ‬ ‫نيتش‬ ‫ْق‬ ‫ف‬ ‫و‬‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫الحقيق‬ ‫أن‬ ‫ً‪،‬‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـر‪ ،‬دا ِئ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫يتذكَّ ـ َ‬ ‫وكيفيــات ِ‬ ‫ـق‬ ‫ـاليب‬ ‫ـ‬ ‫أس‬ ‫ـود‬ ‫ـ‬ ‫ج‬ ‫فالو‬ ‫ـاز؛‬ ‫ـ‬ ‫ج‬ ‫الم‬ ‫لخـ ٍ‬ ‫ـداع َمجــاز ٍِّي‪ُ ،‬تخ َلـ ُ‬ ‫ُ‬ ‫فــي َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫فيـ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬ ‫ـراءات‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫ال‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫في‬ ‫ع‬ ‫ـار‬ ‫ـ‬ ‫َتص‬ ‫ت‬ ‫‪،‬‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫تفاض‬ ‫ـاء‬ ‫ـ‬ ‫فض‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫َتو‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫‪،‬‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫القي‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ـه َ ُ‬ ‫ُ ّ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ـص‪،‬‬ ‫وال َّتأويـ ُ‬ ‫ـد هيدجــر يعتقـ ُ‬ ‫ـات؛ لذلــك‪ ،‬نجـ ُ‬ ‫ـد َّ‬ ‫أي تفســير لل َّنـ ِّ‬ ‫أن َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫األم‬ ‫؛‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ل‬ ‫ؤ‬ ‫م‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫ح‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ل‬ ‫خا‬ ‫م‬ ‫ا‬ ‫ـير‬ ‫ـ‬ ‫تفس‬ ‫‬‫ة‬ ‫ـرور‬ ‫ـ‬ ‫بالض‬‫ـيكون‬ ‫سـ‬ ‫لفَ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫تقبــض‬ ‫أن‬ ‫الــذي َيعنــي ‪-‬فــي ُم‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ــن ُمســتويا ِت ِه‪ -‬ضــرور َة ْ‬ ‫ســتوى ِم ْ‬ ‫والمسـ ِ‬ ‫المجهولِ‬ ‫ـكوت‬ ‫قديـ ُ‬ ‫قاربـ ُ‬ ‫ـة ِمـ ْ‬ ‫ـة ال َّن َّ‬ ‫َ‬ ‫ـن ِج َه ِتهــا ‪-‬أيضـاً‪ -‬على َ‬ ‫الم َ‬ ‫ُ‬ ‫أي حديـ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـث أصيلٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫إن‬ ‫‪.‬‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫ص‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫الع‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫في‬ ‫ر‬ ‫ـ‬ ‫الم‬ ‫ر‬ ‫ـ‬ ‫وغي‬ ‫ـه‬ ‫فكَّ‬ ‫ِ‬ ‫عنـ ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ َّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ ِّ ّ‬ ‫وضوعيين‪،‬‬ ‫عاملين َم‬ ‫أن َيلت ِف َت إلى‬ ‫عن وِالد ِة ِشــع ٍر ُمغا ِيرٍ‪َ ،‬ينبغي ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الشــعرِ‬ ‫ـق بحاجــة ِّ‬ ‫ـي َيتع َّلـ ُ‬ ‫ال ُيم ِكـ ُ‬ ‫أو ُ‬ ‫ـن إغفال ُ​ُهمــا‪ّ :‬‬ ‫لهمــا عامــلٌ َزمانـ ٌّ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫بالح َدث؛‬ ‫ـد ُه عن‬ ‫الم َ‬ ‫نيــة»‪ُ ،‬تبعـ ُ‬ ‫باشــرة َ‬ ‫إلــى َ‬ ‫االنفعاليــة ُ‬ ‫«مســافَة َز َم َّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫رور‬ ‫م‬ ‫ـا‪-‬‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫ه‬‫ة‬ ‫ني‬ ‫م‬ ‫ز‬ ‫ال‬ ‫َة‬ ‫ف‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫الم‬ ‫تعني‬ ‫وال‬ ‫ً‪،‬‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫ف‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ث‬ ‫تم‬ ‫ـتطيع‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـي َي‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ َّ‬ ‫ّ‬ ‫كـ ْ‬ ‫وقـ ٍ‬ ‫الخ ّلقة‬ ‫ـت طويــل‪ ،‬فحســب؛ بــل تَعني ‪-‬أيضـاً‪ُ -‬قــدرة ُّ‬ ‫الشــعراء َ‬ ‫ـد ِ‬ ‫ـد ِم ْثــلِ هـ ِ‬ ‫علــى توليـ ِ‬ ‫ث‬ ‫المســافة‪،‬‬ ‫الحـ َ‬ ‫ـم ضمـ َ‬ ‫تأويلي ـاً‪ُ ،‬‬ ‫ـن َ‬ ‫ـذ ِه َ‬ ‫وهـ ْ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫نفسـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ـتثنائي ِة ال ّنــا ِد َر ِة‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫االس‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫الد‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫ط‬ ‫نم‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫يتط‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـذا‬ ‫ـ‬ ‫ـه‪ ،‬وه‬ ‫ِّ ْ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ـق بالجانـ ِ‬ ‫أن نســبةً كبيــر ًة‬ ‫والعامــلُ الثّانــي َيتع َّلـ ُ‬ ‫ـي؛ ذلــك َّ‬ ‫ـب َ‬ ‫المكانـ ِّ‬ ‫السـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـالَ‬ ‫ـنوات الماضية‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫خ‬ ‫ـروا‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫انتش‬ ‫قد‬ ‫ين‬ ‫ـوري‬ ‫الشـ‬ ‫َ‬ ‫ـن ُّ‬ ‫َ‬ ‫ِمـ َ‬ ‫السـ ِّ‬ ‫ـعراء ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ـن ُب ْعـ ٍ‬ ‫ـد‪،‬‬ ‫فــي أصقـ ِ‬ ‫الحـ َ‬ ‫ـاع العا َلــم‪ ،‬وبا ُتــوا ُيقارِبـ َ‬ ‫ـوري ِمـ ْ‬ ‫ـون َ‬ ‫السـ َّ‬ ‫ـد َث ُّ‬ ‫ِ‬ ‫فض ـ ً‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫ع‬ ‫ـدة‬ ‫ـ‬ ‫دي‬ ‫الج‬ ‫ـات‬ ‫ـ‬ ‫والبيئ‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫رب‬ ‫الغ‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫ِب‬ ‫ر‬ ‫َج‬ ‫ت‬ ‫ـراق‬ ‫ـ‬ ‫اخت‬ ‫ـن‬ ‫ا عـ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫طَ‬ ‫ً‬ ‫ـولٍ عــن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـث‬ ‫ـ‬ ‫ح‬ ‫ب‬ ‫ـام‬ ‫ـ‬ ‫أم‬ ‫ا‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫واس‬ ‫ـاب‬ ‫ـ‬ ‫الب‬ ‫ـح‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫يف‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـذا‬ ‫ـ‬ ‫وه‬ ‫ـم‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫د‬ ‫ئ‬ ‫قصا‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫ُ َّ‬ ‫َ ُ‬ ‫الهو ِّي َِّ‬ ‫ـو ِ‬ ‫ـد ِم َن‬ ‫البـ َّ‬ ‫ثمــةَ ‪-‬أيضـاً‪َ -‬مســألة ُ‬ ‫الت ُ‬ ‫ال َّتحـ ُّ‬ ‫اتيــة فــي أشــعار ِ​ِهم‪َّ .‬‬ ‫حاولــةٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫لِّ‬ ‫وخوضهــا‪ ،‬بــكُ عنايــة َ‬ ‫اإلشــارة إليهــا‪َ ،‬‬ ‫وشــغَ ف‪ ،‬عنـ َ‬ ‫ـد َّأيــة ُم َ‬ ‫لتلمـ ِ‬ ‫ـعرية َجديدة في ِشــعر الثَّورة‬ ‫ـس َمال ِمــح ظُ هــور َحساسـ ّـية ِشـ ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يتتب َع‬ ‫أن‬ ‫ـرورة‬ ‫ـ‬ ‫ض‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫تكمن‬ ‫ـألة‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫الم‬ ‫ه‬ ‫ـذ‬ ‫ـ‬ ‫وه‬ ‫ة‪،‬‬ ‫ـوري‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـرب‬ ‫ـ‬ ‫والح‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ّ‬ ‫ْ َّ‬ ‫المتح ِّقــق في َعوا ِلــم ال ُّنصوص‪،‬‬ ‫ال ّناقـ ُ‬ ‫تمعـ ُ‬ ‫الم ِّ‬ ‫ـن‪َ ،‬مــدى االنزيــاح ُ‬ ‫ـد ُ‬ ‫وضوعي ـاً‪ ،‬و َف ِّن ّي ـاً؛ بفعــلِ انتقــالِ عـ ٍ‬ ‫الشــعراء مــن‬ ‫َم‬ ‫ـن ُّ‬ ‫ـدد كبي ـ ٍر ِمـ َ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫الخــوف‬ ‫ـلطة‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫به‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫هيم‬ ‫ت‬ ‫ـت‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫كا‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الت‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ِح‬ ‫ب‬ ‫الكا‬ ‫ـود‬ ‫ـ‬ ‫ُي‬ ‫ق‬ ‫ال‬ ‫ـطوة‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫َ ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫الح ِّر َّيـ ِ‬ ‫ـس تَجرِبـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َحسـ ِ‬ ‫ـة‬ ‫علــى ُمناخــات ُن‬ ‫ـة ُ‬ ‫صوص ِهــم ســابقاً‪ ،‬إلــى ت ُّ‬ ‫ـة والجا ِم َحـ ِ‬ ‫نيـ ِ‬ ‫الجديــدة علــى ذَ وا ِت ِهــم؛‬ ‫وولـ ِ‬ ‫ـوج فَضاءا ِتهــا َ‬ ‫ـة‪ُ ،‬‬ ‫الغَ َّ‬ ‫ِ‬ ‫مزيقِ‬ ‫اريخي‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫ـتعصاء‬ ‫ـ‬ ‫االس‬ ‫ت‬ ‫من‬ ‫ـوري‬ ‫ـ‬ ‫الس‬ ‫ث‬ ‫د‬ ‫الح‬ ‫ن‬ ‫أن‬ ‫فبعد‬ ‫تمكَّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ِّ‬ ‫الشــعراء‬ ‫ـتطاع‬ ‫ـ‬ ‫اس‬ ‫‪،‬‬ ‫االجتماعي‬ ‫ـتعصاء‬ ‫ـ‬ ‫واالس‬ ‫‪،‬‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫عدد ِم َن ُّ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫السياس ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ـبي ٍة)‬ ‫ـ‬ ‫(نس‬ ‫ة‬ ‫مالي‬ ‫ج‬ ‫طوات‬ ‫بخ‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ندفعي‬ ‫م‬ ‫ـوف‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫الخ‬ ‫ـز‬ ‫ـ‬ ‫حاج‬ ‫ـوا‬ ‫ـ‬ ‫أن ُيحطِّ م‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ماهيـ ِ‬ ‫ـتقبلِ‬ ‫ـو اســتنطاقِ‬ ‫ـة ال َّتغييـ ِر‬ ‫نحـ َ‬ ‫ْ‬ ‫الحاصــلِ ‪ ،‬واكتنا ِه ُرؤى ُ‬ ‫المسـ َ‬ ‫َّ‬ ‫الالت هـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫القــا ِد ِم‪ ،‬علــى اختـ ِ‬ ‫بد ِء تَسـلُّلِ‬ ‫ـاف َد‬ ‫الرؤى‪ .‬وفــي َض ْو ِء ْ‬ ‫ـذ ِه ُّ‬ ‫تأثيـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـث‬ ‫ـولِ الحاسـ ِ‬ ‫ـم إلــى ال ُّنصــوص‪ ،‬أقــولُ ‪ ،‬مــن حيـ ُ‬ ‫ـرات هــذا ال َّتحـ ُّ‬ ‫ـم فــي هـ ِ‬ ‫أن تتجــذّ َر‬ ‫المبــدأ‪َّ ،‬‬ ‫ـو ْ‬ ‫المرحلــة ال ّزا ِئغــة‪ ،‬هـ َ‬ ‫ـذ ِه َ‬ ‫َ‬ ‫إن مــا يهـ ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـج‬ ‫ـ‬ ‫َنض‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫ـى‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫تتن‬ ‫وأن‬ ‫ة‪،‬‬ ‫ـوري‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـرب‬ ‫ـ‬ ‫والح‬ ‫ة‬ ‫ـور‬ ‫ـ‬ ‫ث‬ ‫ال‬ ‫ر‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ّ‬ ‫تَجــار ُِب ِش ْ‬ ‫كاب ِ‬ ‫بمــرو ِر ال َّز َمنِ ‪ ،‬وتَراكُ ِم ِخ ْبـ ِ‬ ‫دات الفعلِ‬ ‫ـرات ِّ‬ ‫وم َ‬ ‫َ‬ ‫الد ْر َب ِة‪ُ ،‬‬ ‫ماليـاً‪ُ -‬‬ ‫ج ّ‬‫ِ‬ ‫الســياق «أندريــه جيــد»‬ ‫ـذا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫‪،‬‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫أن‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫في‬ ‫الم‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫‪.‬‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫الفَ‬ ‫أتذكَّ‬ ‫ِّ‬ ‫ْ‬ ‫ِّ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫ـاعر كبيــراً‪،‬‬ ‫ـون ّ‬ ‫كان ُيـ ِّ‬ ‫ـأن يكـ َ‬ ‫ـم ‪-‬كمــا َ‬ ‫ـرد ُد‪ -‬بـ ْ‬ ‫الــذي لــم يكُ ـ ْ‬ ‫ـن يه َتـ ُّ‬ ‫الشـ ُ‬ ‫ـون صا ِفيـاً‪.!..‬‬ ‫أن يكـ َ‬ ‫يهمـ ُ‬ ‫بقـ ْ‬ ‫ـه ْ‬ ‫ـد ِر مــا ُّ‬

‫َ‬ ‫اإلبداعية‬ ‫كتابك «انزياح أساليب الوجود في الكتابة‬ ‫حصل‬ ‫ّ‬ ‫بيــن مطابقــات العولمــة واختالفاتهــا» علــى جائــزة الطَّ ّيــب‬ ‫َ‬ ‫الدراسات‬ ‫الكتابي‪،‬‬ ‫العالمية لإلبداع‬ ‫صالح‬ ‫وذلك في مجال ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫قديــة فــي العــام (‪ .)2019‬مــاذا تعنــي لـ َ‬ ‫ـك هــذه الجائــزة؟‬ ‫ال َّن ّ‬


‫وكيـ َ‬ ‫العربيــة؟‬ ‫ـف تنظــر إلــى واقــع الجوائــز‬ ‫ّ‬

‫َّ ِّ‬ ‫ُ‬ ‫حافظة‬ ‫لعل الذهن ّية امل ِ‬ ‫الحاكمة سياسات‬ ‫ِ‬ ‫الجامعات‪ ،‬وعقل ّية‬ ‫كوادرها‪ ،‬تُ ِّ‬ ‫مث ُل صور ًة‬ ‫جل ّية عن الجذور‬ ‫الخطرة ملُكابَدات ال َّنقد‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫العربي‪ ،‬إنْ كانَ‬ ‫ذلك‬ ‫ّ‬ ‫مُرتبطاً‬ ‫الجامعة‬ ‫ببنية‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫نفسها‪ ،‬أو كانَ‬ ‫ذلك‬ ‫مُرتبطاً‪ ،‬عىل نحْ وٍ‬

‫أعمَ ق وأشمَ ل‪ ،‬برصاع‬ ‫ُّ‬ ‫ني املايض‬ ‫الثنائ ّيات ب َ‬ ‫والحارض‬

‫ ُتسـ ِ‬‫المكافآت الجميلة‬ ‫ـع ُد الجوائز ال ّناس كثيراً‪ ،‬و ُتمثِّلُ نوع ًا من ُ‬ ‫ـر‪ ،‬بجالء‪،‬‬ ‫ـر هــذا األمـ ُ‬ ‫علــى جهودهــم فــي المجــاالت كا ّفــة‪ ،‬ويظهـ ُ‬ ‫ـض ال َّنظَ ــر عــن االنتقــادات‬ ‫األدبيــة‬ ‫فــي الجوائــز‬ ‫والفكريــة‪ ،‬فبغـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التــي ُتشــكِّ‬ ‫مصداقيــة نســبة كبيــرة مــن الجوائــز‪ ،‬وفــي‬ ‫فــي‬ ‫ك‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َّقافيــة (ومــن هــذ ِه االتِّهامــات مــا هــو‬ ‫ث‬ ‫ال‬ ‫أو‬ ‫ة‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ياس‬ ‫الس‬ ‫خلفيا ِتهــا ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫حضاريــة محمــودة؛ النطوا ِئها على‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫تقالي‬ ‫ز‬ ‫ـ‬ ‫الجوائ‬ ‫ـى‬ ‫وجيــه)‪ ،‬تبقـ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ـي ُتم ِّثــل دافع ـ ًا‬ ‫إشــادة َم‬ ‫عنويــة وإشــادة ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ماد ّيــة ُ‬ ‫بالمبدعيــن؛ فهـ َ‬ ‫ِ‬ ‫المزيــد مــن‬ ‫ـتمروا فــي بــذل َ‬ ‫حقيقيـ ًا ُ‬ ‫لهــم‪ ،‬وحافــز ًا كبيــر ًا كــي يسـ ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫طور نحو األفضــل‪ .‬من جهتي‪ ،‬أنا‬ ‫ت‬ ‫وال‬ ‫م‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫إلى‬ ‫ا‬ ‫ـعي‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫الجهــود؛‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫لما‬ ‫َمية لإلبداع‬ ‫سـ ٌ‬ ‫الكتابي؛ َ‬ ‫ـعيد بفــوزي بجائزة الطَّ ِّيب صالــح العال ّ‬ ‫ّ‬ ‫ورمزيــة اعتـ ٍ‬ ‫ـع بـ ِ‬ ‫ـراف‬ ‫وصدقيــة رفيعــة‪،‬‬ ‫حســنة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تتم َّتـ ُ‬ ‫ـه مــن ُســمعة َ‬ ‫ّ‬ ‫ـي‪ ،‬ال سـ ّـيما أ َّنهــا جائــزة ُتحــاوِلُ أن ترتقــي إلــى‬ ‫ـ‬ ‫الحقيق‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫وز‬ ‫ـه‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫لـ ُ‬ ‫ّ‬ ‫ـر َف العرب‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫كبير‪،‬‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫َم‬ ‫ل‬ ‫عا‬ ‫كاتب‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫اس‬ ‫ُّه‬ ‫ق‬ ‫ـتح‬ ‫ـ‬ ‫يس‬ ‫ـذي‬ ‫ـ‬ ‫ال‬ ‫ـتوى‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫الم‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫أن هذه‬ ‫جميعـاً‪ ،‬كالطَّ ِّيــب صالــح‪ .‬وأرى ‪-‬فــي هــذا المنحى ‪-‬أيضـاً‪َّ -‬‬ ‫العربية القليلة ا ُ‬ ‫الجائــزة ُتسـ ِ‬ ‫ألخــرى)‪ ،‬يوم ًا‬ ‫الجوا ِئــز‬ ‫ـاه ُم (وبعــض َ‬ ‫ّ‬ ‫م‬ ‫‪،‬‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫العرب‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫َّقاف‬ ‫ث‬ ‫ال‬ ‫ـاء‬ ‫ـ‬ ‫للفض‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫أصي‬ ‫ـييد‬ ‫ـ‬ ‫تش‬ ‫ـي‬ ‫ـد يــوم‪ ،‬فـ‬ ‫عمقــةً‬ ‫بعـ َ‬ ‫ّ ُ ِّ‬ ‫ّ‬ ‫نفسـ ِ‬ ‫والمنف ِتــح‪ ،‬فــي الوقــت ِ‬ ‫ـه‪،‬‬ ‫ـاء‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫الب‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫العرب‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫فاع‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫تقالي‬ ‫ّ‬ ‫َّ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ا عــن َ‬ ‫علــى العصــر والعا َلــم‪ .‬وفضـ ً‬ ‫ـت‪ ،‬في حوا ٍر ســابق‪،‬‬ ‫ذلك‪ ،‬قلـ ُ‬ ‫ـو عمــل خ ـاّق‬ ‫أن وجــود َجوا ِئـ َ‬ ‫ـص ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ـز تختـ ُّ‬ ‫قديــة‪ ،‬هـ َ‬ ‫بالدراســات ال َّن ّ‬ ‫الطُّ‬ ‫قدي‪،‬‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫الفع‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫بي‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫كام‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫ـوح‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـدم‬ ‫ـ‬ ‫يخ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫اإلبداعي والفعــل ال َّن ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـد علــى ُمواكَ بــة اإلبــداع‪ ،‬ورأب‬ ‫وهــي المســألة التــي تســاعد ال َّنقـ َ‬ ‫ُ‬ ‫الم ِ‬ ‫الســياق‬ ‫الثَّغــرات‬ ‫ـير‪ ،‬في ِّ‬ ‫العربيــة ُ‬ ‫ّ‬ ‫عاصــرة فــي هذا اإلطار‪ .‬وأشـ ُ‬ ‫عربيـاً‪ -‬إلــى تقاليــد أصيلــة‬‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫الماس‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫الحاج‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫إل‬ ‫ً‪-‬‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫أيض‬‫نفســه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والمثقَّفيــن‪ ،‬ورعاي ِت ِهــم‪ ،‬مــن‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫َّقاف‬ ‫ث‬ ‫بال‬ ‫ـال‬ ‫ـ‬ ‫الم‬ ‫رأس‬ ‫ـام‬ ‫ـ‬ ‫اهتم‬ ‫ـخ‬ ‫رسـ ُ‬ ‫ُت ِّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫وح ِّر ّيــة‬ ‫َّــف‪،‬‬ ‫ق‬ ‫ث‬ ‫الم‬ ‫ة‬ ‫اســتقاللي‬ ‫حســاب‬ ‫علــى‬ ‫ذلــك‬ ‫يكــون‬ ‫أن‬ ‫دون‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ـه ورأ ِيـ ِ‬ ‫كلم ِتـ ِ‬ ‫ـه‪.‬‬

‫العربــي أن يرتقــي إلــى المســتوى‬ ‫اســتطاع ال َّنقــد‬ ‫هــل‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ظلّ‬ ‫اإلبداعية؟‬ ‫اإلصدارات‬ ‫من‬ ‫الكبير‬ ‫خم‬ ‫ز‬ ‫ال‬ ‫في‬ ‫المطلوب‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬

‫ مــا زالَ‬‫الفئويــة‬ ‫ـد ُد داللــة‬ ‫ـي‬ ‫فئوي ـاً‪ ،‬لألســف‪ ،‬وتتعـ َّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال َّنقــد العربـ ّ‬ ‫ـدالالت تلتقــي فــي فكــرة كبــح‬ ‫ـن جميــع الـ َّ‬ ‫الســياق‪ ،‬لكـ َّ‬ ‫فــي هــذا ِّ‬ ‫أن‬ ‫إمكانــات ال َّنقــد‪ ،‬وتقليــص ُحضــوره‬ ‫الفعــال واألصيــل‪ .‬وأعتقـ ُ‬ ‫ـد َّ‬ ‫ّ‬ ‫جذورهــا إلــى‬ ‫ـود‬ ‫هــذ ِه‬ ‫القضيــة شــديدة ال َّتراكُ ــب وال َّتعقيــد‪ ،‬وتعـ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُنائيــة‬ ‫ث‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫طر‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫بي‬ ‫ـف‬ ‫ـ‬ ‫العني‬ ‫ـراع‬ ‫ـ‬ ‫والص‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫العربي‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫هض‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫ـات‬ ‫ـ‬ ‫جدلي‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫أن هــذه‬ ‫عاصــرة‪ /‬الغــرب)؛ إذ ال‬ ‫(األصالــة‪ /‬ال ُّتــراث)‬ ‫ُّ‬ ‫أظــن َّ‬ ‫و(الم َ‬ ‫ُ‬ ‫آثارهــا‬ ‫والمم ِّزقــة‪ ،‬فــي آنٍ معــاً‪ ،‬قــد‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫المم َّزقــة ُ‬ ‫ليــة ُ‬ ‫انتهــت ُ‬ ‫الجد ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫ـد ثــورات‬ ‫إن لــم أقــلْ إنهــا‬ ‫ازدادت تأثيــرا بأقنعــة جديــدة بعـ َ‬ ‫ْ‬ ‫بعـ ُ‬ ‫ـد‪ْ ،‬‬ ‫أن أقت ـر َِح فكــر َة‬ ‫ـي!‪ .‬وأسـ‬ ‫ـ‬ ‫العرب‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫بي‬ ‫الر‬ ‫الســياق‪ْ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫ـتطيع‪ ،‬فــي هــذا ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ـر تفكي ِكـ ِ‬ ‫ُّ‬ ‫ـه‪ ،‬انطالق ـ ًا مــن تخ ُّلــف‬ ‫ـ‬ ‫عب‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫العرب‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫ـف‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫تخ‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫تأصي‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫االســتقالليةَ ‪،‬‬ ‫العربيــة وبيروقراطَ ّي ِتهــا‪ ،‬وفقدانِهــا‬ ‫الجامعــات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الذِّ‬ ‫ـلَّ‬ ‫المحا ِفظــة الحا ِكمــة‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫هني‬ ‫ـ‬ ‫ولع‬ ‫‪،‬‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫العلم‬ ‫ـث‬ ‫ـ‬ ‫البح‬ ‫وإهما ِلهــا‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫جليــة عــن‬ ‫ة‬ ‫ـور‬ ‫ـ‬ ‫ص‬ ‫ـ‬ ‫ث‬ ‫م‬ ‫ت‬ ‫ـا‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫كوادره‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫وعقلي‬ ‫ـات‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫الجامع‬ ‫سياســات‬ ‫ـلُ‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ـك ُمرتبطـاً‬ ‫كان ذلـ َ‬ ‫إن َ‬ ‫لم َ‬ ‫ـي‪ْ ،‬‬ ‫الجــذور الخطــرة ُ‬ ‫كابــدات ال َّنقــد العربـ ّ‬ ‫ـة ِ‬ ‫ـة الجامعـ ِ‬ ‫ببنيـ ِ‬ ‫كان ذلـ َ‬ ‫أعمــق‬ ‫نفســها‪ ،‬أو َ‬ ‫نح ـ ٍو َ‬ ‫ـك ُمرتبط ـاً‪ ،‬علــى ْ‬ ‫قلت‪ ،‬من‬ ‫ُّنائيات بيـ َ‬ ‫ـن الماضي والحاضــر‪ .‬وقد ُ‬ ‫وأشـ َ‬ ‫ـمل‪ ،‬بصــراع الث ّ‬ ‫نهجيــة في المســألة‪ ،‬وأقــولُ اآلن‪ُ :‬ر َّبما‬ ‫م‬ ‫ة‬ ‫ـكالي‬ ‫ـ‬ ‫إش‬ ‫ـاك‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫ه‬ ‫إن‬ ‫ـل‪،‬‬ ‫قبـ‬ ‫َّ ُ‬ ‫ّ َ‬ ‫ّ‬ ‫ـم َعوا ِمــل عــدم صياغــة‬ ‫ـ‬ ‫أه‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫فم‬ ‫ً؛‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫أيض‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫وجودي‬ ‫ة‬ ‫ـكالي‬ ‫ـ‬ ‫إش‬ ‫ـي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫هـ َ‬ ‫ِ‬ ‫ـس أصداؤهــا علــى‬ ‫ـ‬ ‫تنعك‬ ‫ً‪-‬‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫عربي‬‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫عا‬ ‫الم‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫واضح‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫نقدي‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫حرك‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ـرج من الجامعة ِ‬ ‫ـود ‪-‬أيضاً‪ -‬إلى صراع‬ ‫نفســها‪ ،‬يعـ ُ‬ ‫الجامعــة‪ ،‬أو تخـ ُ‬ ‫واألكاديميين‪ ،‬وهو‬ ‫المثقَّفين وال ُّن ّقــاد‬ ‫الم‬ ‫الم‬ ‫رجعيــات َ‬ ‫َ‬ ‫عرفيــة بين ُ‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـؤدي‬ ‫ـف‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫عني‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫أيديولوج‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫وب‬ ‫ـت‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫بح‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫تقن‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ـراع‬ ‫ـ‬ ‫ص‬ ‫ٌ‬ ‫ويـ ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـد ُمؤ ِّثــر؛ ال فــي توظيــف نشــاط‬ ‫ـ‬ ‫ح‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫إل‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫العم‬ ‫ـدم‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫إل‬ ‫ً‪-‬‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫تلقائي‬‫ٍّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫مرجعيــة واحــدة (أو االســتفادة)؛ كــي ُتوا ِكــب‬ ‫كُ لّ مجموعــة ذات‬ ‫ّ‬

‫ـد‬ ‫والم َ‬ ‫باشــرة‪ ،‬وال فــي مـ ّ‬ ‫الم ّ‬ ‫لحــة ُ‬ ‫الراهــن ُ‬ ‫ـي ّ‬ ‫أســئلة العصــر العربـ ّ‬ ‫تنوعــة‪ ،‬بد ً‬ ‫ال من‬ ‫ـات‬ ‫ـ‬ ‫المجموع‬ ‫فاعــل مــع‬ ‫ُجســور ال َّت ُ‬ ‫الم ِّ‬ ‫المرجعيــة ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫حادية وال َّنرجسـ ّـية‬ ‫أل‬ ‫ا‬ ‫ـدة‬ ‫ـ‬ ‫ح‬ ‫و‬ ‫على‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫تمركز‬ ‫الم‬ ‫ـاء‬ ‫ـ‬ ‫واإلقص‬ ‫ناحــر‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ال َّت ُ‬ ‫ُ‬ ‫العمــل‬ ‫ثقافــة‬ ‫إلــى‬ ‫نفتقــد‬ ‫زلنــا‬ ‫مــا‬ ‫نــا‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫أعتقــد‬ ‫إذ‬ ‫ــخصنة؛‬ ‫والش‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫العي‬ ‫ـذا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ظ‬ ‫ي‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫وأكث‬ ‫ـف‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫لألس‬ ‫ـر‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫كبي‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫ح‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫إل‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ماع‬ ‫الج‬ ‫ٍّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫واجــه ُمواجهــةً عاجلة‬ ‫ي‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫إن‬ ‫ً‪،‬‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫بنيوي‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫عيب‬ ‫ـح‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ص‬ ‫ي‬ ‫أن‬ ‫ـكاد‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫ـذي‬ ‫(الـ‬ ‫ْ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ ْ ُ‬ ‫ـروع ُه مــن‬ ‫أن يبــدأ كُ لّ ُمث َّقــف أو ناقــد أو ُمفكِّ ــر مشـ َ‬ ‫وشــاملة) هــو ْ‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫ومقلِّــاً) مــن قيمــة‬ ‫ا‬ ‫ســتهتر‬ ‫م‬ ‫ق‬ ‫أ‬ ‫لــم‬ ‫(إن‬ ‫ً‪،‬‬ ‫ا‬ ‫ــ‬ ‫تجاه‬ ‫الصفــر‪ُ ،‬م‬ ‫ُــلْ‬ ‫ِّ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ـر ُه‪ .‬وهكــذا‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫عاص‬ ‫ت‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الت‬ ‫أو‬ ‫‪،‬‬ ‫ـبقته‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الت‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫العربي‬ ‫ـروعات‬ ‫ـ‬ ‫المش‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫مــا نــزالُ نــدور فــي حلقـ ٍ‬ ‫ـم كُ لّ ُمث َّقــف فــي‬ ‫ـة مفرغــة‪ ،‬حيـ ُ‬ ‫ـث ُيقيـ ُ‬ ‫جزير ِت ِ‬ ‫مــي‬ ‫نجــ ٌز‬ ‫الخاصــة‪ ،‬وال‬ ‫ــه‬ ‫ُ‬ ‫ينهــض‪ ،‬عندنــا‪ُ ،‬م َ‬ ‫ّ‬ ‫معرفــي تراكُ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـتمرة‪.‬‬ ‫المجـ َ‬ ‫نحـ َ‬ ‫أصيــل‪ ،‬وقابــل للبنــاء عليــه ْ‬ ‫ـاوزة ُ‬ ‫ـو ُ‬ ‫المسـ ّ‬

‫َ‬ ‫تتنق ُ‬ ‫نفسك أكثر؟‬ ‫الشعر وال َّنقد‪ .‬أين تجد‬ ‫بين ِّ‬ ‫َّل َ‬

‫ـام)‬ ‫تفضيليــة‬ ‫ـس عنــدي ُحكــم قيمــة‬ ‫َ‬ ‫ـي العـ ّ‬ ‫ ليـ َ‬‫ّ‬ ‫(بالمعنــى المعرفـ ّ‬ ‫اآلخر؛‬ ‫الجنس‬ ‫أو‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫الحق‬ ‫ـاب‬ ‫ـ‬ ‫حس‬ ‫على‬ ‫ـس‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫جن‬ ‫أو‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫حق‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫لمصلح‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫أكتب ُه‪،‬‬ ‫ـي) فــي ِّ‬ ‫أي نـ ّ‬ ‫ـص ُ‬ ‫ـي‪ /‬الكُ لـ ّ‬ ‫فإلــى جانــب َوحــدة موقفــي (الكيانـ ّ‬ ‫ُ‬ ‫الخ‬ ‫ـر ‪-‬مــن الوجهــة‬ ‫ديــة لــكُ لّ‬ ‫النيــة‪ -‬علــى ُ‬ ‫صوصيــة ال َّت ُّ‬ ‫َ‬ ‫عد ّ‬ ‫أصـ ُّ‬ ‫ّ‬ ‫العم ّ‬ ‫وإجرائي ـاً‪ .‬وفــي جميــع األحــوال‪،‬‬ ‫ري ـ ًا‬ ‫حقــل أخـ ُ‬ ‫ـوض غمــاره‪ ،‬نظَ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ـودي‬ ‫ـ‬ ‫وج‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫وه‬ ‫‪،‬‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ثقاف‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫‬‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الكتاب‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫عم‬ ‫كان‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫أي‬‫يبقــى لـ َّ‬ ‫َ َ‬ ‫ّ‬ ‫ـدي ّ‬ ‫ّ َ ّ‬ ‫ٌّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫العمــل ُيفيــد توالُــد‬ ‫ســارات‬ ‫م‬ ‫ــع‬ ‫أن‬ ‫عــن‬ ‫ا‬ ‫فضــ‬ ‫ــن‪،‬‬ ‫جامع ْي‬ ‫تقاطُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫عمــلٍ ُمتوازٍ‪،‬‬ ‫عبر‬ ‫الحقول‪،‬‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫جمي‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫بي‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫وتفاعله‬ ‫ؤى‪،‬‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫وال‬ ‫ـكار‬ ‫األفـ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُّ‬ ‫إن جمعــي الكتابــةَ فــي حقل َّي‬ ‫ـدم ُهنــا أو َّ‬ ‫نوعيـاً‪ ،‬يتقـ َّ‬ ‫يتأخــر ُهنــاك‪َّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫تفرض‬ ‫العمل نفســه‪ ،‬والتي‬ ‫بآليــة‬ ‫ً‪-‬‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫مبدئي‬‫ـط‬ ‫ـ‬ ‫يرتب‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫ن‬ ‫وال‬ ‫ـعر‬ ‫الشـ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـح فيهــا‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫تنف‬ ‫ة‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـا‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ت‬ ‫ناخا‬ ‫وم‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ت‬ ‫أدوا‬ ‫ً‪-‬‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫وتجريب‬ ‫ـ‬ ‫تجرب‬‫لّ‬ ‫ـةً‬ ‫كُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫كان جنســه‪ -‬بوص ِفـ ِ‬ ‫ـه‬ ‫أي ـ ًا َ‬‫ـر إلــى ال َّنـ َّ‬ ‫كينونــة ال َّنـ ّ‬ ‫ـص ّ‬ ‫ـص‪ ،‬فأنــا أنظـ ُ‬ ‫ـاليب وجــودي فــي فَجو ِتـ ِ‬ ‫ـه‪ ،‬بــكُ لّ مــا ينطــوي عليه‬ ‫ـ‬ ‫أس‬ ‫ـط‬ ‫عالَمـ ًا أبسـ ُ‬ ‫َ‬ ‫ـانٍ‬ ‫َ‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫عب‬ ‫ـوازى‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫تت‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـدر‬ ‫ـ‬ ‫وبق‬ ‫ودالالت‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫مع‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـم)‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫(العا‬ ‫ُمصط َلــح‬ ‫َ‬ ‫واإلجرائيــة‪ ،‬فــي فعــل الكتابــة‪،‬‬ ‫ليــة‬ ‫صوصيــة ال َّنواحــي‬ ‫ُخ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫الجد ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـاس والحقــولُ ‪ ،‬ت َّتصــلُ ‪ ،‬فــي الوقــت نفســه‪ ،‬بأنمـ ٍ‬ ‫ـاط ُمترا ِك َب ٍة‬ ‫ـ‬ ‫األجن‬ ‫ُ‬ ‫باآلخر‪،‬‬ ‫الشــعر وال َّنقد‬ ‫فاعــل وال َّتقاطُ ــع‪،‬‬ ‫حيث ُيؤ ِّث ُر كُ لّ من ِّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫مــن ال َّت ُ‬ ‫ـر بـ ِ‬ ‫معرفيـاً‪ -‬في‬‫ميــة‬ ‫ويشــكِّ لُ را ِفــد ًا‬ ‫ـه‪ُ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫خلفيـ ًا أو بطانــة تراكُ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ويتأ َّثـ ُ‬ ‫ـؤدي إلــى بســط أســاليب‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الت‬ ‫ـألة‬ ‫ـ‬ ‫المس‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫وه‬ ‫ـق؛‬ ‫ـ‬ ‫خلي‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫ـة‬ ‫ليـ َّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫عم ّ‬ ‫ـدم‬ ‫الوجــود‪ ،‬بمــا تنطــوي عليــه مــن أفــكار ودالالت‪ ،‬والتــي قــد تتقـ َّ‬ ‫دام‬ ‫نوعيـاً‪ُ ،‬هنــا‪-‬‬‫َّ‬ ‫لتتأخر ُهناك‪ ،‬ث َُّم بالعكــس‪ ..‬وهكذا دواليك‪ ،‬ما َ‬ ‫ّ‬ ‫الشــعر وال َّنقد (وغيرِهما) ُسؤال َْين ُمتكا ِمل َْين في َمشروعي؛‬ ‫ُســؤاال ِّ‬ ‫لذلـ َ‬ ‫الشــاعر عندي علــى ال ّناقد أو العكس‪،‬‬ ‫ـك ال أسـ‬ ‫ـد َم ّ‬ ‫أن أُقـ ِّ‬ ‫ـتطيع ْ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫المتلقّين‪،‬‬ ‫ـآراء‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫منوط‬ ‫ما‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫بي‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫األفض‬ ‫ـوص‬ ‫ـ‬ ‫بخص‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫ك‬ ‫الح‬ ‫ـى‬ ‫ويبقـ‬ ‫َُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ـتقبل‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫الم‬ ‫ورهانات‬ ‫ـن‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ز‬ ‫ال‬ ‫ـرة‬ ‫ـ‬ ‫خب‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫فتوح‬ ‫وم‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬

‫لمن تقرأ‪ ،‬حالي ًا؟‪ ،‬وهل من مشاريع جديدة لديك؟‬

‫أحد ُهمــا فــي‬ ‫ يفـ ُ‬‫كتاب ْيــن؛ ُ‬ ‫ـدي علــى َ‬ ‫ـي ‪-‬اآلن‪َ -‬‬ ‫عملــي ال َّنقـ ّ‬ ‫ـرض علـ َّ‬ ‫الشــعر الحديــث‪ ،‬قــراء َة َمصــا ِدر‬ ‫ـ‬ ‫الجاهل‬ ‫الشــعر‬ ‫ـي‪ ،‬والثّانــي فــي ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ـددة فــي هــذ ِه المجــاالت‪ ،‬فضـ ً‬ ‫ا عــن القــراءات التي‬ ‫ـ‬ ‫ح‬ ‫م‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫راج‬ ‫وم‬ ‫ُ َّ‬ ‫َ‬ ‫حافيــة‪ ،‬ومقاالتــي‪.‬‬ ‫الص‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫يفرض‬ ‫ُ‬ ‫ـر مـ ِّ‬ ‫ـوادي ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـي تحضيـ ُ‬ ‫َّ‬ ‫ـدة‪ ،‬فض ً‬ ‫ال عن مجموعة مشــاريع‬ ‫ثقافيــة‪،‬‬ ‫ـدي مشــاريع‬ ‫حالياً‪ ،‬عـ َّ‬ ‫لـ َّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ونظَ‬ ‫َّ‬ ‫ـد‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫ن‬ ‫وال‬ ‫ـعر‬ ‫ـ‬ ‫بالش‬ ‫ـق‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫تتع‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫وه‬ ‫ة‪،‬‬ ‫ـتقبلي‬ ‫ُمسـ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ري ِتهمــا‪ ،‬فأنــا أُ ِعـ ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ـري ضمــن خطــوط‬ ‫ـ‬ ‫وتنظي‬ ‫ـدي‬ ‫ـ‬ ‫نق‬ ‫ـاب‬ ‫ـ‬ ‫وكت‬ ‫‪،‬‬ ‫ـعري‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫ـوان‬ ‫ـ‬ ‫دي‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـر‬ ‫أكثـ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ـعرية‪/‬‬ ‫ـ‬ ‫(الش‬ ‫يانات‬ ‫الب‬ ‫ـروع‬ ‫ـ‬ ‫مش‬ ‫إنضاج‬ ‫تابع‬ ‫أ‬ ‫كما‬ ‫عليها‪،‬‬ ‫ـير‬ ‫ـ‬ ‫أس‬ ‫ة‬ ‫عام‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ـر أكثر من مســار‬ ‫قديــة) الــذي بـ ُ‬ ‫ال َّن ّ‬ ‫ـدأت فيــه فــي العــام (‪ )2015‬عبـ َ‬ ‫وأعمــلُ على ِ‬ ‫َ‬ ‫ضبط‬ ‫ـتطيع‬ ‫بعضها‪ ،‬وال أسـ‬ ‫أدرســها‪،‬‬ ‫وأكثــر مــن فكرة‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ـر منـ ٌ‬ ‫ـوط بحجم اإلنجــاز وال َّتوفيق‬ ‫ـ‬ ‫فاألم‬ ‫ً‪،‬‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫زمني‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫تام‬ ‫األمــور بد ّقــة ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ـلَ‬ ‫عيني‪.‬‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫نص‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫وضع‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫إل‬ ‫ـ‬ ‫أص‬ ‫ـأن‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫أم‬ ‫ـع‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫والمواظَ بــة‪ ،‬مـ َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫■ حوار‪ :‬عماد الدين موسى (سورية)‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪59‬‬


‫لقاء‬

‫جان بابتيست برينيت‪:‬‬

‫الفكر مكتوب باللّغة‬ ‫العرب ّية أيضا ً‬

‫القصــة الفلســفية للمفكّ ــر األندلــي ابــن‬ ‫ـي بــن يقظــان»‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫و ّقــع «جــان بابتيســت برينيــت» كتابــه الجديــد املقتبــس مــن «حـ ّ‬ ‫طفيــل‪ ،‬الــذي عــاش يف القــرن الثــاين عــر‪ .‬تعيــد هــذه الكتابــة الرائعــة‪ ،‬بشــكلها الجديــد‪ ،‬تســليط الضــوء عــى تجربــة‬ ‫شــعرية وفكريــة تقــف عنــد مفــرق طــرق العــوامل‪.‬‬ ‫لــن كانــت أوروبــا تحتفــظ بروايــة «روبنســون» لـ«دانييــل ديفــو»‪ ،‬فــإن أســطورة الرجــل الــذي يكــر‪ ،‬مبفــرده‪ ،‬عــى جزيرة‪،‬‬ ‫وتأمــل ميتافيزيقــي‪،‬‬ ‫ـي بــن يقظــان»‪ّ ،‬‬ ‫قصــة فلســفية‪ ،‬وتحفــة شــعرية ّ‬ ‫أقــدم بكثــر‪ ،‬وعرفــت الكثــر مــن اإلصــدارات‪« .‬حـ ّ‬ ‫القصــة إىل الالتينيــة ّ‬ ‫إل نهايــة القــرن‬ ‫ترتجــم‬ ‫للمف ِّكــر األندلــي ابــن طفيــل‪ ،‬الــذي عــاش يف القــرن الثــاين عــر‪ .‬مل‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫الســابع عــر‪ ،‬مــن ِق َبــل رجــل إنجليــزي‪ .‬يف الشــهر املــايض‪ ،‬تطـ َّـر َق ‪ Literate Europe‬إىل هــذا العمــل تحــت عنــوان‬ ‫ـدرس نفســه بنفســه»‪ .‬وقــد ســبق لــكل مــن «لــوك»‪ ،‬و«اليبنــز»‪ ،‬و«ســبينوزا» ّ‬ ‫القصــة‪،‬‬ ‫االطــاع عــى‬ ‫ّ‬ ‫«الفيلســوف الــذي يـ ّ‬ ‫ـى لفــرة طويلــة‪.‬‬ ‫و‪ -‬الحقـ ًا ‪« -‬دانييــل ديفــو»‪ ،‬قبــل أن تُنـ َ‬ ‫(‪)1‬‬ ‫مؤخــراً‪ ،‬و ّقــع «جــان بابتيســت برينيــت»‪ ،‬أســتاذ الفلســفة‬ ‫العربيــة يف جامعــة «باريــس »‪ ،‬ومؤ ِّلــف العديــد مــن الكتــب‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ـخةً‬ ‫ـي بــن يقظــان‪ ،‬تحــت عنــوان «‪- Robinson de Guadix‬‬ ‫ـ‬ ‫ح‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫مقتبس‬ ‫ـ‬ ‫نس‬ ‫ـوص‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫الخص‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫وج‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ـد‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫رش‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫اب‬ ‫عــن‬ ‫ّ‬ ‫القصة ‪ -‬بجاملها األديب‪ ،‬وأفكارها الفلسفية ‪ -‬إىل الظهور‪ ،‬يف ح ّلة جديدة‪.‬‬ ‫روبنسون دي غواديكس»‪ .‬وبذلك‪ ،‬تعود‬ ‫ّ‬ ‫العربية؟‬ ‫كيف وصلت إلى الفلسفة‬ ‫ّ‬

‫مدرســاً‪ ،‬فــي أوائــل التســعينيات‪ ،‬بــدأت دراســة‬ ‫ لكــي أصبــح ِّ‬‫المتمســك بالتعاليــم التقليديــة للمدرســة‬ ‫ـاس»‪،‬‬ ‫«تومــاس أكوينـ‬ ‫ّ‬ ‫الالتينيــة‪ ،‬وشــعرت بــأن الفكــر العربــي كان حاضــر ًا هنــاك‪ ،‬وأنــه‬ ‫كان علينــا أن نذهــب حيث يوجد‪ ،‬لنفهمه بشــكل أفضل‪ .‬في الوقت‬ ‫ـؤرخ فــي الفلســفة‬ ‫نفســه‪ ،‬بــدأت العمــل مــع «أالن دي ليبــرا»‪ ،‬المـ ِّ‬ ‫الفرنســية‪ ،‬الــذي ســبق لــه أن ترجــم ابــن رشــد‪ ،‬وكتــب صفحــات‬ ‫رائعــة عــن الحاجــة إلــى إعــادة التفكيــر فــي تاريــخ الفلســفة‪ ،‬مــن‬ ‫خــال عــدم التركيــز علــى أوروبــا والفكــر الالتينــي‪ .‬كانــت تجربــة‬ ‫وحيــة‪ ،‬وغيــر معروفــة‪ .‬لقــد كان ذلــك دافع ـ ًا حاســماً‪.‬‬ ‫جديــدة‪ّ ،‬‬

‫متخصــص فــي فلســفة األندلــس المســلمة‪ .‬مــا الــذي‬ ‫أنــت‬ ‫ّ‬ ‫جــذب اهتمامــك خــال تلــك الفتــرة؟‬

‫جان بابتيست برينيت ▲‬

‫‪60‬‬

‫جدتــي‪ ،‬التــي أديــن لها‬ ‫ربمــا؛ فقــد نشــأت َّ‬ ‫ هنــاك جانــب عائلــي‪َّ ،‬‬‫بالكثيــر‪ ،‬فــي قرطبــة؛ لذلــك‪ ،‬شــكّ لت األندلــس المســلمة مفتــرق‬ ‫طــرق اســتثنائي‪ ،‬ألن األديــان والنصــوص والعلــوم تتقاطع هناك‪.‬‬ ‫ـمى «نقل الدراســات»‪ ،‬وأرى‬ ‫إنها تجربة حاســمة في تاريخ ما يسـ ّ‬ ‫أنهــا حلقــة أساســية لربــط الفكــر اليونانــي والفكــر الالتينــي‪ .‬مــا‬ ‫يهمنــي هنــا هــي ظاهــرة وراثــة المفاهيــم‪ ،‬وترجماتهــا‪ ،‬وإحيائهــا‬ ‫ّ‬ ‫فــي مناطــق جغرافيــة وثقافيــة أخــرى‪ .‬فالعقالنيــة العلميــة‬ ‫العربيــة أيضــاً‪ ،‬وفــي أرض اإلســام‪ .‬كلّنــا ورثــة‬ ‫كُ ِتبــت باللّغــة‬ ‫ّ‬ ‫للتفكيــر فــي مواضيــع الســلطة والعالقــة مــع الدين‪ ،‬والســعادة‪،‬‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫واألنثروبولوجيــا‪ ،‬والجســد‪ ،‬ومــا إلــى ذلــك‪.‬‬

‫القصة الفلسفية؛ اليوم؟‬ ‫لماذا قمتم بتكييف هذه‬ ‫ّ‬

‫النــص لغــز‪ ،‬يتطلَّــب م ّنــا تنزيلــه فــي ســياق حديــث‪ ،‬وإعــادة‬ ‫‬‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ـعره يســمح بذلــك‪ ،‬علــى مــا أعتقــد‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫فش‬ ‫ـه؛‬ ‫ـ‬ ‫إحيائ‬ ‫ـادة‬ ‫ـ‬ ‫وإع‬ ‫ـه‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫صياغت‬ ‫ْ‬ ‫أدق‪ -‬كلّ عمــل يســمح لنــا بــإدراج الفكــر العربــي فــي‬ ‫و‪-‬بشــكل ّ‬ ‫مرحــب بــه‪ ،‬بــل‬ ‫ـكار‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫األف‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫مناقش‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـتركة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫المش‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫العقالني‬ ‫لعبــة‬ ‫َّ‬ ‫ضــروري‪ ،‬ألســباب فكريــة‪ ،‬وأخــرى إنســانية واضحــة‪.‬‬

‫العربية ال تزال «أرض غير معروفة»؟‬ ‫الفلسفة‬ ‫ّ‬

‫ هــذا صحيــح‪ ،‬وعلــى نطــاق واســع‪ .‬لقــد ُأ ِ‬‫هملــت مناهــج‬ ‫تدريــس الفلســفة عـ ّـدة قــرون‪ ،‬مــن خــال القفــز علــى فكــر‬ ‫العصــور الوســطى‪ ،‬بوضعهــا جانبـ ًا‪ ،‬وأعنــي العصر الذهبي‬ ‫لإلسالم‪ .‬نقفز من أرسطو‪ ،‬وأفالطون‪ ،‬وبلوتينوس إلى ‪...‬‬ ‫مونتيــن‪ .‬فــي برنامــج البكالوريــا الفرنســية‪ ،‬مــن الفيلســوف‬ ‫الــذي يمكننــا اختيــاره مــن الفالســفة العــرب؟ واحــد فقــط‪،‬‬ ‫هــو ابــن رشــد‪ .‬مــن الــذي يســتطيع االستشــهاد بثالثــة‬ ‫عربيــة عظيمــة؟ مــن يســتطيع‬ ‫فالســفة أو ثالثــة نصــوص‬ ‫ّ‬ ‫يتحدثــون مــع‬ ‫و«اليبنيــز»‬ ‫و«ديــكارت»‬ ‫أن يجعــل «كانــط»‬ ‫َّ‬ ‫هــؤالء المفكِّريــن‪« ،‬الكنــدي»‪ ،‬و»الفارابــي»‪ ،‬و»ابــن ســينا»‪،‬‬ ‫ويجادلونهــم بتلــك العبقريــة العظيمــة؟ الفكــر ليــس حكــراً‬ ‫علــى اليونانيــة أو الالتينيــة‪ ،‬ويجــب توضيــح ذلــك‪ .‬يجــب أن‬


‫تحتفــي أرفــف مكتباتنــا بروائــع المفكّ ريــن العــرب‪ ،‬تمام ـ ًا مثــل «نقــد‬ ‫العقــل الخالــص» (أنــا ال أعنــي الفلســفة‪ ،‬بالمعنــى الدقيــق للكلمــة)‪،‬‬ ‫نرحب بالنصوص‬ ‫إلى جانب نصوص ِّ‬ ‫القديس أغسطينوس‪ ،‬ينبغي أن ِّ‬ ‫التي تدرس الدين اإلسالمي‪ ،‬والتي ساهمت في بناء تاريخ العقالنية‪،‬‬ ‫فــي رحــاب الفكــر العالمــي‪ .‬هــذا ينطبــق‪ ،‬أيضـ ًا‪ ،‬علــى األفــكار الصينيــة‬ ‫أو الهنديــة‪.‬‬ ‫من هو ابن طفيل؟‬

‫ ُو ِلــد فــي غواديكــس‪ ،‬شــمال شــرق غرناطــة‪ ،‬حوالــي عــام ‪ ،1116‬مــن عائلــة‬‫تشــتهر بالعلــم‪ .‬عمــل‪ ،‬لفتــرة‪ ،‬طبيبـ ًا فــي غرناطــة‪ ،‬لكننــا ال نجــد أثــره ّإل فــي‬ ‫الموحديــن فــي ذلــك‬ ‫عــام ‪ ،1147‬عندمــا انتقــل إلــى مراكــش بالقــرب مــن أميــر‬ ‫ِّ‬ ‫ـم تعيينــه طبيبـ ًا‬ ‫الوقــت‪ .‬وبعــد أن أصبــح ســكرتير ًا لــدى مســؤول فــي طنجــة‪َ ،‬تـ َّ‬ ‫ـرغ‬ ‫شــخصي ًا لألميــر أبــو يعقــوب يوســف‪ ،‬الــذي قـ ّ‬ ‫ـدم إليــه ابــن رشــد‪ ،‬ثــم تفـ ّ‬ ‫‪-‬تمامـاً‪ -‬للتعليــق علــى أعمــال «أرســطو»‪.‬‬

‫هل كان ابن رشد معلَّمه؟‬

‫أود أن أعود فــي الوقت‬ ‫ـد مــا‪ ،‬لكنــه ليــس سـ ِّـيده‪ّ .‬‬ ‫ إنــه شــيخه ومعلمــه‪ ،‬إلــى حـ ّ‬‫ألبين كيف كانت عالقاتهما‪ ،‬ألنهما ال يدافعان عن العقائد نفســها‪،‬‬ ‫المناســب‪ّ ،‬‬ ‫بشــأن التوافــق بيــن الفلســفة والديــن (اإلســام‪ ،‬فــي هــذه الحالــة)‪ ،‬على ســبيل‬ ‫األول‪ ،‬لكنهما‬ ‫المثــال‪ ،‬همــا ي َّتفقــان‪ ،‬ويدعمان فكرة أن الثاني نســخة رمزية من َّ‬ ‫يختلفــان فــي مــا يتع َّلــق بمكانــة الفيلســوف فــي المدينــة‪ ،‬وعالقتــه بالســلطة‪.‬‬ ‫بالنســبة إلــى ابــن رشــد‪ ،‬ال يمكــن للفيلســوف أن يعيــش ّإل فــي مجتمــع منظَّ م‪،‬‬ ‫ـؤدي وظيفته‬ ‫فهــو حيــوان سياســي؛ وفــي نظــر ابن طفيــل‪ ،‬المف ّكــر ال يمكن أن يـ ِّ‬ ‫ّإل بمفــرده‪ ،‬فــي جزيرتــه‪ ،‬بمعــزل عــن جزء من اإلنســانية‪.‬‬

‫اختفت جميع أعمال ابن طفيل‪ ،‬تقريب ًا ‪...‬‬

‫القصــة فقــط‪« ،‬حي ّ بن يقظــان»‪ ،‬وبعض القصائــد‪ ،‬رغم أنه‬ ‫ نعــم‪ ،‬لدينــا هــذه‬‫ّ‬ ‫كتب الكثير‪ .‬الفالســفة العرب العظماء وصلوا إلينا بفضل أعمالهم المترجمة‬ ‫إلــى اللّغــة الالتينيــة‪ ،‬واطّ لــع عليها كبــار المفكّرين‪ :‬تومــاس أكويناس‪ ،‬ودونس‬ ‫ســكوتوس‪ ،‬وآخــرون‪ ،‬وصــو ً‬ ‫ال إلــى ديــكارت‪ .‬الغريــب أن عمــل ابــن طفيــل لــم‬ ‫يتبــع هذا المســلك‪.‬‬

‫«حي بن يقظان»؛ من الضياع والنسيان؟‬ ‫قصة‬ ‫كيف ت ََّم الحفاظ على ّ‬ ‫ّ‬

‫ نحــن مدينــون بذلــك لرجــل إنجليــزي مــن القــرن الســابع عشــر‪ ،‬هــو «إدوارد‬‫العربيــة فــي أكســفورد‪ .‬فــي‬ ‫وأول أســتاذ للُّغــة‬ ‫بوكــوك»‪ ،‬وهــو مستشــرق بــارز‪َّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫األعــوام‪ :‬مــن ‪ 1630‬إلــى ‪ ،1640‬خــال رحلتــه إلــى ســورية‪ ،‬اســتخرج مخطوطة‬ ‫ـص ابــن طفيــل‪ ،‬وأعادها إلــى إنجلتــرا‪ .‬طلب من ابنــه تحريرهــا‪ ،‬وترجمتها‬ ‫مــن نـ ّ‬ ‫مقدمتهــا‪ ،‬ثــم نشــر الكتــاب باســتخدام‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫نفس‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫كت‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫وق‬ ‫ـة‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫الالتيني‬ ‫إلــى‬ ‫ِّ‬ ‫معرفتــه بالبيئــة الفكريــة فــي ذلــك الوقــت‪ .‬كانت هنــاك ترجمات إلــى العبرية‪،‬‬ ‫ومــن العبريــة إلــى الالتينيــة‪ ،‬فــي القرنيــن الرابــع عشــر‪ ،‬والخامس عشــر‪ ،‬لكن‬

‫العربية‪-‬الالتينيــة‪ ،‬ثنائيــة‬ ‫غيــرت الترجمــة‬ ‫ّ‬ ‫صداهــا كان محــدود ًا للغايــة‪ .‬لقــد ّ‬ ‫اللّغــة‪ ،‬مــن ِق َبــل «إدوارد بوكــوك»‪ ،‬عــام ‪ ،1671‬كلّ شــيء‪.‬‬

‫تقبلت األوساط الفكرية هذا الكتاب في أوروبا؟‬ ‫كيف َّ‬

‫ حقّــق الكتــاب أعلــى المبيعــات‪ ،‬وكان أثــره كبيــر ًا للغايــة‪ .‬بعــد عــام علــى‬‫الترجمــة الالتينيــة‪ ،‬تقريب ـاً‪ُ ،‬ت ِ‬ ‫ـص إلــى الهولنديــة‪ ،‬بواســطة «بــاروخ‬ ‫رجــم النـ ّ‬ ‫مهم ـ ًا بمــا‬ ‫دي ســبينوزا»‪ .‬لــم يترجمــه «ســبينوزا» بنفســه‪ ،‬لكنــه اعتبــر النـ ّ‬ ‫ـص ّ‬ ‫يكفــي ليك ّلــف أحــد أصدقائــه‪ ،‬وهــو «بومويســتر»‪ ،‬للقيــام بذلــك‪ .‬كان ذلــك فــي‬ ‫منكبـ ًا علــى تأليــف «األخالقيــات»‪ ،‬ومــن‬ ‫عــام ‪ ،1672‬وال يــزال ســبينوزا‪ ،‬حينهــا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ـي بــن يقظــان بيــن يديــه‪.‬‬ ‫المفيــد‪ ،‬للغايــة‪ ،‬أن تكــون ّ‬ ‫قصــة حـ ّ‬

‫لماذا؟‬

‫ الفلســفتان ال تلتقيــان فــي كلّ شــيء‪ ،‬وكانــت هنــاك بعــض األفــكار الصادمــة‬‫لـ«ســبينوزا» الــذي يــرى أن «اإلنســان إلــه لإلنســان»‪ .‬كمــا تجمعهمــا جوانــب‬ ‫أخــرى‪ ،‬علــى غــرار فكــرة أن كلّ األشــياء هــي‪ ،‬بمعنــى مــن المعانــي‪ ،‬واحــدة‪،‬‬ ‫ـرد مظاهر‪ .‬بين «الجوهر»‬ ‫وبوجــود كائــن واحــد‪ ،‬فقط‪ ،‬وأن كلّ الحقائق هي مجـ َّ‬ ‫قويــة‪ .‬ويمكــن‬ ‫ـداء‬ ‫ـ‬ ‫األص‬ ‫الفريــد لـ«ســبينوزا»‪ ،‬وهــذا المفهــوم للوجــود‪ ،‬كانــت‬ ‫ّ‬ ‫قــول الشــيء نفســه فــي مســائل أخــرى مــع «اليبنــز»‪ ،‬و«لــوك»‪.‬‬ ‫تلخص فكر ابن طفيل؟‬ ‫* كيف ّ‬ ‫األول هــي األفالطونيــة الجديــدة البن ســينا‪،‬‬ ‫ن‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫المك‬ ‫ـة‪:‬‬ ‫ـ‬ ‫التوفيقي‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ فلســفته‬‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ـدم الكــون علــى أنــه نابع مــن مبدأ أساســي‪ ،‬وتدافع عــن مفهوم روحي‬ ‫والتــي تقـ ّ‬ ‫ـخصيته الغامضة‪،‬‬ ‫ـم الثانــي‪ ،‬هــو المف ِّكر الغزالــي‪ ،‬بشـ‬ ‫لإلنســان‪ .‬المصــدر المهـ ّ‬ ‫َّ‬ ‫والــذي يهاجــم الفالســفة‪ ،‬ويدعــو إلــى عالقــة نشــطة بالمعرفــة واإليمــان‪ ،‬فــي‬ ‫صوفيـاً‪ .‬يحاول ابن طفيــل التعبير عن الفكــر العقالني‬ ‫الوقــت نفســه‪ .‬لقــد كان‬ ‫ّ‬ ‫لــكلٍّ مــن ابــن ســينا‪ ،‬والغزالي‪.‬‬

‫قراء اليوم؟‬ ‫ما الذي‬ ‫َّ‬ ‫يتحدث به ابن طفيل إلى ّ‬

‫ النصــوص العظيمــة تحمــل أســئلة كبيــرة‪ .‬هــذا هــو الحــال هنــا‪ ،‬فمــا زالــت‬‫ـي بــن يقظــان» تعكــس مشــكالتنا اليــوم‪ .‬ناهيــك عــن الصفحــات‬ ‫مشــكالت «حـ ّ‬ ‫تهتم الشــخصية‬ ‫ِّر‬ ‫ك‬ ‫المب‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫البيئ‬ ‫الوعي‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـكل‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫إلى‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫فيه‬ ‫ـير‬ ‫ـ‬ ‫يش‬ ‫الجميلــة التــي‬ ‫ّ‬ ‫بإنقــاذ النباتــات‪ ،‬وعــدم اإلضــرار بالحيوانــات‪ ،‬وتتج َّنــب تدمير األنواع‪ .‬يتســاءل‬ ‫يمســنا‪ :‬ما الــذي يعنيه المنجز للمفكّر ولإلنســان‪،‬‬ ‫ابــن طفيــل‪ ،‬هنــا؛ وهذا الذي ّ‬ ‫معينة بالجســم‪ ،‬أم بالعقل‪،‬‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫عالق‬ ‫في‬ ‫هل‬ ‫ـعادة؟‬ ‫ـام؟ أيــن تكمن السـ‬ ‫بشــكل عـ ّ‬ ‫َّ‬ ‫أم المعرفــة؟ هــل يكــون ذلــك مــن داخــل المجتمــع‪ ،‬أم يجــب أن نكــون بمعــزل‬ ‫عــن اآلخريــن؟ ومــا الــذي يش ـ ّكل المجتمــع؟ هــل يجتمــع الديــن والفلســفة؟‬ ‫وفــي النهايــة‪ ،‬مــا طبيعــة العالقــة بيــن الفلســفة واألدب؟ كلّ هــذه األســئلة‬ ‫المهمــة قــد أثارهــا هــذا الكتــاب الــذي حفظــه الزمــن لنــا‪ ■ .‬حــوار‪ :‬ليســبث‬ ‫ّ‬ ‫كوتشــوموف آرمــان ترجمــة‪ :‬عبداللــه بــن محمــد (تونــس)‬

‫‪۹‬‬

‫العنوان األصلي والمصدر‪ ،Le Temps :‬العدد (‪ ،)1‬مارس‪.2020 ،‬‬ ‫»‪Jean-Baptiste Brenet: «La pensée s’écrit aussi en arabe‬‬ ‫‪https://www.letemps.ch/culture/jeanbaptiste-brenet-pensee-secrit-arabe‬‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪61‬‬


‫ملف خاص‬

‫‪62‬‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪( Edvard Munch‬النرويج) ▼‬

‫أدب األ ْوبئة‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫فواجع االسترشاف!‬


‫إياك أن تقرتب!‬

‫عم تدور روايات العدوى؟‬ ‫ّ‬

‫يف أدب األوبئة‪ ،‬ال‬ ‫َّ‬ ‫يتمثل الخطر األكرب‬ ‫يف خسارة البرش‬ ‫حياتهم‪ ،‬بل يف‬ ‫خسارة ما يجعلنا‬ ‫برشا ً يف األساس‬

‫أصــاب الجنــون ُســكّ ان لندن حين اجتــاح المدينة وبــاء الطاعون‬ ‫والمشــعوذين‬ ‫المنجمين ُ‬ ‫فــي العــام ‪ .1665‬طلبــوا المشــورة مــن ُ‬ ‫قــدس‪ .‬ف َّتشــوا أجســادهم بحثــ ًا عــن عالمــات أو‬ ‫الم َّ‬ ‫والكتــاب ُ‬ ‫إرهاصــات اإلصابــة بالمــرض‪ :‬انتفاخــات أو بثــور أو بقــع ســوداء‪.‬‬ ‫اســتجدوا نبــوءات واشــتروا تنبــؤات‪ .‬صلــوا وعولــوا وأغمضــوا‬ ‫ـدوا آذانهــم‪ .‬انفجــروا بالدمــوع فــي الشــوارع وقرأوا‬ ‫عيونهــم وسـ ّ‬ ‫أن هــذه الكُ تب أفزعتهم»؛ لهذا ســعت‬ ‫تقاويــم مفزعــة‪« :‬ال ريــب ّ‬ ‫الحكومــة التــي حرصــت علــى احتــواء حالــة الذعــر‪ ،‬إلــى‪« :‬حظر‬ ‫طباعــة مثــل هــذه الكُ تــب أل ّنهــا تفــزع النــاس»‪ .‬هــذا مــا جــاء‬ ‫المؤ ِّلــف اإلنجليــزي «دانييــل ديفــو» ‪Daniel Defoe‬‬ ‫فــي كتــاب ُ‬ ‫ا ّلــذي حمــل اســم «يوميــات عــام الطاعــون»؛ وهــو تأريــخ كتبــه‬ ‫تيب نصائح بعنــوان «التحضيرات الالزمة‬ ‫«ديفــو» بالتزامــن مع كُ ِّ‬ ‫للطاعــون» صــدر فــي العــام ‪1722‬؛ وهــو العام الذي شــهد إصابة‬ ‫النــاس بالخــوف مــن احتمــال أن يعبــر المرض القنــاة اإلنجليزية‬ ‫ـر ًة أخــرى‪ ،‬إ ْذ بعــد أن انتقــل من الشــرق األوســط إلى مارســيليا‬ ‫مـ ّ‬ ‫قــد يتجــه شــما ً‬ ‫ال علــى متــن ســفينة تجاريــة‪ .‬كان «ديفــو» يأمــل‬ ‫أن يكــون كتابــاه ذا نفــع‪« :‬لنــا ولألجيــال القادمــة‪ ،‬رغــم ضــرورة‬ ‫أن ننجــو مــن هــذه الحصــة مــن الــكأس المريــرة»‪ .‬لكــن هــذه‬ ‫الــكأس المريــرة خرجــت مــن صوانهــا‪.‬‬ ‫ـن أصابهــم الفــزع إلى الريــف؛ والحكماء‬ ‫ـر َمـ ْ‬ ‫فــي العــام ‪ ،1665‬فـ ّ‬ ‫ـرروا‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫حي‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫ـك‬ ‫ـ‬ ‫ذل‬ ‫ـدم؛‬ ‫ـ‬ ‫الن‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫فأصابه‬ ‫ـون‬ ‫أمــا المتلكئـ‬ ‫ّ‬ ‫أيضـاً‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫المغادرة‪« :‬لم يكن يوجد جواد واحد ُيمكن شــراؤه أو اســتئجاره‬ ‫داخــل المدينــة كلّهــا»‪ ،‬كمــا يــروي «ديفــو»‪ ،‬وفي النهايــة أُغلقت‬ ‫ـرف‪،‬‬ ‫البوابــات وباتــوا محتجزيــن جميعـاً‪ .‬الجميــع أســاءوا التصـ ُّ‬ ‫لكن األثرياء كانوا األســوأ‪ .‬إ ْذ كانوا يرســلون خادماتهم الفقيرات‬ ‫لشــراء المــؤن بعــد أن فاتهــم تخزيــن مــا يكفــي‪ .‬كتــب «ديفــو»‪:‬‬ ‫«جــرت حتميــة الخــروج مــن بيوتنــا لشــراء مــا يلــزم الخــراب‬ ‫ّ‬ ‫علــى المدينــة بكاملهــا»‪ .‬لقــي عشــرون بالمئــة مــن ســكّ ان لنــدن‬ ‫القصاب‬ ‫حتفهــم برغــم االحتياطات التي ا ّتخذها التجــار؛ إ ْذ كان‬ ‫ّ‬ ‫يرفــض تســليم قطعــة اللحــم للطباخــة فــي يدها‪ ،‬بــل كان عليها‬ ‫أن تنتزعهــا مــن الخطّ ــاف بنفســها‪ ،‬وكان عليهــا فــي المقابــل أن‬ ‫تضــع القطــع النقديــة داخــل دلــو يمتلــئ بالخلّ ‪.‬‬ ‫ـتقر األســى والحــزن فــوق الوجــوه»‪ .‬وأثبــت‬ ‫يكتــب «ديفــو»‪« :‬اسـ ّ‬ ‫تضييــق الحكومــة علــى نشــر الكُ تب التــي تثير فزع النــاس أ ّنه بال‬ ‫طائــل؛ إ ْذ كانــت الشــوارع تمتلــئ بمــا تثيــر قراءته الفزع‪ .‬ســتقرأ‬ ‫ـد الجثث أثناء‬ ‫ملصقــات أســبوعية ُتعلــن أعــداد المتوفين‪ ،‬أو تعـ ّ‬ ‫تكويمهــا فــي األزقة‪ ،‬أو تقرأ األوامر التي ينشــرها عمدة المدينة‪:‬‬ ‫«س ـ ُنغلق المنــزل ا ّلــذي يســكنه أي شــخص يــزور شــخص ًا آخــر‬ ‫ُعــرف عنــه إصابتــه بعــدوى الطّ اعــون‪ ،‬أو يدخــل عن طيــب خاطر‬ ‫أي منــزل ُمصــاب بالعــدوى وغير مســموح بدخوله»‪ ،‬كما ســتقرأ‬ ‫الالفتــات فــوق أبــواب البيــوت المصابــة بالعــدوى التــي يحرســها‬ ‫خفــراء‪ ،‬وعلــى كلّ بــاب عالمــة صليــب أحمــر يبلــغ طولــه قــدم‬

