ماذا نفعل بإرثنا الثّقافي؟ رئيس التحرير
فـالــح بن حســـين الهـاجـــري مدير التحرير
خـــالد العــودة الفـضـــلي هيئة التحرير
محـســن العـتيقـي اإلخراج والتنفيذ
عمرو الكفراوي رشا أبوشوشة هـــنـد آلبنسعيد فلوه الهاجري
جميــع المشــاركات ترســل باســم رئيــس التحريــر ويفضــل أن ترســل عبــر البريــد االلكترونــي للمجلــة أو علــى قــرص مدمــج فــي حــدود 1000كلمــة علــى العنــوان اآلتــي: تليفون )+974( 44022295 : تليفون -فاكس )+974( 44022690 : ص.ب - 22404 :.الدوحة -قطر
البريد اإللكتروني: editor-mag@moc.gov.qa aldoha_magazine@yahoo.com
مكتب القاهرة: وحيد الطويلة البريد اإللكتروني:
aldoha.cairo@gmail.com
المــواد المنشــورة فــي المجلــة ُتعبِّــر عــن عبــر بالضــرورة عــن رأي آراء كتّابهــا وال ُت ِّ ـرد الــوزارة أو المجلــة .وال تلتــزم المجلــة بـ ّ أصــول مــا ال تنشــره.
كلَّمـــا ارتفـــع منســـوب الثّقافـــة فـــي المجتمعـــات زاد ترســـيخ الحـــوار والتعايـــش والســلْم بي ــن المواطني ــن والجماع ــات ،وص ــو ًال إل ــى ح ــوار األم ــم فيم ــا بينه ــا ،بم ــا يعـــود علـــى العالـــم باألمـــن والرفـــاه وســـيادة التعـــاون المشـــترك ،بـــدل التفرقـــة ظاهري ـاً ،التعبي ــر وإش ــعال الفت ــن ...وه ــي م ــن بي ــن مقاص ــد علي ــا ،ينط ــوي عليه ــا، ّ المألـــوف «حـــوار الحضـــارات». لك ــن الواق ــع ف ــي كّف ــة ،والش ــعارات تب ــدو ف ــي كّف ــة أخ ــرى .وب ــد ًال م ــن تحقي ــق الســـلْم واألمـــن والتعايـــش فـــي عصـــر الطفـــرات العلميـــة ،والتواصليـــة ،الخارقـــة، تغيـــرت قواعـــد يبقـــى القضـــاء علـــى العنـــف هدفـــ ًا مســـتقبلي ًا بعيـــد المنـــال ،بعدمـــا ّ العامـــة ،وضحاياهـــا الحـــرب ،وأصبحنـــا أمـــام ردود أفعـــال ،مكانهـــا الفضـــاءات ّ المســـالمون الســـائرون إلـــى قضـــاء حاجاتهـــم ،واآلمنـــون فـــي بيـــوت عباداتهـــم. وكم ــا يعاي ــن الجمي ــع ،ف ــإن أغل ــب أح ــداث العن ــف اإلرهابي ــة تت ـّـم ف ــي دول غربي ــة التعدديــة الثّقافيــة ،لتضمــن للمهاجريــن كامــل حقوقهــم فــي تبنــت سياســات بعينهــاَّ ، ُّ الخاص ــة ،والمعتق ــدات الديني ــة ...وال يخف ــى ـادات ـ الع ـة ـ وممارس ـدل ـ والع المواطن ــة ّ كل خط ــاب ـد ـ عن ـر ـ يتبخ ـو ـ وه ـل ـ النبي ـاني ـ اإلنس ـب ـ المكتس ـذا ـ ه ـة ـ رؤي ـع ـ متاب عل ــى ّ َّ َ انتخاب ــي مح ـ ِّـرض عل ــى التفرق ــة وعل ــى العنصري ــة ،غرض ــه المضم ــر كس ــب معرك ــة لـــردات فعـــل عنيفـــة مؤجـــج ّ انتخابيـــة عابـــرة ،فيمـــا هـــو -فـــي حقيقتـــه الحتميـــةِّ - حم ــد عقباه ــا. وش ــاذّة ،ال ُت َ وهكــذاِ ، فعـ َـوض أن يرتفــع منســوب الثّقافــة ،ويتـّـم توفيــر قنــوات جريانهــا الدائــم ضمنيــاً ،ف ــي العام ــة وبي ــن كاف ــة الن ــاس ،كم ــا ه ــو معَل ــن، ّ ف ــي الش ــوارع واألزق ــة ّ التعدديــة الثّقافيــة ،نــرى الخطــاب السياســي يتطـ َّـرف ،منحرفـ ًا عــن صــواب ديباجــات ُّ الديموقراطي ــات الغربي ــة ،حت ــى اختل ــط األم ــر ـبات ـ مكتس ـن ـ وع ـة، ـ النبيل ـة السياس ـ ّ القيمــون ـه ـ ت ضحي ـب ـ ويذه ـادة، ـ العب ـن ـ أماك ـل ـ يص ـف ـ العن ـهدون ـ يش ـم ـ وه ـاس ـ علــى الن ِّ ّ عليه ــا ،ف ــي كنيس ــة أو مس ــجد ،عل ــى ح ـ ٍّـد س ــواء. ـــو أكثـــر وقعـــ ًا مـــن إقصائهمـــا تمامـــاً .وإذا كان إن تشـــويه ثقافـــة ّ وهويـــة مـــا َلُه َ بقضيــة ـة، ـ االنتخابي ـم ـ معاركه ـي ـ ف َّحون، ـل ـ يتس ـرب، ـ الغ ـي ـ ف ـون، المتطرفـ السياسـّـيون ّ ِّ الهجــرة ،بتصويرهــا للناخبيــن علــى أنهــا ســبب البــاء ،فــإن هــذه الصــورة (والحــال أنهـــا التصقـــت ،مـــع األســـف الشـــديد ،بالعـــرب والمســـلمين فـــي المهاجـــر) تتجـــاوز ح ــدود تل ــك الب ــاد ،لتش ـ ِّـكل ،ف ــي ذه ــن المواط ــن الغرب ــي الجاه ــل بمب ــادئ اإلس ــام، كل األقط ــار العربي ــة ،وت ــزرع ف ــي ـوهة ع ــن ّ والثّقاف ــة العربي ــة ،ص ـ ً ثقافي ــة مش ـ َّ ـورة ّ نفس ــه ب ــذور الحق ــد والكراهي ــة تج ــاه المس ــلمين. وإذا كان ــت أص ــوات كثي ــر م ــن المثقَّفي ــن ،ف ــي الغ ــرب ،ترتف ــع تج ــاه الحكوم ــات، لســّد الثغ ــرات المعرفي ــة وتطالبه ــا بض ــرورة إع ــادة النظ ــر ف ــي المناه ــج التعليمي ــة َ حـــول اإلســـام ،فـــي صفـــوف الناشـــئة ،فإننـــا -أيضـــاً -فـــي البيئـــة الثّقافيـــة، أي وقـــت مضـــى ،إلـــى العربيَتْيـــن ،فـــي والبيئـــة التعليميـــة أمـــس الحاجـــة ،قبـــل ّ َّ ّ تبنّـــي تعريـــف ُم َّتفـــق عليـــه للثّقافـــة ،ال ينتطـــح فيـــه عنـــزان ،وال تختلـــط فيـــه األوراق األيديولوجي ــة وال العرقي ــة ،بالثّقافي ــة؛ ذل ــك أن م ــا ه ــو ثقاف ــي نش ــترك في ــه تنوعهـــا ،وفـــي جميعـــ ًا داخـــل الوطـــن الواحـــد ،وفـــي ســـائر البـــاد العربيـــة ،فـــي ّ توح ــده اللّغ ــة والدي ــن الل ــذان يش ـ ِّـكالن -مع ـاً -حاضن ــة متين ــة ثرائه ــا الثّقاف ــي ،ال ــذي ِّ ممتــّدة ،جغرافيــ ًا وتاريخيــاً .وه ــذا التبّن ــي الواض ــح لمفه ــوم الثّقاف ــة ،القائ ــم عل ــى المش ــاركة واالعت ــراف واالخت ــاف ومب ــادئ الح ــوار والتس ــامح واحت ــرام اآلخ ــر ،ف ــي كل الفئــات ســواء ثقافتــه وخصوصياتــه ،إذا أوجدنــا لــه ســبل تكريســه العــادل بيــن ّ ّ ـام واإلع ــام)، ـ الع ـاء ـ والفض ـع ـ المجتم ـي ـ ف ـم ـ ث ـية، ـ الدراس ـج ـ المناه ـن ـ م ـة ـ (بداي محلي ـ ًا ً ّ ّ ّ ودوليــ ًا عب ــر مواثي ــق أكث ــر صرام ــة ،ترع ــى الس ــيادة الثّقافي ــة ،وتضم ــن وإقليميــاً، ّ ّ احترامه ــا وحمايته ــا م ــن التش ــويه ...م ــن ش ــأنه ،لي ــس ،فق ــط ،تصحي ــح ص ــورة الثّقاف ــة العربي ــة واإلس ــامية ف ــي نظ ــر اآلخ ــر ،أو حماي ــة المواطني ــن م ــن االنح ــراف أي تشــويه يطالهــا مســتقبالً .والحــال أننــا دخلنــا الفكــري ،إنمــا -أيضـاً -تقويتهــا مــن ّ عصـــر الحـــروب الثّقافيـــة ،ولدينـــا تـــراث ثقافـــي مســـتنير ،علينـــا معرفـــة تســـويقه واق ،ف ــي واجه ــة المعرك ــة. ـدرع ٍ وحمل ــه ،ك ـ ٍ رئيس التحرير
مجان ًا مع العدد:
الغالف:
ثــقــافـيـة شــــهــريــة
العدد
107
السنة التاســعة -العـدد مئة وسبعة ذو الحجة - 1437سبتمبر 2016
تصدر عن إدارة البحوث والدراسات الثقافية
وزارة الثقافة والرياضة الـــدوحــــة -قـــــطــــر
لوحة غالف المجلة: ديفيدالفنّان الشرق اجانغو
لوحة غالف الكتاب: صورة ألحد أحياء القاهرة في بداية القرن العشرين
د.زكي نجيب محمود
صدر العدد األول في نوفمبر ،1969وفي يناير 1976أخــذت توجهها العربي واستمرت فــي الــصــدور حــتــي يــنــايــر ع ــام 1986لتستأنف الــصــدور مــجــددًا فــي نوفمبر .2007 توالى على رئاسة تحريرالدوحة إبراهيم أبو ناب ،د .محمد إبراهيم الشوش و رجاء النقاش.
االشتراكات السنوية داخل دولة قطر األفراد الدوائر الرســمية
120ريــا ًال 240ريا ًال
خارج دولة قطر دول الخليــج العربــي
300ريال
باقــــــي الدول العربية
300ريال
دول االتحاد األوروبي
75يورو
أمـــــــــــــــــــيــــركـــــــا
100دوالر
كــــنــــدا وأسترالــــيا
150دوالرًا
الموقع اإللكتروني: www.aldohamagazine.com
التوزيع واالشتراكات تليفون )+974( 44022338 : فـاكـس )+974( 44022343 :
اقتصاد
البريد اإللكتروني: distribution-mag@moc.gov.qa doha.distribution@yahoo.com
الشؤون المالية واإلدارية
finance-mag@moc.gov.qa
ترســـل قـيمة االشـــتراك بموجـب حـــوالة مصــــرفية أو شــــيك بالريـال القــطــري باسـم وزارة الثقافـة والرياضـة علـى عنـوان المجلـة.
الموزعون وكيل التوزيع في دولة قطر: وكالء التوزيع في الخارج: المملكة العربية السعودية -الشركة الوطنية الموحدة للتوزيع -الرياض -ت0096614871262 : فاكــس /0096614870809 :مملكــة البحريــن -مؤسســة الهــال لتوزيع الصحــف -المنامة -ت - 007317480800 :فاكــس/007317480819 :دولــة اإلمارات العربية المتحدة -المؤسســة العربيــة للصحافــة واإلعــام -أبــو ظبــي -ت - 4477999 :فاكس /4475668 :ســلطنة ُعمان مؤسســة ُعمان للصحافة واألنباء والنشــر واإلعالن -مســقط -ت - 009682493356 :فاكس: /0096824649379دولــة الكويــت -شــركةالمجموعة التســويقية للدعايــة واإلعــان -الكويت ت - 009651838281 :فاكــس /0096524839487 :الجمهوريــة اللبنانيــة -مؤسســةنعنــوع الصحفيــة للتوزيــع -بيــروت -ت - 009611666668 :فاكــس/009611653260 : الجمهوريــة اليمنيــة -محــات القائــد التجاريــة -صنعــاء -ت- 00967777745744 : فاكــس / 009671240883 :جمهوريــة مصــر العربيــة -مؤسســة األهــرام -القاهــرة -ت: - 002027704365فاكــس /002027703196الجماهيريــة الليبية -دار الفكر الجديد الســتيراد ونشــر وتوزيــع المطبوعات -طرابلــس -ت - 0021821333260 :فاكس00218213332610 : /جمهورية السودان -دار الريان للثقافة والنشر والتوزيع -الخرطوم -ت0024915494770 : فاكس / 00249183242703 :المملكة المغربية -الشــركة العربية اإلفريقية للتوزيع والنشــروالصحافة ،سبريس -الدار البيضاء -ت - 00212522249200 :فاكس/00212522249214: الجمهورية العربية الســورية -مؤسســة الوحدة للصحافة والطباعة والنشــر والتوزيع -دمشق - ت- 00963112127797 :فاكس00963112128664:
األسعار دولة قطر
10رياالت
الجمهورية اللبنانية
دينار واحد
الجمهورية العراقية
اإلمارات العربية المتحدة
10دراهم
سلطنة عمان
800بيسة
دولة الكويت المملكة العربية السعودية جمهورية مصر العربية الجماهيرية العربية الليبية الجمهورية التونسية الجمهورية الجزائرية المملكة المغربية الجمهورية العربية السورية
دينار واحد 10رياالت 3جنيهات 3دنانير 2دينار 80دينارًا 15درهم ًا 80ليرة
تقارير
8
قمة األمل(.................................نواكشوط :عبد اهلل ولد محمدو) خيمة ّ موسم أصيلة الثّقافي ..ما له وما عليه (......أصيلة :محمد عبد الصمد اإلدريس) جائزة «كتارا» للرواية العربية في دورتها الثالثة (.....الدوحة:طه عبدالرحمن) البحث عن العالج في ما وراء األمواج! (.....................................محمد األصفـر)
12
نرسين حمود
استطالع
نوارةلحـرش) غياب ّ المجلت الثّقافية في الجزائر ( ...................الجزائرّ :
رسالة من المهجر
18
تحقيق
26
الدورة « »70لمهرجان أفينيون المسرحي(...................أفينيون :محمد برادة)
دار الشرق للطباعة والنشر والتوزيع -الدوحة -ت 44557810 :فاكس44557819 :
مملكة البحرين
4
الطريق إلى البيت األبيضَ ..م ْش ٌي فوق شظايا األزمة(............جمال الموساوي)
المملكة األردنية الهاشمية الجمهورية اليمنية
3000ليرة 3000دينار 1.5دينار 150ريا ًال
جمهورية السودان
1.5جنيه
موريتانيا
100أوقية
فلسطين الصومال
1دينار أردني 1500شلن
بريطانيا
4جنيهات
دول االتحاد األوروبي
4يورو
الواليات المتحدة األميركية
4دوالرات
كندا واستراليا
5دوالرات
ورش الكتابة األدبية..هل تصنع كاتب ًا ؟ (........القاهرة:هند مختار -إيمان السباعي)
قضية
«بوكيمون جو»
40
في واقعنا غير المعزَّز! 30 مروى بن مسعود أسماء الغول عبدالوهاب األنصاري إليزابيلال كاميرا دافليتو عماد إرنست نويمي فيرو فروزسينا إردوغ،ت:أنور الشامي
ملف
الــيـد
68
تهدي وردة وتضغط على الزناد
أدب
102
جورج يرق:الرواية ال تطعم خبزاً( ..........................حوار:نسرين حمود) كارل أوفه كناوسجارد :الرواية تميل إلى حجب العالم( ........حوار :جيمس وود) الدخول األدبي الفرنسي ليس مجرد احتفال باألدب! ( ..............سعيد بوكرامي) ظل بكين( ....حوار :نسرين البخشونجي) شيو تسي تشين..الذين يعيشون في ّ
إصدارات
112
طريق النظرية إلى الواقع العربي( ..............................خالد وليد محمود) المدنيــة والعقالنية السياســية( .......................................د .خالد طحطح)
بصمات
عبد العزيز المنصوري.. العائد من النّسيان
134
نصوص
128
األرق( .................................................صالح لبريني) غنائمي ٌ كثيرة في َ نجوت؟!( .................................................بيان أسعد مصطفى) هل ،حقاًُ ،
ترجمات
140
سينما
130
مـــا تبقـــى مـــن األولمبياد(.........................عبـــد اهلل كرمـــون)
22
أكث ــر م ــن اعت ــذار إل ــى أحم ــد زويل(....................ش ــاهيناز وزي ــر)
24
تونس..تلـــك المدينـــة البيضـــاء(.........د .عبدالعزيـــز المقالـــح)
48
اللّغــة العربيــة واإلرهــاب(..................د .حســين الســوداني)
62
المثقّـــف موقف(.........................مـــرزوق بشـــير بـــن مـــرزوق)
67
الكتابـــة فـــي أزمنـــة الحرب(.........................هيثـــم حســـين) 133
«الســبيليات» إلســماعيل فهــد إســماعيل( ..................عبدالكريــم المقــداد) ـــعٌر أكثر(...............................رشـــيد الخديـــري) أحـــام ّ أقـــلِ ،ش ْ ٌ
على خطى ريجيس دوبريه ..بين نارين وأربعة جدران(....................عالء خالدي)
الجئــون فــي أولمبيــاد ريــودي جانيرو(...................خطيــب بدلــة)
20
روايـــة وحيـــدة (.......................أميـــر تـــاج الســـر) 127
الســماء علــى نحــو وشــيك..رغبات موازيــة للمــوت والالعــودة!( ...إبراهيــم عادل)
كتاب
مقاالت
فـــي المشـــي والكالم(..................................أمجـــد ناصـــر) 111
حيـــاة لـــم تدركهـــا فـــرادة الكتابـــة وبالغـــة األمنيـــات( .........د .ســـعد القصابـــد)
124
عبداهلل بن محمد سعيد بنكراد مسعود شومان عبد الرحيم العطري منى فياض د .وليالي كندو عبده وازن عبد السالم بنعبد العالي نورة محمد فرج عزيز أزغاي د .فتحي المسكيني
«مخال ــب الق ــط» ل ــم تج ــرح يوس ــف السباعي(.........ش ــعبان يوس ــف) 158 االختيـــار واألحالم(........................................أحمـــد طـــه) 160
سينما
محمَّد خان كيف قرأ الواقع سينيمائي ًا
مل ف خاص
حكايات بلد
حين تخفي كـندا أقـنعتها!
فاهافال ــو ..ج ــان ل ــوك راهاريمانانا(...........ترجم ــة :محم ــد عب ــد الغن ــي)
للهوي ــة أم تب ــادل ثقاف ــي؟( .....عل ــي فاض ــل) بي ــن الس ــاموراي وراع ــي البق ــر :س ــلب ّ « .»The BFGخي ــال ب ــا ح ــدود ف ــي مدين ــة العمالق ــة( ......د .هان ــي حج ــاج) ط ــرزان األلفي ــة الثالث ــة(..........................................د .ري ــاض عصم ــت) ـــع فـــي فرنســـا !( ..............................................أمجـــد جمـــال) ُصِن َ
معارض
154
محمــد :المقصــود مــن أعمالــي ّأل تكون مقــروءة !(.....حــوار :رنا نجار) الفنــان الباكســتاني غــام َّ
142
د .يوسف بن الغياثية رانيا سعد د .أسامة عالم خالد ذهني
50
اقتصاد
الطريق إلى البيت األبيض َم ْ ي فوق شظايا األزمة ش ٌ
جمال الموساوي على بعد نحو شهرين ،تبدو االنتخابات األميركيـة كمـا لو أنهـا انتخابات دولية. كل أربع سنوات ،يشارك طقس يتجدد ّ ٌ فيه العالم من أقصاه إلى أقصاه .وربما ال يوجـد حـدث ،إذا اسـتثنينا مباريـات كأس العالـم لكـرة القـدم ،يجـذب إليـه األنظار مثل ما تفعل انتخابات الرئاسة األميركية. ومـع أن للواليـات المتحـدة ثوابـت ال تحيـد عنهـا فـي سياسـتها الخارجيـة وفـي نظامهـا االقتصـادي وسـعيها إلـى إرسـاء هيمنتهـا علـى العالـم اقتصاديـ ًا 4
وسياسـي ًا وعسـكري ًا إن لـزم األمـر، حمايـة لمصالحهـا ،فـإن التنافـس بيـن ً الديموقراطييـن والجمهورييـن مـن أجـل الوصـول إلـى البيـت األبيـض ال يعـدم عناصـر التشـويق واإلثـارة ،قبـل أن ينتهي بتلك المصافحة الشـهيرة ،وتلك تسويق التهنئة من الخاسر للرابح ،في ٍ حـي لصـورة الديموقراطيـة ولنمـط الحيـاة األميركيـة. في سياق تلك الثوابت ،انطلق التنافس بيـن هيلاري كلينتـون ودونالد ترامب، متمحـور ًا حـول الجوانـب الشـخصية المتعلّقـة بالكفـاءة والقـدرة علـى تدبيـر القـوة األكبـر فـي العالـم ،ثـم تبـادل
االتهامـات بشـأن التـورط فـي شـبهات فسـاد أو التهـرب مـن الضرائب ومعاداة أو محابـاة األجانـب والمهاجريـن ،أو الوالء ألهداف السياسـة الروسـية التي ألصقتهـا كلينتـون أخيـر ًا بمنافسـها. وعلـى عكـس االنتخابـات التـي جـرت خلال العشـرين سـنة األخيـرة ،فـإن التحديـات المتعلّقة باألمن القومي التي هيمنـت علـى اإلدارة األميركيـة وعلـى المرشـحين للرئاسـيات (العـراق11 ، سـبتمبر/أيلول ،القاعـدة ،طالبـان باإلضافة إلى كوريا الشـمالية) ،والتي شـكلت ذرائـع للتدخـل العسـكري فـي عـدد مـن هـذه المناطـق وشـن الحـروب
لمطـاردة اإلرهـاب ،سـلَّمت ،بالرغم من وجـود تنظيـم «داعـش» حاليـاً ،لـواء األولويـة لألزمـة االقتصاديـة وتبعاتهـا منذ الحملة االنتخابية لسنة 2008التي حملـت أوبامـا إلـى البيـت األبيـض.
حصيلة ثماني سنوات من تدبير األزمة لقـد كان علـى أوباما منـذ انتخابه توفير أسـباب إنعاش االقتصاد األميركي الذي تضـرر كثيـر ًا مـن واحـدة مـن أعنـف ّ األزمـات التـي عرفهـا العالـم وأدت إلـى اختلاالت اجتماعيـة ،باإلضافـة إلـى تأثيراتها العميقة على األداء االقتصادي للقـوة األعظـم فـي العالم .فسـواء تعلَّق األمـر بالبطالـة أو انهيار دخل األسـر أو ارتفـاع المديونيـة ،وجـدت إدارة أوباما تحد داخلي محض قد يغذي نفسـها أمام ٍّ غضـب األميركييـن أكثـر فأكثر ،واتضح أن الواقعيـة السياسـية تقتضـي كهـدف اسـتعجالي العمل على احتواء تداعيات األزمـة واسـتعادة ثقـة األميركييـن فـي أداء االقتصـاد. لذلـك تضمـن خطـاب التنصيب في يناير 2009تأكيـد ًا وإلحاحـاً ،علـى أن البلاد تمـر بأزمـة اقتصاديـة خانقـة ،ليـس ألن األميركييـن ،علـى حـد تعبيـره ،أقل نشـاط ًا وإنتاجيـة ،بـل ألن ذلـك كان نتيجـة «الفشـل الجماعـي» فـي اتخـاذ القـرارات الصعبـة لتفاديهـا. أوبامـا وقـع فـي ذلـك الخطـاب علـى قفـزة إلـى األمـام ،ليقـدم مالمـح الوالية الجديـدة والتـي لخصهـا فـي فقـرة جـاء فيها «إن حالة االقتصاد تستدعي تحرك ًا جريئ ًا وسـريعاً .وسوف نتحرك ،ليس فقـط مـن أجـل خلق فرص عمـل جديدة، نمو جديد .سـوف ولكـن لوضع ٍ أسـس ِل ّ نبنـي الطـرق والجسـور والشـبكات الكهربائيـة والرقميـة التي سـتعمل على تموين تجارتنا وعلى توحيدنا .سـنعيد للعلم مكانته التي يسـتحقها ،ونستعين باإلمكانيـات التـي تتيحهـا التكنولوجيـا للرفـع مـن جـودة الخدمـات الصحيـة،
وتخفيـض تكلفتهـا». بعـد ثمانـي سـنوات ،سـتكون حصيلـة هـذه الفقـرة مـن خطـاب أوبامـا هـي القاعـدة التـي سـينطلق منهـا التنافـس بيـن المرشـحين لالنتخابـات المقبلـة، بالرغـم مـن أن المراقبيـن والمحلليـن للمشـهد السياسـي في الواليات المتحدة يذهبـون إلـى أن المتحكـم فـي توجيـه الناخبيـن فـي نهايـة األمـر هـو اإلعلام، وقـوة اللوبيـات المتنوعـة ،ثـم اإلثـارة الشديدة التي تخلقها استطالعات الرأي التـي تصبـح أكثـر كثافـة كلمـا اقتـرب موعـد االقتـراع. وبتأمـل بعـض األرقام في نهاية واليتي أوبامـا ،تبـدو هيلاري كلينتـون فـي وضعيـة أفضـل للوصـول إلـى البيـت األبيـض ،إذا أتقنـت لعبـة األرقـام واسـتثمرت تأثيرهـا .لقـد كان معـدل البطالـة فـي العام 2008في حدود 5.8 في المئة ،وكانت األزمة االقتصادية في بدايتهـاّ ،إل أن آثـار هذه األخيرة جعلت تلـك النسـبة فـي حركيـة متواصلـة، صعـود ًا ونـزوالً ،قبل أن تسـتقر حسـب اإلحصائيات األخيرة لشهر يوليو/تموز 2016فـي حـدود 4.9فـي المئـة ،حيـث بلـغ إجمالـي الوظائـف المحدثـة خلال الشـهور السـتة األولـى مـن السـنة 1.13 مليـون وظيفـة ،و 14.2مليـون وظيفـة منـذ ،2010وهـو مـا يمثـل فـي نظـر أنصـار الرئاسـة الحاليـة نجاح ًا للفريق الديموقراطـي الحالـي. بالمقابل ،أفضت خطط إنعاش االقتصاد إلى الرفع من نسبة نمو الناتج الداخلي اإلجمالـي بالرغـم مـن اسـتمرار األزمـة. وبالعودة إلى معطيات في موقع البنك الدولي( ،)1فقد انتقل االقتصاد األميركي مـن نمـو سـلبي ( -0.3فـي المئـة) سـنة 2008إلـى 2.4سـنة ،2015مـع توقعـات االحتياطـي الفيدرالـي بتحقيق 2فـي المئـة مـع نهايـة السـنة الحاليـة، يشـكل إلـى حد ما عبور ًا سـالم ًا وهـو مـا ِّ للعاصفـة ،بالرغـم مـن أن هـذه النسـبة لم تكن جيدة كفاية لخلق وظائف أكثر. مـن جانـب آخـر ،ربمـا تكـون الواليـات
المتحـدة قـد فقـدت ريادتهـا فـي مجـال التجـارة الدوليـة لصالـح الصيـن ،وقـد تكـون المخـاوف ارتفعـت أكثـر مـع تصويـت البريطانييـن لصالـح مغـادرة االتحـاد األوروبـي ،بيـد أن األرقـام المنشـورة حديثـ ًا تعكـس نوعـ ًا مـن التفـاؤل بالعـودة إلـى االرتفـاع خلال الفصـل الثانـي مـن السـنة الحاليـة، حيـث ارتفعـت الصـادرات بنسـبة 1.7 فـي المئـة مقابـل انخفـاض بمعـدل 0.7 فـي المئـة خلال الفصـل األول ،بينمـا انخفضـت الـواردات بنسـبة 0.4فـي المئـة .ويأتـي هـذا التفاؤل بعـد التذبذب والمراوحـة الـذي عرفـه القطـاع ،متأثر ًا بانخفـاض أكبـر للصـادرات مقارنـة مـع الـواردات ،خاصـة خلال العـام 2015 الـذي شـهد انخفـاض الصـادرات بنسـبة 7.3فـي المئـة والـواردات بنسـبة 4.7 وأدى إلـى عجـز متراكـم فـي المئـة فقـط ّ بلغ في يونيو/حزيران الماضي 44.5 مليـار دوالر. هـذه المؤشـرات المتعلّقـة بالحصيلـة االقتصادية ألوباما والمؤشرات األخرى المرتبطـة بهـا التـي تهـم الميزانيـة والمديونيـة واألجـور عمومـ ًا واالهتمـام بالطبقـة الوسـطى والضرائـب واإلنفاق العـام واالسـتثمار الخاص وارتفاع عدد األسـر المسـتفيدة من اإلعانـات الغذائية ستشكل محور وارتفاع الدين العمومي، ّ التجـاذب بيـن المتنافسـين علـى اإلقامـة فـي البيـت األبيـض للسـنوات األربـع المقبلـة علـى األقـل ،وذلـك فـي إطـار ثوابـت السياسـة األميركيـة. فـي سـياق ذلـك ،تشـتغل اآللـة اإلعالميـة مـن خالل الخبـراء والمحللين االقتصادييـن لترجيح كفة االسـتمرارية علـى اعتبـار الحصيلـة إيجابيـة ،أو القطيعـة مـن منظـور معاكـس ،وهـو ترجيح سيكون محكوم ًا أيض ًا بالقدرات التواصليـة وبنوع الخطاب الذي يتبناه كل مرشـح ،وبمعنـى آخـر فـإن عيـون ّ وآذان الناخبيـن األميركييـن سـتركز كذلـك علـى شـفتيهما وعلى مـا ينطقانه مـن كالم. 5
برنامج اقتصادي متطرف! يبـدو ترامـب ،فـي بعـض توجهاتـه، قريبـ ًا أو متناغمـ ًا مع أطروحات اليمين المتطـرف فـي أوروبـا .لقـد جعـل ،على حل مشاكل البطالة التي سـبيل المثالّ ، تواجـه األميركييـن ،بعـد التأكيـد علـى فشـل اإلدارة الحالة في تسـجيل إنعاش حقيقـي لالقتصاد ،في طـرد المهاجرين وسد األبواب في وجه المرشحين الجدد للهجـرة إلـى الواليـات المتحـدة وبنـاء جـدار عـازل على الحدود مع المكسـيك. هـذه النقطـة فـي البرنامـج التـي يمـزج فيهـا بين سـرقة وظائف األميركيين من جهة ،واحتماالت اإلرهاب عندما يتعلَّق بالعـرب والمسـلمين مـن جهـة ثانية ،ال تبـدو فـي نظـر المراقبيـن قائمـة علـى أسـس متينـة ،وقبـل أن تكـون سـبب ًا محتملا فـي انكماش االنتـاج األميركي، ً فهي تذهب عكس الخالصات التي انتهت إليهـا الدراسـات والتقاريـر التـي تؤكـد أيض ًا على المساهمة الفعالة للمهاجرين فـي نمـو وتقـدم بلدان االسـتقبال(.)2 هـذا الموقـف «االنغالقـي» ،يمـس أيضـ ًا التجـارة الخارجيـة ،ويتضمـن خروجـ ًا محتملا من المنظمـة العالمية للتجارة، ً ومراجعـة لعـدد مـن اتفاقيـات التبـادل الحـر مـع عـدد مـن الـدول ،خاصـة تلك الموقعة مع كندا والمكسيك ،بما يعيد، في نظره ،للواليات المتحدة سـيطرتها علـى مواردهـا وعلـى سـوقها الداخلية. كل هذا« ،الخصم وتظل الصين ،وسـط ّ التجـاري» األول لترامـب ،حيـث يسـجل الميـزان التجـاري عجـز ًا بنحـو 29 مليـار دوالر .المرشـح الجمهـوري يعتقـد أن اللجـوء إلـى تدابيـر حمائيـة إزاء المنتوجـات الصينيـة سـيقلص بشـكل كبيـر مـن عجـز الميـزان التجاري العـام للبلاد ،وسـينعكس علـى اإلنتـاج الداخلـي وتسـويقه ،خاصـة مـع ربطهـا بإجـراءات أخـرى تتعلّـق بتحفيـز الشـركات األميركيـة ورجـال األعمـال بشـكل عـام ،وكذلـك تشـجيع االستهالك .ذلك أن المرشح الجمهوري 6
يقترح تخفيض ًا كبير ًا في الضرائب على الشـركات مـن 35إلـى 15فـي المئـة، وإعفـاء األشـخاص الذيـن يكسـبون أقل مـن 25ألـف دوالر سـنوي ًا من الضريبة على الدخل في مقابل جعل األغنياء جد ًا مـن األميركييـن يدفعـون ضرائـب أكثـر علـى ثرواتهـم. بقـدر مـا تنطـوي هـذه اإلجـراءات، ظاهرياً ،على قدر من اإليجابية ،يعتقد مراقبون أنها تتجاهل مخاطر حقيقية قد تنتهـي إلـى عكـس أهدافهـا .فاإلجراءات الحمائيـة سـتؤدي إلـى معاملـة بالمثـل من قبل الشـركاء التجاريين ،وستخسر الشركات األميركية كثير ًا إذا تم تحجيم دخـول منتوجاتها إلى السـوق الصينية الواسعة الواعدة مثالً .كما أن انخفاض مداخيـل الضرائـب ،بالرغـم مـن تعويـل ترامـب علـى الــ 10فـي المئـة التـي سـتدفعها الشـركات الراغبـة في تحويل أموالهـا مـن الخـارج ،سـينتج عنـه أحد أمريـن ،إمـا تقليـص اإلنفـاق العمومـي والتقشـف ،وإمـا تفاقـم حـاد فـي عجـز الميزانيـة العامـة للبلاد ،وهـو مـا قـد يؤثر على قطاعات حيوية مثل خدمات التعليـم والرعايـة الصحيـة والبنيـات التحتية وحماية البيئة وعلى عدد الذين يعيشون على المساعدات الغذائية الذي ال في عهد الرئيس أوباما في ارتفع أص ً الحالـة األولـى ،بينمـا سـيرتفع الديـن العمومـي فـي الحالـة الثانيـة وسـتظهر الحاجـة إلـى هندسـة سياسـات جديـدة للتحفيـز واإلنعـاش ،وبالتالي ضرورة انتظـار وقـت إضافـي لتجـاوز آثـار األزمة.
فصل عازل بين البرنامجين إذا كان دونالـد ترامـب قـد أثـار جـد ًال امتد إلى داخل الحزب الجمهوري واسع ًا َّ نفسه سواء بنوعية خطابه أم بمحتوى تصريحاتـه أم ببرنامجـه االقتصـادي كل الـذي اعتبـره البعـض خليطـ ًا مـن ّ شـيء وفـي حاجـة إلـى تنسـيق وإلـى قابليـة للتنفيذ ،فـإن هيالري كلينتون،
بالمقابـل تبـدو أكثـر ارتياحـ ًا لعـدة اعتبـارات .ودون الحديـث عـن مرورهـا فـي البيـت األبيـض أو في كتابـة الدولة فـي الخارجيـة ،لـم تكـن تزكيتهـا مـن قبـل الديموقراطييـن مثـار ٍ جـدل ،كما أن برنامجهـا االقتصـادي ،يبـدو ،فـي نظر المراقبيـن ،أكثـر واقعيـة بالمقارنـة مع منافسـها. لكـن قبل اسـتعراض بعـض المقترحات مـن برنامجهـا االقتصـادي ،سـتكون السـيدة األولـى فـي مواجهـة جـزء مـن اإلعالم األميركي والمحللين االقتصاديين المقربيـن مـن الحزب الجمهوري .هؤالء يعتبـرون أن حصيلة الديموقراطيين لم تكـن فـي مسـتوى تطلعـات األميركيين. حجتهم في ذلك أن عدد ًا من المؤشرات مؤكـداً .فـي االقتصاديـة عرفـت تدهـور ًا ّ هـذا اإلطـار ،تبـدو بعـض األرقـام، تمثيلا ال حصـراً ،محبطـة ،خاصـة في ً الجانـب االجتماعـي .لقـد ارتفعت نسـبة األميركييـن المسـتفيدين مـن إعانـات التغذيـة مـن 9.3فـي المئة سـنة 2008 إلى 14.6في المئة سنة ،2015كما أنه بالرغـم مـن االنخفـاض النسـبي لمعـدل البطالـة ّإل أن المـدة المتوسـطة للبقـاء في حالة بطالة انتقلت من 19.8أسبوع مع بداية 2009إلى 30.8أسبوع خالل الفصـل األول مـن سـنة .2015
واقعية امرأة خبيرة ينطلـق البرنامـج االقتصـادي لهيلاري كلينتـون مـن التشـكيك في قـدرة ترامب علـى قيـادة سياسـة اقتصادية ناجعة، بالنظـر إلـى فشـله كرجل أعمال في عدد من المشـاريع الشـخصية ،قبل أن تبدي انتقاداتهـا لبرنامجـه االقتصـادي .وهي االنتقـادات التـي تلتقـي مـع التحفظـات عبـر عنها المحللـون االقتصاديون التـي َّ في أميركا ،باإلضافة إلى عدد من كبار الشـخصيات فـي الحـزب الجمهـوري، حـول احتمـال ارتفـاع عجـز الميزانيـة وتدنـي تصنيـف الواليـات المتحـدة مـن طرف وكاالت االئتمان وارتفاع البطالة
مـع التوجهـات واالنشـغاالت الدوليـة المتعلّقـة بالمنـاخ ،علـى خلاف ترامـب الـذي يقتـرح التنصـل من اتفـاق باريس المبـرم فـي السـنة الماضيـة و«إعـادة االعتبـار» إذا جـازت العبـارة للنفـط والغـاز والفحـم وإلغـاء القوانيـن المتعلّقـة بحمايـة البيئـة. كمـا أن األسـواق الماليـة التـي لم يلتفت إليهـا المرشـح الجمهـوري ،تحظـى باهتمـام خـاص مـن قبـل منافسـته التي كانـت دائمـ ًا فـي نظـر المتابعيـن للشـأن األميركي قريبة منها ومدافعة عنها .بيد أن هـذه األسـواق التـي كانـت سـبب ًا فـي انـدالع األزمة التي عمل الديموقراطيون مـن خلال أوبامـا وفريقه علـى محاولة لتقنيـن وتقييـٍد إطفائهـا ،سـتخضع ٍ ٍ ومراقبـة أكثـر احتياطـ ًا مـن تكـرار مـا حـدث ابتـداء مـن سـنة .2007
لمن تقرع األجراس؟ بشـكل خاص. ومـع أن برنامـج كلينتـون يتقاطـع فـي العناويـن مـع مـا يطرحـه منافسـهاّ ،إل أن هنـاك اختالفـات جوهريـة بينهمـا. إنهـا ال تدعـو إلـى الخـروج عـن المسـار المعولـم للتجـارة العالميـة ،وإن كانـت تقتـرح فـرض بعـض الرسـوم على عدد مـن المنتوجـات القادمـة مـن الصيـن وأيضـ ًا مـن المكسـيك .هـذه الرسـوم لـن تصـل إلـى الحـد الـذي يجعـل تلـك المنتوجـات غيـر قادرة على المنافسـة، لكـن كلينتـون تدفـع في المقابـل باتجاه تمكيـن الشـركات األميركيـة مـن دعـم عمومـي للحفـاظ على تنافسـيتها وعلى مسـتوى توظيـف اليـد العاملـة لتفـادي عـودة معـدل البطالـة لالرتفـاع. فـي الجانـب المتعلّـق بالتعامل مع ملف الهجرة ،تميل المرشحة الديموقراطية، أكثـر إلجـراءات تقضـي بالتعامـل علـى قاعـدة المواطنـة مـع المهاجريـن غيـر الشـرعيين الموجوديـن فـي البلاد وتجنيسـهم ،وهـو مـا يمكـن اعتبـاره وعيـ ًا بـدور هـؤالء فـي الحفـاظ علـى
مسـتوى اإلنتـاج فـي قطاعـات معينة ال يقبـل عليهـا األميركيـون عـادة لضعـف األجـور فيهـا كالزراعـة. وتلتقـي كلينتـون مـع منافسـها فـي المقترحـات المتعلّقـة بملـف الضرائـب والنيـة فـي تخفيضهـا ،ومـع أنهـا تظـل غيـر واضحـة كفايـة فيمـا يتعلَّـق بتصورها ،فهي ،بشكل عام وباإلضافة إلـى زيـادة معـدل الضريبـة علـى األكثر غنـى ،تسـتهدف تحفيـز الشـركات األميركيـة علـى االسـتمرار فـي اإلنتـاج وفـي خلـق فـرص العمـل وفـي نقـل أرباحها في الخارج إلى داخل الواليات المتحـدة ،وسـيكون على هذه الوحدات االقتصاديـة أن تتجـاوب بالمقابـل مـع نقطـة أخـرى فـي البرنامـج هـي رفـع الحـد األدنـى لألجـور إلـى 12دوالر ًا فـي السـاعة لتقويـة دخل األسـر ولرفع القـدرة علـى االسـتهالك. يشـكل التركيـز على علـى صعيـد آخـر، ِّ الطاقـات البديلـة النظيفـة والرفـع مـن اإلنفـاق العمومـي عليها رهان ًا أساسـي ًا فـي برنامـج كلينتـون ،فـي انسـجام
أي من البرنامجين االقتصاديين ال يملك ٌّ صفـة الكمـال ،خاصـة أن األزمة التزال عنـد العتبـة .لهـذا ،ففـي الطريـق إلـى ٌ أشـواك وإن كانـت فـي البيـت األبيـض نهايتهـا ورود ،وبالتالـي علـى أحـد المرشـحين أن يتقـن المشـي أكثـر مـن اآلخـر .وإذا تأملنـا نوايـا األميركييـن فـإن ثالثـة اسـتطالعات للـرأي نشـرت فـي بدايـة شـهر أغسـطس/آب منحـت لهيلاري كلينتـون تقّدمـ ًا بفـارق وصـل إلـى 8نقـاطّ .إل أن ترامـب بإمكانـه تحقيـق «اختراقـات» ،بالرغـم مـن صعوبـة ذلـك ،إذا سـاعده اإلعلام صاحـب الـدور المحـوري فـي تشـكيل الـرأي العـام فـي الواليـات المتحـدة. هوامش:
1-http://donnees.banquemondiale.org/indicateur/NY.GDP.MKTP. .KD.ZG?locations=US - 2يمكن مراجعة مختلف تقارير منظمة التعاون والتنميـة االقتصادية والمنظمة العالمية للهجرة تؤكـد أن للهجـرة جوانبهـا وغيرهمـا والتـي ِّ اإليجابية في تسريع نمو االقتصادات المستقبلة.
7
تقارير
القمة العربيةّ ،إل أن الحكومة بالرغم من توفُّر منشأة قصر المؤتمرات التي َّ تتسع الستضافة ّ قمة األمل المخيم التراثــي «القرية الثّقافية»، الموريتانيــة اختــارت ً َّ واجهة الســتقبال ضيوف ّ العربية التي انعقدت في نواكشوط ،أواخر يوليو/تموز الماضي .االختيار ال يخلو من دالالت رمزية ،يعكســها الواقع العربي ،فال مشــترك يدعو لاللتئام العربي أكثر من العودة إلى الجذور التراثية العربية ،وعراقتها الحضارية. ممثَّلة في أصالة الشعوب ّ
قمة األمل خيمة ّ نواكشـوط :عبد اهلل ولد محمدو لـم يجـد بلد محـدود المـوارد كموريتانيا، قمـة األمـل مـن وجبـة مـا ِّ يقدمـه لضيـوف ّ أغنـى مـن ثقافتـه وتراثه ،فاألمـد القصير لقمـة الـذي راهنـت حكومتـه علـى اإلعـداد ّ عربية فيه لم يتجاوز ثالثة أشهر ،وهي فتـرة غيـر كافيـة للتهيئـة لحـدث كهـذا في أهميتـه وضخامتـه ،لـذا كان البديـل هـو ّ أقـل تكلفة إنشـاء القريـة الثّقافيـة لكونها ّ غني ًا وأكثـر تأثيـراً ،فكانت بذلـك معرض ًا ّ للـزوار العـرب قّدمـت فيـه مختلـف ألـوان وفنـون الثّقافـة الموريتانيـة فـي سلسـلة خيام اشـتملت على ثمانية عشـر جناحاً، التنـوع الثّقافـي الموريتاني. عكسـت ُّ متعـددة عرضـت تضمنـت الخيـام أجنحـة ِّ 8
فيهـا نمـاذج مـن المخطوطـات النـادرة، والكتـب والمؤلفـات النفيسـة لعلمـاء شـناقطة فـي العصـر الذهبـي الزدهـار الثّقافـة فـي هـذا البلـد ،وأخـرى لمؤلفيـن كل خيمـة خصصـت لعنصـر محدثيـنّ . تراثـي أو علمـي ،كخيمـة المحظـرة الموريتانية ،السينما ،اآلالت الموسيقية، كما ُخ ّصصت للشعر واألدب والفكر خيمة خاصـة ،حيـث صدحـت حناجـر الشـعراء المفكريـن بنـدوات فكريـة ولهثـت ألسـن ِّ وثقافيـة كان مرتكزهـا إضـاءة الجوانـب القطر القصي التاريخية والعلمية في هذا ُ مـن خريطـة الوطـن العربـي ،رغـم قربـه الوجدانـي والمعرفـي الـذي يجعلـه فـي المركـز .وممـا ُق ِّـدم ضمـن هـذه النـدوات ثلاث محاضـرات ،كان موضـوع األولـى حـول إسـهام العلمـاء الموريتانييـن
فـي نشـر الثّقافـة اإلسلامية وعلومهـا، وخصصـت المحاضـرة الثانيـة للحديـث عـن أهميـة البعـد الثّقافـي فـي مسـتقبل التكامـل العربـي مـع إبـراز جوانـب مـن الـدور الموريتانـي فـي هـذا التكامـل، فيمـا تركـزت المحاضـرة الثالثـة علـى البعـد الكونـي والنزعـة اإلنسـانية فـي التصـوف الشـنقيطي ودورهـا فـي تعزيز التواصل بين ثقافات الشـعوب .كما أقيم بالقريـة الثّقافيـة معـرض َفنّـي لفنانيـن موريتانييـن ،اشـتمل علـى جنـاح خـاص بالطوابـع البريديـة يحكـي تطـور هـذه الصناعة التاريخية ،باإلضافة إلى عينات مـن اآلثـار والتحف النـادرة لمجموعة من العملات التـي اسـتخدمت فـي البلاد عبـر فضلا عـن منتجـات الصناعـة تاريخهـا، ً التقليديـة ونمـاذج مـن األلعـاب التقليديـة
عرضـت بالمخيـم الثّقافـي الـذي أراده القائمـون علـى إعـداد القمة فرصة تعطي للزائـر العربي صـورة مصغرة ومتكاملة عن مختلف أوجه الحياة الموريتانية في مجـاالت ثقافيـة واجتماعيـة واقتصادية.
الخيمة والناقة وبالرغم من توفر منشأة قصر المؤتمرات التـي تتسـع السـتضافة القمـة العربية ّإل أن الدولـة عـن وعـي آثـرت الخيمـة كرمز عربي أصيل لبلد ال يزال كثير من سـكان صحرائـه الفسـيحة يعيشـون تحت ظالل الخيـام العربيـة األصيلة ،ذلك أن تاريخ االجتماعات السياسية الموريتانية يرتبط بهـذا الرمـز ،فقـد انعقـد أول اجتمـاع ألول حكومـة موريتانيـة فـي نواكشـوط تحـت تشـيد المبانـي الحكوميـة خيمـة قبـل أن ّ وينشأ القصر الرئاسي ،وتبنى العمارات. ولكـي يتكامـل البعد التراثي في اسـتقبال ضيوف القمة العربية حشدت الدولة على طـول طريـق المطار ِجمـا ًال يحمل ركبانها أعلام الدول العربيـة بأيديهم على إحدى ليتين الناقة والنخلة» في مشهد يرى «الع َّ َ المجتمـع الموريتانـي فيه أسـمى درجات االعتبـار واإلكبـار للضيوف الكبار ،وهذا العـدد الكبيـر الـذي يناهـز ألفـي رأس مـن اإلبـل ليـس غريبـ ًا علـى بلـد تقـدر ثروتـه الحيوانيـة بالماليين ،وقد ازدان الركبان بالزي التقليدي. المسـتقبلون ّ
ليالي القمة قمـة األمـل تحـت الخيـام أنعشـت ليالـي ّ التراثيـة المجهـزة بآخـر تقنيـات االتصـاالت بقـراءات شـعرية وألـوان من الغنـاء والفلكلـور الوطنـي ،عـاش فيهـا أبنـاء الخيمـة العربيـة الواحـدة لحظـات مـن االنسـجام والتناغم ،بعيـدًا عما يكدر صفـو حيـاة العربي في ربـوع كثيرة من وطننـا العربـي الكبيـر الـذي أثقلته اآلالم والمآسـي بالهمـوم ،وقـد أمتعـت ليالـي السـمر جمهورهـا العربـي بأحلـى ما شـدا الشـعراء أو تغنَّـى بـه المطربـون مـن كلمـات ترحيـب ،أبرزها نشـيد مـن إنتاج اتحـاد األدبـاء والكّتـاب الموريتانييـن بـأداء فرقـة أهـل النانـة تفيـض كلماتـه بالترحيـب :
مرحب ًا قادة العروبة أه ً ال
قد نزلتم بين الجوانـــح سهال
هذه موريتاني شعب أصيل
عربي قد طاب فرع ًا وأصال
طلع الخير منذ أتيتم إلينا أم ً ال رائع ًا لقاء ووصال
فهنيئ ًا لكم وطبتم مقام ًا
مرحب ًا مرحب ًا .وأه ً ال وسهال
كمـا تفاعـل مـع هـذه المناسـبة كّتـاب ومفكروهـا؛ المـدون والسـفير موريتانيـا ِّ السـابق المختار ولد داهي كتب عن القمة بوصفهـا فرصـة «للتسـويق اإلعالمـي» والسياسـي للبلـد الموريتانـي ،وقـال: «يتمنـى العديـد مـن الحادبين على الوطن أن يتـم وبإحـكام وجـودة وإتقـان تنظيم بعـض المناشـط العلميـة والثّقافيـة الموازيـة يومـ ًا أو يومين قبل موعد القمة كتنظيـم «مخيـم للمحظـرة الموريتانيـة» التنوع العرقي و«مخيم للشـعر» و«مخيم ُّ والثّقافـي» و«مخيـم للحريـات العامـة والديموقراطيـة» وذلـك ضمانـ ًا لتوفيـر مـادة فكريـة وثقافيـة وسياسـية تنفـع الضيـوف اإلعالميين و«االسـتراتيجيين» وتحقِّـق مزيـد التعريـف اإليجابـي بالبلـد وتقدمـ ًا عطـاء علميـ ًا وتنوعـ ًا ثقافيـ ًا ُّ ً سياسـياً .»...فيمـا اتجـه كّتـاب آخـرون
نحـو التنظيـر للقمـة ،محلليـن ظروفهـا بإبراز جملة من التحديات التي تواجهها؛ الكّتاب حـرر الكاتـب محمـد األميـن ولـد َ إذ ّ مقالـة مطولـة عـن القمـة اسـتعرض فيهـا «مالمـح خطـة اسـتراتيجية شـاملة ومتعـددة األبعـاد قـد يكون من شـأن نظر ِّ كل أو بعـض جوانبهـا أن قمـة األمـل فـي ّ ّ يفضـي ولـو جزئيـ ًا إلـى تخطـي الجمـود الـذي تعانـي منـه أوضـاع األمـة العربيـة حاليـاً ،وصـو ًال إلـى تلبيـة طموحـات الشـعوب العربيـة وإلـى االسـتجابة لتوقعاتهـا ،وتحقيقـ ًا فـوق هـذا وذاك لما تنيطـه هـذه الشـعوب مـن آمـال عريضـة «قمة بهـذه القمـة التـي أطلـق عليهـا اسـم ّ األمـل». وختـم الكاتـب مقالتـه بخطـاب موجـه متوسلا منهـم تحقيـق آمال إلـى القـادة، ً الشـعوب المكلومـة التـي ترمقهـم بعيـون الرجـاء« :وهذا األمـل الذي تنتظر تحقيقه الجماهير العربية بفارغ الصبر ،ال يجمل بالقادة العرب أن يخيبوه وال أن يخذلوا الشـعوب العربيـة التـي لم تعـد تتحمل ما تعانيـه بلدانهـا مـن فرقـة ووهـن وتبعيـة وهـوان رغـم إمكاناتها الهائلة ووسـائلها الضخمـة .وال بـأس فـي هـذا المقـام أن قمة األمل هذه ،قول يستحضر العرب في ّ شـاعرهم أبـي الطيـب المتنبي:
ولم أ َر في عيوب الناس عيب ًا
كنقص القادرين على الكمال 9
موسم «أصيلة» الثّقافي.. ما له وما عليه أصيلة :محمد عبد الصمد اإلدريسـي في النصف الثاني من شهر يوليو/تموز المنصـرم انتعشـت الحركـة فـي نهـارات وليالـي مدينـة أصيلـة الصغيـرة النائمة علـى بحـر المحيـط األطلسـي شـمال المغـرب .لـم يكـن الحـدث ّإل «موسـم أصيلـة الثّقافـي» الـذي جمـع حشـد ًا مـن رجـال الثّقافـة واإلعلام وأصحـاب القـرار فـي دورتـه الثامنـة والثالثيـن، حاثـ ًا خطـاه نحـو إتمـام العقـد الرابـع حولـت مـن مسـيرته .تجربـة ممتـدة ّ المدينـة إلـى قبلـة ثقافيـة ولـم تعـد معها أصيلـة تلـك القريـة المنسـية .فـي هـذه الـدورة حضـر مثقفـون وفنانـون مـن الـدول العربيـة وأوروبـا وآسـيا ،مـا يعنـي أن الملتقـى يضيـف زوار ًا جـدد ًا كل موسـم بصحـة جيـدة. ويبـرز عنـد ّ ومؤسسـاتها ال تخفـى المدينـة شـوارع ّ على بصمة الموسـم أينما ولَّْي َت وجهك؛ يكـون السـؤال الملـح :هـل حقـ ًا قـد تفلح الثّقافـة فـي ترميـم وجـه المدينـة؟ في العادة تقف الثّقافة منتظرة عطاءات رجـال السـلطة والمجالـس المنتخبـة من أجل إنجاح أوراشها ،لذلك من الصعوبة مسـاءلة الثّقافـة عن دورها فـي التنمية. لكـن ما يشـجع على السـؤال بهـذا الصدد هـو اجتمـاع قيـادة المنتـدى الثّقافـي فـي يـد الجهـة المشـرفة علـى مجلـس المدينة كل الظـروف هنـا ذاتهـا ،مـا يعنـي أن ّ متيسـرة لجعل الموسـم مختبر ًا لتجريب ّ التحـول إلـى ورش علـى ّقافـة ث ال قـدرة ّ لتنميـة المدينـة أو فشـلها فـي ذلك. قبـل أربعيـن سـنة كان المـكان عبـارة عـن قريـة مغمـورة فـي شـمال المغـرب تدعـى «أصيلـة» أو «أزيال» ال يسـمع بها 10
ّإل القريبـون منهـا .فـي الـدورات األولـى للموسم اضطر بعض المثقفين أن يتنقل مـن محطـة القطـار إلـى حيـث كان يعقـد الملتقـى بواسـطة دابـة فـي غيـاب أي وسـيلة مناسـبة للمواصلات إذاك ،كما المؤسسة .شيئ ًا يحكي لنا بعض أعضاء ّ فشـيئ ًا بـدأ موسـم أصيلـة يراكـم دوراته األولـى ،مكتسـب ًا شـهرة بيـن المثقفيـن بـادئ األمـر الذيـن اكتشـفوا هـذه المدينة الصغيرة والهادئة التي سـتصبح في ما بعـد قبلـة للمثقفيـن والكتـاب والمبدعين مـن داخـل المغـرب وخارجـه .وحسـب مؤسسـة عبد اللطيف الطود أحد أعضاء ّ كل ما يمكن أن تراه موسم أصيلة ،فإن ّ في هذه المدينة اآلن هو بفضل موسـمها الثّقافي .مركز الحسـن الثاني للملتقيات الدوليـة حيـث تنظـم النـدوات كان فـي أصلـه عبـارة عـن إسـطبل للـدواب ،كما يؤكد محدثنا ،مفيد ًا أنه عند أول معرض ّ َفنّي فيه للفنان المغربي «فريد بلكاهية» كل شـيء ما يزال بالقصدير قبل أن كان ّ تتحـول األمـور إلـى مـا هـي عليـه اآلن. ّ تـردد المثقفيـن والمسـؤولين وبسـبب ّ الكبـار علـى المدينـة أصبحـت الحاجـة ملحـة لتطويـر البنيـة التحتيـة للمدينـة ّ بما فيها حتى الكهرباء والماء الذي سبب متاعـب فـي الـدورات األولـى للموسـم. ويسـجل الموسـم أن فنانين شاركوا في تبليـط بعـض أرصفـة المدينـة ،كمـا هـو الشـأن بالنسـبة للشـارع الرئيسـي الـذي أنجـز رصيفه األول الفنان فريد بلكاهية ورصيفـه الثانـي الفنـان المليحي.
إشعاع يجلب المشاريع ال تخطـئ عيـن الزائـر للمدينـة المنشـآت الثّقافيـة الكبـرى التـي تنتصـب فـي قلـب
المدينة .مركز الحسن الثاني للملتقيات، ومكتبة األمير بندر بن سـلطان ،وقصر مؤسسـات أنشـئت بتمويلات الثّقافـةّ ، خليجيـة مـن السـعودية والكويـت واإلمـارات وغيرهـا .مـا بيـن تلـك المنشـآت ُي َغّيـر «موسـم أصيلـة» وجـه المدينـة الصغيـرة ،وتتقـدم األشـغال علـى قـدم وسـاق فـي مشـاريع أخـرى جلبهـا اإلشـعاع الثّقافـي .مـن بينهـا متحف أصيلة ،الممول من قبل صندوق أبوظبي للتنمية ،ومشروع بناء مدرسة ممولة من ذات الصندوق ،الذي يسـاهم كذلك في بناء المحطة الطرقية للمدينة. هـي مراكـز ثقافيـة تنتعش فيهـا الحركة طيلـة أيـام الموسـم ،لكـن هـذا ال يمنـع مـن اإلشـارة إلـى أن لبقيـة أيـام السـنة فيهـا وجهـ ًا آخـر .إحـدى الشـابات المسـاعدات فـي التنظيـم سـألناها كـم المؤسسـات فـي السـنة، تشـتغل هـذه ّ تتـردد فـي اإلجابـة 15يومـ ًا فـي فلـم ّ الصيف ،لتترك لضحكتها إتمام الجواب المخجـل .ليسـت الشـابة الوحيـدة التـي تصـرح بهـذه الحقيقـة الظاهـرة للعيان. يؤكـده عـدد مـن المتابعيـن هـو أن فمـا ّ مؤسسـات أصيلة التي جلبها الموسـم، ّ علـى الرغـم مـن أهميتهـا ،ال تـدب فيهـا الحركـة ّإل لمـدة أسـبوعين فـي الصيـف أو السـتضافة بعـض المنتديـات أو الملتقيـات الوطنيـة أو الدوليـة األخـرى أليـام معـدودات ُأخـرى .مكتبـة بنـدر بـن سـلطان علـى سـبيل المثـال ببنائهـا الفخـم ال تتضمـن قاعـة المطالعـة فيهـا قليلا مـن إصـدارات منتـدى أصيلـة ّإل ً وبضعـة أعـداد مـن مجلات خليجيـة. وهـو األمـر الذي يحتاج ،حسـب عدد من التقيناهـم ،إلـى تجديـد النظـر مـن أجـل
وضـع اسـتراتيجية تقريبيـة يجـد معهـا المواطـن ذاتـه فـي قلـب النشـاط الثّقافي طيلـة السـنة. فـي انتظـار ذلـك فـإن ما يوفره الموسـم مـن إشـعاع ثقافـي علـى الرغـم مـن حـول محدوديـة زمنـه فـي السـنة ،فقـد ّ مدينـة صغيـرة نائمة في شـمال المغرب والفّن إلى معلمة عربية متلحفة بالثّقافة َ واألدب وتسـبق صورتهـا فـي المخيلـة العثـور عليهـا فـي الخريطـة. مـن يتجول في المدينة القديمة ألصيلة، يكتشف مقدار األريحية والصفاء واألمان الـذي يمكـن أن تبثـه األمكنـة فـي نفـوس زوارهـا لحظـة تكـون مزينـة بمظاهـر الجمـال واإلبـداع والنظافـة .هنـا مـن أهـم إضافـات الموسـم التـي ال تخطئهـا ّية على العين ،إضفاء لمسة جمالية َ وفنّ المدينـة وتربيـة النـشء على ذلك .يوفر ذلك لسكانها وخاصة من األطفال ثقافة بصريـة ،حيـث تبـدو المدينـة العتيقـة كمتحـف حـي .يؤكـد أحمـد فتاح بن عالل صاحب مكتبة بالمدينة ،وهو الذي رافق الموسـم الثّقافـي منـذ نشـأته ،أن «هـذا المهرجـان َخ َّـرج الكثيـر مـن الفنانيـن الشـباب وجعـل لمدينـة أصيلـة سـمعة ّيـة وثقافيـة كبيـرة وهي التـي لم تكن َفنّ معروفـة فـي الخريطة وال تذكر حتى في أحـوال الطقـس علـى حـد قولـه ،قبـل أن تتحـول مـن 10آالف نسـمة إلـى أكثـر ّ مـن 30ألـف نسـمة حاليـاً» .ويضيـف بـن علال ،أن شـعار «الثّقافـة فـي خدمة التنميـة» الـذي تـم رفعـه منـذ الـدورات األولى قد أعطى ُأكله بعدد من المشاريع وبالتـردد الكبيـر التـي عرفتهـا المدينـة ّ عليهـا ومـا خلقـه المنتـدى فيها من رواج غيـر مسـبوق». ّيـة كمـا يكتشـف الزائـر ،أن األعمـال َ الفنّ التي يسـاهم في رسـمها أطفال المدينة؛ تظـل سـنة كاملـة وال يمكـن -حسـب طفلا ُي َخ ّـرب حائط ًا المشـرفين -أن تجـد ً أو يمسـه بسـوء وقـد كانـت لـه مسـاهمة فـي تزيينـه. تجربـة موسـم أصيلـة الطويلـة متفـردة فـي الوطـن العربـي ،وفـي المغـرب كل سـنة العديـد مـن الـذي تتضخـم فيـه ّ المهرجانـات ،والتـي علـى الرغـم مـن
ضرورتهـا ّإل أن نمطيتهـا وغيـاب رؤية أو استراتيجية لجعلها في قلب التنمية، ال يضيـف أي جديـد ويجعـل الحاجـة ملحـة لظهـور مهرجانـات ثقافيـة كبرى. فـي أصيلـة حتـى الشـوارع والسـاحات والحدائـق فيهـا شـيء مـن روح الثّقافة، حيث أغلبها يحمل أسماء مفكرين وأدباء مغاربـة وعـرب؛ مثـل محمـود درويـش والطيـب صالـح ومحمـد عابـد الجابـري. وعـدا بعـض األحيـاء األخـرى فـي الجهة الخلفيـة التـي ال تحمـل أي أسـماء مـن
ذلـك النـوع ،بـل توصـف بأنهـا أحيـاء صفيحيـة ،وينتظـر سـكانها أن يشـملهم نمـاء المدينـة وجمالهـا؛ تكسـر أصيلـة قاعـدة المهرجانـات الغنائيـة بمهرجـان ومتنـوع يهتـم بالفكـر متميـز ثقافـي ّ ّ والفّن ،وأفلح في إخراج المدينة واألدب َ مـن محليتهـا الضيقـة إلى مدينة مشـرعة على آفاق أرحب ،حيث المعنى الحقيقي كل شي ُم َؤْن َسن وأليف للمدينة التي فيها ّ بمـا في ذلـك الجدران حينما تحكي قصة أو تاريخ ًا أو تحتضن رسـومات ملونة. 11
استطالع
الجزائـر العاصمة (مركز المدينة)
متخصصــةُ ،تعنى بالشــأن الثّقافــي ،واألدبي مجــات أدبيــة وثقافية تفتقــر الجزائــر ،إلى ّ ِّ والفكــري ،علــى غرار العديد من الدول العربية التي لها تاريخ عريق في هذا المجال ،واألمثلة كثيرة .الجزائر ،حتى اليوم ،لم تفلح في إنجاز مجلة ثقافية واحدة تســتمر في النشــر .فأين يكمن الخلل؟ لماذا فشلت مجالت مثل «آمال» و«الثّقافة» ،و«التبيين» في االستمرارية والصمود ،وانتهت كلها إلى التوقف واالختفاء ،وأحسنها حاالً ،إلى عودة متذبذبة وخجولة؟
غياب المجلّات الثّقافية في الجزائر أزمة مج ّلات أم أزمة سياسة ثقافية؟ نوارة لحــرش (الجزائر) استطالعّ : حـول هـذه المسـألة ،يتحـدث لنـا محمد جديـدي (باحث بقسـم الفلسـفة بجامعة موضحاً« :عدم وجود مجالت قسطينة) ِّ ثقافيـة في الجزائر واقعي ًا أو افتراضي ًا (إلكترونيـاً) ،يبعـث علـى االسـتغراب حقـاً ،وربمـا األغـرب منـه أننـا ال نجـد المجلات الثّقافيـة ذات القيمـة العاليـة 12
ّيـاً ،وهـذا األمـر فـي فكريـ ًا وعلميـ ًا َ وفنّ ّ ّ حـد ذاتـه يثيـر فـي نفوسـنا تسـاؤالت عـن سـر هـذا الغيـاب» .جديـدي أضـاف بنبـرة متأسـفة« :هـذا الواقـع يبعـث فينـا السـؤال :إذ كيـف لبلـد بمـا فيه من مثقفيـن شـهرتهم وصلـت خـارج الديـار كل وبمـا فيـه مـن طاقـات إبداعيـة فـي ّ وبكل المؤهالت التي المجاالت الثّقافية ّ ّيـاً ،ماديـ ًا ومعنويـ ًا يمتلكهـا فكريـ ًا َ وفنّ
وحتـى جغرافيـ ًا وتاريخيـ ًا ولكـن فـي نهاية المطاف ال تجد في أكشاكه مجلة المتنوع ثقافيـة واحدة تبرز هذا الزخم ّ كل هذا نأسف لعدم وجود ثقافياً؟ ،مع ّ ّيـة أو مجلـة ن ف مجلـة أو مجلـة فلسـفية َ ّ أدبيـة أو علميـة أو غيرها من المجالت الثّقافيـة العامـة أو المتخصصـة». مـن جهتـه ،يقـول الكاتـب والمترجـم السـعيد بوطاجيبـن« :المجلات ،سـمة
حضاريـة تعكـس وجـه البلـد ،ولـو جزئيـاً ،وهـي ضروريـة فـي حياتنـا، أن افتقارنـا إلـى هـذه المجالت، وأظـن ّ ّ مهـم مـن طرائـق تكريـس جـزء وإلـى ّ تقاليـد المطالعـة ،يرجـع إلـى عوامـل مركبـة ومتداخلـة ،وقـد يتعـذر الفصـل بينهـا بالنظـر إلـى تكاملهـا .إن لـم قابلا تكـن ،فـي جوهرهـا ،أمـرا واحـد ًا ً للتجـزيء» .صاحـب «اللعنـة عليكـم جميعـاً» ،أضـاف فـي ذات المنحـى: أو ًال مسـألة المقروئيـة :يجـب «هنـاك ّ اإلقـرار بـأن القـراءة فـي البلـد متدنيـة جـداً ،وللتمثيـل علـى ذلـك يمكـن أن نأخـذ الجامعـة الجزائريـة عينـة مثالية تعكـس الوجـه الشـاحب ِ للكتـاب عامة، دون الحديـث عـن المجلات( .سـكان الجامعـة) غيـر معنييـن بالمطالعـة، نظر ًا ألسـباب كثيـرة مرتبطة بالوضع العـام ،وبالجانـب الذرائعـي المباشـر. حيـث توجـد المنفعـة اآلنيـة التـي تفيـد تحقيـق شـيء لـه عالقـة بالشـهادة أو بالرتبـة ،ال غيـر». مبرراً« :أيض ًا إذا كان بوطاجين واصل ّ الطلبـة غيـر مسـتعدين لقـراءة مؤلـف فـإن االهتمـام فـي المكتبـة ،ومجانـاًّ ، بشـراء مجلـة سـيكون فـي المرتبـة مـا بعـد األخيـرة مـن انشـغاالتهم .ال يمكـن فـي هـذا الوضـع المتـردي الحديـث عـن الكتب التفكير في مجالت ما دمنا ال نقرأ ُ «أمـا إن المجانيـة»َ . وخُلـص متسـائالًّ : كنّـا نقصـد مجلات بحجـم المجلات العربية المكرسـة ،فتلك مسـألة ترتبط ومؤسسات ،بداية أساس ًا بعدة هيئات َّ بـوزارة الثّقافـة ،مـرور ًا بالشـركات والجمعيـات ومختلـف الـوزارات ومـا يمكـن أن يقدمـه رجال األعمال ،كما في المشـرق والخليـج ،وهـذا مسـتبعد فـي ظـل الفهـم الحالـي للثّقافـة ودورها في تنشئة األمة .تبدو المسألة ها هنا شبه سريالية ،ألنّه من المستبعد أن يضحي النـاس بأموالهـم خدمة للأدب والفكر، ثـم مـاذا نفعـل تلـك آخـر انشـغاالتهمّ . بمجلات ال ُتقـرأ؟ ذلـك هـو السـؤال». أمـا الناقـد والكاتـب بـن سـاعد قلولـي، فيرى أن انعدام سياسـة ثقافية شـاملة هـو السـبب فـي افتقـار الجزائـر إلـى
مجلات ثقافيـة وأدبيـة .ويقـول فـي هـذا الصـدد« :أعتقـد ،أن خلـو الفضـاء الثّقافـي الجزائـري مـن مجلات أدبيـة فكرية ودوريات متخصصة على درجة ال ومضمونـاً، كبيـرة مـن النوعيـة شـك ً أو عـدم اسـتمرارية وديمومـة بعـض المجلات األدبية القليلة جد ًا التي كانت تصـدر بيـن الحيـن واآلخـر ،يتجـاوز مجرد البحث في أسباب الغياب الفادح أو االنقطـاع ،لكونـه يتصـل اتصـا ًال وثيقـ ًا بمسـألة انعـدام رؤيـة واضحـة المعالـم لسياسـة ثقافيـة شـاملة ،يتـم فيهـا التخطيـط لمشـاريع ثقافيـة علـى اتساع الثراء اإلبداعي الجزائري السائد بمختلـف مكوناته» .وحسـب المتحدث، يفتـرض فـي السياسـة الثّقافيـة التـي ترعاهـا الـوزارة الوصيـة أن يتـم المـدون والمكتوب، االعتمـاد فيهـا على ّ بـدل التركيـز علـى مظاهـر الثّقافـة الكرنفاليـة ،وأن توفـر مـا يكفـي مـن أسـباب الدعـم المالـي غيـر المشـروط للهيئات الثّقافية والمدنية .ويرى أيض ًا أن المجالت يجب أن تشرف عليها ُنخب ّ متعـددة (أدبـاء ونقـاد) تشـتغل بهـدوء ِّ ضمـن محـاور معرفيـة وإبداعيـة، تتنـاول قضايا اإلبداع والثّقافة العربية المعاصـرة. وحـول األسـباب فـي غيـاب مجلات ثقافية في الجزائر يصرح ساعد قلولي رجـع بأنـه :مـن الطبيعـي أن نجـد مـن ُي ِ ذلك إلى العوامل السوسيو -اقتصادية وغالء سعر الورق وغيرها من الحجج الواهيـة .ومع ذلك ،يضيف المتحدث، كل المجالت األدبية الجزائرية التي بأن ّ تظهر وتختفي بين الحين واآلخر ،هي مجرد مغامرات وجهود أفراد ال يملكون مـن اإلمكانـات ما يجعل هذه المشـاريع تقـاوم إرادة البقـاء ،ولذلك سـرعان ما تختفي. بـدوره يسـتغرب الكاتـب والمترجـم عميـر ،مـن كـون الجزائـر بـوداود ّ وبـكل إمكانياتهـا الماليـة والثّقافيـة ّ قائلا: ثقافيـة واحـدة، مجلـة تملـك ال ً ّ أن للجزائـر تقاليـد راسـخة «ال شـك ّ فـي إنتـاج المجلات الثّقافيـة ،ففـي الثمانينيـات كانـت تصـدر مجلات:
األصالة ،الثّقافة ،ألوان ،وآمال ،التي ُتعنـى بـأدب الشـباب ،الشاشـتان التي ُتعنـى بالسـينما ،ناهيـك عـن المجلات المخصصـة لألطفـال والمـرأة ،وكانـت تعتبـر بفضـل ما كانـت تحويه من مواد ثقافيـة وفكريـة عميقـة ،بمثابة مراجع للبحـث ال منـاص منهـا .لألسـف جميـع هـذه العناويـن اختفـت ماعـدا عنوانا أو عنوانيـن ،عـادت مجلـة الثّقافة ومجلة مثلا ولكنهـا عـودة متعثرة إن لم آمـال ً نقـل فاشـلة ،وهكـذا وجـدت الجزائـر نفسـها بإمكانياتهـا الماليـة والثّقافيـة دون مجلـة ثقافيـة ذات بـال ،فـي حيـن تحفـل دول عربيـة أخـرى بمجلات ثقافيـة راقيـة فرضـت وجودهـا علـى السـاحة العربيـة .وفـي هـذا السـياق أشـاد بـوداود فـي تصريحـه ،ببعـض التجـارب النوعيـة التـي حقّقتهـا بعض الـدول العربيـة والخليجيـة فـي إصـدار مجالت والحفاظ على خط استمراريتها وازدهارهـا ،وقـال بهـذا الخصـوص: «يبـدو فـي السـنوات األخيـرة ،وهـو أمر يدعو حّق ًا للتنويه ،أن ثمة تنافسـ ًا قائمـ ًا علـى مسـتوى الوطـن العربـي فـي السـعي إلـى إصـدار مجلات ثقافية بإمكانيـات ماديـة وبشـرية هائلـة، مجلات ال تطمـح إلـى تحقيـق مكاسـب تجاريـة علـى اإلطلاق ،بدليـل أن البعـض مـن هـذه المجلات ترفـق معهـا ولعل المتفحص لسـعر ُكتبـ ًا مجانية... ّ المجلـة يندهـش للثمـن الزهيـد الـذي قـد ال يغطـي حتـى ربـع صفحات من مجلة تتجاوز صفحاتها في كثير من األحيان مئة صفحة ،ناهيك عن ِ الكتاب المرفق كهديـة مجانيـة». ويختـم بـوداود اسـتطالعنا بالقـول: مـا ُيهـدر مـن أمـوال علـى مهرجانـات ومناسـبات عابرة كان يمكن اسـتثماره فـي إنتـاج وإصـدار مجلات ثقافيـة محترمـة منتظمـة اإلصدار ،تسـعى إلى التعريـف بالتاريـخ الجزائـري القديـم والمعاصـر واالطلاع علـى الثّقافـة الجزائريـة المتنوعـة التـي هـي فـي أمـس الحاجـة إلى منبـر يتيح التعريف بزخمهـا وتنوعهـا إلـى مختلـف البلـدان العربيـة والعالـم». 13
عدد من الروائيين العرب يتفقدون خارطة كتارا (أرشيف)
جائزة «كتارا» للرواية العربية في دورتها الثالثة الدوحـة :طه عبدالرحمن المؤسسـة العامـة للحـي مـع إعلان ّ الثّقافـي «كتـارا» فتـح بـاب الترشـح للـدورة الثالثـة مـن جائزة كتـارا للرواية العربية للعام 2017م ،وما يصاحبها من مهرجـان للرواية ،يكـون المتلقي العربي أمـام فضـاء جديـد ،عندمـا يجـرى تحفيـز المبدعين لضخ منتوجاتهم األدبية ،بغية إثراء حالة اإلبداع ذاتها ،وهو ما يستفيد منـه بالتالـي القـارئ العربـي. مـن هنـا ،وحينمـا تواصـل «كتـارا» فتـح البـاب أمـام نسـخة جديـدة مـن جائزتهـا للروايـة العربيـة ،لتضـاف إلـى األخـرى المعروفة باسـم (#جائزة_كتارا_تويتر) فـي الثّقافـة والفنون ،والتـي ُتنظمها عبر موقع التواصل االجتماعي «تويتر» ،فإن كل هـذا الفضـاء مـن الجوائـز ،يعكـس أن ّ هـذا الصـرح الثّقافي يسـعى إلى أن يكون لـه تواجـده عبر ألـوان اإلبـداع المختلفة، بـل ومسـايرة المنصـات الرقميـة ،بهـدف إثـراء وتنويـع المشـهد الثّقافـي ،بحيث ال يكـون مقصـورًا علـى جنس أدبـي بعينه. 14
ويعكس هذا أن مثل هذه الجوائز لم تكن بمحـض المصادفـة ،بـل ُولـدت فـي إطـار مؤسسـية ،وهـو مـا تقـر به اسـتراتيجية ّ المؤسسـة ذاتها ،بأن هدفها إثراء المشـهد ّ الثّقافـي محليـ ًا وعربيـ ًا ودوليـاً ،لتضاف إلـى غيرهـا من الفعاليات األدبية الكبيرة التي تقيمها ،ومنها أروقة الكتب ،بجانب المعـارض التشـكيلية المتنوعـة ،خلاف فعاليـات أخـرى ،ذات صلـة بالمشـهد الثّقافـي العربي. ومـع اإلعالن عن النسـخة الثالثة لجائزة بكل ما حملته من جديد، الرواية العربية ّ تكـون هـذه المسـابقة قـد تحقّـق لهـا نقلـة تـم اإلعلان عنهـا عـام نوعيـة ،منـذ أن ّ 2014م ،مـا يجعـل أنظـار الروائييـن العـرب تتجـه صـوب هذه الجائـزة ،التي يتواصل االسـتمرار في قبول مشـاركاتها منذ وقت إعالنها -مطلع شهر أغسطس/ آب الماضي -وحتى 31ديسمبر/كانون األول ،2016دون قبول أية مشاركة بعد هـذا التاريـخ .فـي الوقـت الـذي سـيجرى فيـه توزيـع جوائـز النسـخة الثانيـة مـن ذات المسـابقة خلال الفتـرة مـن 10إلـى
12أكتوبر/تشـرين األول المقبـل. ومـن ثمـار هـذه النقلـة النوعيـة إضافـة فئة جديدة للنسـخة الثالثة من المسـابقة تعنـى بروايـات الفتيان غير المنشـورة، لفتـح المجـال أمـام الروائييـن العـرب لإلبـداع فـى مجـال جديـد ،يحاكـي فئـة مهمـة مـن الجمهـور وهـم اليافعون ،ممن تصـل أعمارهـم مـن 12إلـى 20سـنة، علاوة علـى زيادة القيمـة المادية لفئات ً الجائـزة. ويأتـي اإلعلان عـن النسـخة الجديـدة للجائزة ،بعدما حقَّقت دورتاها السابقتان تطـورًا الفتـاً .إذ تشـير األرقـام إلـى أن ّ أكثـر مـن ألـف رواية ُقدمت للمشـاركة في الجائزة بدورتها الثانية ،بعدما أصبحت قيمـة جائزتهـا 725ألـف دوالر أميركي، واسـتحداث جائـزة النقـد الروائـي .كمـا شاركت بالمسابقة 234رواية منشورة، و 732أخـرى غيـر منشـورة ،إضافـة إلـى 38دراسـة نقديـة غـرد النـص عبـر «تويتر» .ومن بين تلك المشاركات 219 مشـاركة نسـائية ،مقابـل 777مشـاركة للرجال.
جانب من معرض الرواية العربية (أرشـيف)
وتصدرت مصر الدول المشـاركة بحوالي 311مشـاركة ،تلتهـا المغـرب بنحـو 112 مشاركة ،والعراق بحوالي 100مشاركة. فـي حيـن شـاركت السـعودية بقرابـة 35 مشـاركة .بينمـا تنافـس علـى الجوائـز 7 مشـاركات مـن دول غيـر عربيـة ،مثـل السـويد وإريتريـا ونيجيريـا. تـم اسـتالم 236روايـة وبالمقابـل ،فقـد ّ منشـورة خلال الـدورة األولـى للجائزة. منهـا 85روايـة منشـورة عـام 2013م و 151روايـة منشـورة عـام 2014م. بينمـا جـرى قبـول 234روايـة منشـورة بالنسـخة الثانيـة ،مـا يـدل علـى اإلقبـال الالفـت الـذي القتـه هـذه الفئـة مـن قبـل الروائييـن العـرب. ومـن خلال مقارنـة إحصائيـة مغايـرة بيـن مشـاركات الـدورة األولـى واألخـرى الثانيـة ،فقـد أظهرت المقارنة اسـتقطاب عـدد أكبـر مـن المشـاركين فـي نسـختها الثانيـة ،مقابـل النسـخة األولـى ،األمـر الـذي يتـم تفسـيره علـى أنـه حـرص مـن الجائـزة علـى ترسـيخ مكانتهـا ،دون إغفـال أنهـا فـي طـور النشـأة ،ولكنهـا كمـا يبـدو نشـأة صاعـدة ،تسـعى إلى أن تكـون فتيـة. هـذا الرصيـد مـن المشـاركات للجائـزة، المؤسسـة يعنـي أن الفعـل الثّقافـي لـدى ّ يسـعى جادًا لتحقيق هدفه ،برفد الساحة بـكل مـا هـو الثّقافيـة المحليـة والعربيـة ّ مبـدع ،علـى نحـو مـا حملتـه شـروط عملا روائيـ ًا الجائـزة مـن أن تكـون ً
منشورًا أو غير منشور ،وليس مجموعة قصصيـة ،أو قصائـد شـعرية ،دون أن يتـم منحهـا ألي أعمـال قد سـبق لها الفوز بجوائز أخرى ،وأن يكون المشارك على قيد الحياة ،كما ال يحق له الترشح بأكثر مـن عمـل واحـد .وتشـترط لجنـة الجائزة مراعاة العمل المقدم إليها لحقوق الملكية الفكريـة وقوانيـن ولوائـح المطبوعـات تم إنتاجه بدءًا من والنشر ،وأن يكون قد ّ شـهر ينايـر وحتـى آخـر شـهر ديسـمبر/ كانـون األول 2016م ،وأن يكـون غيـر مترجم. ٍ وبنظـرة علـى مخرجـات الجائـزة ،فـإن «كتارا» تعمل على ترجمة األعمال الفائزة بمسـابقة الروايـة العربيـة إلـى اللّغتيـن اإلنجليزيـة والفرنسـية ،وطباعتهـا وتسـويقها .كمـا تقـوم بتحويـل الروايـة علاوة ّيـ ًا إلـى عمـل درامـى، ً الصالحـة َفنّ علـى نشـر وتسـويق الروايـات غيـر المنشـورة .وسـتقوم لجنـة الجائـزة بتقديم مزايا أخرى للروايات والدراسات الفائـزة .منهـا :طباعـة وتسـويق الفئـة تـم اسـتحداثها أخيـرًا والمتعلِّقـة التـي ّ بروايـات الفتيـان. ويبـدو أن ملمـح االنفتـاح علـى الثّقافـات األجنبيـة ،حاضـر فـي ذاكـرة «كتـارا» مـن خلال حرصهـا علـى ترجمـة األعمـال الفائـزة إلـى لغتيـن أجنبيتيـن ،والدليـل علـى ذلـك إعالن رسـمي لها بـأن األعمال الفائزة بالنسخة األولى هي قيد الطباعة حالياً ،وأنها سترى النور خالل مهرجان
المقرر نسـختها الثانيـة للرواية العربيةّ ، لـه شـهر أكتوبر/تشـرين األول 2016م، والذي سيشـهد اإلعالن عن الفائزين بهذه الدورة. هـذا االنفتـاح يعـزز مـن أن ركيزة «كتارا» فـي فعـل ثقافـي ،ال يقـف عنـد حـدود المحلية ،بل يتخطاه إلى العربية ،ومنه إلـى العالميـة ،وهـو الفعل الـذي يتجاوز الجوائـز الماديـة ،إلـى المنجـز الثّقافـي الشـامل ،بمـا يجعـل «كتـارا» منصـة للروايـة العربيـة ،وتعريـف الثّقافـات األخـرى بهـا. مثـل هـذا الهـدف ،حتمـ ًا سـيكون باعثـ ًا علـى تفجـر طاقـات المبدعيـن ،علـى نحو مـا ظهـر مـن مشـاركاتهم فـي المسـابقة خلال دورتيهـا الماضيتيـن ،األمـر الـذي يعكس أن هاتين النسختين من الجائزة، تطورًا واألخـرى اآلتيـة ،يمكن أن ّ تشـكل ّ بكل ما يثري المشـهد اإلبداعي للمسـابقةّ ، العربـي ،وفـي القلـب منـه الروايـة. المؤسسـة تسـتهدف مـن وراء وإذا كانـت ّ هـذه الجائـزة ترسـيخ حضـور الروايـات العربيـة المتميـزة عربيـ ًا وعالميـاً، وتشجيع الروائيين العرب ،للمضي قدم ًا نحـو آفـاق أرحـب لإلبـداع ،فإنهـا بذلـك تضـع لبنـة جديـدة مـن لبنـات تعريـف المتلقيـن بقيمـة الروايـة ،ومـدى تأثيرها فـي الواقـع المعـاش ،وإبـراز المواهـب األدبيـة الملهمـة والتحليـق بهـا في سـماء دول الخليـج والوطـن العربـي ،دون التقوقـع عنـد اإلطـار المحلـي. 15
البحث عن العالج في ما وراء األمواج ! محمد األصفـر يقـول «رمضـان الحاسـي» مواطـن ليبـي مـن بنغـازي ،بعـد أن عجـز عـن الحصول علـى دواء مـرض السـكر مـن صيدليـات ومستشـفيات المدينـة ،وصـارت حالتـه تسـوء أكثـر: «مـا الفـرق بين مريض يحرم من أدويته، وبيـن من صدر ضده حكم باإلعدام». كل مـدن ليبيا تسـوء الحالـة الصحيـة فـي ّ بشـكل حـاد ،أنـاس يموتـون بصـورة عبثية ،نتيجة نقص األدوية والمستلزمات الطبية ،بل إن بعض األطفال توفي لعدم توفر اللقاحات واألمصال .الطقس الحار، وانقطاع التيار الكهربائي المتواصل فاقم من المشـكلة ،أدوية كثيرة فسـدت بسـبب الحرارة وسـوء التخزين.
مريض في عرض البحر مـا العمـل يا أبي ؟أمر منه.. ما يأتي بك إلى ُّالمر ّإل الذي ّ كل الطرق مسدودة يا بني ..الطريق إلى ّ طرابلـس مسـدود ..إلـى سـرت مسـدود.. إلى طبرق مسـدود ..إلى سـبها مسـدود.. األلـم ال يطـاق ..الـدواء مفقود ..ال مناص مـن المغامـرة ..ويبتسـم وهـو يلعب بيده المتدليـة مـن القـارب المطاطـي فـي الماء: البحـر حبيبنـا ..البحـر حنـون ..ويترنّـم بأغنيـة شـعبية هربـ ًا من األلم: «اصاحبـت أنا والبحر.. ّ كثر خيره.. القيتا حنون.. وخيرلـي من غيره». ابنـه أبوبكـر يقـود القـارب المطاطـي، إلـى جانبـه 2جالـون وقـود ،هـي كافيـة للوصـول إلـى جـزر الجنـوب اإليطالـي، بينمـا االبـن اآلخـر علـي ،يعتنـي بأبيـه 16
الممـدد علـى فـراش إسـفنجي ،هـم عائلـة َّ من مدينة ساحلية في غرب ليبيا ،عاشوا أمـام البحـر ،عرفهـم وعرفـوه ،عاركهـم وعاركـوه ،وهـا هـم يلجـؤون إليـه فـي أوقـات الضعـف والشـّدة.
حديث في أثناء الرحلة كل الحديـث أثنـاء رحلتهـم كان عـن مـا ّ آلـت إليـه األوضـاع في ليبيـا ،األب ينظر مبـررًا مخاطرته إلـى السـماء شـاكي ًا لهـاّ ، الشـبيهة باالنتحـار ..يناجـي نفسـه قائلا :ال مطـارات وال طائرات ..وال نقود ً للتذاكـر ..وال سـيولة فـي المصـارفّ ،إل علـى جماعـات بعينهـا ..بلاد تحولت إلى سـد كبير ..سـد متنقل ..ال يسـمح للحياة تمـر... أن ّ مقبلا يصبـره ابنـه أبوبكـر، وعندمـا ً ّ «هـون عليـك يـا أبـي ..شـّدة يـده ً قائلاّ : وتزول ..اهلل كريم» ..يجيب األب بابتسامة متألمـة :ليـس أمامنـا اآلن ّإل العـودة إلى كل سـيرتنا األولـى ..إلـى الذي خلـق منه ّ شـيء حـي ..ربمـا يحيينـا مـن جديـد.. أملا فقدنـاه ..ليـس أمامنـا ويبعـث فينـا ً ّإل البحـر ..البحر صديقنا القديم ..الموت فـي المـاء ..أرحم مـن الموت في التراب.. السـمك أنظـف مـن الـدود ..الملـح أطهـر مـن الطمـي..
آمال خلف الموج األمـواج تقذف بهـم عالياً ..يرون الموت، لكن األب يطمئنهم ..ال تخافا ..لن نغرق.. يذهـب أبـو بكـر لدفـة القـارب ،يأتـي علي للعنايـة بأبيـه ،يصـب لـه نصـف كـوب شـاي سـاخن من الحافظ الحراري ،بدأت معالم جزر الجنوب اإليطالي تتضح ربما جزيرة بنات الرياح (بانتليريا) أو جزيرة المبيدوزا التي قصفها القذافي في منتصف
الثمانينيات بالصواريخ بسبب نزاعه مع األميـركان وحلف األطلسـي حول مشـكلة الميـاه اإلقليمية الدولية في خليج سـرت ومشـاكل اإلرهـاب ..الجزيرتـان قريبتـان مـن صقليـة (سيشـيليا) ..يرشـف مـن الكـوب ويلعـب بيـده فـي الماء مـن جديد، يغسـلها أو يبردها من الحرارة ،يقول له أبوبكـر ..احـذر مـن أسـماك القـرش ،قـد تعض يدك ،يرد األب ..ال تخف يا ابني، قـروش اليـم لن تفترسـني ،لن تطمع في جسـد منهـك جـاف مريـض مثلـي ،دمـي ليـس أحمـر كـي يغريهـا أو يجذبها ،دمي رمـادي بنـي ،مـاء علـى هيئـة سـخام، الحـزن علـى وطـن يتالشـى لـم يترك في جسـدي أي قطرة دم. المعالـم تتضـح أكثـر ،واألب يأمـر ابنـه بإضاءة المصباح وتوجيهه نحو بصيص الضـوء المنبعث مـن البعيد.
دم وعادات يقـول علـي سـيلتقطنا الـرادار ،األب يـرد :نعـم ..نعـم ،لكـن البحـر والمنـارة التـي علـى الشـاطئ علمتنـا أن نعتمـد علـى التواصـل اليـدوي ،التواصـل اليـدوي حيـاة تحتـاج إلـى مسـاعدة ،تمد يدهـا لحيـاة أخـرى يسـعدها ذلـك ،لـن نكـون ّإل قـرب الجزيرتيـن بانتليريـا أو المبيـدوزا ،لـو وصلنـا سـالمين سـتحل المشـكلة ،سـأتلقى اإلسـعافات الالزمـة وأسـجل فـي سـجالت اللجـوء وبعدهـا مؤسسـات سـأدخل المستشـفى ،هنـاك ّ أهليـة وإنسـانية كثيـرة تتكفّـل بعلاج مـن يعانـون مـن أمـراض خطيـرة ،إننـا نغامـر مـن أجـل اإلنسـانية ،التـي نجدهـا فـي انتظارنـا إن عبرنـا صـراط الهـول. يواصـل األب تداعياتـه :األعمـار بيـد اهلل نعـم ،ولكـن إن مـت ادفنونـي هنـا ،فـي
هـذه الجـزر. يقـول أبوبكـر :يقولـون إن الجنـوب اإليطالـي بـه عائلات كثيـرة مـن أصـول ليبيـة ،بـل إن وجوههـم تشـبه وجـوه الليبييـن وكذلـك عاداتهـم. قائلا :نعـم يـا ابنـي ،عندمـا يبتسـم األب ً احتلـت إيطاليـا ليبيـا عـام 1911م ،نفـت إلـى جزرهـا أعـدادًا كبيـرة مـن الليبييـن، منهـم مـن عـاد بعـد أن وضعـت الحـرب الكونية الثانية أوزارها بانتصار الحلفاء علـى المحـور ،ومنهـم مـن بقـي هنـاك، وصـار إيطاليـاً ،سـنجد فـي هـذه الجـزر أناسـ ًا يشـبهوننا بـل سـنجد أقـارب لنا لو بحثنـا فـي سـجالت البلديـات والمحاكـم اإليطاليـة ،لـن نشـعر بالغربـة ،سـنحس كأننـا فـي طرابلس أو بنغازي أو مدينتنا صبراتـة ،أنـا زرت الجنـوب اإليطالـي كثيـراً ،وجنـوب إيطاليـا يختلـف تمامـ ًا عـن شـمالها ،أحيانـ ًا تحـس أنهـم ليسـوا دولـة واحـدة. الوقـود نفـد ،القـارب صـار يجـري وفـق
مـزاج األمـواج ،األب شـعر بالقلـق ،وأمـر ابنيـه باالنتبـاه ،أرجـو أال يعـود بنـا جنوبـاً ،أرجـو أن تكـون الرياح شـمالية، اذهـب يـا علـي مـع أخيـك ،حـاول أن تجدف ناحية الشـمال ..وينظر األب فوق وسـط الظلام ..نعـم إلـى هنـاك ..ناحية تلـك النجـوم ..مـازال سـاعة علـى الفجـر تقريبـاً ،ونـرى أين نحن بوضوح ..وألن الريـاح اشـتدت أكثـر أرجـح ،أننـا نقترب مـن جزيـرة بنات الريـح بانتليريا ،فلندع الريـاح تقودنـا ،نحو جزيرة كانت لنا في يـوم مـن األيـام ،اتخذهـا القائد اإلسلامي أسـد بـن فـرات مركـزًا لجيشـه اسـتعدادًا لفتـح صقليـة ،سـأحكي لكـم عنهـا عندما نصـل ونرتـاح.
