ميشيل بوتور
بحوث
98 ميشيل بوتور بحوث في الرّ وَ اية َ الجديدة يوليو 2019
ترجمة:
فريد أنطونيوس
97
صانع الـمرايا مختارات شعرية ترجمة :خالد الريسوني
لِ نَّنِي إِ ْذ أَمْشِ ـي بِاتِّجَا ِه ِه أَتَذكّ ُر أَ َّن مر َ ْكَ َز ذَاتِـي ِفـي ِفلِسْ طِ نيْ. َوإِذَا ق َ َال لِـي أَ َ ح ٌد لَي َ ْس ث َـ َّم َة ِفلِسْ طِ نيْ، حِي َنئِذٍ َمركَز ْ ُ ذَاتِـي سَ يَسْ قِي ِه العَالَمُ، حيْثُ لَي ُه َو ُهنَال َِكَ ، ْس ث َـ َ م ة َ خ ر َّ َ ِي َ ط ِ ة ٍ، ف ـي ال ُ حلْمِ سَ َيكُونُ.
خوان مانويل روكا
ُ ني أ ْغ ِن َّي ُة ِفلِ ْ سطِ ْ َرأَي ُ ْت َز ْهر ًة َ تُشْ ِب ُه ِم ْنقَا َر الطُّوقَانِ ، َرأَي ُ طِ ْت ْفالً يَ ْعز ُِف الك َ َم َن ِفـي ال َ حدِ ي َقةِ، َرأَي ُ ْت ال ِّريحَ تَع ُ ْب ُمت َ ْ َس ِبلَ ًة ِبأَشْ جَا ِر الج ْو ِز لَ ِكنِّي اليوم حدَّثَ َ ْ َ الَ أسْ تَطِ ي ُع أَ ْن أَتَ َ ش ٍء آ َ عَنْ َ ْ خر سِ و َ َى َزهْر ِة دَمٍ ِفـي ب َْيُوتَ ، ُم ْ خ َتلِ َف ٍة عنْ طِ جهٍ، فْلِ ب َْيوتَ ب َِال َو ْ ُم ْ خ َتلِ َف ٍة عَنِ ال ِّري حا ُ ِ مل ت ِ َس ِ ب َ ل ة ب ِ ِاال ن ت ْ ح َا ب َاتْ . ّ كل ٍ ِفـي صَ مْت ث َـم َة يني مُتخ ٍ َّ َرج ٌُل ِفلِسْ طِ ٌّ َف. الطَّر ُ ِيق إلَـى بَيتِي يَ ْغدُو طَوِيالً
يونيو 2019
112
أبريل 150 2020
يف ال ّر َواية ال َ جديدة
ترجمة :فريد أنطونيوس
العـامل الـذي نعيـش فيـه يتغـر ب ِّ رسعـة كبـرة .والتقنيـات التقليديـة ل لـرسد ،مل تعد صالحة السـ ال تيعاب جميع العالقات جديـدة التـي تنشـأ عـن هـذا ا لوضـع ال جديـد .وإن التفتيـش عـن األشـكال ال جديـدة الخياليـة التـي بقـوة اسـتيعاب تتمتَّـع ّ كـرى ،ي لعـب، ً دور ا حاسـا يف تحيـن مفهومنـا للواقـع اآلين.. لكننـا نعـرف جيـداً أن هنالـك أ وضاعـ ًا تتصـف بعـدم القـدرة عـى االنعـكاس ،وال تقـوم ّإال بالوهـم الـذي تسـبغه عـى موض وعهـا ،وإليهـا تنتمـي تلـك ا ألعـال األدبيـة التـي ال ميكـن أن تظهـر الوحـدة يف دا خلهـا، وإليهـا تنتمـي مواقـف الروائيـن الذيـن ال ِّ يتس ـاءلون عـن طبيعـة صحة عملهـم وعن ّ األشـكال التـي يسـتعملونها ،هـذه األ تن شـكال التـي ال ميكـن أن عكـس دون أن تك شـف ،عـى الفـور، عـن تقصرهـا وكذبهـا، وهـذه األ شـكال التـي تعطينـا صـورة عـن الحقيقـة تناقـض كلّ املناقضـة ال حقيقـة التـي جعلتها تـرى النور، والتـي تحاول ت أن خفيهـا .هنـا خـداع ينبغي للناقـد أن يكشـفه ،ألن أعا ً ال أدبية كهـذه ،مـع كلّ مـا تتمتَّـع بـه مـن روعـة ،تُبقـي عـى الظـالم، وتزيـده حلكـة، وتبقـي ال ضمـر يف متناقضاتـه ،ويف عـاه الـذي يخـى أن يقـوده إىل أسـوأ حـاالت الفـوىض.
خْ و ْ َان َمان ِْويلْ رُّوكَا
َصان ِ ُع الـ َم َرايَا مختارات شعرية تر جمة :خالد الريسوني
رئيس التحرير
فـالــح بن حســـني الهـاجـــري
مدير التحرير
خـــالد العــودة الفـضـــيل
التحرير
محـســن العـتيقـي نور الهدى سعودي
التنفيذ واإلخراج
رشا أبوشوشة هـــنـد البنسعيد فلوه الهاجري
جميــع املشــاركات ترســل باســم رئيــس التحريــر عــر الربيــد االلكــروين للمجلــة أو عــى قــرص مدمــج يف حــدود 1000كلمــة عــى العنــوان اآليت: ص.ب - 22404 :.الدوحة -قطر
البريد اإللكتروني:
editor-mag@mcs.gov.qa aldoha_magazine@yahoo.com تليفون )+974( 44022295 : فاكس )+974( 44022690 :
ُعــر عــن املــواد املنشــورة يف املجلــة ت ِّ ُعــر بالــرورة عــن رأي آراء كتّابهــا وال ت ِّ الــوزارة أو املجلــة .وال تلتــزم املجلــة بــردّ أصــول مــا ال تنــره.
ملواجهة «كورونا»؟ ومثقَّف ًا َ كيف نبني مجتمع ًا واعي ًا ُ ويقــال في تعريــف الثقافة ُيقــال فــي تعريــف ُّ التخصــص «إنــه معرفة كلّ شــيء عن شــيء»ُ ، ـاء علــى «إنهــا معرفــة شــيء عــن كلّ شــيء» ،وهنــا وجــدت مج ّلــة «الدوحــة» ضالتهــا ،وبنـ ً الثقافية. رشــدت بوصلتهــا ذلــك ّ ّ ـلبية الراهنــة التــي تحيــط بنــا، والكتشــاف دور الثقافــة الكبيــر علينــا النظــر إلــى النتائــج السـ ّ أو نقــع بهــا ،ثــم نبتعــد قليـ ً ا لنــرى مــا هــي األســباب الكامنــة وراء هــذه النتائــج ،وهنــا نــرى وربما الفســاد أســباب ًا شـ َّتى للتخ ُّلــف فــي كلّ المياديــن ،مثــل اإلهمــال ـيَّ ، ّ اإلداري ُ والمؤسسـ ّ ً ـرع عــن ـ وتتف ـدر ـ تنح ا ـ جميع ـباب ـ األس ومــا شــابه ،ولكــن لــو ابتعدنــا أكثــر لوجدنــا أن هــذه َّ ِع ّلــة واحــدة كامنــة وراءهــا جميع ـاً ،أال وهــي ِع ّلــة الوعــي ،فعندمــا يحضــر الوعــي تغيــب وتقويته هــذه العلــل ،وعندمــا يغيــب تتفاقــم ،والعالقــة عكســية ،والثقافــة هــي رافد الوعــي ّ وتوســيع دائرتــه. ـم هنــا تلعــب المنابــر الرائــدة دورهــا الحاســم ،وتؤتــي أكلهــا فــي إدارة الوعــي الفـ ّ ـردي ،وأهـ ّ قضيتنــا العضــال فيــه ،فبالدنــا مليئــة ،وللــه الحمــد، منــه الوعــي الجمعــي ،الــذي تكمــن ّ بالمواهــب والعطــاءات والبــراءات ،ولكنهــا -غالباً -ما تكــون فردية متناثــرة ال تكفي للنهوض ّ المجتمعي . ّ الرقي عند االزدهار ،وهــي درج اإلنقاذ عند األزمات وحدوث الكوارث، ـلم ـ س ل أو ـي الثقافــة هـ ّ ّ ً حد على ا ـ جميع ـدول ـ ال ـال ـ ويط ـوم، ـ الي ـره ـ بأس ـم ـ العال د ـد ـ ه ي ـذي ـ ال ـي ـ الكارث ـال ـ المث وال ســيما ُ ِّ ٍّ عالمي. الصحــة العالمية إلى وبــاء ـول بتقدير منظَّ مة َّ ســواء ،وهــو وبــاء «كورونــا» ،الذي تحـ َّ ّ الطبيــة لضــخ ـة ـ الثقاف ـل ـ تتدخ ـم ـ ل ـإن ـ ف ، ـي ـ ثقاف ـاط ـ من طبيـ ًا فإنــه ّ ّ قبــل أن يكــون منــاط األمــر ّ ّ تتدخــل ـم ـ ل وإن ـر. ـ خطي ـد ـ ج ـر ـ فاألم ـه ـ اجتناب ـب ـ يج ـا ـ وم ـه ـ فعل اإلرشــادات وتكشــف مــا يجــب ّ االجتماعيــة للنهــي عــن الحشــود ومراكــز االزدحــام وتقليــص الزيــارات والواجبــات الثقافــة ّ االجتماعية والحفاظ على مســافة كافية ،فإن التفشــي االلتزامات ـات ـ الجماع ـف وتخفيـ وكلّ ّ واقــع ال محالــة ،وإن الوبــاء سيستشــري فــي الشــعوب كالنــار فــي الهشــيم .ولعــلّ الجانــب الســن والرفــق بهم ،وهــم األكثر عرضة ـاني كطمأنــة كبار ِّ ـي األهــم هــو الجانــب اإلنسـ ّ التثقيفـ ّ للهــاك بهــذا الفيــروس ،ولتالفــي حــاالت العــدوى العمــد التــي يقــوم بهــا بعــض المصابيــن ـقٍ ـي ليحــلَّ باآلخريــن مــا حــلَّ بهــم ،ولتخفيــف تهافــت النــاس علــى تخزيــن مــن منطلـ أنانـ ّ ـم التموينيــة المــواد والطبيــة ،والــذي مــن شــأنه أن يتسـ َّـبب بســوء التوزيــع ،فيســتأثر قسـ ٌ ّ ّ األنانيــة بســبب الخــوف. ـزداد ـ وت ـم، ـ غيره دون ـع ـ بالبضائ ـاس ـ مــن الن ّ بالمثقَّفيــن فــي هــذه المرحلة مثــل دور مضيفــي الطيران عنــد الكوارث ـوط ـ المن ـدور ـ ال يشــبه ُ ـراري ،حيــث يكــون الخــوف ســيد الموقــف ،فيكــون عمــل الجويــة وحــاالت الهبــوط االضطـ ّ ّ المضيــف مضاعــف المشــقة ،فعليــه أن يتجــاوز خوفــه ،وأن يعمــل علــى طمأنــة الــركاب، وإرشــادهم إلــى الخطــوات التــي قــد تنفعهــم ،وتخ ِّفــف مــن صدمتهــم ،وقــد تكــون طــوق وإل ســينقلب اإلعالم المثقَّفيــن والمنابر المســموعة عملــهّ ، نجاتهــم ،وهــذا مــا ينبغــي علــى ُ مــن نعمـ ٍ ـة إلــى نقمــة ،وســيكون فعــل فعلــه فــي إثــارة الرعــب بيــن النــاس ،ولم يفعــل فعله فــي إنــارة الطريــق ووضــع التدابيــر. تميــزت بــه مج ّلــة «الدوحــة» التــي ال تغيــب فــي هــذه األوقــات ،بــل تكــون أكثــر وهــذا مــا َّ ـوي الكبيــر ،وهــذا ال ينفصــل عــن برنامج الدوحــة عموم ًا ـ التوع ـا ـ ودوره ـا، ـ بطروحاته حضــور ًا ّ واالهتمــام مــن أعلــى المســتويات والوقــوف علــى الكارثة بكلّ الطاقات ،والســهر علــى تدابير الوقايــة ،ال مــكان لالســتهتار ،وال مجــال لدفــن الــرؤوس فــي الرمــال ،وال يمكــن تخطــي هذه والجمعيــة العاليــة. الفرديــة بمعيــة الثقافــة المرحلــة ّإل ّ ّ ّ
رئيس التحرير
150 AL-DOHA MAGAZINE
السنة الثالثة عرشة -العـدد مئة وخمسون شعبان - 1441أبريل 2020
السنة - 13العدد - 150شعبان - 1441أبريل 2020
)Young man plays the violin on the balcony during the coronavirus quarantine in Italy (Poigina Elena
إدارة اإلصدارات والرتجمة
وزارة الثقافة والرياضة الـــدوحــــة -قـــــطــــر
صـــدر الــعــدد األول يف نــوفــمــر ،1969ويف يــنــايــر 1976أخـــذت توجهها الــعــريب واســتــمــرت يف الـــصـــدور حــتــي يــنــايــر عــــام 1986لــتــســتــأنــف الـــصـــدور مـــجـــدد ًا يف نــوفــمــر .2007
األفراد
الدوائــر الرســمية
خارج دولة قطر دول الخليــج العــريب
120ريــا ً ال 240ريــا ً ال
300ريــال
باقــــــي الدول العربية أمـــــــــــــــــــيــــركـــــــا
100دوالر 150دوالر ًا
كــــنــــدا وأسرتالــــيا
عودة الوباء -املجهول يف الجائحة -تربية العالم -عولـمة الفزع -لقاح ضد الخوف -عالم غيـر آمن -أدب الفواجع واالستشـراف...
75يــورو
فاكس )+974( 44022690 : الربيد اإللكرتوين:
distribution-mag@mcs.gov.qa
مانغويل في تونس انتصار الخيال على الواقع
doha.distribution@yahoo.com
الشؤون المالية واإلدارية finance-mag@mcs.gov.qa
4
6 @aldoha_magazine Doha Magazine
10
(مي ممدوح)
فيروس القرن المستفادة من الجائحة الدروس ُ
الموزعون وكيل التوزيع يف دولة قطر: دار الرشق للطباعة والنرش والتوزيع -الدوحة -ت 44557810 :فاكس44557819 :
12
وكالء التوزيع يف الخارج: فاكــس /0096824649379 :الجمهورية اللبنانية -مؤسســة نعنوع الصحفيــة للتوزيع -بريوت -ت:
- 009611666668فاكــس /009611653260 :جمهورية مرص العربية -مؤسســة األهرام -القاهرة - ت - 002027704365 :فاكس /002027703196اململكة املغربية -الرشكة العربية اإلفريقية للتوزيع
14
والنرش والصحافة ،سربيس -الدار البيضاء -ت - 00212522249200 :فاكس00212522249214:
دولة قطر
10رياالت
اململكة املغربية
15دره ً ام
سلطنة عامن
800بيسة
الجمهورية اللبنانية
3000لرية
جمهورية مرص العربية
10جنيهات
(شيرين ماهر)
«رأس المال واأليديولوجيا» ماضي ومستقبل األنظمة التفاوتية
16
األسعار
(ربيع ردمان)
َّ االصطناعي الذكاء ّ في مواجهة الوباء
ســلطنة ُعامن -مؤسســة ُعامن للصحافة واألنباء والنرش واإلعالن -مســقط -ت- 009682493356 :
أبريل 150 2020
(محمد مستعد)
ُك َّتاب الصين يواجهون: زهرة برقوق ال تسقطها الرياح
مواقع التواصل
aldoha_magazine
(آدم فتحي)
األدبي لفرانز كافكا في المحاكم اإلرث ّ سياسي بالنسبة إلسرائيل صراع ّ
ترســـل قـيمة االشـــتراك بموجـب حـــوالة مصـــرفية أو شـــيك بالريال القــطـري باســم وزارة الثقافــة والرياضــة علــى عنــوان المجلة.
2
صدمـة الـجائحـة
تليفون )+974( 44022295 :
300ريــال
دول االتحــاد األورويب
Year 13 - No. 150 Shaaban 1441 - April 2020
االشتراكات السنوية
التوزيع واالشتراكات
العدد - 150أبريل 2020
ملتقى اإلبداع العريب والثقافة اإلنسانية
Doha Magazine
تصدر عن:
داخل دولة قطر
@aldoha_magazine
ثــقــافـيـة شــــهــريــة
aldoha_magazine
150
الغالف:
العدد
(عثمان عثمانية)
ُ «الـناطق باسم» ُ الج ْبن والتزييف قناع ُ
18
(محمد برادة)
ملفات | قضايا |
42-49
بصمات..
صدمة الجائحة
22-41
مجيد طوبيا
كوفيد ..19عوملة الفزع
جان كالبيسرت :العالم غري آمن
رسديّة مجيد طوبيا :شكل آخر من الكتابة
املجهول يف زمن الجائحة
سقوط ح ّر نحو حالة من الذعر
«كورونا» الذي يُعيد «تربية» العالم
أوريان غيلبو« :عودة األوبئة»
(محمد الشحات)
«الهؤالء» ..رصخة يف وجه التسلّط والالإنسانية (حسن المودن)
(محمد مروان)
(خالد بلقاسم)
(عبدالرحيم العطري)
مالمح قصصية :املدينة والعالم
يف الحاجة إىل لقاح ضد الخوف!
(رضا عطية)
48
جان برينيت :الفكر باللّغة العربية (حوار :ليسبث آرمان -تــ :عبدالله بن محمد) ّ
58
حين أصبحا داروين وماركس شخصيتين روائيتين (رشيد بنحدو)
75
الماسي (قصص :فانغ فانغ -تــ :ميرا أحمد) الحلم ّ
80
محمد الحارثي األخيرة (إبراهيم سعيد) رحلة َّ
ضيف غير مرتقَ ب (قصص :فريد ادغو -تـ :صفوان الشلبي)
72 77
روبي كُ ـور ..ملكة شعراء إنستغرام (تــ :بشير رفعت)
جوائح في الفن التصويري بين القرنيين الرابع عشر والتاسع عشر (أثير محمد علي)
انتصار الموت (نورة محمد فرج)
82
94
100
ٍ الصراع (ربيع ردمان) رحلة بوتا إلى اليمن ..مرثيةٌ لبالد أرهقها ِّ
104
التأخر! (فيصل أبو الطُّ فَ ْيل) مديح ُّ
110
ذكريات شخصية عن طه حسين ..الحلقة الرابعة (صبري حافظ)
106
52-64
أدب األ ْوبِئة..
فواجع االسترشاف! عم تدور روايات العدوى؟ إياك أن تقرتب!ّ ..
يف عصور مختلفة
تُبهر العالم بتنبؤاتها
األدب والوباء
تزدهر ثم تختفي ..قصص الخوف والبطوالت (توبياس كارول -تــ :عبدالله بن محمد)
(حوار :بول سوجي -تــ :مروى بن مسعود)
حوارات | نصوص | ترجمات
النقدية (فخري صالح) فن المراجعة جيمس وودّ .. ّ
(نبيل موميد)
(نورمان لويس -تــ :مروى بن مسعود)
(محمد اإلدريسي)
تقارير | أدب | فنون | مقاالت | علوم |
(جيل ليبور -تــ :مجدي عبد المجيد خاطر)
(حوار :ماريا ماست -تــ :شيرين ماهر)
(أثير محمد علي)
(سارة كولين -تــ :حسام حسني بدار)
52
إرنيستو كاردينال
شاعر الثورة السندينية (تــ :خالد الريسوني)
56
مازن أكثم سليمان..
ِّ وري يف زمن الحرب الس ّ الشعر ُّ (حوار :عماد الدين موسى)
90
يوميات يف الحجر
لحظات أخرية قبل الهروب (يوسف وقاص)
92
إلغاء رحلة
اختبار الهشاشة البرشيّة!
(جمال الموساوي)
أبريل 150 2020
3
اليشء باليشء يُذكر
مانغويل يف تونس
انتصار الخيال عىل الواقع أتيــح يل أن أحــاور عــدداً مــن الكُ َّتــاب والشــعراء األعــام الذيــن تركــوا يف عقــي ووجــداين أثــراً ال ُي َحــى ،أذكــر مــن بينهــم -عــى ســبيل املثــال -محمــود املســعدي وتوفيــق بــكّ ار ومحمــود أمــن العــامل وممــدوح عــدوان بأن حواري مــع ألربتو مانغويل واألبنــودي والبيــايت وإيــف بونفــوا ،والقامئــة أطــول مــن هــذا بكثــر .لك ّني أعرتف ّ ّ مبناســبة زيارتــه إىل تونــس يف 22فرباير/شــباط 2020سـ ّ ـيظل ذا نكهــة مختلفــة...
آدم فتحي (تونس)
4
يعــود ذلك إلى أسـ ٍ بميزات الرجل ـباب عديــدة ،يتعلَّق بعضهــا ّ حف بهــذه الزيارة من محطَّ ات وحضــوره ،ويتع َّلــق بعضها بما ّ خاصـاً .وهــي فرصــةٌ ســأظلّ مدينـ ًا دراماتيكيــة منحتهــا مذاقـ ًا ّ ّ للروائــي كمــال الرياحــي ،مديــر «بيــت الروايــة» ،الــذي بهــا ّ ـي بمحــاورة الرجــل ،وهــو يعــرف صلتــي بأعمالــه منــذ ـ إل ـد عهـ ّ صــدور مؤلَّفــه الشــهير «تاريــخ القــراءة» في طبعته الفرنسـ ّـية سنة .1998 لــم يتو َّقــع أحــد أن تحظــى هــذه الزيــارة بمــا حظيــت بــه مــن ـتثنائي» االهتمــام .ولعلّهــا مــا كانت لتصبــح هذا «الحدث االسـ ّ لــوال رغبــة وزيــر الثقافــة فــي إلغائهــا ،وإصــرار نخبــة مــن بــأن مــن األفضــل المثقَّفيــن علــى إنجازهــا .تعلّــل الوزيــر ّ ُ «إرجــاء» الزيــارة إلــى حين تسـلُّم الحكومة الجديــدة عهدتَها. وحين ُجوبِه بمبدأ «اســتمرار الدولة» واســتمراره في الموافقة أن الرجــل ثمــة مــن «أشـ َ ـاع» ّ علــى تظاهــرات أخــرى ،ا ّتضــح ّ أن ّ ألن والــده عمــل في إســرائيل حين كان طبــع»! ال لشــيء ّ إل ّ ُ «م ِّ هــو فــي الســنة األولــى مــن عمــره ،وغادرهــا حيــن كان هــو في الم ِ ناصرة الرابعــة! ّ أمــا مواقــف الرجــل ونصوصــه وتصريحاتــه ُ ـطينية فقد ا ّتضح أ ّنها ليســت بالشــفيع الكافي! ـ الفلس للقضية ّ ّ ِ ـلِ ـر دون «فضيحــة ـ يم أن ـح ـ الواض ـط ـ التخب ـذا ـ ه ـ ث لم مــا كان ْ ُّ ّ تونــس الجديــد ُة مدويــة .لذلــك هالَنــا أن تفقــد إعالميــة» ّ ُ ّ إل الحســابات بســبب تهــا مصداقي تصــرف ال موجــب لــه ّ ُّ ّ ـرف ـواتية الضيقــة .وبــدا لنــا ّ ّ السياسـ ّ أن فــي القبــول بهــذا التصـ ّ المبنــي علــى فق ـ ٍر ثقافــي مدقــع ني ـ ً المثقَّفيــن ا مــن كرامــة ُ ّ ّ التونسـ ّـيين .وكان أمــام مديــر «بيــت الروايــة» أن ينتصــر فــي للمثقَّفيــن ولموظّ فــي وزارة الثقافــة أيضـاً ،فهــو فــي شــخصه ُ ـد منهــم. ـ واح النهايــة ٌ
أبريل 150 2020
لــم يخــلُ المشــهد مــن محــاوالت االنتقــاص من قيمــة الضيف بدعــوى أ ّنــه ليــس بماركيــز الروايــة ،وليــس بأفالطــون الفكــر! كمــا لــم يخــلُ من محــاوالت الطعنِ فــي مضيفيه على أســاس والحق إل أل ّنه راحل! أ ّنهــم لــم يقفوا من الوزير موقفهــم ذاك ّ ّ أ ّنهــم لــم ينتظــروا هــذه «التظاهــرة» لمواجهــة خيــارات الوزير أن إصرارهم على إنجــاز التظاهرة لم يكن بمــا اســتطاعوا .كمــا ّ ـن َهــب أ ّنهــم وجــدوا فــي «الخطــأ ـ لك ـخص. ألي شـ ْ اســتهداف ًا ّ ـون ت ُزو «التوقيــت المناســب والميدان الـ ـميه ُسـ ْ ّ ـوزاري» مــا يسـ ّ سـ ِ لكَ ـب المعركــة ،فمــا العيــب فــي ذلك؟ ـم» ـ المالئ ْ أمــا قيمــة الرجــل فــا تحتــاج إلــى برهــان بعــد قرابــة الثالثيــن ّ األدبية الفكرية والمقاربة والقصة كتاب ًا ح ّتى اآلن ،في الرواية ّ ّ ُ ّ العابــرة لألجنــاس .صحيــح أ ّنــه لــم يصبــح ماركيــز الروايــة وال أفالطــون الفكــر ،وليــس ذلــك مــن غاياتــه ،لك ّنــه صــار َعلَم ـ ًا فــي ميدانــه .فهــو ذاكــر ُة القــراءة والكتابــة فــي العا َلــم بمــا ُيشــبه اإلجمــاع .كمــا اســتطاع بأســلوبه القريــب مــن أســلوب «م َعل ِ ِّمــه» بورخيــس أن يحقِّــق أصعــب معادلــة :احتــرام ُ ـراء فــي وقـ ٍ ـت واحــد ،فــي ـ ـن ـ م ـن ـ الماليي ـاب ـ وإعج ـاد، ـ ق ن ال َّ القُ ُ َّ العالميــة التــي ُت ِ رج َمــت إليهــا أعما ُلــه .هكــذا ـات ـ ّغ ل ال ـف ـ مختل ّ ـتحق لقــب «الرجــل المكتبــة» بامتيــاز .ومــا انفكّ ــت زياراتــه اسـ َّ إلــى مختلــف بــاد العالــم تحظــى باالهتمــام وتتــرك أثــر ًا فــي عقــول المســتمعين إليــه ووجدانهــم. يحدثني حديث ـو ـ وه معه ـت علــى ذلــك من خالل حــواري ّ َو َق ْفـ ُ ِ ـه إلى تعميــم «البؤس ـ بعض ـعى ـ يس َم ل عا ـي ـ ف ـاب، ـ ت ك ال ـق عاشـ ٍ ُ ُ «المســتهلكين» ،حيث ال شــيء الفكـ ّ ـري» لفبركــة المزيــد مــن ُ َ ِ أهم ّيــة االنتباه ـم ـ ث ـن ـ م . ـادي ـ م ـردود ـ م ـى ـ إل ـض ـ ف ي ـم ـ ل إن مهمـ ًا َّ ِّ ّ ُ ّ إلــى عالقة الكتابة بالجســد وعالقة الجســد بالقراءة ،فالخطر
ـدد المحامــل المحــدق بالكتــاب اليــوم ،فــي نظــره ،ليــس ناجم ـ ًا عــن تعـ ُّ قميــة بقــدر مــا هــو ناجــم عــن الهجــوم المنظّ ــم علــى اإللكترونيــة أو َّ الر ّ ّ النوعيــة» التــي مــن شــأنها أن تســاهم فــي تحريــر الجســد والفكــر «القــراءة ّ َ ألن ـعي البعــض إلــى إلغــاء الكتــاب مــن المشــهدّ ، والمخيلــة .مــن ثـ َّ ّ ـم سـ ُ َ ِّ َ ـم أن يفكّ ر بنفســه، ـ ث ـن ـ وم ـه، ـ نفس » ِك ر ـد ـ «ي أن ـارئ ـ الق ـم ـ ل تع ـاب ـ الكت قــراءة ُ َّ َ ـرر ويعمــل علــى تغييــر واقعــه ،وقد بــات منتجـ ًا ال مســتهلكاً، ـ يتح ـو ـ ه فــإذا َّ ومبدعـ ًا ال م ّتبعـاً ،ومواطنـ ًا ال جــزء ًا مــن قطيــع. ـوار إلــى بورخيــس ،معلِّمــه وقدوتــه ،الــذي حــاور فــي نصوصــه أخذَ نــا الحـ ُ ـامية ،بدايــةً مــن القــرآن ،مــرور ًا بابــن ســينا ـ اإلس ـة ـ العربي ـار ـ اآلث الكثيــر مــن ّ ّ والخيــام والرومــي والقزوينــي والجاحــظ وغيرهــم ،وصــو ً ال إلــى وابــن رشــد ّ ألــف ليلــة وليلــة التــي كانــت مثــار إعجابــه الكبيــر ،ولكــن ال شــيء ُيذكــر ـي تو َّقــف عنــد تلــك المرحلــة التــي نعتـ ّز بهــا بعــد ذلــك، ّ وكأن األدب العربـ ّ ً عربية حديثــة لمحمود درويش، ا نصوص ـاول ـ تن الذي ـو ـ وه ه ت ـأل ـ فس طبعـاً... ُ ّ ومحمــد البســاطي ،وســنان أنطــون ،لمــاذا ظــلّ حضــور ـدرة، ـ بوج ورشــيد َّ ً «معلِّمــه» بالقيــاس إلــى ـدى ـ ول ـه ـ لدي ا ـم ـ محتش ـة ـ الحديث ـة ـ العربي ـة المدونـ ّ ُ ّ المدونــة مــن أعمــالٍ مهمــة ...مــا هــي األســباب التــي مــا تزخــر بــه هــذه َّ ّ تقــف وراء التركيــز علــى األدب القديــم؟ هــل هــي مســألة ذائقــة وتقييــم أم أن لألمــر عالقة بضرب من االستشــراق المزمن؟ مســألة اطّ ــاع وترجمــة ،أم ّ ـرب ح ّتــى مــن األســئلة ـ يته ـم ـ ل ـه ـ ن إ ـل ـ ب ـؤال، ـ س أي ّ ـرب الرجــل مــن ّ َّ لــم يتهـ َّ القضيــة المتعلِّقــة بمواقفــه السياسـ ّـية ،وتحديــد ًا بموقفــه مــن المحرجــة ُ ُ ّ ـطينيين ،واضح في ـ الفلس ـى ـ إل ـازه ـ انحي ـي ـ ف ـح ـ واض ـو ـ ه ـإذا ـ ف ة... ـطيني ـ الفلس ّ ّ اســتنكاره خفــوت أصــوات الكثيــر مــن زمالئــه فــي الغــرب كلّمــا تع َّلــق األمــر للمث َّقــف بالفظائــع اإلسـ ـرائيلية ،مؤكِّ ــد ًا انتمــاءه إلــى رؤيــة إدوارد ســعيد ُ ّ باعتبــاره «شــخص ًا ال يبحــث عــن اإلجمــاع ،بــل ينحــاز وفــق مــا يمليــه عليــه ـدي ال يتو ّقــف». ـي نقـ ٌّ وعـ ٌ الحــوار أثــرى مــن هــذا بكثيــر .وفــي وســع الراغبيــن فــي االطّ ــاع عليــه كام ً ال
أن يقصــدوا اإلنترنــت ،حيــث تو ّلــى موقــع «بيــت الروايــة» وموقــع «المكتبــة لكــن الحــوار علــى ثرائــه ليــس ســوى جــزء الوطنيــة» توفيــره للعمــوم. ّ ّ ـزي» ،وأتاحت ـ «الرم ـا ـ ه عد ب ـارة ـ الزي هذه ـبت ـ أكس بســيط مــن العناصــر التــي ُ َ َ ّ تعاملهــم مــع أنفســهم تغيــر طريقــة للمثقَّفيــن تســجيل نقــاط َّ ُ ُ مهمــة ،قــد ِّ ومــع واقعهــم. من بين هذه النقاط: صاليــة ت ا ـارات ـ مه ـت ـ وليس ـروع ـ ومش ـ رؤي ـة» ـ الثقافي ة ـؤولي ـةٌ ّ أوالًّ : ّ ّ ّ أن «المسـ ّ يتصرف المســؤولون أل ـور ،ومن تبعــات ذلك ّ الصـ َ لجمــع األصــوات وتلميــع ّ َّ انتخابيــة. الثقافيــون كأ ّنهــم فــي حملــة ّ ّ ـب علــى أســاس رؤيـ ٍ ـة ـ خ ت ن ي ـم ـ ل ـذي ـ ال » ـي ـ الثقاف أن علــى «المســؤول َ َ ثاني ـاًّ : ُ ْ ّ والمبدعيــن ،وليــس المثقَّفيــن ومشــروع ّ ُ أل ينســى أ ّنــه فــي خدمــة أفــكار ُ «مكلَّف ـاً» بالتفكيــر عوض ـ ًا عنهــم. ُ مهمــةٌ عســيرة ،يســتحيل أن ينهــض بهــا ــة» الثقافي «المناصــب أن ً: ا ثالثــ ّ َّ ّ الثقافيــة على حســاب ـر ال ّزاهــد فيهــا ،المنحــاز بالضــرورة إلــى الخيــارات ّ غيـ ُ منــاورات السياســة مهمــا كان مأتاهــا. «القيميــة» أخطــر مــن أن نتركهــا بيــن أيــدي أن المســائل رابعــاًّ : ّ يتغيــر ـد ـ وق ـدأ، ـ مب ـى ـ عل ـة ـ االنتهازي ـون ـ ِّب ل غ ي ـن ـ الذي ين»، ـواتي كلّ ّ ُ َّ «السياسـ ّ مــر ًة فــي الســاعة. ين ت ســ لديهــم البوصلــة اتِّجــاه ّ ّ المبدعيــن متــى تحكَّ مــوا فــي نرجسـ ّـياتهم ـن ـ َّفي ق ث الم ـع ـ وس ـي ـ ف أن ً: ا ـ خامس ّ ُ ُ وتضامنــوا مــن أجــل مشــروع ،أن ينجــزوا أحالمهــم وأن ينتزعــوا «القــرار ـي» مهمــا كانــت ِق ّلــة مواردهــم. الثقافـ ّ الحقيقيــة غيــر القابلــة للنفــاد ،أل ّنــه يصنــع ـروة ـ الث ـو ـ ه ـال ـ الخي أن ً: سادسـا ّ ّ بحر ّيــة بعيــد ًا عــن كواليــس التبــاس العمــل ويتيــح ً، ة قــو الضعــف مــن ّ ّ ـم -يســتطيع الدعــم والتمويــل بالضغــط واالبتــزاز .وأل ّنــه -وهــذا هــو األهـ ّ متــى صــدق العــزم وتوفَّــرت اإلرادة أن ُي ِ ترجــم الحلــم إلــى حقيقــة ،وأن ويغيــره. ينتصــر علــى الواقــع ِّ أبريل 150 2020
5
تقارير وقضايا
األدبي للروايئ فرانز كافكا يف املحاكم اإلرث ّ
يس بالنسبة إلرسائيل رصاع سيا ّ مؤخــراً الرتجمــة الفرنسـ ّـية لكتــاب «املحاكمــة األخــرة لكافــكا ،الصهيونيــة وإرث الشــتات» مــن تأليــف صــدرت َّ * بنيامــن بالينــت وترجمــة فيليــب بينيــار (دار النــر الديكوفــرت) .ويتنــاول الرصاع الطويل الذي دار بني إرسائيل ـص اإلنجليــزي األصــي كان عنوانــه «املحاكمــة األخــرة وأملانيــا حــول أرشــيف فرانــز كافــكا ( .)1924 - 1883النـ ّ مؤخــراً أيض ـ ًا ترجمــة فرنسـ ّـية جديــدة ملذكــرات أديب» بــدون تلميحــات سياسـ ّـية .وصــدرت لكافــكا .قضيــة إرث َّ ّ ّ متقطــع مــن 1909إىل غايــة وفاتــه يف .1924أنجــز الرتجمــة كافــكا «اليوميــات» (دار النــر نــو) التــي كتبهــا بشــكل الخاصــة للكاتــب العاملــي. ألول مـ ّـرة معلومــات وحقائــق عــن الحيــاة ّ روبــر كاهــن ،وهــي أكــر شــمولية تكشــف ّ
هل كان كافكا ح ّقاً
من دعاة إنشاء دولة إرسائيل؟ أم َّ يتعلق أن األمر بتسييس مقصود إلبداعه وإعادة تأويل ملواقفه الشخص ّية والسياس ّية اليت عب عنها أساساً يف ّ يومياته؟
6
«المحاكمــة األخيــرة لكافــكا» ،هــو العنــوان الذي اختــاره الكاتب األميركي-اإلســرائيلي بنياميــن بالينــت لكتــاب فــي غايــة الدقــة ـي اســتمر لمــدة طويلــة ولــه خلفيات ـي وثقافـ ّ حــول صــراع سياسـ ّ صهيونيــة عميقــة حول أرشــيف الكاتب التشــيكي اليهــودي فرانز كافــكا ،أحــد كبــار قصاصــي وروائيــي القــرن العشــرين .العنــوان يحيــل علــى «المحاكمــة» ،الروايــة الشــهيرة لكافكا ،الــذي توفي قبــل حوالــي 100عــام .وقــد جــاء هــذا الكتــاب ليكشــف عــن تفاصيــل صــراع كافــكاوي تتشــابك فيــه لعبــة السياســة بغرائــز الصداقــة والوفــاء والشــهرة والمال .وإذا كانــت إبداعات الروائي ـي واإلعجــاب عالميـاً ،فــإن الراحــل مــا زالــت تثيــر النقــاش األدبـ ّ ـي ومن يوظفه سياسـ ّـي ًا ـ الفن ـن يمتلك هــذا اإلرث الجــدل حــول َمـ ْ ّ ً مؤخــر ًا مــا ـم ـ حس ـون ـ يك ـد ـ وق ـنوات، ـ لس ا ـ محتدم وثقافي ـ ًا ظــلّ َّ ّ لــم تظهــر مســتقب ً ال عناصــر جديــدة .جــاء كتــاب بنياميــن بالينت للتحقيــق بشــكلٍ بــارع فــي خبايــا هاتــه القضيــة التــي تمــس فــي ـرائيلي .فهي تثير أســئلة استراتيجية العربي-اإلسـ العمق الصراع ّ ّ أهمهــا :هــل كان كافــكا ح ّقـ ًا مــن دعــاة إنشــاء دولــة إســرائيل؟ ّ أم أن األمــر يتع َّلــق بتســييس مقصــود إلبداعــه وإعــادة تأويــل عبــر عنهــا أساســ ًا فــي الشــخصية لمواقفــه والسياســية التــي ّ ّ ّ يومياته؟ وسياســية داخــل ــة قانوني مواجهــة حصلــت ـراع ـ الص فــي هــذا ّ ّ ـي تمثلــه أساسـ ًا ـ ألمان ل األو ـن: ـ طرفي ـن ـ بي ة ـرائيلي ـ اإلس ـم المحاكـ ّ ّ ّ امــرأة اســمها «إيفــا» ،وهــي ابنة «إيســتر هوف» كاتبة ومســاعدة ماكــس بــرود صديق كافكا الحميم .وكانــت عائلة هوف مدعومة ـي على أدبيــة َّ ّ بمؤسســات ّ ألمانيــة تريــد الحفــاظ علــى إرثه الثقافـ ّ ً باأللمانيــة .قبــل وفاتــه فــي ـب ـ يكت ا ـيكي ـ تش كان ـكا اعتبــار أن كافـ ّ ،1968كان ماكــس قــد تــرك األرشــيف إليفــا مــع توصيــة بــأن تســلمه إلــى مكتبــة داخــل أو خــارج إســرائيل .لكنهــا لــم تحتــرم الوصيــة مثلمــا لــم يحتــرم هو ســابق ًا أيضـ ًا وصية صديقــه كافكا. ـرائيلية أمــا الطــرف الثانــي فــي هذه القضيــة ،فهــو الحكومة اإلسـ ّ ّ التــي تب َّنــت هــذا الملــف ،وإن بشــكلٍ متأخــر ،ودافعــت بقــوة عن ّ ملكيتهــا لألرشــيف ألغـ ٍ ـراض سياسـ ّـية واضحــة.
أبريل 150 2020
قصة أرشيف كافكا ّ
قصــة هوليووديــة مع َّقــدة .فــي ،1939اســتطاع لهــذا األرشــيف ّ ماكــس بــرود أن يهاجــر إلــى فلســطين هربـ ًا مــن اجتيــاح قــوات هتلــر لتشيكوســلوفاكيا ،وليحقــق حلــم الهجــرة إلــى إســرائيل «أرض الميعــاد» فــي ســياق حملــة االســتيطان التــي عرفتهــا فلســطين .هاجــر إليها وهــو يحمل معه حقيبة مملوءة بأرشــيف وكتابــات كافــكا بعــد أن كان قــد أصــدر فــي بــراغ ثالث ًا مــن روايات
ماكس برود ▲
الســترجاع األرشــيف ووكلــت للدفــاع عنهــا المحامــي ماييــر هيلــر الشــهير بفصاحتــه ،والــذي ســيقول خــال إحــدى مرافعاته ذات النبــرة السياسـ ّـية القويــة ذات الداللــة« :مثــل العديد مــن اليهود اآلخريــن الذيــن ســاهموا فــي الحضــارة الغربيــة ،نحــن نعتقــد أن إرث كافــكا ومخطوطاتــه ينبغــي أن توضــع هنــا فــي الدولــة اليهودية». األلماني، ـي ـ األدب ـيف ـ لألرش ـاخ ـ مارب ـة ـ س مؤس رت ـر ـ ق ـا، مــن جهتهـ ّ ّ ّ ّ تخصصــة في العالم ،أن تطالب أيض ًا الم ـات ـ س المؤس أهم ّ َّ إحــدى ّ ُ باســترجاع هــذا األرشــيف .وكانــت قــد دخلــت بمــوازاة ذلــك فــي مفاوضــات مــع عائلــة هــوف لشــراء منــزل ماكــس بــرود نفســه ـتمرت القضيــة معروضــة علــى لتحويلــه إلــى متحــف .وهكــذا اسـ َّ ـرائيلية فــي جلســات عديــدة علــى مــدى ســنوات. المحاكــم اإلسـ ّ وتوجت في 2016بقرار نهائي للمحكمة العليا اعتبر أن األرشيف يعــود إلــى ملكيــة دولــة إســرائيل ولــم يتــم تقديــم أي تعويــض لعائلــة هــوف .وقــد توفيــت «إيفــا» بعــد صــدور الحكــم بمــدة قصيــرة فــي .2018وفــي ،2019قامــت ألمانيــا بتســليم المكتبــة ـرائيلية مخطوطــات لكافــكا كانــت مســروقة علــى مــا يبــدو. اإلسـ ّ كمــا تسـلَّمت المكتبــة من بنك UBSفي سويســرا مــا كان يحتويه صنــدوق حديــدي يضــم أرشــيف ًا مماثـاً.
عالقة كافكا «امل ُبهمة» مع إرسائيل والنساء
صديقــه غيــر المكتملــة التــي ســتصبح مــن كالســيكيات األدب الم ِ عاصــر وهــي« :المحاكمة»« ،القصــر» و«أميركا» رغم الروائــي ُ أن كافــكا كان قــد أوصــاه بإحــراق كلّ مــا كتبــه وعدم نشــره .بعد فتــرة ،ســيتم تهريــب جــزء مــن هــذا األرشــيف ،وفيــه «يوميــات» كافــكا وكتابــات أخــرى ،خــال خمســينيات القــرن الماضــي مــن إســرائيل ،ليعــود فــي غفلــة مــن ماكــس بــرود إلــى ألمانيــا عــن طريــق ســلمان شــوكن ،وهــو الناشــر األلمانــي لكتــب كافــكا. ـرر الناشــر أن يخفي ونظــر ًا لقيمتــه الماديــة والرمزيــة الكبيــرة ،قـ َّ هــذا األرشــيف الجزئــي العائــد والغالــي القيمــة فــي خزنــة مــن ـتتدخل عائلــة حديــد فــي أحــد األبنــاك فــي سويســرا .وهنــا سـ ّ األلمانيــة لتطالــب متخصــص فــي الثقافــة هــوف بواســطة أســتاذ ّ ّ يفســر ما وهو ـفورد، ـ أوكس إلى نقله ـيتم ـ وس باســترجاع األرشــيف ِّ أن أرشــيف كافــكا مــازال موزع ًا إلى غاية اليــوم بين ثالث دول هي ألمانيــا (أرشــيف ماربــاخ ،)Marbachوإنجلتــرا (مكتبــة بودليــان Bodleianفــي أوكســفورد) ،وإســرائيل.
تفاصيل املحاكمة
ـم مــا كشــفه كتاب بالينت هــو أن حكومة إســرائيل لم تعر مــن أهـ ّ أي اهتمــام ألرشــيف كافــكا طيلــة حوالــي 40عامـاً ،بــل إنهــا لــم تبـ ِ ـد أي اهتمــام بالموضــوع حتــى عندمــا قامت إيســتر هــوف ببيع أجــزاء منــه فــي المــزاد العلني ،والــذي كانت تحتفظ بــه في بيتها فــي «تــل أبيــب» فــي نفــس منــزل ماكــس بــرود .وكان األرشــيف مهمـ ً ا بشــكل كبيــر ،بحيــث كانــت تلعــب فوقــه القطــط ،كمــا أن ـرض للســرقة .وكان الخبــراء يقــدرون قيمتــه بمالييــن ـ تع ـه بعضـ َّ الــدوالرات فــي بدايــة األلفيــة الحاليــة .فــي العــام 2009فقــط ـرك بسـ ٍ ـرعة مباشــرة بعــد قيــام ـتقرر حكومــة تــل أبيــب أن تتحـ َّ سـ ّ إيســتر هــوف بكتابــة وصيــة تســمح البنتيهــا بــأن ترثــا األرشــيف. الوطنيــة إلســرائيل» برفــع دعــوى قضائية حيــث قامــت «المكتبــة ّ
يــرى عالــم االجتمــاع األلمانــي اليهــودي الشــهير تيــودور أدورنــو أن كافــكا «لــم يكــن شــاعر ًا ألرض اليهــود» وهــي اســتعارة تعنــي المؤيديــن لفكــرة إقامــة أرض لليهــود فــي أن كافــكا لــم يكــن مــن ّ فلســطين إلــى درجــة أن يكتــب شــعر ًا يمــدح ويحلــم بهــذا األفق. ـتقر بها ،كان فعكــس صديقــه برود الذي هاجر إلى إســرائيل واسـ َّ كافــكا غيــر مقتنــع بمشــروع إقامــة دولــة إســرائيل ،ولــم يهاجــر إليهــا ،علــى الرغــم مــن ذكــر بعــض المصــادر أنــه كان يخطــط بهمة» لذلــك .كمــا أن عالقتــه بأصوله وبثقافته «م َ ّ اليهوديــة تبقى ُ حســب العديــد مــن المختصيــن .بحيــث إنــه كان متشــبث ًا بهــا، وخاصــة مســرح الييديش ،وهي وحريصـ ًا علــى دراســتها بعمــق، ّ خاصــة تكلمهــا اليهــود منــذ القــدم فــي ألمانيا وفــي أوروبا لهجــة ّ ـرقية .وقــد كتــب كافــكا صفحــات طويلــة فــي يومياتــه عــن الشـ ّ ـوف والالعقالنيــة في هذا ـ التص ـن ـ وع ـش، ـ الييدي ـص ـ وقص مســرح ُّ التــراث .وكان حســب بنياميــن بالينــت معجب ـ ًا بهــذا المســرح، و «متأثّــر ًا بصدقــه وقــوة نبرتــه ،وبدرجــة الســخرية فــي لغتــه التــي كان يتحــاور ويتصــادم فيهــا مــا هــو عالــي القيمــة مــع مــا هــو متواضــع ،والمكتــوب مــع العامــي» .وعلــى الرغــم مــن هــذا حد االهتمــام ،ظــلّ كافــكا يحتفــظ بمســافة وجوديــة وعبثيــة إلى ٍّ مــا مــع أصولــه ،وهــي ميــزة أساسـ ّـية فــي كتاباتــه .فــكان يطــرح أفكار ًا ذات نبرة متهكمة حول معاني ودالالت عالقته بإســرائيل، بــل وحتــى باليهــود ،حيث يتســاءل فــي يومياته« :ما هــي العالقة ـدي بالكاد التــي تجمعنــي باليهــود؟» فيجيــب قائـاً« :أنا ليســت لـ ّ عالقــة حتــى بنفســي» .هــذه التســاؤالت حــول الوجــود والعالقــة ـانية عمومـ ًا جعلــت البعــض يعتبــر التــي تربطــه بواقعــه وباإلنسـ ّ ً ً ـرائيلياً. ـ إس ا ـ يهودي ا ـ كاتب ـه ـ من ـر ـ أكث كافــكا كاتب ـ ًا كوني ـ ًا وإنســاني ًا ّ بهمــة بإســرائيل تشــبه عالقتــه الم َ ويــرى بالينــت أن هــذه العالقــة ُ بالنســاء اللواتــي تعــرف علــى الكثيــر منهــن دون أن يرتبط رســمي ًا أو يتــزوج نظــر ًا لميلــه إلــى الفردانية الشــديدة واإلنعــزال .ويقول بالينــت فــي هــذا الصــدد إن كافــكا كان يحــب النســاء ،ولكــن عن وتــردد كافــكا فــي مــا يخــص بعــد ،حيــث يكتــب« :إن تناقــض ُّ الصهيونيــة ليــس غريبـ ًا عــن تع ُّقــد عالقتــه مــع «فيليــس بويــر» ّ (خطيبتــه) والنســاء األخريــات ،فهــو كان يحبهــن جميعـاً ،ولكــن أبريل 150 2020
7
صورة أرشيف كافكا ▲
دائمـ ًا مــن بعيــد». يتعرض البطل واســمه اســمه «ك» لالعتقال ذات يوم ـة» ـ «المحاكم فــي روايــة َّ ـدم للمحاكمــة بتهمــة ارتكابــه لخطــأ يجهــل حتــى طبيعتــه، فــي الصبــاح ويقـ َّ ثــم يتو َّلــى محاكمتــه قضــاة ال يراهــم أبــداً ،وذلــك تطبيقـ ًا لقوانيــن ال يعرفهــا «ك» ،بــل ال يريــد أي أحــد أن يشــرحها لــه .هــذه األجــواء تلخصهــا أيض ًا إحدى ـرض لمثــل هــذه المحاكمــة شـ ـخصيات الروايــة عندمــا تقــول« :إن َمـ ْ ـن يتعـ َّ ّ محكــوم عليــه مســبق ًا بــأن يخســرها» .إنهــا قولــة تجســد إحــدى الخالصــات األساسـ ّـية لروايــة عــن عبثيــة الحيــاة كمــا يراهــا كافــكا .وقــد يكــون هــذا هو ما وقــع فــي النهايــة لعائلــة هــوف فــي محاكمــة األرشــيف ،بحيــث إنهــا خســرت الدعــوى ،وخســرت إرثـ ًا تاريخيـ ًا ارتبــط باســمها مئــة عــام .لكــن هــل ســتكون هــذه القضيــة هــي فع ـ ً ا «المحاكمــة األخيــرة لكافــكا» ،كمــا يقــول عنــوان الكتــاب؟ أم أن إســرائيل يمكــن أن تطالــب مســتقب ً ال بملكيــة األجــزاء المتبقيــة مــن أرشــيف كافــكا في إنجلترا وألمانيــا؟ يبقى هذا أمر ًا محتم ً ال ووارد ًا بحســب ـرائيلية الصهيونية واســتراتيجية الدفاع التي تبناها محامي المكتبة اإلسـ منطق ّ ّ نفســه .ووفــق المنطــق نفســه أيض ـاً ،يمكــن أن تطالــب إســرائيل باســترجاع يهوديــة حتــى إذا لــم يكــن يؤمــن أرشــيف أي كاتــب عبــر العالــم لــه أصــول ّ ـرائيلية ■ .محمــد مســتعد (المغــرب) بالدولــة اإلسـ ّ
كافكا مع خطيبته فيليس باور «▲ »1917
8
أبريل 150 2020
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ *بنياميــن بالينــت :كاتــب فــي األربعينــات مــن العمــر ،ومــن األســماء الصاعــدة فــي دراســات ة-اليهوديــةُ .ولــد فــي الواليــات الم َّتحــدة األميركي الثقافيــة متخصــص فــي العالقــات اإلنســانيات ّ ّ ّ ّ ـرائيلية .يكتــب باإلنجليزيــة والعبريــة فــي كبــار الصحــف ويحمــل الجنســيتين األميركيــة واإلسـ ّ العالميــة مثــل «وول ســتريت جورنــال» و«دي تزايــت» و«هآرتــز» .كمــا أنــه عضــو باحــث فــي ّ واالجتماعيــة ـانية الم ّ «معهــد فــان ليــر» ُ the Van Leer Institute ّ تخصــص فــي العلــوم اإلنسـ ّ فــي القــدس التــي يعيــش فيهــا .مــن بيــن مؤلَّفاتــه كتــاب مشــترك مــع «ميــراف مــاك» يحمــل عنــوان« :القــدس :مدينــة الكتــاب» ويبحــث فــي التاريــخ القديــم والحديــث للمكتبــات الخفية في تجســده مــن مرجعيات ســكّ انها وثقافاتهــا المنتمية إلــى الديانات القــدس وكنوزهــا مــن خــال ما ّ حولــت ـي ـ الت ـدل ـ للج ـرة ـ المثي ـة ـ ل المج ـري: ـ «كومنت ـوان ـ بعن ـاب ـ كت ـماوية الثــاث .ولــه أيض ـ ًا السـ ّ ّ َّ والمفكِّ ريــن اليهــود اليســاريين إلــى محافظيــن جــدد» .ويتنــاول فيــه مســارات جيــل مــن األدبــاء ُ األميركييــن ذوي األصــول اليهوديــة مثــل فيليــب روث ،وجيمــس بالدويــن وهانــه أرنــدت ...الذيــن بــرزوا فــي مج ّلــة «كومنتــري» وتحلَّقــوا حولهــا وكانــوا متعاطفيــن سياسـ ّـي ًا مــع اليســار ،لكــن المحا ِفــظ. المج ّلــة َّ تحولــت مــع مــرور الســنوات إلــى ناطقــة باســم اليميــن ُ
Doha
9
Magazine
150 2020 أبريل
aldoha_magazine
@aldoha_magazine
ُك َّتاب الصني يواجهون:
زهرة برقوق ال تسقطها الرياح
وترتجــل عــن ربــا تذبــل ـي ملدينــة ووهــان -تعصــف بهــا ريــاح أمشــر ومــا يليــهَّ ، َّ زهــرة الربقــوق -الرمــز التاريخـ ّ وتتوســد الــراب يف انتظــار بعـ ٍ ـث جديــد .يف ووهــان ال تــرك زهــرة الربقــوق شــجرتها ،بــل تظـ ّ متمســكة ـل عرشــها َّ ِّ بهــا إىل الرمــق األخــر وحتــى تخمــد العاصفــة. هنا عىل األرض ،أسطورة نضال وتكاتف وصمود تعكسه ردود أفعال أدباء الصني ومفكِّريها حول وباء كورونا ّ واملجلت داخل الصني وخارجها ،والتي زرعت األمل يف النفوس. الذي رضب الصني كام تناقلتها الصحف
تيه نينغ:
نتشــارك جميعنــا اآلن وقتـ ًا عصيبـاً .فتؤ ِّثــر علينــا فثمة المع َّقــدة والتــي تخلخل أرواحنــاّ . عواطفنــا ُ آالف الســنين قد تشــكِّ ل خاللها الخــوف الغريزي لــدى البشــر فــي مواجهــة األمــراض الوبائيــة، فتبلــورت لدينــا مشــاعر ُحفــرت بالوجــدان فيمــا ـي الذي نعتمــد عليه في يتع َّلــق بالمجتمــع الوطنـ ّ حياتنــا ومماتنــا ،كمــا أوجــدت داخلنــا مشــاعر األســف حيــال تلــك األرواح المفقــودة؛ ومشــاعر الطبيــة بأعدادهــا الكثيفــة ،كذلك اإلعجــاب الممــزوج بالقلــق حيــال الكــوادر ّ أولئــك المناضليــن الذين يتشـ َّـبثون بمواقعهــم في مواجهة الوبــاء ويندفعون صــوب الصفــوف األماميــة فــي المعركــة« .كلّ شــخص بمثابــة قطعـ ٍ ـة صغيــرة مــن األرض ،ت َّتصــل ببعضهــا البعــض لتشــكل أرض ـ ًا يابســة» .فــي مثــل هــذا الوقــت ،نــدرك بعمــق الصلة التــي تجمعنا باآلخرين ،فيصبــح فقدان اآلخرين فقدانـ ًا لذواتنــا ،وتضحــى آالم اآلخريــن آالمنــا .بينمــا أولئــك الذيــن يمضــون قدمـ ًا ويندفعــون بشــجاعة فــي وقــت األزمــات ،هــم بمثابــة العمــود الفقــري لألمــة ،وهــم الضيــاء الــذي يشــرق فــي ســماء الــروح الوطنيــة ،فهــم مصــدر ّ األمــة الدائمــة التــي ال تنضــب ،والتــي تمكّ نهــا مــن الصمــود خــال كافــة قــوة ّ وتحمــل المشــاق .ينبغــي علينــا أن نبــذل قصــارى جهدنــا للتغ ُّلــب التجــارب ُّ علــى الصعوبــات مع ـاً .يرتبــط األدب بالذاكــرة ،ويهتــم بالجوهــر ،ويتط َّلــب االلتــزام ،ويحتــاج إلــى عمــق التفكيــر .وأنــا علــى ثقــة مــن أن زمالئــي الكُ َّتــاب قــادرون بطــرق شــتى علــى توثيــق هــذا الوقــت العاصــف ،وتجســيد اإلرادة لألمــة والوطــن. التــي ال تتزعــزع ّ
10
أبريل 150 2020
يل جينغ تسه:
وأمتنــا الصامــدة ســتجتاز بلدنــا العظيمــة ّ الموحدة الشــتاء القاســي وتســتقبل الربيع .وفي َّ ـد بصــري إلــى ووهــان مثــل هــذه اللحظــات ،أمـ ُّ وهوبــي ،واتط َّلــع للنــاس هنالــك؛ أولئــك الذيــن أعرفهــم أو ال أعرفهــم ،الذين قاتلوا بشــجاعة في ـط المواجهــة والذيــن التزمــوا بيوتهــم ،متمنيـ ًا خـ ّ لهــم الســامة .ســامتكم هــي الربيــع.
مويان:
ســنطارد بقلــب رجــلٍ واحــد شــبح الوباء ،و ُنشـ ِّـيد ســور الصيــن العظيــم بــإرادة الجماهير.
وانغ منغ:
مع ّلــق القلــب بووهــان ،مرسـ ً ا التحايــا للطواقــم الطبيــة .ليكــن الدفــاع محكمــاً ،حتــى يندحــر ّ الوبــاء .وليكــن الحــرص علــى القــراءة والكتابــة وبالصحــة والتفاؤل، قائمـاً ،فالوقــت مــن ذهــب. َّ ـد االبتــاءات. ـ أش ـي تتح َّقــق أفضــل النتائــج فـ ّ
يه شني:
يساورني القلق على ووهان، الهم روحي على هوبي، ويثقل ّ يضطــرب فــؤادي علــى النــاس المحــدق بهــم الوبــاء. لتنقشع أيها الوباء سريعاً ،فلتسرع! ليقبل الربيع. ويمضي قطار الصين مسرعاً.
جي دي ماجيا:
ـدم دائم ـ ًا جوائــح ـري والتقـ ُّ ـور البشـ ّ يواكــب التطـ ُّ األمــة الصينية بأن ـخ ـ تاري ـا ـ ويخبرن ـة، غيــر متوقَّعـ ّ ً ممهــد ًا أبــداً. ا سلســ يكــن لــم م للتقــد الطريــق ُّ ّ ولكــن علينــا اإليمــان بــأن الصيــن اليــوم ســتخبر العالــم أجمــع مــن خــال الحقائــق أن مواطنيهــا البالــغ عددهــم مليــار وأربعمئة مليون نســمة لن ينهزمــوا فــي مواجهــة أي مخاطــر أو صعوبــات. وســيقبل حتمـ ًا ذلــك الغــد المشــرق الرائــع الذي نتط َّلــع إليــه.
خه جيان مينغ:
يكافــح البشــر كلّ يــوم مــن أجــل بقائهــم، فالســعادة والمعانــاة ترافقنا دائمـاً .فبعد تجاوز تجربــة وبــاء ســارس فــي بكيــن فيمــا ســبق ،أفكــر فــي أن أقــول لمواطنــي ووهان :فــي الصين اليوم، يمكننــا التغ ُّلــب علــى كافــة الجوائــح ،وفــي نهاية المطاف ســتدفئ الشــمس كلّ شــبر من األراضي الصينية.
جيا بينغ وا:
ـرة لــم نخبــر الحــرب ،غيــر أننــا نعانــي هــذه المـ ّ بالتأكيــد مــن كارثـ ٍ ـاء». ـة جســيمة ونحــارب «وبـ ً ُتم ِّثــل ووهــان ســاحة المعركــة ،بينمــا كلّ فــرد بالبــاد هــو مقاتــل .وعندمــا ح َّلــت بنــا الكارثــة، فكّ رنــا جميعــ ًا فــي العالقــة بيــن اإلنســان الصحــة وتدبرنــا الحيــاة والمــوت، والطبيعــة، ّ َّ والمــرض ،األمــن والخــوف ومــا إلــى ذلــك ،وهو الوطني ،وما مــا يدفعنــا إلدراك ماهية الشــعور ّ ـميه اإلرادة الجماعية ســور حصين ،وما قد نسـ ّ ـب بين الناس .وخالل عشــرات ـ الح عليه ـق نطلـ ّ األيــام الماضيــة ،وعلــى الرغــم مــن انعزالــي بالمنــزل وعــدم قدرتــي علــى ّ إل أننــي أتابــع األخبــار عــن كثــب ،وقــد تأ َّثــرت للغايــة بالكثيــر مغادرتــهّ ، مــن األبطــال واألعمــال البطوليــة .وباعتبــاري كاتبـاً ،فمــا يمكننــي القيــام بــه يتم َّثــل فــي تســجيل مــا يحــدث كلّ يــوم ،حيث أكتــب المقاالت بنفســي أو أتواصــل عبــر الهاتــف وأنظــم الكثيــر مــن المقــاالت التــي كتبهــا الكُ َّتــاب اآلخــرون ،وذلــك لتصبــح صرخــة مــن أجــل هــذا الوطــن ،وكذلــك دعم ـ ًا نقدمــه للكــوادر الطبيــة وكافــة العامليــن بالخطــوط األماميــة .حتمــ ًا ِّ ســننتصر.
ليو جني يون:
خــال مســيرة مكافحــة الوبــاء ،بــرزت الكثيــر ـخصيات الجديــرة باالحتــرام ،عــاوة مــن الشـ ّ الطبــي الذيــن علــى العامليــن فــي المجــال ّ هرعــوا إلى ووهــان ،فكانت أصواتهم وكفاءتهم المهنيــة وحيواتهــم قوام أغنية تمــس القلوب، وســتصبح ضــوء الشــمعة الــذي ينيــر اليــوم مــر الســنين ،لــن تظــلّ والمســتقبل .وعلــى ّ هــذه الكارثــة ماثلــة فــي أذهاننــا فحســب ،بــل ســنظلّ نتذكَّ ــر أســماء هــؤالء األشــخاص كذلــك.
سو تونغ:
يمكــن لهــذا الوبــاء أن يصبح ذاكرة ال ُتنســى لدى ـد وأن تحمــل بيــن كلّ صينــي .فهــذه الذاكــرة البـ ّ طياتهــا األلــم والتفكــر ،بيــد أن هــذه الذكريــات جميعهــا تســاهم فــي صياغة المســتقبل .فقلوب الصينييــن اآلن مشــقوقة نصفيــن ،أحــد هذيــن فأمــة تعبــر النصفيــن يقبــع هنالــك فــي ووهــانّ . ٍ بقــارب واحــد ،يمكنهــا حتمــ ًا أن تصــل النهــر للجانــب اآلخــر ،حيــث اإلشــراق والجمــال.
ماي جيا:
عشــية عيــد الربيــع ،كانــت الهجمــة الشرســة الطبية للوبــاء ،رأيــت بــأم عيني نقــص اإلمــدادات ّ فــي الصيــن ،فكّ ــرت فــي المســاعدة بشــيء مــا، ٍ لســنوات عديــدة بالخــارج، فا ّتصلــت بشــركائي وكلفــت فــرع شــركة كتــب الصيــن المحــدودة بالواليــات الم َّتحــدة األميركيــة لشــراء المــواد الالزمــة .ومــع ذلــك ،لــم يكن هذا الســبيل سلسـ ًا كمــا كان متوقَّعـاً ،حيث أقدمــت المتاجر القائمة التســوق األميركيــة بالتوالــي علــى رفــع بمراكــز ُّ األســعار وفــرض القيــود على المشــتريات وغيرها مــن اإلجــراءات ،كانــت بعــض المــواد المطلوبــة بشــكلٍ عاجــل غيــر متو ِّفــرة، كمــا ألغيــت الرحــات الجويــة المباشــرة إلــى الصيــن جزئي ـاً ...أحدقــت بــي الصعوبــات ،غيــر أننــي تشـ َّـبثت بمأربي ،وفــي النهايــة أمكنني اختــراق العديد مــن الحواجــز ،وإدراك الهــدف األصلــي.
يش تشان جون:
إن فقـد الكثيـر مـن األرواح النابضـة بالحيـاة ّ جـراء هذا الوباء تصيب المرء بحزنٍ ال متنا ٍه. ّ بينما صار هذا الربيع هو موعد اختبار وتنقيح الوطنيـة الهائلة .تحية لألطباء وتوحيـد القوة ّ اإلنسانية! وتحية روح من قلوبهم لما تحتويه ّ لكل األبطال الذين يقاتلون بالصفوف األمامية ّ لمكافحـة الوبـاء مـن خلال كافـة األعمـال والتخصصـات! ونظـر ًا لوجـود حصـن اإلرادة ُّ الجماعيـة ،يجـب أن يكـون هـذا العـام وقتـ ًا األمـة الصينيـة تسـطر فيـه تاريخيـ ًا عظيمـ ًا ّ ّ ّ تحقيـق انتصـار مجيد! ترجمة عن الصينية :مي ممدوح (مصر)
۹
أبريل 150 2020
11
جائحة القرن
الـمستفادة الدروس ُ يتأكّ ــد لنــا مـ ّـر ًة أخــرى عــر جائحــة كورونــا حقيقــة املصــر ا ُ للبرشيــة الــذي ينبغــي أن يكــون منطلــق ملشــرك ّ السياســات والعالقــات بــن الــدول يف أوقــات الرخــاء أو الكــوارث ،كــا تظهــر لنــا الجائحــة مــدى صغــر حجــم قريتنــا الكونيــة التــي تقاربــت املســافات بــن مدنهــا واتّصلــت أطرافهــا البعيــدة بواســطة وســائل املواصــات الحديثة .ومــن املفارقــة أن الطائــرات التــي تعـ ّـد الوســيلة األكــر فعاليــة يف التنقــل بــن أرجــاء الكوكــب واألكــر تحولــت خــال األســابيع املاضيــة إىل رسعــة يف نقــل اإلمــدادات الطبيــة واإلغاثيــة ملواجهــة الكــوارث بأنواعهــاّ ، مــا يشــبه طائــر النار( الحدأة) املتهــم بنقــل أعــواد النــار وتوســيع بــؤر الحرائــق يف مناطــق الغابــات ،ففــي ظــرف ـام قليلــة انتقــل فــروس كورونــا برسعــة مذهلــة مــن بؤرتــه األوىل يف مدينة ووهان الصينيــة إىل مناطق واســعة أيـ ٍ توجهــت بوصلــة معظــم حكومات العامل نحو عد ٍو واحد مشــرك وقصيــة يف الغــرب والرشق .ومــع بدايــة مــارس َّ تكافــح ملحاولــة احتــواء انتشــاره مــن خــال اتخــاذ تدابــر مشــركة كتعليــق حركــة الطــران وإغــاق مــدن بكاملهــا وســعي بعــض الــدول إىل إغــاق الحــدود الربيــة والبحريــة ووضــع املاليــن مــن البــر قيــد الحجــر الصحــي .
دعــا المليارديــر األميركــي بيــل جيتــس فــي مقــال لــه («نيو إنجالند جورنال أو ف ميديســن» 28 ،فبراير )2020 إلى جملــة مــن اإلجراءات الســريعة كتدابير ـرة كلّ مئــة الحتــواء الفيــروس الــذي رأى أنــه مــن تلــك الجوائــح التــي تأتــي مـ ّ يتصرف بهــا الفيروس، عــام ،وبــدا لــه هذا االســتقراء من خالل الطريقــة التي ّ فهنــاك ســببان يجعــان (كوفيــد )19 -يم ِّثــل هــذا التهديد« ،فهــو أو ً ال قــادر علــى قتــل البالغيــن األصحــاء ،باإلضافــة إلــى المســنين الذيــن يعانــون مــن مشــاكل صحيــة مزمنة .وتشــير البيانــات حتــى اآلن إلــى أن الفيــروس قــد ـدل مــن شــأنه أن يتســبب فــي وفــاة حالــة واحــدة حوالــي ،% 1 وهــذا المعـ َّ ـرات مــن األنفلونــزا الموســمية النموذجيــة ،األمــر يجعلــه أكثــر حــدة عــدة مـ ّ الــذي يضعــه فــي مــكان ما بيــن وبــاء األنفلونزا فــي عــام )% 6 .0( 1957 ووباء األنفلونــزا في عــام .»)% 2( 1918 ثانياً ،ينتقل (كوفيد )19 -بكفاءة تامة .فالشــخص المصاب ينشــر المرض في المتوســط إلــى اثنيــن أو ثالثــة آخرين ،وهو معدل زيادة بالغ الســرعة .وهناك أيضـ ًا أدلــة قويــة علــى أنــه يمكــن أن ينتقــل عــن طريــق أشــخاص يعانــون مــن المــرض بشــكلٍ طفيــف أو حتــى لــم تظهــر عليهــم أعراضه .وهــذا يعنــي أن احتــواء مــرض (كوفيــد )19 -ســوف يكــون أصعــب كثيــر ًا مــن احتــواء متالزمــة الشــرق األوســط التنفســية أو مرض ســارس .وفي الواقع فإن( كوفيد )19 -قد تســبب بالفعل بعشــرة أضعاف عدد حاالت انتشــار السارس في ربع الوقت . مــن جانبــه يتســاءل جســتن فوكــس مديــر التحريــر الســابق لمج ّلــة هارفــارد بيزنــس ريفيــو (وكالة بلومبرغ 7 مــارس/آذار :)2020 إذا كان مــرض ســارس ـم القضــاء عليــه فــي حوالي عام ،فــي أكثــر فتــك ًا مــن (كوفيــد )19 -فلمــاذا تـ ّ حيــن أن بعــض الخبــراء يحــذرون مــن أن (كوفيــد )19 -قــد يكــون موجــود ًا
12
أبريل 150 2020
إلــى األبــد؟ ألن ســارس عــاد ًة ال يصبــح معديـ ًا ّإل بعــد عــدة أيــام مــن ظهــور وإن كان األعــراض ،ويبــدو أن (كوفيــد )19 -ينتقــل قبــل أن تظهــر األعــراض ْ جداً . بمعدل قليــل ّ شــك أن البشــرية تمــر اآلن بكارثــة لــم تكــن فــي الحســبان إذ يواصــل ال ّ (كوفيــد )19 -تمــدده المســتمر فــي مناطــق جديــدة مــن العالــم فيرتفــع بذلــك عــدد اإلصابــات وتــزداد أرقــام الضحايــا ،ومــا زاد األمــر ســوءاً ،كمــا يكتــب «آالن ليفينوفيتــز» أســتاذ الفلســفة والديانــة الصينيــة بجامعــة جيمــس ماديســون (مجلّــة السياســة الخارجية 5 ،مــارس/آذار،)2020 أن خطــاب أصحــاب الخبــرات المســؤولة ينــزاح إلــى الخلــف وتحــلّ مح ّلــه الصحة همســات التآمــر لــدى أولئــك الذين يزعمــون معرفــة الحقيقة .فهــواة ّ الطبيعيــة المناهضــون للقاحــات يتهمــون شــركات األدويــة بإثــارة الذعــر بيــن الســكّ ان لبيــع منتجاتهــا ،فــي حيــن يــرى النباتيــون والمدافعــون عــن حقــوق الحيــوان أن أســواق اللحــوم هــي مصــدر األمــراض القاتلــة .إن ردود األفعــال الصحة المضخمــة أيديولوجيـ ًا تجــاه (كوفيــد )19 -غالبـ ًا مــا تتجــاوز مجــاالت ّ والطــب ،وتصبــح فــي المقــام األول سياســية والهوتية .فالساســة اليمينيــون فــي جميــع أنحــاء العالــم يــرون الفيــروس عقابـ ًا علــى انفتــاح الحــدود تجــاه المهاجرين .وبطبيعــة الحــال فالمتعصبــون الدينيــون يــرون ذلــك كعقوبــة علــى خطايانا .وهــؤالء جميعـ ًا يســتغلون الرغبــة اإلنســانية فــي إقامــة نظــام يعبــر عنــه تقليدي ـ ًا باألنظمــة ثنائــي تبســيطي لتفســير الخيــر والشــر ،الــذي ّ الطبيعيــة وغيــر الطبيعية .عليــك أن تطيــع قوانيــن تلك األنظمــة لتنجو ،وإذا خالفتها ســتعاني . يرى« ليفينوفيتز» أن الالطبيعية )unnaturalness( كانــت تســتخدم منــذ
فتــرة طويلــة لتفســير كلّ أشــكال الخلــل الوظيفي .ففــي جميــع مســرحيات شكســبير ،علــى ســبيل المثــال ،تعمــل كلمة« الالطبيعية» كمــرادف للنقــص األخالقــي« :غيــر طبيعــي وغيــر لطيــف» ،و«غيــر جديــر وغيــر طبيعــي»، و«بربــري وغيــر طبيعــي» ،و«غيــر إنســاني وغيــر طبيعي» .ففــي عصــر شكســبير -وقبلــه -كانــت الوالدة« غيــر الطبيعية» تعنــي طفــ ً ا يولــد مــع التشــوه .والموت« غير الطبيعي» يعنــي ،وال يــزال ،الحيــاة التــي بعــض ُّ تنتهــي مبكــر ًا بســبب القتــل أو وقوع حادث .وفيما يتعلق بالنشــاط الجنســي، الســلطة فــإن تعبير« غيــر الطبيعي» هــو توصيــف النحرافــات الرغبــة ،وفــي ُّ الحاكمــة ،توصيــف النحرافــات العدالــة . تعودنا على فكرة الشر غير الطبيعي إلى الدرجة التي يبدو معها النشاط لقد ّ غيــر الطبيعــي وكأنه األصل البديهــي لجميع الويالت .لكن الالطبيعية ليســت تفســير ًا للخلــل الوظيفي .بعــض األنظمــة الطبيعيــة -كالــوالدة الطبيعيــة المحســنة اصطناعياً .واألشــكال مثالً -هــي أدنــى بشــكلٍ واضــح مــن إصداراتنا َّ المتقدمــة لتوليــد الطاقــة مثــل األلــواح الشمســية هــي أفضــل التكنولوجيــة ّ للعالــم الطبيعــي مــن التنقيــب عــن الفحــم وإشــعال النــار فيــه ،برغــم كــون مجــرد األخيــر مــادة طبيعيــة .إن كلمة« الطبيعي» و«غيــر الطبيعي» هــي َّ أوصــاف ،ورغــم ذلــك فإننــا نصــر علــى اســتخدامها كأحكام . يخلــص «ليفينوفيتــز» إلــى أن الحديــث عــن المــرض باعتبــاره نتاج ـ ًا لنشــاط غيــر طبيعــي يفتــح المجــال إلبــراز األســباب والحلــول المؤدلجــة ،وعندمــا ـدد فيــروس آخر العالم ،ســيكون هنــاك سياسيون شعبويون يســتخدمونه يهـ ّ لزيــادة الكراهيــة وكراهيــة األجانب .وســوف يــرون فــي شــبح المــرض مبــرراً ـر منه .ولكــن إذا لــم الخاص لميولهــم األيديولوجيــة َّ ّ ة .ربمــا هــذا أمــر ال مفـ ّ ـدث بهــا عــن أســباب أزمتنــا، ـ نتح ـي ـ الت ـة ـ الكيفي ـر ـ لتغيي نتخــذ التدابيــر الالزمــة ّ
بدايــة بـ«كوفيــد ،»19 -فــإن جــزء ًا مــن اللــوم ســوف يقــع علينــا . ج ٍ هــة أخــرى يــرى بيل ماكيبين الكاتــب والمدافــع عــن مــن ممــا قد ينجم ـم ـ الرغ ـى ـ عل ـه ـ مارس/آذار )2020 أن ـر5 ، ـ ّة النيويورك ل البيئة( مج ّ ثمــة دروس ـ ًا يمكننــا مــن خســائر بشــرية كبيــرة بســبب هــذه الجائحــة ّإل أن ّ تعلمهــا ،وبعــض هــذه الــدروس تبــدو واضحــة ،فســفن الرحــات العمالقــة ـول إلــى عنابــر عائمــة هــي عبــارة عــن قاتــل للمنــاخ ،ومــن الممكــن أن تتحـ ّ للمرضى .ومــن الجديــر أن نالحــظ الكيفيــة التــي بــدا فيهــا أن المالييــن مــن النــاس قــد تعلّمــوا بشــكل أســرع أنماطــ ًا جديدة .فالشــركات مثــ ً ا تكافــح اليــوم مــن أجــل الحفــاظ علــى إنتاجيتهــا ،ولــو عمــل العديــد مــن النــاس مــن منازلهم .كمــا أن فكــرة أننــا نحتــاج إلــى ســفر يومــي إلــى موقــع مركــزي للقيام بعملنــا قــد تكــون فــي كثيــر مــن األحيــان نتيجــة حالــة مــن الجمــود أكثــر مــن أي شــيء آخر .وفــي ظــل حاجتنــا الفعليــة إلــى التنقــل بالمــاوس بــد ً ال مــن ربمــا ســنرى أن فوائــد المرونــة فــي مــكان العمــل تمتــد لتشــمل كلّ الســيارة َّ شــيء بــدء ًا مــن اســتهالك البنزيــن إلــى مــدى حاجتنــا إلــى مجمعــات مكتبيــة متراميــة األطــراف . تجمــع الموظفيــن بالنســبة للعمــل ويضيف ماكيبيــن أن الع ّلــة الكامنــة وراء ّ هــي تالقــح األفــكار لزيــادة اإلنتاجيــة ،وبالنســبة للمجتمــع فــإن الغايــة مــن التجمــع انتفــاع النــاس مــن بعضهــم البعــض ،وهــو أمــر يــزداد صعوبــة فــي الوقــت الراهن .ولكن« اإلبعــاد االجتماعي» الــذي يطالبنــا بــه علمــاء األوبئــة اآلن لوقــف انتشــار المــرض المعــدي مألــوف بالفعــل لــدى العديــد وربمــا تقودنــا مــن األميركيين .فنحــن نعيــش حيــاة مــن العزلــة النســبيةَّ ، احتمــاالت العزلــة القســرية علــى نحــو غريب إلــى أن نغدو اجتماعيين بشــكلٍ أكبــر حيــن يختفــي الفيــروس ■ .ربيــع ردمــان (اليمــن) أبريل 150 2020
13
االصطناعي ال َّذكاء ّ
يف مواجهة الوباء
والحـ ّـد مــن الزحــف الوبــايئ لفريوس «كورونا» ا ُ ـتجد؟ بالطبع اإلجابة هــل بإمــكان التكنولوجيــا إنقــاذ األرواح ملسـ َ َ ليســت ســهلة ،ولكــن األمــر املؤكّ ــد هــو أن أهميــة التكنولوجيــا قــد اتّضحــت هــذه األيــام أكــر مــن أي وقـ ٍ ـت مــى. ـي كأحــد أهــم أذرع التكنولوجيــا التــي ميكــن االســتعانة بهــا يف مواجهــة مــن هنــا يتعاظــم دور الــذَّكاء االصطناعـ ّ هــذه األزمــة ،إذ ميكــن للخوارزميــات أن تســاعد يف تشــخيص الحــاالت ا ُ ملصابــة بـ«فــروس كورونــا املســتجد ( ،»)Covid-19وكذلــك العثــور عــى البــؤر اإليجابيــة ،إىل جانــب التنبــؤ مبســتوى انتشــار الفــروس .وهــو بالفعــل مــا تعكــف عليــه أغلــب الــدول ا ُ تقدمــة يف محاولـ ٍـة إليجــاد مخــرج. مل ِّ لمكافحــة وبــاء كورونــا ،صــار لزامـ ًا علــى األطبــاء والصيادلــة فــي جميــع أنحــاء المتــاح معرفتــه فــي وقتنــا الحاضــر ..بمعنــى العالــم تحقيــق قفــزات تتعـ َّ ـدى ُ المســبب للمــرض ـل ـ العام ـتهدف ـ تس ـة ـ فعلي ـات ـ أنــه ال توجــد حتــى اآلن لقاح ُ ثم وجــب البحث عن ُســبل ـن ـ وم ـار، ـ االنتش ـريع ـ س داخــل خليــة ذلــك الفيــروس َّ ـن تظهــر عليــه إصابــات الرئــة الناتجــة تســاعد فــي التعــرف ســريع ًا علــى كل َمـ ْ عــن عــدوى فيــروس ( .)Covid-19فــي الصيــن يوجــد حليــف جديــد إلــى جــوار ـي الصيادلــة واألطبــاء والفنييــن لمواجهــة المــرض ،أال وهــو :الــذَّكاء االصطناعـ ّ قميــة أن معاهدهــا البحثيــة ( ،)AIحيــث أعلنــت بعــض شــركات التكنولوجيــا َّ الر ّ ـورت خوارزميــة أمكنهــا تشــخيص مــا يقــرب مــن 96بالمئــة مــن الحــاالت قــد طـ َّ ٍ صابة بمضاعفات رئوية ناتجة عن فيروس كورونا ،وذلك بواســطة اســتخدام الم َ ُ التصويــر المقطعــي بالكمبيوتــر. ـي هنــا هــو فــي واقــع األمــر «التع ُّلــم اآللــي» أو مــا يُشــار إليــه بالـذَّكاء االصطناعـ ّ ـم أو ً ال تزويــد الخوارزميــة ببيانات تتعلَّق بصور األشــعة «التع ُّلــم العميــق» ،إذ يتـ ُّ المقطعية لرئتي األشــخاص الذين ثبتت إصابتهم بالفيروس .وكلما زادت نســبة التطابــق فــي فحــص المقارنــة الــذي تلتقطه الخوارزميــة ،كانت هذه إشــارة على تفوق برنامــج الفحص وجــود إصابــات جديــدة ..بالتدريــج يمكــن مالحظة مــدى ُّ اإللكترونــي علــى األطبــاء أنفســهم ،مهمــا بلغــت خبرتهــم ،حيــث يمكنــه التقاط تفاصيــل صغيــرة ربمــا ســقطت مــن أعيــن األطبــاء .كمــا ال يمكــن إغفــال أهميــة عامــل الســرعة فــي التشــخيص ،إذ إنــه خــال مــا ال يزيــد علــى 20ثانيــة فقــط ـراء فيــروس يســتطيع برنامــج الفحــص اإللكترونــي التمييــز بيــن رئــة ُم َ صابــة جـ َّ صابة ألي سـ ٍ ـمية ،وهذا ـ الموس ـبب آخر كعــدوى األنفلونزا كورونــا وببــن أخــرى ُم َ ّ ٍ الفــارق ليــس مــن الســهل علــى األطبــاء اكتشــافه فــي وقــت قصير. ـخيصية والتداخليــة فــي يــرى مايــكل فورســتينج ،رئيــس معهــد األشــعة التشـ ّ ـم حاليـ ًا البحــث واالرتــكاز بقــوة علــى حلــول مستشــفى جامعــة إيســن ،أنــه يتـ ُّ طبية موثوقة ـات ـ تقييم على ـول ـ الحص يمكن الطبيــة؛ حيــث ـي ّ ّ الــذَّكاء االصطناعـ ّ رقميــة دقيقــة للخوارزميــات ..وتســعى مختبرات ـات ـ بيان ـر ـ توفي تمامـ ًا فــي حــال ّ مصممة المؤسســات ،فهــي التكنولوجيــا الصينيــة إلــى إتاحــة برمجياتهــا لمئات َّ َّ المصابين بفيروس كورونا، ـخاص إلراحة الفنيين وتحســين فرص معالجة األشـ ُ فيمــا يســعى الباحثــون اآلن إلــى تعضيــد «طــرق التشــخيص الداعمــة» ،فهــذا
14
أبريل 150 2020
ـر مهــم :خاصــة وأن الخوارزميــة الجديــدة لــم تصــل إلــى اســتنتاجات نهائيــة أمـ ٌ بخصــوص المــرض ،والقــرار النهائــي ال يــزال بيــد األطبــاء .يتابــع فورســتينج ـدث حاليـ ًا عــن آليــات ُمسـ ِ طبيــة دقيقة. قولــه« :نحــن نتحـ َّ ـاعدة ال ّتخــاذ قــرارات ّ ـي فــي فــرز النتائــج غيــر القاطعة، ـ االصطناع ـذَّكاء ـ ال ـى ـ إل ـتناد نعــم ،يمكــن االسـ ّ األمــر الــذي ســيتيح ألخصائيــي األشــعة مزيــد ًا مــن الوقــت لفحــص الحــاالت األكثــر خطــورة». ـي ـ االصطناع ـذَّكاء ـ ال ـام ـ نظ أن ـرى ـ ت ـي ـ الت ـوات ـ األص ـض ـ بع ـاك ومــع ذلــك ،هنـ ّ ربمــا يعمــل مــن وجهــة نظــر ُمطوريــه فحســب ،وهــو األمــر الــذي تســبب فــي توجيــه بعــض االنتقــادات لهــذه اإلجــراءات .فعلــى ســبيل المثــال ،رصــدت دراســة أميركيــة ســابقة في عــام 2018كيفية قيــام نظام للخوارزميات بالكشــف عــن مصابــي االلتهــاب الرئــوي عبــر صــور األشــعة الســينية فــي العديــد مــن ـي المستشــفيات .والنتيجــة كانــت :طالمــا تـ َّ ـم تطبيــق نظــام الــذَّكاء االصطناعـ ّ ـكلٍ جيــد .ولكــن ـ بش ـل ـ يعم ـه ـ فإن ـل، ـ ـم فيــه مــن األص داخــل المشــفى الــذي ُص ِّمـ َ ّ ـدالت طبيــة أخــرى ،تنخفــض معـ َّ بالمقارنــة مــع بيانــات واردة مــن َّ مؤسســات ّ االكتشــاف. يفنــد «مايــكل فورســتينج» ذلــك القصــور ،قائــاً« :نســبية برامــج الــذَّكاء االصطناعــي ال تــزال تمثــل مشــكلة فــي الوقــت الحالــي ،خاصــة مــع أجهــزة ّ المص ِّنعة التصوير بالرنين المغناطيســي ،حيث إن االختالفات ما بين الشــركات ُ ـداً ،لدرجــة أن بعــض أطبــاء األشــعة يعانــون أيض ًا من مشــاكل ال تــزال كبيــرة جـ ّ ـاء علــى ذلــك ،هنــاك محــاوالت للتغ ُّلــب فــي تفســير الصــور التشـ ـخيصية» .وبنـ ً ّ علــى هــذه اإلشــكالية وصــو ً ال إلــى ذلك المســتوى األعمــق من التشــخيص .ومن المتوقــع أن تكــون هنــاك حلــولٌ وشــيكة مــن خــال العمــل علــى دمــج ســجالت ـددة .ورغــم هــذه الثغــرات ،ال يمكــن التغاضــي البيانــات مــن مستشــفيات متعـ ِّ عــن الــدور الــذي اضطلعــت بــه التكنولوجيــا فــي مســاعدة أطبــاء األشــعة فــي المصابيــن بفيــروس كورونــا جميــع أنحــاء الصيــن ،ســعي ًا للعثــور ســريع ًا علــى ُ المستجد».
كيف يمكن االستعانة بالذَّكاء االصطناعيّ للتنبؤ باألوبئة؟
ـي فقــط علــى تشــخيص المــرض ،ولكــن لــم يقتصــر دور الــذَّكاء االصطناعـ ّ
أيض ـ ًا تجــري االســتعانة بــه فــي البحــث عــن اللقاحــات واألدويــة المضــادة للفيروس ،حيث تطبق شــركة DeepMindالتابعة لشــركة Alphabetحالي ًا طــرق التع ُّلــم العميــق لدراســة الهيــاكل البروتينية للفيــروس ،نظــر ًا ألهميتها فــي البحــث عــن لقاحــات ،ألن األجســام المضــادة للقــاح تســتهدف بروتينات الفيــروس مــن أجــل تحييــده .ومثــل هــذه العمليــات الطويلــة مــن األبحــاث يمكــن تســريع وتيرتهــا عــن طريــق البرمجــة الحســابية «الخوارزميــات». يعكــف الباحثــون أيضـ ًا فــي شــركة Benevolentالبريطانيــة الناشــئة للذَّكاء ـي علــى إيجــاد عناصــر فعالــة بيــن األجســام المضــادة الخاصــة االصطناعـ ّ باألدويــة المتاحــة لعــاج ســارس واإليــدز والروماتويــد ،إذ يمكــن لتركيبهــا ـتجد، المسـ َ الكيميائــي أن يكــون إيجابي ـ ًا فــي القضــاء علــى فيــروس كورونــا ُ حيــث صــرح إيفــان جريفيــن ،مؤســس الشــركة ،بــأن مثــل هــذه النتائــج ال يمكــن أن تكــون متاحــة خــال ذلك الوقــت القصير ّإل بواســطة قاعــدة بيانات صعب رفع ســقف ـي .وفــي الوقت نفســهَ ،ي ُ ضخمــة يتيحهــا الــذَّكاء االصطناعـ ّ طبيــة ،مــا لــم التوقُّعــات ،فليــس بإمــكان الخوارزميــات تقديــم أيــة توصيــات ّ يتــم تأكيــد النتائــج أو ً ال عــن طريــق االختبــارات الســريرية.
السبق فى التنبؤ الذَّكاء االصطناعيّ له َ
ـي أن اســتطاعت شــركة BlueDotالكنديــة الناشــئة لخدمــات الــذَّكاء االصطناعـ ّ ـص تكــون األســرع فــي تحليالتهــا مقارنــةً بمنظمــة الصحــة العالميــة فيمــا يخـ ُّ فيــروس كورونــا .وتحديــد ًا فــي 31ديســمبر/كانون األول ،أي قبــل تســعة أيــام الصحــة العالميــة تحذيرهــا األول مــن فيــروس شــبيه مــن إصــدار منظمــة َّ ســمى «كورونــا» ،كان باحثــو BlueDotقــد تمكّنــوا ي الصيــن باألنفلونــزا فــي ُ َّ مــن اكتشــاف العالمــات األولــى لتفشــي المــرض فــي مدينــة ووهــان الصينيــة، حيــث تعتمــد خوارزمياتهــم علــى آالف المصــادر المختلفــة والمواقــع اإلخبارية الحيوانية والمنتديــات والمدونــات ومعلومات الوكاالت الحكومية واإلحصاءات ّ تطــورات والديموغرافيــة وحــركات الطيــران لمعرفــة مــا إذا كانــت هنــاك أي ُّ ّ ملحوظــة فــي أي مــكانٍ فــي العالــم. لــم يكــن باحثــو BlueDotقادريــن فقــط علــى تحديــد أن مركــز تفشــي المــرض
ســيكون فــي مدينــة ووهــان الصينيــة ،لكنهــم تمكّنــوا أيض ـ ًا مــن التنبــؤ بشــكلٍ صحيــح بوقــوع حــاالت أخــرى فــي ُمــدن؛ بانكــوك وســوول وطوكيو خــال األيام التاليــة مــن بــدء ظهــور المــرض .يقــول «كامــران خــان» ،مؤســس :BlueDot «بإمكانــك تدريــب اآلالت تمامـ ًا مثــل البشــر ..الفــارق أن اآللــة تعمــل علــى مدار 24ســاعة ،ممــا يجعلهــا أســرع وأكثــر كفــاءة».