‫كاملــة‪ ،‬تعلــوه عبــارة مطبوعــة بحــروف كبيــرة ُيمكــن قراءتهــا‬ ‫مــن مســافة بعيــدة تقــول‪« :‬ارحمنــا يــا الله!»‪.‬‬ ‫مجازيـ ًا‬ ‫ث‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫تل‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫القــراءة عــدوى؛ تنقيــب داخــل الدمــاغ‪ :‬فالكُ ت‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫وميكروبيولوجيـ ًا أيضـاً‪ .‬كان قباطنــة الســفن فــي القــرن الثامــن‬ ‫ّ‬ ‫قدس عند وصولهم إلى المرافئ‬ ‫الم َّ‬ ‫عشــر يقســمون على الكتاب ُ‬ ‫طهــروا ســفنهم وغمروهــا بمــاء البحــر‪ .‬وأثنــاء المخــاوف‬ ‫أ ّنهــم ّ‬ ‫تبخــر الكتب بوضعها‬ ‫مــن مــرض الســلّ ‪ ،‬كانت المكتبــات‬ ‫العامة ّ‬ ‫ّ‬ ‫داخــل أحــواض مــن الصلــب ُمحكَ مــة اإلغــاق وغمرهــا بغــاز‬ ‫«الفورمالديهايــد»‪ .‬لكــن الكتب تلعب أيضـ ًا دور الدهان الملطِّ ف‬ ‫والســلوى‪ .‬فخــال القــرون الطويلــة التــي اجتــاح خاللهــا وبــاء‬ ‫الصحي يقرأون الكتب‬ ‫الطاعــون أوروبــا‪ ،‬كان الخاضعون للعــزل ِّ‬ ‫أمــا إن لــم تتــح لهــم‪ ،‬ولــم‬ ‫إذا حالفهــم الحـ ّ‬ ‫ـظ وتوافــرت لهــم‪ّ .‬‬ ‫يكونــوا أصحــاء بمــا فيــه الكفايــة‪ ،‬فكانوا يــروون القصــص‪ .‬هكذا‬ ‫نــرى فــي كتــاب «الديكاميــرون» ُ ِّ‬ ‫ـي «جيوفانــي‬ ‫للمؤلــف اإليطالـ ّ‬ ‫بوكاتشــيو»‪ ،‬الذي ينتمي للقرن الرابع عشــر‪ ،‬ســبع نســاء وثالثة‬ ‫رجــال يتناوبــون فيمــا بينهــم روايــة القصــص علــى مــدار عشــرة‬ ‫أيــام أثنــاء اختباءهــم مــن الطاعــون األســود‪.‬‬ ‫تتــراوح الروايــات التــي تــدور حــول األوبئــة بيــن «أوديــب ملــكاً»‪،‬‬ ‫وبيــن «مالئكــة فــي أميــركا»‪ ،‬وبيــن «أنــت الطاعــون»‪ ،‬و«أعمــى‬ ‫شــخصيات كاتــب المســرح‬ ‫يحكــي ألوديــب»‪ .‬تقــول إحــدى‬ ‫ّ‬ ‫وثمــة‬ ‫‪1986‬‬ ‫العــام‬ ‫فــي‬ ‫نحــن‬ ‫األميركــي «تونــي كوشــنر»‪« :‬هــا‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وبــاء يجتاحنــا‪ .‬أصدقــاء أصغــر منــي ســقطوا موتــى‪ ،‬ولــم أبلــغ‬ ‫ثمــة أوبئــة هنــا‪ ،‬وأوبئــة هنــاك‪ ،‬مــن‬ ‫الثالثيــن بعــد مــن عمــري»‪ّ .‬‬ ‫ومروعــة‪ ،‬لكــن مــا مــن وبــاء‬ ‫طيبــة إلــى نيويــورك‪ ،‬أوبئــة فظيعــة‬ ‫ِّ‬ ‫اإلنجليزيــة «مــاري‬ ‫الكاتبــة‬ ‫رت‬ ‫قــر‬ ‫ّ‬ ‫واحــد نــزل بالجميــع حتــى َّ‬ ‫تتمــة لروايتهــا «فرانكنشــتاين»‪.‬‬ ‫شــيلي» أن تكتــب ّ‬ ‫«الرجــل األخيــر ‪ »The Last Man‬التــي تــدور أحداثها في القرن‬ ‫تتخيل انقراض الجنس‬ ‫أول روايــة كُ برى‬ ‫الحــادي والعشــرين هي ّ‬ ‫َّ‬ ‫ٍ‬ ‫وبــاء عالمــي‪ .‬نشــرت «شــيلي» الروايــة وهــي‬ ‫البشــري بســبب‬ ‫ّ‬ ‫ـن تحبهــم‬ ‫فــي عمــر التاســعة والعشــرين‪ ،‬بعــد أن مــات كلّ َمـ ْ‬ ‫تقريبـاً‪ ،‬وبعــد أن تركوهــا حســبما تقول‪« :‬كرفــات أخيرة من عرق‬ ‫ـراوي فــي‬ ‫محبــوب؛ إ ْذ يســبقني رفاقــي إلــى االنقــراض»‪ .‬نــرى الـ ّ‬ ‫إنجليزيـ ًا فقيــر ًا وغيــر متع ِّلــم‪ :‬رجــل بدائــي‬ ‫بدايــة الكتــاب راعيـ ًا‬ ‫ّ‬ ‫ومتوحش أيضاً‪ .‬يهذبــه ويعلّمه أحد‬ ‫ـرد على القانــون‬ ‫ِّ‬ ‫عنيــف متمـ ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ويصبــح مثقَّف ـ ًا مدافع ـ ًا‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫التنوي‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫عص‬ ‫ـبب‬ ‫ـ‬ ‫بس‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫فيتر‬ ‫النبــاء‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عالمياً‪.‬‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫ومواطن‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫وجمهوري‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫الحري‬ ‫عــن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ثــم يأتــي الطاعــون فــي العــام ‪ ،2092‬ويجتــاح القســطنطينية‬ ‫أوالً‪ .‬وســنة تلــو األخــرى يغيــب الوبــاء كلّ شــتاء‪ ،‬ثــم يعــود فــي‬ ‫ّ‬ ‫ـد خبث ًا وأوســع انتشــاراً‪ ،‬وتشــرق الشــمس بلون أســود‬ ‫الربيع أشـ ّ‬ ‫عالمــة المــوت‪ .‬تكتب«شــيلي»‪« :‬ثــار ذعــر مفاجئ عبر آســيا‪ ،‬من‬ ‫ضفــاف النيل إلى شــواطئ بحر قزوين‪ ،‬ومــن الدردنيل إلى خليج‬ ‫عمــان»‪ .‬وتظــلّ طبيعــة الوبــاء غامضــة‪« :‬أطلقــوا عليــه وصــف‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪63‬‬


‫الوبــاء‪ ،‬لكــن الســؤال األكبــر ظــلّ دون جــواب بشــأن الطريقــة‬ ‫ـردد المشــرعون‬ ‫التــي نشــأ بهــا هــذا الوبــاء وكيــف تفاقــم»‪ .‬ويتـ َّ‬ ‫ـرف‪ :‬فمــن جهـ ٍ‬ ‫ـة هــم ال يفهمــون طريقــة ســريانه‪ ،‬ومن‬ ‫فــي التصـ ُّ‬ ‫جهـ ٍ‬ ‫ـة أخــرى تملؤهــم ثقــة زائفــة‪« :‬ال تــزال إنجلترا آمنة‪ ،‬ففرنســا‬ ‫وألمانيــا وإيطاليــا وإســبانيا يحولــون بيننــا وبينــه‪ .‬الجــدران التــي‬ ‫أن أمم ـ ًا‬ ‫تفصــل بيننــا وبينــه لــم ُتختــرق بعــد»‪ .‬ثــم تــرد تقاريــر ّ‬ ‫بأكملهــا ســقطت‪ ،‬ولقــي مواطنوهــا حتفهــم‪ ،‬ويلجــأ الخائفــون‬ ‫إلــى التاريــخ بعــد فــوات األوان‪ ،‬ويجــدون فــي صفحاتــه‪ ،‬بــل‬ ‫وفــي صفحــات «الديكاميــرون» أيض ـاً‪ ،‬الــدرس الخاطــئ‪« :‬لقــد‬ ‫ـد‬ ‫ـرية‪ .‬ولحـ ّ‬ ‫تذكّ رنــا طاعــون العــام ‪ 1348‬الــذي حصــد ثلــث البشـ ّ‬ ‫اآلن ال زال غــرب أوروبــا لــم تصبــه العــدوى‪ ،‬فهــل ســيظل الحال‬ ‫هكــذا دائمـاً؟» لكــن الحــال ال يظــل هكــذا دائمـاً؛ إ ْذ يحــل الوبــاء‬ ‫بإنجلتــرا فــي نهايــة المطــاف‪ ،‬لكــن آنئـ ٍ‬ ‫ـذ ال تبقــى أمــام األصحــاء‬ ‫حيــث «ال ملجــأ فــوق األرض»‪ :‬لقــد أصــاب‬ ‫جهــةٌ يقصدونهــا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الوبــاء العالــم بأكملــه!‬ ‫ـدم‪ ،‬والفزع الهائل‬ ‫ـ‬ ‫يتق‬ ‫يزال‬ ‫ال‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫التنوي‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫لعص‬ ‫كان الحلــم الكبيــر‬ ‫َّ‬

‫ٍ‬ ‫ـي يحــلُّ‬ ‫مــن انــدالع وبــاء مــا يتراجــع‪ .‬لكــن فــي األدب األميركـ ّ‬ ‫مثــل هــذا الخــراب مصحوبـ ًا بمنعطــف ديموقراطي فــي الغالب‪،‬‬ ‫تغــدو فيــه العــدوى أداة المســاواة األخيــرة‪ .‬تــدور الحكايــة التي‬ ‫كتبهــا «إدجــار أالن بــو» فــي العــام ‪ 1842‬بعنــوان‪« :‬حفــل الموت‬ ‫األحمــر التنكــري ‪ »The Masque of the Red Death‬في عالم‬ ‫ـرض ُمعـ ٍ‬ ‫قروســطي موبــوء بمـ ٍ‬ ‫ـد يقتــل علــى الفــور تقريبـاً‪ .‬يكتــب‬ ‫«بــو»‪« :‬كانــت البقــع القرمزيــة التــي تنتشــر بالجســد‪ ،‬وال ســيما‬ ‫بوجــه الضحيــة‪ ،‬هــي عالمــة اإلصابــة بالعــدوى التــي تمنــع عنــه‬ ‫النجــدة‪ ،‬بــل وتعاطــف رفاقــه مــن البشــر»‪ .‬وبشــكلٍ خــاص‪ ،‬ال‬ ‫يتعاطــف األثريــاء مــع الفقــراء‪ ،‬فنــرى أميــر ًا متغطرسـ ًا يلجأ إلى‬ ‫جانــب حاشــيته مــن النبــاء والنســاء لالعتــزال فــي قلــب إحــدى‬ ‫قــاع األميــر المشــيدة‪ ،‬وهنــاك يعيشــون فــي تـ ٍ‬ ‫ـرف فاســد إلــى‬ ‫أن تصــل فــي إحــدى األمســيات التــي ُيقــام فيهــا حفــلٌ تنكــري‪،‬‬ ‫ـد كبيــر مالمــح‬ ‫شـ‬ ‫ـخصية تلبــس قناعـاً‪« :‬مصنــوع كــي ُيشــبه لحـ ٍّ‬ ‫ّ‬ ‫ـن يدقــق فيهــا عــن كثــب عــن اكتشــاف‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـز‬ ‫ـ‬ ‫يعج‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫متيبس‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫جث‬ ‫َ ْ‬ ‫ـن‬ ‫الخــداع»‪ .‬الزائــر هــو المــوت األحمــر بنفســه‪ ،‬ويلقــى كلّ َمـ ْ‬ ‫ـث تخفــق طبقــة النبــاء في‬ ‫فــي القلعــة موتهــم تلــك الليلــة‪ ،‬حيـ ُ‬ ‫اإلفــات ممــا يضطــر الفقــراء إلــى مالقاتــه‪.‬‬ ‫ـول مــوت «بــو» األحمــر إلــى وبـ ٍ‬ ‫ـاء فــي روايــة «جــاك لنــدن»‬ ‫يتحـ َّ‬ ‫«الطاعــون القرمــزي ‪ »The Scarlet Plague‬التــي صــدرت‬ ‫ـول كامــل‬ ‫مسلســلة فــي العــام ‪( .1912‬نفــس المــرض حيـ ُ‬ ‫ـث يتحـ َّ‬ ‫الوجــه والجســد إلــى اللــون القرمــزي فــي غضــون ســاعة)‪ .‬حــلّ‬ ‫الوبــاء فــي العــام ‪ ،2013‬وانمحــت كلّ البشــرية تقريبـاً؛ الثــري‬ ‫القويــة والضعيفــة فــي كافــة أرجــاء العالــم‪،‬‬ ‫والفقيــر‪ ،‬األمــم‬ ‫ّ‬ ‫ـردهم بالتســاوي‪ .‬مــن‬ ‫ـ‬ ‫وتش‬ ‫ـهم‬ ‫ـ‬ ‫بؤس‬ ‫ـمون‬ ‫ـ‬ ‫يقتس‬ ‫و ُتــرك الناجــون‬ ‫ُّ‬ ‫ـم فــي جامعــة‬ ‫ـ‬ ‫عال‬ ‫ـاء‬ ‫ـ‬ ‫الوب‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـت‬ ‫ـ‬ ‫نج‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الت‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫القليل‬ ‫بيــن الفئــات‬ ‫ٌ‬ ‫حيــث كان يعمــل أســتاذ ًا لــأدب‬ ‫بيركلــي‪،‬‬ ‫بمدينــة‬ ‫كاليفورنيــا‬ ‫ُ‬ ‫ـزي‪ ،‬اختبــأ داخــل مبنــى الكيميــاء حيــن عصــف الوبــاء‬ ‫اإلنجليـ ّ‬ ‫أن لديــه مناعــة ضــد المــرض‪ .‬وهكــذا يعيــش‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫وتبي‬ ‫ّ‬ ‫بــاألرض‪ّ ،‬‬ ‫وحيــد ًا داخــل فنــدق قديــم فــي «يوســميتي» مســتفيد ًا مــن‬ ‫المع َّلــب‪ ،‬إلــى أن ينضــم إلــى فريــق‬ ‫متاجرهــا الممتلئــة بالطعــام ُ‬ ‫صغيــر ويعثــر بينهــم علــى زوجــة‪ .‬نــرى األســتاذ فــي مســتهل‬ ‫الروايــة التــي تبــدأ أحداثهــا فــي العــام ‪ ،2073‬وقــد أصبــح رجـ ً‬ ‫ا‬ ‫عجــوز ًا يعمــل راعيـ ًا يلبــس ويعيــش كأنــه حيــوان‪ .‬يــروي قصــة‬ ‫يرددون كلمات‬ ‫الطاعون القرمزي ألحفاده وأبنائه الذين‪« :‬كانوا ِّ‬ ‫تتأ َّلــف مــن مقطــع واحد وعبارات متشــنجة قصيــرة أغرب من أن‬ ‫تكــون لغــة»‪ ،‬لكنهــم بارعــون فــي اســتخدام األقواس والســهام‪.‬‬ ‫فيتنهــد ويلقي بنظره‬ ‫بالغم‪،‬‬ ‫ُتصيــب بدائيتهــم األســتاذ الجامعي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫عبــر مــا كان فــي الســابق مدينــة ســان فرانسيســكو‪.‬‬ ‫ـرف الروايــة يوم ـ ًا بأ ّنهــا المــكان ا ّلــذي‬ ‫كان «ألبيــر كامــو» قــد عـ ّ‬ ‫ٍ‬ ‫أما روايــات األوبئة‬ ‫ـن‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫آخري‬ ‫ر‬ ‫ـ‬ ‫بش‬ ‫لصالح‬ ‫نتخ ّلــى فيــه عــن البشــر‬ ‫ّ‬ ‫فهــي المــكان الــذي يتخ ّلــي فيــه البشــر عــن كلّ البشــر‪ ،‬فعلــى‬ ‫ـث يمكن أن يكون‬ ‫خــاف أنــواع روايــات نهايــة العالم األخرى‪ ،‬حيـ ُ‬ ‫العــدو مــاد ًة مــا كيميائيــة أو بركانـ ًا أو زلــزا ً‬ ‫ال أو غازيـ ًا مــن كوكب‬ ‫ـان آخــر‪ :‬لمســات أو أنفــاس بشـ ٍر‬ ‫ـإن العــدو هنــا هــو إنسـ ٌ‬ ‫آخــر‪ ،‬فـ ّ‬ ‫آخريــن‪ ،‬وفــي كثيــر مــن األحيــان‪ -‬فــي معــرض التنافــس علــى‬ ‫ـرد وجــود بشــر آخريــن‪ ■ .‬جيــل ليبــور‬ ‫المــوارد المتناقصــة‪ُ -‬مجـ َّ‬

‫‪۹‬‬

‫‪64‬‬

‫ترجمــة‪ :‬مجــدي عبــد المجيــد خاطــر (مصــر)‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫المصدر‪:‬‬ ‫مجلّة ‪ The New Yorker‬عدد ‪ 30‬مارس ‪.2020‬‬ ‫* «جيل ليبور ‪ »Jill Lepore‬هي أستاذ التاريخ األميركي بجامعة هارفارد‪ .‬حصدت‬ ‫كتبهــا العديــد من الجوائــز‪ ،‬وتصدر هذا العام كتابها الرابع عشــر بعنوان‪:‬‬ ‫‪If Then: How the Simulmatics Corporation Invented the Future.‬‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬


‫تُبهر العالم بتنبؤاتها‬ ‫أثارت رواية «عيون‬ ‫الظالم»‪ ‬للروايئ‪ ‬دين‬ ‫راي‪ ‬كونتز‪ ،‬الكثري من‬ ‫الكالم‪ ،‬ومألت مواقع‬ ‫التواصل االجتماعي‬ ‫وشغلت خيال‬ ‫املهتمني بنظريات‬ ‫املؤامرة؛ كيف ال وقد‬ ‫تنبأت منذ ما يقرب‬ ‫من أربعني سنة بما‬ ‫نعيشه نحن اآلن‬ ‫بسبب هذه الجائحة‬

‫حبــل األدب األميركــي بروايــات اتخــذت مــن األوبئــة والجوائــح‬ ‫َي ْ‬ ‫موضوعــ ًا لهــا؛ ومــن ذلــك علــى ســبيل المثــال رواية‪ ‬الطاعــون‬ ‫القرمزي‪( ‬الصادرة‪ ‬سـ�ن ة ‪ )1912‬للكاتــب «جــاك لنــدن‪Jack Lon� ‬‬ ‫‪ »don‬تجري‪ ‬أحــداث هــذه الروايــة االستشــرافية فــي ســنة ‪2073‬؛‬ ‫حمــى نزفيــة عالميــة قــد انتشــرت كالنار في الهشــيم‬ ‫حيــث كانــت ّ‬ ‫منــذ ســنة ‪ ،2013‬حتــى إنهــا قضــت علــى أغلــب ســكّ ان المعمــور‪.‬‬ ‫لذلــك ســيصبح هــذا الطاعــون بمثابة‪ ‬واقعــة تاريخيــة فارقــة‪،‬‬ ‫يتخذهــا مــن نجــى منــه كفاصــل بيــن عالــم مــا قبــل الطاعــون؛‬ ‫والمتحضــر‪ ،‬وعالــم مــا بعــد الطاعــون‪ ،‬العالــم‬ ‫ـدن‬ ‫ّ‬ ‫العالــم المتمـ ّ‬ ‫والتطور‬ ‫ـي‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫المعرف‬ ‫م‬ ‫والتقد‬ ‫ـانية‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫اإلنس‬ ‫ـارة‬ ‫ـ‬ ‫الحض‬ ‫فيه‬ ‫الــذي تــكاد‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫المجتمعــي أن يندثــر؛ فيحــاول مــن تب ّقــى إنقــاذ ما يمكــن إنقاذه‪،‬‬ ‫حتــى وإن كان مــا يتذكَّ رونــه عــن عالــم مــا قبــل الطاعــون يبــدو‬ ‫ـرد َو َهــم (فالطاعــون حســب الروايــة انتشــر فــي‬ ‫لهــم وكأنــه مجـ َّ‬ ‫األرض لحوالــي ســتين ســنة)‪ .‬يأخــذ أســتاذ عجــوز علــى عاتقــه‬ ‫مهمــة ضمــان اســتمرارية الحضــارة اإلنســانية وإحيــاء ثقافتهــا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مــن خــال مــا كان‪ ‬يحكيه‪ ‬مــن ذاكرته‪ ‬لألطفــال الصغــار؛ عــلَّ‬ ‫اإلنســانية تنبعــث مــن رمادها‪ .‬‬ ‫ولــم تنفك روايات مواطنه‪« ‬ســتيفن كينــغ‪ُ »Stephen King ‬تبهر‬ ‫ـدة حــول أن العالــم‬ ‫ـرات عـ ّ‬ ‫العالــم بتنبؤاتهــا التــي تمحــورت فــي مـ َّ‬ ‫مدمــر ًا يأتــي علــى األخضــر واليابــس‪.‬‬ ‫سيشــهد ال محالــة وبــاء ِّ‬ ‫المؤامرة‪ ،‬وعمليــات‬ ‫ويميل‪« ‬كينغ»‪ ‬علــى العمــوم إلــى نظريــات‬ ‫ّ‬ ‫المحرمــة‪ .‬وتمثِّــل‬ ‫والتجــارب‬ ‫التصنيــع المخبــري للفيروســات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫روايتــه الشــهيرة‪ ‬اآلفة أو المواجهــة ـــ‪( ‬الصادرة‪ ‬ســنة‪ )1978 ‬أبرز‬ ‫نمــوذج فــي هــذا المجــال؛ حيــث يــرى أن‪ ‬نهايــة العالم‪ ‬ســتكون‬ ‫لعمليات تعديل داخل المختبرات‬ ‫بســبب فيروس إنفلونزا خضع‬ ‫ّ‬ ‫العســكرية حتــى يكــون ســاح ًا بيولوجي ـ ًا يوظّ ــف فــي الحــروب‪،‬‬ ‫تقني‪ ‬سيتفشــى هــذا الفيــروس فــي العالــم‪،‬‬ ‫وبســبب خطــأ‬ ‫ّ‬ ‫حتــى إنــه ســيقضي علــى مــا يفــوق ‪ 99‬فــي المئــة مــن ســكّانه‪،‬‬ ‫رغــم كلّ إجــراءات العــزل والحجــر الصحــي وتقييــد الحركــة‬ ‫واالعتقاالت‪ .‬يصــور «كينــغ» فــي هــذه الروايــة فنــاء العالــم الــذي‬ ‫ّ‬ ‫نعرفــه ليحــلّ معــه نظــام عالمــي جديــد يقــوم على أســاس البقاء‬ ‫ـم أولئــك الذيــن حباهــم اللــه بمناعــة‬ ‫لألقــوى؛ واألقــوى هنــا هـ ّ‬ ‫طبيعيــة تجــاه هــذا الوبــاء‪ .‬ولعــلّ أهــم مــا تحــاول هــذه الروايــة‬ ‫ـدة أخــرى التأكيــد علــى األنانيــة‬ ‫تعبــر عنــه مــن ضمــن قضايــا عـ ّ‬ ‫أن ِّ‬ ‫التــي ُج ِبــل اإلنســان‪ ‬عليها؛ إذ ال يفكِّ ــر فــي ســاعات الشــدة ّإل فــي‬ ‫نفســه‪ ،‬وفــي نفســه فقــط‪ ،‬حتــى وإن كان فــي ذلك دمار البشــرية‬ ‫جمعاء‪ .‬رواية‪ ‬تصور‪ ‬ضعف النفس البشــرية‪ ،‬وهشاشــة اإلنســان‬ ‫إزاء الكــوارث‪ ،‬وأنانيــة بعــض األنظمــة‪ ،‬ومــا قد ينتج عــن التجارب‬ ‫المحرمــة من ســيناريوهات مرعبة‪ .‬‬ ‫ّ‬ ‫وال يمكــن لمــن يباشــر الحديــث عن عالقــة األدب باألوبئــة والتنبؤ‬ ‫بوقوعهــا‪ ،‬الســيما في زمن تفشــى فيه فيــروس كورونا في مختلف‬ ‫بلــدان العالــم‪ ،‬أال يســتحضر رواية‪ ‬عيــون الظالم‪ ‬للروائي‪« ‬ديــن‬ ‫راي‪ ‬كونتــز‪( »Dean Ray Koontz ‬الصادرة‪ ‬ســنة‪ ،)1981 ‬والتــي‬ ‫أصبحــت أشــهر مــن نــار علــى علــم‪ .‬ال يهمنــا هنــا هــل مــا جــاء‬ ‫فــي الروايــة مــن أحــداث هــو نبــوءة أم مصادفــة‪ ،‬أم معلومــات‬ ‫ســرية عرفهــا الكاتــب بطريقــة مــا‪ ،‬ال يهمنــا إن كان مــا كتبــه قــد‬

‫أوحــى ألحدهــم فيمــا بعــد بتصنيع فيروس ونســبه إلــى الصين‪...‬‬ ‫كلّ هــذه األمــور ال تهمنــا؛ ألن األهــم مــن الناحيــة األدبيــة أن هذه‬ ‫ـور ًا لمــا يمكــن أن يحــدث فــي حال مــا إذا فكَّ ر‬ ‫الروايــة وضعــت تصـ ّ‬ ‫أحدهــم فــي تصنيــع فيــروس في إطــار التحضيــر لحــرب بيولوجية‬ ‫مرتقبــة‪ .‬ورغــم أن الروايــة تشــير صراحــة بأصابع االتهــام للصين‪،‬‬ ‫ـم أحداثهــا‪،‬‬ ‫مــن خــال جعــل مدينة‪ ‬ووهان‪ ‬الصينيــة مســرح ًا ألهـ ّ‬ ‫ورغــم أن الفيــروس المص َّنــع فــي حــد ذاته‪ ‬كان‪ ‬يحمــل اســم‬ ‫ـان‪ ،»400 ‬إل أن الحقيقــة تبقــى ضائعــة‪ .‬لقــد أثــارت هــذه‬ ‫«ووهـ‬ ‫ّ‬ ‫الروايــة الكثيــر مــن الــكالم‪ ،‬ومــأت مواقــع التواصــل االجتماعــي‬ ‫وشــغلت خيــال المهتمين بنظريــات المؤامرة؛ كيــف ال وقد تنبأت‬ ‫منــذ مــا يقــرب مــن أربعيــن ســنة بمــا نعيشــه نحــن اآلن بســبب‬ ‫هــذه الجائحــة‪ ،‬مــع وجــود بعــض االختالفــات بالطبــع‪ ،‬إن علــى‬ ‫مســتوى مــدة حضانــة الفيــروس‪ ،‬أو درجــة شراســته‪ ،‬أو حتــى‬ ‫الحيثيــات التــي أحاطــت بظهوره وتفشــيه‪ .‬‬ ‫وعلــى الضفــة األخــرى‪ ،‬عــرف اإلنتــاج الروائــي األوروبــي‬ ‫مــر التاريــخ اهتمامــ ًا كبيــر ًا باألوبئــة والجوائــح؛‬ ‫علــى‬ ‫ّ‬ ‫ولعــلّ أولــى المحــاوالت الخالــدة فــي هــذا المجــال‬ ‫مجموعة‪ ‬الديكاميرون‪ ‬لإليطالي‪ « ‬جيوفاني‪ ‬بوكاتشـ�ي‪ ‬و �‪Gio‬‬ ‫‪( »vanni Boccaccio‬ألَّفهــا خــال الفتــرة الممتــدة مــن ســنة‬ ‫ـون‬ ‫‪ 1349‬إلــى ســنة ‪ .)1353‬فعلــى غــرار «ألــف ليلــة وليلــة»‪ ،‬تتكـ َّ‬ ‫هــذه المجموعــة مــن حكايــة إطــار وحكايات‪ ‬مؤطرة‪ ‬عددهــا مئــة‬ ‫حكايــة‪ ،‬يتك َّفــل عشــرة أفــراد بروايــة عشــر حكايــات لــكلّ واحــد‬ ‫فضلــوا االنعــزال فرار ًا‬ ‫منهــم‪ ،‬مــن أجــل تزجيــة الوقت؛ ذلــك أنهم َّ‬ ‫أمــا الحكايــة اإلطــار‪،‬‬ ‫مــن الطاعــون الــذي حــلّ بمدينــة فلورانســا‪ّ .‬‬ ‫فتحكــي عــن الطاعــون‪ ،‬أو المــوت األســود‪ ،‬الــذي فجــع المدينــة‬ ‫اإليطاليــة‪ ،‬ومــا خلَّفــه مــن ضحايــا يفوقــون الوصــف‪ .‬لقــد اتخــذ‬ ‫«بوكاتشــيو» مــن الوبــاء ذريعــة من أجــل الحكــي‪ ،‬وكأن االنعزال‪،‬‬ ‫أو الحجــر الصحــي‪ ،‬مناســبة مــن أجــل الغــوص فــي الــذات مــن‬ ‫ـرف علــى الــذات‬ ‫جهــة‪ ،‬واالنفتــاح علــى اآلخــر أيضـاً؛ مناســبة للتعـ ُّ‬ ‫ـرف علــى‬ ‫ـ‬ ‫للتع‬ ‫فــي مــرآة كلّ مــن األنــا واآلخــر‪ ،‬ومناســبة كذلــك‬ ‫ُّ‬ ‫المختلــف واالســتفادة منــه‪ .‬الجائحة إذا كانــت واقعاً‪ ،‬فهي تفرض‬ ‫التعرف على الذات‪،‬‬ ‫المواجهــة؛ وأولى خطوات المواجهــة تقتضي‬ ‫ُّ‬ ‫فاآلخــر‪ ،‬ثــم االنخــراط فــي مسلســل البناء بعــد مــرور العاصفة‪ .‬‬ ‫وفــي روايته‪« ‬الحجــر الصحي»‪( ‬الصــادرة ســنة ‪)1995‬‬ ‫أبدع‪ ‬الروائــي الفرنســي‪« ‬جون ماري‪ ‬لوكليزيــو‪Jean-Marie ‬‬ ‫‪ »Le Clézio‬الحاصــل علــى جائــزة نوبــل لــآداب‪ ،‬فــي وصــف مــا‬ ‫الرواية‪ ‬قصــة أخويــن علــى متن‬ ‫يعانيــه مــن يكــون بداخلــه‪ .‬تحكــي‬ ‫ّ‬ ‫ســفينة فــي اتِّجــاه موطنهمــا‪ ،‬غيــر أنــه فــي لحظــة تو ّقــف مؤ َّقــت‬ ‫للســفينة فــي مينــاء زنجبار‪ُ ،‬تكتشــف إصابــة فردين من مســافريها‬ ‫بالجــدري؛ وهــو ما جعــل الســلطات المحلّية تفــرض عليهم حجر ًا‬ ‫ـمى‪ .‬يحــاول الروائــي أن ينقــل لنــا فــي‬ ‫صحيــا إلــى أجــل غيــر مسـ ّ‬ ‫نفــس اآلن معانــاة المصابيــن بالوبــاء‪ ،‬وخــوف المعزوليــن بالقوة‪:‬‬ ‫مــن الوبــاء‪ ،‬من المكان المحتجزين فيه‪ ،‬ومن المســتقبل المظلم‬ ‫والغامــض‪ .‬ولكــن رغــم ذلك‪ ،‬حــاول أحد األبطال أن يوجد لنفســه‬ ‫وســط هــذا الفضــاء الكارثــي الباعــث علــى التشــاؤم فســحة أمــل‬ ‫وفرجة‪ ‬تفــاؤل مــن خالل انغماســه فــي التم ّتع بالمناظــر الطبيعية‬ ‫لقصــة‬ ‫المبهــرة المحيطــة بــه‪ ،‬وأيضـ ًا مــن خــال تذكّ ــره الســعيد ّ‬ ‫عالقتــه مــع محبوبتــه‪.‬‬

‫يف األدب العربي‪ ‬‬ ‫إمــا بطريقة‬ ‫لــم يخــل األدب العربــي مــن إشــارات إلــى األوبئــة‪ّ ،‬‬ ‫عابــرة مثلمــا نجــد مثــ ً‬ ‫ا فــي ملحمة‪ ‬الحرافيش‪( ‬الصــادرة‬ ‫ســنة ‪ )1977‬لـ‪« ‬نجيــب محفوظ»‪( ‬حيــث استشــرى وبــاء فتــك‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪65‬‬


‫بالمصرييــن وأمعــن فيهــم قتــ ً‬ ‫ا وتنكيالً‪ ‬باســتثناء البطــل‬ ‫«عاشــور الناجــي»‪ ،‬لتبــدأ األحــداث الفعليــة للروايــة)‪ ،‬أو فــي‬ ‫ثالثية‪ ‬األيام‪( ‬الصــادرة ســنة‪ )1929 ‬لـ‪« ‬طــه حسين»‪( ‬التي‪ ‬أشــار‬ ‫األول إلــى انتصــار وبــاء الكوليــرا فــي مســقط‬ ‫فــي جزئهــا ّ‬ ‫رأســه‪ ،‬وكيــف أنــه فجعهــم فــي أخيــه)‪ ...‬وإمــا بجعــل الوبــاء‬ ‫أســاس الحكــي الروائــي‪ ،‬مثلمــا نجد‪ ‬علــى ســبيل التمثيل‪ ‬فــي‬ ‫رواية‪« ‬إيبوال‪( »76 ‬الصــادرة ســنة‪ )2012 ‬لـ«أمير تــاج الســر»‪.‬‬ ‫تحكــي الروايــة مــن بيــن مــا تحكيــه فظاعــة وشراســة وبــاء‬ ‫إفريقــي بامتيــاز‪« :‬إيبــوال» الــذي حصــد آالف األرواح وشــ َّتت‬ ‫أهــم المحــاوالت فــي هــذا‬ ‫شــمل مئــات األســر‪ .‬وتبقى مــن‬ ‫ّ‬ ‫(ابتداء‪ ‬مــن ‪ )1996‬للمرحوم‪« ‬أحمــد‬ ‫البــاب‪ ،‬سلســلة «ســفاري»‬ ‫ً‬ ‫خصــص رواياتهــا بالكامــل للحديــث عــن‬ ‫خالــد توفيق»‪ ،‬التــي ّ‬ ‫ـمراء‪ .‬بيد أنــه فــي تضاعيــف‬ ‫المشــكالت الطبيــة فــي القــارة السـ‬ ‫ْ‬ ‫المتعددة‪ ،‬يفاجئنــا أحياناً‪ ‬بقدرته الغريبة على‬ ‫حبكاتــه الروائيــة‬ ‫ِّ‬ ‫التنبــؤ والتو ُّقــع فــي مجــال ظهــور األوبئــة والجوائح؛‪ ‬لذلــك ِ‬ ‫ذُكر‬ ‫خاصــة فــي العالــم‬ ‫اســمه بقــوة بعــد انتشــار جائحــة كورونــا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫العربي‪ .‬يقول‪ ‬في‪ ‬أحد‪ ‬أعــداد سلســلته‪« :‬الكابوس الــذي يطارد‬ ‫علمــاء الفيروســات فــي العالــم ك ّلــه هــو أن يعود‪ ‬وباء‪ ‬إنفلونــزا‬ ‫عــام ‪ 1918‬الــذي أطلقــوا عليــه اســم (الوبــاء اإلســباني) إلــى‬ ‫الظهــور‪ .‬لقــد فتــك هــذا الوبــاء بثالثيــن مليونـ ًا مــن البشــر؛ أي‬ ‫أكثــر مــن ضحايــا الحــرب العالميــة األولى»‪ .‬ولعــلّ مــا يجعلنــا‬ ‫نقــف مبهوتين‪ ‬أمام‪ ‬هــذا االستشــراف‪ ،‬هــو إشــارته‪ ‬الغريبة‬ ‫المريعــة ّإل مــن‬ ‫هذه‪« :‬لهــذا ال نســمع عــن أوبئــة اإلنفلونــزا ُ‬ ‫جنــوب شــرق آســيا‪ ،‬حتــى صــار للفظــة (إنفلونــزا آســيوية)‪ ‬رنين‬ ‫يذكرنــا بلفظــة (طاعون)‪ ]...[ ‬الوبــاء الحقيقــي المرعــب قــادم ال‬ ‫ـك فيــه‪ ،‬ســيبدأ‪ ‬من مــكان مــا فــي الصيــن‪ ‬أو هونــج كونــج‪...‬‬ ‫شـ ّ‬ ‫ســاعتها لــن يكــون لنــا أمــل ّإل فــي رحمــة اللــه‪ ،‬ثــم البيولوجيــة‬ ‫الجزيئيــة وســرعة تركيــب اللقــاح»‪ ■ .‬نبيل‪ ‬موميــد (المغــرب)‬

‫‪66‬‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫تزدهر ثم تختفي‬

‫قصص الخوف‬ ‫والبطوالت‬ ‫روايــات األوبئــة‪ ،‬مثــل األوبئــة‪ ،‬تزدهــر ثــم تختفــي‬ ‫ضمــن موجــات متعاقبــة‪ .‬يف السـ ِّتينات‪ ،‬ظهــر فيلــم‬ ‫«ساللة أندروميدا ‪،»The Andromeda Strain -‬‬ ‫ملايــكل كريشــتون‪ .‬وشــهدت فــرة الســبعينيات‬ ‫وقدم‬ ‫نجاحـ ًا الفتـ ًا لفيلم «املوقف» لســتيفن كينج‪ّ .‬‬ ‫«التفش» يف الثامنينات‪ .‬وبحلول‬ ‫روبن كوك فيلم‬ ‫ّ‬ ‫سنوات ‪« ،2000‬الحرب العاملية» ملاكس بروكس‪،‬‬ ‫و«دليــل البقــاء عــى قيــد الحيــاة يف الزومبــي»‪ .‬يف‬ ‫‪ ،2014‬هيمنــت إميــي ســانت جــون مانــدل‪ ،‬بفيلمهــا‬ ‫ّ‬ ‫يسمى‬ ‫«املحطة الحادية عرش» حول طاعون مميت ّ‬ ‫«أنفلونــزا جورجيــا»‪ ،‬عــى قوائــم الجوائــز‪ ،‬وحصلت‬ ‫عــى اعــراف واســع النطــاق‪.‬‬ ‫مــع فيــروس كورونــا‪ ،‬فــي األذهــان‪ ،‬يمكــن أن تكــون قــراءة الكتب‬ ‫فكرياً‪ .‬بالنســبة‬ ‫إمــا تجربة مخيفة‪ ،‬أو تجربة رائعة‬ ‫ّ‬ ‫حــول األوبئــة‪ّ ،‬‬ ‫ـراء فــي الفئــة األخيــرة‪ ،‬تقــول ســيلفيا مورينــو غارســيا‪،‬‬ ‫إلــى القـ ّ‬ ‫مؤلّفــة روايــات «آلهة اليشــم والظلّ »‪ ،‬و«إشــارة إلــى الضوضاء»‪،‬‬ ‫«شــاطئ بــا ترويــض»‪ :‬علــى الرغــم مــن أن الزومبي أصبــح مرادف ًا‬ ‫للوبــاء‪ ،‬هنــاك عــدد مــن الروايــات التــي تتج َّنــب هــذه العــدوى‬ ‫الشــائعة‪ .‬نفــدت روايــة «أغنيــة الناجين» لبول ترمبالي‪ ،‬في شــهر‬ ‫يوليــو الماضــي‪ ،‬وهــي تتع ّلــق بفيــروس يشــبه داء الك َلــب‪ ،‬مــع‬ ‫تحدثت إليــه في مؤتمر بوســكون‪،‬‬ ‫فتــرة حضانــة قصيــرة‪ .‬وعندمــا َّ‬ ‫الممرضــة‪ ،‬ســاعدته فــي صياغــة أفــكاره حــول‬ ‫أخبرنــي أن أختــه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الصح ّيــة فــي ماساتشوســتس‪ ،‬مع مثل‬ ‫كيفيــة تعامــل الخدمــات‬ ‫ِّ‬ ‫ـوج عمــل بــول بوصفــه «أفضل عمــل رعب‬ ‫هــذا الســيناريو‪ ،‬كمــا ُتـ ِّ‬ ‫جديد»‪.‬‬ ‫وفــي الســياق نفســه‪ ،‬تقــول الفــي تيدهــار‪ ،‬مؤلّفــة العديــد مــن‬ ‫الروايــات‪ ،‬بما فــي ذلك «القرن العنيــف»‪ ،‬و«المحطّ ة المركزية»‪،‬‬ ‫المقدســة»‪« :‬لقــد أحببــت فيلــم «بونتيبــول»‪،‬‬ ‫و«األرض غيــر‬ ‫َّ‬ ‫المقتبــس مــن الروايــة‪ .‬ظهــر فيــروس اللّغــة‪ ،‬بالطبــع‪ ،‬فــي‬ ‫وقــت ســابق‪ ،‬فــي كتــاب «تحطُّ ــم الثلــج» لنيــل ستيفنســون‪،‬‬ ‫وهــو الكتــاب الــذي ينهــي حقبــة عصــر اإلنترنــت‪ ،‬لكــن الرواي َت ْيــن‬ ‫ال تختلفــان‪ .‬إحــدى الروايــات التــي ذكرتهــا هــي ملحمــة كيــم‬ ‫ســتانلي روبنســون «ســنوات األرز والملــح»‪ .‬وقــد رجعــت إلــى‬ ‫الــوراء‪ ،‬إلــى أحــداث «المــوت األســود» فــي القــرن الرابــع عشــر‪،‬‬ ‫تتخيــل أنــه ســيقتل الجميــع‪،‬‬ ‫كنقطــة انطــاق لروايتهــا‪ ،‬لكنهــا‬ ‫ّ‬ ‫تقريب ـاً‪ ،‬فــي أوروبــا‪ .‬وفــي الســياق ذاتــه‪ ،‬أثــارت الروائيــة نقطــة‬ ‫مهمة بالنســبة إلى مســتقبل البشــرية‪ :‬مع تكرار لغة الفيروســات‬ ‫ّ‬ ‫واإلصابات واالنتقال الســريع واســع النطاق في أنظمتنا الرقمية‪،‬‬ ‫هــل أصبحنــا عرضــة لشــكل جديــد مــن الوبــاء؟ وبمــا أننــا أصبحنا‬


‫يف روايات األوبئة‪،‬‬ ‫يظهر املرض كخطر‬ ‫داهم عىل املجتمع‪،‬‬ ‫لكنه يؤثّر حىت يف‬ ‫غري املصابني‪ .‬ومن‬ ‫الصعب قراءة ٍّ‬ ‫أي من‬ ‫هذه الروايات‪ ،‬دون‬ ‫التفكري يف واقع عاملنا‬ ‫املعارص‬

‫أكثــر تكامـ ً‬ ‫ا مــع أجهزتنــا الرقميــة‪ ،‬هــل أصبحنــا عرضــة للخطر‪،‬‬ ‫بشــكل أكبــر؟ ماذا لــو أصبحت‪ ،‬حتــى المنازل والســيارات وحتى‬ ‫المفاعــات النوويــة‪ ،‬تســقط فريســة للعــدوى الخبيثــة؟‬ ‫أمــا «ديكاميــرون ‪ ،»The Decameron -‬وهــي مجموعة قصص‬ ‫ّ‬ ‫لإليطالــي جيوفانــي بوكاتشــيو‪ ،‬فقــد «كانــت بمثابــة التريــاق‬ ‫للطاعــون الــذي أهلــك المدينــة فــي ذلــك الوقــت بحكاياتهــا‬ ‫ـب والفكاهــة واإلثــارة‪ .‬يغــادر عشــرة صغــار ( ســبعة‬ ‫عــن الحـ ّ‬ ‫منهــم نســاء‪ ،‬وثالثــة رجــال) مدينة فلورنســا‪ ،‬حوالي عــام ‪،1350‬‬ ‫أما «مجلّة‬ ‫وســاحهم القصــص بوصفها مالذ ًا للمــوت‬ ‫ِّ‬ ‫المتربص‪ّ .‬‬ ‫اليوميــات الوهمية التي كتبها‬ ‫عــام الطاعــون»‪ ،‬لدانييــل ديفو‪ ،‬أو‬ ‫ّ‬ ‫قرر البقــاء في لندن التــي م َّزقها‬ ‫أحــد صانعــي الســروج‪ ،‬بعــد أن َّ‬ ‫ِ‬ ‫الطاعــون فــي عــام ‪ ،1665‬فقــد كُ تبــت بمنهجيــة ود ّقــة عاليــة‪،‬‬ ‫ويمكــن القــول إنهــا روايــة صحافيــة عــن الطاعــون الدبلــي فــي‬ ‫عام‪ ،‬األغنياء‬ ‫العاصمــة اإلنجليزيــة‪ .‬وفي جميع األوبئة‪ ،‬بشــكل ّ‬ ‫أول مــن يغــادر المدينــة‪ .‬يالحــظ ديفــو ذلــك فــي مذكِّ راتــه‪،‬‬ ‫هــم َّ‬ ‫واصفــ ًا الخــدم الذيــن يســاعدون النبــاء وعبيدهــم للخــروج‪،‬‬ ‫بســرعة‪ ،‬إلــى الريــف‪ ،‬بعيــد ًا عــن آالم الوبــاء‪.‬‬ ‫وفــي الفصــل (‪ )28‬مــن «المخطوبــون»‪ ،‬الروايــة التاريخيــة‪،‬‬ ‫لإليطالــي ألســاندرو مانزونــي‪ ،‬يصــف األخيــر ردود فعــل ســكّ ان‬ ‫ـم احتجــاز المصابيــن فــي‬ ‫ميالنــو تجــاه الطاعــون‪ ،‬عــام ‪ .1648‬يتـ ّ‬ ‫قبض على‬ ‫وي‬ ‫ـدوى‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫الع‬ ‫كبح‬ ‫جنــاح الجــذام‪ ،‬فــي المدينة‪ ،‬بهــدف‬ ‫ُ َ‬ ‫أكثــر مــن ‪ 10‬آالف (بيــن رجــل وامــرأة وطفــل) فــي جميــع أنحــاء‬ ‫ـم عزلهــم فــي (‪ )288‬غرفة‪ ،‬وليس من المســتغرب‬ ‫المدينــة‪ ،‬ويتـ ّ‬ ‫أن ُيقضــى عليهــم هناك‪ .‬أُغلقت المتاجر‪ ،‬وأفرغت المصانع‪ ،‬في‬ ‫يومياً‪.‬‬ ‫الوقــت الــذي يمــوت فيه ‪ 100‬أو أكثر في ســجن الطاعون‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ومــن أشــهر الروايــات‪ ،‬فــي هــذا البــاب‪ ،‬نذكــر «الطاعــون ‪La -‬‬ ‫قصــة أكثــر حداثــةً مــن الخيــال‬ ‫‪ ،»Peste‬أللبــرت كامــو‪ ،‬وهــي ّ‬ ‫ـاب جــان تــارو‬ ‫ـ‬ ‫والش‬ ‫ـو‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ري‬ ‫ـارد‬ ‫ـ‬ ‫برن‬ ‫الوبائــي‪ ،‬بطالهــا همــا‪ :‬الطبيــب‬ ‫ّ‬ ‫الــذي يحتفــظ بســجلّ دقيــق‪ ،‬لألحــداث‪ ،‬زمــن انتشــار المــرض‪.‬‬ ‫حالياً‪ ،‬أمرت الســلطات‬ ‫علــى غــرار الحكومة الصينية في ووهان‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الفرنســية‪ ،‬آنــذاك‪ ،‬بتطويــق مدينــة وهــران الموبــوءة‪ ،‬وأجبــرت‬ ‫الســكّ ان علــى مالزمــة منازلهــم لمنــع انتشــار الطاعــون‪.‬‬ ‫وفــي الروايــة‪ ،‬أيضـاً‪ ،‬نجــد أنــه حتــى بعــد فصــل البطــل ريــو عــن‬ ‫زوجتــه‪ ،‬ظــلّ يحــارب المــوت بجانــب تــارو‪ ،‬وهــذا يحيلنــا علــى‬ ‫األطبــاء‬ ‫األخبــار التــي تصلنــا‪ ،‬اليــوم‪ ،‬عــن إصابــة المئــات مــن‬ ‫ّ‬ ‫والممرضيــن الصينييــن بالعــدوى‪ ،‬وموتهــم في أثنــاء مكافحتهم‬ ‫ِّ‬ ‫ـرد حــدث‬ ‫ـ‬ ‫مج‬ ‫ـس‬ ‫ـ‬ ‫لي‬ ‫ـون‬ ‫ـ‬ ‫الطاع‬ ‫ـك‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫كذل‬ ‫ـو‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫كام‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫رواي‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـاء‪.‬‬ ‫الوبـ‬ ‫َّ‬ ‫ـادي‪ ،‬بــل هو رمز ألفكار الفاشــية والنازية التــي ُهزمت‪ ،‬حديثاً‪،‬‬ ‫مـ ّ‬ ‫تفشــي األوبئــة‪ ،‬ومــا‬ ‫فــي أوروبــا‪ .‬وخلصــت الروايــة إلــى أنــه مــع ّ‬ ‫ـتحق‬ ‫يرافق ذلك من‬ ‫تصرفات ســلبية‪ ،‬يظهر األبطال «أشــياء تسـ ّ‬ ‫ُّ‬ ‫اإلعجــاب أكثــر مــن االحتقــار»‪ .‬قبــل كلّ شــيء‪ ،‬يالحــظ الروائــي‬ ‫ـد الطاعــون لــن يكــون نهائي ـاً‪ ،‬أبــداً‪ :‬لمنــع انتصــار‬ ‫أن النصــر ضـ ّ‬ ‫ـد الخــوف‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫ض‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫المعرك‬ ‫ـتمر‬ ‫ـ‬ ‫تس‬ ‫أن‬ ‫ـب‬ ‫المــوت‪ ،‬يجـ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أمــا روايــة «حجــر القمــر‪ :‬الفتــى الــذي لــم يكــن أبــداً»‪ ،‬للكاتــب‬ ‫ّ‬ ‫ــد كبيــر‪ -‬علــى‬ ‫األيســلندي «ســيجون ‪ ،»Sjón -‬فتقــوم ‪-‬إلــى َح ّ‬ ‫تســببت األنفلونــزا‬ ‫خلفيــة ريكيافيــك‪ ،‬للعــام ‪ ،1918‬عندمــا‬ ‫َّ‬ ‫اإلســبانية فــي هــاك معظــم الســكّ ان‪ .‬ورغــم طابعهــا الغنائــي‪،‬‬ ‫ـد كبير‪ ،‬وجوانبها األكثر شــبه ًا بالحلم‬ ‫كانــت تنقــل الواقــع إلى َحـ ّ‬ ‫تظهــر ‪-‬فــي الغالب‪ -‬في ســياق المــرض أو الهذيان‪ .‬بطــل الرواية‬ ‫ـاب مثلي مولع‬ ‫هــو مانــي ســتين (مــن هنا جاء عنــوان الروايــة) شـ ّ‬ ‫باألفــام‪ ،‬ويحمــل وعيـ ًا مفرطـ ًا بــأن هنــاك شــيئ ًا مــا يحــدث فــي‬ ‫العالــم‪ ،‬مــن حولــه‪.‬‬ ‫معظــم أحــداث الروايــة تتجلّى‪ ،‬للقارئ‪ ،‬من خــال نافذة زيارات‬

‫مانــي للســينما (كانــت األفــام صامتــة ومصحوبة بالموســيقى)‪،‬‬ ‫التفشــي‬ ‫حيــة حيــث تبــدأ األنفلونــزا فــي‬ ‫ّ‬ ‫ثــم تتطـ ّ‬ ‫ـور إلــى صــور ّ‬ ‫المحلييــن‪ .‬يكتــب ســيجون «هنــا‪ ،‬أصبحــت دور‬ ‫بيــن الســكّ ان‬ ‫ِّ‬ ‫ـدوءا»‪ ،‬واصفـ ًا خطــورة الوبــاء من خــال تقلُّص‬ ‫الســينما أكثــر هـ ً‬ ‫أعــداد الموســيقيين الذيــن يعزفــون موســيقى األفــام الصامتــة‪.‬‬ ‫خاصــة علــى المدينــة‪ ،‬نافــذة تكشــف مــا يــدور داخل‬ ‫إنهــا نافــذة‬ ‫ّ‬ ‫ليخيم‬ ‫األســوار‪ .‬وســرعان ما انتشــر هذا الصمت خارج المســرح‬ ‫ّ‬ ‫علــى المدينــة‪ ،‬بأكملها‪.‬‬ ‫يجثــم الصمــت المشــؤوم علــى الجــزء األكثــر ازدحامـاً‪ ،‬واألكثــر‬ ‫نشــاط ًا فــي المدينــة؛ فــا أثــر للحوافــر‪ ،‬أو قعقعــة عجــات‬ ‫الدراجات الناريــة‪ ،‬أو رنين‬ ‫العربــات أو هديــر السـ ّـيارات‪ ،‬أو أزيــز ّ‬ ‫دوي‬ ‫النجاريــن‪ ،‬أو‬ ‫أجــراس‬ ‫ّ‬ ‫الدراجــات‪ .‬ال تســمع ضجيــج ورش ّ‬ ‫ّ‬ ‫دكاكيــن الحــدادة‪ ،‬أو صريــر أبــواب المســتودعات‪.‬‬ ‫عــدة تفســيرات لوبــاء ‪ Dragonscale‬الخيالــي‪ ،‬علــى‬ ‫قدمــت ّ‬ ‫ّ‬ ‫امتــداد الكتــاب‪ .‬البعــض يشــير إلــى مخلَّفــات الحــرب البــاردة‪،‬‬ ‫ـريرة‪ .‬وهنــاك مــن‬ ‫ربمــا مـ ّ‬ ‫أو ّ‬ ‫ـادة مــن صنــع بعــض الشــركات الشـ ّ‬ ‫يهمس بتفســيرات دينية‪ ،‬والبعض اآلخر يحاولون الغوص عميق ًا‬ ‫ـر علــى هــذا الشــعور‬ ‫فــي تأويالتهــم‪ .‬لكـ ّ‬ ‫ـن هيــل‪ ،‬بحكمتــه‪ ،‬يصـ ّ‬ ‫بالغمــوض‪ .‬ورغــم وجــود بعــض التفســيرات المنطقيــة أكثــر مــن‬ ‫أي منهــا‪ ،‬علــى اإلطــاق‪ .‬مــن وجهــة‬ ‫ـم التح ُّقــق مــن ٍّ‬ ‫غيرهــا‪ ،‬لــم يتـ ّ‬ ‫يتحدث عن‬ ‫ال‬ ‫ـاب‬ ‫ـ‬ ‫فالكت‬ ‫ً‪:‬‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫منطقي‬ ‫يكون‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫ـك‬ ‫ـ‬ ‫ذل‬ ‫نظــر ســردية‪،‬‬ ‫كلّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ـد ذاتــه‪ ،‬بــل حــول كيفيــة تغييــر المجتمــع‪.‬‬ ‫الطاعــون بحـ ّ‬ ‫فــي «رجــل اإلطفــاء»‪ ،‬و«حجــر القمــر»‪ ،‬و«ديكاميــرون»‪ ،‬وغيرها‬ ‫مــن روايــات األوبئــة‪ ،‬يظهر المــرض كخطر داهم علــى المجتمع‪،‬‬ ‫أي‬ ‫لكنــه يؤ ّثــر حتــى فــي غيــر المصابيــن‪ .‬ومــن الصعــب قــراءة ٍّ‬ ‫مــن هــذه الروايــات‪ ،‬دون التفكيــر فــي واقــع عالمنــا المعاصــر‪:‬‬ ‫ـخصياتها هــي نفســها المخــاوف التي‬ ‫المخــاوف التــي تواجههــا شـ‬ ‫ّ‬ ‫يواجههــا الكثيــرون فــي وقتنــا الحاضــر‪ .‬إن إضافــة عنصــر األوبئــة‬ ‫ـدة التو ُّتــر‪ ،‬وصعوبــة الرهانــات‪ ،‬ويذكّ ــر‬ ‫إلــى الروايــة يزيــد مــن حـ ّ‬ ‫ـراء بضعــف قدراتهــم ضمــن هــذا المخطَّ ــط الكبيــر لألشــياء‪.‬‬ ‫القـ ّ‬ ‫■ توبياس كارول ترجمة‪ :‬عبدالله بن محمد (تونس)‬

‫‪۹‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫المصدر‪:‬‬ ‫‪Literary Hub.com‬‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪67‬‬


‫«يوميات عام الطاعون» (‪)1722‬‬ ‫ّ‬

‫روايــة خياليــة عــن وبــاء الطاعــون األســود الــذي‬ ‫ضــرب لنــدن عــام ‪ 1655‬للمؤ ّلــف «دانيــال ديفــو‬ ‫‪ »Daniel Defo‬وهــي كالكثيــر مــن كتاباتــه‬ ‫تتميز‬ ‫األخــرى‪ ،‬مثل «روبنســون كــروزو» (‪،)1719‬‬ ‫َّ‬ ‫ـام مثيـ ٍر للدهشــة بالتفاصيل‪ .‬فــي الروايــة‬ ‫باهتمـ ٍ‬ ‫ـجل‬ ‫ـراوي مــن منــزلٍ إلــى منــزل‪ ،‬ويسـ ّ‬ ‫ينتقــل الـ ّ‬ ‫المروعــة للطاعــون علــى الحيــاة‬ ‫المالحظــات‬ ‫ّ‬ ‫إلى «يوميــات‬ ‫الطريق‪ .‬يشــار‬ ‫اليوميــة علــى طــول‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫عــام الطاعون» فــي الحقيقة لكونهــا أكثر تفصي ً‬ ‫ال‬ ‫يوميات طاعــون «صموئيل بيبيــس ‪Samuel‬‬ ‫مــن‬ ‫ّ‬ ‫الواقعيــة‪.‬‬ ‫‪»Pepys‬‬ ‫ّ‬

‫الرسي» (‪)1799‬‬ ‫«أورموند‪ ،‬أو الشاهد‬ ‫ّ‬

‫تــدور أحــداث روايــة «تشــارلز بروكديــن بــراون‬ ‫‪ »Charles Brockden Brown‬خــال انــدالع‬ ‫المدمرة عــام ‪،1793‬‬ ‫الحمــى الصفــراء التاريخيــة‬ ‫ِّ‬ ‫والتــي أصابــت ســكّ ان فيالدلفيــا‪ .‬كان هــذا حدثـ ًا‬ ‫عــاش فيــه المؤلِّف‪ ،‬وفقَ د أفضــل صديقٍ له‪ .‬تركّ ز‬ ‫الروايــة مــن الناحيــة الموضوعيــة علــى الطــرق‬ ‫ّ‬ ‫فعــلٍ علــى بيئاتهــم‬ ‫ـرد‬ ‫ـ‬ ‫ك‬ ‫ـراد‬ ‫ـ‬ ‫األف‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫به‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫يتغي‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الت‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫الروايــة «كونســتانتيا»‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫بطل‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫وتتاب‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫االجتماعي‬ ‫ّ‬ ‫(وهــي امــرأة شــابة تكافــح مــن أجل إبقاء أســرتها‬ ‫فــي المنــزل وإطعامهــا عندمــا يفقــد والدهــا‬ ‫تفشــي المــرض) وعالقتهــا بأورمونــد‬ ‫عملــه أثنــاء ّ‬ ‫إن بعض التفاصيل الدامية بشــأن آثار‬ ‫الغامــض‪ّ .‬‬ ‫ـراء المعاصريــن!‬ ‫ـ‬ ‫الق‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫حت‬ ‫ـج‬ ‫ـ‬ ‫تزع‬ ‫ـد‬ ‫الطاعــون قـ‬ ‫ّ‬ ‫تشتهر مؤلفة الرواية «ماري ولستونكرافت شيلي‬ ‫‪ »Mary WollstonecraftShelley‬باختــراع‬ ‫روايــة الخيــال العلمــي مــن خــال روايتهااألولــى‬ ‫«فرانكنشــتاين» (‪ .Frankenstein )1818‬كمــا‬ ‫كتبــت روايــة عــن مــا بعــد نهايــة العالــم أ ّثــرت‬ ‫ـدة علــى روايــات الطاعــون ‪ -‬تــدور أحداثها في‬ ‫بشـ ّ‬ ‫نهايــة القــرن الحــادي والعشــرين‪ ،‬وتم ِّثــل وجهــة‬ ‫نظــر رجــلٍ وحيد «ليونيل فيرني» ‪ -‬والذي يشــاهد‬ ‫زوال الجنــس البشــري‪ .‬تعتمد الشــخصيات التي‬ ‫ٍ‬ ‫ـخاص‬ ‫تمــت مواجهتها على طول الطريق على أشـ‬ ‫ّ‬ ‫مــن دائــرة شــيلي االجتماعية‪،‬مثــل بيرســي بيــش‬ ‫و بايــرون‪.‬‬

‫«األرض تبقى» (‪)1949‬‬

‫تتحــث روايــة الكاتــب األميركــي «جــورج ر‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ســتيوارت ‪ »George R. Stewart -‬عــن أنــه بعد‬ ‫ـرض غامـ ٍ‬ ‫ال ّتعافــي مــن مـ ٍ‬ ‫ـض يقتــل غالبيــة ســكاّن‬ ‫الواليــات الم َّتحــدة‪ ،‬ينطلق «إيشــروود ويلســون»‬ ‫فــي رحلـ ٍ‬ ‫عبــر أميــركا الكتشــاف من يوجــد هناك‬ ‫ـة ْ‬ ‫أيضـاً‪ ،‬محــاو ً‬ ‫ال فــي نهايــة المطــاف بــدء المجتمع‬ ‫ـكلٍ‬ ‫جيد‬ ‫ـ‬ ‫بش‬ ‫ر‬ ‫تتطو‬ ‫لم‬ ‫ـتيوارت‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫رواية‬ ‫من جديد‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫مــن حيــث النــوع والسياســة العرقيــة‪ ،‬لكنهــا ال‬ ‫تــزال مثيــر ًة لالهتمــام كمخطّ ــط لروايــات مــا بعد‬ ‫ـص‬ ‫نهايــة العالــم فــي القــرن العشــرين‪ .‬إنــه فحـ ٌ‬

‫‪68‬‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫ـر لالهتمــام بمخــاوف الواليــات الم َّتحــدة بعد‬ ‫مثيـ ٌ‬ ‫تتبــع الكثيــر منهــا حتــى‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫يمك‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫والت‬ ‫ـرب‪،‬‬ ‫الحـ‬ ‫ّ‬ ‫يومنــا هــذا‪.‬‬

‫«الكوميديا التهريجية!»‬

‫مثــل كثيـ ٍر مــن مؤلَّفات «كــورت فوننيجوت ‪Kurt‬‬ ‫‪( »Vonnegut‬الكاتــب األميركي)‪ ،‬يعتبــر عملــه‬ ‫الجدية‪ .‬تقــع‬ ‫هــذا مــن نــوع الكوميديــا الســوداء‬ ‫ّ‬ ‫أحــداث هــذه الكوميديــا فــي نيويــورك حيــث‬ ‫يعيــش الســكّ ان فــي عزلــة‪ ،‬ويرويهــا مــن خــال‬ ‫الســرد االرتجاعــي ملــك مانهاتــن البائد‪ .‬مــن بين‬ ‫ّ‬ ‫الكــوارث األخــرى كانــت هنــاك تجربــةٌ وطنيــةٌ‬ ‫خاطئــة‪ :‬بــدأت الصيــن بتقليــص مواطنيهــا مــن‬ ‫أجــل توفيــر الموارد‪ .‬والنتيجــة أنهــم يتقلَّصــون‬ ‫فــي النهايــة إلــى الحجــم الــذي يتــم استنشــاقه‬ ‫ممــا‬ ‫مــن ِقبــل البشــر مــن ذوي الحجــم العــادي‪ّ ،‬‬ ‫تفشــي الطاعــون الــذي يه ـ ّز العالــم‬ ‫ـؤدي إلــى ّ‬ ‫يـ ِّ‬ ‫الغربــي‪...‬‬

‫«العمى» (‪)1995‬‬

‫فصـ�ل روايـ�ة «خوسـ�يه سـ�اراماغو ‪José Sara� -‬‬ ‫ُت ّ‬ ‫وبائي‬ ‫تفش‬ ‫تفاصيل‬ ‫البرتغالي)‬ ‫وائي‬ ‫(الر‬ ‫‪»mago‬‬ ‫ٍّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يســلب الناس‬ ‫ـمها‬ ‫ـ‬ ‫ذكراس‬ ‫ي‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫مدين‬ ‫مفجــع فــي‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫تفشــي الوبــاء‪ ،‬تقــوم‬ ‫مــن‬ ‫أبصارهــم‪.‬رد ًا علــى ّ‬ ‫ّ‬ ‫والحجــر‬ ‫بجمــع المصابيــن‬ ‫المختصــة‬ ‫الجهــات‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ٍ‬ ‫بســرعة إلــى‬ ‫عليهم‪ .‬تتحــول األمــور‬ ‫الصحــي‬ ‫ّ‬ ‫أن المكفوفيــن يعاملــون بقســو ٍة‬ ‫فوضــى حيــث ّ‬ ‫مــن ِقبــل المســؤولين‪ .‬ربما يكون «العمى» هــو‬ ‫ربما‬ ‫خبثـ ًا في هذه القائمــة والذي َّ‬ ‫الكتــاب األكثــر ْ‬ ‫يقــول شــيئ ًا ‪ -‬االقتــراب بحــذر!‬

‫«سنوات األرز وامللح» (‪)2002‬‬

‫قد يكون كيم «ســتانلي روبنسون ‪Kim Stanley‬‬ ‫‪( »Robinson‬الكاتــب األميركــي) معروف ًا بشــكلٍ‬ ‫أفضــل الهتمامــه بالتنبــؤ بالمســتقبل فــي روايات‬ ‫الخيــال العلمــي ‪ -‬مثل «ثالثية المريــخ» (‪1993-‬‬ ‫‪ )Mars trilogy )1996‬و«أورورا» (‪ ،)2015‬ولكنه‬ ‫في «ســنوات األرز والملــح» ينظرإلــى الماضــي‪،‬‬ ‫متكهن ًا بما كان ســيحدث إذا جرى قتل ‪ % 99‬من‬ ‫ســكّ ان أوروبــا بــد ً‬ ‫ال مــن ثلثهــم بســبب الطاعــون‬ ‫الروايــة‪ ،‬التــي تنقســم إلى عشــرة‬ ‫األســود‪ .‬تحكي ّ‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ـاؤه‬ ‫ـ‬ ‫بن‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫يت‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫غرب‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫قصــة عا َل‬ ‫أجــزاء‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ـد كبيــر‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫ح‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫إل‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫مختلف‬ ‫ـرات‬ ‫ـ‬ ‫تأثي‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫العصــور م‬ ‫ٍّ‬

