من مؤلفات الزعيم عبد الله اوجلان مانيفستو المجتمع الديمقراطي

Page 1

‫من مؤلفات الزعيم عبد ا اوجل ن مانيفستو المجتمع الديمقراطي‬ ‫مانيفستو المجتمع الديمقراطي ‪ -‬المجلد الول ‪) -‬الدمقرطة وقضايا تجاوز الحداثة الرأسمالية( ‪ -‬تاليف عبد ا‬ ‫اوجل ن‬ ‫المدنية ‪ -‬عصر اللهة المقَّن ةعة والملوك المتسترين –‬ ‫اسم الكتاب‪ :‬مانيفستو المجتمع الديمقراطي‬ ‫المجلد الول‪) :‬الدمقرطة وقضايا تجاوز الحداثة الرأسمالية(‬ ‫المدنية‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫عصر اللهة المقن ةعة والملوك المتسترين –‬ ‫تاليف عبد ا اوجل ن‬ ‫ترجَمته من التركية‪ :‬زاخو شيار‬ ‫)مع شكر خاص لكل من ساهم في التنقيح والتدقيق والمراج ةعة(‬ ‫مطب ةعة آزادي‬ ‫تاريخ الطبع ‪ :‬حزيرا ن ‪2009‬‬ ‫الفهرس‬ ‫مدخل‪5 ................................................................................‬‬ ‫سق الحقيقة‪25 ........................................‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬حول السلوب ونَ َ‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المصادر الولية للمدنية‪85 .............................................‬‬ ‫‪-1‬بماذا تُِديُن البشريةُ لقوس جبال طوروس – زاغروس؟‪87 ...................‬‬ ‫‪-2‬قضايا انتشار اللغة والثقافة الرية‪96 ........................................‬‬ ‫‪-3‬التفسير السليم للحياة الناب ةعة من الهلل الخصيب‪ ،‬وتطورها الجتماعي ‪108‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬المجتمع المديني )عصر اللهة المقّن ةعة والملوك المتسترين(‪129 .......‬‬ ‫‪-1‬كيف نفسر المجتمع السومري؟‪132 .........................................‬‬ ‫‪-2‬التفسير السليم للمجتمع المديني‪150 .........................................‬‬ ‫‪-3‬قضية انتشار المجتمع المديني‪174 ..........................................‬‬ ‫‌أ‪-‬قضاياانتشار الحضارات ذات الوصول السومرية والمصرية‪175 ..........‬‬ ‫ب‪-‬التطورات في ثقافة الصين والهند والهنود الحمر‪200 ..................‬‬ ‫‌‬ ‫ج‪-‬الحضارة الغريقية – الرومانية وقضايا انتشارها‪207 .................‬‬ ‫‪ -4‬مراحل المجتمع المديني وقضايا المقاومة‪235 ..............................‬‬ ‫مدخل‪:‬‬ ‫ص استقبَ​َلني عندما أوتي بي إلى سجن إمرالي‪ ،‬كا ن على مستوى ممثِل الهيئة الرئاسية لـ"لجنِة‬ ‫أوُل شخ ٍ‬ ‫مناهض ِة الت ةعذيب" التاب ةعة للمفوضية الوروبية ‪ .‬وكا ن أول ما قاله لي‪" :‬ستبقى في هذا السجن‪ ،‬ونحن‬ ‫سلَّمْتني الدولةُ اليونانية‬ ‫ض الحلول عبر المفوضية الوروبية"‪ .‬لقد َ‬ ‫سنراقب وض ةعك‪ ،‬وسنس ةعى ليجاِد ب ةع ِ‬ ‫س خيانٍة للصداقِة ل مثيل‬ ‫أسا‬ ‫على‬ ‫وذلك‬ ‫‪CIA‬‬ ‫واستخباراتها‬ ‫المريكية‬ ‫القومية إلى مراقبِة الوليات المتحدة‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ت مقّيدا إلى‬ ‫لها في التاريخ‪ .‬وعندما ُأضيَفت م ةعادلة المصالح المنف ةعية إلى علقاتها مع جمهورية تركيا‪ ،‬أوصبح ُ‬ ‫وصخوِر إمرالي في "عصِر الملوك ال ةعراة واللهة غير المقّن ةعة"‪ ،‬وُحِكم علّي بقَدريٍّة تضاهي أسطورَة‬ ‫بروماتوس ‪.‬‬ ‫والم ةعادلة التي مّهَدت لهذه المرحلة بخروجي من سوريا أكثُر لفتاً للنظار‪ .‬فالمفهوم الذي أخرَجني من سوريا‬ ‫يرتكز في مضمونه مجدداً إلى تصادِم التناقض بين الخط الذي رسمُته للصداقة‪ ،‬وبين سياسِة إسرائيل تجاه‬ ‫الكورد‪ .‬فإسرائيُل المنهمكة بُِرُبوبِيِّتها للقضية الكردية‪ ،‬وخاوصًة ب ةعد الحرب ال ةعالمية الثانية‪ ،‬أضَحت بالغةَ‬ ‫الحساسية تجاهها‪ ،‬لدرجِة أنها لم تحتمل طراز الحل الكردي الثاني‪ ،‬الذي َتزايَ​َد تأثيُره ووْقُ ةعه متمثلً في‬ ‫ق الستخبارات‬ ‫شخصي‪ .‬ذلك أ ن طرازي في الحل لم َيكن يتناسب وحساباِتهم على الطل‪.‬ق‪ .‬علّي أل أنكر ح ّ‬ ‫السرائيلية )الموساد( التي َدَعتني بشكٍل غيِر مباشر إلى طريقتها في الحل‪ .‬ولكني لم أكن مست ةعداً أو منفتحاً‬ ‫لذلك‪ ،‬ل أخلقيًا‪ ،‬ول سياسيًا‪ .‬لم َترَغْب إدارةُ سورية ال ةعربية بتاتا ً بتجاوِز شكِل ال ةعلقات التي يغلب عليها الطابع‬ ‫التكتيكي مع قيادة ‪ ،PKK‬علماً بأ ن رئاسة حافظ السد تحققت اعتماداً على وصراع الهيمنِة بين كّل من‬ ‫الوليات المتحدة المريكية والتحاد السوفييتي‪ .‬ومع انهيار السوفييت‪ ،‬لم يكن الوضُع الَحِرج يساعده في‬ ‫ق التوازَ ن مع تركيا من خللي أنا )عبر ‪،(PKK‬‬ ‫الحفاظ على أية علقٍة تكتيكية‪ .‬ف ةعندما كا ن )حافظ السد( يَُحقّ ُ‬ ‫ت جمهورية تركيا لسوريا والمبتدئة منذ عام ‪ 1958‬من جهة‪ ،‬وانحيازها‬ ‫كا ن يبحث عن رّد إزاء تهديدا ِ‬ ‫سبة في هذا الشأ ن‪ ،‬فقد وّفر إمكانيةَ إقامِة‬ ‫المتطرف لسرائيل من جهة ثانية‪ .‬وباعتبار أ ن ‪ PKK‬أداةٌ منا ِ‬ ‫علقٍة تكتيكية م ةعه على المدى الطويل‪ .‬ولم يكن ُيراد رؤية إمكانيِة أْ ن ُتمّهد هذه ال ةعلقة لسياسٍة كرديٍة ثانية‪،‬‬


‫ولم تتمكن جميُع مساعي الدارات التركية من التأثير في هذا السيا‪.‬ق‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ف للشارة إلى أّ ن إسرائيل هي القوةُ الساسية التي أخَرَجتني من سوريا‪ .‬ول ريب‬ ‫هذا التذكيُر الموَجُز وحده كا ٍ‬ ‫ت ال ةعسكريةَ التركيةَ َل ةعَبت دورها في ذلك أيضًا‪ .‬علينا أل ننسى‬ ‫ت السياسيةَ المريكيةَ والضغوطا ِ‬ ‫في أّ ن التهديدا ِ‬ ‫ف‬ ‫ت سريٍة مع تركيا منذ أعوام الخمسينات‪ .‬وللمرة الثانية‪ ،‬اكتمل التحال ُ‬ ‫أّ ن إسرائيل كانت ضمن م ةعاهدا ٍ‬ ‫المناِهض لـ ‪ PKK‬بين الوليات المتحدة المريكية وإسرائيل وجمهوريِة تركيا‪ ،‬لدى إضافِة الم ةعاهدة المسماة‬ ‫بـ"مكافحة الرهاب" في عام ‪.1996‬‬ ‫‪.‬ق جمهوريِة تركيا مع إدارِة ‪ PDK‬و ‪ YNK‬على‬ ‫ال ةعامُل الخر الهام الواجب إضافته إلى هذه المرحلة هو اتفا ُ‬ ‫س مناهضِة ‪ ،PKK‬وبم ةعنى آخر‪ ،‬اتفاُقها مع المجلس الكردي الفيدرالي المتكو ن في عام ‪ ،1992‬ومع‬ ‫أسا ِ‬ ‫ت جمهوريِة تركيا وقواتها‬ ‫إدارته التي هي على علقٍة مع كّل من أمريكا وإسرائيل‪ .‬ل شك في أّ ن حكوما ِ‬ ‫المسلحة كانت تتحرك بمفهوٍم تكتيكي في ظروف تلك اليام‪ .‬ولكْن‪ ،‬للتاريخ سيره الخاص‪ .‬فالدراكات المتغايرة‬ ‫ت هامة‪ .‬وي ةعود هذا الخطأ التاريخي‪ ،‬الذي طالما اغتاظت منه تركيا في راهننا‪ ،‬إلى‬ ‫للغاية تَُ ةعّين مجرى مستجدا ٍ‬ ‫وعيها الضيق والسطحي والناني والحادي الجانب‪ .‬وهكذا تَ​َحّقق خروجي من سوريا في عام ‪ِ 1998‬باتحاد‬ ‫مجموع هذه ال ةعوامل على حسابها‪.‬‬ ‫ت بمرحلِة انتظاٍر زائدٍة في هذه‬ ‫أقولها علناً أني‪ ،‬أنا أيضًا‪ ،‬كنت منتبهاً لضرورِة خروجي من سوريا‪ .‬وقد مرر ُ‬ ‫ت للرقي بها إلى‬ ‫ج السياسي المتنامي لجل كردستا ن‪ ،‬والصداقةَ التي طالما س ةعي ُ‬ ‫الساحة‪ .‬إل أّ ن جاذبيةَ النه ِ‬ ‫سراني‪ .‬علّي العتراف بأّ ن الدارة السورية على أرفِع المستويات كانت‬ ‫المستوى الستراتيجي‪ ،‬كانتا وكأنهما َتأ ِ‬ ‫تشدد بإوصراٍر على مخاطِر هذا المر‪ .‬لكني ل أزاُل أدافع عن أهميِة وحياتيِة الصداقة الستراتيجية بين‬ ‫ت الصداقة القَّيمة مع الش ةعب‬ ‫الش ةعوب‪ .‬وهذا هو المفهوم عينه الذي وّجهني إلى اليونا ن‪ .‬فتطويُر علقا ِ‬ ‫اليوناني‪ ،‬وإْ ن َلم يَُكن مع الدولة اليونانية‪ ،‬كا ن يثير اهتمامي من الدرجة الثانية‪ .‬فالتواوصل المتباَدل مع ثقافتهم‬ ‫الكلسيكية وتاريخهم المأساوي كا ن مهماً للغاية‪ .‬وضرورةُ الصداقة م ةعهم كانت تفرض ذاتها بكل عناد‪.‬‬ ‫ق الخروج‪ .‬فمنذ ن ةعومِة أظافري كانوا يلقبونني بـ"‪Dînê çolê,‬‬ ‫جباُل كردستا ن كانت الحتماَل الثانَي لطري ِ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫‪ ،"dînê çiya‬أي "مجنو ن البراري‪ ،‬مجنو ن الجبال"‪ .‬ولكّن حسابي لُِمؤثَرين اثَنين ج ةعلني أرِج ئ هذا الدرَب‬ ‫للمرتبة الثانية‪ :‬فالمنطقة التي سأكو ن فيها في الجبال‪ ،‬في الوطن‪ ،‬كانت ستت ةعرض للغارات والقصف المتواوصل‬ ‫ع السلحة كأمر ل مفر منه‪ ،‬مما كا ن سوف ُيلِحق أضراراً جسيمًة بالش ةعب والرفا‪.‬ق؛ إضافة إلى عامِل‬ ‫بكافِة أنوا ِ‬ ‫‪.‬ق ال ةعلقات‪ .‬ولدى الم ةعا ن في كّل ذلك‪ ،‬فإنه كا ن ي ةعني التركيَز بالضرورة على السبل ال ةعسكرية‬ ‫ق نطا ِ‬ ‫ضي ِ‬ ‫ً‬ ‫‪.‬ق فيها كليا‪ .‬المُر الخر الهام الذي كا ن يصدني عن الخروج إلى الجبال هو افتقاُر الشبيبة‬ ‫فحسب‪ ،‬والنزل َ‬ ‫للتدريب بشكٍل ل ُيصّد‪.‬ق‪ ،‬وضرورةُ تدريبي وإعدادي لها بكّل تأكيد‪.‬‬ ‫باختصار‪ ،‬فإّ ن مزاعَم ال ةعديد من الوساط الرسمية وغيِر الرسمية في تركيا بأنه "حاوصرناهم‪ ،‬انظروا كيف نلنا‬ ‫النتائج" ل ت ةعكس الحقيقة كثيرًا‪ .‬بَْيَد أّ ن كّل المحاولت الحثيثة التي ل تزال قائمةً في سياسِة التضييق على كّل‬ ‫ت‬ ‫من إيرا ن وال ةعرا‪.‬ق قد أدت إلى بروِز عقيدٍة عمياء ثابتة‪ ،‬بدًل من إعطاِء النتيجة المتوّخاة‪ .‬في حين أّ ن ال ةعلقا ِ‬ ‫التكتيكيةَ المقامَة مع سوريا وإيرا ن حاملةٌ بنتائَج ل يمكن التكهن بها منذ ال ن‪ .‬ولكْن‪ ،‬يمكن القول أّ ن هذه‬ ‫ال ةعلقات ُت ةعتَ​َبر وسيلةً لسياسٍة تحتضن في ثناياها الكثير من المور‪ .‬ولدى الحسِم بأمِر الثنائية‪" :‬إما ال ةعلقة‬ ‫ت جمهوريِة تركيا‬ ‫مع أمريكا – التحاد الوربي – إسرائيل‪ ،‬أو مع إيرا ن – روسيا – الصين"‪ُ ،‬ترى‪ ،‬هل حكوما ُ‬ ‫مست ةعدةٌ لتَ​َحّمِل كّل النتائج الناجمة عن ذلك؟‬ ‫ّ‬ ‫ت‬ ‫س التي استخلصُتها من مغامرتي خلل الشهر الثلثة على خط أثينا – موسكو – روما ذا ُ‬ ‫ل شك في أّ ن الدرو َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫شّكل‬ ‫در‬ ‫ف‬ ‫بأل‬ ‫المتحصنة‬ ‫الرأسمالية‬ ‫الحداثة‬ ‫على‬ ‫الت ةعرف‬ ‫على‬ ‫رتي‬ ‫قد‬ ‫ف‬ ‫قيمٍة تاريخيٍة ثمينة‪.‬‬ ‫ع وقناع – والتي تُ َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫المصطلَح الولي لمراف ةعتي هذه – مرتبطة مباشرة بمغامرتي تلك‪ .‬فلولها‪ ،‬دعَك من قيامي بهذه التحليلت‪،‬‬ ‫ت سُأنهي مصيري كحركٍة يساريٍة‬ ‫ي بدائي‪ ،‬أو كن ُ‬ ‫ربما كن ُ‬ ‫سّمر وأت ةعّلق بالدولتية القومية كقومو ّ‬ ‫ت سأتَ َ‬ ‫سسي الدول‪ .‬إني أضع نصَب عينّي عدَم التحدث‬ ‫مؤ‬ ‫لدى‬ ‫حتى‬ ‫الم ةعاشة‬ ‫ة‬ ‫المثل‬ ‫ت‬ ‫مئا‬ ‫في‬ ‫ل‬ ‫ص‬ ‫ح‬ ‫مثلما‬ ‫كلسيكية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ َ‬ ‫س قوي بأني لن أستطيَع الووصوَل إلى قوِة الحّل التي‬ ‫ي حد ٌ‬ ‫بشكٍل حاسٍم كمبدٍأ للم ةعرفة الجتماعية‪ ،‬ولكْن‪ ،‬لد ّ‬ ‫أمتلكها ال ن‪.‬‬ ‫بالنسبة لي‪ ،‬ساطٌع تماما ً أ ّ ن القوة الحقيقية والوصلية للحداثة الرأسمالية ل تنبع من مالها أو سلحها‪ ،‬بل من‬ ‫ق كافِة اليوتوبيات – بما فيها يوتوبيا الشتراكية الخيرة والقوى – وكتِم أنفاسها ضمن‬ ‫قدرتها على خن ِ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ليبراليتها المتنكرة بألبسٍة متغايرِة اللوا ن بما يَفو‪.‬ق قوة أمهِر ساحر‪ .‬وإذا لم يَُحلْل موضوُع خنقها لكافِة‬ ‫ق‬ ‫واث‬ ‫ي‬ ‫اليوتوبيات النسانية في بوتقِة ليبراليتها‪ ،‬ناهيك حينها عن الكفاح ضد الرأسمالية ‪ ،‬فإّ ن أعظَم تياٍر فكر‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫من نفسه لن يتخلص من التحول إلى خادٍم مطيٍع لها في أحسن الحوال‪ .‬ما ِمْن أحٍد حّلل الرأسماَل بقدِر ماركس‬ ‫ع الدولة والثورة بقدِر لينين ‪ .‬ولكْن‪ ،‬اتضح لل ةعيا ن اليوم أّ ن التقاليد الماركسية –‬ ‫‪ ،‬وِقلةٌ نادرةٌ تَ​َ ةعّمَقت في موضو ِ‬ ‫اللينينية قد أهدت َكّما ً ل ُيستها ن به من المواد والم ةعاني إلى الرأسمالية‪ ،‬حتى ولو بَ​َدت مضادةً لها‪ .‬وكثيراً ما‬ ‫ف أشكاِل الوعي‬ ‫نصادف أوضاعا ً ينّم فيها التاريخ عن نتائَج تَُفو َ‬ ‫ت إراداتنا التي هي مجموُع مختل ِ‬ ‫‪.‬ق توق ةعا ِ‬ ‫المتباينة‪ .‬ل أوضح ذلك كقدٍر محتوم‪ ،‬أو ك ةعلقٍة جدليٍة ل مفر منها‪ .‬بل‪ ،‬وعلى النقيض‪ ،‬أستنبط منه نتيجَة‬


‫ق أكثر على يوتوبيا الحرية‪.‬‬ ‫ضرورِة التركيز ب ةعم ٍ‬ ‫َ‬ ‫إذا َلم نحلل الفرَد والمجتمَع اللذين ُتحّرضهما الليبرالية ‪ ،‬ولم نَُوّجه النساَ ن إلى مساره الطبي ةعي؛ فلن تَُكوَ ن‬ ‫ح ذلك مطّوًل‪.‬‬ ‫النتيجةُ أب ةعَد من الموت بالسرطا ن الجتماعي‪ .‬سأسهب في شر ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫أود الووصوَل إلى القوِل بأني لن أستطيع تحليَل مصيري بشكٍل سليم‪ ،‬ما لم أحلل الحداثة الرأسمالية‪ ،‬أي‪ ،‬النظاَم‬ ‫ضَلت بي إلى‬ ‫الساحر المتستر وراء تلك السيدة ذات السب ةعين من ال ةعمر‪ ،‬ممّثلِة المفوضية الوروبية التي تَفَ ّ‬ ‫سجِن إمرالي‪ .‬فهذه المرحلة قد ابتُِدَعت من بدايتها إلى نهايتها على يِد كّل من إسرائيل وأمريكا والتحاد‬ ‫الوروبي بَِمِ ةعّية روسيا السوفييتية المنهارة‪ .‬في حين أّ ن دوَر الحكومات السورية واليونانية والتركية في‬ ‫المؤامرة ل يذهب أب ةعد من الخدمات البيروقراطية من المرتبة الثانية‪.‬‬ ‫ت ذلك علناً للمسؤولين التراك‪ ،‬أي‪ ،‬لممثلي‬ ‫لقد ذكرُت في فترة التحقيق أنه ل م ةعنى للفرح باعتقالي‪ .‬قل ُ‬ ‫المؤسسات الربع الساسية‪ :‬استخبارات هيئة الركا ن ال ةعامة‪ ،‬منظمة الستخبارات القومية ‪ ،MIT‬مديرية‬ ‫ت الصداقة بهذه الدناءة والغدر‬ ‫المن ال ةعام‪ ،‬والمخابرات ال ةعسكرية )مخابرات الجندرمه(‪ .‬فاستغلُل علقا ِ‬ ‫الت ةعسفي‪ ،‬وتحاُملهم علّي‪ ،‬ورميي في الطائرة بمؤامرٍة فريدٍة من نوعها؛ ليس بطراٍز شهٍم في الحرب‪ .‬حتى‬ ‫هذه الحقيقةُ ُت ةعتَبر مثالً ضارباً للنظر في الشارة إلى ماهيِة ليبراليِة الحداثة الرأسمالية التي هي شكُل نفوِذ‬ ‫الوليات المتحدة المريكية‪ .‬إنها النظام الذي ل ي ةعرف حدوداً للقمع والستغلل‪.‬‬ ‫ت وحيداً‬ ‫ت الجرأَة على مناهضتها حتى عندما كن ُ‬ ‫سق كفاحي‪ .‬فقد أبدي ُ‬ ‫لس ُ‬ ‫ت جاهلً لدولتيِة القومية التركية في نَ َ‬ ‫وفي أض ةعف حالتي‪ .‬وكّل شاهٍد يدرك أني ناضلت بشكل جيد‪ ،‬ول عجَب في ذلك‪ .‬فما كا ن في الميدا ن هو قراُر‬ ‫وفرماُ ن الموت بحق الكردايتية‪ .‬وفي هذه الحال‪ ،‬إما كنُت سأقاوم وأتشبث بإنسانيتي وكرامتي‪ ،‬أو كنت سأنتهي‬ ‫متخبطاً في عبوديٍة مجهولِة اللو ن والهوية‪ .‬ل أناقش هذا الواقع هنا‪ ،‬ول أغتاظ منه‪ .‬ولكّن النقطة الساسية‬ ‫ي شكٍل من الشكال‪ .‬إنه نظاٌم‬ ‫التي كن ُ‬ ‫ت أغتاظ منها هي ال ةعجُز عن وضِع حّد للحماقة الفكرية واليديولوجية بأ ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫يزعم أ ّ ن ما يسمى بحقو‪.‬ق النسا ن تكاد ل تتسع لها الرض ول السماء‪ .‬بينما الحقيقة هي نسبة الستغلِل‬ ‫سلّ َ‬ ‫طها على بَِني جلدتها‪ ،‬بل وعلى البشرية جم ةعاء بنحٍو ل مثيل له‬ ‫والحروب التي َخ ّ‬ ‫صتها حفنةٌ من الناس لِتُ َ‬ ‫ص َ‬ ‫َ‬ ‫ي من الكائنات الحية‪ .‬وهي ل تكتفي بذلك وحسب‪ ،‬بل وُتسّمم البيئة برمتها‪ ،‬بما فيها سطحها‬ ‫في نظاِم أ ّ‬ ‫وباطنها‪ ،‬ومن ثم تمنحها للبشرية‪.‬‬ ‫س في هذه الثقافة هو‬ ‫كا ن المجتمُع الذي ُوِلد ُ‬ ‫ت فيه مشحوناً بالمؤثرات الثقافية للقرية النيوليتية ‪ .‬والسا ُ‬ ‫ت بهذه ال ةعواطف‪ .‬لكْن‪ ،‬وكأنه ل يكفي البقاء علينا خارَج‬ ‫ت ترعرع ُ‬ ‫الصداقة الشفافة والنضال غير الت ةعسفي‪ .‬كن ُ‬ ‫ب منذ‬ ‫س كقَدٍر مكتو ٍ‬ ‫مساِر كاف ِة المراحل الحضارية‪ ،‬وتحويل التأثيرات السلبية المري ةعة للمدنية إلى اغترا ٍ‬ ‫ب قا ٍ‬ ‫وصرنا بإطاِر الدولِة القومية‬ ‫أمٍد ب ةعيد؛ بل وتَ​َوّحدت التقاليُد الصارمة الشد ت ةعصباً مع الحداثة الرأسمالية‪ ،‬فحو ِ‬ ‫من خلِل القومويِة الثنية ضمن الحدود القصوى للشوفينية؛ لَِيغدَو كّل ذلك تسلطا ً ونفوذاً أيديولوجيا ً م ةعقداً‬ ‫ف الواضِع إوصبَ ةعه على الزناد متأهبا ً في كّل لحظة‪ ،‬يغدو السُم الثاني‬ ‫ف المكشو ِ‬ ‫يص ةعب تفكيكه‪ .‬وبإضافِة ال ةعن ِ‬ ‫شبَهُ بمسماٍر مدكوٍك في الرض حتى قبل الولدة‪.‬‬ ‫للقدر المحتوم متجسداً في التحوِل إلى ما هو أَ ْ‬ ‫َلم يَُكن خروجي من حدوِد جمهوريِة تركيا حصيلةَ مقاومٍة باسلٍة باهرة‪ .‬أما الدافع وراء خروجي هذا‪ ،‬فكا ن‬ ‫ت يساريٍة دوغمائيٍة وثوقية ‪ .‬و‬ ‫البحَث عن ساحِة حياٍة جديدٍة لحل القضية الوطنية التي تَ​َ ةعّلقنا بها بِ​ِ ةعّدِة تحليل ٍ‬ ‫‪ PKK‬في الشر‪.‬ق الوسط‪َ ،‬لم يَُكن ح ّ‬ ‫ت النظام‪.‬‬ ‫ض المنجزات بالستفادة من ثغرا ِ‬ ‫ق ب ةع ِ‬ ‫ظه يذهب أب ةعَد من تحقي ِ‬ ‫لكْن‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬ل يمكن الستخفاف بمساعيه وطموحاته في تطويِر وت ةعزيِز ذاته كقوٍة مناِهضٍة للنظام القائم‪.‬‬ ‫إّ ن توّجهَ ‪ PKK‬نحو الكفاح المسلح الدائم‪ ،‬وخاوصًة في الجبال بالدرجة الولى‪ ،‬أمٌر ِجّد هاّم من حيث النتائج‬ ‫التي سيوّلدها‪ .‬في حين أّ ن هذا بالنسبة للكرد ي ةعني التوجهَ قدماً وصوب التسّيس‪ .‬أما النقطاُع عن ال ةعناوصر‬ ‫المتواطئة الكلسيكية‪ ،‬فَ​َولَّد م ةعه الدراَك بإمكانيِة وجوِد بديٍل حّر لول مرة‪َ .‬لم تَُكن انطلقتنا متَوقَّ ةعةً ول مقبولةً‬ ‫ب النظم الستبدادية المتبقية من ال ةعصور الوسطى الكلسيكية‪ ،‬ول من الدول القومية الملَحقة بها‬ ‫من جان ِ‬ ‫ف قوى الهيمنة المبريالية والدوِل القومية القليمية‬ ‫وتحال‬ ‫م‬ ‫تفاه‬ ‫وراء‬ ‫السبب‬ ‫هو‬ ‫وهذا‬ ‫بال ةعصرية‪.‬‬ ‫ة‬ ‫ِ‬ ‫والمسما ِ‬ ‫ِ‬ ‫مع الكورد المتواطئين حول الوصرار على أ ن "‪ PKK‬تنظيم إرهابي"‪ .‬فالكردي الحر‪ ،‬بفرده ومجتم ةعه‪ُ ،‬ي ةعطلّ‬ ‫سد كّل حفظياِتهم )ما حفظوه عن ظهِر قلب( رأساً على عقب‪ .‬وأيديولوجيةُ الفتوحات السلمية‪،‬‬ ‫وُيف ِ‬ ‫وأيديولوجيات القومية الليبرالية قد َمَحت الكردايتي الحرة من دفاترها منذ زمٍن غابر‪ ،‬واعتبَ​َرتها خارَج مجرى‬ ‫التاريخ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ض جزيرٍة م ةعزولٍة متجسدا في شخصي هو‬ ‫ما يتم دحضه أساسا والس ةعي للحكم عليه في سجٍن انفراد ّ‬ ‫ي في َعر ِ‬ ‫ت اليوميةُ المطّبقة علّي في سجِن إمرالي النفرادي طيلةَ تسِع سنوات‪ ،‬إنما هي‬ ‫هذه الكردايتية الحرة‪ .‬والسياسا ُ‬ ‫ت جدية‪،‬‬ ‫مدروسةٌ وممنهجة‪ .‬والنظر إليها على أنها سياسا ُ‬ ‫ت التركية فحسب يؤدي إلى مغالطا ٍ‬ ‫ت الم ةعتقل ِ‬ ‫ت حادٍة وعن سيادِة ال ةعقم السياسي بالنسبة للكرد والترك على حّد سواء‪.‬‬ ‫ويسفر بدوره عن وصراعا ٍ‬ ‫ت جيداً أّ ن التركياتيةَ عاجزةٌ عن ممارسِة الحرب أو السلم باسمها‪ .‬فالدور الذي أناطته الحداثة‬ ‫لكني أدرك ُ‬ ‫ب الشر‪.‬ق‬ ‫الرأسمالية بها هو أْ ن تَُكوَ ن الحار َ‬ ‫س المين والشرطي والدركي الفظ الساعي لج ةعِل كافِة ش ةعو ِ‬ ‫الوسط‪ ،‬بما فيها الش ةعب التركي‪ ،‬منفتحةً لقمِع واستغلِل النظام الرأسمالي‪.‬‬


‫ت الناضول موثوقةً بأوتاٍد متينة‪ .‬ما‬ ‫وسواًء الذين داخل أوروبا أو خارجها‪ ،‬ما يهمهم هو أْ ن تَُكوَ ن تركيا وثقافا ُ‬ ‫ع السياسات والستراتيجيات‪ ،‬وبنسبٍة عليا من‬ ‫ي سياسٍة أخرى‪ ،‬بل يتم تسيير أد ّ‬ ‫ُيطّبق هنا ليس كأ ّ‬ ‫‪.‬ق أنوا ِ‬ ‫الخفاء والشمولية والتماسك‪ .‬وبموجب ذلك‪ ،‬يمكننا استي ةعاب علقات الناتو والتحاد الوروبي بشكٍل أفضل‪.‬‬ ‫حتى هذه المور التي س ةعيُت لشرحها إلى ال ن تشير إلى أني لن أستطيَع تقديَم مراف ةعٍة قّيمة‪ ،‬ما َلم أَقُْم بإدراك‬ ‫سَب م ةعانيها عبر الحقو‪.‬ق‬ ‫الحداثة الرأسمالية والغوص في أعماقها‪ .‬ساطٌع أيضا ً أّ ن ركائَز مراف ةعتي لن َتكتَ ِ‬ ‫‪.‬ق‬ ‫ش َ‬ ‫ف النقاَب عن أسبا ِ‬ ‫الصرف المجرد‪ .‬فالتناول السياسي والستراتيجي السطحي لن َيك ِ‬ ‫ب التكتم على سيا ِ‬ ‫مرحلِة "إعادة المحاكمة"‪ .‬كما أّ ن استي ةعاَب م ةعنى إعادِة المحاكمة يتسم بأهميٍة قصوى لتسليِط الضوِء على حّل‬ ‫الكردايتية الحرة‪ .‬وانطلقتي في "الجمهورية الديمقراطية" تجاه القضاء التركي الصوري‪ ،‬وكذلك أطروحاتي‬ ‫الشاملة باسم "من دولة الرهبا ن السومريين نحو الحضارة الديمقراطية" و"دفاعاً عن ش ةعب"‪ ،‬والتي قدمُتها‬ ‫ق فهِم‬ ‫في دعواي المرفوعة إلى محكمة حقو‪.‬ق النسا ن الوروبية؛ إنما كانت في مضمونها س ةعيا ً لتحقي ِ‬ ‫ب ضرورِة "تحويل‬ ‫الديمقراطيِة الحقة وال ةعدالة الحقة‪ .‬في حين أّ ن مراف ةعاتي الخيرةَ هذه تهدف إلى استي ةعا ِ‬ ‫الحداثة الرأسمالية إلى قضية‪ ،‬وتجاوزها"‪ ،‬بقدِر ما تهدف إلى إضفاِء الم ةعاني الغنيِة والشاملة للدمقرطة َكَحّل‬ ‫بديٍل‪ ،‬سواًء بنظامها السياسي‪ ،‬أو بروابطها مع الحرية‪ .‬بالتالي‪ ،‬فهذا ما يدل مرةً أخرى على أّ ن مراف ةعاتي‬ ‫بمجملها متكاملةٌ ومتّممةٌ لب ةعضها‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ت أّ ن المحاكمَة الولى في إمرالي كانت ل ةعبة است ةعراضية‪ .‬فحقيقة‪ ،‬لم تَكن الشروط أثناَءها وفيرة للقيام‬ ‫ت ذكر ُ‬ ‫كن ُ‬ ‫‪.‬ق التفاوصيل‪ .‬كا ن كّل شيٍء يسير وفق المخطط المرسوم‪،‬‬ ‫ع حقوقي‪ .‬بل كا ن كّل شيٍء مخططا ً مسبقا ً وبأد ّ‬ ‫بدفا ٍ‬ ‫س القضاة الم ةعّين وخاوصياته ومزاياه‪ ،‬إلى المشاركين في مرحلة‬ ‫بدءاً من يوِم إوصدار القرار‪ ،‬وموطِن رئي ِ‬ ‫المحاكمة‪ ،‬ومن فترِة المحاكمة إلى كيفيِة استخداِم الوسائل العلمية‪ .‬وكا ن قد حصل التفا‪.‬ق في هذا الصدد مع‬ ‫كّل من أمريكا والتحاد الوروبي‪ .‬وما كا ن يقع على عاتقي تجاه هذا الواقع هو أل أَُكوَ ن مداف ةعاً حقوقيا ً مزيفًا‪.‬‬ ‫‪.‬ق في الوسط‪ .‬والوضع عينه كا ن سارياً على التحاد الوروبي‪ .‬فالمشكلة كلها كانت‬ ‫وبالوصل‪َ ،‬لم يَُكن ثمة حقو ٍ‬ ‫تتجسد في كيفيِة استخدامي أساساً ضمن مجمِل إطار القضية الكردية‪ .‬وكا ن على كّل شيٍء أْ ن ُيسّخَر لخدمِة هذا‬ ‫‪.‬ق التحاد‬ ‫الغرض‪ .‬وبالوصل‪ ،‬فمرحلة كينيا‪ ،‬من البداية وحتى النهاية‪َ ،‬لم تَُكن سوى خرقاً لقوانيِن وحقو ِ‬ ‫ع‬ ‫الوروبي‪ .‬بل وحتى قوانين كينيا ونظام الحقو‪.‬ق التركي أيضاً كا ن قد تم خرقهما‪ .‬أما البقاُء على موضو ِ‬ ‫العداِم قائما ً في الَجندة‪ ،‬فكا ن مت ةعلقاً بالنتائج السياسية للدعوى‪ .‬كانوا َيزَعمو ن أني خائف‪ .‬ومن هنا‪ ،‬كا ن‬ ‫‪.‬ق الدائم لتهديدي بالعدام سيكو ن مفيداً لهم‪ .‬ما كا ن علّي القيام به تجاه هذه الوضاع هو تقديم مساَهمٍة‬ ‫التطر ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫في المسار السياسي‪ .‬ولهذا السبب كانت ماهية الرسالِة السياسية للمراف ةعات مهمة جدا‪ .‬كما كا ن من الضروري‬ ‫ت ل ةعمله‪ .‬كا ن هذا هو‬ ‫البحث عن أجوبٍة جذرية للمغالطات الجدية التي أسفرت عن هذه المحصلة‪ .‬وهذا ما س ةعي ُ‬ ‫الساس الذي ترسخ عليه المفهوُم السائد في كافِة مراف ةعاتي في تلك المرحلة‪ .‬وَلم تَُكن المساَهمةُ في نضاِل‬ ‫ض نسبِة التحول إلى أداٍة في هذه الل ةعبة لقّل درجٍة أمراً ممكناً إل بهذا المنوال‪.‬‬ ‫الحرية‪ ،‬وتخفي ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫‪.‬ق النسا ن الوروبية على اعتقالي بَِكوِنه ُمنافياً للحقو‪.‬ق‬ ‫حقو‬ ‫ة‬ ‫محكم‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫تح‬ ‫ ن‬ ‫أ‬ ‫بانتظار‬ ‫ت‬ ‫كن‬ ‫أقولها علنا ً أني‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫والقوانين‪ .‬وهكذا كا ن بالمكا ن أْ ن تَتَ​َولَد الفروصة لمحاكمٍة عادلة‪ .‬لكّن هذا الحكَم َلم َيصُدر‪ ،‬فكا ن دليلً وصارخاً‬ ‫سَد في الضطرار للقوِل ب ةعدِم عدالِة المحاكمة‪ .‬بالوصل‪ ،‬فكّل شيٍء جرى‬ ‫على الجحاف‪ .‬وما تبّقى من المر تَ​َج ّ‬ ‫ض للمشاهدِة علنًا‪ .‬وب ةعد انتظاٍر طويٍل من المل بمحاكمٍة عادلة‪ ،‬وصدر الحكُم المطابق لسابقه على‬ ‫كاست ةعرا ٍ‬ ‫الملفات ِمن قِبَِل المحكمَتين الجنائيَتين الحادية عشرة في أنقرة والثالثة عشرة في إسطنبول‪ ،‬واللَتين هما من‬ ‫بقايا محاِكِم الدولة القومية القديمة‪ .‬لقد وصدر هذا الحكُم بالفضيحِة الحقوقية الشني ةعة‪ ،‬والمبادرات المنافية كلياً‬ ‫ت الطويلِة المدى‬ ‫ت البنود‪ ،‬وبمزاعِم النشغال والجراءات الخاوصة بالملفات‪ ،‬وحصيلةَ اللقاءا ِ‬ ‫للحقو‪.‬ق في عشرا ِ‬ ‫والحاديِة الجانب من قِبَِل مفوضي ِة التحاد الوروبي مع الحكومة التركية‪ ،‬مقابل التنازلت السياسية الهامة‬ ‫التي حصلت عليها الولى لصالحها‪ .‬لقد حصل الوفا‪.‬ق مع اللجنة الوزارية للتحاد الوروبي على هذا الساس‪،‬‬ ‫ف محكمِة‬ ‫فأعيدت الملفا ُ‬ ‫غ الصبر موق َ‬ ‫ت ثانيةً إلى محكمِة حقو ِ‬ ‫‪.‬ق النسا ن الوروبية‪ .‬ول يزال الجميُع ينتظر بفار ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫‪.‬ق النسا ن الوروبية إزاَء قرارها في المحاكمة ال ةعادلة‪ .‬هكذا أفِرغت جهودي من محتواها حينما كن ُ‬ ‫حقو ِ‬ ‫أتأهُب للقيام بالدفاع الحقوقي الساسي خلل مرحلِة إعادِة المحاكمة‪ .‬ولذلك‪َ ،‬لم َتذهب المحاكمةُ الحقوقية أب ةعَد‬ ‫من كونها است ةعراضًا‪.‬‬ ‫ب بشكٍل أفضل في هذه المرحلة هو كوُ ن أمريكا والتحاِد الوروبي وجمهوريِة تركيا في تواوصٍل‬ ‫المُر المستوَع ُ‬ ‫ص عموِم القضية الكردية‪ .‬فبينما ُتقّدم‬ ‫ف وبح ٍ‬ ‫كثي ٍ‬ ‫‪.‬ق فيما بينهم بخصوص ‪ PKK‬وشخصي‪ ،‬وبخصو ِ‬ ‫ث عن وفا ٍ‬ ‫ب آخر على مواقفها‬ ‫صّر من جان ٍ‬ ‫ت القتصاديَة الواس ةعة مقابل تصفيِة القضية الكردية لديها‪ ،‬فهي تُ ِ‬ ‫تركيا التنازل ِ‬ ‫س الدولة الفيدرالية الكردية في ال ةعرا‪.‬ق‪ .‬ومع مروِر كّل يوٍم يتضح أكثر أنه ثمة‬ ‫في الدعم المشروط لتأسي ِ‬ ‫ت علناً مع أمريكا‪ ،‬فقد‬ ‫لقاءا ٌ‬ ‫ت والمساوما ُ‬ ‫سيَّرت هذه التنازل ُ‬ ‫ت مكوكيةٌ مرّكزةٌ َتجري في هذه المواضيع‪ .‬وبينما ُ‬ ‫كا ن أهّمها مت ةعلقاً باعتقالي‪ ،‬والبقاِء علّي محكوماً بالعدام دو ن محاكمة‪ ،‬وبتصفيِة القضية الكردية في تركيا‪،‬‬ ‫‪.‬ق النقد الدولي ‪ IMF‬وم ةعاييُر كوبنهاغن للتحاد‬ ‫وإعلِ ن ‪ PKK‬كـ"تنظيٍم إرهابي"‪ .‬في حيْن كا ن وصندو ُ‬ ‫الوروبي ستاراً حسناً لهذا الوفا‪.‬ق القذر‪.‬‬


‫ف الشني ةعِة والمريبة في مؤسسات التحاد الوروبي‪.‬‬ ‫أقولها علنيةً أني َلم أَُكن أتَ َ‬ ‫صوُر حصوَل كّل هذه المواق ِ‬ ‫‪.‬ق النسا ن والم ةعايير الديمقراطية في التحاد‬ ‫وقد حثتني هذه الحقائ ُ‬ ‫ق على القيام بِتَ​َحّر وتَقَ ّ‬ ‫ص عمي ٍ‬ ‫ق بصدِد حقو ِ‬ ‫ف جذريًة‬ ‫الوروبي‪ .‬وقد تبين خلَل ت ةعمقي في هذه المواضيع أّ ن القضايا أعم ُ‬ ‫ب مواق َ‬ ‫ق مما نتصور‪ ،‬وتتطل ُ‬ ‫س الدرجة من ال ةعمق لَِحّلها والتغلب عليها‪ .‬ل ريب في أّ ن التحاَد الوروبّي قطَع أشواطا ً متقدمةً على وص ةعيِد‬ ‫بنف ِ‬ ‫‪.‬ق النسا ن والديمقراطية‪ ،‬ويَُ ةعّد نافذةَ المِل ل ةعاَلمنا الراهِن في هذا المضمار‪ .‬لكّن الحداثَة الرأسمالية القاب ةعةَ‬ ‫حقو ِ‬ ‫ً‬ ‫في أسسه وركائزه تج ةعله موثوقا بأغلٍل غليظٍة تتسبب في التشاؤم وخيبِة المل إزاء قدرته على تحقيقه‬ ‫ت أخرى‪.‬‬ ‫انطلقا ٍ‬ ‫س ي ةعتقدو ن أّ ن قياَم الثورات‪ ،‬ولو في جزٍء من أوروبا‪ ،‬سيشكل وصماَم الما ن لنتصاِر ثوراِتهم‪.‬‬ ‫الرو‬ ‫ر‬ ‫الثوا‬ ‫كا ن‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ولكْن‪ ،‬م ةعلوٌم أّ ن طموحاِتهم هذه لم تتحقق‪ .‬وعلى النقيض‪ ،‬فقد قامت الثورةُ الوروبية الليبراليةُ المناِهضةُ‬ ‫صهِر روسيا السوفييتية ومجمِل النظام الذي راَدته وتَ​َزّعَمته في بوتقتها‪ .‬والمُر ينطبق على كافِة الثورات‬ ‫بِ َ‬ ‫س المصير‪ ،‬فإ ن التطلَع إلى الدمقرطة‬ ‫الديمقراطية في راهننا‪ .‬ولكي ل َتلقى الماُل الم ةعقودةُ على أوروبا نف َ‬ ‫‪.‬ق‬ ‫وحقو‬ ‫للديمقراطية‬ ‫يمكن‬ ‫ول‬ ‫ال ةعالمي‪.‬‬ ‫س المال‬ ‫ال ةعالمية ُي ةعتَبر السبيَل الكثَر واق ةعيةً في عصِر ازدهاِر رأ ِ‬ ‫ِ‬ ‫سَب م ةعانيها السامية إل في ظّل هذه البراديغما ‪.‬‬ ‫ت القائمة في أوروبا أْ ن َتكتَ ِ‬ ‫النسا ن والحريا ِ‬ ‫ف الساسية التي‬ ‫هذه الدوافُع وال ةعلُل التي س ةعينا لشرحها بخطوطها ال ةعريضة تستلزم التحليَل ال ةعميق للوصنا ِ‬ ‫أدت إلى عدِم الرغبة في "إعادة المحاكمة"‪ ،‬وَتج ةعُل إسقا َ‬ ‫ت إليها سابقا ً في واقِع‬ ‫ط البنود الساسية التي تطرق ُ‬ ‫مراف ةعاتي على مصادرها الوصلية أمراً مهمًا‪ .‬ورغم أّ ن الختزالية المفر َ‬ ‫ع جدّيين في‬ ‫طةَ تؤدي إلى ضلٍل وخدا ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫الوعي‪ ،‬لكنه من المهّم بمكا ن تَ​َحّمل مثِل هذه المخاطر‪ ،‬باعتباِر أّ ن القضية ناب ةعة من الحداثة‪ .‬وبالوصل‪،‬‬ ‫فالفصول الساسية التي نحاول حّلها تتسم بتكامٍل داخلي‪ ،‬مما سيَُحّد من مخاطِر الختزالية إلى الحد الدنى‪.‬‬ ‫ت م ةعالجَته ب ةعد المدخل‪ .‬من‬ ‫سق الحقيقة" ‪ Hakikat Rejimi‬الفصَل الول الذي رغب ُ‬ ‫يشكل "السلوب ونَ َ‬ ‫الم ةعلوم أ ن السلوَب ي ةعني السبيَل أو الطريقة المألوفة في البحث والتدقيق‪ .‬وسيساعد ت ةعريف هذه ال ةعادات‬ ‫المجّربة في التاريخ واليوم الراهن في تسليط الضوء عليها‪ .‬ذلك أ ن إيضاَح السباب الولية للمفاهيم السلوبية‬ ‫ق لسلوكه دائمًا‪ ،‬ولو أننا‬ ‫بجوانبها اليجابية والسلبية سيَؤّمن السهولَة في تحليلتنا‪ .‬إذ‪ ،‬ل بد من وجوِد طري ٍ‬ ‫لسنا متشبثين بالسلوب على نحٍو َمَرضّي‪.‬‬ ‫سق الحقيقة هو أفضل الساليب للووصول إلى م ةعنى "الحياة"‪ .‬ما هي "الحقيقة" التي طالما‬ ‫ما قصدناه بنَ َ‬ ‫شغلت بال النسا ن وفكره؟ كيف يمكن الووصول إليها؟ بم ةعنى آخر‪ ،‬فالبحث عن أجوبٍة لقضاياها ال ةعالقِة الممتن ةعِة‬ ‫ق جدّيين‪ .‬سنس ةعى في هذا الفصل إلى إزالة‬ ‫ب تحليلها في سبيل بح ٍ‬ ‫يأتي في مقدمة المواضيع الواج ِ‬ ‫ث وتدقي ٍ‬ ‫ت الفكرية الولية‪ ،‬وعن مصطلَحي "الموضوعانية الشيئية" و"الذاتانية المثالية"‬ ‫ض النظريا ِ‬ ‫الستار عن ب ةع ِ‬ ‫سرا وسحرا مخيلة وذهنية البشرية جم ةعاء‪.‬‬ ‫اللَذين وكأنهما أ َ‬ ‫َ‬ ‫ح استحالِة تناوِل‬ ‫وفي فصل "تمييٌز قّيم بين الزما ن والمكا ن في التطور الجتماعي"‪ ،‬سنس ةعى أساسا ً ليضا ِ‬ ‫قضايا إنشاء الفئات الجتماعية الساسية بشكٍل منفصل عن الزما ن والمكا ن‪ .‬فتناُوُل أشكال نشوء المجتم ةعات‬ ‫ي وكأنه ل وجوَد لب ةعاٍد مكانية فيها؛‬ ‫ث تاريخية" وصرفة‪ ،‬أو شرُحها بشكٍل تجريد ّ‬ ‫ومضامينها على نحِو "أحدا ٍ‬ ‫ً‬ ‫ح رذالًة‪ ،‬وينتهي به المطاف‬ ‫المصال‬ ‫د‬ ‫لش‬ ‫ة‬ ‫أدا‬ ‫ويج ةعله‬ ‫تام‪،‬‬ ‫ه‬ ‫وتي‬ ‫جدية‬ ‫ت‬ ‫اعتلل‬ ‫نحو‬ ‫إنما يَُجّر وعينا الجتماعي‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ببلغٍة زائفة ولَ​َغٍط ديماغوجّي لدى المجتمع باسم "الحقيقة"‪ .‬عندما تؤخذ الب ةعاد الزَمكانية للمضامين أساساً‬ ‫ت إضفاِء الم ةعاني القّيمِة على‬ ‫بكل سطوعها وجلئها لدى إنشاء الوقائع والحقائق الجتماعية‪ ،‬ستزداد إمكانيا ُ‬ ‫"حياة النسا ن"‪ .‬وحينئذ‪ ،‬سيتم إدراك أّ ن الكثيَر من المصطلحات والنظريات ليست سوى مفارقات كبرى في‬ ‫السفسطة والخداع والمغالطة‪ ،‬و"قوالب كلمية" )كليشيهات كلمية محفوظة(‪ .‬سن ةعمل بشكٍل ملموس على‬ ‫إضفاء الم ةعاني على التطور التاريخي والمكاني للمدنية الراهنة )نقصد الساسية منها( على نحِو عناوصر أولية‪.‬‬ ‫ح ولدِة الرأسمالية كشكٍل إنتاجي‪،‬‬ ‫وفي فصل "عصر الملوك ال ةعراة واللهة غير المقَّن ةعة" سنجهد ليضا ِ‬ ‫ف عن جوهرها الباطني‪ ،‬حيث تتبدى ظاهريا ً وكأنها‬ ‫والسرطنة الناجمة عنها في المجتمع‪ .‬سنحاول الكش َ‬ ‫َ‬ ‫واضحةٌ للغاية‪ ،‬في حين أّ ن الرأسمالية جوهريا ً قد َأوثَ​َقت ُعرى السلطة السياسية بذاتها‪ .‬سنكشف حقيقة م ةعاني‬ ‫ت ال ةعلم‪ ،‬بحيث غدت دوامةً يستحيل‬ ‫ب الكّل ضد الكل‪ ،‬والم َ‬ ‫ت ومصطلحا ِ‬ ‫سّيرِة بأساليب ال ةعلموية ونظريا ِ‬ ‫حر ِ‬ ‫ّ‬ ‫النفاُذ من تسلطها في الميدا ن الذهني‪ .‬كما سن ةعمل على إنارِة مهارِة النظام الرأسمالي في تحويِل جميِع التيارات‬ ‫المكافحة ضده إلى آلٍة ملئم ٍة لتسخيرها في خدمته‪ ،‬وفي مقدمتها التيارات الماركسية والفوضوية والتحررية‬ ‫ضع وقيمة المقايضة )التبادل( إلى آلهٍة جديدة تتحكم‬ ‫الوطنية‪ ،‬وحتى الديمقراطية – الجتماعية‪ .‬كيف َتحّول التب ّ‬ ‫بجميع المجتم ةعات‪ ،‬ب ةعد أ ن كانت تزدريها في البداية؟ والحفنُة النادرة من الملوك القدامى المرتدين للملبس‬ ‫ت خاوصة في حياتهم الستثنائية داخل ردهات قلعهم وقصورهم‪،‬‬ ‫‪.‬ق وامتيازا ٍ‬ ‫المختلفة اللوا ن والمتمت ةعين بحقو ٍ‬ ‫كيف تكاثروا بإفراط‪ ،‬وكيف أوصبحوا عراًة مكشوفين‪ ،‬بحيث لم ي ةعد بالمكا ن تمييزهم عن أتباعهم؟ ورغم أ ن‬ ‫ت َتفنى في ظّل بيئِة هذا‬ ‫ي للغاية وماد ّ‬ ‫هذا النظام علمّي للغاية وسلطو ّ‬ ‫ي للغاية‪ ،‬فلماذا يتم التحول إلى جماعا ٍ‬ ‫النظام وبنيته الداخلية بالموت والمراض التي ل يتسبب بها حتى أكثُر الناس جه ً‬ ‫ل؟ سنجهد لوضِع اليد على‬ ‫ألغاِز هذه السئلة وإيجاِد الجوبِة لها‪ .‬سنفحص كيفيَة إضفاِء الم ةعاني أو عدمية الم ةعاني على الدوار والحياة‬


‫الحقيقية‪ ،‬سواًء بصدد انقسامات الدولة القومية المتصدعة ببناها القتصادية والجتماعية ومؤسساتها‬ ‫السياسية‪ ،‬أو بصدد التقسيمات ال ةعلمية الناجمة عن هذه المفاهيم والنظريات‪ .‬سنشرح الدوَر الوصلّي لّليبرالية‬ ‫ت القومويِة والفردية ‪ .‬وسُنظِهر كيف تَُكو ن الرأسماليةُ حربا ً دائمة‬ ‫التي تَُ ةعّد ِدينا ً رسميًا‪ ،‬مثلما هي حال النزعا ِ‬ ‫َ‬ ‫مسّلطًة على المجتم ةعات ببناها الداخلية والخارجية‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬كيف تَُكّو ن حالة الزمة والفوضى المتوترة‬ ‫والمضطربة في الحياة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ص كيفيِة الخلص من‬ ‫وفي الفصل الُمَ ةعنَو ن باسم "عصر الحياة بيوتوبيات الحرية مجددا"‪ ،‬سنسترسل في فح ِ‬ ‫ت الحرية‪.‬‬ ‫الحياة المتأزمة والفوضوية للحداثة الرأسمالية‪ ،‬والووصوِل مجدداً إلى أنماِط حياٍة مشحونة بيوتوبيا ِ‬ ‫سنتطر‪.‬ق فيه إلى كيفية الووصوِل لتكامِل الم ةعاني الروحية والذهنية الجديدة في سبيِل الحصول مجدداً على‬ ‫ت ةعابي ِر الحياة المثالية والخلبة المطرودة والمنفية من الحياة ال ةعصرية الرأسمالية القاب ةعِة تحت سيادِة البنى‬ ‫المادية‪ .‬سنتحدث كذلك عن كيفيِة بس ِط الجنحة للتحليق نحو الكو ن المسمى بـ"الحياة الحرة" في ظل تكامِل‬ ‫ب الحياِة ال ةعصرية الرأسمالية المزيلِة للم ةعاني حالةً من الهروب من الموت‪،‬‬ ‫تلك الم ةعاني‪ .‬وبينما تكو ن قوال ُ‬ ‫َ‬ ‫ت‪ ،‬وبتروا الحياةَ عن‬ ‫المقدسا‬ ‫أفسدوا‬ ‫وكيف‬ ‫م ةعانيها‪،‬‬ ‫من‬ ‫الحياة‬ ‫–‬ ‫الموت‬ ‫ة‬ ‫ثنائي‬ ‫سنكشف عن كيفية إفراغهم‬ ‫ِ‬ ‫ت أبدي ومحشٍر سرمدي‪ .‬كما سنس ةعى لضفاء‬ ‫جوانبها الساحرِة والجذابة والشاعرية‪ ،‬لُينشئوا بذلك عصَر مو ٍ‬ ‫الم ةعاني على َخيار الحياة الحرة المثالية كحالٍة من ال ةعيد الكوني‪ ،‬رغم أنها لم ت ةعد ُتدَرك بسهولة بسبب الرموز‬ ‫التي أضفيت عليها عبر ال ةعديد من الوصطلحات من قبيل مصطلح ما وراء الحداثة ‪ ،‬ورغم مصادفة ال ةعديد من‬ ‫ت ةعبيراتها التوفيقية المتمفصلة‪ .‬حيث سنست ةعرض ونَُخ ّ‬ ‫ق الووصوِل إلى حياِة الجماعات اللحظية واليومية‬ ‫ط طري َ‬ ‫ً‬ ‫ذات الم ةعاني الغنية‪ ،‬بدلً من اللجوء إلى أشكاِل المجتمع والنتاج مثلما جرت ال ةعادة‪ ،‬وبدل من العتماد على‬ ‫المصطلحات والنظريات الفاسدة بسبب مثل هذه التصنيفات المسدودة‪.‬‬ ‫‪.‬ق الوس َ‬ ‫ت‬ ‫ط في عصِر الرأسمالية" بشكٍل منفصٍل ضمن خصووصياته‪ .‬ما هي المؤّثرا ُ‬ ‫هذا وسنتناول "الشر َ‬ ‫ت الرأسماليِة الفاشلِة في إسقاطه خلل‬ ‫الولية التي تصو ن الشر َ‬ ‫‪.‬ق الوسط وتج ةعله وصامداً ثابتاً أمام محاول ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ي الحتمالت يحتويها‬ ‫وأ‬ ‫ال ةعالم؟‬ ‫في‬ ‫ال ةعقيمة‬ ‫ل‬ ‫المشاك‬ ‫ة‬ ‫بؤر‬ ‫إلى‬ ‫ط‬ ‫الوس‬ ‫‪.‬ق‬ ‫الشر‬ ‫ول‬ ‫تح‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫الحربين ال ةعالميتين؟ لماذا ّ‬ ‫ِ‬ ‫في طواياه كساحٍة وزماٍ ن أساسّيين للحرب ال ةعالمية الثالثة الناشبة بشكٍل من الشكال في راهننا؟ كيف علينا‬ ‫‪.‬ق الوسط ووصموِده إزاء الحداثة الرأسمالية؟ هل يمكن لهذه الساحة‪ ،‬التي‬ ‫إضفاء الم ةعاني على مقاومِة الشر ِ‬ ‫َ‬ ‫هي مهُد الحضارات‪ ،‬أ ن تتحوَل بشكٍل م ةعاكس إلى مقبرٍة لها لتصبح ساحة النتقال والتوجِه نحو عصِر‬ ‫يوتوبيات الحياة الحرة؟ هل سيكو ن باستطاعِة هذه الساحة المل ّ‬ ‫طخة لمقّدساتها بالطين والداِهسِة لحياتها تحت‬ ‫القدام أ ن ت ةعيد وصياغةَ مقّدساِتها وتولَّد "أنما َ‬ ‫ط الحياة الحرة" الخلبِة والشاعرية والموسيقية المشحونة‬ ‫ب الماديِة وال ةعلمية للحداثة‬ ‫بالم ةعاني الفاضلة؟ وفي سبيل ذلك‪ ،‬هل ستقدر على تحطيِم الوثا ن والقوال ِ‬ ‫الرأسمالية‪ ،‬لتتمكن من تأسيس أشكاِل الدارِة الديمقراطية ذات المكانيات الوفِر لحياٍة أكثَر حريًة‪ ،‬وتشكيِل‬ ‫س الحكمة المفَ ةعَمة بالم ةعاني السامية؟ سنبحث عن ردوٍد لمثل‬ ‫مجموعا ٍ‬ ‫ت إنتاجية متكاملٍة مع البيئة‪ ،‬وبناِء مجال ِ‬ ‫هذه التساؤلت‪.‬‬ ‫هذا وسنتناول في فصٍل آخر "دو َر الكرد في الحرب الفاوصلة"‪ ،‬تلك الحرب التي أش ةعلت الرأسماليةُ شرارَتها في‬ ‫شبَهُ بالم ةعركة الفاوصلة التي أسَمْتها المسيحيةُ‬ ‫الشر‪.‬ق الوسط‪ ،‬بحيث أوصبَحْت المنطقةُ ساحةً من الوغى أَ ْ‬ ‫ُ‬ ‫والموسوية "َهْرَمَجّدو ن" ‪ ،‬والتي سّماها السلُم "المحشر‪ ،‬القيامة" متأثراً بالديانتين الخَرَيين‪ .‬وبم ةعنى من‬ ‫ب أو يَُهّرب‬ ‫الم ةعاني‪ ،‬يمكُن ن ةع ُ‬ ‫ت الكرِد بأنهم "ش ةع ٌ‬ ‫ب آخر َيهُر ُ‬ ‫ب ليس بش ةعب"‪ ،‬حيث من المحال مصادفةُ ش ةع ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ب من قيمه وُمثله الجوهرية لهذه الدرجة‪ ،‬أو رؤيِة مجموعٍة من البشر متباينٍة بهذا القدر‪ .‬ل يمكن الزعُم‬ ‫ويَُجنّ ُ‬ ‫ت البشر القادرة على‬ ‫بأّ ن الكرَد ش ةع ٌ‬ ‫ت الحرب والقتال‪ .‬ذلك أنهم من أكثر جماعا ِ‬ ‫ب خائُر القوى أو مفتقٌر لمهارا ِ‬ ‫ً‬ ‫ض غماِر الحرب والنتصار فيها‪ ،‬نظرا لجغرافيتهم الستراتيجية وخصائصهم النثروبولوجية ‪ .‬كما إّ ن‬ ‫خو ِ‬ ‫ت الجرأِة الكامنة لدى نسائهم وشبابهم عاليةٌ جدًا‪ ،‬لكنهم ُأحيلوا إلى جبناَء يخافو ن حتى ظلَلهم‪ .‬ستضطر‬ ‫طاقا ِ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ع‬ ‫مشرو‬ ‫ة‬ ‫وصاحب‬ ‫ل‬ ‫إسرائي‬ ‫أ ن‬ ‫حين‬ ‫في‬ ‫الوسط‪،‬‬ ‫الشر‪.‬ق‬ ‫في‬ ‫لها‬ ‫ا‬ ‫جديد‬ ‫ا‬ ‫أساسي‬ ‫ا‬ ‫حليف‬ ‫الش ةعب‬ ‫هذا‬ ‫لختيار‬ ‫أمريكا‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫ف كليًا‪.‬‬ ‫كرد ّ‬ ‫ي مختل ٍ‬ ‫َ‬ ‫ف المسيحيين‬ ‫ر‬ ‫ف‬ ‫الذي‬ ‫الش ةعب‪،‬‬ ‫هذا‬ ‫إ ن‬ ‫ض السلُم عليه النسيا ن وإنكار الذات‪ ،‬سيحتل مكاَنه بالغلب في مصا ّ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫والموسويين ضمن َحلبَِة م ةعركِة َهْرَمَجّدو ن الفاوصلة إزاَء كافة البنى الطرائقية وال ةعقائدية )السلمية(‪.‬‬ ‫وبالوصل‪ ،‬تتشكل الغالبية الساحقة من هذا المجتمع الكردي من علمانيي المذهَبين ال ةعلوي واليزيدي والمذاهب‬ ‫الخرى التي فقَدت م ةعانيها وعفا عليها الزمن منذ دهٍر غابر بين وصفوف الشرائح الفقيرة البائسة‪ .‬أما الحفنةُ‬ ‫ب الطبقة ال ةعليا وزعماِء المجموعات والطرائق السلمية التقليديِة وال ةعصرية‪ ،‬فيتخلو ن‬ ‫القليلة من أوصحا ِ‬ ‫بسرعٍة عن دورهم في التواطِؤ مع ال ةعرب وال ةعجم والترك‪ ،‬ويبحثو ن لنفسهم عن أسياٍد جدٍد في مدِ ن‬ ‫ت يمكن إفناؤها بكل سهولة‪.‬‬ ‫ت وصغيرة وشخصيا ٍ‬ ‫ت المبريالية؛ وهم يشكلو ن مجموعا ٍ‬ ‫ومتروبول ِ‬ ‫ح النظُر إلى دوِر الكرد في هذه المرحلة الجديدة من الصراع والفوضى داخل الشر‪.‬ق‬ ‫الفاد‬ ‫الخطأ‬ ‫ولكن‪ ،‬من‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫الوسط بأنه مقتصٌر على التواطؤ‪ .‬فالغالبية ال ةعظمى من الكرد المت ةعطشين لفلسفِة "الحياة الحرة" ستبقى في‬ ‫ب حياِة ال ةعصور‬ ‫انتظاِر رّوادها الفاضل لتروي ظمأها‪ .‬وبينما ُت ةعتَبر هذه الغالبيةُ قابلةً للتخلي بسرعٍة عن قوال ِ‬


‫ب الدويلة القومية الم ةعروضة عليها‪،‬‬ ‫الوسطى المستهَلكة التي عفا عليها الزمن‪ ،‬فهي لن تتشبث كثيراً بقال ِ‬ ‫والتي ل تسمح بفروصِة الحياة الحرة لي ش ةعب‪ ،‬في حين ُت ةعتَ​َبر ال ةعماَد المتَن للحداثِة الرأسمالية‪ .‬وبالمقابل‪ ،‬فإّ ن‬ ‫شكَل الدارة الكونفدرالية الديمقراطية الكثر ملءمًة لتحقيق طموحاتهم في الحرية والمساواة‪ ،‬يَُ ةعّد الشكَل‬ ‫سبةً للكرد‪ ،‬نظرًا لخصائصهم ومزاياهم التاريخية والجغرافية‪ .‬من هنا‪ ،‬تؤدي "منظومة‬ ‫السياسّي الكثَر منا َ‬ ‫المجتم ةعات الكردستانية ‪ (KCK" (Koma Civakên Kurdistan‬دورها‪ ،‬وتتميز بم ةعانيها النبيلة‬ ‫وبحلولها الوصلح والنسب بصدد المشاكل المتمخضة عن البنى القالبية للدولة القومية المطّوقة إياها‪ ،‬ولجل‬ ‫‪.‬ق نحو وسٍط جديٍد من الهّم والغّم بسبب تشكيِل بنًى مادية لدويلٍة قوميٍة جديدة‪ .‬كما يَُ ةعّد ‪KCK‬‬ ‫عدِم النزل ِ‬ ‫نموذجا ً ريادياً للكونفدرالية الديمقراطية الشر‪.‬ق أوسطية‪ ،‬التي ُت ةعتَبر بدورها الصياغةَ الساسيةَ القادرة على‬ ‫إيصال كافة المجتم ةعات والثنيات ذات الوصول ال ةعربية واليرانية والتركية والكردية والرمنية والرومية‬ ‫ت الوصول الوروبية والمفتقرِة لحقو‪.‬ق‬ ‫ت ذا ِ‬ ‫واليهودية والقوقازية‪ ،‬وجميِع المذاهب والديا ن‪ ،‬وكذلك الجماعا ِ‬ ‫النسا ن والديمقراطية؛ إيصالها مجدداً إلى مقّدساتها واوصطلحاتها في الحياة الحرة ومنجزاتها المادية؛ ب ةعد أ ن‬ ‫كانت م ةعّرضةً للبادة والتطهير الِ ةعرقي ومفتقرًة ليوتوبياتها في الحياة الحرة بسبب القمع والستغلل‬ ‫ب‬ ‫ب الدولة القومية الناب ةعة من الحداثة الرأسمالية والمفروضة على موزاييك ش ةعو ِ‬ ‫والضطهاد في م ةعم ةعاِ ن حرو ِ‬ ‫الشر‪.‬ق الوسط‪ .‬وإذا ما توّلدت جمهوريةٌ فيدراليٌة ديمقراطية من أحشاِء فوضى ال ةعرا‪.‬ق‪ ،‬فقد تل ةعب دوراً ريادياً‬ ‫ق تطّوٍر في هذا التجاه‪.‬‬ ‫في تحقي ِ‬ ‫إ ن الحرَب ال ةعالمية الثالثة للحداثة الرأسمالية حاملٌة في أحشائها بال ةعديد من التطورات المترامية الطراف‬ ‫بإيجابياتها وسلبياتها ضمن الب ةعاد الجوهرية والزمكانية للشر‪.‬ق الوسط‪ .‬ومحصلةُ هذه الحرب ستحّددها‬ ‫ت وجهوُد المجموعات المحّملة بالم ةعاني النبيلة‪ .‬و ‪ PKK‬ليس سوى واحٌد من هذه المجموعات التي‬ ‫مبادرا ُ‬ ‫ترتقي بذاتها على الدوام‪ ،‬وتتميز بتطل ةعها إلى الحياة الحرة وطموحها في الريادة‪ ،‬وتتسم بثقل م ةعانيها الفاضلة‪.‬‬ ‫من المفهوم تماماً أسباب عدم القيام بمحاكمٍة عادلة في ظّل شروِط الحداثة الرأسمالية‪ ،‬سواًء بحقي‪ ،‬أو بحق‬ ‫ش ةعبي الذي اختارني رائداً قيادي اً له‪ ،‬أو ال ةعديد من الشخصيات والجماعات الش ةعبية الخرى‪ .‬سأتطر‪.‬ق في فصل‬ ‫"النتيجة" إلى هذا الخصوص‪ .‬أو بالحرى‪ ،‬سأس ةعى لتسليط الضوء عليه وإثباته مع هذه المراف ةعة‪ .‬ل يمكننا‬ ‫التغلب على نظاٍم يقتات دائماً على الحرب داخَل المجتمع وخارجه‪ ،‬إل باللتفاف حول يوتوبياتنا في الحرية‪،‬‬ ‫وبتأسيس بؤِر المقاومة وال ةعدالة في كّل مكاٍ ن يتواجد فيه الضطهاد والستغلل والسلطة‪ .‬وكّل السبل الخرى‬ ‫ف ول نتيجةَ لها سوى استهلُك ال ةعمر واستنفاذه‪.‬‬ ‫َأشبَهُ بدوامٍة عقيمٍة للحياة‪ ،‬حيث ل هد َ‬ ‫َ‬ ‫ت البحث‬ ‫أدّو ن هذه المراف ةعة ضمن شروِط ال ةعزلة المطلقة في جزيرِة إمرالي‪ .‬ومثلما أني ل أمتلك إمكانيا ِ‬ ‫والتدقيق المألوفة‪ ،‬فهي ليست بالطريقة التي ُأرّجحها‪ .‬إّ ن ُرّواَد البشرية الذين ُيتّممو ن ب ةعضهم الب ةعض‬ ‫بمساهماتهم‪ُ ،‬ي ةعتَبرو ن المرِجَع الولّي بالنسبة لي أيضًا‪ .‬لكني ل أرى داعيا ً لِذْكِر أسمائهم وإنجازاتهم‪ .‬ذلك أنه‬ ‫ل يمكُن تحويُل المحاربين الِ ةعظام فكراً وعملً في سبيِل حياٍة حرة إلى َكّم‪ .‬وأنا ضد البنى ال ةعلمية للحداثة بجانبها‬ ‫ت أو إرادٍة للحياِة الحرة يمكن أْ ن تكوَ ن عادلةً أو مواليًة للحرية مثلما أنا عليه‬ ‫هذا‪ .‬وإيماناً مني بأنه ما ِمْن وصو ٍ‬ ‫ف السيَر برفاقيٍة ووصداقة‪.‬‬ ‫ف وسي ةعر ُ‬ ‫في ظروف ال ةعزلة هذه‪ ،‬أهدي مراف ةعتي إلى كّل َمن َعِر َ‬

‫سق الحقيقة‬ ‫الفصل الول‪ :‬حول السلوب ونَ َ‬ ‫ي إلى النتيجة فيما يت ةعلق بالهداف‪.‬‬ ‫ف السليم وال ةعادةَ أو الطري َ‬ ‫السلوب كمصطلح ي ةعني الموق َ‬ ‫ق المختصَر المؤد َ‬ ‫ب اليجابّي‬ ‫فلدى الجزم بالسبيل المبا َ‬ ‫صِر للووصول إلى الهدف‪ ،‬يكو ن قد تم المساُك بالسلوب‪ .‬والجان ُ‬ ‫شر والمخت َ‬ ‫ت طويلٍة أمٌر ل‬ ‫ب يكمُن في َكونِ​ِه مجّربًا‪ ،‬وفي قدرته على إعطاِء النتيجة المتوخاة‪ .‬وتحديُده ب ةعَد اختبارا ٍ‬ ‫للسلو ِ‬ ‫َ‬ ‫مفّر منه لجل المهتمين بالسير عليه‪ .‬إنه أشبَهُ بال ةعلقة بين الدليل والمرشد‪.‬‬


‫سْ ةعِينا ليلء الم ةعاني لغواِر التاريخ‪ ،‬نجد أّ ن السلوَب الوَل الذي يواجهنا هو التناوُل الميثولوجي لكل‬ ‫ولدى َ‬ ‫ث والمفاهيم‪ .‬وعلى النطا‪.‬ق المحدود‪ُ ،‬ت ةعتَبر الميثولوجيا أيضا ً أسلوباً وطريقًة للكشف عن الحقيقة‪ ،‬ذلك‬ ‫الحواد ِ‬ ‫أنها تستند إلى مفهوٍم كونّي‪ .‬فإذا ما وض ةعنا ُنصَب أعيننا المستوى الذي َأنَجَزهُ ال ةعلُم في يومنا‪ ،‬سنجد أ ن النظَر‬ ‫ب خاط ئ بالقدر الذي بولغ فيه‪ ،‬حتى ولو تبّدى كتقييٍم‬ ‫إلى الطبي ةعة على أنها حيةٌ ومملوءةٌ بالرواح ليس بأسلو ٍ‬ ‫طفولي‪ .‬بل إّ ن مفاهيم السلوب الذي َي ةعتِبر الطبي ةعةَ ميتةً وجامدة وخاليًة من الديناميكية والحيوية‪ ،‬هي التي‬ ‫تفتقر للم ةعاني أكثَر مما عليه الميثولوجيا‪.‬‬ ‫إّ ن رواب َ‬ ‫ط التناوِل الميثولوجي للمور مع الحياة هي – وبكل تأكيد – بيئيٌة‪ ،‬ومنفتحةٌ للحرية‪ ،‬ب ةعيدةٌ عن القدرية‬ ‫ت البشريةَ بالحماس‬ ‫‪ ،‬وليست حتمية ‪ .‬إّ ن مفهوَم الحياة هذا‪ ،‬والمنسجَم مع الطبي ةعة والفطرة‪ ،‬ميَّز الجماعا ِ‬ ‫ُ‬ ‫ت الُمتَرَعة بالمقدسات‪،‬‬ ‫وال ةعنفوا ن والت ةعددية إلى حيِن عصِر الديا ن الكبرى‪ .‬فالملحُم والساطير والميثولوجيا ُ‬ ‫كانت ذهنيةَ الحياِة الساسية في ال ةعهد النيوليتي على وجِه الخصوص‪ .‬كما أّ ن تضاُرَب القاويل مع الواقع‬ ‫الموضوعي ‪ Nesnel‬ل ي ةعني أبداً استحالةَ تطويِر التفاسير ذات الم ةعاني القّيمة فيما يت ةعلق بمضمونها‪ .‬بل يمكن‬ ‫ت م ةعانَي ثمينٍة للغاية بحق تلك القاويل )الميثولوجيات(‪ ،‬بحيث ِمَن النادِر جداً فهُم التاريخ‬ ‫ح ذا ِ‬ ‫القيام بشرو ٍ‬ ‫س لفهِم الجماعات البشرية التي عاشت‬ ‫خارَج إطاِر هذه التفسيرات‪ .‬ل غنى لنا عن الميثولوجيا كأسلو ٍ‬ ‫ب رئي ٍ‬ ‫َ‬ ‫ت حياتها على شكِل أقاويل‪ .‬وقد ُبرِهن بما فيه الكفاية على أّ ن الساليَب ال ةعلمية الراهنة هي بالغلب‬ ‫أطوَل فترا ِ‬ ‫وصيَغت وكأنها مضادةٌ للسلوب الميثولوجي‪.‬‬ ‫عبارة عن ميثولوجيات‪ ،‬ولو أنها ِ‬ ‫إّ ن السلوَب ال ةعلمي المّدع َي بال ةعمل وفق القوالب الدينية التوحيدية الدوغمائية وبالدساتير القط ةعية التي ُت ةعّد‬ ‫استمراراً للولى‪ ،‬مرَغٌم على َرّد العتبار مجددًا للم ةعاني الميثولوجية وللسلوب الميثولوجي‪ ،‬ب ةعَد أْ ن َحطّ من‬ ‫شأنهما إلى أقصى حد‪ .‬فالميثولوجيات‪ ،‬التي هي من أقارب اليوتوبيات‪ُ ،‬ت ةعتَبَُر شك ً‬ ‫ل للم ةعنى والذهن الذي ل غنى‬ ‫َ‬ ‫شبَهُ بِتَْرِك‬ ‫للجنس البشري عنه‪ .‬إّ ن تَْرَك ذهِن النسا ن بل يوتوبيا‪ ،‬بل ميثولوجيا )بل ملحم‪ ،‬بل أساطير( أ ْ‬ ‫البد ن بل ماء‪ .‬وهنا ندرك بشكٍل أفضل أّ ن ذهن النسا ن‪ ،‬الذي هو مجموُع أذها ن جميِع الكائنات الحية‪ ،‬ل يمكن‬ ‫اختزال غناه الشامِل إلى حدوِد الذهنية الرياضية التحليلية‪ .‬إّ ن هذا شذوٌذ عن الحياة‪ .‬فمثلما أّ ن المليين من‬ ‫الذها ن الحية ل ت ةعرف الرياضيات‪ ،‬ل يمكن حصر ذهن النسا ن‪ ،‬الذي هو مجموُع تلك الذها ن الحية‪ ،‬في‬ ‫ب فائض النتاج‪ ،‬الذي‬ ‫ع للمدنية السومرية‪ ،‬وقد اسُت ةعِملت في حسا ِ‬ ‫الرياضيات‪ .‬بَْيَد أّ ن الرياضياَت أوُل اخترا ٍ‬ ‫ق النسا ن اليوم إلى مستوى آلٍة حاسبة‪ .‬إذ ن‪ ،‬والحال هذه‪،‬‬ ‫كا ن الشغَل الشاغَل آنذاك‪ .‬ولكن‪ ،‬يكاد ُيختَ​َزُل منط ُ‬ ‫سيمات ما تحت الذرية ‪ ،‬والجساِم الفَ​َلكية‬ ‫كيف‪ ،‬وبَِم يمكننا استي ةعاب أذهاِ ن المليين من الحياء‪ ،‬وحركِة الُج َ‬ ‫‪ Astronomik‬غيِر القابلة للقياس؟ واضٌح أّ ن قوَة علوم الرياضيات ل تكفي لجل الكو ن الوصغر والكو ن‬ ‫الكبر‪ .‬على القل‪ ،‬من الضروري أْ ن نترك الباَب مفتوحا ً لساليَب جديدٍة بشأِ ن الم ةعاني‪ ،‬كي ل نخنق أنفسنا‬ ‫بال ةعقائد القالبية الجامدة سلفًا‪.‬‬ ‫ل يمكُن استصغار شأِ ن الحدسيات الحية‪ .‬فكّل ما هو موجوٌد باسم الحياة مخفّي في تلك الحدسيات‪ ،‬التي ل يمكن‬ ‫ب إلى الفهِم هو أّ ن عاَلم هذه الحدسيات خاوصيةٌ‬ ‫الدعاء باستقلليتها عن الكوَنين الوصغِر والكبر‪ .‬وما هو أقر ُ‬ ‫ب الميثولوجي في فهِم الكو ن‪ .‬فقد يساهم في مساَعدتنا‬ ‫أوليةٌ للكو ن‪ .‬ولهذا السبب‪ ،‬ل يمكُن تقليل شأِ ن السلو ِ‬ ‫ب ال ةعلمي بأقل تقدير‪.‬‬ ‫على فهم الكو ن بقدِر السلو ِ‬ ‫ُي ةعتَبر التوجهُ ِمن المفهوم الميثولوجي وصوب المفهوم الديني الوثوقّي الدوغمائي مرحلةً انتقالية عظمى‬ ‫مرتبطةً عن كثب بَِكوِ ن التَ​َحّو ِل المرتكز إلى الهرمية والطبقية داخل المجتمع قد سيطر على الميدا ن الذهني‬ ‫سلِّم‬ ‫واحتله‪ .‬إّ ن علقة المتسلِّط والمستِغل تحتاج إلى القوالب المح ّ‬ ‫صنة عن المساءلة‪ .‬أي أّ ن إضفاَء القيم الم َ‬ ‫بها للقوالب الثابتة‪ ،‬كالقدسية‪ ،‬وكلِم ا‪ ،‬والحصانة؛ أمٌر مت ةعلق بالستغلل والسلطة‪ ،‬وبالمصالح الهرمية‬ ‫سود التحكُم الفظ في مفهوٍم ما‪ ،‬يَُكوُ ن الستبداُد والطغيا ن والستغلل‬ ‫والطبقية الُم َ‬ ‫شرَعَنة المستترة‪ .‬فبقدِر ما يَ ُ‬ ‫مخفياً فيه بنفس القدر‪.‬‬ ‫خ البشرية ب ةعد المرحلة الميثولوجية‪ .‬ويمكن ابتداءها مع‬ ‫تتميز المواق ُ‬ ‫ف الدينية بسيادتها لطوِل مرحلٍة في تاري ِ‬ ‫ُ‬ ‫ب كّل هذه الحاجة للقوالب الدينية‪ .‬جلّي تماماً‬ ‫التاريخ المدّو ن‪ ،‬أو قَبيله أو بَُ ةعيده‪ .‬ما يتوجب استي ةعابه هو أسبا ُ‬ ‫ب بَِحّد ذاته‪ .‬ففي المواقف الدينية‪ُ ،‬ي ةعتَبر الحراُك الساسّي بموجب الكلم الُم ةعزى إلى‬ ‫أ ن هذا الموق َ‬ ‫ف أسلو ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ف الحياة وسبيَل الووصول إلى الحقيقة‪ .‬أما‬ ‫ض أنها متفوقة ومت ةعالية على الطبي ةعة والمجتمع؛ هد َ‬ ‫اللهة المفتَر ِ‬ ‫َ‬ ‫ي بالوامر وهو على قيد‬ ‫انحرا ُ‬ ‫ف النسا ن عن هذا الكلم‪ ،‬في ةعني تحّمله كل أنواع ال ةعبودية‪ ،‬واللتزاَم الجبار ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫الحياة‪ ،‬ويكو ن مصيُره جهنَم ب ةعد الممات‪ .‬إننا على عتبِة عهِد إنشاءِ اللهة المقن ةعة‪ .‬ويمكن التحديس والتلّمس‬


‫ق‬ ‫بكّل سهولة أّ ن هذا الله هو في الحقيقة ليس سوى ذاك الزعيُم أو المستبُِد الجباُر الذي ُيصِدر الوامَر بح ّ‬ ‫ع إدراِك النسا ن ومخاَتلِة فهمه‪ .‬وبالوصل‪،‬‬ ‫المجتمع‪ ،‬ويقوم باستغلله‪ .‬والتقّنع المفِرط مرتبطٌ عن كثب بخدا ِ‬ ‫ت ظهورهم بـ الله – الَمِلك ُي ةعّبر عن هذا الخصوص كفاية‪ .‬وما‬ ‫فتسميةُ الطغاِة المستبدين لنفسهم في بدايا ِ‬ ‫نصادفه ُعْقَب ذلك كواقٍع تاريخي سائد هو قَْوَننةُ أقوالهم‪ ،‬وإبراُزها على أنها الحقيقة المطلقة‪ .‬وكلما تجّذر‬ ‫ب الديني الوثوقي الدوغمائي مساراً رئيسيا ً منقوشاً في ذهن النسا ن‪ .‬أو‬ ‫القمُع والستغلل‪ ،‬استحاَل السلو ُ‬ ‫ع النسانية لنيِر عبوديٍة طويلِة المد‪،‬‬ ‫بالحرى‪ ،‬تم إنشاؤه كواقٍع اجتماعي راسخ‪ .‬وبهذا السلوب تّم تأميُن خنو ِ‬ ‫كي تتخبط تحت وطأِة الحكم الستبدادي الظالِم للطغاة الجبابرة‪ ،‬أي‪ ،‬اللهِة المقَّن ةعة‪ ،‬التي حّولت الحياة إلى قحٍط‬ ‫شح‪.‬‬ ‫و ُ‬ ‫ع المفروض على الحشود البشرية‬ ‫إّ ن أهميةَ السلو ِ‬ ‫ب الديني كسبيٍل للت ةعوِد الذهني تتأتى من شرعنته للخضو ِ‬ ‫ف السنين‪ .‬فقد غدا الست ةعماُر والستغلُل‬ ‫حصيلةَ التقاليِد الفظة‪ ،‬ومن تجذيره لمفهوِم القدرّية على مّر آل ِ‬ ‫ب الكلِم المقدس وأمِر‬ ‫الكارثي ونشو ُ‬ ‫ب الُمَهّولة أمراً ممكنا ً بفضِل هذا السلوب‪ .‬أي‪ ،‬ال ةعيش بموج ِ‬ ‫ب الحرو ِ‬ ‫ست جدليةُ‬ ‫الرب! ل ريب في أّ ن هذا السلوَب سّهل الموَر كثيرًا على الممسكين بدفة الحكم والدارة‪ ،‬حيث تأ ّ‬ ‫س َ‬ ‫ت ال ةعبودية على أنها مرحلةُ تطوٍر اضطرارية ل مفّر منها‪ .‬بل‪،‬‬ ‫الراعي – الرعاع )القطيع(‪ .‬وُأبِرَزت مجتم ةعا ُ‬ ‫س مفهوِم المجتمع الثابت الذي ل يتغير‪ .‬فمن جانب‪ ،‬ثمة مفهوُم‬ ‫والنكى أنه تّم تجميُد الواقع الطبي ةعّي على أسا ِ‬ ‫‪.‬ق والمت ةعالي على كل شيء‪،‬‬ ‫ب آخر‪ ،‬ثمة مفهوُم الدار ّ‬ ‫المجتمِع والطبي ةعة الخاملة‪ ،‬ومن جان ٍ‬ ‫ي الحاكِم المتفو ِ‬ ‫ق كّل شيء‪ ،‬والف ةعاِل للغاية‪ .‬وتَحّول ذلك إلى ثنائيٍة جدلية حتمية ومطلقة‪ .‬ولو‬ ‫واللِه المتحكم بكّل شيء‪ ،‬وخال ِ‬ ‫قلنا أّ ن هذا السلوَب أو المفهوَم هو الذي أدار ال ةعصوَر الولى والوسطى وساَد فيها‪ ،‬فلن نكو ن مبالغين كثيرًا‪.‬‬ ‫ضِه على البشرية مفهوَم الطبي ةعِة الجامدة‬ ‫الجان ُ‬ ‫ب الوثوقي الدوغمائي يكمن في فر ِ‬ ‫ب الخطر في السلو ِ‬ ‫ً‬ ‫والخاملة وغيِر القادرة على الحركة إل بالوامر اللهية المقدسة الخارجية‪ ،‬عوضا عن مفهوِم الطبي ةعة الحيوية‬ ‫المتطورِة ذاتيًا‪ .‬والنتيجةُ الهّم الناجمُة عن ذلك في الميدا ن الجتماعي تتمثل في النظر إلى وجوِد البنى‬ ‫ض الدارِة الخارجية الراعية على الرعاع على أنه أمٌر جّد طبي ةعي‪ .‬وبقدر قَِدم هذا السلوب‪ ،‬فقد‬ ‫الخاملة‪ ،‬وفَْر ِ‬ ‫وصَل ذروتَهُ في ال ةعصور الوسطى‪،‬‬ ‫استوَجَب وجوَد شخصانيٍة ‪ Öznellik‬متفوقٍة ومت ةعالية على كّل شيء‪ ،‬وو َ‬ ‫حيث غدا ال ةعالَُم الموضوعّي ‪ Nesnel Dünya‬في حالٍة غامضٍة ُمبَهمة‪ ،‬بل واعتُبَِر وكأنه غيُر موجود‪ .‬فبينما‬ ‫ت والُمثُ​ُل الراسخةُ والبدية شكَل الحياِة الساسية‪.‬‬ ‫أوصبَحت الدنيا محطةَ حياٍة انتقاليٍة عابرة‪ ،‬اعتُبَِرت الغايا ُ‬ ‫ضع في أرفع المراتب‪ .‬إّ ن‬ ‫وَمن َعِر َ‬ ‫ت والكليشيهات أكثر‪ ،‬اعتُِبر عاِلمًا‪ ،‬وُو ِ‬ ‫ف القوالَب الدوغمائية والمسّلما ِ‬ ‫ح جماح التاريخ‪،‬‬ ‫طريقةَ التفكيِر هذه‪ ،‬والمتّ ِ‬ ‫سمَة بتضادها مع السلوب الميثولوجي‪ ،‬ل ةعبَْت دوراً أوليا ً في كب ِ‬ ‫وبالتالي الحياِة‪ ،‬والحكِم عليهما بالسر والذل‪.‬‬ ‫أما الجانُب اليجابي في السلوب الديني‪ ،‬فيتجسد في قط ةعه أشواطا ً ملحوظًة في ظاهرة الخل‪.‬ق ضمن المجتمع‪.‬‬ ‫‪.‬ق بارزة‪ ،‬وجاءت بأحكاٍم‬ ‫ضت فكرةُ "الفضيلة – الرذيلة" لفوار َ‬ ‫ففي هذه المرحلة‪ ،‬وفي ظل هذا السلوب‪ ،‬ت ةعر َ‬ ‫ب إلى خاوصيٍة أساسية‪ ،‬أل وهي مرونةُ ذهِن النسا ن‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬إمكانيةُ تهيئته‬ ‫وصارمة‪ .‬لقد تنّبه هذا السلو ُ‬ ‫س التطوِر‬ ‫وتأهيله‪ .‬فاختل ُ‬ ‫ف النسا ن عبر هذه الذهنية عن عاَلم الحيواِ ن الدنى منه مرتبًة‪ ،‬يشّكل أسا َ‬ ‫الخلقي‪.‬‬ ‫‪.‬ق في السلوب تكوينةٌ‬ ‫ق مجتم ةعيته‪ .‬فالخل ُ‬ ‫ع إلى الخل‪.‬ق‪ ،‬ل يمكُن إدارةَ النسا ن أو تحقي َ‬ ‫ومن دو ن الرجو ِ‬ ‫ي ل غنى عنه بالنسبة للمجتمع‪ .‬ومن دوِ ن الدخول في الجدال حول مضمو ن الخل‪.‬ق‬ ‫وحقيقةٌ وإدراٌك إدار ّ‬ ‫اليجابي أو السلبي‪ ،‬فإّ ن تطوراً على هذا الص ةعيد ُي ةعتَبر ضرورًة اضطرارية للوعي الجتماعي‪ .‬ل شك في أّ ن‬ ‫‪.‬ق وعٌي ميتافيزيقي ‪ ،‬ولكّن هذه الخاوصية ل تج ةعل منها موضوعا ً تافها ً أو منبوذًا‪ .‬ولن نبالغ إذا ما تحدثنا‬ ‫الخل َ‬ ‫ً‬ ‫عن تفو‪.‬ق الخل‪.‬ق الميتافيزيقية نسبة للخل‪.‬ق البدائية في ال ةعصر الميثولوجي‪ .‬إّ ن مجّرَد التفكيِر بالمجتمع‬ ‫ش فيه‪ .‬وربما‬ ‫س البشري أو القضاِء على بيئة ال ةعالَِم الممكِن ال ةعي ُ‬ ‫البشري مجرداً ِمن الخل‪.‬ق ي ةعني انقرا َ‬ ‫ض الجن ِ‬ ‫ت تتغذى منها‪ .‬المرا ن سيا ن‪ ،‬ويصبا ن في نفس‬ ‫أنه أَ ْ‬ ‫ق على نباتا ٍ‬ ‫شبَهُ بالديناوصورات التي انقرضت لنها لم تُْب ِ‬ ‫المجرى‪ ،‬وينتهيا ن في آخر المآل بووصوِل النسا ن حالةً ل يمكن لِبَِني جنسه الستمرار في ال ةعيش‪ .‬وما تفاُقم‬ ‫س لَِتهاوي وانحطاِط الخل‪.‬ق بشكٍل فظيع‪.‬‬ ‫قضايا البيئة في راهننا لدرجِة ووصولها حافةَ الهاوية سوى ان ةعكا ٌ‬ ‫ي على الديا ن الساسية فحسب‪ ،‬بل ويسود في الفكر اليوناني الكلسيكي‬ ‫ب الدوغمائي التوكيد ّ‬ ‫ل يطغى السلو ُ‬ ‫ت أرسطو‬ ‫ف الموضوعية ‪ Nesnel‬حيزاً جّد محدود فيه‪ .‬فمثاليا ُ‬ ‫ب الدياليكتيكي والمواق ُ‬ ‫أيضًا‪ ،‬حيث يحتل السلو ُ‬ ‫وأفلطو ن كأساليَب سائدٍة ُتشّكل أمتَن مقّومات السلوب الديني الدوغمائي الوثوقّي في ال ةعصور الوسطى‪ .‬فَكوُ ن‬