اإلجراءات الوقائية ..رضورة ذات وجهني
الســلطات فــي الصيــن توســيع نطــاق تفعيــل أنظمــة المراقبــة الضخمة تواصــل ُّ ـتخدم ماســحات درجة الحــرارة في محطــات القطارات داخــل البــاد ،حيــث ُتسـ َ بالحمى .إلــى جانب مراقبة المصابيــن َّ فــي المــدن الرئيســية لتحديد األشــخاص ُ تتبع أماكن المواطنين ومعرفة وســائل بيانــات الهواتــف المحمولة ،حيث يمكن ُ ســفرهم .كمــا ُي ِ ـم تعميمــه داخــل رســل تطبيــق الهاتــف الذَّكــي الجديــد الــذي تـ َّ الصحيــة لألفــراد اســتناد ًا إلــى الموقــع وتفاصيــل البــاد تقريــر ًا عــن الحالــة ِّ الحمــى. ـن ـ م ـي ـ يعان أو ـر ـ خط ـة ـ منطق ـي ـ ف ـخص االتصــال ســواء كان الشـ َّ ـم اســتخدام هــذا التطبيــق الذَّكي ـ يت ـو، ـ هانغتش ـة ـ مدين وفــي مــدن صينيــة ،مثــل ُّ ضمــن اإلجــراءات التــي ُتم ِّكــن المواطنيــن مــن الوصــول إلــى محطــات متــرو األنفــاق :فقــط أولئــك الذيــن ُيظ ِهرهــم التطبيــق علــى وضــع «األمــان» أي باللــون ســمح لهــم بالركــوب .كمــا يرســل التطبيــق بيانــات خاصــة إلــى «األخضــر» ُي َ ـتخدم ـ تس ـي ـ الت ـراءات ـ اإلج كل ـت ـ ليس ـع ـ والواق ـح. ـ س م كل ـع ـ مــزود الخدمــة م َ َ ـي مفيــدة ،إذ إنــه مــن الجائــز فيمــا بعــد البيانــات الضخمــة والــذَّكاء االصطناعـ ّ ـي إلنشــاء تحليــات مع ّقــدة للحركــة ـ االصطناع اســتخدام خوارزميــات الــذَّكاء ّ ـرية ،وهــو مــا يخشــاه نشــطاء الحقــوق المدنيــة مــن إمكانيــة اســتخدام البشـ ّ هــذه التكنولوجيــا فــي مراقبــة البشــر لبعضهــم البعض عــن كثب ،فربما أُســيء صممــة فــي األصــل للتحكــم فــي حركــة األفــراد الم َّ اســتخدام هــذه التطبيقــاتُ ، ـخصية .ففــي النهاية ـ الش راقبة الم ـر ـ تدابي ـديد ـ لتش المصابيــن بفيــروس كورونــا، ُ ُ ّ ـي علــى األطبــاء فحســب ■ .أيــكا كويــل ـ االصطناع ال تقتصــر مســاعدة الــذَّكاء ّ ترجمــة عــن األلمانيــة :شــيرين ماهــر (مصــر)
۹
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المصدر :موقع « / Die Zeitدى تسايت» األلماني أبريل 150 2020
15
«رأس املال واأليديولوجيا»
مايض ومستقبل األنظمة التفاوتية يحــذر بيكيتــي مــن أنــه إذا مل نحـ ِّـول بعمــق النظــام االقتصــادي الحــايل لجعلــه أقــل تفاوت ـ ًا ،أكــر عــد ً ال وأكــر اســتدامة بــن الــدول مثــل داخــل ّ كل دولــة ،فــإن الشــعبوية املعاديــة لألجانــب ونجاحاتهــا االنتخابيــة املحتملــة قميــة لســنوات .1990-2020 والر ّ القادمــة ،ميكــن أن تبــدأ برسعــة حركــة التدمــر للعوملــة الرأســالية الجامحــة َّ
توماس بيكيتي ▲
16
منـ�ذ فتـ�رة قصيرة ،لم يكن توماس بيكيتي( (�Thomas Piket ،)tyاالقتصــادي الفرنســي الشــاب ،معروفــ ًا فــي األوســاط األكاديمية العالمية ،إلى غاية ســنة 2014عندما ترجم كتابه «رأس المال في القرن الحادي والعشــرين »،الذي كتب ســنة قبــل ذلــك باللغــة الفرنســية ،إلــى اللغــة اإلنجليزيــة ليصبــح أكثر كتب االقتصاد مبيعا في العالم .وقد أســهمت مســارعة االقتصاديــان األميركيــان الحائــزان على جائــزة نوبل لالقتصاد جوزيــف ســتيغليتز Joseph Stiglitzوبــول كروغمــان Paul Krugmanتأكيــد ومباركــة نتائــج بيكيتــي ،فــي نشــر أفــكاره علــى المســتوى العالمــي ،ليصبــح نجــم االقتصــاد الصاعــد، والوريــث األكثــر حظـ ًا لعــرش االقتصــادي البريطانــي الراحل أب التفاوت :أنثوني آتكينســون .Anthony Atkinson حقَّ ــق كتــاب بيكيتــي الســابق رأس المــال فــي القــرن الحــادي والعشــرين مبيعــات قياســية نســبة لكتــاب كبيــر الحجــم فــي االقتصــاد (حوالــي 700صفحــة للنســخة اإلنجليزيــة) ،وقــد كشــف فيــه أنه «عندما يتجاوز العائــد على رأس المال معدل نمــو الناتــج والدخــل ،كمــا كان الحــال فــي القــرن التاســع ـول مــن اســتثناء إلــى عشــر ،وكمــا هــو مــن المحتمــل أن يتحـ َّ قاعــدة فــي القرن الحــادي والعشــرين ،فإن ذلك يو ّلــد تلقائي ًا تفاوتــات اعتباطيــة ال يمكــن تحملهــا» .وهــذا فيــه مناقضــة لألرثوذكســية التــي كانــت ســائدة لنصــف قــرن ،والقائمة على منحنــى كوزنتــز ،الــذي يشــير إلــى أن التفــاوت يزيــد مــع بداية عمليــة التنميــة ،لكنــه ينخفــض فيمــا بعــد .واألهــم مــن ذلــك أن مــا توصــل إليــه بيكيتي يشــير إلــى عودة الرأســمالية اإلرثية التــي كانــت ســائدة فــي القــرن التاســع عشــر. وفــي الثانــي عشــر مــن ســبتمبر/أيلول ،2019نشــر بيكيتــي كتابه الجديد «رأس المال واأليديولوجيا » �Capital et Idéol ogieباللغــة الفرنســية ،ثــم باللغــة اإلنجليزيــة فــي العاشــر
أبريل 150 2020
مــن مــارس .2020هــذا الكتــاب كبيــر الحجــم ( 1232صفحــة للنســخة الفرنســية) يتضمــن دراســة تاريخيــة مســتفيضة ألبعــاد التفــاوت االقتصاديــة ،االجتماعيــة والسياســية مــن المجتمعات ثالثية الوظائف ومجتمعات الرق إلى مجتمعات مــا بعــد االســتعمار والرأســمالية الجامحــة .وإضافــة إلــى أنه كتــاب عــن الماضــي ،يشــير بيكيتــي إلــى أن كتابــه أيضــا عــن «مســتقبل األنظمــة التفاوتيــة». تمــت اإلشــارة إليــه ســابقاً ،اعتمــد بيكيتــي ومثــل كتابــه الــذي َّ علــى مجموعــة واســعة مــن الروايات األدبية ،ولــم يكتف هذه المــرة بروايــات بلــزاك وجايــن أوســتن ،بــل أضــاف كارلــس فونتس ،برامويديا أنانتاتور ،شــيمامندا كفوزي أديشــي...كما أضــاف مصــدر ًا آخر وهــو الحمالت االنتخابيــة للقرن الماضي. لكــن هــذه المــرة ،الكتــاب لــن يكــون مركــز ًا فقــط علــى الغرب مثــل األول .إذ إن نجــاح كتــاب رأس المــال في القــرن الحادي والعشــرين فتــح البــاب أمــام بيكيتــي للحصــول علــى بيانــات تاريخيــة كثيــرة مــن بلــدان خــارج الغــرب ،مثــل :البرازيــل، جنــوب إفريقيــا ولبنــان .وإضافــة إلــى ذلــك ،فهــو يعتــرف أيضــا بــأن كتابــه الســابق تعامــل مــع التطــورات السياســية- األيديولوجيــة حــول التفــاوت والتوزيــع كعلبة ســوداء. يشــير بيكيتــي إلــى أن كتابــه هــذا هــو محاولــة «فهــم تحت أية شــروط تحالــف سياســي مســاواتي Coalitions Politiques égalitairesالتــي شــكلت فــي منتصــف القــرن 20مــن أجــل تخفيــض التفــاوت المــوروث اآلتــي مــن الماضي ،لمــاذا انتهى التفــاوت باالنخفــاض ،وتحــت أيــة شــروط ال تفاوتيــة جديــدة يمكــن أن تنجــح فــي البــروز فــي بدايــة هــذا القــرن 21؟». الفكــرة األساســية التــي يخاطبهــا الكتــاب ،والتــي يحــاول بيكيتــي ترســيخها مــن خــال بحثــه كبيــر الحجــم هــذا ،هــي أن «التفــاوت ليــس اقتصاديـ ًا أو تكنولوجيـاً :هــو إيديولوجــي
اعتمد بيكييت عىل مجموعة واسعة من الروايات األدبية، ولم يكتف هذه املرة بروايات بلزاك وجاين أوسنت ،بل أضاف كارلس فونتس، برامويديا أنانتاتور، شيمامندا كفوزي أدييش...كما أضاف مصدرا ً آخر وهو الحمالت االنتخابية للقرن املايض
ـدم أســباب ًا طبيعيــة وسياســي» ،حيــث يــرى المداخــل التــي تقـ ِّ للتفــاوت بأنهــا خطابــات محافظــة ،وهي مختلفة عمــا يراه في هــذا الكتــاب ،والتجربــة التاريخيــة تبيــن العكــس ،فالتفاوتات ـدتها وفــي هيكلها. تختلــف بقــوة عبــر الزمــان والمــكان ،في شـ ّ تقدمهــا المجتمعــات المعاصــرة لذلــك فالتبريــرات التــي ّ للتفــاوت ،والمرتبطــة بالروايــات التملكيــة ،propriétaiste المقاوالتي ة entrepreunerialواالســتحقاقية �Méritocra ،tiqueالتــي تنــص علــى أن التفــاوت المعاصــر عــادل ألنــه ينطلــق مــن فكــرة أن لــكل شــخص نفــس الفرص ،هــي مبررات أيديولوجيــة وسياســية. نحــول بعمــق النظــام ويحــذر بيكيتــي مــن أنــه إذا لــم ِّ االقتصــادي الحالــي لجعلــه أقــلّ تفاوتــاً ،أكثــر عــد ً ال وأكثــر اســتدامة بيــن الــدول مثــل داخــل كلّ دولــة ،فــإن الشــعبوية المعاديــة لألجانــب ونجاحاتها االنتخابيــة المحتملة القادمة، يمكــن أن تبــدأ بســرعة حركــة التدميــر للعولمــة الرأســمالية قمية لسنوات .1990-2020ويرى أن االشتراكية الجامحة َّ والر ّ التشــاركية socialisme participatifهــي الحــل لتقليــص
التفــاوت اليــوم .مــا يمكــن أخــذه علــى كتــاب بيكيتــي الجديــد، هــو أو ً ال كبــر حجمــه الــذي يعتبــر مشــتت ًا لالنتبــاه والتركيــز، ـددة بدقــة ويجعــل مــن الحجــج التــي يدافــع عنهــا غيــر محـ ّ وغيــر واضحــة .وأيضــ ًا عــدم أصالــة أفــكاره ،فكــون ظاهــرة التفــاوت ظاهــرة سياســية كان قــد تناولهــا هــو نفســه قبــل هذا الكتــاب .فقــد اســتهل كتابــه «اقتصــاد التفــاوت »،الــذي كتبــه ســنة 1998وترجــم حديث ـ ًا إلــى اللغــة اإلنجليزيــة ،بالعبــارة اآلتيــة «مســألة التفــاوت وإعــادة التوزيــع هــي مســألة مركزيــة للصــراع السياســي»،كما ذكــر فــي كتابــه الســابق أن «التفاوت فــي توزيــع الثــروة ال يمكــن تفســيره اقتصاديـ ًا فقــط ،بــل هــو سياســي ،وهــذا ما يفســر انخفــاض التفاوت بيــن 1910و1950 نتيجــة للحــرب والسياســات التــي تــم اتباعها».كمــا أن طبيعــة ـدث عنها بيكيتي هــي موجودة في وبنيــة المجتمعــات التــي تحـ َّ الكثيــر مــن الدراســات التاريخيــة ،ويبــدو أن كلّ مــا فعلــه هــو ـرر بنيــة كلّ مجتمــع واعتبــاره مبــرر ًا للتفــاوت البحــث عــن مبـ ّ تاريخيــة كدراســة الكتــاب اعتبــار يمكــن ذلــك، فيــه .ومــع ّ ونظريــة للتفــاوت عبــر العالــم ■ .عثمــان عثمانيــة (الجزائــر) ّ أبريل 150 2020
17
ُ «الـناطق باسم»:
الج ْب والتزييف قنا ُع ُ ـتـمـيـــز «نــــهاية الشجاعة» (دار فـايـــار .)2010 ،انطلقت «فـــلوري» من أن الشجاعة ليست يف كتابها ُ الـم ِّ مســألة محــض ذاتيــة ،بــل يعـــــــــود وجودهــا أو تـــاشيها إىل سـلـــوك الـــمجتمع وحـــرصه عــى تصـــحيح تـؤدي إىل استــبدال الجنب والتـزيـيـف بالشجاعة والـكـــالم الصـريح ا ُ ملنــتـقد .ذلك أن الـمـامرسات التي ِّ ٍ تح ُ ـيايس إىل ُعـــملة للـ ّتـــدليس يتحول الكـــام السـ ول دون أن أخالق الشــجاعة ،بهذا املعنى ،هي التي ُ ّ َّ ـي وحاميــة حقــوق املواطنــة وتربيــر االنزيــاح عــن مبــادئ التعاقــد االجتامعـ ّ
محمد برادة (المغرب -فرنسا)
18
صحيح أن تــــأ ُّزم المجتمع ُيـــعلن عن نفســه مـن خالل مظاهــر ومواقف مـادية ،ملموسةُ ،تـشـعـر المواطنين أن خـلـ ً ال ّما يعـوق الـحـد المطـلوب للـ ّتـوافُق السـير الطبيعي للعـالئق التي تضـمن َّ ْ ـم ُتـــعلن األزمة عـــن نفسها بـــطرائق وتـدبـيـــر الشـــؤون ،ومن ثــ َّ الـمـــمكنة… ُمتـــباينة ،ليـبـــدأ التشــخيص والبحـــث عن الحلول ُ ـكن ،عنــد التـــدقيق والمراجعــة ،يـتـبــ َّـين أن تلــك األزمــة كانت لــ ْ ُتـعـــلن عن نفســها قبل ذلك بكـثـــير ،من خالل تـزيـــيف الـــكالم المـتـبـــاينة إلــى ولـــجوء َمـ ْ الســلطة فــي مجاالتهــا ُ ـن يـقتـــسمون ُّ لـعـــبة األقنـــعة الكــــامية التــي ُتـخـفِّـــف مــن وطــأة االنحــراف، وتســاعد علــى ربــح الوقــت ...ذلــك أن «الــكالم» يـضـــطلع بـــدو ٍر خاصــة فــي مجــال أســاس فــي التوصيــل والحــوار واإلقنــاع، ّ الديموقراطــي .الــكالم المنطــوق الصــراع السياســة وسيـــرورة ِّ ْ ّ قبل البالغ المكتوب .يتـــكلَّم الـــفرد ،وتـتكـلَّم الحكومة ،وتـتـكلَّم وسائـــط اإلعالم ،فـيـ ْن ِ ـتـســــج ذلك الفضاء الواصل مباشر ًة بين لـحـركـيــته، دبرة ـم ّ الـمــكــــ ّ ـونة للمجـــتمع والـقـُـوى الــ ُ األطراف ُ ّ كـــلّ من مـــوقعه .والمفـــروض ،ضـمـنيــاً ،أن لكلّ مجتمع قـــيم ًا صـونها ،وتــعــمــل السياسة على ُمـراعاتها. أخالقية يحرص على ْ الـمـــمارسة ،فــي حيــاة األفـــراد وفــي تـدبـــير الســـياسة، َّإل أن ُ الـمتــفق والمبادئ األخالقية القيم عن ـد الـتباع ـل ـ خـلـ تـكشـــف ُ ُ ِ ـتـمـرير ـم يـــطفو على الســـطح ُ عليها .ومن َثــ َّ التحايـل الـكالمي ل ْ االنـحـرافات .وكثـيـراً ما استـوقـفـ ْتـني صيـغة «الـنـاطق باسـم»... ـددة ،انطالق ًا من مجال الكتابة التــي تـطالـعـنـــا في مجاالت ُمتعـ ِّ ُ والفكريــة ،ووصو ً ال إلى فضاء السياســة .في عالم األدب األدبيــة ّ ّ والفكر ،يحـلو للـبعض أن ُيــرفـــــق اسـمه بـصفة الكاتب القومي أو الوطني أو اليـــساري ،ليمـــنح لـــنفسه مـصداقية ّمـا ُتـعلي من ـرب إليهــا شـــأنه ،وتـــضفي علــى كالمــه هالــةً مـــرجعية ال يتسـ ّ ـجد وظـــيفة الشـ ّ ـد ٍ ـك من قُــ ّ ام أو خــلْــــف .وفي نفس االتجاه ،نــ ُ «الناطـــق باسم الحكومة» أو باسم الـقصـــر الملكي ،أو القصـــر الجمهوري ،وكـلّـــها ِ ص َـيـــغ تـضـــع مسافة بيـــن مـــصدر الـــكالم الـمـخـاطَ ـبـيـــن .وعـــند التـــدقيق ،نـــجد أن هذه المسافة وبيـــن ُ
أبريل 150 2020
ِ ـي ّإل قنــاع يحتمــي به التــي يـخـــلقها «الناطــق باســم »..مــــا هـــــ َ ـصـحـــح» ما «ي أن ـه ـ لـ ـتيح مصـــدر الكالم ،ليـكـــتسب فســـحة تــ ِّ ُ المـخاطبـــين .على هذا أخـــطأ الناطــــق باسمه في تـوصيـــله إلى ُ قناع أو واسـ ٍ ـطة ،وسيـــلة النحــو ،تصبــح لعبــة الــكالم مــن خــال ٍ ـاب للتـحايـــل والتـســ ّتــــر على الـحيـــدان الــذي يلجأ إليه الـكُ ـ ّتـــ ُ ُ َ والـــساسة عند مواجهــــــــة الواقع .هذه الــمـمارسة التي تـطبع الـعامُ ،تـوضح صـعوبة «الـوفـاء» للـمـبادئ الســلوك البـشـري ّ وعالقة هذا «االنـحــراف» بـعوامل عميــقـــــة تـعـود إلى منطــقة «أخــاق الشــجاعة» وانـــعكاساتها علــى مجــال الســـياسة ،كـــما �ت ذلـ�ك الـفيــ�لسوفة الفرنسـ�ية «سانـــ�تيا فْــ�لور ي �Cyn أوضحـ ْ ـتـمـيـــز «نــــهاية الشــجاعة» (دار الـم »thia Fleuryفــي كتابهــا ُ ِّ فـايـــار .)2010 ،انطلقت فـــلوري من أن الشــجاعة ليســت مسألة محــض ذاتيــة ،بــل يعـــــــــود وجودهــا أو تـــاشيها إلــى سـلـــوك تـؤدي إلى الـــمجتمع وحـــرصه على تصـــحيح الـمـــمارسات التي ِّ استــــبدال الجبــن والتـزيـيـــف بالشــجاعة والـكـــــام الصـــريح المنــتـــقد .ذلــك أن أخــاق الشــجاعة ،بهــذا المعنــى ،هــي التــي ُ ـول الكـــام السياســي إلــى ُعــ ٍ ـملة للـ ّتـــدليس ـ يتح أن دون ـ تح ـولُ ُ َّ ّ وتبريــر االنزيــاح عن مبــادئ التعاقــد االجتماعــي وحماية حقوق الديموقراطي: الصراع المواطنة ،واإلســهام في تـــعطيل آلـيـــات ِّ ّ «أي معنــى لإلنـــسانية مــن دون شــجاعة؟» تــتســـاءل الكاتــــبة. ّ آلــت إلى العمل والمجتمعات الحضارة ر تطو شـروط أن صحيح ْ ُّ عت على اختفاء ـج ْ على تـسـخـيـــر اإلنســان وتـشــيـيـــئه ،كما شـ ّ الشــجاعة والدخــول فــي متاهة اإلســـــهال الكالمي الذي يتـــولى والحواس لــتــنـقاد إلى االنخراط في أوالــيات ـيــن العقول تـلْــيـِ َ ّ ـض الـبـصـــر عن الشـــجاعة الداخلية، ـرجة وغــ ّ مجتمع الـفُــــــــ ْ الـــضرورية لـوقْــ ِ ـف تـآكُ ــل الديموقراطية وتـــرويض المواطــنين ـعبة الكالم الـفــارغ. على االستـــسالم لـِلـُــ ْ ـو ُن إبـسـتـــمولوجيا الشــجاعة ،أو مــن خــال ثالثــة عناصــر تـكــ ِّ ـة ـ َـتــ ت ـلوري»، ـ «فـ ـرح ـ تقت إبسـتـــمولوجيا القلــب كمــا ـم ُمراجعـ ُ ّ المقايـــيس الكفيلــة بــتــــصحيح مســار «سياســة الشــجاعة»
الشجاعة يف األخالق ْ لـيست والسياسة ٍ ْ جنس وقـفـاً عىل بعـينه ،وال هي ميزة للرجال ،بل هي قيمة كونية، ّ الحق رضورية لحماية والديموقراطية، ووسـيلة لـجعل االنتقـاد عـنرصا ً حارضا ً باستـمرار ،يـُـذكـي الحوار الديموقراطي وال يـجعله قارصا ً عىل الحمـالت االنتـخاب ّية
القــادرة علــى إعـــــادة االعتـــبار إلــى الـــقيم المطــــلوبة فــي هذا ـن وثـم ُ ـخيلة الصادقةَ ، المجال .هذه العـنـاصـر الثالثة هيُ : الم ّ يـحد من غلواء اآلخــر والـقـوة الـهـ ْزلية .كـلّ واحد منها األلــم، ُّ ّ ً ـطيـــة» «الـوس ـتوى ـ مس ضمن ا توازن م ـا ـ بينه ـل ـ ـ التـمفص ـل ليجعـ ُ ُ َ ّ حددها أرسطـــو .ذلك أن الحقيقة ال ُتـــسلم نفسها إلدراكٍ التي ّ َ عبــر ـئ ـ يختب ـا ـ م ـف ـ يكش ـة ـ الفكاه ـر ـ عنص ـإن ـ فـ ـم ـ ث ـن ـ وم ـر؛ مباشـ َّ ْ ليســعف «الشــجاع» علــى التقــاط الحقيقــة… ال يتســع ـا الثنايـ ُ المجــال الســتعراض تحليــل «فلــوري» لمجمــوع الظاهــرات األخالقيــة عوقــات الشــجاعة فــي الممارســة بم ِّ الم َّتصلــة ُ ّ ـخص هــذه ـ تش ـي ـ الت ـة ـ األمثل ـض ـ بعــ ـورد ـ ن ـك ـ لذل ة، والسياسـ ّـي ّ اإلشــكالية :هنــاك مثــلٌ معاصــر يعيشــه العالــم فــي هــذه الفتــرة والــذي دشـــن ْته بجرأتهــا الســيدة «أديــلْ هائنيــلْ » مــن خــال حركـــــــة «أنـــا أيضـاً» ،التــي شــرعت الباب أمــام الفتيات تحرش الرجــال الذين والنســاء ليــ ـر ْ َ ضن لـــه مــن ُّ ـفضحن مــا تعــ َّ يعتبــرون الجنس اللطيف مملكة ُمســتباحة .لوال شــجاعة أديل الجـــبن، لظلت ســـطوة الذكورة وامتيازات الرجل ّ ْ المتحدرة من ُ سائدة وســـاترة لهذا الســـلوك الـمشـيـــن. والـمـــثال الثانــي الــذي طالمــا أقـلـــقني وطـــرح أمامــي أسئـــلةً «كاميـي كلوديـل Camille ـحـيـرة ،يـتعـلَّـق بالفـ َّنانة النـحاتة ُم ّ ْ ـت ثالثيــن ســنة محجــوزة )Claudel» (1864- 1943التــي أمضـ ْ ِ وج ْـبـن ـها ـ ـ أم رجعية ـب ـ ـفى لألمـــراض العقلية ،بـسـبـ ُ ّ في مـشــ ً أخيها الشاعـر الكبير «بولْ كلوديلْ » ( .)1955-1868هذه المرأة النحات المبدعــة التــي عاشــت تجربــة حـ ٍّ ـب جارف مــع ُمعلمهــا ّ ُ وأبانت عن موهبة تجديدية فذّ ة ،تنكَّ ـــر «رودان» (،)1917-1840 ْ ْ ـت عليهــا األم بالحجــز لهــا الحبيــب ألنــه كان متزوج ـاً ،وحكمـ ْ والعـــزلة للـتــســـ ّتر علــى عالقــة غـــرامية تـــسيء إلــى ســمعة ُ كاثوليكيــة ،هــي ضـــحية الجبن والالشــجاعة عائـــلة بورجوازيــة ّ فـضل في أكثر من صورة وتـبــريـــرُ :جـــبن الف َّنان «رودان» الذي َّ األم التي الحفاظ على ســـمعته والتنـكّ ـــر لعواطفه ،ثم قـــسوة ّ لقيم بـــورجوازية مـــغشوشة، ـت بابنتهــا فــي ســبيل الوفاء ٍ ضحـ ْ ّ
أخ كانــت شـهـــرته الشـــعرية تطبق ـدن ٍ ـدر الجبــان مــن لــ ُ والـغــ ْ ـضل طموحــه إلــى الحصول عـــلى منصب مهم ـ فـ ـه ـ لكن ـاق، اآلفــ َّ ـي الفرنســي .موقف الشاعر كلوديلْ هـــو في الســلك الدبلوماسـ ّ رت موقفه المتخاذل ّما ل ك ـي ـ نفس في الذي يـــبعث الغضب تذكَّ ُ عت إلـــيه في رســائلها وخالل ـذر ْ مــن أختــه الف َّنانــة التي طالما تــ َّ زياراتــه القليلــة لهــا ،لكي ُيـــسعفها على الخروج من محبســها، ـره .هــذه فعـاً ،حالــة دون أن تــ َّ ـتحرك عواطفــه أو يهـتــ ّز ضميــ ُ تتحدث عـــــنها ملموســة عـــن فــــقدان «شــجاعة القلــب» التــي َّ ـرء السـ ِ ـمات ـ المـ «فلــوري» فــي كتابهــا ،والتــي من دونها يـفـــقد ُ التي تجعل منه إنســاناً ،قـــبل أن يكون شـاعـــر ًا أو فــ َّناناً. ـكن ،لحســن الحــظ ،يحتفــظ ِسجـــلّ التاريــخ بأســماء شــعراء لــ ْ ومفكِّ تشبعــــوا بالشــجاعة فــي معناها العميق ـن، ـ ومواطني ـن ـ ري َّ ومارســوا السياســة مــن خاللهــا ،مــن أمثــال ســقراط ،وفيكتــور ـوة دكتاتورية شارل هيجو ،الشــاعر الشــجاع الذي انتــقــــد بــِقُـــ ّ وخصــص لــه كتابـ ًا «Napoléon لويــس نابليــون ()1873 - 1808 َّ ،»le petitشـــرح فيــه ســلوكه ووعــوده الكاذبــة وتهافتــه علــى ـملَ مــن أجــل ذلــك سـ ٍ ـنوات فــي المنفى تجميــع المالــل ...وتـحــ ّ الســبات التــي قــد ـفوة ـ غـ ـن ـ م ـعبه ـ ش ـاظ دون أن يتخ ّلــى عــن إيقـ ُّ ـؤدي إلــى الموت .لحســن الحظ أن أمثال هيــــجو كُ ـثْـــر ،أولئك تـ ِّ الذيــن يجـهـــر صو ُتهــم بالحقيقــة الشــجاعة ،وال يجعلــون مــن السياســة وســيلة لـتـــزييف الــكالم أو «تـجـيـيـــر» نفــوذ حــ ٍ ـزب أو ـيست تأميــن منـــصب… إن الشــجاعة فــي األخــاق والسياســة لــ ْ وقْـفــ ًا علــى جنـ ٍ ـس بعـــينه ،وال هــي ميــزة للرجال ،بل هــي قيمة الحق والديموقراطية ،ووســـيلة لـــجعل كونية ،ضرورية لحماية ّ االنتقـاد عـنصر ًا حاضر ًا باستـمرار ،يــذكـي الحوار الديموقراطي ُ االنتـخابية .من َث َّم ،فإن دراسة وال يـجعله قاصر ًا على الحمـالت ّ فعلت سانتـــيا فـــلوري ،هي مثلما شــجاعة األخالق والسياســة، ْ نظريــة اإلتيــك للسياســـة فــي فــي اآلن نفســه مدخــل لدراســة ّ نـظرية للشجاعة ،مـغايـرة أمامنا تـنــتــظم ُمــجـملـــها .وبـذلك ّ ُ ِ الـفردي بالجماعي. ـ ــ تـص ـرية، للشجاعة الـعـنـتــ ـلُ ّ أبريل 150 2020
19
السينما العامل ّية
ِّ حي الص الحجر يف صناعة ّ «الســينام ُمغلقــة حتــى يتو َّقــف الواقــع عــن أن يبــدو كاألفالم .حافظــوا عىل ســامتكم وكونــوا بخري» .بهذه الالفتة ـرر األعمــق اســتقبلت إحــدى دور الســينام يف واليــة فلوريــدا جائحــة كورونــا ،وقــد وضعــت يدهــا عــى مصــدر التـ ُّ ـلبي عــى كافة املناحي . للصناعــة جـ َّـراء هــذا الوبــاء الــذي َّ امتد أثره السـ ّ تضرريــن، الم ّ تصدريــن لصفــوف ُ صناعــة الســينما كانــت بيــن ُ الم ّ بدايةً بالمنع والحذر من التجمعات التي هي أســاس المشــاهدة المهمــة الســينمائية ،ومــرور ًا بإيقــاف تصويــر عــدد مــن األفــام ّ خوفـ ًا علــى صناعها مــن االختــاط واإلصابة بالفيــروس ،ووصو ً ال بتأجيــل أهــم األفــام الجاهــزة للعــرض والتــي كانــت منتظــرة ممــا فــي مواســم نهايــة الشــتاء والربيــع وترحيلهــا فيمــا بعــد ّ ســيؤثّر بالتبعيــة علــى األفــام المجــدول عرضهــا فــي الصيــف والخريــف ،وهــذا يعنــي ثالثــة أمور :إمــا مزيــد مــن الترحيــات علــى طريقــة تأثيــر الدومينــو ،أو تخمــة مــن األفــام تصــدر تباعـ ًا الغمــة ،وهــو موعــد فــي علــم الغيــب، ـرق كلّهــا بعــد فــوات ّ و ُتحـ َ
20
أبريل 150 2020
ـينمائية وإتاحــة األفــام للمشــاهدة أو التضحيــة بالعــروض السـ ّ عرضة للحرق م ـتكون ـ س األفالم أن أي المنصات اإللكترونية، عبر ّ ُ َّ ـدس المعروض مــرة ،والحرق لقدم المعــروض مرة ،وكذلك بتكـ ُّ الحــرق بالمشــاهدة المنزليــة ومــا يتبعهــا مــن فــرص للقرصنــة . السينمائي أصبح مهيأ تمام ًا لضربة وفي كلّ الحاالت فاالقتصاد ّ كبــرى ،بــدأت هذه الضربــة تؤثر على الجميــع بالفعل ،من مالك مم ْن شــركات اإلنتــاج وحتــى أصغــر الموظفيــن بتلــك المنظومــة َّ تاريخي ًا يعيشــون بقــوت يــوم العمل .هــي فاجعــة غيــر مســبوقة ّ للصناعــة قــد تفــوق مثيالتهــا فــي عصور الكســاد الكبيــر والحرب العالميــة الثانيــة ،والفارق أن مع الكوارث الســابقة ظلّت صاالت الســينما ملجــأ للبعــض يهربــون إليــه من كابوســية الواقع ،أمــا اآلن فصالة ســينما نصف ممتلئة تعني الكابوس نفســه . االقتصاديــة ليســت باألمــر الجلــل مقارنــةً بأصــل الخســائر ّ الفاجعــة ،فكســب قــوت اليــوم لــن يجــدي إذا كانــت الحيــاة هــددة ،بالتأكيــد لــن نفتقــد مشــاهدة األفــام ألن- نفســها ُم َّ تعبــر الالفتة -الواقــع نفســه أصبــح أكثــر إثــار ًة لالنتبــاه وكمــا ِّ والشــحن العاطفــي مــن أي فيلــم يمكــن أن نــراه اآلن ،مهمــا بلــغ مــن الخيــال ،ألننــا أصبحنــا نعيــش الخيــال ،لدرجــة أن ـرر تفاصيــل أحداثهــا اآلن فــي عالمنــا، أفــام كــوارث بعينهــا تتكـ َّ كفيلم »Contagion 2011« للمخرج ستيفن ســودربرج ،والذي ُ تنبــأت أحداثــه بفيــروس يضــرب العالــم ،ويبــدأ مــن الصيــن، وتتشــابه أعراضــه مــع كورونــا ،ويتشــابه فــي طريقــة انتشــاره، الســلطات بنفــس الشــكل الــذي نشــاهده اليــوم وتتعامــل معــه ُّ فــي البلدان الموبوءة .إعــادة مشــاهدة فيلــم كهــذا اآلن بقــدر أهميتــه فــي مــا ُيحســب لخيــال الف َّنــان ويد ّلــل مــن جديــد علــى ّ ـن يبــدأ بــدق أجــراس الخطــر ،ويســبق المجتمــع كونــه دائمـ ًا َمـ ْ الساســة بخطــوات أو بأشــواط ،ومــع ذلــك فلــم تعــد مشــاهدة الخيــال جاذبــة ،بــل قــد تكــون فــي تلــك الحالــة محبطــة . تأتــي جائحــة كورونــا فــي موســم نهايــة الشــتاء والخريــف الســينمائي ،والمعــروف بأنــه موســم ازدهــار أفــام الرعــب ّ والحركــة والخيــال »A Quiet Place Part II« .أحــد أبــرز أفــام للمخــرج جون كراسينســكي ،كان مفتــرض الرعــب المنتظــرة ُ عرضــه فــي العشــرين مــن مــارس/آذار ،لكنــه تأجــل ألجــل غيــر تميــز مسـ َّ ـمى بســبب كورونــا ،الفيلــم هــو الجــزء الثانــي لفيلــم ُم ِّ
القصــة فــي مــدن صــدر عــام ،2018 عــن عالــم مــا بعــد قيامــي تــدور أحــداث ّ مهجــورة تم ِّثــل العالــم بعــد غــزو مــن كائنــات غامضــة تفتــرس البشــر حيــن ـاني يصــدرون ّأيــة أصوات ،يقبع الناجون في منازلهم ويقتصر تواصلهم اإلنسـ ّ علــى النظــرات وحــركات الشــفاه ،هــذا العالم الكابوســي يأتي متوافق ـ ًا مــع العامة التي يعيشــها العالــم اآلن ،بالبقاء في الصحــي حالــة الحجــر والعــزل ّ ّ االجتماعي القديمة التــي تنقل الفيروس، ـل ـ التواص طرق ـد مــن المنــازل والحـ ّ ّ ً ـوق على ـ يتف ـا ـ عالمن ـن ـ لك ـيته، ـ عناصر كابوس ة ـد ـ بح ا ـ قلي ق ـو ـ يتف لعــلّ الفيلــم ّ َّ َّ الفيلــم بأنــه حقيقــي ،وال قيمــة ألفــام الرعــب فــي زمــن صــارت فيــه نوبــات بمجرد مشــاهدة نشــرات األخبــار ومتابعة ـاني ًا يومي ًا يحدث َّ الهلــع طقسـ ًا إنسـ ّ عــدادات اإلصابة بكورونا وهــي تقفــز بمختلــف البلــدان . تم الفيلــم األحدث من سلســلة جايمــس بونــدَّ ،»No Time Time To day« تأجيــل طرحــه عالميـ ًا مــن أبريل/نيســان إلــى نوفمبر/تشــرين الثانــي القــادم، تحملــت الشــركة المنتجــة مصاريــف باهظــة فــي الترويــج والدعايــة، بعــد أن ّ وإعــادة جدولتــه فــي نوفمبر/تشــرين الثانــي تعنــي أنــه ســيواجه منافســة شرســة مــع أفــام موســم الجوائــز واألعيــاد ،لكــن البعــض يــرى أن التأجيــل نــوع آخــر للفيلــم وزاد الترقُّــب له .أفــام حــد ذاتــه صنــع دعايــة مــن فــي ٍ ّ ـالٍ ـماة، ـ مس غير أو ـدة ـ بعي ـ آلج ـي ـ العالم ـا ـ عرضه ـل ـ تأجي ـم ـ ت ـة ـ الضخام ـس بنفـ ّ وعلــى رأســها فيلــم الحركة »F9« وهــو الجــزء التاســع مــن سلســلةFast« ،»& Furiousكمــا تأجــل عــرض فيلم »Black Widow« وهــو عــن بطلــة ـرة األولى باســتقالل عــن سلســلة»Avengers« عالــم مارفــل التــي تظهــر للمـ ّ و« ،»Iron Manوقــد كان مــن األفــام التــي تراهــن عليهــا شــركة ديزنــي ،ثــم تراجعــت ،بعــد أن جازفــت بعــرض فيلمها »Onward« فــي األيــام الماضيــة ولــم يح ّقــق اإليــرادات المتوقّعــة بتأثيــر كورونا مــا اضطر ديزني لحــرق الفيلم بإتاحتــه عــن طريــق المشــاهدة المنزليــة ،ولــذا كان حتميـ ًا علــى الشــركة أن تتع َّلــم مــن الــدرس وتــدرك أن كورونــا ليــس مزحــة ،فأجلــت عــرض النســخة وأجلــت فيلميــن من أضخــم إنتاجاتها الحيــة الجديــدة مــن فيلــمّ ،»Mulan« لهــذا العــام وهمــا Antlers« و ،»The New Mutantsوال أحــد يعلــم متــى خصصــت شــهر نوفمبر/تشــرين ســتصدر ديزنــي تلــك األفــام خاصــة وقــد ّ ّ الثانــي لعــرض فيلــم »The Eternals« الــذي تراهــن عليــه ديزني بعــد انتهاء سلســلة .»Avengers« ديزني التــي ابتلعــت وحدهــا أكثــر مــن % 40 مــن إيــرادات العــام الماضــي ،قــد تكــون أكبــر الخاســرين هــذا العــام ،ليــس ألنها ـرر األكثــر إنفاقـاً ،وليــس أمامهــا اآلن ســوى ـرر الوحيــد ،لكنهــا ُ المتضـ ّ المتضـ ّ
منصتهــا اإللكترونيــة . تقليــل الخســائر بعــرض األفــام ســريع ًا علــى ّ ـم تأجيلهــا ،هنــاك عدد مــن األفالم وبجانــب األفــام الجاهــزة للعــرض التــي تـ َّ تقــرر إيقــاف تصويرهــا خوفــ ًا مــن كورونــا ،علــى رأس فــي مرحلــة اإلنتــاج ِّ هــذه األفــام الجــزء الســابع مــن فيلــم « »Mission Impossibleوالــذي تــدور جــزء مــن أحداثــه فــي إيطاليــا أكبــر المنكوبيــن مــن الفيروس .وهنــاك الجزأيــن الثانــي والثالــث مــن فيلم »Avatar« اللذين تنتجهما ديزنــي دفعــة واحــدة بميزانيــة ضخمــة وقــد توقــف تصويــر المشــاهد بســبب كورونا .مزيــد مــن األفــام توقــف تصويرها لنفس الســبب مثــل (The Batman، Jurassic )World: Dominion، Matrix 4، Elvisوغيرها . امتدت ـن ـ لك ـب، ـ وحس اإلنتاج الخســائر لــم تقــف عنــد أفــام هوليــوود ضخمة ّ المســتقلّة والف ِّن ّيــة والتــي فقــدت أكبــر مصــادر ترويجهــا وتوزيعهــا للســينما ُ المتمثِّلــة فــي مهرجانــات الســينما العالميــة وهــي تغلــق أبوابها تباعـاً ،التأثير المســتقلّة نجــم مــن إيقــاف مهرجان »SXSW« بمدينــة األكبــر علــى الســينما ُ أوســتن ،وهو من أكبر أحداث الصناعة في أميركا الشــمالية ،وكانت تســتفيد ـي ليثير األفــام منــه بالــرواج والدعم ،ثــم جاء تأجيــل مهرجان «كان» الفرنسـ ّ ـدد ًا ـ مه خاصــة وأن موعــد إقامتــه ســيظل صدمــة فــي الوســط الســينمائي، ّ ّ مــع تفشــي فيــروس كورونــا فــي فرنســا لدرجــة وصلــت إلــى إعــان حالــة الحرب .مهرجانــات أخــرى كانــت متنفَّسـ ًا لألفــام الف ّن ّيــة أعلنــت اإليقــاف أو التأجيــل ،مثــل «تســالونيك» و«بكين» و«براج» و«ترايبيكا» و«إســطنبول»، وعربيـ ًا توقَّفــت مهرجانــات «قمــرة» في الدوحة و«عمان» فــي األردن و«البحر العربيــة الســعودية ،واألخيــران كانــا يســتعدان األحمــر» فــي المملكــة ّ لدوراتهمــا األولى . منصات المشــاهدة لوهلــة ظـ ّ ـن البعــض أن مــا يحــدث قــد يصب فــي مصلحــة ّ ـاهدة المنزليــة أصبــح أمــر ًا واقعـ ًا ـ ش الم ـر ـ عص وأن ـس، ـ مثل نتفليك ـتقرة َ ُ ُ المسـ ّ ومصيري ـ ًا انتهــى فيــه التنظيــر ،إلــى أن أعلنت نتفليكس عــن توقــف تصويــر ّ أغلــب أعمالهــا األصليــة حفاظــ ًا علــى ســامة العامليــن بهــا ،وهــو القــرار والمتو َّقــع والــذي عــاد ليؤكِّ ــد مــن جديــد أنهــا ليســت أزمــة ســينما ـي ُ المنطقـ ّ شــاهدة ،هــي أزمــة حيــاة أو مــوت تواجههــا حضارتنا .والســؤال ليــس أو ُم َ الطبيعيــة التي تحفــظ للخيال متــى تعــود الســينما ،ولكــن متى تعــود الحيــاة ّ مهابتــه؟! ■ .أمجــد جمــال (مصــر) أبريل 150 2020
21
امللف
22
أبريل 150 2020
صدمـة الـجائحـة ِ قبلها، َمن «ز ُ جائحة «كورونا» ُ غري الزمن الذي كان ْ انتشار ألن وال هو الزمن الذي سيكون َب َ عدها ،ال فقط ّ ُ َ ً ضع صنع حدثا الفريوس كونيا َو َ ض َع كلَّ َشء َم ْو َ َ ًّ ٍ حد الرشوع يف الحديث عن ومراجعة إىل ِّ ُمساءلة ُ العاملي ويف االقتصادي تحولٍ الحق يف النظام ّ ُّ ّ الزمن ألن هذا النظام للبلدان ،ولكن ً َ أيضا ّ االجتامعي ُ ّ رجةً أعاد النظر يف مفهوم الحياة َ جس ًدا ّ جه ّ بو ْ َ عامُ ،م ِّ رجةً إن ما واقعية فحسبّ . معرفية َمكينة ،وليس ّ ّ ّ ُ ترتّب عىل ظهور الفريوس وانتشاره ُيشكِّل إعاد َة نظ ٍر جذرية يف مفهوم الحياة».. ّ
أبريل 150 2020
23
عولـمة الفزع ربــا ســاهمت العوملــة يف هــذا االنتشــار ا ُ والفزع ،وربــا ســاهمت وســائل اإلعــام أيضـ ًا يف ارتفــاع ملثــر للرعــب َّ َّ ٍ تحــول إىل قريــة صغرية .الــدول والحكومــات والساســة يفكِّــرون عــاد ًة يف اتخــاذ عــامل يف الفــزع هــذا ة حــد َّ َّ حدهــا األدىن ،مســتعينني يف ذلــك اإلجــراءات والتدابــر يف مثــل هــذه الحــوادث قصــد تقليــص الخســائر إىل ِّ ملفكِّرون وا ُ املدين .أما ا ُ ملثقَّفون فإن اهتاممهم ينرصف إىل تحليل األسباب سمية واملجتمع ّ َّ الر ّ باملؤسسات َّ ـري يف القــادم مــن األيــام . وتقييــم النتائــج البعيــدة املــدى وتأثريهــا عــى الوضــع البـ ّ
نعتقد أننا نعيش تطوُّراً ،بل تحوُّالً جذرياً ،لكن الفريوس ّ يذكرنا بأننا نعيش املغامرة؛ املغامرة أمام املجهول وداخله ،املغامرة اليت لم نسمع عنها من قبل بالنسبة للجنس البرشيّ
24
ـتجد الــذي المسـ َ فــي أواخــر ســنة 2019ظهــر فيــروس كورونــا ُ ليتحول ـرعة ـ بس أصبحت تســميته العلمية «كوفيد ،»19وانتشــر َّ ـول إلــى ـ تح ـم ـ اإلقليمية ،ث إلــى وبــاء ضــرب العديــد مــن الــدول َّ جائحـ ٍ العالمية ،بعــد أن غزا الصحــة ـة ُمعلَنــة مــن طــرف منظَّ مة َّ ّ مختلــف الــدول والمناطــق في العالم مطلع ســنة .2020صحيح مرة ،مــن أن البشـ ّ ـرية عاشــت أهــوال األوبئــة والجوائــح غيرمــا ّ قبيل« الطاعــون األسود» و«األنفلونزا اإلســبانية» وغيرهما ،إلّ المقلــق والمخيــف فــي هــذا الفيــروس الجديــد هــو ســرعة ا أن ُ انتشــاره وقــوة فتكــه باألجســاد الضعيفــة المنخــورة باألمــراض المزمنــة أو التــي تنقصها المناعــة الكافية . ـروج فــي عالــم الفكــر وإذا كان مــن الصعــب اإلحاطــة بــكلّ مــا يـ َّ تقدم أن ـن ـ يمك ـاذج اليــوم حــول هــذه الجائحة ،فــإن بعــض النمـ ِّ لنــا صــورة عــن واقــع اليــوم وســيناريوهات المســتقبل .لذلك انفتحنــا علــى مفكِّ ريــن لهــم عالقــة وثيقــة بعلــم االجتمــاع والفلســفة وعلم النفس ،وهــي المجــاالت المعنيــة أكثــر مــن تمدنــا غيرهــا اآلن بهــذه الجائحــة العابــرة للقارات ،فلعلّهــا ّ
أبريل 150 2020
بإشــارات إلــى الطريــق الــذي يجــب أن نســلكه مســتقبالً . تبــدو حالتنــا اليــوم علــى أنهــا حالــة فــزع الــكلّ مــن الكلّ ،حالــة مــن الشــك والريبة وانعــدام اليقين إزاء المجهول؛ والســبب في هــذا يعــود إلــى جائحــة «كوفيــد .»19إننا أمــام فــزع ُمعولَم يدل بصحــة البشــر التــي هــي الخير علــى حجــم األزمــة التــي تعصــف ّ ـم دروس هــذه األزمــة ـ أه ـن ـ تعبير ديكارت .وم ـد األعظــم علــى حـ ِّ ّ الكبــرى في نظر السوســيولوجي الفرنســي« إدغار مورانEdgar »Morinأنه ال يمكننا االنفالت من الريبة والاليقين :نحن ال زلنا دائمـ ًا مرتابيــن بصــدد إيجــاد عــاج لهــذا الفيروس ،وكذلــك إزاء د موران مهمة ذلك ،يحد األزمة .بناء علــى ـورات ونتائــج هذه ِّ ً تطـ ُّ َّ ـن .إل أنــه أساسـ ّـية للتربية ،تتم َّثــل فــي تدريــس الريبــة والاليقيـ ّ تتضمن فــي نفس الوقــت الخطر مــن مفارقــات هــذه الريبــة أنهــا َّ تحــو ً ال جذرياً ،لكــن ً ،بــل ا ر تطو واألمل .نعتقــد أننــا نعيــش ُّ ُّ الفيــروس يذكّ رنــا بأننــا نعيــش المغامرة؛ المغامــرة أمــام المجهــول وداخله ،المغامــرة التــي لــم نســمع عنهــا مــن قبــل البشــري .ويبدو ،في نظــره ،أن الفيــروس بالنســبة للجنــس ّ يقتــل النيوليبراليــة ويقتلنــا معها فــي نفــس الوقت؛ ولذلــك ـر فإنــه ســيكون مــن المحــزن جـ ّ ـد ًا ّأل يخــرج مــن هــذه األزمــة فكـ ٌ ـي يرســم طريقـ ًا جديداً .مــن هــذه الفكرة ،أي ضــرورة فكر سياسـ ٌّ ؤرخ الفرنسي« مارســيل والم ـوف ـ الفيلس ـق ـ جديد ،ينطل ـي ُ ِّ سياسـ ّ ً ـر بهــا ـ نم ـي ـ الت ـة ـ األزم أن ا ـر ـ ،»Marcelمعتب ـيهGaucher غوشـ ّ هــي فرصــة للحظــة الحقيقة ،الرهــان فيهــا يتركــز علــى عالقــة السياسية .وينتقد غوشــيه عبارة «إننــا كلّ مواطــن بالجماعــة ّ ـرد وصف ـ مج ـا ـ م الواقع ،ورب ـن ـ ع ـدة ـ بعي فــي حالــة حرب» ،ألنهــا َّ َّ مجــازي لهــول هــذه األزمة ،مؤكّ ــد ًا ذلــك بقوله« لســنا فــي حالــة حــرب ،أو إن األمــر يشــبه الحــرب الزائفة ...تذكــرون أنــه خــال حــرب 1918 - 1914ســقط أكثــر مــن عشــرين ألــف قتيــل فــي ـد ًا عــن ذلــك» . األول .نحن ،لحســن الحظ ،بعيــدون جـ ّ يومهــا ّ أهــم مــا كشــفت عنــه هــذه األزمــة هــو عــودة مــا هــو إن ّ سياســي ،)le politique( أي مــا يضمــن بقــاء ودوام جماعــة مــا ،وقاعدة مشــتركة تلــزم الجميــع ألنهــا تهــم حيــاة ومــوت كلّ عضــو مــن الجماعة .ففــي نظر غوشــيه أن الداللــة العميقة لهذا
المتع ِّلــق بمــا هــو سياســي والــذي نســيناه الحــدث تتم َّثــل فــي صحــوة البعــد ُ ـي يرتبط بحيــاة الجماعة، ـ سياس ـو ـ ه ـا ـ عنه .م واعتقدنــا أنــه يمكننــا االســتغناء ّ ً؛ أمـ�ا االنتخابات البلدية ،فهـ�ي ترتبـ�ط بالسياسـ�ة(la poli�( وهو األهـ�م حاليا ّ ـن نجح أو خســر فيها ،وهــي تافهــة حالياً ،بل ومدعاة ـ بم ـم ،)tiqueوهــي تهتـ َ ْ للسخرية والتهكم . يتطور بشــكلٍ تصاعدي ،إل أنه في تقدير غوشــيه ،أن «كوفيد ،»19 رغم كونه ّ َّ ـبانية، ـ اإلس األنفلونزا أو ـود ـ األس لحــد اآلن ،لــم يصــل بعــد إلى هــول الطاعــون ّ وفــي توقّعــه وتســاؤله معـاً :أننا ســنعرف فــي القادم مــن األيام ،إلــى أي مدى ـدد الفجــوة بيــن الفــرد والجماعة .يعنــي هــذا أننــا نعيــش ســتتقلص أو تتمـ َّ اليــوم اختبــار ًا سياسـ ّـي ًا حقيقيـ ًا وعلــى أعلــى مســتوى؛ فهل البعــد الفردانــي المهيمــن كلّيــةً علــى مجتمعاتنــا الغربية؟ سنكتشــف الليبرالــي والخـ ّ ـاص هــو ُ هــذا األمــر فــي المســتقبل القريــب .هــذا هــو مــا يهم ،وهــذا هــو األساســي ـد تعبير غوشــيه . فــي هــذه األزمــة علــى حـ ِّ وعلــى غرار إدغــار موران ،يرى غوشــيه أن العولمــة الليبراليــة قــد ماتــت ،وأن المبــدأ القائــل بــأن «التجــارة الناعمة» ســتحلّ جميع المشــاكل أصبــح ـي ،يقول بأنه ليس بائداً .وفــي معــرض الحديــث عــن مناعــة الجســم السياسـ ّ ـون مــن أفــراد ،أن يضمــن مناعتــه مــن البســاطة والبداهة ،فــي مجتمــع يتكـ َّ السياسـ ّـية .ذلك أننــا نطلــب مــن األفــراد أن يبتعدوا عن بعضهــم البعض قدر اإلمكان( الحجــر الصحي) ،لكننــا نقــول لهــم فــي نفــس الوقت« فكّ ــروا فــي ـد اآلخريــن فقــد تكونــوا خطــر ًا عليهــم» .هكــذا يجــد األفــراد أنفســهم بيــن شـ ٍّ وجــذب ،أي فــي حالــة توتــر بيــن المســافة الفردانيــة وااللتــزام الغيري .فــي وقوية ،وال رجــة فكريــة وخلخلــة أيديولوجيــة كبيــرة ّ األخير ،يؤكِّ ــد بــأن هنــاك ّ ـه ،إل أننــا فــي حاجــةٍ أحــد يمكنــه التنبــؤ بخطــورة الحدث ومــا ســيترتب عنـ ّ ـي جديد . ماســة إلــى برنامــج سياسـ ّ البريطانيــة فــي التعاطــي مــع أزمــة «كوفيــد التجربــة وبالنظــر إلــى فــرادة ّ ً ،خاصــة إعالميا ،»19ارتأينــا أن ننفتــح علــى بعــض فالســفتها األكثــر حضــور ًا ّ ّ على صفحات« الغارديان »Guardian وقنــاة الـ« ،»BBCيتعلَّــق األمــر بالفيلســوف اإلنجليزي« جوليــان باجينــي »Julian Baggini الــذي يتماثــل
للشــفاء حاليـ ًا مــن أزمة التهــاب رئوي .ما يبدو غريب ًا بالنســبة لنــا جميعاً ،هو األول« بوريس جونســون »Boris Johnson أن المملكــة تأكيــد الوزيــر ّ الم َّتحــدة لــن تتخــذ أي إجــراء مــن قبيــل إغــاق المــدارس وفــرض الحجــر الصحي ،إلخ .لكــن بالنســبة لهــذا الفيلســوف ،يمكن فهــم هذا األمر بســهولة ـن يعــرف طريقــة تفكيــر اإلنجليز .فقــد حاول جاهــد ًا في لمـ ْ ووضــوح بالنســبة َ كتابه« كيــف يفكّ ر العالــم »How The World Think توضيــح التشــابهات ٍ ـفي الــذي القويــة بيــن الخصائــص المهيمنــة علــى ثقافــة مــا والنمــوذج الفلسـ ّ تجســده .ولعلّ األزمــة الحاليــة تجســيد واضــح لهــذه الفكرة .فهــو يــرى أن جونســون قدم اســتراتيجيته باعتبارهــا «أمبريقيــة »empirique فــي َّ تعــارض مــع المثاليــة ،إذ أوضــح أن القــرار الــذي ا ّتخــذه جــاء بعــد استشــارة العلمــاء المرموقين حــول الموضوع؛ وهــؤالء أقنعــوه بأنــه فــي مصلحــة يطــور قدراتــه ودفاعاتــه المناعية( مناعــة القطيع) ،حتــى لــو الشــعب أن ِّ تكبــد المزيــد مــن الخســائر فــي البداية .باإلضافــة إلــى يعنــي كان ذلــك ُّ ذلك ،إنهــا مقاربــة ذرائعية .ومعلــوم أن هــذه األخيــرة تشــير إلــى مذهــب وأخالقي ،تبلور مــع كلّ مــن «جيريمي بنثهــامJeremy سياســي فلســفي ّ ّ ّ )Bentham» (1748-1832و«جــون ســتيوارت ميــل »John Stuart Mill ـد ،)(1806-1873ويقــوم علــى مبــدأ عــام هــو تجويــد الوجــود إلــى أقصــى حـ ٍّ ـق بعــض لفائــدة األغلبية ،حتــى ولــو تر َّتــب عــن ذلــك إجحــاف أو ظلــم فــي حـ ّ األفــراد ،أي حتــى ولــو كان األمــر يتعلَّــق بعــدد مــن الوفيــات فــي الحالــة نتحــدث عنهــا وهــي الجائحة .يســعى باجيني من وراء كلّ هــذا إلــى التــي َّ عاطفية ،إنهــا تريــد أن تكون ،عكــس ـت ـ ليس ـة ـ اإلنجليزي ـفة ـ الفلس أن ـح ـ توضي ّ ـدد ،ال ـ تش والم ـارم ـ الص ـي ـ تعبيره .فالذرائع ـد ـ ح ـى ـ وعقالنية ،عل ـة ـ ذلك ،هادئ ِّ ِّ ُ يجــب عليــه فقــط التقليــص مــن عــدد الوفيات ،وإنمــا التســاؤل أساسـ ًا عــن جيدة .بعبــارة عــدد الذيــن ســينعمون بإمكانيــة العيــش المديــد وبصحــة ّ تواً ،فيمــا ـيموت ـن سـ المسـ ّنون فــي البلد ،هــم َمـ ْ ّ أخــرى ،إذا كان األشــخاص ُ جيد؛ ولعــلّ هــذا ِّ ســيطور الشــباب مناعــة ضــد «كوفيد ،»19 فالحســاب ّ إنجليزيـ ًا محضاً .يضــاف إلــى ذلــك أن التقليــد الليبرالــي فــي ـدو ـ يب ـتثناء االسـ ّ الفرديــة ة ـؤولي ـ المس ـدأ ـ مب ـاد ـ اعتم ـة ـ الحكوم ـى ـ عل ـرض ـ حدة ،يف ت الم ـة ـ المملك َّ ّ ّ أبريل 150 2020
25
ـق هادئـ ًا وتابــع طريقــك .هــذه هــي وكأن الحكومــة تخاطــب األفــراد قائلة :ابـ َ الطريقة اإلنجليزيــة فــي كيفيــة مواجهــة الشــدائد .وقد الحظ باجينــي أن ّ ـك فــي ـر ـ الوزي ـاب تغييــر نبــرة خطـ األول وبعــض السياسـ ّـيين نابــع مــن الشـ ّ ّ القرار ،والتخــوف مــن عــرض هــذا اتخــاذ فــي المعتمــد العلمــي النمــوذج ُّ جثــث الموتــى بــاآلالف فــي المستشــفيات علــى مختلــف وســائل اإلعــام ـخصي وليــس ـي شـ يحركه ،فــي نظــره طمـ ٌ والتواصل .هــذا التغييــر ِّ ّ ـوح سياسـ ٌّ بدافــع الغيرية .لكــن يبــدو أن المملكــة الم َّتحــدة رضخــت أخيــر ًا لتتخــذ نفس التدابيــر واإلجــراءات التــي اتخذتهــا الــدول األخرى .وفــي عالقــة مــع األزمــة ـر بها( التهــاب رئــوي) ودور الفلســفة فيها ،انتقــد االعتقــاد ّ الصحيــة التــي مـ ّ الســائد عند الكثيرين في أن الفلســفة تجعلنا سعداء وتســاعدنا على تخطي أهميتها :إنهــا تمنحنا فهمـ ًا أوضح المصاعـ ّ ـب ،إل أنــه يؤكّ ــد فــي نفس الوقــت ِّ ٍ كلمــة لمــا نعيشــه ،وتحول دون انجرافنــا مــع األهــواء والالمعقول .وفــي أخيرة :مــا هــو أساسي ،بالنســبة إليه ،هــو تقبــل الجــواز الــذي يطبــع الوضــع ـري وكــذا طبيعــة الحيــاة العابــرة . البشـ ّ السياســي ،خصص بالنقــد النفســي التحليــل فيــه يمتــزج منظــور ومــن ّ ّ الفيلســوف السلوفيني« ســافوي جيجيك »Slavoj Zizek مقاالتــه األخيــرة لتقديــم آرائــه حــول جائحــة (كوفيــد .)19وقــد ركّ ــز بدايــة علــى طريقــة ردود أفعالنــا إزاء هــذه الجائحة ،معتمــد ًا فــي ذلــك علــى خطاطــة الطبيبــة النفسانية« إليزابيث كوبلر-روس »Elisabeth Kübler-Ross والتي عرضتها ـون هــذه الخطاطــة مــن خمــس فــي كتابها« اللحظــات األخيــرة للحياة» .تتكـ ّ مراحــل هي :اإلنكار ،الغضب ،المســاومة ،اإلحباط والتقبل .فــي البداية كان اإلنكار( األمــر ليــس علــى هــذه الدرجــة مــن الخطورة) ،ثــم الغضب« بنبــرات للدول»( :مــرة أخــرى الخطــأ صــادر عــن ال تخلــو مــن عنصريــة أو عــداء ّ فعالة) ،بعــد ذلــك جــاء دور هــؤالء الصينيين)( ،حكومتنــا ضعيفــة وغيــر ّ ـد من المســاومة( هناك طبعـ ًا ضحايا ،لكــن يجــب أن نكــون قادريــن علــى الحـ ِّ الخســائر) ،وإذا لــم تســر األمــور فــي هــذا االتِّجــاه ســيظهر اإلحباط( يجــب عبــر مدانون)؛ أمــا ّأل نخــدع أنفســنا ،نحن جميعــ ًا ّ ُّ مرحلة التقبــل فقــد َّ تقبــل واقــع أن الوبــاء ســيأخذ حتمـ ًا بعــد ًا عنها جيجيك بقوله( يجــب علينــا ُّ عالمياً ،وأنــه ال يمكــن احتــواؤه عــن طريــق الحجر والعــزل وال عــن طريــق ّ بتقبله ،مــع أي تدبيــر وحشــي ناجــم عــن الذعــر والفزع .يتع َّلــق األمــر إذن ُّ
26
أبريل 150 2020
الوعــي بــأن معــدل الوفيــات منخفــض نسبياً ،وبشــيء مــن الحكمــة ســتكون تقبله ،ومــا لنــا فرصــة للنجـ ّ ـاة .)...إل أن مــا هــو أعمــق مــن ذلك ،ومــا يجــب ُّ يجــب علينــا التوا ُفــق معه ،هــو أن الحيــاة كانــت دائم ـ ًا قائمــة علــى أســاس تكرر للفيروســات التي ،مثل أموات أحياء ،تلقي بظاللها االنتشــار الغبي ُ والم ِّ ـددة بقاءنا .هكــذا تذكّ رنــا الفيروســات فــي العمــق بجــواز وعــدم علينا ،مهـ ّ ُ أهميــة وجودنــا :مهمــا كان حجــم اآلثــار العقليــة الروحيــة التــي أقامتهــا ِّ يدمــر ـرية ،فإن طارئـ ًا طبيعيـ ًا غبيـ ًا مثــل فيــروس أو كويكــب يمكنــه أن ِّ البشـ ّ كلّ شــيء .هذا دون الحديــث عــن درس اإليكولوجيــا الذي يمكننا اســتخالصه ـانية ،من دون قصد ،تخاطــر بتعجيــل نهايتها .كمــا يؤكِّ ــد مــن هــذا :إن اإلنسـ ّ ـد ًا أدنــى مــن الثقة بين ســلطات بــأن الخطــوة األولــى نحــو التقبل ،تفتــرض حـ ّ ُّ الــدول وشــعوبها .لذلك ينتقد جيجيك الطريقــة التــي تعاملــت بهــا الصيــن أول مــن اكتشــف مــع الدكتور« لــي وينليانــغ »Li Wenliang الــذي كان هــو ّ ـر ،وتم منعــه وإخضاعــه للرقابــة بدعــوى محاربــة الشــائعات المنتشـ َّ الوبــاء ُ ـد منهــا لتفــادي الذعــر والفزع .مــن جهـ ٍ ـة أخرى ،يــرى جيجيــك ضــرورة والحـ ّ والمواءمــة بيــن اتخــاذ تدابيــر يعتبــر أغلبنــا بأنهــا شــيوعية ،مثل التنســيق ُ المهمــة أن ـع اإلنتــاج والتوزيــع خــارج معاييــر الســوق وبمعــزل عنها .والواقـ َّ التــي تنتظرنــا هــي فــي غايــة الصعوبــة والتعقيد :يجــب علينا التخ ّلــص من أي ـيوعية القرن العشــرين البائدة ،وإبداع أشــكال جديدة متمركزة حنيــن إلــى شـ ّ ٍ طريقة المج َّنحة االعتقــاد في ـا ـ اليوتوبي ـن ـ لم ـاني؛ وإنه ـ اإلنس ـترك حــول المشـ ُ األول أخــرى للخالص .فــي معرض هذا الحديث ،أشــار جيجيك إلى أن الوزير ّ الســلطات اإلسـ ـرائيلي ،ومن أجــل الحـ ِّ ـد مــن انتشــار الفيروس ،اقتــرح علــى ُّ ّ ً الفلسطينية المســاعدة والتنســيق ،معلِّقا علــى ذلــك بقوله ،إن هــذا االقتراح ّ يميــز ال ـروس ـ الفي ـاطة ،ألن ـ بس ـ ب ة ،وإنما ـاني ـ اإلنس أو ـر ـ الخي ـع ـ ليــس بداف ـكلّ ِّ ّ والفلســطينيين .إضافة إلــى هذا ،فشــعار« أميركا( أو أي دولــة اليهــود بيــن ّ ـرى) أوالً» انتهــت صالحيتــه فــي ظــلّ عولمــة الفزع .وفــي األخيــر يذكّ رنــا أخـ ّ بمــا قالــه مارتــن لوثــر كينــغ منــذ مــا يزيــد علــى نصــف قرن« :لقــد قدمنــا على مراكــب مختلفة ،لكننــا اليــوم جميعـ ًا علــى نفــس الســفينة» .وإذا لــم نترجم هــذه األقــوال إلــى أفعال ،فإننــا نجــازف بــأن نجــد أنفســنا علــى متن« أميــرة الماس» ،وهــو اســم الســفينة التــي اجتاحهــا الوبــاء ■ .محمــد مــروان
يف زمن الجائحة ـار قبلهــا ،وال هــو الزمــن الــذي سـ ـيكون َب َ عدهــا ،ال فقــط ّ ُ زَمـ ُ ألن انتشـ َ ـن جائحـ ِـة «كورونــا» غـ ُ ـر الزمــن الــذي كان ْ ومراجعـ ٍـة إىل حـ ِّـد الــروع يف الحديــث عــن تحـ ُّـولٍ ـع حد ًثــا كونيــا َو َ ـع كلَّ َشء َم ْوضـ َ ضـ َ الفــروس صنـ َ ـع ُمســاءلة ُ ًّ ـن أعــاد النظـ َـر للبلــدان ،ولكــن ً ألن هــذا الزمـ َ أيضــا ّ الحــق يف النظــام االقتصـ ّ ـي ُ ـي ويف النظــام االجتامعـ ّ ـادي العاملـ ّ رجــةً رجــةً إن مــا تر ّتــب عــى واقعيــة فحســبّ . يف مفهــوم الحيــاة َ معرفيــة َمكينــة ،وليــس ّ جسـ ًـدا ّ جــه عـ ّ بو ْ ـامُ ،م ِّ ّ ّ ظهــور الفــروس وانتشــاره ُيشـك ُ جذريــة يف مفهــوم الحيــاة.. ِّل إعــاد َة نظـ ٍر ّ
صا َر املر ُء مُرتابًا ال من األشياء وحسب ،بل حىت من ذاته وهو يُجاب ُه عد ّوًا ال مَرئ ًّيا، شاع ًرا ،يف اآلن ذاته، يرتصدُ ه أنّ هذا العد َّو ّ يف ّ أدق تفاصيل حياته
وتمكيــن فــي ُمقابــل َ العولمــة ،التــي َ قامــت علــى إلغــاء ُ الحــدود ْ ـرض ـام ،فـ َ َخصيصــة العبــور مــن التحكّ ــم فــي نظــام الحيــاة العـ ّ ـتجد إقامــةَ الحــدود ال َبيــن البلــدان وحســب، المسـ ّ وبـ ُ ـاء كورونــا ُ المصابيــن مــكان بيــن وحتــى الواحــد، لــد الب ن ــد م بيــن بــل ُ ُ ُ َ ـي الواحــد أو والمدينــة التــي فيهــا ُي َ وجــدون ،وبيــن ســكّ ان الحـ ّ الح ْجــر أو اإلرادي ل ز ـ الع ـه ـ يقتضي ـا ـ م العمــارة الواحــدةَ ،وفــق ْ َ ّ ـدودا بيــن الفــرد ـ ح ـروس ـ الفي ض ـر ـ ف ـك، ـي .أبْعــد مــن ذلـ ً ُ َ الطّ بـ ّ ومــي، الي وذاتــهُ ،ملز ًِمــا ّ إيــاه بتغييــر عاداتــه ،وقلْــب ُســلوكه َ ّ ـاب ـ الخط ـه ـ عن ـح ـ فص ي ـا ـ م ـو ـ نح ـى ـ عل ـده، ـ س بج ُ وتقويــة شــعوره َ ُ ُ ُ عبر سلسـ ٍ ـلة من األوامــر والنواهي: تنبيهاته ـي وهــو ُيواصـ ـلُ ّ ْ الطبـ ّ التجمعــات»« ،ال ُتصافــح»« ،ال ُتعانــق»« ،ال تلمــس «اِعتــزل ّ األشــياء ّإل وأنــت ُم ْرتـ ٍ غدت أن الحياة َ ـد ق ّفــازات واقيــة» ..كما لــو ّ ـمها الفيــروس الحـ َ هــي االنفصــال واالنغــاقّ . ـدود التــي َرسـ َ إن ُ ـدا .لقد أعاد ـ أح ـتثني ـ َس ت ال ع ّب زلةً ً الصرامــة ،وهــي تتطل ُ ُ شــديد ُة ّ ـزم بإدماجهــا للعزلــة َو ْ ـي وألـ َ ـاري َ ض َعهــا االعتبـ ّ الفيــروس ُ المنسـ ّ والتو ُّجــس ـراه ـ باإلك وج ز ـ م م ـو ـ نح ـى ـ عل ـن ـ ولك ـاة، ـ الحي فــي نَمــط ُ َ َ ـقِ ـق فــي ـ الح ـ دالل ألن ـان، ـ اإلنس ـوق ـ ق ح ـب ـ كاس م ـ وتعلي والهلــع ـةَ ّ ّ َ َ ُ ً مســت ـدال ـ إب ـهد ـ ش ـاة ـ الحي َ دالليــا ،علــى غــرار اإلبــداالت التــي َّ ًّ ـروس العزلــة الضروريــة ،مكّ ـ َ ّ كلَّ شــيء .إلــى جانــب هــذه ُ ـن الفيـ ُ صارت قوي فــي كلّ الفضاءات الفــراغَ مــن ُحضــور ٍّ العامــة ،التي َ ّ بالخــاء ،فغــدا الفــراغُ ـورا دا ّلــة ال واإلغــاق شــبيهةً ْ َ َ والح ْجــر أمـ ً اآلخــر ،بــل علــى احتــرام ح ِّقــه فــي الحيــاة. علــى ر ْفــض َ نظامــا َوفقها، ويفــرض بالحــدود َ ً رغــم هــذا َ ـزم ُ المنحــى الــذي ُيلـ ُ ـص مشــدود ٍة إلــى نتائــج العولمة ،وال ـ بخصائ ـروس ـظ الفيـ َيحتفـ ُ َ ِ ـك ســمة الرهيــب وانتشــاره الــذي َيمتلـ ُ ســيما فــي نظــام تكا ُثــره ّ ِ ـتبعد احتمالَ ـ تس ال التي تطويقه عوبة ـي ،انطال ًقــا مــن ُص ُ الالنهائـ ّ بناء على رحلته الفيروس، ـلوك ـ س ى تبد إذ رعب، الم ـتحالة االسـ ُ ً َّ ُ ُ
تحــول نســجما مــع انتشــارهُ ،م ســمها ً وعلــى الخريطــة التــي َر َ ُّ ُ العالــم إلــى قريـ ٍ قادمــا مــن أقصــى ـر َك الفيــروس، ً ـة صغيــرة .تحـ َّ بسـ ٍ ـرعة تَحمــلُ قبــل أن يتـ َ ـو َّزع فــي ُمختلــف بقــاع العالــمُ ، مــكان ْ إيقاع . واالفتراضي ـي ـ الرقم الزمن ـاه ـ س أر الذي ـاع ـ اإليق ـص ٌ ْ ُ خصائـ َ ُ ُّ ّ ـي ،فــي ـن َّ ـس الزمـ َ يبــدو كمــا لــو ّ المحمـ َ أن تناميــه َ ـوم ُينافـ ُ الضوئـ َّ الصــوت ـ س ـس ـ ناف ت ـخ ـ الصواري / ـلحة ـ األس ـه ـدت فيـ ـرعةَ ُ ُ ُ صــر غـ َ َّ َع ْ ُ ُ ق ـو ـ وتتف ـب على ـ ت تر م ـة ـ للجائح ـوم، ـ الي ، ـازم ـ الم ـب ـ ع فالر ـا. ـ عليه ّ ُ ُ ّ ٌ ُّ ُ ُ ُ َ ـ نتش ي ـروس ـ الفي كــون وعبر كلّ َ ـر ِمــن كُ لّ شــيء ،وفي كلّ شــيءْ ، ُ مكن الم هو الذي ـار، ـ االنتش إبطاء أن كما خيف. م بإيقاع ـيء، شـ ّ ُ َ ُ ُ بصــور ٍة ّــب ل تط م للفيــروس، ي التصــد فــي اآلن، لحــد تــاح، الم ِّ ِّ ٌ ُ ُ ُ اقتصاديــا ـب علــى هــذا اإلبطــاء ًّ قريبــة مــن اإلعجــازِ ،لمــا يتر ّتـ ُ لمكاســب طب ّية ،وتعليقٍ َ ًّ واجتماعيــا ،و ِلمــا َيقتضيه ِمن تجهيزات ّ ُحقــوق اإلنســان ،وقلـ ٍ الفرد قد نظام الحيــاة ذاتها ،مــادام ـب فــي ِ ُ ومالبســه ،وحذائه، غــدا ،فــي َزمــن كورونــاُ ،م ً رتابا فــي أعضائــهَ ، تهجــى ،إلــى واحتكاكاتــه ،وفــي الهــواء الــذي َيستنشـ ُ ـقه ،وهــو َي ّ ـم َضوابطَ هــا وقواعدها. جانــب ذلــك ك ّلــه، ّ أبجديــةَ ُ العزلــة ويتع َّلـ ُ ـعر كمــا ـ يش ـار ـ ص ـى ـ حت ـان ـ اإلنس ـى ـ عل ة ـأ ـ فج ـر ً َ لقــد التبـ َ ُ ـس األمـ ُ ـخصيةٍ ور شـ ـه ُيـ ّ لــو أ ّنـ ُ ـيَ ،د َ ّ ـؤدي ،دون إرادتــه ودون اســتعداد ْ قبلـ ٍّ ـم مــن أفــام الخيــال ـات ـ رواي ـن ـ م ـة ـ رواي فــي الرعــب ،أو فــي فيلـ ٍ ّ العلمي . ّ ـوع ُشــبهة. ـار موضـ َ المسـ ّ ـتجد ،كلُّ شــيء صـ َ فــي زمــن كورونــا ُ أي توسـ َ ـس االرتيــاب علــى نحــو لــم َي ُعــد َيســتثني َّ لقــد ّ ـع هاجـ ُ وضــوع م ــد يع لــم بذاتــه. الفــرد عالقــة ذلــك فــي بمــا شــيء، ُ َ ُ صار ـتباه االشــتباه خارجيــا ،بــل غــدا االشـ ُ ً إحساســا ُتجاه الــذاتَ . ًّ رتابــا ال مــن األشــياء وحســب ،بــل حتــى مــن ذاتــه وهــو ـرء ُم ً المـ ُ العــدو هــذا أن ذاتــه، اآلن فــي ا، شــاعر ــا، رئي م ال ا عــدو جابــه ُي ُ ّ َّ ًّ ً َ ًّ ـأن ُيفكّ ــر، ـ ب ـرد ـ الف ـزم ـ أل ـد ـ ص َر ت ـه. ـ حيات ـل ـ تفاصي أدق ـي ـ ف ه ـد ـ يترص ّ َ ُّ ٌ ّ ُ َ ْ َ أبريل 150 2020
27
ـرض ـر فيــه وانطال ًقــا منــه؛ فـ ُّ ـأي عـ َ علــى امتــداد َيومــه ،بالفيــروس ،وأن يفكّ ـ َ ـر ُه ب َتوجيـ ٍ ستشـ ِ ـه ـ فس وي إل ، ـتجد ـ س الم ـا ـي َي ّ ْ ّ ره الفـ ُ ـع ُ ـرد ،فــي زمــن كورونـ ُ ُ ّ ُ َمرضـ ّ ـالِ ـرض ـ اس ـا ـ ه ن إ ـروس. ـ بالفي ـة ـ اإلصاب ـ احتم مــن ـتيهامات هــذا ال ّزمــن ،الــذي فـ َ ّ ُ ٍ ً َ وأوهامــا أيضــا خيــال وتوقّعــات ـتنبت ً ال نمــط حيــاة جديــدة وحســب ،بــل اسـ َ ً ـزءا من الحياة، على ـو ًدا وهلعــا .كمــا بــدأ وهلوســات ُ ً جعل الهلع ُجـ ً يفرض تعـ ُّ ْ أن احتمــالَ اإلصابــة ـك ـ ذل ـاهده. ـ ومش ره ـو ـ وص ـب ـ ع الر ـاب ـ خط ـع ـ م بالتعايــش ّ ُ َ ُ ّ بالفيــروس ليــس ُمرتبطً ــا ،فــي هــذه الجائحــة ،بالغَ يــر ،بــل بالذات نفْســها .ال ً حامل ـه ـر َ يتع َّلـ ُ ـرد ذاتـ ُ أن يكــون الفـ ُ بخطــر العــدوى مــن الغَ يــر ،بــل مــن ْ ـق األمـ ُ عر ًضا لها .كلُّ َشــخص ،بل كلُّ م ـط ـ فق وليس ـدوى ـ للع ا ـدر ـ مص أي ـروس، للفيـ ً ُ َّ ـه ـ ت صح ـت ـ َثب ت أن ـى ـ إل ـروس ـ بالفي ـاب ـ ص م ، ـتجد ـ س الم ـا ـ كورون ـن ـ م ز ـي ـ ف ـيء، شـ َ ُ َ ّ ُ ُ ٌ ّ ُ ُ ـد أمام ـه َيبقى ًّ ـن هــذا اإلثبـ َ صمـ َ ـات ذا َتـ ُ وســام ُته ،لكـ ّ ـر قادر علــى ْ أن َي ُ هشــا ،غيـ َ ـع با ّتســاع انتشــار الفيــروس، ـ س ت ي ـذي ـ ال ـول ـ جه الم ـن ـ وم ـي، ـ اآلت الرعــب مــن ّ َ ُ ّ ِ ـلٍ ـي، ـ حتم ر ـد ـ لق ـ تأجي ـوى ـ س ـت ـ س لي ـاء ـ الوب ـذا ـ ه ـك ـ ت ف ـن ـ م ة ـا ـ النج أن ـو ـ ل ـا ـ كم َ ْ َ ّ ْ ّ ـم وهــذا أحـ ُ تو َّلــد لــدى اإلنســانَ ،ب ْعــد ْ الرعــب الــذي َ أن تأكّ ــد العا َلـ ُ ـد عوامــل ّ ٍ َ ـر ـ حاض ـت ـ ل ع وج األرض، ـب ـ كوك ـت ـ أصاب ـة ـ غريب ـة ـ بجائح ـق ـ ل يتع ـر ـ األم ّ ُ َ مــن ّ َ َ أن ْ َ َ ـتقبل البلــدان التــي مــازال ـ س لم ا ـد ـ جس م ـم ـ ل العا ـي ـ ف ا ر ـر ـ تض ـر ـ األكث ـدان البلـ ُّ ً ُ ِّ ً ُ َ درجــةَ ـاء َيزحـ ُ ـم ْ ت البلـ ُ ـدان َ ـف فيهــا بإيقــاع أبطــأ .فالمراحــل التــي بهــا َرسـ َ الوبـ ُ خاضعــا ل ُنمــو هذا الفيــروس ،الذي ـار ـ ص ـن ـ الزم أن ت ـ كش ـروس ـ الفي ـار انتشـ ـفَ َ ّ ً َ تحكِّ جديدا ـا ـ ن م ز ـوغ ـ ص ي ال ـتجد ـ س الم ـا ـ كورون إن ـن. ـ م ز ال ـيم ـ تقس ـي ـ ف ـا ـ م م ِ َ ً ّ ً ّ َ ّ ُ غــدا ُ ـرا وحســب ،بــل َيفـ ُ المسـ ّ ـرض عالقــةً جديــد ًة بالمــكان ،أي ّ أن لكورونــا ُ ـتجد أثـ ً ـور ال ّزمــن والمــكان ،وفــي إعــادة ترتيــب العالقــة معهمــا ،أي حاسـ ً ـما فــي تصـ ُّ ٍ ـام. ـ ع ـه ـ ج بو ـخ ـ التاري ـز ـ رتك وم ـاة، ـ الحي ـز ـ رتك م ـد ـ ع ي ـا ـ م ـى ـ عل ا ـر ـ أث َ َ ّ َ ّ ُ ُ َ ُّ ُ أن لــه ً ترتيب ـه، ـ غيان م ه وو ـان ـ اإلنس ـ هشاش ـف ـ كش أن عد ب ـروس، ـ الفي ـاد لقــد أعـ َ ْ َ طُ َ ـةَ َ َ عالقـ ِ وباليومــي ،وغــدا نمـ َ ـرد ـة الفــرد باألشــياء َ ـط حيــاة ،أل ّنــه لــم َيبــق ُمجـ ّ ّ وميــة أمــر َ ـار ُم ِّ بع ْينــه ،بــل صـ َ هاجــس مقصــور علــى ْ وج ًهــا لــكلّ الســلوكات َ الي ّ وأس االنشــغال فــي كلِّ َ ـرء فــي كلّ مــا ُيقْبــل عليه ـ الم ـر ـ ي ـه ـ ب ـم؛ ـ ل العا ـاع ـ بق َّ ُفكّ ُ َ ُ
28
أبريل 150 2020
دث أح َ ؤسسـ ُ ـات والدول فــي الحاضر واآلتيْ ، بعــد أن ْ الم ّ فــي َيومــه ،وبــه تُفكّ ُر ُ ـوال فــي نَمــط الحيــاة وفــي نَمــط التعامــل مــع ال ّزمــن والمــكان .ضمــن هذا تحـ ُّ ـالَ البعــد، ـوم ـ لمفه ـار ـ االعتب ـروس ـ الفي ـاد ـ أع ـاة، ـ الحي ـط ـ نم ـ ط ـذي ـ ال ل ـو ـ التح َ َ ُّ ُ ـي للمــكان ـ االفتراض ـوم ـ المفه ـه ـ ث أحد ـذي ـ ال ـب ـ ل الق ـذ ـ ن م ـر ـ تغي ـد ـ ق كان الــذي ْ َ ُ ُ ُ َ ّ ّ ـاق إلــى إبطـ ِ ـرب والزمــن .فــي المســعى الشـ ّ ـاء انتشــار َ الوبــاء ،لــم َي ُعــد القـ ُ ـرا مقبـ ً ـان ُيفكّ ُك فارقــة ،مــا كان اإلنسـ ُ ـول وال ُمستســاغً ا ،وهــوِ ،لل ُْم َ ـي أمـ ً الفعلـ ُّ َ ـرب بيــن النــاس ـ ـت ـ ل جع ـا ـ ه ن أ ـى ـ عل ـه ـ نب ـا ـ عندم ـه ـ وئ ض ـي ـ ف ـة ـ التقني ة خطــور َ َ ّ ّ َ القُ َ تتم، ُمفت ِقـ ً ـر الحياة والتصـ ّ ـدي للجائحة أمـ ً ـدا للقُ ــرب .صـ َ ـورا ُّ ـار التواصــلُ وتدبيـ ُ ـف الحاجــة إلــى التقنيــة ،وأبــر َز فــي زمــن كورونــا ،مــن ُبعــد ،علــى نحــو كشـ َ ِ ـن إمــكانٍ فــي إنجــاز ـ م ـه ـ تيح ت ـا ـه َ الوجـ َ ـانيِ ،لمـ ُ ُ ُ ْ َ اآلخـ َ ـر لآللــة ،أي َو ْجههــا اإلنسـ ّ ِ ـي. ـ قم الر ـن ـ م ز ال ـاع ـ إيق ـي ـ ضاه ي ـاع ـ بإيق ـر ـ تكاث الم ـاء ـ الوب ـذا ـ ه ـاء ـ إبط ـاء؛ ـ ط اإلب ٍ ّ َ ُ ْ ُ َّ ّ المح ِّقــق لإلبطــاء ،كمــا لــو فاآللــة ،بهــذا َ الب ْعــد ُ المعنــى ،تعمــلُ علــى تأميــن ُ ممــا ـرعة، ـ الس ـم ـ عال ـو ـ ه ـذي ـ ال ـا ـ َمه ل عا ـد ـ وض ـا، ـ نطقه م ـد ـ ض أن اآللــة تشــتغلُ َّ ّ ّ َ ّ ُ ّ ٍ صار كشـ َ ـف عــن َوجــه ُمغايــر َ بالســرعة هــي مــا َ لحقيقتهــا .فاآللــة المهووســة ّ ـه الفيــروس ال فــي أح َدثـ ُ ـهم فــي اإلبطــاء .إ ّنــه أحـ ُ ـد مظاهــر الق ْلــب الــذي ْ سـ ُ ُي ْ ـور العديــد مــن األشــياء. ـ تص ـي ـ ف ـا ـ أيض ـل ـ ب ـع، ـ والوقائ ـلوكات ـ الس ـن ـ م ـد ـ العدي ً ُّ ـة إلــى التقنيــة ،وهــي حاجــةٌ َتنطَ ــوي علــى ـدت الحاجـ ُ بانتشــار الفيــروس ،تبـ َّ العزلــة والتقنيــة ،إذ أخذَ ت ـن ـ بي ـة ـ العالق ـب ـ ترتي ـد ـ عي أولهمــا أ ّنهــا ُت ُ َ َم َ ُ حيــن؛ ّ لم ْ س مع غــزو التقنية للحيــاة الحديثة ـر ـ تك ـذي ـ ال ـر ـ غي ـر ـ آخ ـا ـ ه ج تو ـة ـ العالق ـذه هـ َ َ ُّ ً ّ َ َ ْ َ نمــط حيــاةٍ ِ َ ســتجد الم وتحولهــا إلــى نمــط ُوجــود. َ ّ ُّ خلــق فيــروس كورونــا ُ التقنيــة فــي تأميــن اال ّتصــال ـا ـ ه ت أتاح ـي ـ الت ـات ـ اإلمكان ـن ـ م ا ـتفيد ـ س م ـر، َ ْ ً آخـ ُ ّ ـي ـ المكان ـد ـ ع الب أن ـو ـ ل ـا ـ كم ، ـاني ـ اإلنس فء ـد ـ ال ـى ـ عل ـاظ ـ الحف ـي ـ وف ـد، ـ ع ب ـن ِّ ّ ُ ْ َ ِمـ ُ ّ ّ ِ ٍ ـراري لــم َيكُ ن ـ اضط فء د ـن ـ م ـة ـ اآلل ـرود ـ ب ـن ـ ـا، ـ كورون ـن ـ زم ـي ـ ف ـروض، المفـ مكّ َ ُ َ ٍّ الم َو َّجــه إلــى التقنيــة ـح الثانــي هــو ّ مــن انشــغاالتهاَ . أن النقــد الفكـ ّ الملمـ ُ ـريُ ، ور الــذي تضط ِل ُع الد ـى ـ نس ي أن ـن ـ ك م ي ال ، ـاني ـ اإلنس ـى ـ عل ـا ـ إجهازه وإلــى مظهــر ُ ْ ُ ْ َ َّ َ ّ ـدى مــن تأميــن تدبيــر َمرافــق ـ تب ـا ـ م ـو ـ وه ـا، ـ لكورون ي ـد ـ التص ـن ـ بــه فــي تأمي َّ ّ
ـي فــي ؤد َيــه الـ الحيــاة ِمــن ُبعــد ،ومــن الــدور الــذي ُي ْمكــن أن ُي ّ ُ ـذَّكاء االصطناعـ ّ االستشــفاء مــن فيــروس ينتقلُ من اإلنســان إلى اإلنســان ،لك ّنــه ال َينتقلُ على االصطناعي كلّ حــال بيــن اإلنســان وداخــل اآللــة /الروبــو ،التي َيظــلّ ذكاؤُهــا ّ ِ ـم خارجهــا. رمج ُتهــا علــى تعقيـ ِ تمــت َب َ َمصو ًنــا متــى َّ ـن جائحـ ِ قبلهــا ،وال هــو الزمــن الــذي كان ـذي ـ ال ـن ـ الزم ـر ـ غي ـا» ـ «كورون ـة َزمـ ُ ْ ُ ً ـع كلَّ ـ ض و ـا ـ كوني ـا ـ ث حد ـع ـ صن ـروس ـ الفي ـار ـ انتش ألن ـط ـ فق ال ـا، ـ ه عد ب ـيكون سـ َ ُ َ َ ّ ًّ َ َ َ َ ٍ ـولٍ ومراجعــة إلــى حـ ّ َشــيء َم ْوضـ َ ـد الشــروع فــي الحديــث عــن تحـ ُّ ـع ُمســاءلة ُ للبلدان ،ولكن االجتماعي ـام ـ النظ وفي العالمي االقتصادي النظام الحــق فــي ّ ّ ُ ّ ٍ ـدا ـ جس م ، ـام ـ ع ـه ـ ج بو ـاة ـ الحي ـوم ـ مفه ـي ـ ف ـر ـ النظ ـاد ـ أع ـن ـ الزم ـذا ـ ه ألن ً ّ ُ ِّ ً َ أيضــا ّ َ ْ َ إن مــا تر ّتــب علــى ظهــور ـب. ـ فحس ـة ـ واقعي ـ رج ـس ـ ولي ـة، ـ كين م ـة ـ معرفي ـ ّ ـةً رجـةً ّ ّ َ ّ ّ ـكِّ جذريــة في مفهــوم الحياة ،بمــا َم َن َح ُه ـر ـ نظ ة ـاد ـ إع ـ ش ي ـاره ـ وانتش ـروس ـ الفي لُ َ ّ ُ َ مــن فسـ ٍ للتأمــل في هذا التو ُّجــس والقلــق واالرتيــاب، ـحة ،غيـ ِر ُمنفصلــة عــن َ ُّ ِ ْ ص ـادة ـ وإع المفهــوم الح ُجب عــن الحيــاة ،أي رف ِْعها ـع ـ ف ر ـى ـ عل ص ـر ـ بالح ـه ـ وغ َ ُ ْ ويختفــي .لقــد كانــت الحيــا ُة عمــا ال ينفـ ّ ـب فيهــا َ ـك ينــأى فــي الحيــاةُ ، وي ْح َجـ ُ َّ ِ باســم ـها ـ ْس ف ن ـن ـ ع ـاد ـ االبتع ـي ـ ف ـرع ـ س ت ـا ـ ه ن أ ـن ـ ع ـف ـ تكش ـا ـ كورون ـل ـ قب ـى ـ حت ُ ّ ُ ُ ْ ْ وجـ ٍ ـولُ البالهــة والتفاهــة ـه َ ـور والتقـ ُّ آخــر للحيــاة َيبنيــه تحـ ُّ التطـ ُّ باســم ْ ـدم ،أي ْ ـأي الحيــا ِة عــن َنفْســها ُصــور َة بداهــةٍ والجشــع إلــى أمــو ٍر َ ـس نـ ُ هيــة .وقــد لَبـ َ بد ّ لٍ ـح الجائحــة ـ ل ت أن ـل ـ قب ـدة، ـ عدي ـب ـ بس ـان ـ اإلنس ـش ـ ح تو ال تكُ ـ ُّ ـف عــن تسـ ِ ُ ـويغ َ ُّ ّ ُ ُ ـه ـ ن طغيا ـف ـ تكش أن ـد ـ ع ب ـة ـ الطبيع ـع ـ م ـان ـ اإلنس ـة ـ عالق ـب ـ ترتي ـادة ـ إع علــى َ ّ ُ ُ َ جاهها ،وعلــى إعــادة ترتيب عالقة ـه حقيقــةَ هشاشــته ُت َ ـب عنـ ُ عليهــا ،بمــا حجـ َ اإلنســان ب َنفســه ،وعالقـ ِ ـة اإلنســان باإلنســان. أن غريــز َة البقــاء لقــد كشـ َ ـف َزمــن كورونــا ،علــى األقــلّ مــن مظاهــره األولــىّ ، َ ضــع الو مــن بهــا ـل ـ تنتق أن ـن ـ ك م ي التــي ـم ـ القي ـا ـ تخترقه ـم ـ ل ـان ـ اإلنس لــدى َ ْ ُ ْ ُ ْ َ ُ ْ غيــر أن غريــز َة البقــاء حبــة الحيــاة .ذلــك ّ الر ْحــب َ ّ لم ّ الغريــزي إلــى األفــق ّ ُ محبــة الحيــاة قيمــةٌ ترتك ـ ُز علــى تقديــر الــذات للغَ يــر، ألن ـاة، ـ الحي محبــة ّ ّ ّ ـهدتها ـ ش ـي ـ الت ـاع ـ فاألوض . ـي ـ الثقاف ـو ـ نح ـزي ـ الغري ـن ـ م ـذات ـ ال ـروج ـ خ ـى ـ وعل َ ُ ِّ ّ ـابق المحمــوم للظفَ ــر ـات المحـ ّ ّ التجاريــة فــي ُمختلــف بقــاع العالــم ،والتسـ ُ الغذائيــة وغيرهــا ،وظهــور ُت ّجــار الحــروب واألوبئــة واألزمــات ،أي بالمــواد ّ ّ ِ شــرية الب تفــر َج ،علــى المــوت، ْ ُت ّجــار َ ّ حقيقــة الــذات َ أتاحــت لإلنســان أن َي َّ
ـلٍ ـزي، ـي ،بإبْعــاده عــن الغريـ ِّ التــي لــم تســتطع ْ أن ترقــى َ بالبقــاء إلــى فعـ قيمـ ّ ِ ـه، ـ ت فداح ت ـ تكش ـار ـ نهي ا ـم. ـ للقي ـادح ـ ف ـار ـ انهي ـى ـ عل ـهد ـفَ ّ ُ ـت لــه أن يشـ َ ُ وأتاحـ ْ ٌ َ أول التــي كانــت ـم ُ ُ قبــل كورونــا ،مــع ّ مالمحهــا ترتسـ ُ بصــورة ُمخيفــة حتــى ْ وخطرهــا، ها ـم ـ اس كان ـا ـ أي ـة، ـ الجائح ـن ـ زم أن ـال ـ والح ـوت. ـ الم ـاه امتحــان ُتجـ ّ ًّ ُ ُ ضاعـ ٍ ـف م ـم ـ تعقي ـن ـ م ـد ـ الب ـم. ـ القي ـع ـ م ـة ـ العالق ـب ـ ترتي ـادة ـ إلع هــو لحظــة ّ َ ٍ ُ َ ُ صيبــت فــي َيمتـ ّ ـروح وأ َ ـد مــن َجســد اإلنســان إلــى ُروحــه .كلّمــا اهتــرأت الـ ّ خرابــا ،يبقــى كلُّ تعقيــم وتطهيــر عاجزيْــن عــن ـارت ـ وص ـاني ـ اإلنس ـا ـ وهره َج ً ّ المــوت َصــون المعنــى َ اآلخــر للحيــاة مــن الوبــاء ،المعنــى الــذي ال ُيقابــل َ مفهــوم اليــوم، ، د هــد ي أن كــن م ي الــذي االجتماعــي االنهيــار إن ّ ُ ِّ َ بالضــرورةّ . ُ ْ ُ َ َ ّ ـادم مــن ـع ويهـ ّ واقعيــا قـ ٌ المجتمــع ُ ـوم المجتمـ ُ ـس التــي عليهــا يقـ ُ األسـ َ ـد َد ُ ًّ ـن حاجـ ٍ ـة ـ وزم ـم، ـ قي ـن ـ م ز ـه ـ صف بو ـة، ـ الجائح ـن ـ م ز ـي ـ ف ـم ـ القي ـار ـ ُخطــورة انهي َ َ َ َ َ َ حبـ ِ ـة الحيــاة ،علــى نحــو مــا م ـن ـ زم ـو ـ فه ـك، ـ كذل ـو ـ ه ـا ـ وبم ـم. ـ القي ُم ّ لحــة إلــى َ َ ّ المــرح واألمــل ،ومــن ـدى ،فــي َمشـ َ تبـ َّ ـاهد عديــدة مــن بقــاع العا َلــمِ ،مــن ُروح َ ـول إلــى ـ تتح ـم ـ ل ـا ـ م ـة ـ الهشاش ـى ـ عل ا ـار ـ وانتص ة ـو ـ ق ـد ـ ع ت ـي ـ الت ة ـخري ـ الس روح ً ُ ً ّ َّ ُّ ّ ْ ـور أو اســتخفاف بالجائحــة أو قـ ٍ ـذف بهــا فــي متاهة الخرافة والهلوســات .ال تهـ ُّ ً َّ برؤيــة للحيــاة ـل ـ ب ، ـي ـ أخالق ـاب ـ بخط ـياق، ـ الس ـذا ـ ه ـي ـ ف ـا، ـ ق إطال ـر ـ األم ـق ـ ل يتع ُ ُ ُ ّ باآلخــر. توقّفً ــا علــى ُن ْبــل العالقــة حب َتهــا َ َ وتمجيدهــا والفـ َ ـرح بهــا ُم َ تجعــلُ َم ّ ـد إلــى العالقــة بيــن النــاس ليــس ـ وامت ـة، ـ الجائح ـه ـ ت ض فر ـذي ـ ال ـال، فاالنفصـ ْ ّ ُ َ ِ تأمــل لمفهــوم العالقــة ولمفهــوم الحيــاة ،مادامــت الحيــاة ،في ة ـاد ـ ســوى إع ّ الخيــوط. ـعبةَ ُ ُعمقهــا ،عالقــةً ُمتشـ ّ ودهشــتها ـرارها ـ ألس الحامي ـها ـ وأس الحياة ـ س ن ا دوم ـغَ أن المجهولَ كان ً ُ َ رغم ّ ُّ بصورةِ ِ ُّ ومحتفظً ــا َ وتجددهــا ،يبــدو مجهــولُ جائحــة «كورونــا» ً للمــوت ُ قاتمــاُ ، ـف ـا ـ م لرب ـل. القتـ ـف ،من بين ما كشـ َ المضــيء فــي هــذا المجهــول هــو أ ّنه كشـ َ ّ ُ ِ ِ ـي العلمــاء ،وإلــى نظــام ّ ـاني وإلــى ُ صحـ ٍّ عنــه ،عــن الحاجــة إلــى العلــم اإلنسـ ّ القيــم، ـ قيم ـا ـ وتطويره ـة ـ التفاه ـى ـ عل ـابق ـةَ َ متطـ ِّ ـور ،فــي َزمــن غــدا فيــه التسـ ُ َ لَ ُ ْضى ف أ ـا ـ بم الحديث، ـن ـ الزم ـ عالم ـة ـ التفاه ـاج ـ إنت ـى ـ عل ـس ـ ف التنا ـو ـ تح حتــى ـةَ َ َّ ـض ال يبــدو ،فــي زمــن كورونــاُ ،معيقً ــا إلــى إنتــاج فائــض مــن التفاهــة .فائـ ٌ ً ـاس عامل من عوامل اإلحسـ وحســب ،بل بحد ِة الهشاشــة ■ .خالد بلقاســم ّ أبريل 150 2020
29
«كورونا» الذي يُعيد« تربية» العالم
العدو الالمريئ ورسديّة الرعب املُعمم
لربــا مــن الســابق ألوانــه ،الدخــول يف محاولــة الســتخالص الــدروس والعــر مــن رعــب كورونا« الســائل»، َّ لربــا مــن غــر املنطقــي ،الحســم يف مآالت الوضــع املربــك واملخيــف الــذي نختــره آنـ ًا ،ومــع ذلــك ال بــأس أن َّ نجـ ِّـرب القــراءة ونهفــو إىل ت ّلمــس الخالص .األمــر جلــل واملوقــف عــي عــى الفهــم والتأويــل ،فالعــامل الــذي كان مطمئنــا إىل يقينياتــه واعتقاداتــه املتص ّلبــة ،بــات غائص ـ ًا يف حــرة كــرى ،وكأنــه يجــرب دهشــة البدايــات ــؤَول ،فقــط هو« الاليقني» مــا ــؤَول ُ وقلــق النهايــات كــا يف العــود األبــدي ،فــا حقيقــة تصمــد وال معنــى ُي ِّ وي َّ يشــمخ عاليـ ًا يف ّ كل املســالك واملتاهــات ،فقــط هــو الضعــف والخــوف واملــرض واملــوت ،مــا يعيدنــا إىل الصفــر ويدفعنــا نحــو املجهــول .
من كان يعتقد، يوماً ،أن تصري املطارات والفنادق واملزارات السياحية بال مسافرين وزائرين؟ من كان يتخ ّيل أن تصري فينيسيا« البندقية»، الحب مدينة ّ والجمال ،خاوية عىل عروشها؟
30
ال الحكومــات التي أدمنت طويالً« البلطجة الدولية» واالســتبداد السياســي ،فــي الشــمال أو الجنــوب ،اســتطاعت أن تتغلَّــب علــى هــذا العدو الالمرئــي ،الــذي ينتشــر ســريع ًا وال يبقــي وال يــذر .وال الحكومــات التــي أدمنت« التبعية» أو« األنفــة وعــزة ـرر مــن لعنــة كورونــا ،وتبقــى النفس» اســتطاعت بدورهــا أن تتحـ َّ فــي ِحــلٍّ من« رعبه» و«ترعيبــه» ،فالفقــراء كمــا األغنيــاء، المشــاهير والمغمــورون ،آل الشــمال وآل الجنــوب ،الــكلّ بــات ومو ِقن ـ ًا بــأن رســاميله الرمزيــة والماديــة خائف ـ ًا مــن الجائحــةُ ، لــن تمنــع عنه« الوبــاء الســائل» . فجأة توارت عن قصاصات وكاالت األنباء ومسائيات اإلذاعة والتلفزة أخبار داعش وقفشــات ترامب وتداعيات بريكسيت وثورات الربيع، تراجــع كلّ ذلــك إلــى الــوراء ،ليصيــر خبزنــا اليومــي هــو فيــروس كورونــا القاتــل ،نداعب شاشــات الهاتــف وأزرار الريمــوت كونترول، بحثـ ًا عــن أعــداد القتلــى والمصابين في الهنــا والهنــاك ،ونتطلَّع إلى ـد ُر حين ًا بِ ُنكَ ـ ٍ ـت للضحك والتهوين أخبــار ُت ّ بشــر باكتشــاف اللقاحَ ،ن َت َنـ َّ مــن الواقعــة ،أو ننخــرط خطــأ فــي مســارات التهويــل والرفــع مــن منســوب الذعــر جراء تقاســم بعــض األخبار الزائفــة أو الصادقة . يبــدو أنه« وبــاء ُم َعل ٌِّم» جــاء ليضــع اإلنســانية أمــام ضعفهــا المتأصــل ،ليذكّ رهــا بــأال شــيء يمكــن التحكّ ــم فيــه ،وأن ّ للطبيعــة منطقــ ًا آخــر ،و«رياضيات» أخــرى ،ال تخضــع ِ ِ ــي لقوانيــن الســوق ومتاهــات الحداثة المفرطــة ،جاء ل ُي ْعل َ مــن فرضية« ســردية الرعــب المعمــم» ،حيــث قلــق المــوت ينتصــر علــى قلــق المعنى ،وحيــث غريــزة البقــاء تحــاور غريزة المــوت ،وتفــاوض بشــأن التجــاوز واالنتصــار علــى فيــروس، يعبــث باألبــدان واألرواح واالقتصاديــات ويقودهــا قســر ًا نحــو أحلــك االحتمــاالت .