‫«أوريكس وكريك» (‪)2003‬‬

‫األول مــن ثالثيــة‬ ‫هــذا الكتــاب (الــذي هــو الجــزء ّ‬ ‫الروائيــة‬ ‫(‪ )Madaddam‬التــي قامــت بتأليفهــا ّ‬ ‫الكنديـ�ة «مارغريـ�ت أتـ�وود ‪Margaret At� -‬‬ ‫عامــي ‪ 2003‬و‪ ،2013‬هــو مــن‬ ‫‪ »wood‬مــا بيــن‬ ‫ّ‬ ‫وجهــة نظر شــخصية تعانــي من فقــدان الذاكرة‪،‬‬ ‫يدعــى «ســنوومان»‪ ،‬والــذي قد يكون آخر إنســان‬


‫الســرد االرتجاعي‪،‬‬ ‫علــى قيــد الحياة‪ .‬ومن خــال ّ‬ ‫بالتعــرف علــى المزيــد مــن حياتــه قبــل‬ ‫نبــدأ‬ ‫ّ‬ ‫نهايــة العالــم ‪ -‬حيــث يكــون فــي ذلــك الوقــت‬ ‫قــد عمــل جنبـ ًا إلــى جنــب مــع أفضــل صديــقٍ لــه‬ ‫«كريــك» فــي مختبــر لع ْلــم الوراثــة حيــث كانــت‬ ‫ُتجــرى تجــارب محفوفــة بالمخاطــر علــى كلٍّ مــن‬ ‫الحيوانــات والبشــر‪.‬‬

‫«عام الطاعون» (‪)2007‬‬

‫ٍ‬ ‫أولٍ آخــر مــن ثالثيــة ألّفهــا «جيــف‬ ‫فــي‬ ‫جــزء ّ‬ ‫القصة المثيرة‬ ‫ل‬ ‫تتخي‬ ‫‪،»Jeff‬‬ ‫‪Carlson‬‬ ‫كارلسون‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫عالَمـ ًا خرجــت فيــه تقنيــة النانــو عــن الســيطرة‪،‬‬ ‫ـونٍ‬ ‫أي مخلــوقٍ‬ ‫ممــا ّ‬ ‫ـي» يقتــل ّ‬ ‫ّ‬ ‫أدى إلــى «طاعـ آلـ ّ‬ ‫ـن الطاعــون ال يســتطيع البقــاء‬ ‫ـ‬ ‫يصيبه‪ .‬لك‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ثدي‬ ‫ّ‬ ‫ٍّ‬ ‫ـر البشــر الناجيــن‬ ‫علــى ارتفاعــات عالية‪ .‬ولهــذا فـ ّ‬ ‫إلــى أماكــنٍ مثــل جبــال روكــي فــي كولــورادو‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ارتفاعــات تصــل إلــى أكثــر مــن‬ ‫للعيــش علــى‬ ‫رواد‬ ‫يحــاول‬ ‫األثنــاء‪،‬‬ ‫هــذه‬ ‫قدم‪ .‬فــي‬ ‫‪10000‬‬ ‫ّ‬ ‫الفضــاء العالقــون فــي محطّ ــة الفضــاء الدوليــة‬ ‫إيجــاد حــلٍّ للوبــاء ‪ -‬وينجحــون فــي ذلــك‪.‬‬

‫«التربع بال ّنوم» (‪)2014‬‬ ‫ّ‬

‫تتحــدث روايــة الكاتبــة األميركيــة «كاريــن راســل‬ ‫أن وباء األرق يبدأ باكتساح‬ ‫‪ »Karen Russell‬عن ّ‬ ‫الواليــات الم َّتحــدة‪ ،‬مــع بقاء األفراد مســتيقظين‬ ‫أن يفارقــون‬ ‫ألســابيع متتاليــة بــا انقطــاع إلــى ْ‬ ‫الحيــاة بصــور ٍة مأســاوية‪ .‬الطريقة الوحيــدة‬ ‫متبر ٍع ســليم‪ .‬‬ ‫لمجابهــة األرق هــي نقل النوم من‬ ‫ّ‬ ‫وهنــاك منظمــة أنشــئت إلدارة عمليــة نقــل الــدم‬ ‫تدعى (‪ .)Slumber Corps The‬عندما يكتشــف‬ ‫ـرع عالمي‬ ‫أول متبـ ٌ‬ ‫«تريــش»‪ -‬أحــد مســتخدميها‪ّ -‬‬ ‫أي شـ ٍ‬ ‫ـخص ‪ -‬ي َّتضــح‬ ‫يمكــن أن يعكــس نومــه أرق ّ‬ ‫ـرع إنمــا هــو طفــلٌ رضيــع‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أن ذلــك المتبـ ّ‬

‫«آخر أطفال طوكيو» (‪)2018‬‬

‫روايــة الخيــال العلمي هذه‪ ،‬التــي كنبتها المؤلّفة‬ ‫اليابانيــة «يوكــو تــاوادا ‪ ،»Yoko Tawada‬تقــع‬ ‫ـد مــا خــارج النطــاق العــادي للوبــاء‪ .‬فــي‬ ‫إلــى حـ ٍّ‬ ‫عمــل تــاوادا التجريبــي‪ ،‬كلّ جيــلٍ فــي اليابــان‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫يولــد بشــكلٍ‬ ‫ضعــف فــي جهــاز‬ ‫غامــض مــع‬ ‫ـكلٍ‬ ‫تدريجي‪ .‬وفــي حيــن أن الرجــال‬ ‫المناعــة بشـ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫طبيعيـ ًا إلــى‬ ‫ـون‬ ‫ـ‬ ‫يصل‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫الذي‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫األكب‬ ‫والنســاء‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ســن المئــة يظ ّلــون معافيــن وفــي أحســن حــال‪،‬‬ ‫فــإن األجيــال الشــابة تكافــح مــن أجــل العيــش‬ ‫ِلمــا بعــد الطفولة‪ .‬وهــذه الروايــة تتابــع مــأزق‬ ‫الراعــي الوحيــد لحفيــده‬ ‫ّ‬ ‫المســن «يوشــيرو»‪ّ -‬‬ ‫يعمــر‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫األغل‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ـذي‬ ‫ـ‬ ‫وال‬ ‫‬‫ـي»‬ ‫ـ‬ ‫«موم‬ ‫األكبــر‬ ‫ّ‬ ‫أكثــر مــن حفيــده‪ ■ .‬ســارة كوليــن ترجمــة‪:‬‬ ‫حســام حســني بــدار (األردن)‬

‫‪۹‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫المصدر‪www.headstuff.org :‬‬

‫فــي عــام ‪ ،1978‬أصــدر األميركــي «ســتيفين كينــغ ‪Stephen‬‬ ‫‪ »King‬روايتــه «‪( »The stand‬الموقــف)‪ ،‬التــي تتنــاول انهيــار‬ ‫معدلــة مــن فيــروس اإلنفلونــزا‪،‬‬ ‫المجتمــع بفعــل نشــر ســالة‬ ‫َّ‬ ‫وكجـ ٍ‬ ‫ـزء‪ ،‬وفــق الحبكــة الســردية‪ ،‬مــن حــرب بيولوجيــة تأتــي‬ ‫علــى النســبة العظمــى من ســكّ ان الكــون‪ .‬ينــدرج العمل ضمن‬ ‫الخيــال العلمــي وأدب الرعب‪ ،‬ويص َّنف تحت أدب نهاية العالم‬ ‫الــذي راج بعــد الحــرب العالميــة الثانيــة‪ ،‬لذلــك فــإن ترجمــة‬ ‫العنوان إلى اإلســبانية‪ ،‬ســواء بـ«‪( »Apocalipsis‬في إسبانيا)‪،‬‬ ‫أو «رقصــة المــوت» ‪( La danza de la muerte‬فــي أميــركا‬ ‫عامة‪،‬‬ ‫الجمعية‬ ‫الالتينيــة)‪ ،‬يســتجيب لمخزون الذاكــرة‬ ‫الكونية ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫خاصــة حــول فكــرة نهايــة الزمــان‪.‬‬ ‫والغربيــة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫قبــل انقضــاء القــرن العشــرين‪ ،‬تحديــد ًا فــي عــام ‪ ،1995‬أصدر‬ ‫البرتغالي خوســيه ســاراماغو روايته «العمى»‪ ،‬التي تدور حول‬ ‫وبــاء يجتــاح المدينة المعاصرة‪ .‬وفيها يأتي على ســرد تداعيات‬ ‫فردانيــة‬ ‫تفاقــم األوضــاع وفقــدان البصيــرة اإلنســانوية أمــام‬ ‫ّ‬ ‫العدميــة الفوضويــة‪ ،‬وتأثيــر كلّ ذلــك علــى النظــام األخالقــي‬ ‫ّ‬ ‫وتفــكك المجتمــع‪ .‬وفــي عــام ‪ ،1947‬كان ألبيــر كامــي قــد أصدر‬ ‫روايتــه الشــهيرة «الطاعــون»‪ ،‬التــي تــدور أحداثها أثنــاء طاعون‬ ‫مدينــة وهــران‪ ،‬وفيهــا يحبــك الكاتــب فــي نســيجها الســردي‬ ‫القلــق الوجــودي‪ ،‬وســؤال الكينونــة‪ .‬وقبل ذلك فــي عام ‪،1912‬‬ ‫ـدم‬ ‫نشــر تومــاس مــان روايتــه «مــوت فــي البندقيــة» التــي تقـ َّ‬ ‫ـور حكائيتهــا‪ ،‬توصيفـ ًا ينـ ّز منــه فكــر نيتشــه‪،‬‬ ‫بالتــوازي مــع تطـ ّ‬ ‫ويوجــز ســيمياء االنحــال أمــام تهديــد المــوت بوبــاء الكوليــرا‬ ‫الــذي يلــوح فــي األفــق‪.‬‬ ‫ُيع َثــر علــى نصـ ٍ‬ ‫ـوص ثقافيــة حــول األوبئــة فــي عصــور مختلفة‪،‬‬ ‫يكفــي تذكّ ر رائعة ســوفوكلس «أوديب ملــكاً» (‪.429‬ق‪.‬م)‪ ،‬التي‬ ‫يشــكِّ ل الوبــاء‪ ،‬الــذي أصــاب مدينــة طيبــة‪ ،‬مكونــ ًا جوهريــ ًا‬ ‫فــي بنيتهــا التراجيديــة‪ .‬كذلــك معانــاة القــوات اإلغريقيــة فــي‬ ‫الملحميــة‪ ،‬مــن وبــاء يأتــي علــى حيــاة‬ ‫«إليــاذة» هوميــروس‬ ‫ّ‬ ‫الجنــود‪ ،‬بســب تجــرؤ آغاممنــون علــى اتخــاذ ابنــة كاهــن أبولــو‬ ‫محظيــة لــه‪ .‬وفــي «العهــد القديــم» شــكَّ لت ســيرورة الطامــات‬ ‫ّ‬ ‫الكبــرى‪ ،‬والجوائــح عامــ ً‬ ‫ا أساســي ًا فــي مصيــر البشــرية فــي‬ ‫ـص الســردي‪ ،‬إضافــة لدورهــا فــي تعدديــة التأويــل النصــي‬ ‫النـ ّ‬ ‫والتفســير‪ .‬ولــم يتوقَّــف الوبــاء عــن الظهــور فــي النصــوص‬ ‫األدبيــة‪ ،‬بــل شــكل عتبــة «الديكاميــرون» لبوكاتشــيو فــي القرن‬ ‫الرابــع عشــر‪ ،‬حيــث ينــزوي عــدد مــن الشــبان خــارج فلورنســا‬ ‫هرب ـ ًا مــن جائحــة «المــوت األســود» (الطاعــون)‪ ،‬التــي بــدأت‬ ‫وربمــا‬ ‫عــام ‪ ،1348‬ويأخــذون بســرد األقاصيــص لقتــل الوقــت‪َّ ،‬‬ ‫ـد مــن اإلشــارة‬ ‫تحديــه‪ .‬وفــي معــرض الحديــث هنــا البـ ّ‬ ‫لمحــض ّ‬ ‫«يوميــات ســنة الطاعــون» لإلنكليــزي دانييل‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫المعنون‬ ‫للروايــة‬ ‫ّ‬ ‫ديفــو‪ ،‬والتــي رأت النــور عــام ‪ ،1722‬وتــدور حــول محنــة أحــد‬ ‫األفــراد خــال الوبــاء الرهيــب الــذي اجتــاح لنــدن ســنة ‪.1665‬‬ ‫كما تندرج في الســياق الســردي نفســه رواية «الخطيبان» التي‬ ‫صــدرت ‪ ،1827‬ألليســاندرو مانزونــي‪ ،‬وفيهــا ســرد لمشــهدية‬ ‫الرعــب وتأثيــره المجتمعــي‪ ،‬وفضــح النفــاق الدينــي والدنيــوي‬ ‫تفشــي الطاعــون فــي إيطاليا في العقــد الثالث‬ ‫المتفشــي أثنــاء ّ‬ ‫ّ‬ ‫من القرن الســابع عشــر‪ ■ .‬أثير محمد علي (ســورية‪ -‬إســبانيا)‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪69‬‬


‫تأمالت ثقاف ّية‬ ‫ّ‬

‫يف الظرف الكوين‬

‫ثمّ ة ظرف كو ّ‬ ‫ين جديد‬ ‫تتشكل مالمحه شيئاً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫فشيئا بالتزامن مع‬

‫أخبار كورونا املتواترة‬ ‫يومياً‪ .‬وما علينا نحن‬ ‫العرب ّإل أن نبادر إىل‬ ‫املشاركة فيه‪ ،‬دون‬ ‫أن نفقد هويّاتنا أو‬ ‫خصوص ّياتنا‪ ،‬عىل‬ ‫ّأل نكتفي بفضيلة‬ ‫التأمّل والجلوس عىل‬ ‫األريكة ملشاهدة عالم‬ ‫يتح َّرك برسعة الربق‬ ‫الخاطف أمام أعيننا‬ ‫عرب الشاشات‬

‫‪70‬‬

‫ـردية كبــرى فــي (ألــف ليلــة ولية)‬ ‫ثمــة وجــود لحكايــة أو سـ ّ‬ ‫ليــس ّ‬ ‫حــول وصــف المــدن التــي أبادتهــا األمــراض واألوبئــة‪ .‬بيــد أن‬ ‫حكايــة «مدينــة النحــاس» علــى ســبيل المثــال‪ ،‬وهــي واحدة من‬ ‫الحكايــات األثيــرة فــي متــن «الليالــي»‪ ،‬تبــدو األقــرب إلــى هــذا‬ ‫النمــط مــن الســرود‪ ،‬رغــم أنهــا لــم تكــن ســوى مدينة الســحر أو‬ ‫الطلســم الــذي دفــع األميــر موســى وصاحبــه طالــب بــن ســهل‬ ‫ـو‬ ‫إلــى الدلــوف إليهــا وهــي خاويــة علــى عروشــها كالخارجــة للتـ ّ‬ ‫ـد لــه‪ .‬وإذا باألميــر موســى الذي‬ ‫مــن طاعــون عظيــم أو وبــاء ال حـ ّ‬ ‫يشــبه عاشــور الناجي فــي ملحمة «الحرافيــش» لنجيب محفوظ‬ ‫يتف ّقــد أحــوال الموتــى الذيــن يشــبهون األحيــاء‪ ،‬كلٌ علــى هيئتــه‬ ‫ـر مــن وجوههــم وأجســادهم‬ ‫التــي ُق ِبــض عليهــا‪ ،‬والــدم يــكاد يفـ ّ‬ ‫كتماثيــل الشــمع المخاتلــة للناظريــن‪ ،‬لكنهم طاعنــون في موت‬ ‫المذهــب بيــن يــدي األميــرة‬ ‫وســبات عظيــم‪ .‬ثــم يلفــت اللــوح‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫الجالســة علــى ســريرها نظــر األميــر موســى‪ ،‬فيقــرأ مــا فيــه مــن‬ ‫وصيــة توجــز حكاية مدينتها العجيبــة التي اب ُتليت بمجاعة أودت‬ ‫بهــم جميعـ ًا إلــى حتوفهــم‪ ،‬وفــي نهايــة الحكايــة تســرد األميــرة‬ ‫متضرعــة إليــه‬ ‫ألول طــارق ألبــواب المدينــة المســحورة‬ ‫وصيتهــا ّ‬ ‫ِّ‬ ‫أن يأخــذ مــن الذهــب والجواهــر مــا شــاء ّإل أن يكشــف مــا عليهــا‬ ‫مــن ثيــاب تســتر عورتهــا وجهازهــا مــن الدنيــا‪.‬‬ ‫المتخيلــة‪ ،‬هــل يمكــن النظــر إلــى‬ ‫المرويــة‬ ‫فــي مثــل هــذه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مدينــة النحــاس بوصفهــا الصــورة القديمــة لمدينــة «ووهــان‬ ‫فجــره خــروج فيــروس‬ ‫‪ »Wuhan‬التــي تو ّلــد فيهــا رعــب أســود ّ‬ ‫كورونــا (المعــروف دوليـ ًا اآلن باســم «‪ )»COVID 19‬مــن قمقمه‬ ‫ثمــة صلــة بينهمــا‪،‬‬ ‫منــذ أســابيع معــدودات؟ بالقطــع ال‪ .‬ليــس ّ‬ ‫ـي أو‬ ‫ـرد مقاربــة سـ ّ‬ ‫لكنهــا مجـ َّ‬ ‫ـردية تدفــع القــارئ والباحــث الثقافـ ّ‬ ‫والتأمــل فــي مصائــر‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫المقارن‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫إل‬ ‫ـيولوجي‬ ‫ـ‬ ‫السوس‬ ‫أو‬ ‫ـي‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫السياسـ ّ‬ ‫البشــر والممالــك والبلــدان‪ ،‬خصوص ـ ًا عندمــا يعبــث اإلنســان‬ ‫بحيــاة أخيــه اإلنســان عبــر ممارســة الســحر األســود أو عندمــا‬ ‫متذرعـ ًا‬ ‫إمــا‬ ‫ِّ‬ ‫يعبــث بالطبيعــة عبــر تخليــق الفيروســات الف ّتاكــة‪ّ ،‬‬ ‫ـي تدفعــه إليه دوافــع عرقيــة وعنصرية‪ ،‬أو‬ ‫بمواجهــة عــدو حقيقـ ّ‬ ‫متخيــل ال يــدري أن رغبتــه فــي ممارســة الســيطرة المطلقة‬ ‫عــدو‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫محفوف بالمخاطر‬ ‫أمر‬ ‫دقيقة‬ ‫ة‬ ‫بيولوجي‬ ‫ـلحة‬ ‫ـ‬ ‫أس‬ ‫ـتخدام‬ ‫ـ‬ ‫باس‬ ‫عليه‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫القصــوى مهمــا امتلكــت مختبراتــه أعلــى معاييــر الجــودة فــي‬ ‫وربمــا خيــر دليــل‬ ‫وســائل األمــن والحمايــة‬ ‫البيوتكنولوجيــة‪َّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫ـرد ذكــر بعــض الحــوادث التــي لــم يخــلُ التاريــخ‬ ‫علــى ذلــك مجـ َّ‬ ‫البشــري الحديــث منهــا‪ ،‬مثــل إطــاق الــروس جثثــ ًا مصابــة‬ ‫ّ‬ ‫بالطاعــون علــى القــوات الســويدية عــام ‪ ،1710‬أو اســتخدام‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫بريطانيــا العظمــى فيــروس «الجــدري» الف ّتــاك للتخلّــص مــن‬ ‫األلماني في الحرب العالمية‬ ‫الســويديين‪ ،‬أو اســتخدام الجيش‬ ‫ّ‬ ‫المؤرخين‪ -‬ســاح الجمــرة الخبيثة‬ ‫األولــى‪ -‬حســب روايــة بعــض‬ ‫ِّ‬ ‫والكوليــرا وفطريات القمح لتهديــد األمن الغذائي ألعداء ألمانيا‬ ‫النازيــة‪ ،‬أو نشــر األلمــان أنفســهم لمــرض الطاعــون فــي روســيا‬ ‫بالح ّمــى القالعيــة إلــى‬ ‫وإرســالهم قطعانـ ًا مــن الماشــية مصابــة ُ‬ ‫مرويــات وأخبــار‬ ‫ـن‬ ‫األميركيــة‪ ،‬وغيــر ذلــك مـ‬ ‫الواليــات الم َّتحــدة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫كثيــرة متداولــة حــول أنفلونــزا الخنازيــر ووبــاء متالزمة «ســارس‬ ‫األول‬ ‫‪ »SARS‬وغيرهمــا‪ ،‬حتــى غدونــا اليــوم‪ ،‬ونحــن فــي الربــع ّ‬ ‫متورطيــن بوصفنــا شــخصيات‬ ‫مــن القــرن الحــادي والعشــرين‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ـردية جديــدة للرعــب الكونــي‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫متخيلــة فــي تشــكيل‬ ‫واقعيــة ال‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المعــروف حالي ـ ًا باســم «كوفيــد‪ .»19 -‬فهــل نعيــش اآلن رحلــة‬ ‫الم ِ‬ ‫التحضــر إلــى الوحشــية أم العكــس؟‬ ‫عاصــر مــن‬ ‫ُّ‬ ‫اإلنســان ُ‬ ‫ً‬ ‫اإليطالية التي تنتســب‬ ‫ة‬ ‫الرمزي‬ ‫الحكايات‬ ‫أن‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫أيض‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫للنظ‬ ‫الالفــت‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫إلـ�ى العصـ�ور الوسـ�طى المعروفة باسـ�م «ديكاميـ�رو ن �‪Decam‬‬ ‫المؤ ِّلــف جيوفانــي‬ ‫‪ ،»eron‬أو «الكوميديــا البشـ ّ‬ ‫ـرية» التــي كتبهــا ُ‬ ‫بوكاتشــيو (‪ )1375 - 1313‬فــي القــرن الرابــع عشــر‪ ،‬تنبني حكايتها‬ ‫تتضمــن مئــة حكايــة ترويهــا مجموعــة مــن‬ ‫قصــة‬ ‫اإلطــار علــى ّ‬ ‫َّ‬ ‫ٍ‬ ‫ســبع شــابات وثالثــة شــبان يلجــأون إلــى االحتمــاء ببيــت معزول‬ ‫يقــع خــارج مدينــة فلورنســا هربـ ًا مــن المــوت األســود أو الوبــاء‬ ‫العظيــم الــذي ضــرب مدن إيطاليــا كلها في عــام ‪1348‬م‪ ،‬فكانت‬ ‫تمثيلية مرعبة (بوكاشيو‪،‬‬ ‫ـانية يصفها بوكاشــيو بصورة‬ ‫ّ‬ ‫كارثة إنسـ ّ‬ ‫ديكاميــرون‪ ،‬ترجمــة صالح علمانــي‪ ،‬ص‪ .)45 - 40 :‬وليس بعيد ًا‬ ‫عــن وبــاء ديكاميــرون روايــة (الطاعــون ‪ )La peste‬أللبيــر كامــي‬ ‫ـي الذيــن‬ ‫التــي تحكــي ّ‬ ‫قصــة بعــض العامليــن فــي المجــال الطبـ ّ‬ ‫يتــآزرون فــي زمن‪ ‬الطاعــون بمدينــة وهــران الجزائريــة‪ ،‬ويطــرح‬ ‫ـي مــن خاللهــا جملــةً مــن األســئلة حــول ماهيــة اإلنســان‬ ‫الروائـ ّ‬ ‫ٍ‬ ‫اجتماعيــة‬ ‫طبقــات‬ ‫إلــى‬ ‫تنتمــي‬ ‫ات‬ ‫شــخصي‬ ‫ويتنــاول‬ ‫ر‪،‬‬ ‫والقــد‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مختلفــة ترصــد أثــر الوبــاء الكاســح عليهــم‪.‬‬

‫من الخوف الفرديّ إىل الفزع الجمعيّ‬

‫فــي عالــم الســينما‪ ،‬نجــد أن عــدد ًا كبيــر ًا مــن أفــام الرعــب‬ ‫ـدث عــن ثيمــة «الوبــاء» الجامــح أو عالــم الفيروســات‬ ‫التــي تتحـ َّ‬ ‫ً‬ ‫خاصــ ًا مــن شاشــات‬ ‫ا‬ ‫موضعــ‬ ‫قــد‬ ‫اكــة‬ ‫ت‬ ‫الف‬ ‫والجراثيــم‬ ‫احتــلّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الم ِ‬ ‫عاصرة‪ .‬وتعرف باســم أفالم «‪Pandemic‬‬ ‫ة‬ ‫العالمي‬ ‫الســينما‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫‪ »movies‬أو «‪ .»Virus movies‬وهــي سلســلة مــن األفالم التي‬ ‫تفشــي الوبــاء‪ ،‬وغالب ًا‬ ‫ـدث عــن أوضــاع البشــر ومآالتهم بعد ّ‬ ‫تتحـ َّ‬


‫سيتغي العالم بعد كورونا؟‬ ‫َّ‬ ‫هل‬

‫الســردية مــن خــال متابعــة أســرة واحــدة أو‬ ‫يتــم رصــد وجهــة النظــر‬ ‫ّ‬ ‫مــا ُّ‬ ‫رجــل وامــرأة‪ ،‬مثــل فيلــم «‪ ،»Pandemic‬و«‪ ،»Carriers‬و«‪،»Outbreak‬‬ ‫و«‪ ،»The Day after Tomorrow‬و«‪ ،»Containment‬و«‪،»Days 93‬‬ ‫و«‪ ،»Contagion‬وغيرهــا مــن قائمــة األفالم التي أخذت تســتعيد مشــاهدتها‬ ‫بنســب بالغــة االرتفــاع نتيجــة مــا يمــر بــه عالمنــا اليــوم‪ .‬ففــي أحــداث فيلــم‬ ‫«‪( »Contagion‬أو «عــدوى»)‪َ ،‬تلْقَ ــى ســيدة أعمــال حتفهــا بســبب انتشــار‬ ‫عــدوى فيــروس غامــض وقاتــل أثنــاء رحلتهــا إلــى الصيــن‪ .‬وبعــد اطّ ــاع‬ ‫ـي علــى واقعــة مدينــة ووهــان الصينيــة التــي انطلــق منهــا‬ ‫المشــاهد العالمـ ّ‬ ‫الحقيقــي‪ ،‬تــم صنــع عــدد مــن التشــابهات علــى مســتوى‬ ‫فيــروس كورونــا‬ ‫ّ‬ ‫التل ّقــي والمشــاهدة بيــن أحــداث الفيلــم والواقــع المعيــش‪ ،‬خصوصـ ًا عندما‬ ‫ـي‪ ،‬فــي‬ ‫ُوضعــت مدينــة شــيكاغو‬ ‫األميركيــة فــي الفيلــم تحــت الحجــر ِّ‬ ‫ّ‬ ‫الصحـ ّ‬ ‫مقابــل عمليــات اإلغــاق الهائلــة التــي حدثــت في الواقــع الفعلي فــي الصين‪،‬‬ ‫األميركيــة وإيطاليــا وباقــي دول العالــم تباع ـاً‪ .‬لقــد‬ ‫ثــم الواليــات الم َّتحــدة‬ ‫ّ‬ ‫ـعبية الفيلــم فــي األســابيع األخيــرة‪،‬‬ ‫ع ـ َّززت هــذه التشــابهات كثيــر ًا مــن شـ ّ‬ ‫األميركيــة «غوينيــث بالتــرو ‪Gwyneth‬‬ ‫خصوص ـ ًا بعــد أن نشــرت الممثِّلــة‬ ‫ّ‬ ‫‪ »Paltrow‬صــورة لنفســها وهــي ترتــدي «كمامــة» علــى وجههــا فــي رحلــة‬ ‫لهــا عبــر األطلســي فــي فبراير‪/‬شــباط الماضــي‪ .‬إن مــا تعرضــه سلســلة أفــام‬ ‫ـي الذي‬ ‫الفيروســات هــو شــكل مــن أشــكال التكريــس لوضعيــة الفــزع الجمعـ ّ‬ ‫ـورات فانتازيــة عــن نهايــة العالــم الــذي يبلــغ فيــه اإلنســان حتفــه‬ ‫يرســم تصـ ُّ‬ ‫متعددة‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫وكيماوي‬ ‫ة‬ ‫بيولوجي‬ ‫ـروب‬ ‫ـ‬ ‫ح‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫يخوضه‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫وم‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫بالطبيع‬ ‫ـه‬ ‫بســبب عبثـ‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ســتأتي علــى األخضــر واليابــس‪ ،‬ولــن يجــد اإلنســان آنئــذ ســفينة نــوح لينجــو‬ ‫مــن خـ ٍ‬ ‫ـراب شــامل سـ ُـيبيد كلّ شــيء‪.‬‬

‫ـم أقــرب إلــى اســتطالع الــرأي قامــت بــه مج ّلــة «فورين بوليســي‬ ‫فــي تقريــر مهـ ّ‬ ‫‪( »Foreign Policy‬صــدر عــن مركــز أفــق المســتقبل‪ ،‬تحــت عنــوان «ورقــة‬ ‫ـيتغير العالم بعد القضاء على كورونــا؟»)‪ ،‬طلبت المجلّة‬ ‫استشــرافية‪ :‬هــل سـ ّ‬ ‫األميركيــة مــن اثنــي عشــر ُمفكِّ ــر ًا سياسـ ّـي ًا ودبلوماسـ ّـي ًا بــارز ًا من جميــع أنحاء‬ ‫ّ‬ ‫العالــم تقديــم توقُّعاتهــم لما ســيحدث للنظــام العالمي بعد الوبــاء‪ .‬تراوحت‬ ‫للســلطة والنفــوذ مــن الغرب‬ ‫إجاباتهــم حــول مــا يمكــن أن يحــدث مــن تحـ ُّ‬ ‫ـول ُّ‬ ‫ممــا قد يزيد من «تشــويه النمــوذج الغربي»‪ ،‬وتراجــع «العولمة»‬ ‫إلــى الشــرق ّ‬ ‫األميركية‬ ‫تحولهــا من عولمــة متمركزة حــول الواليات الم َّتحــدة‬ ‫أو علــى األقــلّ‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫المرجــح أن تســهم هــذه األزمــة في‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫وم‬ ‫ـن‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫الصي‬ ‫ـول‬ ‫ـ‬ ‫ح‬ ‫ـزة‬ ‫ـ‬ ‫متمرك‬ ‫إلــى عولمــة‬ ‫َّ‬ ‫ـي‪،‬‬ ‫الصينيــة‬ ‫تعميــق تدهــور العالقــات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫األميركيــة وإضعــاف التكامــل األوروبـ ّ‬ ‫ـي الــذي لــم ينجــح فــي تقديــم الدعــم‬ ‫ـ‬ ‫األوروب‬ ‫ـاد‬ ‫ـ‬ ‫ِّح‬ ‫ت‬ ‫وربمــا تفــكّ ك منظومــة اال‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ـؤدي‬ ‫المتو َّقــع لمواطنــي دولــة أو أخــرى‪ .‬إن مثــل هــذه األزمــة‬ ‫العالميــة قــد تـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـددة أو تدفــع بعــض الــدول إلــى المزيــد مــن‬ ‫المتعـ ِّ‬ ‫إلــى اســتعادة القوميــات ُ‬ ‫حيــة وتقليل الهجرات‪،‬‬ ‫االنغــاق والخصوصيــة وتعزيــز منظومات الرعاية ِّ‬ ‫الص ّ‬ ‫وغيــر ذلــك مــن نتائــج وتداعيــات ســوف تظهر فــي الســنوات القليلــة المقبلة‪.‬‬ ‫العربيــة التــي أرجــو لهــا المزيــد مــن‬ ‫التغيــر مجتمعاتنــا‬ ‫ولســوف يطــال هــذا‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫المعلوماتيــة لمواجهــة‬ ‫ـرات‬ ‫ـ‬ ‫الخب‬ ‫ـادل‬ ‫ـ‬ ‫وتب‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫والتكنولوج‬ ‫ـادي‬ ‫التكامــل االقتصـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫نقــص مــوارد الميــاه وحــروب الفيروســات التــي قــد تتصاعــد وتيرتها مســتقبالً‬ ‫التقليدية‪.‬‬ ‫كبديــل عــن الحــروب‬ ‫ّ‬ ‫رقي اإلنســان‬ ‫عن‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫بحثه‬ ‫في‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫المعل‬ ‫ـارها‬ ‫ـ‬ ‫مس‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫الغربي‬ ‫ـارة‬ ‫لقــد خالفــت الحضـ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التكنولوجي‪ ،‬واختزلت‬ ‫ـدم‬ ‫وســعادته عــن طريق العلم‬ ‫والحر ّية والتنوير والتقـ ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مدونــة التاريــخ الحديــث منــذ القــرن التاســع عشــر فــي سلســلة‬ ‫دورهــا فــي ّ‬ ‫مدججة باألســلحة‪ ،‬على حســاب‬ ‫مدمــرة وممارســة رغبات كولونيالية‬ ‫ّ‬ ‫حــروب ّ‬ ‫ـي المنشــود‪ .‬لــم يكــن تخليق الفيروســات‬ ‫ـ‬ ‫االجتماع‬ ‫ـدل‬ ‫ـ‬ ‫والع‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫األوروب‬ ‫العقــل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والصــراع علــى غــزو الفضــاء بيــن أميــركا وروســيا‪،‬‬ ‫وتطويــر اإلنســان اآللــي‬ ‫ِّ‬ ‫الصــراع علــى امتــاك ترســانة مــن األســلحة النوويــة‪ ،‬ســوى تعبيــر‬ ‫وكذلــك ِّ‬ ‫عــن الحلــم بصناعــة اإلنســان الخارق «الســوبرمان» القــادر على ُحكــم العالم‬ ‫التحــول مــن‬ ‫بأســره الــذي ترســم تفاصيلــه الكثيــر مــن أفــام الســينما‪ .‬إن‬ ‫ُّ‬ ‫الصناعيــة إلــى إنســان مــا بعــد الحداثــة‪ ،‬وتمديــد حقبة الحــرب الباردة‬ ‫الثــورة‬ ‫ّ‬ ‫ـتراكية‪ ،‬وســقوط جــدار برليــن‪ ،‬وتفجيــر برجــي التجارة‬ ‫ـ‬ ‫واالش‬ ‫ة‬ ‫ـمالي‬ ‫ـ‬ ‫الرأس‬ ‫بيــن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الصــراع بيــن‬ ‫العالمييــن‪ ،‬وتصاعــد مـ ّ‬ ‫ـي‪ ،‬ورفــع الغطــاء عــن ِّ‬ ‫ـد اإلرهــاب العالمـ ّ‬ ‫األميركيــة علــى زعامــة العالــم‪ ،‬وغيــر ذلــك مــن‬ ‫ـدة‬ ‫ـ‬ ‫الصيــن والواليــات الم َّتح‬ ‫ّ‬ ‫أحـ ٍ‬ ‫ـيوثقافي م ّتصل‬ ‫ـردية لمشــهد سوسـ‬ ‫ـداث‬ ‫عالميــة متباعدة‪ ،‬هي موتيفات سـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـردية»‪ ،‬أو النظــر إليه علــى ا َ‬ ‫ألقلّ‬ ‫الحلقــات يمكــن قراءتــه بوصفــه «متواليــة سـ ّ‬ ‫باعتبــاره شــك ً‬ ‫ـردية» كمــا يقــول ســعيد يقطيــن‪،‬‬ ‫ال مــن أشــكال «العولمــة السـ ّ‬ ‫حيــث نجــح وبــاء كورونــا فــي توحيــد العالــم مــن جديــد علــى شــيء واحــد‬ ‫ـي‪.‬‬ ‫ـي أو الفــزع الكونـ ّ‬ ‫هــو الخــوف الجمعـ ّ‬ ‫التنبــؤ بمــا ســيبدو عليــه شــكل العالقــات‬ ‫ـكان‬ ‫ـ‬ ‫بم‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫الصعوب‬ ‫ربمــا يكــون مــن‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫الدوليــة واقتصــادات العالــم بعــد القضــاء علــى كورونــا فــي الســنوات القليلة‬ ‫ّ‬ ‫ـي (‪ )Social distancing‬بما‬ ‫لكن شــيوع مصطلح‬ ‫المقبلــة‪ّ .‬‬ ‫ُ‬ ‫التباعد االجتماعـ ّ‬ ‫ً‬ ‫الخصوصيــة اآلمنــة‪ ،‬فضـا عــن ممارســة‬ ‫ـرح جديــد لمفهــوم‬ ‫يتضمنــه مــن طـ ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫العالــم ك ّلــه فــي وقـ ٍ‬ ‫ـت واحــد طرقـ ًا متشــابهة مــن تقنيــات التع ُّلــم عــن بعــد‬ ‫(‪ )E. Learning‬أو التع ُّلــم اإللكترونــي (‪ ،)Online Learning‬والبحــث عــن‬ ‫وســائل مغايــرة للعيــش والعمــل بديـ ً‬ ‫ا عن التعامل المباشــر‪ ،‬كلّها مؤشــرات‬ ‫كونيـ ًا جديــد ًا تتشــكّ ل مالمحــه شــيئ ًا فشــيئ ًا بالتزامــن‬ ‫ثمــة ظرفـ ًا‬ ‫تنبــئ عــن أن ّ‬ ‫ّ‬ ‫مــع أخبــار كورونــا المتواتــرة يوميـاً‪ .‬ومــا علينــا نحــن العــرب ّإل أن نبــادر إلــى‬ ‫خصوصياتنا‪ ،‬علــى ّأل نكتفي بفضيلة‬ ‫هوياتنــا أو‬ ‫المشــاركة فيــه‪ ،‬دون أن نفقــد ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتحرك بســرعة البرق الخاطف‬ ‫التأمل والجلوس على األريكة لمشــاهدة عالم‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫أمــام أعيننــا عبــر الشاشــات‪ ■ .‬محمــد الشــحات‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪71‬‬


‫قراءات‬

‫محمد الحاريث األخرية‬ ‫رحلة‬ ‫َّ‬

‫فلفل سيالين أزرق‬

‫ـتقره‬ ‫طالــب الجيولوجيــا بجامعــة قطــر‪ ،‬نهايــات القــرن املــايض‪َّ ،‬‬ ‫طوحــت بــه الحيــاة بعيــداً قبــل أن يبلــغ مسـ ّ‬ ‫املتأخــر‬ ‫األخــر يف بلدتــه «املضــرب» رشق عــان‪ .‬يف معــرض مســقط‪ ،‬هــذا العــام‪ ،‬كان صــدور كتابــه‬ ‫ِّ‬ ‫لقرائــه‪ ،‬عــى األقـ ّ‬ ‫ـل‪ .‬هكــذا اســتقبل القـ ّـراء كتــاب «فلفــل‬ ‫نوعـ ًا مــن حــدث أديب مهـ ّ‬ ‫ـم‪ ،‬عــى الصعيــد الروحــي ّ‬ ‫محمد الحاريث‪ ،‬وهو رحلتان إىل رسنديب أو ســيالن املعروفة بـ«ســرالنكا» اليوم‪.‬‬ ‫أزرق» للشــاعر الراحل‬ ‫َّ‬

‫تجاوز محمَّ د الحاريث‪،‬‬ ‫مدفوعاً بحبِّه للشعر‪،‬‬ ‫األط َر التقليدية‬ ‫للشعر‪ ،‬وسما‬ ‫بتجربته إىل النبض‬ ‫املعارص لقصيدة النرث‬ ‫َّ‬ ‫وشك َل‪،‬‬ ‫العرب ّية‪،‬‬ ‫مع شعراء عمانيني‬ ‫ً‬ ‫كوكبة شعرية‬ ‫غريه‪،‬‬ ‫ساهمت يف حركة‬ ‫قصيدة النرث‬

‫‪72‬‬

‫محمــد الحارثــي يعمــل علــى‬ ‫كان الشــاعر العمانــي المعاصــر‬ ‫َّ‬ ‫ـودة كتــاب الرحــات األخيــر هــذا‪ ،‬قبــل أن يدخــل فــي نوبــة‬ ‫مسـ َّ‬ ‫أدت إلــى وفاتــه‪ ،‬وبقــي العمــل رهيــن‬ ‫المــرض األخيــرة التــي َّ‬ ‫حاســوبه الشــخصي حتــى تمكَّ نت ابنتــه الف ّنانة ابتهــاج الحارثي‬ ‫مــن معالجــة الحاســوب‪ ،‬واســتخراج العمــل‪ ،‬ثــم عهــدت بــه‬ ‫عربيــة تحــوز جائــزة «مــان‬ ‫(أول‬ ‫إلــى الروائيــة جوخــة الحارثــي‪َّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫«ســيدات‬ ‫بوكر»العالميــة للروايــة‪ ،‬لعــام ‪ ،2019‬عــن روايتهــا‬ ‫ِّ‬ ‫القمــر»)‪ ،‬لتشــرف علــى المراجعــة النهائيــة للكتــاب‪ ،‬الذي كان‬ ‫فــي أطــواره النهائيــة علــى يــد الكاتــب نفســه‪ .‬وهكــذا‪ ،‬صــدر‬ ‫الكتــاب هــذا العــام عــن «دار مســعى» للنشــر‪.‬‬ ‫أولها كتاب‬ ‫كان‬ ‫عدة كتب في الرحــات‪،‬‬ ‫صــدر‬ ‫لمحمــد الحارثي ّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫«عيــن وجنــاح» الــذي حــاز «جائــزة ابــن بطوطــة» فــي دورتهــا‬ ‫ـم صــدر لــه كتــاب «محيــط كتمنــدو»‪ ،‬وهــا هــو كتابــه‬ ‫األولــى‪ ،‬ثـ َّ‬ ‫ـن الرحالت يصــدر‪ ،‬أخيــراً‪ ،‬بعنوان «فلفــل أزرق»‪.‬‬ ‫الثالــث فــي فـ ّ‬ ‫محمــد‬ ‫أن‬ ‫العمانيــة‬ ‫ــة‬ ‫ّقافي‬ ‫ث‬ ‫ال‬ ‫األوســاط‬ ‫فــي‬ ‫المعــروف‬ ‫ومــن‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫الحارثــي هــو االبــن البكــر للشــاعر أحمــد بــن عبداللــه الحارثــي‬ ‫المعــروف بأبــي الحكــم‪ ،‬والمل َّقــب بشــاعر الشــرق‪ ،‬وكان أبــو‬ ‫الحكــم‪ ،‬فــي ســبعينيات القــرن العشــرين‪ ،‬يم ِّثــل‪ ،‬مــع الشــاعر‬ ‫ـي رهــان الشــعر‬ ‫عبداللــه بــن علــي الخليلــي أميــر البيــان‪َ ،‬‬ ‫فرسـ ْ‬ ‫العمانــي‪ ،‬بصبغتــه التقليديــة المتوارثــة للقصيــدة العروضيــة‪،‬‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫ولنــا أن نذكــر هنــا أن ديــوان أبــي الحكــم صــدر بجمــع وتحقيــق‬ ‫مــن حفيدتــه الروائيــة جوخــة الحارثــي‪ ،‬وقــد خــرج مــن نســل‬ ‫ـابات أثــروا الحيــاة الف ّن ّيــة العمانيــة‬ ‫شــاعر الشــرق شــباب وشـ ّ‬ ‫خــال عقودهــا األخيــرة‪ ،‬منهــم جوخــة‪ ،‬وابتهــاج‪ ،‬إضافــةً إلــى‬ ‫القصة القصيرة عبداللــه أخضر‪ ،‬وكذلك الروائية‬ ‫الراحــل كاتــب‬ ‫ّ‬ ‫والقاصــة أزهــار أحمد‪ ،‬ولكن يبدو أن الميراث الشــعري كان من‬ ‫ّ‬ ‫محمــد الحارثــي وحــده‪ ،‬والــذي أضــاف إليه‪ ،‬فيمــا بعد‪،‬‬ ‫ـب‬ ‫نصيـ‬ ‫َّ‬ ‫كتــب الرحــات‪ ،‬وروايــة واحــدة عنوانهــا «تنقيــح المخطوطــة»‪،‬‬ ‫صــدرت عــن «دار الجمــل»‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ـر التقليدية‬ ‫تجــاوز‬ ‫َّ‬ ‫محمــد الحارثي‪ ،‬مدفوعا ِّ‬ ‫بحبه للشــعر‪ ،‬األطـ َ‬ ‫للشــعر‪ ،‬وســما بتجربتــه إلــى النبــض المعاصــر لقصيــدة النثــر‬ ‫العربيــة‪ ،‬وشــكَّ َل‪ ،‬مــع شــعراء عمانييــن غيــره‪ ،‬كوكبــةً شــعرية‬ ‫ّ‬ ‫ـدت أصداؤها‪ ،‬اليوم‪،‬‬ ‫ســاهمت فــي حركة قصيــدة النثر التي امتـ َّ‬ ‫فــي العالــم العربي‪ ،‬فأصدر الحارثي سـ ّتة مجموعات شــعرية‪،‬‬ ‫منــذ مجموعتــه األولــى «عيــون طــوال النهــار»‪ ،‬حتــى مجموعته‬ ‫الشــعرية األخيــرة التــي ُن ِ‬ ‫شــرت في صــدر عام رحيلــه (‪2018‬م)‪،‬‬ ‫وهــي مجموعــة «الناقــة العميــاء»‪ ،‬لتكــون آخــر الكتــب التــي‬ ‫تتجســد الحيــاة فــي كتــب يتركهــا‬ ‫صــدرت فــي حياتــه‪ ،‬وكأنمــا‬ ‫َّ‬ ‫قويــةً مــن الحنيــن‬ ‫الشــاعر تراثـ ًا مشــاعاً‪ ،‬بعــد رحيلــه‪ ،‬لمســةً ّ‬ ‫الحي ‪.‬‬ ‫ّ‬


‫مــع ذلــك‪ ،‬نجــد حنيــن الشــاعر االبــن لمثــال الشــاعر األب‪،‬‬ ‫وذوقــه‪ ،‬قــد تم َّثــل فــي جمعــه وتحقيقــه لواحــد مــن أشــهر‬ ‫شــعراء عمــان الكالســيكيين فــي نهايــة القــرن التاســع عشــر‬ ‫وبدايــة القــرن العشــرين‪ ،‬وهــو الشــاعر أبــو مســلم البهالنــي‪،‬‬ ‫مقدمة تفصيليــة طويلة‪،‬‬ ‫فقدمهــا‬ ‫ـراء مــع ِّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫محمــد الحارثــي للقـ ّ‬ ‫ـبياً‪.‬‬ ‫نسـ ّ‬ ‫محمــد الحارثــي‬ ‫ـراث‬ ‫ـ‬ ‫بت‬ ‫أزرق»‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫«فلف‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫األخي‬ ‫ـاب‬ ‫ـ‬ ‫الكت‬ ‫ـق‬ ‫يلتحـ‬ ‫َّ‬ ‫ولكــن فيمــا يشــبه اليتــم؛ فــاألب قــد تو ِّفــي‪ ،‬وفــي هــذا الكتــاب‬ ‫الــذي عمــل عليــه الشــاعر‪ ،‬منــذ عــام ‪2015‬م‪ ،‬يالحــظ القــارئ‬ ‫اإلشــارات النهائيــة للــروح‪ ،‬فــي لمحــات خاطفــة‪ ،‬ألن أســلوب‬ ‫محمــد الحارثــي‪ ،‬في كتب الرحالت‪ ،‬أشــبه بســيرة ذاتية‪ ،‬لكنها‬ ‫َّ‬ ‫ســيرة ذاتيــة فــي األســفار‪ ،‬وهــي األســفار التــي ال تخلــو منهــا‬ ‫مجاميعــه الشــعرية‪ ،‬ويكفــي أن نذكــر منهــا مقطعه الشــعري‬ ‫الشــهير فــي قصيــدة «غفــوة صعبــة المنــال»‪:‬‬ ‫«مــا زلــت أعــود‪ /‬بصــور فوتوغرافيــة‪ /‬وحقيبــة ظهــر وقصائــد‪/‬‬ ‫تتد ّلــى منهــا‪ /‬أرقــام الرحالت‪ /‬وأخفاف حنيــن»‪( ..‬ص‪ .44‬قارب‬ ‫الكلمات يرســو)‬ ‫محمــد الحارثــي على «جائــزة اإلنجاز الثّقافــي» العمانية‪،‬‬ ‫حــاز‬ ‫َّ‬ ‫ـرره الكاتــب‬ ‫عــام ‪2014‬م‪ ،‬وفــي ذلــك الكتــاب الــذي أعـ َّ‬ ‫ـده‪ ،‬وحـ َّ‬ ‫ســعيد ســلطان الهاشــمي‪ ،‬روى أجــزاء مــن ســيرته الذاتيــة‪،‬‬ ‫وقــد صــدر الكتــاب عــن «دار ســؤال»‪ ،‬بعنــوان «حياتــي قصيدة‬

‫وددت لــو أكتبهــا»‪ ،‬لكــن هنــاك أجــزاء أخرى من تلك الســيرة‪،‬‬ ‫مكبرة‬ ‫تتناثر في قصائده الشــعرية ورحالته التي تشــبه عدســة ِّ‬ ‫المتعددة‪.‬‬ ‫مرفوعــة علــى أزمنــة أســفاره‬ ‫ِّ‬ ‫تجســد‬ ‫ينقســم كتــاب «فلفــل أزرق» إلــى فصــول قصيــرة‬ ‫ِّ‬ ‫محمد الحارثي بأجواء ســيرالنكا‪،‬‬ ‫الرحلتين اللتين طاف فيهما‬ ‫َّ‬ ‫ـددة مــن وجــوه البلــد‬ ‫وكشــف‪ ،‬فــي طوافــه ذاك‪ ،‬أوجه ـ ًا متعـ ِّ‬ ‫الرحالــة العــرب‪،‬‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫والثّقافــة واللّغــة‪ .‬ولســيالن موقــع أثيــر‬ ‫ّ‬ ‫ويكفــي أن نتذكَّ ــر الجمــال الــذي يصــف بــه ابــن بطوطــة (شــيخ‬ ‫ممــا يعبــر عــن غرامــه بهــا‪ ،‬ناهيــك‬ ‫ّ‬ ‫الرحالــة) تلــك الجزيــرة‪ّ ،‬‬ ‫عــن افتخــاره بزيارتــه لجزيــرة ســرنديب أو ســيالن‪.‬‬ ‫بصــدور هــذا الكتــاب‪ ،‬تكتمــل كثيــر مــن الصــور الشــعرية‬ ‫الكثيفــة فــي مجموعتــه الشــعرية األخيــرة «الناقــة العميــاء»‪،‬‬ ‫خاصــةً أن هنــاك رحلــة أخيــرة قــام بهــا الشــاعر‪ ،‬عــام ‪2017‬م‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ـعرياً‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫ا‬ ‫نص‬ ‫هناك‬ ‫وكتب‬ ‫بعام‪،‬‬ ‫رحيله‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫قب‬ ‫أي‬ ‫ـيرالنكا؛‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫إلــى‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـص المركــزي فــي مجموعة «الناقــة العميــاء»‪ ،‬لكنه‬ ‫ـ‬ ‫الن‬ ‫ـح‬ ‫ـ‬ ‫أصب‬ ‫ّ‬ ‫ـص يســتعيد مكانـ ًا آخــر‪ ،‬للمفارقــة‪ ،‬فــي أثنــاء رحلــة قديمــة‬ ‫نـ ّ‬ ‫كان قــد قــام بهــا فــي التســعينات مــن القــرن العشــرين‪َّ ،‬أيــام‬ ‫شــبابه‪ ،‬إلــى فيتنــام‪ ،‬حيــث التقــى هنــاك بالف ّنــان الفيتنامــي‬ ‫«نغويــن ثانــه»‪ ،‬واقتنــى إحــدى لوحاتــه‪ ،‬وظــلّ محتفظ ـ ًا بهــا‬ ‫قــرر أن يجعــل مــن تلــك اللوحــة‬ ‫إلــى آخــر حياتــه‪ ،‬حيــن َّ‬ ‫ِ‬ ‫ـن أن العنــوان ُولــد‪،‬‬ ‫غالفـ ًا لمجموعتــه الشــعرية األخيــرة‪ ،‬وأظـ ّ‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪73‬‬


‫بصدور هذا الكتاب‪،‬‬ ‫تكتمل كثري من‬ ‫الصور الشعرية‬ ‫الكثيفة يف مجموعته‬ ‫الشعرية األخرية‬ ‫«الناقة العمياء»‪،‬‬ ‫خاص ًة أن هناك‬ ‫ّ‬ ‫رحلة أخرية قام‬ ‫بها الشاعر‪،‬‬ ‫عام ‪2017‬م‪ ،‬إىل‬ ‫سريالنكا؛ أي قبل‬ ‫رحيله بعام‪ ،‬وكتب‬ ‫نصاً شعريّاً‪،‬‬ ‫هناك ّ‬ ‫النص املركزي‬ ‫أصبح‬ ‫ّ‬ ‫يف مجموعة «الناقة‬ ‫العمياء»‬

‫‪74‬‬

‫كذلــك‪ ،‬فــي رحلتــه األخيرة تلــك‪ ،‬حيث كان يعمــل على تحرير‬ ‫المجموعــة الشــعرية وتحريــر كتــاب الرحلــة معـاً‪.‬‬ ‫محمد الحارثي ســعى‪،‬‬ ‫نعرف‪ ،‬اآلن‪ ،‬من كتاب «فلفل أزرق» أن‬ ‫َّ‬ ‫فــي رحلتــه الســابقة‪ ،‬للقــاء ف ّنــان إنجليــزي شــهير مقيــم فــي‬ ‫ســيرالنكا‪ ،‬آنــذاك‪ ،‬هــو «جــورج بيفــن»‪ ،‬ولعــلَّ ذلــك اللقــاء‬ ‫الف ّنــي هــو مــا أعــاد إلــى ذاكرتــه لقــاءه الف ّنــي القديــم بالف ّنــان‬ ‫الفــن‪ ،‬اســتعادة ذلــك الشــعور‬ ‫بقــوة‬ ‫الفيتنامــي‪ ،‬وألهمــه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـص شــعري‪.‬‬ ‫القديــم مــن قــاع الزمــن الجــارف‪ ،‬وتخليــده فــي نـ ّ‬ ‫هكــذا‪ ،‬أصبــح ذلــك الحــدث القديــم‪ ،‬واللوحــة التــي اقتناهــا‪،‬‬ ‫ـدر مجموعتــه الشــعرية األخيــرة‪ ،‬والعمــاء‬ ‫آنــذاك‪ ،‬التــي تتصـ َّ‬ ‫الــذي ينســبه العنــوان للناقــة‪. ،‬كلّ ذلــك يجــد تضاعيفــه فــي‬ ‫شــعريا أقــدم‬ ‫صــورة المســافر األعمــى‪ ،‬إذا تذكَّ رنــا مقطعــ ًا‬ ‫ّ‬ ‫لمحمــد الحارثــي‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫«يشــرب قهوتــه‪ /‬مســافر أعمــى‪ /‬أرســل عينيــه إثــر فراشــة‬ ‫صعــدت البــاص‪ /‬الــذي ســيعبر الجســر بعــد قليــل»‪.‬‬ ‫ـازي‪ ،‬ألنــه يخبــط فــي‬ ‫ـي مجـ ّ‬ ‫فكأنمــا عمــى المســافر عمــاء أدبـ ّ‬ ‫يرهــا مــن قبــل‪ ،‬ومهمــا رأى منهــا فرؤيتــه تبقــى‬ ‫ظــام بــاد‪ ،‬لــم َ‬ ‫األول‬ ‫قاصــرة‪ ،‬فــإذا عدنــا للطبعــة الثانيــة مــن كتــاب رحالتــه َّ‬ ‫محمــد الحارثــي يقــود ناقــة‪،‬‬ ‫«عيــن وجنــاح» فســنجد صــورة‬ ‫َّ‬ ‫علــى صــدر الغــاف‪ ،‬وتذكِّ رنــا الصورة ‪-‬نوعـ ًا ما‪ -‬بغرامــه األدبي‬ ‫العربية‬ ‫بالرحالــة الكولونيالــي الشــهير‪ ،‬صاحــب كتاب الرمــال‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫و«يلفــرد ثيســجر»‪ .‬هــو الرحيــل‪ ،‬إذاً‪ ..‬والحيــاة هــي الرحلــة‪،‬‬ ‫والناقــة العميــاء هي الراحلة‪ .‬وهنا‪ ،‬نتذكَّ ــر قوله في مجموعته‬ ‫«أبعــد مــن زنجبــار»‪:‬‬ ‫«يموتــون‪ /‬ثــم يضحكــون فــي أغلفــة الكتــب‪ /‬يموتــون‪ /‬ويبكــون‬ ‫طويـ ً‬ ‫ا فــي الكلمــات»‪.‬‬ ‫إل أمثولة تولد من مثــل تلك اللمحات‬ ‫مــا الحيــاة‪ ،‬في النهايــة‪ّ ،‬‬ ‫الخاطفــة‪ .‬هكــذا‪ ،‬في مجموعة «الناقة العمياء»‪ ،‬يبصر القارئ‬ ‫بوضــوح‪ -‬ظــال الموت الكثيفة‪ ،‬حيث أغلــب النصوص مهداة‬‫لذكــرى شــعراء رحلــوا عن الحياة‪ ،‬ولم يخلِّفــوا غير قصائدهم‪.‬‬ ‫واآلن‪ ،‬بصــدور كتابــه األخيــر «فلفــل أزرق» الــذي يشــبه‪ ،‬فــي‬ ‫المتأخــر‪ ،‬إشــارة لمــا بعــد المــوت‪ ،‬مــن الغيــب‪ ،‬نجــد‬ ‫وصولــه‬ ‫ِّ‬ ‫ـددة البديعــة‬ ‫ـ‬ ‫المتع‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫وألوانه‬ ‫ـاة‬ ‫ـ‬ ‫الحي‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ـالة‬ ‫ـ‬ ‫رس‬ ‫ـك‪-‬‬ ‫ـ‬ ‫ذل‬ ‫رغــم‬‫ِّ‬ ‫بجماليات البســاطة‬ ‫يصعده الحارثي‬ ‫ـي هائل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫في منشــور ضوئـ ّ‬ ‫ونكهــات الوجبــات الشــعبية التــي اســتلهم منهــا عنــوان كتابه‪،‬‬ ‫والشــخصيات اإلنســانية البســيطة التــي يصنــع منهــا أبطــا ً‬ ‫ال‬ ‫محمــد الحارثــي الشــخصي‪،‬‬ ‫روائييــن فــي رحلتــه‪ ،‬مــع نكهــة‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫تتكشــف‬ ‫حيث‬ ‫ـعة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫الواس‬ ‫وثقافته‬ ‫وطرائفــه ولمحاتــه ومعرفتــه‬ ‫َّ‬ ‫كثيــر مــن الغرائــب اإلنســانية واللمحات الصدفويــة الغامضة‪،‬‬ ‫ـاب اليمنــي الــذي يتسـ َّتر على‬ ‫مثلمــا نجدهــا فــي شــخصية الشـ ّ‬ ‫ماضيــه بلهجـ ٍ‬ ‫لبناني ْين‪.‬‬ ‫ـم‬ ‫واسـ ٍ‬ ‫ـة ْ‬ ‫َّ‬ ‫فــي أحــد فصــول الكتــاب األخيــر إشــراقةٌ روحيــة صغيــرة‪ ،‬لــم‬ ‫يهمــل الحارثــي تدوينهــا؛ فعلــى ســكّ ة القطــار البطــيء بيــن‬ ‫«كولومبــو» و«جفنــة»‪ ،‬التــي تســتغرق تســع ســاعات‪ ،‬محطّ ــة‬ ‫صغيــرة تدعــى «فافونيــا»‪ ،‬فإذا كان الراكب جالسـ ًا فــي العربة‬ ‫ـماة بـ(الشــرفة) يســتطيع إلقــاء نظــرة على بيوت‬ ‫األخيــرة المسـ ّ‬ ‫البلــدة المحيطــة‪ .‬فــي أحــد تلــك البيــوت‪ ،‬ذلــك اليــوم مــن عام‬ ‫الملونــة‪ ،‬تنشــر الثيــاب‪،‬‬ ‫شــابة‪ ،‬بثيابهــا‬ ‫‪2015‬م‪ ،‬كانــت فتــاة‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫(لربمــا تذكِّ رنــا الفتــاة بشــخصية «خاتــون» مــن ســرنديب‪ ،‬فــي‬ ‫َّ‬ ‫قصــة «ســيف الملــوك»‪ ،‬فــي «ألــف ليلــة وليلــة»)‪ .‬تحيــن مــن‬ ‫ّ‬ ‫تلــك الفتــاة التفاتــة جهــة القطــار‪ ،‬فتلمــح الراكــب الــذي علــى‬ ‫شــرفة القطــار‪ ،‬فتبتســم الفتــاة لهــذا المســافر‪ ،‬دون أن تعلــم‬ ‫التحيــة‪ .‬فــي لحظــة انطــاق القطــار‪،‬‬ ‫ـرد‬ ‫ـوح لــه‪ ،‬فيـ ّ‬ ‫مــن هــو‪ ،‬تلـ ِّ‬ ‫ّ‬ ‫فــي اللحظــة األخيــرة‪ ،‬تمامـاً‪ ،‬تبعث لــه قبلةً في الهــواء‪ ،‬كأنما‬ ‫الشــاب‪ ،‬وأرادت أن تحيــي‪،‬‬ ‫روح الحيــاة حلَّــت فــي جســدها‬ ‫ّ‬ ‫الرحالة الذي أشــرفت حياته‬ ‫بقبلتهــا تلــك‪ ،‬قلــب ذلــك الشــاعر‬ ‫ّ‬ ‫علــى النهايــة‪.‬‬

‫«كما كان‪..‬‬ ‫كما ك ّنا‪ ،‬دائماً‪ ،‬ننىس أرض املايض‪ ،‬ونصغي‪،‬‬ ‫ألم كلثوم وهي تنشد «ك ّل ليلة وك ّل يوم»‪..‬‬ ‫كك ّل ليلة‪ّ ،‬‬ ‫دمعا ً استعىص علينا وعىل أبي فراس‪،‬‬ ‫فيما نمضغ‪ ،‬من جديد‪،‬‬ ‫عشبة ِّ‬ ‫الش ْعر‬ ‫اليت ال تنتهي‬ ‫كمــا ال ننتهــي عنهــا‪ ،‬ك ّل يــوم وليلــة‪ ،‬كمــا ك ّنــا‪،‬‬ ‫دائمــاً‪،‬‬ ‫ال ننتهي في الليل أو النهار»‪ ■ .‬إبراهيم سعيد (سلطنة عمان)‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬


‫داروين وماركس‬

‫حني أصبحا شخصيتني روائيتني‬

‫مــا الــذي يغــري بعــض مؤ ِّلفــي الروايــات بإســناد أدوار البطولــة‪ ،‬يف نصوصهــم‪ ،‬إىل أدبــاء ومفكِّريــن وف َّنانــن ذوي‬ ‫ـرراً معقــو ً‬ ‫ال وكافيـ ًا العتبــار نصوصهــم هذه روايات‬ ‫وجــود فعــي يف التاريــخ املــايض أو الحــارض؟ وهــل ُي َعـ ّـد هــذا مـ ّ‬ ‫أليــة‬ ‫تاريخيــة؟ رغــم ارتيــايب‪ ،‬يف مقاربــايت لبعــض الروايــات‬ ‫العربيــة‪ ،‬واألجنبيــة‪ ،‬مــن حيــازة هذيــن الســؤالني ّ‬ ‫ّ‬ ‫أول مــا خطــر ببــايل‪ ،‬قبــل رشوعــي يف قــراءة روايــة حديثــة‬ ‫مرشوعيــة فكريــة أو مالءمــة منهجيــة‪ ،‬أعــرف بأنهــا ّ‬ ‫الصدور‪ ،‬مرتجمة من األملانية إىل الفرنســية‪ ،‬عنوانها هو‪ - Marx dans le jardin de Darwin« :‬ماركس يف‬ ‫حديقة داروين»‪« ،‬منشورات فالوا»‪ ،‬باريس‪ 300 ،2019 ،‬صفحة‪ ،‬ومؤ ّلفتها هي «‪ - Ilona Jerger‬إلونا يريجري»‪.‬‬

‫إلونا ييرجير ▲‬

‫أول وهلــة‪ ،‬بأنهــا وثيقــة‬ ‫ال تعــدم الروايــة قرائــن توحــي‪ ،‬مــن َّ‬ ‫تاريخيــة تســتند إلــى تاريــخ األفــكار فــي أوروبــا‪ ،‬فــي القــرن‬ ‫التاســع عشــر‪ ،‬مــن ناحيــة‪ ،‬وبأنهــا‪ ،‬مــن ناحيــة أخــرى‪ ،‬تعلــن‬ ‫حددهــا‬ ‫وفاءهــا الجمالــي‬ ‫بمقومــات الروايــة التاريخيــة كمــا َّ‬ ‫ّ‬ ‫وظَّ‬ ‫عملياً‪ -‬و«الترســكوت»‪ .‬فحبكة‬ ‫فها‪-‬‬ ‫وكما‬ ‫لوكاكش»‪،‬‬ ‫«جورج‬ ‫ّ‬ ‫الروايــة تتشــكَّ ل علــى خلفية تاريخيــة بانوراميــة حقيقية‪ ،‬تهيمن‬ ‫فكريتــان باذحتــان هما‪ :‬شــارل دارويــن اإلنجليزي‬ ‫عليهــا قامتــان‬ ‫َّ‬ ‫(‪ )1882 - 1809‬مؤ ِّلــف «أصــل األنــواع»‪ ،‬وكارل ماركــس األلماني‬ ‫(‪ ،)1883 - 1818‬مؤ ِّلــف «رأس المــال»‪ .‬كمــا أنهــا‪ ،‬أي الحبكــة‪،‬‬ ‫ـم أركان الروايــة التاريخيــة‪ ،‬وهــي‪:‬‬ ‫تســتوفي أهـ ّ‬ ‫* وحدة الزمن‪ ،‬وهو العام (‪ ،)1881‬تخصيصاً‪ :‬ففي هذه الســنة‪،‬‬ ‫ـرر‪ ،‬خاللهــا‪ ،‬مواعيــد لقائهما‬ ‫ســيلتقي الرجــان‪ّ ،‬‬ ‫ـرة‪ ،‬لتتكـ ّ‬ ‫ألول مـ ّ‬ ‫الحقاً‪.‬‬ ‫* وحــدة المــكان‪ ،‬وهــو مدينــة لنــدن‪ ،‬التــي يقطــن «ماركس» في‬ ‫إحــدى ضواحيهــا الفقيــرة‪ ،‬بينمــا يســكن «دارويــن» فــي إحــدى‬ ‫ضيعاتهــا البورجوازية‪.‬‬ ‫المتخيلــة‬ ‫«بيكيــت»‬ ‫شــخصية‬ ‫ترتيــب‬ ‫وهــو‬ ‫* وحــدة الحــدث‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫متخيلــة‪ -‬أيضــاً‪ -‬فــي حديقــة دارويــن‪.‬‬ ‫للقــاءات بينهمــا‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ـم ْين‪ ،‬سيشــرع‬ ‫العنصريْن‬ ‫انطالقـ ًا مــن هذيــن‬ ‫التخييلي ْين الحاسـ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫خاص َّيته‬ ‫ـص الروايــة‪ ،‬إذن‪ ،‬فــي االنزياح‪ -‬شــيئ ًا بعد شــيء‪ -‬عــن‬ ‫ِّ‬ ‫نـ ّ‬ ‫متخيــل حكائــي عجيــب‬ ‫ـاء‬ ‫ـ‬ ‫بن‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫نح‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫لينح‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫التاريخي‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫التوثيقي‬ ‫ِّ‬ ‫منبثــق‪ -‬رأس ـاً‪ -‬مــن بنــات أفــكار المؤلّفــة؛ أفــكار يــزدوج فيهــا‪-‬‬ ‫بمهــارة نــادرة‪ -‬االســتيهام بالهذيــان‪ ،‬والتخريــف بالســخرية‪،‬‬ ‫والمفارقــة بالضحــك‪ ،‬وذلــك مــن خــال لغــة أثيريــة مج َّنحــة‬ ‫تمتــاح مفرداتهــا مــن معجــم الكثافة الهيرميســية واالســتعارات‬ ‫الحذلقيــة‪.‬‬ ‫ذيلت‬ ‫ـم‪َّ ،‬‬ ‫تقــول المؤلِّفــة األلمانيــة «إلونــا ييرجيــر» فــي تنويه مهـ ّ‬ ‫بــه روايتهــا‪« :‬كان منطلقــي األصلي هو أن يكــون «داروين» وحده‬ ‫بطــ ً‬ ‫ا لروايتــي‪ ،‬لكننــي ســرعان مــا جعلــت ماركــس يشــاركه‬