‫ف بل والمبدَع العظَم للمثالية‪ ،‬ج ةعَل منه ال ةعزيَز المحبَّب والمقّرَب إلى المواقف‬ ‫– أو اعتباُر – أفلطو ن الفيلسو َ‬ ‫ب إلى النبوة‪.‬‬ ‫النبوية‪ .‬إنه الفيلسو ُ‬ ‫ف القر ُ‬ ‫ب الوثوقّي الدوغمائي الُمنّقى جيداً من‬ ‫ُت ةعتَ​َبر المواق ُ‬ ‫ف النبوية في الديا ن الثلثة الكبرى مؤ ّ‬ ‫سسةَ السلو ِ‬ ‫سسة للخل‪.‬ق الميتافيزيقية‪.‬‬ ‫ب الطافحةُ في هذه الديا ن الثلثة تتمثل في كونها عوامل مؤ ّ‬ ‫الشوائب‪ .‬والجوان ُ‬ ‫‪.‬ق ذروَتها وتَُحّقق رواَجها مع بوذا ‪ ،‬زرادشت ‪ ،‬كونفوشيوس ‪ ،‬وسقراط ‪ ،‬ونخص بالذكر هنا‬ ‫وتصل الخل ُ‬ ‫ثنائيَة الفضيلة – الرذيلة التي اعتُبَِرت في الزرادشتية فلسفةً أساسيةً مكاِفئًة لقرينة النور – الظلم‪ .‬وقد قطَ ةعت‬ ‫ت هؤلء الحكماء القّيمين‪.‬‬ ‫ت أخلقيةً شاس ةعًة وعظيمة في تاريخها عبر شخصيا ِ‬ ‫النسانيةُ مسافا ٍ‬ ‫لِ ةعَب مفهوُم "الطريقة ال ةعلمية" دوراً بارزاً في إيصال الرأسماليِة إلى نظاٍم عالمي‪ .‬وفي هذا السلوب الجديد‪،‬‬ ‫الذي ُي ةعتَبر كّل ِمن روجر ‪ ،‬فرانسيس بيكو ن ‪ ،‬وديكارت رواداً له‪ ،‬يتم التركيُز خصيصاً على الفصل والتمييز‬ ‫بين الذات ال ةعاقلة ‪ Özne‬والموضوع الشيء ‪ .Nesne‬في حين‪ ،‬لم يكن لهما مكاٌ ن بارٌز في السلوب‬ ‫الدوغمائي الوثوقي لل ةعصور الوسطى‪ ،‬بل تميزتا بفاعليٍة خافتٍة ظليلة‪.‬‬ ‫وأوروبا الغربيةُ المنتفضةُ مع النهضِة فَتَ​َحْت عصراً جديداً في إظهاِر الذات ال ةعاقلة والموضوع الشيء بالترافق‬ ‫ح وثورِة التنويِر الفلسفي في المسيحية‪ .‬وهكذا غدت ذاتانيةُ النسا ن وموضوعانيةُ ال ةعاَلم تشكل ن‬ ‫مع الوصل ِ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ي‬ ‫ب الدوغمائي التوكيد ّ‬ ‫لَ​َبنةً أساسية وعامَلين أولّيين في الحياة‪ .‬في حين‪ ،‬تتهاوى أهمية الخل‪.‬ق والسلو ِ‬ ‫ال ةعامِل أساساً بكلم الرب‪ .‬أو بالحرى‪ ،‬يتم النتقال من عصِر الملوك المتسترين واللهِة المقَّن ةعِة القديِم إلى‬ ‫مرحلِة الملوِك ال ةعراِة واللهِة غيِر المقَّن ةعة‪ .‬والغريزةُ المحّرضةُ الساسية في ذلك هي طراُز الست ةعماِر‬ ‫والستغلل الرأسمالي‪ .‬فالستغلُل باسِم الربح يستدعي ضرورةَ تغييِر وعي المجتمع من جميع المناحي‪ .‬وتَُ ةعّد‬ ‫س في "السلوب ال ةعلمي" الجديد‪ .‬لقد باتت النسانيةُ والطبي ةعةُ هنا وجهاً‬ ‫هذه الضرورةُ أو الحاجةُ المؤثَّر ال ّ‬ ‫لوجه أمام استغلٍل أعظمي‪ .‬ول بد من إعادة إنشاِء وتكويِن ضميِر )أخل‪.‬ق( المجتمع عبر تغييٍر ذهنّي شامل‪،‬‬ ‫لنه لن َيقبل الستغلَل والضطهاَد بسهولة‪ .‬وفي هذه النقطة بالذات ستقع الفاعليةُ الكبرى على عاتق‬ ‫ض التشكيك بكّل شيٍء في سبيل‬ ‫ح أساسي‪ .‬والكل على علٍم كيف مّر ديكارت بَِمَر ِ‬ ‫"السلوب" كسبيٍل وصحي ٍ‬ ‫ً‬ ‫ي متأوصل‪ ،‬فلجأ إلى مقولته الشهيرة "أفكر‪ ،‬إذ ن أنا موجود"‪ .‬وم ةعلوٌم جدا أّ ن بيكو ن وأتباعه‬ ‫ق تحّوٍل جذر ّ‬ ‫تحقي ِ‬ ‫أبَدوا عنايًة فائقة بـ"الموضوعانية"‪ .‬وبينما فتَح الوُل الباَب على مصراعيه لمكانية تفكيِر الفرد بشكٍل‬ ‫ف الفرد بـ"الموضوع الشيء" كيفما يشاء‪.‬‬ ‫مستقل‪ ،‬أشهر الثاني وأتباعه البواَب أمام إمكانيِة تصّر ِ‬ ‫ف كّل الطبي ةعة‬ ‫ق غائر في السلوب ال ةعلمي‪ .‬فت ةعري ُ‬ ‫ل بد من إعادِة ت ةعري ِ‬ ‫ح "الموضوعانية" ب ةعم ٍ‬ ‫ح مصطل ِ‬ ‫ف وشر ِ‬ ‫)بأحيائها وجمادها( على أنها "شيء موضوع" – بما في ذلك جسُد النسا ن‪ ،‬وفيما عدا الفكر التحليلي – قد‬ ‫ح في است ةعما ِر الرأسمالية للطبي ةعة والمجتمع‪ ،‬والتحكم بهما‪ .‬ذلك أنه من غير الممكن تحقيق‬ ‫لَِ ةعَب دوَر المفتا ِ‬ ‫التحول الذهني اللزِم لل ةعصر الحديث‪ ،‬بدو ن تجذيِر وشرعنِة التمييز بين الذات والموضوع‪.‬‬ ‫ت ال ةعامَل الشرعي الكثر تداولً وقبوًل في الفكر التحليلي‪ُ ،‬ي ةعتَبر الموضوُع ‪ Nesne‬ال ةعنصَر‬ ‫بينما تكو ن الذا ُ‬ ‫ع المفارقات والشاعات عبره‪ .‬وبم ةعنى آخر‪ ،‬فهو يمثل‬ ‫"المادي" الملمو َ‬ ‫س الذي يمكن القياُم بكّل أنوا ِ‬ ‫ت مريرة بسبب هذا التمييز‪ .‬إذ يجب عدَم تقييم الصراع بين‬ ‫شَبت وصراعا ٌ‬ ‫"الموضوعيَة" ‪ .Objektivite‬وقد نَ َ‬ ‫ت اجتماعية عظمى تحته‪.‬‬ ‫ت وكفاحا ٌ‬ ‫ع على "الحقيقة" المطلقة‪ ،‬حيث تستتر نضال ٌ‬ ‫الكنسية والِ ةعلم كمجرِد نزا ٍ‬ ‫ب النزاع والصراع بين المجتمع القديم المشحو ن بالخل‪.‬ق‪ ،‬والمجتمِع الرأسمالي ال ةعاري‬ ‫إنه ضر ٌ‬ ‫ب من ضرو ِ‬ ‫ع بين الكنيسة والِ ةعلم فحسب‪ .‬وبشكٍل‬ ‫الساعي لنزع الستار الخلقي عن ذاته‪ .‬أي أّ ن المسألةَ ليست مجرَد نزا ٍ‬ ‫أعم‪ ،‬إنه وصراٌع بين النظام الذي حافظ عليه وجداُ ن المجتمع طيلَة مسيرته التاريخية‪ ،‬وَح َ‬ ‫ظر استغلَله‪ ،‬ولَ​َ ةعَن‬ ‫ح البواب على‬ ‫ع الجتماعي الرأسمالي الجديِد الساعي لفت ِ‬ ‫ذلك‪ ،‬واعتبَره جرما ً ل ُيغتَفر؛ وبين المشرو ِ‬ ‫ي حظٍر أو ُجرٍم أو ل ةعنة‪.‬‬ ‫ف بأ ّ‬ ‫مصاري ةعها أمام است ةعماِر المجتمِع واستغلله والتسلِط عليه‪ ،‬دو ن العترا ِ‬ ‫و"التجاه الموضوعي" هو المصطلح المفتاح لهذا المشروع‪.‬‬ ‫تتخفى تحت مفهوم "الموضوعانية" ‪ Nesnellik‬لـ"الفكر التحليلي" فكرةٌ مفادها‪ :‬ما من "قيمٍة" ل يمكن‬ ‫إخضاعها لل ةعملية‪ .‬إذ يمكن استغلل كّل ما في الطبي ةعة من حّي وجماد‪ ،‬والتحكم بها وتمّلكها‪ ،‬بحيث ل يقتصُر‬ ‫ق استغللها بكافِة الشكال‪ .‬وفيما‬ ‫ح النسا ن فحسب‪ ،‬بل ويمكن البحث والتنقيب فيها‪ ،‬والتمتع بح ّ‬ ‫المُر على كد ِ‬ ‫ت المنتقاة‪ ،‬يحق النظر لكّل شيٍء على أنه ميكانيكّي آلي‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬التحكم به واستغلله بل رحمٍة أو‬ ‫عدا الذوا ِ‬ ‫ّ‬ ‫ت أساسية في مواجهة الطبي ةعة‬ ‫شفقة‪ .‬أما الفرد‪ ،‬والمواِطن‪ ،‬ومجتمُع الدولة القومية‪ ،‬المنظمو ن كـ ذوا ٍ‬ ‫ت جديدًة" ذاَت طاقٍة جنونيٍة قادرٍة على البادات الجماعية‪ ،‬وإيصاِل البيئة لحالٍة‬ ‫والمجتمع‪ ،‬فُي ةعتَبرو ن "اكتشافا ٍ‬


‫ل ُتطا‪.‬ق‪ ،‬باعتباِر أنهم اللهةُ الجديدةُ غيُر المقَّن ةعة‪ .‬وكأّ ن "اللوياثاَ ن" القديَم بات مس ةعورًا‪ .‬وكأنه ما من شيٍء‬ ‫‪ Nesne‬ل يستطيع التحكَم به أو تمزيقه إربا ً إربًا‪ .‬من المهم الستي ةعاب جيداً أّ ن النظَر إلى المواقف‬ ‫سبَّب في كوارَث‬ ‫الموضوعية الشيئية على أنها المصطلُح الكثُر نزاهًة وشفافية في السلوب ال ةعلمي قد تَ َ‬ ‫ت كبرى‪ ،‬بل ومجازَر مَرّوعٍة بما يضاهي محاكَم التفتيش المتبقيِة من ال ةعصور الوسطى‪ .‬يجب‬ ‫ُمهِلكة‪ ،‬وانحرافا ٍ‬ ‫ف الموضوعي ليس مصطلحا ً علميا ً نزيهاً على الطل‪.‬ق‪.‬‬ ‫التشديد‪ ،‬وب ةعناية‪ ،‬على أّ ن الموق َ‬ ‫ب ُعطب وإفلس وشلل علم الجتماع في راهننا‪ ،‬ما لم نستوعب أّ ن "السلوب ال ةعلمي"‬ ‫ل يمكننا إيضاح أسبا ِ‬ ‫بحّد ذاته وسيلةٌ لكبِر تقسيٍم طبقي‪ .‬أقولها علنيًة أنه لـ"السلوب ال ةعلمي" "الموضوعي" دوٌر م ةعيٌّن وحاسٌم‬ ‫س أكثِر التيارات ال ةعلمية الجتماعية مثاليةً وطموحًا‪ ،‬أل وهي "الشتراكيةُ ال ةعلمية" التي اعتَ​َبرُتها –‬ ‫في إفل ِ‬ ‫أنا أيضاً – كذلك‪ ،‬في إحدى المراحل‪.‬‬ ‫ق بالشتراكية ال ةعلمية وبكافِة مشتقاتها‪ ،‬أو مروُرها بفترِة تحّوٍل من‬ ‫فالتفسُخ‪ ،‬ومن ثم النهياُر الذي لَِح َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ت الخاوصة‪ ،‬ب ةعد اجتيازها مرحلة طويلة من التطبيق وتشييِد النظام‬ ‫رأسماليِة الدولة المباشرِة إلى الرأسماليا ِ‬ ‫الجتماعي؛ إنما يرجع في أساسه إلى "السلوب ال ةعلمي" ومفهوِمه في "التشيؤ" ‪ .‬وإل‪ ،‬ما ِمن شّك بتاتا ً في‬ ‫خ وجهوٍد حثيثة‪ .‬سأكتفي بالتنويه إلى أني سأستفيض‬ ‫ُحسن نوايا المساهمين في نضاِل الشتراكيِة بإيماٍ ن راس ٍ‬ ‫ح هذه المواضيع في مكانها المناسب‪.‬‬ ‫في شر ِ‬ ‫إّ ن كافةَ البنى ال ةعلمية التي ُتضفي على التمييز بين الذات والموضوع دوراً أساسيًا‪ ،‬هي أسيرةُ استقللياتها‬ ‫ف الكبر الحاوصَل باسم‬ ‫ب القيِم والُمُثل الجتماعية‪ .‬ولربما أّ ن النحرا َ‬ ‫لدرجِة أنها تزعم بتفوقها على كافِة ضرو ِ‬ ‫ُ‬ ‫ي عصٍر مثلما هو‬ ‫ال ةعلم مخفّي في هذه المزاعم‪ .‬ولربما لم يشهد التاريخ التحاَم ال ةعلم مع النظام المهيمن في أ ّ‬ ‫عليه في ال ةعصر الرأسمالي‪ .‬فدنيا ال ةعلم‪ ،‬بدءاً من أسلوبه إلى مضمونه‪ ،‬هي القوةُ ال ةعظمى في إنشاء النظام‪،‬‬ ‫وفي تأمين شرعنته ووصونه‪ .‬إّ ن السلوَب ال ةعلمي لل ةعصر الرأسمالي‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬كافَة ال ةعلوم الناشئة فيه‪ُ ،‬يشّكل‬ ‫ت المجتمع‬ ‫ض عنها فَ َ‬ ‫خ آليِة الربح في النظام‪ ،‬وما تمّخ َ‬ ‫شَمَل كافةَ قطاعا ِ‬ ‫القوةَ الساسيةَ المؤديةَ إلى ترسي ِ‬ ‫ت‪ ،‬مجاعٍة‪ ،‬بطالٍة‪ ،‬دماِر البيئة‪ ،‬والتضخِم‬ ‫ت‪ ،‬آلٍم‪ ،‬مخاضا ٍ‬ ‫ب‪ ،‬أزما ٍ‬ ‫وحلقاتِ​ِه الداخليِة والخارجية من حرو ٍ‬ ‫َ‬ ‫سيُّ ئ في‬ ‫السكاني‪ .‬وما عبارةُ "ال ةعلُم قوة" الموَجزة سوى ت ةعبيٌر عن الفتخار بهذه الحقيقة‪ .‬قد يقال‪ :‬وما ال ّ‬ ‫ع النزاهة‬ ‫ذلك؟ ف ةعندما تصدُح الوصوا ُ‬ ‫ت‪ ،‬وتنطل ُ‬ ‫ق هذه الحكام بكّل سهولٍة من أحشاِء النظام المتحصن بدر ِ‬ ‫ف طبي ةعية‪.‬‬ ‫والشرعية‪ ،‬تكو ن قد َعبَّرت عن أكثِر المواق ِ‬ ‫ت استحالِة الستمرار في كافة ميادينها وفروعاتها‪،‬‬ ‫وإذا كانت الحداثُة الرأسمالية في راهننا ت ةعطي إشارا ِ‬ ‫ب وافر في ذلك‪ .‬من هنا‪ ،‬فالمر المهّم والمصيري هنا هو توجيه‬ ‫فلـ"السلوب ال ةعلمي" الذي ترتكز إليه نصي ٌ‬ ‫النقد إلى السلوب الذي يشكل الدعامَة الركن للنظام‪ ،‬وإلى "الضوابط ال ةعلمية" المطروحة للوسط‪ .‬إّ ن نقطَة‬ ‫س‬ ‫الض ةعف الساسيةَ للنتقادات الموّجهِة لكافة النظمة‪ ،‬بما فيها انتقاداُت الشتراكية‪ ،‬تكمن في لجوئها إلى نف ِ‬ ‫ق وجودها‪ .‬مع أّ ن الحقيقةَ تشير إلى أّ ن انتقاَد الواقِع الجتماعي‬ ‫السلو ِ‬ ‫ب الذي ترتكز إليه تلك النظمةُ في تحقي ِ‬ ‫ع في نفس النتيجة‪ .‬فمن‬ ‫الناشِ ئ اعتماداً على نف ِ‬ ‫س السلوب الذي يستند إليه هذا الواقُع ل ُينِقذ الّنّقاَد من الوقو ِ‬ ‫ي مكاٍ ن سوى القرى أو‬ ‫س الدروب المرسومِة سلفًا‪ ،‬ل يمكنهم الووصول ل ّ‬ ‫الشهيِر جداً أّ ن السائرين على نف ِ‬ ‫المد ن التي تؤدي إليها تلك الدروب‪ .‬وهذا تماماً ما حصل لمناهضي النظاِم القائم‪ ،‬بما فيهم الشتراكيةُ ال ةعلمية‪.‬‬ ‫ص والمزايا الطبقيِة والجتماعية للتمييز بين الذات‬ ‫إنني ُأبدي اهتماما ً بالغاً في تقييماتي إزاء تناُوِل الخصائ ِ‬ ‫ب النطولوجّي‬ ‫والموضوع بشكٍل أساسي‪ .‬ذلك أّ ن هذين المصطلَحين البادَيين وكأنهما نزيها ن‪ ،‬هما السب ُ‬ ‫ت‬ ‫)الوجوِد ّ‬ ‫ي( لنشوِء الحداثة التي غدت مستحيلَة الستمرار‪ .‬وهذا ن المصطلحا ن ل علقة لهما بالمنجزا ِ‬ ‫ال ةعلمية كما ُي ةعتَ​َقد‪ ،‬وليسا نقّيين من الميزات النسبية‪ .‬وهما مشحونا ن بمفهوٍم ثبوتّي قوالبي بصدد الطبي ةعة‬ ‫ب الوثوقّي الدوغمائي في ال ةعصور الوسطى بأقل تقدير‪ .‬فالس ةعُي لفهِم الحياة‬ ‫والذات‪ ،‬بقدر ما هو عليه السلو ُ‬ ‫عْب َر التمييز والفصل ال ةعلني بين الذات والموضوع يؤدي بالحياة إلى الختنا‪.‬ق المادي‪ ،‬ويج ةعلها رج ةعيةً‬ ‫ب‬ ‫وُمَهّمشةً وُمبَهَمة أكثر مما كانت عليه حياة النسا ن في ال ةعصور الوسطى‪ .‬فحياةُ النسا ن التي كتَ​َم السلو ُ‬ ‫سها وَحرَمها من الحرية‪ ،‬قد تشتتت إربا ً إرباً في الحداثة الرأسمالية اعتماداً على التمييز بين الذات‬ ‫ال ةعلمّي أنفا َ‬ ‫ُ‬ ‫ت المتأوصلة في كافة مناحي الحياة‪ .‬إّ ن القيمة ال ةعظمى المفقودةَ مع تجّزِؤ التكامِل‬ ‫والموضوع‪ ،‬ونشأت التصّدعا ُ‬ ‫حتى خلياه الوليِة بسبب "الضوابِط ال ةعلمية"‪ ،‬هي تكاُمُل ووحدةُ الحياة الجتماعية المسّجلِة ضمن أب ةعاد‬ ‫الزما ن والمكا ن‪ .‬ما من شيٍء في راهننا أخطُر من "تضييق الخنا‪.‬ق على الحياة"‪ ،‬ومن مأساِة الحياة المبتورة‬ ‫من جوهرها ومقّوماتها الّزَمكانية‪ .‬إننا وجهاً لوجه أمام أشّد المصائِر بؤسًا‪ .‬فالسرطنةُ الجتماعية ليست‬


‫وصنِع الخيال‪ ،‬بل هي التفسيُر المثل للواقع الملموس للنظام القائم إزاء الحياة‪.‬‬ ‫تصوراً من ُ‬ ‫‪.‬ق محدود‪ .‬ل‬ ‫هذا الموضوُع‪ ،‬الذي يتطلب التأمَل فيه بإم ةعا ن‪ ،‬ل يمكن تناوله في المراف ةعة إل بتقييمه ضمن نطا ٍ‬ ‫أقترح أسلوبا ً جديداً بانتقاداتي هذه‪ .‬كما أنها ل ت ةعني اقتراَح عدميِة السلوب‪ .‬ذلك أني متيقظٌ للخصائص التي‬ ‫ب والقوانين الملتَزُم بها في حياِة النسا ن‪ ،‬بل وفي حياِة الطبي ةعة بأحيائها وجماداتها‪.‬‬ ‫ت ةعّبر عنها السبُل والسالي ُ‬ ‫ب والقانو ن مشحوناً على الدوام‬ ‫كما ُأولي قيمةً ثمينًة للطريقة والسلوب‪ .‬لكن‪ ،‬وبينما يَُكو ن مفهوُم السلو ِ‬ ‫بمخاِطِر المضمو ن الحتمي المطلق‪ ،‬فإني مضطّر للتشديد على أّ ن الوصراَر والثبوَت في ذلك ُيفضي إلى إنكاِر‬ ‫التطور والحرية‪ .‬ل أتصور وجوَد َكوٍ ن بل أساليَب أو قوانين‪ .‬ولكني ل أؤمن أيضاً بأولويِة ميكانيكيِة ديكارت‪،‬‬ ‫ت والقانوِ ن منطقاً‬ ‫ي شكوٌك عميقة َترى منط َ‬ ‫ق رياضّي فحسب‪ .‬ولد ّ‬ ‫الذي ينظر إلى الكو ن َكنَ َ‬ ‫ق الرياضيا ِ‬ ‫س ٍ‬ ‫َمَرضيًّا‪ ،‬بل وألحظُ شبها ً فظي ةعاً بين الرهبا ن السومريين الذين اخترعوا الرياضياَت والقانو ن‪ ،‬وبين الذهنيِة‬ ‫ال ةعلمية الراهنة‪ .‬إني على قناعٍة بأّ ن كليهما يمثل ن المدنية عينها‪.‬‬ ‫ب بديل‪ .‬من الضروري القول أّ ن النفتاَح أكثر‬ ‫مناَهضةُ السلوب ل ت ةعني إنكاَره كليًا‪ ،‬ول البحَث عن أسلو ٍ‬ ‫لمكانيِة التفسير القرب إلى َخياِر الحياة الحرة يتميز بم ةعانَي أسمى‪ .‬وإذا كانت الغايةُ هي الووصوُل إلى م ةعنى‬ ‫الحياة‪ ،‬ف ةعلى السلوب أ ن يكوَ ن وسيلةً في ذلك‪ .‬فالدولةُ الكبرى والنتاُج الصناعّي ال ةعظيُم وحدهما قد ألحقا‬ ‫ج مع القوة‪ ،‬يتزايد البت ةعاُد عن الم ةعنى‪.‬‬ ‫الحروَب والدماَر بالبشرية‪ ،‬بدلً من الس ةعادِة والرفاه‪ .‬فلدى اتحاِد النتا ِ‬ ‫وفي جميع الوقات يأتي أوصحاُب الدخار في مقدمة الشرائح البليدة التي ل ُتبدي تفاهماً تجاه الحياة‪ .‬في حين‬ ‫ُين َ‬ ‫ص من مشكلِة السلوب‪ ،‬أو تخطيها والتغلَب‬ ‫ظر إلى الدخار ب ةعيِن الشّك والريبة دائما ً داخَل المجتمع‪ .‬إّ ن الخل َ‬ ‫شين‪ .‬ولطالما نصادف أمثلةً‬ ‫عليها‪ ،‬يتضمن م ةعانَي متأوصلة‪ ،‬حيث يستوجب محاسبةَ ال ةعصِر والمدنية الُم ةعا َ‬ ‫ت‬ ‫ث عن المخرج هباًء ما لم توّجه النتقادا ُ‬ ‫ضاربًة للنظر عن ذلك في الزمنة التاريخية‪ .‬سيذهب أ ّ‬ ‫ي بح ٍ‬ ‫الراديكالية الجذريُة إلى الرأسمالية وأساليبها وضوابطها ال ةعلميِة التي تَْمُهُر جميَع مؤسساِتها وقوالبها ال ةعصرية‬ ‫بطابَِ ةعها؛ وما لم نتوجه بالتالي إلى إعادِة إنشاِء ال ةعلم المساِعد على الدنّو أكثر من الحياة الحرة‪ .‬ليس لدي نيةٌ‬ ‫ف البارزة في هذا‬ ‫في تقديِم أيةّ مساَهمٍة لثنائيِة الحداثة – ما وراء الحداثة‪ .‬ومع احترامي لل ةعديد من المواق ِ‬ ‫ت أرى ما وراء الحداثة‬ ‫السيا‪.‬ق‪ ،‬لكّن قناعتي راسخةٌ حتى ال ن بأنها ل تزال ب ةعيدةً عن جوهِر القضية‪ .‬ول زل ُ‬ ‫استمراراً للحداثة بأغلفٍة وأقن ةعٍة جديدة‪.‬‬ ‫سق الحقيقة"‪ ،‬حيث أبحث عبره عن سبيٍل للخروج من قضايا‬ ‫إني مضطٌر لتقديِم شروحي باسِم مصطلح "نَ َ‬ ‫ب بديل‪ .‬ل ريب في أنه‬ ‫الحياة الُمبَ ةعدِة عن قيِم الحرية‪ ،‬والُمثَقلِة بالخطاء والضلل؛ عوضاً عن البحث عن أسلو ٍ‬ ‫ب لهذه البحاث‪ ،‬بدءاً من‬ ‫لطالما تّم البحُث عن الحقيقة في المجتمع البشري‪ ،‬وبرَزت ال ةعديُد من الَخيارات كجوا ٍ‬ ‫الميثولوجيات إلى الديا ن‪ ،‬ومن الفلسفة إلى ال ةعلوم الراهنة‪ .‬ومثلما ل يمكن التفكيُر بال ةعيش في حياٍة خارَج‬ ‫إطاِر هذه الَخيارات‪ ،‬فل يمكن إنكاُر وجوِد واقٍع مؤلم وهزلّي يفيد بأّ ن هذا الَكّم المتراكَم من القضايا ال ةعالقِة نابٌع‬ ‫من تلك الَخيارات‪ .‬أي‪ ،‬ثمة ثنائيةٌ تقول‪ :‬ل يمكن ال ةعيش م ةعها‪ ،‬ول بدونها‪ .‬ولكّن الحداثةَ التي نحياها ذات‬ ‫‪.‬ق فريدٍة من نوعها‪ ،‬حيث بلَغت حدوَد استحالِة الستمرار في ال ةعديد من الميادين‪ .‬وإذا ما س ةعينا لت ةعدادها‬ ‫فوار َ‬ ‫ت الجتماعيةَ المت ةعاظمةَ بل‬ ‫ف سنلحظ‪ :‬التضخَم السكاني‪ ،‬نفاَذ الموارد‪ ،‬دماَر البيئة‪ ،‬التصدعا ِ‬ ‫بشكٍل خاط ٍ‬ ‫حدود‪ ،‬الرواب َ‬ ‫ط الخلقيةَ المنحّلة‪ ،‬انقطاَع الحياة عن الزما ن والمكا ن‪ ،‬الحياةَ المتوترةَ والمفتقدةَ لجاذبيتها‬ ‫ب الجديدة‬ ‫وشاعريتها‪ ،‬أكدا َ‬ ‫س السلحة النوويِة القادرة على إحالة الدنيا إلى وصحراٍء قاحلة‪ ،‬وضروَب الحرو ِ‬ ‫اللمتناهية والمستفحلة في البنية الجتماعية برمتها‪ .‬كّل ذلك يَُذّكر بيوِم القيامة والمحشر الحقيقي‪ .‬إّ ن الووصوَل‬ ‫ض لوحةً تشاؤمية‪،‬‬ ‫إلى هذه المرحلة بَِحّد ذاته مؤ ّ‬ ‫س أنسا‪.‬ق حقيقتنا القائمة‪ .‬أنا ل َأعِر ُ‬ ‫شٌر واضٌح على إفل ِ‬ ‫ت إزاء الحياة المنتهية داخَلنا‬ ‫ولكننا ل نستطيع البقاَء وصامتين‪ ،‬ول نتمالُك أنفسنا عن الصراخ بأعلى وصو ٍ‬ ‫ف الدموع‪ .‬ولكن‪ ،‬علينا البح ُ‬ ‫ث عن الحل‪ .‬وإل‪ ،‬هل كا ن‬ ‫وأمامنا‪ .‬علينا أل نفقد المل‪ ،‬وأل نخنق أنفسنا بذر ِ‬ ‫بحثنا عن الحقيقة عملً تافهاً أم فارغًا؟ أم أننا كنا نمر ب ةعصِر القوى الظلمية؟ أين‪ ،‬ومتى ارتُِكَبت الخطاُء‬ ‫الفادحة؟ أين‪ ،‬ومتى تشبثنا بالفكاِر الدوغمائية الجامدة؟‬ ‫ت المجتمع المخاِدعة المضّللة‪ .‬ل يمكن‬ ‫أنا واث ٌ‬ ‫ق من أّ ن الحداثةَ الرأسمالية انتهَلت قوتها الساحقة من تكوينا ِ‬ ‫ت باسلٍة تجاه ذلك‪ ،‬ولكّن ما حّل بالنظِم الُمقَّدمة على أنها نموذُج النصِر والنجاح واضٌح‬ ‫إنكاُر حصوِل كفاحا ٍ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫لل ةعيا ن‪ .‬إذ ن‪ ،‬والحال هذه‪ ،‬هل هذا ال ةعالُم هو النهائّي والبدي‪ ،‬مثلما يّدعي النظاُم القائم؟ أِمن غيِر الممكِن وجوُد‬ ‫ف بجهوِد‬ ‫عالٍَم آخر؟ إني منتبهٌ لتكراري للسئلة المطروحة يوميًا‪ .‬ولكن‪ ،‬يج ُ‬ ‫ب عدَم الستهتار أو الستخفا ِ‬ ‫ع في أخطاِء السلوب في ال ةعديد من النقاط‪ ،‬إلى‬ ‫الكشف عن الوجه الباطني للكثير من الظواهر‪ ،‬بدءاً من الوقو ِ‬


‫ت القائمة بشأِ ن السلطة والقتصاد إلى المفاهيم‬ ‫الخطاِء الموجودة في الضوابط ال ةعلمية‪ ،‬ومن التفسيرا ِ‬ ‫والتمأسسات السلطوية المتحكمِة بالحقو‪.‬ق وِعلِم الجمال ‪ .‬وفي هذا السيا‪.‬ق أرى في ذاتي القدرةَ على الشروع‬ ‫بتجربٍة م ةعينة‪ ،‬بل وأعتبر ذلك وظيفةً أو َدينا ً علّي اليفاء به إزاء قيم الحرية‪.‬‬ ‫ت القالبيةَ الثنائيةَ الساسيةَ المتحكمةَ بفكِر‬ ‫وكتمهيٍد للبدء بالموضوع‪ ،‬أشير بجملٍة واحدٍة إلى أّ ن التقسيما ِ‬ ‫النسا ن قد أض ةعفت الم ةعنى وحّرفته‪ ،‬من َقبيل‪ :‬ذاتاني – موضوعاني‪ ،‬مثالي – مادي‪ ،‬دياليكتيكي – ميتافيزيقي‪،‬‬ ‫فلسفي – علمي‪ ،‬وميثولوجي – ديني‪ .‬والتجذراُت الحاوصلة في هذه الثنائيات والقرائن هي أخطاُء السلوب‬ ‫ب السلطة والستغلل تطّوَر وتطويَر الفكار‬ ‫الوليةُ المؤديةُ إلى ظهوِر الحداثة الرأسمالية‪ .‬وقد َدَعَم أوصحا ُ‬ ‫ي دوراً بارزاً في ديمومِة وشرعنة النظم التي‬ ‫خ الحضارة المدينية‪ ،‬لتؤد َ‬ ‫وال ةعقائد في هذا التجاه طيلةَ تاري ِ‬ ‫س في َدّر النفِع للنظِم‬ ‫أسسوها‪ ،‬وُتحقّ َ‬ ‫خ مجّرٍد هو السا ُ‬ ‫ق ذروتها مع الرأسمالية‪ .‬وتفسيُر هذه الثنائيا ِ‬ ‫ت كتاري ٍ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫السلطوية والستغللية القائمِة عمليًا‪ .‬ولو لم يُطبَ ْ‬ ‫‪.‬ق ذهنيِة البشرية بهذه القرائن‪َ ،‬لما كا ن بوسِع أ ّ‬ ‫ق على خنا ِ‬ ‫ت الذهنية حول هذه‬ ‫نظاٍم سلطو ّ‬ ‫ي أو استغللّي أ ن يكو ن مؤثراً لهذه الدرجة‪ .‬فاستمراُر َمحَوَرِة الصراعا ِ‬ ‫ح الباحثين عن الحقيقة في مضماِر‬ ‫الثنائيا ِ‬ ‫ت يؤول إلى الجشع النِّهِم في مزيٍد من السلطة والستغلل‪ .‬وبقدِر نجا ِ‬ ‫ب السلطة وداخَل بؤِر الستغلل‪.‬‬ ‫هذه الثنائيات‪ ،‬تمّكنوا من احتلِل مكانٍة رفي ةعٍة ومنتقاٍة في مصا ّ‬ ‫ف أوصحا ِ‬ ‫ُ‬ ‫سق الحقيقة المذكوَر هنا‬ ‫وهكذا‪ُ ،‬أضفَِيت الواق ةعيةُ ال ةعظمى على مقولة "الحقيقةُ سلطة‪ ،‬والسلطة حقيقة"‪ .‬إّ ن نَ َ‬ ‫ف الوفّي والميُن لنظاِم الستغلل السياسي‪ .‬أما محصلةُ هذا التحالف‪ ،‬فهي المزيُد من القمع‬ ‫هو الحلي ُ‬ ‫ع الحياة الحرة الفاضلة‪.‬‬ ‫والستغلل والضغط‪ .‬وهذا بدوره يؤول إلى فقداِ ن وضيا ِ‬ ‫َ‬ ‫سق الحقيقة ذاك‪ .‬في الحقيقة‪،‬‬ ‫ب هو التخلي عن ن َ‬ ‫إذ ن‪ ،‬والحاُل هذه‪ ،‬فأوُل عمٍل جد ّ‬ ‫ي علينا ف ةعلُهُ ِمن حيث السلو ِ‬ ‫َ‬ ‫سق الحقيقة التابع للنظام‬ ‫المُر يتطلب موقفا ً سلبيا ً ‪ ،Negativ‬أي‪ ،‬التصر َ‬ ‫ف السلبّي على جميع الوص ةعدة إزاء ن َ‬ ‫َ‬ ‫ف الم ةعاِرض عبَر تحليله‪ .‬ل يمكُن المساك‬ ‫القائم! ل أقصد اتخاَذ جبهٍة فظة‪ ،‬بل أعني ضرورة اتخاِذ الموق ِ‬ ‫ت باسلٍة قّيمة‪ ،‬وبتطويِر جهوِد إنشاِء‬ ‫بالنقطة الحساسة للنظام القائم‪ ،‬أو البدُء بَِحلِّه وتفكيكه‪ ،‬إل عبر مقاوما ٍ‬ ‫شباِك السلطة فقط‪ ،‬بل وتجاه بؤِر الستغلل في كافة أماكنها‪ .‬جميُع‬ ‫المجموعات الم ةعاِرضة‪ ،‬ليس تجاه ِ‬ ‫ُ‬ ‫شُ ئ المجتمع‪ .‬ولو كا ن‬ ‫ض ما يقال‪ ،‬فاليدي والقداُم ل تن ِ‬ ‫التكوينات الجتماعية هي ثمرةُ الذهنية‪ .‬وعلى نقي ِ‬ ‫ث الهاّمة‪ ،‬ومراحِل التطور‪ ،‬والبنى الموجودِة‬ ‫كذلك‪ ،‬لكانت الدنيا التي أماَمنا مختلفةً كّل الختلف‪ .‬جميُع الحواد ِ‬ ‫في التاريخ ظهَرت للوسط كثمرٍة من ثماِر الرادات والذهنيات المؤّثرة‪ .‬وأحُد أهّم الخطاء الجسيمة للسلوب‬ ‫الماركسي يكمن في انتظاره من البروليتاري القابع تحت وطأِة القمع والضطهاد والستغلل اليومي أ ن ُينش ئ‬ ‫المجتمَع الجديَد‪ ،‬دو ن أ ن يوّجه الثورةَ وُي ةعّمَقها في الميادين الذهنية‪ .‬لقد عجَز الماركسيو ن عن رؤيِة أ ن‬ ‫ي عبٌد َمغُزّو وُمسَت ةعَبد من جديد‪ .‬بل وق ةعوا بأنفسهم في سفسطِة "ال ةعامِل الحر"‪ .‬وبإضافِة الخطاء‬ ‫البروليتار ّ‬ ‫الخرى‪ ،‬تكو ن قد اتضحت النتائُج وُأدِرَكت‪.‬‬ ‫ت النسانية في ال ةعلم‪ ،‬كيف يجب أْ ن تَُكو ن الذهنيةُ التي علينا اكتسابها؟ للرد‬ ‫إذ ن‪ ،‬ومع إيلء الم ةعاني لمنجزا ِ‬ ‫الصريح على هذا السؤال‪ ،‬علينا بالمزيد من كشف النقاب من العما‪.‬ق عن الُمقاَربَ​َتين الذهنيَّتين النابَ ةعَتين من‬ ‫س المصب‪.‬‬ ‫الذاتانية والموضوعانية‪ ،‬والمؤّديَ​َتين في النتيجة إلى نف ِ‬ ‫ث‬ ‫أولهما هو أ ن الموضوعانية ليست – كما ُيزَعم – ت ةعبيراً عن قوانيِن الطبي ةعة والمجتمع‪ .‬ولدى البح ِ‬ ‫ي ل ةعبارِة "كلِم الرب" القديمة‪ .‬إذ يصدح‬ ‫والتمحيص بإم ةعا ن‪ ،‬سُيرى أ ن القوننةَ الموضوعيةَ هي الشكُل ال ةعصر ّ‬ ‫على الدوام وصدى القوى الخارقِة للطبي ةعة والمجتمع في هذه الموضوعانية‪ .‬وبمزيٍد من النبش والسبر‪ ،‬سُيدَرك‬ ‫ق‬ ‫س َ‬ ‫أ ن هذا الصوَت ي ةعود لحاكميِة وسيطرِة الطاغي الجباِر والستغللّي المستِبد‪ .‬إ ن ال ةعقَل الموضوعي ونَ َ‬ ‫ت على يِد تلك‬ ‫ى وثيقٍة مع نظِم الحضارِة المدينية القائمة‪ ،‬حيث ُرّوضت تلك الوصوا ُ‬ ‫أوصواتِ​ِه الصادحة ذو ُعر ً‬ ‫النظم‪ ،‬وأوصبحت مألوفًة للذا ن‪ .‬وحتى لو تم جني الم ةعلومات الجديدة من الموضوعات ‪ ،Nesneler‬فهي ُتلَحق‬ ‫ف‬ ‫ف جديد يوَثق سلفاً أو لحقا ً بأل ِ‬ ‫على الفور بأماكَن م ةعينٍة من النظام القائم‪ .‬علينا مؤّكداً م ةعرفة أّ ن كّل اكتشا ٍ‬ ‫ب آلهِة النظام‬ ‫ب النظام التقني‪ .‬وفي حاِل الوصرار على ال ةعكس‪ ،‬فسيتم الت ةعر ُ‬ ‫ض لغض ِ‬ ‫قيٍد وقيد على يِد أوصحا ِ‬ ‫القائم‪ ،‬مثلما نشهد في ُجّل المثلة التاريخية‪ ،‬بدءاً من آدَم حتى إبراهيم‪ ،‬ومن ماني إلى منصوِر الحلج ‪ ،‬ومن‬ ‫ف عدّو وعدو‪.‬‬ ‫سانت باول إلى جوردانو برونو ‪ .‬فلدى ُدنُّو الموضوعانية من الحقيقة وال ةعدل‪ ،‬سيواِجه أل َ‬ ‫ستكو ن الموضوعانية ثمينًة للغاية إذا ما كا ن حقاً ي ةعني الشيَء الذي تراه عيُن القلب والدراك‪ .‬وإذا ما ارتبطَ‬ ‫ج أ ن يكو ن المرُء ُمقاتِلً في‬ ‫بقيِم الحياة الحرة‪ ،‬فسيؤدي إلى الحكمة الحقيقية‪ .‬ولكن‪ ،‬يجب حينها تَ​َحّمَل نتائ ِ‬ ‫سبيل الفكر‪ ،‬مثلما كا ن منصور الحلج وبرونو‪.‬‬


‫يجب الم ةعرفة ب ةعنايٍة وحساسية أنه بالمقدور استخلص نتيجة ذات اتجاَهين من الموضوعانية بالنسبة للقوانين‬ ‫سس‪ ،‬والتجاه الذي يمثل الحقيقة؛ يتطلب انهماكاً‬ ‫ال ةعلمية‪ .‬فالتمييُز بين التجاه الذي يمثل النظاَم الحاكم المتأ ّ‬ ‫عظيما ً ووصموداً عتيدًا‪ .‬أما نمطُ الفكر الموضوعّي ال ةعائد بالغلب للفكر التحليلي‪ ،‬فسيؤدي َمَهّمةَ الديناوصوِر‬ ‫ش المولُّد‬ ‫الثاني في التاريخ‪ ،‬ما لم تتوث ْ‬ ‫ق ُعراه مع الفكاِر الحدسية النية المتأتية من الذكاء ال ةعاطفي‪ .‬فالوح ُ‬ ‫للقنبلة الّذّرية ليس سوى نسخةٌ م ةعّدلة من اللوياثا ن القديِم مجّهزًا ببنية الفكر التحليلي للحداثة الرأسمالية‪ .‬وهو‬ ‫سه المسؤوُل عن هذه اللوحة السوداوية السلبية التي تَ​َحّدثنا عنها‪ .‬وإذا ما أم ةعّنا النظَر في الله الجديد غيِر‬ ‫نف ُ‬ ‫المقَّنع‪ ،‬والظاهِر بهيئة الدولة القومية‪ ،‬سنلحظ عن كثب ما يقتدر عليه الفكُر التحليلي الموضوعي‪.‬‬ ‫ت الدراك‬ ‫أما الذاتانيُة القاب ةعة في القطب المقابل للموضوعانية‪ ،‬فتّدعي الووصوَل إلى الحقيقة عبر مفارقا ِ‬ ‫ب من ضروب الفلطونية‪ .‬ولدى ترِكها لوحدها‪،‬‬ ‫الحسي دوَ ن الحاجة إلى الموضوع الشيء ‪ .Nesne‬إنها ضر ٌ‬ ‫ُ‬ ‫سيظهر على الفور جانُبها المخاِدُع وأفكاُرها الثبوتيةُ القالبية‪ ،‬مثلما حاُل الموضوعانية‪ :‬الحقيقة هي بقدِر ما‬ ‫ب الوجودية )النطولوجيا(‪ .‬فهي َت ةعتبُِر النساَ ن موجوداً‬ ‫نحسه وندركه‪ .‬وهذا ما يصل من أحد جوانبه إلى مذه ِ‬ ‫س ال ةعديد من المدارس الفكرية باسمها‪ ،‬فهي – مثلما الموضوعانية – ل‬ ‫بقدِر ما يخلق نف َ‬ ‫سه‪ .‬ورغَم تأسي ِ‬ ‫تتخّلف عن احتلِل مكانها داخَل أروقِة النظام القائم‪ .‬أما سقوطها في "الذاتية" )إنكار الموضوع ‪(Obje‬‬ ‫بمفهومها إزاء الطبي ةعة والمجتمع‪ ،‬فيؤدي إلى ج ةعلها دعامةً وطيدةً للفردية‪ .‬فالمفهوُم الذي يج ةعل الفرد في‬ ‫ق‬ ‫ق للنانية عوضا ً عن ظهوِر الـ"أنا" السليمة‪ ،‬مت ةعل ٌ‬ ‫الحداثة أنانيًا‪ ،‬مرتبط عن كثب بالذاتانية‪ .‬فتمهيدها الطري َ‬ ‫بالتوجِه الساسي الُمْحَكِم المؤدي إلى المجتمع الستهلكي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫الذاتانيةُ مسؤولةٌ أيضاً عن الفكر الدوغمائي المنحرف الذي مفاده "الحقيقة بقدِر الـ أنا"‪ .‬والنظاُم الرأسمالي‬ ‫س على كافة الميادين الفنية‪ ،‬وعلى رأسها الداب‪،‬‬ ‫َمِديٌن بالكثير لهذه البنية الفكرية‪ .‬فهذا النمطُ الفكري المن ةعك ُ‬ ‫ع ال ةعاَلم الفتراضي ‪ ،‬حيث بس َ‬ ‫ط نفوذه على المجتمع برمته بوساطِة وصناعة‬ ‫قد ووصل في نهايِة المطاف إلى ابتدا ِ‬ ‫ُ‬ ‫ف مضاعفة‪ .‬لقد أبقي على المجتمع يئن تحت‬ ‫الفن‪ ،‬فأّمن وأحكَم المشروعيَة التي يحتاجها النظاُم القائم بأض ةعا ٍ‬ ‫ت ال ةعالَِم الفتراضي لحظيًا‪ ،‬لُِيتَرَك يتخبط على الدوام في عدميِة القدرة على التفكير الذاتي‪ .‬هكذا‬ ‫وطأِة هجما ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُأسقِ َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ب اليجابي‬ ‫طت الحقيقة إلى مستوى عالِم الت َ‬ ‫شّبِه والمحاكاة لتزوَل م ةعاني الفر‪.‬ق بين الوصل والشبه‪ .‬الجان ُ‬ ‫للذاتانية كإدراك حسي هو ارتبا ُ‬ ‫ف الحساسات والحدسيات في‬ ‫ب بالفكر ال ةعاطفي‪ .‬أي أّ ن استكشا َ‬ ‫طها عن ُقر ٍ‬ ‫الدراك الحسي ُي ةعتَبر جانبا ً قويًا‪.‬‬ ‫ب التصوف وفي ِحكمة الشر‪.‬ق الوسط لتحقيق التكامل بين المجتمع والطبي ةعة عبر‬ ‫جرت المحاول ُ‬ ‫ت في مذه ِ‬ ‫ت واس ةعة في ذلك‪ ،‬بحيث ل يزال بالمقدور تف ةعيُلها والستفادةُ منها‬ ‫ب الدراك الحسي‪ ،‬فقطَ ةعت مسافا ٍ‬ ‫أسلو ِ‬ ‫كمصدٍر منيع‪ .‬تتميُز ذاتاني ُة الشر‪.‬ق المثالية بتفوقها على موضوعانية الغرب الشيئية بم ةعالجتها الخلقية‬ ‫سق َ َ‬ ‫س ذاتها على‬ ‫للمجتمع والطبي ةعة‪ .‬هذا ولطالما َ‬ ‫ض عك ِ‬ ‫طت الذاتانيةُ أيضا ً – مثلما حاُل الموضوعانية – في َمَر ِ‬ ‫أنها وصوت الله‪ .‬وكلتاهما تتلقيا ن في جانبهما هذا‪ .‬فانطلقاً من مواقفهما إزاء الطبي ةعة والمجتمع بالعتماد‬ ‫على فكرِة الله الداخلي المت ةعالي‪ ،‬لن تتخلصا من التحوِل إلى أداٍة مسّخرٍة لخدمِة الملوك المتسترين وال ةعراة‬ ‫الذين ليسوا سوى اللهةُ المقَّن ةعة وغيُر المقّ​ّن ةعة للنظام القائم‪ ،‬ولن ُتنِقذا ذاتيهما من اللحا‪.‬ق بهذا النظام‪.‬‬ ‫تحتّل الموضوعانيةُ مكانةً راسخًة في يومنا الراهن‪ ،‬أو بالحرى في الحداثة الرأسمالية‪ ،‬عبَر المدارس‬ ‫ب المؤسسات الروحانية‬ ‫الوض ةعية ومؤسساتها الجام ةعية‪ ،‬في حين تحتل الذاتانيةُ مكانةً وطيدة عبر كافِة ضرو ِ‬ ‫شَحَمة تجاه النظام‪،‬‬ ‫والدينية؛ لتنتجا المشروعيةَ للنظام من جانَبين مختلَفين‪ ،‬وتؤديا بذلك دوَر الِمْزيَ​َتة والَم ْ‬ ‫سقاً للحقيقة‪ .‬وباعتبارهما تشكل ن البنيةَ الكادريَة‬ ‫عوضا ً من أْ ن تَُكوَ ن كّل واحدٍة منهما أسلوبا ً أو نَ َ‬ ‫ت ال ةعنف‬ ‫والمؤسساتيةَ لشرعن ِة السلطة والستغلل‪ ،‬فهما تتميزا ن بالفاعلية المماثلة لما تقوم به مؤسسا ِ‬ ‫والستغلل‪ .‬إننا مرًة أخرى أمام قوى النظام المتكاملة مع مقولة "السلطةُ حقيقة‪ ،‬والِ ةعلُم قوة"‪ .‬أما البح ُ‬ ‫ث عن‬ ‫ث رأس المال – الِ ةعلم – السياسة‪ ،‬والذي يمكن‬ ‫الحقيقة‪ ،‬فليس سوى اسٌم يطَلق على ل ةعبٍة متجسدٍة في ثالو ِ‬ ‫ث آخر عن الحقيقة خارَج إطاِر هذه الل ةعبة‪ ،‬إما هو عدّو النظام القائم‪ ،‬فيجب‬ ‫تسميته بـ"الشركة"‪ .‬وكّل بح ٍ‬ ‫القضاَء عليه‪ ،‬أو يجب جذَبه لروقِة النظام وال ةعمل على وصهره في بوتقته‪ .‬وإزاء الفقدا ن الكبير للم ةعنى‪ ،‬فنحن‬ ‫ُمطَّوقو ن ضمن حصاِر المدنية المادية في أرقى مراحلها‪ .‬فكيف لنا النفاُذ والن ةعتا‪.‬ق من طو‪.‬ق وحصاِر ُقوى‬ ‫ب له‪ ،‬بدءاً من نيتشه‬ ‫رأس المال – الِ ةعلم – السياسة؟ إّ ن هذا السؤاَل‪ ،‬الذي طالما بَ​َحَث فلسفةُ الحرية عن جوا ٍ‬ ‫إلى ميشيل فوكو ‪ ،‬ليس من النوع الممكِن الجابة عليه بهذه السهولة‪ .‬علينا تفّهم هؤلء الفلسفة الذين َلم‬ ‫ت الموت‪ ،‬القنبلةُ الذّرية‪،‬‬ ‫يحتملوا الحداثة )"المجتمع المخصّي" و"موت النسا ن"(‪ ،‬فقضت عليهم‪ .‬فم ةعسكرا ُ‬


‫ق الخنا‪.‬ق على الحياة بشكل متطرف‪ ،‬تفشي‬ ‫ب التطهير الثني‪ ،‬دماُر البيئة‪ ،‬البطالةُ الجماعية‪ ،‬تضيي ُ‬ ‫حرو ُ‬ ‫السرطا ن وغيره من المراض كاليدز؛ إنما تدل على وصحِة تلك الحكام‪ ،‬بل وتج ةعل من البحوث عن الحقيقة‬ ‫المضادة َمَهّمةً ضرورية وُملِّحًة‪.‬‬ ‫ت الشتراكية ال ةعلمية‪ ،‬والديمقراطية الجتماعية‪ ،‬والتحررية الوطنية‪ ،‬التي‬ ‫مرًة أخرى أعيد وأوضح أ ن تيارا ِ‬ ‫ُين َ‬ ‫ت م ةعاِرضٍة عظمى‪ ،‬قد حددت أماكَنها منذ زمٍن طويٍل كمذاهَب في كنف الحداثة‪ ،‬وبدأت بتأديِة‬ ‫ظر لها كنظريا ٍ‬ ‫ث ما وراء الحداثة قد غيَّرت من هيئتها‪ ،‬وباتت‬ ‫مهامها بموجب ذلك‪ .‬ومن السهل الدراُك أّ ن ال ةعديَد من بحو ِ‬ ‫ت من الفكر الحداثي‪.‬‬ ‫تيارا ٍ‬ ‫عندما تبلُغ النظُم الذروَة تبدأ بالنحلل والتهاوي‪ .‬وأعواُم السب ةعينات تَُمثُّل مرحلةَ بدِء سقوِط وانحداِر الحداثة‬ ‫الرأسمالية‪ ،‬وطرح فقدا ن الثقة بها حصيلة تجزؤها وتراج ةعها الواضح في السلوب‪ .‬ولهذه المرحلِة علقةٌ‬ ‫وثيقةٌ ببدِء ظهو ِر الفكر اليكولوجي ‪ ،‬والتيارات الفامينية ‪ ،‬والحركات الثنية – الثقافية ودخولها حيز التنفيذ‪.‬‬ ‫ت الحرة‪ .‬من‬ ‫ب ال ةعلمي أظهَر لل ةعيا ن وجوَد عوالَم أخرى مختلفٍة‪ ،‬وأبرَز قيمةَ التفسيرا ِ‬ ‫فتفّكُك وتجزؤ السلو ِ‬ ‫‪.‬ق‪ ،‬والنظُر إلى‬ ‫المهم للغاية استقبال هذه المرحلة التي يمكن ن ةعُتها بمرحلة الفوضى بإدراٍك غنّي ووعٍي را ٍ‬ ‫ف المجموعات الفكرية البارزة حسب واق ةعها كبؤرٍة للمقاومة في أحشاِء جميِع بؤِر السلطة‪.‬‬ ‫مختلَ ِ‬ ‫ت الحقيقة‬ ‫ب الجديدة المغايرة ونظريا ِ‬ ‫إّ ن تقييَم هذه المرحلِة التاريخية بالغنية والخصيبة من حيث بروِز السالي ِ‬ ‫المختلفة‪ُ ،‬يزيد من فروصِة إعادِة بناِء المجتمع على مستوى الجماعات‪ .‬فتجسيُد يوتوبيات الحرية والمساواة‬ ‫س في البنى الجتماعية المنشأة قد أوصبح بمثابة َمَهّمٍة عمليٍة يومية تفرض نفسها بقوة‪ .‬وما يلزم‬ ‫بشكٍل ملمو ٍ‬ ‫ُ‬ ‫لذلك هو م ةعرفة القيمِة ال ةعلمية للطريق المسلوك‪ ،‬والتحلي بقوِة إرادِة الحرية‪ .‬إننا نتحدث عن المرحلة التي يدنو‬ ‫ق حياةٌ حرة!‬ ‫ق الحقيقة من الحياِة الحرة‪ .‬ما نقصده باختصار‪ :‬الحقيقةُ عشق‪ ،‬وال ةعش ُ‬ ‫فيها عش ُ‬ ‫َ‬ ‫إذ ن‪ ،‬والحال هذه‪ ،‬ل يمكننا الووصول إلى الم ةعلومات اللزمة‪ ،‬ول إنشاء عالِمنا الجتماعي والقوى الرياديِة‬ ‫سق للحقيقة‪ .‬لنبحْث عن‬ ‫ق وهيام‪ ،‬سواًء من حيث السلوب‪ ،‬أو كنَ َ‬ ‫الجديدة له؛ ما لم نت ةعقب الحياةَ الحرة ب ةعش ٍ‬ ‫ُقرب في تحصيِل الم ةعرفة وإنشاِء البنى الريادية على ضوِء فرضياتنا هذه‪.‬‬ ‫ض ثنائيِة الذات ال ةعاقلة – الموضوع الشيء‬ ‫ض ريادِة كّل من بيكو ن وديكارت‪ .‬وب ةعَد دح ِ‬ ‫لنبدْأ في بحثنا برف ِ‬ ‫سبًة من جميع النواحي‪ .‬ومثلما ل نقصد عاَلماً‬ ‫وثنائيِة الروح – البد ن‪ ،‬سيكو ن اتخاُذ النساِ ن أساسا ً بدايةً منا ِ‬ ‫إنسانّي المركز ‪ ،‬فنحن ل نتبع أسلوب الفلسفة النسانية أيضًا‪ .‬بل موضوُع بحثنا هو مجموُع الحقائق المتكاثفة‬ ‫في النسا ن‪.‬‬ ‫‪ -1‬الذرات التي تتشكل منها بنية المادة‪ ،‬تتميز بوجوٍد وتكويٍن غنّي للغاية في النسا ن‪ ،‬سواء من جهة ت ةعدادها‬ ‫أو ترتيبها‪.‬‬ ‫‪ -2‬يتميز النسا ن بأفضلية تمثيله لكافِة البنى النباتيِة والحيوانية لل ةعاَلم البيولوجي ‪.‬‬ ‫س النساُ ن أرقى أشكاِل الحياة الجتماعية‪.‬‬ ‫‪ -3‬أ ّ‬ ‫س َ‬ ‫‪ -4‬يتمتع النساُ ن ب ةعالٍَم ذهنّي مرٍ ن للغاية وحّر للغاية‪.‬‬ ‫ش بشكٍل ميتافيزيقي‪.‬‬ ‫‪ -5‬يمكنه ال ةعي ُ‬ ‫واضٌح جليا ً أّ ن َتواُجَد كافِة هذه الخصائص والمزايا بشكٍل متداخٍل ومتكامٍل في آٍ ن م ةعا ً داخَل النسا ن يج ةعُل منه‬ ‫مصدراً ل نِّد له للم ةعلومات‪ .‬وإدراُك هذا المنبِع ضمن التكامِل المتسق يكاف ئ استي ةعاَب الكوِ ن الم ةعلوم‪ ،‬أو أنه –‬ ‫بأقل تقدير – بدايةٌ وصحيحة لفهِم الكو ن‪.‬‬ ‫ص الروابط الحيوية فيما بينها‬ ‫ت الداخلية للذرات التي هي أوصُل المادة‪ ،‬وفح ُ‬ ‫أوًل‪ :‬يمكن تشخي ُ‬ ‫ص التكوينا ِ‬ ‫ق للمادة الحيوية المفكرة‪.‬‬ ‫ب منتظٍم وُمتّ ِ‬ ‫بأفضِل الشكال عبَر النسا ن‪ .‬وبم ةعنى ما‪ ،‬يمكننا تصّوُر النسا ن كترتي ٍ‬ ‫س ٍ‬ ‫ومثلما أّ ن تصوراتنا ل َت ةعتِبر النساَ ن مجرَد ُمَجّمع من المادة‪ ،‬فهي ل تنظر إلى المادة َكبنيٍة خاليٍة كليّا ً من‬ ‫س الحّي‪ .‬في حين أّ ن َعْقَد الروابِط بين المادة ذات الحس الحي الخاص بها‪ ،‬وبين م ةعنى النسا ن المتجاوز‬ ‫الِح ّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫لكونه مجّم ةعاً من المادة الصرف يَُ ةعّد مشكلة إدراٍك عصيبة وعويصة‪ .‬من الضروري البحث عن المنبع‬ ‫الميتافيزيقي في هذا النوع من الدراك‪ .‬في حين أّ ن تَ​َ ةعّمقنا في هذا الدراك يتطلب مرونةً عقلية ل محدودة‪ ،‬وقد‬ ‫يتخطى ثنائيةَ المادة – الم ةعنى‪ .‬وَلربما كانت غايةُ كّل شيٍء حي وغيِر حي هو تجاُوُز هذه الثنائية‪ .‬فبينما تكو ن‬ ‫ف الم ةعنى تجاوَز المادة‪ .‬وقد يكو ن ممكناً رؤية أنفاس ال ةعشق الكثر كبتاً‬ ‫غايةُ المادة اكتساَب الم ةعنى‪ ،‬يكو ن هد ُ‬ ‫وكبحاً في هذه الثنائية‪ .‬وربما يكو ن قد طرأ َتغّيٌر على قرينة "الدفع – الجذب" بالذات‪ ،‬لتتحول إلى ثنائية المادة‬ ‫– الم ةعنى‪ .‬وربما كا ن القصُد هو هذه الثنائيات عندما قيل بوجوِد ال ةعشق في أوصِل الكو ن وأساسه‪ .‬وكأ ن هذا‬


‫ق يرتكز إلى أمتِن دعائمه لدى النسا ن‪.‬‬ ‫ال ةعش َ‬ ‫ب إلى الصحة‪ .‬ولكن‪ ،‬يبدو من‬ ‫مقصُد حديثي هو اعتقادي بأّ ن البحَث في المادة داخَل النسا ن هو السلوب القر ُ‬ ‫غير الممكن الووصوُل إلى التفسيِر القرب إلى الصحة للمادة داخَل مختبرات الحداثة الم ةعزولة بإحكاٍم‪ .‬في حين‪،‬‬ ‫ت على‬ ‫س ال ةعلقة بين الناظر والمنظور إليه في فيزياء كوانتوم ‪ .‬فمثلما ُيطِر ُ‬ ‫ل يمكن إطلقا ً قيا ُ‬ ‫ئ الناظُر تغييرا ٍ‬ ‫المادة‪ ،‬بمقدوِر المنظور إليه أيضاً النفاذ من عين الناظر في شروِط المختبرات‪ .‬إذ ن‪ ،‬فالدراُك الصحيح غيُر‬ ‫ف‬ ‫ممكٍن لدى النسا ن إل بالستبطا ن ‪ .‬إذ‪ ،‬ما ِمن مختبٍَر أعظَم وأفضَل إحكاماً من النسا ن‪ .‬ومثلما َك َ‬ ‫ش َ‬ ‫ديموقريطس الذّرة بهذا السلوب‪ ،‬فهو يكو ن بذلك قد حّدَد السلوَب الصحيح والسليم منذ زمٍن طويل‪ .‬ما نقصده‬ ‫ليس عدَم فائدِة المختبرات‪ ،‬بل نقصد أّ ن مكاَ ن المبادئ الساسية موجوٌد في الدراك الحسي فيما يخص‬ ‫النسا ن‪.‬‬ ‫‪.‬ق المبدأ أكثر‪ ،‬حيث بالمستطاع ملحظة كافِة القوانين الفيزيائية والكيميائية في النسا ن على‬ ‫يمكننا توسيع نطا ِ‬ ‫نحٍو أقرب إلى الكمال‪ .‬وما من مختبٍر فيزيائّي أو كيميائي يمكنه الووصول إلى مستوى النتظام والترتيب الغني‬ ‫ب إلى الصحِة عبر‬ ‫الموجو ِد في النسا ن‪ .‬إذ ن‪ ،‬بالمقدور الووصول إلى الم ةعلومة الفيزيائية أو الكيميائية القر ِ‬ ‫ت الكيماوية الوسِع‬ ‫بنيِة النسا ن‪ .‬كما يمكننا استي ةعاب كيفيِة جرياِ ن التحول بين المادة – الطاقة والتفاعل ِ‬ ‫ج الم ةعاني السليمة فيما يت ةعلق بال ةعلقة‬ ‫والغنى الحاوصلة عبر بنيِة النسا ن‪ .‬علوةً على أّ ن أغنى ضرو ِ‬ ‫ب استنتا ِ‬ ‫س الوحدة بين المادة – الطاقة –‬ ‫المتبادلة بين المادة – الطاقة موجودةٌ في النسا ن‪ .‬إضافةً إلى إمكانية التما ِ‬ ‫ص للغاية‪ُ :‬ترى‪ ،‬هل هذه الوحدة الحاوصلةُ في النسا ن‬ ‫غ النسا ن‪ .‬وهذا ما يوّجهنا نحو سؤاٍل عوي ٍ‬ ‫الفكر في دما ِ‬ ‫خاوصيةٌ من خصائص الكو ن؟‬ ‫ندرك من ذلك أّ ن اتخاَذ النسا ن أساساً ي ةعد مبدأنا الولّي الغنى على الطل‪.‬ق من جهِة طاقته الكمونية في‬ ‫سقِّي السليم في‬ ‫الوعي والدراك‪ .‬بالتالي‪ ،‬يمكن اعتباره الطري َ‬ ‫ق الولي في الحصول على الم ةعرفة‪ ،‬والمبدأَ النّ َ‬ ‫غ ماهيِة الحقيقة‪.‬‬ ‫بلو ِ‬ ‫ُ‬ ‫ثانيًا‪ :‬بمقدورنا ملحظة قرينِة الحيوية – الجمود بأغنى نطاقاتها وأمثلتها داخل النسا ن‪ .‬فالحيوية التي يتصف‬ ‫بها النساُ ن تتضمن المزايا الكثَر وفرةً واتساعاً من بين جميع الكائنات الملَحظة‪ .‬لقد حقق تطّوُر الحيوية‬ ‫ذروَته في النسا ن‪ .‬إلى جانب ذلك‪ ،‬فالقسُم المادي فيه متداخٌل ومتواٍز في تطوره مع تطوِر الحيوية‪ ،‬ليمنحنا‬ ‫ى من الرقي هو العلى على الطل‪.‬ق‪ .‬وانتظاُم المادة في الدماغ‪ ،‬إلى جانب الرقي في الحيوية ل يزال‬ ‫مستو ً‬ ‫‪.‬ق محدوٍد للغاية‪ .‬ول نزال أمام مشكلٍة عويصة تنتظر‬ ‫سراً مكتنفاً باللغاز التي لم يَُفك ال ةعلُم رموَزها إل بنطا ٍ‬ ‫غ النسا ن‪ ،‬ومهارة‬ ‫اكتشاف لغزها‪ ،‬فيما يخص الروابط القائمة بين مهارةَ المادة في تنسي ِ‬ ‫ق ذاتها داخل دما ِ‬ ‫الحيوية المرتقية إلى حد القدرة على التفكير المجرد‪ .‬وعندما قلنا بغنى المثال‪ ،‬إنما قصدنا به هذا ال ةعضَو الرائع‬ ‫في رقيه‪ .‬علوة على ذلك‪ ،‬فكّل عضٍو من أعضاء البد ن الخرى‪ ،‬يتصدرها القلب‪ ،‬يشكل م ةعجزةً بكل م ةعنى‬ ‫الكلمة‪ .‬وأنّوه على الفور هنا إلى أّ ن البحث في أعضاء النسا ن وأجهزته مسألةٌ م ةعقدةٌ للغاية بحيث ل يمكن‬ ‫تركها للطب وحده‪ ،‬بل يتوجب البحث فيها من قَِبل كافة ال ةعلوم وفروعها متحدةً كي تكو ن موضوعاً لبحاث‬ ‫قَّيمة‪ .‬في حين أّ ن تَْرَك النسا ن للميداَنين الطبي والنفسي على نحِو ثنائيِة الروح – البد ن يَ ةعّد أعظَم جهل‪ ،‬بل‬ ‫وجريمةً فظي ةعةً لدرجة الجناية‪.‬‬ ‫ب رؤيتها في مثال النسا ن‪.‬‬ ‫ض الفرضيات بشأِ ن إنارِة ال ةعلقة بين الحيوية – الجمود الواج ِ‬ ‫يمكننا إيضاح ب ةع ِ‬ ‫ق‬ ‫وقبل أي شيء‪ ،‬يجب القبول والقرار بكفاءِة الحيوية الكامنة في المادة‪ .‬ولول هذه الكفاءة‪ ،‬لما أمكَن ترافُ ُ‬ ‫الترتيب والنتظام المادي للذرات في النسا ن مع هذا المستوى الراقي من ال ةعواطف الجياشة والحيوية ال ةعاقلة‪.‬‬ ‫ت أقوى بشأ ن كمو ن الحيوية في المادة؟ الرد الول‪ :‬من الضروري‬ ‫إذ ن‪ ،‬والحال هذه‪ ،‬كيف يمكننا بلوغ إدراكا ٍ‬ ‫ح الحيوية الكامنة‪ .‬فقد يكو ن من الفضل تفسير هذا المبدأ‬ ‫تثبي ُ‬ ‫ت ثنائيِة "الدفع – الجذب" في وصدارِة اوصطل ِ‬ ‫ٌ‬ ‫الوصلي الملَحِظ في كافة الكو ن على أنه حيوية كامنة‪ .‬ثانيًا‪ :‬وتأسيساً على هذا المبدأ‪ ،‬يمكننا الشارة إلى‬ ‫سيمية للموجات‪ .‬ويمكننا إدراج مبدأِ أو قرينِة الوجود – الفراغ القائمة في الكو ن ضمن ذلك‪ ،‬إذ ل‬ ‫الصفة الُج َ‬ ‫غ بل وجود‪ .‬ولدى التأمل الغائر لقصى الحدود‪ ،‬سنجد أنه بتجاوز قرينِة‬ ‫يمكن تصّور وجوٍد بل فراغ أو فرا ٍ‬ ‫الوجود – الفراغ سيزول الثنا ن م ةعًا‪ .‬إذ ن‪ ،‬بَِم يمكن تسمية الشيء الجديد المتكو ن؟ هذا هو السؤال الثاني‬ ‫ض على الفور بأنه "ا" مثلما جرت ال ةعادة‪ .‬في حين أّ ن الستمهاَل في هذا‬ ‫ال ةعسيُر ال ةعويص‪ .‬قد يَُرّد الب ةع ُ‬ ‫الموضوع قد يؤدي بنا إلى أفكاٍر قّيمٍة للغاية‪ .‬وربما نبلغ بذلك جواَب أو م ةعنى لغِز حياتنا وأسرارها‪.‬‬ ‫سيم الموجود في‬ ‫سيمية للموجة‪ .‬فخاوصية الُج َ‬ ‫من الم ةعلوم أنه لحصوِل الجذب والدفع‪ ،‬يتطلب وجود الخاوصية الُج َ‬


‫كّل حزمِة ش ةعاع هي ال ةعلةُ والسبب للسرعة القصوى المقدرة بـ ‪ 000,300‬ألف كم‪/‬ثانية‪ .‬وإدراُك وجوِد "الثقب‬ ‫ص سرعِة الضوء ؟ هذا أيضاً‬ ‫السود" الممت ّ‬ ‫ص للضوء ُيزيد من اللغز ت ةعقيدًا‪ .‬ما هو الواقُع الناش ئ ب ةعد امتصا ِ‬ ‫شّ ةعة؟‬ ‫أحُد السئلة ال ةعسيرة الرد‪ .‬وإذا ما أسمينا الثقوَب السوداء ِبـ ُجُزر الطاقة المحضة‪ ،‬فَبَِم نُ َ‬ ‫سّمي الطاقةَ الُم ِ‬ ‫س ظاهري‬ ‫ُترى‪ ،‬هل الكوُ ن عبارةً عن قرينِة الثقب السود ال ةعمل‪.‬ق – المادة؟ وفي هذه الحال‪ ،‬هل المادةُ ان ةعكا ٌ‬ ‫لما هو ليس بمادة؟ بالتالي‪ ،‬أل نستطيع النظر إلى الكو ن المن ةعكس ظاهريا ً ككائٍن حّي ضخم؟ وهل مجموع‬ ‫ص لهذه القرينة الكونية واقتداء بها؟ على سبيل المثال؛ هل يمكن‬ ‫القرائن والثنائيات الموجودة في الحياة تشخي ٌ‬ ‫ت "الحب – البغض"‪" ،‬الفضيلة – الرذيلة"‪" ،‬الجمال – القبح"‪ ،‬و"الصواب – الخطأ" أ ن تكو ن‬ ‫لثنائيا ِ‬ ‫ان ةعكاس ًا لهذه الكونية؟ وهكذا دواليك‪ .‬يمكننا الكثار من التساؤلت‪ ،‬ولكن‪ ،‬سيكو ن من النجع النشغال بالسئلة‬ ‫التي ن ةعتني بها عن ُقرب‪ ،‬ونهتم ب ةعلومها‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫لقد ُبرِهن على أّ ن المادةَ طاقةٌ مّدَخرةٌ مكثفة‪ .‬وم ةعادلة آينشتاين الشهيرة م ةعروفة‪ .‬حيث ُيشار فيها إلى الفر‪.‬ق‬ ‫بين وزِ ن النسا ن الحي ووزِ ن النسا ن الميت‪ ،‬والُمقَّدر بثمانيةَ عشر غراماً من الطاقة‪ .‬فهل الحيويةُ تمثل في‬ ‫ت‬ ‫سقا ً خاوصاً من جريا ن الطاقة؟ وهل يحصل هذا الفراغ للطاقة بحفاظها على وجودها؟ أَول َتثبُ ُ‬ ‫هذه الحالة نَ َ‬ ‫َ‬ ‫وصح ُة الروحانية في ال ةعقيدة الرواحية آنذاك؟ أو على القل‪ ،‬أل تصبح عقيدةً يجب أخذها على محمل الجد‬ ‫والعتبار؟ أل ي ةعني ذلك أّ ن الكوَ ن مليٌء بالرواح؟ أو‪ ،‬أل ي ةعني إيلَء الهمية والجدية اللزمة لمفهوِم أو إدراِك‬ ‫أو تفسيِر هيغل بصدد الذكاء المطلق ‪) Geist‬الفكرة المطلقة‪ ،‬ال ةعقل المطلق( أو بَِكْوِ ن الطاقة هي الروح‬ ‫الحيوية للمادة؟ يمكننا طرح المزيد من مثل هذه التساؤلت‪.‬‬ ‫الُمِهّم هنا هو النتبا ُه إلى كوننا لن نكو ن قريبين من الحقيقة إذا ما عملنا بالشروح الميتافيزيقية الشائ ةعِة في‬ ‫دوغمائية ال ةعصور الوسطى بالتمييز بين الحيوية – الجماد‪ ،‬أو بت ةعليلت الحداثة الرأسمالية القائمة اعتماداً‬ ‫على التفريق بين الروح – البد ن أو بين الذات – الموضوع‪ .‬فل مبدأُ القوة الخارجية الخالقة والباعثِة للرواح‬ ‫والنفوس‪ ،‬ول المقاربات الم ةعتَِبرة للكو ن كثنائية الروح – المادة منذ البداية‪ ،‬يمكنها إيضاح غنى حياتنا‬ ‫ص إدراكنا وفهمنا‬ ‫وكمالها‪ .‬فالتساؤل ُ‬ ‫ت التي طرحناها‪ ،‬والمثلةُ التي قدمناها تكفي للدللة على إمكاِ ن زيادِة فر ِ‬ ‫لكافة التطورات‪ ،‬بما فيها موضوع الحي – الحيوية والم ةعجزات والمور الخارقة للطبي ةعة‪ ،‬بشرِط زيادِة الم ةعا ن‬ ‫ف قوِة الملحظة وامتهانها‪.‬‬ ‫والتأمل في غنى الحياة لدى النسا ن‪ ،‬واحترا ِ‬ ‫ف مناسب‪ .‬والطبي ةعةُ في‬ ‫علينا القتناع بمبدِأ ال ةعدالة في الكو ن‪ .‬فما من موجوٍد يمكنه أ ن ُيولَ​َد دو ن علٍة أو ظر ٍ‬ ‫ب فيما إذا اعتبرنا المجتمَع المدينّي مسؤولً عن فقداننا‬ ‫تكوينها أكثُر عدًل مما نشاهد‪ .‬وسنكو ن على وصوا ٍ‬ ‫لمهاراتنا في الملحظة‪ ،‬أو في ت ةعرضها للتحريف والتشويه والتضليل‪ .‬ووجوُد النسا ن أيضا ً تطّوٌر عادل‪.‬‬ ‫ت والمنظمات الجتماعية مسّخرةٌ‬ ‫وبالستطاعة القول أّ ن كّل النظام الكوني‪ ،‬وال ةعاَلم البيولوجي‪ ،‬والمؤسسا ِ‬ ‫لخدمِة تكويِن ونشوِء النسا ن‪ .‬فهل من عدالٍة أعظم؟ أما إذا كانت التحريفات الكبرى المستفِحلة في المجتمع‬ ‫على يد الهرميِة والدولة قد طمست هذه الحقيقة؛ فيجب البحث عن المسؤول ضمن هذه القوى البشرية‬ ‫ث عن ال ةعدالة والم ةعني بها‪ ،‬فهو القادر على تطوير كافِة‬ ‫المحّرفة والمضّللة‪ .‬وهذه بالذات َمَهّمةُ النساِ ن الباح ِ‬ ‫ص القائلو ن "أبحث عن‬ ‫ع الم ةعاني وال ةعمليات والممارسات اللزمة في سبيِل ال ةعدالة‪ .‬وبالطبع‪ ،‬فالشخا ُ‬ ‫أنوا ِ‬ ‫ت هذه الوظيفة‪ ،‬وتلبية متطلباتها بأكثر الشكال قيمةً وتنظيما ً وعمليًة‬ ‫ال ةعدل" هم الذين عليهم تحّمل مشقا ِ‬ ‫وديمومة‪.‬‬ ‫ع ال ةعظيم في ال ةعاَلم البيولوجي‪ ،‬وأطواِر التطور التدريجي )الطبي ةعي( أمٌر ممكٌن في‬ ‫يبدو أّ ن اعتماَد التنو ِ‬ ‫سّهل مهمتنا‪ .‬إذ‪ ،‬بمستطاعنا إدراك النتقال الحاوصل بين عالَ​َمي النبات والحيوا ن على‬ ‫إرشاداتنا الولية‪ ،‬بل ويُ َ‬ ‫نحٍو أسهل بفضِل فهِم النتقالت والتحولت المتبادلة بين الجزيئات وال ةعناوصر الحية وغيِر الحية‪ .‬وقد قَ َ‬ ‫طَع الِ ةعلُم‬ ‫ت شاس ةعًة في هذه المواضيع‪ .‬فرغم كّل نواقصه والسئلِة ال ةعالقة دو ن رد‪ ،‬إل أننا نتمتع بغنى شامٍل من‬ ‫مسافا ٍ‬ ‫الم ةعاني والوصطلحات‪ .‬ف ةعالَُم النبات بحّد ذاته م ةعجزةٌ بكل م ةعنى الكلمة‪ ،‬بدءاً من الطحالب البدائية إلى شجرِة‬ ‫فاكهٍة مذهلة‪ ،‬ومن العشاب إلى الورود الشائكة‪ .‬كلها مؤشٌر وصارٌخ على قدرِة المهارة والكفاءة الحيوية فيها‪.‬‬ ‫وبالخص تلك الُ ةعرى الوثيقة وال ةعلقات المتناسبةُ طردياً بين جماِل الوردة وآليِة دفاعها عن ذاتها بالشواك‪،‬‬ ‫ب التطور التدريجي لفتاً للنظار هو‬ ‫ض المور حتى لكثِر الناس جهلً وبلهًا‪ .‬وأكثُر جوان ِ‬ ‫والتي توحي بب ةع ِ‬ ‫احتضاُ ن كّل َ‬ ‫ت‬ ‫ق لسابقه‪ ،‬ووصوُنه إياه في أحشائه كجزٍء أو عامٍل من عوامل الغنى‪ ،‬لدرجِة أ ن آِخر نبا ٍ‬ ‫طوٍر لح ٍ‬ ‫يستمر في وجوده كـ"الم" باعتباِره مختَزَل كّل النباتات‪ .‬بم ةعنى آخر‪ ،‬وعلى نقيض ما ُي ةعتَ​َقد‪ ،‬فالتطوُر الطبي ةعي‬ ‫ل يكو ن بإفناء الب ةعض )وجهة النظر الداروينية الوثوقية الدوغمائية(‪ ،‬بل يحقق سيرورته وديمومته بالغناء‬