أبريل 150 2020
ـول العالــم إلــى محجــر صحــي كبيــر ،وانســجن األفــراد لقــد تحـ ّ تحــت ضغــط الجائحــة فــي منازلهــم ،وتوقَّفــت دورة اإلنتــاج ــع والكنائــس فــي كثيــر مــن المصانــع واإلدارات ،وباتــت الب َِّي ُ والمســاجد ،توصــد أبوابهــا في وجــه المصلين ،فمــن كان يعتقد يومــ ًا أن يصيــر الحــرم المكــي فارغــاً؟ وأن تنتهــي الســعودية مــن منــح تأشــيرات العمــرة؟ مــن كان يعتقــد ،يوم ـاً ،أن تصيــر المطارات والفنادق والمزارات الســياحية بال مسافرين وزائرين؟ الحــب يتخيــل أن تصيــر فينيســيا« البندقية» ،مدينــة مــن كان ّ ّ والجمــال ،خاويــة على عروشــها؟ إن ســردية الرعــب المعمــم نابعــة أساسـ ًا مــن خطــاب التهويــن أو التهويــل الــذي رافــق الفيــروس منــذ ظهــوره األول فــي إقليم ووهان الصينــي ،فلــم َت ْن َتـ ِ ـه اآللــة اإلعالميــة ،ولــو مــن غيــر قصديــة مباشــرة ،مــن بــث القلــق والذعــر فــي نفــوس المواطنين فــي أكثــر مــن ســياق ،مثلمــا لــم تنتــه قنــوات التواصــل الشــعبية مــن إنتــاج النكت والشــائعات واألخبار الزائفة بصــدد الفيروس، ليتدخل« تجــار الحــروب وأثريــاء األزمــات» ،لصــب مزيــد مــن َّ الزيــت علــى النــار ،باحتــكار الســلع وتوجيــه المســتهلك نحــو ُســعار الشــراء والتخزين اســتعداد ًا لألســوأ ،كلّ ذلك كان ســبب ًا رئيس ـ ًا فــي تعميــم الرعــب والهلــع وفتــح علبــة شــرور العالــم من جديد . الفيــروس فعلهــا ،وأعــاد كلّ شــيء إلــى الصفــر ،أعــاد اإلنســان إلــى ســردية الرعــب الممتــدة عبــر األزمنــة ،والتــي دعتــه فــي حالة« حــرب الجميــع ضــد الجميع» إلــى االحتمــاء بالســحر والمعتقــد والخيــال لمواجهــة ظــام الجهــل والمــرض وباقــي الشــرور .كورونا فعلهــا وأعــاد اإلنســان إلــى ضعفــه وعجــزه، ـد ًا مــن االختبــاء واالمتنــاع عــن اللقــاء باآلخر .إنــه فــا يجــد بـ ّ
الفيــروس الــذي يعيــد بنــاء المســافة االجتماعيــة ويعمــل فــي اآلن ذاتــه على تحييــن أو تهجيــن الرابــط االجتماعي .ففــي لحظــات الخطــر تلــوح الحاجــة إلــى الشــبيه ،لمواجهــة عنــف المتوقّع والالمتو ّقــع ،فكيــف يســتقيم األمر في ظــل فيــروس يقتضــي التباعــد ال التقــارب؟ هنــا يشــتغل الرمــزي بدرجــة أعلى وتصيــر المســافة« صحية/احترازية» ،مــع عــودة دالــة إلى الــذات واآلخر ،في أشــكال تضامنيــة وحدويــة لمواجهــة الخطــر ،بــل وحتــى في مســتوى أشــكال عدوانيــة تعلــن انتصــار األنانيــة والجشــع واالحتكار .وهــو مــا الح بقــوة فــي التســابق نحــو إدخــار الطعــام وإعــادة ترتيــب األولويــات . لقــد تنــازل الفرد ،مكرهاً ،عن طقوســه اليومية ،وانســجن ،ضــد ًا على رغباته، فــي بيتــه ،مذعــور ًا مــن خطر محدق ،قادم من لمــس زر مصعد أو فتح باب أو مصافحة مريض ،لم يعد ذات الفرد منشــغ ً ال بالبحث عن األســفار والرحالت ا َ ألقلّ ســعراً ،أو مهووساً بالتمشــهد الرقمي لحصد الاليكات وتسويق الذات، المعمــم هــو البقــاء وتالفــي ممكنــات العــدوى مــا يهمــه فــي ســردية الرعــب ّ واالعتالل . ـم الوجــودي لألفــراد والجماعــات هــو تخزيــن الطعام والتســابق ـ اله لقــد بــات ّ نحــو تأميــن أكبــر قــدر مــن الــدواء ،وهــو مــا فتــح البــاب لظهــور األنانيــات والهويــات القاتلــة ،وكأن األمــر يتع َّلــق المســتحكمة والفردانيات المعطوبة ّ بهندســة اجتماعيــة جديــدة أساســها التباعــد االجتماعــي واإلعــاء مــن شــرط البقاء .فــكلّ التعليمــات االحترازيــة توصــي بضــرورة االنتهــاء مــن طقــوس التحيــة والتقبيــل والعنــاق ،لصالــح أشــكال جديــدة من« اليومــي التواصلي»، تنبنــي علــى التباعــد ال التقــارب ،وعلى االنفصــال ال اال ّتصال .وهــو ما تعضده العامة وإغــاق دور العبــادة والمطــارات والمقاهي خيــارات منــع التجمعــات ّ والمطاعم . إنها مجتمعات الخطر والمخاطرة التي أهدتنا إياها النيوليبرالية المتوحشــة، وقادتنــا إليهــا التفكيكات والتذريرات المتواصلــة للرابــط االجتماعــي ولكافــة أشــكال وبنيــات التضامــن والتعاضــد الجمعــي ،إنهــا ذات المجتمعــات،
تعرضــت ،وألســباب تاريخيــة وسياســية واقتصادية صرفــة ،للمزيــد التــي َّ مــن التهجيــن والمســخ واالحتبــاس القيمــي ،وأنتجــت فــي النهاية« مســخ ًا ً» هشـاً ،ال يصمــد طويـ ً ا أمــام اختبــارات الجوائح واألوبئة ،بل يكشــف إنسانيا ّ المتأصــل فــي أعماقــه ،يســتيقظ فيه ســريع ًا عــن الجانــب المخفــق والبائــس ّ الوحــش ،ويموت فيه اإلنســان . رســائل/دروس الجائحــة ال تنتهــي ،إنهــا تتجــاوز المحلــي إلــى الكونــي، ـوق علــى كلّ الســرديات الدائــرة بغيــر انقطــاع ،لتعلــن للجميــع ،وفــي وتتفـ ّ عتبــة العتبــات ،أن الجائحــة ديموقراطيــة ،فــي اســتهدافها للــدول الغنيــة كمــا الفقيــرة ،وللفئــات المهيمــن عليهــا ،كمــا األخــرى التــي تهيمــن وتمتلــك وســائل اإلنتــاج واإلكــراه ،فهــو فيــروس ال يختــار ضحايــاه بســبب اللــون أو الديــن أو االنتماء المراتبــي ،مثلمــا هــو الحــال بالنســبة لمــرض الســل الــذي يصيــب آل القــاع االجتماعــي مــن الذيــن يقيمــون في ســكن حــاط بالكرامة ،أو فيروس اإليبوال الــذي اســتهدف مواطنين من إفريقيا الوســطى بالتحديد .هنا ـأل واحــدة مــن الــدول الكبرى الجائحــة تعلــن أنهــا جــاءت لتقــول للجميــع ،بـ ّ التحصــن ضــد الفيــروس . أو الصغــرى بمقدورهــا ّ فــي عتبــة ثانيــة يعلــن الفيــروس للجميــع أن العلــم هــو مفتــاح الفــرج ،وأن المراهنــة علــى التفاهــة ونجــوم الكــرة والغنــاء والبالهــة ،لن تنقــذ العالم من مصيــر الهاويــة ،فقــط هــو البحــث العلمــي مــا قــد يقــود إلــى اكتشــاف اللقاح وتأميــن المســتقبل ،وهــو ما يكون قب ً ال باالســتثمار في بنيــات التربية والتعليم ـرة أخــرى أمــام حقيقــة القطاعــات ـ م ـانية والصحة .فالفيــروس وضــع اإلنسـ ّ ّ والمقرِضــة، الحيويــة التــي أُ ْه ِملــت بســبب توصيــات َّ المؤسســات المانحــة ُ والتــي توصــي دوم ـ ًا بوجــوب تخلــي الدولــة عــن اإلنفــاق العمومــي لصالــح الصحــة والتعليــم وباقــي القطاعــات االجتماعية . ّ ثمــة عتبــة أخــرى للفهــم والســؤال المســتفز ،تنكشــف مــن خــال ّ تداعيات« حــرب كورونــا» ،وهي بالضبط عتبة المصير المشــترك ،فاإلنســانية المعمــم التــي أفرزتهــا وعززتهــا جائحــة تختبــر اليــوم ،عبــر ســردية الرعــب ّ أبريل 150 2020
31
إن الحجر الصحي الذي يختربه العالم اليوم ،هو أشبه ما يكون بعودة مفروضة إىل الذات ،يف شكل خلوة تفكري وتغيري وتنوير
32
كورونــا ،تختبــر أن األلــم مشــترك والمعانــاة واحــدة ،وأن الخــوف مــن المجهول يتســيد الوضع ،ويلقــي بثقلــه علــى كلّ ّ الديناميــات والفعاليــات اإلنســانية ،فالــكلّ بــات منشــغ ً ال بعــدد المصابيــن والمتعافيــن والراحليــن تباعـاً ،فــي الصيــن وإيطاليــا والمدينــة الفالنيــة والحــي األقــرب ،لــم تعــد أهــداف ميســي وال مؤخرة كارديشــيان تغري بالمتابعــة على اليوتيــوب ،وتحقّــق بالتالــي أعلــى أرقام« الطوندونــس» ،فقــط هــو الخــوف مــن ـن الرهــاب . ومك َْمـ َ س االنهمــام َ االعتــال مــا يشــكل أُ َّ لقــد أحــدث كورونــا ،فينــا ومــن حولنــا ،فائــق االرتبــاك وعميــق الصدمــة ،لقــد َع َّرانــا مــن الداخل قبــل الخارج ،وكشــف جروحنا النرجســية العميقة ،وأعطابنا االجتماعيــة والسياســية الثقيلــة، األهــم ،خســائرنا القيميــة الكبــرى ،فــي وكشــف ،وهــذا هــو ّ إنتاج« إنســانية جمعيــة» أو حتى« فردانيــة عقالنية» تدبــر والتبصــر واإليثار .لهــذا األزمــات العصيبــة بمزيــد مــن الحكمــة ّ يتوجــب علينــا االعتــراف بــأن اإلنســانية رســبت في هــذا االمتحان َّ بشــرت به العولمة والحداثة وحوار الحضارات، العســير ،وأن ما ّ ومــا إلــى ذلــك من« مفاهيــم مســكوكة وترحالية» ،لــم نجــد لــه ـن مــن أثــر فــي قلــب اإلعصــار ،وتحديــد ًا فــي الــدول التــي لــم ُي ْبـ َ فيها اإلنســان ،و ُتـر َِك فيهــا منــذور ًا ألدوات« التضبيع» والتتفيه . بــد مــن التأكيــد علــى أن درس الــدرس الــذي فــي الختــام ال َّ يتوجــب الخلــوص إليــه ،مــن هــذي الجائحــة ،هــو البنــاء َّ الحضــاري لألمــم والشــعوب ،عبــر بنــاء اإلنســان وجعلــه محــور كلّ االســتهدافات التنموية ،مــع مــا يوجبــه هــذا البنــاء مــن تعاقــدات مجتمعيــة جديــدة ،ومصالحــات ذكيــة بيــن الطبيعــة الوباء الم َع ْو ِل ُم لأللم واإلنســان ،وبين اإلنســان واإلنســان .فهذا ُ والفــزع والشــر ،ســيغرس فــي ذاكــرة الشــعوب خبــرات مؤلمــة عــن ســوء التدبيــر والتعاطــي مع األزمــات ،وســيذكرها بأن مــا
أبريل 150 2020
حقّقتــه البشــرية مــن انتصــارات مزعومــة علــى الطبيعــة ،ومــا كرســته بلغتــه مــن شــأ ٍو فــي بــاب المســتحدثات التقنيــة ،وأن ما ّ مــن قيــم االســتهالك واحتمــاالت الضبــط والتوجيــه ،بــات بــا معنــى ،أمــام فيــروس مجهــري أصــاب العالــم في مقتــل ،وعمق مــن جرحه النرجســي . ســتدرك البشــرية ،ولــو بعــد حين ،أن الحيــاة تســتمر بالضروري مــن أساســيات حفــظ النفــس والحيــاة ،وأال حاجــة إلــى العالمــات الفاخــرة لتأكيــد التمايــز االجتماعــي ،وأال حاجــة إلى« المؤثرين» مــن ص َّنــاع التفاهــة والبالهــة ،لصناعــة الــرأي العــام ،وأن مــا يمكــث وينفــع النــاس هــو العلم/مفتــاح الفــرج . إن الحجــر الصحــي الــذي يختبــره العالــم اليــوم ،هــو أشــبه مــا يكــون بعــودة مفروضــة إلــى الــذات ،فــي شــكل خلــوة تفكيــر وتغييــر وتنويــر ،إلعــادة اكتشــاف األنــا واآلخــر ،وإزالــة الســحر عــن الوقائــع واألشــياء ،فالمطلــوب أن تصيــر هذه« الخلــوة القســرية» عتبة تأسيســاتية فارقة ومائزة إلعــادة قــراءة وتأويــل الحــال والمــآل ،عبــر اكتشــاف الذات فــي محدوديتهــا القصوى، م الهوياتــي . التضخ بعيــد ًا عــن وهــم ّ ّ لربمــا كان مــن الضــروري ،أن تصفــع الجوائــح ،اإلنســان مــن َّ حيــن آلخــر ،ع ّلــه يســتفيق وينتهــي من« رأســمالية الكــوارث»، فعالــم مــا قبــل ســردية الرعب الكوروني ،كان غائصـ ًا في بلطجة فجــة ،لــم يكــن معهــا يعيــر أدنــى انتبــاه ِ ُ ل ِّم َنــا األرض، دوليــة ّ ـدالت ،كان وال إلــى تلوثهــا ونهبهــا وتدميرهــا الــذي فــاق كلّ المعـ َّ منشــغ ً ال فقــط بالتحريــض على االســتهالك وتوطين قيم الســوق والتفاهة .وهــا هــو الفيــروس يصفــع الجميــع ،ويعيــد اإلنســان إلــى ُعريــه وضعفــه ودهشــة البــدء ،فهــل سيســتوعب الواقعــة تتلخــص فــي هكــذا عبــارة« أال مــا أضعفــك أيها والــدرس؟ والتــي ّ اإلنســان» ■ .عبــد الرحيــم العطــري
يف الحاجة
إىل لقاح ضد الخوف! ـري .بــن تفكيــك الهــرم الســكّ اين ،إضعــاف عــى مـ ّـر التاريــخ ،شــكَّ لت األوبئــة أبــرز تحـ ٍّـد أمــام اســتمرار النــوع البـ ّ واالجتامعيــة وخطــر االنقــراض ،ظ ّلــت األمــراض والفريوســات واســعة الطبيعيــة ،التمـ ُّـردات السياسـ ّـية املــوارد ّ ّ اإلنســانية .كان علينــا االنتشــار عائقــ ًا حقيقيــ ًّا أمــام تطويــر رشوط العيــش الكريــم بالعديــد مــن املجتمعــات ّ انتظــار بدايــات الثــورة الصناعيــة األوىل خــال القــرن الثامــن عــر مــن أجــل القضــاء عــى العديــد مــن األمــراض البرشيــة لقــرونٍ وقــرون ،بفضــل تطـ ُّـور قطــاع الطــب واألدويــة مــن جهـ ٍـة ،وحاجــة املصانــع واألوبئــة التــي روعــت ّ ٍ والــركات إىل اليــد العاملــة مــن جهــة أخــرى .اليــوم ،ال يختلــف األمــر كثــراً عــن املــايض فيــا يتع َّلــق باالنتشــار املوسمي لألوبئة والفريوسات ،حيث الزال الهلع الجامعي ،تسليع األزمات والخوف من خطر االنقراض سيد املوقــف .ا ُ الصناعيــة الرابعــة لصالح قوى ـتجد يف هــذا الســياق هــو تطـ ُّـور إمكانــات الــذَّكاء الصناعــي والثــورة ملسـ َ ّ ـي مــع «وبــاء كورونــا الصحــة االقتصــاد والــركات الكــرى عــى حســاب ّ َّ العامــة .فكيــف يتفاعــل املجتمــع الفرنـ ّ ملثقَّفــن وا ُ ـي؟ ومــا هــي ردود أفعــال ا ُ ملفكِّريــن )COVID-19) «Coronavirus Diseaseخــال العــر َّ الرقمـ ّ واالقتصاديــة املختلفــة؟ االجتامعيــة إزاء الوبــاء وتداعياتــه ّ ّ
عمل علماء االجتماع والفالسفة عىل تحليل حاالت الهلع الجماهريي والخوف والقلق العام من املرض يف أفق مجاوزة األزمة ،والدفاع عن تدابري الحماية دون املس بالح ّريّات الفردية للمواطنني، والتشديد عىل رضورة الوعي بالبناء ّ والثقايف االجتماعي ّ لألمراض
الجماعــي المرافــق النتشــار فيــروس كورونــا «يرتبــط الذعــر ّ بالخــوف مــن المجهــول» .بهــذه العبــارة يعلــق الفيلســوف الفرنســي «كريســتوف الصالــح »Christophe Al-Salehعلــى التعاطــي الجماعــي مــع الفيــروس منــذ ظهــوره وإلــى حــدود انتشــاره العالمــي الراهــن .بالنســبة لــه ،يمكــن التمييــز بيــن االجتماعــي مــع فيــروس مرحلتيــن اثنتيــن ضمــن التعاطــي ّ ـم تم ّثــل ـ ت ـياق، ـ الس ـذا ـ ه ـي أوالً ،مرحلــة الالمبــاالة .فـ ّ كورونــاّ : وثقافيـاً) ،مرتبــط باآلخــر (مجاليـ ًا المــرض علــى أنــه خطــر بعيــد ّ ّ (الصينــي بالضــرورة) ،مــع محــاوالت إلحيــاء المركزيــة الغربيــة ـي دفيــن مــن األوبئــة .ثاني ـاً، تنبــع بالضــرورة مــن خــوف تاريخـ ّ خاصــة مرحلــة الذعــر .فــي هــذه المرحلــة أصبــح الخطــر قريبـاً، ّ األوروبيــة ،ومازلنــا ال نعــرف جوهــره ،فــي بفرنســا وباقــي الــدول ّ ظــلّ غيــاب أي عــاج أو لقــاح للمــرض .وبالتالي ،يتزاوج الشــعور الم ِ عاصــرة مــع الخــوف مــن المجهــول في بالاليقيــن فــي الحيــاة ُ إنتــاج حالــة مــن الهســتيريا والذعــر الجماعــي التــي تعمينــا عــن حقيقــة المــرض وتجعلنــا قلقيــن مــن شــيء غيــر معــروف أكثــر ـد ذاتــه بلغــة هايدغــر. مــن خوفنــا مــن شــيء معــروف فــي حـ ِّ البشــرية أوبئــة وأمراضــ ًا فتاكــة (الطاعــون، لقــد عايشــت ّ الجــدري ،)...لكنهــا مــا عــادت تثيــر اهتمامنــا اليــوم رغــم أنهــا مازالــت موجــودة ،ليــس ألننــا اخترعنا عالجــات لهــا ،وإنما ألنها لــم تعــد بعــد مصــدر قلق أو خوف مــن خطر المــوت واالنقراض. وإلــى اليــوم ،الزالــت العديــد مــن األمــراض واألوبئــة (بمــا فيهــا باقــي أنــواع األنفلونــزا ،أمــراض ســوء التغذيــة ،الســرطان)... تحصــد أرواح مئــات المالييــن ســنوي ًا دون أن نعير األمر كثير ًا من
ضخما من حجم أن اإلعــام واألنفوســفير قــد َّ االهتمــام .صحيــح ّ فيــروس كورونــاّ ،إل أن الفضــول اإلنســاني والخــوف والاليقيــن إزاء المجهــول والمســتقبل و«الذعــر العاطفــي المنفلــت مــن المحلت يفســر الهلــع العام واســتنزاف ّ شــروط العقلنــة» هو ما ِّ التجاريــة مــن األطعمــة والمســتلزمات الطبية بفرنســا كما بباقي الــدول والمجتمعــات ،يضيــف كريســتوف الصالــح. الم ِ عاصــرة االنخــراط فــي نمــط لقــد فرضــت الحيــاة الحضريــة ُ الحر ّيــة ـد كبيــر قائمــة علــى االســتهالك، حيــاة مســتقرة إلــى حـ ٍّ ّ ـي .لذلــك ،أضحينــا نعيــش فيمــا يصطلــح عليه واالســتالب َّ الرقمـ ّ عالـ�م االجتمـ�اع الفرنسـ�ي «باسـ�كال الردييـ�ه �Pascal Lardel « »lierمجتمــع المخاطــر المنعدمــة La société du risque - ،»zéroحيــث يمكــن ألقــلّ اضطــراب أن ُيتمثــل ككارثــة مطلقــة. وعلــى هــذا ،فتحــت أزمــة كورونــا حقبــةً جديــدة مــن الاليقيــن والتشــكيك والهلــع العــام يضيــف الردييــه .والواقــع أن هــذا االجتماعيــة قــد ربــط األمــراض واألوبئــة النمــط مــن االســتكانة ّ دائمـ ًا باآلخــر البعيــد والمختلــف ،وكلَّمــا اقتربــت هــذه األمراض وانتشــرت علــى نطاقٍ أوســع أعادت إلــى األذهان أحــداث التاريخ والماضــي وأســهمت فــي ســيادة القلــق العــام مــن جديــد. يعــود عالــم االجتمــاع «جيــرارد ميرميــه ،»Gérard Mermet االجتماعية مؤلف كتاب ( ،»Francoscopie 2030«) 1إلى األزمة ّ واالقتصادية التي تعيشــها فرنســا منذ بدايات حركات السترات ّ الصفــراء مــن أجــل تبيــان إســهامها الكبيــر فــي بنــاء الخــوف ـي لدى الفرنســيين« .فإذا اضطررنــا إلى ابتكار والهلــع االجتماعـ ّ ً ـد مــرض ـ ض ـس ـ ولي ـوف ـ الخ ـد ـ ض ا ـ لقاح ـون ـ يك لقــاح ،فيجــب أن ّ ّ أبريل 150 2020
33
كورونــا» ،يؤكِّ ــد ميرميــه .لقــد أســهم الخــوف العــام فــي انتقالنــا مــن مرحلة الصــراع مــن أجــل البقــاء علــى قيــد الحيــاة ومــا البحــث عــن العيــش إلــى ِّ يتر َّتــب عــن ذلــك مــن انسـ ٍ ـداد فــي أفــق التفكيــر والنظــر إلــى المســتقبل. المتطرف ونتيجــة لذلــك ،مــن المرجــح أن تنشــط من جديد حــركات اليميــن ِّ ومعــاداة األجانــب والمســلمين في المســتقبل القريب نظر ًا النتشــار مظاهر االنهزاميــة واالنســحابين بيــن عمــوم الفرنســيين ،وكأن األمــر يتع َّلــق بأزمــة نهايــة العالــم مصدرهــا األســاس هــو اآلخــر. تبيــن فــي تحقيــق نشــرته جريــدة «لــو باريزيــان» ( )Le Parisienالفرنسـ ّـيةَّ ، أن مــا يقــرب مــن ثلثــي الفرنســيين قلقــون إزاء انتشــار فيــروس كورونــا ،وهــي مرتيــن مــن القلــق العــام الــذي رافــق انتشــار فيــروس أنفلونــزا نســبة أعلــى َّ ً ـدة المــرض علــى ـ ح ـار ـ انتش ـن ـ بي ا ـ طردي ـر ـ التقري ـط ـ يرب .2009 الخنازيــر ســنة ّ ـاقٍ ـي الــذي يتجاوز المرض نفســه. نطـ عالمــي وتزايــد الخــوف والهلــع الجماعـ ّ اجتماعيــة ،كمــا ـاءات ـ بن ـة ـ واألوبئ ـراض ـ األم ـأن ـ ب ـول ـ الق ـن ـ يمك ـع، ـ الواق فــي ّ يقــول عالــم االجتماع الفرنســي «جيرالد برونــر ،»Gérald Bronnerمرتبطة والثقافيــة التــي قــد تتجــاوز حــدود العقــل االجتماعيــة بطبيعــة التمثّــات ّ ّ والمنطــق لتســهم فــي نشــر المــرض علــى نطــاقٍ أوســع انطالقـ ًا مــن ســلوكات وطبيـاً .لهــذا ،يمكــن للتشــكيل الجمعي علميـ ًا جمعيــة عفويــة وغيــر مؤطّ ــرة ّ ّ لفكــرة المــرض وفكــرة الخــوف منــه أن يفتــح المجــال أمــام انتشــار الخرافــة، الطبيــة. ـي علــى حســاب ســلوكيات الوقايــة ّ الشــائعات والقلــق االجتماعـ ّ يعتبــر جيرالــد برونــر أن التعاطــي الفرنســي مــع انتشــار الفيــروس قــد اتخــذ طابــع «الفضيلــة والمهادنــة» ،عكس الصيــن وإيطاليا ،حيث اإلكــراه واإلجبار ـي منطلقات أســاس لمنع انتشــار المــرضّ ،إل أنه لم يمنع من والحجــر ِّ الصحـ ّ العامة الــذي يخرج عن النســق ـي مــن القلــق والســذاجة ّ خلــق ســوق اجتماعـ ّ المؤامــرة بفعــل تأثيــر األخبار ـر ـ فك ـخ ـ ف ـي ـ ف ـقط ـ ويس ـة ـ الغربي العــام للعقلنــة ُ ـكلٍ قمي .نتيجة الر ـر ـ العص ضمن ـر ـ كبي ـ بش تفجرت التي ـة ـ الزائف والمعلومــات َّ ّ ـد أيض ـ ًا لذلــك ،وباإلضافــة إلــى ضــرورة محاربــة الخــوف والهلــع العــام ،البـ ّ المنظّ ــم للمعلومــات ،يضيف مــن التفكيــر فــي مواجهــة التد ُّفــق الكبيــر وغيــر ُ برونــر .لقــد أثبــت فيــروس كورونــا ضعفـ ًا كبيــر ًا فــي التعاطــي الجماهيري مع المعطيــات العلميــة والطبيــة بالمــوازاة مــع الرغبة في أســطرة الهلــع والقلق العلميــة مــن ـرب المعــارف ّ ـي يفتــرض أن يقـ ّ مــن المجهــول ضمــن عصــر رقمـ ّ المركَّ ب. العمــوم بــدل تعميــم الجهــل ُ واالقتصادي مع فيــروس كورونا ـي ـ السياس ـي ـد مــن اإلشــارة إلــى أن التعاطـ البـ ّ ّ ّ
34
أبريل 150 2020
ـري .إن انتهاج تدابير قــد أســهم بدوره في تعزيز نســق الهلــع والقلق الجماهيـ ّ �ي غيـ�ر مسـ�بوقة بأوروبـ�ا ،بلغـ�ة «أنطونيـ�و ماتـ�ور و �Anto احتـ�واء وعـ�زل صحـ ّ ،»nio Maturoرغــم الطبيعــة االعتياديــة لألنفلونــزا عمومـاً ،هــو بالضــرورة الحر ّية والســلوكات المراقبة الهادفة إلى تقييد ـمالية ُ تجســيد لمخرجات رأسـ ّ ّ ـانية وتوجيــه الهلــع العــام نحــو االســتهالك بالدرجــة األولــى .ال يجــب اإلنسـ ّ الحر ّيــة ـن ـ م ـد ـ تح ـت ـ أضح ـد ـ ق ـرض ـ الم ـواء ـ احت ـر ـ تدابي ـون ـ ك ـن ـ ع ـي التغاضـ ّ الفرديــة للمواطنيــن وتســتبيح انتهــاك خصوصياتهــم ،فــي الحيــاة الواقعيــة قميــة ،كمــا أن الهلــع العــام يترافــق مــع نــدرة واحتــكار المنتجــات كمــا َّ الر ّ الطبيــة واألســاس .وعلــى هــذا ،يصبــح تســليع المــرض والقلــق العــام ســبي ً ال ّ ـاني فــي وضعيــة األزمــات ـ اإلنس ـلوك ـ الس ـي ـ ف ـم ـ ـام ـ الع ـرأي ـ ال ـه ـ لتوجي والتحكُّ ّ ـي. بفضــل إمكانــات العصــر َّ الرقمـ ّ حد الزال اإلنســان أي إلى ـن ـ بي ت ـراض ـ واألم ـة ـ األوبئ قصــارى القــول ،إن انتشــار ُ ٍّ ِّ هشـ ًا وضعيفـ ًا في مواجهة الطبيعة وطفراتها المســتمرة .فرغم عيشــنا كائنـ ًا ّ بمجتمــع التقنيــات العاليــةّ ،إل أننــا نشــعر بالتهديــد مــن فيــروس غيــر دقيــق وغيـ�ر محسـ�وس ،كمـ�ا تقـ�ول «كلوديـ�ن بورتـ�ون جانجـ�رو س �Claudine Bur ميــز نظر ـي الــذي َّ ،»ton-Jeangrosيدفعنــا إلــى إعــادة إنتــاج الهلــع الجماعـ ّ أجدادنــا إلــى مختلــف األوبئــة واألمــراض التــي عرفتهــا البشــرية خــال مئــات تبين اآلالف من الســنين .في ظلّ هذا الوضع المركَّ ب والمســتقبل المجهولَّ ، االجتماعيــة فــي التعاطي مع وبــاء كورونا، بالملمــوس الــدور الكبيــر للعلــوم ّ أكثــر مــن الطــب والعلــوم الدقيقــة نفســها ،ضمــن ســياق المجــال التداولــي ـي .لقــد عمــل علمــاء االجتمــاع والفالســفة علــى تحليــل حــاالت الهلع الفرنسـ ّ الجماهيــري والخــوف والقلــق العــام مــن المــرض فــي أفــق مجــاوزة األزمــة، بالحر ّيــات الفرديــة للمواطنيــن، والدفــاع عــن تدابيــر الحمايــة دون المــس ّ والثقافي لألمــراض ...مع ـي ـ االجتماع والتشــديد علــى ضــرورة الوعــي بالبنــاء ّ ّ ـي تصــارع مــن أجــل شــرعية ـ العرب ـا ـ بوطنن االجتماعيــة ذلــك ،الزالــت العلــوم ّ ّ واقتصاديــة ،قــد تأتــي أو ال تأتــي ،والزالــت غيــر مواكبــة لمثــل هذه اجتماعيــة ّ ّ والبيئيــة اآلنيــة .لهذا ،يبــدأ البحث عن عالج ـة ـ حي الص ـتجدات ـ والمس القضايــا ّ ِّ ّ العامــة وتصوراتنــا لفيــروس كورونــا بالبحــث عــن عــاج لتمثُّالتنــا ،مخاوفنــا ُّ ّ عامة ■ .محمد اإلدريســي حــول األمراض ّ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهامش: 1- Gérard Mermet, Francoscopie 2030 : nous, aujourd’hui et demain, Larousse, 2018.
جان كالبيترس:
آمن وعلينا التك ُّيف غري العالم ِ ٌ املروعــة غابــات أســراليا، دمــرت الحرائــق كان لعــام 2020اسـ ـتهالل غــر ُمبـ ِّ ِّ ـر :ففــي ينايــر /كانــون الثــاينَّ ، ٍ وقت الربيــة ،لتصبــح أزمــة «التغيــرات املناخيــة» معضلةً أكرث واقعية من أي والتهمــت النــران آالف الحيوانــات ّ مــى ،بينــا تواصــل مئــات اآلالف زحفهــا هرب ـ ًا مــن الحــروب والصِّ اعــات ،ليــأيت فــروس «كورونــا» ا ُ ـتجد ملسـ َ ا ُ ملنتــر يف جميــع أنحــاء العــامل ،خالق ـ ًا حالــة مــن القلــق وعــدم االســتقرار ،فأصبــح الكثــرون يعتكفــون يف جراء نوبات من الهلع االستباقي خشية ما هو ٍ األيام القادمة. آت وما تحمله ّ املنازل ويتقوقعون عىل ذواتهم َّ أهميــة احتــواء مخــاوف البعــض والتخفيــف مــن تهويــات البعــض اآلخــر ،كان ملوقــع «دي تســايت» انطالقـ ًا مــن ِّ ـي مــن جامعــة األملــاين هــذا الحــوار مــع الطبيــب النفــي «جــان كالبيتــر» الحاصــل عــى دكتــوراه الطــب النفـ ّ ـي يف عيــادة أوبريبــرج النهاريــة Kurfürstendammيف برلــن ،الذي كوبنهاغــن ،ورئيــس وحــدة العــاج النفـ ّ قميــة،»Digitale Paranoia – bleiben / الر ّ صــدر لــه العــام املــايض كتــاب بعنــوان «أن تكــون مصابـ ًا بالبارنويــا َّ للحـ ِّـد مــن املخــاوف التــي تحيــط بهــم والتعاطــي أهميــة التواصــل مــع اآلخريــن َ إذ يف ِّنــد «كالبيتــر» يف حــواره ِّ معهــا بصــور ٍة أكــر إيجابيــة. المعتاد مقارنةً بالماضي؟ تخوف ًا من ُ هل أصبح البشر أكثر ُّ
نعــم ،بالتأكيــد .الحظــت ذلــك فــي مجــال عملــي ســواء علــىالصعيــد الجماعــي أو الفــردي ،وعلى ما يبدو أن األمر في تصاعد بحكــم تزايــد التهديــدات العالميــة التــي صــارت تؤ ِّثــر حاليـ ًا على ـخصية .فعلــى ســبيل المثــال ،لدينــا فيــروس محيــط حياتنــا الشـ ّ ـتجد ومــا يثيــره مــن حالــة هلــع لــدى المواطنيــن، المسـ َ كورونــا ُ فبعــض األشــخاص الذيــن يأتــون إلينــا فــي العيــادة الخارجيــة والعيــادة النهاريــة لــم يعــد بإمكانهــم التفكيــر بمعــزل عــن هذه
األحــداث ،وذلــك نظــر ًا لحجــم التهديــدات المباشــرة وتــداول األخبــار الســيئة ،التــي لــم يعــد باإلمــكان إيقافهــا أو حجبهــا.
إذن أنــت تــرى أن اآللــة اإلعالميــة تلعــب دوراً حاســم ًا فــي مثــل هــذه األحــوال..
االجتماعيــة تعــد نافــذة بالطبــع ..الصحــف ووســائل اإلعــامّ هامــة ُن ِ أهمية حثيثة بصــر مــن خاللهــا العالم ك ّلــه .كذلك هنــاك ِّ ّ لعنصــري الصــورة واللُّغة باعتبارهما عاملين حاســمين في رســم ـم وجــب علــى هــذه الوســائل للمتل ِّقــي ،ومــن َثـ َّ الصــورة الذهنيــة ُ الجماهيريــة أن تنقــل صــور ًة حقيقيــة تتماهــى مــع العالــم علــى أرض الواقــع ،ولكــن غالبـ ًا مــا يتم ذلــك بصورة يشــوبها القصور. تتضمــن علــى ســبيل المثــال ،نجــد بعــض التقاريــر التليفزيونيــة َّ صــور ًا ألشــخاص مــن أصــل آســيوي يرتــدون أقنعــة التنفــس تعبــر عــن واقــع الحــال فــي والســترات الواقيــة ،وهــي صــور ال ِّ ُ دولتنــا اال ّتحاديــة .المشــكلة تكمــن أيض ًا فــي اإلشــارات الخاطئة التحيــزات والمخــاوف ..ال يمكننــي تأكيــد حجــم التــي تثيــر ُّ الميلودرامــا النفسـ ّـية التــي تخلقهــا مثــل هــذه اإليعــازات غيــر ـق أن نعــي حجــم الدقيقــة فــي شــوارع ألمانيــا .مــا نحتاجــه بحـ ّ ـوع مــن التراحــم ـرية ككلّ ،ليكــون بيننــا نـ ٌ المهـ ِّ ـدد للبشـ ّ الخطــر ُ المطلــوب تحديــد ًا فــي أوقـ ٍ ـات كهــذه ،بحيــث ال يفكِّ ــر الجميــع فــي خالصهــم فحســب ،بــل أيضـ ًا يفكِّ ــرون فــي الصــورة الكبيــرة ـرية. للبشـ ّ
نســبية ترتبــط بالفئــة فــي رأيــك ،هــل الخــوف مســألة ّ يتخوفــون بالقــدر نفســه ـباب والكبــار العمريــة ،أم أن الشـ ّ َّ ممــا يشــهده العالــم حاليــ ًا؟ ّ أبريل 150 2020
35
ربَّما األحرى بنا يف التعامل مع تحدّ ي فريوس كورونا أن نلتقط الدرس املُستفاد عندما تبدأ مشاعر الخوف والقلق يف االنحسار
36
الخــوف شــعور فطــري ال إرادي يعتري جميــع الفئات العمرية.والمبالــغ فيهــا ْ بــررة ُ وإن كنــت أرى انتشــار المخــاوف غيــر ُ الم َّ باألكثــر لــدى كبــار الســن ،كالخــوف مــن اعتــداءات المهاجريــن هام ًا للغاية، أو جرائــم العصابــات .هنــا يلعب اإلعالم أيضـ ًا دور ًا ّ ـوه وســائل التواصــل االجتماعــي فقــد أصبــح مــن الممكــن أن تشـ ِّ أما فحــوى الرســالة الجماهيريــة وتجعلهــا علــى النقيــض تمامـاًّ . ـص الشــباب ،فهــم بالطبع قلقــون من إيذاء المســتقبل فيمــا يخـ ُّ ومــا يحملــه لهــم .ومــع ذلك ،فإنهــم غالب ًا ما ينجحــون في إحالة ـي الخــوف إلــى شــعور إيجابــي مــن خــال ممارســة نشــاط سياسـ ّ ـوي .هــذا الشــعور بالقــدرة علــى فعــل شــيء يســاعدهم أو توعـ ّ علــى تجــاوز الســياج الســلبي لمشــاعر الخــوف والقلــق ..فــا غضاضــة مــن تعامــل شــريحة الشــباب مــع تهديــدات العالــم، يؤرقنــي ح ّق ـ ًا ألنهــم يســتطيعون بلــورة واســتنفار قدراتهــم .مــا ِّ نفســي «األطفــال» ،إذ تنبغــي حمايتهــم مــن تســلل كمعالــج ّ مخــاوف اآلبــاء إليهــم ،كما ينبغي أن يظ ّلــوا بمعزل عن تهديدات العالــم الصاخــب قــدر المســتطاع.
للتغيــرات المناخيــة ،يشــعر الغالبيــة فــي ظــلّ التصــدي ُّ باالرتباك والعجز وكونهم بمعزل عن واضعي السياسات، مــا هــي رؤيتــك حيــال ذلــك؟
ـم أن تكون هناك لكــي يصبــح الخــوف نشــاط ًا إيجابيـاً ،من المهـ ّمســاحة للعمــل المشــترك .هــذه هــي أفضــل طريقــة لمواجهــة مشــاعر الخــوف .فــإذا كانــت السياســات ُتوضع في األســاس من الصحــة العقليــة أجــل األفــراد ،فيمكــن تطويعهــا أيضـ ًا لحمايــة َّ للســكّ ان وتشــجيع المشاركة .فعلى ســبيل المثال ،يمكن تيسير ـهل علــى ســكّ ان المنــازل تثبيــت ممــا يسـ ِّ شــروط ولوائــح البنــاءّ ، أنظمــة الطاقــة الشمســية أو إنشــاء واجهــات خضــراء للمنــازل.
أبريل 150 2020
ٍ ـردود مــن حيــث التأثيــر الملمــوس ،قــد ال يكــون هــذا األمــر ذا مـ التحديــات، كبيــر ،ولكــن حتــى نتمكَّ ــن مــن اســتيعاب مثــل هــذه ّ يجــب علــى الفــرد أن يكــون قــادر ًا فعليــ ًا علــى القيــام بشــيء لتحســين بيئتــه المعيشــية إلــى جانــب جهــود الدولــة.
ـتحدث فــي اللُّغــة اإلنجليزيــة؛ ُيعـ َـرف هنــاك مصطلــح مسـ َ تغيــر المنــاخ ..»Solastalgia /تــرى بـ«الحــزن الناشــئ عــن ُّ أي المشــاعر يعكســها هــذا المصطلــح؟
مــن الطبيعــي أن تهيمــن مشــاعر الحــزن والخــوف والعجــزيتوعــد اإلنســان ـرد الطبيعــة الــذي بــات َّ علــى البشـ ّ ـراء تمـ ُّ ـرية جـ َّ المنضبِط معها. ـراء تعامله غيــر ُ بمخاطــر هــو المتسـ ِّـبب فيها جـ َّ ـك أن النــاس يشــعرون باالرتباك تجاه العديــد من األحداث ال شـ ّ تتطــور مشــاعر األحيــان بعــض فــي ولكــن لآلمــال، بــة خي َّ ُ الم ِّ ِ ٍ االرتبــاك بصــورة إيجابيــة يمكنهــا أن ُتحــدث انفراجـاً .األخطر هو أن يصبــح االضطــراب حالــةً دائمــة ال تــزول ،لكونهــا تلتهــم طاقة ـول هــذه الحالــة فيمــا بعــد إلــى الفــرد كاملــةً .ثــم يمكــن أن تتحـ َّ اكتئــاب .وهــو مــا يصيــب البعــض بعــدم التــوازن والعجــز التــام إيــذاء مــا يواجهــون ،وكأنهــم يريــدون فقــط االختبــاء وســحب ـد مــن التعامــل مــع األمــر قبيــل األغطيــة فــوق رؤوســهم ..البـ ّ الوصــول إلــى مثــل هــذه النقطــة اليائســة.
كيف يمكن التعامل مع هذه المشاعر على أرض الواقع؟
هامــة للغايــة .كثيــرون يفضلون االنســحاب ،نظر ًا ردود الفعــل ّالملح إلى مســاحات وفرص تجعلهم يشــعرون أنهم الحتياجهم ُ ـم خلق تــوازن صحي بيــن الرجوع ـ المه ـن ـ م ـن ـ ولك علــى مــا يــرام. ّ تهددنــا بالخــارج. ـي ـ الت ـات ـ ي التحد ـن ـ وبي ـة ـ اآلمن إلــى المنطقــة ّ ّ
يحتــاج البعــض أحيانـ ًا إلــى االنــزواء واالبتعــاد ،ولكــن عليهــم ّأل يطيلــوا أمــد ذلــك ،فيســقطون مــن حســابات العالــم ويصبحــون معزوليــن عــن الواقــع المعــاش .االنســحاب ال يــدرأ مخاطر األشــياء الســلبية فحســب ،بل يجعلهم ُ ِ ً عضديــن لهــم واللحظــات الجميلــة التي الم ـخاص ـ األش ـك ـ أولئ ا ـ أيض ـدون ـ يفق ُ تسـ ِ ـعدهم .وبذلــك يصبحــون بالفعــل خــارج العالــم وخــارج الحيــاة .فعندما ـرك فيــه الشــخص أكثــر وأكثــر بســبب المخــاوف ينحصــر اإلطــار الــذي يتحـ َّ ـي»، ـ اإليجاب ـز ـ التعزي ـدان ـ بـ«فق ـس ـ النف ـم ـ عل ـي ـ ف ـرف ذلــك واالنســحاباتُ ،يعـ َ ّ ـور مشــاعر االكتئــاب. ـ تط ـن ـ ع ـؤول ـ المس ـي ـ األساس وهــو العامــل ُّ ّ
النفسي؟ كيف يمكن تج ُّنب الوصول إلى ذلك المنعطف ّ
أو ً ال مــع اآلخريــن حــول هــذه المخــاوف .وإخبــار األصدقــاء يجــب التحـ ُّـدث ّ أو العائلــة أو زمــاء العمــل بالحاجــة إلــى الخــروج تدريجيـ ًا مــن ذلــك النفــق قربيــن، المظلــم .واألفضــل ،بالطبــع ،أن يكــون ذلــك بمرافقــة أحــد ُ الم َّ للمســاعدة وقــت أن تخــرج األمــور عــن الســيطرة ..أولى الخطوات تبدأ بكســر دائــرة الخــوف واالشــتباك الحســي مــع فعــل مغاير كمشــاهدة سلســلة دراما تليفزيونيــة جديدة تســاعد علــى االنفصال اللحظي المؤقت عــن دائرة األفكار ـم اختياره المشــتعلة ،وليكــن ذلــك المســاء وكلّ مســاء هــو الموعــد الــذي يتـ ُّ لالمتنــاع عــن الحديــث بشــأن المخــاوف أو حتــى التفكيــر فيهــا ،وكأنــه تمريــن يومــي لكســر الدائــرة المحترقــة داخــل العقــل.
اجتماعيــة ثابتــة تســاعد إذا لــم تتــح هــذه الفرصــة ولــم تكــن هنــاك بيئــة ّ علــى ذلــك ،مــا البدائــل األخرى؟
ـم الشــعور باالنتمــاء هنــاك ضــرورة ،فــي هــذه الحالــة ،إليجــاد مجموعــة يتـ ُّـم وجــود حلفــاء فــي مثــل هــذه المرحلــة .يمكــن االنضمــام إليهــا .مــن المهـ ّ إلــى جمعيــة أو االشــتراك فــي نشــاط خدمــي تطوعــي ســواء داخــل العمــل،
ـد مــن خلــق أهـ ٍ ـداف أماكــن العبــادة ،أو غيرهــا مــن الكيانــات المجتمعيــة .البـ ّ ّ أمر حيوي وضروي الســتمرارية المقاومة النفسـ ّـية. مشــتركة مع آخرين ،فهو ٌ ـي للحصــول علــى فــرص ـ قم الر ـع ـ الواق ـات ـ تقني يمكــن االســتفادة أيض ـ ًا مــن َّ ّ ٍ ـخاص متطابقيــن فــي طريقــة التفكيــر ،مــا يجعــل جديــدة للتواصــل مــع أشـ األمــر أكثــر نجاحـاً.
تغير المناخ ،أو منع الجرائم الفظيعة ،أو تعطيل زحف فيروس وقف ُّ قاتــل ،كلّهــا أهــداف تبــدو ضخمــة ويصعــب تحقيقهــا .كيــف يمكــن إذن خلــق هدف َمـرِن وإدارته…؟
أو ً ال تحديــد الشــيء أو الهــدف المرجــو الحفــاظ عليــه .بالطبــع إنقــاذ يجــب ّـرية هــدف نبيــل ،لكنه غير واقعي .ال يمكن ألحــد أن يفعل ذلك بمفرده، البشـ ّ حتــى الشــخصيات البــارزة مثل غريتا ثونبــرغ ،المهاتما غانــدي ،روزا باركس، نيلســون مانديــا… لم يتمكّ نــوا من إحداث تأثي ٍر كبير ،لكنهــم بدأوا خطواتهم ـردي .وهــذه هــي نــواة أي فعــل عظيــم أن نبــدأ بأنفســنا أيض ـ ًا علــى نطــاقٍ فـ ّ اإلنســانية أوالً ..فقــط ينبغــي أن يعمــل كلّ فــرد فــي بيئتــه للحفــاظ علــى ّ ّ ككلّ .فاألمــر يتع َّلــق بإبقــاء مســيرة الحيــاة رغــم كلّ المخــاوف والتهديــدات الحقيقيــة .بهــذه الطريقــة ،يمكــن الحفــاظ علــى مســاحتنا الصغيــرة داخــل ّ المنظومــة األكبر.
ألمانيا من الدول ا َ ألقلّ تأ ُّثراً بتغيرات المناخ مقارنةً بالبلدان األخرى. ُّ نسبي ًا في ألمانيا .تنعم دولتنا معدالت اإلصابة بفيروس كورونا قليلة َّ ّ االتّحاديــة بالســام ،علــى عكــس أجــزاء أخــرى مــن العالــمُ ،تــرى ..هل تبــدو مشــاعر الخــوف التــي تعتــري كثيــراً مــن النــاس فــي ألمانيــا أمــراً غيــر منطقــي فــي رأيك؟ لتغيــر المنــاخ فــي إن المخــاوف مــن التأ ُّثــر المباشــر بالكــوارث الشــديدةُّ ألمانيــا ،هــي أمــر غيــر منطقــي ،علــى ا َ ألقــلّ فــي الوقــت الحالــي .كذلــك ال يؤ ِّثــر تفشــي فيــروس كورونــا علينــا بصــورة مقلقــة مثــل البلــدان األخــرى: ـام صحــي أفضــل وسياســة أكثــر فاعليــة وشــفافية لدينــا حـ ٌ ـاالت َأقــلّ ونظـ ٌ ـرر قــد يكــون لــه معنــى أيضاً. ـ ب الم ـر ـ غي ـوف ـ الخ ـن ـ لك ـة. ـ مجاني ـام ووســائل إعـ ُ َّ وإن لــم تؤ ِّثــر أننــا نحاكــي مفهــوم اإلدراك الجمعــي لكلمــة «مخاطــر» حتــى ْ تهمنــا باعتبارنــا جــزء ًا مــن ســكّ ان هــذا علينــا شـ ـخصياً ،فهــي فــي النهايــة ّ ّ الكوكــب .والواقــع أن هــذا يقودنــا إلــى التفكيــر بصــور ٍة أعمــق فــي القضايــا ذات البعــد العالمــي.
ٍ أجزاء أخرى من العالم يختلف عن مخاوف هل الخوف لدى أفراد في البعض في ألمانيا؟
متطرفــة مــن الخــوف يمكــن أن تشــل حيــاة البشــر ،ونــادر ًا هنــاك أشــكالِّ الغنيــة .ومــع ذلــك ،نجــد فــي مخيمــات الالجئيــن ـدول ـ ال ـي ـ ف مــا يكــون ذلــك ّ ٍ اليونانيــة ،األطفــال يعيشــون فــي حالــة مــن اليــأس التــام ،حيــث تنتــاب بعضهــم حالــة مــن الالمبــاالة ،ويلتزمــون الصمــت ،وال يكادون يأكلــون ،فقط ـانية التــي ينتمــون إليهــا أيضـاً. ِّ يحدقــون فــي الفضــاء .نحــن جــزء مــن اإلنسـ ّ ـانية تحــدث ،حتى ـ اإلنس ـوارث ـ الك ـذه ـ ه ـأن ـ ب ـي ـ وع ـا ـ لدين ـون ـ يك أن ـم ـ المه ـن ومـ ّ ّ ٌ لــو لــم نتمكَّ ــن مــن رؤيتهــا مباشــرة .فاألمــر يتع َّلــق دائمـ ًا بضــرورة االنفصــال عــن وهــم «المدينــة الفاضلــة» .نحــن نعلــم أن العالــم ليــس آمنـاً .وعلينــا أن ربمــا األحرى نتكيــف مــع هــذه الحقيقــة ،فدائمـ ًا مــا نواجــه ّ التحديــات .ولكــن َّ َّ المســتفاد ـدرس ـ ال ـط ـ نلتق أن ـا ـ ـدي فيــروس كورون بنــا فــي التعامــل مــع تحـ ّ ُ عندمــا تبــدأ مشــاعر الخــوف والقلــق فــي االنحســار ■ .حــوار :ماريــا ماســت ترجمــة :شــيرين ماهــر
۹
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر :موقع « /Die Zeitدى تسايت» األلماني .2020/3/1
أبريل 150 2020
37
الكوين الذعر حافة ّ
مــع ّ الصحيــن اليقظــة واالســتباقية الحتواء تتوخــى الحكومــات مــع املهنيــن كل ظهــو ٍر حديــث لفــروس جديــد، َّ ِّ رد الفعــل ا ُ ملتـرِّ ع قــد يكــون تهديــداً أكــر مــن الفــروس بحـ ِّـد ذاتــه .حيــث يبــدو التهديــد .لكــن وبــاء اإلفــراط يف ِّ واملؤسســات ا ُ ملختلفــة غــر قــادرة عــى االســتجابة لفــروس كورونــا العامليــة أن الحكومــات ووســائل اإلعــام َّ ّ الصحيــن مييلــون إىل أن يكونــوا أكــر بطريقــة هادئــة وعقالنيــة .أحــد أســباب ذلــك هــو أن العلــاء واملهنيــن ِّ ِ ٍ ـي تهيمــن عليــه ـروس جديــد مقارنــةً بسـ قلقـ ًا بشــأن انتشــار فـ ـاالت األنفلونــزا األكــر شــيوع ًا .يف منـ ٍ ـاخ اجتامعـ ٍّ ثقافــة الخــوف ،هنــاك دامئـ ًا تو ُّقــع بــأن يكــون الفــروس الجديــد األخطــر عــى اإلطــاق.
لعقود من الزمن ٍ حىت اآلن ،استسلمت ثقافتنا لفكرة أن البرش هم مصدر مشاكل العالم .يتمُّ تصوير الناس دائماً عىل أنهم املشكلة: سواء ك ّنا بصدد تدمري الكوكب أو حمل أمراض مهدّ دة
38
غــداة تفشــي وبــاء كورونــا شــهدت أســواق األســهم العالميــة أســوأ أســبوع لهــا منــذ األزمــة الماليــة فــي ،2008بخســارة أكثــر مــن 6تريليونــات دوالر فــي قيمة األســهم ،وفي بعض األســواق، ـجلت ـدل لــم يشــهده العالــم منــذ الكســاد عمليــات بيــع بمعـ َّ سـ ّ ّ الكبيــر قبــل قــرن تقريب ـاً .لمــاذا؟ ألن المســتثمرين العالمييــن المحتملة فــي ذعــر غيــر مســبوق بســبب التداعيــات ّ االقتصاديــة ُ لوبــاء كورونــا. ـي يرتقــي يشــير العديــد مــن ُ المعلِّقيــن إلــى أن المشــهد العالمـ ّ لحالــة الجنــون .يجــادل «روس كالرك» بشــكلٍ مقنــع فــي مج ّلــة « »Spectatorبــأن «أخطــر شــيء فــي فيــروس كورونــا هــو حالــة محــرر االقتصــاد فــي الهســتيريا» .ويوافــق فيليــب ألدريــك، ِّ صحيفــة «التايمــز» ،علــى ذلــك« :مــا يجــب أن نخافــه هــو حالــة ـد ذاتــه». الذعــر أكثــر مــن الفيــروس بحـ ِّ ويلقــى باللــوم علــى نزعتنــا للتفكيــر فــي القــدر والخــوف مــن المجهــول كتفســيرات لهــذا الســلوك .إن ثقافــة المخاطــرة رد الفعــل تجــاه التهديــدات همــا بالتأكيــد وميلنــا للمبالغــة فــي ّ أســباب لمــا يحــدث اليــوم .لكــن هنــاك عنصــر ًا آخــر ال يقــل أهميــة مرتبــط بهــذه العناصــر لــم يتــم طرحــه -أن هــذا الجنــون ِّ ال يتأ ّتــى مــن «الجماهيــر الجاهلــة ،بســيطة المعرفــة ،ســهلة االنقيــاد ،والســاذجة» ،ولكــن مــن الطبقــة الراقيــة المطّ لعــة المثقَّفــة تخرجيــن مــن أعلــى الجامعــات ،والنخــب ُ جيــداًُ ، والم ِّ ّ والحكومــات. كان التناقــض بيــن ردود الفعــل تجــاه انتشــار الفيــروس مــن وعامــة النــاس صارخـاً .فحتى مــع ارتفاع مســتوى الذعر النخــب ّ فــي التقاريــر المتواتــرة حــول فيــروس كورونــا ،واصــل النــاس العاديــون حياتهــم بنســقٍ عــادي .النخبــة التــي يفتــرض أنها على جيــدة ،والتــي ت ّتهــم فــي كثيــ ٍر مــن األحيــان الجماهيــر درايــة ّ
أبريل 150 2020
زيفة» بســهولة، الم َّ «الغبيــة» بأنهــا عرضــة للهســتيريا و«األخبار ُ كانــت تح ّفــز علــى الذعــر .فــي هــذه األثنــاء ،وباســتثناء مناطــق الصحــي ،يواصــل النــاس العاديــون العمــل ،والتن ُّقــل، الحجــز ِّ والذهــاب إلــى المطاعــم ...إنهــم ببســاطة يواصلــون حياتهــم المحتملــة. الطبيعيــة ،وفــي الوقــت نفســه ينتبهــون للمخاطــر ُ النخــب فــي سـ ٍ ـر نحــو حالــة مــن الذعــر؛ مثــل قطيــع مــن ـقوط حـ ّ الحيوانــات البريــة ،مذعــور مــن رؤيــة حيــوان مفتــرس واندفــاع أعمــى عبــر المياه الموبوءة بالتماســيح ،قد يتسـ َّـببون فــي انهيا ٍر ـي محتمــل .وفــي الوقــت نفســه ،نــرى الحــس اقتصـ ّ ـادي عالمـ ّ الرواقــي الســليم ،والحكمــة البســيطة ولكن العميقة ،للحشــود تطهرة». الم ّ «العظيمــة غيــر ُ ـرف .لعقودٍ ٍ ردود النخبــة ،فــي جــزء منهــا ،كانــت نتــاج ســوء تصـ ُّ مــن الزمــن حتــى اآلن ،استســلمت ثقافتنــا لفكــرة أن البشــر هــم ـم تصويــر النــاس دائم ـ ًا علــى أنهــم مصــدر مشــاكل العالــم .يتـ ُّ المشــكلة :ســواء ك ّنــا بصــدد تدميــر الكوكــب أو حمــل أمــراض ـددة. مهـ ّ ـي .لويــس ـ الغرب ـع ـ المجتم ـي ـ ف ـل ـ طوي ـخ ـ تاري ـا ـ له ـرة ـ الظاه ـذه هـ ّ باســتور ،العالــم العظيــم في القرن التاســع عشــر الذي اكتشــف حد تعبير الميكروبــات ،كان لديــه رعــب من الديموقراطيــة .على ِّ «ديفيــد بودانيــس» ،اعتبــر باســتور الغوغــاء بأنهــم «مجموعــة ـود النــاس مــن المخلوقــات الصغيــرة المصابــة والتــي لــم يتعـ َّ المحترمــون علــى رؤيتهــا عــادةً ،ولكنهــا كانــت موجــودة دائمـاً، جاهــزة لالنقضــاض ،لدخــول مجتمعنــا وتولّــي المســؤولية والتكاثــر». اســتعارة هــذا التشــبيه للجماهيــر كبكتيريــا -كائنــات صغيــرة تنتشــر في كلّ مكان ،وعلى اســتعداد للهجوم والنمو واالنتشار- تلخــص خــوف اليميــن مــن الجماهيــر فــي ذلــك الوقــت. ّ
يمكن لإلبداع البرشيّ وقدرتنا عىل حلّ املشاكل أن تحتوي، وستحتوي فريوس كورونا بالتأكيد. األفراد ليسوا املشكل، لكن النخب العامل ّية هي بالتأكيد كذلك، إن سلوكهم يثري املزيد ِّ ويهدد من الذعر، املجتمعات البرشيّة ِ بالركود االقتصاديّ
خاصة بعد الثورة البلشــفية لعام ،1917 طوال القرن العشــرين، ّ اجتماعية وسياسـ ّـية عندمــا أصبحــت الجماهير قــوة حقيقية في ّ ّ المجتمع ،أصبحت اســتعارة الحشــود /البكتيريا ســائدة بشــكلٍ ـم إرســال لينيــن إلــى روســيا عــام ُ ،1917وصــف خـ ّ ـاص .عندمــا تـ ّ بـ«طاعــون (بكتيريــا) العصيــة» ،وهــو جالــس فــي قطــاره محكــم اإلغــاق .اســتخدم قــادة أوروبا الغربية عبــارة «التطويق الصحي »cordon sanitaireلوصــف سياســة تطويــق الوافــد الجديــدـرب بداخله. (القطــار) هنــاك ،لمنــع التلـ ُّ ـوث والعــدوى من التسـ ُّ وفــي عــام ،1920وصــف «ونســتون تشرشــل» ،الــذي كان آنــذاك وزيــر الخارجيــة للحــرب والجــو ،الثــورة البلشــفية بأنهــا «روســيا المســمومة ،وروســيا المصابــة ،وروســيا التــي تحمــل الطاعــون، وروســيا الحشــود المســلَّحة التــي ال تضــرب فقــط بالحربــة ـوام الحاملة والمدفــع ،ولكــن ترافقهــا وتســبقها أســراب مــن الهـ ّ للتيفــوس الــذي يقتــل أجســاد الرجــال ،والمذاهــب السياسـ ّـية صحــة األمــم وحتــى روحهــا». التــي ِّ تدمــر َّ اليهودية فيروســا قاتالً، فــي تلــك األثنــاء ،اعتبــر هتلــر والنازيــون ّ ـن ينقلوه ،وبالتالي كان الحــلّ الوحيد هو القضاء ـم َمـ ْ واليهــود هـ ّ نظريــة احتــواء مــا بعــد الحــرب التــي تهــدف إلــى وقــف عليهــم. ّ الشــيوعية« ،الخطــر الشــيوعية ،أو فــي حالــة الصيــن انتشــار ّ ّ األصفــر» ،هــي نســخة أكثــر حداثــة مــن نفــس الشــعور اليــوم. تأسســت المكارثيــة فــي محاولة لوقف وفــي الواليــات الم َّتحــدةَّ ، ـيوعية مثــل البكتيريــا فــي المنــزل. انتشــار الشـ ّ هــذا النــوع مــن اللّغــة ال يســتخدم علــى نطــاقٍ واســع فــي حالــة الذعــر اليــوم حــول فيــروس كورونــا ،بالطبع( .رغــم وجود بعض اإلشــارات إلــى «خطــر أصفــر» جديــد) .ومــع ذلــك ،فإننــا نحمــل ـي بالتأكيــد :ســواء كان النــاس يقاطعــون هــذا الشــعور األساسـ ّ ـعبويين الحــي الصينــي فــي مراكــز المــدن ،أو السياسـ ّـيين الشـ ّ مثــل ماتيــو ســالفيني أو ماريــن لوبــان الذيــن يلقــون باللــوم علــى تفشــي المــرض. األجانــب فــي ِّ
يتــم تصويرهــم -عــن غيــر قصــد األفــراد هــم الخطــر -هكــذا ُّ يحملــون تهديــد ًا مميت ـ ًا وغيــر مرئــي .وهــو اعتقــاد يســتند إلــى روايــة خبيثــة موجــودة مــن قبــل ،ولكنهــا ال يمكــن ّإل أن تزيــد مــن تقســيم المجتمــع ،وتزيــد مــن الشــعور بالضعــف الــذَّ ري ( ،)atomisedوتنأى بالنخب العالمية غير العقالنية والمذعورة بعيــد ًا عــن مجــال الخطــر فــي هــذه العمليــة. والوفيـ�ات بسـ�بب فيـ�روس كورونـ�ا( (�Cov إنهـ�ا حالـ�ة مأسـ�اوية. ّ ســمي ،أمــر مؤســف للغايــة، الر اســمه ،)id-19باســتخدام َّ ّ ـدل إماتــة ـ مع أن ـد ـ يعتق ـب. ـ بالتناس ـاس ـ إحس لكننــا بحاجــة إلــى َّ الفيــروس ال تتجــاوز واحــد ًا فــي المئــة ،وهــذا أعلــى بنحــو ســبع ـدل إماتــة األنفلونــزا المألوفــة ،ولكنه يم ِّثــل جزء ًا ـرات مــن معـ َّ مـ َّ ً ـادة ـ الح ـي ـ التنفس ـاز ـ الجه ـة ـ متالزم ـات ـ وفي ل ـد ـ مع ـن ـ م ا ـيط ـ بس َّ ّ ّ التنفسية لعام 9.6( 2003في المئة) ،ومتالزمة الشــرق األوســط ّ فــي عــام 34.4( 2012فــي المئــة). يعتبــر فيــروس كورونــا معديـ ًا أكثر من مرض الســارس ومتالزمة الشــرق األوســط التنفسـ ّـية ،لكن العلماء يعملون جاهدين على العالمية الصحــة إيجــاد العالجــات واللقاحــات .وتعتقد منظَّ مة َّ ّ طورتــه شــركة «�Gilead Sci أن عقـ�ار« « ،»remdesivirالــذي َّ فعــاالً ،وهــو حاليـ ًا في طــور التجارب ،»encesقــد يكــون عالجـ ًا ّ اإلكلينيكية. ـري وقدرتنــا على حلّ المشــاكل أن تحتوي، ويمكــن لإلبــداع البشـ ّ وســتحتوي فيــروس كورونــا بالتأكيــد .األفــراد ليســوا المشــكل، العالميــة هــي بالتأكيــد كذلــك ،إن ســلوكهم يثيــر لكــن النخــب ّ البشــرية بالركــودِ ويهــدد المجتمعــات المزيــد مــن الذعــر، ِّ ّ االقتصــادي .ونحــن بحاجــة اليــوم إلــى تب ِّنــي هــدوء وحكمــة ّ الجماهيــر ،بــدل جنــون وهســتيريا النخــب ■ .نورمــان لويــس ترجمــة :مــروى بــن مســعود (تونــس)
۹
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدرwww.spiked-online.com :
أبريل 150 2020
39
هل أصبحنا عرضة لها م ّرة أخرى؟
عودة األوبئة
إن الوبــاء موضــوع الســاعة قــد شــغل النــاس وقلــب عاداتنــا وأمنــاط حياتنــا ويقيننــا بشــكلٍ غــر مســبوق .أعــاد ترتيــب أولوياتنــا وعطَّ ــل حركتنــا لبعــض الوقــت .وأصبحنــا نشــعر ،بدرجـ ٍ ـات متفاوتــة ،بعجزنــا عــن مواجهتــه. خاصــة وأن ـن نخــاف ،أو حتــى مــا إذا كان يجــب أن نخــاف، ممـ ْ ّ والعجيــب يف األمــر أننــا مل نعــد نعــرف دامئ ـ ًا َّ الفــروس ال يعــرف بالحــدود .إن حالــة عــدم اليقــن الســائدة قــد غــذَّ ت أوهام ـ ًا ال حـ َّـد لهــا ،وأثــارت شــائعات جامحــة تكــر وتتســارع ككــرة ثلــج.
أوريان غيلبو ▲
40
منــذ القدم ،كانت الفيروســات والطفيليــات والبكتيريا والكائنات الدقيقــة األخــرى التــي تسـ ِّـبب األمــراض المعديــة تتعايــش مــع العامــة ،ال الصحــة وتطــور العلمــي التقــدم البشــر .ورغــم ُّ َّ ُّ ّ ّ تــزال األمــراض المعروفــة منــذ قــرونٍ تصيــب البشــر (كالكوليــرا والمالريــا) ،مــع ظهــور أمــراض جديــدة يمكــن أن تنتشــر علــى نطــاقٍ واســع (كاإليــدز والســارس) .وبنهايــة القــرن العشــرين، ٍ ـي حقيقــي أمــر ًا غيــر مســتبعد بــدت إمكانيــة انتشــار وبــاء عالمـ ّ ممــا فاقــم شــعورنا بالضعــف ،وأذكــى المخاوف من العــودة إلى ّ ـرية عاجــز ًة عــن مواجهــة «العصــر األســود» عندمــا كانــت البشـ ّ ـول األوبئــة .لكــن لمــاذا تظهــر (مــن جديــد) هــذه األمــراض وتتحـ َّ إلــى أوبئــة؟ وكيــف يمكننــا محاربتهــا؟ يســتعرض كتــاب «عــودة الوطني األوبئــة» ،الــذي شــاركت فــي تأليفــه الباحثة فــي المركــز ّ والم ِ حاضــرة فــي العلــوم السياسـ ّـية للبحــوث العلميــة بفرنســا ُ ّ األوروبيــة فــي جامعــة «باريــس « ،»8أوريــان ـات ـ الدراس بمعهــد ّ غيلبــو» ،بعــض األوبئــة التــي أ َّثــرت على ســكّ ان العالم فــي بداية العلميــة التحديــات القــرن الحــادي والعشــرين ،ويح ِّلــل أبــرز ّ ّ واالجتماعيــة والسياسـ ّـية النتشــارها. ّ
ـي بعنــوان «عــودة فــي عــام ،2015قمتــم بنشــر عمــلٍ جماعـ ّ األوبئــة» :لمــاذا يتزايــد خطــر انتشــار األمــراض المعديــة علــى نطــاقٍ واســع فــي الســنوات األخيــرة؟
مرة ليســت إن فكــرة الظهــور الدائــم لألمــراض المعدية في كلّ ّجديــدة :كمــا توقَّع تشــارلز نيكــول ،الحائز على جائــزة نوبل عام تتكيــف دائمـاً .يســاهم فــي هــذا الوضع ،1928فــإن الميكروبــات َّ حدتها في الســنوات األخيرة، العديــد مــن العوامــل التي ازدادت َّ ـي ،وزيــادة وال ســيما تطـ ُّ ـي ،واالحتــرار العالمـ ّ ـور النقــل الجماعـ ّ
أبريل 150 2020
عــدد ســكّ ان العالم ،وتوســيع الزراعــة وتكثيفهــا ،والتكاثر وإزالة ممــا يعنــي زيــادة االتِّصــال بيــن البشــر والحيوانــات، الغابــات ّ وتعزيــز انتقــال الفيروســات بيــن األنواع.
مرة أخرى؟ هل أصبحنا أكثر عرضةً لمثل هذه األوبئة ّ
يقدمــان لنــا آفاقــ ًا أرحــب العلمــي والبحــث التقــدم الطبــي ِّ ُّ ّ ّ لمكافحــة األوبئــة التــي لــم يكــن مــن الممكــن التفكيــر فيهــا مــن ـدم قبــل ،ســواء مــن حيــث الكشــف أو العــاج .لكــن هــذا التقـ ُّ تهور للمضادات الم ِّ تقابلــه تطـ ُّ ـورات مقلقة ،ال ســيما االســتخدام ُ ـري الــذي يعـ ِّزز المقاومــة، ـري والبيطـ ّ الحيويــة فــي الطــب البشـ ّ ّ ـبي مقابــل التطعيــم .وقــد أبــرزت جميــع ـ النس ـض ـ التناق ـودة وعـ ّ ـي. ـ الدول ـاون ـ التع ـة ـ ي أهم ـابقة ـ الس ـة ـ األوبئ ِّ ّ
المســتفادة التــي تعلَّمناهــا مــن األوبئــة مــا هــي الــدروس ُ السابقة (اإليبوال ،فيروس اإلنفلونزا أ ،H1N1السارس…)؟
ـي وعــدم أبــرزت جميــع األوبئــة الســابقة ِّأهميــة التعــاون الدولـ ّ فعاليــة التدابيــر الجزئيــة والفوضويــة مثــل إغــاق الحــدود بيــن لنــا وبــاء «ســارز» و « »H1N1بشــكلٍ بــدون تنســيق .وقــد َّ أهميــة التواصــل والشــفافية بيــن الــدول ومــع النــاس. ـاص ِّ خـ ّ ـرة جهــود ًا كبيــرة فــي هــذا الصــدد بعــد ـ الم ـذه ـ ه ـن ـ الصي ـت بذلـ ّ انتقــادات إلدارتهــا لفيــروس الســارس فــي عــام .2003وتعمــل للتكيف مع الســياق العالميــة أيضـ ًا علــى ذلــك، الصحــة منظَّ مــة َّ ُّ ّ الحالــي :اجتمعــت علــى ســبيل المثــال فــي 13فبراير/شــباط كلّ للحد من تداول المعلومات من غوغل ،وفيســبوك ،ويوتيوب... ِّ الكاذبــة. ـد المــرض ـ ض ـة ـ المعرك ـت ـ أصبح ـث ـ حي ـر، ـ األخي ـوال ـ إيب ـاء أبــرز وبـ ّ
أهمية صعبــة للغايــة فــي البلــدان التــي تعانــي من خلــل في النظــم الصحيــةِّ ، ّ قويــة ومرنــة .فــي جميــع هــذه النقــاط ،ال يــزال هنــاك صحيــة ّ وجــود أنظمــة ّ ـكلٍ ـاص فيما يتعلَّق ـ خ ـ بش دقيقة الحالة ولكن به، ـام ـ القي ـن يتعيـ الكثيــر الــذي ّ َّ الطبيــة والبنية التحتية الرعاية إلى الوصول ـان ـ لضم ية، الصح ـم ـ بتعزيــز النظ ّ ّ المفاجئة في عــدد المرضى. الوظيفيــة ،القــادرة علــى اســتيعاب الزيــادة ُ ّ
مما كانت المؤسســات هــل ّ الصحيــة العالميــة مســتعدة بشــكلٍ أفضــل ّ َّ ً عليه قبل بضع سنوات؟ هل ال يزال التفاوت قائما بين دول أو مناطق من العالم؟
مما كانت عليه الصحة يبــدو لــي أن منظَّ مــةّ العالمية تتواصل بشــكلٍ أفضــل ّ ّ ـزم أكبــر :يمكننــا أن نــرى ذلــك علــى فــي األوبئــة الســابقة وتظهــر وجودهــا بحـ ٍ ســبيل المثــال فــي جهودهــا الراميــة إلــى عــدم التقليــل مــن خطــورة الوضــع، عالميـاً .مــن وجهــة النظــر هــذه ،يمكننا ـرع فــي إعــان كورونــا وبــاء دون التسـ ُّ ّ ـم انتقادهــا ـ ت ـث ـ (حي ـابق ـ الس H1N1 ـروس ـ في ـن ـ م ـدرس ـ ال ـت ـ َّم ل تع ـا القــول إنهـ َّ ـرعها فــي اإلعــان عــن حالــة وبــاء) ومــع إيبــوال (خــال وبــاء 2014فــي لتسـ ُّ ٍ تعرضــت النتقادات إلعالنها حالة الطــوارئ بعد فوات األوان). غــرب إفريقيــاَّ ، قويــة للغايــة فــي مــا يتع َّلــق بمرونــة النظــم ـة ـ عالمي ـات ـ تفاوت ال تــزال هنــاك ّ ّ الصحيــة ،األمــر الــذي يمكــن أن يجعــل جميــع جهــود التحضيــر باليــةً .وعلــى ّ الرغــم مــن الــدروس المســتفادة مــن وبــاء اإليبــوال ،ال يــزال الوضــع في غرب العالميــة الصحــة إفريقيــا مقلقـاً ،علــى ســبيل المثــال ،وقــد أعربــت منظَّ مــة َّ ّ اإلفريقيــة علــى التعامــل مــع فيــروس كورونــا. عــن قلقهــا بشــأن قــدرة القــارة ّ
الصحــة وخاصــة منظَّ مــة الدولــي، ــي لقــد انتقدتــم التعــاون ّ ّ َّ ّ الصح ّ العالمية .هل ما زالت انتقاداتكم سارية في عام ،2020بينما يستعد ّ العالــم لمواجهــة وبــاء جديــد واســع النطــاق؟ العالميــة مــن تجاربهــا الســابقة ،لكنهــا ال الصحــة لقــد تعلَّمــت منظَّ مــةَّ ّ
ـم فــي نهايــة المطــاف الــدول حكوميــة تــزال منظَّ مــة دوليــة ،وص َّنــاع القــرار هـ ّ ّ ّ األعضــاء .وكمــا هــو الحــال فــي األوبئــة الســابقة ،علــى الرغــم مــن إلحاحيــة الوضــع ســواء الســابق أو الحالــي ،لــم تكــن التمويــات بالشــكل أو الســرعة المطلوبــة :مــن 61مليــون دوالر طلبتهــا المنظَّ مــة لمكافحــة فيــروس كورونــا ( ،)COVID-19لــم تحصــل ســوى علــى 1.4مليــون حتــى اآلن ،و 28مليــون دوالر فــي شــكل وعــود.
المفارقــات أن كورونــا يأتــي فــي ســياق يشـكِّك فــي التمويــل طويــل مــن ُ العامــة. المــدى للمستشــفيات والبحــوث ّ
ـي ،مثل األموال بالنســبة آلليــات التمويــل البديلة التــي يقترحها البنك الدولـ ّالمتأ ّتيــة مــن شــراء «ســندات كارثــة وبائيــة» ،حيــث يخاطــر المســتثمرون ـي الوبــاء بعــدم تل ِّقــي فوائــد أو خســارة جــزء مــن رأســمالهم فــي حالــة تفشـ ّ جــد ًا طالمــا لــم ينتشــر الوبــاء) ولكنهــم يحصلــون علــى عائــدات مرتفعــة ّ ،فقــد ثبــت أنهــا غيــر كافيــة .فــي عــام ،2018لــم يســمحوا باإلفــراج عــن تمويــات لوبــاء اإليبــوال فــي جمهوريــة الكونغــو الديموقراطيــة ،ألن تعريفهــا مقيــد ًا للغايــة .وفيمــا يتع َّلــق بوبــاء فيــروس كورونــا الحالــي ،حتــى لــو كان َّ ـم اإلفــراج عــن األمــوال ،ســيكون ذلــك فــي أحســن األحــوال فــي أبريــل/ تـ َّ نيســان -بعــد فــوات األوان... يجــب االســتعداد لمكافحــة الوبــاء فــي وقـ ٍ ـت مبكِّ ــر ،وعلــى نطــاقٍ ـي ،ال ـ عالم ّ الصحــة والبحــوث الدقيقة مــع التمويل ســيما مــن خــال الجمــع بيــن أنظمــة َّ والعالمية، الوطنيــة العامة الدائــم .وهــذا النســيج يقوم على دعــم المصلحة ّ ّ ّ المفارقــات أن وبــاء ـن ـ وم ـا. ـ بعــد أن كشــفت األوبئــة عــن أوجــه القصــور فيه ُ كورونــا يأتــي فــي ســياق يشــكِّ ك فــي التمويــل طويــل المــدى للمستشــفيات العامــة ■ .حــوار :بــول ســوجي ترجمــة :مــروى بــن مســعود والبحــوث ّ
۹
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المصدر le figaro :عدد 27فبراير .2020 أبريل 150 2020
41
بصمات
بصمات.. مجيد طوبيا مجيد طوبيا▲
42
أبريل 150 2020
رسديّة مجيد طوبيا:
شكل آخر من الكتابة املدونــة الرسديــة املرصيــة يف أعقــاب حــرب الخامــس مــن يونيو/حزيــران 1967م ،أخــذت نصــوص متعـ ّـددة مــن ّ املعارصة تتجاهل مقوالت الرسديات الكربى تارة ،وتناوشــها تارة أخرى ،يف ســعيها الدائم إىل تأســيس مقوالتها الخاصــة التــي ال تنفصــل عــن خصوصيــة محيطها الوطنــي والقومي (العريب) هويتهــا وإشــكاالتها ّ املح ّل ّيــة التــي تؤكِّ ــد ّ يف آن .يف هــذا الســياق الــذي ســعى مــن خاللــه ّ ومحمد كل مــن :جــال الغيطــاين ،وبهــاء طاهــر ،وإبراهيــم أصالن، َّ ومحمــد إبراهيــم البســاطي ،وصنــع اللــه إبراهيــم ،وعبدالحكيــم قاســم ،ويحيــى الطاهــر عبــد اللــه ،وخــري شــلبي، َّ ومحمــد جربيــل، مــروك ،وعبــد الفتــاح الجمــل ،وعــاء الديــب ،وأحمــد الشــيخ ،وصــري مــوىس ،وصالــح مــريس، َّ الخاصــة ،اســتطاع مجيــد طوبيــا -وهــو أحــد رسديتــه ومحمــود ديــاب ،ويوســف القعيــد ،وآخريــن ،إىل تأســيس ّ ّ العالمــات البــارزة يف الرسديــة املرصيــة -ابتــكار شــكل آخر مــن الكتابــة القصصيــة ،أفلــت مــن خاللــه مــن هيمنــة أســلوب يوســف إدريــس الواقعــي ،فجــاءت كتابتــه مزيجـ ًا مــن الواقعيــة والفانتازيــا والســخرية الســوداء.
زمن الس ّتينيات وأفول الرسديات الكربى بعــد نكســة الخامــس مــن يونيو/حزيــران ،1967طالــت أركان المجتمــع المصــري والعربــي ه ّزة عنيفة ســلبت الشــباب الثائر العربيــة، طموحهــم بالتغييــر ،وأجهضــت حلمهــم بالقوميــة ّ وزعزعــت ثقتهــم فــي المســتقبل ،حتــى انســرب هــذا الشــعور إلى متون األدب شــعر ًا وســرداً ،وكان أبلغ تجســيد له هو ابتكار طرائــق ف ّن ْيــة وجماليــة خلقتهــا النصــوص القصصيــة والروائيــة لمعالجــة األزمــة ،ســواء بطــرق مباشــرة وغيــر مباشــرة؛ فطفــا ـت اللحظــة «ج ْلــد الــذات» ،وتف ّت َتـ ْ علــى ســطح هــذه النصــوص َ ـت بنية الحدث الروائي ،وتشــظَّ ى الزمن، ثم تفكَّ كَ ـ ْ اآلنيــة ،ومــن ّ كليــة المعرفة وتداخــل الواقــع مــع الحلــم ،وتخلَّى الــرواة عن ّ كليــة العلــم الــذي دانــت لــه كثيــر ًا الروايــات الكالســيكية أو ّ حتــى المرحلــة الواقعيــة ،واعتمــدت روايــات تلــك المرحلــة ســردية مكثّفــة تعتمــد علــى وحــدات وقصصهــا القصيــرة ّ ٍ مــاض حميــم وحاضــر قصصيــة متقطّ عــة تتنــاوب مــا بيــن غامــض ومســتقبل مبهــم ،فــي بنيــات ومشــاهد متناثــرة ال ومخيلتــه .لقــد اســتطاع رواة يجمعهــا ســوى عقــل القــارئ ّ هــذه الســرود ،ومــن ورائهــم المؤلّفــون ،قــول ما يريــدون قوله ـرديات من ـرض المباشــر لبطــش الحاكــم ،فكانــت سـ ّ دون التعـ ّ
قبيــل (الزينــي بــركات) لجمــال الغيطانــي ،و(الهــؤالء) لمجيــد طوبيا ،و(في الصيف الســابع والســتين) إلبراهيم عبد المجيد، و(أيــام اإلنســان الســبعة) لعبــد الحكيــم قاســم ،وغيرهــا مــن ّ مدو ـقوط ـ س ة ثم كان ـل. ـ الجي ـذا ـ ه ـاب ـ ت ك ـى ـ إل ـب ـ تنتس ـوص ـ نص ّ ٍّ ّ للســرديات الكبــرى ،والبحــث عــن ســردية بديلــة تالئــم طبيعــة كلّ كاتــب منهــم ،وهــم القادمــون مــن بقــاع شــتى مــن شــمال مصــر وجنوبهــا.
خاصة البحث عن رسديّة ّ
ا ّتجــه أغلــب ك ّتــاب الســتينيات إلى مجــاوزة األشــكال التقليدية فــي الســرد العربــي؛ فعكفــوا علــى اســتقراء التــراث العربــي بأشــكال مختلفــة ،واســتلهموه فــي عناصــر وأبنيــة جماليــة وثقافيــة متباينــة ،فذهــب كلّ واحــد منهــم مذهبــ ًا مســتق ً ال مرجعياتــه الثقافيــة أو موهبتــه الفطريــة ،حاولــوا- حســب ّ ـرديات مغايــرة ،فا ّتجــه ـ س ـيس ـ تأس ـا- ـ طوبي ـد ـ مجي ـم ـ بينه مــن ّ بعضهــم إلــى التراث الكتشــاف عناصره الحيــة ومواطن قابليته إلعــادة الحكــي والتنصيــص فــي ســياقات ســردية وثقافيــة راهنــة .مــن هنــا ،كتــب مجيــد طوبيــا (تغريبــة بنــى حتحــوت) العربيــة وعناصرهــا التــي اســتلهمت تــراث الســيرة الشــعبية ّ أبريل 150 2020
43
الســردية ،بــكلّ مــا اشــتملت عليــه مــن قصــص وعجائــب وغرائــب وحكايــات وأمثــال وأشــعار وأغــان ومواويــل .ينســج طوبيــا تغريبتــه الســردية علــى منــوال «تغريبــة بنــى هــال»؛ فيقســمها إلى تســعة عشــر جزء ًا يشــكّ ل مجموعها رحلة بنى ّ حتحــوت إلــى بــاد الســودان التــي دامــت أربعــة عشــر عامـاً، ـرض لــه بنــو هــال فــي ـرض خاللهــا أبطــال ّ مرويتــه لمــا تعـ ّ تعـ ّ رحلتهــم الطويلــة إلــى تونــس مــن مصاعــب وأهــوال ش ـ ّتى. أمــا فــي روايتــي طوبيــا (دوائــر عــدم اإلمــكان) ( )1975و(حنان) ّ ( )1981فإنه ســيوظّ ف فيهما نصوص التراث الشــعبي الحاملة نص للمعتقدات والتصورات والطقوس الشــعبية في تشــكيل ّ ّ معاصــر يحمــل أســئلة الراهــن وهمــوم الواقــع المعيــش .فــي روايــات مجيــد طوبيا ســوف يختلط الواقع بالحلــم ،والحقيقة بالخيــال ،وســتظهر الفانتازيــا فــي واحــدة مــن أنصع أشــكالها دون تك ّلــف أو غمــوض. عــد (تغربيــة بنــي حتحــوت) واحــدة مــن عالمــات الروايــة ُت ّ العربيــة فــي الســنوات الخمســين الماضيــة ،حيــث ُت ِ رجمــت ّ إلــى عــدة لغــات ،إلــى الدرجــة التــي ارتبطــت باســم مجيــد طوبيــا فــي تاريــخ الســرد العربــي؛ إذ تقــع الروايــة فــي أربعــة أجــزاء تــدور أحداثهــا فــي نهايــة القــرن الثامــن عشــر ،ثــم القــرن التاســع عشــر ،فــي محاولــة الســتنباط شــكل روائــي جديــد يســتلهم التــراث المصــري الحكائــي فــي ســرد األحداث كمــا فــي كتــب التاريخ والســير الشــعبية و«ألــف ليلــة وليلة»، ويأخــذ القــارئ معــه إلــى زمــكان مــا قبــل الحملــة الفرنســية ـرب بنــو حتحــوت فــي ربــوع علــى مصــر وأثناءهــا ،وفيهــا يتغـ ّ مصــر المحروســة مــن المنيــا إلــى القاهــرة والفيــوم وأســوان ســردية ملحميــة تجمــع بيــن التاريــخ واإلســكندرية ،فــي ّ والتوثيــق ورحلــة اإلنســان المغتــرب األبــدي. أمــا فــي روايتــه «الهــؤالء» التــي تتقاطــع مــع همــوم مجايليــه ّ
يفضح «الهؤالء» يندسون الذين ّ كالجراد يف حياتنا ،أو ّ يتنكرون يف أيّة هيئة ممكنة ،لكنهم ّ يظلون دائماً «الهؤالء» الذين يرتصدون ويراقبون ّ ويدوّنون التقارير ويتلصصون الرسية ّ ّ عىل املحيطني بهم
44
أبريل 150 2020
من كُ ّتاب السـ ّتينيات ،ســيخوض مجيد طوبيا معاناة مواجهة القهــر السياســي واســتبداد الســلطة وتعرية النفــاق والتطبيل يندســون وتزييــف العقــول؛ فتــراه يفضــح «الهــؤالء» الذيــن ّ كالجــراد فــي حياتنــا ،أو يتنكّ ــرون فــي ّأية هيئة ممكنــة ،لكنهم ويدونون يترصــدون ويراقبــون يظ ّلــون دائمـ ًا «الهــؤالء» الذيــن ّ ّ ويتلصصــون علــى المحيطيــن بهــم .وهنــا، ـرية ّ التقاريــر السـ ّ على وجه التحديد ،ســيلجأ طوبيا إلى ســردية الرمز أو ســردية القنــاع أو بالغــة المقموعيــن الذيــن يمكنهــم قــول مــا يريــدون دون أن يطالهــم ســيف الرقيب.
بني الرواية والسينما
تنوعــت أعمــال مجيــد طوبيــا مــا بيــن القصــص القصيــرة ّ والروايــة وكتابــة بعــض األفــام الســينمائية وبعــض الكتــب المتعــددة .فمــن األعمــال القصصيــة الثقافيــة والمقــاالت ِّ نجــد لــه« :فوســتوك يصــل إلــى القمــر» ( ،)1967و«خمــس جرائد لم ُتقرأ» ( ،)1970و«األيام التالية» ( ،)1972و«الوليف» ( ،)1978و«الحادثــة التــي جرت» ( ،)1987و«مؤامرات الحريم وحكايــات أخــرى» ( ،)1997و« 23قصة قصيــرة» ( .)2001ومن الروايــات أصــدر طوبيــا« :دوائر عدم اإلمــكان» (« ،)1972أبناء الصمــت» (« ،)1974الهــؤالء» (« ،)1976غرفــة المصادفــة األرضيــة» (« ،)1978حنــان» (« ،)1984عــذراء الغــروب» (« ،)1986تغريبــة بنــي حتحــوت إلــى بــاد الشــمال» (،)1978 «تغريبــة بنــي حتحــوت إلــى بــاد الجنــوب» (« ،)1992تغريبــة بنــي حتحــوت إلــى بــاد البحيــرات» (« ،)2005تغريبــة بنــي حتحــوت إلــى بــاد ســعد» ( .)2005فض ـ ً ا عــن ذلــك ،نجــد لــه بعــض الدراســات مثــل كتابــه عــن يحيــى حقــي «عصــر القناديــل» ( ،)1999و«التاريــخ العريــق للحميــر وابتســامات أخــرى» ( ،)1996و«غرائــب الملــوك ودســائس البنــوك» ( ،)1998وقصتيــن لألطفال هما «مغامرات عجيبة» و«كشــك الموســيقى» ( ،)1980ومسرحية هزلية بعنوان «بنك الضحك المتعددة. الدولــي» ( ،)2001وغيرهــا مــن الكتــب والمقــاالت ّ مــن زاويــة مقابلة للنظر في روايــات طوبيا وقصصه القصيرة، للتحرر ،كما تتجســد صــورة المدينة الحديثة بوصفها ســاحة ّ ّ يقــول حســين حمــودة فــي كتابــه «الروايــة والمدينــة :نمــاذج مــن كتــاب السـ ّتيينات فــي مصــر» ،خصوصـ ًا في روايتــه «ريم تصبــغ شــعرها» التــي ترســم مالمح هــذا التصور عــن المدينة بمنحــى جزئــي يضعــه فــي ســياق التضــاد مــع قيــم المجتمــع الشــرقي فض ـ ً ا عــن قيــم المجتمــع الصعيــدي ،فــي روايــة تشــبه ســيرة شــخصية للفتــاة «ريــم» ابنــة الرجــل الصعيــدي المــزواج وثمــرة زواجــه مــن امــرأة «بحراويــة» تنتمي إلــى دلتا كأن ريــم هــذه صــورة أخــرى من صــور الفتــاة «فتحية» مصــرّ . التــي هربــت مــن زوجهــا حامــد التــي يالحقهــا شــباب المدينة (النداهة) ليوســف إدريس ،بحيث قصة ّ ويتهافتــون عليهــا في ّ ـرر ســوى ـ التح ـكال ـ أش ـن ـ م ـكل ـ ش أي ـة ال تــرى ريــم فــي المدينـ ّ هــذا الجانــب المتم ّثــل فــي إطــاق شــعر الفتيــات المدينيــات حر ّيتــه الســافرة ،فــي الوقــت ذاته الــذي ال تربطهــا بهذا علــى ّ العالــم صلــة انتمــاء حقيقــي فــي هــذه المدينــة االغترابيــة البــاردة .باإلضافــة إلــى ذلــك ،تحضــر صــورة أخــرى للمدينــة فــي عالــم مجيــد طوبيــا فــي روايتــه «دوائــر عــدم اإلمــكان» التــي تم ّثــل المدينــة النائيــة فــي جانبهــا الــذي يــرى المدينــة مــن بعيــد ،بحيــث يصــل بينهــا وبيــن عالــم الريــف «قطــار» ومؤشــر التوقيــت اليومــي ،تمام ًا ينبنــي عليــه مقيــاس الزمــن ّ محمد البســاطي فــي روايتيه مثل كمــا يفعــل بعــض مجايليه َّ
الالفت للنظر هو انشغال ال ُن َّقاد كثريا ً بروايات مجيد طوبيا ،واختزاله عىل وجه التقريب يف عملني اثنني؛ أحدهما روايته الرباعية «تغربية بين حتحوت» وثانيهما رواية «أبناء الصمت» اليت أسهم يف ذيوعها الفيلم الذي أعدّ ه بنفسه للسينما عام 1974 مع رفيق دربه املنتج واملُخرج محمَّ د رايض
أمــا بالنســبة إلــى الكتابة «أصــوات الليــل» و«ويأتــي القطــار»ّ . الســينمائية فقــد كتــب طوبيــا ثالثــة أفــام روائيــة هــي «أبنــاء محمــد راضــي ،و«حكايــة مــن بلدنــا» الصمــت» مــن إخــراج َّ إخــراج حلمــي حليــم ،و«قفــص الحريــم» إخــراج حســين ـد «أبنــاء الصمــت» واحــد ًا مــن عالمــات الســينما ويعـ ّ كمــالُ . ـور واقع الحروب وحيــاة الجنود المصريــة والعربيــة التــي تصـ ّ ّ ـم آنــذاك عــدد ًا مــن النجــوم ـ ض إذ ـة؛ ـ الجبه ـى ـ عل ـن المحاربيـ ّ الشــبان فــي ذلــك الوقــت ،مثــل أحمــد زكــي ونــور الشــريف ومحمــد صبحــي والســيد زيــان وميرفــت أمين ومديحــة كامل َّ ومحمــود مرســي وآخرين.
قصص قصرية يف مرآة النقد الالفــت للنظــر هــو انشــغال ال ُنقَّــاد كثيــر ًا بروايــات مجيــد طوبيــا ،واختزالــه علــى وجــه التقريــب فــي عمليــن اثنيــن؛ أحدهمــا روايتــه الرباعيــة «تغربيــة بنــي حتحــوت» وثانيهمــا روايــة «أبنــاء الصمــت» التــي أســهم فــي ذيوعها الفيلــم الذي أعــده بنفســه للســينما عــام 1974مــع رفيــق دربــه المنتــج ّ محمــد راضــي .بيد أن ما أريد لفــت االنتباه إليه هنا والمخــرج َّ ُ يتم َّثــل فــي القيمــة الف ّن ّيــة والثقافيــة الرفيعــة لقصــص مجيد طوبيــا القصيــرة ،فأغلــب مجموعاته القصصية تقتضي درسـ ًا خاصـ ًا ومسـ ّ ً نقديـ ًا ـتقل (أشــار إليــه بعض اإلشــارة سـ ّـيد حامد ّ القصــة القصيــرة المصرية»، في ـوات ـ «أص ـه ـ كتاب ـي ـ ف ـاج النسـ ّ
القصة المصرية وخيــري دومــة فــي كتابه «تداخل األنواع فــي ّ القصيــرة ،)»1990 - 1960 :لمــا تتم َّتــع بــه قصصــه مــن كثافة ســردية رفيعــة المســتوى ،وقــدرة علــى التقــاء المشــاهد القصصيــة المتناثــرة كمشــاهد الســينما المتتاليــة بحرفيــة ملموســة ،وقــدرة أخــرى علــى نحــت لغــة قصصيــة مكتنــزة التراكيــب مشــبعة الداللــة ،لغة غيــر عارية من قضايا البشــر العمال الذيــن يكتــب عنهم طوبيا ســواء كانوا مــن األطفال أو ّ الفلحيــن والتجــار أو العالقــات االجتماعيــة التــي أجــاد أو ّ كثيــر ًا فــي رســمها وتشــخيصها بهــدوء وخبــرة سوســيولوجية ملموســة .فــي قصــص طوبيــا القصيــرة نحــن بصــدد عالــم متفســخ ،يحيا على يســتغل بــراءة األطفال ،وواقع اجتماعي ّ ـدة، الخرافــة ويطحــن اإلنســان ويعيــد إنتاجهمــا بأشــكال عـ ّ لحر ّية اإلنســان ويتخــذ مــن كلّ هذه المشــاهد مواقف تنتصر ّ وقيمتــه فــي الوجــود بعيــد ًا عــن شــعارات الديــن أو النــزوع الطبقــي أو الزيــف االجتماعــي .ويمكننــا أن نضــرب علــى ذلك أمثلــة مــن بعــض القصص األثيرة لديه ،مثل «فوســتوك يصل إلــى القمــر» ،و«خمــس جرائــد لــم ُتقــرأ» ،و«األيــام التاليــة»، و«طــرح جمــع» ،و«الوليف» ،و«الحادثــة التي جرت» وغيرها. فــي قصــص مجيــد طوبيــا القصيــرة إمكانــات ســردية ودرامية مشــحونة ببالغــة التمثيــل والرمــز ،قصــص تتنــاول اإلنســان ـواق إلــى مســتقبل المصــري فــي جوهــره المحـ ّ ـب للحيــاة التـ ّ أفضــل ■ .محمــد الشــحات (مصــر) أبريل 150 2020
45
«الهؤالء»
رصخة يف وجه التسلّط والالإنسانية روايــة «الهــؤالء» وهــي تحــاول أن تفــرِّ مــا يبــدو غــر قابــل للتفســر ،وهــي تقــول الالمعقــول الــذي يبــدو غــر أسســه أدبــاء كبــار مــن مثــل قابــل للوصــف والفهــم العقالنيــن ،تكــون بذلــك منتميــة إىل أعــال نــوع مــن األدب ّ حدثنــا فرانز كافكا وألبــر كامــو وجــان بــول ســارتر وصامويل بيكيت وصنــع اللــه إبراهيــم ...ذلــك األدب الــذي ال ُي ِّ عــن املدينــة الفاضلــة ،بــل هــو يقــوم برحلــة يف مدننــا غــر الفاضلــة ،لنكتشــف مــا فيهــا مــن الغرابــة املقلقــة ،ومــا فيهــا مــن األشــياء الالمعقولة واملخيفة واملرعبــة ..لنكتشــف أن وضــع اإلنســان فيهــا هــو وضــع غــر إنســاين :هــو وضــع القهــر والكبــت والقمــع ...
الشخصية املحورية يف رواية «الهؤالء» ،وهي َّ تتكلف بمهمة اليت الرسد ،شخصية أشبه ما تكون باللغز .هكذا تبدو عىل األَ ّ قل للهؤالء. فهي شخصية ِّ ومفكرة، مث َّقفة لكن أسئلتها حول األرض والزمان تبدو أسئلة المعقولة أو شديدة الخطورة
46
صــدرت روايــة «الهــؤالء» لمجيــد طوبيا ســنة ،1973وهــي روايــة تتأ َّلــف مــن ســبعة فصول ،وبعض عناوين الفصول أشــبه ما تكون األول: بعناويــن الكتب العلميــة والنظرية( من مثل عنوان الفصل ّ «آلــة الزمــن الموســيقية» ،وعنــوان الفصــل الســادس« :نظريــة جديــدة فــي نشــوء المــدن وتطورهــا») ،كأن هــذه الرواية بهــذا ـؤدي وظائــف أخــرى غيــر الوظائــف المعروفــة للروايــة تريــد أن تـ ِّ خاصــة وللســرد عموماً . ّ تقع الروايــة فــي تســعين صفحــة ،وهــي عبــارة عــن محكي شــديد البســاطة يكشــف النقــاب عــن ســيرة إنســان لــم يــأت فــي أقوالــه وأفعالــه بمــا يدعــو إلــى اعتقالــه وإرغامــه علــى القيــام برحلــة ال يجــد لهــا معنــى :هــو متهــم ومشــكوك فــي أمــره إلــى أن يعــود مــن كلّ مخافــر الدولة األيبوطية بمــا يثبــت براءتــه؟ لكــن هــذه البســاطة مــن نــوع الســهل الممتنع ،فالمحكــي يســتند إلــى بالغة اإليجــاز والترميــز ،ويثيــر فــي عــدد قليــل مــن الصفحــات قضايــا كبــرى تتع َّلــق بوجــود اإلنســان ووضعــه الالإنســاني . الروايــة عبــارة عــن صرخــة في وجــه التسـلّط والالإنســانية وغياب الحر ّية فــي الدولة والمجتمــع ،وهــي قــد نجحــت فــي الكشــف ّ عــن واقــع قاهــر بســخرية ســوداء تفضــح الالمعقول الــذي يقذف باإلنســان فــي رحلــة المتناهيــة أو نهايتهــا المــوت ،وهــو مــن دون ـددة ،أو كلّ تهمتــه أنــه قــرأ واندهش وتســاءل . تهمــة محـ َّ فقــد قــرأ الرجل ،موضــوع الروايــة فــي كتــاب صــدر بالديار األيبوطيــة ،أن دوران األرض حــول نفســها يحــدث فــي اتِّجــاه مضــاد لــدوران عقارب الســاعة ،فاندهش كثيراً ،وتســاءل: لمــاذا تــدور األرض ضــد الســاعة وليــس معهــا؟ وحمل ســؤاله إلى صاحــب الكتــاب وبعــض المســؤولين ،وبــدل أن يحصــل ـارد ًا مــن طــرف «الهــؤالء» ،وانتهــى األمــر علــى الجــواب ،صــار مطـ َ
أبريل 150 2020
باعتقالــه وإجبــاره علــى اإلتيــان بشــهادات عــن براءتــه مــن كلّ مخافــر الديار األيبوطيــة . وتتألَّف الروايــة من عناصــر تجمــع بيــن الواقــع والغرابــة ،فتصف ـون مــن النــاس والمــدن والمخافــر والقطــارات عالمـ ًا واقعيـ ًا يتكـ َّ والصحــراء واألحيــاء الفقيــرة ...لكــن مــا يحــدث فــي هــذا العالم يبدو غريباً ،المعقوالً ،ال إنســانياً ،من دون معنى ،غير منســجم، ال يخضــع للمنطــق والعقــل .فاإلنســان فــي هــذا العالــم ال يجــد معنــى لمــا يقــع ،يبــدو لــه العالم غريبـ ًا ومقلقـ ًا ومخيفـاً .واألكثر غرابــة أن «الهــؤالء» وحدهــم يــرون العالــم منســجماً ،وما يحدث فيــه معقوالً.