‫تحرياتي‪،‬أنهمــا عاشــا‬ ‫البطولــة بعــد أن اكتشــفت‪ ،‬مــن خــال ِّ‬ ‫فــي الحقبــة نفســها‪ ،‬وفــي المدينــة نفســها؛ فــكان هــذا حافــز ًا‬ ‫أغرانــي بــأن‬ ‫أتخيــل حبكــة مشــتركة تكــون في مســتوى حيــاة كلّ‬ ‫َّ‬ ‫منهمــا‪ ،‬الحافلــة بعوامــل اإلحبــاط واالنتصــار‪.‬‬ ‫ولهــذه الغايــة‪ ،‬انتدبــت المؤلّفــة شــخصية «بيكيــت»‪ ،‬الــذي ال‬ ‫مهمــة الجمــع بينهما في‬ ‫وجــود لــه فــي عالــم الواقــع‪ ،‬لتنيــط بــه ّ‬ ‫لقــاء‪ .‬وهــو طبيــب ومث َّقــف‪ ،‬شــاءت الصدفــة الروائيــة الماكــرة‬ ‫بصحــة كلّ منهمــا المتدهــورة‪ ،‬قبــل أن ينهــي‬ ‫مهتم ـ ًا‬ ‫أن يكــون‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المــوت حياتهمــا الصاخبــة بفــارق ســن َت ْين‪.‬‬ ‫تــرى‪ ،‬مــاذا عســاهما ســيقوالن‪ ،‬السـ َّـيما أن المؤلّفــة اختــارت‪-‬‬ ‫ـاص بــه‪ ،‬وأن يكــون‬ ‫عمــداً‪ -‬أن يكــون لــكلّ منهمــا نمــط حيــاة خـ ّ‬ ‫تخيلــت‬ ‫لهــذا‬ ‫باآلخــر؟؛‬ ‫ــد عــدم اعترافــه‬ ‫معتــ ّز ًا‬ ‫بنظريتــه‪َ ،‬ح ّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫«دارويــن» متهالــكاً‪ ،‬فــي أوقات الفــراغ‪ ،‬على ملــذّ ات الحياة التي‬ ‫أمــا فــي أوقــات العمــل‪،‬‬ ‫توفِّرهــا بحبوحــة العيــش البورجــوازي‪ّ .‬‬ ‫التأمل في حيــاة ديدان الميــاه الراكدة واألتربة‬ ‫فهــو عاكــف علــى‬ ‫ُّ‬ ‫نظريتــه اإلحيائيــة الجريئــة‪،‬‬ ‫رة‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـعفه‬ ‫ـ‬ ‫ستس‬ ‫الرطبــة التــي‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫التــي جعلــت صيتــه يتجــاوز اآلفــاق‪« :‬فأبحاثه كانــت متداولة في‬ ‫ـزم الرســائل التــي‬ ‫جميــع أصقــاع المعمــور‪ ،‬كمــا تؤكِّ ــد هــذا حـ َ‬ ‫تتضمــن عبــارات اإلعجــاب كمــا‬ ‫يتوصــل بهــا‪ ،‬كلّ صبــاح‪ ،‬والتــي‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫نظريتــه فــي أصــل األنــواع‪ ،‬لــم تكــن فــي‬ ‫أن‬ ‫ـك‬ ‫ـ‬ ‫ذل‬ ‫ـار»؛‬ ‫ـ‬ ‫االستفس‬ ‫َّ‬ ‫تقديــره «متماســكة ومنطقيــة فحســب‪ ،‬بــل أيضـ ًا مقنعــة بحكــم‬ ‫ـور الحثيــث والمتواصل لألجناس‪ ،‬يبشــر بإمكانية إصالح‬ ‫أن التطـ ُّ‬ ‫أحــوال البشــرية‪ ،‬وتجويدهــا»‪.‬‬ ‫أمــا ماركــس‪ ،‬فقــد جعلتــه المؤلّفــة مدمن ـ ًا معاقــرة الخمــر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫رهانــ ًا علــى نســيان عابــر لمــا عاشــه فــي نهايــة حياتــه مــن‬ ‫بــؤس وضنــك وشــقاء‪ ،‬بســبب الديــون المتراكمــة عليــه‪ ،‬تارةً‪،‬‬ ‫الماديــة التاريخيــة‬ ‫نظريتــه‬ ‫منصرف ـاً‪ ،‬تــار ًة أخــرى‪ ،‬إلــى بنــاء‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫فــي الصــراع الطبقــي‪ ،‬تلــك التــي جعلــت منــه كذلــك مفكّ ــر ًا‬ ‫مرموقـ ًا فــي المحافــل األكاديميــة‪« ،‬يبشــر بمســتقبل مختلــف‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪75‬‬


‫ال تعدو رواية «إلونا‬ ‫يريجري» كونها ذريعة‬ ‫ماكيافيل ّية لالحتفاء‬ ‫باألدب وبالفنّ ؛‬ ‫من جهة كونهما‬ ‫فرصة مواتية‬ ‫مؤقتة ل َتعايف ّ‬ ‫كل‬ ‫ِ‬ ‫من الكاتب والق ّراء‬ ‫من بعض التوتُّر‬ ‫النفيس والقلق‬ ‫َ‬ ‫املحايث ْي‬ ‫الوجودي‬ ‫لحضارة الرسعة‬ ‫واالستهالك‪،‬‬ ‫االستالبية‬

‫‪76‬‬

‫ـور تدريجــي تلقائــي‪ ،‬بــل علــى‬ ‫للبشــرية‪ ،‬ال علــى أســاس تطـ ُّ‬ ‫ــاك المتحكّ ميــن باإلنتــاج‪،‬‬ ‫الم ّ‬ ‫أســاس الصــراع بيــن طبقــة ُ‬ ‫العمــال المنتجيــن للســلع»؛ صــراع ســيفضي إلــى‬ ‫وطبقــة‬ ‫ّ‬ ‫ـتؤدي بالنظــام الرأســمالي‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الت‬ ‫ـا»‬ ‫ـ‬ ‫البروليتاري‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫«ديكتاتوري‬ ‫ّ‬ ‫ـم‬ ‫تبع ـ ًا لقانــون «الحتميــة التاريخيــة»‪ ،‬إلــى اندمــار ذاتــي‪ُ ،‬ثـ َّ‬ ‫ـق االنتفــاع‬ ‫إلــى حكــم ديموقراطــي‪ ،‬يتم َّتــع فيــه العمــال بحـ ّ‬ ‫الطبيعــي والمطلــق مــن مــردود اإلنتــاج‪.‬‬ ‫يبــدو‪ ،‬إذن‪ ،‬أنــه ال وجــود لهامــش توافقــي يســمح بتحــاور‬ ‫موضوعــي بينهمــا؛ وهو ما جعــل بعض لقاءاتهما ت َّتســم بنبرة‬ ‫ـور‬ ‫ســجالية‪ ،‬هــي‪ -‬بالــذات‪ -‬مــا جعــل الحبكــة الحكائيــة تتطـ ّ‬ ‫نظري َت ْيــن‪ ،‬تقــوم كلّ منهمــا علــى‬ ‫علــى إيقــاع تنــازع عنيــف بيــن‬ ‫َّ‬ ‫رؤيــة للعالــم‪ ،‬مختلفــة عــن األخــرى‪ .‬ومــن أجــل تدبيــر محكم‬ ‫توســلت المؤلّفــة بثالث تقنيات ســردية متباينة‪،‬‬ ‫لهــذا التنــازع‪َّ ،‬‬ ‫لكنهــا متداخلــة ومتكاملــة‪ ،‬هي‪ :‬المونولــوغ الداخلي‪ ،‬والحوار‬ ‫المباشــر‪ ،‬والحكــي المتعالــي‪ .‬وال عجــب فــي أن هــذه التقنيات‬ ‫تدريجي ـاً‪ ،‬إلــى تجريــد كلّ مــن الرجل َْيــن مــن هالتــه‬ ‫تفضــي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫متعمــداً؛ ال إلى تبخيس‬ ‫ـعى‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫يس‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫منهم‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫بجع‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫المعرفي‬ ‫كلّ‬ ‫ِّ‬ ‫نظريــة اآلخــر‪ ،‬فحســب‪ ،‬بــل إلــى جعلهــا ملهــاة ومســخرة‪،‬‬ ‫مطلبــي التوتيــر والتشــويق‬ ‫أيضـاً‪ ،‬وهــو األســلوب الــذي يخــدم‬ ‫َ‬ ‫يلبــي حاج َتــي التخييــل والتخريــف‪.‬‬ ‫بقــدر مــا ِّ‬ ‫فبالنســبة إلــى التقنيــة األولى‪ ،‬تتخلَّل صفحــات الرواية مقاطع‬ ‫صامتــة‪ُ ،‬يخضــع فيهــا كلّ واحد نظريــة اآلخــر لمحاكمة هزئية‬ ‫فعليـاً‪ ،‬ضمن‬ ‫عمــا هــي عليــه بذاتهــا‪،‬‬ ‫كوميديــة تجعلهــا تنــزاح ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ـم‪ -‬تحيد عن بعدهــا التوثيقي‬ ‫ـ‬ ‫ث‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ســيرورة تاريــخ األفــكار‪ ،‬و‪-‬‬ ‫َّ‬ ‫أول وهلة‪ .‬فهذا «شــارل‬ ‫من‬ ‫الرواية‪،‬‬ ‫التاريخــي الــذي توحي بــه‬ ‫َّ‬ ‫دارويــن» يقــول‪ -‬مثـاً‪ ،‬في نفســه‪ -‬عن كتــاب «ماركس» «رأس‬ ‫المــال» الــذي اكتفــى بتصفُّحــه الســريع‪« :‬يــا لــه مــن كتــاب‬ ‫ثقيــل‪ ،‬صعــب الهضــم! وهــل بإمكانــه أن يكــون غيــر هــذا‪،‬‬ ‫ومؤلِّفــه شــبيه بالضبع‪ ،‬شــك ً‬ ‫أمــا «كارل ماركس»‬ ‫ال ورائحــةً ؟»‪ّ .‬‬ ‫فيقــول‪ ،‬فــي قــرارة نفســه‪ ،‬عــن خصمــه‪« :‬ســألقِّنه درس ـ ًا لــن‬ ‫ينســاه‪ ،‬حيــث ســأفضح‪ -‬دون هــوادة‪ -‬محاباتــه المخاتلــة‬ ‫بادعائــه أنــه غنوصــي‪ ،‬ال ينكــر وجــود‬ ‫للكنيســة األنجليكانيــة‪ّ ،‬‬ ‫ـور الكائنــات‬ ‫اللــه‪ .‬والحــال أن‬ ‫َّ‬ ‫نظريتــه فــي خلــق الكــون وتطـ ُّ‬ ‫ـوة‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫ألي‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫فيه‬ ‫ـكان‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ال‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫صرف‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫إلحادي‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫مادي‬ ‫هــي نظريــة ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫إلهيــة غيبيــة»!‬ ‫تدبيريــة ّ‬ ‫الجوانــي ســرعان مــا‬ ‫ـكي‬ ‫ـ‬ ‫الغروطيس‬ ‫ـاب‬ ‫ـ‬ ‫الخط‬ ‫ـذا‬ ‫ـ‬ ‫لكــن مثــل ه‬ ‫ّ‬ ‫يحــلّ مح ّلــه خطــاب آخــر فــي هيئــة تحــاور مباشــر‪ ،‬اســتداللي‬ ‫وموضوعــي‪ ،‬يتنــاول األســس الحجاجيــة لنظريــة كلّ منهمــا‪،‬‬ ‫كمــا فــي هــذا المقتبــس‪:‬‬ ‫نظريتــك حــول‬ ‫ «إن مــا أالحظــه‪ ،‬يــا عزيــزي دارويــن‪ ،‬هــو أن‬‫َّ‬ ‫ـور قــد تركــت ثغــرة هــي مــا يمكــن للماركســيين‪،‬‬ ‫قانــون التطـ ُّ‬ ‫اآلن‪ ،‬ملؤهــا!‬ ‫ـن هــذا‪ .‬فــإذا كان إلــه اإلنجيــل قــد مــات؛ فهــذا ال يعنــي‬ ‫ ال أظـ ّ‬‫مــوت كلّ اآللهــة؛ لهــذا‪ ،‬إن رؤيتك للعالم‪ ،‬يــا عزيزي ماركس‪،‬‬ ‫ال تخلــو من تبســيطية‪.‬‬ ‫ربمــا‪ .‬لكــن إلــه اإلنجيــل‪ ،‬فــي ثقافتنــا‪ ،‬هــو مــا نؤمــن بــه منــذ‬ ‫ َّ‬‫تصورنا للفردوس مرتبط به‪ .‬فإذا كان اإلنســان‬ ‫القديم‪ .‬كما أن‬ ‫ُّ‬ ‫ـدق وجــود مــكان طوبــاوي فــي حيــاة أخــرى‪ ،‬بعــد‬ ‫لــم يعــد يصـ ِّ‬ ‫المــوت‪ ،‬فــإن هــذا يح ّثــه علــى النضــال مــن أجــل حياة ســعيدة‬ ‫فــي دنيــاه؛ مــا يعنــي أن مصيــره ليــس العــذاب‪ ،‬طالمــا أنــه‬ ‫وجــود لجــزاء ينتظــره بعــد الموت‪.‬‬ ‫ وماذا بعد؟‬‫تصوري أن البشــر ال يريدون‪ ،‬فحســب‪،‬‬ ‫ففي‬ ‫أنا‪.‬‬ ‫ـل‬ ‫أتدخـ‬ ‫ هنــا‪،‬‬‫َّ‬ ‫ُّ‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫أن ينعموا بحياة ســعيدة‪ ،‬وأن يربحوا بضعة جنيهات إضافية‪،‬‬ ‫خاصــة‪ ،‬بج ّنــة‬ ‫وأن يشــغلوا ســاعات أقــلّ ؛ ذلــك أننــي َأ ِعدهــم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫صنــع‪ ،‬ويكونون فيها‬ ‫عــدن فــوق األرض ال يســتغلّهم فيها ّ‬ ‫رب َم ْ‬ ‫ـد التخمــة‪ ،‬ويتم َّتعــون‬ ‫ـ‬ ‫جميع ـ ًا أحــرار ًا ومتســاوين يأكلــون َح ّ‬ ‫بحريــة أن يفعلــوا ما يشــاؤون!‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ادعاء ساذج!»‪.‬‬ ‫ يا له من ّ‬‫ـور نوع مــن الرؤيــة التوافقية بين‬ ‫وســعي ًا مــن المؤلّفــة إلــى تصـ ُّ‬ ‫الرجليــن‪ ،‬عمــدت إلــى وســاطة الطبيــب «بيكيــت»‪ ،‬باعتبــاره‬ ‫صمــام أمــان ينظِّ ــم حركيــة المونولــوغ الداخلــي‪ ،‬والحــوار‬ ‫ّ‬ ‫النصــي للروايــة‪ ،‬و‪ -‬مــن‬ ‫المباشــر‪ ،‬ويضمــن‪ ،‬كذلــك‪ ،‬التالحــم‬ ‫ّ‬ ‫يؤمــن االنســياب التسلســلي المنطقــي للخطاب الســردي‬ ‫ـم‪ِّ -‬‬ ‫َثـ َّ‬ ‫الشــامل‪ .‬فبخصوص مســألة الدين اإلشــكالية‪ ،‬مثالً‪ ،‬اســتطاع‬ ‫«بيكيــت»‪ ،‬بفضــل حنكتــه التفاوضيــة والتدبيريــة‪ ،‬أن يق ِّلــص‬ ‫الحــدود الفارقــة بيــن «ماركــس»‪ ،‬و«دارويــن»‪ ،‬حيــث أمكن له‬ ‫ـور‪ ،‬مــن غيــر ســقوط فــي التلفيقيــة‪ ،‬قواســم مشــتركة‬ ‫أن يتصـ َّ‬ ‫بينهمــا‪ ،‬تقــوم علــى «تجريــد الدين مــن كلّ قدســية‪ ،‬واعتباره‪-‬‬ ‫ـرد بنــاء اجتماعــي‪ ،‬وثقافــي‪ ،‬وظيفتــه التاريخيــة‬ ‫مــن َثـ َّ‬ ‫ـم‪ -‬مجـ َّ‬ ‫األســاس هــي ضمــان التماســك والنظــام فــي المجتمعــات‬ ‫البشــرية التقليديــة‪ ،‬مــن خــال التهديــد بالجحيــم‪ ،‬والوعــد‬ ‫بالفــردوس الســماوي»‪.‬‬ ‫وآللياتها‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫الرواي‬ ‫ـون‬ ‫ـ‬ ‫لمضم‬ ‫المقتضب‬ ‫فــي ضــوء هذا العــرض‬ ‫ّ‬ ‫ـأي والء‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫تدي‬ ‫ال‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫الرواي‬ ‫أن‬ ‫إذن‪،‬‬ ‫ـح‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ض‬ ‫الشــكلية والتقنيــة‪ ،‬ي َّت‬ ‫ّ‬ ‫ـرف‪ ،‬فــي نظريــة األجنــاس األدبيــة‪،‬‬ ‫فكــري أو جمالــي لمــا ُيعـ َ‬ ‫بـ«الروايــة التاريخيــة»‪ ،‬فقــد عمــدت المؤلّفــة إلــى تخييــب‬ ‫مبيــت‪ -‬مــا‬ ‫أفــق انتظــار القــارئ‪ ،‬حيــث أجهضــت‪ -‬بتصميــم َّ‬ ‫ـدون‪،‬‬ ‫كان يتوقَّعــه منهــا‪ ،‬وهــو أن تجعــل مــن النـ ّ‬ ‫ـص وثيقــة تـ ّ‬ ‫فكريان‬ ‫ـقان‬ ‫ـ‬ ‫نس‬ ‫عليه‬ ‫بأمانــة‪ ،‬ســياق ًا معرفيـاً‪ ،‬وتاريخيـ ًا يهيمــن‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫كبيــران مــا يــزاالن يثيــران‪ ،‬هنــا وهنــاك‪ ،‬كثيــر ًا مــن األســئلة‪،‬‬ ‫همــا‪ :‬الماركســية‪ ،‬والداروينيــة‪.‬‬ ‫أي وازع جمالــي هــذا الــذي منــع المؤلّفــة مــن تصويــر‬ ‫لكــن‪ّ ،‬‬ ‫فعليــاً‪ ،‬فــي حياتهمــا‬ ‫همــا‪،‬‬ ‫كمــا‬ ‫و«دارويــن»‬ ‫«ماركــس»‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الشــخصية‪ ،‬وفــي الصيــرورة الفكريــة للقــرن التاســع عشــر‪،‬‬ ‫ـزج‬ ‫ووســوس لهــا‪ -‬مــن َثـ َّ‬ ‫ـم‪ -‬أن تفتــري عليهمــا‪ ،‬مــن خــال الـ ّ‬ ‫بهمــا‪ -‬عنــوةً‪ -‬فــي مواقــف كاريكاتوريــة مضحكــة؟ إنــه وازع‬ ‫شخصي َت ْيهما‪،‬‬ ‫التسـلّي واالنتشــاء ببلوغ أقصى غاية في تخييل‬ ‫َّ‬ ‫تحركهمــا‬ ‫ـن‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫ـرد ّ‬ ‫ِّ‬ ‫علــى نحــو تصبحــان معــه مجـ َّ‬ ‫إمع َت ْيــن ّ‬ ‫طيع َت ْ‬ ‫وفــق رغباتهــا وأهوائهــا‪ .‬ألــم تعتــرف هــي نفســها صراحــةً ‪ ،‬فــي‬ ‫ذلــك التنويــه المشــار إليه آنفاً‪ ،‬بأن غايتها مــن تأليف «ماركس‬ ‫فــي حديقــة داروين» «غايــة لهوانيــة هيدونيــة (‪»)hédoniste‬‬ ‫تعيــة‪ ،‬هــي ع ّلــة وجــود كلّ إبــداع روائي؟ ليســت‬ ‫محضــة؛ أي ُم ّ‬ ‫المؤلّفــة وحدهــا مــن تسـلّى وانتشــى‪ ،‬بــل أنــا‪ -‬أيضـاً‪ -‬بوصفــي‬ ‫لنــص الروايــة‪ ،‬حيــث تم َّنيــت لــو أنهــا ضاعفــت عــدد‬ ‫قارئــ ًا‬ ‫ّ‬ ‫صفحاتهــا‪ ،‬لكــي تــزداد متعتــي بقراءتهــا‪.‬‬ ‫مبــرر‪ ،‬إذن‪ ،‬الســتيحاء المؤلِّفــة شــخصي َت ْي «دارويــن»‬ ‫ال‬ ‫ّ‬ ‫بتخيل كلّ منهما‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫التله‬ ‫ر‬ ‫مبر‬ ‫ـوى‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫التاريخ‪،‬‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـس»‬ ‫ـ‬ ‫و«مارك‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫ـرض اآلخــر للتهكــم المضحــك‪ .‬فبخــاف نــوع مــن الروايــة‪،‬‬ ‫يعـ ّ‬ ‫لبــث رســائل وعظيــة‬ ‫يجعــل مــن التاريــخ وســاطة أخالقيــة‬ ‫ّ‬ ‫ـراء علــى اقتفــاء آثــار صانعــي التاريــخ‪ ،‬واالقتــداء‬ ‫تحـ ّ‬ ‫ـث القـ ّ‬ ‫بمواقفهــم وأفكارهــم‪ ،‬ال تعــدو روايــة «إلونــا ييرجيــر» كونهــا‬ ‫ـن؛ من جهة كونهما‬ ‫ذريعــة‬ ‫ماكيافيليــة لالحتفاء باألدب وبالفـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ـراء مــن‬ ‫فرصــة مواتيــة مؤقتــة ل َتعافــي كلّ مــن الكاتــب والقـ ّ‬ ‫بعــض التو ُّتــر النفســي والقلــق الوجــودي المحايث َْيــن لحضــارة‬ ‫الســرعة واالســتهالك‪ ،‬االســتالبية‪ ■ .‬رشــيد بنحــدو (المغــرب)‬


‫ترجمات‬

‫فريد ادغو‬

‫ثالث قصص‬

‫ُولــد فريــد ادغــو عــام ‪ ،1936‬يف اســتانبول‪ .‬تخـ َّـرج يف أكادمييــة الفنــون الجميلــة‪ ،‬ثــم تابــع دراســته يف باريس‪.‬‬ ‫والقصــة‪ ،‬رســم بقلمــه‬ ‫ـن التشــكييل‪ ،‬وعمــل يف الصحافــة‪ ،‬وحــن كتــب الشــعر والروايــة‬ ‫ـم بالرســم والفـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫اهتـ َّ‬ ‫معانــاة اإلنســان وتعاســته وغربتــه وأزمتــه الروحيــة‪ ،‬واختــزل الكثــر جـ ّـداً مــن فكــره وفلســفته يف الحيــاة‪ ،‬يف‬ ‫القصــة القصــرة‬ ‫قصصــه القصــرة جـ ّـداً‪ ،‬بأســلوب شــعري وحــواري‪ .‬قــال الكثــر بكلــات قليلــة‪ ،‬ليصبــح رائــد‬ ‫ّ‬ ‫جـ ّـداً يف األدب الــريك املعــارص‪ .‬ونــال جوائــز أدبيــة عديــدة‪ ،‬و ُن ِقلــت بعــض مــن أعاملــه الروائيــة إىل الشاشــة‬ ‫البيضاء‪.‬‬

‫الجـ ّـلد‬

‫فريد ادغو ▲‬

‫يقتادونهــم‪ ..‬أعدادهــم تتزايــد يومــ ًا بعــد يــوم‪ ...‬المحكــوم‬ ‫عليهــم باإلعــدام‪ .‬شــنقهم وظيفتــي! ال يمكننــي النــوم ليــاً؛‬ ‫يجــب أن أكــون فــي ســاحة المدينــة قبيــل طلــوع الفجــر‪.‬‬ ‫أمــر مزعــج أن أكــون هنــاك قبيــل طلــوع الفجــر‪ ...‬لكننــي‬ ‫أعلــم أنهــم ال يمكنهــم النــوم‪ ،‬أيض ـاً‪ .‬أرى فــي عيونهــم إرهــاق‬ ‫الليالــي البيضــاء‪ ،‬المصحــوب بالخــوف‪َ .‬شـ ْنق الرجــال يسـ ِّـبب‬ ‫أتقيــأ‪ ،‬ثــم اعتــدت علــى‬ ‫لــي الغثيــان‪ .‬فــي بدايــة األمــر‪ ،‬كنــت ّ‬ ‫منصــة‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ـزل‬ ‫ـ‬ ‫أن‬ ‫ـر‪.‬‬ ‫ذلــك‪ .‬ال أشــعر بشــيء‪ ،‬اآلن‪ ،‬أبــداً‪ .‬أتذكّ ـ‬ ‫ّ‬ ‫إعــدام‪ ،‬وأصعــد أخــرى‪ ...‬أمــس‪ ،‬شــنقت اثنــي عشــر فــرداً‪ .‬لــم‬ ‫يتط َّلــب إنجــاز ذلــك وقتـ ًا طويـاً‪ ،‬كان أقــلّ مــن ســاعة واحــدة‪.‬‬ ‫مليـاً‪ ،‬فــأرى فيهــا‬ ‫ال أحـ ّ‬ ‫ـب إضاعــة الوقــت‪ .‬أنظــر إلــى عيونهــم ّ‬ ‫التوحــد‪ ،‬وأرى العــدم‪ ،‬وأرى العجــز‪ ..‬ال شــيء آخــر‪ .‬اآلالف‬ ‫ُّ‬ ‫مــن العيــون‪ ...‬فــي كلّ عيــن منهــا عجــز المتنــا ٍه‪ ،‬لكنــه مختلف‬ ‫عــن اآلخــر‪ ،‬وال يمحــى مــن الذاكــرة‪ ،‬لكــن ال شــعور بالشــفقة‬ ‫ربمــا‬ ‫ربمــا مــا كان‪ ،‬أبــداً‪ .‬ال أذكــر ذلــك‪ .‬أجــل‪ ،‬ال أتذكَّ ــر‪َّ .‬‬ ‫ـدي‪َّ .‬‬ ‫لـ ّ‬ ‫مــا كان‪ ،‬أبــداً‪ .‬ال معنــى للشــفقة‪ ،‬فــي الواقــع‪ ،‬وال فــي الخيال‪.‬‬ ‫الشــفقة كلمــة ال معنــى لهــا‪ .‬الرغبــة بالقتــل (أي الحقــد) هــو‬ ‫اإلحســاس الوحيــد الــذي يعيــش فــي داخلــي‪ .‬ليســت رغبــةً‬ ‫األيــام‪ ،‬ال‬ ‫بــل شــهوة‪ ..‬هــذه الشــهوة التــي تــزداد اضطرامـ ًا مــع ّ‬ ‫أعلــم إلــى أيــن ســتوصلني!‪ .‬كلَّمــا فكّ ــرت أنهــم قــد ال يقتــادون‬ ‫أحــد ًا للشــنق‪ ،‬يوم ـ ًا مــا‪ ،‬ينتابنــي الخــوف مــن أن أندفــع إلــى‬ ‫الشــارع‪ ،‬وأقتــل كلّ مــن أراه أمامــي‪ .‬لكن‪ ،‬في الواقع‪ ،‬ال شــيء‬

‫يدعــو للخــوف أبــداً‪ ،‬فأعــداد المحكوميــن ال تتناقــص‪ .‬الخــوف‪،‬‬ ‫ـي‪.‬‬ ‫والحقــد‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫والتوحــد‪ ،‬والعجــز فــي عيــون مــن يقتادونهــم إلـ ّ‬ ‫كفي‪.‬‬ ‫في‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫أعناقه‬ ‫ـرارة‬ ‫ـ‬ ‫بح‬ ‫ـعر‬ ‫ـ‬ ‫سأش‬ ‫ـيقتادونهم‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫واه!‪...‬‬ ‫واه‪..‬‬ ‫َّ‬ ‫سأســألهم عــن طلبهــم األخير‪ .‬هذا محض ســخافة‪ .‬ماذا يمكن‬ ‫ـرر حبـ ً‬ ‫ا‬ ‫أن يكــون؟ التبـ ُّ‬ ‫ـول؟ أغلبهــم يبولــون قبــل اإلعــدام‪ .‬أمـ ِّ‬ ‫مغموسـ ًا بالزيــت حــول رقابهم؛ حرارة أعناقهــم كحرارة الجمر‬ ‫تلســع يــدي‪ .‬أدرك خوفهــم مــن انكمــاش لحــم أعناقهــم (هــذا‬ ‫لحــم الشــباب)‪ .‬أجــل‪ ،‬أغلبهم من الشــباب‪ .‬ال أبالي‪ ،‬فوظيفتي‬ ‫تردد‪.‬‬ ‫إلي‪ ،‬وبالســرعة القصوى‪ ،‬ودون أدنى ُّ‬ ‫شــنق كلّ من ُيقتاد ّ‬ ‫ـداً‪ ،‬فأنــا أب لثالثــة‬ ‫عشــر ليــرات للــرأس الواحــد‪ .‬هــذا قليــل جـ ّ‬ ‫جيدة‪ ،‬بالمقارنة مع األحوال المعيشــية‬ ‫أطفال‪ ،‬لكن األشــغال ّ‬ ‫األيــام‪ .‬أعدادهــم فــي ازديــاد‪ ،‬يومـ ًا بعــد يــوم‪،‬‬ ‫الســائدة هــذه ّ‬ ‫مــن رأس إلــى رأســين‪.‬‬ ‫حيــن ينتهــي عملــي‪ ،‬آتــي إلــى هنــا‪ ،‬كــي أشــرب‪ .‬الــكلّ ينظــر‬ ‫عمــا يفعلونــه؟ مــاذا‬ ‫ـي بســخط‪ .‬لمــاذا؟ أيختلــف مــا أفعلــه ّ‬ ‫إلـ ّ‬ ‫أفعــل ســوى تحقيــق رغباتهــم؟ لــكل امـ ٍ‬ ‫ـرئ مهنــة يمتهنهــا‪ .‬كلّ‬ ‫فــرد فــي المجتمــع لــه عملــه وموقعــه فــي هــذه الحيــاة‪ .‬هــذا‬ ‫هــو عملــي‪ .‬لقــد اختــرت هــذه المهنــة نتيجــة كســلي‪ .‬أجــل‪.‬‬ ‫أقــول بصراحــة‪ :‬أنــا رجــل كســول‪ .‬أريــد العمل الســهل القليل‪،‬‬ ‫االدعــاء بصعوبة هذا العمل‪.‬‬ ‫والكســب الكثيــر‪ ،‬فــا أحد يمكنه ِّ‬ ‫أنــا مــن ال أنــام ليـاً‪ ،‬وأســعى إلــى ســاحة المدينــة قبيــل طلــوع‬ ‫جلداً‪ .‬هأنــذا أعرض‬ ‫ـئ ابنــي ليصبــح ّ‬ ‫الفجــر‪ .‬اســمعوني‪ ،‬سأنشـ ُ‬ ‫جلداً‪ ،‬وأن يســلك‬ ‫ـدي بصراحة‪ .‬أجــل‪ ،‬أريده أن يصبح ّ‬ ‫كلّ مــا لـ ّ‬ ‫طريقي نفســه‪.‬‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪77‬‬


‫أقف أمام القاضي‪.‬‬

‫ح ْكم‬ ‫ال ُ‬

‫يسألني عن اسمي‪.‬‬ ‫حكيم‪ ،‬أقول‪.‬‬

‫يسألني عن اسم شهرتي‪.‬‬ ‫صورة‪ ،‬أقول‪.‬‬

‫يسألني عن عمري‪.‬‬ ‫أربعون‪ ،‬أقول‪.‬‬

‫ادعــي بــه عليــك‪ ،‬أنــت قــد هجــرت أُســرتك‪ ،‬ولــم‬ ‫بحســب مــا ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ـؤد مــا يجــب عليــك مــن التزامــات تجــاه أفــراد أســرتك‪ .‬هــل‬ ‫تـ ِّ‬ ‫االدعــاء صحيــح؟ يقــول‪.‬‬ ‫هــذا ِّ‬

‫صحيح‪ ،‬أقول‪.‬‬

‫يخاطب القاضي الكاتب‪:‬‬

‫اكتــب‪ :‬اعتــرف المتهــم بذنبــه‪ .‬لقــد قــال صراحــةً ‪ ،‬إنــه هجــر‬

‫ـؤد مــا يجــب عليــه مــن التزامــات تجاههــا‪.‬‬ ‫أُســرته‪ ،‬ولــم يـ ِّ‬ ‫أقول للقاضي‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫أدت ما يجــب عليها من‬ ‫ـم ال تســأل إن كانت أســرتي قد ّ‬ ‫لكــن‪ِ ،‬لـ َ‬ ‫ـدث‪ ،‬يصمتون‬ ‫التزامــات تجاهــي أم لــم تفعــل؟ حيــن كنت أتحـ َّ‬ ‫مثــل الخرســان‪ .‬كلَّمــا أقتــرب منهــم‪ ،‬يبتعــدون عنــي‪ .‬لــم ن َّتفق‬ ‫ـط‪ .‬أجــل‪ ،‬لقــد هجرتهــم فــي نهايــة األمــر‪،‬‬ ‫علــى أمــر واحــد‪ ،‬قـ ّ‬ ‫لكــن كان ذلــك نتيجة يأســي‪.‬‬ ‫هــذا موضــوع لدعــوى مختلفــة‪ ،‬يقــول القاضــي‪ ،‬ثــم يتابــع‪:‬‬ ‫ـق لــك رفــع دعــوى‪ ،‬لكنــك لــم تقــم بذلــك؛‬ ‫أنــت‪ ،‬أيض ـاً‪ ،‬يحـ ّ‬ ‫مــع هــذا ال تــزال تحتفــظ بح ّقــك هــذا‪.‬‬ ‫ضدك‪ ،‬اآلن‪.‬‬ ‫لكن ذلك ال يمنع من صدور حكم قضائي ّ‬ ‫ما الجدوى من ذلك؟ أسأل القاضي‪.‬‬ ‫ضدهــم‬ ‫ـم قضائــي ّ‬ ‫إن كســبت دعــواك ّ‬ ‫ضدهــم‪ ،‬فســيصدر ُح ْكـ ٌ‬ ‫أيضـاً‪ ،‬يقــول القاضــي‪.‬‬ ‫ذلك يعني أننا جميع ًا مدانون‪ .‬أليس كذلك؟ أقول‪.‬‬ ‫أجــل‪ ،‬لكــن هــذه التســاؤالت خــارج نطــاق الدعــوى؛ موضــوع‬ ‫جلســتنا‪ .‬نحــن فــي المحكمــة ولســنا فــي المقهــى‪ ،‬يقــول‬ ‫القاضــي‪.‬‬ ‫علــى الحائــط‪ ،‬خلــف القاضــي‪ ،‬لوحــة لميــزان يم ّثــل العدالــة‪.‬‬ ‫ذلــك الميــزان متعــادل الك َّف َت ْيــن‪ ،‬دائمـاً‪.‬‬

‫ضيف غري مرت َقب‬

‫‪( Nese Erdok‬تركيا) ▼‬

‫‪78‬‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫أوالً‪ ،‬ثــم طــرق بابــي بعــد فتــرة وجيــزة‪ .‬مــن‬ ‫نــادى باســمي‪ّ ،‬‬ ‫المتأخــرة مــن الليــل؟‪ ،‬قلــت‪.‬‬ ‫ـاعة‬ ‫ـ‬ ‫الس‬ ‫ـذه‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ينادينــي فــي مثــل‬ ‫ِّ‬ ‫لــم أكتــرث فــي بدايــة األمــر‪ ،‬لكني‪ ،‬بعــد أن طُ ـرِق البــاب ثانيةً ‪،‬‬ ‫نهضــت مــن فراشــي‪ .‬أشــعلت النــور‪ .‬هبطــت الــدرج‪ ،‬لكننــي‬ ‫لــم أفتــح البــاب‪.‬‬ ‫اكتفيت بالنداء‪ ،‬من خلف الباب‪:‬‬ ‫«من بالباب؟»‬ ‫ما من مجيب‪.‬‬ ‫ناديت ثانية‪:‬‬ ‫«من بالباب؟»‬ ‫ما من مجيب‪.‬‬ ‫«اغرب‪ ،‬إذن»‪ ،‬صحت‪.‬‬ ‫صعدت الدرج‪.‬‬ ‫أطفأت النور‪ .‬دخلت فراشي‪.‬‬ ‫لكــن النــوم‪ ...‬إذا مــا قُطــع نومــك ال يمكنــك النــوم حــالَ وضــع‬ ‫رأســك علــى الوســادة‪ ،‬ثانيةً ‪.‬‬ ‫انتظرت برهةً من الوقت‪.‬‬ ‫صوت ينادي باسمي‪ ،‬ثانيةً ‪.‬‬ ‫لم أكترث‪.‬‬ ‫مدة قصيرة‪.‬‬ ‫مضت ّ‬ ‫ثم طُ رق الباب‪ ،‬بعنف‪ ،‬ثانيةً ‪.‬‬ ‫نهضت من فراشي‪ .‬أشعلت النور‪ .‬هبطت الدرج‪.‬‬ ‫ناديت من خلف الباب‪:‬‬ ‫«من بالباب؟»‬ ‫ما من مجيب‪.‬‬ ‫«من بالباب؟»‪ ،‬قلت‪« .‬من أنت؟»‪« .‬ماذا تريد؟»‪.‬‬


‫‪( Nese Erdok‬تركيا) ▲‬

‫صمــت قصيــر‪ ،‬ثــم ســمعت صوت ًا كأنه صــادر من أعمــاق كهف‬ ‫ال مــن خلــف الباب‪:‬‬ ‫«أنا‪ .‬أنا صديق لك قديم‪ ،‬ألم تعرفني؟»‬ ‫أتعرفــك‪ .‬مــا اســمك؟»‪،‬‬ ‫ـدي‪ .‬لــم‬ ‫«ال؛ صوتــك غيــر مألــوف لـ َّ‬ ‫ّ‬ ‫قلــت‪ .‬ذكــر اســمه لــي‪ .‬اســم ليــس مــن األســماء التــي أعرفها؛‬ ‫أقصــد ليــس مــن أصدقائــي أو معارفــي‪ ،‬ال مــن قريــب أو بعيد‪.‬‬ ‫«ال أعرفك‪ .‬لست أحد ًا من أصدقائي»‪ ،‬قلت‪.‬‬ ‫«هكــذا‪ ،‬إذن! لقــد نســيتني ســريعاً! ال بــأس‪ ،‬أنــا ذاهــب‪ .‬لــن‬ ‫أزعجــك ثانيــةً »‪.‬‬ ‫«تو َّقــف»‪ ،‬قلــت مــن خلــف البــاب‪« .‬هل أنــت بحاجة إلى شــيء‬ ‫ما؟»‬ ‫ِ‬ ‫ــم تريــد معرفــة ذلــك؟»‪ ،‬قــال‬ ‫«مــا دمــت لــم‬ ‫تتعرفنــي‪ ،‬فل َ‬ ‫َّ‬ ‫الصــوت القــادم من خلف الباب‪ ،‬ثم اســتأنف‪« :‬ليلة ســعيدة»‪.‬‬ ‫أصغيت إلى وقع الخطوات المبتعدة‪.‬‬ ‫فــي تلــك اللحظة‪ ،‬أدركــت أن الصوت الذي نادانــي‪ .‬قبل قليل‪،‬‬ ‫لــن يســمعني إذا مــا صعــدت إلــى غرفتــي ودخلت فراشــي‪ .‬لن‬ ‫يعــود ثانيةً ويطــرق بابي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫فتحت الباب‪ِ :‬ظ ٌل يعرج‪ ،‬مبتعدا نحو باب الحديقة‪.‬‬ ‫أتعرفك»‪.‬‬ ‫«توقَّف‪ ،‬ال تذهب»‪ ،‬قلت‪« .‬تعال حتى لو لم‬ ‫َّ‬

‫لم يستدر‪.‬‬ ‫«إنــه الضعــف فــي الذاكــرة»‪ ،‬صحــت مــن خلفــه‪« .‬ال ِك َبــر‪ ...‬ال‬ ‫تغضــب! تعــال‪ .‬اســمعني‪ ،‬لقــد تذكَّ رتــك اآلن (كذبــت!)‪ .‬لقــد‬ ‫بــدا لــي صوتــك غريب ـ ًا قبــل قليــل‪ ،‬لكنــي حيــن رأيتــك اآلن‪...‬‬ ‫أر شــيئ ًا ســوى ظـ ّ ً‬ ‫ـا معتمـ ًا يعــرج) تذكَّ رتــك‪ .‬أنــت صديــق‬ ‫(لــم َ‬ ‫ِ‬ ‫ـم تديــر ظهــرك لــي؟ تعــال‪ ،‬لنشــعل الموقــدة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ـي‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫قديــم‬ ‫َ‬ ‫ونحكــي همومنــا‪ ..‬ونواســي أنفســنا قليـاً‪ ،‬ونســتعيد ذكريــات‬ ‫مــن ّأيــام مضــت»‪.‬‬ ‫لمحته في الظلمة يستدير نحوي‪.‬‬ ‫األيــام الماضيــة‪ ،‬وال األصدقــاء‬ ‫«أنــت ال تتذكَّ ــر شــيئاً‪ :‬ال ّ‬ ‫القدامــى‪ ،‬وال األحــزان القديمــة»‪ ،‬قــال‪.‬‬ ‫تعرفــك‪ ،‬وأنــا فــي‬ ‫«ال تهــذر‪ .‬إنهــا ســكرة النــوم‪ .‬كيــف يمكننــي ُّ‬ ‫ســكرة النــوم؟»‪ ،‬قلــت‪.‬‬ ‫«لقد طردتني قبل قليل»‪.‬‬ ‫صمت‪ ،‬ولم تجب على سؤالي»‪.‬‬ ‫«لكنك‬ ‫ّ‬ ‫«أح ّقـ ًا تريــد مجيئــي؟ أح ّق ًا تريد إيوائي فــي بيتك؟ أال تخاف؟»‪،‬‬ ‫قال‪.‬‬ ‫هيــا‬ ‫ـل؟‬ ‫ـ‬ ‫اللي‬ ‫ـف‬ ‫ـ‬ ‫منتص‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫وف‬ ‫‪،‬‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫الج‬ ‫ـذا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـتذهب‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫أي‬ ‫ـذر»‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫«ال ته‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ادخــل»‪ ،‬قلــت‪ ■ .‬ترجمــة عــن التركيــة‪ :‬صفــوان الشــلبي (األردن)‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪79‬‬


‫ـمايس‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫الحلم‬ ‫ّ‬ ‫(فانغ فانغ)‬

‫فانغ فانغ ▲‬

‫‪80‬‬

‫قبــل بضعــة ّأيــام‪ ،‬أصابنــي المــرض بســبب اإلرهــاق الشــديد‪،‬‬ ‫حبــة أرز‪ ،‬فمــا إن أتنــاول شــيئ ًا حتــى‬ ‫ولــم أعــد أســتطيع ابتــاع ّ‬ ‫أفــرغ مــا فــي جوفــي‪ .‬انقضــى يومــان‪ ،‬لــم أســتطع فيهــا الوقــوف‬ ‫ـي‪ ،‬وكنــت مــا إن أســير خطوتيــن‪ ،‬حتــى أشــعر بــدوار‬ ‫علــى قدمـ ّ‬ ‫ـن أن العــاج‬ ‫حـ ّ‬ ‫ـاد‪ ،‬وكأن نهايتــي قــد اقتربــت! وطالمــا كنــت أظـ ّ‬ ‫الروحــي يمكن اســتبداله بالطبيب‪ ،‬للتعافي مــن المرض (دائماً‪،‬‬ ‫كنــت أقــاوم هــذا المــرض)‪ ،‬لكــن عندمــا وصــل المــرض إلــى هذه‬ ‫المرحلــة‪ ،‬لــم يعــد العــاج الروحــي مجدي ـاً‪ ،‬بــل صــار ســاح ًا‬ ‫ـدي‪ ،‬وفــي النهايــة أقلعــت عــن العــاج الروحــي‪ ،‬وذهبــت إلى‬ ‫ضـ ّ‬ ‫المشــفى حيــث المــكان الــذي يضايقنــي كثيــراً‪.‬‬ ‫الطبــي‪ ،‬عثــروا علــى حصــوة في المــرارة‪،‬‬ ‫وبعــد انتهــاء الفحــص‬ ‫ّ‬ ‫يبلــغ طولهــا ســنتيمترين‪ ،‬وعرضهــا ســنتيمتر واحــد‪ ،‬ولــم تكــن‬ ‫حصــوة صغيــرة‪ .‬وكان مثلــي مثــل الكثيــر مــن الكُ ّتاب والشــعراء‬ ‫الذيــن أصابهــم هــذا المــرض‪ ،‬مثــل السـ ِّـيد شــو تشــي‪ ،‬وهونــغ‬ ‫يانــغ‪ ،‬ولــوه ون‪ ،‬وليــو يــي شــان‪ .‬وإذا فكَّ ــرت فــي أنهــم يمتلكــون‬ ‫ـك‪ -‬لســت أقــلّ منهــم‪،‬‬ ‫هــذه الحصــوة فــي المــرارة‪ ،‬فأنــا ‪-‬بــا شـ ّ‬ ‫وإل فســأبدو أننــي لســت فــي الك ّفــة ذاتهــا مــع هــؤالء‪ .‬وشــعرت‬ ‫ّ‬ ‫وقتهــا أن الرئيــس األميركــي بيــل كلينتــون األشــول‪ ،‬قــد تســاوى‬ ‫عامــة الشــعب الشـوِل مثلــه‪.‬‬ ‫مــع هــؤالء مــن أبنــاء ّ‬ ‫ممــن يعانــون مــن حصــوات‬ ‫ـخاص‬ ‫ـ‬ ‫األش‬ ‫وألن هنــاك الكثيــر مــن‬ ‫َّ‬ ‫المــرارة‪ ،‬فطــن الكثيــر مــن أصدقائــي إلــى طــرق العــاج‪ ،‬ودائمـ ًا‬ ‫يتحدثون‬ ‫مــا كانــوا يزورونــي‪ ،‬ويخبروني بهذه الوســائل‪ .‬البعــض‬ ‫َّ‬ ‫التدخــل الجراحــي‪ ،‬وآخرون‬ ‫عــن طريقــة التفتيــت‪ ،‬وآخــرون عن‬ ‫ُّ‬ ‫يقولــون إن رياضــة جونغتشــي تف ّتــت الحصــوات‪ ،‬وغيرهــم‬ ‫نصحونــي باســتخدام الســكّ ين الصغيــر فــي انتــزاع الحصــوة‪..‬‬ ‫لكنــي رفضــت كلّ هــذه الوســائل‪ .‬وبمنتهــى البســاطة‪ ،‬ظننــت أن‬ ‫األيام‬ ‫ـي ّ‬ ‫داخــل مرارتــي تنمــو قطعــة مــن الماس‪ ،‬وتكبــر مع مضـ ّ‬ ‫(وقــد علمــت أن الحصــوة يمكــن أن تغــدو فــي حجــم البيضــة)‪،‬‬ ‫وهــذا األمــر جعلنــي أكاد أرقــص طربـاً‪.‬‬ ‫خطــرت فــي بالــي هــذه الفكــرة‪ ،‬حينمــا قــرأت ذات يــوم‪ ،‬فــي‬ ‫الجريــدة‪ ،‬خبــر ًا عــن شــخص أخرجــوا مــن مرارتــه قطعــة ماس‪،‬‬ ‫ـك‪ -‬لســت أقــلّ مــن هــذا الشــخص‪ .‬أنــا‬ ‫فشــعرت بأننــي ‪-‬بــا شـ ّ‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫متخرجــة فــي الجامعــة‪ ،‬وعلى قدر من الثّقافــة والفكر الصائب‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫جيــدة‪ ،‬وأســرتي عريقــة؛ فجميــع أفــراد العائلــة علــى‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫وصح‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫قــدر كبيــر مــن الثّقافــة‪ ،‬فهــل هــذه الحصــوة التــي تكبــر داخــل‬ ‫خاصــة هــؤالء األجانــب‪ ،‬وأنــا‬ ‫ممــا يمتلكــه غيــري‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫جســدي أقــلّ ّ‬ ‫وطنيــة عاليــة‪ ،‬ولــن أدع هــؤالء‬ ‫وطنيــة‪ ،‬وأمتلــك روحـ ًا‬ ‫شــخصية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫األجانــب يســتهينون بمواهــب الشــعب الصينــي‪ ،‬فهــم يمتلكــون‬ ‫األقمــار الصناعيــة‪ ،‬ونحــن ‪-‬أيضــاً‪ -‬ينبغــي أن نمتلــك مثلهــا‪..‬‬ ‫يمتلكــون أطنانـ ًا مــن المركبــات والســفن‪ ،‬ونحــن ‪-‬أيضـاً‪ -‬علينــا‬ ‫أن نحظــى بمثلهــا‪ ،‬وأشــخاص مــن أصحــاب المكانــة الرفيعــة‬ ‫ـك‪ -‬لســنا أقــلّ‬ ‫ممــن أصابتهــم حصــوات المــرارة‪ ،‬نحــن ‪-‬بــا شـ ّ‬ ‫َّ‬ ‫منهــم شــأناً‪ .‬ومــا إن ا َّتبعــت هــذه الطريقــة فــي التفكيــر‪ ،‬حتــى‬ ‫زادت قيمتــي فــي عينــي أضعافــ ًا وأضعافــاً‪ ،‬بــل صــار العــبء‬ ‫ثقيـ ً‬ ‫ـف عــن االســتغراق فــي التفكيــر‪.‬‬ ‫ـداً‪ ،‬ولــم أســتطع أن أكـ ّ‬ ‫ا جـ ّ‬ ‫وأول شــيء خطــر فــي بالــي هــو أننــي أســتطيع شــراء وثيقــة‬ ‫َّ‬ ‫االئتمــان فــي كلّ مــكان‪ ،‬وتكــون قطعــة المــاس فــي مرارتــي هــي‬ ‫الضامــن لــي‪ .‬وعنــد موتــي‪ ،‬يمكــن ألهلــي وأقاربــي أن يطلبــوا من‬ ‫الطبيــب اســتخراج قطعــة المــاس مــن مرارتي‪ ،‬حتــى بإمكاني أن‬ ‫الماليــة‪ ،‬فــي المشــفى‪ ،‬بأننــي ســأدفع‬ ‫تعهــد ًا إلــى قســم‬ ‫أكتــب ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ضعــف المبلــغ بعــد موتــي‪ .‬بمقــدوري‪ ،‬أيضاً‪ ،‬بيــع قطعة الماس‬ ‫وأنــا علــى قيــد الحيــاة‪ ..‬فقطعــة المــاس عملــة صعبة‪ ،‬أســتطيع‬ ‫ســداد كلّ فواتيــري مــن خــال بيعهــا إلــى شــركة‪ ،‬حتــى أننــي‬ ‫أســتطيع الحصــول منهــا علــى بطاقــة ذهبيــة‪.‬‬ ‫فربمــا يظ ّنون‬ ‫ومــن المؤكَّ ــد أن الشــركة ستحســب األمــر بعناية‪َّ ،‬‬ ‫أن فانــغ فانــغ فتــاة فقيــرة ومقتصــدة‪ ،‬وســتعيش طيلــة حياتهــا‬ ‫دون أن تنفــق قــدر ثمــن قطعة الماس (مــن المؤكَّ د أنهم يخالون‬ ‫يتخيلــوا أننــي اعتــدت‪ ،‬منــذ‬ ‫أننــي لــن أنفــق النقــود‪ ،‬لكــن لــن‬ ‫َّ‬ ‫التبــرع بالمــال فــي األعمــال الخيريــة‪ :‬ضحايــا‬ ‫الصغــر‪ ،‬علــى‬ ‫ُّ‬ ‫الخاصــة‬ ‫االحتياجــات‬ ‫ذوي‬ ‫ــات‬ ‫وجمعي‬ ‫والمــدارس‬ ‫الكــوارث‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وجمعيــات الفقــراء‪ ،‬ومنظَّ مــات حمايــة‬ ‫ـائية‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫النس‬ ‫ـادات‬ ‫واالتِّحـ‬ ‫ّ‬ ‫الصحــي وإصــاح الطــرق والمطبوعــات‪،‬‬ ‫البيئــة ومراكــز الصــرف‬ ‫ّ‬ ‫وغيرهــا مــن األعمــال الخيريــة‪ ،‬وهــذا الرقــم ال يمكــن لقطعــة‬ ‫المــاس أن تســتوعبه)‪.‬‬


‫‪( Yun Gee‬الصين) ▲‬

‫وإذا ســار األمــر علــى هــذا النحــو‪ ،‬ســتمضي ّأيامــي ورديــة‪ ،‬وتختفــي العقبــات‬ ‫ـت‪ ،‬ويصبح جســدي أشــبه بعملــة ورقية ال تفنى أو تــزول‪ ،‬ولن يصبح‬ ‫أينمــا رحـ ُ‬ ‫هنــاك فــرق بينــي وبيــن هــؤالء الذيــن ينفقــون أمــوا ً‬ ‫ال طائلــة في وقتنــا هذا!‬ ‫واألمــر الثانــي الــذي جــال بفكري هــو أن بعض اللصــوص علموا بأمر الماســة‪،‬‬ ‫وشــعروا أنهــا أفضــل مــن الســرقات وبيــع الممنوعــات والتهريــب‪ ،‬وبــدأوا‬ ‫يراقبونــي ويتعقَّبــون ســيري‪ ،‬بمنتهــى الد ّقــة‪ .‬فــي البدايــة‪ ،‬كانــت الحصــوة‬ ‫التدخــل‬ ‫رقيقــة‪ ،‬وقــد حاولــوا ‪-‬بحلــو الــكالم‪ -‬إقناعــي بإخراجها‪،‬عــن طريــق‬ ‫ُّ‬ ‫ـتتحول‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫فس‬ ‫الحصوة‪،‬‬ ‫الجراحــي‪ ،‬ثــم أخبرنــي الطبيــب بأننــي إذا لــم أســتأصل‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ـك‪،‬‬ ‫فيمــا بعــد‪ ،‬إلــى ســرطان‪ ،‬والســرطان يفضــي إلــى المــوت‪ ،‬بــا أدنــى شـ ّ‬ ‫وأنــا ‪-‬بالطبــع‪ -‬حريصــة علــى ســامة قطعــة المــاس (وهــل هنــاك مــكان آمــن‬ ‫أكثــر مــن المــرارة لقطعــة المــاس!)‪ .‬وبعــد أن بــاءت كلّ المحــاوالت بالفشــل‬ ‫ـد ًة معــي‪ ،‬وبــدأ الكثيــرون فــي مطاردتــي لقتلــي‪ ،‬ولــم‬ ‫الذريــع‪ ،‬صــاروا أكثــر حـ ّ‬ ‫يكــن أمامــي خيــار آخــر ســوى الهــرب مــن مــكان إلــى مــكان‪.‬‬ ‫الهــرب تجربــة‪ ،‬تــرى فيهــا الخطــر يحوم حولــك أينمــا ذهبت‪ .‬كنــت أرى الموت‬ ‫الطيبيــن كثيرون فــي الحياة‪ .‬في‬ ‫ـظ‪ ،‬إن األشــخاص‬ ‫فــي كلّ ثانيــة‪ .‬ولحســن الحـ ّ‬ ‫ِّ‬ ‫بعــض األحيــان‪ ،‬كانــت بعــض الرســائل تأتيني‪ ،‬وتســاعدني علــى الفــرار‪ .‬وأكثر‬ ‫شــيء يبعث على الســعادة هو أن رج ً‬ ‫الحب والضمير‪ ،‬كنت‬ ‫ال وســيماً‪ ،‬وبدافع‬ ‫ّ‬ ‫أجــده بجــواري‪ ،‬دائمـاً‪ ،‬فــي لحظــات اليــأس وأوقــات الحــزن‪ ،‬وراح يشــاطرني‬ ‫ـك أنني صرت‪ ،‬في النهاية‪ ،‬كأنني‬ ‫مشــاكلي‪ ،‬فأحسســت بســعادة غامرة‪ ،‬وال شـ ّ‬ ‫بطلــة فــي مسلســل تليفزيونــي‪ ،‬وبفضــل الشــرطة اختفــى هــؤالء اللصــوص‬ ‫ـددون حياتــي‪ .‬وبعدمــا صــرت في أمــان‪ ،‬افترقنا‪ ،‬أنا وذلك الوســيم…‬ ‫الذيــن يهـ ِّ‬

‫ذات يــوم‪ ،‬وأنــا غارقــة فــي التفكيــر فــي حصــوة المــرارة‪ ،‬زارنــي أحــد‬ ‫األصدقــاء وأخبرنــي أن فالنـ ًا قــد أجــرى عمليــة جراحيــة‪ ،‬وأخــرج الحصــوة‬ ‫التــي حملهــا لســنوات طــوال‪ .‬وكانــت الحصــوة قاتمــة‪ ،‬كبيــرة فــي حجــم‬ ‫ـك أن تلــك الحصوة‬ ‫بيضــة طائــر صغيــر‪ ،‬وهــو حاصــل على الدكتوراه‪ ،‬وال شـ ّ‬ ‫التــي نمــت داخــل جســده‪ ،‬لــن تكــون حصــوة عاديــة‪ ،‬حتــى أنــه بحــث عــن‬ ‫خبيــر جيولوجــي‪ .‬وبعــد أن فحصهــا الخبيــر‪ ،‬ســأل الدكتــور‪ :‬كــم تســاوي؟‬ ‫فأجابــه‪ :‬ال تســاوي شــيئ ًا علــى اإلطــاق! وبعــد ســماع مــا قالــه‪ ،‬فكَّ ــرت فــي‬ ‫أمــر الدكتــور‪ ،‬وفــي كونــي حاصلــة‪ ،‬فقــط‪ ،‬علــى درجة الماجســتير‪ ،‬ولســت‬ ‫ـس بالخجــل‪ ..‬ورحــت أفكِّ ر‬ ‫علــى درجــة علميــة رفيعــة مثلــه‪ ،‬لكننــي لــم أحـ ّ‬ ‫فــي الحصــوة‪ ،‬وشــعرت أننــي لــم أعــد أرغــب فــي رؤيــة الطبيــب المعالــج‪،‬‬ ‫ولــم أرغــب فــي التخ ُّلــص مــن حصــوة المــرارة‪ ...‬واآلن‪ ،‬على األقــلّ ‪ ،‬يمكنني‬ ‫أن أجــوب واحــة األحــام‪ ■ ..‬ترجمــة عــن الصينيــة‪ :‬ميــرا أحمــد (مصــر)‬ ‫ُو ِلــدت الكاتبــة الصينيــة «فانــغ فانــغ» ســنة ‪ ،1955‬في مدينــة «نانجينغ»‪ ،‬فــي مقاطعة‬ ‫«جيانغســو»‪ .‬اســمها الحقيقــي «وانــغ فانغ»‪ .‬واحدة من أشــهر األديبــات المعاصرات‪،‬‬ ‫تخرجت في جامعة ووهان‪ ،‬قســم اللغة الصينية‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫جســدت أعمالهــا الحيــاة الواقعيــة‪َّ .‬‬ ‫وانضمــت إلــى اتِّحــاد الك ّتــاب الصينييــن فــي مقاطعة هوبــي‪ ،‬وان ُت ِخبت‬ ‫فــي عــام ‪،1982‬‬ ‫َّ‬ ‫رئيســة لــه ســنة ‪ ..2007‬مــن أشــهر أعمالهــا الروائيــة‪« :‬آبــاء وأجــداد» ‪« -‬الضبــاب» ‪-‬‬ ‫«غــروب الشــمس» ‪« -‬أزهــار الخــوخ» ‪« -‬تلميحــات» ‪« -‬دفــن هــادئ»‪ .‬أحــدث إصدارتهــا‬ ‫المجموعــة القصصيــة «يهــلّ الربيــع علــى تانهــوا لين»‪ .‬حصلــت فانغ فانغ علــى جائزة‬ ‫ـدة لغات‪.‬‬ ‫المتميــز فــي‬ ‫العمــل‬ ‫القصــة‪ ،‬عــام ‪ ،2009‬وترجمــت أعمالهــا إلى عـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪81‬‬


‫روبي ُكـور‪..‬‬

‫ملكة شعراء إنستغرام‬

‫فــاق الثالثــة‬ ‫ربــا مل يحلــم أكــر املتفائلــن واملنحازيــن للكتــاب الورقــي مبــا تحقَّــق‪ ،‬بالفعــل‪ ،‬مــن توزيــع‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ماليــن نســخة لديــوان ِشــع ٍر بال ّلغــة اإلنجليزيــة‪ ،‬لشــاعر ٍة مل تكــن يف صباهــا تجيــد النطــق بهــذه ال ّلغــة‪ .‬لكنهــا‬ ‫ث‬ ‫يف الثانيــة والعرشيــن ِمــن عمرهــا ن َ‬ ‫ـب وعســل ‪ »milk and honey -‬الــذي َأ ْحـ َـد َ‬ ‫َـشــ ْ‬ ‫األول «حليـ ٌ‬ ‫ـرت ديوانهــا َّ‬ ‫وي الهائـ َ‬ ‫ـل يف عا َلــم النــر‪.‬‬ ‫هــذا الـ َّـد َّ‬ ‫مؤ ّلفة هذا الديوان هي «رويب كُ ـور ‪ ،»Rupi Kaur -‬وهي كندية ِمن أصلٍ‬ ‫هندي‪ُ .‬و ِلـدت يف الرابع من أكتوبر‪،‬‬ ‫ٍّ‬ ‫ـرت مــع أرستهــا‪ ،‬إىل كنــدا‪،‬‬ ‫عــام ‪1992‬م‪ ،‬يف إقليــم البنجــاب بالهنــد‪ ،‬يف أرسة تنتمــي لطائفـ ِـة الســيخ‪ ،‬ثــم هاجـ ْ‬ ‫وهــي يف الثالثــة ونصـ ٍ‬ ‫ـف مــن عمرهــا‪ .‬كان لوالدتهــا أعظــم األثــر يف اهتاممهــا بالرســم‪ ،‬منــذ الصغــر‪ ،‬وا َّتجهــت‬ ‫ـن الســابعة عــرة‪.‬‬ ‫للكتابــة يف سـ ّ‬

‫روبي كُ ـور ▼‬

‫‪82‬‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫منصة إنســتغرام‪،‬‬ ‫بدأت شــهرة «كور» عبر وســائل التواصل االجتماعي‪ ،‬عبر ّ‬ ‫ـع‪ .‬وقــد‬ ‫تحديــداً‪ ،‬وتحظــى‪ ،‬فــي الوقــت الحالــي‪ ،‬بمــا يقــارب ‪ 4‬مالييــن متابـ ٍ‬ ‫بــرز مصطلــح جديــد للتعبيــر عــن هــذه الظاهــرة‪ ،‬وهو «شــعراء إنســتغرام ‪-‬‬ ‫‪ِ .»Instapoets‬‬ ‫ومن أبرز هؤالء الشــعراء «تايلر نوت ‪ -‬جريجســون ‪Tyler -‬‬ ‫‪ ،»Knott Gregson‬و«روبــرت م‪ .‬دريــك ‪ ،»Robert M. Drake -‬وهمــا‬ ‫«نيرة‬ ‫أميركيان‪ ،‬من مواليد ‪1981‬م‪ .‬كذلك‪ ،‬تشــمل هذه الظاهرة الشــاعرات ِّ‬ ‫وحيــد ‪ ،»Nayyirah Waheed -‬و«النــج ليــاف ‪ ،»Lang Leav -‬و«أمانــدا‬ ‫الفليس ‪.»Amanda Lovelace -‬‬ ‫ـب وعســل)‪ ،‬عــام‬ ‫اندلعـ ْ‬ ‫األول (حليـ ٌ‬ ‫ـت شــهرة «كُ ـــور» عقــب نشــر ديوانهــا َّ‬ ‫ـد َر قائمــة األعلــى مبيعـاً‪ ،‬علــى مــدار (‪ )77‬أســبوعاً‪ ،‬فــي‬ ‫َـصــ َّ‬ ‫‪2014‬م‪ ،‬حيــث ت َ‬ ‫القائمــة التــي تنشــرها صحيفــة «نيويــورك تايمــز» األميركية‪ ،‬وقــد بيعت من‬ ‫الديــوان ثالثــة مالييــن نســخة‪ ،‬كمــا ُت ِ‬ ‫ـم ألكثــر مــن ثالثيــن لغــة‪.‬‬ ‫رجـ َ‬ ‫«الشمس وأزهارها ‪the Sun and -‬‬ ‫ص َد َر ديوانها الثاني‬ ‫في أكتوبر (‪2017‬م) َ‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫األول لصدوره‪ .‬وفي‬ ‫ـام‬ ‫ـ‬ ‫الع‬ ‫في‬ ‫ـخة‬ ‫ـ‬ ‫نس‬ ‫مليون‬ ‫منه‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫بي‬ ‫ـد‬ ‫‪ ،»her flowers‬وقـ‬ ‫َّ‬ ‫كال الديوانين‪ ،‬تكتب «كُ ـــور» بطريقة مغايرة لقواعد الترقيم اإلنجليزية‪ ،‬فال‬ ‫تســتخدم إال أحرف الطباعة الصغيرة‪ ،‬كما أنها ال تســتخدم َّأيــ ًا من عالمات‬ ‫الترقيــم المتعــارف عليهــا‪ ،‬باستـثـــناء وضــع نقطــة فــي نهايــة الجملــة‪ ،‬فــي‬ ‫مواضــع نــادرة؛ وتعــزو ذلــك إلــى رغبتها في محــاكاة نظام الكتابة فــي اللّغة‬ ‫أي عنــوان أعلــى القصائــد‪،‬‬ ‫ـعــ ُّ‬ ‫البنجابيــة التــي ُت َ‬ ‫األم‪ ،‬كمــا‪ ،‬ال يوجــد ّ‬ ‫ـد لغتهــا ّ‬ ‫لكــن‪ ،‬أحيانـاً‪ ،‬يوجــد أســفل القصيــدة مــا ينــوب عــن العنــوان ويتميــز عــن‬ ‫متــن القصيــدة بأنــه مكتــوب بحــروف الطباعــة المائلــة‪ .‬وإذا كانــت موهبــة‬ ‫الرســم قــد نمــت برعايــة والدتهــا‪ ،‬منــذ الطفولــة‪ ،‬ثــم ظهــرت لديهــا موهبــة‬ ‫الشـــعر‪،‬‬ ‫فإن «كُ ـــور» لم تـتـــخلَّ عن موهبتها في الرســم لحســاب ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ـعر‪َّ ،‬‬ ‫الشـ ْ‬ ‫بــل تضفرهمــا مع ـاً‪ ،‬فــا تــكاد تخلــو صفحــة‪ ،‬فــي ديوان َْيهــا‪ ،‬مــن رســومها‬ ‫المتناغمــة مــع موضــوع القصيدة‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ويـــة مختلفة‪ .‬كما يحتلّ موضوع‬ ‫تكتب «كُ ـــور» في‬ ‫س َّ‬ ‫موضوعات إنسانية‪ ،‬ون ْ‬ ‫ً‬ ‫ـاء تليفزيونــي‬ ‫ـ‬ ‫لق‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫يخل‬ ‫ـكاد‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫وال‬ ‫ـا‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫قصائده‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫بعض‬ ‫ـرة‬ ‫االغتــراب والهجـ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫معهــا مــن سـ ِ‬ ‫ـرد بعــض تفاصيــل طفولتهــا‪ ،‬وشــعورها باالغتــراب‪ .‬تقــول فــي‬ ‫ـن الخامســة‪ ،‬فــي حجرةٍ‬ ‫ـيء يعــدلُ وجــودك‪ ،‬فــي سـ ّ‬ ‫أحــد اللقــاءات‪ « :‬ال شـ ْ‬ ‫دراسـ ٍ‬ ‫الصمت بد ً‬ ‫ال‬ ‫ـت‬ ‫ـية‪ ،‬كلُّ واحــد فيهــا‬ ‫يتحد ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ث لغـــةً ال تفهمها‪ .‬لقد مارسـ ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ـن الشــعور‬ ‫ـ‬ ‫لك‬ ‫ـر»‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫آخ‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫كوك‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـت‬ ‫ـ‬ ‫جئ‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫أنن‬ ‫ـعر‬ ‫ـ‬ ‫أش‬ ‫ـت‬ ‫ـ‬ ‫كن‬ ‫إذ‬ ‫ـكالم؛‬ ‫ِمــن الـ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬


‫باالغتــراب‪ ،‬بســبب اللّغــة‪ ،‬هــو ذاتــه الذي دفعهــا اللتهام الكتــب‪ ،‬وقد كانت‬ ‫ـح‬ ‫نقطــة االنطــاق فــي الصــف الثالــث االبتدائــي‪ ،‬حيــث كانــت معلِّم ُتهــا تَمنـ ُ‬ ‫ـاد َف هــوى فــي‬ ‫لمــن يقــرأ مزيــد ًا ِمــن الكتــب؛ وهــو مــا صـ َ‬ ‫جائــزة أســبوعية َ‬ ‫ً‬ ‫ـدت فــي القــراءة تعويضـا عــن شــعورها باالغتــراب؛‬ ‫نفــس «كــور» التــي وجـ ْ‬ ‫تدريجيـاً‪ ،‬ل ُتعــ ِّـب َر عــن نفســها بالكتابــة وتتغلَّب على‬ ‫ـور‪،‬‬ ‫ـر الــذي تطـ َّ‬ ‫َّ‬ ‫وهــو األمـ ُ‬ ‫خوفهــا مــن اللّغــة اإلنجليزيــة‪.‬‬ ‫ورغــم أن «كــور» غــادرت البنجــاب وعمرهــا أقــلّ مــن أربــع ســنوات‪ ،‬مــا زالت‬ ‫ـرية مــع والديهــا فــي‬ ‫تعايــش ثقافتهــا البنجابيــة‪ِ ،‬مــن خــال حياتهــا األسـ ّ‬ ‫وتصف‬ ‫مجتمع ْيــن مختلفَ ْين‪،‬‬ ‫«تورونتو»‪.‬هكــذا‪ ،‬تحــاول أن تــوازن بين ثقا َف َت ْي‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫األمــر كأنهــا تمشــي علــى حبــلٍ مشـ ٍ‬ ‫ـدود‪ ،‬محاولــةً الحفـ َ‬ ‫ـاظ علــى توازنها حتى‬ ‫ـقط علــى أحـ ِ‬ ‫ال تَسـ َ‬ ‫ـد جانبيــه ‪ ■ .‬ترجمــة وتقديــم‪ :‬بشــير رفعــت (مصــر)‬