حكايات مشابهة قارب مطاطي تتقاذفه األمواج ،ليس لهم معين سوى اهلل ..األمواج لن تغرقنا مهما علـت ..نحـن لسـنا غـزاة ..نحـن لـم نجـد
كل العلاج فـي الوطـن ،فجئنـا إلـى هنـاّ ، أمـوال وطننـا تذهب إلشـعال نار الحرب، كل يـوم أكثـر، شـيء مؤسـف أن نمـوت ّ قابلا حتـى ال نجـد شـيئ ًا فـي أنفسـنا ً للمـوت ..هـل سـنواصل ماراثـون المـوت هـذا ..والفجـر يجيب ..صـار بإمكان األب أن يـرى الخيـط األبيـض مـن األسـود.. وبـدأت المعالـم حولهـم تتضـح ..زورق إيطالـي سـريع يطلـق منبهـات وأضـواء يقترب منهم ..بعد أن تأكد أنهم ال يحملون أسـلحة ،قادهـم إلـى سـفينة أكبر ،رفعوا القـارب المطاطـي بمـن فيـه برافعـة إلـى سـطح السـفينة ..لتبـدأ المرحلـة الثانيـة مـن الرحلـة ..وهـم يرتفعـون مـن المـاء إلى اليابسـة المؤقتة على ظهر السـفينة، كانـوا يعانقـون بعضهـم البعـض ،كانـوا يبتسـمون ،كان األب يرفـع يديـه ،داعيـ ًا اهلل وشـاكرًا لـه علـى سلامة الوصـول. لم تكن هي المغامرة الوحيدة للهجرة غير الشرعية من أجل العالج ،قبلها بشهر كان قد سـبقهم أب بابنته المصابة بمرض في الدم ،وكان قد وصل فعالً ،ودخلت ابنته المستشـفى ،وأجـرت العمليـة التـي تعـذر إجراؤهـا فـي ليبيـا ،وبعدهمـا تواصلـت الهجرات .منذ أسبوع فقط وصل مجموعة شـباب صغـار إلـى الشـاطئ اإليطالـي، عبـر قـارب هجـرة غيـر شـرعية ،كانـوا يبتسـمون للمغامـرة ونجاحهـا ،إحـدى القنـوات الفضائيـة أجـرت حـوارًا معهـم، عن أسـباب هجرتهم ،وقال أحدهم :هرب ًا من الحرب ،ال أريد أن أكون مقاتالً ،آخر قـال الشـيء نفسـه ،وعـن سـبب اختيـار إيطاليـا دون غيرهـا ،ابتسـم الشـاب قائلا :الطليـان قريبون منـا ،نلتقي معهم ً فـي أشـياء كثيـرة ،نحـن نشـجع فرقهـم ومنتخبهـم فـي كـرة القـدم ،أيضـ ًا نحـب أكلتهـم الشـهيرة المكرونـة بأنواعهـا. شـاب آخـر قـال :إن إيطاليـا ليـس هـي الهـدف ،هـي محطـة عبـور إلـى أوروبـا الغربية التى ال تعاني أزمات اقتصادية، يمكنـك أن تقـول إننـا هنـا فـي إيطاليـا بصـدد اسـتراحة محـارب ال أكثـر ،لقـد حاربنـا البحـر وانتصرنـا عليـه ،واآلن فلنخـض حـروب اليابسـة. 17
رسالة من المهجر
الدورة « »70لمهرجان المسرح في مدينة أفينيون «عنـدما تسـتحيل الثورة ..يبقى هناك المـسرح» أفينيـون :محمد برادة ـغ مــهرجان المسـرح العالمـي لمدينـة بـلـ َ َ عـامــه السـبـعين هذه الفرنسية أفينيون َ السـنة ( 24 - 6يوليو/تمـوز ،)2016 فـي أجـواء سياسـية/اجتماعية شــديدة ظــل اعــتداءات إرهابية، التـوتــر ،وفي ّ وحشـية ،بالغـة الـعنـف ...وهو مـهرجان متفــرد في أهدافه ومـمــارساته ،انطـلق ّ العام ،1947باقـتراح مـن الشاعر الكبير شــار ،وتــنفيذ ســليل المقاومـة رونـي ْ واحتــضان المخـرج الفرنسـي الشـهـيــر جـــان فــيـلار .وكان الهدف هو ترسيخ ْ فــكرة المـســرح فـي وصـِفــه سـاحة ٍ بــصوت عموميــة للحـوار والتـفـكـيــر مـرتفع ،على نحو ما كان عليه المسـرح اليونانـي القديـم ،وأيضـ ًا الستكشـــاف المواهـب الجديـدة وجـعــل المســرح مشــارك ًا في اسـتشراف مــستقبل فرنسا 18
بعـد خروجهـا مـن االحتلال والحـرب منهكـة ،متطلعـة إلـى إعـادة الــبناء لـالنــخراط في األزمنــة الـحديــثة ..ولم تكن سبعون سنة عـمر ًا قـصيـر ًا وال فـتـرة عاديـة مـن التاريـخ ،ولكـن المهرجـان، والجداالت الصاخبة خالل ّ كل التحوالت ِ وحاملا ألصـداء كان حاضـر ًا ومشـارك ًا ً أفكار المثقفين والمفكــرين الفرنسـيـين، قـريب ًا من أسئلة السياسة ،حريص ًا على ــكونات ّيـة والم ّ تـطـويــر األشـكال الفنّ ُ للـفـــرجة المســرحية. الجماليـة ُ الــدورة التي تـرأســها المخــرج في هذه ْ ِ الـالمــع أوليـفيــيه ّبـــي ،كان والكاتـب اخــتــيار مسـرحيات الــعرض الرسـمي مـراعيــ ًا لعالقـة النصـوص والعـروض باإلشـــكالية السياسـية فـي مـعــناها العــميق الـذي يــتوخى طــرح أســئلة ذات طابع فكري وفلــسفي ،يعـيد النظر فـي عالقـة اإلنســان بالقيــم والمبـادئ،
الـشــر التـي تـستــولي وفـي ظاهــرة ّ جــر َدهم لـت والجماعـات علـى األفــراد ُ ّ مـن إنسانـيتــهم وتحولهـم إلـى وحـوش ضاريـة .أمــا مســرحيات «األوف» التـي ـنـتـقــى ،فــقد الـم َ ُعَرضـت خـارج اإلطـار ُ بلـغ عددهـا هـذه الســنة ألـفــ ًا وأربعمئة مسـرحية ألنهـا مفتوحـة أمـام الجميـع، ـعــرض فـي هــواة ُ ومـحتـرفيــن ،وتــُ َ أماكــن صغيـرة وبإمكانـات محـدودة، وعلـى أصحابهـا أن يطوفوا على الناس فـي الشـوارع والمقاهـي ليـقـنــعوهم بــجودة مـا يـَـعــرضون .وهـذا القســم ْ مـن المســرحيات يـمـثــل نوعـ ًا مـن دمـقــر َط ِ ـــة المسـرح ،إذ يــفتح األبـواب َ َ ُمشـرعة ليختار الجمهـور العروض التي يــريد ،وليشـارك فـي تـقــيـيـمــها مـن تـتــم فـي قاعات خلال المناقشـات التـي ّ وسـاحات مخـصــصة لذلـك. المالحظـة التـي تسـتــرعي االنتبـاه فـي
هـذه الـدورة ،أن عــدد ًا ال بـأس بــه مـن العروض ،يـقوم على نـوع من االقـتباس أو االنطلاق مـن نصـوص روائيـة أو سـيــناريوهات تســمح للمخـرج أن يــحقّق مـا يــريده فـي مجــال التمثيــل والسينـوغرافـيــا والرقـص واسـتعمال الفيديـو وشاشـة العـرض السـينمائي، أي االنـفتــاح على األشكال التـعـبـيــرية األخــرى لـتــوظيفها فـي المــسرح الـذي هـو قـــادر ،مــثــل الروايـة ،علـى اسـتـيــعاب وامتصـاص معظم األشـكال ّية واستـــثمارها لـلاقتراب مـن الفــنّ زخــم المشـهد الحياتـي وإمــكاناتــه الـرقــمية ..وبالـفعــل ،أخـذ اإلخــراج حـيــز ًا ( )Les Damnésكبيـر ًا مـن ّ االهتمـام فـي هـذه الـدورة ،خاصـة مـســرحية «الملعونــون» التـي انطلــقت مـن سيــناريو فيلـم إيطالـي شـهــير أخــرجه لـيشـينــو فيسكونتي وعاد إليه المخرج البلجيكي الـفالمنــدي إيـفـوفــان هـــوف ،مـن منظـور خـاص وبــإخــراج مـتـمـيــز ،جعــل مـن مسـرحيـــته حدثـ ًا ّــي ًا وثقافيـ ًا لهـذا الــمهرجان .وإذا كان فـن ّ فيسـكونتــي قد قــال عن «الملعونــون»: «أردت أن أنـجــز فـيلم ًا عن النـازية ألنـها ُ كشـفت انـقــالب ًا تاريخـي ًا في القيم»؛ فـإن ْ حــدد غــرضه مـن المخــرج الـبلــجيكي َّ مـســر ِ حــة الســـيناريو على هذا النحــو: َ ِـر كيف أن الـبشـر قـادرون «أريد أن أظـه َ على أن يتخــلوا عــن إنـسـانـيـتـهم؛ومن ِ شكـــل أقدم ذلك في ثـم ــت إلـى أن ِّ ْ سعـي ُ الـشـــر» .نعم ،ثـيــمة الشــر من طـقــس ٍ ّ المــتــعددة هي التي غلبت في وجوهـــه ِّ علـى مسـرحيات المهرجـان ،مـن خلال مواقـف وأحـداث تـستــوحي التاريـخ القريـب (صعـود الوطنــيات الضيقة في ثالثــينيات القـرن الماضـي ومـا رافقهـا مـن تـتــويج للنازيـة والفاشيـسـتــية، وصعـود األصوليـة الدينيـة المـتــطرفة وما يصاحبها اآلن مـن إرهاب ووحـشـية وأفكار ظالمية .)...على هذا النحـو ،كان المنـاخ الســـياسي األوروبـي والعالمـي حـاضــر ًا بــقوة في مسـرحيات مـهرجان أفـينــيـون ،لكـن من خالل أشكال مقنعة أبعــد ما تكون عــن اللهجة الــخطابية أو الـوعظ .وكـانت مـأسـاة الشـرق العـربي قـدمــه اللبــناني حاضـرة مـن خلال مـا َّ علي شــحرور والسـوريـان محـمد العـطار
وعـمــر أبـو ســـعدة .وعـــدد الروايـات الــمـمـســرحة أكـثــر مـن أن ُيــحصى، ُ انطالقـا مـن دوستـويفســكي وهيــجو ً ووصـو ًال إلـى روائـييــن معاصريـن، خاصـة النــمساوي تــوماس بــرنارد صاحب «ســاحة األبـطال» التي أخـرجـها ليــقــدم لوبــا، ِّ الـبـولونــي كرسـتيان ّ ّ الشـــر جــذور عــن بــرنارد تــأمالت لنـا ّ وكــراهية اآلخــر وفـشـل الفكر والثـقافة فـي مـقاومــة الــعدوانية واإلرهـاب. على ضوء هذه اإلشــارات ،يمكن القول إن مهرجـان أفينــيون الـذي تــعرض الماضـيـتـيـن، لـالنـتـقـــاد في الـسنـتـين ْ قـد صحــح الموازيـن والـتصــور، وفـريقـــه أن واسـتــطاع المديـر بـّــي ُ يحقّـقــوا الــهدف الـمــزدوج المطلـوب: الحرص على المـسـتــوى الفنّــي ،وربط المسـرحيات بـأســئلة راهنـة تـشــغل المواطــنين والمثقـفــين والفاعــلين فـي تــردده مــعظم حـومـــة الســياسة .ومـا ّ ْ مســرحيات المهرجان الســبعين ،هو أن يـمــر من فــترة حــرجة ،مـعتـمة، العالم ّ وأن ال مـجــال إلخـــفاء الحقيقـة أو ْ الســكوت علـى مـــزالق الـسـياسـيــين الذيـن يـستـطيــبون الـثـرثــرة وافتعـال الخصـــومات ،خاصـة فـي فــرنسا .بـد ًال يـؤكــد أوليـفـيـيــه ّبــي علـى مـن ذلـكّ ، الـمـمــكنات، أن المســرح مـقــترن ّ بــحب ُ وصـوت رفــض لدكتاتورية الـحـزن وأنه ٌ ٌ للــتـبــشــيــر بـإمــكـــان الـفــرح. والـواقــع أن مـهرجـــان أفـيـنـيــون هـذه بــرهــن علـى مـا يـتـمـــتع بـه الســـنة، َ ٍ خاصـيات في المقاومة وزرع المـسرح من الفــرح وحب الحياة رغم أجــواء الرعــب وهجمات اإلرهاب األصولي المـتـطرف. وقد كانت ليلة 14يوليو/تموز اخــتـبار ًا للمـسـرحـيـيــن وجمـهــورهم الـغـفـيــر، ألن فــاجــعة مدينة نــيــس فـاقــت جميع درجـات الــوحشية وأذهلـت النـاس إلـى أقصـى حــّد ،وقلبـت ليلـة االحــتفــال التاريخـي إلـى مأسـاة .ومـع ذلـك، ورواد سرعان ما انــتــبــه المـسـرحيون ّ ـفـوتـــوا الـمهــرجان إلـى ضـــرورة أن يـُ ّ علـى اإلرهابيـيــن مـا قــصدوا إليـه، فـاستـمــرت العـروض إلـى سـاعات مـتـأخرة وظـلت ساحات المدينة وأزقـتها امـتــداد ًا لــفضاء المسـارح ،يـمــلؤها الغنـاء والــرقص والحـوار والتــعليقات
الـمتــضامنة مـع ضحايـا نـــيس الذيـن الـوحــش. دهـســتــهم شـاحنة اإلرهابي ْ علـى هـذا النـــحو ،اسـتــطاع الـمســرح يـؤكــد حضـوره فـي المـعــركة التـي أن ّ يخوضهـا الشـعب الفرنسـي ضــّد قــوى ــل علـى الظلام والـتـطــرف ،وأن يـدلـّ َ أنـه ،في جـوهـره ،ثــورة دائمة تـعـمـل علـى طــرح األسـئلة وإعـادة النـظــر في ما هــو قـــائم أو مــوروث ،ألن التـفكيـر الـحــر ،والحـوار الجماعي هما الـضمانة ّ لـصيانة المجـــتمع من الـتـفكـك ،وتجديد بالــقـيــم اإلنــسانية حـيويـــته وتـعــلقه َ التـي تـعــطي للــحياة مـعنــى ،وتـقــف ســـّدا في وجــه الــوحشية والـكــراهية. مـا اســترعى انـتـبـاهي أيض ًا وأنا أتابع بــعض ًا من مســرحيات المــهرجان ،هــو تـجــســد أن لقاءات أفـيـنــيون الــسنوية ّ نــموذج ًا لمـا يسـمى حضـور الثقافـة فـي المجتمـع .ذلـك أن الحديـث عـن هـذا الحضـور يـقـــتضي عالقة عضوية بــين المواطــنين ومجـاالت الثقافـة ،كمـا هـو الشــأن في هذا المـهرجان الذي اســتطاع، طوال سبـعين سنة ،أن يـخلق جـمهـور ًا َ مــواظباً ،مشـاركاً ،مشــجع ًا ومـنـتقــداً. بعبـارة ثانــية ،اسـتطاع مهرجـان أفـيـنــيون أن يجـعــل المـسرح جـزء ًا من يـحـجون إليه ،أو حياة المواطنين الذين ّ أولئك الذين يتابعون مــسرحياته حيــن مــدن تعـاد علـى امتـداد السـنة في بــقية ُ فــرنسا .ومـثــل هذه العالقة الملموسة، هـو مـا يحقــق حضـور الثقافة بــوصفها غــذاء ضــروريا للمواطـنيـن. أمـام األزمـة السياسـية التـي تعيشـها فرنسـا ،خاصة من خالل صعود أقصى اليمين ،يـعـزف الشباب عن االنتـماء إلى المؤسسـات حـزب أو منظمـة ،ألن هـذه ّ تــبدو عــاجزة عـن تـغيـيــر بــنيات المجتمـع؛ لكـن يــبقى أمامهـم المــسرح، ال مــن أجل الهروب أو االســتسالم ،بــل ألن فــضاء المســرح يـجــعلنا ،على حــّد تــعبير أحـد الصحافيـيــن ،نحافـظ علـى اإلرادة المــشدودة إلى األمــل السياسـي ــرح. الـم ِ المتجـّدد عـبــر ِخطـاب المسـرح َ 19
مقال
الجئون في أولمبياد ريو دي جانيرو
خطيب بدلة يتمتـع الرياضيـون ،فـي مختلـف أنحـاء َّ بحـظ يفلـق الصخـر ،ليـس العالـم، ّ ويهتمـون بهـم، يحبونهـم، النـاس ألن ّ َ وبأخبارهـم ،وبتفاصيـل حياتهـم الشخصية ،وأسماء أقاربهم ،وزوجاتهم، محبتهـم سـهلة، وصديقاتهـم ،بـل ألن َّ ِ ـب ح ي فـأن التعقيـد. وشـبه خاليـة مـن ُ َّ مثلا ،ويعشـق المـرء فريـق برشـلونةً ، َ ُ يحـب فريـق أو ميسـي، ليونيـل الالعـب ّ ونجمـه فرنشيسـكو توتـي ،لـن رومـا، َ ُيكلِّفه سوى القليل من الثقافة الرياضية مجاناً ،عبر التي تأتي إلى داخل منزلهّ ، المحطات الرياضية ،بينما العشرات من ّ الفرنسـي «جان يحتاج قارئ الفيلسـوف ُ ّ أيـوب لكي يفهم بـول سـارتر» إلى صبر ّ عشـرة بالمئـة مـن أفكار كتابـه «الوجود ومـن هـو شـغوف بفلسـفة والعـدم»َ ، المعـري عليـه أن يبحـث عـن كتبـه فـي ّ زوايـا المكتبـات القديمـة ،وأن ُيمضـي أوقاتـ ًا عصيبـة في اسـتيعاب لغة كتابه «الفصـول والغايـات». السحري الذي عاَل ُم الرياضة ،هذا العالم ّ المهتميـن مـن يتسـلَّح بمئـات المالييـن ِّ المتحمسـين إلـى َحـّد الجنون ،يسـتطيع ِّ يوميـاً ،باألشـياء أن يفاجـئ النـاس، ّ الغريبة ،كأن يأتي بالعبين من مشاهير كـرة القـدم المتقاعديـن ،الذيـن أصبحـوا ويشكل منهم فريقاً، من ذوي الكروش، ِّ جبارة لإلعالن عن إعالمية ويبـدأ حملـة ّ مبـاراة تجمعهـم مـع نجـوم كـرة القـدم 20
بشـبان وبنـات الحالييـن ،أو أن يأتـي ّ ِّ ويْركبهم ة، الخاص االحتياجات ذوي من ّ ُ المتحركـة ،ويجعلهـم الكراسـي علـى ِّ يبدعـون فـي لعبـة كرة السـلّة ،أو الكرة الطائـرة ،ويحشـد لهـم مـا يملأ مالعبـه بالجماهيـر ،كمـا يسـتطيع المعلِّقـون يحولـوا العب ًا ذا مهارات الرياضيـون أن ِّ ّ عاليـة إلـى أسـطورة ،كمـا يسـتطيع إنـزال سـمعة العـب المعلِّقـون أنفسـهم َ آخـر إلـى الحضيـض ،بدعوى أنـه تلفَّظ تنم عن تمييز عنصري ..وهكذا بعبارات ّ دواليك. المدبـرة لهـذه االبتـكارات العقـول إن ِّ الرياضيـة ،هـي -فـي الحقيقـة -شـديدة عقـول ال َت ْغَف ُـل واأللمعيـة ،هـي الـذكاء ٌ ّ عـن كـون مشـكلة الالجئيـن قـد أصبحـت متقدمـة فـي الئحـة اهتمـام ّ تحتـل مرتبـة ِّ ومنظمـات الحكومـات والمواطنيـن َّ المجتمـع المدنـي ،فـي الـدول األوربيـة قوانينهـا بقبـول الالجئين، التـي ُتلزمهـا ُ كل أشـكال التمييـز واحترامهـم ،ومنـع ّ ضدهم .وعليه، س َّ ار َ التـي ُي ْحَتَم ُل أن ُتَم َ منظمـي أولمبيـاد التمعـت ،فـي ذهـن ِّ فكرة تشكيل فريق البرازيل لعام ُ ،2016 تعـداده عشـرة العبيـن، مـن الالجئيـن، ُ اختيـروا مـن بين ثالثـة وأربعين العباً، جنسـيات مختلفـة ،وأن يحـزم يمثِّلـون ّ ويتوجهـوا إلـى «ريـو هـؤالء حقائبهـم َّ دي جانيـرو» فـي البرازيـل ،ليكونـوا محـط أنظـار المالييـن ،فـي مختلـف ّ وإن كان ثمـة بضعـة العالـم. أنحـاء ْ مالييـن أخـرى مـن البشـر ال يتملَّكهـا
الفضـول للفرجـة على األلعاب األولمبية ينضـم هـؤالء إلـى فلربمـا المختلفـة، َّ ّ بقيـة المشـاهدين ،إكرامـ ًا ألعيـن فريـق ّ األقـل. الالجئيـن ،علـى ّ إن مـا يجـري علـى أرض الواقـع ،فـي قـارات العالـم ،مـن دسـائس مختلـف ّ وتنافـس وظلـم وحـروب ومؤامـرات ُ تـؤدي إلـى حـروب طاحنـة وثـورات ّ أهليـة ،شـيء ،ومـا يجـري فـي عالـم ّ الرياضـة المثالـي شـيء آخـر ،فهنـاك أنظمـة سـيما التـي تحكمهـا ٌ دول -ال َّ بأقـل اإلنسـان عام ُـل فيهـا َّ ُ شـموليةُ -ي َ عام ُـل به الكالب من احترام ،بدليل ممـا ُت َ يت عن الجئ سوريَ ،مَثل أمام نكتة ُر ِو ْ محكمـة اللجـوء فـي إحـدى المقاطعـات األلمانيـة ،فسـألته المحقِّقـة :كيـف كنتـم تعيشـون فـي سـورية؟ فقـال لها :عيشـة متعجبـة :أوه ..عظيـم! الـكالب ،فقالـت ِّ لمـاذا تطلبـون اللجـوء عندنـا إذن؟! احت ِجَز طالبو الحياة ،القادمون من بالد ُ االسـتبداد ،علـى حـدود دول الجـوار، أيامـ ًا باأللـوف ،وباتـوا فـي العـراء ّ وليالـي ،ومـات شـيوخهم وأطفالهـم: َ بالحـر الشـديد ،أو بالصقيـع إمـا ّ ّ المهربـون تعلُّقهـم واسـتغل والزمهريـر، َّ ِّ بالحيـاة ،فأركبوهـم فـي شـاحنات وسيارات نقل الرمال ،والقوارب الغنمّ ، المطاطيـة البدائيـة. ّ مـات بعضهـم برصاص حـرس الحدود، إرهابيـون ،ومـات لالشـتباه بأنهـم ّ رجـال وضَربهـم البعـض اآلخـر غرقـاًَ ، ُ الشـرطة ،فـي بعـض دول العبـور،
(البصمـة) ،بغيـة أن ليجبروهـم علـى َ مخصصاتهم من تحصل تلك الدولة على َّ المخيمات المتحدة ،وزربوهـم في األمـم َّ َّ والكامبـات ،وتعاملـت معهم دول أخرى اتفاقيـات ووقِّعـت ِّ كمـا لـو أنهـم قطيـعُ ، عملية تدفُّقهم. ضبط بين الدول من أجل ّ تتحكم بمنطق المشـكلة األساسـية التـي َّ أبناء اإلنسانية ،في العصر الحديث الذي أقدارنـا للعيـش فيـه ،تتَل َّخـص سـاقتنا ُ بازدواجيـة المعاييـر؛ فسياسـات الدول العظمـى تجـاه البلـدان المتخلِّفـة ،التـي ودمويـون، يتحكُـم بهـا طغـاة أغبيـاء َّ ّ شـديدة النفعيـة (البراغماتيـة) :فمـن جهـة أولـى ،نـرى أن هـذه الـدول (مـع أنهـا قـادرة) ال تمـّد يدهـا لوقف ما يجري هنـاك مـن قتـل وتهجير للنـاس ،وتدمير للبنى التحتية والمنشآت الحيوية ،ومن جهـة ثانيـة نـرى أن الحكومـات نفسـها
المتحضـرة التـي تمثِّلهـا والشـعوب ّ يسـتقر ويصبح للجئ ،بعد أن يقدمون ّ ِّ ّ وجـوده أمـر ًا واقعـاً ،مـا يلـزم للعيـش الكريـم ،مـن مـأوى وطعـام وثقافـة وتسـلية واحتـرام. هـذا (المكيـال) الثانـي ظهـر علـى نحـو جميـل في موضـوع األولمبياد ،فالفريق الـذي اختيـر للمشـاركة يتألَّـف مـن اثنين السـوريين ،وخمسـة مـن مـن الالجئيـن ِّ جنـوب السـودان ،واثنين مـن جمهورية الكونغـو الديموقراطيـة ،وواحـد مـن اللجنـة إثيوبيـا .وقـد اشـترطت عليهـم ُ المشاركة تحت العلم األولمبي، المنظمة ِّ َ فـي إشـارة ضمنيـة تقـول :إننـا ،اآلن، نرتفع فوق الصراعات السياسـية ،ولن نتحـدث فـي أسـباب اللجـوء وتفاصيلـه المزعجـة ،وسـنبقى ضمـن إطـار الرياضـة.
حمـل الالجـئ السـوري إبراهيم الحسـين الشعلة األولمبية في أثينا ،وركض عبر للجئيـن في العاصمـة اليونانية. مخيـم ّ َّ ولهـذا األمر دالالته ،بالطبع. وجـاء فـي األخبـار أن اللجنـة األولمبيـة ـي دوالر لتغطيـة الدوليـة رصـدت َ مليون ْ تكاليف إعداد الالجئين العشرة للمشاركة فـي األولمبياد. أنـوه بـأن الـدول أن أحـب أخيـراً، ّ ِّ المتحضـرة مطاَلبـة ،اليـوم ،أكثـر مـن ِّ أي وقـت مضـى ،بالعمـل علـى تهيئـة ّ الظـروف المواتيـة لعـودة هـؤالء الناس الطيبيـن إلـى بالدهـم ،واألخـذ بأيديهـم ِّ إلقامـة أنظمـة ديموقراطيـة فـي البلاد التـي جـاؤوا منهـا ،تحميهـم مـن الظلـم والبطـش ،وبذلـك تـزول عنهـم صفـة (الالجـئ) التـي تنطـوي علـى الشـيء الكثيـر مـن الغضاضـة. 21
ما ّ تبقى من األولمبياد
عبد الله كرمون ق ــرأت ف ــي م ــا مض ــى كتابــ ًا أت ــى في ــه مؤلفـــه الفرنســـي علـــى مخاطـــر ركـــوب الدراجـــة الهوائيـــة علـــى الفتيـــات. وإذا علمنـــا أن الكتـــاب قـــد ُوضـــع فـــي فتـــرة المجابهـــة الحرجـــة بيـــن فرنســـا وألمانيـــا ،فإننـــا ســـوف نكـــف ســـريع ًا عـــن تمحيـــص األســـس العلميـــة لتلـــك المخـــاوف ،ألنهـــا ال تعـــدو أن تكـــون صـــادرة حتمـــ ًا عـــن ظـــروف هـــوس وخشـــية مـــن العقـــر ،وبالتالـــي عـــن حميـــة زائـــدة فـــي الحـــث علـــى زيـــادة التناس ــل والتكاث ــر م ــن أج ــل حش ــد ق ــوى بشـــرية هائلـــة فـــي مواجهـــة عـــدو قـــد جع ــل م ــن مبادئ ــه األول ــى صف ــاء ،ق ــوة ونقـــاء العـــرق. ربمـــا لـــن نجانـــب الصـــواب إذا مـــا زعمن ــا ب ــأن الب ــارون بيي ــر دو كوبرت ــان لـــم يكـــن نائيـــ ًا عـــن هـــذا التوجـــه االســـتراتيجي عينـــه ،عندمـــا قـــام ســـنة 1896بإحيـــاء التقليـــد اليونانـــي القديـــم المســـمى باأللعـــاب األولمبيـــة. فق ــد كان ــت حينه ــا هزيم ــة فرنس ــا س ــنة 1870علــى يــد ألمانيــا (أو اإلمبراطوريــة البروســـية) ماثلـــة بعـــد فـــي األذهـــان، خاصـــة أن الجرمـــان كانـــوا قـــد أولـــوا أشـــد االهتمـــام للصالبـــة الجســـمانية وللرياضـــة التـــي تكفـــل ذلـــك .كان البـــارون دو كوبرتـــان يســـعى بذلـــك ضمنيـــ ًا إلـــى حـــث الفرنســـيين علـــى كل مالحقـــة الركـــب األلمانـــي ،وبـــذل ّ الجهـــود المتـــاك الســـاح ذاتـــه الـــذي طعن ــت ب ــه فرنس ــا وفق ــدت حينئ ــذ لزم ــن 22
منطقتـــي األلـــزاس واللوريـــن. لـــم تكـــن فكـــرة اقتـــراح إعـــادة ممارســـة األلعـــاب األولمبيـــة وتنظيمهـــا عل ــى نط ــاق دول ــي ه ــي باك ــورة األف ــكار ـا ،ب ــل الت ــي ش ــغلت ب ــال الب ــارون طوي ـ ً كانـــت آخـــر صرخاتـــه فـــي الـــوادي، والتـــي ســـمعت -لحســـن حظـــه -فـــي األخي ــر .ف ــإن ل ــم تتحّق ــق رغبت ــه ف ــي أن تقـــام أولـــى دورات تلـــك األلعـــاب فـــي فرنس ــا ،فق ــد كان ل ــه م ــا أراد بع ــد أرب ــع ســـنوات ،وحظيـــت باريـــس بتنظيـــم ألعـــاب ســـنة ،1900تزامنـــ ًا مـــع قيـــام المع ــرض العالم ــي وافتت ــاح ب ــرج إيف ــل. بـــدأ البـــارون مســـاره الرياضـــي، متأّث ــرًا بالنم ــوذج الترب ــوي اإلنجلي ــزي، أهميـــة التربيـــة البدنيـــة بالتأكيـــد علـــى ّ وإعطائهـــا المكانـــة التـــي تليـــق بهـــا ـا بصح ــة ف ــي المناه ــج المدرس ــية ،قائ ـ ً القـــول المأثـــور إن العقـــل الســـليم ال يتخـــذ لـــه مـــاذًا ّإل جســـم ًا ســـليماً. ولـــم يلجـــأ الرجـــل إذن إلـــى فكـــرة إعـــادة بعـــث جديـــد للتقليـــد الـــذي دأب عليـــه العالـــم اإلغريقـــي القديـــم فـــي الدعـــوة إلـــى ممارســـة معاصـــرة لهـــا علـــى نطـــاق واســـعّ ،إل بعدمـــا لـــم تـــاق جهـــوده فـــي اإلصـــاح التربـــوي آذانــ ًا صاغي ــة ف ــي فرنس ــا ،ول ــم يأخ ــذ أحــٌد مأخ ــذ الج ــد م ــا منح ــه م ــن أهمي ــة قصـــوى لضـــرورة إدراج التماريـــن الرياضي ــة ف ــي المق ـ ّـررات التربوي ــة ف ــي المـــدارس .مـــن هنـــا التفـــت إلـــى العاَلـــم اليونانـــي باعتبـــاره النمـــوذج المحتـــذى
ملمحـــ ًا بهـــذا فـــي النهضـــة األوروبيـــةّ ، المعنـــى إلـــى جـــدوى الرياضـــة التـــي كان معلمـــو اليونـــان يلقنـــون أســـس ممارس ــتها لتالمذته ــم ،ب ــل كان ــت ج ــزءًا ال يتجـــزأ مـــن التكويـــن الشـــامل الـــذي كل متعلِّـــم .مـــا يفســـر يتلقـــاه وقتئـــٍذ ّ وجـــود عـــدد كبيـــر مـــن األلعـــاب فـــي اإلغري ــق القديم ــة ،مث ــل األلع ــاب الدلفي ــة (التـــي تتضمـــن إضافـــة إلـــى المباريـــات الرياضيـــة ،مبـــاراة فـــي الموســـيقى ِ والنيمّيـــة؛ وليســـت األلعـــاب والغنـــاء) األولمبيـــة ّإل جـــزءًا منهـــا واســـتمرارية لهـــا .وتعـــود تســـميتها إلـــى المركـــز الدينـــي أولمـــب الـــذي كانـــت تقـــام فيـــه نح ــو حوال ــي 776قب ــل مي ــاد المس ــيح ف ــي أقص ــى تقدي ــر؛ ألن التاري ــخ الدقي ــق للشـــروع فـــي تنظيمهـــا ال يـــكاد يعرفـــه أحـــد فـــي حقيقـــة األمـــر .كمـــا أن علـــة كل مـــرة ال تـــكاد ُتعـــرف؛ ّ إقامتهـــا ألول ّ مـــا هنالـــك هـــو أنهـــا كانـــت تكتســـي كل شـــيء طابعـــ ًا «دينيـــا» ،باعتبـــار أن ّ كان يج ــري فيه ــا بمش ــيئة إل ــه م ــا ،كم ــا أن األلع ــاب األولمبي ــة كان ــت تق ــام عل ــى شـــرف كبيـــر اآللهـــة زوس ،كمـــا كانـــت تقـــام األلعـــاب األخـــرى فـــي أماكـــن كل أربع ــة أع ــوام ،إكب ــارًا مخالف ــة ،م ـّـرة ّ آللهـــة أخـــرى. تجـــدر اإلشـــارة إلـــى أن فتـــرة هدنـــة مقدس ــة تمت ــد طيل ــة م ــدة إقام ــة األلع ــاب األولمبي ــة ،يع ــم فيه ــا الس ــلم والس ــام، فـــي خضـــم التبـــاري الـــذي يخالطـــه االحتـــرام واأللفـــة.
غيـــر أن المشـــاركة فـــي األلعـــاب لـــم تكـــن مفتوحـــة ،كمـــا قـــد يتبـــادر إلـــى ذهـــن الكثيريـــن ،فـــي وجـــه الجميـــع، ذلـــك أنـــه يشـــترط فـــي المرشـــح إليهـــا أن يكـــون إغريقيـــاً ،ذكـــرًا ثـــم حـــراً. فليـــس فيهـــا موقـــع قـــدم ألجنبـــي ،أو المـــرأة أو لعبـــد. هنـــاك مـــن يحـــاول تبريـــر منـــع النســـاء فـــي المشـــاركة فيهـــا ،بحجـــة كـــون المتباريـــن يكونـــون خاللهـــا بالضـــرورة عـــراة .غيـــر أن ذلـــك إذا محتمـــا فـــي العالـــم اليونانـــي مـــا كان ً القديـــم ،فمـــا تكـــون حجـــة البـــارون الفرنس ــي ال ــذي أحياه ــا وأغل ــق ب ــدوره بابهـــا فـــي البدايـــة فـــي وجـــه الجنـــس األنث ــوي؟ كت ــب س ــنة « :1900إن البط ــل األولمب ــي الوحي ــد والحقيق ــي ه ــو الف ــرد الذكـــر (!»)... يبـــدو أن األلعـــاب األولمبيـــة القديمـــة قـــد تـــم منعهـــا مـــن طـــرف اإلمبراطـــور ثيـــودوز ســـنة 393بعـــد ميـــاد المســـيح ،ألنـــه اعتبرهـــا مجـــرد ممارس ــات وثني ــة .أم ــا ثي ــودوز الثان ــي فلـــم يكتـــف بمنعهـــا وإبطـــال تنظيمهـــا، وإنم ــا أم ــر س ــنة 426ميالدي ــة بتدمي ــر المعاب ــد والهي ــاكل كلي ــة ،مم ــا أدى إل ــى طم ــس أث ــر الم ــكان برمت ــه بع ــد تعرض ــه بعـــد ذلـــك لزلزاليـــن هائليـــن. صحيـــح أن الكتـــب القديمـــة ظلـــت مـــع ذلـــك تحمـــل بيـــن طياتهـــا أصـــداء تلـــك األلعـــاب ،التـــي لـــم تخفـــت أبـــداً، إلـــى أن اكتشـــف الرحالـــة اإلنجليـــزي
المعـــروف ريتشـــارد تشـــاندلر موقعهـــا التاريخ ــي م ــن جدي ــد س ــنة .1776ول ــم تك ــف التحري ــات األركيولوجي ــة م ــذ ذاك، ُ خاصـــة وأن بعثـــة مـــن المستكشـــفين حـــددوا ســـنة 1829 الفرنســـيين قـــد َّ مـــكان ذلـــك الموقـــع التاريخـــيّ .إل أن المدرســـة األركيولوجيـــة األلمانيـــة هـــي التـــي ســـتعيد إبـــراز الموقـــع مـــن أنقاضـــه ،مـــا بيـــن ســـنوات 1875 و 1881وذلـــك بإيعـــاز وعلـــى نفقـــة اإلمبراط ــور فريدري ــك الثال ــث .م ــا فت ــح بالتالـــي المجـــال لدراســـة األلعـــاب، ومعرفـــة تفاصيـــل االضطـــاع بهـــا، وارتباطهـــا الصميمـــي بذلـــك الموقـــع «الدينـــي». هكـــذا إذن وجـــد البـــارون بييـــر دو كوبرتـــان مـــن جهتـــه ضالتـــه فـــي تلـــك األلعـــاب ،وســـاهم بإحيائهـــا، فـــي إحيـــاء الـــروح اليونانيـــة التـــي ال فصـــا مـــا بيـــن العقـــل المتفتـــح تـــرى ً والمنطلـــق والجســـم المتمـــرن علـــى الحركـــة والنشـــاط العضلـــي .ثـــم إن دو كوبرت ــان نفس ــه كان يبح ــث ع ــن رافع ــة لفكـــره الســـلمي ولرغبتـــه فـــي خدمـــة الشـــبيبة الفرنســـية فـــي األســـاس .ألـــم يأنـــف فـــي يفاعتـــه مـــن االنخـــراط فـــي الس ــبيل العس ــكرية الت ــي كان ــت تبش ــره حينهـــا بمســـتقبل زاهـــر؟ هنـــاك ،علـــى كل ،قطيعـــة شـــبه تامـــة بيـــن األلعـــاب األولمبيـــة القديمـــة واأللعـــاب المعاصـــرة ،ســـواء تعلـــق األمـــر بأهدافهـــا ،أو بطـــرق تنظيمهـــا
ووســـائله ،وشـــروطه وغيـــر ذلـــك. بالرغـــم مـــن أن العمـــل مـــا يـــزال جاريـــ ًا بمقتضـــى عـــدد مـــن دالالتهـــا ورموزهـــا القديمـــةّ .إل أن أب األلعـــاب المعاصـــرة هـــو الـــذي أدخـــل ،أحيانـــ ًا بمســـاعدة آخري ــن ،الكثي ــر م ــن الرم ــوز األولمبي ــة العلـــم ذي المعاصـــرة ،مـــن قبيـــل َ الدوائـــر الخمـــس المتشـــابكة ،ثـــم الشـــعلة بصيغتهـــا الحاليـــة ،وكـــذا الشـــعار والنشـــيد ،ثـــم المكافـــآت التـــي ل ــم تع ــد تيجانــ ًا م ــن نب ــات ب ــل ص ــارت ميداليـــات نفيســـة. فـــإذا كانـــت الشـــعلة األولمبيـــة الحديثـــة قـــد فقـــدت قدســـيتها منـــذ البدايـــة ،بعدمـــا احتواهـــا الرايـــخ األلمانـــي فـــي دورة برليـــن ،1936إذ لـــم يحـــرك أحـــد ســـاكناً ،كـــي توقـــف مثـــا ،فمـــا الـــذي يتبقـــى األلعـــاب ً منهـــا وقـــد جابـــت بقاعـــ ًا ملغومـــة فـــي الصيـــن ( ،)2008ومـــا الـــذي يتبقـــى مـــن شـــعارات الســـام والوئـــام، بعدمـــا صـــارت األلعـــاب فرصـــة للريـــع واالســـتهالك واالنتعـــاش االقتصـــادي. هـــا قـــد انطفـــأت الشـــعلة فـــي طريقهـــا إلـــى ريـــو دي جانيـــرو ،أمـــا آن لهـــا أن ترق ــد ف ــي مرق ــد هيس ــتيا ،ف ــي األولم ــب، حيـــث يرقـــد أيضـــاً ،بـــا خفقـــان قلـــب البـــارون الفرنســـي مفصـــو ًال عـــن جســـده ،بينمـــا صـــارت حاجـــات اإلصـــاح التربـــوي فـــي العالـــم اليـــوم غيـــر مـــا كانـــت عليـــه باألمـــس! 23
رحيل
أكثر من اعتذار إلى أحمد زويل شاهيناز وزير بكثي ــر م ــن الصدم ــة واألس ــى اس ــتقبل العال ــم خب ــر وف ــاة د .أحمـــد زويـــل .فقـــد رحـــل عالـــم عربـــي حـــاز جائـــزة نوب ــل ف ــي الكيمي ــاء .دف ــن ف ــي مص ــر حس ــب وصيت ــه ف ــي تقدمه ــا جن ــود يحمل ــون أكالي ــل جن ــازة عس ــكرية مهيب ــة َّ الزه ــور واألوس ــمة الت ــي ناله ــا. اختلفـــت ردود األفعـــال بيـــن نعـــي للعالـــم الفـــذ وإشـــادة بإنجازاتـــه العظيمـــة ،ومـــا نـــال مـــن جوائـــز وأوســـمة وتكريم ــات عالمي ــة عل ــى امت ــداد حيات ــه العلمي ــة الزاخ ــرة كل التكريم ــات باإلنج ــازات ...ولك ــن م ــن المؤس ــف ،رغ ــم ّ المرموق ــة والجوائ ــز الت ــي ناله ــا م ــن مختل ــف دول العال ــم والتـــي تجـــاوزت 30جائـــزة ،أن يكـــون بعـــض مـــن 24
أبن ــاء بل ــده ،أع ــداء النج ــاح ،أق ـ ّـل تقدي ــرًا ل ــه ،لذل ــك فم ــن الالئ ــق تقدي ــم االعت ــذار له ــذا العاِل ــم لعــّدة أس ــباب. أوله ــا اعت ــذار ع ــن جهلن ــا بعلم ــه وأبحاث ــه؛ فم ــن المثي ــر للعجـــب أن يكـــون د .أحمـــد زويـــل واحـــدًا مـــن علمـــاء ه ــذا البل ــد العظ ــام ف ــي الوق ــت ال ــذي يجه ــل في ــه كثي ــرون طبيعـــة أبحاثـــه أو أنهـــم عرفوهـــا بعـــد وفاتـــه .فقـــد كان الراح ــل أس ــتاذ فيزي ــاء وكيمي ــاء ف ــي جامع ــة كاليفورني ــا للتكنولوجيـــا (كالتـــك) أفضـــل جامعـــات العالـــم .وكان أهـــم متخصـــص فـــي مجـــال كيميـــاء الفيمتـــو أحـــد ّ أفـــرع الكيميـــاء الفيزيائيـــة .وهـــو علـــم يهتـــم بدراســـة التفاعـــات الكيميائيـــة فـــي مجـــال زمنـــي قياســـي جـــّداً،
وحدتـــه «الفيميتـــو ثانيـــة» أي جـــزء مـــن مليـــون مليـــار مـــن الثانيـــة .ونـــال نتيجـــة أبحاثـــه فـــي هـــذا المجـــال جائ ــزة نوب ــل ف ــي الكيمي ــاء ع ــام 1999ليك ــون أول عال ــم مصـــري وعربـــي ينـــال الجائـــزة فـــي هـــذا التخصـــص، وكان إنجـــازه الفريـــد ابتـــكار نظـــام تصويـــر ســـريع للغاي ــة باس ــتخدام أش ــعة اللي ــزر لمراقب ــة حرك ــة ال ــذرات داخـــل الجزيئـــات أثنـــاء نشـــوئها والتحامهـــا ببعضهـــا البعـــض فـــي زمـــن مقـــداره فيمتـــو ثانيـــة ،وبذلـــك يمكـــن رؤيـــة الجزيئـــات أثنـــاء التفاعـــات الكيميائيـــة. أهـــم علمـــاء الليـــزر الذيـــن وبذلـــك أصبـــح زويـــل أحـــد ّ أحدثـــوا ثـــورة فـــي العلـــوم الكيميائيـــة ،وكانـــت أفضـــال هـــذا اإلنجـــاز عظيمـــة فـــي مجـــال الدراســـات الحيويـــة، وخاص ــة المجهري ــة ،بكش ــف الكثي ــر م ــن األم ــراض ،ع ــن طري ــق إمكاني ــة تتب ــع اآللي ــة الديناميكي ــة الش ــكلية لبن ــى الحلقـــات الجذعيـــة .وفـــي ســـياق ذلـــك ألّـــف الراحـــل زوي ــل كتاب ــه «عل ــم األحي ــاء الفيزيائ ــي م ــن ال ــذرات إل ــى الطـــب» ليوضـــح فيـــه انعـــكاس هـــذه األبحـــاث بالنفـــع علـــى مجـــاالت عـــدة ،أهمهـــا الطـــب. ثانيــاً :اعت ــذار عم ــا نال ــه الراح ــل م ــن اتهام ــات بالخيان ــة والعمالـــة ،ألنـــه اختـــار أن يكمـــل حياتـــه ومســـيرته العلميـــة والمهنيـــة فـــي بـــاد تقـــدر العلـــم .دون تقديـــر لقصـــة كفاحـــه وتفوقـــه مـــذ تخـــرج فـــي كليـــة العلـــوم جامعـــة األســـكندرية عـــام 1967بامتيـــاز مـــع مرتبـــة الش ــرف حت ــى ن ــال ش ــهادة الماجس ــتير ف ــي عل ــم الض ــوء، ليذه ــب بع ــد ذل ــك ف ــي منح ــة إل ــى الوالي ــات المتح ــدة م ــن أجـــل شـــهادة الدكتـــوراه فـــي علـــوم الليـــزر مـــن جامعـــة بنس ــيلفينيا ،لتب ــدأ رحلت ــه العلمي ــة الطويل ــة ف ــي جامع ــة كاليفورني ــا (كالت ــك) إذ س ــيتدرج ف ــي المناص ــب العلمي ــة حت ــى يص ــل إل ــى أس ــتاذ رئيس ــي ف ــي الكيمي ــاء بالمعه ــد وهـــو أعلـــى منصـــب علمـــي جامعـــي فـــي أميـــركا. كل ذلـــك وأرادوا لـــم يـــر البعـــض النبـــوغ الكامـــن وراء ّ رش ــق ه ــذه القام ــة العالي ــة بحج ــارة االتهام ــات الت ــي ذك ــر «كتـــب عنـــي أنـــي د .زويـــل بعضـــ ًا منهـــا بنفســـه ً قائـــاُ : أعم ــل ف ــي إس ــرائيل ،وإن ــي بس ــاعد إس ــرائيل ف ــي تطوي ــر الصواريـــخ واألســـلحة النوويـــة ،طيـــب أنـــا تخصصـــي لي ــس صواري ــخ وال أس ــلحة نووي ــة وال أفه ــم فيه ــا ،بق ــرا عنهـــا لكـــن مفهمـــش فيهـــا ،أنـــا فـــي حياتـــي كلّهـــا لـــم أعمـــل فـــي إســـرائيل ،وأنـــا فـــي رأيـــي أنهـــا أذكـــى مـــن تعيــن واحــد زي حاالتــي خــدم بلــده لـــ 20عام ـ ًا مــن أنهــا ِّ أج ــل رف ــع قيم ــة العل ــم» .والواض ــح أن الجه ــل بتخص ــص د .زويـــل ُيعيـــق هـــؤالء عـــن رســـم ســـيناريو مقبـــول الحبك ــة .اعتدن ــا س ــماع مث ــل ه ــذه االتهام ــات لي ــس تج ــاه كل مـــن وجـــد فرصتـــه فـــي د .زويـــل فحســـب ،بـــل عـــن ّ الخـــارج وهاجـــر بحثـــ ًا عـــن حلمـــه الضائـــع. كان حريـــ ًا بهـــم توجيـــه اللـــوم إلـــى الحكومـــات التـــي
ال توفـــر الرعايـــة الكافيـــة للبحـــث العلمـــي ،فتضيـــع بســـبب ذلـــك فـــرص االســـتفادة مـــن مواهـــب كثيـــرة كل المجـــاالت .وكان حريـــ ًا بهـــم أيضـــا أن يرعـــوا فـــي ّ مشـــروعه «مدينـــة زويـــل للعلـــوم والتكنولوجيـــا» الـــذي أسســـه الراحـــل مـــن أجـــل تطويـــر مصـــر والرقـــي بهـــا ّ إلـــى مســـتقبل أفضـــل ،خاصـــة وأن هـــذا المشـــروع، مؤسســـة الـــذي ّ شـــيد فـــي مدينـــة الســـادس مـــن أكتوبـــرّ ، تتمتـــع باالســـتقاللية ،ضـــم نخبـــة مـــن العلمـــاء ليكونـــوا مجلـــس األمنـــاء فيـــه مـــن بينهـــم الجـــراح العالمـــي د. مج ــدي يعق ــوب ال ــذي ق ــال« :إنن ــا س ــنكمل رس ــالة زوي ــل الوطنيـــة» وكانـــت وصيـــة د .زويـــل هـــي االهتمـــام بمشـــروعه. ثالث ـاً :اعتــذار ألن الظلــم والجهــل امت ـّد ليكــون باســم الديــن م ــن قب ــل بع ــض الذي ــن ال يجي ــدون س ــوى لغ ــة الكراهي ــة والتكفي ــر والتهدي ــدات .فعق ــب خب ــر وف ــاة د .زوي ــل س ــمعنا ع ــن فت ــاوى تح ــرم الترح ــم علي ــه ،وق ــد قام ــت دار االفت ــاء المصريـــة بالـــرد القاطـــع علـــى هـــذه األحـــكام المشـــينة تجـــاه عالـــم ،انتصـــر للديـــن مـــن خـــال انتصـــاره للعلـــم واإلنســـانية .وأذكـــر فـــي أحـــد اللقـــاءات أجـــاب الراحـــل باللّغـــة اإلنجليزيـــة أحـــد اإلعالمييـــن الغربييـــن عندمـــا س ــأله ع ــن الص ــراع بي ــن الش ــرق والغ ــرب وال ــذي تح ـ ّـول ـا ل ــه« :أش ــعر أن هن ــاك خط ــأ ليك ــون صراعــ ًا دينيــاً ،قائ ـ ً ف ــي مفاهي ــم الغ ــرب نح ــو اإلس ــام ،فالرس ــالة األساس ــية لإلس ــام ه ــي كباق ــي الرس ــاالت أن تك ــون إنس ــان ًا صالحــ ًا وتطيـــع ربـــك وتؤمـــن بـــه ،والتركيـــز علـــى المعرفـــة... اكتســـاب المعرفـــة واتبـــاع طريـــق العلـــم». ألَّـــف الراحـــل آخـــر كتبـــه باللّغـــة العربيـــة عـــام 2007 «ح ــوار الحض ــارات» وبس ــيرته العلمي ــة والحياتي ــة أعطان ــا مث ــا ًال حقيقي ـ ًا للتواص ــل الحض ــاري ،ال ــذي بدون ــه ال يمك ــن مالحق ــة العال ــم المتق ــدم وم ــن ث ــم اس ــترداد اعتبارن ــا بي ــن األمـــم كأمـــة تمجـــد العلـــم والعلمـــاء وتتباهـــى بهـــم فـــي المحافـــل. د .زوي ــل ال ــذي نق ـ ِّـدم ل ــه ه ــذه االعت ــذارات ق ــال م ـّـرة« :أن ــا مص ــري ،أن ــا عرب ــي ،أن ــا إفريق ــي ،أن ــا ش ــرق أوس ــطي، أن ــا م ــن البح ــر المتوس ــط ،وأن ــا أميرك ــي ،جئ ــت إل ــى هن ــا واســـتمتعت بالثّقافـــة األميركيـــة وأصبحـــت جـــزءًا منهـــا، لكنـــي لـــم أفقـــد جـــذوري المصريـــة وثقافتـــي كمصـــري وش ــرق أوس ــطي ،وأعتق ــد أن المفت ــاح يكم ــن ف ــي كيفي ــة بنـــاء جســـور بيـــن النـــاس والثّقافـــات واألمـــم ،وليـــس برفـــع شـــعار صـــراع األديـــان والحضـــارات». 25
تحقيق
هــل تتعــارض فكــرة ورش الكتابة مــع خصوصية اإلبداع؟ وهــل تحولت مؤخــرًا مع ظاهرة انتشــارها الواســع فــي الوطن العربــي إلى دجل وتجــارة أم أن ِنتاج هذه الورش كشــف عن ٍ أصوات شابة ْأثَرت المشهد األدبي؟ االستطالع التالي يرصد الجدل الدائر حول جدوى ورش الكتابة األدبية في العالم العربي ،ومدى أهميتها على مستوى تجويد أو اكتشاف مواهب في الكتابة.
ورش الكتابة األدبية.. هل تصنع كاتب ًا ؟ القاهرة :هند مختار -إيمان السباعي فـي نهايـة رسـائله إلـى روائـي شـاب، كتـب الروائي البيروفي ماريو فارغاس يوسـا :صديقـي العزيـز إنـي أحاول أن كل مـا قرأتـه فـي أقـول لـك أن تنسـى ّ رسـائلي حول الشكل الروائي وأن تبدأ دفعـة واحـدة بكتابـة الروايات.».. رسـائل إلـى روائـي شـاب ،هـو كتـاب يوسـا الشـهير الـذي طـرح فيـه وجهـات نظـر حـول الروايـة ال مـن حيـث تقنيات الكتابـة فقـط ولكـن مـن حيـث مـادة الروايـات وأفكارها واألسـرار الغامضة حولهـا لكنـه فـي النهايـة يخلـص إلـى كل هـذا وأن نصيحـة الشـاب بنسـيان ّ يبدأ في كتابة الروايات «دفعة واحدة»، المؤيـدون لـورش الكتابـة األدبيـة سـيجدون حجـة لهـم في موقف يوسـا، حيـث الكتابـة ممارسـة ال تتحقّـق ّإل بمعرفـة التقنيـات والقواعـد والنقـاش المثمـر مـع آخريـن من الكتـاب أصحاب التجربـة والخبـرة ،أمـا المعارضـون فربمـا يسـخرون مـن هـذا كلـه ،متخذين من نصيحة يوسا بـ«النسيان» حجتهم، 26
حيـث ال توجـد قواعـد ثابتة فـي مغامرة الكتابـة التـي يجـب أن يكابدهـا الكاتـب وحـده بممارسـة شـخصية ،كمـا فعـل ُكّتـاب كبـار لـم يعرفـوا ورش الكتابـة وأنتجـوا أدبـ ًا عظيمـاً..
كسر الحاجز تساءلنا في البداية عن مفهوم «الورشة األدبيـة» ومـا الـذي تقدمـه .الكاتـب المصـري محمـد عبـد النبـي صاحـب التجربة األشـهر بمصر «ورشة الحكاية وما فيها» يعرفها بكونها تجربة :إليجاد مسـاحة منظمـة لتبـادل الخبـرات، مسـاحة بالمعنـى الزمنـي والمكانـي، ومنظمـة بمعنـى تحديد الوقـت وطبيعة األنشـطة التـي سـتتم ممارسـتها لهـذا وتتنـوع أهداف الورشـة ،في الغـرض. ّ نظره ،بين الكتابة الجماعية المشتركة فـي مشـروع جماعـي واحـد؛ مثـل فريق يعمـل علـى تطويـر سـيناريو مسلسـل، أو أن تكـون ورشـة تعليميـة يقـدم فيها أحد المدربين بعض التقنيات والخبرات للمتدربيـن .وفيمـا يخص اإلضافة التي يؤكـد محمـد عبـد تقدمهـا هـذه الـورش ِّ
النبـي أنهـا تتلخـص فـي إيجـاد فرصـة للعمـل بانتظـام تحـت إشـراف شـخص متخصـص أكثـر خبرة ،كمـا أنها فرصة جيـدة لالحتـكاك والتعرف على مدارس ومذاهـب مختلفـة فـي الكتابـة. الكاتـب المصري المقيم بكندا ياسـر عبد اللطيف له تجربتان مع ورش الكتابة، إحداهمـا فـي القصة القصيـرة واألخرى فـي الروايـة .يتحـدث عنهمـا موضحـاً: كان دور الورشـة اإلبداعية كما تخيلته هـو مسـاعدة الكاتـب «الهـاوي» ،بغـض النظـر عـن عمـره ،علـى االنتقـال إلـى مرحلـة تلعـب فيهـا الكتابـة دور ًا أكثـر جديـة فـي حياتـه ،لـم أكـن أهـدف إلـى «تعليـم» الكتابـة ،فقد كنت أحرص على توافـر حـد من الموهبة في المشـاركين، يتم اختباره بتقديم نماذج من إبداعاتهم السـابقة قبـل قبولهـم فـي الورشـة، وكانـت تجـرى غربلـة الختيارهم .ومن جانب آخر متعلق بطريقة عمل الورشة نفسها ،كنت أوضح من البداية ،بأنني ال أسـتخدم الطريقـة األميركيـة المتبعـة فـي عـدد مـن الـورش ،والتـي تعتمـد علـى تماريـن الكتابـة ،والتدريـب علـى
صـورة من ورشـة «الحكاية وما فيهـا» لمحمد عبد النبي
بنـاء الشـخصيات ،والحبكـة ومـا إلـى ذلـك .كنـت أعتمـد علـى إطلاق العنـان لممارسـتهم الكتابيـة ،مـع تدخـل مـن جانبي ،ومن جانب المشاركين اآلخرين باقتراحـات تخـص النـص الـذي يعمـل كل واحد منهم بالحذف أو اإلضافة عليه ّ أو فتـح مسـار جديـد فـي السـرد .كانـت أشـبه بحلقـة نقـاش بيـن مجموعـة مـن فصلا تعليميـاً. األصدقـاء عـن كونهـا ً وتـرى الروائيـة اللبنانيـة لنـا عبـد الرحمـن أن ورش الكتابـة اإلبداعيـة: الكّتـاب المتدربيـن علـى كسـر تسـاعد ُ حاجـز الرهبـة مـن الكتابة ،خاصة وأن الكاتـب المبتـدئ يخـاف ممـا يكتبـه فـي كل المراحل األولى ويكون متشـكك ًا في ّ ِّ شـيء ،مما يحول دون اكتمال مشـاريع القصص والروايات التي يتم البدء بها! لكـن ،وخلال وجوده في ورشـة ،أظن أن حالـة النقـاش والعصـف الذهنـي تجعل المشـاركين أكثر اهتمام ًا وتركيز ًا على نصوصهم وأبطالهم ،ويشـاهدون كيـف تنتقـل الفكـرة من الذهـن إلى نص مكتـوب علـى الـورق. عـن الشـروط التـي يجـب أن تتوافـر في
الكاتـب كـي يقدم ورشـة أدبية ناجحة، تحـدث الناقـد المصـري وأسـتاذ األدب قائلا :إن الكتابـة سـيد ضيـف اهلل ً اإلبداعيـة ال يتـم تعلمهـا فـي الغـرب مـن خلال ورش الناشـئين ،بـل مـن خلال صفـوف أكاديميـة فـي الجامعات المختلفة ويقوم بتدريسـها أستاذ خبير حاصلا علـى ممـارس لإلبـداع وليـس ً درجـة أكاديميـة فقـط! وللمفارقـة ،فإن إنتاج إبداع متميز ال يعني أن هذا المبدع هو المدرس المتميز أو المدرب المناسب للناشـئين فـي ورش الكتابـة اإلبداعيـة وصفوفهـا الجامعيـة إن وجـدت ،ألن هناك الكثير من المبدعين الذين يبدعون دون أن يعرفـوا كيـف يبدعون فما بالك لـو طالبناهـم بـأن يعلمـوا غيرهـم كيف يبدعـون؟! حتمـ ًا سـوف يسـخرون مـن الفكـرة ،ويقولـون لـك القـول التراثـي القديـم اذهـب واحفـظ ألـف بيـت شـعر ثم انسـها لتكتب الشـعر! أو يقولون لك كل أعمال نجيب محفوظ أو اذهب واقرأ ّ يوسـف إدريـس ثـم ابـدأ كتابـة الروايـة أو القصـة القصيـرة! وبالعـودة إلـى محمـد عبـد النبـي فـإن
خبـرة الكاتـب وحدهـا ليسـت كافيـة، وفـي نظـره :قـد يكـون الكاتـب عظيمـاً، مؤهلا للتدريـب لكنـه ليـس بالضـرورة ً الـذي يحتـاج إلـى أدوات ومهـارات مختلفـة تمامـاً ،مـن قبيـل التواصـل الجيـد ،وإدارة الوقـت ،والتفاعـل مـع االختالفـات بيـن المتدربيـن ،إلـى آخـر ذلـك .وقـد يكـون العكـس صحيحاً ،أي أن يكـون المـدرب جيد ًا لكنـه ليس كاتب ًا عظيمـاً .فيمـا توضـح لنـا عبـد الرحمـن بأنهـا ال تعتمـد على تجربتها في الكتابة فقـط ،بـل لرصيـد القـراءة واالطلاع دور هـام أثنـاء عمليـة اإلشـراف علـى ورشـة ،وكمثـال علـى ذلـك :لـو طـرح أحـد المشـاركين فكـرة روايـة فانتازيـة أو روايـة خيال علمـي ،ينبغي توجيهه لقراءة التجارب اإلبداعية واالطالع على الكّتـاب الذيـن خاضوا هـذا النوع خبـرة ُ من الكتابة ،بحيث ليس من الضروري، تقـول لنـا عبدالرحمـن فـي هـذه الحالة: ليـس بالضـرورة أن أكـون قـد كتبـت روايـة خيـال علمـي ،لكن يمكن تسـليط الضـوء علـى النقـاط األبـرز فـي العمـل المقتـرح مـن خلال النقـاش وتنـاول 27
ورشـة «فتنة السـرد» للنا عبد الرحمن
الفكـرة مـن جوانـب مختلفـة تكشـف مـا كان غائبـ ًا فيهـا.
هل تصنع كاتب ًا؟ األصـوات المعارضـة ال تـرى فائـدة تجنـى مـن ورشـات الكتابـة اإلبداعيـة، وتسـتدل علـى ذلـك بجيـل مـن مبدعيـن عظـام لـم يعرفـوا مـا يسـمى بالـورش األدبيـة ،وإنمـا قادتهـم موهبتهـم إلـى مجدهـم األدبـي .الكاتـب ياسـر عبـد يؤكـد أنـه ال يمكـن لورشـة أن اللطيـف ِّ تصنع كاتب ًا من عدم ،ما لم يتوفر على اسـتعداد مبدئـي أو علـى تلـك الكلمـة الغامضـة التي نسـميها موهبة ،وبدون ذلـك فلـن يصيـر كاتبـ ًا أبـداً .ومـا تفعله الورشـة ،فـي نظـره ،أنهـا قـد تمنحـه دفعـة لألمام ،وتكسـبه بعـض الخبرات ً والمعارف النظرية عن طريق االحتكاك بخبـرة المدرب ،والمشـاركين اآلخرين. أي أنّهـا قـد تشـحذ الموهبـة الموجـودة بالفعل .ويشـير ياسـر عبد اللطيف إلى نقطـة مهمـة تكمـن فـي التخـوف الـذي يبديـه بعـض النقـاد وقـراء األدب مـن تحول المتدرب في الورشـة إلى نسـخة مـن الكاتـب الـذي يديرهـا .وهـو مـا لـم يلمسـه في خبرته ،وإن حدث ذلك فهو بالنسـبة لـه طبيعـي فـي البدايـة ،وأي 28
مبتـدئ قـد يكـون متأثـر ًا بكاتـب قريـب إلـى ذائقتـه. ال يختلـف رأي الكاتـب السـوري هيثـم حسـين عـن هـذا الطـرح ،منطلقـ ًا مـن كـون اإلبـداع ال يلقـن حيـث يـرى بـأن ال يمكـن اختـراع أسـاليب لصناعـة كاتـب، وإنمـا هنـاك سـبل لتنظيـم دفقـه. أية ورشـة ويضيـف ِّ مؤكـداً :ال أعتقد ّ أن ّ يمكـن أن تصنـع كاتبـاً ،أو أن تمنحـه موهبـة ال يمتلكهـا ،إنّمـا هـي تسـعى لألخـذ بيـده ،والعمـل علـى صقـل تلـك أن البنـاء الموهبـة التـي يمتلكهـا .أي ّ يكـون علـى األسـاس الموجـود لديـه، القوية في دخول عالم الكتابة والرغبة ّ واألدب .الورشـات ال تخلـق شـغف ًا غيـر موجـود ،ويختلـف األمـر فيهـا عـن تدريـب صحافييـن علـى كتابـة تقاريـر صحافية مهنية ،والتقيد بقواعد الكتابة الصحافيـة وشـروطها المفترضـة. ولعـل أحـد مرامـي ورشـات الكتابـة ّ األدبيـة التحفيز علـى الخلق واالبتكار، ّ والتحريـض علـى إخـراج الطاقـات اإلبداعيـة الكامنـة ،ومحاولـة تنظيمهـا مـن خلال وضعها تحت مجهـر المقاربة والمعالجـة والنقـد ،وكذلـك السـعي إلطلاع األدبـاء الشـباب علـى أسـاليب ووسـائل اعتمدهـا كثيـر مـن األدبـاء
الكبـار فـي أعمالهـم ،وحقّقـوا حضـور ًا ونجاحـاً ،لتخلـق الحافـز لديهم بالبحث الخاصة وأساليبهم المميزة عن دروبهم ّ لهـم ،بعـد إثـراء خبرتهـم وتجربتهم بما االطلاع عليـه مـن المنجـز يتيسـر لهـم ّ ّ العربية المكتبـة فـي المتراكـم اإلبداعـي ّ والعالميـة. فيمـا يـرى الكاتـب والناقـد المصري عمر شهريار أن الهجوم على الورش اﻷدبية معظمـه ناتـج عـن تصـور غيـر صحيح علـى اﻷغلـب ،مفـاده أنهـا قـادرة علـى خلـق وصناعـة أديـب من العـدم ،أو أن اﻷدب حرفة يمكن تعلمها بسهولة بغض النظـر عـن وجـود موهبـة .بمزيـد مـن التوضيح يضيف عمر شهريار :ظني أن معظـم الـورش اﻷدبيـة ال تسـعى لذلك، فهـي تسـعى ،بشـكل رئيس ،الكتشـاف مواهـب المشـتركين فيهـا وتجعلهـم يكتشـفون ذواتهـم ،كمـا توفـر للمتـدرب فرصـ ًا مهمـة لالحتـكاك بأدبـاء أكثـر خبـرة وأطـول تجربـة ،والتفاعـل مـع زمالئـه مـن المتدربيـن ،فتكـون فرصـة جيـدة للعصـف الذهنـي حـول مفهـوم النوع اﻷدبي وتاريخه وتقنياته وآفاقه المسـتقبلية وإمكانـات التجديـد. الشـاعر والناقـد عبـد المنعم رمضان من األصـوات المعارضـة لـورش الكتابـة األدبيـة وعن أسـباب ذلـك يقول :هناك ثقافات كثيرة تسود العالم وال نستطيع أن ننكر هذا ..ال أعتقد أننا نسـتطيع أال نـدرك الفـارق بيـن ثقافتيـن؛ ثقافـة في الغرب وثقافة في الشرق ،وذلك بحكم التاريـخ والمـكان وإمكاناتـه .فأميـركا المعاصـرة الحديثـة تؤمن بأن اإلنسـان إذا أراد فهـو يسـتيطع أن يفعـل مـا يريد ويتـدرب عليـه ،يسـتطيع بإرادتـه أن يكون هو السيد .أما في الثّقافة األخرى كمـا فـي المشـرق ،فـاألدب والكتابـة موهبـة ُتمنـح لـك وال تصنعهـا .شـيء آخـر مأخـوذ عن الغرب أيضاً :الطبقات البرجوازيـة العليـا تـدرب أبناءهـا على كل شـيء ،فيمكـن تعلـم الموسـيقى ّ والفّـن ،حيـث تقـوم الـورش واألدب َ بتأهيلهم و«صناعتهم» ال ليصبح هؤالء مبدعين عظماء ولكنها أشياء ضرورية
يجب أن يعرفها اإلنسـان المعاصر الذي ينتمـي لهـذه الطبقـة والـذي يجـب أن كل شـيء ،بالتالي فمسـألة يتحدث عن ّ الورش تنتمي لهاجس طبقي باإلضافة إلى كونها هاجسـ ًا ثقافي ًا وفي رأيي أن هـذا أشـبه بإعـداد فتيـات الجيشـا وهـو شـيء مهيـن للثّقافة. واألمـر األكثـر أهميـة ،مـن وجهـة نظـر عبـد المنعـم رمضان ،هو :أن معظم من قامـوا بتأسـيس هـذه الورش هـم كتاب صغـار أرادوا أن يوجـدوا مرتيـن ،مـرة عـن طريـق الكتابـة ومـرة عـن طريـق الـورش األدبيـة؛ ويضـرب علـى ذلـك مثـا ًال بقولـه :ال يوجـد ورشـة أدبية قام بهـا محمـد المخزنجـي أو محمـد المنسـي قنديـل وغيرهمـا من كتاب كبار ،كما أن بعـض هـذه الـورش تحول إلى سـبوبة تجاريـة يشـترك فيهـا ممول وناشـر. يتفـق الكاتـب والصحافـي السـعودي قائلا: أحمـد الواصـل مـع هـذا الـرأي ً ال يوجـد فـي السـعودية ورش أدبيـة بالشـكل المتعـارف عليـه فـي مصـر، أو بعـض البلاد العربيـة ،ولكـن يوجـد هنـاك حلقـات نقاشـية .وعـن تجربتـه مـع الـورش اإلبداعيـة يحكـي الواصـل: التحقـت بورشـة الكتابـة الدراميـة (األعمـال اإلذاعيـة والتليفزيونيـة) بالتنسيق بين هيئة اإلذاعة البريطانية والمجلـس الثّقافـي البريطانـي فـي أحد األعـوام الماضيـة ،وتسـنى لي االطالع علـى طـرق وأسـلوب العمـل فـي مجـال الدرامـا اإلنجليزيـة .ما أفدتـه هو عملية «التخيـل الدرامـي» ال الكتابـة ،وهـي مرحلـة نهائيـة ،وإنما طـرق اإلعداد لها تخطيطـ ًا وترسـيماً ،ومـن ثـم أسـلوب إخراجهـا أي تحويلهـا إلـى أداء وقـول وحركـة.. في سـياق آخر يرى البعض أن انتشـار ظاهـرة ورش الكتابـة ليـس فـي صالح المشـهد األدبـي ،إذ تحـول األمـر إلـى دجـل وتجـارة .فـي هـذا الصـدد يقـول الكاتـب والناقـد المصـري سـيد الوكيـل: كل قيمـة إلـى نحـن شـطار فـي تحويـل ّ ـن والعلـم بـل سـبوبة ،ليـس فقـط َ الف ّ الدين نفسه ،إنها ثقافة العولمة ورأس
المـال الريعـي ،وأول مـا علـى المـدرب أن يعلمـه لطلاب الورشـة ،هو مقاومة هـذا السـلوك االسـتهالكي داخلهـم ،إنه سـلوك ال يفهـم قيمـة العمـل ّإل مـن خلال العائـد المـادي فقـط ..هـذه ثقافة خطيـرة ونحـن متورطـون فيهـا ،وقـد جعلـت دراسـة هـذه الظاهـرة موضوع ًا لكتابـي األخيـر (عمليـة تذويـب العالم). فـي المقابـل يختلـف محمـد عبـد النبـي مـع اعتبـار ورش الكتابـة األدبيـة كظاهـرة سـلبية تحولـت إلـى عمليـة مبرر ًا ذلك :أنحاز دائم ًا لترك تجاريةّ ، كل تجربـة تفـرز وتطـور نفسـها دون ّ إطلاق أحـكام مسـبقة وسـهلة تجاهها. تحولـت ورش الكتابـة إلـى تجـارة، لـو ّ فعلينـا أن نحـاول فهم أسـباب ذلك ،ما هـي الحاجـة العميقـة التـي تلبيهـا عنـد ال حقيقي ًا المتدربين؟ وهل تقّدم لهم مقاب ً لقـاء مـا يدفعونـه؟ ال توجـد ظاهر تخلو من السـلبيات تماماً ،ولكن الحكم عليها بالدجل خطأ ،ولنترك الحكم للمتدربين وللوقت .وتماشي ًا مع هذا الطرح تحدثت لنـا عبـد الرحمن من خلال تجربتها :لقد أشـرفت علـى ورشـتين :إحداهمـا فـي دار نشـر ومكتبـة «كتـب خـان» ،كانتـا مجانيتيـن ألن هـذا النظـام متبـع داخـل المكتبة ،وورشة في مكتبة اإلسكندرية بمبلـغ زهيـد جـدا .وللكاتـب ياسـر عبـد اللطيـف تجربـة مشـابهة يحكـي عنهـا بدايـة أنا لم أكن أتلقى أي مقابل قائلا: ً ً مـادي نظيـر الورش التي أدرتها ،كذلك «الكتـب خـان» دار النشـر والمكتبة التي رعـت الورشـة وإصداراتهـا .ثمـة ورش تتلقـى مبالـغ باهظـة نظيـر االشـتراك فيها ،وهنا يمكن أن نتحدث عن تجارة تكسب ما ،وتسليع للعمل األدبي في أو ّ سوق ضعيفة أصالً .وثمة ورش أخرى «مؤسسات المجتمع ينظمها ما يعرف بـ َّ المدنـي» ،علـى مسـتوى إقليمي عربي، وتلك الورش ال أعتقد أنها تضيف شيئ ًا الفنّـي للمشـاركين أكثـر علـى المسـتوى َ مـن كونهـا فرصـة للسـفر واالحتـكاك بخبـرات أخـرى لكتاب شـباب. لكن سيد ضيف اهلل يقول بوجود عالقة بيـن بعـض الجوائـز األدبيـة والـورش:
أعتقد أن هناك صلة وثيقة بين الطابع التجـاري لـورش الكتابـة اإلبداعيـة، خاصـة فـي الروايـة والجوائـز الكثيـرة أثـر المخصصـة للروايـة؛ األمـر الـذي ّ سـلب ًا علـى الكتابـة الروائية ،إذ أصبح لـكل جائـزة روائيـة «وصفـة» ثابتـة ّ لشـكل الروايـة التـي تناسـبها ،ولكـن ال يصـح التعميـم هنـا ،فإلـى جانـب آفـة تنميـط اإلبـداع الروائـي هنـاك روايـات جيـدة كانـت مـن ثمـار ورش الكتابـة اإلبداعيـة .وهـو مـا يسـتحضره ياسـر عبـد اللطيـف ،مستشـهد ًا بأسـماء بعض الكتـاب الذيـن تخرجوا من تلك الورش: هذه الورش عموماً ،وليس التي أدرتها أنـا فقـط ،قـد أخرجـت عـدد ًا مـن الكتـاب الموهوبيـن فـي العالـم العربـي :محمـد ربيع ومحمد فاروق وإيمان عبد الرحيم مثلا فـي مصـر ،وهلال وطلال فيصـل ً شـومان فـي لبنـان ،ومعـن أبـو طالـب فـي األردن. محمـد فـاروق ،هـو أحـد المتدربيـن بورش الكتابة في مصر ،والحائز على جائزة ساويرس الثّقافية عن مجموعته «سـينما قصـر النيـل» التـي كتبهـا عقـب التحاقـه بإحـدى الـورش .سـألناه عـن تجربته فقال :الكتابة مثلها مثل أي َفّن، لها قواعدها التي يجب اإللمام بها أو ما يطلق عليه الوعي بالكتابة ،وأتفق مع محمد عبد النبي أن هناك ورش ًا للرقص والتمثيل والغناء ،فلماذا ال يكون هناك ورش للكتابـة؟ ..فـي النهايـة الـورش األدبيـة ال تصنـع كاتبـ ًا أو إنسـان ًا موهوبـ ًا لـو كان يفتقـر للموهبـة ،لكني اعتبـر انتشـارها وانتشـار فكـر التدريـب واكتسـاب المهـارات شـيئا إيجابيـ ًا فـي حـد ذاتـه ،وينعكـس باإليجـاب علـى ممارسـي هـذه المهـن والفنـون وحتـى انتشـارها كثقافـة ،وكمـا جـرى فـي مقارنة أنفسـنا بالغرب ،بسـبب إنتاجه للمعرفة ،فأي مهنة كانت ال يتم النبوغ فيهـا ّإل بالكثيـر مـن التدريـب والوعـي بتقنياتهـا وأسـرارها وهـذا مـا توفـره الورش. 29
30
قضية
«بوكيمون جو»
في واقعنا غير المعزَّز! شـــب َه أحدهـــم مشـــية قّناصـــي البوكيمونات في الشـــوارع َّ بمشـــية «الزومبي» .لقد بدوا له في أســـوأ هيئة ،مفصولين إحداثيات الـ(جي عن محيطهم ،يكلِّمون أنفســـهم ،تقودهـــم ّ يتصيدوا بـــي إس) على هواتفهم الذكية ،فيركضون عشـــوائياً ،إلى أن ّ واحدًا من فصيلـــة البوكيمون!. حكايـــة لعبـــة «بوكيمون جـــو» ،باتت صيحـــة ال تتوقّـــف الميديا عن تنـــاول مـــا يتعلَّق بها مـــن طرائف وأخبـــار وأرقام مبيعـــات وكوارث المعزز»، أيضـــاً .تقنيـــاً ،هـــي أول نجاح غيـــر متوقَّع لمبـــدأ «الواقـــع َّ بديل الواقـــع االفتراضي الذي طرح نفســـه ،منذ البداية ،عـــدوًا للواقع الطبيعـــي الحقيقي. معزز؛ تســـمية جّذابة مثيرة للفضـــول ،واقع يقع بين المنزلتين، واقع َّ فال هـــو باالفتراضـــي وال هو بالحقيقي .هكـــذا أرادوه؛ خداعـــ ًا موهم ًا وســـاحراً! .وألنـــه احتاج أســـباب نـــزول كونيـــة فقد لعبـــت فتوحات «بوكيمـــون جو» دورها االمبراطـــوري! لكن األمر األكثر تشـــويقاً ،بعد المعزز! تخيلـــه في هذا الواقـــع َّ اآلن؛ هـــو ما ال يمكن ُّ
31
البوكيمون جو.. ُ ط ْعم االستقطاب يهيمــون في المنــازل والطرقات ،بهواتفهم ،بحث ًا عــن البوكيمونات ..إنهم مصابــون بـ«البوكيمونايا» أو جنون البوكيمــون .تأثيــر اللعبة الحركــي والتواصلي ،وجمعها بين غرباء في المكان نفســه ،وفكرتهــا اإلبداعية التي المعزز) ،عالوة على الزخم اإلعالمي الذي حظيت ...عوامل تدمج الواقع بالخيال ،أو ما يصطلح عليه بـ(الواقع َّ ساهمت في انتشارها الكاسح. اللعبة ،في بســاطتها ،تقوم على صيد وحوش الرســوم المتحركة (البوكيمونات) على شاشات الهواتف الذكية، وذلك باستخدام األماكن الواقعية كخلفية ،تظهر فيها الوحوش بشكل مفاجئ ،فيما يطاردها الالعبون بهواتفهم عن طريق كاميرات الهواتف. أهم جوانب لكن أسباب نجاح اللعبة وانتشارها ال يعود ،فقط ،لتضافر هذه العوامل؛ فالبوكيمون جو يمثّل أحد ّ الثّقافــة اليابانيــة التــي غزت الغرب ،واســتقطبت جمهورًا واســعاً ،اختــرق الحاجز الثّقافي الذي فصل وســائل اإلعالم اليابانية عن المستهلك الغربي ،عموماً ،واألميركي ،بالخصوص ،لفترة طويلة ،ليتحول البوكيمون إلى يتجزأ من الثّقافة األميركية والثّقافة الغربية. جزء ال ّ
مروى بن مسعود غزو المتاحف ّيـة عديـدة على مؤسسـات َفنّ اغتنمـت ّ الفّن الحديـث في نيويورك غـرار متحـف َ الفرصة لحث صيادي البوكيمونات على ولـوج أبوابهـا ،رغـم مـا أبـداه البعـض مـن عـدم المبـاالة .وعادة ما يشـهد فصل الصيـف ركـود ًا فـي عـدد زوار المتاحف، ولكـن هـذا العام ،مثلـت لعبة البوكيمون مؤسسـات جو حافز ًا إضافياً ،وشـجعت ّ ّيـة علـى غـرار متحـف ويتنـي ومتحف َفنّ ـن الحديـث بنيويـورك علـى انتشـار َ الف ّ البوكيمـون ،بمسـاعدة الالعبيـن فـي لعبـة الواقـع المعـزز علـى «القضـاء عليهـم جميعـاً» ،ودعـم البوكيمـون لجذب الالعبين الشـبان وزيادة مبيعات التذاكر من لوس أنجلوس إلى نيويورك وتكسـاس وبوسـطن .وكان تطبيـق 32
اللعبة على الهواتف الذكية خالل الشـهر الماضي قد فاق 26مليون تحميل يومي ًا فـي الواليـات المتحـدة وحدها ،في حين حقّقت مداخيل اللعبة أكثر من 15مليون دوالر بعـد توفيرهـا فـي أكثـر مـن 25 دولة. تسـمى األماكـن المتاحـة لصيـد الوحـوش والتـي يتـم عـن طريقهـا كسـب النقـاط بــ« ،»Pokéstopsوقـد فتحـت العديـد مـن المتاحـف أبوابها لهذه ـن الحديـث) النقـاط .وتوفـر متاحـف َ (الف ّ نقطتيـن للقضـاء علـى الوحـوش االفتراضيـة ،أمـا فـي متحـف فيالدلفيـا للفنـون ،فتوجـد ثمانيـة أماكـن حـول المبنـى لصيـد البوكيمونـات .وأكـدت تشاسـي كيلـي ،مسـؤولة التسـويق «مكـرس لفكـرة الرقمـي أن المتحـف، ّ اللعـب اإلبداعي» ،وسـاعدت بدورها في
تأسيس «لقاء بوكيمون» خالل الساعات التـي ينظمهـا المتحـف بعنـوان «ادفـع ما شـئت» لجذب الزوار خالل فترة زمنية، وتشـجيع المسـتخدمين علـى زيـارة المعـارض ،ولـم يكن ذلـك يهدف لزيادة تطـور ًا فـي المبيعـات .وأظهـرت األرقـام ّ نسـب الحضـور خلال لقـاء المتابعـة من % 13فـي األسـبوع األول إلـى % 37 خلال الربـع األول مـن الشـهر الماضـي. ّإل أنه يظل من السـهل التمييز بين رواد المتحـف الرصينيـن والالعبيـن النهميـن الباحثيـن عـن نقاط صيد البوكيمونات، في ظل خشية البعض من أن تدفع لعبة ـن ليصبـح مجـرد خلفية البوكيمـون َ بالف ّ ال ينظـر إليـه ّإل مـن خلال جهـاز هاتـف محمـول.
العام خراب الفضاء ّ
وبـد ًال مـن زرع الطعـوم حـول التحف ّيـة ،تحركـت متاحف أخرى ألسـباب َ الفنّ مختلفـة للمشـاركة في هـذا الجنون! وقد سـارع «متحـف موريكامـي والحدائـق اليابانيـة» فـي ديلـراي بيتـش ،فلوريـدا إلـى مسـاندة اللعبـة بسـبب االرتباطـات الثّقافيـة ،واالمتياز الياباني للبوكيمون علـى يـد مصمـم األلعـاب ساتوشـي تاجيـري سـنة .1995وقالـت مونيـكا أمـار ،التـي تعمـل فـي مجـال التسـويق فـي المتحـف الـذي يضـم 15مكانـ ًا لصيد البوكيمونات «شـعرنا بأن لدينا ارتباط ًا ثقافيـ ًا مباشـر ًا بهـذا االمتيـاز الياباني»، وأضافـت «الحضـور تزايـد منـذ إصـدار مـرة ...لقـد وجدنـا أنـه التطبيـق ألول ّ بمجرد أن يأتي الناس للعب البوكيمون، فإنهـم يعـودون إلـى زيـارة المتحـف
والحدائـق ،بحثـ ًا عـن فرصـة لصيدهـم وسـط المناظـر الطبيعيـة الخالبـة». وعلـى صفحـة المعجبيـن بالمتحـف علـى الفيسـبوك ،نشـر الـزوار صـور ًا مـن الحديقـة المخربـة جـراء صيـادي البوكيمـون ،ونحـت بعض المسـتخدمين أسـماء فرقهـم علـى األشـجار -أحـد العبـارات تقـول «Team Instinct -»Rocksبينمـا قبـض حـراس المـكان علـى آخريـن بصـدد تسـلق األشـجار، وهو ما أثار حفيظة أحد الزوار الدائمين والمغرميـن بحدائـق موريكامـي .وقالـت كاندى كاليسـتار« :أشـعر بالفزع بعد أن ُل ّطـخ مـكان هـادئ كهـذا مـن قبـل البلهـاء مطاردي البوكيمون» ،وأضافت« :أشعر باالشـمئزاز بسـبب عـدم لطـف هـؤالء األطفـال ،ولكنهـم ليسـوا أطفـا ًال فقـط؛ يجـب احتـرام البيئـة مـن حولنـا».
وفي نفس السياق طلب متحف ذكرى الهولوكوسـت فـي الواليـات المتحـدة بواشـنطن مـن مطـوري اللعبـة إزالـة نقـاط صيـد البيكومونـات مـن المتحـف بعـد أن تفطـن الموظفـون إلـى محاولـة بعـض المسـتخدمين صيـد البوكيمونـات هنـاك .وقـال انـدرو هولينغـر ،مديـر االتصاالت في المتحف «لعب البوكيمون فـي نصـب تـذكاري لضحايـا النازية غير مناسـب تمامـاً» ،وأضـاف «المتحـف يشـجع الزائرين على اسـتخدام هواتفهم للمشاركة والتفاعل مع محتوى المتحف. التكنولوجيا يمكن أن تكون أداة تعليمية هامـة ،ولكـن هـذه اللعبـة تقـع بعيـد ًا خـارج رسـالتنا التعليميـة والتذكارية». ـن وبالنسـبة إلـى متحـف مكنـاي َ للف ّ فـي سـان أنطونيـو ،تكسـاس ،لعبـة البوكيمون مناسبة جداً ،استناد ًا لجولي 33
ليـدات ،مسـؤولة االتصـال بالمتحـف «نأمل أن يجذب البوكيمون هؤالء الزوار مـن الشـباب ،كمـا نسـاعد علـى تشـجيع الدخـول المجانـي لمـن هـم دون .»19 وتظهـر بعـض شـخصيات البوكيمـون مخبـأة فـي فنـاء المتحـف ،بينمـا تقـع ّيـة األخـرى فـوق النصـب واألعمـال َ الفنّ الشـهيرة لبيكاسـو وفنسـنت فـان جـوخ وكلـود مونيـه .وأضافـت جولـي ليـدات أن «أماكـن صيـد البوكيمون هي عالمات تاريخية وثقافية» تمنح الالعبين حافز ًا إضافيـ ًا لزيـارة هـذه األماكـن» ،ولذلـك أصبحـت أماكـن صيـد البوكيمـون اآلن األكثـر شـعبية وزيـارة فـي المتحـف، ّية وهـذا يعنـي أن غيرها من األعمال َ الفنّ النادرة قد تخسر شعبيتها في خضم هذا الهـوس المتنامـي بالبوكيمـون.
بوشكين مقابل بيكاتشو وعلى غرار دول العالم ،غرقت روسيا فـي جنـون لعبـة البوكيمـون ،ممـا دفـع ببلدية موسكو إلى إطالق تطبيق مماثل للبوكيمون جو ،يحث المستخدمين على البحـث عـن شـبه افتراضـي لشـخصيات من التاريخ الروسي في أنحاء موسكو. وأعلنـت علـى موقعهـا علـى اإلنترنـت إطلاق التحديـث الجديـد لتطبيـق يسـمى «اعـرف موسـكو» يعمـل وفـق مبـدأ البوكيمـون ،ولكـن بـد ًال مـن مطـاردة الوحـوش الصغيـرة ،اقتـرح المصممون «صيـد» شـخصيات تاريخيـة والتقـاط صـور شـخصية معهـم. أمـا أشـباه المشـاهير االفتراضييـن فهـم يعيشـون فـي األصـل فـي شـوارع موسـكو :هـم القياصـرة الـروس إيفـان الرهيـب وبطـرس األول ،والكاتـب الكسـندر بوشكين ،ورائد الفضاء يوري غاغاريـن ،ونجـم الـروك السـوفياتي فيكتور تسـوي والعديد من الشـخصيات الروسـية األخـرى .وفـي الواقـع يوجـد تمثـال لـكل شـخصية فـي مـكان مـا مـن المدينـة (علـى سـبيل المثـال ،بالنسـبة لتمثـال تسـوي ،يوجـد بشـارع أربـات الشـهير) ،ولكـن بعـد إطلاق تحديـث التطبيـق ،تبـدأ الشـخصيات التاريخيـة فـي «السـباحة» عبـر شـوارع موسـكو. 34
وعلـى عكـس البوكيمونـات التـي تظهـر فـي المدينـة بشـكل فوضـوي ،يتنقـل والكّتـاب ورواد الفضـاء القياصـرة ُ الـروس عبـر مسـار تاريـخ حياتهم .وقد جـاء علـى موقـع بلديـة موسـكو «يمكننا نسـخ الشـخصيات بسـهولة إلى عناوين متعددة تتعلَّق بقصصهم ،وتغيير أماكن ِّ إقامتهـم بشـكل مركـزي ،ثـم الدعـوة إلى البحـث عـن هـذه الشـخصية أو تلـك». ويأمـل المسـؤولون أن تسـاهم اللعبـة فـي تحفيـز اهتمـام المسـتخدمين بتاريخ موسـكو ودفعهـم لدراسـته. ومنـذ أواخـر أغسـطس/آب الماضي أصبح بإمكان المستخدم المتسلح بهاتفه الذكي اصطياد بوشكين أو تسوي .ولكن قبـل ذلـك وفـي الوقـت الراهـن ،مازالـت البوكيمونـات تغـزو الفضـاء االفتراضي فـي موسـكو بالكامـل ،وأصبـح مـن السـهل البحـث عنهـم واصطيادهـم بعـد المطـورون مـن جامعـة الترميـز أن قـام ّ بموسـكو بوضع خريطة لموسـكو تبين كل البوكيمونـات الموجـودة فـي مركـز المدينـة والوقـت المتبقـي قبـل هروبهـا.
البوكيمون كأثر أدبي! التفكيـر النقـدي فـي الثّقافـة الشـعبية يمكن أن يسـاعد على فهم األسـباب التي بفضلها اكتسبت بعض الظواهر الثّقافية واالجتماعيـة شـعبية غيـر مسـبوقة فـي أزمنة معينة؛ فالتأمل الجاد في األعمال الثّقافية كاألفالم والموسيقى واأللعاب، يسـاعدنا حتم ًا على فهم طبيعة المجتمع يقـوض الفكـرة الـذي نعيـش فيـه ،كمـا ّ الراسـخة بـأن النصـوص التـي وسـمت مـر العصـور «باآلثـار األدبيـة علـى ّ العظيمة» هي بالضرورة أكثر أهمية من األعمـال الثّقافيـة األخـرى التي ال تحظى بنفـس القيمـة أو االهتمام.
بين النقد األدبي والبوكيمون تقـوم لعبـة «البوكيمـون جـو» علـى المعـزز التـي تسـتخدم تقنيـة الواقـع ّ كاميـرا الهاتـف المحمـول لربـط سـطح
اللعبـة البينـي بخريطـة رقميـة للمنطقـة التـي يتواجـد فيهـا الالعـب .وتتضمـن اللعبـة اصطيـاد أنـواع مختلفـة مـن الوحـوش الصغيـرة ،وتعزيـز قدراتهـم حتـى يتمكنـوا مـن كسـب المعـارك ومـن التحـول إلـى نسـخ أكبـر وأقـوى. ثـم ّ لكـن ،وفـي ظـل التغيـرات التكنولوجيـة والثّقافيـة المتسـارعة التـي يشـهدها العالـم اليـوم ،هـل يمكـن اعتبـار تطبيق لعبـة علـى الهاتـف المحمـول تقـوم علـى صيـد كائنـات صغيرة نصـ ًا أدبي ًا حديث ًا وجـاداً؟! الجـواب هـو نعـم وال فـي نفس الوقـت! هنـا ال نقصد أن لعبة البوكيمون ترتقـي إلـى مسـتوى روايـات ويليـام شكسـبير أو تشـارلز ديكنـز ،ولكـن التفكير في نقاط االلتقاء بين كتب ديكنز ولعبـة البوكيمـون يمكـن أن يكـون مفيد ًا فـي الواقـع. مـن بيـن األسـباب الوجيهـة للمقارنـة المذكـورة ،أن تشـارلز ديكنـز قـد نشـر رواياتـه فـي البدايـة علـى مراحـل فـي الصحـف ،جنبـ ًا إلـى جنـب مـع إعالنـات عـن الوسـائط الروحيـة والمقويـات الصحيـة المشـكوك فـي صحتهـا ،ورغم ذلـك كان هنـاك جمهـور واسـع مـن المشـجعين المقبليـن بنهـم علـى قـراءة كل فصـل مـن فصول رواياته المنشـورة تباعـاً ،وال تـزال تلـك الروايـات تأسـر الكثيريـن مـن القـراء حتـى اليـوم ،ولـم تكتسـب زخمهـا وانتشـارها الثّقافـي مـن القراء فحسب ،وإنما بفضل جهود النقاد فـي المجـال األدبـي فـي وقـت الحق ،من الذيـن لـم يكتفـوا في بحثهـم بما ورد في ورق الصحـف الرخيصـة ،ولكن فحصوا بتمعـن جوهـر الروايـات التـي أسـرت جوانـب مهمـة مـن الطبيعـة البشـرية، وكشـفت اآلثـار االجتماعيـة للثـورة الصناعيـة ،والجوانـب األكثـر ضبابيـة فـي اإلمبراطوريـة التـي ال تغيـب عنهـا الشـمس. وبالمثـل ،توجـد عديـد الخطابـات النقديـة التـي يمكـن االسـتفادة منهـا وتطبيقهـا لفهـم دواعـي االنتشـار الفيروسـي للعبـة البوكيمـون ،بعيـد ًا عـن ظاهـرة الهوس الجماعي السـتخدام الشاشـات التـي تعمـل باللمـس لصيـد
المخلوقـات الصغيـرة .فـي هـذا السـياق كتبـت جيليـان بيـر ،المثقفـة األكاديميـة من جامعة كامبردج ،دراسات كثيرة في تبيـن كيف كانـت األفكار النابعة السـابق ّ مـن النظريـات العلميـة لتشـارلز داروين فسـر (في كثير المتعلّقة ّ بتطور األنواع ُت ّ من األحيان بشـكل خاطئ) في الروايات التـي عقبـت النظريـة ،وال سـيما تلـك والتطور وسيطرة المتعلّقة منها بالقوة ّ اإلنسـان علـى الطبيعـة. فمـدرب البوكيمـون باعتباره المصمم تطـور عـدد مـن أنـواع والمشـرف علـى ّ الحيوانـات يمثـل انعكاسـ ًا دقيقـ ًا لهـذا التحـول الفكـري واأليديولوجـي الـذي ميـز نهايـة القـرن العشـرين .والحقيقـة ّ أن اللعبـة التـي تقـوم علـى هـذا النـوع مـن القصـص يمكـن أن تكـون شـائعة جـد ًا اليـوم وتكشـف لنـا الكثيـر عـن مدى اسـتمرار انتشـار مثـل هـذه األفـكار فـي
المسـتقبل... تعـود جـذور لعبـة البوكيمـون ،التي مـرة فـي اليابان ،إلى بحث ظهـرت ألول ّ أكاديمـي حـول العالقـة المفترضـة بيـن كل مـن الوحـش اليابانـي «غودزيلا ،»Godzillaالوحش العمالق والخيالي أو دايكايجـو الـذي ظهـر فـي سلسـلة األفالم اليابانية التي تحمل نفس االسـم غودزيلا) ورويـات البطـل الخـارق مـن جهـة ،واآلمـال والمخـاوف التـي أثارتها التكنولوجيـا النوويـة حديثـاً .وسـبق ذلـك بحثهـا فـي مجموعـة متنوعـة مـن المواضيع الدراسـية حول طبيعة ردود أفعالنـا التـي تختلف كثيـر ًا عندما يتعلَّق األمـر بالثّقافـة الرقميـة والتفاعليـة، مقارنـة بالنصـوص الثابتـة .وتزايـد شـعبية البوكيمـون ال يخلـو مـن تفسـير منطقـي (بشـكل غيـر مباشـر) للعبـة تفتـرض منا أن نسـتهلك ترفيهنا الرقمي
في الفضاء العام ،في الوقت الذي طغت فيـه التفاعلات الرقميـة الخاصـة علـى واقـع حياتنـا بشـكل متزايـد. بالطبـع ،هـذا الموقـف ال يتطلّـب مـن الجميع البحث األكاديمي أو كتابة مقاالت مفصلـة حـول اآلثـار االجتماعيـة نقديـة ّ للبوكيمـون ،ولكـن يمكـن تطبيـق تلـك االسـتراتيجيات المذكـورة عنـد كتابـة مقـال نقـدي حـول النصـوص المتعلّقـة بالثّقافة الشـعبية .ما يجب أن يكون هو مفصلة: أن يتضمـن ذلـك ثلاث خطوات ّ تحديـد المحـاور الرئيسـية لألثـر ،بيـان المنهجيـة المتبعـة فـي نقـل المواضيـع األساسـية ،ثـم البحـث عـن التأثيـرات الثّقافيـة المحتملـة للنص :هل تعزز تلك الموضوعات القواعد الثّقافية الراسخة، تؤسـس ألخـرى جديـدة؟ أم ّ 35
بدأت حكايتي الشخصية مع لعبة «البوكيمون جو» في أواخر يوليو/تموز الماضي ،في أثناء عودتنا من هامبورج إلى فرنسا بالحافلة ،ولم أكن مع ابني وابنتي وحدنا ،فعلى الكرسي أمامنا ،وخلفنا على النافذة ،وتحت أقدامنا، يصحبنا الـ«البوكيمون».
أسامء الغول فاللعبة تعتمد على التنقل واالستكشاف فـي العالـم الواقعـي عبـر تحديـد الموقـع باستخدام كاميرا الهاتف الذكي ،والـ«جي. بي.أس» ،وتتكامل بإيجاد العبين آخرين في المنطقة لهزيمتهم. كل المعالم المعروفة حولنا وقد كانت ّ تظهر على خارطة اللعبة قبل أن نراها. لـم أحتمـل مرافقـ ًا غريب ًا وهميـ ًا وصامت ًا ومتملص ًا إلى هذا الحد ،فطلبت من ابني أقل مشاركة للروح أن يلعب شيئ ًا آخرّ ، والجغرافيا والفيزياء. ّإل أن األجيـال األصغـر تعتبـر هـذا الزائـر متحديـ ًا لـدود ًا ترغـب بالتفتيـش عنـه المتالكـه ،وتعاملهـا مـع األمـر فيـه كثيـر مـن الندية وليس فقـط كونها لوثة إلكترونيـة شـائعة ،أو لعبـة رقميـة. هنـاك تحـٍد قائم على األرض يشـارك 36
الالعـــــــــــب زمنه ومكانـه وعقلـه فيبـدأ الركـض .إنهـا مـا يسـميها العلمـاء فاشسـتية التكنولوجيـا؛ فـ«على العلم أن يكتشف والتكنولوجيا أن تطبـق واإلنسـان أن يتكيـف». فـي مدينـة كليرموفورمنـت الفرنسـية حيـث نـادرًا ما ترى النـاس خارج منازلها مسـاء مـا عـدا فـي العطلـة بعـد التاسـعة ً األسـبوعية ،خرجـت ألمشـي ،وشـعرت بطبيعة الحال بوحشة الشوارع الخالية، والتـي لـن تكـون بالمثـل فـي بلداننـا العربيـةّ ،إل أن «البوكيمـون جـو» حـول هـذه الوحشـة ،وغيـر عـادة مجتمعيـة، فقـد أحـاط بـي فجـأة أكثـر مـن 30فتـى وفتـاة وأغلبهم يرتـدي حذاء العجالت، وتتبعهـم مجموعـة أخـرى بالسـيارة.
مألنـي الفضـول ،والسـعادة بالطبـع إلحيائهـم المسـاء الفرنسـي الكئيـب، فسـألت أحدهـم «مـاذا يحـدث؟» ،ليـرد ال «إنه البوكيمون» ،وكان يجب مسـتعج ً أن أخمـن منـذ البدايـة؛ فكلهـم ينظـرون إلى هواتفهم الذكية وهم يركضون بحث ًا عـن البوكيمـون ذاتـه .ركضـت بـدوري إلـى المنـزل ألخبـر ابنـي «العالـم إنجـن يـا مامـا». التفاعـل وكسـر العزلـة والحركـة البدنيـة ،جعـل هذه اللعبة خارج سـياق األلعـاب اإللكترونيـة المتعـارف عليهـا والتـي يرتبـط بهـا الثبـات واالنقطـاع، وحتى الحديث منها المرتبط باالشـتراك بشـبكة االنترنت ،وتسـتطيع من خاللها اللعـب مـع مـن يمتلـك الجهـاز ذاتـه كـ«الباليستيشـن ،»4ال تـزال معزولـة عـن المحيـط الفيزيائـي والحيـوي الـذي توفـره الـ«بويكمـون جـو». فـي الوقـت ذاته ال يمكــــــن
إنـكار أن فلسـفتها مبنيـة علـى العزلـة الفرديـة وتحـدي الـذات ،فلـوال ذلـك لمـا كان هنـاك التنافـس المحمـوم المتلاك «البوكيمـون» ،وإيجـاده قبـل اآلخريـن، لتكتسـح اللعبـة الفضـاء اإللكترونـي وتبـدأ الحمـى باالنتشـار. وربمـا نحـاول تفسـير هـذا الطوفـان «اإللكتروبشـري» بنظرية عالم االجتماع ايفرت روجرز النتشـار المسـتحدثات أو االبتـكارات إحـدى النظريـات األساسـية فـي العصـر الحديـث لتبنـي المجتمعـات للمخترعـات الجديـدة ،والتـي تؤكـد أن تبنـي أي مجتمـع لمسـتحدث يمـر أو ًال بـإدراك األفـراد وجـود اختـراع مـا، فيحاولـون التعـرف علـى وظائفـه ، وثانيـ ًا يقتنعـون بـه ليصبحـوا معـه أو ضـده ،ثـم مرحلـة اتخـاذ القـرار بتبنـي استخدامه ،والمرحلة األخيرة يقوم فيها الفـرد بدعم اسـتخدام االبتـكارات ،ولكن نسـبة إلـى ما يحـدث اليوم ،فتعتبر هذه مراحـل متتاليـة فـي غايـة البـطء ،فـي حين أن انتشار المستحدث التكنولوجي متواز ،ليقفز العالم مباشـرة يتم بشـكل ٍ إلـى الخطوتيـن األخيرتيـن. لكن ليس روجرز وحده من سـيفاجأ بهـوس لعبـة البوكيمـون ،بـل فضولـي يكمـن إزاء مـا كان سـيقوله الكاتـب األميركـي ريتشـارد هورنبيرجـر (1924 )1997عـن الثـورة اإللكترونيـة ،فهـوصاحـب العبـارة الشـهيرة عـن الثـورة الصناعية «لها التأثير األعظم في تحول الثّقافة البشـرية منذ اكتشـاف الزراعـة قبـل
نحـو
إلـى ثمانيـة عشرة آالف سنة». كمـا قـال «لقـد أدت هـذه الثورة إلى تغيرات فـي النشـاط اإلنسـاني ال رجعـة فيهـا ،في االسـتهالك،
وبنيـة األسـرة ،والبنيـة االجتماعيـة، وحتـى فـي األفـكار والـروح الفرديـة ذاتهـا». فكيـف كان سـيصف المجتمـع اآلن وعالقاتـه وبنيتـه وقيمـه؟ وهـل كان سـيمتدح ثـورة المعلومـات ،كمـا فعـل مـع الثـورة الصناعيـة؟. التطـور السـريع فـي المعرفـة إن ّ البشـرية والقيـم والمعلومـات ،ومـا آلـت إليـه األمـم مـن تناحـر وحـروب اسـتخدمت فيهـا التقانـة بأرقـى صورهـا للقتـل ،وحـث اإلنسـان القديـم المحـب لالنقضـاض ،يقـود إلـى السـؤال األهـم ألرنسـت مايـر «مـا األفضـل؛ أن نكـون أغبيـاء أم نكـون أذكيـاء؟». ويحضرنـي قـول الدكتـور إسـماعيل أبـو شـميس فـي محاضـرة ألقاهـا عـن الـذكاء االصطناعـي «الالتفكيـر أيضـ ًا يؤكـد علـى الوجـود؛ فعـدم التفكيـر هـو التعبيـر الحقيقـي عـن وجـود الكائنـات ومنهـا البشـر ،والشـعور واالتصال عبر يؤكد وجود اإلنسـان الحـواس هـو الـذي ِّ وتناغمـه مـع الطبيعيـة -أنـا أشـعر إذن أنا موجود -في حين أن الذكاء ال يجعله سوى مغترب ،أو كائن مفارق وبالتالي متكبـر علـى الطبيعـة». واسـتخدم في محاضرتـه «الزومبي» كمثـال علـى الكائنـات التـي عـادت إلـى الحيـاة ،فهـي تفكـر ولكنهـا ال تشـعر. وهـذا التشـبيه ذكرنـي تمامـ ًا بشـكل الفتيان في شوارع فرنسا وهم يمشون، غائبيـن عمـا حولهـم شـعوري ًا ولكنهـم موجـودون بفكرهـم مـع «البوكيمـون» وهـو مـا ربـط هـذه اللعبـة بحـوادث السـيارات. وفـي فرنسـا أيضـ ًا قبـل مئـات السـنين تعثـر رينيـه ديـكارت بقطعـة رخام في األرض ،ما جعل تمثال حارس اآللهـة ديانـا «األرتيمـس» يتقـدم خطـوة لحمايتهـا ،وهـو تمثال شـهير من العصر الهيدروليكي ،وهنا تساءل ديكارت «إذا مـا ُكنـا آالت تعمـل مثـل هـذا التمثـال؟». فهـل كان ديـكارت سـيجد إجابتـه حيـن يرانـا وقـد غدونـا بوكيمونـات مقابلة؟!. 37
معزَّز! عن واقعنا غير ال ُ
«بوكيمون جو» ثقافي ًا ّية كونه شخصية كرتونية مستخدمة في لعبة فيديو إلى َفّن األِنيمي الياباني .وكلمة ينتمي بوكيمون من الناحية َ الفنّ أنيمــي مــا هي ّإل النطق المختصر (باليابانية) لكلمة أنيميشــن اإلنجليزية التي تعني أفــام الكرتون (بالرغم من قدم ــن المانجــا الياباني والذي هو أساســ ًا َفّن الكرتون) .وكذلك فإن بوكيمون كلمــة مركبة من مختصري كلمتي بوكيت َف ّ ومونســتر واللتين تعنيان جيب ووحش على التوالي .إذن بوكيمون يعني وحش الجيب .ومدلول الجيب عموم ًا هو صغر الحجم (الكثيرون منا يذكرون سلســلة روايات الجيب) .إذن بوكيمون في مجمله يعكس تبني المجتمع الشــرقي (بشــقه اآلســيوي) للمجتمع الغربي ،بل تحديداً ،تبني الثّقافة اليابانية للثّقافة األميركية؛ وبتفوق .ومن ذلك أيضاً، في مجال الرياضة ،لعبة البيســبول (كرة القاعدة األميركية) التي انفردت اليابان من بين دول آســيا في ممارســتها احترافي ًا (بدءًا من عام )1936ونقلتها اليابان إلى تايوان في عشــرينيات القرن الماضي ،ومن َثّم إلى تشــكيل فريق كثير منهــم للعب في الفرق محتــرف فــي تايوان عــام .1990وهنا أيضــ ًا تفوق اليابانيــون في اللعبة إلــى أن انتقل ٌ ثقافة يابانية ارتوت من موارد أميركية ثم أعيد تصديرها إلى أميركا. األميركية .ومثل ذلك ،أصبح بوكيمون ً
عبدالوهاب األنصاري مبتكر بوكيمون هو الياباني َستوشي َتجيري الذي كان مولع ًا بجمع الحشــرات وهــو صغيــر (ولد عــام ،)1965حتى أنه كان يحلــم بــأن يكــون خبيــرًا فــي علــم الحشــراتّ .إل أنــه لــم يفلــح فــي دراســته خــال ســنوات المراهقــة ،حيــث إنــه كان يتغيــب مــن الحصص لصالح قضاء وقته فــي صــاالت ألعــاب الفيديــو .ويشــاع عــن المبتكــر أنــه يعاني من متالزمة أســبرجر والــذي هــو ضمــن طيــف التوحــد .تطــور األمــر ســريع ًا بعــد ذلــك بإصــداره مجلــة بدائيــة التحضيــر لهــواة ألعــاب الفيديــو، ومــن ثــم تعلمــه للبرمجــة لكــي يتمكــن مــن تطويــر شــخصيات ألعــاب الفيديــو بنفســه .بطــرح َستوشــي َتجيــري فكــرة بوكيمــون بيــن عامــي 1989و 1990إلــى شــركة ننتدو التي تقبلت الفكرة ،وإن لم تكــن اســتوعبتها تمامـ ًا حينئـٍذ ،أصبحت لعبة بوكيمون بمختلف إصداراتها إحدى أنجــح ألعاب الفيديو على اإلطالق (حيث بلغــت األربــاح إلى نهاية مايــو 2016إلى 38
أكثــر مــن 46بليون دوالر) بحســب موقع الشركة. لكــن للعبــة «بوكيمــون جــو» ،التــي طورتهــا شــركة نيانتــك ،قصــة أخــرى غير قصة بوكيمون األصلية ،تجمع بين اليابــان وأميركا .نيانتك شــركة مســتقلة تتبع جوجل ،وتخصصها تطوير األلعاب الواقعيــة -المعــززة (augmented )realityالتــي تجمــع عناصــر واقعيــة مــن البيئــة كمــا هــي (عــن طريــق الكاميــرا المدمجــة فــي جــوال الالعــب) مــع عناصــر مــن الفيديــو ،وهــي تســمى لذلــك أيض ـ ًا األلعــاب الموقعيــة الســتخدامها البيئــة المحيطــة بالالعــب .الفكــرة األساســية للعبــة خطــرت لســونيكازو إيشــيهارا الرئيــس التنفيــذي لشــركة بوكيمــون باالشــتراك مــع ســاتورو إواتــا ،الرئيــس التنفيــذي لننتندو (مبرمــج ألعاب ،توفي السنة الماضية) اللذين لم يخفيا إعجابهما باأللعــاب التي أنتجتها شــركة (نيانتك)،
وكانــا يريــان أن البيئــة التــي تســتخدمها نيانتك أللعابها تناســب بوكيمون تماماً. كان تجنــب شــركة ننتنــدو تطويــر ألعــاب الجــوال مبكــرًا قــرارًا ســيئ ًا حــاول إواتــا تالفــي تبعاتــه الحقـاً .بالتعــاون الثالثــي المشــترك طــورت شــركة نيانتــك بقيــادة رئيسها التنفيذي جون هانك ،والذي كان أحــد مبرمجــي جوجــل إيــرث األساســيين عندمــا كان يعمــل لديها ،لعبــة «بوكيمون جــو» والتــي قــد تكــون نقطــة فاصلــة فــي تاريــخ األلعــاب المبرمجــة للجــوال. المقــاالت المتعلقــة «ببوكيمــون جــو» تتصدرها عناوين مثل «الهوس العالمي» و«ظاهــرة اجتماعيــة وثقافيــة» .أعــداد الالعبيــن خــال األيــام الســبعة األولــى (فــي ثــاث دول فقــط) تعــدت 65مليــون العــب ،متخطيـ ًـة بذلــك عــدد المشــتركين بتويتــر التي أطلقت خدماتها عام .2006 ـور قــد ُتؤخــذ بقدرهــا الظاهــر: هــذه أمـ ٌ لعبــة إلكترونيــة كمــا هــي فــي ظاهرهــا،
مبتكر بوكيمون ،الياباني َستوشي َتجيري
لكنهــا تعكــس أبعــادًا حضاريــة أبعــد مــن ال تالقح الثّقافات ذلك بكثير .من ذلك مث ً ومــا ينتــج مــن ذلــك .ومــن ذلــك أيض ـ ًا تغيــر مجريات االنعطافــات التقنيــة التــي ّ األمــور .هــذه اللعبــة يمكــن تنزيلهــا بــا مقابــل ،فكيــف تكســب الشــركات المعنيــة أرباحهــا؟ (الجــواب الجزئــي :اإلعالنــات التجاريــة خــال اللعــب) مــن االنعطافــات ا تحــول منصــة األلعــاب اإللكترونيــة مثـ ً مــن األجهــزة المتخصصــة مثــل ســوني بــاي ستيشــن ومايكروســوفت إكــس بوكــس وننتنــدو وي إلــى الجــوال، ٍ تتغيــر األمــور ولــو بشــكل مبدئــي .إذن ّ بالتدريــج اللطيــف الــذي ال يــكاد يحــس بــه أحــد .ال يمكــن ألحـٍد أن يتنبــأ إلــى أيــن تــؤول األمــور ،لكــن ال تثبــت األمــور علــى شــيء .ثــم إن اللعبــة هــذه تقلــب الصورة النمطيــة لأللعــاب المبرمجــة عمومــ ًا رأسـ ًا علــى عقــب ،مــن حيــث أنهــا تتطلب المشــي والســعي بــدل الخمــول علــى كنبة
مثـاً .األمــر الــذي ال شــك فيــه أن األفــكار التــي تتمخــض لــدى اســتغالل بيئــة هــذه اللعبــة تجاريـ ًا ال حــدود لهــا غيــر مخيلــة المبتكرين .مكدونالدز أعلنت عن دخولها في خطة تعاونية مع «بوكيمون جو» لم يتــم تحديــد أبعادهــا بعــد .التــدرج الرقمي مــن الواقع االفتراضــي إلى الواقع المعزز لــه تطبيقــات ال محــدودة كمــا ســتبين المرحلــة الالحقــة بــا شــك ،إثــر النجــاح الالمســبوق لهــذه اللعبــة. كيــف يمكن اللحــاق بالركب الحضاري دون تعلــم لغــة العصــر؟ كيــف يســتطيع اآلبــاء والمعلمــون اإلرشــاد وهم يجهلون الطريــق؟ إننــا جماعــة مــن البشــر نحســن االســتهالك فحســب ،ونقــول دع العالــم المتقـ ِّـدم ينتــج مــا ينتــج ،نحــن نكتفــي بالجلــوس علــى منصــات الجماهيــر ضمــن المتفرجيــن فحســب ،ثــم نســتفيد ممــا ينتجــون فــي آخــر المطــاف ،دون أن يهمنا أن نشارك في اللعب .ثم إننا نمقت
اللقــاح الفكري بعمــق العاطفة ونتوجس ممــا لــدى الغيــر ونســميه الغــزو الثّقافــي. نحــن ،بتعبيــر محمــد الماغــوط ،ال نتأمل ّ كل اتجاه». «إل القمر والغيوم الهاربة في ّ لكــن عندمــا تنظــر إلــى تفاصيــل األمــور ـدة لتلــك الدرجــة .ليــس فهــي ليســت معقـ ً الدخــول فــي نــادي المبتكرين حصرًا على ثقافــات محـ َّـددة .هناك من بين المراهقين من شــبابنا من هم مثل َستوشــي َتجيري أو جــون ،حــري بالمربيــن أن يتيحــوا الفرص لمثلهم وألولياء األمور أن يهيئوا البيئــة الالزمــة لــزرع الثقــة فــي نفــوس كل فكـ ٍ ـرة جديــدة. الشــباب للســعي وراء ّ نظــرة لكــن واقعنــا غيــر ذلــك تمامــاً. ٌ واحدة إلى األوســاط اإلعالمية في العالم العربي ،بتقليب قنوات التليفزيون مثالً، تبعــث اليــأس فــي النفــوس .وبعــد ذلــك نــدع األمــور تجــري فــي أعنتهــا ثــم ننــام هانئــي البــال .كذلــك ُقـّدر لنــا. 39
الماســة لإلنســان ،كــي يعيــش خــارج الواقــع ،هــي اللعبــة الحاجــة ّ المتكررة ،بال نهاية ،على نطاق عالمي ،ومنها «بوكيمون «اإللكترونيــة» ِّ جو» ،التي يبدو أنها أسقطت ضحايا في جميع أنحاء العالم ،ليس ،فقط، في العالم االفتراضي ،بل في العالم الحقيقي ،أيضاً.