ملخص الحكاية فــي البدايــة انتبــه الســارد الشــخصية المحوريــة إلــى أن عقــارب الســاعة تــدور عكــس دوران األرض ،هــذا ما قرأه فــي كتاب أصدره أحــد علمــاء الديار األيبوطيــة .أثارتــه المســألة ،فبــدأ يســأل عــن صحتهــا ،زار صاحــب الكتــاب ،فاتهمــه بالتجســس والتشــويش على ابتكاره فطرده ،وحاول استفســار بعض المســؤولين ففشــل وصــار مطــارد ًا من طرف «الهؤالء» ،يطارده الواحد منهم بأســئلته وفضولــه ،ويتهــم أقوالــه بالرمزيــة ،فالمســألة التــي يثيرهــا ال تعنــي إال أن ديــار أيبــوط تســير ضــد الزمــن وليــس معــه ،وهــذا كالم فــي السياســة ،وحــاول أن يدفــع النــاس فــي ملعــب الكــرة إلــى التفكيــر فــي المســألة ،فاتهــم بإثــارة الفتنــة . بعــد أن فشــل في فهــم المســألة التي شــغلته ودفــع النــاس إلــى جيــداً ،ثــم التفكيــر معــه فــي حلّهــا ،الذ بشــقته ،وأغلــق البــاب ّ راح يســتحضر حبيبتــه إلــى أن صــارت حقيقــة أمــام عينيــه ،لكــن «الهؤالء» الجاحظون ســيفاجئونه فــي ســريره ،ويرغمونــه علــى
ـددة ،فلــكلّ إنســان تهمــة ،ولــكلّ تهمــة أدلتهــا، مرافقتهــم ،والتهمــة غيــر محـ َّ ـد أن للســارد تهمــة وأدلتهــا موجــودة؟ والبـ ّ حمــل «الهؤالء» الجاحظون الســارد إلى غرفة الرجــل المضغوط ،وبعد انتظار الموجهــة إليــه، قاتــل ،ظهــر الرجــل المضغــوط .ســأله الســارد عــن التهمــة َّ رده أنــه ال يعــرف تهمتــه بالتحديــد ،لكــن ســلوكه قــد خــرج عــن حــدود فــكان ّ ـدل الســلوك يكــون فــي حالــة أزمــة عاطفيــة أو في حالة الشــروع ـ وتب ـوف، المألـ ّ فــي عمــل غيــر مشــروع ضــد دولــة أيبــوط وضــد زعيمها الديجــم .والســارد ال يشــكو مــن أزمــة عاطفيــة ،ولــه حبيبــة رائعــة تــدل علــى ذوقــه الراقــي فــي الجمــال ،ويبقــى أنه متهــم بالشــروع فــي عمــل مريــب إلــى أن تثبــت براءتــه؟ عيــن الرجــل المضغــوط مندوبـ ًا عنــه يأخــذ صاحبنــا فــي وللتأكــد مــن براءتــهّ ، ـم لــه ـ ويت ـوط، ـ أيب ـاء ـ أنح ـي ـ ف ـرة ـ المنتش ـرطة ـ الش ـر ـ مخاف طــواف إلــى جميــع ّ فــي جميــع المخافــر عــرض قانونــي للبــث فيمــا إن كان مطلوبـ ًا فــي إحداهــا أم ـر شــريف كمــا ادعــى لنفســه؟ ال ،وإذا لــم يكــن مطلوبـ ًا فــي ّ أي منهــا فهــو حـ ّ حــي ،بــدأ الســارد يحصــل علــى إلــى حــي ومــن ومــن مخفــر إلــى مخفــر، ّ ّ شــهادات براءتــه ،)40 ،39 ،23 ،7 ،3( :ومــع هــذا الرقــم األخيــر ســوف يتــرك الســارد والمنــدوب العاصمــة ليطوفــا بشــتى المخافــر المنتشــرة فــوق أراضــي أيبــوط المتراميــة .وفــي محطّ ــة العاصمــة ســيالحظ الســارد أزواجـ ًا كثيــرة مــن الرجــال وأزواج ـ ًا كثيــرة مــن النســاء ،وهــي أزواج تشــبه الــزوج الــذي يشــكِّ له هــو والمنــدوب ،أي أن كلّ زوج إال ويتكــون مــن متهــم أو متهمــة ومنــدوب أو مندوبــة ،والســارد إذاً ليــس الوحيــد فــي هــذه الحالــة؟ فــي المخفــر األربعيــن ســيعرض علــى كالب أعجميــة ،فإن أفتــت جميع الكالب بأنــه بــريء انصــرف إلــى حاله؟ بعــد أن حصل علــى براءته من الــكالب؟ انصرف ـرا والمنــدوب فــي اتِّجــاه مخافــر أخــرى ،وفــي الطريــق إلــى محطــة القطــار مـ ّ ـولين بمــدن صغيــرة وأحيــاء فقيــرة ،وصادفــا عــدد ًا مــن المتســكِّ عين والمتسـ ّ واألطفــال الحفــاة ...ومــن القطــار تــراءت لــه حبيبتــه فــي القطار المضــاد وقد فقــدت جمالهــا وروعة بهائهــا ،أتكــون هــي األخــرى متهمــة وتقــوم بالطــواف
مــن أجــل الحصــول على البــراءة؟ يحصــل الســارد علــى بــراءات جديــدة ،ويتضاعــف الــورق فــي الحقيبــة التــي يحملهــا المنــدوب ،ويبــدو الطــواف كأنــه النهائــي ،وفكــرة الهــروب مســتحيلة، ألن محــاوالت كلّ الســابقين بــاءت بالفشــل ،وكانــت وبــا ً ال عليهــم . وكان الســفر أخيراً إلــى مخفــر الرمــال ،وهــو بنايــة عمالقــة فــي خــاء ممتــد أجــرد .وعندمــا ســأل الســارد المنــدوب لماذا هناك مخفــر فــي هــذا الخــاء، رده أن المــدن فــي القــدم كانــت تنشــأ حــول منابــع الميــاه أو حــول مركــز كان ّ المواصــات ،أمــا فــي العصــر الحديــث فالمــدن تنشــأ حــول المخافــر ،ففــي ـم األمــن فــي الخــاء المحيــط بــه ،وعندئــذ تبنــى البدايــة يجــيء المخفــر فيعـ ّ ـون المــدن؟ البيــوت ثــم تتكـ ّ يحث الســارد، المندوب كان الصحراء، ـر ـ مخف داخل إلى ـى ـ األول فــي الخطــوات ّ وهــو ينعتــه بالطيب الوديــع ،علــى أن يتبعــه وســط أحجــار هــي شــواهد قبــور الســابقين مثلــه ،ولمــا ســأل الســارد عــن هــذه األحجــار القبــور ،كان جــواب المنــدوب أن كلّ المتهميــن الســابقين الذيــن قامــوا برحلة إلى مخفــر الصحراء فضلــوا البقــاء هنــا عــن خــوض تجربــة اإلياب . ّ شخصية في وضعية غير قابلة لإلدراك : لقــد اختــار مجيــد طوبيــا لروايتــه شــخصية تطــرح أســئلة قــد تبدو المعقولــة أو الخطورة؛ ووضعها فــي وضعيــة تبدو المعقولة من لهــا حمولــة رمزيــة شــديدة َ منظــور الســارد الضحيــة ،وتبدو طبيعيــة وضرورية من منظــور «الهؤالء» . الشــخصية المحوريــة فــي روايــة «الهــؤالء» ،وهــي التــي تتكلَّــف بمهمــة السرد ،شــخصية أشــبه ما تكــون باللغــز .هكــذا تبــدو علــى ا َ ألقلّ للهــؤالء. فهــي شــخصية مثقَّفــة ومفكِّ ــرة ،لكــن أســئلتها حــول األرض والزمــان تبــدو أســئلة المعقولة أو شــديدة الخطورة؛ وهي شــخصية وديعة وطيبة ،وال تواجه مطارديهــا ،لكــن تنتهــي كلّ مقابلــة لواحــد منهــم بالهــروب بعيــداً . ممــا أكثــر وهذه الشــخصية هــي مــن دون اســم ،وهي تعيــش فــي الوهــم ّ وخاصــة ـتيهامات، تعيــش فــي الواقــع ،ومــن هنــا كثــرة الــرؤى واألحالم واالسـ ّ عندمــا يتع َّلــق األمــر بالحبيبــة ،وهــي تخضــع للســلطة القاهــرة وتقبــل الطــواف الالنهائــي ،وتستســلم للهؤالء وهم يقودونهــا فــي رحلــة فــي اتِّجــاه المــوت . هــي شــخصية ال تســتطيع أن تفهم الالمعنى الــذي يســود العالــم الــذي يحيــط بهــا ،فتصــاب نفســيتها باالضطــراب وتدخــل دائــرة الفــراغ والتشــاؤم ،وهــذا مــا يفســر الحضــور الالفــت للمحكيــات النفسية والمونولوجات والرؤى واالســتيه ِّ امات فــي كالم شــخصية مقهورة . ـص يبــدأ بتقديــم الشــخصية :رجــل مث َّقــف يطــرح أســئلة ويقــول كالمـ ًا هــو والنـ ّ حمــال أوجــه ،فيطــارد مــن طــرف «الهــؤالء» وينتهــي األمــر باعتقالــه ،وبراءتــه ّ ـرض علــى كلّ مخافــر الدولة األيبوطيــة . ـ ع ي أن ـد ـ بع إل ـون ـ تك ـن لـ ّ ُ َ كررتــه الشــخصية مــرار ًا مــا وهــذا عبثية والمعقولــة، الوضعيــة تبــدو هكــذا َّ ـددة ،تجــد الشــخصية نفســها فــي وضعيــة غيــر وتكــراراً .فمــن دون تهمــة محـ َّ عقالنيــة :مــن أجــل الحصــول علــى براءتهــا ،علــى الشــخصية أن تطــوف علــى كلّ مخافــر الشــرطة بالديار األيبوطية المتراميــة ،وأن تحصــل مــن كلّ مخفــر على شــهادة البــراءة . تفســر هــذه الشــخصية هــي نفســها التــي تســرد حكايتهــا ،وهــي ال تســتطيع أن ِّ مــا يحــدث بواســطة خطــاب فكري عقالنــي ،ألن الالمعقول ينفلت مــن المنطق. ـدم مــن المالحظــات واألســئلة واألقــوال الســاخرة مــا يــدلّ ومــع ذلــك فهــي تقـ ِّ علــى الظلــم والقهــر الــذي يمارســه «الهــؤالء» وبراءتهــا مــن التهمــة الموجهــة إليهــا .وهــي بهــذا نجحــت فــي دفع القارئ إلــى التعاطــف معهــا باعتبارهــا والحر ّية . ضحيــة الظلــم والقهــر وغيــاب العــدل ّ لقــد نجــح الســارد فــي إدخال القارئ إلــى عالــم مقلــق وغريــب ومظلــم، ودفعــه إلــى مشــاركته البحــث عــن معنــى لمــا َيحــدث ،وزرع فــي نفســه األمــل فــي الحصــول علــى البــراءة األخيــرة ،وتركــه مــع نهايــة غامضــة مفتوحــة ،كأن الالمعقــول ال يمكــن أن تكون نهايته إال المعقولة ■ ..حســن المودن (المغرب) أبريل 150 2020
47
مالمح قصصية
الذات،املدينة والعالم ينتمــي مجيــد طوبيــا إىل جيــل الســتينيات الــذي ســعى أدبــاؤه ،بفعــل إتاحــة وســائل النــر الصحــايف لنصوصهــم، القصــة املرصيــة عــى غــرار مــا أىت بــه رواد ثــاث موجــات ســابقة؛ محمــود تيمــور إىل تأســيس موجــة جديــدة يف ّ يف املوجــة األوىل ،توفيــق الحكيــم ونجيــب محفــوظ ويحيــى حقــي يف الثانيــة ،ويوســف إدريــس ويوســف الشــاروين يف الثالثــة .ليدخــل طوبيــا ورفاقــه يف اختبــار وتحـ ٍّـد مــن أجــل تجديــد دمــاء النــوع القصــي مبواكبــة التحـ ُّـوالت السياســية واالجتامعيــة يف ذلــك الوقــت.
48
«القصــة» مشــروع مهــم وتجربــة لمجيــد طوبيــا فــي كتابــة ّ قصتــه «فوســتوك يصــل ـذ ـ من ـة ـ ي ن الف ّ ثريــة ،تشــكَّ لت مالمحهــا ّ ّ إلــى القمــر» التــي كانــت عنوانـ ًا لمجموعتــه األولــى الصــادرة القصــة، ســنة .1967وقــد اســتطاع طوبيــا مــن خــال هــذه ّ التــي نشــرها لــه يحيــى حقــي فــي مج ّلــة «المجلة» ،أن يشــكِّ ل هويــة جماليــة تأكَّ دت من خــال مجموعاتــه التالية: لتجربتــه ّ خمــس جرائــد لم تقــرأ ( ،)1970األيام التاليــة ( ،)1972الوليف ( ،)1978الحادثــة التــي جــرت (.)1987 انطالقـ ًا مــن رؤيــة فلســفية وحضاريــة تشــتبك قصــص مجيــد طوبيــا بأحــداث العصر الكبرى .وعبر هذا االشــتباك يســتوعب ـوالت الفارقــة فــي حيــاة اإلنســان .علــى خطابــه الســردي التحـ ّ التقــدم العلمــي فــي ارتيــاد ســبيل المثــال؛ كانــت جهــود ُّ الفضــاء ومنهــا الوصــول إلــى ســطح القمــر حدثــ ًا جليــ ً ا وفارقــ ًا فــي ســتينيات القــرن العشــرين ،صــوره طوبيــا فــي قصــة «فوســتوك يصــل إلــى القمــر»: ّ («إلى القمر بالسالمة يا فوستوك» ربمــا وقــف الســائق يقرؤهــا مكتوبــة علــى ِّ مؤخــرة الســيارةَّ .. ـرة المئــة فــي خــال اليوميــن األخيريــن .ويبتســم لنفســه المـ ّ فــي زهــو ..كان صاحــب الســيارة يريــد أن يكتــب مكانهــا عبــارة تمســك أخــرى« ..يــا خفــي األلطــاف ّ نجنــا ّ مما نخــاف» ..وإزاء ّ الســائق بجملتــه ..قنــع بــأن تنــزوي عبارتــه علــى بــاب الســيارة المؤخــرة بطولهــا وعرضهــا حيــث هــي مكتوبــة اآلن ..وتــرك ِّ لســائقه يكتــب عليهــا مــا بــدا لــه ..فكتــب جملتــه الســابقة.. ورســم أعالهــا صاروخ ـ ًا صغيــر ًا فــي طريقــه إلــى قمــر رســم علــى هيئــة وجــه إنســان يطــل باســم ًا فــي ســعادة مــن خــال زهــور جميلــة زاهيــة تحيــط بــه). األول خطــاب خطابيــن، بيــن القصــة الجــدل تجســد هــذه ّ ّ ِّ صاحــب الســيارة الــذي يبــدو محافظ ـ ًا ومؤثــر ًا الســامة فــي أبريل 150 2020
مؤخــرة الســيارة« :يــا الشــعار الــذي كان ِّ يفضــل وضعــه علــى ِّ ً ـعبوي ًا ـ ش ا ـ وعي ـل ـ ث يم ـذي ـ ال ـاف» ـ نخ ـا ـ مم ِّ ّ خفــي األلطــاف ّ نجنــا ّ تقليديـاً ،وهــو كذلك وعــي البورجوازية الصغيــرة التي تتجنب ّ ـر الســائق ـ أص ـي ـ الت ـة ـ المارق ـة ـ الجمل ـل ـ مقاب ـي ـ ف ـرة، ـ المخاط ّ مؤخــرة الســيارة« :إلــى القمــر بالســامة يــا وضعهــا علــى ِّ فوســتوك» وهــو الخطــاب الذي يم ِّثــل روح التط ّلــع والمغامرة والرغبــة فــي االنفتــاح علــى المجهــول والتط ّلــع علــى الغريــب والمختلــف ،كمــا يربــط الســائق فــي رســمه بيــن الصــاروخ الصغيــر الصاعــد فــي طريقــه إلــى القمــر الــذي يرســمه علــى هيئــة وجــه إنســان كإشــارة إلــى التطلّع لوجــود إنســاني جديد ووعي ـ ًا حس ـ ًا وثاب ـ ًا فــي بقعــة جديــدة مــن الكــون، ّ وكأن ّ ثمــة ّ ّ وكأن رومانسـ ّـي ًا يمــازج الجمــوح اإلنســاني الرتيــاد المجهــول، َّ ثمــة جــد ً ال مــا بيــن ثقافــة مترســبة كمــا فــي الوعــي المحافــظ ّ لمالــك الســيارة وثقافــة أخــرى بازغــة ،متطلِّعــة إلــى الجديــد ومتسـلِّحة بــروح المغامــرة. ... اتجــه جانــب مــن الخطــاب القصصــي لمجيــد طوبيــا نحــو نقد قصــة «الوجــه اآلخــر» التــي حــروب العالــم المســتمرة .ففــي ّ يبــرز مــن خاللهــا تأ ُّثــر بطلهــا بمتابعــة أخبــار الحــروب عبــر التليفزيــون ،نقــرأ: («صــراع حتــى المــوت بيــن نصفــي دولــة أوروبيــة» ..هابيــل لمــاذا تقتــل أخــاك قابيــل؟!.. «احتمــال نشــوب حــرب ذريــة عالميــة»« ..إعصــار يجتــاح اســتراليا»« ..تفجيــر قنبلــة جديــدة تحــت األرض» ..نجازاكــي أيــن ذهبــت أختــك هيروشــيما؟! وينهض ثائراً ..أين األنباء الطيبة؟!) القصــة يعتمــد مجيــد طوبيــا تقنيــة «الكــوالج» بإيــراد وفــي ّ مقتطفــات مقتطعــة مــن عناويــن األخبــار التليفزيونيــة لتبــدو
كطرقــات صادمــة بتدافعهــا علــى الوعــي تكثِّــف المأســاة اإلنســانية والمــأزق الوجودي الذي بلــغ ذورته ،حيث الصراع القصــة بيــن شــطري ألمانيــا الغربــي والشــرقي ليــرد بطــل ّ ـعر الحالة ويتمثَّل جذور الصراع اإلنســاني منذ بتســاؤل ُي َشـ ِّ وكأن الوعــي ـل)، ـ وقابي ـل ـ (هابي ـة ـ قص ـي ـ ف ـا ـ كم أزليــة التاريــخ ّ ّ فــي تشــبيه ضمنــي يعيد قــراءة الراهــن في ضــوء التاريخي. القصــة علــى نبــأ االختبــارات باســتعادة تاريــخ ثــم يــرد بطــل ّ المأســاة النوويــة الكبــرى في الحرب العالميــة الثانية بضرب الواليات الم َّتحدة األميركية لهيروشيما ونجازاكي المدينتين اليابانيتيــن ،فتبــدو الــذات فــي حالــة تســاؤل وجــودي حائــر إزاء مــا تعايــن من أحداث مدمرة وأخطار مفنية للبشــرية... ... فــي قصــص مجيد طوبيــا تحضر كثير ًا صورة الــذات المغتربة التــي تواجــه ضغوطــات العالــم الماديــة والنفســية كمــا هــو ـدم فيهــا قصــة «خمــس جرائــد لــم ُتقــرأ» التــي ُيقـ ِّ حــال بطــل ّ صــورة الريفــي النــازح إلــى المدينــة والمركــز ،العاصمــة، «القاهــرة» .ففــي إحســاس مضمــر بتغــول المدينــة وقدرتهــا علــى التهــام األشــخاصُ ،يســاكن الــذات شــعور بالهشاشــة والضعــف ،كمــا تتبــدى حساســية الــذات إزاء مدينــة ُتم ِّثــل نمطــ ًا ثقافيــ ًا واجتماعيــ ًا مغايــر ًا لنمــط الريــف أو األقاليــم البعيــدة عــن ضجيــج المدينة .وفي صورة مثــل هذا التناقض
يتشــكَّ ل الخطاب القصصي عند مجيد طوبيا بأســلوب ســاخر يتج َّلــى فــي المبالغــة التهكميــة التــي تعكــس شــعور ًا بعبثية األوضــاع مــن ناحيــة وعجــز الــذات عــن تعديلهــا مــن ناحيــة أخــرى ،فتتعالــى عليهــا وتحــاول أن تتجاوزهــا بالســخرية. قصــة «خمــس جرائــد لــم ُتقــرأ»: نقــرأ فــي ّ ـت فوقه ســاعات طويلة. ـ وقف ـرة. ـ القاه ـرج ـ ب ـوق ـدت فـ (صعـ ُ ُ لــت ُ تأم ُ عقــدت مقارنــة بيــن حجمــي وحجــم المدينــةَّ . العمــارات العاليــة ،وشــاهدت النــاس مهروليــن ،آكليــن وقوفـاً ،ولمــا قالــت البدينــة لزوجهــا إننــي أنــام كالموتــى؛ ـت إلــى لوكانــدة في شــارع كلوت بك لرخص ســعرها، انتقلـ ُ ومنــذ اللحظــة األولــى حــدث أمــر غريــب :إذ اتســعت أذنــي العمــال ومــدوا شــريط التــرام داخلهــا وكبــرت ،وجــاء ّ فســارت العربــات :بأجراســها ،بصريــر عجالتهــا ،بشــتائم ـكارو ،وبخناقــات الكمســاري ســائقيها لســائقي عربــات الـ ُّ مــع الراكبيــن ،وظ ّلــت هــذه الترامــات تدخــل أفواج ـ ًا إلــى داخــل رأســي!! تدخــل وال تعــود .علقــت الفتــة خــارج أذني مكتــوب عليهــا :ممنــوع الدخــول ،ولكــن ذلــك لــم ينفــع. ـاس؛ فتحــدث وأحيان ـ ًا كثيــرة كانــت أســاك الكهربــاء تتمـ ُّ فنقلت وضع السرير شــرارة وفرقعة صاعقة داخل رأســي!! ُ اليم َنــى جهــة الشــارع؛ ذلــك ونمـ ُ ـت ،بحيــث كانــت أذنــي ُ أل ّنهــا ثقيلــة الســمع) ■ .رضــا عطيــة (مصــر) أبريل 150 2020
49
جيمس وود :
فن املراجعة النقديّة ّ الخاصــة مبراجعــات الكتــب ،وغيــاب اهتــام كثــر منهــا بهــذا النــوع رغــم تقليــص الصحــف واملجـ ّـات لألقســام ّ اليوميــة يف غا ِبــر األيــام ،فقــد ظ ّلــت بعــض الصحــف مــن الكتابــة الــذي كان يتصـ َّـدر مالحقهــا وحتــى صفحاتهــا ّ ّ مطولــة للكتــب ،كــا هــو حــال مجلــة «لنــدن ريفيــو واألمريكيــة تهتــم بنــر مراجعــات الربيطانيــة واملجــات َّ ّ ّ ّ أوف بوكــس» ،و«نيويــورك ريفيــو أوف بوكــس» اللتــن أرشت إليهــا يف املقالــة الســابقة .عــى صفحات هاتني املج ّلتــن ا ُ الربيطانيــة، تخصصتــن يف مراجعــات الكتــب ،وكذلــك عــى صفحــات صحيفــة «الغارديــان» مل ّ ّ ين «جيمــس وود ،»James Woodالــذي ُي َ نظــر إليــه ومج ّلــة نيويوركــر األمريكيــة ،بــرز اســم الناقــد الربيطــا ّ ّ بوصفــه واحــداً مــن أملــع مراجعــي الكتــب يف عرصنــا...
فخري صالح (األردن)
50
ٍ جنــس فــي مقالتــي الســابقة ســعيت إلــى لفــت االنتبــاه إلــى الم ِ عاصــرة ،أو أنــه علــى أدبــي يبــدو شــبه غائــب فــي الكتابــة ُ ّ األقــلّ لــم يعــد يســتأثر باالهتمــام الكبيــر الــذي كان يحــوزه، الم ِ عاصــر ،خصوصـ ًا والمكانــة ّ النقديــة التــي احتلهــا فــي النقــد ُ عامــة. ـة ـ األوروبي ـة ـ الثقاف ـي ـ وف ـوني، ـ األنجلوساكس ـم ـ فــي العال ّ ّ ً األدبي في ـد ـ النق الت ـو ـ تح ـن ـ م ا ـزء ـ ج ـة ـ األدبي ـات ـ المراجع كانــت ُّ ّ ّ األول مــن القــرن العشــرين ،كمــا أنهــا جذبــت عــدداً النصــف ّ المؤسســة ـارج ـ خ ـل ـ يعم ـم ـ بعضه كان ـن ـ الذي ـاد، ـ ق ن َّ مــن كبــار ال ُ َّ المؤسســة، ـك ـ تل ـن ـ ضم ـل ـ يعم ـر ـ اآلخ ـم ـ وبعضه ـة، األكاديميـ َّ للمســاهمة فــي كتابــة مراجعــات للكتــب الصــادرة حديثـاً .وقــد والم ِ عاصــر إلى الناس، قربــت تلــك المراجعــات األدب الحديــث ُ َّ األكاديمية والجمهور العام المؤسسة وشكَّ لت حلقة وصل بين َّ ّ ـراء الصحــف .ويمكــن القول إن أولئــك ال ُن َّقــاد الذين كانوا مــن قـ َّ البريطانيــة ـات المراجعــات فــي الصحــف والمجـ ّ يكتبــون تلــك ُ ّ األكاديميون ـه ـ نال ا مم بكثير ـر ـ أكث ـهرة ـ الش من ـوا واألميركيــة ،نالـ ّ ّ ّ الذيــن اكتفــوا بالبقــاء خلــف أســوار الجامعــة يكتبــون أبحاث ـ ًا المهتميــن. ـدد محـ ٌ خصــص ال يقرؤهــا ّإل عـ ٌ شــديدة ال ّت ُّ ـدود مــن ُ الخاصــة والمجــات لألقســام لكــن رغــم تقليــص الصحــف ّ ّ بمراجعــات الكتــب ،وغيــاب اهتمــام كثيــر منهــا بهــذا النــوع من ـدر مالحقها وحتــى صفحاتها اليومية في الكتابــة الــذي كان يتصـ َّ البريطانيــة ـات غابِــر األيــام ،فقــد ظ ّلــت بعــض الصحــف والمجـ ّ ّ مطولــة للكتــب ،كمــا هــو واألميركيــة تهتــم بنشــر مراجعــات َّ ّ حــال مجلّــة «لنــدن ريفيــو أوف بوكــس» ،و«نيويــورك ريفيــو أوف بوكــس» اللتيــن أشــرت إليهمــا فــي المقالــة الســابقة .علــى تخصصتين في مراجعات الكتب، الم ّ صفحــات هاتيــن المجلّتين ُ البريطانية» ،ومجلّة ـان ـ «الغاردي صحيفة وكذلــك علــى صفحات ّ
أبريل 150 2020
ـي «جيمــس «نيويوركــر» ّ األميركيــة ،بــرز اســم الناقــد البريطانـ ّ وود ،»James Woodالــذي ُينظَ ــر إليــه بوصفــه واحد ًا من ألمع مراجعــي الكتــب فــي عصرنــا ،وأكثرهــم مقروئيــة ،وأقربهــم فــي ـور النقــد األنجلوساكســوني نقــده إلــى مرحلــة مــن مراحــل تطـ ُّ المتفحصــة الســابرة والقــراءة النــص الــذي يهتــم بتحليــل ّ ُ األدبــي ،واالهتمــام بالتفاصيــل الصغيــرة والمســائل للعمــل ّ األدبيــة النظريــة الجماليــة التــي تهملهــا العديــد مــن تيــارات ّ ّ الم ِ عاصــرة ،مركِّ ــز ًة بصــور ٍة أساسـ ّـية علــى الشــروط السياسـ ّـية ُ ـض واأليديولوجيــة ـص ممكنـاً .وبغـ ِّ والثقافيــة التــي جعلــت النـ ّ ّ ّ الموجــه إلــى جيمــس وود ،مــن ِقبــل تيــارات النظــر عــن النقــد َّ ـي ومــا بعــد الكولونيالــي والنســوي ،بوصفــه ناقــد ًا النقــد الثقافـ ّ ـص علــى حســاب شــروطه ـ الن ـات ـ بجمالي ـم ـ يهت ـق ـ مــن طــراز عتي ّ والثقافيــة ،فقــد احتــلّ الناقــد ــة واالجتماعي ــة األيديولوجي ّ ّ ّ ـزي ،الــذي يعيــش فــي أميركا هــذه األيام ويعمل أســتاذ ًا اإلنجليـ ّ النقديــة »Practice of Criticism -فــي جامعــة ـة ـ لـ«الممارس ّ ـي فــي «هارفــارد» ّ األميركيــة ،مكانــة رفيعــة فــي المشــهد األدبـ ّ النظرية، أميــركا .ولــم َي ُحــل دون صعــود نجمــه ســيطر ُة تيــارات ّ الجماليــات لصالح دراســة آليــات الهيمنــة والتمييز التــي تهمــل ّ والســعي إلــى قــراءة ميــراث االســتعمار وجرحــه فــي وعــي عمرين ،وكذلــك قــراءة التمييــز ضــد النســاء فــي اآلداب المسـ َت َ ُ ِ المعاصــرة. الغربيــة ُ بــدأ جيمــس وود (مواليــد )1965الكتابــة وهــو فــي العشــرينات مــن العمر فــي صحيفة «الغارديان» البريطانيــة ،وأصبح ناقدها رئيســي ًا فــي مجلّــة حــرر ًا ّ األول ،ثــم انتقــل بعدهــا ليصبــح ُم ِّ َّ ِ األميركيــة ،وهــو اآلن يعمــل »New Republic ــك ل ب ريب «نيــو ّ َْ فــي هيئــة تحريــر مج ّلــة «نيويوركــر» ،إضافــة إلــى عملــه أســتاذ ًا
ـي فــي «هارفــارد» .ومــع أنــه أصــدر روايتيــنّ ،إل أن شــهرته وإســهامه الحقيقـ ّ المطولــة التــي ينشــرها عــن الكتب النقديــة ومقاالتــه يصــدران مــن مراجعاتــه ّ َّ مم ْن ينتمون إلى العصور الســابقة ،أو منهم، الروائيين والمؤلِّفيــن ،خصوصـ ًا َّ ُ الم ِ تضم فــي مجملها عاصريــن لنــا .كمــا أن الكتــب التــي نشــرها «وود» ُّ أولئــك ُ ـات مراجعــات الكتــب. مراجعاتــه النقديــة التــي نشــرها فــي الصحــف ومجـ ّ ّ األكاديمية، ـة ـ س المؤس في ـه ـ انغماس وعدم ـاط، ـ النش ـذا ـ به ـاءه ـ اكتف ويبــدو أن َّ ّ ـري ،تنبــع ـي النظـ ّ أو انقطاعــه لكتابــة دراســات يغلــب عليهــا الطابــع األكاديمـ ّ ـد نفســه لــه منــذ الصبــا .لقــد أراد ،كمــا ُيشــير فــي مقابــات أُجريــت ممــا أعـ َّ معــه ،أن يكــون مراجــع كتــب يكتــب عــن الروائييــن الذيــن يحبهــم ،ويجلُّهــم، ـكلٍ ـي .وهــو ،انطالقـ ًا مــن ـأوج فـ ّ ويــرى فيهــم تـ ُّ ـن الروايــة وصعودهــا كشـ أدبـ ّ ٍ ـر الكتابة هــذا الشــغف ،يقــرأ الروايــة بعيــن ناقــد يعمــل علــى الكشــف عــن سـ ِّ الروائيــة ،وكأنــه يرقــد تحــت جلــد مبدعهــا ليــرى كيــف تشــكَّ ل ذلــك العالــم ـخصياته وتقنياتــه إلــى كــونٍ أشــبه بالواقــع. وتحولــت تفاصيلــه وشـ ـي َّ ّ الروائـ ّ ـي غوســتاف وليــس غريبـاً ،إذاً ،أن يكــون الم َّ روائيــه ُ ُّ فضــل هــو الكاتــب الفرنسـ ّ فلوبيــر (الــذي يعثــر فــي عملــه علــى كلّ شــيء أنجزتــه الروايــة الحديثــة) ،وأن يمقــت العديــد مــن روائيــي مــا بعــد الحداثــة. فــي كتــاب جيمــس وود «كيــف تعمــل الروايــة ،»How Fiction Works ـي ومفاصله ـص الصــادر عــام ،2008نـ ٌّ ٌّ نقدي الفت يشــرح أســرار ُ الصنع الروائـ ّ ٍ النظرية موجــودة هناك في ـدة. ـ ق ع م ـة ـ نظري ـة ـ لغ ـى ـ إل الجوهريــة دون أن يلجــأ َّ ّ ّ ُ ثنايــا االســتعراض الثــري بالمعرفــة للروايــات والشــخصيات وأشــتات اللُّغــات الناقد الواســع المعرفة واألســاليب والتقنيــات التــي يسـلّط الضوء عليها هــذا ُ ـي فــي ثيــاب ناقد، ـ روائ ـاب الغربيــة .وهــو فــي هــذا الكتـ واالطــاع علــى الروايــة ّ ٌّ والتفحــص الســابر الروائــي ــات تأم بيــن الدمــج مــن فضــل نوعــ ًا ولذلــك ُي ِّ ُّ ُّ ّ ً للنصــوص .كمــا أنــه ُيقيــم حــوارا غيــر مباشــر مــع ناقديــن أساســيين عارفيــن ـي فكتــور شكلوفســكي ـي ،همــا الناقــد الشــكالني الروسـ ّ بأســرار الصنــع الروائـ ّ ـي «روالن بــارت» ،ألنهمــا ،بســبب ـ الفرنس ـوي ـ البني ـد ـ بع والناقــد البنيــوي ومــا ّ
اهتمامهمــا بالشــكل ،يصنعــان صنيــع الروائييــن الذيــن يعنــون باألســلوب والكلمــات واالســتعارات والصــور .يركِّ ــز وود ،انطالقـ ًا مــن هــذا التأثيــر ،علــى ـن الحكــي والتفاصيــل (التــي تجعــل عم ـ ً ـي ا فـ ّ َّ روائي ـ ًا يتفـ َّ ـرد عــن عمــلٍ روائـ ٍّ الحر غير المباشــر، آخــر) ،والشـ ـخصية ،وأنــواع اللّغات ،والحوار ،واألســلوب ُ ّ ـور الروايــة يتم َّثــل ـ تط أن ـر، ـ فلوبي ـتاف ـ غوس ـل ـ عم ـى ـ عل ـزه ـ تركي ـن ـ م مســتنتجاً، ُّ ـور هــذه التقنيــة الســردية ،علــى مــدار تاريــخ الكتابــة ـ تط ـي ـ ف ـة ـ الحقيق فــي ُّ ً ـباني العظيــم ميغيــل دي ـي اإلسـ ّ الروائيــة ،بــدءا مــن «دون كيخوتــه» للروائـ ّ ســيرفانتيس. فــي «كيــف تعمــل الروايــة» نعثــر علــى حشـ ٍ ـد كبيــر مــن الروائييــن عبر مــا يربو علــى أربعــة قــرون مــن الروايــة :ســيرفانتيس ،دانييــل ديفــو ،هنــري فيلدنــغ، دينيــس ديــدرو ،جيــن أوســتن ،ســتندال ،بلــزاك ،ديكنــز ،فلوبيــر ،تولســتوي، دستويفســكي ،هنــري جيمــس ،موباســان ،تشــيخوف ،تومــاس مــان ،جوزيف كونــراد ،مارســيل بروســت ،جيمــس جويــس ،فيرجينيــا وولــف ،إيفليــن وو، نابوكــوف ،تشــيزاري بافيســي ،صــول بيللــو ،فــي .إس .نايبــول ،جــون أبدايــك، تومــاس بينشــون ،خوســيه ســاراماغو ،فيليــب روث ،كازو إيشــيغورو ،إيــان مــاك إيــوان ،جــي .إم .كويتســي ،ديفيــد فوســتر ،واالس ،وآخريــن. المحطمــة :مقاالت عــن األدب واإليمانThe« : فــي كتــب وود األخــرى :األرض ُ « ،)Broken Estate Essays on Literature and Belief» (1999الذات غير المسـ�ؤولة :عـ�ن الضحـ�ك والروايـ�ة �The Irresponsible Self: On Laugh ـادة :مقــاالت مختــارة ،)ter and the Novel» (2004وأخيــراً« :مالحظــات جـ َّ ،)Serious Noticing: Selected Essays» (1997- 2019) (2020نعثر على الذَّكيــة التــي تقتــرب مــن الجديــة نفســها ،ومالحقــة التفاصيــل ،والتعليقــات ّ ـي ،وتجعــل ـ الروائ ـداع ـ اإلب صميــم عمــل الروائــي ،والمالحظــات التــي تضــيء ّ ـدي القــارئ يــرى ذلــك العمــل بعينــي الناقــد .بهــذا المعنــى يكـ ُّ ـف العمــل النقـ ّ عــن كونــه عمـ ً األدبيــة ،ليصبــح جنسـ ًا ـرد تعليــق علــى األعمــال ا َّ ثانويـاً ،مجـ َّ ّ ـد ذاتــه. أدبيـ ًا فــي َحـ ِّ َّ أبريل 150 2020
51
غياب
إرنيستو كاردينال
شاعر الثورة السندينية األول إرنيســتو كاردينــال عــن عاملنــا عــن عمــر ناهــز يف بدايــة مــارس/آذار مــن هــذه الســنة رحــل شــاعر نيكاراغــوا ّ 95عامـ ًا ،بعدمــا «أمــى أكــر مــن عــام كامــل مــن األمــراض والعالجــات يف املستشــفيات مل يتو َّقــف أبــداً خاللهــا عــن كتابــة الشــعر ونــره» كــا جــاء يف ترصيــح الكاتبــة لــوث مارينــا أكوســتا مســاعدة كاردينــال .ومــا بــن الدمــوع ـردد واألحاديــث الحزينــة تجمــع النــاس ّ ليودعــوا شــاعر الثــورة الســندينية الــذي كانــت أشــعاره امللتهبــة والعميقــة تـ َّ عــى األفــواه ،ملهمــة حــاس شــعب .رحــل الشــاعر وهــو يقــف يف املواجهــة ضــد الطغــاة جارح ـ ًا مثــل شــوكة يف الحلــق أعــداء شــعبه ،فنــال احــرام العــدو قبــل الصديــق ،فقــد أشــار بيــان الرئاســة املو َّقــع مــن طــرف دانييــل أوتيغــا وزوجتــه روســاريو موريــو« :إننــا نعــرف بإســهاماته يف نضــال الشــعب النيكاراغــوي ،كــا أننــا نعــرف أيضـ ًا بجميــع مزايــاه الثقافيــة والف ِّن ّيــة واألدبيــة ،وبشــعره االســتثنايئ». ولــد إرنيســتو كاردينــال فــي غرناطــة (نيكاراغــوا) فــي 20يناير/كانــون الثانــي .1925وهــو الوريــث لتقاليــد شــعرية عريقــة مــع شــعراء بارزين مثــل :روبين داريــو ،كارلــوس مارتينيــث ريبــاس ،بابلو أنطونيو كــوادرا ،كالريبيــل أليغريا، فرانسيســكو دي أســيس فرنانديــث وجيوكنــدا بيلي... درس كاردينال األدب والفلســفة في ماناغوا وفي المكســيك ،وتابع دراســات تمت تســميته «كاهناً» أخــرى فــي الواليــات الم َّتحدة وأوروبا .في ســنة ّ ،1965 وفيمــا بعــد سيســتقر فــي أرخبيــل ســولينتينامي الواقــع فــي بحيــرة نيكاراغوا سيؤســس مجتمع ـ ًا مــن الصياديــن والف َّنانيــن البدائييــن، العظمــى ،حيــث ّ وهــو مجتمــع ســيصبح مشــهور ًا عالميـاً .هنــاك ســوف يكتــب الشــاعر كتابــه الشــهير «إنجيــل ســولينتينامي» .ويعتبــر هــذا األرخبيــل محــج أتبــاع الشــاعر المخلصيــن .وقــد كان إرنســتو كاردينــال يقضي عطلته في تلــك الجزر ،حيث كان يقــرأ أعمــال روبيــن داريو الكاملة ،ويكتب أشــعاره أو يتــرأس قداس عيد الفصــح فــي كنيســة القريــة الصغيــرة التي ســتصير أحــد المعاقل األساســية المعارضــة لنظام ســوموزا .من هنالك سـ ُـيطرد كاردينــال ومجتمعه الصغير، ودمــر مــن طــرف حــرس ســوموزا الــذي اجتــاح الجــزر الصغيــرة ،وهاجــم َّ الفلحــون والصيــادون والف َّنانــون المتحلِّقــون حول الشــاعر... كلّ مــا شـ ّـيده ّ ـول إلــى لســان ناطــق باســم الثــورة الســندينية فــي ســيغادر كاردينــال ليتحـ َّ المحافــل السياســية وفــي المهرجانــات الشــعرية ،بحيــث ســيلقي قصائــده فــي كلّ مــن ســنتياغو بالشــيلي وبســان خوســيه بكوســتاريكا وبالعديــد مــن ـتتردد علــى األســماع قصائــد البلــدان األوروبيــة وغيــر األوروبيــة ،هكــذا سـ َّ ملتهبــة بحمــى الثــورة ،مثــل قصيــدة« :ســماء مفتوحــة» أو «ســوموزا يزيــح الســتار عــن تمثــال ســوموزا فــي ملعــب ســوموزا» ...وكان الشــاعر يدعــم بشــعره الحماســي الســندينيين مــن خالل زياراتــه لجبهات القتــال ،وبإيصال صــوت الثائريــن فــي وطنــه إلــى باقــي العالــم فاضح ـ ًا تجــاوزات دكتاتوريــة ســوموزا وفســادها ،وانتهاكاتهــا الجســيمة لحقــوق اإلنســان .وبعــد انتصــار تحمــل إرنيســتو كاردينال الثــورة وســقوط النظــام العســكري الســابق ورموزه ّ مســؤولية وزارة الثقافــة ( )1987 - 1979فــي الحكومــة الســندينية لدانييــل أجــج غضــب الفاتــكان عليــه باعتبــاره «كاهنــاً»، أورتيغــا األولــى ،وهــو مــا َّ وجعــل البابــا يوحنــا بولــس الثانــي يبعــده ســنة 1984بالقانــون الكنســي،
52
أبريل 150 2020
ـرة، لكــن كاردينــال واصــل مشــروعه التنويــري ضمــن حكومــة نيكاراغــوا الحـ ّ إلــى آخــر محطَّ اتــه. ـدة لغــات نذكــر من هــذه األعمال: ـ ع ـى ـ إل ـال ـ كاردين ـتو ـ إيرنس ترجمــت أشــعار ّ «ســاعة الصفــر»« ،إنجيــل ســولينتينامي»« ،صــاة مارليــن مونــرو وقصائــد أخــرى»« ،أهجيــات»« ،مزاميــر» و«هكــذا في األرض مثلما في الســماء» .وفي الســيرة الذاتيــة ترجمــت لــه« :حيــاة ضائعــة»« ،ســنوات غرناطــة»« ،الثــورة الضائعــة» إلــى أكثــر مــن 20لغــة. المؤسســات الثقافية وشــخصيات من عالم ســنة 2018بــادرت مجموعــة من َّ ـن واآلداب والسياســة مــن أجــل ترشــيح الشــاعر لجائــزة نوبــل لــآداب، الفـ ّ المروجين لملف رأس ـى ـ عل موخيكا بيبي ـواي، ـ لألوروغ ـابق ـ الس ـس ـ الرئي وكان ّ ترشــيح إيرنســتو كاردينــال ،فضـ ً ا عــن تبنــي مهرجــان ميالنــو الدولي للشــعر تتكون ـة ـ الداعم اللجنة ـت ـ وكان فيرنانديث، للملــف مــن خــال مديــره ميلتــون َّ مــن الطبيب جيوســيبي ماســيرا ،والشــاعر غيــدو أولداني ،والصحافيــة أندريا سيمليتســي ،لكــن هــذا الترشــيح تالشــى مــع الفضيحــة التــي رافقــت نوبــل كمؤسســة ،وكان كاردينــال قــد اق ُت ـرِح مــن قبــل رســمي ًا لجائــزة نوبــل عــام َّ العامــة للمؤلِّفيــن والناشــرين فــي إســبانيا ،لكــن 2010مــن طــرف الجمعيــة ّ الشــاعر النيكاراغــوي فــي تلــك المناســبة أخبــر وســائل اإلعــام أن الجائــزة ال تهمــه .والواقــع أن كاردينــال ليــس مــن الشــعراء الذيــن يحتفــون كثيــر ًا ويترصدونهــا ،ومــع ذلــك فقد اســتلم من قبل علــى ا َ بالجوائــز الشــعرية ألقلّ َّ مهمتيــن همــا :جائــزة بابلــو نيــرودا ســنة ،2009وجائــزة جائزتيــن شــعريتين ّ األول ترشــيحه ــان وإب ،2012 ســنة اإليبيروأميركــي للشــعر الملكــة صوفيــا ّ ّ لجائــزة نوبــل ،كان الشــعراء المشــاركون فــي المهرجــان الدولــي الســادس للشــعر بغرناطــة ( )2010علــى لســان الشــاعر اإلســباني دانيــال رودريغيــث ـروا بقيمــة الشــاعر إيرنســتو كاردينال باعتبــاره واحــد ًا من أعظم مويــا ،قــد أقـ ّ الشــعراء فــي أميــركا الالتينيــة وفــي العالــم ،وهــذه حقيقــة ال يجــادل فيهــا أحــد ألن أميــركا الالتينيــة عرفــت خــال تاريخها الحديث شــاعرين أساســين، همــا روبيــن داريــو وبابلــو نيــرودا ،اللــذان عمــا علــى ترســيخ قالــب معيــاري للقصيــدة الحديثــة لــم يســتطع أي شــاعر أن يزحزحــه بعدهمــا قبــل نيكانــور بــارا وإيرنســتو كاردينــال ■ .تقديــم وترجمــة :خالــد الريســوني (المغــرب)
مختارات شعرية (إرنستو كاردينال)
هنا كان يعربُ عىل قدميه يف هذه الشوارع، بال عمل أو منصب وبال مال. وحدهم الشعراء والغاضبون... عرفوا أشعاره. لم يكن أبدا ً يف الخارج. كان سجيناً. واآلن قد مات. وليس له أي نصب تذكاري ... لكن تذكروه ملَّا تكون لديكم جسور خرسانية، عنفات ضخ َمة ،وجرارات ،وحظائر من فضة، وحكومات ج ّيدة. شع ِب ِه، ائد ِه لغَ ة ْ ألنه َص َّفى يف َ قص ِ َ التجارة، اليت يف يوم ما َب بها اتفاقياتُ سوف تُكت ُ ِ ٍ ب، الح ِّ ال ُّدستورُ ،ورسائ ُل ُ واملراسيم. ُ
سوموزا يزيح الستار عن تمثال سوموزا يف ملعب سوموزا أقام يل هذا التمثا َل ليس أنين أعتقد أن َ الشعب َ ألنين أعرف أفضل منكم أنين أصدرت األم َر بذلك بنفيس. وال أنين أدعي أن أنتقل عربها إىل األجيال القادمة ُ يهدمها ذات يوم. أعرف أن الشعب سوف ألنين ُ أرفع ذايت منتصبا يف الحياة كنت وال أنين ُ أرغب أن َ ُ ألين لحظة سأموتُ لن ترفعوين :أنتم ِّ نصبت هذا التمثال ألنين أعلم أنكم تكرهونه لكن ُ الحرس الوطين يميض بحثا ً عن رجل. رجل ينتظر هذه الليلة أن يصل إىل الحدود. اسم ذلك الرجل غري معروف. ث ّمة رجال عديدون مدفونون يف خندق. واسم هؤالء الرجال ليس عد ُد ُ معروفاً. وال ي ُ ُ عرف مكان وال عدد الخنادق. الحرس الوطين يميض بحثا ً عن رجل. رجل ينتظر هذه الليلة أن يغادر نيكاراغوا. أبريل 150 2020
53
ماء هكذا يف األرض كما يف َّ الس ِ ِ (مقطع)
كُ ُّل ما خُ ِلق ِم َن اإللَ ِه َم َع َنا ي َ ُعو ُد إىل اإللَ ِه ْ ي ال ُك ُّ ل َمولو ٌد ِم ْن اث َن ْ ِ َمخْ لُ ٌ ب وق ِم َن ُ الح َّ َ وم ِف األ ْع َل ت ال ُّن ُ ج ُ ل ْي َس ِ ِه َي َذرَّاتٌ ِم ْثلَ َنا جوم ن َْح ُن امل ُ َولَّ ُدون من ُغبار ال ُّن ِ ْ َ ِ ً ُ ِ وم ْن ذاكَ الغُ َبار ِ ِه َي أيْضا ِ جوم ُم ْدرِكَ ٌة ني ال ُّن َمالي ُ ُ ِ َقرابِي ُن َها تَلْت َِم ُع خال َل اللَّ ْيل كُلِّ ِه ِ انف َ ُ الع ْظ َمى رات ُ ِ جارُ امل ْست َِع ِ َو ِه َي ت ُ َعلِّ ُم َنا كَ ْي َف ن َ ُموتُ ألجل ال َّتط َ ُّور املوتُ َضُ ٌّ وري ْ ِ ِ وم ُة وهي ت ْن َقس ُم ال ت َ ُموتُ أبَدا ً ُ الج ْرث ُ َ ِ َ ِ َ وال تتط َّورُ ِّ يد الز ََّم ُن ِف ات ٍ جاه َو ِح ٍ َ اآلت ال َبار ِ ِد اض َّ الس ِ ِم َن امل ِ اخ ِن إىل ِ الح َرارِي َّ ِة ام َّي ِة َ ال َقان ُو ُن ال َّث ِان للدِّي َن ِ أن ي َ ُموتَ ش ٍء ي َ ِح ُ َّ ب ْ أن كُ َّل َ ْ ً َ ُ َ ش ٍء ما َغر ِ ٌ يب ْ أن يَكو َن ثانِيا ل ِ ْ َ إدي ْنغْ تُون َقان ُو ٌن أ ْعل َس َّما ُه ِ ان ْب َع ُ ين اث امل َ ْو َت ي َ ْع ِن ِ ِ ْ َ َ امنا ً َم َع امل َ ْو َت َض ت م ه س ف ن ل ع ج د َق ُ ْ َ َ َ ُ َ ِ ش ٍء ْ ادرا ً َع َل كُ ِّل َ ْ إن كَا َن َق ِ أن ي َ ُكو َن ال ُك ُّل َقادرا ً وما ْ أج َم َل ْ َ ِ ً َ قادرا ِض َّد امل ْو ِت ِ امل َ ْوتُ َح ٌّق ليس ن َهائ ّيا ً لَ ِك َّن ُه َ ِ ِ يش ٍء َم َع امل َ ْو ِت ال ي َ ُموتُ كُ ُّل ْ الحت ِْم ِّي؟ أم ْ َّالش َ ح ُك ُ َ ومو َن بالت ِ َ َ ام ُل للك ْو ِن َّالش الك ِ َو َه ِل الت ِ ُ أن ي َ ْنتَه َي الك ُّل إىل َع َدم؟ هو َُ ْ ِ ُ ٍ َ َ خُ ح ِويلهُ؟ ك ي َ ِت َّم ت ْ ْ أم ِل َق ل ِ ْ
54
س َس َ َّ حر ِ ُق َنا وف ت ُ ْ الش ْم ُ اح ِم َرارا ً هائِال ً إن َصارَ ِت ْ ْ َ ُ ض َ وس َي ِثريُ امل ْدفونو َن يف األرْ ِ ين َّ الش ْمس َد ِف ِ ِ
أبريل 150 2020
صغريَ ًة صريُ ِ ٍ وبعدئذ َس ْو َف ت َ ِ َقز ََم ًة ب َ ْي َضا َء ُ ون قابال ً للس َكن وال كَ ْوكَ َ ب َس َيك ُ ِ َّ ِ وب إىل امل ِّريخ؟ َه ْل َس َن ْست َِط ُ يع ال ُه ُر َ ِ ج َّر َد تَأجيل لل ِّن َهاي َ ِة و ُه َو ما ي ُ ْم ِك ُن أن ي َ ُكو َن ُم َ ٍ َح ّقا ً َم ْوتُ ال َك ْو ِن َ ض وبال َش ْمس و َف َقط وق ْد َصارَ بال أرْ ٍ ٍ ح ٌر ِم ْن ن ُُجوم َم ِّيت ٍَة بَ ْ ٍ أجل ن ُُجوم َ أكث ني من ون ِهي ْدرُ ِ وج ٍ ب ِ ُد ِ ْ ِ ٍ كَ ْو ٌن بَار ِ ٌد فقط ُُ وب َس ْو َدا َء ِم ْن ثق ٍ ون ُُجوم َم ِّيت ٍَة ٍ ني ت َ ْنط َ ِفئ ُ ن َْج َم ٌة ح َ ُ ْ تغْ أس َو َد ب ْ َر ُق ِف ثق ٍ وه َي أيْضا ً ن َْج َم ٌة َس ْو َدا ُء ِ َولَ ْن ت َ ُكو َن َف َقط ن ِ َهاي َ ُة َّ الش ْمس ِ ب َ ْل أيضا ً ن ِ َهايَة كُ ِّل ال َك ْو ِن ش ٍء ب ِ ِب َداي َ ٍة لَ ُه ن ِ َهاي َ ٌة ك ُّل َ ْ َ َ ون؟ ون َ كيف َس َي ُك ُ الحا ُل بال ك ٍ وء ن ِ َهايَتَه؟ َه ْل َس َي َّ تأم ُل اإلل ُه ِف ُه ُد ٍ ُ وي َ ُكو َن َم َّر ًة أخْ َرى امل َت َو ِّح َد َّ الض ِج َر لألب َ ِدي َّ ِة ال لن ي ُ ِعي َد ال ُك َّل إىل ال َف َراغ الذي ِم ْن ُه أىت ْ ْ ً ِ ً َ َ خَ ج َع ُل لقا َج ِديدا قا َل ل َنا َس ْوف ي َ ْ ً عاملا ً َج ِديدا ب ِ ُدون َدرَ َج ِة ت َ َعا ُدل َح َراريٍّ ِ ِ ٍ ش ٍء ي ُ ْس َت ْن َف ُد لَ ْي َ فيه كُ ُّل َ ْ س َذاكَ الذي ِ َح ِّررُو َن ِم َن الز ََّمن ذلكَ ال َو ْه ُم ُمت َ ِ َ الذي قال ُه أينشتاين اض ِ املُتَأب ِّ ِد ِف َ الح ِ ُ ب الح ِّ َح ِّولو َن َع ْبَ ُ ُمت َ أن ن َصريَ ن َ ْوعا ً َجديدا ً ِ إىل ْ ِ ْ يد ِف انتظار ِ خَ ل ٍق َج ِد ٍ َسان ْتا ترييسا دي ليزيو ت ب ِ ِغ َواي َ ِة َه ْرط َ َق ٍة َمات َ ْ َ الغ َواي َ َة ب ِ َق ْول ِ َها ت ِ ل ِك َّن َها َهز ََم ِ ً أح ُّبكَ . َح َّت لَ ْو لَ ْم ت َ ُك ْن َم ْو ُجودا َفأن َا ِ
Doha Magazine
55
150 2020 أبريل
aldoha_magazine
@aldoha_magazine
حوار
مازن أكثم سليمان..
ِّ وري يف زمن الحرب عر الش الس ّ ُّ الشــعر الدراســات األدبية من جامعة دمشــق ( .)2015بدأ بنرشِ ِّ شــاعر وناقد وأكادميي ســوري ،حائز عىل دكتوراه يف ِّ ّ ِ ـوان ِشــع ٍر صـ ِ بعنوان ـادر عــن «دار ِّ قديــة منــذُ العــام ( ،)1999ولــه ديـ ُ والدراســات ال َّن ّ الفاضل» بدمشــق ،يف العــام (ُ )2006 (قبـ َ للدراســات وال َّنرش يف اســطنبول ،بعنوان قديــة صــادر عــن «دار موزاييــك» ِّ ـل غزالــة ال َّنــوم) ،وكتــاب يف ِّ الدراســات ال َّن ّ الشـ ِ ـايب ،يف دور ِتهــا ال ّت ِ اســعة ( ،)2019يف ـاغالت (حركيــة ّ ميــة لإلبــداع الكتـ ّ الكيانيــة) .نــال جا ِئــزة الطَّ ِّيــب صالــح العا َل ّ ّ ّ ُ ِ طابقات م بني ة اإلبداعي ـة ـ الكتاب يف الوجود ـاليب ـ أس (انزياح ــ ـ ب ن ـو ـ ن ع مل ا ـه ـ كتاب ـوط ـ خط م ـن ـ ع ـة) ـ قدي ن ال ـات ـ راس الد ـال (مجـ َّ ْ ِّ َ ُ َ ّ َ َ َ َ ّ ِ ِ ِ َ كرية.. ف وال ـة ـ قدي ن ال ـات ـ راس والد قاالت مل وا ـوص ـ ص ن وال ـد ـ ئ القصا ـرات ـ ع ـر ـ ن ـا). ـ ه ت واختالفا ـة ـ العومل َ َ ُّ َّ ِّ ّ ّ ِ َ ً ـعري ًا/ ـ (ش ا ـ يان ب ـ ل أط ـا ـ ك )، ـي ـ ج ـقَ بعنــوان (اإلعـ ُ َ يف العــام ( )2015أط َلــقَ مــازن أكثــم ســليامن َ ّ (بيان ـ ًا ِشـ ّ ـعري ًا) ُ ـان ال َّت ُ خار ُّ ِ اقي ا ُ ويعـ ّـد ال ّناقــد الوحيــد (ح ّتــى االنتصاليــة/ ضاعــف - مل َ ّ البينشـ ّ ـعرية) يف العــام (ُ .)2018 نقديـ ًا) ُ ّ بعنــوان (الجـ َـدل ال ِّن ْسـ َـي ّ َ ـوري ،فضـ ً كَ الس ـعر ـ الش يف ـرب ـ والح ـورة ـ ث ال ـة ـ وضوع م ـن ـ ع ـة) ـ وتطبيقي ـة ـ ري (نظ ـة ـ نقدي ـات ـ دراس ـلة ـ سلس ـب ـ ت ـذي ـ ال اآلن) ا ـ َّ ِّ َ َ ّ َ َّ َّ ُّ َّ ِ ِ ِ ِ ِ ِ تنوعــة يف هــذا ا ِ ُ ملضــار. مل ا ـة ـ الفكري ه ت ـا ـ ودراس ـه ـ ت قاال وم ـه ـ ُصوص عــن قصا ِئـ ِـد ِه ون ّ َ ِّ
َ الكيانية- الشاغالت قدي الجديد نبدأ من «حركية ّ كتابك ال َّن ّ ّ ّ ِ سورية (2011 عرية في زمن الثَّورة والحرب في ّ مهيمنات ش ّ ،»)2018الــذي صــدر ،حديثــ ًا ،عــن «دار موزاييــك» فــينقــدي يعالــج قضايــا تتعلَّــق أول كتــاب وي َع ّ ّ إســطنبولُ ، ــد َّ أسســت عليهــا التــي األســس مــا والحــرب. بشــعر الثَّــورة َّ البحــث؟
56
ـر ُتها ُتم ِّثــلُ دراســات هــذا الكتــاب ،التــي كتب ُتها في دمشــق ،ونشـ ْالمســارات ـدة َ الممتـ ّ بين 2015وَ ،2018مســار ًا من َ خــالَ األعــوام ُ يتشــاب ُك فيهــا والتــي عليهــا، ْــت ل عم التــي دة تعــد الم ِّ ُ َ َّقافيــة ُ الث ّ العربــي، بيــع والر ة، ــوري الس َّــورة ث ال أحــداث بــة م ســتوى ُم واكَ ّ ُ ُّ َّ ّ ِ ِ ٍ مع ُمســتوى وتفحصهــا ،وتحليلهــا ،وال َّتنظيــر لها ،من أولَ ، ُّ جانب َّ والفكريــة ،بمــا ـة، ـ قدي ن وال ـة، ـ ي ن الف ـة/ ـ اإلبداعي ـة ـ العام ـاريعي َمشـ ِّ َّ ّ ّ ّ ّ ّ ِ ـانٍ ٍ ـد لــي ـ الب كان إذ ، ـ ث ـب ـ جان ـن ـ م ً، ا ـ عرفي م ـة، ـ ب ك ترا م ـوط ـ ط خ ـي ُ َ ُ َّ َ ُ ّ هـ َ ــوري فــي الس َّقافــي ث ال ــز نج الم قــراءة ــرة غام لم ي صــد ت ال مــن َّ ِّ ُ َ ُ َ ّ ّ ُّ نحـ ٍو نجــز ِّ ِحقبــة ال َّثــورة ،ال سـ ّـيما مــا يتع َّلـ ُ بالم َ الشـ ّ ـعري ،علــى ْ ـق ُ ـدي على ُب ْعـ ٍ تجريبي ،على ـد نه َض ْ المســألة التــي َ ت لـ َّ ـي َ خـ ّ ـاص ،وهـ َ ّ ـع -فــي آنٍ ويتقاطَ ً ـ ـوازى ـ يت ـا ـ بم ً، ا ـ وتطبيق ا ـر ـ تنظي ـد، ـ ق ن ال ـتوى ُمسـ َّ ُ
أبريل 150 2020
ِ ويتنامــىُ ،موا ِكب ـ ًا كان المن َتــج ِّ ـعري الــذي َ ـر َ الشـ ّ مع ـاً -مــع ُ ينتشـ ُ ِ ِ الحــرب ـا ـ ومنه ـة، ـ ف ل خت الم ـا ـ ه ت وتداعيا ـورية، ـ الس ـورة أحــداث ال َّثـ َ ُ ُّ ِ ِ َ حاولــة بم ـبه ـ أش ـوص ـ ص ن ال ه ـذ ـ له ـاتي ـ دراس ـدو ـ تب ، ـك ـ طبع ـاً؛ لذل ُّ ُ َ ِ ـت فــي ـ انفتح ـا ـ كم ة ـعري ـ الش ـ َّحظ ل ال ـت ـ واكب ـة)، ـ (بانورامي إضــاءة ـةَ ِّ َ ْ ّ َ ّ ِ تلـ َ ـوري أهم ّيــة قــراءة ِّ َّوريــة ،إذ تكمــن ِّ السـ ّ ـك الحقبــة الث ّ الشــعر ُّ ِ ِ ِ ـروري ـ الض ـدي ـ ق ن ال ـيس ـ أس ت ال ـي ـ ف ـد ـ أعتق ـا ـ كمـة ـ قب الح ه ـذ ـ ه فــي َّ َّ َّ ُ ّ ّ ِ المدرسـ ّـية) ـة/ ـ ي ن (الف ـاد ـ األبع ـس ـ تلم ـة ـ ي بأهم ـط ـ ب ترت أي: ً؛ ا ـ تأريخي ُ ِّ َ ُّ ّ ِّ ّ ّ لهـ ِ وض ِعها في حاولــة ْ ـذ ِه ال َّتجــارِب الغزيــرة جـ ّ وم َ ـداً ،بــا ُمبالَغــةُ ، ت ،في ـعي ـ س وقد ً، ا نقدي ، عرفي الم ـام ـ لالنتظ ـة ـ ِل ب قا ـة ـ فهومي م ـر ْ ُ َ أُطُ ـ َ ّ ّ ّ ِ هـ ِ ِ ـي واســع، حاولــة القيــام بعمليــة َســبر ِّ ـذ ِه القــراءات ،إلــى ُم َ ّ نصـ ّ الشـ ِ الشــعر ،وإلى يانية» في هذا ِّ كيــة ّ ـي ،لـــ ِ َ ـاغالت الكَ ّ «ح َر ّ وتأصيلـ ّ وأؤر َخ -ف ِّن ّياً -ال ّتجاهاتهاُ ،مفكِّك ًا ـه، ـ في ـائدة ـ الس ارات ي ت ال ـف أن أُص ِّنـ َ َّ ْ ِّ ّ ّ (الم ِ هيمنــة) ـات ـ رجعي والم ـارات، ـ س الم ـة ـ مل ج ـتطاع- ـ س الم قـ َْ َ ُ ُ ـد َر ُ الرئيســة ،بوص ِف ِ ــه ِحقبــةً قابلــةً -مــن عليــهُ ، ومقارِبــ ًا ِســما ِت ِه َّ نقدي ـاً ،وال َّتبويــب ال َّنظَ ــري، نهجيــة، الم ـة ـ لإلحاط ـدأ- ـ المب ـث حيـ ُ َ ّ ّ ِ ً جريبيــة ت ال ــح م ال الم بعــض ــس تلم عــن ا ــ فض ً، ا ــ مالي وج ْ َّ ف ِّن ّيــ ًا َ َ ُّ ّ ّ ً الطَّ ـكِّ حاولــة اســتقراء لم ا ـ عريض ـق ـ ري ـح ـ يفت ـا ـ بم ـه، ـ في لة المتشـ ُ َ ُ ُ آفا ِقـ ِ لية. ـتقب ـ س الم ـه ُ َ ّ
ـتقبلي قابــل لل َّتشــكُّ ل؛ لتيــار ُمسـ وضــع معالــم (حدسـ ّـية /كُ ل ِّّيــة) ّ ّ الممكــن الحديــث عــن وجــود إرهاصــات وتجــارب فــإذا َ كان مــن ُ ِ ـم اإلشــارة إلــى ـ ه الم ـإن ـ ف ـة، ـ قادم ـدة ـ جدي ة ـعري ـ ش ـة ـ بحقب بشــر ُت ِّ َّ ّ ُ ّ ـتقرة ،بعد. ـ س الم ها ت ـما ـ س ـف ـ تتكش ولم اآلن، ى ت ح ـج ـ تنض ـم ـ ل ـا ـ أ َّنه ْ َّ ُ ّ ْ ُ ّ
اإلبداعيــة التــي ظهــرت فــي شــعر الثَّــورة اإلشــكاليات مــا ّ ّ ســورية ،كمــا تعتقــد؟ فــي والحــرب ّ
مازن أكثم▲
ـورية قيم مازن أكثم ســليمان المرحلة ِّ السـ ّ الشـ ّ ـعرية ُّ كيف ُي ِّ فــي زمــن الثَّورة والحرب؟
مَوضوعة َّ الثورة والحَ رب قد باتَتْ عندَ جيل ِكامل ٍ ٍ الشعراء -تُ ِ ُّ شب ُه ِمنَ املُوضة ِّ الشعريّة، طبيعي وهذا أم ٌر ٌّ َ عليه، اعرتاض ال ِ ُ حيث املَبدأ، من غري أنَّ املَسألة َ أكث تعقيدا ً ممّ ا نظنُّ ؛ َ َ هذ ِه ذلك أنَّ تحوُّل ِ املَوضوعة ،عندَ كثري من ُّ الشعراء ،إىل ِ (الق َ ناع ما يُشب ُه ِ ِّ ب الشعريَّ ) ،قد غ َّي َ عددا ً من ال َقضايا املَسكوت عنها
اريخيــة الكُ بــرى ،وفــي ـوالت ال ّت عاصــر ُة ُّ ُتم ِّثــلُ ُم َالشــعراء لل َّتحـ ُّ ّ قدموا شــهاداتهم ي كي ً؛ ة نادر روب، والح ـورات قدمتهــا ال َّثـ فرصةً ُ ِّ ُم ِّ ُ ِ ِ ِ داثية- الح ـه ـ فاهيم م ـد ـ أح ـي ـ فـعر ـ فالش ـم. ـ عصره ـى ـ عل ة ـعري ـ ِّ ِّ َ الش ّ َ ّ ُ ٍ ٍ ِ ٍ لِّ وهو ِّي ٍة فريدة، ـرة، ـ ي غا م ُغة ل ب ، جديد ر عص روح ـن ـ ع ـر ـ تعبي ـو كُ ُ هـ َ ُ ٌ ِ وجمــالٍ ُمختلــف؛ لذلـ َ الشــعراء للثَّورة عاصر ُة ُّ ـك ،بقــدر ما تبــدو ُم َ َ ـعري ًا عظيمـاً، ـا ـ الته وتحو ة، ـوري ـ الس المفصليــة الكبيــرةَ ، حدثـ ًا ِشـ ّ ّ ُّ ُّ ّ َخ ًا ف ِّن ّي ًا نحـ ٍو ماليـاً ،وف ّ الم َ ّ علــى ْ خاصُ ،تشــكِّ لُ هذه ُ عاصرة َمأزق ًا َج ّ باشــرة، ـع تخار َج ُهــم ِّ الم َ الشـ ّ الوعــورة ،قــد ُيو ِقـ ُ ـعري فريســةَ ُ با ِلــغَ ُ ُ أو االستســهال ،ال سـ ّـيما فــي َضــوء اإلغــواء العــارِم ،والطُّ غيــان الض ِ اغطة على الشــديد الذي ُت الر ُ ـه اللّحظـ ُ َّ بوقا ِئعهــا ّ مارسـ ُ اهنةَ ، ُ ـة ّ ـي /األصيــل) ـ (الحقيق ـوري ـ الس ـاعر ـ الش ـاج ـ يحت ـذا، ـ له ـوص؛ ـ ص ال ُّن ّ ّ ُ ُّ ُ ّ جريبيــة ،كــي ت وال ـة، ـ ي ن والف ـة، ـ عرفي الم ـروط ـ الش ـن ـ م ـة ـ مل ج ـى إلـ ُّ ِّ َّ َ ُ ّ ّ ّ ِ ِ ِ َ ـاء ـ امت ـئ ـ ل مت ي أن ـك ـ ذل ـن ـ وم ً، ا ـعري ـ ش ، ـي ـ مال الج ه ـور ـ ض ح ـز ـ نج ُي َ َ ُ َ ْ َ ً َ ّ ُ َّ المرحلــة العابِــرة ،من ناحيـ ٍ ً ـة أولى ،وبال َّزمــن الكُ ل ِّّي، وح ـر ـ ب ا ـ حيوي َ ّ ُ بمعرفـ ٍ مــن ناحيـ ٍ عمقــة ـة ثانيــةْ ، جمـ ًا َ ـة نظَ ّ ـزو َد تـ ُّ ريــة ُم َّ وأن يتـ َّ ـزود ًا ّ ـي، ـي) ِّ السـ ّ للشــعر ُّ ُ ـوري ،والشــعر العالمـ ّ ـي -الف ّنـ ّ بالبعــد (التأريخـ ّ ِ العقــود األخيــرة ،علــى أقــلّ تقديــر؛ المختلفــة فــي ُ وتيارا ِت ِهمــا ُ ّ َ ليكــون كلُّ ــو ُم جــاوز ٍةُ ،يبــذَ لُ َ َ نح َ ذلــك أساســ ًا صلبــ ًا لالنطــاق ْ مــن أجلهــا كُ لُّ غــالٍ ونفيــس ،وهــي ا ُ ـعراء الشـ ألمــور التــي َ ـع ّ َ تضـ ُ َ ِ ِ بأن َبين ل طا م ـم ـ ه ف بوص ـق، ـ ـد عمي ـن) فــي تحـ ٍّ ـن /األصيليـ َ (الحقيقييـ َ َ ْ ُ ِّ وأن ـعر، ـ الش ـي ـ ف ـة ـ األصيل ـة) ـ ُّغوي ل ال ـة/ ـ (الوجودي وح ـر ِّ ْ ينفخــوا الـ ُّ َ ّ ّ أي جديـ ٍ وأن َيسـ ِ ٍ وغائب، ـد، َيبعثـ ُ ـراًْ ، ـتنطقوا َ ماليـاًَّ - ـوه صا ِفيـ ًا ُحـ َّ ج ّـولٍ ـاوزة ،في أن ُّ ومجهـ .وأظـ ُّ ـن َّ المجـ َ َ الشــعراء الذيــن حقَّقــوا هــذه ُ مرحلــة شــعر ال َّثــورة والحــرب ،مــا زالــوا قليلــي العــدد ،واألفضــلُ ـت فــي قصائــد أو نصوص أو ـاوزة قــد تحقَّقـ ْ أن أقــولَ َّ ْ المجـ َ إن هــذه ُ ِ َ زت ،في دراســاتي، لذلك كاملة؛ تجارب ـي ـ ف ال ـا، ـ ه ن بعي ـع ـ مقاط ركَّ ُ ـبياً؛ ســعي ًا م ِّنــي إلــى علــى ال ُّنصــوص التــي وجد ُتهــا ُمق ِنعــةً ،نسـ ّ
ــة ِ تحقيبي ٍ قار ٍ والحــرب، لشــعر الثَّــورة بــة تبــدو لــي ََّ أن ّأيــة ُم َ ّ بالحــذَ ر وال َّتحذيــر ،فــي آنٍ ـق، ـ م الع ـي ـ ف ، ـ َب ل طا م ـةٌ َ فــي ُسـ ّ ُ ْ ـوريةُ ، ض ـ (غ ـه ـ أن ـى ـ عل ـعر ـ الش ـذا ـ ه ـوع ـ وض م ـع ـ م ـل ـ عام ت ال ِّ ـر ٌ ُ َ مع ـاً ،مــن َّ ُ َ ِ ـ تك إن ـا ـ م ً، ا ـ تلقائي َ، ة ـد ـ القصي ـ دخ ي )، ـلُ ـون َمكتوبةً َ ْ ـعري ِسـ ّ ِشـ ّ ـحري ُ ّ والجمــال، ـعرية، ـت ُعنــوان ال َّثــورة والحــرب ،إلــى ج ّنــة ِّ تحـ َ َ َ الشـ ّ ـد ـت -عنـ َ والحــرب قــد با َتـ ْ ـاوزة .وأعتقــد َّ أن َموضوعــة ال َّثــورة َ والمجـ َ ُ ـر الموضــة ِّ ـن ُّ جيــلٍ كا ِمــلٍ ِمـ َ الشـ ّ الشــعراءُ -تشـب ُِه ُ ـعرية ،وهــذا أمـ ٌ ـراض عليـ ِ المســألة ـي ال اعتـ َ ـه ،مــن حيـ ُ المبــدأ ،غيــر َّ أن َ ـث َ طبيعـ ٌّ ِ ِ لَ َ ً ـد ـ عن ـة، ـ وضوع الم ه ـذ ـ ه ـو ـ تح أن ـك ـ ذل ؛ ـن ـ نظ ـا ـ مم ا ـد ـ تعقي أك َثــر َ ُّ َّ َ ُّ ّ ِ ـب ـاع ِّ كثيــر مــن ُّ الشــعراء ،إلــى مــا ُيشـب ُِه (القنـ َ غيـ َ الشـ َّ ـعري) ،قــد َّ المفكَّ ــر عــدد ًا مــن القَ ضايــا َ ر َّبمــا -غيــ ِر ُالمســكوت عنهــا ،أو ُ إن عــدد ًا المبالَغــة القــولَّ : فيهــا ،علــى أقــلّ تقديــر! ليـ َ ـس مــن ُ الر ِ الحــرب، ـوع ـ وض م ـي ـ ف ـدوا، ـ وج ـد ـ ق اهنــة َ َ مــن ُشــعراء لحظ ِتنــا ّ ـون بـ ِ ـدوع ضعـ ِ ـف ذخير ِتهِم ـ ص عتقدون ي ـا ـ كمـه َ ـو َق نَجــا ٍة ،يرأبـ َ َ َ ُ طـ ْ ِ ظَ ضــون عــن ِغ ِ شــاريع ِهم ذات يــاب َم عو وي ــة، ري ن وال ــة، عرفي الم َ ُ ِّ َ َّ ّ ّ أن بعض ـ ًا مــن هــؤالء لــم يكونــوا الخ ُ ـرد ،ال سـ ّـيما َّ صوصيــة وال َّتفـ ُّ ّ قبــلَ ال َّثــورة ،من عبـ ِ ـاءات اآلبـ ِ ين. ـاء ِّ ـعري َ الشـ ّ أصـاً -قــد َخرجــواْ ، ُ أضحــوا الجانــب، هــذا ضــور ح ُي أن بعــض ُّ الشــعراء ْ َّ ضــاف إلــى ُ ـف ِسياســي ِ ـون مــن ا ّتخــا ِذ َمو ِقـ ٍ واضــح ،بإغــراقِ قَصا ِئ ِد ِهــم ـ ب تهر ي َ َّ َ ٍّ ِ نح َو نين في الحــرب توجيه أب َلـ ِ اليوميــةُ ،متف ِّن َ بمفــردات َ ـغ اللَّعنات ْ ُ ّ قســو ِتها األليمــة ،بمــا ال ُي ِ (نوعي ـاً- ـد كبيــر -ف َْرق ـ ًا ضيـ ُ ـف -إلــى حـ ٍّ ّ الحــرب .لعــلَّ أي ٍ ف ِّن ّيـاً) علــى ِّ ـح َ كالم اعتيـ ٍّ ـذم ق ُْبـ َ ـادي ُمتـ َ ـداولٍ قــد يـ ُّ ِ ِ ِ بالحديــث عن ، ـي ـ ياس الس ـف ـ ق و الم ـاب ـ ي غ غون ـو ـ س ي ـؤالء أمثــال هـ َ َ َ َ ُ ِّ ِّ ِّ ِ ِ أن تس ـق َ ـلَ ُط ـ مقت ـم ـ به ن َج ت و ، ـام ـ الع ـاني ـ اإلنس ـف ـ ق و الم ُشـ ُّ ْ ـمولية َ ّ ّ ِّ ـة بسـ ٍ أن ّأيــةَ َمعرِفـ ٍ ِ ِ ـيطة إل ، ة ـي ـ ياس الس ة ـر ـ باش الم ـي ـ ف ـم ـ ه قصائد ّ َ ُ ُ َّ ِّ ُ َ ّ ِ السياســيِ ، الشــعر، ــعر الش بيــن ــي ن الف باالختــاف وسياســة ِّ ِّ ِّ َ ِّ ِّ ّ المتها ِفتــة هـ ِ ـف انتقال َُهــم مــن تَحاشــي ـذ ِه ،وتكشـ ُ ـري ُد َ فوعهــم ُ ُتعـ ِّ نمـ ٍ ٍ ـط ـى ـ إل ، ـون ـ ع يد ـا ـ كم ـا، ـ م ة ـر ـ باش م ـي ـ ف ـوع ـ الوق َ َّ َ ُ الوقــوع فــي َ ُ ُ ُ َ ِ ِ ِ ِ ـنِ ـ يتح ـث ـ حي ، ـ اه الر ـط ـ بضغ ة ـر ـ حاص الم ة ـر ـ باش الم ـن ـ م ـر آخـ ـولُ َ َ ُ َّ َ ُ ُ َ َ ّ ومجموعــة ُمنتقاة قة، ـب ـ س م ة قصدي ة ـد ـ ع ـى ـ إل ـي ـ رب الح ـم ـ ه م ج ع ّ َ ُم ْ َ ُ ُ ّ ُ َ َّ َ ّ ِ الشــعراء هؤالء ـا ـ به ـر ـ حض ي ـي ـ الت ـة، ـ كراري ت ال ـة ـ قني ت ال ـات ـ اآللي ُّ ِّ ّ ُ ِّ ّ مــن ّ ُ طابقــةٍ ِ وصف ّي ـاً -مــن الخــارِجُ ،متمركزيـ َـن عليهــا ،فــي ُم َ َ ـر َب ْ الحـ ْ كشـ ٍ ـوي ُمغا ِيــر ،وفــي ظــلِّ ـ يوم ـف أي ـوغ ـ ل ب ـن ـ م ـو ـ َخل ت ِ ْ ِّ ـي ،أو ُرؤيـ ّ ُ ّ ِ ِ ٍ باعد، ت وال ـة، ـ هش الد ـؤرة ـ ب هو ـا ـ بم ، ـي ـ مال الج ـود ـ ج للو ح د ـا ـ ف ـاب ـ ي غ ٍ َّ َّ ُ َ َ ُ ُ ّ ـون. ـر ُ أن يكـ َ ض ْ واالختــاف ،كمــا ُيفتـ َ
َ ياسي الس كيف ُيمكن تحقيق ال َّتوازن ِّ الش ّ عري بين الموقف ِّ ّ والموقف الف ِّن ّي؟
ناســبة ،عــن إيجــاد دالالت جديــدة لمفهوم َّتحدثـ ُ ـت ،فــي غيــر ُم َ ــعري» الــذي ال يعنــي فــي -رأيــي ،بتاتــاً -تقديــم الش «االلتــزام ِّ ِ ِّ ِخطـ ٍ ـيطي َينفــي -ح ْتماً- ـاب ُم َ باشــر فــي القصيــدة؛ فهــذا ٌ وعي تبسـ ٌّ ِ ِ أكذَ ـه؛ ـ ب ر ـع ـ الش ـذب ـ أع إن ً- ا ـ قديمـرب ـ الع ـت ـ قال ـد ـ وق ها، ت ِّ ـعري َ ُ ُ َّ َ ِشـ َّ ِ َ ممــا أن نســبةً ال ُي ــد مــن الب َّ اإلشــارة إلــى َّ ُ َ لذلــكُ ، ســتهان بهــا ّ ـب عليــه، ـت ُعنــوان ِشــعر ال َّثــورة ـب اآلن -تحـ ََ َ والحــرب ،يغلـ ُ ُيك َتـ ُ ـي ،الــذي َيبقــى ـ االنطباع ـجيلي ـ س ت ال ـب ـ الجان ـدأ، ـ ب الم ـث ـ حي مــن ُ َّ َ ُ ُّ ُّ ِ ِ أســير أو ، الكتابــة فــي فــر الص درجــة حبيــس بعيــد- حــد إلــىٍّ ِّ َ َ ِ طابيـ ِ ـة ِ (صــوتَ /ضجيــج) ال َّتع ِب َئـ ِ فض ً ال عن عج ِز ـة القاصر ف ِّن ّيـاًْ ، الخ َّ أبريل 150 2020
57
هذ ِه املَرحلة ما يهمُّ يف ِ ال ّزائغة ،ه َو أنْ تتجذ َرّ ِ تَ ِ ب شعْ ِر َّ ورة الث جار ُ ِ ِ والحَ ِ رب يف ُسوريّة، وأنْ تتن ّقى ،وتَنضجَ جَ مال ّياً -بمُ رورِِ َ ُ ِ ات ال َّزمَن ،وتراكم ِخ ْب ِ َدات ال ِّد ْرب َِة ،ومُكاب ِ نِ . الفعل َ الف ِّ ِّ ومنَ ِ َّ املُفيد أنْ أتذك َر ،يف السياق «أندريه هذا ِّ جيد» الذي لم ُ يكنْ يه َتمُّ -كما كانَ يُر ِّددُ- بأنْ يكونَ ّ الشاع ُر كبرياًْ ، بقد ِر ما يهمُّ ُه ً أنْ يكونَ صافيا!.. ِ
58
ـأس بهــا مــن القَ صا ِئـ ِ نسـ ٍ المجــدي ـبة ال بـ َ ـد ،عــن تحقيــقِ االنتقــالِ ُ ِ ِ ِ ِ العامــة. ـانية اتيــة ّ ّ الخاصــة ،إلــى ال َّتجرِبــة اإلنسـ َّ مــن ال َّتجرِبــة الذّ َّ لكن ،ما ـ ش م ـة ـ عالمي ِب ر ـا ـ َج ت ـروب ـ والح ـورات أن ال َّثـ ـح َّ ـتركةْ . صحيـ ٌ ُ ّ ُ َ ِ ـي ـ ِج ر الخا ـطح ـ الس ة ـاكا ـ ح م ـن ـ ع ـرج ـ تخ ال ة ـد ـ قصي ـه ـ ف ضي ت ٌ ُ ِ الــذي ُ ُ ُ ُ َّ ِّ ِ ـلِ دونِ ليــة، األو ـرب ـ الح ة ـاد ـ م ـ تحوي ـن ـ م ـن ـ أن ـن ـ م ث، ـد تتمكَّ للحـ َ ّ َ ْ َ َّ ّ ض َمع ًنــى ،بوص ِفـ ِ ِ الحضــور ،إلــى فا ِئ ِ ـه اختراق ًا ـي ـ ف ـ إقام ـا ـ ه ف بوص ـةً َ ُ ِ ُ ـن ـ بي ـودي ـ ج الو ـر ـ ف ضا ت بال ـق ـ ق تح ي ـذي ـ ال ـر ـ األم ـو ـ وه ـاب؟!؛ ـ للغي َّ ُ َّ َ َ َ ّ ُ ُ ٍ ٍ ليــة الــذّ ات ـدة عميقــةُ ،بؤر ُتهــا َ كابـ َ ـر ُم َ ال َّتجرِبــة وال َّتجريــب ،عبـ َ جد ّ مالية الج ة صوصي الخ ـوغ ـ بل وهدفها ً، ا ُر ف والموضــوع ،ائتالفـ ًا أو تنا ُ َ َ ّ ّ ِ ِ نظََّ الحيـ ُز الف ِّن ُّي، ـد ـ ل و ت ي أن ً- ا ـ ي ل وفع ً، ا ـ ِي ر ض ـر ـ فت الم ـن ـ م إذ ً؛ ا ـ ي َ َ ِّ َ ْ ّ ِّ ُ َ ْ ّ نص ّ ِ ـلَ ـون ســجين ًا لمــا هــو ُم َسـ َّـبق فــي ال ، ـص ـ ن ال ـ داخ ـو ـ ينم وأن َّ أن يكـ َ ْ َ ّ أن إحــدى ق ِ العا َلــم الوقائعــي ،ذلـ َ قديــة األساسـ ّـية ـك َّ َواعــدي ال َّن ّ ّ ـبياًَ -موضــوع القصيــدة؛ المهـ ّ فــي اعتقــادي -تقــولُ :ليـ َـس ُ ـم -نسـ ّ ِ ـط بهــا أســاليب خييليــة) التــي ت ال (الو إ َّنمــا تنبسـ ُ جوديــةَّ / ّ الكيفيــة ُ ّ ّ وكيــف جــي، َ وجــود هــذا َ الموضــوع فــي عالَــم القصيــدة ال َّت ُ خار ّ ـوه جاداميــر« :ال ِّزيــادة في َينبغــي لـ ُ ـح أُفُقـ ًا َجديــداًَ ،يدعـ ُ ـه ْ أن َيفت ِتـ َ إن هذا ـ «ش «ريكور» دعوه وي ـود»، الوجـ ُ المحدود»َّ . ـيء ال َّن ِّ َ ص غيــر َ ُ ُ لمفهــوم «االلتــزام» في ح ـم ـ س ي ـا ـ م : ـو ـ ه ـد ـ دي الج ـعري ـ الش ـم ـ العا َل ِّ ّ َ َ ْ َ ُ َ َ ـوغ غايا ِتـ ِ الفكري للمو ِقف ِّ الشــعر ببلـ ِ الوفــاء َ عبر َ ّ ـه الف ِّن ّيــة ُ المثلىَ ، مالية) ،من الج ة- جودي (الو ـتويات ـ س وللم ناحية، من ، ـي ـ ياس والس َ ّ ِّ ُ ُ ّ ّ الر ِ اهنــة -على هذا ال َّنحــو -قصيد ًة ناحيــة ثانيــة؛ لتصبـ َ ـح القصيد ُة ّ ُم ِ ـي قصيدة تَحتفــي بأصا َل ِتها؛ والحــربْ ، عاصــر ًة لل َّثــورة َ بقد ِر ما هـ َ ِ ُ ـن ال َّزمــن َ طِّ مانيــة تكــرار الخـ ّ ـدل َ ِت ْبعـ ًا للجـ َ ـاق بيـ َ ـي ،و َز ّ ـي األفُقـ ّ الخ ـ ّ ـر ،وتلـ َ الج ّمــة، االختــاف؛ ليكشـ َ غامــرة َ الم َ ـف هــذا ال َّتو ُّتــر ُ ـك ُ الحـ ّ ِ َ الدا ِئمة ـ ج والم ـاب، ـ ي والغ االختالف، ـم ـ ل لعا ـد االنبثـ َ الجديـ َ ـاوزة ّ ـاق َ َ ُ َ نهائياً، )، ـي ـ ن الف (االلتزام فهوم بم ـي ـ أعن ال ، لذلك ـول؛ ـ جه الم ِّ َ ـو َ نحـ َ ْ ُ ّ ّ ظَ ً ريــات ن ال فــي ما ســي ال ، قليــدي ت ال (االلتــزام) فهــوم لم ا تكــرار َّ َ ّ َّ ّ ّ تحقيق الواقعيــة والماركسـ ّـية ،وغيرِها؛ إ َّنمــا أعني األيديولوجيــة، َ ّ ّ ِ ال َّتــوازنِ ـعرية ـ لش ـه ـ في ـة ـ األولوي ـون ـ تك ـذي ـ ال )، ـي ـ مال الج / ـي ـ ن (الفَ ِّ ُ َ ّ ّ ّ ّ ِ يمنــع أن َــم ش ــح عال ٍ الوجــود فــي ُمنف َت ِ ــعري ُمغايِــرٍ ،مــن دون ْ َ ٍّ ُ ِ َ ً َ مالي ـاً؛ وج ا ـ ي ن ف ، ـي ـ ياس والس ، ـري ـ الفك ـف ـ ق و الم ـث ـ ب ـكان ـ إم ـك ـ ذل ِّ ِّ َ َ ّ ِّ ّ ّ ّ ِ ِ ِ بطِّ ً ـص في ـ ن ال ـع ـ ق و ي وال ، ـ اإلبداعي ـاد ـ األبع ـن ـ ي ا ـر ـ نص ع ـه ـ ف بوص أي ـةَ َّ َ ُ َّ ُ ُ ُ ُ ُ ّ ومـ ِ قريريـ ِ طابيـ ِ ِ ـة. ـة ،أو فــي ال َّت الم َ َّ ذم َ ـر ِة َ الم ُ ـة ،أو فــي ُ باشـ َ الخ َّ
هل نســتطيع أن نســتنتج ،من إجابات َ الســابقة ،أ َّن َك تنفي ُك ّ وري في زمن الس عر الش عرية جديدة في ظُ هور ِّ ُّ ّ حساسية ِش ّ ّ ِ ؤسسة وكبيرة؟ م ة عري ش تجارب والدة أو والحرب، َّورة الث ّ ُ ِّ
ـعري ٍة َجديــدة ،فــي ِشــعر الثَّورة لعــلَّ َمســألةَ و َِالد ِة َحساسـ َّـي ٍة ِشـ َّ َ أن ذلك ؛ ـن ـ أظ كما بة م ـة ـ فهومي م ـألة ـ س م ة، ـوري ركَّ ُّ َّ َ َ والحــرب فــي ُسـ ّ َ ّ ُ هـ ِ نتظَ َّ ـد ـ ل تتو ال ـا، ـ فيه ـوب ـ رغ والم ـرة، ـ الم ـدة ـ دي الج ُ الحساسـ ّـية َ ـذ ِه َ َ ُ ومجازا ِتها، ـا، ـ ِه ب َراكي ت و ـرب، ـ والح َّورة ث ال ـردات ـ ف م ـور ـ ض بح ـط- ـ فقَ َ ُ ُ بعض ُهــم؛ بــل فــي ـرديا ِتها فــي َعوا ِلـ ِ ـب ُ َ وسـ ّ ـم ال ُّنصــوص ،كمــا يذهـ ُ طابقــاتِ ِ ِ ِ ِ العوالــم ِّ الم َ َمــدى ُقــدرة هــذه َ ـعرية علــى ُمجـ َ الشـ ّ ـاوزة ُ نوعيـ ٍ ـةَ /ف ِّن َّيـ ٍ جوديـ ٍ (تناصـ ٍ الم َسـ َّـب ِ الوقائعيـ ِ قة ،بتحقيــقِ ـة، ـة ـات) ُو َّ ّ ـة ُ َّ ّ ضيــف إليــهِ ِ ِ ــدث ،و ُت ُ الح َ الجديــدة التــي ُتغنــي َ ــج انزياحاتهــا َ ُتن ِت ُ ِ عليــه؛ أي: تكــون ِعبئــ ًا خاصــاً ،وال ماليــاً) (و ُ ّ ّ فا ِئضــ ًا ُ جوديــاًَ -ج ّ ِ ِ ِ ِ ُــم تَقتــر ُِح ث ، ث ــد الح ــص ت تم ة ــعري الش ــم ل وا الع ه هــذ بوصــف ِّ َ َ َ َ َ ُّ ّ َّ ِ ِ ٍ ٍ الكَ يانيــة -مــن ها ت ال شــاغ ــط تنبس َــم ل ، ة ِــر ي غا م جــود و أســاليب ْ ُ ْ ُ َ ُ ّ ـألة التــي المسـ ُ ـر ٌ ـي َ قبــلُ -علــى هــذا ال َّن ْحـوِ ،كمــا هـ َ ـو ُمفتـ َ ْ ض .وهـ َ تتبعهــا بحــذَ ٍر فــي بعـ ِ أسســنا ُيم ِكـ ُ ـض ال َّتجــار ِِب ،ال سـ ّـيما إذا َّ ـن ُّ أدبيـ ِ الجديـ ِ بحتميـ ِ ـات ـي ـة و َ َ ِالد ِة َ اعتقادنــا َ ـد ُ َّ والمغا ِيـ ِر علــى ّ المبدئـ َّ ِ ِ ـوي؛ لذلـ َ َت ـاف ـ االخت فكـ ِر ـن القــولُ :إذا كان ْ ـودي اللُّغـ ِّ الوجـ ِّ ـك ُيمكـ ُ ُ ٍ ِ ِ ِ هـ ِ ِ ِ ٍ ـاقٍ ـعري ٍة ـ ش ة ر لظاه ـوس ـ لم وم ـح ـ واض ـ انبث ـى ـ إل ـير ـ ش ت ـة ـ قب الح ه ـذ ٍ ُ َّ َ َ ُ ٍ كان ال منــاص وإذا دة، ـد ـ تع م ـات ـ رجعي وم ـارات ـ َي ت ذات ، ـة ـ ريض َع َ ِّ َ َ ُ ّ ّ ِ ـلٍ ـه ـ ن بأ ـف ـ وص ي ، ـعري ـ ش ـ جي ـن ـ ع ـي ـ اريخ ت ال ـى ـ عن بالمـكالم ـ ال ـن ـ م ُ ّ ّ ُ ٍّ ُ َ َ ّ
أبريل 150 2020
ــي ،وتعييــن والحــرب، جيــلُ الثَّــورة َّ َ فــإن َمســألةَ ال َّتحقيــب الفَ ِّن ّ ؤسســة علــى قطيعـ ٍ ـة مــا ،ال ت ال ـة ـ وعي ن راكُ َّ َّ الم َّ ميــة ،أو ُ ّ اإلضافــات ال ّ ٍ تــزالُ بحاجـ ٍ ـي األصيــل ،ال ـ ص ن ال ـدي ـ ق ن ال ـد ـ ه الج ـن ـ م ـد ـ زي م ـى َّ َّ ِّ ـة إلـ َ ّ ُ ّ ِ ِ ـلِ ـلِّ ـب ـ ويصع ـعر، ـ الش ـن ـ م ـخ ـ ض ي ـذي ـ ال ـ ئ الها ـم ـ الك ـ سـ ّـيما فــي ظ ِّ َ ُّ َ ِّ ُ ُ ِ ِ المتصارِعــة- ـوش ـ ي الج ـب ـ ن جا ـى ـ إلـد ـ وج ت ة ـوري ـ س ـي ُ َ ُ ـر ُه ،ففـ ُ ّ ُ ُ حصـ ُ ِ ِ ــف ــاعر والش ــعراء، الش ــن م يــوش ُج الواحــد نفســه ،قــد ُت َص َّن ُ ٌ َ ُّ ّ ُ ً المســألة ـن أك َثــر مــن ا ّتجــاه أو ت َّيــارْ ، ـه ضمـ َ ُنصوصـ ُ فضـا عــن َّ أن َ بحـ ٍ فــي أحـ ِـث ـ ه ـد ـي َمســألة وثيقــة ِّ ريــة ال َّنقــد ،فـ ُّ الصلــة بنظَ ّ ـأي ْ َ المرحلــة ،عليـ ِ لشــعر هـ ِ بالبعــد (الجينيالوجــي) ِ أن ـه ْ ـذ ِه َ َيحتفــي ُ ّ ِ ِ داعها بإظها ِر ِه خ ـي ـ ف خ ت ـه- ـ نيتش ْق ف وـة ـ الحقيق أن ً، ا ـ م ـر ،دا ِئ َ ُ َ َّ ُ يتذكَّ ـ َ وكيفيــات ِ ـق ـاليب ـ أس ـود ـ ج فالو ـاز؛ ـ ج الم لخـ ٍ ـداع َمجــاز ٍِّيُ ،تخ َلـ ُ ُ فــي َ ُ ّ ِ ِ فيـ ِ ٍ َّ ـراءات ـ ق ال ـه ـ في ع ـار ـ َتص ت ، ـي ـ ل تفاض ـاء ـ فض ـي ـ ف ـد ـ ل َتو ت و ، ـم ـ القي َ ُ ُ ُ ـه َ ُ ُ ّ ِ ٍ َ ـص، وال َّتأويـ ُ ـد هيدجــر يعتقـ ُ ـات؛ لذلــك ،نجـ ُ ـد َّ أي تفســير لل َّنـ ِّ أن َّ ِ ِ ِ ِ ِّ ً ً ـر ـ األم ؛ ـه ـ ف ل ؤ م ـم ـ ه ـى ـ ت ح ا ـ ف ل خا م ا ـير ـ تفس ة ـرور ـ بالضـيكون سـ لفَ ِ َّ ّ ُ ْ ُ ُ ُ تقبــض أن الــذي َيعنــي -فــي ُم َ ً ــن ُمســتويا ِت ِه -ضــرور َة ْ ســتوى ِم ْ والمسـ ِ المجهولِ ـكوت قديـ ُ قاربـ ُ ـة ِمـ ْ ـة ال َّن َّ َ ـن ِج َه ِتهــا -أيضـاً -على َ الم َ ُ أي حديـ ٍ ِ ِ ِ ـث أصيلٍ ِ ِ إن . ـة ـ ي ص ن ال م ل وا الع ـي ـ ف ـه ـ في ر ـ الم ر ـ وغي ـه فكَّ ِ عنـ ُ َ َّ َّ ُ َّ ِّ ّ وضوعيين، عاملين َم أن َيلت ِف َت إلى عن وِالد ِة ِشــع ٍر ُمغا ِيرٍَ ،ينبغي ْ ْ ْ ِ ِ الشــعرِ ـق بحاجــة ِّ ـي َيتع َّلـ ُ ال ُيم ِكـ ُ أو ُ ـن إغفال ُُهمــاّ : لهمــا عامــلٌ َزمانـ ٌّ ِ ٍ ٍ بالح َدث؛ ـد ُه عن الم َ نيــة»ُ ،تبعـ ُ باشــرة َ إلــى َ االنفعاليــة ُ «مســافَة َز َم َّ ّ َ َ رور م ـا- ـ ن هة ني م ز ال َة ف ـا ـ س الم تعني وال ً، ا ـ ي ن ف ـه ـ ل ث تم ـتطيع ـ س ـي َي ُّ ُ ُ ِّ َّ ُ ُ َ َ ُ َ َ َّ ّ كـ ْ وقـ ٍ الخ ّلقة ـت طويــل ،فحســب؛ بــل تَعني -أيضـاًُ -قــدرة ُّ الشــعراء َ ـد ِ ـد ِم ْثــلِ هـ ِ علــى توليـ ِ ث المســافة، الحـ َ ـم ضمـ َ تأويلي ـاًُ ، ـن َ ـذ ِه َ وهـ ْ ّ ِ نفسـ ِ ِ ً َّ ـتثنائي ِة ال ّنــا ِد َر ِة. ـ االس ـة ـ ب ر الد ـن ـ م ا ـ ط نم ـب ـ ل يتط ـا ـ م ـذا ـ ـه ،وه ِّ ْ َ ُ َ َّ ِ َ ـق بالجانـ ِ أن نســبةً كبيــر ًة والعامــلُ الثّانــي َيتع َّلـ ُ ـي؛ ذلــك َّ ـب َ المكانـ ِّ السـ ِ ِ ِ ـالَ ـنوات الماضية، ـ خ ـروا، ـ انتش قد ين ـوري الشـ َ ـن ُّ َ ِمـ َ السـ ِّ ـعراء ُّ َّ ـن ُب ْعـ ٍ ـد، فــي أصقـ ِ الحـ َ ـاع العا َلــم ،وبا ُتــوا ُيقارِبـ َ ـوري ِمـ ْ ـون َ السـ َّ ـد َث ُّ ِ فض ـ ً ـم ـ ل وا ع ـدة ـ دي الج ـات ـ والبيئ ـة، ـ رب الغ ـة ـ ِب ر َج ت ـراق ـ اخت ـن ا عـ ُ ْ َ َ َ ٍ ِ ِ ِ ِ طَ ً ـولٍ عــن ـ م ـث ـ ح ب ـام ـ أم ا ـع ـ واس ـاب ـ الب ـح ـ ت يف ـا ـ م ـذا ـ وه ـم، ـ ه د ئ قصا َ َ َ ْ ُ َّ َ ُ الهو ِّي َِّ ـو ِ ـد ِم َن البـ َّ ثمــةَ -أيضـاًَ -مســألة ُ الت ُ ال َّتحـ ُّ اتيــة فــي أشــعار ِِهمَّ . حاولــةٍ ِ ٍ ِ ِ ٍ لِّ وخوضهــا ،بــكُ عنايــة َ اإلشــارة إليهــاَ ، وشــغَ ف ،عنـ َ ـد َّأيــة ُم َ لتلمـ ِ ـعرية َجديدة في ِشــعر الثَّورة ـس َمال ِمــح ظُ هــور َحساسـ ّـية ِشـ ّ ُّ ِ ِ يتتب َع أن ـرورة ـ ض ـي ـ ف تكمن ـألة ـ س الم ه ـذ ـ وه ة، ـوري ـ س ـي ـ ف ـرب ـ والح َ ُ َ َ ُ ّ ْ َّ المتح ِّقــق في َعوا ِلــم ال ُّنصوص، ال ّناقـ ُ تمعـ ُ الم ِّ ـنَ ،مــدى االنزيــاح ُ ـد ُ وضوعي ـاً ،و َف ِّن ّي ـاً؛ بفعــلِ انتقــالِ عـ ٍ الشــعراء مــن َم ـن ُّ ـدد كبي ـ ٍر ِمـ َ ّ ِ الخــوف ـلطة ـ س ـا ـ به ـن ـ هيم ت ـت ـ ن كا ـي ـ الت ـة، ـ ِح ب الكا ـود ـ ُي ق ال ـطوة ـ س َ ْ ُ َ ُ َ ُ الح ِّر َّيـ ِ ـس تَجرِبـ ِ ِ َحسـ ِ ـة علــى ُمناخــات ُن ـة ُ صوص ِهــم ســابقاً ،إلــى ت ُّ ـة والجا ِم َحـ ِ نيـ ِ الجديــدة علــى ذَ وا ِت ِهــم؛ وولـ ِ ـوج فَضاءا ِتهــا َ ـةُ ، الغَ َّ ِ مزيقِ اريخي ت ال ـتعصاء ـ االس ت من ـوري ـ الس ث د الح ن أن فبعد تمكَّ َ ّ َ َ َ ْ َ ّ ُّ ِّ الشــعراء ـتطاع ـ اس ، االجتماعي ـتعصاء ـ واالس ، ـي ـ عدد ِم َن ُّ َ ٌ ِّ ِّ السياس ِّ ٍ ٍ ِ ـبي ٍة) ـ (نس ة مالي ج طوات بخ ـن ـ ندفعي م ـوف، ـ الخ ـز ـ حاج ـوا ـ أن ُيحطِّ م َ َ َ ُ ْ َ ُ َّ َّ ِ ماهيـ ِ ـتقبلِ ـو اســتنطاقِ ـة ال َّتغييـ ِر نحـ َ ْ الحاصــلِ ،واكتنا ِه ُرؤى ُ المسـ َ َّ الالت هـ ِ ِ القــا ِد ِم ،علــى اختـ ِ بد ِء تَسـلُّلِ ـاف َد الرؤى .وفــي َض ْو ِء ْ ـذ ِه ُّ تأثيـ ِ ِ ـث ـولِ الحاسـ ِ ـم إلــى ال ُّنصــوص ،أقــولُ ،مــن حيـ ُ ـرات هــذا ال َّتحـ ُّ ـم فــي هـ ِ أن تتجــذّ َر المبــدأَّ ، ـو ْ المرحلــة ال ّزا ِئغــة ،هـ َ ـذ ِه َ َ إن مــا يهـ ُّ ِ ِ ِ ـج ـ َنض ت و ـى، ـ ق تتن وأن ة، ـوري ـ س ـي ـ ف ـرب ـ والح ة ـور ـ ث ال ر ـع ـ َّ ّ ْ َ َ ُ ّ تَجــار ُِب ِش ْ كاب ِ بمــرو ِر ال َّز َمنِ ،وتَراكُ ِم ِخ ْبـ ِ دات الفعلِ ـرات ِّ وم َ َ الد ْر َب ِةُ ، ماليـاًُ - ج ِّ الســياق «أندريــه جيــد» ـذا ـ ه ـي ـ ف ، ـر ـ أن ـد ـ في الم ـن ـ م و . ـي ـ ن الفَ أتذكَّ ِّ ْ ِّ َ ُ َ ِّ ـاعر كبيــراً، ـون ّ كان ُيـ ِّ ـأن يكـ َ ـم -كمــا َ ـرد ُد -بـ ْ الــذي لــم يكُ ـ ْ ـن يه َتـ ُّ الشـ ُ ـون صا ِفيـاً.!.. أن يكـ َ يهمـ ُ بقـ ْ ـه ْ ـد ِر مــا ُّ
َ اإلبداعية كتابك «انزياح أساليب الوجود في الكتابة حصل ّ بيــن مطابقــات العولمــة واختالفاتهــا» علــى جائــزة الطَّ ّيــب َ الدراسات الكتابي، العالمية لإلبداع صالح وذلك في مجال ِّ ّ ّ قديــة فــي العــام ( .)2019مــاذا تعنــي لـ َ ـك هــذه الجائــزة؟ ال َّن ّ
وكيـ َ العربيــة؟ ـف تنظــر إلــى واقــع الجوائــز ّ
َّ ِّ ُ حافظة لعل الذهن ّية امل ِ الحاكمة سياسات ِ الجامعات ،وعقل ّية كوادرها ،تُ ِّ مث ُل صور ًة جل ّية عن الجذور الخطرة ملُكابَدات ال َّنقد ِ َ العربي ،إنْ كانَ ذلك ّ مُرتبطاً الجامعة ببنية ِ ِ َ ِ نفسها ،أو كانَ ذلك مُرتبطاً ،عىل نحْ وٍ
أعمَ ق وأشمَ ل ،برصاع ُّ ني املايض الثنائ ّيات ب َ والحارض
ُتسـ ِالمكافآت الجميلة ـع ُد الجوائز ال ّناس كثيراً ،و ُتمثِّلُ نوع ًا من ُ ـر ،بجالء، ـر هــذا األمـ ُ علــى جهودهــم فــي المجــاالت كا ّفــة ،ويظهـ ُ ـض ال َّنظَ ــر عــن االنتقــادات األدبيــة فــي الجوائــز والفكريــة ،فبغـ ّ ّ ّ التــي ُتشــكِّ مصداقيــة نســبة كبيــرة مــن الجوائــز ،وفــي فــي ك ُ ّ َّقافيــة (ومــن هــذ ِه االتِّهامــات مــا هــو ث ال أو ة ـي ـ ياس الس خلفيا ِتهــا ِّ ّ ّ ّ حضاريــة محمــودة؛ النطوا ِئها على ـد ـ تقالي ز ـ الجوائ ـى وجيــه) ،تبقـ ُ ّ ـي ُتم ِّثــل دافع ـ ًا إشــادة َم عنويــة وإشــادة ِّ ّ ماد ّيــة ُ بالمبدعيــن؛ فهـ َ ِ المزيــد مــن ـتمروا فــي بــذل َ حقيقيـ ًا ُ لهــم ،وحافــز ًا كبيــر ًا كــي يسـ ُّ ّ ً طور نحو األفضــل .من جهتي ،أنا ت وال م ـد ـ ق ت ال إلى ا ـعي ـ س الجهــود؛ َّ َّ ُّ ُّ ُ لما َمية لإلبداع سـ ٌ الكتابي؛ َ ـعيد بفــوزي بجائزة الطَّ ِّيب صالــح العال ّ ّ ورمزيــة اعتـ ٍ ـع بـ ِ ـراف وصدقيــة رفيعــة، حســنة، ّ تتم َّتـ ُ ـه مــن ُســمعة َ ّ ـي ،ال سـ ّـيما أ َّنهــا جائــزة ُتحــاوِلُ أن ترتقــي إلــى ـ الحقيق ـه ـ ن وز ـه ُ ُ لـ ُ ّ ـر َف العرب ـ ش كبير، ـي ـ َم ل عا كاتب ـم ـ اس ُّه ق ـتح ـ يس ـذي ـ ال ـتوى ـ س الم ُ ُ َّ ّ أن هذه جميعـاً ،كالطَّ ِّيــب صالــح .وأرى -فــي هــذا المنحى -أيضـاًَّ - العربية القليلة ا ُ الجائــزة ُتسـ ِ ألخــرى) ،يوم ًا الجوا ِئــز ـاه ُم (وبعــض َ ّ م ، ـي ـ العرب ـي ـ َّقاف ث ال ـاء ـ للفض ـل ـ أصي ـييد ـ تش ـي ـد يــوم ،فـ عمقــةً بعـ َ ّ ُ ِّ ّ نفسـ ِ والمنف ِتــح ،فــي الوقــت ِ ـه، ـاء، ـ ن الب ـي ـ العرب ـل ـ فاع ت ال ـد ـ تقالي ّ َّ ُ ُ ّ ا عــن َ علــى العصــر والعا َلــم .وفضـ ً ـت ،في حوا ٍر ســابق، ذلك ،قلـ ُ ـو عمــل خ ـاّق أن وجــود َجوا ِئـ َ ـص ِّ َّ ـز تختـ ُّ قديــة ،هـ َ بالدراســات ال َّن ّ الطُّ قدي، ـل ـ الفع ـن ـ بي ـي ـ ل كام ت ال ـوح ـ م ـدم ـ يخ َّ َ اإلبداعي والفعــل ال َّن ّ ُ ُ ّ ّ ـد علــى ُمواكَ بــة اإلبــداع ،ورأب وهــي المســألة التــي تســاعد ال َّنقـ َ ُ الم ِ الســياق الثَّغــرات ـير ،في ِّ العربيــة ُ ّ عاصــرة فــي هذا اإلطار .وأشـ ُ عربيـاً -إلــى تقاليــد أصيلــةـة ـ الماس ـة ـ الحاج ـى ـ إل ً- ا ـ أيضنفســه ّ ّ والمثقَّفيــن ،ورعاي ِت ِهــم ،مــن ـة ـ َّقاف ث بال ـال ـ الم رأس ـام ـ اهتم ـخ رسـ ُ ُت ِّ ُ َ وح ِّر ّيــة َّــف، ق ث الم ة اســتقاللي حســاب علــى ذلــك يكــون أن دون َ ْ ُ ُ ّ ـه ورأ ِيـ ِ كلم ِتـ ِ ـه.