‫(‪)1‬‬

‫حملت أ ُ ِّمي‬ ‫عندما‬ ‫ْ‬ ‫بطفلها الثاين‪،‬‬ ‫كنت يف عامي الرابع ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أرشتُ إىل بطنها املنـتـفـخ‬ ‫مندهشـ ًة كيف صارت‬ ‫وقت قصري!‬ ‫ممـتـلـئـ ًة هكذا‪ ،‬يف‬ ‫ٍ‬ ‫شجرة‪ ،‬وقال ‪:‬‬ ‫حملين أبي بيدين كجذ َع ْي‬ ‫ٍ‬ ‫الله‪ ،‬عىل هذه األرض‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أقرب ْ‬ ‫يش ٍء إىل ِ‬ ‫جسم املرأة؛‬ ‫هو‬ ‫ُ‬ ‫منه تـنـبـث ُـق الحياة‪.‬‬ ‫رج ٌل بهذا النضوج‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫يخربين شيئا قويّا هكذا‪،‬‬ ‫يف عمري الصغري‪ ،‬آنذاك‪،‬‬ ‫بأسه‪،‬‬ ‫جعلين أرى العالَم‪ْ ،‬‬ ‫أمي‪.‬‬ ‫ـي ِّ‬ ‫تحت َ‬ ‫قدم ْ‬ ‫ال أدري كيف يكون الشعور‬ ‫بالحياة املتوازنة‪،‬‬ ‫فأنا‪ ،‬عندما أحزن‪،‬‬ ‫ال أبيك‪ ،‬بل أنسكب‬ ‫وعندما أفرح‪،‬‬ ‫ال أبتسم‪ ،‬بل أتو َّهج‪.‬‬ ‫وعندما أغضب‪،‬‬ ‫ال أرصخ‪،‬‬ ‫بل أحرتق‪.‬‬

‫ب‪،‬‬ ‫أنين‪ ،‬عندما أ ُ ِح ّ‬ ‫منح أجنح ًة ملن أح ُّبهم‪.‬‬ ‫اَ ُ‬ ‫ربَّما ال يكون هذا أمرا ً ج ِّيدا ً‬ ‫ـحون‪،‬حينئذ‪ ،‬للذهاب‪.‬‬ ‫جـن‬ ‫ألنهم ي َ ْ‬ ‫ٍ‬ ‫ولو أنك رأيتين‪ ،‬عندما يتحطَّم قليب‪،‬‬ ‫لعرفت أنين ال أحزن‪..‬‬ ‫َ‬ ‫إنين أنشطر‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫األم َر ٌّ‬ ‫شاق‪..‬‬ ‫أعرف َّ‬ ‫أن ْ‬ ‫َصـدِّقين‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أعرف هذا الشعور‬ ‫بأن الغـ َد لن يأيت‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫اليوم‬ ‫وأن‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫يصعب أن تتجاوزه‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫أقسم لك‬ ‫لكين‬ ‫ُ‬ ‫إنك ستـتـجاوزه‪..‬‬ ‫سيميض األلم‬ ‫كما يميض دائماً‪،‬‬

‫(‪)3‬‬

‫كنت تمنحه الوقت‪،‬‬ ‫إذا َ‬ ‫يمض‪.‬‬ ‫ثم ترتكه‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ف‬ ‫ْ‬ ‫إذن‪ ،‬دعـه اآلن يميض بلـط ٍ‬ ‫مث َل و ْع ٍـد لم يتـحـ َّقـق‪..‬‬ ‫يمض‪.‬‬ ‫دعـه‬ ‫ِ‬ ‫(‪)4‬‬

‫(‪)2‬‬

‫أجم ُل ما يم ِّيز مشاعري الجامحة‬

‫أُقـد ُِّم اعتذاري لك ِّل امرأة‬ ‫وصفـ ُتـها بأنها جميلة‪،‬‬ ‫قبل أن أص َفـها بالذكاء أو الشجاعة‪.‬‬ ‫بالجـمال‬ ‫ـك َ‬ ‫أيَّتها املرأة‪ ،‬عندما وصف ُت ِ‬ ‫جعلت األمر يبدو ه ِّيـناً؛‬ ‫ُ‬ ‫ـقت به‬ ‫إ ْذ م َّيـزت ُ ِ‬ ‫ـك بأمر ٍ قد خُ ِـل ِ‬ ‫َ ْ‬ ‫لك‪،‬‬ ‫وجـعـلـتُه مدعا َة فخْ ر ٍ ِ‬ ‫روحك ت ُ َ َّ‬ ‫الجبال‪.‬‬ ‫بينما ُ ِ‬ ‫ـحـط ُم ِ‬ ‫ِمن اآلن فصاعداً‪ ،‬سأقو ُل أشياء أخرى‪:‬‬ ‫«أنت امرأ ٌة مرنة»‪.‬‬ ‫سأقول‪ ،‬مثالً‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫«أنت امرأ ٌة استـثـنائية»‪.‬‬ ‫أو‬ ‫ِ‬ ‫أراك جميلة‪،‬‬ ‫ليس ألين ال ِ‬ ‫ُ‬ ‫الجـمال‪.‬‬ ‫بل ألنك تملكني ما‬ ‫يفوق َ‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪83‬‬


‫نصوص‬

‫ماجدة ح ّنا (مصر) ▼‬

‫‪84‬‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬


‫الـمسبحة‬ ‫بذهــنٍ شــارد‪ ،‬ووجـ ٍ‬ ‫ـه نحيف ُمنكمش‪ ،‬تتشــابك فيــه التجاعيــد‪ ،‬وكأ َّنها تتصارع‬ ‫ـدد أكثــر مــن ذلــك‪ ..‬يجلــس «الحاج‬ ‫معـاً‪ ،‬باحثــةً عــن ُم َّتسـ ٍ‬ ‫ـع فــي وجهِ ــه لتتمـ َّ‬ ‫سـ ِّـيد»‪ ،‬الكهــل الثمانينــي‪ ،‬علــى أريكتــه‪ ،‬يتل َّقــف الهــواء المنــداح مــن بيــن‬ ‫مقرب ـ ًا أذنــه‪ ،‬بشــكلٍ كبيــر‪ ،‬مــن‬ ‫دفَّتــي الشــباك الــذي يعلــو تلــك األريكــة‪ِّ ،‬‬ ‫المرتعشــة‪ ،‬لدرجــة تشــعرك‬ ‫ـو ٍة‪ ،‬بكـ ِّ‬ ‫مذيـ ٍ‬ ‫ـاع صغيــر‪ ،‬يقبــض عليــه‪ ،‬بقـ ّ‬ ‫ـف يــده ُ‬ ‫ـأن نصــف المذيــاع ُملتصــق بيديــه‪ ،‬والنصــف األخــر ملتصــق بأذنــه‪.‬‬ ‫بـ َّ‬ ‫ـيء‪ ،‬يمينـ ًا ويســاراً‪ ،‬كهيئـ ِ‬ ‫يهـ ُّز «الحــاج سـ ِّـيد» رأســه‪ ،‬بشــكلٍ بطـ ٍ‬ ‫ـة المخمــور‬ ‫ويدنــدن‪ ،‬بصـ ٍ‬ ‫مــن فـ ِ‬ ‫«أم كلثــوم»‬ ‫ـرط اســتمتاعه‪ُ ،‬‬ ‫مبحــوح متقطِّ ــع‪ ،‬أغنيــة ّ‬ ‫ـوت ُ‬ ‫(يــا حبيب ـ ًا زرت يوم ـ ًا أيكــه)‪ ..‬بينمــا يصــدر مــن المذيــاع صــوت ُمذيــع نشــرة‬ ‫أن تلــك‬ ‫األخبــار‪ُ ،‬يعلــن عــزم الحكومــة رفــع ســعر البنزيــن والســوالر‪ ،‬مؤكِّ ــد ًا َّ‬ ‫ـب فــي مصلحـ ِ‬ ‫ـة المواطــن البســيط‪ ،‬وأ َّنهــا الخطــوة ا ُ‬ ‫ألولــى فــي‬ ‫الزيــادة تصـ ّ‬ ‫طريــقِ اإلصــاح االقتصــادي ِمــن أجــلِ وصــول الدعــم لمســتحقِّيه‪ ،‬فيصيــح‬ ‫ـوت عــالٍ مــن فـ ِ‬ ‫«الحــاج سـ ِّـيد» بصـ ٍ‬ ‫ـرط النشــوة‪ ،‬ويقــول‪« :‬اللــه‪ ،‬اللــه! عظمــة‬ ‫ـت»‪.‬‬ ‫علــى عظمــة يــا ِسـ ّ‬ ‫الحمــام‪ ،‬على صـ ِ‬ ‫ـوت صياحه‪ ،‬قلقــةً ‪ ،‬وهي تغطِّ ي‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـه‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ابنت‬ ‫تخــرج «فاطمــة»‬ ‫َّ‬ ‫شــعرها الخفيــف المب َّلــل بـ(فوطـ ٍ‬ ‫ـة)‪ ،‬لكــن ســرعان مــا ُيغــادر القلــق وجههــا‪،‬‬ ‫لتحــلّ مح ّلــه ابتســامة عريضــة حيــن تنظــر إلــى أبيهــا وتــرى فــرط اســتمتاعه‪،‬‬ ‫فتقــول‪« :‬واللــه‪ ،‬أحســدك يــا أبــي علــى مــا أنــت فيــه‪ ..‬تــرى الدنيــا وتســمعها‬ ‫كمــا تريــد أنــت ال كمــا يريــد َمــن حولــك»‪.‬‬ ‫ُيبعــد «الحــاج سـ ِّـيد» المذيــاع عــن أذنِــه‪ُ ،‬مبديـ ًا غضبــه الشــديد مــن مقاطعــة‬ ‫ـر ِد الهمــس فــي أثنــاء‬ ‫ابنتــه لــه‪ ،‬رغــم تحذيــره لهــا مــرار ًا وتكــراراً‪ ،‬مــن مجـ َّ‬ ‫ـي بدلته‬ ‫ـ‬ ‫ك‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫منه‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫يطل‬ ‫ــ«أم كلثــوم» فــي اإلذاعــة‪ ،‬ثــم‬ ‫ســماعه حفلــة الشــهر لـ ُّ‬ ‫ّ‬ ‫جيــداً؛ ليحضــر بهــا حفلــة الشــهر القــادم‪.‬‬ ‫الســوداء الصــوف ِّ‬ ‫مهتمــة بحديـ ِ‬ ‫َ‬ ‫ـث أبيهــا‪ ،‬وتضــع‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫غي‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫األريك‬ ‫ـفل‬ ‫ـ‬ ‫أس‬ ‫ً‪،‬‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫أرض‬ ‫تجلــس «فاطمــة»‬ ‫َّ‬ ‫اندســت‬ ‫قد‬ ‫والذي‬ ‫ـود‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫األس‬ ‫ـعرها‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫ـيط‬ ‫ـ‬ ‫تمش‬ ‫في‬ ‫لتبدأ‬ ‫فخذيها‪،‬‬ ‫(الفوطة) على‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫المزعجة‪.‬‬ ‫ـاء‬ ‫ـ‬ ‫البيض‬ ‫ـعيرات‬ ‫ـ‬ ‫الش‬ ‫بعض‬ ‫ا‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫مؤخ‬ ‫وســطه‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ويخرج مســبحة من جيبه األيمــن‪ ،‬ويزغد‬ ‫ـته‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫جلس‬ ‫من‬ ‫د»‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـاج‬ ‫ـ‬ ‫«الح‬ ‫ـدل‬ ‫يعـ ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫بطَّ‬ ‫أن تلــك‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫ـن‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫«أتعرفي‬ ‫ـول‪:‬‬ ‫ـ‬ ‫ويق‬ ‫ـه‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫إلي‬ ‫ـت‬ ‫ـ‬ ‫لتلتف‬ ‫ـة؛‬ ‫ـ‬ ‫خفيف‬ ‫ـدة‬ ‫ـ‬ ‫زغ‬ ‫ـة»‬ ‫ـ‬ ‫«فاطم‬ ‫َّ‬ ‫المســبحة قــد اشــتريتها مــن عند النبــي (عليه الصــاة والســام)‪ ،‬وكانت معي‬ ‫ْ‬ ‫ـر دمعــة مــن عينيــه علــى‬ ‫أمــك؟ هــي َمـ ْ‬ ‫ّ‬ ‫ـن اختارتهــا لــي»‪ ،‬يصمــت هنيهــة‪ ،‬وتفـ ُّ‬ ‫صفحـ ِ‬ ‫ـة وجهــه الجدبــاء‪ ،‬ثــم يبتســم ابتســامة رضــا‪ ،‬ويمســح وجهــه بتلــك‬ ‫العمــرة‬ ‫الدمعــة‪ُ ،‬‬ ‫ويكمــل حديثــه‪« :‬أتعرفيــن‪ ،‬يــا فاطمــة؟ لقــد ذهبــت إلــى ُ‬ ‫بأمــك‪ ،‬ورجعــت بتلــك المســبحة دونهــا‪ ..‬دفنتهــا بيــدي‪ ،‬فــي البقيــع»‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫وتتفحــص أســنان المشــط‪ ،‬حزينــةً علــى‬ ‫تتو َّقــف «فاطمــة» عــن التمشــيط‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫الشــعر العالــق بــه‪ ،‬وتنظــر إليــه نظــرات ُتشــبه َمــن ُيشـ ِّـيع عزيــز ًا عليــه‬ ‫ـم َ‬ ‫كـ ِّ‬ ‫إلــى مثــوا ِه األخيــر‪ ،‬ثــم تســتفيق مــن غفلتهــا علــى صـ ِ‬ ‫ـوت األب الطاعــن فــي‬ ‫ٍ‬ ‫بصــوت عــالٍ ‪« :‬يــا أُ ّم فاطمــة‪ ،‬يــا أُ ّم فاطمــة! أيــن أُ ّمــك‪ ،‬يــا‬ ‫الســن‪ُ ،‬ينــادي‬ ‫ِّ‬ ‫ـرد علــي؟» تتأ َّفــف االبنــة‪ ،‬وتجيــب بنفـ ِ‬ ‫ـاد صبـرٍ‪« :‬أُ ِّمــي فــي‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫فاطمــة؟ لمــاذا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫قبرهــا‪ .‬ألــم تدفنهــا بيــدك‪ ،‬فــي البقيــع؟»‪.‬‬ ‫أن‬ ‫ابنته‬ ‫من‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫ويطل‬ ‫ً‪،‬‬ ‫ا‬ ‫ب‬ ‫تعج‬ ‫م‬ ‫و(البقيع)‬ ‫ـي (قبرهــا)‬ ‫ُيـ ِّ‬ ‫ْ‬ ‫ُ ِّ‬ ‫ـردد «الحــاج سـ ِّـيد» كلم َتـ ْ‬ ‫تضــع تلــك المســبحة فــي قبــره‪ ،‬عنــد دفنــه؛ لتشــفع لــه‪ ،‬فتســتنكر «فاطمــة»‬ ‫حديثــه‪ ،‬وتتهكَّ ــم عليــه قائلــةً ‪« :‬وهــل هنــاك مســبحة تشــفع لصاحبهــا فــي‬ ‫القبــر؟!»‪ ،‬ثــم تطلــب مــن أبيهــا أن ينــام ليريــح أعصابــه‪ ،‬فيرفــض النــوم قبــل‬ ‫أن ُيص ِّلــي العشــاء‪ ،‬فتخبــره بأ َّنــه قــد ص َّلــى العشــاء‪ ،‬اليــوم‪ ،‬ثــاث مــرات!‪..‬‬ ‫ْ‬ ‫يتسـ ّند علــى الحائــط‪ ،‬ويدخــل غرفتــه‪.‬‬ ‫تضــع «فاطمــة» يدهــا داخــل صدرها الضامــر‪ ،‬و ُتخـرِج مرآة صغيرة‪ ،‬وتمســك‬

‫بصبغـ ٍ‬ ‫ـت حاجبهــا‪،‬‬ ‫ـة ســوداء بلــون لياليهــا؛ لتصبــغ شــعرة بيضــاء جديــدة ع َلـ ْ‬ ‫ـت‪ ،‬رأســها؛ كــي‬ ‫وكأ َّنهــا تتشــاجر معهــا‪ ،‬متم ِّنيــةً لــو كانــت تلــك الشــعرة ع َلـ ْ‬ ‫كميــة الصبغــة‪ ،‬بغضـ ٍ‬ ‫ـب‪ ،‬وتضعهــا‬ ‫تحجبهــا الطرحــة‪ ،‬ثــم تكثــر «فاطمــة» ِمــن ِّ‬ ‫علــى حاجبهــا!‪.‬‬ ‫ـو ٍة‪ ،‬ويســأل‬ ‫ـ‬ ‫بق‬ ‫ـعل‬ ‫ـ‬ ‫يس‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫وه‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫غرفت‬ ‫ـاب‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫عن‬ ‫ـف‬ ‫ـ‬ ‫ويق‬ ‫د»‪،‬‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـاج‬ ‫يخــرج «الحـ‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫فتتعجــب االبنة ِمــن تذكُّ ره لتلك‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫القديم‬ ‫ـتور)‬ ‫ـ‬ ‫الكس‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫(بيجامت‬ ‫ـن‬ ‫«فاطمــة» عـ‬ ‫َّ‬ ‫البيجامــا التــي لــم يلبســها منــذ أكثــر مــن عشــرين عام ـاً‪ ،‬وتخبــره بأ َّنهــا قــد‬ ‫ـدة أن ُتبلــى (بيجامتــه) أل َّنهــا مــن‬ ‫صــارت باليــةً بفعــلِ الزمــن‪ ،‬فيســتنكر‪ ،‬بشـ ّ‬ ‫أجـ ِ‬ ‫هديــة لــه ِمــن أُ ِّمهــا التــي كانــت‬ ‫ـت‬ ‫ـود أنــواع الكســتور‪ ،‬عــاو ًة علــى أ َّنهــا كانـ‬ ‫ّ‬ ‫ترهــا منــذ زمــن بعيــد‪،‬‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫بأنه‬ ‫ـة»‬ ‫ـ‬ ‫«فاطم‬ ‫ـره‬ ‫ـ‬ ‫فتخب‬ ‫ً‪،‬‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫دوم‬ ‫ـا‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫به‬ ‫ـراه‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫أن‬ ‫ـب‬ ‫تحـ ّ‬ ‫َ‬ ‫أرضيــة المنــزل‪ ،‬فينظــر إليهــا‬ ‫ـح‬ ‫ـ‬ ‫مس‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـها‬ ‫ـ‬ ‫قماش‬ ‫ـتخدمت‬ ‫ـ‬ ‫اس‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫أنه‬ ‫ـح‬ ‫ـ‬ ‫وترج‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫«أنت أصبحـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـاج سـ ِّـيد» بغضـ ٍ‬ ‫ـت عديمة النفع‪ .‬ســأبحث‬ ‫ـب عــارم‪ ،‬ويصيــح‪:‬‬ ‫«الحـ ّ‬ ‫عنهــا بنفســي‪ ،‬ومؤكَّ ــد أنــي ســأجدها‪ ،‬وســأرتديها»‪.‬‬ ‫بقوة‪ ،‬بينمــا تكمل «فاطمة»‬ ‫يدخــل «الحـ ّ‬ ‫ـاج سـ ِّـيد» غرفته‪ ،‬ويدفــع الباب خلفه ّ‬ ‫صبغــي‪ ،‬فغــد ًا فــرح‬ ‫صبــغ الشــعرة البيضــاء‪ ،‬صارخــةً فيهــا بغيــظ‪« :‬ال ُبـ َّ‬ ‫ـد أن ُت َ‬ ‫ـس‪ ،‬وال ينبغي أن يـ ِ‬ ‫غــادة‪ ،‬وقــد يرزقنــي اللــه بعريـ ٍ‬ ‫ـراك أحد»‪.‬‬ ‫يدخــل أخوهــا «عامر»‪ ،‬غاضب ًا م َّتجه ًا ناحية المطبــخ‪ ،‬فتبدي «فاطمة» غضبها‬ ‫مــن دخو ِلــه المنــزل بالحذاء‪ ،‬لك َّنه ال ُيجيبها‪ ،‬ويبــدو عليه الغضب واالنفعال‪،‬‬ ‫ـب عمــره‪ ،‬كمــا كان يقــول دومـاً‪،‬‬ ‫فتخشــى أن يكــون حزينـ ًا لــزواج «غــادة»‪ ،‬حـ ّ‬ ‫فيخــرج «عامــر» وفــي يــده ســكِّ ينة كبيــرة‪ ،‬م َّتجهـ ًا ناحيــة بــاب المنــزل‪ ،‬فتقــوم‬ ‫«فاطمــة» مــن مكانهــا مفزوعــةً ‪ُ ،‬محاولــةً اللحــاق بذلــك المجنــون الــذي أخــذ‬ ‫ـردد بصـ ٍ‬ ‫ـوت ثائــر‪« :‬ســأقتله‪ .‬أنــا لســت حرامــي؛ ألســرق من إيــراد التاكســي‪..‬‬ ‫ُيـ ِّ‬ ‫ـي؟»‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـتري‬ ‫ـ‬ ‫ويش‬ ‫يبيع‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫إل‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫هندس‬ ‫ـج‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫خر‬ ‫ـيظلّ‬ ‫َّ‬ ‫أنــا ِّ‬ ‫َّ‬ ‫أن تمســك‬ ‫ـاء‪-‬‬ ‫ـ‬ ‫البيض‬ ‫ـعيراتها‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫أم‬ ‫ً‪،‬‬ ‫ا‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫أخي‬ ‫ـيت‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫نس‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫–وق‬ ‫ـة»‬ ‫ـ‬ ‫«فاطم‬ ‫ـاول‬ ‫ُتحـ‬ ‫ْ‬ ‫ـزع‪ ،‬هابطــةً خلفــه‪.‬‬ ‫بــه‪ ،‬لك َّنــه يفلــت منهــا‪ ،‬وينــزل ُمهــروالً‪ ،‬فتصــرخ بفـ ٍ‬ ‫ـداً‪،‬‬ ‫ـاج سـ ِّـيد» ُمرتديـ ًا (بيجامتــه الكســتور)‪ ،‬وهــي (مكرمشــة) جـ ّ‬ ‫يخــرج «الحـ ّ‬ ‫ِ‬ ‫وفــي يـ ِ‬ ‫ذهبت‪،‬‬ ‫ـده مســبحته‪ ،‬ويتلَّفــت حولــه باحثـ ًا عن ابنتــه‪ ،‬وهو يقول‪« :‬أيــن‬ ‫بكيهــا لتصبــح جديــدة كمــا كانــت‪.‬‬ ‫ـأقوم‬ ‫ـ‬ ‫وس‬ ‫ـا‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫البيجام‬ ‫ـدت‬ ‫ـ‬ ‫وج‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫لق‬ ‫ـة؟‬ ‫يافاطمـ‬ ‫ِّ‬ ‫أن يســرق‬ ‫تخافين‬ ‫أال‬ ‫ً؟‬ ‫ا‬ ‫مفتوح‬ ‫ـزل‬ ‫ـ‬ ‫المن‬ ‫باب‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫وتترك‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫تخرجي‬ ‫ـف‬ ‫ـ‬ ‫كي‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫فاطم‬ ‫يــا‬ ‫ْ‬ ‫أحد الـ(راديو)!»‪.‬‬ ‫وصخــب فــي الشــارع‪ ،‬في َّتجــه ألريكتــه‪،‬‬ ‫يســمع «الحــاج سـ ِّـيد» صــوت صريــخ‬ ‫َ‬ ‫ويفتــح الشــباك وينظــر منــه‪ ،‬وينــادي على «عامــر»‪ ،‬طالبـ ًا منه ترك الســكّ ينة‪،‬‬ ‫مســتنكر ًا نــزول «فاطمــة» إلــى الشــارع‪ ،‬بــدون طرحة‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ـب «الحاج سـ ِّـيد» أكثر‪ ،‬فتنشــبك مســبحته بمســمار في الشـ ّـباك‪ ،‬فتنفرط‬ ‫يشـ ّ‬ ‫ـب أكثــر ح َّتــى يــكاد يقــع‪ .‬وبصـ ٍ‬ ‫ـوت واهــن يقــول‪:‬‬ ‫حباتهــا فــي الشــارع‪ ،‬فيشـ ّ‬ ‫َّ‬ ‫حباتهــا! يــا «عامر»‪ ،‬دع الســكّ ينة التي في يدك‬ ‫«المســبحة‪ ..‬المســبحة تنفــرط ّ‬ ‫حبــات مســبحة أبيــك‪ .‬وأنـ ِ‬ ‫ـت‪ ،‬يــا فاطمــة‪ ،‬انتبهــي‪ :‬لقــد ســقطت‬ ‫دي‪ ،‬ولملــم ّ‬ ‫دراجتــه‬ ‫بعــض‬ ‫الحبــات علــى شــعرك»‪ ،‬ثــم ينــادي علــى طفــلٍ صغيـ ٍر يركــب ّ‬ ‫ّ‬ ‫حبــات المســبحة التــي‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫من‬ ‫ـذ‬ ‫ـ‬ ‫ليأخ‬ ‫ـري؛‬ ‫ـ‬ ‫األزه‬ ‫ـيخ‬ ‫ـ‬ ‫بالش‬ ‫ـق‬ ‫ـ‬ ‫يلح‬ ‫أن‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫من‬ ‫ـب‬ ‫ويطلـ‬ ‫ّ‬ ‫ســقطت داخــل عمامتــه‪.‬‬ ‫«الحاج سـ ِّـيد» إهمال الجميع لصياحه‪ ،‬ويجلس ُمنهار ًا على أريكته‪،‬‬ ‫يســتنكر‬ ‫ّ‬ ‫«أم كلثوم»‬ ‫ـوت‬ ‫ـ‬ ‫ص‬ ‫ً‪،‬‬ ‫ة‬ ‫فجأ‬ ‫ـع‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ليرتف‬ ‫ً‪،‬‬ ‫ا‬ ‫تلقائي‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫فيعم‬ ‫المذياع‪،‬‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ـده‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫ويســند‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـوة‪ٍ،‬‬ ‫ـاج سـ ِّـيد»‪ ،‬بقـ َّ‬ ‫وهــي ُتغ ِّنــي‪« :‬فــات المعــاد‪ ..‬فــات المعــاد»‪ ،‬فيتن َّفــس «الحـ ّ‬ ‫ثــم يســقط أرض ـاً‪ ،‬وهــو ُممســك بخيـ ِ‬ ‫ـط مســبحته التــي ينظــر إليهــا بحســرة‪،‬‬ ‫ـردداً‪« :‬المســبحة انفرطــت‪ ..‬المســبحة انفرطــت»‪ ■ .‬هاني قــدري (مصر)‬ ‫ُمـ ِّ‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪85‬‬


‫صفوان داحول (سورية) ▼‬

‫‪86‬‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬


‫اغتصاب‬ ‫يصدق معظمكم ما سأرويه!‬ ‫قد ال‬ ‫ّ‬ ‫صدقت ذلك‪.‬‬ ‫ال ألومكم‪ ..‬لو كنت مكانكم ما ّ‬ ‫ـوم‪ ،‬بوضعيــة الجنيــن‪ ،‬علــى األرض‬ ‫ـ‬ ‫مك‬ ‫ـدها‬ ‫ولك ّنــي فــوق رأســها اآلن‪ ،‬وجسـ‬ ‫ّ‬ ‫أمــا روحهــا فتقــف قريبــة‪ ،‬إلــى جانبــي‪ ،‬تنظــر إلــى جســدها‪،‬‬ ‫اإلســفلتية‪ّ .‬‬ ‫ـي‪.‬‬ ‫ثـ ّ‬ ‫ـم تنظــر إلـ ّ‬ ‫إننــي أحــاول‪ ،‬بــكلّ صــدق‪ ،‬أن أكــون مبتهجـ ًا بشــأن هــذه الحالــة‪ ،‬بالــذات‪.‬‬ ‫ـي دائم ًا‬ ‫شــيء مــا كان يســتعجلني ألخذهــا‪ ،‬لكــن األمــر لم يكن بيــدي‪ ،‬فعلـ ّ‬ ‫ـدر من الســماء‪.‬‬ ‫أن أنتظــر الموعــد المقـ َّ‬ ‫أرجوكــم‪ ،‬ثقــوا بــي‪ .‬قــد أكــون البهجــة الخالصــة‪ .‬يمكننــي أن أكــون ودوداً‪،‬‬ ‫أمــا الكياســة‪ ،‬فلهــا شــأن آخــر معــي‪ ،‬فــا‬ ‫وم َر َّحب ـ ًا بــي‪ ،‬أحيان ـاً‪ّ .‬‬ ‫مقبــوالً‪ُ ،‬‬ ‫تطلبوهــا منــي‪.‬‬ ‫مــن أنــا؟ ال أملــك أن أبــوح لكــم بشــيء اآلن‪ ،‬لكنــي أعدكــم‪ ،‬فــي وقــت مــا‪،‬‬ ‫بــأن ك ً‬ ‫خــاص بــه‪،‬‬ ‫محــدد‬ ‫ال منكــم ســيراني واقفــ ًا عنــد رأســه‪ ،‬فــي وقــت‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ـي‪ .‬وفــي كلّ زيــارة لــي إلــى عالمكــم‪ ،‬ســأحمل‬ ‫وأرواحكــم ســتكون بيــن ذراعـ ّ‬ ‫واحــد ًا منكــم علــى كتفــي‪ ،‬برفــق‪ ،‬أجــل‪ ،‬برفــق‪ ،‬ال تخافــوا‪ ،‬ونرحــل بعيــداً‪.‬‬ ‫ـن البعــض‪ ،‬علــى األرجــح‪ ،‬أن اللــون‬ ‫الثلــج األبيــض يكســو كلّ شــيء‪ .‬يظـ ّ‬ ‫(األبيــض) ليــس لونـ ًا حقيقيـاً‪ .‬لكنــي أؤكِّ ــد لكــم‪ ،‬يقينـاً‪ ،‬أن األبيــض لــون‪ .‬ال‬ ‫أعتقــد‪ ،‬شــخصياً‪ ،‬أنكــم تريــدون مجادلتــي‪ ،‬وإن كنتــم ترغبــون بذلــك‪ .‬أنــا‬ ‫ا لســت بعنيـ ٍ‬ ‫فعـ ً‬ ‫ـف‪ ،‬ولســت بخبيــث؛ أنــا مثــل هــذا الثلــج األبيــض‪ ،‬هــادئ‪،‬‬ ‫ـي وفريــد‪ ،‬فــا تأخــذ كالمــي علــى محمــل التهديــد‪.‬‬ ‫نقـ ٌ‬ ‫***‬ ‫المخيــم‪ ،‬فــي المــكان الــذي خــرج منــه صــوت الصرخــة‪.‬‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـاس‬ ‫ـ‬ ‫الن‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫تجم‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫وجــدوا أمامهــم ج ّثــة واحــدة‪ ،‬مــن الواضح أنها كانــت المرأة‪ .‬ظ ّلــل الصمت‬ ‫األجــواء‪ ،‬وكأنــه حضــور لطائـ ٍر جــارح‪ ،‬يجثــم متو ِّثباً‪ ،‬يراقــب طريدته‪.‬‬ ‫***‬ ‫ـدث إلــى نفســها‪ ،‬كلّمــا مــررت ألحمــل‬ ‫ـ‬ ‫تتح‬ ‫ـمعها‬ ‫ـ‬ ‫أس‬ ‫ـت‬ ‫ـ‬ ‫كن‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫ـون‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫أتصد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫أحدهــم علــى كتفــي‪ ،‬وأرحــل؟!‬ ‫إ ّنهــا تشــعر بــي! اندهشــت! كيــف لهــا أن تشــعر بــي‪ ،‬ولــم يصــدر أمــر نقلهــا‬ ‫إلــى العالــم اآلخــر‪ ،‬بعــد!‬ ‫كانت تنظر في عيني‪ ،‬تماماً‪ ،‬وتقول لي‪ ،‬وال أحد غيري يسمعها‪:‬‬ ‫الطريقــة التــي أشــعر بهــا‪ ،‬والخــوف الــذي ينتابنــي يغــوص عميقــ ًا فــي‬ ‫ـث‬ ‫داخلــي‪ .‬أتمكّ ــن‪ ،‬أخيــراً‪ ،‬مــن أن أبــادل الرجــل الجالــس أمامــي‪ ،‬الحديـ َ‬ ‫ـرات‪،‬‬ ‫عــن حالــة البلــد‬ ‫ّ‬ ‫المدمــر‪ .‬أتذكّ ــر أ ّنــه أتــى‪ ،‬قبــل اليــوم‪ ،‬عــدد ًا مــن المـ ّ‬ ‫ـي الكثيــر مــن األســئلة‪ ،‬لكــن ذاكرتــي كانــت ملفوفــةً بالضبــاب‪،‬‬ ‫يطــرح علـ َّ‬ ‫األيــام‪ ،‬وأنا هنــا في هــذه المدينــة‪ ،‬مدينة‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫ك‬ ‫ـرف‬ ‫ـ‬ ‫أع‬ ‫ولــم أكــن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ـن يحملــن‬ ‫المــوت‪ ،‬والخــوف‪ ،‬والجــوع‪ ،‬واألمــراض‪،‬‬ ‫واألمهــات اللواتــي أراهـ َّ‬ ‫ّ‬ ‫ـن‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫أكتافه‬ ‫ـن‪ ،‬وهــم يموتــون جوعـ ًا علــى‬ ‫أطفالهـ َّ‬ ‫ّ‬ ‫بالتغيــر فــي قلبــي‪ .‬أشــعر أ ّنــي كنــت هنــا‪ ،‬طــوال‬ ‫مــع الوقــت‪ ،‬بــدأ شــيء‬ ‫ُّ‬ ‫ربما! تعلّمت عــدم التفكير‪ .‬قضيت‬ ‫األزل‬ ‫ـادل‬ ‫ـ‬ ‫تع‬ ‫طويلة‪،‬‬ ‫الوقــت‪ ،‬منــذ فتــرة‬ ‫ّ‬ ‫ـي القيــام‬ ‫كلّ ّأيامــي هنــا فــي محاولــة مواكبــة‬ ‫ّ‬ ‫المهمــة التاليــة‪ ،‬التــي كان علـ ّ‬ ‫أن حالي ســيكون أفضل بهــذه الطريقة‪.‬‬ ‫بهــا‪ ،‬لمســاعدة النــاس‪ .‬كنت أعتقد ّ‬ ‫ـرك‪ ،‬طالمــا كان بإمكانــي القيــام بشــيء‪ ،‬فــا يضيــع‬ ‫ـتمر فــي التحـ ُّ‬ ‫كنــت أسـ ّ‬ ‫تخيلــت األمــر‪ .‬هــل بإمكانــك أن تدرك‬ ‫الوقــت فــي القلــق والتفكيــر‪ .‬أو هكــذا َّ‬ ‫مــا أعنيــه؟‬ ‫الرد‪.‬‬ ‫أبقى صامتاً‪ ،‬ال أستطيع ّ‬ ‫تحدثنــي‪ ،‬ثــم تصمــت فجــأةً‪ ،‬وتشــيح بوجههــا بعيــد ًا ع ّنــي‪ ،‬وتنهــض‬ ‫كانــت‬ ‫ِّ‬ ‫مندفعــةً با ّتجــاه تلــك المرأة التي انتزعت الرغيف مــن قبضة الطفل الصغير‬ ‫ـان مــن وراء الســخام الــذي غطَّ ى‬ ‫ـمراً‪ ،‬مذهــوالً‪ .‬عينــاه تطـ ّ‬ ‫الــذي وقــف متسـ ّ‬ ‫وجهــه وكامــل جســمه‪ ،‬تســتره مــزق مــن المالبــس‪ ،‬أو تــكاد‪ .‬شــعرت بقلبها‬ ‫ـي الطفل العســليتين‪ ،‬وســكنتني رهافة أحاسيســها‪.‬‬ ‫يــذوب‪ ..‬فــي نظــرة عينـ ّ‬ ‫ـن‬ ‫تأخــذ قطعــة الخبــز مــن يــد المــرأة‪ ،‬وتقســمها بينهــا وبيــن الطفــل‪ ،‬لكـ ّ‬ ‫المــرأة تصــرخ فــي وجههــا‪ :‬إ ّنهــا ألطفالــي‪ ،‬هــم يموتــون مــن الجــوع‪ ،‬حــرام‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪87‬‬


‫عليــك‪....‬‬ ‫ـي‪ ،‬وتهمــس‪،‬‬ ‫تســتدير نحــوي‪ ،‬مــن جديــد‪ ،‬وتجلــس قبالتــي‪ ،‬تنظــر فــي عينـ ّ‬ ‫مــن جديــد‪:‬‬ ‫مــا زلــت أمنــع نفســي مــن التن ُّفــس معظــم الوقــت‪ُ .‬يعييننــي هــذا الســلوك‬ ‫ـن الرائحــة تقتلنــي‪ .‬المــرأة تتســكّ ع‬ ‫علــى متابعــة ّأيامــي دون أن أنهــار‪ ،‬لكـ ّ‬ ‫ـري‪ ،‬تراهــا طــوال الوقــت تنبــش‬ ‫بيــن خيــام اإليــواء‪ ،‬هائمــةً ‪ ،‬مثــل حيــوان بـ ّ‬ ‫خمنــت أ ّنهــم أوالدهــا‪.‬‬ ‫التــراب بأظافرهــا‪ ،‬وتنــادي علــى أســماء أشــخاص‪ّ ،‬‬ ‫دمــر منزلهــا‪ ،‬اســتطاعوا‬ ‫يحكــون أ ّنهــا كانــت الناجيــة الوحيــدة مــن قصــف ّ‬ ‫ـد أنفــي‬ ‫حصــة مــن الطعــام‪ ،‬وأنــا أسـ ّ‬ ‫انتشــالها مــن تحــت األنقــاض‪ .‬أناولهــا ّ‬ ‫أل أفعــل‪.‬‬ ‫ـم‪ ،‬يخجلنــي هــذا ولك ّنــه ليــس بيــدي ّ‬ ‫عــن الشـ ّ‬ ‫ً‬ ‫علي اإلســراع‬ ‫بــدأ ذهنــي يصفــو بعيــدا عنهــا قليـاً‪ .‬أتذكّ ــر أ ّننــي تركتهــا‪ ،‬كان ّ‬ ‫المرة‪.‬‬ ‫ـذه‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ـر‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫األحم‬ ‫ـال‬ ‫ـ‬ ‫اله‬ ‫ارة‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫بس‬ ‫ـي اللحــاق‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بالذهــاب‪ ،‬علـ ّ‬ ‫***‬ ‫العيــادة الميدانيــة‪ ،‬بنــاء صغير‪ ،‬طُ ِليــت جدرانه اإلســمنتية باللّون األبيض‪،‬‬ ‫تتضخــم‬ ‫وعلــم الهــال األحمــر يرفــرف فوقــه‪ .‬العيــادة مزدحمــة‪ ،‬والرائحــة‬ ‫ّ‬ ‫الجــو‪ .‬اختلطــت رائحــة المعقّمــات برائحــة العــرق‬ ‫فيهــا‪ ،‬بفعــل حــرارة‬ ‫ّ‬ ‫والجــروح المتعفّنــة‪ .‬وعــدت إلــى تذكّ ــر صديقتــي‪.‬‬ ‫ويتوســلون للحصــول علــى المســاعدة‪ ،‬ألطفالهــم ولهــم‪.‬‬ ‫النــاس يصرخــون‬ ‫ّ‬ ‫ـوره‪ .‬أرانــي‪ ،‬أحياناً‪ ،‬أقف ألراقــب العاملين‬ ‫ـ‬ ‫تص‬ ‫يمكن‬ ‫ال‬ ‫ـر‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫أم‬ ‫االنتظــار‪ ،‬هنــا‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ـي أن أحمل‪،‬‬ ‫مهمتــي‪ ،‬وأعرف َمـ ْ‬ ‫علــى تنظيــم األمــر‪ ،‬فقــط‪ ،‬أل ّنــي أعــرف َّ‬ ‫ـن علـ ّ‬ ‫مرة‪.‬‬ ‫فــي كلّ ّ‬ ‫هــا أنــا أنظــر إلــى األمــام مباشــرةً‪ ،‬وأنــا أدخــل مركــز اإليــواء‪ .‬أراهــا تدخــل‬ ‫مســرعة‪ ،‬يذهــب نظرهــا با ّتجــاه عجوزيــن لجأتــا إلــى ركــن‪ ،‬وجلســتا‬ ‫تتجمــد مكانها‪ ،‬وأنــا ال أدري‬ ‫تبولــت إحداهمــا فــي مكانهــا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫القرفصــاء‪ ،‬وقــد ّ‬ ‫ً‬ ‫أن دورهــا فــي‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ا‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫‬‫ـ‬ ‫األق‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫‬‫ـت‬ ‫ـ‬ ‫مازل‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫لكن‬ ‫ـم بهــا‪،‬‬ ‫متأكِّ‬ ‫ـلّ‬ ‫َّ‬ ‫مــا الــذي ألـ ّ‬ ‫الرحيــل معــي لــم يحــن‪ ،‬بعــد‪.‬‬ ‫تتقدم‬ ‫ـة‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫النتن‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫الرائح‬ ‫صدمتها‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫رب‬ ‫ـف؟‬ ‫ـ‬ ‫عني‬ ‫ا ّتضــح لــي أ ّنهــا شــعرت بــدوار‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـابة‪ ،‬تمســك بيديهــا وتســحبها إلى الكرســي القريب‪:‬‬ ‫منهــا‬ ‫متطوعــة شـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـداً!‬ ‫اســتريحي‪ ،‬اســتريحي‪ ،‬يبــدو أ ّنــه ســيغمى عليــك‪ ..‬وجهــك شـ‬ ‫ـاحب جـ ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ســأحضر لــك قليـ ً‬ ‫ا مــن المــاء‪.‬‬ ‫مكتظ بالناس‪.‬‬ ‫أمه في سوق‬ ‫ّ‬ ‫بدت كطفل تاه عن ِّ‬ ‫ـدئ مــن روعها‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫أه‬ ‫كتفها‪،‬‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ك‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫راح‬ ‫ـت‬ ‫ـ‬ ‫ووضع‬ ‫جلســت إلــى جانبهــا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫همســت لــي‪ ،‬والفــزع يقفــز مــن ناظريها‪:‬‬ ‫لــم أكــن قــد نظــرت فــي المــرآة‪ ،‬منــذ أن قدمــت إلى هنا‪ ،‬منذ خمســة أشــهر‬ ‫وكأن شــيئ ًا يخبط في أحشــائي‪ .‬يتسـلّل‬ ‫أحس‬ ‫تقريباً‪ .‬اآلن‪ ،‬أنظر إلى بطني!‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـارة تغمرنــي مــن رأســي إلــى قدمي‪ .‬هــل يمكــن‪!...‬؟ أهو‬ ‫فــزع مثــل موجــة حـ َّ‬

‫‪88‬‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫توعكــي طــوال األشــهر األربعــة الماضيــة؟ لم أعـ ِر األمر اهتمامـاَ‪ ،‬من‬ ‫ســبب ُّ‬ ‫ـتقر فــي ذهنــي أ ّنهــا مــن آثــار ســيناريوهات ّأيــام الســجن‪.‬‬ ‫قبــل‪ ،‬فقــد اسـ ّ‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫أل‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـرون‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫ـاس)‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫(الن‬ ‫ـم‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫أتراه‬ ‫ـاءل‪:‬‬ ‫ـ‬ ‫وأتس‬ ‫ـي‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ق‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫يح‬ ‫أن الــكلّ‬ ‫ّ‬ ‫ـي ّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫يخيــل إلـ ّ‬ ‫تعريــت ح ّتــى العظــم‪ ،‬مثلمــا كنــت أقــف عاريــة أمامهــم‪ ،‬فــي‬ ‫بــي؟ أترانــي‬ ‫َّ‬ ‫المعتقــل‪ ،‬هنــاك‪ ،‬قبل خمســة أشــهر؟‬ ‫ـعرت باألســى حيالهــا‪ ،‬كان دفــق ذكرياتهــا الســوداء أقــوى مــن الكهربــاء‬ ‫شـ ُ‬ ‫المنســابة مــن راحتــي‪ .‬تتابــع همســها لــي‪:‬‬ ‫ـب‬ ‫كيــف عــادت الذكــرى التــي ظننــت أ ّنــي دفنتهــا قســراً‪ ،‬فــي غياهــب الجـ ِّ‬ ‫العميــق الــذي يدعــى الذاكــرة‪ .‬تذكّ رتــك! أنــت أيضــ ًا كنــت دائمــ ًا هنــاك‪،‬‬ ‫كنــت دائمـ ًا قريبـ ًا م ّنــي‪ ،‬رجوتــك أن تحملنــي وتخــرج بــي مثلمــا كنــت تفعــل‬ ‫إلي‪،‬‬ ‫بالكثيريــن والكثيــرات حولــي‪ .‬كنــت‪ ،‬فــي كلّ مـ ّ‬ ‫ـرة‪ ،‬تعــود فتقــف وتنظــر ّ‬ ‫ثــم تبتعــد وتخــرج مــن دونــي‪.‬‬ ‫تقــف‪ ،‬بإعيــاء شــديد‪ ،‬لتخــرج رأســها من خالل النافــذة‪ ،‬وكأ ّنهــا تأخذ جرعة‬ ‫مــن األوكســجين‪ ،‬ثم تصــرخ‪ ،‬ووحدي أفهــم هذيانها‪:‬‬ ‫لمــاذا تــزداد الرائحــة بشــاعةً فــي المــكان‪ ،‬هنــا؟ إ ّنهــا رائحتــه نفســه‪ ،‬تغلــب‬ ‫علــى كلّ رائحــة‪ ،‬تطــلّ مــن كــوى الذاكــرة مثــل أفاعــي‪ ،‬ال أملــك لهــا منعـاً‪.‬‬ ‫ـابة المســعفة كأسـ ًا بالســتيكي ًا مليئـ ًا بالمــاء‪ ،‬فازدرتــه‪ ..‬هــدأت‬ ‫ناولتهــا الشـ ّ‬ ‫ـدق فــي طفلــة تمــرح فــي بركــة المــاء الــذي خلَّفتــه‬ ‫ـ‬ ‫تح‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫وه‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫أمــواج ذاكرته‬ ‫ّ‬ ‫ـربة مــن الخــزان‪ ،‬أمــام البوابــة‪.‬‬ ‫النقــاط المتسـ ِّ‬ ‫طفلــة تلعــب! تلعــب‪ ،‬أغبطها‪ .‬ليتني أعــود طفلة أللعــب‪ ،‬وأن أترك للحنفية‬ ‫مهمــة امتصــاص الحرارة التــي تف ّتت أعصابي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تنفلــت منهــا ضحكــة هســتيرية‪ ،‬وأنــا مازلــت أراقبهــا‪ .‬تهمــس مــن جديــد‪،‬‬ ‫وال يســمعها غيــري‪:‬‬ ‫تتج ّلــى لــي أرضيــة الســجن‪ ،‬اآلن أمامي‪ ،‬إســمنت خشــن‪ ،‬ودورة ميــاه! دورة‬ ‫ميــاه بــدون مــاء! والرائحــة!!! يــا للهــول‪ ،‬الرائحــة! كانــت تلــك رحمــة أن ال‬ ‫ســبيل لرؤيــة نفســي فــي المــرآة‪.‬‬ ‫أتذكّ ــرك وأنــت تقــف فــي الزاويــة البعيدة‪ .‬لم يعــد بي ّأية رغبة فــي االهتمام‬ ‫ـاقي إن كانــا‬ ‫ـي وسـ ّ‬ ‫بجســمي إال بالقــدر الــذي يقــوم بــه بوظائفــه‪ .‬أتف ّقــد ذراعـ ّ‬ ‫ـرة كنــت أندهــش مــن شــعور الفــراغ الــذي‬ ‫قادريــن علــى العمــل‪ ،‬فــي كلّ مـ ّ‬ ‫يســكنني‪ ،‬بعــد ابتعادك‪.‬‬ ‫ـدت واضحةً على‬ ‫الحقيقــة المفزعــة أكثــر مــن الموت ذاتــه‪ ،‬هي تلك التي تبـ ّ‬ ‫وجــه الطبيــب‪ ،‬تؤكّ ــد لي أ ّني حامل!! أتســمعني‪ّ ،‬أيها البليــد؟ أنا حامل!‬ ‫أن رأســي اشــتعل الضطرابهــا‪ ،‬وأنــا المفطــور مــن جوهــر الســام‬ ‫الغريــب ّ‬ ‫والهــدوء والصمــت!‬ ‫ـش الرقيــق إلــى كتلــة مــن الغضــب‪ .‬ال يذهلنــي ‪ -‬كمــا‬ ‫ـول كيانهــا الهـ ّ‬ ‫ويتحـ ّ‬ ‫فعــل اآلخــرون ‪ -‬صــوت زعيقهــا‪ ،‬الــذي خرج مثــل زعيق طائر نــورس جريح‪،‬‬


‫إل أن أغــوص فــي‬ ‫تَنكَّ ــس مــن عليائــه‪ ،‬فــي البحــر العاصــف‪ ،‬لك ّنــي ال أملــك ّ‬ ‫صمتــي‪ ،‬مــن جديــد‪.‬‬ ‫لمــة شــعري‪ ،‬ويلفُّهــا علــى ســاعده‪،‬‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ـض‬ ‫ـ‬ ‫يقب‬ ‫ـراه‬ ‫ألــم تكــن معــي‪ ،‬وتـ‬ ‫ّ‬ ‫ـجع الضــواري علــى الهجوم على‬ ‫ويجعلنــي أركــع قســراً؟ للخــوف رائحة تشـ ِّ‬ ‫الفريســة‪ ،‬ويشــجع غريــزة العــدوان عند البشــر‪ ،‬أيضـاً‪ .‬يبعث ذعــري أنيابه‬ ‫ـهية إذاللــي‪ ،‬وكأن ذلــك ح َّقــه فــي‬ ‫ومخالبــه علــى الظهــور‪ ،‬ويبعــث فيــه شـ َّ‬ ‫المســلمات‪ .‬يســتفيق الوحــش مــن قيلولته‪ ،‬كلّ مســاء‪ ،‬جائعـ ًا يقتات على‬ ‫خوفــي وإذاللــي‪ ،‬يرتفــع رأســه بالــغ البشــاعة‪ ،‬فأســمع وســط دوامــة األلم‪،‬‬ ‫صــوت هياجــه كالكلــب المســعور ينهــش جســدي المرضــوض‪ ،‬المم ـ َّزق‪،‬‬ ‫ويقضــم عظامي‪.‬‬ ‫والرائحــة!! الرائحــة!! إ ّنهــا تفــوق أعلــى درجــات التعذيــب‪ ،‬تلــك الرائحــة‬ ‫التــي تنبعــث مــن روحــه النتنــة‪ ،‬مــع أنفاســه وعرقــه‪.‬‬ ‫ـي أن ج ـاّدي قــادم مــن عالــم مذعــور‪ ،‬يحمــل معــه رغبتــه فــي‬ ‫ّ‬ ‫يخيــل إلـ ّ‬ ‫االنتقــام مــن ذعــره وقهره المخبوء في نفســه‪ .‬ضحكته المجلجلة الشــامتة‬ ‫إل ببلوغي‪،‬‬ ‫ـرة‪ ،‬بعــد أن ينتهــي م ّنــي‪ ،‬ولم يكــن ليكتفــي ّ‬ ‫التــي يرســلها‪ ،‬كلّ مـ ّ‬ ‫ـس مراحــل‬ ‫ـ‬ ‫أخ‬ ‫ّدي‪،‬‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫ج‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ـه‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫وبلوغ‬ ‫م‪،‬‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫الته‬ ‫ـات‬ ‫ـ‬ ‫درج‬ ‫ضحيتــه‪ ،‬أبشــع‬ ‫أنــا‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫النشــوة المجرمــة‪ .‬وأنــت تقــف مراقبـاً‪ .‬ال أنــت تأخذنــي فــي ســام صمتــك‪،‬‬ ‫وال أنــت تأخــذه إلــى جحيــم أمثالــه‪.‬‬ ‫األيام خوفي واشــمئزازي يأخذان شــك ً‬ ‫ال مبطَّ ن ًا بالســكون‪،‬‬ ‫ـهد َ‬ ‫لقد شـ ّ‬ ‫ت‪ ،‬مع ّ‬ ‫ً‬ ‫ـهدت اختفــاء النظــرة المذعــورة فــي عينــي‪ ،‬وكنــت شــاهدا علــى صمتــي‬ ‫وشـ َ‬ ‫تتقوض‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫ث‬ ‫تنكمش‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫وه‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫نفس‬ ‫على‬ ‫ـهدت‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫لق‬ ‫ً‪،‬‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫أيض‬ ‫ـا‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫بعده‬ ‫ـق‬ ‫المطبـ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ـرة‪ ،‬أمامــك‪ .‬أكرهك!‬ ‫كلّ مـ َّ‬ ‫أجــل كنــت شــاهداً‪ .‬كنــت أنــا مــن وضــع راحتــه علــى صــدرك أنــت‪ ،‬لتهــدأ‬ ‫هم ُتــه فــي تعذيبــك‪ ،‬باالغتصــاب‪ .‬ألــم يتوقَّف‬ ‫شــهوة هــذا المخلــوق‪ ،‬وتفتــر َّ‬ ‫ـف عنــك‪،‬‬ ‫ـول ليكتفــي بالضــرب والشــتائم‪ ،‬حتــى كَ ـ ّ‬ ‫بعدهــا تمامـاً؟ ألــم يتحـ ّ‬ ‫وتــركك أخيــراً؟‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫مغتصب‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫أفقدن‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫لق‬ ‫ومــا الفائــدة؟‬ ‫حريتــي وكرامتــي‪ ،‬بــل وأفقدنــي كلّ‬ ‫َّ‬ ‫األيــام‪ ،‬كلّ مــا يمكــن‬ ‫مــا يمكننــي امتالكــه مــن حــاوة الحيــاة‪ ،‬فــي مقبــل َّ‬ ‫ـرد بوصفــي إنســانة؛‬ ‫أن أتفـ َّ‬ ‫كنــت أحلــم باألمومــة‪ ،‬يومـ ًا مــا‪ .‬حلــم جميــل ينبــع من الشــوق إلــى طفولة‬ ‫ـدي ألبــي‪ .‬وقتهــا‪ ،‬لــم تكــن أنــت‬ ‫لــم أعشــها‪ ،‬فقــد نشــأت يتيمــة فــي بيــت جـ ّ‬ ‫ـدي‪ ....‬آآآه‪.‬‬ ‫هنــاك‪ ،‬مــا رأيتــك ّ‬ ‫إل عندمــا توفِّي جـ ّ‬ ‫ثم تتابع‪:‬‬ ‫نصمت سويةً لبرهة‪ّ ،‬‬ ‫ـب ببســاطة‪ .‬أحلــم أنــي‬ ‫ـ‬ ‫الح‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫في‬ ‫ش‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫يع‬ ‫ـت‬ ‫ـ‬ ‫بي‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫أحلــم بصــورة لطفلــي‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫أضمــه بيــن ذراعــي‪ ،‬إلــى صــدري‪ ..‬أغــرق أنفــي فــي ثنايــا رقبتــه‪،‬‬ ‫عشــقته‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ـب مــن رائحتــه البريئــة‪ ،‬والبيــت النظيــف األنيــق يفــوح برائحــة الزنبــق‪.‬‬ ‫أعـ ُّ‬

‫المتقرحــة‬ ‫تنتفضيــن كلّمــا عــدت إلــى وعيــك مــن ذاكرتــك الملتهبــة باأللــم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫صيــة‪ ،‬ال تمحــى‪ ،‬لك ّنــي أؤكّ ــد لــك أ ّنهــا ستســتحيل شــيئ ًا آخــر‬ ‫بوخــز رائحــة َع َّ‬ ‫غيــر مؤلــم‪ ،‬عندمــا ترحليــن معــي‪.‬‬ ‫إذن خذني اآلن!‬ ‫أصمت‪ ..‬وتصمت‪.‬‬ ‫أحــاول تحديــد مشــاعري نحــو الطفــل الــذي فــي أحشــائي‪ .‬كرهتــه‪ ،‬قبــل أن‬ ‫أراه! ســيكون ذ ّلــي الــذي ال يفارقنــي طــوال العمــر‪ ،‬مثــل الوشــم علــى جبين‬ ‫األطبــاء‬ ‫ـد أن أتخ ّلــص منــه‪ .‬يرفــض‬ ‫ـم مــا أعانيــه‪ ،‬أال تــرى؟! البـ ّ‬ ‫العبــد‪ .‬جحيـ ٌ‬ ‫ّ‬ ‫هنــا مســاعدتي‪ ،‬يقولــون أ ّنــي قــد أتسـ َّـبب فــي موتــي‪ ،‬وقــد أُحــرم مــن فرصــة‬ ‫ـد‪ ،‬ال أريــد لهــذا الســرطان أن يتشـ ّـبث بأحشــائي ل ُتك َتــب له‬ ‫اإلنجــاب إلــى األبـ ّ‬ ‫حيــاة‪ .‬ال يعلمــون أن المــوت هــو واحتــي المتبقية لي‪ .‬أين أنــت؟ دعنا نرحل‪.‬‬ ‫إ ّنني هنا‪ .‬لكن‪ ،‬لم يحن أوان الرحيل بعد‪.‬‬ ‫ـي‪ ،‬بعــد عمليــة اإلجهــاض‪ ،‬وآثــار التخدير مازالت تســري‬ ‫عندمــا فتحــت عينـ ّ‬ ‫أول مــا طلبتــه هــو رؤيــة مــا أخرجــوه مــن رحمــي‪ .‬أرأيتــه؟‬ ‫فــي أعصابــي‪ ،‬كان ّ‬ ‫األمهــات‬ ‫مخلــوق‬ ‫مدمــى‪ ،‬شــبه بشـ ّ‬ ‫ـري‪ .‬غمرنــي شــعور بالقــرف‪ .‬هــل يغمــر َّ‬ ‫ّ‬ ‫ـب االنتقــام الــذي‬ ‫ـ‬ ‫ح‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ـهدت‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫؟!‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ته‬ ‫ن‬ ‫أج‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـرف‬ ‫ـ‬ ‫بالق‬ ‫ـعور‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫عــاد ًة‬ ‫َّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫سكنني ؟‬ ‫أجل‪.‬‬ ‫وكنت تعرف أ ّنه غريب عن تكويني!‬ ‫أجل‪.‬‬ ‫ضحايــاي‪ .‬أقــوم‬ ‫ل‬ ‫أو‬ ‫أنــا‬ ‫كنــت‬ ‫ذاتــي‪،‬‬ ‫ثنايــا‬ ‫أعمــق‬ ‫فــي‬ ‫انغــرس‬ ‫ــه‬ ‫لك ّن‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫مــرة‪ ،‬وال‬ ‫عــدة مــرات‪ ،‬أكاد أســلخ جلــدي فــي كلّ‬ ‫باالســتحمام كلّ يــوم‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫أتيقــن مــن زوال األثــر‪ ،‬وأســكب أمــام أنفــي ّأيــة رائحــة عطريــة تصــل يــدي‬ ‫إليهــا‪ ،‬وأبالــغ فــي ذلــك‪ ،‬لعلَّهــا تتغ َّلــب علــى الرائحــة النتنــة التــي ســكنت‬ ‫ذاكرتــي‪ .‬هــل ستســمني بوســم اإلثــم‪ ،‬قبــل أن تأخذنــي معــك؟‬ ‫هونــي عليــك! شــهدت كلّ حاالت الموت في الدنيــا‪ ،‬بعضها‪ ،‬فقط‪ ،‬أخرجني‬ ‫ِّ‬ ‫عــن صمتــي‪ .‬أتســمعينني؟ أنت من البعض الذيــن أخرجوني عن صمتي‪.‬‬ ‫أجل‪ ،‬أسمعك‪.‬‬ ‫إذن هات كفّك‪ ،‬ضعيها في كفّي‪ .‬ولنرحل اآلن‪.‬‬ ‫اآلن؟‬ ‫أجل! لقد حان الوقت‪.‬‬ ‫عدة شــهقات عميقــة‪ .‬اختفت الرائحة النتنــة‪ ،‬فجأة‪ ،‬وحلّت‬ ‫تبتســم‪ ،‬وتأخــذ ّ‬ ‫محلهــا رائحــة تشــبه مزيج ـ ًا مــن الزنبــق والمســك‪ .‬واكتســى الكــون بثــوب‬ ‫كثيــف مــن الثلــج المنعش الصامــت‪ .‬اختفت الضوضاء في شــرايينها‪ ،‬وحلّ‬ ‫الســام‪ .‬ال شــمس وال قمــر وال نجــوم‪ ،‬ومــع ذلــك الكــون مضــيء ويمكنهــا‬ ‫ســماع إيقاعه المنســجم‪ ■ .‬ســمر الشيشــكلي (ســورية)‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪89‬‬


‫اللحظات األخرية قبل الهروب‬ ‫ـن كانــوا أصدقاءنــا باألمــس‪ .‬والعبــارة الشــائعة اآلن‪ :‬ال تمــد لــي‬ ‫ممـ ْ‬ ‫نحتمــي َّ‬ ‫فلربمــا تكــون قاتلــة‪.‬‬ ‫ـي‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫صديق‬ ‫يــدك يــا‬ ‫ّ‬ ‫نتفــادى بعضنــا البعــض تلقائي ـاً‪ ،‬المســافة اآلمنــة متــر ًا أو أكثــر‪ .‬ألــم تكــن‬ ‫وربمــا أكثــر‪ .‬أمشــي بصحبــة برومــدن‪ ،‬الخارج لتــوه من بين‬ ‫كذلــك مــن قبــل‪َّ ،‬‬ ‫صفحــات «طيــران فــوق عــش الوقــواق» لـ«كيــن كيســي»‪ّ ،‬إل أنــه ليــس هنديـ ًا‬ ‫أحمــر‪ ،‬بــل صوماليـ ًا يعيــش فــي ميالنــو منــذ أربعيــن عامـاً‪ .‬وهــو ليــس َأقــلّ‬ ‫منزلــة مــن الزعيــم برومــدن‪ ،‬ألنــه ينتمــي إلــى أحــد أفخــاذ قبائــل الــدارود‪،‬‬ ‫ويحمــل بفخــر اســم أبســامه‪« ،‬الكبيــر»‪.‬‬ ‫المجمــع الســكني البلــدي فــي المنطقــة الخامســة‬ ‫هــا هــو هنــاك‪ ،‬فــي زاويــة‬ ‫َّ‬ ‫ـر مــن الشــارع الرئيســي‪ ،‬مــا عــدا‬ ‫ـ‬ ‫تم‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الت‬ ‫ـات‬ ‫ـ‬ ‫العرب‬ ‫جنــوب ميالنــو‪ ،‬يحصــي‬ ‫ّ‬ ‫التــرام وســيارات األجــرة‪ .‬بالــكاد يجيــب علــى تحيــة اآلخريــن‪ ،‬وال ينــي أحيانـ ًا‬ ‫عــن اإلجابة بشــتيمة على الطريقة اإليطاليــة‪« :‬بونجورنو أون كورنو!» (بمعنى‬ ‫أي صبــاح وأي خيــر!)‪ .‬بــدأت عالقتــي بــه بســبب الحــرب فــي ســورية‪ .‬في ذلك‬ ‫رد بابتســامة علــى تحيتــي‪ ،‬وأشــار بعــكازه إلى الطريق‪ :‬هــم يفعلون‬ ‫الصبــاح‪ّ ،‬‬ ‫كلّ شــيء‪ ،‬فــي الصومــال أيضـاً‪ ،‬تعذَّ بنــا كثير ًا بســبب الحــرب‪ .‬كلّمنــي البواب‬ ‫عنــك‪ ،‬ولكــن خــذْ حــذرك منــه‪ ،‬ومــن تلــك التــي ال تدفــع اإليجار منذ عشــرين‬ ‫ـر خلفهــا‬ ‫عامـاً‪َّ .‬‬ ‫تعرفــت علــى تلــك أيضـاً‪ ،‬مهاجــرة مــن مقاطعــة كاالبريــا‪ ،‬تجـ ّ‬ ‫ثالثــة أوالد‪ ،‬مــن آبــاء مجهولين‪.‬‬ ‫في األشــهر الالحقة‪ ،‬اصطحبته إلى شــركة الكهرباء وطبيب األســرة وصاحب‬ ‫ـميه‪ ،‬ألنــه لــم يدفــع مســتحقّات‬ ‫عملــه الســابق‪ ،‬جاكومــو اللعيــن كمــا يسـ ِّ‬ ‫االجتماعيــة‪ .‬يخبرنــي إنــه عمــل فــي هــذا المصنــع الصغيــر إلنتــاج‬ ‫التأمينــات‬ ‫ّ‬ ‫ـتيكية ثالثيــن عامـاً‪ ،‬ومــا الحالــة التــي وصــل إليهــا‪ ،‬انــزالق‬ ‫ـ‬ ‫البالس‬ ‫ـق‬ ‫الصناديـ‬ ‫ّ‬ ‫اليمنــى وفتــق إربــي‪ّ ،‬إل مــن‬ ‫غضروفــي فــي العمــود الفقــري‪ ،‬عمليــة للركبــة ُ‬ ‫حمــل الصناديــق‪ ،‬آالف الصناديــق‪ ،‬بــل ُقــل مالييــن الصناديــق‪ .‬وكيــف لــي أن‬ ‫أتقــن اإليطاليــة‪ ،‬ذلــك اللعيــن كان يصــرخ ورائــي دائمـاً‪ ،‬حتــى عندمــا كنــت‬ ‫أجلــس ألتنــاول طعــام الغــداء‪ :‬أبســوم‪ ،‬الشــاحنة تنتظــر‪ ،‬ال أحســبها أتــت‬ ‫إلــى هنــا لتعــود فارغــة!‬ ‫عمــا يجــري فــي هذا العالــم‪ ،‬أو فــي ميالنو‬ ‫ـألني‬ ‫ـ‬ ‫ليس‬ ‫ـام‬ ‫ثــم اســتوقفني قبــل ّأيـ‬ ‫ّ‬ ‫بالتحديــد‪ .‬هــل تســمع األخبــار؟ نعــم‪ ،‬يجيــب‪ ،‬أخبــار الثامنــة مســاء‪ ،‬ولكــن‬

‫‪90‬‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫إن كانــوا جدييــن أم ال‪ .‬انتهينا من‬ ‫هــؤالء يخلطــون الحابــل بالنابــل‪ ،‬وال تفهــم ْ‬ ‫ـور عارضــات األزيــاء وجــدال مــاورو كورونــا‬ ‫فضائــح فابريتســيو كورونــا مصـ ِّ‬ ‫الكاتــب ومتسـلِّق الجبــال مع بيانــكا ابنة إنريكو بيرلينغويــر‪ ،‬واآلن مع فيروس‬ ‫كورونــا‪ .‬لمــاذا كورونــا؟ ألن شــكله يشــبه التــاج‪ .‬هــه! يضحك‪.‬‬ ‫ك ّنــا قــد اتفقنــا أن نقــوم بجولــة فــي المدينــة‪ .‬حضــر فــي صبــاح اليــوم التالــي‬ ‫لشــده علــى‬ ‫بكمامــة صنعهــا بنفســه مــن قمــاش أســود ومطــاط برتقالــي‬ ‫ِّ‬ ‫بالســتيكية صغيــرة تحتــوي علــى مزيــج مــن الكحــول‬ ‫األذنيــن‪ ،‬مــع قنينــة‬ ‫ّ‬ ‫والمــاء وقليــلٍ مــن الكلــور‪ .‬لتعقيــم اليديــن‪ .‬يرينــي إياهــا بابتســامة تخفــي‬ ‫وراءهــا وعيــد ًا مبطّ ن ـ ًا للعــدو غيــر المرئــي‪ .‬نعقــم يدينــا حالمــا ننــزل مــن‬ ‫التــرام‪ .‬الوجهــة محطَّ ــة قطــارات (لويجــي) كادورنــا‪ ،‬جنــرال وسياســي مــن‬ ‫ـي عــن خســارة معركــة كابوري ّتــو‬ ‫الحــرب العالميــة األولــى‪ ،‬المســؤول الرئيسـ ّ‬ ‫الشــهيرة أمام الجيش األلماني ‪ -‬النمســاوي‪ .‬إذن‪ ،‬لماذا يفتخرون به؟ يســأل‬ ‫ـم‬ ‫ـم خســر معركتــه األخيــرة‪ ،‬وتـ ّ‬ ‫بحيــرة‪ .‬ألنــه أبلــى بــاء حســن ًا فــي البدايــة‪ ،‬ثـ ّ‬ ‫اســتبداله حــا ً‬ ‫ال بالجنــرال أرمانــدو ديــاز‪.‬‬ ‫تســتوقفنا دوريــة مشــتركة مــن الجيش والشــرطة المحل ّ​ّية‪ ،‬قبــل أن نصل إلى‬ ‫صممــه‬ ‫مدخــل المحطّ ــة‪ ،‬بالقــرب مــن نصــب «عقــدة وخيــط وإبــرة»‪ ،‬الــذي َّ‬ ‫كاليــس أولدنبــرغ وزوجتــه كــووزي فــان بروغن‪.‬‬ ‫ إلى أين؟ اإلقامات من فضلكم!‬‫إيطاليــة‪ ،‬يجيــب الكبيــر أبســامه‪ ،‬والــدي حــارب مــع الجيــش‬ ‫ أنــا جنســيتي‬‫ّ‬ ‫اإليطالــي فــي الصومــال‪.‬‬ ‫ال يأبــه الشــرطي لكالمــه‪ .‬القطــارات متوقِّفــة‪ ،‬إلــى أيــن تذهبــان؟ نبحــث‬ ‫عــن صيدليــة‪ .‬ال توجــد صيدليــة هنــا‪ ،‬حاولــوا فــي الجهــة األخــرى‪ .‬نمشــي‬ ‫ـدة دقائــق‪ ،‬نختــرق حدائق ســيمبيوني‪ ،‬ونخــرج من الطــرف اآلخر‪.‬‬ ‫بصمــت لعـ َّ‬ ‫يســتوقفني إعــان أمــام مدرســة ثانويــة مغلقــة‪ ،‬لويجــي بيكاريــا‪ ،‬أحــد أعــام‬ ‫عصــر التنويــر‪ .‬فلنعيــد خلــق العالم بســرده‪ ،‬ورشــة كتابــة إبداعية‪ .‬أشــرح له‬ ‫الموضــوع‪ ،‬ولكنــه ال يهتــم‪ .‬كمــا اتفقنــا فــي البدايــة‪ ،‬يريــد أن يــرى ميالنــو‪ ،‬أن‬ ‫يعيشــها قبــل أن يحصــده الفيــروس‪ .‬ألــم تكفــك كلّ هــذه الســنوات؟ عشــتها‬ ‫جميعـ ًا بيــن البيــت والمعمــل‪ ،‬يجيــب بخيبــة أمل كبيــرة‪ .‬نتوغَّ ل في الشــوارع‬ ‫ـدة دقائــق إلــى شــارع بابينيانــو‪ .‬اللهيــب والدخــان‬ ‫الجانبيــة ونصــل بعــد عـ َّ‬