الهروب من الحياة إليزابيلال كامريا دافليتو ولكــن لمــاذا يحتــاج اإلنســان للهــروب دائم ـاً ،وال يقبــل الحيــاة التــي يعيشــها ويلجــأ إلــى حيــاة أخــرى وهميــة تمامـاً، تتكــون مــن شــخصيات (مريعــة) غيــر موجــودة فــي الواقع (لحســن الحــظ )...؟ هــذا هــو الســؤال الــذي نطرحــه كثيــرًا وال نحصــل لــه أبــدًا علــى إجابة شــافية .قبل بضــع ســنوات انتشــرت موضــة تربيــة حيــوان أليــف فــي الواقــع االفتراضــي، كان عليــك أن ترعــاه وتطعمــه وتســقيه وتنظفــهّ ، وإل مــات .ثــم ســرت موضــة لعبــة افتراضيــة تمثــل حيــاة مثاليــة موازيــة :بنــاء منــزل يناســب أذواقنــا، يســكنه أشــخاص وهميــون (حتــى مــن الدمــى اللطيفــة) التــي كان علينــا أن نرعاهــم ،فنقـ ِّـدم لهــم الطعــام بانتظــام، ونســهر علــى تلبيــة احتياجاتهــمّ ، وإل يموتــون .وهكــذا رأينــا بعــض النــاس، معظمهــم مــن الكبــار وليس مــن األطفال، يقضــون وقتهــم متعلقيــن بجهــاز الكمبيوتــر أو الهاتــف المحمــول ،وفقــ ًا لمواعيــد الرضعــات ،والحمام ،والتنزه، إلــخ .باختصــار ،خلــق الكثيــرون حيــاة موازية للحياة الحقيقية ،مما عقَّد الحياة 40
الفعليــة تعقيــدًا ليــس قليــاً .تخيلــوا شــخص ًا كان يعمل أو يســتذكر دروســه، أو يقــوم بــأي عمــل آخــر فــي الواقــع ،ثم يضطــر فجــأة لوقــف عملــه حتــى يطعم، أو يفــي باحتياجــات شــخصيات ابتدعهــا هو بنفســه ابتداعاً .هذا هو الجنون التام فــي رأيــي ،وهــو جنــون لفت نظــر علماء النفــس واالجتمــاع واالقتصــاد وغيرهم، ممــن حاولــوا فهــم وتوضيــح أســباب نجــاح هــذا النــوع من األلعاب التي تتســم بقدرتها على اجتذاب الكثيرين لالنخراط فيها .بعض هؤالء قارن اللجوء المستمر إلــى الواقــع االفتراضــي بمتاعــب العيــش فــي الماضــي .مــن المؤكــد أن اللعــب شــيء جميــل ،ويجــب علــى الجميــع أن يلعبــوا دون أن يتلّقــوا لوم ـ ًا أو تقريع ـ ًا علــى ذلــك ،أو ينظــر إليهــم علــى أنهــم جهلــة أو ســطحيون .غيــر أنــه ينبغي أن يقــال ،إن أي لعبــة فــي الحقيقــة جميلة، ولكــن رأيــي أن تظــل لعبــة ،وال تؤثــر علــى واقــع الحيــاة ،وأن تعمــل بالمثــل اإليطالــي الــذي يقــول« :اللعــب جميــل عندمــا ال يــدوم كثيــراً». وهــا قــد وصــل الجنــون الجديــد الــذي
يســمى «بوكيمــون جــو» .فــي شــوارعنا، فــي مواقعنــا األثريــة ،بدأنــا نــرى أناسـ ًا يهرولــون مــن جانــب إلــى آخــر مــن الطريــق مثــل «الزومبــي» يطــاردون شــيئ ًا هــم فقــط الذيــن يرونه .من الســهل التعــرف عليهــم مــن الهواتــف المحمولــة التــي يحملونهــا بيــن أيديهــم ،وتبــدو علــى وجوههــم ســيماء البالهــة وهــم يســابقون غيرهــم مــن «الالعبيــن» الذيــن يأتــون األفعــال نفســها ،وفجــأة يثبــون فــي الهــواء ويلتقطــون شــيئ ًا ما .مــا هذا! مــن الصعــب حقـ ًا فهــم هــؤالء النــاس إذا لــم تشــارك فعليـ ًا فــي اللعبــة واقتصــرت
فقــط علــى مالحظتهــم .أســوأ شــيء هــو أن مــن اخترعــوا هــذه اللعبــة ليــس لديهم أي احتــرام ألي مــكان ،وهــذا شــيء ال أحبــه ،ألن هــذه الحيوانــات االفتراضيــة كل زمــان وفــي أي اللعينــة مخفيــة فــي ّ مــكان ،حتــى فــي أماكــن العبــادة وفــي كل مقابرنــا .والعبونــا يطاردونهــا فــي ّ مــكان للقبــض عليهــا ،حتــى مــن دون الحاجــة لمراعــاة قدســية أماكــن معينــة، واالحتــرام الواجــب تجاههــا .بــل إن بعــض هــؤالء دفــع حياتــه ثمنــ ًا لهــذا الســباق المجنــون للقبــض علــى أحد هذه الوحــوش الصغيــرة المريعــة ،عندمــا لم
يتوخ أي حرص من السيارات واألخطار األخــرى التــي يمكــن أن يصادفهــا. ومــرة أخــرى نتســاءل :لمــاذا هذا كله؟ وعاظـاً ،كمــا ال نريــد ال نريــد أن نصبــح ّ أن نســقط فــي فــخ البالغــة الكالمية ،وال أن نســير خلــف نظريــات المؤامــرة بــأن كل هــذا أيــادي خفيــة شــيطانية أو وراء ّ أخ ًا أكبر هو الذي يســير دائم ًا اإلنســانية بغيــة تدميرهــا .بــل أعتقــد ببســاطة أن بعــض المجتمعات ،التي يعرفها البعض علــى أنهــا «مــرآة الحداثــة المضمحلــة» فقــدت بوصلــة القيــم الحقيقيــة للحيــاة، وصارت تميل أكثر إلى االنسحاب داخل
عالــم ثــري ،غني ،ســطحي وأناني على ـآس نحــو متزايــد ،يغمــض عينيــه عــن مـ ٍ كبيــرة للبشــرية ،يقــف صامتــ ًا أمــام الحــروب والدمــار والمجاعــة ومالحــم الهجرة الدرامية ،منسحب ًا إلى مجتمعات تــزداد صغراً ،داخل جهاز هاتف محمول صغيــر جــداً ،لمطــاردة وحــش افتراضي صغيــر جــداً ،ال معنــى لــه ،وهــو فــوق ذلــك قبيــح أيضـاً ،مثل البوكيمــون .فإذا مــا اتهمنــي أحــد بأننــي مــا كتبــت هــذا ّإل جريــ ًا وراء التقاليــع الثّقافيــة المملــة المعتــادة ،فإننــي لــن أحس بأيــة إهانة، يكفينــي أن أقــول مــا أعتقــد أنــه صحيح. 41
«»Gotta Catch ‘Em All
«عليك أن تأسرهم جميع ًا» في عصر ما بعد الحداثة ،و -تحديداً -بانتهاء أزمة الصواريخ الكوبية الشهيرة ،اختفى الصراع التقليدي الرأسي، المتأخر ،وعند لحظة خطورة التدمير النووي القصوى، وحل محلَّه صراع التجاور األفقي .فقد أنهى طور الرأسمالية َّ ِّ تناحر الميثولوجيا ،حتى أقصى قدر من الربح! مسألة تناحر الميثولوجيا حتى الموتِّ ، محو ًال إياها لتجاور ُ
عامد إرنست ومــا بيــن مقولــة الكاتــب والمنظــر وعالــم األحياء األميركي إدوارد أوزبورن ويلســون «داخــل البشــرية غريــزة فطرية لتجميــع وفهــم وقضــاء وقــت مــع حيوات مختلفة عنها» ،ومفهوم الموكوكوسيكي mukokusekiالتجــاري اليابانــي؛ والمعنــي بتخطــي منتجهــا حاجــز الدولــة statelessnesssأو الجنســية �nation lessnessيأتــي البيكاتشــيو ،أو ذلــك الفأر الكهربائي األصفر الياباني الشهير، محقّقــ ًا ذلــك المفهــوم وتلــك الغريــزة الفطرية في اكتمال جلّي ،ليجلس كثاني أشــهر شخصية بعد ميكي ماوس بحسب مجلــة التايمــز عــام .1999متخطيـ ًا اآلن، ـكل تأكيــد ،بعــد صــدور نســخة ألعــاب وبـ ّ اقتصاد الترفيه «تحرك مع البوكيمــــون» Pokemon-Goأول إبـــريل/نيسان 2016عـبـر منصــة ،googleتلك اللعبة المعـزز AR المستنـدة إلى تقنيـة الواقـع ّ كل نظرائــه ّ ،Augmented Reality مــن الشــخصيات الشــهيرة التــي أســرت مخيلة البشــرية ،محدث ًا هوسـ ًا مثيرًا لدى مســتخدمي اللعبــة ،وارتبــاك ًا فائقـ ًا لــدى أوصيــاء المجتمعات والدول والباحثين، وتدقيقــ ًا مــن مجتمــع اقتصــاد الترفيــه ألســباب بريقــه المربــح والمذهــل في آن، مــن توظيف ســليم للجــوال الذكي ،ومزج بيــن العالــم االفتراضي والواقعي بيســر، ودمــج لإلعالنــات مــع تطبيــق اللعبــة، وتعزيــز لتجربــة المســتخدم. فبعــد ظهــور تقنيــة الـــ ، VRأو 42
الواقــع االفتراضــي ،Virtual Reality حيــث إســقاط األجســام الحقيقيــة داخــل بيئــة افتراضيــة ،وأشــهر مظاهرهــا فيلــم أفاتــار Avatarومواقــع التواصــل االجتماعــي ،دخلــت ســاحة تكنولوجيــا االتصــال والمعلوماتيــة تقنيــة الـــ ،AR أو الواقـ�ع المعـ�ز ز �Augmented Re ،alityحيــث ،وعلــى النقيــض ،يتــم إســقاط األجســام االفتراضيــة داخــل بيئة حقيقية .متفوقة األخيرة ،عبر ذلك الفأر حمل بإرث الم َ الكهربائي الياباني األصفر ُ ميثولوجيــا الشــينتو والبوذيــة الشــرق آســيوية ،علــى األولــى فــي بورصــات متعــددة الجنســيات العالميــة الشــركات ِّ محقّقــة لعبــة «البوكيمــون جــو» أرباح ـ ًا خياليــة وقياســية لشــركة «نينتنــدو»، وهــي مــن أكبــر وأشــهر منتجــي أنظمــة األلعــاب فــي العالــم ،والذي يحمل اســمها مفارقــة الفتــة لالنتبــاه فــي بحثنا المكثف هــذا؛ حيــث تعنــي بالعربيــة «دع الحــظ للســماء» ! عزيــزي القــارئ؛ إن تاريــخ الســماء ملــك للبشــرية كافــة ،وعلينــا فهــم ذلــك بدقــة وانتبــاه وفــي أســرع وقــت ممكــن، ّ وإل تحولنــا لكائنــات منقرضــة فــي التاريــخ القريــب ،أو علــى أفضــل تقديــر كائنــات مســتهلكة ،فقــد كنــا كقاطنيــن لهــذه المنطقــة مــن العالــم مــن ضمــن أوائــل مــن اقترحــوا عليــه ميثولوجيــات، وأبطال فولكلور ،وحكايات واسعة الباع والشــهرة ،ومــا أكثــر مــن ميثولوجياتنــا
مــن آشــورية وفينيقيــة وحضرموتيــة وفرعونية وعربية ،وما أكثر من أبطالنا الفولكلورييــن الغنييــن عــن الحصــر، أدلــل أخيــرًا علــى الحكايــات ويكفينــي أن ِّ بتلــك الحكايــات المعنونــة باأللــف ليلــة وليلــة ،والتــي ال يمكــن أن يكتمــل نضــج مخيلــة فنــان فــي العالــم دون قراءتهــا. لماذا هذا التنويه بالغ التحديد؟! فــي بســاطة؛ ألن هــذا هــو أول نقطــة بحثيــة لظاهــرة البوكيمــون وســبب أســاس النتشــار ســحرها؛ فــاآلن يســتند عالــم اقتصــاد الترفيــه فائــض القيمــة المضافــة ،والــذي يفــوق فــي أرباحــه اقتصاديــات النفــط والثــروات التقليديــة، من أفالم ومسلســات وألعاب ،على هذه الميثولوجيــات واألبطــال والحكايــات، بــل ويجعلهــا تقــف موقــف الحســرة مــن صغــر تكلفتــه بالمقارنــة بتكلفتهــا .تلــك الميثولوجيات واألبطال والحكايات التي ال يســتطيع أي إنســان أن يحيــا بدونهــا، فــإذا افتقدهــا فــي زمنــه اليومــي وفضائــه المكاني بحث عنها لدى آخر ،وإذا أصابه ليحل محلّها ،وإذا الملل منها خلق الجديد ّ لــم يكــن يملــك أي ـ ًا منهــا اســتولى عليهــا مــن مــكان آخــر ،وأبــرز مثــل مــا يفعلــه اقتصــاد الترفيــه األميركــي مــن اســتيالء علــى ميثولوجيــات وأبطــال وحكايــات القــارة العجــوز أوروبــا .وهــذا مــا فعلتــه اليابان في مجمل منتجاتها ،ال البوكيمون وحــده ،فقــد حملــت بعــد الحــرب العالميــة الثانيــة هذه المنتجــات بموروثها الثّقافي
مبكــرًا جــداً ،وبقــدر ٍ عال المتنــوع ،مدركــة ِّ مــن التجديــد المتســارع ،معنــى صــراع الهويــات واعتــاء األقوى لمنصــة الربح. وال تندهــش حيــن تعــرف أن شــريك نينتينــدو اليابانيــة الرئيــس هــو شــركة نيانتــك األميركيــة وهــي إحــدى شــركات «الفابيــت» الشــركة األم googleاآلن؛ فقــد نوهنــا فــي البدايــة علــى أن التناحــر الرأســي انتهــى وأصبــح تجــاوز التناحــر هــو الســائد ! اآلن وقــد وضعنــا األرضيــة للمفاهيــم االقتصاديــة والثّقافيــة فــي عجالــة؛ دعنا نبحــر ســريع ًا في حكاية ذلك البيكاتشــو األصفــر القــادم نحــوك فــي الصــورة أعــاه ،ومــا يســتند إليــه مبدعــوه ،ومــا يصبــون نحــوه ،وكذلــك مــا يحدثــه مــن وتحــوالت محســوبة ،وغيــر تبــدالت ّ محســوبة ،ثــم أخيــرًا ســننهي بمفارقاتــه المرحــة الدالــة جّدًا علــى نقاط التحول في مســيرة اإلنســان والتكنولوجيــا ! أوالً؛ وعبــر التاريــخ البشــري كلــه، حيــن تشــتد األزمات تجــد األلعاب طريقها للظهور وتزدهر ،متمثلة إياها أو مخففة مــن وطأتهــا .وهــذا مــا رصــده مخترعــو لعبــة «إنجريــس ،»Ingressوهــم ذاتهــم ـورو لعبــة «بوكيمون جــو»؛ فقد كانت مطـّ إنجريــس لعبــة تعتمــد علــى فريقيــن، المتنــورون مــن ناحيــة والمقاومــون مــن ناحيــة أخــرى ،وهــي لعبــة ظهــرت عــام 2012م مــع انــدالع العنــف فــي العالــم، ووصوله لدرجة طاغية دفعت في بعض
األحيــان إليــذاء الالعبيــن أنفســهم. ثانيــا؛ كلمــا زاد االغتــراب الناتــج عــن اإلدمــان التكنولوجــي ،بحيــث أصبحــت تجبــر جســد مســتخدمها علــى الســكون الحركــي ،وفقــد التواصــل مــع بيئتــه المحيطــة ومجتمعــه ،بحــث منتجــو التكنولوجيــا ذاتهــا عــن حــل لســلبياتها، خاصــة مــع النهــم الرأســمالي لالســتيالء علــى وقــت الفراغ ،والذي قد يتمثل أحيان ًا فــي الســير صباحـ ًا علــى الرصيــف نحــو ال في خبث الملل الروتيني عملك ،مســتغ ً الديكنــزي فــي «قصــة مدينتيــن» ،أو التريــض في طريــق ،أو الجلوس منتظرًا لوســيلة مواصالت ،أو الجلوس بشــرفة دون فعل شيء ،أو للتقابل مع صحبتك التــي قــد يكــون أصابهــا بعــض الفتــور الجماعــي وتبحــث عــن تجــارب حياتيــة جديــدة ورؤيــة العالــم بعيــون مغايــرة. ـورو اللعبــة مــن هــذا الرصــد قـّـرر مطـ ّ تطويــر مخيلــة اليابانــي ساتوشــي تاجيــري المبــدع األصلــي للعبــة ،نحــو خلــق لعبــة «فرديــة» تحفــز الغريــزة الفطريــة ،والتــي أشــرنا لهــا بالفقــرة الثانيــة ،آلســر «وحــوش الجيــب» ،وهــو المعنــى الحرفــي لكلمــة ،Pokemon وكذلــك فهــم وتطويــر تلــك الكائنــات ،ثم التعايــش معها كحيوات أخرى افتراضية متنوعــة ،أصبحت موجودة بالفعل على كل هاتفــك الحديــث جــداً ،وتطــاردك فوق ّ أرفــف المتاجــر ،مــن كائنــات مدينيــة، وأخــرى للمناطــق المزروعــة ،وأخــرى
تنتمــي للمياه .ثم عبر الصعود لمســتوى الصالــة الرياضيــة مــن اللعبــة واالختيــار بيـ�ن ثالثـ�ة فـ�رق ؛ ValorاألحمــرMys� - ticاألزرق Instinct -األصفــر ،يتــاح لبوكيمونــك التواصــل الجماعــي ،وذلــك بعــد أن قمــت بتدريبه وتطويره ،وفرصة نــزال بوكيمــون العــب فريــق آخــر. ثالثــا؛ األوصيــاء علــى المجتمعــات كل العالــم وليــس فــي منطقتنــا فقــط فــي ّ كل الديانــات ســيقفون حتم ـ ًا أمــام ومــن ّ هــذه الثــورة التكنولوجيــة فــي اقتصــاد الترفيــه .حــدث ذلــك مــن الكنيســة فــي أميــركا ولــم يختلــف رد فعــل الســنة أو فكر الشــيعة فــي ذلــك األمــر .ال تلــق بــاالًّ ، فقــط فــي هــل تتمنــى صنــع لعبــة مثيلــة تنطــق باللّغــة العربية ،وإذا كنت من أهل فكر فــي إبداع مثيل الفطنــة التكنولوجيــة ّ يقــوم علــى موروثــك ،فهــو غنــي للغاية. نعــم أخــرج لتلعب ،لكن كــن حريصا؛ فقــد تجــد نفســك فــي هــوس أســرك للبيكمــون بالقــرب مــن منشــأة نوويــة أو عســكرية ،أو علــى ســطح غطــاء موتــور عربــة مســرعة ،أو داخــل قســم شــرطة تبحــث خلــف كرســي المأمــور عــن كائــن هــارب منــك ،أو داخــل حمــام ســيدات أو رجــال ،أو قــد يقبــض عليك مع أصدقائك بتهمــة التجمهــر غيــر العمــدي لقلــب نظــام البوكيمــون! 43
من مسرح الدمى إلى الواقع المعزَّز! في غمار هذا المشهد القديم المتنكر أو الحديث أو ما بعد الحداثة ،ال مشاحة في نجاح الواقع المعزز بشكل عام ولعبة بوكيمون جو بشكل خاص ،وهو الشيء الذي يأخذني إلى السؤال األخير :هل المرء بحاجة إلى واقع فوق الواقع، لعل رويدًا رويدًا سنتعلم لعبة العوالم، أو ممكن أن آباء البوكيمون كانوا يدركون قبلنا أننا نسينا االستمتاع بالملل؟ ّ وهــي قــد تعتمد على البقاء في عالم ،حين يكون الناس في عالم آخر ..هل تتصورون حقيقة افتراضية أو معززة أعظم من ذلك؟ أنا ال.
نوميي فريو قيــل لنــا مــن زمــن بعيــد إن الحيــاة مســرحية ،ولكــن -كمــا يحــدث فــي بعــض الحقائــق الدائمة -ينبغي أن تجّدد الفكــرة بيــن فتــرة وأخــرى ،أو هــذا مــا يبــدو لــي ،باســتخدام الخصوصيــات واإلمكانــات واآلليــات المتابعــة لوقتهــا، لمحاولــة تجنّــب الملــل؛ عــدو اإلنســان األول واألخيــر. لقــد دخلنــا فــي قلــب الصيــف ،هــذا الموســم األكثر مناســبة من بين المواسم األربعــة ،لنشــعر بغوصنــا بيــن أيــادي تــم اإلعــان أن مدريــد، عدونــا حيــن ّ عاصمــة إســبانيا ،المدينــة الفارغــة بعــد هــروب ســكانها إلــى ســواحل البلــد، انتقلــت افتراضيــ ًا إلــى عاصمــة العالــم لبوكيمــون جــو!! الســبب هــو لقــاء أكبــر مدربــي اللعبــة فــي مــكان معيــن عــدد مــن ِّ وآن واحــد .والنتيجــة خلخلــة مجنونــة ال بــد أن ندرســها إلــى حــد مــا لــو أردنــا أن نبقــى فــي الكــون نفســه ،بعــد احتالل هــذه المخلوقــات القديمــة المتنكــرة فــي مــا بعــد الحداثــة. وكل مــا بعــد الحداثــة يســمى حاليــا ّ «الواقع المعزز» .هذه التكنولوجيا تخطو خطــوة أخرى على «الواقع االفتراضي»، ا خاصة في ويختلــف عنهــا اختالفـ ًا هائـ ً معناهــا األصلــي .هنــا ندخل فــي أحد هذه بحكم األمثــال ،والــذي ذكرناه فــي البداية ُ 44
التجديــد ،التجديــد الضــروري بيــن فتــرة وأخــرى فــي تاريخنــا اإلبداعــي والفنــي. إن الواقــع المعــزز ،وفيــه البوكيمونــات، يحتــوي علــى عناصــر عصرنــا الراهــن؛ حيــث يتــم اختــراع عوالــم أخــرى لنعيــش فيها لعدد من الســاعات .هذا الواقع يلوح اآلن كحــل بديــل بعــد تراجــع االهتمــام بإمكانيــة الواقــع االفتراضي توفير فضاء يغنينــا عــن بيئــة المســتخدم الحقيقيــة، وبعدمــا أصبــح فقيــرًا وعاجــزًا عن تحمل وقــت فراغنــا .لكننــا فــي الواقــع ال نتوقف عــن المحــاوالت في الوقت الذي نتســاءل: لمــاذا الهــروب إلــى عالــم آخــر ،كمــا كان يقتــرح «الواقــع االفتراضــي» ،إذا كان نحســن عالمنــا هــذا بصــورة بإمكاننــا أن ّ أكثــر جاذبيــة؟ يرغــب البعــض فــي عقــد مقارنــة بيــن ّية لعبــة البوكيمــون جــو واإلبداعــات َ الفنّ الســابقة ،قــد يبــدو فــي هــذا األمــر مبالغة أود أن أصــل غيــر مســتحقّة ،ولكننــي ّ معكــم إلــى التشــابهات الرائعــة التــي وجدتهــا ألقنعكــم بــأن العكــس صحيــح. مــن بيــن تلــك التشــابهات الفنيــة الســابقة نســتطيع أن نقــف عنــد أول مرحلة في الســريالية أو ما ســمي «فوق الواقــع» ،والتــي ولــدت قبــل قــرن ،حيــث كان فــي هــذه النظريــة تواصــل حيــوي ـكل .أال يذكرنــا هذا مباشــر بيــن الفــرد والـ ّ
مدرب الوصــف بمــا يحــدث بيــن العــب أو ّ بوكيمــون وشاشــة هاتفه الذكــي؟ .كانت الســريالية تهــدف إلــى البعد عــن الحقيقة مثلمــا تهــدف فــي نهايــة المطــاف أنــواع البوكيمونات المختلفة مع عقولنا عندما يصــل الواقــع المعــزز إلــى إضافة أشــياء إليهــا عبــر حواســنا لتصبــح جــزءًا مــن الحقيقــة الواقعيــة .عــاوة علــى ذلــك، ليــس عنــدي شــك فــي العناصــر األخــرى المأخوذة من السريالية؛ كعدم التماسك والغباوة ومخالفة المنطق ،وهي مالمح جوهريــة فــي الفــن الحديــث ،علــى األقــل خالل عقد العشرينيات من القرن الفائت. علــي أن أعتــرف ألكــون صادقــة يجــب ّ أنــي وصلــت إلــى مقارنــة البوكيمــون بالســريالية؛ ألن مــا نــراه فــي الشــوارع فــي أثنــاء محاولــة اصطيــاد المخلوقــات المحتلــة شــبه لــي بالمســألة الســريالية ا .ومــن اســتغرابي األول جملــة وتفصيـ ً عقــدت نيتــي للبحــث عــن عالقــات أكثــر عمقـ ًا وعناقـ ًا بيــن الفكرتيــن.. أثنــاء تأمــل لعبــة الواقع المعــزز ،في ارتباطها بالمسرح ،خطر إلى بالي تذكر مســرح الدمــى؛ ألنــه فــن شــعبي أيض ـ ًا يعــود أصلــه إلــى الثقافــات اآلســيوية القديمــة ،أليســت البوكيمونــات من أصل ياباني؟ بصرف النظر عن مسقط الرأس الذي ســاعدني بشــكل مباشــر في البداية
علــى إيجــاد الصلــة بينهمــا ،كان فع ـاً، كمــا فــي المثــال األول ،معنــى االســم هــو الــذي قادنــي إلــى البحــث عــن عمــق هــذه العالقــة .صحيــح أنــه فــي عــروض مســرح الدمــى يختبــئ «المخــرج» تحــت طاولــة ويحــرك الدمى بخيــوط ممدودة، وبالطبــع ليــس لدينــا البوكيمــون جــو «مخرجــا» بــل أكثــر مــن ذلــك؛ مــا دمنــا قــد بلغنــا هــذه المرحلــة التاريخيــة التــي ربمــا ســوف تســمى بعد هــذه اللعبة «بما بعــد الحريــة» ،ممكــنِ ،لـ َـم ال؟. كل األحــوال ،لفــن المســرح القديم فــي ّ هذا عالقة بالتصرف المجنون والمبرمج عندمــا يظهــر البوكيمون .فكرت في مكان العرض أيضاً؛ وهو الشــوارع والميادين والحدائق التي أصبحت األماكن المعتادة فــي العالــم كلــه لمســرح الماريونــت. أليســت الحدائــق والمياديــن والشــوارع بالضبــط هي األماكــن حيث يتم اصطياد زمالئنــا من العالــم االفتراضي؟ االرتياب أعجــل بتفكيكــه هــو كشــف الوحيــد الــذي ّ مــن هــي الفريســة المتحركــة بالخيــوط الحديثــة ،نحــن أم البوكيمونات؟! المثــال الثالــث والجديــر بالذكــر فــي مقارنتنــا هــذه؛ هــو مســرح العبــث الــذي ازدهر في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضــي .ربمــا مــازال ينبــض فــي قلبكــم والتفجــع بالذكــرى «فــي انتظــار القلــق ّ
غــودو» ،ويخطــر فــي بالكم هذا الشــعور مــن جديــد حيــن اســتحضار هــذا القيــاس فــوراً .هــل ســيصل؟ متــى ســيصل؟ مــاذا سيفعل؟ كانت هذه األسئلة عن شخصية «غــودو» خــال انتظــاره ،وهــي أيضــ ًا أتخيلهــا فــي «عقــل» مدربــي البوكيمــون وهــم فــي ســاحة «ســول» المركزيــة فــي مدريــد قبــل ظهورهــم .الفــرق الوحيــد بينهمــا ،أي بيــن غــودو والمخلوقــات أن هــذه األخيــرة ال بــد االفتراضيــة هــو ّ أن تظهر لكي تستمر اللعبة ،بينما غودو لــم يظهــر أبــداً ،ومــع ذلــك ،فعــدم التأكــد والتشـّـكك يبقــى كعنصــر مشــترك بيــن االثنيــن .وليــس فقــط هــذا ،بــل للزينــة والســينوغرافيا دور مهــم فــي المقابــل. أليــس مــن الصعــب عليكم فهــم الحوار بيــن العبــي بوكيمــون جــو ،خاصــة فــي كل أســماء الشــخصيات ومالمحهــا حفــظ ّ وخصوصياتهــا ،كمــا كان يجــري فــي الحــوارات بيــن شــخوص مســرح العبــث؟ وأكثــر مــن ذلــك؛ إن شــخوص مســرح الالمعقــول تجــد عراقيــل وهــي بصــدد الحــوار والتعبيــر عــن نفســها ...هــل حق ًا اصطيــاد مخلوقــات البوكيمون جو لعبة للتفاعــل التبادلــي كمــا يحــاول أن يقنعنا أصحابهــا؛ ألنهــم أخرجــوا اللعبــة إلــى مياديــن وحدائــق المــدن بــد ًال مــن البقــاء أمــام شاشــة البيت كما كانــت العادة بين
الالعبيــن قبــل عشــرين ســنة وقــت والدة أســاس الفكــرة؟ لســت متأكــدة بفوائــد نســخة مــا بعــد الحداثــة فيمــا يتعلق بهذه القضية؛ ألن باعتقادي سوف تبقى هذه التســلية فرديــة ومنعزلــة مثلما كانت في الماضي مهما حصل مســتخدمو التطبيق على فرصة المشي على القدمين لمليون الكيلومتــرات فــي الهــواء الطلــق . فــي غمــار هــذا المشــهد القديــم المتنكــر أو الحديــث أو مــا بعــد الحداثــة ال مشــاحة فــي نجــاح الواقــع المعــزز بشــكل عــام ولعبــة بوكيمــون جــو بشــكل خــاص، وهــو الشــيء الــذي يأخذنــي إلى الســؤال األخيــر :هــل المرء بحاجة إلى واقع فوق الواقــع ،أو ممكــن أن آبــاء البوكيمــون كانوا يدركون قبلنا أننا نسينا االستمتاع ـل رويــدًا رويــدًا ســنتعلم لعبة بالملــل؟ لعـّ العوالــم ،وهــي قــد تعتمــد علــى البقــاء فــي عالــم حيــن يكــون النــاس فــي عالــم آخــر ..هــل تتصورون حقيقــة افتراضية أو معــززة أعظــم مــن ذلــك؟ أنــا ال. للختــام فقــط نصيحــة قديمــة مــن األطبــاء :خذوا أوكســجين خــال الصيف لتحملوا الشتاء ،وأضيف أنا :انتبهوا،ال تختنقــوا بكثــرة غبــار النجــوم!!! 45
ه َوس «بوكيمون جو» ماذا يقول َ عن المجتمع العصري؟ تهيمــن علــى العالم ،حالياً ،حالة من الهوس بلعبة «بوكيمون جو» التي أطلقتها شــركة ناينتيك ،وهي حتى عزز ،حول العالم .فقد اســتحوذت على محتوى شــبكات التواصل االجتماعي، الم َّ اآلن ،أنجــح ألعاب الواقع ُ الحي المجاورة لك .في أســتراليا ،أصدرت الشــرطة بيانات تحث الناس على أن يرفعوا وكذلك على حديقة ّ تعرض بعض األشــخاص للســرقة وجوههم عن هواتفهم وهم يمارســون اللعبة ،أو يعبرون الشــوارع ،كما َّ ٌ مما دفع في أثناء ممارســتها ،وبســببها ُف ِصل موظف من عمله .لقد ُألقي بالالئمة على اللعبة في أمور كثيرةّ ، لعبة خطرة. تليفزيــون الترفيــه « »E! Onlineألن يعتبرها ً
فروزسينا إردوغ * ترجمة :أنور الشامي نعــم ،إنه صحيــح أن «بوكيمون جو» قــد أصابــت نمــط حياتنــا باالضطــراب، ولكــن لــن تظــل أبــدًا كمــا هــي .لقــد كشــفت لنا اللعبة أيض ًا أمورًا عديدة عن أنفسنا، ولكــن نظــرًا إلــى أن شــبكة اإلنترنــت قــد باتــت فــي واقــع األمر متخمــة بالتحليالت التــي تتنــاول هذه اللعبة ،فســوف أكتفي بثالثــة أمــور فقــط ،باعتبارهــا األهــم كي أســلط عليهــا الضوء. أوالً ،لقــد أصبــح العالــم أخيــرًا جاهــزًا أمر يبدو جلي ًا نوع ًا الم َّ عزز ،وهو ٌ للواقع ُ مــا ،ورغــم أنــه لــم يكــن قــد مضــى علــى إطــاق «بوكيمــون جــو» ســوى أســبوع واحــد ،فقــد ذهبت هيئات مالية إلى القول إن اللعبــة ســوف تغير وجهة تكنولوجيا العصــر .وليــس ذلــك مــن نوعيــة الثرثرة الدعائيــة التــي تبتغــي اإلثــارة ،فالواقــع المعزز يوشــك أن يتحول إلى نشــاط ُيدر ُ أرباحـ ًا كبيــرة .وليســت هــذه هــي اللعبــة األولــى لشــركة «ناينتــك» التــي تســتخدم تقنيــة الواقــع المعــزز ،فقــد كانــت هنــاك لعبــة «إنجــرس» فــي ،2012التــي ورغــم االســتقبال الجيــد الــذي حظيــت بــه ،فإنها لــم تبلــغ ذلــك القــدر الكبيــر مــن االنتشــار والشــعبية .أمــا «بوكيمــون جــو» ،فقــد تــم تحميــل تطبيقهــا أكثــر مــن 15مليــون مـّـرة حتى اآلن ،وتشــير بعض التقديرات 46
إلــى أن التطبيــق قــد تجــاوز فــي شــعبيته «ســناب شــات» و«تويتــر» قياس ـ ًا بعــدد المســتخدمين النشــطين يوميــاً .وحتــى إذا انصــرف النــاس عــن اللعبــة بحلــول أغســطس (وهــو توقــع خاطــئ أطلقــه البعــض) ،فــإن تأثيرهــا الهائــل قد أصبح محسوسـ ًا لــدى الجميــع. كالم كثيــر ،منــذ ســنوات لقــد دار ٌ وحتــى اآلن ،حــول الواقــع االفتراضــي باعتباره صيحة العصر القادمة في عالم التكنولوجيــا ،ولكــن الواقــع االفتراضــي برمتــه قــد واجــه صعوبــات فــي الحصول على القبول داخل السوق ،وذلك لبضعة أســباب :أن النــاس يحتاجــون إلــى شــراء أجهــزة جديــدة (باهظــة الثمــن) حتــى يمكنهــم التعاطي مع الواقــع االفتراضي، كمــا أن وضــع هــذا الصنــدوق األســود رجل فــوق عينيــك يجعلــك تبــدو وكأنــك ٌ ـي أخــرق يصيــح وهــو يصــارع صــورًا آلـ ٌ وخيــاالت ال يراهــا أحـٌد ســواه .ثــم يكــون اضطــراب الحــواس وفقــدان التــوازن الــذي ينبغــي لألشــخاص حديثــي العهــد بألعــاب الواقــع االفتراضــي أن يتغلبــوا عليــه .ومــع ذلــك فــإن االنتشــار الواســع الــذي حقّقتــه «بوكيمــون جــو» فــي شــتى أنحــاء المعمــورة بيــن عشــية وضحاهــا، إنما ُيعزى لكون الجميع يمتلكون بالفعل
األداة التي تتطلبها ممارسة اللعبة ،وهي الهواتــف الذكيــة. وقــد تحــدث تــود ريتشــموند ،مديــر تطويــر النمــوذج ا َألولــي المتقدم في معهد التكنولوجيــا االبتكاريــة التابــع لجامعــة جنــوب كاليفورنيــا إلى الصحافية جنيفر بوتــون في موقــع «ماركت واتــش» قائالً: المعـ َّـزز ســوف يطــال «إن تأثيــر الواقــع ُ جميع القطاعات وشــتى مناحي الحياة، أمــا الواقــع االفتراضــي فهــو اآلن صيحــة أود أن أخالف ذلك الرأي، العصر» .لكني ّ ـور كصناعــة، ـ يتط ال ـد ـ فالواقــع المعــزز ق ّ ولكنــه هــو صيحــة العصــر الجديــدة والحقيقية .وأتوقع أن أرى بحلول نهاية هــذا العــام مجموعــة متكاملــة مــن ألعــاب الواقــع المعــزز ،بــل إننــي علــى اســتعداد للرهــان علــى أن واحــدة مــن أولــى تلــك األلعــاب التــي تعتمــد علــى الواقــع المعزز سوف تظهر على فيسبوك ودون الحاجة إلــى نظــارات. ثانياً ،لقد أصبحنا بسبب التكنولوجيا أسرى للشعور بالوحدة والقلق والكسل، وربمــا جــاءت «بوكيمــون جــو» لتنقذنــا مــن مصيــر مجهــول .وفــي جميــع األخبار التــي تتــوارد بشــأن «بوكيمــون جــو» ،ال يكــف النــاس عــن اإلشــادة بكــون اللعبــة ـرب بيــن النــاس وأن الجميــع قــد أخــذ ُتقـ ِّ
مرة أخرى .يبدو وكأن الناس قد يتريض ّ اكتشــفوا من جديد الفائدة العظمى لنزهة عبــر حديقة ،والقيمة الكبرى لحوار ودي يجرونــه وجهـ ًا لوجــه مــع شــخص آخر، وإن كان ذلك بمساعدة هاتف ذكي. حتى ْ لقــد أصبــح ُيطلــق علــى «بوكيمــون جــو» أيضـ ًا اســم «التطبيــق األكثــر رواجـ ًا فــي اللياقــة البدنيــة» ،وذلــك ألن النــاس فــي واقــع األمــر ،كمــا تعلمــون ،يخرجــون من منازلهم ومكاتبهم ويمشون .ويستخدمون ســيقانهم الحقيقية .يــا لالبتكار! لقــد جعلــت وســائل التكنولوجيــا العصريــة حياتنــا أســهل ويســر ،ممــا يجعلنــا نتخــذ وضعيــة الجلــوس طــوال اليــوم .فنجلــس أمــام أجهــزة الحاســوب لتأديــة األعمــال وممارســة األلعــاب، ونجلــس أمــام شاشــات التليفزيــون المســطحة والجميلــة بغــرض الترفيــه (وممارســة األلعــاب) ،ونجلــس فــي ســياراتنا التــي ُتقلنــا إلــى أماكــن ســوف نجلــس فيهــا مزيــدًا مــن الوقــت .وإذا مــا نحينــا األغذيــة المصنَّعــة البشــعة جانباً، َّ فهــل ِمــن َعجــب فــي أننــا كشــعب نعانــي جماعيـ ًا مــن زيادة وزن مفرطــة؟ إن كثرة الجلوس تقتلنا في واقع األمر ،فهي على آالم األقــل تســبب لنــا أمراضـ ًا تصاحبهــا ٌ مبرحــة ويقتضــي عالجهــا تكلفـ ًـة باهظــة مثل الســرطان والســكري وأمــراض القلب واألوعيــة الدمويــة وغيرهــا. ـؤدي التكنولوجيــا التي لدينا إلى وال تـ ّ تدهور صحتنا الجســدية وحسب ،ولكنها أيضـ ًا تعــوق وإلــى حــد بعيــد قدرتنــا على إجــراء محادثــات فــي الحيــاة الواقعيــة، وهي مسألة ال تزال موضع بحث ودراسة مــن قبــل الصحافييــن والباحثيــن منــذ ســنوات .وفــي عــام ،2011قالــت ميليســا أورتيغــا ،اختصاصيــة الطب النفســي في معهــد عقــل الطفل ،خالل مقابلة مع موقع «هافينغتــون بوســت» إن المراهقيــن هــذه األيــام «ال يعرفــون كيــف يتعاطــون فــي خالفاتهــم مــع اآلخريــن وجهـ ًا لوجــه». وفــي ورقــة بحثيــة تــم نشــرها فــي أكتوبــر عــام ،2014وجــد علمــاء جامعــة كاليفورنيــا فــي لــوس أنغلــوس ،أن المراهقيــن الذيــن يدمنــون الهواتف الذكية يواجهــون صعوبــة فــي قــراءة انفعــاالت النــاس فــي الحيــاة الواقعيــة .وهــو مــا أســمته صاحبــة الدراســة (وأســتاذة علم
النفــس فــي جامعــة كاليفورنيــا ،لــوس أنغلوس) باتريشيا غرينفيلد« ،انخفاض الحساســية لإلشــارات االنفعاليــة». وتســاءلت ســوزان تــاردان ،الكاتبــة المتعاونــة مــع مجلــة فوربــس فــي عــام ،2012عمــا إذا كانــت شــبكات التواصــل االجتماعــي ُتقــوض مهــارات االتصــال في الحيــاة الواقعيــة لــدى جميــع األعمــار، وفــي العــام الماضــي فقــط ،خُلــص قســم الصحة في شــركة «ياهو» ،إلى أنه حتى الكبار يواجهون اآلن صعوبة في عمليات التواصــل المباشــر وجه ـ ًا لوجــه. علينا إذن أن نحمد اهلل على «بوكيمون جــو»! وهــا هــو إريــك كيــن ،الكاتــب المتعــاون مــع فوربــس ،قــد قــال كالمــ ًا بديعـ ًا حــول الطــرق الرائعــة التــي «تثلج الصــدر» والتــي ُتقــرب «بوكيمــون جــو» مــن خاللهــا بيــن النــاس ،فحتــى رجــال الشــرطة بــدأوا يلعبونهــا مــع المدنييــن! لقــد عــاد النــاس مـّـرة أخــرى يتحــاورون مــع بعضهــم بعض ًا وجه ًا لوجــه ،بل إنهم أصبحــوا يتحــاورون مــع الغربــاء الذيــن يلتقونهــم بمحــض الصدفــة. وربمــا مــع ظهــور منتجــات أخــرى تعتمــد علــى تقنيــة الواقــع المعــزز فــي الســوق ،تبــدأ اآلثــار الســيئة التي خلَّفتها التكنولوجيــا علــى أجســامنا وعقولنا في التراجــع. ثالثاً ،ليس هناك ســوى اليابان التي تســتطيع صادراتهــا الثّقافيــة منافســة صــادرات الواليــات المتحــدة .عندما تفكر فــي البلــدان صاحبــة الصــادرات الثّقافيــة األكثــر تأثيــرًا حول العالم ،فــإن الواليات المتحــدة تحتل ،وربما ســوف تظل كذلك دائمـاً ،المرتبــة األولــى عالميـاً .فسالســل مطاعــم الوجبــات الســريعة واألجهــزة وأفالم هوليوود تنتشــر في جميع أنحاء العالــم ،ويتــم ترجمة األخيــرة إلى جميع اللغــات الممكنــة .وربمــا يذهــب الظــن بــك المنِتج األكبر إلــى أن الصيــن ،باعتبارهــا ُ فــي العالــم ،هــي الدولــة التــي تشــغل المرتبــة الثانيــة بطبيعــة الحــال ،ولكنهــا صدر منتجات لدول أخرى ،وال وت ِّ ُتصنِّع ُ تخصهــا .وباإلضافــة إلــى طعامهم ،يظل تأثير الصين على الثّقافة العالمية تأثيرًا محــدوداً .هــل شــاهد أحٌد منكم مسلسـ ٍ ـات صينيــة؟ ال؟ ال؟ ومــاذا عــن بريطانيــا؟ إن لديهــا
موســيقيين وبرامــج تليفزيونيــة وهــي لذلك قد تكون صاحبة المرتبة الثانية... ولكــن إذا نظرنــا إلــى حالــة الهــوس التــي أحدثتهــا «بوكيمــون جــو» ،فــإن المرتبــة الثانيــة فــي التأثيــر الثّقافــي ربمــا ينبغــي أن تــؤول إلــى اليابــان. عندمــا تفكــر فــي األمــر .فقــد اســتقطب اليابانيــون جمهــورًا واســع ًا فــي جميــع أنحــاء العالــم بمنتجاتهــم الثّقافيــة: ســواء بألعابهــم (مثــل شــركة نينتنــدو!) ورســومهم المتحركــة (األِنمــي اليابانية). وليســت هناك دولة أخرى ُبثَّت رســومها وترجمــت فــي جميــع أنحــاء الكرتونيــة ُ العالــم كمــا هــي اليابــان ،وهــو شــيء يحدث منذ عقود وحتى اآلن ،حيث كانت بدايته في أواخر ستينات القرن الماضي مــع سلســلة األِنمــي «»Speed Racer وهــو مــا دفــع شــركات مثــل «نيتفليكس» و«هولــو» و«أمــازون برايــم» للدخول إلى عالــم الرســوم المتحركــة (األِنمــي). وفــي عــام ،2007تنــاول تقريـ ٌـر فــي قنــاة «إن بــي ســي» اإلخباريــة المكانــة التــي أصبحــت عليهــا صناعــة األنمــي والتــي بلغت قيمتهــا مليارات الــدوالرات، وكيــف أنهــا قــد أصبحــت محــط االهتمــام فــي هوليــوود .وممــا يلفت االهتمــام ،في ذلــك التقريــر ،أن رائــد صناعــة األنمــي صــرح األميركــي ،جــون ليدفــورد قــد َّ لقنــاة «إن بــي ســي» أن «بوكيمــون»، التــي ُوجــدت فــي عــام ،1990كانــت هــي االنطالقــة الحقيقيــة لصناعــة األنمــي عندمــا اســتقطب البرنامج جمهــورًا غفيرًا وغيــر مســبوق حــول العالــم ،ممــا «أوجــد فــي نهايــة المطــاف موجــة مــن كتــب المانغــا المصــورة وألعــاب الفيديــو التــي ُتــدر األمــوال ،وأكــد اإلمكانــات التجاريــة لألنمــي». إن «بوكيمــون جــو» لــم تبرهــن للعالــم علــى مــدى النجــاح الــذي يمكــن أن يبلغــه األنمــي الناجــح وحســب ،وإنمــا فعلــت المعــزز .وربمــا الشــيء ذاتــه مــع الواقــع ُ تكــون «بوكيمــون جــو» هــي كبــرى صــادرات اليابــان الثّقافيــة وتصبــح هــي المنافــس للعبة «ماريو بروس» المملوكة لشــركة «نينتنــدو». _______________________
*كاتبة متعاونة في مجلة «فوربس» األميركية 47
مدن
عبد العزيز المقالح
تونس.. تلك المدينة البيضاء
لعلهـا المدينـة العربيـة الوحيـدة التـي اختـارت أو باألحرى اختار لها أهلها هذا اللون الناصع ليربطها بالسحب المتناثرة فـوق أفقهـا المضـيء مـن ناحيـة ،وليميزهـا عـن غيرهـا من العواصم العربية واألجنبية .حين تدخل إليها صباح ًا تشعر بـأن الشـمس كانـت نائمـة فـي سـطوحها وأنهـا تنهـض مـن هناك مسرعة لتضيء بأشعتها الشوارع والميادين .أما حين ال فإنك تظن أن الشمس لم تغادرها أو أنها تركت تدخلها لي ً ظاللهـا علـى الجـدران وواجهـات البيوت .لم أسـأل أحدًا من زيارتي الثانية مواطنيهـا فـي زيارتـي األولـى وال حتى فـي َّ والثالثة عن داللة اختيار هذا اللون لمدينتهم ،فقد أحسست منـذ اللحظـة األولـى مـن دخولـي إليهـا أنـه صـادر عـن حب مواطنـي هـذه المدينة للنظافة وعشـقهم للنور ،كما يتجلّى ذلك بوضوح في لباسـهم وسـلوكهم ،إضافة إلى أن اللون األبيض هو لون النقاء والصفاء ،وأنه يعكس صفاته على النـاس ويتجسـد فـي أسـلوب تعاملهم مع اآلخـر عربي ًا كان أو غيـر عربي. وال مـراء فـي أن أهـل تونـس علـى درجـة عاليـة مـن الخلـق والـذوق المجتمعـي الرفيـع ،وأن اختيـار اللـون األبيـض لمدينتهـم لـم يتـم عشـوائي ًا أو صدفـة ،بـل صـدر عـن وعـي وتفكيـر مسـبق ،وليـس المهم كيف بدأ هـذا االختيار ومتى، لكـن المهـم أنـه اسـتمر مصحوبـ ًا بالحـرص الشـديد علـى أن تظـل المدينـة كلهـا وليـس الجانب القديم منهـا محافظ ًا على هذا الطابع المشرق .وإذا كانت بعض المخالفات الطفيفة قد حدثت ،ممثلة في مباني بعض الفنادق والمطاعم الكبرى، فقـد علمـت -فـي ذلك الحيـن -أن المسـؤولين التنفيذيين في المدينـة يقاومـون الخـروج على النظام السـائد ويحرصون على اللون األبيض حرصهم على النظافة واالرتقاء بالذوق. 48
ويالحظ أن أبناء هذه المدينة البيضاء قد أدركوا منذ أمد بعيد أن ال صحة لما يذهب إليه البعض من أن اللون األبيض وحده كل األلوان تفعل ذلك .يضاف الـذي يعكـس الحرارة ،وإنمـا ّ إلى هذه المالحظة أن األبيض هو لون البهجة والفرح ،وذلك مـا أشـعر بـه دائمـ ًا ومـا شـعرت بـه وأنـا أدخـل إلـى تونس المدينة المعمورة بالضوء والتي من حسن حظها أنها تأخذ اسم البالد التونسية كلها وال يشاركها في ذلك الشرف سوى عاصمتين عربيتين فقط هما :الجزائر والكويت. وهنا تجدر اإلشـارة إلى أن االسـم التأريخي األقدم لتونس هو «قرطاج» عندما كانت عاصمة للفينيقيين العرب ،وكانت المرفـأ الـذي انطلـق منـه القائـد األشـهر «هانـي بعـل» الـذي دوخ أوروبا القديمة ،وشّتت شمل الرومانيين وأقصاهم عن َّ حوض البحر األبيض المتوسط .واآلثار المتبقية إلى اآلن في أطراف مدينة تونس تحمل بصمات تلك المرحلة التاريخية بـكل مـا ارتبـط بها من أمجـاد وانتصارات وانكسـارات ،وقد ّ قيل الكثير عن تسمية هذه المدينة بـ«تونس» وأصح األقوال وأقربهـا إلـى الواقـع أنهـا مشـتقة من األنـس والبهجة ،فهي تؤنـس حقـاً ،وذلـك ما تؤكده إشـارة منسـوبة إلى العالمة المـؤرخ العربـي العظيـم عبدالرحمـن بـن خلـدون أن اسـم «تونس» مشـتق من وصف سـكانها وما ُعرفوا به من طيب المعاشـرة وكرم الضيافة وحسـن الوفادة ،وهي صفات ال تـزال ملحوظـة في أهل هـذه المدينة حتى اآلن. في زيارتين لي قصيرتين سابقتين لتونس لم أتمكن سوى مـن رؤيـة بعـض األحيـاء في المدينـة الجديدة ،أمـا زيارتي الثالثة واألطول فقد مكنتني من التعرف على المدينة بقسميها القديم والجديد ،وأعطتني مسـاحة من الوقت للتعرف على تشكل متنفس ًا بديع ًا ألبناء تونس أنفسهم، ضواحيها التي ّ
كمـا تمكنـت خاللهـا مـن زيارة بعـض المدن األخـرى ،ومنها «بنزرت» المدينة البحرية في الشمال ،و«القيروان» المدينة الصحراوية في الجنوب ،ومن حق هذه المدينة األخيرة أن ُت ّخص بحديث مستقل لما لها من مكانة تاريخية ،ومن تقدير خاص لدى أبناء تونس وأشـقائهم في المغرب والمشـرق، لما قدمته لإلسالم وللمعرفة اإلنسانية من خدمات ال تنكر. كل الذين زاروا تونس ممن أعرفهم وما يبعث على االرتياح أن ّ قد خرجوا منها باالنطباع نفسـه الذي خرجت به عنها وهو اإلحساس عن الشعور با ُأللفة مع المكان ،والتجاوب التلقائي مع ما يخلقه المعمار الخاص للبيوت على اختالف أحجامها ومستوياتها من إحساس بالحميمة ،إذ كلما زاد تجولك في األحياء والحواري وحتى األزقة الضيقة المسقوف بعضها، زاد شـعورك بالقـرب منهـا ،وبمـا تمتلكه مـن جاذبية تقوم على البساطة والذوق الرفيع ،ربما تذكرك بمعالم األندلس وما لم يتمكن الزمن من محوه ،والتقليل من تأثيره. وال أخفـي أننـي كنـت وأنـا أسـير بيـن بيـوت المدينـة ذات الواجهـات البيضـاء أتسـاءل كيـف تكـون هـذه البيـوت مـن داخلهـا؟ وقـد وجـدت الجواب على سـؤالي هـذا عندما دخلت مـع رفيـق رحلتـي إلـى واحـد منهـا بدعـوة مـن صاحبـه، وأدهشـني أن بيـوت المدينـة لـم تكـن بيضـاء مـن خارجهـا فقـط ،وإنمـا كانت بيضاء مـن الداخل أيضاً ،وكانت مضاءة ومبهرة بساللمها وبما تعكسه مشربياتها من إنارة طبيعية تلفـت النظـر إلـى ما ُكتب على جدرانهـا من نقوش وخطوط وآيات قرآنية وأبيات من الشعر العربي الفصيح ،وعندما سـألت مضيفنـا :هـل هنـاك بيـوت أخـرى فـي الحـي تتزين جدرانهـا بمثـل هـذه النقـوش؟ أجاب أن بيتـه المتواضع أقل والفنّـي مـن بقية بيـوت الحي، احتفـاء بهـذا التقليـد الدينـي َ
وأن التونسـيين ال يـرون فـي هـذا زينـة فحسـب؛ بـل تبـرك ًا ـن واألدب ،وكان مضيفنـا قد أخبرنا وتعبيـرًا عـن حبهـم َ للف ّ أنه يعمل عازف ًا على الناي في إحدى الفرق الموسيقية التي تبـدأ عملهـا فـي الليـل فـي أحـد الفنـادق الحديثة التـي يؤمها المئات من السياح ومن أبناء تونس ،وعرض علينا حضور أمسـية ذلـك اليـوم ،فاعتذرنـا لوجود مواعيد سـابقة .وهنا حـدث وال حـرج عـن حب أبناء هذا البلد للموسـيقى وللغناء بأشـكاله القديـم والجديـد ،وال غرابـة فقد ورثت هذه المدينة أكثـر مـن بقيـة المـدن في المغـرب العربي أهم مـا احتفظ به الزمن من الموسيقى األندلسية وإيقاعاتها التي تمأل النفوس بهجـة وطرباً. وال أظن حديث ًا عن تونس يحقّق بعض االكتمال إن لم يمتد إلـى «الزيتونـة» الجامـع الكبيـر الـذي يقـع فـي قلـب المدينة القديمـة ،وال تصـل إليـه ّإل بعـد أن تعبـر الشـوارع واألزقـة الضيقـة ،لتجـد نفسـك وجهـ ًا لوجـه مع إشـراقة بهيجة لهذا تخرج الجامـع الـذي كان ومـا يـزال مسـجدًا ومدرسـة ،ومنه َّ كبـار العلمـاء ،ليـس فـي تونـس وحدها؛ وإنما فـي عدد من األقطار العربية في المغرب العربي والمجاورة منها خاصة، فقد حمل هذا الجامع/المدرسة ،راية اإلسالم والعروبة معاً، وكان في الشمال اإلفريقي يقوم بما يقوم به األزهر بالنسبة لمصـر والمشـرق العربي .وسـتظل الصالة التـي أديتها مع رفيقي في ذلك الجامع المبهر بجالله ونصاعة بياضه ذكرى تمأل الجوانح رضا وطمأنينة .وطوبى للقاطنين جوار ذلك المعلم الروحي العلمي الذي ال يكف عن اإلشعاع واالستنارة. 49
ملف خاص
50
حكايات بلد حين تخـفي كـــندا أقــنعتها! رغــم قســاوة مناخهــا ،هــي ِقْبلــة المهاجريــن مــن مختلــف أنحــاء العالــم .كنــدا ،األكثــر أي وق ــت مض ــى ،ص ــورة اعتيادي ــة لمواطن ــي ه ــذه الب ــاد وه ــم ـاء م ــن ّ تع ـ ُّـددًا ونم ـ ً يتنزه ــون ،صيف ـاً ،صحب ـ َـة حيواناته ــم األليف ــة، يتريض ــون ف ــي الحدائ ــق الخض ــراءَّ ، َّ ـتاء ...لكــن هــذه الصــورة الحداثيــة الداّلــة علــى ـ ش ـاحرة ـ الس ـوج ـ الثل ـى ـ عل ـون ـ َّج يتزل أو ً الصعيدْيــن :االقتصــادي، رفاهيـ ًـة ،علــى طبيعــة الحيــاة ،فــي واحــدة مــن الــدول األكثــر ّ َ فثمــة وجــه آخــر لكنــدا ،ضــارب فــي الِقـَـدم، والمعيشــي ،ال ّ تغطــي الشــمس بالغربــال! ّ تكشــفه حكايــات هــذا الملـ ّ ـاص.. ـف الخـ ّ
51
حتى ثالثينيات القرن التاسع عشر ،لم تكن القصص واألساطير مد َّو ً نة في قراطيس، يقدمه حسب ما ِّ أنفسهم .غير األوروبيون ُ أن الذي َّ تأكد هو أن ّ كل قرية أو قبيلة ،في هذه البالد ،كانت تتو َّفر على ً ذاكرة يع ُّد شيخ ُم ِ ـنَ ، س ّ لتلك المنطقة ،وهو والم ِّ شخص الحافظ ُ الفعلي لذلك المأثور ّ المروي شفه ّي ًا. ّ
الغراب الثّقافي والغراب الخادع!
يجسم رأس غراب ،من التراث األصلي ألميركا الشمالية صورة ّ لسكين ّ
د .يوسف بن الغياثية* ُت َعـّد كنـدا بلدًا صناعيـ ًا ذا إنتاجية عالية، متنوع الثّقافات والديانات واأللسن، وبلدًا ِّ بأهمّيـة كبيـرة ،بفعـل الصـورة ويحظـى ّ سـوقها عـن نفسـه؛ فهـو ي التـي الحسـنة ُ ِّ أي شـيء؛ لكونه متفوق في تسـويق ّ بلد ِّ آليـات التسـويق والترويـج، متمك ً ِّ نـا مـن ّ العامة. العالقـات فـي ق متفـو بلـد وهـو ِّ ّ لكن كثيرًا من الناس في العالم ،ومنهم في العالـم العربـي ،يجهلون تاريـخ هذا البلد العملاق اقتصاديـاً ،والصغير سياسـياً، خصوصـ ًا فـي السـاحة الدوليـة ،ويبقـى الجنوبي أقل شأن ًا من تأثير جاره تأثيره ّ ّ المتحـدة األميركيـة. العملاق :الواليـات َّ فعلـى الرغـم مـن شسـاعة مسـاحة البلاد ( 9مالييـن كلـم مربـع) ،والتـي تأتـي ثانيـة بعـد روسـيا االّتحاديـة ( 11مليـون 52
التنـوع الكنـدي يـكاد كلـم ،) 2إال أن تعقيـد ُّ القوة االقتصادية ،والنفوذ يختفـي خلف ّ الدولـي الـذي يمارسـه مـن خلـف السـتار البريطانـي -أحيانـاً -بحكـم االرتبـاط السياسـي ،و -أحيانـاً -خلـف السـتار األميركي ،باستعمال النفوذ الفرانكفوني الفرنسـي ،و -أحيانـاً -أخـرى ،مـن خالل القيقـب «.»Québec مقاطعـة ْ وفـي سـياق التعريـف ِبهاتـه األراضـي تنوعهـا الشـديد الشاسـعة ،نشـير إلـى ُّ وغناهـا وثرائهـا األسـطوري والخرافي، القديـم منـه ،والحديـث .فحيـن نثيـر موضـوع األسـاطير والخرافـات نقصـد نبيـن أن تاريـخ كنـدا ومعهـا أميـركا أن َّ الشـمالية -علـى العمـوم -تاريـخ لم يبدأ مـع وصـول األوروبييـن فـي التاريـخ الرسـمي ،وهـو 1492م؛ بـل قبـل ذلـك العصـر بقـرون سـحيقة ،تمتـّد -بحسـب
بعـض التقديـرات -إلـى حوالـي 60ألـف سـنة .ويعنـي هـذا أن البلاد قـد عرفـت ٍ ٍ وثقافـات ،وعلومـ ًا تسـتجيب هجـرات، للتجمعـات اإلنسـانية ،وتتماشـى مـع ُّ حاجاِتهـا الحضاريـة ،والطبيعيـة، وتنظيماتهـا :القبليـة ،والسياسـية. إذن ،وعلـى عكـس مـا َجهِـد األوروبيـون ِ ـن بعِدهم َم ْن َوِرث األرض األميركية) (وم ْ ّية ل المح والسـاكنة العالـم إقنـاع مـن فيـه ّ أنهـا لـم تكـن شـيئ ًا مذكـورًا قبـل مجيئهم فـي القـرن السـادس عشـر ،وأنهـم هـم ـن أحضـر ،لهـؤالء ،الحضـارة والنور، َم ْ ِ الدراسـات المعتقـد الصحيـح أن يبـدو َ تتوخـى الموضوعيـة قـد الجـادة التـي ّ ّ تهافتها. عـاءات، االد هاتـه ّـدت فن وبينـت ُ ِّ َّ التاريخيـة الوقائـع كذلـك، كشـفت، بـل ُ ُ ّيـون، لة أنـه لـوال ّ المسـج ُ السـكان المحلّ ّ تمكـن اإلنسـان ولـوال مسـاعداتهم ،لمـا َّ
األوروبي من وضع قدميه على األرض، وتثبيتهمـا ،خصوصـ ًا إذا علمنـا قسـاوة القارة ،واالختالفات المناخ الشمالي في ّ الكبيـرة في الثّقافة والغذاء ،وغيرها من المشاكل التي اعترضت اإلنسان األوروبي الـذي غـزا المنطقـة طمعـ ًا فـي خيراتهـا، مسـخرًا وتوسـع ًا في مجاالتها الحيويةِّ ، ُّ كل اإلمكانيات التي توافرت لديه إلخضاع ّ سكانها واسـتعبادهم. ّ ّيين ،نشير ل المح السكان عن حديثنا وفي ّ إلى أنهم وفدوا من سـيبيريا اآلسـيوية، ومـروا عبـر المضيـق الفاصـل بيـن ّ القارتين :األميركية ،واآلسيوية ،وهو ما ّ بيرينغ «Bering عرف ،اليوم ،بمضيق ْ ُي َ .»Straitوكان هؤالء الوافدون يعتمدون على الصيد لتلبية حاجاِتهم ،وتنقَّلوا إلى أن بلغـوا نهر كولومبيـا «،»Columbia
وفـي أثنـاء هـذا االنتقـال ،انطالقـ ًا مـن أراضي «أالســكا »Alaska -قادمين إليها من شبه جزيرة «تشكوتكا»Chukotka - الحاليـة ،واجهـوا أقوامـ ًا فـي سـيبيريا ّ آخريـن ،فمنهـم من قاتلوهـم ،ومنهم من تقاسـموا معهم األرض ،شـأنهم في ذلك تجمعـات بشـرية أخـرى ،فـي شـأن ّ أيـة ُّ باقي مناطـق العالم. التنـو ُع ،فـي المناطق التي وقـد أفـاد هـذا ُّ اسـتقروا فيهـا ،تالقحـ ًا فـي الثّقافـة، ّ والتنـوع ومنهـا الملبـس والمـأكل، ُّ اللسـانيِ ، والخلْقـي؛ مـا أعطـى ألميـركا الشـمالية أسسـ ًا إنسـانية فـي التعاطـي مـع المسـتجّدات ،خصوصـ ًا أنهـم أقاموا التنوع ،من في مناطق شاسـعة شـديدة ُّ ومناخهـا ،ومنتوجهـا طبيعتهـا، حيـث ُ ُ الزراعـي ،والحيوانـي ،وعلـى مسـتوى
غطائهـا النباتـي .فتراوحـت بيـن غابـات مداريـة حتى مناطق مطيـرة إلـى سـهول ّ ِ التكيف -بحسب متجمدة؛ ما فرض حاالت ُّ ِّ جيلا كل منطقـة -علـى مـن يقيـم فيهـا، ً ّ مـن بعـد جيـل. امتـد علـى طـول قـد البشـري التنـوع إن َّ ُّ فتنوعـت القبائـل القـارة ،وعرضهـا، َّ وتنوعـت أسـاطيرها ،حتـى واأللسـن، َّ يقل عن 300لغة ،حتى قيل بلغـت مـا ال ّ إن «عدد القبائل هو عدد النجوم نفسها». التنوع الحاصل، لكن ،على الرغم من هذا ُّ وتتكرر ، دائمة الحاجة إلى الهجرة كانت ً ُ ّ ربما -كان بصفـة كبيرة ،ومتعـّددة .بلَّ - هـذا جـزءًا من بنيـة القـوم وتفكيرهم(.)1 وضعهـم كذلـك إلـى أن حصـل واسـتمر َّ ُ التحـول األبديـة نقطـة خطيـر؛ تحـو ٌل ّ ُّ القارة تاريـخ فـي شـيء كل غيـرت التـي ّ ّ 53
األيبيرييـن إلـى والعالـم ،وهـو وصـول ّ المنطقـة ،سـنة ،1492عقـب التخلُّـص مـن اليهـود والعـرب وطردهـم منهـا، لتبـدأ فصـول جديـدة مـن تاريـخ المنطقة والعالم. تواج ُـه الـدارس لثقافـة أميـركا الشـمالية ِ ات وصعوبـات ،مـن إشـكالي األصليـة ّ ٌ صعوبـة التفريـق بيـن األسـاطير أهمهـا ُ ّ المرويـة القصـص وبيـن والخرافـات، ّ والمتداولة ،فالشعوب األميركية األصلية مسـمى «القصـص» نفسـها تطلـق عليهـا ّ ( )Storiesلتصنيف القصص الحقيقية، و«القصـص األسـطورية» للتعبيـر عـن تتحـدث عـن القصـص الخرافيـة ،التـي َّ الخلـق والخليقـة .ومـن الصعوبات التي مرويـات، كل ذلـك يواجههـا الـدارس أن ّ ّ لكـون هاتـه الشـعوب لم تكن تتوفّر على لغة مكتوبة ،بحسـب ما يورده من تفقّه ثالثينيـات القـرن فـي دراسـتهم ،فحّتـى ّ التاسـع عشـر ،لـم تكـن تلـك القصـص نة في قراطيس ،بحسب مدو ً واألسـاطير َّ أنفسـهم .غيـر أن ـون األوروبي يقدمـه مـا ِّ ّ ُ كل قرية أو قبيلة كانت تأكـد هو أن ّ الـذي َّ ِ ذاكرة لتلك عد ً تتوفَّر على شيخ ُمس ّ ـنُ ،ي ُّ الفعلي ص شخ والم ِّ المنطقة ،وهو الحافظ ُ ّ شـفهياً. المروي لذلـك المأثـور ّ ّ
خرافة الغراب وعالم اآلخرة! الغـراب من أكثر الشـخوص ُيعـّد حيـوان ُ التـي تسـتأثر باالهتمـام فـي القصـص الشـعبية ،والتـي لهـا تأثيـر فـي التـراث فالغـراب األصلييـن؛ للسـكان الشـعبي ّ ّ ُ عد قتُله خط ًأ جسيماً، وي ً(.)2 ال أو ُ ُّ مقّدسَّ ، يصـل إلـى درجـة التحريـم؛ ذلـك أن الغراب -بحسب هاته المعتقدات -ساهم قـدم علـى أسـاس وي َّ فـي خلـق األرضُ ، المتقدمـة. والسـن ِّـل الحكمـة ّ كوِنـه يمث ُ ِّ وهـو ،بذلـك ،يمثِّـل مـا يحتضنـه مـن الغراب -بحسـب رمـز للتجربة .وسـاهم ُ معتقداتهم -في تعليم الناس الحياة على وخلْق األرض؛ فهو َم ْن َجَلب معه النورَ ، ِ ال عن الماء وكل الحيوانات ،فض ً األرضّ ، العذب( .)3غير أن المفارقة التي يمكن أن نشير إليها هي أن الغراب ،على قداسته ـن َأ ْح َضَر النـار إلى األرض، تلـك ،هـو َم ْ ومـع العلـم بمـا فيهـا مـن فوائـدّ ،إل أنـه فاسـو َّد لونـه ،وكأنـه ض لعقوبـة تعـر َ َّ َ 54
التفحم. احتـرق إلـى درجـة ُّ سـكان كنـدا وإلـى جانـب ذلـك ،نجـد ّ األصلييـن يعتقـدون أن الغـراب بإمكانـه ّ أن يخـدع الذيـن يمارسـون الخـداع، رد االعتبـار، أيضـاً؛ وفـي هـذا نـوع مـن ّ السـيئة .وهـو مـا يمكـن وردع األخلاق ِّ بعـض عشـائر تمييـز يفسـر سـبب ِ ِ أن ِّ جنـوب أالسـكا( )4بيـن غرابيـن :الغراب الثّقافي الذي ذكرناه في البداية ،والغراب يتفرد المخادعّ . أما عن سـواد لونه الذي َّ بقية الطيور المعروفة والمألوفة، به عن ّ فـإن الحكايات التي تشـير إلـى ذلك ،في تراث هاته الشعوب ،تقول إنه يعود إلى تعاركـه مـع بـوم ،أو طائـر السـنور ،أو الغـواص ،فُألِقـي عليـه السـواد من ّ البـط ّ َ األلـوان التـي تتوفّـر عليها تلـك الطيور، فتـرض أنـه تعـارك معهـا(.)5 التـي ُي َ ومـا يمكـن مالحظتـه عـن مسـألة العالـم األخـروي ،ومـا يتعلّـق بهـا مـن «عقـاب» أدبيات هاته الشعوب و«ثواب» ،نادر في ّ واألقـوام .وأغلبيـة الشـعوب والقبائـل األصليـة ألميـركا الشـمالية (ومنهـا كندا) علـوي «upper بعالـم ال تؤمـن سـوى ٍ ٍّ فمثلا :فـي قصـة «رحلـة نحـو ،»world ً السـماء»Journey to the Sky - التـي تتناقلهـا قبائـل «ألبامـا -كوشـاتا- تتعـرض ،»Alabama-Coushatta َّ
ومطبـات كثيـرة ،فـي الـروح لعراقيـل ّ القصة رحلتها نحو السماء .وتستعرض ّ مياهـ ًا عظيمـة وأمكنة تجتاحها األفاعي. فهـذه مـن ضمـن المشـاكل واالبتلاءات التـي يواجههـا اإلنسـان في هاتـه الرحلة األخرويـة ،إن جـاز لنـا اسـتخدام هـذا التعبير .وال تكتفي الحكاية األسـطورية بما سـبق ،بل تضيف إليه ِم َحن ًا أخرى، كل مـن ليـس أقلّهـا النسـر الـذي يهاجـم َّ يتحـرك طيلـة هاتـه الرحلـة المحفوفـة َّ بشـّتى أنـواع المخاطـر التـي تعتـرض اإلنسـان فـي رحلتـه األبديـة تلـك(.)6 كل دفن مع ّ ولمواجهـة النسـر المخيـفُ ،ي َ ٍ سـكين كبيـر لمسـاعدته فـي تلـك هالـك ّ المعركة ،ويصل اإلنسـان إلى آخر عقبة مرور اإلنسـان من تحت تعترضه ،وهي ّ قبة سماوية ،ترتفع وتصعد فوقه ،على ّ حافّـة األرض. ___________________________ *أكاديمي مغربي مقيم في كندا. ___________________________ هوامش: 1- Encyclopedia of World Mythology, ed. Arthur Cotterell, 2008, Indonesia, p. 266. - 2المصدر السابق نفسه ،ص.276 . - 3المصدر السابق نفسه ،ص.277 . «تلينْغيت» ()Tlingit - 4خصوص ًا شعب ْ : 6 - 5المصدر السابق نفسه ،ص.277 .
على ظهر سلحفاة!
رانيا سعد * أسـرار اهلل؛ فهي الكوكب سـر من ِ األرض ٌّ ٍ العظيم السابح في ملكوت أعظم ،والذي يتلأأل مثـل بلّـورة مضيئة تعكس أطياف ًا مـن نـور سـديم الكـون ،وهـي -أيضـاً- أسـطورة الشـعوب وشـغف اإلنسـان ومحـور أحالمه ومخاوفه .وقد تناولتها القديمـة بقصـص شـّتى، األسـاطير ُ ُ ٍ خرافات ألهمت الشـعوب حولهــا وغزلت ُ كل المجـاالت، فنّانيهـا ومبدعيهـا فـي ّ تتشـكل فراحـت تلـك البلّـورة البديعـة َّ عبـر أزمـان عمرهـا المديـد لتعكس صور ٍ عقود فعبر قاطنيها وحيواِتهم المختلفةْ . ٍ األرض (والزالـت) هـي طويلـة ،كانـت ُ السكان األصليين محور أسطورة قبائل ّ لكنـدا؛ اقترنـت بحقَّهـم التاريخـي فـي ملكيـة األرض التـي توارثوهـا عـن ّ
أجدادهـم ،وبصراعهـم الطويـل مـع الحكم الكولونيالي الذي تمثَّل في الرجل األبيـض القـادم مـن وراء البحار ،والذي فـرض سـطوته علـى األرض وحضارتها القديمة وأسـطورتها التاريخية .ويعتقد السـكان األصليـون لكنـدا أن األرض قـد ّ تشـكلت علـى ظهـر سـلحفاة ضخمـة، َّ شـكلها غـواص عظيـم ،غـاص في باطن َّ أعماقها مستخرج ًا ذلك الطمي العجائبي شـك َل بـه سـطحها .األرض ،عنـد الـذي َّ األم قبائـل اإلنويـت والميتيـس ،هـي ّ المقدسـة والملهِمـة التـي ُسـِلبت منهـم، َّ ـط ،اسـترجاعها. ولـم يسـتطيعواَ ،ق ّ كل االّتفاقيـات والمواثيق وبالرغـم مـن ّ برمـت ،علـى مـدار العصـور، التـي ُأ ِ األصلييـن السـكان بيـن قـادة قبائـل ّ ّ والحكومـات الكولونياليـة المتعاقبـة، التـي ضمنـت لهـذه القبائـل بعضـ ًا مـن
حقوقهـم فـي األرضّ ،إل إنهـا كانـت (وال تـزال) مـن بـاب المنـح المشـروط خاصـة، باإلقامـة الدائمـة فـي محميـات ّ ّ ينقصهـا الكثيـر مـن الخدمـات الحيويـة. غصـة ظلَّـت تلـك االّتفاقيـات التاريخيـة ّ األصلييـن السـكان فـي قلـوب شـعوب ّ ّ حريتهـم ،وشـهدوا فنـاء الذييـن فقـدوا ّ المقدسـة. أسـطورة أرضهـم َّ دور أصيـل فـي الحفـاظ علـى َ وللف ّ ـن ٌ األسـطورة ،وغزلهـا مـع الواقـع، ولطالمـا كانـت معانـاة قبائـل السـكان األصلييـن لكنـدا ،وصراعهـم التاريخـي ّ مـع الحكـم الكولونيالـي ،نـواة اإللهـام للعديـد مـن أعمـال فنّانـي تلـك القبائـل الذيـن سـخروا َفنّهـم لتخليـد أسـطورة األرض. كنـدي تشـكيلي ّـان ن ف منكمـان» «كينـت ّ معاصـر ،مـن أصـول قبائـل «الكريـي». 55
الفنّي ،القت أعماله في بدايات مشواره َ كثيـر ًا مـن النقـد؛ نظـر ًا لتناولـه الصراع السـكان الحضـاري بيـن حضـارة قبائل ّ األصلييـن والحضـارة الكولونياليـة. قـّدم «منكمـان» لوحـات تعكـس ً رؤى حادة ،شديدة السخرية لحضارة الرجل ّ األبيـض الـذي أهـان األرض ،وحـاول دحـض أسـطورتها وحضـارة أبنائهـا، تنوعت بين لوحات ّي ًة َّ كما قّدم أعما ًال َفنّ زيتيـة ،وأخرى نحتيـة ثالثية األبعاد، باإلضافـة إلـى إخـراج أفلام قصيـرة. وفـي أعمالـه ،يطـرح «منكمـان» قراءته الخاصـة للتاريـخ الكولونيالـي لكنـدا، ّ تصـور ًا فرضيـ ًا سـاخراً ،بـل م ويقـد ِّ ُّ الحضارتْيـن: عابثـاً ،للعالقـة بيـن َ ِّلـة الكريـي ،والكولونياليـة ،متمث ً فـي الرجـل األبيـض ،محـاو ًال إرسـاء قواعـد حضارتـه الضحلـة فـي مواجهـة األصلييـن للأرض ،المقاومين السـكان ّ ّ السـاخرين والعابثيـن بتلـك الحضارة؛ 56
للحفاظ على أسـطورة أرضهم .تعكس اإلنسـاني أعمـال «منكمـان» الصـراع ُ ّ ِ الهوية اإلنسـانية، األبـدي للحفاظ على ّ ّ مـن خلال أسـطورة األرض المتالحمـة مـع التاريـخ السياسـي ،والتاريـخ الجغرافـي لكنـدا. المثيـر فـي عالـم األسـاطير أنهـا ال تنتهـي بانتهـاء ِحَقِبهـا التاريخيـة ،بـل تتمـّدد خـارج نطاقهـا التقليـدي لتمتـزج حداثـة وشـموالً؛ مفاهيم بمفاهيـم أكثـر ً قـادرة علـى توصيـل رسـائل إنسـانية تنوعـ ًا مـن إلـى نطـاق أوسـع وأكثـر ُّ الثّقافـات. كنديـة مـن ّانـة ن ف بلكـورت» «كريسـتي ّ ِ األم، قبائـل «الميتيـس»ُ ،محّبة لألرض ّ ومهتمة بالحفاظ على تراث «الميتيس»، ّ وشـغوفة بنشـره ،عالميـاً ،مـن خلال ـن َفنّهـا .تعكـس لوحـات «بلكـورت» َف ّ الزخـارف التقليـدي فـي قبيلتها ،والذي رئيسـا يصور األرض ،بوصفها مصدر ًا ً ِّ
للجمال والخصوبة .في اآلونة األخيرة، أصبحـت لوحات «بلكورت» مصدر إلهام جاعلة من مصممـي األزيـاء، للعديـد مـن ً ِّ الزخـارف التقليديـة لقبائـل «الميتيـس» لغة بصرية تخلِّد ذكرى أسطورة األرض األم. ّ األصليين، ان السك من كندا، ّانو ن ف يظل ّ ّ ّ فاعلي ًة في الحفاظ الداعم األقوى واألكثر ّ ِ موروثـات قبائلهـم ،واسـتحداث علـى وسائل إعادة إنتاجها ونشرها ،ثقافياً، إنسـاني أوسـع .والتـزال علـى نطـاق ّ األم -رغـم تعاقـب األرض أسـطورة ّ األجيال -ترفض الخضوع لقهر النسيان، عزيمـة األزهار وتبـث فـي أرواح أبنائهـا ّ َ والبقاء. ___________________________ * فنّانـة تشـكيلية مصريـة مقيمـة فـي كنـدا.
تتم َّيز مقاطعة كيبك ،أو القبقب ،بخصائص تجعلها األكــثــر تــف ـرّداً بين كـ ّ ـل مقاطعات قــارّة أمــيــركــا الــشــمــالــيــة ووالي ــات ــه ــا .لــيــس ،فــقــط، بسبب اعــتــمــاد الفرنسية لــغـ ًـة أول ــى لهذه المقاطعة مترامية األطـ ــراف ،بــل -أيــضـ ًا- بسبب الــثــراء الـ ّثــقــافــي والــطــابــع األوروبـــي الغالب على كـ ّ ـل مــفــردات الحياة فــي هذا المكان الــبــديــع .فرغم تخ ّلي اإلمبراطورية الفرنسية عن كيبك ،والتي ُعر ِ َفت ،لسنوات، باسم فرنسا الجديدة ،إ ّلا أن شعب المقاطعة حا َف َ ظ ،بشغف ،على هويّته الفرنسية.
شبح بال رأس وسط مونتريال! د .أسامة عالم* ملمح ًا وتعريف ًا ٍّ كتحد يحمل لهذا الشـعب َ ّيـة فـي وسـط طوفـان ل وكأق ً، ا د متفـر ّ ِّ األنجلوفونيـة الـذي قادتـه الواليـات القويـة المتحـدة األميركيـة ،الجـارة َّ ّ صاحبـة الثّقافـة الطاغيـة والتـي غـزت تصـدره العالـم بإنتـاج هوليـوود ومـا ِّ مـن ثقافـة (الماكدونالـد) و(البيتزاهت)، اسـتطاع أبنـاء كيبـك الحفـاظ علـى الخاصـة ،لكـن قصصهـم وأسـاطيرهم ّ بانفتـاح الفـت علـى ثقافـة اآلخـر؛ هـذا
اآلخـر المتمثِّـل فـي ثقافـة المهاجريـن الذيـن يأتـون إلـى المقاطعـة بـاآلالف، كل عـام ،مـن جهـات العالـم األربـع. ّ باإلضافـة إلـى ثقافـة المواطنيـن اسـتقروا بـأرض األصلييـن الذيـن ّ ّ المقاطعـة ،مـن آالف السـنين ،ليتأثّـر الفولكلور الكيبكي بحكايات المهاجرين األصليين معـاً ،صانع ًا عالم ًا والسـكان ّ ّ المتفـردة ،وإن تشـابه تـه خصوصي لـه ّ ّ مـع الخيـال اإلنسـاني ،فـي عمومـه. وفيما يلي حكايتان من كيبك :إحداهما «القـارب الطائر» ،وتشـتهر فـي الثّقافة
الكنديـة بـ«الكانـو الطائـر» .و«الكانـو» هـو االسـم الكيبكـي لقـارب طويـل، سـتخدم فـي الرياضـات المائيـة فـي ُي َ بقصة البساط ُّر التأث نرى وفيها كيبك. ّ السـحري التـي تنتمـي إلـى الثّقافـة العربيـة القديمـة ،والثانيـة حكايـة شـعبية عـن أشـباح الموتـى الذيـن تتعـذَّب أرواحهـم بسـبب القتـل بطريقة بشـعة .ومـن خلال الحكايتيـن ،يبـدو مخيلـة اإلنسـان، التشـابه قائمـ ًا فـي ِّ مهمـا كانـت الفـروق :الجغرافيـة، واالقتصاديـة ،واالجتماعيـة. 57
القارب الطائر منـذ زمـن طويـل ،كان هنـاك ،فـي قلـب الغابـة الشاسـعة ،مجموعة من قاطعي األخشـاب .يقهـرون بـرودة الشـتاء والوحـدة القاسـية بالكثيـر مـن العمـل؛ يقطعـون األشـجار العمالقـة منتظريـن سـقوطها فـوق الثلـوج المتراكمـة فـي يحددونها .كـم كان العمل األماكـن التـي ِّ شـاّقاً ،ووحدتهـم قاسـية ،بعيـد ًا عـن نسـائهم. وفـي ليلـة بدايـة عـام جديـد ،تسـاقطت الثلـوج بغـزارة ،لـم يعرفهـا قاطعـو فتعطل العمل ،واختبأ الرجال األشجار. َّ في أكواخهم مسـتدفئين بشـراب الروم، وبالحديـث عـن ذكريـات ُأ َسـرهم فـي ليالـي األعيـاد المبهجـة ،ليصيح شـاب اسـمه باتيسـت« :كـم أتمنّـى أن أعـود إلـى البيت ،وأقابل خطيبتي الحبيبة»، فسخر الرجال من أمنيته الساذجة ،لكن رد بإصرار« :من منكم يريد أن باتيست َّ يعـود إلـى بيتـه الليلـة؟» .كانت السـماء قـد أسـقطت أكثـر مـن مترين مـن الثلوج التـي لـم تتوقَّـف بعد. 58
تسـاءل الرجـال« :وهـل سنسـتطيع الجـو القاتـل؟» ،فأجاب المشـي فـي هـذا ّ باتسـيت« :بـل سـنطير إلـى القريـة فـي المخيـم» .كان المرمـي خلـف قاربـي َّ ّ باتيسـت قـد عقـد الصفقـة مـع الشـيطان علـى أن يجعـل قاربه يطير إلى القرية. يتوجـب علـى باتيسـيت وفـي المقابـل، َّ وأصدقائـه أن يعـودا قبـل انتهـاء الليلة وبدايـة العـام الجديـدّ ، وإل سـيحتفظ الشـيطان بأرواحهـم جميعـاً .ولتنفيـذ الرحلة األسـطورية ،كان على باتسـيت ورفاقـه ّأل يطيـروا فـوق كنيسـة ،أو األهم يلمسوا ّ أي صليب ،طوال الرحلةّ . أن عليهـم أن يمتنعـوا ،تمامـاً ،عـن ذكر الـرب ،طـوال الرحلـة. ّ ورغـم أن الكثيـر مـن الرجـال رفضـوا عـرض باتسـيت العجيـبّ ،إل أنـه، وسبعة من الرجال ،ركبوا القارب الذي ً طـار إلـى قريتهـم البعيدة ،بعد أن نطق باتيسـت بكلماتـه السـحرية «أكابريس، أكبـارس ،أكابـرام». س الشـيطان جسد باتيست، عندهاَّ ، تلب َ وطـار القـارب نحـو القريـة البعيـدة. طويلا ،قبل أن يسـمعوا َج َّـدف الرجـال ً
صيحـات نسـائهم المبتهجـات بعودتهم إلـى الديـار ،فاحتفلـوا معـاً ،بالكثيـر مـن الرقـص والشـراب .وقبـل أن تذهـب السـعادة والخمـر بعقولهـم ،أدرك الرجال أن الليلة شارفت على االنتهاء، وأن عليهـم العـودة إلـى القارب حتى ال يختطـف الشـيطان أرواحهـم. طويلا عـن باتسـيت ،فوجـدوه بحثـوا ً لا ،تحـت أحـد غارقـ ًا فـي النـومَ ،ثِم ً موائـد الطعـام .فحملـوه إلـى القـارب وجد فوا ونطقوا بالتعويذة السـحرية، َّ باتجـاه معسـكرهم فـي الغابـة .وألنهم ِّ يعرفـون رعونـة باتسـيتَ ،ق َّيـدوه، وأغلقـوا فمـه كـي ال يتحـّد ث بذكـر الـرب ،إن اسـتيقظ .لكـن باتسـيت ّ يحـر ر الـذي أفـاق، ً فجـأة ،كافـح كـي ّ متحد ثـ ًا إلـى نفسـه بصـوت قيـوده، ِّ ٍ قيدنـي ،هكـذا، لمـاذا إلهـي، «يـا عـال : َّ هـؤالء الحمقـى؟» .وعندمـا ُنطـق اسـم الـرب ،هـوى القـارب نحـو أشـجار ّ الغابـة الكثيفـة ،قبـل أن يختفـي فـي الظلام .ومـن يومهـا ،لـم ُي َـر باتيسـت والرجـال السـبعة أبـد اً.
شبح المرأة التي ليس لها رأس القصة الشـعبية عام تمـت أحـداث هـذه ّ َّ ،1879يـوم 27يونيو/حزيـران، تحديـداً ،فـي المنـزل رقـم ( ،)242فـي وليـم ،وسـط مدينـة مونتريال. شـارع َ تأهبـت سـوزان ففـي الليلـة (َّ ،)26 كينيـدي ،برفقـة مـاري كالغيـر ،للقـاء أحـد الزبائـن ..انتقـل الثالثة إلى منزل سـوزان كينيدي،رقـم ( ،)242شـارع وليـم .وبعـد السـهر ،انصـرف ميشـيل َ فلنجـن رفقـة مـاري ..وفـي الصبـاح، تشـاجرت الفتاتـان حتى قتلت سـوزان كينيدي رفيقتها ماري كالغير بالبلطة، ل وفصلـت رأسـها .أوقفـت الشـرطة ُكّ ً من سـوزان كينيدي ،وميشـيل فلنجن، لتتـم تبرئـة بتهمـة قتـل مـاري كالغيـر، َّ
ميشـيل فلنجـن ،بينمـا حكمـت المحكمـة علـى سـوزان كينيـدي بالقتـل شـنقاً، لي َخفَّـف الحكـم إلـى السـجن لمـّدة سـتة ُ عشـر عامـاً .لكـن مقتـل مـاري كالغيـر سـكان الدرامـي َّ ظـل عالقـ ًا فـي ذاكـرة ّ وليـم .فبعـد سـبع سـنوات مـن شـارع َ سكان المنطقة أكَد العديد من ّ الجريمةَّ ، مشـاهدتهم شـبح امـرأة بلا رأس، يمشـي فـي محيـط المنـزل الـذي وقعـت فيـه الجريمـة .يختفـي الشـبح ،وال يعـاود الظهـور ّإل بعـد سـبع سـنوات، وفي اليوم نفسـه الذي ُقِتلت فيه ماري كالغيـر .ومـن تاريـخ ظهـور الشـبح، سـكان المنطقـة أول َمّـرة ،اعتـاد ّ َّ كل مشـاهدة الشـبح فـي اليـوم نفسـهّ ، سـبع سـنوات. رغـم أن آخـر ظهـور لشـبح المـرأة ـج َل عـام ،1928 التـي ال رأس لهـاُ ،س ِّ ّإل أن أسـطورة شـبح مـاري كالغيـر
ناقـل بيـن األجيـال ،وسـط اسـتمرت ُتَت َ َّ ـم تسـمية 27 ت كمـا مونتريـال. مدينـة َ َّ كل سبعة أعوام ،باسم يوليو/تموزّ ، «يوم ماري كالغير» .وفي 27يوليو/ تمـوز ،عـام ،2005أرسـلت الكنيسـة الكاثوليكيـة األب تومـاس ماكنتـي إلقامـة الصلـوات ،من أجل راحة شـبح مـاري كالغيـر .البعـض يعتقـدون بـأن روح مـاري كالغيـر المسـكينة ترقـد، اآلن ،بسلام ،فيمـا يحافـظ البعـض كل سـبع اآلخـر علـى عـادة االجتمـاع ّ سـنوات ،فـي 27يوليو/تمـوز ،فـي وليـم؛ المنـزل رقـم ( ،)242شـارع َ لالحتفـال ،علـى أمـل مشـاهدة شـبح امـرأة بلا رأس! ___________________________ * أكاديمـي وروائـي مصـري مقيـم فـي كندا. 59
القابلة تسمع صوت األرض !
خالد ذهني* بدأت بالسؤال األول: ِ عزيزتي ،هل سبق لك الحمل من قبل؟ نعم ،تسع مرات. أوه! هذا مؤسف جّداً .هل انتهت جميعهاباإلجهاض؟ لدي تسعة أطفال ..تسعة أطفال! الّ ، أوه! تعنين أنهم من زوج سابق؟ ال بل من زوجي هذا!سـيدتي ،لديـك تسـعة أطفـال أحيـاء، ِّ ِ شـرحت هل وتزورين عيادة عالج عقم؟! ّ لي ! لدي تسـعة من الذكور ،لكننا فشـلنا في َّمرة. كل القابالت تبديل رغم فتاة، إنجاب ّ ّ 60
َ ط ْرقات خفيفة على باب حجرة مكتبي، أعلنت بها مم ِّرضة العيادة وصول مريضتي التالية .حين استقرّ الزوجان :السيد نوتاك، والسيدة بيتسواك ،على المقعدين المقابلين لمكتبي ،شعرت بأجواء غريبة في المكان :زقزقة عصافير ،خششة أقدام على عطري أوراق شجر جا ّفة ،ورائحة قويّة لعشب ّ بت بهما ،كما هي العادة ،وشرعت رح ُ يحترقَّ . أشرح لهما خطوات لقائي معهما اليوم: المرَضي ،وعن بعض األسئلة عن تاريخهما َ صحتهما اإلنجابية ،يليها فحص إكلينيكي ّ سريع للزوجة ،ثم مناقشة للتشخيص المبدئي ،تأتي ،بعدها ،الحلول المقترحة، وفي الختام ّ خطة العمل.
يج َّـرم اختيـار جنـس الجنيـن، فـي كنـداَ ، فـي أثنـاء العالج ،بالتلقيـح الصناعي أو مـا يعـرف بـ(طفـل األنبوب)ّ ،إل ألسـباب طبّيـة .شـرحت لهمـا القانـون ،وتمنَّيـت ّ ألول تكل ً. ا سـعيد ا يومـ لهمـا ً َّـم الـزوجَّ ، َ مـرة :ال نريـد تلقيحهـا صناعيـاً .نحـن، ّ فقـط ،نريـدك أن تقـوم باإلشـراف علـى عملية الوالدة ،وتعدنا أن تجعل المولود أنثى .عدت بالذاكرة سـنوات إلى الوراء، التخرج في إحدى حين كنت طبيب ًا حديث ُّ الصحّية ،في إحدى قرى مصر. الوحدات ّ الصحّيـة أزواج الوحـدة فـي يزورنـا كان ّ غاضبون ،تجري خلفهم نساء بائسات.. يأتون ،جميعاً ،بالشكوى نفسها« :امرأة ال تنجـب ّإل اإلنـاث».