العربــي أن يرتقــي إلــى المســتوى اســتطاع ال َّنقــد هــل َ ّ ظلّ اإلبداعية؟ اإلصدارات من الكبير خم ز ال في المطلوب، َّ ّ
مــا زالَالفئويــة ـد ُد داللــة ـي فئوي ـاً ،لألســف ،وتتعـ َّ ّ ّ ال َّنقــد العربـ ّ ـدالالت تلتقــي فــي فكــرة كبــح ـن جميــع الـ َّ الســياق ،لكـ َّ فــي هــذا ِّ أن إمكانــات ال َّنقــد ،وتقليــص ُحضــوره الفعــال واألصيــل .وأعتقـ ُ ـد َّ ّ جذورهــا إلــى ـود هــذ ِه القضيــة شــديدة ال َّتراكُ ــب وال َّتعقيــد ،وتعـ ُ ُ ّ َ ُنائيــة ث ـي ـ ف طر ـن ـ بي ـف ـ العني ـراع ـ والص ـة ـ العربي ـة ـ هض ن ال ـات ـ جدلي َّ ِّ ّ ّ ّ ْ أن هــذه عاصــرة /الغــرب)؛ إذ ال (األصالــة /ال ُّتــراث) ُّ أظــن َّ و(الم َ ُ آثارهــا والمم ِّزقــة ،فــي آنٍ معــاً ،قــد َ ْ المم َّزقــة ُ ليــة ُ انتهــت ُ الجد ّ ٍ ٍ ً ـد ثــورات إن لــم أقــلْ إنهــا ازدادت تأثيــرا بأقنعــة جديــدة بعـ َ ْ بعـ ُ ـدْ ، أن أقت ـر َِح فكــر َة ـي! .وأسـ ـ العرب ـع ـ بي الر الســياقْ ، ُ ـتطيع ،فــي هــذا ِّ َّ ّ ـر تفكي ِكـ ِ ُّ ـه ،انطالق ـ ًا مــن تخ ُّلــف ـ عب ـي ـ العرب ـد ـ ق ن ال ـف ـ ل تخ ـل ـ تأصي َّ َ ّ االســتقالليةَ ، العربيــة وبيروقراطَ ّي ِتهــا ،وفقدانِهــا الجامعــات ّ ّ الذِّ ـلَّ المحا ِفظــة الحا ِكمــة ـة ـ هني ـ ولع ، ـي ـ العلم ـث ـ البح وإهما ِلهــا َ ُ ّ ّ جليــة عــن ة ـور ـ ص ـ ث م ت ـا، ـ كوادره ـة ـ وعقلي ـات، ـ الجامع سياســات ـلُ ِّ ً ُ ّ ّ ِ ـك ُمرتبطـاً كان ذلـ َ إن َ لم َ ـيْ ، الجــذور الخطــرة ُ كابــدات ال َّنقــد العربـ ّ ـة ِ ـة الجامعـ ِ ببنيـ ِ كان ذلـ َ أعمــق نفســها ،أو َ نح ـ ٍو َ ـك ُمرتبط ـاً ،علــى ْ قلت ،من ُّنائيات بيـ َ ـن الماضي والحاضــر .وقد ُ وأشـ َ ـمل ،بصــراع الث ّ نهجيــة في المســألة ،وأقــولُ اآلنُ :ر َّبما م ة ـكالي ـ إش ـاك ـ ن ه إن ـل، قبـ َّ ُ ّ َ ّ ـم َعوا ِمــل عــدم صياغــة ـ أه ـن ـ فم ً؛ ا ـ أيض ـة، ـ وجودي ة ـكالي ـ إش ـي ّ ّ ّ هـ َ ِ ـس أصداؤهــا علــى ـ تنعك ً- ا ـ عربيـم ـ ل عا الم ـة ـ واضح ـة ـ نقدي ـة ـ حرك َ ّ ُ ّ ـرج من الجامعة ِ ـود -أيضاً -إلى صراع نفســها ،يعـ ُ الجامعــة ،أو تخـ ُ واألكاديميين ،وهو المثقَّفين وال ُّن ّقــاد الم الم رجعيــات َ َ عرفيــة بين ُ ِّ ّ ّ ـؤدي ـف، ـ عني ـي ـ أيديولوج ـد ـ ع وب ـت، ـ بح ـي ـ تقن ـد ـ ع ب ـه ـ ل ـراع ـ ص ٌ ويـ ِّ ُ ُ ُ ُ ّ ّ ـد ُمؤ ِّثــر؛ ال فــي توظيــف نشــاط ـ ح ـى ـ إل ـل ـ العم ـدم ـ ع ـى ـ إل ً- ا ـ تلقائيٍّ َ ّ مرجعيــة واحــدة (أو االســتفادة)؛ كــي ُتوا ِكــب كُ لّ مجموعــة ذات ّ
ـد والم َ باشــرة ،وال فــي مـ ّ الم ّ لحــة ُ الراهــن ُ ـي ّ أســئلة العصــر العربـ ّ تنوعــة ،بد ً ال من ـات ـ المجموع فاعــل مــع ُجســور ال َّت ُ الم ِّ المرجعيــة ُ ّ ُ حادية وال َّنرجسـ ّـية أل ا ـدة ـ ح و على ـن ـ ي تمركز الم ـاء ـ واإلقص ناحــر َ َ ّ ْ ال َّت ُ ُ العمــل ثقافــة إلــى نفتقــد زلنــا مــا نــا ن أ أعتقــد إذ ــخصنة؛ والش َّ َّ ُ ُ َ ِ ـب ـ العي ـذا ـ ه ـر ـ ه ظ ي ـا ـ م ـر ـ وأكث ـف، ـ لألس ـر، ـ كبي ـد ـ ح ـى ـ إل ـي ـ ماع الج ٍّ َ َ ُ ُ ّ ِ ً واجــه ُمواجهــةً عاجلة ي ـم ـ ل إن ً، ا ـ بنيوي ا ـ عيب ـح ـ ب ص ي أن ـكاد ـ ي ـذي (الـ ْ ُ َ َ ّ ُ ْ ُ ـروع ُه مــن أن يبــدأ كُ لّ ُمث َّقــف أو ناقــد أو ُمفكِّ ــر مشـ َ وشــاملة) هــو ْ ِ ً ومقلِّــاً) مــن قيمــة ا ســتهتر م ق أ لــم (إن ً، ا ــ تجاه الصفــرُ ،م ُــلْ ِّ ْ ُ ُ ِ ـر ُه .وهكــذا، ـ عاص ت ـي ـ الت أو ، ـبقته ـ س ـي ـ الت ـة ـ العربي ـروعات ـ المش ُ ُ ّ ُ مــا نــزالُ نــدور فــي حلقـ ٍ ـم كُ لّ ُمث َّقــف فــي ـة مفرغــة ،حيـ ُ ـث ُيقيـ ُ جزير ِت ِ مــي نجــ ٌز الخاصــة ،وال ــه ُ ينهــض ،عندنــاُ ،م َ ّ معرفــي تراكُ ّ ّ ـتمرة. المجـ َ نحـ َ أصيــل ،وقابــل للبنــاء عليــه ْ ـاوزة ُ ـو ُ المسـ ّ
َ تتنق ُ نفسك أكثر؟ الشعر وال َّنقد .أين تجد بين ِّ َّل َ
ـام) تفضيليــة ـس عنــدي ُحكــم قيمــة َ ـي العـ ّ ليـ َّ (بالمعنــى المعرفـ ّ اآلخر؛ الجنس أو ـل ـ الحق ـاب ـ حس على ـس، ـ جن أو ـل ـ حق ـة ـ لمصلح َ ِّ أكتب ُه، ـي) فــي ِّ أي نـ ّ ـص ُ ـي /الكُ لـ ّ فإلــى جانــب َوحــدة موقفــي (الكيانـ ّ ُ الخ ـر -مــن الوجهــة ديــة لــكُ لّ النيــة -علــى ُ صوصيــة ال َّت ُّ َ عد ّ أصـ ُّ ّ العم ّ وإجرائي ـاً .وفــي جميــع األحــوال، ري ـ ًا حقــل أخـ ُ ـوض غمــاره ،نظَ ّ ّ ً ـودي ـ وج ـم ـ وه ، ـي ـ ثقاف ـم ـ ه ـي ـ الكتاب ـي ـ ل عم كان ا ـ أييبقــى لـ َّ َ َ ّ ـدي ّ ّ َ ّ ٌّ ّ ً العمــل ُيفيــد توالُــد ســارات م ــع أن عــن ا فضــ ــن، جامع ْي تقاطُ َّ َ َ َ عمــلٍ ُمتوازٍ، عبر الحقول، ـع ـ جمي ـن ـ بي ـا ـ وتفاعله ؤى، ـر ـ وال ـكار األفـ َ َ َ ُّ إن جمعــي الكتابــةَ فــي حقل َّي ـدم ُهنــا أو َّ نوعيـاً ،يتقـ َّ يتأخــر ُهنــاكَّ . ّ تفرض العمل نفســه ،والتي بآليــة ً- ا ـ مبدئيـط ـ يرتب ـد ـ ق ن وال ـعر الشـ ُ ِّ ُ َّ َ ّ ّ ِ ِ ِ ـح فيهــا ـ ت تنف ة ـر ـ م ـي ـ ف ـا، ـ ه ت ناخا وم ـا ـ ه ت أدوا ً- ا ـ وتجريب ـ تجربلّ ـةً كُ ُ ُ ّ كان جنســه -بوص ِفـ ِ ـه أي ـ ًا َـر إلــى ال َّنـ َّ كينونــة ال َّنـ ّ ـص ّ ـص ،فأنــا أنظـ ُ ـاليب وجــودي فــي فَجو ِتـ ِ ـه ،بــكُ لّ مــا ينطــوي عليه ـ أس ـط عالَمـ ًا أبسـ ُ َ ـانٍ َ ـر ـ عب ـوازى، ـ تت ـا ـ م ـدر ـ وبق ودالالت، ـ مع ـن ـ م ـم) ـ ل (العا ُمصط َلــح َ واإلجرائيــة ،فــي فعــل الكتابــة، ليــة صوصيــة ال َّنواحــي ُخ َ ّ الجد ّ ّ ـاس والحقــولُ ،ت َّتصــلُ ،فــي الوقــت نفســه ،بأنمـ ٍ ـاط ُمترا ِك َب ٍة ـ األجن ُ باآلخر، الشــعر وال َّنقد فاعــل وال َّتقاطُ ــع، حيث ُيؤ ِّث ُر كُ لّ من ِّ َ ُ مــن ال َّت ُ ـر بـ ِ معرفيـاً -فيميــة ويشــكِّ لُ را ِفــد ًا ـهُ ، ّ خلفيـ ًا أو بطانــة تراكُ ّ ّ ويتأ َّثـ ُ ـؤدي إلــى بســط أســاليب ـ ت ـي ـ الت ـألة ـ المس ـي ـ وه ـق؛ ـ خلي ت ال ـة ليـ َّ ّ َ عم ّ ـدم الوجــود ،بمــا تنطــوي عليــه مــن أفــكار ودالالت ،والتــي قــد تتقـ َّ دام نوعيـاًُ ،هنــا-َّ لتتأخر ُهناك ،ث َُّم بالعكــس ..وهكذا دواليك ،ما َ ّ الشــعر وال َّنقد (وغيرِهما) ُسؤال َْين ُمتكا ِمل َْين في َمشروعي؛ ُســؤاال ِّ لذلـ َ الشــاعر عندي علــى ال ّناقد أو العكس، ـك ال أسـ ـد َم ّ أن أُقـ ِّ ـتطيع ْ ُ ً المتلقّين، ـآراء ـ ب ا ـ منوط ما ه ن بي ـل ـ األفض ـوص ـ بخص ـم ـ ك الح ـى ويبقـ َُ ُ ُ ً ـتقبل. ـ س الم ورهانات ـن، ـ م ز ال ـرة ـ خب ـى ـ عل ا ـ فتوح وم َّ َ ُ َ
لمن تقرأ ،حالي ًا؟ ،وهل من مشاريع جديدة لديك؟
أحد ُهمــا فــي يفـ ُكتاب ْيــن؛ ُ ـدي علــى َ ـي -اآلنَ - عملــي ال َّنقـ ّ ـرض علـ َّ الشــعر الحديــث ،قــراء َة َمصــا ِدر ـ الجاهل الشــعر ـي ،والثّانــي فــي ِّ ِّ ّ ِ ـددة فــي هــذ ِه المجــاالت ،فضـ ً ا عــن القــراءات التي ـ ح م ـع ـ راج وم ُ َّ َ حافيــة ،ومقاالتــي. الص ـ عل ـا ـ ه يفرض ُ ـر مـ ِّ ـوادي ّ ّ ـي تحضيـ ُ َّ ـدة ،فض ً ال عن مجموعة مشــاريع ثقافيــة، ـدي مشــاريع حالياً ،عـ َّ لـ َّ ّ ّ ونظَ َّ ـد ـد ـ ق ن وال ـعر ـ بالش ـق ـ ل تتع ـي ـ وه ة، ـتقبلي ُمسـ ِّ ُ َّ ري ِتهمــا ،فأنــا أُ ِعـ ُّ َّ ّ َ ِ ـري ضمــن خطــوط ـ وتنظي ـدي ـ نق ـاب ـ وكت ، ـعري ـ ش ـوان ـ دي ـن ـ م ـر أكثـ ّ ّ ّ ُ ـعرية/ ـ (الش يانات الب ـروع ـ مش إنضاج تابع أ كما عليها، ـير ـ أس ة عام ِّ ّ ُ ّ َ ُ ـر أكثر من مســار قديــة) الــذي بـ ُ ال َّن ّ ـدأت فيــه فــي العــام ( )2015عبـ َ وأعمــلُ على ِ َ ضبط ـتطيع بعضها ،وال أسـ أدرســها، وأكثــر مــن فكرة َ ُ ُ ـر منـ ٌ ـوط بحجم اإلنجــاز وال َّتوفيق ـ فاألم ً، ا ـ زمني ـة، ـ تام األمــور بد ّقــة ّ ّ ُ ـلَ عيني. ـب ـ نص ـه ـ ت وضع ـا ـ م ـى ـ إل ـ أص ـأن ـ ب ـي ـ ل أم ـع ُ ُ ْ َ والمواظَ بــة ،مـ َ ُ َّ ■ حوار :عماد الدين موسى (سورية) أبريل 150 2020
59
لقاء
جان بابتيست برينيت:
الفكر مكتوب باللّغة العرب ّية أيضا ً
القصــة الفلســفية للمفكّ ــر األندلــي ابــن ـي بــن يقظــان»، ّ و ّقــع «جــان بابتيســت برينيــت» كتابــه الجديــد املقتبــس مــن «حـ ّ طفيــل ،الــذي عــاش يف القــرن الثــاين عــر .تعيــد هــذه الكتابــة الرائعــة ،بشــكلها الجديــد ،تســليط الضــوء عــى تجربــة شــعرية وفكريــة تقــف عنــد مفــرق طــرق العــوامل. لــن كانــت أوروبــا تحتفــظ بروايــة «روبنســون» لـ«دانييــل ديفــو» ،فــإن أســطورة الرجــل الــذي يكــر ،مبفــرده ،عــى جزيرة، وتأمــل ميتافيزيقــي، ـي بــن يقظــان»ّ ، قصــة فلســفية ،وتحفــة شــعرية ّ أقــدم بكثــر ،وعرفــت الكثــر مــن اإلصــدارات« .حـ ّ القصــة إىل الالتينيــة ّ إل نهايــة القــرن ترتجــم للمف ِّكــر األندلــي ابــن طفيــل ،الــذي عــاش يف القــرن الثــاين عــر .مل َ ّ الســابع عــر ،مــن ِق َبــل رجــل إنجليــزي .يف الشــهر املــايض ،تطـ َّـر َق Literate Europeإىل هــذا العمــل تحــت عنــوان ـدرس نفســه بنفســه» .وقــد ســبق لــكل مــن «لــوك» ،و«اليبنــز» ،و«ســبينوزا» ّ القصــة، االطــاع عــى ّ «الفيلســوف الــذي يـ ّ ـى لفــرة طويلــة. و -الحقـ ًا « -دانييــل ديفــو» ،قبــل أن تُنـ َ ()1 مؤخــراً ،و ّقــع «جــان بابتيســت برينيــت» ،أســتاذ الفلســفة العربيــة يف جامعــة «باريــس » ،ومؤ ِّلــف العديــد مــن الكتــب َّ ّ ـخةً ـي بــن يقظــان ،تحــت عنــوان «- Robinson de Guadix ـ ح ـن ـ م ـة ـ مقتبس ـ نس ـوص، ـ الخص ـه ـ وج ـى ـ ع ـد، ـ رش ـن ـ اب عــن ّ القصة -بجاملها األديب ،وأفكارها الفلسفية -إىل الظهور ،يف ح ّلة جديدة. روبنسون دي غواديكس» .وبذلك ،تعود ّ العربية؟ كيف وصلت إلى الفلسفة ّ
مدرســاً ،فــي أوائــل التســعينيات ،بــدأت دراســة لكــي أصبــح ِّالمتمســك بالتعاليــم التقليديــة للمدرســة ـاس»، «تومــاس أكوينـ ّ الالتينيــة ،وشــعرت بــأن الفكــر العربــي كان حاضــر ًا هنــاك ،وأنــه كان علينــا أن نذهــب حيث يوجد ،لنفهمه بشــكل أفضل .في الوقت ـؤرخ فــي الفلســفة نفســه ،بــدأت العمــل مــع «أالن دي ليبــرا» ،المـ ِّ الفرنســية ،الــذي ســبق لــه أن ترجــم ابــن رشــد ،وكتــب صفحــات رائعــة عــن الحاجــة إلــى إعــادة التفكيــر فــي تاريــخ الفلســفة ،مــن خــال عــدم التركيــز علــى أوروبــا والفكــر الالتينــي .كانــت تجربــة وحيــة ،وغيــر معروفــة .لقــد كان ذلــك دافع ـ ًا حاســماً. جديــدةّ ،
متخصــص فــي فلســفة األندلــس المســلمة .مــا الــذي أنــت ّ جــذب اهتمامــك خــال تلــك الفتــرة؟
جان بابتيست برينيت ▲
60
جدتــي ،التــي أديــن لها ربمــا؛ فقــد نشــأت َّ هنــاك جانــب عائلــيَّ ،بالكثيــر ،فــي قرطبــة؛ لذلــك ،شــكّ لت األندلــس المســلمة مفتــرق طــرق اســتثنائي ،ألن األديــان والنصــوص والعلــوم تتقاطع هناك. ـمى «نقل الدراســات» ،وأرى إنها تجربة حاســمة في تاريخ ما يسـ ّ أنهــا حلقــة أساســية لربــط الفكــر اليونانــي والفكــر الالتينــي .مــا يهمنــي هنــا هــي ظاهــرة وراثــة المفاهيــم ،وترجماتهــا ،وإحيائهــا ّ فــي مناطــق جغرافيــة وثقافيــة أخــرى .فالعقالنيــة العلميــة العربيــة أيضــاً ،وفــي أرض اإلســام .كلّنــا ورثــة كُ ِتبــت باللّغــة ّ للتفكيــر فــي مواضيــع الســلطة والعالقــة مــع الدين ،والســعادة،
أبريل 150 2020
واألنثروبولوجيــا ،والجســد ،ومــا إلــى ذلــك.
القصة الفلسفية؛ اليوم؟ لماذا قمتم بتكييف هذه ّ
النــص لغــز ،يتطلَّــب م ّنــا تنزيلــه فــي ســياق حديــث ،وإعــادة ّ ِ ـعره يســمح بذلــك ،علــى مــا أعتقــد، ـ فش ـه؛ ـ إحيائ ـادة ـ وإع ـه، ـ صياغت ْ أدق -كلّ عمــل يســمح لنــا بــإدراج الفكــر العربــي فــي و-بشــكل ّ مرحــب بــه ،بــل ـكار، ـ األف ـة ـ مناقش ـي ـ ف ـتركة، ـ المش ـة ـ العقالني لعبــة َّ ضــروري ،ألســباب فكريــة ،وأخــرى إنســانية واضحــة.
العربية ال تزال «أرض غير معروفة»؟ الفلسفة ّ
هــذا صحيــح ،وعلــى نطــاق واســع .لقــد ُأ ِهملــت مناهــج تدريــس الفلســفة عـ ّـدة قــرون ،مــن خــال القفــز علــى فكــر العصــور الوســطى ،بوضعهــا جانبـ ًا ،وأعنــي العصر الذهبي لإلسالم .نقفز من أرسطو ،وأفالطون ،وبلوتينوس إلى ... مونتيــن .فــي برنامــج البكالوريــا الفرنســية ،مــن الفيلســوف الــذي يمكننــا اختيــاره مــن الفالســفة العــرب؟ واحــد فقــط، هــو ابــن رشــد .مــن الــذي يســتطيع االستشــهاد بثالثــة عربيــة عظيمــة؟ مــن يســتطيع فالســفة أو ثالثــة نصــوص ّ يتحدثــون مــع و«اليبنيــز» و«ديــكارت» أن يجعــل «كانــط» َّ هــؤالء المفكِّريــن« ،الكنــدي» ،و»الفارابــي» ،و»ابــن ســينا»، ويجادلونهــم بتلــك العبقريــة العظيمــة؟ الفكــر ليــس حكــراً علــى اليونانيــة أو الالتينيــة ،ويجــب توضيــح ذلــك .يجــب أن
تحتفــي أرفــف مكتباتنــا بروائــع المفكّ ريــن العــرب ،تمام ـ ًا مثــل «نقــد العقــل الخالــص» (أنــا ال أعنــي الفلســفة ،بالمعنــى الدقيــق للكلمــة)، نرحب بالنصوص إلى جانب نصوص ِّ القديس أغسطينوس ،ينبغي أن ِّ التي تدرس الدين اإلسالمي ،والتي ساهمت في بناء تاريخ العقالنية، فــي رحــاب الفكــر العالمــي .هــذا ينطبــق ،أيضـ ًا ،علــى األفــكار الصينيــة أو الهنديــة. من هو ابن طفيل؟
ُو ِلــد فــي غواديكــس ،شــمال شــرق غرناطــة ،حوالــي عــام ،1116مــن عائلــةتشــتهر بالعلــم .عمــل ،لفتــرة ،طبيبـ ًا فــي غرناطــة ،لكننــا ال نجــد أثــره ّإل فــي الموحديــن فــي ذلــك عــام ،1147عندمــا انتقــل إلــى مراكــش بالقــرب مــن أميــر ِّ ـم تعيينــه طبيبـ ًا الوقــت .وبعــد أن أصبــح ســكرتير ًا لــدى مســؤول فــي طنجــةَ ،تـ َّ ـرغ شــخصي ًا لألميــر أبــو يعقــوب يوســف ،الــذي قـ ّ ـدم إليــه ابــن رشــد ،ثــم تفـ ّ -تمامـاً -للتعليــق علــى أعمــال «أرســطو».
هل كان ابن رشد معلَّمه؟
أود أن أعود فــي الوقت ـد مــا ،لكنــه ليــس سـ ِّـيدهّ . إنــه شــيخه ومعلمــه ،إلــى حـ ّألبين كيف كانت عالقاتهما ،ألنهما ال يدافعان عن العقائد نفســها، المناســبّ ، بشــأن التوافــق بيــن الفلســفة والديــن (اإلســام ،فــي هــذه الحالــة) ،على ســبيل األول ،لكنهما المثــال ،همــا ي َّتفقــان ،ويدعمان فكرة أن الثاني نســخة رمزية من َّ يختلفــان فــي مــا يتع َّلــق بمكانــة الفيلســوف فــي المدينــة ،وعالقتــه بالســلطة. بالنســبة إلــى ابــن رشــد ،ال يمكــن للفيلســوف أن يعيــش ّإل فــي مجتمــع منظَّ م، ـؤدي وظيفته فهــو حيــوان سياســي؛ وفــي نظــر ابن طفيــل ،المف ّكــر ال يمكن أن يـ ِّ ّإل بمفــرده ،فــي جزيرتــه ،بمعــزل عــن جزء من اإلنســانية.
اختفت جميع أعمال ابن طفيل ،تقريب ًا ...
القصــة فقــط« ،حي ّ بن يقظــان» ،وبعض القصائــد ،رغم أنه نعــم ،لدينــا هــذهّ كتب الكثير .الفالســفة العرب العظماء وصلوا إلينا بفضل أعمالهم المترجمة إلــى اللّغــة الالتينيــة ،واطّ لــع عليها كبــار المفكّرين :تومــاس أكويناس ،ودونس ســكوتوس ،وآخــرون ،وصــو ً ال إلــى ديــكارت .الغريــب أن عمــل ابــن طفيــل لــم يتبــع هذا المســلك.
«حي بن يقظان»؛ من الضياع والنسيان؟ قصة كيف ت ََّم الحفاظ على ّ ّ
نحــن مدينــون بذلــك لرجــل إنجليــزي مــن القــرن الســابع عشــر ،هــو «إدواردالعربيــة فــي أكســفورد .فــي وأول أســتاذ للُّغــة بوكــوك» ،وهــو مستشــرق بــارزَّ ، ّ األعــوام :مــن 1630إلــى ،1640خــال رحلتــه إلــى ســورية ،اســتخرج مخطوطة ـص ابــن طفيــل ،وأعادها إلــى إنجلتــرا .طلب من ابنــه تحريرهــا ،وترجمتها مــن نـ ّ مقدمتهــا ،ثــم نشــر الكتــاب باســتخدام ـه ـ نفس ـو ـ ه ـب ـ كت ـد ـ وق ـة. ـ الالتيني إلــى ِّ معرفتــه بالبيئــة الفكريــة فــي ذلــك الوقــت .كانت هنــاك ترجمات إلــى العبرية، ومــن العبريــة إلــى الالتينيــة ،فــي القرنيــن الرابــع عشــر ،والخامس عشــر ،لكن
العربية-الالتينيــة ،ثنائيــة غيــرت الترجمــة ّ صداهــا كان محــدود ًا للغايــة .لقــد ّ اللّغــة ،مــن ِق َبــل «إدوارد بوكــوك» ،عــام ،1671كلّ شــيء.
تقبلت األوساط الفكرية هذا الكتاب في أوروبا؟ كيف َّ
حقّــق الكتــاب أعلــى المبيعــات ،وكان أثــره كبيــر ًا للغايــة .بعــد عــام علــىالترجمــة الالتينيــة ،تقريب ـاًُ ،ت ِ ـص إلــى الهولنديــة ،بواســطة «بــاروخ رجــم النـ ّ مهم ـ ًا بمــا دي ســبينوزا» .لــم يترجمــه «ســبينوزا» بنفســه ،لكنــه اعتبــر النـ ّ ـص ّ يكفــي ليك ّلــف أحــد أصدقائــه ،وهــو «بومويســتر» ،للقيــام بذلــك .كان ذلــك فــي منكبـ ًا علــى تأليــف «األخالقيــات» ،ومــن عــام ،1672وال يــزال ســبينوزا ،حينهــا، ّ ـي بــن يقظــان بيــن يديــه. المفيــد ،للغايــة ،أن تكــون ّ قصــة حـ ّ
لماذا؟
الفلســفتان ال تلتقيــان فــي كلّ شــيء ،وكانــت هنــاك بعــض األفــكار الصادمــةلـ«ســبينوزا» الــذي يــرى أن «اإلنســان إلــه لإلنســان» .كمــا تجمعهمــا جوانــب أخــرى ،علــى غــرار فكــرة أن كلّ األشــياء هــي ،بمعنــى مــن المعانــي ،واحــدة، ـرد مظاهر .بين «الجوهر» وبوجــود كائــن واحــد ،فقط ،وأن كلّ الحقائق هي مجـ َّ قويــة .ويمكــن ـداء ـ األص الفريــد لـ«ســبينوزا» ،وهــذا المفهــوم للوجــود ،كانــت ّ قــول الشــيء نفســه فــي مســائل أخــرى مــع «اليبنــز» ،و«لــوك». تلخص فكر ابن طفيل؟ * كيف ّ األول هــي األفالطونيــة الجديــدة البن ســينا، ن ـو ـ المك ـة: ـ التوفيقي ـي ـ ه فلســفتهَّ ّ ـدم الكــون علــى أنــه نابع مــن مبدأ أساســي ،وتدافع عــن مفهوم روحي والتــي تقـ ّ ـخصيته الغامضة، ـم الثانــي ،هــو المف ِّكر الغزالــي ،بشـ لإلنســان .المصــدر المهـ ّ َّ والــذي يهاجــم الفالســفة ،ويدعــو إلــى عالقــة نشــطة بالمعرفــة واإليمــان ،فــي صوفيـاً .يحاول ابن طفيــل التعبير عن الفكــر العقالني الوقــت نفســه .لقــد كان ّ لــكلٍّ مــن ابــن ســينا ،والغزالي.
قراء اليوم؟ ما الذي َّ يتحدث به ابن طفيل إلى ّ
النصــوص العظيمــة تحمــل أســئلة كبيــرة .هــذا هــو الحــال هنــا ،فمــا زالــتـي بــن يقظــان» تعكــس مشــكالتنا اليــوم .ناهيــك عــن الصفحــات مشــكالت «حـ ّ تهتم الشــخصية ِّر ك المب ـي ـ البيئ الوعي ـن ـ م ـكل ـ ش إلى ـا ـ فيه ـير ـ يش الجميلــة التــي ّ بإنقــاذ النباتــات ،وعــدم اإلضــرار بالحيوانــات ،وتتج َّنــب تدمير األنواع .يتســاءل يمســنا :ما الــذي يعنيه المنجز للمفكّر ولإلنســان، ابــن طفيــل ،هنــا؛ وهذا الذي ّ معينة بالجســم ،أم بالعقل، ـة ـ عالق في هل ـعادة؟ ـام؟ أيــن تكمن السـ بشــكل عـ ّ َّ أم المعرفــة؟ هــل يكــون ذلــك مــن داخــل المجتمــع ،أم يجــب أن نكــون بمعــزل عــن اآلخريــن؟ ومــا الــذي يش ـ ّكل المجتمــع؟ هــل يجتمــع الديــن والفلســفة؟ وفــي النهايــة ،مــا طبيعــة العالقــة بيــن الفلســفة واألدب؟ كلّ هــذه األســئلة المهمــة قــد أثارهــا هــذا الكتــاب الــذي حفظــه الزمــن لنــا ■ .حــوار :ليســبث ّ كوتشــوموف آرمــان ترجمــة :عبداللــه بــن محمــد (تونــس)
۹
العنوان األصلي والمصدر ،Le Temps :العدد ( ،)1مارس.2020 ، »Jean-Baptiste Brenet: «La pensée s’écrit aussi en arabe https://www.letemps.ch/culture/jeanbaptiste-brenet-pensee-secrit-arabe أبريل 150 2020
61
ملف خاص
62
أبريل 150 2020
( Edvard Munchالنرويج) ▼
أدب األ ْوبئة.. ِ فواجع االسترشاف!
إياك أن تقرتب!
عم تدور روايات العدوى؟ ّ
يف أدب األوبئة ،ال َّ يتمثل الخطر األكرب يف خسارة البرش حياتهم ،بل يف خسارة ما يجعلنا برشا ً يف األساس
أصــاب الجنــون ُســكّ ان لندن حين اجتــاح المدينة وبــاء الطاعون والمشــعوذين المنجمين ُ فــي العــام .1665طلبــوا المشــورة مــن ُ قــدس .ف َّتشــوا أجســادهم بحثــ ًا عــن عالمــات أو الم َّ والكتــاب ُ إرهاصــات اإلصابــة بالمــرض :انتفاخــات أو بثــور أو بقــع ســوداء. اســتجدوا نبــوءات واشــتروا تنبــؤات .صلــوا وعولــوا وأغمضــوا ـدوا آذانهــم .انفجــروا بالدمــوع فــي الشــوارع وقرأوا عيونهــم وسـ ّ أن هــذه الكُ تب أفزعتهم»؛ لهذا ســعت تقاويــم مفزعــة« :ال ريــب ّ الحكومــة التــي حرصــت علــى احتــواء حالــة الذعــر ،إلــى« :حظر طباعــة مثــل هــذه الكُ تــب أل ّنهــا تفــزع النــاس» .هــذا مــا جــاء المؤ ِّلــف اإلنجليــزي «دانييــل ديفــو» Daniel Defoe فــي كتــاب ُ ا ّلــذي حمــل اســم «يوميــات عــام الطاعــون»؛ وهــو تأريــخ كتبــه تيب نصائح بعنــوان «التحضيرات الالزمة «ديفــو» بالتزامــن مع كُ ِّ للطاعــون» صــدر فــي العــام 1722؛ وهــو العام الذي شــهد إصابة النــاس بالخــوف مــن احتمــال أن يعبــر المرض القنــاة اإلنجليزية ـر ًة أخــرى ،إ ْذ بعــد أن انتقــل من الشــرق األوســط إلى مارســيليا مـ ّ قــد يتجــه شــما ً ال علــى متــن ســفينة تجاريــة .كان «ديفــو» يأمــل أن يكــون كتابــاه ذا نفــع« :لنــا ولألجيــال القادمــة ،رغــم ضــرورة أن ننجــو مــن هــذه الحصــة مــن الــكأس المريــرة» .لكــن هــذه الــكأس المريــرة خرجــت مــن صوانهــا. ـن أصابهــم الفــزع إلى الريــف؛ والحكماء ـر َمـ ْ فــي العــام ،1665فـ ّ ـرروا ـ ق ـن ـ حي ـم ـ ه ن أ ـك ـ ذل ـدم؛ ـ الن ـم ـ فأصابه ـون أمــا المتلكئـ ّ أيضـاًّ ، ّ المغادرة« :لم يكن يوجد جواد واحد ُيمكن شــراؤه أو اســتئجاره داخــل المدينــة كلّهــا» ،كمــا يــروي «ديفــو» ،وفي النهايــة أُغلقت ـرف، البوابــات وباتــوا محتجزيــن جميعـاً .الجميــع أســاءوا التصـ ُّ لكن األثرياء كانوا األســوأ .إ ْذ كانوا يرســلون خادماتهم الفقيرات لشــراء المــؤن بعــد أن فاتهــم تخزيــن مــا يكفــي .كتــب «ديفــو»: «جــرت حتميــة الخــروج مــن بيوتنــا لشــراء مــا يلــزم الخــراب ّ علــى المدينــة بكاملهــا» .لقــي عشــرون بالمئــة مــن ســكّ ان لنــدن القصاب حتفهــم برغــم االحتياطات التي ا ّتخذها التجــار؛ إ ْذ كان ّ يرفــض تســليم قطعــة اللحــم للطباخــة فــي يدها ،بــل كان عليها أن تنتزعهــا مــن الخطّ ــاف بنفســها ،وكان عليهــا فــي المقابــل أن تضــع القطــع النقديــة داخــل دلــو يمتلــئ بالخلّ . ـتقر األســى والحــزن فــوق الوجــوه» .وأثبــت يكتــب «ديفــو»« :اسـ ّ تضييــق الحكومــة علــى نشــر الكُ تب التــي تثير فزع النــاس أ ّنه بال طائــل؛ إ ْذ كانــت الشــوارع تمتلــئ بمــا تثيــر قراءته الفزع .ســتقرأ ـد الجثث أثناء ملصقــات أســبوعية ُتعلــن أعــداد المتوفين ،أو تعـ ّ تكويمهــا فــي األزقة ،أو تقرأ األوامر التي ينشــرها عمدة المدينة: «س ـ ُنغلق المنــزل ا ّلــذي يســكنه أي شــخص يــزور شــخص ًا آخــر ُعــرف عنــه إصابتــه بعــدوى الطّ اعــون ،أو يدخــل عن طيــب خاطر أي منــزل ُمصــاب بالعــدوى وغير مســموح بدخوله» ،كما ســتقرأ الالفتــات فــوق أبــواب البيــوت المصابــة بالعــدوى التــي يحرســها خفــراء ،وعلــى كلّ بــاب عالمــة صليــب أحمــر يبلــغ طولــه قــدم
كاملــة ،تعلــوه عبــارة مطبوعــة بحــروف كبيــرة ُيمكــن قراءتهــا مــن مســافة بعيــدة تقــول« :ارحمنــا يــا الله!». مجازيـ ًا ث ـو ـ تل ـب ـ القــراءة عــدوى؛ تنقيــب داخــل الدمــاغ :فالكُ ت ِّ ّ وميكروبيولوجيـ ًا أيضـاً .كان قباطنــة الســفن فــي القــرن الثامــن ّ قدس عند وصولهم إلى المرافئ الم َّ عشــر يقســمون على الكتاب ُ طهــروا ســفنهم وغمروهــا بمــاء البحــر .وأثنــاء المخــاوف أ ّنهــم ّ تبخــر الكتب بوضعها مــن مــرض الســلّ ،كانت المكتبــات العامة ّ ّ داخــل أحــواض مــن الصلــب ُمحكَ مــة اإلغــاق وغمرهــا بغــاز «الفورمالديهايــد» .لكــن الكتب تلعب أيضـ ًا دور الدهان الملطِّ ف والســلوى .فخــال القــرون الطويلــة التــي اجتــاح خاللهــا وبــاء الصحي يقرأون الكتب الطاعــون أوروبــا ،كان الخاضعون للعــزل ِّ أمــا إن لــم تتــح لهــم ،ولــم إذا حالفهــم الحـ ّ ـظ وتوافــرت لهــمّ . يكونــوا أصحــاء بمــا فيــه الكفايــة ،فكانوا يــروون القصــص .هكذا نــرى فــي كتــاب «الديكاميــرون» ُ ِّ ـي «جيوفانــي للمؤلــف اإليطالـ ّ بوكاتشــيو» ،الذي ينتمي للقرن الرابع عشــر ،ســبع نســاء وثالثة رجــال يتناوبــون فيمــا بينهــم روايــة القصــص علــى مــدار عشــرة أيــام أثنــاء اختباءهــم مــن الطاعــون األســود. تتــراوح الروايــات التــي تــدور حــول األوبئــة بيــن «أوديــب ملــكاً»، وبيــن «مالئكــة فــي أميــركا» ،وبيــن «أنــت الطاعــون» ،و«أعمــى شــخصيات كاتــب المســرح يحكــي ألوديــب» .تقــول إحــدى ّ وثمــة 1986 العــام فــي نحــن األميركــي «تونــي كوشــنر»« :هــا ُ ّ ّ وبــاء يجتاحنــا .أصدقــاء أصغــر منــي ســقطوا موتــى ،ولــم أبلــغ ثمــة أوبئــة هنــا ،وأوبئــة هنــاك ،مــن الثالثيــن بعــد مــن عمــري»ّ . ومروعــة ،لكــن مــا مــن وبــاء طيبــة إلــى نيويــورك ،أوبئــة فظيعــة ِّ اإلنجليزيــة «مــاري الكاتبــة رت قــر ّ واحــد نــزل بالجميــع حتــى َّ تتمــة لروايتهــا «فرانكنشــتاين». شــيلي» أن تكتــب ّ «الرجــل األخيــر »The Last Manالتــي تــدور أحداثها في القرن تتخيل انقراض الجنس أول روايــة كُ برى الحــادي والعشــرين هي ّ َّ ٍ وبــاء عالمــي .نشــرت «شــيلي» الروايــة وهــي البشــري بســبب ّ ـن تحبهــم فــي عمــر التاســعة والعشــرين ،بعــد أن مــات كلّ َمـ ْ تقريبـاً ،وبعــد أن تركوهــا حســبما تقول« :كرفــات أخيرة من عرق ـراوي فــي محبــوب؛ إ ْذ يســبقني رفاقــي إلــى االنقــراض» .نــرى الـ ّ إنجليزيـ ًا فقيــر ًا وغيــر متع ِّلــم :رجــل بدائــي بدايــة الكتــاب راعيـ ًا ّ ومتوحش أيضاً .يهذبــه ويعلّمه أحد ـرد على القانــون ِّ عنيــف متمـ ِّ َّ ويصبــح مثقَّف ـ ًا مدافع ـ ًا ـر ـ التنوي ـر ـ عص ـبب ـ بس ـى ـ ق فيتر النبــاء، ُ ً ً عالمياً. ا ـ ومواطن ا ـ وجمهوري ـة ـ الحري عــن ّ ّ ّ ثــم يأتــي الطاعــون فــي العــام ،2092ويجتــاح القســطنطينية أوالً .وســنة تلــو األخــرى يغيــب الوبــاء كلّ شــتاء ،ثــم يعــود فــي ّ ـد خبث ًا وأوســع انتشــاراً ،وتشــرق الشــمس بلون أســود الربيع أشـ ّ عالمــة المــوت .تكتب«شــيلي»« :ثــار ذعــر مفاجئ عبر آســيا ،من ضفــاف النيل إلى شــواطئ بحر قزوين ،ومــن الدردنيل إلى خليج عمــان» .وتظــلّ طبيعــة الوبــاء غامضــة« :أطلقــوا عليــه وصــف أبريل 150 2020
63
الوبــاء ،لكــن الســؤال األكبــر ظــلّ دون جــواب بشــأن الطريقــة ـردد المشــرعون التــي نشــأ بهــا هــذا الوبــاء وكيــف تفاقــم» .ويتـ َّ ـرف :فمــن جهـ ٍ ـة هــم ال يفهمــون طريقــة ســريانه ،ومن فــي التصـ ُّ جهـ ٍ ـة أخــرى تملؤهــم ثقــة زائفــة« :ال تــزال إنجلترا آمنة ،ففرنســا وألمانيــا وإيطاليــا وإســبانيا يحولــون بيننــا وبينــه .الجــدران التــي أن أمم ـ ًا تفصــل بيننــا وبينــه لــم ُتختــرق بعــد» .ثــم تــرد تقاريــر ّ بأكملهــا ســقطت ،ولقــي مواطنوهــا حتفهــم ،ويلجــأ الخائفــون إلــى التاريــخ بعــد فــوات األوان ،ويجــدون فــي صفحاتــه ،بــل وفــي صفحــات «الديكاميــرون» أيض ـاً ،الــدرس الخاطــئ« :لقــد ـد ـرية .ولحـ ّ تذكّ رنــا طاعــون العــام 1348الــذي حصــد ثلــث البشـ ّ اآلن ال زال غــرب أوروبــا لــم تصبــه العــدوى ،فهــل ســيظل الحال هكــذا دائمـاً؟» لكــن الحــال ال يظــل هكــذا دائمـاً؛ إ ْذ يحــل الوبــاء بإنجلتــرا فــي نهايــة المطــاف ،لكــن آنئـ ٍ ـذ ال تبقــى أمــام األصحــاء حيــث «ال ملجــأ فــوق األرض» :لقــد أصــاب جهــةٌ يقصدونهــا، ُ الوبــاء العالــم بأكملــه! ـدم ،والفزع الهائل ـ يتق يزال ال ـر ـ التنوي ـر ـ لعص كان الحلــم الكبيــر َّ
ٍ ـي يحــلُّ مــن انــدالع وبــاء مــا يتراجــع .لكــن فــي األدب األميركـ ّ مثــل هــذا الخــراب مصحوبـ ًا بمنعطــف ديموقراطي فــي الغالب، تغــدو فيــه العــدوى أداة المســاواة األخيــرة .تــدور الحكايــة التي كتبهــا «إدجــار أالن بــو» فــي العــام 1842بعنــوان« :حفــل الموت األحمــر التنكــري »The Masque of the Red Deathفي عالم ـرض ُمعـ ٍ قروســطي موبــوء بمـ ٍ ـد يقتــل علــى الفــور تقريبـاً .يكتــب «بــو»« :كانــت البقــع القرمزيــة التــي تنتشــر بالجســد ،وال ســيما بوجــه الضحيــة ،هــي عالمــة اإلصابــة بالعــدوى التــي تمنــع عنــه النجــدة ،بــل وتعاطــف رفاقــه مــن البشــر» .وبشــكلٍ خــاص ،ال يتعاطــف األثريــاء مــع الفقــراء ،فنــرى أميــر ًا متغطرسـ ًا يلجأ إلى جانــب حاشــيته مــن النبــاء والنســاء لالعتــزال فــي قلــب إحــدى قــاع األميــر المشــيدة ،وهنــاك يعيشــون فــي تـ ٍ ـرف فاســد إلــى أن تصــل فــي إحــدى األمســيات التــي ُيقــام فيهــا حفــلٌ تنكــري، ـد كبيــر مالمــح شـ ـخصية تلبــس قناعـاً« :مصنــوع كــي ُيشــبه لحـ ٍّ ّ ـن يدقــق فيهــا عــن كثــب عــن اكتشــاف ـ م ـز ـ يعج ـة، ـ متيبس ـة ـ جث َ ْ ـن الخــداع» .الزائــر هــو المــوت األحمــر بنفســه ،ويلقــى كلّ َمـ ْ ـث تخفــق طبقــة النبــاء في فــي القلعــة موتهــم تلــك الليلــة ،حيـ ُ اإلفــات ممــا يضطــر الفقــراء إلــى مالقاتــه. ـول مــوت «بــو» األحمــر إلــى وبـ ٍ ـاء فــي روايــة «جــاك لنــدن» يتحـ َّ «الطاعــون القرمــزي »The Scarlet Plagueالتــي صــدرت ـول كامــل مسلســلة فــي العــام ( .1912نفــس المــرض حيـ ُ ـث يتحـ َّ الوجــه والجســد إلــى اللــون القرمــزي فــي غضــون ســاعة) .حــلّ الوبــاء فــي العــام ،2013وانمحــت كلّ البشــرية تقريبـاً؛ الثــري القويــة والضعيفــة فــي كافــة أرجــاء العالــم، والفقيــر ،األمــم ّ ـردهم بالتســاوي .مــن ـ وتش ـهم ـ بؤس ـمون ـ يقتس و ُتــرك الناجــون ُّ ـم فــي جامعــة ـ عال ـاء ـ الوب ـن ـ م ـت ـ نج ـي ـ الت ـة ـ القليل بيــن الفئــات ٌ حيــث كان يعمــل أســتاذ ًا لــأدب بيركلــي، بمدينــة كاليفورنيــا ُ ـزي ،اختبــأ داخــل مبنــى الكيميــاء حيــن عصــف الوبــاء اإلنجليـ ّ أن لديــه مناعــة ضــد المــرض .وهكــذا يعيــش ـن ـ وتبي ّ بــاألرضّ ، وحيــد ًا داخــل فنــدق قديــم فــي «يوســميتي» مســتفيد ًا مــن المع َّلــب ،إلــى أن ينضــم إلــى فريــق متاجرهــا الممتلئــة بالطعــام ُ صغيــر ويعثــر بينهــم علــى زوجــة .نــرى األســتاذ فــي مســتهل الروايــة التــي تبــدأ أحداثهــا فــي العــام ،2073وقــد أصبــح رجـ ً ا عجــوز ًا يعمــل راعيـ ًا يلبــس ويعيــش كأنــه حيــوان .يــروي قصــة يرددون كلمات الطاعون القرمزي ألحفاده وأبنائه الذين« :كانوا ِّ تتأ َّلــف مــن مقطــع واحد وعبارات متشــنجة قصيــرة أغرب من أن تكــون لغــة» ،لكنهــم بارعــون فــي اســتخدام األقواس والســهام. فيتنهــد ويلقي بنظره بالغم، ُتصيــب بدائيتهــم األســتاذ الجامعي ّ ّ عبــر مــا كان فــي الســابق مدينــة ســان فرانسيســكو. ـرف الروايــة يوم ـ ًا بأ ّنهــا المــكان ا ّلــذي كان «ألبيــر كامــو» قــد عـ ّ ٍ أما روايــات األوبئة ـن، ـ آخري ر ـ بش لصالح نتخ ّلــى فيــه عــن البشــر ّ فهــي المــكان الــذي يتخ ّلــي فيــه البشــر عــن كلّ البشــر ،فعلــى ـث يمكن أن يكون خــاف أنــواع روايــات نهايــة العالم األخرى ،حيـ ُ العــدو مــاد ًة مــا كيميائيــة أو بركانـ ًا أو زلــزا ً ال أو غازيـ ًا مــن كوكب ـان آخــر :لمســات أو أنفــاس بشـ ٍر ـإن العــدو هنــا هــو إنسـ ٌ آخــر ،فـ ّ آخريــن ،وفــي كثيــر مــن األحيــان -فــي معــرض التنافــس علــى ـرد وجــود بشــر آخريــن ■ .جيــل ليبــور المــوارد المتناقصــةُ -مجـ َّ
۹
64
ترجمــة :مجــدي عبــد المجيــد خاطــر (مصــر)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المصدر: مجلّة The New Yorkerعدد 30مارس .2020 * «جيل ليبور »Jill Leporeهي أستاذ التاريخ األميركي بجامعة هارفارد .حصدت كتبهــا العديــد من الجوائــز ،وتصدر هذا العام كتابها الرابع عشــر بعنوان: If Then: How the Simulmatics Corporation Invented the Future. أبريل 150 2020
تُبهر العالم بتنبؤاتها أثارت رواية «عيون الظالم» للروايئ دين راي كونتز ،الكثري من الكالم ،ومألت مواقع التواصل االجتماعي وشغلت خيال املهتمني بنظريات املؤامرة؛ كيف ال وقد تنبأت منذ ما يقرب من أربعني سنة بما نعيشه نحن اآلن بسبب هذه الجائحة
حبــل األدب األميركــي بروايــات اتخــذت مــن األوبئــة والجوائــح َي ْ موضوعــ ًا لهــا؛ ومــن ذلــك علــى ســبيل المثــال رواية الطاعــون القرمزي( الصادرة سـ�ن ة )1912للكاتــب «جــاك لنــدنJack Lon� »donتجري أحــداث هــذه الروايــة االستشــرافية فــي ســنة 2073؛ حمــى نزفيــة عالميــة قــد انتشــرت كالنار في الهشــيم حيــث كانــت ّ منــذ ســنة ،2013حتــى إنهــا قضــت علــى أغلــب ســكّ ان المعمــور. لذلــك ســيصبح هــذا الطاعــون بمثابة واقعــة تاريخيــة فارقــة، يتخذهــا مــن نجــى منــه كفاصــل بيــن عالــم مــا قبــل الطاعــون؛ والمتحضــر ،وعالــم مــا بعــد الطاعــون ،العالــم ـدن ّ العالــم المتمـ ّ والتطور ـي، ـ المعرف م والتقد ـانية، ـ اإلنس ـارة ـ الحض فيه الــذي تــكاد ُّ ّ المجتمعــي أن يندثــر؛ فيحــاول مــن تب ّقــى إنقــاذ ما يمكــن إنقاذه، حتــى وإن كان مــا يتذكَّ رونــه عــن عالــم مــا قبــل الطاعــون يبــدو ـرد َو َهــم (فالطاعــون حســب الروايــة انتشــر فــي لهــم وكأنــه مجـ َّ األرض لحوالــي ســتين ســنة) .يأخــذ أســتاذ عجــوز علــى عاتقــه مهمــة ضمــان اســتمرارية الحضــارة اإلنســانية وإحيــاء ثقافتهــا، ّ مــن خــال مــا كان يحكيه مــن ذاكرته لألطفــال الصغــار؛ عــلَّ اإلنســانية تنبعــث مــن رمادها . ولــم تنفك روايات مواطنه« ســتيفن كينــغُ »Stephen King تبهر ـدة حــول أن العالــم ـرات عـ ّ العالــم بتنبؤاتهــا التــي تمحــورت فــي مـ َّ مدمــر ًا يأتــي علــى األخضــر واليابــس. سيشــهد ال محالــة وبــاء ِّ المؤامرة ،وعمليــات ويميل« كينغ» علــى العمــوم إلــى نظريــات ّ المحرمــة .وتمثِّــل والتجــارب التصنيــع المخبــري للفيروســات، ّ روايتــه الشــهيرة اآلفة أو المواجهــة ـــ( الصادرة ســنة )1978 أبرز نمــوذج فــي هــذا المجــال؛ حيــث يــرى أن نهايــة العالم ســتكون لعمليات تعديل داخل المختبرات بســبب فيروس إنفلونزا خضع ّ العســكرية حتــى يكــون ســاح ًا بيولوجي ـ ًا يوظّ ــف فــي الحــروب، تقني سيتفشــى هــذا الفيــروس فــي العالــم، وبســبب خطــأ ّ حتــى إنــه ســيقضي علــى مــا يفــوق 99فــي المئــة مــن ســكّانه، رغــم كلّ إجــراءات العــزل والحجــر الصحــي وتقييــد الحركــة واالعتقاالت .يصــور «كينــغ» فــي هــذه الروايــة فنــاء العالــم الــذي ّ نعرفــه ليحــلّ معــه نظــام عالمــي جديــد يقــوم على أســاس البقاء ـم أولئــك الذيــن حباهــم اللــه بمناعــة لألقــوى؛ واألقــوى هنــا هـ ّ طبيعيــة تجــاه هــذا الوبــاء .ولعــلّ أهــم مــا تحــاول هــذه الروايــة ـدة أخــرى التأكيــد علــى األنانيــة تعبــر عنــه مــن ضمــن قضايــا عـ ّ أن ِّ التــي ُج ِبــل اإلنســان عليها؛ إذ ال يفكِّ ــر فــي ســاعات الشــدة ّإل فــي نفســه ،وفــي نفســه فقــط ،حتــى وإن كان فــي ذلك دمار البشــرية جمعاء .رواية تصور ضعف النفس البشــرية ،وهشاشــة اإلنســان إزاء الكــوارث ،وأنانيــة بعــض األنظمــة ،ومــا قد ينتج عــن التجارب المحرمــة من ســيناريوهات مرعبة . ّ وال يمكــن لمــن يباشــر الحديــث عن عالقــة األدب باألوبئــة والتنبؤ بوقوعهــا ،الســيما في زمن تفشــى فيه فيــروس كورونا في مختلف بلــدان العالــم ،أال يســتحضر رواية عيــون الظالم للروائي« ديــن راي كونتــز( »Dean Ray Koontz الصادرة ســنة ،)1981 والتــي أصبحــت أشــهر مــن نــار علــى علــم .ال يهمنــا هنــا هــل مــا جــاء فــي الروايــة مــن أحــداث هــو نبــوءة أم مصادفــة ،أم معلومــات ســرية عرفهــا الكاتــب بطريقــة مــا ،ال يهمنــا إن كان مــا كتبــه قــد
أوحــى ألحدهــم فيمــا بعــد بتصنيع فيروس ونســبه إلــى الصين... كلّ هــذه األمــور ال تهمنــا؛ ألن األهــم مــن الناحيــة األدبيــة أن هذه ـور ًا لمــا يمكــن أن يحــدث فــي حال مــا إذا فكَّ ر الروايــة وضعــت تصـ ّ أحدهــم فــي تصنيــع فيــروس في إطــار التحضيــر لحــرب بيولوجية مرتقبــة .ورغــم أن الروايــة تشــير صراحــة بأصابع االتهــام للصين، ـم أحداثهــا، مــن خــال جعــل مدينة ووهان الصينيــة مســرح ًا ألهـ ّ ورغــم أن الفيــروس المص َّنــع فــي حــد ذاته كان يحمــل اســم ـان ،»400 إل أن الحقيقــة تبقــى ضائعــة .لقــد أثــارت هــذه «ووهـ ّ الروايــة الكثيــر مــن الــكالم ،ومــأت مواقــع التواصــل االجتماعــي وشــغلت خيــال المهتمين بنظريــات المؤامرة؛ كيــف ال وقد تنبأت منــذ مــا يقــرب مــن أربعيــن ســنة بمــا نعيشــه نحــن اآلن بســبب هــذه الجائحــة ،مــع وجــود بعــض االختالفــات بالطبــع ،إن علــى مســتوى مــدة حضانــة الفيــروس ،أو درجــة شراســته ،أو حتــى الحيثيــات التــي أحاطــت بظهوره وتفشــيه . وعلــى الضفــة األخــرى ،عــرف اإلنتــاج الروائــي األوروبــي مــر التاريــخ اهتمامــ ًا كبيــر ًا باألوبئــة والجوائــح؛ علــى ّ ولعــلّ أولــى المحــاوالت الخالــدة فــي هــذا المجــال مجموعة الديكاميرون لإليطالي « جيوفاني بوكاتشـ�ي و �Gio ( »vanni Boccaccioألَّفهــا خــال الفتــرة الممتــدة مــن ســنة ـون 1349إلــى ســنة .)1353فعلــى غــرار «ألــف ليلــة وليلــة» ،تتكـ َّ هــذه المجموعــة مــن حكايــة إطــار وحكايات مؤطرة عددهــا مئــة حكايــة ،يتك َّفــل عشــرة أفــراد بروايــة عشــر حكايــات لــكلّ واحــد فضلــوا االنعــزال فرار ًا منهــم ،مــن أجــل تزجيــة الوقت؛ ذلــك أنهم َّ أمــا الحكايــة اإلطــار، مــن الطاعــون الــذي حــلّ بمدينــة فلورانســاّ . فتحكــي عــن الطاعــون ،أو المــوت األســود ،الــذي فجــع المدينــة اإليطاليــة ،ومــا خلَّفــه مــن ضحايــا يفوقــون الوصــف .لقــد اتخــذ «بوكاتشــيو» مــن الوبــاء ذريعــة من أجــل الحكــي ،وكأن االنعزال، أو الحجــر الصحــي ،مناســبة مــن أجــل الغــوص فــي الــذات مــن ـرف علــى الــذات جهــة ،واالنفتــاح علــى اآلخــر أيضـاً؛ مناســبة للتعـ ُّ ـرف علــى ـ للتع فــي مــرآة كلّ مــن األنــا واآلخــر ،ومناســبة كذلــك ُّ المختلــف واالســتفادة منــه .الجائحة إذا كانــت واقعاً ،فهي تفرض التعرف على الذات، المواجهــة؛ وأولى خطوات المواجهــة تقتضي ُّ فاآلخــر ،ثــم االنخــراط فــي مسلســل البناء بعــد مــرور العاصفة . وفــي روايته« الحجــر الصحي»( الصــادرة ســنة )1995 أبدع الروائــي الفرنســي« جون ماري لوكليزيــوJean-Marie »Le Clézioالحاصــل علــى جائــزة نوبــل لــآداب ،فــي وصــف مــا الرواية قصــة أخويــن علــى متن يعانيــه مــن يكــون بداخلــه .تحكــي ّ ســفينة فــي اتِّجــاه موطنهمــا ،غيــر أنــه فــي لحظــة تو ّقــف مؤ َّقــت للســفينة فــي مينــاء زنجبارُ ،تكتشــف إصابــة فردين من مســافريها بالجــدري؛ وهــو ما جعــل الســلطات المحلّية تفــرض عليهم حجر ًا ـمى .يحــاول الروائــي أن ينقــل لنــا فــي صحيــا إلــى أجــل غيــر مسـ ّ نفــس اآلن معانــاة المصابيــن بالوبــاء ،وخــوف المعزوليــن بالقوة: مــن الوبــاء ،من المكان المحتجزين فيه ،ومن المســتقبل المظلم والغامــض .ولكــن رغــم ذلك ،حــاول أحد األبطال أن يوجد لنفســه وســط هــذا الفضــاء الكارثــي الباعــث علــى التشــاؤم فســحة أمــل وفرجة تفــاؤل مــن خالل انغماســه فــي التم ّتع بالمناظــر الطبيعية لقصــة المبهــرة المحيطــة بــه ،وأيضـ ًا مــن خــال تذكّ ــره الســعيد ّ عالقتــه مــع محبوبتــه.
يف األدب العربي إمــا بطريقة لــم يخــل األدب العربــي مــن إشــارات إلــى األوبئــةّ ، عابــرة مثلمــا نجــد مثــ ً ا فــي ملحمة الحرافيش( الصــادرة ســنة )1977لـ« نجيــب محفوظ»( حيــث استشــرى وبــاء فتــك أبريل 150 2020
65
بالمصرييــن وأمعــن فيهــم قتــ ً ا وتنكيالً باســتثناء البطــل «عاشــور الناجــي» ،لتبــدأ األحــداث الفعليــة للروايــة) ،أو فــي ثالثية األيام( الصــادرة ســنة )1929 لـ« طــه حسين»( التي أشــار األول إلــى انتصــار وبــاء الكوليــرا فــي مســقط فــي جزئهــا ّ رأســه ،وكيــف أنــه فجعهــم فــي أخيــه) ...وإمــا بجعــل الوبــاء أســاس الحكــي الروائــي ،مثلمــا نجد علــى ســبيل التمثيل فــي رواية« إيبوال( »76 الصــادرة ســنة )2012 لـ«أمير تــاج الســر». تحكــي الروايــة مــن بيــن مــا تحكيــه فظاعــة وشراســة وبــاء إفريقــي بامتيــاز« :إيبــوال» الــذي حصــد آالف األرواح وشــ َّتت أهــم المحــاوالت فــي هــذا شــمل مئــات األســر .وتبقى مــن ّ (ابتداء مــن )1996للمرحوم« أحمــد البــاب ،سلســلة «ســفاري» ً خصــص رواياتهــا بالكامــل للحديــث عــن خالــد توفيق» ،التــي ّ ـمراء .بيد أنــه فــي تضاعيــف المشــكالت الطبيــة فــي القــارة السـ ْ المتعددة ،يفاجئنــا أحياناً بقدرته الغريبة على حبكاتــه الروائيــة ِّ التنبــؤ والتو ُّقــع فــي مجــال ظهــور األوبئــة والجوائح؛ لذلــك ِ ذُكر خاصــة فــي العالــم اســمه بقــوة بعــد انتشــار جائحــة كورونــا، ّ العربي .يقول في أحد أعــداد سلســلته« :الكابوس الــذي يطارد علمــاء الفيروســات فــي العالــم ك ّلــه هــو أن يعود وباء إنفلونــزا عــام 1918الــذي أطلقــوا عليــه اســم (الوبــاء اإلســباني) إلــى الظهــور .لقــد فتــك هــذا الوبــاء بثالثيــن مليونـ ًا مــن البشــر؛ أي أكثــر مــن ضحايــا الحــرب العالميــة األولى» .ولعــلّ مــا يجعلنــا نقــف مبهوتين أمام هــذا االستشــراف ،هــو إشــارته الغريبة المريعــة ّإل مــن هذه« :لهــذا ال نســمع عــن أوبئــة اإلنفلونــزا ُ جنــوب شــرق آســيا ،حتــى صــار للفظــة (إنفلونــزا آســيوية) رنين يذكرنــا بلفظــة (طاعون) ]...[ الوبــاء الحقيقــي المرعــب قــادم ال ـك فيــه ،ســيبدأ من مــكان مــا فــي الصيــن أو هونــج كونــج... شـ ّ ســاعتها لــن يكــون لنــا أمــل ّإل فــي رحمــة اللــه ،ثــم البيولوجيــة الجزيئيــة وســرعة تركيــب اللقــاح» ■ .نبيل موميــد (المغــرب)
66
أبريل 150 2020
تزدهر ثم تختفي
قصص الخوف والبطوالت روايــات األوبئــة ،مثــل األوبئــة ،تزدهــر ثــم تختفــي ضمــن موجــات متعاقبــة .يف السـ ِّتينات ،ظهــر فيلــم «ساللة أندروميدا ،»The Andromeda Strain - ملايــكل كريشــتون .وشــهدت فــرة الســبعينيات وقدم نجاحـ ًا الفتـ ًا لفيلم «املوقف» لســتيفن كينجّ . «التفش» يف الثامنينات .وبحلول روبن كوك فيلم ّ سنوات « ،2000الحرب العاملية» ملاكس بروكس، و«دليــل البقــاء عــى قيــد الحيــاة يف الزومبــي» .يف ،2014هيمنــت إميــي ســانت جــون مانــدل ،بفيلمهــا ّ يسمى «املحطة الحادية عرش» حول طاعون مميت ّ «أنفلونــزا جورجيــا» ،عــى قوائــم الجوائــز ،وحصلت عــى اعــراف واســع النطــاق. مــع فيــروس كورونــا ،فــي األذهــان ،يمكــن أن تكــون قــراءة الكتب فكرياً .بالنســبة إمــا تجربة مخيفة ،أو تجربة رائعة ّ حــول األوبئــةّ ، ـراء فــي الفئــة األخيــرة ،تقــول ســيلفيا مورينــو غارســيا، إلــى القـ ّ مؤلّفــة روايــات «آلهة اليشــم والظلّ » ،و«إشــارة إلــى الضوضاء»، «شــاطئ بــا ترويــض» :علــى الرغــم مــن أن الزومبي أصبــح مرادف ًا للوبــاء ،هنــاك عــدد مــن الروايــات التــي تتج َّنــب هــذه العــدوى الشــائعة .نفــدت روايــة «أغنيــة الناجين» لبول ترمبالي ،في شــهر يوليــو الماضــي ،وهــي تتع ّلــق بفيــروس يشــبه داء الك َلــب ،مــع تحدثت إليــه في مؤتمر بوســكون، فتــرة حضانــة قصيــرة .وعندمــا َّ الممرضــة ،ســاعدته فــي صياغــة أفــكاره حــول أخبرنــي أن أختــه، ّ الصح ّيــة فــي ماساتشوســتس ،مع مثل كيفيــة تعامــل الخدمــات ِّ ـوج عمــل بــول بوصفــه «أفضل عمــل رعب هــذا الســيناريو ،كمــا ُتـ ِّ جديد». وفــي الســياق نفســه ،تقــول الفــي تيدهــار ،مؤلّفــة العديــد مــن الروايــات ،بما فــي ذلك «القرن العنيــف» ،و«المحطّ ة المركزية»، المقدســة»« :لقــد أحببــت فيلــم «بونتيبــول»، و«األرض غيــر َّ المقتبــس مــن الروايــة .ظهــر فيــروس اللّغــة ،بالطبــع ،فــي وقــت ســابق ،فــي كتــاب «تحطُّ ــم الثلــج» لنيــل ستيفنســون، وهــو الكتــاب الــذي ينهــي حقبــة عصــر اإلنترنــت ،لكــن الرواي َت ْيــن ال تختلفــان .إحــدى الروايــات التــي ذكرتهــا هــي ملحمــة كيــم ســتانلي روبنســون «ســنوات األرز والملــح» .وقــد رجعــت إلــى الــوراء ،إلــى أحــداث «المــوت األســود» فــي القــرن الرابــع عشــر، تتخيــل أنــه ســيقتل الجميــع، كنقطــة انطــاق لروايتهــا ،لكنهــا ّ تقريب ـاً ،فــي أوروبــا .وفــي الســياق ذاتــه ،أثــارت الروائيــة نقطــة مهمة بالنســبة إلى مســتقبل البشــرية :مع تكرار لغة الفيروســات ّ واإلصابات واالنتقال الســريع واســع النطاق في أنظمتنا الرقمية، هــل أصبحنــا عرضــة لشــكل جديــد مــن الوبــاء؟ وبمــا أننــا أصبحنا
يف روايات األوبئة، يظهر املرض كخطر داهم عىل املجتمع، لكنه يؤثّر حىت يف غري املصابني .ومن الصعب قراءة ٍّ أي من هذه الروايات ،دون التفكري يف واقع عاملنا املعارص
أكثــر تكامـ ً ا مــع أجهزتنــا الرقميــة ،هــل أصبحنــا عرضــة للخطر، بشــكل أكبــر؟ ماذا لــو أصبحت ،حتــى المنازل والســيارات وحتى المفاعــات النوويــة ،تســقط فريســة للعــدوى الخبيثــة؟ أمــا «ديكاميــرون ،»The Decameron -وهــي مجموعة قصص ّ لإليطالــي جيوفانــي بوكاتشــيو ،فقــد «كانــت بمثابــة التريــاق للطاعــون الــذي أهلــك المدينــة فــي ذلــك الوقــت بحكاياتهــا ـب والفكاهــة واإلثــارة .يغــادر عشــرة صغــار ( ســبعة عــن الحـ ّ منهــم نســاء ،وثالثــة رجــال) مدينة فلورنســا ،حوالي عــام ،1350 أما «مجلّة وســاحهم القصــص بوصفها مالذ ًا للمــوت ِّ المتربصّ . اليوميــات الوهمية التي كتبها عــام الطاعــون» ،لدانييــل ديفو ،أو ّ قرر البقــاء في لندن التــي م َّزقها أحــد صانعــي الســروج ،بعــد أن َّ ِ الطاعــون فــي عــام ،1665فقــد كُ تبــت بمنهجيــة ود ّقــة عاليــة، ويمكــن القــول إنهــا روايــة صحافيــة عــن الطاعــون الدبلــي فــي عام ،األغنياء العاصمــة اإلنجليزيــة .وفي جميع األوبئة ،بشــكل ّ أول مــن يغــادر المدينــة .يالحــظ ديفــو ذلــك فــي مذكِّ راتــه، هــم َّ واصفــ ًا الخــدم الذيــن يســاعدون النبــاء وعبيدهــم للخــروج، بســرعة ،إلــى الريــف ،بعيــد ًا عــن آالم الوبــاء. وفــي الفصــل ( )28مــن «المخطوبــون» ،الروايــة التاريخيــة، لإليطالــي ألســاندرو مانزونــي ،يصــف األخيــر ردود فعــل ســكّ ان ـم احتجــاز المصابيــن فــي ميالنــو تجــاه الطاعــون ،عــام .1648يتـ ّ قبض على وي ـدوى. ـ الع كبح جنــاح الجــذام ،فــي المدينة ،بهــدف ُ َ أكثــر مــن 10آالف (بيــن رجــل وامــرأة وطفــل) فــي جميــع أنحــاء ـم عزلهــم فــي ( )288غرفة ،وليس من المســتغرب المدينــة ،ويتـ ّ أن ُيقضــى عليهــم هناك .أُغلقت المتاجر ،وأفرغت المصانع ،في يومياً. الوقــت الــذي يمــوت فيه 100أو أكثر في ســجن الطاعون، ّ ومــن أشــهر الروايــات ،فــي هــذا البــاب ،نذكــر «الطاعــون La - قصــة أكثــر حداثــةً مــن الخيــال ،»Pesteأللبــرت كامــو ،وهــي ّ ـاب جــان تــارو ـ والش ـو، ـ ري ـارد ـ برن الوبائــي ،بطالهــا همــا :الطبيــب ّ الــذي يحتفــظ بســجلّ دقيــق ،لألحــداث ،زمــن انتشــار المــرض. حالياً ،أمرت الســلطات علــى غــرار الحكومة الصينية في ووهان، ّ الفرنســية ،آنــذاك ،بتطويــق مدينــة وهــران الموبــوءة ،وأجبــرت الســكّ ان علــى مالزمــة منازلهــم لمنــع انتشــار الطاعــون. وفــي الروايــة ،أيضـاً ،نجــد أنــه حتــى بعــد فصــل البطــل ريــو عــن زوجتــه ،ظــلّ يحــارب المــوت بجانــب تــارو ،وهــذا يحيلنــا علــى األطبــاء األخبــار التــي تصلنــا ،اليــوم ،عــن إصابــة المئــات مــن ّ والممرضيــن الصينييــن بالعــدوى ،وموتهــم في أثنــاء مكافحتهم ِّ ـرد حــدث ـ مج ـس ـ لي ـون ـ الطاع ـك، ـ كذل ـو، ـ كام ـة ـ رواي ـي ـ ف ـاء. الوبـ َّ ـادي ،بــل هو رمز ألفكار الفاشــية والنازية التــي ُهزمت ،حديثاً، مـ ّ تفشــي األوبئــة ،ومــا فــي أوروبــا .وخلصــت الروايــة إلــى أنــه مــع ّ ـتحق يرافق ذلك من تصرفات ســلبية ،يظهر األبطال «أشــياء تسـ ّ ُّ اإلعجــاب أكثــر مــن االحتقــار» .قبــل كلّ شــيء ،يالحــظ الروائــي ـد الطاعــون لــن يكــون نهائي ـاً ،أبــداً :لمنــع انتصــار أن النصــر ضـ ّ ـد الخــوف. ـ ض ـة ـ المعرك ـتمر ـ تس أن ـب المــوت ،يجـ ّ ّ أمــا روايــة «حجــر القمــر :الفتــى الــذي لــم يكــن أبــداً» ،للكاتــب ّ ــد كبيــر -علــى األيســلندي «ســيجون ،»Sjón -فتقــوم -إلــى َح ّ تســببت األنفلونــزا خلفيــة ريكيافيــك ،للعــام ،1918عندمــا َّ اإلســبانية فــي هــاك معظــم الســكّ ان .ورغــم طابعهــا الغنائــي، ـد كبير ،وجوانبها األكثر شــبه ًا بالحلم كانــت تنقــل الواقــع إلى َحـ ّ تظهــر -فــي الغالب -في ســياق المــرض أو الهذيان .بطــل الرواية ـاب مثلي مولع هــو مانــي ســتين (مــن هنا جاء عنــوان الروايــة) شـ ّ باألفــام ،ويحمــل وعيـ ًا مفرطـ ًا بــأن هنــاك شــيئ ًا مــا يحــدث فــي العالــم ،مــن حولــه. معظــم أحــداث الروايــة تتجلّى ،للقارئ ،من خــال نافذة زيارات
مانــي للســينما (كانــت األفــام صامتــة ومصحوبة بالموســيقى)، التفشــي حيــة حيــث تبــدأ األنفلونــزا فــي ّ ثــم تتطـ ّ ـور إلــى صــور ّ المحلييــن .يكتــب ســيجون «هنــا ،أصبحــت دور بيــن الســكّ ان ِّ ـدوءا» ،واصفـ ًا خطــورة الوبــاء من خــال تقلُّص الســينما أكثــر هـ ً أعــداد الموســيقيين الذيــن يعزفــون موســيقى األفــام الصامتــة. خاصــة علــى المدينــة ،نافــذة تكشــف مــا يــدور داخل إنهــا نافــذة ّ ليخيم األســوار .وســرعان ما انتشــر هذا الصمت خارج المســرح ّ علــى المدينــة ،بأكملها. يجثــم الصمــت المشــؤوم علــى الجــزء األكثــر ازدحامـاً ،واألكثــر نشــاط ًا فــي المدينــة؛ فــا أثــر للحوافــر ،أو قعقعــة عجــات الدراجات الناريــة ،أو رنين العربــات أو هديــر السـ ّـيارات ،أو أزيــز ّ دوي النجاريــن ،أو أجــراس ّ الدراجــات .ال تســمع ضجيــج ورش ّ ّ دكاكيــن الحــدادة ،أو صريــر أبــواب المســتودعات. عــدة تفســيرات لوبــاء Dragonscaleالخيالــي ،علــى قدمــت ّ ّ امتــداد الكتــاب .البعــض يشــير إلــى مخلَّفــات الحــرب البــاردة، ـريرة .وهنــاك مــن ربمــا مـ ّ أو ّ ـادة مــن صنــع بعــض الشــركات الشـ ّ يهمس بتفســيرات دينية ،والبعض اآلخر يحاولون الغوص عميق ًا ـر علــى هــذا الشــعور فــي تأويالتهــم .لكـ ّ ـن هيــل ،بحكمتــه ،يصـ ّ بالغمــوض .ورغــم وجــود بعــض التفســيرات المنطقيــة أكثــر مــن أي منهــا ،علــى اإلطــاق .مــن وجهــة ـم التح ُّقــق مــن ٍّ غيرهــا ،لــم يتـ ّ يتحدث عن ال ـاب ـ فالكت ً: ا ـ منطقي يكون ـد ـ ق ـك ـ ذل نظــر ســردية، كلّ َّ ّ ـد ذاتــه ،بــل حــول كيفيــة تغييــر المجتمــع. الطاعــون بحـ ّ فــي «رجــل اإلطفــاء» ،و«حجــر القمــر» ،و«ديكاميــرون» ،وغيرها مــن روايــات األوبئــة ،يظهر المــرض كخطر داهم علــى المجتمع، أي لكنــه يؤ ّثــر حتــى فــي غيــر المصابيــن .ومــن الصعــب قــراءة ٍّ مــن هــذه الروايــات ،دون التفكيــر فــي واقــع عالمنــا المعاصــر: ـخصياتها هــي نفســها المخــاوف التي المخــاوف التــي تواجههــا شـ ّ يواجههــا الكثيــرون فــي وقتنــا الحاضــر .إن إضافــة عنصــر األوبئــة ـدة التو ُّتــر ،وصعوبــة الرهانــات ،ويذكّ ــر إلــى الروايــة يزيــد مــن حـ ّ ـراء بضعــف قدراتهــم ضمــن هــذا المخطَّ ــط الكبيــر لألشــياء. القـ ّ ■ توبياس كارول ترجمة :عبدالله بن محمد (تونس)
۹
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: Literary Hub.com
أبريل 150 2020
67
«يوميات عام الطاعون» ()1722 ّ
روايــة خياليــة عــن وبــاء الطاعــون األســود الــذي ضــرب لنــدن عــام 1655للمؤ ّلــف «دانيــال ديفــو »Daniel Defoوهــي كالكثيــر مــن كتاباتــه تتميز األخــرى ،مثل «روبنســون كــروزو» (،)1719 َّ ـام مثيـ ٍر للدهشــة بالتفاصيل .فــي الروايــة باهتمـ ٍ ـجل ـراوي مــن منــزلٍ إلــى منــزل ،ويسـ ّ ينتقــل الـ ّ المروعــة للطاعــون علــى الحيــاة المالحظــات ّ إلى «يوميــات الطريق .يشــار اليوميــة علــى طــول ُ ّ عــام الطاعون» فــي الحقيقة لكونهــا أكثر تفصي ً ال يوميات طاعــون «صموئيل بيبيــس Samuel مــن ّ الواقعيــة. »Pepys ّ
الرسي» ()1799 «أورموند ،أو الشاهد ّ
تــدور أحــداث روايــة «تشــارلز بروكديــن بــراون »Charles Brockden Brownخــال انــدالع المدمرة عــام ،1793 الحمــى الصفــراء التاريخيــة ِّ والتــي أصابــت ســكّ ان فيالدلفيــا .كان هــذا حدثـ ًا عــاش فيــه المؤلِّف ،وفقَ د أفضــل صديقٍ له .تركّ ز الروايــة مــن الناحيــة الموضوعيــة علــى الطــرق ّ فعــلٍ علــى بيئاتهــم ـرد ـ ك ـراد ـ األف ـا ـ به ـر ـ يتغي ـي ـ الت ّ ْ َّ الروايــة «كونســتانتيا» ـة ـ بطل ـع ـ وتتاب ـة، ـ االجتماعي ّ (وهــي امــرأة شــابة تكافــح مــن أجل إبقاء أســرتها فــي المنــزل وإطعامهــا عندمــا يفقــد والدهــا تفشــي المــرض) وعالقتهــا بأورمونــد عملــه أثنــاء ّ إن بعض التفاصيل الدامية بشــأن آثار الغامــضّ . ـراء المعاصريــن! ـ الق ـى ـ حت ـج ـ تزع ـد الطاعــون قـ ّ تشتهر مؤلفة الرواية «ماري ولستونكرافت شيلي »Mary WollstonecraftShelleyباختــراع روايــة الخيــال العلمــي مــن خــال روايتهااألولــى «فرانكنشــتاين» ( .Frankenstein )1818كمــا كتبــت روايــة عــن مــا بعــد نهايــة العالــم أ ّثــرت ـدة علــى روايــات الطاعــون -تــدور أحداثها في بشـ ّ نهايــة القــرن الحــادي والعشــرين ،وتم ِّثــل وجهــة نظــر رجــلٍ وحيد «ليونيل فيرني» -والذي يشــاهد زوال الجنــس البشــري .تعتمد الشــخصيات التي ٍ ـخاص تمــت مواجهتها على طول الطريق على أشـ ّ مــن دائــرة شــيلي االجتماعية،مثــل بيرســي بيــش و بايــرون.
«األرض تبقى» ()1949
تتحــث روايــة الكاتــب األميركــي «جــورج ر. َّ ســتيوارت »George R. Stewart -عــن أنــه بعد ـرض غامـ ٍ ال ّتعافــي مــن مـ ٍ ـض يقتــل غالبيــة ســكاّن الواليــات الم َّتحــدة ،ينطلق «إيشــروود ويلســون» فــي رحلـ ٍ عبــر أميــركا الكتشــاف من يوجــد هناك ـة ْ أيضـاً ،محــاو ً ال فــي نهايــة المطــاف بــدء المجتمع ـكلٍ جيد ـ بش ر تتطو لم ـتيوارت ـ س رواية من جديد. َّ ّ مــن حيــث النــوع والسياســة العرقيــة ،لكنهــا ال تــزال مثيــر ًة لالهتمــام كمخطّ ــط لروايــات مــا بعد ـص نهايــة العالــم فــي القــرن العشــرين .إنــه فحـ ٌ
68
أبريل 150 2020
ـر لالهتمــام بمخــاوف الواليــات الم َّتحــدة بعد مثيـ ٌ تتبــع الكثيــر منهــا حتــى ـن ـ يمك ـي ـ والت ـرب، الحـ ّ يومنــا هــذا.
«الكوميديا التهريجية!»
مثــل كثيـ ٍر مــن مؤلَّفات «كــورت فوننيجوت Kurt ( »Vonnegutالكاتــب األميركي) ،يعتبــر عملــه الجدية .تقــع هــذا مــن نــوع الكوميديــا الســوداء ّ أحــداث هــذه الكوميديــا فــي نيويــورك حيــث يعيــش الســكّ ان فــي عزلــة ،ويرويهــا مــن خــال الســرد االرتجاعــي ملــك مانهاتــن البائد .مــن بين ّ الكــوارث األخــرى كانــت هنــاك تجربــةٌ وطنيــةٌ خاطئــة :بــدأت الصيــن بتقليــص مواطنيهــا مــن أجــل توفيــر الموارد .والنتيجــة أنهــم يتقلَّصــون فــي النهايــة إلــى الحجــم الــذي يتــم استنشــاقه ممــا مــن ِقبــل البشــر مــن ذوي الحجــم العــاديّ ، تفشــي الطاعــون الــذي يه ـ ّز العالــم ـؤدي إلــى ّ يـ ِّ الغربــي...
«العمى» ()1995
فصـ�ل روايـ�ة «خوسـ�يه سـ�اراماغو José Sara� - ُت ّ وبائي تفش تفاصيل البرتغالي) وائي (الر »mago ٍّ ّ ّ يســلب الناس ـمها ـ ذكراس ي ـم ـ ل ـة ـ مدين مفجــع فــي ُ ْ تفشــي الوبــاء ،تقــوم مــن أبصارهــم.رد ًا علــى ّ ّ والحجــر بجمــع المصابيــن المختصــة الجهــات ّ ْ ْ ٍ بســرعة إلــى عليهم .تتحــول األمــور الصحــي ّ أن المكفوفيــن يعاملــون بقســو ٍة فوضــى حيــث ّ مــن ِقبــل المســؤولين .ربما يكون «العمى» هــو ربما خبثـ ًا في هذه القائمــة والذي َّ الكتــاب األكثــر ْ يقــول شــيئ ًا -االقتــراب بحــذر!
«سنوات األرز وامللح» ()2002
قد يكون كيم «ســتانلي روبنسون Kim Stanley ( »Robinsonالكاتــب األميركــي) معروف ًا بشــكلٍ أفضــل الهتمامــه بالتنبــؤ بالمســتقبل فــي روايات الخيــال العلمــي -مثل «ثالثية المريــخ» (1993- )Mars trilogy )1996و«أورورا» ( ،)2015ولكنه في «ســنوات األرز والملــح» ينظرإلــى الماضــي، متكهن ًا بما كان ســيحدث إذا جرى قتل % 99من ســكّ ان أوروبــا بــد ً ال مــن ثلثهــم بســبب الطاعــون الروايــة ،التــي تنقســم إلى عشــرة األســود .تحكي ّ ـر ـ م ـى ـ عل ـاؤه ـ بن ـم ـ يت ـي ـ غرب ـم ـ قصــة عا َل أجــزاءّ ، ّ ـد كبيــر. ـ ح ـى ـ إل ـة ـ مختلف ـرات ـ تأثي ـع ـ العصــور م ٍّ
«أوريكس وكريك» ()2003
األول مــن ثالثيــة هــذا الكتــاب (الــذي هــو الجــزء ّ الروائيــة ( )Madaddamالتــي قامــت بتأليفهــا ّ الكنديـ�ة «مارغريـ�ت أتـ�وود Margaret At� - عامــي 2003و ،2013هــو مــن »woodمــا بيــن ّ وجهــة نظر شــخصية تعانــي من فقــدان الذاكرة، يدعــى «ســنوومان» ،والــذي قد يكون آخر إنســان
الســرد االرتجاعي، علــى قيــد الحياة .ومن خــال ّ بالتعــرف علــى المزيــد مــن حياتــه قبــل نبــدأ ّ نهايــة العالــم -حيــث يكــون فــي ذلــك الوقــت قــد عمــل جنبـ ًا إلــى جنــب مــع أفضــل صديــقٍ لــه «كريــك» فــي مختبــر لع ْلــم الوراثــة حيــث كانــت ُتجــرى تجــارب محفوفــة بالمخاطــر علــى كلٍّ مــن الحيوانــات والبشــر.
«عام الطاعون» ()2007
ٍ أولٍ آخــر مــن ثالثيــة ألّفهــا «جيــف فــي جــزء ّ القصة المثيرة ل تتخي ،»Jeff Carlson كارلسون ّ َّ عالَمـ ًا خرجــت فيــه تقنيــة النانــو عــن الســيطرة، ـونٍ أي مخلــوقٍ ممــا ّ ـي» يقتــل ّ ّ أدى إلــى «طاعـ آلـ ّ ـن الطاعــون ال يســتطيع البقــاء ـ يصيبه .لك ـي ـ ثدي ّ ٍّ ـر البشــر الناجيــن علــى ارتفاعــات عالية .ولهــذا فـ ّ إلــى أماكــنٍ مثــل جبــال روكــي فــي كولــورادو، ٍ ارتفاعــات تصــل إلــى أكثــر مــن للعيــش علــى رواد يحــاول األثنــاء، هــذه قدم .فــي 10000 ّ الفضــاء العالقــون فــي محطّ ــة الفضــاء الدوليــة إيجــاد حــلٍّ للوبــاء -وينجحــون فــي ذلــك.