‫األســود يتصاعــدان مــن ســجن ســان فيتــوري العريق‪ ،‬أصــوات الســجناء تمأل‬ ‫حر ّيــة ‪ ،)...‬وكأننــا فــي ســورية‪ .‬صونــو‬ ‫(حر ّيــة ‪ّ ...‬‬ ‫الجــو‪ :‬ليبرتــآ ‪ ...‬ليبرتــآ ‪ّ ...‬‬ ‫مافيــوزي (إنهــم مــن منظَّ مــة المافيــا)‪ ،‬مجرمــون‪ ،‬ال تتركوهم يخرجــون! أرفع‬ ‫نظــري إلــى مصــدر الصــوت‪ ،‬رجــل فــي الســتينات مــن العمــر‪ ،‬يدفــع بــكلّ‬ ‫جســمه مــن فــوق درابزيــن البلكــون‪ ،‬القبضــة مشــدودة والوجــه ممتقــع‪.‬‬ ‫ـط األحمــر‪.‬‬ ‫ثمــة محطّ ــة قريبــة لقطــار األنفــاق‪ ،‬الخـ ّ‬ ‫نعبــر الشــارع بســرعة‪َّ ،‬‬ ‫يــا للحــظ! يشــتكي أبســامه‪ ،‬يــا ليتــه كان األخضــر‪ ،‬لكنــا عدنــا إلــى البيــت‬ ‫مباشــرة‪ .‬إذن فلنمـ ِ‬ ‫ـش‪ ،‬أقتــرح‪ ،‬دون أن أعــرف إلــى أي جهــة أقــوده‪ .‬فلنذهــب‬ ‫إلــى ســاحة الدوومــو‪ ،‬لنلــقِ نظــرة علــى كاتدرائية ماريا ناشــينتي‪ ،‬رمــز ميالنو‪.‬‬ ‫أعتقــد بــأن عينيــه التمعتــا مــن الفــرح‪ .‬انحــدرت دمعــة علــى خــده وانزلقــت‬ ‫ربمــا مــن البــرد‪ .‬ينظــر حواليــه بارتبـ ٍ‬ ‫ـاك‪،‬‬ ‫بيــن التجاعيــد التــي تحيــط بفمــه‪َّ .‬‬ ‫ـس أننا نبحث عــن صيدلية‬ ‫ـرة أخــرى‪ ،‬يبــدي خوفــه‪ .‬ال تنـ َ‬ ‫أخشــى أن يوقفونــا مـ ّ‬ ‫تمر ذبابة بســهولة‬ ‫أن‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫يمك‬ ‫ـتعملها‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫تس‬ ‫التي‬ ‫ـك‬ ‫ـ‬ ‫تل‬ ‫ـبة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫لشــراء كمامــات مناس‬ ‫ّ‬ ‫مــن نســيجها الخشــن‪ .‬تعجبــه الفكــرة‪ ،‬ننــزل درجــات المحطّ ــة وهــو يدنــدن‬ ‫أغنيــة‪ ،‬بالســواحلية علــى مــا أعتقــد‪.‬‬ ‫ثمــة زحــام‪ .‬نختــار مكانـ ًا منزويـاً‪ ،‬ونتــرك مســافة آمنــة بيــن مقعدينــا‪.‬‬ ‫ليــس َّ‬ ‫ومــاذا لــو عطســت؟ يهمــس بخبـ ٍ‬ ‫وإل ســينهالون عليــك‬ ‫ـث‪ .‬اضبــط نفســك ّ‬ ‫بالضــرب‪ .‬يضحــك بعفويــة‪ ،‬ثــم يســعل‪ .‬صمــت‪ .‬بعــض العيــون تنظــر نحونا‪.‬‬ ‫أبســامه يضــع يديــه االثنتيــن علــى العــكازة ويســند عليهــا ذقنــه‪ .‬هيئتــه اآلن‬ ‫كمــن رمــى حجــر ًا ويحــاول عبثـ ًا أن يخفــي يــده‪ .‬المحطّ ــات تتتابــع‪ ،‬الوجــوه‬ ‫عدهــا علــى األصابــع‪ .‬أبســامه مســتغرق فــي التفكيــر‪ ،‬أُشــير‬ ‫تتغيــر‪ ،‬يمكــن ّ‬ ‫َّ‬ ‫لــه بأننــا ســننزل فــي المحطّ ــة القادمــة‪ ،‬يهــز رأســه وينهــض بتثاقــل‪ .‬لــم تكــن‬ ‫يتغير بســرعة‪.‬‬ ‫يتغيــر ‪...‬‬ ‫ميالنــو هكــذا‪ ،‬يقــول بينمــا نصعــد الدرج‪ ،‬كلّ شــيء‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ـدات بالقــرب مــن تمثال‬ ‫الســاحة فارغــة تقريبـاً‪ .‬فريــق تليفزيونــي يهيــئ المعـ َّ‬ ‫الملــك أومبرتــو الثانــي‪ ،‬في وضعيــة المحارب على حصانه‪ .‬ثم يحضر أســقف‬ ‫ويتوســل لتمثــال‬ ‫بالــرداء األســود والقبعــة األرجوانيــة‪ ،‬يديــر ظهــره للكاميــرا‬ ‫َّ‬ ‫العــذراء الذهبــي الــذي يعلــو الكاتدرائيــة‪ .‬يطلــب العــون والمغفــرة‪ ،‬ويشــرح‬ ‫تعبــر عــن كلّ خلجاتــه وإيمانــه العميــق بمعجــزة تنقــذ‬ ‫لهــا الوضــع بكلمــات ِّ‬ ‫ميالنــو وأهلهــا‪ .‬نعــود أدراجنــا بســرعة مــع اقتــراب دوريــة عســكرية‪ .‬يصــل‬

‫يتنهــد‪ .‬لكانوا أوقفونا‪ ،‬بشــرتنا ســمراء‪.‬‬ ‫التــرام فــي الوقت المناســب‪ .‬أبســامه َّ‬ ‫ربمــا‪ ،‬أجيــب دون أن أحيــد نظــري عــن بعــض المــارة الذيــن يحثــون الخطــى‬ ‫َّ‬ ‫ـات مقفلــة‪.‬‬ ‫علــى الرصيــف فــي شــارع تورينــو‪ .‬ال أحــد يتو َّقــف‪ .‬المحـ ّ‬ ‫للمخــرج الكبير لوكّ ينو فيســكونتي‪،‬‬ ‫يخطــر ببالــي فيلــم «الموت في فينيســيا» ُ‬ ‫المقتبــس عــن روايــة تومــاس مــان الشــهيرة‪ .‬أســأله إن كان يشــاهد بعــض‬ ‫تمر فــي الصباح‪،‬‬ ‫األفــام‪ .‬كال‪ ،‬يجــب أن أنــام باكــراً‪ .‬عــدد هائــل مــن العربــات ّ‬ ‫أصــل أحيان ـ ًا إلــى عشــرة آالف عربــة أو أكثــر‪ ،‬وهكــذا يحيــن موعــد الغــداء‪،‬‬ ‫ـي دخان من‬ ‫لوتشــيا‪ ،‬تلــك فــي المقابــل‪ ،‬تهيــئ لــي كيــس الخبز‪ ،‬أشــتري علبتـ ّ‬ ‫تصدق أننــي أحيانـ ًا ال أجد الوقت‬ ‫ســيرجيو بائــع التبــغ وأعــود إلــى البيت‪ .‬هــل‬ ‫ِّ‬ ‫لنفســي‪ .‬األفــكار كثيــرة‪ .‬ثــم أجلــس فــي البلكــون‪ ،‬والجيــران يشــتكون مــن‬ ‫ارتفــاع صوتــي‪ .‬أنــا أفكــر بهــذه الطريقــة‪ ،‬بصــوت عــالٍ ‪ ،‬مــا الضيــر فــي ذلك؟!‬ ‫ـون مــن غرفــة‬ ‫المكـ َّ‬ ‫يصــر أبســامه علــى أن نشــرب الشــاي ســويةً فــي بيتــه ُ‬ ‫ومطبــخ‪ .‬أشــياء قديمــة فــي كلّ مــكان‪ ،‬آخرهــا جهــاز راديــو قديــم ولعبــة‬ ‫بالســتيكية بــا ثــوب وصلعــاء تقريب ـ ًا جلبهمــا مــن غرفــة النفايــات‪ .‬أريــد أن‬ ‫أعــود إلــى بلــدي بــأي ثمــنٍ كان‪ .‬ليــس مــن مجــال‪ ،‬أجيبــه‪ .‬حتــى أننــا‪ ،‬اعتبــار ًا‬ ‫مــن يــوم غــد‪ ،‬يجــب أن نحمــل تصريح ًا معنا‪ ،‬يثبــت أننا خرجنــا لقضاء حاجة‬ ‫ـوق مثـاً‪ .‬كيــف ذلــك؟ يمكنــك إنزال االســتمارة‬ ‫ملحــة‪ ،‬زيــارة الطبيــب أو التسـ ُّ‬ ‫ّ‬ ‫الصحــة‪ ،‬تملؤهــا ببياناتــك وتذكر ســبب مغادرتك المســكن‪.‬‬ ‫وزارة‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫موق‬ ‫ـن‬ ‫مـ‬ ‫َّ‬ ‫ـدة ثالثــة أشــهر‪ ،‬أو غرامــة مــا يقــارب ‪300‬‬ ‫وإذا لــم أفعــل ذلــك؟ الســجن لمـ ّ‬ ‫يــورو‪ .‬ســأهرب‪ ،‬يصــرخ بغضـ ٍ‬ ‫ـزوج‪ ،‬لــم‬ ‫ـ‬ ‫أت‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ـا‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫هن‬ ‫ـري‬ ‫ـ‬ ‫عم‬ ‫ـدرت‬ ‫ـ‬ ‫أه‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫لق‬ ‫ـب‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ـتد غضبــه‪.‬‬ ‫أعــرف غيــر العمــل‪ ،‬العمــل‪ ...‬العمــل‪ ...‬مثــل الــدواب‪ .‬يشـ ُّ‬ ‫لــم أره فــي اليــوم التالــي‪ .‬وقفــت انتظــره لبعــض الوقــت فــي الزاويــة‪ ،‬ثــم‬ ‫تلقائيـاً‪ ،‬وجــدت نفســي أحصــي العربــات المــارة‪ ،‬مســتثني ًا التــرام وســيارات‬ ‫ّ‬ ‫األجــرة‪ُ .‬عــدت إلــى المنــزل وقــت الغــداء‪ ،‬بعــد أن اشــتريت الخبــز مــن عنــد‬ ‫ـي دخــان مــن ســيرجيو‪.‬‬ ‫لوتشــيا وعلبتـ ّ‬ ‫لقد كان ح ّق ًا يوم ًا ممتعاً‪ ■ .‬يوسف وقاص (سورية‪ /‬إيطاليا)‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪91‬‬


‫اختبار الهشاشة البرشيّة!‬ ‫ـدة فقــط الختبار‬ ‫ثمــة محطّ ــات فــي الحيــاة‪ ،‬معـ ّ‬ ‫فــي كثيـ ٍر مــن الحــاالت تكــون ّ‬ ‫ـرية‪ .‬اإلنســان كائــن عاطفــي فــي البدايــة‪ ،‬وهــي حالــة مالزمــة‬ ‫الهشاشــة البشـ ّ‬ ‫العقالنيــة التــي يكــون قــد اكتســبها بفعــل االحتــكاك مــع‬ ‫مهمــا بلغــت درجــة‬ ‫ّ‬ ‫األشــياء والنــاس واألفــكار‪ .‬فــي مثــل هــذه الحــاالت يكتشــف المــرء‪ ،‬بوضوح‪،‬‬ ‫ـت مثــل هــذا‬ ‫هشاشــته‪ .‬أتذكّ ــر أنــه بســبب عمليــة‬ ‫جراحيــة أجرتهــا ابنتــي كتبـ ُ‬ ‫ّ‬ ‫الــكالم قبــل أربــع ســنوات (فــي مــارس‪/‬آذار ‪ )2016‬فــي تدوينــة زرقــاء‪« :‬فــي‬ ‫ٍ‬ ‫لحظـ ٍ‬ ‫معينة يكتشــف اإلنســان‬ ‫معينــة يصبــح اإلنســان أعمــى‪ .‬فــي‬ ‫لحظات َّ‬ ‫ـات َّ‬ ‫ٍ‬ ‫ـن يكون‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـان‬ ‫ـ‬ ‫اإلنس‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫ينس‬ ‫نة‬ ‫معي‬ ‫لحظات‬ ‫في‬ ‫ـا‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫درجاته‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫أقص‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـته‬ ‫هشاشـ‬ ‫َ ْ‬ ‫َّ‬ ‫ٍ‬ ‫معينــة ينســى اإلنســان نفســه‪ ،‬ألن‬ ‫ـر باختبــار هشاشــته‪ .‬فــي لحظــات َّ‬ ‫ألنــه يمـ ّ‬ ‫يصوره الشــعر ليس‬ ‫كما‬ ‫القلق‬ ‫أجله‪.‬‬ ‫من‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫نفس‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫ينس‬ ‫أن‬ ‫ـتحق‬ ‫ـ‬ ‫يس‬ ‫ن‬ ‫هناك َم ْ‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫ـددة بعيــد ًا‬ ‫ـ‬ ‫مح‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫لحظ‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫وف‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫فعلي‬ ‫ـان»‬ ‫ـ‬ ‫اإلنس‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫يعيش‬ ‫أن‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫يمك‬ ‫ـذي‬ ‫ـ‬ ‫ال‬ ‫كالقلــق‬ ‫ّ‬ ‫عــن القلــق الوجــودي الدائــم الــذي يرافقنــا‪ ،‬وأحيانـ ًا يســتفز وعينا الشــقي‪.‬‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫صغي‬ ‫ـزء‬ ‫فــي تلــك اللحظــة «اكتشــفت أن القلــق الــذي يســكن القصيــدة جـ ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫جــد ًا مــن القلــق الــذي يعيشــه اإلنســان فعالً‪ .‬قلق ال ســقف له»‪ ،‬هكــذا نظرت‬ ‫إلــى األمــر فــي ذلــك اإلبــان القاســي علــى قلــب ٍ‬ ‫أب‪ ،‬أي أب‪ .‬شــعور اســتعدته‪،‬‬ ‫ـع الزحــف الحثيــث لوبــاء كورونــا علــى‬ ‫ـر ًة أخــرى‪ ،‬وأنــا أتابـ ُ‬ ‫أو لنقــل اعترانــي مـ ّ‬ ‫العالــم‪ ،‬مبتلع ـ ًا دو ً‬ ‫ال وشــعوباً‪ ،‬دونمــا حاجــة إلــى جــواز أو تأشــيرة‪ .‬الفــرق‬ ‫ـق بقلــقٍ وخـ ٍ‬ ‫ـر إلــى اإلنســان باعتبــاره‬ ‫أن األمــر يتع َّلـ ُ‬ ‫ـوف مضاعفيــن‪ .‬إننــي أنظـ ُ‬ ‫كل مؤت ِلفـ ًا قبــل أن يكــون فرقـ ًا وشــيعاً‪ ،‬دينـ ًا وأيديولجيــا‪ ،‬جنســياتٍ‬ ‫واحــداً‪ّ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ـري أينمــا كان‪ .‬بيد‬ ‫ـ‬ ‫البش‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫الكائ‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫بمصي‬ ‫ـغال‬ ‫ـ‬ ‫لالنش‬ ‫كاف‬ ‫ـبب‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـذا‬ ‫ـ‬ ‫وه‬ ‫وأعراقـاً‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ـب موزع ًا‬ ‫ـ‬ ‫القل‬ ‫أجد‬ ‫أن‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫فه‬ ‫اآلخر‪،‬‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫الجان‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫أم‬ ‫ـط‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫فق‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫األم‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫جان‬ ‫أن هــذا‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫األجزاء‬ ‫ـع‪ ،‬مثــل طيــر إبراهيــم عليــه الســام‪ ،‬منتظــر ًا أن تجتمع تلــك‬ ‫علــى أربـ ٍ‬ ‫ُ‬ ‫علــى الرغــم مــن الضبــاب المحيــط بالعالــم مــن كلّ الجهــات‪.‬‬ ‫الجليلة‪ ،‬ال منطق فيها للحسـ ِ‬ ‫ـابات والتوقُّعات‪.‬‬ ‫ـدث األمور‬ ‫ُ‬ ‫فجــأةً!‪ ...‬هكــذا تحـ ُ‬ ‫ـر‬ ‫فجــأةً‪ ،‬تعــود الحيــا ُة إلــى شــكلها البدائــي‪ ،‬بــل أعتــى‪ .‬لــم تتو َّقــف البواخـ ُ‬ ‫ـان مــن «الــدواب اآلليــة» للتنقــل فحســب‪،‬‬ ‫والطائــرات وكلّ مــا اخترعــه اإلنسـ ُ‬ ‫ـع أو انقطعــت فــي أماكــن وأقطــار‪ .‬ومــع الســرعة التي‬ ‫بــل تــكاد الحركـ ُ‬ ‫ـة تنقطـ ُ‬ ‫ـاء علــى إيقــاع التدابيــر واإلجــراءات االحترازيــة لمحاصرتــه هنــا‬ ‫فرضهــا الوبـ ُ‬ ‫وهنــاك‪ ،‬يــزداد تد ُّفــق الــدم‪ ،‬وتتســارع نبضــات القلــب‪ ،‬حتــى إننــي ألســمعها‬ ‫ـع دراســته فــي‬ ‫هنــاك علــى الضفــة األخــرى مــن المتوســط‪ ،‬حيـ ُ‬ ‫ـث االبـ ُ‬ ‫ـن يتابـ ُ‬ ‫جامعــة بيربينيــون بفرنســا‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫فــي لحظـ ٍ‬ ‫ـاحات فــي العالم قادم ًا‬ ‫ـة مباغتــة‪ ،‬وبينما وباء كورونا يكتســح المسـ‬ ‫ِ‬ ‫ـار‪ .‬أن يبحــث بــأي شــكلٍ ‪ ،‬وبــأي ثمن عن‬ ‫ـ‬ ‫يخت‬ ‫أن‬ ‫األب‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ـون‬ ‫ـ‬ ‫يك‬ ‫ـن‪،‬‬ ‫مــن الصيـ‬ ‫َ‬

‫‪92‬‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫ـررة أصـ ً‬ ‫ا مــع بدايــة أبريل‪/‬نيســان‪ ،‬قبــل‬ ‫تســريع عــودة االبــنِ التــي كانــت مقـ ّ‬ ‫الجوية بيــن المغــرب ودول عديدة‪ ،‬مــن بينها‬ ‫دخــول موعــد تعليــق الرحــات‬ ‫ّ‬ ‫قررتهــا‬ ‫فرنســا‪ ،‬أو تشــجيعه علــى البقــاء هنــاك واالمتثــال لإلجــراءات التــي ّ‬ ‫ضاعفــةً ‪ ،‬فــي‬ ‫الســلطات الفرنسـ ّـية لمواجهــة الوبــاء‪ ،‬أي أن يعيــش غربــة ُم َ‬ ‫ُّ‬ ‫بلـ ٍ‬ ‫دواب‬ ‫وال‬ ‫ـد ًا (ال طائــرات فــي الجــو‪ ،‬وال ســفن فــي البحــر‪،‬‬ ‫ـد صــار بعيــد ًا جـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـدب فــوق األرض) غيــر البلــد‪ ،‬وفــي منــزلٍ «مغلــق» غيــر المنــزل‪.‬‬ ‫تـ ُّ‬ ‫ـنِ‬ ‫عيني‬ ‫إلى‬ ‫أنظر‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫وأن‬ ‫التدقيق‬ ‫يصعب‬ ‫ـة؟‬ ‫ـ‬ ‫وللعاطف‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫للعق‬ ‫ـلم‬ ‫ـ‬ ‫أس‬ ‫ـ‬ ‫االختياري‬ ‫أي‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ـنِ‬ ‫المطلقــة‪.‬‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫الكائ‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫هشاش‬ ‫ـرأت‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫ـ‬ ‫العيني‬ ‫ـك‬ ‫ـ‬ ‫تل‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫‪.‬‬ ‫األم‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الت‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫الزوج‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫هشاشــة تنضـ ُ‬ ‫األصليــة التــي تمكّ نــت منــي بعــد صــدور قرار‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫الهشاش‬ ‫ـاف إلــى‬ ‫ّ‬ ‫ـداء مــن يــوم االثنيــن ‪ 16‬مــارس‪/‬آذار‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫ابت‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫والبحري‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫الجوي‬ ‫إغــاق الحــدود‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المتاحة للعودة قبل هذا الموعد‪،‬‬ ‫اإلمكانيات‬ ‫الولد‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـث‬ ‫ـ‬ ‫تبح‬ ‫األم أن‬ ‫تحــاول ّ‬ ‫ُ‬ ‫فــي الوقــت الــذي تتزاحــم األفــكار المتناقضــة فــي رأســي‪ ،‬بما فــي ذلك بعض‬ ‫ـر بــدأ يزعجنــي بشــكلٍ مباشــر‪ ،‬ألننــي‬ ‫األفــكار الســوداء‪ .‬إن مــا يحــدث هــو أمـ ٌ‬ ‫لــم أشــهد لــه مثيـ ً‬ ‫ا مــن قبــل إلــى غايــة هــذه اللحظــة التــي أطــلُّ فيهــا علــى‬ ‫الخمســين‪ .‬هــذه الجملــة الطويلــة‪ ،‬ليســت لــي بالكامــل‪ ،‬ذلــك أننــي قــرأت‬ ‫فــي وقــت ســابق مــن العمــر طاعــون ألبيــر كامــو‪ ،‬لكــن وبــاء اليــوم لــم تــدلّ‬ ‫ـرذان فــي شــوارع مــدن العالــم‪ ،‬بــل موتــى يتســاقطون ومصابــون‬ ‫عليــه جـ‬ ‫ٌ‬ ‫بعشــرات اآلالف يوميـاً‪.‬‬ ‫ـه‪ .‬فــي‬ ‫ـدنى إلــى الحيــا ِة‪ ،‬عليــه أن يعيـ َ‬ ‫إن أحــد الخيــوط التــي تشـ ّ‬ ‫ـش تجربتـ ُ‬ ‫الخاصة‪.‬‬ ‫ـر لطريــقٍ مــن الطرق‪ .‬كلٌّ عليــه أن يصنع أســطورته‬ ‫ّ‬ ‫النهايــة كلٌّ ميسـ ٌ‬ ‫ـيتحالف‪ ،‬عندئـ ٍ‬ ‫َ‬ ‫ـذ‪ ،‬مــن أجل أن‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫العال‬ ‫وأن‬ ‫‪،‬‬ ‫ـاك‬ ‫ـ‬ ‫وهن‬ ‫ـا‬ ‫هــذا مــا قرأتــه هنـ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫يدفــع بــه لتحقيقهــا‪ .‬لعــلّ هــذا مكتــوب بوضــوح فــي خيميائــي باولــو كويلــو!‬ ‫األم ألكمــل الحــوار مــع إليــاس‬ ‫ـر وأخــذت الهاتـ َ‬ ‫لذلــك حسـ ُ‬ ‫ـف مــن ّ‬ ‫ـمت األمـ َ‬ ‫فــي الضفــة األخــرى‪:‬‬ ‫ـي‪ ،‬مــن األفضــل أال تتعــب نفســك فــي البحــث عــن تذكــرة‪ .‬أرى أن تبقــى‬ ‫ بنـ ّ‬‫هنـ َ‬ ‫ـاك‪ .‬ولكــن يمكنــك أن تتخــذ القــرار الــذي تــراه مالئمـ ًا لــك أكثــر‪.‬‬ ‫«تمرده» المشــروع علــى الوصاية‬ ‫كنــت أعــرف أن لــي عليــه بعــض التأثير رغــم‬ ‫ُّ‬ ‫األبويـ ِ‬ ‫ـده أكثــر حكمةً ‪ ،‬ولــن يخــرج تفكيره عن‬ ‫ـة‪ .‬فــي حالــة كهــذه ســيعتبر والـ َ‬ ‫ّ‬ ‫ـي» كباقــي الموجوديــن‬ ‫ـ‬ ‫ح‬ ‫الص‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫«الحج‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ره‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫فيه‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الت‬ ‫ـرة‬ ‫ـ‬ ‫الفت‬ ‫ـر‬ ‫تدبيـ‬ ‫ـيظلّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـي‪ .‬بعبــار ٍة أخــرى ستتناســل فــي ذهنــه األفــكار حــول‬ ‫ـ‬ ‫الفرنس‬ ‫ـراب‬ ‫ـ‬ ‫الت‬ ‫ـى‬ ‫علـ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ـي للحيــاة كلّه‬ ‫الم َ‬ ‫كيفيــة التعامــل مــع غربتــه ُ‬ ‫ضاعفــةَ ‪ ،‬علمـا أن النظــام اليومـ ّ‬ ‫ســيتخلخل‪ ،‬وأنــه ســيكون عليــه تعويــض الذهــاب إلــى الجامعــة بالجلــوس‬ ‫الحركي‬ ‫ـراغ مفــروض و«جمــود أكيد»‪ ،‬وهــو‬ ‫إلــى الحاســوب‪ ،‬والســقوط فــي فـ ٍ‬ ‫ّ‬


‫الــذي ال يهــدأ منــذ الســنوات األولــى مــن حياتــه إلــى غايتــه فــي بدايــة ســنته‬ ‫الثانيــة بعــد العشــرين‪.‬‬ ‫لمــاذا عليـ ِ‬ ‫األول‪ ،‬أنــه مــع‬ ‫ـه أن يبقــى هنــاك؟ تقــول والدتـ ُ‬ ‫ـه‪ .‬أجيـ ُ‬ ‫ـب‪ :‬لســببين‪ّ .‬‬ ‫كلّ إصابـ ٍ‬ ‫ـم اإلعــان عــن أنهــا «وافــدة مــن‪ ،»...‬وال‬ ‫ـة جديــدة فــي المغــرب يتـ ُّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ـم التنديــد بعودتهــم‬ ‫ـ‬ ‫يت‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫الذي‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ا‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫واح‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ابن‬ ‫ـون‬ ‫ـ‬ ‫يك‬ ‫أن‬ ‫ـك‬ ‫ـ‬ ‫لذل‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫تبع‬ ‫ـب‬ ‫أرغـ ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ـات‬ ‫ـي‪،‬‬ ‫فــي هــذه‬ ‫ـاء بـ َ‬ ‫خاصــةً أن الوبـ َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الظرفيــة علــى مواقــع التواصــل االجتماعـ ّ‬ ‫ـواء‪ .‬الثانــي‪ ،‬أن المطـ ِ‬ ‫ـارات أضحــت فضاءات‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـت‬ ‫ـ‬ ‫بات‬ ‫ـدول‬ ‫ـ‬ ‫ال‬ ‫ـا»‪،‬‬ ‫«معولَمـ‬ ‫وكلّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫أمكن‪ ،‬وأنــه من األفضلِ‬ ‫ما‬ ‫تفاديها‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫يح‬ ‫ما‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫وه‬ ‫ـدوى‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫الع‬ ‫ـاط‬ ‫ـ‬ ‫اللتق‬ ‫ـة‬ ‫محتملـ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫لــزوم البيت!‬ ‫اآلن‪ .‬إن انســياب الكلمات علــى هذا النحو‬ ‫ـذي‬ ‫ـ‬ ‫ال‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫باليس‬ ‫ـس األمــر‬ ‫أكتب بــه َ‬ ‫ُ‬ ‫ليـ َ‬ ‫ً‬ ‫عاطفي ـ ًا ســرعان مــا اســتولى علــى‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫ألم‬ ‫أن‬ ‫ـك‬ ‫ـ‬ ‫ذل‬ ‫ـدق‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫يص‬ ‫ال‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫ح‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫إل‬ ‫ـادع‬ ‫خـ ٌ‬ ‫ٍّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـواس‪ .‬وجعلنــي فــي األيــام التاليــة تمامـ ًا كما قال ســيوران‪ ،‬أعيــش الزمن‬ ‫الحـ ّ‬ ‫ٍ‬ ‫لحظــةً بلحظــة دون التســاؤل عــن وجــوده‪ ،‬أو اإلحســاس بــه وبوطأتــه‪ .‬أتابــع‬ ‫ِ‬ ‫ّب الوضع‬ ‫ـام تتوالــى فــي المغرب قلق ًا على األهل وعلــى‬ ‫األرقـ َ‬ ‫المغاربة‪ ،‬وأتعق ُ‬ ‫ً‬ ‫ـم اإلعــان عنها‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫يت‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الت‬ ‫ـاالت‬ ‫ـ‬ ‫للح‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الجغراف‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫التوزي‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫ملتمس‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫فرنس‬ ‫فــي‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ـه «أنــا»! إن األخطــر مــن‬ ‫ـه‪ ،‬وأقاومـ ُ‬ ‫األب لـ ُ‬ ‫ثمــة هلـ ٌ‬ ‫ـر مكتـ ٌ‬ ‫ـلم ُ‬ ‫ّ‬ ‫ـوم‪ .‬يستسـ ُ‬ ‫ـع كبيـ ٌ‬ ‫ـي الــذي إذا‬ ‫ـ‬ ‫الجماع‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫الهل‬ ‫ـتيريا‬ ‫ـ‬ ‫هس‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـقوط‬ ‫ـ‬ ‫الس‬ ‫ـاره‬ ‫ـ‬ ‫انتش‬ ‫ـرعة‬ ‫ـ‬ ‫وس‬ ‫ـاء‬ ‫ـ‬ ‫الوب‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ـتد‪ ،‬متواطئ ـ ًا مــع الفيــروس المجهــول‪ ،‬فإنــه لــن يبقــي ولــن يــذر‪ .‬لذلـ َ‬ ‫ـك‬ ‫اشـ ّ‬ ‫ـبه الفيلســوف‪ ،‬علــى األقــلّ ‪ ،‬إلخفــاء النقــص‪ ،‬كما‬ ‫ـ‬ ‫يش‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫إل‬ ‫ل‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫التح‬ ‫ـب‬ ‫وجـ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ـت كاتب ـاً‪ ،‬ولــو علــى‬ ‫قــرأت فــي شــذرة عابــرة مــن «اعترافــات» ســيوران‪ .‬ألسـ ُ‬ ‫ـداً‪« .‬مــا إن يتنكّ ــر كاتــب فــي زي‬ ‫ســبيل االدعــاء؟ إذن فتلــك الشــذرة دالــة جـ ّ‬ ‫فيلســوف حتــى يمكننــا التي ُّقــن مــن أنــه يخفــي نقصـاً»‪.‬‬ ‫ـرد محاولــة لمراوغــة وطــأة الواقــع عبــر اللعــب بالكلمــات‪.‬‬ ‫يبقــى ذلــك مجـ َّ‬ ‫ٍ‬ ‫ـد ٍد فــي نوعــه‪ ،‬وغيــر‬ ‫ـ‬ ‫نق‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫مماثل‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫حال‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـص‪،‬‬ ‫ـص غيــر محـ َّ‬ ‫ذلــك أن النقـ َ‬ ‫ٌ‬ ‫محـ ٍ‬ ‫ً‬ ‫ـح القلــوب عبــر‬ ‫ـ‬ ‫يكتس‬ ‫ـذي‬ ‫ـ‬ ‫ال‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫المتنام‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫الهل‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫مث‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫تمام‬ ‫ره‪.‬‬ ‫ـد‬ ‫ـدود فــي قـ ْ‬ ‫ُ‬

‫العالــم‪ ،‬ال تقــف فــي وجهــه جمــارك أو حواجــز‪ .‬حتــى األمــل فــي انفــراج‬ ‫ـررة‬ ‫قريــب قطعتــه شــركة الطيــران‪ ،‬بغتــة‪ ،‬بإلغــاء الرحلــة التــي كانــت مقـ ّ‬ ‫فتغيــر ترتيــب‬ ‫أصــا فــي ‪ 4‬أبريل‪/‬نيســان لقضــاء عطلــة الربيــع فــي البيــت‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫«المتمنيــات»‪ :‬أوالً‪ ،‬أن تظــل قنــوات اإلمــداد المالــي مفتوحــةً بعــد أن بــات‬ ‫مــن المســتحيلِ‬ ‫الوبــاء لنفســه‬ ‫الزمنيــة التــي ســيقتطعها‬ ‫التكهــن بالمــدة‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ـن هــذه المــدة كمــا لــو أنــه فــي البيــتِ‬ ‫مــن حيــا ِة البشــر‪ .‬ثانيـاً‪ ،‬أن يعيـ َ‬ ‫ـش االبـ ُ‬ ‫ِ‬ ‫بيننــا‪ ،‬دون أن أنقـ َ‬ ‫لحظات‬ ‫ـل إليــه عالمــات الهلــع الــذي ُي ِغيــر علــى القلــب فــي‬ ‫ـد َث‬ ‫ـ‬ ‫تح‬ ‫ـذي‬ ‫ـ‬ ‫ال‬ ‫ـص‬ ‫ـ‬ ‫النق‬ ‫ـك‬ ‫ـ‬ ‫ذل‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ـف‬ ‫ـ‬ ‫أكش‬ ‫أن‬ ‫دون‬ ‫أي‬ ‫ـوى‪،‬‬ ‫الهشاشــة القصـ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫عنــه ســيوران‪ .‬وســواء كان مــا يحــدث «أتفــه األمــور» أو «أكبــر الهمــوم»‪ ،‬فــا‬ ‫ـأتحدى‬ ‫وأل «أذعــن لالنتظار الممل»‪ .‬سـ‬ ‫ينبغــي أن أتركــه يدفعنــي إلــى القلق‪ّ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫ـي الوضــع!‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫يفرضه‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الت‬ ‫ـيورانية‬ ‫ـ‬ ‫بــأي شــكلٍ وأي ســاح هــذه األفــكار الس‬ ‫َّ‬ ‫أتحول إلى «فيلســوف»‪ .‬أســجل‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ول‬ ‫أوالً‪ ،‬ســأحتفظ لنفســي بــزي «الكاتــب»‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ـد وأنشــرها البنــي علــى اليوتيــوب والفيســبوك وتويتــر وأنســتغرام‪ .‬إن‬ ‫قصائـ َ‬ ‫ـج باألخبــار واألرقــام والتحليــات المرعبــة التــي قــد‬ ‫هــذه المواقــع التــي تضـ ّ‬ ‫ٍ‬ ‫إيجابيــة تعيــد‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫لطاق‬ ‫ـ‬ ‫حامل‬ ‫ـون‬ ‫ـ‬ ‫تك‬ ‫أن‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫بإمكانه‬ ‫ـس‪،‬‬ ‫تسـ ّـبب ضيقـ ًا فــي التنفـ‬ ‫ـةً‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ـخاص مرشــحين لالنهيــار‪.‬‬ ‫التــوازن إلــى أشـ‬ ‫ٍ‬ ‫ـالٍ‬ ‫ويجلس‬ ‫للجيران‪،‬‬ ‫مزعج‬ ‫ما‬ ‫رب‬ ‫‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫بصوت‬ ‫ـعر‬ ‫ـ‬ ‫الش‬ ‫يقرأ‬ ‫‪،‬‬ ‫ألفته‬ ‫«إن والــدك كمــا‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫فــي مكتبتــه باحثـ ًا عــن فراشــاته فــي الكلمـ ِ‬ ‫ـات‪« ،‬يفكِّ ــر فــي الحيــاة فحســب»‪،‬‬ ‫وال شــيء يدعــو للقلــقِ إطالقـاً‪ ،‬وأن كلّ شــيء علــى مــا ُيــرام‪ ،‬وأن كلّ ما يحدث‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫وبقلوب عظيمــة‪ ...‬بالحب»‪.‬‬ ‫عالم آخــر جميلٍ ‪،‬‬ ‫ســينفرج قريبـ ًا عــن‬ ‫بتلوث أقــلّ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫بالصوت والصور ِة‬ ‫ضاعفة‪،‬‬ ‫الم‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫غربت‬ ‫في‬ ‫‪،‬‬ ‫تصله‬ ‫التي‬ ‫ة‬ ‫اليومي‬ ‫تلــك هــي الرســالة‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ـد َث‬ ‫ـ‬ ‫لتتح‬ ‫ـوم‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫ة‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫األس‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫تجتم‬ ‫ـاب‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫الواتس‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـال‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫االتص‬ ‫ـا‬ ‫بفضــل تكنولوجيـ‬ ‫كلّ‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬ ‫ـد وجباتــه أو ً‬ ‫ال بــأول‪،‬‬ ‫عــن إيقــاع الحيــاة‪ ،‬بمــا فــي ذلــك مرافقــة االبــن وهــو يعـ ّ‬ ‫ولتتقاســم كلمـ ٍ‬ ‫ـرد‬ ‫ـ‬ ‫مج‬ ‫ـاره‬ ‫ـ‬ ‫باعتب‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ح‬ ‫ـات عــن األمــلِ ‪ ،‬والنظــر إلــى الحجــر ِّ‬ ‫َّ‬ ‫الص ّ‬ ‫محطّ ــة فــي طريــق قطــار! ■ جمــال الموســاوي (المغرب)‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪93‬‬


‫فنون‬

‫بني القرنيني الرابع عرش والتاسع عرش‬

‫جوائح يف الفن التصويري‬

‫ـكيلية موضــوع «الوبــاء» كواقــع عيــاين قابــل لــإدراك والتوثيــق‪ ،‬وتجربــة تســتجيب لألســطرة‬ ‫تناولــت الفنــون التشـ ّ‬ ‫ـوم فلســفي يحمــل عــى كاهلــه هواجــس اإلنســان وقلقــه مــن املجهــول واملــوات‪ ،‬فضـ ً‬ ‫ا عــن‬ ‫والرتميــز‪ ،‬وكمفهـ ٍ‬ ‫الســلطة للجائحــة يف خطابهــا‪ .‬يف هــذه القــراءة ســيتم الرتكيــز عــى أعــال ف ّن ّيــة أوروبيــة‪ ،‬مل‬ ‫كيفيــة توظيــف ُّ‬ ‫العربيــة‪ ،‬وتقــع يف الفــرة املمتــدة بــن القــرن الرابــع عــر والقــرن التاســع عــر‪.‬‬ ‫ـن بهــا كثــراً يف الثقافــة‬ ‫ُيعـ َ‬ ‫ّ‬

‫«القديس سيباستيان يتوسط لدى الرب في أحد األوبئة» ‪▲ 1499‬‬

‫‪94‬‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫لرســام‬ ‫فــي إحــدى المنمنمــات التــي تعــود للعصــور الوســطى‪ ،‬والمقيــدة َّ‬ ‫مجهــول فــي كثيــر مــن المراجــع‪ ،‬وتحمــل عنــوان «دفــن ضحايــا الطاعــون»‬ ‫(‪1353‬م)‪ ،‬تحضر اإلشارة إلى جائحة «الموت األسود»‪ ،‬التي أصابت أوراسيا‬ ‫(القارتــان األوروبيــة واآلســيوية) وشــمال إفريقيــا فــي القــرن الرابــع عشــر‪،‬‬ ‫فجائعيــة فــي تاريــخ‬ ‫وتــدرج فــي علــم األوبئــة علــى أنهــا أكثــر الجوائــح‬ ‫ّ‬ ‫ـرية‪ ،‬متجــاوزة مــن حيث عــدد الضحايا‪ ،‬وفق الدراســات الحالية‪ ،‬وباء‬ ‫البشـ ّ‬ ‫المســتعمرون األوروبيون إلى أميــركا الالتينية‪،‬‬ ‫فيــروس الجــدري الذي نقله ُ‬ ‫واألنفلونــزا اإلســبانية ســنة (‪ .)1918‬وفيمــا يبــدو أن الوبــاء نشــأ فــي آســيا‪،‬‬ ‫وبــدأ بالتفشــي‪ ،‬ووصــل أوروبــا بالطــرق التجاريــة البحريــة‪ ،‬وألقــى مرســاته‬ ‫فــي مينــاء ميســينا فــي صقليــة اإليطاليــة‪ ،‬ومنهــا انتشــر فــي عمــوم أوروبــا‪.‬‬ ‫توجــد منمنــة «دفــن ضحايــا الطاعــون»‪ ،‬فــي كتــاب «‪The Chronicles of‬‬ ‫ـدون والشــاعر‬ ‫‪ ،»Gilles Le Muisit‬وهــي «تواريــخ» وحوليــات كتبهــا المـ ّ‬ ‫والراهــب الفرنســي «جيــل لــو مويــزي ‪.)1352-1272( »Gilles Le Muisit‬‬ ‫ـور هــذا الكتــاب‪ ،‬أثنــاء كتابــة هــذه‬ ‫وقــاد البحــث عــن ّ‬ ‫هويــة الف َّنــان الــذي صـ ّ‬ ‫ورســام المنمنمــات «‪-1340( »Pierart dou Tielt‬‬ ‫الســطور‪ ،‬إلــى الناســخ َّ‬ ‫‪ .)1360‬مفــاده أن الراهــب «جيــل لــو مويــزي» كان قــد أصبــح أعمــى فــي‬ ‫فجمعــت المخطوطــات والوثائــق التــي دونهــا عــن يوميــات‬ ‫أواخــر أيامــه‪ُ ،‬‬ ‫الديــر الــذي كان يرأســه فــي مدينــة تورنــاي البلجيكيــة‪ ،‬إضافــة ألحــداث‬ ‫ـجلها‪ ،‬ومنهــا وبــاء الطاعــون‪ .‬وأخيــر ًا وصلــت المخطوطــات‬ ‫عاصرهــا وسـ ّ‬ ‫المكتوبــة بالالتينيــة‪ ،‬إلــى الرســام «‪ ،»Pierart dou Tielt‬الــذي قام بإنجاز‬ ‫ـص حســبما يبــدو‪.‬‬ ‫منمنماتهــا اعتبــار ًا مــن النـ ّ‬ ‫كما هو معروف‪ ،‬ا ّتســمت العصور الوســطى األوروبية بهيمنة الميتافيزيقيا‬ ‫الالهوتية‪ ،‬ومركزية الخطاب الذي يقوم على أســبقية اإليمان على المعرفة‬ ‫ّ‬ ‫تتصوره‬ ‫الفن عن العقيــدة أمر ًا يمكــن أن‬ ‫العقليــة‪ .‬لذلــك لــم يكــن اســتقالل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ـي ليكــون شــأن ًا‬ ‫العقليــة الدينيــة آنئــذ‪ .‬األمــر الــذي أخصــع التعبيــر الجمالـ ّ‬ ‫الروحيــة‪ ،‬ومــن اإلرشــاد والتعليــم الكنســي‪،‬‬ ‫رفيـاً‪ ،‬وجــزء ًا مــن الفرائــض‬ ‫ّ‬ ‫ِح ّ‬ ‫ـن الجماليــة‪ ،‬ومتعــة التلقي‪ ،‬وغــض النظر‬ ‫ـ‬ ‫الف‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫وظيف‬ ‫ـاب‬ ‫ـ‬ ‫غي‬ ‫ـتدعى‬ ‫ـ‬ ‫اس‬ ‫ممــا‬ ‫ّ‬ ‫التصويري‪ ،‬كمــا هو الحــال في «دفن‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫العم‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ـان‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫الف‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫اس‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫إضاف‬ ‫عــن‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ضحايــا الطاعــون» في مدينــة تورناي‪.‬‬ ‫المتأخــرة‪ ،‬التــي خبــرت المجاعــات‬ ‫ُنفِّــذ العمــل فــي القــرون الوســطى‬ ‫ّ‬ ‫اجتماعيــة هنا‬ ‫ـات‬ ‫ـ‬ ‫انتفاض‬ ‫ـام‬ ‫ـ‬ ‫وقي‬ ‫ً؛‬ ‫ا‬ ‫ـرار‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫واألوبئــة‪ ،‬وانــدالع الحــروب األهليــة‬ ‫ّ‬


‫«ساحة السوق في نابولي أثناء الطاعون» ‪▲ 1656‬‬

‫وأدى‬ ‫وهنــاك؛ إضافــة إلــى شــيوع مــا يعــرف بالهرطقــة الدينيــة‪َّ .‬‬ ‫العــدد المنخفــض نســبي ًا للمصابين بوباء الطاعــون بين اليهود‪،‬‬ ‫بـ«نظريــة المؤامــرة»‪ ،‬وعمــل ذلــك‬ ‫إلــى تحكّ ــم مــا يعــرف اليــوم‬ ‫ّ‬ ‫علــى اتهام اليهود بتســميم اآلبار وتلويثهــا بالطاعون عمداً‪ ،‬وفي‬ ‫أحســن األحــوال اعتبــر وجودهم تجســيد ًا للشــرور بين الســاكنة‬ ‫ٍ‬ ‫حينئذ‪.‬‬ ‫فتعرضــوا للمالحقــة واالضطهــاد األوروبــي‬ ‫«المؤمنــة»‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫حافظــت الكنيســة علــى االنفعال الروحي المشــبوب باســتمرار‪،‬‬ ‫وكان مــن أهــم ردود الفعــل علــى جائحــة «المــوت األســود»‪ ،‬بث‬ ‫الدينيــة‪.‬‬ ‫ـن بالــروح‬ ‫عقيــدة هروبيــة مــن العالــم‪ ،‬فاصطبــغ الفـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫وبالعــودة إلــى رســم «دفــن ضحايــا الطاعــون» نعثــر علــى فضاء‬ ‫دنيويــة‪ ،‬فنحــن‬ ‫دينيــة وال‬ ‫ّ‬ ‫قبــري‪ ،‬حيــث ال شــعائر وال مظاهــر ّ‬ ‫أمــام اآللــة الجهنميــة للمــوت الخالــص‪ ،‬حيــث ال رحمــة إلهيــة‬ ‫ـرية‪ .‬ويــكاد المتلقّي أن يشــعر بانعــدام الهواء في‬ ‫وال شــفقة بشـ ّ‬ ‫المنمنمــة‪ ،‬مــكان ال عمــق فيــه‪ ،‬وال منظــور‪ ،‬الخلفيــة مســطَّ حة‬ ‫وزخرفيــة بحتــة علــى بســاطتها‪ .‬وتبــدو الصــورة المؤطّ ــرة كمــا‬ ‫لــو أنهــا نعــش هــي األخــرى‪ ،‬وال تواصــل بيــن الشــخوص التــي‬ ‫همــة الدفن‪ .‬واالنفعال يتأ َّتى مــن التكرار‪ ،‬ومن خالل‬ ‫تتصـ ّ‬ ‫لم ّ‬ ‫ـدى ُ‬ ‫الخطــوط المتوازيــة لألجســاد المنحنيــة‪ ،‬والحركــة المبرمجــة‬ ‫للشــخوص‪ ،‬كذلــك تــوازي التوابيــت فــي قافلــة تأخــذ طريقهــا‬ ‫الجبانــة‪ .‬ويمكــن مالحظــة الميــل إلــى التبســيط والتعميــم‪،‬‬ ‫إلــى‬ ‫ّ‬ ‫ومعالجــة تصويــر الجســم بطريقــة تبــدو فيهــا الشــخوص أشــبه‬ ‫بظــال‪ ،‬ال حجــم وال ثقــل لهــا بســبب غيــاب المنظــور‪ .‬كمــا أن‬ ‫مميــز في الشــخوص‬ ‫هنــاك عــدم اهتمــام بمــا هــو ذاتــي وحســي ّ‬ ‫ـورة‪ ،‬بــل تــكاد تستنســخ نســخ ًا كمــا التوابيــت التــي ُتحمــل‬ ‫المصـ ّ‬ ‫إلــى اللحد‪ .‬كلّ شــيء ظاهر في اللّوحــة‪ ،‬ومنجز بوضوح وبألوان‬ ‫حلولية المــوت‪ ،‬ونظرة‬ ‫ـبياً‪ ،‬وتفــوح من الرســم رائحــة‬ ‫ّ‬ ‫فاتحــة نسـ ّ‬ ‫ـول معها‬ ‫ـ‬ ‫يتح‬ ‫ـا‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫الدني‬ ‫ـاة‬ ‫ـ‬ ‫الحي‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫متعالي‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫ميتافيزيقي‬ ‫ـكونية‬ ‫ّ‬ ‫سـ ّ‬ ‫بحريــة‪ ،‬أو‬ ‫ك‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫للتح‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫في‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫إمكاني‬ ‫ال‬ ‫ـارم‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ص‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫لفع‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫الدف‬ ‫فعــل‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬

‫«عنبر الموبوئين» ‪▲ 1792‬‬

‫حتــى النظــر جانبـاً‪ ،‬وال خــروج فيه عن االنضبــاط أو االنتظام أو التكــرار‪ ،‬ليقول بالترفع عن‬ ‫األمــور األرضيــة الفانيــة‪ ،‬فموت اإلنســان المادي يعني يقظة اإلنســان الروحي المســتقيم‪.‬‬ ‫عمــت فــي أواخــر القــرون الوســطى‪ ،‬ويعثــر علــى‬ ‫كلّ ذلــك يبــرر ســطوة المــوت التــي ّ‬ ‫أفضــل تعبيــر لهــا فــي الرســم الشــعبي الموســوم بـ«رقصــة المــوت»‪ ،‬والــذي أعيــد رســمه‬ ‫ـكية لهيــكل عظمــي (مجاز‬ ‫مــرار ًا وتكــرار ًا فــي جميــع أنحــاء أوروبــا‪ .‬وفيهــا مشــهدية غروتسـ ّ‬ ‫متنوعــة للرقــص معــه‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫وعمريـ‬ ‫واجتماعيــة‪،‬‬ ‫دينيــة‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المــوت)‪ ،‬يدعــو شــخوص مــن فئــات ّ‬ ‫حــول أحــد القبــور‪ .‬تتغيــا الصــورة تذكيــر البشــر بأنهــم سواســية فــي المــوت‪ ،‬بــأن مســرات‬ ‫ـدة‬ ‫الحيــاة الدنيــا ومباهجهــا إلــى زوال‪ ،‬وعلــى الجميــع االســتعداد للمــوت الكوني‪ .‬ومن شـ ّ‬ ‫والفنيــة‪،‬‬ ‫األدبيــة‬ ‫تأثيــر فكــرة «رقصــة المــوت»‪ ،‬فإنهــا كانــت عابــرة األشــكال واألجنــاس‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الدينيــة‬ ‫ـؤدى فــي العــروض‬ ‫وتج ّلــت فــي التصويــر والحكايــة والشــعر والمســرح‪ ،‬وكانــت ُتـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫واالحتفــاالت التــي كانــت ترعاهــا الكنيســة مثــل عيــد الفصــح‪ .‬ومــن بيــن العــدد الهائــل‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪95‬‬


‫لتصاويــر هــذه الرقصة القبرية‪ ،‬أذكر الرســم القوطي الــذي أنجزه عام ‪1493‬م‬ ‫ـي ميكائيــل فولغيمــون (‪ ،)1434-1519‬معلــم الف َّنــان آلبرخــت‬ ‫الف َّنــان األلمانـ ّ‬ ‫يتحدى‬ ‫ـاخر‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫حس‬ ‫منها‬ ‫يفيض‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـون‬ ‫ـ‬ ‫تك‬ ‫ـكاد‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫احتفالي‬ ‫دورِر‪ .‬وفيهــا‬ ‫متهكّ‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫نزيــف المــوت فــي التصاويــر الكنســية بالتآلف الهزلــي مع المــوات‪ُ .‬يراعى في‬ ‫رســم الهيــاكل العظميــة محــاكاة الواقــع‪ ،‬وتبــدو كمــا لــو أنهــا رقصــة أحيــاء‬ ‫يتلبســهم المــوت الــذي يحتفــون بــه‪ .‬وفــي العصــر الحديــث ماتــزال «رقصــة‬ ‫َّ‬ ‫ـوي فــي‬ ‫ـ‬ ‫الدين‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫فيه‬ ‫ـج‬ ‫ـ‬ ‫يتواش‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الت‬ ‫ـاالت‬ ‫ـ‬ ‫الكرنف‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ى‬ ‫ـؤد‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫ـوت»‬ ‫ـ‬ ‫الم‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ـي مــع الدنيـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫وحــدة ال تنفصــم‪ ،‬وفــي معــرض الحديــث هنــا نتذكّ ــر معــ ًا فيلــم «الختــم‬ ‫الســابع»‪ ،‬الــذي اقتبــس فيــه انغمــار بيرغمــان «رقصــة المــوت» كــي يســدل‬ ‫الفلميــة‪.‬‬ ‫الســتار علــى الحبكــة‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫قــدس المعــروف بمخطوطــة‬ ‫الكتــاب‬ ‫فــي‬ ‫ا‬ ‫وتحديــد‬ ‫فــي عــام ‪1411‬م‪،‬‬ ‫الم َّ‬ ‫ُ‬ ‫‪( Toggenburg‬سويســرا)‪ ،‬وتعــرف بـ«الوبــاء فــي مصر فــي مخطوطة الكتاب‬ ‫ـدس فــي توغينبروغ»‪ ،‬نعثر على منمنمة تتناول الطاعون األســود‪ ،‬وفيها‬ ‫المقـ َّ‬ ‫ُ‬ ‫الهويــة إلــى حجــرة منزليــة‪ ،‬يســتلقي فيهــا رجــل وامرأة‬ ‫ـول‬ ‫ـ‬ ‫مجه‬ ‫ـان‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫ف‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ينقلن‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫علــى فــراش المــرض‪ ،‬ويرافقهمــا شــخص يبــدو أنــه طبيــب يقــوم بتعطيــر‬ ‫الهــواء‪ ،‬فقــد كان يعتقــد بــأن الطاعــون ناتــج عــن الهــواء الفاســد أو األبخــرة‬ ‫التوضيحيــة حــول األعــراض‬ ‫الســامة‪ .‬تبــدو المنمنمــة أقــرب إلــى الصــورة‬ ‫ّ‬ ‫ـدس‪ ،‬كــي تشــير‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫الم‬ ‫ـاب‬ ‫ـ‬ ‫الكت‬ ‫ـريرية للمــرض‪ ،‬رغــم أنهــا مندرجــة فــي‬ ‫ُ َّ‬ ‫السـ ّ‬ ‫الفرعونيــة‪ ،‬والموصوف في ســفر الخروج (‪:9‬‬ ‫إلــى الوبــاء الســادس في مصــر‬ ‫ّ‬ ‫‪ .)9 - 8‬ومــن الواضــح‪ ،‬أن الف َّنــان اســتمد المــادة الخــام لمنمنمتــه مــن ســياق‬ ‫عصــره‪ ،‬وواقــع المــوت األســود المنتشــر فــي أوروبــا‪ .‬ومــن الالفــت لالنتباه أن‬ ‫يبرر‬ ‫المصابيــن فــي المنمنمــة‪ ،‬علــى مــا يبدو‪ ،‬يشــعران بالحمــى‪ ،‬األمر الــذي ِّ‬ ‫كشــف أجــزاء مــن بدنهمــا مــن تحــت المــاءات فــي الرســم‪ ،‬وبجســد طافــح‬ ‫والبثــور (الطاعــون الدبلــي)‪ .‬مــن جانـ ٍ‬ ‫ـب آخــر يالحــظ أن الطبيــب‬ ‫بالدمامــل ُ‬ ‫واقٍ‬ ‫الطبيــة لــم تكــن قــد‬ ‫خــاص‪ ،‬فالمعرفــة‬ ‫المعالــج ال يرتــدي أي لبــاس‬ ‫ّ‬ ‫توصلــت إلــى عــاج الطاعــون‪ ،‬واقتصــرت علــى تشــخيص المــرض واللجــوء‬ ‫إعجازيــة‪ .‬وفــي معــرض الحديــث هنــا نذكــر أن‬ ‫ـحرية ورجــاءات‬ ‫ّ‬ ‫لوصفــات سـ ّ‬ ‫ميــز ألطباء ومعالجــي الطاعون لــن يتحقَّق ّإل في‬ ‫اســتخدام الــزي الواقــي ُ‬ ‫الم ّ‬ ‫القــرن الســابع عشــر كمــا ســنرى الحقـاً‪ .‬بيــد أنهــم فــي هــذه المرحلــة كانــوا‬ ‫بأهميـ ٍ‬ ‫وســمح لهــم بإجراء‬ ‫ـم منحهــم امتيــازات‬ ‫يتمتعــون‬ ‫ّ‬ ‫ـة كبيــرة‪ ،‬وتـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫خاصة‪ُ ،‬‬ ‫عمليــات التشــريح للبحــث عــن عــاج للوبــاء‪ ،‬ذلــك أن هــذه العمليــات كانــت‬

‫«رقصة الموت» ‪▲ 1493‬‬

‫‪96‬‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫محظــورة فــي عمــوم أوروبــا القروســطية‪.‬‬ ‫المولــد «جــوزي ليفيرنكــس ‪Josse‬‬ ‫فــي عــام ‪1499‬م أنجــز الف َّنــان الهولنـ ّ‬ ‫ـدي ُ‬ ‫‪ ،»Lieferinxe‬لوحــة «القديــس سيباســتيان يتوســط لــدى الــرب فــي إحــدى‬ ‫األوبئــة»‪ .‬ال يعــرف الكثيــر عــن حيــاة جــوزي ليفرينكس‪ ،‬باســتثناء أنــه مارس‬ ‫ـص بإنجاز‬ ‫الرســم فــي جنــوب فرنســا فــي أواخــر القــرن الخامس عشــر‪ ،‬واختـ ّ‬ ‫صلَّيــات ومذابــح الكنائس واألديرة‪ .‬ولوحتــه المذكورة نفذت لتزيين‬ ‫لوحــات ُم َ‬ ‫خصــص للقديــس سيباســتيان فــي إحــدى كنائس مرســيلية‪.‬‬ ‫الم‬ ‫المذبــح ُ َّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫رومانيا شــاباً‪،‬‬ ‫كان القديــس سيباســتيان‪ ،‬الــذي ُيشــار له في العنــوان‪ ،‬ضابطا‬ ‫ّ‬ ‫اس ُتشــهد رميـ ًا بالســهام في عهد اإلمبراطــور ديوكلتيانوس للدفــاع عن إيمانه‬ ‫ـيحي‪ .‬وربطت ســيرة القديس مع الوباء في القرن الســابع‪ ،‬أثناء تفشــي‬ ‫المسـ ّ‬ ‫اإليطاليــة‪ ،‬حيــث تقــول ســيرة القديس الكنسـ ّـية‪ ،‬إنه‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫بافي‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫مدين‬ ‫ـي‬ ‫الوبــاء فـ‬ ‫ّ‬ ‫ـم العثــور علــى رفاتــه حينهــا‪ ،‬فنقلــت وكرمــت بدفنهــا فــي إحــدى الكنائــس‪،‬‬ ‫تـ ّ‬ ‫األمــر الــذي تمخــض عنــه تو ّقــف الوبــاء للتــو بأعجوبــة‪ .‬ومــا أن ذاعــت هــذه‬ ‫ـعبية كبيــرة فــي إيطاليــا‪ ،‬ومنهــا‬ ‫الســردية الكنسـ ّـية‪ ،‬حتــى تم ّتــع القديــس بشـ ّ‬ ‫فــي جميــع أنحــاء أوروبــا مــع انتشــار األوبئــة‪ ،‬لــدوره اإلعجــازي فــي إنهائهــا‬ ‫ـدتها‪.‬‬ ‫وتلونها وشـ ّ‬ ‫وتنوعهــا ّ‬ ‫علــى اختالفهــا ّ‬ ‫وفقـ ًا لجماليــات الفتــرة التي أنجــزت فيها اللّوحة‪ ،‬يظهر القديس سيباســتيان‬ ‫فــي الجــزء الســماوي مــن اللّوحة‪ ،‬وقد غطت جســمه الســهام التي تســتدعي‬ ‫ليتوســط‬ ‫هويتــه‪ .‬يركــع القديــس فــي حضــرة الــرب‪،‬‬ ‫استشــهاده وتحديــد ّ‬ ‫َّ‬ ‫ويتوســل مــن أجــل إنهــاء الوبــاء‪ .‬فــي األســفل مباشــرة‪ ،‬تــدور المعركــة‬ ‫َّ‬ ‫الدينيــة القروســطية‪،‬‬ ‫المجازيــة‪ ،‬التــي توجــز ع ّلــة الوبــاء بمقتضــى الرؤيــة‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫وقتئــذ‬ ‫أال وهــي المعركــة بيــن الخيــر والشــر‪ ،‬ذلــك أن العقيــدة المكرســة‬ ‫اعتبــرت أن األوبئــة هــي نتــاج االنزيــاح عــن الصــراط الكنســي‪ ،‬وبالتالــي فهــي‬ ‫عقــاب إلهــي‪ .‬ولكــن فــي الوقــت نفســه‪ُ ،‬تتــرك فســحة أمل مــن خــال العودة‬ ‫إلــى اإليمــان والتطهــر واالســتقامة إلنهــاء العقوبــة المفروضــة‪.‬‬ ‫الدنيوي القســم‬ ‫كالعــادة فــي هــذا النــوع من التصويــر‪ ،‬يحتلّ الجزء الســفلي‬ ‫ّ‬ ‫األعظــم مــن الرســم‪ ،‬ويتوافــق فــي اللّوحــة مــع مدينــة أفينيــون الفرنســية‬ ‫أثنــاء إصابتهــا بوبــاء الطاعــون‪ .‬ويركّ ــز علــى العمــل الــذي يقــوم بــه الرجــال‬ ‫ـرك بكيفيــة‬ ‫ـس الزمــن ُ‬ ‫فــي نقــل جثاميــن الضحايــا‪ .‬ويهــب الف َّنــان حـ ّ‬ ‫المتحـ ّ‬ ‫يقســم أرجــاء‬ ‫توظيــف المنظــور‪ ،‬الــذي يكســب المــكان عمق ـاً‪ ،‬وبعــد ًا ثالث ـ ًا ّ‬ ‫المدينــة إلــى داخــل الســور‪ ،‬ثــم بــاب المدينــة‪ ،‬فخــارج الســور‪ ،‬حيــث يجــري‬ ‫الدفــن فــي البعــد األقــرب مــن المشــاهد‪.‬‬ ‫ـرك الموكــب الدائــم مــن الجثث‪،‬‬ ‫ـرك الزمــن‪ ،‬مــع تحـ ُّ‬ ‫ترصــد عيــن المتلقــي تحـ ُّ‬ ‫المتتابعــة‪ .‬لنالحظ معاً‪ ،‬في خلفية‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫الرس‬ ‫أبعاد‬ ‫في‬ ‫بفعــل توافدهــا وتدفُقها‬ ‫ُ‬ ‫المشــهد األعمــق (داخــل الســور)‪ ،‬يمكــن تمييــز رجليــن يجــران جثــة ملفوفــة‬ ‫ـم فــي وســط التكويــن‪ ،‬تحــت قــوس مدخــل المدينــة‪ُ ،‬تــرى‬ ‫بالكفــن‪ ،‬ومــن ثـ َّ‬ ‫ـم‬ ‫عربــة محملــة بالجثاميــن‪ ،‬وفــي ّ‬ ‫مقدمــة اللّوحــة (خــارج ســور المدينــة) يتـ ُّ‬ ‫إلقــاء جثــة مكفنــة فــي مقبــرة جماعيــة‪ ،‬أودعــت فيها جثــث ســبقتها للموت‪،‬‬ ‫ويقــع هــذا المشــهد الــذي يحتــلّ معظــم اللّوحــة عنــد تخــوم كنســية أو ديــر‪،‬‬ ‫ـري مكتظ‬ ‫دينيــة‪ .‬وفي الطرف المقابل حشــد بشـ ّ‬ ‫حيــث يجــري الكهنــة مراســم ّ‬ ‫ـرية المختلفة‪ ،‬ورود أفعالهــا الكونية وهم‬ ‫ـ‬ ‫البش‬ ‫يعطــي فكــرة عن الســلوكيات‬ ‫ّ‬ ‫يواجهــون الكــوارث‪ :‬الدهشــة‪ ،‬أو الفزع‪ ،‬أو الهســتيريا أو اليأس والتســليم‪.‬‬ ‫كمــا أن الف َّنــان يعمــد إلــى تأكيــد حركــة الزمــن‪ ،‬واإلحســاس بســيرورته فــي‬ ‫(اللحاد)‬ ‫الحماليــن‬ ‫لحظــة فاصلــة بيــن المــوت والحيــاة‪ ،‬فقبــل أن يــودع أحــد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الجثــة فــي القبــر‪ ،‬يســقط فريســة للوبــاء‪ ،‬يــدل علــى ذلــك ظهور دمل أســفل‬ ‫الرقبــة‪ ،‬وهــي خاصيــة نموذجيــة للعــدوى التــي يســببها الطاعــون الدبلي‪ .‬كلّ‬ ‫ذلــك يســتدعي أن ين ّقــل المتلقــي بصــره فــي هــذا الموكــب الزمنــي‪ ،‬كشــاهد‬ ‫التصويري‪،‬‬ ‫أول الخطــو نحــو اإليهــام‬ ‫ّ‬ ‫ومشــارك فيــه معـاً‪ .‬وبذلــك‪ ،‬نكــون مــع ّ‬ ‫ـي مع الواقــع العياني التجريبــي؛ إيهام‬ ‫ـي الجمالـ ّ‬ ‫أي نحــو تداخــل الواقــع الفنـ ّ‬ ‫جماليـ ًا فــي َأ ْو ِج عصــر النهضــة‪.‬‬ ‫ســيكون لــه النصــر‬ ‫ّ‬ ‫مــن جانــب آخــر‪ ،‬إن توســط القديــس سيباســتيان لــدى الــرب لرفــع بــاء‬ ‫الطاعــون‪ ،‬ال يعنــي أنــه الحامــي والشــفيع لمرضــى الوبــاء‪ ،‬ذلــك أن الكنيســة‬ ‫منحــت هــذه الســمة للقديــس روش‪ .‬يعــرف القديــس روش المولــود فــي‬