أكـرره مراراً: أيامهـاّ ، كنـت أحفـظّ ، نصاًِّ ، «رحـم المـرأة كالبسـتان ،وأنـت الرجـل يحـب، ّ كالفلاح ،يلقـي فـي البسـتان مـا ّ قتاء أو برسيماً؛ أو ا طماطم أو ا عنب يجعله ً ً ً كيف تلوم البستان على ما تلقيه فيه من بذور؟». زائـر َّي مـا كنـت أحفظـه مـن علـى أعـدت َ إلـي نظـرا ـة.. ي الصح الوحـدة فـي عملـي ّّ َّ نظـره إلى زوجته، بذهـولَ .ح َّ ـو َل الزوج َ وقـال لهـا ،بأسـف« :عزيزتـي ،حتـى لـو تمكَـن هـذا الطبيـب األخرق من مسـاعدتنا َّ علـى إنجـاب أنثـى لنـا ،إال أننـي أخشـى تفـرق قبائل أن تكـون ً معتوهـة مثلـه» .ال ِّ «األنويـت» -وهـي إحـدى قبائـل الهنـود الحمـر التـي سـكنت كنـدا وشـمال أميـركا
وجرينالند -بين المولود الذكر والمولود هديـة ثمينـة، األنثـى ،وتعـّد ّ كل طفـل ّ شرعية الزواج ،كما خارج حتى لو جاء ّ تؤمن ،مثل كثير من الحضارات القديمة، تحـل بحلـول األرواح؛ فالمولـود الجديـد ّ فيـه روح أحـد األجـداد المتوفّيـن حديثاً، شـخصيته وطباعـه وأخالقـه، وتمنحـه ّ األم والكثير من خصائص حياته. ّ وتظل ّ الحبلـى تراقـب العالمـات ،فـي أحالمهـا، سـتحل في جنينها. لتتنبـأ بالروح التي ّ ّ أمـا العجيـب مـن المعتقـدات ،فـي هـذه ّ البالد ،فهي خرافة متعلِّقة بتحديد جنس سـر زيـارة الزوجيـن، المولـود؛ وهـذا ّ اليـوم ،لـي .بحثـت فـي أصـل الخرافـة فلـم أجد لها تفسـيرًا تاريخيـاً .لجأت إلى بودلو ،زميلي خبير األجنّة األنوينتي، إلـي أن فـي مركـز الخصوبـة ،فأشـار ّ أتبعـه إلى حجرة التدخين( .حين لدغنا المدخنـون، القفـص) كمـا يطلـق عليـه ِّ أخـرج لبودلـو غليونـه ،وحشـاه تبغـ ًا مـن حافظـة بالسـتيكية ،ومـع تصاعـد الدخـان ،قـال لـي: العلـم الحديـث علََّمنـا أن األصـل فـي تسـتمر علـى فإمـا أن ّ كل األجنّـة أنثـىّ ، ّ تتبـدل إلـى ذكـر .فـي هـذا الجنـس ،أو َّ حضارتنا ،األصل في الحياة هو الحياد. تظـل األنثـى الحيـاة ال تعـرف التمييـزّ . محـدد الجنـس ،فلا ً حاملا بطفـل غيـر َّ تحبه ألنه ذكر ،وال تبغضه ألنه أنثى. ّ األم حيـن تدركهـا لحظة الـوالدةّ ، تظـل ّ علـى حيادهـا .األب -أيضـاً -لـن يكـون بوسـعه توجيـه اللـوم لزوجتـه .فقط، تحدد جنـس المولود. القابلـة هـي التي ِّ تهمـس األرض للقابلـة بحاجتهـا مـن ـن توفِّـي، الذكـور أو اإلنـاث ،بحسـب َم ْ حديثـاً ،مـن العائلـة ،لتحافـظ علـى التـوازن بين الذكـور واإلناث ،وتنصت فتقرر جنس القابلة إلى صوت األرضِّ ، المولـود سـاعة والدتـه!... واستغرق «بودلو» في تدخين غليونه، فجأة ،فاغرًا فاه حين سألته ثم توقَّف، ً ّ يبـدل صـوت األرض أل يضمـن عمـا ِّ ّ قـراره ،حيـن يسـمع خششـة ورقة من فئـة الخمسـين دوالراً ،يضعهـا في يده أحد الزوجين! هنـدي أنـه ـرت تذك بذهـول. إلـي َّ ّ نظـر ّ أحمـر ،فتركتـه ،وانصرفـت. ______________________ * روائـي وطبيـب مصـري مقيـم في كندا 61
معناها ومبناها
ـي المعاص ــر عل ــى نح ــو ماك ــر، يتج ــاور ثال ــوث العربي ــة ،واإلس ــام ،واإلره ــاب ،ف ــي الخط ــاب اإلعالم ـ ّ أن العربيــة لغــة إرهــاب ،ويتحّقــق هــذا القيــاس عبــر عمليــات ـي نتيجتــه ّ َس قيــاس مغالطـ ّ فكثيــرًا مــا ُيـد ّ أن «اإلس ــام ه ــو اإلره ــاب وأن اإلره ــاب ه ــو اإلس ــام، روج ــت خطاب ــات العولم ــة ّ تحوي ــل وإيه ــام ،فق ــد ّ العـــرب هـــم اإلســـام ،فبـــدا االســـتنباط حتميّـــ ًا بالضـــرورة: َ العـــرب وأن ُ روجـــت أن اإلســـام هـــو ثـــم ّ نص ــه المقــدّس تحم ــل ف ــي كيانه ــا ب ــذور العن ــف َوَمناب ــت أن اللّغ ــة الت ــي به ــا ج ــاء اإلس ــام وبه ــا ن ــزل ّ ـوق الك ـ ْـره وتح ــرّض عل ــى اإلقص ــاء»(.)1 البغض ــاء ،فه ــي بذاته ــا عدوانّي ــة تس ـ ّ
ال ّلغة العربية واإلرهاب مساحات الشيطنة ال ّثقافية د .حسني السوداين فعلــى هــذا النحوُ ،تســتدرج األذهان إلــى مغالطة غياب االســتثمار العربيــة اإلســامية من أن تكــون خلفية لإلرهاب، يسميه أرســطو قياس ًا سفسطائياً ،وهو اإليجابي للعالقة وهو أمر جعل هذه التعريفات الموضوعة في سياق فيما كان ّ يفاجأ بهــا الباحث التي ــة التقني إلــى تفتقر عربــي ما خالل مــن االســتدالل في يتــدرج الــذي القيــاس ّ َ ّ اإلســــام بيــن ٍ في األطر البحثيــة الغربية ،وذلك على النحو الذي يزعمه من تماه بين ثنائيات متباعدة نحو :اإلسالم واإلرهاب ،فاإلسالم والعرب ،فالعرب واإلرهاب ،والعربيـــة هو ما سنفصله الحقاً. لكل لقــد ســعى المجمــع الفقهــي اإلســامي مــن جهــة ّ ثــم اإلســام مــع العــرب والعربيــة ،فالعربيــة فتح البــاب ومجمــع اللّغــة العربية من جهة ثانيــة في إطارين القيــاس المغالطي في واإلرهــاب( .)2ويخــدم هذا َ اإلرهاب نفسهَّ ،فشأن مــن أراد بهــذه بحثيين منسجمين ومتكاملين إلى تطويق مصطلح التباس تعريف أذهان الناس ُ ً ري العربي جريمــة اإلرهاب ،في أبعادها السياســية ،كشــأن العالقــة حيفــا ،اإلرهاب بتعريف ينسجم واإلطار التصو ّ ّ ولكــن مــن يقــرأ تعريفيهمــا يجدهما ال اإلســامي، جريمــة ّ التحرش الجنســي فــي حدودهــا المدنية؛ على منــــــوال ُّ ّ التبــرؤ مــن أن تكون يخلــوان مــن أمريــن :أولهمــا ويوســع بفعــل فاعل .ففي الجريمة يضيق كالهما ّ ّ ُّ من وصــــــلوا أن تأكيد والثانــي اإلســام، مــن اإلرهــاب ظاهــرة توسيع يمكن الجنسي، ش التحر في كما اإلرهابية، ّ ُّ باإلرهاب العربية اإلرهاب سليل التطرف ،وأنه ظاهرة عالمية ليست مؤول. الحدود وتضييقها بتأويل ّ لصيقــة ديــن أو قوم .فلذلك ســعى المجمع الفقهي لكل لذلــك يعتبــر تعريف اإلرهــاب العقبة الــكأداء ّ اإلسالمي في اجتماعه المنعقد في العاشر من يناير الناظريــن فــي هــذه الظاهرة ،إمــا عمليــ ًا كما في سنة 2002م في رابطة العالم اإلسالمي بمكة المكرمة في دورته الســياقات القضائية والسياســية ،وإما نظري ًا كما في السياقات عــرف اإلرهاب اللســانية أو القانونية ،وصعوبة التعريف جعلت التخوم غائمة السادســة عشــرة إلى صياغة تعريف بمقتضاه ّ بأنــه «ظاهــرة عالمية ال ينســب لدين ،وال يختــص بقوم ،وهو بين الجريمة اإلرهابية وغيرها من الجرائم. ناتج عن التطرف الذي ال يكاد يخلو منه مجتمع من المجتمعات إن تواتر ربط الكثير مما يعد جرائم إرهابية بخلفية دينية إسالمية ّ المعاصرة .وهو العدوان الذي يمارسه أفراد أو جماعات أو دول لكل من المجامع البحثية اإلسالمية واللّغوية العربية هو ما حّدد ّ بغي ًا على اإلنســان (دينه ودمه وعقله وماله وعرضه) ويشــمل الهوية أفقــ ًا تعريفي ًا مســكون ًا بهاجس تبرئة النفــس والدفاع عن ّ 62
العمل الفني :منير فاطمي -المغرب
صنوف التخويف واألذى والتهديد والقتل بغير حق ،وما يتصل وكل فعل بصــور الحرابــة ،وإخافة الســبيل ،وقطع الطريــقّ ، من أفعال العنف أو التهديد ،يقع تنفيذًا لمشــروع إجرامي فردي أو جماعــي ،ويهــدف إلى إلقــاء الرعب بين النــاس أو ترويعهم حريتهم أو أمنهــم أو أحوالهم بإيذائهــم أو تعريــض حياتهــم أو ّ للخطــر ومــن صنوفه إلحــاق الضــرر بالبيئة أو بأحــد المرافق واألمــاك العامة أو الخاصــة ،أو تعريض أحد الموارد الوطنية أو الطبيعية للخطر». المعجمي الذي وضعه مجمع اإلطــار مع التعريف وينســجم هذا ّ اإلســامي، اللّغــة العربية مســتندًا إلــى تعريف المجمع الفقهي ّ فقــد صاغ مجمــع اللّغــة العربية على شــبكة اإلنترنــت تعريف ًا ووسم التعريف بأنه قرار قد لمصطلح اإلرهاب في شــكل قرار، ُ يؤولــه مــؤول على أنه تفاعل مــع واقع أكثر ممــا يعني تطورًا تلقائيــ ًا داخــل اللّغة ،وقــد جاء القرار بتوقيــع وختم من مجمع وتم اللّغــة العربية على الشــبكة العالمية ومقره مكــة المكرمةّ ، تذييل التعريف بتفصيل تضمن ما صدر عن المجمعيين من آراء كل ذلك كله وجمع ّ وتفاعالت ومراســات بخصوص المســألةُ ، المجمعي في هذا الموضوع بعنوان «تفصيل ما انبثق عن الحراك ّ الجلل». واصطالحي، نص التعريف فقد صيغ على مستويين لغوي أما ّ ّ ثانيهمــا مبني علــى األول .فمحتوى التعريــف اللّغوي لإلرهاب
أنــه «اإلخافــة والتفزيع» ،ومتــن التعريــف االصطالحي له أنه حق بالســعي في األرض فسادًا أو بقتل «اإلخافة والتفزيع بغير ّ مــن احتــال أو غصب أو نهب من رد ٍ عــاد أو فئة باغية أو دولة ظالمة». دفاعي بعد مــن التعريفين هذين في مــا القارئ على يخفــى وال ّ قرآني. ســجل ذات عربية بعبارة المعنى تطويــق إلى ي ــع وس ّ َ ْ ّ وفي ذلك ما قد يجعل التعريف في عين خصومه محلي ًا تبريري ًا ال كونيــ ًا تقنيــاً .وتتضــح خصوصيــة التعريــف فــي خلفيتيه المجمعيتين -اللّغوية العربية والفقهية اإلســامية -انطالق ًا من مقارنته بأطر تعريفية أخرى مثل التعريف الذي اصطلحت عليه تعــرف اإلرهاب بأنه وكالــة االســتخبارات األميركيــة ( )FBIإذ ّ «االستخدام غير القانوني للقوة والعنف ضّد األفراد والممتلكات بهدف إحداث ترويع أو إكراه لحكومة أو ســكان مدنيين أو ألي جزء منهما بغاية تحقيق أهداف سياسية أو اجتماعية»(.)3 يعــرف اإلرهــاب بأنه وكذلــك األمــر فــي معجــم أوكســفورد إذ ّ «االســتخدام غيــر القانونــي للعنــف والترويــع ضــّد المدنييــن ُ خصوصاً ،وذلك سعي ًا لتحقيق أهداف سياسية»(.)4 ويختزل معجم كمبريدج هذا التعريف في عبارة توجز اإلرهاب في أنه يتمثل في عمل العنف الذي يهدف إلى أغراض سياسية(.)5 فيعــرف اإلرهاب بأنه مجموع أعمال العنف وأمــا معجم الروس ّ مــن هجمــات واحتجــاز رهائــن وغير ذلــك مما ترتكبــه منظمة 63
تثبت التهمة بقرينة التالزم بين لســان العرب ودين اإلســام. إلحــداث مناخ من انعدام األمن ،ابتــزازًا لحكومة أو كراهية تجاه كل جريمة مجموعة أو بلد أو نظام(.)6 وذلــك فــي ضرب من االنفعــال يتنامى طردي ًا مــع ّ دوليــة .ومــن المعلوم في علم نفــس الجريمة أنــه باإلصرار يعرف الغربية الدوائــر في اإلرهاب أن مــا نخلــص إليه من ذلــك ّ َّ نفســه في انفعاالت جالده ،ســيان الضحية ينخرط والتكرار الدوائر تعريف وهو ، العام التقني تعريفه علــى نحوين :أحدهما ّ ُ ّ فــي ذلك أن يكون بريئ ًا أو مجرماً ،حتى إنّك تجد اليوم كثيرًا كل أوجه العنف البحثيــة ،وبناؤه نظري يســعى إلى اســتيعاب ّ ّ بالتفصي. واإلدانة بالتبرؤ االتهام يســتبقون العربية أهل من الثاني والتعريف المجتمــع. واســتقرار الدولة ســطوة التي تهّدد َ ّ بهويته اللّغوية قبل أولى بدرجة العربي انخرط ذلك كل ومن الخطابين ســاحة علــى يطفــو الــذي التعريــف وهــو ؛ عرضــي ّ ّ ّ ّ المســلم الذي قد ال يكون عربي ًا فيما نحت له مصطفى حجازي إرهابي .وميزة اإلعالمي والسياسي كلما حصل عمل يوصف بأنه ّ ّ مصطلح استبطان القهر. انفعالــي وال يكاد يلتزم مــن مكونات التعريف هــذا التعريــف أنه ّ إن من المعلوم في المسألة اللّغوية أنّه كيفما يكون المتكلمون واستقرار الدولة ســطوة بتهديد اإلرهاب بربط العام الســابق ّإل ّ ّ تكون لغتهم ،ومن العبث ســعي البعض إلى البحث عن جذور المجتمع. صــت به العربية فــي تاريخ اللّغات، قديمــة إلرهاب تشــكل لظاهرة اإلرهاب إطــاران تصوريان مختلفان كل ذلك مــن ّ َ ّ لغوي ُخ َّ تنحط مكانتها وتعلو بانحطاط أوضاع فكل اللّغات بين الغرب الذي ُيدين ويتهم ويرى نفسه ضحية، ّ ّ خرت السينما متكلميهــا ،ولو كان األمر على غير هذا القانون لكان يبــرئ نفســه والســياق العربــي اإلســامي الــذي ّ ســ ّ ّ ُ األولى بأن ال يكــون متداو ًال اليوم، اللســان كل اتهــام بشــجب األعمــال اإلرهابيــة ويســتبق ّ ّ العبري ْ كل من يفعلها أو يتبناها .ومقتضى هاتين في قســم منها ،فمــن ناحية لــم يكن لهــذا اللســان قبل قيــام الدولة وإدانــة ّ الوضعيتيــن نشــوء مواضعــة غــدت تجــري فــي إلرســــاء ترابط العبريــة تــداول يذكر ،ومــن ناحية ثانيــة ُبعث هذا كيان مسخ ًا من العبرية القديمة ليكون لسان ٍ األذهــان والخطابــات مجرى القانــون ،مفادها ّ َ أن بين العـــــربية اللسان ْ الدولــة ولغتهــا .وعلى هــذا النحو ض مغتصــب م مته ِم بريء أبدًا ّ َ فــر َ وأن المسلم المتبرئ َ الغربي المته َ َّ َ لفصحــــــــى ا وضع متكلميها :تزدهر جنيــس لغة كل وضع جــد ت دائماً. ّ ِ َ ُ َ وتنحــط بانحطاطهــم .ولكــن الظواهر ترس َخ واإلرهــاب بجعل بازدهارهــم وعلى هذا النحو تســرب إلى األذهان ّ ٌ تالزم َّ ظن الســبب نتيجة، األفهام على تلتبس ما ا كثيــر جهة، من إرهابي كل حــدث ً بقصــد أو بغيــره بين ّ في ّ ُ ّ إن اللغــة العربيــة وتعّد النتيجة سبباً. فما ثانية. جهــة من واإلســام وثنائي العربية ْ ّ كل من له فــي المشــاهد ومن مالمح السطحية الساذجة في المسألة اللّغوية ينبــري حتــى إرهابــي عمل يعلــن عــن ّ يبرئ نفسه من أن ُي َّتهم .ا لتمثــــــــيلية أمــران؛ أولهمــا االكتفــاء بظواهر األمور والتســليم صلة بالعروبة واإلسالم ّ الحس المشــترك في الشــأن اللّغوي، إليه يقود بما هذا يغدو الكونيــة، القوانين وخالفــ ًا لألصل فــي ّ متهم ًا حتى تثبت براءته .ومن المفارقات ا لســـــينما ئية والثانــي هــو االســتغناء بالراهن القريــب عن غيره ُ المتبــرئ َ أن المســألة أن هذا «المتهم دائماً» قد اســتبطن هذه التهمة حتى والمسرحية لغة مــن العوامل في تفســير الحاضر؛ ذلك ّ ّ َ كل الشـخصيات اللّغوية ليســت في حياة الشعوب واألفراد من بنات من ا جزء ()Pavlov بافلوف مصطلح حســب غدت ً ّ اللحظة القريبة ،وإنمــا هي حاضنة الثّقافة وخزان لكل طارئ. انعكاســاته الشــرطية التي ينفعل بها ّ الخـــلفيات ذات الهوية .وكما المعارف وهــو األمر الــذي كثيرًا ما اســتثمره المســتثمرون ومحرك األحاسيس وعنوان ّ ّ كل الدينيـــــــــــة أن ذلــك كلــه يتأســس بتغيــرات مجهريــة على مر متهما هــو األحرى بالتهمــة في ّ طالمــا ّ أن ثمــة َّ فإن التخطيط له إنما يتحقق التاريخ، وعبر القرون أثر األحداث مســرح في ج در ي أن فيكفي األحــوال؛ ّ ُ َ المتطرفة والتي بتأنــي الصبور المتبصــر وحرص الثابــت المثابر، من لسان العرب أو من القرآن ليكون قرينة تحصر دائــرة االتهام بين العروبة واإلســام ،وإن تعلق تمــارس العنف! وهو أمر يقتضي وعي ًا قومي ًا ال فردياً. أن العالم األمــر بقرينة ال ترقى حجيتها إلــى درجة اإلثبات. ّغــوي الكوني يجد ّ فالمتأمل في المشــهد الل ّ اليــوم يحتكــم في قســمته اللّغويــة لنفس ما يحتكــم إليه في عربــي على نحو ما وقع وكثيــرًا ما كان االتهام بســبب حمل رمز ّ اإلعالمي نوعان: الحضارية ،فاللّغات في الخطاب تصنيفاته فــي أحداث مدينة نيس الفرنســية في يوليــو 2016حين هوجم ّ ّ متهمــة ،كثيرًا مــا ينبــري أصحابها مغلوبــة لغــات أحدهمــا عربي. صحافي قناة «العربية» لمجرد حمله شارة قناة بلفظ َ ّ ّ عند هذا المستوى ّ يتبرؤون مما ينســب إليهم وإليها .والثاني لغات غالبة متهِمة يكف اإلسالم أن يكون انتماء عقدي ًا ليصبح انتماء ا ما يتنــازل أصحابها عما يكيلونه مــن تهم .فالمتكلمون «إســامي» ( )Islamistمقام الصفة النعت حركياً ،فلذلــك يقوم قليــ ً ُ ٌّ بلغــة معينة يضفــون على لغتهم بمكانتهــم الحضارية ما هو متنام .وهو َلْبس اشتغلت عليه اآللة «مسلم» ( )Muslimوبشكل ٍ أن اللّغة اإلعالمية الغربية كثيرًا إبان حرب البوسنة والهرسك ،حتى غدا في األصل صفة لهم هم ال للغتهم .وإنما أساس ذلك ّ ثوب المجتمعات وترجمانها .وبمصطلحات البالغيين كثيرًا ما أكثرها يصف ســكان البالد من المســلمين بأنهم إسالميون ،وهو ينسب الشيء إلى غير قرينه ،وذلك فيما يؤلف عند أهل الذكر تدرج يهيئ للتدحرج بهم إلى اإلرهاب. ّ ال من المجاز ،هو المجازات المرسلة والعقلية. شــرطي انعكاس حثيث وبســعي وعلى هذا النحو يتكرس اليوم قسم ًا كام ً ّ أن مــا يطــرأ على علــى درجة عالية من الخطورة ،بمقتضاه يتجه اإلعالم واالتهام وأن تكــون اللّغــة ثــوب الحضــارة معنــاه ّ ّ ّغوي ،ولذلك كثيرًا ما المجتمعات من العلل كل جريمة دولية إلى البحث عن أثر من اللّغة العربية ،حتى عند ّ يشــف به ثوبها الل ّ 64
العمل الفني :منير فاطمي -المغرب
يشبه اللسانيون ما يظهر على اللّغات من اعتالل بما يظهر على حمــى ،فالحمى في تقدير الطبيــب العارف هي من األجســام من ّ األعــراض ال األمــراض ،ولذلك يكون من عبــث الجاهلين بالطب الحمى وترك العلة. تطبيب ّ كل لغة ترتبط بلغة، دين كل يرتبط ّغوي ل ال الشــأن وفي ولكن َّ ّ ّ ّ بنــص مقّدس مصيرهــا أن تجمد فتموت لعــدم مواكبتها قوانين التطــور التــي تجــري علــى اللّغــة وعلى غيرهــا مــن الكائنات اطراد هذا الطبيعيــة والتاريخيــة على الســواء ،ولكن ما يربــك ّ ّية اللّغوية هو شــذوذ القانون فيجعله ال يرقى إلى مســتوى الكلّ اللّغــة العربية عن هــذا القانون ،فقد ارتبطت العربية باإلســام أي لغــة من الدين وظلــت حيــة فاعلة .وعبــر التاريخ لــم تظفر ّ الــذي ارتبطت به مقدار ما ظفرته العربية مــن ارتباطها بالقرآن واإلسالم .وحتى الذين يبدون جحودًا لهذا الفضل فإنه ال يمكنهم بــأي حال مــن األحوال إنكار الترابط بين دين اإلســام ولســان أن غيــاب االســتثمار اإليجابــي للعالقة بين العــرب .وتقديرنــا ّ لكل مــن أراد بهذه العالقة اإلســام والعربيــة هو ما فتــح الباب ّ حيف ًا على منوال من وصلوا العربية باإلرهاب. ــخرت الســينما العربية في قســم منها إلرســاء ترابط بين لقد ُس ّ العربيــة الفصحى واإلرهاب ،حتى إن انتظارات المشــاهد غدت العربية تتجــه بتلقائيــة إلى استشــرافات محــّددة كلما تخللــت ُ ــب وحس الفصحــى مســار األحــداث في المسلســات أو األفالمُ ْ ، َ المتابــع لذلــك ثالثة أمثلــة()7؛ أولها جعــل اللّغــة العربية في
كل الشخصيات المشاهد التمثيلية السنيمائية والمسرحية لغة ّ ذات الخلفيات الدينية المتطرفة والتي تمارس العنف ،وحتى إن كانت هذه الشخصيات تتكلم اللهجة اليومية فإنها إذا أقدمت فإن اللّغة العربية علــى فعل إرهابي أو اجتماع إعدادي لذلكّ ، السجل القرآني الفصحى تكون الحامل اللّغوي لذلك .ويضفي ّ علــى كالم الشــخصيات صرامــة عاليــة تنزع عن الشــخصية اإلنســاني .وهــذه الصورة الحــس نســبية الفكــرة ومرونــة ّ ّ كل ترســخها التصريحــات التي تقّدم في وســائل اإلعالم بعد ّ ّ فكأن مــن مقومــات صدقية تصريحــات المجموعات عمليــةّ ، جل. الس ّ الجهادية أن تكون بلغة عربية فصيحة قرآنية ّ والمثال الثاني الذي ترسخه السينما المصرية ،بالخصوص، للغة العربية في ذاكرة المشاهد العربي هو صورة الشخصية النِ َّكد ،وهي تتكلم بلغة عربية تفسد متعة غيرها من الشخصيات المتمتعة بزينة الحياة ولهوها ،وبالنحت الهادئ المستمر على ترسخت صور نمطية في الذهن ،وانطالق ًا مما تفضي الذاكرة ّ إليه لعبة القرائن في نظرية االنعكاس الشرطي لبافلوف تنشأ مجموعــة من ردود الفعل المشــروطة ،فبشــكل غير واع يجد المشــاهد نفســه في مفاضلة متجّددة متواترة بين نكد وحزن قرينــي عربية قديمة آتيــة بقيمها وأصواتهــا وضوابطها من ْ لصيقي أزمنة سحيقة غريبة في تصوره ،وبين فرح ونشوة ْ لهجــة عامية تحاك صورتها باعتبارها األحرى لتكون لســان ًا ال ما دامت هي األسلم قيم ًا ورؤية. بدي ً 65
على هذا النحو ترسخت صورة نمطية للغة العربية في منتهى الجاد إلى المستوى الســلبية ،وامتدت من المســتوى الحكائي ّ يرســخ فــي األذهان أخطــر األفكار عبــر النحت الهزلــي الــذي ّ ّ الهادئ ،وأكثر هذه المشــاهد خطرًا وتواتــرًا هي صورة يلهي عما فيها مــن أبعاد. والبســيط الحصيــف المشــاهد َ َ ُ إضحاكهــا ّ َ ونقصــد صــورة عــدل اإلشــهاد -أي «المــأذون» -وهــو يظهر ال للغــة عربية تجعله بحكم زي ناشــز عن محيطه ومفتع ً فــي ّ محط ســخرية الجميع ،حتى إن مشهد عدل اإلشهاد قد النشــاز ّ غدا المقطع الثابت الذي ُتْق َطع به رتابة األحداث .ولهذا المشهد النمطي امتداد في غيره من المشاهد حيث تكون مالزمة العربية ّ سمة الشخصيات الناشزة والخارجة عن التأريخ. إن هذا النحت الهادئ والمستمر للصورة السلبية للغة العربية بقيــاس ُخل ٍ ْف انطالق ًا مــن أن اآللــة اإلعالمية الكونية يتضــح ِ ال تفعــل فعلهــا حيــن يتعلــق األمــر بغيــر المرجعيــة العربية اإلسالمية ،فبشكل متزامن شهد العالم في يوليو/تموز 2016 أحداث ًا إرهابية في إســطنبول بتركيا وفي نيس بفرنســا وفي دار للمسنين باليابان .ولكن تعامل اآللة ميونيخ بألمانيا وفي ٍ اإلعالميــة المتحكمــة أبــى ّإل أن يكون على نهجــه االنتقائي؛ فأعــاد إلى األذهــان عمى هذه اآللة عن محارق مســلمي بورما وإفريقيا الوسطى ومجازر بعض األنظمة العربية. للّغة ذاكرة ستكون للقادم من التأريخ حجة اإلنسان في اقتفاءِ ســعي ماكر ما فتئ أصحاب القرار يبذلونه للتلبيس ولطمس ٍ المعنــى إيهام ًا ببراءة مزعومة .فلقد ظلّت صفة «جهادي» نعت ًا موسوم ًا بكثير من الرضى ،يطلقه األميركيون على من يدعمون مــن مقاتلي الروس في أفغانســتان ،ولفترة من الزمن لم يكن لفظ «الجهادي» ذا داللة حافة سلبية ،حتى إذا تغيرت خارطة التحالفات والعالقات سعت وسائل اإلعالم األميركية والغربية عموم ًا إلى رســم صورة جديدة سلبية لحلفاء األمس ،وشيئ ًا محل فشيئ ًا تطورت الصورة دا ًال ومدلو ًال ليحل لفظ «اإلرهابي» ّ أن الممثل السوري لفظ «الجهادي» .ومن طرائف حياة األسماء ّ ّ غير اســمه ما إن دخل عالم الســينما في األصل جهاد عبده قد ّ فعوض اســمه «جهاد» بالجيم أول حروفه هوليود األميركيةّ ، وصرح لجريدة القدس ،)Jay (Abdo ليصير اسمه جي عبده ّ العربي بأنه إنما فعل ذلك على ســبيل التقية ،وأشار إلى أنه فــي هوليود قد يمتنع القائمون علــى العمل الفني عن إعطائه الدور بســبب االســم ،وأنــه ال تمييز فــي أذهــان الكثير هناك بين االسم وما يسمعونه في وســـائل اإلعـــام عن الجهاديـين عرفته موسوعة ويكيبيديا والمتطرفين .وباالسم الجديد الذي َّ ّ اإلنجليزية. وتكتســب المســألة اللّغوية بعدًا رمزي ًا عالي ًا حين يتعلق األمر برفــض اآلخر في المناســبة التي تأسســت فــي األصل إلعالن قبولــه ،ففي إطار االحتفال بأســبوع اللّغــات األجنبية ارتأت مدرســة باين بــوش ( )Pine Bushالثانوية ( 130كم شــمال غــرب نيويورك) أن يؤدي الطالب َق َســم الــوالء بلغة مختلفة كل يــوم ،وذلك دأب ًا على عادة ماليين الطالب األميركيين في ّ تأدية قسم الوالء في الصف في بداية اليوم الدراسي ،وهو ما يعــد إجباري ًا في بعض الواليات .فــكان أن أدت إحدى طالبات المدرســة قسم الوالء باللّغة العربية التي تتكلمها ،وذلك على 66
ســبيل اإلسهام في االحتفال المخصص ألسبوع اللّغات األجنبية والتنــوع ،فأثار ذلك جد ًال حادًا في المدرســة إذ وصفت الطالبة بأنهــا «إرهابية» ثم تجاوز الجدل المدرســة إلى والية نيويورك االجتماعي ويصل إلى درجة تهديد ليتواصل على مواقع االتصال ّ ناظر الصف في المدرسة لمناصرته للطالبة. وفي حوار مع وكالة األنباء الفرنســية ذكرت الناطقة باسم فرع نيويــورك فــي مجلس العالقات األميركية اإلســامية ،ســعدية أن ما وقع لم يكن حدث ًا معزوالً ،وإنما وقع نظيره ســنة خالــق ّ تم التفاعل مع المبادرة بالتهديد 2013في والية كولورادو حين ّ وباتصاالت هاتفية تنم عن الكراهية ،وفي السنة نفسها اعترض أوليــاء الطــاب فــي واليــة أالبامــا علــى إدراج العربيــة ضمن بأن ذلــك ســيعلّم أبناءهم ثقافة الــدروس ،وعللــوا اعتراضهم ّ الكراهية ،وانتهى األمر بمحاربين سابقين إلى التصريح لوسائل إعالم أميركية بمعارضتهم أداء القسم بغير اإلنجليزية. كل أبعاده إن المســألة اللّغويــة اليــوم هي غــاف اإلرهاب فــي ّ ّ السياســية واالقتصاديــة واأليديولوجيــة ،وما يحتاجــه العالم اليــوم هــو الخطاب الحكيم الذي ال يســتثمر معنى اإلرهاب بحث ًا ِ والتداولي اللساني مشروعية قرار أو موقع ،فمن المنظورين عن ّ ّ اكتســب لفظ اإلرهاب عبر االســتعمال المكثــف وظائف ِخطابية وخطابية تكشف عن أزمة أخالقية في سياسة إنسان هذا الزمان َ للكون ،وهي األزمة التي ســيؤول استفحالها إلى عبثية متى لم يتشبث به اإلنسان. يعد في الكون معنى ّ
---------------------------------------------------هوامش:
الهوية العربية واألمن اللّغوي ،دراسة وتوثيق ،المركز 1عبد السالم المسديّ ، العربي لألبحاث ودراسة السياسات ،بيروت ،2014ص .12
- 2نفسه ،ص .30 - 3التعريف بلفظه اإلنجليزي: «Terrorism is the unlawful use of force and violence against persons or property to intimidate or coerce a government, the civilian population, or any segment thereof, in furtherance .»of political or social objectives - 4نصه اإلنجليزي: « Terrorism is the unlawful use of violence and intimidation, .especially against civilians, in the pursuit of political aims - 5لفظه اإلنجليزي: «.»Terrorism violent action for political purposes الفرنسي: النص ّ -6 ّ
Le terrorisme est l’ensemble d’actes de violence (attentats, prises d’otages, etc.) commis par une organisation pour créer un climat d’insécurité, pour exercer un chantage sur
un gouvernement, pour satisfaire une haine à l’égard d’une .communauté, d’un pays, d’un système - 7توســعنا في ذلك في بحث نشــرناه في العدد التاســع والثمانين من مجلّة «الدوحة» بعنوان «اللّغة العربية واإلسالموفوبيا».
تأمالت
مرزوق بشير بن مرزوق
َّ المثقف موقف في عام 1974تولّى أحمد مختار امبو إدارة منظمة اليونسكو. وأحمد امبو مثقف وكاتب ووزير سابق لإلعالم والثّقافة في ال سياسي ًا كافح من أجل استقالل بلده (السنغال) .كان مناض ً وطنه ،وشهد عصره تغيرًا كبيرًا في توجه المنظمة ،حيث قاد مواجهة مكشوفة بين الواليات المتحدة األميركية المهيمنة مالي ًا وسياسي ًا ومنظمة اليونسكو ،وكان توجهه في هذه المواجهة التعددية الثّقافية بين شعوب األرض، هو التأكيد على ُّ واحترام ثقافات األمم ،والتفاعل الحر والمفتوح بين الثّقافات. وهذا ،بالطبع ،كان يخالف سياسة الهيمنة التي كانت تعرفها الواليات المتحدة األميركية في ذلك الوقت ،بسبب توجهات اليمين المتشّدد أيام حكم الرئيس (رونالد ريغان) ،وبلغ ذروة الصدام بين الطرفين عام 1980عندما رفضت أميركا تقرير لجنة (ماكبرايد) الذي كان يدعو لنظام دولي جديد عادل أكد تقرير ومتوازن لإلعالم واالتصال ،وحرية اإلعالم ،كما َّ حق االختالف والهيمنة ،ولقد لقي هذا التقرير لجنة (ماكبرايد) ّ موافقة وتأييد معظم الدول األعضاء في المنظمة ،باستثناء قررت االنسحاب من المنظمة ،وتجميد مساهمتها أميركا التي ّ المالية التي كانت تصل إلى % 25من موازنة المنظمة، حيث رأت أن السياسات الجديدة التي يدعو لها هذا التقرير سوف تسهم في إضعاف نفوذ أميركا وسيطرتها على مصادر المعلومات واألخبار وتدفقها في اتجاه واحد من أعلى إلى تمكن (مختار امبو) ،إبان واليته الثانية على أسفل ،ومع ذلك َّ منظمة اليونسكو ،وبدعم من معظم الدول ،من تجاوز تلك المرحلة دون التأثّر من خفض موازنة المنظمة. المرة كانت الثمانينيات، التقينا أحمد امبو مرتين في بداية ّ األولى بمكتبه في منظمة اليونسكو (ضمن وفد دولة قطر)، حيث تحدث عن سعادته بنتائج تقرير لجنة (ماكبرايد) حر ،يحرص على االنفتاح المتماشية مع طموحه كمثقَّف ّ
الثّقافي واإلعالم دون هيمنة أو سيطرة من القوى المتنفِّذة، وكان اللقاء الثاني أثناء زيارته لدولة قطر ،وكان ضمن البرنامج تخصيص زياره إلى إذاعة قطر حيث صحبناه في جولة داخلية ،وطلب منا إطالعه على مركز إعداد األخبار، وتوجه حا ًال إلى األجهزة المتعّددة الناقلة ألخبار الوكاالت ّ المتعددة ،وأذكر أنه نظر إلينا ،منبه ًا بأن هذا ما كان يخشاه ِّ ويتوقعه في وسائل إعالم معظم دول العالم الثالث ،وهو هيمنة وكالتين أو ثالث وكاالت كمصادر أساسية لنشر األخبار ،وأشار إلى وكالة (رويترز) ووكالة األنباء الفرنسية ووكالة (األسوشيتد برس) ،وجميعها وكاالت غريبة ،تعتمد عليها الوكاالت المحلية بشكل مطلق ،وأعاد السبب حينها بعدم اهتمام الوكاالت بالمراسلين الذين ينقلون الوقائع من أرض الحدث ،بينما يعتبر المراسل هو الركيزة األساسية في وكاالت األنباء الغربية. مر على تلك الزيارة ثالثة عقود تقريباً ،ولم يتغير واقع لقد ّ الحال (على األقل في الوطن العربي) ،باستثناء قناة الجزيرة، التي كان سر صعودها هو شبكة مراسليها المنتشرين في معظم مواقع األحداث الساخنة وبرامجها الحوارية. يتخل عن مبادئه أحمد امبو ،مثقَّف وصاحب موقف ،لم ّ أخَتلف الناس حولها أم اتفقوا) ،وكان ميدانه الحقيقي (سواء ْ هو منظمة اليونسكو ،ملتقى ثقافات العالم وتراثها وقيمها، وفي هذه الساحة واجه أقوى قوة مهنية مسيطرة على ثقافة وإعالم الشعوب ،وواجه امبو ذلك أحيان ًا بمساندة مثقفي العالم ومعظم األحيان لوحده .وأكيد أن المثقّف هو الموقف مؤسسات ثقافية في كثير من وليس الشخص ،لذلك تراجعت ّ البلدان عن أدائها ،عندما توالها موظفون أكثر من مثقّفين، خصوص ًا مثقف الموقف. 67
ملف
اللوحات الفنية للفنان -david agenjoإسبانيا
68
اليد تهدي وردة، وتضغط على الزناد متشــعبة ،الحصــر لهــا ،فهــي فــي دالالت اليــد ِّ يهمنــا الميثولوجيــا واألعــراف عجيبــة وغريبــة .مــا ّ أكثــر ،فــي هــذا الملـ ّ اليومي، فاعليتهــا فــي الســلوك ـف ّ ّ ـل غرابــة وعجابـ ًا مــا يصــدر عــن ومــع ذلــك فليــس أقـّ اإلنســان مــن أفعالهــا؛ فاليــد هــي واســطة مــا ينــوي شــر ...هــي صانعــة الحيــاة، فعلــه مــن خيــر أو ّ ومســؤولة عــن تحريــك مجريــات األمــور ومــآالت المصائــر ،هــي أداة االختيــار ومترجمــة العواطــف.. حجـ ًـة علــى مجــرم ،والعون إنقــاذًا كمــا لهــا البصمــات ّ تنفــذ ضــرب طفــل فــي مدرســة وإغاثـ ًـة ،وهــي التــي ِّ يتهجــى األبجديــة... ّ كمــا درجــت علــى ذلك ،في ملفّات ســابقة ،حول قيمة األشــياء والظواهــر مــن حولنــا ،تعــود «الدوحــة»، فــي هــذا الملـ ّ تأمــات، ـف عــن قيمــة اليــد ،إلــى طــرح ُّ ـن واألدب والفلســفة. مدخلهــا الثّقافــة َ والفـّ
69
اإلنترنــت ،أجهزة الكمبيوتر ،الهواتف واأللــواح الذكية خلفت تأثيرات جذرية على نمط الحيــاة وأســلوب التواصل ،بالشــكل الــذي تبدو فيه الحــدود القديمة للمــكان والزمان منهارة تحت سطوة التكنولوجيا الرقمية التي باتت شبه ضرورية في حياتنا اليومية.. والمتجددة باســتمرار لم يحدث الطفرة العميقة في مســألة لكن اســتخدامنا لهذه الوســائط الجديدة ِّ التواصل والسلوكات فحسب بل للجسد نصيب وافر من تأثيرات هذه األجهزة.
تغيرات اللمس والتناول عبدالله بن محمد
إن شكل استخدامنا أليدينا المشغولة يتغير باستمرار ،من حركات النسيج إلى الغزل إلى كتابة الرسائل النصية
70
تطل ــب األجه ــزة اإللكتروني ــة الرقمي ــة اس ــتخدام ًا جديــدًا لليــد ،ونتيجــة لذلــك الحــظ األطبــاء حــدوث مش ــاكل ف ــي أصاب ــع الي ــد والمعص ــم .وق ــد كان ــت التغييــرات علــى مســتوى األنســجة الصلبــة واللينــة لليـــد متوقعـــة بســـبب االســـتخدام الحركـــي لليـــد واألصاب ــع .بجان ــب ه ــذه المالحظ ــات ،اس ــتحضر األطبـــاء مقارنـــة تســـتدعي تطـــور أنمـــاط الحركـــة من ــذ التاري ــخ القدي ــم ،وعل ــى ه ــذا النح ــو س ــتصبح حــركات أيدينــا ،فــي نهايــة المطــاف ،مختلفــة علــى نحــو مــا حصــل فــي شــكل فــم اإلنســان بعد اســتخدام الســكاكين فــي تنــاول الطعــام ،الــذي غيــر تدريجيـ ًا حركــة القضــم؛ مــن الحافــة إلــى الحافــة إلــى العــض بالقواط ــع العلي ــا والس ــفلى... إن ش ــكل اس ــتخدامنا أليدين ــا المش ــغولة يتغي ــر باس ــتمرار ،م ــن ح ــركات النس ــيج إل ــى الغ ــزل إل ــى كتابــة الرســائل النصيــة .فــي الســابق كان الوالــدان علــى ســبيل المثــال مشــغولين بالحياكــة أو تصفــح الكتــب والصحــف ،بينمــا تحـّـوال اليــوم إلــى اإلبحــار والنق ــر عل ــى األزرار .ف ــي المن ــزل ،تش ــغل ألع ــاب الكمبيوتـــر اليديـــن واألصابـــع« ،مايـــن كرافـــت»، اللعبـــة األكثـــر نجاحـــ ًا فـــي العالـــم ،تتضمـــن يـــدًا غريب ــة عل ــى الشاش ــة تراف ــق الالع ــب أينم ــا ذه ــب. وكذلـــك «ليغـــو» التـــي اكتســـبت شـــعبية كبيـــرة ال تعــود للتســويق الذكــي فحســب ،بــل إلــى وظيفتهــا األساس ــية م ــن خ ــال تركي ــز العم ــل عل ــى اليدي ــن. عندمـــا نـــدرك أهميـــة الحفـــاظ علـــى أيدينـــا مشــغولة ،يمكننــا أن نبــدأ فــي التفكيــر فــي أســباب ه ــذه الض ــرورة الغريب ــة ،ونتس ــاءل ع ــن مخاط ــر األيـــادي المعطلـــة ووظيفـــة النشـــاط الـــذي يبقـــي األيــادي مشــغولة علــى الــدوام ،ومــاذا يحــدث عندمــا نمنــع مــن اســتخدام أيدينــا؟ حــاالت االنشــغال وتعكر
المــزاج وحتــى اليــأس التــي قــد نعيشــها تكشــف أن الحفــاظ علــى األيــادي مشــغولة ليســت مســألة نــزوة أو ترفي ــه ،ولكنه ــا تالم ــس ش ــيئ ًا م ــا ف ــي جوه ــر وجودن ــا ،وه ــذا ق ــد يقودن ــا إل ــى مفارق ــة عجيب ــة. والجــواب علــى التســاؤل الســابق هــو أننــا بحاجــة إل ــى أيدين ــا للقي ــام بأش ــياء متع ـ ِّـددة .أيدين ــا خلق ــت مــن أجــل خدمتنــا ،إنهــا مــن أدوات العمــل والتنفيــذ، التحك ــم ف ــي العال ــم ال ــذي يحّق ــق لن ــا تمكنن ــا م ــن ُّ ِّ رغباتنـــا .نرفـــع أيدينـــا فـــي التصويـــت ،للتوقيـــع عل ــى اتف ــاق ،للتأكي ــد عل ــى االتح ــاد ،والي ــد غالبــ ًا مــا تســتخدم لتمثــل صاحبهــا .وفــي أفــام األمــوات األحيـــاء وأفـــام فرانكشـــتاين نـــرى المخلوقـــات العجيبــة تمشــي ســيرًا علــى األيــادي وهــي مكبلــة. لك ــن ف ــي الوق ــت نفس ــه ،ق ــد ال تس ــتجيب أيدين ــا ألوامرنـــا أحيانـــاً .فـــي بعـــض القصـــص واألفـــام ق ــد تصب ــح أج ــزاء م ــن الجس ــم مث ــل العي ــن والق ــدم أو حتـــى األذن متحركـــة أو مملوكـــة ،وهـــو جـــزء بســيط بالمقارنــة مــع عــدد كبيــر مــن األمثلــة عندمــا تبــدأ اليــد -ســواء المرتبطــة بالجســد أو المنفصلــة مدمــر عنــه -فــي العمــل مــن تلقــاء نفســها ،وبشــكل ّ ف ــي معظ ــم األحي ــان .ف ــي أف ــام الرع ــب ،وعندم ــا تصب ــح أج ــزاء م ــن الجس ــم مملوك ــة ،عل ــى غ ــرار (أيــدي أورالك) أو (الميــت الشــرير) ،تصبــح األيــدي تابع ــة وخاضع ــة إلرادة بع ــض الق ــوى الش ــريرة، ب ــد ًال م ــن القدمي ــن والعيني ــن أو الف ــم .وف ــي معظ ــم قص ــص الخي ــال ،تعم ــل األي ــادي ف ــي تع ــارض م ــع اإلرادة الواعيــة للشــخص ،يمكــن أن ترتكــب جريمــة قتــل أو انتقــام راودت صاحبهــا فــي وقــت مــا ،لكــن المجتم ــع ال ــذي تعي ــش في ــه ح ــال دون ذل ــك .ف ــي يتعيـــن علـــى الفنـــان الكتـــاب الكوميكـــي (اليـــد)ّ ، (الـــذي يلعـــب دوره مايـــكل كيـــن) أن يكتشـــف أن
المذبح ــة الت ــي ارتكب ــت ض ــد أولئ ــك الذي ــن ظلم ــوه كانــت فــي الحقيقــة مــن عمــل يــده المقطوعــة .وفــي تجســـد األيـــادي إرادة ســـيناريوهات أخـــرى ،قـــد ّ شــخص آخــر بالكامــل ،ربمــا أحــد األرواح أو الجهــة المانح ــة للعض ــو الم ــزروع ف ــي الجس ــد. لك ــن ه ــل ال ت ــزال مث ــل ه ــذه التجاذب ــات قائم ــة الي ــوم؟ ف ــي الوق ــت ال ــذي ق ــد نس ــعى في ــه للتركي ــز علـــى مضمـــون كالم محدثنـــا ،تدغدغنـــا أيدينـــا إلرســال رســالة نصيــة ،لفتــح بريدنــا اإللكترونــي، لتحديـــث صفحتنـــا علـــى الفيســـبوك ...ومعظـــم األشــخاص يشــتكون مــن إدمانهم وتعلُّقهــم بهواتفهم وحواســيبهم اللوحيــة ،وكأن أيديهــم تفلــت منهم وال تتوقــف عــن لمســها .أيدينــا ،رمــز قوتنــا وملكيتنــا، وجــزء مــن جســدنا تفلــت منــا دائمـاً .فــي فيلــم ديزني (المجم ــد) ،ال ــذي حّق ــق نجاح ـ ًا منقط ــع النظي ــر ف ــي ّ كل األوقــات ،يســلِّط المخــرج الضــوء علــى معضلــة ّ الفتــاة (إلســا) التــي ال تتوّقــف يداهــا عــن فعل أشــياء كل مـــا تلمســـه إلـــى غصبـــ ًا عنهـــا، وتحـــول يدهـــا ّ ّ جليــد ،والقصــة تتعّلــق بجهودهــا للســيطرة ،وربمــا القب ــول به ــذا الج ــزء المتم ـّـرد م ــن جس ــدها. فــي ســنة 2015عندمــا أخبــر الرئيــس األميركــي األســـبق جيمـــي كارتـــر العالـــم أنـــه يعانـــي مـــن ســرطان الدمــاغ ،قــال إن األمــور أصبحــت اآلن «بيــد اهلل» .وفــي إشــارة للقــوة واإلرادة ،اســتخدم عبــارة الي ــد ب ــد ًال م ــن العق ــل أو الدم ــاغ ،كم ــا ل ــو أن الي ــد ق ــد أصبح ــت ج ــزءًا قائ ــم ال ــذات .وق ــد تقودن ــا ه ــذه الصـ�ورة إلـ�ى المشـ�هد األخيـ�ر فـ�ي فيلـ�م �The Ter minatorفنجــد الســايبورغ الــذي عــزم على القضاء علــى ســارة كونــور يتقــدم إلــى األمــام بيــده الطويلة
دم ــر بالكام ــل .ف ــي المس ــحوقة ،رغ ــم أن جس ــده ق ــد ّ الواقـــع ،ســـتنتج هـــذه اليـــد الوحيـــدة التـــي تمـــت المحافظ ــة عليه ــا ،ف ــي األج ــزاء األخ ــرى م ــن ه ــذه السلســلة ،التقنيــات الجديــدة القاتلــة فــي المســتقبل. ف ــي أف ــام الخي ــال العلم ــي والتجس ــس والمغام ــرة اكتس ــبت الي ــد قيم ــة خاص ــة وق ــوة خارق ــة .ويمك ــن تفس ــير ذل ــك بقل ــق البش ــر م ــن الق ــوة الت ــي تفوق ــت بهــا اآلالت علــى اإلنســان ،لكــن هــل يمكــن اعتبارهــا أيضــ ًا محاول ــة لتكري ــس االعتق ــاد ف ــي الي ــد كق ــوة ومرك ــز تحك ــم مطل ــق؟ وفــي جانــب آخــر يصــف علــم األعصــاب متالزمــة «الي ــد الغريب ــة» ،بالحال ــة الت ــي يمك ــن أن تع ــارض فيهــا يــد واحــدة إرادة اليــد األخرى للشــخص الواحد. وتطلـــق بعـــض الدراســـات البحثيـــة علـــى الحالـــة مصطلـــح «متالزمـــة الدكتـــور ســـترينجغلوف» - بع ــد ص ــدور فيل ــم (الدكت ــور س ــترينجغلوف) ال ــذي اســتعمل فيــه الممثــل البريطانــي بيتــر ســيلرز يــده اليســرى لوقــف اليــد اليمنــى مــن أداء التحيــة النازيــة فــي عــدة مناســبات .وتمتلــئ تقاريــر علــم األعصــاب باألمثلــة التــي تبــدو فيهــا اليديــن فــي تنافــر تــام :يــد تغلــق كتابـ ًا وأخــرى تحــاول فتحــه ،واحــدة تشــعل س ــيجارة واألخ ــرى تطفئه ــا ،ي ــد تخت ــار برنامجــ ًا تليفزيوني ـ ًا واألخ ــرى تح ــاول تغيي ــر القن ــاة .وف ــي أمثل ــة أكث ــر عدواني ــة ،ي ــد تح ــاول خن ــق ش ــخص واليـــد األخـــرى تحـــاول تخفيـــف قبضتهـــا ،أو يـــد تدفــع بالغــذاء إلــى الفــم فــي حيــن تحــاول األخــرى صّدهـــا ،ويـــد تحـــاول إغـــراق مريـــض واألخـــرى تس ــعى لردعه ــا.
معظم األشخاص يشتكون من إدمانهم وتعلُّقهم بهواتفهم وحواسيبهم اللوحية ،وكأن أيديهم تفلت منهم ،وال تتو َّقف عن لمسها
71
أداة الضيق ،من خالل طاقات الصوت عنده ،فابتدع اللّغة ً انتشــر اإلنســان خارج ملكوته ِّ التطور في الزمان ،فــكان الوجه واجهة العقل للفكــر والتحليل المنطقي ،ورصــدًا إليقاع ّ وعضوه المباشر ،ولكنه امتد خارجه ،من خالل اليد ،أيضاً ،فكانت اإليماءات لغة موازية يخط ،على جدران كل أشــكال الغرافية التي تعلَّم ،من خاللها ،اإلنســان كيف يكتب وكيف ّ انبثقت عنها ّ كل انفعاالته. الكهــوف وعلــى أديــم األرض والرمــال ،ما اســتوطن وجداناً ،ال يقــول دائم ًا بالصــوت ّ المتخيل واألســطوري في حياته :يتعلَّق األمر بما ُيطلق عليه «الزوج فكان ،بذلك ،ينفتح على عوالم َّ فاعليتان الوظيفــي»( )2الــذي يوازي بين اللّغة والوجه ،من جهة ،وبين اليــد واألداة ،من جهة أخرى؛ َّ مختلفتان في الوجود واالشتغال ،متكاملتان في الطاقة الرمزية والمردود اإلبالغي« .ففي البدء كانت وحد بين الصوت واليد ،في البداية ،أيض ًاً»(.)3 الكلمة ،وكان الفعل؛ وذاك ما َّ قد تكون اليد هي أساس انفصال اإلنسان عن الطبيعة وسبيله نحو التأنسن ،وقد تكون هي شرطه األول واألخير، فمن يملك يدين يملك القدرة على تحويل األفكار إلى حقائق
72
تعلَّم كيف يمشي ()1 فأطلق يديه سعيد بنكراد وم ــع ذل ــك ،ال ش ــيء ي ــوازي الي ــد ف ــي القيم ــة النفعيـــة والتعبيـــر الرمـــزي علـــى حـــد ســـواء، كل المقاص ــد إنه ــا عض ــو األعض ــاء ومرك ــز لتنفي ــذ ّ والنوايــا .فهــي الفاصــل الدينامــي بيننــا وبيــن عالــم يأتينــا عبــر الحــواس فــي المقــام األول ،فبهــا نقيــس المســافات وبهــا نحتمــي مــن األخطــار وإليهــا نســتند
كل الشــرور؛ وباليد نتقزز ونصد وبواســطتها نتقي ّ ونغ ــري ونتهك ــم ونن ــذر ونح ــذر ونأم ــر وننه ــي؛ كل األحاســيس ،ففيها الحزن وهــي مثــوى ومنطلق ّ والف ــرح والس ــعادة واالنط ــاق واالنكم ــاش ،وه ــي كل النوعيــات ،الخشــن والناعــم والحريــري موطــن ّ والمدبــس والرقيــق واللين ،فالــَـملْمس فيها وحدها،
أم ــا العي ــن فتكتف ــي برص ــد م ــا َيْمُث ــل صامتــ ًا ف ــي كل المناف ــذ الحس ــية المحي ــط؛ وه ــي الراب ــط بي ــن ّ أيضـاً ،إنهــا الــُـمَنفِّذ لغايــات العيــن والموجــه ألمــداء تتكلــم حيــن تصمــت العيــن ،وتصرخ الصــوت ،إنهــا َّ كل وي ِســم ّ حيــن َ تنفــد الكلمــات؛ وهــي مــا يخصــص َ حــاالت اإلبــاغ اللفظــي ،فجــزء كبيــر مــن مدلــوالت التواصــل تحـ ِّـدده اليــد ،أمــا مــا َيْف ُضــل منهــا فمــودع فــي ســياقات القواميــس والوضعيــات المســكوكة. لذلـــك قـــد تكـــون اليـــد هـــي أســـاس انفصـــال اإلنس ــان ع ــن الطبيع ــة وس ــبيله نح ــو التأنس ــن، وقــد تكــون هــي شــرطه األول واألخيــر ،فمــن يملــك يديــن يملــك القــدرة علــى تحويل األفــكار إلى حقائق كل الطبائع« .فبدون اســتعمال تســتوعبها أفعال من ّ اليديــن مــا كان لإلنســان أن يصــل إلى مــا وصل إليه أبــداً» (دارويــن) .إن اليد واســطة مثلــى ،إنها توازي بي ــن أفع ــال اإلنس ــان وبي ــن قدرات ــه العقلي ــة ف ــي تنظيــم تجربتــه الذهنيــة وتحديــد المحتمل الســلوكي وممكنــات التبــادل االجتماعــي فــي الوقــت ذاتــه .إنها الوجــاه( )4الــذي الفكــر فــي وجهــه العملــي ،أو هــي ِ يت ــم م ــن خالل ــه التب ــادل بي ــن المفهوم ــي والعمل ــي تجس ــد فعليــ ًا م ــا يفك ــر في ــه فين ــا ،ذل ــك أن الي ــد ِّ الذه ــن ف ــي الممك ــن المفهوم ــي .بعب ــارة أخ ــرى ،إن «الي ــد فع ــل :إنه ــا ُتْمس ــك وتب ــدع وتفك ــر ( )...وم ــن خاللهــا تتأمــل العــادة والغريــزة وإرادة الفعــل فــي اإلنس ــان( .)5فلي ــس هن ــاك أح ــن م ــن ي ــد تداع ــب، وتتوعــد». وليــس هنــاك أقســى مــن أخــرى تهـ ِّـدد َّ «يداً» فــي ِ العْبِرية، وليــس غريبـ ًا أن تكــون كلمــة َ الدالــة علــى المعرفــة ،مشــتقة مــن اليــد التــي تعيــن ف ــي ه ــذه اللّغ ــة عض ــو الي ــد ذاته ــا .ولي ــس غريبــ ًا العربيـــة مســـتودع ًا للفعـــل أيضـــ ًا أن تكـــون اليـــد َ والحركـــة والديناميـــة واإلبـــداع ،وهـــي صفـــات ـور داخله ــا .لق ــد قام ــت الي ــد، الحي ــاة وح ــاالت التط ـّ مـــن خـــال ذلـــك كلـــه ،بالنفـــخ فـــي العالـــم مـــن روحهــا ،فأصبــح العالــم إنســانياً .وهــو مــا يعنــي أن ب ــؤرة اإلنس ــاني مودع ــة ف ــي الي ــد وحده ــا ،أم ــا األعض ــاء األخ ــرى فه ــي مص ــدر لالنتش ــاء بالحس ــي فــي الطبيعــة .بعبــارة أخــرى ،إن اليــد ناطقــة فــي ذاته ــا وناطق ــة ف ــي غيره ــا ،فم ــن خالله ــا وحده ــا كل األعض ــاء .ولي ــس لألص ــم األبك ــم س ــوى تتكل ــم ّ كل شـــيء ،ففيهـــا يضـــع القـــول اليـــد أداة لقـــول ّ والمقــول وصيــغ القــول فــي الوقــت ذاتــه :االنخــراط ف ــي الملف ــوظ أو االنفص ــال عن ــه أو التمل ــص م ــن تبعات ــه .فالي ــد عن ــده ص ــوت «صام ــت» يق ــول م ــا تقولــه اللّغــة فــي التســمية والفصــل بيــن االنفعــاالت والتمييــز بينهــا .إنــه يفــرح ويحــزن ويقبــل ويرفض ويرغ ــب بالي ــد وحده ــا. ليــس للجســد مــأوى آخــر غيــر اليــد ذاتهــا ،ففــي غيابهــا سـُـي َض ِّيع جــزءًا مــن ممكناتــه فــي التواصــل
والدالل ــة والفع ــل .ففيه ــا ال ــدفء والب ــرودة والص ــد واالســتقبال الحســن .بــل قــد ُيختصــر اإلنســان كلــه مجـــرد أداة عنـــد فـــي اليـــد وحدهـــا حيـــن ُيصبـــح ّ غي ــره (الي ــد اليمن ــى) .وق ــد تك ــون الي ــد بذل ــك رم ــزًا للوجـــود ذاتـــه ،إنهـــا حامـــل للســـلب واإليجـــاب، م ــا يش ـ ِّـكل ش ــرط الوج ــود الزمن ــي عل ــى األرض: منهــا اشـُـتق اليســار واليميــن فــي السياســة والديــن واإليديولوجيــا؛ وهــي مصــدر اليانــغ واليينــغ فــي التقلي ــد الصين ــي الفاص ــل بي ــن الصال ــح والطال ــح فــي القيــم واألخــاق :المشــمس والظليــل ،والذكــر واألنثـــى ،والولـــوج واالســـتيعاب .وذاك أيضـــ ًا هـــو الفاصـــل بيـــن األخـــذ ( اليســـرى) و«العطـــاء» (اليمنـــى) وبيـــن «الســـر» (المضمومـــة) و«الثقـــة والحقيقة»(المبســوطة) ،وبيــن «األعلــى» (الكبريــاء والعظم ــة) واألس ــفل (ال ــذل والمس ــكنة) .فف ــي ه ــذه الحــركات ُت َّ كل التقابــات التــي تحـ ِّـدد مضمــون كثــف ّ ـور داخله ــا. ـ التط ـرط الحي ــاة وش ـ ّ اس ــتنادًا إل ــى ذل ــك ،ال ُيش ـّـكل الـ ـ َـم ْسك واللم ــس فيهـــا ســـوى وظيفـــة أوليـــة ال قيمـــة لهـــا قياســـ ًا إلـــى مخزونهـــا الرمـــزي .إنهـــا ليســـت أداة ضمـــن أدوات أخ ــرى« ،إنه ــا أداة األدوات ،م ــا يح ــل مح ــل كل شــيء ،إن اإلنســان يتمتــع بيديــن ،ألنــه أذكــى ّ ـكل مــا الكائنــات علــى اإلطــاق» حســب أرســطو .فـ ّ ف ــي الك ــون ل ــه ي ــد ،ي ــد اهلل وي ــد الق ــدر وي ــد المن ــون وكل األيـــادي ويـــد القاتـــل ويـــد الكريـــم والمانـــح ّ األخــرى« .فوحــده الكائــن المتكلــم ،أي الكائــن الــذي يفك ــر ،يمل ــك ي ــدًا به ــا ينج ــز أعمال ــه» ( هايدغ ــر ). وف ــي الي ــد تث ــوي ثيم ــات الوج ــود الكب ــرى أيضــاً، فهــي التملــك والتخلي واإلباحة والمصــادرة والمنع والهيمن ــة :ف ــي مل ــك الي ــد ،ووض ــع الي ــد ورفعه ــا، وطلــب اليــد أو ســحبها وبســط اليــد .وفيهــا الحجــم واالمت ــداد وه ــي الفاص ــل بي ــن كائني ــن. لق ــد تس ــربت الي ــد م ــن خ ــال موقعه ــا ذاك إل ــى كل حـــاالت النفـــس ،فهـــي كل الصفـــات وإلـــى ّ ّ الخي ــر والج ــود والعط ــاء والب ــذل ،وه ــي الس ــلطة والجب ــروت والرحم ــة والقس ــوة .أو ه ــي «النعم ــة والقـــوة والقـــدرة والملـــك والســـلطان والطاعـــة والجماعـــة واألكل ،وهـــي النـــدم واالستســـام كل ش ــيء يم ــر عبره ــا، والتوبة»(لس ــان الع ــرب)ّ . وتمســـك وتضـــرب وتغـــري وتداعـــب إنهـــا تحمـــل ُ وتتوعـــد وتنـــادي وتتشـــبث .وهـــي الســـبيل إلـــى مواطـــن اللـــذة .إنهـــا تـــرى وتســـمع وتتحســـس وتغ ــري وتص ــل العي ــن بالعي ــن ،وته ــدي بواط ــن ُ األمــور إلــى ظواهرهــا .فليــس لألعمــى ســوى يديــه لك ــي ي ــرى ،ولك ــن العي ــن عن ــد الرائ ــي ال يمك ــن أن تـــرى ّإل بعـــون اليـــد .إنهـــا «وجـــه بـــا عيـــن وال ص ــوت ،ولكنه ــا ت ــرى وتتكّل ــم»( .)6إنه ــا تغط ــي علـــى الكلمـــات أو تفضحهـــا.
ليس للجسد مأوى آخر غير اليد ذاتها، ففي غيابها سي ُ َ ضيِّع جزء ًا من ممكناته، في التواصل، والداللة والفعل
73
استطاعت التخلّي عن البيولوجي فيها، لكي تصبح حاملة لقيم ثقافية ،هي ما يح ِّدد جزء ًا من هويّة اإلنسان
74
لذلــك لــم يكــن للحيــوان ســوى ســاح واحــد لــم َي ْســع إلــى تغييــره أبــداً ،وذاك مــا تقــوم بــه قوائــم األســد والنمــر والضبــاع ،ومــا تبدعــه أظافــر القــط، فهــذه كانــت موجهــة منــذ البدايــة لكــي ال تقوم ســوى به ــذه الوظيف ــة وحده ــا ،أم ــا اإلنس ــان ف ــا يتوق ــف عــن تنويــع أســلحته ألن اليــد عنــده مطواعــة قابلــة للتمـ ُّـدد واالنكفــاء والتثنــي .لقــد تأنســنت يــده قبــل أعضائه األخرى ،أو هي وحدها اســتطاعت التخلي ع ــن البيولوج ــي فيه ــا ،لك ــي تصب ــح حامل ــة لقي ــم ثقافي ــة ه ــي م ــا يح ـ ِّـدد ج ــزءًا م ــن هوي ــة اإلنس ــان. ـا بينن ــا وبي ــن م ــا يأتين ــا م ــن إن الي ــد ليس ــت فاص ـ ً ـكل التصنيفــات خارجنــا فحســب ،بــل هــي مصــدر لـ ّ أيض ـاً :هن ــاك تف ــاوت بي ــن ي ــد الف ــاح وي ــد العام ــل ويــد الحضــري والبــدوي ،ويــد المــرأة ويــد الرجــل؛ فــي اليــد طعــم التــراب وفيهــا الدقــة والعنــف والغنج كل الن ــاس ،ولكنه ــا ال أيض ـاً .إن الي ــد واح ــدة عن ــد ّ تنص ــاع إال للثّقاف ــي فيه ــا؛ فه ــي ال ُتَنف ــذ برنامجــ ًا مودع ـ ًا ف ــي الجين ــات ،ب ــل تكت ــب نصوص ـ ًا تس ــتمد مضمونهــا مــن الثّقافــة ال مــن التشــكيل الحركي فيها. إننــا فــي الكثيــر مــن الحــاالت «نتكلــم بأفواهنــا، ونصمــت بأيدينــا»( ،)7تمامـ ًا «كمــا نــرى فــي عوالــم ونتكلــم فــي عوالــم أخــرى» (دوبــري) .وتلك حاالت «االصطــدام» بالعالــم ،فنحــن موجهــون مــن داخلنا، ـا لكــي نحتضــن مــا يلتقطــه الوعــي مــن خارجــه دليـ ً عل ــى وج ــوده ف ــي العال ــم .وللي ــد ف ــي ذل ــك أرق ــى األدوار ،مــن خاللهــا نحســه فينــا ومــن خاللها يحس بنــا داخلــه ،ذلــك أن «اإلنســان يتنفــس العالــم مــن خ ــال يدي ــه ،ويم ــد أصابع ــه ليمس ــك بالالمرئ ــي ـكل ح ــاالت االنتش ــاء بالك ــون ف ــي محيط ــه»( .)8ف ـ ّ مودع ــة ف ــي الي ــد :األي ــدي المرفوع ــة إل ــى الس ــماء ابته ــا ًال إل ــى اهلل أو استس ــام ًا أو خوفــ ًا م ــن خط ــر داهـــم ،واأليـــدي التـــي تســـتقبل نـــور الشـــمس أو تتقـــي وهجـــه ،واأليـــدي التـــي تحتضـــن العائـــد، أو تتس ــلل إل ــى المخف ــي ،وتل ــك الت ــي تداع ــب م ــاء األنهــار ،أو تمســك بجــذوع النخــل .ال تتعـ َّـرف اليــد كل ه ــذه الح ــاالت عل ــى محيطه ــا ،إنه ــا تثب ــت ف ــي ّ انفصاله ــا عن ــه ووجوده ــا في ــه ف ــي الوق ــت ذات ــه. كل حــاالت النفــس التواقــة لذلــك احتضنــت اليــد ّ إلــى ســكينة فــي العالــم أو طمأنينــة فــي الــروح :في اليــد الســام والخشــوع والتوســل واالبتهــال .فنحــن نصلــي بأيدينــا ،ونتوجــه إلــى اهلل مــن خاللهــا ،فلــن يديــن تصوغــان التوســل يتكلــم الفــم إال مــن خــال ْ وتكشــفان عــن نوايــا النفــس وقصدهــا .وتلــك هــي الحــاالت التــي تشــير إليهــا المــودرا( )9فــي التقليــد السانســـكريتي ،حيـــث تصبـــح اليـــد هـــي المـــادة الت ــي ُيص ــاغ منه ــا م ــا يحي ــل عل ــى مجموع ــة م ــن تتجلــى األحاســيس أو الوضعيــات ،كمــا يمكــن أن َّ فـــي الرقـــص واليوغـــا وفـــي طقـــوس العبـــادة أو
التمثي ــل الرم ــزي لش ــخصيات بعينه ــا .فلي ــس ب ــوذا س ــوى سلس ــلة م ــن الح ــركات ه ــي مجم ــل حيات ــه ومراحلهــا المتنوعــة .وليــس للفنــان ســوى يديــه، إنــه يكتــب باليــد ،ويرســم باألصابــع وبهــا وحدهــا يصـــوغ مادتـــه .إن اللوحـــة إبـــداع «يـــدوي» ،فـــا ش ــيء يمك ــن أن يس ــتقيم ف ــي اللوح ــة خ ــارج م ــا يمي ــز حقيق ــة ت ــوده العي ــن وتنف ــذه الي ــد .وذاك م ــا ِّ الوج ــود ع ــن عب ــث األح ــام» ،إن الحال ــم ال يب ــدع َفّن ـاً ،ألن الي ــد عن ــده تك ــون نائم ــة .إن الف ــن ينت ــج ع ــن الي ــد فه ــي أداة الخل ــق»( .)10وج ــزء كبي ــر م ــن المس ــرح الميم ــي تصوغ ــه الي ــد وحده ــا ،فبدونه ــا س ــتظل الكثي ــر م ــن ح ــركات جس ــد الراق ــص ب ــدون معن ــى. ومـــن هـــذه القـــدرة علـــى صياغـــة الكـــون فـــي يتعل ــق األم ــر ح ــركات الي ــد انبثق ــت لغ ــات عدي ــدةَّ ، بالتفكي ــر باألصاب ــع والك ــف والقبض ــة :الش ــهادة والق َس ــم والق ــدر والق ــوة واالته ــام واإلش ــهاد .وف ــي َ خطـــوط اليـــد ُتختصـــر المصائـــر« :خـــط الحيـــاة» و«خ ــط ال ــرأس» و«خ ــط القل ــب» و«خ ــط الق ــدر»؛ وفيهـــا تتكثـــف الجـــودة فـــي المعيـــش والمواهـــب واإلبـــداع والصحـــة والمـــزاج والطابـــع .إن قـــدر اإلنســـان مكتـــوب فـــي يـــده ،وفـــي اليـــد خطـــوط تهــدي إلــى المرصــود مــن الكنــوز .وفيهــا «خميســة» الدال ــة عل ــى الم ــرأة المتفوق ــة وعل ــى ص ــد العي ــن وعلــى فاطمــة الزهــراء .إنهــا شــعار دال علــى الموت والحي ــاة ف ــي الوق ــت ذات ــه. لذل ــك ق ــد تأت ــي البدائ ــل االصطناعي ــة بالعج ــب العج ــاب ،لكنه ــا ل ــن تح ــل محله ــا أب ــداً ،إنه ــا ف ــي ُ حاجــة دائمـ ًا إلــى عضــو األعضــاء أو أداة األدوات، الي ــد الت ــي وحده ــا تمن ــح اآلالت ،ع ــن بع ــد أو ع ــن ق ــرب ،ق ــدرة االش ــتغال. هوامش: - 1العبــارة مســتوحاة مــن روايــة نجيــب محفــوظ ثرثــرة ف ــوق الني ــل ،حي ــث يق ــول أني ــس زك ــي وه ــو يح ــاور نفس ــه ف ــي الصفح ــة األخي ــرة م ــن الرواي ــة« :أص ــل المش ــاكل ق ــرد، تعل ــم كي ــف يس ــير عل ــى قدمي ــه فح ـ َّـرر يدي ــه». َّ - 2انظر: André Leroi-Gourhan :Le geste et la parole, éd Albin Michel,1964, p262 et suiv. 3 - Henri Focillon : Vie des formes, éd P U F 9 édition, 2000,p.109. الوجاه 4 - ِ interface. 5 - Henri Focillon : Vie des formes, p.104. - 6المرجع السابق نفسه ص .103 - 7المرجع السابق نفسه ص .109 - 8المرجع السابق نفسه ص .107 mudra - 9كلم ــة م ــن اللّغ ــة السنس ــكريتية ،ت ــدل عل ــى سلســـلة الحـــركات الرمزيـــة التـــي تتخذهـــا اليـــد فـــي حـــاالت ـــن ،أو التأمـــل ،أو العبـــادة. َ الف ّ 10 - Henri Focillon : Vie des formes, p.112.
مجرد عضو في الجســد اإلنســاني فحســب ،بل تّتســع برمزيتها لتحتل ليســت اليد ّ وفولكلورياً ،وال ينبغي -ونحن نتأمل أنثربولوجي ًا نطل عليها مكانــ ًا كبيراً ،حين ّ ّ ّ عما تفيض به اللّغة عليها من دالالت تلقي بظاللها على عناصر مكانها -أن نعزلها ّ المأثور والتراث الشعبي كافّة.
مفاتيح اليد مسعود شومان ترتبـــط الحـــرف والمهـــن باليـــد ،فيســـمونها بالح ــرف اليدوي ــة ،وتعّل ــى الي ــد م ــن قدره ــا حي ــن تضفــي علــى قطعــة الســجاد أو الخشــب أو الحريــر بصم ــة جمالي ــة ،فيقول ــون عل ــى الصان ــع الماه ــر «يــده تلــف فــي الحرير» .وفــي المعتقدات الشــعبية،
توجــه اليــد بأصابعهــا الخمســة فإنمــا تمارس حيــن َّ ـا لــدرء الحســد والعيــن الشـّـريرة ،وقــد صــارت فعـ ً ص ــورة الي ــد الت ــي تتوس ــطها العي ــن «التخمي ــس» أيقونـــة لصـــد العيـــن وطاقاتهـــا الشـــريرة ،وكأن «تخمـــس» فإنهـــا تواجـــه طاقـــة كـــف اليـــد حيـــن ّ
في المعتقدات الشعبية، توجه حين َّ اليد بأصابعها الخمسة فإنما تمارس فع ً ال لدرء الحسد والعين الشرّيرة
75
تتوجـــه حاقـــدة أو حاســـدة، واعيـــة أو ال واعيـــة ّ لــذا «فقــد وضعهــا المصريــون علــى العربــات وفــي المن ــازل ،وصنعه ــا الفالح ــون م ــن س ــنابل القم ــح لتوض ــع عل ــى واجه ــة المن ــزل لتتلّق ــى إش ــعاعات العي ــون الحاس ــدة وتلق ــي به ــا بعي ــدًا ع ــن المن ــزل وأهلـــه ،كمـــا طبـــع المصريـــون أكفهـــم علـــى الحوائ ــط وعل ــى العرب ــات بع ــد أن غمس ــوها ف ــي لـــكل مـــؤذ دم الذبائـــح واألضاحـــي لتقـــف مصـــدًا ّ وحاقــد ،وتتكاثــر األمثــال الشــعبية التــي تســتخدم الي ــد بوصفه ــا مج ــازًا رئيس ـ ًا فيم ــا يتعّل ــق بالعم ــل والعطـــاء والبخـــل واإلمســـاك باألشـــياء والقـــدرة وعلـــو الهامـــة واإلتيـــان بالخيـــر ،والضعـــف، والجماعـــة ،واالتحـــاد ...إلـــخ ،ويمكننـــا بنظـــرة عجلــى علــى بعــض األمثــال والتعبيــرات الشــعبية رؤيـــة االتســـاع الداللـــي الـــذي تضفيـــه الجماعـــة
ربطت الجماعة الشعبية بين اليد التي ال تعمل، والنجاسة. وضمن ًا ،فإن اليد التي تعمل تتَّسم بالطهارة
76
عل ــى الي ــد وم ــا تفعل ــه ،ونرص ــد ف ــي ه ــذا الس ــياق مجموع ــة منه ــا: اإلي ــد قصي ــرة والعي ــن بصي ــرة -اإلي ــد الل ــيالبطال ــة م ــا تق ــدرش عل ــى قطعه ــا بوس ــها -اإلي ــد َّ نجســة -طــول مــا إيــدي فــي بقهــم هــا أفضــل عمهم- عصفــور فــي اليــد ،وال عشــرة علــى الشــجرة -إيــده مليان ــة -إي ــده فاضي ــة -إي ــده تتل ــف ف ــي حري ــر - إي ــد عل ــى إي ــد تكي ــد -إي ــد عل ــى إي ــد تس ــاعد -إي ــده ســخية -مــا باليــد حيلــة. إن اليــد تختــزل العوالــم الثّقافيــة التــي تعيشــها الجماعــة الشــعبية ،وتعكــس مواقفهــا ممــا يواجههــا فــي الحيــاة ،فقصــر اليــد يعنــي عــدم القــدرة علــى الفعــل ،ويقتــرن ذلــك برؤيــة العيــن للحالــة ،وهنــا يخت ــزل المث ــل ح ــاالت متع ـ ِّـددة تش ــير إل ــى وق ــوف الشـــخص عاجـــزًا أمـــام الظـــروف فتقـــدم إقناعـــ ًا مجازي ـ ًا للط ــرف اآلخ ــر ك ــي يتس ــامح أو يتعاط ــف كل يــد أو يقــدم دعم ـ ًا لهــذه «اليــد القصيــرة» ،وألن ّ له ــا صفاته ــا وقدرته ــا ،ف ــإن الجماع ــة تس ــتخدمها ـا ،فالي ــد الت ــي ال تس ــتطيع بوصفه ــا مج ــازًا مرس ـ ً القض ــاء عليهــا ،نظ ــرًا لم ــا تمتلك ــه م ــن قــوة أو م ــا تحــوزه مــن ثــروة أو ســلطة ،فمــا عليــك ،انصياع ًا لقوانيــن الحيــاةّ ،إل أن تقبلهــا. كمـــا ترتبـــط اليـــد بالعمـــل ،لـــذا فقـــد ربطـــت الجماعـــة الشـــعبية بيـــن اليـــد التـــي ال تعمـــل والنجاس ــة ،وضمن ـ ًا ف ــإن الي ــد الت ــي تعم ــل تتس ــم بالطه ــارة ،وه ــو رب ــط يجع ــل م ــن العم ــل عب ــادة، والعب ــادة ال تت ــم ّإل ف ــي أج ــواء الطه ــر والصف ــاء، وألن النصــوص الشــعبية الشــفهية تمتلــك تماســك ًا تســيجه منظومــة قيــم الجماعة وعاداتهــا وتقاليدها ومعتقداتهــا فإنهــا تربــط بيــن الطاعــة واالمتــاك، بي ــن المكان ــة والمق ــدرات االقتصادي ــة ،فم ــن يمل ــك أقـــوات النـــاس ،والمنـــح والمنـــع فإنـــه يكتســـب الس ــطوة والج ــاه والق ــدرة طـــوال فت ــرة امتالك ــه وقدرت ــه عل ــى التأثي ــر عل ــى األط ــراف األضع ــف أو يتأكــد ذلــك حيــن نســمع المثــل األكثــر احتياجـ ًا لــهَّ ، الشـــعبي الـــذي يســـتخدم اليـــد بوصفهـــا األعلـــى، ألنه ــا األث ــرى والق ــادرة عل ــى اإلطع ــام «ط ــول م ــا إي ــدي ف ــي بقه ــم ه ــا أفض ــل عمه ــم» ،ويتس ــق ه ــذا ـردده الجماعــة «اطعــم الفــم المثــل مــع مثــل آخــر تـ ّ تســتحي العيــن» ،واليــد فــي عــرف أبنــاء الجماعــة الشــعبية هــي مكمــن األحــام والممســكة بالثــروة، والباطشــة حيــن تواجــه األعــداء ،فمــا فــي اليــد هــو مــا تمتلكــه ،أمــا مــا يخــرج عنهــا فــا ســيطرة عليه، ـرددون «عصفــور فــي اليــد ،وال عشــرة لــذا نجدهــم يـ ّ عل ــى الش ــجرة» ،وتتس ــع دالالت الي ــد لتش ــير إل ــى
الوفــرة والقــدرة علــى العطــاء وديمومــة االمتــاء، فيقولــون «إيــده مليانــة» ،أمــا مــن يأتــي خاليـ ًا مــن العطاي ــا والهداي ــا ،ألن ــه ال يمل ــك حاج ــة أو م ــاالً، أو ألنــه آثــر البخــل علــى العطــاء ،فإنهــم يقولــون: «إيـــده فاضيـــة» كمـــا تســـم الجماعـــة المهـــرة مـــن الصن ــاع والحرفيي ــن بالجواه ــر الثمين ــة الت ــي الب ــد م ــن الحف ــاظ عليه ــا ،ل ــذا فإنه ــم يقول ــون ف ــي م ــدح كل ماه ــر ف ــي حرفت ــه «إي ــده تتل ــف ف ــي حري ــر»، ّ كمــا تــدرك الجماعــة معنــى اجتمــاع األيــدي لمواجهة األعــداء ،فكمــا أن المواجهــة الفرديــة ممثلــة فــي اليــد الواح ــدة ال تق ــوى عل ــى المواجه ــة ،ب ــل ال تق ــوى حتــى علــى التصفيــق «إيــد لوحدهــا مــا تصقفــش»، أي اليـــد الواحـــدة ال تملـــك القـــدرة علـــى إحـــداث الص ــوت ،بينم ــا اجتم ــاع األي ــدي يجع ــل الجماع ــة قويــة فــي مســاعدة أبنائهــا أو فــي كيــد أعدائهــا «إيــد عل ــى إي ــد تس ــاعد» -إي ــد عل ــى إي ــد تكي ــد ،وتمن ــح الجماعــة قــدرة علــى التفكيــر واتخــاذ القــرار ورســم الحيــل ،ألن اليــد ذراع العقــل حين يخطط أو يرســم خطـــة أو يواجـــه مشـــكلة ،وحيـــن يعجـــز العقـــل فإنه ــم يقول ــون« :م ــا بالي ــد حيل ــة». كل وتس ــتخدم الي ــد لتم ــارس لغ ــة خاص ــة عن ــد ّ جماع ــة إنس ــانية وإن اش ــتركت بع ــض الجماع ــات فـــي بعـــض اإلشـــارات التـــي تختصـــر عـــددًا مـــن المعانـــي التـــي تكمـــل لغـــة الـــكالم أو تتحـــول لتك ــون لغ ــة قائم ــة بذاته ــا ،كإش ــارات الرف ــض أو الموافقــة أو التعنيــف أو الســب والشــتم أو تقبيــح اآلخــر ،أو طــرح دالالت الرخــاء أو الراحــة ،الحــزن أو الس ــعادة ،حس ــب وض ــع الي ــد وعالقته ــا ببقي ــة أعض ــاء الجس ــد اإلنس ــاني ،وه ــو موض ــوع يتس ــع لكتابــة فائضــة ،ليــس مكانهــا فــي هــذا الموضــوع، لكنن ــا س ــندلل هن ــا ببع ــض األمثل ــة للتع ــرف عل ــى ثقافــة الجماعــة الشــعبية حيــن تســتخدم اليد والكف واألصابـــع ،حيـــث يقـــوم بعـــض أفـــراد الجماعـــة باســتخدام الكــف لــدرأ الحســد أو إلخافــة الخصــوم أو اس ــتخدام األصاب ــع عب ــر إش ــارات للتقبي ــح أو االستحســان ،كمــا تســتخدم اليــد المفتوحــة كشــكل متوســـا أو بصـــري يربـــط اإلنســـان بالســـماء، ً داعيــاً ،فالي ــد وحركته ــا ق ــد تك ــون عتب ــة للدخ ــول إلــى الجســد اإلنســاني وثقافتــه ،فاليــدان تختزنــان جملــة مــن المشــاعر تســتعصي علــى الحصــر ،حيث تش ــير الك ــف المفتوح ــة إل ــى الوض ــوح واألمان ــة والخضـــوع ،ويمكـــن مـــن خاللهـــا قـــراءة حـــال الش ــخص م ــن حي ــث الص ــدق أو الك ــذب ،المواجه ــة أو االستس ــام ،الثق ــة أو الضع ــف ..إل ــخ. والكــف عنــد الجماعــة دليــل جمــال حيــن تحنــى
فتصبـــح لوحـــة تجمـــع العناصـــر الثّقافيـــة التـــي تزخــم برمــوز اعتقاديــة تســتدعي أشــكا ًال هندســية وحيواني ــة ونباتي ــة ،كم ــا تتس ــع لرم ــوز الوش ــم علــى ظهــر اليــد وعلــى الــذراع ،فنجــد رســوم األســد والس ــبع والحي ــة كعناص ــر طوطمي ــة اس ــتطاعت أن تعبـــر الزمـــن لتبقـــى صامـــدة علـــى األيـــدي، كم ــا تحت ــل الكتاب ــات الخطي ــة عل ــى األي ــدي مكان ـ ًا أثي ــرًا كعالم ــة دال ــة للتع ــرف عل ــى األش ــخاص أو للحف ــظ م ــن المخاط ــر أو ل ــدرأ الحس ــد والمخ ــاوف م ــن األع ــداء. إن نظـــرة متســـعة علـــى اســـتخدام الجماعـــة الشــعبية لليــد فــي مأثوراتهــا الشــعبية ســتلقي بنــا فــي جــب األنثروبولوجيــا الثّقافيــة والدينيــة ،حيــث ترس ــم حركته ــا مف ــردات وس ــياقات لغوي ــة نج ــد فيه ــا رس ــم الح ــدود والمس ــافات بي ــن األش ــخاص واألماكـــن ،كمـــا ترســـم األشـــكال الهندســـية مـــن ـا ع ــن طرحه ــا دوائ ــر ومربع ــات ومثلث ــات ،فض ـ ً لعــدد مــن اإلشــارات التــي تعكــس ثقافــة الجماعــة فتشـــبيك األيـــدي ووضعهـــا علـــى الـــرأس يعنـــي الن ــدم والعج ــز ،بينم ــا تش ــبيكها قب ــل بداي ــة العم ــل يعنــي التعقيــد ومواجهــة عراقيــل ،لــذا يطلــب ممــن يشــبك يديــه أن يفكهــا كنــوع مــن التفــاؤل وتســهيل األمــور ،فاليــد تتكاثــر دالالتهــا ثقافيـ ًا لتصيــر عالمـ ًا يخت ــزل الجس ــد اإلنس ــاني ،فتلق ــي برمزيته ــا ف ــي أن ــواع الثّقاف ــة الش ــعبية. المتس ــعة ف ــي تراثن ــا ومأثورن ــا إن دالالت الي ــد ِّ الش ــعبي ليس ــت بعي ــدة ع ــن معاج ــم اللّغ ــة الت ــي تدعون ــا م ــن جدي ــد اللتق ــاط اإلش ــارات المش ــتركة التــي يطرحهــا تراثنا اللّغــوي الذي يفيض بالدالالت الثّقافيــة التــي عبــرت كتــب التــراث اللّغــوي لتقتحــم كل عوالمن ــا الجس ــدية ومدخله ــا الي ــد ،فالي ــد م ــن ِّ شـ ٍ واليُد مــن َّ الثــوب ونحــوه ُ :ك ُّمــه، ـيءَ :مْقَب ُضــهَ ، ِّعمـــة وا ِإلحســـان تصطنعهـــم ،وهـــي الن : ـــد ُ والي ُ َ الســلطان والقــدرة ،والجماعــة واألنصــار ....إلــخ. هك ــذا ن ــري الي ــد وق ــد فتح ــت لن ــا أفقــ ًا لق ــراءة الجماعـــات اإلنســـانية ومـــا راكمتـــه مـــن عـــادات وتقالي ــد وصياغ ــات لغوي ــة اس ــتقرت ف ــي أش ــكال ّيــة مصــورة أو جســدية أو لغويــة وانســلت منهــا َفنّ جملــة من األمثال الشــعبية والمربعــات والمواويل، ـا عــن رســوخ مجموعــة مــن العالمــات الثّقافيــة فضـ ً المتعلِّقــة بالعــادات والتقاليــد والمعتقــدات والثّقافة كل عنصــر فيهــا داللتــه عبــر الماديــة التــي اكتســب ّ الزمــن ،فصــارت اليــد مفتاح ـ ًا رئيس ـ ًا للكشــف عــن العوام ــل الثّقافي ــة واالجتماعي ــة والسياس ــية الت ــي ترس ــم ص ــورة اإلنس ــان ومنظوم ــة قيم ــه.
اليد فتحت لنا أفق ًا لقراءة الجماعات اإلنسانية ،وما راكمته من عادات وتقاليد
77
دال ومؤثِّر في صياغة المخيال لليد حضور ناتئ في الثّقافة الشعبية العربية ،حضور ّ بوابة العبور إلى العالم :عبرها الجمعي وبناء التمثُّالت وتقعيد المسلكيات ،فاليد هي ّ ونقيم العالقات ونكتشــف نؤســس «النظــرة إلــى الكون»، ونتحســس الموجــوداتّ ، َّ ِّ ونربت ،ونصافح ،ونشير ،ونشّد بحرارة، ــس ونتحس س نتلم ونتفاعل، نتواصل االحتماالت ،بها ّ ّ ّ ونحب ،باليد نخترق تفاصيل العالم ،ونكتب سيرتنا األولى عن طريق اإلشارة ونحّتج ،ونغضب، ّ الشر ،ونختبر السلطة ،واللّذة ،واأللم. والرمز ،وباليد نجني البركة ،ونتقي ّ
الرأسمال الرمزي لأليادي األزواج التاريخية، والض ّدية تحكمنا باستمرار، وعليه تلوح اليد بين المق َّدس والمدنَّس، تبع ًا لمضمون الثّقافة السائدة
78
عبد الرحيم العطري
َج ْن ُي البركة تتواصـــل التقابـــات فـــي ســـجالت الثّقافـــة الشــعبية ،فــاألزواج التاريخيــة والضديــة تحكمنــا باســـتمرار ،وعليـــه تلـــوح اليـــد بيـــن المقـــدس والمدن ــس تبع ـ ًا لمضم ــون الثّقاف ــة الس ــائدة ،فف ــي
س ــياقنا العرب ــي اإلس ــامي تنوج ــد الي ــد اليمن ــى فــي مقابــل اليســرى ،وتحّقــق عليهــا تفوقـ ًا رمزيـ ًا مـــن حيـــث التمثـــل واالســـتعمال .فاليـــد اليمنـــى تخت ــص بالمق ــدس واإليجاب ــي (س ــام ،تس ــبيح، تش ــهد ،أصح ــاب اليمي ــن ،)...فيم ــا اليس ــرى ت ــدل عل ــى المدن ــس والس ــلبي (االس ــتنجاء ،أصح ــاب
الشـــمال ،)..فالدخـــول إلـــى «المجـــال المقـــدس يكــون باليمنــى فيمــا الدخــول إلــى المدنــس يكــون باليســرى ،فاألولــى تحيــل على الطهــارة والحظوة اإللهيـــة ،فيمـــا تـــدل الثانيـــة علـــى االرتبـــاك والمدنـــس والخطيئـــة» ،وهـــو اعتقـــاد يتجـــاوز المتــن اإلســامي إلــى حضــارات وديانــات أخــرى . مدخـــا لجنـــي فـــي ذات الســـياق تصيـــر اليـــد ً البركــة ،باعتبارهــا هبــة ســحرية تــدل علــى النمــاء والزيـــادة والعلـــو واليمـــن ،مثلمـــا تحيـــل علـــى «عطــاء» وقــدرة اســتثنائية ذات مصــدر إلهي تتوفر لبعض األشــخاص ،فروجيه باســتيد يعتبر البركة كـ«ســائل مقــدس يفيــض مــن الولــي الصالــح ويمتد كل م ــا يم ــس ه ــذا الول ــي م ــن ثي ــاب وم ــاء.. إل ــى ّ وبعــد المــوت تظــل جثتــه محتفظــة بالبركــة وتظــل عالق ــة بقب ــره» .هن ــا تصي ــر الي ــد المبارك ــة ت ــوزع ـراء مــن المــرض ،وتيســيرًا قدرتهــا الخوارقيــة ،إبـ ً لل ــرزق ،ع ــن طري ــق التقبي ــل واللم ــس والرب ــت. ويجــري تدبيــر االعتقــاد وفــق ســلوك طقوســي يمتــح مــن دائــرة القدســي ،بحيــث يغــدو الطقــس دائ ــرًا ف ــي فل ــك القدس ــي والدين ــي ،ومش ــيرًا إل ــى تعال ــق ق ــوي بينهم ــا ،فع ــن طري ــق التمس ــح بقب ــر الولـــي أو الثـــوب المغطـــى بـــه ،يســـتعيد الزائـــر طقـــس التمســـح بالكعبـــة والحجـــر األســـعد. يتحق ــق بالي ــد ،كطق ــس مؤس ــس فالتمس ــح ال ــذي َّ ومب ـ ِّـرر للزي ــارة يرم ــي إل ــى «جن ــي ثم ــار» برك ــة الولـــي واســـتدخالها إلـــى الـــذات لضمـــان حلـــول ممك ــن ،ع ــن طري ــق التقبي ــل واللم ــس والتمس ــح، وتمري ــر الي ــد الت ــي قام ــت بـــ «جن ــي البرك ــة» عل ــى ســائر الجســد ،إنهــا الرغبــة فــي االمتــاء والتشــبع بالبرك ــة.
«الخميسة» الواقية تع ــد الخميس ــة م ــن أش ــهر الرم ــوز والتعوي ــذات الشــعبية التــي يشــيع االعتقــاد فــي قوتهــا الحمائية ضــد العيــن واللســان ،فالخميســة تتخــذ هــذا االســم لكونه ــا تمث ــل ص ــورة الي ــد البش ــرية بأصابعه ــا الخمســة ،التــي تتخــذ شــكل المواجهــة ضــدًا علــى كل عي ــن حاس ــدة ،بم ــا يش ــبه الحائ ــط الوقائ ــي ّ الرم ــزي .وتعّل ــق الخميس ــة ف ــي أب ــواب المن ــازل ومقدمـــة الســـيارات ،كمـــا تســـتعمل فـــي الحلـــي والمجوهـــرات .وفـــي هـــذا الصـــدد يقـــول إدمونـــد دوتـــي إن رمـــز الكـــف معـــروف منـــذ القديـــم فـــي منطقــة البحــر األبيــض المتوســط فقــد عــرف تحــت متعـــددة« :يـــد الـــرب» و«يـــد اإللـــه بعـــل» أســـماء ِّ فــي المســات الفينيقيــة والقرطاجيــة .و«يــد مريم»
عن ــد األوربيي ــن و«ك ــف ل ــا فاطم ــة» ف ــي الش ــمال اإلفريقــي وبــاد المغــرب ،وعــرف «بكــف عائشــة» أيضـ ًا و«كــف مفتوحــة» و«كــف العباس» و«خمســة وخميســة» عند الشــرقيين العــرب وبعض المغاربة و«المربع ــة» ف ــي تون ــس ،ويس ــمى عن ــد اليه ــود «حمس ــة أو شمس ــة» وتعن ــي أيضــ ًا رق ــم خمس ــة. قائـــا فـــي كتابـــه« ،الســـحر ويضيـــف دوتـــي ً والديــن فــي شــمال أفريقيــا» إن الوظيفــة الحمائيــة أو العالجي ــة الت ــي أس ــبغت عل ــى ه ــذا الرم ــز تم ــت بصلــة إلحــدى األســاطير اليونانيــة التــي تتحــدث عــن اإللهــة «هيجيــا» ( ( ،) Hygieإلهــة الصحــة)، الت ــي تش ــفي المرض ــى بلمس ــة م ــن يده ــا .ومهم ــا يكـــن مـــن تبريـــر موضوعـــي أو ذرائعـــي وراء حضــور اليــد فــي الثّقافــات المتوســطية ،فــإن ذلــك ال يمن ــع م ــن اإلق ــرار بالرس ــوخ الق ــوي للمعتق ــدات الشـــعبية التـــي تســـتحضر اليـــد كعضـــو جالـــب للبرك ــة وط ــارد للعي ــن والش ــرور. ومــن أجــل حمايــة المخــزون الزراعــي مــن العين واألرواح الشـــريرة ،فإنـــه يصيـــر ضروريـــ ًا نثـــر المل ــح والش ــبة والحرم ــل ف ــي جنب ــات الخزي ــن، مــع وضــع خميســة اليــد المغموســة بالحنــاء علــى بابه ــا ،ش ــرط أن تك ــون ه ــذه الي ــد ألصغ ــر فت ــاة ف ــي البي ــت ،اعتب ــارًا لكونه ــا ف ــي ع ــداد المالئك ــة، ـا ف ــي حراس ــة المخ ــزون وضم ــان بركت ــه ،إن أم ـ ً الرم ــز يصي ــر ف ــي ه ــذه الحال ــة دا ًال عل ــى تاري ــخ م ــن األداء االجتماع ــي ،فالرم ــز ه ــو «تعبي ــر ع ــن إشــارة مجـّـردة ،إنــه ال نهائــي ،ألنــه يصــور شــيئ ًا ال نهائي ـاً». إن التحصيـــن الســـحري يقـــدم نفســـه كبنيـــة مضـــادة تقـــي وتواجـــه وتـــرد ،إنهـــا «ديانـــة مض ــادة» بتعبي ــر دوت ــي ،يتقول ــب عل ــى غراره ــا الفاعــل االجتماعــي ويســتمد منهــا صياغاتــه للعالم ومســلكيات تعاملــه مــع المعانــي واألشــياء .بــل إن األم ــر ال يبق ــى عل ــى وج ــه التض ــاد دائمــاً ،وإنم ــا يصــل إلــى درجــة التماهــي والتجاور بين الســحري والدينــي .فاألمــر يتعّلــق بصياغــة ممكنــة للمعنــى ف ــي مس ــتويات م ــن الفع ــل والص ــراع االجتماع ــي، يلجــأ إليهــا األفــراد لتأميــن المواقــع ودرء المخاطــر وإعـــادة إنتـــاج الحضـــور وفـــق مـــا تقتضيـــه المصال ــح والبني ــات.
من أجل حماية المخزون الزراعي من العين واألرواح الشريرة، فإنه يصير ضروري ًا وضع خميسة اليد المغموسة بالحناء على بابها ،شرط أن تكون هذه اليد ألصغر فتاة في البيت
ُسلطة اليد الي ــد س ــلطة تتأرج ــح بي ــن الخف ــاء والتجل ــي، تظهــر وهــي تحنــو علــى اآلخــر ،تربــت علــى كتفه، 79
تصافحـــه وتشـــير إليـــه وعليـــه ،فـــي اســـتدماج لوظيف ــة اعتيادي ــة يؤديه ــا عض ــو جس ــدي ،لك ــن ـا ذات الي ــد ق ــد تصي ــر ف ــي س ــياقات أخ ــرى دلي ـ ً علــى الســلطة والنفــوذ ،بــل إنهــا تختــص بالعقــاب وأج ــرأة مفع ــول ه ــذه الس ــلطة. إن تقبي ــل الي ــد م ــن قب ــل األتب ــاع ف ــي المج ــال السياســي تحديــدًا يفيــد «تقديــم البيعــة ،لكن معناه كذل ــك طل ــب الرض ــى ،بحي ــث تقب ــل الي ــد اليمن ــى، موطـــن القـــوة ،اعترافـــ ًا لهـــا بفضلهـــا» .وتأكيـــدًا عل ــى والئه ــا المس ــتمر ،واعترافــ ًا أيضــ ًا بس ــلطة الي ــد وقوته ــا الرمزي ــة ،فف ــي حق ــل الس ــلطة تع ــد اإلشــارات والرمــوز أكثــر أهميــة مــن لعبــة اإلفصاح المباش ــر ،فللرم ــز دور ب ــارز ف ــي إظه ــار الس ــلطة والمكانــة التــي يحوزهــا الفــرد داخــل الجماعــة أو تتحـــول الهندســـة المجاليـــة أو المجـــال ،وبذلـــك ّ
ع ّد اليد «رأسما ً ال تُ َ رمزي ًا» ،يتقابل ويتفاعل ويتح َّدد، أيض ًا ،بنوعية ما يمتلكه الفرد من رأسمال ما ّدي
80
العالمــات المســتعملة أو حتــى التســميات واأللقاب ـا إل ــى اكتش ــاف حج ــم الس ــلطة واإلش ــارات دلي ـ ً ومدلوله ــا االجتماع ــي. تــدل الســلطة علــى التمكــن واالســتئثار بالقــوة والقـــدرة علـــى التوجيـــه واإلجبـــار نحـــو اتجـــاه معي ــن م ــن الس ــلوك االجتماع ــي ،فالس ــلطة ه ــي القـــدرة علـــى التأثيـــر والفعـــل والقيـــادة ،وهـــي تســتند فــي اشــتغالها التوجيهــي إلــى معطــى القوة واحتــكار العنــف ،كمــا أنهــا ترتهــن إلــى معطيــات رمزي ــة أخ ــرى مؤث ــرة .فس ــلطة الي ــد الت ــي تصف ــع وتوج ــه وتحت ــج وتح ــذر ،تعن ــي ق ــوة تأثيري ــة تمن ــح صاحبه ــا مكان ــة م ــا ضم ــن نس ــق م ــا ،كم ــا أنه ــا تتوس ــل ف ــي اش ــتغالها بع ــدد م ــن المص ــادر المؤسس ــة له ــا ،والت ــي تت ــراوح بي ــن أساس ــيات ّ مثـــا) وأخـــرى رمزيـــة (شـــرعية ماديـــة (ثـــروة ً ـا عــن مســألة احتــكار العنــف، ـا) فضـ ً تاريخيــة مثـ ً وقب ــول المس ــودين به ــذه الس ــلطة. ليس ــت س ــلطة الي ــد ش ــيئ ًا متموضع ـ ًا ف ــي الي ــد فقـــط ،أو فـــي خواتمهـــا وسالســـلها الذهبيـــة، إنهـــا ســـلطة عابـــرة لألمكنـــة واألزمنـــة ،إنهـــا تعبـــر عـــن عالقـــات متفاوتـــة بالدرجـــة األولـــىِّ ، اســتراتيجيات وقــوى وتراتبــات مســتمرة تختــرق مجم ــوع النس ــيج االجتماع ــي ،وه ــو م ــا يجعله ــا وتتأســس من حيــث بنائها تتخــذ تمظهــرات شــتى، َّ وتجذّره ــا عل ــى أس ــانيد متع ـ ِّـددة. إلـــى ذلـــك كلـــه ُت َعـــّد اليـــد «رأســـما ًال رمزيـــاً» بالرغ ــم م ــن مبناه ــا ومعناه ــا الم ــادي الص ــرف، إنهــا تــدل علــى دال ومدلــول ســلطوي متفــاوت مــن حي ــث الن ــوع واالس ــتعمال والس ــلطة أيض ـاً ،بي ــن كل األف ــراد والجماع ــات .م ــا يجع ــل منه ــا رصي ــدًا ّ مــن العالقــات والقيــم والرمــوز ،يتقابــل ويتفاعــل ويتحـــدد أيضـــ ًا بنوعيـــة مـــا يمتلكـــه الفـــرد مـــن َّ رأســمال مــادي ،فالرأســمال الرمــزي لليــد اليمنــى أواليس ــرى ه ــو رصــيــ ــد قاب ــل للت ــداول والتراك ــم واالستعمـــــال ،واالســتنفاذ أيضاً ،شــأنه في ذلك ش ــأن الرأس ــمال الم ــادي. وككل الرســـاميل ،فـــإن الخيـــرات الماديـــة ّ والرمزيـــة والبـــركات المخصوصـــة لأليـــادي فـــي مجتمعاتنـــا ،هـــي التـــي تمنحنـــا وضعيـــات وانتمــاءات تتحـ َّـدد بمحتوى وشــكل هذه الرســاميل وطرائــق تمثلهــا واســتعمالها فــي ســوق التبــادالت االجتماعيـــة.
اهتمت ربما تكون حضارتنا العربية ،مع امتداداتها الشرقية ،من أكثر الحضارات التي َّ َّ باليــد ،واحتفلــت بها ،فجعلت منها رمزًا يحمله الناس أينما كانوا ،كتميمة على شــكل الحظ والحماية والشــعور باألمن حليــة ،أو على ســياراتهم وأبواب بيوتهــم.. جالبة ّ ً والمساعدة؛ أال يقالُ :مّد له يدك؟!
واسطة الفكر والعاطفة منى فياض ج ــاء ف ــي «لس ــان الع ــرب» تع ــدادًا ملفت ـ ًا لصف ــات اليـــد فـــي شـــمولها كافـــة نواحـــي وجـــود اإلنســـان وعالقاتــه ،ســواء بالخالــق أو بالبشــر كمــا بصفاتــه وم ــا يحتاج ــه :الي ــد النعم ــة ،والي ــد الق ــوة ،والي ــد القـــدرة ،واليـــد الملـــك ،واليـــد الســـلطان ،واليـــد الطاعـــة ،واليـــد الجماعـــة ،واليـــد األكل ،واليـــد الغيــاث ،واليــد منــع الظلــم ،واليــد االستســام واليــد الكفال ــة ف ــي الره ــن. ونق ــل ع ــن النب ــي أن ــه ق ــال لنس ــائه :أس ــرعكن وكن ــي بط ــول الي ــد ع ــن لحوقــ ًا ب ــي أطولك ـ ّ ـن ي ــداً؛ ُ العط ــاء والصدق ــة. وقيـــل مـــا لـــي بهـــذا األمـــر يـــد وال يـــدان؛ ألن المباشــرة والدفــاع إنمــا يكونــان باليــد ،فــكأن يديــه معدومت ــان لعج ــزه ع ــن تحقيق ــه .ويق ــال للرج ــل إذا ُوّبــخ :ذلــك مــا كســبت يــداك؛ أي هــذا مــا قمــت بــه. ال كســبت يــداه .فاليــدان ،األصل ويقــال :مــن عمــل عم ً ف ــي التص ــرف. الجوه ــري يزي ــد ف ــي الش ــرح :ه ــذا الش ــيء ف ــي يـــدي ،أي ملكـــي .واليـــد القـــوة ،وأيـــده اهلل تعنـــي ق ـ ّـواه؛ ومال ــي بف ــان ي ــد ،أي ال طاق ــة ل ــي علي ــه. كل ذل ــك رم ــزًا يختص ــر الوج ــود تب ــدو الي ــد ف ــي ّ البش ــري وم ــا ينج ــزه عل ــى األرض .وال ينبغ ــي أن يغي ــب ع ــن بالن ــا أن طق ــس الخطوب ــة ُيكّن ــى عن ــه بطلــب يــد الفتــاة« :طالــب إيــدك»؛ أي أريــدك وأطلبك أن ــت بكليت ــك ش ــريكة لحيات ــي .الي ــد ،هن ــا ،ترم ــز إل ــى جوه ــر الش ــخص. م ــا تقول ــه اللّغ ــة يجس ــده الرم ــز اإلنتروبولوج ــي ِّ المتمث ــل بالك ــف ال ــذي نعرف ــه جميعــاً .إن ــه القدي ــم ّيــة مختلفة رمــز شــائع االســتعمال كحليــة وأعمــال َفنّ تتعـّدد أشــكالها وأحجامهــا والمــواد المشــغولة منهــا. لكــن لهــذه الحليــة وظيفــة عنــد الكثيريــن وخصوصـ ًا الطبقـــات الشـــعبية ،فهـــي حجـــاب تبعـــد العيـــن
الحاس ــدة والس ــحر والغي ــرة .ارتداؤه ــا ،خصوصــ ًا م ــع الخ ــرزة الزرق ــاء ،يش ــد عي ــن الحاس ــد فتصرف ــه عـــن التركيـــز فـــي غيـــره ،فـــا يحســـد الطفـــل أو الش ــخص لم ــا لدي ــه. رمــز الكــف واســع االنتشــار فــي مناطــق جغرافيــة تمتـــد مـــن أقصـــى المغـــرب وحتـــى أفغانســـتان وباكس ــتان والهن ــد ،م ــرورًا بمص ــر وتركي ــا والب ــاد الواقعــة بينهــا .يقــال لليــد عنــد العرب «كــف فاطمة»، أم ــا عن ــد اليه ــود فه ــي «ك ــف ميري ــام» .وه ــذا دلي ــل عل ــى تاريخه ــا القدي ــم وعل ــى التفاع ــل والتواص ــل الحميـــم بيـــن هـــذه المناطـــق الشاســـعة المتنوعـــة الثّقاف ــات. وهـــي ليســـت رمـــزًا دينيـــاً ،ألن هنـــاك مـــن يعارضهـــا بيـــن المســـلمين. إنهـــا رمـــز يعـــود بأصولـــه إلـــى حقـــب مغرقـــة فـــي القـــدم ،يرجعهـــا البعـــض إلـــى زمـــن النبـــي موس ــى .إنه ــا ك ــف ميري ــام أخ ــت موس ــى وه ــارون وخِميس ــة ه ــي نفس ــها ف ــي عن ــد اليه ــود ،والخمس ــة ْ العربيــة والعبريــة .تعــود بهــا األســطورة إلــى زمــن هجــرة موســى مــن مصــر ،حيــن أمــر أتباعــه بدهــن أب ــواب من ــازل اليه ــود ب ــدم الخ ــروف لحمايته ــا م ــن رســل المــوت .وهــم لكســب الوقــت صــاروا يطبعــون عليهــا دم الخــروف بواســطة الكــف فقــط .وهكــذا بعــد مــرور هــؤالء الرســل مــات جميــع الرضــع المصرييــن بمــن فيهــم أطفــال الفرعــون ،بينمــا لــم يمــت الرضــع اليهــود .واعتقــد المصريــون أن هــذا الرمــز أنقذ اليهود مــن المــوت واعتمــدوه هــم أيضـ ًا كوســيلة للحمايــة. إنه ــا الك ــف مفتوح ــة األصاب ــع الخم ــس ك ــي تحم ــي م ــن الش ــر. فـــي بابـــل أيضـــ ًا ُوجـــد بـــرج ترتفـــع فوقـــه يـــد واســمه بــرج اليــد اليمنــى .إنهــا اليــد اليمنــى مرفوعة. مجس ــمات ه ــذه الي ــد عل ــى ش ــكل هن ــاك الكثي ــر م ــن ّ
طقس الخطوبة يُكنّى عنه بطلب يد الفتاة« :طالب إيدك»؛ أي أريدك وأطلبك ،أنت ً شريكة بكلِّيَّتك، لحياتي .اليد، هنا ،ترمز إلى جوهر الشخص
81
أولوية اليد أم أولوية الفكر.. موضع نقاش قديمِ ،ق َدم الفلسفة
82
نح ــت حج ــري ف ــي مختل ــف األنح ــاء م ــن العال ــم. اليــد رمــز الهبــة واليــد القربــان التــي تمنــح البركــة وتنقــل القــدرة والحمايــة .وبغــض النظــر عــن الثّقافة التــي ينبــع منهــا هــذا الرمــز فهــو تعبيــر عــن حركــة ابته ــال .إن ــه رم ــز روح ــي ورم ــز أم ــل م ــا .فعندم ــا نضـــع شـــيئ ًا نقصـــد منـــه طـــرد األرواح الشـــريرة، تك ــون روحن ــا ه ــي الت ــي يس ــكنها الخ ــوف والقل ــق؛ هــذا الكــف يطمئنهــا .كمــا أن مــن يضــع الكــف يفعــل ذلــك بنــوع مــن الفــرح والغبطــة .إنــه حليــة للزينــة أيض ـ ًا يتفن ــن الصن ــاع ف ــي صقله ــا. لليـــد معنـــى أخيـــر ربمـــا يتماشـــى أكثـــر مـــع حداثتنــا ،هــو ارتباطهــا باأللفبائيــة وبالكتابــة .فاليد غيــرت هــي األداة التقليديــة والمفضلــة للكتابــة التــي ّ وج ــه العال ــم. مــع ذلــك هــل يخطــر ببالنــا عندمــا نتأمــل الكــرة وكل م ــا عليه ــا م ــن منج ــزات ت ــكاد تغي ــر األرضي ــة ّ معالمهــا علــى مــدى حيــاة إنســان واحــد ،أن نقــول: ي ــا لبراع ــة الي ــد الت ــي تصن ــع الكثي ــر! أم أنن ــا أمي ــل
إل ــى الق ــول :ي ــا لعظم ــة الفك ــر والعق ــل اإلنس ــانيين أنهم ــا مص ــدر الخل ــق واإلب ــداع! أولويــة اليــد أم أولويــة الفكر موضع نقاش قديم، ِقـَـدم الفلســفة .كتب أناغزاغــور «:»ANAXAGORE اإلنســان ذكــي ألنــه يملــك يديــن .أمــا أرســطو فكتــب: اإلنســان لــه يــدان ألنــه ذكــي. وكت ــب ت ــران دو ث ــو « :»TRAN DUE THOل ــم تفك ــره يق ــل اإلنس ــان م ــا فك ــر ب ــه ألن ــه فك ــره ،ب ــل ّ ألن ــه قال ــه ،وقال ــه ألن ــه تهي ــأ للقي ــام ب ــه. م ــن الصعوب ــة بم ــكان تع ــداد وإحص ــاء األعم ــال كل الت ــي حققته ــا الي ــد عل ــى وج ــه األرض ،ألي ــس ّ م ــا ه ــو ُمنج ــز عل ــى ه ــذه الك ــرة م ــن صن ــع الي ــد!! ال يتحق ــق دون وج ــود اليدي ــن .ذل ــك يمك ــن للفك ــر أن َّ وكل ترســـانة أن األداة واآللـــة والجهـــاز والماكنـــة ّ ّي ــة ،ال تع ــود الوس ــائل والتقني ــات الصناعي ــة َ والفنّ ش ــيئ ًا يذك ــر وال يمكنه ــا أن تنت ــج ش ــيئ ًا دون الي ــد التــي تقودهــا وتعدلهــا ،دون الهــدف الــذي مــن أجلــه تس ــتخدمها.