‫والكثار‪ .‬إنه تطو ٌر يسري من النوع الواحد إلى مختلف النواع‪ ،‬ومن الطحلب البدائي إلى التَكّثر والتنوع‬ ‫اللمتناهي‪ .‬علينا النظر إلى التنوع والتوافر باعتباره لغةَ النباتات وحياَتها‪ .‬فهي أيضاً لها عوائلها وأقاربها‪ ،‬بل‬ ‫س ت ةعد مبدأً راسخا ً لدرجِة أنه يكاد ل يوجد كائٌن بل‬ ‫ع أو جن ٍ‬ ‫وحتى أعداؤها‪ .‬ولكّن آليَة الدفاع الخاوصة بكّل نو ٍ‬ ‫آليِة دفاع‪.‬‬ ‫الخاوصيةُ الخرى الواج ُب ملحظتها هي التكاثر الجنسي والتكاثر اللجنسي ‪ .‬فبينما يكو ن التكاثر اللجنسي‬ ‫حالةً بدائيةً جداً من التناسل‪ ،‬فإّ ن التكاثَر الجنسي‪ ،‬أي‪ ،‬التناسل بتزاوج الجنسين المختلَفين هو المبدأ الشائع‪.‬‬ ‫ق التكاثر والتمايز‬ ‫س الفصيلة أو النوع متأتيةٌ من مراحِل التطور والصيرورة‪ .‬وتحقي ُ‬ ‫والذكورة والنوثة من نف ِ‬ ‫ف الفصائل‪ .‬فبدو ن التمايز إلى فصائَل مختلفٍة على شكِل ذكورٍة‬ ‫في النواع يتطلب وجوَد الجنسين في مختل ِ‬ ‫ت الطبي ةعة‪ .‬إذ تبدو النواُع الم ةعتوهةُ‬ ‫وأنوثة‪ ،‬ل يمكن التكاثر والتنوع‪ .‬هنا أيضاً نواجه م ةعجزةً من م ةعجزا ِ‬ ‫والم ةعّوقة التي نصادفها بكثرٍة حصيلَة التزاوج بين القارب‪ ،‬والذي ي ةعد استمراراً لوجوِد الذكورة والنوثة في‬ ‫س الفصيلة‪ ،‬تبدو وكأنها ضرورٌة من ضرورات التطور الطبي ةعي‪ .‬يمكننا رب ُ‬ ‫ط التمايز الذكري – النثوي مع‬ ‫نف ِ‬ ‫التطور على أساس التناقض والتباين اليجابي )يمكننا تسميته بالجدلية اليجابية أيضًا( كمبدأٍ للتطور الجاري‬ ‫س" الكينونة )الِمْثل( ي ةعني إنكاَر التطور‪ .‬من هنا يتضح تماماً‬ ‫في الكو ن برمته‪ .‬جلّي تماماً أ ن الوصراَر في "نْف ِ‬ ‫ث عن الحقيقة المطلقة )كما في الفكر الميتافيزيقي( يفتقر للكفاءِة اللزمة في تفسيِر‬ ‫أّ ن مبدأَ الِمْثلية في كّل بح ٍ‬ ‫الكو ن‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫السؤاُل الكثر إلحاحا للطرح هو‪ :‬ما غاية الكو ن من التطور؟ أو بالحرى‪ ،‬أليست خاوصية التطور في الكو ن‬ ‫بذاتها برهاناً على حيويته؟ أيمكن لشيٍء ل كفاءة حيوية له أ ن يتطور؟ يساِعُد ال ةعاَلم البيولوجي على تيسير‬ ‫ب "الرض"‪.‬‬ ‫الرد على هذا السؤال‪ .‬والمسألةُ الهامة الخرى بشأِ ن التطور البيولوجي تت ةعلق باستثنائيِة كوك ِ‬ ‫ب حّي آخر حتى ال ن‪ .‬إنها مسألةٌ شائكة بحق‪،‬‬ ‫ب مراقبة الجرام السماوية يقال أنه لم ُي ةعَثر على كوك ٍ‬ ‫فبموج ِ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ت كافِة الكواكب والمجرات محدودة للغاية‪ .‬فبقدِر ما تستطيع الب ةعوضة تفسيَر‬ ‫فمقدرة النسا ن على تحديِد وتثبي ِ‬ ‫س القدر‪ .‬فالزعم بمقدرِة النسا ن على م ةعرفِة كّل شيء َوْهٌم من أوهام‬ ‫ال ةعاَلم‪) ،‬ربما؟( يفسر النساُ ن الكوَ ن بنف ِ‬ ‫ع خلق ا‪.‬‬ ‫الفكر الميتافيزيقي‪ ،‬وهو أشبهُ بموضو ِ‬ ‫ق في الكونّية بالرقام ل يوضح المور كثيرًا‪ .‬علماً بأننا ل نزال على عتبِة إدراِك حكمِة‬ ‫إّ ن حصَر كياٍ ن تَ​َحقّ َ‬ ‫ض النظر عن المفهوم الشهير "لكل‬ ‫ال ةعاَلم وأسبابه‪ ،‬ول نزال نجهل ما سيض ةعه هذا الدراُك أمامنا‪ .‬يجب عدَم غ ّ‬ ‫ب منيرة للفكر‪ .‬ربما نوضح ُمرادنا على نحٍو‬ ‫كائٍن حّي عاَلمه"‪ .‬ولربما يكو ن لفكرِة ال ةعوالم المتوازية جوان ُ‬ ‫أفضل من خلل المثال التالي‪ :‬الخلية الحية الموجودة في إحدى أنسجِة النسا ن كائن خاص بذاته‪ .‬بل ويتحقق‬ ‫التفكيُر في خليا الدماغ‪ .‬فهل بمقدوِر هذا النوع من الخليا القول بأ ن‪ :‬ال ةعالَ​َم موجوٌد بقدر تفكيرنا؟ فهذه الخليا‬ ‫بالمقابل ل درايَة لها بالنسا ن ول بالكو ن الضخم خارج النسا ن‪ .‬لكّن هذا ل ينفي وجوَد النسا ن والكوَنين‬ ‫الوصغر والكبر‪ُ .‬ترى‪ ،‬أل نستطيع اختزاَل النسا ن أيضاً إلى مستوى تلك الخلية ضمن الكو ن الكبر؟ سنستطيع‬ ‫الحكَم بوجوِد عوالم أخرى من زاوية مختلفة‪ ،‬إْ ن تجرأنا على التسليم بذلك بسهولة‪ .‬مقصدنا من "الكوا ن‬ ‫ف) َ‬ ‫المتوازية" هو‪ :‬إْ ن كا ن كّل كوٍ ن مرتبطٌ ب َ‬ ‫سر‪ ،‬إذ ن‪ ،‬بالمكا ن وجوُد‬ ‫طور‪ ،‬وصفحة( وِبطول موجة مثلما يُفَ ّ‬ ‫طي ٍ‬ ‫عدٍد ل متناٍه من الكوا ن‪ .‬وما نظاُم التموجات الُمَوّلدة للنسا ن سوى واحٌد من تلك الكوا ن‪.‬‬ ‫ق الفق في التفكير‪ .‬إننا نهدف للخلص‬ ‫ق المغالطات‪ ،‬بل نس ةعى لتجاوِز ضي ِ‬ ‫ل نرمي من هذه الشروح إلى خل ِ‬ ‫ت ال ةعسيرة والُمَمنَهَجِة‬ ‫ض السلوب والرغاما ِ‬ ‫من مصيدِة تحري ِ‬ ‫ف الوعي والُم ةعتَ​َقد‪ ،‬والناجمِة بالغلب عن أمرا ِ‬ ‫ت الهرمية والدولة اللَتين ُت ةعتَ​َبرا ن آلًة للتضليل والرياء أكثَر مما‬ ‫للدولة والهرمية‪ .‬فبنيتنا الفكريةُ ثمرةُ آليا ِ‬ ‫نتصور بكثير‪ .‬علوًة على أنهما طالما أفنتا وقضتا على ال ةعديد من الفكار الصائبة‪.‬‬ ‫عالَُم الحيوا ن نظاٌم بحّد ذاته‪ .‬وقد ُعِثر بدايةً على النوع الممثِّل للخلية الحيوانية والنباتية م ةعًا‪ .‬وبالطبع‪ ،‬فمجرُد‬ ‫التأمل الدقيق يدل على عدِم إمكاِ ن النتقال إلى عاَلم الحيوا ن ما لم يتواجد عالَُم النبات‪ .‬أي أّ ن الحياةَ النباتية‬ ‫تمثل الشرو َ‬ ‫ت المتطور شرطٌ أّولّي لوجوِد‬ ‫ط القَْبلية والتمهيدية للحياة الحيوانية‪ .‬والهّم من ذلك أّ ن تواُجَد النبا ِ‬ ‫ف أرقى في عاَلم الحيوا ن‪ ،‬من قَِبيل البصر‪،‬‬ ‫س وعواط َ‬ ‫حيواٍ ن متطور‪ .‬فالحيويةُ الكامنة تؤدي لظهوِر أحاسي َ‬ ‫السمع‪ ،‬اللم‪ ،‬الرغبة‪ ،‬الغضب‪ ،‬والحب‪ .‬أما انشغاُل الحيواِ ن الدائُم بتأميِن القوت ‪ ،‬فيستوجب البحَث في ظاهرة‬ ‫الجوع عن كثب‪ .‬حيث من السهولة بمكا ن عقُد الروابِط الوثيقة بين الجوع والطاقة المفقودة‪ .‬مرةً أخرى نحن‬ ‫وجهاً لوجه أمام الرابطة بين الحيوية والطاقة‪ .‬فلدى زواِل الجوع يكو ن المُر الحاد ُ‬ ‫ث هو تخزيُن الطاقة‬ ‫المطلوبة‪.‬‬


‫كما من المهم روصد الحاجة الجنسية عن قرب‪ .‬فهذه الحاجةُ التي تفرض نفسها كرغبٍة جامحة تَُ ةعّبر عن وظيفٍة‬ ‫غايُتها استمراُر الحياة‪ .‬وتَ​َرّكز الطاقة في التكوين الجنسي أيضاً يدعو للتفكير بروابطها مع ديمومة الحياة‪.‬‬ ‫ولكن‪ ،‬يجب عدم النظر إلى الوظيفة الجنسية كمؤثٍر وحيد في ديمومة الحياة‪ .‬ولربما كا ن النمطُ الجنسي ظاهرةً‬ ‫لديمومِة الحياة الكثر بدائية‪ ،‬فهو ل يفيد إل بالستمرار الكمي للحياة‪.‬‬ ‫ق أمام التنوع وظهوِر أنماٍط أغنى من حياِة التطور التدريجي‪ .‬علوة على ذلك‪ ،‬فالتصال‬ ‫إنه يفتح الطري َ‬ ‫الجنسي )الِجماع( ل يمثل غريزَة الحياة والت ةعلق بها فحسب‪ ،‬بل وي ةعني الخوف من الموت‪ ،‬أو بالحرى‪ ،‬يحمل‬ ‫ع جنسّي ي ةعني الموَت جزئيًا‪ .‬وب ةعض الحيوانات تموت ب ةعد ممارسته مباشرة‪.‬‬ ‫الموَت بذاته بين طياته‪ .‬فكل ِجما ٍ‬ ‫ق الموت‪.‬‬ ‫إذ ن‪ ،‬والحال هذه‪ ،‬فالتشبث بالجنس والت ةعص ُ‬ ‫ب له ي ةعني الحالَة الكثر بدائية للحياة‪ ،‬وهو أشبهُ بتحق ِ‬ ‫ف المحبة‬ ‫والن ةعكاف على الجنس فقط يقّوي من احتماِل الموت‪ .‬في حين‪ ،‬وبقدِر تحويِل الجنس إلى إحياٍء ل ةعواط ِ‬ ‫والود والجمال‪ ،‬يكو ن الدنّو من الخلود أكثر‪ .‬وما الخلوُد المذكور في المأثورات الفنية سوى ثمرةٌ لهذا الوعي‪.‬‬ ‫كما يمكننا اعتبار التكاثر الجنسي نمطا ً دفاعيًا‪ .‬فبقدر ما تتكاثر وتتناسل‪ ،‬تش ةعر أنك موجوٌد ومستمٌر وُمصا ن‪.‬‬ ‫س والتوالد )التناسل( في مجتمِع النسا ن عن كثب‪ .‬إّ ن تقييَم اللذة الكامنة في نمِط ال ةعملية‬ ‫سنتناول الجن َ‬ ‫الجنسية‪ ،‬والتي هي ضماُ ن استمراِر وتكراِر الحياة‪ ،‬على أنها "عشق" ي ةعد أفدَح خطأ‪ .‬وعلى النقيض‪ ،‬فاللذةُ‬ ‫الم ةعتِمدةُ على ال ةعملية الجنسية إنكاٌر لل ةعشق‪ .‬تقوم الحداثةُ الرأسمالية بإشاعِة ونشِر الجنسانية كالسرطا ن‪،‬‬ ‫ق الحقيقي هو ال ةعنفواُ ن الندفاعي المحسوس من لغِة نشوِء‬ ‫لتقتل بها المجتمَع باسم ال ةعشق‪ .‬في حين أّ ن ال ةعش َ‬ ‫ق‬ ‫ق هو كل ما في ال ةعالم‪ ،‬والباقي قيٌل وقال" تفسيراً لل ةعشق الحقيقي‪ .‬فال ةعش ُ‬ ‫الكو ن‪ .‬وقد يكو ن قوُل مولنا "ال ةعش ُ‬ ‫مرتبطٌ بتجاوِز اللذة الجنسية‪ ،‬أو بالوصح‪ ،‬برقّي مستوى الحرية المتبادلة في أخل‪.‬ق النسا ن‪ .‬بينما َترتبط‬ ‫ت المادي‪ .‬الوصح هو رب ُ‬ ‫ط ال ةعشق الكائن بين كافِة عناوصِر الكو ن –‬ ‫الشهوةُ الجنسية بزواِل الحرية‪ ،‬وبالثبو ِ‬ ‫وليس فقط بين الرجل والمرأة – بانسجاِم الوجود وتآلفه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫س والش ةعوِر م ةعجزةٌ بحّد ذاتها‪ .‬فمث ً‬ ‫ل‪ ،‬كيف يمكننا شرح حاسة البصر؟ مؤكٌد أ ن البصَر هو‬ ‫إّ ن تَطَّوَر الحوا ّ‬ ‫ال ةعنصر الحي الرقى‪ .‬كما ل جدال في عدم إمكانية البصار دو ن ضوء‪ .‬البصاُر فكر‪ .‬من المهم رؤيةُ كّل المزايا‬ ‫الحيوية‪ ،‬وفي وصدارتها الجنس‪ ،‬كشكٍل من الفكر‪ .‬الحيويةُ بذاتها ت ةعني لحّد ما مقدرَة الم ةعرفة‪ .‬من هنا‪ ،‬فمقولةُ‬ ‫‪.‬ق أوسع‪ ،‬يمكننا النظُر لدوراِ ن الكو ن وفق قوانيَن‬ ‫ديكارت "أفكر‪ ،‬إذ ن أنا موجود" في محلها‪ .‬وعلى نطا ٍ‬ ‫منتظمٍة على أنه م ةعرفة‪ .‬فالقوانين تَُذّكر بالم ةعرفة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فالم ةعرفةُ المرتكزة إلى ال ةعين المجّردة تطوٌر رائع‪.‬‬ ‫ولهذا ندرك م ةعنى القول "لقد خلق ا الكو ن ليت ةعرف على ذاته"‪ .‬ولجل م ةعرفة الذات عند هيغل ُت ةعتَ​َبر أحكام‬ ‫صر ِمن أولى‬ ‫تَ َ‬ ‫صَر وُتب َ‬ ‫شّيؤ الفكر المطلق ‪ Geist‬مرتبطًة بالبصار والستبصار‪ .‬ولربما كانت الرغبة في أْ ن ُتب ِ‬ ‫غايات الوجود‪.‬‬ ‫سين يذّكرا ن بتبايِن الحياة واختلفها‪ .‬فبقدر‬ ‫تتبدى عواط ُ‬ ‫ف اللذِة واللم في حيويِة الحيوا ن أيضًا‪ .‬فِكل الحسا َ‬ ‫اللذة والس ةعادة تكو ن الحياةُ مقبولةً ومحسوساً بها‪ ،‬وبقدر الحساس باللم والحز ن يكو ن ش ةعورنا بالحياة‬ ‫سين مدرستا ن قط ةعيتا ن للم ةعرفة‪ ،‬وقيمتهما في التوعية عالية‪.‬‬ ‫وكأنها ل ُتطا‪.‬ق وغير مستساغة‪ .‬كل الحسا َ‬ ‫ب الجنو ن والتهور‪ .‬واللُم أيضا ً م ةعلٌّم كبير‪ ،‬ويؤدي بدوره لتقديِر‬ ‫فاللذةُ ت ةعّلم الكثير‪ ،‬ولكنها قد تؤدي لكافِة ضرو ِ‬ ‫قيمِة الحياة بقوة‪ .‬وبينما تكو ن نهايةُ اللذة والس ةعادة قريبةً جداً من اللم‪ ،‬فاحتماُل الحياة الس ةعيدة كبيٌر أيضا ً في‬ ‫ش الس ةعادة‬ ‫نهاية اللم‪ .‬وكلتا الحياَتين تتجليا ن بالنتباه إلى الفوار‪.‬ق بينهما‪ ،‬واكتسا ِ‬ ‫ب الم ةعرفة والوعي ب ةعي ِ‬ ‫أكثر‪ ،‬وتحمِل اللم أكثر‪.‬‬ ‫ص‬ ‫سيكو ن من الوصح تناُول ال ةعلقة بين الموت والحياة ضمن إطاِر المجتمع النساني‪ ،‬كونها ذات خصائ َ‬ ‫ميتافيزيقيٍة للغاية‪ .‬المسألةُ الخرى الهامةُ والمستِحقُة للتدقيق والم ةعا ن فيما يخص الحيوانات هي التغذي على‬ ‫اللحم‪ .‬إذ يمكن لجمي ةعها ال ةعيش بالتغذي على النباتات‪ .‬وأكُل اللحم ليس حاجًة اضطرارية‪ .‬ولكن‪ ،‬ثمة مجموعةٌ‬ ‫شائ ةعة من آكلت اللحم‪ .‬فكيف لنا إيضاح ذلك؟ قد يكو ن الخطُر الذي يهدد الحياةَ في عالَِم الحيوا ن بسبب‬ ‫التناسل المفِرط عنصراً مساعداً على التحليل‪ .‬فبينما يكو ن التكاثُر الجنسي سبي ً‬ ‫ل لضما ن استمرار الحياة‪ ،‬لكّن‬ ‫ت الحياة المتنوعة‪ .‬وعلى سبيل المثال‪ ،‬قد يؤدي التكاثُر المفرط والسريُع‬ ‫الفراط فيه قد يقضي على إمكانيا ِ‬ ‫للفئرا ن إلى زوا ِل النباتات‪ .‬كما يمكن للغنام والماعز والبقار ومثيلتها من الحيوانات أ ن تقضي على النباتات‪.‬‬ ‫علوة على ذلك‪ ،‬ثمة تكاثٌر غيُر متوازٍ ن في عالم الطيور أيضًا‪ .‬ودخوُل السد والف ةعى والصقر حيَز ال ةعمل في‬ ‫هذه الحالة ليس لغايِة القضاء على الحيوانات الخرى فحسب‪ ،‬بل يبرز كضرورٍة اضطراريٍة لمكانيِة ديمومِة‬ ‫ف ت ةعسفي في الطبي ةعة‪ .‬إذ‪ ،‬ثمة‬ ‫عالِم الحيوا ن‪ .‬لذا‪ِ ،‬من غيِر الممكن اعتبار مثل هذا التقسيم في الوظائف كإجحا ٍ‬


‫توازٌ ن دقيق في هذا المر‪ .‬فإذا ما اختل هذا التوازُ ن‪ ،‬وامتل المكاُ ن بالفاعي والسود والصقور‪ ،‬فلن يبقى‬ ‫حينئٍذ سوى عدٌد ِجّد محدوٍد من الحيوانات الحية‪ .‬إّ ن النتظام التلقائي الذاتي للنظمة الطبي ةعية أمٌر مذهل‪.‬‬ ‫سنستفيض في التطر‪.‬ق للهمية القصوى لمسألِة تنظيِم التكاثر الجنسي في المجتمع النساني‪ ،‬ومنزلتِ​ِه في‬ ‫ع ال ةعلقة بين ال ةعالَِم البيولوجي ومسألِة أَْخِذ النسا ن‬ ‫استمراريِة الحياة‪ ،‬وروابِطِه مع الخل‪.‬ق‪ .‬ن ةعود إلى موضو ِ‬ ‫أساسًا‪ ،‬ونشير ثانيةً إلى كوِ ن كّل الموجودات في ال ةعالم مختَزلًة في النسا ن ذاته‪ .‬إذ يمكننا مشاهدةُ كافة مزايا‬ ‫الحياة التي ندركها في عالَمي النبات والحيوا ن داخَل النسا ن أيضًا‪ .‬وهذا ما م ةعناه من ناحيٍة ما أّ ن النسا ن هو‬ ‫غايةُ التطور ل ةعالَمي الحيوا ن والنبات‪ ،‬وهو وريثهما‪ .‬أما وجوُد كائٍن حي أعلى من النسا ن‪ ،‬فيمكن التفكير فيه‬ ‫كاحتماٍل‪ ،‬ليس إل‪ .‬ولربما أّ ن القوةَ المذهلةَ للنسا ن في مقدرِة دماغه على التفكير قد تج ةعل من وجوِد كائٍن‬ ‫أرقى أمراً ل داعي له‪ .‬فالتطوُر ال ةعقلي لديه في ذروته‪ ،‬حيث يَُ ةعّد خاوصيًة أولية لدى الكائنات الحية من حيث‬ ‫كونه ي ةعني القدرةَ على الم ةعرفِة والتفكير‪ .‬إّ ن م ةعرفَة الكو ن لذاته تتحقق في النسا ن‪ .‬وربما لهذه الغاية قيل في‬ ‫ت النساَ ن لَِت ةعَلموا "‪.‬‬ ‫آيٍة من الكتاب المقدس‪" :‬خلق ُ‬ ‫س غير‬ ‫ت وحيوا ن‪ ،‬فال ةعك ُ‬ ‫ل شك في أنه‪ ،‬وبينما يكو ن النساُ ن مجموعاً تراكميا ً لحيويِة كافِة الكائنات من نبا ٍ‬ ‫ُ‬ ‫وصحيح‪ .‬أي‪ ،‬وبجمع كّل النباتات والحيوانات ل يمكن الحصول على النسا ن‪ .‬تتولد هنا الحاجة لخِذ النسا ن‬ ‫ف تمامًا‪ .‬ل أرمي إلى ال ةعمِل بمفهوِم كوٍ ن "إنسانّي المركز"‪ ،‬ول أتحدث عن فلسفِة وحدة الوجود‬ ‫ك ةعالٍَم مختل ٍ‬ ‫َ‬ ‫ع متميٍز بذاته‪.‬‬ ‫ح فْر ِ‬ ‫‪.‬ق النسا ن عن غيره من الكائنات كنو ٍ‬ ‫)وحدة الطبي ةعة والله(‪ .‬بل أش ةعر بضرورِة إيضا ِ‬ ‫ف ومتمايز كليًا‪.‬‬ ‫فالنساُ ن هاٌم لدرجِة ضرورة ِتناوله ك ةعالٍَم مختل ٍ‬ ‫ثالثًا‪ :‬إذ ن‪ ،‬فالبح ُ‬ ‫ص به ُي ةعّد أسلوبا ً مهما ً وثميناً بالنسبة إلى‬ ‫ع حق ّ َ‬ ‫ق وجوَده في مجتمٍع خا ّ‬ ‫ث في النسا ن كنو ٍ‬ ‫سقها‪.‬‬ ‫البحث عن الحقيقة ونَ َ‬ ‫انفصاُل النسا ن عن "فصيلِة الثدييات البدائية" السابقِة له‪ ،‬وأطواُر التطور النوعي ليس أمراً هاماً بالنسبة‬ ‫لموضوعنا‪ .‬فنحن ل نبحث في النثروبولوجيا‪ .‬ل ريب أننا كثيراً ما نصادف أمثلَة ال ةعيش المشترك على شكِل‬ ‫ع‬ ‫جماعا ٍ‬ ‫ت أو تجم ةعات‪ ،‬ليس في عالِم الحيوا ن فحسب‪ ،‬بل وفي عالِم النبات أيضًا‪ .‬وبطبي ةعِة الحال‪ ،‬فكّل نو ٍ‬ ‫ت متقاربة ومشتركة‪ .‬فل أشجاَر بل غابة‪ ،‬ول أسماَك بل سرب‪ .‬ولكّن تجمَع‬ ‫مضطٌر لل ةعيش على شكِل تجم ةعا ٍ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ق وسيخلق‬ ‫خل‬ ‫الذي‬ ‫م‬ ‫ظ‬ ‫المن‬ ‫ز‬ ‫الجها‬ ‫أنه‬ ‫أو‬ ‫أعلى‪،‬‬ ‫ا‬ ‫إنسان‬ ‫ع‬ ‫المجتم‬ ‫كا ن‬ ‫ولربما‬ ‫والنوعية‪.‬‬ ‫النسا ن متمايٌز بالماهية‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫النساَ ن العلى‪ .‬فلو أخذنا بإنساٍ ن ما من المجتمع ورميناه في وسِط غابة )ب ةعد ولدته مباشرة‪ ،‬وب ةعد تأميِن‬ ‫س أَُخر‬ ‫الَحصانة والحماية له(‪ ،‬فلن ينجو من التحول إلى كائٍن ثديي بدائي‪ .‬وإذا ما وض ةعنا بجانبه عدةَ أنا ٍ‬ ‫يشبهونه في الحالة‪ ،‬فستكو ن المرحلةُ المبتدئة َأشبَهُ كثيرًا بالمرحلة النتقالية الحاوصلة لدى الثدييات البدائية‪.‬‬ ‫ولكّن المَر ل يسري على عالَِم الحيوانات‪ .‬هذا الوضُع لوحده يدل بشكٍل وصارخ على القيمة المتمايزة للمجتمع‬ ‫النساني‪ ،‬وينير بشكٍل فريٍد دوَر النسا ن في بناِء المجتمع‪ ،‬ودوَر المجتمع في إنشاِء النسا ن‪.‬‬ ‫ل ريب في أنه ل مجتمٌع دو ن إنسا ن‪ .‬ولكّن الضلَل الكبر يكمن في اعتبار المجتمع مجرَد تجمٍع من الناس‪.‬‬ ‫فالنساُ ن بل مجتمع ليس سوى كائٌن ثديي بدائي‪ .‬في حين أّ ن النساَ ن المجتم ةعي قادٌر على التحول إلى قوٍة‬ ‫غ قدرٍة فكرية عظمى‪ .‬ولربما كا ن قراٌر من النسا ن سببا ً في تحويِل ال ةعالم كله إلى وصحراَء قاحلة‬ ‫مذهلة‪ ،‬وبلو ِ‬ ‫تل‬ ‫ت واختراعا ٍ‬ ‫)كالقرار بتفجيِر القنابل النووية(‪ .‬هذا النساُ ن قادٌر على القيام برحلٍة إلى الفضاء‪ ،‬وباكتشافا ٍ‬ ‫ح قوِة المجتم ةعية وقدراتها‪ .‬ومع أ ن التكوين الجتماعّي من شؤوِ ن علِم‬ ‫محدودة‪ .‬إننا نسرد هذه المثلة ليضا ِ‬ ‫سق الحقيقة يمرا ن‬ ‫الجتماع‪ ،‬إل أّ ن الموضوَع الذي نقوم بتحليله مختل ٌ‬ ‫ف كّل الختلف‪ .‬فبلوُغ الم ةعرفة وبناُء نَ َ‬ ‫فقط وفقط من المجتمع‪ .‬وكّل ما يتحقق في الفرد النسا ن ل بد وأ ن يكو ن مجتم ةعيًا‪ .‬ل نقصد هنا النساَ ن الوارث‬ ‫وسليل الحيوانات والنباتات‪ ،‬ول حتى المتبقي من الكو ن الفيزيائي أو الكيميائي‪ .‬بل نتحدث عن النسا ن الناش ئ‬ ‫ضمن المجتمع‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫لقد قامت كّل نظِم المدنيات‪ ،‬بما فيها الحداثة الرأسمالية‪ ،‬بالبحث والتدقيق في النسا ن منفصلً عن التاريخ‬ ‫والمجتمع‪ .‬أو بالحرى‪ ،‬نظَرت إلى كّل الفكار والبنى ال ةعائدة للنسا ن ب ةعيٍن منفصلة عن التاريخ والمجتمع‪ ،‬بل‬ ‫وطرحتها كإنجاٍز للفراد المت ةعالين على المجتمع‪ .‬ومنها ابتُِدَعت فكرةُ الملوك المتسترين وال ةعراة‪ ،‬واللهة‬ ‫المقَّن ةعة وغير المقَّن ةعة‪ .‬أنوه إلى أننا عندما نتغلغل في مفهومنا واوصطلحنا بصدد المجتمع‪ ،‬سنتمكن من تحليل‬ ‫كل أولئك الملوك واللهة‪ ،‬مثلما سنستطيع توضيح المنبع الوصلي لتلك الفكار‪ ،‬وماهياتها‪ ،‬وبناها الجتماعية‬ ‫الناشئة فيها‪ ،‬وبالخص النظم الجتماعية الموّلدة للقمع والستغلل والضطهاد‪.‬‬ ‫إّ ن طرَح ال ةعلقة بين النسا ن والمجتمع بأفضِل الشكال وأوصلحها تَُ ةعّد المسألَة الولية في السلوب‪ .‬فكّل من‬


‫بيكو ن وديكارت المّدعيا ن أنهما علميا ن للغاية‪ ،‬قد تناول مسائَل السلوب ومشاكله وكأنهما ل علَم ول روابطَ‬ ‫لهما بالمجتمع الذي يربيا ن ويتحركا ن ضمنه‪ .‬في حين أننا ن ةعلم اليوم ِعلَم اليقين أّ ن المجتمع الذي تأثرا به ليس‬ ‫سوى ذاك المجتمُع الذي أنشأ الرأسماليةَ كنظاٍم عالمي‪ ،‬أي‪ ،‬مجتمَع البَلَ​َدين اللذين نسميهما اليوم إنكلترا‬ ‫ت علقٍة وثيقة بالمجتمع الذي ُيشِهر‬ ‫وهولندا‪ .‬بالتالي‪ ،‬فالساليب التي اتب ةعوها وكّونوها ليست سوى أفكاٌر ذا ُ‬ ‫الباَب على مصراعيه أمام الرأسمالية‪.‬‬ ‫ف أولي؟‬ ‫إذ ن‪ ،‬ما الذي يمكننا مشاهدته لو شرعنا بالبحث في المجتمع النساني كصن ٍ‬ ‫‌أ‪ -‬المجتمُع تكويٌن يميز النسا ن عن الحيوا ن نوعيًا‪ .‬وقد أوضحنا هذه الخاوصية كفاية‪.‬‬ ‫س الفراد‪ .‬النقطة الهامة الواجب‬ ‫ب‪ -‬مثلما يتكو ن المجتمع من الناس الشخاص‪ ،‬فهو أيضاً ينش ئ ويكّو ن النا َ‬ ‫استي ةعابها هنا هي أّ ن تَ​َكّو ن المجتمع أو التجم ةعات البشرية يتم على يِد النسا ن بمهاراته وقدراته‪ .‬أي أّ ن‬ ‫ت النسا ن لنها تؤثر ب ةعمق في‬ ‫ت أعلى من النسا ن‪ .‬بل واضٌح جليا ً أنها ُتمثل تصورا ِ‬ ‫المجتم ةعات ليست بتكوينا ٍ‬ ‫ت مختلفة‪ ،‬بدءاً من الطوطم إلى الله‪ .‬ولول النسا ن‪ ،‬لما‬ ‫ذاكرته ومخيلته‪ ،‬حتى لو ان ةعكس ذلك على نحِو هويا ٍ‬ ‫كا ن ثمة مجتمٌع ُتحّقق فيه الطواطم أو اللهة ديمومتها‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ت ضمن حدوٍد تاريخية ومكانية م ةعينة‪ .‬بم ةعنى آخر‪ ،‬ثمة أزمنة وشروط جغرافية م ةعينة‬ ‫ج‪ -‬تتواجد المجتم ةعا ُ‬ ‫تنشأ ضمنها المجتم ةعات‪ .‬فما من مجتمٍع منفصٍل عن التاريخ أو المكا ن الجغرافي‪ .‬أما القول بيوتوبيا المجتمع‬ ‫البدي الموجود في كّل الظروف‪ ،‬فليس سوى َوْهٌم ل أوصل له‪.‬‬ ‫موضوُع التاريخ عموما ً ت ةعبيٌر عن تب ةعيِة الكائنات الحية على نحٍو عام‪ ،‬والنساِ ن على نحٍو خاص لزمنٍة م ةعينة‪.‬‬ ‫ت م ةعينة شرطٌ اضطراري لِتَ​َكّوِ ن هذا النوع من‬ ‫فوجوُد الفصول الرب ةعة أساسًا‪ ،‬والتتاب ةعا ُ‬ ‫ت الزمنية ال ةعديدة بفترا ٍ‬ ‫َ‬ ‫الموجودات‪ .‬علوة على ذلك‪ ،‬ما من موجوٍد ل فترة زمنية م ةعينة له‪ .‬وكلنا ن ةعلم أ ن اوصطلح "البد – الزل"‬ ‫م ةعنٌي فقط وفقط بحقيقة "التغير"‪ .‬أي أّ ن الشيَء الوحيد الذي ل يتغير‪ ،‬ول زماَ ن له‪ ،‬هو التغير ذاته‪ .‬في حين‬ ‫أّ ن الرواب َ‬ ‫ت السنين فيما يت ةعلق‬ ‫ط بين التاريخ والمجتمع أكثُر وثاقة وأكثُر قِ َ‬ ‫صراً زمنيًا‪ .‬فبينما نتحدث عن مليارا ِ‬ ‫ح "المجتمِع الطويِل المد" إل إذا تجاوز عمره آلف السنين‬ ‫ب ةعمِر الكو ن‪ ،‬نجد أنه ل يمكن إطل ُ‬ ‫‪.‬ق اوصطل ِ‬ ‫فحسب‪ .‬أما الفتراُت الزمنية الشائ ةعة فهي من قبيل اليوم‪ ،‬الشهر‪ ،‬السنة‪ ،‬والقر ن‪ .‬ومكاُ ن المجتم ةعات على علقٍة‬ ‫وثيقة بالوجود النباتي والحيواني أساسًا‪ .‬في حين ُي ةعتبر وجوُد المجتم ةعات في القطبين المتجمدين أو في‬ ‫المناطق الستوائية أمراً استثنائيًا‪ .‬أما المكاُ ن الوفر والغنى بنباتاته وحيواناته‪ ،‬فيشكل الرضيةَ الخصبة‬ ‫لنشوء المجتم ةعات الم ةعطاءة والمثمرة‪.‬‬ ‫ش‬ ‫ت ةعمل الكثير من المدارس الفكرية والبنى الدينية المتكونة ضمن أحشاِء الهرمية والتقاليد الدولتية على نق ِ‬ ‫وتوطيد فكرِة النظام المبتور من المكا ن والتاريخ الجتماعي في ذهن النسا ن‪ ،‬وكأنه قدٌر محتوم‪ .‬فمثلما ُيزَعم‬ ‫ض المفكرين والواعظين الدينيين بالحديث‬ ‫وصن ةعت التاريخ‪ ،‬هكذا يقوم ب ةع ُ‬ ‫أّ ن ب ةعض الشخصيات البطولية قد َ‬ ‫الدائم عن تأسيسهم للنظمة الفكرية والدينية المنقط ةعة عن المجتمع التاريخي‪ .‬ورغم إيلء الرأسمالية مكاناً‬ ‫فسيحاً لل ةعلم‪ ،‬لكنها – فيما يت ةعلق بالمجتمع على وجه التخصيص – ُتبدي عنايًة كبرى للفكر المبني على الفرد‪،‬‬ ‫ي نظاٍم ديني أو فلسفي أو فكري؟" تبقى في‬ ‫ي تكويٍن مجتم ةعي أدى إلى أ ّ‬ ‫ت من قبيل "أ ّ‬ ‫في حين أّ ن تساؤل ٍ‬ ‫الظلم على الدوام‪ .‬لقد ُبرِهن كفايةً على أّ ن زماَ ن ومكاَ ن المجتمع يَُكّونا ن الفرد‪ ،‬مثلما الفراد أيضاً ينشئو ن‬ ‫ويَُخ ّ‬ ‫طو ن مسار مستقبلهم‪ ،‬وخاوصًة بالصيغ والشكال التي تَلَّقوها من المجتمع‪ .‬إذ ن‪ ،‬فالب ةعاُد التاريخية‬ ‫والمكانية تأتي في وصدارِة الظروف اللزمة في م ةعالجِة قضايا السلوب وإدراِك الحقيقة‪.‬‬ ‫د‪ -‬ثمة أمر هام آخر‪ ،‬وهو أ ن الوقائع الجتماعية مصنوعة‪ .‬والضلل الذي طالما يهوي فيه الناس بكثرة هو‬ ‫النظر إلى المؤسسات والبنى الجتماعية كواقٍع طبي ةعي‪ .‬وبالتالي‪ُ ،‬تقّدم النظُم المشروعة الحاكمةُ على‬ ‫سها على أنها المقدسة والثابتة دومًا‪ ،‬وتَِ ةعظُ بمنهجيٍة مدروسة أنها وصاحبةُ‬ ‫المنظومات الجتماعية نف َ‬ ‫المؤسسات والكيانات اللهية‪ ،‬وأنه تم تكليفها وت ةعيينها لهذه الغاية‪ .‬وفي الحداثة الرأسمالية ت ةعمل هذه النظم‬ ‫على حقن ال ةعقول في المجتمع بأّ ن الكلمَة الفصل قد قيلت‪ ،‬وأنه ل بديل للمؤسسات الليبرالية‪ ،‬وأنه قد حّلت‬ ‫"نهاية التاريخ"‪ .‬كما تتطر‪.‬ق بتواوصٍل مستمر إلى الدساتير والنظم السياسية الثابتة المحالة التغيير‪ .‬مع أنه‪،‬‬ ‫ي‬ ‫وبنظرٍة خاطفة لمسيرِة التاريخ سنجد أّ ن ُعمَر هذه البنى الوطيدِة المحالة التغيير لم ُيكِمل المائةَ عاٍم في أ ّ‬ ‫زمن‪ .‬المهم هنا هو المقولت اليديولوجية والسياسية المذكورة يومياً بغايِة تقييد فكر النسا ن وربط إرادته‬ ‫بها‪ .‬فبؤر السلطة والستغلل بحاجٍة ماسة وحياتية لهذه البلغات اليديولوجية والسياسية‪ .‬حيث‪ ،‬وبدو ن‬ ‫اللجوء إلى البلغات اليديولوجية والسياسية الروصينة‪ ،‬سيكو ن من ال ةعسير عليها إدارة المجتم ةعات الراهنة‪.‬‬


‫ولهذا الغرض َ‬ ‫‪.‬ق واسع متنوع‪ ،‬إضافةً إلى إلحا‪.‬ق المؤسسات‬ ‫طّوَرت من الوسائل والجهزة العلمية على نطا ٍ‬ ‫ال ةعلمية والفكرية ببؤر السلطة والستغلل بشكل ساحق‪.‬‬ ‫ق منشأةٌ تكراراً ومرارًا‪ ،‬سنحكم حينها على نحٍو أفضل‬ ‫ق الجتماعية حقائ ٌ‬ ‫بقدر ما ن ةعي وندرك أّ ن الحقائ َ‬ ‫وبم ةعياٍر أوصلح بضرورة هدمها وإعادة بنائها‪ .‬إذ‪ ،‬ما من وقائع اجتماعية محالةُ الهدِم أو التغيير‪ .‬ونخص‬ ‫بالذكر هدم وتخطي المؤسسات القم ةعية والستغللية والتغلب عليها كضرورٍة حتمية لجل الحياة الحرة‪ .‬وما‬ ‫نقصده بالحقيقة الجتماعية هي جميع المؤسسات اليديولوجية والمادية في المجتمع‪ .‬ففي كافة الميادين‬ ‫الجتماعية تتأسس الحقائق الجتماعية على الدوام في الظروف الزمكانية المناسبة‪ ،‬وُتهَدم‪ ،‬أو تَرّمم ومن ثم‬ ‫ي ةعاد إنشاؤها؛ بدء ًا من اللغة إلى الدين‪ ،‬ومن الميثولوجيا إلى ال ةعلم‪ ،‬ومن القتصاد إلى السياسة‪ ،‬ومن الحقو‪.‬ق‬ ‫إلى الفن‪ ،‬ومن الخل‪.‬ق إلى الفلسفة‪.‬‬ ‫هـ‪ -‬من الهمية بمكا ن عدم النظر المج ّرد إلى ال ةعلقة بين المجتمع والفرد‪ .‬فالفراد هم الناشئو ن عبر التاريخ‬ ‫ف م ةعينة‪ ،‬ولهم لغاتهم‪ ،‬ويشاركو ن في البنى والمؤسسات الموجودة في كافة الميادين الجتماعية‬ ‫بتقاليد وأعرا ٍ‬ ‫التي ذكرناها‪ .‬إنهم ينضمو ن للمؤسسات الجتماعية الُمَ ةعّدة سلفا ً وقديماً في المجتمع ب ةعنايٍة قصوى‪ ،‬ويشاركو ن‬ ‫فيها بما ُتمليه عليهم أعرافها وتقاليدها‪ ،‬وليس كما يرغبو ن‪ .‬كما أّ ن مجتم ةعية الفرد تستلزم جهوداً تربوية‬ ‫وت ةعليمية عظمى‪ .‬وبم ةعنى ما‪ ،‬فالفرد ل يصبح عضواً منتمياً للمجتمع إل ب ةعد أ ن يهضم ويتبنى الثقافة التي تشكل‬ ‫ماضَي المجتمع برمته‪ .‬المجتم ةعيةُ تتحقق بجهوٍد حثيثٍة متواوصلة‪ .‬وكّل عملية اجتماعية هي في نفس الوقت‬ ‫عملية مجتم ةعية‪ .‬لذلك‪ ،‬فالفراد ل ينشأو ن كما يشاءو ن‪ ،‬بل ل يمكنهم الخلص من النشوء والترعرع وفق‬ ‫ع الفرد للمقاومة والتطلع للحرية على الدوام في المجتم ةعات الطبقية‬ ‫مشيئة مجتم ةعاتهم‪ .‬لكن‪ ،‬ل شك في نزو ِ‬ ‫والهرمية خصيصاً كونها مجتم ةعات منفتحة على القمع والضطهاد والستغلل‪ .‬فالفرد لن يقبل طوعاً‬ ‫بالمجتم ةعية المنِشئة لل ةعبودية والخنوع‪ .‬كما أنه سيبدي مقاومةً ووصموداً أعظم حيال المجتم ةعات الغريبة‬ ‫والمختلفة عنه والمستغلة له‪ ،‬كي ل يلتحم م ةعها ول ينصهر في بوتقتها‪ .‬مع ذلك‪ ،‬فستستمر المساعي‬ ‫ت المؤسسات القم ةعية والت ةعليمية لتلك المجتم ةعات‪ ،‬بل وحتى للقضاء عليه‬ ‫والمحاولت لتغييره داخل عجل ِ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ت الجتماعية تدور دوما كالطاحونة‪ ،‬لتشكل طحينا وِمن ثم خميرة قابلة للتكوين بموجبها هي‪.‬‬ ‫وإفنائه‪ .‬فال ةعجل ُ‬ ‫كّل َ‬ ‫ف يس ةعى على الدوام لحتلل مكاٍ ن له داخل المجتمع اعتماداً على توازنات التوافق‪ ،‬سواًء المؤسسات‬ ‫طر ٍ‬ ‫المتناقضة والمتنازعة فيما بينها‪ ،‬أو النسا ن المقاِوم تجاهها‪ .‬فل المجتمُع لديه القدرةُ المطلقة على الصهر‪،‬‬ ‫ول الفرُد لديه الفروصة للنقطاع الكلي عن المجتمع‪.‬‬ ‫ب ومقاربة أقرَب إلى الصواب‪ ،‬وبموجب‬ ‫باختصار‪ ،‬فال ةعمُل على مثال النسا ن الذي يأخذ المجتمَع أساسا ً بأسلو ٍ‬ ‫أنسا‪.‬ق الحقيقة؛ قد يؤدي بنا إلى نتائَج قّيمٍة‪.‬‬ ‫راب ةعًا‪ :‬إّ ن المرونة التي يتميز بها ذهُن النسا ن هي الرقى في مستواها‪ ،‬مما يؤثر بالغلب في زيادِة حظنا‬ ‫سق‬ ‫لتكو ن بحوثنا ثمينةً وقّيمة‪ .‬فبدو ن إدراِك وم ةعرفِة طبي ةعِة ذهِن النسا ن‪ ،‬ستبقى طموحاتنا بصدد السلوب ونَ َ‬ ‫الحقيقة م ةعلقةً في الهواء‪.‬‬ ‫ف عقِل النسا ن‪ .‬فبنيته الفكرية تتميز بمرونٍة بالغة لنها تتكو ن‬ ‫تطّرْقنا بكثرة للبنيِة الثنائية أثناء محاولتنا ت ةعري َ‬ ‫من القسم القديم في الدماغ )الفص اليمن منه( الذي ُي ةعنى بالفكر ال ةعاطفي‪ ،‬والذي هو أرقى وأكثُر تطوراً نسبًة‬ ‫ب إلى الفكر التحليلي‪ ،‬والقابِل‬ ‫لمسيرِة التطور التدريجي‪ ،‬وِمن القسم الجديد )الفص اليسر من الدماغ( القر ِ‬ ‫للتطور الدائم‪ .‬في حين أّ ن الفكَر وال ةعاطفة متساويا ن في المستوى على وجه التقريب لدى عاَلم الحيوا ن‪.‬‬ ‫فالمشاعر وال ةعواطف تتجاوب مع ما ت ةعلَّمته‪ ،‬أي تقوم بما هو مطلوب منها‪ ،‬من خلل الف ةعال المن ةعكسة‬ ‫المشروطة وغير المشروطة؛ وهي ردوُد ف ةعٍل آنية‪ .‬هذه البنى عينها موجودةٌ في النسا ن أيضًا‪ ،‬فالبد ن – على‬ ‫سبيل المثال – ُيبدي رّد ف ةعٍل تلقائي وآنّي بمجرِد ُقربه من ناٍر ُمحِرقة‪ ،‬دو ن الحاجة للفكر التحليلي والتمهل‪.‬‬ ‫ق قمَة أفرست‪ ،‬فيشرع حينها بتحليِل المئات من الظروف والشروط ليقرر ب ةعد دراستها‬ ‫ولكن‪ ،‬إذا ما حاول تسّل َ‬ ‫بإم ةعا ن فيما إذا سيتسلقها أم ل‪ .‬ل يمكن البحث عن الخداع والضلل في الفكر ال ةعاطفي‪ ،‬حيث يتصرف النسا ن‬ ‫كيفما تكو ن ردوُد الف ةعل الفطرية )الغريزية(‪ .‬في حين أّ ن الفكر التحليلي قد يتطلب سنينا ً طويلًة‪ .‬ويجب أ ن ي ةعتمد‬ ‫البحث عن السلوب وال ةعمل والحقيقة على مثل هذه البنية الفكرية لدينا‪ .‬لذا‪ ،‬لن تنُجَو م ةعلومة الحقيقة‬ ‫والسلوب الصحيح من ال ةعشوائية‪ ،‬ما لم نطِّلع على نظاِم عمِل عقلنا‪ .‬إذ ن‪ ،‬والحال هذه‪ ،‬فمن الولوية م ةعرفة‬ ‫طبي ةعِة ال ةعقل جيدًا‪.‬‬ ‫الخاوصية الولى ل ةعقلنا هي تميزه ببنيٍة مرنٍة للغاية‪ .‬وبالمستطاع القول أنه من النادر جداً وجوُد بنى ذهنيٍة –‬


‫من المت ةعاَرف عليها في الكو ن – قادر ٍة على الختيار والنتخاب الحر‪ ،‬فيما خل عقل النسا ن‪ .‬يمكننا تصّور‬ ‫سيمات ما‬ ‫ت بينية جّد محدودة‪ .‬فنحن ل ندرك كيفية جريا ن الختيار الحر في الُج َ‬ ‫ميداِ ن الحرية على نحِو فترا ٍ‬ ‫تحت الذرية‪ ،‬ول في بنى الكو ن الكبر‪ .‬لكن‪ ،‬وبالنظر إلى التنوع الموجود في الكو ن‪ ،‬يمكننا الستنباط من خلل‬ ‫النتائج البارزة أ ن ذلك غير ممكن سوى بمهارة الحراك المر ن والوصطفاء )الختيار( الحر في عالم الجزيئيات‬ ‫والكو ن الكبر على السواء‪ .‬أما في ذهن النسا ن‪ ،‬فَحيُّز المرونة هذا قد اتسع كثيرًا‪ .‬فنحن نتمتع بحريِة الحركة‬ ‫على نحٍو ل محدود‪ ،‬وإْ ن كا ن على مستوى الكمو ن بالقل‪ .‬وبالطبع‪ ،‬ل نغفُل عن أّ ن هذا الكمو ن ل يمكن أ ن‬ ‫يدخل حيز الف ةعالية إل عبر المجتم ةعية‪.‬‬ ‫الخاصية الثانية لعقلنا هي‬

‫م كبيٍر من الدراكات الصحيحة‪ ،‬بقدِر َتَلّقي الخاطئة منها‪ .‬وتأسيساً‬ ‫ميُزه ببنيٍة ذهنيٍة مرنٍة منفتحة لَتَلّقي َك ّ‬ ‫َت َ‬ ‫على هذه الميزة‪ ،‬بالمكا ن تحريف وتوجيه هذه المرونة كيفما ُيراد‪ ،‬وفي كل لحظة‪ ،‬من خلل الضغط وعبر‬ ‫ت ال ةعصا والَجَزر الساعيِة لوصطياد ال ةعواطف‬ ‫شبكة ال ةعواطف والمشاعر‪ .‬ولهذا السبب‪ ،‬يتم اللجوء إلى سياسا ِ‬ ‫ت القمع والت ةعذيب والقهر‪ ،‬إلى جانب الساليب التضليلية والممارسات الخاطئة‪.‬‬ ‫واليقاع بها أساساً عبر آليا ِ‬ ‫ونخص بالذكر النظمَة الهرمية والدولتية المؤثرة في عقِل النسا ن وذهنيته اعتماداً على القمع المنت َ‬ ‫ظم‬ ‫المماَرس على مّر آلف السنين‪ ،‬لدرجِة أنها أنشأت بنيةً ذهنيةً منسجمة ومآرَبها‪ .‬ومن المزايا المألوفة‬ ‫والشائ ةعة جداً اوصطياُد ال ةعقل عبر المكافآت‪ .‬وبالمقابل‪ ،‬فإّ ن بنيتنا الذهنية المتميزَة بخاوصياتها في المقاومة‬ ‫غ الحقائق ال ةعظمى‪ .‬وللذهنية المستقلة‬ ‫أيضًا‪َ ،‬ت ةعِرض كفاءاتها وقدراتها الفريدة في سلوِك السبل الصحيحة وبلو ِ‬ ‫ق استقلليِة‬ ‫دوٌر م ةعّين في اتسام الشخصيات ال ةعظيمة بهذه الصفات‪ .‬فالختياُر الحر غيُر ممكٍن بالغالب إل بتَحّق ِ‬ ‫ال ةعقل‪ .‬وثمة ُعرى وثيقٌة بين الدراك الغني الشامل والتمتع بالستقللية‪ .‬ما نقصده باستقلِل ال ةعقل هنا قابليتهَ‬ ‫للتحرك بموجب م ةعايير ال ةعدالة بالغلب‪.‬‬ ‫كنا ذَكرنا سالفا ً أ ّ ن النظام الكوني يكمن خلف ال ةعلقة بين الحقيقة وال ةعدالة‪ .‬من هنا‪ ،‬يمكن القول أّ ن ال ةعقَل ال ةعادل‬ ‫هو القادر على استخدا ِم حقه في الختيار الحر بموجب النظام الكوني بالغلب‪ .‬ولهذا الغرض‪ ،‬فتاريُخ الحرية‬ ‫)التاريخ الجتماعي( قوةٌ تربويةٌ وت ةعليمية عظمى قادرة على تأهيِل وإعداِد ذهنيتنا لتتمكن من تحقيق‬ ‫س مدى قدرِة عقلنا على الغوص في المور‬ ‫الختيارات السليمة‪ .‬في حين أّ ن طُ​ُر َ‬ ‫‪.‬ق التحليل النفسي تس ةعى لقيا ِ‬ ‫بسرعٍة متصاعدة‪ ،‬حيث تتزايد أهميةُ التحليل النفسي كميداٍ ن م ةعرفي جديد‪ .‬لكّن هذا ال ةعلم قاوصٌر عن الووصول‬ ‫ب الولي في ذلك إلى تناُوله الفرَد بشكٍل مجرٍد ومن ةعزٍل عن‬ ‫إلى الم ةعرفة الصحيحة والمفيدة لوحده‪ .‬وي ةعود السب ُ‬ ‫ت علم النفس الجتماعي في جبِر‬ ‫ت ناقصة وخاطئة للغاية‪ .‬ومحاول ُ‬ ‫المجتمع‪ ،‬مما يفتح الطري َ‬ ‫ق لتحصيِل م ةعلوما ٍ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫هذا النقص وتلفيه ليست مثمرة كثيرا في الوقت الحالي‪ .‬ف ةعلم الجتماع نفسه لم يتأسس بشكٍل سليم‪ ،‬فكيف‬ ‫سيؤدي علم النفس الجتماعي إلى نتائَج سليمة؟ بمقدورنا إدراك ذهنيِة الحيوا ن عبر علم النفس‪ .‬كما بمقدورنا‬ ‫ق علم النفس ‪ .‬إل أننا ل نزال على عتبِة م ةعرفِة النسا ن كحيواٍ ن‬ ‫م ةعرفة النسا ن كحيواٍ ن أعلى )ناطق( عن طري ِ‬ ‫اجتماعي‪.‬‬ ‫ف نتائَج مثمرٍة عندما نتصور نظامنا في السلوب وتحصيِل الم ةعرفة‬ ‫ندرك اليوَم على نحٍو أفضل أ ن اقتطا َ‬ ‫ض وصدفة‪ ،‬ما لم نت ةعرف جيدًا على بنيتنا الذهنية وطبي ةعتها‪ .‬في حين‪ ،‬يمكن لنظامنا في السلوب‬ ‫سيكو ن مح َ‬ ‫والم ةعرفة أ ن ُيثِمر عن أجوبٍة مثلى ورشيدٍة بمفاهيَم وصحيحة‪ ،‬عندما نتووصل إلى الت ةعريف الصحيح وال ةعميق‬ ‫خ في ظّل هذه‬ ‫لل ةعقل‪ ،‬ونحقق قدرته على الختيار الحر )الحرية الجتماعية(‪ .‬إّ ن عَمَلنا المنهجي بأسلو ٍ‬ ‫ب راس ٍ‬ ‫الظروف سُيزيد من فروصتنا بأ ن نَُكوَ ن مجتم ةعا ً حراً وفرداً حرًا عن طريق ادخار الم ةعرفة الكثر وصحة‪.‬‬ ‫ع ومزايا ميتافيزيقية تج ةعله مثالً فريداً من نوعه من جهِة منهجيِة السلوب‬ ‫خامسًا‪ :‬إ ن تَ​َمّتَع النسا ن بطبا ٍ‬ ‫والم ةعرفة‪ .‬بالمقدور ج ةعل السلوب وعلم البستمولوجيا )نظرية الم ةعرفة( أكثَر مهارةً واستطاعةً من خلل‬ ‫تحليِل الخصائص الميتافيزيقية للنسا ن‪ .‬فاستي ةعاُب النسا ن من جهة التكوين والنشوء الميتافيزيقي موضوُع‬ ‫ف النسا ن الميتافيزيقي ُي ةعد إحدى المشاكِل الجتماعية‬ ‫ث هاّم حقًا‪ .‬فافتقارنا الملحوظُ حتى لمكانيِة ت ةعري ِ‬ ‫بح ٍ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ب اليجابية‬ ‫الجوان‬ ‫ما‬ ‫الحاجة؟‬ ‫هذه‬ ‫تنبع‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ا؟‬ ‫ميتافيزيقي‬ ‫يكو ن‬ ‫أ ن‬ ‫للنسا ن‬ ‫يمكن‬ ‫كيف‬ ‫ة‪.‬‬ ‫وم ةعالج‬ ‫ل‬ ‫تناو‬ ‫ل‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫الق ّ‬ ‫ص الميتافيزيقية الساسية؟ وهل تسري الميتافيزيقيا‬ ‫والسلبية فيها؟ أيمكن ال ةعيش بل ميتافيزيقيا؟ ما الخصائ ُ‬ ‫على الميدانين الفكري والديني فحسب؟ ما الرواب ُ‬ ‫ط بين المجتمع والميتافيزيقيا؟ هل الميتافيزيقيا مضادةٌ‬ ‫للدياليكتيك كما ُي ةعتَ​َقد؟ أيمكن حصرها بهذا المضمار فقط؟ وهكذا دواليك‪..‬‬ ‫وما دام النساُ ن الجوهَر ‪ Özne‬الساس ّي لم ةعارفنا‪ ،‬فإذا لم نت ةعرف على الفكر الميتافيزيقي ومؤسساته باعتباره‬ ‫غ الم ةعرفة الكافية من هذا المصدر‪ .‬إننا نتحدث عن‬ ‫من أهم ِسمات هذا الجوهر‪ ،‬فسيبقى عزمنا ناقصاً في بلو ِ‬ ‫ف ال ةعديد من المدارس الفكرية –‬ ‫الميدا ن الذي لم تلتفت إليه علوم الجتماع ول علم النفس‪ .‬فالكتفاُء بووص ِ‬ ‫ت المسألة‬ ‫تتصدرها المدارس الدينية – بالميتافيزيقية‪ ،‬إنما يزيد الطين بلة‪ ،‬ويج ةعل الخروَج من إشكال ِ‬ ‫شبهَ عسير‪َ .‬يرِجُع مفهومنا وتناولنا للمسألة الميتافيزيقية إلى كونها خاوصيةً أولية للنسا ن‬ ‫الميتافيزيقية ِ‬


‫المجتم ةعي‪ .‬فالميتافيزيقيا حقيقةٌ إنشائيةٌ اجتماعية ل َيقِدر النساُ ن الجتماعي على ال ةعيش بدونها‪ .‬فإذا ما َجّردنا‬ ‫النساَ ن من الميتافيزيقيا‪ ،‬فإما أننا نحوله بذلك إلى حيواٍ ن ممتاز )حيث ُبرِهن على وصحِة هذا الوصطلح الذي‬ ‫ب ممتاز‪ُ .‬ترى‪ ،‬كم هي‬ ‫استخدَمه نيتشه لجل اللما ن‪ ،‬وذلك في ألمانيا الفاشية النازية(‪ ،‬أو نحّوله إلى حاسو ٍ‬ ‫فروصةُ الحياة للنسانية التي ووصَلت حالةً كهذه؟‬ ‫ت ال ن على ِذكِر ماهيِة النسا ن الميتافيزيقي‪:‬‬ ‫لنأ ِ‬ ‫ُ‬ ‫‪.‬ق خاوصية النسا ن الميتافيزيقي‪.‬‬ ‫‌أ‪ -‬الخل ُ‬ ‫ب‪ -‬الديُن خاوصيةٌ ميتافيزيقية هامة‪.‬‬ ‫‌‬ ‫ج‪ -‬ل يمكن ت ةعريف الفن بكافِة فروعه إل بالميتافيزيقيا‪.‬‬ ‫د‪ -‬يتناسب المجتمُع المؤسساتي‪ ،‬بل والمجتمُع برمته‪ ،‬بالكثر مع الت ةعريف الميتافيزيقي‪.‬‬ ‫ُترى‪ ،‬لماذا‪ ،‬وكيف يكو ن النساُ ن ميتافيزيقياً عبر هذه الخصائص التي يمكننا الكثار من ت ةعدادها؟‬ ‫‪.‬ق قدرِة التفكير عند النسا ن‪ .‬فالنسا ن‪ ،‬الذي ُي ةعتَبر كونا ً عارفاً لنفسه‪ ،‬مضطٌر لنشاِء ذاته بما يفو‪.‬ق‬ ‫أوًل‪ :‬آفا ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ت )سواء بجوانبها المؤلمة‬ ‫وانف ةعال‬ ‫ث‬ ‫حواد‬ ‫من‬ ‫به‬ ‫ل‬ ‫ح‬ ‫ي‬ ‫ما‬ ‫تلفي‬ ‫من‬ ‫يتمكن‬ ‫كي‬ ‫طبي ةعي(‬ ‫و‬ ‫ف‬ ‫)‬ ‫الطبي ةعي‬ ‫المستوى‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ْ‬ ‫َ ّ‬ ‫أو المفِرحة(‪ .‬ول مجاَل آخَر أمامه للتغلب على اللم والفراح الجسدية‪ .‬فإبداُء قدرِة التحمل إزاَء مفاهيَم عديدٍة‬ ‫ت وغيرها‪ ،‬بحاجٍة ضروريٍة واضطرارية للفكار‬ ‫ت‪ ،‬الجماليا ِ‬ ‫ت‪ ،‬الرغبا ِ‬ ‫ت‪ ،‬الشهوا ِ‬ ‫ب‪ ،‬المو ِ‬ ‫من قَِبيل الحرو ِ‬ ‫ً‬ ‫والم ةعتقدات والمؤسسات الميتافيزيقية‪ .‬وحتى لو لم يكن اُ موجودا‪ ،‬فإنه يس ةعى لبتداعه‪ ،‬وي ةعمل على تطوير‬ ‫الفن والسمّو بم ةعارفه لتلبيِة احتياجاته هذه والش ةعوِر بالسكينة والطمأنينة‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ولو فّكرنا من زاويٍة أخرى في الميتافيزيقيا ِمن حيث كونها ت ةعني ما ب ةعد الطبي ةعة‪ ،‬فسنلتمس ضرورة عدِم‬ ‫إنكارها كثيرًا‪ ،‬ول إغداقها بالمديح الَجّم‪ .‬حقيقًة‪ ،‬النساُ ن هو الموجوُد الكثُر تحام ً‬ ‫ل على الحدود الطبي ةعية‪.‬‬ ‫ف ةعيشه للميتافيزيقيا‪ ،‬التي ت ةعني ما ب ةعد الطبي ةعة‪ ،‬يتأتى من طباعه وخاوصياته الوجودية )النطولوجية(‪ .‬بالتالي‪،‬‬ ‫ل م ةعنى أبدًا للدفاع عن ضرورة بقائه ضمن الطار الطبي ةعي فحسْب‪ .‬أو بالوصح‪ ،‬إّ ن البقاء داخَل الحدود‬ ‫الطبي ةعية سيؤدي بنا بالغلب إلى ت ةعريف النسا ن الميكانيكي اللي‪ ،‬وهو المفهوُم الذي عّرفه ديكارت منذ سابق‬ ‫ح "الروح" الذي ل إيضاَح علمّي له‪.‬‬ ‫الزما ن‪ ،‬وحاوَل النجاةَ منه بوساطِة اوصطل ِ‬ ‫ثاني ًا‪ :‬إ ن عدم قدرة المجتمع على الستمرار بدو ن الخل‪.‬ق يستلزم التميز بالميتافيزيقية‪.‬‬ ‫ب انهياِر روسيا‬ ‫ل يمكن تنظيم المجتمع إل بوساطة الخل‪.‬ق باعتبارها محاَكمة حرة‪ .‬ويمكننا إرجاع أسبا ِ‬ ‫السوفييتية ومصِر الفرعونية إزاء كافِة ضروبهما في ال ةعقلنية إلى افتقارهما للخل‪.‬ق‪ .‬فال ةعقلنيةُ لوحدها‬ ‫ت‬ ‫عاجزٌة عن تأمين ديمومة المجتمع‪ .‬قد تستطيع تحويَله إلى روبوت ‪ ،Robot‬أو َتبلُغ به إلى مستوى حيوانا ٍ‬ ‫ض مزايا الخل‪.‬ق‪ :‬القدرةُ على تَ​َحّمِل اللم‬ ‫ق تماسكه كُمَجّمٍع إنسانّي‪ .‬لنَُ ةعّدد ب ةع َ‬ ‫راقية‪ ،‬ولكنها ست ةعجز عن تحقي ِ‬ ‫وتلبيِة متطلباتها‪ ،‬تحديُد إطاِر الرغبات والشهوات والملذات‪ ،‬رب ُ‬ ‫ط التناسل بالضوابط الجتماعية بدلً من‬ ‫ح المتثاِل أو الخلِل بالتقاليد والعراف والدين والقوانين‪ .‬ف ةعلى سبيل‬ ‫الطبي ةعية‪ ،‬إوصداُر القرارات إزاء ترجي ِ‬ ‫المثال‪ ،‬يَُ ةعّد رب ُ‬ ‫ط الخل‪.‬ق لل ةعلقة الجنسية المؤدية إلى التناسل بالقواعد والضوابط ضرورةً اضطراريةً بالنسبة‬ ‫للجنس البشري‪ .‬ذلك أنه ل يمكن تحقيق ديمومِة المجتمع‪ ،‬ما لم ُيضَبط الت ةعداُد السكاني فيه‪ .‬هذا الموضوُع‬ ‫ف لتبياِ ن الضرورة القصوى للميتافيزيقيا الخلقية‪.‬‬ ‫بذاته كا ٍ‬ ‫ق النساُ ن كونا ً خاوص ًا به عبر الفن‪ .‬ول يمكن استمرار المجتمع إل عن طريق البتكارات والبداعات‬ ‫ثالثًا‪َ :‬يخلُ ُ‬ ‫صّور مجتمٍع بل موسيقا‪ ،‬بل آداب‪،‬‬ ‫القائمة في الميادين الساسية‪ ،‬كالصوتيات‪ ،‬الرسوم‪ ،‬والم ةعمار‪ .‬هل يمكن تَ َ‬ ‫ٌ‬ ‫ت المتواجدة في هذه الميادين تندرج م ةعانيها في الميتافيزيقيا‪ .‬وهي ضرورة ل مفر‬ ‫أو بل َعَمار؟ كّل البداعا ِ‬ ‫ت النسا ن في الجماليات كتصوٍر ميتافيزيقي كليًا‪ .‬فكيفما‬ ‫منها لتأميِن استمراريِة المجتمع‪ .‬فالفن يلبي احتياجا ِ‬ ‫ُيولي النساُ ن الم ةعانَي للسلوكيات الخلقية عبر ترجيحه بين الفاضل – الرذيل‪ ،‬فكذلك ُيضفي الم ةعانَي على‬ ‫السلوكيات الفنية عبر ُحكِم الجميل – القبيح‪.‬‬ ‫ت‬ ‫إنشاءا‬ ‫عن‬ ‫عبارة‬ ‫ذاته‬ ‫د‬ ‫بح‬ ‫وهو‬ ‫الميتافيزيقية‪،‬‬ ‫بالحكام‬ ‫ ن‬ ‫ّ‬ ‫راب ةعًا‪ :‬ميداُ ن الدارة السياسية أيضا ً مشحو ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫ميتافيزيقي ٍة هي المتن‪ ،‬حيث ل يمكننا شرح السياسة بالقوانين الطبي ةعية فحسب‪ .‬فالحّد القصى لنمِط الدارة‬ ‫بالقوانين الطبي ةعية ي ةعني التحول إلى آلة روبوتية‪ ،‬بينما يتجسد الوجه الثاني لها في سياسِة "رعايِة الرعاع"‬ ‫)تب ةعية القطيع( الفاشية‪ .‬وإذا ما أشرنا إلى احتواِء الميدا ن السياسي لم ةعاني النتخاب والمواقف الحرة‪ ،‬سنصل‬ ‫مرًة أخرى إلى المزايا الميتافيزيقية للنسا ن السياسي‪ .‬ومقولةُ أرسطو "النساُ ن حيواٌ ن سياسي" ُتذّكرنا بهذا‬ ‫الم ةعنى بالغلب‪.‬‬ ‫‪.‬ق‪ ،‬الفلسفِة‪ ،‬الديِن‪ ،‬وحتى "ال ةعلموية" مشحونةٌ‬ ‫الحقو‬ ‫ميادين‬ ‫ ن‬ ‫أ‬ ‫على‬ ‫ب ةعناية‬ ‫التشديد‬ ‫خامسًا‪ :‬علينا‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫بالميتافيزيقيا‪ .‬فجمي ةعنا ن ةعلم أّ ن كافة هذه الميادين بجوانبها الكمية والكيفية ُمتَرَعة ومثقلة بالمنجزات‬ ‫الميتافيزيقية في المجتمع التاريخي‪.‬‬ ‫ف أكثَر قيمةً وم ةعنى‬ ‫مواق‬ ‫َ‬ ‫ء‬ ‫إبدا‬ ‫نستطيع‬ ‫والمجتمع‪،‬‬ ‫الفرد‬ ‫ة‬ ‫حيا‬ ‫في‬ ‫للميتافيزيقيا‬ ‫وب ةعد تحديِد المكانة الوطيدة‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫بحقها‪.‬‬ ‫‪ -1‬إما أّ ن المواقف والسلوكيات الميتافيزيقية اعتلَْت بشأ ن ذاتها على طوِل مسيرتها التاريخية‪ ،‬وأشارت إلى‬


‫أنها الحقيقةُ المطلقة الساسية‪ ،‬أو نَ َ‬ ‫ظر إليها نُّقاُدها وم ةعاِرضوها كميداٍ ن مشحوٍ ن بالمكر والزيف‪ ،‬فدحضوا‬ ‫ع النسا ن وتضليله‪ .‬يمكننا التأكيد بكّل‬ ‫حقيقتها وواق ةعيتها‪ ،‬واعتبروها مجرَد آليٍة ت ةعمل أو كلٍم يقال بهد ِ‬ ‫ف خدا ِ‬ ‫سهولة على أّ ن ِكل الموقَفين‪ ،‬إما هما غافل ن عن ماهيِة وعِي المجتمع التاريخي‪ ،‬أو أنهما باَلغا فيه وضّخما‬ ‫من شأنه للغاية‪ .‬والخاوصية التي لم ينتبه إليها ِكل المفهومين هي‪ِ :‬من أّية ميزٍة أو حاجٍة اجتماعية – فردية‬ ‫سَموا بها وأعَلوا من شأنها أهملوا رواب َ‬ ‫ط الميتافيزيقيا بال ةعالم الطبي ةعي‪،‬‬ ‫نب ةعت الحاجة إلى الميتافيزيقيا؟ فالذين َ‬ ‫ب هذا الفريق‪ ،‬إما أنكروا وجوَد الروابط بين الفكر والروح‬ ‫وخدعوا أنفسهم بأنهم أحراٌر بل نهاية‪ .‬وأوصحا ُ‬ ‫وبين ال ةعالم المادي‪ ،‬أو حّرفوها وبالغوا في شأنها لحّد انزلقهم كثيراً في أخطاء فادحة‪ ،‬بدءاً من اعتقادهم‬ ‫بوجوِد نظاِم اللهة المت ةعالية الفائقة ووصوًل إلى تأليه النسا ن ذاته‪ .‬ول ريب في أّنه لنظاِم الهرمية والدولة‬ ‫ب الوفر في مثِل هذه المستجدات‪.‬‬ ‫النصي ُ‬ ‫ق الذي أنكر أهميةَ الميتافيزيقيا وفّندها‪ ،‬فهاجموها بِ​ِحّدٍة تحت رايِة ال ةعاَلم المادي أو المدنية المادية‬ ‫أما الفري ُ‬ ‫سابقًا‪ ،‬أو باسم ال ةعقلنية والوض ةعية في المرحلة الخيرة‪ ،‬قائلين بأّ ن كّل ما تفوح منه رائحةُ الميتافيزيقيا هو‬ ‫ت ال ةعقلنية‬ ‫َمَر ٌ‬ ‫ض‪ ،‬ووسيلةُ خداع‪ ،‬ويتوجب دحضه وتفنيده كليًا‪ .‬ولكن‪ ،‬تم التنبه جيداً فيما ب ةعد إلى أّ ن التيارا ِ‬ ‫ُ‬ ‫ت نظر في الحياة من‬ ‫والوض ةعية التي تنادي بها الحداثة الرأسمالية على وجِه الخصوص قد أدت إلى وجها ِ‬ ‫ضت بالتالي على البيئة‪،‬‬ ‫قَِبيل‪" :‬الرعاع الفاشي"‪ ،‬و"النسا ن الميكانيكي اللي" و"التشبه والمحاكاة"؛ فقَ َ‬ ‫ق لدماِر المجتمع التاريخي وتشتيته‪ .‬إّ ن التشبَث المفرط بالقوانين الطبي ةعية ي ةعني ال ةعجَز عن إعاقِة‬ ‫لِتَُمّهد الطري َ‬ ‫ب الميتافيزيقيا‪،‬‬ ‫دماِر المجتمع وانفكاكه‪ ،‬ليكو ن ذلك أسطَع برهاٍ ن على أّ ن "ال ةعلموية" ليست سوى أسوأُ ضرو ِ‬ ‫هذا إذا كا ن للحياة الجتماعية فيها م ةعنى أو قيمةً أوص ً‬ ‫ل! علينا التشديد بأهميٍة قصوى على أّ ن "ال ةعلموية"‬ ‫ليست إل ماديةٌ ضحلةٌ لب ةعِد الحدود‪ ،‬وهي الكثُر احترافاً للسلطة والستغلل‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬تبقى تتراوح في وضع‬ ‫ب الميتافيزيقيا‪.‬‬ ‫ع نفسها بالكثر‪ ،‬سواًء بوعٍي أو بدونه‪ ،‬لتَُمثَّل في النتيجة أقبَح أشكاِل رواس ِ‬ ‫خدا ِ‬ ‫ف الجماعة التي يمكننا ن ةعتها بـ"النهليستية"‬ ‫‪ -2‬أما أوصحاُب الزمرة الحيادية‪ ،‬والذين يأخذو ن أماكنهم في وصفو ِ‬ ‫ف من الطرفين‪ ،‬وأنه ل داعي لموالِة الميتافيزيقيا أو‬ ‫فيزعمو ن أنهم ليسوا مضطرين للنحياز إلى أ ّ‬ ‫ي طر ٍ‬ ‫مناهضتها‪ ،‬وأنه بالمكا ن ال ةعيش باستقلليٍة تامة عنها‪ .‬من الضروري الشارة إلى أّ ن هذه الزمرَة‪ ،‬التي تبدو‬ ‫شّكُل الجماعةَ الكثَر خطرًا‪ .‬فالطرفا ن الخرا ن – على القل – لهم طموحاُتهم‬ ‫بريئةً وم ةعصومةً ظاهريًا‪ ،‬تُ َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫وغاياُتهم الكبرى‪ ،‬وهم ُمدِركو ن لقيمِة الُمثل التي يَُمثلونها‪ ،‬وعازمو ن على تشكيِل المجتمع وإعادِة بناِء الفرد‪.‬‬ ‫ب الزمرة الحيادية كليًا‪ ،‬ورغَم عيشهم ضمن المجتمع واعتمادهم على قيمه وُمُثله‪ ،‬إل أنهم يسلكو ن‬ ‫أما أوصحا ُ‬ ‫ف نهليستية )عدمية(‪ ،‬ويؤمنو ن بإمكانيِة ال ةعيش بشكٍل ل ينتمو ن فيه إلى ذلك المجتمع‪ .‬إنها المجموعةُ‬ ‫مواق َ‬ ‫القرب إلى الميتافيزيقيين "ال ةعلمويين"‪ ،‬والتي ضاعَفت الحداثُة الرأسمالية من ت ةعدادها لتت ةعاظم كالكرة الثلجية‪،‬‬ ‫ت هذه‬ ‫ق م ةعاكس‪ ،‬يمكننا ن ةع ُ‬ ‫وتتكّوُ ن من عناوصَر هشٍة وسافلٍة ضمن المجتمع المنهار والمتفكك‪ .‬ومن منطل ٍ‬ ‫ب والمنظُر الفضُل لتمثيل هذه‬ ‫المجموعة بالقرب إلى الَحيَونة‪ .‬ويبدو أ ن المت ةعصبين لكرِة القدم هم المثاُل القر ُ‬ ‫ت المشابهة لها بسرعٍة ملحوظة‪ .‬كما يمكن البرها ن عبر هذه المثلة على‬ ‫المجموعة‪ ،‬حيث تتكاثر المجموعا ُ‬ ‫ض السرطا ن‪ .‬وكلتا الطريقتين التاريخيتين الم ةعنيتين‬ ‫أّ ن الحداثةَ الرأسمالية هي التي ُتضاِع ُ‬ ‫ف من َمَر ِ‬ ‫بالميتافيزيقيا تتِّحدا ن في نهايِة المطاف في بوتقِة مفهوم الوض ةعية ال ةعلموية للحداثة‪ .‬وبينما يكو ن ِديُنهم هو‬ ‫الّديُن الوض ةعي‪ ،‬الذي هو ميتافيزيقيا بهيئٍة مختلفة‪ ،‬فإ ن إلههم هو الدولة القومية‪ .‬هذا اللهُ المت ةعّري من قناعه‪،‬‬ ‫مشّخصاً في الدولة القومية بالذات‪ ،‬يتم تقديسه وتمجيده بكّل رموزه وطلسمه وإيماءاته بشكٍل شامٍل في كافِة‬ ‫المجتم ةعات ال ةعصرية‪.‬‬ ‫ف أكثَر توازنًا‪ .‬أو بالحرى‪ ،‬وإدراكاً مني بأ ن الميتافيزيقيا‬ ‫‪ -3‬أعتقد تماما ً بإمكانيِة بل وضرورِة تطويِر مواق َ‬ ‫ب إلى "الفاضل‪ ،‬الجميل‪ ،‬الحر‪ ،‬الصحيح" في مياديِن‬ ‫تكويٌن اجتماعي‪ ،‬فإني َأعتَبُِر تطويَر الميتافيزيقيِة القر ِ‬ ‫َ‬ ‫الخل‪.‬ق والفن والسياسة والفكر‪َ ،‬مَهّمة أوصيلة وأساسية‪ .‬أي أّ ن مواوصلة بحثنا عن "الفاضل‪ ،‬الجميل‪ ،‬الحر‪،‬‬ ‫ض الميتافيزيقيا‬ ‫والصحيح" مثلما ساد في المجتمع التاريخي‪ ،‬يشّكُل جوهَر "الحياة الفاضلة"؛ بشرِط عدِم دح ِ‬ ‫كلياً أو الستسلِم لها كليا ً أو السقوِط في سفسطائيِة وحماقِة الستقللية التامة عنها‪ .‬وكلي إيماٌ ن بأّ ن فّن الحياة‬ ‫الفاضلة هذا هو القادُر على تأميِن إمكانيِة حياٍة قّيمة في المجتمع‪.‬‬ ‫ل ريب في أّ ن الميتافيزيقيا ليست قضاًء مكتوباً علينا‪ ،‬ولكن‪ ،‬من المحال التراجع عن إيجاِد وتطويِر الكثَر‬ ‫"فض ً‬ ‫ل‪ ،‬جماًل‪ ،‬حرية‪ ،‬ووصحًة"‪ .‬فبقدِر ما يكو ن الستسلُم للسوء والقبح وال ةعبودية والخطأ ليس قدراً محتومًا‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫فإّ ن نمط الحياة الفاضلة والجميلة والحرة والصحيحة ليس محال‪ .‬كما أننا غيُر مرغمين على قبوِل الحياة‬ ‫النهليستية الناجمة عن الخيار السوأ في اللمبالة وعقِم الحل )أي‪ ،‬في كافِة النظمة الهرمية والدولتية‪ ،‬وفي‬ ‫مقدمتها الحداثةُ الرأسمالية(‪ .‬والصراُع في هذا الموضوع ي ةعود إلى ُأولى عصوِر نشوِء المجتم ةعات‪ ،‬وقديٌم بقدِر‬ ‫عمِر التاريخ‪ .‬والجانُب الخاص في راهننا يكمن في عيشنا مرحلةَ انهياِر نظاٍم كنظاِم الحداثة الرأسمالية‪ .‬وهذا‬ ‫مؤشٌر لضرورِة انتهاج الفكار والممارسات الخاوصة‪ ،‬وإعادِة إنشاِء المكونات الجتماعية‪ ،‬لتسييِر النضال في‬ ‫س‬ ‫سبيِل "الفاضل‪ ،‬الجميل‪ ،‬الحر‪ ،‬والصحيح"‪ .‬وبقدِر ما تستلزُم مثُل هذه الجهوِد الحثيثِة الشروَع بحما ٍ‬ ‫سق الحقيقة(‪.‬‬ ‫عنفوانّي لدرجِة الهيام وال ةعشق‪ ،‬فهي تتطلب أيضاً البحوث الكثر علميةً )السلوب ونَ َ‬


‫ت البرها ن(‪ ،‬التي س ةعينا لسردها حتى ال ن‪ ،‬كوسائَل ضروريٍة يجب‬ ‫من الواجب تقييم عناوصر الحجة )أدوا ِ‬ ‫تف ةعيلها في إيجاِد الردود المناسبة لمشاكِل تجاوِز الحداثة الرأسمالية وتطويِر ونشِر الحداثة الديمقراطية‪ .‬وهذا‬ ‫‪.‬ق الحقيقة( المؤدية إلى الحداثة الرسمية القائمة‪ ،‬بقدِر تسليِط‬ ‫ما يتطلب انتقاَد الساليب ونُظُِم الم ةعرفة )طُ​ُر ِ‬ ‫ٌ‬ ‫‪.‬ق واس ةعة‪ .‬وأدواتنا م ةعنية بذلك‪ .‬لقد‬ ‫الضوء على أسالي ِ‬ ‫ح آفا ٍ‬ ‫ب ونظِم الم ةعرفة لما وراء الحداثة‪ ،‬والمؤديِة إلى فت ِ‬ ‫شّكُل مفتاَح الحل‪ .‬ول يزال‬ ‫أسَهْبنا في سرِد السباب اللّ​ّمية والكيفية الضروريِة للتركيز على النسا ن كم ةعضلٍة تُ َ‬ ‫ف السليُم والدراُك الصائُب للفرد والمجتمع يحافظ على أهميته القصوى‪ .‬فكّل الجهود التي يبذلها كّل من‬ ‫الت ةعري ُ‬ ‫ضها‬ ‫علم الجتماع وعلم النفس الجتماعي وعلم النثروبولوجيا ليست م ةعطاءًة بالقدر الكافي‪ ،‬بسبب تَ​َ ةعّر ِ‬ ‫للتحريفات الجدية للحداثة‪ ،‬ووقوِعها في ِشباك الم ةعرفة السلطوية‪ .‬في حين تبقى الجهوُد الفرديةُ القّيمةُ بل‬ ‫ب المساهمات المنهجية‪ ،‬وفي مقدمتهم مدرسةُ‬ ‫تنظيٍم أو منهاج‪ .‬ورغَم كّل المواقف القّيمة والثمينة لوصحا ِ‬ ‫فرانكفورت وفرناند بروديل ‪ ،‬ومن قبلهما نيتشه‪ ،‬ومن ب ةعدهم ميشيل فوكو ووالرشتاين ؛ إل أّ ن أساليَب ونُظَُم‬ ‫الم ةعرفة ل تزال ب ةعيدًة عن المنهجية في المرحلة الراهنة )أي‪ ،‬مرحلةُ انهياِر الحداثة‪ ،‬وبروِز ما وراء الحداثة‬ ‫الجديدة‪ ،‬والتي نرغب تسميتها بـ الحداثِة الديمقراطية(‪ .‬إّ ن الجهوَد المبذولةَ قّيمةٌ وثمينةٌ للغاية‪ ،‬ولكنها متناثرةٌ‬ ‫ف بها‬ ‫ب الولي وراء ذلك هو عمليةُ التسميم التي يقوم بها النظاُم الرأسمالي‪ ،‬والتي اعتَر َ‬ ‫ومجزأةٌ للغاية‪ .‬والسب ُ‬ ‫والرشتاين بذاته‪ .‬إنهم وكأنهم يتخبطو ن بين فَّكي كماشِة الحداثة‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ت نيتشه بأهميٍة ملحوظة‪ ،‬حيث قال بأّ ن الحداثة قامت بتأنيث المجتمع وخصيه‬ ‫وعلى سبيل المثال؛ تتميز عبارا ُ‬ ‫وتنميله‪ .‬وكأنه يتنبأ ويتكهن بما سيجري ب ةعد خمسين سنة‪ ،‬حين عّبر عن سياسِة الرعاع الفاشية التي مارسها‬ ‫ي روصيٍن ونظرٍة ثاقبة عندما قال في‬ ‫اللماُ ن بن ةعته إياهم بـ"الحيوا ن الشقر بامتياز"‪ .‬واضٌح أنه قد نادى برأ ٍ‬ ‫كتابه )هكذا تكلم زرادشت( بأّ ن الَ ةعصَرَنة والتدّوَل القومي سيَوّلدا ن الرعاَع الفاشيين في ألمانيا عاجلً أم آج ً‬ ‫ل‪،‬‬ ‫ت النملة على نمط "الّمِة النملة"‪ .‬وكأنه نبّي ال ةعصِر الرأسمالي‪.‬‬ ‫وعندما قال عن اليابا ن بأنه سَتبُرُز المجتم ةعا ُ‬ ‫ص حديدي"‪.‬‬ ‫لقد قام ماكس فيبر بتثبي ٍ‬ ‫ت ِجّد ُمِهّم لدى إدراكه للحداثة واعتباِرها بأنها "إقحاُم المجتمع في قف ٍ‬ ‫ب وراء ال ةعاَلم المفتقِد لساحريته وعظمته‪ ،‬أّكَد بذلك على الخصائص‬ ‫السب‬ ‫أنها‬ ‫على‬ ‫فبينما نظر إلى ال ةعقلنية‬ ‫ُ‬ ‫المادية للمدنية‪.‬‬ ‫ف‬ ‫كما ينتقد فرناند بروديل بشدٍة ووصرامٍة علوَم الجتماع المنقط ةعةَ عن الب ةعاِد التاريخية والمكانية‪ .‬ف ةعندما ووص َ‬ ‫ت‬ ‫الشروَح المتهربةَ والصارفةَ النظَر عن الب ةعاد الزمكانية بأنها "أكدا ٌ‬ ‫س من الحوادث الفارغة"‪ ،‬قّدم مساهما ٍ‬ ‫ت بروديل بشأِ ن التاريخ تفتح الفا‪.‬ق‪" :‬الفترة القصيرة – التاريخ‬ ‫جّد هامٍة بشأِ ن مسألِة السلوب‪ .‬فاوصطلحا ُ‬ ‫الوقائ ةعي )الَح َدثي("‪" ،‬فترة الجواء الحاكمة – فترة الزمة الدورية"‪ ،‬و"الفترة الطويلة – الفترة البنيوية "‪.‬‬ ‫تتميز انتقادا ُ​ُ‬ ‫ت مدرسِة فرانكفورت الموّجهةُ إلى الحداثة والتنوير بمزايا تفتُح آفاقاً واس ةعة‪ .‬ف ةعبارةُ أدورنو‬ ‫ت "التمركز" )التجميع( بأنها ت ةعني‬ ‫وص َ‬ ‫مؤثرةٌ وقويمةُ حين َو َ‬ ‫ف مدنيَة الحداثة المؤدية إلى تفشي م ةعسكرا ِ‬ ‫ش بصواب"‪ .‬فهو‬ ‫"انتهاَء مرحلٍة في ثنايا الظلم"‪ .‬وأُخ ّ‬ ‫ص بالذكر عبارَته الشهيرة "الحياةُ الخاطئة ل ُت ةعا ُ‬ ‫ب وم ةعرفة‪ ،‬وكأنه بلَغ وعيا ً عظيمًا‪ .‬وانتقاداُته بصدِد التنوير وال ةعقلنية‬ ‫س الحداثة كأسلو ٍ‬ ‫بذلك يُقِّر بخطأ ِ تأسي ِ‬ ‫أيضاً تفتح الفا‪.‬ق حقًا‪.‬‬ ‫ت الله السماوي في الحداثة‪ ،‬فهي ت ةعليميةٌ حقًا‪ .‬ونخص بالذكر‬ ‫مو‬ ‫إلى‬ ‫النسا ن‬ ‫ت‬ ‫مو‬ ‫فوكو‬ ‫أما إضافةُ ميشيل‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ف المجتمع؛ حيث تَُ ةعّد تشخيصاً‬ ‫تحديَده للسلطَة ال ةعصرية بأنها ت ةعني تماما ً الحرَب الدائمة داخَل وخارَج وصفو ِ‬ ‫ت من قبيل‪ :‬السلطِة‪ ،‬الم ةعرفِة‪ ،‬السجِن‪ ،‬المشفى‪،‬‬ ‫مني ةعًا‪ ،‬ولكن‪ ،‬لم ُي ةعَمل به حتى ال ن‪ .‬كما أّ ن سلسلةَ الوصطلحا ِ‬ ‫ً‬ ‫ت بارزة على وص ةعيِد السلوب‪،‬‬ ‫مشفى المجانين‪ ،‬المدرسِة‪ ،‬ثكنة الجيش‪ ،‬الم ةعمِل‪ ،‬والماخوِر ؛ قَّدَمت مساهما ٍ‬ ‫ج الم ةعرفة الحرة‪ .‬أما ميشيل‬ ‫‪.‬ق غير مباشرة – إلى كيفيِة تأسي ِ‬ ‫بقدِر مساهماتها في الشارة – ولو بطر ٍ‬ ‫س منها ِ‬ ‫ب موته المبكر‪ ،‬فكأنه يود‬ ‫فوكو‪ ،‬الذي لم ُيس ةعفه الوقُت لتمام تحليلته بصدد السلطة – الحرب – الحرية بسب ِ‬ ‫ب دواِم حالِة الحرب داخَل وخارَج المجتمع‪ .‬يمكننا‬ ‫الشارَة في تحليلته تلك إلى أّ ن الحداثةَ تقتل النساَ ن بسب ِ‬ ‫استنباط نتيجٍة من ذلك‪ ،‬مفادها أّ ن الحريةَ هي شكُل الحياة الجتماعية الناجحة في البقاء خارج نطا‪.‬ق الحرب‪.‬‬ ‫ت‬ ‫إذ ن‪ ،‬والحال هذه‪ ،‬ل يمكن تحقيق الحرية‪ ،‬ما لم يحصل إلغاء كّل من الصناعة الحربية المنِتجة لكافِة أدوا ِ‬ ‫ضع‬ ‫ش النظامية‪ ،‬وقانوِ ن الربح الذي يشكل منبَع وغايَة ال ةعسكرتارية ؛ وما لم نَ َ‬ ‫الدمار والخراب‪ ،‬والجيو ِ‬ ‫أيكولوجيا المجتمع ووسائَل دفاعه الذاتي ِعَوضا ً عن ذلك‪.‬‬ ‫سَم وصورةً )تصورًا( رائ ةعةً للنظام‬ ‫خ في إدراِك النظام الرأسمالي ال ةعالمي‪ ،‬حيث َر َ‬ ‫يتميز والرشتاين ب ةعزٍم راس ٍ‬ ‫الم ةعاوصر منذ القر ن السادس عشر إلى يومنا الحالي‪ .‬إل أنه غيُر جازٍم‪ ،‬سواًء في تقييمه للنظام )حيث َي ةعتَِبر‬ ‫المرحلَة الرأسمالية ضرورةً اضطراريًة مثلما عند ماركس‪ ،‬ويميل لمدحها(‪ ،‬أو في كيفية م ةعاَرضِة النظام‬ ‫‪.‬ق الخلص منه‪ .‬ولكنه يكاد يُقِّر بذلك عندما ُيرِج ةعه إلى سياسِة الترغيب ‪ Şerbetleme‬في النظام‬ ‫وتحديِد طر ِ‬ ‫البرجوازي‪ .‬كما قّدم ب ةعنايٍة فائقة أطروحةً هاّمةً حين قال بأّ ن النظاَم الشتراكي‪ ،‬وفي وصدارته روسيا‬ ‫السوفييتية‪ ،‬دعك من تجاوزه للحداثة الرأسمالية‪ ،‬بل إنه مّدها بالقوة والطاقة‪ .‬وقال أيضا ً أّ ن انهيار النظام‬ ‫س المهارة‬ ‫الشتراكي ل ُي ةعّزز الليبراليَة الرأسمالية‪ ،‬بل سيكو ن السبَب في تهاويها‪ .‬لكنه لم يقدر على إبداِء نف ِ‬ ‫ت نظٍر مستقبليةً حاسمة‬ ‫ق النطلقات الجديدة‪ .‬حيث ل يرسم وجها ِ‬ ‫في تحليِل أسبا ِ‬ ‫ب انهياِر النظام وكيفيِة تحقي ِ‬