‫لوحة «الطاعون» ‪▲ 1898‬‬

‫مونبيليــه الفرنســية فــي القــرن الرابــع عشــر‪ .‬وتشــير ســيرته الكنسـ ّـية إلــى رحلــة حــج إلــى‬ ‫إيطاليــا‪ ،‬كــرس فيهــا نفســه لمســاعدة المصابيــن بالطاعــون‪ ،‬فأصيــب هــو نفســه ومــن‬ ‫ـم تماثــل للشــفاء بعــد أن أطعمــه كلــب بالخبــز الــذي أخــذه مــن صاحبــه‪ .‬لذلــك يمكــن‬ ‫ثـ َّ‬ ‫التعــرف عليــه فــي الرســم بــزي الحــاج الــذي يرتديــه والكلــب الــذي يرافقــه‪ .‬ويمكــن أن‬ ‫للرســام‬ ‫تلمــس قدســيته فــي لوحــة «القديــس روش شــفيع ضحايــا الطاعــون» (‪،)1623‬‬ ‫َّ‬ ‫الفالمنكــي بيتــر بــول روبنــس (‪ .)1640 - 1577‬فــي اللّوحــة ينقــل روبنــس المتلقّــي‪ ،‬إلــى‬ ‫اللحظــة الحافلــة الحاســمة آن توســيم القديــس روش شــفيعاً‪.‬‬ ‫ـكلية‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫ة‬ ‫هرمي‬ ‫ويعتمد‬ ‫ـم‪،‬‬ ‫مكونات الرسـ‬ ‫ـيكي فــي توزيع ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يحافــظ الف َّنــان علــى التوازن الكالسـ ّ‬ ‫مضمــرة فــي التكويــن‪ .‬فــي المســتوى األعلــى مــن اللّوحة‪ ،‬تــرى الشــخصيات الرئيسـ ّـية فوق‬ ‫منصــة‪ ،‬أشــبه مــا تكــون بالركــح المســرحي‪ :‬المســيح إلــى اليميــن‪ ،‬ملفوف ـ ًا فــي قمــاش‬ ‫قرمــزي‪ ،‬وهــو ينحنــي نحــو القديــس‪ ،‬بينمــا المــاك إلــى اليســار يحمــل قرطاسـ ًا كُ تــب عليه‬ ‫بالالتينيــة‪« :‬أنــت شــفيع المصابيــن بالطاعــون» ‪Eris in peste patronus‬؛ بينمــا القديس‬ ‫ـع بينهمــا‪ ،‬يلتفــت برأســه وجســمه نحــو الســيد المســيح‪.‬‬ ‫روش‪ ،‬وكلبــه إلــى جانبــه‪ ،‬راكـ ٌ‬ ‫درامية المشــهد في‬ ‫د‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫ويش‬ ‫ـال‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫االنفع‬ ‫ـام‬ ‫ـ‬ ‫الرس‬ ‫ـحن‬ ‫ـ‬ ‫يش‬ ‫ّوحة‪،‬‬ ‫فــي المســتوى األدنــى مــن الل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫وتتوســل طالبــة الحمايــة‬ ‫ـخصيات تومــئ إلــى معاناتهــا‪،‬‬ ‫ســت شـ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـدم روبنــس مشــهد ًا يوميـاً‪،‬‬ ‫والشــفاعة مــن القديــس‪ .‬هكــذا‪ ،‬قـ َّ‬ ‫يقــوم علــى وحــدة الموضــوع والمــكان‪ ،‬مشــهد ًا ال يتر ّفــع فيــه‬ ‫العلــوي عــن النــزول واالقتــراب مــن الدنيــوي‪.‬‬ ‫أمــا فــي لوحــة «ســاحة الســوق فــي نابولــي أثنــاء الطاعــون»‬ ‫(‪ ،)1656‬للف ّنــان اإليطالــي «دومينيكــو غارجيولــو ‪Domenico‬‬ ‫الرسام الباروكي بامتياز‪ ،‬الذي اشتهر‬ ‫‪ّ ،)1675-1609( »Gargiulo‬‬ ‫برســم المناظــر البانوراميــة للمدينــة‪ ،‬حتــى أن رســومه تحمــل‬ ‫توثيقيـ ًا لكثير من أحداث عصره‪ ،‬وتهجس برســم الحشــود‬ ‫بعــد ًا‬ ‫ّ‬ ‫ـرية‪ .‬وفــي اللّوحــة ينقلنــا الف َّنــان إلــى ســوق نابولــي‪ ،‬الحيــز‬ ‫البشـ ّ‬ ‫المكانــي الــذي يلخــص انهيــار التجــارة‪ ،‬وســوق العــرض والطلب‬ ‫فــي المدينــة‪ ،‬وقــد اســتحال إلــى ســاحة يتمســرح فيهــا المــوت‬ ‫مروعــة‪.‬‬ ‫ـهدية‬ ‫فــي مشـ ّ‬ ‫كارثيــة ّ‬ ‫ّ‬ ‫اجتماعياً‪،‬‬ ‫ـوق‬ ‫ـ‬ ‫الس‬ ‫في‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫المدين‬ ‫ـري‬ ‫ـ‬ ‫البش‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫الحش‬ ‫نات‬ ‫مكو‬ ‫ّ‬ ‫ـوع ّ‬ ‫تتنـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫وعرقيــاً‪ .‬ويعكــس العمــل مخــاوف وآالم الســكّ ان‬ ‫وجنســياً‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وفجيعتهــم‪ .‬بعــض األصحــاء يحــاول مســاعدة المرضــى‪ ،‬بينمــا‬ ‫تكدســة‪ ،‬ومــن الالفــت لالنتباه‬ ‫الم ّ‬ ‫يحــاول اآلخــرون إزالــة الجثــث ُ‬ ‫أن البعــض منهــم يغطــي األنــف واألفــواه بقطــع مــن القمــاش‪،‬‬ ‫بســبب االعتقــاد أن الجثــث تنقــل العــدوى‪ .‬وكمــا هــو مألــوف‬ ‫ـن الباروكــي الــذي ال مجــال للفــراغ فيــه‪ ،‬تمتلــئ ســاحة‬ ‫فــي الفـ ّ‬ ‫الســوق بالتفاصيــل التــي تتمحــور حــول الخطيئة والمــوت‪ ،‬ومع‬ ‫ذلــك‪ ،‬ورغمـ ًا عــن الكارثــة‪ ،‬هنــاك دائمـ ًا بارقــة أمــل‪ ،‬كمــا يظهــر‬ ‫ـخصية نيابة‬ ‫تتوســط شـ‬ ‫فــي الجــزء العلــوي مــن التكويــن‪ ،‬حيــث‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫عــن الســكّ ان لرفــع البــاء‪.‬‬ ‫ـرق إلــى النقــش‬ ‫ـ‬ ‫أتط‬ ‫ـوف‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـي‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫الكونولوج‬ ‫عنــد هــذا المنعطــف‬ ‫ّ‬ ‫يرجح أنه‬ ‫النحاســي المعنــون «طبيــب الطاعــون» (‪ ،)1656‬الــذي ّ‬ ‫األلماني «بول فورســت ‪»Paul Fürst‬‬ ‫من إنجاز النقّاش والناشــر‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫تهكميــة‪،‬‬ ‫ـاخرة‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـدة‬ ‫ـ‬ ‫لقصي‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫مرافق‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫(‪ .)1666-1608‬وظهــر الرس‬ ‫ّ‬ ‫واأللمانيــة‪ .‬وفيــه ينتصــب الطبيــب بقامتــه‬ ‫مكتوبــة بالالتينيــة‬ ‫ّ‬ ‫محتــ ً‬ ‫ا الرســم بالكامــل‪ ،‬وفــي العمــق الخلفــي تلــوح مدينــة‪،‬‬ ‫ميــز حيــن التعامــل‬ ‫الم‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫بزي‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫طبي‬ ‫ـام‬ ‫ـ‬ ‫أم‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ون‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫يف‬ ‫ـخاص‬ ‫وأشـ‬ ‫ُ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـون البدلــة الواقيــة مــن الوبــاء‪ ،‬والتي‬ ‫ـ‬ ‫تتك‬ ‫ـون‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫الطاع‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫مرض‬ ‫مــع‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫المعاصرة‪،‬‬ ‫المسـ َ‬ ‫ـتخدمة في األوبئــة ُ‬ ‫ال تختلــف مبدئيـ ًا عــن البزة ُ‬ ‫ـم تشــميعه‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫ـميك‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـاش‬ ‫ـ‬ ‫قم‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫جبــة ســوداء منســوجة‬ ‫َّ‬ ‫مــن ّ‬ ‫مــزود بعدســتين‬ ‫وقنــاع‬ ‫نفســه‪،‬‬ ‫الجلــد‬ ‫مــن‬ ‫وقبعــة‬ ‫وقفــازات‬ ‫َّ‬ ‫بلوريتيــن لتغطيــة العيــون‪ ،‬وأنــف علــى شــكل منقــار مخروطــي‬ ‫ويحشــى عادة بالنباتات العطريــة والقش والتوابل‪،‬‬ ‫لــه فتحتان‪ُ ،‬‬ ‫لتحمــل الروائــح العفنــة‪ .‬وبسســب هــذا األنف‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫ككمام‬ ‫ويوظَّ ــف‬ ‫ُّ‬ ‫المنقـ�اري فـ�ي القنـ�اع ُعرف الطبيب شـ�عبي ًا بـــ«�‪Doctor Schna‬‬ ‫‪ ،»bel‬ومعناهــا الحرفي «الدكتور منقار»‪ .‬يحمل أطباء الطاعون‬ ‫عــاد ًة قصبــة طويلــة تســاعدهم فــي فحــص وتحريــك الموبوئيــن‬ ‫المباشــر معهــم كمــا هــو‬ ‫دون الحاجــة إلــى لمســهم واالتِّصــال ُ‬ ‫ـرة فــي‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ألو‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الواق‬ ‫ـاس‬ ‫جلــي فــي الرســم‪ .‬وقــد اســتخدم اللبـ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫نابولــي عــام ‪ ،1620‬ومنهــا انتشــر لعمــوم أوروبــا‪.‬‬ ‫مــن كلّ مــا ســبق‪ ،‬نصــل للقــول إلــى أن المصابيــن بالوبــاء فــي‬ ‫فني ـ ًا مــن حيــث توفــر‬ ‫ـي‪ ،‬لــم يكونــوا سواســية ّ‬ ‫التاريــخ األوروبـ ّ‬ ‫الصحيــة؛ بــل وجــد مــن شــكّ ل‬ ‫«العنايــة اإللهيــة» أو الرعايــة‬ ‫ّ‬ ‫ـي باســتمرار‪ .‬مــع هــذه الفكرة‬ ‫ـ‬ ‫الفن‬ ‫هامــش الهامــش فــي التاريــخ‬ ‫ّ‬ ‫نكــون قــد اقتربنــا مــن لوحة فرانثيســكو دي غويــا (‪)1828 - 1746‬‬ ‫الموسومة «عنبر الموبوئين» (‪ .)1792‬ينقلنا الف َّنان اإلسباني إلى‬ ‫مخصص‬ ‫مطــرح داخلــي كهفي بارد في مشــفى مفترض‪ ،‬أو عنبر‬ ‫ّ‬ ‫ويصورهــم‪ ،‬على اختالف‬ ‫للمصابيــن بوبــاء ال يأتــي على تحديده‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫العمريــة والجنسـ ّـية‪ ،‬ضحايا العزلة والتخلّي المؤســف‪،‬‬ ‫فئاتهــم‬ ‫ّ‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪97‬‬


‫وتكدســوا مــع وحدتهــم ليواجهــوا فظائــع‬ ‫وقــد تراكمــوا فــي العنبــر المقبــب‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫المعانــاة واالحتضــار والمــوت‪ .‬ويتفاقــم االنفعــال فــي اللّوحــة‪ ،‬مــع محاولــة‬ ‫أحد المصابين مســاعدة آخر بإعطائه شــربة ماء‪ ،‬أو لمســة عزاء وســلوان (أو‬ ‫عســاه فــرد آخــر مــن الهامــش‪ ،‬خاطــر بحياتــه وآثــر تقديــم العــون)‪ ،‬وأنوفهم‬ ‫تتحمــل الرائحــة الدفــراء لألجســاد العفنة‪.‬‬ ‫مغطــاة كــي‬ ‫ّ‬ ‫يعكــس الف َّنــان فــي تكويــن اللّوحة منــاخ الحبــس القمعي‪ ،‬لما ُيدعــى الحجر‬ ‫المتضررين‬ ‫الصحــي فــي زمنــه‪ ،‬حيــث ُّ‬ ‫ـعبية مــن ُ‬ ‫يتم إقصاء أفــراد الفئات الشـ ّ‬ ‫إلــى مــكانٍ قــذر‪ ،‬ويقطــع اتِّصالهــم مــع العالــم الخارجــي‪ .‬نحــن أمــام ســجن‬ ‫يتعرضون له بفعل‬ ‫يك ّثــف معنى عذاب هذه الجماعة‪ ،‬ســواء الجســدي الــذي‬ ‫ّ‬ ‫ـماوي‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫الس‬ ‫ـفيع‬ ‫ـ‬ ‫والش‬ ‫ـوي‬ ‫ّ‬ ‫الوبــاء‪ ،‬أم العاطفــي بســبب فقــدان الرجــاء الدنيـ ّ‬ ‫فكالهمــا غائــب عــن الحضــور فــي هــذا العنبــر‪ ،‬مــا مــن شــيء يعلــن الحضــور‬ ‫مــن الخــارج‪ ،‬أو المــاوراء‪ ،‬باســتثناء ضوء غبــش يخترق النافــذة يكثّف معنى‬ ‫ـدى لوحــة غويــا‪،‬‬ ‫الخــارج النائــي القصــي‪ ،‬علــى حســاب ترميــز أمــل بــارق‪ .‬تتبـ ّ‬ ‫التــي ينســرب مــن مشــهدها معنــى الوحــدة‪ ،‬والهجــران واإلحبــاط والفــزع‬ ‫واليــأس‪ ،‬علــى طبــاق مع لوحــة روبنس الســابق ذكرها‪ ،‬حيــث العناية اإللهية‬ ‫الرحيمــة والشــفاعة‪ ،‬منبثــة فــي العالــم وغيــر منقطعــة عنــه‪ .‬مــن هنــا يبــدو‬ ‫التشــاؤم الالمتناهــي علــى مصيــر مرضــى غويا الســجناء‪.‬‬ ‫الجمالــي الــذي‬ ‫المركــز‬ ‫مــن تصويــر الهامــش عنــد غويــا‪ ،‬ننتقــل لخطــاب‬ ‫ّ‬ ‫تعكســه لوحــة «زيــارة بونابــرت لضحايــا الطاعــون فــي يافــا» (‪ )1804‬للف َّنــان‬ ‫ـور اللّوحــة زيــارة نابليــون للموبوئين‬ ‫أنطــوان جــان غــروس (‪ .)1835 - 1771‬تصـ ّ‬ ‫ـيكية‬ ‫مــن أفــراد جيشــه فــي مدينــة يافــا (عــام ‪ ،)1799‬وتنــدرج ضمــن الكالسـ ّ‬ ‫تصويريــة مع انتصار «العقــل»‪ ،‬وتحديد ًا مع‬ ‫كرســت كمدرســة‬ ‫ّ‬ ‫الجديــدة التي ّ‬

‫«طبيب الطاعون» ‪▲ 1656‬‬

‫‪98‬‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫ـمية للثــورة‪ ،‬بعــد‬ ‫ـيكية الجديــدة كممثّلــة رسـ ّ‬ ‫تبنــي نابليــون للمدرســة الكالسـ ّ‬ ‫إنجــاز جــاك لــوي دافيــد لوحته «قســم األخــوة هــوراس» (‪ ،)1784‬علــى اعتبار‬ ‫الفنيــة صالحــة لتمثيــل األيديولوجيــا القائمــة علــى فكــرة‬ ‫أن هــذه المدرســة‬ ‫ّ‬ ‫التمعن فــي غائية لوحــة غروس‬ ‫ـود‬ ‫ـ‬ ‫يق‬ ‫ـر‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫آخ‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫جان‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫وم‬ ‫ـة‪.‬‬ ‫المركزيـ‬ ‫الســلطة‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫الفن االستشــراقي بامتياز‪.‬‬ ‫(تلميــذ دافيــد) إلــى القول بمالءمــة تصنيفها تحت‬ ‫ّ‬ ‫ـي لعــام ‪ ،1804‬فالقــت استحســان ًا‬ ‫عــرض غــروس لوحتــه فــي المعــرض الفنـ ّ‬ ‫أدى لالعتراف بــه كف َّنانٍ‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫مم‬ ‫ـاد‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫مــن ِقبــل أصجــاب الــرأي والمشــورة مــن ال ُن‬ ‫َّ‬ ‫ّ ّ‬ ‫مكــرس‪ .‬ولذلــك ليــس بمســتغرب أن يكلــف مــن قبــل نابليــون لتصويــر واقعة‬ ‫مهمــة‪ُ ،‬يقــال إنهــا جــرت أثنــاء الحملــة علــى مصــر‪.‬‬ ‫تصورها اللّوحة‪ ،‬مــن ناحية محاذاة‬ ‫ؤرخــون بحــدوث الواقعــة كمــا‬ ‫ِّ‬ ‫الم ِّ‬ ‫يشــكّ ك ُ‬ ‫ـد يــده بــدون قفــاز ليتلمــس خــراج أحدهــم‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫وم‬ ‫ـون‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫الطاع‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫لضحاي‬ ‫بونابــارت‬ ‫ّ‬ ‫ويقال إن عدد ًا مــن جنراالت الجيش‬ ‫غيــر عابــئ باحتمــال انتقال العدوى لــه‪ُ ،‬‬ ‫ـن أتــى علــى كتابــة مذكراته وتوثيق الحملــة ينفي الواقعة جملــةً وتفصيالً‪،‬‬ ‫ممـ ْ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫خصص‬ ‫الم‬ ‫ـكان‬ ‫ـ‬ ‫الم‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫خاطف‬ ‫ا‬ ‫ـرو‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـون‬ ‫ـ‬ ‫نابلي‬ ‫ـأن‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫يكتف‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫اآلخ‬ ‫ـض‬ ‫ـ‬ ‫والبع‬ ‫ُ َّ‬ ‫ّ‬ ‫أهميــة إنجــاز اللّوحة في‬ ‫للحجــر ِّ‬ ‫ـرف علــى ِّ‬ ‫ـي ولــم يتو َّقــف عنــده‪ .‬وللتعـ ُّ‬ ‫الصحـ ّ‬ ‫ـد من اإلشــارة إلــى أن نابليــون كان يثبت ســلطته في‬ ‫ســياق تلــك المرحلــة‪ ،‬البـ ّ‬ ‫الجمهوريــة الفرنسـ ّـية‪ ،‬بغية القيام بانقالب عليهــا‪ ،‬وتحويلها إلى إمبراطورية‬ ‫التوســع االســتعماري‪.‬‬ ‫(‪ )1804‬تهدف إلى‬ ‫ُّ‬ ‫فــي ذلــك الوقــت كانــت ســمعة نابليــون بونابــارت قــد انتابهــا بعــض التــآكل‬ ‫المعاديــة لــه‪،‬‬ ‫فــي الصحافــة الفرنسـ ّـية‪ ،‬إثــر هجــوم الصحافــة‬ ‫ّ‬ ‫اإلنجليزيــة ُ‬ ‫َ‬ ‫ـم هزيمتــه‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫ث‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫وم‬ ‫ـر‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫مص‬ ‫بســبب ســلوكياته العســكرية فــي الحملــة علــى‬ ‫َّ‬ ‫ٍ‬ ‫ـكري‪ ،‬وكمــا أثبتت بعض‬ ‫ـ‬ ‫عس‬ ‫كقائد‬ ‫ـوهة لســمعته‬ ‫المشـ ِّ‬ ‫ّ‬ ‫مــن هذه الســلوكيات ُ‬ ‫الســير التــي تناولــت نابليــون‪ ،‬األوامر التي أصدرهــا نابليون بحق قتل األســرى‬ ‫ـدر العــدد بحوالــي ‪ 3000‬أســير) لعدم قــدرة الحملة على‬ ‫(يقـ َّ‬ ‫مــن حاميــة يافــا ُ‬ ‫توفيــر الرعايــة والغــذاء لهم فضـ ً‬ ‫ا عن تكاليف الحراســة‪.‬‬ ‫تحركهــا بعــد مرحلــة احتــال يافــا‪،‬‬ ‫كذلــك مــع اســتئناف الحملــة‪ ،‬وضــرورة ُّ‬ ‫تؤكّ ــد الكثيــر مــن المراجــع أن نابليــون طلــب مــن األطبــاء المرافقيــن لقواتــه‬ ‫دس الســم (األفيــون) للجنــود المرضــى بالطاعــون‪ ،‬كــي ال يشــكِّ ل‬ ‫المســلحة‪ّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫ؤرخيــن ال ينفــي‬ ‫الم‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫كثي‬ ‫ـة‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫الحمل‬ ‫م‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫تق‬ ‫ـام‬ ‫ـ‬ ‫أم‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫عائق‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ح‬ ‫ُّ‬ ‫وضعهــم ِّ‬ ‫ُ ِّ‬ ‫الص ّ‬ ‫ـمى فــي راهــن اليــوم بـ«القتــل الرحيــم»‪.‬‬ ‫هــذا األمــر‪ ،‬ويطلــق عليــه مــا ُيسـ َّ‬ ‫وفيمــا يبــدو أن بعــض الناجيــن مــن هــؤالء والمتروكيــن فــي يافــا‪ ،‬وقعــوا فــي‬ ‫ـروا بمــا حصــل معهــم‪ ،‬وانتشــر الخبــر‬ ‫يــد القــوات اإلنجليزيــة الحق ـاً‪ ،‬وأسـ ُّ‬ ‫ـود أن ينظّ ــف ســمعته‬ ‫فــي الصحافــة اإلنجليزيــة‪ .‬لهــذا ك ّلــه‪ ،‬كان نابليــون يـ ُّ‬ ‫المترديــة بعــد الحملــة علــى مصــر‪ ،‬وأثنــاء االنقــاب اإلمبراطــوري‪ ،‬وخيــر‬ ‫ّ‬ ‫الســلطة‪.‬‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫؛‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫الف‬ ‫ـت‬ ‫ـ‬ ‫كان‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫عليه‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫عث‬ ‫أداة‬ ‫ّ‬ ‫ّ ُّ‬ ‫ميــزة‪ ،‬ويغيــب الطــراز‬ ‫الم‬ ‫ـها‬ ‫ـ‬ ‫بأقواس‬ ‫ة‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫األندلس‬ ‫ـارة‬ ‫ـ‬ ‫العم‬ ‫ـام‬ ‫ـ‬ ‫الرس‬ ‫ـتدعي‬ ‫يسـ‬ ‫َّ‬ ‫ُ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ربمــا لمعرفتــه باآلثار األندلسـ ّـية‪،‬‬ ‫ـامي المعــروف فــي فلســطين حينئــذ‪َّ .‬‬ ‫اإلسـ ّ‬ ‫التاريخية‪ ،‬وأســطرتها‪،‬‬ ‫األندلس‬ ‫ـاف‬ ‫ـ‬ ‫اكتش‬ ‫إعادة‬ ‫مع‬ ‫ـجم‬ ‫ـ‬ ‫ينس‬ ‫كان‬ ‫ذلك‬ ‫أو ألن‬ ‫ّ‬ ‫ـرديات الكبرى األوروبية في القرن التاســع عشــر‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫الس‬ ‫في‬ ‫انهيارها‬ ‫ـتعادة‬ ‫واسـ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫فــي اللّوحــة؛ يموضــع الف َّنــان المشــهد فــي حــرم مســجد تــدل عليــه مئذنتــه‪،‬‬ ‫حي‪.‬‬ ‫ـي مرتجل‪ ،‬أو باألحرى مــكان للحجر ِّ‬ ‫الص ّ‬ ‫وقــد اســتحال إلى مشــفى ميدانـ ّ‬ ‫ـدم أحــد أبراجهــا‪ ،‬بينمــا يرفــرف‬ ‫ـ‬ ‫ته‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الت‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫المدين‬ ‫ـدى أســوار‬ ‫َّ‬ ‫فــي الخلفيــة‪ ،‬تتبـ َّ‬ ‫ِ‬ ‫جهة‬ ‫ـي فــوق إحدى أعاليها الراســية قرب دخــان متصاعد‪ .‬ومن‬ ‫العلــم الفرنسـ ّ‬ ‫ـتراتيجي بالنســبة للقوات الفرنسـ ّـية‪.‬‬ ‫اليميــن يمكــن تمييــز مرفــأ المدينة االسـ‬ ‫ّ‬ ‫يع ّلــم الف َّنــان الفضــاءات الســينوغرافية فــي اللّوحــة باســتخدام نــور يغمــر‬ ‫تخيــم على القســم اآلخــر‪ ،‬ويموضــع بونابارت فــي مركز‬ ‫قســم ًا منهــا‪ ،‬وظــال ّ‬ ‫اللّوحــة المنــار‪ ،‬مــع المصابيــن بالوبــاء‪ ،‬وجنراالته الذين يغطــون أنوفهم من‬ ‫ـور أجســاد الموبوئيــن‬ ‫رائحــة تزكــم األنــف‪ .‬فــي الجــزء المغمــور بالضــوء تصـ ِّ‬ ‫ـي‪ ،‬وتعلــن أبدانهــم العاريــة عــن نفســها‪،‬‬ ‫ـي األكاديمـ ّ‬ ‫بمراعــاة المعيــار المثالـ ّ‬ ‫ٍ‬ ‫كمنحوتات رومانية‪ ،‬على العكس من أجســاد المصابين‬ ‫بعضالتها المتبدية‪،‬‬ ‫العربيــة‬ ‫يخيــم عليــه الظــلّ ‪ ،‬قــرب الشــخوص‬ ‫ّ‬ ‫المتواجديــن فــي الجــزء الــذي ّ‬ ‫التــي تــو ِّزع الخبــز‪ ،‬أو الزنجييــن اللذيــن يعينان على نقل الجثــث (على األغلب‬ ‫الرســام بهمــا اإلشــارة إلــى العبوديــة في«الشــرق»)‪ .‬علــى هــذا النحــو‪،‬‬ ‫يريــد‬ ‫ّ‬


‫«دفن ضحايا الطاعون» ‪1349‬م ▲‬

‫تدريجي ـ ًا فــي عتمــة دامســة األمــل‪،‬‬ ‫يغــرق كلّ مــا هــو متواجــد فــي الظــلّ‬ ‫ّ‬ ‫حتــى الغيــاب فــي المــوت‪.‬‬ ‫ً‬ ‫عينــة مــن القيــح بخــدش دملــة‬ ‫ـذ‬ ‫ـ‬ ‫يأخ‬ ‫ً‪،‬‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫عربي‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫طبيب‬ ‫ـدم غــروس شــيخاً‪ ،‬أو‬ ‫يقـ ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫المصــاب‪ ،‬كإشــارة منــه الســتخدامه كلقــاح لبقية أفــراد الحملة (يأخــذ المرء‬ ‫ُ‬ ‫ـم إدخالــه فــي دم شــخص غيــر مريض)‪ .‬ولكــن تاريخ‬ ‫ـ‬ ‫ويت‬ ‫ـض‬ ‫ـ‬ ‫المري‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـح‬ ‫ـ‬ ‫القي‬ ‫ّ‬ ‫اســتخدام اللقــاح يــدل علــى أن هــذه الطريقة لم تكن مســتعملة ســنة ‪،1799‬‬ ‫الــذي صــادف زيــارة بونابــارت لمصابــي يافــا‪ ،‬كمــا تشــير اللّوحــة‪ ،‬ولــم يكــن‬ ‫المرافقيــن للحملــة علــى مصــر علــى علــم بهــا آنئـ ٍ‬ ‫ـذ‪ ،‬ولــم يعمــل بهــا‬ ‫األطبــاء ُ‬ ‫فــي فرنســا ّإل عــام ‪ ،1800‬لمحاربــة الطاعون‪.‬‬ ‫تتوجــه له‬ ‫ينتصــب بونابــارت فــي مركــز التصويــر‪ ،‬كمــا لــو أنــه المحــراب الــذي‬ ‫َّ‬ ‫ـراقية للمســجد‪ .‬يشــاهده المتلقّي وقد خلع‬ ‫اللّوحــة‬ ‫ضمنيـ ًا كمعارضة استشـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫قفــازه؛ وباقــدام ٍ‪ ،‬ودون خشــية يلمــس دمــل الجندي المريض فــي إبطه‪ ،‬على‬ ‫المرافقيــن‪ ،‬اللذيــن يحــاوالن إبعاده‬ ‫لتهيــب وخشــية ضابطيــه ُ‬ ‫نحــوٍ معاكــس ُّ‬ ‫تعرضــه للعــدوى‪ .‬مــن وجهــة النظــر هــذه‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫لتج‬ ‫ـض‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫بالمري‬ ‫عــن االتِّصــال‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫ٍ‬ ‫كقائد شــجاع مغــوار في ظاهــر اللّوحة‪ ،‬ويســتبطن‬ ‫يعلــن نابليــون عــن نفســه‬ ‫فعلــه‪ ،‬اســتخصار االعتقــاد فــي العصر البائــد قبل الثــورة الفرنســية‪ ،‬بالقدرة‬ ‫يحضر‬ ‫الملكية‪ ،‬وال ننســى هنا أن نابليــون كان‬ ‫الشــفائية وبركــة لمســة الــذات‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫نفســه للقــب اإلمبراطور‪..‬‬ ‫ً‬ ‫كرســام‬ ‫نفســه‬ ‫وأثبــت‬ ‫ً‪،‬‬ ‫ا‬ ‫ملحوظــ‬ ‫ا‬ ‫نجاحــ‬ ‫غــروس‬ ‫َّــق‬ ‫مــع هــذه اللّوحــة‪ ،‬حق‬ ‫َّ‬ ‫الســلطة‪ .‬وأثــارت اللّوحــة ضجــة كبيــرة فــي وقــت عرضهــا فــي‬ ‫يــدور فــي فلــك ُّ‬ ‫باريــس‪ ،‬وأثنــى عليها الف َّنانــون وال ُنقَّاد‪ ،‬وأشــادوا بمحاكاتها للواقع‪ ،‬وســامة‬ ‫الــذوق الســليم فيهــا‪ ،‬والصــدق فــي التصويــر‪ ،‬وتوثيق حقائق الشــرق‪ .‬مع كلّ‬ ‫ذلــك‪ ،‬ال يجانــب الصــواب القــول إن اللّوحــة هــي التعبيــر األصــدق عــن كيفية‬ ‫خاصة‪ ،‬فــي الدعايــة والبروباغاندا‬ ‫عامــة‪ ،‬وموضوعــة الوبــاء‬ ‫اســتخدام الفـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـن ّ‬ ‫كرســة لعبــادة الفــرد القائــد اإلمبراطور‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫الم ّ‬ ‫باالنتقــال إلــى نهايــة القــرن التاســع عشــر‪ ،‬نتو ّقــف عنــد لوحــة «الطاعــون»‬

‫(‪ ،)1898‬للف َّنــان السويســري «آرنولــد بوخليــن ‪-1827( »Arnold Böcklin‬‬ ‫ـزي المفــرد الــذي عــرف بــه‪ ،‬عــن كابــوس‬ ‫يعبــر‬ ‫الرســام بأســلوبه الرمـ ّ‬ ‫َّ‬ ‫‪ِّ .)1901‬‬ ‫يتحدد دربهــا الرئيس‬ ‫ـدة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫بل‬ ‫ّوحة‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫تظهر‬ ‫ـوت‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫الم‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـج‬ ‫ـ‬ ‫المتواش‬ ‫الوبــاء‬ ‫َّ‬ ‫باســتخدام المنظــور‪ ،‬بيــد أنــه منظــور ال ينتهــي عند نقطة التالشــي الهندسـ ّـية‬ ‫المعروفــة‪ ،‬بــل يتالشــى هــو نفســه فــي ضبابــة بيضاء‪ ،‬أو غبشــة غيــر واضحة‬ ‫المعالــم‪ ،‬أو عمــاء عدمــي الســيمياء مجهــول الماهيــة‪ .‬وعلــى هــذا الــدرب‬ ‫يجســد الف َّنــان الوبــاء كمخلــوقٍ خرافــي‪ ،‬هــو مزيــج مــن الخفــاش‬ ‫ـري‬ ‫الحضـ ّ‬ ‫ِّ‬ ‫والتنيــن (لنقــل تنيــن وطواطــي)‪ ،‬يخبــط خبــط عشــواء‪ ،‬ويمتطيــه المــوت‬ ‫بمنجلــة‪ ،‬علــى نحــوٍ يعاكــس اتجــاه الحركــة الوطواطيــة‪.‬‬ ‫ـن تبقــى‬ ‫يتقـ َّ‬ ‫ـدم الخفــاش التنينــي مــع الــدرب والزمــن‪ ،‬بينمــا المــوت يطــال َمـ ْ‬ ‫خاصــة البنــي الترابــي‪،‬‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫الطبيعي‬ ‫ـوان‬ ‫ـ‬ ‫األل‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫ّوح‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫تغم‬ ‫ً‪.‬‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫حي‬ ‫ـق‬ ‫ـ‬ ‫الطري‬ ‫ـى‬ ‫علـ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الرســام األســود الداجــي لــرداء المــوت وجســد الخفــاش (الوبــاء)‪،‬‬ ‫ـرك‬ ‫ـ‬ ‫ويت‬ ‫َّ‬ ‫واألســود المخضــر لجســد المــوت (لــون التعفــن)‪ ،‬واألبيــض الملــوث للعماء‬ ‫مقدمــة اللّوحــة (رمــز‬ ‫فــي العمــق‪ ،‬واألبيــض الناصــع لفســتان العــروس فــي ِّ‬ ‫ـوي الوحيــد يتركــه للمــرأة التــي كبــت علــى وجههــا‪،‬‬ ‫الطهــارة)‪ ،‬واللــون الحيـ ّ‬ ‫ـدد‬ ‫وقــد انســدل شــعرها الفاحــم‪ .‬ومــن الالفــت لالنتبــاه أن‬ ‫الرســام لــم يحـ ِّ‬ ‫َّ‬ ‫للمــوت مالمــح تشــير لماهيــة جنســه‪ ،‬ال هــو بأنثــى وال بذكــر‪ ،‬هــو مــا هــو‪،‬‬ ‫يتموضــع إلــى مــا وراء المرئــي ويتســتر بالرمــز‪.‬‬ ‫علــى هــذه الشــاكلة‪ ،‬فــإن حركــة الموت‪ ،‬الفــارس الــذي يمتطي الوبــاء‪ ،‬تغزو‬ ‫ـكونية ُمطلَقــة‪،‬‬ ‫اللّوحــة بأكملهــا‪ ،‬بيــد أن‬ ‫حلوليــة كابوسـ ّـية تلـ ّ‬ ‫ـف المشــهد بسـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫وال يمكــن التكهــن بمــا هــو خلــف الضبابــة‪ .‬ويبقــى الســؤال‪ ،‬هــل كان الف َّنــان‬ ‫المنتصــرة فــي عصره؟‬ ‫يســاجل فكــرة التقـ ُّ‬ ‫ـدم ُ‬ ‫مــع لوحــة «الوبــاء» آلرنولــد بوخليــن‪ ،‬تتو َّقــف ســطوري التــي أتقاســمها مــع‬ ‫كونيـ ًا‬ ‫الصحــي‪ ،‬بينمــا الوبــاء أضحــى حاضــر ًا‬ ‫القــارئ‪ ،‬وأنــا أكتــب فــي الحجــر ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ـم أكثــر‬ ‫يحيــق بنــا أجميعــن‪ ...‬عســى أن تكــون فــي التجربــة عظــةٌ نحــو عالـ ٍ‬ ‫ـانياً! ■ أثيــر محمــد علــي (ســورية‪ -‬إســبانيا)‬ ‫عدالــةً ومعرفــةً‬ ‫ّ‬ ‫وحسـ ًا إنسـ ّ‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪99‬‬


‫«انتصار املوت»‬ ‫الهولنــدي بيتــر بروغيــل األكبــر لوحتــه «انتصــار‬ ‫الرســام‬ ‫عــام ‪ 1562‬أنهــى‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ـمي باالســم ذاتــه‬ ‫المــوت»‪ ،‬التــي اســتوحاها مــن فريســكو «نقــش جــداري» ُسـ ِّ‬ ‫لفَ َّنــانٍ مجهــولٍ داخــل قصــر ســكالفاني فــي باليرمــو ‪ -‬صقليــة‪ ،‬وكمــا اســتوحى‬ ‫بروغيــل لوحتــه مــن المقبــرة القديمــة لكاتدرائيــة مدينــة بيــزا‪ ،‬وهــي اليــوم‬ ‫معروضــة فــي متحــف البــرادو بمدريــد‪.‬‬ ‫هــذه اللّوحــة تصويــر أليجــوري لجائحــة (الطاعــون) الــذي اجتــاح أوروبــا بيــن‬

‫‪100‬‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫ـمي حينهــا بالمــوت األســود‪ .‬كمــا اســتفاد بروغيل‬ ‫عامــي ‪ 1347‬و‪ ،1352‬وقــد ُسـ ِّ‬ ‫مــن تعبيــر (رقصــة المــوت) الــذي كان ُمنتشــر ًا فــي إيطاليــا‪.‬‬ ‫العظميــة‪ ،‬راجلــة أو راكبة أو رافعــة أعالمها‪،‬‬ ‫ـج اللّوحــة بجحافــل الهيــاكل‬ ‫تعـ ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫أكــوام مــن الجماجــم‬ ‫جيــوش منتظمــة أو هيــاكل منفــردة‪ ،‬عــدا عــن‬ ‫فــي‬ ‫ٍ‬ ‫تجمعــة والمنثــورة علــى امتـ ِ‬ ‫ـداد اللّوحــة‪.‬‬ ‫الم ِّ‬ ‫ُ‬ ‫اليمنــى نــرى تروبــادور (شــاعر‪ /‬موســيقي‬ ‫ة‬ ‫ـفلي‬ ‫ـ‬ ‫الس‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫الزاوي‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫قد‬ ‫الم‬ ‫ـي‬ ‫فـ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ ُ‬


‫جــوال) يعــزف علــى العــود بصحبــة زوجتــه التــي تبقــي لــه كتــاب النوتــات‬ ‫ّ‬ ‫العظمي‪/‬‬ ‫للهيكل‬ ‫مدركين‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫غي‬ ‫‪،‬‬ ‫الخاص‬ ‫عالمهما‬ ‫في‬ ‫غارقان‬ ‫ـان‬ ‫ـ‬ ‫االثن‬ ‫ً‪،‬‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫مفتوح‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتربــص بهمــا ويشــاركهما فــي ســخرية العــزف علــى الجيتــار‪،‬‬ ‫المــوت الــذي َّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مرميـاً‪.‬‬ ‫بينمــا نــرى إلــى جوارهمــا نايـا وحيــدا‬ ‫ّ‬ ‫فثمــة فرقــة تنفــخ فــي األبــواق‪،‬‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ّوح‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ـيقية حاضــرة فــي‬ ‫ّ‬ ‫تبــدو اآلالت الموسـ ّ‬ ‫العظمي على البناء‪ /‬الســجن‪ /‬المصيدة يقرع الطبول‪ ،‬فيما الجالس‬ ‫والهيكل‬ ‫ّ‬ ‫علــى عربــة الجماجــم يعــزف بســعادة على آلــة وتريــة (هارجي جــاردي) تنتمي‬ ‫إلــى الفلكلــور القروســطي‪ ،‬بينمــا عربته تســحق مجموعة بشــر دون اكتراث‪.‬‬ ‫تقــول اللّوحــة إن المــوت ال يوفِّــر أحــد ًا أو جنســ ًا أو ُعمــراً‪ ،‬فالمــوت يطــال‬ ‫الملــوك‪ ،‬كمــا فــي يســار اللّوحــة‪ ،‬ويطــال النســاء النبيــات‪ ،‬كمــا فــي يمينهــا‪،‬‬ ‫وهــو يطــال العثمانييــن الذيــن نعرفهــم مــن عمائمهــم فــي اللّوحــة‪ ،‬ويصــل‬ ‫الملونيــن والســود‪ ،‬والرهبــان والخاطئيــن‪ ،‬والكاردينــال أيض ـاً‪ .‬والمــوت‬ ‫إلــى ُ‬ ‫فــي القلعــة كمــا فــي الخــاء ال فــرق بينهمــا‪.‬‬ ‫لكــن الالفــت فــي اللّوحــة‪ ،‬هــو أن الطاعــون لــم يكــن ليوقــف أنمــاط الحيــاة‬

‫الخاطئــة أو الالهيــة أو الظالمــة‪ ،‬فنحــن نــرى هيــك ً‬ ‫عظميـ ًا يســرق العمــات‬ ‫ال‬ ‫ّ‬ ‫مرميــة‬ ‫الذهبيــة مــن البراميــل‪ ،‬فيمــا نــرى أحجــار اللعــب وكــروت لعبــة الــورق‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫هرج الهروب تحتها‪.‬‬ ‫على األرض‪ ،‬وكذلك الطاولة المســتديرة‪ ،‬التي يحاول ُ‬ ‫الم ِّ‬ ‫ـي ينحــر حاجـ ًا مــن‬ ‫لكــن األنكــى هــو االســتمرار فــي القتــل‪َّ ،‬‬ ‫فثمــة هيــكل عظمـ ّ‬ ‫ـم بقطــع رأس رجــل‬ ‫أجــل الحصــول علــى مالــه‪ ،‬وآخــر فــي خلفيــة اللّوحــة يهـ ُّ‬ ‫ثمــة آخــر مشــنوق‪ ،‬وغيــره‬ ‫شــرب النبيــذ للتــو‪ ،‬وآخــر يشــنق إنســاناً‪ ،‬فيمــا َّ‬ ‫وثمــة‬ ‫ـره‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ظه‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـون‬ ‫ـ‬ ‫مطع‬ ‫ُمع َّلــق مــن رقبتــه علــى شــجرة‪ ،‬فــي جوفهــا رجــل‬ ‫َّ‬ ‫ـرية تمــوت حرق ـ ًا فيمــا يشــبه االحتفاليــة‪.‬‬ ‫مجموعــة بشـ ّ‬ ‫ـددة في خلفيــة اللّوحة‪،‬‬ ‫ـوم‬ ‫ـ‬ ‫تق‬ ‫هيــاكل أخــرى‬ ‫بعمليــات الدفن فــي مناطق ُمتعـ ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ـرية وحيوانية ملقاة علــى امتدادها‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫بش‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫عظمي‬ ‫وهيــاكل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يختلــف المــوت هنــا فــي أن الطاعــون يحصــد البشــر حصــداً‪ ،‬يظهــر ذلــك مــن‬ ‫خــال اآللــة الحاصــدة (المحــش‪ /‬المنجــل) التي يحملهــا العديد مــن الهياكل‬ ‫العظمية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫نــرى فــي خلفيــة اللّوحــة حرائــق تتداخل بالظلمــة‪ ،‬وفي األفق علــى خط البحر‬ ‫العظميــة‬ ‫ســفن ًا تحتــرق‪ ،‬وســفن أخــرى غارقــة أو آيلــة للغــرق‪ ،‬فيمــا الهيــاكل‬ ‫ّ‬ ‫تقطــع الشــجر بالفــؤوس‪ ،‬بالقــرب منهــم أنــاس محبوســون فــي بــرج داخــل‬ ‫البحــر‪ .‬وداخــل اليابســة البحيــرة الوحيــدة غادرهــا الســمك ليمــوت بجوارهــا‪،‬‬ ‫فيمــا هيــكالن يقرعــان جرســين يعلنــان حالــة المــوت‪.‬‬ ‫ُيســاق النــاس فــي حالــة تدافــع أو هــروب أو صــراع إلــى مــا يشــبه مصيــدة‬ ‫صندوقيــة عليهــا صلبــان‪ ،‬تقبــع فوقهــا الهيــاكل بســعادة‪ ،‬الجنــود والفقــراء‬ ‫والفالحيــن والنبــاء‪ ،‬وهــم فــي حالــة حرب غير متكافئة وخاســرة مــع الهياكل‬ ‫العظميــة التــي ترتــدي مــاءات بيضــاء على عريها كســخرية مــن دروع الحرب‬ ‫ّ‬ ‫ومدرعاتهــا التــي ال تقــي مــن المــوت‪.‬‬ ‫العظميــة رمــي البشــر فــي البحيرة‪ ،‬وهنــاك جثة‬ ‫تحــاول العديــد مــن الهيــاكل‬ ‫ّ‬ ‫تهدمــة هنــاك جوقــة تنفــخ فــي األبــواق‪،‬‬ ‫الم‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫القلع‬ ‫منتفخــة طافيــة‪ ،‬وأســفل‬ ‫ُ ِّ‬ ‫ـي حزيــن‪ ،‬هــو الوحيــد الحزيــن فــي اللّوحــة‪.‬‬ ‫يجلــس إلــى جوارهــا هيــكل عظمـ ّ‬ ‫ـد الفكاهــة وســط المــوت‪ ،‬هــو المخلــوق خلــف‬ ‫لكــن األغــرب فــي اللّوحــة‪ ،‬حـ َّ‬ ‫عربــة الســجن فــي وســط اللّوحــة‪ ،‬الــذي يظهــر فــي صــورة كاريكاتوريــة وهــو‬ ‫المتطايــرة وهيئتــه الســوداء‬ ‫يحــاول تخويــف النــاس برفــع يديــه‪ ،‬وبقرونــه ُ‬ ‫الظليــة‪.‬‬ ‫إن عربــة المــوت التــي يقودهــا هيــكل يحمــل فــي يــده جرسـ ًا صغيــر ًا تــدوس‬ ‫ـرية‪،‬‬ ‫امــرأة تحمــل فــي يدهــا‬ ‫ّ‬ ‫مقصـ ًا وخيطـاً‪ ،‬كرمــز إلــى انقطــاع الحيــاة البشـ ّ‬ ‫اليونانيــة‪ ،‬مــن خــال حكايــة‬ ‫وقــد أخــذ بروغيــل هــذا الرمــز مــن الموثولوجيــا‬ ‫ّ‬ ‫األخــوات الثــاث اللواتــي يرمــزن إلــى األقــدار‪ ،‬وكذلــك رمــز المغــزل فــي يــد‬ ‫تقليديـ ًا يشــير إلــى حيــاة اإلنســان‪.‬‬ ‫المــرأة األخــرى‪ ،‬وقــد كان رمــز ًا‬ ‫ّ‬ ‫يتجــاور الكاردينــال والملــك فــي اللّوحــة‪ ،‬فالكاردينــال الســاقط فــي لحظاتــه‬ ‫ـي ســاخر علــى رأســه قبعــة حمــراء‪ ،‬فيمــا الملــك‬ ‫األخيــرة يحملــه هيــكل عظمـ ّ‬ ‫فــي حالــة ذهــول ال يســتطيع حــراك ً‬ ‫عظمي‬ ‫ـكل‬ ‫ـ‬ ‫هي‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ينهبه‬ ‫ـواره‬ ‫ـ‬ ‫ج‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫إل‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫وأموال‬ ‫ا‬ ‫ّ‬ ‫حديديــة‪ ،‬بينمــا هيــكل عظمــي آخر يســند الملــك ٍ‬ ‫بيد ويريــه بيده‬ ‫يرتــدي درعـ ًا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫األخــرى ســاعة رمليــة‪ ،‬تشــير إلــى نفــاد وقتــه‪ /‬زمنــه‪ ،‬لكــن الملــك ال يراهــا‪،‬‬ ‫فعينــاه فــي الفــراغ‪ ،‬ويــداه مرفوعتــان باتجــاه ذهبــه وأموالــه‪ ،‬وليــس علــى‬ ‫محيــاه مــا ُيشــير إلــى توبتــه‪..‬‬ ‫يصطــاد المــوت النــاس جماعــات فــي شــبكة كالحيوانــات‪ ،‬فيمــا واحــد آخــر‬ ‫زي ًا‬ ‫ـري ًا ُم ِّ‬ ‫تحجــراً‪ ،‬ويرتــدي ّ‬ ‫يضــع علــى وجهــه ‪-‬علــى ســبيل الســخرية‪ -‬قناع ًا بشـ ّ‬ ‫تنكريـاً‪ ،‬وهــو يســرق قواريــر الخمر‪ ،‬فيما الطاولــة العريضة فارغــة ّإل من خب ٍز‬ ‫ّ‬ ‫ـي آخــر ســاخر‬ ‫قليــل بــا رفاهيــة‪ ،‬وطبــق جمجمــة فــي الوســط‪ ،‬وهيــكل عظمـ ّ‬ ‫ـروع المــرأة الذاهلة‬ ‫زيـ ًا أزرق ذي أذنيــن يحمــل طبــق جمجمــة آخــر‪ ،‬ليـ ِّ‬ ‫يرتــدي ّ‬ ‫ـر منه‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫تف‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫وه‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫احتضانه‬ ‫ـاول‬ ‫ـ‬ ‫يح‬ ‫ـرأة‬ ‫ـ‬ ‫ام‬ ‫ـق‬ ‫ـ‬ ‫يالح‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫آخ‬ ‫ـكل‬ ‫ـ‬ ‫هي‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫فيم‬ ‫ـه‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫أمام‬ ‫التــي‬ ‫ُّ‬ ‫ـرية‪ ،‬وللمجتمعات‬ ‫ـ‬ ‫البش‬ ‫ـاة‬ ‫ـ‬ ‫للحي‬ ‫ة‬ ‫أخالقي‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫هجائي‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫صف‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫تحم‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫ّوح‬ ‫ل‬ ‫إن ال‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـف عــن ممارســة الفســاد دون ا ّتعــاظ‪ ،‬حتــى فــي أســوأ أوقاتهــا‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫تك‬ ‫ال‬ ‫ـي‬ ‫التـ‬ ‫ُّ‬ ‫فالطاعــون الــذي كان يحصدهــا ويعبــث بحيواتهــا عبثـ ًا ليــس ســوى عقاب ًا‬ ‫إلهيــاً‪ ،‬لكنــه يقيهــا مــن غرورهــا الــذي يأخذهــا إلــى مصيرهــا النهائــي‬ ‫المحتــوم‪ ■ .‬نــورة محمــد فــرج (قطــر)‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪101‬‬


‫تاريخ‬

‫رحلة اإليطايل بوتا إىل اليمن‬

‫ٌ‬ ‫لبالد أرهقها‬ ‫ة‬ ‫مرثي‬ ‫ٍ‬ ‫ِّ‬ ‫السلطة‬ ‫الصاع عىل ُّ‬ ‫ـم ا َّتجــه إىل «بيــت الفقيــه» و َزب ِْيــد‬ ‫وصــل بوتــا إىل مينــاء مدينــة ُ‬ ‫الح َد ْيـ َـدة يف أواخــر ســبتمرب‪/‬أيلول ‪ ،1836‬ثـ ّ‬ ‫الح َد ْيـ َـدة عن طريق َح ْيس واملخا‪ .‬ســجل بوتا‬ ‫وح ْيــس وانتهــاء مبدينــة ت َِعــز وجبلهــا َ‬ ‫َ‬ ‫صـ ِـر‪ ،‬وكانــت عودتــه إىل ُ‬ ‫وقائــع رحلتــه يف كُ تيــب بعنــوان «رحلــة إىل اليمــن» ُنــر بالفرنســية عــام ‪ ،1841‬وبعــد مــرور مــا يقــارب الـــ ‪178‬‬ ‫ؤخــراً عــن مكتبـ ِـة اآلداب بالقاهرة‪.‬‬ ‫عامـ ًا عــى نــر األصــل قــام حميــد عمــر برتجمتهــا إىل‬ ‫العربيــة‪ ،‬وصــدرت ُم َّ‬ ‫ّ‬

‫‪102‬‬

‫الجغرافيــة‬ ‫ُبعيــد النهضــة األوروبيــة واتِّســاع حركــة الكشــوف‬ ‫ّ‬ ‫(الغربيــة) إلــى مركــز النطــاق الرحــات‬ ‫تحولــت أوروبــا‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫توجههــا فــي ذلــك‬ ‫الستكشــاف مناطــق واســعة مــن العالــم‪ُّ ،‬‬ ‫اقتصاديــة‬ ‫دوافــع وأغــراض تتواشــج بــا انفصــال مــا بيــن‬ ‫ّ‬ ‫ـامي منطقــة‬ ‫ـتعمارية‬ ‫واسـ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وعلميــة‪ .‬وقــد شــكَّ ل الشــرق اإلسـ ّ‬ ‫جــذب للمستكشــفين والرحالــة األوروبييــن‪ ،‬نظــر ًا لموقــع‬ ‫التاريخيــة بوصفهــا موطنـ ًا‬ ‫المنطقــة وحضورهــا فــي الذاكــرة‬ ‫ّ‬ ‫للديانــات الســماوية ومركز إشــعاع حضــاري تعاقبت فيه عدد‬ ‫مــن الحضــارات القديمــة‪ُ ،‬يضــاف إلــى ذلــك تاريــخ طويــل من‬ ‫رســخته‬ ‫ـامي‪ ،‬وما َّ‬ ‫العالقات ُ‬ ‫المتوتِّرة بين أوروبا والعالم اإلسـ ّ‬ ‫ـامي‪،‬‬ ‫ـي مــن تصـ ُّ‬ ‫ـورات تجــاه العالــم اإلسـ ّ‬ ‫فــي الوجــدان الغربـ ّ‬ ‫كل مــن كاريــن آرمســترونج فــي‬ ‫علــى النحــو الــذي أبرزتــه لنــا ٌّ‬ ‫األول مــن كتابهــا «ســيرة النبــي محمــد» (‪ ،)1998‬ورنا‬ ‫الفصــل ّ‬ ‫قبانــي فــي كتابهــا «أســاطير أوروبــا عــن الشــرق» (‪.)1993‬‬ ‫ـب جانــب مــن عنايــة الرحالــة األوائــل علــى معرفة‬ ‫لذلــك انصـ َّ‬ ‫العــدو القديــم وكشــف مكامــن قوتــه الغامضــة التــي جعلتــه‬ ‫الغربي‪ .‬وفــي مرحلة‬ ‫يشــكِّ ل دومـ ًا عامــل تهديــد في المخيــال‬ ‫ّ‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫ـي فــي توجيــه الكثيــر مــن الرحــات‪،‬‬ ‫تاليــة بــرز ُ‬ ‫البعــد العلمـ ّ‬ ‫أشــده إلحــراز قصــب‬ ‫علــى‬ ‫كان‬ ‫أوروبــا‬ ‫دول‬ ‫بيــن‬ ‫فالتنافــس‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫علميــة كثيــرة منهــا إرســال العلمــاء‬ ‫الســبق فــي مياديــن‬ ‫ّ‬ ‫والرحالــة الكتشــاف مناطــق مختلفــة مــن العالــم‪ ،‬دون غياب‬ ‫التوسعية الكامنة وراء تمويل‬ ‫واالقتصادية‬ ‫السياسية‬ ‫األجندة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـي‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫العلم‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫عده‬ ‫ب‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـاف‬ ‫ـ‬ ‫االستكش‬ ‫حركــة‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫العلميــة‬ ‫المستكشــفين الذيــن ارتبطــت حياتهــم‬ ‫مــن هــؤالء ُ‬ ‫ّ‬ ‫ـي‪ ،‬اإليطالــي‪ /‬الفرنســي بــول إميــل‬ ‫ـ‬ ‫العرب‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫بالعال‬ ‫والوظيفيــة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بوتا (‪ ،)1870 - 1802‬عالم نبات ودبلوماسي ولد في بيدمونت‬ ‫بتورينــو اإليطاليــة فــي ‪ 6‬ديســمبر‪/‬كانون األول ‪ ،1802‬وفــي‬ ‫ـم نابليون‬ ‫هــذا العــام أصبــح والــده مواطن ًا فرنسـ ّـيا بعــد أن ضـ َّ‬ ‫ـي‪ ،‬ثــم انتقلــت العائلــة فيمــا بعــد‬ ‫تورينــو إلــى التــراب الفرنسـ ّ‬ ‫إلــى باريــس‪ ،‬ودرس بوتــا الطــب فــي روان وباريــس‪ ،‬لكنــه‬ ‫وع ِّيــن‬ ‫الدبلوماســي‬ ‫التحــق بعــد ذلــك بالســلك‬ ‫الفرنســي‪ُ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫قنصـ ً‬ ‫ا لفرنســا فــي اإلســكندرية عــام ‪.1831‬‬ ‫ـي فــي‬ ‫ـ‬ ‫الطبيع‬ ‫ـخ‬ ‫ـ‬ ‫التاري‬ ‫ـف‬ ‫ـ‬ ‫متح‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫َّف‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫فرنس‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫إل‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫عودت‬ ‫بعــد‬ ‫ّ‬ ‫عينات من األعشــاب‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫لجم‬ ‫اليمن‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫إل‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫برحل‬ ‫ـام‬ ‫ـ‬ ‫القي‬ ‫ـس‬ ‫باريـ‬ ‫ِّ‬


‫ــدة‪،‬‬ ‫الح َديْ َ‬ ‫اســتولت علــى مدينــة المخــا‪ ،‬ثــم زحفــت باتِّجــاه ُ‬ ‫للتوجــه نحــو ت َِعــز‪.‬‬ ‫وعنــد وصــول بوتــا كانــت تتأهــب‬ ‫ُّ‬

‫الصاع ومسار الرحلة‬ ‫ِّ‬

‫الصــراع علــى ســردية الرحلــة‬ ‫بــدا واضحــ ًا هيمنــة موضــوع ِّ‬ ‫العلمية التي تبرز بكثافة‬ ‫همــة‬ ‫الم َّ‬ ‫فيتــوازى أحيانـ ًا ويتداخل مع ُ‬ ‫ّ‬ ‫عنــد وصــول الرحالــة إلى المناطــق الجديدة واســتطالع غطائها‬ ‫النباتــي‪ .‬والواقــع أن بوتــا ال يــورد تفاصيــل عــن المواجهــات‪،‬‬ ‫الصــراع ومــا كان يجري مــن تحالفات‬ ‫وإنمــا يشــير إلــى مظاهــر ِّ‬ ‫ـكلٍ‬ ‫ـركات الشــيخ‬ ‫ـ‬ ‫تح‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ـاص‬ ‫ـ‬ ‫خ‬ ‫واســتعدادات والتركيــز بشـ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫حســن ومناوراتــه‪ ،‬فاألخير ‪-‬حســب تحليل بوتــا‪ -‬كان يعتقد أن‬ ‫تحالفــه مــع إبراهيــم باشــا لــن يعيــده حاكمـ ًا ل َت ِعــز فقــط‪ ،‬بــل‬ ‫لحكــم اليمــن بأســره‪ .‬ولذلــك تحالــف مع حاكــم ت َِعــز‪ :‬المدعي‬ ‫الجديــد لإلمامــة ضــد ابــن أخيــه إمــام اليمــن‪ ،‬ليتمكَّ ــن مــن‬ ‫ـم يعمــل علــى تســهيل‬ ‫إدخــال قواتــه إلــى مدينــة ت َِعــز‪ ،‬ومــن َثـ َّ‬ ‫دخــول قــوات الباشــا إلــى المدينــة‪.‬‬ ‫لقــد ظ َّلــت قــوات الباشــا فــي المناطق الســاحلية‪ ،‬ولم تســتطع‬ ‫إل عبر اســتثمار الخالفات‬ ‫التوغــل فــي مناطق اليمــن الداخلية ّ‬ ‫ـهلوا إلبراهيم‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫الذين‬ ‫المناطق‬ ‫القائمــة والتحالــف مــع زعمــاء‬ ‫َّ‬ ‫للتوجــه إلــى صنعــاء‪.‬‬ ‫ـتعداد‬ ‫ـ‬ ‫واالس‬ ‫باشــا االســتيالء علــى ت َِعــز‬ ‫ُّ‬ ‫ويبــدي بوتــا ميلــه إلــى ســيطرة باشــا مصــر علــى اليمــن ويعتبــر‬ ‫ذلــك مخرجـ ًا مــن حالــة االحتــراب‪ ،‬ألن اســتطالة هــذه الحالــة‬ ‫الســلطة‬ ‫جعلــت الشــعب «يحلــم بــأي تغيير يحــدث‪ ،‬وبانتقال ُّ‬ ‫إلــى أيـ ٍ‬ ‫ـاد قويــة قــادرة علــى فــرض األمــن واســتعادة الســام‬ ‫ٍ‬ ‫الــذي ُحــرم منهمــا لوقــت طويــل» (ص ‪.)150‬‬

‫بني نيبور وبوتا‬ ‫خريطة مدينة المخا نيكوالس بيليين ‪▲1776‬‬

‫تتميــز بهــا هــذه المنطقــة‪ُ .‬ع ِّيــن الحقـ ًا قنصـ ً‬ ‫ا‬ ‫والنباتــات التــي‬ ‫َّ‬ ‫ثــم القــدس عــام ‪،1848‬‬ ‫‪،1841‬‬ ‫عــام‬ ‫الموصــل‬ ‫لفرنســا فــي‬ ‫ّ‬ ‫وطرابلــس عــام ‪ ،1855‬وإليــه ُينســب اكتشــاف قصــر الملــك‬ ‫األشــوري ســرجون الثانــي فــي خورســاباد بالعــراق عــام ‪.1843‬‬

‫رحلة علميّة يف بلدٍ مضطرب‬

‫ّ‬ ‫تظل البعثة‬ ‫الدانماركية إىل اليمن‬ ‫بقيادة األملاين كارسنت‬ ‫نيبور أكرث الرحالت‬ ‫شهرة ومكانة‬ ‫علم ّية‪َّ .‬‬ ‫وأكد بوتا يف‬ ‫مفتتح كتيبه عىل‬ ‫أهمِّ ّية هذه البعثة‬ ‫وما أحدثته نتائجها‬ ‫ثورة معرفية‬ ‫من‬ ‫ٍ‬ ‫يف أوروبا بخصوص‬ ‫جنوب الجزيرة‬ ‫العرب ّية‬

‫جــاء بوتــا إلــى اليمــن فــي عهــد ســالة األئمــة القاســمية التــي‬ ‫كانــت تســيطر علــى مقاليــد الحكــم منــذ نحــو قرنيــن‪ ،‬غيــر أنها‬ ‫أصبحــت آنــذاك فــي غايــة الضعــف واالنحســار نتيجة للتسـلُّط‬ ‫وصــراع أبنــاء الســالة المســتمر علــى الحكــم‪ ،‬إذ كان أحيان ـ ًا‬ ‫ـام الحاكــم إمامــان أو داعيــان آخران كمــا حدث عند‬ ‫ينــازع اإلمـ َ‬ ‫داع جديــد كان الشــعب يجــد نفســه في‬ ‫مجــيء بوتــا‪ ،‬ومــع كلّ ٍ‬ ‫َّ‬ ‫ـرع مــا يتو َّلــد عنهــا‬ ‫ـ‬ ‫يتج‬ ‫ـك‬ ‫ـ‬ ‫انف‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الت‬ ‫طاحونــة الحــرب ذاتهــا‬ ‫َّ‬ ‫مــن مـ ٍ‬ ‫ـآس وأوجــاع‪.‬‬ ‫الخارجيــة للســيطرة علــى‬ ‫ـوى‬ ‫ـ‬ ‫الق‬ ‫ـف‬ ‫ـ‬ ‫الضع‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫حال‬ ‫ـرت‬ ‫لقــد أغـ‬ ‫ّ‬ ‫البــاد نظــر ًا لموقعهــا علــى طريق التجــارة العالمية واســتغالل‬ ‫محمد‬ ‫مواردهــا التــي كان البــن أبرزهــا فــي ذلك الحيــن‪ ،‬فدخل‬ ‫َّ‬ ‫علــي باشــا واإلنجليــز فــي ســباقٍ محمــوم إلحــكام الســيطرة‬ ‫ـم‬ ‫عليهــا انتهــى باحتــال اإلنجليــز لعــدن عــام ‪ ،1839‬ومــن َثـ َّ‬ ‫محمــد علــي باشــا علــى ســحب كلّ قواتــه مــن اليمــن‪.‬‬ ‫أجبــروا‬ ‫َّ‬ ‫وكان األخيــر قــد أرســل حملــة بقيــادة «إبراهيــم باشــا يكــن»‬

‫مهمــة بوتــا العلميــة علــى جمــع عينــات مــن النباتات‬ ‫اقتصــرت‬ ‫َّ‬ ‫ـوٍ‬ ‫جيــد‪ ،‬كمــا‬ ‫ـ‬ ‫نح‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ـك‬ ‫ـ‬ ‫ذل‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـح‬ ‫ـ‬ ‫ونج‬ ‫ـا‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫وتصنيفه‬ ‫ـاب‬ ‫واألعشـ‬ ‫ّ‬ ‫يذكــر ألبيــر ديفلــرز‪ ،‬حيــث جمــع أكثــر مــن ‪ 500‬نــوع مــن‬ ‫همــة قــد أتاحــت‬ ‫الم َّ‬ ‫النباتــات‪ .‬ومــن الواضــح أن طبيعــة هــذه ُ‬ ‫تأمــل أوضــاع البلــد وتســجيل‬ ‫لــه أن ينصــرف بشــكلٍ أكبــر إلــى ُّ‬ ‫رؤيتــه لألحــداث وتوقُّعاتــه بشــأن نتائجهــا‪.‬‬ ‫تأتــي رحلــة بوتــا ضمــن سلســلة مــن الرحــات بــدء ًا بفارتيمــا‬ ‫اإليطالــي مطلــع القــرن الســادس عشــر وانتهــاء باأللمانــي‬ ‫جوزيــف وولــف الــذي وصــل إلــى صنعاء عــام ‪ ،1836‬لكــن تظلّ‬ ‫البعثــة الدانماركيــة (‪ )1767 - 1761‬بقيــادة األلمانــي كارســتن‬ ‫علميــة‪ .‬وأكَّ ــد بوتــا فــي‬ ‫نيبــور أكثــر الرحــات شــهرة ومكانــة‬ ‫ّ‬ ‫أهم ّيــة هذه البعثــة وما أحدثتــه نتائجها من‬ ‫مفتتــح كتيبــه علــى ِّ‬ ‫العربيــة‪.‬‬ ‫ـرة‬ ‫ـ‬ ‫الجزي‬ ‫ـوب‬ ‫ـ‬ ‫جن‬ ‫ـوص‬ ‫ـ‬ ‫بخص‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫أوروب‬ ‫ثــور ٍة معرفيــة فــي‬ ‫ّ‬ ‫ـجل بوتــا مالحظــات علــى كتــاب نيبــور‬ ‫وفــي هــذا الجانــب سـ َّ‬ ‫معينــة‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫جوان‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫وعل‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫العلمي‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫«الدق‬ ‫أهمهــا أن تركيــزه علــى‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫العامــة»‬ ‫ـمات‬ ‫ـ‬ ‫الس‬ ‫ـاب‬ ‫ـ‬ ‫حس‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫كان‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫محــدودة مــن المتعـ‬ ‫ّ‬ ‫االجتماعيــة‬ ‫(ص ‪ ،)149‬وأراد بذلــك ِقلــة اهتمامــه بالجوانــب‬ ‫ّ‬ ‫العقليــة للنــاس وطبائعهــم‪ .‬وبالرغــم مــن هــذه‬ ‫والســمات‬ ‫ّ‬ ‫المالحظــة وإفصاحــه عــن الســعي لتالفيهــا‪ ،‬فالحقيقــة أنــه‬ ‫فتحولــت األخيــرة إلــى‬ ‫كان واقعــ ًا تحــت ســحر رحلــة نيبــور‬ ‫َّ‬ ‫يتحــرك‬ ‫النــص‬ ‫إذ‬ ‫جاذبــة‬ ‫نــص بوتــا وبــؤرة‬ ‫ظــلّ‬ ‫ّ‬ ‫متــن داخــل ّ‬ ‫َّ‬ ‫بيــن مــا تختزنــه ذاكرتــه مــن رحلــة نيبــور والواقــع الــذي ترصده‬ ‫أهم ّيــة رحلــة نيبــور فــي كونهــا مثَّلت إطــار ًا لبوتا‬ ‫عينــاه‪ .‬وتكمــن ِّ‬ ‫التغيــر الحاصــل فــي خارطــة الحيــاة ومالحظــة‬ ‫لقيــاس مــدى‬ ‫ُّ‬ ‫الصــراع علــى حالــة العمــران والنــاس‪.‬‬ ‫أثــر ِّ‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪103‬‬


‫خراب مدينة «تَعِ ز»‬

‫لم يكن بوتا معنياً‬

‫بالتلصص عىل حياة‬ ‫الرشقيني‪ ،‬بل وجَّ ه‬ ‫عنايته إىل التعريف‬ ‫بواقع حياة ّ‬ ‫سكان‬ ‫الركن الجنوبي‬ ‫من شبه الجزيرة‬ ‫العرب ّية‪ ،‬وأبرز بشكل‬ ‫ٍ‬ ‫الفت التناقض بني‬ ‫ما تختزنه البالد من‬ ‫طبيعة ومقوِّمات‬ ‫ِّ‬ ‫والصاع‬ ‫وموارد‬ ‫الدائم ألمراء الحرب‬ ‫يف إدخال البالد يف‬ ‫دورات متوالية من‬ ‫الفوىض والخراب‬