التقـــدم التقنـــي الهائـــل وســـيادة اآللـــة فـــي إن ُّ العصـــر الراهـــن يجعالننـــا ننســـى هـــذه البديهيـــة، ويغيـــب عـــن بالنـــا الشـــرطان األساســـيان لتقـــّدم ّ ونمــو اإلنســانية واللــذان يشـّـكالن جوهــره ،وهمــا: إدراك العالــم المرتكــز علــى الحــواس المنعكــسفــي رمزيــة اللّغــة. التأثير على العالم بحركات اليد.لأليــدي حياتهــا الخاصــة .ربمــا يعلــم ذلــك الكثيــر مـــن النـــاس بحدســـهم ،لكـــن ليـــس ســـوى فنـــان، وباألخ ــص نح ــات ،م ــن باس ــتطاعته أن يعب ــر ع ــن حي ــاة األي ــدي بدق ــة. كت ــب مي ــكال أن ــج ،ال ــذي رس ــم أش ــهر يدي ــن ف ــي ـــن ،يـــد الخالـــق التـــي تمتـــد لتنفـــح آدم عالـــم َ الف ّ بالحيــاة الــذي يمــد يــده هــو اآلخــر لخالقــه فــي لوحــة الخل ــق عل ــى س ــقف كنيس ــة سكتس ــين ،م ــا معن ــاه: ال يملك الفنان الموهوب أي مفهوم يكفي أن يحصر نفسه في قطعة رخام واحدة وحده يصل إلى الهدف مع شيء إضافي ذلك الذي يمتلك يدًا تطيع ذكاءه فـــي كتـــاب يحكـــي عـــن حيـــاة كاميـــل كلوديـــل النحات ــة الت ــي أقام ــت عالق ــة عاصف ــة م ــع النح ــات الش ــهير رودان ،يوج ــد المقط ــع التال ــي ع ــن عالق ــة النحاتــة باليــد :كاميــل تخطــط يــداً .منــذ عــدة أشــهر تعمــل علــى اليديــن مــا إن تمتلــك برهــة مــن الوقــت. انكب ــت عل ــى دراس ــة األي ــدي دائمــاً ،من ــذ أن كان ــت صغيـــرة جـــداً .أيـــدي أمهـــا ،واللعـــب باألصابـــع علـــى الطاولـــة :إلـــى الخلـــف وإلـــى األمـــام ،إلـــى الخل ــف وإل ــى األم ــام ،البنص ــر والس ــبابة ،البنص ــر والس ــبابة؛ رقص ــة جهنمي ــة ،آخ ــذ ،كال ال آخ ــذ .ي ــدا والدهــا ،رفيعــة ،رشــيقة ،شــفيفة ،دقيقــة ،أصغــر م ــن المعت ــاد لرج ــل .أي ــدي ب ــول (الش ــاعر المع ــروف وشـــقيق النحاتـــة بـــول كلوديـــل) منطويـــة خلـــف ظه ــره ،مخب ــأة ،س ــميكة راح ــة الك ــف ،م ــع ذل ــك له ــا أصاب ــع طويل ــة ،لكنه ــا دائمــ ًا الواح ــدة ف ــوق األخ ــرى ،ومخب ــأة أحيانــاً... ي ــداه ه ــو (المقص ــود الفن ــان رودان) م ــن أجلهم ــا وقع ــت ف ــي غرام ــه! ه ــو أيض ـ ًا كان يعم ــل عل ــى أي ــد كل ن ــوع .كأن ــه يق ــوم بطق ــس ،كم ــا ل ــو أن ــه م ــن ّ جــزء مــن ديانــة ...فجــأة كان الســيد رودان يســتغرق متأصلــة، لســاعات وســاعات لينحــت أيــدي :بعضهــا ِّ بعضه ــا اآلخ ــر خش ــنة وفج ــة .كان يق ــول« :هن ــاك أي ــد تصل ــي وأي ــد تلع ــن وأي ــد توس ــخ وأي ــد تنش ــر العط ــر وأي ــد تب ــرد الغلي ــل وأي ــدي الح ــب». الحــب هنــا بالمعنــى الغرامــي ،لكــن للحــب معانــي أوس ــع ،وه ــي كله ــا متضمن ــة ف ــي ح ــركات األي ــدي ولمســاتها .اليــد التــي تلمــس تحمــل الحــرارة ومعهــا ال ــدفء ،وتش ــفي م ــن األل ــم ،ألنه ــا تس ــاعد الجس ــم عل ــى التخل ــص م ــن الكورتي ــزول .فعن ــد ملم ــس الي ــد
تح ــرر أط ــراف األعص ــاب الدقيق ــة الت ــي تح ــت الجل ــد م ــادة قريب ــة م ــن المورفي ــن فته ــدئ األل ــم. مـــن أجمـــل الصـــور عـــن اللمـــس ،مـــا يقولـــه الشـــاعر:
كأن يدي تندى إذا ما لمستها وينبت في أطرافها الورق النضر
لك ــن للي ــد وظيفته ــا ف ــي مج ــال التربي ــة ،فه ــي، تســاعد الطفــل علــى أن يستكشــف العالــم ويســتعلم األش ــياء ،ك ــي يع ــي مختل ــف األش ــكال ،إن ــه ن ــوع مــن التعلــم ،نــوع مــن ذاكــرة اليــد .تصبــح اليــد بعــد حوالـــي األربعـــة أشـــهر مـــن الـــوالدة ،أداة البحـــث أهميــة مطلقــة فــي تكويــن صــورة األساســية ؛ فلليــد ّ ال ــذات وف ــي عملي ــة التفكي ــر والتعبي ــر .ف ــي حوال ــي الخمســة عشــر شــهرًا يبــدأ الطفــل باكتشــاف األشــياء حولــه وباســتعمال لغــة حركيــة مميــزة ،إذ يعـّـوض النقــص فــي التعبيــر بحــركات اليــد .لغــة اليــد تكــون الوســيلة الوحيــدة واألوليــة للتواصــل ،تتخــذ مكانــة ثانويــة فــي مــا بعــد وعنــد نمــو اللّغــة ،ولكنهــا تبقــى مرافقــة للكلمــات فــي حياتنــا كلهــا. مهمـــة علـــى صعيـــد التأهيـــل النفـــس - واليـــد ّ حرك ــي ،إذ له ــا دوره ــا ف ــي االس ــترخاء وإنق ــاص التوتــر ،وهــي تحمــل قيمــة عاطفيــة كبيــرة بواســط اللم ــس ،اللم ــس ال ــذي يحم ــل إل ــى اآلخ ــر الس ــكينة التــي فقدهــا ،ويعلــم ذلــك تمامـ ًا مــن يمــارس الطــب الهنــدي والشــرقي .وعلــى غــرار الطــب الشــرقي قامــت بع ــض المراك ــز الغربي ــة بتطوي ــر نظري ــات العال ــم النفس ــي راي ــش وتطبيقه ــا ف ــي مراكزه ــا العالجي ــة. فاللمــس ُيدخــل فــي عالقــة قريبــة وحميمــة وقيمتــه العاطفي ــة أكب ــر م ــن تل ــك الت ــي للبص ــر أو للس ــمع. لكننــا ال نســتعمل اللمــس ّإل مــع األشــخاص القريبين منــا أو الذيــن نريــد أن نتقــرب منهــم عاطفيـاً؛ فراحــة كــف اليــد ال نعطيهــا ألي كان ،إذ هــي نتيجــة اتصــال داخلــي عميــق نوعـ ًا مــا .يحمــل هــذا االتصــال ُمعــاش عاطفــي .واليــد لهــا هــذه الميــزة :إنهــا تمتــد وتصــل إلــى اآلخريــن فــي أي وقــت نريــد وتعبــر عــن تطـّـور االتصــال العاطفــي وتعمــق المشــاعر ،اليــد التــي تمتد تنق ــل الصداق ــة أو الح ــب ال ــذي نحمل ــه إل ــى اآلخ ــر، يصبـــح عندهـــا االتصـــال أطـــول وأمتـــن ،تمتنـــه حمل ــه إياه ــا .أم ــا الي ــد الت ــي تداع ــب ارتجاف ــاتُ ،ن ّ فهــي تعبــر أيضـ ًا عــن ُمعــاش عاطفــي علــى مســتوى آخ ــر ينتم ــي إل ــى عال ــم حس ــي حمي ــم. أحيانــ ًا الي ــد وحده ــا تحتف ــظ بذاكرتن ــا وتقب ــض عل ــى مش ــاعرنا أكث ــر م ــن الكلم ــات ...الي ــد إذن ه ــي الواســطة بيــن الفكــر وتحققــه ،هــي واســطة الــذكاء ألنه ــا تخ ــدم كأداة ف ــي مج ــال تجس ــيد ه ــذا الفك ــر. كل م ــا يتأمل ــه الفك ــر تحقق ــه الي ــد ،كم ــا أن الفك ــر إن ّ يتأم ــل بحس ــب إمكاني ــات الي ــد.
اليد وحدها تحتفظ بذاكرتنا، وتقبض على مشاعرنا ،أكثر من الكلمات
83
العربي له ،في مســتوى ما، دال من اللّســان إن هذا الموضوع ال يزيد ،في ظاهره على ّ ّ ّ العربية ،قلّما يختلف في إدراكه أفراده ،وفي أساســي مشترك بين أهل معجمي مدلول ّ ّ ّ مســتوى آخــر ،مدلــوالت إضافية ،غالبــ ًا ما ينفرد بهــا أهل االختصــاص دون غيرهم. معان معينة لترجمة ٍ ومــا هذا المفهوم ســوى إيهــام متولّد ،في تقديرنا ،عن اختيارنا رمــوزًا كتابية ّ خاصة بالعربية. ودالالت ،يحتمل أن ترد من غير العربيةّ ، بدوال ّ ّ
اإلصبع الواحد ال يجمع قمح ًا د .وليالي كندو*
ّ الحظ تُطلَق يد على أ ّول من يشتري سلعة التّاجر في اليوم ،عموم ًا، الصباح، أو في ّ خصوص ًا ،فيتوافد عليه ،من بعده، ّ للشراء الزّبائن،
84
الظاهـــر ،ليـــس قصدنـــا وعلـــى عكـــس هـــذا ّ بالـــّدال فـــي هـــذا المقـــام ســـوى ترجمـــة إلـــى تيس ــر م ــن العربي ــة لمدل ــوالت ّ دوال وأق ــوال ّ مم ــا ّ الشــعب ألســنة إفريقيــا؛ ومنهــا الـ«مــوري» ،لســان ّ الموســي ،والـ«مانــدي» ،لســان أغلبيــة ســاحقة من الســودان الغربــي. الشــعوب المنتشــرة فــي منطقــة ّ الس ــياق م ــا نصوغ ــه عل ــى وإش ــكاليتنا ف ــي ه ــذا ّ وفـــو» ( )nuguفـــي «ن ُ النّحـــو التالـــي :مـــا داللـــة ُ «بوُل ــو» ( )boloأو «ِت ِ يغ ــي» الم ــوري؟ وم ــا دالل ــة ُ ( )tègèفــي المانــدي؟ ومــا صلــة تلــك الـّدالالت بمــا العربي ــة م ــن المعان ــي؟ نج ــد ف ــي ّ ه ــذه بع ــض المس ــائل الت ــي ن ــروم مقاربته ــا، اســتنادًا إلــى منهــج اســتقرائي يقــوى بآخــر ،يقوم ضمني ــة بي ــن األح ــكام ،لك ــي يتأّت ــى عل ــى مقارن ــة ّ اســتنباط مــا يمكــن الّتأليــف بينــه مــن المعطيــات، خفيــة. وصــو ًال إلــى كشــف كلّيــات باطنــة ّ إذا نظرن ــا ف ــي مس ــتوى الّدالل ــة المعجمي ــة ف ــي الم ــوري ،مس ــتندين ف ــي آن إل ــى حدس ــنا اللّغ ــوي توصلنــا وإلــى آراء بعــض المســتعملين األصــاءّ ، دال مـــزدوج المدلـــول فـــي وفـــو» ّ إلـــى ّ «ن ُ أن لفـــظ ُ هــذا اللّســان؛ فهــو يعـّـم دالليـاً ،مــن ناحيــة ،فيفيــد فيتعين مطلــق اليــد؛ وينخــزل ،مــن ناحيــة أخــرى، ّ لمعن ــى الك ـ ّ ـف .وال نج ــد ف ــي م ــوري غي ــر القرائ ــن المالزم ــة لمق ــام الّتخاط ــب الحقيق ــي س ــمات ُتف ــرد تعين ــه له ــذا المعن ــى أو ل ــذاك. ال ـّدال أو ّ
وإذا كانـــت هـــذه داللـــة اليـــد الحقيقيـــة فـــي الم ــوري ،فله ــا دالالت مجازي ــة عدي ــد مط ــردة ف ــي االســتعمال .ويمكــن تصنيفهــا صنفيــن أساسـّـيين: ومم ــا ين ــدرج ـلبيّ . م ــا ه ــو إيجاب ــي وم ــا ه ــو س ـ ّ إن «لـــه يـــدًا األول قـــول الموســـي ّ فـــي ّ الصنـــف ّ للش ــخص لباق ــة ومه ــارة ـدون ـ يقص ـة»()1؛ طيب ـ أن ّ ّ ّ الصيــد أو الّتجــارة. أو ـة ـ نع الص ـي ـ ف ا ـ وحظ ا ـ وإتقان ّ ً ً ّ ّ الصنع ــة غي ــر م ــن أم ــا الم ــراد بالي ــد الماه ــرة ف ــي ّ أول أمــا يد الحـ ّ ـظ فتطلق على ّ يحــذق حرفتــه وفّنــهّ . مــن يشــتري ســلعة الّتاجــر فــي اليــوم ،عمومـاً ،أو الصبــاح ،خصوصـاً ،فيتوافــد عليــه مــن بعــده فــي ّ للش ــراء ،فيق ــول الّتاج ــر حينئ ــذ ف ــي ذل ــك الزبائ ــن ّ ّ خيــرة محظوظــة ،ألنّهــا ـة» ـ ب «طي ـده ـ ي إن ـف ـ الحري ّ ّ ّ وأم ــا الم ــراد الس ــوق(ّ .)2 نفّق ــت ل ــه تجارت ــه ف ــي ّ الصيــد فهــي تلــك التــي تحســن باليــد الماهــرة فــي ّ التصوي ــب ،وتصي ــب فريس ــتها وال تش ــويها. الصنـــف أيضـــ ًا إســـناد «الموســـي» ومـــن هـــذا ّ الغنــى والثــراء والملــك إلــى يــد صاحبهــا؛ فيقولون إن يـــده تملـــك أو تحمـــل( .)3وحيـــن تمتـــاز اليـــد ّ ـا ع ــن ذل ــك ،كريم ــة الصف ــة وتك ــون ،فض ـ ً به ــذه ّ محســنة يقــول فيهــا الموســي إنّهــا يــد معطــاء(.)4 إن يــد الســلبي قــول الموســي ّ ونجــد مــن القســم ّ ف ــان ال تنبس ــط()5؛ يقص ــدون أّن ــه ال يمــّد ي ــده ال للعط ــاء وال لإلحس ــان .وه ــو بمثاب ــة الحك ــم علي ــه ـح .وش ــبيه به ــذا المعن ــى م ــا ف ــي بالبخ ــل أو ّ الش ـ ّ
يعبـــرون قـــول الموســـي ّ إن يـــد فـــان تأخـــذ()6؛ ّ بالســرقة والنزعــة إلــى ـا ـ صاحبه بــه عــن اّتصــاف ّ اإلي ــذاء والمي ــل إل ــى اإلض ــرار والفس ــاد. وعلــى العمــوم ،كلّمــا دخلــت أدوات النّفــي علــى الس ــلب .وه ــو م ــا يفي ــد اإليج ــاب نقلت ــه إل ــى ّ حي ــز ّ حي ــز يّتس ــع لمعن ــى الي ــد العج ــول الت ــي ال يمل ــك ّ صاحبه ــا نفس ــه عن ــد الغض ــب ،وه ــي ضدي ــد الي ــد الصب ــورة. «الب ــاردة» المتمالك ــة ّ تصورن ــا والمش ــترك بي ــن صنف ــي الّدالل ــة ف ــي ّ قيامهم ــا عل ــى المج ــاز المرس ــل؛ إذ الي ــد ج ــزء م ــن كي ــان اإلنس ــان اس ــتعملت ف ــي األق ــوال المذك ــورة بمعنـــى اإلنســـان بأكملـــه ،وتلـــك دالالت تثبـــت للغـــة «مـــوري» ،فـــي وجـــه مـــن الوجـــوه ،قـــدرة عل ــى اس ــتيعاب الّتجري ــد العقل ــي والبع ــد الخيال ــي
الفّن ــي واألدب ــي عل ــى غ ــرار م ــا يس ــتوعبها س ــائر الشــفوية منهــا والمكتوبــة علــى األلســنة ّ الطبيعيــة ّ حــّد س ــواء. دال الي ــد مس ــتوى آخ ــر ب ــل نج ــد للموس ــي ف ــي ّ بتصرفــات المولــود؛ ذلــك أنّهــم مــن الّداللــة يّتصــل ّ يحكم ــون ل ــه أو علي ــه اس ــتنادًا إل ــى تأوي ــل حال ــة يديــه؛ فــإذا كان يبســطهما قـّدروا أّنــه يكــون كريمـ ًا أولــوا ذلــك أّنــه يكــون ـخياً؛ وإذا كان يقبضهمــا ّ سـ ّ ـخصية بخيـ ً ـا شــحيحاً .بــل يوغلــون ،فيقــرؤون شـ ّ المول ــود أو غي ــره م ــن األف ــراد ،اس ــتنادًا إل ــى م ــا ف ــي كف ــه م ــن خط ــوط وعالم ــات. فلي ــس م ــن الغري ــب ،إذن ،أن يبن ــي الموس ــي عل ــى عض ــو يكتس ــي دالالت عدي ــدة مس ــتوى م ــن ـن المنظــوم منــه إلــى المنثــور؛ األقــوال أقــرب إلــى فـّ
قول «الموسي» «إن يد فالن تأخذ» ّ يعبّرون به عن اتّصاف صاحبها بالسرقة والنزعة ّ إلى اإليذاء، والميل إلى اإلضرار والفساد
85
من أمثالهم في اليد قولهم: «إن اليد ال تدرك ّ ّ الظهر» ،وهذا إقرار
أو حكم بضعف اإلنسان معزو ًال مفرد ًا ،ونسبيّة قدرته أيض ًا
86
الشــعبية؛ ومــن ذلــك مثــل لهــم نعنــي بــه األمثــال ّ أن اإلصب ــع الواح ــد ال يجم ــع قمحــاً .ولئ ــن مف ــاده ّ ل ــم ي ــرد ف ــي ه ــذا الّتعبي ــر لف ــظ الي ــد ،فه ــو وارد أن األصابــع فــي فــي عبارتهــم األصليــة()7؛ ذلــك ّ لســان الموســي ال تتحـّدد ّإل اســتنادًا إلــى عالقتهــا بالي ــد ،ألنّه ــا ف ــي اصطالحه ــم صغ ــار له ــا .ون ــرى ـث علــى جليـ ًا هــو الحـ ّ فــي هــذا المثــل معنــى ظاهــرًا ّ ـوة ويوفّرهم ــا، ـ والق االّتح ــاد ،ألّن ــه يوّل ــد الق ــدرة ّ ـي ه ــو نب ــذ الفرق ــة كم ــا يتجّل ــى في ــه معن ــى ضمن ـ ّ واألناني ــة. والعزل ــة ّ أن وال يعنـــي ّ حـــث الموســـي علـــى االّتحـــاد ّ أصابــع اليــد عندهــم متســاوية؛ إذ نجــد لهــم قياسـ ًا ـص عل ــى أّن ــه عل ــى ق ــدر م ــا تتف ــاوت مأث ــورًا ين ـ ّ الط ــول يتف ــاوت الّن ــاس أصاب ــع الي ــد م ــن حي ــث ّ ـكل أن ل ـ ّ م ــن حي ــث المنزل ــة أو الق ــدر .لك ــن ،مثلم ــا ّ إصبــع دوره فــي بنيــة الكـ ّ ـكل ـ ل ـون ـف وعملــه ،يكـ ّ ف ــرد دوره ف ــي بن ــاء المجتم ــع وحيات ــه وتنميت ــه. إن الي ــد ال ت ــدرك وم ــن أمثاله ــم ف ــي الي ــد قوله ــم ّ أن يـــد اإلنســـان عاجـــزة مـــن ّ الظهـــر()8؛ يعنـــون ّ ِخلقتهـــا عـــن غســـل ظهـــره بدقّـــة وتمـــام ،مثلمـــا تغســل ســائر أعضائــه .وهــذا إقــرار أو حكم بضعف ـبية قدرت ــه. اإلنس ــان مع ــزو ًال مف ــردًا ونس ـ ّ ومــن المعــروف عنــد الموســي وعنــد غيرهــم مــن حي ــة الس ــوداء أنّه ــم ّ يفضل ــون الّت ّ ش ــعوب إفريقي ــا ّ مجـــرد الـــكالم؛ فإلقـــاء علـــى الســـام باأليـــدي أو ّ ّ التحيــة دون مـّد اليــد عندهــم عالمــة احتقــار وســوء تقديــر ،وإلقاؤهــا مــع المصافحــة دليــل علــى صــدق ـودة واأللفــة. ـوة المـ ّ االحتــرام وقـّ وعلـــى غـــرار مـــا تقـــّدم فـــي المـــوري ،نجـــد للي ــد دالالت عدي ــدة ف ــي اللّس ــان المان ــدي المتف ـّـرع كل م ــن الج ــوال ف ــي بوركين ــا فاس ــو والك ــوت إل ــى ّ ديف ــوار ،والبامب ــارا ف ــي مال ــي ،والمالينك ــي ف ــي غينيـــا كوناكـــري وغيـــر ذلـــك .ومـــن دالالت اليـــد اإليجابي ــة ف ــي ه ــذا اللّس ــان إس ــناد أهل ــه إل ــى الي ــد الســخاء علــى وجــه المجــاز المرســل كذلــك معنــى ّ إن يـــد فـــان واإلحســـان والعطـــاء ،فيقولـــون ّ إن طيبـــة( ،)9أي تنفّـــق الّتجـــارة ،كمـــا يقولـــون ّ ّ الســـلطة( .)10بـــل علـــى اســـتولت قـــد فـــان يـــد ّ ـا ،فيقولــون يشــتق أهــل المانــدي مــن لفــظ اليــد فعـ ً أن فالنــ ًا ق ــد صف ــع غي ــره( .)11ومثلم ــا م ــا يفي ــد ّ ف ــي الم ــوري ،تحتم ــل الي ــد ف ــي المان ــدي الدالل ــة ـح والبخ ــل مثلم ــا تحتم ــل في ــه الدالل ــة عل ــى ّ الش ـ ّ الســـحر؛ الســـخاء .ولليـــد فيـــه داللـــة علـــى ّ علـــى ّ إذ يأم ــر أحده ــم المخاط ــب المّته ــم ب ــأن ينف ـ ّ ـك ع ــن وظف ــت له ــا المس ــحور( .)12وه ــذه بدوره ــا مع ــان ّ
الي ــد كذل ــك عل ــى أس ــاس المج ــاز المرس ــل. وعلـــى غـــرار مـــا رأينـــا عنـــد الموســـي أمثـــا ًال صيغــت علــى أســاس لفــظ اليــد ،نجــد عنــد المانــدي الصغي ــر الت ــي أحس ــن مث ـ ً ـا يق ــول إّن ــه بإم ــكان ي ــد ّ المفضل ــة (ديغ ــي) ـن أكلت ــه ّ غس ــلها أن تعــّد للمس ـ ّ ـص ـ ين ـر ـ آخ ـدي ـ مان ـل ـ مث ـاد ( .)13والم ــراد به ــذا مف ـ ّ أن الفت ــى ال ــذي زار مائ ــة قري ــة ه ــو بمنزل ــة عل ــى ّ أن طــول العمــر ـك ـ ذل ـان؛ ـ م الز ـن ـ م ا ـ قرن ـر ـ عم ً ّ ّ شــيخ ّ وكث ــرة المش ــاهدة والمعاين ــة م ــن خ ــال الّترح ــال همــا فــي رؤيتهــم متكافئــان مــن حيــث الداللــة علــى طــول الّتجربــة واّتســاع الخبــرة واكتســاب الحكمــة والوع ــي. العربيــة وإذا نظرنــا فــي داللــة اليــد فــي الثّقافــة ّ الحظنــا فــوارق جزئيــة ال تطــال أن تخفــي مشــابهة توصلنـــا إليـــه قويـــة بينهـــا وبيـــن مـــا ّ ســـاطعة ّ باس ــتقراء لغ ــة الموس ــي والمان ــدي؛ وه ــو نزع ــة ـوة إلــى «أنســنة» اليــد وإحاللهــا محـّ ـل اإلنســان أو قـّ غيبي ــة ُتق ــدم عل ــى أعم ــال الخي ــر أو الش ـّـر .وف ــي ّ أن النّزعــة لــدى ـ أدب ـي ـ عقل ـد ـ تجري هــذا ـي يـ ّ ـدل علــى ّ ّ المتدينـــة هـــي االنصـــراف عـــن إســـناد الشـــعوب ّ ّ تقيــة أو وقــاراً ،فهــل هذه ـا ـ إم ّوات، ذ ـ ال ـى ـ إل ـال ـ األفع ّ ّ الش ــعوب آث ــار تفاع ــل المقوم ــات المش ــتركة بي ــن ّ ّ مرده ــا إل ــى ـون ـ يك أو ـا؟ ـ بينه ـن ـ ي تاريخي ـة ـ ومثاقف ّ ّ عرفاني ــة مش ــتركة ذهني ــة داّل ــة عل ــى كلّي ــات ّ بن ــى ّ البشـــري؟ مباحـــث نعرضهـــا الجنـــس أبنـــاء بيـــن ّ عرضــ ًا وال نس ــتبعد وراءه ــا معطي ــات مفي ــدة ف ــي والرقــي مجــال العلــم أو الثّقافــة أو سياســة البنــاء ّ الحض ــاري. * أســتاذ اللّغــة العربيــة وعميــد كلّيــة علوم التربيــة ،المركز المتعددة في بوركينا. الجامعــي للتخصصــات ِّ هوامش: - 1أي ي ــده ماه ــرة .وأص ــل عبارته ــم م ــا يل ــي a nuga : nôomamɛ - 2عبارتـــه بمـــوري هـــي fo nuga nôomamɛ ;ti : m’daa locke - 3أصل عبارتهم a nuga taramɛ : - 4أصل عبارتهم a nuga kôtamɛ : - 5أصل عبارتهم a nuga pa tîigedie : - 6أصل عبارتهم a nuga rikedamɛ : - 7أصل عبارتهم nug bi yen dpa wukkede zomye : - 8أصل العبارة nug pa tate’m poorîye : - 9يقولون a bolo kadi : - 10أصل العبارة a yâ tègè dà kan : - 11أصل العبارة a yé karsa tègè : - 12أصل العبارة I tègè bo karsa kan : - 13أكلــة شــبيهة بالمديــد المصنــوع بدقيــق ال ـّدرع .لكنهــا تختلــف أنّهــا تشــرب بــاردة ممزوجــة باللّبــن أو الحليــب.
متعدد الدالالت والحقول المفهومية ،فاليد التي تملك تحضر اليد في الشعر حضورًا ِّ أكثــر من وظيفة فيزيولوجية ،بحســب طبيعة الجســد الذي تنتمــي إليه ،بصفتها ترسخت عبر تاريخها أو في ذاكرتها الثّقافية. عضوًا من أعضائه ،تمتلك رموزًا عديدة َّ
أقوال اليد
وأصابع بين قصيدت َ ْين.. عبده وازن خضع ــت الي ــد لتأوي ــات كثي ــرة ف ــي الحض ــارات المتواليـــة منـــذ مـــا قبـــل التاريـــخ حتـــى الحقبـــات الالحق ــة الت ــي ب ــرزت فيه ــا الميتولوجي ــا واألدي ــان األســطورية ومــا تالهــا مــن عصــور .والتقــت معظــم الحضـــارات واختلفـــت فـــي الحيـــن نفســـه حـــول نظرته ــا التأويلي ــة للي ــد وح ــول المواصف ــات الت ــي أســـبغتها عليهـــا .وتكفـــي العـــودة إلـــى المالحـــم واألس ــاطير والكت ــب الديني ــة القديم ــة حت ــى يتبــّدى هـــذا االختـــاف فـــي التأويـــل بيـــن بـــاد مـــا بيـــن النهريــن أو الميزوبوتاميــا ومصــر الفرعونيــة وبــاد األغريــق والحضــارات اآلســيوية المتعـ ِّـددة كالبوذيــة والهندوس ــية وس ــواهما ،وكذل ــك حض ــارة العص ــور الوســطى ،وصــو ًال إلــى عصرنــا الراهــن .والواضــح أن رمزي ــة الي ــد ل ــم تتج ـ ّـل فق ــط ف ــي الفك ــر والدي ــن
والطق ــوس ،ب ــل ش ــملت الفن ــون كالنح ــت والرس ــم وعل ــى نح ــو خ ــاص الش ــعر ف ــي أش ــكاله المختلف ــة. حض ــرت الي ــد ف ــي ذاك ــرة الش ــعر عل ــى اخت ــاف عصــوره ومدارســه :الشــعر الملحمــي ،الشــعر الديني والرع ــوي والغنائ ــي ،ش ــعر الجماع ــة أو القبيل ــة، الش ــعر الش ــفوي والمكت ــوب ،وحض ــرت أيضــ ًا ف ــي شــعر العصــور المتقدمــة ،كالنهضــة أو الرنيســانس ث ــم الكالس ــيكية ث ــم الرومانطيقي ــة ،فالرمزي ــة ث ــم كافـــة: الحداثـــة .حضـــرت اليـــد شـــعري ًا برموزهـــا ً رم ــز الق ــوة والج ــأش ،الخي ــر والعط ــاء ،التعاض ــد والتالحــم ،الخدمــة ،الســخاء ،البخــل ،االستســام، الحنــان ،الحــب ،القــدر ،األمومــة ،وحتــى األلوهــة، ال ســيما عندمــا عمــد بعــض الشــعراء إلــى الــكالم عــن أي ــدي اآلله ــة وأي ــدي المالئك ــة البيض ــاء...
التقت معظم الحضارات، واختلفت في الحين نفسه، حول نظرتها التأويلية لليد وحول المواصفات التي أسبغتها عليها
87
الشعر َّ ركز كثير ًا على يد الحبيبة، بوصفها العضو األشد حنو ًا وحنان ًا وأنوثة ونقاء
88
ركـــز كثيـــرًا علـــى يـــد الحبيبـــة، ّإل أن الشـــعر َّ بوصفهـــا العضـــو األشـــد حنـــوًا وحنانـــ ًا وأنوثـــة ونق ــاء .ي ــد الحبيب ــة ه ــي منب ــع الصف ــاء والجم ــال والرق ــة والعذوب ــة ،وعل ــى صفحته ــا يندم ــج الح ــب بالرغبة ،الشــوق بالشــهوة .وكثيرًا ما كتب الشــعراء عــن التحــام أيــدي العاشــقين بعضهــا ببعــض ،وعــن أســرار يــد الحبيبــة وعــن الســحر الــذي ينبثــق منهــا ل ــدى مالمس ــتها أو تقبيله ــا .ولئ ــن ل ــم تس ــتطع الي ــد تجــاوز حضــور العيــن أو العينيــن ،عينــي الحبيبــة، اللتيـــن مألتـــا الدواويـــن والقصائـــد ،وطغتـــا علـــى م ــا عداهم ــا م ــن مكام ــن الجم ــال ف ــي الجس ــد ،كالخ ــد والش ــفة والحاج ــب ،ف ــإن الي ــد تظ ــل تمل ــك س ــرها الفريـــد ورمزيتهـــا التـــي ألهمـــت خيـــال الشـــعراء. ولعــل الشــعراء الفرنســيين كانــوا مــن أغــزر الشــعراء الذيـــن كتبـــوا عـــن اليـــد أو اليديـــن ،يـــدي الحبيبـــة تحديـــداً ،وقـــد تكـــون القصيدتـــان الشـــهيرتان «يـــدا ج ــان م ــاري» ألرت ــور رمب ــو و«ي ــدا إلس ــا» للوي ــس أراغــون ،مــن أجمــل مــا كتــب فــي هــذا الحقــل .لكنهمــا ليســـا الوحيديـــن اللذيـــن أبدعـــا فـــي اســـتيحاء يـــد المــرأة أو الحبيبــة ،بــل إن شــعراء فرنســيين كثــراً، ـا ســبقوهما أو أعقبوهمــا كتبــوا عــن اليــد شــعرًا جميـ ً وفري ــداً .يكت ــب الش ــاعر الكالس ــيكي الش ــهير ج ــان راس ــين صاح ــب« :أنت ــن ي ــا فتي ــات الجحي ــم ،ه ــل ـزة؟» .ويقــول الشــاعر هنــري أصبحــت أياديكــن جاهـ ً فردري ــك أمي ــال« :ي ــدًا بي ــد نهيم ــن عل ــى كل مق ــام/
س ــوف نحي ــا ونم ــوت منتصري ــن بالح ــب» .ويكت ــب الشــاعر الرومانطيقــي الفــرد دو موســيه« :أي ـ ًا يكــن الس ــبيل ،أي ـ ًا يك ــن الغ ــد /الدلي ــل والوحي ــد ف ــي ه ــذا العال ــم ي ـ ُـد الحبيب ــة» .وف ــي قصي ــدة أخ ــرى يق ــول: «لقــد ماتــت مــن غيــر أن تحيــا ،كانــت تتظاهــر بأنهــا تحي ــا .م ــن يديه ــا س ــقط الكت ــاب ال ــذي ل ــم تق ــرأ في ــه شــيئاً» .ويقــول كبيــر شــعراء فرنســا فيكتــور هيغــو: «المســتقبل شــبح بيديــن فارغتيــن ،يعــد بــكل شــيء وال ش ــيء لدي ــه» .ويق ــول أيضــاً« :الس ــماء صنع ــت لترممــا حياتــك نصــف المتهالكة ،الســماء خلقت يـ ّ ـدي ّ ألقبــل قدميــك» .أما بول ـفتي ّ روحــي ألفهــم قلبــك ،شـ ّ فيرليــن الشــاعر الرمــزي صديــق رمبــو فيقــول« :هــي ذي الفواكــه ،األزهــار ،األوراق واألغصــان ،ثــم هوذا قلبــي ال يخفــق ّإل لـ ِ ـك .ال تمزقيــه بيديــك البيضاويــن وليصب ــح الحاض ــر المّتض ــع عذب ــا أم ــام ناظري ــك». غي ــوم ابوليني ــر كت ــب ف ــي قصيدت ــه الش ــاعر الكبي ــر ّ الشـــهيرة «جســـر ميرابـــو»« :تحـــت جســـر ميرابـــو يذكرن ــي يج ــري نه ــر الس ــين /وحبن ــا /أيج ــب أن ّ /بـــأن الحـــب يأتـــي دومـــ ًا بعـــد العـــذاب /يـــداك ـدي نبقــى وجهـ ًا لوجــه /بينمــا تحــت متشــابكتان بيـ ّ جس ــر أذرعتن ــا تعب ــر /الموج ــة المنهك ــة لنظراتن ــا مؤســس الحركــة األبديــة» .الشــاعر أندريــه بروتــون ِّ الس ــوريالية كت ــب كثي ــرًا ع ــن األي ــدي ومم ــا يق ــول: «أجلــب فاكهــة بريــة ،ثمــرات عنابيــة فأعطيهــا إياهــا فتصبــح بيــن يديهــا جواهــر هائلــة» .ويكتــب بروتون أيضـاً« :يــدان تبحثــان واحدتهمــا عن األخــرى ،هذا ما يكفــي ســقف الغــد» .ويكتــب الشــاعر رينــه غــي كادو: «امشــي واعلــم أن يديــك تجيباننــي ،أيتهــا المــرأة». ويكت ــب أوجي ــن غييوفي ــك« :ل ــو كان يكف ــي أن نم ــد يدنــا مثلمــا نســترق الســمع» .ويكتــب جــان كوكتــو: «لــن أنظــر إلــى اليديــن اللتيــن تعطيــان مــا ال جــدوى من ــه» .الش ــاعر اي ــف بونف ــوا يق ــول« :أرض تأت ــي إلين ــا بعيني ــن مغمضتي ــن كأنم ــا تس ــعى أن تقوده ــا ي ــد» .ويق ــول ف ــي س ــياق آخ ــر« :ف ــي أحي ــان تحم ــل قليـــا مـــن المـــرآة بيـــن ســـماء وغرفـــة فـــي يديهـــا ً شــمس األرض» .ويكتب الشــاعر والفيلســوف روجيه نيمي ــه« :نرب ــح الس ــماء والس ــيف مهزومــ ًا بالي ــد». ويقــول الشــاعر والروائي كريســتيان بوبــان« :الكتب تنفت ــح مث ــل أي ــد خفيف ــة». بعــد هــذه القبســات المضيئــة من الشــعر الفرنســي ال بــد مــن التوقــف أمــام قصيــدة الشــاعر أرتــور رمبــو «يــدا جــان مــاري» التــي تعــد مــن أهــم القصائــد التــي كتبــت عــن يــدي امــرأة ومــن خــال هاتيــن اليديــن عن قضاي ــا ع ــدة منه ــا الح ــب والث ــورة والنض ــال .كت ــب رمب ــو ه ــذه القصي ــدة ف ــي فبراير/ش ــباط 1872ف ــي خضــم كومونــة باريــس الشــهيرة التي خضت فرنســا ورســخت معالــم الفكــر الثــوري الملتزم.وكتــب رمبــو هــذه القصيــدة بمثابــة تحيــة إلــى النســوة البطــات
اللواتـــي شـــاركن فـــي الكومونـــة حتـــى وإن بـــدت ش ــخصية ج ــان م ــاري فري ــدة بصورته ــا الت ــي ألق ــى عليه ــا رمب ــو ظ ــال ش ــعريته الس ــامية .وإن اخت ــار يديه ــا عنوانــ ًا للقصي ــدة ومنطلقــ ًا رمزيــ ًا وجماليــ ًا له ــا فه ــو ل ــم يكت ــف بوص ــف هاتي ــن اليدي ــن فيزيقي ـ ًا ضمــن هــذا الوصــف ملمحـ ًا أخالقيـ ًا أو «اتيكيـاً» بــل ّ والتزاميــ ًا لئ ــا أق ــول سياس ــياً .ج ــان م ــاري ام ــرأة مــن الشــعب ،لكنهــا امــرأة تختلــف عــن ســائر نســوة الكومون ــة .إنه ــا ِّ تمث ــل األهمي ــة الت ــي حظي ــت به ــا المــرأة بصفتهــا عضــوًا رئيسـ ًا فــي حركــة الكومونــة. فجــان مــاري امــرأة مناضلــة ولهــا «يــدان قويتــان»، لوحهم ــا الصي ــف» .ويصفهم ــا رمب ــو «ي ــدان داكنت ــان ّ أيضـ ًا بـ«الشــاحبتين» شــحوب األيــدي الميتــة ألنهمــا ي ــدان متعبت ــان م ــن ف ــرط العم ــل أو نق ــل األس ــلحة. وي ــرد رمب ــو عل ــى االتهام ــات الت ــي راج ــت حين ــذاك وطاولـــت النســـوة المناضـــات ،ومفادهـــا أنهـــن داع ــرات ومنح ــدرات أخالقيــاً ،فيس ــأل :ه ــل أخ ــذت هات ــان الي ــدان صبغتهم ــا الس ــمراء م ــن «مس ــتنقعات «تغمســـتا فـــي أقمـــار بـــرك الملـــذات»؟ أم أنهمـــا ّ الصف ــاء»؟ ث ــم يق ــول ف ــي م ــا يش ــبه صيغ ــة الج ــواب الـــذي ُيســـقط عـــن يـــدي جـــان مـــاري أي شـــائبة: «ليســتا يــدي مومــس /وال يــدي عامــات بجبهاتهــن العريضــة» .بــل «همــا يــدان ال تؤذيــان البتــة» ،إنهمــا «أقــوى مــن حصــان» ،و«ِقوامهمــا المتحــرك كاألتون، والمرتع ــش بق ــوة /ينش ــد المارس ــييز /ال صل ــوات االســـترحام» .ولعـــل هـــذا مـــا يـــدل علـــى الطبيعـــة الصل ــدة له ــذه الم ــرأة المناضل ــة الت ــي ال تنثن ــي له ــا عزيمــة والتــي تؤثــر أداء أناشــيد الثــورة علــى تــاوة الصــاة المســيحية .ثــم يمتدح الشــاعر «بريــق هاتين اليديــن المحبوبتيــن» الــذي «يجــذب ســحنة النعــاج» وفــي راحتيهمــا الشــائقتين /الشــمس العظميــة تضع يواقيــت» .وال يغــض رمبــو عينيــه عــن بــأس هاتيــن اليديـــن اللتيـــن أحرقتهمـــا الشـــمس وهمـــا تحمـــان البندقي ــة ف ــي ث ــورة باري ــس .ويبل ــغ الش ــاعر أوج ـا« :آه تغني ــه بهاتي ــن اليدي ــن عندم ــا يخاطبهم ــا قائ ـ ً أيته ــا الي ــدان المقدس ــتان اللت ــان ترتج ــف ش ــفاهنا وســعهما غيــر مســتيقظة مــن ســكرها» .وفــي ختــام القصيــدة يصفهمــا بـ«يــدي مــاك». أمــا قصيــدة «يــدا إلســا» فتختلــف تمــام االختــاف عــن قصيــدة رمبــو ،وكذلــك تختلــف شــخصية إلســا ع ــن ش ــخصية ج ــان م ــاري .إلس ــا ه ــي الحبيب ــة ف ــي كاف ــة تجلياته ــا ،روحيـ ـ ًا وجس ــدياً .ولئ ــن نش ــرها أراغـــون فـــي ديوانـــه الملحمـــي الرهيـــب «مجنـــون إلس ــا» فه ــي تب ــدو امت ــدادًا لقصائ ــده الش ــهيرة الت ــي ضمتهـــا دواوينـــه الشـــهيرة مثـــل «إلســـا» و«عينـــا إلســا» .لكــن هــذه القصيدةالبديعــة وجــدت قوامهــا في قلــب النشــيد الملحمــي أو القصيــدة الملحميــة الطويلة «مجن ــون إلس ــا» الص ــادرة ف ــي كت ــاب ع ــام .1963
وق ــد أمض ــى أراغ ــون س ــنوات يك ــب عل ــى الت ــراث وتحليـــا حتـــى تمكـــن مـــن بنـــاء األندلســـي قـــراءة ً ه ــذه القصي ــدة الت ــي يعده ــا النق ــد الفرنس ــي قصي ــدة ش ــاملة ،يلتق ــي فيه ــا التاري ــخ والس ــرد والوص ــف والمســـرح والشـــعر والنثـــر المجـــرد .وقـــد اختلـــق أراغــون شــخصية الشــاعر المجنــون ُأســوة بالشــاعر قي ــس ،كم ــا تجّل ــى ف ــي ملحم ــة الش ــاعر الفارس ــي الكبيـــر جامـــي وفـــي قصائـــد المجنـــون العربيـــة الت ــي تمّث ــل أجم ــل قصائ ــد الغ ــزل الع ــذري .الش ــاعر المجن ــون هن ــا يج ــوب ش ــوارع غرناط ــة وأحياءه ــا وس ــاحاتها والميادي ــن مغنّي ـ ًا مث ــل التروب ــادور ف ــي القــرون الوســطى لحبيبتــه إلســا التــي شــاءها قرينــة ليلــى ،العشــيقة التــي تيمــت قيــس وأحيتــه وقتلتــه فــي آن واحــد .ومثلمــا عانــى قيــس وســجن يعانــي مجنــون األندلــس ويســجن ثــم يخرج من ســجنه أشــد جنونــ ًا وإبداعــاً ،يلق ــي القصائ ــد ش ــجية وحزين ــة، جــراء ســقوط غرناطــة فــي أيــدي الغــزاة الغربييــن. إنهــا إذًا أيــام العــرب األخيــرة فــي غرناطــة بــل فــي األندلــس ،بــل آخــر أيــام الملــك أبــي عبــداهلل ،يعيــش الش ــاعر مأس ــاتها متوازي ــة م ــع مأس ــاته الش ــخصية أو مأس ــاة حب ــه المجن ــون. يخاط ــب الش ــاعر حبيبت ــه ف ــي مطل ــع القصي ــدة قائ ــا« :اعطين ــي يدي ــك ألواج ــه القل ــق /اعطين ــي يدي ــك اللتي ــن طالم ــا بهم ــا حلم ــت /اللتي ــن حلم ــت طويـــا فـــي عزلتي/أعطينـــي يديـــك ليكـــون بهمـــا ً خالصــي» .ويضيــف« :عندمــا آخــذ يديــك لــي شــرك ًا /م ــن راح ــة ي ــد وخ ــوف م ــن عجل ــة واضط ــراب/ عندمــا آخذهمــا كمثــل مــاء ثلــج /يــذوب مــن النواحي ـدي /ه ــل س ــتدركين م ــا يعبرن ــي /م ــا كلّه ــا ف ــي ي ـ ّ يبلبلنــي ويجتاحنــي /هــل ســتدركين مــا يخترقنــي/ لمــا ارتجفــت» .ثــم يقــول« :مــا تقولــه هكــذا مــا خنتــه ّ اللّغـــة العميقـــة /هـــذا الـــكالم األخـــرس للحـــواس البهيم ــة /ب ــا ف ــم وال عيني ــن م ــرآة ب ــا ص ــورة/ ارتع ــاش الح ــب ال ــذي ب ــا كلم ــات /ه ــل س ــتعلمين يوم ـ ًا بم ــاذا تفك ــر األصاب ــع /ع ــن فريس ــة تلتقطه ــا للحظ ــة /ه ــل س ــتعرفين أن صمته ــا /ب ــرق ع ــرف المجه ــول بومض ــة» .ويختت ــم القصي ــدة عائ ــدًا إل ــى منــاداة الحبيبــة قائــا« :اعطينــي يديــك عســى قلبــي يتكـــون فيهمـــا /وفيهمـــا يصمـــت العالـــم أقـــل مـــن ّ لحظ ــة /اعطين ــي يدي ــك ع ـ ّـل روح ــي فيهم ــا تن ــام/ ع ـ ّـل فيهم ــا تن ــام روح ــي إل ــى األب ــد». فـــي هـــذه القصيـــدة الجميلـــة ال يبـــدو لويـــس ـا ع ــن قي ــس مجن ــون أراغ ــون الش ــاعر غريبــ ًا فع ـ ً ليلــى ،ففــي أنفاســه الشــعرية يتبــدى صــوت قيــس ال ــذي نج ــح الش ــاعر الفرنس ــي ف ــي تلبس ــه ،ليجس ــد مــن خاللــه إحــدى أبهــى الصــور التــي يمكــن تشــكيلها للش ــاعر العاش ــق والمغن ــي.
جان ماري امرأة مناضلة ،لها «يدان قويّتان»، يصفهما رامبو بـ«الشاحبتين»؛ من فرط العمل أو نقل األسلحة
89
تلبيــة لحاجات اللّغــة ،أكبر العون .فليــس مخطئاً ،على «تســدي األيدي إلى اإلنســان، ً تميز طبيعــة العقل ،وذلك اإلطــاق ،مــن يرى ،في اســتعمال األيــدي الخصائص التــي ّ لسبب يجري قبوله ،ويسهل فهمه؛ وهو أنها تسمح لنا بأن نمثّل أقوالنا عن طريق حروف .وبالفعل، يعبر عن نفســه عن طريق الحروف ،وأن يتحــاور بكيفية ما عن إن مــن عالمــات حضــور العقل ،أن ّ يمكن األصوات واألفعال من أن ترســخ عــن طريق الحروف المكتوبة les طريــق األيدي ،وذلك بأن ّ َ .»caractè res Gré goire de Nysse, La cré ation de l’homme
ّ تمكننا األيدي- إذ ًا -من أن نمثِّل أقوالنا ،في الوقت ذاته الذي تعكس فيه أمزجتنا وطباعنا
90
يد و يد عبد السالم بنعبد العايل يدل في الوقت ذاته لفظ caractèresالفرنسي ّ والطبــاع. ـدل علــى األمزجــة ّ علــى الحــروف ،كمــا يـ ّ تمكننــا األيــدي إذًا مــن أن نمثــل أقوالنــا فــي الوقــت ّ ذات ــه ال ــذي تعك ــس في ــه أمزجتن ــا وطباعن ــا .ربم ــا
لهــذا الســبب فــإن مختلــف آالت الكتابــة ،مــن الراقنة تتمكــن ،وربما التقليديــة إلــى جهــاز الكمبيوتــر ،لــم ّ تتمكــن علــى اإلطــاق ،م ــن أن تنــزع ع ــن اليــد لــن ّ أدل علــى أهميتهــا وعالقتهــا الحميمــة بالكتابــة .ال ّ
ذل ــك م ــن تزاي ــد القيم ــة والمكان ــة اللتي ــن يحظ ــى ـص المخط ــوط ،ف ــا ش ــيء يع ــدل ق ــراءة بهم ــا الن ـ ّ ِ ـق الكاتــب «ي ْطلـ ُ عمــل الكاتــب بـ«خــط يــده» ،حيــث ُ يقيدهــا ال أي ـة، يــده» ،كمــا تقــول الّدارجــة المغربيـ ّ بضوابــط بعينهــا ،وال يخضعهــا للرقابة الشــعورية المتحكـــم، الموجـــه الصارمـــة ،ولقواعـــد العقـــل ِّ ِّ فتتمك ــن من«الخ ــروج» ،وتفس ــح المج ــال أله ــواء ّ الجســد كــي يظهــر فــي تدفّقــه وتلقائيتــه. ـط الي ــد» إذًا ه ــو فض ــاء التلقائي ــة العم ــل بـ«خ ـ ّ ـردد ،فضــاء الظهور والتســتر ،فضــاء اإلفصاح والتـ ُّ واإلضمـــار ،فضـــاء الحضـــور والغيـــاب ،فضـــاء العقـــل والالعقـــل ،فضـــاء الشـــعور والالشـــعور، الفضــاء الــذي يعمــل فيــه النســيان عملــه .لــذا فهــو مكنن ــا م ــن أن نتواص ــل ف ــي التح ــام ش ــديد ال م ــع ُي ّ الن ــص وح ــده ،ب ــل حت ــى م ــع صاحب ــه .وه ــذا ال ـكل عمــل «مــن صنــع اليد» ـص الكتابــة وحدهــا .فـ ّ يخـ ّ يجســد هــذه «التلقائيــة» فيحظى فــي مجتمع التقنية بقيمــة ماديــة ومعنويــة تفــوق أضعافـ ًا «محاكيــه» م ــن صن ــع اآلل ــة .لع ــل ه ــذا م ــا جع ــل ُكّتاب ـ ًا كب ــارًا يتمســـكون باالمتنـــاع عـــن اســـتعمال اآللـــة ،أو ال ّ يلجــؤون إليهــا فــي نصوصهــم جميعهــا ،شــأن جان جوني الذي كان يؤمن بـ«أن الكتابة بواســطة اآللة جي ــدة» ،أو ش ــأن ال يمكنه ــا ق ـ ّ ـط أن تك ــون كتاب ــة ّ جــاك دريــدا الــذي امتنــع لمــدة طويلة عن اســتعمال آلــة الكتابــة ،بــل عــن اســتعمال األقــام الحديثــة، مكتفيـ ًا باســتعمال الريشــة والحبــر ،وحتــى عندمــا «انتصــر» عليــه الكمبيوتــر فإنــه لــم يكــن يســتعمله، علـــى حـــّد قولـــه ،إ ّال مـــن أجـــل كتابـــات بعينهـــا كال ــدروس والرس ــائل ،وحت ــى إن ه ــو التج ــأ إلي ــه فيمــا يخــص نصــوص المحاضــرات والنــدوات فهــو ـط الصفح ــات األول ــى كان ال يج ــد بــّدًا م ــن أن يخ ـ ّ بيــده ،أو شــأن هايدغــر الــذي لــم يكــن يكتــب قــط ّإل كل هــؤالء الكّتــاب ظلــوا يــرون فــي اآللــة «بيــده»ّ . حاجــزًا دون ظهــور «خط اليد» ،دون ظهور«الحرف والطب ــع» ،كله ــم رأوا ف ــي الكتاب ــة اآللي ــة مناس ــبة يغــدو فيهــا اللفــظ مجـّـرد «أداة» فتغيــب التلقائيــة، ويقهــر الجســد. وتختفــي الطبــاعُ ، ق ــد يق ــال ب ــأن الكات ــب س ــرعان م ــا يأخ ــذ ف ــي النقر بيســر وســرعة وســهولة ،ســرعان ما «يألف» اآللــة «فيتكــون لديــه ،علــى ح ـّد تعبيــر ج .دريــدا، جســد آخــرّ ..إل أنــه ليــس الجســد نفســه» ،كمــا قــد يق ــال إن كان ــت الي ــد الت ــي تحم ــل القل ــم تت ــوارى، فــان اليــد التــي تنقــر (أو كمــا تقــول اللّغــة الفرنســية ـل تعم ــل .لك ــن ف ــرق بي ــن ي ــد تض ــرب )tapeتظ ـ ّ ويــد :بيــن يــد تعكــس الطبــاع واألمزجــة ،وأخــرى
تتش ــابه خطوطه ــا وتتس ــاوى أمزجته ــا .ذل ــك م ــا يؤكـــده م.هايدغـــر عندمـــا يقـــول« :فـــي الكتابـــة ّ بواس ــطة اآلل ــة ،جمي ــع الن ــاس يتش ــابهون». يش ــير الفيلس ــوف األلمان ــي هن ــا إل ــى خاصي ــة تميـــز اليـــد البشـــرية ،بـــل لعلهـــا هـــي أساســـية ّ وفصـــا التـــي تجعـــل اليـــد حصـــرًا علـــى البشـــر، ً نوعيـــ ًا يميزهـــم عـــن باقـــي األجنـــاس التـــي يصنف ــون ضمنه ــا ،وه ــي خاصي ــة خل ــق الف ــروق ـكل عم ــل ي ــدوي ه ــو عم ــل فري ــد واالختالف ــات .ف ـ ّ يتميــز عــن غيــره وال يشــابهه إطالقـاً .فليــس العمــل اليــدوي «وحــدة إنتاجيــة» ،وال رقمـ ًا فــي سلســلة، وال نســـخة مـــن آالف النســـخ .إنـــه بالتعريـــف «عمــل» متفــرد ال شــبيه لــه .اليــد صانعــة «النســخ الفري ــدة» ،صانع ــة االختالف ــات والتف ـّـردات ،فه ــي كل األشــياء التــي تعمــل علــى إحــداث الفــروق بيــن ّ تلمســها وتصوغهــا فــي قوالــب متمايــزة .علــى هــذا النحــو فهــي تميــز اإلنســان عــن جميــع الحيوانــات الت ــي ليس ــت له ــا أي ــاد ،كم ــا يق ــول هايدغ ــر ،ب ــل مج ــرد قوائ ــم. أشـــرنا ســـابق ًا إلـــى الطبيعـــة الجيولوجيـــة، وإلــى خاصيــة اإلضمــار التــي يتســم بهــا المخطوط نـــرد ذلـــك أساســـ ًا إلـــى مـــا اليـــدوي .ينبغـــي أن ّ تنطــوي عليــه اليــد مــن قــدرة علــى اإلخفــاء .ذلــك أنه ــا ال تكتف ــي ب ــأن «تحم ــل» القل ــم ،وإنم ــا تق ــوم بوظائـــف الحصـــر لهـــا ،فهـــي تصـــون وتحفـــظ، وتحـــرص علـــى ضبـــط مـــا ال ينبغـــي أن يظهـــر. وهـــذه أيضـــ ًا مـــن الســـمات التـــي تميـــز اإلنســـان عــن غيــره مــن األنــواع .اليــد أداة كتمــان األســرار، والتخفــي مــن إحــدى فضائــل األيــدي .مــن المأثــور عـــن البوذييـــن اعتبارهـــم اليـــد المســـدودة رمـــزًا لإلخفــاء والتضليــل .لــذا فــإن يــد بــوذا تبــدو دائمـ ًا مفتوح ــة« ،ألن المذه ــب ،كم ــا تق ــول البوذي ــة ،ال ينط ــوي عل ــى أس ــرار». اليـــد تركيـــب خـــاص بالبشـــر بيـــن التذكيـــر والتأنيــث ،بيــن اإلفصــاح والتخفــي ،بيــن الكشــف والحش ــمة ،بي ــن اإلعط ــاء والتلق ــي ،بي ــن الفع ــل كل ذل ــك ف ــي الوق ــت ذات ــه :إنه ــا واالنفع ــال :فه ــي ّ منفعل ــة متخفي ــة محتش ــمة متلقي ــة م ــن حي ــث ه ــي فعالة تضــم وتحتــوي وتســتر و«تمــد يدهــا» ،وهــي ّ مكش ــوفة مفتوح ــة م ــن حي ــث ه ــي تقب ــض وتشــّد وتعطـــي« ،وإنمـــا ســـميت يـــدًا ألنهـــا إنمـــا تكـــون باإلعط ــاء ،واإلعط ــاء إنال ــة بالي ــد» (اللس ــان). ـل حك ــرًا عل ــى كل ه ــذا وذاك ،فإنه ــا تظ ـ ّ وف ــوق ّ ـدل ـات ـ عالم ـط ـ وتخ ـم ـ ترس ـا ـ اإلنســان ألنه وتبيــن وتـ ّ ِّ وتتكلــم. وتشــير وتحيــل ،signifieوألنهــا تنطــق َّ
هايدغر: «في الكتابة بواسطة اآللة، جميع الناس يتشابهون»
91
لعــل من أشــهر األيادي فــي تاريخ الَفّن ،اليدان في لوحة «الخلــق» لمايكل أنجلو ،في ّ لوحة وحده ،بمعزل عن قبة كنيســة السيســتين ،إذ اشــتهر هذا التفصيل كما لو كان ً مقطعات السقف كامالً ،وهذا ما لم يتوفر كثيرًا ألي ٍ أياد أخرى ،على ما يبدو. ّ غير أننا نستطيع أن ندرج (اليد) ،باعتبارها العنصر الثالث في أي لوحة ،بعد الوجه والثوب ،وهي إن بدت جزءًا هامشي ًا للمتلقّي ،تستخدم عند الفنان لتعزيز حركية اللوحة ،بخالف السياق السكوني الغالب في البورتريهات.
«درس قراءة» ،عام 1888م ،إميل مونيير
«عاشقان اثنان» عام 2012م ،نيك آلم
تاريخ َفنّي لليد نورة محمد فرج
اليد العارفة: اليد الحانية هي يد قاسية -أيض ًا- في أصلها ،أو حين تشاء ،في لوحة «عاشقان اثنان»
92
فــي لوحــة إميــل مونييــر « Emile Munierدرس ق ــراءة »reading lessonع ــام 1888م ،ن ــرى ث ــوب المعلِّم ــة الغام ــق الموش ــى ،مقاب ــل الث ــوب األبي ــض البســـيط الـــذي ترتديـــه الفتـــاة ،كمـــا نـــرى يديهـــا المتشـــابكتين عنـــد خدهـــا ،مقابـــل يـــدي المعلِّمـــة المتفرقتيــن ،واحــدة تمســك بالكتــاب ،واألخرى تشــير محـــدد فيـــه ،فكـــرة أو معلومـــة بإصبعهـــا إلـــى أمـــر َّ محـ َّـددة عنــد المعلِّمــة ،ويجــب أن تتحـ َّـدد عنــد الفتــاة، ولك ــن الفن ــان ال يري ــد لن ــا أن نكتش ــف م ــا حقيق ــة ه ــذا ـا للتعابي ــر الت ــي يمت ــزج مكمـ ً التعلي ــم ،يأت ــي كل ه ــذا ّ فيهـــا التســـاؤل وعـــدم الفهـــم وشـــيء مـــن الحيـــرة والصدمــة الخفيفــة ،علــى الحاجــب وكذلــك علــى الفــم ـا ،بينمــا يظهــر اليقيــن والصرامــة علــى المنفــرج قليـ ً
وجــه المعلِّمــة التــي تراقــب التعابيــر علــى وجــه الفتاة.
اليد الحانية:
اليـــد الحانيـــة هنـــا هـــي يـــد قاســـية أيضـــ ًا فـــي أصلهــا ،أو حيــن تشــاء ،فــي لوحــة نيــك آلــم Nick « Almعاشــقان اثنــان »Two lovers -عــام 2012م، تســند الفتــاة ذات العيــن المغمضــة إلــى صــدر تمثــال إللــه بحــري مــا ،وتمســك بذراعــه التــي تمســك بدورها شـــوكة طويلـــة ،عنـــد أســـنانها تســـترخي الـــذراع األخ ــرى للفت ــاة ومعصمه ــا المح ــاط بس ــوار لؤل ــؤي. عيــن الفتــاة مغمضــة فــي حالــة اطمئنــان ،بينمــا عيــن التمثــال غيــر ذات الحدقــة مفتوحــة بشراســة وتحفــز. كل م ــا ف ــي اللوح ــة أس ــود أو رم ــادي ،حت ــى س ــاق ـا يــكاد يتماهى مع الفتــاة ألبســها الفنــان جوربـ ًا طويـ ً ل ــون التمث ــال ،البي ــاض ف ــي ذراع ــي الفت ــاة ووجهه ــا
«إيفان الرهيب يقتل ابنه» ،عام ،1885إيليا ريبين
«المركيزة بومبادور» ،عام 1756م ،لفرانسوا بوشور
وحاش ــية فس ــتانها المكش ــكة فق ــط. ف ــي تص ــور آخ ــر للوح ــة ،ن ــرى الش ــوكة مس ـ َّـددة تمامـ ًا إلــى صــدر الفتــاة ،ولكننــا حيــن نتتبع مســارها نراه ــا تم ــر م ــن أمام ــه ،لتش ــكل له ــا ط ــوق الحماي ــة. اليــد القاتلــة الحانيــة الحاميــة ،يــد التمثــال ،وأيــادي الفتــاة ،اآلمنــة المطمئنــة.
اليد النادمة:
لوحـــة «إيفـــان الرهيـــب يقتـــل ابنـــه Ivan the »Terrible killing his sonعـــام ،1885إليليـــا ريبيــن Ilya Repinالنــدم فــي عيــون إيفــان الرهيــب المذهول ــة ،ذراع ــه اليمن ــى تحي ــط بابن ــه وتحضن ــه وتقربـــه إليـــه ،فيمـــا اليـــد األخـــرى ممســـكة بـــرأس المغ ــدور ،األصاب ــع مضموم ــة عل ــى بعضه ــا صفـ ـ ًا ال مــن واحــداً ،لكنهــا ال تمنــع الــدم مــن أن ينــزف متســل ً بينه ــا ،محاول ــة لمن ــع م ــا ل ــم يع ــد باإلم ــكان منع ــه.
اليد القارئة:
علــى الرغــم مــن أن ثيمــة القــراءة تتكـّـرر باســتمرار عنــد الرســامينّ ،إل أن إحــدى أشــهر لوحــات النســاء القارئـ�ات ،هـ�ي لوحـ�ة «المركيزة بومبادو ر �La mar »quise de Pompadourع ــام 1756م ،لفرانس ــوا بوشور ،François Boucherعند وسط الفستان المتــرف نــرى اليــد المترفــة المحاطــة بســوار مــن ثالثة
«عالم الدين» ،عام 1907م ,عثمان حمدي بيه
صفــوف لؤلؤيــة وهــي تمســك بكتــاب ،تبــدو أوراقــه ـا ،كم ــا ل ــو كان ق ــد ُق ــرأ م ــرارًا وم ــراراً، متجع ــدة قلي ـ ً وهــو مــا يحتــل مركــز اللوحــة ،وكأنهــا تأكيــد لصــورة أخـــرى غيـــر الصـــورة التقليديـــة لمـــدام بومبـــادور عش ــيقة للوي ــس الخام ــس عش ــر ،الت ــي تعب ــر عنه ــا يده ــا األخ ــرى المرتخي ــة عل ــى المخ ــدة ف ــي الجان ــب األيمــن مــن اللوحــة.
اليد القلقة:
عثمان حمدي بيه ،Osman Hamdi beyالفنان التركــي ،فــي لوحــة «عالــم الديــن »Theologistعــام 1907م ،هن ــا ال يب ــدو ق ــارئ الق ــرآن قارئــاً ،وإنم ــا يظه ــر وكأن القل ــق يس ــيطر علي ــه لفك ــرة ال يس ــتطيع تبينهــا ،يــده اليمنــى علــى رأســه ،إصبــع علــى رأســه يمــس عمامتــه ،وإصبــع علــى جبينــه ،وإصبــع علــى حاجب ــه ،وإصب ــع ام ــام عين ــه ،فيم ــا الي ــد اليس ــرى عنــد طــرف المصحــف المفتــوح. ـاء والطالب مثلــه ،طالما رســم المستشــرقون العلمـ َ الشـــرقيين فـــي حالـــة قلـــق فكـــري أمـــام كتبهـــم، خصوصــ ًا الفن ــان االستش ــراقي النمس ــاوي لودين ــغ داتــش ،وفــي إحــدى لوحاتــه نــرى اليــد فــي الوضعيــة القلقــة نفســها التــي ظهــرت فــي لوحــة عثمــان حمــدي، حيــث األصابــع المتفرقــة علــى الــرأس والجبيــن ،غيــر أنهــا اليــد اليســرى ،فيمــا اليمنــى ممســكة بالكتــاب.
أشهر لوحات النساء القارئات، هي لوحة «المركيزة بومبادور» لفرانسوا بوشور
93
«المـفكر» عام 1880م ،رودان
“ الراقصــة” ،متحــف اآلثــار فــي أنطاليــا بتركيــا -النصف الثاني مــن القــرن الثانــي بعــد الميالد
اليد المرعبة: في اللوحات التي تص ّور راقصات الباليه تتكرّر باستمرار صورة اليد التي تعقد رباط الحذاء
ِّ تمثــل لـوحـــة كـــريس تومـــاس Chris Thomas «الـحصـــول عـــلى المـــــوز »Going Bananasعــام 2007م ،م ــا يش ــبه لقط ــة غروتس ــكية ألف ــام الرع ــب الدارجــة خــال هــذه الســنوات الحاليــة ،والتــي تعتمــد علــى اســتخدام لعــب األطفــال ،فالقــرد اللعبــة جالــس علـــى كتلـــة مـــوز ،اللحـــم األحمـــر المتراجـــع حـــول عينيــه البارزتيــن يشــبه بــروز عيون قتلــى التفجيرات نتيج ــة الضغ ــط الهائ ــل ،كذل ــك الل ــون األحم ــر للثت ــه التـــي تتراجـــع عنهـــا شـــفتيه .يكتمـــل الرعـــب فـــي اللوح ــة عب ــر التناق ــض ،فالق ــرد بيدي ــه الصغيرتي ــن ذات األصاب ــع القصي ــرة الناعم ــة ،يمس ــك صاج ــات ذهبيــة ،ملصوقــة بباطــن كفــه وليــس أصابعــه .إنــه ص ــوت الموس ــيقى المرعب ــة.
اليد الراقصة:
فــي اللوحــات التــي تصــور راقصــات الباليــه تتكـّـرر باســتمرار صــورة اليــد التــي تعقــد ربــاط الحــذاء ،غيــر أنن ــا ف ــي التاري ــخ يمك ــن أن نج ــد أمثل ــة ألي ـ ٍ ـاد أخ ــرى تص ــور نم ــاذج مختلف ــة م ــن الرق ــص .تمث ــال الراقص ــة الــذي يتوســط قاعــة األباطــرة فــي متحــف اآلثــار فــي أنطاليــا بتركيــا ،هــذا التمثــال يعود إلــى النصف الثاني مـــن القـــرن الثانـــي بعـــد الميـــاد ،الراقصـــة ذراعهـــا اليســرى مكســور نصفهــا ،لكن يدها اليمنــى ،موصولة 94
“الـحصـول عـلى المـــوز” ،عام 2007م ،كـريس تومـاس
ـا، علــى نحــو فرانكشــتايني ،ومقطعــة /مكســورة قليـ ً ثمــة أجــزاء منهــا مفقــودة ،لتذكرنــا أنهــا كائــن حجري، لك ــن األصاب ــع ،اإلصب ــع األوس ــط تحدي ــداً ،يمس ــك بالثــوب المتمــاوج الــذي يبــدو خفيفـاً ،حتــى أن حركــة الرقــص كلهــا تتركــز فيــه.
اليد المفكرة:
إح ــدى أش ــهر األي ــادي ،ه ــي ي ــد تمث ــال «المـ ــفكر »The Thinkerعـــام 1880م ،لـــــرودان ،Rodin المميــز ،الكــف التــي ســاهمت فــي اتخــاذه هــذا الشــكل ّ اليمنــى علــى ســاقه المثنيــة ،وأصابعــه تحيط بركبته تمامــاً ،أم ــا الك ــف األخ ــرى فتح ــت ذقن ــه ،ملتصق ــة بشــفتيه ،وهــي تتجــه إلــى الداخــل ال الخــارج ،وكأن األصاب ــع تش ــير إلي ــه ه ــو.
اليد المعذَّبة:
ف ــي منحوت ــة لجوزي ــف ف برايك ــي Joseph F. ،Brickeyبعن ــوان «تج ــل »Manifestationع ــام 2012م ،يظه ــر الوج ــه المع ــذب لش ــيخ ش ــبه ع ــار، نحيـــل حتـــى أن عظامـــه تظهـــر مـــن صـــدره ،يـــده اليمنــى علــى ذقنــه وخــده األيمــن ،فمــه يظهــر مــن بين إصبعــه األصغــر والبنصــر ،أصابعــه تبــدو عريضــة، لكنه ــا نحل ــت ،فالبراج ــم ب ــارزة ج ــداً ،بينم ــا الك ــف األخــرى تســتند إلــى حاجبــه األيســر ،وأصابعهــا تأخذ ص ــورة متدرج ــة وكأنه ــا تمس ــك بأط ــراف ش ــعره.
ظــل اإلكراهات الثّقافية التــي جعلت الفنان العربي ،عمومــاً ،يتعامل بانتقائية مع فــي ّ ّ يتحوال إلى موضوع أثير ضمن موضوع الجسد ،كان لليد وللكف نصيبهما األوفر في أن ّ ّية العربية المشهورة. مساعي كثير من األعمال الَفنّ
اليد الجسورة التي توبِّخ العالم عزيز أزغاي*
نق ــف هن ــا ،عل ــى س ــبيل المث ــال ،عن ــد ث ــاث كل واحــد ّيــة لفنانيــن مغاربــة ،تعامــل ّ تجــارب َفنّ منهــم مــع موضوعة اليد أو الكف ،وإن بمســتويات ـا علــى وخلفيــات متباينــة ،إلــى أن أصبحــت دليـ ً أســاليبهم .ويتعّلــق األمــر بالفنانيــن :فريد بلكاهية ( ،)2014 - 1934أحمد الدريسي (،)2003 - 1946 ثــم عبــد الحــي المــاخ (.)1947 قبـــل ذلـــك ،البـــد مـــن اإلشـــارة إلـــى بعـــض المعان ــي الت ــي أعطي ــت للي ــد ،س ــواء ف ــي الثّقاف ــة العالمـــة أو فـــي الحكايـــات الشـــعبية المتداولـــة، مجـــرد وهـــي معـــان ،رغـــم اجتهادهـــا ،تبقـــى َّ اقتراحـــات لغويـــة تأويليـــة ،مادامـــت الكلمـــات، الفّنــي البريطانــي جــون بيرجــر، كمــا يقــول الناقــد َ «ليســت أكثــر مــن تجريــدات قــادرة علــى أن تضمــر م ــن المش ــاعر بق ــدر م ــا تظه ــر»)1(. لغوي ـ ًا اتفق ــت ع ــدد م ــن القوامي ــس والمعاج ــم، علــى بعــض الــدالت المشــتركة لليــد ،ومنهــا داللتهــا عل ــى النعم ــة واإلحس ــان (الي ــد العلي ــا) ،أو عل ــى البخ ــل والش ــح (الي ــد الس ــفلى) أو عل ــى العط ــف والم ــن والعط ــاء (أس ــبغ علي ــه أيادي ــه البيض ــاء)، كم ــا ق ــد ت ــدل أحيانــ ًا عل ــى الم ــوت (ي ــد المن ــون)، أو الق ــوة (ي ــد اهلل م ــع الجماع ــة) ،واالتح ــاد (الي ــد الواحــدة ال تصفــق) ...إلــى غيــر ذلــك مــن المعانــي الس ــيارة.
هــذه المعانــي المتعـ ِّـددة لليــد تجد تفســيرها ،من جه ــة ،فيم ــا تؤش ــر علي ــه العي ــن م ــن موضوع ــات جديــرة بالمالحظــة والرصــد ،عبر وســائط الثّقافة والخيـــال والمعتقـــدات ،علـــى اعتبـــار أن العيـــن تــرى مــا تــود أن تــراه ال مــا يمثــل أمامهــا( .)2ثــم ف ــي األهمي ــة الت ــي يحتله ــا ه ــذا الج ــزء م ــن جس ــم اإلنس ــان ف ــي حيات ــه اليومي ــة م ــن جه ــة ثاني ــة. كل شـــيء :فـــي إذ يـــكاد يســـخرها اإلنســـان فـــي ّ العمـــل والمصافحـــة واألكل ،كمـــا فـــي التزويـــر والصــد والتجويــع ،فــي البنــاء واإلعمــار ،كمــا فــي اله ــدم ومح ــور اآلث ــار ،ف ــي العن ــاق والحن ــو ،كم ــا ف ــي اإلبع ــاد وقط ــع األواص ــر ،وبعب ــارة واح ــدة: فــي صنــع الحيــاة كمــا فــي إتــاف الــزرع والــدرع والقض ــاء عل ــى النس ــل. ـخيرًا مــن طــرف العقــل إنهــا الطــرف األكثــر تسـ ّ واألحاســيس والمشــاعر ،مــن أجــل تنفيــذ األوامــر النافـــذة واألحـــكام الجاهـــزة .فبإشـــارة واحـــدة ـول أفعــال اليــد مــن الحالــة إلــى نقيضهــا تماماً. تتحـّ ب ــل إنه ــا الج ــزء األول م ــن جس ــم اإلنس ــان ،ال ــذي يدف ــع ب ــه األعم ــى نح ــو مغام ــرة المجه ــول ،كم ــا يضح ــي ب ــه المبص ــر ،كلم ــا باغت ــه الظ ــام؛ ب ــه يتحس ــس ح ــدود الخط ــر أو مس ــافة األم ــان .ه ــذه ـن التشــكيلي التمثــات وغيرهــا تنــاول بعضهــا َ الفـ ّ متعـــددة ،وفـــق المغربـــي الحديـــث بخلفيـــات ِّ
اليد هي الطرف األكثر تسخيّر ًا من طرف العقل واألحاسيس والمشاعر، من أجل تنفيذ األوامر النافذة واألحكام الجاهزة
95
نوبخ العالم” ،فريد بلكاهية “اليد الجسورة التي ِّ
في كثير من أعمال الفنّان الراحل فريد ّ ظل بلكاهية، ّ الكف حضور يتمظهر بحمولته الشعبية ،التي تحيل على التميمة
96
ـكل فن ــان عل ــى الحمول ــة الوجداني ــة والجمالي ــة ل ـ ّ ح ــدة ،واس ــتنادًا كذل ــك إل ــى مرجعيات ــه الثّقافي ــة ّي ــة والمعرفي ــة. َ والفنّ ففـــي كثيـــر مـــن أعمـــال الفنـــان الراحـــل فريـــد ظـــل حضـــور الكـــف ،وليـــس اليـــد، بلكاهيـــة ّ يتمظهـــر -مـــن بيـــن عالمـــات أخـــرى مشـــابهة- بحمولت ــه الش ــعبية ،الت ــي تحي ــل عل ــى التميم ــة، أي بمــا يزكــي داللتــه علــى اتقــاء العيــن الشــريرة ودرء الحســد وتجنــب األخطــار ،التــي قــد تتســرب م ــن تل ــك النظ ــرة الخاص ــة الت ــي يوجهه ــا اآلخ ــر الخصـــم الحســـود -الـــذي ال يملـــك مـــن قـــوةللتأثيــر علــى عــدوه المحتمــل ،ســوى تلــك النظــرة الشــزراء ،التــي تشــبه الســهم القاتــل .حيــث تظهــر اليــد كعالمــة مائــزة ،فــي مجمــل أعمال هــذا الفنان؛ وهــي شــاخصة ،متحديــة ومتصلبة ،كأنمــا تنتظر خطــرًا داهمـ ًا قــد تبعــث بكيميائــه أي عيــن عابــرة. ولع ــل م ــا يزك ــي ه ــذا المعن ــى الش ــعبي ،ه ــو الفّنــي الــذي تبنــاه بلكاهيــة ،رفقــة ذلــك االختيــار َ بع ــض زمالئ ــه م ــن الفناني ــن المغارب ــة واألجان ــب فــي ســتينيات القــرن الماضــي ،والداعــي إلى تبني الم ــوروث الش ــعبي الب ــدوي -ع ــوض الم ــوروث التربـــوي االســـتعماري الفرنســـي -بأبعـــاده األمازيغيـــة والعربيـــة اإلســـامية ،وامتداداتـــه الفنّي ،بما اإلفريقية واألندلســية ،موضوع ًا للعمل َ
يجســده هــذا االختيــار مــن توظيــف للموضوعــات المحلية واســتعمال لألدوات واألصباغ الطبيعية، الت ــي تنتم ــي للبيئ ــة الش ــعبية نفس ــها م ــن جه ــة. تجلــت بعــض مالمــح هــذا التوجــه ،مــن جهــة كمــا َّ ثانيــة ،فــي وفــاء فريــد بلكاهيــة ،بوجــه خــاص، لتلــك الســندات المســتخلصة مــن جلد البقــر والماعز والخرفــان ،التــي كان يباشــر عليهــا العمــل ،بعدمــا ـل حريصـ ًا يكــون قــد عالجهــا كيميائيـاً ،وهــو مــا ظـّ علي ــه ،ف ــي معظ ــم أعمال ــه ،حت ــى آخ ــر أيام ــه. وعلـــى النقيـــض مـــن ذلـــك تمامـــاً ،تحضـــر الي ــد ف ــي أعم ــال الفن ــان الراح ــل محم ــد الدريس ــي، ال ــذي اش ــتهر بأس ــلوبه المش ــوه ،ال ــذي يتن ــاول الكائنــات المعدمــة ،المهشــمة والملقــاة على هامش المجتم ــع ،كعنص ــر ط ــاغ ومهيم ــن ،ضم ــن مش ــهد عــام ،تبــدو فيــه أجســاد كائناتــه الهشــة ،الهالمية، الفقيــرة مســتلقية مثــل مخلوقــات خارجــة ،للتــو، م ــن الجحي ــم. إذ تب ــدو الي ــد المعروق ــة اليابس ــة الكظيم ــة ف ــي أعمـــال الفنـــان الدريســـي ،مثـــل محاولـــة يائســـة لمواجه ــة خط ــر م ــا مح ــدق .إنه ــا تنتص ــب كفزاع ــة فــي فــراغ ،ال لكــي تبعــد هــذا الخطــر ،وإنمــا لتداري هائـــا ،أو لتخفـــي بؤســـ ًا مستشـــري ًا أتـــى فزعـــ ًا ً علـــى روح اإلنســـان ،أو باألحـــرى مـــا بقـــي مـــن إنســان .إنهــا ،بمعنــى آخــر ،يــد معاتبــة ،محتجــة
من أعمال الفنان عبد الحي المالخ
ـكل تأكي ــد ،تحي ــل عل ــى بع ــض وناقم ــة ،كان ــت ،ب ـ ّ تلـــك الحيـــاة الســـفلى ،التـــي كان ينتجهـــا ليـــل طنج ــة (حي ــث ع ــاش الفن ــان)... أمــا حضــور الكــف فــي تجربــة الفنــان عبــد الحي الم ــاخ ،فه ــي ال تختل ــف كثي ــرًا ع ــن المعن ــى ال ــذي كان يس ــتند إلي ــه الفن ــان الراح ــل فري ــد بلكاهي ــة، وإن كان المـــاخ يســـوق ،فـــي ســـبيل الكشـــف ع ــن خلفي ــات ه ــذا التوظي ــف ،بع ــض التفس ــيرات التــي تجــد لهــا مبـ ِّـررًا فــي درس التصــوف بحصــر اإلحال ــة. فإلـــى جانـــب حضـــور طائـــر الحمـــام وشـــكل الجني ــن وش ــجر النخي ــل ف ــي لوح ــة الم ــاخ ،بم ــا هـــي عالمـــات تحيـــل علـــى الســـلم والمســـتقبل والثب ــات ،تب ــرز كذل ــك رس ــمة الك ــف داخ ــل ه ــذه البني ــة م ــن الرم ــوز ،الت ــي يس ــعى م ــن خالله ــا، إل ــى إيج ــاد رواب ــط رفيع ــة تص ــل بي ــن أبعاده ــا المختلفـــة ،بالشـــكل الـــذي يوحـــي بالطمأنينـــة والصف ــاء واالرتف ــاع ،وكله ــا كلم ــات ق ــد تج ــد له ــا موقـــع معنـــى فـــي الخطـــاب الصوفـــي ،إن بهـــذا القـــدر أو ذاك. وعل ــى الرغ ــم م ــن ذل ــك ،تنبغ ــي اإلش ــارة إل ــى أن مقترحــي الفنانيــن فــؤاد بلكاهيــة وعبــد الحــي المـــاخ الصباغييـــن ،علـــى أهميتهمـــا التاريخيـــة وخلفيتهمـــا الجماليـــة ومرتكزهمـــا التقنـــي ،قـــد
من أعمال الفنان محمد الدريسي
بقي ــا رهيني ــن لمعيق ــات وكواب ــح تل ــك المعادل ــة التأويلي ــة «الس ــاذجة» ،م ــن خ ــال ارتهانهم ــا إل ــى الخلفيــة الثابتــة المحنطــة نفســها ،بــل والتزويقيــة أحيانـاً ،التــي ال تتعــدى المعنــى الواحــد المســطح والواضــح والشــائع لــدى عامــة النــاس ،أي اعتبار الكــف تميمــة تقــي مــن العيــن .فــي حيــن اعتبــرت تجربـــة محمـــد الدريســـي الجســـورة والجريئـــة والمرعبــة ،مــن ِقبــل عــدد مــن النقــاد والدارســين، انخراطـ ًا ناضجـ ًا فــي أفــق مغايــر يتجــاوز المعطى ّي ــة والس ــائد والمتع ــارف علي ــه .إنه ــا مغام ــرة َفنّ طالمـــا كانـــت ،قيـــد حيـــاة هـــذا الفنـــان ،ترعـــب الجماعيـــن وتتحاشـــاها صـــاالت العـــرض ،كمـــا ّ ّي ــة ،بس ــبب ن الف ـال ـ األعم ـاء ـ اقتن ـواة ـ ه ـا ـ منه ـر ينف ـ َ ّ جرأتهــا الزائــدة وخوضهــا فــي موضوعــات ،مازال يتجنبهــا كثيــر مــن الفنانيــن ويحــاذرون االقتــراب منه ــا ،كم ــا ل ــو كان ــت وب ــاء معدي ـاً!.
في لوحة المالخ، تبرز رسمة ّ الكف بالشكل
الذي يوحي بالطمأنينة والصفاء واالرتفاع ،وكلها كلمات قد تجد لها موقع معنى في الخطاب الصوفي
هوامش: - 1جــون بيرجــر «بيكاســو :نجاحــه وإخفاقــه» ،ت :فايــز الصياغ ،منشــورات المنظمة العربية للترجمة ،ط ،1بيروت، 2010م ،ص.223 : - 2غــي غوتيــي «الصــورة :المكونــات والتأويــل» ،ت وت: ســعيد بنكــراد ،المركــز الثّقافــي العربــي ،ط ،1الــدار البيضــاء، 2012م ،ص.8 : (*) شاعر وفنان تشكيلي من المغرب 97
يدين هــو أذكى قــال أرســطو« :يزعــم أنكســاغور أنّــه إنّما بســبب ّ أن اإلنســان يملــك ْ يدين ألنّه األكثر ذكاء»( .الفقرة لكن المعقول هو أن نقول باألحرى ّ الحيواناتّ . إن لديه ْ يوناني من النصف الثاني من القرن الرابع 10من كتابه أجزاء الحيوان ) -هذه المفارقة التي صاغها ّ كل استشــكال فلســفي ،لداللة اليد أو منزلتها في ترتيب معنى قبل الميالد ال تزال تلقي بكلكلها على ّ اإلنسانية إلى حّد هيدغر ودريدا. ّ
يد الفالسفة د .فتحي املسكيني
اليد -إذ ًا -بمثابة مكافأة ،نالها اإلنسان كمقابل مناسب على كثرة الذكاء الذي يتمتَّع به دون سائر الحيوان
98
األولوية ،بل ال يتعلــق األمــر بمجـّـرد عــراك حــول ّ بقــرار صعــب إزاء عالقــة اليــد اإلنســانية بالكينونــة بعالميــة العالــم .افتــرض فــي العالــم أو عالقــة اليــد ّ أن الطبيعـــة ال تختـــار مـــن الممكنـــات ّإل أرســـطو ّ م ــا ه ــو أفض ــل :فمج ـ ّـرد امت ــاك األي ــدي ال يجع ــل مـــن البشـــر أكثـــر الحيوانـــات ذكاء ،بـــل العكـــس: إن ال ــذكاء ه ــو ال ــذي صن ــع األي ــدي .وج ــد اإلنس ــان ّ ـزودًا ب ــأداة مناس ــبة تمامــ ًا لم ــا يري ــد أن نفس ــه م ـ ّ ـإن الي ــد ليس ــت مج ـ ّـرد يفعل ــه .وحس ــب أرس ــطو ف ـ ّ أداة ب ــل ه ــي «مجموع ــة م ــن األدوات» أو ه ــي «أداة تقــوم مقــام أدوات كثيــرة» .اليــد إذن بمثابــة مكافــأة ناله ــا اإلنس ــان كمقاب ــل مناس ــب عل ــى كث ــرة ال ــذكاء ال ــذي يتمت ــع ب ــه دون س ــائر الحي ــوان :إّن ــه ق ــادر علــى اكتســاب أكبــر عــدد ممكــن مــن التقنيــات ،واليــد ه ــي أكث ــر األدوات نفعــاً .وإذا كان الحي ــوان يتق ــن طريقـــة واحـــدة فـــي الدفـــاع عـــن نفســـه ال يمكنـــه ـإن اإلنس ــان م ــن خ ــال الي ــد يس ــتطيع اس ــتبدالها ف ـ ّ أن يتقــن أنواعـ ًا ال حصــر لهــا مــن الدفــاع عــن نفســه: يمكــن لليــد أن تكــون «مخلبـاًُ ،برثنـاً ،قرنـاً ،رمحـاً، كل ذلــك «ألنّهــا ســيفاً ،.»..هــي تســتطيع أن تكــون ّ قــادرة علــى اإلمســاك بــكل شــيء والقبــض علــى كل شــيء» .ولذلــك هــي عضــو يمكــن أن يكــون «واحــدًا أو مزدوج ـ ًا أو متع ـ ِّـدداً». ه ــذا التص ـ ّـور األدات ــي للي ــد س ــوف نج ــد ص ــداه عنــد الفارابــي .قــال فــي الفصــل 21مــن كتــاب اآلراء: «واآلالت منهــا مواصلــة ،ومنهــا مفارقــة مــن ذلــك، ـإن اليــد آلــة للطبيــب ،يعالــج بهــا، مثــل الطبيــب؛ فـ ّ والمبضــع آلــة يعالــج بهــا ...والمبضــع آلــة ال تفعــل فعله ــا ّإل بمواصل ــة الطبي ــب المس ــتعمل ل ــه ،والي ــد أن الفاراب ــي أش ــد مواصل ــة ل ــه م ــن المبض ــع» ،م ــع ّ يعمــل فــي نطــاق إشــارات أرســطو عن اليــد /األداة، إن فنح ــن نعث ــر هن ــا عل ــى خاط ــر فلس ــفي طري ــفّ :
الي ــد آل ــة ولك ــن «مواصل ــة» للطبي ــب ،عل ــى خ ــاف المبض ــع ال ــذي ه ــو آل ــة ولك ــن «مفارق ــة» ل ــه .ه ــذا التميي ــز خطي ــر ،ألّن ــه يش ــير بش ــكل خاط ــف إل ــى إن الي ــد آل ــة ولك ــن ح ــدود التص ـ ّـور األدات ــي للي ــدّ : مواصل ــة لن ــا أي محايث ــة لإلنس ــان بم ــا ه ــو فاع ــل. أن الي ــد لئ ــن كان ــت آل ــة كم ــا انتب ــه الفاراب ــي إل ــى ّ ضبــط ذلــك أرســطو ،فهــي آلــة تواصل اإلنســان وال تفارق ــه؛ أي ه ــي تواص ــل عق ــل اإلنس ــان وال توج ــد أن اب ــن بمع ــزل عن ــه مث ــل المبض ــع .وم ــن الطري ــف ّ ســينا فــي موســوعة القانــون فــي الطــب اقتــرب مــن جهــة أخــرى مــن استشــكال يحتــوي هــو اآلخــر علــى
عنص ــر مج ـّدد .فف ــي الكت ــاب الراب ــع ال ــذي خصص ــه ـا عجيبـ ًا للحديــث عــن «الزينــة وأدويتهــا» أفــرد فصـ ً ه ــو «فص ــل ف ــي تس ــمين عض ــو كالي ــد أو الرج ــل أو الشـــفة أو األنـــف» .اليـــد عضـــو يمكـــن تطبيبـــه، ـي وفقــ ًا لن ــوع م ــن الزين ــة ،أي وفقــ ًا لموق ــف جمال ـ ّ مخصــوص .وهــذا قــدر مثيــر مــن الخــروج مــن نطــاق اليد/اآللــة إلــى أفــق اليــد /الزينــة .طبع ـ ًا يمكــن أن ـن طــرح إمكانيــة «تســمين أداتيــة؛ لكـ ّ تكــون الزينــة ّ الي ــد» يعن ــي إمكاني ــة العم ــل عل ــى تحوي ــل العض ــو ـي .والجمــال ليــس آلــة. الطبيعــي إلــى عضــو جمالـ ّ إّن ــه غاي ــة ذات ــه كم ــا س ــيقول كان ــط. يظـــل هـــذا الغمـــوض فـــي معنـــى اليـــد ســـوف ّ ســائدًا إلــى حــدود هيغــل ،مــرورًا بالفلســفة الحديثــة أول انفجـــار للمفهـــوم (ديـــكارت) ،حيـــث يحصـــل ّ التقلي ــدي للي ــد. ففــي الفقــرة 196مــن المقالــة الرابعــة مــن كتــاب قصــة فتــاة قطعــوا مبــادئ الفلســفة ،ذكــر ديــكارت ّ لهــا يدهــا ،لكنّهــم أخفــوا عنها هذا التشــويه بواســطة معينــة ،ولكونهــا ال تعلــم بأمــر اليــد المبتــورة ثيــاب ّ فه ــي ق ــد واصل ــت الش ــعور ب ــآالم تط ــرأ عل ــى تل ــك البقع ــة م ــن الجس ــم الت ــي ل ــم تع ــد موج ــودة ،ف ــي ه ــذا اإلصب ــع أو ذاك منه ــا .لك ــن تفس ــير دي ــكارت «إن أعص ــاب ينط ــوي عل ــى طراف ــة خاص ــة ،ق ــالّ : يده ــا ،والت ــي كان ــت تنته ــي عندئ ــذ ف ــي المرف ــق، كانــت تتحــرك فيهــا بنفــس الطريقــة التــي كان يجــب أن تكــون عليهــا فــي الســابق عنــد أطــراف األصابــع، ـعور بهذه مــن أجــل أن ُتحــدث للنفــس فــي الدماغ الشـ َ أن ألــــم يبيــن بــكل وضــوح ّ اآلالم المشــابهة .وهــذا ّ الي ــد ل ــم تش ــعر ب ــه النف ــس ،باعتباره ــا توج ــد ف ــي اليــد ،بــل باعتبارهــا توجــد فــي الدمــاغ». فــي أفــق نظريــة النفــس التقليديــة لــم يكــن يمكــن للفلســفة أن تنظــر إلــى كينونــة اليــد بمــا هــي كذلــك. ليــس فقــط «ألـــم اليــد» بــل حتــى وجــود اليــد لــم يكــن حاس ــما ف ــي بل ــورة داللته ــا الفلس ــفية .الي ــد ليس ــت أن شــعور مكانـ ًا للنفــس؛ ولذلــك يفتــرض ديــكارت ّ الفتــاة ذات اليــد المبتــورة بألــم فــي يدهــا المفقــودة ه ــو نات ــج ع ــن أل ــم النف ــس ولي ــس ع ــن أل ــم الي ــد. كأن يق ــول :الي ــد غي ــر ضروري ــة ك ــي نش ــعر باألل ــم ْ فــي أيدينــا .األلــم يحــدث فــي النفــس ،والنفــس فــي مــكان آخــر. ولكن هل كان للفيلسوف التقليدي يٌد؟ لطالمـــا شـــغل كانـــط التفريـــق الفلســـفي بيـــن الي ــد اليمن ــى والي ــد اليس ــرى .ه ــل ذل ــك ف ــي طبيع ــة الم ــكان ف ــي ذات ــه أم ف ــي موق ــف المالح ــظ؟ ويق ـّـرر ـأن م ــا يجع ــل الي ــد يمن ــى أو يس ــرى ه ــو مج ــرد بـ ّ عالقــة بيــن المالحــظ والموضــوع .كان مشــكل كانط ـندنتالي ًا لمفه ــوم الي ــد ف ــي أن يج ــد تس ــويغ ًا ترنس ـ ّ أف ــق ال ــذات .ل ــم يك ــن يس ــائل نم ــط كينون ــة الي ــد
بمــا هــي كذلــك .ولهــذا مــا أكثــر مــا أصــاب الشــاعر الفرنســي Péguy Charlesفي ســخريته الرشــيقة مــن فيلســوف الــذات المتعاليــة« :الكانطيــة لهــا أيـ ٍ ـاد محض ــة ،ولك ــن لي ــس له ــا أي ـ ٍ ـاد [إمبيريقي ــة]»(.)1 محض ــة أي ب ــا خطيئ ــة ولك ــن أيضــ ًا بمعن ــى أي ـ ٍ ـاد مجـّـردة أو فارغــة .قــال بولس« :فأريد إذن أن يصلّي الرج ــال ف ــي كل م ــكان ،رافعي ــن أي ــادي طاه ــرة». (الرســـالة األولـــى إلـــى تيموثـــاوس .)8 ،2علينـــا أن ن ــرى التوري ــة عل ــى االنزي ــاح بي ــن «المح ــض» (الموجـــود فـــي عنـــوان كتـــاب كانـــط األكبـــر «نقـــد العقــل المحــض» ،و«الطاهــر» (المتأتــي مــن التعاليــم المســيحية عن الطهارة) .الطاهر/المحض إذن ليس خط ــاء» ل ــه ي ــد بش ــرية أي بالمعن ــى المس ــيحي «ي ــد ّ وبالمعن ــى الحدي ــث «ي ــد واقعي ــة». واألمـــر القطعـــي الكانطـــي فـــي واحـــدة مـــن صيغ ــه الخم ــس ال ــواردة ف ــي تأس ــيس ميتافيزيق ــا األخ ــاق والت ــي تق ــول« :افع ــل عل ــى نح ــو بحي ــث أنــت تعامــل اإلنســانية ســواء فــي شــخصك أو فــي أي إنس ــان آخ ــر دائم ـ ًا وف ــي نف ــس الوق ــت ش ــخص ّ كأنّه ــا غاي ــة ولي ــس فق ــط كمج ـ ّـرد وس ــيلة أب ــداً»- ه ــذا األم ــر اعتب ــره الش ــاعر الفرنس ــي بيغ ــي غي ــر إن قابــل للتطبيــق إلــى ح ـّد المفارقــة المشــار إليهــاّ : الكانطي ــة تخاط ــب كائنــ ًا يمك ــن أن تك ــون ل ــه «ي ــد محضــة» ،أي يمكــن أن يكــون لــه مفهــوم (فلســفي، ترنس ــندنتالي ،أخالق ــي )..ع ــن الي ــد ،ولك ــن لي ــس لــه «يــد» فــي عالــم التجربــة .قــال بيغــي« :ونحــن، بأيادين ــا المتصلّب ــة ،العج ــراء ،اآلثم ــة ،نح ــن ف ــي بع ــض األحي ــان لدين ــا أي ــاد ممتلئ ــة». كان ينبغـــي انتظـــار هيغـــل حتـــى ينفجـــر التص ـ ّـور الفلس ــفي التقلي ــدي للي ــد ،ويخ ــرج تمامــ ًا م ــن نط ــاق الي ــد /األداة أو اليد/المبت ــورة ،الي ــد/ خ ــارج النف ــس ،إل ــى أف ــق الي ــد باعتباره ــا تعبي ــرًا ع ــن ال ــروح أو تجلّي ـ ًا له ــا - .فف ــي الفص ــل الخام ــس م ــن كتاب ــه فينومينولوجي ــا ال ــروح تع ـّـرض هيغ ــل تأمل ــي إل ــى مس ــألة الي ــد ،وف ــي الموض ــع بش ــكل ّ الفلســفي الــذي مــن شــأنها :أي فــي نطــاق «مالحظــة فعليتـــه المباشـــرة»، عالقـــة الوعـــي بالـــذات مـــع ّ وه ــو يعن ــي بذل ــك ف ــي نط ــاق تع ـ ّـرض في ــه إل ــى مناقشــة األســاس الفينومينولوجــي لعلــوم مــن قبيل «عل ــم الفراس ــة» ( )Physionomikو«عل ــم فراس ــة الجمجمـــة» ( .)Schädellehreولكـــن كيـــف؟ أن المشــكل قــد أول األمــر هــو ّ مــا ينبغــي تســجيله ّ انتق ــل م ــع هيغ ــل م ــن مس ــتوى اآلل ــة إل ــى مس ــتوى العالم ــة .علين ــا أن نق ــرأ قس ــمات أو مالم ــح الجس ــد البشـــري كمـــا يقـــول نفســـه مـــن خـــال وجهـــه أو أن الــروح ـن ذلــك ال يعنــي ّ مــن خــال جمجمتــه .لكـ ّ أي مي ــدان المعن ــى أو مي ــدان اللغ ــة ،ه ــو م ــا يقول ــه أن «عظ ــم» بش ــري .م ــا يعت ــرض علي ــه هيغ ــل ه ــو ّ
كان ينبغي انتظار هيغل حتى ينفجر التص ّور الفلسفي التقليدي لليد، ويخرج ،تمام ًا ،من نطاق اليد /األداة أو اليد/المبتورة، اليد /خارج النفس ،إلى أفق اليد ،باعتبارها تعبير ًا عن الروح، أو تجلّي ًا لها
99
هيغل يضع اليد جنب ًا إلى جنب، ليس ،فقط ،مع الفم ،بل مع اللغة والعمل، أيض ًا
100
اعتم ــاد العل ــم الحدي ــث للمالحظ ــة مقياســ ًا لمعرف ــة ـؤدي إل ــى ق ــول م ــن قبي ــل: حقيق ــة البش ــر س ــوف ي ـ ّ «هــل تكــون كينونــة الــروح ّإل عظمـاً» (dass das.. لكـــن .)Sein des Geistes ein Knochen ist ّ العظ ــم لي ــس ذات ـاً. أن ف ــي ه ــذا الس ــياق الدقي ــق ّ يؤك ــد هيغ ــل عل ــى ّ «خــارج» الــروح ال يمكــن أن يجعــل «باطــن» الــروح مرئيـ ًا لنــا ّإل بوصفــه «عضــواً»« :الفــم الــذي يتـكلّـــم ّ واليــــد التـــي تعــــمل ()die arbeitende Hand والس ــاقان» .الف ــم والي ــد والس ــاق ه ــي ل ــدى هيغ ــل «األعضـــاء الفاعلـــة والمنجـــزة ،التـــي فـــي ذاتهـــا تمتلــك النشــاط بوصفــه نشــاط ًا أو تمتلــك الباطــن أن هيغ ــل يض ــع بم ــا ه ــو كذل ــك» .والطري ــف هن ــا ّ الي ــد جنبــ ًا إل ــى جن ــب ،لي ــس فق ــط م ــع الف ــم ،ب ــل وكل ذلـــك باعتبارهـــا مـــع اللغـــة والعمـــل أيضـــاًّ ، «تجلّي ــات ( )Äusserungenحي ــث ل ــم يع ــد الف ــرد يحتفــظ بذاتــه أو يمتلكهــا ،بــل يتــرك الباطــن يأتــي خــارج ذاتــه تمامـاً ،ويتخلــى عنــه إلــى الغيــر» .اليــد تعب ــر ع ــن باط ــن ال ــروح ب ــأن تترك ــه يأت ــي إليه ــا ّ ف ــي ش ــكل تعبي ــر ع ــن ال ــذات بش ــكل خ ــارج عنه ــا. اليـــد ال توجـــد خـــارج النفـــس وبمعـــزل عنهـــا كمـــا يجس ــد ال ــروح رأى دي ــكارت ،ب ــل الي ــد ه ــي تعبي ــر ّ خ ــارج ذاته ــا. ـإن أعضــاء الفــم واليــد والســاق، وحســب هيغــل فـ ّ تعب ــر «كثي ــرًا جــّداً» ولك ــن أي اللغ ــة والعم ــل ،ه ــي ّ ـا ج ـّداً» ع ــن باط ــن ال ــروح« .كثي ــرًا ج ـّدًا أيض ـ ًا «قلي ـ ً ألن الباط ــن نفس ــه ق ــد انبج ــس فيه ــا فل ــم يع ــد م ــن ّ تقاب ــل بينهم ــا؛ وه ــي ال تمن ــح فق ــط تعبي ــرًا ع ــن ـا جـّداً، ـرة؛ وقليـ ً الباطــن ،بــل الباطــن نفســه مباشـ ً ألن الباطــن ،فــي اللغــة والعمــل ،هــو قــد جعــل مــن ّ نفســه آخــر ،ومــن ثــم هــو تخلــى عــن نفســه بذلــك وإن أكب ــر مكس ــب فلس ــفي إل ــى عنص ــر التح ـ ّـول»ّ ... هن ــا ه ــو بي ــان هيغ ــل لتل ــك «الدالل ــة المزدوج ــة، المتضــادة»(die doppelte, entgegengesetzte إم ــا أّن ــه ه ــو «الفردي ــة )Bedeutungلعم ــل الي ــدّ : الباطني ــة ولي ــس عبارته ــا» أو «م ــن حي ــث ه ــو أم ــر فعلي ــة ح ـّـرة إزاء الباط ــن». خارج ــي ،ه ــو ّ إن العضــو ال يوّفــر التعبيــر هــذا االلتبــاس ،حيــث ّ المبحــوث عنــه ،دفــع هيغــل إلــى نقــل المشــكل مــن «العمــل» إلــى «العالمة» ( .)das Zeichenهنا أمكن النظ ــر إل ــى الي ــد لي ــس م ــن جه ــة م ــا تفعل ــه ،ب ــل م ــن جه ــة م ــا تش ــير إلي ــه .هن ــا تصب ــح الي ــد مث ــل ٍ ّ الكـــف كوكبـــة مـــن النجـــوم ،جملـــة مـــن خطـــوط ـإن «خط ــوط الي ــد علين ــا قراءته ــا .وحس ــب هيغ ــل ف ـ ّ هـــذه» هـــي شـــيء خارجـــي تمامـــ ًا بالنســـبة إلـــى «ق ــدر اإلنس ــان المف ــرد» ه ــل تك ــون حيات ــه طويل ــة أم قصي ــرة. «إن الي ــد ،ب ــا ري ــب ،ال يظه ــر أنّه ــا ش ــيء ق ــالّ :
خارجــي إلــى هــذا الحـّد بالنســبة إلى القــدر ،بل هي، باطنيــاً.. باألح ــرى ،تتعّل ــق ب ــه ،باعتب ــاره ش ــيئ ًا ّ أن الي ــد ينبغ ــي أن تمّث ــل (الــ ــذي ف ــي ذات ــه) ولك ــن ّ ـإن ذل ــك ـ ف ـا، ـ قدره ـى ـ إل ـر ـ بالنظ ـة ـ بالفردي الخ ــاص ّ ّ م ــن اليس ــير أن ن ــراه ،انطالق ـ ًا م ــن أّن ــه إنّم ــا ه ــي، مباش ــرة بع ــد عض ــو ال ــكالم ،وكأفض ــل م ــا يك ــون، مــا بــه يبلــغ اإلنســان إلــى التجّلــي والتحقيــق .إنّهــا الصان ــع المفع ــم بال ــروح ال ــذي يصن ــع س ــعادته؛ إن كينونتهــا هــي مــا يفعلــه ويمكــن للمــرء أن يقــول ّ اإلنس ــانْ ،إذ فيه ــا ،م ــن حي ــث ه ــي العض ــو النش ــط الســـتكماله لذاتـــه ،هـــو يكـــون حاضـــرًا بوصفـــه م ــن يه ــب ال ــروح( ،)Beseelenderوألّن ــه ه ــو ف ــي تعب ــر ع ــن األص ــل ق ــدره الخ ــاص ،ه ــي إذن س ــوف ّ ه ــذا (ال ــذي ف ــي ذات ــه)». ثمــة صلــة مــا ،ولكــن بيــن خطــوط اليــد والقــدرّ ، ليــس بشــكل الهوتــي :إنّهــا تعبيــر عــن «باطــن» ٍ ذات ـل دوم ـ ًا دفين ـ ًا «فــي ذاتهــا»، مــا ،عــن شــيء مــا يظـّ «خارجي ـاً». دون أن تقــول شــيئ ًا مح ـّدداً ،أي شــيئ ًا ّ مجـــرد «عضـــو»؛ مـــا هـــو عضـــوي ال ليســـت اليـــد ّ ـإن ـ ف ـك ـ ولذل ً. ا ـو ـ عض ـت ـ ليس ـروح ـ فال ً. ا يق ــول ش ــيئ ّ النظــر إلــى داللــة اليــد فــي حــدود كونهــا عضــوًا هــو خارجيــة حصرهــا فــي عالقــة يعتبرهــا هيغــل عالقــة ّ فحس ــب« :حي ــث يس ــقط الباط ــن والخ ــارج أحدهم ــا خ ــارج اآلخ ــر» .ال يأت ــي باط ــن ال ــذات إل ــى التعبي ــر ع ــن نفس ــه ،بوصف ــه عض ــواً ،ب ــل بوصف ــه نوعــ ًا مــن «التجّلــي» الــذي يشــير إلــى مــا ال يمكــن للوعــي يميــز اليــد هــو كونهــا تقــع فــي منطقــة أن يــراه .مــا ّ وســطى بيــن «العضــو» و«الفعــل» :مــا تكونــه ومــا ـأن األعض ــاء ال تس ــتطيع تفعل ــه ال يلتقي ــان .ذل ــك ب ـ ّ حس ــب هيغ ــل أن تك ــون «تعابي ــر ع ــن الباط ــن»(als أن كل ما تفعله ،)Ausdrücke des Innerenإذ ّ الي ــد ه ــو مهــّدد ب ــأن يتح ـ ّـول إل ــى «واقع ــة» (eine ـي» )Tatحاصلــة أو قائمــة ،أي إلــى شــيء «خارجـ ّ بحــت ،مشـّتت عّنــا ،وبالتالــي يفقــد عالقتــه بمــا هــو باطنــي فينــا .ال يتجّلــى اإلنســان وال يتحّقــق ّإل بقدر مــا يحتمــل قــدره ،أي شــكل حياتــه باعتبارهــا قــدرًا ـن ال يدخــل فــي عالقــة روحيــة مــع قــدره خاصـاً .لكـّ ّإل بق ــدر م ــا يفع ــل ولي ــس فق ــط بق ــدر م ــا يك ــون. ولذل ــك فه ــو ال يس ــتطيع أن يدخ ــل ف ــي عالق ــة م ــع قــدره الخــاص ّإل باســتعمال يديــه كأدوات كينونــة. لقــد نقــل هيغــل مســألة اليــد مــن نطــاق العضــوي إل ــى أف ــق الروح ــي .ل ــم تع ــد الي ــد م ــا «ه ــي» ب ــل إن خط ــوط الك ـ ّ ـف ج ــزء م ــن خارط ــة م ــا «تقول ــه»ّ . تضـــم نغمـــة الصـــوت وحجمـــه، روحيـــة أوســـع: ّ وهم ــا بدورهم ــا ج ــزءان م ــن خارط ــة أوس ــع :ه ــي أي لغـــة ،بـــل تلـــك اللغـــة التـــي اللغـــة ،ليســـت ّ ُكتبـــت باليـــد ،اللغـــة المكتوبـــة أو «المخطوطـــة»- كــــأن المخطـــوط( )Schriftهـــو رســـم «بخطـــوط ّ
وكأن «حـــروف» اللغـــة اليـــد» (،)Handschrift ّ هـــي «حـــروف» الـــروح .وفجـــأة تنـــزاح اليـــد مـــن الخارجي ــة البس ــيطة لألعض ــاء ،كأش ــياء طبيعي ــة، ّ الخارجيــة «المتكّثــرة» للفعــل (عمــل اليــد بشــكل إلــى ّ «غيـــر عضـــوي») والقـــدر (تشـــكيل حيـــاة الوعـــي بوصفه ــا تجلّيــ ًا م ــن تجلّيــاًت ال ــروح ف ــي العال ــم). ـإن مــا هــو «خارجــي» ال يوجد فــي «الخارج» وهكــذا فـ ّ ـن فعلهــا هــو ـ لك ـي ـ خارج ـو ـ عض ـد ـ الي إن ـرورة. بالضـ ّ ّ ـإن الفع ــل الي ــدوي تعبي ــر ع ــن ق ــدر م ــا .وبالتال ــي ف ـ ّ أن أرق ــى فع ــل ه ــو فع ــل روح ــي .ويفت ــرض هيغ ــل ّ للي ــد ه ــو الكتاب ــة :ه ــي فق ــط تنق ــل «قس ــمات» الي ــد إلـــى مســـتوى «نغمـــة الصـــوت» البشـــري ،وذلـــك م ــن خ ــال اللغ ــة بوصفه ــا مق ــام تحوي ــل م ــا ه ــو خارجيــة باطنــي فــي أنفســنا إلــى «تعبيــر» ،أي إلــى ّ كل كتاب ــة تنط ــوي «الفع ــل» التاريخ ــي أو «الق ــدر»ّ . عل ــى ق ــدر م ــا .وذل ــك أنّه ــا تأخ ــذ عب ــر الي ــد وج ــودًا أي فع ــل عض ــوي .إّن ــه وج ــود أكث ــر رس ــوخ ًا م ــن ّ اللغ ــة .لغ ــة «الف ــم» ولك ــن أيض ـ ًا لغ ــة «المكت ــوب»، باعتبــاره «مخطوط ـاً» ،أي كتابــة باليــد تنجــح فــي توفي ــر «التجل ــي» المناس ــب لل ــروح الكّل ــي. ثمــة «باطــن» مغلــق علــى نفســه ،بــل فقــط ليــس ّ «خصوصي ـ�ة»( (�Eigentüm معين ـ�ة» أو ّ «طبيع ـ�ة ّ معين ــة للف ــرد ه ــي األج ــدر ب ــأن تك ــون ّ )lichkeit يتميــز بــه ـا ـ م ـإن ـ ف ـم ـ ث ـن ـ وم ـدره»، ـ وق «ماهيــة فعلــه ّ ّ ّ الف ــرد ف ــي «فم ــه وي ــده وصوت ــه وكتابت ــه اليدوي ــة» أن الفـــرد هـــو تعبيـــر عـــن ذلـــك الباطـــن ،بحيـــث ّ وخارجيتـــه» -أي طريقتـــه بعـــد «ظاهرتـــه يملـــك ّ ُ الخاص ــة ف ــي التعبي ــر ع ــن باطن ــه -وذل ــك قب ــل أن «فعليتـــه داخـــل العالـــم» يأتـــي إلـــى التعبيـــر عـــن ّ ( .)seiner Wirklichkeit in der Weltنح ــن ال نفعـــل فـــي العالـــم ّإل بعـــد أن نكـــون قـــد احتملنـــا
قدرنــا الخــاص ،أي أظهرنــا أو أخرجنا باطن أنفســنا كمــا تقولــه طبيعتنــا الخاصــة فــي أفواهنــا وأيدينــا وأصواتنــا وخطوطنــا .يوجــد الفــرد فــي جســمه قبل أن يكــون فــي عالمــه .والرائــع فــي لغــة هيغــل أّنــه يجمــع بشــكل لطيــف في لفظــة « »Äusserungبين عمــا هــو باطــن و«التخريــج» «التجّلــي» أو التعبيــر ّ ـي :قس ــمات ـ مرئ ـو ـ ه ـا ـ م ـي ـي ف ـ ّ لم ــا ه ــو غي ــر مرئ ـ ّ ـي الي ــد (أو الوج ــه أو الص ــوت )..ه ــي «تج ـ ّ ـل» روح ـ ّ أو «التعبي ــر الخارج ــي» ع ــن باط ــن أنفس ــنا دون أن ن ــراه .ه ــذا الجان ــب غي ــر المرئ ــي يتمّث ــل ف ــي أّن ــه عم ــا ال يمكنن ــا أن نفص ــل بي ــن م ــا ه ــو «تعبي ــري» ّ ـا .وله ــذا ـي» ف ــي خط ــوط أيدين ــا ،مث ـ ً ه ــو «خارج ـ ّ الس ــبب يص ــوغ هيغ ــل ه ــذه الجمل ــة الت ــي ال تخل ــو م ــن مفارق ــة: «ه ــذه القس ــمات وحركته ــا ه ــي طبقــ ًا لمفهومه ــا العمـــل المحفـــوظ ،الباقـــي لـــدى الفـــرد ،وحســـب ُ ـي ،هــي المراقبــة والمالحظــة ـ الفعل ـل ـ بالعم ـه عالقتـ ّ تفك ــرًا ف ــي التجّل ــي الخاص ــة ل ــه ،التجّل ــي بوصف ــه ّ الفعل ــي». اليــد هــي فــي نفــس الوقــت ودونمــا انفصــال عضو «خارجــي» و«تعبيــر» عــن شــخصيتنا العميقــة .كــذا ـط .مــا هــو «خارجــي» نفــس األمــر مــع الصــوت والخـ ّ خارجيــ ًا فق ــط .ب ــل ه ــو «ظاه ــرة» أي نم ــط لي ــس ّ ظهــور مــا هــو باطنــي فــي أنفســنا ،وليــس ذلــك غيــر نعبــر ثقافيـ ًا مــا .وال ّ شــكل الــروح الــذي يســكن عالمـ ًا ّ عــن أنفســنا ّإل بقــدر مــا ننتمــي إليــه .يــد الفالســفة تفكـ ٌـر فــي يــد العالــم الــذي ينتمــون إليــه. هــي ّ
يفترض هيغل أن أرقى فعل ّ لليد هو الكتابة
هامش: Le kantisme a les mains pures mais il n’a« - 1 .»pas de mains 101
أدب
جورج يرق: الرواية ال تطعم خبز ًا..