‫فيما يت ةعلق بزماِ ن وكيفيِة انتهاِء الزمة البنيوية التي دخلتها الحداثُة الرأسمالية )فيما ب ةعد السب ةعينات(‪ ،‬وربما‬ ‫ح قّيم‪ ،‬ولو كا ن بسيطًا‪ ،‬قد ُيسفر عن نتائَج‬ ‫هو ُمِح ّ‬ ‫ق في ذلك‪ .‬لكن‪ ،‬وبالمقابل‪ ،‬فقوله ُمِهّم عندما َذَكَر بأّ ن كّل كفا ٍ‬ ‫عظيمة‪ .‬إننا نلحظ هنا ابت ةعاده الكبيَر عن الحتمية الفظة‪ .‬ويمكننا القول بأنه يتحلى بقوٍة تحليليٍة عظمى بشأِ ن‬ ‫ج الم ةعرفة‪.‬‬ ‫السلوب ومنها ِ‬ ‫ت موراي بوكين بصدِد اليكولوجيا‪،‬‬ ‫ل ريب في أنه يمكننا سرد أسماِء ال ةعديد من المتنورين الخرين‪ .‬فتحليل ُ‬ ‫ب الناقص لدى كّل هؤلء‬ ‫ت واقتراحا ُ‬ ‫وانتقادا ُ‬ ‫ت فييرابند بصدِد السلوب والمنطق تفتح آفاقاً شاس ةعة‪ .‬الجان ُ‬ ‫ق التواز ن الماهر في توحيِد الم ةعرفة مع ال ةعمل‪ .‬ول شك في أّ ن القوة‬ ‫تحقي‬ ‫عن‬ ‫عجزهم‬ ‫في‬ ‫يكمن‬ ‫المتنورين‬ ‫ِ‬ ‫ال ةعظيمة للحداثة الرأسمالية في ربطهم وتوثيقهم بها لها تأثيُرها الكبير في ذلك‪ .‬فرغم زعِم المدرسة الماركسية‬ ‫ي‬ ‫ت الكثَر وصرامًة وعلمية إلى الرأسمالية‪ ،‬إل أنها لم تقدر على إعاقِة وقوعها بشكٍل تراجيد ّ‬ ‫بتوجيهها النتقادا ِ‬ ‫ً‬ ‫ص السلطة الم ةعِرفية‪ ،‬ولم تستطع النجاةَ من التحول إلى‬ ‫بخصو‬ ‫للنظام‬ ‫ا‬ ‫جد‬ ‫ة‬ ‫مفيد‬ ‫ة‬ ‫لل‬ ‫التحول‬ ‫مؤلم إلى مرتبِة‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ف على ذلك‪.‬‬ ‫ح يساري لّليبرالية‪ .‬وتجربة المائة والخمسين عاما ً برهاٌ ن كا ٍ‬ ‫جنا ٍ‬ ‫يمكننا إرجاع السبب الساسي في ذلك إلى محورتها لكافِة أساليبها ومّدخراتها الم ةعرفية حول "الختزالية‬ ‫القتصادية"‪ .‬فـ"الشتراكية ال ةعلمية" لم تنُج من التحول إلى نسخٍة م ةعّدلة من المدرسة الوض ةعية من حيث‬ ‫م ةعالجتها للخصائص الميتافيزيقية والتاريخية للمجتمع على نحٍو ضحٍل وبسيط للغاية‪ ،‬وإسقاطها ظاهرَة‬ ‫السلطة إلى مستوى هيئٍة حكوميٍة بسيطة‪ ،‬وإضفائها دوراً سحرياً على التحليلت القتصادية والسياسية‪ .‬ولدى‬ ‫شروِعها في علم الجتماع‪ ،‬ورغم إضفائها دوراً تأسيسيا ً عليه بقدِر ما ف ةعله كّل من أميل دوركايم وماكس فيبر‪،‬‬ ‫إل أنها بقَيت عاجزةً عن تخطي دورها كمدرسٍة يسارية لّليبرالية فيما يت ةعلق بالسلوب والبستمولوجيا )نظرية‬ ‫الم ةعرفة(‪ .‬مرةً أخرى يتجلى بكّل وضوح أّ ن الُمِهّم والم ةعيَّن في المر ليست النوايا‪ ،‬بل هو بؤُر قوِة الصهر‬ ‫ب‪ ،‬السلطةُ الم ةعرفية‪ ،‬القوةُ التقنية(‪ .‬ورغم أهميِة‬ ‫والتكامل المتحكمةُ بالمجتمع على يِد النظام المهيمن )السلو ُ‬ ‫القتصاد كقوٍة مؤثرة‪ ،‬إل أنه‪ ،‬وبدو ن تحليِله بشكل سليم مع السلطة والقوى الميتافيزيقية الساسيِة الخرى‬ ‫ب عليه‬ ‫ب ةعيٍن تاريخية واجتماعيٍة ثاقبة‪ ،‬فإّ ن ال ةعزم على تخطي النظام القائم )الحداثة الرأسمالية( والتغل ِ‬ ‫ص شرعنِة ضرورِة ذلك كمرحلٍة تمهيدية(‪ ،‬وطرَح المشاكل ال ةعالقة‪ ،‬ووصياغَة طر‪.‬ق الحل في سبيل ذلك‪،‬‬ ‫)وبالخ ّ‬ ‫وترجمَتها إلى الممارسة ال ةعملية؛ إ ن ال ةعزم على كل ذلك لن ُيثِمر عن أي شيٍء أب ةعَد من التجاه الوض ةعي الفظ‪.‬‬ ‫والواقُع ال ةعملي والنظري القائُم يبرهن هذه الحقيقة بما فيه الكفاية‪.‬‬ ‫س الفوضويةَ ‪ Anarşist‬البارزةَ كانتقاٍد راديكالي للحداثة الرأسمالية‪ُ ،‬ت ةعتَبر ماهرةً وبارعةُ في‬ ‫إّ ن المدار َ‬ ‫السلوب ونظريِة الم ةعرفة‪ .‬فهي ل َت ةعتِرف بتقدميِة الرأسمالية‪ ،‬مثلما ف ةعل الماركسيو ن‪ .‬وقد استطاع أوصحابها‬ ‫تناُوَل المجتمع من عدِة زوايا مختلفٍة تتخطى إطاَر الختزالية القتصادية‪ ،‬فأّدوا بذلك دوَر "أطفاِل النظام‬ ‫ص من التحول‬ ‫ت لم تستطع الخل َ‬ ‫المتمردين" بكّل مهارٍة وكفاءة‪ .‬ورغم كّل نواياها الحسنة‪ ،‬إل أّ ن هذه التيارا ِ‬ ‫ق تحافظ على نفسها بكّل عناٍد إزاَء جرائِم وآثاِم النظام‪ .‬وما ذكرُته بشأِ ن الماركسية‬ ‫في نهايِة المطاف إلى طرائ َ‬ ‫ف السليُم‬ ‫ينطبق على هذه التيارات أيضًا‪ :‬النقاطُ الساسية التي بقيَْت على مسافٍة شاس ةعة منها هي‪ :‬الت ةعري ُ‬ ‫‪.‬ق للسلوب ولقوة الم ةعرفة وال ةعمل في الحداثة‬ ‫ب عليه‪ ،‬والستخداُم الحاذ ُ‬ ‫للنظام القائم ولقضايا تجاوزه والتغل ِ‬ ‫الديمقراطية‪.‬‬ ‫ت الحركات اليكولوجية والفامينية والثقافيِة وممارساتها ال ةعملية‪.‬‬ ‫ت مشابهة بصدِد نظريا ِ‬ ‫يمكننا إجراء تقييما ٍ‬ ‫َ‬ ‫ع‪ :‬أين ومتى‬ ‫موضو‬ ‫في‬ ‫ورنا‬ ‫يسا‬ ‫القلق‬ ‫يبقى‬ ‫حيث‬ ‫الحديدي‪،‬‬ ‫القفص‬ ‫من‬ ‫وها‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫الناجية‬ ‫الحجل‬ ‫خ‬ ‫فهي أَ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫شبَهُ بِ​ِفرا ِ‬ ‫ت‬ ‫ت تب ةعث على المل‪ ،‬حيث بإمكانها تقديم مساهما ٍ‬ ‫سُي ةعاد اوصطيادها؟ ومع ذلك‪ِ ،‬من الُمهم النظر إليها كحركا ٍ‬ ‫ت التحرِر‬ ‫ت الجتماعيةَ الديمقراطيةَ وحركا ِ‬ ‫جمة عندما يتطور التياُر الساسي البديل‪ .‬في حين أّ ن الحركا ِ‬ ‫الوطني التحَمت مبكراً بالنظام ال ةعصري‪ ،‬وغدت قواه الداف ةعةَ له والمسّيرةَ إياه‪ ،‬ونجَحت في التحول إلى مذهَبين‬ ‫منيَ ةعين للتياِر الليبرالي الساسي‪.‬‬ ‫صر لموقفي المناِهض للستشرا‪.‬ق سيكو ن مساَهمةً مفيدة في التوجه نحو‬ ‫المخت‬ ‫‪.‬ق‬ ‫إني على قناعٍة بأّ ن التطر َ‬ ‫َ‬ ‫ت متشابكة جدية لدى مراقبتي لذاتي تجاه الحداثة‪ .‬يمكنني ذكر‬ ‫النتيجة‪ .‬كما أني منتبهٌ لبقائي في ِخ َ‬ ‫ضّم تناقضا ٍ‬ ‫‪.‬ق أوسطيِة الكلسيكية‪ ،‬والمتميزة بتناقضاتها‪ ،‬بالتالي‬ ‫الشر‬ ‫ة‬ ‫الثقاف‬ ‫ر‬ ‫تأثي‬ ‫سبَبين لهذا المر على الفور‪ .‬أولهما‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫بقضاياها الجذريِة مع الحداثة الرأسمالية‪ .‬فهذه الثقافة‪ ،‬وقبَل كّل شيء‪ ،‬تتصف براديكاليتها في إيلِء الولوية‬ ‫ش بسهولٍة في المجتمع‪ .‬بل إّ ن الرواب َ‬ ‫ط الجتماعية م ةعياٌر أساسي في‬ ‫للمجتمع لدرجٍة ل يمكن للفرديِة أ ن تنت ةع َ‬ ‫ي في‬ ‫تقييِم الشخصية‪ ،‬حيث تّم السمّو بالروابط مع المجتم ةعات بالجماع‪ .‬وللّديِن والتقاليِد السائدِة تأثيُرهما القو ّ‬ ‫ذلك‪ .‬أما النقطاُع عن المجتمع‪ ،‬فُين َ‬ ‫ظر إليه ب ةعيِن الزدراء‪ ،‬ويصبُح موضوعاً للسخريِة والتهكم‪ .‬هذا ول‬ ‫غ الروابِط الفضل نوعية‪ ،‬فُيقاَبل بالتقديس والتبجيل‪ .‬أما‬ ‫ُيستساغ تغييُر الجماعة أيضًا‪ .‬لكن‪ ،‬وفي حاِل بلو ِ‬ ‫الحظُي بمكاٍ ن ومكانٍة داخَل أروقِة الدولة والهرمية‪ ،‬فُي ةعّد مصدَر غبطٍة وافتخار‪ .‬ولثقافِة الدولة والهرمية‬ ‫الكلسيكية في الشر‪.‬ق الوسط تأثيٌر بارز في سيادِة هذا الوعي‪ .‬وبتأثيِر ُمجَمِل هذه الخصائص‪ ،‬فِمن ال ةعسير‬ ‫الستسل ُم للثقافات الخارجية‪ ،‬وكذلك للثقافات ال ةعصرية‪ .‬أو بالحرى‪ ،‬من ال ةعصيب وصهرها في بوتقتها‪.‬‬ ‫ضلً في راهننا على‬ ‫بالتالي‪ ،‬يجب أل َي ةعَترينا الذهول إزاء كوِ ن ثقافِة "المة" بتقاليدها الوطيدة ترجيحا ً مف ّ‬


‫الدولتية القومية التي ُت ةعد أقوى التيارات في يومنا‪ .‬ذلك أّ ن الدولة القومية ثمرةٌ من ثمار الحداثة الرأسمالية‪،‬‬ ‫بالتالي‪ ،‬فهي غريبة‪ .‬ولدى المقارنة والمقايسة بين السلموية السياسية والدولة القومية‪ ،‬واللَتين ت ةعتبرا ن‬ ‫نزعةً قوموية مضمونًا‪ ،‬فستكو ن القومويةُ السلموية المحلية هي المرّجحة بغالبيٍة ساحقة‪ .‬والتنافُر والتنازُع‬ ‫إزاء الحداثة يسود ال ةعديَد من مياديِن وأنماِط الحياة‪ .‬إذ‪ ،‬ما من مقاومة حصلت تجاه الحداثة الرأسمالية على‬ ‫ع الحداثة الرأسمالية‬ ‫الص ةعيد الثقافي‪ ،‬فيما عدا الشر ِ‬ ‫‪.‬ق الوسط‪ .‬وحتى لو حدثت‪ ،‬فلم تستطع النجاة من ابتل ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫خ البنية الثقافية على الص ةعيدين التاريخي‬ ‫لها‪ ،‬أو وصهِرها في بوتقتها‪ .‬هذه المقارنة لوحدها كافية لبرهاِ ن رسو ِ‬ ‫والجتماعي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ي تياٍر‬ ‫بأ‬ ‫التشبث‬ ‫س‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫في‬ ‫أنزلق‬ ‫لم‬ ‫أنني‬ ‫إل‬ ‫الغربية‪،‬‬ ‫الفكرية‬ ‫بالبنية‬ ‫ا‬ ‫بالغ‬ ‫ا‬ ‫اهتمام‬ ‫إبدائي‬ ‫ورغم‬ ‫الثاني؛‬ ‫ب‬ ‫ّ‬ ‫السب ُ‬ ‫َ​َ ِ‬ ‫منها لمدٍة طويلة‪ .‬ذلك أني أثناء بحثي عن الحقيقة‪ ،‬ولو لم يتميز هذا البح ُ‬ ‫ث بالجذرية والمنهجية الكافيَتين‪،‬‬ ‫ب المؤدية إلى الحداثة‪ ،‬وعاِلماً بتفوقها ال ةعلني‪ .‬ولكّن‬ ‫كن ُ‬ ‫ت مدركاً تماما ً لماهيِة التراكم الم ةعرفي‪ -‬ال ةعلمي والسالي ِ‬ ‫ردوَد الف ةعل التي اختلَجتني إزاَء ثقافِة الشر‪.‬ق الوسط لم أتواَ ن عن إبدائها تجاه هذه الثقافة ال ةعصرية أيضًا‪ .‬ذلك‬ ‫ت بدرايٍة سليمة‬ ‫سها‪ ،‬وأدرك ُ‬ ‫أني انتبه ُ‬ ‫ت – ولو متأخراً – إلى أّ ن كلَتيهما تنبثقا ن من مصنِع الحضارة المدينية نف ِ‬ ‫ف عاٍم بأقل تقدير‪ .‬بالتالي‪ ،‬لم أتواَ ن عن‬ ‫أ ن كلَتيهما تنحدرا ن من بنى الدولة والهرمية الم ةعّمرة منذ خمسِة آل ِ‬ ‫إبداء الحذاقة والجرأة في توجيِه النتقادات للجوانب المشتركة للثقافتين‪ ،‬وتمريرهما في الغربال النقدي‪.‬‬ ‫ض الفرديةُ المجتمَع وتقضمه كالفأر‪ .‬إذ‪ ،‬ليس من‬ ‫ومن خلِل هذه النتقادات‪ ،‬لن يكو ن وص ةعباً رؤية كيف َتقُر ُ‬ ‫ض المجتمع النساني أكثر من تمثيلها حريِة الفرد‪،‬‬ ‫ال ةعسير تشخيص الليبرالية الرأسمالية باعتبارها فّن َقر ِ‬ ‫وم ةعرفة أوصولها المتأتية من الثقافة التجارية الكلسيكية‪ .‬كما من السهولة إيضاح منبِع الثقافة التجارية‬ ‫المرتبطة بال ةعديد من التقاليد القديمة في الشر‪.‬ق الوسط‪ ،‬بما فيها الديا ن التوحيدية الكبرى الثلثة‪ .‬أما التبضيُع‬ ‫خ وانهياِر المجتم ةعات والتجم ةعات‬ ‫وتباُدُل السلع‪ ،‬اللذا ن ُي ةعدا ن من مقوما ِ‬ ‫ت التجارة‪ ،‬فقد ل ةعبا دوراً رئيسا ً في تفس ِ‬ ‫‪.‬ق أوسطّي متجذٌر ووطيد‪ .‬وتتميُز بتأثيرها المحّدد‬ ‫الممّثلِة لجماعيِة النسا ن‪ .‬إّ ن الذهنيةَ التجارية تقليٌد شر ُ‬ ‫ت والبنى في المجتمع التي‬ ‫ت واللغا ِ‬ ‫خ ال ةعديد من عناوصِر المؤسسات والرموز والهويا ِ‬ ‫والم ةعّين في ثبو ِ‬ ‫ت ورسو ِ‬ ‫خ‬ ‫ع الله وتقديسه‪ ،‬إلى تحويِل فّن إدارِة الدولة إلى ِحيٍَل ومكائد‪ ،‬ووصولً إلى ترسي ِ‬ ‫يكتنفها الشك‪ ،‬بدءاً من ابتدا ِ‬ ‫سها هذا‬ ‫ب والرياء والزدواجية في الخل‪.‬ق على نحٍو بنيوي‪ .‬وتكمن مساهمةُ أوروبا الغربية في اقتبا ِ‬ ‫الكذ ِ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ح والتنوير لج ةعله نظاما مهيمنا على المجتمع‪ .‬أما‬ ‫النظاَم من الشر‪.‬ق الوسط‪ ،‬واستغلِله عبر النهضة والوصل ِ‬ ‫في مجتم ةعات الشر‪.‬ق الوسط‪ ،‬فل ُيستساغ التاجُر ومؤسساُته‪ ،‬ول يولى مكانًة أولية‪ .‬بل‪ ،‬وعلى النقيض‪ُ ،‬ين َ‬ ‫ظر‬ ‫إليه دوما ً ب ةعيِن الشك والريبة‪ .‬في حين أّ ن ما نجَحت فيه الحداثةُ الرأسمالية في أوروبا‪ ،‬هو ج ةعُلها نظاَم السل ةعة‬ ‫س المجتمع‪ ،‬وحّثها كّل ال ةعلوم والديا ن والفنو ن لتسخيرها في خدمة هذا المجتمع الجديد‪ .‬وهكذا‪،‬‬ ‫تاجاً على رأ ِ‬ ‫ي وتافهٌ في الشر‪.‬ق الوسط أوصبح محبذاً وم ةعززاً وأولياً في أوروبا‪.‬‬ ‫وثانو‬ ‫ي‬ ‫هامش‬ ‫فكّل ما هو‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫لقد غدا انتقاُد حداثِة أوروبا‪ ،‬بل ومناَهضُتها بالعتماد على ال ةعنف بطابِع السلم الراديكالي‪ ،‬موضة دارجة في‬ ‫ت الميدانية التي تبدو وكأنها عدّو لدوٌد‬ ‫الشر‪.‬ق الوسط الراهن‪ .‬لكن‪ ،‬وحسَب رأيي‪ ،‬فإّ ن كّل المواقف والتنظيما ِ‬ ‫ت مندرجة في إطار الحداثة‪،‬‬ ‫للحداثة والستشرا‪.‬ق‪ ،‬بدءاً من أدوارد س ةعيد إلى حزب ا؛ قد تحوَلت إلى كيانا ٍ‬ ‫تماما ً مثلما َحّل بالتقاليد الماركسية‪ ،‬ولن تنُجو في النتيجة من تقديِم الخدمات لها بكّل سماجٍة وذّل وهواٍ ن‪.‬‬ ‫ق بفضِل الحداثة ب ةعينها‪ ،‬فهي بموجب طبي ةعتها‪ ،‬وسواًء كانت ناجحةً أم فاشلة‪،‬‬ ‫فباعتبار أّ ن بروزها تَ​َحقّ َ‬ ‫ستتوسل إلى الحداثة للشحادة بِنَ​َهٍم وجشع‪ ،‬وستدافع عنها بنفس المواقف‪ .‬وبينما يكتفي أوصحاُبها بحصِر‬ ‫ت الحداثة الكثِر رج ةعية‪.‬‬ ‫س والّلحى‪ ،‬تبقى أرواُحهم وأجساُدهم م ةعبأةً بمخلفا ِ‬ ‫تقاليدهم في الهيئة والملب ِ‬ ‫ت‬ ‫ت أسلوبي في النقد ونمطي في تقييِم الم ةعرفة بخطوطه ال ةعريضة‪ .‬أو على القل‪ ،‬سلط ُ‬ ‫كلي قناعةٌ بأني عرض ُ‬ ‫ف السلوب وال ةعلم المؤدَيين إلى الحداثة الرأسمالية‪ .‬كما أرى أ ن أمامنا‬ ‫الضوء‪ ،‬ولو بشكٍل محدود‪ ،‬على ت ةعري ِ‬ ‫ح ضروري‬ ‫كترجي‬ ‫والديمقراطية"‬ ‫الحرية‬ ‫ة‬ ‫انطلق‬ ‫ق‬ ‫تحقي‬ ‫ل‬ ‫سبي‬ ‫في‬ ‫والم ةعرفة‬ ‫فروصة "تطويِر نمطنا في السلوب‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫للنفاذ من مرحلِة "الفوضى" البنيوية للحداثة؛ ولو أننا لسنا واثقين كثيراً من وصحِة ذلك‪ .‬ولتسهيِل شرحنا‬ ‫)قولنا( هذا‪ ،‬يمكننا سرده على نحِو بنوٍد أولية‪:‬‬ ‫س دعائَمه كّل ِمن روجر‬ ‫س‬ ‫أ‬ ‫الذي‬ ‫)البراديغما(‬ ‫والمفهوم‬ ‫ب رؤيةَ وانتقاَد الروابِط بين الرأسمالية‬ ‫‪ -1‬يج ُ‬ ‫ّ َ‬ ‫وفرانسيس بيكو ن وديكارت بشأِ ن السلوب وال ةعلم‪.‬‬ ‫ب رؤيَة الدوافع الكامنة وراَء تجذيِر الفصل بين الذاتانية والموضوعانية وعكسه على ال ةعديد من‬ ‫‪ -2‬يج ُ‬ ‫ع الستغلل‬ ‫الثنائيات الخرى؛ حيث يهدف إلى تقييِم المجتمع )الشيء الموضوع( كمصدٍر منفت ٍ‬ ‫ح لكافِة أنوا ِ‬ ‫ت ال ةعاقلة(‪.‬‬ ‫والضطهاد على يد الفردية )الذا ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫‪ -3‬هذا المفهوُم في السلوب وال ةعلم نظَر ب ةعيٍن طبي ةعية إلى التمييز بين البرجوازي والبروليتاري في المجتمع‪،‬‬ ‫وأدى بالتالي إلى استخداِم البروليتاري كـ شيء موضوع‪.‬‬ ‫‪ -4‬وضَ ةعت الحداثةُ الرأسمالية اللّبَنَةَ الساسية لفرضيِة ال ةعلم – السلطة انطلقاً من عبارتها "ال ةعلُم قوة"‪،‬‬ ‫ح فتاٍك وأساسي بيد النظام الحاكم‪.‬‬ ‫وحّوَلت التحاَد المبّكَر بين ال ةعلم والسلطة إلى سل ٍ‬ ‫‪ -5‬ج ةعَلت الحداثُة الرأسمالية من الخرافات وال ةعقائِد الثبوتية المنحرفة البارزِة بما فيه الكفاية في الّدين‬


‫ست دينها هي‪ ،‬وبس َ‬ ‫طت‬ ‫والميتافيزيقيا وسيلةً لتحويِل ال ةعلوم إلى ديٍن جديٍد على غرار ال ةعلم الوض ةعي‪ ،‬وأ ّ‬ ‫س َ‬ ‫نفوذه باسم الصراع مع الدين والميتافيزيقيا‪.‬‬ ‫‪ -6‬ج ةعَلت من الليبرالية )مذهب الحرية( أيديولوجيًة رسمية لها‪ ،‬وحولتها إلى وسيلٍة مثالية في الوفا‪.‬ق من‬ ‫‪.‬ق كافِة اليديولوجيات الم ةعاِرضة بذاتها‪ ،‬ووصهرها في بوتقتها من جهٍة‬ ‫ح فتاٍك في إلحا ِ‬ ‫جهة‪ ،‬واستخدَمتها كسل ٍ‬ ‫ثانية‪ ،‬وأوصبحت كـ"اليِد الخفية‪ ،‬ال ةعقِل الخفي" لَِتبس َ‬ ‫ط أقوى هيمنة أيديولوجية‪.‬‬ ‫‪ -7‬وبينما َأضَفت الرسميةَ على الليبراليِة وال ةعلوم الوض ةعية‪ ،‬ح ّ‬ ‫طت من أهميِة التيارات اليديولوجية والمدارس‬ ‫الفكرية الخرى‪ ،‬وبالخص تلك الم ةعاِرضة لها‪ ،‬وثابَرت في جهودها تلك إلى أْ ن ألحَقتها بذاتها‪.‬‬ ‫‪ -8‬ح ّ‬ ‫ص المناِهضين للنظام القائم في تقديِم الرشادات أو‬ ‫طت من شأِ ن الفلسفة والخل‪.‬ق‪ ،‬وبذلك قلَّلت من فر ِ‬ ‫اتخاِذ المواقف اللزمة )الختيار الحر = الخل‪.‬ق(‪.‬‬ ‫ض الضوابط على ال ةعلم‪ ،‬حقّ َ‬ ‫َ‬ ‫ح‬ ‫بشر‬ ‫م‬ ‫لتقو‬ ‫م ةعانيه‪،‬‬ ‫ة‬ ‫وقو‬ ‫الداخلي‬ ‫له‬ ‫م‬ ‫تكا‬ ‫م‬ ‫وانقسا‬ ‫ته‬ ‫تشت‬ ‫قت‬ ‫ِ‬ ‫ُِ‬ ‫‪ -9‬وبالفراط في فر ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫سُهُل ربطه بالسلطة وتحويله إلى ميداٍ ن‬ ‫الفيل عبر وبره‪ ،‬والغابِة عبر شجرٍة منها‪ .‬فال ةعلُم المشّتت إربا ً إربا ً يَ ْ‬ ‫ف الم ةعاني‬ ‫تقني َيدّر الربَح الوافر‪ .‬وهكذا غدت الغايةُ الولية من ال ةعلم والم ةعرفة كسَب الربح الكبر‪ ،‬ل اكتشا َ‬ ‫ج ال ةعلم – القوة – المال‪ .‬أي أّ ن ال ةعلم – السلطة‬ ‫ج الم ةعرفة – ال ةعلم إلى منها ِ‬ ‫الوصيلة للحياة‪ .‬وتم النتقاُل من منها ِ‬ ‫س الجديد للحداثة‪.‬‬ ‫س المال هو التحال ُ‬ ‫ف المقّد ُ‬ ‫– رأ َ‬ ‫‪ -10‬وبالضافة إلى المرأة التي اكتمل تأنيثها )المرأة الكثر عبودية( على يِد مدنيِة الحداثة الرأسمالية )حضارة‬ ‫المدينة الطبقية(‪ ،‬تم َخصُي الرجل وتأنيثه أيضاً )بذري ةعة الموا َ‬ ‫ق بذلك تب ةعيةُ المجتمع برمته‬ ‫طنة(‪ ،‬لتتحقّ َ‬ ‫َ‬ ‫سَب هتلر‪ ،‬المجتمُع كالزوجة الذليلة(‪ .‬إ ن المجتمُع بالنسبة إلى الدولة القومية أ ْ‬ ‫كزوجات خان ةعات )فح ْ‬ ‫شبَهُ‬ ‫بحصاِ ن الركوب وِبالَ ةعْورة‪.‬‬ ‫ب دائمة‪ ،‬سواًء داخَل المجتمع‪ ،‬أو فيما بين المجتم ةعات‪ ،‬كأمٍر‬ ‫‪ -11‬تحوَلت السلطةُ في الحداثة إلى ساحِة حر ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫ب الكل ضد الكل"‪،‬‬ ‫واقع )إذ لم يَُ ةعْد ثمَة م ةعنى للتفريق بين الدولة والمجتمع(‪ .‬وعبارةُ هوبز "إنها حالة من حر ِ‬ ‫والتي قالها في مجتمِع ما قبِل الرأسمالية‪ ،‬تصبح أكثر تأثيراً وشيوعا ً في ظّل الحداثة الرأسمالية‪ .‬وما البادات‬ ‫ال ةعرقية سوى ذروةُ هذه الحروب‪.‬‬ ‫‪ -12‬لقد تَ​َولَّدت أزمةٌ بنيويةٌ حادة بسبب‪ :‬اكتماِل مرحلِة التوسع في المركز والطراف في ظّل نظاِم الحداثة‬ ‫ض‬ ‫الرأسمالية‪ ،‬ووصوِل اليكولوجيا أب ةعاداً ل ُتطا‪.‬ق ويستحيل م ةعها الستمرار‪ ،‬البطالِة‪ ،‬الفقِر المدقع‪ ،‬انخفا ِ‬ ‫الجرة والم ةعاش‪ ،‬ووصوِل البيروقراطية درجةً تبتلع فيها كّل ما حولها‪ ،‬دّك دعائِم المجتمع اللهي‪ ،‬هيمنِة‬ ‫شريحة المستثمرين الماليين ال ةعالميين المن ةعزلة عن النتاج والكثر تطف ً‬ ‫شباِك المقاومة‬ ‫ل؛ وبالمقابل تطّوِر ِ‬ ‫والتصدي في كافِة المياديِن لدى سواد المجتمع‪.‬‬ ‫‪ -13‬تحتضن مراحُل الزمات البنيوية في أحشائها التشابَك والتداخَل بين النطلقات الثورية والثورية المضادة‪،‬‬ ‫وكذلك بين النطلقات الديمقراطية التحررية والنقلبات التوتاليتارية والفاشية‪ .‬والذين يقومو ن بتطويِر أنماِط‬ ‫السلوب والّنظُِم ال ةعلمية بأمهر الشكال‪ ،‬ليج ةعلوا منها أرضيًة أولية لنشاطاتهم ال ةعملية؛ هم الذين سيحالفهم‬ ‫الحّظ في إنشاِء النظام المجتم ةعي الجديد‪.‬‬ ‫‪ -14‬في م ةعم ةعاِ ن الزمات البنيوية والفوضى البينية ‪ ،‬تستطيع الحركاُت الديمقراطية واليكولوجية والتحرريةُ‬ ‫ت قصيرٍة متلحقة‪ ،‬أ ن‬ ‫والمناديةُ بالمساواة )ال ةعادلة( عبَر حملتها الصغيرة والمؤّثرة والمستمرة على فترا ٍ‬ ‫ت القادرةَ على تحديِد م ةعالِ​ِم المستقبل على المدى الطويل‪.‬‬ ‫تؤ ّ‬ ‫س َ‬ ‫س الكيانا ِ‬ ‫ولجل ذلك يجب‪:‬‬ ‫‪ -1‬تقييَم علِم الجتماع بأب ةعاده التاريخية والمكانية كدليِل عمٍل وكمرشٍد للنشاطات الميدانية‪.‬‬ ‫‪.‬ق النظام القائم‪ ،‬وذلك اعتماداً على مناَهضِة كافِة الحقائق المذكورة في النقاط الرب ةعة‬ ‫‪ -2‬تطويَر الحل خارَج نطا ِ‬ ‫عشرة )‪ (14‬التي س ةعينا لشرحها أعله‪ ،‬وكذلك انطلقاً من حقيقِة كوِ ن الحداثِة الرأسمالية بنيةً سرطانيةً‬ ‫ضها على السطح‪.‬‬ ‫تستفحل في ال ةعديد من الميادين لتطفح أعرا ُ‬ ‫‪ -3‬تجاُوَز كافِة الثنائيات والقرائن الفظة المرتكزِة إلى التمييز بين الذاتانية والموضوعانية )وفي وصدارتها‬ ‫المثالية – المادية‪ ،‬الدياليكتيك – الميتافيزيقيا‪ ،‬الليبرالية – الشتراكية‪ ،‬التأليهية – اللحادية (‪ ،‬وال ةعمَل أساساً‬ ‫بِفَّن التفسير للم ةعاني الفاضلة والم ةعتِمِد على كافِة المنجزات ال ةعلمية‪.‬‬ ‫ص أو إهماِل أهميِة ميتافيزيقيِة النسا ن الم ةعتِمدِة على الفاضل‪ ،‬الجميل‪ ،‬الحر‪ ،‬والصحيح‪ ،‬سواًء‬ ‫‪ -4‬عدَم إنقا ِ‬ ‫ت النشاء الجديدة‪.‬‬ ‫في الساليب النقدية‪ ،‬أو في حمل ِ‬ ‫ح السياسِة الديمقراطية‪.‬‬ ‫‪ -5‬ال ةعمَل أساساً باوصطل ِ‬ ‫ص إلى آلف الشخاص‪ ،‬حسب‬ ‫‪ -6‬تأسي َ‬ ‫س اللف من منظما ِ‬ ‫ت المجتمع المدني )يمكن أ ن تضم ثلثِة أشخا ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ح‬ ‫اوصطل‬ ‫من‬ ‫ا‬ ‫انطلق‬ ‫وذلك‬ ‫والسلطة‪،‬‬ ‫ة‬ ‫الزم‬ ‫فيها‬ ‫تتواجد‬ ‫التي‬ ‫الميادين‬ ‫ة‬ ‫كاف‬ ‫في‬ ‫وضرورتها(‬ ‫وفوائدها‬ ‫فاعليتها‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫السياسة الديمقراطية‪.‬‬ ‫‪ -7‬تكويَن أُّمِة المجتمع الجديد المزَمِع إنشاؤه بحيث تكو ن أّمًة ديمقراطية‪ .‬وبينما تَُكو ن المةُ الديمقراطية‬ ‫ف النظر عن حقيقة إمكانية تجانبهما وحتى تداخلهما‪.‬‬ ‫منفصلًة عن الدولة القومية‪ ،‬فمن الضروري عدم وصر ِ‬


‫س الكونفدرالية‬ ‫‪ -8‬تطويَر شكِل الدارة السياسية للمة الديمقراطية )تشبيهاً بالتصنيفات المألوفة( على أسا ِ‬ ‫ف المم كأمٍة ديمقراطية واحدة‪ .‬كما‬ ‫الديمقراطية المحليِة‪ ،‬الوطنيِة‪ ،‬القليميِة‪ ،‬وال ةعالمية‪) .‬أي‪ ،‬يمكن تنظيم مختلَ ِ‬ ‫يمكن بناُء التنظيم على نحِو الدولة القومية والمة الديمقراطية ضمن إطاِر المة ذاتها‪ .‬في حين أّ ن‬ ‫ت الديمقراطيةَ القليميةَ وكونفدراليَة المم الديمقراطية ال ةعالمية ضروريةٌ للغاية‪ ،‬حيث يمكنها تأدية‬ ‫الكونفدراليا ِ‬ ‫مهاّمها وإبداء تأثيراتها الحاسمة في حّل المشاكل ال ةعالمية ال ةعالقة والمشاكل الوطنية والمحلية أيضاً على نحٍو‬ ‫أجدى وأكفأ من هيئِة المم المتحدة الحالية‪.‬‬ ‫ض للصناعة التقنية المتبقية من الحداثة‪ ،‬والتي تَُ ةعّد إحدى أمتِن‬ ‫ض نقي ٍ‬ ‫‪ -9‬تطويَر المجتمع الديمقراطي كم ةعاِر ٍ‬ ‫ث دعائم أساسية‪ :‬آ‪ -‬النتاجيات الرأسمالية‪ ،‬ب‪ -‬الصناعوية‪ ،‬ج‪ -‬الدولتية‬ ‫دعائمها )ترتكز الحداثةُ إلى ثل ِ‬ ‫القومية(؛ وإضفاَء الطابع اليكولوجي على القتصاد والتقنيات‪.‬‬ ‫‪ -10‬ضماَ ن الدفاع الجتماعي من قِبَِل الميليشيا الش ةعبية‪.‬‬ ‫سِرّية الجديدة الم ةعتِمدِة على تَ​َوّجِه المرأة من عبوديتها الغائرة نحو حريتها المتجذرِة‬ ‫‪ -11‬إنشاَء النظمة الُ َ‬ ‫ومساواتها ال ةعميقة‪ِ ،‬عوضاً عن النظام الذكوري المستند إلى السس الهرمية والدولتية الوطيدة‪.‬‬ ‫تكفي هذه البنوُد الساسية للت ةعبير عن وجهِة نظرنا البراديغمائية التي يمكننا زيادة ت ةعدادها وِذْكُر تفاوصيلها‬ ‫س الوقت الزماُ ن الذي أقامت فيه‬ ‫الدقيقة بإسها ٍ‬ ‫ب أشمل‪ .‬إننا ن ةعي تماما ً أّ ن زماَ ن الحداثة الرأسمالية هو في نف ِ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ب جهودا حثيثة وعظيمة في سبيِل إحياِء هذه‬ ‫يوتوبيا ُ‬ ‫ت الحرية والمساواة القيامة ولم ُتقِ ةعدها‪ .‬وقد بذلت الش ةعو ُ‬ ‫ب ل حصر له‪ ،‬وعانت آلماً مريرة‪ .‬لذا‪ ،‬ل يمكننا‬ ‫ضت الش ةعو ُ‬ ‫اليوتوبيات‪ ،‬وُأريَقت الدماُء كالسيول‪ .‬وتَ​َ ةعّر َ‬ ‫ب لت ةعذي ٍ‬ ‫سدى‪ .‬وعلى النقيض‪ ،‬فسْ ةعُينا لتحليِل كافِة هذه الم ةعضلت هو بغايِة الووصول بهذا‬ ‫اعتباَر أ ن كّل ذلك ذَهَب ُ‬ ‫ق اللتحام والتكامل بين يوتوبياتنا وحياتنا؛ لنتمكن من التوجه قُ​ُدماً‬ ‫وتحقي‬ ‫دربنا‪،‬‬ ‫ة‬ ‫لنار‬ ‫التاريخ إلى تفسيٍر سليم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ومجدداً وصوَب الحياِة الخلبة والجذابة‪ ،‬والملتِحفة بال ةعشق والهيام‪ .‬فالنتقاُل إلى أنماِط الحياة الطوباوية‬ ‫المتميزة بالمال الراسخة يستلزم بذَل الجهود الحثيثة دو ن كلٍل أو ملل‪.‬‬ ‫ت في كّل‬ ‫لن نتجاوز حدودنا بالزعم بأننا نحن الذين نبتدئ بالسلوب وبالنظام ال ةعلمي مجددًا‪ .‬ولكني عمل ُ‬ ‫ت تناولها‪ ،‬على الشارة إلى وجوِد ب ةعض المور التي تجري في مساٍر خاط ئ‪ ،‬والتنويِه‬ ‫المواضيع التي حاول ُ‬ ‫شّدُد بأهميٍة بالغة على عدِم النظر إلى محاولتي في‬ ‫بالتالي إلى أّ ن السبَب في ذلك ذو منبٍع براديغمائي‪ .‬وأُ َ‬ ‫س لنظاٍم جديد بديٍل من الجذور‪ ،‬ول رؤيِتها على أنها تفنيٌد كامٌل )النهليستية –‬ ‫التفسير والتطبيق وكأنها تأسي ٌ‬ ‫ال ةعدمية( لما انتقدُته‪ .‬وفي نهايِة المآل‪ ،‬من الُمِهّم بمكا ن انتقاَد الحداثة الرأسمالية المتسّببة بالمليين من‬ ‫المآسي والحوادث المشابهة لوض ةعي أنا )المجازر والبادات ال ةعرقية والحروب التي ل تحصى(‪ .‬وأخص بالذكر‬ ‫ب اعتباَرها المسؤولَة الولى عن المرحلة الكثِر ظلما ً ومأساويًة‬ ‫ح جميِع المؤّثرات وال ةعوامل الواج ِ‬ ‫ضرورةَ شر ِ‬ ‫في التاريخ‪ ،‬والتي يمر بها الش ةعب والمنطقة اللَذين أنتمي إليهما )الكرد والشر‪.‬ق الوسط(‪ .‬فشرُحها بجدارٍة‬ ‫وبما يليق بالش ةعب والمنطقة‪ ،‬إنما ُي ةعّد من أبسط الشروط وأدناها لْ ن يكوَ ن المرُء متنورًا‪ .‬إلى جانب ذلك‪ ،‬فمن‬ ‫الطبي ةعي أْ ن تكو ن َمَهّمتي الولية متأ ّ‬ ‫ت وفي كيفيِة الرد عليها‪ ،‬باعتباري ُأحاَكم‬ ‫طرةً فيما ذكرُته من تساؤل ٍ‬ ‫كزعيٍم لتنظيٍم هو الوسُع نطاقا ً والكثُر تأثيرًا‪ .‬فإذا كا ن القمع والستغلل والضطهاد والصهر والزمات في‬ ‫مكاٍ ن وزماٍ ن ما عميقًا‪ ،‬وإذا كانت الحياُة تمضي متخبطة في الذل والهوا ن بما يضاهي الموَت ذاته؛ فأعتقد أنه‬ ‫ل حيلة لنا حينها إل بتناول المور بمنظوٍر براديغمائّي جذري‪ .‬وسأسلك هذا النم َ‬ ‫ط في تناول المواضيع اللحقة‪.‬‬

‫الفصل الثاني‪ :‬المصادر الولية للمدنية‬ ‫ح وسرِد المؤّثرات الساسية‪ ،‬التي َمّهَدت لظهوِر مدنيتنا الراهنة‪ ،‬بأب ةعادها‬ ‫سنس ةعى في هذا الفصل لشر ِ‬ ‫التاريخية والجغرافية‪ .‬فقد أوصبحنا ن ةعي تماما ً أ ن السبيَل لم ةعرفِة مجتمٍع ما مرتبطة بم ةعرفِة ظروفه وشروطه‬ ‫التاريخية والجغرافية‪.‬‬ ‫يُقَّدر اليوم تاريُخ ِبدِء انقطا ِع النسا ن عن الثدييات البدائية حتى الثورة الزراعية بحوالي سب ةعة مليين عامًا‪.‬‬ ‫المكا ن هو خط "ريف" في أفريقيا الشرقية‪ .‬تتأكد وصحة هذه الطروحة حاليًا‪ ،‬سواء عبر البقايا الثرية‪ ،‬أو‬ ‫ع قريبة من النسا ن في هذه المنطقة‪ .‬ورغم عدِم اليقين في م ةعرفِة ما إذا كا ن هذا‬ ‫عبر التواجد الغزير لنوا ٍ‬ ‫النقطاع حصل بالّتغيار الحيائي ‪ ،‬أم بالتطور التدريجي الطبي ةعي؛ إل أ ن هذا غيُر مهّم بالنسبة لموضوعنا‬ ‫الحالي‪ .‬ومن المزايا اليجابية لنوعنا البشري الجديد نظاُم الحنجرة الُمساِعُد على إخراج أشكاٍل عديدة من‬ ‫الصوتيات‪ ،‬وُوسع القطر الدماغي‪ .‬إّ ن تواُجَد البراري والغابات من جهة‪ ،‬والبحيرات المائية من جهة ثانية‪،‬‬ ‫صّوُر مسألِة دنوه‬ ‫يُ َ‬ ‫شّكل عاملً استراتيجياً في "ريف" أفريقيا الشرقية لضماِ ن أمِن هذا النوع البشري‪ .‬يمكن تَ َ‬ ‫ً‬ ‫شِ ةعر الحالي ارتباطاً بهربه مدة طويلة إلى جواِر البحيرات على وجه الخصوص‪ ،‬وفقدانه بالتالي‬ ‫من النسا ن الُم ْ‬ ‫ب ملءمِة الطقوس المناخية لب ةعد الحدود‪ .‬المزية اليجابية الخرى للـ"ريف" هي‬ ‫لوبره الحيواني‪ ،‬إلى جان ِ‬


‫شّكَل بذلك طريقا ً طبي ةعياً يمتد إلى سلسلة جبال طوروس‪ .‬وهو الطريق‬ ‫ق الوديا ن والسواحل نفسها‪ ،‬لِيً َ‬ ‫تَتَّبُ ةعه طري َ‬ ‫نفسه الذي يشكل خط النكسار ‪ Fay Hattı‬وخط الووصل والفصل بين القارتين )آسيا وأفريقيا( في ال ن عينه‪.‬‬ ‫ت لمليين السنين‪ .‬وبالمقدور القول أ ن الهجرات وصوب‬ ‫ُي ةعتَ​َقد أ ن النسا ن بقي في "ريف" على شكِل كلنا ٍ‬ ‫‪.‬ق أفريقيا كانت متواوصلة‪ ،‬في حين‪ ،‬تؤكد ال ةعديد من الم ةعطيات على أ ن النتشار الساسي نحو أرجاء‬ ‫أعما ِ‬ ‫ق في الخط الشمالي من "ريف"‪ .‬ويَُخّمن أ ن أنواعاً بشرية جمة انتشرت عبر نفس الطريق‬ ‫الم ةعمورة قد تَ​َحقّ َ‬ ‫ع شبيهة بالنسا ن في أية‬ ‫إلى حين ظهور الهوموسابيانس )النسا ن ال ةعاقل(‪ .‬ولم ُي ةعَثر إلى ال ن على تَ​َكّوِ ن أنوا ٍ‬ ‫‪.‬ق أفريقي‪.‬‬ ‫بق ةعة أخرى من ال ةعالم‪ ،‬حيث أ ن جميع النواع المكت َ‬ ‫شفة ذات منشأ شر ِ‬ ‫ت جمة ت ةعود إلى مليو ن سنة على القل‪ ،‬وُيجَمع على‬ ‫وقد ُعِثر في المناطق الخرى من ال ةعالم على مستحاثا ٍ‬ ‫انتشا ِر شتى النواع إلى كافة أنحاء الم ةعمورة حتى قبل ال ةعصر الجليدي الرابع‪.‬‬ ‫ت مؤّلفٍة من‬ ‫كل الفرضيات تشير إلى أ ن النواع البشرية كانت طيلة هذه الحقبة الطويلة على شكل كلنا ٍ‬ ‫عشرين إلى ثلثين شخصًا‪ ،‬تقتات على جمع الثمار والصيد‪ .‬وُيجَمع عموماً على الرأي القائل بتأثيِر هذين‬ ‫شّكِل اليدي والرجل‪ .‬هذا وَتدل بقايا المستحاثات على أنهم بقوا في أماٍ ن ضمن الكهوف وفي‬ ‫الَ ةعَمَلين في تَ َ‬ ‫الجزر وسط البحيرات‪ ،‬وعلى الكواخ الموثوقة بأوتاد مني ةعة‪ .‬وبالمستطاع القول أ ن الُملكية وال ةعائلة لم تتشكل‬ ‫ب ةعد‪ ،‬وأ ن الكل ن كانت عائلة بحد ذاتها‪ .‬كما يمكن التخمين أنهم كانوا ي ةعتمدو ن لغَة الشارات )لغة البد ن‬ ‫والصوت(‪ ،‬وأنهم لم يقدروا على ترميز الوصوات ب ةعد‪ .‬وهذا ما يج ةعلنا ن ةعي على نحٍو أفضل أ ن إضفاء الرمزية‬ ‫على اللغة قد تَطَلَّب مرحلةً عمليةً طويلةً للغاية‪.‬‬ ‫البحو ُ‬ ‫ث الجاريةُ ُتظِهر للوسط أّ ن نوَع النسا ن ال ةعاقل قد دنا من امتلِك خاوصيِة اللغة الرمزية قبل حوالي ‪150‬‬ ‫– ‪ 200‬ألف سنة من ال ن‪ .‬وتشير البحا ُ‬ ‫ف‬ ‫سبة للقَِيم الرمزية – َ‬ ‫سلَ ِ‬ ‫ت المكتَ ِ‬ ‫ث ذاتها إلى أّ ن التفاهَم بالوصوا ِ‬ ‫اللغات ال ةعصرية – بدلً من است ةعماِل لغِة الشارة‪ ،‬قد انطلق لوِل مرٍة من خ ّ‬ ‫ط "ريف" عينه وصوب الشمال‪،‬‬ ‫لينفتح على ال ةعالم بأسره قبل حوالي خمسين ألف سنة‪ .‬وهكذا‪ ،‬قَّدم التفاهُم باللغة الرمزية فَُروصاً عظمى‪ ،‬حيث‬ ‫ت البشريَة المتفاهمة والمتحركة على نحٍو أفضل هي التي حققت التفو‪.‬ق‪ .‬وربما‬ ‫يمكن التخمين بأ ن المجموعا ِ‬ ‫ي الرابع‪.‬‬ ‫ح التاريخ ذا علقٍة وثيقٍة بهذا التطور‪ .‬إنه ال ةعصُر الجليد ّ‬ ‫يكو ن زواُل النواع الخرى بسرعٍة من مسر ِ‬ ‫ويَُخّمن أّ ن َتقاطُ َع وَتلُزَم ِكل التطوَرين قد قضى على نوع النياندرثال ‪ ،‬الذي كا ن أكثَر انتشاراً حتى ذاك ال ةعصر‪.‬‬ ‫وهكذا بقي سي ُد ال ةعالم الجديد لوحده بكل هيبته وخيلئه على المسرح‪ :‬إنه الهوموسابيانس‪ ،‬أي‪ ،‬النسا ن ال ةعاقل‬ ‫ت أكثر ت ةعدادًا‪،‬‬ ‫شّكَلت مجموعا ٌ‬ ‫والناطق‪ .‬ل نرى هنا َتمايَُز اللغات والعرا‪.‬ق في البداية‪ ،‬ولكن‪ ،‬يتم التخمين بأنه تَ َ‬ ‫زاوَلت الصيَد بشكٍل مخطط‪ ،‬واستخدمت الكهوف كمساكن وم ةعابد‪ ،‬واحتَ​َرَفت المرأةُ جمَع الثمار‪ ،‬في حين‬ ‫ع الناطق قد حصل على هذا الساس‪.‬‬ ‫ف الرجُل الصيد‪ .‬وب ةعض اللقى الثرية ُتثبِ ُ‬ ‫احتر َ‬ ‫ت أّ ن التطوَر المذهَل للنو ِ‬ ‫والرسومات المتبقية من هذا ال ةعصر قويةٌ ورائ ةعة‪ ،‬حيث ُعِثر عليها في المنطقة الواق ةعة بين فرنسا وإسبانيا‪،‬‬ ‫ف منطقِة هكاري‪ .‬كما أّ ن اعتبار كلتا المنطقَتين ُأولى الساحات الكثِر ملءمةً للهجرة إليها من‬ ‫وفي ب ةعض كهو ِ‬ ‫داخِل أفريقيا عبر شرقي البحر البيض المتوسط وغربيه‪ ،‬موضوعاً يتناغم ونظريةَ الهجرة ال ةعامة‪.‬‬ ‫س جباِل طوروس – زاغروس؟‬ ‫‪ -1‬بماذا تُِديُن البشريةُ لقو ِ‬ ‫ب التجمع‬ ‫س جباِل طوروس – زاغروس هو با ُ‬ ‫ج والبراهين التي تحثنا على التفكير بأّ ن قو َ‬ ‫ثمة الكثيُر من الُحج ِ‬ ‫س‬ ‫الرئيسي في النطل‪.‬ق من "ريف" أفريقيا الشرقية‪ ،‬ومركُز النتشار إلى أرجاء ال ةعالم‪ .‬أولها؛ أّ ن هذا القو َ‬ ‫ضُع الصحراء الكبرى‪،‬‬ ‫ت متتالية‪ .‬فَ​َمْو ِ‬ ‫هو نهايُة الطريق الطبي ةعية في "ريف"‪ ،‬ويتم المجيء إليه على موجا ٍ‬ ‫والبادية ال ةعربية الواس ةعة وكأنه يغلق الباَب على جانَبيه الشرقي والغربي‪ ،‬ليَحّول برزخ السويس والسواحَل‬ ‫شّكُل السواحُل الجنوبية للبحر البيض‬ ‫ق طبي ةعي للنتشار‪ .‬في حين تُ َ‬ ‫الشرقيَة للبحر البيض المتوسط إلى طري ٍ‬ ‫ق جبِل طار‪.‬ق ‪ .‬ولكنها ليست م ةعطاءًة‬ ‫المتوسط الطري َ‬ ‫ق الثانَي الهاّم للتوجه إلى إسبانيا وأوروبا عبر مضي ِ‬ ‫ومثمرةً كما هي السواحُل الشرقية‪ ،‬نظرًا لبنيتها وشروطها الجغرافية‪ ،‬إضافة إلى ال ةعوائق ال ةعسيرة ومشكلة‬ ‫ق المثالية‪ ،‬فتبتدئ من السواحل الشرقية للبحر البيض المتوسط‪ ،‬لتمر من القوس‬ ‫التغذية الموجودة‪ .‬أما الطري ُ‬ ‫شّكُله سلسلةُ جباِل طوروس – زاغروس‪ ،‬والذي يسمى أيضاً بالهلل الخصيب‪ .‬فهي أراضي خصيبةٌ‬ ‫الذي تُ َ‬ ‫خّيرة‪ ،‬لدرجٍة من غير المحتَ​َمِل البقاُء فيها دو ن التحول إلى مجتم ةعيٍة راقية‪.‬‬ ‫من هنا نستنبط المَر الثاني‪ ،‬أل وهو أّ ن هذا ال ةعطاِء النابِع من ملءمِة المناخ لجل الجماعات البشرية في هذه‬ ‫البق ةعة‪ ،‬واحتضاَنها عدداً َجّماً من النباتات والفواكه على شكِل حقوٍل طبي ةعية‪ ،‬واحتواَءها غنى وافراً من‬ ‫ف ُمثلى للحماية والمن‪ ،‬وتأميَنها الغزارةَ القويَة للنهار والينابيع؛ كّل هذه‬ ‫ت الصيد‪ ،‬ووجوَد كهو ٍ‬ ‫حيوانا ِ‬


‫ح "الجنة" في ذاكرِة البشرية لحقًا‪ .‬وبمقارنِة‬ ‫المزايا كانت منا ِ‬ ‫سبةً لدرجٍة َجَ ةعَلتها تَُمّهد السبيَل لظهوِر مصطل ِ‬ ‫ش ثنائيِة‬ ‫ق الجوار؛ يصبح تَ​َ ةع ّ‬ ‫ش ُ‬ ‫هذه المزايا اليجابيِة النفِة الذكر مع الصحارى والبوادي الواق ةعِة في مناط ِ‬ ‫ت الساسيِة في ذاكرِة النسانية أمراً مفهومًا‪ .‬وانطلقاً من هذه المزايا‪ ،‬يمكننا‬ ‫الجنة – النار كإحدى الوصطلحا ِ‬ ‫ف النوع البشري ب ةعد "ريف"‬ ‫الفترا ُ‬ ‫ض بكل سهولة أّ ن هذه الساحةَ كانت الميداَ ن الثانَي الهاّم لِتَ​َجّمِع وتكاثُ ِ‬ ‫خ‬ ‫أفريقيا الشرقية‪ .‬ولن نكو ن مبالغين بالقول أنها "ال ةع ّ‬ ‫ش المهّيأ لِفَْق ِ‬ ‫خ" التطور الحضاري في تاري ِ‬ ‫س وتفري ِ‬ ‫سها باعتبارها موطَن تدويِن‪ ،‬أو بالحرى نشوِء‪ ،‬القصص الملحمية والساطير‬ ‫البشرية‪ .‬هذا ويمكن تقدي ُ‬ ‫ت ال ةعظمى اللحقة ثماراً لملحِم التقديس تلك‪.‬‬ ‫النسانية‪ ،‬لتكو ن الثورا ُ‬ ‫س اللغة الرمزية قبل حوالي خمسين ألف عامًا‪ .‬فالنتقاُل من‬ ‫ثالثًا؛ َحَدَثت التطورا ُ‬ ‫ت في هذه الساحة على أسا ِ‬ ‫ت كامنةً عظمى‬ ‫التفاهم بوسيلٍة بدائيٍة للغاية كلغِة الشارة إلى التفاهم عبَر لغِة الرموز احتضن في طواياه طاقا ٍ‬ ‫ق المجتم ةعية وحمايِة الذات وتأميِن‬ ‫للتطور‪ .‬فنشوُء مساحٍة لغويٍة واس ةعٍة َمنَ​َح النوَع النسانّي فروصاً كبرى لتحقي ِ‬ ‫ب‬ ‫شف‪ ،‬ولم ُيطلَ ْ‬ ‫خ لم ُتكتَ َ‬ ‫ق عليها اسٌم ب ةعد‪ .‬لذا‪ ،‬قد يكو ن من النس ِ‬ ‫القوت‪ .‬وَلربما كا ن هذا أعظَم ثورٍة في التاري ِ‬ ‫َ‬ ‫تسميةَ أوِل ثورٍة عظمى بـ"ثورة اللغة"‪ ،‬لنه ما من ثورٍة َخَدمت المجتم ةعية في هذه الجغرافيا بالقدر الذي‬ ‫شفَةُ حديثًا(‪،‬‬ ‫ت وحيوانا ُ‬ ‫س جديد )النباتا ُ‬ ‫ت الصيد المكت َ‬ ‫ح مقّد ٍ‬ ‫ف ةعَلته هذه الثورة‪ .‬فكّل يوٍم َيشَهُد وصياغةَ مصطل ٍ‬ ‫ش المواسِم الرب ةعِة‬ ‫ب إلى نظاِم المنازل )ال ةعي ُ‬ ‫ش لوِل مرٍة في الماكن المنة(‪ ،‬وعي َ‬ ‫والنتقاَل إلى الستقرار القر ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫بأفضِل أحوالها‪ .‬وكلما وصيغت جميُع هذه المراحل على نحِو مصطلحات‪ ،‬كلما تَ َ‬ ‫شّكلت اللغة المشتَركة للجماعا ِ‬ ‫ت" المتماِيزة فيما بينها لوِل مرة‪.‬‬ ‫شّكَلت "الهويا ُ‬ ‫‪.‬ق واسع‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬تَ َ‬ ‫على نطا ٍ‬ ‫ع بحق هويتها‪ .‬إّ ن‬ ‫كم هو مؤلٌم أّ ن أوَل هويٍة أثنيٍة تشكلت في هذه الساحات تَُمّر اليوَم بتطهيٍر وحشّي مرّو ٍ‬ ‫شأ عبَر هذه الظواهر والوصطلحات‬ ‫المرحلةَ التي أسميناها بالتطوِر الجتماعي العظم‪ ،‬تتحقق‪ ،‬أو بالحرى ُتن َ‬ ‫س المتفاهمين‬ ‫الغنية‪ .‬والتطوُر الوصطلحّي يَُمّهُد م ةعه الطري َ‬ ‫ق للتطوِر الفكري‪ .‬وُيفتَ​َرض كاحتماٍل قوي أّ ن النا َ‬ ‫ت قصوى‬ ‫بالمصطلحات‪ ،‬والمتماسكين عبرها‪ ،‬لن َيبَقوا على شكِل مجتمٍع كلني ضيق‪ ،‬لنهم اكتسبوا ديناميكيا ٍ‬ ‫لجل مجتم ةعيٍة أرقى‪ .‬كلي إيماٌ ن بأّ ن هذا الموضوَع هو أحُد الميادين الولية التي تستوجب وتستحق البحَث‪،‬‬ ‫سواء على وص ةعيد النثروبولوجيا‪ ،‬أو من ناحيِة عصوِر ما قبِل التاريخ‪ .‬ويبدو أّ ن عالَِم الثاِر والمؤرَخ ال ةعظيَم‬ ‫س كهذا بتسميته كتابَهُ الهّم على الطل‪.‬ق باسم "ماذا حدث في‬ ‫جوردو ن تشايلد كا ن ُمِحقّا ً عندما تَ​َو ّ‬ ‫وصَل إلى حد ٍ‬ ‫ت الحداث الحاوصلة في هذه الجغرافيا في تلك الحقبة )يمكن قول ذلك بكّل‬ ‫التاريخ؟"‪ ،‬والذي تناوَل فيه مجريا ِ‬ ‫ت المراحِل اللحقة(‪ .‬هذا وعلّي التشديد على أنه من غيِر‬ ‫سهولة بشأِ ن المراحل الولى‪ ،‬ولو أنه تناول مستجدا ِ‬ ‫الممكن تحليُل ماضي هذه المنطقة وتسلي ُ‬ ‫ط الضوء عليه بالساليب الركولوجية فحسب‪ .‬إذ ل يمكن إنجاُز‬ ‫ت جميِع الضوابط ال ةعلمية‪ ،‬بدءاً من علم‬ ‫ت هامًة بحق في تنوير تاريخ ال ةعصور الولى‪ ،‬إل بتوحيِد م ةعطيا ِ‬ ‫تطورا ٍ‬ ‫الحياء )البيولوجيا( إلى علم ِفق ِه اللغة )الفيلولوجيا(‪ ،‬ومن علم الجغرافيا )وبالخص جغرافيا المناخ‬ ‫والزراعة( إلى علم الجتماع‪ ،‬ومن علم أوصل النسا ن )النثروبولوجيا( إلى علم اللهوت )الثيولوجيا(‪ .‬وما‬ ‫ت النظر‪ ،‬والدعوة لمزاولِة الوظائف والمهام‪.‬‬ ‫نقوم به هنا هو مجّرد لف ِ‬ ‫ت تشير إلى بدِء انتهاِء الحقبة الجليدية الراب ةعة قبل حوالي عشرين ألف‬ ‫يمدنا علم الجيولوجيا بوثائ َ‬ ‫ق وسجل ٍ‬ ‫ت ال ةعلوم الخرى‪ ،‬فهو تَ َ‬ ‫ب إلى الصواب‪ ،‬حيث ُبرِهن على أّ ن‬ ‫طّوٌر أقر ُ‬ ‫سنة‪ .‬ونظراً لدعمه وتأييده بم ةعطيا ِ‬ ‫ف‬ ‫المطاَر كانت أكثر غزارًة‪ ،‬وأّ ن الخضراَر كا ن أوفَر في الصحراء الكبرى والبادية ال ةعربية قبل عشرِة آل ِ‬ ‫ف الملئمة مع تَ َ‬ ‫س الحقبة على وجِه التقريب‪ .‬بالضافة إلى‬ ‫سنة‪ .‬وتتطابق هذه الظرو ُ‬ ‫طّوِر ثقافِة الرعي في نف ِ‬ ‫ذلك‪ ،‬يتجسد التطوُر ال ةعظيُم الخر في بروِز المجموعات اللغوية الساميِّة المتفوقِة على البنى اللغويِة البدائيِة‬ ‫المتواجدة في أفريقيا‪ .‬وما الثقافةُ الساميّةُ في مضمونها سوى "ثقافةُ رعي"‪ .‬ف ةعلى سبيل المثال‪َ ،‬حِظَي الرعُي‬ ‫حينئذ بأهميٍة قصوى‪ ،‬لدرجِة أّ ن التراكَم الثقافي ال ةعظيَم المتكّوَ ن بشأِ ن ال ةعديد من الحيوانات‪ ،‬كالَجَمل‪ ،‬والغنم‪،‬‬ ‫شّكَلت لتكتسب هويةً متميزًة‬ ‫والماعز ل يزال مستمراً إلى ال ن‪ .‬وتأسيساً على ذلك‪ ،‬نلحظ أّ ن الثنيةَ قد تَ َ‬ ‫سَرياِ ن ثقافِة الثنية )ال ةعشيرة( على نحٍو وطيٍد ومتجذر إلى ال ن‪ ،‬سوى برهاٌ ن قاطع‬ ‫ومغايرة‪ .‬وما الحفاظُ على َ‬ ‫ت‬ ‫ت هذه الثقافة في ال ةعديد من ألفاِظ ومفردا ِ‬ ‫ع ال ةعثور على الكثير من تأثيرا ِ‬ ‫على هذا التطور‪ .‬بالمستطا ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الحضارَتين السومرية والمصرية‪ .‬وكأّ ن الثقافة الساميّة تَ​َرَكت بصماِتها الراسخة لِتَُكوَ ن أثراً ممهوراً على‬ ‫ف عام‪ ،‬لتنتشر في‬ ‫ت التاريخ لوِل مرة‪ ،‬ارتباطاً بالمناخ الذي ظل ملئماً حتى قبَل حوالي ستِة آل ِ‬ ‫وصفحا ِ‬ ‫ت الراضي‬ ‫ت شاس ةعة‪ ،‬بدءًا من الصحراء الكبرى إلى شرقي الجزيرة ال ةعربية‪ ،‬ووصولً إلى ساحا ِ‬ ‫مساحا ٍ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫شّكُل َميداُ ن الثقافِة السامّية مرحلة متطورة واستمراراً أرقى‬ ‫الشمالية الخصبِة الصالحِة للزراعة‪ .‬من هنا‪ ،‬يُ َ‬


‫س‬ ‫للثقافة البارزة في "ريف" أفريقيا الشرقية‪ .‬وسيدعم هذا الجيُل خا ّ‬ ‫وصّياِته ‪ Özgünlük‬لحقاً مع تأسي ِ‬ ‫الديا ن التوحيدية‪.‬‬ ‫لكن‪ ،‬من المهم التشديد على أّ ن هذه الثقافة سيتم تقييمها كُأولى القبائِل المستولية على الحضارَتين المصرية‬ ‫والسومرية في التاريخ باسِم قبائِل الراميت وال ةعابيرو ‪) Apirular‬أي‪ ،‬الناس الوسخين والُمْغبَّرين التين‬ ‫من الشر‪.‬ق والغرب(‪ ،‬أكثَر من اعتبارها ُمَ ةعّينًة في تكوينهما‪ .‬وبالمستطاع القول أّ ن السامّيين كانوا كيانا ً ِجّد هاّم‬ ‫ب عجِزهم عن تخ ّ‬ ‫طي الراضي الصالحِة‬ ‫في فجِر التاريخ‪ ،‬وكأّ ن وصوت أقدامهم يب ةعث على الرت ةعاش‪ .‬أما أسبا ُ‬ ‫وصم‬ ‫للزراعة في الشمال‪ ،‬فربما ُي ةعزى إلى إنجاِز تطوٍر ثقافّي أكثر تفوقاً عليهم هناك‪ .‬وقد يكو ن من النسب َو ْ‬ ‫ج نحو الزراعة‪ ،‬بتسميتها بـ"ثقافِة الحقول" على وجِه‬ ‫هذه الكيانا ِ‬ ‫ت‪ ،‬التي يمكننا اعتبارها ثقافةَ انتقاٍل متدّر ٍ‬ ‫سّمو ن بـ"الريين" في‬ ‫ب هذا التطور الجتماعي الحاوصل – والُم َ‬ ‫ال ةعموم‪ .‬في حيِن أّنه من الممكن ن ةعت أوصحا ِ‬ ‫ب أوِل هويٍة ثقافيٍة في هذه الراضي‪ ،‬ي ةعني‬ ‫التاريخ – بالحقليين أو الّتَرابِّيين )لفظ آري‪ ،‬الذي يشير إلى أوصحا ِ‬ ‫في الكردية "التربة‪ ،‬الرض‪ ،‬والحقل"(‪ .‬لذا‪ ،‬بإمكاننا اعتبار الريين كمبدعي الزراعة‪ ،‬كونهم أوُل من بدأ‬ ‫ح الراضي ال ةعذراء الواق ةع ِة شمالي الساميين للتطور الزراعي‪ ،‬وفي مقدمتها قوس سلسلة جبال طوروس‬ ‫بفت ِ‬ ‫وزاغروس كبق ةعة نواة‪.‬‬ ‫ع الحيواني دوٌر رئيسّي في إنجاِز هذا‬ ‫ولطبي ةعِة المناخ‪ ،‬وبنيِة التربة الخصبة‪ ،‬والكساِء النباتي الخضر‪ ،‬والتنو ِ‬ ‫ق السامّية ضمن عدٍد محدوٍد للغاية من الواحات‪ ،‬واقتصرت على‬ ‫التطور‪ .‬فبينما انحصرت الزراعةُ في المناط ِ‬ ‫ع قليلة من الشجاِر كالنخيل؛ كانت أراضي القوس )وُتدعى أيضاً الهلل الخصيب( وصالحةً لتكتنفها‬ ‫ع أنوا ٍ‬ ‫زر ِ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫سبة لقصى َحّد لزراعِة الكثير من الثمار والخضروات‪ ،‬من قِبيِل الزيتو ن‪،‬‬ ‫الحقوُل من كل أطرافها‪ ،‬ومنا ِ‬ ‫الفستقيات‪ ،‬البلوِط )الصنوبريات(‪ ،‬الَ ةعرَعر )أنواع الفواكه(‪ ،‬الكروم )أنواع ال ةعنب(‪ ،‬والحبوب )القمحيات(‪.‬‬ ‫علوة على أنها كانت ساحةً تَُجوُل فيها ال ةعديد من الحيوانات المتوحشة القابلة للتدجين على شكِل قط ةعاٍ ن كبيرة‬ ‫ت‬ ‫تشمل أنواع ًا عديدة‪ ،‬وفي مقدمتها الغنم‪ ،‬الماعز‪ ،‬البقر‪ ،‬الخنازير‪ ،‬الكلب‪ ،‬والقطط‪ .‬بالضافة إلى الغابا ِ‬ ‫ي منتظم‪.‬‬ ‫ت الجبال‪ ،‬ومروِر الفصوِل الرب ةعة بأمثِل حالتها وأفضلها‪ .‬أما المطار‪ ،‬فكأنها َر ّ‬ ‫الواس ةعِة على مرتف ةعا ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ف الكثير من النهار والينابيع ملئمة للستقرار والستيطا ن‪ .‬من هنا‪ ،‬وفي ظّل كّل هذه الظروف‬ ‫وحوا ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫غ فجِر التاريخ"‪.‬‬ ‫"بزو‬ ‫د‬ ‫وص‬ ‫ر‬ ‫و‬ ‫ب‬ ‫ق‬ ‫ر‬ ‫ت‬ ‫الطبي ةعي‬ ‫من‬ ‫سبة‪،‬‬ ‫َ ُ َ ْ ُ‬ ‫المنا ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت ال ةعصور الولى المدّونة إلى انحساِر الجليد في هذه الراضي وَتراُجِ ةعه إلى‬ ‫يشير علُم الجيولوجيا وسجل ُ‬ ‫ت الجبلية ال ةعالية قبَل خمسةَ عشَر ألف عام‪ .‬وُي ةعتَ​َقد بانتقاِل هذه المنطقة إلى ال ةعهد النيوليتي‪ ،‬ب ةعد‬ ‫المرتف ةعا ِ‬ ‫مرورها بالطور الميزوليتي القصيِر المدى )ال ةعصر الحجري المتوسط فيما بين حوالي ‪ 15‬ألف – ‪ 10‬آلف‬ ‫ت اللف من‬ ‫‪.‬ق‪.‬م(؛ وذلك حصيلةَ كوِنها من أهّم المناطق التي َتكاثَ َ‬ ‫ف فيها استيطاُ ن النوع البشري طيلةَ مئا ِ‬ ‫س‬ ‫السنين‪ ،‬وم ةعايشتها الثورة اللغوية بكثافة‪ ،‬وفر ُ‬ ‫ض الثقافة السامّية عليها‪ .‬وكهوف هكاري َتمّدنا برؤو ِ‬ ‫الخيوط الداّلة على عيشها ال ةعهَد الميزوليتي وما َقبله ب ةعمق‪ .‬كما أّ ن الحجاَر المنحوتة ُتزّودنا ببراهين جمٍة في‬ ‫هذا المضمار‪ ،‬حيث ن ةعثر على عدٍد وفيٍر من الدلة المشيرة إلى أّ ن النفجاَر الوصلي في المنطقة بدأ مع الحقبِة‬ ‫النيوليتية‪ ،‬التي شهدتها هذه الراضي قبل حوالي اثني عشر ألف عام من ال ن‪ .‬هذا ال ةعصر‪ ،‬الذي يمكننا‬ ‫تسميته بالثورة الزراعية أو الحقلية أو القروية‪ُ ،‬ي ةعتَبر الرضيَة التمهيدية‪ ،‬سواًء بالنسبة إلى النسانية‪ ،‬أو‬ ‫‪.‬ق وعظيم‪ .‬لذا‪ ،‬من الصحيح تماماً التركيُز‬ ‫خ المدنية )التاريخ المدّو ن(‪ .‬فهو بحّد ذاته عصٌر ثقافي عمل ٌ‬ ‫لتاري ِ‬ ‫ق مكانتها الجديرة بها في محك التاريخ‪ .‬من‬ ‫ال ةعميق على هذه الثقافة‪ ،‬التي لم ُتدَرك أهميُتها كما تستحق‪ ،‬ولم َتل َ‬ ‫ب إلى الحقيقة والصواب عندما قال بأّ ن أهميَة ال ةعصر الثقافي في هذه الراضي ل‬ ‫هنا‪ ،‬فإّ ن جوردو ن تشايلد أَْقَر ُ‬ ‫ت‬ ‫ت واختراعا ٍ‬ ‫تقل شأناً عن ثقافِة أوروبا الغربية الم ةعّمرِة أرب ةعةَ قروٍ ن فحسب‪ .‬فقد شهدت هذه المنطقةُ اكتشافا ٍ‬ ‫ف‬ ‫ت بمثابة ثورات بم ةعانيها وأهميتها‪ ،‬وذلك في مياديِن الزراعة‪ ،‬الِحَر ِ‬ ‫ل عد لها ول حصر‪ ،‬وَعِرَفت تطورا ٍ‬ ‫ف‬ ‫ف وتسمية واوصطلح آل ِ‬ ‫ت‪ ،‬السَكِن‪ ،‬الفّن‪ ،‬الدارِة‪ ،‬والدين‪ .‬كما أوصبح أرضيةً لكتشا ِ‬ ‫اليدوية‪ ،‬المواوصل ِ‬ ‫الظواهر الجديدة في كل ميداٍ ن من تلك الميادين‪.‬‬ ‫‪.‬ق‬ ‫هكذا‪ ،‬وب ةعد اللغة الساميِّة‪ ،‬تَ​َكّوَنت "مجموعةُ اللغة الرية" المتميزةُ بغنى زاخٍر من المفردات يفو‪.‬ق النطا َ‬ ‫ف مضاعفة‪ ،‬وكأنها اللَّبنةُ الساسيةُ لذاكرِة النسانية التي ل‬ ‫المحدوَد لّلغِة السامّية الرعوية‪ ،‬ويضاهيها بأض ةعا ٍ‬ ‫ت شاس ةعًة‪ ،‬بدءاً من الهند‬ ‫تضيع‪ .‬وما انتشاُر هذه المجموعة اللغويِة بالتزامن والتوازي مع ثقافتها لِتَُ ةعّم مساحا ٍ‬ ‫ب تحليلتنا هذه‪ .‬بم ةعنى آخر‪ ،‬فموطُن ولدِة ونشوِء‬ ‫إلى السواحل الوروبية‪ ،‬سوى مؤشٌر آخُر على قوِة وصوا ِ‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫مجموعِة اللغِة الرية هو المنطقةُ النواةُ للهلِل الخصيب‪ ،‬وليس – كما ُي ةعتَقد – بلَد الهند وأوروبا ومناط َ‬


‫التنقل المتوسط ِة بينهما )شمالي البحر السود‪ ،‬السهوب الروسية‪ ،‬والهضاب اليرانية(‪ .‬وتَُلوُح وصحةُ هذه‬ ‫الحقيقة بجلٍء من خلِل التحليِل التيمولوجي لهذه الكلمة )آريا ن ‪ ،(Aryen‬وعبر عقِد روابطها مع الُبنى‬ ‫ت الساسية المستخَدمة في المجموعات اللغوية الهندوأوروبية ‪ .‬والهّم من هذا وذاك هو أّ ن‬ ‫الثنية للمفردا ِ‬ ‫س البنى اللغوية والمفرداتية فيها‪ .‬والبنى‬ ‫َكوَ ن هذه الساحِة البذرةَ النواةَ للثقافة ُيحّتم – بطبي ةعة الحال – تأسي َ‬ ‫الثني ُة الثقافية التي ل تزال موجودة‪ ،‬بالضافة إلى الدلئل التاريخية الخرى‪ ،‬إنما تؤكد وصواَب هذه الحقيقة بما‬ ‫يكفي‪ ،‬بل ويفيض‪.‬‬ ‫إذ ن‪ ،‬والحال هذه‪ ،‬يتميز الحزاُم اللغوي والثقافي الثاني الضخُم وال ةعظيم بوجوده وتاريخه وانتشاره بأهميٍة‬ ‫ب وإدراِك التطور الجتماعي ومرحلته الحضارية )ذات البنية المدينية(‪.‬‬ ‫‪.‬ق استي ةعا ِ‬ ‫تاريخيٍة قصوى في سيا ِ‬ ‫وبالمستطاع القول بانصهاِر جميِع المجموعات السابقة ضمن بوتقِة هاَتين المجموعَتين اللغويَتين والثقافيَتين‬ ‫الساسيَتين‪ ،‬بحيث ل يس ةعنا سوى الحديث عن مجموعٍة لغويٍة ثقافيٍة ثالثٍة ظهرت في التخوم الجنوبية لسيبيريا‬ ‫)ياقوتستا ن وما شابه( ب ةعد انقضاِء ذاك ال ةعصر الجليدي‪ .‬ولربما كانت الصيُن الموطَن الّم لهذه الثقافة المنتشرة‬ ‫ف عام‪ .‬من الممكن القول أنه ِمن أحشاِء هذه الثقافة المنتشرة إلى أقاوصيها الغربية‬ ‫نحو الجنوب قبل تس ةعِة آل ِ‬ ‫شّكَل حزام شمالّي ثالٌث هو الوسع‪ ،‬ليشمل الكثيرين وفي مقدمتهم التراك والمغول‬ ‫الممتدة حتى الفنلنديين‪ ،‬تَ َ‬ ‫ت أركولوجيٍة وأتيمولوجية وأثنولوجية‬ ‫والتتار والكوريين والفييتناميين واليابانيين‪ .‬هذا ونحظى ال ن بإثباتا ٍ‬ ‫ق‬ ‫أكيدة تشير إلى أّ ن جذور ثقافِة الهنود الحمر في قارة أمريكا هي ثمرةٌ من ثماِر النتشار الحاوصل عن طري ِ‬ ‫ق برينغ في المرحلة عينها‪ .‬وبمستطاعنا إدراج السكيمو أيضا ً في لئحِة هذه المجموعة‪ .‬كما أّ ن ال ةعديَد‬ ‫مضي ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫ت المجموعة السامّية‪ ،‬رغم وصونها لمزاياها‬ ‫من الثقافات التي ل تزال متواجدة في أفريقيا مشحونة بتأثيرا ِ‬ ‫َ‬ ‫ت المندرجة في مجموعِة اللغِة‬ ‫ف من السنين‪ .‬ونخص بالذكر في هذا المضمار تلك الثقافا ِ‬ ‫ت آل ٍ‬ ‫الم ةعّمرِة مئا ِ‬ ‫ت الكل ن التي ل تزال ت ةعيش مراحَل ما قبِل مليين السنين في‬ ‫السواحلية‪ .‬هذا وبالمقدوِر ال ةعثوُر على مجموعا ِ‬ ‫‪.‬ق الغابات وعلى ذرى الجبال وفي ثنايا الصحارى والبوادي‪.‬‬ ‫أعما ِ‬ ‫َ‬ ‫ف عام‪ ،‬نجد أّ ن البشرية‪ ،‬وفي وصدارتها جنوبي الكرِة‬ ‫بموجب هذه اللوحة‪ ،‬وبُِرجوعنا إلى ما قبِل ستِة آل ِ‬ ‫َ‬ ‫ت لغويٍة وثقافية أوليٍة ُمخّولٍة للنتقال إلى الحضارة‪.‬‬ ‫الرضية ووسط قسمها الشمالي‪ ،‬قد َكّوَنت ثلَث مجموعا ٍ‬ ‫ت‬ ‫ومن الطبي ةعي بمكا ن حصوُل التنقل والترحال الكثيف فيما بين هذه الثقافات‪ ،‬علوة على تَ​َمّيِزها بفروقا ٍ‬ ‫واضحة ل نبرح نلحظها في يومنا الراهن بتأثيٍر من التاريخ والطبي ةعة الجغرافية‪.‬‬ ‫ث في‬ ‫الخاوصيةُ الهامة بالنسبة لموضوعنا هي التشخي ُ‬ ‫ص السليم للمنبِع الم للحضارة الهندوأوربية لدى البح ِ‬ ‫ت الثقافة النواِة المتأثرِة بالزما ن والمكا ن‪ .‬وفي يومنا‬ ‫مصادرها‪ .‬فَِ ةعلُم التاريخ يولي السبقية في الهمية لت ةعريفا ِ‬ ‫خ‬ ‫الحاضر نرى بوضو ٍ‬ ‫ح ساطع أنه‪ ،‬حتى الثقافة الرأسمالية ما هي إل انتشار نواتي حاسم للغاية‪ .‬فمفاهيُم التاري ِ‬ ‫غ بالوعي‬ ‫الخياليةُ والهوائيُة‪ ،‬التي ل مصدر لها‪ُ ،‬تلِحق بوعينا ضربا ٍ‬ ‫ت قاضيًة‪ .‬أي أّ ن ال ةعاجزين عن البلو ِ‬ ‫ح تفسيٍر ذي م ةعنى بشأِ ن حاضرنا‬ ‫التاريخي إلى تفسيرا ٍ‬ ‫ت وسروٍد حياتيٍة ملموسة‪ ،‬سيكونو ن قاوصرين عن طر ِ‬ ‫ش مجتمٍع بل تاريخ بشكٍل مقتدر‪.‬‬ ‫أيضًا‪ .‬إذ‪ ،‬من المحاِل فَْهُم وعي ُ‬ ‫ض ما بين النهرين وللمدنية السومرية الناب ةعِة منه‬ ‫ت قد تلقي ُ‬ ‫كن ُ‬ ‫ت بض ةعةَ انتقادا ٍ‬ ‫ت حول إسقاطيتي المفرطة لحو ِ‬ ‫لدى تقييمي لمنبِع الحضارة في مراف ةعتي السابقة "مراف ةعة النسا ن الحر"‪ .‬ومع أْخِذ هذه النتقادات ب ةعيِن‬ ‫ح أنني لم أتِّبع الختزالية‪ ،‬ولكني ُأولي أهميًة فائقة للمنبع ال ةعين‪ .‬وإذا ما شّبهنا مجرى‬ ‫العتبار‪ُ ،‬أبّين بإلحا ٍ‬ ‫التاريخ بالنهر الم )ول مفر من ذلك من حيث البنية النطولوجية الوجودية للتطور الجتماعي(‪ ،‬فإني ُأبّين هذه‬ ‫ت النظار إلى مسألِة الثقافة الم وفروعها الجانبية‪ .‬أو بالحرى‪ ،‬إني‬ ‫الفكار على نحِو ُم َ‬ ‫ع بقصِد لف ِ‬ ‫سّوَدِة مشرو ٍ‬ ‫ت النظاَر إليها مباشرة‪ .‬فكيفما أّ ن المدنية المهيمنة في راهننا – أي‪ ،‬الحداثة الرأسمالية – ت ةعتمد على جذوِر‬ ‫ألف ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الحضارة الهندوأوروبية‪ ،‬فإّ ن الثقافة الهندوأوروبية أيضا ً ت ةعتمُد على منبِع الثقافة الرية‪ ،‬وعلى فرَعيه‬ ‫ي والمصري‪.‬‬ ‫السومر ّ‬ ‫وإذا ما َعِجْزنا عن التحليِل السليِم لقضي ِة النهر الم وفروعه الجانبية في الحضارة النسانية‪ ،‬فلن نقدر على‬ ‫ضها الخر الذي‬ ‫إيلِء الم ةعاني الصحيحة لحاضرنا‪ .‬إذ‪ ،‬ثمةَ فروٌع جانبيةٌ تنصب بغزارٍة في النهر الم‪ ،‬وثمة ب ةع ُ‬ ‫ف في منتصف الطريق‪ .‬علوة على أّ ن المنبَع الُمَولَّد للنهر الم يتسم بم ةعاني م ةعّينٍة وحيوية‪ .‬من‬ ‫ب ويَُج ّ‬ ‫ض ُ‬ ‫يَْن ُ‬ ‫غ م ةعانَي قديرٍة بشأ ِ ن التطور الجتماعي بأب ةعاده التاريخية والجغرافية‪ ،‬ف ةعلينا تجربةُ‬ ‫هنا‪ ،‬وما دمنا َنروم لبلو ِ‬ ‫ت السلوب في تحليِل قضاياه‪.‬‬ ‫متطلبا ِ‬ ‫‪ -2‬قضايا انتشار اللغة والثقافة الرية‪:‬‬