«التربع بال ّنوم» ()2014 ّ
تتحــدث روايــة الكاتبــة األميركيــة «كاريــن راســل أن وباء األرق يبدأ باكتساح »Karen Russellعن ّ الواليــات الم َّتحــدة ،مــع بقاء األفراد مســتيقظين أن يفارقــون ألســابيع متتاليــة بــا انقطــاع إلــى ْ الحيــاة بصــور ٍة مأســاوية .الطريقة الوحيــدة متبر ٍع ســليم . لمجابهــة األرق هــي نقل النوم من ّ وهنــاك منظمــة أنشــئت إلدارة عمليــة نقــل الــدم تدعى ( .)Slumber Corps Theعندما يكتشــف ـرع عالمي أول متبـ ٌ «تريــش» -أحــد مســتخدميهاّ - أي شـ ٍ ـخص -ي َّتضــح يمكــن أن يعكــس نومــه أرق ّ ـرع إنمــا هــو طفــلٌ رضيــع. ّ أن ذلــك المتبـ ّ
«آخر أطفال طوكيو» ()2018
روايــة الخيــال العلمي هذه ،التــي كنبتها المؤلّفة اليابانيــة «يوكــو تــاوادا ،»Yoko Tawadaتقــع ـد مــا خــارج النطــاق العــادي للوبــاء .فــي إلــى حـ ٍّ عمــل تــاوادا التجريبــي ،كلّ جيــلٍ فــي اليابــان ٍ ٍ يولــد بشــكلٍ ضعــف فــي جهــاز غامــض مــع ـكلٍ تدريجي .وفــي حيــن أن الرجــال المناعــة بشـ ّ ً طبيعيـ ًا إلــى ـون ـ يصل ـن ـ الذي ا ن ـ س ـر ـ األكب والنســاء ّ ّ ســن المئــة يظ ّلــون معافيــن وفــي أحســن حــال، فــإن األجيــال الشــابة تكافــح مــن أجــل العيــش ِلمــا بعــد الطفولة .وهــذه الروايــة تتابــع مــأزق الراعــي الوحيــد لحفيــده ّ المســن «يوشــيرو»ّ - يعمــر ـد ـ ق ـب ـ األغل ـى ـ عل ـذي ـ وال ـي» ـ «موم األكبــر ّ أكثــر مــن حفيــده ■ .ســارة كوليــن ترجمــة: حســام حســني بــدار (األردن)
۹
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدرwww.headstuff.org :
فــي عــام ،1978أصــدر األميركــي «ســتيفين كينــغ Stephen »Kingروايتــه «( »The standالموقــف) ،التــي تتنــاول انهيــار معدلــة مــن فيــروس اإلنفلونــزا، المجتمــع بفعــل نشــر ســالة َّ وكجـ ٍ ـزء ،وفــق الحبكــة الســردية ،مــن حــرب بيولوجيــة تأتــي علــى النســبة العظمــى من ســكّ ان الكــون .ينــدرج العمل ضمن الخيــال العلمــي وأدب الرعب ،ويص َّنف تحت أدب نهاية العالم الــذي راج بعــد الحــرب العالميــة الثانيــة ،لذلــك فــإن ترجمــة العنوان إلى اإلســبانية ،ســواء بـ«( »Apocalipsisفي إسبانيا)، أو «رقصــة المــوت» ( La danza de la muerteفــي أميــركا عامة، الجمعية الالتينيــة) ،يســتجيب لمخزون الذاكــرة الكونية ّ ّ ّ خاصــة حــول فكــرة نهايــة الزمــان. والغربيــة ّ ّ قبــل انقضــاء القــرن العشــرين ،تحديــد ًا فــي عــام ،1995أصدر البرتغالي خوســيه ســاراماغو روايته «العمى» ،التي تدور حول وبــاء يجتــاح المدينة المعاصرة .وفيها يأتي على ســرد تداعيات فردانيــة تفاقــم األوضــاع وفقــدان البصيــرة اإلنســانوية أمــام ّ العدميــة الفوضويــة ،وتأثيــر كلّ ذلــك علــى النظــام األخالقــي ّ وتفــكك المجتمــع .وفــي عــام ،1947كان ألبيــر كامــي قــد أصدر روايتــه الشــهيرة «الطاعــون» ،التــي تــدور أحداثها أثنــاء طاعون مدينــة وهــران ،وفيهــا يحبــك الكاتــب فــي نســيجها الســردي القلــق الوجــودي ،وســؤال الكينونــة .وقبل ذلك فــي عام ،1912 ـدم نشــر تومــاس مــان روايتــه «مــوت فــي البندقيــة» التــي تقـ َّ ـور حكائيتهــا ،توصيفـ ًا ينـ ّز منــه فكــر نيتشــه، بالتــوازي مــع تطـ ّ ويوجــز ســيمياء االنحــال أمــام تهديــد المــوت بوبــاء الكوليــرا الــذي يلــوح فــي األفــق. ُيع َثــر علــى نصـ ٍ ـوص ثقافيــة حــول األوبئــة فــي عصــور مختلفة، يكفــي تذكّ ر رائعة ســوفوكلس «أوديب ملــكاً» (.429ق.م) ،التي يشــكِّ ل الوبــاء ،الــذي أصــاب مدينــة طيبــة ،مكونــ ًا جوهريــ ًا فــي بنيتهــا التراجيديــة .كذلــك معانــاة القــوات اإلغريقيــة فــي الملحميــة ،مــن وبــاء يأتــي علــى حيــاة «إليــاذة» هوميــروس ّ الجنــود ،بســب تجــرؤ آغاممنــون علــى اتخــاذ ابنــة كاهــن أبولــو محظيــة لــه .وفــي «العهــد القديــم» شــكَّ لت ســيرورة الطامــات ّ الكبــرى ،والجوائــح عامــ ً ا أساســي ًا فــي مصيــر البشــرية فــي ـص الســردي ،إضافــة لدورهــا فــي تعدديــة التأويــل النصــي النـ ّ والتفســير .ولــم يتوقَّــف الوبــاء عــن الظهــور فــي النصــوص األدبيــة ،بــل شــكل عتبــة «الديكاميــرون» لبوكاتشــيو فــي القرن الرابــع عشــر ،حيــث ينــزوي عــدد مــن الشــبان خــارج فلورنســا هرب ـ ًا مــن جائحــة «المــوت األســود» (الطاعــون) ،التــي بــدأت وربمــا عــام ،1348ويأخــذون بســرد األقاصيــص لقتــل الوقــتَّ ، ـد مــن اإلشــارة تحديــه .وفــي معــرض الحديــث هنــا البـ ّ لمحــض ّ «يوميــات ســنة الطاعــون» لإلنكليــزي دانييل ـة ـ المعنون للروايــة ّ ديفــو ،والتــي رأت النــور عــام ،1722وتــدور حــول محنــة أحــد األفــراد خــال الوبــاء الرهيــب الــذي اجتــاح لنــدن ســنة .1665 كما تندرج في الســياق الســردي نفســه رواية «الخطيبان» التي صــدرت ،1827ألليســاندرو مانزونــي ،وفيهــا ســرد لمشــهدية الرعــب وتأثيــره المجتمعــي ،وفضــح النفــاق الدينــي والدنيــوي تفشــي الطاعــون فــي إيطاليا في العقــد الثالث المتفشــي أثنــاء ّ ّ من القرن الســابع عشــر ■ .أثير محمد علي (ســورية -إســبانيا) أبريل 150 2020
69
تأمالت ثقاف ّية ّ
يف الظرف الكوين
ثمّ ة ظرف كو ّ ين جديد تتشكل مالمحه شيئاً ّ ً فشيئا بالتزامن مع
أخبار كورونا املتواترة يومياً .وما علينا نحن العرب ّإل أن نبادر إىل املشاركة فيه ،دون أن نفقد هويّاتنا أو خصوص ّياتنا ،عىل ّأل نكتفي بفضيلة التأمّل والجلوس عىل األريكة ملشاهدة عالم يتح َّرك برسعة الربق الخاطف أمام أعيننا عرب الشاشات
70
ـردية كبــرى فــي (ألــف ليلــة ولية) ثمــة وجــود لحكايــة أو سـ ّ ليــس ّ حــول وصــف المــدن التــي أبادتهــا األمــراض واألوبئــة .بيــد أن حكايــة «مدينــة النحــاس» علــى ســبيل المثــال ،وهــي واحدة من الحكايــات األثيــرة فــي متــن «الليالــي» ،تبــدو األقــرب إلــى هــذا النمــط مــن الســرود ،رغــم أنهــا لــم تكــن ســوى مدينة الســحر أو الطلســم الــذي دفــع األميــر موســى وصاحبــه طالــب بــن ســهل ـو إلــى الدلــوف إليهــا وهــي خاويــة علــى عروشــها كالخارجــة للتـ ّ ـد لــه .وإذا باألميــر موســى الذي مــن طاعــون عظيــم أو وبــاء ال حـ ّ يشــبه عاشــور الناجي فــي ملحمة «الحرافيــش» لنجيب محفوظ يتف ّقــد أحــوال الموتــى الذيــن يشــبهون األحيــاء ،كلٌ علــى هيئتــه ـر مــن وجوههــم وأجســادهم التــي ُق ِبــض عليهــا ،والــدم يــكاد يفـ ّ كتماثيــل الشــمع المخاتلــة للناظريــن ،لكنهم طاعنــون في موت المذهــب بيــن يــدي األميــرة وســبات عظيــم .ثــم يلفــت اللــوح ّ ُ الجالســة علــى ســريرها نظــر األميــر موســى ،فيقــرأ مــا فيــه مــن وصيــة توجــز حكاية مدينتها العجيبــة التي اب ُتليت بمجاعة أودت بهــم جميعـ ًا إلــى حتوفهــم ،وفــي نهايــة الحكايــة تســرد األميــرة متضرعــة إليــه ألول طــارق ألبــواب المدينــة المســحورة وصيتهــا ّ ِّ أن يأخــذ مــن الذهــب والجواهــر مــا شــاء ّإل أن يكشــف مــا عليهــا مــن ثيــاب تســتر عورتهــا وجهازهــا مــن الدنيــا. المتخيلــة ،هــل يمكــن النظــر إلــى المرويــة فــي مثــل هــذه ّ ّ مدينــة النحــاس بوصفهــا الصــورة القديمــة لمدينــة «ووهــان فجــره خــروج فيــروس »Wuhanالتــي تو ّلــد فيهــا رعــب أســود ّ كورونــا (المعــروف دوليـ ًا اآلن باســم « )»COVID 19مــن قمقمه ثمــة صلــة بينهمــا، منــذ أســابيع معــدودات؟ بالقطــع ال .ليــس ّ ـي أو ـرد مقاربــة سـ ّ لكنهــا مجـ َّ ـردية تدفــع القــارئ والباحــث الثقافـ ّ والتأمــل فــي مصائــر ـة ـ المقارن ـى ـ إل ـيولوجي ـ السوس أو ـي ُّ ّ السياسـ ّ البشــر والممالــك والبلــدان ،خصوص ـ ًا عندمــا يعبــث اإلنســان بحيــاة أخيــه اإلنســان عبــر ممارســة الســحر األســود أو عندمــا متذرعـ ًا إمــا ِّ يعبــث بالطبيعــة عبــر تخليــق الفيروســات الف ّتاكــةّ ، ـي تدفعــه إليه دوافــع عرقيــة وعنصرية ،أو بمواجهــة عــدو حقيقـ ّ متخيــل ال يــدري أن رغبتــه فــي ممارســة الســيطرة المطلقة عــدو ّ ٌ محفوف بالمخاطر أمر دقيقة ة بيولوجي ـلحة ـ أس ـتخدام ـ باس عليه ٌ ّ القصــوى مهمــا امتلكــت مختبراتــه أعلــى معاييــر الجــودة فــي وربمــا خيــر دليــل وســائل األمــن والحمايــة البيوتكنولوجيــةَّ . ّ ـرد ذكــر بعــض الحــوادث التــي لــم يخــلُ التاريــخ علــى ذلــك مجـ َّ البشــري الحديــث منهــا ،مثــل إطــاق الــروس جثثــ ًا مصابــة ّ بالطاعــون علــى القــوات الســويدية عــام ،1710أو اســتخدام
أبريل 150 2020
بريطانيــا العظمــى فيــروس «الجــدري» الف ّتــاك للتخلّــص مــن األلماني في الحرب العالمية الســويديين ،أو اســتخدام الجيش ّ المؤرخين -ســاح الجمــرة الخبيثة األولــى -حســب روايــة بعــض ِّ والكوليــرا وفطريات القمح لتهديــد األمن الغذائي ألعداء ألمانيا النازيــة ،أو نشــر األلمــان أنفســهم لمــرض الطاعــون فــي روســيا بالح ّمــى القالعيــة إلــى وإرســالهم قطعانـ ًا مــن الماشــية مصابــة ُ مرويــات وأخبــار ـن األميركيــة ،وغيــر ذلــك مـ الواليــات الم َّتحــدة ّ ّ كثيــرة متداولــة حــول أنفلونــزا الخنازيــر ووبــاء متالزمة «ســارس األول »SARSوغيرهمــا ،حتــى غدونــا اليــوم ،ونحــن فــي الربــع ّ متورطيــن بوصفنــا شــخصيات مــن القــرن الحــادي والعشــرين، ِّ ـردية جديــدة للرعــب الكونــي ـ س متخيلــة فــي تشــكيل واقعيــة ال ّ ّ المعــروف حالي ـ ًا باســم «كوفيــد .»19 -فهــل نعيــش اآلن رحلــة الم ِ التحضــر إلــى الوحشــية أم العكــس؟ عاصــر مــن ُّ اإلنســان ُ ً اإليطالية التي تنتســب ة الرمزي الحكايات أن ا ـ أيض ـر ـ للنظ الالفــت ّ ّ إلـ�ى العصـ�ور الوسـ�طى المعروفة باسـ�م «ديكاميـ�رو ن �Decam المؤ ِّلــف جيوفانــي ،»eronأو «الكوميديــا البشـ ّ ـرية» التــي كتبهــا ُ بوكاتشــيو ( )1375 - 1313فــي القــرن الرابــع عشــر ،تنبني حكايتها تتضمــن مئــة حكايــة ترويهــا مجموعــة مــن قصــة اإلطــار علــى ّ َّ ٍ ســبع شــابات وثالثــة شــبان يلجــأون إلــى االحتمــاء ببيــت معزول يقــع خــارج مدينــة فلورنســا هربـ ًا مــن المــوت األســود أو الوبــاء العظيــم الــذي ضــرب مدن إيطاليــا كلها في عــام 1348م ،فكانت تمثيلية مرعبة (بوكاشيو، ـانية يصفها بوكاشــيو بصورة ّ كارثة إنسـ ّ ديكاميــرون ،ترجمــة صالح علمانــي ،ص .)45 - 40 :وليس بعيد ًا عــن وبــاء ديكاميــرون روايــة (الطاعــون )La pesteأللبيــر كامــي ـي الذيــن التــي تحكــي ّ قصــة بعــض العامليــن فــي المجــال الطبـ ّ يتــآزرون فــي زمن الطاعــون بمدينــة وهــران الجزائريــة ،ويطــرح ـي مــن خاللهــا جملــةً مــن األســئلة حــول ماهيــة اإلنســان الروائـ ّ ٍ اجتماعيــة طبقــات إلــى تنتمــي ات شــخصي ويتنــاول ر، والقــد َ ّ ّ مختلفــة ترصــد أثــر الوبــاء الكاســح عليهــم.
من الخوف الفرديّ إىل الفزع الجمعيّ
فــي عالــم الســينما ،نجــد أن عــدد ًا كبيــر ًا مــن أفــام الرعــب ـدث عــن ثيمــة «الوبــاء» الجامــح أو عالــم الفيروســات التــي تتحـ َّ ً خاصــ ًا مــن شاشــات ا موضعــ قــد اكــة ت الف والجراثيــم احتــلّ ّ ّ الم ِ عاصرة .وتعرف باســم أفالم «Pandemic ة العالمي الســينما ُ ّ »moviesأو « .»Virus moviesوهــي سلســلة مــن األفالم التي تفشــي الوبــاء ،وغالب ًا ـدث عــن أوضــاع البشــر ومآالتهم بعد ّ تتحـ َّ
سيتغي العالم بعد كورونا؟ َّ هل
الســردية مــن خــال متابعــة أســرة واحــدة أو يتــم رصــد وجهــة النظــر ّ مــا ُّ رجــل وامــرأة ،مثــل فيلــم « ،»Pandemicو« ،»Carriersو«،»Outbreak و« ،»The Day after Tomorrowو« ،»Containmentو«،»Days 93 و« ،»Contagionوغيرهــا مــن قائمــة األفالم التي أخذت تســتعيد مشــاهدتها بنســب بالغــة االرتفــاع نتيجــة مــا يمــر بــه عالمنــا اليــوم .ففــي أحــداث فيلــم «( »Contagionأو «عــدوى»)َ ،تلْقَ ــى ســيدة أعمــال حتفهــا بســبب انتشــار عــدوى فيــروس غامــض وقاتــل أثنــاء رحلتهــا إلــى الصيــن .وبعــد اطّ ــاع ـي علــى واقعــة مدينــة ووهــان الصينيــة التــي انطلــق منهــا المشــاهد العالمـ ّ الحقيقــي ،تــم صنــع عــدد مــن التشــابهات علــى مســتوى فيــروس كورونــا ّ التل ّقــي والمشــاهدة بيــن أحــداث الفيلــم والواقــع المعيــش ،خصوصـ ًا عندما ـي ،فــي ُوضعــت مدينــة شــيكاغو األميركيــة فــي الفيلــم تحــت الحجــر ِّ ّ الصحـ ّ مقابــل عمليــات اإلغــاق الهائلــة التــي حدثــت في الواقــع الفعلي فــي الصين، األميركيــة وإيطاليــا وباقــي دول العالــم تباع ـاً .لقــد ثــم الواليــات الم َّتحــدة ّ ـعبية الفيلــم فــي األســابيع األخيــرة، ع ـ َّززت هــذه التشــابهات كثيــر ًا مــن شـ ّ األميركيــة «غوينيــث بالتــرو Gwyneth خصوص ـ ًا بعــد أن نشــرت الممثِّلــة ّ »Paltrowصــورة لنفســها وهــي ترتــدي «كمامــة» علــى وجههــا فــي رحلــة لهــا عبــر األطلســي فــي فبراير/شــباط الماضــي .إن مــا تعرضــه سلســلة أفــام ـي الذي الفيروســات هــو شــكل مــن أشــكال التكريــس لوضعيــة الفــزع الجمعـ ّ ـورات فانتازيــة عــن نهايــة العالــم الــذي يبلــغ فيــه اإلنســان حتفــه يرســم تصـ ُّ متعددة ـة ـ وكيماوي ة بيولوجي ـروب ـ ح ـن ـ م يخوضه ـا ـ وم ـة ـ بالطبيع ـه بســبب عبثـ ِّ ّ ّ ٍ ســتأتي علــى األخضــر واليابــس ،ولــن يجــد اإلنســان آنئــذ ســفينة نــوح لينجــو مــن خـ ٍ ـراب شــامل سـ ُـيبيد كلّ شــيء.
ـم أقــرب إلــى اســتطالع الــرأي قامــت بــه مج ّلــة «فورين بوليســي فــي تقريــر مهـ ّ ( »Foreign Policyصــدر عــن مركــز أفــق المســتقبل ،تحــت عنــوان «ورقــة ـيتغير العالم بعد القضاء على كورونــا؟») ،طلبت المجلّة استشــرافية :هــل سـ ّ األميركيــة مــن اثنــي عشــر ُمفكِّ ــر ًا سياسـ ّـي ًا ودبلوماسـ ّـي ًا بــارز ًا من جميــع أنحاء ّ العالــم تقديــم توقُّعاتهــم لما ســيحدث للنظــام العالمي بعد الوبــاء .تراوحت للســلطة والنفــوذ مــن الغرب إجاباتهــم حــول مــا يمكــن أن يحــدث مــن تحـ ُّ ـول ُّ ممــا قد يزيد من «تشــويه النمــوذج الغربي» ،وتراجــع «العولمة» إلــى الشــرق ّ األميركية تحولهــا من عولمــة متمركزة حــول الواليات الم َّتحــدة أو علــى األقــلّ ُّ ّ المرجــح أن تســهم هــذه األزمــة في ـن ـ وم ـن. ـ الصي ـول ـ ح ـزة ـ متمرك إلــى عولمــة َّ ـي، الصينيــة تعميــق تدهــور العالقــات ّ ّ األميركيــة وإضعــاف التكامــل األوروبـ ّ ـي الــذي لــم ينجــح فــي تقديــم الدعــم ـ األوروب ـاد ـ ِّح ت وربمــا تفــكّ ك منظومــة اال َّ ّ ـؤدي المتو َّقــع لمواطنــي دولــة أو أخــرى .إن مثــل هــذه األزمــة العالميــة قــد تـ ّ ّ ـددة أو تدفــع بعــض الــدول إلــى المزيــد مــن المتعـ ِّ إلــى اســتعادة القوميــات ُ حيــة وتقليل الهجرات، االنغــاق والخصوصيــة وتعزيــز منظومات الرعاية ِّ الص ّ وغيــر ذلــك مــن نتائــج وتداعيــات ســوف تظهر فــي الســنوات القليلــة المقبلة. العربيــة التــي أرجــو لهــا المزيــد مــن التغيــر مجتمعاتنــا ولســوف يطــال هــذا ُّ ّ المعلوماتيــة لمواجهــة ـرات ـ الخب ـادل ـ وتب ـي ـ والتكنولوج ـادي التكامــل االقتصـ ّ ّ ّ نقــص مــوارد الميــاه وحــروب الفيروســات التــي قــد تتصاعــد وتيرتها مســتقبالً التقليدية. كبديــل عــن الحــروب ّ رقي اإلنســان عن ـا ـ بحثه في ـن ـ المعل ـارها ـ مس ـة ـ الغربي ـارة لقــد خالفــت الحضـ ّ ّ التكنولوجي ،واختزلت ـدم وســعادته عــن طريق العلم والحر ّية والتنوير والتقـ ُّ ّ ّ مدونــة التاريــخ الحديــث منــذ القــرن التاســع عشــر فــي سلســلة دورهــا فــي ّ مدججة باألســلحة ،على حســاب مدمــرة وممارســة رغبات كولونيالية ّ حــروب ّ ـي المنشــود .لــم يكــن تخليق الفيروســات ـ االجتماع ـدل ـ والع ـي ـ األوروب العقــل ّ ّ والصــراع علــى غــزو الفضــاء بيــن أميــركا وروســيا، وتطويــر اإلنســان اآللــي ِّ الصــراع علــى امتــاك ترســانة مــن األســلحة النوويــة ،ســوى تعبيــر وكذلــك ِّ عــن الحلــم بصناعــة اإلنســان الخارق «الســوبرمان» القــادر على ُحكــم العالم التحــول مــن بأســره الــذي ترســم تفاصيلــه الكثيــر مــن أفــام الســينما .إن ُّ الصناعيــة إلــى إنســان مــا بعــد الحداثــة ،وتمديــد حقبة الحــرب الباردة الثــورة ّ ـتراكية ،وســقوط جــدار برليــن ،وتفجيــر برجــي التجارة ـ واالش ة ـمالي ـ الرأس بيــن ّ ّ الصــراع بيــن العالمييــن ،وتصاعــد مـ ّ ـي ،ورفــع الغطــاء عــن ِّ ـد اإلرهــاب العالمـ ّ األميركيــة علــى زعامــة العالــم ،وغيــر ذلــك مــن ـدة ـ الصيــن والواليــات الم َّتح ّ أحـ ٍ ـيوثقافي م ّتصل ـردية لمشــهد سوسـ ـداث عالميــة متباعدة ،هي موتيفات سـ ّ ّ ّ ـردية» ،أو النظــر إليه علــى ا َ ألقلّ الحلقــات يمكــن قراءتــه بوصفــه «متواليــة سـ ّ باعتبــاره شــك ً ـردية» كمــا يقــول ســعيد يقطيــن، ال مــن أشــكال «العولمــة السـ ّ حيــث نجــح وبــاء كورونــا فــي توحيــد العالــم مــن جديــد علــى شــيء واحــد ـي. ـي أو الفــزع الكونـ ّ هــو الخــوف الجمعـ ّ التنبــؤ بمــا ســيبدو عليــه شــكل العالقــات ـكان ـ بم ـة ـ الصعوب ربمــا يكــون مــن َّ ّ الدوليــة واقتصــادات العالــم بعــد القضــاء علــى كورونــا فــي الســنوات القليلة ّ ـي ( )Social distancingبما لكن شــيوع مصطلح المقبلــةّ . ُ التباعد االجتماعـ ّ ً الخصوصيــة اآلمنــة ،فضـا عــن ممارســة ـرح جديــد لمفهــوم يتضمنــه مــن طـ ٍ ّ ّ العالــم ك ّلــه فــي وقـ ٍ ـت واحــد طرقـ ًا متشــابهة مــن تقنيــات التع ُّلــم عــن بعــد ( )E. Learningأو التع ُّلــم اإللكترونــي ( ،)Online Learningوالبحــث عــن وســائل مغايــرة للعيــش والعمــل بديـ ً ا عن التعامل المباشــر ،كلّها مؤشــرات كونيـ ًا جديــد ًا تتشــكّ ل مالمحــه شــيئ ًا فشــيئ ًا بالتزامــن ثمــة ظرفـ ًا تنبــئ عــن أن ّ ّ مــع أخبــار كورونــا المتواتــرة يوميـاً .ومــا علينــا نحــن العــرب ّإل أن نبــادر إلــى خصوصياتنا ،علــى ّأل نكتفي بفضيلة هوياتنــا أو المشــاركة فيــه ،دون أن نفقــد ّ ّ يتحرك بســرعة البرق الخاطف التأمل والجلوس على األريكة لمشــاهدة عالم ّ َّ أمــام أعيننــا عبــر الشاشــات ■ .محمــد الشــحات أبريل 150 2020
71
قراءات
محمد الحاريث األخرية رحلة َّ
فلفل سيالين أزرق
ـتقره طالــب الجيولوجيــا بجامعــة قطــر ،نهايــات القــرن املــايضَّ ، طوحــت بــه الحيــاة بعيــداً قبــل أن يبلــغ مسـ ّ املتأخــر األخــر يف بلدتــه «املضــرب» رشق عــان .يف معــرض مســقط ،هــذا العــام ،كان صــدور كتابــه ِّ لقرائــه ،عــى األقـ ّ ـل .هكــذا اســتقبل القـ ّـراء كتــاب «فلفــل نوعـ ًا مــن حــدث أديب مهـ ّ ـم ،عــى الصعيــد الروحــي ّ محمد الحاريث ،وهو رحلتان إىل رسنديب أو ســيالن املعروفة بـ«ســرالنكا» اليوم. أزرق» للشــاعر الراحل َّ
تجاوز محمَّ د الحاريث، مدفوعاً بحبِّه للشعر، األط َر التقليدية للشعر ،وسما بتجربته إىل النبض املعارص لقصيدة النرث َّ وشك َل، العرب ّية، مع شعراء عمانيني ً كوكبة شعرية غريه، ساهمت يف حركة قصيدة النرث
72
محمــد الحارثــي يعمــل علــى كان الشــاعر العمانــي المعاصــر َّ ـودة كتــاب الرحــات األخيــر هــذا ،قبــل أن يدخــل فــي نوبــة مسـ َّ أدت إلــى وفاتــه ،وبقــي العمــل رهيــن المــرض األخيــرة التــي َّ حاســوبه الشــخصي حتــى تمكَّ نت ابنتــه الف ّنانة ابتهــاج الحارثي مــن معالجــة الحاســوب ،واســتخراج العمــل ،ثــم عهــدت بــه عربيــة تحــوز جائــزة «مــان (أول إلــى الروائيــة جوخــة الحارثــيَّ ، ّ «ســيدات بوكر»العالميــة للروايــة ،لعــام ،2019عــن روايتهــا ِّ القمــر») ،لتشــرف علــى المراجعــة النهائيــة للكتــاب ،الذي كان فــي أطــواره النهائيــة علــى يــد الكاتــب نفســه .وهكــذا ،صــدر الكتــاب هــذا العــام عــن «دار مســعى» للنشــر. أولها كتاب كان عدة كتب في الرحــات، صــدر لمحمــد الحارثي ّ َّ َّ «عيــن وجنــاح» الــذي حــاز «جائــزة ابــن بطوطــة» فــي دورتهــا ـم صــدر لــه كتــاب «محيــط كتمنــدو» ،وهــا هــو كتابــه األولــى ،ثـ َّ ـن الرحالت يصــدر ،أخيــراً ،بعنوان «فلفــل أزرق». الثالــث فــي فـ ّ محمــد أن العمانيــة ــة ّقافي ث ال األوســاط فــي المعــروف ومــن َّ ّ الحارثــي هــو االبــن البكــر للشــاعر أحمــد بــن عبداللــه الحارثــي المعــروف بأبــي الحكــم ،والمل َّقــب بشــاعر الشــرق ،وكان أبــو الحكــم ،فــي ســبعينيات القــرن العشــرين ،يم ِّثــل ،مــع الشــاعر ـي رهــان الشــعر عبداللــه بــن علــي الخليلــي أميــر البيــانَ ، فرسـ ْ العمانــي ،بصبغتــه التقليديــة المتوارثــة للقصيــدة العروضيــة،
أبريل 150 2020
ولنــا أن نذكــر هنــا أن ديــوان أبــي الحكــم صــدر بجمــع وتحقيــق مــن حفيدتــه الروائيــة جوخــة الحارثــي ،وقــد خــرج مــن نســل ـابات أثــروا الحيــاة الف ّن ّيــة العمانيــة شــاعر الشــرق شــباب وشـ ّ خــال عقودهــا األخيــرة ،منهــم جوخــة ،وابتهــاج ،إضافــةً إلــى القصة القصيرة عبداللــه أخضر ،وكذلك الروائية الراحــل كاتــب ّ والقاصــة أزهــار أحمد ،ولكن يبدو أن الميراث الشــعري كان من ّ محمــد الحارثــي وحــده ،والــذي أضــاف إليه ،فيمــا بعد، ـب نصيـ َّ كتــب الرحــات ،وروايــة واحــدة عنوانهــا «تنقيــح المخطوطــة»، صــدرت عــن «دار الجمــل». ً ـر التقليدية تجــاوز َّ محمــد الحارثي ،مدفوعا ِّ بحبه للشــعر ،األطـ َ للشــعر ،وســما بتجربتــه إلــى النبــض المعاصــر لقصيــدة النثــر العربيــة ،وشــكَّ َل ،مــع شــعراء عمانييــن غيــره ،كوكبــةً شــعرية ّ ـدت أصداؤها ،اليوم، ســاهمت فــي حركة قصيــدة النثر التي امتـ َّ فــي العالــم العربي ،فأصدر الحارثي سـ ّتة مجموعات شــعرية، منــذ مجموعتــه األولــى «عيــون طــوال النهــار» ،حتــى مجموعته الشــعرية األخيــرة التــي ُن ِ شــرت في صــدر عام رحيلــه (2018م)، وهــي مجموعــة «الناقــة العميــاء» ،لتكــون آخــر الكتــب التــي تتجســد الحيــاة فــي كتــب يتركهــا صــدرت فــي حياتــه ،وكأنمــا َّ قويــةً مــن الحنيــن الشــاعر تراثـ ًا مشــاعاً ،بعــد رحيلــه ،لمســةً ّ الحي . ّ
مــع ذلــك ،نجــد حنيــن الشــاعر االبــن لمثــال الشــاعر األب، وذوقــه ،قــد تم َّثــل فــي جمعــه وتحقيقــه لواحــد مــن أشــهر شــعراء عمــان الكالســيكيين فــي نهايــة القــرن التاســع عشــر وبدايــة القــرن العشــرين ،وهــو الشــاعر أبــو مســلم البهالنــي، مقدمة تفصيليــة طويلة، فقدمهــا ـراء مــع ِّ َّ َّ محمــد الحارثــي للقـ ّ ـبياً. نسـ ّ محمــد الحارثــي ـراث ـ بت أزرق» ـل ـ «فلف ـر ـ األخي ـاب ـ الكت ـق يلتحـ َّ ولكــن فيمــا يشــبه اليتــم؛ فــاألب قــد تو ِّفــي ،وفــي هــذا الكتــاب الــذي عمــل عليــه الشــاعر ،منــذ عــام 2015م ،يالحــظ القــارئ اإلشــارات النهائيــة للــروح ،فــي لمحــات خاطفــة ،ألن أســلوب محمــد الحارثــي ،في كتب الرحالت ،أشــبه بســيرة ذاتية ،لكنها َّ ســيرة ذاتيــة فــي األســفار ،وهــي األســفار التــي ال تخلــو منهــا مجاميعــه الشــعرية ،ويكفــي أن نذكــر منهــا مقطعه الشــعري الشــهير فــي قصيــدة «غفــوة صعبــة المنــال»: «مــا زلــت أعــود /بصــور فوتوغرافيــة /وحقيبــة ظهــر وقصائــد/ تتد ّلــى منهــا /أرقــام الرحالت /وأخفاف حنيــن»( ..ص .44قارب الكلمات يرســو) محمــد الحارثــي على «جائــزة اإلنجاز الثّقافــي» العمانية، حــاز َّ ـرره الكاتــب عــام 2014م ،وفــي ذلــك الكتــاب الــذي أعـ َّ ـده ،وحـ َّ ســعيد ســلطان الهاشــمي ،روى أجــزاء مــن ســيرته الذاتيــة، وقــد صــدر الكتــاب عــن «دار ســؤال» ،بعنــوان «حياتــي قصيدة
وددت لــو أكتبهــا» ،لكــن هنــاك أجــزاء أخرى من تلك الســيرة، مكبرة تتناثر في قصائده الشــعرية ورحالته التي تشــبه عدســة ِّ المتعددة. مرفوعــة علــى أزمنــة أســفاره ِّ تجســد ينقســم كتــاب «فلفــل أزرق» إلــى فصــول قصيــرة ِّ محمد الحارثي بأجواء ســيرالنكا، الرحلتين اللتين طاف فيهما َّ ـددة مــن وجــوه البلــد وكشــف ،فــي طوافــه ذاك ،أوجه ـ ًا متعـ ِّ الرحالــة العــرب، ـع ـ م والثّقافــة واللّغــة .ولســيالن موقــع أثيــر ّ ويكفــي أن نتذكَّ ــر الجمــال الــذي يصــف بــه ابــن بطوطــة (شــيخ ممــا يعبــر عــن غرامــه بهــا ،ناهيــك ّ الرحالــة) تلــك الجزيــرةّ ، عــن افتخــاره بزيارتــه لجزيــرة ســرنديب أو ســيالن. بصــدور هــذا الكتــاب ،تكتمــل كثيــر مــن الصــور الشــعرية الكثيفــة فــي مجموعتــه الشــعرية األخيــرة «الناقــة العميــاء»، خاصــةً أن هنــاك رحلــة أخيــرة قــام بهــا الشــاعر ،عــام 2017م، ّ ً ـعرياً، ـ ش ا نص هناك وكتب بعام، رحيله ـل ـ قب أي ـيرالنكا؛ ـ س إلــى ّ ّ ـص المركــزي فــي مجموعة «الناقــة العميــاء» ،لكنه ـ الن ـح ـ أصب ّ ـص يســتعيد مكانـ ًا آخــر ،للمفارقــة ،فــي أثنــاء رحلــة قديمــة نـ ّ كان قــد قــام بهــا فــي التســعينات مــن القــرن العشــرينَّ ،أيــام شــبابه ،إلــى فيتنــام ،حيــث التقــى هنــاك بالف ّنــان الفيتنامــي «نغويــن ثانــه» ،واقتنــى إحــدى لوحاتــه ،وظــلّ محتفظ ـ ًا بهــا قــرر أن يجعــل مــن تلــك اللوحــة إلــى آخــر حياتــه ،حيــن َّ ِ ـن أن العنــوان ُولــد، غالفـ ًا لمجموعتــه الشــعرية األخيــرة ،وأظـ ّ أبريل 150 2020
73
بصدور هذا الكتاب، تكتمل كثري من الصور الشعرية الكثيفة يف مجموعته الشعرية األخرية «الناقة العمياء»، خاص ًة أن هناك ّ رحلة أخرية قام بها الشاعر، عام 2017م ،إىل سريالنكا؛ أي قبل رحيله بعام ،وكتب نصاً شعريّاً، هناك ّ النص املركزي أصبح ّ يف مجموعة «الناقة العمياء»
74
كذلــك ،فــي رحلتــه األخيرة تلــك ،حيث كان يعمــل على تحرير المجموعــة الشــعرية وتحريــر كتــاب الرحلــة معـاً. محمد الحارثي ســعى، نعرف ،اآلن ،من كتاب «فلفل أزرق» أن َّ فــي رحلتــه الســابقة ،للقــاء ف ّنــان إنجليــزي شــهير مقيــم فــي ســيرالنكا ،آنــذاك ،هــو «جــورج بيفــن» ،ولعــلَّ ذلــك اللقــاء الف ّنــي هــو مــا أعــاد إلــى ذاكرتــه لقــاءه الف ّنــي القديــم بالف ّنــان الفــن ،اســتعادة ذلــك الشــعور بقــوة الفيتنامــي ،وألهمــه، ّ ّ ـص شــعري. القديــم مــن قــاع الزمــن الجــارف ،وتخليــده فــي نـ ّ هكــذا ،أصبــح ذلــك الحــدث القديــم ،واللوحــة التــي اقتناهــا، ـدر مجموعتــه الشــعرية األخيــرة ،والعمــاء آنــذاك ،التــي تتصـ َّ الــذي ينســبه العنــوان للناقــة. ،كلّ ذلــك يجــد تضاعيفــه فــي شــعريا أقــدم صــورة المســافر األعمــى ،إذا تذكَّ رنــا مقطعــ ًا ّ لمحمــد الحارثــي: َّ «يشــرب قهوتــه /مســافر أعمــى /أرســل عينيــه إثــر فراشــة صعــدت البــاص /الــذي ســيعبر الجســر بعــد قليــل». ـازي ،ألنــه يخبــط فــي ـي مجـ ّ فكأنمــا عمــى المســافر عمــاء أدبـ ّ يرهــا مــن قبــل ،ومهمــا رأى منهــا فرؤيتــه تبقــى ظــام بــاد ،لــم َ األول قاصــرة ،فــإذا عدنــا للطبعــة الثانيــة مــن كتــاب رحالتــه َّ محمــد الحارثــي يقــود ناقــة، «عيــن وجنــاح» فســنجد صــورة َّ علــى صــدر الغــاف ،وتذكِّ رنــا الصورة -نوعـ ًا ما -بغرامــه األدبي العربية بالرحالــة الكولونيالــي الشــهير ،صاحــب كتاب الرمــال ّ ّ
و«يلفــرد ثيســجر» .هــو الرحيــل ،إذاً ..والحيــاة هــي الرحلــة، والناقــة العميــاء هي الراحلة .وهنا ،نتذكَّ ــر قوله في مجموعته «أبعــد مــن زنجبــار»: «يموتــون /ثــم يضحكــون فــي أغلفــة الكتــب /يموتــون /ويبكــون طويـ ً ا فــي الكلمــات». إل أمثولة تولد من مثــل تلك اللمحات مــا الحيــاة ،في النهايــةّ ، الخاطفــة .هكــذا ،في مجموعة «الناقة العمياء» ،يبصر القارئ بوضــوح -ظــال الموت الكثيفة ،حيث أغلــب النصوص مهداةلذكــرى شــعراء رحلــوا عن الحياة ،ولم يخلِّفــوا غير قصائدهم. واآلن ،بصــدور كتابــه األخيــر «فلفــل أزرق» الــذي يشــبه ،فــي المتأخــر ،إشــارة لمــا بعــد المــوت ،مــن الغيــب ،نجــد وصولــه ِّ ـددة البديعــة ـ المتع ـا ـ وألوانه ـاة ـ الحي ـن ـ ع ـالة ـ رس ـك- ـ ذل رغــمِّ بجماليات البســاطة يصعده الحارثي ـي هائل، ّ ّ في منشــور ضوئـ ّ ونكهــات الوجبــات الشــعبية التــي اســتلهم منهــا عنــوان كتابه، والشــخصيات اإلنســانية البســيطة التــي يصنــع منهــا أبطــا ً ال محمــد الحارثــي الشــخصي، روائييــن فــي رحلتــه ،مــع نكهــة َّ ِّ تتكشــف حيث ـعة، ـ الواس وثقافته وطرائفــه ولمحاتــه ومعرفتــه َّ كثيــر مــن الغرائــب اإلنســانية واللمحات الصدفويــة الغامضة، ـاب اليمنــي الــذي يتسـ َّتر على مثلمــا نجدهــا فــي شــخصية الشـ ّ ماضيــه بلهجـ ٍ لبناني ْين. ـم واسـ ٍ ـة ْ َّ فــي أحــد فصــول الكتــاب األخيــر إشــراقةٌ روحيــة صغيــرة ،لــم يهمــل الحارثــي تدوينهــا؛ فعلــى ســكّ ة القطــار البطــيء بيــن «كولومبــو» و«جفنــة» ،التــي تســتغرق تســع ســاعات ،محطّ ــة صغيــرة تدعــى «فافونيــا» ،فإذا كان الراكب جالسـ ًا فــي العربة ـماة بـ(الشــرفة) يســتطيع إلقــاء نظــرة على بيوت األخيــرة المسـ ّ البلــدة المحيطــة .فــي أحــد تلــك البيــوت ،ذلــك اليــوم مــن عام الملونــة ،تنشــر الثيــاب، شــابة ،بثيابهــا 2015م ،كانــت فتــاة ّ َّ (لربمــا تذكِّ رنــا الفتــاة بشــخصية «خاتــون» مــن ســرنديب ،فــي َّ قصــة «ســيف الملــوك» ،فــي «ألــف ليلــة وليلــة») .تحيــن مــن ّ تلــك الفتــاة التفاتــة جهــة القطــار ،فتلمــح الراكــب الــذي علــى شــرفة القطــار ،فتبتســم الفتــاة لهــذا المســافر ،دون أن تعلــم التحيــة .فــي لحظــة انطــاق القطــار، ـرد ـوح لــه ،فيـ ّ مــن هــو ،تلـ ِّ ّ فــي اللحظــة األخيــرة ،تمامـاً ،تبعث لــه قبلةً في الهــواء ،كأنما الشــاب ،وأرادت أن تحيــي، روح الحيــاة حلَّــت فــي جســدها ّ الرحالة الذي أشــرفت حياته بقبلتهــا تلــك ،قلــب ذلــك الشــاعر ّ علــى النهايــة.
«كما كان.. كما ك ّنا ،دائماً ،ننىس أرض املايض ،ونصغي، ألم كلثوم وهي تنشد «ك ّل ليلة وك ّل يوم».. كك ّل ليلةّ ، دمعا ً استعىص علينا وعىل أبي فراس، فيما نمضغ ،من جديد، عشبة ِّ الش ْعر اليت ال تنتهي كمــا ال ننتهــي عنهــا ،ك ّل يــوم وليلــة ،كمــا ك ّنــا، دائمــاً، ال ننتهي في الليل أو النهار» ■ .إبراهيم سعيد (سلطنة عمان) أبريل 150 2020
داروين وماركس
حني أصبحا شخصيتني روائيتني
مــا الــذي يغــري بعــض مؤ ِّلفــي الروايــات بإســناد أدوار البطولــة ،يف نصوصهــم ،إىل أدبــاء ومفكِّريــن وف َّنانــن ذوي ـرراً معقــو ً ال وكافيـ ًا العتبــار نصوصهــم هذه روايات وجــود فعــي يف التاريــخ املــايض أو الحــارض؟ وهــل ُي َعـ ّـد هــذا مـ ّ أليــة تاريخيــة؟ رغــم ارتيــايب ،يف مقاربــايت لبعــض الروايــات العربيــة ،واألجنبيــة ،مــن حيــازة هذيــن الســؤالني ّ ّ أول مــا خطــر ببــايل ،قبــل رشوعــي يف قــراءة روايــة حديثــة مرشوعيــة فكريــة أو مالءمــة منهجيــة ،أعــرف بأنهــا ّ الصدور ،مرتجمة من األملانية إىل الفرنســية ،عنوانها هو - Marx dans le jardin de Darwin« :ماركس يف حديقة داروين»« ،منشورات فالوا» ،باريس 300 ،2019 ،صفحة ،ومؤ ّلفتها هي « - Ilona Jergerإلونا يريجري».
إلونا ييرجير ▲
أول وهلــة ،بأنهــا وثيقــة ال تعــدم الروايــة قرائــن توحــي ،مــن َّ تاريخيــة تســتند إلــى تاريــخ األفــكار فــي أوروبــا ،فــي القــرن التاســع عشــر ،مــن ناحيــة ،وبأنهــا ،مــن ناحيــة أخــرى ،تعلــن حددهــا وفاءهــا الجمالــي بمقومــات الروايــة التاريخيــة كمــا َّ ّ وظَّ عملياً -و«الترســكوت» .فحبكة فها- وكما لوكاكش»، «جورج ّ الروايــة تتشــكَّ ل علــى خلفية تاريخيــة بانوراميــة حقيقية ،تهيمن فكريتــان باذحتــان هما :شــارل دارويــن اإلنجليزي عليهــا قامتــان َّ ( )1882 - 1809مؤ ِّلــف «أصــل األنــواع» ،وكارل ماركــس األلماني ( ،)1883 - 1818مؤ ِّلــف «رأس المــال» .كمــا أنهــا ،أي الحبكــة، ـم أركان الروايــة التاريخيــة ،وهــي: تســتوفي أهـ ّ * وحدة الزمن ،وهو العام ( ،)1881تخصيصاً :ففي هذه الســنة، ـرر ،خاللهــا ،مواعيــد لقائهما ســيلتقي الرجــانّ ، ـرة ،لتتكـ ّ ألول مـ ّ الحقاً. * وحــدة المــكان ،وهــو مدينــة لنــدن ،التــي يقطــن «ماركس» في إحــدى ضواحيهــا الفقيــرة ،بينمــا يســكن «دارويــن» فــي إحــدى ضيعاتهــا البورجوازية. المتخيلــة «بيكيــت» شــخصية ترتيــب وهــو * وحــدة الحــدث، َّ متخيلــة -أيضــاً -فــي حديقــة دارويــن. للقــاءات بينهمــا، َّ ـم ْين ،سيشــرع العنصريْن انطالقـ ًا مــن هذيــن التخييلي ْين الحاسـ َ َ َّ خاص َّيته ـص الروايــة ،إذن ،فــي االنزياح -شــيئ ًا بعد شــيء -عــن ِّ نـ ّ متخيــل حكائــي عجيــب ـاء ـ بن ـو ـ نح ـو ـ لينح ـة، ـ التاريخي ـة ـ التوثيقي ِّ منبثــق -رأس ـاً -مــن بنــات أفــكار المؤلّفــة؛ أفــكار يــزدوج فيهــا- بمهــارة نــادرة -االســتيهام بالهذيــان ،والتخريــف بالســخرية، والمفارقــة بالضحــك ،وذلــك مــن خــال لغــة أثيريــة مج َّنحــة تمتــاح مفرداتهــا مــن معجــم الكثافة الهيرميســية واالســتعارات الحذلقيــة. ذيلت ـمَّ ، تقــول المؤلِّفــة األلمانيــة «إلونــا ييرجيــر» فــي تنويه مهـ ّ بــه روايتهــا« :كان منطلقــي األصلي هو أن يكــون «داروين» وحده بطــ ً ا لروايتــي ،لكننــي ســرعان مــا جعلــت ماركــس يشــاركه
تحرياتي،أنهمــا عاشــا البطولــة بعــد أن اكتشــفت ،مــن خــال ِّ فــي الحقبــة نفســها ،وفــي المدينــة نفســها؛ فــكان هــذا حافــز ًا أغرانــي بــأن أتخيــل حبكــة مشــتركة تكــون في مســتوى حيــاة كلّ َّ منهمــا ،الحافلــة بعوامــل اإلحبــاط واالنتصــار. ولهــذه الغايــة ،انتدبــت المؤلّفــة شــخصية «بيكيــت» ،الــذي ال مهمــة الجمــع بينهما في وجــود لــه فــي عالــم الواقــع ،لتنيــط بــه ّ لقــاء .وهــو طبيــب ومث َّقــف ،شــاءت الصدفــة الروائيــة الماكــرة بصحــة كلّ منهمــا المتدهــورة ،قبــل أن ينهــي مهتم ـ ًا أن يكــون ّ ّ المــوت حياتهمــا الصاخبــة بفــارق ســن َت ْين. تــرى ،مــاذا عســاهما ســيقوالن ،السـ َّـيما أن المؤلّفــة اختــارت- ـاص بــه ،وأن يكــون عمــداً -أن يكــون لــكلّ منهمــا نمــط حيــاة خـ ّ تخيلــت لهــذا باآلخــر؟؛ ــد عــدم اعترافــه معتــ ّز ًا بنظريتــهَ ،ح ّ َّ ّ «دارويــن» متهالــكاً ،فــي أوقات الفــراغ ،على ملــذّ ات الحياة التي أمــا فــي أوقــات العمــل، توفِّرهــا بحبوحــة العيــش البورجــوازيّ . التأمل في حيــاة ديدان الميــاه الراكدة واألتربة فهــو عاكــف علــى ُّ نظريتــه اإلحيائيــة الجريئــة، رة ـو ـ ل ب ـي ـ ف ـعفه ـ ستس الرطبــة التــي ْ َ َّ َ التــي جعلــت صيتــه يتجــاوز اآلفــاق« :فأبحاثه كانــت متداولة في ـزم الرســائل التــي جميــع أصقــاع المعمــور ،كمــا تؤكِّ ــد هــذا حـ َ تتضمــن عبــارات اإلعجــاب كمــا يتوصــل بهــا ،كلّ صبــاح ،والتــي ّ َّ نظريتــه فــي أصــل األنــواع ،لــم تكــن فــي أن ـك ـ ذل ـار»؛ ـ االستفس َّ تقديــره «متماســكة ومنطقيــة فحســب ،بــل أيضـ ًا مقنعــة بحكــم ـور الحثيــث والمتواصل لألجناس ،يبشــر بإمكانية إصالح أن التطـ ُّ أحــوال البشــرية ،وتجويدهــا». أمــا ماركــس ،فقــد جعلتــه المؤلّفــة مدمن ـ ًا معاقــرة الخمــر، ّ رهانــ ًا علــى نســيان عابــر لمــا عاشــه فــي نهايــة حياتــه مــن بــؤس وضنــك وشــقاء ،بســبب الديــون المتراكمــة عليــه ،تارةً، الماديــة التاريخيــة نظريتــه منصرف ـاً ،تــار ًة أخــرى ،إلــى بنــاء ِّ َّ فــي الصــراع الطبقــي ،تلــك التــي جعلــت منــه كذلــك مفكّ ــر ًا مرموقـ ًا فــي المحافــل األكاديميــة« ،يبشــر بمســتقبل مختلــف أبريل 150 2020
75
ال تعدو رواية «إلونا يريجري» كونها ذريعة ماكيافيل ّية لالحتفاء باألدب وبالفنّ ؛ من جهة كونهما فرصة مواتية مؤقتة ل َتعايف ّ كل ِ من الكاتب والق ّراء من بعض التوتُّر النفيس والقلق َ املحايث ْي الوجودي لحضارة الرسعة واالستهالك، االستالبية
76
ـور تدريجــي تلقائــي ،بــل علــى للبشــرية ،ال علــى أســاس تطـ ُّ ــاك المتحكّ ميــن باإلنتــاج، الم ّ أســاس الصــراع بيــن طبقــة ُ العمــال المنتجيــن للســلع»؛ صــراع ســيفضي إلــى وطبقــة ّ ـتؤدي بالنظــام الرأســمالي، ـ س ـي ـ الت ـا» ـ البروليتاري ـة ـ «ديكتاتوري ّ ـم تبع ـ ًا لقانــون «الحتميــة التاريخيــة» ،إلــى اندمــار ذاتــيُ ،ثـ َّ ـق االنتفــاع إلــى حكــم ديموقراطــي ،يتم َّتــع فيــه العمــال بحـ ّ الطبيعــي والمطلــق مــن مــردود اإلنتــاج. يبــدو ،إذن ،أنــه ال وجــود لهامــش توافقــي يســمح بتحــاور موضوعــي بينهمــا؛ وهو ما جعــل بعض لقاءاتهما ت َّتســم بنبرة ـور ســجالية ،هــي -بالــذات -مــا جعــل الحبكــة الحكائيــة تتطـ ّ نظري َت ْيــن ،تقــوم كلّ منهمــا علــى علــى إيقــاع تنــازع عنيــف بيــن َّ رؤيــة للعالــم ،مختلفــة عــن األخــرى .ومــن أجــل تدبيــر محكم توســلت المؤلّفــة بثالث تقنيات ســردية متباينة، لهــذا التنــازعَّ ، لكنهــا متداخلــة ومتكاملــة ،هي :المونولــوغ الداخلي ،والحوار المباشــر ،والحكــي المتعالــي .وال عجــب فــي أن هــذه التقنيات تدريجي ـاً ،إلــى تجريــد كلّ مــن الرجل َْيــن مــن هالتــه تفضــي، ّ متعمــداً؛ ال إلى تبخيس ـعى، ـ يس ـا ـ منهم ـل ـ بجع ـة ـ المعرفي كلّ ِّ نظريــة اآلخــر ،فحســب ،بــل إلــى جعلهــا ملهــاة ومســخرة، مطلبــي التوتيــر والتشــويق أيضـاً ،وهــو األســلوب الــذي يخــدم َ يلبــي حاج َتــي التخييــل والتخريــف. بقــدر مــا ِّ فبالنســبة إلــى التقنيــة األولى ،تتخلَّل صفحــات الرواية مقاطع صامتــةُ ،يخضــع فيهــا كلّ واحد نظريــة اآلخــر لمحاكمة هزئية فعليـاً ،ضمن عمــا هــي عليــه بذاتهــا، كوميديــة تجعلهــا تنــزاح ّ ّ َ ـم -تحيد عن بعدهــا التوثيقي ـ ث ـن ـ م ســيرورة تاريــخ األفــكار ،و- َّ أول وهلة .فهذا «شــارل من الرواية، التاريخــي الــذي توحي بــه َّ دارويــن» يقــول -مثـاً ،في نفســه -عن كتــاب «ماركس» «رأس المــال» الــذي اكتفــى بتصفُّحــه الســريع« :يــا لــه مــن كتــاب ثقيــل ،صعــب الهضــم! وهــل بإمكانــه أن يكــون غيــر هــذا، ومؤلِّفــه شــبيه بالضبع ،شــك ً أمــا «كارل ماركس» ال ورائحــةً ؟»ّ . فيقــول ،فــي قــرارة نفســه ،عــن خصمــه« :ســألقِّنه درس ـ ًا لــن ينســاه ،حيــث ســأفضح -دون هــوادة -محاباتــه المخاتلــة بادعائــه أنــه غنوصــي ،ال ينكــر وجــود للكنيســة األنجليكانيــةّ ، ـور الكائنــات اللــه .والحــال أن َّ نظريتــه فــي خلــق الكــون وتطـ ُّ ـوة ـ ق ـة ـ ألي ـا ـ فيه ـكان ـ م ال ـة ـ صرف ـة ـ إلحادي ـة ـ مادي هــي نظريــة ّ ّ ّ إلهيــة غيبيــة»! تدبيريــة ّ الجوانــي ســرعان مــا ـكي ـ الغروطيس ـاب ـ الخط ـذا ـ لكــن مثــل ه ّ يحــلّ مح ّلــه خطــاب آخــر فــي هيئــة تحــاور مباشــر ،اســتداللي وموضوعــي ،يتنــاول األســس الحجاجيــة لنظريــة كلّ منهمــا، كمــا فــي هــذا المقتبــس: نظريتــك حــول «إن مــا أالحظــه ،يــا عزيــزي دارويــن ،هــو أنَّ ـور قــد تركــت ثغــرة هــي مــا يمكــن للماركســيين، قانــون التطـ ُّ اآلن ،ملؤهــا! ـن هــذا .فــإذا كان إلــه اإلنجيــل قــد مــات؛ فهــذا ال يعنــي ال أظـ ّمــوت كلّ اآللهــة؛ لهــذا ،إن رؤيتك للعالم ،يــا عزيزي ماركس، ال تخلــو من تبســيطية. ربمــا .لكــن إلــه اإلنجيــل ،فــي ثقافتنــا ،هــو مــا نؤمــن بــه منــذ َّتصورنا للفردوس مرتبط به .فإذا كان اإلنســان القديم .كما أن ُّ ـدق وجــود مــكان طوبــاوي فــي حيــاة أخــرى ،بعــد لــم يعــد يصـ ِّ المــوت ،فــإن هــذا يح ّثــه علــى النضــال مــن أجــل حياة ســعيدة فــي دنيــاه؛ مــا يعنــي أن مصيــره ليــس العــذاب ،طالمــا أنــه وجــود لجــزاء ينتظــره بعــد الموت. وماذا بعد؟تصوري أن البشــر ال يريدون ،فحســب، ففي أنا. ـل أتدخـ هنــا،َّ ُّ
أبريل 150 2020
أن ينعموا بحياة ســعيدة ،وأن يربحوا بضعة جنيهات إضافية، خاصــة ،بج ّنــة وأن يشــغلوا ســاعات أقــلّ ؛ ذلــك أننــي َأ ِعدهــم، ّ صنــع ،ويكونون فيها عــدن فــوق األرض ال يســتغلّهم فيها ّ رب َم ْ ـد التخمــة ،ويتم َّتعــون ـ جميع ـ ًا أحــرار ًا ومتســاوين يأكلــون َح ّ بحريــة أن يفعلــوا ما يشــاؤون!. ّ ادعاء ساذج!». يا له من ّـور نوع مــن الرؤيــة التوافقية بين وســعي ًا مــن المؤلّفــة إلــى تصـ ُّ الرجليــن ،عمــدت إلــى وســاطة الطبيــب «بيكيــت» ،باعتبــاره صمــام أمــان ينظِّ ــم حركيــة المونولــوغ الداخلــي ،والحــوار ّ النصــي للروايــة ،و -مــن المباشــر ،ويضمــن ،كذلــك ،التالحــم ّ يؤمــن االنســياب التسلســلي المنطقــي للخطاب الســردي ـمِّ - َثـ َّ الشــامل .فبخصوص مســألة الدين اإلشــكالية ،مثالً ،اســتطاع «بيكيــت» ،بفضــل حنكتــه التفاوضيــة والتدبيريــة ،أن يق ِّلــص الحــدود الفارقــة بيــن «ماركــس» ،و«دارويــن» ،حيــث أمكن له ـور ،مــن غيــر ســقوط فــي التلفيقيــة ،قواســم مشــتركة أن يتصـ َّ بينهمــا ،تقــوم علــى «تجريــد الدين مــن كلّ قدســية ،واعتباره- ـرد بنــاء اجتماعــي ،وثقافــي ،وظيفتــه التاريخيــة مــن َثـ َّ ـم -مجـ َّ األســاس هــي ضمــان التماســك والنظــام فــي المجتمعــات البشــرية التقليديــة ،مــن خــال التهديــد بالجحيــم ،والوعــد بالفــردوس الســماوي». وآللياتها ـة، ـ الرواي ـون ـ لمضم المقتضب فــي ضــوء هذا العــرض ّ ـأي والء ـ ب ـن ـ تدي ال ـة ـ الرواي أن إذن، ـح، ـ ض الشــكلية والتقنيــة ،ي َّت ّ ـرف ،فــي نظريــة األجنــاس األدبيــة، فكــري أو جمالــي لمــا ُيعـ َ بـ«الروايــة التاريخيــة» ،فقــد عمــدت المؤلّفــة إلــى تخييــب مبيــت -مــا أفــق انتظــار القــارئ ،حيــث أجهضــت -بتصميــم َّ ـدون، كان يتوقَّعــه منهــا ،وهــو أن تجعــل مــن النـ ّ ـص وثيقــة تـ ّ فكريان ـقان ـ نس عليه بأمانــة ،ســياق ًا معرفيـاً ،وتاريخيـ ًا يهيمــن ّ َ كبيــران مــا يــزاالن يثيــران ،هنــا وهنــاك ،كثيــر ًا مــن األســئلة، همــا :الماركســية ،والداروينيــة. أي وازع جمالــي هــذا الــذي منــع المؤلّفــة مــن تصويــر لكــنّ ، فعليــاً ،فــي حياتهمــا همــا، كمــا و«دارويــن» «ماركــس»، ّ الشــخصية ،وفــي الصيــرورة الفكريــة للقــرن التاســع عشــر، ـزج ووســوس لهــا -مــن َثـ َّ ـم -أن تفتــري عليهمــا ،مــن خــال الـ ّ بهمــا -عنــوةً -فــي مواقــف كاريكاتوريــة مضحكــة؟ إنــه وازع شخصي َت ْيهما، التسـلّي واالنتشــاء ببلوغ أقصى غاية في تخييل َّ تحركهمــا ـن، ـ ي ـرد ّ ِّ علــى نحــو تصبحــان معــه مجـ َّ إمع َت ْيــن ّ طيع َت ْ وفــق رغباتهــا وأهوائهــا .ألــم تعتــرف هــي نفســها صراحــةً ،فــي ذلــك التنويــه المشــار إليه آنفاً ،بأن غايتها مــن تأليف «ماركس فــي حديقــة داروين» «غايــة لهوانيــة هيدونيــة (»)hédoniste تعيــة ،هــي ع ّلــة وجــود كلّ إبــداع روائي؟ ليســت محضــة؛ أي ُم ّ المؤلّفــة وحدهــا مــن تسـلّى وانتشــى ،بــل أنــا -أيضـاً -بوصفــي لنــص الروايــة ،حيــث تم َّنيــت لــو أنهــا ضاعفــت عــدد قارئــ ًا ّ صفحاتهــا ،لكــي تــزداد متعتــي بقراءتهــا. مبــرر ،إذن ،الســتيحاء المؤلِّفــة شــخصي َت ْي «دارويــن» ال ّ بتخيل كلّ منهما ـي ـ التله ر مبر ـوى ـ س التاريخ، ـن ـ م ـس» ـ و«مارك ّ ِّ ُّ ـرض اآلخــر للتهكــم المضحــك .فبخــاف نــوع مــن الروايــة، يعـ ّ لبــث رســائل وعظيــة يجعــل مــن التاريــخ وســاطة أخالقيــة ّ ـراء علــى اقتفــاء آثــار صانعــي التاريــخ ،واالقتــداء تحـ ّ ـث القـ ّ بمواقفهــم وأفكارهــم ،ال تعــدو روايــة «إلونــا ييرجيــر» كونهــا ـن؛ من جهة كونهما ذريعــة ماكيافيليــة لالحتفاء باألدب وبالفـ ّ ّ ِ ـراء مــن فرصــة مواتيــة مؤقتــة ل َتعافــي كلّ مــن الكاتــب والقـ ّ بعــض التو ُّتــر النفســي والقلــق الوجــودي المحايث َْيــن لحضــارة الســرعة واالســتهالك ،االســتالبية ■ .رشــيد بنحــدو (المغــرب)
ترجمات
فريد ادغو
ثالث قصص
ُولــد فريــد ادغــو عــام ،1936يف اســتانبول .تخـ َّـرج يف أكادمييــة الفنــون الجميلــة ،ثــم تابــع دراســته يف باريس. والقصــة ،رســم بقلمــه ـن التشــكييل ،وعمــل يف الصحافــة ،وحــن كتــب الشــعر والروايــة ـم بالرســم والفـ ّ ّ اهتـ َّ معانــاة اإلنســان وتعاســته وغربتــه وأزمتــه الروحيــة ،واختــزل الكثــر جـ ّـداً مــن فكــره وفلســفته يف الحيــاة ،يف القصــة القصــرة قصصــه القصــرة جـ ّـداً ،بأســلوب شــعري وحــواري .قــال الكثــر بكلــات قليلــة ،ليصبــح رائــد ّ جـ ّـداً يف األدب الــريك املعــارص .ونــال جوائــز أدبيــة عديــدة ،و ُن ِقلــت بعــض مــن أعاملــه الروائيــة إىل الشاشــة البيضاء.
الجـ ّـلد
فريد ادغو ▲
يقتادونهــم ..أعدادهــم تتزايــد يومــ ًا بعــد يــوم ...المحكــوم عليهــم باإلعــدام .شــنقهم وظيفتــي! ال يمكننــي النــوم ليــاً؛ يجــب أن أكــون فــي ســاحة المدينــة قبيــل طلــوع الفجــر. أمــر مزعــج أن أكــون هنــاك قبيــل طلــوع الفجــر ...لكننــي أعلــم أنهــم ال يمكنهــم النــوم ،أيض ـاً .أرى فــي عيونهــم إرهــاق الليالــي البيضــاء ،المصحــوب بالخــوفَ .شـ ْنق الرجــال يسـ ِّـبب أتقيــأ ،ثــم اعتــدت علــى لــي الغثيــان .فــي بدايــة األمــر ،كنــت ّ منصــة ـن ـ ع ـزل ـ أن ـر. ذلــك .ال أشــعر بشــيء ،اآلن ،أبــداً .أتذكّ ـ ّ إعــدام ،وأصعــد أخــرى ...أمــس ،شــنقت اثنــي عشــر فــرداً .لــم يتط َّلــب إنجــاز ذلــك وقتـ ًا طويـاً ،كان أقــلّ مــن ســاعة واحــدة. مليـاً ،فــأرى فيهــا ال أحـ ّ ـب إضاعــة الوقــت .أنظــر إلــى عيونهــم ّ التوحــد ،وأرى العــدم ،وأرى العجــز ..ال شــيء آخــر .اآلالف ُّ مــن العيــون ...فــي كلّ عيــن منهــا عجــز المتنــا ٍه ،لكنــه مختلف عــن اآلخــر ،وال يمحــى مــن الذاكــرة ،لكــن ال شــعور بالشــفقة ربمــا ربمــا مــا كان ،أبــداً .ال أذكــر ذلــك .أجــل ،ال أتذكَّ ــرَّ . ـديَّ . لـ ّ مــا كان ،أبــداً .ال معنــى للشــفقة ،فــي الواقــع ،وال فــي الخيال. الشــفقة كلمــة ال معنــى لهــا .الرغبــة بالقتــل (أي الحقــد) هــو اإلحســاس الوحيــد الــذي يعيــش فــي داخلــي .ليســت رغبــةً األيــام ،ال بــل شــهوة ..هــذه الشــهوة التــي تــزداد اضطرامـ ًا مــع ّ أعلــم إلــى أيــن ســتوصلني! .كلَّمــا فكّ ــرت أنهــم قــد ال يقتــادون أحــد ًا للشــنق ،يوم ـ ًا مــا ،ينتابنــي الخــوف مــن أن أندفــع إلــى الشــارع ،وأقتــل كلّ مــن أراه أمامــي .لكن ،في الواقع ،ال شــيء
يدعــو للخــوف أبــداً ،فأعــداد المحكوميــن ال تتناقــص .الخــوف، ـي. والحقــد، ُّ والتوحــد ،والعجــز فــي عيــون مــن يقتادونهــم إلـ ّ كفي. في ـم ـ أعناقه ـرارة ـ بح ـعر ـ سأش ـيقتادونهم. ـ س واه!... واه.. َّ سأســألهم عــن طلبهــم األخير .هذا محض ســخافة .ماذا يمكن ـرر حبـ ً ا أن يكــون؟ التبـ ُّ ـول؟ أغلبهــم يبولــون قبــل اإلعــدام .أمـ ِّ مغموسـ ًا بالزيــت حــول رقابهم؛ حرارة أعناقهــم كحرارة الجمر تلســع يــدي .أدرك خوفهــم مــن انكمــاش لحــم أعناقهــم (هــذا لحــم الشــباب) .أجــل ،أغلبهم من الشــباب .ال أبالي ،فوظيفتي تردد. إلي ،وبالســرعة القصوى ،ودون أدنى ُّ شــنق كلّ من ُيقتاد ّ ـداً ،فأنــا أب لثالثــة عشــر ليــرات للــرأس الواحــد .هــذا قليــل جـ ّ جيدة ،بالمقارنة مع األحوال المعيشــية أطفال ،لكن األشــغال ّ األيــام .أعدادهــم فــي ازديــاد ،يومـ ًا بعــد يــوم، الســائدة هــذه ّ مــن رأس إلــى رأســين. حيــن ينتهــي عملــي ،آتــي إلــى هنــا ،كــي أشــرب .الــكلّ ينظــر عمــا يفعلونــه؟ مــاذا ـي بســخط .لمــاذا؟ أيختلــف مــا أفعلــه ّ إلـ ّ أفعــل ســوى تحقيــق رغباتهــم؟ لــكل امـ ٍ ـرئ مهنــة يمتهنهــا .كلّ فــرد فــي المجتمــع لــه عملــه وموقعــه فــي هــذه الحيــاة .هــذا هــو عملــي .لقــد اختــرت هــذه المهنــة نتيجــة كســلي .أجــل. أقــول بصراحــة :أنــا رجــل كســول .أريــد العمل الســهل القليل، االدعــاء بصعوبة هذا العمل. والكســب الكثيــر ،فــا أحد يمكنه ِّ أنــا مــن ال أنــام ليـاً ،وأســعى إلــى ســاحة المدينــة قبيــل طلــوع جلداً .هأنــذا أعرض ـئ ابنــي ليصبــح ّ الفجــر .اســمعوني ،سأنشـ ُ جلداً ،وأن يســلك ـدي بصراحة .أجــل ،أريده أن يصبح ّ كلّ مــا لـ ّ طريقي نفســه. أبريل 150 2020
77
أقف أمام القاضي.
ح ْكم ال ُ
يسألني عن اسمي. حكيم ،أقول.
يسألني عن اسم شهرتي. صورة ،أقول.
يسألني عن عمري. أربعون ،أقول.
ادعــي بــه عليــك ،أنــت قــد هجــرت أُســرتك ،ولــم بحســب مــا ُّ ُ ـؤد مــا يجــب عليــك مــن التزامــات تجــاه أفــراد أســرتك .هــل تـ ِّ االدعــاء صحيــح؟ يقــول. هــذا ِّ
صحيح ،أقول.
يخاطب القاضي الكاتب:
اكتــب :اعتــرف المتهــم بذنبــه .لقــد قــال صراحــةً ،إنــه هجــر
ـؤد مــا يجــب عليــه مــن التزامــات تجاههــا. أُســرته ،ولــم يـ ِّ أقول للقاضي: ُ أدت ما يجــب عليها من ـم ال تســأل إن كانت أســرتي قد ّ لكــنِ ،لـ َ ـدث ،يصمتون التزامــات تجاهــي أم لــم تفعــل؟ حيــن كنت أتحـ َّ مثــل الخرســان .كلَّمــا أقتــرب منهــم ،يبتعــدون عنــي .لــم ن َّتفق ـط .أجــل ،لقــد هجرتهــم فــي نهايــة األمــر، علــى أمــر واحــد ،قـ ّ لكــن كان ذلــك نتيجة يأســي. هــذا موضــوع لدعــوى مختلفــة ،يقــول القاضــي ،ثــم يتابــع: ـق لــك رفــع دعــوى ،لكنــك لــم تقــم بذلــك؛ أنــت ،أيض ـاً ،يحـ ّ مــع هــذا ال تــزال تحتفــظ بح ّقــك هــذا. ضدك ،اآلن. لكن ذلك ال يمنع من صدور حكم قضائي ّ ما الجدوى من ذلك؟ أسأل القاضي. ضدهــم ـم قضائــي ّ إن كســبت دعــواك ّ ضدهــم ،فســيصدر ُح ْكـ ٌ أيضـاً ،يقــول القاضــي. ذلك يعني أننا جميع ًا مدانون .أليس كذلك؟ أقول. أجــل ،لكــن هــذه التســاؤالت خــارج نطــاق الدعــوى؛ موضــوع جلســتنا .نحــن فــي المحكمــة ولســنا فــي المقهــى ،يقــول القاضــي. علــى الحائــط ،خلــف القاضــي ،لوحــة لميــزان يم ّثــل العدالــة. ذلــك الميــزان متعــادل الك َّف َت ْيــن ،دائمـاً.
ضيف غري مرت َقب
( Nese Erdokتركيا) ▼
78
أبريل 150 2020
أوالً ،ثــم طــرق بابــي بعــد فتــرة وجيــزة .مــن نــادى باســميّ ، المتأخــرة مــن الليــل؟ ،قلــت. ـاعة ـ الس ـذه ـ ه ينادينــي فــي مثــل ِّ لــم أكتــرث فــي بدايــة األمــر ،لكني ،بعــد أن طُ ـرِق البــاب ثانيةً ، نهضــت مــن فراشــي .أشــعلت النــور .هبطــت الــدرج ،لكننــي لــم أفتــح البــاب. اكتفيت بالنداء ،من خلف الباب: «من بالباب؟» ما من مجيب. ناديت ثانية: «من بالباب؟» ما من مجيب. «اغرب ،إذن» ،صحت. صعدت الدرج. أطفأت النور .دخلت فراشي. لكــن النــوم ...إذا مــا قُطــع نومــك ال يمكنــك النــوم حــالَ وضــع رأســك علــى الوســادة ،ثانيةً . انتظرت برهةً من الوقت. صوت ينادي باسمي ،ثانيةً . لم أكترث. مدة قصيرة. مضت ّ ثم طُ رق الباب ،بعنف ،ثانيةً . نهضت من فراشي .أشعلت النور .هبطت الدرج. ناديت من خلف الباب: «من بالباب؟» ما من مجيب. «من بالباب؟» ،قلت« .من أنت؟»« .ماذا تريد؟».
( Nese Erdokتركيا) ▲
صمــت قصيــر ،ثــم ســمعت صوت ًا كأنه صــادر من أعمــاق كهف ال مــن خلــف الباب: «أنا .أنا صديق لك قديم ،ألم تعرفني؟» أتعرفــك .مــا اســمك؟»، ـدي .لــم «ال؛ صوتــك غيــر مألــوف لـ َّ ّ قلــت .ذكــر اســمه لــي .اســم ليــس مــن األســماء التــي أعرفها؛ أقصــد ليــس مــن أصدقائــي أو معارفــي ،ال مــن قريــب أو بعيد. «ال أعرفك .لست أحد ًا من أصدقائي» ،قلت. «هكــذا ،إذن! لقــد نســيتني ســريعاً! ال بــأس ،أنــا ذاهــب .لــن أزعجــك ثانيــةً ». «تو َّقــف» ،قلــت مــن خلــف البــاب« .هل أنــت بحاجة إلى شــيء ما؟» ِ ــم تريــد معرفــة ذلــك؟» ،قــال «مــا دمــت لــم تتعرفنــي ،فل َ َّ الصــوت القــادم من خلف الباب ،ثم اســتأنف« :ليلة ســعيدة». أصغيت إلى وقع الخطوات المبتعدة. فــي تلــك اللحظة ،أدركــت أن الصوت الذي نادانــي .قبل قليل، لــن يســمعني إذا مــا صعــدت إلــى غرفتــي ودخلت فراشــي .لن يعــود ثانيةً ويطــرق بابي. ً فتحت البابِ :ظ ٌل يعرج ،مبتعدا نحو باب الحديقة. أتعرفك». «توقَّف ،ال تذهب» ،قلت« .تعال حتى لو لم َّ
لم يستدر. «إنــه الضعــف فــي الذاكــرة» ،صحــت مــن خلفــه« .ال ِك َبــر ...ال تغضــب! تعــال .اســمعني ،لقــد تذكَّ رتــك اآلن (كذبــت!) .لقــد بــدا لــي صوتــك غريب ـ ًا قبــل قليــل ،لكنــي حيــن رأيتــك اآلن... أر شــيئ ًا ســوى ظـ ّ ً ـا معتمـ ًا يعــرج) تذكَّ رتــك .أنــت صديــق (لــم َ ِ ـم تديــر ظهــرك لــي؟ تعــال ،لنشــعل الموقــدة، ـ ل ـي، ـ ل قديــم َ ونحكــي همومنــا ..ونواســي أنفســنا قليـاً ،ونســتعيد ذكريــات مــن ّأيــام مضــت». لمحته في الظلمة يستدير نحوي. األيــام الماضيــة ،وال األصدقــاء «أنــت ال تتذكَّ ــر شــيئاً :ال ّ القدامــى ،وال األحــزان القديمــة» ،قــال. تعرفــك ،وأنــا فــي «ال تهــذر .إنهــا ســكرة النــوم .كيــف يمكننــي ُّ ســكرة النــوم؟» ،قلــت. «لقد طردتني قبل قليل». صمت ،ولم تجب على سؤالي». «لكنك ّ «أح ّقـ ًا تريــد مجيئــي؟ أح ّق ًا تريد إيوائي فــي بيتك؟ أال تخاف؟»، قال. هيــا ـل؟ ـ اللي ـف ـ منتص ـي ـ وف ، ـو ـ الج ـذا ـ ه ـي ـ ف ـتذهب ـ س ـن ـ أي ـذر». ـ «ال ته ّ ّ ادخــل» ،قلــت ■ .ترجمــة عــن التركيــة :صفــوان الشــلبي (األردن) أبريل 150 2020
79
ـمايس ل ا الحلم ّ (فانغ فانغ)
فانغ فانغ ▲
80
قبــل بضعــة ّأيــام ،أصابنــي المــرض بســبب اإلرهــاق الشــديد، حبــة أرز ،فمــا إن أتنــاول شــيئ ًا حتــى ولــم أعــد أســتطيع ابتــاع ّ أفــرغ مــا فــي جوفــي .انقضــى يومــان ،لــم أســتطع فيهــا الوقــوف ـي ،وكنــت مــا إن أســير خطوتيــن ،حتــى أشــعر بــدوار علــى قدمـ ّ ـن أن العــاج حـ ّ ـاد ،وكأن نهايتــي قــد اقتربــت! وطالمــا كنــت أظـ ّ الروحــي يمكن اســتبداله بالطبيب ،للتعافي مــن المرض (دائماً، كنــت أقــاوم هــذا المــرض) ،لكــن عندمــا وصــل المــرض إلــى هذه المرحلــة ،لــم يعــد العــاج الروحــي مجدي ـاً ،بــل صــار ســاح ًا ـدي ،وفــي النهايــة أقلعــت عــن العــاج الروحــي ،وذهبــت إلى ضـ ّ المشــفى حيــث المــكان الــذي يضايقنــي كثيــراً. الطبــي ،عثــروا علــى حصــوة في المــرارة، وبعــد انتهــاء الفحــص ّ يبلــغ طولهــا ســنتيمترين ،وعرضهــا ســنتيمتر واحــد ،ولــم تكــن حصــوة صغيــرة .وكان مثلــي مثــل الكثيــر مــن الكُ ّتاب والشــعراء الذيــن أصابهــم هــذا المــرض ،مثــل السـ ِّـيد شــو تشــي ،وهونــغ يانــغ ،ولــوه ون ،وليــو يــي شــان .وإذا فكَّ ــرت فــي أنهــم يمتلكــون ـك -لســت أقــلّ منهــم، هــذه الحصــوة فــي المــرارة ،فأنــا -بــا شـ ّ وإل فســأبدو أننــي لســت فــي الك ّفــة ذاتهــا مــع هــؤالء .وشــعرت ّ وقتهــا أن الرئيــس األميركــي بيــل كلينتــون األشــول ،قــد تســاوى عامــة الشــعب الشـوِل مثلــه. مــع هــؤالء مــن أبنــاء ّ ممــن يعانــون مــن حصــوات ـخاص ـ األش وألن هنــاك الكثيــر مــن َّ المــرارة ،فطــن الكثيــر مــن أصدقائــي إلــى طــرق العــاج ،ودائمـ ًا يتحدثون مــا كانــوا يزورونــي ،ويخبروني بهذه الوســائل .البعــض َّ التدخــل الجراحــي ،وآخرون عــن طريقــة التفتيــت ،وآخــرون عن ُّ يقولــون إن رياضــة جونغتشــي تف ّتــت الحصــوات ،وغيرهــم نصحونــي باســتخدام الســكّ ين الصغيــر فــي انتــزاع الحصــوة.. لكنــي رفضــت كلّ هــذه الوســائل .وبمنتهــى البســاطة ،ظننــت أن األيام ـي ّ داخــل مرارتــي تنمــو قطعــة مــن الماس ،وتكبــر مع مضـ ّ (وقــد علمــت أن الحصــوة يمكــن أن تغــدو فــي حجــم البيضــة)، وهــذا األمــر جعلنــي أكاد أرقــص طربـاً. خطــرت فــي بالــي هــذه الفكــرة ،حينمــا قــرأت ذات يــوم ،فــي الجريــدة ،خبــر ًا عــن شــخص أخرجــوا مــن مرارتــه قطعــة ماس، ـك -لســت أقــلّ مــن هــذا الشــخص .أنــا فشــعرت بأننــي -بــا شـ ّ
أبريل 150 2020
متخرجــة فــي الجامعــة ،وعلى قدر من الثّقافــة والفكر الصائب، ِّ جيــدة ،وأســرتي عريقــة؛ فجميــع أفــراد العائلــة علــى ـي ـ ت وصح َّ ِّ قــدر كبيــر مــن الثّقافــة ،فهــل هــذه الحصــوة التــي تكبــر داخــل خاصــة هــؤالء األجانــب ،وأنــا ممــا يمتلكــه غيــري، ّ جســدي أقــلّ ّ وطنيــة عاليــة ،ولــن أدع هــؤالء وطنيــة ،وأمتلــك روحـ ًا شــخصية ّ ّ األجانــب يســتهينون بمواهــب الشــعب الصينــي ،فهــم يمتلكــون األقمــار الصناعيــة ،ونحــن -أيضــاً -ينبغــي أن نمتلــك مثلهــا.. يمتلكــون أطنانـ ًا مــن المركبــات والســفن ،ونحــن -أيضـاً -علينــا أن نحظــى بمثلهــا ،وأشــخاص مــن أصحــاب المكانــة الرفيعــة ـك -لســنا أقــلّ ممــن أصابتهــم حصــوات المــرارة ،نحــن -بــا شـ ّ َّ منهــم شــأناً .ومــا إن ا َّتبعــت هــذه الطريقــة فــي التفكيــر ،حتــى زادت قيمتــي فــي عينــي أضعافــ ًا وأضعافــاً ،بــل صــار العــبء ثقيـ ً ـف عــن االســتغراق فــي التفكيــر. ـداً ،ولــم أســتطع أن أكـ ّ ا جـ ّ وأول شــيء خطــر فــي بالــي هــو أننــي أســتطيع شــراء وثيقــة َّ االئتمــان فــي كلّ مــكان ،وتكــون قطعــة المــاس فــي مرارتــي هــي الضامــن لــي .وعنــد موتــي ،يمكــن ألهلــي وأقاربــي أن يطلبــوا من الطبيــب اســتخراج قطعــة المــاس مــن مرارتي ،حتــى بإمكاني أن الماليــة ،فــي المشــفى ،بأننــي ســأدفع تعهــد ًا إلــى قســم أكتــب ُّ ّ ضعــف المبلــغ بعــد موتــي .بمقــدوري ،أيضاً ،بيــع قطعة الماس وأنــا علــى قيــد الحيــاة ..فقطعــة المــاس عملــة صعبة ،أســتطيع ســداد كلّ فواتيــري مــن خــال بيعهــا إلــى شــركة ،حتــى أننــي أســتطيع الحصــول منهــا علــى بطاقــة ذهبيــة. فربمــا يظ ّنون ومــن المؤكَّ ــد أن الشــركة ستحســب األمــر بعنايةَّ ، أن فانــغ فانــغ فتــاة فقيــرة ومقتصــدة ،وســتعيش طيلــة حياتهــا دون أن تنفــق قــدر ثمــن قطعة الماس (مــن المؤكَّ د أنهم يخالون يتخيلــوا أننــي اعتــدت ،منــذ أننــي لــن أنفــق النقــود ،لكــن لــن َّ التبــرع بالمــال فــي األعمــال الخيريــة :ضحايــا الصغــر ،علــى ُّ الخاصــة االحتياجــات ذوي ــات وجمعي والمــدارس الكــوارث ّ ّ وجمعيــات الفقــراء ،ومنظَّ مــات حمايــة ـائية، ـ النس ـادات واالتِّحـ ّ الصحــي وإصــاح الطــرق والمطبوعــات، البيئــة ومراكــز الصــرف ّ وغيرهــا مــن األعمــال الخيريــة ،وهــذا الرقــم ال يمكــن لقطعــة المــاس أن تســتوعبه).
( Yun Geeالصين) ▲
وإذا ســار األمــر علــى هــذا النحــو ،ســتمضي ّأيامــي ورديــة ،وتختفــي العقبــات ـت ،ويصبح جســدي أشــبه بعملــة ورقية ال تفنى أو تــزول ،ولن يصبح أينمــا رحـ ُ هنــاك فــرق بينــي وبيــن هــؤالء الذيــن ينفقــون أمــوا ً ال طائلــة في وقتنــا هذا! واألمــر الثانــي الــذي جــال بفكري هــو أن بعض اللصــوص علموا بأمر الماســة، وشــعروا أنهــا أفضــل مــن الســرقات وبيــع الممنوعــات والتهريــب ،وبــدأوا يراقبونــي ويتعقَّبــون ســيري ،بمنتهــى الد ّقــة .فــي البدايــة ،كانــت الحصــوة التدخــل رقيقــة ،وقــد حاولــوا -بحلــو الــكالم -إقناعــي بإخراجها،عــن طريــق ُّ ـتتحول، ـ فس الحصوة، الجراحــي ،ثــم أخبرنــي الطبيــب بأننــي إذا لــم أســتأصل َّ َّ ـك، فيمــا بعــد ،إلــى ســرطان ،والســرطان يفضــي إلــى المــوت ،بــا أدنــى شـ ّ وأنــا -بالطبــع -حريصــة علــى ســامة قطعــة المــاس (وهــل هنــاك مــكان آمــن أكثــر مــن المــرارة لقطعــة المــاس!) .وبعــد أن بــاءت كلّ المحــاوالت بالفشــل ـد ًة معــي ،وبــدأ الكثيــرون فــي مطاردتــي لقتلــي ،ولــم الذريــع ،صــاروا أكثــر حـ ّ يكــن أمامــي خيــار آخــر ســوى الهــرب مــن مــكان إلــى مــكان. الهــرب تجربــة ،تــرى فيهــا الخطــر يحوم حولــك أينمــا ذهبت .كنــت أرى الموت الطيبيــن كثيرون فــي الحياة .في ـظ ،إن األشــخاص فــي كلّ ثانيــة .ولحســن الحـ ّ ِّ بعــض األحيــان ،كانــت بعــض الرســائل تأتيني ،وتســاعدني علــى الفــرار .وأكثر شــيء يبعث على الســعادة هو أن رج ً الحب والضمير ،كنت ال وســيماً ،وبدافع ّ أجــده بجــواري ،دائمـاً ،فــي لحظــات اليــأس وأوقــات الحــزن ،وراح يشــاطرني ـك أنني صرت ،في النهاية ،كأنني مشــاكلي ،فأحسســت بســعادة غامرة ،وال شـ ّ بطلــة فــي مسلســل تليفزيونــي ،وبفضــل الشــرطة اختفــى هــؤالء اللصــوص ـددون حياتــي .وبعدمــا صــرت في أمــان ،افترقنا ،أنا وذلك الوســيم… الذيــن يهـ ِّ
ذات يــوم ،وأنــا غارقــة فــي التفكيــر فــي حصــوة المــرارة ،زارنــي أحــد األصدقــاء وأخبرنــي أن فالنـ ًا قــد أجــرى عمليــة جراحيــة ،وأخــرج الحصــوة التــي حملهــا لســنوات طــوال .وكانــت الحصــوة قاتمــة ،كبيــرة فــي حجــم ـك أن تلــك الحصوة بيضــة طائــر صغيــر ،وهــو حاصــل على الدكتوراه ،وال شـ ّ التــي نمــت داخــل جســده ،لــن تكــون حصــوة عاديــة ،حتــى أنــه بحــث عــن خبيــر جيولوجــي .وبعــد أن فحصهــا الخبيــر ،ســأل الدكتــور :كــم تســاوي؟ فأجابــه :ال تســاوي شــيئ ًا علــى اإلطــاق! وبعــد ســماع مــا قالــه ،فكَّ ــرت فــي أمــر الدكتــور ،وفــي كونــي حاصلــة ،فقــط ،علــى درجة الماجســتير ،ولســت ـس بالخجــل ..ورحــت أفكِّ ر علــى درجــة علميــة رفيعــة مثلــه ،لكننــي لــم أحـ ّ فــي الحصــوة ،وشــعرت أننــي لــم أعــد أرغــب فــي رؤيــة الطبيــب المعالــج، ولــم أرغــب فــي التخ ُّلــص مــن حصــوة المــرارة ...واآلن ،على األقــلّ ،يمكنني أن أجــوب واحــة األحــام ■ ..ترجمــة عــن الصينيــة :ميــرا أحمــد (مصــر) ُو ِلــدت الكاتبــة الصينيــة «فانــغ فانــغ» ســنة ،1955في مدينــة «نانجينغ» ،فــي مقاطعة «جيانغســو» .اســمها الحقيقــي «وانــغ فانغ» .واحدة من أشــهر األديبــات المعاصرات، تخرجت في جامعة ووهان ،قســم اللغة الصينية، َّ جســدت أعمالهــا الحيــاة الواقعيــةَّ . وانضمــت إلــى اتِّحــاد الك ّتــاب الصينييــن فــي مقاطعة هوبــي ،وان ُت ِخبت فــي عــام ،1982 َّ رئيســة لــه ســنة ..2007مــن أشــهر أعمالهــا الروائيــة« :آبــاء وأجــداد» « -الضبــاب» - «غــروب الشــمس» « -أزهــار الخــوخ» « -تلميحــات» « -دفــن هــادئ» .أحــدث إصدارتهــا المجموعــة القصصيــة «يهــلّ الربيــع علــى تانهــوا لين» .حصلــت فانغ فانغ علــى جائزة ـدة لغات. المتميــز فــي العمــل القصــة ،عــام ،2009وترجمــت أعمالهــا إلى عـ ّ ّ ِّ أبريل 150 2020
81
روبي ُكـور..
ملكة شعراء إنستغرام
فــاق الثالثــة ربــا مل يحلــم أكــر املتفائلــن واملنحازيــن للكتــاب الورقــي مبــا تحقَّــق ،بالفعــل ،مــن توزيــع َ َّ ماليــن نســخة لديــوان ِشــع ٍر بال ّلغــة اإلنجليزيــة ،لشــاعر ٍة مل تكــن يف صباهــا تجيــد النطــق بهــذه ال ّلغــة .لكنهــا ث يف الثانيــة والعرشيــن ِمــن عمرهــا ن َ ـب وعســل »milk and honey -الــذي َأ ْحـ َـد َ َـشــ ْ األول «حليـ ٌ ـرت ديوانهــا َّ وي الهائـ َ ـل يف عا َلــم النــر. هــذا الـ َّـد َّ مؤ ّلفة هذا الديوان هي «رويب كُ ـور ،»Rupi Kaur -وهي كندية ِمن أصلٍ هنديُ .و ِلـدت يف الرابع من أكتوبر، ٍّ ـرت مــع أرستهــا ،إىل كنــدا، عــام 1992م ،يف إقليــم البنجــاب بالهنــد ،يف أرسة تنتمــي لطائفـ ِـة الســيخ ،ثــم هاجـ ْ وهــي يف الثالثــة ونصـ ٍ ـف مــن عمرهــا .كان لوالدتهــا أعظــم األثــر يف اهتاممهــا بالرســم ،منــذ الصغــر ،وا َّتجهــت ـن الســابعة عــرة. للكتابــة يف سـ ّ
روبي كُ ـور ▼
82
أبريل 150 2020
منصة إنســتغرام، بدأت شــهرة «كور» عبر وســائل التواصل االجتماعي ،عبر ّ ـع .وقــد تحديــداً ،وتحظــى ،فــي الوقــت الحالــي ،بمــا يقــارب 4مالييــن متابـ ٍ بــرز مصطلــح جديــد للتعبيــر عــن هــذه الظاهــرة ،وهو «شــعراء إنســتغرام - ِ .»Instapoets ومن أبرز هؤالء الشــعراء «تايلر نوت -جريجســون Tyler - ،»Knott Gregsonو«روبــرت م .دريــك ،»Robert M. Drake -وهمــا «نيرة أميركيان ،من مواليد 1981م .كذلك ،تشــمل هذه الظاهرة الشــاعرات ِّ وحيــد ،»Nayyirah Waheed -و«النــج ليــاف ،»Lang Leav -و«أمانــدا الفليس .»Amanda Lovelace - ـب وعســل) ،عــام اندلعـ ْ األول (حليـ ٌ ـت شــهرة «كُ ـــور» عقــب نشــر ديوانهــا َّ ـد َر قائمــة األعلــى مبيعـاً ،علــى مــدار ( )77أســبوعاً ،فــي َـصــ َّ 2014م ،حيــث ت َ القائمــة التــي تنشــرها صحيفــة «نيويــورك تايمــز» األميركية ،وقــد بيعت من الديــوان ثالثــة مالييــن نســخة ،كمــا ُت ِ ـم ألكثــر مــن ثالثيــن لغــة. رجـ َ «الشمس وأزهارها the Sun and - ص َد َر ديوانها الثاني في أكتوبر (2017م) َ ُ ٍ األول لصدوره .وفي ـام ـ الع في ـخة ـ نس مليون منه ـع ـ بي ـد ،»her flowersوقـ َّ كال الديوانين ،تكتب «كُ ـــور» بطريقة مغايرة لقواعد الترقيم اإلنجليزية ،فال تســتخدم إال أحرف الطباعة الصغيرة ،كما أنها ال تســتخدم َّأيــ ًا من عالمات الترقيــم المتعــارف عليهــا ،باستـثـــناء وضــع نقطــة فــي نهايــة الجملــة ،فــي مواضــع نــادرة؛ وتعــزو ذلــك إلــى رغبتها في محــاكاة نظام الكتابة فــي اللّغة أي عنــوان أعلــى القصائــد، ـعــ ُّ البنجابيــة التــي ُت َ األم ،كمــا ،ال يوجــد ّ ـد لغتهــا ّ لكــن ،أحيانـاً ،يوجــد أســفل القصيــدة مــا ينــوب عــن العنــوان ويتميــز عــن متــن القصيــدة بأنــه مكتــوب بحــروف الطباعــة المائلــة .وإذا كانــت موهبــة الرســم قــد نمــت برعايــة والدتهــا ،منــذ الطفولــة ،ثــم ظهــرت لديهــا موهبــة الشـــعر، فإن «كُ ـــور» لم تـتـــخلَّ عن موهبتها في الرســم لحســاب ِّ ِّ ـعرَّ ، الشـ ْ بــل تضفرهمــا مع ـاً ،فــا تــكاد تخلــو صفحــة ،فــي ديوان َْيهــا ،مــن رســومها المتناغمــة مــع موضــوع القصيدة. ٍ ِ ٍ ٍ ويـــة مختلفة .كما يحتلّ موضوع تكتب «كُ ـــور» في س َّ موضوعات إنسانية ،ون ْ ً ـاء تليفزيونــي ـ لق ـو ـ يخل ـكاد ـ ي وال ـا. ـ قصائده ـن ـ م ا ـ بعض ـرة االغتــراب والهجـ ُ ٌ معهــا مــن سـ ِ ـرد بعــض تفاصيــل طفولتهــا ،وشــعورها باالغتــراب .تقــول فــي ـن الخامســة ،فــي حجرةٍ ـيء يعــدلُ وجــودك ،فــي سـ ّ أحــد اللقــاءات « :ال شـ ْ دراسـ ٍ الصمت بد ً ال ـت ـية ،كلُّ واحــد فيهــا يتحد ُ َ َّ ث لغـــةً ال تفهمها .لقد مارسـ ُ ٍ ـن الشــعور ـ لك ـر». ـ آخ ـب ـ كوك ـن ـ م ـت ـ جئ ـي ـ أنن ـعر ـ أش ـت ـ كن إذ ـكالم؛ ِمــن الـ ُ ُ َّ ُ
باالغتــراب ،بســبب اللّغــة ،هــو ذاتــه الذي دفعهــا اللتهام الكتــب ،وقد كانت ـح نقطــة االنطــاق فــي الصــف الثالــث االبتدائــي ،حيــث كانــت معلِّم ُتهــا تَمنـ ُ ـاد َف هــوى فــي لمــن يقــرأ مزيــد ًا ِمــن الكتــب؛ وهــو مــا صـ َ جائــزة أســبوعية َ ً ـدت فــي القــراءة تعويضـا عــن شــعورها باالغتــراب؛ نفــس «كــور» التــي وجـ ْ تدريجيـاً ،ل ُتعــ ِّـب َر عــن نفســها بالكتابــة وتتغلَّب على ـور، ـر الــذي تطـ َّ َّ وهــو األمـ ُ خوفهــا مــن اللّغــة اإلنجليزيــة. ورغــم أن «كــور» غــادرت البنجــاب وعمرهــا أقــلّ مــن أربــع ســنوات ،مــا زالت ـرية مــع والديهــا فــي تعايــش ثقافتهــا البنجابيــةِ ،مــن خــال حياتهــا األسـ ّ وتصف مجتمع ْيــن مختلفَ ْين، «تورونتو».هكــذا ،تحــاول أن تــوازن بين ثقا َف َت ْي ُ َ األمــر كأنهــا تمشــي علــى حبــلٍ مشـ ٍ ـدود ،محاولــةً الحفـ َ ـاظ علــى توازنها حتى ـقط علــى أحـ ِ ال تَسـ َ ـد جانبيــه ■ .ترجمــة وتقديــم :بشــير رفعــت (مصــر)
()1
حملت أ ُ ِّمي عندما ْ بطفلها الثاين، كنت يف عامي الرابع . ُ أرشتُ إىل بطنها املنـتـفـخ مندهشـ ًة كيف صارت وقت قصري! ممـتـلـئـ ًة هكذا ،يف ٍ شجرة ،وقال : حملين أبي بيدين كجذ َع ْي ٍ الله ،عىل هذه األرض، ُ أقرب ْ يش ٍء إىل ِ جسم املرأة؛ هو ُ منه تـنـبـث ُـق الحياة. رج ٌل بهذا النضوج، ُ ً ً يخربين شيئا قويّا هكذا، يف عمري الصغري ،آنذاك، بأسه، جعلين أرى العالَمْ ، أمي. ـي ِّ تحت َ قدم ْ ال أدري كيف يكون الشعور بالحياة املتوازنة، فأنا ،عندما أحزن، ال أبيك ،بل أنسكب وعندما أفرح، ال أبتسم ،بل أتو َّهج. وعندما أغضب، ال أرصخ، بل أحرتق.