حوار :نرسين حمود (بريوت)
جورج يرق
بين عيش الحياة ،بتفاصيلها ،والكتابة عنها ،اختار جورج يرق (مواليد األول ،وحصر الكتابة بـ«أكل العيش». )1958الخيار ّ في روايته األولى «ليل» (دار مختارات ،الطبعة األولى ،)2013 ،يرتفع ســيما من الكّتــاب والنقّاد ،ويرد منســوب اللمحات الســاخرة في ثنايا الفصول ،ال ّ يغير العالم ،وهو ليس ســوى «مؤانسة على لســان البطل مروان حبيب أن األدب ال ّ وإمتاع» .وفي «حارس الموتى» (منشــورات ضفاف ومنشــورات االختالف ،الطبعة األولــى ،)2015 ،الروايــة التي وصلت إلى الئحة «بوكر» القصيــرة للعام الجاري، حبكة تشويقية تنقل القارئ مع «عابر ليطاني» الهارب من ضيعته خشية من ِّاتهامه براد الموتى ،على طريقة أغاثا كريستي! بجريمة لم يقترفها ،إلى ّ المجاني يقــف يــرق ،في روايتيه ،اللتين تخوضان في الحــرب ،موقف ًا ضّد القتل ّ والقهــر اليومــي ،وضــّد الميليشــيات وصنّاع الفســاد المتدثّرين بالعفّــة ،ويبني خط ،يدخل «فيسبوك» في نسجه. العالقات بين أبطاله في «ليل» على ّ حول الروايتين وشجون الكتابة ،يدور الحوار اآلتي :
بأن رواية «ليل» ليســت باكورة يتســلَّل إلى القارئى الشــعور ّ أعمالك ،ويقود البحث في األرشيف إلى معلومة ،مفادها أنّك كتبت روايات وكتب ًا آلخرين... الكاتب الشبح مهنة قائمة بذاتها ،ورائجة في دول الغرب أكثر،مقارنة بالعالم العربي .في مراهقتي ،غادرت بلدة أبلح (ضواحي ً مدينة زحلة) إلى بيروت ،حينهاَّ ،اتخذت قرار العيش من القلم، محررًا وصحافي ًا وسكرتير تحرير ومدقّق ًا لغوي ًا وكاتب ًا شبح ًا وعملت ّ شهرة ،وذاع صيت عدد من كّتابها ،حتى وكتب عرفت ً لروايات ُ الطفيليين على الكتابة الصحافية، وصلت إلى مرحلة الغثيان من َّ وتفرغت ،تماماً ،للكتابة الروائية ،وسأصدر فتركت هذا كلّه ورائيّ ، األولي «دون عنوانها رة: (المحر المقبل العام روايتي الثالثة مطلع َّ ّ جوان الفيسبوك») .كما أنوي الكتابة للتليفزيون ،ألن غالبية األعمال يمت إلى الواقع الدرامية اللبنانية فقيرة ،وآتية من كوكب آخر ،ال ّ اللبناني ِب ِصلة ،وتشكو من الركاكة والتطويل .الكتابة للتليفزيون هي باب رزق لي .الرواية ال تطعم خبزاً ،وصيد الجوائز ليس متاح ًا على الدوام .ما العمل ،إذا ابُتليت بحرفة األدب؟ يكرر بطال «ليل» :مروان ،وكاترين ،اإلشارة إلى قانون مدينة ّ «ليون» الفرنسية الصادر في أواخر القرن األول الميالدي ،والقاضي بإلزام الراسبين في المباريات األدبية ،بمحو كتاباتهم بألسنتهم، منع ًا من انتشار أدب من الدرجة الثانية .لو ُطّبق هذا القانون اليوم، سيما من الروايات التي لم نعد نعثر كم ستفرغ المكتبة العربية ،ال َّ على غيرها ،من الصنوف األدبية ،في إصدارات دور النشر؟ 102
من الواضح أن الجوائز األدبية ساهمت في حدوث طفرة في عالمجيد .بيد أن الظهور السهل لعالم الرواية فتح المجال الرواية ،وهذا ّ والفن الروائي؛ ما أفرز أعما ًال العربية اللغة أصول لكّتاب يجهلون ّ مآلنة باألخطاء ،خاضت مسابقة «بوكر» بنسخاتها التسع، رديئة ً ً وبعض تلك األعمال بلغ الالئحة القصيرة من المسابقة! والسبب المحرر األدبي المحترف عن غالبية الدور يعود إلى غياب منصب ِّ التصرف في مخطوط ة بمهم عادة ر- المحر العربية .يضطلع هذا ً ّ ُّ ّ لغوية الجيد ،ويتمّتع بثقافة ّ الرواية ،ألنّه يملك إحساس القارئ ِّ متقّدمة ،كما أن أواصر صلته بعالم الرواية متينة . في أثناء عملي في دارين للنشر ،هما (الساقي ،واآلداب) ،وقعت يدي روايات ألسماء معروفة تزخر باألخطاء اللغوية والحشو بين ّ النص. مهابة من ّل ل يق بالطبع- وهذا- التعابير، في والركاكة ّ َت َّتهم الجوائز األدبية ،إذاً ،بأمر نشر الروايات الرديئة؟ دور النشر شريكة أيضاً ،نظرًا إلى أن الجوائز (للمثال« :البوكر»)تطلب من كل دار عربية أن تتقّدم إلى مسابقتها بثالث روايات. عموماً ،إن دور النشر الحقيقية االحترافية نادرة ،وما حفالت تنظمها عند إصدار الروايات والكتب الجديدة ،في التواقـيع التي ّ ورّد معارض الكتب ،سوى تجارة بحتة؛ ألن هدفها بيع الكتابَ ، تكلفة الطباعة ال اإلضاءة عليه. في «ليل» -أيضاً -تحيي أدب الرسائل ،عبر وساطة «فيسبوك». كم أثّرت وسائل التواصل في األدب؟
بتصيد األخبار الـ«فيسبوك» عالم واقعي ميداني ،يسمح للكاتبُّ اجتماعي .حين دخلت وبناء عالم روائي ،خصوص ًا إذا كان غير ّ فضاء روائياً ،انطالق ًا من هذا العالم، قررت أن أعّد ً الـ«فيسبوك»ّ ، ال من و -تحديداً -من باب الرسائل ،عبره ،وبالفعل ،كتبت فص ً رواية بعنوان «سبع حيوات على الفيسبوك» ونشرته مطلع ،2009في الملحق الثقافي التابع لجريدة «النهار» اللبنانية (المحررة :توقَّف عن الصدور قبل نحو ستة أشهر) ،ثم عدلت عن ّ أهمها أن الكتابة تستدعي متابعة كتابة الرواية ألسباب شتىّ ، انقطاع ًا عن الناس ،وأنا ،في ذلك الحين ،لم أكن مستعّدًا للعزلة. حرر الكّتاب من سلطة مسؤولي عموماً ،أرى أن الـ«فيسبوك» ّ الصفحاتالثقافيةورؤساءالتحرير،فكلّماكانلهؤالءالكّتابأصدقاء على الموقع ،انتشرت مناشيرهم بدون منّة من أحد! ومن المالحظ أن الصحافة الثّقافية بدأت تخسر من سلطتها ،وأن الذين يتولّون إدارتها باتوا يستعينون بـ«فيسبوك» من أجل الترويج لمقاالتهم. لكن ،أال ترى ،من جهة ثانية ،أن أخبار الـ«فيسبوك» الخفيفة أثّرت في القراءة الحقيقية ،مع اإلشارة إلى أن بطلة «ليل» كاترين تذكرنا بمقالة للشاعر وذواقة أدبِّ ، بو زيد العمياء ،هي قارئة نهمة ّ أنسي الحاج بعنوان «نوبل لقارئ»؟ القراءة نظام حياة؛ «فيسبوك» أو غيره لن يؤثّر على قارئ منتظمأن هذه الفئة ضئيلة في يشتري الرواية ،ويتابع جديد الكتب ،ولو ّ العالم العربي .أمضي وقتي على الشاطئ ،وقلّما أعثر على من يمسك بكتاب في أثناء االسترخاء تحت الشمس. تميز األدب ّكة، ن ومح بالعودة إلى «ليل» ،كاترين هي قارئة حقيقية ّ الجيد من األدب الرديء ،وال تحتفظ ،في مكتبتها ،سوى بالكتب ّ يتصل بأنسي الحاج ،فإن اسم عابر ليطاني الممتازة. أما في ما َّ ّ تحية مضمرة له ،فقد كان الشاعر بطل «حارس الموتى» ،هو ّ اسم «عابر». الراحل يوقِّع مقاالته األخيرة في «النهار»ِ ،ب ْ البطالن( :مروان ،وعابر) في «ليل» و«حارس الموتى» ،هما مسيحيان ،يعيشان في الشطر الشرقي من بيروت ،وهاربان من ّ األول ،في ماضيهماَ ، وقاتال في ميليشيا مسيحية ،وقد أفرزت عزلة َّ احتماء من قوى األمر الواقع ،مثقفاً ،وأفرز اختباء الثاني، الدير، ً لصاً .كما أن وصال مروان والبطلة كاترين العمياء الموتى، اد بر ّ في ّ باألول ،إلى الكتابة ،لكن إعجاب عابر ليطاني بالراهبة، دفع، َّ التكسب غير المشروع .في الروايتين نحو قاده المستشفى، مديرة ُّ يقل الوصف لمصلحة السرد ،وتبدو النهايتان مفتوحَتْين .هل ّ لكل من المخطوطين قبل أن تباشر الكتابة؟ رسمت خطة ّ ً شخصيات روائية من على الكتابة أن تكون صادقة؛ استولدتّ جيدًا نتيجة عيشي فيها ،وإن لم أشترك في الحرب. بيئة أعرفها ّ صنّاع من ا سلبي ا موقف خذت ات لذا والموت، والقهر العنف كنت ضّد ً ً َّ ُ الحرب ،ليس أبلغ منه سوى استبدال سروال المقاتلة في «حارس بعَلم الميليشيا ،التي كان عابر يقاتل في صفوفها! عن الموتى» َ السياسيون ،حين يخوضون أمر النقاش في ث د يتح أي قضية ّ ّ الحرب؟! أنا ،على غرار مروان وعابر ،أحيا اليوم بالصدفة ،ألن مدة في جوار خطوط رصاص القنص أخطأني مراراً ،إذ سكنت ً الحظ من بضع الَتماس بين المنطقَتْين المتحاربَتْين .وكذلك أنقذني ّ قذائف عشوائية! في سردي سخرية الذعة من عالم الميليشيات،
كما من تجارة الدواء ،وأفضلية تطبيب المقاتل على المدني في المستشفيات ،وفساد بعض رجال الدين .أنطلق ،في سردي ،من نصي يقودني .اإلبداع الكتابي يتمثّل جيداً ،وأترك ّ مكان أعرفه ّ في إيجاد حلول للمشكالت التي تعترض الكاتب في أثناء الشغل ممن األدبي ،والمقدرة على اإلجابة عن سؤال :ماذ بعد؟ لست ّ خطة قبل استهالل مخطوطهم .الكتابة متاهة .أسعى يضعون ّ حرّية اختيار الخاتمة التي للقارئ أترك كي المفتوحة إلى النهاية ّ تروقه . هل خرجت من هذه المتاهة رابحاً؟ الزمن سيفصل في األمر .كلّما قرأ المرء أكثر ،عرف كم هو صغير.التواضع األدبي فضيلة. المحتفية بالروايَتْين ،ولو أنّك تقف موقف ًا معادي ًا تكثر المقاالت ُ صراحة ،أنّهم من النقّاد ،على لسان مروان في «ليل» ،وتقول، ً ويباعون. ُيشَتَرْون ُ
جيداً .ثمة نقّاد شرفاء ،وهم صحيح ،كان النقد ّبحق الروايتين ّ الجو الثقافي قلّة قليلة جّداً ،مسَتْثَن ْون من «الشراء والبيع» .لكن ّ جو نميمة وحقد وطعن في الظهر! الذي أعرفه عن كثب هو ّ الصحافة ،في العالم العربي ،مهنة تغبن ممتهنها ،وال تسمح له بعيش كريم .ثم ،يأتي َدور ُدور النشر التي تأكل تعب الكاتب ،وال تسديه ّإل الفتات اليسير .في هذا اإلطار ،ال أعرف رقم الطبعة التي جراء وصلتها «ليل»ّ ، وكم األرباح التي يراكمها الناشرون القراصنة ّ اضطّررت إلى أن بداية ،على نفقتي ذلك! طبعُتهاً ، الخاصة ،لكني ُ ّ أضع اسم «دار مختارات» ،على غالفها ،ألضمن دخولها مسابقة الخاص .ثم ،صدرت ،عن «البوكر »2013التي ال تعترف بالنشر ّ ثالث دور للنشر ،طبعة ثانية منقّحة من الرواية ،مع غالف جديد. وهنالك محادثات في شأن تحويلها فيلم ًا سينمائياً. ماذا أضاف وصول روايتك إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر للرواية العربية؟ مدعاة ابتهاج أن تصدر أربع طبعات ،لرواية ،خالل سنة.والطبعة الخامسة قريباً.عدا االنتشار الالفت ،سمح لي وصول روايتي إلى القائمة القصيرة للبوكر أن أسافر في فئة الدرجة للمرة األولى ،إلى األولى ،وأن أقيم في فندق باذخ ،وأن أسافرّ ، ال عن عدد كبير من أتعرف إلى أناس كثر ،فض ً دولة ّ عربية ،وأن ّ أفضل مهم ًا جداً .فأنا ّ المقابالت الصحافية والمتلفزة .أرى هذا كلّه ّ عيش الحياة على الكتابة عنها ،ولم ألتزم بمهن تتطلّب دوام ًا ُ سيما الذهاب إلى البحر وممارسة كام ً حر َّيتي ،ال َّ حرم ِّ ال حتى ال أ َ أهم متعَتْين لي :السباحة ،والمشي على رصيف طويل ملتصق ّ بالشاطئ .وقد وضعت روايتي الثالثة ،هناك ،على وقع الموج. 103
كارل أوفه كناوسجارد
ال ّروائي النرويجي كارل أوفه كناوسجارد:
الرواية تميل إىل حجب العالم بد ً ال من كشفه! حوار :جيمس وود ترجمة :مجدي عبد املجيد خاطر
لم يكن عنوان رواية «كارل أوفه كناوســجارد» (1968م) ذات الســّتة أجزاء« ،كفاحي» ،الباعث الوحيد اتية، لحالة الجدل التي أثارتها روايته ،بســبب تشــابه اسمها مع العنوان الّذي اختاره هتلر لسيرته الّذ َّ الخاصــة ألصدقائه وعائلتهِ ،بمــا في ذلك زوجته الروائي النرويجي فــي تعريته للحياة ّ بــل تمــادي ّ ّ مصاف أعظم القراء درجة وضعتها في وج َّدته .مع ذلك ،حظيت الرواية بمراجعات َّ ّ إيجابية واستحسان ّ السابقةَ ، نرويجيين يمتلك نسخة من تلك عشرة كل من ا واحد أن إلى تقديرات تشير إذ اآلن؛ ى ت ح النرويج في النشر ظواهر ً ّ ْ ّ ّ ّ الرواية التي صدرت ،تباعاً ،في الفترة بين 2009م إلى 2011م. وترجمت إلى 22لغة حّتى اآلن ،وقد صدرت الترجمة الرواية للكثير من الجوائز ،داخل النرويج ،وخارجه ُ ُر ِّشحت ّ (كتب أركبيلجو) فــي الواليات المّتحدة، الرواية ،شــهر مــارس/آذار الماضي ،عن ُ َّ اإلنجليزيــة للجزء الخامس من ّ نقدي ًا تجاوز ما أثارته ّأية ترجمــة أخرى داخل الواليات المّتحدة، ا نقاشــ وأثارت بريطانيا. في ســيكر) و(هارفيــل ً ّ الشاعر التشيلي «روبرتو بوالنو»2666 ،م. منُذ رواية ّ صحافي ًا مفتوح ًا لقاء يدير أن إلى وود»، «جيمس «نيويوركر»، صحيفة في ــهير الش األدبي ّاقد ن ال دفع هذا النجاح ّ ّ ً الروائــي النرويجــي ،على هامش المهرجان الســنوي األدبــي الثالــث ،النرويجي األميركي ،في أوســلو .كان مــع ّ الشــارع ،للقصر الملكــيَ ،قد فاق ُقدرة المركز مركز في الرئيس ــو ه الب فــي الحضــور الكّتاب في الجهة المقابلةِ ،من ّ َْ ُ المتأخرون ،خائبي الرجاء ،في المقهى المجاور. الزوار ّ على االستيعاب ،فاحتشد ّ 104
•حظيــت أجــزاء روايتــك الســّتة بترحيــب كبيــر ،بوصفها استثنائي ًا لجرأة األدب -جرأة االعتراف واالجتراء أنموذج ًا ّ الشــكل .أحيانــاً ،تخفِّض رهانك درجة ،قد تتالشــى علــى ّ معها الحكاية أو الدراما ،والصراع والحبكة.
ســيما الكتاب كانــت كتابــة هذا الشــيء مصــدر تنكيل بــي ،ال َّالســابعة والعاشــرة الثالــث؛ ألنّــه ُيروى من منظور صبي بين ّ ّ ِمــن عمره ،وهو منظور أحمق .كنت أشــعر ،طــوال الوقت الّذي بــأن تلك الكتابة ليســت قضيتــه فــي كتابة تلك الكتب الســّتةّ ، االفتتاحية الخمس جيدة .الجميل منها -في اعتقادي -الصفحات َّ ِّ أتأمل فيها الموت .حين ُكنّا ننشــر ذلك التي ل، األو الكتــاب مــن َّ َّ بحجة اختالفها حرر حذف تلك الصفحاتّ ، الم ِّ الكتابَ ،طَلب منّي ُ ربمــا ،صار الكتاب الشــديد عــن باقي الكتــاب ،وكان على ّ حقّ . أفضــل ،لكننــي كنت في حاجة إلى مكان فــي الكتاب ،تكون فيه أمضيت أســابيع تلو األخــرى في هذا الجزء، جيدة .لقد الكتابــة ّ ُ يلبي وفــي ظنّي أنّه نثر حداثــي عالي الجودة .باقــي الكتاب ال ّ ّ معاييري في الكتابة ،حّقاً.
•لكــن الوعي بهــذا ،في أثنــاء الكتابــة ،أال يجعلهــا كإجراء تجربة؟
بلى.
ٍ تتفق معي؟ •إنّها جرأة بطريقة ما ،أال َّ
ال عالقــة للجــرأة بحالتــي تلك ،بل هو القنــوط واإلحباط .لمأورط نفســي فــي الكتابــة ّإل على هذه يكــن أمامــي ســبيل كي ِّ الشــاكلة؛ أي أن أفــرض عليهــا الكتابة ،بســرعة كبيــرة ودون ّ لــدي على الورق .خالف ذلك ،ســأعجز تحريــر ،هكــذا أضع ما ّ حس شــديد االنتقــاد للذات ،بالنســبة عــن إنجاز الكتــاب .لدي ّ الحس على المشــروع .كان تعذيباً. إلــى كاتب ،وقد انعكس هذا ّ كل شــيء عبر الهاتــف؛ الثالثة آالف لــدي صديــق قرأت له ّ كان ّ مضطرًا إلى أن يقول: والسّتمئة صفحة في أثناء كتابتها ،وكان ّ أن تواصل. الب َّد ْ ِّ جيدُ ،
ثمة •الثيمــة الكبــرى ،في عملــك ،هــي المعنى وضياعــهّ . تذكرني عبــارة رائعة في كتاب «أدورنو» «الجدل الســلبي» ّ بكتابــك ،يقول «أدورنو» :لــو كان الفكر -حّقاً -مستســلم ًا ينصــب عليه فعــاً ،ال على أن اهتمامــه للموضــوع ،ولــو ّ ّ فإن تلك الموضوعات نفسها ستبدأ باإلفصاح عن المقولة؛ ّ المتمهلة .أال يبدو ذلــك وصف ًا معقو ًال العين أســفل نفســها ِّ ِلما تسعى إلنجازه؟
بأن إلى ْأق َصى حّد .قبل أن أكتب «كفاحي» ،راودني إحســاس ّألن أشــكالها الروايــات تميــل إلــى حجب العالم بد ًال من كشــفه؛ ّ ينصب اهتمامها متطابقة .األمر نفســه بالنســبة إلى األفالم التي ّ أفكر في أي حال .كنــت ِّ الســرد .أغلب األفــام ،على ّ علــى هيكل ّ منقحاً ،من خالل ذلك ،وفي العالم الّذي يأتي إلينا -في العادةّ - نشــرات األخبار ووســائط الميديا :الشــكل ذاته ،واللّغة ذاتها، كل األمور متشــابهة .كانت هذه مشكلة ،عانيت منها قبل فيجعل ّ أن أبدأ كتابة «كفاحي» .لم يكن الشــكل التقليدي للرواية مالئماً.
لــم أثق به لألســباب التي أســلفتها .اآلن ،ال أعيــر العالم الكثير كل شــيء .أنا من االهتمام ،لســت حاضرًا فيه ،بل ُمْن َســِلخ ًا عن ّ مشــغول جّدًا بنفســي وبعقلي .ال ِ صلة لي بهذا العالم ،لكن ،في عالم الصلة .هذه طريقتي للكشــف عن ٍ أثناء الكتابة ،تنشــأ تلك ِّ عامة. وليست شخصية، ما .لكنّها مشكلة َّ ّ
عامــة ،في ظنّي .أحد األشــياء المثيرة لالنتباه •بل مشــكلة ّ التــي كانــت تجــري ،فــي األدب النرويجي -ال ريــب -وفي واألميركيــة ،هــو اإلصــرار على البريطانيــة، الروايَتْيــن: َّ َّ حداثية التي المابعــد القاعــدة بســبب ال األشــكال؛ تحطيم َّ تفــرض على الكاتب تحطيم األشــكال ،بــل ،على النقيض- المصداقيــة أو محاكاة الظفر بمزيــد من تقريبــاً- رغبــة في ّ ً َّ أن الســبيل الوحيــد إلى ذلك من خالل الواقــع، وثمة يقين ّ ّ كسر قوانين الواقع -بالضبط -كما تصف.
الفن واألدب ،دائماً؛ لهذا السبب ال تتشابه يجري شيء كهذا في ّفنوننا مع فنون العصور الوســطى؛ ألنّنا نحتاج طريقة جديدة فإن السبب الّذي الروس ّ نرى بها العالم .وكما كشف الشكالنيون ّ لنتمكن من جعــل «تولســتوي» عظيم ًا هو جعلــه العالم غريبــاًّ ، رؤيته :هذا التزام األدب ،في رأيي.
•فــي عملك ،هنــاك كفاح الســتعادة المعنــى؛ المعنى الّذي وثمة كفاح -أيضاً- يفلــت من بيــن أيدينا كلما تقّدم العمــرّ ، مــع اللّغــة .فــي الكتــاب الثانــي -مثالًُ -تشــير إلــى لوحة أن ربمــا ،على ســبيل المبالغةّ - لـ«أنزلــم كيفــر» ،وتقولّ - أعظــم ما فيهــا أنّها «ال تتعلّــق باألفكار» ،كأنّــك ترغب في غســل يديك من اللّغــة ،بطريقة ما ،ومع ذلــك ترجع إليها ألن اإلفصاح عن الرغبة علــى نحو َب ِّين، تضطر إلى ذلــك؛ ّ ّ لتخطيها. هو الوسيلة الوحيدة ّ
الســادس، نعــم ،رغــم صعوبة الحديث عــن ذلك .في الكتاب ّأناقــش قصيــدة لـ«باول ســيالن» طوال ثالثين صفحــة تقريباً. الصمــت .ما جرى في «ســيالن» هو أكثر شــاعر اقتــرب من ذلك ّ ألمانيــا (الهولوكوســت) عصف بلغته؛ لغة هتلــر التي ال يمكنك تأم ٌل استعمالها؛ ال يمكنك استعمال كلمة أرض أو دم .القصيدة ُّ لمعنى الهولوكوســت ومعنى الموت .الحال أنّك حين تشير إلى أما الموت نفسه فـ«ال» :إنه عدم؛ سيالن على كلمة موت ،تتمثّلّ ، الحّد الفاصل بين العدم والمعنى .وكل ما يســعني هو اإلشــارة حقيقية للوصول إليها ولدي رغبــة إليــه .لقد بلغ هذه التخومّ ، َّ تصور عالــم بال كلمات، أحاول بنفســي ،لكني أعجزُ ..محــال. ّ ضــى .اللّغة هي ما يتقوض :هباءَ ..ف ْو َ عالــم بال لغة ،والعالــم ّ يصنــع العالــم ،وهي -أيضاً -ما يجعله يتبــّدد ،والكتابة نضال مستمر لتجديده. ّ إن لم تستطع كتابة قصيدة، ّ الشــعر هو الوسيط المثالي .لكنْ ، الشــكل؛ هذا ما تتجــه إلى التالــي باألهمية ..تحاول اإلفالت من ّ َّ َّ ســعيت إليه .بعدئذ ،في غضون خمس ســنوات ،يتبّدد أثر تلك وتضطر إلى االستمرار. الطزاجة، ّ .............. المصدر: http://www.theparisreview.org
105
كل عام ،يبدأ عالم بمجــرد عودة الفرنســيين من عطلهم الصيفية ،بين ســبتمبر ونوفمبر مــن ّ
النشــر بالغليان ،ومعه موســم الجوائز األدبية .هذا الحدث الثّقافي التقليدي في فرنســا ،غدا مرتبط ًا ارتباط ًا وثيق ًا بدينامية ثقافية وإعالمية تشرك المجتمع الفرنسي في التجارة الثّقافية
يتم نشــر أزيد مــن 600كتاب في ثالثة والمتعــة المعرفيــة .مــا هي كواليس هــذا الدخول الثّقافي؟ كيف ّ أسابيع؟ وهل يمكن الحديث عن لعبة إعالمية؟ أم أنه مجرد احتفال باألدب؟
الدخول األديب الفرنيس
مجرد احتفال باألدب! ليس َّ سعيد بوكرامي
الدخول األدبي ،تقليد فرنسـي سـنوي عريـق ،يعـود إلـى العـام .1880لكـن الدخـول األدبي الفرنسي ليس قديم ًا قدم الكتاب وصناعته ،على الرغم مـن أن وسـائل اإلعلام الفرنسـية تميـل إلـى جعلنـا نعتقـد أن هذه العادة الفرنسـية قد تواجدت منذ األبد في فرنسـا .وال شـك أنـه اسـتثناء ثقافـي دعم مكانة فرنسـا وامتدادهـا الفرنكفوني، لكنـه لـم يصنـع دائمـ ًا أدبـ ًا رفيعـ ًا كمـا قـد يسـطع أحيانـ ًا مـن القارات البعيدة والمغمورة ،ليجد الفرنسيون أنفسهم مضطرين لترجمتـه ومحاولـة فرنسـته ،بـل إن األدب الفرنسـي الجيـد قدم مـع المهاجريـن ومـن البلـدان الفرنكفونية علـى الخصوص. ومع ذلك تبقى سمة االحتفاء باألدب وترويج الكتاب خاصية فرنسـية انبثقـت مـن داخـل الصالونـات األدبيـة ،التـي كانـت نشـيطة بشـكل خـاص فـي أواخـر القـرن التاسـع عشـر .وللعلم فقـد تـم إنشـاؤها فـي القرن السـابع عشـر ،حيـث كان المثقفون واألدبـاء وعرابـو األدب يجتمعـون لبحـث ومناقشـة أحـوال والفّـن والسياسـة ،وعلـى وجـه التحديـد اإلنتـاج األدبـي األدب َ المعاصر .خالل هذه اللقاءات ،كان يحضر باالضافة إلى أدباء مرموقيـن األخـوان غونكـور .أما تصـور فكرة «الدخول األدبي» فقـد اسـتحدثه إرنسـت رينـان فـي عـام ،1880عندمـا كان جول وادمـون المرجعيـن األدبييـن الباريسـيين ،وغيرهمـا قادريـن على جعل عالم األدب أكثر ازدهاء وإشـراق ًا وإشـعاعاً .وللرفع مـن اإلنتـاج وتشـجيع الكّتـاب المعاصرين على منافسـة األدباء 106
المكرسين ،بادر األخوان غونكور إلى تنظيم مسابقة لمكافأة َّ أفضـل عمـل سـردي فرنسـي نشـر خلال السـنة .وسـرعان ما وتصور إلى روح منافسـة انتقل الشـغف بالغونكور من فكرة ُّ بيـن الكّتـاب ،ولكـن بالتحديـد بيـن الناشـرين الذيـن تحولـوا إلـى أعـداء ناعميـن اسـتولوا علـى سـوق النشـر ومبيعاتـه، وحاولـوا تجنيـد دورهـم ووسـائل اإلعلام عامـة واإلعلام خاصـة ،للظفـر بالجوائـز األدبية ،التي بـدأت تبتكر الثّقافـي ّ تدريجيـ ًا جوائـز أدبيـة منافسـة للغونكـور ودائمـ ًا بإيعاز من دور النشـر وبعـض النقـاد المؤثِّريـن فـي الوسـط األدبـي. فظهرت جائزة فيمينا عام 1904وجائزة رونودو في 1926 وجائـزة أنتيرأليـي 1930وجائـزة ميديسـيس التـي ظهـرت بعـد الحـرب العالميـة .وهكـذا خلـق التنافـس علـى الجوائـز ديناميـة إيجابيـة بيـن األدبـاء والناشـرين علـى حـد سـواء، كل عـام فـي منتصـف شـهر نوفمبـر. تبـدأ -عـادةّ - لكن سياق «الدخول األدبي» لم يبرز ألول مرة ّإل في صحيفة الفيغـارو عـام 1936لمـا وضعـت العبـارة بيـن مزدوجتيـن، ممـا يعنـي أن السـياق دخيـل أو غير شـائع بيـن القراء .وفي الواقع ،لم يشهد عالم النشر طفرة كبيرة ّإل في العام 1980 حيـث سـيتحول سـوق الكتـاب إلـى موسـم ثقافـي واحتفالـي سنوي ،أدى إلى ازدهار النشر وسوق الكتاب وجذب القراء، فـإذا حـدث وأخفـق ناشـر فـي اسـتعداداته واختياراتـه ،فـإن العام يقضيه في كسـاد وخسـارة .وبذلك أصبحت الرهانات خاصة في السـنوات األخيـرة التي عرفت االقتصاديـة مهمـةّ ،
أزمـة ملحوظـة فـي عالـم النشـر ،وأصبـح عـدد النسـخ التـي تسـحب مـن كتـاب فائـز بإحـدى الجوائـز يتناقـص .وتسـوق صحيفـة «كتـاب إبـدو» المتخصصـة فـي عالم الكتـاب أمثلة عن فمثلا ،معـدل نسـب مبيعـات الكتـب الحاصلـة علـى الجوائـز: ً مبيعـات الفائـز بالغونكـور تصـل إلـى ( )300ألـف نسـخة، وجائـزة رونـودو ( )150ألـف نسـخة ،بينمـا جائـزة فيمينـا ( )100ألـف نسـخة ...لكـن منطـق الناشـرين التجـاري القائـم على الترويج للكتاب األدبي بشتى السبل لحصوله على جائزة معينـة ومـن ثـم الرفـع مـن مبيعاتـه ،منطـق ال يعجـب البعـض بدعـوى أنـه يجعـل الدخـول الثّقافـي يعـرف بعـض االنحرافـات التي تذهب ضحيتها نصوص أدبية رفيعة ودور نشـر صغيرة أو مغمورة. وبعيدًا عن البعد التجاري الذي يطبع الدخول األدبي الفرنسي، يبقى هذا الحدث مناسبة لالحتفال باألدب بحماس كبير تعكسه مقدمتهـا الصفحـات الثّقافيـة للصحـف وسـائل اإلعلام ،فـي ِّ المشـهورة مثـل لومونـد في ملحقها الخـاص بالكتب ،وصحيفة لوفيغـارو والمجلـة األدبيـة التـي تفـرد ملفـات عـن الكتـب المرشـحة للجوائـز أو الفائـزة بهـا وصحيفـة «ثقافـة بوكـس» ال عـن الدخـول الثّقافـي .كمـا تعقـد التـي تعـد سـنوي ًا ملفـ ًا شـام ً موائد مسـتديرة كما كان يفعل برنار بيفو مع برنامجه الشـهير «أبوستروف» أو ما يقوم به باقتدار الصحافي والكاتب فرانسوا بوسـنيل في برنامجه على القناة الفرنسـية الخامسـة «المكتبة الكبيـرة» والـذي سـاهم فـي ترويـج الكتاب والتعريـف بالكّتاب
علـى نطـاق واسـع .كمـا اهتـم بشـأن المكتبات ومشـاكلها... وهـذه الصفحـات والبرامج األدبية حول نمط الكتابة األدبية الفرنسـية وموضوعاتهـا وحكاياتهـا ،تبقـى وسـائط فعالـة لمناقشـة النصـوص األكثـر رواج ًا واكتشـاف األعمـال الجيدة خاصة حتـى وإن كان أصحابهـا ُكّتابـ ًا مغموريـن أو شـباباًّ ، أن الموسم األدبي يتزامن مع فترة إعالن الفائزين بالجوائز عنصري اإلثارة األدبيـة الكبـرى ،وهـذا يوفر للقـارئ والناقد َ والمتابعـة ،فيسـيل بذلـك مـداد الصحافـة الثّقافيـة وتـزداد تكهنـات النقـاد وتهافـت القراء. هـذا العـام ،يعـرف الدخـول األدبـي الفرنسـي ،صـدور عـدد مهـم مـن الكتـب األدبية الجديـدة .ومقارنة بالسـنوات الفائتة تـم تسـجيل انخفـاض طفيـف حيـث سـيصدر حوالـي 560 كتابـ ًا بيـن روايات ومجاميع قصصية ودواوين .دور النشـر العريقـة مثـل دار غاليمـار وسـوي ومينـوي والفـون وأكـت سـود وكريسـتيان بورجوا بدأت منذ منتصف أغسـطس/آب الماضي في تزويد المكتبات ومراكز البيع بكتب أدبية جديدة باللغة الفرنسـية والمترجمة ،وستسـتمر عملية التوزيع إلى غاية أواخر شـهر أكتوبر/تشـرين األول. 66رواية ستصدر لكتاب جدد يقتحمون عالم النشر ويعدون كل سـنة .أمـا األسـماء بمفاجـآت جديـدة كمـا يحـدث عـادة ّ المكرسـة فهـي حاضـرة بقـوة وسـتتنافس ،كالعـادة علـى الجوائز المعروفة :غونكور ،رونودو ،ميديسـيس ،فيمينا، أنتيرأليي أو الجائزة الكبرى للرواية التي تمنحها األكاديمية 107
الفرنسية .وتتضمن الالئحة :فيليب فورست ،الذي حصل على جائـزة الغونكـور للسـيرة الذاتيـة فـي أوائـل يونيـو عـن كتابه «أراغـون» الصـادر عن (دار غاليمار) ،ياسـمينة خضرا ،لوران موفينيي ،جان بول دوبوا ،لوران غودي ،فرانسـوا بيغودو، كاريـن تويـل ،ريجيس جوفري ،كريسـتوف دوني والحاضرة األبدية! منذ عام 1992إيميلي نوثومب وإريك إمانويل شميث وغيرهم .وفي اآلداب األجنبية ،ينتظر القارئ جيم هاريسون، ديفيد فان ،عاموس عوز ،ودونالد راي بولوك وغيرهم .وفي مـا يلـي الئحـة بأهم الروايات الصادرة في أغسـطس الماضي: «اللعبـة الكبـرى» سـيلين مينار ،منشـورات ضفاف الفرنسـية. «التركـة» جـان بـول دوبـوا ،دار لوليفيـي« .العيـش بالقـرب مـن أشـجار الزيزفـون» سـرد جماعـي ،فالماريـون« .اسـمعوا هزائمنـا» ،للـوران غـودي ،أكـت سـود« .السـيد اوريغامـي»، لجـان مـارك ،غاليمار« .الجزيئات» ،فرانسـوا بيغودو« .عبور رواد الفضـاء» ،إليتـزا جورجيفـا ،غاليمـار« .بابل» ،ياسـمينة خضـرا ،فالماريـون« .تابـع» ،لـوران موفينيـي وتصـدر خلال هـذا الشـهر عـن دار مينوي. ومـن الروايـات األجنبيـة ،التـي صـدرت خلال أغسـطس/ آب الماضـي« :يهـوذا» ،عامـوس عـوز ،غاليمـار« .يـاك فالـي مونتانا» ،سـميث هندرسـون ،بيلفو« .حب متوحش» ،كاثرين دان ،غالميسـتر« .علـى هـذه األرض كمـا فـي السـماء» ،لدافيـد إنيـا ،ألبـان ميشـيل« .صبـي فريـد» ،كيـت سمرسـكيل ،دار كريسـتيان بورجـوا. ومـن األعمـال المنتظـر صدورهـا خلال هـذا الشـهر« :المشـعوذ العجـوز» ،للراحـل هـذا العـام ،جيـم هاريسـون ،فالماريـون. 108
وثمـان وعشـرين ليلـة» ،سـلمان «عامـان وثمانيـة أشـهر ٍ رشـدي ،أكـت سـود« .رحلـة هانومـان» أندريـه إيفانـوف، دار ترايبـود ،و«الغرفـة المظلمـة» ،إلسـحاق روزا ،عن دار بورجـوا. وتبقى التسـريبات التي تدعمها دور النشـر تزيد من حماس القراء والنقاد على حد سـواء إلى أعمال بعينها .مثل رواية إريـك فويـار التـي صدرت فـي 14يوليو/تموز عن دار أكت سـود ،والتي يمنح فيها الكاتب الكلمة لثوار الباسـتيل عام .1789كما تنشـر الدار نفسـها سـيرة المخرج الفرنسـي جان لـوك غـودار ،التـي أنجزهـا تييـري فوغيـر في قالـب روائي تمزج بين تاريخ فرنسـا وسـيرة الفنان الكبير ،ويتوقع أن تكـون مفاجـأة أدبيـة .كمـا وفـرت دار سـتوك أعمـا ًال جديـدة ألدبـاء معروفين وجدد. كمـا ستشـهد األعمـال الشـعرية إصدارات متميزة سـواء لدى السلسـلة العريقـة البليـاد أو لـدى دور متخصصة مثل فايار أو ميركـور أو غاليمـار .كمـا ينتظـر القراء مذكرات الشـاعرة مارسـلين ديسـبورد فالمـور و«حياة ممتـدة» لرامبو وأعمال الشـاعر الروسـي أوسـيب ماندستام وغيرهم. وال يخلـو الدخـول األدبـي أيضـ ًا مـن نصـوص مفتوحـة ومذكـرات منهـا مـا صـدر فـي أغسـطس/آب الماضـي ومنها مـا هـو منتظـر صـدوره فـي أكتوبـر القـادم بمعـدل 87كتاب ًا بين أغسطس/آب وأكتوبر/تشرين األول .من هذه األعمال مراسلات بيـن سـتيفان تسـفايغ ورومـان روالن (- 1928 )1940أللبان ميشيل ،وستنشر دار أليا «المقدس في الحياة اليوميـة» للفيلسـوف ميشـال ليريس.
ُي َعــّد الكاتــب الصيني «شــيو تســي
تشــين» واحدًا من أبــرز ُكّتاب األدب الصينــي المعاصــرُ .وِلد عــام 1978 تخر َج في إحدى قرى شــرق الصينَّ . ّيــة اآلداب بجامعــة بكين ،ثم فــي كلّ حصل على درجة الماجستير. صــدر له أربع مجموعــات قصصية، وثالثة روايات ،باإلضافة إلى رواية رجمت إلى عّدة «بكين ..بكين» التي ُت ِ لغــات ،منها اإلنجليزية ،واأللمانية، مؤخراً ،نسختها العربية كما صدرتَّ ،
عــن «دار العربي للنشــر» ،بالتعاون مع «بيت الحكمة» ،في الصين.
شيو تسي تشين
شيو تسي تشين.. الذين يعيشون يف ّ ظل بكني حاورته :نرسين البخشونجي
يتحدث عن الفساد، موضوع روايتك «بكين ..بكين» َّ والمخدرات ،والعالقات غير الشرعية ،والفقر ..وكلّها مشكالت ِّ تعاني منها العواصم الكبرى .هل تعتقد أن لهذا السبب َت َّم ترجمة روايتك ،إلى عّدة لغات؟ الطبيعة البشرية عالمية ،كما تتشابه الحضارات المختلفة،التطور؛ حيث يجري في مناطق عديدة ،في مراحل مختلفة من ُّ تقاسم المزايا والمساوئ ،كالفقر ،والفساد ،ومهن األسواق أحد يستطيع أن يهرب من هذه األوضاع. السوداء ...ال َ
شخصيات روايتك بسيطة ،لكن العالقات فيما بينها تبدو ّ شديدةالتعقيد. بالفعل؛ العالقات المعقَّدة بين شخصيات الرواية مصدرهاالعالقات المعقَّدة في حياتهم الحقيقية .كتبت عن الحياة حالياً ،أكثر من عصورها في الصين المعاصرة، المتفوقةّ ، ِّ السابقة ،وعن الفترة الزراعية ،ثم الفترة الصناعية، المحطات ورصدت التعايش في عصر العولمة ...في هذه ّ تحوالت كبرى تطرح العديد من القضايا والتفاصيل التي تؤثِّر ّ 109
التي ال نهاية لها ،ويسمحان بكتابة المزيد من القصص الرائعة وابتكار العبارات الفريدة من نوعها .الفنّان الحقيقي يحتاج إلى حياة طويلة لمعرفة كيفية التعبير عن نفسه ،بشكل قصة كامل؛ لذلك ،من األفضل أن ال تكتب ّ واحدة في بضع كلمات ،وأنا أرجو أن أكون فنّان ًا يعيش بالكثير من التفاصيل. أول رواية كتبتها كانت عام .1994كنت، جادًا حينئذ ،في السادسة عشر ،لكني صرت ّ أركز ،بشكل في األمر عام ،1997حين بدأت ِّ كلّي ،على الكتابة اإلبداعية.
في حياة الناس اليومية.
يدور جزء كبير من أحداث الرواية متخرج في هذه أمام جامعة بكين .وأنت ِّ أي مدى اعتمدت ،في كتابة الجامعة .إلى ّ روايتك ،على شخصيات حقيقية وواقعية؟
واقعي جّداً .فالعديد في هذه الرواية ،أناّ من المواقف والتفاصيل نبعت من واقع خبرتي الشخصية ،ما رأيته ،وما سمعته فكرت في ما هو جعلني أتألَّم كثيراً ،وقد َّ شخصيات من أكثر من ذلك :أردت تقديم ّ بكين ،وأن أكتب عن مشاعرهم ،وعواطفهم وحيرتهم ،التي ظلت عالقة في ذهني ،منذ ربما ،ألني ،آنذاك، كنت طالب ًا جامعياًَّ . نفسياً ،في الهوية، أتمكن من َحّل أزمة لم َّ ّ مدينة حديثة مثل بكين؛ لذلك أردت أن الهوية ليست أكتب عن أولئك الذين يعيشون في ظلِّها ،لكن ّ عائقاً ،فأنا أكتب لهم ،وأكتب عن نفسي ،أيضاً.
فتاة غريبة األطوار تظهر في روايتك «بكين ..بكين» ،لكنها متعمداً. تختفيً ، فجأة ،من ّ النص! لسبب ما ،يبدو أنك أخفيتها ِّ
تذكرت اختفاء يبدو أنك قرأت الرواية بعناية فائقة ،لذلك ِّالفتاة ،شكرًا لك! إنها تختفي على طول الطريق .في األدب النص الروائي ،أن تكون موجودة، الب َّد للشخصيات ،في ّ ُ من البداية إلى النهاية .ال ينبغي أن تختفي َعَرضاً .لكن، سمحت لهذه الفتاة الغريبة إلى يومنا هذا ،أنا ال أعرف لماذا ُ وأي ربما إليماني بأن الحياة مليئة بالفرصّ ، أن تختفي! َّ شيء يمكن توقُّعه لهذه الفتاة الغريبة ..أعتقد أن أفضل َحّل وربما جاء لتذكير البطل «دونهوانج» هو اختفاؤها الغريبَّ . أنه ليس إلهاً .أدرك أن هذا الموقف كان قاسي ًا جّدًا على بطل الرواية ،لكن ..هذه هي الحياة.
أي كونك نجم ًا من نجوم األدب الصيني المعاصر؛ إلى ّ تفكر في كتابة رواية جديدة؟ مدى تشعر بضغط ،حين ِّ ال شيء يؤثِّر على كتاباتي :ال الضغط ،وال النقد ،وال حتىالثناء .فأنا أكتب منذ سنوات طويلة ،وصرت أعرف ما هو المطلوب ،وما ينبغي فعله.
يتعرف إليك ،بشكل أفضل .كيف يود أن القارئ العربي ّ َّ كانت طفولتك وبداية شغفك بالكتابة؟
كل نشأت في منطقة ريفية ،في وسط الصين ،وتعلَّمت ّأنواع العمل في المزارع ،بما في ذلك إمساك الضفادع. في السادسة التحقت بالمدرسة ،وكانت مدرستي في بيئة بسيطة .سافرت إلى بكين في الرابعة والعشرين من عمري، محررًا ثقافياً .طوال هذه وفي السابعة والعشرين بدأت عملي ِّ السنوات (باستثناء العمل) ،كنت أقوم بالقراءة والكتابة. وبغض النظر عن تعقيدات إلي ،بوصفي كاتباً، ّ لكن ،بالنسبة ّ وحساسيته هما الداخلي المرء ثراء أن أعتقد سيرتي الذاتية، ّ أهمّية ،ألنهما يجلبان له الخبرات واألفكار الجديدة األكثر ّ 110
حدثني عن الكتب التي َأثَّرت فيك ،على ِّ المستويْين :اإلنساني ،والمهني. َ
الرواية الصينية الكالسيكية «حلم الغرفةوالتجول»، الحمراء» لـ«كاو تشوشين» ،و«دعوة لحمل السالح ُّ للكاتب الصيني «لو شون» ،و«بالتازار وبوليميندا» للبرتغالي «ساراماجو» ،و«السمك المفلطح» للكاتب األلماني «غونتر و«هدية همبولت» للكاتب األميركي «سول بيلو»، غراس»، ّ وكل و«منعطف النهر» للكاتب اإلنجليزي «ف.س .نايبول»ّ ، أعمال الكاتب المكسيكي «خوان رولفو».
أي نشرت ثالث روايات ،وأربع مجموعات قصصية؛ إلى ّ تتفق معي على أن الرواية تصنع نجوم األدب ،األعلى مدى َّ مبيعاً؟ شعبيته من بقدر ما يتعلَّق األمر بالروائي نفسه ،تنبعّ رواياته .لكن الرواية ليست هي الشكل الوحيد لألدب؛ هناك كل شكل من األشكال اإلبداعية يمكن أن الشعر والقصصّ . يحقِّق المجد لمبدعه .في الوقت الحاضر ،الشعبية للرواية، أي شخص بارع في األدب يعرف أن إنجاز المرء اإلبداعي لكن ّ القراء. يرتبط ،بشكل غير مباشر ،بقدرته على التأثير في ّ
المسودة األولى لرواياتك؟ من الذي يقرأ َّ
-زوجتي.
أي مدى استفدت ،على المستوى اإلبداعي ،من عملك، إلى ّ محررًا في مجلّة « ،»People’s literatureوالتي بوصفك ِّ أدبية في الصين؟ ّة ل ُت َعّد أشهر مج ّ
هذه المجلّة هي جوهر األدب الصيني المعاصر ،هي األقدمكل ما هو جديد في سوق واألهم .وعملي يتيح لي متابعة ّ ّ النشر ،ليس ،فقط ،في الصين ،بل على مستوى العالم، جيدة .بالطبع ،يفيدني ذلك جّداً؛ حيث أقرأ وهذه فرصة ِّ أحدث الكتب سعي ًا لفهم وجهة نظر ُكّتابها ،أو بحث ًا عن اكتشاف أساليب سردية جديدة ،و -أيضاً -السعي لفهم اآلخر جيدة لفهم الذات واكتشافها ،و -بالطبع -يتيح لي كوسيلة ِّ عملي معرفة موقعي بوصفي أديباً.
استدراك
أمجد ناصر
في المشي والكالم أفكر؛ إذن أنا موجود. نعرف «الكوجيتو» الديكارتي الشهير :أنا ّ الوجود هنا متحقِّق بوعي ذاته ووعي منزلته في العالم .إنه وجود ال يبرهن عليه التفكير فقط بل يجعله مميزًا عن سواه. المسجلة ،وبما التفكير ،هنا ،هو أصل الكائن في العالم وعالمته َّ أن المشي (كما هو عند الفالسفة المشائين) مرتبط بالتفكير ،فليس كثيراً ،والحال ،أن نقول :نحن نمشي إذن نحن موجودون .مذ شعرت أن لي «عالمي» الداخلي الخاص .لي أسراري .لي تلك تدوم ،على نحو غامض ،في الصور والكلمات والترانيم التي ِّ رأسي ،صرت أمشي وحدي .يربكني الذين يتكلَّمون وهم يمشون. خصوص ًا الذين يتكلَّمون بالهاتف المحمول وهم يغذّون الخطى إلى مكاتبهم المكفهرة ،إلى مواعيد عمل مضجرة ،إلى مدارس كل هذا الشغف كئيبة ،إلى لقاءات منذورة لفرح مأمول .ال أفهم ّ تسمى الهاتف بالكالم في أثناء المشي ،بهذه اآللة الحجاب التي َّ يدوم فوق النقَّال ،المحمول ،الجوال ،الموبايل إلخ .لغط هائل ّ المدن الكبرى ،ثرثرة ال نهائية تطفو فوق رؤوس أناس ،ال يزيدهم الكالم ّإل وحدة وضجرًا وعزلة. «كال ،عيناي حزينتان» .هذا ما قالته سيدة ذات جمال مؤلم وروح مرفّرفة ،في هاتفها المحمول ،وهي تغّذ الخطى بوقع غزالة شاردة إلى محطة قطار األنفاق ،ثم قبل أن تتوارى في جوف العالم السفلي سمعتها تقول لشخص على الطرف فكرت في الشخص اآلخر من الخط« :هل تظنني سعيدة؟»َّ . إنجليزي ٍ بارد ،على بتحفظ األبله ،أو الوحيد ،الذي يغازل، ٍّ ٍّ بأن الحزن رت فك ثم مطهمة، امرأة كفرس عربية ما يبدو، ً َّ َّ والوحدة والكآبة يمكن أن تتجرأ ،بوقاحة ،على الجمال فتنهشه بمخالبها ،وأن هذا الهاتف الصغير قد يصلح لنجوى عابرة، ولكنه ال ينقل حرارة األنفاس وال انقباضات األعماق وال لغة العينين وتقلبات ألوانهما. أعزو فشلي ،في إقناع الذين يتكلَّمون وهم يمشون ،إلى خلل بين طرفي المعادلة .هناك خلل فعالً .ثمة شخص يتكلم وهو يمشي ،وشخص يصغي وهو جالس .الفجوة موجودة وال سبيل إلى ردمها .ال يكفي أن يقول لك الطرف اآلخر :نعم..
صحيح ..بالتأكيد ،أنا معك ،كي تردم الفجوة التي تفصلك عنه ،أو كي يحقّق التواصل هدفه. هذا يحصل ،أيضاً ،عندما تكلّم شخصاً ،وجه ًا لوجه، فجأة ،إلى وتنصرف عيناه إلى تفقّد أثاث المكان ،أو يتطلَّع، ً قميصك أو حذائك فتتابعه ،وأنت تتكلَّم بارتباك ،بنظراتك لتعيد ثانية بعينيه .لتلتقط خيط السمع والفهم الذي مرة االتصال ً ً انقطع فجأة بانصراف العين ،وانشغالها بشيء آخر .فليست األذن التي تسمع فقط ،إنها العين أيضاً ،فإن تكلِّم شخص ًا وال ترى عينيه يعني أنك فقدت االتصال به .يعني أنه خرج عن المدار الذي تتحرك فيه. يحرك الضريرون رؤوسهم ،ويشخصون بعيونهم ألهذا ِّ يتحدثون أو يصغون؟ ّأل يبدو وهم اتجاه، غير في المطفأة َّ األمر كأنهم يبحثون في سديم محاجرهم عن ذلك الشعاع الذي يصدر من العين التي تصغي أو تتكلم؟ أرتبك عندما يهاتفني شخص وهو يمشي .أتصور أن اآلخرين مجرد مثلي ال يركزون في الكالم وهم يمشون .كأن ما يقولونه ّ ملء فراغ ،أو محاولة عبثية لتبديد وحشة مقيمة .ينتابني إحساس مضحك أن الكالم يطير أثناء المشي .ال يرسخ .يطيش أن تتكلم مع شخص يمشي ،بالنسبة لي، وال يصل إلى هدفهْ . هو جهد ضائع ،فهناك حواس أخرى تعمل بقوة وتستولي على منطقة التركيز في دماغ المستمع .هناك الحركة ،البصر، الشم ،التوازن .ولطالما وجدتني أعدت الجملة مرتين ،أو ثالث ّ أريد قوله، مرات ،لكي أتيقن أنني أوصلت ،إلى الماشي ،ما ُ ُ ٍ سهم في قلب الهدف ،ال بالقرب رمي ٍ كمن يحاول ،باستماتةْ ، منه أو على حوافه .لذلك أعيد ،فأضجر من نفسي ،وأخشى أن ُيضجر التكرار الطرف اآلخر ،أو يشعره باستهانتي بقدرته على الفهم. قد يقول :لماذا تعيد؟ أو :لماذا تصرخ؟ هل أنا أصم؟ عندها يتأكد لي ،على نحو مزعج ،أن سهمي طاش. 111
إصدارات
مقالة يف الح ّر ّية.. طريق النظرية إىل الواقع العريب
خالد وليد محمود
الحرّية بوصفها الحرّيــة ،أو ّ «مقالة في ّ حرّيــات» ،عنوان الكتاب الجديد للدكتور ّ مؤخراً ،عن المركز عزمي بشارة ،صدرَّ ، العربي لألبحاث ودراســة السياســات. الكتــاب يقع في 200صفحة ،و يناقش الحرّية ،بصفتها مســألة متعلِّقة قضيــة ّ باألخالق ،انطالق ًا من شرط المسؤولية الحرّيــة قيمة في األخالقيــة ،ومــن كون ّ حــد ذاتهــا .وذلــك علــى ضوء األســئلة ِّ ثمــة عالقــة بين هــل اآلتيــة: الراهنيــة ّ المدنية، والحرّيات الحرّيات الشــخصية ّ ّ ّ تصــح وهــل ة؟ السياســي ــات ي والحر ّ ّّ ّ والحرّيات المدنية، بالحرّيات التضحية ّ ّ ّ الحرّيات ّ السياسية لغرض الحفاظ على ّ الشخصية؟ وهل تحرير المجتمع والفرد ّ مــن اإلمالءات الدينيــة يكفي كي يمارس حرّيته؟ اإلنسان ِّ تأمــل ومتابعة ،عن نتــاج هو والكتــاب ُّ تحوالته وظروف العربي للواقــع كثب، ُّ وتحوالتــه االجتماعيــة، السياســية، ُّ ولعــل الداعــي إلــى تأليفــه يحيلنــا إلى ّ حرّيــة التعبيــر عــن الــرأي ،ال واقــع ّ ظــل ثورة ســيما الــرأي السياســي .في ّ َّ التواصــل الحديثــة ،والجيــل الجديد من الحرّيــة وحدودهــا، الحقــوق ،وواقــع ّ 112
الحرّية مع يتساءل بشــارة :هل َّ تعززت ّ انتشار وســائل التواصل االجتماعي؟ ما وحرّية الجماعة حرّية الفرد ّ العالقة بين ّ التــي ينتمي إليها؟ وِلَمــن األولوية :أهي َ للحرّيات؟. للمساواة أم ّ ا إلــى الجوانب العمليــة ،يتجاوز منتقــ ً الكتاب الطــرح التنظيري :يقتفي الفصل الحرّية ودالالته العربية، َّ األول ،أثر لفظ ّ وتحد ٍ أهمها ويرســم له مخاضات ِّ يــاتّ ، القدرة على مغادرة النقاش الفلسفي عن الحرّيات، الحرّية ،واالنطالق إلى مسألة ّ ّ وشــروط تحقيقها ،وحدودها ،وعوائق تحقُّقهــا في المجتمعات والدول العربية. الحرّيــات فــي العصــر وحــول تصنيــف ّ الراهــن ،يرى بشــارة أن هــذا التصنيف ومدنية شــخصية حرّيــات ّ ّ حاصــل بين ّ حرّية الفكر ّ وسياسية« :يمكننا موضعة ّ الفنّــي ،واألدبي ،بيــن المدني واإلبــداع َ والسياســي ،حيــث ال يــزال النضــال الحرّيــات لتحقيقهــا مســتمراً ،أو بيــن ّ ّ المدنيــة ،حيــث ــات ي والحر الشــخصية ّ ّّ سياســية». قضية ّ ما عــادت ممارســتها ّ ويتابــع ،الفتــ ًا إلــى إمكان الســعي إلى الحرّيات وتحقيقهــا وصونها ،بوصفها ّ «حقــوق المواطنــة» فــي إطــار الدولــة
«أمــا الجماعــة القائمــة خــارج فحســبّ : الدولــة فتحوي الســلطة السياســية في باطنها هــي ذاتها ،وال حقوق فيها للفرد بما هو فرد ،بل اســتحقاقات وواجبات، مترتبة علــى انتمائه تقابلهــا امتيــازات ِّ إليها ومكانته فيها». ويؤكد المؤلِّف ،في الفصل الثاني ،على ِّ الحرّيــة بقــدرة اإلنســان علــى تعريــف ّ الحســم بين خيارات ،وهي قدرة مالزمة لــه ،يمتــاز بها عــن باقي الكائنــات« :ال حرّية للكائنات التي تقع دون اإلنسان، ّ أو فوقــه ،األولــى بحكــم طبيعتهــا، وميــزت والثانيــة بحكــم تعريفهــا. ّ الديانات التوحيدية اإلنسان من المالئكة بهــذه القــدرة علــى االختيار بيــن الخير والشــر ،وتجعل اإلنسان كائن ًا أخالقياً، ّ ُيتوقَّــع منــه التمييــز بينهمــا واختيــار توقَّع منه -بصفته كائن ًا أحدهما ،مثلما ُي َ يميــز بين الصــواب والخطأ، عاقــاً -أن ِّ حــراً)، اإلنســان (والدة أمــا أيضــاً»ّ . ّ قصد ي آخــر، مفهوم إلى بشــارة فيردها ّ ُ َ بــه« :أنّه لم يولد عبــداً» ،وفي رأيه أنها هة ضــّد العبودية موج ٌ ٌ مقولــة صحيحــة َّ بنفــي طبيعيتهــا .فــي حيــن يــرى أن : ومكوناتها؛ أي الوعي الحرّية ِّ «شــروط ّ
واإلرادة ،ال تتوافر في المولود البشري، الحرّية، عند والدته مباشــرة» .وتبقــى ّ فــي مقالة بشــارة« ،مشــروطة بالوعي تحمل مســؤولية واإلرادة والقــدرة على ُّ ٍ مجال ما ،كي يكون المستقل ،في القرار ّ لالختيــار عالقة بهذا المجال؛ إذ ال معنى للحرّية في مجال ما إذا لم يكن للخيارات ّ عالقة به». في الفصل الثالث ،يضع بشارة الفوضى االجتماعيــة فــي خانــة «أشــنع أنــواع الحرّية االســتبداد» ،ألنها تمنع ممارسة ّ الحرّيــة غيــر ممكنــة بالضــرورة ،وألن ّ التعســف والفوضى التحقيق إن ســيطر ُّ علــى حياة البشــر ،لكنها قابلــة للتحقّق ظــل القوانين ،على الرغــم من قدرة في ّ الحرّيــات. حجــب علــى القوانيــن هــذه ّ فبحســب بشــارة ،يجد العلمــاء صعوبة الحرّية علمياً ،ذلك في التعامل مع فكرة ّ ّية، ل للع المقابــل الحرّيــة ليســت هي ّ أن ّ لحرّية كوزمولوجية ،وليس وجــود وال ّ يؤدي للحرّية فلسفياً ،كما ال ّ العلم رديف ًا ّ عبور حاجــز الفكر الدينــي ،إلى المجال الحرّيــة، العقالنــي الوضعــي ،إلــى ّ بالضــرورة .يقــول بشــارة« :إذا كانــت الحرّيــة موضوع تنظيرات فلســفية ذات ّ معنًــى ،فال بّد من أن تكــون ،في رأينا، تنظيــرات فلســفية في مجــال األخالق، مقولتْين :شرط األخالق وتتمحور حول َ والحرّية قيمة». حرّية اإلرادة، ّ ّ الحرّية أن بشارة يرى الرابع، في الفصل ّ الســالبة ال تظهــر بذاتهــا فــي التاريــخ، مجــردة ،وال حرّيــة اختيار ّ ال بوصفهــا ّ الحرّية. هذه على قيد ألي بوصفها كسرًا ّ ّ الحرّيــة الموجبة وفــي المقابــل ال تظهر ّ تحــرر؛ صيــرورة وحدهــا مــن دون ُّ حرّيــة ســالبة بيــن فالتصنيــف القائــم ّ وأخــرى موجبــة هي -في رأي بشــارة- ينتمــي إلــى تصنيفــات عقليــة لعناصر غيــر منفصلة في الظواهــر االجتماعية، الحرّية السالبة تنفي مع اإلشارة إلى أن ّ «التحرر من إكراه اإلنســان القيود ،إنها: ّ اتباع نمط حياة مفروض ،ورفض علــى ِّ حرّيــة الحركة ،وتكميــم األفواه، تقييــد ّ التجمع ،والســجن العشــوائي. وحظــر ُّ حرّية اإلنســان بأن تشــمل لــم إذا وهــي ّ حرّيات في ّى ل تتج نــة معي بأفعال يقــوم َّ ّ موجبــة ،وتوفير الشــروط كــي يمارس مجــردة». الحرّيــات ،فإنهــا تبقى ّ هــذه ّ
ومن ناحية أخرى ،يصف بشارة الفصل والحرّيــات بـ(المصطنع)؛ التحــرر بيــن ّ ُّ فالتحــرر عنده «انطالق يحمل اســتعدادًا ّ وقيَمــه للتضحيــة، وفــرح االنعتــاقَ ، َ ريْين... وينتج أدب ًا َ تحر َّ وفنّــ ًا ُّ الفاتنــةُ ، للحرّيات والحقوق لكنــه إذا لم ِّ يؤســس ّ والمســؤولية عــن ممارســتها ،ينقلــب- ضــده .وهذا -في َحــّد ذاته- غالبــاً -إلى ِّ الحرّيــة الموجبــة ينفــي التمييــز بيــن ّ والحرّيــة الســالبة ،علــى المســتوى ّ ــح التمييــز لحظياً، ص َّ التاريخــي ،وإن َ وصّدقه الناس». بالحرّيــة، حــول االنشــغال الفلســفي ّ يدور الفصــل الخامس من الكتاب ،وفيه يواصــل بشــارة الخــوض فــي النقــاش المستمر في شــأن العالقة بين الفلســفي ّ ثم ومن اإلرادة، ــة ي وحر ة ّي ل الع ّّ حتميــة ّ ّ الحــق في محاســبة اإلنســان ،وال يرى ّ يلخص ّية والحرّية ،إذا ِّ تناقض ًا بين العلّ ّ حرّيــة اإلنســان بأنه ،في فعله نفســه، ّ ّيــة جديــدة ناجمــة يضيــف سلســلة علّ عــن اإلرادة والفعل ،ويلفت إلى مســألة بالحرّيــة ،وهي كون مرجعيــة مرتبطة ّ ــة سياســة ومجتمع قضي ً هــذه األخيــرة ّ واقتصاد ،في الفكر الليبرالي المعاصر. ويطرح الفصل الســادس تساؤالت عّدة، الحرّية يجعلها ّ منصات نقاشــية لمسألة ّ والحرّيات .يســأل :ما نوع الوعي الالزم ّ السياســية؟ أتشترط الحرّيات ّ لممارســة ّ الحرّية هي ممارستها بها ،أم أن ممارسة ّ لتطور هذا الوعي؟ يقول بشــارة شــرط ّ إن الوصول إلى درجات عليا من الوعي حرّيــة ليــس ممكنــ ًا مــن دون ممارســة ّ
الرأي والتعبيــر ،واالجتماع ،واالّتحاد، وحق الوصول إلى المعلومات ،وغيرها ّ الحرّيات الحرّيــات ّ المدنية .فتوافــر ّ مــن ّ الفردية شــرط الديمقراطيــة الليبرالية، ٍ كجــزء من حقوق المواطنة معطى وهي ً الحديثة ،ويســأل« :إذا وقعت المفاضلة بين االســتقرار وحفــظ الحياة من جهة، فأيهما نختار؟» والحرّية من جهة أخرىُّ ، ّ وهو ،في نظره ،السؤال الشائع ،اليوم، فــي المجتمعــات العربيــة؛ فاألنظمــة الحاكمــة تميــل إلــى تخييــر المحكومين بيــن االســتبداد والفوضــى ،لكنــه ،مع وهمي ،فمن يعارض منح ســؤال ذلك، ٌ ّ الحرّيات :المدنية ،والسياســية، الناس ّ عادة -تأييــد الظلم ،بل يقابل ال يّدعــي- ً الحرّيــة بقيمــة أخرى ،مثــل الوطنية أو ّ يتهم االستقرار والحفاظ على األمن .فهو َّ الحرّيــات المدنيــة والسياســية مطالــب ّ بأنها مؤامرة خارجية. الحرّيــة في العالم وإجابة عن إشــكالية ّ العربــي ،يدعونــا بشــارة ،فــي الفصل تأمل العالقة بين الســابع واألخير ،إلى ُّ الحرّية ،والعدالة ،والتعريفات المرجعية ّ الســرديات العربية ،ويصل بنا لهما في ّ الحرّية بوصفها شــرط ًا من إلــى إثبــات ّ يتغير مفهوم الناس شروط العدالة التي َّ لهــا ،بالمعرفــة والممارســة؛ فـ«نظرياً، مركباً ،ال يمكن تجاهله الحرّية ّ أصبحــت ّ عنــد الحديث عن العدالة ألســباب ثالثة: أهم أوالًَّ ، الحرّية أحد ّ ربمــا يكون تقييــد ّ التعبيرات عن الالمســاواة في الحقوق؛ الحرّية ثانيــاًّ ، ربمــا ينتــج ،مــن تقييــد ّ بحّد ذاته -المســاواة فــي الحقوق ،ومن ســيما ثم ّ يــؤدي إلى انعــدام العدالة ،ال َّ ّ تصور فــرض تحاول التي العدالــة تلــك ُّ عن الســعادة ،قائــم لدى مــن يفرضها؛ الحرّيــة أصبحــت ،مــن ثالثــاً ،ألن ّ الناحيــة الفكريــة ،وفي حاجــات الناس وتوقُّعاتهم وتطلُّعاتهم ،أحد الخيرات أو إحــدى المنافع االجتماعيــة ،والوطنية، فأصبح لزاماً -أيضــاً -توزيعها توزيع ًا الحرّية السياســية عادالً ،حيث أصبحت ّ إنسانية». حاجة ً ّ 113
املدنية والعقالنية السياسية
د .خالد طحطح
ُي َع ُّد موضوع الفكر السياسي اإلسالمي مــن المواضيــع الراهنيــة فــي ثقافتنــا العربية ،اليوم ،بالنظر إلى اإلشــكاليات المحوريــة المرتبطة بــه ،من قبيــل الجدل بشــأن الجــذور المدنيــة للفكــر السياســي وصفاتــه النوعية ،وكــذا إشــكالية عالقة الديــن بالسياســة والوحــي ،وغيرهــا من اآلنيــة المرتبطــة بموضوع الموضوعات ّ الدولــة الدينيــة والدولــة المدنيــة. تتب َع األستاذ امحمد جبرون ،في كتابه َّ وتطوره» «نشأة الفكر السياسي اإلسالمي ُّ (دراســة فــي المثلــث اإلشــكالي :المدنيــة، واألصالــة ،والعقالنيــة السياســية)، الصــادر عــن منتــدى العالقــات العربيــة والدوليــة ،في الدوحــة ،أواخــر 2015م، ـان المختلفــة ذات المنحى السياســي المظـ ّ فــي الثّقافــة اإلســامية ،متجــاوزًا بذلــك ركزت على َفّن المقاربات التجزيئية التي َّ معين من َقبيــل اآلداب الســلطانية ومرايا َّ الملــوك ،حيــث انتشــرت الدراســات التــي تناولت هذا الجنس من الكتابة بالدراســة والتحليــل والنقــد ،بكثــرة ،فــي العقــود األخيــرة. يقــع كتــاب «نشــأة الفكــر السياســي ـوره» فــي 254صفحــة، اإلســامي وتطـ ُّ توزعــت فصول الدراســة علــى أربعة وقد َّ 114
فصول رئيســة ،هي :الســلطة السياســية وسلَّم): في دولة الرسول (صلّى اهلل عليه َ ـكاليَتي دراســة فــي الجــذور المدنيــة إلشـ َّ الشــرعية والدولــة ،وفي الفكر السياســي اإلســامي قبــل عصــر التدويــن ،والفكــر السياسي اإلسالمي خالل عصر التدوين، وألهمّية هذا والفكــر السياســي الصوفــي. ّ الكتاب ،في مجاله ،فإنه حاز على جائزة المغرب للكتاب ،لهذه السنة (2016م) ،في مناصفة صنف العلوم اإلنســانية ،وذلك ً مع كتاب محمد ســرو الموســوم بــ«النظر ـب األندلســي بيــن ابــن والتجريــب فــي الطـ ّ رشــد وابــن زهــر» ،الصــادر عــن المنظمــة
اإلســامية للتربيــة والعلــوم والثّقافــة، فــي الرباط. إن تجميع معطيات وأحداث وتواريخ ِ وحكم من التراث اإلسالمي بهدف ترسيخ معيــن للســلطة ،ورســم صــورة تصــور َّ ُّ عــن الملــك المطلــق ،يكــون فيــه الحاكــم أداة للمحافظــة علــى الســلطة ،وتكــون الرعيــة في خدمــة الدولة الســلطانية ،هو ّ الشــكل الذي غلب على إنتاجــات القراءات األرثودوكسية للفكر السياسي اإلسالمي. جمع غفير من تعام َل ٌ وبهذا الفهم التقليدي َ المؤلِّفيــن مع الواقــع الحالــي؛ فيبدو زمن الكتابــة وكأنــه منفصــل عــن الزمــن الــذي تبلورت فيه األفكار السياسية اإلسالمية، كمــا لــو أن التاريــخ توقَّف منــذ أمــد بعيد، تميــز أو إضافة يعبــر عن ُّ فليس هنــاك ما ِّ تختــرق الحالة التي يوجــد عليها الحاضر تميزت الفعلي ،إذ الطابع التكــراري الذي َّ به هذه النصوص ،جعل أغلب الباحثين، ممن تناولوا التراث السياســي اإلســامي َّ بالدراســة ،يجمعون على التشــابه الكبير بين النصوص السلطانية؛ فهي نصوص تتطور .صحيح أنها ال تنمو وال َت ْغتني وال َّ وو ِّجهــت إلى ُكِتبــت فــي أزمنــة متباعــدةُ ، عصبيات ودول مختلفة، ملوك وأمراء من ّ مستعيدة إال أنها ،مع ذلك ،ظلَّت تتناسل ً
محددة ،من دون معيناً، ً ووجهة َّ مضمون ًا َّ أي أفق في اإلبداع قادر على تطوير توليد ّ الرؤيــة وتنويــع الخطــاب رغــم التجــارب السياســية المتع ـّددة التــي عرفهــا العالــم ـوره المتالحقة اإلســامي خالل حقــب تطـ ُّ والممتّدة داخــل زمن التأريخ اإلســامي، فك َّتاب الســاطين الذين في مجراه العام؛ ُ خدموا في ســلك الدول لم يقّدموا إجابات مستفيضة للمشاكل الكبرى في عصرهم، كمــا لــم يقّدمــوا مشــاريع نظريــة متكاملــة تعالــج الواقــع المعيــش ،بــل لجــأ أغلبهم المدونــة في إلــى اإلحالــة علــى الحكايــات َّ كتب اآلداب واألحكام الســلطانية. إننــا نجــد أنفســنا ،فــي كثيــر مــن كتــب النــص الواحــد- مرايــا الســاطين ،أمــام ّ ـاص ،فالمحاور آليــة التنـ ّ المتعـّدد بفضــل ّ وتعاد بطرق جديدة ،فهل نستطيع تتكرر ُ ّ نص واحــد؛ أي إن التعّدد القول إننا أمام ّ الظاهري للنصوص يخفي وحدة الرسالة ويرتب قواعد الجامعة ّ لكل هذه المصنَّفاتِّ ، يتغيــر؟ فــي ال ـد ـ واح ـط ـ نم ـن ـ ضم كتابتهــا َّ اب نظر ّ عزالدين العـّـام ال يمكن اعتبار ُك َّت ُ اآلداب السلطانية أصحاب نظرية سياسية جديدة -باستثناء عبد الرحمن ابن خلدون- ـن َسـ َـبقهم ،أي بــل هــم مجـ َّـرد لواحــق ِلَمـ ْ حلقــة فــي سلســلة طويلــة ،تبــدأ مــن أبي بكــر المــرادي الــذي نقــل مــا قالــه المشــرق ويلخص أبو حول السياسة الســلطانية، ِّ القاســم بن رضوان ما قاله المرادي وأبو يكرر أبوعبد اهلل بن بكر الطرطوشــي ،ثم ّ كل هــؤالء علــى المنــوال األزرق مــا قالــه ّ ذاته ،ويرى أن هذه السلســلة ســرعان ما وك َّس َرت معها المجتمع السلطاني، َت َك َّس َر ْت َ بمؤسساته التقليدية ،أمام ضربات أوروبا ّ الحداثة؛ فالعقل السياسي السلطاني الذي كـ َّـرس نفســه ،طيلــة مئــات الســنين ،لــم أول مواجهة يســتطع تحقيق الصمود في َّ بين الشرق والغرب ،خالل القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ،ألنه خطاب يمكنه من الصمود لم يتطور بالشكل الذي ِّ َّ المتغيــرات الجديــدة التــي بــدأ وجــه فــي ِّ التفكيــر السياســي األوروبــي يعرفهــا منذ
تحررت السياسة -منذئذ، القرن 16م ،حيث ّ وبالتدريــج -مــن تأثيــرات رجــال الديــن، المؤسســات المدنية القائمة وســادت قيم ّ والمواطنــة ،وفصل ـون ـ القان على مبادئ َ السلطات ،وغيرها. ُ إن الوظيفــة األساســية التــي أنشــئت مــن أجلهــا الكتابــة السياســة الســلطانية- بحســب كمــال عبــد اللطيــف -تتح ـّدد فــي الــدور التبريــري فــي إعــادة إنتــاج أخالق المدعمــة لالســتبداد الســلطاني الطاعــة ِّ معينــة قــراءة إلــى باالســتناد الســائد، َّ للنصــوص الدينيــة ،تضــع الملــوك فــي ـتأمنين علــى الديــن ،ومصير مرتبــة المسـ َ العباد ،فالكاتب السلطاني يحاول التوفيق بيــن تجــارب األقدميــنِ ، وح َكــم األوائــل، وأقــوال الملــوك والحكمــاء ،يضــاف إليها ِح َك ٌم من التاريخ المحلّــي ،ونصوص من الشــرع اإلســامي ،وذلك في إطار سعيه تبرر مشــروعية إلنتــاج سياســية ملوكية ّ استبدادية الدولة الوقتية ،وتنتصر لتدابير السلطة السائدة واختياراتها ،وتحذِّر من مغبــة الخــروج عنهــا ،كمــا تنشــر أخــاق ّ العامة ،وتحــذِّر من ـن ـ بي والصبر ـة ـ الطاع ّ بحجة المحافظة مغبة الخروج والعصيانَّ ، وتجنــب علــى النظــام ووحــدة الجماعــة، ُّ زهــق فيهــا األرواح ،فظلَّت، الفتــن التــي ُت َ بذلــك ،حبيســة الفهــم التقليــدي والتفكيــر السياســي المــوروث. اســتوعب المؤلِّــف امحمــد جبــرون، جيــد ،تقاليد السياســة في كتابــه ،بشــكل ِّ الملوكية ،وأخالقها ،كما صاغتها كتابات أهمّيــة مرايــا األمــراء ،كمــا َّ ــه إلــى ّ تنب َ مســاهمات باقــي األجنــاس األخــرى مــن محترمــ ًا مهمشــة، ِ الكتابــات التــي ظلَّــت َّ التسلســل الزمني لظهورها (عصــر ما قبل التدوين -عصر التدوين) ،ونلمس في هذا مظان متعّددة ،بل نجد المؤلَّف تقاطعات ّ ال بيــن المواضيع التــي يتناولها؛ ما تكام ً أهمّية ما طرح من أفــكار وقضايا ـح يوضـ ِّ ّ تتجاوز إشكاليات الماضي ،وتغوص في قلب انشــغاالت العصــر الذي نعيــش فيه؛ ممــا قّد َمتــه كتابــات إذ حــاول االســتفادة ّ
الكالم السياسي ،بشّتى تالوينها ،لإلجابة عن إشــكاليات الواقع السياســي الحالي، وتبــدو الرؤيــة المقاصديــة القائمــة علــى فهــم جديــد للعالقــة ،بين مــا هو سياســي ـرة فــي ثنايــا هــذا ومــا هــو دينــي ،حاضـ ً العمل؛ فالمنزع العقلي واالّتجاه المقاصدي يمكــن عّدهمــا مــن أهـ ّـم المالمــح البــارزة التوجــه الجديــد مــن الكتابــة ،التــي لهــذا ُّ تهــدف إلــى مراجعــة عــدد مــن المســلَّمات الخاطئــة ،فــي مجــال العالقــة بيــن الديــن والسياسة ،كما تبتغي القطع مع خطابات شــرعنة االســتبداد الســائدة فــي نصوص التــراث السياســي اإلســامي؛ إذ أعــاد تركيب النصوص وترتيبهــا وتبويبها في ـام -مــع متــن جديــد ،يتناقــض -بشــكل تـ ّ القــراءات األرثوذوكســية الس ـَلفية ،التــي ظلــت تفســيراتها بعيــدة ،فــي مضمونهــا، َّ كل البعــد عــن الواقــع والتاريــخ الفعلــي ّ الــذي أفــرز الممارســة السياســية المدنيــة فــي التجربــة التاريخية اإلســامية. اجتهد األستاذ جبرون ،في هذا الكتاب، لتعريفنــا بالفكــر السياســي اإلســامي، علمية بصــورة تســمح ببنــاء وجهــة نظــر ّ حول جذور المدنية والعقالنية السياسية فــي االجتمــاع السياســي اإلســامي، وتطــوره .وهــو ينتمــي إلــى فئــة ُك َّتــاب ُّ يتوخون مراجعة الفكر ممن َّ الجيل الجديد َّ حالياً ،وهي مراجعات السياسي اإلسالمي ّ تصطدم بكثير من العوائق المرتبطة ببنية التفكيــر الدينــي المــوروث؛ حيــث يصعب الهويات األيديولوجية واألهواء التحرر من ّ ُّ السياســية القاتلــة .وقد ســبق للباحث أن تناول ،بالدراسة ،موضوع مفهوم الدولة وحتمية الحداثة، اإلسالمية :أزمة األسس ّ فــي كتــاب صــدر عــن المركــز العربــي لألبحــاث ودراســة السياســات ،ســنة .2014ومــن المهـّـم اإلشــارة -أيضـاً -إلى أن أطروحة الباحث لنيل شهادة الدكتوراه تطــر َق فيهــا لموضــوع الفكــر السياســي َّ اإلســامي فــي بــاد المغــرب واألندلــس، خــال القــرن الخامــس الهجري. 115
ٍ تبادل خصب للرســائل ،وتلميحات تســع ّإل إلى عالقاتهــم العاطفية ،لم َ
متفرقة بالنســاء اللواتي حميمــة في مؤلَّفاتهم األدبية َّ المتخيلة ،ولقاءات ِّ
درك» ،ذلك االمتالء المرغوب به، أحب ّ ّ وهن .حيث المرأة هي الصورة الممكنة لما «ال ُي َ
الدال على متعة العيشّ .إل أن الحب ،حيناً ،والحلم ،أحيان ًا أخرىّ ، بشّدة ،من خالل ّ
كالمهم عن هذه العاطفة كان أكثر من تلك اللقاءات الحقيقية مع ذات المرأة المعشوقة، جراء الخوف منه، فيما االّتصال الجسدي هو األشّد ً ندرة ،بل غالب ًا ما كان ّ يتم تفاديه ّ
المغوي ،كأرواح ُّ والتشــكك بقيمته ،أو حتى احتقاره .كائنات عاشــت عذاب العزلــة ُ تائهة ،استنفدت تجوالها داخل حلقات صغيرة.
حياة لم تدركها فرادة الكتابة وبالغة األمنيات د .سعد القصاب شــيء مــا ،ال يمكــن وصفــه أو تعيينــه بدقّةَ ،مَنع ثالثة مبدعين كبار :فرانز كافكا (روائي تشكي) ،وفيرناندوا بيسوا (شاعر برتغالــي) ،وتشــيزاري بافيــزي (شــاعر وروائــي إيطالــي) ،فــي أن يكونــوا داخــل تخيلوها ،وحلموا العالم ،بالطريقة التــي َّ ثمــة مشــابهات حياتيــة ووجوديــة بهــاّ . أطَرت حضورهم اإلنساني :كانوا مجّدين، ّ بش ـّدة ،في البحث عن الســعادة ،لكنهم لم يســتطيعوا أن ينشــئوا (أو يديمــوا) عالقــة ذات طبيعة ثابتة مع اآلخريــن .جميعهم، لم يتجــاوز واحدهــم الخمســين مــن العمر: ـن األربعين، كافــكا وبافيــزي توفِّيا فــي سـ ّ وبيســوا فــي الســابعة واألربعيــن ،بســبب يتزوجــوا ،ولــم المــرض أو االنتحــار .لــم ِّ أبناء ،لكنهم كتبوا من دون هوادة. ينجبوا ً بافيزي نال الشــهرة والتكريم فــي حياته، فيما كافكا وبيســوا رحال مــن دون أن يروا انتشــارًا ألعمالهــم .هــم ،كذلــك ،شــهود عالميَتْيــن ،شــهدتا هزائــم أوروبــا حربْيــن َّ َ 116
وانتصاراتهــا. تلــك المشــابهات ،هــي بمثابــة أســباب علَلت اختيــار الكاتــب واألكاديمي مناســبة َّ األرجنتينــي« ،لويــس غــروسLuis - »Grussللكتابــة عنهــم مجتمعيــن. ــدرك» كتابــه الــذي حمــل عنــوان «مــا ال ُي َ ترجمــة :د .زينــب بنيايــة ،مشــروع كلمة، أبوظبــي ،2016 ،هــو تعبيــر ملتبــس، والحب، يســتدعي مضاهاة ممكنة للمرأة، ّ بقوة، فيه ولكل شــيء مرغــوب والحياةّ ، ّ عــدا كونــه توصيفـ ًا لمســيرتهم التــي كانت تخيلوها، بمثابة انطالق دائم نحو عوالم َّ ّإل أن قدرتهــم علــى تحقيــق أمنياتهــم التي واظبوا على تفســيرها في كتاباتهم جاءت شــحيحة بامتيــاز. ــدرك» حمــل- كتــاب غــروس «مــا ال ُي َ ًّ« :النســاء فــي أيضــاً -عنوانــ ًا ثانويــ ًا دال حيــاة وأعمــال فرانــز كافــكا ،وفرنانــدو بيسوا ،وتشــيزاري بافيزي» .كتاب يبحث فــي العالقــة مــع هــؤالء المبدعيــن ومكانــة
الشاق والشائك الحب لديهم ،عبر التواصل ّ ّ مع المرأة ،كمــا يتصفَّح طرائق انشــغالهم باألدب وأفكارهــم حول الحيــاة؛ هم الذين كتبوا نصوص ـ ًا حاشــدة بالفــرادة والقيمة اإلبداعيــة الشــديدة االســتثناء ،وأنتجــوا أعمــا ًال إنســانية متألِّقــةّ ،إل أن مفارقتهــم تتجســد فــي حياة لم الوجوديــة الوحيدة، َّ ـدرك». تلحــق بـ«ما ال ُيـ َ ثيمــة جوهريــة ســكنت صفحاتــه التــي ــدرك بشــكل يصفهــا المؤلِّــف« :ال شــيء ُي َ مطلــق ،وال حتى تلك األشــياء التي ننالها بســخاء ،فــي بــادئ األمــر ،ونحتفــظ بهــا لبعض الوقت»؛ مثل هذه المفارقة العتيدة هي ما استدعى قراءة نصوصهم ،والبحث في إعــان أمنياتهم ومشــاعرهم ،بوصفها ألغــازًا تدعــو إلى اكتشــافها. الكتــاب يمضــي فــي تداعيــات األســئلة ـب ،والمــرأة، المحيــرة عــن العيــش ،والحـ ّ ّ والكتابــة ،هــو بحــث فــي األعمــال التــي تأهلهم في الحياة ،وعبر َّ تشكلت من خالل ُّ
معرفة تحاول الكشــف عــن بواعث غامضة ـخصيات كتبهم ،وحيواتهــم التي تصل لشـ ّ من الماضي غيــر واضحــة ،إذ ليس هناك المدونة في نصوصهم .لم ســوى ِسـ َـيرهم َّ يتمكنــوا مــن تأســيس وحــدة تجمــع بيــن َّ الحياة العاطفية واإلبداع ،ذلك الذي وهبوا كشفْتها له أنفسهم .صور حرمان متعّددةَ ، رســائلهمِ ، ويومياتهــم وسـَـيرهم الذاتيــة، ّ المفعمــة بالتــوق والرغبة المليئــة -أيضاً- بمشــاعر اإلحبــاط ،المحتشــدة بهواجــس بالحــب ،كذلــك. الوحــدة ،والمغمــورة ّ أسســوا طبيعــة عالقــات وطرائــق عيــش ّ كانــوا يتمنّون بقاءهــا الدائــم ،لكنها انتهت بصــورة عابــرة. المتقشــف كافــكا (،)1924 - 1883 ِّ والمرهف ،المرأة -بالنســبة إليه -محاولة للهروب من سلطة األب القاسي الذي احتقر موهبــة ابنــه األدبيــة .الشــعور بالوحــدة والذنــب كان مالزم ًا لــه مــن دون أن يعرف يتمكــن من إقامــة عالقــة عاطفية لماذا .لــم َّ ثابتــة ،فلــم يحتفــظ -تقريب ـاًّ -إل بصديــق واحد .يخاف العالم والحيــاة ،فيما الكلمة مــاذه األخيــر« :إذا مــا تركــت األدب يوماً، أتوقــف عــن الحيــاة» ،هكــذا يذكــر فســوف َّ يومياتــه .ضــروب الخلــق الفّنــي لديه فــي ّ تعّلــة للتواصــل مع العالــم ،وعبــر طبيعة يومياته .وصفته وجود ،كشفت عنها دفاتر ّ صديقتــه فــي إعــان نعيــه ،عــام ،1929 في إحــدى الصحف« :كانت لديه حساســية تقــارب اإلعجــاز ،ونقــاء أخالقــي صــارم إلــى أبعــد َح ـّد ...كان يــرى عالم ـ ًا مملــوءًا مرئيــة تحــارب األشــخاص بشــياطين ال ّ وتدمرهــم». الضعفــاءِّ ، مشــيد مــن التيــه، أألدبــي كان عالمــه َّ ومســكون بأشــخاص مــن رجــال ونســاء ال يعرفــون مــن أيــن أتــوا ،وإلــى أيــن هــم ذاهبون ،آثمون من دون ذنب ،يتساءلون، لكــن دون إجابــةُ ،و ِجــدوا كــي َيحيــوا فــي عالــم مجـ َّـرد مــن اإلنســانية. بيسوا « ،»1935 - 1888الشاعر المعادي وللتعصب والجهل للشيوعية واالشتراكية، ُّ مختصــرة ـذة ـ نب ـي مع ـاً ،كمــا ذكــر ذلــك فـ َ وجّدة عن نفســه .عــاش مــع ّ عمــة عزبــاءَ ، مجنونــة ،كتــب بأســماء أدبيــة ألشــخاص تخيل مســتعارينِ .سـ َـمُته األكثــر وضوحـ ًا ُّ
وهمييــن ،يعطيهــم ِسـ َـيرًا ُكّتــاب وشــعراء ِّ ذاتيــة مختلقــة :البــرودي كامبــوس، برناردوسوارس ،ريكاردو ريس ،البيرتو كائيــرو ،وجميعهــم ينتهــون شــباباً ،أو ـارة أخــرى .عـّـرف نفســه يغــادرون إلــى قـ ّ البصري) ،وكان فعله في الحياة بـ(العاشق َ هــو الكتابــة. فيمــا قضــى تشــيزاري بافيــزي «1902 »1950منتحــراً ،فــي غرفة فنــدق بمدينةتورينــو اإليطاليــة؛ تلــك كانــت لحظــة الخاصــة ،يكتــب« :كانــت لديــك تضحيتــه ّ كل الظــروف المالئمــة ،لكنــك تبحــث عــن ّ الهزيمــة» .عــاش تحــت إحســاس عــارم بصعوبــة االرتبــاط بالعالــم الواقعــي، تحمــل الصــراع« :إذا وتراجــع دائــم عــن ُّ مــا ُوِلــدت مــن جديــد ،فعليــك أن تمضــي ببــطء ..إن لــم تفعــل ذلــك فســوف تخســر مستقرة الكثير» .لم يقم ،أبداً ،بارتباطات ّ يتصور إذ مع امــرأة ،كان كارهـ ًا للنســاء، َّ الحســية أكثــر أنهــن ينجذبــن إلــى العالقــة ّ ـب. ـ مــن كونهــن حائــرات بســبب الح ّ ــدت رســائلهم التــي غلبــت عليهــا ُع َّ الملحة الحاجة بدافع والقائمة االعترافات، ّ إلــى تواصــل حقيقــي ،وبنــاء جســور مــع الحياة والمــرأة ،أحد المراجع للكشــف عن وذاتي ًة، سرّي ًة ّ عواطفهم ومشاعرهم األكثر ّ متميزاً؛ ا ـ خطابي وكانت ،كذلــك ،أنموذج ًا ً ِّ جيدة .خطابات، الحتوائها على نصوص ِّ لعبت دورًا في التواصل مع معشــوقاتهم، طياتهــا ،هاجــس خبــأت ،بيــن ّ حتــى وإن َّ عليهــن :كافــكا إلــى فليســي، االســتحواذ ّ وميلينــا ،بيســوا إلــى أوفيليــا ،بافيــزي إلــى كونســتانس ،ودوريــس ،وفرنــادا بيفانــو ،وأخريــات ،تلــك الرســائل التــي كانت تمضي ،بانتظام وحماس ،بطابعها ـاص ،وكأنهــا ذريعــة كــي الشــخصي والخـ ّ ويتحدثوا إلى ذواتهم، يحاوروا أنفســهم، َّ تطرقوا فيها لموضوعات عّدة، من خاللهاَّ . الحب والجنس والموت واألدب ،لكنها- في ّ فــي الوقــت ذاتــه -شـ َّـكلت صعوبــة ألولئك النساء .تذكر ملينا عن رسائل كافكا« :حتى وإن قلَّبتهــا ونفضتهــا بجميــع االّتجاهات، فالشــيء يســقط منها». هذا الحديث مع الغائب ،حيث الحضور األنثوي -بالنســبة إليهــم -يماثــل الغياب،
ستشكل مذكراتهم ،التي ِّ يستمر ،كذلك ،مع ِّ ّ الملهمون خسارتهم هؤالء فيه أفرغ ، وعاء َ ً َ تكبدوهــا ،ولحظاتهــم الحرجــة فــي التــي َّ يفكرون كثيرًا كي يعشــقوا. الحيــاة .كانوا ِّ أفكارهــم الكثيــرة ،فــي تأويــل خيباتهــم العاطفيــة ،وفــي عالــم رغبــوا فــي الدخول إليــه ،لم تكــن -في حقيقتها -ســوى شــكل من أشــكال التواصل مــع عزلتهــم .لقد كان رهانهم الغريب هو قول الكثير عن أنفسهم. طياتهــا األكثــر كتابــات تغــوص فــي ّ بالتكهــن والمخــاوف، ســرّية ،مطبوعــة ُّ ّ والتفاصيــل اليوميــة الصغيــرة ،تتخلَّلهــا دعوات دائمــة للوحــدة والســكينة ،كطرق للعيش في حيــاة ،يعّدونهــا تقليدية وغير مثيــرة لالهتمــام؛ لــذا يتركــون ذواتهــم تنجــرف بالكتابة إلى مــا هو غيــر متوقَّع، ويهاجمــون -غالب ـاً -عالم ـ ًا غريب ـ ًا عنهــم، ـن الضحايــا المختــارات وحيــث النســاء هـ ّ لخطاباتهــم تلــك. نــداء رغبــةٍ النســاء -بالنســبة إليهــمُ - عابــر ،صديقــات حميمــات ،عشــيقات، خطيبات ،فتيات عابــرات ،لكنهن -غالباً- عســيرات المنــال ،كائنــات غيــر متوقَّعــة، تجعلهــن يخبئــن فــي ذواتهــن ألغــازاً، ّ ِّ ومتخيــات، الفهــم، علــى مســتعصيات َّ اختراعهــن، ليــس بوســع األخــر ســوى ّ لكــن خلــف قنــاع عاطفــي ،ال يخلــو مــن ـن الدائــم هــو بمثابة التمجيــد .إن حضورهـ ّ مجــاز وامتــاك يفتقــد إلــى اليقيــن .كانــت ثمــة أبــواب موصــدة فــي ذلــك البيــت الذي ّ يدعــى المــرأة. علــى العكس مــن ذلــك ،شــكلَّت الكتابة ا عــن الحيــاة لهــم خيــارًا وحيــدًا وبديــ ً والحب الدائم ،وطريق ًا للخالص، والعاطفة ّ وسيطرة على عالم ،لم يألفوه كثيراً .حتى أن مؤلَّفاتهم لم ُتكَتب بهدف نشرها ،أو من أجل تغيير العالم الذي كانوا يعيشون فيه. لقــد فعلــوا ذلــك مــن أجــل البقــاء وتحقيــق ذواتهم ،بوصفهم أفــراداً .كانــت كتابة من تتأمــل هدفـ ًا نــادراً ،مــن مكان أجــل ذاتهــاَّ ، بعيــد ،وكأن قبــول فقدانهم ،ذلــك الذي «ال ـدرك» ،هــو عاطفتهــم الممكنــة ،ولحظــة ُيـ َ تمضي في التواصل مع وجودهم وعزلتهم. 117
السماء عىل نحو وشيك.. رغبات موازية للموت والالعودة! إبراهيم عادل «الســماء علــى نحــو وشــيك» عنــوان الكتــاب الجديــد للروائــي المصــري عــزت القمحــاوي ،الصــادر ،مؤخــراً ،عــن «دار بتانة المصرية» ،وهو مجموعة قصصية، ـص ،بعدمــا كان تأتــي انتصــارًا َ لفـ ّ ـن القـ ّ «القمحــاوي» قــد ابتعــد عنــه منــذ أكثر من 15عام ـاً ،عند إصــدار مجموعتــه الثانية «مواقيــت البهجــة» ،2000 ،وقبلهــا «في بــاد التــراب والطيــن» .1992 ،بعدهــا، جذبته نّداهة «الرواية» ليخرج لنا بأربع مهمة. روايــات ّ تتضمــن «الســماء علــى نحو وشــيك» ّ بقصتين طويلتين، ـدأ ـ تب قصص، ثماني ّ بقصتيــن طويلتين، كما تنتهــي -أيض ـاًّ - نسبي ًا (ما دفع لإلشارة إلى أنهما روايتان قصيرتان) .تدور المجموعة ،في أغلبها، حــول أجــواء قريبــة مــن المــوت أو نهاية الحياة ،وكذلك الغربة والوحدة وغيرها من المشــاعر الســلبية ،لكنها تحوي -في الوقــت نفســه -بعــض المشــاهد القــادرة على لفت انتباه القــارئ وجذبه إلى جهة أخرى إيجابيــة ،قد تتــوه عنــه ،في تلك الصــورة القاتمة. الجــو المقِبــض الــذي- وبالرغــم مــن ّ ّ بمجرد االقتراب القارئ، سيتلبس الشك- ّ َّ قصة من عالــم هــذه المجموعة ،بــدءًا مــن ّ 118
«ش َكر اهلل سعيك» حيث نجد أنفسنا البداية َ ـودع أخــاه إلــى مثــواه مــع البطــل الــذي يـ ّ القصة األخير ،حتــى حضــور الموت فــي ّ األخيرة «عزيزنا الضيف» التي يرصد فيها انصراف األشياء العديدة عن عالمه ،فإذا يتحدث -أيضاً -عنهم« :الموتى يذهبون به َّ وال يعودون ليحكوا كيف كانوا يشعرون مهمة من يبقى في أوقاتهم األخيرة ،هذه ّ هالة بعدهم ليضفي عليهم، لحظة موتهمً ، َ يعيد ـدة، ـ البلي ـم ـ حياته لم تكن لهم طــوال ُ األحياء ،دون كلل ،الكلمات األخيرة التي ُ قالها الموشــك على الموت.»..