‫ت نظٍر‬ ‫‪.‬ق في التاريخ‪ .‬والموجودةُ منها ذا ُ‬ ‫إّ ن المواق َ‬ ‫ت وجها ِ‬ ‫ف التي تَّتخُذ الثقافةَ والحضارةَ أساسا ً محدودةُ النطا ِ‬ ‫س الثقافية والحضارية‪.‬‬ ‫مختلفة‪ .‬أما القضايا التي نس ةعى لتحليلها وتفكيكها هنا‪ ،‬فل نطرحها بالرتكاز إلى الس ِ‬ ‫‪.‬ق التطوِر الحضاري نسبةً إلى‬ ‫ذلك أننا مرَغمو ن على تقييم مكاِ ن الثقافة والحضارة وزمانهما في سيا ِ‬ ‫مساهماِتهما‪ ،‬مع أخِذ أهميتِ​ِهما الحيويِة ب ةعيِن العتبار‪ .‬وفي حال ال ةعكس‪ ،‬فالتاريُخ الذي بين أيدينا لن يتضمن‬ ‫ث ووقائع" )وهذا ما يحصل بالغلب(‪ .‬وماهيةُ ِعلِم التاريخ الُم ةعيقةُ للم ةعرفة –‬ ‫س أحدا ٍ‬ ‫م ةعانَي أب ةعَد من "أكدا ِ‬ ‫بدلً من أ ن تكو ن ت ةعليميةً – على وصلٍة وثيقة بهذه الخاوصية‪ .‬فالتاريُخ‪ ،‬الذي هو عبارة عن سبائَك ت ةعداديٍة مؤلفٍة‬ ‫ب‪ ،‬والقوِم وغيرها من الظواهر المشابهة‪ ،‬ليس تاريخاً ت ةعليميا ً بشأِ ن التطور‬ ‫من الديِن‪ ،‬السللِة‪ ،‬الَملِ​ِك‪ ،‬الحر ِ‬ ‫ض إعاقِة تَ​َ ةعّلِم التطور‬ ‫الجتماعي‪ .‬بل‪ ،‬وعلى النقيض‪ ،‬هو ستائُر أيديولوجيةٌ مبتَ​َدعةٌ عن قصٍد ووعي بغر ِ‬ ‫ب‬ ‫الجتماعي‪ ،‬وهو مساعي أيديولوجيةٌ تهدف إلى إعداِد الذهنية والذاكرِة الجتماعية وفق مشيئِة أوصحا ِ‬ ‫ف تأميِن‬ ‫السلطة والستغلل‪ .‬وهذه النماط من السرود ليست سوى أدوا ٌ‬ ‫ت دعائيةٌ متبقيةٌ من القديم الغابر بهد ِ‬ ‫ت الركائِز اليديولوجية بنسبٍة حيوية قصوى‪.‬‬ ‫المشروعية ذا ِ‬ ‫‪.‬ق تحليلتنا قلي ً‬ ‫ت‬ ‫لنَُو ّ‬ ‫ج الم ةعرفة‪ .‬إحدى النتقادا ِ‬ ‫سْع من نطا ِ‬ ‫ل‪ ،‬مع اللتزاِم بتصريحاتنا بشأِ ن السلوب ومنها ِ‬ ‫ُ‬ ‫الخرى الموّجهِة إلّي بصدِد المجموعة الريِة اللغويِة والثقافية‪ ،‬هو احتماُل أْ ن تفوَح منها رائحة "ال ةعنصرية"‬ ‫– حسب زعمهم – لّ ن هتلر أيضاً استخدم المصطلَح نفسه‪ .‬علينا القول لمثاِل هؤلء‪ :‬إّ ن لف َ‬ ‫ظ "الشتراكية"‬ ‫ب هتلر‪ .‬إذ ن‪ ،‬هل علينا حينها التخلي عن الشتراكية بالزعم بأنه تفوح منها رائحةُ‬ ‫أيضا ً موجوٌد في اسِم حز ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ال ةعنصرية؟ بَْيَد أّ ن الفاشيةَ ضلي ةعة لقصى الحدود في مساعيها "الغوغائية والديماغوجية" باستخداِمها الكثيَر‬ ‫ح باهر‪ .‬وعلى كّل حال‪ ،‬فنحن لسنا مرَغمين على التخلي عن الِ ةعلِم‬ ‫من المصطلحا ِ‬ ‫ت ال ةعلمية واليديولوجيِة بنجا ٍ‬ ‫ت الوصول اللغويِة والثقافية الريِة لم‬ ‫واليديولوجيا لنها ف ةعلت هكذا‪ .‬ومثلما أّ ن الجنوَح للنزعِة القوموية ذا ِ‬ ‫َيخطْر ببالنا ولو بقدِر مثقاِل َذّرة‪ ،‬فإني أبّين – وبكّل افتخاٍر واعتزاٍز وشرف – أني أحُد القائمين بالتفسيِر الكثِر‬ ‫ث الُمفِج ةعة التي ل تنفّك تنشب اليوَم في ال ةعرا‪.‬ق‪ ،‬علينا أولً‬ ‫م ةعنى للقوموية‪ .‬وإذا كنا نرمي لدراِك الكوار ِ‬ ‫ق النقد وتقديِم‬ ‫س علومنا التاريخية والجتماعية الم ةعمول بها حتى ال ن‪ ،‬كي نملَك ح ّ‬ ‫بالعترا ِ‬ ‫ف والقبوِل بإفل ِ‬ ‫القتراحات التاريخية والسوسيولوجية الجديدة‪ .‬وما نسَ ةعى ل ةعمله هنا ليس سوى تقديُم مساهمٍة زهيدٍة‬ ‫ص زاويٍة‪ ،‬ولو بالخطوط ال ةعريضة‪ ،‬حول هذا‬ ‫متواض ةعة بشأِ ن هذه المأساِة البشرية‪ .‬لذا‪ ،‬فإني مضطّر لتخصي ِ‬ ‫ب في "مراف ةعة النسا ن الحر"‪:‬‬ ‫الموضوع الذي حاول ُ‬ ‫ت سرده بإسها ٍ‬ ‫شّكَل المجموعِة اللغويِة الثقافية الريِة‪ ،‬سواًء من جهِة تكويِن لغتها‪ ،‬أو من جهِة تشكيلها‬ ‫آ‪ -‬إننا نقول بأ ن تَ َ‬ ‫ركيزةً أوليةً لبنيٍة تحتيٍة ثقافيٍة جذرية؛ أمٌر مرتب ٌ‬ ‫ت ما بين ‪000,10‬‬ ‫ط بالشروط التاريخية والجغرافية‪ .‬والسنوا ُ‬ ‫س هذه اللغِة والثقافة‪،‬‬ ‫س ُ‬ ‫ضَج فيها تمأ ُ‬ ‫– ‪. 4000‬ق‪.‬م على وجه التقريب ُت ةعّبر عن "المرحلة الطويلة" التي نَ َ‬ ‫ت النسيج‬ ‫ت‪ ،‬وآل ِ‬ ‫ث الزراعية‪ ،‬وطقوِم الحيوانات‪ ،‬وال ةعجل ِ‬ ‫حيث اختُِرع فيها شتى أشكاِل الفخاريات‪ ،‬والمحاري ِ‬ ‫ع النباتية‬ ‫والحياكة‪ ،‬والمطاحن اليدوية؛ علوةً على تمأ ُ‬ ‫س ِ‬ ‫س الفن والدين آنذاك‪ .‬أما لئحةُ الغلل والنوا ِ‬ ‫وصنِع‬ ‫والحيوانية الوفيرة‪ ،‬فقد َأثبَتت جدارَتها في الزيادة الملحوظة للت ةعداِد السكاني‪ .‬هذا ول َيقتصُر المر على ُ‬ ‫ت‪ ،‬والبنيِة الم ةعمارية‪ ،‬وغيِرها من الثار الفنية والدينية باستخداِم‬ ‫الفؤوس‪ ،‬السكاكيِن‪ ،‬الطواحين‪ ،‬ال ةعجل ِ‬ ‫الحجارِة المنحوتِة والمصقولة بشكل حديث فحسب؛ بل وُتصَنع الثاُر الكثَر عطاًء وبهاًء من الحجارِة الم ةعدنية‬ ‫أيضاً في المرحلة المسماة بالحقبِة الكالكوليتية ‪ .‬ول نبرح نصادف هذه المثلة الجمة في راهننا أيضًا‪ .‬وقد ُعثَِر‬ ‫ت‬ ‫ت منطقِة برادوست ‪ Bradostiyan‬الواق ةعِة على حوا ّ‬ ‫ف جباِل زاغروس‪ ،‬وفي مراكِز حفريا ِ‬ ‫في مراكِز حفريا ِ‬ ‫جايونو ‪ ،Çayönü‬وبالقرب من أورفا مؤخراً )كوباكلي تبه ‪ُ (Göbeklitepe‬عثَِر على أمثلٍة م ةعمارية دينيٍة‬ ‫ومنازَل مصنوعٍة من الحجارة الضخمة المنحوتة على نحٍو مذهل‪ ،‬وعلى ال ةعديد من الدوات المصنوعة من‬ ‫ف عام‪.‬‬ ‫ع جمي ةعها إلى ما قبِل أحَد عشَر أل ِ‬ ‫الحجارة الم ةعدنية؛ والتي ُبرِهن على رجو ِ‬ ‫ب الهل هناك يستخدمها إلى‬ ‫ت الم ةعّبرِة عنها‪ ،‬والتي ل ينفّك الش ةع ُ‬ ‫ت الثقافيةَ ومجموَع المفردا ِ‬ ‫إّ ن هذه الدوا ِ‬ ‫ً‬ ‫ت من قبيل‪َ :‬جيو ‪َ) Ceo‬گيو ‪ – Geo‬مكا ن(‪،‬‬ ‫سلّطُ الضوَء كفاية على هويِة منطقتها النواة‪ .‬فالمفردا ُ‬ ‫اليوم‪ ،‬تُ َ‬ ‫أرض ‪) Erd‬أرض‪ ،‬تربة‪ ،‬حقل(‪ ،‬ژ ن ‪) Jin‬امرأة‪ ،‬حياة(‪ ،‬روج ‪) Roj‬شمس(‪ ،‬برا ‪) Bra‬أخ(‪ُ ،‬مور ‪Mur‬‬ ‫وصول ‪) Sol‬حذاء(‪َ ،‬نيو ‪) Neo‬جديد(‪ ،‬گا ‪) Ga‬ثور(‪ ،‬گرا ن ‪) Gran‬كبير‪ ،‬ثقيل(‪َ ،‬مش ‪Meş‬‬ ‫)موت(‪ُ ،‬‬ ‫ت المفردات التي يمكننا ت ةعدادها‪ ،‬والتي ل تزال ُتسَتخَدم في‬ ‫)مشي(‪ُ ،‬خودا ‪) Guda‬رب(؛ وغيُرها من عشرا ِ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ت الوروبية؛ إنما ُتنير لنا موضوَع النبِع ال ةعين‪ .‬هذه اللفاظ‪ ،‬التي ل تزال دارجة كجذٍر وطيٍد في‬ ‫ال ةعديد من اللغا ِ‬ ‫ُ‬ ‫س والفغا ن‬ ‫ت الش ةعوب الوصيلة وال ةعريقة )أقدِم الش ةعو ِ‬ ‫ت مجموعا ِ‬ ‫لغا ِ‬ ‫ب استقرارًا( والمشهورِة كالكرِد والفر ِ‬


‫والبَّلوجيين ؛ ُتبرِهن على أّ ن َمشَرَب المجموعة اللغوية والثقافية الرية ومنبَ ةعها ليس أوروبا والهند‪ ،‬بل‬ ‫ف عام تقريبًا‪،‬‬ ‫ال ةعك ُ‬ ‫س هو الصحيح‪ .‬ففي زماِ ن هذه الثقافة – التي يمكننا إرجاَع أوصولها إلى ما قبِل اثني عشَر أل ِ‬ ‫ت السومرية المدّونة وال ةعديد من مراكِز المناطق الثرية – كانت أوروبا تَُمّر‬ ‫انطلقاً من الوثائق والمخطوطا ِ‬ ‫بـ"ال ةعصر الحجري القديم" ‪ ،‬في حين كانت بلُد الهند ت ةعيش عصَر "البيغما" ‪ .‬إننا في وضٍع ُيخّولنا للشارة –‬ ‫خ هذه "الفترة الطويلة"‬ ‫وبكّل سهولة – إلى أّ ن اللغةَ والثقافة الريةَ قد َر ّ‬ ‫سَخت تمأ ُ‬ ‫س َ‬ ‫سها‪ ،‬واختَ​َرَعت طيلةَ تاري ِ‬ ‫ت الحياة الساسية( التي ت ةعيش عليها البشريةُ اليوم‪ .‬وفيما خل‬ ‫ف الدلئل والتجهيزات )أدوا ِ‬ ‫ما ل يَقُّل عن نص ِ‬ ‫ف من الماكن الباطنية المطمورِة َتنتَِظُر التنقيَب والحفر‪.‬‬ ‫ض المراكز التي ذكرناها آنفًا‪ ،‬ل تفتأ الل ُ‬ ‫أمثلِة ب ةع ِ‬ ‫ت الش ةعوب المنحدرِة من ال ةعهِد ال ةعريق الغابر‪ ،‬والتي ل َتبَرُح تصوُ ن وجوَدها في راهننا‬ ‫علوةً على أّ ن مجموعا ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ف عاٍم قبل‬ ‫أيضًا‪ ،‬إنما هي مراكُز أثرية حية‪ ،‬حيث َنلَم ُ‬ ‫س وجوَدها )تبايَُنها الثنّي( كهويٍة متأتيٍة من ستِة آل ِ‬ ‫ال ن بأقّل تقدير‪ .‬مرةً أخرى علّي التنويهُ إلى أّ ن ِعلَم التاريخ سيبقى ي ةعاني القصوَر والنواقص الجدّية‪ ،‬ما لم‬ ‫ت والوقائع القائمة في مركِز هذه النواِة الثقافية )الهلِل الخصيب( بكافِة أب ةعاِدها‪.‬‬ ‫ُي ةعّبر عن م ةعاني المجريا ِ‬ ‫ع جانبّي هام‪ .‬ول ريَب إطلقا ً في غنى‬ ‫ب‪ -‬ل يمكننا البَّتة التغاضي عن مكانِة ومنزلِة اللغِة والثقافة السامّية كفر ٍ‬ ‫س المرحلة من وجهِة النظر التاريخية‪ .‬ولربما‬ ‫هذه البنيِة اللغوية – الثقافية المكّونِة لفروقاتها الممّيزة في نف ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫كانت أغنى وأرقى من المجموعة اللغوية – الثقافية الرية من جهِة كونها ثقافة رعٍي وثقافة عشائرية‪ ،‬حيث‬ ‫س آثاراً داّلة على ذلك في المخطوطات السومرية‪ ،‬التي َتتحدث بلغة ملحِمية عن الصراعات والمنافسات‬ ‫نلَم ُ‬ ‫ٌ‬ ‫‪.‬ق اليوم! إّ ن البنيةَ‬ ‫َ‬ ‫الجارية بين أوصوِل الرعِي والزراعة على نحِو فرَعين أساسّيين‪ .‬لَكْم هي شبيهة بـ عرا ِ‬ ‫َ‬ ‫سقة‪ ،‬ربما يتزامن نشوُء‬ ‫الَملَحِميّةَ في لغتها وثقافِتها راقيةٌ ومتقدمة‪ .‬وانطلقاً من مزايا الصحراء الرتيبِة والُمتّ ِ‬ ‫ي سما بهويته الولى‬ ‫إلِه السموات "أل ‪ ،El‬ا ‪ "Allah‬مع هذه المراحل‪ .‬ومن المحتمل أّ ن المجتمَع ال ةعشائر ّ‬ ‫س على غراِر "أل‪ ،‬ا"‪ .‬لذا‪ ،‬باستطاعتنا‬ ‫ح مقّد ٍ‬ ‫المتمّيزة والخارقة إلى عنا ن السماء‪ ،‬ليصل بذلك إلى اوصطل ٍ‬ ‫ح الله بكونه "هويةٌ اجتماعية"‪ ،‬وتأييُده بمثاِل "أل‪ ،‬ا" كحجٍة قوية‪ .‬ومن‬ ‫دعُم تفسيِر دوركايم لمصطل ِ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ت "الشيخ‪ ،‬السيد" قد تكّونت مبكرا في الثقافة السامّية‪ ،‬لتتحول في عصر‬ ‫ت ومؤسسا ِ‬ ‫الُم ةعتَ​َقد أّ ن اوصطلحا ِ‬ ‫ت "النبي‪ ،‬المير"‪.‬‬ ‫المدنية إلى مؤسسا ِ‬ ‫ل َنلَحظُ أيّةَ مساَهَمٍة للثقافِة السامّية في المدنيِة المصرية الفرعونية‪ ،‬رغَم احتلِل هذه المدنيِة مكاَنها في الحقِل‬ ‫ح ثقافِة الرعِي‬ ‫السامّي‪ ،‬إذ‪ ،‬ل ن ةعثر على أ ّ‬ ‫ي مضموٍ ن ملمو ٍ‬ ‫س في أيِة مادٍة أو مصطل ٍ‬ ‫ح أو مؤسسٍة يدل على فت ِ‬ ‫ق المصريةُ أيضاً تنظر إلى هذه‬ ‫ق لثقافٍة مدينيٍة حضاريٍة كهذه في أعوام ‪. 4000‬ق‪.‬م‪ .‬وبالوصل‪ ،‬فالوثائ ُ‬ ‫الطري َ‬ ‫شبٍَه بينهما في البنية اللغوية أيضًا‪ .‬فالثقافةُ السامّية تحتّل مكاَنها‬ ‫الثقافة ب ةعيِن الغريب الدخيل‪ .‬كما أنه ما من َ‬ ‫ت الكادية‪ ،‬البابليِة‪ ،‬الشورية‪ ،‬الكن ةعانية‪،‬‬ ‫ت الولى عبَر الهويا ِ‬ ‫خ المكتوب ضمن التراكما ِ‬ ‫في التاري ِ‬ ‫والسرائيلية‪ .‬في حيِن أّ ن الهويَة ال ةعربية‪ ،‬التي تبرز للوسط حوالي أعوام ‪. 2500‬ق‪.‬م‪ ،‬يظهر اسمها ب ةعد ذلك‬ ‫ت سومريةٌ‬ ‫بكثير‪ ،‬أي‪ ،‬حوالي أعوام ‪. 500‬ق‪.‬م‪ .‬أما الراميو ن‪ ،‬الراميتيو ن‪ ،‬وال ةعابيرو‪ ،‬فهي اوصطلحا ٌ‬ ‫ومصرية بالرجح‪.‬‬ ‫وُيرّجُح انصهاُر فينيقيا وفلسطين وحتى إسرائيل في بوتقِة اللغة والثقافة السامّية )مثلما حصل في الثقافة‬ ‫المصرية الفرعونية( فيما ب ةعد كاحتماٍل قوي‪ .‬ونقاطُ البداية متداخلةٌ بين الثقافَتين الساحلية والرية‪ .‬هذا وثمَة‬ ‫ت الهجرِة السامّية‪.‬‬ ‫دلئٌل تشير إلى زواِل حالتها الطبي ةعية الولى في خضّم موجا ِ‬ ‫ض البقايا الثريِة ال ةعريقة التي ل تزال وصامدةً في‬ ‫ت الركولوجيَة‪ ،‬وكذلك ب ةع َ‬ ‫إّ ن المصادر السومريةَ والسجل ِ‬ ‫البقاء‪ ،‬تَُزّوُدنا بالدلئل الجمِة المشيرِة إلى هجوِم السامّيين على ساحِة اللغة والثقافة الرية‪ ،‬أو نزوِحهم‬ ‫ت الستيطاِ ن تلك إلى أعوام ‪5000‬‬ ‫ت وحمل ِ‬ ‫ت متوالية‪ .‬حيث بالمكاِ ن إرجاُع الهجما ِ‬ ‫وهجرتِ​ِهم إليها على موجا ٍ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ت الكادية‪ ،‬البابلية‪ ،‬الشورية‪ ،‬الرامية‪ ،‬وال ةعربية‪،‬‬ ‫‪.‬ق‪.‬م‪ .‬ونخص بالذكر في هذا المضمار بالتسلسل‪ :‬المستوطنا ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ت الشورية وال ةعربية من‬ ‫ت واضحة‪ .‬إل أّ ن التأثيرا ِ‬ ‫والتي تَ​َرَكت بصماِتها في ميزوبوتاميا ال ةعليا على شكِل طبقا ٍ‬ ‫بينها أكثُر قوةً وبروزًا‪ .‬في حيِن أّ ن ال ةعرَب شرعوا بحملِة وصهٍر ُمَرّكَزٍة مع الديانة السلمية‪ ،‬بحيث تداخَلت‬ ‫ت باسلةً إزاَء هذا‬ ‫وتشابَكت ظاهرتا السلمِة والت ةعريب‪ .‬وقد أبَدت الثقافةُ واللغةُ الرية وصموداً عنيداً ومقاوما ٍ‬ ‫ت الهجوم‬ ‫الغزِو والستيطا ن والصهِر‪ ،‬بالضافة إلى أنها َ‬ ‫سّجَلت نجاحا ً مظّفراً بين الحين والخر تجاه حمل ِ‬ ‫سسيَن الوائِل للحضارِة السومرية‪ ،‬وُرّواِد الحضارة‬ ‫والغزِو والستيطا ن والصهِر تلك‪ .‬ويمكننا ذكر المؤ ّ‬ ‫ب‬ ‫المصرية‪ ،‬والهكسوس ‪ ،‬وال ةعبرانيين كأمثلٍة مشهورٍة في هذا الشأ ن على طوِل محّك التاريخ‪ .‬والتفسيُر القر ُ‬ ‫ع والقبوِل هو أّ ن الّرّواَد السومريين الوائل قد نزحوا إلى ميزوبوتاميا السفلى في عهِد تَّل حلف )‬ ‫إلى الجما ِ‬


‫‪. 4000 – 6000‬ق‪.‬م( – الذي ُي ةعتَ​َبر ال ةعصَر الذهبّي للثقافِة الريِة النواة في ميزوبوتاميا ال ةعليا – لينقلوا م ةعهم‬ ‫ت‬ ‫غ مستوى أرقى‪ .‬ومن الم ةعلوم تماماً أ ن التأثيرا ِ‬ ‫هذه الثقافةَ إلى هناك‪ ،‬ويَُ ةعّرضوها للتحوير والتغييِر لبلو ِ‬ ‫الكاديةَ والبابليةَ والشوريةَ ُأدِرَجت لحقا ً في تكوينِة البنيِة اللغوية والثقافيِة السومرية‪.‬‬ ‫إ ن تسميَة السومريين بالنتشاِر الثقافّي ل ةعهِد تل حلف سيساهم أكثر في فهِم التاريخ على نحٍو أقرَب إلى‬ ‫ض المجموعات من الساحِة الثقافية‬ ‫ت المهاجرة‪ .‬ربما هاجَرت ب ةع ُ‬ ‫الصواب‪ ،‬عوضاً عن تسميتهم بالمجموعا ِ‬ ‫الرية‪ ،‬إل أّ ن ال ةعاِمَل الوصلّي المؤثَّر بالغلب هو انتشاُر الثقافة التي كانت ت ةعيش عصَرها الذهبّي في تلك‬ ‫الزمنة )على الص ةعيد الكوني(‪ .‬أما البح ُ‬ ‫ت آسيا الوسطى أو القفقاس هنا – مثلما ُيزَعم أحيانا ً –‬ ‫ث عن تأثيرا ِ‬ ‫فليس سوى ضرٌب من الهذيا ن‪ ،‬ل ن تلك المناطق كانت ول تزال ت ةعيش ال ةعصَر الحجري القديَم أثناء عهِد‬ ‫النشوء السومري )أعوام ‪. 5000‬ق‪.‬م(‪ ،‬وتت ةعّرف لِتَّوها على الثقافة الرية‪ .‬كما أنها ل تتضمن أيةَ عوامَل‬ ‫ثقافيٍة – سواًء من حي ُ‬ ‫ث المضمو ن أو الشكل – تَُمّكنها من تغذية ثقافٍة غنيٍة وراقيٍة للغاية كالثقافة السومرية‪.‬‬ ‫في حيِن أّ ن قوتهم في الهجوم والغزو ل تزال ب ةعيدةً عن إحراِز التقدم الذي يَُخّوُلها لتجاوز الحزام اللغوي‬ ‫ص التداخل المستمر في هذا‬ ‫والثقافي الري‪ .‬ونظراً ل ةعدِم وصحِة التفكير بصفاِء ونقاوِة ثقافتهم بسب ِ‬ ‫ب وفرِة فر ِ‬ ‫ت الهجرة القوقازية والسيوية الوسطى نزَحت إلى الحزام السومري وإلى‬ ‫الشأ ن‪ ،‬فربما تكو ن ب ةع ُ‬ ‫ض مجموعا ِ‬ ‫َ‬ ‫شبَُه بأوروبا وأمريكا في ذاك الزما ن‪ .‬وبطبي ةعِة الحال‪ ،‬فالكثيُر من المجموعات‬ ‫الهلل الخصيب‪ ،‬الذي كا ن أ ْ‬ ‫ت الم ةعمورة الربع وصوَب أوروبا لتستقّر‬ ‫الثقافية المتباينة‪ ،‬وأغلبها من الفقراِء البؤساء‪ ،‬تَتِّجهُ اليوَم من جها ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫فيها‪ .‬فكيفما أّ ن الثقافةَ الوروبيَة الراهنة تنتشر اليوم في كافِة أرجاِء ال ةعالم‪ ،‬فاللغة والثقافة الرية أيضا ً َمنَ​َحت‬ ‫س والنفجار السكاني )في عهد تل حلف على‬ ‫فَُروصاً شبيهة بالنتشار‪ ،‬وبالخص ب ةعد مرورها بمرحلِة التمأ ُ‬ ‫س ِ‬ ‫ت الكادحين‬ ‫وجِه التخصيص ‪. 4000 – 6000‬ق‪.‬م(‪ .‬أما الهجراُت المتجهة إلى أعماقها‪ ،‬فيمكن تشبيُهها بهجرا ِ‬ ‫البؤساِء وصوَب أوروبا اليوم‪.‬‬ ‫ج‪ِ -‬من الهميِة بمكا ن القيام بالتفسيِر السليم لوادي النيل كساحٍة ثقافية هامة‪ .‬إّ ن تطويَر الثقافة الزراعية في‬ ‫ب عن اللغة والبنية الثقافية السامّية‪ ،‬نظراً‬ ‫هذا الوادي‪ ،‬ونَْقَلها إلى الحضارة المصرية الفرعونية أمٌر غري ٌ‬ ‫لفتقارها لهذه المهارِة ِمن حي ُ‬ ‫ث المضموِ ن والمحتوى‪ .‬بل إّ ن البنيةَ اللغوية المصريةَ تُقَّدُم تبايَُنها واختلَفها‬ ‫ِب ةعدِم احتضانها ليِة عناوصَر ساميٍّة بتاتًا‪ .‬أما السودا ن وإثيوبيا وغيِرها من الثقافات المتواجدة في الوصقاع‬ ‫الفريقية الجنوبية؛ فل تزال آنذاك ب ةعيدةً عن تَ​َخ ّ‬ ‫طي ال ةعصِر الحجري القديم‪ .‬بالتالي‪ ،‬فِمن غيِر الممكن – حتى‬ ‫ق للثقافة المصرية‪ .‬أو بالحرى‪ ،‬ل يتم التفكير بذلك إطلقًا‪ .‬كما ل يمكن‬ ‫على الص ةعيد النظري – أْ ن تَُمّهَد الطري َ‬ ‫ي تقدٍم‬ ‫ت المهاجرَة‪ ،‬والتي تَُ ةعّد استمراراً للقبائل الفريقية‪ ،‬قد أنجَزت أ ّ‬ ‫التفكير – ولو نظريا ً – بأّ ن المجموعا ِ‬ ‫ملحوٍظ في وادي النيل خلَل مدٍة طويلٍة من الزمن‪ .‬من هنا‪ ،‬فهي بحاجٍة ماسة لِ​ِغلِل الثورة الزراعية ونتاجاِتها‬ ‫ت زراعّي ناشٍ ئ في الهلل الخصيب ينمو تلقائيا ً ضمن‬ ‫ي أثٍر يدل على أّ ن أ ّ‬ ‫وأدواِتها‪ .‬هذا ول َن ةعثُ​ُر على أ ّ‬ ‫ي نبا ٍ‬ ‫أراضي وادي النيل‪ .‬كما ل ن ةعثر فيها على أيِة أمثلٍة من الكائنات الحيوانية‪ ،‬فيما خل الِحماِر المصري‪.‬‬ ‫ت النظريَة المت ةعلقة بانتشاِر الثقافِة الرية في عموِم ال ةعالم‪ ،‬تدعونا للتفكير بأّ ن أحد فروَعها أيضاً‬ ‫إّ ن الفرضيا ِ‬ ‫ب إلى‬ ‫س المرحلة‪ .‬هذا وعلينا عدم النسيا ن بأّ ن وادي "ريف" أفريقيا الشرقية قري ٌ‬ ‫ووصَل هذه المنطقة في نف ِ‬ ‫النيل‪ ،‬وأّ ن تدفق البشر من الشمال وصوب الجنوب أمٌر ممكن‪ ،‬بل ومرتَ​َقب‪ ،‬بقدِر التدفق من الجنوب نحو‬ ‫ت المتفوقة قد َحَمَلت تأثيراِتها المتباَدلة على الدوام عبر هذه الطر‪.‬ق القديمة‪ .‬ومثلما أدى‬ ‫الشمال‪ .‬والثقافا ُ‬ ‫النفجاُر الثقافي في الهلل الخصيب إلى نشوِء الثقافة السومرية‪ ،‬فإّ ن تزامَن المدنية المصرية مع أعوام ‪4000‬‬ ‫‪.‬ق‪.‬م قد يرتكز في مضمونه إلى موجِة النتشار الحاوصِل مع أعوام ‪. 5000‬ق‪.‬م‪ .‬فمزاياها في المضمو ن والشكل‪،‬‬ ‫ت في مصر من قِبَِل الهكسوس‬ ‫وإمكانيا ُ‬ ‫ت التواوصِل َتمنَُح هذه الفروصة‪ .‬وبطبي ةعِة الحال‪ ،‬فإّ ن تأسي َ‬ ‫س المستوطنا ِ‬ ‫سّجُل التاريُخ المدّو ن( في أعوام ‪. 1700‬ق‪.‬م‪ ،‬بل‬ ‫ت أعوام ‪. 2000‬ق‪.‬م‪ ،‬ويليهم ال ةعبرانيو ن )حسبما يُ َ‬ ‫في بدايا ِ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ص قوِة انتشاِر الثقافة‬ ‫َوُرقِّيُهم إلى المرات ِ‬ ‫ب الدارية فيها؛ تَُ ةعّد أمثلة مؤّكدةً على وصحِة فكرتنا هذه‪ .‬ورغَم تناق ِ‬ ‫في الساحة الرية مع مروِر الزمن‪ ،‬إل أنها ستواوصُل تدفقها بنحو مشابٍِه نحو الساحات السامّية فيما ب ةعد‪.‬‬ ‫سها الوطيَد في الهلل الخصيب‪ ،‬غدا انتشاُرها وصوَب‬ ‫د‪ -‬وب ةعدما َأثبَ​َتت الثقافةُ الرية جدارَتها وأنجَزت تمأ ُ‬ ‫س َ‬ ‫شّدُد تكراراً‬ ‫ص نحو ما يسمى اليوم ببلِد إيرا ن‪ ،‬أفغانستا ن ‪ ،‬باكستا ن ‪ ،‬والهند‪ .‬وأُ َ‬ ‫الشر‪.‬ق أكثَر تأثيرًا‪ ،‬وبالخ ّ‬ ‫ت الثقافية‪ ،‬ل الجسدية‪.‬‬ ‫ت بشرية‪ .‬إنه انتقاٌل للتأثيرا ِ‬ ‫على أّ ن ما َينتَقُِل هنا هو الثقافة‪ ،‬أكثَر من أْ ن يكوَ ن مجموعا ٍ‬ ‫س أوَل َم ةعاِلم له في الهضاب اليرانية في أعوام ‪. 7000‬ق‪.‬م‪ُ ،‬يشِرُع بالنت ةعاش لِتَّوِه‬ ‫والنتقاُل الثقافي‪ ،‬الذي نَتَلَّم ُ‬ ‫ت تبلغ أعواَم ‪ 5000‬ضمن الهضاب‬ ‫في بلِد الهند حوالي أعوام ‪. 4000‬ق‪.‬م‪ ،‬في حيِن أّ ن هذه التأثيرا ِ‬


‫ت الثقافيةَ السابقةَ لها ليست سوى عناوصُر منحدرةٌ من الوصول الفريقية‬ ‫التركمانية‪ .‬وُي ةعتَ​َقد أّ ن التراكما ِ‬ ‫ض‬ ‫القديمة‪ ،‬ول تزال ُمتَ َ‬ ‫سّمَرًة في ال ةعصر الحجري القديم‪ .‬ذلك أّ ن البقايا الثقافيةَ والبنى الجسديةَ لب ةع ِ‬ ‫المجموعات )وبالخص في الهند( تَُ ةعّزُز من وصحِة هذا الطرح‪ .‬كما أنه ما ِمن براهين نظرية أو عملية تدل على‬ ‫التطور الثقافي كثمرٍة للتطورات المحلية هناك‪ ،‬تماماً مثلما هي الحال في مصر وسومر‪.‬‬ ‫ض النتقادات َت ةعتَِبر هذا النم َ‬ ‫ط ِمن الفكِر إسقاطياً اختزاليا ً مفرطًا‪ ،‬إل أنه من الضروري والمهم‬ ‫ولو أّ ن ب ةع َ‬ ‫ق بص ةعوبٍة بالغة‪ .‬لنتأمِل الثقافةَ الوروبية مث ً‬ ‫ل‪،‬‬ ‫خ محدودة‪ ،‬وتَتَ​َحقّ ُ‬ ‫الستذكاُر بأّ ن الثورا ِ‬ ‫ت الثقافيةَ في التاري ِ‬ ‫ي مكاٍ ن آخر‪ .‬من هنا‪ ،‬فإّ ن َ‬ ‫حي ُ‬ ‫طرَح فكرٍة مشابهة بشأِ ن الثقافة في الهلل الخصيب ِنسبًَة‬ ‫ث ل مثيَل لها في أ ّ‬ ‫ت المتسمرِة في‬ ‫لتلك الزمنة أمٌر خل‪.‬ق ومبدٌع لقصى الحدود‪ .‬ذلك أّ ن انتظاَر ثورٍة ثقافيٍة عظمى من المجموعا ِ‬ ‫ت اللف من السنين‪ ،‬والتي بَلَ​َغت شفيَر هاويِة الزوال‪ ،‬واعتباَر ذلك‬ ‫ال ةعادات والتقاليد ال ةعائدِة إلى ما قبِل مئا ِ‬ ‫استحقاقاً لها؛ ل يمكن تأييُده البتة‪ ،‬سواًء من جهِة الفكر النظري‪ ،‬أو البقايا الثقافيِة الموجودة‪ .‬أما النتشاُر‬ ‫ق نقلةً‬ ‫الثقافّي الحاوصُل في أعواِم ‪. 3000‬ق‪.‬م‪ ،‬والمتِجهُ وصوَب الشر‪.‬ق إلى منطقِة عيلم غربي إيرا ن‪ ،‬فكأنه َحقّ َ‬ ‫ي دو ن‬ ‫نحو حضارٍة مركُزها سوس ‪ ،‬التي هي أَ ْ‬ ‫شبَهُ بمستوطنٍة سومرية على الرجح‪ .‬إنه التأثيُر السومر ّ‬ ‫س مدينَتي هارابا وموهانجادارو الواق ةعتين على شواطِ ئ نهِر‬ ‫جدال‪ .‬وبالسيِر نحَو الشر‪.‬ق‪ ،‬سنجد أّ ن تأسي َ‬ ‫ت سارت على‬ ‫بينجاف )بنجاب( في باكستا ن الحالية ُيجاري أعواَم ‪. 2500‬ق‪.‬م‪ .‬واضٌح لل ةعيا ن أّ ن هذه الكيانا ِ‬ ‫ت أوصيلةً لبنى ثقافيٍة أخرى اعتماداً على النظريات‬ ‫ُخطى السومريين‪ .‬ونظراً للسباب عينها‪ ،‬ل يمكن َعّدها كيانا ٍ‬ ‫الرغامية‪ .‬ف ةعندما يكو ن التراكُم الثقافي – الُمزَعم أنه أوصيل – في مستوى أقرَب إلى مرحلِة "البيغما"‪ ،‬والقياُم‬ ‫ب فكرتنا هذه على منواٍل وصحيح‪،‬‬ ‫‪.‬ق حضارٍة أوصيلة منه؛ إنما هو أَ ْ‬ ‫شبَهُ بِتَ َ‬ ‫صّور الِحماِر ِحصانًا‪ .‬ولستي ةعا ِ‬ ‫باشتقا ِ‬ ‫ف المجموعات القاطنة في المناطق الجغرافية الكثِر ُرقِيًّا‪ ،‬والباقيِة في‬ ‫فسيكو ن من الناجع استذكاُر آل ِ‬ ‫ت ثقافيٍة‬ ‫ب عجزها عن تشييِد حضارٍة أو إنجاِز ثورا ٍ‬ ‫ت حياٍة مشابهٍة طيلةَ مليين السنين؛ وإدراُك أسبا ِ‬ ‫مستويا ِ‬ ‫عظمى‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ق مساَهماتها وال ةعديُد من أطروحاتها التركيبية ‪ .sentez‬فالنتشاُر والهلية يحصل ن‬ ‫ل ريَب في أّ ن لهذه المناط ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫شَر هنا هو القيُم النتاجية المادية والم ةعنوية المحققة للتطور‪ ،‬ل‬ ‫بالغلب طوعياً وبالتداخل‪ .‬بَْيَد أّ ن المنت ِ‬ ‫ت المنتشرُة‪ ،‬التي َأثبَ​َتت جدارَتها في هذا التجاه‪ ،‬اعتُبَِرت على الدوام وكأنها‬ ‫ت الست ةعمارية‪ .‬والثقافا ُ‬ ‫المجموعا ُ‬ ‫سةٌ كمنحٍة من الله"‪ .‬وِمن المهّم بمكا ن عدم الخلط بين انتشار الثقافات التي تسمو بقيِم الحياة‬ ‫"م ةعجزا ٌ‬ ‫ت مقّد َ‬ ‫المادية والم ةعنوية‪ ،‬وبين الست ةعمار والستيلء والغزِو والصهِر الرغامي‪ .‬ذلك أّ ن القليل من النتشارات‬ ‫ت وحشيٍة مرّوٍعة أو است ةعماٍر أو وصهٍر إرغامي‪ ،‬في حيِن أّ ن الغالبيةَ الساحقَة‬ ‫الثقافية حدثت على شكِل غزوا ٍ‬ ‫س وعنفوا ن‪ ،‬نظراً لثباتها تَفَّوَقها في نوعيِة الحياة‪ .‬أما‬ ‫منها أوصبَحت ُمْلكاً للجميع بقبولها واستساغتها بحما ٍ‬ ‫ف القومويةُ الضيقةُ إزاَء التاريخ‪ ،‬فقد َأقَحَمت موضوَع النتشار الثقافي في وضٍع مسدود‪ .‬لذا‪ ،‬فإّ ن عدَم‬ ‫المواق ُ‬ ‫ضّخمه؛ يتميُز بأهميٍة‬ ‫الوقوع في مصيدِة القوموية التي تَُحّرف مجرى السيلِ ن التاريخي‪ ،‬وتحجبه‪ ،‬وُتنِكره‪ ،‬وتُ َ‬ ‫ب ونسق الم ةعرفة‪.‬‬ ‫قصوى من حيث السلو ِ‬ ‫ب ومثيٌر بحيث يستحق البحَث‬ ‫ت الصينية الم موضوٌع غري ٌ‬ ‫هـ‪ -‬يَُلوُح أّ ن المقاَرنَةَ بين الثقافِة الرية والثقافا ِ‬ ‫والتنقيب‪ .‬إذ‪ُ ،‬ي ةعتَ​َقد ويَُبرَهن على أّ ن الصين بَلَ​َغت بثقافتها ال ّ‬ ‫طوَر العلى ِمن ال ةعصر النيوليتي في أعواِم ‪4000‬‬ ‫س التواريخ‪ ،‬فسيكو ن من اليسير‬ ‫‪.‬ق‪.‬م‪ .‬وإذا وض ةعنا ُنصَب ال ةعين انتقاَل الثقافة الرية من أوروبا إلى الهند في نف ِ‬ ‫ي الحتمال‪ .‬يَُرّجُح احتماُل كوِ ن الثقافِة الصينية اقتاتت على الثقافة‬ ‫ح قو ّ‬ ‫القوُل بانتقالها إلى الصين أيضا ً كطر ٍ‬ ‫الرية‪ ،‬إل أّ ن جغرافيَّتها )سواحَل النهر الوصفر( على وجِه الخصوص‪ ،‬وشرو َ‬ ‫طها التاريخيةَ المنطويةَ على‬ ‫ذاتها لب ةعِد حد‪ ،‬وبنيَتها الخاوصةَ بها قد َمنَ​َحت التطوَر المحلّي مكانةً أساسيًة‪ .‬التأثير موجود حتمًا‪ ،‬إل أّ ن المزايا‬ ‫الثقافيةَ المحليةَ َمّهَدْت لثورٍة "نيوليتية" ُتحاكيها وُتجاريها‪ ،‬تماماً مثلما هي حاُل الصين اليوم‪ .‬فكيفما أّ ن‬ ‫ت التاريخيةَ ال ةعظمى المنَجَزةَ المتماشيةَ مع الشروِط الجغرافيِة والديموغرافية قد َأسفَ​َرت عن‬ ‫التطورا ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ضت عنها كذلك "رأسمالية خاوصة بها"‪ .‬إذ ِمن غيِر الممكن أْ ن تَتَ​َكّوَ ن‬ ‫"شيوعيٍة" خاوصٍة بها؛ فقد تَ​َمّخ َ‬ ‫ُ‬ ‫ص الولية للقوام المندرجة في‬ ‫شيوعيةُ الصيِن ورأسماليُتها‪ ،‬ما لم تلتحما مع طبائِع الصين‪ .‬أما الخصائ ُ‬ ‫المجموعة الثقافية الصينية الساسية )اليابانيو ن‪ ،‬الكوريو ن‪ ،‬التراك‪ ،‬المغول‪ ،‬الفييتناميو ن‪ ،‬وغيرهم(‪،‬‬ ‫ي وسريٍع في حاِل‬ ‫فتتَج ّ‬ ‫ف إلى قبوِل ثقافِة المناَفسة على نحٍو قو ّ‬ ‫سُد في الصمود الصارم تجاه الخارج‪ ،‬والن ةعطا ِ‬ ‫ت التقليِد والمحاكاة والمتصاص على نحٍو‬ ‫الفَ َ‬ ‫شل‪ .‬وبقدِر جوانِبها الوطيدِة والصارمِة في التصدي‪ ،‬فإ ن مهارا ِ‬ ‫ق في ثقافاتهم‪.‬‬ ‫استثنائي تساوقها وتلزمها‪ .‬يبدو أّ ن هذا المَر خاوصيةٌ مشتَركةٌ وغائرةُ ال ةعم ِ‬


‫ت الخرى عبَر الصين‪ .‬قد يكو ن‬ ‫انتقلت الثقافةُ النيوليتية والمرحلةُ الحضارية اللحقة إلى عناوصِر المجموعا ِ‬ ‫تشبيهُ الصينيين ضمن مجموعاتهم بال ةعرب السامّيين أمراً منيرًا‪ .‬فالمجموعةُ الثقافية الصينيةُ أيضا ً – مثلما هي‬ ‫حاُل الثقافة السامّية تماما ً – َعِجَزت عن إبداِء قدرتها في أْ ن َتكوَ ن كونية كما فَ​َ ةعلت الثقافةُ الرية‪ .‬وفي هذه‬ ‫الحال‪ ،‬سيكو ن من الناجع والمفيد ترتيُبها ليكو ن الريو ن في المرتبة الولى‪ ،‬يليهم السامّيو ن‪ ،‬ومن ثَّم الصين‪.‬‬ ‫و‪ -‬يتميز تسلي ُ‬ ‫ت اللغوية‬ ‫ط الضوء على ال ةعلقات والصلت بين المجموعِة اللغوية والثقافية الرية والمجموعا ِ‬ ‫والثقافية الهندوأوروبية بأهميٍة قصوى‪ ،‬بل وربما كاَ ن ِمن أهّم القضايا الوليِة لِ​ِ ةعلِم التاريخ‪ ،‬نظراً للكثيِر من‬ ‫غ تفسيٍر مشتَرٍك بشأنها‪.‬‬ ‫المغالطات والمفاَرقات الزائفِة بحقها‪ ،‬ولكونها الحلقةُ المبَهمة التي َعِجزوا عن بلو ِ‬ ‫ث عظمى‬ ‫ف ةعندما تَّم إدرا ُك شراكة المجموعات اللغوية الهندوأوروبية في القر ن التاسع عشر‪ ،‬بدأ الشروُع ببحو ٍ‬ ‫ح متضاربٍة ومتنافرٍة حوَل المنبِع الوصل لهذه المجموعات‪ ،‬أي‪ ،‬حول "اللغِة‬ ‫ح شرو ٍ‬ ‫بصددها‪ ،‬وُبوِدَر لطر ِ‬ ‫ت ُترِجُع جذوَرها إلى الثقافة اليونانية‪ ،‬وأخرى إلى الهند‪ ،‬بل وإلى ثقافِة أوروبا‬ ‫سلَِفية"؛ لَِتبُرَز مداول ٌ‬ ‫والثقافة ال ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ت ذَهَبت أدراَج الرياح عندما أثبَِت بالحجج‬ ‫الشمالية‪ ،‬وب ةعضها تُِ ةعيدها إلى اللما ن‪ .‬إل أّ ن كّل هذه الفرضيا ِ‬ ‫القاط ةعِة موضوُع النقطا ِع عن الثدييات البدائية ) الكائنات السابقة للنسا ن( في "ريف" أفريقيا الشرقية‪،‬‬ ‫وموضوَع الثور ِة الزراعية النيوليتية في الهلل الخصيب؛ لتكتسب هاتا ن البؤرتا ن الساسيتا ن أهميةً عظمى‬ ‫سَ ةعينا لسرِد ُموَجِز ذلك سابقًا‪.‬‬ ‫في التاريخ البشري‪ .‬وكنا قد َ‬ ‫ت بشأِ ن تحديِد المجموعة اللغوية والثقافية ال ةعريقِة والوصيلة في الهلل الخصيب أهميةً‬ ‫واكتسَبت المداول ُ‬ ‫ُ‬ ‫كبرى‪ ،‬فَبَ​َرَزت أولوية المجموعات الكرديِة البدائية‪ ،‬الفارسية‪ ،‬الفغانية‪ ،‬والبلوجية والتي تسمى بالمجموعات‬ ‫ق وتفسيَرنا‪ .‬ونخص بالذكر في هذا المضمار موضوَع الجزم بانتماِء الثقافة واللغة الرية‬ ‫"الرية"‪ ،‬بما يتواف ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫المرتكزة إلى الش ةعوب الوصيلة‪ ،‬عندما فّكت رموُز البنية اللغوية للهوريين الذين هم الكرد الوائل‪ .‬والطرح الذي‬ ‫اعتَ​َبرُته وصحيحاً على الص ةعيد الشخصي‪ ،‬هو أّ ن المنطقةَ النواَة للثورة النيوليتية فقط هي القادرة على إبداع ِمثِل‬ ‫سُمهُ سلسلةُ جباِل طوروس –‬ ‫س الذي َتر ُ‬ ‫هذه اللغة والثقافة‪ .‬وقد تَّم الجزُم بأّ ن المنطقةَ النواةَ هي ِف ةعلً القو ُ‬ ‫ت‬ ‫شّكَلت مركَز ولدِة اللغة والثقافة الرية‪ .‬والحفريا ُ‬ ‫زاغروس‪ ،‬أي‪ ،‬المنطقةُ المسماةُ بالهلِل الخصيب‪ ،‬والتي َ‬ ‫ب هذه‬ ‫الثرية‪ ،‬والف ةعاليا ُ‬ ‫ت التيمولوجية‪ ،‬والمقاَرنات الثنولوجيةُ الحاوصلة مؤّخرًا؛ جميُ ةعها تَُ ةعّزُز من وصوا ِ‬ ‫الطروحة شيئا ً فشيئًا‪ .‬هكذا تَّم تفكيُك َوَحّل القسِم العظم من القضية التي اكتَنَ​َفت المجموعَة اللغوية والثقافيَة‬ ‫الهندوأوربية‪.‬‬ ‫ونظراً لكوِ ن "الفترة الزمنية" طويلةً جدًا‪ ،‬والجغرافيا شاس ةعةٌ ومتراميةُ الطراف؛ فِمن غيِر الم ةعقول رسَم‬ ‫سِع اللغة والثقافة الرية وانتشاَرها كما هي عليه‪ .‬رغم ذلك‪ ،‬فمن اليسير القول بأّ ن التوسَع الحاوصل‬ ‫خريطِة تَ​َو ّ‬ ‫ي الُمْجَمع عليه‬ ‫وصوب الجنوب والشر‪.‬ق‪ ،‬قد تَّم بشكٍل مشابه وصوب الشمال والغرب أيضاً باتجاه أوروبا‪ .‬والرأ ُ‬ ‫عموما ً هو أّ ن هذا النتشار‪ ،‬الذي يَُخّمن ِبدؤه حوالي أعوام ‪. 5000‬ق‪.‬م‪ ،‬قد توجه نحو أوروبا الشرقية في‬ ‫أعوام ‪. 4000‬ق‪.‬م‪ ،‬ونحو أوروبا الغربية في أعوام ‪. 2000‬ق‪.‬م؛ وتوطد فيها برسوخ‪ .‬وال ةعديُد من المؤّرخين‬ ‫الم ةعروفين‪ ،‬وفي وصدارِتهم جوردو ن تشايلد‪ُ ،‬يرِج ةعو ن تاريَخ أوروبا إلى هذه السنوات‪ ،‬حيث كا ن "ال ةعصُر‬ ‫الحجري القديم" سائداً َ​َقبلها‪ .‬وُي ةعتَ​َقد أ ن المنطقة المتوسطة بين ما ُي ةعَرف اليوم بجنوبي فرنسا وإسبانيا‪ ،‬والتي‬ ‫ف سنة؛ قد عاشت أطوَل فتراِتها في الحقبِة الميزوليتية‬ ‫ع سائٍد قبل ثلثيَن أل ِ‬ ‫َعِرَفت الهوموسابيانس كنو ٍ‬ ‫)ال ةعصِر الحجري المتوسط( حصيلةَ التوسع المن َ‬ ‫ق من شمالي أفريقيا‪.‬‬ ‫طلِ ِ‬ ‫سّلط عليها‬ ‫لسنا في وضع البحث والتنقيب في نيوليتيكيِة أوروبا وثورِتها الزراعية‪ ،‬ولكني على قناعٍة بأنه قد ُ‬ ‫ي‬ ‫س جسد ّ‬ ‫النوُر نظراً لهميِة قضيِة المنبع الم‪ .‬حيث أعتقُد أيضا ً أّ ن النتشاَر في هذا التجاه لم يكن على أسا ٍ‬ ‫سُد خاوصيةُ أوروبا في أنها انتَ​َهَلت ال ةعصَر النيوليتي جاهزاً‬ ‫)الهجرة( واستيطاني‪ ،‬بقدِر ما هو ثقافي‪ .‬تَتَ​َج ّ‬ ‫ف سنة وهضِمها‬ ‫وبجوانِ​ِبه الكثر إبداعًا‪ .‬أي أّنها محظوظة باستقائها هذا الزخَم المتكّد َ‬ ‫س على مدى عشرِة آل ِ‬ ‫له دف ةعةً واحدة‪ ،‬أو خلَل ُمّدٍة يمكن اعتبارها وجيزة‪ .‬وبالمقدور القول أنه‪ ،‬وكيفما َجَ ةعَلت أوروبا عالَ​َمنا الراهَن‬ ‫سِ ةعها الثقافّي خلل أرب ةعِة قرو ن‪ ،‬فهي بذاتها كانت ساحةً لنتشاِر الثورة النيوليتية أوًل‪ ،‬ثم لنتشاِر‬ ‫ساحةً لتَ​َو ّ‬ ‫ت الثل ُ‬ ‫شَرت في أوروبا‬ ‫سِع ثورِة الروح – الم ةعنى المسيحية‪ .‬هذه الثورا ُ‬ ‫ث الكبرى انت َ‬ ‫المدنية الرومانية ‪ ،‬وتَ​َو ّ‬ ‫على أرضيٍة ثقافي ٍة بالرجح‪ ،‬ودو ن اللجوِء إلى الست ةعمار والستيطا ن الكولونيالي والصهر الرغامي‪ ،‬فيما عدا‬ ‫ت المتفوقَة تحققت بتبني مفهوم "منحة‬ ‫ب الم ةعدودِة التي َ‬ ‫شّنتها المبراطوريةُ الرومانية‪ .‬أي أ ن الثقافا ِ‬ ‫الحرو ِ‬ ‫خ البشرية‪ ،‬تكو ن‬ ‫غ هذا الزخِم الثقافي ال ةعظيِم المتراكِم على َمّر عشرِة آل ِ‬ ‫ف سنة من تاري ِ‬ ‫الله"‪ .‬ولدى بلو ِ‬ ‫ت السياسيِة‬ ‫ح‪ ،‬التنويِر‪ ،‬والثورا ِ‬ ‫الرضيةُ قد ُهيَّئت للثورا ِ‬ ‫ت الوروبية الكبرى اللحقة )النهضِة‪ ،‬الوصل ِ‬


‫وصَفت‬ ‫ت الكبرى بمهاراِتها الخاوصة‪ ،‬بل َر َ‬ ‫والصناعيِة التقنيِة وال ةعلمية(‪ .‬إذ ن‪ ،‬لم ُتنِجْز أوروبا هذه الثورا ِ‬ ‫ع النهر الم للتاريخ وفروِعه الجانبية‪ ،‬وبتدفقه وانصباِبه فيها بغزارٍة وبدف ةعٍة‬ ‫واكتسبت أرضيَتها بتوسيِع قا ِ‬ ‫ضَرِة بفضِل‬ ‫ت النّ ِ‬ ‫واحدة‪ .‬ل ريَب في أّ ن انحساَر "ال ةعصِر الجليدي" المتزاِمَن مع المراحل عينها‪ ،‬وبروَز الغابا ِ‬ ‫ع هذه‬ ‫الطق ِ‬ ‫س الَمناخّي الملئم للغاية‪ ،‬والتربةَ السماديةَ الم ةعطاءة والغنيةَ ِبغللها‪ ،‬وتَ​َجّهَز أوروبا بمجمو ِ‬ ‫ق النقلةَ الحضاريةَ ال ةعظمى التي تَ​َرَكت بصماِتها على راهننا‪.‬‬ ‫الظروف كتركيبٍة جديدة ‪sentez‬؛ قد ج ةعلها تَحقّ ُ‬ ‫وصُد دقائق هذه القصِة باستفاضٍة وعن كثب في الفصل الم ةعني‪.‬‬ ‫سو َ‬ ‫ف َنر ُ‬ ‫َ‬ ‫‪ -3‬التفسير السليم للحياة الناب ةعة من الهلل الخصيب‪ ،‬وتَ َ‬ ‫طّوُرها الجتماعي‪:‬‬ ‫ت ليضاحه ب ةعنايٍة فائقٍة تحت هذا ال ةعنوا ن – بمدى تأثيِر ُب ةعٍد زمكانّي اجتماعّي‬ ‫يت ةعلق هذا الموضوع – الذي َجِهد ُ‬ ‫ت اهتمامي عليه باستفاضٍة في قضيِة السلوب‪ ،‬كا ن بشأِ ن‬ ‫ُمَ ةعيٍّن على نمِط حياٍة ُمَ ةعّينة‪ .‬والموضوُع الذي رّكز ُ‬ ‫ت م ةعانيه‬ ‫أّ ن الوقائَع الجتماعيةَ "حقائ ٌ‬ ‫ق ُمن َ‬ ‫شأٌة" بِيَِد النسا ن‪ .‬هذا المُر هاّم لدرجِة أنه‪ ،‬وفي حاِل عدِم تثبي ِ‬ ‫ش الجهل‬ ‫السليمة كاملًة‪ ،‬فقد يَُحّول ال ّ‬ ‫شروُع بأ ّ‬ ‫ي نشاٍط ت ةعبئو ّ‬ ‫ي "الت ةعلَم" و"الم ةعانَي" إلى أرضيٍة خصبٍة لنت ةعا ِ‬ ‫وعدميِة الم ةعنى‪ .‬ما أّدعيه هو أّ ن الجهَل السائَد في الحداثِة الرأسمالية أفدُح من جهالِة "أبي جهل" الذي لَ​َ ةعَنته‬ ‫ونَبَ​َذته الدياُ ن الكبرى أثناَء انطلقاتها‪ .‬ولربما كانت المدرسةُ الوض ةعيةُ ال ةعلةَ الساسيةَ في ذلك‪ ،‬كوَنها ديٌن‬ ‫وصُمهُ بـ"الظواهرية "‪ ،‬هو – بطبي ةعة‬ ‫ق من المادية الكثر اضمحللً و ُ‬ ‫منطل ٌ‬ ‫شّحًا‪ .‬فهذا الدين‪ ،‬الذي يمكننا َو ْ‬ ‫ج ذهنيِة النسا ن‪.‬‬ ‫الحال – ميتافيزيقي‪ ،‬نظراً لمزاياه التي هي ثمرةٌ من نتا ِ‬ ‫‪.‬ق إلى كوِ ن النساِ ن كائنا ً ذا طبائَع ميتافيزيقيٍة من جهِة‬ ‫ولهذا السبب بالذات َأسَهب ُ‬ ‫ت في فصِل السلوب في التطر ِ‬ ‫ذهنيته‪ .‬لكّن الوض ةعيةَ عاجزةٌ – دو ن وعي – عن رؤيِة أّ ن هذه الظواهريةَ ليست سوى "وثنيُة" ال ةعهود‬ ‫شّدُد على َ‬ ‫ح ادعائي بكوِ ن الظواهرية = الوثنية‪.‬‬ ‫شّح حالتها وأكثِرها اضمحلًل‪ .‬لذا‪ ،‬فإني أُ َ‬ ‫القديمة بِأ َ َ‬ ‫طر ِ‬ ‫فالظواهريةُ ليست شكلً لتفسيِر حقيقٍة ما‪ ،‬وهي ليست فلسفةَ ال ةعلوم الم ةعتِمدِة على الظواهر‪ ،‬مهما َزَعَمت‬ ‫ال ةعكس‪ .‬ذلك أنه من الُمحال وجوُد فلسفٍة كهذه‪ .‬فكّل ما تَقَُع عليه ال ةعيُن‪ ،‬وكّل ما تسم ةعه الُ​ُذُ ن هو ظاهرةٌ بَِحّد‬ ‫ي‬ ‫س ظاهرة‪ .‬فأ ّ‬ ‫ذاتها‪ .‬بل وكّل ِح ّ‬ ‫ي متهوٍر أو جاهٍل يمكنه الزعُم بأّ ن هذه فقط حقيقةُ الكو ن؟ فحسَب رأ ِ‬ ‫ق وجهِة نظِر نيتشه يمكن أْ ن تكوَ ن إدراكاً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أفلطو ن‪ ،‬ل يمكن اعتباُر الظاهرِة مظهرا أو ان ةعكاسا‪ .‬وهي وف َ‬ ‫بسيطًا‪ ،‬ليس إل‪ .‬بالمكا ن التركيُز على الصلِة بين الظاهرة والدراك‪ ،‬تماما ً مثلما َرّكزنا على ال ةعلقة فيما بين‬ ‫الذات والموضوع‪.‬‬ ‫س الظواهرية‪َ .‬أسَتخِدُم لف َ‬ ‫ظ "وصورة" عن‬ ‫َكم هو مؤس ٌ‬ ‫ف أّ ن الحداثةَ ليست سوى وصورةُ حياٍة ُمنشأٍة على أسا ِ‬ ‫وعي‪ .‬ذلك أّ ن الحداثةَ مت ةعلقةٌ بأكثِر أشكاِل الحياة سطحيًة‪ ،‬ل بجوهِرها‪ .‬وما مقولةُ أدورنو "الحياةُ الخاطئةُ ل‬ ‫ُت ةعاش بصواب"‪ ،‬والتي ذكَرها وَعِجَز عن تحليلها؛ سوى محصلةٌ لخيبِة المل والقنوِط الذي ألَّم به تجاه البادِة‬ ‫ض الفرس‪ ،‬إل أنها تفتقُر لليضاح‪ .‬أين هو الخطأ الولّي في الحياة؟‬ ‫الِ ةعرقية لليهود‪ .‬في هذه ال ةعبارة يكمُن ِمربَ ُ‬ ‫شئت؟ وما وصلُتها بنظاِم المجتمِع المهيمن؟ ما ِمن ردوٍد على ِمثِل‬ ‫َمِن المسؤوُل عن الحياِة الخاطئة؟ كيف ُأن ِ‬ ‫ع جذوِرها إلى مرحلِة التنوير وال ةعقلنية‪ ،‬في حيِن أبَقوا على الموضوع –‬ ‫هذه التساؤلت‪ ،‬بل اكتَفوا فقط بإرجا ِ‬ ‫ض ويَلُّفهُ الظلم‪.‬‬ ‫أي‪ ،‬شكِل الحياِة الخاطئة – يكتنفه الغمو ُ‬ ‫ف‬ ‫ثَّمةَ جهوٌد مماثلةٌ لدى ميشيل فوكو أيضًا‪ ،‬حيث يكتفي فقط بالقول "الحداثةُ مو ُ‬ ‫ت النسا ن"‪ .‬فكيف لفيلسو ٍ‬ ‫ت النسا ن في جملٍة قصيرة‪ ،‬ويلتفت عنه؟ ل م ةعنى للقول‬ ‫شهيٍر لهذه الدرجة أ ن َيح ُ‬ ‫شَر موضوعا ً حيويا ً كمو ِ‬ ‫سلّطُ عليها الضوء‪ ،‬لكّن الموَت المبّكَر لم يدعه‪ .‬فالحقيقةُ الهامة‪ ،‬والتفسيُر الجدي يستلزما ن‬ ‫بأنه كا ن سيُ َ‬ ‫التنويَر واليضاح‪ ،‬ولو في النفاس الخيرة‪ .‬فمث ً‬ ‫ش الموت‪،‬‬ ‫ل‪ ،‬لَْم ُيهِمل كوبرنيكوس ‪ ،‬حتى وهو على فرا ِ‬ ‫التووصيةَ بنشِر مؤلِّفه الخيِر الذي يقول فيه أ ن "الرض تدور حول الشمس"‪ .‬وثمَة الكثيرو ن من أمثاله من‬ ‫سرين للحقائق في الغرب والشر‪.‬ق على السواء‪ .‬لكن‪ ،‬ولّ ن نُّقاَد ما وراِء الحداثة قد تَلَ ّ‬ ‫طخوا بالكثيِر من آثاِم‬ ‫المف ّ‬ ‫ب الحداثة في الحياة‪ ،‬فهم يتطرقو ن للحقائق بخجل‪ .‬بم ةعنى آخر‪ ،‬فالمنغمسو ن في ال ةعبودية والسلطة‪،‬‬ ‫وذنو ِ‬ ‫ب‬ ‫س السلوب المشتَرك‪ .‬إنه أسلو ٌ‬ ‫والمستقو ن من شرا ِ‬ ‫ب منهاجها الم ةعرفي‪ ،‬والملّوثو ن بها؛ إنما يلجأو ن إلى نف ِ‬ ‫ي ‪ Ezop‬لحّد ما!‬ ‫تهكمّي ترميز ّ‬ ‫ت الحياة الخاطئة والصائبة‪ .‬فهل ِمَن الممكن أْ ن تكو ن‬ ‫أَُكّرُر مجدداً أّ ن ما نس ةعى ليضاحه هو موضوُع تصورا ِ‬ ‫ت‬ ‫الحياةُ التي فَر َ‬ ‫ضتها جميُع المدنيات القديمة – وليس فقط الحداثةُ )الرأسمالية( – قد تم وض ةعها بتصورا ٍ‬ ‫سَرة إيرا ن‪،‬‬ ‫وصحيحة؟ وبدءاً من الرهبا ن إلى اللهة الملوِك السومريين‪ ،‬وِمن اللهة الملوِك المصريين إلى أكا ِ‬ ‫من السكندر إلى أباطرِة روما‪ ،‬ومن سلطيِن السلم إلى مونارشيي أوروبا؛ َأل يمكن تحميُل جميِع هذه‬


‫سسِة رسمياً للحياة مسؤوليةَ إرسائها على دعائَم خاطئٍة بقدِر ما هي عليه الحداثةُ الرأسمالية بأقّل‬ ‫النظمِة المؤ ّ‬ ‫س الحياةُ الخاطئة ِبا ّ‬ ‫ت‬ ‫تقدير؟ أَ​َوَلم تتأ ّ‬ ‫ق التطوِر الجتماعي بهذه الحلقا ِ‬ ‫س ِ‬ ‫ق ُعنُ ِ‬ ‫طراٍد مع مروِر الزمن عبَر تطوي ِ‬ ‫ت السلسلة المتوالية؟ إذ ن‪ ،‬لن يكفينا القتصاُر على تحميِل مسؤوليِة نمِط الحياة الخاطئِة على‬ ‫اَلشبَِه بحلقا ِ‬ ‫ق‬ ‫ج في الحرب والبادِة الِ ةعرقية وحسب‪ ،‬لّ ن الّرّد على هذه القضيِة غائٌر في الُ ةعم ِ‬ ‫عات ِ‬ ‫ق الحداثة ونظاِمها الممنَه ِ‬ ‫ب ومنبِع كّل هذه القضايا‪ ،‬عندما َرّكزنا على‬ ‫بقدِر تَ​َوّغِل جذوِرها‪ .‬ولهذا الغرض َ‬ ‫ص في أغواِر َمشَر ِ‬ ‫سَ ةعينا للغو ِ‬ ‫الثورِة الثقافية ال ةعظمى في الهلل الخصيب‪ ،‬وعلى نمِط الحياة الناجم عنها‪.‬‬ ‫ل ريَب في استحالِة تفسيِر المجتمع كليا ً عبَر الثقافِة وحدها‪ ،‬بل يتطلب إضافَة ال ةعديد من ال ةعوامل إليها‪ .‬إل أنه‬ ‫ح "الثقافة" ما‬ ‫ض كوِ ن الثقافِة هي الساس‪ .‬لِنَُو ّ‬ ‫نادراً ما يتم تفنيُد أو رف ُ‬ ‫ضح الم ةعنى الذي نضفيه على مصطل ِ‬ ‫ُدمنا نَُمّر عليه‪ .‬مقصدنا منه‪ :‬مكا ن أو بق ةعة جغرافية تتسم بمزايا ل مفّر منها لجل حياِة التاريخ والمجتمِع‬ ‫ضمن "فترة طويلة" من التاريخ‪ُ ،‬متَرَعةٌ بالم ةعاني‪ .‬أي أننا ل نبدأ الَ ةعّد من الصفر لدى إضفاِء الم ةعاني على‬ ‫المجتمع في هذه الحقبة التاريخية والجغرافيا‪ .‬إنما نَ​َوّد الشارةَ إلى دوِرهما الرئيسّي في كيفيِة تشييِد الحياة‬ ‫سّجلِة‬ ‫ت الحياة الُم َ‬ ‫ت تتكو ن من حلقا ِ‬ ‫الجتماعية الُمنشأِة بأشكاٍل ل َعّد لها ول َحصر‪ .‬أما القوُل بأّ ن المجتم ةعا ِ‬ ‫ُ‬ ‫عبر الزما ن والمكا ن‪ ،‬وأّ ن كّل حلقٍة متصلةٌ بالخرى بقدِر ما لها َمّيزاُتها ومزاياها الخاوصة بها؛ فَن ةعتَِبره ِمن‬ ‫ح هذا المر‪.‬‬ ‫ضرورا ِ‬ ‫ت إيضا ِ‬ ‫ف سنة‪ ،‬إنما يحّدد‬ ‫فاختل ُ‬ ‫ف أنماِط حياِة المجتم ةعات الساميِّة والصينية المستندِة إلى ركائِز ما قبِل عشرِة آل ِ‬ ‫ب‬ ‫م ةعاني حياتِ​ِهم الراهنة بنسبٍة ملحوظة‪ .‬وبالمكا ن قوُل المِر عيِنه بشأِ ن ثقافِة الحياة الرية أيضًا‪ .‬من جان ٍ‬ ‫ت ثقافِة‬ ‫آخر‪ ،‬ومن خلل "علم الم ةعاني"‪ ،‬باستطاعتنا استنباط كيفيِة إضفاِء الشرعية الرسمية على مقوما ِ‬ ‫الحياة تلك في ظّل الهرميِة والدولة‪ ،‬وتحَت ُحكِم الملوك الُمقَّن ةعين أو غير الُمقَّن ةعين‪ ،‬المتسترين أو الُ ةعراة؛‬ ‫ب‬ ‫ليَُحّرفوا م ةعانيها ويُ َ‬ ‫ح والشناعة والحرو ِ‬ ‫ع الُقب ِ‬ ‫شّوهوها بدرجٍة مرّوعة‪ ،‬ويج ةعلوها قابلةً ومنفتحةً لشتى أنوا ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫والبادات الِ ةعرقية‪ .‬وبقدِر ما تتواجُد أنماط الحياة الرسمية وغيِر الرسمية شاقوليا‪ ،‬يكو ن ثمة أنماط حياٍة على‬ ‫ت متباينة أفقيًا‪ .‬علوةً على أّ ن جوهَر الحياة الجتماعية في المنبِع الم هو الذي يحّدد أنما َ‬ ‫طها‬ ‫نحِو حلقا ٍ‬ ‫وأشكاَلها في جميِع هذه الحلقات‪.‬‬ ‫ح الثقافة‪ .‬ل جداَل في أّ ن مجتمَع الكل ن أيضاً له ثقافُته‪ ،‬وبالتالي نم ُ‬ ‫ط‬ ‫لِنَتَ​َو ّ‬ ‫سع قليلً في َ‬ ‫سرِد مضموِ ن مصطل ِ‬ ‫حياِته‪ .‬فم ةعاني الحياِة متشابهةٌ ضمن مجتمِع الكل ن المتسم بخاوصية الكونية خلل مسيرِة المجتمع البشري‪،‬‬ ‫ت شاس ةعةً ب ةعْد على‬ ‫حيث تَُكوُ ن البنيةُ اللغويةُ والفكريةُ فيها دارجًة عبر الشارات‪ ،‬نظراً لكونها لم تقطع مسافا ٍ‬ ‫شبَهُ بقصِة‬ ‫ق النقطاع عن الثدييات البدائية‪ ،‬وبالتالي عن الحيوانات‪ .‬وتحويُل حياِة كلٍ ن ما إلى قصة هو أَ ْ‬ ‫طري ِ‬ ‫ت الضرورية‪ ،‬المُن‪ ،‬والتكاثُر ثالو ٌ‬ ‫ث يسري على جميِع الكائنات الحية على وجِه‬ ‫حياِة جميِع الكلنات‪ .‬فالحاجا ُ‬ ‫التقريب‪ .‬وقد كنا شَرحنا رواب َ‬ ‫‪.‬ق الذهنية المحدودة‪ .‬أما بروُز الختلف والتبايِن في الحياة‪ ،‬في ةعني‬ ‫ط ذلك مع الفا ِ‬ ‫تَ َ‬ ‫طّوَر المرونة الذهنية‪ ،‬والنتقاَل إلى التفاهِم بلغِة الرموز‪ ،‬وبلوَغ البنى الماديِة الممكِن تشييُدها حصيلة ذلك‪.‬‬ ‫ت ‪ Nesne‬المادية المتزايدة مع المرونِة‬ ‫ع الموضوعا ِ‬ ‫إذ ن‪ ،‬والحاُل هذه‪ ،‬فالتطوُر الثقافي ت ةعبيٌر عن مجمو ِ‬ ‫الذهنية وتَ َ‬ ‫ق عن ذهنيِة مجتمٍع ما‪ ،‬وقوالبِ​ِه الفكرية‪،‬‬ ‫طّوِر اللغِة الرمزية‪ .‬فبينما تَُ ةعبُّر الثقافةُ بإطارها الضي ِ‬ ‫ت والوسائل التي تلبي‬ ‫ع كّل الدوا ِ‬ ‫ولغتِ​ِه؛ فإّ ن إطاَرها الواسَع يَُ ةعبُّر عن إضافِة التراكما ِ‬ ‫ت الماديِة إلى ذلك )مجمو ِ‬ ‫ي أّ ن الثقافَة‬ ‫ت‪ ،‬الحمايِة‪ ،‬ال ةعبادِة‪ ،‬ووسائِل الجمال(‪ .‬أ ْ‬ ‫ت وأنماِط ادخاره وتحويله‪ ،‬المواوصل ِ‬ ‫ج القو ِ‬ ‫الحاجات‪ ،‬إنتا ِ‬ ‫شبَِه في وسائلها وأدواتها‪ ،‬وتَُ ةعّين مستوى التمييز واللمساواِة بين الفقر‬ ‫ف وال ّ‬ ‫تَُحّدُد الذهنية‪ ،‬ومستوى الختل ِ‬ ‫والِغنى‪ ،‬وتَُخ ّ‬ ‫ت الحياِة المتباينِة والمتقاربة‪.‬‬ ‫ط مساَر مستويا ِ‬ ‫ُ‬ ‫شئت ِبمهارِة النسا ن نفسه‪ ،‬وباتت تَُ ةعبُّر‬ ‫ت الذهنيةَ والماديةَ أن ِ‬ ‫ت والُمّدَخرا ِ‬ ‫علينا التنويه مجدداً إلى أّ ن التراكما ِ‬ ‫عن ذاتها بتحولها إلى واقٍع اجتماعي‪ .‬وفي هذا الوضع‪ ،‬فإّ ن الشارةَ إلى َتشابُِه حياِة مجتمِع الكل ن الُمَ ةعّمرِة‬ ‫ف والتباين الجوهرية؛ لن يؤدي إلى‬ ‫مليين السنين على َمّر ال ةعصِر الحجري القديم‪ ،‬وافتقاِرها إلى أوجِه الخل ِ‬ ‫ي للم ةعاني‪ .‬ولهذا السبب بالذات َأوَلينا أهميةً فائقة لظهوِر الجياِل الثقافية ال ةعظمى إلى الوسط‪ .‬ذلك أّ ن‬ ‫فقداٍ ن جد ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫كّل جيٍل ثقافّي عظيٍم ي ةعني تَطّوَر حياٍة عظيمٍة ومختلفة‪ .‬ومن هذا المنطلق‪ ،‬بمقدورنا المطابقة بين التطور‬ ‫الجتماعي والتطور الثقافي‪ .‬وبصياغٍة أخرى؛ بقدِر المرونة والحريِة الذهنية تَُكوُ ن اللغةُ الرمزية مشحونةً‬ ‫بالم ةعاني والغنى الفكري‪ .‬وانطلقا ً من ذلك‪ ،‬بقدِر امتلِك وسائَل ثقافيٍة ماديٍة أكثر‪ ،‬تَُكو ن الحياةُ الجتماعيةُ‬ ‫أرقى‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ق النسا ن وتكوينه‪ .‬ل شّك في‬ ‫إّ ن المجتم ةعية كواقٍع ُمنشأ – وهي فرضية أولية في هذا الفصل – ت ةعني أساسا ً خل َ‬


‫أننا ل نتغاضى عن مقداِر المادة ومدى التطور البيولوجي لديه‪ ،‬ون ةعي تماماً أنه تم البح ُ‬ ‫ق فيزيائيٍة‬ ‫ث فيها كحقائ َ‬ ‫وكيميائيٍة وبيولوجية‪ .‬بالضافِة إلى أّ ن ال ةعلوَم النثروبولوجيةَ والنفسيةَ الباحثةَ والمدقّقَةَ في النسا ن كذهٍن‬ ‫ونوع ُتنتُِج الم ةعانَي اللزمَة بشأنه في مجالها‪ .‬وثمةَ ما تَ​َ ةعّلمناه من ال ةعلوِم بحالتها المشتّتَِة والُمَجّزأة‪ ،‬رغَم‬ ‫ب‬ ‫انتقاداتنا لها‪ .‬وتشديُدنا على َكوِ ن الواقِع الجتماعّي ي ةعني مستو ً‬ ‫ى مختلفاً من الدراِك‪ ،‬هو بدافِع استي ةعا ِ‬ ‫ضِع اليد عليها‪،‬‬ ‫‪.‬ق وو ْ‬ ‫الفوار‪.‬ق فيما بينه وبين ال ةعلوِم الخرى بشكل أفضل‪ .‬ذلك أنه‪ ،‬وبدو ن المساِك بهذه الفوار ِ‬ ‫سق َ َ‬ ‫ض "ال ةعلموية"‪ .‬أما‬ ‫ح الذي َ‬ ‫ط فيه الوض ةعيو ن‪ ،‬ولن ننجَو بالتالي من َمَر ِ‬ ‫سوف نقع في نف ِ‬ ‫س الخطأ الفاد ِ‬ ‫ُ‬ ‫حصيلةُ ذلك‪ ،‬فهي البادةُ الِ ةعرقية التي آلت إليها الحداثةُ الرأسمالية‪ .‬أما البادةُ الِ ةعرقية – أَكّرُرها ثانيةً – فهي‬ ‫ت اللهيِة والبشريِة َت ةعَجُز عن‬ ‫الُجرُم الشنيُع والثُم الفادُح الذي َأذَهَل أدورنو لدرجِة قولِ​ِه بأّ ن كّل السلوكيا ِ‬ ‫ح بواعثه‪ ،‬وفَّكَر بضرورِة رمِي كافِة الكتب في الناِر لتلتهمها‪ ،‬وآَل إلى نتيجٍة مفاُدها أّ ن الحياةَ تأسست‬ ‫إيضا ِ‬ ‫‪.‬ق هذه‬ ‫على منواٍل خاط ئ‪ .‬هذا ومن المهم تثبيت استحالِة استذكاِر مغدوري البادِة والتطهيِر ال ةعرقي خارَج نطا ِ‬ ‫ض هذه الحقيقة‪ ،‬بل وت ةعتقدا ن بإمكانيِة ال ةعيش‬ ‫الم ةعاني‪ .‬لكّن الحياةَ ال ةعصرية‪ ،‬والمدرسَة الوض ةعية ت ةعاندا ن في رف ِ‬ ‫ت الِ ةعرقية‪ .‬أو أنهما َتجرؤا ن على القول بإمكانيِة ال ةعيش مع هذه‬ ‫في هذه الحياة الجتماعية‪ ،‬رغَم كّل هذه البادا ِ‬ ‫ت الذهنية وقيِم المدنية الماديِة المؤدية إلى هذه الجريمة‪ ،‬دو ن القضاِء على الجريمة‬ ‫التحريفات والتشويها ِ‬ ‫ي ذهنيٍة أو عقل‪،‬‬ ‫ي كتاب‪ ،‬وبالتالي في أ ّ‬ ‫ب هذه الجرأة‪ ،‬التي يجب أل تتواجَد في أ ّ‬ ‫بكافِة ركائزها الولية‪ .‬وبسب ِ‬ ‫ف على النزواء‪ ،‬ويموت‪.‬‬ ‫َيرتَِ ةعد أدورنو‪ ،‬وين ةعك ُ‬ ‫َ‬ ‫ما أس ةعى ل ةعمله هنا‪ ،‬هو تحويُل منابِع هذه "الجرأة" وأشكاِل تجاوزها المحتَملِة إلى قضيٍة إشكالية‪ ،‬وإبداُء‬ ‫ض النظر عن‬ ‫كفاءاتنا ومهاراتنا في الرد عليها وإيصاِلها إلى الم ةعاني والممارسِة‪ .‬ذلك أنه ل مجاَل أمامنا لَِغ ّ‬ ‫الحداثة المستمرة في وجودها‪ ،‬والمؤديِة إلى بروِز بؤِر البادة والتطهير ال ةعرقي المتمأسسِة طردياً مع الزمن‪.‬‬ ‫‪.‬ق اليوم الباديةُ لل ةعيا ن‪ ،‬وماهيةُ كافِة أنظمِة الشر‪.‬ق الوسط في البادة ال ةعرقية – سواًء علنا ً أو‬ ‫فحقيقةُ عرا ِ‬ ‫استتاراً – ومشاركُتها جمي ةعاً في الجرائم والثام؛ واضحةٌ جليا ً ورهيبة بَِهوِلها‪ ،‬بحيث أّ ن راوصديها يش ةعرو ن‬ ‫بها‪ ،‬فما بالك بالمحترقين بألسنِة لهيبها والمنصهرين في بوتقتها‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬ثمة بالمقابل نزوٌع وميوٌل‬ ‫‪.‬ق ثنائيِة‪ :‬إما الحياةُ‬ ‫عظمى متطل ةعةٌ للحياة الحرة‪ .‬ولكن‪ِ ،‬من المحاِل البتةَ ال ةعي ُ‬ ‫ش بشكٍل مشترك ومتداخٍل في نطا ِ‬ ‫ش هكذا والمشاركةُ في جريمٍة كهذه‪ .‬فكيف حصَل وووصَلت هذه‬ ‫الحرة أو البادةُ الجماعية‪ .‬إذ ل يمكننا ال ةعي ُ‬ ‫ب‬ ‫ب حرو ُ‬ ‫ف الوِل تنش ُ‬ ‫الراضي بتاريخها إلى هذه الحالة‪ ،‬ب ةعدما كانت منبَع أسمى م ةعاني الحياة؟ ففي الطر ِ‬ ‫ف المقابل ثمةَ الحروب التي يقودها‬ ‫الثنيات التي كانت َمّهَدت الطري َ‬ ‫ق لبروِز ُأولى م ةعاني الحياة‪ ،‬وفي الطر ِ‬ ‫الله الِخير للحداثُة! ما دام كذلك‪ ،‬فل خياَر لنا من التحامل على الموضوع تكراراً وِمرارًا‪ ،‬والّرّد على قضاياه‪،‬‬ ‫وإنجاِز ال ةعمليات اللزمة‪.‬‬ ‫وصَدها‬ ‫علّي سرد نكهِة الحياِة في الهلل الخصيب بلغٍة أدبيٍة نوعاً ما‪ .‬وسأبدأ بحديثي عنها بملحظٍة كا ن قد َر َ‬ ‫ت جايونو في ديار بكر ‪Diyarbakır‬؛ حيث يقول‪" :‬ل يمكن للحياة أ ن تَُكو ن ذات‬ ‫برادواي‪ ،‬الذي ابتدأ حفريا ِ‬ ‫س سلسلِة جباِل زاغروس – طوروس"‪ُ .‬ترى‪ ،‬ما‬ ‫م ةعنى في أيِة بق ةعٍة من ال ةعالم مثلما هي عليه في حوا ّ‬ ‫ف قو ِ‬ ‫خ‬ ‫الش ةعوُر الذي أضَفتهُ هذه ال ةعبارةُ على هذا النساِ ن المترعرع في أحضاِ ن ثقافٍة ب ةعيدٍة جدًا؟ وك ةعالِم آثاٍر وُمَؤّر ٍ‬ ‫مدرٍك تماماً للحضارة‪ ،‬لماذا يَ​َرى الحياَة الغنى والرقى بم ةعانيها في هذه الساحة الثقافية؟ علما ً بأّ ن القاطنين‬ ‫ب من الطاعو ن‪ ،‬وَيستَِميتو ن ويَتَلَّوو ن للووصول إلى أوروبا‬ ‫اليوم على هذه الراضي يَ​َودو ن الهرَب منها كالهر ِ‬ ‫سروا كّل مقّدساتهم وقيمهم الجمالية‪،‬‬ ‫س جدًا‪ ،‬وينظرو ن للهجرِة إليها كالقدِر المحتوم‪ ،‬لنهم َخ ِ‬ ‫َمَقابَِل َأجٍر بخ ٍ‬ ‫وكأنها لن ُتسَت ةعاد ثانية‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ت الفراَر من كّل شيٍء في‬ ‫ض الحداثة‪ ،‬وأرد ُ‬ ‫وصب ُ‬ ‫ت في وق ٍ‬ ‫علّي القرار بأني – أنا أيضا ً – أ ِ‬ ‫ت من الوقات بَِمَر ِ‬ ‫َ‬ ‫ف في قرارِة نفسي بأّ ن تلك كانت أفظَع ضلٍل لي في الحياة‪.‬‬ ‫هذه الراضي‪ ،‬حتى من الم والب‪ .‬ولطالما أعتَِر ُ‬ ‫ت أنظُر‬ ‫ولكني أدرُك أيضاً أني لم أنقطع كلياً عما لحظه برادواي‪ .‬فباعتباري ابُن تلك الجبال وسفوحها‪ ،‬فقد كن ُ‬ ‫ش اللهة واللهات‪ ،‬وإلى َحواّفها كلَ​َبنات أساسية للجنة الوفيرة التي خلقوها‪،‬‬ ‫إلى ذراها الشاهقِة على أنها عر ُ‬ ‫ب "مجنو ن الجبال"‪ ،‬لعلَ​َم لحقا ً أّ ن‬ ‫‪.‬ق للتجوال فيها على الدوام‪ .‬وقد اشتُِهر ُ‬ ‫فأتشو ُ‬ ‫ت منذ ن ةعومِة أظافري بلق ِ‬ ‫هذه الحياةَ عائدةٌ بالرجح إلى اللِه ديونيسوس ‪ ،‬الذي ُيقال أنه كا ن يتجول فيها برفقِة مجموعِة الفنانات‬ ‫ت‬ ‫سِويًّة‪ .‬وكن ُ‬ ‫سّميات بـ الباخوسيات ‪ ،‬والمحيطات به أماما ً وخْلفًا‪ ،‬لَيطَربوا ويلهوا‪ ،‬ويأكلوا ويشربوا َ‬ ‫الحرات الُم َ‬ ‫َ‬ ‫ضل هذا الله على زيوس ‪ ،‬بل وكا ن يُذّيل ال ةعديد‬ ‫قد أحبب ُ‬ ‫ت هذه الحياةَ اللهية‪ .‬والفيلسو ُ‬ ‫ف نيتشه أيضاً كا ن قد ف ّ‬ ‫ب المشتَرِك‬ ‫ت في القرية‪ ،‬كن ُ‬ ‫من أقواله المأثورة بتوقيِع "الغلُم الِغّر لديونيسوس"‪ .‬عندما كن ُ‬ ‫ت مهووسا ً باللِ ةع ِ‬