ب، أنين ،عندما أ ُ ِح ّ منح أجنح ًة ملن أح ُّبهم. اَ ُ ربَّما ال يكون هذا أمرا ً ج ِّيدا ً ـحون،حينئذ ،للذهاب. جـن ألنهم ي َ ْ ٍ ولو أنك رأيتين ،عندما يتحطَّم قليب، لعرفت أنين ال أحزن.. َ إنين أنشطر. ُ األم َر ٌّ شاق.. أعرف َّ أن ْ َصـدِّقين. ُ أعرف هذا الشعور بأن الغـ َد لن يأيت، َّ اليوم وأن َّ َ يصعب أن تتجاوزه.. ُ أقسم لك لكين ُ إنك ستـتـجاوزه.. سيميض األلم كما يميض دائماً،
()3
كنت تمنحه الوقت، إذا َ يمض. ثم ترتكه ِ ْ ُ ف ْ إذن ،دعـه اآلن يميض بلـط ٍ مث َل و ْع ٍـد لم يتـحـ َّقـق.. يمض. دعـه ِ ()4
()2
أجم ُل ما يم ِّيز مشاعري الجامحة
أُقـد ُِّم اعتذاري لك ِّل امرأة وصفـ ُتـها بأنها جميلة، قبل أن أص َفـها بالذكاء أو الشجاعة. بالجـمال ـك َ أيَّتها املرأة ،عندما وصف ُت ِ جعلت األمر يبدو ه ِّيـناً؛ ُ ـقت به إ ْذ م َّيـزت ُ ِ ـك بأمر ٍ قد خُ ِـل ِ َ ْ لك، وجـعـلـتُه مدعا َة فخْ ر ٍ ِ روحك ت ُ َ َّ الجبال. بينما ُ ِ ـحـط ُم ِ ِمن اآلن فصاعداً ،سأقو ُل أشياء أخرى: «أنت امرأ ٌة مرنة». سأقول ،مثالً: ِ «أنت امرأ ٌة استـثـنائية». أو ِ أراك جميلة، ليس ألين ال ِ ُ الجـمال. بل ألنك تملكني ما يفوق َ أبريل 150 2020
83
نصوص
ماجدة ح ّنا (مصر) ▼
84
أبريل 150 2020
الـمسبحة بذهــنٍ شــارد ،ووجـ ٍ ـه نحيف ُمنكمش ،تتشــابك فيــه التجاعيــد ،وكأ َّنها تتصارع ـدد أكثــر مــن ذلــك ..يجلــس «الحاج معـاً ،باحثــةً عــن ُم َّتسـ ٍ ـع فــي وجهِ ــه لتتمـ َّ سـ ِّـيد» ،الكهــل الثمانينــي ،علــى أريكتــه ،يتل َّقــف الهــواء المنــداح مــن بيــن مقرب ـ ًا أذنــه ،بشــكلٍ كبيــر ،مــن دفَّتــي الشــباك الــذي يعلــو تلــك األريكــةِّ ، المرتعشــة ،لدرجــة تشــعرك ـو ٍة ،بكـ ِّ مذيـ ٍ ـاع صغيــر ،يقبــض عليــه ،بقـ ّ ـف يــده ُ ـأن نصــف المذيــاع ُملتصــق بيديــه ،والنصــف األخــر ملتصــق بأذنــه. بـ َّ ـيء ،يمينـ ًا ويســاراً ،كهيئـ ِ يهـ ُّز «الحــاج سـ ِّـيد» رأســه ،بشــكلٍ بطـ ٍ ـة المخمــور ويدنــدن ،بصـ ٍ مــن فـ ِ «أم كلثــوم» ـرط اســتمتاعهُ ، مبحــوح متقطِّ ــع ،أغنيــة ّ ـوت ُ (يــا حبيب ـ ًا زرت يوم ـ ًا أيكــه) ..بينمــا يصــدر مــن المذيــاع صــوت ُمذيــع نشــرة أن تلــك األخبــارُ ،يعلــن عــزم الحكومــة رفــع ســعر البنزيــن والســوالر ،مؤكِّ ــد ًا َّ ـب فــي مصلحـ ِ ـة المواطــن البســيط ،وأ َّنهــا الخطــوة ا ُ ألولــى فــي الزيــادة تصـ ّ طريــقِ اإلصــاح االقتصــادي ِمــن أجــلِ وصــول الدعــم لمســتحقِّيه ،فيصيــح ـوت عــالٍ مــن فـ ِ «الحــاج سـ ِّـيد» بصـ ٍ ـرط النشــوة ،ويقــول« :اللــه ،اللــه! عظمــة ـت». علــى عظمــة يــا ِسـ ّ الحمــام ،على صـ ِ ـوت صياحه ،قلقــةً ،وهي تغطِّ ي ـن ـ م ـه، ـ ابنت تخــرج «فاطمــة» َّ شــعرها الخفيــف المب َّلــل بـ(فوطـ ٍ ـة) ،لكــن ســرعان مــا ُيغــادر القلــق وجههــا، لتحــلّ مح ّلــه ابتســامة عريضــة حيــن تنظــر إلــى أبيهــا وتــرى فــرط اســتمتاعه، فتقــول« :واللــه ،أحســدك يــا أبــي علــى مــا أنــت فيــه ..تــرى الدنيــا وتســمعها كمــا تريــد أنــت ال كمــا يريــد َمــن حولــك». ُيبعــد «الحــاج سـ ِّـيد» المذيــاع عــن أذنِــهُ ،مبديـ ًا غضبــه الشــديد مــن مقاطعــة ـر ِد الهمــس فــي أثنــاء ابنتــه لــه ،رغــم تحذيــره لهــا مــرار ًا وتكــراراً ،مــن مجـ َّ ـي بدلته ـ ك ـا ـ منه ـب ـ يطل ــ«أم كلثــوم» فــي اإلذاعــة ،ثــم ســماعه حفلــة الشــهر لـ ُّ ّ جيــداً؛ ليحضــر بهــا حفلــة الشــهر القــادم. الســوداء الصــوف ِّ مهتمــة بحديـ ِ َ ـث أبيهــا ،وتضــع ـر ـ غي ـة، ـ األريك ـفل ـ أس ً، ا ـ أرض تجلــس «فاطمــة» َّ اندســت قد والذي ـود، ـ األس ـعرها ـ ش ـيط ـ تمش في لتبدأ فخذيها، (الفوطة) على َّ ً المزعجة. ـاء ـ البيض ـعيرات ـ الش بعض ا ـر ـ مؤخ وســطه، َّ ُ ويخرج مســبحة من جيبه األيمــن ،ويزغد ـته، ـ جلس من د» ـي ـ س ـاج ـ «الح ـدل يعـ ِّ ُ ِّ بطَّ أن تلــك ـة، ـ ـا ـ ي ـن، ـ «أتعرفي ـول: ـ ويق ـه، ـ إلي ـت ـ لتلتف ـة؛ ـ خفيف ـدة ـ زغ ـة» ـ «فاطم َّ المســبحة قــد اشــتريتها مــن عند النبــي (عليه الصــاة والســام) ،وكانت معي ْ ـر دمعــة مــن عينيــه علــى أمــك؟ هــي َمـ ْ ّ ـن اختارتهــا لــي» ،يصمــت هنيهــة ،وتفـ ُّ صفحـ ِ ـة وجهــه الجدبــاء ،ثــم يبتســم ابتســامة رضــا ،ويمســح وجهــه بتلــك العمــرة الدمعــةُ ، ويكمــل حديثــه« :أتعرفيــن ،يــا فاطمــة؟ لقــد ذهبــت إلــى ُ بأمــك ،ورجعــت بتلــك المســبحة دونهــا ..دفنتهــا بيــدي ،فــي البقيــع». ِّ وتتفحــص أســنان المشــط ،حزينــةً علــى تتو َّقــف «فاطمــة» عــن التمشــيط، َّ الشــعر العالــق بــه ،وتنظــر إليــه نظــرات ُتشــبه َمــن ُيشـ ِّـيع عزيــز ًا عليــه ـم َ كـ ِّ إلــى مثــوا ِه األخيــر ،ثــم تســتفيق مــن غفلتهــا علــى صـ ِ ـوت األب الطاعــن فــي ٍ بصــوت عــالٍ « :يــا أُ ّم فاطمــة ،يــا أُ ّم فاطمــة! أيــن أُ ّمــك ،يــا الســنُ ،ينــادي ِّ ـرد علــي؟» تتأ َّفــف االبنــة ،وتجيــب بنفـ ِ ـاد صبـرٍ« :أُ ِّمــي فــي ـ ت ال فاطمــة؟ لمــاذا ّ ّ قبرهــا .ألــم تدفنهــا بيــدك ،فــي البقيــع؟». أن ابنته من ـب ـ ويطل ً، ا ب تعج م و(البقيع) ـي (قبرهــا) ُيـ ِّ ْ ُ ِّ ـردد «الحــاج سـ ِّـيد» كلم َتـ ْ تضــع تلــك المســبحة فــي قبــره ،عنــد دفنــه؛ لتشــفع لــه ،فتســتنكر «فاطمــة» حديثــه ،وتتهكَّ ــم عليــه قائلــةً « :وهــل هنــاك مســبحة تشــفع لصاحبهــا فــي القبــر؟!» ،ثــم تطلــب مــن أبيهــا أن ينــام ليريــح أعصابــه ،فيرفــض النــوم قبــل أن ُيص ِّلــي العشــاء ،فتخبــره بأ َّنــه قــد ص َّلــى العشــاء ،اليــوم ،ثــاث مــرات!.. ْ يتسـ ّند علــى الحائــط ،ويدخــل غرفتــه. تضــع «فاطمــة» يدهــا داخــل صدرها الضامــر ،و ُتخـرِج مرآة صغيرة ،وتمســك
بصبغـ ٍ ـت حاجبهــا، ـة ســوداء بلــون لياليهــا؛ لتصبــغ شــعرة بيضــاء جديــدة ع َلـ ْ ـت ،رأســها؛ كــي وكأ َّنهــا تتشــاجر معهــا ،متم ِّنيــةً لــو كانــت تلــك الشــعرة ع َلـ ْ كميــة الصبغــة ،بغضـ ٍ ـب ،وتضعهــا تحجبهــا الطرحــة ،ثــم تكثــر «فاطمــة» ِمــن ِّ علــى حاجبهــا!. ـو ٍة ،ويســأل ـ بق ـعل ـ يس ـو ـ وه ـه ـ غرفت ـاب ـ ب ـد ـ عن ـف ـ ويق د»، ـي ـ س ـاج يخــرج «الحـ ّ ِّ فتتعجــب االبنة ِمــن تذكُّ ره لتلك ـة، ـ القديم ـتور) ـ الكس ـه ـ (بيجامت ـن «فاطمــة» عـ َّ البيجامــا التــي لــم يلبســها منــذ أكثــر مــن عشــرين عام ـاً ،وتخبــره بأ َّنهــا قــد ـدة أن ُتبلــى (بيجامتــه) أل َّنهــا مــن صــارت باليــةً بفعــلِ الزمــن ،فيســتنكر ،بشـ ّ أجـ ِ هديــة لــه ِمــن أُ ِّمهــا التــي كانــت ـت ـود أنــواع الكســتور ،عــاو ًة علــى أ َّنهــا كانـ ّ ترهــا منــذ زمــن بعيــد، ـم ـ ل ـا ـ بأنه ـة» ـ «فاطم ـره ـ فتخب ً، ا ـ دوم ـا، ـ به ـراه ـ ت أن ـب تحـ ّ َ أرضيــة المنــزل ،فينظــر إليهــا ـح ـ مس ـي ـ ف ـها ـ قماش ـتخدمت ـ اس ـا ـ أنه ـح ـ وترج ِّ َّ «أنت أصبحـ ِ ِ ـاج سـ ِّـيد» بغضـ ٍ ـت عديمة النفع .ســأبحث ـب عــارم ،ويصيــح: «الحـ ّ عنهــا بنفســي ،ومؤكَّ ــد أنــي ســأجدها ،وســأرتديها». بقوة ،بينمــا تكمل «فاطمة» يدخــل «الحـ ّ ـاج سـ ِّـيد» غرفته ،ويدفــع الباب خلفه ّ صبغــي ،فغــد ًا فــرح صبــغ الشــعرة البيضــاء ،صارخــةً فيهــا بغيــظ« :ال ُبـ َّ ـد أن ُت َ ـس ،وال ينبغي أن يـ ِ غــادة ،وقــد يرزقنــي اللــه بعريـ ٍ ـراك أحد». يدخــل أخوهــا «عامر» ،غاضب ًا م َّتجه ًا ناحية المطبــخ ،فتبدي «فاطمة» غضبها مــن دخو ِلــه المنــزل بالحذاء ،لك َّنه ال ُيجيبها ،ويبــدو عليه الغضب واالنفعال، ـب عمــره ،كمــا كان يقــول دومـاً، فتخشــى أن يكــون حزينـ ًا لــزواج «غــادة» ،حـ ّ فيخــرج «عامــر» وفــي يــده ســكِّ ينة كبيــرة ،م َّتجهـ ًا ناحيــة بــاب المنــزل ،فتقــوم «فاطمــة» مــن مكانهــا مفزوعــةً ُ ،محاولــةً اللحــاق بذلــك المجنــون الــذي أخــذ ـردد بصـ ٍ ـوت ثائــر« :ســأقتله .أنــا لســت حرامــي؛ ألســرق من إيــراد التاكســي.. ُيـ ِّ ـي؟». ـ ف ـتري ـ ويش يبيع ـ س ـى ـ ت م ـى ـ إل ـة، ـ هندس ـج ـ ي خر ـيظلّ َّ أنــا ِّ َّ أن تمســك ـاء- ـ البيض ـعيراتها ـ ش ـر ـ أم ً، ا ـر ـ أخي ـيت، ـ نس ـد ـ –وق ـة» ـ «فاطم ـاول ُتحـ ْ ـزع ،هابطــةً خلفــه. بــه ،لك َّنــه يفلــت منهــا ،وينــزل ُمهــروالً ،فتصــرخ بفـ ٍ ـداً، ـاج سـ ِّـيد» ُمرتديـ ًا (بيجامتــه الكســتور) ،وهــي (مكرمشــة) جـ ّ يخــرج «الحـ ّ ِ وفــي يـ ِ ذهبت، ـده مســبحته ،ويتلَّفــت حولــه باحثـ ًا عن ابنتــه ،وهو يقول« :أيــن بكيهــا لتصبــح جديــدة كمــا كانــت. ـأقوم ـ وس ـا، ـ البيجام ـدت ـ وج ـد ـ لق ـة؟ يافاطمـ ِّ أن يســرق تخافين أال ً؟ ا مفتوح ـزل ـ المن باب ـي ـ وتترك ـن ـ تخرجي ـف ـ كي ـة، ـ فاطم يــا ْ أحد الـ(راديو)!». وصخــب فــي الشــارع ،في َّتجــه ألريكتــه، يســمع «الحــاج سـ ِّـيد» صــوت صريــخ َ ويفتــح الشــباك وينظــر منــه ،وينــادي على «عامــر» ،طالبـ ًا منه ترك الســكّ ينة، مســتنكر ًا نــزول «فاطمــة» إلــى الشــارع ،بــدون طرحة. ٍ ـب «الحاج سـ ِّـيد» أكثر ،فتنشــبك مســبحته بمســمار في الشـ ّـباك ،فتنفرط يشـ ّ ـب أكثــر ح َّتــى يــكاد يقــع .وبصـ ٍ ـوت واهــن يقــول: حباتهــا فــي الشــارع ،فيشـ ّ َّ حباتهــا! يــا «عامر» ،دع الســكّ ينة التي في يدك «المســبحة ..المســبحة تنفــرط ّ حبــات مســبحة أبيــك .وأنـ ِ ـت ،يــا فاطمــة ،انتبهــي :لقــد ســقطت دي ،ولملــم ّ دراجتــه بعــض الحبــات علــى شــعرك» ،ثــم ينــادي علــى طفــلٍ صغيـ ٍر يركــب ّ ّ حبــات المســبحة التــي ـه ـ من ـذ ـ ليأخ ـري؛ ـ األزه ـيخ ـ بالش ـق ـ يلح أن ـه ـ من ـب ويطلـ ّ ســقطت داخــل عمامتــه. «الحاج سـ ِّـيد» إهمال الجميع لصياحه ،ويجلس ُمنهار ًا على أريكته، يســتنكر ّ «أم كلثوم» ـوت ـ ص ً، ة فجأ ـع، ـ ليرتف ً، ا تلقائي ـل ـ فيعم المذياع، ـى ـ عل ـده ـ ي ويســند ّ ّ ـوةٍ، ـاج سـ ِّـيد» ،بقـ َّ وهــي ُتغ ِّنــي« :فــات المعــاد ..فــات المعــاد» ،فيتن َّفــس «الحـ ّ ثــم يســقط أرض ـاً ،وهــو ُممســك بخيـ ِ ـط مســبحته التــي ينظــر إليهــا بحســرة، ـردداً« :المســبحة انفرطــت ..المســبحة انفرطــت» ■ .هاني قــدري (مصر) ُمـ ِّ أبريل 150 2020
85
صفوان داحول (سورية) ▼
86
أبريل 150 2020
اغتصاب يصدق معظمكم ما سأرويه! قد ال ّ صدقت ذلك. ال ألومكم ..لو كنت مكانكم ما ّ ـوم ،بوضعيــة الجنيــن ،علــى األرض ـ مك ـدها ولك ّنــي فــوق رأســها اآلن ،وجسـ ّ أمــا روحهــا فتقــف قريبــة ،إلــى جانبــي ،تنظــر إلــى جســدها، اإلســفلتيةّ . ـي. ثـ ّ ـم تنظــر إلـ ّ إننــي أحــاول ،بــكلّ صــدق ،أن أكــون مبتهجـ ًا بشــأن هــذه الحالــة ،بالــذات. ـي دائم ًا شــيء مــا كان يســتعجلني ألخذهــا ،لكــن األمــر لم يكن بيــدي ،فعلـ ّ ـدر من الســماء. أن أنتظــر الموعــد المقـ َّ أرجوكــم ،ثقــوا بــي .قــد أكــون البهجــة الخالصــة .يمكننــي أن أكــون ودوداً، أمــا الكياســة ،فلهــا شــأن آخــر معــي ،فــا وم َر َّحب ـ ًا بــي ،أحيان ـاًّ . مقبــوالًُ ، تطلبوهــا منــي. مــن أنــا؟ ال أملــك أن أبــوح لكــم بشــيء اآلن ،لكنــي أعدكــم ،فــي وقــت مــا، بــأن ك ً خــاص بــه، محــدد ال منكــم ســيراني واقفــ ًا عنــد رأســه ،فــي وقــت َّ ّ ـي .وفــي كلّ زيــارة لــي إلــى عالمكــم ،ســأحمل وأرواحكــم ســتكون بيــن ذراعـ ّ واحــد ًا منكــم علــى كتفــي ،برفــق ،أجــل ،برفــق ،ال تخافــوا ،ونرحــل بعيــداً. ـن البعــض ،علــى األرجــح ،أن اللــون الثلــج األبيــض يكســو كلّ شــيء .يظـ ّ (األبيــض) ليــس لونـ ًا حقيقيـاً .لكنــي أؤكِّ ــد لكــم ،يقينـاً ،أن األبيــض لــون .ال أعتقــد ،شــخصياً ،أنكــم تريــدون مجادلتــي ،وإن كنتــم ترغبــون بذلــك .أنــا ا لســت بعنيـ ٍ فعـ ً ـف ،ولســت بخبيــث؛ أنــا مثــل هــذا الثلــج األبيــض ،هــادئ، ـي وفريــد ،فــا تأخــذ كالمــي علــى محمــل التهديــد. نقـ ٌ *** المخيــم ،فــي المــكان الــذي خــرج منــه صــوت الصرخــة. ـي ـ ف ـاس ـ الن ـع ـ تجم َّ َّ وجــدوا أمامهــم ج ّثــة واحــدة ،مــن الواضح أنها كانــت المرأة .ظ ّلــل الصمت األجــواء ،وكأنــه حضــور لطائـ ٍر جــارح ،يجثــم متو ِّثباً ،يراقــب طريدته. *** ـدث إلــى نفســها ،كلّمــا مــررت ألحمــل ـ تتح ـمعها ـ أس ـت ـ كن ـي ـ ن أ ـون ـ ق أتصد ّ ّ ّ
أحدهــم علــى كتفــي ،وأرحــل؟! إ ّنهــا تشــعر بــي! اندهشــت! كيــف لهــا أن تشــعر بــي ،ولــم يصــدر أمــر نقلهــا إلــى العالــم اآلخــر ،بعــد! كانت تنظر في عيني ،تماماً ،وتقول لي ،وال أحد غيري يسمعها: الطريقــة التــي أشــعر بهــا ،والخــوف الــذي ينتابنــي يغــوص عميقــ ًا فــي ـث داخلــي .أتمكّ ــن ،أخيــراً ،مــن أن أبــادل الرجــل الجالــس أمامــي ،الحديـ َ ـرات، عــن حالــة البلــد ّ المدمــر .أتذكّ ــر أ ّنــه أتــى ،قبــل اليــوم ،عــدد ًا مــن المـ ّ ـي الكثيــر مــن األســئلة ،لكــن ذاكرتــي كانــت ملفوفــةً بالضبــاب، يطــرح علـ َّ األيــام ،وأنا هنــا في هــذه المدينــة ،مدينة ـن ـ م ـي ـ عل ـر ـ م ـم ـ ك ـرف ـ أع ولــم أكــن ّ ّ َّ ـن يحملــن المــوت ،والخــوف ،والجــوع ،واألمــراض، واألمهــات اللواتــي أراهـ َّ ّ ـن. ـ أكتافه ـن ،وهــم يموتــون جوعـ ًا علــى أطفالهـ َّ ّ بالتغيــر فــي قلبــي .أشــعر أ ّنــي كنــت هنــا ،طــوال مــع الوقــت ،بــدأ شــيء ُّ ربما! تعلّمت عــدم التفكير .قضيت األزل ـادل ـ تع طويلة، الوقــت ،منــذ فتــرة ّ ـي القيــام كلّ ّأيامــي هنــا فــي محاولــة مواكبــة ّ المهمــة التاليــة ،التــي كان علـ ّ أن حالي ســيكون أفضل بهــذه الطريقة. بهــا ،لمســاعدة النــاس .كنت أعتقد ّ ـرك ،طالمــا كان بإمكانــي القيــام بشــيء ،فــا يضيــع ـتمر فــي التحـ ُّ كنــت أسـ ّ تخيلــت األمــر .هــل بإمكانــك أن تدرك الوقــت فــي القلــق والتفكيــر .أو هكــذا َّ مــا أعنيــه؟ الرد. أبقى صامتاً ،ال أستطيع ّ تحدثنــي ،ثــم تصمــت فجــأةً ،وتشــيح بوجههــا بعيــد ًا ع ّنــي ،وتنهــض كانــت ِّ مندفعــةً با ّتجــاه تلــك المرأة التي انتزعت الرغيف مــن قبضة الطفل الصغير ـان مــن وراء الســخام الــذي غطَّ ى ـمراً ،مذهــوالً .عينــاه تطـ ّ الــذي وقــف متسـ ّ وجهــه وكامــل جســمه ،تســتره مــزق مــن المالبــس ،أو تــكاد .شــعرت بقلبها ـي الطفل العســليتين ،وســكنتني رهافة أحاسيســها. يــذوب ..فــي نظــرة عينـ ّ ـن تأخــذ قطعــة الخبــز مــن يــد المــرأة ،وتقســمها بينهــا وبيــن الطفــل ،لكـ ّ المــرأة تصــرخ فــي وجههــا :إ ّنهــا ألطفالــي ،هــم يموتــون مــن الجــوع ،حــرام أبريل 150 2020
87
عليــك.... ـي ،وتهمــس، تســتدير نحــوي ،مــن جديــد ،وتجلــس قبالتــي ،تنظــر فــي عينـ ّ مــن جديــد: مــا زلــت أمنــع نفســي مــن التن ُّفــس معظــم الوقــتُ .يعييننــي هــذا الســلوك ـن الرائحــة تقتلنــي .المــرأة تتســكّ ع علــى متابعــة ّأيامــي دون أن أنهــار ،لكـ ّ ـري ،تراهــا طــوال الوقــت تنبــش بيــن خيــام اإليــواء ،هائمــةً ،مثــل حيــوان بـ ّ خمنــت أ ّنهــم أوالدهــا. التــراب بأظافرهــا ،وتنــادي علــى أســماء أشــخاصّ ، دمــر منزلهــا ،اســتطاعوا يحكــون أ ّنهــا كانــت الناجيــة الوحيــدة مــن قصــف ّ ـد أنفــي حصــة مــن الطعــام ،وأنــا أسـ ّ انتشــالها مــن تحــت األنقــاض .أناولهــا ّ أل أفعــل. ـم ،يخجلنــي هــذا ولك ّنــه ليــس بيــدي ّ عــن الشـ ّ ً علي اإلســراع بــدأ ذهنــي يصفــو بعيــدا عنهــا قليـاً .أتذكّ ــر أ ّننــي تركتهــا ،كان ّ المرة. ـذه ـ ه ـر، ـ األحم ـال ـ اله ارة ـي ـ بس ـي اللحــاق ّ ّ بالذهــاب ،علـ ّ *** العيــادة الميدانيــة ،بنــاء صغير ،طُ ِليــت جدرانه اإلســمنتية باللّون األبيض، تتضخــم وعلــم الهــال األحمــر يرفــرف فوقــه .العيــادة مزدحمــة ،والرائحــة ّ الجــو .اختلطــت رائحــة المعقّمــات برائحــة العــرق فيهــا ،بفعــل حــرارة ّ والجــروح المتعفّنــة .وعــدت إلــى تذكّ ــر صديقتــي. ويتوســلون للحصــول علــى المســاعدة ،ألطفالهــم ولهــم. النــاس يصرخــون ّ ـوره .أرانــي ،أحياناً ،أقف ألراقــب العاملين ـ تص يمكن ال ـر، ـ أم االنتظــار ،هنــا، ُّ ـي أن أحمل، مهمتــي ،وأعرف َمـ ْ علــى تنظيــم األمــر ،فقــط ،أل ّنــي أعــرف َّ ـن علـ ّ مرة. فــي كلّ ّ هــا أنــا أنظــر إلــى األمــام مباشــرةً ،وأنــا أدخــل مركــز اإليــواء .أراهــا تدخــل مســرعة ،يذهــب نظرهــا با ّتجــاه عجوزيــن لجأتــا إلــى ركــن ،وجلســتا تتجمــد مكانها ،وأنــا ال أدري تبولــت إحداهمــا فــي مكانهــا، ّ القرفصــاء ،وقــد ّ ً أن دورهــا فــي ـن ـ م ا ـد ـ ـ األق ـى ـ عل ـت ـ مازل ـي ـ لكن ـم بهــا، متأكِّ ـلّ َّ مــا الــذي ألـ ّ الرحيــل معــي لــم يحــن ،بعــد. تتقدم ـة. ـ النتن ـة ـ الرائح صدمتها ـا ـ م رب ـف؟ ـ عني ا ّتضــح لــي أ ّنهــا شــعرت بــدوار ّ ّ ـابة ،تمســك بيديهــا وتســحبها إلى الكرســي القريب: منهــا متطوعــة شـ ّ ّ ـداً! اســتريحي ،اســتريحي ،يبــدو أ ّنــه ســيغمى عليــك ..وجهــك شـ ـاحب جـ ّ ٌ ســأحضر لــك قليـ ً ا مــن المــاء. مكتظ بالناس. أمه في سوق ّ بدت كطفل تاه عن ِّ ـدئ مــن روعها. ـ أه كتفها، ـى ـ عل ـي ـ ف ك ـة ـ راح ـت ـ ووضع جلســت إلــى جانبهــا، ّ ّ همســت لــي ،والفــزع يقفــز مــن ناظريها: لــم أكــن قــد نظــرت فــي المــرآة ،منــذ أن قدمــت إلى هنا ،منذ خمســة أشــهر وكأن شــيئ ًا يخبط في أحشــائي .يتسـلّل أحس تقريباً .اآلن ،أنظر إلى بطني! ّ ّ ـارة تغمرنــي مــن رأســي إلــى قدمي .هــل يمكــن!...؟ أهو فــزع مثــل موجــة حـ َّ
88
أبريل 150 2020
توعكــي طــوال األشــهر األربعــة الماضيــة؟ لم أعـ ِر األمر اهتمامـاَ ،من ســبب ُّ ـتقر فــي ذهنــي أ ّنهــا مــن آثــار ســيناريوهات ّأيــام الســجن. قبــل ،فقــد اسـ ّ ـم ـ أل ـا ـ م ـرون ـ ي ـاس)، ـ (الن ـم، ـ أتراه ـاءل: ـ وأتس ـي، ـ ب ق ـد ـ يح أن الــكلّ ّ ـي ّ َّ َّ يخيــل إلـ ّ تعريــت ح ّتــى العظــم ،مثلمــا كنــت أقــف عاريــة أمامهــم ،فــي بــي؟ أترانــي َّ المعتقــل ،هنــاك ،قبل خمســة أشــهر؟ ـعرت باألســى حيالهــا ،كان دفــق ذكرياتهــا الســوداء أقــوى مــن الكهربــاء شـ ُ المنســابة مــن راحتــي .تتابــع همســها لــي: ـب كيــف عــادت الذكــرى التــي ظننــت أ ّنــي دفنتهــا قســراً ،فــي غياهــب الجـ ِّ العميــق الــذي يدعــى الذاكــرة .تذكّ رتــك! أنــت أيضــ ًا كنــت دائمــ ًا هنــاك، كنــت دائمـ ًا قريبـ ًا م ّنــي ،رجوتــك أن تحملنــي وتخــرج بــي مثلمــا كنــت تفعــل إلي، بالكثيريــن والكثيــرات حولــي .كنــت ،فــي كلّ مـ ّ ـرة ،تعــود فتقــف وتنظــر ّ ثــم تبتعــد وتخــرج مــن دونــي. تقــف ،بإعيــاء شــديد ،لتخــرج رأســها من خالل النافــذة ،وكأ ّنهــا تأخذ جرعة مــن األوكســجين ،ثم تصــرخ ،ووحدي أفهــم هذيانها: لمــاذا تــزداد الرائحــة بشــاعةً فــي المــكان ،هنــا؟ إ ّنهــا رائحتــه نفســه ،تغلــب علــى كلّ رائحــة ،تطــلّ مــن كــوى الذاكــرة مثــل أفاعــي ،ال أملــك لهــا منعـاً. ـابة المســعفة كأسـ ًا بالســتيكي ًا مليئـ ًا بالمــاء ،فازدرتــه ..هــدأت ناولتهــا الشـ ّ ـدق فــي طفلــة تمــرح فــي بركــة المــاء الــذي خلَّفتــه ـ تح ـي ـ وه ـا ـ أمــواج ذاكرته ّ ـربة مــن الخــزان ،أمــام البوابــة. النقــاط المتسـ ِّ طفلــة تلعــب! تلعــب ،أغبطها .ليتني أعــود طفلة أللعــب ،وأن أترك للحنفية مهمــة امتصــاص الحرارة التــي تف ّتت أعصابي. ّ تنفلــت منهــا ضحكــة هســتيرية ،وأنــا مازلــت أراقبهــا .تهمــس مــن جديــد، وال يســمعها غيــري: تتج ّلــى لــي أرضيــة الســجن ،اآلن أمامي ،إســمنت خشــن ،ودورة ميــاه! دورة ميــاه بــدون مــاء! والرائحــة!!! يــا للهــول ،الرائحــة! كانــت تلــك رحمــة أن ال ســبيل لرؤيــة نفســي فــي المــرآة. أتذكّ ــرك وأنــت تقــف فــي الزاويــة البعيدة .لم يعــد بي ّأية رغبة فــي االهتمام ـاقي إن كانــا ـي وسـ ّ بجســمي إال بالقــدر الــذي يقــوم بــه بوظائفــه .أتف ّقــد ذراعـ ّ ـرة كنــت أندهــش مــن شــعور الفــراغ الــذي قادريــن علــى العمــل ،فــي كلّ مـ ّ يســكنني ،بعــد ابتعادك. ـدت واضحةً على الحقيقــة المفزعــة أكثــر مــن الموت ذاتــه ،هي تلك التي تبـ ّ وجــه الطبيــب ،تؤكّ ــد لي أ ّني حامل!! أتســمعنيّ ،أيها البليــد؟ أنا حامل! أن رأســي اشــتعل الضطرابهــا ،وأنــا المفطــور مــن جوهــر الســام الغريــب ّ والهــدوء والصمــت! ـش الرقيــق إلــى كتلــة مــن الغضــب .ال يذهلنــي -كمــا ـول كيانهــا الهـ ّ ويتحـ ّ فعــل اآلخــرون -صــوت زعيقهــا ،الــذي خرج مثــل زعيق طائر نــورس جريح،
إل أن أغــوص فــي تَنكَّ ــس مــن عليائــه ،فــي البحــر العاصــف ،لك ّنــي ال أملــك ّ صمتــي ،مــن جديــد. لمــة شــعري ،ويلفُّهــا علــى ســاعده، ـى ـ عل ـض ـ يقب ـراه ألــم تكــن معــي ،وتـ ّ ـجع الضــواري علــى الهجوم على ويجعلنــي أركــع قســراً؟ للخــوف رائحة تشـ ِّ الفريســة ،ويشــجع غريــزة العــدوان عند البشــر ،أيضـاً .يبعث ذعــري أنيابه ـهية إذاللــي ،وكأن ذلــك ح َّقــه فــي ومخالبــه علــى الظهــور ،ويبعــث فيــه شـ َّ المســلمات .يســتفيق الوحــش مــن قيلولته ،كلّ مســاء ،جائعـ ًا يقتات على خوفــي وإذاللــي ،يرتفــع رأســه بالــغ البشــاعة ،فأســمع وســط دوامــة األلم، صــوت هياجــه كالكلــب المســعور ينهــش جســدي المرضــوض ،المم ـ َّزق، ويقضــم عظامي. والرائحــة!! الرائحــة!! إ ّنهــا تفــوق أعلــى درجــات التعذيــب ،تلــك الرائحــة التــي تنبعــث مــن روحــه النتنــة ،مــع أنفاســه وعرقــه. ـي أن ج ـاّدي قــادم مــن عالــم مذعــور ،يحمــل معــه رغبتــه فــي ّ يخيــل إلـ ّ االنتقــام مــن ذعــره وقهره المخبوء في نفســه .ضحكته المجلجلة الشــامتة إل ببلوغي، ـرة ،بعــد أن ينتهــي م ّنــي ،ولم يكــن ليكتفــي ّ التــي يرســلها ،كلّ مـ ّ ـس مراحــل ـ أخ ّدي، ا ـ ج ـو ـ ه ـه، ـ وبلوغ م، ـد ـ الته ـات ـ درج ضحيتــه ،أبشــع أنــا ُّ ّ َّ النشــوة المجرمــة .وأنــت تقــف مراقبـاً .ال أنــت تأخذنــي فــي ســام صمتــك، وال أنــت تأخــذه إلــى جحيــم أمثالــه. األيام خوفي واشــمئزازي يأخذان شــك ً ال مبطَّ ن ًا بالســكون، ـهد َ لقد شـ ّ ت ،مع ّ ً ـهدت اختفــاء النظــرة المذعــورة فــي عينــي ،وكنــت شــاهدا علــى صمتــي وشـ َ تتقوض ـم ـ ث تنكمش ـي ـ وه ـي ـ نفس على ـهدت ـ ش ـد ـ لق ً، ا ـ أيض ـا. ـ بعده ـق المطبـ َّ ّ ـرة ،أمامــك .أكرهك! كلّ مـ َّ أجــل كنــت شــاهداً .كنــت أنــا مــن وضــع راحتــه علــى صــدرك أنــت ،لتهــدأ هم ُتــه فــي تعذيبــك ،باالغتصــاب .ألــم يتوقَّف شــهوة هــذا المخلــوق ،وتفتــر َّ ـف عنــك، ـول ليكتفــي بالضــرب والشــتائم ،حتــى كَ ـ ّ بعدهــا تمامـاً؟ ألــم يتحـ ّ وتــركك أخيــراً؟ ـي ـ مغتصب ـي ـ أفقدن ـد ـ لق ومــا الفائــدة؟ حريتــي وكرامتــي ،بــل وأفقدنــي كلّ َّ األيــام ،كلّ مــا يمكــن مــا يمكننــي امتالكــه مــن حــاوة الحيــاة ،فــي مقبــل َّ ـرد بوصفــي إنســانة؛ أن أتفـ َّ كنــت أحلــم باألمومــة ،يومـ ًا مــا .حلــم جميــل ينبــع من الشــوق إلــى طفولة ـدي ألبــي .وقتهــا ،لــم تكــن أنــت لــم أعشــها ،فقــد نشــأت يتيمــة فــي بيــت جـ ّ ـدي ....آآآه. هنــاك ،مــا رأيتــك ّ إل عندمــا توفِّي جـ ّ ثم تتابع: نصمت سويةً لبرهةّ ، ـب ببســاطة .أحلــم أنــي ـ الح ـه ـ في ش ـر ـ يع ـت ـ بي ـي ـ ف أحلــم بصــورة لطفلــي ّ ِّ أضمــه بيــن ذراعــي ،إلــى صــدري ..أغــرق أنفــي فــي ثنايــا رقبتــه، عشــقته، ّ ـب مــن رائحتــه البريئــة ،والبيــت النظيــف األنيــق يفــوح برائحــة الزنبــق. أعـ ُّ
المتقرحــة تنتفضيــن كلّمــا عــدت إلــى وعيــك مــن ذاكرتــك الملتهبــة باأللــم، ّ صيــة ،ال تمحــى ،لك ّنــي أؤكّ ــد لــك أ ّنهــا ستســتحيل شــيئ ًا آخــر بوخــز رائحــة َع َّ غيــر مؤلــم ،عندمــا ترحليــن معــي. إذن خذني اآلن! أصمت ..وتصمت. أحــاول تحديــد مشــاعري نحــو الطفــل الــذي فــي أحشــائي .كرهتــه ،قبــل أن أراه! ســيكون ذ ّلــي الــذي ال يفارقنــي طــوال العمــر ،مثــل الوشــم علــى جبين األطبــاء ـد أن أتخ ّلــص منــه .يرفــض ـم مــا أعانيــه ،أال تــرى؟! البـ ّ العبــد .جحيـ ٌ ّ هنــا مســاعدتي ،يقولــون أ ّنــي قــد أتسـ َّـبب فــي موتــي ،وقــد أُحــرم مــن فرصــة ـد ،ال أريــد لهــذا الســرطان أن يتشـ ّـبث بأحشــائي ل ُتك َتــب له اإلنجــاب إلــى األبـ ّ حيــاة .ال يعلمــون أن المــوت هــو واحتــي المتبقية لي .أين أنــت؟ دعنا نرحل. إ ّنني هنا .لكن ،لم يحن أوان الرحيل بعد. ـي ،بعــد عمليــة اإلجهــاض ،وآثــار التخدير مازالت تســري عندمــا فتحــت عينـ ّ أول مــا طلبتــه هــو رؤيــة مــا أخرجــوه مــن رحمــي .أرأيتــه؟ فــي أعصابــي ،كان ّ األمهــات مخلــوق مدمــى ،شــبه بشـ ّ ـري .غمرنــي شــعور بالقــرف .هــل يغمــر َّ ّ ـب االنتقــام الــذي ـ ح ـى ـ عل ـهدت ـ ش ـل ـ ه ؟! ـن ـ ته ن أج ـن ـ م ـرف ـ بالق ـعور ـ ش عــاد ًة َّ ّ ّ سكنني ؟ أجل. وكنت تعرف أ ّنه غريب عن تكويني! أجل. ضحايــاي .أقــوم ل أو أنــا كنــت ذاتــي، ثنايــا أعمــق فــي انغــرس ــه لك ّن َ ّ مــرة ،وال عــدة مــرات ،أكاد أســلخ جلــدي فــي كلّ باالســتحمام كلّ يــومّ ، ّ أتيقــن مــن زوال األثــر ،وأســكب أمــام أنفــي ّأيــة رائحــة عطريــة تصــل يــدي إليهــا ،وأبالــغ فــي ذلــك ،لعلَّهــا تتغ َّلــب علــى الرائحــة النتنــة التــي ســكنت ذاكرتــي .هــل ستســمني بوســم اإلثــم ،قبــل أن تأخذنــي معــك؟ هونــي عليــك! شــهدت كلّ حاالت الموت في الدنيــا ،بعضها ،فقط ،أخرجني ِّ عــن صمتــي .أتســمعينني؟ أنت من البعض الذيــن أخرجوني عن صمتي. أجل ،أسمعك. إذن هات كفّك ،ضعيها في كفّي .ولنرحل اآلن. اآلن؟ أجل! لقد حان الوقت. عدة شــهقات عميقــة .اختفت الرائحة النتنــة ،فجأة ،وحلّت تبتســم ،وتأخــذ ّ محلهــا رائحــة تشــبه مزيج ـ ًا مــن الزنبــق والمســك .واكتســى الكــون بثــوب كثيــف مــن الثلــج المنعش الصامــت .اختفت الضوضاء في شــرايينها ،وحلّ الســام .ال شــمس وال قمــر وال نجــوم ،ومــع ذلــك الكــون مضــيء ويمكنهــا ســماع إيقاعه المنســجم ■ .ســمر الشيشــكلي (ســورية) أبريل 150 2020
89
اللحظات األخرية قبل الهروب ـن كانــوا أصدقاءنــا باألمــس .والعبــارة الشــائعة اآلن :ال تمــد لــي ممـ ْ نحتمــي َّ فلربمــا تكــون قاتلــة. ـي، ـ صديق يــدك يــا ّ نتفــادى بعضنــا البعــض تلقائي ـاً ،المســافة اآلمنــة متــر ًا أو أكثــر .ألــم تكــن وربمــا أكثــر .أمشــي بصحبــة برومــدن ،الخارج لتــوه من بين كذلــك مــن قبــلَّ ، صفحــات «طيــران فــوق عــش الوقــواق» لـ«كيــن كيســي»ّ ،إل أنــه ليــس هنديـ ًا أحمــر ،بــل صوماليـ ًا يعيــش فــي ميالنــو منــذ أربعيــن عامـاً .وهــو ليــس َأقــلّ منزلــة مــن الزعيــم برومــدن ،ألنــه ينتمــي إلــى أحــد أفخــاذ قبائــل الــدارود، ويحمــل بفخــر اســم أبســامه« ،الكبيــر». المجمــع الســكني البلــدي فــي المنطقــة الخامســة هــا هــو هنــاك ،فــي زاويــة َّ ـر مــن الشــارع الرئيســي ،مــا عــدا ـ تم ـي ـ الت ـات ـ العرب جنــوب ميالنــو ،يحصــي ّ التــرام وســيارات األجــرة .بالــكاد يجيــب علــى تحيــة اآلخريــن ،وال ينــي أحيانـ ًا عــن اإلجابة بشــتيمة على الطريقة اإليطاليــة« :بونجورنو أون كورنو!» (بمعنى أي صبــاح وأي خيــر!) .بــدأت عالقتــي بــه بســبب الحــرب فــي ســورية .في ذلك رد بابتســامة علــى تحيتــي ،وأشــار بعــكازه إلى الطريق :هــم يفعلون الصبــاحّ ، كلّ شــيء ،فــي الصومــال أيضـاً ،تعذَّ بنــا كثير ًا بســبب الحــرب .كلّمنــي البواب عنــك ،ولكــن خــذْ حــذرك منــه ،ومــن تلــك التــي ال تدفــع اإليجار منذ عشــرين ـر خلفهــا عامـاًَّ . تعرفــت علــى تلــك أيضـاً ،مهاجــرة مــن مقاطعــة كاالبريــا ،تجـ ّ ثالثــة أوالد ،مــن آبــاء مجهولين. في األشــهر الالحقة ،اصطحبته إلى شــركة الكهرباء وطبيب األســرة وصاحب ـميه ،ألنــه لــم يدفــع مســتحقّات عملــه الســابق ،جاكومــو اللعيــن كمــا يسـ ِّ االجتماعيــة .يخبرنــي إنــه عمــل فــي هــذا المصنــع الصغيــر إلنتــاج التأمينــات ّ ـتيكية ثالثيــن عامـاً ،ومــا الحالــة التــي وصــل إليهــا ،انــزالق ـ البالس ـق الصناديـ ّ اليمنــى وفتــق إربــيّ ،إل مــن غضروفــي فــي العمــود الفقــري ،عمليــة للركبــة ُ حمــل الصناديــق ،آالف الصناديــق ،بــل ُقــل مالييــن الصناديــق .وكيــف لــي أن أتقــن اإليطاليــة ،ذلــك اللعيــن كان يصــرخ ورائــي دائمـاً ،حتــى عندمــا كنــت أجلــس ألتنــاول طعــام الغــداء :أبســوم ،الشــاحنة تنتظــر ،ال أحســبها أتــت إلــى هنــا لتعــود فارغــة! عمــا يجــري فــي هذا العالــم ،أو فــي ميالنو ـألني ـ ليس ـام ثــم اســتوقفني قبــل ّأيـ ّ بالتحديــد .هــل تســمع األخبــار؟ نعــم ،يجيــب ،أخبــار الثامنــة مســاء ،ولكــن
90
أبريل 150 2020
إن كانــوا جدييــن أم ال .انتهينا من هــؤالء يخلطــون الحابــل بالنابــل ،وال تفهــم ْ ـور عارضــات األزيــاء وجــدال مــاورو كورونــا فضائــح فابريتســيو كورونــا مصـ ِّ الكاتــب ومتسـلِّق الجبــال مع بيانــكا ابنة إنريكو بيرلينغويــر ،واآلن مع فيروس كورونــا .لمــاذا كورونــا؟ ألن شــكله يشــبه التــاج .هــه! يضحك. ك ّنــا قــد اتفقنــا أن نقــوم بجولــة فــي المدينــة .حضــر فــي صبــاح اليــوم التالــي لشــده علــى بكمامــة صنعهــا بنفســه مــن قمــاش أســود ومطــاط برتقالــي ِّ بالســتيكية صغيــرة تحتــوي علــى مزيــج مــن الكحــول األذنيــن ،مــع قنينــة ّ والمــاء وقليــلٍ مــن الكلــور .لتعقيــم اليديــن .يرينــي إياهــا بابتســامة تخفــي وراءهــا وعيــد ًا مبطّ ن ـ ًا للعــدو غيــر المرئــي .نعقــم يدينــا حالمــا ننــزل مــن التــرام .الوجهــة محطَّ ــة قطــارات (لويجــي) كادورنــا ،جنــرال وسياســي مــن ـي عــن خســارة معركــة كابوري ّتــو الحــرب العالميــة األولــى ،المســؤول الرئيسـ ّ الشــهيرة أمام الجيش األلماني -النمســاوي .إذن ،لماذا يفتخرون به؟ يســأل ـم ـم خســر معركتــه األخيــرة ،وتـ ّ بحيــرة .ألنــه أبلــى بــاء حســن ًا فــي البدايــة ،ثـ ّ اســتبداله حــا ً ال بالجنــرال أرمانــدو ديــاز. تســتوقفنا دوريــة مشــتركة مــن الجيش والشــرطة المحل ّّية ،قبــل أن نصل إلى صممــه مدخــل المحطّ ــة ،بالقــرب مــن نصــب «عقــدة وخيــط وإبــرة» ،الــذي َّ كاليــس أولدنبــرغ وزوجتــه كــووزي فــان بروغن. إلى أين؟ اإلقامات من فضلكم!إيطاليــة ،يجيــب الكبيــر أبســامه ،والــدي حــارب مــع الجيــش أنــا جنســيتيّ اإليطالــي فــي الصومــال. ال يأبــه الشــرطي لكالمــه .القطــارات متوقِّفــة ،إلــى أيــن تذهبــان؟ نبحــث عــن صيدليــة .ال توجــد صيدليــة هنــا ،حاولــوا فــي الجهــة األخــرى .نمشــي ـدة دقائــق ،نختــرق حدائق ســيمبيوني ،ونخــرج من الطــرف اآلخر. بصمــت لعـ َّ يســتوقفني إعــان أمــام مدرســة ثانويــة مغلقــة ،لويجــي بيكاريــا ،أحــد أعــام عصــر التنويــر .فلنعيــد خلــق العالم بســرده ،ورشــة كتابــة إبداعية .أشــرح له الموضــوع ،ولكنــه ال يهتــم .كمــا اتفقنــا فــي البدايــة ،يريــد أن يــرى ميالنــو ،أن يعيشــها قبــل أن يحصــده الفيــروس .ألــم تكفــك كلّ هــذه الســنوات؟ عشــتها جميعـ ًا بيــن البيــت والمعمــل ،يجيــب بخيبــة أمل كبيــرة .نتوغَّ ل في الشــوارع ـدة دقائــق إلــى شــارع بابينيانــو .اللهيــب والدخــان الجانبيــة ونصــل بعــد عـ َّ
األســود يتصاعــدان مــن ســجن ســان فيتــوري العريق ،أصــوات الســجناء تمأل حر ّيــة ،)...وكأننــا فــي ســورية .صونــو (حر ّيــة ّ ... الجــو :ليبرتــآ ...ليبرتــآ ّ ... مافيــوزي (إنهــم مــن منظَّ مــة المافيــا) ،مجرمــون ،ال تتركوهم يخرجــون! أرفع نظــري إلــى مصــدر الصــوت ،رجــل فــي الســتينات مــن العمــر ،يدفــع بــكلّ جســمه مــن فــوق درابزيــن البلكــون ،القبضــة مشــدودة والوجــه ممتقــع. ـط األحمــر. ثمــة محطّ ــة قريبــة لقطــار األنفــاق ،الخـ ّ نعبــر الشــارع بســرعةَّ ، يــا للحــظ! يشــتكي أبســامه ،يــا ليتــه كان األخضــر ،لكنــا عدنــا إلــى البيــت مباشــرة .إذن فلنمـ ِ ـش ،أقتــرح ،دون أن أعــرف إلــى أي جهــة أقــوده .فلنذهــب إلــى ســاحة الدوومــو ،لنلــقِ نظــرة علــى كاتدرائية ماريا ناشــينتي ،رمــز ميالنو. أعتقــد بــأن عينيــه التمعتــا مــن الفــرح .انحــدرت دمعــة علــى خــده وانزلقــت ربمــا مــن البــرد .ينظــر حواليــه بارتبـ ٍ ـاك، بيــن التجاعيــد التــي تحيــط بفمــهَّ . ـس أننا نبحث عــن صيدلية ـرة أخــرى ،يبــدي خوفــه .ال تنـ َ أخشــى أن يوقفونــا مـ ّ تمر ذبابة بســهولة أن ـن ـ يمك ـتعملها، ـ تس التي ـك ـ تل ـبة، ـ لشــراء كمامــات مناس ّ مــن نســيجها الخشــن .تعجبــه الفكــرة ،ننــزل درجــات المحطّ ــة وهــو يدنــدن أغنيــة ،بالســواحلية علــى مــا أعتقــد. ثمــة زحــام .نختــار مكانـ ًا منزويـاً ،ونتــرك مســافة آمنــة بيــن مقعدينــا. ليــس َّ ومــاذا لــو عطســت؟ يهمــس بخبـ ٍ وإل ســينهالون عليــك ـث .اضبــط نفســك ّ بالضــرب .يضحــك بعفويــة ،ثــم يســعل .صمــت .بعــض العيــون تنظــر نحونا. أبســامه يضــع يديــه االثنتيــن علــى العــكازة ويســند عليهــا ذقنــه .هيئتــه اآلن كمــن رمــى حجــر ًا ويحــاول عبثـ ًا أن يخفــي يــده .المحطّ ــات تتتابــع ،الوجــوه عدهــا علــى األصابــع .أبســامه مســتغرق فــي التفكيــر ،أُشــير تتغيــر ،يمكــن ّ َّ لــه بأننــا ســننزل فــي المحطّ ــة القادمــة ،يهــز رأســه وينهــض بتثاقــل .لــم تكــن يتغير بســرعة. يتغيــر ... ميالنــو هكــذا ،يقــول بينمــا نصعــد الدرج ،كلّ شــيء َّ َّ ـدات بالقــرب مــن تمثال الســاحة فارغــة تقريبـاً .فريــق تليفزيونــي يهيــئ المعـ َّ الملــك أومبرتــو الثانــي ،في وضعيــة المحارب على حصانه .ثم يحضر أســقف ويتوســل لتمثــال بالــرداء األســود والقبعــة األرجوانيــة ،يديــر ظهــره للكاميــرا َّ العــذراء الذهبــي الــذي يعلــو الكاتدرائيــة .يطلــب العــون والمغفــرة ،ويشــرح تعبــر عــن كلّ خلجاتــه وإيمانــه العميــق بمعجــزة تنقــذ لهــا الوضــع بكلمــات ِّ ميالنــو وأهلهــا .نعــود أدراجنــا بســرعة مــع اقتــراب دوريــة عســكرية .يصــل
يتنهــد .لكانوا أوقفونا ،بشــرتنا ســمراء. التــرام فــي الوقت المناســب .أبســامه َّ ربمــا ،أجيــب دون أن أحيــد نظــري عــن بعــض المــارة الذيــن يحثــون الخطــى َّ ـات مقفلــة. علــى الرصيــف فــي شــارع تورينــو .ال أحــد يتو َّقــف .المحـ ّ للمخــرج الكبير لوكّ ينو فيســكونتي، يخطــر ببالــي فيلــم «الموت في فينيســيا» ُ المقتبــس عــن روايــة تومــاس مــان الشــهيرة .أســأله إن كان يشــاهد بعــض تمر فــي الصباح، األفــام .كال ،يجــب أن أنــام باكــراً .عــدد هائــل مــن العربــات ّ أصــل أحيان ـ ًا إلــى عشــرة آالف عربــة أو أكثــر ،وهكــذا يحيــن موعــد الغــداء، ـي دخان من لوتشــيا ،تلــك فــي المقابــل ،تهيــئ لــي كيــس الخبز ،أشــتري علبتـ ّ تصدق أننــي أحيانـ ًا ال أجد الوقت ســيرجيو بائــع التبــغ وأعــود إلــى البيت .هــل ِّ لنفســي .األفــكار كثيــرة .ثــم أجلــس فــي البلكــون ،والجيــران يشــتكون مــن ارتفــاع صوتــي .أنــا أفكــر بهــذه الطريقــة ،بصــوت عــالٍ ،مــا الضيــر فــي ذلك؟! ـون مــن غرفــة المكـ َّ يصــر أبســامه علــى أن نشــرب الشــاي ســويةً فــي بيتــه ُ ومطبــخ .أشــياء قديمــة فــي كلّ مــكان ،آخرهــا جهــاز راديــو قديــم ولعبــة بالســتيكية بــا ثــوب وصلعــاء تقريب ـ ًا جلبهمــا مــن غرفــة النفايــات .أريــد أن أعــود إلــى بلــدي بــأي ثمــنٍ كان .ليــس مــن مجــال ،أجيبــه .حتــى أننــا ،اعتبــار ًا مــن يــوم غــد ،يجــب أن نحمــل تصريح ًا معنا ،يثبــت أننا خرجنــا لقضاء حاجة ـوق مثـاً .كيــف ذلــك؟ يمكنــك إنزال االســتمارة ملحــة ،زيــارة الطبيــب أو التسـ ُّ ّ الصحــة ،تملؤهــا ببياناتــك وتذكر ســبب مغادرتك المســكن. وزارة ـع ـ موق ـن مـ َّ ـدة ثالثــة أشــهر ،أو غرامــة مــا يقــارب 300 وإذا لــم أفعــل ذلــك؟ الســجن لمـ ّ يــورو .ســأهرب ،يصــرخ بغضـ ٍ ـزوج ،لــم ـ أت ـم ـ ل ـا، ـ هن ـري ـ عم ـدرت ـ أه ـد ـ لق ـب. َّ ـتد غضبــه. أعــرف غيــر العمــل ،العمــل ...العمــل ...مثــل الــدواب .يشـ ُّ لــم أره فــي اليــوم التالــي .وقفــت انتظــره لبعــض الوقــت فــي الزاويــة ،ثــم تلقائيـاً ،وجــدت نفســي أحصــي العربــات المــارة ،مســتثني ًا التــرام وســيارات ّ األجــرةُ .عــدت إلــى المنــزل وقــت الغــداء ،بعــد أن اشــتريت الخبــز مــن عنــد ـي دخــان مــن ســيرجيو. لوتشــيا وعلبتـ ّ لقد كان ح ّق ًا يوم ًا ممتعاً ■ .يوسف وقاص (سورية /إيطاليا) أبريل 150 2020
91
اختبار الهشاشة البرشيّة! ـدة فقــط الختبار ثمــة محطّ ــات فــي الحيــاة ،معـ ّ فــي كثيـ ٍر مــن الحــاالت تكــون ّ ـرية .اإلنســان كائــن عاطفــي فــي البدايــة ،وهــي حالــة مالزمــة الهشاشــة البشـ ّ العقالنيــة التــي يكــون قــد اكتســبها بفعــل االحتــكاك مــع مهمــا بلغــت درجــة ّ األشــياء والنــاس واألفــكار .فــي مثــل هــذه الحــاالت يكتشــف المــرء ،بوضوح، ـت مثــل هــذا هشاشــته .أتذكّ ــر أنــه بســبب عمليــة جراحيــة أجرتهــا ابنتــي كتبـ ُ ّ الــكالم قبــل أربــع ســنوات (فــي مــارس/آذار )2016فــي تدوينــة زرقــاء« :فــي ٍ لحظـ ٍ معينة يكتشــف اإلنســان معينــة يصبــح اإلنســان أعمــى .فــي لحظات َّ ـات َّ ٍ ـن يكون، ـ م ـان ـ اإلنس ـى ـ ينس نة معي لحظات في ـا. ـ درجاته ـى ـ أقص ـي ـ ف ـته هشاشـ َ ْ َّ ٍ معينــة ينســى اإلنســان نفســه ،ألن ـر باختبــار هشاشــته .فــي لحظــات َّ ألنــه يمـ ّ يصوره الشــعر ليس كما القلق أجله. من ـه ـ نفس ـى ـ ينس أن ـتحق ـ يس ن هناك َم ْ ِّ ً ـددة بعيــد ًا ـ مح ـة ـ لحظ ـي ـ وف ا ـ فعلي ـان» ـ اإلنس ـه ـ يعيش أن ـن ـ يمك ـذي ـ ال كالقلــق ّ عــن القلــق الوجــودي الدائــم الــذي يرافقنــا ،وأحيانـ ًا يســتفز وعينا الشــقي. ـر ـ صغي ـزء فــي تلــك اللحظــة «اكتشــفت أن القلــق الــذي يســكن القصيــدة جـ ٌ ٌ جــد ًا مــن القلــق الــذي يعيشــه اإلنســان فعالً .قلق ال ســقف له» ،هكــذا نظرت إلــى األمــر فــي ذلــك اإلبــان القاســي علــى قلــب ٍ أب ،أي أب .شــعور اســتعدته، ـع الزحــف الحثيــث لوبــاء كورونــا علــى ـر ًة أخــرى ،وأنــا أتابـ ُ أو لنقــل اعترانــي مـ ّ العالــم ،مبتلع ـ ًا دو ً ال وشــعوباً ،دونمــا حاجــة إلــى جــواز أو تأشــيرة .الفــرق ـق بقلــقٍ وخـ ٍ ـر إلــى اإلنســان باعتبــاره أن األمــر يتع َّلـ ُ ـوف مضاعفيــن .إننــي أنظـ ُ كل مؤت ِلفـ ًا قبــل أن يكــون فرقـ ًا وشــيعاً ،دينـ ًا وأيديولجيــا ،جنســياتٍ واحــداًّ ، ٍ ـري أينمــا كان .بيد ـ البش ـن ـ الكائ ـر ـ بمصي ـغال ـ لالنش كاف ـبب ـ س ـذا ـ وه وأعراقـاً، ّ ـب موزع ًا ـ القل أجد أن ـو ـ فه اآلخر، ـب ـ الجان ـا ـ أم ـط. ـ فق ـر ـ األم ـن ـ م ـب ـ جان أن هــذا َ ٌ ُ ّ األجزاء ـع ،مثــل طيــر إبراهيــم عليــه الســام ،منتظــر ًا أن تجتمع تلــك علــى أربـ ٍ ُ علــى الرغــم مــن الضبــاب المحيــط بالعالــم مــن كلّ الجهــات. الجليلة ،ال منطق فيها للحسـ ِ ـابات والتوقُّعات. ـدث األمور ُ فجــأةً! ...هكــذا تحـ ُ ـر فجــأةً ،تعــود الحيــا ُة إلــى شــكلها البدائــي ،بــل أعتــى .لــم تتو َّقــف البواخـ ُ ـان مــن «الــدواب اآلليــة» للتنقــل فحســب، والطائــرات وكلّ مــا اخترعــه اإلنسـ ُ ـع أو انقطعــت فــي أماكــن وأقطــار .ومــع الســرعة التي بــل تــكاد الحركـ ُ ـة تنقطـ ُ ـاء علــى إيقــاع التدابيــر واإلجــراءات االحترازيــة لمحاصرتــه هنــا فرضهــا الوبـ ُ وهنــاك ،يــزداد تد ُّفــق الــدم ،وتتســارع نبضــات القلــب ،حتــى إننــي ألســمعها ـع دراســته فــي هنــاك علــى الضفــة األخــرى مــن المتوســط ،حيـ ُ ـث االبـ ُ ـن يتابـ ُ جامعــة بيربينيــون بفرنســا. ِ فــي لحظـ ٍ ـاحات فــي العالم قادم ًا ـة مباغتــة ،وبينما وباء كورونا يكتســح المسـ ِ ـار .أن يبحــث بــأي شــكلٍ ،وبــأي ثمن عن ـ يخت أن األب ـى ـ عل ـون ـ يك ـن، مــن الصيـ َ
92
أبريل 150 2020
ـررة أصـ ً ا مــع بدايــة أبريل/نيســان ،قبــل تســريع عــودة االبــنِ التــي كانــت مقـ ّ الجوية بيــن المغــرب ودول عديدة ،مــن بينها دخــول موعــد تعليــق الرحــات ّ قررتهــا فرنســا ،أو تشــجيعه علــى البقــاء هنــاك واالمتثــال لإلجــراءات التــي ّ ضاعفــةً ،فــي الســلطات الفرنسـ ّـية لمواجهــة الوبــاء ،أي أن يعيــش غربــة ُم َ ُّ بلـ ٍ دواب وال ـد ًا (ال طائــرات فــي الجــو ،وال ســفن فــي البحــر، ـد صــار بعيــد ًا جـ ّ ّ ـدب فــوق األرض) غيــر البلــد ،وفــي منــزلٍ «مغلــق» غيــر المنــزل. تـ ُّ ـنِ عيني إلى أنظر ـا ـ وأن التدقيق يصعب ـة؟ ـ وللعاطف ـل ـ للعق ـلم ـ أس ـ االختياري أي ُ ُ ّ ـنِ المطلقــة. ـن ـ الكائ ـة ـ هشاش ـرأت ـ ق ـ العيني ـك ـ تل ـي ـ ف . األم ـي ـ ه ـي ـ الت ـة ـ الزوج ّ ُ هشاشــة تنضـ ُ األصليــة التــي تمكّ نــت منــي بعــد صــدور قرار ـة ـ الهشاش ـاف إلــى ّ ـداء مــن يــوم االثنيــن 16مــارس/آذار. ـ ابت ـة ـ والبحري ـة ـ الجوي إغــاق الحــدود ً ّ ّ المتاحة للعودة قبل هذا الموعد، اإلمكانيات الولد ـع ـ م ـث ـ تبح األم أن تحــاول ّ ُ فــي الوقــت الــذي تتزاحــم األفــكار المتناقضــة فــي رأســي ،بما فــي ذلك بعض ـر بــدأ يزعجنــي بشــكلٍ مباشــر ،ألننــي األفــكار الســوداء .إن مــا يحــدث هــو أمـ ٌ لــم أشــهد لــه مثيـ ً ا مــن قبــل إلــى غايــة هــذه اللحظــة التــي أطــلُّ فيهــا علــى الخمســين .هــذه الجملــة الطويلــة ،ليســت لــي بالكامــل ،ذلــك أننــي قــرأت فــي وقــت ســابق مــن العمــر طاعــون ألبيــر كامــو ،لكــن وبــاء اليــوم لــم تــدلّ ـرذان فــي شــوارع مــدن العالــم ،بــل موتــى يتســاقطون ومصابــون عليــه جـ ٌ بعشــرات اآلالف يوميـاً. ـه .فــي ـدنى إلــى الحيــا ِة ،عليــه أن يعيـ َ إن أحــد الخيــوط التــي تشـ ّ ـش تجربتـ ُ الخاصة. ـر لطريــقٍ مــن الطرق .كلٌّ عليــه أن يصنع أســطورته ّ النهايــة كلٌّ ميسـ ٌ ـيتحالف ،عندئـ ٍ َ ـذ ،مــن أجل أن ـ س ـه ـ ل ك ـم ـ العال وأن ، ـاك ـ وهن ـا هــذا مــا قرأتــه هنـ ّ ُ ُ يدفــع بــه لتحقيقهــا .لعــلّ هــذا مكتــوب بوضــوح فــي خيميائــي باولــو كويلــو! األم ألكمــل الحــوار مــع إليــاس ـر وأخــذت الهاتـ َ لذلــك حسـ ُ ـف مــن ّ ـمت األمـ َ فــي الضفــة األخــرى: ـي ،مــن األفضــل أال تتعــب نفســك فــي البحــث عــن تذكــرة .أرى أن تبقــى بنـ ّهنـ َ ـاك .ولكــن يمكنــك أن تتخــذ القــرار الــذي تــراه مالئمـ ًا لــك أكثــر. «تمرده» المشــروع علــى الوصاية كنــت أعــرف أن لــي عليــه بعــض التأثير رغــم ُّ األبويـ ِ ـده أكثــر حكمةً ،ولــن يخــرج تفكيره عن ـة .فــي حالــة كهــذه ســيعتبر والـ َ ّ ـي» كباقــي الموجوديــن ـ ح الص ـر ـ «الحج ـن ـ ره ـا ـ فيه ـ س ـي ـ الت ـرة ـ الفت ـر تدبيـ ـيظلّ ّ ّ ـي .بعبــار ٍة أخــرى ستتناســل فــي ذهنــه األفــكار حــول ـ الفرنس ـراب ـ الت ـى علـ ّ ً ـي للحيــاة كلّه الم َ كيفيــة التعامــل مــع غربتــه ُ ضاعفــةَ ،علمـا أن النظــام اليومـ ّ ســيتخلخل ،وأنــه ســيكون عليــه تعويــض الذهــاب إلــى الجامعــة بالجلــوس الحركي ـراغ مفــروض و«جمــود أكيد» ،وهــو إلــى الحاســوب ،والســقوط فــي فـ ٍ ّ
الــذي ال يهــدأ منــذ الســنوات األولــى مــن حياتــه إلــى غايتــه فــي بدايــة ســنته الثانيــة بعــد العشــرين. لمــاذا عليـ ِ األول ،أنــه مــع ـه أن يبقــى هنــاك؟ تقــول والدتـ ُ ـه .أجيـ ُ ـب :لســببينّ . كلّ إصابـ ٍ ـم اإلعــان عــن أنهــا «وافــدة مــن ،»...وال ـة جديــدة فــي المغــرب يتـ ُّ ً ً ـم التنديــد بعودتهــم ـ يت ـن ـ الذي ـن ـ م ا ـد ـ واح ـي ـ ابن ـون ـ يك أن ـك ـ لذل ا ـ تبع ـب أرغـ ُ ُّ ـات ـي، فــي هــذه ـاء بـ َ خاصــةً أن الوبـ َ ّ ّ الظرفيــة علــى مواقــع التواصــل االجتماعـ ّ ـواء .الثانــي ،أن المطـ ِ ـارات أضحــت فضاءات ـ س ـت ـ بات ـدول ـ ال ـا»، «معولَمـ وكلّ ً ُ أمكن ،وأنــه من األفضلِ ما تفاديها ـم ـ ت يح ما ـو ـ وه ـدوى، ـ الع ـاط ـ اللتق ـة محتملـ ّ َ لــزوم البيت! اآلن .إن انســياب الكلمات علــى هذا النحو ـذي ـ ال ـر ـ باليس ـس األمــر أكتب بــه َ ُ ليـ َ ً عاطفي ـ ًا ســرعان مــا اســتولى علــى ا ـ ألم أن ـك ـ ذل ـدق. ـ يص ال ـد ـ ح ـى ـ إل ـادع خـ ٌ ٍّ ّ ّ ـواس .وجعلنــي فــي األيــام التاليــة تمامـ ًا كما قال ســيوران ،أعيــش الزمن الحـ ّ ٍ لحظــةً بلحظــة دون التســاؤل عــن وجــوده ،أو اإلحســاس بــه وبوطأتــه .أتابــع ِ ّب الوضع ـام تتوالــى فــي المغرب قلق ًا على األهل وعلــى األرقـ َ المغاربة ،وأتعق ُ ً ـم اإلعــان عنها. ـ يت ـي ـ الت ـاالت ـ للح ـي ـ الجغراف ـع ـ التوزي ا ـ ملتمس ـا ـ فرنس فــي ُّ ّ ـه «أنــا»! إن األخطــر مــن ـه ،وأقاومـ ُ األب لـ ُ ثمــة هلـ ٌ ـر مكتـ ٌ ـلم ُ ّ ـوم .يستسـ ُ ـع كبيـ ٌ ـي الــذي إذا ـ الجماع ـع ـ الهل ـتيريا ـ هس ـي ـ ف ـقوط ـ الس ـاره ـ انتش ـرعة ـ وس ـاء ـ الوب ُ ّ ـتد ،متواطئ ـ ًا مــع الفيــروس المجهــول ،فإنــه لــن يبقــي ولــن يــذر .لذلـ َ ـك اشـ ّ ـبه الفيلســوف ،علــى األقــلّ ،إلخفــاء النقــص ،كما ـ يش ـا ـ م ـى ـ إل ل ـو ـ التح ـب وجـ ُ ُّ ـت كاتب ـاً ،ولــو علــى قــرأت فــي شــذرة عابــرة مــن «اعترافــات» ســيوران .ألسـ ُ ـداً« .مــا إن يتنكّ ــر كاتــب فــي زي ســبيل االدعــاء؟ إذن فتلــك الشــذرة دالــة جـ ّ فيلســوف حتــى يمكننــا التي ُّقــن مــن أنــه يخفــي نقصـاً». ـرد محاولــة لمراوغــة وطــأة الواقــع عبــر اللعــب بالكلمــات. يبقــى ذلــك مجـ َّ ٍ ـد ٍد فــي نوعــه ،وغيــر ـ نق ـو ـ ه ـة، ـ مماثل ـة ـ حال ـي ـ ف ـص، ـص غيــر محـ َّ ذلــك أن النقـ َ ٌ محـ ٍ ً ـح القلــوب عبــر ـ يكتس ـذي ـ ال ـي ـ المتنام ـع ـ الهل ـل ـ مث ا ـ تمام ره. ـد ـدود فــي قـ ْ ُ
العالــم ،ال تقــف فــي وجهــه جمــارك أو حواجــز .حتــى األمــل فــي انفــراج ـررة قريــب قطعتــه شــركة الطيــران ،بغتــة ،بإلغــاء الرحلــة التــي كانــت مقـ ّ فتغيــر ترتيــب أصــا فــي 4أبريل/نيســان لقضــاء عطلــة الربيــع فــي البيــت، ّ «المتمنيــات» :أوالً ،أن تظــل قنــوات اإلمــداد المالــي مفتوحــةً بعــد أن بــات مــن المســتحيلِ الوبــاء لنفســه الزمنيــة التــي ســيقتطعها التكهــن بالمــدة ُ ُ ّ ـن هــذه المــدة كمــا لــو أنــه فــي البيــتِ مــن حيــا ِة البشــر .ثانيـاً ،أن يعيـ َ ـش االبـ ُ ِ بيننــا ،دون أن أنقـ َ لحظات ـل إليــه عالمــات الهلــع الــذي ُي ِغيــر علــى القلــب فــي ـد َث ـ تح ـذي ـ ال ـص ـ النق ـك ـ ذل ـن ـ ع ـه ـ ل ـف ـ أكش أن دون أي ـوى، الهشاشــة القصـ َ َّ َ عنــه ســيوران .وســواء كان مــا يحــدث «أتفــه األمــور» أو «أكبــر الهمــوم» ،فــا ـأتحدى وأل «أذعــن لالنتظار الممل» .سـ ينبغــي أن أتركــه يدفعنــي إلــى القلقّ ، َّ ـي الوضــع! ـ عل ـا ـ يفرضه ـي ـ الت ـيورانية ـ بــأي شــكلٍ وأي ســاح هــذه األفــكار الس َّ أتحول إلى «فيلســوف» .أســجل ـن ـ ول أوالً ،ســأحتفظ لنفســي بــزي «الكاتــب»، َّ ّ ـد وأنشــرها البنــي علــى اليوتيــوب والفيســبوك وتويتــر وأنســتغرام .إن قصائـ َ ـج باألخبــار واألرقــام والتحليــات المرعبــة التــي قــد هــذه المواقــع التــي تضـ ّ ٍ إيجابيــة تعيــد ـة ـ لطاق ـ حامل ـون ـ تك أن ـا ـ بإمكانه ـس، تسـ ّـبب ضيقـ ًا فــي التنفـ ـةً ّ ٍ ـخاص مرشــحين لالنهيــار. التــوازن إلــى أشـ ٍ ـالٍ ويجلس للجيران، مزعج ما رب ، ـ ع بصوت ـعر ـ الش يقرأ ، ألفته «إن والــدك كمــا ُ ّ َّ َ ُ فــي مكتبتــه باحثـ ًا عــن فراشــاته فــي الكلمـ ِ ـات« ،يفكِّ ــر فــي الحيــاة فحســب»، وال شــيء يدعــو للقلــقِ إطالقـاً ،وأن كلّ شــيء علــى مــا ُيــرام ،وأن كلّ ما يحدث ٍ ٍ وبقلوب عظيمــة ...بالحب». عالم آخــر جميلٍ ، ســينفرج قريبـ ًا عــن بتلوث أقــلّ ٍ ِ بالصوت والصور ِة ضاعفة، الم ـه ـ غربت في ، تصله التي ة اليومي تلــك هــي الرســالة ُ َ ُ ّ ـد َث ـ لتتح ـوم ـ ي ة ـر ـ األس ـع ـ تجتم ـاب، ـ الواتس ـي ـ ف ـال. ـ االتص ـا بفضــل تكنولوجيـ كلّ ُ ٍ َّ ـد وجباتــه أو ً ال بــأول، عــن إيقــاع الحيــاة ،بمــا فــي ذلــك مرافقــة االبــن وهــو يعـ ّ ولتتقاســم كلمـ ٍ ـرد ـ مج ـاره ـ باعتب ـي ـ ح ـات عــن األمــلِ ،والنظــر إلــى الحجــر ِّ َّ الص ّ محطّ ــة فــي طريــق قطــار! ■ جمــال الموســاوي (المغرب) أبريل 150 2020
93
فنون
بني القرنيني الرابع عرش والتاسع عرش
جوائح يف الفن التصويري
ـكيلية موضــوع «الوبــاء» كواقــع عيــاين قابــل لــإدراك والتوثيــق ،وتجربــة تســتجيب لألســطرة تناولــت الفنــون التشـ ّ ـوم فلســفي يحمــل عــى كاهلــه هواجــس اإلنســان وقلقــه مــن املجهــول واملــوات ،فضـ ً ا عــن والرتميــز ،وكمفهـ ٍ الســلطة للجائحــة يف خطابهــا .يف هــذه القــراءة ســيتم الرتكيــز عــى أعــال ف ّن ّيــة أوروبيــة ،مل كيفيــة توظيــف ُّ العربيــة ،وتقــع يف الفــرة املمتــدة بــن القــرن الرابــع عــر والقــرن التاســع عــر. ـن بهــا كثــراً يف الثقافــة ُيعـ َ ّ
«القديس سيباستيان يتوسط لدى الرب في أحد األوبئة» ▲ 1499
94
أبريل 150 2020
لرســام فــي إحــدى المنمنمــات التــي تعــود للعصــور الوســطى ،والمقيــدة َّ مجهــول فــي كثيــر مــن المراجــع ،وتحمــل عنــوان «دفــن ضحايــا الطاعــون» (1353م) ،تحضر اإلشارة إلى جائحة «الموت األسود» ،التي أصابت أوراسيا (القارتــان األوروبيــة واآلســيوية) وشــمال إفريقيــا فــي القــرن الرابــع عشــر، فجائعيــة فــي تاريــخ وتــدرج فــي علــم األوبئــة علــى أنهــا أكثــر الجوائــح ّ ـرية ،متجــاوزة مــن حيث عــدد الضحايا ،وفق الدراســات الحالية ،وباء البشـ ّ المســتعمرون األوروبيون إلى أميــركا الالتينية، فيــروس الجــدري الذي نقله ُ واألنفلونــزا اإلســبانية ســنة ( .)1918وفيمــا يبــدو أن الوبــاء نشــأ فــي آســيا، وبــدأ بالتفشــي ،ووصــل أوروبــا بالطــرق التجاريــة البحريــة ،وألقــى مرســاته فــي مينــاء ميســينا فــي صقليــة اإليطاليــة ،ومنهــا انتشــر فــي عمــوم أوروبــا. توجــد منمنــة «دفــن ضحايــا الطاعــون» ،فــي كتــاب «The Chronicles of ـدون والشــاعر ،»Gilles Le Muisitوهــي «تواريــخ» وحوليــات كتبهــا المـ ّ والراهــب الفرنســي «جيــل لــو مويــزي .)1352-1272( »Gilles Le Muisit ـور هــذا الكتــاب ،أثنــاء كتابــة هــذه وقــاد البحــث عــن ّ هويــة الف َّنــان الــذي صـ ّ ورســام المنمنمــات «-1340( »Pierart dou Tielt الســطور ،إلــى الناســخ َّ .)1360مفــاده أن الراهــب «جيــل لــو مويــزي» كان قــد أصبــح أعمــى فــي فجمعــت المخطوطــات والوثائــق التــي دونهــا عــن يوميــات أواخــر أيامــهُ ، الديــر الــذي كان يرأســه فــي مدينــة تورنــاي البلجيكيــة ،إضافــة ألحــداث ـجلها ،ومنهــا وبــاء الطاعــون .وأخيــر ًا وصلــت المخطوطــات عاصرهــا وسـ ّ المكتوبــة بالالتينيــة ،إلــى الرســام « ،»Pierart dou Tieltالــذي قام بإنجاز ـص حســبما يبــدو. منمنماتهــا اعتبــار ًا مــن النـ ّ كما هو معروف ،ا ّتســمت العصور الوســطى األوروبية بهيمنة الميتافيزيقيا الالهوتية ،ومركزية الخطاب الذي يقوم على أســبقية اإليمان على المعرفة ّ تتصوره الفن عن العقيــدة أمر ًا يمكــن أن العقليــة .لذلــك لــم يكــن اســتقالل ّ ّ ٍ ـي ليكــون شــأن ًا العقليــة الدينيــة آنئــذ .األمــر الــذي أخصــع التعبيــر الجمالـ ّ الروحيــة ،ومــن اإلرشــاد والتعليــم الكنســي، رفيـاً ،وجــزء ًا مــن الفرائــض ّ ِح ّ ـن الجماليــة ،ومتعــة التلقي ،وغــض النظر ـ الف ـة ـ وظيف ـاب ـ غي ـتدعى ـ اس ممــا ّ التصويري ،كمــا هو الحــال في «دفن ـل ـ العم ـى ـ عل ـان ـ ن الف ـم ـ اس ـة ـ إضاف عــن َّ ّ ضحايــا الطاعــون» في مدينــة تورناي. المتأخــرة ،التــي خبــرت المجاعــات ُنفِّــذ العمــل فــي القــرون الوســطى ّ اجتماعيــة هنا ـات ـ انتفاض ـام ـ وقي ً؛ ا ـرار ـ م واألوبئــة ،وانــدالع الحــروب األهليــة ّ
«ساحة السوق في نابولي أثناء الطاعون» ▲ 1656
وأدى وهنــاك؛ إضافــة إلــى شــيوع مــا يعــرف بالهرطقــة الدينيــةَّ . العــدد المنخفــض نســبي ًا للمصابين بوباء الطاعــون بين اليهود، بـ«نظريــة المؤامــرة» ،وعمــل ذلــك إلــى تحكّ ــم مــا يعــرف اليــوم ّ علــى اتهام اليهود بتســميم اآلبار وتلويثهــا بالطاعون عمداً ،وفي أحســن األحــوال اعتبــر وجودهم تجســيد ًا للشــرور بين الســاكنة ٍ حينئذ. فتعرضــوا للمالحقــة واالضطهــاد األوروبــي «المؤمنــة»، َّ حافظــت الكنيســة علــى االنفعال الروحي المشــبوب باســتمرار، وكان مــن أهــم ردود الفعــل علــى جائحــة «المــوت األســود» ،بث الدينيــة. ـن بالــروح عقيــدة هروبيــة مــن العالــم ،فاصطبــغ الفـ ّ ّ وبالعــودة إلــى رســم «دفــن ضحايــا الطاعــون» نعثــر علــى فضاء دنيويــة ،فنحــن دينيــة وال ّ قبــري ،حيــث ال شــعائر وال مظاهــر ّ أمــام اآللــة الجهنميــة للمــوت الخالــص ،حيــث ال رحمــة إلهيــة ـرية .ويــكاد المتلقّي أن يشــعر بانعــدام الهواء في وال شــفقة بشـ ّ المنمنمــة ،مــكان ال عمــق فيــه ،وال منظــور ،الخلفيــة مســطَّ حة وزخرفيــة بحتــة علــى بســاطتها .وتبــدو الصــورة المؤطّ ــرة كمــا لــو أنهــا نعــش هــي األخــرى ،وال تواصــل بيــن الشــخوص التــي همــة الدفن .واالنفعال يتأ َّتى مــن التكرار ،ومن خالل تتصـ ّ لم ّ ـدى ُ الخطــوط المتوازيــة لألجســاد المنحنيــة ،والحركــة المبرمجــة للشــخوص ،كذلــك تــوازي التوابيــت فــي قافلــة تأخــذ طريقهــا الجبانــة .ويمكــن مالحظــة الميــل إلــى التبســيط والتعميــم، إلــى ّ ومعالجــة تصويــر الجســم بطريقــة تبــدو فيهــا الشــخوص أشــبه بظــال ،ال حجــم وال ثقــل لهــا بســبب غيــاب المنظــور .كمــا أن مميــز في الشــخوص هنــاك عــدم اهتمــام بمــا هــو ذاتــي وحســي ّ ـورة ،بــل تــكاد تستنســخ نســخ ًا كمــا التوابيــت التــي ُتحمــل المصـ ّ إلــى اللحد .كلّ شــيء ظاهر في اللّوحــة ،ومنجز بوضوح وبألوان حلولية المــوت ،ونظرة ـبياً ،وتفــوح من الرســم رائحــة ّ فاتحــة نسـ ّ ـول معها ـ يتح ـا، ـ الدني ـاة ـ الحي ـن ـ ع ـة ـ متعالي ـة ـ ميتافيزيقي ـكونية ّ سـ ّ بحريــة ،أو ك ـر ـ للتح ـه ـ في ـة ـ إمكاني ال ـارم، ـ ص ـل ـ لفع ـن ـ الدف فعــل ّ ُّ
«عنبر الموبوئين» ▲ 1792
حتــى النظــر جانبـاً ،وال خــروج فيه عن االنضبــاط أو االنتظام أو التكــرار ،ليقول بالترفع عن األمــور األرضيــة الفانيــة ،فموت اإلنســان المادي يعني يقظة اإلنســان الروحي المســتقيم. عمــت فــي أواخــر القــرون الوســطى ،ويعثــر علــى كلّ ذلــك يبــرر ســطوة المــوت التــي ّ أفضــل تعبيــر لهــا فــي الرســم الشــعبي الموســوم بـ«رقصــة المــوت» ،والــذي أعيــد رســمه ـكية لهيــكل عظمــي (مجاز مــرار ًا وتكــرار ًا فــي جميــع أنحــاء أوروبــا .وفيهــا مشــهدية غروتسـ ّ متنوعــة للرقــص معــه ـة، وعمريـ واجتماعيــة، دينيــة، ِّ ّ ّ المــوت) ،يدعــو شــخوص مــن فئــات ّ حــول أحــد القبــور .تتغيــا الصــورة تذكيــر البشــر بأنهــم سواســية فــي المــوت ،بــأن مســرات ـدة الحيــاة الدنيــا ومباهجهــا إلــى زوال ،وعلــى الجميــع االســتعداد للمــوت الكوني .ومن شـ ّ والفنيــة، األدبيــة تأثيــر فكــرة «رقصــة المــوت» ،فإنهــا كانــت عابــرة األشــكال واألجنــاس ّ ّ الدينيــة ـؤدى فــي العــروض وتج ّلــت فــي التصويــر والحكايــة والشــعر والمســرح ،وكانــت ُتـ ّ ّ واالحتفــاالت التــي كانــت ترعاهــا الكنيســة مثــل عيــد الفصــح .ومــن بيــن العــدد الهائــل أبريل 150 2020
95
لتصاويــر هــذه الرقصة القبرية ،أذكر الرســم القوطي الــذي أنجزه عام 1493م ـي ميكائيــل فولغيمــون ( ،)1434-1519معلــم الف َّنــان آلبرخــت الف َّنــان األلمانـ ّ يتحدى ـاخر، ـ س حس منها يفيض ـة ـ م ـون ـ تك ـكاد ـ ت ـة ـ احتفالي دورِر .وفيهــا متهكّ ّ ٌ نزيــف المــوت فــي التصاويــر الكنســية بالتآلف الهزلــي مع المــواتُ .يراعى في رســم الهيــاكل العظميــة محــاكاة الواقــع ،وتبــدو كمــا لــو أنهــا رقصــة أحيــاء يتلبســهم المــوت الــذي يحتفــون بــه .وفــي العصــر الحديــث ماتــزال «رقصــة َّ ـوي فــي ـ الدين ـا ـ فيه ـج ـ يتواش ـي ـ الت ـاالت ـ الكرنف ـي ـ ف ى ـؤد ـ ت ـوت» ـ الم ُ َّ ـي مــع الدنيـ ّ ّ وحــدة ال تنفصــم ،وفــي معــرض الحديــث هنــا نتذكّ ــر معــ ًا فيلــم «الختــم الســابع» ،الــذي اقتبــس فيــه انغمــار بيرغمــان «رقصــة المــوت» كــي يســدل الفلميــة. الســتار علــى الحبكــة ّ ً قــدس المعــروف بمخطوطــة الكتــاب فــي ا وتحديــد فــي عــام 1411م، الم َّ ُ ( Toggenburgسويســرا) ،وتعــرف بـ«الوبــاء فــي مصر فــي مخطوطة الكتاب ـدس فــي توغينبروغ» ،نعثر على منمنمة تتناول الطاعون األســود ،وفيها المقـ َّ ُ الهويــة إلــى حجــرة منزليــة ،يســتلقي فيهــا رجــل وامرأة ـول ـ مجه ـان ـ ن ف ـا ـ ينقلن َّ ّ علــى فــراش المــرض ،ويرافقهمــا شــخص يبــدو أنــه طبيــب يقــوم بتعطيــر الهــواء ،فقــد كان يعتقــد بــأن الطاعــون ناتــج عــن الهــواء الفاســد أو األبخــرة التوضيحيــة حــول األعــراض الســامة .تبــدو المنمنمــة أقــرب إلــى الصــورة ّ ـدس ،كــي تشــير ـ ق الم ـاب ـ الكت ـريرية للمــرض ،رغــم أنهــا مندرجــة فــي ُ َّ السـ ّ الفرعونيــة ،والموصوف في ســفر الخروج (:9 إلــى الوبــاء الســادس في مصــر ّ .)9 - 8ومــن الواضــح ،أن الف َّنــان اســتمد المــادة الخــام لمنمنمتــه مــن ســياق عصــره ،وواقــع المــوت األســود المنتشــر فــي أوروبــا .ومــن الالفــت لالنتباه أن يبرر المصابيــن فــي المنمنمــة ،علــى مــا يبدو ،يشــعران بالحمــى ،األمر الــذي ِّ كشــف أجــزاء مــن بدنهمــا مــن تحــت المــاءات فــي الرســم ،وبجســد طافــح والبثــور (الطاعــون الدبلــي) .مــن جانـ ٍ ـب آخــر يالحــظ أن الطبيــب بالدمامــل ُ واقٍ الطبيــة لــم تكــن قــد خــاص ،فالمعرفــة المعالــج ال يرتــدي أي لبــاس ّ توصلــت إلــى عــاج الطاعــون ،واقتصــرت علــى تشــخيص المــرض واللجــوء إعجازيــة .وفــي معــرض الحديــث هنــا نذكــر أن ـحرية ورجــاءات ّ لوصفــات سـ ّ ميــز ألطباء ومعالجــي الطاعون لــن يتحقَّق ّإل في اســتخدام الــزي الواقــي ُ الم ّ القــرن الســابع عشــر كمــا ســنرى الحقـاً .بيــد أنهــم فــي هــذه المرحلــة كانــوا بأهميـ ٍ وســمح لهــم بإجراء ـم منحهــم امتيــازات يتمتعــون ّ ـة كبيــرة ،وتـ ّ ّ خاصةُ ، عمليــات التشــريح للبحــث عــن عــاج للوبــاء ،ذلــك أن هــذه العمليــات كانــت
«رقصة الموت» ▲ 1493
96
أبريل 150 2020
محظــورة فــي عمــوم أوروبــا القروســطية. المولــد «جــوزي ليفيرنكــس Josse فــي عــام 1499م أنجــز الف َّنــان الهولنـ ّ ـدي ُ ،»Lieferinxeلوحــة «القديــس سيباســتيان يتوســط لــدى الــرب فــي إحــدى األوبئــة» .ال يعــرف الكثيــر عــن حيــاة جــوزي ليفرينكس ،باســتثناء أنــه مارس ـص بإنجاز الرســم فــي جنــوب فرنســا فــي أواخــر القــرن الخامس عشــر ،واختـ ّ صلَّيــات ومذابــح الكنائس واألديرة .ولوحتــه المذكورة نفذت لتزيين لوحــات ُم َ خصــص للقديــس سيباســتيان فــي إحــدى كنائس مرســيلية. الم المذبــح ُ َّ ً ً رومانيا شــاباً، كان القديــس سيباســتيان ،الــذي ُيشــار له في العنــوان ،ضابطا ّ اس ُتشــهد رميـ ًا بالســهام في عهد اإلمبراطــور ديوكلتيانوس للدفــاع عن إيمانه ـيحي .وربطت ســيرة القديس مع الوباء في القرن الســابع ،أثناء تفشــي المسـ ّ اإليطاليــة ،حيــث تقــول ســيرة القديس الكنسـ ّـية ،إنه ـا ـ بافي ـة ـ مدين ـي الوبــاء فـ ّ ـم العثــور علــى رفاتــه حينهــا ،فنقلــت وكرمــت بدفنهــا فــي إحــدى الكنائــس، تـ ّ األمــر الــذي تمخــض عنــه تو ّقــف الوبــاء للتــو بأعجوبــة .ومــا أن ذاعــت هــذه ـعبية كبيــرة فــي إيطاليــا ،ومنهــا الســردية الكنسـ ّـية ،حتــى تم ّتــع القديــس بشـ ّ فــي جميــع أنحــاء أوروبــا مــع انتشــار األوبئــة ،لــدوره اإلعجــازي فــي إنهائهــا ـدتها. وتلونها وشـ ّ وتنوعهــا ّ علــى اختالفهــا ّ وفقـ ًا لجماليــات الفتــرة التي أنجــزت فيها اللّوحة ،يظهر القديس سيباســتيان فــي الجــزء الســماوي مــن اللّوحة ،وقد غطت جســمه الســهام التي تســتدعي ليتوســط هويتــه .يركــع القديــس فــي حضــرة الــرب، استشــهاده وتحديــد ّ َّ ويتوســل مــن أجــل إنهــاء الوبــاء .فــي األســفل مباشــرة ،تــدور المعركــة َّ الدينيــة القروســطية، المجازيــة ،التــي توجــز ع ّلــة الوبــاء بمقتضــى الرؤيــة ّ ٍ وقتئــذ أال وهــي المعركــة بيــن الخيــر والشــر ،ذلــك أن العقيــدة المكرســة اعتبــرت أن األوبئــة هــي نتــاج االنزيــاح عــن الصــراط الكنســي ،وبالتالــي فهــي عقــاب إلهــي .ولكــن فــي الوقــت نفســهُ ،تتــرك فســحة أمل مــن خــال العودة إلــى اإليمــان والتطهــر واالســتقامة إلنهــاء العقوبــة المفروضــة. الدنيوي القســم كالعــادة فــي هــذا النــوع من التصويــر ،يحتلّ الجزء الســفلي ّ األعظــم مــن الرســم ،ويتوافــق فــي اللّوحــة مــع مدينــة أفينيــون الفرنســية أثنــاء إصابتهــا بوبــاء الطاعــون .ويركّ ــز علــى العمــل الــذي يقــوم بــه الرجــال ـرك بكيفيــة ـس الزمــن ُ فــي نقــل جثاميــن الضحايــا .ويهــب الف َّنــان حـ ّ المتحـ ّ يقســم أرجــاء توظيــف المنظــور ،الــذي يكســب المــكان عمق ـاً ،وبعــد ًا ثالث ـ ًا ّ المدينــة إلــى داخــل الســور ،ثــم بــاب المدينــة ،فخــارج الســور ،حيــث يجــري الدفــن فــي البعــد األقــرب مــن المشــاهد. ـرك الموكــب الدائــم مــن الجثث، ـرك الزمــن ،مــع تحـ ُّ ترصــد عيــن المتلقــي تحـ ُّ المتتابعــة .لنالحظ معاً ،في خلفية ـم ـ الرس أبعاد في بفعــل توافدهــا وتدفُقها ُ المشــهد األعمــق (داخــل الســور) ،يمكــن تمييــز رجليــن يجــران جثــة ملفوفــة ـم فــي وســط التكويــن ،تحــت قــوس مدخــل المدينــةُ ،تــرى بالكفــن ،ومــن ثـ َّ ـم عربــة محملــة بالجثاميــن ،وفــي ّ مقدمــة اللّوحــة (خــارج ســور المدينــة) يتـ ُّ إلقــاء جثــة مكفنــة فــي مقبــرة جماعيــة ،أودعــت فيها جثــث ســبقتها للموت، ويقــع هــذا المشــهد الــذي يحتــلّ معظــم اللّوحــة عنــد تخــوم كنســية أو ديــر، ـري مكتظ دينيــة .وفي الطرف المقابل حشــد بشـ ّ حيــث يجــري الكهنــة مراســم ّ ـرية المختلفة ،ورود أفعالهــا الكونية وهم ـ البش يعطــي فكــرة عن الســلوكيات ّ يواجهــون الكــوارث :الدهشــة ،أو الفزع ،أو الهســتيريا أو اليأس والتســليم. كمــا أن الف َّنــان يعمــد إلــى تأكيــد حركــة الزمــن ،واإلحســاس بســيرورته فــي (اللحاد) الحماليــن لحظــة فاصلــة بيــن المــوت والحيــاة ،فقبــل أن يــودع أحــد ّ ّ الجثــة فــي القبــر ،يســقط فريســة للوبــاء ،يــدل علــى ذلــك ظهور دمل أســفل الرقبــة ،وهــي خاصيــة نموذجيــة للعــدوى التــي يســببها الطاعــون الدبلي .كلّ ذلــك يســتدعي أن ين ّقــل المتلقــي بصــره فــي هــذا الموكــب الزمنــي ،كشــاهد التصويري، أول الخطــو نحــو اإليهــام ّ ومشــارك فيــه معـاً .وبذلــك ،نكــون مــع ّ ـي مع الواقــع العياني التجريبــي؛ إيهام ـي الجمالـ ّ أي نحــو تداخــل الواقــع الفنـ ّ جماليـ ًا فــي َأ ْو ِج عصــر النهضــة. ســيكون لــه النصــر ّ مــن جانــب آخــر ،إن توســط القديــس سيباســتيان لــدى الــرب لرفــع بــاء الطاعــون ،ال يعنــي أنــه الحامــي والشــفيع لمرضــى الوبــاء ،ذلــك أن الكنيســة منحــت هــذه الســمة للقديــس روش .يعــرف القديــس روش المولــود فــي
لوحة «الطاعون» ▲ 1898
مونبيليــه الفرنســية فــي القــرن الرابــع عشــر .وتشــير ســيرته الكنسـ ّـية إلــى رحلــة حــج إلــى إيطاليــا ،كــرس فيهــا نفســه لمســاعدة المصابيــن بالطاعــون ،فأصيــب هــو نفســه ومــن ـم تماثــل للشــفاء بعــد أن أطعمــه كلــب بالخبــز الــذي أخــذه مــن صاحبــه .لذلــك يمكــن ثـ َّ التعــرف عليــه فــي الرســم بــزي الحــاج الــذي يرتديــه والكلــب الــذي يرافقــه .ويمكــن أن للرســام تلمــس قدســيته فــي لوحــة «القديــس روش شــفيع ضحايــا الطاعــون» (،)1623 َّ الفالمنكــي بيتــر بــول روبنــس ( .)1640 - 1577فــي اللّوحــة ينقــل روبنــس المتلقّــي ،إلــى اللحظــة الحافلــة الحاســمة آن توســيم القديــس روش شــفيعاً. ـكلية ـ ش ة هرمي ويعتمد ـم، مكونات الرسـ ـيكي فــي توزيع ِّ ّ ّ يحافــظ الف َّنــان علــى التوازن الكالسـ ّ مضمــرة فــي التكويــن .فــي المســتوى األعلــى مــن اللّوحة ،تــرى الشــخصيات الرئيسـ ّـية فوق منصــة ،أشــبه مــا تكــون بالركــح المســرحي :المســيح إلــى اليميــن ،ملفوف ـ ًا فــي قمــاش قرمــزي ،وهــو ينحنــي نحــو القديــس ،بينمــا المــاك إلــى اليســار يحمــل قرطاسـ ًا كُ تــب عليه بالالتينيــة« :أنــت شــفيع المصابيــن بالطاعــون» Eris in peste patronus؛ بينمــا القديس ـع بينهمــا ،يلتفــت برأســه وجســمه نحــو الســيد المســيح. روش ،وكلبــه إلــى جانبــه ،راكـ ٌ درامية المشــهد في د ـد ـ ويش ـال، ـ االنفع ـام ـ الرس ـحن ـ يش ّوحة، فــي المســتوى األدنــى مــن الل ّ ّ ّ
وتتوســل طالبــة الحمايــة ـخصيات تومــئ إلــى معاناتهــا، ســت شـ ّ ّ ـدم روبنــس مشــهد ًا يوميـاً، والشــفاعة مــن القديــس .هكــذا ،قـ َّ يقــوم علــى وحــدة الموضــوع والمــكان ،مشــهد ًا ال يتر ّفــع فيــه العلــوي عــن النــزول واالقتــراب مــن الدنيــوي. أمــا فــي لوحــة «ســاحة الســوق فــي نابولــي أثنــاء الطاعــون» ( ،)1656للف ّنــان اإليطالــي «دومينيكــو غارجيولــو Domenico الرسام الباروكي بامتياز ،الذي اشتهر ّ ،)1675-1609( »Gargiulo برســم المناظــر البانوراميــة للمدينــة ،حتــى أن رســومه تحمــل توثيقيـ ًا لكثير من أحداث عصره ،وتهجس برســم الحشــود بعــد ًا ّ ـرية .وفــي اللّوحــة ينقلنــا الف َّنــان إلــى ســوق نابولــي ،الحيــز البشـ ّ المكانــي الــذي يلخــص انهيــار التجــارة ،وســوق العــرض والطلب فــي المدينــة ،وقــد اســتحال إلــى ســاحة يتمســرح فيهــا المــوت مروعــة. ـهدية فــي مشـ ّ كارثيــة ّ ّ اجتماعياً، ـوق ـ الس في ـي ـ المدين ـري ـ البش ـد ـ الحش نات مكو ّ ـوع ّ تتنـ ّ ّ وعرقيــاً .ويعكــس العمــل مخــاوف وآالم الســكّ ان وجنســياً، ّ ّ وفجيعتهــم .بعــض األصحــاء يحــاول مســاعدة المرضــى ،بينمــا تكدســة ،ومــن الالفــت لالنتباه الم ّ يحــاول اآلخــرون إزالــة الجثــث ُ أن البعــض منهــم يغطــي األنــف واألفــواه بقطــع مــن القمــاش، بســبب االعتقــاد أن الجثــث تنقــل العــدوى .وكمــا هــو مألــوف ـن الباروكــي الــذي ال مجــال للفــراغ فيــه ،تمتلــئ ســاحة فــي الفـ ّ الســوق بالتفاصيــل التــي تتمحــور حــول الخطيئة والمــوت ،ومع ذلــك ،ورغمـ ًا عــن الكارثــة ،هنــاك دائمـ ًا بارقــة أمــل ،كمــا يظهــر ـخصية نيابة تتوســط شـ فــي الجــزء العلــوي مــن التكويــن ،حيــث َّ ّ عــن الســكّ ان لرفــع البــاء. ـرق إلــى النقــش ـ أتط ـوف ـ س ـي، ـ الكونولوج عنــد هــذا المنعطــف ّ يرجح أنه النحاســي المعنــون «طبيــب الطاعــون» ( ،)1656الــذي ّ األلماني «بول فورســت »Paul Fürst من إنجاز النقّاش والناشــر ّ ً تهكميــة، ـاخرة ـ س ـدة ـ لقصي ا ـ مرافق ـم ـ ( .)1666-1608وظهــر الرس ّ واأللمانيــة .وفيــه ينتصــب الطبيــب بقامتــه مكتوبــة بالالتينيــة ّ محتــ ً ا الرســم بالكامــل ،وفــي العمــق الخلفــي تلــوح مدينــة، ميــز حيــن التعامــل الم ـه ـ بزي ـب ـ طبي ـام ـ أم ـن ـ م ون ـر ـ يف ـخاص وأشـ ُ ّ ّ ـون البدلــة الواقيــة مــن الوبــاء ،والتي ـ تتك ـون. ـ الطاع ـى ـ مرض مــع ّ ِ المعاصرة، المسـ َ ـتخدمة في األوبئــة ُ ال تختلــف مبدئيـ ًا عــن البزة ُ ـم تشــميعه، ـ ت ـميك ـ س ـاش ـ قم ـن ـ م جبــة ســوداء منســوجة َّ مــن ّ مــزود بعدســتين وقنــاع نفســه، الجلــد مــن وقبعــة وقفــازات َّ بلوريتيــن لتغطيــة العيــون ،وأنــف علــى شــكل منقــار مخروطــي ويحشــى عادة بالنباتات العطريــة والقش والتوابل، لــه فتحتانُ ، لتحمــل الروائــح العفنــة .وبسســب هــذا األنف ـة ـ ككمام ويوظَّ ــف ُّ المنقـ�اري فـ�ي القنـ�اع ُعرف الطبيب شـ�عبي ًا بـــ«�Doctor Schna ،»belومعناهــا الحرفي «الدكتور منقار» .يحمل أطباء الطاعون عــاد ًة قصبــة طويلــة تســاعدهم فــي فحــص وتحريــك الموبوئيــن المباشــر معهــم كمــا هــو دون الحاجــة إلــى لمســهم واالتِّصــال ُ ـرة فــي ـ م ل ألو ـي ـ الواق ـاس جلــي فــي الرســم .وقــد اســتخدم اللبـ ّ ّ نابولــي عــام ،1620ومنهــا انتشــر لعمــوم أوروبــا. مــن كلّ مــا ســبق ،نصــل للقــول إلــى أن المصابيــن بالوبــاء فــي فني ـ ًا مــن حيــث توفــر ـي ،لــم يكونــوا سواســية ّ التاريــخ األوروبـ ّ الصحيــة؛ بــل وجــد مــن شــكّ ل «العنايــة اإللهيــة» أو الرعايــة ّ ـي باســتمرار .مــع هــذه الفكرة ـ الفن هامــش الهامــش فــي التاريــخ ّ نكــون قــد اقتربنــا مــن لوحة فرانثيســكو دي غويــا ()1828 - 1746 الموسومة «عنبر الموبوئين» ( .)1792ينقلنا الف َّنان اإلسباني إلى مخصص مطــرح داخلــي كهفي بارد في مشــفى مفترض ،أو عنبر ّ ويصورهــم ،على اختالف للمصابيــن بوبــاء ال يأتــي على تحديده، ّ العمريــة والجنسـ ّـية ،ضحايا العزلة والتخلّي المؤســف، فئاتهــم ّ أبريل 150 2020