ثمــة «تفاصيل» بالرغم مــن ذلك كلّهّ ، «حياتيــة» يتـّـم رصدهــا بدقّة ،واإلشــارة لتعبر عن االحتفاء بالحياة، إليها ببراعةِّ ، كل مــا قــد يحيــط بهــا وبأفرادها من رغــم ّ «موات»! تسيطر مشاعر الحزن وطقوس العزاء «شـ َـكر اهلل ســعيك»، القصــة األولى َ على ّ ويســتعيد «ابــن المدينــة» ذكريــات أخيــه بأســى حقيقــي ،ولكنــه يفاجأ، الراحلً ، ثمة انهيــارًا لجدار بأن ـي، ـ التال في اليوم ّ الحزن الذي كان جاثم ًا على صدره ،فهاهم المعـّـزون قــادرون علــى التنـ ُّـدر بمواقــف عابــرة ،والخروج مــن حالة الكآبــة التي تحيــط بهــم ،بــل هاهــم يمزحــون أيضـاً: منســياً ،الشــيء فــي الميــت بعيــدًا ّ «بــدا ِّ المــزاح المفتــوح يشــير إليــه ،هــو الــذي جمــع هــؤالء على مائـ ٍ ـكان ،كان ـدة فــي مـ ٍ باألمس مغلق ـ ًا علــى الظالم والغبــار.».. ويبــدو «ابــن المدينــة» األقــدر علــى التغيــرات ،ورصدهــا ،بعناية: مالحظة ُّ السن ،ويصبح «عندما تطعن النخلة في ّ جذعهــا الطويلة عرضـ ًـة لعصــف الريح، ال يستســلم المــزارع الماهــر ،بســهولة، عمتــه العجــوز؛ يثِبــت خاتمـ ًا مــن لمــوت ّ القش والحبال قرب رأسها ،ويرفع فوقه ّ ريها ،حتى حلقة من التراب يواظب على ّ
تضــرب النخلــة جــذورًا جديــدة فــي ذلــك ـرة، الخاتــم ،فيقطعهــا مــن تحتــه مباشـ ً ويعيــد غرســها ،فتكــون نخلــة جديــدة األم!». متمتعة ّ صغيرة مثمرة ِّ بكل نضج ّ تتوقــف الحياة بوفــاة أحــد األفراد، ال َّ ومحبته؛ شــيئ ًا ـه ـ قرابت ـة ـ درج مهما بدت ّ ـل محّلــه فشــيئاً ،ينــزاح الحــزن ،بــل تحـ ّ بوادر «فرح» قادم ،ليكتشف القارئ -في ـاة جديــدة تتشـ َّـكل؛ ثمــة حيـ ً النهايــة -أن ّ يتزوجها، عمن َّ فهاهو ابن المتوفّى يبحث ّ ولــن يكــون مناســب ًا لكــي يخطــب لــه ّإل كل عمــه الــذي يبــدو ذاهـاً ،وهــو يراقــب ّ ّ ما يحــدث! ال تبتعــد تلــك الحالــة كثيــرًا عــن قصــة «إنــه الخريــف»ّ ،إل القــارئ ،فــي ّ التغير الــذي يحدث في تكنيــك رصد هــذا ُّ ال للنــاس ولألشــياء ،والــذي يبــدو شــغ ً لـ«القمحــاوي» ،فــي هــذه المجموعــة؛ إذ يصــور ،هنــا ،ســائق ســيارة األجــرة ِّ والراكب الذي معه ،بينما تدور الهواجس داخــل نفســيهما ،دون أن يحــاوال كســر كل يفكــر ّ بــأي حــوار ،وكيــف ِّ الصمــت ّ واحٍد منهمــا بأن مجـ َّـرد حديثه مــع اآلخر قــد يجعلــه فــي موقــف ضعــف ،فيتخّلــى كل منهمــا عــن الحديــث لصالــح ســيطرة ٌّ تغير العالم من حولهما، «الصمت» ورصد ُّ ثابتْيــن!. بينمــا همــا يبــدوان َ تغيرات تبقى حالة «االغتراب» ورصد ُّ ٍ حادثة كبرى «كالوفاة» العالم ،سواء بعد أو فــي مواقــف حياتيــة بســيطة ،التــي يســجلها «القمحــاوي» ،باقتــدار ،مــع ّ ذلــك الرجــل الوحيــد الــذي أخــذ يراقــب تتشكل على زجاج نافذته «حياة» أخرى ّ قصــة «عتمة في ـك ـ وذل ـام، مقاومة الظـ ً ّ مضطــرًا صباحيــة»؛ حيــث يجــد نفســه ّ لتغييــر عــادات حياتــه اليوميــة حتــى عشــهما يتمكــن «زوج اليمــام» مــن وضع ّ َّ
«قرر الهادئ بجوار نافذته حيث اســتقرّ : ّ ّأل يزعجهما ،وأحس بالرضى عن ذاته. ـيتحمل كان يعــرف أنــه ،بقراره هــذا ،سـ ّ الظــام نحــو شــهر ،بيــن وضــع البيــض ربمــا ،أراد أن وطيــران الفــراخ الوليــدةّ . يثبــت لنفســه ،وليــس ألي أحٍد آخــر ،أن ٍ مدينة فقدت سكينتها، ثمة ركن ًا هادئ ًا في ّ ركن وأن هذا الركن في بيته هو بالذاتٌ ، لــم يــزل بعيــدًا عــن التفجيــرات التــي تقع هنا وهناك ،والبرهان الناصع على ذلك هــو زوج اليمام البـّـري المرتــاب بطبعه، الــذي يعيش فــي نافذتــه بأمــان!». خارجية، فقرة ولكن «الحياة» ليست ً ً يتـّـم رصدهــا والتعامــل معها مــن منظور ثمة المراقــب ،فحســب ،على الــدوام ،بــل ّ ـاة» أخرى يمكــن رصدهــا واالحتفاء «حيـ ٌ بتفاصيلهــا مهمــا بــدت غريبة أو نــادرة، َّ تتمثــل في تلــك اللحظــات التي يختلســها زوجــا أبنائهما زوجان عجــوزان بعــد أن َّ الثالثة «الذكور» ،ووجدا ،أخيراً ،فرصة القصة، أن يختلي أحدهما باآلخر.في هذه ّ نجــد لوحـ ًـة فنيــة للعالقــة بيــن زوجين، دارت بهمــا الدنيــا بتفاصيلهــا الغريبــة والقاسية والمفرحة ،بالتأكيد ،حتى انتهى بهما الحــال إلى مــا همــا عليــه اآلن .تبدو لوحة شــديدة الشاعرية مرســومة بدقّة، ً «الحب» ينضح مــن َجَنباتها :في يكاد بل ّ غيرة الزوج على زوجته حتى من أوالده، ثم في رغبتــه فيها ،فــي نهايــة المطاف، ّ ترهــل جســمها وامتــأ جســده هو بعــد أن ّ اآلخــر ..يــدور بينهمــا حــوار مــن كلمــات قليلــة وبســيطة ،لكنهــا كاشــفة .وهكــذا يتدبران زيارات الرغبة المتباعدة، ّ «ظل ّ في ظــام الغرفــة محكمــة اإلغالق»!. القصة األخيرة «عزيزنا الضيف» تأتي ّ أشــبه بالمعزوفة الختامية لتلك الحالة، ٍ عــام ،وهــي -وإن اختلفــت فــي بشــكل ّ
تفاصيلهــا ،وتباعــدت فــي شــخصياتها وأحداثهــا -تمثِّــل ،فيمــا أرى ،التصاعــد ـكل مــا تحويه من الهرمــي لتلــك الحالــة بـ ّ مالبسـ ٍ ـات ،حيــث «الوحــدة» و«الغربــة» والخوف من اآلخريــن ،ومحادثة النفس كثيــرًا ومســاءلة الماضــي ،مــع رصــد االقتــراب مــن حافّــة المــوت فــي الوقــت نفســه ،واالحتفــاء بتفاصيــل الحيــاة الصغيــرة البســيطة. تبــدو شــخصيات المجموعــة كأنهــا ـخصية واحــدة؛ مــا قــد يدفــع القــارئ شـ ّ ثمة إلى َع ِّدها «متتالية قصصية»؛ فليس ّ ربمــا ،باســتثناء فــروق نوعيــة كبيــرةّ ، قصــة «الموقــد» التي جعــل الكاتــب بطلها ّ ّ يتحدث إلى الشك- هو ذلك البائع الذي- َّ آخر ،عارض ًا سلعته ،ويبدو -في الوقت َ ذاتــه -وحيــدًا ال يملــك ّإل ذلــك «الموقــد» الذي جعله محور حياته ،وأصبح حديثه عنه كمــا لو كان يتحـ َّـدث عن عزيــز لديه! كذلــك ،ال تبتعــد حالــة «الضيــف» عــن حالــة الرجــل الــذي جلــس فــي «مقعــد في الحديقــة» ،وبيــن يديــه تلك الفتــاة التي ويتعجبون مــن عالقتها يراقبهــا الجميــع َّ يؤكد لهــا أنه ال بذلك العجــوز ،فيمــا هــو ِّ ـود أن يبتعــد عنهــا« :مــا يتعبنــي تكرار يـ ّ الفراق ،وليــس وجودك» ،فهــي -كعادة و«كل األشــياء الجميلــة» -مــا إن الحيــاة ّ نتعلّــق بهــا حتــى تختفــي وترحــل ..أو تمــوت! لغة «عزت القمحاوي» -كما عهدناها- شــاعرية الموقــف ورســم تعتمــد علــى ّ التفاصيل الدقيقــة لخلق حالة شــعورية تجعل القارئ جزءًا من األحداث ومشارك ًا فيها بل متورط ًا فــي تصديقها واإلعجاب بهــا ،مــن جهـ ٍـة ،وتعكــس حالــة أبطــال بشفافيٍة وصدق ،من جهة أخرى. قصصه ّ 119
«السبيليات» إلسماعيل فهد إسماعيل أم قاسم يف زمن الحرب حكاية ّ عبدالكريم املقداد ســيمفونية وجدانيــة يعزفهــا الروائي الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل (1940م) فــي أحــدث إصداراتــه .فبعد رصيــد كبير مــن األعمــال الســردية ،كان آخرهــا «فــي طيور التاجــي» ،)2014( ،و«في حضرة العنقــاء ِ ــل الوفــي» )2014( ،التــي والخ ّ وصلــت إلــى القائمــة الطويلــة لجائــزة البوكــر ،2015 ،و«الظهــور الثانــي البن لعبون» ( ،)2015تأتي روايته الخامسة والعشــرين بعنــوان «الســبيليات ..مــا لم أم قاســم» يــرد ذكــره مــن ســيرة حيــاة ّ الصــادرة عــن دار «نوفــا بلس» للنشــر. أم قاسم بروح الرواية توثِّق ربط روح ّ زوجهــا ،فــي حياتــه وبعــد مماتــه ،كمــا ِّ توثــق ربطهــا بالمــكان ،مســقط الــرأس، قريــة «الســبيليات» ،ســدى الروايــة، وُل ْحَمتها ،فاســتحقَّت -بجدارة -أن تكون عنوانها ،كما توثِّق ربطها -أيضاً -بروح الحمــار «قــدم خيــر» ،إلــى درجــة إدراكــه أم قاســم ،وهواجســها لنوايــا صاحبتــه ّ وإحساســها هي «بمشــاعره» ومتطلَّباته الروحيــة ،إضافـ ًـة إلــى إدراكــه لكالمهــا، كل ما تطلب مــا إن تأمره بذلك؛ وتنفيذه ّ ـن حوَلها ،وأفضــى إلى ذهابهم حير َمـ ْ ما ّ مذاهــب ش ـّتى فــي ذلك! مركــزة ،وبعيــدة حكايــة بســيطةَّ ، التشــعب واالنفتــاح علــى عالقــات عــن ُّ متعــددة ،كمــا وحَيــوات ِّ وشــخوص َ تجنــح أغلــب الروايــات .إنهــا أقــرب مــا القصة القصيــرة منها تكون إلــى طبيعــة ّ 120
إلــى الروايــة .عمــد الكاتــب إلــى الحفــر فــي الجانــب الروحــي ،فبنــى روايــة مــن تتعـ َّـد ،فــي حدثهــا الرئيســي، حكايــة لــم َ أم قاسم على الرجوع إلى قريتها إصرار ّ «الســبيليات» ،علــى الرغــم مــن األخطــار وكل التــي تحيــق بالقريــةُ .أجبرت ،هــي ّ أهل القرية ،على مغادرتها خالل الحرب العراقية اإليرانية ،لكونها ساحة حرب، على وعد حكومي ّ بأل يطول الغياب أكثر مــن ثالثــة أشــهرّ ،إل أن الشــهور طالــت، واستطالت ،ولم تعد تطيق االبتعاد عنها أكثــر ،فغافلت أوالدهــا وأصهارهــا ،بعد ســنتين من لجوئهم إلى النجــف ،وقفلت عائدة إلى السبيليات ،على ظهر حمارها
«قدم خير» .وحين لحق بها أوالدها ،في منتصف الطريــق ،لثنيها عن المخاطرة، اخترعت ذريعة أن زوجها ،الذي مات في طريق مغادرة القرية ،أوصاها بدفنه في الســبيليات .وبعــد عجزهــم ،لّفــوا لهــا ما تبقى من عظام أبي قاسم ،فاحتضنتها، وواصلت المســير إلــى القريــة« :أنتم في قلبي ،لكن روحي وروح المرحوم والدكم لن تطيب لهما الراحة ّإل في السبيليات». وبتوهجها الروحي، (األم قاسم) ُّ بهذه ّ حــارب إســماعيل الفهد الحــرب ،وانتصر عليهــا ،وقــد اســتخدم ،فــي ســبيل ذلك، أســلحة غير مألوفة ،جعلت العســكريين يتقبلــون وجودها في القرية، العراقيين َّ رغــم الحظــر ،كمــا جعلتهــم يخالفــون فيفكــون حبــس التعليمــات العســكرية ّ الميــاه عــن أشــجار القريــة التــي صبغهــا االصفرار ،وأوشكت على الموت ،وكذلك بســاتينها .فــي البدايــة ،كانــوا يهــزؤون بهــا حيــن تقــول لهــم إن أبــا قاســم قــال لها كــذا وكــذا ،لكنهم ســرعان مــا انجذبوا كل وعّدوها «مبروكة» ،حين تحقّق ّ إليها َ ادعــت .كمــا َعـ َّـزز ذلــك مــا رأووه مــن مــا َّ إدراك الحمــار لكالمها وتنفيــذه ما تأمره به .والنتيجة انقــاب اصفرار البســاتين إلى االخضرار ،خالف ًا للبســاتين األخرى فــي المنطقــة ،بــل اعتمــاد الجنــود ،فــي تموينهــم ،علــى حقــل البقوليــات الــذي أقنعتهــم بزراعتــه. وتبّدى العزف الروحي ،الذي ارتكزت
أم قاســم على عليه الرواية ،فــي إصرار ّ االحتفاظ بعظام زوجها ،أينما ارتحلت. فحيــن ســمح لهــا الجنــود ،بدايـ ًـة ،بدفــن زوجهــا فــي القريــة ،والبقــاء فيهــا لم ـّدة أيــام فقــط ،أبقــت علــى القبــر عشــرة ّ مفتوح ـاً« :ال أضمن بقائي إلــى جانبه»، في إشــارة إلى اعتزامها أخــذ رفاته معها حــال إصرارهــم علــى مغادرتهــا .وحيــن أخبرتهــم أن الجندي جاســم ،الذي بترت وتّم كّفــه اليســرى بدانــة مدفــع معاديــةَ ، نقله إلى بغداد ،سيعود ،أشفقوا عليها، لجهلهــا بــأن الجنــود الذيــن يصابــون باإلعاقــة ُيعفــون مــن الخدمــة العســكرية آلي ،لكنه التحــق بالخدمــة ثانية بشــكل ّ بنــاء علــى رغبتــه ،وعــاد فعــاً .وقبــل ً حدد لها الضابط مّدة عشرة ذلك ،وحين َّ أيــام ،فقــط ،كــي تغــادر القريــة ،حلمــت ّ بأبــي قاســم يطمئنها بأنهــا باقيــة ،وهو مــا حــدث. حكايــة مســتقيمة ومباشــرة ،وبعيدة عــن التدويــرَ ،عَرضهــا الكاتــب بأســلوب بســيط أيضاً؛ إذ عمد إلى ســردها بشــكل معو ًال على تتابعي ،بال تقديم وال تأخيرّ ، تحدي األخطار ،ومن الزخم العاطفي في ِّ َثـّـم اقتنــاص فضــول القــارئ ،واهتمامه. وللتركيز على بــؤرة الحكاية ومنعها من توسل الكاتب الوقوع في «الفالش باك»َّ ، تقنية الحذف ،فأسقط الكثير من األحداث التــي ال تتســاوق مــع روح الحكايــة؛ لذلــك رأينــاه يطوي األســابيع والشــهور
والسنين أحياناً« :بعد استقرارهم بثالثة «مرت شهور سّتة»« ،انقضاء أسابيع»َّ ، عامين على المغادرة» ...وقد َت َّم إســقاط المتضمنــة فــي هــذه الحلقــات الحكائيــة َّ األســابيع وهذه الشــهور وهذه الســنين، ـم فــرش فــي سـ ّ ـت صفحــات ،فــي حيــن َتـ َّ أم قاســم مــن النجــف إلــى رحلــة عــودة ّ الســبيليات ،والتــي اســتغرقت أســبوع ًا واحداً ،علــى نحو ثالثيــن صفحة ،بينما األيــام العشــرة التــي منحها امتـ َّـدت مهلــة ّ لهــا الضابــط ،للبقــاء فــي القريــة ،إلــى حــدود س ـّتين صفحــة مــن الروايــة؛ مــا يفســر ســعي الكاتــب إلــى التمحــور حول ِّ ـب اهتمــام القــارئ بــؤرة الحكايــة ،وصـ ّ منحــى محـ َّـدد ،ومنعــه مــن الشــرود فــي ً والزوغان ،أو -باألحــرى -الحرص على خاصّيــة التشــويق التي ســتجعله يتابع ّ القــراءة ،بانجــذاب واهتمام. اعتمد إسماعيل فهد الراوي كلّي العلم مكَنه من نضح هواجس لتولّي السرد؛ ما َّ كل موقف أم قاسم ومشاعرها ،عند ّ بطلته ّ متوّتــر ،إضافـ ًـة إلــى رصــد تداعياتها في اســتحضار مشــاهد مــن ماضيهــا ،تكفَّلت شخصيتها .كما بإضاءة جوانب أخرى من َّ التلصص مكَنه هذا األسلوب السردي من َّ ُّ علــى مضاميــن زيــارات زوجهــا لهــا فــي الحلم ،بــل قــراءة هواجــس الحمــار «قدم حادة خير»« :شــاغلت «قــدم خير» رغبــة ّ ـادًا رقبتــه فــي أن يرفــع رأســه عالي ـاً ،مـ ّ تمهيدًا لكي يطلق لحنجرته عنان النهيق،
تذكــر تحذيرهــا لــه أن ال يفعــل ،أصــدر ّ حمحمة محاصرة.».. استهل يبقى لنا التنويه بالكلمة التي َّ بها الكاتــب روايته ،وكشــفت لنا أن قرية الســبيليات هــي مســقط رأس إســماعيل الفهــد نفســه ،كمــا كشــفت الســبب الــذي شــغله ،وقاده إلى تأليــف هــذه الرواية. وقد تب ـّدى ذلــك فــي مكالمة مــن صحافي لبى دعوة السلطات العراقية، أخبره أنه ّ لالطــاع على حجم فور انتهــاء الحــربِّ ، الخراب الذي خلّفته ،مشيرًا إلى ذهوله، وزمــاءه ،خالل متابعتهم ،مــن الطائرة المروحيــة ،للمشــهد علــى األرض ،إذ رصــدوا اصفــرار بســاتين النخيــل، ـداء مــن الشــريط الســاحلي وذبولهــا ،ابتـ ً ـط العــرب ،حتى مينــاء الفاو الغربي لشـ ّ جنوبـاً« :فجأة غــاب اللون األصفــر ،كنا نحلــق فــوق أرض مزحومــة باألخضــر، أشــبه بواحــة غّنــاء ،عرضهــا ال يتجاوز ـرة ،عــادت كيلومتريــن ...بعدهــا ،مباشـ ً سيادة األصفر ...تساءلت ...اكتفى أحد ّ األدلء ،قال :هذه قرية السبيليات» .بعد ا ذلــك ،يختــم الصحافــي مكالمتــه قائــ ً إلسماعيل الفهد« :بصفتها مسقط رأسك، يلزمــك أن تكتشــف السـ ّـر» .والبــادي أن الكاتــب قــد اســتجاب لطلــب الصحافــي، فجــاءت هــذه الروايــة لتميــط اللثــام عــن سـّـر األخضــر. 121
أحالم ّ أقلِ ،ش ْع ٌر أكرث ٌ
رشيد الخديري
يقــدم الشــاعر المغربــي حســن ِّ النصــي منجــزه خــال مــن انــي، الوز ّ ّ «أحالم ماكلوهان» (صــدر عن دار العين شعرية تنبني مأدبة المصرية،)2016 ، ً ّ ولعــل والتضادّيــات، علــى المفارقــة َّ ّ العنــوان الــذي اختــاره ،بمــا يحملــه مــن إيحــاءات ورمــوز تتعـّدى مــا هــو قدســي ـم عــن طقوســي إلــى كتابــي شــعريَ ،يِنـ ُّ ٍ وثمة وعي مسافة من الكشف والمكاشفةّ ، في االشتغال على ُممكنات الرمز ،وقدرته علــى تمريــر الخطــاب ،بوصفــه معرفــة مســكوت ًا عنهــا ،بيــن ثنايــا النصــوص. والواقــع أن التقابــات الضّدّيــة أخــذت مهم ًا مــن أحواز الكتابة لدى حســن ِّ حيزًا ّ تتشكل العبارة الشعرية الوزاني .وهكذاّ ، ّ ربما- ويتم استســعافهاَّ - في هذا العملّ ، النصّية، ـات ـ المتعالي عبــر مجموعــة مــن ّ ال عــن ذلك ،تخــوض فــي مرجآتها وفض ً ـق رؤيــا شــعرية ـ وف ـة ـ الكتابي ـا ـ وأوفاقه َ الجدليــة بالحلــم للواقــع ،فــي عالقتــه ّ ــوي بمفارقــات الحيــاة، والحلــم الرؤي ّ َ وهــي تخــوض مســتحيلها مــع المــوت. يميز هــذه التجربة ويعلــن فرادتها ما ِّ هو حالة التماس التي تنسجها النصوص فيما بينها .صحيح أن السمة الغالبة في كل مــا ُكِتب ،وما لــم ُيكتب ،هــو -بتعبير ّ 122
الهـّـم ،ونلمــس هــذا الهـّـم أنســي الحــاجَ - األنطلوجــي موجــودًا في هــذه التجربة، وثمة «إيمان» ُم ْعَلن بقدرة القصيدة على ّ اإلربــاك والدهشــة ،هــذا وقــت القــراءة، األول قراءة الزمن الشــعري ،منذ الســفر َّ إلى منتهــاه ،ودوم ـاً ،طابــور طويل من حتمي للبدايــات .هنا، الكلمات ،وأفــول ّ في هذه التجربة الشعرية ،يحرص حسن الوزانــي علــى دخــول معتــرك الكتابــة؛ ّ بحثـ ًا عن شــجرة السـّـر ،وعــن مكنونات الــذات ،يقــول فــي قصيــدة «بــرج الدلو»:
ـت بعض ًا من «أنا ســليل برج الدلو /منحـ ُ ـل بالموســيقى/ اســمي /للوزن كي أبتـ ّ الوزاني /كي أتدفَّق منتشياً/ بعضه لنهر ّ مــن جبــل الشــيخ إلــى بحيــرة طبريـاً».. (ص.)34: يجتــرح الشــاعر لنفســه ،فــي هــذه خط ـ ًا يمــور بتعـ ُّـدد التجربــة الشــعريةّ ، تحمل رؤيا األنســاق ،ويمكن القول إنها ُ لقيــم الحيــاة األثيــرة :المــوت /الحياة/ وبكل الوجــود /العــدم /اآلنــا /اآلخــرّ ، تحمل على عاتقها هموم اإلنسان بساطة، ُ ومكابداتــه الطويلة فــي مواجهة صخور بتنوع ـوع المـّد الشــعري ُّ ســيزيف ،ويتنـ َّ الرؤى التي تخــوض فــي الممكنات وفي مــا ال يتحّقــق ،هــي لعنــات فــي مواجهــة ســطوة األمكنــة ومفارقــات الحيــاة، ـرر بغايــة ترميــم شــقوق الــذات ،والتحـ ُّ مــن الكوابيــس الطويلــة .يقــول الشــاعر فــي قصيــدة «أنصــب فخاخ ـ ًا للشــمس»: «يوم ًا ما /سأفيق من كابوسي الطويل/ ألمس حينها ســريري الصغير /مصباح غرفتي الذي لــم أطفئه البارحة /ســمرة يــدي /دفتــر التاريــخ جنــب رأســي»... (ص .)101:وهنا ،نجد الشاعر (يستعيد) كل التفاصيل ،وكأنه يحاول الخروج من ّ بأقل الخسائر الممكنة، حربه مع الحياة ّ
رغــم أنــه يعلــن ،فــي أكثــر مــن َمـّـرة ،أن «ليــس لــه مــا يخســره» علــى اإلطــاق، وكل الدروب والحيوات تتشابه ،تماماً، ّ كمــا تتشــابه الوجــوه واألمكنة. تنبنــي نصــوص «أحــام ماكلوهــان» وآليات قرائية على مرجعيات متعـّددةّ ، ّ السيما والمعارف، الحقول عديد من ترفد َّ أول إصــدار أن المســاحة الزمنيــة بيــن َّ «هدنــة مــا» ،1997 ،وديــوان «أحــام ماكلوهان» تجعلنا أمام نصوص مكتملة، والمتخيــل، ألنهــا اختمــرت فــي الــرؤى َّ ألكثر من عشرين سنة ،وهي مّدة كفيلة بــأن تمنحنــا تجربــة شــعرية مختلفــة، علــى امتــداد تســعة نصــوص ،فقــط. الوزاني حيــن يحتفي بالشــعر، وحســن ّ يحتفــي -فــي الوقــت نفســه -بمــا علــق ترســبات ماضويــة؛ ما فــي الذاكــرة مــن ُّ ثمة حنين ًا إلى الطفولة ،بشغبها نعنيه أن ّ وجنونهــا ،فــي أفــق االســترفاد مــن هــذا ـاق ،من خــال محــاورات مع النبــع الخـّ األب ،ومع طيفه ،ومع المكان الذي جمع تصوري ،إن بين الوحشة واأللفة .وفي ُّ هــذه المحاورات أخــذت طابع ًا ســجالياً، ونلمــس عتابــ ًا خفيفــ ًا لمــا كان ،وِلمــا ســيكون فــي المســتقبل ،هــذه اإلقامــة فــي الطفولــة ،ال تفســدها إال الرغبــة فــي
الصبي الكتابة ،ولملمة شــتات الذاكرة: ّ في مقابل الشيخ /الكينونة والصيرورة/ كل هذا األحالم المؤجلة ودفتر الذكرياتّ ، َّ االحتفاء الجنائزي بسيرة المكان مدعاة أوالً- لمواصلة الحفر العميق في الذاتّ - ثم في تاريخ الســالة .يقول الشاعر في قصيــدة «أحتفــي بمــا تبّقــى»« :عزيزي/ تقدم قليـًـا /كي أرى ما تبقّى من شــجن ُّ أينــا الشــيخ الذي أينــا الطفــلُّ . صبــايُّ / ســأكون /كنــت تحتمــي أنــت بالبالغــة تؤجــل زحــف الثلــج علــى دائمــاً /كــي ِّ صوتــك الخفيــض ،وعلــى مــا تبّقــى من أحالمــك الصغيــرة /كــي ال تبرح شــغب تظــل كمــا كنــت /ولوعــ ًا الطفولــة كــي َّ بالذي لــن يكــون» (ص.)19 : قصائــد الديــوان ســفر فــي الدواخــل، ومســاءلة للســراديب الســفلية للــذات، ال عــن تأبيد القــول الشــعري وترميم فض ً تصدعــات الكــون وتشــقُّقاته .إننــا أمــام ُّ عمل شعري يخوض في شعرية المفارقة أقل، ممــا نتــج عنه أحــام ّ والمقابــاتّ ، وشــعر أكثــر ،وبيــن هــذا وذاك ،يصيــر سيدًا للريح ،وناسج ًا للخسارات، الشاعر ِّ مدجن ًا للفرح ،وحارســ ًا لأللم .يقول في َّ قصيدة «حارس الزلــزال»« :أنا /حارس ال األلم /أعــرف كيــف ُأَل ِّينــه /أفتعــل قلي ً
من الغضب /كي أســتدرجه /إلى مكيدة الفــرح /أنــا ناســج الخســارات /أعــرف كيف أشــذِّبها /أنســج من أطيافها /بيت ًا للوهن /وبيت ًا للريح( ../ص 58 :و.)59 هكــذا تقتــرن الكتابــة الشــعرية ،عنــد الوزاني ،باأللم والفرح ،وإن كان حسن ّ الفــرح ليــس مهنــة الشــعراء ،كمــا يقــول محمد الماغوط ،ولن يكون ،يوماً ،مهنة َّ الشــاعر ،فهــو يحتــرف األلــم ،ويعيــد صياغتــه مــن أجــل كتابــة قصيــدة تنزف ألم ـ ًا وعنفوان ـاً. صــدر للشــاعر« :دليــل الكتــاب المغاربــة» ،)1993( ،و«هدنــة مــا»، ،»)1997و«األدب المغربي الحديث1929 : ..1999دراسة ببليوغرافية»»)2002( ،و«معجم طبقات المؤلِّفين على عهد دولة العلويين لعبد الرحمن بن زيدان :تحقيق ّ ودراسة ببليومترية» ،جزءان،)2009( ، الكّتــاب بالمغــرب :الوضعيــة و«قطــاع ُ واآلفــاق» ،بالفرنســية .)2009( ،كمــا شــارك فــي العديــد مــن المهرجانــات الشعرية :الوطنية ،والعربية ،والدولية، مــن بينهــا :لوديــف (فرنســا) ،ومايوركا (إسبانيا) ،وميدلين (كولومبيا) ،وآسفي (المغــرب) ،..وغيرهــا. 123
كتاب
عىل خطى ريجيس دوبريه.. تقاطعات بني نارين وأربعة جدران عالء خالد «مذكــرات برجوازي تعرفــي بكتــاب ِّ كان ُّ نارْيــن وأربعــة جــدران»، بيــن صغيــر َ لريجيــس دوبريــه ،في العــام الثاني أو الثالث من عقد التسعينيات .كتب دوبريه مذكراتــه خــال فتــرة اعتقاله السياســي ِّ فــي بوليفيــا ،بســبب نضالــه مع تشــي جيفارا .بعد مرور قرابة أربعة وعشــرين المذكرات عامــ ًا من قراءتــي األولى لهــذه ِّ (وكانــت مــن المصادفــات الســعيدة التي المحطات غيرت حياتي) ،أستعيد ،اآلن، ّ َّ والمحطــات األخالقيــة التــي النفســية ّ توقَّــف عندهــا دوبريــه فــي كتابــه الذي يشــكل مرجع ًا إنســاني ًا في النقــد الذاتي، ّ وفي إعادة النظــر في العديد من المواقف الفكرية. تــم القبــض على دوبريــه والحكــم عليه ّ بالسجن 20عاماً ،تقلَّصت إلى 3سنوات إثر تغييرات سياسية حدثت في بوليفيا، المذكــرات ُكِتبت تحــت الجدار ولكن هــذه ِّ الطويــل ،الــذي يحجــب الضــوء ،خــال أية ثقة في أن هناك العشرين عاماً ،بدون ّ ال يمكن أن يلمسه ،وستعيش فيه مســتقب ً المذكــرات .كانــت مســاحة الصــدق هــذه ِّ ضيقــة لكنها جارحــة ،أو -بمعنى آخر- ِّ كانت «الجرح داخــل الصمت» ،وهو حال السجن. المذكرات« :في تلك اللحظة/ نقرأ في هذه ِّ الســنوات ،كانت هناك رغبة في تضييق المســافة بيــن الداخــل والخــارج ،ألظهر 124
على حقيقتــي ،أو ألتبــع الحقيقة حيثما كانت ،حتى ولو كان في اكتشــافها قضاء يســمى حقيقي ًا بالنسبة إلى علي ...إن ما ّ ّ فرد ،هو هذه الحقبة من حياته المتطابقة مــع الفكرة التي َك َّوَنهــا عن الحياة ،حين يحــس أن حياته ترتفع وتتســاوى ،ذات ّ الحميمــي ،تنتــزع جوهــره مــع لحظــة، ّ نفســها مــن نفســها ،تتخفَّــف ،تصبــح تضحيتهــا الذاتية المتهلِّلة -بالنســبة إلى كاتب -أن يكتب( »...ص *.)165 ... تمرد لحظــة الكثيــرون، عشــت ،وعاش ُّ بنارْين وأربعة جدران .لم طويلة ُمحاطة َ أي هدف أو فعل على ا تمردي منصب ً ّ ّ يكــن ُّ ثوري ،بل على صفات شخصية وعائلية ّ وطبقيــة ،ال تطمــح لتغييــر مجتمع ،بل التمرد لتغييــر إحداثيات الذات .وكأن هذا ُّ ــحب معــه قائمة من خيط ،لو شــددته َس َ البنــاءات الفكريــة الجمعيــة ،والتقاليد، وأشــباحاً ،وصــوراً ،ونمــاذج تاريخية لتنقض جاهــزة ،فــي نهاية هذا الخيــط، ّ على تلك اللحظة. كنــت راكبــ ًا علــى الحيــاة ..البحــث عــن ُ ٍ متعال عليها. وض َعني في مكان الحقيقــة َ ربما ،كان هذا هو الخطأ؛ أنك لم تعدل مع َّ اآلخــر الذي تريد منه العــون .هذا التعالي ســمح بدخــول شــعور طبقــي برجوازي إلي، داخل ضفيرة ما هو حقيقي بالنسبة َّ تمــردي نفســه ،وإلى حقيقة وإلــى منبت ّ
التحرر .جزء غير مَت َح َّكم فيه، رغبتي في ّ يأتي من زمن أسبق في التكوين. تقّدمت وســط البحر ،وسحبت من ورائي تحرر، ّ كل األبــواب ،كعــادة ّ أيــة لحظــة ُّ ليس لهــا أبواب خلفيــة مفتوحة للهرب. كنــت أبحــث عــن منفــذ وســط «ورطــة يتحرك التحــرر» هــذه ،التي تشــبه مــن َّ ّ في غرفة مظلمة مليئــة بالجثث الفكرية؛ كل خطــوة ،هنــاك فــرح بمالمســة فــي ّ كل المــوت ،و -أيضــاً -تثبيــت لــه .وفي ّ خطوة ،هناك استبعاد عن الجماعة وعن األسرة ،وعن الســلطة األبوية والسلطة األمومية ،واســتبعاد إلمكانية استئناف متمرد ،وهو الحياة ،كشــخص عادي ،ال ِّ كنُته قبل أن أدخل هذا المعترك الكبير مــا ْ التحــرر ،له أو د، التمــر الت. التحــو مــن ُّ ّ ّ ــبَقنا الكثيــرون إليها، س جاهزة، قوائــم َ َ ولــم يتركــوا لنا امتيازًا مــن طول عمره، وِقَدِمه ،وتعقيد مساراته. كل األبواب وفَتــح لــي ّ جــاء هــذا الكتاب َ الخلفيــة المغلقــة؛ تلــك التــي أوصدتها التحــررَ .مَن َحنــي التمــرد/ خــال رحلــة ُّ ُّ أي بــا لكــن التراجــع، إمكانيــة الكتــاب ّ شعور بالسقوط أو االنكسار أو الذنب أو عادة- الخيانة ،الشــعور الــذي يصاحب- ً هــذا النوع من التراجعــات الفكرية .لكن، بانفتاح الفكرة نفسها ثمة استسالم بدون أن تفقد احترامك لنفســك؛ كونك تفتح، بهــذا االستســام ،مكانــ ًا جديــدًا لرؤيــة
نفسك ،والحياة ،واآلخرين؛ مكان ًا ليس يتســع ،فقــط ،لعبورك ،بل أحادياً ،وال َّ لعبور الكثيرين؛ الجماعة. ... متحدث ًا عن مصير كتــب ريجيس دوبريــه ِّ يتكون بســبب وحدة الوعــي ّ الحاد الــذي َّ وأية وحدة مشابهة في سجون الســجن، ّ أخــرى َمجازيــة ...« :إن وعي ًا مشــحوذًا مما ينبغي يصبــح -إذا طال الزمن- أكثــر ّ ــفرة ِمْدية :مــاذا يفعل بهــا المرء إن لم َش ْ يتحمــل فرد يوجههــا إلــى نفســه؟ حيــن ُّ ِّ ا منهجياً ،فإنــه ال يجد وحدتــه مــا تحمــ ً ُّ ّ (المقدمــة، االنتحــار». إل آخــر ا مخرجــ ً ِّ يتوجــه ص .)8وإن هــذا الوعــي الــذي ّ ضــّد صاحبــه ،نحملــه ،جميعــاً ،لحظة مواجهاتنا الحبيســة بيــن أربعة جدران، ســواء أكانــت جــدران الســجن أم كانــت جــدران العائلة ،أم كانت جــدران الطبقة االجتماعيــة .هــذا الوعــي المشــحوذ هو ميراث الطبقــة البرجوازية وتناقضاتها، هو مزيج الموهبة الشــخصية ،والكسل، والحساســية ،والخجل ...وسط الوحدة يتحول هذا الوعي ،سواء داخل الكبيرة، َّ الســجن وبين جدران المجتمع ،إلى وعي دموي ُم َو َّجه ضّد الذات. ّ فــي عزلته داخل الســجن ،يكلِّــم دوبريه خاطب .وعبر هــذا الحوار كآخــر ُم َ نفســه َ ــرد سيرته؛ وس ْ الباطني ،يقيم التصالح َ يتم ذلك واإلضافــة. بالتعديــل والحــذف ّ واع ،متيقِّــظ ،لغتــه المعرفــة، بهذيــان ٍ ِ والمقــوالت الفلســفية ،والحكــم (جوهــر العقائد واألديان) ،والصور الســينمائية، والروايــات وصــور الحيــاة اليومية ،و- أيضــاً -صــور من خيالــه الشــعري .وقد كل ذلك ،منتقالً ،تارة ،إلى خلط دوبريه ّ آخر جديد ،وبالوصل إلى من عالم قديــم َ تــارة أخــرى .يقول في ــن، بيــن العاَلَمْي ً كل ذلك« :وهكذا بفضل جمع عدد تجميــع ّ من الكتب ،عبر الزيارات التي كانت تقوم تحول بها رفيقتي ّ كل ســتة أشــهر(ّ ،).... العقــاب الجزائــي إلــى فترة قصيــرة في تدريب للدرس واالســتبطان ،من الصعب توفُّره في الحياة العادية ( )...ولئن كان الحيــوي شــديد الضيــق فقد كان المجــال ّ (المقدمة، سيد وقته». المرء -على ّ ِّ األقلِّ - ص .)9 ... ربما كان الجزء الشبيه ،في حياتي ،الذي ّ
كنت أملك فيه فائض وقت ممزوج بتساؤل وجودي وبألم شخصي ،هو الفترة التي أتــت بعــد وفــاة والــدي .لقد جعلنــي هذا كل مــا حــدث :كنت الحــدث أعيــد تقييــم ّ داخــل عزلة نفســية اضطراريــة ،أحاول الخروج والصــراخ ،لكن بال صدى .وفاة المتمرد، أبي ســحبت منّــي امتياز االبــن ِّ وأخذ موته سلطة الرمز الذي كنت أقاوم، امتدت عبره ،ضعف نفسي وقلّة حيلتيَّ . هذه الحالة لسنوات من الصمت الخارجي مصحوبــة بنوبات من الصــراخ الداخلي. فيمــا بعــد هــدأ هــذا الصــراخ ،عندهــا، اســتعدت القــدرة علــى الــكالم والكتابــة ســت ســنوات والوضــوح بعد توقُّف دام ّ تقريبــاً .فتــرة التوقُّــف هــذه كانــت فترة االستيعاب ،وسجني اإلرادي الذي قمت، داخلــه ،بمراجعــة أولى لفصــل جديد من «التمرد». حياتي ،عنوانه ُّ «التمــرد» أصبح بــدأت أشــعر بــأن هــذا ُّ سجناً ،قيدًا على مقاس الجسم بالضبط، فكان ســجني مضاعفاً؛ الســجن األصغر َف َضح الســجن األكبر .ســجن األفكار كان أي ســجن آخر ،حتى ولو كان أقــوى من ّ اجتماعياً ،أو طبقياً ،عكس ما كان يطمح إليــه توفيــق الحكيــم فــي ســجن العمر، ســجن الطبع .كنت مســجون ًا داخل فكرة التمرد ،ليس لخطأ فيها ،بل «التحرر» أو ُّ ُّ ألن لها ضحايــا ،يجب أن يغذّوا نيرانها، تظل صاحية إلى األبد .كانت والتي البّد أن ّ وألي مجتمع ،مهما فكرة، ألية ّ هناك قيود ّ كانــت خطورتهــا وفرادتهــا وتضحياتها.
هنــاك أجندة ما ،ونظــام ضاغط يجعلك تعيــش ،فقــط ،جحيــم الفكــرة وســلبها وعبوديتــك لهــا ،أو منحهــا لحر َّيتــك، َّ ِّ وعبوديتهــا لك. حــدود، بــا حرّية َّ لــك ّ تخضــع لها أكثر مــن خضوعك لحياتك، أي خصوص ًا بعــد أن أصبحت منفلت ًا من ّ قيد اجتماعي ،وغير خاضع آلراء القبيلة وأثبت أمام االجتماعيــة التي أنت منهــا، َّ نفســك قدرتك على التخلّي ،والتضحية، والجَلد .تقف -أخيراً -في العراء ،تحاول َ أن ال تذهب إلــى دفء قبيلة أخرى ،مهما مميزة كعضوية نادي كانت لها عضويــة َّ ّ الميليونيرات .الفكــرة -مهما كانت -يجب ّأل تكون أقوى من حياة اإلنســان .الفكرة تعيش ،بينما نحن نموت. الفكــرة أقــوى دائمــاً؛ ألن لها كيانــ ًا غير تطورها يأخذ عقودًا وقرون ًا ّ مادي ،وألن ُّ وأحقابــاً ،وكذلك دورة حياتها وميالدها وموتها؛ لذا يشــغل اإلنسان جزءاً ،فقط، مــن دورة حياتهــا ،واليــرى بدايتهــا أو نهايتها .يقف داخل لحظة َت َح ُّول ،سكون لهــا أو موت ،أو ميالد .فــي تلك اللحظة ال الحرجــة ،يريــد أن يخــرج منهــا ،حام ً كل تــراث الهزيمة واللــوم والذنب؛ كونه ّ األبدية التي تعيــش فيها هذه تخلّــى عــن ّ الفكرة /األفكار لصالح تراث هذه الفكرة. يســترد تراث ًا لكنــه -فــي الوقــت نفســه- ّ مشــابه ًا مــن الكينونة« ،األنــا الصغير»، الــذات الشــبيهة ،اآلخر الداخلــي .لم تعد الــذات تستســلم بســهولة ،كأنهــا نفضت عنها ثوبها الواسع أو «األنا األعلى» التي توجهها ،متســلِّطة عليها ،وتدفعها كانت ِّ للمواجهة. ... يقيــم دوبريــه حــوارات افتراضيــة مــع فالســفة ،وساســة ،وعلمــاء نفــس واجتمــاع ،وشــعراء .يستشــهد بفكرهــم ويجادلهم« :إن المرء ليتطابق مع وجوه تاريخيــة أو روائيــة كبيــرة ،لكنهــا كلّها حصريــة ،ماثلة في وقــت واحد :ينبغي أن تصبــح هكــذا ...وال ينبغــي لــك ،في تخــل بهــذه الرغبــة (.)... أي حــال ،أن ّ ّ يرجع المرء دائم ًا إلى األنموذج ،يكبر في مــكان آخر ،خارج ذاته ،فهو ليس ،أبداً، نفســه ،وال قيمــة لــه ّإل بالمعايرة» (ص .)60 - 59 ... نقطة مفصلية؛ أن تعود لنفسك وتجعلها 125
ٍ تعــال أو تفاخر أو أنموذجــ ًا بديالً ،دون تضخيم للــذات .لكنك ،في هــذه الحالة، تســتحق هــذه النفس صدق هذه يجب أن ّ تحول حالــة في تكــون أن يجــب الــدور، ُّ دائمْيــن ،يجــب أن تعيــش وعــدم ثبــات َ وتكتشــف وســيط ًا يمنعهــا ،دائمــاً ،من التعالي ومن تكوين هــذه «األنا األعلى». كان ســؤالي :كيــف نكبــر فــي «مــكان آخــر» ،وبدون «أنموذج»؛ بحيث ال نكون متنصليــن مــن أنفســنا ،و -أيضاً -لســنا ِّ متربصيــن داخلها؟ أين يكمــن هذا المكان ِّ ربما ،كانت رحلة البحث تبدأ من نــي؟ َّ َ البْي ّ هنــا ،من رفض أن نكبر في «مكان آخر»، متغربيــن عــن أنفســنا .إنــه ليــس مكان ًا ِّ آخر ،بل جــزءًا من تكويننا ،وكينونتنا، والطفولي؛ إنه ســري، ومن تاريخنــا ا ُأل ّ ّ االجتماعي ،الــذي يجمع الســر ّي مكاننــا ّ ّ الداخل والخارج معاً. في هذه الحالــة ،حيث األنموذج يكبر في رجح دوبريــه التراجع إلى مــكان آخرُ ،ي ِّ كثــوري يجــب أن يزحــف علــى الواقــع، ّ بطنــه فــي الوحل ،كمــا يقــول لينين في ــن االنســحاب بــا يــأس»« :إن لم يكن َ «ف ّ المــرء مســتعّدًا للزحــف علــى بطنــه في ثورياً ،وإنما ثرثاراً». الوحل ،فهو ليــس ّ قوي بالمسؤولية تجاه (ص.)60 وبحس ّ ٍّ نفســه ،وتجاه الدولة التي تعاني أزمات 126
طفولــة األفــراد نفســها ،يقــول دوبريه: فتصرف كما لو أنها «إذا لــم ُتِرد مأســاة، َّ تتهددك دائماً». ِّ يحفِّــز دوبريــه الفــرد لمنــع عــودة يشــكل ُعصابــ ًا للفرد ،منذ التاريــخ الذي ِّ طفولته ،وللدولــة أيضاً .وعي بالتاريخ تراخ ،يمنع أســطورة الشــخصي ،بدون ٍ األبــدي» والتكرار؛ فهنــاك ،عند «العــود ّ إعادة تكرار التاريخ ،مأســاة ستقف في الطريق. فــي كتابي «خطــوط الضعــف» ،الصادر عام ،1995كتبت عن «التبكير بالتناقض» قبــل أن يأتــي ،في وقت ،أكــون فيه غير تحمله أو التعامــل معه .كنت قــادر علــى ُّ أستثير بعض معضالت الطفولة النائمة. فــي لحظــة الخطــر الحياتيــة؛ لحظــة مجســاتي لرصــد التغييــر ،كنــت ِّ أثبــت ّ الزالزل ،والتي كانت مستنفرة ،وأرسلها فــي الماضــي والمســتقبل ،لتســتقرئ االنهيارات الداخلية التي ســتأتي من كال الزمَنْين :المســتقبل ،والماضــي ،اللذين يكمــل أحدها اآلخر .داخل هــذه اللحظة، ِّ كنت أعيش تحت ضغط هذه المســؤولية ماضي وعن الكبــرى عــن حياتي ،وعــن َّ مستقبلي. ... االتصــال والعــودة إلــى -هــي لحظــة ِّ
الجــذور؛ لحظة االنفصال عــن االنفصال األول عــودة مــا األول .كان االنفصــال َّ َّ ثــم االنفصــال الثانــي عــن إلــى الــذاتّ ، الذات وانكشــافها على تاريخها وعالقاتها المتحركــة داخَلهــا :طريــق وأدوارهــا. ِّ ذهاب وعودة. «إن الناس يســاوونُ ،بعدياً ،بين الفردوعمله ،ناســين أن في الثورة أكثر كثيرًا ممــا فــي الثــوري .قــال فيديل :لقــد قمنا ّ بثورة أكبر منّا كثيراً». مهمتــي في أرشــدني دوبريــه إلــى أن َّ َ الفّن ،من غير أن أشــعر بأني هي الحياة َ الفّن خوفــ ًا من المواجهات أقــف وراء هذا َ مصداقيته السياســية التي تمنح اإلنسان ّ أمــام نفســه ،أو خوفــ ًا مــن الســجن أو المــوت« :كنــت بحاجــة إلى هذا الســجن لتدرك هذه البديهية بوضوح :لست مثقف ًا بالمعنــى الدقيق ،من غيــر أن تكون ،من جهة أخرى ،فنّاناً»( .ص .)135 ___________________________ «مذكرات برجوازي صغير *المختارات من كتاب ِّ نارْين وأربعة جدران» .ريجيس دوبريه. بين َ ترجمه عن الفرنسية :سهيل إدريس .الطبعة
األولى ،دار األداب ،بيروت1977 ،م.
ضغط الكتابة
أمير تاج السر
رواية وحيدة
أول مازلت أحتفل ســنوياً ،في داخلي على ّ األقل ،بذكرى نشــر َّ عمــل روائي لــي .كان ذلك في دار نشــر صغيرة فــي القاهرة. ثمــة روايــة أخرى كتبهــا عامل في مصنــع ،تزامن وأتذكــر أن ّ نشرها مع نشر روايتي في الدار نفسها .كانت رواية ذلك العامل بكل ما أراد ذكره من تفاصيل حياته هي الوحيدة له وقد شحنها ّ المســتمر ،لكنه بعد ذلك انزوى ،أو باألصح، وعمله ،وكفاحه ّ لم يظهر على الســطح ،وظلت روايته محدودة القراء ،في زمن ثمة إعالم واســع ،ليطــارد كاتب ًا طارئاً ،وينبشــه في لــم يكن ّ تجربته. هذا السلوك ،أي كتابة عمل روائي واحد ،يختفي بعده الكاتب، ليــس اختراعــ ًا حديثاً ،فمنذ أن بدأ الناس بكتابــة الرواية ،كان مرة وال يكتب بعدها أبداً؛ وذلك ألســباب دائم ًا هناك من يكتب ّ متفرغــ ًا للكتابة ،النشــغاله كثيــرة ،منهــا :أن الكاتب لــم يكن ِّ بوظيفــة يعتــاش منها وال يريد أن يزحم نفســه بضرة لها ،فال يخلص لالثنتين ،فيما تكون الرواية الوحيدة التي كتبها شحنة عابــرة خنقته ،واضطرته إلخراجها وكفى .من األســباب أيض ًا أن تكــون الكتابة عند البعض انشــغا ًال مؤقّتــاً ،جاء في فترة ما وذهب ،فال تبقى حاجة له. لكّتاب بعينهم ،مرموقة (الوحيدة) الروايات في المقابل ،كانت بعض ُ جــداً .اســتطاعت أن تحــدث نقــات جيــدة فــي الكتابة ،مثــل رواية المكســيكي :خــوان رولفو ،بدرو بارامــو ،ورواية المصــري النوبي محمد خليل قاســم «الشــمندورة» ،وهناك نماذج كثيــرة في األدبين: العربي ،والعالمي.
كتــب خــوان رولفو مجموعات قصصية ،فكان مشــروعه ،غالباً ،في القصة القصيرة ،وكذلك كانت رواية بدرو بارامو ،في تركيبتها أقرب للقصــة القصيــرة ،والشــمندورة روايــة وحيدة ،أغنت عن عشــرات ّ الروايــات التــي كان من الممكن أن ُتكتب عن منطقة النوبة في صعيد مصر ...وأعتقد أن قاســم بعدما أنجز «الشــمندورة» ،لم يرد أن ينجز غيرها حتى تظل جوهرة. من األمثلة أيض ًا رواية «موفي ديك» الشهيرة ،للكاتب هيرمان ملفيل، وهي رواية وحيدة وشــاهقة في عالم الروايات ،وكانت الســبب في االحتفــاء بكاتبها كثيرًا وإيصاله ،وهي موجودة إلى القمة بترجمات جيدة في مختلف اللّغات. ســألني كاتــب ليس من الشــباب ،يعمل موظفاً ،كان قــد أنجز رواية واحدة منذ عشر سنوات ،ولم يجد وقت ًا أو دافع ًا لينجز غيرها ،برغم وجود كثير من األفكار التي تتحاوم في رأسه ،وال يستطيع أن يدفع تكاليف النشر بال عائ .،إن كان ذلك عيبا ،أي أن يظل هكذا صاحب رواية واحدة؟ ردي هو أن األمر عيب كبير ،إن كان الكاتب مهتم ًا فع ًال بالكتابة، كان ّ وسبق أن راودته فكرة تبنّي مشروع خاص به ،ففي هذه الحالة عليه أن يضاعف من تحليقه ،وينسى تكلفة نشر الكتاب .في هذه الحالة قد يكتب شــيئ ًا جيداًّ .أما في حالة أنه لم يكن مهتم ًا أصالً ،وكتب بدافع شــحنة أجبرته ،فال مشكلة ،وهنا ،ســيحتفظ التاريخ باسم روايته إن كانت شحنته المفرغة جيدة ،وقد ال يذكرها الوحيدة ،ومضمونهاْ ، يهمه شــيء ،ألنه خارج لن بالطبع- والكاتب- أحــد رغم أنهــا كذلك. ّ دائرة االهتمام بمنجزه ومنجز اآلخرين!.. 127
نصوص
ٌ األرق غنائمي كثرية يف َ صالح لربيني (املغرب)
َها َو ْر َد ٌة ُأ ْخ َرى
ِيك َع ْب َر ال َْم َساف ِ وَآت ِ َات مُ َعفَّ ر ًا بِ غُ َب ِار ال ِ ّتيهَِ ..ظ َمئِي
اب َي ْت ُلو مِ ْح َن َة الْقَ َواف ِِل الص ْح َراءِِ ..ت ْر َحالِي كِ َت ٌ ِسي َر ُة َّ ين فِي ص َل ُة ال َّتائ ِِه َ ب ال َْم َدىُ ..غ ْر َبتِي َب ْو َ فِي م ََه ِ ّ
ِين َع ِن ال َْيق ِ ين َع ِن ِين ..ال ُْم ْر َت ِ ّد َ م ََدائ ِِن ال َّر ْي ِب ..ال َْع ِازف َ
َّ يب ال َْع َت َمات. الض ْوءِ ..وَال َْع ِ ِين َّس َر ِاد ِ اشق َ
اش ُق ق ََبائ َِل ال ِ ّرم ِ َالُ ..أ َر ِ ّو ُ ض ُع َوا َء ال َْب َر ِاري َأنَا ال َْع ِ
صافِي َر ال َْم َح َّب ِة فِي قَفَ ِ ص ِيُ ..أ َر ِ ّبي َع َ الساكِ َن ف َّ َّ الص ْبرِ فِي ب َْي َدا ِء ال َْج َس ِد، يس ال ُّر ِ َّ وحَ ..أ ْر َعى عِ َ الس َأ ِمَ ..أ ْعزِ ُ اع ال َْحن ِ ِين ف ِإيقَ َ َو َأ ْر ُق ُ ص َف َرح ًا مِ ْن ِش َّد ِة َّ َاي ال َّن َدم. َع َلى ن ِ
السامِ قَ ُة فِي َح َيا ِة يب ٌة فِي ال ُْب ْع ِد.. َّ َو َأ ْن ِت الْقَ رِ َ الذ ْك َري ِ ِّ يد َات ..ال َْح ِ اض َر ُة فِي ا ْلغ َِي ِ ين نَشِ َ ابَ ..ت ْر ُقبِ َ
ض َ بِ َي َد ْي ِك غَ َ ين ُح ْر َق ًة َج ِه الِا ْنت َِظ ِارَ ،و َت ْب ِك َ اض ًة فِي و ْ َع َلى ر ََسائ َِل َ اها فِي ال َّن ِار . ض َّي ْع َن َ و ََها َأنَا َأ ْع َز ُل مِ ْن ِك ،بِ َلا َذ ِخي َر ٍة
وبُ ..أو ِ َاري صي َخ ْي َباتِي َت ْح َ ُأ ْح ِ وم ال ُْح ُر ِ ُج ِ ت ن ُ ين َق ْت َل َ يد ص ِ ّلي َع َل َّي؛ َأنَا الشَّ ِه ُ َجثَامِ َ اي فِي ا ْلع ِْش ِقُ ..أ َ الص َبا َبةِ ..غَ َنائِمِ ي َكثِي َر ٌة فِي ا ْل َأر َِق.. فِي م ََع ِار ِك َّ
وحاتِي َ صال. ض ِ ّيقَ ُة ال َْخ َرائ ِ ِط فِي م ََمال ِِك الْوِ َ ُف ُت َ َها َو ْر َد ٌة ُأ ْخ َرى
َج ِه ال َْح َياة ُأ َر ِ ّت ُ ْس ُأ ُصص ًا فِي و ْ ب ال َْيأ َ ص ِديق ًا ِلل َْع َد ِم ال َْخ َر َ اب َ
ين َه َدايَا ِل َزف ِ َاف ال ُْق ُب ِ ور ، ال َْجثَامِ َ
الس َماء َوأَطْ ُر ُد ُّ الش َه َدا َء مِ ْن غَ ن َ ِيم ِة َّ
يم ال َْح َياةِ ، ود مِ ْن َم َر ِ اس ِ ال ُْج ُن َ
اب ا ْل َو ِح ِ آه ٍ ال ُْع ُي ِ ات ون َي َت َس َّل ُل ِخل َْس ًة مِ َن ال َْب ِ يدَ ..
اص ِ ات و َُه َّن ص َ ص ِديقَ اتِي ال َّر َ َو َأ ْح َتفِي بِ َ
ين صي ال َْحياةَ ..ت ْح ُر ِس َ َت ِح ُّن َع َلى ال َّن َد ِمَ ،ح َّتى َلا ي َْع َ
ِص ِارهِ َّن َع َلى ال َْح َياة، َوي َْح َتف َ ِين بِ ا ْنت َ
وم ،وَهِ َي يد َة مِ ْن َشرِ ِ َت ْص َد ُح ُغ ْر َف َت َنا الْفَ رِ َ يط ُأ ِ ّم َك ْل ُث َ ظِ َل َ ت َش َج َر ِة ال ُّت ِ ب ال الشَّ ْو ِق َت َح َ وتَ ،و َتطْ ُر ِد َ ين َش َغ َ ين بُ ..ت َل ِ ّو ِح َ ص ُ صافِيرِ َح َّتى َلا َت ُموت َأغْ َ ال َْع َ ان ال ُْح ِ ّ 128
ي َْس َت ْمت ِْع َن بِ فَ َر ِح ِه َّن فِي نَزِ ِ يف ال َْم ْو َتى،
ِيم ِة ال َّنشِ ِ يد ال َْج َنائِزِ ي َو َأ ْد ُعو ال َْم ْو َ ت ِل َول َ ان ال َْك َم ْن َج ِ َع َلى فٌ قْ َد ِ اع َة الْفَ َرح ات َم َن َ
ام الس َل ِ َع َلى ا ْن ِه َي ِار ِج َد ِار َّ
اج ِ َح ُل ِ اب ،ال َْم ْو ِتْ ،ت َر ِ يديَا ال ِ ّتي ِه ول ال َْح ْر ِب ،ال َْخ َر ِ و ُ ص ْح َرا ِء ال َْع َبث فِي َ َها َو ْر َد ٌة ُأ ْخ َرى
الذ ْك َري ِ اص َ يل ِ ّ َاب ِين َيقْ َر َا َتفَ ِ َحن ٍ ب ب ٍ َات ُق ْر َ و َ اب ُي َر ِ ّبي َز ْه َر َة ا ْلغ َِي ِ َوي َْح ُض ُن َف َر َ يق مِ ْن ُأغْ ن َِي ٍ اغ َّ الطرِ ِ َت َت ْز ُهو ات َكان ْ
وم َع ِن ال َّن َه ِار ال َّل ْي ُل ي ُ َص ُ
الس َما َء ، َي ْر َت ِدي َّ
الص َبايَا َع َلى ِشفَ ا ِه َّ
اب ال َْم َح َّبةِ َوي َُغ ِ ّني َخ َر َ
فِي
ت ال ِْج َرا ُر َت َك َّس َر ْ
ض َأ ْر ٍ
الس َواقِي م َ َات ال َْما ُء فِي َّ
َت ْعشَ ُق ال َّرمْل
َح َل ِت ال ُْخ ْض َر ُة َع ِن ر َ
وم َتطْ ُر ُد ا ْلغُ ُي َ مِ ْن َس َما ِء
وج ال ُْم ُر ِ
ا ْل َو َطن
َت ْر ُش ُق ا ْل ُأفْ قَ
َات ال َْخرِ ُ يف ي َُغ ِ ّني، ب َ
بِ َغ َرابِ ِ ين
ال َْم ْو ِت
اج.. ِج ِ َوي ْ َص َه ُل فِي ا ْلف َ
َو ُت َع ِ ّب ُئ ال َْح َيا َة بِ َيأ ِ ْس
ال َْح َياةِ ..
َت ْن ُث ُر َو ْر َد ا ْل َأ َسى َع َلى ال ُْج َث ِث
يد َو َأ ْن َ ت ا ْل َو ِح ُ العمل الفني :كاي سافيلسبيرغ -ألمانيا
َج ِه ال َْع َد ُم َو َت ْب َتسِ ُم فِي و ْ
ال َْع َدم ِ الذي ي َْسرِ ي فِي ال َْجثَامِ ِ ين َو َي ْن ُف ُ ض َع ْن ُه ال َّن َدم.. َها َو ْر َد ٌة ُأ ْخ َرى
ت َتفْ ت ُِل ال َْخطْ َو فِي ُط ُرق ٍ ت ال َْم َدى ص ْم َ َو َأ ْن َ َات َت ْر َعى َ يح ال َْم َسا ِء بِ شَ فَ َت ْي ِن َذابِ َل َت ْي ِن ُتقَ ِ ّب ُل ِر َ
ص ْح َرا ِء ا ْل َأبَد فِي َ ود الْقَ َواف َِل تِيه ًا َت ُق ُ
وس ا ْل َأ ْنفَ ِ بش ُم ِ اس ُت ِ ام ُ ضي ُء ال ِ ْخ َي َ الص ْمت. َو َل ْو َع ِة ال َّر ِ احل َ ِين ِإ َلى َّ 129
نجوت؟! هل ،حق ًا، ُ بيان أسعد مصطفى (األردن)
مبكراً ،علــى غير العادة؛ أي قبل ســاعتين، المرة ِّ ُ وصلــت هــذه ّ يحدد وقتي هو ســاعة انطالقي من البيت ،بل تقريباً .لم يكن ما َّ تتجول في الشوارع .في العادة ،حين أصل عدد الســيارات التي َّ إلى المستشــفى أدخل ســريع ًا آلخذ رقم ًا لي ،أو كما اعتدنا على (د ْوراً) ،يكون رقم ًا كئيب ًا ال يفضي إلى تســميته نحن -المرضىَ - مرة .هذه األرقام التي ننساها؛ إذ ال تأخذ شيء ويختلف ،في ّ كل ّ ِ تنتــه ،ولكنها تكون أي شــيءُ ،تنســى مــا إن منّا شــعورًا تجاه ّ أجمل من مالمح وجه الطبيب ،وهو يصف حالتنا ذاتها ،التي لم تتغير منذ سنين. َّ أشجار كبيرة ،والغيوم المكان حول اليوم: ً، ا د ج ال جمي الجو ً ّ كان ّ ٌ األول من المطر .عندما أرى الشــهر هذا في الســماء، على قد حلّت َّ األشــجار حولي ،دائماً ،أؤمن أنهم قصدوا إيواءنا هنا ،كي يكبر األمــل فينــا أكثر ..األخضر -كمــا تعلمون -يمّدنــا باألمل والطاقة باتجاه قويــة اليــوم :ســرت ِّ الجيــدة .وبالفعــل ،كانــت طاقتــي ّ ِّ قــررت أن أجلس الكافيتيريــا ،واشــتريت كوبــ ًا من القهــوة ،ثم َّ خــارج المستشــفى ،حيث كانــت هنــاك مقاعد وطــاوالت كثيرة تتسخ -ربما- مهيأة لحشــد كبير غير المرضى ،المقاعد بيضاء ال َّ َّ ربما ،يخافون ألنها تابعة للمستشفى ،ورائحتها -أيضاً -نظيفةَّ . خلية ســرطانية -هذا عليهــا ،دائماً ،من أجســادنا أن تنقل إليها ّ أفكر بهذا أبداً، األيام الســابقة ،أما اليوم ،فلــم ِّ مــا كنت أقوله في ّ كل بــل -على العكس -قــد أعجبتني هذه الرائحة ،مع أنها تخلَّلت ّ جسدي ،وليس أنفي ،فحسب. ولمحت يدي :كانت عروقها بارزة، وضعت الكأس على الطاولة، ُ ُ ربما ،ألن الجو جميل فعالً، تجاهلتها! أدر ِل َم وملمســها جاّفاً .لم ِ َّ يدي المفتوحَتْين برأســي ..هطل نظرت إلى الســماء ،وألصقــت ّ عليهمــا مطر كثير ،ثــم أنزلتهما ،ولــم أنتبه إليهمــا ،أيضاً .كان الطقــس هادئاً ،ولــم أكن أرغب أن أتكلَّم مع أحــد ،مع أني حين أعود إلى البيت ال أجد أحداً ..أبقى طوال اليوم حتى منتصف الليل وحيــدة إلــى أن يأتي ابني (األخير) ،وحين أراه أقول له :صباح أي موضوع ســهل ..أســأله األســئلة الخيــر ،ثم نتكلم قلي ً ال عن ّ كل يــوم :عن العمل ،وهل تنــاول الطعام أم ال ،ثم أرجع نفســها ّ أحب أن أســتيقظ فــي الصباح وأذهب إلــى نومــي القصير ،فأنا ّ 130
للتسوق ،أسأل البائع عن ثمن البضائع التي أريد شراءها .وهذا ُّ كل ما أقوله ،يومياً ،كلمات قليلة جّدًا وضرورية ،لكني ،اليوم، ّ أرغــب -فعــاً -أن أبقى صامتة ،حتى لو ســألني الطبيب شــيئ ًا فســأجيبه باإليمــاءات أو بكلمــات مقتضبة ،سيحســبني كئيبة، وســيتعاطف معــي ،وســيختصر الكالم ووصــف حالتي التي ال تذكرها اليوم أيضاً ،وسينتهي األمر. أرغب في ُّ الســن على الطاولة التي تقابلني ،كانت في كبيرة امرأة جلســت ّ ْ وسترة مرسوم ًا تغطي عنقها بشال أسود ،ترتدي تنّورة سوداء ّ ً عليهــا جلــد النمر ،ال أعلم لمــاذا ،دائماً ،تجذبنــي هذه الخطوط! تدل على الوحشية ،ولطالما أحببت أن أرتدي على األرجح ،ألنها ّ كل من يرتديها يصير مخيف ًا وقاسياً ،نعم، مثلها ،فأنا أشــعر أن ّ ربمــا هذه المرأة هكــذا ..على األرجح، قاســية. أحتــاج أن أكون ّ مالمح وجهها :حاجباها رفيعان ،عيناها هي مخيفة ،كما ُتظهــر ُ حادتان .تخيفني هذه المرأة كثيراً ،لكن ليس اآلن ،فقد ضيقتان ّ ِّ أحسســت أنها تحتاج إلى مســاعدة ،لقد أنزلت رأسها ،وأغمضت نهضت ســريعاً ،أمسكت جسدها، عينيها ،وبدأت يداها ترتجفان. ُ أتعكز على أبواب المكان ،أوصلتها إلى كان ساخن ًا جداً ..حملُتها َّ خرجت ً، ا مبهم ا كالم كان تقوله؛ ما الطبيــب ،حيث لم تكن تدرك ً ُ اختــرت أن أبقى داخل القســم ،فنحن نكون وأغلقــت البــاب ،ثم ُ ُ مخيفيــن ،في بعض األحيان ،ثم إنني وحيدة .ســأجلس ،هنا، بجانب الكثيرين ،وسأنتظر دوري بهدوء. نتمعن فــي الوجوه التي بقربنا، يصبــح الوقــت طوي ً ال جّدًا حين َّ كنت أتمنّى أن يكون هناك مثل نا، تهم وال نعرفها الوجوه التي ال ّ ُ وجــه تلك الســيدة؛ فالوجوه ،هنا ،عادية ومريضــة فعالً ،كلّها شــاحبة بطريقة متشــابهة .مضى من الوقت نصف ســاعة فقط، الممر الطويل المطفأ والفارغ ،تقريباً ،ألن فقررت أن ّ أتمشــى في ّ َّ نتذكر آخر شيء حدث ...لقد نتمشى ونحن ً. ا ر مبك َّ الوقت ما زال ِّ السير الذي كانت فيه حافلتنا :كانت الشرطي ُة أوقفت تذكرت كيف َّ ْ ّ َ الحافلة تقف في المقّدمة ،ثم رأينا إشــارة من يدها بالتوقُّف ،ثم أود كثيرًا فعلها في أدارت ظهرهــا إلينــا ،هذه الحركة التي كنــت ّ أود أن أوقف بعض األشــخاص مواقــف كثيــرة مررت بهــا ،كنت ّ
العمل الفني :كاي سافيلسبيرغ -ألمانيا
ممر حياتي بحركة يدها تلك نفســها ،ثم أدير لهم مــن المرور في ّ لم أفعل ذلك؟! لم ّقة. ث ال وتلك السهولة ظهري بتلك َ ْ أدرت وجهي إلى القسم الذي كنت أنتظر فيه ،فرأيت المرأة تخرج ُ ِ المنتظرة، كل الوجــوه مــن عنــد الطبيب شــاحبة الوجــه ،مثــل ّ َ متعرق ،ضعيفة جّداً ،كما يجب أن تكون صارت تشبههم :وجهها ِّ وقفــت أمامها بعــد أن كانت في عليــه ما دامــت تأخذ مكانــ ًا هنا. ُ بالقوة ،والحّدة التــي تمأل مالمح وجهها ،واآلن، الصبــاح تمّدنا ّ عيني إلى األرض ،بضعف بالغ جداً، ) (أنزلت علي أن أفعل؟ ُ ّ ماذا ّ ثم انضممنا إلى غرفة االنتظار من جديد. بــدأت األرقــام تظهر علــى الشاشــة أمامنا ..كان رقمــي( ،)9رقم أن أحداث ًا كثيرة أخــذت الرقم ()9 ســهل للحفــظ ،باإلضافة إلــى ّ غيــر شــهر ميالدي؛ فقد ُســجن زوجــي (ّ )9أيــام بتهمة اختالس األموال قبل أن يقودوه إلى السجن المركزي ،حيث تحمل زنزاته رقــم ( ،)9وتوفّيت ابنتي البكر قبل ( )9ســنوات ،وتطلََّقت ابنتي وأستأجر شقّة األخرى من زوجها بتاريخ 9/9من هذه الســنة، ُ الحي ،يطالب مالكها أن نتركها بعد ّ 9أيام، في مبنى رقم ( )9في ّ ّية ل الك في األصغر ابنــي ج وســيتخر النقود، بســبب عدم تأميننا ّ َّ ربما ،هناك أحداث الشهر... هذا من التاسع اليوم العسكرية في ّ تدوخنــا األرقام! كــم هي بغيضة أخــرى لــم َّ أتذكرهــا ...آه ،كم ِّ حين تعني لنا شــيئاً! ثم جاءني الســؤال الشــديد« :هل ســأبقى كل ذلك؟» لكنــه انقطع بعد أن رأيت رقمي يظهر فــي العراء ،بعد ّ ُ تم اإلجراءات المملّــة التي نواجهها ،في أل فذهبت علــى الشاشــة، َّ لنتمكن من رؤية الطبيب. ، حكومي أي مستشفى َّ ّ ّ وقفت ،في انتظار أن أســمع اســمي .هناك ثالثة أرقام لم يظهر ُ كل مــن حولي يحدقــون بي ..ال أصحابهــا ،وفجــأة شــعرت أن ّ أعلم لماذا! نظرت إلى شاشــة هاتفي ،فظهر وجهي في عتمتها.. كنت أبتســم في الصبــاح ...يــا للعنة األشــياء! أين أذكــر أننــي ُ ِ ذهبت بابتســامتي؟! ل َم ذابت عيناي ،هكذا ،بهذه الســذاجة؟! نعم ُ كل المرضــى حولي ،حتى إن وجهــي يومــئ بالضعف أكثــر من ّ بالحّمى ...مستقيمة ومنسابة َشعري ّ تحول إلى خيوط مسكونة ُ في اّتجاه واحد.
الممرضــة .كان وجههــا مستبشــرًا كالزهور، ســمعت اســمي من ُ ِّ وســِم َع اســمي ،بصوتها ،كلعنة ،كان وجهها يقول لي شــيئ ًا لم ُ فتحت لي الباب كالعادة ،وقادتني إلى الطبيب على غير أفهمــه، ْ دخلت معي عنــد الطبيب أيضاً ،هناك شــيء يحدث... العــادة، ْ وجهه يقول لي أشــياء أكثر ،نظرت إليهما نظرة تســاؤل مريبة، أظنّهمــا قد خافــا منها ...لكنهما لم يفعــا .وجهاهما يختلفان عن الوجوه في الخــارج ،الفرح كثير فيهما ويبعث على األمل .عندما أمعنت كثيرًا فــي كالمه ،حرفــ ًا حرفاً .كنت يتحــدث بــدأ الطبيــب َّ ُ َّلت أخــاف أن تفوتني كلمــة ما فال أفهمها ،ودون أن أدري ،تســل ْ وشعرت أنني بانتظار مفاجأة عظيمة، ابتســامتهما إلى وجهي، ُ انتظرتها .وقبل أن أســمعها باغتتني الممرضة بالعناق. لطالمــا ُ أدركت ذلك من دموعي الخفيفة التي «غســلت وجهي»، نعم ،لقد ُ تشــوه وجوهنا ،دائم ًا الحزينة الدموع الطبيب. عليها ّق هكــذا عل ِّ ســيئ مثل هذا أشبه بالخطو أحســها كذلك ،والشــفاء من مرض ِّ ّ وهواء نحــو الجنّة ،يشــبه كثيرًا النجاة من الغرق (فــي البحر)، ً يدخل من النافذة بشــراهة إلى غرفــة مختنقة جّداً« .لقد نجوت»، قال لي الطبيب. ربمــا ألنه لم يزرني مثل هــذا الفرح منذ طــال هذا المشــهد كثيراً؛ َّ ربما ً. ا تمام ا نقي يصبح حين الجسد يشعر زمن بعيد! ال أعلم كيف ً ّ ّ هو ،اآلن ،يطير (في داخلي). الفر َحْين، قدمي، واستطعت أن أغلق صورة وجهيهما ِ ُ ُ وقفت على ّ هواء ٌ كثيف من وجهي لفــح حينها، . ومشــيت ظهري أدرت ٌ حين ُ ُ َ النوافذ التي فتحها المرضى في غرفة االنتظار ،لم أشأ أن أفزعهم بابتســامتي؛ لذا بقيت أســير مســرعة .نعم ،ها هو جسدي يطير فعالً... األرض أمامي، خارجــة َّاتســعت أغلقــت باب المستشــفى عندمــا ً ُ ُ كنت كلّما ّ خف صوتي نجوت،»... نجوت...لقــد «لقد د: أرد وأنــا ِّ ُ السيئة التي مازالت تغلّفني ،وإلى الوجوه أنعطف إلى الذكريات ّ نجوت؟! الحزينة التي تنتظرني ،وأتساءل :هل ،حقاً، ُ 131
ظل الحروب المستعرة في عدد من البقاع في العالم؟ ما الذي ينبغي على األديب القيام به في ّ لدوي األســلحة وأزيز الرصاص ،ويصمت في انتظــار التهدئة المرتقبة؟ ما الذي هــل يرضخ ّ يمكن تحصيله في حالة وقوفه إلى جانب الداعين إلى تأجيج الحروب ،واختالق التبريرات لهذا الطرف المدمرة؟ هل تجد المحارب أو ذاك؟ إلى ّ أية درجة يمكن للكتابة أن تســاهم بالتخفيف من آثار الحروب ّ ظل جنون الحرب وضجيجها؟ كيف يمكن للكتابة أن تلعب دورًا ما في عالم مضطرب الكلمة صدى في ّ باطراد؟ تتجّدد فيه دورات العنف وتتنامى حاالت الكراهية ّ ّ
الكتابة يف أزمنة الحرب األدباء ..من طروادة إىل بغداد هيثم حسني (أدنربة) قارب كثير من األدباء والكّتاب الحرب في معالجاتهم وخطاباتهم، الكارثية التي تخلّفها على البشر ،وكيف أنّها توقّفوا عند آثارها ّ اإلنســانية في البقاع التي تســتعر الحضارة تســاهم في تدمير ّ يتم إســباغ بشــعارات ع والتذر الحروب جي مؤج فيها ،وخدعة ّ ّ ّ الحض على العنف والتحريض إلى ا معبر لتكون القداسة عليها ً ّ علــى القتال ،بحيث تكفل للمحاربين أقنعــة ليتخفّوا خلفها في يؤدون رحلة إســالتهم الدماء ،وتعميمهم الدمــار ،والثقة بأنّهم ّ واجبهم المقّدس إزاء وطنهم وجماعتهم وأنفسهم. التاريخية األدبيات ارتبــط مفهــوم الحرب في زوايا معينة فــي ّ ّ نظريــ ًا -بأخالق رفيعة يتمّتع بها المحاربون من أجل قضايا ّتنصب في إطار حماية األســرى محاوالتهم كانت لذلك عادلــة، ّ واحتــرام القتلى وكســب احتــرام األطراف المغلوبــة من خالل والفروسية ،وإن كان مفهوم الحرب التحلّي بروح المســؤولية ّ يوصف بالخدعة ،والخدعة حين الفروسية نفســه يتناقض مع َ هنــا تحمــل نقيضهــا أيضــاً ،فقد تكــون مثــار إعجــاب أو مثار استهجان أيضاً. العدو يمكــن التقاط حكايات معــدودة من التاريخ عن إحســان ّ لعــدوه بعــد هزيمتــه ،والتعامل معــه ،انطالق ًا مــن أخالقيات ّ أي المدمر الذي ال يفســح ّ رفيعــة ،ال انطالقــ ًا من جانب االنتقام ّ إنساني ،ألنّه أي تقدير مجال للنظر إلى اآلخر على أنّه ّ يستحق ّ ّ عدو ومهــزوم .في مقابل تلك الحكايات المعدودة يمكن العثور ّ التدميري الجانب تعكس التي التاريخية القصص من كثير على ّ 132
البشــرية ،وكيف تم االنتقام من اآلخر بعد االنتصار في النفس ّ يتم عليه ،ولم يكن ذاك االنتقام يستثني الموتى والقبور ،كأن ّ إحــراق الموتى ،أو نبش القبور لإلســاءة الى الجثث ،أو حتى العظام المتبقية. حربيــة ،وتكــون بأكثر مــن صيغة عــادة القتيــل إعــادة قتــل ّ وطريقة ،وتعكس مدى غضــب الخصم وجنونه وتركه المجال للوحــش الكامن فيه أن يتغلّب على اإلنســان ويقوده في رحلة التوحش يتمكن منــه التدميــر أن اإلنســان الــذي ّ الذاتــي ،ذلــك ّ ّ ّ فخ شهوة القتل ،ويضيع في يغدو خطرًا على نفســه ،يقع في ّ متاهات االنتقام. فــي خطابــه لمناســبة افتتــاح مؤتمر القلــم الدولي فــي برلين مايو/أيــار ،2006والذي كان قد اختار جملة «الكتابة في عالم نوه األلمــــاني غونـتـــر غـراس (- 1927 مضطرب» شعارًا لهّ ، أن )2015الحائــز على جائزة نوبل لآلداب ســنة 1999م ،إلى ّ أن ّ الشك في ما يعتقد به يصّده عن الركون إلى الذي يكتب يعلم ّ أمل قد يكون مصيره الخســران .ويلفت إلى استمرارية الحروب عبر الزمن ،وأنّها كثيرًا ما تقنّعت بقناع «فرض السالم» أو بقناع كل األحوال. «تطبيــع األوضاع» ،وبأنّهــا كانت تفرز الموت في ّ أن الحرب ســادت دومــاً ،وحتى معاهدات الســام ذاتها وذكــر ّ نية أو عــن قصد خبيث، بحســن ســطورها، بين تخفي كانــت ّ النواة التي تتولّد منها حروب قادمة. غراس الذي تمحورت معظم كتاباته عن الحرب بطريقة مباشرة
المتفحم عام ( 1965برلين) غونتر غراس أمام باب منزله ِّ
يؤكد أن الحرب تســخر من اّتفاقيات الســام وتهزأ أو مواربةّ ، أن فاعلية الحرب تقارن بفاعلية الكوارث الطبيعية، بها .ويجد ّ وأنّها تفاخر بالدمار الذي تحقّقه األسلحة التي تستعملها ،وأنّها أن تقّدر خسائرها من القتلى بعدد قتلى العدو .وتبرهن لألدباء ّ كلماتهم لن تحــول دون اندالع الحروب حّتى وإن كانت صائبة كل الصواب ،ويلفت إلى ســخرية أنّها ترى في نفســها حّق ًا من ّ حقوق اإلنسان. وبسؤاله عن كيف يمكن التعامل مع الكتابة في عالم مضطرب، أن األدباء من طــروادة إلى بغــداد كانوا (وال لفــت غــراس إلــى ّ يتأوهــون مــن خــال القوافــي ،ويــروون الوقائــع يزالــون) ّ بموضوعية ،يطرون السالم في مكان وفي مكان آخر ينشدون البطــوالت .ويعتقــد أنــه يســهل تكذيــب المقولــة التــي يصفها بالبالية« :حينما تكون الكلمة لألسلحة تصمت الفنون». إن األدباء ينبشون الجثث ،يعيشون من األمور التي يقول غراس ّ يضيعها أو ينساها اآلخرون ،يعيشون من الحطام الصدئ الذي يتجولون في ميادين القتــال وأكوام الحطام تخلفــه الحــروبّ ، التــي خلفتها حروب العصــور المنفرطة ويعثــرون على أزرار المالبس العســكرية التي ارتداها ضحايا هــذه الحروب والدمى الصغيرة التي كانت تســلّي األطفال الذين قضوا نحبهم في تلك قصة األيــام الدامية .ويجــد ّ أن هذه المخلّفات تعيد إلــى الذاكرة ّ الجنود الذين ُمّزقوا إرب ًا واألطفال الذين ُطمروا تحت األنقاض. أطلق غراس كثيرًا من األســئلة التي مــا تزال تبحث عن أجوبة
شافية في عالمنا المعاصر الذي يزداد توّترًا وعنف ًا واضطراباً، من قبيل :هل يمكن رواية الوقائع الحربية؟ وحين يزول الخطر، أال تقــف بالمرصاد األقصوصة الطريفة التي عاشــها المرء في الحرب مناشــدة الكاتب أن يرويها؟ ما هي المشاعر التي تفرزها وقائــع معركــة حربية يروي قصتها كاتب منهــا وصار مضطرًا لتذكر تلــك الوقائع؟ للحديــث باســم األنا ولبذل قصــارى جهده ّ تقريبي ،أن تنقل هــل يمكن للوســائل األدبية ،ولو على نحــو ّ المنظمة التي ترافق هذه الحرب أو تلك؟ وهل يستطيع الفوضى ّ الكاتب المتحّدث عن معايشاته إعطاء الجواب عن األسئلة التي المتخصص؟ وماذا وقع في الزمن الذي تخلّلته المؤرخ ّ يخلّفها له ّ المعــارك الشــهيرة؟ كيف كانــت الحياة اليوميــة خلف خطوط ممن يخاف المرء أكثر :من العدو أو من جنود الوطن؟ ما القتال؟ ّ تتطرق لها أبدًا البيانات اإلحصائية؟ هي المناحي التي ال ّ الكّتاب بإحصاء عدد الموتى ال بأسلوب أشار غراس إلى واجب ُ التحيز فحسب ،بل ضرورة مختلف فقط ،وال بجردهم بعيدًا عن ّ كل واحد منهم ،سواء أكان من قتلى األصدقاء أم من النظر إلى ّ قتلى األعداء ،ســواء أكان امرأة أم كان طفالً ،باعتباره إنســان ًا الخاص به ،وليس واحدًا من كومة قتلى ال اســم لهم، له كيانه ّ ويؤكــد على وجــوب المطالبــة برؤيته إنســان ًا صرعته عملية اسمها الحرب ،عملية لها أسباب كثيرة. 133
بصمات
عبد العزيز المنصوري.. العائد من النّسيان تقديم وترجمة :مبارك وساط للشاعر المغربي الفرنكوفوني، تقرأ قصائد ّ عبد العزيز المنصوري ،فتشــعر أنّك أمام متفرد ونظرة إلى شــاعر مبدع ذي صوت ِّ العاَلــمِ ، بالطبع- يســمها عمــق أكيــد .وّ - ٌ شبه االسم هذا يجعل ا عم ستتســاءل إنّك ّ َ ِ مجهــول ،بل مجهو ًال من قبــل من يكتبون والشــعراء ،في المغرب نفسه الشــعر ّ عن ّ وخارجه. المنصوري) بلد هو (الذي َ الشــعرية وبالفعــل ،فقبل صدور األعمال ّ الكاملــة لعبــد العزيز المنصــوري -تحت «نَفــسِ ،بالــكاد» ،فــي إبريــل/ عنــوان َ الســنة ،كان متعــذَّرًا نيســان ،مــن هــذه ّ العثور على كتاباتــه ،ومن أراد أن يبحث عنهــا ،بإصــرار ،فلــن يجد -فــي الغالب- ــبق أن ُن ِشــرت في ســوى ٍ نصوص لهَ ،س َ مجلّــة «( »Sooffleكانــت قــد ظهــرت إلى أصبحت ،الحقاً، ثم ْ الوجود سنة ّ ،1966 إضافة إلى اســم «أنفاس» -أيض ًا - تحمل ً َ الفرنســي ،وذلك بعد أن صار لها اســمها ّ عربي) ،أو نصوص أخرى كانت قد ِقســم ّ ٍ ُنشــرت في أعداد من مجلّــة «أنتيغرال» أو «كلمة» (وهذه األخيرة فرنكوفونية أيضاً، الصدور منذ عقود). وقد توقّفت عن ّ مــن أجــل الحديــث عــن عبــد العزيــز بأهــم تاريخين ،ينبغي المنصوري ،نبدأ ّ بدايــة -بخصوصه :والدته أن نعرفهمــا- ً ســنة 1940في مدينة َســا ،ووفاته في العام ،2001في الّدار البيضاء. أن أعمال عبد العزيز نشير هنا -أيضاً -إلى ّ المشــار إليهــا آنفاً، المنصــوري الكاملةُ ، ــيون» إديس ول يرغ والصــادرة عــن دار «ِف ْ ُ ّ ْ ُ فــي طنجــة ،إنّمــا قــام ِبجمعهــا وتنظيم الشــاعر المغربي محتوياتهــا والّتقديم لها ّ الفرنكوفونــي مصطفــى النّيســابوري، ّ وزوجها ساعدْته في ذلك جوسلين اللعبي َ ُ عبد اللطيف اللعبي .وقد اعتمدنا ،في هذه 134
عريفية بعبد العزيز المنصوري، المقالة الّت ّ إلــى حــّد بعيــد ،علــى مقّدمــة مصطفــى النّيسابوري المذكورة. ميــا ًال إلى حياته، فــي كان المنصــوري، ّ نــوع مــن العزلــة واالبتعاد عــن األضواء شــير مصطفى وعن وســائل اإلعــامُ . وي ُ استثنائية، حالة النّيسابوري إلى ما َشّكل ً ّ السياق ،لدى المنصوري؛ ويتبّدى في هذا ّ فــي كونــه اســتجاب ،فــي نهايــة خريف الشــعر» في الّدار ،2000لدعوة من «بيت ّ شــعرية، قراءات البيضــاء ،وشــارك في ّ رفقة شعراء آخرين. أن شــعره لم يكن فيه حضور ال يعني هذا ّ العكسي، على ّنا، ن إ بل ، الخارجي للعاَلم ّ ّ أن المســافة التي احتفظ بهــا إزاء ما نجــد ّ ٍ شاعري عميق إدراك من ه نت مك به، يحيط ّ ْ ّ وقوي للعاَلم من حوله. ّ ولم يكن عبدالعزيــز المنصوري يميل إلى الحديــث في شــؤون األدب مــع أصدقائه قربين ،بل كان ينصرف معهم إلى إثارة الم ّ ُ اليوميــة ،وشــجونها. شــؤون والحيــاة ّ
الصحافة، لم يكتــب أبدًا فــي ّ وهكــذا ،هو ْ يحــدث أن منح تصــوره لألدب ،ولم عن ْ ّ صحافي. جرى معه حــوار ّ الفرصــة ألن ُي َ متميــزة ،و- ت مجــا فــي وكان ينشــر ّ ِّ جماهيريــة .ففــي فتــرة غيــر بالطبــع- ّ ّ مســتهل النّصــف الثّاني األدبية- بداياتــه ّ ّ نشــرت مــن ســّتينيات القــرن الماضــي- ْ لــه مجلّة تصــدر في فرنســا ِق ّصة قصيرة تحمل عنــوان« :انتحار طائر نــادر» ،كما قصصي في ظهــرت له قصيــدة ذات َنفس ّ « - Souffleأنفــاس» (ســتليها قصائــد) بعنوان «مرحلة». أثرها على شــعره، 1967 وقــد كان لحرب ُ ثم إنّه ّ المغربية ّة ل المج في اإلسهام كف عن ّ ّ المذكــورة .وكانــت اليــد العاملــة مطلوبة فــي ليبيا بعد ،1969فتخلّى شــاعرنا عن وظيفتــه ومضى في تاكســي كبيــر ،رفقة مجموعة من أبناء بلده ،صوب ليبيا .هكذا وألن عائلته لم تكن اشتغل هنالك شهوراًّ ، غنية ،فقد كان ُي ِ رسل إليها قسط ًا وافرًا من ّ بأن حياته ،هنالك، ُأجرته .ولكنّه بدأ يشعر ّ ــم «جاءه» لم تكن ،فــي الواقعِ ،لُتطاقُ ،ث ّ الشرق ،فانطلق صوب بيروت ،حيث نداء َّ ســيتعرف إلى عدد من شــعراء المشــرق، ّ وخاصة شــعراء مجلّة «مواقف» التي كان ّ يشــرف عليها أدونيس .وبعــد عودته من لبنــان ،ســيقوم عبــد العزيــز المنصوري بترجمة عدد من قصائد شــعراء مشــارقة، ومختارات مــن «المواقــف والمخاطبات»، الفرنسية. للنِّفَّري ،إلى ّ تتشــكل أعمــال المنصــوري مــن ثــاث ّ مجموعات ،لم ُيرّتبها النيســابوري حسب كل منها من الزمني ِلما تتضمنــه ٌّ الّتوالــي ّ ّ قصائد ،وهــي« :كتاب المــاء» ،و«قصائد تم متفرقة» ،و«زيالشــة :قصائد صغيرة ّ ّ الوصل بين أطرافها».
املنصوري يف سائر األ ّيام* فــت إلــى عبــد العزيــز المنصــوري تعر ُ ّ ســنة ِ ،1966غ ّب مســاهمته األولى في مجلّــة « -Souffleأنفــاس» .فــي اليوم وجدت أمامي مــرة، الــذي التقيته ّ ُ ألول ّ حيويــ ًا فــي ً، ا باســم ً، شــاب ًا بشوشــا ّ ّ هيئتــه ،ومن دون نزوع إلــى الّتباهي. وكان يتكلّــم بصــوت هــادئ ،وكان- علــى الخصــوصُ -يحســن اإلصغــاء مســيرو المجلّة اآلخرون إلى مــا يقوله ّ الذيــن كانــوا حاضريــن يومهــا .وعلى العمــوم ،فهــذه اللقــاءات كانــت تجري مقــر المجلّــة ،فــي الربــاط ،فــي ّ فــي ّ المرتقبة، األعداد تهييء أشــغال نطاق َ وكان َيحضرها بانتظام .كان يشــتغل، المركزية إلحدى حينــذاك ،فــي اإلدارة ّ الوزارات ،ويســكن فــي البيت الذي ُولد فيــه ،فــي أحــد األحيــاء العتيقــة ،فــي مدينة َســا ،رفقة عائلتــه .ومثل أغلب العّزاب الذيــن كانوا ّ الشــبان المغاربــة ُ يعيشــون مثــل ظروفــه ،كان يشــعر بضــرورة أن يســاهم فــي المصاريــف اليومية لوالديه. يمــر منــذ صيــف ،1971كان المغــرب ّ خضــم األحداث بفتــرات خطيــرة .ففــي ّ السنوات التي كانت ّ تهز البالد خالل تلك ّ الكالحــة ،وفــي ســنة ،1972تحديــداً، (محمد شــبعة :فنّان اعتقــال َشــبعة تــم ُ ّ ّ تشــكيلي مغربــي) ،الــذي كان شــاعرنا قــد أصبح يشــتغل فــي محترفــه للفنون السجن بتهمة الّت ّ خطيطية ،وُألقي به في ّ وســيْفرج عــن ولــة»، د ال بأمــن «المــس ّ ّ ُ شــكيلي بعد ســنة من اعتقاله، ت ال الفنّان ّ ّ لكــن أنشــطة المحتــرف لــن تعــود إلــى ّ الوجود مجّدداً.
وعــاد عبد العزيز المنصــوري إلى بيت عائلتــه في ســا ،وســيبقى فيه فترة، وية ،ثم قفل تأمل أمــوره ِبَر ّ ُيعيــد فيها ّ إلــى الــّدار البيضــاء ليقيــم فيها بشــكل المــرة ،بعــد أن التحــق نهائــي هــذه ّ ٍ مهمة فــي المدينة (كان بوكالــة َت واصل ّ األيام). تلــك في إشــهار» «وكالة ُيقــال ّ أن يعيش وتــزوج ،عاقــدًا العزم علــى ْ ّ حيــاة منضبطــة ،كما فــي الحقبة التي ً كان يشــتغل خاللهــا فــي الوظيفــة العمومية .وكان ســعيدًا في تلك األيام ّ باقتنائه كتاب «األغاني» لألصفهاني. التقيتــه فــي الــّدار البيضــاء خــال ُ بالصدفــة ،و -تحديــداً- ات، ســعيني الّت ّ ّ حي في ّ الشــارع الذي كان يقطن به في ّ كنــت ماضيــ ًا لزيارة فيمــا وتييــه»، «غ ُ ُ واحد من معارفنا المشــتركين ،وقد كان الحي نفسه ..كان ذلك الرجل يسكن في ّ حيــا والــودود الذي نفســهّ ، الم ّ الطلــق ُ الســنوات المنصرمــة ،وقد فــي عهدتــه ّ احتفظ بأســارير الشــباب وبالبســاطة األنيقة التــي كان عليها في أثناء لقائنا األول في الرباط. َّ ال بإدخــال تعديالت وفيمــا كان منشــغ ً تــم الوصل بين علــى «قصائد صغيرة ّ بتوعــك، أطرافهــا» ،أصيــب، ً فجــأةّ ، وشــعر ْت عائلتــه بقلــق شــديدُ .أدخل َ الشاعر المستشــفى ،لكنّه ،رغم حالته ّ ورغــم نصائــح طبيــب أمــراض القلب الــذي كان يعالجــه ،بقــي علــى توّتره انتظــار مــا، حمــى ٍ الذّهنــي ،يعيــش ّ وار قلــق مالزم ،ثم عــاد إلى بيته، ُ ود َ الظن بأنّه استعاد عافيته، وفيما ساد ّ أيام ًا بعد ذلك. انتابتــه أزمة جديدة ّ
الســابع من ديســمبر/ وقــد توفّــي فــي ّ كانون األول ،سنة .2001 الحديــث عــن حيــاة عبــد العزيــز ليــس ُ الســهل؛ فهو المنصوري وأعماله باألمر ّ يتمســك لــم يكن بالمعروف فعالً ،وكان ّ الخارجي، بعزلــة صارمــة إزاء العاَلــم ّ إذا اســتثنينا -طبعــاً -العالقــات التــي كان يحافــظ عليهــا ،علــى المســتوى االجتماعــي ،بارتبــاط مــع العمــل الذي ّ األيام. كان يقوم به في سائر ّ متتبعو َمســاره ،في رغــم ما كان يعــّده ّ معيــن ،بأنّه انطــواء علــى الذّات وقــت ّ ِمــن ِقبله ،فقــد كان يبرهن -باســتمرار- الخاص على أنّــه ال يفقد ،أبداً ،ارتباطه ّ باألدب ،فقد كان يقرأ كثيراً. ميــا ًال إلــى الخــوض في وهــو لــم ْ يكــن ّ الشــخصية ،وال عن الحديث عــن حياته ّ نشــاطه في مجــال الكتابــة .وكان يحلو قربيــنّ ،أل الم َّ لــه ،في رفقــة أصدقائــه ُ يتحــّدث ّإل عــن األمــور البســيطة وعن اليوميــة ،مشــيراً- مشــكالت الحيــاة ّ أحيانــاً -إلــى ِ الحْميــة التــي كانــت قــد يخص الغذاء. ضت عليه فيما ُفِر ْ ّ الشديد لكتاباته مع هذا ،ورغم االرتباط ّ فإن عبد العزيز المنصوري بذاتــه (ّ ،)... ّقافية بقي راســخ االنتماء إلى الذّاكرة الث ّ ٍ لجيل بأكمله. __________________________ هامش: * شــهادة مصطفى النّيسابوري (مقاطع من مقدمــة األعمال الكاملة لعبد العزيز المنصوري) ِّ
135
الصباح.. ليل ٌة تمضي نحو ّ
ليلة تمضي نحو الصباح
-1-
قصائد لعبدالعزيز املنصوري ترجمة :مبارك وساط
ُّ كل شيء ،وال شيء.. بداي ُة ونهاي ُة ليل ٍة الصباح تمضي نحو ّ عابر ٍة ،وبال غد ّ كل الحاضر بأزقّ ته وبيوته.. ّ أن كل المستقبل المقيض له ْ ّ
يصير ذكرى بعيدة
ّ كل الماضي المغطّ ى بالغبار ُ مقلوب الغطاء ال يطاله ّ الضوء ما يجب أن يكون وهو لن يكون ما كان، وكان ينبغي أ ّلا يكون ولم يعد ما كان ْ ال ّنظرات المنثورة على البالط والتي ترتفع وتنخفض المد مع ّ
العمل الفني :أيمن طاهر -مصر
136
ال ّنظرة التي ترى ّ كل شيء وشديد البعد شديد القرب َ َ تقبض على ال ّروائح التي تسلك الطّ ريق متباطئة.
-2ّ مجدد ًا أن يُكتب َّ كل شيء ينبغي ْ المقدس واالبتسامة الغضب َّ المقدسة َّ اللذان يأتيان مع ال ّنهار اللذان ينامان في ال ِفناء ّ كل شيء يجب تدميره وإعاد ُة إنشائه ُ شتات المترادفات
انتظامات ِ ُ الجناسات ك ّلها تمضي ..ك ّلها تأتي ُ وبنات عمومتها األشتي ُة ْ تو َلد وتموت ،كبير ًة أو صغير ًة وبال قيمة. -3الطّ ريق طويل الساعة ينظرون إلى ّ
ٌّ كل أمام خوفه ُ ُ موت إنسان موت لحظ ٍة، إ ّنه الساعات ماذا ُتصبح ّ التي ترحل ع ّنا؟ إ ّنها ُتخ ّلف َع َرق ًا وع ّث ًا ُ إلى أين يمضي اإلنسان الذي يَم ّر كأسه؟ بعد أن يكون قد أفرغ َ ال أحد س ّلم عليه بحرارة! ُ حيث كان سيجلس وشخص آخر ٌ ُ الرأس قاع ٌة مُ غطّ اة الجدران ُ باللبد َ ّ فسية ن ال باته ل تق للكاتب ِ ّ ّ مركبه، لقد أضاع َ ولم يعثر على مجاذيفه. -4يبتسم ال ّزمن حين ُ يخفره ال ّنسيم، ويذوب في الفم ُ َ فتكون له نكهة الكرز حين يبتسم قوس ُقزح البِ س ًا َ سباق ًة لرؤيته تكون األزهار ّ فتكتسب الخلود يجمعها المرء في نظر ٍة ُتنافس فراشات الغروب الغرامية على األلعاب ّ 137
التي يقوم بها ال َّرحيق تجاه ُغبار الطّ لع حين يبتسم جيدة تكون َ الغ ّلة ّ يأخذ القلب ويُعطِ ي يتأ ّلم ..ينسى ،ويَغفر. -5يُفارقنا ال ّزمن مع هبوط الليل تارك ًا خلفه حلم ًا مأهو ً ال بالوطاويط الب ُرنز في مدينة ُ المنسحبة إلى حدائقها الصمت يلتمع ّ مرآةً ،ظه ُرها بال طالء ُ َّ تتعذر قراء ُتها يترك صيغ ًة مشدود ًة بدبّوس إلى الباب الج ّوالون يح ّلون غوامضها ك ّلما أصبح القمر في المحاق
-6-
ال لإلزعاج ّ بأي مب ّرر اآللي سجل الم ِ ّ ّ ُ يجيب مُ خبر ًا بِ غياب على الطّ رف ٍ ُ اآلخر، ويٌحيل على «ال ّتيليتيكس»
يعود إلينا ال ّزمن على مِ حفّ ة ُصنِعت كيفما ا ّتفق، ممدد ًا أمام باب ال ّنهار َّ في انتظار اإلسعاف
ال ّزمن هو الذي نفتقده أ كثر ُ كبش الفداء قد ُض ِ ّحي به موسوم الجبهة بقطرة دم َ من أجل إبعاد «ال ّتيفوس»
لحظ ٌة لقول صباح الخير لحظ ٌة لقول ُشكر ًا بأن هذا ولل ّتظاهر ّ يوم جديد. ٌ
من سيعتني بعاهاته نمشط ُع ْرفه نحن ّ نَحمله إلى الخارج ُح ّمله ِوزر ّ كل األضرار ن َ
ُصبح فضا ًء أمام أعيننا ي ُ ثم يأ كله الفضاء ّ ُ فتافت تبقى تنقرها طيور
138
َ الطيور ترفرف بأجنحتها.. السماء تضيع في ّ السماء ال ّزرقاء تصبح سوداء ّ ّ يحل المساء بعد ال ّنهار، ال ِف َرق العاملة لي ً ال تهيئ في مستودع ال ّثياب ّ َ قنابل حارقة ُ صواعقها على أجفانهم. -7تهب رياح ٌ ّ ٍ على حيوات وجيزة، كانت لها أحالم مشدوهة ُطمِ رت في غالب األحيان ّ متسكعة رياح ٌ حد مشحونة إلى أقصى ّ ُتف ّرق ال ّناس الصخور وتدفع ّ الخفّ ة األزهار الشديد ُة ِ تفقد بَتالتها. ولتع ُثر عليها من جديد كسد في احتكاكها بالهواء تتأ َ إ ّنها تتطاير سجين ًة الصافية الصخب ّ في سما ِء ّ إ ّنها تنمو إلى أعلى إذ ترغب في العودة إلى سطح األرض.
-8االنعزال غريزة قديمة حاقت بالمر ِء لكن ،ح ّتى وإن ْ ْ ُّ الظلمة فإن ذبال َة شمعة صغير ًة ّ ُ تغدق عليه سيول األمل نتع ّلم أن نقرأ األحكام الصمت.. على شفاه ّ نسمع األصوات بصورة أحسن إذ ي ّ َحل الليل ّ يدق.. نسمع قلب ًا إ ّنها المدينة وقد اعتراها الخوف ّ يحتل األرصفة ظِ ٌّل الحلم من المرور يمنع ُ إ ّنها المدينة ك ّلها ،في عزلة القلوب تجتمع وتتآزر، لِتخلق توازن ًا حين ترتعد األرض. -9ال ّزمن يُشعل نار ًا كبيرة مستعم ً ال خشب ًا أخضر يتصاعد منه دخان كثير مُ سر َب ً ّ بالضوء ال ّ يتحكم في اندفاعه، إ ّنه فيكون م ّر ًة جدو ً ال سريع ال ّنضوب، و ُأخرى سي ً ال جارف ًا ً ندى ثمينة قطر َة
ال ّزمن يكبر معك ّ بكل شيء ال ّزمن يعتني إ ّنها الحياة تبدأ، والحياة تستم ّر يتجدد إ ّنه ّ ماتِح ًا من ينابيع ضا ّرة ينابيع المسافات الحارقة من ِ التي استولى عليها األفق. - 10ستوجه يدك أ ّي ُة مهارة عالية ّ بين العوسج ِنبية من أجل أن َتقطف الع ّ التي ُتوقِف اآلالم؟! هنالك جرحى يُجيلون ،فيما حولهم، نظرة قويّة، ومنهم من يدلق مل َء بئرٍ من َ الكرب نرغب في مَلء صندوق بالقمامة واستغالل لحظ ٍة تصحو فيها السماء ّ إلفراغه في مكان ما، وإغالق الباب في وجه الكابوس الخوف يُرافقك.. ولتد ِفّ ئ سريرك َ حينما ال يأتي ال ّنوم، الحلم دائم الحضور. سيكون ُ 139
فاهافالو ()1 جان لوك راهاريمانانا ترجمة :محمد عبد الغني
متنوع جان لوك راهاريمانانا ،كاتب مدغشقري ِّ يتخــذ من باريس اإلنتــاج ،يكتب بالفرنســيةَّ ، مســتقرًا له ،ومن مدغشقر وطن ًا لقصصه .كتب ّ القصة والرواية والشــعر والمســرح وأدب الطفلُ .وِلد سنة ّ ،1967فــي العاصمــة المدغشــقرية ،أنتاناناريــف ،وفيها تلقّــى تعليمه حتى حصل على شــهادة جامعية في األدب، اإلثني، ثم حصل على منحة فرنسية لدراسة علم اللّغويات ّ في جامعة الســوربون والمعهد الوطني للّغات والحضارات الشرقية في باريس ،عمل ،بعدها ،معلِّم ًا وصحافياً. قوي، القصة والرواية بأسلوب شعري ّ يكتب راهاريمانانا ّ متأثّر بالتقليد الشفهي ،ويتمحور أدبه حول تاريخ بالده، و(راهنها) ،وتتداخل فيه األســاطير والخرافات القديمة مع األحداث السياسية المعاصرة. ســنة ،1992نشــر مجموعة قصصية بعنوان «المجذوم»، ثــم حصــل علــى «الجائزة األدبيــة الكبرى» عــن مجموعته القصصيــة «أحالم تحت الكفــن» ( ،)1998وهي المجموعة القصــة التي ننشــر ترجمتها .وفي التــي ُنشــرت ،ضمنهاّ ، ســنة ،2001أصــدر روايتــه األولــى «نــور ،»1947وفي العام ذاته ،خاض تجربة الكتابة لألطفال فنشــر «النديزوا واألحجــار الثالثة» ،مســتلهم ًا أســاطير بــاده ،ثم أصدر، سنة ،2004سيرة روائية بعنوان «الشجرة آكلة البشر»، ثم رواية بعنوان «زا» ،ســنة ،2008ثم مجموعة شــعرية بعنــوان «كوابيــس أبي بريص» ،ســنة .2010وفي ســنة الفرانكوفونيين ،من بينهم ،2012شــارك عددًا من الكّتاب ّ الجزائري بوعالم صنصال ،في مجموعة شعرية ،بعنوان «بيان ألجل َكَرم اللّغات». 140
فبراير 1994
يغمر الماء الشــاطئ كلّه ،ممتّدًا إلى ما وراء الكثبان .يطفو كلب جــرح عميق ،يتصاعد نتنه إلى أعلى نافق ،تحت فرائه الخشــن ٌ السموات ..تنجرف األسقف الصفيحية ،وسعف النخيل الضخم. كل شــيء .هنــا ،يحلو النظر نحو علــى مبعدة ،تحرق الدبابات ّ األفق ،يحلو كثيراً.