‫ت مقتن ةعاً‬ ‫ت الدينيةَ كثيرًا‪ .‬وكن ُ‬ ‫مع الفتيات‪ ،‬عوضا ً عن ُل ةعبِة ال ةعروس والغّميضة؛ وإْ ن كا ن ذلك ل يتناغم والواجبا ِ‬ ‫ستِر المرأة‬ ‫سْغ أو أُْبِد أ ّ‬ ‫ح البتة تجاه الثقافِة المهيمنِة بِ َ‬ ‫بأْ ن يَُكو ن المُر هكذا بطبي ةعِة الحال‪ .‬هذا ولَْم أست ِ‬ ‫ي تسام ٍ‬ ‫ش الحر‬ ‫وَحْجِبها في البيت‪ ،‬ولم آَبه بالقانو ن الذي َ‬ ‫سّموهُ الشرف )الناموس(‪ .‬ول َأبَرُح ِبالّرّد بـ ن ةعم إزاَء النقا ِ‬ ‫ت الخرى في الحياة‪ .‬وبالمقابل‪ ،‬فإّ ن جوابي هو ل‬ ‫ب م ةعها‪ ،‬ومشاطرِتها كّل المقدسا ِ‬ ‫اللمحدوِد مع المرأة‪ ،‬والل ةع ِ‬ ‫ت ال ةعبوديِة المتباَدلِة الفائحِة برائحِة الُملِكّية‪ ،‬والمرتكزِة إلى القوة‪ ،‬أيا ً كا ن‬ ‫وأل ُ‬ ‫ف ل إزاَء ال ةعلقات والتب ةعيا ِ‬ ‫اسُمها‪ ،‬وأياً كانت ذري ةعُتها‪.‬‬ ‫ت النساِء الحرة على ذرى تلك الجبال بإلهاِم اللهة النثى‪ ،‬لضفاِء "الم ةعاني النفيسِة"‬ ‫لقد َحّيي ُ‬ ‫ت دوما ً مجموعا ِ‬ ‫ٌ‬ ‫سم ةعي نبأ يقول بأّ ن "حادثا ً َوقَ​َع لشاحنٍة )أو‬ ‫عليها‪ .‬ولطالما َيخطُ​ُر ببالي كم كا ن غيظي كبيرًا‪ ،‬كلما َترامى لِ َ‬ ‫ت إلى‬ ‫ب شرقي البلد ‪ ،‬فَلَ​َقيَن َحتفَُهّن وهّن ذاهبا ٌ‬ ‫َجّراٍر( مكتظٍّة بمجموعٍة نسائيٍة في المنطقِة الفلنية من جنو ِ‬ ‫ث بقدِر ما أبديُته إزاَء الرجِل‬ ‫ال ةعمِل باُلجرة في الحقول"‪ .‬وأتذكر جيداً أني لَْم أش ةعر بكل هذا المقت تجاهَ أ ّ‬ ‫ي َحَد ٍ‬ ‫ق من نسِل‬ ‫ب المرأة ومالكوها‪ .‬فكيف حصَل وَلم يتب ّ‬ ‫وال ةعائلِة والهرمية والدولِة‪ ،‬الذين يزعمو ن أنهم أوصحا ُ‬ ‫سغه‬ ‫اللهة النثى إل هذا النحطاطُ المرّوع؟ َلم يقبْل عقلي وروحي بهذا النحطاِط إطلقًا‪ ،‬تماماً مثلما لم َتستَ ِ‬ ‫صّحِة المقولة‬ ‫سيِّة اللهة‪ ،‬أو أل تَُكوَ ن أبدًا‪ .‬ولطالما أُفَّكُر بِ ِ‬ ‫ذهنيتي‪ .‬فبالنسبة لي؛ إما أْ ن تَُكوَ ن المرأةُ داخَل ُقد ِ‬ ‫ت عبارةَ‬ ‫ت قد استخدم ُ‬ ‫القائلِة بأّ ن "مستوى حياِة النساء في مجتمٍع ما م ةعياٌر أولّي في م ةعرفِة ذاك المجتمع"‪ .‬كن ُ‬ ‫ف أمي‪ ،‬حيث كانت َبدينةً مثلهن‪ .‬إل أّ ن إنشاَء الحداثِة لنمِط الم‬ ‫"ِمن بقايا ثقافِة اللهِة الم" النيوليتيِة في َووص ِ‬ ‫ت كبرى في حياتي‪،‬‬ ‫الوصطناعيِة المزّيفِة َأعا َ‬ ‫سيِّة الموجودِة في أمي‪ .‬ورغَم م ةعاناتي آلماً ومخاضا ٍ‬ ‫‪.‬ق رؤيتي للُقد ِ‬ ‫ي حادث‪ .‬إل أنه‪ ،‬وب ةعدما َح ّ‬ ‫سرُتها‪ ،‬لطالما أستذكُر أمي‪ ،‬وبالتالي جميَع‬ ‫طم ُ‬ ‫َلم أبِك جديا ً على أ ّ‬ ‫ت قوالَب الحداثة وَك َ‬ ‫‪.‬ق في التأمل‪ .‬ولطالما أتأمُل‬ ‫صٍة‪ ،‬فُتدِمع عيناي وأنا ُمستغِر ٌ‬ ‫ب ُمتَلَّو وبَِغ ّ‬ ‫‪.‬ق الوسط(‪ ،‬بَِقل ٍ‬ ‫أمها ِ‬ ‫ت المنطقة )الشر ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ف الدرب‬ ‫م ةعنى وط ةعَم الماء الذي كن ُ‬ ‫ض طري َ‬ ‫ت أتَ​َجّرُعه من ّدلِو البئر الثقيِل ب ةعدما أعتَِر ُ‬ ‫ق أمي وهي في منتص ِ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫صر قلبي ألما‪ .‬أووصي الجميَع بإعادِة النظِر في نمِط‬ ‫تَئِّن تحت وطأِة ثِقَلِ​ِه‪ ،‬وَيخطُ​ُر ببالي كذكرى ُمميَّزٍة َت ةعتَ ِ‬ ‫ب الذهنية للحداثة‪ ،‬وأتمنى أ ن ي ةعكسوا وجهةَ النظر هذه‬ ‫علقاتهم مع الوالدين‪ ،‬ب ةعَد أْ ن يدكوا دعائَم كافِة القوال ِ‬ ‫ي شك – َيكمن الظفُر العظُم للحداثة في‬ ‫ت القرية" المتبقيِة ِمن ال ةعهد النيوليتي‪ .‬إذ – ودو ن أ ّ‬ ‫على شتى "علقا ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ف عاٍم‪ ،‬وإسقاِطها إلى مستوى ال ةعدم‪ .‬ومن‬ ‫أل‬ ‫عشر‬ ‫ة‬ ‫خمس‬ ‫ة‬ ‫طيل‬ ‫ة‬ ‫منشأ‬ ‫ال‬ ‫ة‬ ‫الثقافي‬ ‫نظرنا‬ ‫نجاحها بهدِم وجهِة‬ ‫ِ‬ ‫ِ ُ ِ‬ ‫س بمقاومٍة باسلة‪ ،‬والَولَِع بحياٍة مشّرفٍة‬ ‫ث التشب ِ‬ ‫المستوَعب تماما ً استحالةُ انب ةعا ِ‬ ‫ث بنظرٍة أوصيلٍة حرة‪ ،‬والَهَو ِ‬ ‫ت ُمَب ةعَثرٍة ومهدومٍة وم ةعدومة لهذه الدرجة‪.‬‬ ‫من أحشاِء أفراٍد ومجتم ةعا ٍ‬ ‫س الجبلي هو موضوع ‪ Nesne‬باعث على الهيام بالنسبة‬ ‫ت ينمو‪ ،‬وُكّل حيواٍ ن يرعى في حوا ّ‬ ‫كّل نبا ٍ‬ ‫ف القو ِ‬ ‫لي‪ ،‬إذ أنظُر إليهم وكأنهم مشحونو ن بم ةعانَي مقّدسة‪ .‬فقد كنا أوصدقاء‪ ،‬وكأنهم ُخلُِقوا لجلي‪ ،‬وأنا لجلِ​ِهم‪ .‬لقد‬ ‫ت خلفهم كثيرًا‪ ،‬وبكّل ولٍع وعشق‪ .‬هكذا هو عشقي لحّد ما‪ .‬وما لَْم أغِفرهُ لنفسي في هذا المضمار حتى‬ ‫ركض ُ‬ ‫ي رحمٍة أو شفقة‪ .‬ما ِمن‬ ‫س ال ةعصافير التي كن ُ‬ ‫ت أوصطادها‪ ،‬دو ن أْ ن يختلَجني ش ةعوٌر بأ ّ‬ ‫ال ن‪ ،‬هو َقطِ ةعي رؤو َ‬ ‫ف المهالِك ال ةعميقِة المستترِة وراَء مفهوِم التمييز بين الذات‬ ‫سرٍد أثَّر في أعماقي َوَحّثني على استكشا ِ‬ ‫والموضوع‪ ،‬بقدِر ما فَ​َ ةعَلته بي هذه الوقائع‪ .‬وَترجيحي لمفهوِم اليكولوجيا على وصلٍة وثيقٍة بهذا الولِع‬ ‫ب على هذه المخاطِر الروحية ال ةعظمى‪ ،‬والمتبقيِة من ثقافِة‬ ‫الطفولي‪ ،‬وباعترافي بهذا الُجرم‪ .‬وما كاَ ن لي التغل ُ‬ ‫ع القناع عن السلطة وحروِبها‪ ،‬باعتبارها فّن "الرجِل القوي المستِغل والمِر الناهي" )اللهِة‬ ‫الصيد‪ ،‬إل ب ةعَد َنز ِ‬ ‫الُمقَّن ةعة وغيِر الُمقَّن ةعة‪ ،‬والملوِك المتسترين والُ ةعراة(‪ ،‬الذي هو وصيٌد‪ ،‬ليس إل‪ .‬وما كا ن لنا أ ن نَِ ةعَي ذاتنا‪ ،‬أو‬ ‫ت سأضفي الم ةعانَي على‬ ‫ت والحيوانات‪ .‬هكذا كن ُ‬ ‫َنقِدَر على تَبَّني المجتمِع اليكولوجي‪ ،‬ما َلم نفهْم لغةَ النباتا ِ‬ ‫ذكرياتي مع نباتاتي وحيواناتي‪ ،‬التي ل تنفّك ُتراودني بل انقطاع‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ول َأبَرُح ألقي الص ةعوبة في ضبِط عواطفي الجياشة – التي ل يمكن أ ن تَُزّوَدني بها أية رواية – كلما خطَرت‬ ‫ف الجبال‪ ،‬فيقوُم بإعدادها وزراعتها منذ بدِء الربيع إلى أ ن‬ ‫وصقة لحوا ّ‬ ‫ببالي ِفلحةُ أبي في أحضاِ ن السهول الُمل ِ‬ ‫سها‪ .‬واأسفاه! لماذا َلم أفهْم تماما ً أولئك‬ ‫ض الخري ُ‬ ‫س الحبوَب ويَُكّد َ‬ ‫ف عينيه ويغفو‪ ،‬لَِيحصَد الِغلَل‪ ،‬وَيدُر َ‬ ‫ُيغِم َ‬ ‫ب الله‪ ،‬وَعِجزنا عن أْ ن نكو ن أوصدقاء؟ ورغَم أّ ن كّل علقاتي تدوُر على محوِر الصداقة‪ ،‬إل‬ ‫السائرين على در ِ‬ ‫ّ‬ ‫ت الحداثة المرّوعة‬ ‫ب علقا ِ‬ ‫أني غيُر قادٍر على مسامحِة نفسي ل ةعدِم اللتزام بالِحداد عندما تُ​ُوفَي أبي‪ ،‬وذلك بسب ِ‬ ‫الرهيبة‪ .‬ربما كا ن أبي خائَر القوى أكثَر من كّل الباء‪ ،‬ولكنه كا ن أَ​َحَد ِعباِد ا النزيهين المستقيمين‪ .‬رغَم كّل‬ ‫شيء‪ ،‬فالباُء الفلحو ن هم الكثُر قيمةً وقدراً بالنسبة لي‪.‬‬ ‫ت مرحلٍة مجهولة تحتضر‪.‬‬ ‫شِرب‪ ،‬وكأنها محاول ُ‬ ‫ت القريِة تَتَبَّدى لي وكأنهُ أَ​َكَل عليها الدهُر و َ‬ ‫كانت جميُع علقا ِ‬


‫هذا وَأعتَبُِر اللجوَء إلى المدينِة هرباً من القرية ُجرما ً بَِحّد ذاته‪ ،‬ول ُيساِوُرني أدنى شّك في أّ ن الحياةَ المثلى‬ ‫ق في القرى اليكولوجية‪ ،‬ل في بنى المدِ ن السرطانيِة للحداثة )للمدنية بِ​ِرّمِتها(‪ .‬ول يمكن السماح‬ ‫للنساِ ن تَتَ​َحقّ ُ‬ ‫للمدينِة أْ ن َتغُدَو مكانا ً وصالحاً للسكن‪ ،‬إل إذا تناغَمت وانسجَمت كلياً مع القرى اليكولوجية‪.‬‬ ‫ف هذه السلسِل الجبليِة الممتدِة من أمانوس إلى‬ ‫إني أُقَّيم الش ةعوَب الهلةَ القاطنةَ منُذ القَِدم إلى اليوم تحت َكنَ ِ‬ ‫شها في قَِمِم تلك الجباِل‬ ‫ب اللهة واللهات المترّب ةعِة على ُعُرو ِ‬ ‫زاغروس بأنهم ال ةعابرو ن المقّدسو ن على در ِ‬ ‫سها هو الصحيح‪.‬‬ ‫الشاهقة‪ .‬لقد أوصبْح ُ‬ ‫ت مقتن ةعا ً يقينا ً أّ ن تهمة الرج ةعية وف َ‬ ‫ق وجهِة نظِر الحداثة‪ ،‬إنما عك ُ‬ ‫وباعتباِر أّ ن الرج ةعية – التقدمية ليست سوى أحكاماً أيديولوجية‪ ،‬وأ ن تحليَل ذهنيِة الحداثِة الرأسمالية ي ةعني‬ ‫ص في العما‪.‬ق النسانية الحقة‪ ،‬لنها ليست رج ةعية فحسب‪ ،‬بل وهي ال ةعدّو اللدود للبشرية؛ فَُكّلي إيماٌ ن‬ ‫الغو َ‬ ‫ت ال ةعودَة ال ةعظمى إلى الحرية‪ .‬وبالنجاِة ِمن س ةعيِر الحداثة المؤّلفة ِمن جشِع الربح‪ ،‬والصناعِة‪،‬‬ ‫بأني َحّقق ُ‬ ‫ُ‬ ‫والدولتيِة القومية‪ ،‬غدا كّل شيٍء مفهوما ً أكثر‪َ ،‬ويَنُّم عن ِغنى م ةعاني الحياة‪ .‬والهتماُم والهياُم اللذا ن أوِليِهما‬ ‫لَِجْثَوٍة )َكوَمٍة( ترابيٍة متبقيٍة ِمن ال ةعهِد النيوليتي‪ ،‬ل أُبَّدلهما حتى بنيويورك ‪ .Newyork‬فهذه المدينةُ الجوفاُء‬ ‫وصرِة‬ ‫الخاليةُ ِمن الم ةعاني‪ ،‬والفاتحةُ أبواَبها على مصاري ةعها أماَم المزيِد ِمن "الحياِة الُمربَِحِة"‪ ،‬وِمن ُمحا َ‬ ‫ش الصناعة"؛ ل م ةعنى لها سوى َكونها إحدى النسخ الم ةعدومة‬ ‫النساِ ن ضمن "قف ٍ‬ ‫ص حديدي"‪ ،‬وأماَم "وحو ِ‬ ‫ت الثنتين والسب ةعين" التي ل يفهم أحد فيها شيئاً من الخر‪ .‬ول ُيراوُدني أدنى‬ ‫ت اللغا ِ‬ ‫الم ةعاني لمدينِة "بابل ذا ِ‬ ‫ص البشريِة يَُمّر ِمن هدِم البنية السرطانية للمدنية‪.‬‬ ‫شّك من أّ ن خل َ‬ ‫َ‬ ‫ف التشبيه والتذكير بماهيِة ثقافِة الحياة التي ننحدُر منها‪ .‬ذلك أننا لن‬ ‫صص ُ‬ ‫لقد قَ َ‬ ‫ت هذه القصة القصيرةَ بهد ِ‬ ‫ب دوِر "حمقى الحداثة"‪ ،‬ما َلم ُندِرْك باقتداٍر وكفاءٍة نم َ‬ ‫ط هذه الحياة‪ ،‬التي هي ثمرةٌ من ثماِر‬ ‫ننجَو من لَِ ةع ِ‬ ‫سُر الجميَع لَِتطاَل حتى‬ ‫الواقع الجتماعي المشّيد‪ .‬ومن دو ن الن ةعتا‪.‬ق من نمِط حياِة الحداثِة السرطانية‪ ،‬التي َتأ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ق بها‬ ‫سَ ةعينا ليضاحها عبر ال ةعبارات التي نط َ‬ ‫الراعَي على ذرى الجبال‪ ،‬وت ةعني في جوهرها نهاية الحياة‪ ،‬والتي َ‬ ‫أكثُر الفلسفِة تمرسا ً ومهارًة‪ ،‬والتي َلم يكن شكي في كونها كذلك أقل درجة من شكوك الخرين؛ فمن غيِر‬ ‫ش ضمَن الحياة الحرة التي مّهدنا لها بذهنيتنا وإرادتنا )الفكر‪ ،‬التنظيم‪ ،‬الف ةعل(‪ ،‬وضمن كّل‬ ‫الممكن لنا ال ةعي ُ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ب في أنماِط‬ ‫غناها الذي تتميُز به هي ومصادرها‪ .‬وسوف نِ ةعي – عاجل أم آجل – أنه "من المحاِل ال ةعي ُ‬ ‫ش بصوا ٍ‬ ‫ت وسيناريوهات خاطئة"‪.‬‬ ‫حياتنا الراسيِة على تصورا ٍ‬ ‫سُردها قليلً باللغة ال ةعلمية‪ .‬إّ ن الوقائَع الجتماعيةَ المشّيدَة في الهلل الخصيب تستمّر بوجودها‬ ‫صَتنا ونَ ْ‬ ‫سْط قِ ّ‬ ‫لَِنب ُ‬ ‫في ديمومِة الحياة الراهنة‪ ،‬ولو بخطوطها ال ةعريضة‪ .‬فال ةعوامُل الذهنيةُ وال ةعناوصُر الثقافيةُ المادية على حّد سواء‬ ‫ت الكميِة والنوعية الطارئِة عليها‪ .‬واللغةُ مشتركةٌ في بنيتها‬ ‫ض التغّيرا ِ‬ ‫متشابهةٌ في المضمو ن‪ ،‬رغَم ب ةع ِ‬ ‫ب‬ ‫الساسية‪ .‬وأشكاُل الفكِر تستمر بوجودها على نحٍو منفصٍل في الميادين ال ةعلمية والدينية والفنية‪ .‬وحرو ُ‬ ‫ع والهجوم مستمرةٌ اليوَم مثلما كانت في المس‪ .‬كما ل تزال ال ةعائلةُ تحافظ على واق ةعها كمؤسسٍة أولية‪.‬‬ ‫الدفا ِ‬ ‫سَ ةعةُ‬ ‫أما الفوار ُ‬ ‫‪.‬ق الموجودةُ فيما بينها‪ ،‬فُت ةعزى إلى استنادها على تَ َ‬ ‫ضّخِم مؤسسِة الدولة‪ .‬فكلما زادت الدولةُ الُمتّ ِ‬ ‫ي ضمن ُملِكيِّتها‪َ ،‬أطَرَأت عليهما‬ ‫ج الذهنيِة الجتماعيِة والزخِم الثقافّي الماد ّ‬ ‫دوماً على حسا ِ‬ ‫ب المجتمع من إدرا ِ‬ ‫ف‬ ‫ت كميٍة ونوعية وفقاً لحاجاتها ومناف ةعها‪ .‬أما التطورا ُ‬ ‫ت الجتماعية‪ ،‬فقد استمّرت بوجودها رغَم أن ِ‬ ‫تغييرا ٍ‬ ‫ت الساسية لثقافِة المدينة –‬ ‫س ما ُي ةعتَ​َقد‪ .‬سوف نجهُد لضفاِء الم ةعاني السليمِة على الجراءا ِ‬ ‫الدولة‪ ،‬على عك ِ‬ ‫ت الدول‪ ،‬بدءاً من دولِة الرهبا ن السومريين‬ ‫ت الجتماعية المتمخضِة عن كيانا ِ‬ ‫المسماِة بالحضارة – والمحصل ِ‬ ‫شَرت الطبقيَة‬ ‫إلى الدولة القومية للحداثِة الرأسمالية‪ .‬وسنجد على وجِه التخصيص كيف أّ ن الدولةَ هي التي نَ َ‬ ‫ع م ةعقودٍة متش ةعبة‪ ،‬وليس ال ةعكس‪.‬‬ ‫بالغلب على نحِو فرو ٍ‬ ‫إني على قناعٍة بأّ ن مصطلَح "الفترة" الذي َ‬ ‫طَرَحهُ فرناند بروديل لم ُيستوَعْب كفايةً من جهِة دوِرِه في التطوِر‬ ‫ص بالذكر أّ ن أنما َ‬ ‫ت الفترة – الثقافة‪ ،‬الفترة – الحضارة‪ ،‬والفترة – المجتمع‬ ‫الجتماعي‪ .‬ونَُخ ّ‬ ‫ط مصطلحا ِ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ق بمهارة في علِم التاريخ‪ .‬لذا‪،‬‬ ‫تستلزم اليضاَح والشرَح‪ ،‬لِتَُكوَ ن مساَهمة مني ةعة في التاريخ‪ .‬لكنها ل ُتطبّ ُ‬ ‫ح هذا المصطلح واستخداِمِه بكّل جسارة في تحليلتي هذه‪:‬‬ ‫سأعمُل على شر ِ‬ ‫َ‬ ‫شّكِل للنهِر الم في‬ ‫ي الرابع‪ ،‬كا ن على مجتمِع الهلل الخصيب الُم َ‬ ‫آ‪" -‬الفترة الطول"؛ فَب ةعَد َتراُجِع ال ةعهِد الجليد ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ي جديٌد مشابه‪ ،‬أو تَُحّل عليه كارثة نووية‪،‬‬ ‫سَريانه‪ ،‬إلى أْ ن يأتَي عليه عصٌر جليد ّ‬ ‫الثورِة النيوليتية أْ ن يستمّر بِ َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ب أخرى مشاِبهٍة َيبلغ بها حالة ل يمكنه فيها‬ ‫ويستشري في جسِدِه وباٌء ل يمكن َ‬ ‫وصّدهُ أو َدرُءُه‪ ،‬أو لسبا ٍ‬ ‫الستمراُر طبي ةعيًا‪َ .‬تحتَّل الثقافتا ن ذات المنشأ ِ الصينّي والسامّي مكاَنهما في هذا المجتمع ذي "الفترة الطول"‬ ‫ي‬ ‫سواِقي بالنسبِة إلى النهِر الم‪ِ .‬من الضرور ّ‬ ‫على شكِل فرَعين‪ .‬أما الفروُع الثقافيةُ الصغيرةُ الخرى‪ ،‬فهي كال ّ‬


‫شيُّد‪ ،‬بكافِة عناوصره وعواملِه الذهنيِة والثقافية‬ ‫سن‪ .‬فالمجتمُع الُم َ‬ ‫إدراُك البنيِة الداخلية لهذه الطروحة بشكٍل َح َ‬ ‫ب اجتماعّي داخلّي أْ ن َيهِدَمهُ خلَل هذه الفترة‪ .‬يمكننا استخداُم‬ ‫المادية‪ ،‬منيٌع ووطيٌد لدرجٍة ل يمكن ل ّ‬ ‫ي سب ٍ‬ ‫ب طرِحَي المتكرُر لقوالبِ​ِه ومضامينِ​ِه وتراكماتِ​ِه‬ ‫ح "المجتمِع الثقافّي الولي" مقابَل هذه الفترة‪ .‬ي ةعوُد سب ُ‬ ‫مصطل ِ‬ ‫ح "الفترة الطول"‪ .‬ذلك أّ ن‬ ‫غ ت ةعري ٍ‬ ‫ف لـ"المجتمع الثقافي الولي" الُم ةعاِدِل والمكافِ ئ لوصطل ِ‬ ‫إلى َمراِمي في بلو ِ‬ ‫ت نفيسٍة ل ةعلِم الجتماع بم ةعانيهما الجديدِة هذه‪ .‬يس ةعى علماءُ‬ ‫مصطلَحي الفترة والمجتمِع ُمَخّول ن لتقديِم مساَهما ٍ‬ ‫سيرورة إدراكاتهم الجتماعية إلى البد بميتافيزيقيٍة مزّيفٍة عبَر‬ ‫ع الليبراليو ن منذ ال ن إلى العتقاِد بِ َ‬ ‫الجتما ِ‬ ‫ف "المحشريِة" الخرى يَِ ةعُدو ن بـ"عصِر‬ ‫ح "نهايِة التاريخ"‪ .‬فقد كا ن الماركسيو ن وأوصحا ُ‬ ‫ب المواق ِ‬ ‫مصطل ِ‬ ‫س ةعادٍة أبدية" مبتورٍة من الب ةعاد الّزَمكانية‪ .‬في حيِن أّ ن المتشائمين السوداويين يَُرّجحو ن استذكاَر مفهوِم‬ ‫"ال ةعصِر الذهبي" الغابر‪ ،‬والحديَث الببغائّي عن عدميِة الم ةعاني في "ال ةعصِر الصفيحي" الراهن‪.‬‬ ‫ج واضحٍة‬ ‫ُي ةعتبَُر مصطلُح الفترة الطول أكثَر علميةً بالنسبة لكافِة هذه النظريات الجتماعية‪ ،‬حيث يَُمّدنا بِ​ِحَج ٍ‬ ‫ث‬ ‫بصدِد الظروف الملموسِة وبدايِة النظام الجتماعي ونهايته‪ .‬هذا ول َيخنُ ُ‬ ‫ق التاريَخ في إطاِر أكواٍم من الحدا ِ‬ ‫المتكدسة‪ ،‬ول ُيسِقطه إلى مستوى أشكاِل المجتمع الضيقِة والمرحليِة البسيطة‪ .‬فل الحدا ُ‬ ‫ث النية‪ ،‬ول أشكاُل‬ ‫ح‬ ‫المجتمع تتميز بالكفاءة والقدرِة على تفسيِر م ةعاني الحياة بشكٍل شامل‪ .‬ول تنجح سوى في إعطاِء شرو ٍ‬ ‫نسبيٍة في هذا المضمار‪.‬‬

‫ق‪ ،‬القتصاِد‪ ،‬والسياسةِ‬ ‫ن‪ ،‬الحقو ِ‬ ‫ل الدين‪ ،‬الدولِة‪ ،‬الف ّ‬ ‫ثمة مساحٌة شاسعٌة لكافِة المؤسسات الولية من َقِبي ِ‬ ‫ع الثقافي الساسي ضمن إطاِر الفترة الطول‪ .‬هذا ويطرأ التغييُر المستمر على المؤسسا ِ‬ ‫ت‬ ‫ل المجتم ِ‬ ‫داخ َ‬ ‫كما و‬ ‫ن إجراءاِتها‬ ‫ل الِقّلة منها‪ ،‬فإ ّ‬ ‫ة لها‪ .‬وبينما تزو ُ‬ ‫م بالمقابل تلك المضاد ُ‬ ‫ضها‪ ،‬تتضخ ُ‬ ‫ض بع ُ‬ ‫وعا‪ .‬فبينما َيَتَقّو ُ‬ ‫ق عام‪ ،‬يمكننا القول‬ ‫ة أو في أخرى جديدة‪ .‬وعلى نطا ٍ‬ ‫ت مغاير ٍ‬ ‫وفاعلياِتها تستمر بمعانيها‪ ،‬إما في مؤسسا ٍ‬ ‫حاِدّيَة المجتمع الثقافي‬ ‫ن أُ َ‬ ‫ع المؤسسات والمصطلحات‪ .‬كما أ ّ‬ ‫ة فيما بين جمي ِ‬ ‫ت جدليٌة َبّناء ٌ‬ ‫أنه ثمَة علقا ٌ‬ ‫ة داخَلية‪.‬‬ ‫ت جديد ٍ‬ ‫ء تكوينا ٍ‬ ‫ء أو ِمن بنا ِ‬ ‫ه ِمن شركائه القويا ِ‬ ‫جّرُد ُ‬ ‫الساسي ل ُت َ‬ ‫خْلِقيون"‬ ‫خْلِقيين "‪ .‬فـ"ال َ‬ ‫ع بين "التطوريين" و"ال َ‬ ‫ع النزا ِ‬ ‫وفي هذه النقطة بالذات يمكننا استيعاب دواف ِ‬ ‫ت اللهيِة‬ ‫مدركون ومنتبهون لمصطل ِ‬ ‫ح "الفترة الطول"‪ ،‬ويستمدو ن منه قوتَُهُم الساسية‪ .‬بالمقدوِر َ‬ ‫سرُد اليا ِ‬

‫ق الكو ن ونهايته بمفهوٍم ثقافي‪ .‬ولدى تفسيرنا لهم من زاويٍة سوسيولوجية‪ ،‬نجد أّ ن‬ ‫التي تنص على فترة َخْل ِ‬ ‫ب المقّدسةُ‬ ‫ص المقّدسِة والساميِة وال ةعظيمِة للمجتمع المشّيد‪ .‬وبالوصل‪ ،‬ما الكت ُ‬ ‫الرأ َ‬ ‫ع للخصائ ِ‬ ‫ي الَخْلِقي وا ٍ‬ ‫الثلثة )التوراة‪ ،‬النجيل‪ ،‬والقرآ ن( سوى تفاسيُر ت ةعمل على سرِد الحياة المقّدسِة والساحرِة في الهلل‬ ‫ب ماهيِة تفاسيرها‬ ‫الخصيب‪ .‬وما اعتنا ُ‬ ‫‪.‬ق الغالبيِة الساحقة من البشرية لهذه الدياِ ن الثلثِة الكبرى سوى بسب ِ‬ ‫تلك‪ .‬فالزعُم بأّ ن هذه الحياةَ الثقافيةَ الجديدةَ المتحققةَ كم ةعجزٍة خارقة )هذا المصطلح مفهوٌم لجل تلك الحقبة‬ ‫صّوْر‬ ‫النسانية( ستستمر إلى أبد البدين‪ ،‬وَجْ ةعِل ذلك عقيدًة أولية؛ إنما يشير إلى مدى قوِة تأثيِر هذه الثقافة‪ .‬لِنَتَ َ‬ ‫ب الثدييات البدائية على َمّر‬ ‫ت البشريةَ التي َلم تن ةعت ْ‬ ‫ت وضربا ً من ضرو ِ‬ ‫ق من كونها كلنا ٍ‬ ‫م ةعا ً كيف أّ ن المجموعا ِ‬ ‫مليين السنين تصبح وجها ً لوجٍه أماَم ثورٍة استثنائيٍة خارقٍة في الهلل الخصيب‪ ،‬وأمام إنشاٍء اجتماعّي ل‬ ‫س وساٍم وإلهّي وكأنه‬ ‫يمكن ت ةعريُفه إل بمفردِة الم ةعجزة‪ .‬فهل سيتواَنو ن أو يتَخلُّفو ن عن مواجهتها كأمٍر مقّد ٍ‬ ‫عيد؟‬ ‫َ‬ ‫ت النظار فوراً إلى أّ ن السوسيولوجيين ِمن أمثاِل دوركايم وال ةعلمويين الخرين لم يذهبوا أب ةعَد ِمن النظِر‬ ‫لَِنلفُ ِ‬ ‫ع الحداث والمؤسسات‪ ،‬ليس إل‪ .‬ولذلك‪ ،‬ل تتجاوُز‬ ‫إلى المجتمِع على أنه مجموعا ٌ‬ ‫ت بشريةٌ مؤّلفةٌ من مجمو ِ‬ ‫ث‬ ‫التفسيرا ُ‬ ‫ت المت ةعددةُ على وص ةعيد الطبقية والدولة والقتصاِد والحقو‪.‬ق والسياسِة والفلسفة والدين َمنِط َ‬ ‫ق الحدا ِ‬ ‫ب‬ ‫ب عدم رواج هذه المواقف بما ي ةعادل حتى قيمةَ كتا ٍ‬ ‫والمؤسسات‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فهي ل تَ​َوّد البتة إدراَك أسبا ِ‬ ‫مقّدس واحد‪ .‬نقطةُ الض ةعف الهّم في سرودهم تكمن في عدِم استي ةعابهم أهميةَ مجتمِع الفترة الطول‪ .‬علّي‬ ‫ت‬ ‫التشديُد مجّدداً على أّ ن البشريِة تمتلُك الذاكرة الغائرَة العما‪.‬ق لقصتها‪ ،‬ولن تتخلى عنها بسهولة‪ .‬والمجتم ةعا ُ‬ ‫ض الرموز والتراتيل المجردة‬ ‫– على عكس ما ُي ةعتَ​َقد – ليست متشبثًة بالكتب الدينية المقدسة بسب ِ‬ ‫ب الرب وب ةع ِ‬ ‫ص حياتها فيها‪ .‬ولنها تؤدي دوراً‬ ‫التي تؤلفها‪ .‬بل إنها تُِجّلها وتُبَّجُلها لحساسها وش ةعورها بم ةعاني وآثاِر قِ َ‬ ‫ص ِ‬ ‫مماثلً لذاكرِة المجتمع الذي يحيا بشكٍل ما‪ ،‬فهي مندرجةٌ بين الضرورات التي ل غنى عنها‪ .‬أما مدى وصحِة أو‬ ‫خطأِ الحداث والمصطلحات التي تنص عليها‪ ،‬فهي تفاوصيٌل من المرتبة الثانية‪ِ .‬من هنا‪ ،‬وعندما قال فرناند‬ ‫خ السوسيولوجيا"‪ ،‬إنما َيلفُ ُ‬ ‫بروديل عن وجِه ح ّ‬ ‫س ْ‬ ‫ب" َ‬ ‫ت النظاَر إلى الخطأِ‬ ‫ق بوجو ِ‬ ‫سلَ​َجِة التاريخ وتَأِْري ِ‬ ‫ت الفترة – المجتمع ضمن مساِر التاريخ بم ةعانيها القّيمة‪ ،‬لن‬ ‫ب وال ةعلم‪ .‬فبدو ن تبياِ ن علقا ِ‬ ‫الساسّي في السلو ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫سِد الواقع الجتماعي‪،‬‬ ‫جرو‬ ‫ث‬ ‫إحدا‬ ‫من‬ ‫المنفصلة‬ ‫ة‬ ‫والسوسيولوجي‬ ‫ة‬ ‫التاريخي‬ ‫تنجَو الشروُح‬ ‫ح عميقة في َج َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ت والقواعَد‬ ‫وإفقاِدِه كّل م ةعانيه‪ .‬كّدسوا الوقائَع الم ةعتمدة على الوثائق قدَر ما تشاءو ن‪ ،‬واحفظوا المؤسسا ِ‬


‫ضحوها بالوثائق كيفما تَ​َوّدو ن؛ لكْن‪ ،‬لن تذهب مساَهماُتكم في علِم الم ةعنى‬ ‫الجتماعيةَ قدر ما ترغبو ن‪ ،‬وو ّ‬ ‫ت فظة‪ ،‬ما لم تُِجيبوا عن السئلة‪ :‬ما الذي يقوله الحياء‪،‬‬ ‫التاريخّي والسوسيولوجي أب ةعَد من كونها لوازُم وأدوا ٌ‬ ‫بأي م ةعنى‪ ،‬أين‪ ،‬ومتى؟‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫ت الوقائِع والظواهر على نحٍو أفضل‪ ،‬إل أنهم لن َيخلصوا من النتقادا ِ‬ ‫رغَم أّ ن التطوريين يقومو ن بتثبي ِ‬ ‫ي والطبي ةعي‬ ‫ح الفترة الجتماعية‪ .‬ذلك أّ ن الذاكرةَ الجتماعيةَ أهّم ِمن التطوِر التطور ّ‬ ‫لفتقاِرِهم لم ةعاني مصطل ِ‬ ‫للوقائِع والظواهر‪ .‬كما أّ ن ِعلَم الم ةعنى بالنسبِة إلى النسا ن يتميُز بالسبقيِة على تسجيِل الظواهر‪ ،‬لّ ن أنماطَ‬ ‫حياتهم تسيُل فيه كالنهر الجاري‪ .‬أما عدُم تَ​َخّليِهم عن الرب‪ ،‬فُي ةعزى إلى قوِة الذاكرِة الجتماعية‪ .‬فالمجتمُع –‬ ‫ح الرب‪ِ .‬من هنا‪ ،‬فلن تنجَو الظواهريةُ –‬ ‫ح ذلك لحقاً – يكاف ئ بين ذاكرتِ​ِه ومصطل ِ‬ ‫مثلما سنستفيض في شر ِ‬ ‫ً‬ ‫سهاِم النقِد اللذع‪ ،‬ما داَمت ُم ةعاِرضة في أساسها لذاكرِة المجتمع‪ ،‬وبالتالي‬ ‫التي هي داُء الحداثة – من ِ‬ ‫لميتافيزيقيته‪ .‬فكيفما أّ ن النساَ ن ال ةعديَم الذاكرِة يلقي مصاعَب جمٍة ويتحوُل إلى طفٍل في الحياة‪ ،‬كذلك‬ ‫ت‬ ‫ت التي َتفقُ​ُد ذاكرَتها تَُكوُ ن وجهاً لوجه أماَم مخاطِر نسيا ن ذاتها والضياع‪ .‬بالتالي‪ ،‬فالمجتم ةعا ُ‬ ‫فالمجتم ةعا ُ‬ ‫المفتِقدةُ‬ ‫ض بكّل سهولٍة للست ةعماِر والستغلل والغزو والنصهار‪.‬‬ ‫الت ةعر‬ ‫من‬ ‫و‬ ‫تنج‬ ‫لن‬ ‫تها‬ ‫لذاكر‬ ‫َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫رغَم ادعاِء الوض ةعيين الظواهريين بت ةعريفِ​ِهم ال ةعلمّي للمجتمع‪ ،‬إل أّ ن المدرسة الفكرية القّل م ةعرفة بالمجرى‬ ‫سيرها للمجتمِع على أنه أكواٌم ماديةٌ بحتة مبتورةٌ عن‬ ‫الحقيقّي للمجتمع هي المدرسةُ الوض ةعيةُ الظواهرية‪ .‬فَبَِتف ِ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ق أمام أكثِر ال ةعمليات‬ ‫التاريخ‪ ،‬وبت ةعريِفها إياه على منواٍل هو الكثُر انحرافا ً وتَ َ‬ ‫شّوها ونقصانا؛ إنما َتفتَُح الطري َ‬ ‫الجتماعية خطورة‪ِ .‬من هنا كا ن اوصطلُح الهندسِة الجتماعية على علقٍة وثيقٍة بالمدرسِة الوض ةعية‪ ،‬التي‬ ‫ف‪ ،‬التي هي في الِ ن عينِ​ِه‬ ‫ح المرغوبة للمجتمع بالتدخِل الخارجي‪ .‬هذه المواق ُ‬ ‫َت ةعتَقُِد بإمكانيِة رسِم الملم ِ‬ ‫َ‬ ‫ب الناشبِة داخَل المجتمع‬ ‫مفاهيُم رسميةٌ للحداثة‪ ،‬تُ َ‬ ‫ب السلطة والستغلل والسل ِ‬ ‫شّكُل الذرائَع الشرعية لحرو ِ‬ ‫وخارَجه‪.‬‬ ‫ت المؤسساتية الساسية في التطوِر الجتماعي‪ .‬فقد‬ ‫ح الفترة البنيوية مع التحول ِ‬ ‫ب‪ -‬يمكننا تكييف مصطل ِ‬ ‫ف فترات إنشاِء البنى الساسية وانهياِرها في إضفاِء الم ةعاني على الواقع الجتماعي‪ .‬وباتخاِذ وضع‬ ‫يساهم ت ةعري ُ‬ ‫القمع والستغلل لدى النسا ن مقياسًا‪ ،‬سيكو ن بالمكا ن ج ةعُل التقسيم السائد للمجتم ةعات إلى عبوديٍة‪ ،‬إقطاعية‪،‬‬ ‫ح ثمينة‪ .‬فرب ُ‬ ‫ط الفترات البنيوية بأشكاِل المجتم ةعات تلك قد نَّم عن بروِز‬ ‫رأسماليٍة‪ ،‬واشتراكية موضوعا ً لشرو ٍ‬ ‫َ‬ ‫ت قّيمٍة مع مصطلَحي الفترة الطوِل والفترة القصيرة‪،‬‬ ‫ب عدِم قدرتها على َعقِد وصل ٍ‬ ‫ت هامة‪ .‬لكْن‪ ،‬وبسب ِ‬ ‫أدبيا ٍ‬ ‫سلِّم بها‪.‬‬ ‫فهي تبقى عاجزةً عن ال ةعطاء‪ ،‬ومتخبطةً في تكراِر قوالب الم ةعاني المحفوظة والُم َ‬ ‫ي والثقافّي الولي بشكٍل متداخل‪ .‬فمثلما يمكُن‬ ‫بالمقدور تفسيُر المجتمع النيوليتي عبَر فترات المجتمَ ةعين البنيو ّ‬ ‫ت الذهنيِة والحياِة المادية الخاوصِة به عبَر "الفترة البنيوية"‪ ،‬كذلك‬ ‫إيضاُح البنى المؤسساتية وتراكما ِ‬ ‫ح "الفترة الطول" نظراً لسيرورِة تأثيراتِ​ِه الثقافية – التي ل تزال قائمةً – إلى‬ ‫بمستطاعنا إيضاُحهُ عبَر مصطل ِ‬ ‫ف موضوُع فترات المجتمع الثقافّي الولي أساساً من ال ةعلم‪ ،‬الفن‪،‬‬ ‫ضِه للبادِة الجسدية‪ .‬يتأل ُ‬ ‫حيِن انهياِرِه أو تَ​َ ةعّر ِ‬ ‫ت البشرية الواس ةعِة‬ ‫والمجموعا‬ ‫الذهنية‬ ‫أشكال‬ ‫تؤلف‬ ‫فهي‬ ‫شابهها‪.‬‬ ‫وما‬ ‫والقوم‬ ‫ة‪،‬‬ ‫الثني‬ ‫الديِن‪ ،‬اللغِة‪ ،‬ال ةعائلة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫النطا‪.‬ق كاحتماٍل راجح‪ ،‬لنها تبقى محافظة على وجودها إلى حيِن انقضاِء الفترة‪ ،‬حتى ولو طرأت عليها‬ ‫ج كافِة الفروع ال ةعلمية‪ ،‬تَُ ةعّد اليكولوجيا في هذه المرحلة من إحدى المواضيِع‬ ‫التَّغّيرات المختلفة‪ .‬وارتباطا ً بنتائ ِ‬ ‫ُ‬ ‫ب‬ ‫التي تُ َ‬ ‫س القتصادي‪ .‬والسياسة الديمقراطية أيضاً من المواضيع الواج ِ‬ ‫شّكُل حجَر الزاوية َكِ ةعلٍم َم ةعنِّي بالتمأس ِ‬ ‫ال ةعمل بها دائمًا‪ ،‬سواًء كِ ةعلم‪ ،‬أو كمؤسسة‪.‬‬ ‫شّكُل المؤسسةَ الولى والهّم في الفترات البنيوية‪ ،‬فِمن‬ ‫س الدولِة وأنماِط حياتها يُ َ‬ ‫وبالضافة إلى أّ ن تأسي َ‬ ‫ت‪ ،‬الُمْلِك والرض والوطِن التي تَُ ةعّين‬ ‫ب الدولة يأتي كّل ِمن الهرميِة‪ ،‬الطبقا ِ‬ ‫مواضي ةعها الهامِة الخرى إلى جان ِ‬ ‫حدوَد الدولة‪ ،‬وأشكاِل الدولِة المتمثلة في دولِة الرهبا ن ودولِة السللت والدولِة الجمهورية والدولِة القومية‪.‬‬ ‫ت وفقا ً لنماِط النتاج‬ ‫كما تَُ ةعّد الشكاُل الدينيةُ موضوعا ً هاماً فيها‪ .‬وكذلك فالمواضيُع التي تُقَ ّ‬ ‫سُم المجتم ةعا ِ‬ ‫ضّمِنها‬ ‫)نيوليتية‪ ،‬عبودية‪ ،‬إقطاعية‪ ،‬رأسمالية‪ ،‬اشتراكية( َتنَدِرُج ضمن مواضيِع الفترة البنيوية‪ ،‬إلى جانب تَ َ‬ ‫موضوَع انهياِر المؤسسات أيضًا‪.‬‬ ‫قد يكو ن من المناسب تسميةُ‬ ‫ث في المواضيِع البنيوية‬ ‫الباح‬ ‫الجتماع‬ ‫م‬ ‫عل‬ ‫من‬ ‫المتش ةعبة‬ ‫ع‬ ‫الفرو‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ث في الفترة الطول بـ"سوسيولوجيا الثقافة‬ ‫بـ"السوسيولوجيا البنيوية"‪ .‬كما أّ ن تسمية مواضيِع البح ِ‬ ‫ق النسجاِم فيه‪.‬‬ ‫الولية" ستكو ن في َمَحّلها من جهِة َتكاُمِل الطار وتحقي ِ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ع الوقائع والظواهر المت ةعددِة كما وكيفا‪ .‬كما‬ ‫ج‪َ -‬تشتَِمُل مواضيُع الفترات الوسطى والقصيرِة على موضو ِ‬ ‫ث التَّغّيِر والتحوِل الثقافي والبنيوي كمواضيَع أساسية‪ .‬في حيِن أّ ن مواضيَع المرحلِة‬ ‫تَتَ َ‬ ‫ضّمُن كّل أحدا ِ‬ ‫ً‬ ‫ت البنيوية عيِنها‪ .‬على سبيِل المثال‪،‬‬ ‫المتوسطة تهتّم بالتغييرات الطوِل عمرا والبارزِة للوسط ضمن المؤسسا ِ‬ ‫ع المؤسسات التنظيمية‪،‬‬ ‫أنوا‬ ‫ت النظِم السياسية‪ ،‬وشتى‬ ‫ت القتصادية‪ ،‬تَ​َغّيرا ِ‬ ‫ج الزما ِ‬ ‫ِ‬ ‫يمكن التفكيُر بإدرا ِ‬ ‫ُ‬ ‫ت الجتماعية‬ ‫النشاطا‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫بر‬ ‫ت ةعت‬ ‫و‬ ‫هذا‬ ‫الطار‪.‬‬ ‫هذا‬ ‫ضمن‬ ‫وال ةعملياتية‬ ‫ة‬ ‫والسياسي‬ ‫ة‬ ‫والجتماعي‬ ‫القتصاديِة منها‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫والمجتم ةعيِة للفرد من المواضيِع الرئيسية للفترة القصيرة‪ .‬إضافة إلى أّ ن الوسائَل العلمية أيضا ً تَتِّخذ ِمن‬ ‫الوقائِع والظواهِر القصيرِة المِد أساساً لها بالرجح‪ .‬هذا وَتحتَّل الحدا ُ‬ ‫ث اليوميةُ الجارية في كّل مؤسسٍة‬


‫بنيويٍة مكانَة الصدارة في الفترة القصيرة أيضًا‪.‬‬ ‫وباعتباِر أّ ن ِعلَم الجتماع هذا م ةعنّي أساساً بالوقائِع المندرجة ضمن الفترة القصيرة‪ ،‬فقد يكو ن َن ةعتُهُ بـ‬ ‫سوسيولوجيا أوغست كومت تسميًة وصائبة‪ .‬بم ةعنى آخر‪ ،‬سيكو ن من النسب تسميُته بـ"السوسيولوجيا‬ ‫الوض ةعية" )مع عدِم التغاضي عن انتقاداِتها الساسية(‪ .‬وبالف ةعل‪ ،‬يجب أْ ن يكو ن للسوسيولوجيا فرٌع م ةعنّي‬ ‫ق‬ ‫ص بالذكر أّ ن الوقائَع تكو ن ُمَ ةعّينةً ولها وزُنها في مراحِل الفوضى الَحِرجة‪ .‬وسيَتَ​َحقّ ُ‬ ‫بالبحث في الوقائع‪ .‬ونَُخ ّ‬ ‫التكاُمُل في حاِل َلحِم علِم الجتماع بالسوسيولوجيا الثقافيِة الولية والبنيوية‪ ،‬والسوسيولوجيا الوض ةعية‪ ،‬التي‬ ‫هي عبارة عن سرٍد وقائ ةعي‪.‬‬ ‫ث الجتماعية‪ ،‬تحتاج الوس َ‬ ‫ت الكونية‪ ،‬بما فيها الحدا ُ‬ ‫ط الذي نسميه‬ ‫والكيانا‬ ‫وفيما عدا ذلك‪ ،‬فَُكّل الوقائِع‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ق وتكوين‪ .‬ووجوُدها مؤّكٌد‪ ،‬رغم عدِم‬ ‫بالكوانتوم والفوضى‪ .‬ذلك أّ ن أوساط الكوانتوم والفوضى أوساط َخل ٍ‬ ‫ص والتدقيق في أغوارها ب ةعد‪ .‬لذا‪ ،‬فِمن بين المواضيِع الهامة التي َجَذَبت اهتماَم ال ةعلوم مؤخراً هو َكوُ ن كّل‬ ‫الغو ِ‬ ‫ً‬ ‫ت الفترات الطويلة والمتوسطة والقصيرِة تبقى محاِفظة على وجودها بفضِل "الوقائع‬ ‫الكيانات والتكوينات ذا ِ‬ ‫الجارية" في "كّل لحظة" وفي "الفواوصِل القصيرة" على َحّد سواء‪ .‬هذا النوُع من "لحظِة الَخْلق"‪ ،‬والذي‬ ‫يمكننا تسميُته بـ"لحظِة الكوانتوم" و"فاوصِل الفوضى"‪ ،‬ل َيحتَِمل الهماَل بتاتًا‪ .‬واحتماُل الحرية في الكو ن إنما‬ ‫ق" تلك‪ .‬ذلك أّ ن كّل البنى الموجودِة في الطبي ةعة‬ ‫يَتَ​َحقّ ُ‬ ‫ق في هذه "اللحظة"‪ .‬والحريةُ ذاُتها مت ةعلقةٌ بـ"لحظِة الَخْل ِ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ت الخلق"‪ ،‬رغم اختلف نوعيتها من حيث التكوين‪ ،‬وِمن حيث فترات الحياِة‬ ‫والمجتمع بحاجة إلى "لحظا ِ‬ ‫والحفاِظ على الوجود‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫‪.‬ق اسٍم على علِم الجتماع الم ةعنّي بمواضيِع الخلق في‬ ‫إذ ن‪ ،‬والحاُل هذه‪ ،‬سيكو ن من المناسب التفكيُر في إطل ِ‬ ‫ُ‬ ‫ع‬ ‫الجتما‬ ‫م‬ ‫عل‬ ‫ة‬ ‫فتسمي‬ ‫الشخصي‪،‬‬ ‫رأيي‬ ‫ب‬ ‫وحس‬ ‫الجتماعي‪.‬‬ ‫أقصِر فترة من بين الفترات القصيرة على الص ةعيد‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الم ةعنّي بالوقائع الجتماعية في "لحظة الَخْلق" بـ"سوسيولوجيا الحرية" ستكو ن في َمَحّلها المناسب‪ .‬والهّم‬ ‫ب سوسيولوجيا‬ ‫من كّل ذلك هو قناعتي بأّ ن سوسيولوجيا الحرية‪ ،‬التي يمكننا ن ةعُتها بكونها ضر ٌ‬ ‫ب من ضرو ِ‬ ‫ض‬ ‫يتمخ‬ ‫وما‬ ‫النسا ن‪،‬‬ ‫ن‬ ‫ذه‬ ‫ي لب ةعِد الحدود؛ نظراً للمرونِة المذهلة التي يتميز بها‬ ‫ُ‬ ‫الذهنية‪ ،‬هي حقٌل ضرور ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ق‬ ‫ع وخلقية‪ ،‬والبالغِة حداً منقطَع النظير في كفاءاِتها بفضِل المجتم ةعية‪ .‬ولُرّبما كا ن البحث والتدقي ُ‬ ‫عنها من إبدا ٍ‬ ‫صّدُر سوسيولوجيا الحرية المواضيَع‬ ‫في فكِر الحرية وإرادِتها في وصدارِة المواضيع الهامة‪ .‬وبطبي ةعِة الحال‪ ،‬تَتَ َ‬ ‫ب من الحرية‪،‬‬ ‫السوسيولوجيةَ الواجَب تطويُرها‪ ،‬باعتباِر أّ ن التطوَر الحاوصَل في لحظِة الَخْلق تطوٌر له جان ٌ‬ ‫ونظراً لكوِ ن هذه الفترات القصِر من الفترات القصيرة – أي "لحظةُ الكوانتوم" و"فاوصُل الفوضى" – التي‬ ‫ضُن في ثناياها الميداَ ن الجتماعي بالكثر‪.‬‬ ‫يمكننا تسميُتها أيضاً بسوسيولوجيا الَخْلق‪َ ،‬تحتَ ِ‬ ‫علوةً على ذلك‪ِ ،‬من الضروري الحدي ُ‬ ‫ب الفكر ال ةعام‪ ،‬ولو‬ ‫ث عن "الفترة الفلكية" ‪ Astronomik Süre‬من با ِ‬ ‫أّ ن موضوَعنا غيُر م ةعنّي بها‪ ،‬حي ُ‬ ‫ف مواضيَع هذه الفترة‪ .‬لكْن‪ ،‬وبالخطوط ال ةعامة‪ ،‬فإّ ن‬ ‫يكتن‬ ‫ض‬ ‫الغمو‬ ‫يزال‬ ‫ثل‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ص" في الكو ن‪ ،‬وبالتالي‬ ‫ع" و"التّقَّل ِ‬ ‫تَ​َكّوَ ن وانهياَر "الشم ِ‬ ‫س" و"الجزِر السماوية"‪ ،‬وميزة احتمال "التسا ِ‬ ‫ت ومواضيِع "الفترة‬ ‫اوصطلحا‬ ‫ة‬ ‫لئح‬ ‫في‬ ‫جها‬ ‫إدرا‬ ‫يمكننا‬ ‫قضايا‬ ‫هي‬ ‫الساسية؛‬ ‫ع"‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫قوى "الجذ ِ‬ ‫ب" و"الدف ِ‬ ‫ُ‬ ‫الفلكية"‪ .‬هذا وتأتي إشكالية ُعْمِر الكو ن في وصدارِة المواضيع التي تنتظر النقاش‪.‬‬ ‫ث السوسيولوجّي في مكاِنها‪ ،‬وفقا ً للمواضيِع التي‬ ‫ب البح ِ‬ ‫ق أفكاِرنا هذه بشأِ ن أسلو ِ‬ ‫ح وتطبي ِ‬ ‫سن ةعمل على شر ِ‬ ‫سَب‬ ‫نتناولها‪ .‬ويج ُ‬ ‫ب التجربة‪ ،‬ل غير‪ .‬لذا‪ِ ،‬من الطبي ةعّي بمكا ن أْ ن َتكتَ ِ‬ ‫ب عدَم السهو أبداً عن أنني أعمُل ِمن با ِ‬ ‫سّوَدِة مشروع‪.‬‬ ‫أفكاُرنا قيمَتها َكُم َ‬ ‫ت الجتماعية في الهلِل الخصيب‪ ،‬ولكْن بهذه الرؤية السوسيولوجيٍة هذه‬ ‫لو أَ​َعدنا التأمَل والبحَث في التطورا ِ‬ ‫شِهَدت خلَل مرحلِة الثورِة النيوليتية القائمِة في هذه المنطقة أغنى‬ ‫المرة؛ سنلحظ أّ ن سوسيولوجيا الحريِة قد َ‬ ‫َ‬ ‫خ المجتم ةعات‪ .‬فَمَع ارتداِد الجليِد بسرعٍة إلى قَِمِم الجباِل الشاهقة‪،‬‬ ‫فواوصِل الفوضى وأكثَرها عطاًء في تاري ِ‬ ‫ت المتنقلة المقتاتةُ على الصيِد وَجْمِع الثمار تَتَ​َوّجهُ نحَو الحياِة المستقرة‪ ،‬وتميُل للعتماِد‬ ‫شَرَعت المجموعا ُ‬ ‫َ‬ ‫س ِمن تجاربها في المراحِل‬ ‫الدرو‬ ‫طها‬ ‫واستنبا‬ ‫المجتم ةعية‪،‬‬ ‫بناها‬ ‫حل‬ ‫د‬ ‫ب ةع‬ ‫وذلك‬ ‫م ةعيشتها‪،‬‬ ‫في‬ ‫ة‬ ‫الزراع‬ ‫على‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ف ِمن السنين عن مكاِنها لبنًى أوسع‪.‬‬ ‫ت الل ِ‬ ‫ت الكل ن الُمَ ةعّمرِة مئا ِ‬ ‫السابقة‪ .‬إنهم وجها ً لوجٍه أماَم تَ​َخّلي جماعا ِ‬ ‫نحُن الَ ن على عتبِة حقبٍة َتشَهُد انفجاراً وتَ​َحّولً ذهنيا ً مثيرًا‪ .‬فَِ ةعَوضا ً عن ذهنيِة الكل ن القديمة‪ ،‬والُبنيِة اللغويِة‬ ‫شّكِل ذهنيِة الش ةعب والثنية القاطنة في قرى‬ ‫غيِر المنقط ةعة كليا ً عن لغِة الشارات البدائية‪ ،‬ثمةَ ان ةعطا ٌ‬ ‫ف نحَو تَ َ‬ ‫ت‪،‬‬ ‫أوسع نطاقًا‪ .‬ويتطوُر نظاُم اللغة الرمزية بوتيرٍة عليا‪ ،‬وُيبتَ​َكر َعَدٌد ل حصَر له ِمن مواّد الغذاء‪ ،‬المواوصل ِ‬ ‫ت‬ ‫ج‪ ،‬الفخاِر‪ ،‬الّرحى‪ ،‬ال ةعمرا ن‪ ،‬والمواضيِع الدينية والفنية؛ والتي تتطلب بدوِرها نظاماً من التسميا ِ‬ ‫النسي ِ‬ ‫ب الذهنية الجديدة‪.‬‬ ‫والقوال ِ‬ ‫وبينما َي ةعتَِمُد المجتمُع الجديد على حياِة القرية بالغلب‪ ،‬تَتَ​َحّوُل أواوصُر الكل ن إلى رواب َ‬ ‫ط أثنية‪ .‬هذه الشكاُل‬ ‫سُد‬ ‫الجديدةُ ِمن البنى الماديِة ل ُيمكن لها المسير‪ ،‬أو حتى البدء‪ ،‬دو ن وجوِد إطاٍر ذهنّي أغنى وأرقى م ةعنًى‪ .‬يَتَ​َج ّ‬ ‫سوِم "اللهة – الم" كرمٍز للمجتمع النيوليتي‪ ،‬جنباً إلى جنب مع بقاِء‬ ‫هذا التحّوُل الذهنّي ولغُته الجديدة في ُر ُ‬ ‫"الطوطم" كهويٍة للمجتمِع الكلنّي القديم‪ .‬فبينما َيضَمِحّل عدُد الشكال الطوطمية‪ ،‬تكتظ الوساط برسوم اللهة‬ ‫شّكُل بدوِرِه مرحلًة أرقى على الص ةعيد الديني‪ ،‬لتجلب‬ ‫سُمّو دوِر المرأِة الم‪ .‬وهذا ما يُ َ‬ ‫– الم‪ ،‬التي َترِمُز إلى ُ‬


‫م ةعها عدداً وفيراً جداً من الوصطلحات‪ ،‬وتبرز اللواحق المؤنّثَةُ في اللغة‪ ،‬والتي ستصو ن منزلَ​َتها الوليةَ في‬ ‫اللغِة الرمزية فترة طويلةً من الزمن‪ .‬ول َنبَرُح اليوَم أيضاً ن ةعثر على هذه الخاوصيِة في ال ةعديد من اللغات‪ .‬ومع‬ ‫ف من القدسية‪ .‬فالمجتمُع الجديُد ي ةعني تماما ً مصطلحاً‬ ‫بروِز اللهة – الم تشرُع المجتم ةعيةُ َتلتَِح ُ‬ ‫ف بغطاٍء كثي ٍ‬ ‫جديداً وتسميةً جديدة‪ِ .‬من هنا‪ ،‬علينا إدراُج ما أسميناه بمرحلِة الثورة الذهنية ضمَن حقِل سوسيولوجيا الحرية‪،‬‬ ‫نظراً لِتَ َ‬ ‫طّلِبها البداع‪ .‬وم ةعايشة هذه المرحلِة بشكل كثيف‪ ،‬هي ِمن المواضيِع التي أجَمَع عليها المؤرخو ن‬ ‫ت الذهنيِة والسماء‪ .‬إنه انفجاٌر أشمُل ِمن الثورِة الذهنية‬ ‫الرواد‪ .‬فالل ُ‬ ‫ف من الظواهِر ي ةعني الل َ‬ ‫ف من الثورا ِ‬ ‫الحاوصلِة في أوروبا‪ ،‬واستلزَم جهوداً حثيثةً أكثَر أوصالة وإبداعًا‪ .‬وقد ُبرِهن تاريخيا ً على أّ ن الِقسَم العظَم ِمن‬ ‫ت التي نست ةعملها اليوم قد اختُِرع وُأبِدع في تلك الحقبة‪.‬‬ ‫المصطلحات والختراعا ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ف ما هو قائم‪.‬‬ ‫سو َ‬ ‫ف فظ‪ ،‬ف َ‬ ‫ع اجتماعّي يشمل ما ل يَقِّل عن نص ِ‬ ‫وإذا ما ُقمنا بتصني ٍ‬ ‫ف نَِجُد أنها مرحلة إبدا ٍ‬ ‫ب‪ ،‬الفواكِه‪ ،‬قط ةعاِ ن المواشي‬ ‫ت‪ ،‬الم ةعماِر‪ ،‬الِغلل والحبو ِ‬ ‫فاللئحةُ الُمَكّونةُ من الدين‪ ،‬الفّن‪ ،‬ال ةعلِم‪ ،‬المواوصل ِ‬ ‫ع‬ ‫خ‪ ،‬ال ةعيِد‪ ،‬السرة‪ ،‬الهرميِة‪ ،‬الدارِة‪ ،‬الدفا ِ‬ ‫)الكبيرة منها والصغيرة(‪ ،‬الحياكِة‪ ،‬الفخاِر‪ ،‬الطحِن بالرحى‪ ،‬المطب ِ‬ ‫ت الزراعية‪ ،‬والكثيِر مما يمكن إضافتُ​ُه؛ إنما ل تزاُل ُت ةعتبَُر اليوَم أيضا ً اللئحَة‬ ‫والهجوم‪ ،‬الهدايا وال ةعطايا‪ ،‬الدوا ِ‬ ‫الساسيَة في الحياة الجتماعية‪ ،‬ب ةعَد أْ ن طرأَ عليها التحويُر والتطويُر كما ً ونوعًا‪ .‬وإذا ما تَ​َمّحصنا البنى القرويةَ‬ ‫‪.‬ق الجتماعيةَ الكثَر أوصالة وُنبلً – والتي ُتفِ ةعم الحياَة‬ ‫وال ةعائليةَ المتبقيةَ ِمن ال ةعهِد النيوليتي‪ ،‬وكذلك الخل َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ت الجوار‬ ‫بالم ةعاني النفيسة‪ ،‬وُتزّوُد المجتمَع بالقوة والهيبة‪ ،‬بدءا من الحترام والود‪ ،‬ووصول إلى علقا ِ‬ ‫ت( الحداثِة الرأسماليِة في الّرقِّي والسمو‪.‬‬ ‫والت ةعاوِ ن والتضامن – سنجد أنها ُتضاِرُع وتضاهي ُمثَُل )أو لأخلقيا ِ‬ ‫ت تلك الحقبِة أساسا‪ً.‬‬ ‫إّ ن قوالَب الذهنيِة الساسية‪ ،‬التي لن ي ةعفا عليها الزمُن أبدًا‪ ،‬مشحونةٌ ببصما ِ‬ ‫كما أّ ن الحياةَ الوقائ ةعيةَ في المنطقة تَتَ​َميُّز بِ​ِغناها الوفيِر ِنسبةً ل ةعهِدها‪ ،‬وذلك ِمن زاويِة السوسيولوجيا‬ ‫الوض ةعية‪ .‬فقياساً بالمجتمِع الكلني ونمِط م ةعيشته الرتيبة الم ةعتمدِة على الصيِد والحماية وجمِع الثمار‪ ،‬تَتَبَّدى‬ ‫الوقائُع والظواهُر الجديدةُ البارزةُ في الهلِل الخصيب كانفجاٍر ُمَدّو‪ .‬فالوقائُع والظواهُر اللمتناهيةُ في ت ةعدادها‪،‬‬ ‫سطُ لنا وصوَت النساِ ن وأعمالَهُ بأغنى الحوال‪ .‬هذا ويمكننا الستنباطُ من‬ ‫ت جديدًة‪َ ،‬تب ُ‬ ‫سبةُ تسميا ٍ‬ ‫والمكت ِ‬ ‫َ‬ ‫ب المقدسِة بأّ ن الم ةعانَي الولية التي تَ​َرَكت بصماِتها على ذهنيِة النسا ن في تلك الحقبة‪ ،‬قد‬ ‫ص الكت ِ‬ ‫نصو ِ‬ ‫ً‬ ‫ت السوسيولوجيا الوض ةعيِة‬ ‫مصطل‬ ‫عن‬ ‫ا‬ ‫لحق‬ ‫ضت‬ ‫تَ​َمّخ َ‬ ‫ح "الجنة"‪ .‬وقد نكو ن بذلك وجها ً لوجِه أماَم أوفِر لحظا ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ب لْ ن يَُكوَ ن وابل غزيرا من النجوِم المتللئِة في سماِء البشرية‪ ،‬حيث تنهمر الوقائُع‬ ‫َحظًّا‪ .‬ذلك أنه تَطّوٌر أقر ُ‬ ‫ق خياَل التّ َ‬ ‫طّوِر الجتماعّي في الجنة‪،‬‬ ‫ت الربِع ِمن الم ةعمورة‪ ،‬لُتحقّ َ‬ ‫والظواهُر اللم ةعةُ كالنجوِم البراقِة في الجها ِ‬ ‫ت تحويِلها إلى حقيقة‪ ،‬وتَُحّولها إلى ثقافة‪.‬‬ ‫بل وَتزَرُع لحظا ِ‬ ‫شت بصماِتها على ِمَحّك التطوِر الجتماعي من جهِة‬ ‫ت المؤسساتية‪ ،‬التي نَقَ َ‬ ‫ع ملحظة آثاِر كّل الترتيبا ِ‬ ‫بالمستطا ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ص بالذكر مرحلةَ ما بين ‪. 4000 – 6000‬ق‪.‬م‪،‬‬ ‫خ‬ ‫ن‬ ‫و‬ ‫الخصيب‪.‬‬ ‫الهلل‬ ‫أراضي‬ ‫في‬ ‫البنيوية‪،‬‬ ‫السوسيولوجيا‬ ‫ّ‬ ‫ت الستقرار التي ستَتِّخُذها جميُع البنى‬ ‫والتي هي مرحلةُ تَ​َمأ ُ‬ ‫س بكّل م ةعنى الكلمة‪ .‬فقد تَ​َحّدَدت أُطُ​ُر مساحا ِ‬ ‫س ٍ‬ ‫أساساً في القرى والمدائن‪ ،‬وتَّم النتقاُل إلى المستو َ‬ ‫س الديُن‪ ،‬وبَ​َرَزت ُأولى‬ ‫س َ‬ ‫طنات‪ ،‬وُوِلدت الهرميُة‪ ،‬وتَ​َمأ َ‬ ‫ّ‬ ‫ت‬ ‫سَبت الثنيةُ ملمَحها في الوجود‪ ،‬واتّ َ‬ ‫الم ةعابِد للَميدا ن‪ ،‬واكتَ َ‬ ‫ضَحت م ةعالُِم البنى اللغويِة‪ ،‬وتَ​َوطَدت تقاليُد علقا ِ‬ ‫شيَّدت أعتى مراحِلها عبر الخل‪.‬ق‪ .‬بم ةعنى آخر‪ ،‬وكأّ ن المجتمَع النيوليتّي قد َجَزَم‬ ‫الجوار‪ ،‬وكأّ ن الدارةَ قد َ‬ ‫سها‪ .‬ولوِل مرٍة نَِجُد البنى الجتماعيةَ المؤّلفةَ‬ ‫سَم أموَر تَ​َمأ ُ‬ ‫بديمومِة الثورة الزراعية والقروية‪ ،‬وبالتالي َح َ‬ ‫س ِ‬ ‫سطُ لنا تكوينا ً ونشوءاً هو القوى والرسُخ في الهلِل الخصيب‪.‬‬ ‫ع السوسيولوجيا البنيويِة الساسّي تَْب ُ‬ ‫لموضو ِ‬ ‫ّ‬ ‫ص اليوَم‬ ‫ول يزال هناَك الكثيُر مما علينا تَ​َ ةعلُمهُ ِمن حقيقِة هذا التَّحّوِل البنيوي‪ ،‬الذي َيستدعي التدقي َ‬ ‫ق والتمحي َ‬ ‫سٍة في التاريخ البشري‪،‬‬ ‫ت أوصلية‪ .‬بل‪ ،‬وبقدِر ما َنسبُ​ُر وَنفَح ُ‬ ‫أيضا ً كتمأ ُ‬ ‫س َ‬ ‫ص تلك البنى كأوِل قِيٍَم متمأ ِ‬ ‫سسا ٍ‬ ‫س السوسيولوجيا البنيوية‪ .‬علينا الدراُك جيداً‬ ‫س القدر فيما يت ةعل ُ‬ ‫فسوف َنح ُ‬ ‫ق بتأسي ِ‬ ‫صُل على نتائَج سليمٍة بنف ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫أّ ن السوسيولوجيا البنيوية الراهنة ت ةعاني افتقاراً جديا ً لـ"ِعلِم الم ةعنى"‪ .‬أما إذا أعاَدت النظَر في ذاِتها كجزٍء ِمن‬ ‫صيُر َت ةعبيراً قديراً عن ِعلِم الم ةعنى‪.‬‬ ‫السوسيولوجيا ال ةعامِة‪ ،‬فقد تَ ِ‬ ‫ع في حقِل‬ ‫تَتّ ِ‬ ‫سُم مكانةُ اللغِة والثقافِة المتأسسَتين في الهلِل الخصيب بَِكونِ​ِهما المنبع الوصلي‪ ،‬كموضو ٍ‬ ‫شيُّد في هذه الراضي يَتَ​َميُّز بَِكونِ​ِه ذا أطوِل فترة‪ .‬وكما َذَكرنا سابقًا‪،‬‬ ‫سوسيولوجيا الثقافِة الولية‪ .‬فالمجتمُع الم َ‬ ‫ي الجتماعّي البارُز بالرتكاِز إلى الهلِل الخصيب‪ ،‬قادر على وصوِ ن مرتبتِ​ِه في‬ ‫فالحزاُم الثقافّي والحضار ّ‬ ‫ت اجتماعيٍة تتسبب في زواِلها بدرجٍة بليغة‬ ‫الصدارة‪ ،‬ما لم ُيق َ‬ ‫ض على حياِة النسا ن بكوارَث طبي ةعيٍة أو آفا ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫سط حضارة مدينية منحدرة ِمن الثقافِة الصينية‬ ‫)كال ةعودِة إلى عصِر الكل ن مجددا على سبيل المثال(‪ .‬أما أْ ن تَْب ُ‬ ‫ص على وص ةعيِد الواقع‪ ،‬وإْ ن لم يكن‬ ‫عوي‬ ‫د‬ ‫ج‬ ‫ر‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫أو الساميِّة نفوَذها كقوٍة مهيمنة‪ ،‬فهو – ِنسبةً إلى أب ةعادها – أم ِ‬ ‫ٍ‬ ‫مستحيلً من الزاويِة النظرية‪ .‬بَْيَد أّ ن الثقافَة الهندوأوروبية )بالتالي الثقافةَ الم‪ ،‬اللغةَ والثقافةَ الرية( لم َتفقدُ‬ ‫ت الَمشاِرب‬ ‫ت الكاسحِة ذا ِ‬ ‫إطلقا ً طبائَ ةعها في الهيمنة‪ ،‬رغَم هذا القدِر ِمن "الغزِو السلمي" والغزوا ِ‬ ‫شّن هجوٍم جديٍد في المستقبل‪ ،‬إل أّ ن احتل َ‬ ‫ت‬ ‫ذا‬ ‫–‬ ‫الهندوأوروبية‬ ‫ة‬ ‫للثقاف‬ ‫لها‬ ‫"المغولية"‪ .‬وقد ُتشِرُع الصيُن بِ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الستقراِر المنقطِع النظيِر في جميِع أنحاء ال ةعالم – أو الستيلَء عليها‪ ،‬أو إخضاَعها للست ةعمار أو الستيطاِ ن‬ ‫ت‬ ‫يبقى احتمالً ِجّد هزيل‪ ،‬ما لم تَتَلَ ّ‬ ‫ث الطبي ةعية والويل ِ‬ ‫ت الخارجية )كالكوار ِ‬ ‫ق دعما ً ُم ةعِجَزِويّا ً ِمن المؤثرا ِ‬


‫‪.‬ق منطقِة الثقافة الصينيِة على سبيِل المثال(‪.‬‬ ‫الجتماعية القاضيِة خارَج نطا ِ‬ ‫هذا وبمقدوِرنا َعْقُد التكافِؤ بين سوسيولوجيا الثقافِة الوليِة والسوسيولوجيا ال ةعامة‪ .‬وفي هذه الحال‪ ،‬يمكننا‬ ‫ت الثنيِة – القومية‬ ‫ت الطارئِة على كّل ِمن الشكاِل الذهنية‪ ،‬مؤ ّ‬ ‫سسِة ال ةعائلة‪ ،‬الكيانا ِ‬ ‫ت والتحول ِ‬ ‫إدراُج التغيرا ِ‬ ‫ث الكبرى( ضمن حقِل‬ ‫ت الثل ِ‬ ‫سها تلك المرتكزِة إلى الثقافا ِ‬ ‫)المندرجِة ضمن إطاِر كافِة الثقافات‪ ،‬وعلى رأ ِ‬ ‫ُ‬ ‫خ"‪ ،‬التي واجَهْتها‬ ‫والتفس‬ ‫الفوضى‬ ‫ط‬ ‫"أوسا‬ ‫في‬ ‫ث‬ ‫البح‬ ‫ة‬ ‫ضرور‬ ‫السوسيولوجيا ال ةعامة‪ .‬والهّم من كّل ذلك هو‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ج الناجمِة عنها؛ وذلك كإحدى أهّم مواضيِع‬ ‫سوسيولوجيا الحريِة والسوسيولوجيا البنيوية‪ ،‬وُمقّوماِتها‪ ،‬والنتائ ِ‬ ‫السوسيولوجيا ال ةعامة‪.‬‬ ‫وعليه‪ ،‬فالمرحلةُ الكبرى الثانيةُ ِمن المجتمِع الصاعِد في أراضي الهلل الخصيب‪ ،‬والمبتدئةُ مع "دولِة الرهباِ ن‬ ‫ت أوصوٍل َهَرِميٍّة‬ ‫سِه انطلقةٌ ذا ُ‬ ‫السومرية"؛ سوف تَُكوُ ن مرحلَة "المجتمع المديني"‪ .‬فالمجتمُع المدينّي في أسا ِ‬ ‫سلليٍة مستندٍة إلى ثقافِة الهلل الخصيب‪ .‬أما مضمونُ​ُه‪ ،‬فهو إبداُء مجموعٍة سللية هرميٍة – أيا ً كانت –‬ ‫– ُ‬ ‫ي" المنحدِر ِمن الماضي القديم‪ ،‬وَتسخيِرها في تنظيِم‬ ‫ت "الرجِل القو ّ‬ ‫َمقِدَرتها على الستفادِة ِمن إمكانيا ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ع الغلل‪ ،‬وإمكانيات الطبقيِة المرتبطِة بنمِط‬ ‫و‬ ‫ن‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫الغذاء‪،‬‬ ‫ة‬ ‫وفر‬ ‫ل‬ ‫عوام‬ ‫ق التحاِم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫"الدولة"؛ وذلك لدى تَ​َحّق ِ‬ ‫ّ ِ‬ ‫َ‬ ‫النتاج مع ظاهرِة التَّمّد ن‪ .‬ولطالما نشَهُد الكثيَر ِمن هذه المحاولت في هذا التجاه ضمن أراضي الهلل‬ ‫سُخ‬ ‫الخصيب‪ ،‬ليس في ميزوبوتاميا السفلى فحسب‪ ،‬بل وفي ميزوبوتاميا ال ةعليا والوسطى أيضًا‪ .‬وبينما تَتَ​َر ّ‬ ‫ب‬ ‫ضها‪َ ،‬تف َ‬ ‫ب ةع ُ‬ ‫شُل أخرى في ذلك نظراً لطبي ةعِة الشروط والظروف المحيطِة بها‪ .‬هذا ويَتُّم تفسيُر الدولِة في الكتا ِ‬ ‫ُ‬ ‫ش الدمويُة‪ ،‬والستغلليُة‪،‬‬ ‫الوح‬ ‫هذا‬ ‫ة‬ ‫مسير‬ ‫أما‬ ‫البحر(‪.‬‬ ‫ب‬ ‫عبا‬ ‫من‬ ‫ج‬ ‫الخار‬ ‫ش‬ ‫)الوح‬ ‫ ن‬ ‫اللوياثا‬ ‫أنها‬ ‫على‬ ‫س‬ ‫د‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫المق ِ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫سلطة على سيا‪.‬ق التطور الجتماعي‪ ،‬وأشكاُل استغلِلها واضطهاِدها واست ةعباِدها للنساِ ن في‬ ‫وأحيانا ً المبيدة الُم َ‬ ‫ظّل إدارِة الملوك‪ ،‬الُمقَّن ةعين منهم وغيِر الُمقَّن ةعين‪ ،‬المتسترين منهم وال ةعراة‪ ،‬ولواِزُمها وأدواُتها الُمسّخرةُ في‬ ‫ص فيها سيكو ن ِمن بين المواضيِع التي سنتناولها لحقًا‪.‬‬ ‫شرعنِة ذلك؛ فإّ ن البحَث والتمحي َ‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬المجتمع المديني‬ ‫)عصر اللهة الُمقَّن ةعة والملوك المتسترين(‬ ‫ت الكبرى للوض ةعية ‪ ،Pozitivizm‬التي هي اليديولوجيةُ الرسميةُ للحداثة الرأسمالية‪ ،‬في‬ ‫لقد حصَلت التخريبا ُ‬ ‫ميداِ ن ِعلِم المجتمع‪ .‬فتشييء الوض ةعّيين للمواضيع الجتماعية باسم ال ةعلميِة بوجهِة نظٍر اختزالية‪ ،‬مثلما هي‬ ‫س السلوب في‬ ‫الحال في ميداِ ن الفيزياء‪ ،‬قد وّلد م ةعه مشاكَل عويصةً َيصُ ةع ُ‬ ‫ب النفاُذ من وطأتها‪ .‬وُبحوثهم بنف ِ‬ ‫الميدا ن الجتماعي باسم "الشتراكية ال ةعلمية"‪ ،‬وبالخص في القتصاد )الميدا ن المادي للمجتمع(‪ ،‬والذي‬ ‫فَِهموه وَحِفظوه على أنه الميداُ ن الذي ُت ةعنى به ما َزَعموا أنه الشتراكية الحقة؛ قد َحّول مشاكَل الم ةعاني إلى‬ ‫ت عسيرِة التفكيك‪ .‬أما ذهنيةُ التناول الفيزيائي الكثِر تَ​َخّلفاً حتى من البيولوجيا‪ ،‬فقد َمّدت الرأسماليةَ‬ ‫م ةعضل ٍ‬ ‫ب‬ ‫ت قد حاول ُ‬ ‫ح آخر‪ .‬كن ُ‬ ‫بقوٍة ل يمكن تأمينها عبر أ ّ‬ ‫ت في فصِل السلوب سرَد كيفيِة َكوِ ن هذا السلو ِ‬ ‫ي سل ٍ‬ ‫براديغما أساسيًة للرأسمالية‪ ،‬ولكن‪ ،‬يبدو أنه من ال ةعسير التقدُم في التحليل دو ن التطر‪.‬ق إليه بكثرة‪ .‬وعلى‬ ‫عكس ما زعم "الشتراكيو ن ال ةعلميو ن" على وجه التخصيص‪ ،‬فهم عاجزو ن حتى عن النتباه إلى َكوِنهم‬ ‫َجّردوا البروليتاريا والشرائَح الكادح َة الفقيرة الخرى‪ ،‬التي تحركوا باسمها منذ البداية‪ ،‬من أسلحتها الساسية‬ ‫صّور‬ ‫ببحثهم في المجتمع ب ةعد تشييئه‪ ،‬وِبكوِنهم قابلين لتناوله ذهنياً على هذه الشاكلة‪ .‬وسُنظِهر كيف يَُكو ن تَ َ‬ ‫المجتمع كظاهرٍة مماثلٍة للطبي ةعة الفيزيائية‪ ،‬أو حتى البيولوجية‪ ،‬ي ةعني بَِحّد ذاته الستسلَم للحداثة الرأسمالية‪.‬‬ ‫ت مشّرفٍة للغاية لما‬ ‫ح يكمن في تسييِر نضال ٍ‬ ‫علّي التبيا ن‪ ،‬وبكّل أس ٍ‬ ‫ف وحنقٍة ومرارة‪ ،‬أّ ن سوَء الطالِع الفاد ِ‬ ‫ً‬ ‫ق الفكر الوض ةعي المادي‬ ‫يناهز المائةَ وخمسين سنة باسم "الشتراكية ال ةعلمية"‪ ،‬وخو ِ‬ ‫ضها منذ البداية بمنط ِ‬ ‫المحض المحكوم عليه بالفشل‪ .‬ل شك في أّ ن ما يتستر وراء هذه المواقف والفكار هو ما زعموا أنه "التمايز‬ ‫سّيروا النضاَل تحت رايته بكثرة‪ .‬ولكن الطبقة الم ةعنية ليست – كما اعتقدوا – طبقةَ ال ةعمال‬ ‫الطبقي" الذي َ‬ ‫والكادحين المقاِومين ب ةعبودي ٍة عمياء لجل التحول البروليتاري‪ ،‬بل إنها طبقة "البرجوازية الصغيرة" التي‬ ‫انصهرت في بوتقِة الحداثة‪ ،‬واستسلمت لها منذ زمٍن طويل‪ .‬والمدرسةُ الوض ةعيةُ بالذات هي أيديولوجيةُ هذه‬ ‫سبَِة‬ ‫وصغاِر الَك َ‬ ‫الطبقة‪ ،‬والمتسببةُ في نظرتها ال ةعمياء وردوِد ِف ةعلها الجوفاء إزاء الرأسمالية‪ .‬فطبقةُ نبلِء ِ‬ ‫ض الواقع‪ ،‬وكانت على الدوام‬ ‫المدينيين هذه‪ ،‬والتي ل درايةَ لها بكيفيِة تكويِن الحياة الجتماعية على أر ِ‬ ‫شّكُل أيديولوجياً الفريسةَ السهل للنظام‬ ‫الرضيةَ الخصبَة للطرائق ال ةعقيمة؛ هي الشريحةُ الجتماعيةُ التي تُ َ‬ ‫الرسمي المهيمن‪.‬‬ ‫ب الوثنية الم ةعاوصرة‪ ،‬عندما َيكو ن التناوُل الجتماعي موضوَع‬ ‫إّ ن الظواهريةَ )الوض ةعية( ضر ٌ‬ ‫ب من ضرو ِ‬ ‫ف لللوهيِة المفتِقدة لم ةعانيها‪ .‬فاللوهيةُ كاوصطلح كانت ذات وظيفٍة‬ ‫الحديث‪ .‬والوثنيةُ بدورها هي الطاُر الجو ُ‬ ‫مقدسٍة وسحريٍة لجل المجتمع في مرحلٍة ما‪ ،‬وعندما تفقد وظيفَتها هذه‪ ،‬ل يَتَبَّقى منها سوى حالَتها الوثنية‪.‬‬


‫أما الشرائُح المفتقرةً لِ ةعلِم الم ةعاني‪ ،‬ف ةعبادُتها للوثا ن أمٌر مفهوم‪ .‬فمثلما هم ل ي ةعلمو ن أّ ن الوثن ينبع من‬ ‫الوظيفة‪ ،‬فهم – وعلى النقيض – غافلو ن أو ي ةعتقدو ن أّ ن عبادةَ الوثا ن سوف ُتثِمُر عن الم ةعاني‪ ،‬أو أنها سَتبلُ​ُغ‬ ‫قدسيَتها وجلَلها القديَمين‪ .‬لذا‪ ،‬فتحليُل الديا ن المناِهضة للوثنية ضمن هذا السيا‪.‬ق سُينير الموَر أكثر‪ .‬ل‬ ‫يساورني الشّك بالوثنية ال ةعصرية للوض ةعيين المنقادين للظواهرية‪ .‬هؤلء الوثنيو ن ال ةعصريو ن‪ ،‬الذين يمكننا‬ ‫تسميتهم بالوثنية الم ةعاوصرة‪ ،‬قد قال عنهم الفلسفةُ الَم ةعنِّيو ن بميداِ ن الحداثة )ال ةعصرانية( بالذات بأنهم أفضل‬ ‫"المتشبثين بالمواضيع والشياء ‪ Nesne‬الستهلكية‪ ،‬وكأنها وثن"‪.‬‬ ‫ظّن ماركس ومدرسُته أنه بمقدورهم تسلي ُ‬ ‫لقد َ‬ ‫ط الضوء على المجتمع‪ ،‬التاريخ‪ ،‬الفن‪ ،‬الحقو‪.‬ق‪ ،‬وحتى الديِن‬ ‫ت الجتماعيِة ُتؤثُّر في ب ةعضها كأنسجِة البد ن الواحد‪،‬‬ ‫عبر التحليِل القتصادي‪ .‬ل جدال في أّ ن كافةَ المؤسسا ِ‬ ‫ت‬ ‫ت الجتماعية‪ ،‬التي هي كيانا ٌ‬ ‫ولكّن الموَر تختلف كليا ً عندما َتكو ن المجتم ةعيةُ ميداَننا الم ةعني‪ .‬فالمؤسسا ُ‬ ‫َأوَجَدها عقُل النسا ن‪ ،‬ليست نسيجاً بيولوجيًا‪ ،‬بل حتى أنها ليست نسيجاً من جسم النسا ن‪ .‬ف ةعقُل النسا ن في‬ ‫الوسط الجتماعي َأشبَهُ بجبٍل بركانّي منفجٍر باستمرار عبر الم ةعاني والرادات التي ُينتُِجها‪ .‬ول مثيَل لذلك في‬ ‫ض النقاط المشتركة مع الوقائع الفيزيائية‬ ‫النواع الخرى من الكائنات الحية‪ .‬في حيِن يمكن التفكير بوجوِد ب ةع ِ‬ ‫في عاَلم الكوانتوم‪ ،‬مع عدم إغفاِلنا َكوَ ن عقِل النساِ ن نفِسه ي ةعمل ضمن النسق والترتيب الكوانتومي‪ .‬في حين‬ ‫أّ ن ال ةعالم المادي )بما فيه البنيةُ القتصادية الجتماعية( ي ةعني جموَد اللية الكوانتومية وتَ​َغلَّفها‪ .‬إّ ن َكوَ ن الذهِن‬ ‫وال ةعقل هما اللذا ن يديرا ن المجتمَع أمٌر ساطٌع لدرجٍة ل جدال فيه‪ .‬حتى أّ ن َكوَ ن التوجِه نحو القتصاِد‬ ‫الجتماعي يحصل بال ةعمل الذهني أمٌر ل داعي لبرهنته‪.‬‬ ‫َ‬ ‫سلَجة التاريخ يأتي في وصدارِة الشروط‬ ‫س ْ‬ ‫علّي التنويه ثانية‪ ،‬ولو تكرارًا‪ ،‬إلى أّ ن تأريخ السوسيولوجيا‪ ،‬و َ‬ ‫ب َتكُمُن في دنوه أكثر من تفسيِر التاريخ‬ ‫الولية للتقدِم في ِعلِم الم ةعنى‪ .‬والميزةُ الناج ةعة الخرى لهذا السلو ِ‬ ‫ي ناج ةعًا‪،‬‬ ‫ب سياقه الطبي ةعي‪ .‬ل أنكر أهميَة الفكر الدعائي‪ .‬بل على النقيض‪ ،‬ولكي يكو ن هذا النمطُ الفكر ّ‬ ‫بموج ِ‬ ‫ب مسارها المتحقق‪ .‬أما الشروُع بالقول‬ ‫يجب م ةعرفة كيفيِة المساك بالتطورات التاريخية وتناوِلها بموج ِ‬ ‫"البنية التحتية تَُحّدُد التاريخ" أو ال ةعكس "التاريُخ عبارة عن أف ةعاِل الدولة وعملياتها"‪ ،‬فلن يذهب أبَ ةعَد ِمن‬ ‫سِرَدت حوادُثه أو َكثَُر تحليله أو تفكيكه‪.‬‬ ‫ف وتشويِه التاريخ الحقيقي بالنسبة إلى ِعلِم الم ةعنى‪ ،‬مهما ُ‬ ‫تحري ِ‬ ‫واضٌح لل ةعيا ن أنه من غيِر الممكن شرُح التاريخ‪ ،‬وبالتالي المجتمع‪ ،‬بهذا السلوب‪ .‬فما يحدث حينها هو الحدي ُ‬ ‫ث‬ ‫عن الفيزيولوجيا الجتماعية‪ ،‬وليس التاريخ‪ .‬فشرُح كيفيِة تأثيِر المؤسسات الجتماعية )النسجة في‬ ‫ح للتاريخ‪،‬‬ ‫الفيزيولوجيا( على ب ةعضها الب ةعض‪ ،‬أو كيفيِة تحديدها لب ةعضها الب ةعض‪ ،‬هو – وبكل تأكيد – ليس بشر ٍ‬ ‫بل ظواهريةٌ َمحضةٌ للغاية‪.‬‬ ‫س َيكُمُن في قوة تدفقه وكيفيِة جريانه أثناَء لحظِة التدفق‬ ‫خ قَيٍّم ذي م ةعنى‪ ،‬فإّ ن ِمربَ َ‬ ‫ض الفَ​َر ِ‬ ‫وللحديث عن تاري ٍ‬ ‫تلك‪ .‬فتدويُن التاريخ الحق‪ ،‬أو التفسيُر الحقيقّي له يكمن في م ةعرفِة الرادة والم ةعاني الناجمِة عن نشاِط ال ةعقل‬ ‫وِف ةعِل الرادِة اللَذين كانا مؤثَرين في تلك اللحظة‪ .‬ومثلما قد يكو ن ذلك حملًة اقتصادية‪ ،‬فربما يكو ن ممارسةً أو‬ ‫عمليةً دينيةً أيضًا‪ .‬المهّم هنا ليس السلَح‪ ،‬بل لحظةَ الضغِط على الزناد‪ ،‬واليَد الضاغطةَ عليه‪ .‬قُْم بتحليِل قيمِة‬ ‫ح‬ ‫السلح اقتصاديا ً وفنيا ً وسياسياً وعسكرياً قدر ما تشاء‪ ،‬فربما يكو ن لذلك قيمةٌ من حيث تزييِن الشر ِ‬ ‫وزخرفته‪ .‬ولكن‪ ،‬ل أتمالك نفسي عن التكرار مراراً بأنه عندما ُيقال بجرياِ ن التاريخ‪ ،‬فما يجب فهُمه هو تشغيُل‬ ‫ي لجِل‬ ‫ح ِمن قِبَِل اليد القابضِة باستمرار على الزناد‪ .‬قد ُيقال أنه ثَّمةَ حاجةٌ لمهارٍة عظمى ول ةعمٍل اقتصاد ّ‬ ‫السل ِ‬ ‫وصنِع السلح‪ .‬هذا ممكن‪ .‬ولكّن هذا التناوَل للمر ل َيفَهُم شيئاً من الت ةعبير عن التاريخ‪ .‬يجب عدم إغفاِل َكوِ ن‬ ‫ُ‬ ‫ت دومًا‪ .‬والقائُم على‬ ‫خ سلحا ً شّغالً على الدوام‪ .‬إنه سلٌح شّغال ويٌد ضاغطةٌ على الزناد الُمَ ةعبّأِ بالطلقا ِ‬ ‫التاري ِ‬ ‫ت الدارة الستراتيجية في التاريخ هو أفضل من ُيدرك ذلك‪ .‬يَُقوم أحُد أباطرِة روما‪ ،‬وُيدعى‬ ‫مسؤوليا ِ‬ ‫َ‬ ‫فالنتيانوس )أعتقد أنه هو( بالمصادقِة على أخيه ليشارَكه الحكَم كإمبراطور‪ .‬أما الذين انتَ​َخبوه هو‪ ،‬فأعَربوا‬ ‫ق‬ ‫سرُتم َح ّ‬ ‫عن تراُجِ ةعِهم عن رأيِ​ِهم وأوصواتهم ب ةعَد مدٍة قصيرة‪ .‬أما هو‪ ،‬فَيشَرُح ماذا ي ةعنيه التاريخ بقوله "لقد َخ ِ‬ ‫ض بُِمَجّرِد انتخاِبكم لي"‪.‬‬ ‫العترا ِ‬ ‫َ‬ ‫وِمن حي ُ‬ ‫خ الرأسمالي الم ةعاوصِر في الفصِل‬ ‫ح بالنسبِة إلى م ةعنى التاري ِ‬ ‫ث السلوب‪ ،‬فسأسُرُد أهمية هذا الشر ِ‬ ‫الم ةعني بذلك‪.‬‬ ‫خ المدنية‪ ،‬كي نُقَّدَم مساَهَمَتنا في ِعلِم الم ةعنى‪.‬‬ ‫علينا أل نغ ّ‬ ‫ج في تاري ِ‬ ‫ض النظر عن مشكلِة السلوب هذه للولو ِ‬ ‫ُ‬ ‫ح التاريخ‪ ،‬فهو ي ةعني أيضاً قيمة مدى تسخيِره لخدمِة‬ ‫بقدِر ما َتكُمُن قيمة أ ّ‬ ‫ي تفسيٍر في القدرة على إيضا ِ‬ ‫الملتزمين بأحكاِمِه ومقتضياتِ​ِه‪ ،‬ولخدمِة القادرين على المساِك بزماِم المبادرِة في كّل وقت‪ .‬في حين أّ ن‬