‫‪104‬‬

‫ـص بوتــا فــي أشــكالٍ مضمــرة‬ ‫يتج َّلــى حضــور رحلــة نيبــور فــي نـ ّ‬ ‫وصريحــة‪ ،‬حيــن وصــل بوتــا إلــى مدينــة «بيــت الفقيــه» اكتفــى‬ ‫بتقديمهــا علــى هــذا النحــو الموجــز‪« :‬كانــت فيمــا مضــى فــي‬ ‫أهم ّيتها بعد أن طمرت الرمال ميناءها‬ ‫ذروة االزدهــار‪ ،‬وفقــدت ِّ‬ ‫ـدة والمخــا» (ص‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫د‬ ‫الح‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫إل‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫الب‬ ‫ـارة‬ ‫«غليفقــة»‪ ،‬وانتقلــت تجـ‬ ‫ُ َ ْ َ‬ ‫تفهــم هــذا التعريــف الموجــز فــي إطــار عالقتــه‬ ‫‪ .)154‬ويمكــن ُّ‬ ‫برحلــة نيبــور‪ ،‬وكأنــه بذلــك يحيــل القــارئ إلــى مــا أســهب فيــه‬ ‫األول‬ ‫نيبــور مــن وصــف المدينــة وفتــرة ازدهارهــا‪ .‬وعنــد لقائــه ّ‬ ‫يحدثــه عــن رحلــة نيبــور ورفاقــه ويعــرب لــه‬ ‫بالشــيخ حســن‬ ‫ِّ‬ ‫عــن أســفه «لمــا آل إليــه حــال البــاد من التدهور بســبب ســوء‬ ‫الحكــم بعــد أن كانــت غنيــة ومزدهــرة» (ص ‪.)157‬‬ ‫ويتصاعــد هــذا األســف مشــيج ًا بالدهشــة عنــد دخولــه إلــى‬ ‫مدينــة ت َِعــز إذ يكتشــف أن جــزء ًا كبيــر ًا مــن المعالــم األثريــة‬ ‫التــي وصفهــا نيبــور فــي رحلتــه لــم يعــد لهــا وجــود‪ ،‬ويندهــش‬ ‫ـم مــن المبانــي المدمــرة التــي ُســوي بعضهــا‬ ‫لمــرأى ذلــك الكـ ّ‬ ‫بــاألرض‪« :‬فــاألرض التــي علــى هيئــة مدرجــات‪ ،‬كانــت فيمــا‬ ‫ـق منهــا اليــوم ســوى مــا‬ ‫ـم منــازل جميلــة‪ ،‬ولــم يتبـ َ‬ ‫مضــى تضـ ّ‬ ‫ُيقارب العشــرين منزالً‪ ،‬وحلَّت محلّ البيوت أكواخ بائســة‪ ،‬وال‬ ‫ـرر‬ ‫يجــرؤ األهالــي علــى بنــاء أفضــل منهــا خشــية الســطو ُ‬ ‫المتكـ ِّ‬ ‫للجنــود وهدمها واســتخدام أخشــابها وقود ًا للنــار» (ص ‪.)186‬‬ ‫كمــا ُيظهــر فــي الوقــت نفســه خشــيته بشــأن مــا بقــي مــن‬ ‫المبانــي األثريــة‪ ،‬فاســتمرار هــذا الوضــع يعنــي أنهــا ســوف‬ ‫تحولهــا عنــد مجــيء بوتــا‬ ‫تكــون مهـ َّ‬ ‫ـددة باالختفــاء تمام ـ ًا أو ُّ‬ ‫المؤكَّ د أن اســتدامة‬ ‫ومن‬ ‫‪.)186‬‬ ‫(ص‬ ‫األنقاض»‬ ‫من‬ ‫ـة‬ ‫إلــى «كومـ‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫وتجددهــا قــد طــوى إلــى األبــد الكثيــر‬ ‫ـود‬ ‫ـ‬ ‫لعق‬ ‫ـروب‬ ‫تلــك الحـ‬ ‫ُّ‬ ‫ـجله بوتــا عــن خــراب‬ ‫مــن المبانــي والمعالــم‬ ‫ّ‬ ‫األثريــة‪ ،‬ومــا سـ ّ‬ ‫ـرض‬ ‫ـ‬ ‫تتع‬ ‫ـت‬ ‫ـ‬ ‫كان‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الت‬ ‫ـدن‬ ‫ـ‬ ‫الم‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫بقي‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫مدينــة ت َِعــز ينســحب‬ ‫َّ‬ ‫خاصــة مدينــة صنعــاء التــي لــم يتمكَّ ــن بوتــا‬ ‫دوم ـ ًا لالجتيــاح‬ ‫ّ‬ ‫مــن الوصــول إليهــا‪.‬‬

‫من تهامة إىل حنص العَ روس‬

‫علــى الرغــم مــن قتامــة المشــهد الــذي يرصــده بوتــا فــي‬ ‫مدينــة ت َِعــز‪ ،‬فقــد جاء تقريــر الرحلة مفعم ًا بحرارة الدهشــة‬ ‫المؤلِّــف اجتراحــات الرحلــة‬ ‫واالكتشــاف التــي صــاغ بهــا ُ‬ ‫المؤ ِّلــف عــدد ًا مــن‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫يتب‬ ‫ـة‪.‬‬ ‫الطبيعيـ‬ ‫ومشــاهداته للمواقــع‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ـد انتبــاه القارئ‪ ،‬فالتضافُر بين الســرد والوصف‬ ‫التقنيــات لشـ ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫منطقة‬ ‫المؤلِّف بين‬ ‫ـال‬ ‫ـ‬ ‫ارتح‬ ‫لمتابعة‬ ‫االنتباه‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫هــو أكثر ما يش ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ـعرية التــي تتكاثف في‬ ‫وأخــرى‪ ،‬وكذلــك بعــض الومضات الشـ ّ‬ ‫إطــار التعبيــر عــن ما تتركه المشــاهدات من أصـ ٍ‬ ‫ـداء وما تثيره‬ ‫مــن خيــاالت‪ .‬ومنــذ مفتتــح الكتيــب تتوالــى مفــردات المــكان‬ ‫وتشــكيالت الفضــاء مــن ســهول تهامــة ومدنهــا صعــود ًا إلــى‬ ‫«مؤَ يْمــرة» قلعــة الشــيخ حســن‬ ‫المناطــق الجبليــة كحصــن ُ‬ ‫الحصينــة‪ ،‬حيــث «يمكِّ نــك ارتفاعهــا مــن رؤية ظهــور الصقور‬ ‫وهــي تطيــر مئــات األميــال تحــت ناظريــك» (ص ‪.)167‬‬ ‫«مؤَ يْمــرة» وقريــة «ســاهم» إلــى مدينــة ت َِعــز‪،‬‬ ‫ومــن حصــن ُ‬ ‫المؤ ِّلــف بالشــيخ حســن‪ ،‬وهنــاك يتــراءى لــه‬ ‫حيــث يلتحــق ُ‬ ‫ص ِبــر كحــارس أبدي للمدينة التي تســترخي في حضنه‬ ‫جبــل َ‬ ‫يمدهــا بخيــرات مدرجاتــه ويغــدو مــاذ ًا آمنـ ًا ألبنائهــا عندما‬ ‫ّ‬ ‫تنهــال علــى المدينــة مجاميــع المحاربيــن‪ .‬يغريــه مــرأى‬ ‫الجبــل فيســتأذن الشــيخ حســن فــي صعــوده وينطلــق مــع‬ ‫مرافقيــه متنقّ ـ ً‬ ‫ا بيــن قــرى كثيــرة تتناثــر علــى صــدر الجبــل‬ ‫وتجمعــات كثيفــة مــن‬ ‫ـعير‬ ‫ـ‬ ‫والش‬ ‫ـح‬ ‫ـ‬ ‫القم‬ ‫ـول‬ ‫وتحيــط بهــا حقـ‬ ‫ُّ‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫أشــجار العرعــر ذات الرائحــة العبقــة‪ ،‬وصــو ً‬ ‫القمــة‪،‬‬ ‫ال إلــى‬ ‫ّ‬ ‫يتربــع «حصــن العــروس» بحكايــات كنــوزه وخبايــاه‪.‬‬ ‫حيــث‬ ‫َّ‬ ‫كأول أوروبــي فيمــد ناظريــه‪ ،‬ثــم‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫الحص‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫إل‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫بوت‬ ‫ـل‬ ‫يصـ‬ ‫ّ‬ ‫يحبــس أنفاســه لســحر المشــهد الــذي تجلَّــى لــه‪« :‬كــم‬ ‫ـفت البحــر األحمــر مــن جهــة‬ ‫كانــت ســعادتي حينمــا اكتشـ ُ‬ ‫ـدة‪ ،‬والمحيــط الهنــدي مــن جهــة عدن‪ ،‬حتــى أنه كان‬ ‫الح َديْـ َ‬ ‫ُ‬ ‫بإمكاننــا رؤيــة بعــض قمــم الســواحل اإلفريقيــة مــن جهــة‬ ‫الغــرب‪( » ...‬ص ‪.)198‬‬ ‫وهــي مشــاهد وقــف الكاتــب أمامهــا مأخــوذ ًا معترف ـ ًا بعــدم‬ ‫عمــا أثارتــه فــي وجدانــه مــن‬ ‫قدرتــه علــى وصفهــا والتعبيــر ّ‬ ‫تحســره علــى عــدم إتاحــة وقــت‬ ‫تأمــات وخيــاالت‪ ،‬ومبدي ـ ًا‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫أطــول لالســتمتاع بجــال الطبيعــة وروعتهــا‪ .‬ومــع ذلــك‪،‬‬ ‫قمــة الجبــل التي تعــذَّ ر على‬ ‫فقــد كان ســعيد ًا بالوصــول إلــى ّ‬ ‫وبالكميات الهائلة‬ ‫بلوغها‪،‬‬ ‫المستشــرق الســويدي فورســكال‬ ‫ّ‬ ‫مــن النباتــات التــي قــام بجمعهــا (ص ‪.)201‬‬

‫منظو ٌر استرشاقيٌّ مُغاير‬

‫األول مــن القــرن التاســع‬ ‫تنتمــي هــذه الرحلــة إلــى النصــف ّ‬ ‫عشــر‪ ،‬وهــي فتــرة شــهدت موجــة انبهــار أوروبي واســع بعالم‬ ‫ـردد في‬ ‫الشــرق وبــات األخيــر موضوعـ ًا أثيــر ًا للكتابــة وثيمة تتـ َّ‬ ‫الغربيــة أنتجــت‬ ‫فالمخيلــة‬ ‫ـي‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ـي الغربـ ّ‬ ‫ـي والف ّنـ ّ‬ ‫اإلنتــاج األدبـ ّ‬ ‫صــورة رومانســية للشــرق بوصفــه بــاد الرفــاه والشــهوات‬ ‫والعجائــب وراحــت تغذي هــذه الصورة بالكثير مــن الكتابات‪،‬‬ ‫وأســهم الرحالــة بجهـ ٍ‬ ‫ـد وافر في ترســيخ هذه الصــورة‪ ،‬لدرجة‬ ‫صــار معهــا أدبــاء أوروبــا ينظــرون إلــى الشــرق علــى أنــه مكان‬ ‫الســتلهام ينابيــع اإللهــام والســمو وغــدت الرحلــة إليــه زاد ًا‬ ‫وتوهجهــا‪ ،‬إنهــا «رحلــة للبحــث عــن‬ ‫ـعرية‬ ‫ُّ‬ ‫إلذكاء الــروح الشـ ّ‬ ‫النســيان أو إلحيــاء ذكريــات الشــباب»‪.‬‬ ‫إل أن‬ ‫وبرغــم تضخــم‬ ‫مدونــة الرحلــة األوروبيــة إلــى الشــرق ّ‬ ‫ّ‬ ‫جــزء ًا كبيــر ًا مــن هــذه الكتابــات‪ ،‬كمــا تذكــر رنــا قبانــي فــي‬ ‫كتابهــا «أســاطير أوروبــا عن الشــرق»‪ ،‬كانت تفتقــر إلى الرصد‬ ‫الدقيــق لحقيقــة الشــرق وتغيب عنهــا الرؤيــة الموضوعية‪ ،‬إذ‬ ‫ســيطر عليهــا نمــط الكتابــة االســتهالكية التي يحــاول صاحبها‬ ‫ـورات القــارئ وتســليته بمــا يزخرفــه مــن المواقــف‬ ‫إرضــاء تصـ ُّ‬ ‫المتبلــة بالغرابــة واالســتيهامات الجنســية التــي‬ ‫والحكايــات‬ ‫َّ‬ ‫الغربيــة عــن ثــروات الشــرق‬ ‫ترســخ فــي الذاكــرة‬ ‫تعــ ِّزز مــا َّ‬ ‫ّ‬ ‫ومجتمعــات الحريــم فيــه‪ ،‬دون التفــات إلــى حقيقــة الواقــع‬ ‫ومظاهــر الفقــر والبــؤس التــي كان يعيشــها معظــم ســكّ ان‬ ‫الشــرق‪.‬‬ ‫وإذا وضعنــا هــذه الرحلــة ضمــن مــا كان ســائد ًا آنــذاك فــي‬ ‫الكتابــات حــول الشــرق ســنجد أنهــا تختـ ُّ‬ ‫ـط لنفســها مســار ًا‬ ‫ُمغايــراً‪ ،‬فبوتــا لم يكن معني ًا بالتلصص على حياة الشــرقيين‪،‬‬ ‫وجــه عنايتــه إلــى التعريــف بواقــع حيــاة ســكّ ان الركــن‬ ‫بــل َّ‬ ‫العربيــة‪ ،‬وأبــرز بشــكلٍ الفــت‬ ‫الجزيــرة‬ ‫شــبه‬ ‫مــن‬ ‫الجنوبــي‬ ‫ّ‬ ‫ومقومــات وموارد‬ ‫التناقــض بيــن مــا تختزنــه البالد مــن طبيعة‬ ‫ِّ‬ ‫والصــراع الدائــم ألمــراء الحــرب فــي إدخــال البالد فــي دورات‬ ‫ِّ‬ ‫متواليــة مــن الفوضــى والخــراب‪ .‬لذلــك‪ ،‬جــاء وصفــه لحيــاة‬ ‫النــاس وعاداتهــم قريــن التعاطــف والرغبــة فــي فهــم ذلــك‬ ‫المجتمــع الــذي كان ال يــزال محافظــ ًا علــى تراثــه القديــم‪،‬‬ ‫المؤ ِّلــف فــي ثنايــا رحلتــه إلــى ذكــر موطنــه‬ ‫وكثيــر ًا مــا يلجــأ ُ‬ ‫ـي جوانــب الشــبه بيــن‬ ‫األصلــي إيطاليــا ليقــارب لقارئــه الغربـ ّ‬ ‫واإليطاليــة فــي عـ ٍ‬ ‫ـدد مــن مناحــي الحيــاة‬ ‫اليمنيــة‬ ‫البيئتيــن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫كخصائص العمارة وبعض ســمات البشــر والموســيقى وأنواع‬


‫صورة لمدينة المخا بعدسة المصور األلماني هيرمان بورشارت (‪▲ )1909‬‬

‫األشــجار والنباتــات‪.‬‬ ‫ـدة أنهــا كانــت‬ ‫الح َديْـ َ‬ ‫علــى ســبيل المثــال‪ ،‬يذكــر بوتــا عنــد دخولــه مدينــة ُ‬ ‫ـم عــدد ًا كبيــر ًا مــن العشــش المبنيــة بالقــش والجريــد‪ ،‬كمــا كانــت‬ ‫تضـ ُّ‬ ‫تضــم «منــازل جميلــة مبنيــة بالطــوب ويتــم طالؤهــا بالنــورة‪ ،‬ســطوحها‬ ‫ـر ٌ‬ ‫ممــا يضفــي‬ ‫ف محاطــة بدرابزيــن ذي أشــكال مختلفــة ّ‬ ‫مســتوية كأنهــا ُشـ َ‬ ‫عليهــا مظهــر المنــازل اإليطاليــة» (ص ‪ .)151‬كمــا الحــظ فــي نســاء جبــل‬ ‫ص ِبــر جمــا ً‬ ‫خاصـ ًا ذكَّ ــره بجميالت الريــف اإليطالي‪ ،‬فمالمح نســاء الجبل‬ ‫ال‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫«أقــرب إلــى اإليطاليــات‪ ،‬وبشــرتهن علــى درجــة مــن البيــاض كافيــة إلبــراز‬ ‫األلــوان علــى خدودهــن» (ص ‪.)190‬‬ ‫ـي وثقافته‬ ‫وتتـ َّ‬ ‫ـردد هــذه اإلحالــة علــى جوانــب مــن حيــاة المجتمــع اإليطالـ ّ‬ ‫المؤ ِّلــف‬ ‫ـرص‬ ‫ـ‬ ‫ح‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫إل‬ ‫ـك‬ ‫ـ‬ ‫ذل‬ ‫ـزى‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ي‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫وق‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫الرحل‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـدة‬ ‫ـ‬ ‫عدي‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫مواض‬ ‫فــي‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫علــى التوصيــل وتقريــب مــا يصفــه للقــارئ كمــا أشــرنا آنفـاً‪ ،‬غيــر أن لغــة‬ ‫متحدثيهــا مرجعـ ًا‬ ‫كتابــه الفرنســية ال اإليطاليــة التــي يجعــل مــن موطــن‬ ‫ِّ‬ ‫يتوجــه للقــارئ الفرنســي‪ ،‬ثــم يحيــل إلــى بيئــة ال يعرفهــا‬ ‫إلشــاراته‪ ،‬فكيــف‬ ‫َّ‬ ‫ـده محاولــة لتقريب الوصف‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫يمكن‬ ‫هل‬ ‫ـيين؟‬ ‫ـ‬ ‫الفرنس‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ربمــا ســوى ِق ّلــة‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫اإليطالي‬ ‫ـف‬ ‫ـ‬ ‫الري‬ ‫وجمال‬ ‫ـاه‬ ‫ـ‬ ‫صب‬ ‫ـنوات‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫إلى‬ ‫ِّف‬ ‫ل‬ ‫ؤ‬ ‫الم‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫حني‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـوع‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫أن‬ ‫أم‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫المؤ ِّلــف‬ ‫فــي تورينــو قبــل انتقــال عائلتــه إلــى باريــس؟ يمكــن القــول إن ُ‬ ‫أمــا باريــس التــي انتقــل‬ ‫جيــد ًا ّ‬ ‫ـي‪ ،‬ألنــه يعرفــه ّ‬ ‫يحيــل علــى الريــف اإليطالـ ّ‬ ‫إليهــا فــي شــبابه فهــي مدينــة حديثــة ال يمكــن االتــكاء عليهــا فــي تقديــم‬ ‫وصـ ٍ‬ ‫ـف ُمقــارب للبيئــة اليمنيــة ذات الطابــع الريفــي فــي معظمهــا‪.‬‬

‫موجّ هات علميّة وشخصيّة‬

‫ـاء علــى مــا ســبق‪ ،‬ي ّتضــح لنــا مــدى ابتعــاد بوتــا عــن الصــور النمطيــة‬ ‫وبنـ ً‬ ‫ثمــة‬ ‫أن‬ ‫ويظهــر‬ ‫الشــرق‪،‬‬ ‫عــن‬ ‫األوروبيــة‬ ‫الرحــات‬ ‫نــة‬ ‫مدو‬ ‫فــي‬ ‫الســائدة‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫التوجــه‪،‬‬ ‫ـذا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ـكيل‬ ‫ـ‬ ‫تش‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫دوره‬ ‫ـت‬ ‫ـ‬ ‫لعب‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫ة‬ ‫ـخصي‬ ‫ـ‬ ‫وش‬ ‫علميــة‬ ‫اعتبــارات‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـي كعالــم نبــات ومــا يقتضيــه هــذا المجــال مــن‬ ‫ـ‬ ‫العلم‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫تكوين‬ ‫أن‬ ‫ـك‬ ‫وال شـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫مالحظــة وفحــص دقيقيــن للموضــوع المــدروس قــد جعلــت بوتــا بمنــأى‬ ‫ـي‬ ‫عــن النزعــة المركزيــة‬ ‫األوروبيــة أو وضــع ّ‬ ‫ّ‬ ‫أيــة اعتبــارات لســياقات التلقـ ّ‬ ‫َ‬ ‫تأمالتــه نوعــ ًا القبــول‬ ‫أكســبت‬ ‫ــم‬ ‫ث‬ ‫ومــن‬ ‫‪،‬‬ ‫الغربــي‬ ‫واســتجابات القــارئ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ـدى ذلــك علــى ســبيل المثــال فــي تشــخيصه للظــروف‬ ‫والمصداقيــة‪ .‬ويتبـ َّ‬ ‫المأســاوية التــي يعيشــها المجتمــع اليمنــي نتيجــة لحالــة االحتــراب‬ ‫ـددة‪ ،‬فهــو ال يرجــع ذلــك إلــى مؤ ِّثــرات ت َّتصــل بالعــرق أو الثقافــة‬ ‫المتجـ ِّ‬ ‫ُ‬ ‫قويــة‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫مركزي‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫دول‬ ‫ـود‬ ‫ـ‬ ‫وج‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـيد‬ ‫ـ‬ ‫الرش‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫الحك‬ ‫ـاب‬ ‫ـ‬ ‫غي‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫إل‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ـن‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫الدي‬ ‫أو‬ ‫ّ‬ ‫تحفــظ للبــاد اســتقرارها وأمنهــا‪.‬‬ ‫الشــخصي فيمكــن مالحظتــه فــي العديــد مــن المواقــف‬ ‫أمــا الجانــب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـانية‬ ‫ـ‬ ‫اإلنس‬ ‫ـات‬ ‫ـ‬ ‫العالق‬ ‫ودفء‬ ‫ـف‬ ‫ـ‬ ‫التعاط‬ ‫ـاالت‬ ‫ـ‬ ‫ح‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫وتبي‬ ‫ـردها‬ ‫ـ‬ ‫يس‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الت‬ ‫ّ‬ ‫وربمــا يعــود جانــب مــن‬ ‫التــي أقامهــا مــع مضيفيــه ومرافقــي رحلتــه‪َّ ،‬‬ ‫العربيــة ومهارته في‬ ‫نجاحــه فــي إقامــة هــذه الصــات إلــى إتقانــه اللُّغــة‬ ‫ّ‬ ‫ـخصية‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫كان‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫بوت‬ ‫أن‬ ‫اســتخدامها نطقـ ًا وكتابــة‪ ،‬دون أن نغفــل حقيقــة‬ ‫ّ‬ ‫ـورات وأحــكام‪ ،‬ناهيك‬ ‫اجتماعيــة ســوية متزنــة فيمــا يصــدر عنهــا من تصـ ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ـي الجديــد والتواصــل‬ ‫ـ‬ ‫االجتماع‬ ‫ـط‬ ‫ـ‬ ‫المحي‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـف‬ ‫ـ‬ ‫التكي‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫قدرت‬ ‫عــن‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫معــه بنجــاح‪ ■ .‬ربيــع ردمــان (اليمن)‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪105‬‬


‫ذاكرة‬

‫طه حسين▲‬

‫‪106‬‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬


‫ذكريات شخصية عن طه حسني (‪)4‬‬

‫دور املُث ّقف والتفاعل بني‬ ‫الحضارات‬

‫صبري حافظ‬ ‫(مصر‪ -‬إنجلترا)‬

‫عندمــا انصرفــت مــن بيــت طــه حســين بعــد تلــك الزيــارة الثانية‬ ‫التــي طالــت‪ ،‬حتى وفدت الســيدة زوجته إلنقــاذه من احتماالت‬ ‫أن تطول أكثر وترهقه‪ ،‬كانت تتنازعني مشــاعر الفرح واالســتياء‬ ‫معـاً‪ .‬الفــرح ألن الظــروف أتاحــت لطــه حســين أن يعــرف أننــي‬ ‫لســت مجــرد موظــف جــاء لتدوين محضــر الجلســة‪ ،‬وأنني أحد‬ ‫أحفــاده المجهوليــن‪ ،‬واالســتياء مــن قطع الســيدة زوجته ألول‬ ‫ٍ‬ ‫ـي بيني وبينه‪ ،‬كان يمكنه أن يمتد‪ ،‬وما أكثر شــغفي‬ ‫حــوار حقيقـ ّ‬ ‫بــأن تطــول بنــا الحــوارات فــي ذلــك الزمــن البعيــد‪ .‬لكــن هــذا‬ ‫ـول إلــى اســتياء مــن عجــزي عــن‬ ‫االســتياء منهــا ســرعان مــا تحـ َّ‬ ‫اهتبــال الفرصــة التــي أتاحهــا لــي الدكتــور العميــد‪ ،‬حينما طلب‬ ‫منــي المجــيء مبكــر ًا في المرة القادمة‪ ،‬ولــم أنتهز هذه الفرصة‬ ‫ألطلــب منــه موعــد ًا خاصـاً‪ ،‬بعيــد ًا عن مواعيــد انعقــاد اللجنة‪،‬‬ ‫ـود أن يعرفــه عــن جيلــي مــن ناحيـ ٍ‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫أجيــب فيــه علــى مــا كان يـ ّ‬ ‫ٍ‬ ‫وربمــا اســتطعت أن أظفــر فيهــا بحــوا ٍر معــه مــن ناحيــة أخرى‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫فعلــى العكــس مــن نجيــب محفــوظ الذي كانــت تعجبنــي دائم ًا‬ ‫ســرعة بديهتــه‪ ،‬فإننــي مــن النــوع الــذي ُيعيــد تمحيــص مــا دار‬ ‫ـدم‬ ‫بعــد انصرامــه‪ ،‬ويكتشــف أنــه كان باســتطاعته دوم ـ ًا أن يقـ ِّ‬ ‫ممــا دار‪ .‬وكلمــا‬ ‫ـرف بطريقــة أحســن ّ‬ ‫أجوبــة أفضــل‪ ،‬أو أن يتصـ َّ‬ ‫ـتياء مــن نفســه علــى مــا قــام بــه‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫اس‬ ‫تأمــل الموقــف أكثــر ازداد‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ـرع نفســي مغتاظ ـاً‬ ‫ونقــد ًا لهــا‪ .‬وأخــذت فــي طريــق عودتــي أقـ ّ‬ ‫مــن تفويــت تلــك الفرصــة النــادرة التــي ال يجــود الزمــن بمثلهــا‪.‬‬ ‫ـي أن أنتظــر عامـ ًا آخــر حتــى تتــاح لــي مثــل تلــك الفرصــة‬ ‫وأن علـ ّ‬ ‫مــن جديــد‪ ،‬لــو كان معالــي الباشــا ال يــزال يتذكّ ــر مــا دار‪ ،‬ومــا‬ ‫ً‬ ‫علي‬ ‫زال شــغوفا بمعرفة أحوال جيلي الجديد‪ .‬وحتى ال يفســد ّ‬ ‫لتأمل‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫جدي‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـدت‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫فق‬ ‫ـدث‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ح‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫بم‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫غبطت‬ ‫ـذات‬ ‫تقريــع الـ‬ ‫ُّ‬ ‫مــا دار فــي جلســة طه حســين مــع ســهيل إدريــس‪ ،‬ومفاوضاته‬ ‫البارعة على حقوقه‪ .‬وكلما استعدت تفاصيل الحوار الذي دار‪،‬‬ ‫أدركــت كــم أن العتصــام طــه حســين بالحديــث باللغــة العربية‬ ‫الفصحــى دوره المهــم فــي الرقــي بتلــك المفاوضــات ونجاعتها‪.‬‬ ‫ناهيــك عــن أســلوبه البــارع فــي تلــك المفاوضات والــذي يدفعه‬ ‫الموجــز‪ :‬زدهــا قليـاً! إلــى االنصــراف مباشــر ًة‬ ‫بعــد فعــل األمــر ُ‬ ‫ثقافيــة‪ ،‬وكأنــه يضــع تلــك‬ ‫شــؤون‬ ‫مــن‬ ‫يتناولــه‬ ‫إلــى مــا كان‬ ‫ّ‬ ‫ـي أوســع‪.‬‬ ‫المفاوضــات‪ ،‬وال أقــول المســاومات‪ ،‬فــي ســياق ثقافـ ّ‬ ‫المصريــة‬ ‫فلــو دارت تلــك المفاوضــات باللّغــة العاميــة‪ ،‬ســواء‬ ‫ّ‬ ‫وربمــا مــا كانــت لتنجــح‬ ‫أو‬ ‫اللبنانيــة‪ ،‬لمــا كان لهــا هــذا الوقــع‪َّ ،‬‬ ‫ّ‬

‫بتلــك البســاطة والسالســة التــي دارت بهــا بلغــة طــه حســين‬ ‫الفُ صحــى والراقيــة‪.‬‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ـادت‬ ‫ـ‬ ‫ج‬ ‫ـث‬ ‫ـ‬ ‫حي‬ ‫ً‪،‬‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫محظوظ‬ ‫ـت‬ ‫ـ‬ ‫كن‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫وق‬ ‫ـر‪،‬‬ ‫وانتظــرت عامـ ًا آخـ‬ ‫ّ‬ ‫الظــروف بلقـ ٍ‬ ‫ـاء ثالــث‪ ،‬وعــدت إلــى «رامتــان» مــر ًة ثالثــة وأخيــرة‬ ‫فــي خريــف عــام ‪ ،1972‬مبكــر ًا وقبــل موعــد انعقــاد الجلســة‬ ‫بســاعة تقريبـاً‪ .‬وأخبــرت فريــد شــحاتة الــذي اســتغرب وصولــي‬ ‫مبكــر ًا جــداً‪ ،‬بــأن معالــي الباشــا طلــب منــي ذلــك فــي المــرة‬ ‫الســابقة‪ ،‬حينمــا عــرف بأننــي أنشــر مقــاالت نقديــة فــي مجلــة‬ ‫البيروتية‪ .‬وكانت عودتي إلى «رامتان» يحدوها الشــوق‬ ‫(اآلداب)‬ ‫ّ‬ ‫إلــى مــا قــد تســفر عنــه مــن حديــث شــخصي بيــن طــه حســين‬ ‫ـة‪ ،‬وإن شــابها‪ ،‬مــن ناحيـ ٍ‬ ‫وبينــي مــن ناحيـ ٍ‬ ‫ـيء مــن‬ ‫ـة أخــرى‪ ،‬شـ ٌ‬ ‫األســف‪ ،‬ألننــي لــن أرى الدكتــور محمــد عــوض محمــد الــذي‬ ‫المرتيــن الســابقتين‪ ،‬لرحيله مــع بدايات‬ ‫اســتأثر باهتمامــي فــي‬ ‫ّ‬ ‫ذلــك العــام (‪ .)1972‬وطــال انتظــاري‪ ،‬ألن الســيدة ســوزان لــم‬ ‫تـ ِ‬ ‫ـأت بزوجهــا إلــى غرفــة االســتقبال التــي تنعقــد فيهــا الجلســة‪،‬‬ ‫وقــد أخــذت مكانــي فيهــا مبكــراً‪ّ ،‬إل قبــل موعــد انعقــاد اللجنــة‬ ‫بربــع ســاعة كالمعتــاد‪ .‬والحظــت أن الدكتــور طــه حســين بــدا‬ ‫ـاء وهــزا ً‬ ‫ال ممــا كان عليــه فــي العــام الماضــي‪ ،‬وإن‬ ‫أشـ ّ‬ ‫ـد انحنـ ً‬ ‫كان مــازال فــي كامــل أناقتــه ومهابتــه‪ .‬فــي حلــة رماديــة كاملــة‬ ‫حريريــة راقيــة‪.‬‬ ‫وجميلــة (مــن ثــاث قطــع)‪ ،‬ورابطــة عنــق‬ ‫ّ‬ ‫المعتــاد‪ ،‬ووضعــت‬ ‫ـر‬ ‫ومــا أن أجلســته زوجتــه فــي مقعــده الوثيـ ُ‬ ‫ـدت فوقهــا يديــه‪،‬‬ ‫علــى ركبتيــه بطانيــة صغيــرة مــن الصــوف‪ ،‬مـ َّ‬ ‫ـكلٍ‬ ‫الحظــت تشــنج أصابع يديــه قليالً‪ ،‬وارتعاشــهما بشـ خفيف‪.‬‬ ‫ولمــا اســتوى علــى مقعــده‪ ،‬بــادر بتحيتــي التــي رددت عليهــا‬ ‫قدم لي القهوة‬ ‫بأحســن منها‪ ،‬وبســؤال فريد شــحاتة إن كان قد َّ‬ ‫ـرد بد ً‬ ‫ال منه بأنه فعل وشــكرته‪ .‬وطلب مني‬ ‫أم ال‪ ،‬فبــادرت أنــا بالـ ِّ‬ ‫معالــي الباشــا –كالعــادة‪ -‬أن أقــرأ عليــه جــدول أعمال الجلســة‬ ‫ففعلــت‪ .‬ثــم بادرنــي بالســؤال عمــا أكتــب فــي مجلــة (اآلداب)؟‬ ‫عربي‬ ‫ـي فــي أكثــر من منبــر‬ ‫ّ‬ ‫ولمــا أجبتــه بأننــي أكتــب النقــد األدبـ ّ‬ ‫خــارج مصــر‪ ،‬فــي لبنان وســوريا‪ ،‬وحتى في العراق‪ .‬كان ســؤاله‬ ‫ومــاذا عــن مصــر؟ هــل نشــرت شــيئ ًا فــي مصر يــا ُبنــي؟ فقلت له‬ ‫نعــم يــا معالــي الباشــا! وأخبرتــه عــن أن كثيــر ًا مــن كتــاب جيلنا‬ ‫األدبيــة لجريــدة (المســاء)‬ ‫ينشــرون فــي مصــر فــي الصفحــة‬ ‫ّ‬ ‫القاهريــة‪ ،‬وأحيانـ ًا فــي مجلــة (المجلــة) التــي كان يشــرف عليها‬ ‫ّ‬ ‫العربيــة أكثــر بســبب مــا‬ ‫يحيــى حقــي‪ .‬لكننــا ننشــر فــي المنابــر‬ ‫ّ‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪107‬‬


‫عمــا نريــد‪ .‬وأن الرقابــة المباشــرة منها وغير‬ ‫تتيحــه لنــا مــن حريــة فــي التعبير ّ‬ ‫المباشــرة هــي التــي دفعــت الكثيــر منــا إلــى الكتابــة خــارج مصر‪.‬‬ ‫هنــا صــدرت عن معالي الباشــا تنهيدة عميقة‪ ،‬وقال‪ :‬يؤســفني أنكم مضطرون‬ ‫إلــى خــوض نفــس المعــارك التــي خضناهــا مــن أجل حريــة التعبير فــي مصر‪،‬‬ ‫ولكــن فــي ســياق أســوأ! وفــي ظــل وضــع تتدنــى فيــه مكانــة الثقافــة ودور‬ ‫ـود أن تســتفيدوا ممــا حققنــاه‪ ،‬وأن تبنــوا فوقــه‪.‬‬ ‫المث ّقــف فــي مجتمعــه‪ .‬كنــا نـ ّ‬ ‫ُ‬ ‫يغيــر هــذا الموضــوع المؤســف‪ ،‬قلــت لــي إنــك لــم‬ ‫ثــم ســأل‪ ،‬وكأنــه يريــد أن ّ‬ ‫ـرة الماضية عن‬ ‫تــدرس عندنــا‪ ،‬فمــاذا درســت؟ فكـ َّ‬ ‫ـررت عليــه مــا قلتــه فــي المـ ّ‬ ‫للتخصــص فــي‬ ‫مســيرتي الدراســية‪ ،‬وأخبرتــه بأننــي أكملــت دراســة عاميــن‬ ‫ّ‬ ‫األدب والنقــد المســرحي‪ ،‬مــن نظــام جديــد للدراســات العليــا فــي المعهــد‬ ‫العالــي للفنــون المســرحية‪ ،‬أسســه وقتهــا الدكتــور مصطفــى ســويف‪ ،‬حينما‬ ‫عهــدت لــه وزارة الثقافــة بــإدارة أكاديميــة الفنــون‪ .‬وذكــرت لــه أســماء بعــض‬ ‫مــن تلقيــت دروســهم فيه وفي طليعتهــم الدكتــورة لطيفة الزيــات‪ ،‬والدكتورة‬ ‫ســامية أســعد‪ ،‬والدكتــور شــكري عيــاد‪ ،‬واألســتاذ بــدر الديــب وغيرهــم ممــن‬ ‫ـردد نعــم ‪ ...‬نعــم!‬ ‫أظــن أنهــم تتلمــذوا علــى يديــه‪ .‬فـ َّ‬ ‫األدبــي‪ ،‬ومواصلــة العمــل‬ ‫التخصــص فــي النقــد‬ ‫ثــم أردف‪ :‬إذن أنــت تريــد‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫فيــه‪ ،‬فهــل تجيــد لغــة أجنبيــة يــا ُبنــي؟ فقلــت‪ ،‬بشــيء مــن التلع ُثــم‪ ،‬وقــد‬ ‫همــة‪ ،‬إننــي أحــاول يــا معالــي‬ ‫أدركــت أنــه وضــع يــده علــى نقطــة ضعــف ُم َّ‬ ‫أحســن لغتــي اإلنجليزيــة بالــدرس والترجمــة‪ .‬وقــد التحقت بقســم‬ ‫الباشــا أن ِّ‬ ‫ـرة فــي الجامعــة األميركيــة بالقاهــرة لهــذا الغــرض‪ .‬فقــال مــن‬ ‫ـ‬ ‫الح‬ ‫الدراســات‬ ‫ّ‬ ‫الضــروري يــا ُبنــي أن تجيــد اللّغــة فــي بلدهــا‪ ،‬وأن تعــرف ثقافتهــا وحضارتهــا‬ ‫األوروبيــة مفتــاح للحضــارة‬ ‫بشــكلٍ جيــد‪ ،‬كــي تضيــف شــيئ ًا لثقافتــك‪ .‬فاللّغــة‬ ‫ّ‬ ‫ـي‬ ‫الغربيــة‪ ،‬والبــد أن تعــرف تلــك الحضــارة كــي ترهــف وعيــك النقـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـدي والعقلـ ّ‬ ‫باألشــياء‪ ،‬وكــي تــرى حضارتــك بعيــونٍ جديــدة‪ .‬كنــا نحــرص يــا ُبنــي علــى أن‬ ‫نرســل النابهيــن مــن الشــباب إلــى أوروبــا‪ ،‬كــي يدرســوا فيهــا‪ :‬ألنهــم بذلــك‬ ‫يتعلّمــون اللّغــة ويعيشــون الثقافــة معـاً‪ ،‬لكــن هــذا األمــر قد انحســر لألســف‬ ‫الشــديد مــع القضــاء علــى البعثــات‪.‬‬ ‫هنــا وفــدت الدكتــورة ســهير القلمــاوي إلــى البيت لحضــور االجتمــاع فانصرف‬ ‫ـي منهــا بســبب تعاملهــا‬ ‫معالــي الباشــا عنــي إليهــا‪ ،‬ممــا زاد نفــوري الطبيعـ ّ‬ ‫الســيئ مــع يحيــى حقــي ودورهــا‪ ،‬فــي إخراجه مــن مجلــة (المجلــة) وتدميرها‬ ‫مــع غيرهــا مــن منابــر الثقافــة الجــادة فــي بدايــات عصــر الســادات الكئيــب‪.‬‬ ‫ثــم توالــى وفــود بقيــة أعضــاء اللجنــة وانصــرف انتبــاه معالــي الباشــا إليهــم‪،‬‬ ‫وإن بــدأ الحديــث‬ ‫وإلــى مــا ينتظرهــم مــن أمــو ٍر إلنجازهــا فــي تلــك الجلســة‪ْ .‬‬ ‫كالعــادة باألمــور العامــة فــي حيــاة كل منهــم وأخبــار مــا يــدور فــي مصــر‬ ‫مــن وجهــة نظرهــم‪ .‬وكنــا وقتهــا فــي خريــف الغضــب الفعلــي‪ ،‬وليــس ذلــك‬ ‫الــذي صـ َّ‬ ‫ـك مصطلحــه محمــد حســنين هيــكل –مهنــدس تمكين الســادات من‬ ‫الســلطة– بعدمــا غضــب الســادات عليــه‪ .‬كانــت مصــر كلهــا تعيــش عامـ ًا مــن‬ ‫الغضــب الكظيــم مــن حالــة الــا حــرب والــا ســلم التــي أخذهــا الســادات لهــا‬ ‫وقــد تع َّلــل بالضبــاب؛ بعدمــا انصــرم عــام الحســم (‪ )1971‬كمــا ســماه دون‬ ‫حســم‪ .‬وخــرج الطــاب إلــى الشــوارع فــي مظاهــرات حاشــدة‪ ،‬واعتصمــوا في‬ ‫ميــدان التحريــر فــي بدايــة العــام ‪ .1972‬وتغ َّنــى بثورتهــم أبــرز شــعراء جيلــي‬ ‫مثــل أمــل دنقــل فــي قصيدتــه الشــهيرة «الكعكــة الحجريــة» ‪ ،‬وأحمــد فــؤاد‬ ‫نجــم والشــيخ إمــام فــي أغنيته المشــهورة «أنا رحت القلعة وشــفت ياســين» ‪.‬‬ ‫والمثقفــون معهــم‪ ،‬ووقّعــوا فــي مكتــب توفيــق الحكيم‬ ‫ولمــا تضامــن الكتــاب ُ‬ ‫عمــن اع ُتقــل‬ ‫ـراج‬ ‫ـ‬ ‫اإلف‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫إل‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫وتدع‬ ‫ـم‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫لمطالبه‬ ‫ـدة‬ ‫ـ‬ ‫مؤي‬ ‫الشــهير علــى عريضــة‬ ‫َّ‬ ‫منهــم‪ ،‬عصفــت بهــم لجنــة التنظيــم‪ ،‬الــذي كان الســادات قــد وضــع علــى‬ ‫رأســها كادر ًا إســامجي ًا معروفـ ًا هــو محمــد عثمــان إســماعيل‪ ، .‬فقــام علــى‬ ‫الفــور بفصــل العشــرات منهــم‪ ،‬وعلى رأســهم يوســف إدريس ورجــاء النقاش‬ ‫وغيرهــم مــن االتحــاد االشــتراكي‪ ،‬ممــا يفقدهــم بشــكلٍ مباشــر وظائفهــم‬ ‫ـتراكي‪ .‬وبــدأ‬ ‫ـمية المملوكــة كليــة لهــذا االتحــاد االشـ‬ ‫فــي أجهــزة اإلعــام َّ‬ ‫الرسـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫أغلبهــم وقــد حرمــوا مــن العمــل فــي مصــر‪ ،‬أو الظهــور فــي أي مــن المنابــر‬ ‫وضيــق النظــام عليهــم فــي رزقهــم‪ ،‬فــي ال ُتشــ ُّتت فــي المنافــي‬ ‫اإلعالميــة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والغربيــة علــى الســواء‪ .‬كمــا أخــذ الســادات فــي إغــاق الدوريــات‬ ‫العربيــة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫‪108‬‬

‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫الثقافيــة المختلفــة التــي كانــت تعــج بهــا مصر فــي ســتينيات القــرن الماضي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وتخلّقــت آليــات مــا دعوتــه فــي أكثــر من مقــالٍ بالمناخ الطــارد الذي أخــذ َي ُد ّع‬ ‫المثقفيــن العقالنييــن واليســاريين مــن مصــر طــوال ســنوات حكم الســادات‪.‬‬ ‫بينمــا أُفســح المجــال وأجهــزة إعالم الدولة لإلســامجية يعيثون فيها فســاداً‪،‬‬ ‫ـري الذي‬ ‫ويقومــون بغســل عقــول المصرييــن مــن كل التاريــخ‬ ‫العقالني التنويـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫زرعــه فيهــا جيــل طــه حســين‪ ،‬واألجيــال التــي تلتــه‪ ،‬ويســدلون الحجــاب على‬ ‫رؤوس النســاء‪ ،‬وعلــى عقــول الرجــال فــي الوقــت نفســه‪.‬‬ ‫ولــم تكــن حقيقــة هــذا األمــر بغائبــة عــن طــه حســين‪ ،‬الــذي لمســت طــوال‬ ‫ٍ‬ ‫المثقفين‪،‬‬ ‫شدة حساســيته ألي‬ ‫نقاشــاته في مفتتح هذه الجلســة ّ‬ ‫عصف بدور ُ‬ ‫وأي تأثيـ ٍر ســلبي علــى مكانتهــم ودورهــم فــي المجتمــع‪ .‬وشــعرت وأنــا أتابــع‬ ‫ـامية واضحة مثل مهــدي عالم‪ ،‬أو‬ ‫مناقشــاتهم (وكان فيهــم َمـ ْ‬ ‫ـن لــه ميــول إسـ ّ‬ ‫ميــول انتهازيــة مثــل ســهير القلمــاوي التــي صعد نجمهــا مع نظام الســادات‪،‬‬ ‫يقدمــون تبريــرات متهافتــة لمــا فعلــه الســادات)‪ ،‬وكأن طــه حســين‬ ‫وبالتالــي ِّ‬ ‫وإن بشــكل مغايــر‪ ،‬تأكيــده لمــا قالــه لــي قبــل قدومهم‪ ،‬مــن أن على‬ ‫يواصــل‪ْ ،‬‬ ‫جيلنــا أن يحــارب مــن جديــد نفــس المعــارك التــي حاربهــا جيلــه‪ :‬معــارك‬ ‫ـتمرت الجلســة بأحاديثهــا الطليــة‬ ‫العقــل‬ ‫والحريــة واســتقالل ُ‬ ‫المث ّقــف‪ .‬واسـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫كالعــادة‪ ،‬وبتوجيــه طــه حســين لدفة األمــور فيها بحصافة‪ ،‬بعــد اكتمال عدد‬ ‫يتضمنــه جــدول أعمالهــا‪ .‬ولــم ينــلْ الخــاف بينــه فــي الــرأي‬ ‫حضورهــا إلــى مــا‬ ‫ّ‬ ‫فيمــا يــدور فــي الواقــع المصــري وبينهــم مــن منــاخ الحــب والتقديــر الذيــن‬ ‫يحيطونــه بــه‪ .‬ومــا أن انتهــى مــن مناقشــة كل البنــود علــى جــدول األعمــال‪،‬‬ ‫وتوصــل مــع اللجنــة إلــى قــرارات بشــأنه حتــى كان اإلرهــاق قــد بــدا عليــه‪،‬‬ ‫وازدادت ارتعاشــات يديــه‪ ،‬فأخــذ األعضــاء فــي االنصــراف‪.‬‬ ‫ـي محضــر‬ ‫ـي وأخــذ ُيملــي علـ َّ‬ ‫وبعــد انصــراف آخرهــم التفــت طــه حســين إلـ َّ‬ ‫الجلســة كالعــادة‪ .‬ومــا أن انتهــى منهــا وبنفــس حضــور الذهــن الــذي اعتدتــه‬ ‫منــه‪ ،‬حيــث جــاءت قراراتهــا بنفــس ترتيــب البنــود فــي جــدول أعمالهــا‪ ،‬حتــى‬ ‫ـس يــا ُبنــي مــا قلتــه لــك مــن‬ ‫َّ‬ ‫ـي بالحديــث مــن جديــد‪ .‬وقــال ال تنـ َ‬ ‫توجــه إلـ َّ‬ ‫ضــرورة الســفر إلــى أوروبــا لتتع ّلــم فيهــا اللّغــة والثقافــة معـاً! فقلــت نعــم يــا‬ ‫معالــي الباشــا‪ ،‬ولكنــه أمــر صعــب فــي هــذه األيــام‪ .‬فقــال وفقــك الله يــا ُبني!‬ ‫ويبــدو أن اللــه اســتجاب لدعوته لي‪ ،‬رغم اســتحالة الســفر إلــى أوروبا ألمثالي‬ ‫فــي ذلــك الوقــت‪ .‬فمــا أن حان الخريــف التالي عــام ‪ ،1973‬وهــو الخريف الذي‬ ‫فــارق طــه حســين الحيــاة فيــه‪ ،‬حتــى كنــت فــي أوروبــا بالفعــل‪ ،‬وطلبــوا منــي‬ ‫ـدم فــي نــدوة الشــرق األوســط األســبوعية الشــهيرة وقتهــا فــي جامعــة‬ ‫أن أقـ ِّ‬ ‫أوكســفورد نــدو ًة عنــه‪ ،‬بدأتهــا بأنــه لــوال دور طــه حســين الكبيــر فــي الثقافــة‬ ‫تعليميــة‪ ،‬لما كنــت أنا هنــا اآلن‪،‬‬ ‫المصريــة‪ ،‬ومــا أرســاه فيهــا مــن قيــم وركائــز‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ـدث إليكــم فــي هــذه الجامعــة‪ .‬ولكــن تلــك قصــة أخــرى تســتحق التوقــف‬ ‫أتحـ ّ‬ ‫عندهــا‪ ،‬وعندمــا رأيتــه لمــا جــرى فــي بيتــه «رامتــان»‪ ،‬عقــب عودتــي لمصــر‬ ‫بعــد رحيلــه عنهــا بســت ســنوات‪.‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫الهوامش‪:‬‬ ‫ـون علــى حافـ ِ‬ ‫ـة‬ ‫‪ - 1‬تبــدأ قصيــدة أمــل دنقــل الطويلــة‬ ‫والمهمــة عــن هــذه المظاهــرات‪ :‬أيهــا الوا ِقفـ َ‬ ‫ّ‬ ‫ـه‪َ /‬أشــهِ روا ا َ‬ ‫ـوت; وانفـ َ‬ ‫حه!‪َ /‬سـ َ‬ ‫ـوق‬ ‫ـاب فـ َ‬ ‫ـقط المـ ُ‬ ‫ألسـ ِل ْ‬ ‫المذبحـ ْ‬ ‫ـدم انسـ َ‬ ‫ـب كالمسـ َ‬ ‫ـرط القلـ ُ‬ ‫ـبح ْه‪ /.‬والـ ُ‬ ‫ِ‬ ‫واتب ُعوني!‪/‬‬ ‫‪/‬‬ ‫حه‬ ‫ل‬ ‫ـ‬ ‫األس‬ ‫َعوا‬ ‫ف‬ ‫فار‬ ‫‪/‬‬ ‫ِحه‬ ‫ر‬ ‫أض‬ ‫ى‪..‬‬ ‫والمد‬ ‫‪/،‬‬ ‫أضرح‬ ‫والزنازن‬ ‫‪/،‬‬ ‫أضرح‬ ‫ن‬ ‫الم‬ ‫!‪/‬‬ ‫ـاح‬ ‫ازلُ‬ ‫ةٌ‬ ‫ةٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الوِشـ ْ‬ ‫َ‬ ‫ـد ُم الغَ ـ ِ‬ ‫ـه‪ِ /،‬‬ ‫باح!‬ ‫أنــا َنـ َ‬ ‫وج ْم ُجمـ ْ‬ ‫ـد والبارحـ ْ‬ ‫وشــعاري‪َّ :‬‬ ‫ـه‪ /‬رايتــي‪ :‬عظمتــان‪ُ ..‬‬ ‫الص ْ‬ ‫‪ - 2‬وهــي األغنيــة التــي تقــول كلماتهــا ««أنــا رحــت القلعــة وشــفت ياســين‪ /‬حواليــه العســكر‬ ‫والزنازيــن‪ /‬والشــوم والبــوم وكالب الــروم‪ /‬يــا خســارة يــا أزهــار البســاتين‪ /‬عيطــي يــا بهيــة علــى‬ ‫القوانيــن‪ /‬أنــا شــفت شــباب الجامعــة الزيــن‪ /‬أحمــد وبهــاء والكــردي وزيــن» والمقصود هنــا بهذه‬ ‫األســماء زعمــاء حركــة الطلبــة فــي ينايــر عــام ‪ :1972‬أحمــد عبداللــه رزة‪ ،‬وأحمــد بهــاء الديــن‬ ‫شــعبان‪ ،‬وجــال الجميعــي‪ ،‬وزيــن العابديــن فــؤاد‪ ،‬وشــوقي الكــردي‪.‬‬ ‫ـدم لــه عمــر التلمســاني مرشــد تنظيــم اإلســامجية‬ ‫‪ - 3‬كان الملــك فيصــل قــد جــاء للســادات وقـ َّ‬ ‫«اإلخــوان المســلمون» ومئــة مليــون دوالر مقابــل إعادتهــم للعمــل فــي مصــر (حســب روايــة‬ ‫هيــكل فــي خريــف الغضــب) وتخليصــه مــن المعارضــة الناصريــة واليســارية لمشــروعه المدمــر‪،‬‬ ‫الــذي مازالــت مصــر تعانــي مــن عواقبــه حتــى اليــوم‪ .‬وكان تعييــن محمــد عثمــان إســماعيل أمين ًا‬ ‫المخطــط الجهنمــي‪.‬‬ ‫ـي الوحيــد وقتهــا‪ ،‬وهــو االتحــاد االشــتراكي‪ ،‬بدايــة هــذا ُ‬ ‫للتنظيــم السياسـ ّ‬


Doha Magazine

109

150 2020 ‫أبريل‬

aldoha_magazine

@aldoha_magazine


‫الصفحة األخرية‬

‫الوقت يف طريقه إىل االنقراض‬

‫ُّ‬ ‫التأخر!‬ ‫مديح‬ ‫إذا ك ّنــا‪ ،‬عــى الــدوام‪ ،‬يف عجلــة مــن أمرنــا‪ ،‬فــأن نبــض الحيــاة اليوميــة صــار محكوم ـ ًا أكــر بالتســارع‪،‬‬ ‫ومســكون ًا باســتباق اللحظــة‪ ،‬ومنــذوراً إلنجــاز املهـ ّـات والتخ ُّلــص مــن عبئهــا يف أرسع وقــت ممكــن‪ .‬وألننــا‬ ‫نبذل ّ‬ ‫متجد الرسعة‪،‬‬ ‫كل ما يف وسعنا ملجاراة رسعة العامل الحديث‪ ،‬باتت الغالبية العظمى من الناس ّ‬ ‫بوصفهــا فضيلــة ال منــاص إلنســان العــر الحديــث مــن التحـ ّـي بهــا‪ ،‬يف مختلــف مناحــي حياتــه‪ ،‬وتحـ ّ‬ ‫ـط‬ ‫والتأخــر املنظــور إليهــا‪ ،‬غالبـ ًا‪ ،‬بوصفهــا رذيلــة تــزري بصاحبهــا‪ ،‬وتلقــي بــه خــارج رسب‬ ‫مــن قــدر التباطــؤ‬ ‫ُّ‬ ‫الحداثــة والتطـ ّـور ومواكبــة العــر‪.‬‬

‫‪110‬‬

‫لويي ‪Hélène -‬‬ ‫وإذ‬ ‫ِّ‬ ‫تتبيــن األشــياء»‪ ،‬تتب ّنى «هيليــن ّ‬ ‫«بضدهــا ّ‬ ‫التأخر ‪Éloge du re� -‬‬ ‫‪ »L’Heuillett‬فــي مؤلَّفهــا «في مديح‬ ‫ُّ‬ ‫تصور ًا مبتكر ًا يخالف الســائد‪،‬‬ ‫‪( »tard‬ألبان ميشــيل‪، )2020 ،‬‬ ‫ّ‬ ‫التأخــر‪ ،‬وتبــرز مزايــاه‪،‬‬ ‫ـد ُد هــذه الباحثــة فضائــل‬ ‫ُّ‬ ‫حيــث ُت َعـ ِّ‬ ‫وتســتعرض المنطلقــات واألســس الثاويــة خلــف مــن ينتهجه‬ ‫فلســفةً فــي الحيــاة‪ ،‬ومــن يتب ّنــاه شــك ً‬ ‫ال مــن أشــكال مقاومــة‬ ‫ســلطة الوقــت‪ ،‬واطّ ــراح وسواســه‪ ،‬وإعــادة ضبــط بوصلتــه‬ ‫بمــا يتيــح الفرصــة إلبطــاء اإليقــاع‪ ،‬وإبطــال ضغــط الزمــن‬ ‫واســتعادة الصفــاء الذهنــي الــذي مــن شــأنه أن يســعفنا فــي‬ ‫ـذوق‬ ‫تر ُّقــب األشــياء‪ ،‬واستشــرافها‪ ،‬واإلحســاس بقيمتهــا‪ ،‬وتـ ُّ‬ ‫ـرو‪ ،‬وا ِّتــزان‪.‬‬ ‫جمالهــا بتـ ّ‬ ‫ـأن‪ ،‬وتـ ٍّ‬ ‫فئتين‪:‬‬ ‫إلى‬ ‫ـن‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫بالزم‬ ‫الفرد‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫عالق‬ ‫إلى‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫بالنظ‬ ‫ـم‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫العال‬ ‫ينقســم‬ ‫ْ‬ ‫وربما قبلــه بقليل‪ ،‬وفئــة ال تعبأ‬ ‫فئــة تصــل دائمـ ًا في الوقــت‪َّ ،‬‬ ‫بالوقــت‪ ،‬وال تعيــر َبــا ً‬ ‫ـدد خمس‬ ‫ـ‬ ‫المح‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫الموع‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫لتأخرهــا‬ ‫ال ُّ‬ ‫َّ‬ ‫عشــرة دقيقــة أو أكثــر‪ .‬الفئــة األولــى يعتريهــا قلــق وجــودي‬ ‫توجــس مــن عدم االلتــزام بالوقــت والوفــاء بالموعد‪،‬‬ ‫يغذّ يــه ّ‬ ‫همهــا الوحيــد إثبــات وجودهــا بحضورهــا فــي اللحظة نفســها‬ ‫ّ‬ ‫يتعيــن علــى الطــرف اآلخــر الوفــاء بهــا؛ لذلــك غالب ـ ًا‬ ‫التــي‬ ‫َّ‬ ‫ـمرة علــى عقــارب‬ ‫مــا تكــون عيــون أصحــاب هــذه الفئــة مسـ َّ‬ ‫الســاعة حيــث تســتحوذ على تفكيرهــا فكرة االســتثمار األمثل‬ ‫للوقــت‪ ،‬وإغــاق منافذ إهداره‪ ،‬والتح ُّقق من االمتثال الحرفي‬ ‫إل عند الضرورة‬ ‫لجــدول المواعيــد‪ ،‬واســتبعاد فرص تعديلــه ّ‬ ‫القصوى‪.‬‬ ‫دوامــة الســرعة‪ ،‬وال‬ ‫أمــا الفئــة الثانيــة فــا تـ ّ‬ ‫ـزج بنفســها فــي ّ‬ ‫ّ‬ ‫تراقــب عقــارب الســاعة‪ ،‬لكنهــا تفلــت‪ ،‬بــذكاء‪ ،‬مــن خيــوط‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫تتنصــل مــن مســؤولية االلتزامــات والوفاء‬ ‫شــرنقة الوقــت‪ ،‬إذ‬ ‫ّ‬ ‫بالمواعيــد‪ ،‬ال يشــغلها ســوى التخفيــف مــن وطــأة اإلســراع‬ ‫ومــن وتيــرة العجلــة‪ ،‬واتِّخاذ مســافة كافية الســتباق األشــياء‬ ‫واألحــداث؛ فبالنســبة إلــى هــذه الفئــة‪ ،‬تتج َّلــى قيمــة الوقــت‬ ‫فــي اللحظــة التــي نعيشــها‪ ،‬ونحــن أحــرار‪ ،‬بعيــد ًا عــن كلّ‬ ‫مميزات‬ ‫قيــد زمنــي أو ســباق يائــس مــع الزمــن‪ ،‬وهــذه إحــدى ِّ‬ ‫«األشــخاص البطيئيــن» الذيــن يســلّمون‪ ،‬مســبقاً‪ ،‬بعــدم‬ ‫يتبوأ مكانة‬ ‫الجــدوى من محاولة مجاراة عصر الســرعة الــذي ّ‬ ‫خاصــة ضمــن العالــم الصناعــي الحديــث‪ ،‬تجعلــه أنموذجـ ًا‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫والتطــور والحيــاة‪ .‬فبينمــا تنخــرط إيقاعــات‬ ‫للنمــو‬ ‫ا‬ ‫مثاليــ‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫التأخــر يرمــز‬ ‫ـتمر‪ ،‬لــم يعــد‬ ‫ـ‬ ‫مس‬ ‫ـارع‬ ‫ـ‬ ‫تس‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـاة‬ ‫ـ‬ ‫العمــل والحي‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫إلــى الفوضــى واالســتهتار والالمبــاالة‪ ،‬بــل‪ -‬علــى العكــس من‬ ‫عامــة تلقــي بظاللهــا علــى‬ ‫ذلــك‪ -‬صــار‬ ‫ُّ‬ ‫التأخــر حالــة وجوديــة ّ‬ ‫الكثيريــن‪ .‬وضمــن هــذا الســياق‪ ،‬تتســاءل الكاتبــة‪ :‬ألــم ِ‬ ‫يحــن‬ ‫األوان‪ ،‬بعــد‪ ،‬لكــي نســتعيد شــك ً‬ ‫الحر ّيــة فــي‬ ‫ال مــن أشــكال‬ ‫ّ‬ ‫عالقتنــا بالوقــت؟ أال يمكــن‪ -‬مثـاً‪ -‬التخ ّلــي‪ ،‬نهائيـاً‪ ،‬عــن فكرة‬ ‫وإنتاجيــة؟‬ ‫فاعليــة‬ ‫تدبيــر الوقــت بطريقــة أكثــر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التأخــر المجــال الــذي تســعى الباحثــة إلــى استكشــاف‬ ‫يم ِّثــل‬ ‫ُّ‬ ‫مؤداهــا أننــا إن تأخرنــا قليـ ً‬ ‫ا‬ ‫أســراره‪ ،‬حيــن تدافــع عــن فكــرة ّ‬ ‫فســنجد الوقــت الــازم لتحقيــق رغباتنــا وآمالنــا بــدل إبــادة‬ ‫الوقــت فــي إشــباع نزواتنــا واندفاعاتنــا المحمومــة نحــو‬ ‫ـح الوقــت» وضيقــه وتقليــص‬ ‫األشــياء‪ ،‬وأن نواجــه فكــرة «شـ ّ‬ ‫المهمــات المتتاليــة‪ ،‬بمــا‬ ‫ـاز‬ ‫ـ‬ ‫حيــزه الــذي لــم يعــد كافيـ ًا إلنج‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫للتعمــق فــي األشــياء‪ ،‬والنفــاذ‬ ‫التأخــر مــن فرصــة‬ ‫يمنحــه‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫إلــى حقيقتهــا‪ ،‬وقــد قادهــا ذلــك إلــى التركيــز علــى «اإليقــاع‬


‫ـاص» لألشــخاص البطيئيــن‪.‬‬ ‫الخـ ّ‬ ‫لتتوصــل إلــى أن‬ ‫تح ِّقــق الباحثــة فــي الجــذور التاريخيــة لكلمــة «بطــيء»‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫اســتعماالت هــذه الكلمــة قديمـ ًا (منــذ العصــور الوســطى) لــم تكــن تنطوي‬ ‫أي داللــة ســلبية كمــا هــو معهــود اآلن‪ ،‬فإلــى حــدود بدايــة القــرن‬ ‫علــى ّ‬ ‫الخامــس عشــر الميــادي‪ ،‬كانــت اللفظــة الالتينيــة «‪ »lentus‬تحيــل‪ ،‬عند‬ ‫الشــعراء وعلمــاء الطبيعــة‪ ،‬علــى كلّ مــا ي َّتســم بالليونــة والمرونــة مثلمــا‬ ‫يــدلّ نقيضهــا على كلّ ما ي َّتســم بالجمود والصالبة‪ .‬وتشــير الباحثة‪ ،‬أيضاً‪،‬‬ ‫إلــى أن هــذه الكلمــة قــد اسـ ُتخدمت‪ -‬بالدرجــة األولى‪ -‬فــي عالــم النباتات‪،‬‬ ‫التأمليــة للطبيعــة‪ ،‬كمــا أنهــا لــم تشــهد انتقالهــا‬ ‫وفــي إطــار الممارســات‬ ‫ُّ‬ ‫إل فــي عصــر النهضــة حيــث صــار «البــطء» مرادفـ ًا لـ«النقــص فــي‬ ‫الداللــي ّ‬ ‫الســرعة»‪ ،‬ومنطوي ـ ًا علــى مفاهيــم الكســل والتقاعــس والتراخــي وحتــى‬ ‫ـدد المجتمعات الحديثة‪،‬‬ ‫الشــهوة‪ .‬وهكــذا‪ ،‬صار البطء هو الخطر الذي يهـ ِّ‬ ‫ـر القــرون‪ -‬كأداة رئيســة تقــاوم المســيرة المزعومة‬ ‫حيــث اسـ ُتخدم‪-‬على مـ ّ‬ ‫عدة‬ ‫ذلك‪،‬‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫يفتح‪،‬‬ ‫البطيئين‬ ‫ـخاص‬ ‫ـ‬ ‫األش‬ ‫ـود‬ ‫ـ‬ ‫وج‬ ‫أن‬ ‫ـدم اإلنســاني بيــد‬ ‫للتقـ ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ممكنــات‪ ،‬تنضــوي جميعهــا تحــت شــكل مــن أشــكال المقاومــة‪ ،‬بحســب‬ ‫مــا تــراه الكاتبــة‪.‬‬ ‫تنبــه «هيليــن‬ ‫وانطالق ـ ًا مــن الرفــض المعلــن لســلطة الخضــوع للســاعة‪ّ ،‬‬ ‫لويــي» إلــى أن الوقت‪-‬من وجهة نظر فلســفية‪« -‬فــي طريقه إلى االنقراض»‬ ‫ومكبليــن»‪ .‬ووفــق هــذا المنحــى‪ ،‬تدعــو‬ ‫وأن عالقتنــا بــه تجعلنــا «مذبذبيــن‬ ‫ّ‬ ‫الكاتبــة إلى إعادة اســتثمار الفــارق الطفيف الذي ي َّتصل بالوتيرة المفروضة‬ ‫علينــا‪ .‬مــع ذلــك‪ ،‬تظــلّ هــذه الدعــوة غامضــة؛ إذ كيــف يمكــن الدفــاع عــن‬ ‫المتمدنة التي تقوم‬ ‫شــيء يمتلك كلّ خصائص الســلوكيات المعاصرة غير‬ ‫ّ‬ ‫ـض الطــرف عــن اختــاف الســمات‬ ‫علــى تجاهــل وقــت اآلخريــن‪ ،‬وعلــى غـ ّ‬ ‫الزمنيــة عنــد اآلخر؟‬ ‫التأخــر الــذي تدعــو إليــه الكاتبــة ال يعنــي إيــاء مزيــد مــن االهتمــام‬ ‫إن‬ ‫ُّ‬

‫للوقــت‪ ،‬بقــدر مــا يفيــد اتِّخــاذ مســافة بيننــا وبيــن الوقــت حتــى نح ِّقــق‬ ‫قــدر ًا مــن االســتمتاع بمباهــج الحيــاة‪ ،‬ونكــون قادريــن علــى تقديــر قيمــة‬ ‫مما ســبق هي أن‬ ‫اللحظات التي نعيشــها‪ .‬والعبرة التي يمكن أن ُتســتخلص ّ‬ ‫أوالً‪ -‬يرفضون االمتثال‬ ‫يتميزون بوضــع‬ ‫األشــخاص البطيئيــن‬ ‫ّ‬ ‫خاص؛ فهــم‪ّ -‬‬ ‫ّ‬ ‫اده الفكــرة القائلــة‪« :‬كلّمــا أســرعت‬ ‫رو‬ ‫ـق‬ ‫ـ‬ ‫يعتن‬ ‫ـذي‬ ‫ـ‬ ‫ال‬ ‫‪،‬‬ ‫ـام‬ ‫ّ ُ‬ ‫ألوامــر النســق العـ ّ‬ ‫ْت نجاحات أكبــر»‪ ،‬وهم‪ -‬ثانيـاً‪ -‬يجعلون‬ ‫أكثــر‪ُ ،‬حـ ْز َ‬ ‫ـب الســبق وح ّقق َ‬ ‫تق َ‬ ‫َصـ َ‬ ‫مــن تباطئهــم فرصــة لتقليــب األمــور علــى وجوههــا المحتملــة‪ ،‬واختيــار‬ ‫األنســب منهــا واألصلــح‪ ،‬وتجنــب‬ ‫مطبــات العجلــة ومزالق اإلســراع في كلّ‬ ‫ّ‬ ‫مــا لــه عالقــة باتِّخــاذ القــرارات الحاســمة التــي تتر َّتــب عنهــا‪ ،‬بالضــرورة‪،‬‬ ‫تغييــرات جذريــة فــي مســارات الحيــاة‪.‬‬ ‫التحــدي مــع أننــا‬ ‫ضــده مختلــف أشــكال‬ ‫إننــا نســابق الوقــت‪ ،‬ونخــوض‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫نعــرف‪ ،‬مســبقاً‪ ،‬أن النتيجــة حتميــة؛ فالوقــت يســبقنا‪ ،‬ويحتوينــا فــي‬ ‫النهايــة‪ .‬إنــه يحيــط بنــا إحاطــة الســوار بالمعصــم‪ ،‬فــا غرابــة أن يــوكَ ل‬ ‫مهمــة ضبطنــا وتوجيهنــا ومحاصرتنــا فــي يقظتنــا وحتــى‬ ‫لســاعاتنا اليدويــة‬ ‫ّ‬ ‫ـدة‬ ‫فــي غفواتنــا‪ ،‬التــي نصحــو منهــا مذعوريــن خوف ـ ًا مــن أن نجــاوز المـ ّ‬ ‫الزمنيــة المســموح لنــا بهــا‪ .‬نحــن‪ ،‬إذن‪ ،‬فــي حاجــة دائمــة إلــى منبــع وقتي‬ ‫غيــر قابــل للنضــوب‪ ،‬لكــن هيهــات‪ :‬فالوقــت هــو الشــيء الــذي يرفــع‪ ،‬منــذ‬ ‫ـرابيته في افتقار الناس‬ ‫البداية‪ ،‬شــعار الخصاص‪ ،‬ويســتعلن‬ ‫حربائيته وسـ َّ‬ ‫َّ‬ ‫إليــه‪ ،‬ومراهنتهــم عليــه‪ .‬وهكــذا‪ ،‬نحــن نــدور فــي المدار نفســه ألننا أســرى‬ ‫الوقــت الــذي أضــاع مفتــاح الزنزانة‪ ،‬ليطــلّ علينا من نافذتها لماماً‪ ،‬ســاخر ًا‬ ‫وســاحراً‪ ■ .‬فيصــل أبــو الطُّ ف َْيــل‬ ‫الهامش‪:‬‬

‫‪ - 1‬هيليــن لويــي‪ :‬أســتاذة الفلســفة والتحليــل النفســي فــي جامعــة الســوربون‪،‬‬

‫بفرنســا‪ .‬مــن مؤلفاتهــا‪ :‬التحليــل النفســي نزعــة إنســانية‪( ،‬غراســي)‪2006 ،‬‬ ‫أبريل ‪150 2020‬‬

‫‪111‬‬



Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.