خطاب مقطوع من السحاب
ال مســّن ًا كان يبكي على هذه الشــواطئ أتذكــر -يــا حبيبتي -رج ً ّ يجر بؤسه ،بينما كان المياه. واجتاحتها اإلعصار، رها دم التي َّ ّ تصــب األمطار غضبهــا .كان يصيح وقــد َقَهره المطــر المتدفّق، ّ عما جعله يفعل هذا .كم كان عمره؟: ســألت من كل يخبرني ولم ُّ ّ ســبعون؟ ثمانــون؟ ال أدري .كانــت بشــرته تبدو كســعف نخيل ممزقة وجافّــة ،وتبدو قديــم ،أبلته الشــمس ،وكذلك ،المطــرّ ، كالتراب. ميتاً ،وهو يغتســل َّ أتذكــر الرجــل العجوز الــذي كان يرجم كلب ًا ِّ على الشاطئ .كان يؤلمني أن أراه يومئ بهذا الجنون .خطر لي لكــن يدًا حانية أنــه ينبغي أن أســاعده ليبتعد عن ذلك المكانّ ، منعتني. بقصة هذا الرجل. رفيــق ،صديق ،زميل محلّي ،قــال :فألخبرك ّ فألخبرك بتاريخ هذا المكان. القصة -يا حبيبتي -كي نقرأ، سوف ّ أقص عليك ،بدوري ،هذه ّ روحْينا .ال لنشــعر باألســى ألنفسنا ،وننغمس- في بغض، بال َ شــكلنا باألمس، إلــى األبد -فــي مصائبنا ،بل لكي ال ننســى ما ّ وجعل منّا ما نحن عليه ،اليوم.
نوفمبر 1947
كل من فــي القرية، مروعيــن ّ هبــط الغــزاة خارجيــن من الليــل ِّ ّ فليصطــف المتمرديــن الفاهافالــو ،والمشــعوذين. متعقِّبيــن ِّ الجميع :الرجال ،والنساء .األطفال. تنبح الكالب .كالب أصيلة الساللة ،ضخمة ،ال تطيع إال الجنود االستعماريين السود. ّ ّ اصطف الرجال ،والنســاء ،واألطفال ،يا صديقتي .كان بعضهم عراة ما يزالون ،انُتزعوا من نومهم .سأل الغزاة عن الفاهافالو. ً يحــر أحٌد جوابــاً .أطلق الغــزاة النار على عشــرة رجال ،ثم لــم ْ ثالثة آخرين ،وخمسة أيضاً.... كان ذلــك الرجــل يعرف أين ذهــب الفاهافالــو .ذات ليلة ،بينما يفــرون مــن الســاحل ..ذات ليلــة من الخوف من أشــباح كانــوا ّ المحيــط ،قطعــوا األمــواج ،وســبحوا نحــو الجــزر الزائفة في البحيرة. ظل الرجل صامتاً. َّ يســكن الروح، صديقتــي ،يقولــون إن الصمــت ،رغــم أنــه قــد ّ
فاللسان -بطبيعته -يبغض ثقله. ســكانها منهــا .هناك ،كانت وطردوا عســكَر الغــزاة في القرية، ّ َ ترقد الجثث ،تشويها الشمس. ال ما يعودون ليطالبوا بجثث ومرت األيام ..وكان القرويون قلي ً ّ ذويهــم ،ليدفنوهــا .خســئتم ّأيها الزنــوج القــذرون ..هذه جثث الفاهافالــو! كان الغزاة يصيحون ،وجباههــم ناضحة بالعرق، وأيديهم ترتعد. ظل الرجل صامتاً. َّ كانــت الرائحــة النتنة طاغية ،وكانت طباع الــكالب تزداد حّدة، صعوبــة متزايــدة فــي ووجــد الجنــود االســتعماريون الســود ً إبعادها. وما زال الرجل يلزم الصمت. وبعــد ذلك -يا صديقتــي -انفتحت الســماوات ،وهطلت األمطار بقوة. مــدراراً .نــزل الماء على الجثــث المتعفّنة ،وأخــذ يضربها ّ ُأطلقــت الكالبَ ،وَثَب ْت على الجثث وافترســتها ،في وقت ال يكاد ُيذكر. صــرخ الرجل ..كان هناك طيلة الوقت ،جالســاً ،أو -باألحرى- مقرفصــ ًا أمام عمود أحد األكواخ .هناك ،كان يصرخ وقدماه في ّيون من المشــهد، الوحــل ،ثم جثا على ركبتيهَ .ف َّر الجنود المحلّ ربمــا ذبحهم القرويون! ولم يعــرف أحد ،بعدها ،ماذا أصابهمَّ : تحولــوا إلــى أرواح شــريرةُ ،كتــب عليهــا أن تهيم على وربمــا ّ َّ وجوهها في هذه األنحاء! قــرر الغــزاة أن يقتلوا الــكالب ،ويرحلــوا .عــاد الفاهافالو إلى َّ لكن مــا وجدوه لم يكن إال البــاد ،وحاولوا أن يشــكروا الرجلَّ ، قشــرة رجل بــا روح ،يقف في المطر ملقيــ ًا اللعنات ،غير قادر يتحمل رؤية حتى كلب واحد. على أن َّ ولهذا السبب ُتحظر الكالب في تلك القرية. ألرد القصة ،وال تقولي إنني كذبت ،فقطّ ، تدبري هذه ّ صديقتيّ ، اعتبــار رجل عجــوز ،طاش منه صوابه .صحيــح أنه ليس من ولكن الرجل نبذ يتصرف رجل ناضج بهذه الكيفية، المألوف أن َّ َّ وجوده يوم حاول أن يحفظ حياة اآلخرين. قصة ذلك الرجل؛ تاريخ ذلك المكان. تلك هي ّ
خطاب ،نَفَ س مأخوذ من الريح
الجزيــرة غارقــة ..الجزيــرة تحتــرق .ضباب مــن الرعب ،ومن المــاء ،ومــن ألســنة اللهــب ،فوقها تحلِّــق ،تأوي إلــى أحالمي تظل جاثمة. الثقيلة التي ليس لها قرار، وتظل جاثمةّ .. ّ أنتظر أن ينفجر الوجود. ............................ ( )1فاهافالو :Fahavalo -العدو ،هي كلمة استخدمها االستعماريون المدغشقريين. الثوار ِّ عام ْي 1896و1948؛ لإلشارة إلى ّ الفرنسيون بين َ
(الهامش للمؤلِّف).
141
سينما
السياسية النربة ّ يف ســــــــــــــــــــــــــــــينما
حممد خان َّ أمجد جامل كان المخـــرج المصـــري الراحل «محمـــد خان» دائـــم التعبير عن ولعه بســـينما اإليطالي «أنطونيوني» أحد أعمدة سينما الحداثة األوروبيـــة في الســـتينيات .يقـــول خان في كتابـــه ،الذي صدر العـــام الماضي بعنوان «مخرج على الطريق» ،إنه في اليوم الذي شـــاهد تأكد أن صناعة األفالم هي الشـــيء الذي فيلـــم «المغامرة» ألنطونيونـــي َّ يريـــد فعله بقيـــة حياته ،وتابع« :دارت األيـــام والتقيت بأنطونيوني في وذكرت أنطونيوني أثناء انعقاد مهرجان قرطاج الســـينمائي عـــام ّ 1984 كل مخرج ،فعلياً ،يخـــرج فيلم ًا أوحد في بمقولـــة قرأتهـــا له تصرح بـــأن ّ حياتـــه ،وأن بقية األفالم ليســـت ّإل تكرارًا لهذا الفيلـــم .وكان رده طريف ًا وســـاخرًا حيـــن قال :إذا كان المخـــرج مجتهدًا بما فيه الكفايـــة فربما يقّدم فيلمين بد ًال مـــن فيلم واحد». نظريــة أنطونيونــي وإن بــدت ـل بهــا جــزء مــن الحقيقــة، متطرفــة يظـ ّ فهنــاك عامــل مشــترك يجمــع بيــن أفــام كل مخــرج ،هــذا العامــل هــو جــزء مــن ّ شــخصيته ،لمحــة شـ ّـكلت وجدانــه ،أو ـل يؤرقــه ونتــج منــه َفّنــه ،فتكـّـرر َهـّـم ظـّ رغمـ ًا عنــه مــع توالــي أعمالــه .وال شـ ّ ـك أن محمــد خــان كان أحــد المخرجيــن المجتهديــن فــي ُعــرف أنطونيونــي ،أي ُ الذيــن يصنعــون الفيلميــن بــدل الواحــد، أو بكلمــات أخــرى ،يســهل تقســيم
142
توجهيــن ،فأفــام مشــواره َ الفّنــي إلــى ُ النصــف األول مــن هــذا المشــوار تنتمــي لنــوع الســينما المهمومــة بقضيــة ذات ُبعــد سياســي ،وذلــك منــذ أول أفالمــه فــي أواخــر الســبعينيات وحتــى مطلــع التســعينيات .أمــا التوجــه الثانــي ففــي النصــف األخيــر مــن مشــواره ،حيــث ســينما أكثــر تصالحــ ًا وزهــداً ..ســينما تخطــت حاجــز القضيــة واكتفــت بكونهــا مجــرد قصــص إنســانية تقـ ِّـدم البهجــة أو المتعــة أو الشــجن وعلــى وعــي بأنهــا
ال تســتطيع تغييــر العالــم ،بمــا فــي ذلــك فيلمــه «أيــام الســادات ،»2001 - حيــث يقــول خــان إنــه لــم يخرجــه ّإل من أجــل صديقــه ورفيــق نجاحاتــه «أحمــد زكــي» ،وأن مــا شـّده بالقصــة هــو ثــراء وبعدهــا اإلنســاني ،وكانــت الشــخصية ُ رؤيتــه خاليــة من أي أغراض سياســية. اختصــاراً ،لــو اعتبرنــا مشــوار خــان ا فســيكون تجســيدًا الســينمائي رجــ ً للمقولــة المنســوبة إلــى «وينســتون تشيرشــل»« :إذا لم يكن المرء اشــتراكي ًا فــي العشــرينات مــن ُعمــره فهــو بــا ـول إلــى يمينــي فــي قلــب ،وإذا لــم يتحـ ّ أربعينياتــه فهــو بــا عقــل» .وقــد كان خــان يــرى ،فعـاً ،بالفكــرة االشــتراكية نوعــ ًا مــن الرومانســية ،ففــي أحــد حواراتــه المصــورة عندمــا ُيســأل عــن ميوله االشتراكية ،يجيب« :الفنان يجب أن يكــون اشــتراكياً ،ينبغــي أن يؤمــن بعدالــة اجتماعيــة ،وأن يثيــر الفقــراء اهتمامــه ،فاالشــتراكية تعطــي الفنــان رؤيــة عاطفيــة للعالــم ،ألنهــا متجـّـردة مــن القســوة» .ربمــا هنــاك كثيــر مــن األمثلــة التــي تدحــض تعميــم خــان، ا المخــرج األميركــي «كلينــت منهــا مثــ ً إيســتوود» الــذي صنــع أفالمــ ًا شــديدة اإلنســانية رغم أنه اشــتهر بكونه يميني ًا صرفـاً ،لكــن مــا يهمنــا فــي تصريح خان يؤكــد علــى ميولــه هــو علــى األقــل. أنــه ّ أتوقــف أمــام مقطــع آخــر مــن كتابــه المذكــور ،يحكــي فيــه ذكرياتــه وهــو شــاب فــي إنجلتــرا بمطلــع ســتينيات القــرن الماضــي ،فيقــول ...« :تلــك كانــت أيــام الموجــة الجديدة في الســينما الفرنســية والتشــيكية واإلنجليزيــة وغيرهــا .كلّهــا التقــت فــي لنــدن قبــل أن تبتلعهــا هوليــوود مــع وصــول (ماكدونالــد) و(بيتــزا هــات) و 32صنــف آيــس كريــم» .نالحــظ فــي الحديــث نبــرة ازدراء للثّقافة االستهالكية والرأسمالية ورموزهــا ،وكيــف يراها كانت ســبب ًا في ـن .ولعــل تلــك تفســخ القيــم وانحــدار َ الفـّ النبــرة كانــت الهـّـم السياســي الرئيســي الــذي غلــب على أفالمه في النصف األول مــن مشــواره ،هــذا النصــف الــذي تزامــن مــع قــرارات الرئيــس الســادات باالنفتاح االقتصــادي لمصــر على العالم والحّد من السياســات االشــتراكية .وبــدأ هــذا الهـّـم
المخرج المصري الراحل “محمد خان”
المبكــرة مفتقــدًا للنضج فــي أعمــال خــان ُ والتســييس الكافــي ،واقتصــر علــى احتفــاء بالطبقــة العاملــة والبســطاء، مقابــل غضــب تجــاه طبقــة األثريــاء وخاصــة باقتــران هــذا الثــراء بالنفــوذ والســلطة والفســاد ،ويظهــر ذلــك فــي أفــام مثــل «ضربــة شــمس »1978 -و «موعــد علــى العشــاء.»1981 - أول األفــام التــي يمكننــا القــول إن ـول مــن مجـّـرد انفعــال الهـ ّـم بهــا قــد تحـ ّ إنســاني إلــى بــذرة رؤيــة سياســية
ناضجة حول أسباب الظلم االجتماعي، كان فيلــم «نــص أرنــب ،»1982 -الفيلــم الــذي يــروي قصــة مجموعــة مــن البشــر مــن مختلــف الطبقــات تتصــارع علــى مبلــغ مســروق ،هــذا المبلــغ كان رمــزًا ـكل منهم يريد االغتناء للثــروة العامــة ،فـ ّ علــى حســاب اآلخــر ،وفــي ســبيل ذلــك يدخلــون فــي معــارك عبثيــة طاحنــة ال يخــرج منهــا فــي النهايــة أح ـٌد فائــزاً. المشــهد األبــرز فــي هــذا الفيلــم كان حيــن دلفــت العصابــة لتفتيــش منــزل
«يوســف»ُ ،ممثــل الطبقــة المتوســطة الــذي تــورط فــي الصــراع علــى المبلــغ (الثــروة) ،وقتهــا ظّنــت األم أنهــم أفــراد البوليــس السياســي ،كمــا جــرت العــادة قديمـاً ،فصاحــت بهــم أن ولدهــا يوســف ليســت لديــه ميــول سياســية! ولــم تكــن مــا قالتــه مجــرد ُجملــة عابــرة يوحــي فيهــا صانــع الفيلــم بســذاجة األم ،بــل نــص تحتــي يريــد القــول إنــه فــي عصــر االنفتــاح ورفــع يــد الدولــة عــن االقتصاد أصبحت عصابات المال المســيطرة على العالــم هــي الوجه الجديد من االســتبداد. تســتمر تلــك النبــرة مــع فيلــم خــان «الحريــف ،»-1983عــن حيــاة التالــي ّ بالحــي الشــعبي الهــاوي ــرة الك العــب ُ ّ الفقيــر ،ويذكرنــي هــذا الفيلــم بالمقولــة الشــهيرة« :نحــن نعمــل لنجنــي المــال كــي نســتطيع الحيــاة ،لكــن فــي خضــم التكالــب علــى جنــي هــذا المــال ،ال نجــد الوقــت للحيــاة» ،هــذا تحديــدًا مــا يقّدمــه خــان فــي «الحريــف» ،فهنــاك خيــاران، إمــا اللعــب كرمــز للحيــاة ،وإمــا الصــراع العبثــي علــى الثــروة ،يحــدث ذلــك أيض ـ ًا علــى إيقــاع االنفتــاح االقتصــادي وأعراضــه الجانبيــة من شــيوع التسـلّق واالســتغالل والغــش ،فنجــد «شــعبان»
143
بعــض من ملصقات افالم «خان»
الــذي ترك اللعب واتجه لســرقة وتهريب كــون امبراطوريتــه، الســيارات حتــى ّ وهنــاك «ســامة» الــذي تــرك اللعــب أيض ًا واتجه للمنطقة االقتصادية الحرة «بورســعيد» للعمــل كتاجــر شــنطة، ليبقــى بطــل الفيلــم «فــارس» فــي صــراع داخلي/خارجــي حــول الخياريــن، فنخــرج كمشــاهدين فــي النهايــة بصورة واضحــة عــن حجــم التفســخ فــي القيــم الذي تســببت به الرأســمالية ،وتحويلها اإلنســان إلــى تــرس فــي ماكينــة (كمــا يجري التعبير الماركســي الشــهير) ،وقد كان بطــل الفيلــم يعمــل (حرفيــاً) علــى ماكينــة فــي أحــد المصانــع قبــل أن ُيرفــد 144
ألنــه لم يســتطع مجــاراة قوانين الواقع. ويمتــد رصــد تفســخ القيــم كنتيجــة للسياســات االقتصاديــة فــي أفــام خــان يعــد التاليــة ،وأبرزهــا «خــرج ولــم ُ ،»1984الــذي آثــر فيــه هــذه المــرةحــل الهــروب مــن العاصمــة بصراعاتهــا وضوضائهــا وفســادها وتلوثها وقبحها وجشــعها ،والرجــوع للطبيعــة ،حيــث عالم نقي وبشــر تتحدث لغة أخرى غير لغــة المــال .لكنــه يعود مجـ َّـددًا للمواجهة بفيلــم «عــودة مواطــن ،»1986 -عــن ذلــك األخ األكبــر الــذي يرجــع لمصــر بعد ســنوات مــن العمــل فــي الخليــجُ ،مدخــرًا مبلغ ـ ًا وقــدره مــن المــال ،ويســعى بــه
لدعــم أشــقائه الصغــار ،لكنــه ُيفاجــأ بعالم جديد غير الذي تركه ،عالم أشــبه كل فــرد فيهــا للصعــود بغابــة ،يســعى ّ علــى جثــة اآلخــر ،فيكتشــف فــي أيــام قليلــة مــن عودتــه أنــه تعــرض لعمليــة نصــب مالــي ،وأن حبيبتــه القديمــة يكبرهــا تركتــه وتزوجــت رجــ ً ا ثريــ ًا ُ العمــر ،وأن محــل عملــه بقــدر كبيــر مــن ُ ـول إلى «كباريــه» ،وأن عصر القديــم تحـّ الوظائــف قــد انتهــى ،وانهــارت الطبقــة الوســطى ،لدرجــة أن بناتهــا أصبحــن يعملــن نــادالت فــي الفنــادق مثــل أختــه يعد أمام الشــباب طريق الصغــرى ،ولــم ُ ســوى التغافــل بتعاطــي المخــدرات أو االنخــراط فــي أنشــطة سياســية خطــرة لتغييــر األوضــاع. الجمــل ـض ـ بع ـت ـ قيل ـم فــي هــذا الفيلـ ُ على لسان «مهدي» األخ األصغر لشاكر، يمكنهــا تلخيــص هواجــس وهمــوم خــان عبــر النصــف األول مــن مســيرته الســينمائية ،فمهــدي العدمــي المتشــائم (الواقعــي) ينصــح أخــاه شــاكر فــي نهايــة الفيلــم بتــرك القاهــرة والعــودة للخليــج إذا لــم يكــن مســتعدًا للقبــول بقيــم المجتمــع المصــري الجديــد وإيجــاد ســكة للتســلق واالســتغالل مثلمــا فعلــت تتكــرر أختهــم «فوزيــة» .هــذه الرؤيــة ّ بفيلــم ٍ تــال لخــان هــو «ســوبر ماركــت ،»1990ومــن عنوانــه يطــرح مفهــومـول العالــم إلــى ســوق ،والبشــر إلــى تحـّ ســلع ،وتتكـّـرر جملــة مهــدي الســابقة، هذه المرة ،على لســان شــخصية عزمي الرجــل فاحــش الثــراء الــذي يــرى أنــه ال ســبيل لالرتقــاء االقتصــادي ســوى بتقديــم تنــازالت أخالقيــة. يميــز المحتــوى السياســي فــي مــا ّ األعمــال الســابقة شــيئان :أو ًال عــدم المباشــرة ،فالسياســة كمــا أســميها فــي ُ عنوان هذا المقال مجرد «نبرة» ،أي أنها ـول َبعــد لصــوت أو لغة صريحة لــم تتحـّ بالمقارنــة ،مثــاً ،مــع أفــام «عاطــف الطيــب» رفيــق جيل خان ،والذي شــغله عبــر نفــس هـّـم خــان السياســي ،ولكنــه ّ عنــه فــي أعمالــه بشــكل أكثــر مباشــرة مــن خــان .وثانيـ ًا أن ذلــك المحتوى غير مقيــد بالظــرف المحلــي ويتســم بصبغــة عالميــة يمتــد الشــعور بهــا مــن القاهــرة إلــى نيويــورك إلــى هونــج كونــج ،أو
«الحريف»
«موعد على العشــاء»
أي بقعــة جغرافيــة طغــت بهــا الثّقافــة االســتهالكية علــى حيــاة اإلنســان .لــم يقدم خان نقدًا للســلطة المصرية بعينها ِّ أو بــه صبغــة محلية حصرية ســوى في فيلــم «زوجــة رجــل مهــم ،»1987 -عــن ضابــط الشــرطة هشــام (أحمــد زكــي) الــذي يســتغل نفــوذه ويتــورط فــي ممارســات ُيقــال إنهــا ضــد القانــون، ويمكــن فيفصــل علــى إثرهــا مــن عملــهُ . ُ اعتبــار هــذا الفيلــم نــزوة شــخصية مــن خــان ،حيــث قّدمــه على خلفية مشــاجرة فعليــة حدثــت بينــه وبين ضابط شــرطة فقـّـرر بعدهــا أن ينتقــم منــه بفيلــم. لكن يبدو أن شــخصنة الخالف داخل فيلم نتج عنها رؤية ُمتحاملة لشخصية هشــام أو لتعقيــد األوضــاع فــي مــا ُعرف بانتفاضــة 18يناير/كانــون الثانــي ،1977التــي قامــت ضــد قــرار ســيادي
«خــرج ولم يعد»
«زوجــة رجل مهم»
برفــع األســعار ،وهــي االنتفاضــة التــي شــارك الضابــط هشــام فــي قمعهــا .هــذا التحامــل رصــده الناقد «ســمير فريد» في مقــال هجومــي علــى الفيلــم ُنشــر بمجلــة كرســه في تفنيد «القاهــرة» عــام ّ ،1988 كل الحجج ضد هشــام ،يقول في مقطع ّ مــن المقــال« :المشــكلة هنــا أن ضابــط الشــرطة يمــارس عملــه إزاء مظاهــرات وصلــت لحــد التخريــب ،كمــا جــاء علــى لســان «منــى» ...حتــى اســتخدام هشــام لزوجتــه فــي الحصــول علــى معلومــات مــن زمالئهــا يأتــي فــي ســياق ممارســته لعملــه ...وهــذا الموقــف مــن هشــام ضــد زوجتــه يعنــي أنــه عندمــا يختــار بيــن الواجــب والعاطفــة يختــار الواجــب مثــل أبطــال الدراما الكالســيكية النبالء ،على عكــس مــا يتصور صناع الفيلم .فالنذالة ال تكــون ّإل حيــن تكــون الشــخصية
علــى وعــي تــام بالفعــل الــذي يوصفهــا بالنذالــة ،وقناعــة هشــام هنــا والتــي ال ينكرهــا الفيلــم أنــه يفعــل ذلــك مــن أجــل «إنقــاذ البلــد» دون أي قــدر مــن االدعــاء أو الكــذب علــى نفســه ،فما الــذي يجعلنا كتمفرجيــن نكــره هشــام؟» «تظــل نصيحــة ويتابــع فريــد: ّ بريخــت صحيحــة تمامــ ًا عندمــا قــال ال تصنعــوا األفالم السياســية بطريقة غير سياســية» ،حســناً ،إن اتفقــت مــع فريــد ا علــى شــخصية فــي أن هنــاك تحامــ ً ا تلــك هشــام وأنــه لــم يســتحق فعــ ً النهايــة المأســاوية ،فإنــي أختلــف معــه لكــره الفيلــم ،ألنــه فــي كــون ذلــك ســبب ًا ُ بنــي علــى افتــراض غيــر دقيــق بــأن َم ّ الحيــاة ،فــي الدرامــا أو الواقــع ،البــد أن تكــون عادلــة.
145
التمـــدد شـــرقاً ،بحث ًا عـــن األفـــكار الجديدة في لـــم تتوقـــف هوليوود عـــن ُّ أعمالها وكان آخرها دور ســـكارليت جوهانســـون في فيلم Ghost in the ( Shellمدرعة شـــرطة مكافحة الشـــغب المتنقلة) والنسخة الجديدة من فيلم تتعرض «ســـبعة» .ورغـــم ذلك لم ُيبـــِد اليابانيون قلق ًا من هذا (الســـلب الثّقافـــي) الذي َّ له صناعتهم الســـينمائية.
بني الساموراي وراعي البقر: المخرج جون ستورجيس
للهوية أم تبادل ثقايف؟ سلب ّ
عيل فاضل تقـــول األخبـــار إن المخـــرج الياباني صاحـــب الفضـــل علـــى هوليـــود أكيـــرا كوروســـاوا لـــم يكـــن معجب ًا بالنســـخة الهوليوديـــة لفيلم «ســـبعة» ،بعد أن قام جون ســـتورجيس بإعـــادة صياغته هذا العمل ،واصفـــ ًا الجهود بنقل الملحمة إلى العهد الغربي القديم« ،بخيبة األمل» ،رغم أن النســـخة الجديـــدة لم تخل مـــن طابع «التســـلية» األصلي. في ذلـــك الوقـــت أرجع معظـــم النقاد عوامـــل فشـــل ســـتورجيس إلـــى حقيقة التزام العمل األصلي باألنماط االجتماعية اليابانيـــة الصارمـــة :وصـــف هـــوارد ثومبســـون من صحيفة نيويـــورك تايمز إعـــادة العمـــل بأنـــه «بانعكاس شـــاحب وطنّـــان وزائـــد علـــى الفكـــرة األصليـــة َ أكثـــر مما ينبغي» ،ويفتقر إلى التشـــويق و«محـــاكاة للقصص اإلنســـانية القصيرة والمعبرة» علـــى غرار فيلم كوروســـاوا. رغـــم ذلك ،وعلى مـــدى عقود ،لم تتوقف هوليوود في مناســـبات عديـــدة عن نهب الثّقافـــة اليابانيـــة .فـــي نهاية ســـنوات شـــجع نجـــاح عمـــل المخـــرج 1990م، ّ اليابانـــي هيديو ناكاتا بعنـــوان (رينغ)، وهو الجزء األول من أفالم الرعب لسلسلة رينـــغ ،علـــى إعادة تصويـــر نفس العمل في عدة مناســـبات بالواليـــات المتحدة، ال عن سيل من عمليات إعادة صياغة فض ً
146
أخرى ألفالم رعب يابانية :نبض ،الحقد، مكالمـــة فائتـــة ،والمياه المعتمـــة ،التي كانـــت مســـتوحاة من الثّقافة اآلســـيوية. وفـــي اآلونة األخيـــرة ،أثار عمـــل كيانو ريفز (رونين )47انتقادات بسبب تضمينه ألســـطورة اليابان الوطنية الســـاموراي. واســـتنادًا إلـــى تقاريـــر بالصحـــف األميركيـــة فـــإن المانجـــا الكالســـيكية «الذئـــب الوحيد والشـــبل» ،التـــي أنتجت ســـتة أفالم فـــي اليابـــان ،والمعروفة في الغـــرب تحت عنـــوان «شـــوغون القاتل» ســـتخضع إلى إعادة إنتاج جديدة من قبل اســـتوديوهات هوليـــوود ،باإلضافة إلى الدعوات المتجّددة إلعـــادة تصوير الفيلم الكرتوني الياباني (أكيرا) بواسطة مخرج
فيلـــم (ســـريع وغاضب) جوســـتين لين. وفي إبريل هذا العام ،تعرضت ســـكارليت جوهانســـون لعاصفة انتقادات واســـعة على تويتر بعد نشـــرها الصـــورة األولى لنجم (المنتقمون) ،الشـــرطي السايبورغ، الرائد كوســـاناجي فـــي طبعة جديدة حية للعمـــل المقبل مـــن فيلم الخيـــال العلمي (مدرعة شـــرطة مكافحة الشغب المتنقلة). وتركـــزت االنتقادات على مظهـــر المانجا الممثل األميركي ،الحامل لشـــعر سيبراني مستعار باألسود واألزرق ،ونتج عن ذلك عريضـــة ،وقع عليها حتـــى اآلن أكثر من 100ألف شـــخص ،تطالـــب بوضع ممثل من أصول شرق آســـيا للقيام بالدور بد ًال منها . لكن في اليابان ،هناك ارتباك واســـع النطـــاق حول الجدل القائـــم« .اليابانيون تغمرهـــم الســـعادة مـــن أن جوهانســـون تقمصـــت دور الشـــخصيات الكرتونيـــة الشهيرة ،وهم يعتقدون أن وجودها سوف يساعد على تعزيز شعبية السلسلة» ،كما علق جون بيرا ،رئيس التحرير المشـــارك في موقـــع الفيلم اآلســـيوي VCinema ورئيس تحريـــر دليل الســـينما العالمية: سلســـلة كتب اليابان ،وأضـــاف «في هذا الصـــدد ،كانـــت الجماهيـــر اليابانية أكثر اتزانـــ ًا من نظيراتها الغربيـــة» .وقال بيرا إن التالقح بين هوليوود واالستوديوهات
مشهد من فيلم « » Ghost in the Shell
اليابانيـــة أصبـــح اآلن «مقبـــو ًال إلى حد ومرحب ًا به في اليابان عندما تكون كبيـــر، ّ النتائج جيدة» ،مشـــيرًا إلى تزايد شعبية النســـخة األخيرة لورنر بـــروس (غدزيال) وفيلم (رينغ) الياباني الذي أعاد تصويره غور فيربينسكي بتقنيات هوليوود .ولكنه شـــّدد على ضرورة «أن تبدي كل نســـخة جديدة االحترام للعمـــل األصلي من خالل تعيين الكفـــاءات المناســـبة وقيم اإلنتاج الكافيـــة ،بحيـــث ال يحط مـــن قيمة العمل األصلي» ،وأضاف «حقّق (رينغ) شعبية كبيرة فـــي اليابان ،وعلـــى الرغم من أنه أزال الغموض عن العمل األصلي للجمهور وفيين الغربـــي ،فقد ظل المفهوم والرواية ّ إلى حـــد كبير ونقال المزاج المقلق بحرفية عالية إلـــى الجمهور األميركي». ّإل أن التبـــادل الثّقافـــي يتدفـــق فـــي االتجاهيـــن .فقـــد أعيـــد تصويـــر األفالم: (غيـــر مغفـــور) و(جانبيـــا) وبدرجـــة أقل (شـــبح) في اليابان ،ومن السهل مالحظة بصمـــات الصناعة األميركية فـــي بدايات الســـينما الصامتـــة من خـــال عمل قصة
طوكيو (أوزو ياســـوجيرو) ،الذي يستند إلـــى أفكار إرنســـت لوبيتش ،وتشـــارلي شـــابلن وهارولـــد لويـــد .ويرى جســـبر شـــارب ،الناقد الســـينمائي ومؤلف كتاب القامـــوس التاريخـــي للســـينما اليابانية ( ،)2011أن االتهامـــات األخيرة المتزايدة بخصوص الســـرقة الثّقافيـــة الينبغي أن تحظـــى بقدر كبير مـــن االهتمام .ويضيف «يفتـــرض فيلـــم (مدرعة شـــرطة مكافحة الشـــغب المتنقلة) وجود عالم ال حدود له بالكامل ،حيث تتداخل الحدود بين اإلنسان واآللـــة والعالم الحقيقـــي واالفتراضي.. شخصية يوهانســـون للرائد كوساناجي هي ســـايبورغ آلـــي تمام ًا فـــي القصص األصليـــة ،على الرغم من أنها تحمل وعي ًا بشـــرياً .لذلك مازال النقاش قائم ًا حول ما إذا كان مـــن المفتـــرض أن تكون في هيئة الرجـــل الياباني أم ال ،ألنه عـــادة ما يتم رسم شـــخصيات أنيم في مظهر القوقازي بشـــكل عام» .ويرى شـــارب أن الخالف ال يظهر ّإل عندما تتجاهـــل هوليود التعامل باالهتمـــام الكافي مع الثّقافة اآلســـيوية، كما هو الحال بالنســـبة إلى «مذكرات فتاة
الجيشـــا» لروب مارشـــال ( ،)2005الذي فشـــا ذريع ًا فـــي اليابان ،بســـبب عرف ً اعتمـــاده على مجموعة مـــن الممثلين من أصول صينية باألســـاس. مضيف ًا بـــأن «(أكيرا) هو فـــي الواقع، وبشـــكل خـــاص ،غير مناســـب تمام ًا ألن يكون موضوع طبعة جديـــدة لهوليوود، ألنه يتعامـــل ضمن ًا مع قضايا مثل هزيمة اليابان فـــي أثناء الحـــرب واالحتجاجات الطالبية في سنوات . »1960وقال «يحمل الفيلم الكثير مـــن الخفايا المبطنة ،وأظن أن ذلـــك ســـيدفن تحـــت أي صيغـــة عمل للصورة في النسخة الجديدة» .وكان فيلم (الذئب الوحيد والشـــبل) قد تبوأ (موقعه) بيـــن الجمهور األميركي بعد إعادة صياغة الفيلم األميركي الياباني (شوغون القاتل) فـــي عـــام .1980وفي الواقـــع قد ال تملك الســـينما اليابانيـــة مصلحـــة حقيقية في رؤيـــة طبعة جديدة مـــن هوليوود ،ولكن فـــي نهايـــة المطـــاف ،إذا كانت النســـخة الجديـــدة من األفـــام تلفـــت االنتباه نحو الســـينما اليابانية ،فإنها ال يمكن أن تكون خطوة سلبية.
147
المخرج ستيفن سبيلبيرج
ستيفن سبيلبيرج في فيلمه الجديد The BFGيثبت أنه أقدر المخرجين على جعلك تتعلَّق بمشاعر وأفكار طفل ،فعلها من قبل في (هوك) ورفاق بيتربان ،وفي (الذكاء االصطناعي) ،ومع األوالد الذين يحاولون تهريب (إي تي) لكوكبه ،ربما لم ينجح في األمر ذاته سوى المخرج العظيم مارتن سكورسيزي في (هوغو) ،ولكليهما المقدرة الفائقة على أن يخرجا أفضل ما لدى الطفل الممثل أو الممثلة من إمكانيات.
«»The BFG
خيال بال حدود يف مدينة العمالقة د .هاين حجاج
صوفــي ابنة العاشــرة تلتقــي بعمالق صديــق ،هــذا هــو تفســير عنـــوان الفيلــم «»the BFG: the big friendly giant وهــو بالرغــم مــن منظــره المخيــف يبــدو أقرب لعمالق الجميلة والوحش ،صاحب قلــب طيــب مســالم ،وروح طفــل ،مكــروه مــن جنــس العمالقــة .لمــاذا؟ ألنــه يرفــض التهــام األطفــال طبع ـاً! بالطبــع تخشــاه صوفــي فــي أول لقــاء ،قبــل أن تجــده يعاملهــا بمنتهــى الرقــة واللطــف كأي جنتلمــان مهــذب ،لكــن الصداقــة بينهمــا ال تــدوم طويــاً؛ إذ تلفــت انتبــاه بقيــة
148
الوحــوش والعمالقــة أصحــاب القلــوب الميتــة والنفــوس المتعطشــة للــدم! وبالتالي على صوفي وصديقها العمالق الطيــب الرحيــل إلــى لنــدن القنــاع الملكــة
إليزابيــث بــأن تســاعدهما في التخلص من الوحــوش المفترســة الخبيثــة التي تلحق بهمــا ،مــرة واحــدة ولألبــد. الفيلــم مأخــوذ عــن روايــة للكاتــب والممثــل ومؤلــف أغانــي األفــام (روآلــد دال) ،ومعــروف بأســلوبه الســاخر وكتابته التشويقية ذات اإليقاع البسيط، وهــو الــذي كتــب روايــات وأفــام :ويلــي وونــكا ومصنــع الشــيكوالتة (،)1971 ماتيلــدا ( ،)1996وشــارلي ومصنــع الشــيكوالتة ( ،)2005والســيد فوكــس المدهــش ( .)2009وهــو الــذي كتــب
ســيناريو وحــوار فيلــم جيمــس بونــد (أنــت تعيــش مرتيــن فقــط) ،والحلقــة األولــى مــن مسلســل (رعــب آخــر الليــل) المعــروف ،والحلقــة األولــى مــن مسلســل (ألفريــد هتشــكوك يقــدم) بعنــوان «رجــل من الجنوب» ،وكاتب أغنية (أكل الخوخ) فــي فيلــم (جيمــس والخوخــة العمالقــة). وهــو هنــا يشــترك مــع ســبيلبيرج فــي نفــس المقــدرة العظيمــة علــى اكتشــاف مــا فــي جوهــر الطفــل مــن نضــوج وحكمة ومناطــق مظلمــة كذلك أفادت منها شــركة ديزني وهي تنتج (فانتازيا /سنو وايت واألقــزام الســبعة /دامبــو) ،أمــا صوفــي فهــو اســم إحــدى حفيداتــه ،صوفــي دال ،الممثلــة والموديــل التــي مثلــت دور السجينة في فيلم (أبقار مجنونة) .1999 أهــدى ســبيلبيرج العمــل بالكامــل إلــى السيناريســت ميليســا ماثيســون ،والتــي كتبت سيناريو وحوار الفيلم ،بعد توقف دام ألكثــر مــن عشــرين عامــاً ،وتوفيــت بعــده مباشــرة ضمــن باقــة مــن الكتــاب والممثليــن توفــوا عــام 2015فــور تأديــة آخر دور لديهم ،كتبت سيناريو فيلم «إي تــي» ( 1982وظهــرت فــي دورهــا الوحيــد بمشــاركة قصيــرة كممرضــة فــي مدرســة الصبــي إليــوت) ،وكونــدون 1997مــن إخــراج مارتــن سكورســيزي ،ومنطقــة الشــفق .1983 قامــت بــدور صوفــي ،الطفلــة بارنــي بارنهيل ،التي يكتشــفها ســبيلبيرج هنا، فلــم يكــن لهــا تاريخ يذكــر ّإل بعض أعمال مغمــورة مثــل (نــادي الســاعة الرابعــة)، ومسلســل (صباح الخير يا أميركا) .وهي ابنة الممثل والكاتب بول بارنهيل ومكانه المسلســات التليفزيونية غير المعروفة، وســبيلبيرج يجعــل مــن بارنــي الصغيــرة هنــا أول أنثــى تلعــب دور البطولــة فــي أفالمــه منــذ فيلمــه (اللــون القرمــزي) عــام ،1985ويلعب دور العمالق الطيب ،الذي يقــوم بتأديــة صوته طبعاً ،الممثل مارك ريالنس أشــهر ممثلي المســرح في جيله، وقــدم مــع ســبيلبيرج قبل هــذا العمل ،يلم جســر الجواســيس أمام توم هانكس ،في دور رودلــف آبيــل ،وقــام ببطولــة أفــام: أيــام وليالــي ،بليتــز (الرجــل الــذي قــام بــدور روبرتــس) ،مالئكــة وحشــرات،
The BFG
كتــب بروســبيرو (فــي دور فردينانــد)، قلــوب النــار (فــي دور فيــز) ،وظهــر فــي دور دافينشــي فــي برنامــج وثائقــي بعنــوان «ليونــاردو» .وقامت بدور الملكة إليزابيــث الممثلة بينيلوبــي ويلتون التي ظهــرت فــي مسلســات معروفــة :دكتــور هــو ،عائلتــي ،آرينــا ،ماربــل آلجاثــا كريســتي ،العاطفة ،الشــهرة ،الســقوط، بنــات التقويــم ،ورأيناهــا فــي دور هــام بفيلم آيرس ،وفي دور السيدة جاردينير مؤخــرًا فــي أحــدث نســخة مــن كبريــاء وتحامــل .وكان أحــد األدوار محجــوزًا لروبيــن وليامــز عندمــا فكــر ســبيلبيرج فــي النــص ،لكــن المــوت لــه رأي آخــر. الفيلــم من إنتاج شــركة والــت ديزني، بالمشــاركة مــع شــركتي والديــن ميديــا وأمبيليــن إنترتينمنــت ،ولألســف لــم تعد التقنيــات التــي تســتخدمها ديزنــي كافيــة لمواجهــة إنتــاج شــركة منافســة مثــل بيكســار وشــبكة فوجــي التليفزيونيــة، ودنتسو ،األرقام تقول إن فيلم سبيلبيرج يتراجع بعنف أمام أفالم رســوم متحركة أخــرى معروضــة فــي التوقيــت نفســه، مثــل «الحياة الســرية للحيوانــات األليفة» ألســباب غيــر تســويقية فقــط تتعلَّــق بانصــراف الجيــل الجديــد إلــى نوعيــة مختلفــة من شــكل األنيميشــن ،إذن فنحن أمــام فيلــم يعتمــد فــي األســاس علــى روح ســتيفن ســبيلبيرج وذكرياتنا معه .وهذا
هــو بالمناســبة أول فيلــم فــي تاريخــه يخرجــه لصالــح شــركة ديزنــي! شــركة أمبيليــن المســاهمة فــي اإلنتاج هي االســم المعلن لشــركة دريــم ووركس الخاصة بستيفن سبيلبيرج وال يظهر لها لوجــو خــاص فــي بدايــات األفــام ،ربمــا ألســباب تخص صاحبهــا وصلته بالعمل الــذي يقدمــه .الفيلــم الــذي بــدأ رســمي ًا فــي أواخــر يوليو/تمــوز الماضــي (طبعـ ًا عدا نســخ النقــاد والعــرض األول التــي بــدأت قبــل ذلــك) ،وتح ـّدد الموعــد فــي الذكــرى العشــرين لظهــور الفيلــم الكبيــر للمؤلــف روآلــد آل( ،جيمــس والخوخــة العمالقــة) 1996م مــن إنتــاج ديزني أيضـاً ،وحاول ســبيلبيرج مــرارًا أن يقنــع جيــن وايلــدر الــذي ظهــر فــي (ويــل وونــكا ومصنــع الشــيكوالتة) أن يشــارك بصوتــه فــي الفيلــم الجديــد لكنــه رفــض .موســيقى الفيلــم لجــون وليامــز رفيــق مشــواره، ومؤلــف موســيقى أفــام :هــاري بوتــر وحــرب الكواكــب والحديقــة الجوراســية وامســكني إن اســتطعت ،وإنقــاذ المجنــد ريان ،وســبعة أعوام في التبت ،ومولود فــي الرابــع مــن يوليــو ،والئحة شــيندلر، ودراكيــوال ،وتــو ســوير ،و -بالطبــع- الفــك المفتــرس!
149
مضـــى زمن طويل لم تقـــارب فيه الســـينما الهوليوودية شـــخصية طرزان، بحيث طال انتظار عشـــاق تلك الشـــخصية األســـطورية التي ابتدعها األديب األميركي إدغار رايس بوروز ،حتى ظنها كثيرون شـــخصية تاريخية حقيقية مثـــل دون كيشـــوت وشـــرلوك هولمـــز وإنديانا جونز .مضـــى 17عام ًا علـــى آخر فيلم أنتج لشـــخصية طرزان ،وهو «طرزان والمدينة المفقودة» ( )1998وكان نصيبه الفشل.
طرزان األلفية الثالثة
المخرج البريطاني ديفيد ييتس
د .رياض عصمت هــا هــو طــرزان يعــود مــن جديد فــي حلة تناســب األلفيــة الثالثــة فــي فيلم «أســطورة طرزان» ،إخراج البريطاني المخضرم ديفيد ييتــس ،الــذي ســبق أن أخــرج أربعــة أفــام مــن سلســلة هــاري بوتــر ،وبطولــة النجــم ألكســندر سكارسغارد. بــدأت فكــرة إنتــاج فيلم جديد عــن طرزان كل هــذا الزمــن الطويــل تــراود بعــد انصــرام ّ مجموعــة مــن المنتجين ليعيدوا إلى عشــاق تلــك الشــخصية البطوليــة الخارقــة أمجــاد سيد الوحوش في إطار َفنّي جديد ومعاصر يســتفيد مــن تقنيات الكمبيوتــر الحديثة .في البدايــة ،كانت الفكرة أن يقتبس الســيناريو عــن روايتــي إدغــار رايــس بــوروز «عــودة طــرزان» و«طــرزان ومجوهــرات أوبــار»، (و«أوبــار» هــي مدينــة مفقــودة متخيلــة فــي روايــات بــوروز عن مغامرات طــرزان) .لكن كاتبــي الســيناريو آدم كــوزاد وكريــغ بروار مــا لبثــا أن ابتعــدا عــن الروايتين معـ ًا ليؤلفا قصتهمــا الخاصــة التــي تــدور عــن مطامــع ملــك بلجيــكا فــي الحصــول علــى المــاس والجواهــر مــن الكونغــو لتمويــل جيــش مملكته ،فيرســل أحد أعوانه الدهاة القســاة ليفــاوض زعيــم أكبــر قبائــل الكونغــو ،فــإذا بــه يطلــب ثمنـ ًا لتلــك الثــروة رأس طــرزان، الــذي ســبق أن قتــل ابنــه الوحيــد قبــل أن يهجــر الغابــة ليعيش مع زوجته جين حياة
150
أرســتقراطية فــي لنــدن .فــي الواقــع ،يعزى قدر كبير من نجاح فيلم «أســطورة طرزان» إلى موهبة المخرج ديفيد ييتس في توزيع األدوار ،فبالرغم من المرشحين والمرشحات الالمعيــن ألداء الشــخصيتين المحوريتيــن، راهــن المخــرج علــى ألكســندر سكاســغارد ومارغــوت روبــي ،ونجــح فــي رهانــه .لكن الخطــوة األهــم كانــت فــي اســتقطاب اثنيــن مــن حائــزي أوســكار التمثيــل ،األول منهمــا هــو الممثــل النمســاوي القديــر كريســتوف وولتــز ،الــذي لمــع فــي دور الشــرير فــي فيلــم جيمــس بونــد «ســبكتر» ،وقبلــه فــي دور الطيــب فــي «دجانغــو» ونــال عــن دوره أوســكار أفضــل ممثــل مســاعد ،وهــو ممثــل قادر على تقمص شخصيات متباينة للغاية كمــا عهدنــاه فــي دور (الكردينــال ريشــيليو) فــي فيلــم «الفرســان الثالثــة» ،و«مجــزرة» و«مــاء لألفيــال» ،وجميعهــا كانــت عــام
2011م ،مــا رســخ شــهرته كممثــل مســاعد شــديد الحضــور والحرفيــة .مجــرد جلــب كريســتوف وولتــز ألداء دور (الكابتــن روم) فــي فيلــم «أســطورة طــرزان» مكســب كبيــر ،فقــد أضفــى ببــروده القاتــل شــعورًا بالخطــورة والتوتر ،خاصة وأنه يســتخدم ســاح ًا غريبـ ًا لخنــق خصومــه ،هــو عبــارة عــن مســبحة ال تفــارق يــده طيلة الفيلــم .أما الممثــل الكبير اآلخر الذي اســتقطبه المخرج ييتــس بنجــاح فهو النجم األســود المخضرم صموئيــل ل .جاكســون ،مســندًا إليــه دور شــخص أميركــي غامض يســاعد طــرزان في مهمتــه إلنقــاذ العبيــد مــن الــرق ،فــي تحريــر زوجتــه (جيــن) مــن األســر ،وفــي اإليقــاع بعمــاء ملــك بلجيــكا وإفشــال مخططهــم. أحســن المخــرج ديفيــد ييتــس اختيــار طاقــم تقنــي كفــؤ ،يتصــدره مديــر التصويــر هنــري براهــام ،وباألخــص المونتيــر الــذي ســاعده فــي أفــام هــاري بوتــر ،مــارك داي .كمــا اســتعان بمصمــم إنتــاج بــارع هــو ســتيوارت كريــغ ،وبمؤلــف موســيقي موهــوب هــو روبــرت غريغســون -وليامــز. أمــا باقــي الطاقــم التقنــي ،فتضمــن أســماء عديــدة جــدًا قامــت بالحيــل الكمبيوتريــة المدهشــة ،والخــدع البصريــة المبهــرة ،فــي فيلــم حافــل بالحركــة واإلثــارة ،لكنــه حافل أيض ـ ًا بقصــة جيــدة وتمثيــل مقنــع .حــاول
ديفيد ييتس أال يترك ثغرة في الفيلم ،ربما باســتثناء حــس النكتــة الــذي كان مــن شــأن ستيفن سبيلبرغ لو تصدى إلخراج الفيلم أن يحقّقه .رغم ذلك ،لم يخل الحوار من بضع جمــل مثيــرة للضحــك ،كتعليــق الشــرير، واصفـ ًا صيحــة طــرزان بأنهــا «تحســنت مع الزمن» .كذلك ،بضعة ردود فعل طريفة من صموئيل ل .جاكســون أمام ســلوك طرزان الغريب في مواجهة الطبيعة أو مخلوقاتها. لعل العنصر الذي سعى إليه المخرج جاهدًا ّيــة مــع كاتبــي الســيناريو هــو اســتعادة َفنّ لقصــة نشــأة طــرزان فــي الروايــة األصليــة مــن خــال اســتعادات زمنيــة وذكريــات، بحيــث لــم يوفــر انتقــا ًال بيــن حاضــره فــي إنجلتــرا وبيــن ماضيــه كربيــب قرود وســط الغابــات الكثيفــة ،وفيمــا بينهمــا اســتعادة ذكــرى ردة فعلــه علــى اصطيــاد ابــن زعيــم القبيلة الكونغولية أمه الغوريلال التي ربته وحمتــه ،فقتلــه انتقامـ ًا لها .حــاول الكاتبان والمخــرج مــن ناحيــة أخــرى خلــق نــوع مــن التــوازن بيــن قوة طــرزان األســطورية التي تجعله يقتحم عربة قطار ويضرب مجموعة كبيــرة مــن الجنــود دون وجل ،وبين هزيمة طــرزان فــي معركــة مــع غوريلــا شــرس اعتبــر رحيلــه عــن قبيلتــه خيانــة تســتحق الضــرب .باختصــار ،نجحــت فكــرة جعــل طرزان مخلوق ًا من لحم ودم ،ينتصر تارة، ويهــزم أخــرى .إنــه هنا يحب ويكره ،يتمتع ُ بتصــرف ذكي حينـاً ،ويخطئ التقدير حين ًا آخر .تلك اللمســات اإلنســانية في سيناريو الفيلم قادت الشخصية في النهاية أن تنجب ال من شــريكة العمر ،مما يبشــر بالتأكيد طف ً ـان قــادم. بفيلــم ثـ ٍ تاريخيــاً ،لعــب شــخصية طــرزان فــي الســينما والتليفزيــون نحــو 16ممثـاً .أقــدم هــؤالء هــو إلمــو لينكولن ،الذي مثــل طرزان فــي 3أفــام بيــن عامــي .1922 - 1918لكــن أشــهر مــن جســد شــخصية طــرزان فــي 12 فيلم ًا ســينمائي ًا هو بطل الســباحة األولمبي ال من شــخصية ربيب جوني ويســملر ،جاع ً القــرود وســيدها أيقونــة بطوليــة خالــدة، ومضفي ـ ًا لمســة إنســانية عليهــا مــن خــال عالقتــه بحبيبتــه (جيــن) وقردتــه الطريفــة (تشــيتا) ،ثــم بابــن مــن لحمــه ودمــه، ا بــه مــن غابــات إفريقيــا وصــو ًال إلــى منتقـ ً نيويــورك .لكــن أصل شــخصية طــرزان في روايــة إدغــار رايــس بــوروز األولــى ليــس أميركي ـ ًا مثــل مبــدع الشــخصية ،بــل يعــود
أصلــه حســب الروايــة إلــى أســرة إنجليزيــة أرســتقراطية نبيلــة ،ربمــا ألن أصــل عائلــة بــوروز نفســها بريطانــي ،بغــض النظر عن إقامته في ضاحية متاخمة لمدينة شيكاغو. لعــل مــن الطريــف أن إدغــار رايــس بــوروز لــم يــزر إفريقيــا قــط حيــن ابتــدع شــخصية ـع نجاحــه األدبــي طــرزان ،ورغــم ذلــك أتبـ َ األول بـ 25رواية تالية عن مغامرات البطل نفسه .بالتأكيد أيضاً ،لم يحلق بوروز إلى الفضــاء ،لكنــه اشــتهر بروايتــه التــي حولت إلــى فيلــم «جــون كارتــر»( ،وترجمــت إلــى العربية تحت عنوان «أميرة المريخ») .وهو دليــل ســاطع علــى دور الخيــال الخصــب في اإلبــداع األدبــي. الحق يقال ،إن عديدًا ممن ّأدوا شخصية ّ طــرزان بعــد جونــي ويســملر واجهوا الفشــل الذريــع ،فالشــخصية التــي تبــدو ســهلة ظاهريـ ًا تتطلــب جاذبيــة مــن نــوع خــاص، ال تتعلــق بالتأرجــح علــى حبــال الغابــات الليفيــة ،مصادقــة الغوريــات ،مصارعــة الحيوانــات المفترســة فــي البــر والمــاء، ومقاومــة األشــرار فــي مجاهــل القــارة الســوداء .إنهــا شــخصية تجســد اإلنســان كل منــا ،وهــو الفطــري البــريء الكامــن فــي ّ هنا ينشــأ برعاية أنثى غوريلال بعد مصرع والديــه عقــب حادثــة طائــرة تحطمــت فــي إفريقيا ،ويشــب على قوة ومهارة فاق بهما أقرانــه مــن جنــس القــردة ،بحيــث أخضــع بذكائــه األفيــال والنمــور ،وأصبــح (ســيد الغابــات) بصرختــه الداويــة الشــهيرة .لكــن طــرزان ،الرجــل البدائــي القــوي والمهيمــن، ســرعان مــا تروضــه مشــاعر الحــب تجــاه صبيــة مــن العالــم المتحضــر تــزور إفريقيــا ّ مــع أبيهــا ،ويتبــادل معهــا لغة اإلشــارة قبل النطــق بالــكالم ،لتصبــح (جيــن) حبيبتــه ثــم زوجتــه ،أي نصفــه اآلخــر الجميــل عبــر مغامراتــه المثيــرة. بعــد جونــي ويســملر ،بــل وخــال عملــه 16سنة في (دزينة) من األفــالم بيـن عامـي ،1948 - 1932ظهر ممثلون أدوا الشخصية نفســها دون أن يســتطيعوا خطــف األنظــار منه .كذلك ،ظهر ممثلون أدوا الشخصية في أفــام ملونــة بعــد زمــن ويســملر بكثيــر ولــم يحقّقــوا نجاحـاً .نذكــر مــن مــؤدي شــخصية طرزان الذين لم يتركوا بصمة ُتذكر :باســتر كرابــه ،هيرمــان بريكــس ،جيمــس بيــرس، مايــك هنــري ،رون إيلــي ،مايلــز أوكيفــي وغاســبر فــان ديــان .لكــن ألمــع ممثليــن
لشــخصية طرزان بعد ويســملر هما :ليكس باركــر( ،الــذي أدى دور طــرزان فــي خمســة أفــام بيــن عامــي )،1953 - 1949وغــوردن ســكوت( ،الــذي أدى دور طــرزان فــي ســتة أفــام بيــن عامي .)1960 - 1955بدا لحقبة مــن الزمــن أن أفالم طرزان تســير إلى أفول، فلم ينتج ســوى فيلم «طرزان الرجل القرد» ( )1981مــن بطولــة النجمــة بــو ديريــك مــع ظهــور طــرزان كشــخصية ثانويــة ،ولقــي ا ذريعـاً .لكن الفيلم الجاد الفيلــم آنذاك فشـ ً الوحيــد الــذي قارب طرزان قبل فيلم ،2016 وكان مقبول النتيجة هو فيلم «غرايستوك: أســطورة طــرزان ســيد القــرود» ( )1984من بطولــة النجم كريســتوفر المبــرت ،وإخراج هيــو هدســون ،وكان االقتبــاس األكثر أمانة لروايــة إدغــار رايــس بــوروز األصليــة .لكن جديــة الفيلم المفرطة ،وواقعيته الصارمة، جعلتــه يفقــد جاذبيــة المغامــرة والتشــويق والمــرح والفكاهــة ،وهــي عناصــر مألوفــة ومحبوبــة فــي سلســلة أفــام طــرزان ،فلــم يحّقــق ســوى نجــاح فوق المتوســط بقليل. جديــر بالذكــر أيض ـاً ،أن شــخصية طــرزان ظهرت تليفزيوني ًا في مسلســلين متوسطي النجــاح توجهــا إلــى اليافعيــن ،كمــا ظهر في عــدة أفالم رســوم متحركة لقيــت رواج ًا لدى األطفــال ،خاصــة فيلــم عــام 1999الشــهير، الــذي تميــز كثيــرًا عن بقيــة أفــام الكارتون. «أســطورة طــرزان» ( )2016إضافــة ســينمائية مبهــرة بصريــ ًا لسلســلة أفــام «ســوبر هيــرو» ظــن كثيــرون أنــه ذوى وتالشــى مــن الذاكــرة ،ولــم يعــد صالحــ ًا لهــذا الزمــان ،لكــن فيلــم ديفيــد ييتــس أعاده بكامــل ألقــه وحيويتــه ليناســب الجيــل الراهــن ،محتفظــ ًا بكثيــر مــن المفاجــآت مهــد لها تارة بظهــور قطيع أفيال، القادمــةَّ ، وتــارة بلبــوات ،وتــارة بتماســيح .ال شــك أن ألكســندر سكارســغارد ،الذي أراد إرضاء والده الممثل المعروف ستيلين سكارسغارد وأخيه ذي السنوات السبع ،وكالهما عاشق مغــرم بطــرزان ،نجــح فــي تجســيد تلــك الشــخصية كمــا لــم ينجــح أحــد منــذ جونــي ويسملر ،فاتح ًا البوابة أمام فيلم ٍ تال قادم. اســتطاع فيلــم «أســطورة طــرزان» ()2016 أن يكــون أفضــل فيلم يحيي هذه الشــخصية األســطورية منــذ ســبعين ســنة.
151
ُص ِن َع يف فرنسا ! * أمجد جامل
ـوع مــا بيــن الصدفــة وقــوة التنبــؤ تتنـّ ـع فــي فرنســا «صِنـ َ أســباب شــهرة فيلــم ُ ،»Made in Franceالفيلــم الــذي أثــار جــد ًال إعالميــ ًا فــي فرنســا منــذ اإلعــان األول عــن عرضــه فــي أوائــل عــام 2015 بعــد أن تسـّـببت أحــداث مجلــة «تشــارلي إيبــدو» فــي تأجيــل موعــد عرضــه إلــى نوفمبر/تشــرين الثاني من العام نفسه؛ نظــرًا لتشــابه أحــداث الفيلم مــع الحادثة المؤســفة ،وسلســلة هجمــات نوفمبــر/ تشــرين الثانــي اإلرهابيــة ،التــي هـ ّـزت العاصمــة الفرنســية والعالــم قبــل أيــام قليلــة مــن الموعــد الثاني لعــرض الفيلم، ليتــم تأجيلــه مـّـرة أخــرى إلــى مطلع عام 2016مــع إزالــة ملصقاتــه الدعائيــة مــن شــوارع ومحطات المتــرو بباريس ،تلك تتكون مــن صورة يبرز الملصقــات التــي ّ فيهــا ســاح «كالشــينكوف» مــن الطــرف العلــوي لبــرج إيفل ،والتــي رأى البعض أنهــا قــد تكــون مســتفزة لمشــاعر ذوي ضحايــا الهجمــات ،فهــي توحــي بــأن العنــف والفوضــى أصبحــا أمــرًا واقعــ ًا فــي عاصمــة النــور. لكــن يبــدو أن إزالــة الملصــق لــم تغير مــن هــذا األمــر الواقــع فــي شــيء ،فقــد المجمعــات الســينمائية الكبــرى رفضــت ُ فــي فرنســا عــرض الفيلــم على شاشــاتها رضوخ ـ ًا لهــذا العنــف؛ حيــث ارتــأت أن موضوعــه الحســاس قــد ِّ يمثــل قلقـ ًا علــى ســامة الموظفين بها ،على َحّد تصريح مخــرج العمــل «نيكــوالس بوخريــف»، الموزعــة ـتقر األمــر أخيــرًا بالشــركة ّ واسـ ّ علــى االكتفــاء بعــرض الفيلــم عبــر خدمة video on demandالمدفوعــة مقّدمــ ًا 152
للمشــتركين فــي منازلهــم. يســتغل «بوخريــف» تماشــي أحــداث فيلمــه مــع األحــداث الجارية منــذ الثواني األولــى مــن زمــن الفيلــم ،فيقــّدم مــن خــال «تيتــرات» البدايــة تنويهــ ًا بــأن تــم قبــل وقــوع تصويــر هــذا الفيلــم قــد ّ هجمــات يناير/كانــون الثانــي ،2015 يؤكــد للمتفـّـرج قــوة وهــو بذلــك يريــد أن ّ تنبــؤه وبصيرتــه للواقــع الفرنســي مــن ناحيــة ،وأنــه لــم يتاجــر بتلــك األحــداث مــن ناحيــة أخــرى .بوخريــف مخــرج وأم فرنســية فرنســي ُوِلــد ٍ ألب جزائــري ٍ واشــتهر فــي الســنوات الماضيــة بكتابــة وإخــراج أفالم الحركة والتشــويق .يقول فــي حــوار مــع مجلــة لومونــد الفرنســية إن الشــرارة األولــى التــي ألهمته بصناعة «صنــع فــي فرنســا» كانــت قضيــة «خالــد ُ خلخــال» الشــاب الجزائــري الــذي اتجــه للتطـ ُّـرف الدينــي فــي صغره ،ثـّـم انخرط فــي عمليــات إرهابيــة لصالــح الجماعــة اإلســامية الجزائريــة ،وكان مــن بينهــا زرع متفجرات بشريط محطة القطار في وســط العاصمــة الفرنســية عــام .1995 كمــا هزتــه قضيــة «محمــد ميــرا» ،الشــاب الــذي قــام بهجــوم علــى مدرســة يهوديــة
بمدينــة «تولــوز» فــي جنــوب فرنســا أدى ذلــك الهجــوم إلــى عــام ،2012وقــد ّ مقتــل ســبعة أشــخاص بينهــم أطفــال ومجنــد فرنســي ُيدعــى «محمــد فــرح»، يضيــف بوخريــف ُمتعجبــاً« :لقــد َقَتــل ُمحمــٌد ُمحمــداً ،واالثنــان فرنســيان!». ـل مــا ســبق كان الســبب الرئيســي فــي َلعـّ ِ ـع ـ ن (ص ـه ـ فيلم ـوان ـ لعن ـف ـ بوخري ـار ـ اختي ُ َ يعبــر بنبــرة فــي فرنســا) ،العنــوان الــذي ّ عبثيــة ســاخرة عــن أن الصــراع أضحــى مــن الداخــل ،وأنــه مــن الصعــب اآلن تفريــق العــدو مــن الصديــق ،فالتطـ ُّـرف واإلرهــاب لــم يعــودا بحاجــة لالســتيراد كمــا فــي الماضــي. بخطبــة دينيــة الفيلــم تبــدأ أحــداث ُ فــي أحــد المســاجد الصغيــرة بفرنســا، ـب فيهــا اإلمــام لعناته علــى الحضارة يصـ ّ ُ الغربيــة ومظاهرهــا مــن اختــاط وتبــرج وحرّيــة للمــرأةُ ،موجه ًا وانفتــاح جنســي ّ الحاضريــن بــأن عليهــم تجنُّــب هــذه حرض ًا األفعــال والمظاهــر ،أو باألحرى ُم ِّ إياهــم علــى عــدم االندمــاج فــي المجتمــع نتعــرف بعدهــا إلــى بصــورة تامــة. ّ شــخصيات الفيلــم الرئيســية وهــم أربعة رفــاق جمعتهــم تلــك الــدروس والخطــب الدينيــة .يســتعد هــؤالء الســتقبال ويدعــى صديقهــم العائــد مــن «باكســتان» ُ «حســن» ،ويبــدو مــن حديثهــم عنــه بأنــه ـوق وزعامــة. يتمتــع ِب ِســمة تفـ ّ يتفـ ّـرق الرفــاق وتبقــى الكاميــرا مــع شــخصية البطــل وحــده ،وهــو «ســام»، الــذي تتشــابه تركيبتــه االجتماعيــة مــع صانــع الفيلــم نفســه (بوخريــف)، أب جزائــري فـ«ســام» هــو اآلخــر مــن ٍ
صِن َع في فرنسا ُ
وأم فرنســية ،يعمــل فــي الصحافــة وكان ٍ يقــرر يعيــش حيــاة ليبراليــة قبــل أن ّ زرع نفســه داخــل مجتمعات اإلســاميين المتطرفيــن ليتعـّـرف إليهــم عــن ُقــرب؛ ما ّ سيســاعده فــي التحقيــق الصحافــي الذي يجهــزه .لكنــه لــم يكــن يتوّقــع أن يتعّقــد األمــر ويجــد نفســه عضوًا بخليــة جهادية شـّـكلها «حســن» بعــد عودتــه ،وغرضهــا نقــل الحــرب اإلســامية المقدســة إلــى العواصــم األوروبيــة ،علــى َحـّد وصــف يتحــول دور «ســام» مــن األخيــر .هنــا ّ متنكر يجمــع المعلومات مجــرد صحافــي ّ إلــى عميــل لألمــن الفرنســي يســعى إلــى الكشــف عمــن وراء تلــك الخليــة وإنقــاذ العاصمــة الفرنســية من سلســلة هجمات دمويــة ُمرتقبــة. ِ يكتــف الفيلــم بتقديــم أصــول لــم متنوعــة لشــخصيات الجهادييــن ،فمنهــم ّ العربــي واإلفريقــي والفرنســي ،ليبتعــد بذلــك عــن قضيــة الالجئيــن وحصــر المشــكلة بهــم .لكنــه قـّدم ،أيضاً ،أســباب ًا كل منهــم ذلــك الطريــق، متنوعــة لســلك ٍّ ّ فمنهــم من يســعى لالنتقــام لصديقه الذي تعســف الشــرطة الفرنســية راح ضحيــة ُّ فــي حادثــة هــو بــريء منهــا ،ومنهــم
مــن يريــد التنفيــس عــن حنقــه وكرهــه للمجتمــع الغربــي بعــد أن تركتــه زوجته الفرنســية وهربــت بطفلتــه ،ومنهــم المختــل نفســياً .لكــن األكثــر عجبــ ًا كان ُ «كريســتوف» الشــاب الفرنسي من عائلة كاثوليكية ،والذي حين ُيســأل عن ســبب اعتناقه اإلســام وترك الكاثوليكية يرد: «ألنهــا ُمملــة!» هنــا يطــرح «بوخريــف» ويرددهــا بعــض فكــرة أصبحــت شــائعة ّ المحلليــن وهــي الجهــاد كلعبــة أفرزتهــا حالــة مــا بعــد الحداثــة الغربيــة ،حيــث ينضم لها الشباب األوروبي الذي يعاني مــن الخــواء ،مثلمــا ينضــم لعصابــات موســيقى الــراب والميتــال أو القيــام بمغامــرات تســلُّق الجبــال (أي فقــط مــن أجــل المــرح!). اهتــم «بوخريــف» بالتأكيــد علــى أن تلــك المجموعة (باســتثناء ســام) جاهلة بأمــور اإلســام وليســت شــديدة االلتــزام عبر عن ذلك من خالل ببعــض تعاليمــهّ ، جملــة علــى لســان «ســام» يخبــر فيهــا زوجته بأن «حسن» ال يعرف عن القرآن ســوى بعض ســور الحرب (المدنية) ،ثم يظهــر فــي مشــهد آخر وهــو يعلّمــه قراءة ويظهــر «حســن» في مشــهد وهو القــرآنُ ،
يحتســي الخمــر بأريحيــة ..إلخ. كمــا اهتــم بتصديــر مبــدأ أن المســلمين المعتدليــن هــم أولــى مــن يتصــّدى للمتطرفيــن مــن دينهم ،وكانت شــخصية ّ «ســام» ومــن وراءه «بوخريــف» نفســه تجســيدًا لهــذا المبــدأ ،ولعلّهــا أصبحــت ظاهــرة فــي األفــام الفرنســية مؤخــرًا ســببها تجنُّــب إظهــار األمــر فــي هيئــة صــدام أديــان وثقافــات ،تجلّــى األمــر أيض ـاً ،فــي فيلــم فرنســي آخــر بعنــوان «أسماء العشائر »Le Nom des Gens - عــام ،2010حيــث قـّدم الفيلــم شــخصية فتــاة مــن أصــول عربيــة إســامية ترافق المتطرفيــن اإلســاميين ،ليــس مــن أجــل ّ المــال ،بــل مــن أجل إثنائهم عــن أفكارهم المرة. المتطرفــة ،فــي إطار كوميدي هذه ّ ّ فــي النهايــة نســتطيع القــول بــأن تجربــة «بوخريــف» اتســمت بقــدر ال بأس بــه مــن الشــجاعة ،ونتــج عنهــا فيلم مهم بوضعــه فــي ســياق الحالــة التاريخيــة التــي نشــهدها ،لكــن هــذا ال يغفــر له كثير ــرة الم َ مــن العيــوب ،علــى رأســها ُ باش َ «صِن َع والكليشيهات. وبعض التســطيح ُ الصَدف أكثر له أضافت فيلم في فرنســا» ٌ ُ ممــا أخــذت منــه.
153
معارض
محمد ،هذا الشاب المغمور ،الذي قلّما تعثر على معلومة عنه عبر محرِّكات عندما ترى أعمال غالم َّ جادة عجمية أو من البحث اإللكترونيــة ،خصوص ًا قبل نيل جائزة «الفن جميل ،» 4تحســبها ســ ّ ّ جاد ،وبنوعية يهتم جنوب آســيا ،حيث النساجون ،هناك ،بالتفاصيل والمنمنمات المرســومة على الس ّ ّ ّ النسيج الذي قد يعيش دهر ًا .أشكاله معق ّدة وبسيطة في آن مع ًا ،تعتمد التكرار في الحروف وفي طريقة ً ّ ّ مشاهد واللوحة التي ال يضع لها عنوان ًا. مجتمعة ،ما يشبه الجدار الفاصل وتشكل، رصفها، الشفاف بين ال ُ النص ،وقد يرى -بصعوبة -بعض الحروف ،إلّا أنه ال يمكن قراءة شيء منها ،تمام ًا كما نرى مشاهد يرى ّ فال ُ األشخاص الذين ال نتكلّم لغتهم ،وتصبح لغة اإلشارة أو اللّغة البصرية ،هنا ،هي الوسيلة. ّ أهم جوائز محمد ،الذي فاز بواحــدة من تشــكل اللّغات وحروفها -إذن -قضيّة أساســية في تجربة غالم ّ َّ «الفن جميل »4التي تمنحهاّ ، ال َ «الفن جميل» مؤسسة كل سنتين، ن اإلسالمي المعاصر ،وهي جائزة ّ ّ ّ ف ّ الســعودية ،ومتحف «فيكتوريا أند ألبرت» البريطاني ،وقيمتها ( )25ألف باوند .وهو الفنّان الباكســتاني ّ المرشحين إليها ،إذ يبلغ عمره ( )27سنة فقط. األ َّول الذي يفوز بهذه الجائزة ،واألصغر سنّ ًا بين مع مجلّة «الدوحة» ،دار هذا اللقاء في «متحف بيرا» ،في إسطنبول ،حيث تُعرَض أعماله الفائزة.
الفنان الباكستاني غالم مح َّمد : املقصود من أعمايل أ ّلا تكون مقروءة ! حاورته يف إسطنبول :رنا نجار األول § أنت الفنّان الباكستاني َّ الذي يفوز بهذه الجائزة ،واألصغر المرشحين إليها عن عمر ()35 سّن ًا بين ّ سنة ،وعندما بحثنا عن اسمك عبر محركات البحث اإللكترونية ،قبل نيلك ّ الجائزة ،لم نعثر على ّأية معلومة، سواء بالعربية أو باإلنجليزية ،على عكس ما حصل بعد نيلك الجائزة العالمية ،إذ أصبحت مشهورًا في عالم الفّن المعاصر ...أخبرنا من هو غالم َ «الفن محمد؟ وكيف وصل إلى جائزة ّ َّ 154 154 154
جميل ،»4وهو ٍ آت من قرية نائية في باكستان؟
ولدت في كنف عائلة فقيرة جّدًا في قرية ُ«كاتشي» في إقليم «بلوشستان Kachi- ،»in Baluchistan provinceالذي يقع على أطراف الهضبة اإليرانية ،ويمتّد بين كل من إيران ،وباكستان ،وأفغانستان. ٍّ وقد ُسّمي «بلوشستان» بعد نزوح القبائل البلوشية إليه ،قبل آالف السنين؛ لذا نحن نتكلَّم ،في هذه المنطقة ،لغات كثيرة ،إذ تالقحت ،عبر األزمان ،حضارات كثيرة على
معبدة، أرضنا .قريتي نائية ،طرقاتها غير ّ والمواصالت فيها شبه مستحيلة ،ال مياه فيها وال كهرباء .عائلتي تعتمد على مياه األمطار للغسيل والشرب واالستحمام .ثم إن النظام التعليمي ،هناك ،ال يختلف كثيرًا عن بدائي جّداً .وعائلتي الفقيرة ال المعيشة ،فهو ّ تفقه بالَفّن ،وال تعّده «مهنة تسّد الجوع» .ال، بل كان جّدي وأعمامي يسخرون مني عندما ّية الفنون .كانوا أقول لهم إنني أريد دخول كلّ يقولون لي :أنت شاب ناجح ،وعليك أن تؤمن حياتك تدخل السلك العسكري ،كي ِّ
غالم محمد
وحياة عائلتك .جّدي هو من تولّى تربيتي؛ إذ توفِّي والداي وأنا صغير جّداً. الهوية بالنسبة إلى ّ مسجل في ّ السن ،فأنا َّ لكن لتاريخ مولدي على أني بلغت 36سنةّ ، سجلني ّ قصة مضحكة مبكية؛ فعندما ولدت ّ مختار المحلّة على أنني ُوِلدت في العام ،1979مع العلم أنني ُوِلدت في العام ،1989 يتنبها إلى هذا الخطأ أمَيْين ،ولم َّ وكان والداي ِّ كبرني عشر سنوات .ومع ذلك ،ال زلت الذي ّ «الفن جائزة ينال الذي ا ن س األصغر الفنّان ً ّ ّ المخصصة للَفّن اإلسالمي المعاصر. جميل» َّ
الفّن -إذن- § وكيف وصلت إلى َ وأنت في هذه الظروف؟
تعرفت إلى الفنون إنها الصدفةّ .صدفة ،عندما تناولها أستاذنا، الجميلة ً عاماً ،في الصف الخامس ا موضوع بوصفها ً ّ ابتدائي .ومنذ تلك اللحظة ،سحرتني أسرار الفنون ومكنوناتها ،خصوص ًا أنني وحساس ًا جّداً .قد أكون وجدت كنت يتيم ًا ّ في الفنون ضالّتي ،أو الوعاء الذي ُأفرغ فيه مشاعري المرهفة والدفينة ...في المتوسطة من التعليم ،انتقلت، المرحلة َّ مع العائلة ،إلى «كويتا ،»Quetta-وهي عاصمة إقليم بلوشستان .هناك ،كان
الوضع أفضل بالنسبة إلى التعليم ،ولكنه يبقى دون المستوى المطلوب ،خصوص ًا تخرجي لناحية ُّ التخصص في الفنون .بعد ُّ سراً، ، التحقت «كويتا»، في المدرسة في ُ ّ ومخفي ًا األمر عن جّدي الذي يرى في الفنون ُ مادة لهو ،بصفوف الرسم في مجلس ّ بلوشستان للفنون ،حيث تفّتحت عيناي على األلوان الزيتية ،والباستيل ،واأللوان المائية .وذلك كان مبهماً ،تماماً ،بالنسبة إلى عائلتي :جّدي ،وأخوتي األكبر سّن ًا مني .عندما عِلم جّدي أنني أدرس الرسم، غضب جّداً ،والمني على أنني ارتكبت خطأ فادحاً .وعلى رغم هدوئي وبساطتي ،كنت عنيداً ،ومضيت في تحقيق حلمي رغم ًا عن الجميع .وهنا ،انتقلت إلى عاصمة باكستان الثّقافية ،والعلمية ،والتاريخية ،الهور .في الهور التي ُت َعّد ثاني أكبر مدينة باكستانية، تغيرت وهي عاصمة إقليم البنجاب أيضاًّ ، حياتي ،وكأنني وضعت نظارات ألرى العالم من منظار آخر أجمل وأكبر .هناك، دخـلـت أكاديـمية «الحمرا »Alhamra- التابعة لمجلس الهور للفنون ،حيث نصحني أستاذي الفنّان الباكستاني المشــهور رشـيد رانـا «»Rashid Rana بااللتحـــــاق بجــامـعـة (Beaconhouse
.»National University» (BNUلكن قسط الجامعة كان باهظاً ،وأنا لم أكن أملك فلس ًا واحداً .وحتى لو عفوني من 75في المئة من القسط ،ال يمكنني تسديد الحظ لعب دوره معي، المبلغ المتبقّي .لكن ّ واجتمع مع موهبتي (بحسب ما يقول أساتذتي) ،فدخلت الجامعة بمنحة دراسية كاملة وشاملة ،فزت بها من برنامج «The »Madanjeet Singh Art scholarship للطلب «مؤسسة جنوب آسيا» ّ التي تمنحها ّ الموهوبين .ومن فوق مقاعد هذه الجامعة، مهماً ،بفضل عميدة فتح لي الدهر طريق ًا ّ ّية البروفيسورة سليمة هاشمي التي الكلّ ألهمتني ،وساعدتني كثيراً.
الفّن اإلسالمي § هل اخترت َ تخصصاً ،منذ البداية؟ ُّ
ملماً ،إلى هذه ال ،طبعاً ،فلم أكن ّالدرجة ،بأنواع الفنون كلّها وتاريخها .في البداية ،كنت مهتم ًا باللوحة التشكيلية، ولكن ،في السنة الجامعية الثالثة بدأت الفّن، أكتشف ميولي إلى أنواع أخرى من َ أهم مشاريعي وانجذبت إلى الـ«كوالج» .ومن ّ سجادة مصنوعة من شرائط الجامعيةّ ، منسوجة من الكتب األردية ،والتي استوحيت 155 155 155
منها -فيما بعد -أعما ًال أخرى ،ومنها مجموعة «الفن جميل .»4 األعمال التي فازت بجائزة ّ تغير شيء كل بعد هذا العمل التركيبيّ ، ّ أهم إلي؛ إذ جذبت تلك ّ السجادة ّ بالنسبة ّ ّية ،أو الغاليريهات ،في ن الف العرض صاالت َ ّ باكستان ،التي بدأت أعرض فيها حتى قبل تخرجي في الجامعة ،في 2013م. ُّ
تشكل اللّغات وحروفها التي § ّ عادة -من التواصل، تمكن البشر- ً ّ مهتم أنت لماذا ّك؛ ن ف في ة أساسي ة قضي ً َ ّ ّ ّ باللّغات؟ وما هذا الهاجس الذي يرافق ّية ،منذ كنت طالب ًا في مشاريعك َ الفنّ الجامعة؟
هذا الموضوع ،أو القضية ،نابع منواجهتها في طفولتي، تجارب شخصية، ُ األمّية التي عانى منها والداي، بدءًا من ّ قصة ّ وصو ًال إلى تنقُّلي بين القرية ،وكويتا، والهور .حكاية تعود إلى زمن الطفولة، ّية، حيث كنت َّ أتحدث لغة قريتي المحلّ وهي «الجاموث »Jamot -المتأّتية من اللّغة السندية التي تتكلّمها قبائل السند في األم ،وال أعرف باكستان .كنت أتكلَّم لغتي ّ يحّيرني، كان كتابتها أو قراءتها ،وهاذا ما ّ منذ كنت طفالً ،في القرية ،وبعدما انتقلت إلى وثم إلى الجامعة في الهور. مدينة كويتاّ ، 156 156 156
في باكستان ،اللّغة الرسمية هي األردية، وهي التي نتعلّمها في المدرسة ،أما اللّغات منسية! األخرى التي َّ جيدًا فهي ّ نتحدثها ِّ ترعرعت في بالد تكثر فيها اللّغات، أتحدث 6لغات وتتداخل اللهجات ،وأنا َّ ّية ،ما عدا اإلنجليزية ،التي ما زلت ال محلّ جيداً .من هنا ،كان اهتمامي باللّغة أّتقنها ّ كوسيلة اّتصال ،قد تبني جدارًا عاز ًال بين الناس وبين أبناء الشعب الواحد ،وقد تفتح لهم آفاق ًا واسعة ،في آن معاً .فأنا عندما انتقلت من القرية ،بعد وفاة والدي ،إلى المدينة ،أحسست بغربة ،خصوص ًا لناحية اللّغة األردية التي لم أكن أتقنها .وهذه األول ألكتشف دالالت التجربة كانت المحفّز َّ اللّغة وخفاياها وتأريخها وأشكال حروفها التي تختلط ،في بالدنا ،بين الفارسية، والعربية ،والهندية .وعلى رغم تشابه أساسيات الحروف بين اللّغات المستخدمة في باكستانّ ،إل أن اللفظ والمعنى واللهجة الهوة بيني وبين وسع ّ تختلف؛ األمر الذي ّ المجتمع الجديد الصلب الذي انتمى إليه.
عرض في § تعتمد أعمالك ،التي ُت َ عرض- وت «متحف بيرا» في إسطنبولَ ُ ، للمرة األولى -خارج باكستان ،على ّ كل من الحروف العربية التي ُتكَتب بها ٌّ
األردية والفارسية ...أخبرنا عن طريقة قص ولصق عملك المعقَّدة هذه ،والتي فيها ّ وأبعاد ثالثية ومنمنمات إسالمية!
مضن ،ويحتاج إلى جهد فع ًال هو عمل ٍ عادة ،أهوى البحث شخصي وصبر كثيرً . عن كتب باكستانية قديمة ،في المكتبات العريقة ،في باكستان ،و -خصوصاً -في سوق «أناركالي بازار»Anarkali Bazaar - بخط اليد، في الهور ،مكتوبة -غالباًّ - ومتخصصة في ثيمات اللّغات وأسرارها ّ ووسائل التواصل التاريخية .أختار ما يلفت انتباهي من هذه الكتب ،أقرؤها ،ثم ُأحّدد معينة ،كي أقتطع حروفها ،حرف ًا فقرات ّ وحادة .هذه دقيقة قاطعة ،بواسطة حرف ًا ّ األحرف األردية (اللّغة الرسمية في باكستان، تطورت مفرداتها من السنسكريتية وهي لغة ّ والفارسية والعربية والتركية والبشتونية) بخط عربي فارسي معروف عادةّ - ُتكَتبً - بالخط العربي الكوفي. بـ(النستعليق) أو ّ األشكال الهندسية لهذه الحروف الصغيرة جّدًا بأم العين ،تجذبني .فأتفنّن في التي ال ُترى ّ تقطيعها ،ثم ُأعيد تركيبها وتلصيقها ،بطريقة مقوى يشبه مكثّفة بالغة الدقّة ،على ورق ّ ويسمى «الوصلي،»wasli - ورق البردي، ّ ثم تّتخذ تلك الحروف، ومن باكستان؛ في َّ مجتمعة ،أشكا ًال تجريدية ثالثية األبعاد، ً
أقرب إلى المنمنمات التاريخية اإلسالمية التي أستوحي منها طريقة عملي ،إجماالً. وهذه األعمال تستغرق ساعات تصل إلى يومياً. 20ساعةّ ،
§ من الواضح في أعمالك تأصيل هوية العمل الَفنّي ،فإلى أي مدى يشغلك ّ هذا التأصيل؟
الفنّان .ماذا أنشغل أيض ًا بخصوصية َيعني أن يتشابه الَفنّانون في ما بينهم ،أو أن كل تجربة ال يشبه الَفنّان عمله .المفترض أن ّ لها عالقة بتراثها العقائدي واالجتماعي الفنّان ولغته وطبيعة والفكري وبمالمح َ أرضه وهو ما يجب أن يظهر في العمل الذي ال يشبه عمل فنان يقّدمه .ال يجوز أن نقّدم عم ً يعيش في المنطقة االسكندنافية ،رغم أن التراث اإلنساني ملك البشرية كلها .لكن في التنوع هو الذي يثري الحياة الثّقافية. النهاية ّ التنوع له عالقة بلون البشرة والعيون هذا ّ وطبيعة الشمس واألرض.
§ لوحاتك لها أشكال معقّدة ،وأخرى بسيطة ،تعتمد التكرار في الحروف ،وفي مجتمعة ،ما وتشكل، طريقة رصفها، ً ّ المشاهد يشبه الجدار الفاصل الشفّاف بين ُ
النص ،وقد يرى- فالمشاهد يرى ّ واللوحةُ . بصعوبة -بعض الحروف..
هذا هو المقصود -بالضبط -من أعمالي:ّأل تكون مقروءة .فأنا أراها كأشكال مرصوفة كل مشاهد أن بطريقة تجريدية ،وأريد من ّ مطوالً ،ويعيد تركيب الكلمات، يحّدق بها ّ وأن يقرأها كما يحلو له ،بحسب تجاربه تعمدت ّأل الشخصية ّ وخلفيته الثّقافية؛ لذلك ّ أضع عنوان ًا للوحاتي ألنني ال أريد تأطيرها معينة. معين أو فكرة َّ أو حصرها بموضوع َّ أنا ،هنا أخترع لغة بصرية جديدة ،مفتوحة ألي على ّ كل االحتماالت والثّقافات ،ويمكن ّ إنسان قراءتها كما يحلو له.
الفّن اإلسالمي اليوم؟ § كيف ترى َ الفّن اإلسالمي؟ وماذا وماذا عن حاضر َ مؤسسات، عن مستقبلهّ ، خاص ًة أن هناك ّ الفّن مثل هيئة متاحف قطر ،و«مجتمع َ ومؤسسة اآلغا خان ،ومتحف جميل»، ّ «فيكتوريا وألبرت» البريطاني ومتحف اللوفر الفرنسي ،التي تعمل جميعها على جماهيري ًة، االرتقاء به ،وجعله أكثر ّ وتخصص جوائز له؟ خصوص ًا في الغرب، ِّ ومتشعب وغني متنوع َّ الفّن اإلسالمي ّ جّداً ،ويمكن النهل منه طول العمر دون أن
لكن وغني ينضب .هو بئر عميق ومتنوعّ . ِّ ّ غياب التوثيق الدقيق لفنون الحضارات اإلسالمية في المنطقة ،وعدم حضن هذه لتستمر في اإلنتاج الحديث والمعاصر، الفنون ّ وفّنّهم ،فغابت وس َع الهوة بين المسلمين َ َّ المتاحف والمراكز واألبحاث والكتب، المتخصصة بفنون الحضارات اإلسالمية ِّ في كثير من بلداننا اإلسالمية ،لكنها عادت لتحتل اهتمام دول وحكومات ،خصوص ًا ّ في دول الخليج وتركيا .لكن بداية القرن الواحد والعشرين شهدت اهتمام ًا عالمياً، ولو بسيطاً ،على صعيد المايكرو ،بفنون خاص -من الحضارات اإلسالمية ،و-بشكل ّ المؤسسات التي ذكرناها سابقاً .هذا ِقَبل ّ االهتمام أعاد االعتبار لهذا النوع ،مع حاجة الغرب لفهم اإلسالم وحضاراته من جذوره، علو صوت اإلرهاب الذي ُت َّتهم المناطق ومع ّ تطورًا في الفنون وشهدنا فيه. اإلسالمية ّ اإلسالمية ،في فضاءات ومتاحف عالمية، وجوائز للفنّانين المعاصرين الذين يستوحون من هذه الحضارات ،أو ينهلون منها ،أو يبحثون في أسرارها ،إلحياء الَفّن اإلسالمي مادة مرنة قابلة ومحاولة َع ْص َرنته على أنه ّ حداثة، للتحديث ،وتتماشى مع أكثر الوسائل ً كالفنون البصرية ،والفنون الصوتية ،والفنون التشكيلية ،المعاصرة. 157 157 157
صفحات مطوية
«مخالب القط»
لم تجرح
يوسف السباعي!
شعبان يوسف كمــا كانت المرحلة التي حفلت بانفجار ثقافي وفكري وأدبي وإبداعــي في أواخــر أربعينيــات وأوائل خمســينيات القرن الماضــي ،تزدحم بكتابات تعلن ثــورة ثقافية كاملة ،كذلك كانــت ديناصورات األدب تدافع عن نفســها وكياناتها -التي راحت تهتز بقوة -بضــراوة ودون أدنى اعتبارات أخالقية، ولــم يقتصــر هــذا المنــاخ علــى بلد عربــي واحــد ،فكما كان ال في القاهرة ،كذلك كان متفجرًا في بيروت ودمشــق مشــتع ً وبغداد وبقية العواصم العربية األخرى بدرجات متفاوتة. ففــي العــراق كانت معركة الشــعر الحديث تحقّــق انتصارات ملموســة على أيدي بدر شاكر السياب ونازك المالئكة وعبد الوهاب البياتــي وآخرين ،وكانت القصة القصيرة والرواية 158
كل من :يوســف تتنفــس فــي العواصــم األخرى علــى أيدي ٍّ إدريــس ويوســف الشــاروني وفتحــي غانــم فــي القاهرة، وكذلــك كتابات ســعيد حورانية وحنا مينة وحســيب كيالي وعبــد الســام العجيلي في ســورية ،وكانت كتابات ســعيد تقــي الدين وتوفيق عواد يوســف وســهيل إدريس وغيرهم ّية وفكرية قادمة. تحرث األرض في لبنان ،تمهيدًا لقفزة َفنّ هكــذا كان التطور ســريع ًا لألجناس اإلبداعيــة المتنوعة في القصــة القصيرة والرواية والشــعر والمســرح .وفيما يخص النقد كانت هناك معارك ضارية قد قامت بين شباب المرحلة مثــل محمود أميــن العالم وعبد العظيم أنيــس وعبد الرحمن الشرقاوي وحسين مروة ،وإحسان عبد القدوس ،من ناحية،
وبين عباس محمود العقاد وطه حســين وتوفيق الحكيم من ناحية أخرى ،وكانت مجالت وصحف يومية تزدحم بأخبار تلــك المعارك ،وصدر كتاب «فــي الثّقافة المصرية» لمحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس عام 1955في بيروت ،وقّدم له حســين مروة ،وكان الكتاب بمثابة البيان األعلى صوتاً، عبر عن قطاع عريض من الكّتاب والمثقَّفين في العالم والذي ّ العربي. قبيــل صدور هذا الكتاب ،كان قد صــدر كتاب في أواخر عام القــط ،وكان عنوانه «في 1954للناقــد الدكتــور عبد القــادر ّ األدب المصري المعاصر» ،وانقســم الكتاب إلى ثالثة أقسام وهــي« :الســلبية في الروايــة والقصة المصرية ،والمســرح والفّن» ،وفي القســم عند توفيق الحكيم ،واألدب بين الغاية َ األول تناول القط ثالث روايات ،وهي« :أزهار الشر» لمحمد فريــد أبو حديد ،و«بعــد الغروب» لمحمد عبد الحليم عبد اهلل، «القــط» أن تلك و«إنــي راحلــة» ليوســف الســباعي ،ورأى ّ الروايــات ال ترقــى لكي تناســب التطور الــذي لحق بمختلف وركــز هجومه على روايتي «بعــد الغروب» و«إني الفنــونّ ، كاتبي الروايتين قد لفقا األحداث ،واختلقا راحلة» ،ورأى أن ّ شــخصيات ،واخترعــا واقعــ ًا ليس موجودًا علــى اإلطالق، حيث إن رواية «بعد الغروب» تحكي عن أحد األدباء األثرياء جداً ،وكان ذلك الثري يملك (عزبة) في الريف ،واســتوظف أحب أحد الشــباب لإلشــراف عليها ،وتسلسلت الرواية حتى ّ األب يدفع األحداث الشاب الفقير ،تلك الشابة ّ الغنية ،ولكن ّ فــي ســبيل تزويج ابنته ،بابن شــقيقه ،رغــم علمه بأنها ال تحبه ،ولكنها وقعت في غرام الشاب ،وتجري األحداث على هــذا النهج الســاذج الــذي رآه عبــد القادر القــط ال يرقى إلى ال عن أعتاب الرومانتيكية الغابرة ،ولكنه أدب ســاذج ،فض ً اللّغة الخشبية التي جاءت بها الرواية. وكمــا فعــل مع رواية «بعــد الغروب» ،فعل مــع رواية «إني راحلــة» ليوســف الســباعي ،وكان الســباعي آنــذاك أحــد مهندســي الثّقافــة المصريــة ألكثــر مــن عقديــن مــن الزمان فيمــا بعد ،وكان رئيســ ًا لتحرير أول مجلــة ثقافية أصدرتها ســلطة ثورة يوليو/تموز ،وهي مجلّة «الرسالة الجديدة»، كل مراكز القوى واســتطاع الســباعي أن يجمع فــي المجلّــة ّ الثّقافيــة آنــذاك ،ومــن هنا اســتخدمت المجلّة فــي الهجوم، كل خصوم السباعي وصحبه. وتصفية الحسابات مع ّ وفــي يناير/كانــون الثانــي 1956كتــب محمــد عبــد الحليم عبداهلل فــي مجلّة «الرســالة الجديدة» مقــا ًال عنوانه «مخالب هم الفراعنــة وحدهم ،لكن القــط» ،وبــدأه بـ( :بناة األهــرام ّ معــاول الهدم تســتطيع أي كف أن تحملها ،والنقد ،شــهادة وفّن ،والناقد شــاهد فنان ،يجب أن تتوفر فيه أمانة الشهود َ وصفــاء جوهــر الفنانيــن ،فــإذا فقد أحــد هذيــن العنصرين أمر من الخيبة التي تلحق ســواه، كانت الخيبة التي تلحقهّ ، وظهــور هــذا الكتــاب «الصغير» ،كمــا قال مؤلفــه ،ال يعتبر مكمــل لظاهرة عامة فــي حد ذاتــه حادث ًا يهتم به ،لــوال أنه ِّ الفنّي إلى أصبحــت واضحة المعالــم ،وهي« :تحويل النقــد َ سالح قد يكون عصا وقد يكون «طفّاشة» تفتح قفل خزانة»، المقدمة العامة الهجائية ،راح عبداهلل ُي ِ عمل معوله وبعد هذه ِّ
في شــتى أنحــاء كتاب القط ،ويســتخرج منه مــا ليس فيه، (القط) ،ولم يقصدها على وجه ويســتنبط تأويالت لم يكتبها ّ اإلطالق ،باإلضافة إلى معايرة القط نفسه ،بأنه يحسده ألنه لم يفز بجائزة المجمع اللّغوي على ديوانه «ذكريات شباب»، بينمــا هو حصل علــى جوائز عديدة ،وكان مــن المفترض أن يلتفت إلى تلك االعتبارات حسب زعم عبداهلل. وإذا كان عبــداهلل راح يكتــب حججــ ًا أكثرهــا يتصــل بالشــأن الثّقافــي ،فيوســف الســباعي ،وهو صاحب مجلّة «الرســالة مقدمــة المجلــة -أربع الجديــدة» ،ورئيــس تحريرهــا ،أفــرد ِّ للــرد على «القط» ،ومــن المعلوم أن مقدمة صفحــات كاملة- ّ المجلّــة البــد أن تكون شــأن ًا عاماً ،ولكن الســباعي اســتثمر يخصــه هو فقط ،ومن الغريب أن ّ للرد على «القط» في شــأن ّ الســباعي أطلق كمية ســباب مفزعة ،واختار عنوان ًا لمقدمته هــو« :كلمة هادئة حول الســلبية في القصــة المصرية ...من الكاتــب المراهق ..إلى الناقد اإليجابي ..الناضج ..المهتدي»، لوح عبداهلل بفوز روايته بإحدى الجوائز ،نجد السباعي وكما ّ يقــول للقط :إن الرواية طبعت خمس مرات متتالية ،ووزعت مئة ألف نســخة ،وكتب عنها طه حســين قائالً« :قصة ممتعة حقــاً ،أخــذت في قراءتهــا فلم أدعها حتى أتممتهــا ،ولم أفعل ذلــك متكلّف ًا لــه ،أو صابرًا نفســي عليه ،وإنمــا القصة التي اضطرتنــي لــه اضطراراً ،وحملتني علــى أن أفرغ لها وأترك مــا بيــن يدي مــن عمل لم يكن تركــه يســيراً ،»...ولم يتوقف السباعي عن استعداء القاصي والداني على عبد القادر القط، واســتخدم أوصافــ ًا وألفاظ ًا ال تليق بحديــث ثقافي ،مثل هذا ال يقولــه حمار ،أو جاهــل ،إنه مثل التومورجي الذي ال يتقن سوى إعطاء الحقنة ،وهكذا من سباب وأوصاف رديئة. لـ(لقــط) ،والذي عقّب في الرد مكفو ًال ّ ورغــم ذلك ،فــكان ّ حق ّ القط: مقــال لــه على مــا كتبه عبــداهلل ،وهنا بعض مما كتبــه ّ «رمانــي الكاتــب بأني لم أكن أمين ًا على المنهج الذي رســمته فــي مقّدمة الكتاب ،ألني خلقت من بعض الكتب ســماء ،ومن بعضهــا اآلخر أرضــاً ،ولم ألتفــت ّإل إلى الجانب الســيئ من قصتــه ،والحقيقة أني اتخذت من تلــك القصة أنموذج ًا لعيب َفنّــي يتخذ صورة الظاهر في قصصنــا ،فلم يكن هناك مجال للحديث عن جميع جوانبها ،أما إشارتي إلى الجوانب المختلفة من القصــص األخرى فإنها خاضعة لطبيعــة الموضوع ،فقد ألبين مدى نجاح مؤلفيهــا في التوفيق درســت تلك القصــص ِّ وفنّيته ،فكان طبيعي ًا أن أتحّدث عن محاسنها بين غاية األدب َ ومساوئها». كل ما جاء في هجوم عبداهلل عليه ،ولم يفته وراح ّ القــط يفنّد ّ أن يعلّق على فكرة الجوائز التي تصيب األدباء بلوثة الغرور، فكتــب« :والحق أن تلك الجوائز التــي نالها الكاتب هي عقدته التــي تجنى على أدبه ،وتدفعه إلى تلك الثورة الجانحة على حراس النقد» ،ولم تكن ثــورة عبدالحليم عبداهلل ّإل محاوالت ّ كل األدب الرجعــي فــي ذلك الوقــت للدفاع عن نفســه ،ورمي ّ مــن يهاجمه بمختلــف االتهامات الباطلة ،حتــى لو كانت تلك االتهامات صفيقة وظالمة ومشينة. 159
صفحة أخيرة
أحمد طه
االختيار واألحالم بعــد رحلــة تعليميــة بــدأت فــي مدرســة صغيــرة ،تحتــل الطابق األرضــي مــن بيــت متهالــك ،يقــع بالجــزء الشــعبي مــن حــي «شــبرا -مصــر» وكانــت تدعــى مدرســة القســيس عبــداهلل ،حيــث يجتمــع أطفــال المنطقــة الفقــراء ،ليتعلَّمــوا مبــادئ القــراءة والحســاب ،ورغــم اســم المدرســة ،فقــد كانــت تضــم أغلبيــة مــن أطفــال المســلمين ،ألن القســيس عبــداهلل لــم يكــن يتقاضــى أجــرًا لتعليــم هــذا الجيــش المهلهــل مــن أطفــال الحــي ،بــل لــم يكــن يعنيــه ديــن الطفــل أو الطفلــة .وهكــذا ،انتظمــت فــي هــذه المؤسســة التعليميــة ،بــل المدرســة ،التــي تفتقــر إلــى اعتــراف ّ وأهالــي التالميــذ أيضــاً ،كانــت وســيلة للتخلــص مــن شــقاوة األطفــال وضجيجهــم بالنســبة إلــى األهالــي ،الذيــن يعانــون مــن كثرة عــدد أطفالهــم ،ويعانــون أكثــر إذا تركوهم بالشــارع ،ألنهم ال يكفــون عــن المشــاجرة ،وتبــادل القــذف بالحصــى والــركل باألقــدام ،واختــاق المشــاكل مــع المــارة والجيــران. بعــد عــدة أشــهر انتقلــت األســرة إلــى مســكن آخــر أرخــص، ولكنــه فــي منطقــة أخــرى مــن حــي شــبرا نفســه ،وهكــذا تركــت مدرســة القســيس عبــداهلل ،إلــى ُك َّتــاب الحــاج محمــود المجــاور للمســكن الجديــد ،وهــو المســكن الــذي بقيــت فيــه لثالثيــن عامـاً، الك َّتــاب يقــع فــي باحــة جامع الحــاج محمــود ،وكان الشــيخ كان ُ كل شــهر ،وكان يختلــف عــن معلمــة يتقاضــى عشــرة قــروش ّ المدرســة األولــى التــي كانــت راهبــة طيبــة ،التــي كان عقابهــا يقتصــر علــى نظــرة عتــاب إلــى الطفــل المذنــب ،ولكــن شــيخ ـل بالنظــام أو يتكاســل الك َّتــاب كان شــديد القســوة علــى مــن يخـ ّ ُ فــي حفــظ الســورة القرآنيــة التــي يأمرنــا بحفظهــا ،وكان ال يتــورع عــن «مــد» المذنــب «بخيزرانتــه» التي تلســع باطــن القدم، وكأنهــا قــدت مــن النــار. الك َّتــاب ،ولرعبــي مــن عقــاب الشــيخ ،اســتطعت قبــل فــي هــذا ُ أن أبلــغ السادســة مــن حفــظ العديــد مــن آيــات القــرآن وإجــادة القــراءة والكتابــة ،وهــو مــا جعلنــي نجــم مدرســتي االبتدائيــة الحكوميــة ،بعــد التحاقــي بهــا عندمــا بلغــت السادســة. فــي عــام 1963م ،كنــت فــي مدرســة شــبرا الثانويــة ،وبســبب إجادتــي كتابــة موضوعــات اإلنشــاء ،وكثــرة اســتعارتي للكتــب مــن مكتبــة المدرســة الكبيــرة ،تــم اختيــاري فــي الســنة الثانيــة الثانوية لاللتحــاق بمنظمة الشــباب االشــتراكي ،التي قـّـرر «عبد الناصــر» إنشــاءها لتكــون تنظيمــه السياســي المؤمــن بنظامــه، ـون مــن الشــباب ،بشــكل خــاص. والــذي يتكـ ّ كانــت بدايــة هــذا االلتحــاق بالمنظمــة ،اجتيــاز المرحلــة األولــى مــن إعــداد الــكادر الجديــد ،وكان هــذا اإلعــداد فــي معســكر 160
كبيــر بمنطقــة حلــوان ،يضــم عــدة آالف مــن الطلبــة وشــباب العمــال والموظفيــن ،وكانــت مــدة المعســكر أســبوعين كامليــن، نــدرس محاضــرات مكثفــة فــي ماهيــة االشــتراكية العربيــة ،أي «اشــتراكية ناصــر» ،وفــي حفــل التخـّـرج ،شـّـرف ناصــر وعلــي التخــرج ،وليســتعد مــن اجتــازوا هــذه المرحلــة صبــري حفــل ّ للمرحلــة الثانيــة بعــد أقــل مــن عــام .وكان المعســكر هــذه المـّـرة فــي منطقــة أبــي قيــر بمحافظــة اإلســكندرية. التخــرج بمجموعــة مــن تشــرفنا هــذه المــرة عندمــا حــان حفــل ّ ّ قيــادات الناصريــة ،الذيــن تبــاروا فــي الخطابــة لتبشــيرنا بمــا ينتظرنــا مــن مجــد ،خاصــة لمــن ســيجتاز المرحلــة الثالثــة، فقــد كنــا نعلــم أن ســعيد الحــظ ســيصبح عضــوًا فــي التنظيــم الطليعــي ،وهــو التنظيــم الســري التابــع مباشــرة لعبــد الناصر. كنــا -بصفتنــا طالبـاً ،نعلــم أن المســتقبل أمامنــا -نســخر ممــن يتشــوقون لالنضمام لهــذا التنظيــم ،كنا نطلــق عليهــم «مخبرين قــررت الفــرار مــن المنظمــة وتجاهلهــا مــن منازلهــم» ،وقتهــا ّ تمامــاً ،وهــو مــا حــدث خاصــة بعــد نكســة يونيو/حزيــران، 1967التــي كانــت الضربــة القاضيــة للناصريــة وللمنظمــة معاً. قــررت االلتحــاق بعــد النكســة وانتهــاء المرحلــة الثانويــةّ ، بالقوات المســلحة ،إلنهــاء فترة التجنيــد اإلجبــاري ،واالشــتراك فــي المعركــة المقبلــة ،والتــي ســتحدث -فــي تقديــري -خــال عام علــى األكثــر ،وبعدهــا ســأكون حـّـر ًا ،تمامـاً ،لتحقيق حلمي متيســرًا للشــباب بالســفر إلــى أوروبــا ،حيــث الســفر وقتهــا كان ّ والطلبــة ،وال تتع ـّدى تكاليفــه عــدة مئــات مــن الجنيهــات. لكــن تقديــري خــاب ،فقــد ظللــت فــي القــوات المســلحة أكثــر مــن ســت ســنوات ،شــاركت خاللهــا فــي حــرب االســتنزاف وحــرب أكتوبر/تشــرين ،وعندمــا حــان وقــت تســريحي مــن الجيــش كل التعييــن فــي وظيفــة حكوميــة ،مثلــي كمثــل ّ جاءنــي خطــاب ّ تعيينــي كان فــي مجلــس الدفــاع ـن ـ لك ـرب، مــن شــارك فــي الحـ ّ ـكل يهنئنــي علــى هــذه الوطنــي ،أي المخابــرات العامــة ،كان الـ ّ تذكــرت الماضــي ومنظمــة الشــباب ،وقـّـررت الوظيفــة ،ولكنــي َّ رفضهــا ،وهــو مــا حــدث بعــد مماحــكات عديــدة ،ومــن َثـّـم ســقط حقــي فــي الحصــول علــى وظيفــة بعــد خدمتــي العســكرية الشــاقة. خرجــت مــن المبنــى المهيــب بعــد كتابــة اعتــذار عــن عــدم قدرتــي علــى االلتحــاق بالوظيفــة المرموقــة ،خرجــت بعــد أن أصبحــت حـّـراً ،تمام ـاً ،كمــا كنــت أحلــم ،ولكــن بــا عمــل وال أحــام. فهــل أكــداس الكتــب التــي أجلــس بينهــا ،والقصائــد التــي تمــأ تعوضنــي عــن أحالمــي الضائعــة؟ أدراجــي يمكــن أن ِّ