‫التفسيَر التاريخّي الحقيقي لجِل المتخبطين في تأديِة دوِر ضحايا التاريخ‪ ،‬فهو القدرةُ على َت ةعبئتِ​ِهم بالوعِي‬ ‫ث حرياتهم وإحيائها‪ .‬أما إذا كا ن التفسيُر‬ ‫ص من دوِر الضحية والووصوِل إلى قوِة َب ةع ِ‬ ‫وتسليِحِهم بالرادِة للخل ِ‬ ‫التاريخي والجتماعي َيحُكُم على ضحاياه )كّل المسحوقين والمضطَهدين والمستَغلين( بالستسلم والخنوع‬ ‫ص؛ فمهما يَّدعي وصاحُبه أنه ِعلمي‪ ،‬ومهما يتحدث عن أنه‬ ‫للمضحين بهم‪ ،‬والذين ُيلُهوَنهم بالزعِم بُِقر ِ‬ ‫ب الخل ِ‬ ‫ضّللين واعين‪ ،‬فهم إذ ن‬ ‫يقوم بالتفسير باسِم الضحايا؛ فإذا لم يَُكن هؤلء ذوي نوايا ضامرٍة أو ُمَحّرفين وُم َ‬ ‫سرو ن التاريخ كالوصنام الجوفاء‪.‬‬ ‫غافلو ن‪ ،‬ويف ّ‬ ‫سر المجتمَع السومري؟‬ ‫‪ -1‬كيف نُفَ ّ‬ ‫ص مكاناً للسومريين تأسيساً على هذا الهدف‪.‬‬ ‫بما أّ ن موضوَعنا تمهيٌد للسوسيولوجيا البنيوية‪ ،‬فسوف نَُخ ّ‬ ‫ص ُ‬ ‫ٌ‬ ‫إننا ل نَُؤّرخ المدنية‪ ،‬ولكن‪ ،‬يجب َفهم تفاسيري على أنها مساَهمة في ذلك‪ .‬إذ أبحث عن رّد للسؤال‪ :‬كيف ُنقّيم‬ ‫ح السلوب وتأميِن الدخوِل في التاريخ‪.‬‬ ‫المثاَل السومر ّ‬ ‫ي أثناء تفسيِر التاريخ؟ وعلى الردود أْ ن ُتساِهَم في إيضا ِ‬ ‫وثمةَ فائدةٌ في تناُوِل هذا المثاِل ِمن ِعّدِة نواحي‪.‬‬ ‫س النيوليتّي المسماةُ ِبمرحلِة‬ ‫آ‪ِ -‬من الم ةعلوم أّ ن الغذاَء الوافَر وتَنَّوَعه الغنّي خاوصيةٌ تَ​َميزت بها مرحلةُ التمأ ُ‬ ‫س ِ‬ ‫تل حلف )‪. 4000 – 6000‬ق‪.‬م( التي َمّرت بفترِة ازدهاٍر باهر‪ ،‬والكامنِة إلى الشماِل من هذه الحضارة‬ ‫ب‬ ‫)السومرية( الُمن َ‬ ‫شأ َِة في الحقول القصبية الرسوبيِة والراضي الخصيبِة المطمورة بالمياه في أماكِن َتقاُر ِ‬ ‫ج نهَري دجلة والفرات في ميزوبوتاميا السفلى‪ .‬وما أدى إلى ذلك هو المجتمُع القروي المسفُِر عن‬ ‫واندما ِ‬ ‫ت دوَرها في ذلك‪ .‬فالستقراُر ي ةعني الحقوَل‬ ‫ت النتاج‪ ،‬بقدِر ما ل ةعَبت هذه التقنيا ُ‬ ‫شفة لتقنيا ِ‬ ‫الذهنيِة المكت ِ‬ ‫س‪ ،‬في ةعني فيما ي ةعنيه تنظيَم الذهنيِة‬ ‫س ُ‬ ‫ت الجتماعية المتناميِة بتغذيِة ب ةعضها الب ةعض‪ .‬أما التمأ ُ‬ ‫والتمأسسا ِ‬ ‫ي غيَر أولي‪ ،‬رغَم‬ ‫الجتماعية وتحقي َ‬ ‫ق جماعيتها‪ .‬كما أّ ن الفصوَل الملئمة‪ ،‬والمطاَر الغزيرة َتجَ ةعُل من الّر ّ‬ ‫ب أهميته‪ .‬وقد ُبرِهن على أّ ن ال ةعديَد من القرى المستقرة في ميزوبوتاميا ال ةعليا قد قاربت حدوَد المدينة‬ ‫استي ةعا ِ‬ ‫َ‬ ‫ت المثلِة من الحفريات في هذا‬ ‫والتمد ن مع التوجه نحو أعوام ‪. 3000‬ق‪.‬م‪ .‬وِعلُم الثار القديمِة قّدَم عشرا ِ‬ ‫السيا‪.‬ق‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ب السواُر المحيطة بالمدينة كمؤشٍر ُم ةعّين وُمحّدد لها‪ ،‬إل أّ ن‬ ‫كما ُأبِرزت في ال ةعديد من الجثوات والخرائ ِ‬ ‫‪.‬ق الري‪ ،‬واعتماَد الِغلِل على المطار أعاقا التوسَع وزيادَة الت ةعداد السكاني أكثر‪ .‬بينما الراضي‬ ‫محدوديةَ نطا ِ‬ ‫ت القرويَة‬ ‫أسفَل نهَري دجلة والفرات ملئمةٌ كثيراً للري‪ ،‬وتربَُتها غنيةٌ م ةعطاءة‪ .‬وقد ُأثبَِت أّ ن الستيطانيا ِ‬ ‫الولى قد انحدرت من الشمال‪ ،‬أي‪ ،‬من ثقافِة تل حلف في مستهل أعوام ‪. 5000‬ق‪.‬م‪ .‬وبالوصل‪ ،‬ولَِكوِ ن هذه‬ ‫المرحلة َتشَهُد تزايداً في الت ةعداد السكاني‪ ،‬فهي ُترِغم الهالَي على الحراك الدائم‪ .‬فالقرى المتزايدةُ والمتس ةعة‬ ‫ح هذه المرحلة سابقاً بخطوطها ال ةعريضة‪ .‬فكلما زاَد‬ ‫تقتضي النتشاَر في الجهات الرب ةعة‪ .‬كنا َ‬ ‫سَ ةعينا ليضا ِ‬ ‫الهبو ُ‬ ‫ب قلِة المطار‪ .‬وهذا ما استوَجَب وجوَد تنظيٍم شامل‪ .‬هكذا‬ ‫ط نحو الجنوب‪ ،‬زادت أهميةُ وحتميةُ الري بسب ِ‬ ‫ق حوَل الم ةعابِد المسماة بالزقورات‪.‬‬ ‫نلحظُ أّ ن التنظيَم المثَل قد تَ​َحقّ َ‬ ‫ف الثل ُ‬ ‫ث المتداخلة للزقورات بأهميٍة حياتيٍة وأوليٍة بالنسبة لحِل وتحليِل المجتمع السومري‬ ‫تتميز الوظائ ُ‬ ‫برمته‪ .‬الوظيفُة الولى تت ةعلق بالماكثين في الطابق السفلي من ُعّمال الراضي‪ ،‬والذين يَُ ةعّدو ن ِمن أملك‬ ‫الزقورات‪ .‬ويُِقيم م ةعهم وصان ةعو الدوات والوسائط أيضًا‪ .‬الوظيفةُ الثانيةُ هي المهاّم الداريةُ التي َيقوُم عليها‬ ‫ب حساَب العماِل النتاجيِة المت ةعاظمة‪ ،‬وتأميَن‬ ‫ق الثاني‪ .‬إذ يتوج ُ‬ ‫ب على الراه ِ‬ ‫الرهباُ ن القاطنو ن في الطاب ِ‬ ‫ق ال ةعمل الجماعي بين ال ةعاملين‪ .‬أي أنه ُيديُر شؤوَ ن الّدين والدنيا م ةعًا‪.‬‬ ‫المشروعية اللزمِة )قوِة القناع( لتحقي ِ‬ ‫ق‬ ‫أما الوظيفةُ الثالثة‪ ،‬فتَُؤّدى من قِبَِل الموجودات اللهية )ضر ٌ‬ ‫ب من ضرو ِ‬ ‫ب مجمِع اللهة ( المقيمِة في الطاب ِ‬ ‫ت ذلك في‬ ‫ت المدينية اللحقة‪ ،‬مثلما أكد ُ‬ ‫ت بتأثيِرها الم ةعنو ّ‬ ‫ي نموذٌج مصّغٌر للمجتم ةعا ِ‬ ‫الثالث‪ .‬وكأّ ن الزقورا ِ‬ ‫ت المد ن الراهنة‪،‬‬ ‫س ٌ‬ ‫مراف ةعتي "النسا ن الحر"‪ .‬إنه تمأ ُ‬ ‫س مثالّي لدرجِة أنه غدا النموذَج الوصَل المَولَّد لمجتم ةعا ِ‬ ‫ت أنه الرحُم الّم لنمِط تنظيِم الدولة‬ ‫ت قد بين ُ‬ ‫ت اللف‪ ،‬وَيزيد عدُد سكانها عن المليين‪ .‬بل وكن ُ‬ ‫التي ُتناهز مئا ِ‬ ‫َ‬ ‫ت في زمانها لم تَُكْن مركَز المدينة فحسب‪ ،‬بل كانت المدينة بَِ ةعيِنها‪.‬‬ ‫المتمأسسِة في مجتمِع المدينة‪ .‬فالزقورا ُ‬ ‫والمدائُن بدورها كانت تنقسم إلى ثلثِة أقسام‪ :‬الم ةعبُد )موطُن أو منزُل الرب( الذي هو قسٌم م ةعنّي بتوليِد‬ ‫ص لمدراءِ المدينة‪ ،‬والماكُن الوسع قليلً لقامِة‬ ‫المشروعية وتأميِنها‪ ،‬قسُم القامِة الوسِع قليلً والمخ ّ‬ ‫ص ُ‬ ‫س من نوعه‬ ‫ال ةعاملين‪ ،‬الذين هم الشريحة الوسع‪ .‬فالزقورا ُ‬ ‫ت تؤدي هذه الوظائ َ‬ ‫ف الثلَث م ةعًا‪ ،‬وكأوِل مثاٍل مؤ ّ‬ ‫س ٍ‬ ‫في ال ةعالم‪.‬‬ ‫ب قلي ً‬ ‫ل‪ ،‬فسنجد أّ ن الراهَب هو المباِدُر الوُل بكل تأكيد‪ .‬فهو الرأسمالّي بالنسبة لزمانه )أقول‬ ‫ولو تَ​َمَ ةعّنا عن كث ٍ‬


‫ذلك للستي ةعاب على نحو أفضل‪ ،‬وإل‪ ،‬لم َيبرز رأسمالّي الحداثِة حينذاك( أو هو َرّب ال ةعمل أو الغا‪ .‬ذلك أنه‬ ‫س المدينة‪ ،‬الذي سَيمُهُر المجتمَع الجديَد المنشأ‬ ‫مهتٌم بوظائِفه التاريخيِة التي عليه تأديتها‪ .‬وبالوصل‪ ،‬هو مؤ ّ‬ ‫س ُ‬ ‫بطاب ةعه‪ ،‬ذلك أّ ن ما سيتشكل حوله ليس بقريٍة بسيطة‪ ،‬بل إنها المدينة‪ .‬وسندرك عظمةَ المهمِة ال ةعملقة التي‬ ‫ُتواِجهُ الراهَب على نحٍو أفضل إذا ما وض ةعنا نصَب ال ةعين مدى وص ةعوبِة هذا المر في يومنا الراهن‪ .‬إذ‪ ،‬ثمَة‬ ‫حاجةٌ ماسةٌ ل ةعدٍد كبيٍر من ال ةعمال لجِل المدينِة الُمزَمِع إنشاؤها‪ ،‬فِمن أين له بهم؟ فاقتطاُع النساِ ن عن الكل ن‬ ‫ست ب ةعد‪ ،‬مثلما هي اليوم‪.‬‬ ‫س َ‬ ‫أو الثنيِة أمٌر عسير‪ .‬والمنقط ةعو ن الُفرادى ل يكفو ن‪ .‬كما أّ ن البطالةَ لم تكن قد تمأ َ‬ ‫ب هي اللجوُء‬ ‫ولم يكن حصل النتقاُل إلى مرحلِة است ةعباِد الناس بال ةعنف‪ .‬ربما كانت الفروصةُ المتبقيةُ بِيَِد الراه ِ‬ ‫ف الراهب المذهلِة بالفاعلية‪َ :‬مَهّمةُ إنشاِء الله‪ .‬الموضوُع هاّم‬ ‫ح الله‪ .‬وهنا بالذات تبدأ إحدى وظائ ِ‬ ‫لسل ِ‬ ‫شَل في هذه الوظيفة‪ ،‬فسَي ةعَجُز عن إنشاِء المدينِة الجديدة أو المجتمِع الجديد‪ ،‬وبالتالي‪،‬‬ ‫للغاية‪ .‬ذلك أنه إذا ما فَ ِ‬ ‫ع أسباَب َكوِ ن مدراِء الدولة الوائِل رهبانًا‪.‬‬ ‫عن تأميِن النتاج الوافر‪ .‬هذا المثاُل بَِحّد ذاتِ​ِه يَُو ّ‬ ‫ضُح لنا بُِكّل سطو ٍ‬ ‫ج الوفير والمجتمِع الجديد فحسب‪ ،‬بل وبإعادِة النشاء والتخطيِط ل ةعالَِم كافِة‬ ‫فالزقورا ُ‬ ‫ت ل ُت ةعنى بالدولة والنتا ِ‬ ‫ب الهتماِم بشؤوِ ن‬ ‫ب‪ ،‬والسحر‪ ،‬وال ةعلِم‪ ،‬والفن‪ ،‬وال ةعائلِة‪ ،‬وحتى المقايضة الولى‪ ،‬إلى جان ِ‬ ‫المصطلحات‪ ،‬والحسا ِ‬ ‫س‬ ‫الرب؛ علوًة على إعادة تخطيط وإنشاِء كّل ذلك‪ ،‬وربِطه بمشاريَع ملموسة‪ .‬إذ ن‪ ،‬فالراه ُ‬ ‫ب هو أوُل مهند ٍ‬ ‫س َعَمل‪ ،‬وأوُل‬ ‫للمجتمع‪ ،‬وأوُل م ةعماري‪ ،‬وأوُل ِرسٍم تخطيطّي للنبوة‪ ،‬وأوُل اقتصادي‪ ،‬وأوُل مدير‪ ،‬وأوُل رئي ِ‬ ‫َمِلك‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ب بتفصيٍل أد‪.‬ق‪:‬‬ ‫لِنَ​َر العماَل الساسية للراه ِ‬ ‫ب‪ -‬يأتي إنشاُء الدين الجديِد واللِه الجديد في وصدارِة العماِل الهامِة للراهب‪ .‬وحسَب تفسيري‪ ،‬فمضموُ ن‬ ‫سّد ما يبدو وكأنه فراٌغ أو انقطاٌع لمرحلِة النتقال‬ ‫ع الرهباِ ن السومريين للديِن هو تشكيُل حلقِة الووصِل لِ َ‬ ‫اخترا ِ‬ ‫ً‬ ‫شئو ن خليطا من إلِه‬ ‫فيما بين عبادِة "الطوطم" القديمِة وبين الديا ن البراهيميِة المتجاوزِة للوثنية‪ .‬إنهم ُين ِ‬ ‫ت – القوِة الناظمِة للسموات – ومن ديِن الطوطميِة المحّدِد لهويِة المجتمع‪ .‬فالكّل ُيجِمُع على الرأي‬ ‫المصطلحا ِ‬ ‫ي شيٍء هاّم‬ ‫القائل بأّ ن الطوطَم ت ةعبيٌر عن الهويِة المحّددة للكل ن‪ ،‬وكذلك للقبيلِة التي هي أوسُع من الكل ن‪ .‬فأ ّ‬ ‫ً‬ ‫ت الم ةعبرةَ عن القوة أساسا‪ .‬وما‬ ‫في حياة الكل ن َيغدو ُمَر ّ‬ ‫شَحا ً لِيَُكوَ ن طوطمًا‪ .‬وبالغلب‪ ،‬فهم يأخذو ن الموجودا ِ‬ ‫التسميا ُت التي ل نزال نصادفها في أسماِء ال ةعشائر سوى بقايا من تلك المرحلة‪ ،‬من قَِبيِل السِد‪ ،‬الصقِر‪،‬‬ ‫س‪ ،‬الريح‪ ،‬المطِر‪ ،‬وغيِرها من أسماِء النباتات والشجاِر الهامة‪ .‬ومدى تشييد القدسيِة‬ ‫الف ةعى‪ ،‬الذئب‪ ،‬الشم ِ‬ ‫المتمحورِة حول المرأة – الّم كقوٍة محركٍة لل ةعهِد النيوليتي ُيماثُِل هنا قوَة الراهب الرجل‪ .‬حيث أّ ن ممثلي‬ ‫سبو ن الهميةَ على شكِل اللهة – الم التي َترُمُز إلى الخيِر وال ةعطاء‪.‬‬ ‫الطوطميِة واللِه السماو ّ‬ ‫ي َيكتَ ِ‬ ‫ض وصراعاً مريرًا تجاه آلهة الرهبا ن السومريين‪ .‬ونخص بالذكر النزاَع بين‬ ‫وكا ن على اللوهية – الم أْ ن تخو َ‬ ‫"أنكي" ِإلِه الرجِل الماكر و"إينانا" الرمِز الولّي لللهِة النثى‪ ،‬والذي أوصبَح الموضوَع الساسي الذي شغَل‬ ‫ب النزاع‬ ‫ع اختل ُ‬ ‫ف المصالح‪ ،‬والذي أتاَح الفروصةَ وأدى إلى نشو ِ‬ ‫الملحَم السومرية‪ .‬ويتستر تحت هذا الصرا ِ‬ ‫ض ال ةعلوي‬ ‫والصدام على جميع الوص ةعدة‪ ،‬بين المجتمِع الريفي النيوليتي المتمركِز حول القرى الكامنة في الحو ِ‬ ‫لما بين النهرين بريادة المرأة ‪ -‬الم‪ ،‬والمنغلق تجاه الستغلل‪ ،‬وبين مجتمِع المدينة المبتدئ بالتكاثِر حديثًا‪،‬‬ ‫ح لوِل مرة للستغلل‪ .‬وهكذا ُولَِدت "المشاكُل الجتماعية" الجديةُ لوِل مرة‬ ‫والُمن َ‬ ‫شأ ِ على يِد الراهب‪ ،‬والمنفت ِ‬ ‫في التاريخ‪ .‬إذ‪ ،‬ما ِمن شّك في أّ ن الصراَع بين القوى الُمَوّجهِة لِ​ِكل المجتمَ ةعين ينبع ِمن المشاكِل الجتماعية‪.‬‬ ‫ع واوصطلحاُته تَتَ​َحّدُد من قِبَِل أشكاِل الذهنية السائدة في تلك‬ ‫لكن‪ ،‬وكما نرى في التاريخ‪ ،‬فَلَُغةُ هذا الصرا ِ‬ ‫المرحلة‪ ،‬لّ ن أشكاَل الذهنيِة الراهنِة لم تكن موجودًة آنذاك‪ .‬حيث ل يمكن الت ةعبيُر عن المجتمع نفسه إل بهويٍة‬ ‫شبِه إلهية‪ ،‬لّ ن عقَل النسا ن ل يزال ب ةعيداً جداً عن مفهوم الهوية المجردة‪.‬‬ ‫لقد كا ن عقُل النسا ن في تلك المرحلة َي ةعتَقُِد بحيويِة الطبي ةعة‪ ،‬وبأنها مليئةٌ باللهة والرواح )وهو ليس بتفكيٍر‬ ‫س بها قد تتمخض‬ ‫ب إلى الصواب(‪ .‬وأ ّ‬ ‫رج ةعّي نسبًة لليوم الراهن‪ ،‬بل‪ ،‬وحسب اعتقادي‪ ،‬إنه متقدم‪ ،‬وَأقَر ُ‬ ‫ي َمسا ٍ‬ ‫سٍر‬ ‫عنه نتائج خطيرة‪ .‬ذلك أّ ن لجمي ةعها قدسياُتها‪ ،‬ويجب القتراب منها بكّل عنايٍة واحتراٍم وإجلل‪ .‬وأ ّ‬ ‫ي َتجا ُ‬ ‫ضبوها أو‬ ‫بسيٍط تجاهها قد يؤدي لكوارَث فظي ةعة‪ .‬بالتالي‪ ،‬يتطل ُ‬ ‫ب تقديَم القرابيِن وال ةعطايا والنذوِر إليها كي ل ُيغ ِ‬ ‫ً‬ ‫ت واللهِة أهمية عظمى لدرجِة أّ ن تقديَم الطفال والصبيا ن‬ ‫س ُ‬ ‫ب إرضاُء الُمقّدسا ِ‬ ‫ُيثيروا ِحنقَ​َتها‪ .‬وهكذا‪َ ،‬يكتَ ِ‬ ‫والصبيات قرابيَن لهم أوصبَح تقليداً ساَد ردحا ً طوي ً‬ ‫ش ومرعب‪ ،‬ولكن‪ ،‬كانوا ُيؤِمنو ن‬ ‫ل من الزمن‪ .‬إنه تقليٌد مده ٌ‬ ‫ض هذا التقليُد للتحريف والتحويِر مدةً طويلة على يِد الرهبا ن‬ ‫ببقاِء المجتمع وصامداً ومتماسكاً عبره‪ .‬وقد تَ​َ ةعّر َ‬ ‫ُ‬ ‫ب ال ةعلقات بين التجم ةعات‬ ‫والراهبات‪ ،‬إل أنه ِمَن المؤّكِد ارتباطُ مضمونه بالقدسيِة وحمايِة الذات‪ .‬فكافة ضرو ِ‬


‫ش ئ الذهُن‬ ‫ت فيما بين هذه القدسيات واللهة‪ .‬هكذا كا ن قد ُأن ِ‬ ‫البشرية كا ن يَُ ةعّبر عنها عبر ال ةعلقات والتناقضا ِ‬ ‫ف لغةَ )أو بالحرى ديَن( الِ ةعلِم‬ ‫واللغة‪ ،‬حيث ل وجوَد حينذاك لـ"لغِة الِ ةعلِم الوض ةعي" الراهن‪ .‬فالبشريةُ لم َت ةعِر ْ‬ ‫س ةعِينا لتفسيِر التاريخ‪.‬‬ ‫الوض ةعّي هذا إل في القرَنيِن الخيرين‪ .‬وعلينا أل َنغفَ​َل عن هذه الحقيقة لدى َ‬ ‫سهُ المادية‪.‬‬ ‫س ُ‬ ‫تأسيساً على ذلك‪ ،‬فالصراُع القائم بين إينانا وأنكي وصراٌع اجتماعّي عصيب‪ .‬ول شّك في أّ ن له أُ ُ‬ ‫وصّحةَ هذا التفسير من خلِل الصراع القائم في تركيا‪ .‬حيث نتلمس مرة أخرى‪ ،‬وعن كثب‪،‬‬ ‫واليوم أيضا ً نلحظُ ِ‬ ‫ب الش ةعب الجمهوري ‪ CHP‬المّدعي أنه‬ ‫ع الُم ةعاش بين قوى حز ِ‬ ‫كيفيةَ سرياِ ن جدليِة التاريخ‪ ،‬عبر الصرا ِ‬ ‫ث بالدين وال ةعقيدة السلمية‪ .‬علينا‬ ‫ب ال ةعدالة والتنمية ‪ AKP‬الميتافيزيقّي المتشب ِ‬ ‫وض ةعّي وعلمي‪ ،‬وبين حز ِ‬ ‫ي لم ُيقِحم الديَن في وصراعاته الجتماعية‪.‬‬ ‫ي أو سياسّي أو اقتصاد ّ‬ ‫ح عسكر ّ‬ ‫التّنَّبهَ والِ ةعلَم جيداً بأنه ما ِمن كفا ٍ‬ ‫ففي حاِل ال ةعكس نكو ن قد َوَق ةعنا في حالِة "الشتراكية المشيدة"‪.‬‬ ‫ع‬ ‫إّ ن اللهَ السماو ّ‬ ‫ي "آ ن" واللهَ الرضّي "أنكي"‪ ،‬اللَذين ابتَ​َدَعهما الرهباُ ن السومريو ن‪ ،‬يتميزا ن بطبا ٍ‬ ‫س الرجُل ويَُؤّله‪ .‬إنه‬ ‫رجولية‪ .‬وَي ةعِكس هذا الواقُع بروَز قوِة الرجل في مجتمِع المدينة السومري‪ ،‬حيث يُقَّد ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫سهُ الذي اكتسَب "القدسية واللوهية فيما‬ ‫تقدي ٌ‬ ‫س هائٌل لدرجِة أّ ن الرجَل القيادي الجليَل الجديد غدا المجتمَع نف َ‬ ‫سَبرنا تحت هذه الجراءات الم ةعموِل بها‪ ،‬سندرك على نحٍو أفضل أّ ن المبّجَل‬ ‫بين السموات والرض"‪ .‬وإذا ما َ‬ ‫ش عقيدةَ "إينانا" – أّ ن القوَة‬ ‫والمجلَّل هو "طبقةُ الرهبا ن"‪ ،‬ليس إل‪ .‬تماماً مثلما سنجد – عندما ننب ُ‬ ‫الجتماعيَة للنساِء المهات هي القوةُ المديرةُ والخلقةُ في ال ةعهِد النيوليتي‪.‬‬ ‫ب‬ ‫يستمر هذا الصراُع بشكٍل متكافٍ ئ ومتناظٍر حتى أعواِم ‪. 2000‬ق‪.‬م‪ ،‬ولو أّ ن الكفةَ كانت َترُجُح على حسا ِ‬ ‫ح تجاه التمييِز بين المرأِة والرجل‬ ‫ع الكفا ِ‬ ‫المرأة في المجتمع السومري مع مروِر الزمن‪ .‬إّ ن البحَث في موضو ِ‬ ‫ضُح المور وُي ةعّلمنا أكثر‪ .‬وسنس ةعى لف ةعل ذلك‪.‬‬ ‫ضمن أشكاله وألوانه عبر التاريخ إلى يومنا الراهن ُيو ّ‬ ‫ً‬ ‫ت لللهِة )التي يتناقص عددها طرديا(‪َ ،‬يقوُم بالمقابل بالتَّكّتِم‬ ‫ب الطاب َ‬ ‫ق ال ةعلو ّ‬ ‫بينما يَُخ ّ‬ ‫ص الراه ُ‬ ‫ص ُ‬ ‫ي ِمن الزقورا ِ‬ ‫ت ب ةعدِم وص ةعوِد أحٍد غيَرهُ )غير رئيس الرهبا ن( أَيّاً‬ ‫على هذا الطابق لقصى الحدود‪ ،‬وُيوثّ ُ‬ ‫ق ت ةعليماته في السجل ِ‬ ‫كا ن‪ .‬هذا التكتيُك هاّم لجِل التطور الديني الجديد‪ ،‬حيث ُيزيد به ِمن تبجيِل الناس وفضولِ​ِهم‪ ،‬ويَُوطُّد ِمن تَبَِ ةعيتهم‬ ‫س الرهبا ن على نشِر أقواله بين المجتمع بَِكونِ​ِه التقى اللهَ وتَ​َكلَّم إليه في هذا الطابق‪.‬‬ ‫وانصياعهم‪ .‬وُيثابُِر رئي ُ‬ ‫ق‬ ‫الناط‬ ‫أنه‬ ‫ذلك‬ ‫الرهبا ن‪.‬‬ ‫س‬ ‫رئي‬ ‫م"‬ ‫"كل‬ ‫إلى‬ ‫ر‬ ‫النظ‬ ‫سوى‬ ‫عليه‬ ‫ما‬ ‫الرب‪،‬‬ ‫م‬ ‫كل‬ ‫ع‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫بالتالي‪ ،‬فَمن َيرَغ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ب سما َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ض الوحيُد باسِم الرب‪ .‬وقد انتقَل هذا التقليُد كما هو عليه إلى الدياِ ن البراهيمية أيضًا‪ .‬فسيدنا موسى‬ ‫والمفّو ُ‬ ‫كا ن قد تكلَم مع الرب في جبِل طوِر سيناء لينهَل منه "الووصايا ال ةعشر "‪ .‬والسُم الخر لسيدنا عيسى هو‬ ‫ت عديدًة‪ ،‬إل أّ ن الشيطاَ ن كا ن ُيفِرُغ‬ ‫ق باسم الرب"‪ .‬وهو أيضا ً َ‬ ‫"الناط ُ‬ ‫شَرَع بمحاولِة الكلِم مع الرب مرا ٍ‬ ‫محاولتِ​ِه تلك وُيفِشلها‪ .‬ولكنه كا ن سينجح في ُمراِدِه في النهاية‪ .‬أما السراُء والم ةعراُج لدى سيدنا محمد ‪،‬‬ ‫ق ال ةعلوي على شكِل مجمِع‬ ‫ب وتنسي ُ‬ ‫فيشير إلى استمراِر التقليِد عينه في السلم أيضًا‪ .‬وسيتم ترتي ُ‬ ‫ق الطاب ِ‬ ‫اللهة بشكٍل أكثَر عظمةً وإبهار ًا في الديانة الغريقية الرومانية‪ .‬أما في الديانات البراهيمية‪ ،‬فسُي ةعاد تنسيقه‬ ‫ف للطبقِة الدينية‬ ‫وترتيبه مجدداً على شكِل الكنيسد والكنيسة والجامع لتزداَد عظمته وأُبَّهُته‪ .‬إّ ن الدوَر المتضاع َ‬ ‫ف المجتمع واضٌح بجلء‪.‬‬ ‫في وصفو ِ‬ ‫ت( الرب‪ .‬فلكي يكوَ ن تنظيُم المجتمِع الجديد‬ ‫س الرهبا ن هو الشخ ُ‬ ‫رئي ُ‬ ‫ق )بي ِ‬ ‫ص الناجُح في تركيِز فكِرِه في طاب ِ‬ ‫ض‬ ‫مؤثرًا‪ِ ،‬مَن المهّم للغاية أْ ن يسيَر وف َ‬ ‫ضُع ب ةع ُ‬ ‫ق الكلِم الدائر في المحادثِة بينه وبين الرب‪ .‬ولوِل َمرٍة ُتو َ‬ ‫ق لتمثيِل الرب‪ .‬فهذا البتكاُر يثيُر فضوَل النساِ ن أكثر‪ ،‬ولذلك ُوِجَدت الحاجةُ لِ​ِمثِل هذه‬ ‫التماثيل في هذا الطاب ِ‬ ‫َ‬ ‫ب عموما ً لِ​ِمثِل هذه‬ ‫الوصناِم والهياكِل الرمزية لللِه الوصطلحي‪ .‬ذلك أّ ن ذاكرةَ النساِ ن في ذاك الزماِ ن أقَر ُ‬ ‫ت الذهنية المتجسدِة في الهياكل‪ ،‬أكثَر ِمَن التفكيِر بذاك النمِط من المصطلحات التجريدية‪ .‬ومن ال ةعسيِر‬ ‫التصورا ِ‬ ‫ُ‬ ‫ت البشرية َتشَهُد تأثيراً‬ ‫جداً إدراُك الفكرِة الشفهية أو المجردة‪ ،‬أي‪ ،‬غيِر المدعومِة برمٍز أو هيكل‪ .‬فالجماعا ُ‬ ‫سمات(‪ .‬بالتالي‪ِ ،‬من المفهوِم تماما ً دوافُع اللجوِء‬ ‫ب لغِة الرموز والُمَج ّ‬ ‫كاسحا ً لُِلغِة الشارات )ضر ٌ‬ ‫ب من ضرو ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫سِد في الرموز والوصنام‪ .‬في حين أّ ن التماثيَل الجمة للمرأِة البدينة‪ ،‬والمتبقية من عهِد‬ ‫ت اللِه الُمَج ّ‬ ‫لوصطلحا ِ‬ ‫اللهة – الم‪ ،‬أكثُر تواض ةعًا‪ ،‬وَترُمُز للمرأِة – الم الم ةعطاءِة والخّيرِة والمبدعة‪.‬‬ ‫ت للرب في الطابق ال ةعلوي من الزقورات على شكِل مجمِع اللهة‪ ،‬الكنسية‪ ،‬الكنيسد‪ ،‬الجامع‪،‬‬ ‫إذ ن‪ ،‬فَكْوُ ن أوُل بي ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ت التاريخيِة المترابطِة ت ةعني‬ ‫والجام ةعِة أمٌر منيٌر وتربو ّ‬ ‫ي لب ةعِد الحدود‪ .‬فهذه السلسلة المت ةعاقبة من التشكيل ِ‬ ‫َ‬ ‫ذاكرةَ المجتمِع وهويتَهُ المقدسَتين‪ .‬فِ ةعلُم اللهوت‪ ،‬الم ةعروف باسم الثيولوجيا‪ ،‬يَُرّبي ويُنَّمي هذه الذاكرَة‬ ‫بتحويلها إلى فلسفة‪ ،‬بَِحي ُ‬ ‫ت في‬ ‫ث تَُكوُ ن منقط ةعةً ومجّردةً من نموذجها الول‪ .‬إّ ن أفدَح التحريفات والتحويرا ِ‬


‫ت المؤّكد في تَ َ‬ ‫طّوِر ال ةعلم‬ ‫التاريخ حصَلت في ميداِ ن علِم اللهوت واللهيات‪ .‬ل يمكن إغفاُل أو إنكاُر دوِر اللهيا ِ‬ ‫ح منابِع اللوهية‬ ‫والفلسفة‪ .‬لكن‪ ،‬وبسبب تأديتهم دوَرهم باللجوِء إلى ُمَجّرِد المجرد‪ ،‬ووثِن الوثن‪ ،‬دو ن إيضا ِ‬ ‫وجذورها الجتماعية‪ ،‬فإّ ن هذه الشريحةَ هي المسؤولةُ الولى عن كيفيِة نشوِء المدنية عمومًا‪ ،‬والمدنية‬ ‫الراهنِة خصيصاً عبر المجتم ةعيِة التي شادوها‪.‬‬ ‫ت عظيمةً في‬ ‫‪.‬ق الوصول والجذوِر الصحيحة تُقَّدُم مساهما ٍ‬ ‫ل ريَب في أّ ن شروَح اللهيا ِ‬ ‫ت الغائرِة في أعما ِ‬ ‫وصياغِة ِعلِم الم ةعنى‪ .‬ولكن‪ِ ،‬من المهّم استي ةعاب َكوِ ن اللهوتيين هم أكبر الُمَحّرفين للم ةعاني‪ ،‬سواًء بقصٍد أو‬ ‫بدونه‪ ،‬عبَر َغلَبَِة منزلتهم باحتللهم أماكَنهم داخَل كافِة أروقِة الدولة والنظمِة الهرمية‪ .‬لذا‪ ،‬سنس ةعى لتحليِل‬ ‫ف إدراِك الشر‪.‬ق الوسط‬ ‫ت الجديدة التي تَقَّم ُ‬ ‫صوها في كّل فترٍة هامة‪ ،‬وذلك بهد ِ‬ ‫وإفهاِم هذه المواضيِع والصياغا ِ‬ ‫الراهن‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ب هي هندسة المجتمع‪ .‬فهو َيقوُم بنفسه بالتخطيِط للمجتمع الجديد وتشييده من‬ ‫ج‪ -‬الوظيفة الثانية الهامة للراه ِ‬ ‫ق‬ ‫جهة‪ ،‬وبتَ​َدّبِر شؤونه بنفسه من جهة ثانية‪ .‬هذه الَمَهمة تُ َ‬ ‫سّير في الطابق الثاني من الزقورات‪ ،‬أي‪ ،‬في طاب ِ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫س‬ ‫سِهم‪ .‬وهكذا سيتكاثر الرهباُ ن كمفّوضين عن الرب‪ ،‬ليُ َ‬ ‫شّكلوا طبقة مقّدسة تحت إشرا ِ‬ ‫الرهبا ن أنف ِ‬ ‫ف رئي ِ‬ ‫ب َلم‬ ‫الرهبا ن‪ .‬بالتالي‪َ ،‬‬ ‫سَيرُمو ن لَِتشِكيِل أوِل هرميٍة )الدارِة المقدسة( ِمن حفنٍة إداريٍة لُِكّل مدينة‪ .‬ولهذا السب ِ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ج القيِم المادية عبر‬ ‫نَقُْل عبثا ً بأّ ن الرهباَ ن هم الرسُم التخطيطّي الوُل للُمَ ةعلِم الُمتَ​َمّرس‪ .‬فبينما ُيشِرفو ن على إنتا ِ‬ ‫تشغيِل رعاياهم في الطابق الول )بدايةُ الست ةعباد والّر‪.‬ق(‪َ ،‬ينَكّبو ن ُهم بَِمِ ةعيِّة اللِه على النشغال بال ةعلم‬ ‫ت الساسيِة ل ةعلوِم الكتابة‪ ،‬الرياضيات‪ ،‬علِم‬ ‫شِهَدت ُغَر ُ‬ ‫وتنظيمه‪ .‬هكذا َ‬ ‫ق الوسط َوضَع اللَّبنا ِ‬ ‫ف الرهبا ن في الطاب ِ‬ ‫سّوَدٍة‬ ‫الفلك‪ ،‬الطب‪ ،‬الداب‪ ،‬وبالطبع‪ ،‬علِم اللهوت أيضًا‪ .‬إذ ن‪ ،‬فالطاب ُ‬ ‫س الوقت أوُل ُم َ‬ ‫ق الوسط هو في نف ِ‬ ‫صغٌرّ‬ ‫ق الرب نموذٌج مصغٌّر للم ةعابد‪ ،‬وطاب ُ‬ ‫ع المدرسة والجام ةعة‪ .‬أي أّ ن طاب َ‬ ‫ق الرهبا ن نموذٌج ُم َ‬ ‫لمشرو ِ‬ ‫َ‬ ‫للمدارس‪ .‬ل جداَل في أّ ن إدارة شؤوِ ن مجتمِع المدينة هي المؤثُر الولّي في تسييِر هذه الف ةعاليات المت ةعاظمة‪.‬‬ ‫ف‬ ‫إذ‪ ،‬يتوج ُ‬ ‫ت الماديةَ لم تُ َ‬ ‫سّير على نحٍو تلقائّي البتة‪ ،‬أي‪ ،‬لم ُتماَرس من طر ِ‬ ‫ب الدراك جيداً أّ ن الف ةعاليا ِ‬ ‫ب الُملكيات‪ ،‬ال ةعامة‬ ‫"الكادحين الحرار" حسَب ت ةعبيِر ماركس‪ .‬ذلك أنه ل وجوَد لكادحيَن أحراٍر تاب ةعين لوصحا ِ‬ ‫َ‬ ‫ي إنساٍ ن غير ُمست ةعبٍَد بالقمع‬ ‫ي مجتمٍع طبقي‪ ،‬بما فيه مجتمُع المرحلة الرأسمالية‪ .‬فأ ّ‬ ‫منها والخاوصة‪ ،‬في أ ّ‬ ‫والشرعنة‪ ،‬ل يمكن أْ ن ي ةعمَل بحريٍة في ُملكيِة الخرين! سنشرح هذه الموَر في مكانها المناسب‪.‬‬ ‫ق باسم‬ ‫يَُؤّمُن الرهباُ ن النسبَة ال ةعظمى من شؤونهم الداريِة عبر المشروعية‪ .‬وَأفتَُك فنوِنهم هنا تكمن في النط ِ‬ ‫ت ال ةعلميةُ َتمنَُحُهم قدرةً إداريةً عظمى‪ .‬ول ننسى أّ ن ال ةعلَم قوة‪،‬‬ ‫الرب‪ ،‬واحتكاِر ال ةعلم‪ .‬فتمثيُل الرب‪ ،‬والكتشافا ُ‬ ‫ضَ ةعت في المجتمِع النيوليتي‪ ،‬وبالخص في عهِد تل‬ ‫ت هذا ال ةعلِم قد ُو ِ‬ ‫حتى في الرأسمالية‪ .‬ولنَُذّكر أيضا ً أّ ن لَ​َبنا ِ‬ ‫ب‬ ‫حلف )‪. 4000 – 6000‬ق‪.‬م(‪ .‬ومساهما ُ‬ ‫ت المرأة – الم أمٌر محّدٌد في هذه المرحلة‪ .‬إذ يجب استي ةعا ُ‬ ‫ت إلها ِ‬ ‫ف النباتات‪ ،‬تدجيِن الحيوا ن‪،‬‬ ‫الدوِر الت ةعليمي الول والوصِل للنساء – المهات في كافِة المواضيع الم ةعنيِة باكتشا ِ‬ ‫ت القداسة‪ .‬فإوصراُر اللهِة الم إينانا ب ةعناد في‬ ‫ت النسج‪ ،‬الطاحونة‪ ،‬بناِء المنزل‪ ،‬وبيو ِ‬ ‫وصنِع ِجَرار الفخار‪ ،‬آل ِ‬ ‫سَرَقها‬ ‫ت ال ةعظمى )الماءات( المائِة والرب ةعة )‪ ،(104‬وأنه َ‬ ‫م ةعم ةعاِ ن نزاعها مع أنكي بأنها هي وصاحبةُ الكتشافا ِ‬ ‫ت قد حصَلت على يِد‬ ‫ع إلى الحقيقِة المستترة تحت قولها هذا‪ .‬أ ْ‬ ‫ي أّ ن أغلَب الكتشافا ِ‬ ‫منها؛ إنما يشيُر بكّل سطو ٍ‬ ‫النساء – المهات‪ ،‬وأّ ن الرجاَل الداريين قد سرقوها منهن‪ .‬وسنرى لحقا ً كيف أّ ن مرحلةَ الحضارِة المدينية قد‬ ‫تَّم تشييُد وصرِحها على هذا الساس لَِحّد ما‪.‬‬ ‫ت والطب‬ ‫ت الرهبا ن في الكتشافات‪ .‬فَ​َدوُر اختراِعِهم للكتابِة وِعلِم الفلك والرياضيا ِ‬ ‫ل يمكن استصغار مساهما ِ‬ ‫س ال ةعلمية للحضارة‪ .‬وسيكو ن القوُل بأّ ن للرهباِ ن السومريين مكانةُ‬ ‫واللهو ِ‬ ‫خ الس ِ‬ ‫ت أمٌر أكيٌد في ترسي ِ‬ ‫الصدارة في مرحلِة البدِء بال ةعلِم أمراً في محله‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫سّمَي ملوُك سومر الوائُل بالرهبا ن – الملوك‪ .‬وحقيقُتهم بائنة في هذه التسمية‪ .‬فالرهباُ ن‬ ‫وكما هو م ةعلوم‪ ،‬فقد ُ‬ ‫ُ‬ ‫ب – ملك‪ .‬والشرعية المتحققة عبر ال ةعلِم‬ ‫– الملوك هم أوائُل ملوِك مجتمِع المدينة‪ .‬فلكّل مدينٍة في البداية راه ٌ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ت عينه‪ .‬فَب ةعَد‬ ‫ت هي الدافُع الولّي وراَء إدارتهم الَمَلكية‪ .‬ولكّن هذا المَر يَُمثُل جانَبهم الض ةعي َ‬ ‫ف في الوق ِ‬ ‫واللهو ِ‬ ‫ُ‬ ‫سِر الحاكمة‪ .‬وَي ةعوُد الدوُر الكبُر في ذلك إلى الحاشيِة‬ ‫ت وال َ‬ ‫مرحلٍة م ةعينٍة يتم النتقاُل إلى مرحلِة السلل ِ‬ ‫ّ‬ ‫ف على "ل ةعبِة‬ ‫ف مع زعيِم السللة‪ .‬وهكذا‪ ،‬فسيتَغلب ال ةعن ُ‬ ‫ال ةعسكريِة الملتفِة حول "الرجِل القوي" المتحال ِ‬ ‫شلها‪ .‬سنتناول هذا الموضوَع فيما ب ةعد‪.‬‬ ‫الراهب" وُيف ِ‬ ‫ق الول" لنهم –‬ ‫د‪ -‬يتواجُد طاب ُ‬ ‫ب الَح َ‬ ‫ق ال ةعاملين في السفل‪ .‬علينا بالستي ةعا ِ‬ ‫سِن لهؤلِء "ال ةعاملين في الطاب ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ب ظهوِر أوائِل ال ةعبيِد والقنا ن والُ ةعمال‪ِ .‬من أين‪ ،‬وكيف تَّم تأمينُهم؟ ما‬ ‫ربما – يُ َ‬ ‫شّكلو ن الخطوة الولى على در ِ‬


‫ت أَتوا‪ ،‬ومقابَل ماذا؟ هل ثمةَ نساٌء بينهم؟ ما دوُر النساِء وال ةعائلة‬ ‫ع في ذلك؟ ِمن أ ّ‬ ‫ي جماعا ٍ‬ ‫دوُر الرغاِم والقنا ِ‬ ‫ق استنارةً هامةً لدينا‪.‬‬ ‫بينهم؟ إّ ن الرّد على هذه السئلِة سيَُحقّ ُ‬ ‫ت ال ةعمل‪ .‬من الممكِن الفتراض‬ ‫ب في الصدارِة في تشكيِل أولى مجموعا ِ‬ ‫ع الراه ِ‬ ‫ِمن المحتمِل أْ ن تَُكوَ ن قوةُ إقنا ِ‬ ‫ت‬ ‫ج بتغذيِة ال ةعاملين بنسبٍة أفضَل ِمن المكاِ ن التين منه من الُقو ِ‬ ‫بأنهم قاموا في ُمستَ​َهّل ترتي ِ‬ ‫ب وتنظيِم النتا ِ‬ ‫ت القبائلية الناشبِة مع‬ ‫المتزايِد مع بدِء الري‪ .‬فالمت ةعارضو ن وغير المتفاهمين مع قبائلهم حصيلةَ الشتباكا ِ‬ ‫وصِهم‪ .‬المؤثُر الخر‪ ،‬والذي ربما ل ةعَب دوراً أهّم‬ ‫زيادِة ت ةعداِد السكا ن والهجرات‪ ،‬ربما َرَأوا الم ةعبَد ملذاً لخل ِ‬ ‫‪.‬ق الوسِط تقليَد‬ ‫بكثير‪ ،‬هو قدسيةُ ال ةعمِل في تشييِد الم ةعبِد والمشاركِة في إنتاجياته‪ .‬فلطالما نصاد ُ‬ ‫ف في الشر ِ‬ ‫سخرة الرغامّي في الم ةعبِد َيشَمُل فئًة‬ ‫ح كل عائلٍة وقبيلٍة أولَدها لخدمِة الم ةعبد ضمَن حدوٍد م ةعينة‪ .‬فَ​َ ةعَمُل ال ّ‬ ‫من ِ‬ ‫َ‬ ‫شبَهُ ِبالّديِر‬ ‫ف والِ ةعّزة‪ .‬إنه أ ْ‬ ‫عامًة‪ ،‬بل وُيمَنح َمرتَبَ​َة الشرف‪ .‬وال ةعاملو ن في الم ةعبد َيسَتقبُِلهم المجتمُع بالتشري ِ‬ ‫ف وثواب‪.‬‬ ‫ب ُمشاِبهةٌ للطرائقية أيضًا‪ ،‬فال ةعمُل في ُملكيِة الشيخ شر ٌ‬ ‫المسيحي‪ .‬كما له جوان ٌ‬ ‫َ‬ ‫ت النظاَر من حي ُ‬ ‫ض علماءِ‬ ‫ت الزقورا ُ‬ ‫َتلفُ ُ‬ ‫ف لل ةعمل الجماعي‪ .‬ف ةعلى سبيل المثال‪ ،‬ثمة ب ةع ُ‬ ‫ج شفا ٍ‬ ‫ث كوِنها أوَل نموذ ٍ‬ ‫ق‬ ‫ج للتطبي ِ‬ ‫ح جليا ً أنها أوُل نموذ ٍ‬ ‫الجتماع )ماكس فيبر( يُقَّيمونها كـ"الشتراكية الفرعونية"‪ .‬فِمن الواض ِ‬ ‫َ‬ ‫ج الم ةعمِل الَجمِ ةعي‪.‬‬ ‫الشيوعي‪ .‬وتجم ةعا ُ‬ ‫ت الِحَرِفيين الحراِر أيضا ً َتنَدِرُج في مجموعِة ال ةعمل هذه‪ .‬إنها أشبَهُ بإنتا ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ض من النتاج‪ ،‬فيَتُّم تخزينه‪ .‬ساطٌع تماما ً أنه نظاٌم فاضل لمواجهِة القحِط والَجدب‪ .‬فهذا النمط من‬ ‫أما الفائ ُ‬ ‫ُ‬ ‫‪.‬ق َت ةعَجُز عن الووصوِل إليه أيّة عائلٍة أو قبيلة‪ .‬إنه تجمٌع وقوةٌ‬ ‫ت ُيضاِع ُ‬ ‫الجراءا ِ‬ ‫ف ِمن قوِة الرهبا ن بشكٍل خار ٍ‬ ‫شّكُل‬ ‫ت من جهِة كوِنها تُ َ‬ ‫تتفو ُ‬ ‫ج أفضَل من الزقورا ِ‬ ‫‪.‬ق على كافِة ال ةعوائل والقبائل‪ .‬ول يمكننا ال ةعثوُر على نموذ ٍ‬ ‫شْيَم وَجِنيَن المجتمع والدولِة الجديَدين‪.‬‬ ‫ّر َ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ع المرأة وال ةعائلِة في نظاِم الزقورات؟ كثيراً ما نتَ​َ ةعق ُ‬ ‫ب في الُمَؤلفا ِ‬ ‫هـ‪ِ -‬من المهّم التساؤل‪ :‬ما الذي َحّل بأوضا ِ‬ ‫ُ‬ ‫ب الزقورات‪ .‬وتَتَبَّدى هذه الم ةعاَرضة بأشكاٍل‬ ‫السومرية آثاَر مناَهضِة وم ةعاَرضِة ديِن اللهِة – الم لديِن راه ِ‬ ‫ُ‬ ‫شّيدَ ن الم ةعابَد بِثِقَِل نفوِذِهن‪ ،‬بحيث يكاُد يكو ن ِلكّل مدينٍة إلهتها النثى التي َتصونها‬ ‫مختلفة‪ .‬فالراهبا ُ‬ ‫ت يُ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫‪.‬ق اليوم يأتي‬ ‫وتحميها‪ .‬وخيُر مثاٍل على ذلك مغامرا ُ‬ ‫ت إينانا‪ ،‬إلهِة أوروك ‪ .‬فمدينة أوروك )لربما أّ ن اسَم ال ةعرا ِ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ق البحث‪ .‬كما أنها مشهورة بِكوِنها‬ ‫ِمن أوروك(‪ ،‬التي ُت ةعتَبَُر أوَل دولٍة – مدينٍة سومريٍة في التاريخ‪ ،‬مثاٌل يستح ّ‬ ‫مدينةُ أوِل َملٍك رجل‪ ،‬أل وهو گلگامش‪ .‬ومن المحتمِل أْ ن تكوَ ن أوروك مثالً لوِل مدينٍة – دولة‪ .‬وَيذُكُر التاريُخ‬ ‫س‬ ‫ت ما بين ‪.3800‬ق‪.‬م إلى ‪. 3000‬ق‪.‬م ُت ةعتَبَُر عهَد أوروك‪ .‬وكوُ ن اللهِة إينانا مؤ ّ‬ ‫سسُتها‪ ،‬فهذا ي ةعك ُ‬ ‫أّ ن السنوا ِ‬ ‫مدى قَِدِمها ومدى دوِر المرأة – الم الرئيسّي فيها‪ .‬ونزاُع أوروك تجاه أريدو )مدينِة الله أنكي‪ ،‬وربما تكو ن‬ ‫ع المرأِة والرجل متجسداً في‬ ‫دولَة الرهبا ن الولى( نزاٌع ملحمّي َيبُرُز فيه المثاُل الملمو ُ‬ ‫س بقوٍة لصرا ِ‬ ‫ض لهزيمٍة نكراَء في ال ةعهِد‬ ‫شخصيَتي إينانا وأنكي‪ .‬ولكّن أشكاَل اللهِة المرأة تتضاءُل مَع الزمن‪ ،‬وكأنها تت ةعر ُ‬ ‫البابلي‪ ،‬حيث تغدو المرأةُ عبدةً بقدِر ما تصبُح عاهراً رسمياً على الص ةعيَدين ال ةعام والخاص‪.‬‬ ‫ق في قسٍم من أقساِم الزقورات‪ .‬بل إّ ن تأديةَ دوِر‬ ‫ع ‪ Nesne‬عش ٍ‬ ‫ِمن الم ةعلوِم أّ ن النساَء لَِ ةعبَن دوَرُهّن كموضو ِ‬ ‫ت‬ ‫ت المنتَقيا ُ‬ ‫وصفَوِة ال ةعوائل وأنبِلها‪ .‬حيث ُتؤخُذ الفتيا ُ‬ ‫ع ‪ Nesne‬ال ةعشق أمٌر مشّر ٌ‬ ‫ت َ‬ ‫ف لجِل فتيا ِ‬ ‫موضو ِ‬ ‫ب‬ ‫ت إلى الم ةعبد‪ ،‬ليكوَ ن منُح المرأِة ذاَتها مذهلً في نظاِم الرهبا ن‪ .‬وتَُمّر هؤلء الفتيا ُ‬ ‫والمتميزا ُ‬ ‫ت بجميِع ضرو ِ‬ ‫ض النشطة )الفن والموسيقى(‪.‬‬ ‫ت في نظاِم سرايا الزقورا ِ‬ ‫س الجماليا ِ‬ ‫ت إلى أْ ن تَتَ​َمّرسها وَتحتَِرَفها في ب ةع ِ‬ ‫درو ِ‬ ‫ق المجاورِة لَِنيِل إعجابهم‪ ،‬حيث يَُزاِوجو ن بينهم في حاِل‬ ‫كما ُي ةعَرضَن على َ‬ ‫وصفَوِة الرجاِل التيَن من المناط ِ‬ ‫التفاهِم والتفا‪.‬ق‪ .‬وبهذه الشاكلِة ُيزيُد الم ةعبد ِمْن وارداتِ​ِه وِمن تأثيرِه أض ةعافاً مضاعفة‪ .‬فالحظُي بامرأٍة من‬ ‫سدَ ن قوةَ تأثيِر الم ةعبِد بين‬ ‫ب رجاِل ال ةعوائل النبيلة‪ .‬فضلً عن أّ ن هؤلء النساَء يَُج ّ‬ ‫الم ةعبِد ل يَُكوُ ن إل ِمن نصي ِ‬ ‫َ‬ ‫سهن بمجتمِع الدولِة الجديد لنهن قد تَلَّقيَن تدريَب الم ةعبد‪ .‬إنهن أشبَهُ‬ ‫ف القبائل الجديدة‪ ،‬وَيرُبطَن أنف َ‬ ‫وصفو ِ‬ ‫ب ل تبَرُح الدوُل تَتّبُِ ةعهُ بشكٍل مؤثر‪ ،‬وفي‬ ‫بال ةعملِء الكثِر إنتاجاً وعطاًء لمجتمِع دولِة الرهبا ن الجديد‪ .‬وهو أسلو ٌ‬ ‫ت الدعارة"‪ .‬وكلما زاد‬ ‫مقدمتها إسرائيل‪ .‬وتحقي ُ‬ ‫ق جماعيِة المرأِة على هذا النحِو يَُ ةعّد نموذجا ً أّولِيّا ً لفّن "بي ِ‬ ‫ق والهياِم إلى أسوِأ‬ ‫انحطاطُ المرأة وتهاويها‪ ،‬تحوَلت ِمن إلهِة الم ةعابد النبيلِة الفاضلة‪ ،‬ومن أنثى ال ةعش ِ‬ ‫ف‪ ،‬أو الذّل‬ ‫ت الدعارة"‪ .‬والمجتمُع السومري وصاح ُ‬ ‫ب الشر ِ‬ ‫"عاملٍة" يائسٍة بائسٍة َتمنُح نفسها في "بي ِ‬ ‫ج في هذا المضمار‪.‬‬ ‫واللشرف‪ ،‬بكونِ​ِه أوَل نموذ ٍ‬ ‫ع دو ن القوِل بأّنه كا ن بالمكا ن أ ن يكوَ ن هذا النظاُم مثاليا ً لو تَّم الرقّي به إلى‬ ‫لكني لن أَُمّر على الموضو ِ‬ ‫ى أكثر تشريفًا‪ ،‬دو ن أْ ن ُيستَغّل على هذه الشاكلة‪ .‬فالتربيةُ والتنشئةُ السليمة للفتيات أمٌر عسير‪ ،‬سواًء‬ ‫مستو ً‬ ‫ُ‬ ‫ص الماديةُ مساِعدةٌ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫في النظِم التي تَُروُدها المرأة – الم أو التي يَقوُدها الرجُل – الب‪ .‬فل الم ةعلوما ُ‬ ‫ت ول الفَر ُ‬


‫ت الماديَة‪ ،‬وكا ن بالمقدوِر التفكيُر في م ةعابِد النساِء كساحٍة‬ ‫لذلك‪ .‬فال ةعنايةُ بالمرأة أمٌر يتطلب الحترا َ‬ ‫ف والمكانا ِ‬ ‫ي السلطوي َأسقَ َ‬ ‫سسةَ عبر القمِع والضطهاد والستغلل‪.‬‬ ‫ط هذه المؤ ّ‬ ‫مثاليٍة لذلك‪ .‬إل أّ ن المجتمَع الذكور ّ‬ ‫سسةٌ َينظُ​ُر إليها المجتمُع ب ةعيِن الِغبطِة‬ ‫س الكافيِة في هذا السيا‪.‬ق‪ .‬ذلك أنه ثمةَ مؤ ّ‬ ‫والمثاُل السومر ّ‬ ‫ي يَُمّدنا بالدرو ِ‬ ‫ق لتقديِم فتياته إليها‪ .‬وحسَب اعتقادي‪ ،‬فهو ِبحالِ​ِه هذه‪َ ،‬يمنحنا مثالً أولياً لم يتم الووصوُل‬ ‫والسرور‪ ،‬ويتساب ُ‬ ‫ص شاس ةعٍة للتطور في هذه الم ةعابِد )التي يمكُن تشبيهها بم ةعاهِد الفتيات‬ ‫إليه ب ةعد‪ .‬ذلك أّ ن الفتيا ِ‬ ‫ت َحظين ِبفر ٍ‬ ‫الراهنة(‪ ،‬ولم يَُكْن ُمراُدُهّن الساسّي انتقاَء الزواج‪ .‬بل كاَ ن َمراُمُهّن ريادةَ المجتمِع والدولة الجديَدين‪ ،‬وُكّن‬ ‫ي مجتمٍع مثالي يَُ ةعّد ت ةعليُم الفتيات‬ ‫غ حياٍة اجتماعيٍة أكثَر نبلً وَهيامًا‪ .‬ففي أ ّ‬ ‫يُقَّدْمَن مساَهما ٍ‬ ‫ت ل غنى عنها لبلو ِ‬ ‫ت في نظاِم المدارس‪ ،‬أي‪ ،‬في بق ةعٍة تستلزُم القدسية وال ةعظمة‪ ،‬أمراً إلزاميًا‪ .‬ونخص بالذكر أّ ن مستوى‬ ‫الشابا ِ‬ ‫ف للغاية‪ ،‬ول يَتَ​َ ةعدى في أهدافِ​ِه‬ ‫‪.‬ق ال ةعوائل الواس ةعة‪ ،‬متخل ٌ‬ ‫ت ةعليِم المرأة في مؤسسِة السرة النواة ‪ ،‬أو في نطا ِ‬ ‫ي‬ ‫تط ةعي َم ال ةعبوديِة المتفشيِة في عموم المجتمع )مجتمِع الرجل(‪ .‬لذا‪ ،‬بمقدوِر "الم ةعاهِد النسائيِة الحرة" أْ ن تؤد َ‬ ‫ع ال ةعائلة بُِكلّيّتِ​ِه في قسِم سوسيولوجيا الحرية‪.‬‬ ‫دوَرها كم ةعابَد م ةعا ِ‬ ‫وصرة‪ .‬سأس ةعى للتطر ِ‬ ‫‪.‬ق لهذا المر‪ ،‬ولموضو ِ‬ ‫ُ‬ ‫ت قد طّوَر لتسخيرها في خدمِة المجتمع والدولِة‬ ‫واضٌح أيضا ً أّ ن ترتيَب وتنظيَم شؤوِ ن المرأة في الزقورا ِ‬ ‫ّ‬ ‫الجديَدين‪ .‬وهذا ما يبين لنا بجلٍء أّ ن الرهباَ ن فَّكروا ب ةعظمٍة باهرة‪ ،‬ونَظموا شؤوَ ن المجتمع والدولِة الجديَدين‬ ‫على نحٍو أقرَب إلى الكماِل بَِحق‪.‬‬ ‫ث ال ةعهد‪ .‬وحسَب م ةعرفتي‬ ‫ت ساطٌع بجلٍء في "التجارِة" الناشئِة كنشاٍط اجتماعّي حدي ِ‬ ‫كما أّ ن دوَر الزقورا ِ‬ ‫ض‬ ‫س الوقت‪ ،‬حتى ولو لم ُيذَكر ذلك في الوثائق الرسمية‪ .‬ففائ ُ‬ ‫وتخميني أنها أَّدت دوَر مركٍز تجار ّ‬ ‫ي في نف ِ‬ ‫النتاج‪ ،‬وإنتاُج الحرفيين للدوات قد يَُكّوُ ن موضوعاً للتجارة‪ .‬وَيشَرح التاريُخ أّ ن المرحلةَ ما بين ‪– 4000‬‬ ‫ي‬ ‫‪. 3000‬ق‪.‬م هي عصُر تَطَّوِر التجارة لوِل مرة‪ .‬وهو متزامٌن مع ال ةعصِر الذي بدأ فيه المجتمُع السومر ّ‬ ‫ضِع‬ ‫بالنتقاِل من نظاِم الهدايا وال ةعطايا )بين ال ةعوائل والجماعات( إلى نظاِم المقايضة‪ ،‬وانتشَرت ظاهرةُ التّبَ ّ‬ ‫ض المقايضة(‪ .‬بالتالي‪ِ ،‬مَن المحتمِل أْ ن يَُكوَ ن "مجتمُع التجار الوائل"‪ ،‬ويمكن إدراُك َكونِ​ِه كذلك‬ ‫ج بغر ِ‬ ‫)النتا ِ‬ ‫ُ‬ ‫ِمن خلِل أمثلتِ​ِه البارزِة في التاريخ )ُيصاَدف مثالهُ في الَحفِرّيات(‪.‬‬ ‫َ‬ ‫كما َنشَهُد نظاَم أوروك الستيطاني‪ ،‬الذي َيبدو أنه بَ​َدأَ في المرحلِة ما بين ‪. 3000 – 3500‬ق‪.‬م‪ .‬ولربما كانت‬ ‫ف سلسلِة جباِل طوروس – زاغروس أوَل حملِة استيطاٍ ن باسِم الدولِة‬ ‫ت أوروك القائمةُ على حوا ّ‬ ‫مستوطنا ُ‬ ‫ت القبائِل المختلفة ل ُت ةعتَبَُر‬ ‫طبي ةعياً في التاريخ‪ .‬أما مستوطنا ُ‬ ‫ب أّ ن مستوطنا ِ‬ ‫ت فأكثَر قَِدمًا‪ .‬هذا إلى جان ِ‬ ‫ت السلل ِ‬ ‫استيطانًا‪ .‬إذ‪ ،‬ثمةَ حاجةٌ لوجوِد مدينٍة "متروبوليٍة" لقياِم المستو َ‬ ‫طنة‪ .‬وعلى الغلب‪ ،‬فمدينةُ أوروك َتمتَلُِك‬ ‫شهرِة مستو َ‬ ‫طَنتا أور )‪. 2000 – 3000‬ق‪.‬م(‬ ‫ت تَُخّوُلها لِتَُكوَ ن "متروبوًل" شهيراً للغاية‪ .‬وتَِليها في ال ّ‬ ‫مستوطنا ٍ‬ ‫وآشور ‪. Asur (2000 – 1750‬ق‪.‬م(‪ .‬وحسب رأيي الشخصي‪ ،‬فإّ ن ُكلً ِمن مدينَتي هارابا وموهانجادارو في‬ ‫منطقِة بنجاب في ال ةعصوِر القديمة )في أعوام ‪. 2500‬ق‪.‬م(‪ ،‬والحضارة المدينيِة المصريِة ذاِتها )‪. 4000‬ق‪.‬م –‬ ‫ق وتنحدُر‬ ‫ت ناب ةعاً من الحضارة المدينيِة السومريِة بالم ةعنى ال ةعام‪ .‬فهي جميُ ةعها تنطل ُ‬ ‫‪0‬م( ُت ةعتَبَُر نظاَم مستوطنا ٍ‬ ‫من الحضارِة الوصِل فيما بين دجلة والفرات‪ ،‬ولو أنها تَ َ‬ ‫ت مباشرٍة مع‬ ‫طّوَرت ِبشكٍل مستقّل‪ ،‬ولم تَُكْن على علقا ٍ‬ ‫مدِ ن سومر‪.‬‬ ‫ق أّ ن التجارةَ ل ةعَبت دوراً مؤثراً في نظاِم الرهبا ن‪ .‬ذلك أنهم كانوا مضطّرين لتلبيِة نسبٍة ملحوظٍة من‬ ‫من الُمَحقّ ِ‬ ‫ض منها عبَر التجارِة )ثمةَ ال ةعديُد من المواِد الناقصة للمدائِن‬ ‫الحتياجا ِ‬ ‫ت النتاجية الناقصة‪ ،‬وتصديِر الفائ ِ‬ ‫الموجودِة في الوادي السفلّي من ميزوبوتاميا‪ ،‬بالتالي‪ ،‬فالتجارةُ أو الستيلُء ضرورةٌ اضطرارية‪ .‬وربما تم‬ ‫ض أُِقيَمت ال ةعديُد‬ ‫ت المكتن ُ‬ ‫ب تَ​َر ّ‬ ‫سَخ نظاُم المستوطنا ِ‬ ‫القيام بِ​ِكَليِهما(‪ .‬ولهذا السب ِ‬ ‫ف للوساِط كالشبكة‪ .‬ولهذا الغر ِ‬ ‫ص فإّ ن تجارَة‬ ‫ف نهَري دجلة والفرات‪ .‬ولطالما نصاد ُ‬ ‫ف آثاَرها بكثرٍة هناك‪ ،‬وبالخ ّ‬ ‫ضفا ِ‬ ‫ت على ِ‬ ‫من المستوطنا ِ‬ ‫ج كانت منتشرة‪.‬‬ ‫الخش ِ‬ ‫ب‪ ،‬الم ةعادِ ن‪ ،‬والنسي ِ‬ ‫سَ ةعينا لسرِد ذلك‬ ‫ف الزقورات‪ ،‬مثلما َ‬ ‫ج أولّي مصّغٍر من مجتمِع الدولِة الجديد في أطرا ِ‬ ‫من المؤكِد قيام نموذ ٍ‬ ‫ض الواقع لمجتمِع‬ ‫س وُمَج ّ‬ ‫ج ملمو ٍ‬ ‫سٍد على أر ِ‬ ‫بالخطوِط ال ةعريضة‪ .‬يَلُْوُح أنه من المؤكِد أيضا ً أّ ن أوَل نموذ ٍ‬ ‫ت السومريين‪ .‬في حين أّ ن‬ ‫‪.‬ق نظاِمنا المدينّي بِ​ِرّمتِ​ِه‪َ ،‬يرِجُع في أوصولِ​ِه إلى زقورا ِ‬ ‫المدينة‪ ،‬والذي أَثَّر في سيا ِ‬ ‫كافةَ المثلِة الخرى من مصر إلى الصين َتقَتفي الدرَب نفسه‪ .‬وبالف ةعل‪ ،‬فولدةُ مجتمِع المدنية الدولتية قد تَّمت‬ ‫ضوِجِه بأشكاٍل مغايرة‪.‬‬ ‫س يشيُر إلى تَ​َخّمِرِه أو نُ ُ‬ ‫في أحشاِء "رحِم م ةعابِد الرهبا ن"‪ .‬وما ِمْن مثاٍل آخَر ملمو ٍ‬ ‫َ‬ ‫إذ ن‪ ،‬والحاُل هذه‪ ،‬واعتماداً على تفسيِرنا وشرِحنا لمثاِل الزقورات‪ ،‬يمكننا القوُل أننا َولجنا عصَر اللهِة‬ ‫الُمقَّن ةعة والملوِك المتسترين الوَل مع نشوِء مجتمِع سومر‪ .‬فبينما يَُكوُ ن الرهباُ ن السومريو ن اللهةَ المقَّن ةعةَ‬


‫ب‪ ،‬وبأّيما عظمٍة في‬ ‫ب سياسية( على التتالي؛ وبأّيما وصخ ٍ‬ ‫الولى‪َ ،‬ي ةعقُبُ​ُهم أيضا ً ظهوُر الملوِك المتسترين )بثيا ٍ‬ ‫المسير!‬ ‫و‪ -‬نلحظ ظهوَر دولِة السللة ُعقَب مجتمِع دولِة الرهبا ن‪ .‬ولكي تَُكوَ ن ُمتَرَعةً بالم ةعاني في تَ َ‬ ‫طّوِرها الجتماعّي‬ ‫ت‬ ‫على غراِر المجتمع الدولتي‪ ،‬فإنها ُتولي الهميةَ لنمِط الرهبا ن‪ .‬فهي بحاجٍة ماسٍة في بداياتها للشخصيا ِ‬ ‫ت نفسه‪.‬‬ ‫ب شؤونها‪ .‬ذلك أنه ثمةَ تشييٌد اجتماعّي بحاجٍة لثبا ِ‬ ‫ب الشرعية وترتي ِ‬ ‫ال ةعاقلِة الحكيمِة في سبيِل اكتسا ِ‬ ‫ف‬ ‫س من ال ةعسيِر القوُل أنه َيص ةعب تحقيق ذلك بالقوِة السياسيِة وال ةعسكرية فحسب‪ .‬فلكي تستطيَع تطبي َ‬ ‫ولي َ‬ ‫ق ال ةعن ِ‬ ‫ج الزائِد والقياِم بالتجارة‪ ،‬بل وبالٍغ إياهما‪.‬‬ ‫هي بحاجٍة ماسٍة أّولً لنظاٍم مجتم ةعّي وإدار ّ‬ ‫ي منفت ٍ‬ ‫ح لتأميِن النتا ِ‬ ‫سه في هذا السيا‪.‬ق‪ .‬فربما يَُكوُ ن للمِر م ةعناه في حاِل استطاَعت‬ ‫فالمجتمُع الجديُد يجب أْ ن يَُكوَ ن قد حقق تَ​َمأ ُ‬ ‫س َ‬ ‫س بهذه الشاكلة‪ .‬وفي حاِل ال ةعكس‪ ،‬فل يمكنها تأديةُ‬ ‫القوةُ السياسيةُ وال ةعسكرية الستيلَء على مجتمٍع متمأس ٍ‬ ‫دوٍر أب ةعَد من تطويِر الفوضى‪.‬‬ ‫ت متباينٍة كا ن ل‬ ‫ت إلى هويا ٍ‬ ‫ت أيضا ً قديٌم ومتيٌن في ميزوبوتاميا‪ .‬فمَع تمايِز الثنيا ِ‬ ‫ل ريَب في أّ ن تاريَخ السلل ِ‬ ‫ت الخبيرِة بشؤوِ ن الّلوِذ عن‬ ‫ت ضمن نظاِم ال ةعشيرة والقبيلة‪ ،‬بحيث َتلتَ ّ‬ ‫ف حوَل الشخصيا ِ‬ ‫مفّر ِمن تَطَّوِر السلل ِ‬ ‫ق الم ةعطاءِة الَخّيرِة‪ ،‬وَحّل مشاكِلها الداخلية‪ .‬وِمن المحتمِل ُبروُز عائلٍة‬ ‫ال ةعشيرِة و َ‬ ‫وصوِنها‪ ،‬وَموقَ​َ ةعِتها في المناط ِ‬ ‫أو قبيلٍة ما للماِم أكثر‪ ،‬بحي ُ‬ ‫شّكُل إدارةَ ال ةعشيرِة أو تستولي عليها‪ .‬ول شّك في أّ ن رضى أعضاِء ال ةعشيرِة‬ ‫ث تُ َ‬ ‫ي دخيل )ربما‬ ‫عنها وقبولَُهم إياها أمٌر ُمحّدد‪ .‬كما أّ ن أواوصَر القرابِة فيما بينهم ل تزال سائدًة‪ ،‬ول َتسَمُح ل ّ‬ ‫ص بالذكِر أّ ن‬ ‫ب وانصَهَر فيها(‪ .‬ونخ ّ‬ ‫يصبح الدخيُل عضواً في ال ةعشيرِة في حاِل انضماِمِه إليها بشكٍل مناس ٍ‬ ‫‪.‬ق التطوِر الجتماعي ب ةعَد هشاشِة‬ ‫السللةَ في ُمستَ​َهّل تَ َ‬ ‫شّكِلها تَُ ةعّد انطلقةً هوياتيةً هي المتُن والمنُع ضمَن سيا ِ‬ ‫صَل في أعواِم ‪. 5000‬ق‪.‬م بالغلب‪ .‬أما منبُ ةعها‪ ،‬فليس‬ ‫هويِة الكل ن‪ .‬وُيجِمُع المؤرخو ن على أّ ن هذا التطوَر َح َ‬ ‫ت اللغويِة والثقافيِة الرية‬ ‫المجتمَع السومري‪ ،‬بل أكبُر الظّن أنه التطوُر ال ةعشائر ّ‬ ‫ف المجموعا ِ‬ ‫ي في وصفو ِ‬ ‫الولى‪ .‬ويمكن القوُل أّ ن تطوراً مشابها ً برَز بين الساميين فيما بين ‪. 6000 – 9000‬ق‪.‬م‪ ،‬وربما أنه القدم‪.‬‬ ‫ونشاهُد أّ ن حكَم السللت قد اكتسَب قوةً مني ةعًة في ميزوبوتاميا السفلى حتى أعواَم ‪. 5000‬ق‪.‬م‪ .‬فال ةعهُد المسمى‬ ‫بـ"الُ ةعَبيدي " فيما َقبِل عهِد أوروك )المتمركُز في أريدو فيما بين ‪. 4000 – 5000‬ق‪.‬م( يتميز بَِمنَ​َ ةعتِ​ِه من حي ُ‬ ‫ث‬ ‫ت أنهم توجهوا نحو بناِء‬ ‫ت الدولة‪ ،‬بل ثمة تطورا ٌ‬ ‫ت ُتثبِ ُ‬ ‫خ السللت‪ ،‬إل أننا ل نلحظُ انتقاَلهم إلى تشكيل ِ‬ ‫رسو ِ‬ ‫ح الرية الثقافيِة فيما بين‬ ‫ع َأشبَهُ بالمستوطنات‪ .‬كما نصاد ُ‬ ‫نو ٍ‬ ‫ف استقراَر ال ةعوائِل السامّية النخبويِة بين الشرائ ِ‬ ‫ض الرافديِن الُ ةعلِوي‪ ،‬والذي نسميه‬ ‫أعوام ‪. 4000 – 5000‬ق‪.‬م‪ .‬ويلَحظُ بروُز أوِل استيطاٍ ن سامّي في حو ِ‬ ‫ب شرقي البلد‪.‬‬ ‫اليوم بجنو ِ‬ ‫من المهم بمكاٍ ن استي ةعاب خاوصيٍة هامٍة للسللتية ِمن جهِة أننا م ةعنيو ن بها راهناً عن كثب‪ ،‬أل وهي أّ ن رغبَة‬ ‫سسِة ال ةعائلة في امتلِكها ل ةعدٍد َجّم من الطفال الذكوِر ُت ةعتَبَُر اللّبَنَةَ الساسيةَ ليديولوجية السللة‪ .‬أي‬ ‫ال ةعائلة ومؤ ّ‬ ‫أّ ن تَ​َ ةعّدَد الزوجات‪ ،‬والرغبةَ في الولِد الذكوِر على الدوام هو الَمراُم الولّي ليديولوجيا السللة‪ .‬والدافُع‬ ‫ب إلى الريادِة بالرتكاِز إلى قوِة "الم ةعنى"‪،‬‬ ‫المفهوُم وراَء ذلك َيكُمُن في القوِة السياسية‪ .‬فبينما انتقَل الراه ُ‬ ‫‪.‬ق في السللِة للمراهنة على الريادة بالرتكاِز إلى القوِة "السياسية"‪ .‬ولدى عدِم‬ ‫ي الحاذ ُ‬ ‫ص القو ّ‬ ‫فسيلجأ الشخ ُ‬ ‫سَريا ن‪ .‬في حين أّ ن قوةً م ةعنويةً منّبهةً ومنذرةً من قَِبيِل‬ ‫ح القوِة السياسيِة يبدأُ ال ةعن ُ‬ ‫ف بال ّ‬ ‫المتثاِل لمصطل ِ‬ ‫ب لدى عدِم المتثاِل لها‪ .‬أما المنبُع ال ةعيُن للقوِة السياسية فهو‬ ‫ب الرب" هي المؤثرةُ في قدرِة الراه ِ‬ ‫"غض ِ‬ ‫ص في مرحلِة‬ ‫وصَر الرجُل في مرحلِة الصيِد السابقة‪ ،‬وبالخ ّ‬ ‫"الحاشيةُ ال ةعسكريةُ للرجِل القوي"‪ ،‬تماما ً مثلما ُحو ِ‬ ‫سيادِة نفوِذ المرأِة – الّم‪.‬‬ ‫وباقتضاب‪ ،‬علينا استي ةعاب حقيقِة ال ةعائلِة ونظاِم المرأة – الم كي نستطيَع فهَم هذه الظاهرِة )هذا الوعي(‪:‬‬ ‫ب المرأِة ‪ -‬الم الولَد ل‬ ‫فالزوُج في عهِد المرأة – الم‪ ،‬إما أنه على الهامش‪ ،‬أو أنه غيُر م ةعروف‪ .‬فلدى إنجا ِ‬ ‫ي لم َيبُرزا ب ةعد‪.‬‬ ‫ق مع الرجِل الذي تحبه"‪ .‬فال ةعش ُ‬ ‫ق والمجتمُع الجنسو ّ‬ ‫تَُكوُ ن في وضِع "المرأِة المماِرسِة لل ةعش ِ‬ ‫ي رجٍل بروابِط الزوجية‪ ،‬ول الرجُل في وض ةعيٍة تَُخّولُهُ لَِبسِط نفوِذِه على المرأِة أو القوِل‬ ‫فل المرأةُ مرتبطةٌ بأ ّ‬ ‫"إنها زوجتي"‪ .‬والصيُد بَِحّد ذاته التهاٌء وليس ب ةعمٍل قَيٍّم عندما يَ ُ‬ ‫طوُل زمنُهُ فل يكو ن مثمرًا‪ .‬فضلً عن أنه ل‬ ‫تزاُل رغبتُهُ ضامرةً بأْ ن يَُكوَ ن له أطفاٌل ضمَن المجتمع‪ .‬فالطفاُل عائدو ن للمرأِة – الم‪ .‬وبطبي ةعِة الحال‪ ،‬فالمرأةُ‬ ‫– الّم أيضا ً ل تبح ُ‬ ‫س بقدِر حاجتها‬ ‫ع الجنسي لجِل اللذة‪ ،‬ول َتنَجّر وراءَ َ‬ ‫شَهواِتها‪ .‬بل تماِر ُ‬ ‫س الجن َ‬ ‫ث عن الجما ِ‬ ‫ب الولّي وراَء انتماِء الطفاِل إلى المرأِة ‪ -‬الم‬ ‫كأ ّ‬ ‫ف التوالِد والتناسل‪ .‬والسب ُ‬ ‫ي كائٍن حي‪ ،‬وعادةً ما تَُكوُ ن بَِهَد ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ق بالطبع‪ .‬بالتالي‪ ،‬فالحديث عن‬ ‫هو كدُحها في تنشئتِ​ِهم وتربيتِ​ِهم‪ .‬فإنجاُبها إياهم‪ ،‬وتغذيُتها لهم َيمنُحها هذا الح ّ‬