97
وتكدســوا مــع وحدتهــم ليواجهــوا فظائــع وقــد تراكمــوا فــي العنبــر المقبــب، َّ المعانــاة واالحتضــار والمــوت .ويتفاقــم االنفعــال فــي اللّوحــة ،مــع محاولــة أحد المصابين مســاعدة آخر بإعطائه شــربة ماء ،أو لمســة عزاء وســلوان (أو عســاه فــرد آخــر مــن الهامــش ،خاطــر بحياتــه وآثــر تقديــم العــون) ،وأنوفهم تتحمــل الرائحــة الدفــراء لألجســاد العفنة. مغطــاة كــي ّ يعكــس الف َّنــان فــي تكويــن اللّوحة منــاخ الحبــس القمعي ،لما ُيدعــى الحجر المتضررين الصحــي فــي زمنــه ،حيــث ُّ ـعبية مــن ُ يتم إقصاء أفــراد الفئات الشـ ّ إلــى مــكانٍ قــذر ،ويقطــع اتِّصالهــم مــع العالــم الخارجــي .نحــن أمــام ســجن يتعرضون له بفعل يك ّثــف معنى عذاب هذه الجماعة ،ســواء الجســدي الــذي ّ ـماوي، ـ الس ـفيع ـ والش ـوي ّ الوبــاء ،أم العاطفــي بســبب فقــدان الرجــاء الدنيـ ّ فكالهمــا غائــب عــن الحضــور فــي هــذا العنبــر ،مــا مــن شــيء يعلــن الحضــور مــن الخــارج ،أو المــاوراء ،باســتثناء ضوء غبــش يخترق النافــذة يكثّف معنى ـدى لوحــة غويــا، الخــارج النائــي القصــي ،علــى حســاب ترميــز أمــل بــارق .تتبـ ّ التــي ينســرب مــن مشــهدها معنــى الوحــدة ،والهجــران واإلحبــاط والفــزع واليــأس ،علــى طبــاق مع لوحــة روبنس الســابق ذكرها ،حيــث العناية اإللهية الرحيمــة والشــفاعة ،منبثــة فــي العالــم وغيــر منقطعــة عنــه .مــن هنــا يبــدو التشــاؤم الالمتناهــي علــى مصيــر مرضــى غويا الســجناء. الجمالــي الــذي المركــز مــن تصويــر الهامــش عنــد غويــا ،ننتقــل لخطــاب ّ تعكســه لوحــة «زيــارة بونابــرت لضحايــا الطاعــون فــي يافــا» ( )1804للف َّنــان ـور اللّوحــة زيــارة نابليــون للموبوئين أنطــوان جــان غــروس ( .)1835 - 1771تصـ ّ ـيكية مــن أفــراد جيشــه فــي مدينــة يافــا (عــام ،)1799وتنــدرج ضمــن الكالسـ ّ تصويريــة مع انتصار «العقــل» ،وتحديد ًا مع كرســت كمدرســة ّ الجديــدة التي ّ
«طبيب الطاعون» ▲ 1656
98
أبريل 150 2020
ـمية للثــورة ،بعــد ـيكية الجديــدة كممثّلــة رسـ ّ تبنــي نابليــون للمدرســة الكالسـ ّ إنجــاز جــاك لــوي دافيــد لوحته «قســم األخــوة هــوراس» ( ،)1784علــى اعتبار الفنيــة صالحــة لتمثيــل األيديولوجيــا القائمــة علــى فكــرة أن هــذه المدرســة ّ التمعن فــي غائية لوحــة غروس ـود ـ يق ـر، ـ آخ ـب ـ جان ـن ـ وم ـة. المركزيـ الســلطة ُّ ّ ُّ الفن االستشــراقي بامتياز. (تلميــذ دافيــد) إلــى القول بمالءمــة تصنيفها تحت ّ ـي لعــام ،1804فالقــت استحســان ًا عــرض غــروس لوحتــه فــي المعــرض الفنـ ّ أدى لالعتراف بــه كف َّنانٍ ـا ـ مم ـاد، ـ ق مــن ِقبــل أصجــاب الــرأي والمشــورة مــن ال ُن َّ ّ ّ مكــرس .ولذلــك ليــس بمســتغرب أن يكلــف مــن قبــل نابليــون لتصويــر واقعة مهمــةُ ،يقــال إنهــا جــرت أثنــاء الحملــة علــى مصــر. تصورها اللّوحة ،مــن ناحية محاذاة ؤرخــون بحــدوث الواقعــة كمــا ِّ الم ِّ يشــكّ ك ُ ـد يــده بــدون قفــاز ليتلمــس خــراج أحدهــم، ـ وم ـون، ـ الطاع ـا ـ لضحاي بونابــارت ّ ويقال إن عدد ًا مــن جنراالت الجيش غيــر عابــئ باحتمــال انتقال العدوى لــهُ ، ـن أتــى علــى كتابــة مذكراته وتوثيق الحملــة ينفي الواقعة جملــةً وتفصيالً، ممـ ْ َّ ً ً خصص الم ـكان ـ الم ـن ـ م ا ـ خاطف ا ـرو ـ م ـر ـ م ـون ـ نابلي ـأن ـ ب ـي ـ يكتف ـر ـ اآلخ ـض ـ والبع ُ َّ ّ أهميــة إنجــاز اللّوحة في للحجــر ِّ ـرف علــى ِّ ـي ولــم يتو َّقــف عنــده .وللتعـ ُّ الصحـ ّ ـد من اإلشــارة إلــى أن نابليــون كان يثبت ســلطته في ســياق تلــك المرحلــة ،البـ ّ الجمهوريــة الفرنسـ ّـية ،بغية القيام بانقالب عليهــا ،وتحويلها إلى إمبراطورية التوســع االســتعماري. ( )1804تهدف إلى ُّ فــي ذلــك الوقــت كانــت ســمعة نابليــون بونابــارت قــد انتابهــا بعــض التــآكل المعاديــة لــه، فــي الصحافــة الفرنسـ ّـية ،إثــر هجــوم الصحافــة ّ اإلنجليزيــة ُ َ ـم هزيمتــه. ـ ث ـن ـ وم ـر، ـ مص بســبب ســلوكياته العســكرية فــي الحملــة علــى َّ ٍ ـكري ،وكمــا أثبتت بعض ـ عس كقائد ـوهة لســمعته المشـ ِّ ّ مــن هذه الســلوكيات ُ الســير التــي تناولــت نابليــون ،األوامر التي أصدرهــا نابليون بحق قتل األســرى ـدر العــدد بحوالــي 3000أســير) لعدم قــدرة الحملة على (يقـ َّ مــن حاميــة يافــا ُ توفيــر الرعايــة والغــذاء لهم فضـ ً ا عن تكاليف الحراســة. تحركهــا بعــد مرحلــة احتــال يافــا، كذلــك مــع اســتئناف الحملــة ،وضــرورة ُّ تؤكّ ــد الكثيــر مــن المراجــع أن نابليــون طلــب مــن األطبــاء المرافقيــن لقواتــه دس الســم (األفيــون) للجنــود المرضــى بالطاعــون ،كــي ال يشــكِّ ل المســلحةّ ، ً ؤرخيــن ال ينفــي الم ـن ـ م ـر ـ كثي ـة. ـ الحمل م ـد ـ تق ـام ـ أم ا ـ عائق ـي ـ ح ُّ وضعهــم ِّ ُ ِّ الص ّ ـمى فــي راهــن اليــوم بـ«القتــل الرحيــم». هــذا األمــر ،ويطلــق عليــه مــا ُيسـ َّ وفيمــا يبــدو أن بعــض الناجيــن مــن هــؤالء والمتروكيــن فــي يافــا ،وقعــوا فــي ـروا بمــا حصــل معهــم ،وانتشــر الخبــر يــد القــوات اإلنجليزيــة الحق ـاً ،وأسـ ُّ ـود أن ينظّ ــف ســمعته فــي الصحافــة اإلنجليزيــة .لهــذا ك ّلــه ،كان نابليــون يـ ُّ المترديــة بعــد الحملــة علــى مصــر ،وأثنــاء االنقــاب اإلمبراطــوري ،وخيــر ّ الســلطة. ـن ـ ف ؛ ـن ـ الف ـت ـ كان ـا ـ عليه ـر ـ عث أداة ّ ّ ُّ ميــزة ،ويغيــب الطــراز الم ـها ـ بأقواس ة ـي ـ األندلس ـارة ـ العم ـام ـ الرس ـتدعي يسـ َّ ُ ّ ّ ٍ ربمــا لمعرفتــه باآلثار األندلسـ ّـية، ـامي المعــروف فــي فلســطين حينئــذَّ . اإلسـ ّ التاريخية ،وأســطرتها، األندلس ـاف ـ اكتش إعادة مع ـجم ـ ينس كان ذلك أو ألن ّ ـرديات الكبرى األوروبية في القرن التاســع عشــر. ـ الس في انهيارها ـتعادة واسـ ّ ٍ فــي اللّوحــة؛ يموضــع الف َّنــان المشــهد فــي حــرم مســجد تــدل عليــه مئذنتــه، حي. ـي مرتجل ،أو باألحرى مــكان للحجر ِّ الص ّ وقــد اســتحال إلى مشــفى ميدانـ ّ ـدم أحــد أبراجهــا ،بينمــا يرفــرف ـ ته ـي ـ الت ـة ـ المدين ـدى أســوار َّ فــي الخلفيــة ،تتبـ َّ ِ جهة ـي فــوق إحدى أعاليها الراســية قرب دخــان متصاعد .ومن العلــم الفرنسـ ّ ـتراتيجي بالنســبة للقوات الفرنسـ ّـية. اليميــن يمكــن تمييــز مرفــأ المدينة االسـ ّ يع ّلــم الف َّنــان الفضــاءات الســينوغرافية فــي اللّوحــة باســتخدام نــور يغمــر تخيــم على القســم اآلخــر ،ويموضــع بونابارت فــي مركز قســم ًا منهــا ،وظــال ّ اللّوحــة المنــار ،مــع المصابيــن بالوبــاء ،وجنراالته الذين يغطــون أنوفهم من ـور أجســاد الموبوئيــن رائحــة تزكــم األنــف .فــي الجــزء المغمــور بالضــوء تصـ ِّ ـي ،وتعلــن أبدانهــم العاريــة عــن نفســها، ـي األكاديمـ ّ بمراعــاة المعيــار المثالـ ّ ٍ كمنحوتات رومانية ،على العكس من أجســاد المصابين بعضالتها المتبدية، العربيــة يخيــم عليــه الظــلّ ،قــرب الشــخوص ّ المتواجديــن فــي الجــزء الــذي ّ التــي تــو ِّزع الخبــز ،أو الزنجييــن اللذيــن يعينان على نقل الجثــث (على األغلب الرســام بهمــا اإلشــارة إلــى العبوديــة في«الشــرق») .علــى هــذا النحــو، يريــد ّ
«دفن ضحايا الطاعون» 1349م ▲
تدريجي ـ ًا فــي عتمــة دامســة األمــل، يغــرق كلّ مــا هــو متواجــد فــي الظــلّ ّ حتــى الغيــاب فــي المــوت. ً عينــة مــن القيــح بخــدش دملــة ـذ ـ يأخ ً، ا ـ عربي ا ـ طبيب ـدم غــروس شــيخاً ،أو يقـ ِّ ِّ ّ المصــاب ،كإشــارة منــه الســتخدامه كلقــاح لبقية أفــراد الحملة (يأخــذ المرء ُ ـم إدخالــه فــي دم شــخص غيــر مريض) .ولكــن تاريخ ـ ويت ـض ـ المري ـن ـ م ـح ـ القي ّ اســتخدام اللقــاح يــدل علــى أن هــذه الطريقة لم تكن مســتعملة ســنة ،1799 الــذي صــادف زيــارة بونابــارت لمصابــي يافــا ،كمــا تشــير اللّوحــة ،ولــم يكــن المرافقيــن للحملــة علــى مصــر علــى علــم بهــا آنئـ ٍ ـذ ،ولــم يعمــل بهــا األطبــاء ُ فــي فرنســا ّإل عــام ،1800لمحاربــة الطاعون. تتوجــه له ينتصــب بونابــارت فــي مركــز التصويــر ،كمــا لــو أنــه المحــراب الــذي َّ ـراقية للمســجد .يشــاهده المتلقّي وقد خلع اللّوحــة ضمنيـ ًا كمعارضة استشـ ّ ّ قفــازه؛ وباقــدام ٍ ،ودون خشــية يلمــس دمــل الجندي المريض فــي إبطه ،على المرافقيــن ،اللذيــن يحــاوالن إبعاده لتهيــب وخشــية ضابطيــه ُ نحــوٍ معاكــس ُّ تعرضــه للعــدوى .مــن وجهــة النظــر هــذه ـب ـ ن لتج ـض، ـ بالمري عــن االتِّصــال ُّ ُّ ٍ كقائد شــجاع مغــوار في ظاهــر اللّوحة ،ويســتبطن يعلــن نابليــون عــن نفســه فعلــه ،اســتخصار االعتقــاد فــي العصر البائــد قبل الثــورة الفرنســية ،بالقدرة يحضر الملكية ،وال ننســى هنا أن نابليــون كان الشــفائية وبركــة لمســة الــذات ِّ ّ نفســه للقــب اإلمبراطور.. ً كرســام نفســه وأثبــت ً، ا ملحوظــ ا نجاحــ غــروس َّــق مــع هــذه اللّوحــة ،حق َّ الســلطة .وأثــارت اللّوحــة ضجــة كبيــرة فــي وقــت عرضهــا فــي يــدور فــي فلــك ُّ باريــس ،وأثنــى عليها الف َّنانــون وال ُنقَّاد ،وأشــادوا بمحاكاتها للواقع ،وســامة الــذوق الســليم فيهــا ،والصــدق فــي التصويــر ،وتوثيق حقائق الشــرق .مع كلّ ذلــك ،ال يجانــب الصــواب القــول إن اللّوحــة هــي التعبيــر األصــدق عــن كيفية خاصة ،فــي الدعايــة والبروباغاندا عامــة ،وموضوعــة الوبــاء اســتخدام الفـ ّ ّ ـن ّ كرســة لعبــادة الفــرد القائــد اإلمبراطور. ُ الم ّ باالنتقــال إلــى نهايــة القــرن التاســع عشــر ،نتو ّقــف عنــد لوحــة «الطاعــون»
( ،)1898للف َّنــان السويســري «آرنولــد بوخليــن -1827( »Arnold Böcklin ـزي المفــرد الــذي عــرف بــه ،عــن كابــوس يعبــر الرســام بأســلوبه الرمـ ّ َّ ِّ .)1901 يتحدد دربهــا الرئيس ـدة، ـ بل ّوحة ل ال ـي ـ ف تظهر ـوت. ـ الم ـع ـ م ـج ـ المتواش الوبــاء َّ باســتخدام المنظــور ،بيــد أنــه منظــور ال ينتهــي عند نقطة التالشــي الهندسـ ّـية المعروفــة ،بــل يتالشــى هــو نفســه فــي ضبابــة بيضاء ،أو غبشــة غيــر واضحة المعالــم ،أو عمــاء عدمــي الســيمياء مجهــول الماهيــة .وعلــى هــذا الــدرب يجســد الف َّنــان الوبــاء كمخلــوقٍ خرافــي ،هــو مزيــج مــن الخفــاش ـري الحضـ ّ ِّ والتنيــن (لنقــل تنيــن وطواطــي) ،يخبــط خبــط عشــواء ،ويمتطيــه المــوت بمنجلــة ،علــى نحــوٍ يعاكــس اتجــاه الحركــة الوطواطيــة. ـن تبقــى يتقـ َّ ـدم الخفــاش التنينــي مــع الــدرب والزمــن ،بينمــا المــوت يطــال َمـ ْ خاصــة البنــي الترابــي، ـة ـ الطبيعي ـوان ـ األل ـة ـ ّوح ل ال ـر ـ تغم ً. ا ـ حي ـق ـ الطري ـى علـ ّ ّ ّ الرســام األســود الداجــي لــرداء المــوت وجســد الخفــاش (الوبــاء)، ـرك ـ ويت َّ واألســود المخضــر لجســد المــوت (لــون التعفــن) ،واألبيــض الملــوث للعماء مقدمــة اللّوحــة (رمــز فــي العمــق ،واألبيــض الناصــع لفســتان العــروس فــي ِّ ـوي الوحيــد يتركــه للمــرأة التــي كبــت علــى وجههــا، الطهــارة) ،واللــون الحيـ ّ ـدد وقــد انســدل شــعرها الفاحــم .ومــن الالفــت لالنتبــاه أن الرســام لــم يحـ ِّ َّ للمــوت مالمــح تشــير لماهيــة جنســه ،ال هــو بأنثــى وال بذكــر ،هــو مــا هــو، يتموضــع إلــى مــا وراء المرئــي ويتســتر بالرمــز. علــى هــذه الشــاكلة ،فــإن حركــة الموت ،الفــارس الــذي يمتطي الوبــاء ،تغزو ـكونية ُمطلَقــة، اللّوحــة بأكملهــا ،بيــد أن حلوليــة كابوسـ ّـية تلـ ّ ـف المشــهد بسـ ّ ّ وال يمكــن التكهــن بمــا هــو خلــف الضبابــة .ويبقــى الســؤال ،هــل كان الف َّنــان المنتصــرة فــي عصره؟ يســاجل فكــرة التقـ ُّ ـدم ُ مــع لوحــة «الوبــاء» آلرنولــد بوخليــن ،تتو َّقــف ســطوري التــي أتقاســمها مــع كونيـ ًا الصحــي ،بينمــا الوبــاء أضحــى حاضــر ًا القــارئ ،وأنــا أكتــب فــي الحجــر ِّ ّ ـم أكثــر يحيــق بنــا أجميعــن ...عســى أن تكــون فــي التجربــة عظــةٌ نحــو عالـ ٍ ـانياً! ■ أثيــر محمــد علــي (ســورية -إســبانيا) عدالــةً ومعرفــةً ّ وحسـ ًا إنسـ ّ أبريل 150 2020
99
«انتصار املوت» الهولنــدي بيتــر بروغيــل األكبــر لوحتــه «انتصــار الرســام عــام 1562أنهــى ّ َّ ـمي باالســم ذاتــه المــوت» ،التــي اســتوحاها مــن فريســكو «نقــش جــداري» ُسـ ِّ لفَ َّنــانٍ مجهــولٍ داخــل قصــر ســكالفاني فــي باليرمــو -صقليــة ،وكمــا اســتوحى بروغيــل لوحتــه مــن المقبــرة القديمــة لكاتدرائيــة مدينــة بيــزا ،وهــي اليــوم معروضــة فــي متحــف البــرادو بمدريــد. هــذه اللّوحــة تصويــر أليجــوري لجائحــة (الطاعــون) الــذي اجتــاح أوروبــا بيــن
100
أبريل 150 2020
ـمي حينهــا بالمــوت األســود .كمــا اســتفاد بروغيل عامــي 1347و ،1352وقــد ُسـ ِّ مــن تعبيــر (رقصــة المــوت) الــذي كان ُمنتشــر ًا فــي إيطاليــا. العظميــة ،راجلــة أو راكبة أو رافعــة أعالمها، ـج اللّوحــة بجحافــل الهيــاكل تعـ ُّ ّ ٍ أكــوام مــن الجماجــم جيــوش منتظمــة أو هيــاكل منفــردة ،عــدا عــن فــي ٍ تجمعــة والمنثــورة علــى امتـ ِ ـداد اللّوحــة. الم ِّ ُ اليمنــى نــرى تروبــادور (شــاعر /موســيقي ة ـفلي ـ الس ـة ـ الزاوي ـي ـ ف ـة، ـ م قد الم ـي فـ ِّ ُ ّ ُ
جــوال) يعــزف علــى العــود بصحبــة زوجتــه التــي تبقــي لــه كتــاب النوتــات ّ العظمي/ للهيكل مدركين ـر ـ غي ، الخاص عالمهما في غارقان ـان ـ االثن ً، ا ـ مفتوح ّ ّ يتربــص بهمــا ويشــاركهما فــي ســخرية العــزف علــى الجيتــار، المــوت الــذي َّ ً ً مرميـاً. بينمــا نــرى إلــى جوارهمــا نايـا وحيــدا ّ فثمــة فرقــة تنفــخ فــي األبــواق، ـة، ـ ّوح ل ال ـيقية حاضــرة فــي ّ تبــدو اآلالت الموسـ ّ العظمي على البناء /الســجن /المصيدة يقرع الطبول ،فيما الجالس والهيكل ّ علــى عربــة الجماجــم يعــزف بســعادة على آلــة وتريــة (هارجي جــاردي) تنتمي إلــى الفلكلــور القروســطي ،بينمــا عربته تســحق مجموعة بشــر دون اكتراث. تقــول اللّوحــة إن المــوت ال يوفِّــر أحــد ًا أو جنســ ًا أو ُعمــراً ،فالمــوت يطــال الملــوك ،كمــا فــي يســار اللّوحــة ،ويطــال النســاء النبيــات ،كمــا فــي يمينهــا، وهــو يطــال العثمانييــن الذيــن نعرفهــم مــن عمائمهــم فــي اللّوحــة ،ويصــل الملونيــن والســود ،والرهبــان والخاطئيــن ،والكاردينــال أيض ـاً .والمــوت إلــى ُ فــي القلعــة كمــا فــي الخــاء ال فــرق بينهمــا. لكــن الالفــت فــي اللّوحــة ،هــو أن الطاعــون لــم يكــن ليوقــف أنمــاط الحيــاة
الخاطئــة أو الالهيــة أو الظالمــة ،فنحــن نــرى هيــك ً عظميـ ًا يســرق العمــات ال ّ مرميــة الذهبيــة مــن البراميــل ،فيمــا نــرى أحجــار اللعــب وكــروت لعبــة الــورق ّ ّ هرج الهروب تحتها. على األرض ،وكذلك الطاولة المســتديرة ،التي يحاول ُ الم ِّ ـي ينحــر حاجـ ًا مــن لكــن األنكــى هــو االســتمرار فــي القتــلَّ ، فثمــة هيــكل عظمـ ّ ـم بقطــع رأس رجــل أجــل الحصــول علــى مالــه ،وآخــر فــي خلفيــة اللّوحــة يهـ ُّ ثمــة آخــر مشــنوق ،وغيــره شــرب النبيــذ للتــو ،وآخــر يشــنق إنســاناً ،فيمــا َّ وثمــة ـره، ـ ظه ـي ـ ف ـون ـ مطع ُمع َّلــق مــن رقبتــه علــى شــجرة ،فــي جوفهــا رجــل َّ ـرية تمــوت حرق ـ ًا فيمــا يشــبه االحتفاليــة. مجموعــة بشـ ّ ـددة في خلفيــة اللّوحة، ـوم ـ تق هيــاكل أخــرى بعمليــات الدفن فــي مناطق ُمتعـ ِّ ّ ـرية وحيوانية ملقاة علــى امتدادها. ـ بش ـة ـ عظمي وهيــاكل ّ ّ يختلــف المــوت هنــا فــي أن الطاعــون يحصــد البشــر حصــداً ،يظهــر ذلــك مــن خــال اآللــة الحاصــدة (المحــش /المنجــل) التي يحملهــا العديد مــن الهياكل العظمية. ّ نــرى فــي خلفيــة اللّوحــة حرائــق تتداخل بالظلمــة ،وفي األفق علــى خط البحر العظميــة ســفن ًا تحتــرق ،وســفن أخــرى غارقــة أو آيلــة للغــرق ،فيمــا الهيــاكل ّ تقطــع الشــجر بالفــؤوس ،بالقــرب منهــم أنــاس محبوســون فــي بــرج داخــل البحــر .وداخــل اليابســة البحيــرة الوحيــدة غادرهــا الســمك ليمــوت بجوارهــا، فيمــا هيــكالن يقرعــان جرســين يعلنــان حالــة المــوت. ُيســاق النــاس فــي حالــة تدافــع أو هــروب أو صــراع إلــى مــا يشــبه مصيــدة صندوقيــة عليهــا صلبــان ،تقبــع فوقهــا الهيــاكل بســعادة ،الجنــود والفقــراء والفالحيــن والنبــاء ،وهــم فــي حالــة حرب غير متكافئة وخاســرة مــع الهياكل العظميــة التــي ترتــدي مــاءات بيضــاء على عريها كســخرية مــن دروع الحرب ّ ومدرعاتهــا التــي ال تقــي مــن المــوت. العظميــة رمــي البشــر فــي البحيرة ،وهنــاك جثة تحــاول العديــد مــن الهيــاكل ّ تهدمــة هنــاك جوقــة تنفــخ فــي األبــواق، الم ـة ـ القلع منتفخــة طافيــة ،وأســفل ُ ِّ ـي حزيــن ،هــو الوحيــد الحزيــن فــي اللّوحــة. يجلــس إلــى جوارهــا هيــكل عظمـ ّ ـد الفكاهــة وســط المــوت ،هــو المخلــوق خلــف لكــن األغــرب فــي اللّوحــة ،حـ َّ عربــة الســجن فــي وســط اللّوحــة ،الــذي يظهــر فــي صــورة كاريكاتوريــة وهــو المتطايــرة وهيئتــه الســوداء يحــاول تخويــف النــاس برفــع يديــه ،وبقرونــه ُ الظليــة. إن عربــة المــوت التــي يقودهــا هيــكل يحمــل فــي يــده جرسـ ًا صغيــر ًا تــدوس ـرية، امــرأة تحمــل فــي يدهــا ّ مقصـ ًا وخيطـاً ،كرمــز إلــى انقطــاع الحيــاة البشـ ّ اليونانيــة ،مــن خــال حكايــة وقــد أخــذ بروغيــل هــذا الرمــز مــن الموثولوجيــا ّ األخــوات الثــاث اللواتــي يرمــزن إلــى األقــدار ،وكذلــك رمــز المغــزل فــي يــد تقليديـ ًا يشــير إلــى حيــاة اإلنســان. المــرأة األخــرى ،وقــد كان رمــز ًا ّ يتجــاور الكاردينــال والملــك فــي اللّوحــة ،فالكاردينــال الســاقط فــي لحظاتــه ـي ســاخر علــى رأســه قبعــة حمــراء ،فيمــا الملــك األخيــرة يحملــه هيــكل عظمـ ّ فــي حالــة ذهــول ال يســتطيع حــراك ً عظمي ـكل ـ هي ـا ـ ينهبه ـواره ـ ج ـى ـ إل ـه ـ وأموال ا ّ حديديــة ،بينمــا هيــكل عظمــي آخر يســند الملــك ٍ بيد ويريــه بيده يرتــدي درعـ ًا ّ ّ األخــرى ســاعة رمليــة ،تشــير إلــى نفــاد وقتــه /زمنــه ،لكــن الملــك ال يراهــا، فعينــاه فــي الفــراغ ،ويــداه مرفوعتــان باتجــاه ذهبــه وأموالــه ،وليــس علــى محيــاه مــا ُيشــير إلــى توبتــه.. يصطــاد المــوت النــاس جماعــات فــي شــبكة كالحيوانــات ،فيمــا واحــد آخــر زي ًا ـري ًا ُم ِّ تحجــراً ،ويرتــدي ّ يضــع علــى وجهــه -علــى ســبيل الســخرية -قناع ًا بشـ ّ تنكريـاً ،وهــو يســرق قواريــر الخمر ،فيما الطاولــة العريضة فارغــة ّإل من خب ٍز ّ ـي آخــر ســاخر قليــل بــا رفاهيــة ،وطبــق جمجمــة فــي الوســط ،وهيــكل عظمـ ّ ـروع المــرأة الذاهلة زيـ ًا أزرق ذي أذنيــن يحمــل طبــق جمجمــة آخــر ،ليـ ِّ يرتــدي ّ ـر منه. ـ تف ـي ـ وه ـا ـ احتضانه ـاول ـ يح ـرأة ـ ام ـق ـ يالح ـر ـ آخ ـكل ـ هي ـا ـ فيم ـه، ـ أمام التــي ُّ ـرية ،وللمجتمعات ـ البش ـاة ـ للحي ة أخالقي ـة ـ هجائي ـة ـ صف ـل ـ تحم ـة ـ ّوح ل إن ال ّ ّ ّ ّ ـف عــن ممارســة الفســاد دون ا ّتعــاظ ،حتــى فــي أســوأ أوقاتهــا، ـ تك ال ـي التـ ُّ فالطاعــون الــذي كان يحصدهــا ويعبــث بحيواتهــا عبثـ ًا ليــس ســوى عقاب ًا إلهيــاً ،لكنــه يقيهــا مــن غرورهــا الــذي يأخذهــا إلــى مصيرهــا النهائــي المحتــوم ■ .نــورة محمــد فــرج (قطــر) أبريل 150 2020
101
تاريخ
رحلة اإليطايل بوتا إىل اليمن
ٌ لبالد أرهقها ة مرثي ٍ ِّ السلطة الصاع عىل ُّ ـم ا َّتجــه إىل «بيــت الفقيــه» و َزب ِْيــد وصــل بوتــا إىل مينــاء مدينــة ُ الح َد ْيـ َـدة يف أواخــر ســبتمرب/أيلول ،1836ثـ ّ الح َد ْيـ َـدة عن طريق َح ْيس واملخا .ســجل بوتا وح ْيــس وانتهــاء مبدينــة ت َِعــز وجبلهــا َ َ صـ ِـر ،وكانــت عودتــه إىل ُ وقائــع رحلتــه يف كُ تيــب بعنــوان «رحلــة إىل اليمــن» ُنــر بالفرنســية عــام ،1841وبعــد مــرور مــا يقــارب الـــ 178 ؤخــراً عــن مكتبـ ِـة اآلداب بالقاهرة. عامـ ًا عــى نــر األصــل قــام حميــد عمــر برتجمتهــا إىل العربيــة ،وصــدرت ُم َّ ّ
102
الجغرافيــة ُبعيــد النهضــة األوروبيــة واتِّســاع حركــة الكشــوف ّ (الغربيــة) إلــى مركــز النطــاق الرحــات تحولــت أوروبــا َّ ّ توجههــا فــي ذلــك الستكشــاف مناطــق واســعة مــن العالــمُّ ، اقتصاديــة دوافــع وأغــراض تتواشــج بــا انفصــال مــا بيــن ّ ـامي منطقــة ـتعمارية واسـ ّ ّ وعلميــة .وقــد شــكَّ ل الشــرق اإلسـ ّ جــذب للمستكشــفين والرحالــة األوروبييــن ،نظــر ًا لموقــع التاريخيــة بوصفهــا موطنـ ًا المنطقــة وحضورهــا فــي الذاكــرة ّ للديانــات الســماوية ومركز إشــعاع حضــاري تعاقبت فيه عدد مــن الحضــارات القديمــةُ ،يضــاف إلــى ذلــك تاريــخ طويــل من رســخته ـامي ،وما َّ العالقات ُ المتوتِّرة بين أوروبا والعالم اإلسـ ّ ـامي، ـي مــن تصـ ُّ ـورات تجــاه العالــم اإلسـ ّ فــي الوجــدان الغربـ ّ كل مــن كاريــن آرمســترونج فــي علــى النحــو الــذي أبرزتــه لنــا ٌّ األول مــن كتابهــا «ســيرة النبــي محمــد» ( ،)1998ورنا الفصــل ّ قبانــي فــي كتابهــا «أســاطير أوروبــا عــن الشــرق» (.)1993 ـب جانــب مــن عنايــة الرحالــة األوائــل علــى معرفة لذلــك انصـ َّ العــدو القديــم وكشــف مكامــن قوتــه الغامضــة التــي جعلتــه الغربي .وفــي مرحلة يشــكِّ ل دومـ ًا عامــل تهديــد في المخيــال ّ
أبريل 150 2020
ـي فــي توجيــه الكثيــر مــن الرحــات، تاليــة بــرز ُ البعــد العلمـ ّ أشــده إلحــراز قصــب علــى كان أوروبــا دول بيــن فالتنافــس ّ ٍ علميــة كثيــرة منهــا إرســال العلمــاء الســبق فــي مياديــن ّ والرحالــة الكتشــاف مناطــق مختلفــة مــن العالــم ،دون غياب التوسعية الكامنة وراء تمويل واالقتصادية السياسية األجندة ّ ّ ّ ـي. ـ العلم ـا ـ عده ب ـي ـ ف ـاف ـ االستكش حركــة ُ ّ العلميــة المستكشــفين الذيــن ارتبطــت حياتهــم مــن هــؤالء ُ ّ ـي ،اإليطالــي /الفرنســي بــول إميــل ـ العرب ـم ـ بالعال والوظيفيــة ّ ّ بوتا ( ،)1870 - 1802عالم نبات ودبلوماسي ولد في بيدمونت بتورينــو اإليطاليــة فــي 6ديســمبر/كانون األول ،1802وفــي ـم نابليون هــذا العــام أصبــح والــده مواطن ًا فرنسـ ّـيا بعــد أن ضـ َّ ـي ،ثــم انتقلــت العائلــة فيمــا بعــد تورينــو إلــى التــراب الفرنسـ ّ إلــى باريــس ،ودرس بوتــا الطــب فــي روان وباريــس ،لكنــه وع ِّيــن الدبلوماســي التحــق بعــد ذلــك بالســلك الفرنســيُ ، ّ ّ قنصـ ً ا لفرنســا فــي اإلســكندرية عــام .1831 ـي فــي ـ الطبيع ـخ ـ التاري ـف ـ متح ـه ـ َّف ل ك ـا ـ فرنس ـى ـ إل ـه ـ عودت بعــد ّ عينات من األعشــاب ـع ـ لجم اليمن ـى ـ إل ـة ـ برحل ـام ـ القي ـس باريـ ِّ
ــدة، الح َديْ َ اســتولت علــى مدينــة المخــا ،ثــم زحفــت باتِّجــاه ُ للتوجــه نحــو ت َِعــز. وعنــد وصــول بوتــا كانــت تتأهــب ُّ
الصاع ومسار الرحلة ِّ
الصــراع علــى ســردية الرحلــة بــدا واضحــ ًا هيمنــة موضــوع ِّ العلمية التي تبرز بكثافة همــة الم َّ فيتــوازى أحيانـ ًا ويتداخل مع ُ ّ عنــد وصــول الرحالــة إلى المناطــق الجديدة واســتطالع غطائها النباتــي .والواقــع أن بوتــا ال يــورد تفاصيــل عــن المواجهــات، الصــراع ومــا كان يجري مــن تحالفات وإنمــا يشــير إلــى مظاهــر ِّ ـكلٍ ـركات الشــيخ ـ تح ـى ـ عل ـاص ـ خ واســتعدادات والتركيــز بشـ ّ ُّ حســن ومناوراتــه ،فاألخير -حســب تحليل بوتــا -كان يعتقد أن تحالفــه مــع إبراهيــم باشــا لــن يعيــده حاكمـ ًا ل َت ِعــز فقــط ،بــل لحكــم اليمــن بأســره .ولذلــك تحالــف مع حاكــم ت َِعــز :المدعي الجديــد لإلمامــة ضــد ابــن أخيــه إمــام اليمــن ،ليتمكَّ ــن مــن ـم يعمــل علــى تســهيل إدخــال قواتــه إلــى مدينــة ت َِعــز ،ومــن َثـ َّ دخــول قــوات الباشــا إلــى المدينــة. لقــد ظ َّلــت قــوات الباشــا فــي المناطق الســاحلية ،ولم تســتطع إل عبر اســتثمار الخالفات التوغــل فــي مناطق اليمــن الداخلية ّ ـهلوا إلبراهيم ـ س الذين المناطق القائمــة والتحالــف مــع زعمــاء َّ للتوجــه إلــى صنعــاء. ـتعداد ـ واالس باشــا االســتيالء علــى ت َِعــز ُّ ويبــدي بوتــا ميلــه إلــى ســيطرة باشــا مصــر علــى اليمــن ويعتبــر ذلــك مخرجـ ًا مــن حالــة االحتــراب ،ألن اســتطالة هــذه الحالــة الســلطة جعلــت الشــعب «يحلــم بــأي تغيير يحــدث ،وبانتقال ُّ إلــى أيـ ٍ ـاد قويــة قــادرة علــى فــرض األمــن واســتعادة الســام ٍ الــذي ُحــرم منهمــا لوقــت طويــل» (ص .)150
بني نيبور وبوتا خريطة مدينة المخا نيكوالس بيليين ▲1776
تتميــز بهــا هــذه المنطقــةُ .ع ِّيــن الحقـ ًا قنصـ ً ا والنباتــات التــي َّ ثــم القــدس عــام ،1848 ،1841 عــام الموصــل لفرنســا فــي ّ وطرابلــس عــام ،1855وإليــه ُينســب اكتشــاف قصــر الملــك األشــوري ســرجون الثانــي فــي خورســاباد بالعــراق عــام .1843
رحلة علميّة يف بلدٍ مضطرب
ّ تظل البعثة الدانماركية إىل اليمن بقيادة األملاين كارسنت نيبور أكرث الرحالت شهرة ومكانة علم ّيةَّ . وأكد بوتا يف مفتتح كتيبه عىل أهمِّ ّية هذه البعثة وما أحدثته نتائجها ثورة معرفية من ٍ يف أوروبا بخصوص جنوب الجزيرة العرب ّية
جــاء بوتــا إلــى اليمــن فــي عهــد ســالة األئمــة القاســمية التــي كانــت تســيطر علــى مقاليــد الحكــم منــذ نحــو قرنيــن ،غيــر أنها أصبحــت آنــذاك فــي غايــة الضعــف واالنحســار نتيجة للتسـلُّط وصــراع أبنــاء الســالة المســتمر علــى الحكــم ،إذ كان أحيان ـ ًا ـام الحاكــم إمامــان أو داعيــان آخران كمــا حدث عند ينــازع اإلمـ َ داع جديــد كان الشــعب يجــد نفســه في مجــيء بوتــا ،ومــع كلّ ٍ َّ ـرع مــا يتو َّلــد عنهــا ـ يتج ـك ـ انف ـا ـ م ـي ـ الت طاحونــة الحــرب ذاتهــا َّ مــن مـ ٍ ـآس وأوجــاع. الخارجيــة للســيطرة علــى ـوى ـ الق ـف ـ الضع ـة ـ حال ـرت لقــد أغـ ّ البــاد نظــر ًا لموقعهــا علــى طريق التجــارة العالمية واســتغالل محمد مواردهــا التــي كان البــن أبرزهــا فــي ذلك الحيــن ،فدخل َّ علــي باشــا واإلنجليــز فــي ســباقٍ محمــوم إلحــكام الســيطرة ـم عليهــا انتهــى باحتــال اإلنجليــز لعــدن عــام ،1839ومــن َثـ َّ محمــد علــي باشــا علــى ســحب كلّ قواتــه مــن اليمــن. أجبــروا َّ وكان األخيــر قــد أرســل حملــة بقيــادة «إبراهيــم باشــا يكــن»
مهمــة بوتــا العلميــة علــى جمــع عينــات مــن النباتات اقتصــرت َّ ـوٍ جيــد ،كمــا ـ نح ـى ـ عل ـك ـ ذل ـي ـ ف ـح ـ ونج ـا، ـ وتصنيفه ـاب واألعشـ ّ يذكــر ألبيــر ديفلــرز ،حيــث جمــع أكثــر مــن 500نــوع مــن همــة قــد أتاحــت الم َّ النباتــات .ومــن الواضــح أن طبيعــة هــذه ُ تأمــل أوضــاع البلــد وتســجيل لــه أن ينصــرف بشــكلٍ أكبــر إلــى ُّ رؤيتــه لألحــداث وتوقُّعاتــه بشــأن نتائجهــا. تأتــي رحلــة بوتــا ضمــن سلســلة مــن الرحــات بــدء ًا بفارتيمــا اإليطالــي مطلــع القــرن الســادس عشــر وانتهــاء باأللمانــي جوزيــف وولــف الــذي وصــل إلــى صنعاء عــام ،1836لكــن تظلّ البعثــة الدانماركيــة ( )1767 - 1761بقيــادة األلمانــي كارســتن علميــة .وأكَّ ــد بوتــا فــي نيبــور أكثــر الرحــات شــهرة ومكانــة ّ أهم ّيــة هذه البعثــة وما أحدثتــه نتائجها من مفتتــح كتيبــه علــى ِّ العربيــة. ـرة ـ الجزي ـوب ـ جن ـوص ـ بخص ـا ـ أوروب ثــور ٍة معرفيــة فــي ّ ـجل بوتــا مالحظــات علــى كتــاب نيبــور وفــي هــذا الجانــب سـ َّ معينــة ـب ـ جوان ـى ـ وعل ـة ـ العلمي ـة ـ «الدق أهمهــا أن تركيــزه علــى ّ َّ العامــة» ـمات ـ الس ـاب ـ حس ـى ـ عل كان ـة، محــدودة مــن المتعـ ّ االجتماعيــة (ص ،)149وأراد بذلــك ِقلــة اهتمامــه بالجوانــب ّ العقليــة للنــاس وطبائعهــم .وبالرغــم مــن هــذه والســمات ّ المالحظــة وإفصاحــه عــن الســعي لتالفيهــا ،فالحقيقــة أنــه فتحولــت األخيــرة إلــى كان واقعــ ًا تحــت ســحر رحلــة نيبــور َّ يتحــرك النــص إذ جاذبــة نــص بوتــا وبــؤرة ظــلّ ّ متــن داخــل ّ َّ بيــن مــا تختزنــه ذاكرتــه مــن رحلــة نيبــور والواقــع الــذي ترصده أهم ّيــة رحلــة نيبــور فــي كونهــا مثَّلت إطــار ًا لبوتا عينــاه .وتكمــن ِّ التغيــر الحاصــل فــي خارطــة الحيــاة ومالحظــة لقيــاس مــدى ُّ الصــراع علــى حالــة العمــران والنــاس. أثــر ِّ أبريل 150 2020
103
خراب مدينة «تَعِ ز»
لم يكن بوتا معنياً
بالتلصص عىل حياة الرشقيني ،بل وجَّ ه عنايته إىل التعريف بواقع حياة ّ سكان الركن الجنوبي من شبه الجزيرة العرب ّية ،وأبرز بشكل ٍ الفت التناقض بني ما تختزنه البالد من طبيعة ومقوِّمات ِّ والصاع وموارد الدائم ألمراء الحرب يف إدخال البالد يف دورات متوالية من الفوىض والخراب
104
ـص بوتــا فــي أشــكالٍ مضمــرة يتج َّلــى حضــور رحلــة نيبــور فــي نـ ّ وصريحــة ،حيــن وصــل بوتــا إلــى مدينــة «بيــت الفقيــه» اكتفــى بتقديمهــا علــى هــذا النحــو الموجــز« :كانــت فيمــا مضــى فــي أهم ّيتها بعد أن طمرت الرمال ميناءها ذروة االزدهــار ،وفقــدت ِّ ـدة والمخــا» (ص ـ ي د الح ـى ـ إل ـن ـ الب ـارة «غليفقــة» ،وانتقلــت تجـ ُ َ ْ َ تفهــم هــذا التعريــف الموجــز فــي إطــار عالقتــه .)154ويمكــن ُّ برحلــة نيبــور ،وكأنــه بذلــك يحيــل القــارئ إلــى مــا أســهب فيــه األول نيبــور مــن وصــف المدينــة وفتــرة ازدهارهــا .وعنــد لقائــه ّ يحدثــه عــن رحلــة نيبــور ورفاقــه ويعــرب لــه بالشــيخ حســن ِّ عــن أســفه «لمــا آل إليــه حــال البــاد من التدهور بســبب ســوء الحكــم بعــد أن كانــت غنيــة ومزدهــرة» (ص .)157 ويتصاعــد هــذا األســف مشــيج ًا بالدهشــة عنــد دخولــه إلــى مدينــة ت َِعــز إذ يكتشــف أن جــزء ًا كبيــر ًا مــن المعالــم األثريــة التــي وصفهــا نيبــور فــي رحلتــه لــم يعــد لهــا وجــود ،ويندهــش ـم مــن المبانــي المدمــرة التــي ُســوي بعضهــا لمــرأى ذلــك الكـ ّ بــاألرض« :فــاألرض التــي علــى هيئــة مدرجــات ،كانــت فيمــا ـق منهــا اليــوم ســوى مــا ـم منــازل جميلــة ،ولــم يتبـ َ مضــى تضـ ّ ُيقارب العشــرين منزالً ،وحلَّت محلّ البيوت أكواخ بائســة ،وال ـرر يجــرؤ األهالــي علــى بنــاء أفضــل منهــا خشــية الســطو ُ المتكـ ِّ للجنــود وهدمها واســتخدام أخشــابها وقود ًا للنــار» (ص .)186 كمــا ُيظهــر فــي الوقــت نفســه خشــيته بشــأن مــا بقــي مــن المبانــي األثريــة ،فاســتمرار هــذا الوضــع يعنــي أنهــا ســوف تحولهــا عنــد مجــيء بوتــا تكــون مهـ َّ ـددة باالختفــاء تمام ـ ًا أو ُّ المؤكَّ د أن اســتدامة ومن .)186 (ص األنقاض» من ـة إلــى «كومـ ُ ٍ وتجددهــا قــد طــوى إلــى األبــد الكثيــر ـود ـ لعق ـروب تلــك الحـ ُّ ـجله بوتــا عــن خــراب مــن المبانــي والمعالــم ّ األثريــة ،ومــا سـ ّ ـرض ـ تتع ـت ـ كان ـي ـ الت ـدن ـ الم ـة ـ بقي ـى ـ عل مدينــة ت َِعــز ينســحب َّ خاصــة مدينــة صنعــاء التــي لــم يتمكَّ ــن بوتــا دوم ـ ًا لالجتيــاح ّ مــن الوصــول إليهــا.
من تهامة إىل حنص العَ روس
علــى الرغــم مــن قتامــة المشــهد الــذي يرصــده بوتــا فــي مدينــة ت َِعــز ،فقــد جاء تقريــر الرحلة مفعم ًا بحرارة الدهشــة المؤلِّــف اجتراحــات الرحلــة واالكتشــاف التــي صــاغ بهــا ُ المؤ ِّلــف عــدد ًا مــن ـى ـ ن يتب ـة. الطبيعيـ ومشــاهداته للمواقــع َّ ُ ّ ـد انتبــاه القارئ ،فالتضافُر بين الســرد والوصف التقنيــات لشـ ِّ ٍ منطقة المؤلِّف بين ـال ـ ارتح لمتابعة االنتباه ـد ـ هــو أكثر ما يش ُّ ُ ـعرية التــي تتكاثف في وأخــرى ،وكذلــك بعــض الومضات الشـ ّ إطــار التعبيــر عــن ما تتركه المشــاهدات من أصـ ٍ ـداء وما تثيره مــن خيــاالت .ومنــذ مفتتــح الكتيــب تتوالــى مفــردات المــكان وتشــكيالت الفضــاء مــن ســهول تهامــة ومدنهــا صعــود ًا إلــى «مؤَ يْمــرة» قلعــة الشــيخ حســن المناطــق الجبليــة كحصــن ُ الحصينــة ،حيــث «يمكِّ نــك ارتفاعهــا مــن رؤية ظهــور الصقور وهــي تطيــر مئــات األميــال تحــت ناظريــك» (ص .)167 «مؤَ يْمــرة» وقريــة «ســاهم» إلــى مدينــة ت َِعــز، ومــن حصــن ُ المؤ ِّلــف بالشــيخ حســن ،وهنــاك يتــراءى لــه حيــث يلتحــق ُ ص ِبــر كحــارس أبدي للمدينة التي تســترخي في حضنه جبــل َ يمدهــا بخيــرات مدرجاتــه ويغــدو مــاذ ًا آمنـ ًا ألبنائهــا عندما ّ تنهــال علــى المدينــة مجاميــع المحاربيــن .يغريــه مــرأى الجبــل فيســتأذن الشــيخ حســن فــي صعــوده وينطلــق مــع مرافقيــه متنقّ ـ ً ا بيــن قــرى كثيــرة تتناثــر علــى صــدر الجبــل وتجمعــات كثيفــة مــن ـعير ـ والش ـح ـ القم ـول وتحيــط بهــا حقـ ُّ
أبريل 150 2020
أشــجار العرعــر ذات الرائحــة العبقــة ،وصــو ً القمــة، ال إلــى ّ يتربــع «حصــن العــروس» بحكايــات كنــوزه وخبايــاه. حيــث َّ كأول أوروبــي فيمــد ناظريــه ،ثــم ـن ـ الحص ـى ـ إل ـا ـ بوت ـل يصـ ّ يحبــس أنفاســه لســحر المشــهد الــذي تجلَّــى لــه« :كــم ـفت البحــر األحمــر مــن جهــة كانــت ســعادتي حينمــا اكتشـ ُ ـدة ،والمحيــط الهنــدي مــن جهــة عدن ،حتــى أنه كان الح َديْـ َ ُ بإمكاننــا رؤيــة بعــض قمــم الســواحل اإلفريقيــة مــن جهــة الغــرب( » ...ص .)198 وهــي مشــاهد وقــف الكاتــب أمامهــا مأخــوذ ًا معترف ـ ًا بعــدم عمــا أثارتــه فــي وجدانــه مــن قدرتــه علــى وصفهــا والتعبيــر ّ تحســره علــى عــدم إتاحــة وقــت تأمــات وخيــاالت ،ومبدي ـ ًا ُّ ّ أطــول لالســتمتاع بجــال الطبيعــة وروعتهــا .ومــع ذلــك، قمــة الجبــل التي تعــذَّ ر على فقــد كان ســعيد ًا بالوصــول إلــى ّ وبالكميات الهائلة بلوغها، المستشــرق الســويدي فورســكال ّ مــن النباتــات التــي قــام بجمعهــا (ص .)201
منظو ٌر استرشاقيٌّ مُغاير
األول مــن القــرن التاســع تنتمــي هــذه الرحلــة إلــى النصــف ّ عشــر ،وهــي فتــرة شــهدت موجــة انبهــار أوروبي واســع بعالم ـردد في الشــرق وبــات األخيــر موضوعـ ًا أثيــر ًا للكتابــة وثيمة تتـ َّ الغربيــة أنتجــت فالمخيلــة ـي، ِّ ّ ـي الغربـ ّ ـي والف ّنـ ّ اإلنتــاج األدبـ ّ صــورة رومانســية للشــرق بوصفــه بــاد الرفــاه والشــهوات والعجائــب وراحــت تغذي هــذه الصورة بالكثير مــن الكتابات، وأســهم الرحالــة بجهـ ٍ ـد وافر في ترســيخ هذه الصــورة ،لدرجة صــار معهــا أدبــاء أوروبــا ينظــرون إلــى الشــرق علــى أنــه مكان الســتلهام ينابيــع اإللهــام والســمو وغــدت الرحلــة إليــه زاد ًا وتوهجهــا ،إنهــا «رحلــة للبحــث عــن ـعرية ُّ إلذكاء الــروح الشـ ّ النســيان أو إلحيــاء ذكريــات الشــباب». إل أن وبرغــم تضخــم مدونــة الرحلــة األوروبيــة إلــى الشــرق ّ ّ جــزء ًا كبيــر ًا مــن هــذه الكتابــات ،كمــا تذكــر رنــا قبانــي فــي كتابهــا «أســاطير أوروبــا عن الشــرق» ،كانت تفتقــر إلى الرصد الدقيــق لحقيقــة الشــرق وتغيب عنهــا الرؤيــة الموضوعية ،إذ ســيطر عليهــا نمــط الكتابــة االســتهالكية التي يحــاول صاحبها ـورات القــارئ وتســليته بمــا يزخرفــه مــن المواقــف إرضــاء تصـ ُّ المتبلــة بالغرابــة واالســتيهامات الجنســية التــي والحكايــات َّ الغربيــة عــن ثــروات الشــرق ترســخ فــي الذاكــرة تعــ ِّزز مــا َّ ّ ومجتمعــات الحريــم فيــه ،دون التفــات إلــى حقيقــة الواقــع ومظاهــر الفقــر والبــؤس التــي كان يعيشــها معظــم ســكّ ان الشــرق. وإذا وضعنــا هــذه الرحلــة ضمــن مــا كان ســائد ًا آنــذاك فــي الكتابــات حــول الشــرق ســنجد أنهــا تختـ ُّ ـط لنفســها مســار ًا ُمغايــراً ،فبوتــا لم يكن معني ًا بالتلصص على حياة الشــرقيين، وجــه عنايتــه إلــى التعريــف بواقــع حيــاة ســكّ ان الركــن بــل َّ العربيــة ،وأبــرز بشــكلٍ الفــت الجزيــرة شــبه مــن الجنوبــي ّ ومقومــات وموارد التناقــض بيــن مــا تختزنــه البالد مــن طبيعة ِّ والصــراع الدائــم ألمــراء الحــرب فــي إدخــال البالد فــي دورات ِّ متواليــة مــن الفوضــى والخــراب .لذلــك ،جــاء وصفــه لحيــاة النــاس وعاداتهــم قريــن التعاطــف والرغبــة فــي فهــم ذلــك المجتمــع الــذي كان ال يــزال محافظــ ًا علــى تراثــه القديــم، المؤ ِّلــف فــي ثنايــا رحلتــه إلــى ذكــر موطنــه وكثيــر ًا مــا يلجــأ ُ ـي جوانــب الشــبه بيــن األصلــي إيطاليــا ليقــارب لقارئــه الغربـ ّ واإليطاليــة فــي عـ ٍ ـدد مــن مناحــي الحيــاة اليمنيــة البيئتيــن ّ ّ كخصائص العمارة وبعض ســمات البشــر والموســيقى وأنواع
صورة لمدينة المخا بعدسة المصور األلماني هيرمان بورشارت (▲ )1909
األشــجار والنباتــات. ـدة أنهــا كانــت الح َديْـ َ علــى ســبيل المثــال ،يذكــر بوتــا عنــد دخولــه مدينــة ُ ـم عــدد ًا كبيــر ًا مــن العشــش المبنيــة بالقــش والجريــد ،كمــا كانــت تضـ ُّ تضــم «منــازل جميلــة مبنيــة بالطــوب ويتــم طالؤهــا بالنــورة ،ســطوحها ـر ٌ ممــا يضفــي ف محاطــة بدرابزيــن ذي أشــكال مختلفــة ّ مســتوية كأنهــا ُشـ َ عليهــا مظهــر المنــازل اإليطاليــة» (ص .)151كمــا الحــظ فــي نســاء جبــل ص ِبــر جمــا ً خاصـ ًا ذكَّ ــره بجميالت الريــف اإليطالي ،فمالمح نســاء الجبل ال َ ّ «أقــرب إلــى اإليطاليــات ،وبشــرتهن علــى درجــة مــن البيــاض كافيــة إلبــراز األلــوان علــى خدودهــن» (ص .)190 ـي وثقافته وتتـ َّ ـردد هــذه اإلحالــة علــى جوانــب مــن حيــاة المجتمــع اإليطالـ ّ المؤ ِّلــف ـرص ـ ح ـى ـ إل ـك ـ ذل ـزى ـ ع ي ـد ـ وق ـة، ـ الرحل ـن ـ م ـدة ـ عدي ـع ـ مواض فــي ُ ُ علــى التوصيــل وتقريــب مــا يصفــه للقــارئ كمــا أشــرنا آنفـاً ،غيــر أن لغــة متحدثيهــا مرجعـ ًا كتابــه الفرنســية ال اإليطاليــة التــي يجعــل مــن موطــن ِّ يتوجــه للقــارئ الفرنســي ،ثــم يحيــل إلــى بيئــة ال يعرفهــا إلشــاراته ،فكيــف َّ ـده محاولــة لتقريب الوصف ـ ع يمكن هل ـيين؟ ـ الفرنس ـن ـ م ربمــا ســوى ِق ّلــة ّ َّ اإليطالي ـف ـ الري وجمال ـاه ـ صب ـنوات ـ س إلى ِّف ل ؤ الم ـن ـ حني ـن ـ م ـوع ـ ن ـه ـ أن أم ُ ّ المؤ ِّلــف فــي تورينــو قبــل انتقــال عائلتــه إلــى باريــس؟ يمكــن القــول إن ُ أمــا باريــس التــي انتقــل جيــد ًا ّ ـي ،ألنــه يعرفــه ّ يحيــل علــى الريــف اإليطالـ ّ إليهــا فــي شــبابه فهــي مدينــة حديثــة ال يمكــن االتــكاء عليهــا فــي تقديــم وصـ ٍ ـف ُمقــارب للبيئــة اليمنيــة ذات الطابــع الريفــي فــي معظمهــا.
موجّ هات علميّة وشخصيّة
ـاء علــى مــا ســبق ،ي ّتضــح لنــا مــدى ابتعــاد بوتــا عــن الصــور النمطيــة وبنـ ً ثمــة أن ويظهــر الشــرق، عــن األوروبيــة الرحــات نــة مدو فــي الســائدة َّ ّ التوجــه، ـذا ـ ه ـكيل ـ تش ـي ـ ف ـا ـ دوره ـت ـ لعب ـد ـ ق ة ـخصي ـ وش علميــة اعتبــارات ُّ ّ ّ ـي كعالــم نبــات ومــا يقتضيــه هــذا المجــال مــن ـ العلم ـه ـ تكوين أن ـك وال شـ ّ ّ مالحظــة وفحــص دقيقيــن للموضــوع المــدروس قــد جعلــت بوتــا بمنــأى ـي عــن النزعــة المركزيــة األوروبيــة أو وضــع ّ ّ أيــة اعتبــارات لســياقات التلقـ ّ َ تأمالتــه نوعــ ًا القبــول أكســبت ــم ث ومــن ، الغربــي واســتجابات القــارئ ُّ َّ ّ ـدى ذلــك علــى ســبيل المثــال فــي تشــخيصه للظــروف والمصداقيــة .ويتبـ َّ المأســاوية التــي يعيشــها المجتمــع اليمنــي نتيجــة لحالــة االحتــراب ـددة ،فهــو ال يرجــع ذلــك إلــى مؤ ِّثــرات ت َّتصــل بالعــرق أو الثقافــة المتجـ ِّ ُ قويــة ـة ـ مركزي ـة ـ دول ـود ـ وج ـي ـ ف ـيد ـ الرش ـم ـ الحك ـاب ـ غي ـى ـ إل ـل ـ ب ـن، ـ الدي أو ّ تحفــظ للبــاد اســتقرارها وأمنهــا. الشــخصي فيمكــن مالحظتــه فــي العديــد مــن المواقــف أمــا الجانــب ّ ّ ـانية ـ اإلنس ـات ـ العالق ودفء ـف ـ التعاط ـاالت ـ ح ـن ـ ع ـن ـ وتبي ـردها ـ يس ـي ـ الت ّ وربمــا يعــود جانــب مــن التــي أقامهــا مــع مضيفيــه ومرافقــي رحلتــهَّ ، العربيــة ومهارته في نجاحــه فــي إقامــة هــذه الصــات إلــى إتقانــه اللُّغــة ّ ـخصية ـ ش كان ـا ـ بوت أن اســتخدامها نطقـ ًا وكتابــة ،دون أن نغفــل حقيقــة ّ ـورات وأحــكام ،ناهيك اجتماعيــة ســوية متزنــة فيمــا يصــدر عنهــا من تصـ ُّ ّ ـي الجديــد والتواصــل ـ االجتماع ـط ـ المحي ـع ـ م ـف ـ التكي ـى ـ عل ـه ـ قدرت عــن ُّ ّ معــه بنجــاح ■ .ربيــع ردمــان (اليمن) أبريل 150 2020
105
ذاكرة
طه حسين▲
106
أبريل 150 2020
ذكريات شخصية عن طه حسني ()4
دور املُث ّقف والتفاعل بني الحضارات
صبري حافظ (مصر -إنجلترا)
عندمــا انصرفــت مــن بيــت طــه حســين بعــد تلــك الزيــارة الثانية التــي طالــت ،حتى وفدت الســيدة زوجته إلنقــاذه من احتماالت أن تطول أكثر وترهقه ،كانت تتنازعني مشــاعر الفرح واالســتياء معـاً .الفــرح ألن الظــروف أتاحــت لطــه حســين أن يعــرف أننــي لســت مجــرد موظــف جــاء لتدوين محضــر الجلســة ،وأنني أحد أحفــاده المجهوليــن ،واالســتياء مــن قطع الســيدة زوجته ألول ٍ ـي بيني وبينه ،كان يمكنه أن يمتد ،وما أكثر شــغفي حــوار حقيقـ ّ بــأن تطــول بنــا الحــوارات فــي ذلــك الزمــن البعيــد .لكــن هــذا ـول إلــى اســتياء مــن عجــزي عــن االســتياء منهــا ســرعان مــا تحـ َّ اهتبــال الفرصــة التــي أتاحهــا لــي الدكتــور العميــد ،حينما طلب منــي المجــيء مبكــر ًا في المرة القادمة ،ولــم أنتهز هذه الفرصة ألطلــب منــه موعــد ًا خاصـاً ،بعيــد ًا عن مواعيــد انعقــاد اللجنة، ـود أن يعرفــه عــن جيلــي مــن ناحيـ ٍ ـة، أجيــب فيــه علــى مــا كان يـ ّ ٍ وربمــا اســتطعت أن أظفــر فيهــا بحــوا ٍر معــه مــن ناحيــة أخرى. َّ فعلــى العكــس مــن نجيــب محفــوظ الذي كانــت تعجبنــي دائم ًا ســرعة بديهتــه ،فإننــي مــن النــوع الــذي ُيعيــد تمحيــص مــا دار ـدم بعــد انصرامــه ،ويكتشــف أنــه كان باســتطاعته دوم ـ ًا أن يقـ ِّ ممــا دار .وكلمــا ـرف بطريقــة أحســن ّ أجوبــة أفضــل ،أو أن يتصـ َّ ـتياء مــن نفســه علــى مــا قــام بــه، ـ اس تأمــل الموقــف أكثــر ازداد ً ّ ُ ـرع نفســي مغتاظ ـاً ونقــد ًا لهــا .وأخــذت فــي طريــق عودتــي أقـ ّ مــن تفويــت تلــك الفرصــة النــادرة التــي ال يجــود الزمــن بمثلهــا. ـي أن أنتظــر عامـ ًا آخــر حتــى تتــاح لــي مثــل تلــك الفرصــة وأن علـ ّ مــن جديــد ،لــو كان معالــي الباشــا ال يــزال يتذكّ ــر مــا دار ،ومــا ً علي زال شــغوفا بمعرفة أحوال جيلي الجديد .وحتى ال يفســد ّ لتأمل ـد ـ جدي ـن ـ م ـدت ـ ع ـد ـ فق ـدث، ـ ح ـا ـ بم ـي ـ غبطت ـذات تقريــع الـ ُّ مــا دار فــي جلســة طه حســين مــع ســهيل إدريــس ،ومفاوضاته البارعة على حقوقه .وكلما استعدت تفاصيل الحوار الذي دار، أدركــت كــم أن العتصــام طــه حســين بالحديــث باللغــة العربية الفصحــى دوره المهــم فــي الرقــي بتلــك المفاوضــات ونجاعتها. ناهيــك عــن أســلوبه البــارع فــي تلــك المفاوضات والــذي يدفعه الموجــز :زدهــا قليـاً! إلــى االنصــراف مباشــر ًة بعــد فعــل األمــر ُ ثقافيــة ،وكأنــه يضــع تلــك شــؤون مــن يتناولــه إلــى مــا كان ّ ـي أوســع. المفاوضــات ،وال أقــول المســاومات ،فــي ســياق ثقافـ ّ المصريــة فلــو دارت تلــك المفاوضــات باللّغــة العاميــة ،ســواء ّ وربمــا مــا كانــت لتنجــح أو اللبنانيــة ،لمــا كان لهــا هــذا الوقــعَّ ، ّ
بتلــك البســاطة والسالســة التــي دارت بهــا بلغــة طــه حســين الفُ صحــى والراقيــة. ـي ـ عل ـادت ـ ج ـث ـ حي ً، ا ـ محظوظ ـت ـ كن ـد ـ وق ـر، وانتظــرت عامـ ًا آخـ ّ الظــروف بلقـ ٍ ـاء ثالــث ،وعــدت إلــى «رامتــان» مــر ًة ثالثــة وأخيــرة فــي خريــف عــام ،1972مبكــر ًا وقبــل موعــد انعقــاد الجلســة بســاعة تقريبـاً .وأخبــرت فريــد شــحاتة الــذي اســتغرب وصولــي مبكــر ًا جــداً ،بــأن معالــي الباشــا طلــب منــي ذلــك فــي المــرة الســابقة ،حينمــا عــرف بأننــي أنشــر مقــاالت نقديــة فــي مجلــة البيروتية .وكانت عودتي إلى «رامتان» يحدوها الشــوق (اآلداب) ّ إلــى مــا قــد تســفر عنــه مــن حديــث شــخصي بيــن طــه حســين ـة ،وإن شــابها ،مــن ناحيـ ٍ وبينــي مــن ناحيـ ٍ ـيء مــن ـة أخــرى ،شـ ٌ األســف ،ألننــي لــن أرى الدكتــور محمــد عــوض محمــد الــذي المرتيــن الســابقتين ،لرحيله مــع بدايات اســتأثر باهتمامــي فــي ّ ذلــك العــام ( .)1972وطــال انتظــاري ،ألن الســيدة ســوزان لــم تـ ِ ـأت بزوجهــا إلــى غرفــة االســتقبال التــي تنعقــد فيهــا الجلســة، وقــد أخــذت مكانــي فيهــا مبكــراًّ ،إل قبــل موعــد انعقــاد اللجنــة بربــع ســاعة كالمعتــاد .والحظــت أن الدكتــور طــه حســين بــدا ـاء وهــزا ً ال ممــا كان عليــه فــي العــام الماضــي ،وإن أشـ ّ ـد انحنـ ً كان مــازال فــي كامــل أناقتــه ومهابتــه .فــي حلــة رماديــة كاملــة حريريــة راقيــة. وجميلــة (مــن ثــاث قطــع) ،ورابطــة عنــق ّ المعتــاد ،ووضعــت ـر ومــا أن أجلســته زوجتــه فــي مقعــده الوثيـ ُ ـدت فوقهــا يديــه، علــى ركبتيــه بطانيــة صغيــرة مــن الصــوف ،مـ َّ ـكلٍ الحظــت تشــنج أصابع يديــه قليالً ،وارتعاشــهما بشـ خفيف. ولمــا اســتوى علــى مقعــده ،بــادر بتحيتــي التــي رددت عليهــا قدم لي القهوة بأحســن منها ،وبســؤال فريد شــحاتة إن كان قد َّ ـرد بد ً ال منه بأنه فعل وشــكرته .وطلب مني أم ال ،فبــادرت أنــا بالـ ِّ معالــي الباشــا –كالعــادة -أن أقــرأ عليــه جــدول أعمال الجلســة ففعلــت .ثــم بادرنــي بالســؤال عمــا أكتــب فــي مجلــة (اآلداب)؟ عربي ـي فــي أكثــر من منبــر ّ ولمــا أجبتــه بأننــي أكتــب النقــد األدبـ ّ خــارج مصــر ،فــي لبنان وســوريا ،وحتى في العراق .كان ســؤاله ومــاذا عــن مصــر؟ هــل نشــرت شــيئ ًا فــي مصر يــا ُبنــي؟ فقلت له نعــم يــا معالــي الباشــا! وأخبرتــه عــن أن كثيــر ًا مــن كتــاب جيلنا األدبيــة لجريــدة (المســاء) ينشــرون فــي مصــر فــي الصفحــة ّ القاهريــة ،وأحيانـ ًا فــي مجلــة (المجلــة) التــي كان يشــرف عليها ّ العربيــة أكثــر بســبب مــا يحيــى حقــي .لكننــا ننشــر فــي المنابــر ّ أبريل 150 2020
107
عمــا نريــد .وأن الرقابــة المباشــرة منها وغير تتيحــه لنــا مــن حريــة فــي التعبير ّ المباشــرة هــي التــي دفعــت الكثيــر منــا إلــى الكتابــة خــارج مصر. هنــا صــدرت عن معالي الباشــا تنهيدة عميقة ،وقال :يؤســفني أنكم مضطرون إلــى خــوض نفــس المعــارك التــي خضناهــا مــن أجل حريــة التعبير فــي مصر، ولكــن فــي ســياق أســوأ! وفــي ظــل وضــع تتدنــى فيــه مكانــة الثقافــة ودور ـود أن تســتفيدوا ممــا حققنــاه ،وأن تبنــوا فوقــه. المث ّقــف فــي مجتمعــه .كنــا نـ ّ ُ يغيــر هــذا الموضــوع المؤســف ،قلــت لــي إنــك لــم ثــم ســأل ،وكأنــه يريــد أن ّ ـرة الماضية عن تــدرس عندنــا ،فمــاذا درســت؟ فكـ َّ ـررت عليــه مــا قلتــه فــي المـ ّ للتخصــص فــي مســيرتي الدراســية ،وأخبرتــه بأننــي أكملــت دراســة عاميــن ّ األدب والنقــد المســرحي ،مــن نظــام جديــد للدراســات العليــا فــي المعهــد العالــي للفنــون المســرحية ،أسســه وقتهــا الدكتــور مصطفــى ســويف ،حينما عهــدت لــه وزارة الثقافــة بــإدارة أكاديميــة الفنــون .وذكــرت لــه أســماء بعــض مــن تلقيــت دروســهم فيه وفي طليعتهــم الدكتــورة لطيفة الزيــات ،والدكتورة ســامية أســعد ،والدكتــور شــكري عيــاد ،واألســتاذ بــدر الديــب وغيرهــم ممــن ـردد نعــم ...نعــم! أظــن أنهــم تتلمــذوا علــى يديــه .فـ َّ األدبــي ،ومواصلــة العمــل التخصــص فــي النقــد ثــم أردف :إذن أنــت تريــد ُّ ّ فيــه ،فهــل تجيــد لغــة أجنبيــة يــا ُبنــي؟ فقلــت ،بشــيء مــن التلع ُثــم ،وقــد همــة ،إننــي أحــاول يــا معالــي أدركــت أنــه وضــع يــده علــى نقطــة ضعــف ُم َّ أحســن لغتــي اإلنجليزيــة بالــدرس والترجمــة .وقــد التحقت بقســم الباشــا أن ِّ ـرة فــي الجامعــة األميركيــة بالقاهــرة لهــذا الغــرض .فقــال مــن ـ الح الدراســات ّ الضــروري يــا ُبنــي أن تجيــد اللّغــة فــي بلدهــا ،وأن تعــرف ثقافتهــا وحضارتهــا األوروبيــة مفتــاح للحضــارة بشــكلٍ جيــد ،كــي تضيــف شــيئ ًا لثقافتــك .فاللّغــة ّ ـي الغربيــة ،والبــد أن تعــرف تلــك الحضــارة كــي ترهــف وعيــك النقـ ّ ّ ـدي والعقلـ ّ باألشــياء ،وكــي تــرى حضارتــك بعيــونٍ جديــدة .كنــا نحــرص يــا ُبنــي علــى أن نرســل النابهيــن مــن الشــباب إلــى أوروبــا ،كــي يدرســوا فيهــا :ألنهــم بذلــك يتعلّمــون اللّغــة ويعيشــون الثقافــة معـاً ،لكــن هــذا األمــر قد انحســر لألســف الشــديد مــع القضــاء علــى البعثــات. هنــا وفــدت الدكتــورة ســهير القلمــاوي إلــى البيت لحضــور االجتمــاع فانصرف ـي منهــا بســبب تعاملهــا معالــي الباشــا عنــي إليهــا ،ممــا زاد نفــوري الطبيعـ ّ الســيئ مــع يحيــى حقــي ودورهــا ،فــي إخراجه مــن مجلــة (المجلــة) وتدميرها مــع غيرهــا مــن منابــر الثقافــة الجــادة فــي بدايــات عصــر الســادات الكئيــب. ثــم توالــى وفــود بقيــة أعضــاء اللجنــة وانصــرف انتبــاه معالــي الباشــا إليهــم، وإن بــدأ الحديــث وإلــى مــا ينتظرهــم مــن أمــو ٍر إلنجازهــا فــي تلــك الجلســةْ . كالعــادة باألمــور العامــة فــي حيــاة كل منهــم وأخبــار مــا يــدور فــي مصــر مــن وجهــة نظرهــم .وكنــا وقتهــا فــي خريــف الغضــب الفعلــي ،وليــس ذلــك الــذي صـ َّ ـك مصطلحــه محمــد حســنين هيــكل –مهنــدس تمكين الســادات من الســلطة– بعدمــا غضــب الســادات عليــه .كانــت مصــر كلهــا تعيــش عامـ ًا مــن الغضــب الكظيــم مــن حالــة الــا حــرب والــا ســلم التــي أخذهــا الســادات لهــا وقــد تع َّلــل بالضبــاب؛ بعدمــا انصــرم عــام الحســم ( )1971كمــا ســماه دون حســم .وخــرج الطــاب إلــى الشــوارع فــي مظاهــرات حاشــدة ،واعتصمــوا في ميــدان التحريــر فــي بدايــة العــام .1972وتغ َّنــى بثورتهــم أبــرز شــعراء جيلــي مثــل أمــل دنقــل فــي قصيدتــه الشــهيرة «الكعكــة الحجريــة» ،وأحمــد فــؤاد نجــم والشــيخ إمــام فــي أغنيته المشــهورة «أنا رحت القلعة وشــفت ياســين» . والمثقفــون معهــم ،ووقّعــوا فــي مكتــب توفيــق الحكيم ولمــا تضامــن الكتــاب ُ عمــن اع ُتقــل ـراج ـ اإلف ـى ـ إل ـو ـ وتدع ـم، ـ لمطالبه ـدة ـ مؤي الشــهير علــى عريضــة َّ منهــم ،عصفــت بهــم لجنــة التنظيــم ،الــذي كان الســادات قــد وضــع علــى رأســها كادر ًا إســامجي ًا معروفـ ًا هــو محمــد عثمــان إســماعيل ، .فقــام علــى الفــور بفصــل العشــرات منهــم ،وعلى رأســهم يوســف إدريس ورجــاء النقاش وغيرهــم مــن االتحــاد االشــتراكي ،ممــا يفقدهــم بشــكلٍ مباشــر وظائفهــم ـتراكي .وبــدأ ـمية المملوكــة كليــة لهــذا االتحــاد االشـ فــي أجهــزة اإلعــام َّ الرسـ ّ ّ أغلبهــم وقــد حرمــوا مــن العمــل فــي مصــر ،أو الظهــور فــي أي مــن المنابــر وضيــق النظــام عليهــم فــي رزقهــم ،فــي ال ُتشــ ُّتت فــي المنافــي اإلعالميــة، ّ ّ والغربيــة علــى الســواء .كمــا أخــذ الســادات فــي إغــاق الدوريــات العربيــة ّ ّ
108
أبريل 150 2020
الثقافيــة المختلفــة التــي كانــت تعــج بهــا مصر فــي ســتينيات القــرن الماضي. ّ وتخلّقــت آليــات مــا دعوتــه فــي أكثــر من مقــالٍ بالمناخ الطــارد الذي أخــذ َي ُد ّع المثقفيــن العقالنييــن واليســاريين مــن مصــر طــوال ســنوات حكم الســادات. بينمــا أُفســح المجــال وأجهــزة إعالم الدولة لإلســامجية يعيثون فيها فســاداً، ـري الذي ويقومــون بغســل عقــول المصرييــن مــن كل التاريــخ العقالني التنويـ ّ ّ زرعــه فيهــا جيــل طــه حســين ،واألجيــال التــي تلتــه ،ويســدلون الحجــاب على رؤوس النســاء ،وعلــى عقــول الرجــال فــي الوقــت نفســه. ولــم تكــن حقيقــة هــذا األمــر بغائبــة عــن طــه حســين ،الــذي لمســت طــوال ٍ المثقفين، شدة حساســيته ألي نقاشــاته في مفتتح هذه الجلســة ّ عصف بدور ُ وأي تأثيـ ٍر ســلبي علــى مكانتهــم ودورهــم فــي المجتمــع .وشــعرت وأنــا أتابــع ـامية واضحة مثل مهــدي عالم ،أو مناقشــاتهم (وكان فيهــم َمـ ْ ـن لــه ميــول إسـ ّ ميــول انتهازيــة مثــل ســهير القلمــاوي التــي صعد نجمهــا مع نظام الســادات، يقدمــون تبريــرات متهافتــة لمــا فعلــه الســادات) ،وكأن طــه حســين وبالتالــي ِّ وإن بشــكل مغايــر ،تأكيــده لمــا قالــه لــي قبــل قدومهم ،مــن أن على يواصــلْ ، جيلنــا أن يحــارب مــن جديــد نفــس المعــارك التــي حاربهــا جيلــه :معــارك ـتمرت الجلســة بأحاديثهــا الطليــة العقــل والحريــة واســتقالل ُ المث ّقــف .واسـ ّ ّ كالعــادة ،وبتوجيــه طــه حســين لدفة األمــور فيها بحصافة ،بعــد اكتمال عدد يتضمنــه جــدول أعمالهــا .ولــم ينــلْ الخــاف بينــه فــي الــرأي حضورهــا إلــى مــا ّ فيمــا يــدور فــي الواقــع المصــري وبينهــم مــن منــاخ الحــب والتقديــر الذيــن يحيطونــه بــه .ومــا أن انتهــى مــن مناقشــة كل البنــود علــى جــدول األعمــال، وتوصــل مــع اللجنــة إلــى قــرارات بشــأنه حتــى كان اإلرهــاق قــد بــدا عليــه، وازدادت ارتعاشــات يديــه ،فأخــذ األعضــاء فــي االنصــراف. ـي محضــر ـي وأخــذ ُيملــي علـ َّ وبعــد انصــراف آخرهــم التفــت طــه حســين إلـ َّ الجلســة كالعــادة .ومــا أن انتهــى منهــا وبنفــس حضــور الذهــن الــذي اعتدتــه منــه ،حيــث جــاءت قراراتهــا بنفــس ترتيــب البنــود فــي جــدول أعمالهــا ،حتــى ـس يــا ُبنــي مــا قلتــه لــك مــن َّ ـي بالحديــث مــن جديــد .وقــال ال تنـ َ توجــه إلـ َّ ضــرورة الســفر إلــى أوروبــا لتتع ّلــم فيهــا اللّغــة والثقافــة معـاً! فقلــت نعــم يــا معالــي الباشــا ،ولكنــه أمــر صعــب فــي هــذه األيــام .فقــال وفقــك الله يــا ُبني! ويبــدو أن اللــه اســتجاب لدعوته لي ،رغم اســتحالة الســفر إلــى أوروبا ألمثالي فــي ذلــك الوقــت .فمــا أن حان الخريــف التالي عــام ،1973وهــو الخريف الذي فــارق طــه حســين الحيــاة فيــه ،حتــى كنــت فــي أوروبــا بالفعــل ،وطلبــوا منــي ـدم فــي نــدوة الشــرق األوســط األســبوعية الشــهيرة وقتهــا فــي جامعــة أن أقـ ِّ أوكســفورد نــدو ًة عنــه ،بدأتهــا بأنــه لــوال دور طــه حســين الكبيــر فــي الثقافــة تعليميــة ،لما كنــت أنا هنــا اآلن، المصريــة ،ومــا أرســاه فيهــا مــن قيــم وركائــز ّ ّ ُّ ـدث إليكــم فــي هــذه الجامعــة .ولكــن تلــك قصــة أخــرى تســتحق التوقــف أتحـ ّ عندهــا ،وعندمــا رأيتــه لمــا جــرى فــي بيتــه «رامتــان» ،عقــب عودتــي لمصــر بعــد رحيلــه عنهــا بســت ســنوات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهوامش: ـون علــى حافـ ِ ـة - 1تبــدأ قصيــدة أمــل دنقــل الطويلــة والمهمــة عــن هــذه المظاهــرات :أيهــا الوا ِقفـ َ ّ ـهَ /أشــهِ روا ا َ ـوت; وانفـ َ حه!َ /سـ َ ـوق ـاب فـ َ ـقط المـ ُ ألسـ ِل ْ المذبحـ ْ ـدم انسـ َ ـب كالمسـ َ ـرط القلـ ُ ـبح ْه /.والـ ُ ِ واتب ُعوني!/ / حه ل ـ األس َعوا ف فار / ِحه ر أض ى.. والمد /، أضرح والزنازن /، أضرح ن الم !/ ـاح ازلُ ةٌ ةٌ َ َ ْ ْ َ َ الوِشـ ْ َ ـد ُم الغَ ـ ِ ـهِ /، باح! أنــا َنـ َ وج ْم ُجمـ ْ ـد والبارحـ ْ وشــعاريَّ : ـه /رايتــي :عظمتــانُ .. الص ْ - 2وهــي األغنيــة التــي تقــول كلماتهــا ««أنــا رحــت القلعــة وشــفت ياســين /حواليــه العســكر والزنازيــن /والشــوم والبــوم وكالب الــروم /يــا خســارة يــا أزهــار البســاتين /عيطــي يــا بهيــة علــى القوانيــن /أنــا شــفت شــباب الجامعــة الزيــن /أحمــد وبهــاء والكــردي وزيــن» والمقصود هنــا بهذه األســماء زعمــاء حركــة الطلبــة فــي ينايــر عــام :1972أحمــد عبداللــه رزة ،وأحمــد بهــاء الديــن شــعبان ،وجــال الجميعــي ،وزيــن العابديــن فــؤاد ،وشــوقي الكــردي. ـدم لــه عمــر التلمســاني مرشــد تنظيــم اإلســامجية - 3كان الملــك فيصــل قــد جــاء للســادات وقـ َّ «اإلخــوان المســلمون» ومئــة مليــون دوالر مقابــل إعادتهــم للعمــل فــي مصــر (حســب روايــة هيــكل فــي خريــف الغضــب) وتخليصــه مــن المعارضــة الناصريــة واليســارية لمشــروعه المدمــر، الــذي مازالــت مصــر تعانــي مــن عواقبــه حتــى اليــوم .وكان تعييــن محمــد عثمــان إســماعيل أمين ًا المخطــط الجهنمــي. ـي الوحيــد وقتهــا ،وهــو االتحــاد االشــتراكي ،بدايــة هــذا ُ للتنظيــم السياسـ ّ
Doha Magazine
109
150 2020 أبريل
aldoha_magazine
@aldoha_magazine
الصفحة األخرية
الوقت يف طريقه إىل االنقراض
ُّ التأخر! مديح إذا ك ّنــا ،عــى الــدوام ،يف عجلــة مــن أمرنــا ،فــأن نبــض الحيــاة اليوميــة صــار محكوم ـ ًا أكــر بالتســارع، ومســكون ًا باســتباق اللحظــة ،ومنــذوراً إلنجــاز املهـ ّـات والتخ ُّلــص مــن عبئهــا يف أرسع وقــت ممكــن .وألننــا نبذل ّ متجد الرسعة، كل ما يف وسعنا ملجاراة رسعة العامل الحديث ،باتت الغالبية العظمى من الناس ّ بوصفهــا فضيلــة ال منــاص إلنســان العــر الحديــث مــن التحـ ّـي بهــا ،يف مختلــف مناحــي حياتــه ،وتحـ ّ ـط والتأخــر املنظــور إليهــا ،غالبـ ًا ،بوصفهــا رذيلــة تــزري بصاحبهــا ،وتلقــي بــه خــارج رسب مــن قــدر التباطــؤ ُّ الحداثــة والتطـ ّـور ومواكبــة العــر.
110
لويي Hélène - وإذ ِّ تتبيــن األشــياء» ،تتب ّنى «هيليــن ّ «بضدهــا ّ التأخر Éloge du re� - »L’Heuillettفــي مؤلَّفهــا «في مديح ُّ تصور ًا مبتكر ًا يخالف الســائد، ( »tardألبان ميشــيل، )2020 ، ّ التأخــر ،وتبــرز مزايــاه، ـد ُد هــذه الباحثــة فضائــل ُّ حيــث ُت َعـ ِّ وتســتعرض المنطلقــات واألســس الثاويــة خلــف مــن ينتهجه فلســفةً فــي الحيــاة ،ومــن يتب ّنــاه شــك ً ال مــن أشــكال مقاومــة ســلطة الوقــت ،واطّ ــراح وسواســه ،وإعــادة ضبــط بوصلتــه بمــا يتيــح الفرصــة إلبطــاء اإليقــاع ،وإبطــال ضغــط الزمــن واســتعادة الصفــاء الذهنــي الــذي مــن شــأنه أن يســعفنا فــي ـذوق تر ُّقــب األشــياء ،واستشــرافها ،واإلحســاس بقيمتهــا ،وتـ ُّ ـرو ،وا ِّتــزان. جمالهــا بتـ ّ ـأن ،وتـ ٍّ فئتين: إلى ـن، ـ بالزم الفرد ـة ـ عالق إلى ـر ـ بالنظ ـم، ـ العال ينقســم ْ وربما قبلــه بقليل ،وفئــة ال تعبأ فئــة تصــل دائمـ ًا في الوقــتَّ ، بالوقــت ،وال تعيــر َبــا ً ـدد خمس ـ المح ـد ـ الموع ـن ـ ع لتأخرهــا ال ُّ َّ عشــرة دقيقــة أو أكثــر .الفئــة األولــى يعتريهــا قلــق وجــودي توجــس مــن عدم االلتــزام بالوقــت والوفــاء بالموعد، يغذّ يــه ّ همهــا الوحيــد إثبــات وجودهــا بحضورهــا فــي اللحظة نفســها ّ يتعيــن علــى الطــرف اآلخــر الوفــاء بهــا؛ لذلــك غالب ـ ًا التــي َّ ـمرة علــى عقــارب مــا تكــون عيــون أصحــاب هــذه الفئــة مسـ َّ الســاعة حيــث تســتحوذ على تفكيرهــا فكرة االســتثمار األمثل للوقــت ،وإغــاق منافذ إهداره ،والتح ُّقق من االمتثال الحرفي إل عند الضرورة لجــدول المواعيــد ،واســتبعاد فرص تعديلــه ّ القصوى. دوامــة الســرعة ،وال أمــا الفئــة الثانيــة فــا تـ ّ ـزج بنفســها فــي ّ ّ تراقــب عقــارب الســاعة ،لكنهــا تفلــت ،بــذكاء ،مــن خيــوط أبريل 150 2020
تتنصــل مــن مســؤولية االلتزامــات والوفاء شــرنقة الوقــت ،إذ ّ بالمواعيــد ،ال يشــغلها ســوى التخفيــف مــن وطــأة اإلســراع ومــن وتيــرة العجلــة ،واتِّخاذ مســافة كافية الســتباق األشــياء واألحــداث؛ فبالنســبة إلــى هــذه الفئــة ،تتج َّلــى قيمــة الوقــت فــي اللحظــة التــي نعيشــها ،ونحــن أحــرار ،بعيــد ًا عــن كلّ مميزات قيــد زمنــي أو ســباق يائــس مــع الزمــن ،وهــذه إحــدى ِّ «األشــخاص البطيئيــن» الذيــن يســلّمون ،مســبقاً ،بعــدم يتبوأ مكانة الجــدوى من محاولة مجاراة عصر الســرعة الــذي ّ خاصــة ضمــن العالــم الصناعــي الحديــث ،تجعلــه أنموذجـ ًا ّ ً والتطــور والحيــاة .فبينمــا تنخــرط إيقاعــات للنمــو ا مثاليــ ُّ ّ التأخــر يرمــز ـتمر ،لــم يعــد ـ مس ـارع ـ تس ـي ـ ف ـاة ـ العمــل والحي ُّ ّ إلــى الفوضــى واالســتهتار والالمبــاالة ،بــل -علــى العكــس من عامــة تلقــي بظاللهــا علــى ذلــك -صــار ُّ التأخــر حالــة وجوديــة ّ الكثيريــن .وضمــن هــذا الســياق ،تتســاءل الكاتبــة :ألــم ِ يحــن األوان ،بعــد ،لكــي نســتعيد شــك ً الحر ّيــة فــي ال مــن أشــكال ّ عالقتنــا بالوقــت؟ أال يمكــن -مثـاً -التخ ّلــي ،نهائيـاً ،عــن فكرة وإنتاجيــة؟ فاعليــة تدبيــر الوقــت بطريقــة أكثــر ّ ّ التأخــر المجــال الــذي تســعى الباحثــة إلــى استكشــاف يم ِّثــل ُّ مؤداهــا أننــا إن تأخرنــا قليـ ً ا أســراره ،حيــن تدافــع عــن فكــرة ّ فســنجد الوقــت الــازم لتحقيــق رغباتنــا وآمالنــا بــدل إبــادة الوقــت فــي إشــباع نزواتنــا واندفاعاتنــا المحمومــة نحــو ـح الوقــت» وضيقــه وتقليــص األشــياء ،وأن نواجــه فكــرة «شـ ّ المهمــات المتتاليــة ،بمــا ـاز ـ حيــزه الــذي لــم يعــد كافيـ ًا إلنج ّ ّ للتعمــق فــي األشــياء ،والنفــاذ التأخــر مــن فرصــة يمنحــه ُّ ُّ إلــى حقيقتهــا ،وقــد قادهــا ذلــك إلــى التركيــز علــى «اإليقــاع
ـاص» لألشــخاص البطيئيــن. الخـ ّ لتتوصــل إلــى أن تح ِّقــق الباحثــة فــي الجــذور التاريخيــة لكلمــة «بطــيء»، َّ اســتعماالت هــذه الكلمــة قديمـ ًا (منــذ العصــور الوســطى) لــم تكــن تنطوي أي داللــة ســلبية كمــا هــو معهــود اآلن ،فإلــى حــدود بدايــة القــرن علــى ّ الخامــس عشــر الميــادي ،كانــت اللفظــة الالتينيــة « »lentusتحيــل ،عند الشــعراء وعلمــاء الطبيعــة ،علــى كلّ مــا ي َّتســم بالليونــة والمرونــة مثلمــا يــدلّ نقيضهــا على كلّ ما ي َّتســم بالجمود والصالبة .وتشــير الباحثة ،أيضاً، إلــى أن هــذه الكلمــة قــد اسـ ُتخدمت -بالدرجــة األولى -فــي عالــم النباتات، التأمليــة للطبيعــة ،كمــا أنهــا لــم تشــهد انتقالهــا وفــي إطــار الممارســات ُّ إل فــي عصــر النهضــة حيــث صــار «البــطء» مرادفـ ًا لـ«النقــص فــي الداللــي ّ الســرعة» ،ومنطوي ـ ًا علــى مفاهيــم الكســل والتقاعــس والتراخــي وحتــى ـدد المجتمعات الحديثة، الشــهوة .وهكــذا ،صار البطء هو الخطر الذي يهـ ِّ ـر القــرون -كأداة رئيســة تقــاوم المســيرة المزعومة حيــث اسـ ُتخدم-على مـ ّ عدة ذلك، ـع ـ م يفتح، البطيئين ـخاص ـ األش ـود ـ وج أن ـدم اإلنســاني بيــد للتقـ ُّ ّ ممكنــات ،تنضــوي جميعهــا تحــت شــكل مــن أشــكال المقاومــة ،بحســب مــا تــراه الكاتبــة. تنبــه «هيليــن وانطالق ـ ًا مــن الرفــض المعلــن لســلطة الخضــوع للســاعةّ ، لويــي» إلــى أن الوقت-من وجهة نظر فلســفية« -فــي طريقه إلى االنقراض» ومكبليــن» .ووفــق هــذا المنحــى ،تدعــو وأن عالقتنــا بــه تجعلنــا «مذبذبيــن ّ الكاتبــة إلى إعادة اســتثمار الفــارق الطفيف الذي ي َّتصل بالوتيرة المفروضة علينــا .مــع ذلــك ،تظــلّ هــذه الدعــوة غامضــة؛ إذ كيــف يمكــن الدفــاع عــن المتمدنة التي تقوم شــيء يمتلك كلّ خصائص الســلوكيات المعاصرة غير ّ ـض الطــرف عــن اختــاف الســمات علــى تجاهــل وقــت اآلخريــن ،وعلــى غـ ّ الزمنيــة عنــد اآلخر؟ التأخــر الــذي تدعــو إليــه الكاتبــة ال يعنــي إيــاء مزيــد مــن االهتمــام إن ُّ
للوقــت ،بقــدر مــا يفيــد اتِّخــاذ مســافة بيننــا وبيــن الوقــت حتــى نح ِّقــق قــدر ًا مــن االســتمتاع بمباهــج الحيــاة ،ونكــون قادريــن علــى تقديــر قيمــة مما ســبق هي أن اللحظات التي نعيشــها .والعبرة التي يمكن أن ُتســتخلص ّ أوالً -يرفضون االمتثال يتميزون بوضــع األشــخاص البطيئيــن ّ خاص؛ فهــمّ - ّ اده الفكــرة القائلــة« :كلّمــا أســرعت رو ـق ـ يعتن ـذي ـ ال ، ـام ّ ُ ألوامــر النســق العـ ّ ْت نجاحات أكبــر» ،وهم -ثانيـاً -يجعلون أكثــرُ ،حـ ْز َ ـب الســبق وح ّقق َ تق َ َصـ َ مــن تباطئهــم فرصــة لتقليــب األمــور علــى وجوههــا المحتملــة ،واختيــار األنســب منهــا واألصلــح ،وتجنــب مطبــات العجلــة ومزالق اإلســراع في كلّ ّ مــا لــه عالقــة باتِّخــاذ القــرارات الحاســمة التــي تتر َّتــب عنهــا ،بالضــرورة، تغييــرات جذريــة فــي مســارات الحيــاة. التحــدي مــع أننــا ضــده مختلــف أشــكال إننــا نســابق الوقــت ،ونخــوض ّ ّ نعــرف ،مســبقاً ،أن النتيجــة حتميــة؛ فالوقــت يســبقنا ،ويحتوينــا فــي النهايــة .إنــه يحيــط بنــا إحاطــة الســوار بالمعصــم ،فــا غرابــة أن يــوكَ ل مهمــة ضبطنــا وتوجيهنــا ومحاصرتنــا فــي يقظتنــا وحتــى لســاعاتنا اليدويــة ّ ـدة فــي غفواتنــا ،التــي نصحــو منهــا مذعوريــن خوف ـ ًا مــن أن نجــاوز المـ ّ الزمنيــة المســموح لنــا بهــا .نحــن ،إذن ،فــي حاجــة دائمــة إلــى منبــع وقتي غيــر قابــل للنضــوب ،لكــن هيهــات :فالوقــت هــو الشــيء الــذي يرفــع ،منــذ ـرابيته في افتقار الناس البداية ،شــعار الخصاص ،ويســتعلن حربائيته وسـ َّ َّ إليــه ،ومراهنتهــم عليــه .وهكــذا ،نحــن نــدور فــي المدار نفســه ألننا أســرى الوقــت الــذي أضــاع مفتــاح الزنزانة ،ليطــلّ علينا من نافذتها لماماً ،ســاخر ًا وســاحراً ■ .فيصــل أبــو الطُّ ف َْيــل الهامش:
- 1هيليــن لويــي :أســتاذة الفلســفة والتحليــل النفســي فــي جامعــة الســوربون،
بفرنســا .مــن مؤلفاتهــا :التحليــل النفســي نزعــة إنســانية( ،غراســي)2006 ، أبريل 150 2020
111