‫سُم فيه م ةعرفةُ هويتِ​ِه وَمن يَُكوُ ن أيةَ م ةعاٍ ن اجتماعية‪ .‬ما يَُهّم‬ ‫ح ّ‬ ‫ق الُبُّوِة ي ةعد هذياناً وخرفا ً في ال ةعهِد الذي ل تَتّ ِ‬ ‫‪.‬ق المرأِة ‪ -‬الم تلك الغائرِة‬ ‫هنا هو أَُخ المرأِة – الم‪ ،‬لنه يترعرُع م ةعهم‪ .‬وتتأتى روصانةُ الخاِل والخالِة ِمن حقو ِ‬ ‫في القدم‪ .‬إذ ن‪ ،‬والحاُل هذه‪ ،‬ف ةعائلةُ المرأِة ‪ -‬الم تَتَ​َكّوُ ن ِمن الخاِل والخالِة )وأولِدِهما إْ ن ُوِجدوا( وأولِد المرأة‪.‬‬ ‫ف القائُل بال ةعائلِة الموميِة يَُ ةعبُّر عن هذا المر‪ .‬هكذا ُيمِكُننا شرح المرأِة ‪ -‬الم والت ةعبيِر الجتماعّي ل ةعبادِة‬ ‫والت ةعري ُ‬ ‫س لل ةعهِد النيوليتي‪ .‬فالرجُل هامشّي فيما عدا الخوال‪ ،‬ولم‬ ‫اللهِة الم المنبثقِة منها‪ ،‬والتي تُ َ‬ ‫شّكُل َحَجَر السا ِ‬ ‫ت البوِة والزوجية‪.‬‬ ‫تنشأ ب ةعْد اوصطلحا ُ‬ ‫ب هذا النظاِم القائِم رأسا ً على َعِقب ِمن حيث اليديولوجيا والتنفيذ‪ .‬وفي هذا‬ ‫ستتطوُر السللتيةُ حصيلةَ َقل ِ‬ ‫سّن" مع‬ ‫النظاِم المسمى بالبو ّ‬ ‫ف كّل ِمن تجربِة وخبرِة "الرجِل الُم ِ‬ ‫ي ستتجذُر الدارةُ البطرياركيةُ البويةُ بتحال ِ‬ ‫ب الشاماِ ن الذي هو نوٌع من قيادِة القدسيِة السابقة ل ةعهِد الرهبا ن‪.‬‬ ‫الحاشيِة ال ةعسكرية لـ"الرجِل القوي" إلى جان ِ‬ ‫خ‬ ‫ب الحياِة المتراكمة‪ .‬وُيمِكُن تَ َ‬ ‫سّن )الشيخ( تَُ ةعبُّر عن تجار ِ‬ ‫خبرةُ الرجِل الُم ِ‬ ‫صّور مجل ِ‬ ‫خ‪ .‬فإدارةُ الشيو ِ‬ ‫س الشيو ِ‬ ‫ُ‬ ‫ب بالجيرونتوقراطيا ‪ ،‬قد بَ​َرَزت َكتَطّوٍر مبكٍر في بنيِة ال ةعشائر‪ .‬والرجُل ال ةعجوُز هو‬ ‫المسنين المسماةُ في الدا ِ‬ ‫ُ‬ ‫ف والِحَكم‪ .‬والجماعة بحاجٍة إليه‪ .‬وهو بالمقابل يس ةعى‬ ‫ص الحكيُم الذي ُيشاَوُر في المِر وُتنَهل منه الم ةعار ُ‬ ‫الشخ ُ‬ ‫سّن عبَر تجاربِ​ِه تلك‪ .‬وهكذا ُيقاُم توازٌ ن كهذا مع الجماعة‪.‬‬ ‫ب الَ ةعَجِز والِكبَِر في ال ّ‬ ‫ب على مصاع ِ‬ ‫للتغل ِ‬ ‫ف الصيِد‪ .‬فقوتُهُ‬ ‫أما الرجُل القوي‪ ،‬فيَُ ةعبُّر عن الس ةعي للنفاِذ من حصاِر المرأِة – الم بالقوِة المكت َ‬ ‫سبِة من احترا ِ‬ ‫ب الياف ةعين الساعين‬ ‫البدنيةُ وتقنيا ُ‬ ‫ت الصيِد ُتضاِع ُ‬ ‫ف ِمن حظِه في الصيِد الناجح‪ .‬والتحاُد الذي أَ ّ‬ ‫س َ‬ ‫سهُ مع الشبا ِ‬ ‫ص نجاِحِهم أكثر‪ .‬وربما أّ ن أوَل حاشيٍة عسكريٍة في التاريخ برَزت‬ ‫للستفادِة من خاوصيتِه هذه‪ ،‬قد زاَد من فَُر ِ‬ ‫ف الذي‬ ‫ق الرجُل تفوقاً بارزاً إزاَء المرأِة لوِل مرٍة في التاريخ‪ .‬أما التحال ُ‬ ‫للوسِط على هذه الشاكلة‪ .‬وهكذا َحقّ َ‬ ‫سّنيها‪ ،‬فسيَُ ةعّزُز من النظاِم البوي تجاه النظاِم المومي‪.‬‬ ‫أبَرَمته القبيلةُ مع ُم ِ‬ ‫ب الم ةعجزات في المجتمع‪ .‬يتحمُل‬ ‫ف هي الشامانيو ن‪ ،‬موّزعو الشفاِء‪ ،‬وأوصحا ُ‬ ‫والحلقةُ الخيرةُ من هذا التحال ِ‬ ‫س‬ ‫الشاماُ ن وظائ َ‬ ‫ف في المجتمع‪ .‬وتتمأس ُ‬ ‫ب والساحِر المشتَركة‪ .‬وهو م ةعلٌّم‪ ،‬وربما أوُل محتر ٍ‬ ‫ف وأدواَر الراه ِ‬ ‫ً‬ ‫ض الش ةعوذة‪ .‬وعادة ما يَُكوُ ن الشاماُ ن رجلً‬ ‫ً‬ ‫ِمَهنِيّةُ الشاماِ ن في الجماعات تدريجيا‪ ،‬وإْ ن كانت مختلطة بب ةع ِ‬ ‫ف‬ ‫ق ضربةً قاضيةً بالنظاِم المومي‪ ،‬ولطالما نصاد ُ‬ ‫ف هذه القوى في إنشاِء السللتية‪ُ ،‬تلِح ُ‬ ‫بالغلب‪ .‬ومع تحال ِ‬ ‫ت المحتدمِة فيما بينهما‪ .‬يغدو الرجُل وصاحَب وأَ​َب الطفاِل في ِظّل هذا‬ ‫صداما‬ ‫ال‬ ‫ر‬ ‫آثا‬ ‫ة‬ ‫السومري‬ ‫ت‬ ‫ِ َ ّ‬ ‫ِ‬ ‫في الُمَؤّلفا ِ‬ ‫ص الولَد الذكوَر لجِل القوة(‪ ،‬وُيحِكُم قبضتَهُ على الُمّدخرات‬ ‫ب في الكثاِر من أولده )وبالخ ّ‬ ‫النظام‪ ،‬بل وَيرَغ ُ‬ ‫ب الُملكيِة ال ةعامة لدولة الرهبا ن‪،‬‬ ‫التي أنجَزتها المرأةُ – الم اعتماداً عليهم‪ .‬هكذا يتطّور نظاُم الُملكية‪ .‬فإلى جان ِ‬ ‫ق البوِة‬ ‫ت والسِر الحاكمة‪ .‬وأبوةُ الطفال ضرورةٌ على هذا الص ةعيد‪ .‬أي أّ ن ح ّ‬ ‫تبرُز الُملكية الخاوصةُ للسلل ِ‬ ‫شرطٌ أولّي لنتقاِل الرث إلى أولده )للرجل بالغلب(‪.‬‬ ‫ت‬ ‫إّ ن بروَز السللتيِة والبطرياركية والبوِة برهاٌ ن ومؤشٌر في آٍ ن م ةعاً على الّدنُّو من المجتمع الطبقي‪ .‬فالسلل ُ‬ ‫تستفيد من قواها ال ةعسكرية لضراِم ناِر "الثورِة السياسية" في خضّم منازعاتها مع دولِة الرهبا ن‪ .‬وتَُدّوُ ن‬ ‫ت السياسية في هذا المضمار‪ .‬وبالف ةعل‪ ،‬فقد َغلَ​َب نظاُم‬ ‫النصو ُ‬ ‫ت والنقلبا ِ‬ ‫ص السومريةُ ال ةعديَد من الصداما ِ‬ ‫السللِة على "دوِل أور" المنشأِة ب ةعَد دولِة المدينة أوروك‪ .‬وتؤكُد سللةُ أور الولى والثانيةُ والثالثةُ على‬ ‫ت الرهبا ن اللهوتية‪،‬‬ ‫بروِز هذا التطور‪ .‬وإدارةُ السللِة َأشبَهُ بنظاٍم سياسّي أكثر علمانية بالمقارنِة مع إدارا ِ‬ ‫ت جديدة‪ ،‬وُتنِزُل مرتبةَ الرهبا ن ليغدوا نُّواَب القيادِة السياسية‪ .‬ورغم أنهم ل يفتئو ن يؤدو ن‬ ‫شُ ئ إلهيا ٍ‬ ‫حيث ُتن ِ‬ ‫سرو ن قواهم طرديًا‪ ،‬وسيؤولو ن إلى دعائيين مقّدسين للنظاِم الجديد ووسائ َ‬ ‫ط ساذجٍة‬ ‫أدواراً هامة‪ ،‬إل أنهم سَيخ َ‬ ‫لتأميِن شرعيته‪ .‬أي أّ ن اللهةَ الُمقنَّ ةعةَ موّلدةَ الدولِة سُت ةعتَبر ضمن حاشيِة الَملِ​ِك المتستر وفي المرتبِة الثانية‬ ‫ف‬ ‫ت عن إعلِ ن ذاِتهم كـ"ملوٍك – آلهة" بهد ِ‬ ‫والثالثة‪ .‬وسوف لن يتردَد الملوك المنحدرو ن من السلل ِ‬ ‫سسين للدولة‪ .‬ويتجذُر التمايُز الطبقّي مع مرور‬ ‫ع الشرعية الذي تَُؤّمُنه لهم طبقةُ الرهباِ ن المؤ ّ‬ ‫الستفادة من در ِ‬ ‫ُ‬ ‫كل يوم‪ ،‬ويتزايد ت ةعداُد المدائن‪ ،‬وُيثبِ ُ‬ ‫ت نمط المجتمع الذي أسَميناه "المجتمع المديني السومري" ديموَمتَهُ‬ ‫ُ‬ ‫ت الشر‪.‬ق الوسط تقاليَدها الغائرةَ في القَِدم إلى يومنا‬ ‫وتمأ ُ‬ ‫س َ‬ ‫سه عن جدارة‪ .‬وهكذا حمَلت السللتية في مجتم ةعا ِ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫الراهن‪ .‬لذا‪ ،‬ف ةعدُم تَطّوِر أنماِط النظِم الجمهورية والديمقراطية في الشر‪.‬ق الوسط مرتبط عن كثب بالتدوِل النابع‬ ‫من نظاَمي الرهبا ن والسللت‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ج النيوليتي بأقّل تقدير‪.‬‬ ‫لقد َحّدَد نموذُج المجتمِع المديني السومري مساَر تَطّوِر المدنية في ال ةعالم بقدِر النموذ ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ف عن "الثقافة"‪ .‬فالمدنيةُ م ةعنية بثقافِة الطبقة‬ ‫و"المدنيُة" كمصطلح مت ةعلقةٌ بتمايٍز طبقّي مغايٍر ومختل ٍ‬ ‫س كّل ِمن المدنيِة والتجارِة واللهيات وال ةعلم‪ ،‬تَطَّوُر البنيِة السياسية وال ةعسكرية‪ ،‬بروُز‬ ‫س ُ‬ ‫ودولِتها‪ .‬يَُ ةعّد تمأ ُ‬


‫ت طافحةً وسائدةً في المجتمع‬ ‫‪.‬ق مكاَ ن الخل‪.‬ق‪ ،‬وظهوُر الجنسويِة الجتماعية للرجل؛ تَُ ةعّد كلها مؤشرا ٍ‬ ‫الحقو ِ‬ ‫ق‬ ‫ع هذه المزايا بثقافِة المجتمع المديني‪ .‬ويتطاب ُ‬ ‫المديني الجديد‪ .‬وبم ةعنى من الم ةعاني‪ ،‬يمكننا تسمية مجمو ِ‬ ‫الوصطلحا ن في هذه الحالة‪ ،‬وُيست ةعَمل ن بنفس الم ةعنى‪ .‬وهكذا تبدأُ مرحلةٌ ثانيةٌ من التوسِع والنتشار مشابهةٌ‬ ‫‪.‬ق في هذه‬ ‫لنتشاِر ثقافِة المجتمِع النيوليتي المنبثقِة من الهلل الخصيب إلى جميِع أرجاِء ال ةعالم‪ .‬ولكن‪ ،‬مع فار ٍ‬ ‫ت‬ ‫المرة‪ ،‬حيث سُيضاِع ُ‬ ‫ت الناضجا ِ‬ ‫ف من ذاته ويتكاثُر بَِ ةعقِد ِقرا ن أولِدِه الجدِد )ذكوٌر‪ ،‬ل إناثًا( مع الفتيا ِ‬ ‫الراشدات من كافِة أنحاِء الم ةعمورة‪ ،‬ب ةعَد أْ ن يكوَ ن قد أنجَبهم وأنشَأهم في أراضي الهلل الخصيب‪" ،‬مهِد‬ ‫س‬ ‫الحضارات"‪ .‬التشبيهُ في محّله‪ ،‬حيث يمكننا الفترا ُ‬ ‫س َ‬ ‫ض بأّ ن انتشاَر الثقافة النيوليتية وتوسَ ةعها قد تمأ َ‬ ‫وصلَنها من ال ةعالم‪ .‬في حين أّ ن المجتمَع‬ ‫ت اللهِة ‪ -‬الم في كل بق ةعٍة و َ‬ ‫ت فتيا ِ‬ ‫ت وكفاءا ِ‬ ‫ج قدرا ِ‬ ‫بالغلب مع نضو ِ‬ ‫س الولِد الذكور في أماكِن انتشاره‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإّ ن جيَل‬ ‫المدينّي الم ةعبَّر عن الثقافِة الرجولية السلطويِة ي ةعني تمأ ُ‬ ‫س َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ب الذكوَر أساساً )سينصهر‬ ‫الرجِل المديني‪ ،‬الذي سيج ةعل من الفتاِة الصبية زوجةً تاب ةعة وخان ةعة له‪ ،‬سُينِج ُ‬ ‫المجتمُع ذو الغالبيِة النسائية في بوتقِة المجتمع ذي الهيمنِة الرجولية(‪ ،‬لتتكاثَر وتتوطَد رجولةُ حضارِتنا‬ ‫المدينية لتصَل يوَمنا الم ةعاوصَر مني ةعةً روصينة‪.‬‬ ‫‪ -2‬التفسير السليم للمجتمع المديني‪:‬‬ ‫‪.‬ق أكثَر تفصيلً في زيادِة قدرتنا على الفهم‬ ‫ح المجتمع السومري بنطا ٍ‬ ‫سيساهم ت ةعميُم مساعينا بصدِد شر ِ‬ ‫ُ‬ ‫والستنارة‪ .‬وما علينا عمُله هو تحليُل المدنية‪ ،‬وإسقاط أقن ةعتها المتكاثرِة بإفراٍط في ذهنيتها ومؤسساتها‪،‬‬ ‫ف عن أحواِل المجتمع بشكٍل‬ ‫ح الحقيقية المخفية تحتها‪ ،‬والكش ُ‬ ‫وإظهاُر الوجوه المستترة وراءها‪ ،‬والمصال ِ‬ ‫س وشفاف‪.‬‬ ‫ملمو ٍ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ضراً باسِم‬ ‫فمجتمُ ةعنا التاريخي يتذرع بأّ ن الحضارة القديمة قد شاخت وهرَمت‪ ،‬س ةعياً منه لبراز ذاته ياف ةعا ً ن ِ‬ ‫ت المقاِرب‬ ‫"ال ةعصر الجديد‪ ،‬ال ةعصِر القريب"‪ .‬ثمة غرابةٌ في المر‪ .‬فالشبابيةُ تَُ ةعبُّر عن ولدِة ظاهرٍة والتوقي ِ‬ ‫لولدتها‪ .‬فإذا ما كا ن المجتمُع السومري يمثل لحظةَ ولدِة حضارتنا المدينية – مثلما برهّنا – فيجب تحديد‬ ‫مرحلِة الشبابية بموجب ذلك‪ .‬وفي هذه الحالة‪ ،‬سندرك أننا نَُمثُّل المجتمَع المديني الكثَر هرماً وشيخوخة‪ ،‬وأّ ن‬ ‫ب يافع‪،‬‬ ‫ت الحداثِة والشبابية ليست سوى خداٌع ورياء‪ .‬إّ ن قراءَة الزما ن بال ةعكس‪ ،‬وإبراَز ال ةعجوِز وكأنه شا ٌ‬ ‫وصفا ِ‬ ‫هو استمراٌر ل ةعمليِة التّقَّنِع الم ةعموِل بها بشأِ ن المجتمع المديني‪.‬‬ ‫ب طرحه هو‪ :‬لَِم يرى المجتمُع المديني‪ ،‬الذي يمكننا ن ةعته بحضارِة المدينة‪ ،‬الحاجَة‬ ‫السؤاُل الساسي الواج ُ‬ ‫للتَقَّنع الكثيف؟‬ ‫لقد استمّرت مهارةُ الرهبا ن السومريين في التقنيع المذهِل بل انقطاع‪ .‬وإل‪ ،‬لماذا تَ​َحوَلت اللوهيةُ المتميزة‬ ‫ح أولّي في النحطاط وان ةعداِم الم ةعنى بالكثر؟‬ ‫بمضاميَن أوصيلٍة وثمينٍة في بداياتها إلى اوصطل ٍ‬ ‫ح المجتمع المديني وضده‪ ،‬ولكّن أكثرها وص ةعوبةً في الت ةعبير وأَقَّلها َ‬ ‫ظفراً‬ ‫لقد ُذِكَرت ال ةعديُد من الراِء لصال ِ‬ ‫ب عليها‪ .‬وهذا ما يدل‬ ‫بالنجاح هو النتقاُد الجذر ّ‬ ‫ي الراديكالي للحضارة‪ ،‬والممارسةُ ال ةعملية في تجاوزها والتغل ِ‬ ‫ت البشرية في الحرية‬ ‫على فشِل الشروح الحاوصلة بصددها‪ .‬كما ُيجِمع الم ةعنيو ن بالمر على تَ​َ ةعّرض طموحا ِ‬ ‫ح مريٍع لدرجِة القوِل مراراً بالووصول منذ زمٍن ب ةعيٍد لوضٍع مسدوٍد يستحيُل الستمراُر فيه‪َ .‬يحكُم هيغل‬ ‫لقمٍع وكب ٍ‬ ‫خ المدنية بأنه مراسيُم "المذابح الدموية"‪ ،‬إذ لم تَُمر سنةٌ بل حرب‪ ،‬وتن ةعكس حياةُ القمع والضطهاد‬ ‫على تاري ِ‬ ‫وكأنها قانوٌ ن من قوانين الطبي ةعة‪ ،‬ويُبَّجل الستغلُل والنهب ليغُدَوا قاعدةً راسخةً في الحياة‪ .‬أما الصد‪.‬ق‬ ‫والشفافية واللتزاُم بالخل‪.‬ق‪ ،‬فيندرُج في قائمِة الغباء والحماقة‪.‬‬ ‫ح المجتمع المديني بمضاميَن تمنُح فروصَة النتقاد المتطلع لتجاوزه‬ ‫أوّد الووصوَل إلى نتيجٍة مفادها ضرورة شر ِ‬ ‫ُ‬ ‫وتخطيه‪ .‬فقد بَ​َرَز لل ةعيا ن في مساعي وجهوِد ال ةعديِد من المدارس‪ ،‬تَتَقَّدُمها المدرسة الماركسية‪ ،‬أّ ن الكتفاَء‬ ‫بانتقاِد الحداثة الرأسمالية لوحدها ل يكفي للقدرة على تَ​َخ ّ‬ ‫طي المجتمع المديني‪ .‬وُي ةعزى ذلك أساسا ً إلى عدِم‬ ‫تحليِل المجتمع المديني كسلسلٍة مترابطٍة متماسكة‪ .‬ولهذا السبب نرى أكثَر الم ةعاِرضين قساوةً من بين الراء‬ ‫ال ةعالمية الوروبية المركز وكأنهم هزيلو التأثير‪ ،‬وليسوا ذوي شأ ن‪ .‬ما نحن بحاجٍة ماسٍة إليه هو السرُد‬ ‫ت بتاريخها ومجتم ةعاتها‪،‬‬ ‫ت ومدنيا ٍ‬ ‫الواضح والمفهوم ل ةعقِد لواوصر بين المدنية الوروبية وسابقاتها من حضارا ٍ‬ ‫ت هذه المدنية‪،‬‬ ‫تماما ً ِمثَل أهميِة الربِط بين الثقافة النيوليتية والمدنيِة الوروبية‪ .‬وَكوِني خاضٌع لقسى ضغوطا ِ‬ ‫ق طبي ةعي وكمهمٍة على عاتقي‪ ،‬ولو كا ن بشكٍل هاٍو وغير احترافي‪.‬‬ ‫ض علّي القياَم بالتفسير كح ّ‬ ‫إنما َيفُر ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫آ‪ -‬تفسيُر المدنية قبل كل شيٍء قضية من قضايا السوسيولوجيا البنيوية‪ .‬فإذا كا ن الشرط الولي لَِكينونِة ال ةعلِم‬ ‫ت المدرسِة الوض ةعية‪ ،‬وبلوُغ "علم الم ةعاني" المتخطي للتفريق والتمييز بين‬ ‫غ في مستنق ةعا ِ‬ ‫هو عدم التَّمّر ِ‬


‫"الذات والموضوع ‪"Nesne‬؛ فإّ ن الحاجةَ الماسة لذلك َتبرُز في ميداِ ن السوسيولوجيا البنيوية‪ .‬فالَمَهمةُ‬ ‫ض المجتمع ومداواُته )تماماً مثلما يقوم الطبيب بالتشخيص‬ ‫الوحيدة للسوسيولوجيا ال ةعامة هي تشخي ُ‬ ‫ص أمرا ِ‬ ‫والم ةعالجة(‪ .‬وقد يكو ن للم ةعرفِة دافٌع ومحفٌز واحٌد ل غير‪ ،‬وهو إضفاُء الم ةعاني على الحياة التي نتشبث بها أشد‬ ‫ص فهِم القضايا البنيوية‪ ،‬وإمكاَ ن إعادِة بنائها مجدداً في حاِل وجوِد خلٍل أو‬ ‫تَ َ‬ ‫شّبث‪ .‬وهذا بدوره ما سيمنحنا فَُر َ‬ ‫ب فيها‪.‬‬ ‫عط ٍ‬ ‫ت عويصٍة جداً بشأنها‪ .‬ووجوُد هذه‬ ‫ُي ةعتَبَُر المجتمُع المديني أكداساً من البنيويات التي يلقي علُم الم ةعنى وص ةعوبا ٍ‬ ‫ف علِم الم ةعنى بذاته‪ ،‬وإخراِجِه من كونِه علَم م ةعنى‪ .‬إنه كائٌن غريب‪،‬‬ ‫س بَِحّد ذاته على علقٍة وثيقٍة بتحري ِ‬ ‫الكدا ِ‬ ‫ف بـ"الكذب"‬ ‫ب كّل أسلحته وقاب ٌ‬ ‫بل هو لوياثاٌ ن ُمتَنَّك ٌ‬ ‫ض عليها بِيَ​َديِه‪ ،‬لُِيرِغَم ضحيتَهُ – إْ ن ُوِجَدت – على العترا ِ‬ ‫ي‬ ‫ضر‪ ،‬وإل‪ ،‬فسيقوُم بـ"البادة" بشتى الساليب‪ .‬إّ ن تشبيهَ هذا الكائِن‪ ،‬أي المدنية‪ ،‬بأ ّ‬ ‫ككلمٍة أخيرٍة وهي َتحتَ ِ‬ ‫ف للغاية‪ ،‬خاوصة إذا كنا نتميز بهويِة رجِل ال ةعلم‪ ،‬فإّ ن‬ ‫ف في محله‪ ،‬ولكْن متخل ٌ‬ ‫ب الوحوش َموقِ ٌ‬ ‫ب من ضرو ِ‬ ‫ضر ٍ‬ ‫ص المقتدَر للوحش ل‬ ‫ف لن يذهَب بنا أب ةعَد من خياِل الطفولة )الخيالت الوحشية(‪ .‬كما أّ ن التشخي َ‬ ‫ِمثَل هذا الموق ِ‬ ‫َ‬ ‫ت ال ةعلج ذهَبت سدى‪ .‬أما الدماُء‬ ‫يكفي‪ ،‬بل يتطل ُ‬ ‫ب المداواةَ كمهمٍة عاجلة‪ .‬واضٌح لل ةعيا ن أّ ن كافة محاول ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ضِة للبادات الجماعية المروعة‪،‬‬ ‫المتدفقةُ والمراقة كالسيوِل الجارفة‪ ،‬وأنماط الحياة المؤلمِة والمريرة والم ةعّر َ‬ ‫ع المراض‪ ،‬ودماُر البيئة‬ ‫والمجاعةُ والبطالُة التي هي أنكى من السوِء ذاته‪ ،‬واستشراُء مختل ِ‬ ‫ف أنوا ِ‬ ‫اليكولوجية )بيئِة الحياة التي ل غنى عنها لل ةعيش(؛ كّل هذه الظواهِر البارزة في المرحلِة الخيرة‪ ،‬والتي‬ ‫ف َيزَعمو ن‬ ‫ب ضمَن جملٍة تشيُر للوضِع الخير القائم‪ .‬لذا‪ ،‬وباعتباِر أّ ن الل َ‬ ‫يمكنني حشرها في تقريٍر مقتَ َ‬ ‫ض ٍ‬ ‫أنهم م ةعنيو ن ب ةعلِم الجتماع كميداٍ ن لسوسيولوجيا الحرية والبنيوية‪ ،‬ف ةعليهم إثبات جدارتهم في التشخيص‬ ‫ص من أكواِم الوساخ التي َيحَيوَنها‪ .‬وفي حاِل ال ةعكس‪ ،‬فمثلما قال أدورنو‬ ‫والم ةعالجة‪ ،‬ما داموا يتطل ةعو ن للخل ِ‬ ‫ُ‬ ‫ت البادة‬ ‫"لن تبقى لجميِع اللهة السماوية – لرجاِل ال ةعلم الناطقين باسمها – أية كلمٍة ُتقاُل ب ةعَد تشييِد م ةعسكرا ِ‬ ‫الجماعية"‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ض‬ ‫صُر المدنية في كونها مراسيُم "المذابح الدموية" )حسَب هيغل( فحسب‪ ،‬بل هي أنكى‪ ،‬حيث تَ ةعّر ُ‬ ‫ل َتنَح ِ‬ ‫ت الِ ةعرقية المتواوصلة – رغم كونها الدافُع الوحيُد لحياِة النسا ن – فل يتبقى منها سوى‬ ‫م ةعانَي الحرية للبادا ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُحثالةُ الحياِة و ُ‬ ‫غ م ةعاني الحياة الحرِة من‬ ‫إفرا‬ ‫من‬ ‫ة‬ ‫المتبقي‬ ‫البقايا‬ ‫هي‬ ‫ة‬ ‫فالمدني‬ ‫ة‪،‬‬ ‫شفافي‬ ‫ر‬ ‫أكث‬ ‫ص‬ ‫وبتشخي‬ ‫خثارتها‪.‬‬ ‫ٍ َ‬ ‫ِ‬ ‫فحواها‪.‬‬ ‫عندما ننظر إلى نمِط حياِة أبسِط الكائنات الحية‪ ،‬فما نراه ليس إل الم ةعنى الذي ُيضِفيِه على الحياة‪ .‬إنه نمطٌ من‬ ‫الم ةعاني التي تَُمّدها بقدرِة التكاثر إلى ملييِن النواع‪ ،‬وتَ​َوّغِل الجذور حتى في أعتى الصخور‪ ،‬ومواوصلِة‬ ‫ت‬ ‫الوجود حتى في ثنايا القطب المتجمِد عندما تتطل ُ‬ ‫ب الحاجة‪ ،‬والطيراِ ن إْ ن لَِزَم المر‪ ،‬والقدرِة على تطويِر تقنيا ٍ‬ ‫ي الم ةعاني – أو عدميِة‬ ‫ل متناهيٍة ل تطالها اكتشافا ُ‬ ‫ت النسا ن ول َتخطَُر بباِل بشر‪ .‬أما المجتمُع المديني‪ ،‬فأ ّ‬ ‫ب والرياء‬ ‫غ وجوِد الحياة الكثِر رقياً من م ةعانيها عبَر الكذ ِ‬ ‫الم ةعاني – التي يمتلكها‪ ،‬فيما خل ُقدرته على إفرا ِ‬ ‫ف المن ّ‬ ‫ج منذ بداياته‪ ،‬وإيصاِلها إلى شفيِر هاويِة النتحار في مراحلِ​ِه الخيرة؟‬ ‫والزيف وعبر ال ةعن ِ‬ ‫ظم والممنَه ِ‬ ‫ف هذه القوة مجدداً للمدنية الوروبية الِمحَور‪ .‬وحسَب‬ ‫لقد َغَدت السوسيولوجيا الكلَم المؤد َ‬ ‫ي إلى إعادِة ت ةعري ِ‬ ‫ت احتراِم‬ ‫الت ةعبير المسيحي‪ ،‬أوصبَحت الكلمُة الفصل للرب‪ .‬لذا‪ ،‬فالتخلي عن هذا الكلم ضرورةٌ من ضرورا ِ‬ ‫م ةعاني الحياة التي تمتلكها أبس ُ‬ ‫ط الكائنات الحية‪ .‬فالوجوُد الرقى والسمى للخل‪.‬ق لن َيقِدَر على تفسير هذا الَكّم‬ ‫ي شيٍء كا ن‪ .‬ولنستذكر ثانيةً أنه‪ :‬ما ِمن كلٍم تقوله اللهة‪.‬‬ ‫ي شكٍل وِبأ ّ‬ ‫من ان ةعداِم الخل‪.‬ق ِبأ ّ‬ ‫ص ِقياِم ودماِر مؤسسات الدولة‪ ،‬وناِئباتها غيِر المباشرة من‬ ‫أَ​َوليس ما يتم َتلِقينُهُ على أنه تاريٌخ عبارةً عن قص ِ‬ ‫ت الجديدة بـ"رعايِة‬ ‫ت؟ أَ​َوليس الهد ُ‬ ‫ف الولي في ازدهاِر وانحطاِط السللت هو حظُي السلل ِ‬ ‫المؤسسا ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ع وسلبَُهم‬ ‫ج السلطة عبر الِحيَِل والمكائِد والستبداِد؟ أَوليس هدفها الوحيُد نهَب الرعا ِ‬ ‫الرعاع"‪ ،‬والمسماِة بتا ِ‬ ‫َ‬ ‫ب‪ ،‬وحتى لحٍم وِجلٍد إْ ن تَطلَّب المر؟‬ ‫ف وحلي ٍ‬ ‫لتأميِن احتياجاتها من وصو ٍ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫شبَّث بها وأثَبتها‬ ‫ص البطولة نزيهة من الستبداِد والطغيا ن‪ ،‬وب ةعيدةٌ عن الستغلل؟ هل ِمن قيمٍة تَ َ‬ ‫أ ّ‬ ‫ي من قص ِ‬ ‫الُمّدعو ن بنهوضهم باسِم ال ةعشيرة أو القوِم أو الدين‪ ،‬فيما َخل تاج السلطة؟‬ ‫ٌ‬ ‫ق فيه ساحةٌ للحياة‪ ،‬ولم تَُمر سنة عليه دو ن‬ ‫ي ِمن السماء القَّيمة يستحقها المجتمع المديني‪ ،‬الذي لم َتب َ‬ ‫أ ّ‬ ‫حروب‪ ،‬عدا تسميته بمؤسسِة "المذابح"؟‬ ‫َ‬ ‫س‬ ‫أ ّ‬ ‫صب أو ُتقطع رؤو ُ‬ ‫ت ال ةعلمية والفنية والتقنية المرويِة كأقاوصيص قد تحققت دو ن أ ن ُتغتَ َ‬ ‫ي من الكتشافا ِ‬ ‫مكتشفيها الحقيقيين؟‬


‫ص تروي النظاَم والستقراَر والسلَم ي ةعني وصمَت الِحملِ ن الودي ةعة؟ أو‬ ‫أَ​َوليس الواقُع الُم َ‬ ‫صّوُر على شكِل قص ٍ‬ ‫لِنَقُْل‪ ،‬هل يتضمُن م ةعانَي عميقةً مختلفةً عما َترويه َمشاِهُد مسرحيٍة بشأِ ن إذلِل ال ةعبيد )الرقاء‪ ،‬القنا ن‪ ،‬ال ةعمال‪،‬‬ ‫ت بشأِ ن هذه المدنية بل نهاية‪ ،‬وتتوغُل في العما‪.‬ق بل‬ ‫الكادحو ن‪ ،‬وكافِة المضطَهدين(؟ تتزايُد م ةعاني التساؤل ِ‬ ‫ح هذه الحكايِة القصصية وتقديِمها على‬ ‫حدود‪ .‬ولكْن‪ ،‬ما ُيثيُر الدهشةَ بالوصل هو الجرأةُ بكل وقاحٍة على طر ِ‬ ‫ت المذهلة‪ ،‬خياُل الجنِة التي سُتبلَُغ يوماً‬ ‫أنها التاريُخ المجيد‪ ،‬الديُن المقدس‪ ،‬ملحمةُ ال ةعشق والجمال‪ ،‬الكتشافا ُ‬ ‫ت التحالف؛ وكأنها مسيرةُ القدر المحتوِم للبشرية‪.‬‬ ‫ما‪ ،‬الصداقُة‪ ،‬اللياقة والنبُل‪ ،‬وضرورةٌ من ضرورا ِ‬ ‫ح هذه السئلة هو اهتمامي من الصميم بكّل ما أبداه جميُع المقاِومين والمكافحين‬ ‫ل ريَب في أّ ن َمراِمي من طر ِ‬ ‫س ّ‬ ‫ق وهياٍم تَُمثُّل جوهَر الصداقِة الحقة في‬ ‫ت باسلٍة ومواق َ‬ ‫ف مقدسٍة حقيقية‪ ،‬وما َ‬ ‫من بطول ٍ‬ ‫طروه من ملحِم عش ٍ‬ ‫سبيِل الحياة التي ل م ةعنى لها سوى الحرية؛ واعتنائي بأقوالهم الخيرة التي لم تُقَْل‪ ،‬والتزامي ال ةعميق بذكراهم‬ ‫ب التحصَن بالشواِك بقدِر الشجاِر التي تحمي زهورها اليان ةعةَ بأشواكها‪،‬‬ ‫بكّل تقديٍر وإجلل‪ .‬وإذا كا ن المطلو ُ‬ ‫فإّ ن القياَم بذلك ي ةعني م ةعرفةَ أوصوِل الصراع في سبيِل وصوِ ن حياِة النساِ ن الحر‪ ،‬الذي ربما تكو ن استطاعةُ‬ ‫الم ةعاني لديه في منتهى الجمال‪.‬‬ ‫ح "الطبقية"‪،‬‬ ‫ب‪ -‬لننتقْل ُهَنيَه ًة من أحكامنا الخلقية إلى أحكامنا النظرية‪ .‬من المهم للغاية استي ةعا ُ‬ ‫ب مصطل ِ‬ ‫ص من حيث‬ ‫الذي طالما ذَكَره الم ةعارضو ن في عهِد الحداثة )الرأسمالية(‪ ،‬وإدراُكهُ من جميِع نواحيه‪ ،‬وبالخ ّ‬ ‫ت "الَ ةعلِك‬ ‫دوِرِه في المساِر التاريخي‪ .‬وإل‪ ،‬وفي حاِل ال ةعكس‪ ،‬فلن يذهَب المرءُ أب ةعَد من التحول إلى إحدى أدوا ِ‬ ‫والّلغِو الديماغوجي الغوغائي" الكثِر تفاهةً وسذاجة‪ ،‬وإسداِل الستار على علِم الم ةعنى لطمسه‪.‬‬ ‫ب م ةعرفتها لدراِك الطبقية بحق‪ ،‬هي أّ ن القدرةَ المن ّ‬ ‫سَم اليِد‬ ‫ظمةَ لقوتها تتمثل في قِ ْ‬ ‫الخاوصيةُ الولى الواج ُ‬ ‫والقدم‪ .‬فهذا ن ال ةعضوا ن لوحدهما ل م ةعانَي قّيمة لهما‪ .‬قد يَُكوُ ن التشبيهُ سوسيوبيولوجياً )اجتماعياً – أحيائيًا(‬ ‫بشكٍل ُمغاٍل‪ ،‬ولكنه في محله‪ .‬وعلى أيِّة حال‪ ،‬ل جدال في أّ ن القوَة ليست سوى القوة الكثر منهجية للسلطة في‬ ‫ت السلطة الرقى المساِعدِة على‬ ‫المجتمع‪ ،‬ولّلوياثا ن في المجتمِع المديني‪ .‬فإذا فَ ّ‬ ‫سرنا الدولةَ بأنها تكامُل علقا ِ‬ ‫ق القمع والستغلل والطغيا ن على عموِم المجتمع الطبقي‪ ،‬أفل يَُكو ن المتخبطو ن تحت نيِر الضغط‬ ‫تحقي ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫‪.‬ق التنظيِم في الدولة‪ ،‬لِتُِكوَ ن قوةَ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫والستغلل جزءا ل يتجزأ من شبكِة ال ةعلقات هذه؟ أفل تتَ ةعّدى المدنية نطا َ‬ ‫البناء والتنظيِم المتكامل لُِمجَمل الميادين من الدين إلى القتصاد؟ أَ​َوليست الوظيفةُ الولية لهذه القوِة هي‬ ‫تشكيُل عدٍد ل متناٍه من الطبقات والشرائح الجتماعية الفقية والشاقولية المن ّ‬ ‫‪.‬ق إلى‬ ‫ظمة‪ ،‬بدءاً من ال ةعبِد إلى الّر ّ‬ ‫ال ةعامل وغيرهم؟‬ ‫أود التشديَد ب ةعنايٍة على أنه من المحال إتاحة أيِة فروصِة لِتَُكوَ ن اليُد والسا‪.‬ق ذاتا ً فاعلةً ‪ özne‬في تنظيِم القوة‪.‬‬ ‫ق على كادحيها الذين تن ةعتهم‬ ‫فإذا كانت السلطةُ تنظيماً مظفرًا‪ ،‬فهذا ي ةعني تحقي َ‬ ‫ق الهيمنِة والنفوذ المطل ِ‬ ‫ت‬ ‫ف السلطة‪ ،‬حتى وإْ ن كانت تلك الذا ُ‬ ‫بالفظاظة‪ .‬وهذا بدوره م ةعناه فقدانهم قيمَة الذات الفاعلة في ظّل ظرو ِ‬ ‫ب لم يحالف الح ّ‬ ‫ت الكادحين ال ةعبيد‪ ،‬بدءاً من سبارتاكوس إلى كومونِة‬ ‫ظ كّل تمردا ِ‬ ‫موجودةً سلفًا‪ .‬ولهذا السب ِ‬ ‫‪.‬ق‬ ‫باريس ‪ .‬ولم يكن نجاُحُهم ممكناً إل بشرٍط واحد‪ :‬أْ ن َيجَ ةعلوا أنفسهم َدماً طازجاً للسلطة! ولكّن هذا ي ةعني الرفا َ‬ ‫ح هذا الواقع‬ ‫مرًة أخرى بالمجتمع المديني‪ ،‬ليس إل‪ .‬والشتراكيةُ ال ةعلمية خيُر مثاٍل ضار ٍ‬ ‫ب للنظر في توضي ِ‬ ‫بشكٍل وجيٍز من خلِل تجاربها طيلةَ قرٍ ن ونصف‪.‬‬ ‫ولكن‪ ،‬أل توجُد رواب ُ‬ ‫ب‬ ‫س الواج ُ‬ ‫ت السلطة؟ الخاوصيةُ السا ُ‬ ‫ط بين هذه النتائج مع القحام والرفا‪.‬ق بدائرِة علقا ِ‬ ‫ت السلطة الرسمية‪ ،‬وماهيُتها‪ ،‬ومدى تَ​َحّلي الطبقية لوحدها‬ ‫استي ةعاُبها هي مستوى تب ةعيِة الطبقيِة داخَل علقا ِ‬ ‫بم ةعانَي قّيمٍة وممارسٍة عملياتية أو ُخلُّوها منها‪ .‬وسواًء كا ن السيُد والسنيور ورّب ال ةعمل والبرجوازي في‬ ‫الطبقة ال ةعليا من التمايز الطبقي‪ ،‬أو كا ن ال ةعبد والقن وال ةعامل في الطبقة السفلى منه‪ ،‬فهم يتفاهمو ن بالمنظوِر‬ ‫ت السلطة‪ .‬ول قيمَة بارزة لعتراضاتهم فيما بينهم‪ .‬فهذه ال ةعلقة‬ ‫سه ضمن علقا ِ‬ ‫اليديولوجي والسياسي نف ِ‬ ‫ف عقدٍة وعقدة‪ .‬فإذا ما اعترضَت على واحدٍة منها‪ ،‬أو حتى مّزقَتها واخترقَتها‪ ،‬فجميُع ال ةعقِد‬ ‫َأشبَهُ بشبكٍة لها أل ُ‬ ‫‪.‬ق الممّز‪.‬ق‬ ‫التس ةعمائة وتسٍع وتس ةعين تبدأ بال ةعمل على الفور بحيث‪ ،‬ومثلما تَُرّمُم ال ةعقدةَ الممّزقة‪ ،‬فلن َتتُرَك خنا َ‬ ‫إياها إل ب ةعَد ربطه بأمتِن ُعَقدها‪ ،‬حتى ولو تَطَلَّب المُر قطَع رأسه‪.‬‬ ‫س‬ ‫ت الدولة والسلطِة وفق رسمها التخطيطي الوِل المؤ ّ‬ ‫لنفكر في حاِل الكادح في قبيلٍة ما أو ال ةعامِل في علقا ِ‬ ‫س ِ‬ ‫ب بَِج ةعِله من أتباعه وِعباده‬ ‫على يِد الرهبا ن السومريين وزعماِء السللت‪ .‬بالوصل‪ ،‬إّ ن ال ةعامَل الذي شرَع الراه ُ‬ ‫ُ‬ ‫ح القدسية الذي ل تضاهيه أية قوٍة ماديٍة في قدرة‬ ‫متأثٌر للغاية بقوِة الشرعنة المذهلِة لللهة الجديدة )كاوصطل ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫التأثير على الفرد( المبتَ​َدعة في كل الطابقين اللَذين َي ةعلوانه‪ .‬ولو لم يَُكْن كذلك‪ ،‬لكا ن من المحاِل إقحامهُ هناك‪.‬‬


‫ق آخَر أماَمه لتغذيٍة أفضل‪ .‬ثالثًا؛ ل يمكن مقايسَة‬ ‫ثانيًا؛ إنه يتغذى ويقتا ُ‬ ‫ت أفضَل من السابق‪ ،‬ول يتبدى أي طري ٍ‬ ‫ش خياَله وُيبهيه على الدوام‪.‬‬ ‫ت بالجمال ُينِ ةع ُ‬ ‫ع رغباته الجنسية بالسابق‪ ،‬فواقُع الحوريات الطافحا ِ‬ ‫إشبا ِ‬ ‫ث بالطاعة والخنوع والمتثال للنظام الموجود ُتمَنحَن بنسبٍة تناهز ما ُتنِجُزه‬ ‫كانت النساُء المساِهمات في التشب ِ‬ ‫ف مضاعفة‪.‬‬ ‫الجيو ُ‬ ‫ش النظامية وما تُقَّدُمه الوسائُل العلمية الراهنة بأض ةعا ٍ‬ ‫هذا ال ةعبُد الجديُد الُمتَأ َ ّ‬ ‫طر في طبقٍة بَِحّد ذاتها‪ ،‬ليس متمرداً لجِل الحرية‪ ،‬بل‪ ،‬وأكثر ما يمكن أ ن يَُكوَنه هو خائُن‬ ‫الحرية‪ ،‬أو واق ةعةٌ مفّرغةٌ من مفهوِم الحياة الحرة‪ ،‬أو ظاهرةٌ مختلفةٌ كليًا‪ .‬وسَيسلُ​ُك زعيُم السللِة أيضاً ممارسةً‬ ‫ف قوى التحالف‬ ‫ت الدولة والسلطة‪ .‬فالشرطُ الولي هو البروُز أكثر بين وصفو ِ‬ ‫شبيهةً لدى توّجِهِه نحَو علقا ِ‬ ‫الساسية‪ ،‬وترسيُخ تنظيٍم وطيٍد مرتكٍز إلى مصالَح روصينة‪ .‬فالسللةُ )السرةُ الحاكمة( تتسم بالتقديِر والحترام‬ ‫ي‬ ‫ب الواس ةعة‪ .‬وتقاليُد القبيلِة تُبَّجل الهرميةَ على الدوام‪ .‬وأ ّ‬ ‫ت ال ةعائلة والنس ِ‬ ‫والشرعية المهيبِة ضمن علقا ِ‬ ‫س القبيلة سلميًا‪ ،‬أو بالشتباك والنزاع‪ .‬ومن غيِر الستراتيجي إبراز طابِع‬ ‫استياٍء بسيٍط‪ ،‬إما أْ ن يَُحّل في مجل ِ‬ ‫ف في هكذا نمٍط من السللِة المتوجهة نحو التدول في خضّم هكذا علقات م ةعقدة‪.‬‬ ‫ب الض ةع ُ‬ ‫الطبقِة على أنها الجان ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫أوّد الووصوَل إلى أّ ن الطبقية إحدى أهّم طبائِع ومميزات المدنية‪ ،‬ولكّن الم ةعانَي الستراتيجية الم ةعموَل بها أساساً‬ ‫في الثورات الطبقية ب ةعيدةٌ عن نيِل النتائج المرجوة في التنفيذ ال ةعملي‪ ،‬وإْ ن تَبَّدت إمكانيةُ ذلك نظريًا‪ .‬فجميُع‬ ‫ت على يِد‬ ‫س َ‬ ‫المدنيات والسلطات المنهارة قد أُِطيَح بها واندثرت مع عبيدها وكادحيها‪ .‬في حين أّ ن نَ ْ‬ ‫ف السلطا ِ‬ ‫عبيدها أو كادحيها أمٌر نادٌر جدًا‪ .‬وحتى لو حصل‪ ،‬فالسلطةُ الجديدة ل تَُ ةعبُّر عن شيٍء أكثَر من كوِنها آلةً للمزيد‬ ‫من الظلِم والستغلِل والطغيا ن‪ ،‬بحيث يَتَ​َرّحم المرُء على سابقتها‪.‬‬ ‫ي إسقاطّي واختزالّي ُمغاٍل فيه‪ .‬فالقمُع والستغلل طراٌز ونظاٌم ت ةعتمد‬ ‫ب طبقيٍة رأ ٌ‬ ‫إّ ن رؤيةَ التاريخ مجرَد حرو ٍ‬ ‫ق الديمومة‪ .‬إل أّ ن أيديولوجيَتها وسياسَتها وحتى‬ ‫عليه الحضارة المدينية – وبالتالي تاريُخها – في تحقي ِ‬ ‫اقتصاَدها ي ةعمل بشكٍل مغاير‪ .‬أو بالحرى‪ ،‬فالطبقةُ المناِهضة للطبقِة النخبة ليست بنمٍط يرسم مجرى التاريخ‪ .‬ل‬ ‫نناقش هنا مدى فظاعِة الست ةعباِد والسفالِة التي يفرضها النظاُم القائم وإنكاِره الحرية‪ .‬ما نَ​َوّد سرُدهُ هنا هو‬ ‫ق الطبقّي تجاه‬ ‫س وانهياِر نظِم السلطة والمدنية بم ةعانَي واستراتيجيا ٍ‬ ‫جرياُ ن تأسي ِ‬ ‫ت مغايرة‪ ،‬وأّ ن الصراَع بالمنط ِ‬ ‫ي إلى النضماِم إليها عن وعٍي وكشكٍل جديٍد للسلطة‪ ،‬أو‬ ‫الطبقِة في نظاِم السلطة ومدنيتها القائمة‪ ،‬إما أْ ن يؤد َ‬ ‫ّ‬ ‫ب السوفييت والصين(‪ .‬هذا‬ ‫)تجار‬ ‫فيها‬ ‫ر‬ ‫آخ‬ ‫ج‬ ‫طاز‬ ‫م‬ ‫د‬ ‫خ‬ ‫ض‬ ‫ب أب ةعَد من‬ ‫ُ‬ ‫بال ةعكس‪ ،‬وفي حال مناهضتها‪ ،‬فهو ل يذه ُ‬ ‫ٍ َ‬ ‫ٍ‬ ‫ما نناقشه ونتداوله‪ .‬قد ُيوّجه إلينا نقٌد منذ ال ن بأننا غاَلينا في إسقاِط كل شيٍء على السلطة في هذا النقاش‪،‬‬ ‫وكأننا لم نترْك بابا ً للنفاِذ منها‪ .‬أُنَّوهُ هنا إلى أننا سنتناول هذا الموضوع في فصِل سوسيولوجيا الحرية على‬ ‫‪.‬ق واسٍع للرّد عليه‪ .‬ولكن‪ ،‬أشيُر بسرعٍة َكَرّد على ذلك إلى أنه للحريِة أيضا ً َميداُنها الجتماعي ومنطُقها‬ ‫نطا ٍ‬ ‫واستراتيجيُتها الخاوصةُ بها والمغايرةُ بقدِر ما للسلطِة أيديولوجيُتها وسياسُتها وتنظيُمها بأقّل تقدير‪.‬‬ ‫ت أم حواُرها وتحالُ​ُفها؟ مشكلةً َيكثُ​ُر الجدُل بشأِنها في الممارسِة ال ةعملية‬ ‫ج‪ -‬رغَم َكوِ ن التساؤِل‪ :‬وصراُع المدنيا ِ‬ ‫الراهنة‪ ،‬إل أّ ن م ةعانيها التاريخيةَ أشمُل بكثيٍر من ذلك‪.‬‬ ‫ت المتباينة‪ .‬إّ ن الم ةعانَي‬ ‫المجتمُع المديني بنيةٌ تَُولُّد الصراَع أساسًا‪ ،‬سواًء في داخلها أو فيما بين المدنيا ِ‬ ‫ع الدائم‬ ‫والغايا ِ‬ ‫ت التي لجلها ُأنتَِجت هذه البنية‪ ،‬والتمييَز الطبقّي الم ةعتمَد عليه‪ ،‬وواقَع القمِع والستغلل والخدا ِ‬ ‫ب المستمر في سبيل ذلك؛ كّل ذلك يوضُح دوافَع طباِعها الُمَوّلدِة دوماً للصراع‪ .‬فالسلطةُ والطبقيةُ بَِحّد‬ ‫والحج ِ‬ ‫ذاتِ​ِهما ت ةعنيا ن الصراع‪ .‬وسَرياُ ن ذلك داخلياً أو خارجيا ً ل يَُغيُّر من جوهره شيئًا‪ .‬كما أنه ليس من الواق ةعّي تغيير‬ ‫ت حربيةً أم‬ ‫سها وكأّ ن مضموَنها مختل ٌ‬ ‫ف عما هو عليه‪ .‬فكوُنها مدنيا ٍ‬ ‫مضموِ ن المدنيات بَِتووصيِفها‪ ،‬أو ب ةعك ِ‬ ‫س القوم أم من أقواٍم‬ ‫سلمية‪ ،‬توحيديةً أم مت ةعددةَ اللهة‪ ،‬م ةعطاءًة أم جدباَء قاحلة‪ ،‬مثقفةً أم جاهلة‪ ،‬تتأل ُ‬ ‫ف من نف ِ‬ ‫سّخرةً للمهمة إلى أْ ن تفتَح ال ةعالَم‬ ‫سها ُمَكلّفَةً وُم َ‬ ‫مختلفة؛ فهذا ل يَُغيُّر من ماهيِتها شيئًا‪ .‬فالقوةُ الموّجهةُ َت ةعتَبُِر نف َ‬ ‫ف‬ ‫ض بنيو ّ‬ ‫أجمع‪ .‬وبلوُغ القوِة والنفوذ ال ةعالمي َمَر ٌ‬ ‫ي ينبُع من السلطة‪ ،‬حيث تبدأُ بالتراجِع في لحظِة تَ​َوقّ ِ‬ ‫سِ ةعها‪ .‬ومحصلةُ ذلك ل ت ةعني الرجوَع إلى الحاِل الطبي ةعي‪ ،‬بل النهياَر والدمار‪ .‬ذلك أنه ما ِمن حاٍل طبي ةعيٍة‬ ‫تَ​َو ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ض السرطا ن‪ ،‬إما أْ ن ُتضطّر للقضاِء على الغير‪ ،‬أو أْ ن ُيقضى عليها‪ .‬وَكم‬ ‫لنظِم السلطة كافة‪ ،‬بل إنها أشبَهُ بمر ِ‬ ‫َ‬ ‫ت كثيرة تنتمي لزعامِة عشيرٍة بسيطٍة امتَطت حصاَ ن المدنية لتقوَم بتأليِه ذاتها‪.‬‬ ‫من شخصيا ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ب يَظّن أنه سُيبِدُع كّل عظيم‪ .‬وهذا‬ ‫تحَت الدعاِء باللوهيِة تَتَ َ‬ ‫ستُّر قوةُ إفناء البشرية‪ .‬فالذي ُيفني كثيراً في الحر ِ‬ ‫ت في حاِل ال ةعجِز عن ضبِط النانية نفسيًا‪ .‬والنظاُم المديني يُقَّدُم المجتمَع‬ ‫ض المغالِة في الذا ِ‬ ‫ما ُي ةعزى إلى َمَر ِ‬ ‫ش واستفحاِل هذا المرض‪ .‬ولذلك ُيقال أنه ما ِمن قيمٍة أو شخصيٍة اجتماعيٍة َت ةعَجُز‬ ‫الذي يهي ئ الجواَء لنت ةعا ِ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ت هي النظمة الكثُر تناقضا ً مع‬ ‫السلطةُ عن تميي ةعها وشرذمِتها‪ .‬إنه تقييٌم مرتبط بجوهِر السلطة‪ .‬والمدنيا ُ‬


‫ت سلطوية‪ .‬إذ‪ ،‬ما ِمن قيمٍة ل يمكن الفداَء بها تكريما ً للسلطة‪ِ ،‬بدءاً من الخ إلى الزوج‬ ‫الحياِة لكونها مجتم ةعا ٌ‬ ‫ب أفظِع الجرائم‪ ،‬ولم‬ ‫ص في القوى الداريِة للمدنيات‪ ،‬سنجُد أنها لم تتواَ ن عن ارتكا ِ‬ ‫إلى الصديق‪ .‬فلدى التمحي ِ‬ ‫ب والرياء بالسياسة‪.‬‬ ‫تترْك مكيدةً إل ولجَأت إليها‪ .‬كما أنها تُ َ‬ ‫سّمي منهجيةَ الكذ ِ‬ ‫ت المدينية‪ ،‬ويمكننا تسميُتها بحالِة‬ ‫د‪ -‬من الضرور ّ‬ ‫ي َلفت النظاِر جيداً لخاوصيٍة هامٍة متمأسسٍة في المجتم ةعا ِ‬ ‫ب تقاليِد التأنيث‬ ‫المجتمِع الم ةعتاِد على السلطِة والمتآلف م ةعها‪ .‬إنه َأشبَهُ بإعادِة تكويِن المرأِة بموج ِ‬ ‫ث المرأة‪ .‬لقد‬ ‫‪ ،karılaşma‬إذ‪ ،‬ل تتأكُد السلطةُ من وجوِدها قبَل أْ ن تَتَ​َحقّ َ‬ ‫ق ِمن إعداِد المجتمع على غراِر تأني ِ‬ ‫‪.‬ق الهزيمِة‬ ‫س َ‬ ‫تَ​َمأ َ‬ ‫ست ظاهرةُ التأنيث كأقدِم مظاهِر ال ةعبودية‪ ،‬حصيلةَ بسِط نفوِذ المجتمِع الجنسوي‪ ،‬ب ةعَد إلحا ِ‬ ‫ت محتدمٍة ضاريٍة وشاملٍة طويلِة المد على يِد الرجِل‬ ‫بالمرأة ‪ -‬الم وعباداِتها وطقوسها جم ةعاء َب ةعَد وصراعا ٍ‬ ‫سَخ هذا النفوُذ المهيمُن جذوَره في المجتمع حتى َقبَل اكتماِل تَ َ‬ ‫طّوِر الحضارة‪.‬‬ ‫شيَتِ​ِه‪ .‬وَلربما ر ّ‬ ‫القوي الجباِر وحا ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫إنه كفاٌح عتيٌد ومتواوصٌل لدرجِة أّ ن ثقافة المرأِة ‪ -‬الم قد ُمِحَيت كلياً من الذاكرة‪ ،‬ولم تَُ ةعد تَتَذّكر المرأةُ ما الذي‬ ‫ب بالذات‪ ،‬لم‬ ‫سَرْتهُ وأين وكيف فَقَ​َدته‪ ،‬وَغَدْت َت ةعتَبُِر النوثةَ الخان ةعةَ المنصاعةَ أمراً طبي ةعيًا‪ .‬ولهذا السب ِ‬ ‫َخ ِ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ضْم أو تَتَ​َجذر أية عبوديٍة بقدِر ما هي عليه عبودية المرأة‪.‬‬ ‫تُ َ‬ ‫شرَعْن أو ُته َ‬ ‫َ‬ ‫ولهذا التكويِن نوعا ن من التأثيِر الَهّداِم على المجتمع‪ .‬أولُ​ُهما؛ فتُح المجتمِع أمام ال ةعبودية‪ ،‬وثانيهما؛ تسييُر‬ ‫كافِة أشكاِل ال ةعبوديِة الخرى تأسيسا ً على ظاهرِة التأنيث‪ .‬فالتأني ُ‬ ‫ث ليس موضوعا ً جنسويا ً محضا ً مثلما ُي ةعتَقد‪،‬‬ ‫ف والسلوكيات التي‬ ‫ول يَُ ةعبُّر عن خاوصيٍة بيولوجية‪ .‬بل إّ ن التأنيَث في جوهِرِه خاوصيةٌ اجتماعية‪ .‬فجميُع المواق ِ‬ ‫ع‪ ،‬تَ​َحّمِل وهضِم الهانة والستحقار‪ ،‬البكاِء‪ ،‬العتياِد على‬ ‫ُتفيُد برف ِ‬ ‫ض أخل ِ‬ ‫‪.‬ق الحرية‪ ،‬من َقبيِل ال ةعبودية‪ ،‬الخنو ِ‬ ‫ضها؛ جميُ ةعها ُت ةعتبَُر ِمن مهنِة النوثة الخان ةعة‪،‬‬ ‫ح الذات وعر ِ‬ ‫الكذب والرياء‪ ،‬السماجِة وان ةعداِم الطموح‪ ،‬ومن ِ‬ ‫ط الوصلّي لل ةعبودية‪ .‬كما أنها تَُ ةعّد الرضيةَ‬ ‫شّكُل بجانبها هذا الرضيةَ الجتماعيةَ المنحطة‪ ،‬والوس َ‬ ‫وت ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫ب ال ةعبودية واللأخلقية وأقدُمها‪ .‬والمجتمُع المديني م ةعنّي ومرتبطٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫المؤسساتية التي تتفّ ةعل عليها كافة ضرو ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫س هذه الرضية على كافِة الفئات الجتماعية‪ .‬فتأنيث المجتمِع برمته ضرورة حتمية لسيِر النظام القائم‪.‬‬ ‫بان ةعكا ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ف بمبدأِ الحريِة‬ ‫ث المجتمع‪ .‬فالسلطة ل ت ةعتر ُ‬ ‫والسلطة ت ةعادُل الرجولة‪ ،‬إذ ن‪ ،‬والحاُل هذه‪ ،‬ل ملذ من تأني ِ‬ ‫ي الطابع‪.‬‬ ‫والمساواة‪ ،‬وإل‪ ،‬فل يمكنها أْ ن تَُكو ن‪ .‬بالتالي‪ ،‬فالتشابهُ بين السلطِة والمجتمِع الجنسوي جوهر ّ‬ ‫ب عادةٌ م ةعروفةٌ لدى اليونانيين‪ ،‬الذين يَُ ةعّدو ن أحَد أهّم‬ ‫ب الياف ةعين رسمياً كـ"غلم" لرجٍل حكيٍم مجّر ٍ‬ ‫فَمْنُح الشبا ِ‬ ‫ت‬ ‫ب ذلك مدةً طويلة‪ .‬فحتى فيلسو ٌ‬ ‫وأعظِم مراحِل الحضارة المدينية‪ .‬لقد َعِجز ُ‬ ‫ف ذائُع ال ّ‬ ‫صي ِ‬ ‫ت عن تحليِل أسبا ِ‬ ‫ق‬ ‫ِمثَل سقراط يقول‪" :‬ليس ُمِهّماً الستفادةُ الدائمةُ من الغلم‪ ،‬بل المهم تربيُته على يِد سيده"‪ .‬إذ ن‪ ،‬فالمنط ُ‬ ‫ص النثوية‪ .‬ولكي‬ ‫والغايةُ البارزةُ هنا ليست النتفاَع الدائَم ِمن الشبا ِ‬ ‫ب َكِغلما ن‪ ،‬بل إعداُدُهم للتحلي بالخصائ ِ‬ ‫ب في مجتمٍع مستأَنث‪ .‬إذ ِمن المحاِل تكويُن هذا المجتمِع عبَر الشباب‬ ‫ُنو ّ‬ ‫ضَح المَر أكثر‪ ،‬فالمدنيةُ اليونانيةُ ترغ ُ‬ ‫ت والسلوكيات النثويِة فيهم كي ُينشأَ المجتمع‪ .‬هذا وثمةَ ميوٌل‬ ‫النبلء والشرفاء‪ ،‬بل يتطل ُ‬ ‫ب ترسيُخ التصرفا ِ‬ ‫ت الحضارة المدينية‪ .‬والغلمانيةُ )اللوطية( متفشيةٌ ومستشريةٌ في هذا المجتمع‬ ‫مشابهةٌ لذلك في كافِة مجتم ةعا ِ‬ ‫ف غدا تقليداً راسخًا‪ .‬إذ ن‪ ،‬من المهم بمكاٍ ن النظُر إلى اللوطيِة‬ ‫وصي ٍ‬ ‫لدرجِة أّ ن استحواَذ كّل سيٍد على غلٍم َو ِ‬ ‫ض شخصي‪.‬‬ ‫كظاهرٍة اجتماعيٍة متمخضٍة عن المجتمِع الطبقي والسلطوي‪ ،‬أكثَر من كونها شذوٌذ جنسي أو مر ٌ‬ ‫أي أّ ن الجنسانيةَ )الجنسوية( والسلطةَ َمَرضاِ ن اجتماعيا ن في المجتمِع المديني‪ ،‬بل وهما كالسرطا ن‪ .‬فمثلما ل‬ ‫ضهما الب ةعض أيضًا‪ ،‬تماماً مثلما تتكاثُر الخليا السرطانية‪ .‬سن ةعمل‬ ‫يتواجُد أحُدهما دوَ ن الخر‪ ،‬فهما ُيكِثرا ن ب ةع َ‬ ‫ح الروابِط بين السرطا ن الشخصي والسرطاِ ن الجتماعي في فصِل الحداثة الرأسمالية‪.‬‬ ‫على الستفاضِة في شر ِ‬ ‫ف السنين وعلى غراِر‬ ‫أوّد الووصوَل إلى محصلٍة مفاُدها أّ ن أرضيةَ السلطِة قد تَّم إعداُدها ب ةعنايٍة فائقٍة ممتدٍة لل ِ‬ ‫مثاِل التأنيث في المجتم ةعات المدينية‪ .‬فتقاليُد الحضارِة المدينية َتنظُ​ُر إلى المرأة على أنها "حقُل الرجل"‪ .‬وثمَة‬ ‫سه للسلطِة ِمثَل المرأة‪ .‬أما المتمرُد على ذلك‪،‬‬ ‫تقليٌد مشابهٌ يجري في المجتمع أيضًا‪ .‬إذ‪ ،‬على الرجِل أْ ن يمنَح نف َ‬ ‫ق الحروب‪.‬‬ ‫والراف ُ‬ ‫ض منح ذاته‪ ،‬فيتُم الس ةعُي لعداِدِه وتهيئتِ​ِه عن طري ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ت‬ ‫ص أو زمرٍة أو طبقٍة أو حتى أمٍة ما يتضمُن مغالطا ٍ‬ ‫إّ ن النظَر إلى مرحلِة السلطة على أنها عملية آنية لشخ ٍ‬ ‫ت المدينية‪ ،‬فقد تَّم إعداُدها أّوًل‬ ‫ت آنيًا‪ ،‬أما السلطا ُ‬ ‫س الحكوما ُ‬ ‫فادحًة‪ .‬قد ُتؤ ّ‬ ‫س ُ‬ ‫ت والنظُم السياسية في المجتم ةعا ِ‬ ‫ت السنين ِمن قَِبل الباطرِة الوحشيين والّزَمِر وكافِة أشكاِل القوى‬ ‫كثقافٍة )حقٍل‪ ،‬تقليٍد( سلطويٍة على َمّر مئا ِ‬ ‫ت أيضا ً –‬ ‫ب على الجبين‪ ،‬فالمجتم ةعا ُ‬ ‫المهيمنة‪ .‬هكذا‪ ،‬وكيفما َتقبَُل الزوجةُ بزوجها وتنتظُرهُ وكأنه قدُرها المكتو ُ‬ ‫ضت على‬ ‫ضُع للسلطِة َكقَ​َدِرها المحتوم‪ ،‬وتنتظُر استثماَرها كالحقِل ينتظُر وصاحَبه‪ ،‬أو ُرّو َ‬ ‫وبشكٍل مطابق – َتخ َ‬


‫مٌة‬ ‫اعتياِد ذلك‪ .‬فالسلطةُ متواجدةٌ في المجتمِع كثقافٍة سلطوية‪ .‬من هنا‪ ،‬فمقولُة باكونين في هذا المضمار َقّي َ‬ ‫للغاية‬ ‫ن أرضيَة‬ ‫ع وعشرين ساعًة على دفِة السلطة"‪ .‬إ ّ‬ ‫ل أرب ٍ‬ ‫سدون خل َ‬ ‫سِهم َيف ُ‬ ‫ن أكثَر الديمقراطيين ثقًة بأنف ِ‬ ‫"إ ّ‬ ‫ة طويلًة رغ َ‬ ‫م‬ ‫حِه مد ً‬ ‫ت عن إيضا ِ‬ ‫جز ُ‬ ‫ع ِ‬ ‫ن هذا الفساَد‪ ،‬الذي طالما َ‬ ‫ئ وُتَؤّم ُ‬ ‫السلطِة بذاتها هي التي تهي ُ‬ ‫ب‬ ‫مساع ّ‬ ‫سّي السلطِة المتشكُل من تراكِم سيوِل الدماِء الُمراقِة والستغلِل اللمحدوِد )الحرو ِ‬ ‫ي الدؤوبة‪ .‬فَُكر ِ‬

‫سد المتربَع عليه بطبي ةعِة الحال خلَل أربٍع وعشرين‬ ‫ف السنين‪ ،‬سُيف ِ‬ ‫اللمتناهية والست ةعماِر اللمنقطع( طيلةَ آل ِ‬ ‫ساعة‪ .‬في حين أنه سي ةعجز عن إفساِده بشرٍط وحيد‪ :‬إْ ن وصا ن ذاَته وكأنه في عبادِة الرب! فالسلطةُ المتأسسةُ‬ ‫س َ‬ ‫ب والست ةعمار والستغلل الذي ل حدوَد له‪ ،‬مؤثرةٌ حقا ً من جهِة َكوِنها تقليٌد‬ ‫َو َ‬ ‫ط المكائِد والِحيَِل والحرو ِ‬ ‫شِهَدته "الشتراكيةُ‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫مطل‬ ‫ل‬ ‫بشك‬ ‫ة‬ ‫سد‬ ‫مف‬ ‫تكو ن‬ ‫تكاد‬ ‫إنها‬ ‫بل‬ ‫ونظام‪.‬‬ ‫ة‬ ‫وثقاف‬ ‫ق وقط ةعي‪ .‬وخيُر مثاٍل على ذلك‪ ،‬ما َ‬ ‫ُ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫المشيدة"‪.‬‬ ‫سسو‬ ‫سسِي النظاِم وتشبثهم بأهدافهم‪ .‬ولكن‪ ،‬كيف حصَل واستسلَم مؤ ّ‬ ‫واضٌح أنه ما ِمن شّك في ُحسِن نوايا مؤ ّ‬ ‫ب الولّي في هذه المأساِة‬ ‫الشتراكيِة المشيدِة طوعاً للرأسمالية التي حاربوها ب ةعناد؟ حسب رأيي‪ ،‬السب ُ‬ ‫سسو الشتراكيِة أوصبحوا سلطًة‬ ‫التاريخية ُي ةعزى إلى كيفيِة بلوغهم السلطةَ وأنماِط استخدامهم إياها‪ .‬فمؤ ّ‬ ‫ش السلطة القائمِة على‬ ‫بالتأسيس على ثقافِة المجتمع المديني‪ .‬بم ةعنى آخر‪ ،‬دعَك من التردِد في التربِع على عر ِ‬ ‫ت التقاليد الدولتية(‪ ،‬والتي‬ ‫ف مع السلطة ذا ِ‬ ‫ض على التآل ِ‬ ‫ض الميراث الست ةعماري الدموي )المجتمِع المرّو ِ‬ ‫أنقا ِ‬ ‫طالما اّدعوا أنهم م ةعارضو ن لها‪ ،‬بل والتّفوا حولها وتشبثوا بها بنواجذهم )بأظافرهم(‪ .‬والنكى أنهم لم يَ​َوّدوا‬ ‫سهم من‬ ‫ب لها إل وَأغَوْتهُ وَختَلَْتُه‪ .‬بل ولم يتمالكوا أنف َ‬ ‫الدراَك أّ ن السلطةَ عاهٌر من النوع الذي ما ِمن وصاح ٍ‬ ‫ب النتقاِل السريِع من السوفييتيات إلى‬ ‫ض النتقادات الموّجهِة إليهم )كانتقاِد كروبوتكين لـ لينين بسب ِ‬ ‫تقييِم ب ةع ِ‬ ‫سلطِة الدولة( في هذا السيا‪.‬ق على أنها انتهازية‪ .‬لقد دنا والرشتاين من الحقيقِة عندما قال بانهياِر السوفييتات‬ ‫ب عليهما؛ إل أنه‬ ‫بتأثيٍر مشتَرٍك ِمن الرأسماليِة والنظام ال ةعالمي القائم‪ ،‬وبافتقارها للقدرِة على تجاوزهما والتغل ِ‬ ‫َ‬ ‫سَر ذلك بأّ ن‬ ‫ب إلى الحقيقِة عندما ف ّ‬ ‫س بجوهِر القضية‪ .‬أما ميشيل فوكو‪ ،‬فهو َأقَر ُ‬ ‫)والرشتاين( ب ةعيٌد عن الَمسا ِ‬ ‫ت الم ةعرفة – السلطِة للنظام القائم هو الدافُع وراَء التحاِمها مجدداً مع‬ ‫نف‬ ‫لجوَء السوفييت إلى استخداِم‬ ‫س تقنيا ِ‬ ‫ِ‬ ‫النظام‪.‬‬ ‫ت الحاوصلة‪ ،‬بدءاً من كومونِة باريس‬ ‫ت والت ةعليل ُ‬ ‫والتفسيرا ُ‬ ‫ت المشابهةُ ساريةٌ على جميِع الكفاحات والمبادرا ِ‬ ‫ت الوطنية التحررية والشيوعيِة والديمقراطية الجتماعيِة التي ل َعّد لها ول حصر‪ .‬فكّل حقٍل ُينتُِج‬ ‫إلى الحركا ِ‬ ‫ت الحرية عموماً والشتراكيِة خصيصا ً في حقوِل السلطة‬ ‫نباتا ً خاوصاً به‪ .‬لذا‪ ،‬من المحال أْ ن َتزَدِهَر نباتا ُ‬ ‫الم ةعرفيِة الم ةعّمرِة آلفاً من السنين‪ .‬لهذا الغرض‪ ،‬وقبَل كّل شيء‪ ،‬على الناشطين في ميداِ ن الحرية والشتراكية‬ ‫ص كافِة المراض الُم ةعِدَية المتناميِة في‬ ‫)وبالطبع‪ُ ،‬منَظِّريها أيضًا(‪ ،‬إعداد حقولِ​ِهم الخاوصِة بهم‪ ،‬والقيام بتشخي ِ‬ ‫ت المزدهرة من‬ ‫ض الشتل ِ‬ ‫ج الشافي منها‪ .‬والهّم من كّل ذلك‪ ،‬عليهم البت ةعاد عن ب ةع ِ‬ ‫حقِل السلطة‪ ،‬وتحديد ال ةعل ِ‬ ‫ع تمأسسها وشخصيتها(‪ ،‬وزرع وتنمية شتلتهم الجوهريِة الخاوصة بهم )أشكاِل‬ ‫قَِبيِل السلطة )كافِة أنوا ِ‬ ‫خ المدنية‪،‬‬ ‫الديمقراطية الغنية(‪ .‬وفي حاِل ال ةعكس‪ ،‬فل ملَذ لهم من إعادِة تكراِر آل ِ‬ ‫ف المثلة الم ةعاشة طيلةَ تاري ِ‬ ‫والتي لطالما َزَعَمت أنها "َزَرَعت الحرية"‪ ،‬ولكنها لم َتنُج في نهايِة المآل من ال ةعيش ورؤيِة ذاتها بأنها لمَ‬ ‫ب في‬ ‫تختل ْ‬ ‫س ُ‬ ‫ف عن النظِم السلطوية السابقة‪ .‬لقد تَلَّم ْ‬ ‫ع تمهيداً لتناولِ​ِه بإسها ٍ‬ ‫ت الحاجة للتطر ِ‬ ‫‪.‬ق لهذا الموضو ِ‬ ‫ف التذكير بروابِطِه مع السوسيولوجيا البنيوية‪.‬‬ ‫فصِل سوسيولوجيا الحرية‪ ،‬وذلك بهد ِ‬ ‫هـ‪ -‬من المهم أيضاً تسليط الضوء على دوِر الف ةعاليات المؤسساتية لدى المجتم ةعات المدينية في مياديِن الدين‪،‬‬ ‫ال ةعلِم‪ ،‬الفلسفة‪ ،‬الفن‪ ،‬والخل‪.‬ق وغيرها‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ما ُيزَعم هو أنه ثمةَ أواوصُر وطيدةٌ بين تَطّوِر ُكّل من المدنية ومياديِن الدين وال ةعلم والفلسفة والفن والخل‪.‬ق‪.‬‬ ‫س كيف وبأيِّة‬ ‫إّ ن أكثَر الحكام قابليةً للتفسير مت ةعلقةٌ بهذه الميادين‪ .‬إني على قناعٍة بأننا شاَهدنا بشكٍل ملمو ٍ‬ ‫َ‬ ‫سنا كيف أينَ​َ ةعت هذه‬ ‫شَئت هذه المياديُن التي َ‬ ‫شِهَدت انطلقةً مذهلةً في دولِة الرهبا ن السومريين‪ .‬كما تَلَّم ْ‬ ‫غايٍة ُأن ِ‬ ‫ض دجلة والفرات‪.‬‬ ‫المياديُن وانتهَلت حالَتها الرشيمية من الثقافِة النيوليتية المتمأسسِة في حو ِ‬ ‫ت المستخَدِم في تغذيِة النسا ن‪ .‬فلدى حظيهم‬ ‫ح القدسية إيلُء قيمٍة ثمينٍة واستثنائيٍة للُقو ِ‬ ‫يتستر وراَء اوصطل ِ‬ ‫ت الوفيِر المتنوع نَ َ‬ ‫ف اللوهية‬ ‫ظَر إليه البشُر على أنه ُم ةعاِدٌل لهوياتهم الجتماعية‪ ،‬فقّيموه بأنه لط ُ‬ ‫بالقو ِ‬ ‫ً‬ ‫وعطُفها‪ ،‬فراحوا يشكرونها‪ .‬وما ن ةعجز اليوَم أيضا عن إدراِك م ةعناه الشامِل في عظمِة الحياة وسحرها هو‬ ‫ح لطالما يلوُذ إليه النسا ن لدى س ةعيه ليلء الم ةعاني لتلك ال ةعظمة السحرية‪.‬‬ ‫اللوهيةُ كمبدأٍ تكويني‪ ،‬وكاوصطل ٍ‬ ‫شأ في أوساِط الثقافِة السامية يتسم بم ةعانَي مغايرٍة وبمجرى‬ ‫يجب عدم الخلط بين اللوهية وبين ا‪ .‬فالُ الُمن َ‬ ‫ي خاص‪ .‬إّ ن اللوهيةَ الُمَ ةعبَّر عنها بمبدأِ التكوين لجِل كافِة المجتم ةعات البشرية اوصطلٌح قابٌل للتفسيِر‬ ‫تطور ّ‬ ‫صوُ ن خاوصيته هذه‪ .‬فالزعم بمقدرِة النسا ن على تفسير الكو ن‪ ،‬وهو كائٌن‬ ‫ي‬ ‫يزال‬ ‫ول‬ ‫للغاية‪،‬‬ ‫ة‬ ‫عديد‬ ‫بم ةعانَي‬ ‫َ ُ‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ب‪ ،‬ي ةعني المغالةَ في ت ةعظيِم شأنه‪ .‬وتأسيساً على ذلك‪ ،‬فإّ ن إحالة كّل شيٍء محاٌل فهُمهُ إلى‬ ‫محدوُد الستي ةعا ِ‬ ‫‪.‬ق الضيقة للغاية من الم ةعلومات والم ةعرفِة‪ ،‬يَُ ةعّد ميتافيزيقيةً حسنة‪ .‬وُكّلي قناعةٌ ب ةعدِم‬ ‫الفا‬ ‫بهذه‬ ‫مصطلح اللوهية‬ ‫ِ‬


‫س ي ةعني القبوَل بالنسا ن كإلٍه واحٍد أحد‪ ،‬وأنا مقتنٌع بأّ ن المبالغةَ في تضخيِم‬ ‫وجوِد مخاطِر ذلك البتة‪ .‬وإل‪ ،‬فال ةعك ُ‬ ‫الذات لهذه الدرجة سينفي كّل م ةعانَي الكو ن‪.‬‬ ‫ي لجِل المجتم ةعات التي شادوها‪،‬‬ ‫لقد قيَّم الرهباُ ن السومريو ن ُ‬ ‫وصنَع اللِه كوسيلٍة لتيسيِر اليضاح وكمؤثٍر م ةعنو ّ‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫أكثَر من النظِر إليه كميتافيزيقيا متطورة‪ .‬ولربما كا ن الرهباُ ن أوَل َمن يَُحّمل اوصطلَح اللِه م ةعانَي ال ةعقا ِ‬ ‫ض‬ ‫صُل تدويُل اللِه رويداً رويدًا‪ .‬وهنا ِمربَ ُ‬ ‫والحرام لتسخيره في تطويِر عاطفِة الطاعة والنصياع‪ .‬وهكذا َيح ُ‬ ‫ت المشيرِة إلى أنهم ن ّ‬ ‫ب ت ةعزيِز شأِ ن‬ ‫ظموا مكاَ ن الجلسات وأشكاَل الرسوم بموج ِ‬ ‫الوصلح‪ .‬ثمةَ ال ةعديُد ِمن الدلل ِ‬ ‫إداريي الدولة )بالتالي إدارِة المجتمع(‪ .‬فالَملُِك يستُ​ُر مصالَحه الحقيقيةَ بمهارٍة ودهاٍء عندما يخوض الحرَب‬ ‫ب والم ةعّزِز على الدوام‪ ،‬في حين‬ ‫باسِم إلهه‪ .‬والدار ّ‬ ‫ي في كافِة السرود المدّونِة والمنقوشة هو ابُن الله المحبّ ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫س ساطٍع للدارِة الجديدة‪.‬‬ ‫أّ ن أعداءه شياطيُن يجب قهُرها ول ةعُنها‪ .‬وتتشكل مجموعة إلهية على َمَهل‪ ،‬كان ةعكا ٍ‬ ‫ي مجتمٍع بقدِر ما هو عليه في المجتمع السومري‪ ،‬بحيث لم‬ ‫ي بهذا الجلء في أ ّ‬ ‫لم ين ةعكس تكافُؤ اللِه مع الدار ّ‬ ‫ب‬ ‫يَُ ةعْد ثمةَ أهميٍة للتساؤِل عما إذا كا ن أ ّ‬ ‫ي منهما قناعاً للخر‪ .‬فبقدِر ما ُدّول اللهُ )أوصبح دولة(‪ ،‬استمّر باكتسا ِ‬ ‫س المجتمع‪ .‬وبقدِر ما تحظى‬ ‫م ةعانيه في طبقِة الداريين كقوٍة مبدعٍة وموّجهٍة ومراِقبٍة ساميٍة وجليلٍة على رأ ِ‬ ‫مهنةُ الدارِة بالخاوصيات والمزايا‪ ،‬فلن يتخلف إلُهها أيضا ً عنها‪ .‬وبقدِر ما ُيدار المجتمع بالفضيلة‪ ،‬يَُكوُ ن ذلك‬ ‫ي‬ ‫ق بين اللِه والدار ّ‬ ‫برهاناً على متانِة أواوصِر الدار ّ‬ ‫ي مع اللوهيِة بنف ِ‬ ‫س القدر‪ .‬وهكذا‪ ،‬يتحوُل الجزُم بالتفري ِ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ص مَع الزمن بالنسبة إلى الرعية في المجتمع‪ .‬ولِتَطّوِر الميتافيزيقيا السيئِة علقة مع هذه‬ ‫إلى أمٍر عوي ٍ‬ ‫ف كافةُ‬ ‫ش ُ‬ ‫المستجدات‪ .‬فاللوهيةُ الُمنشأة تبدأ بالتحوِل إلى ميتافيزيقيا سيئة‪ .‬وُعقَب هذه المرحلة سَتكتَ ِ‬ ‫سّخُرها في شرعنِة إدارتها‪ .‬ورغم بقاِء الله القديِم‬ ‫المجتم ةعات المدينيِة القوةَ السحريةَ للدين والله‪ ،‬وستُ َ‬ ‫ف لدى المسحوقين والرعايا‪ ،‬إل أّ ن اللَه‬ ‫ق والخصيب النسِل عالقاً في زاويِة الفكر وال ةعواط ِ‬ ‫المقّدس والخال ِ‬ ‫َ‬ ‫ي الم ةعّزز والمحبوب‪.‬‬ ‫الدار‬ ‫د‬ ‫عبا‬ ‫ة‬ ‫بواسط‬ ‫ال ةعلني‬ ‫دورهما‬ ‫ة‬ ‫تأدي‬ ‫عن‬ ‫برا ن‬ ‫ ةع‬ ‫ي‬ ‫س‬ ‫لين‬ ‫و‬ ‫المتد‬ ‫والديَن الجديَدين‬ ‫ّ‬ ‫َُّ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ق اللتفاَت إليها‪ .‬فالت ةعددية اللوهية هي مفهوُم اللِه‬ ‫ثمةَ ُعرى وثيقةٌ بين ت ةعداِد اللهة وشكِل المجتمع‪َ ،‬تستَِح ّ‬ ‫ب عظمتها مرتب ٌ‬ ‫ط‬ ‫في ال ةعصور التي ساَدتها المساواةُ بين القبائل‪ .‬في حين أّ ن تناق َ‬ ‫ص عددها‪ ،‬وترتيَبها بموج ِ‬ ‫ي وموق ةعه وأعرافِ​ِه السياسية‪ .‬والتوجهُ نحو اللِه الكبر يتوافق مع بروِز التمايِز‬ ‫ب ببروتوكوِل الدار ّ‬ ‫عن كث ِ‬ ‫بين الداريين‪ .‬أما ال ةعلقةُ بين مفهوِم الدين التوحيدي ذي اللِه الخفي المحاِل تجسيُدهُ في هيكٍل أو رسم‪ ،‬وبين‬ ‫تَ​َخ ّ‬ ‫ق في م ةعانيها القَّيمة‪.‬‬ ‫ق تمأ ُ‬ ‫سها؛ فهي غريبةُ الطوار وخليقةٌ بالبح ِ‬ ‫س ِ‬ ‫طي الدولِة للشخصيا ِ‬ ‫ث والتدقي ِ‬ ‫ت وتحقي ِ‬ ‫وبهذا الم ةعنى‪ ،‬فسُتساِعُد الجهوُد اللهوتيةُ على تمهيِد الطريق لستنارٍة ثمينٍة للغاية‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ص تَ​َواُجِد اللِه لدى القوى الداريِة سقو َ‬ ‫ّ‬ ‫ب آخر ُيسلط الضوَء على‬ ‫بينما ي ةعني تناقُ ُ‬ ‫ط القن ةعِة عنها‪ ،‬فهو من جان ٍ‬ ‫ما َت ةعِنيه الدولُة‪ ،‬والجهِة التي تخدُم مصالحها‪ ،‬علوةً على إشارتِه لفقداِ ن الدين بما فيه الكفاية لدوِره القوي‬ ‫سّخَر المجتمُع المديني تأثيَر الدين في تأميِن الشرعية لخدمته‬ ‫كأداِة شرعنٍة وطيدة‪ .‬ومقابَل هذه التطورات‪ ،‬فقد َ‬ ‫َ‬ ‫صه مع تَطّوِر المجتمِع المديني‪،‬‬ ‫بقدِر لجوئه إلى ال ةعنف والطغيا ن‪ .‬وهكذا يتزامُن ويتماشى تدويُل الدين وتخصي ُ‬ ‫ت‬ ‫ص مع التطوِر الداري فيه‪ .‬وهذا الوضُع أيضا ً يوضُح دوافَع المذهبية والصدامات في الديا ن‪ .‬فالمدنيا ُ‬ ‫وبالخ ّ‬ ‫ُ‬ ‫ت أّولً باسِم الدياِ ن‬ ‫ت والصداما ُ‬ ‫المتصارعة ت ةعني الدياَ ن والمذاهَب المتصارعة‪ .‬حيث تنشب الصراعا ُ‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫المدنيا‬ ‫بين‬ ‫المدى‬ ‫ة‬ ‫والطويل‬ ‫ال ةعظمى‬ ‫ت‬ ‫سيَّرت الصراعا ُ‬ ‫ب لتأميِن انخراِط المجتمع برمته فيها‪ .‬هكذا ُ‬ ‫ِ‬ ‫والمذاه ِ‬ ‫ُ‬ ‫ب الحروب في مدنيِة الشر‪.‬ق الوسط باسِم‬ ‫ع الدياِ ن الكبرى على الدوام‪ .‬والروابط بين نشو ِ‬ ‫ع وصرا ِ‬ ‫تحت قنا ِ‬ ‫الديا ن السلميِة والمسيحية والموسوية‪ ،‬وبين بروِزها كقوٍة أساسيٍة جليةٌ وعلنيةٌ لدرجِة أنه ل داعَي‬ ‫لخفائها أو تغطيتها؛ حيث بَلَ​َغت أرقى مستوياِتها مع إعلِ ن ال ةعلنية كأيديولوجيا رسميٍة للدولة‪ .‬ومثلما ُيلَحظُ‬ ‫على الدوام‪ ،‬فب ةعَد كّل قمٍة تبدأ أهميُتها بالنحداِر والتهاوي‪ .‬أما المذهبيةُ الم ةعاِرضة‪ ،‬فأوصبَحت على الدوام تَُمثُّل‬ ‫‪.‬ق المجتمع المديني‪ ،‬إضافةً إلى َكوِنها‬ ‫رايةَ ال ةعصياِ ن والتمرد للمجتم ةعا ِ‬ ‫ت الُمَهّمشة الضيقِة الباقيِة خارَج نطا ِ‬ ‫ت الطبقيةَ نسبيًا‪ .‬ومع التوجِه نحو يومنا الحاضِر‪ ،‬تحوَلت إلى مذاهَب في عهِد إنشاِء الدولة‬ ‫ت ةعك ُ‬ ‫س التناقضا ِ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫وصَل مهاّمها في‬ ‫توا‬ ‫ل‬ ‫المرة‪،‬‬ ‫هذه‬ ‫ب‬ ‫الثو‬ ‫بهذا‬ ‫ف‬ ‫وتلتح‬ ‫القوموية‪،‬‬ ‫ب‬ ‫ضرو‬ ‫من‬ ‫ا‬ ‫ضرب‬ ‫و‬ ‫لتغد‬ ‫الرأسمالية‪،‬‬ ‫القومية‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ب الدموية‪.‬‬ ‫التقّنع لدى توجهها نحو الحرو ِ‬ ‫خ المدنية‪ ،‬إل أنها تتميز بأهميٍة ملحوظة‪ .‬فَتَ َ‬ ‫طّوُر ِعلِم‬ ‫رغم محدوديِة نطا ِ‬ ‫‪.‬ق الفلسفِة نسبةً إلى الديِن في تاري ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ت الدينيِة أبرَز الحاجة إلى الفلسفة‪ .‬هذا وُت ةعتَبَُر الحكمة بداية الفلسفة‪ ،‬باعتباِرها‬ ‫الم ةعاني‪ ،‬وقُ ُ‬ ‫صوُر اليضاحا ِ‬ ‫م ةعّمرةً بقدِر قَِدم الدين‪ .‬والحكيُم الذي يَُمثُّل النساَ ن المفكَر يَُ ةعّد منبَع م ةعاٍ ن مختلفٍة عن اللهوتية‪ ،‬وُيلجأ ُ إلى‬ ‫آرائه بقدِر اللجوء للناطقين باسِم الرب‪ .‬ول يمكن اعتبار الحكماِء مساِلمين للدولة والمدنية‪ ،‬بل إنهم مرتبطو ن‬ ‫‪.‬ق المجتمع الرسمي‪ ،‬ودوُرهم بارٌز في تَ َ‬ ‫طّوِر الخل‪.‬ق وال ةعلم‪ .‬إّ ن نساَء اللهِة‬ ‫بالكثر بالمجتمِع الكامِن خارَج نطا ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ب إلى الحكمِة‬ ‫صبها الرعونة والَبلدة ب ةعُد في المجتمِع النيوليتي أقَر ُ‬ ‫– الم‪ ،‬والشرائَح الهرميةَ التي لم تُ ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ت النبويةَ مشحونة بالحكمة‪.‬‬ ‫والم ةعرفة‪ ،‬ونصاد ُ‬ ‫ف آثاَرها الوطيدةَ في المجتمِع السومري‪ .‬كما أّ ن النطلقا ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ث الشامل‪ .‬ل جداَل في وجوِد الفلسفة قبَل الثقافِة‬ ‫بالبح‬ ‫ة‬ ‫جدير‬ ‫الوسط‬ ‫‪.‬ق‬ ‫الشر‬ ‫في‬ ‫ة‬ ‫الفلسف‬ ‫وتقاليُد الحكمة –‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫اليونانية‪ .‬وَيكُمُن ُحسُن طالِع الفلسفة اليونا ن في إمكانياتِ​ِهم الجغرافيِة وم ةعايشتِ​ِهم مرحلة أرقى من المدنية في‬ ‫سيَّر الرهباُ ن السومريو ن إنشاَء الديِن الجديد واللِه الجديد وتشييَد الدولِة الجديدة والمجتمِع‬ ‫آٍ ن م ةعًا‪ .‬فكيفما َ‬


‫الجديد م ةعًا‪ ،‬فقد ل ةعَب الفلسفةُ اليونانيو ن أيضا ً دوَرهم في بناِء وديمومِة المجتمع المديني الجديِد بمرحلة أرقى‪،‬‬ ‫بحيث تتداخُل فيه الفلسفةُ مع الدين بالتناوصف‪ .‬وال ةعمُل الحاوصُل هو نفسه‪ :‬استخداُم فَّن المصطلحات‪ .‬فبينما‬ ‫ستَتَنَّحى‬ ‫ت الفلسفية‪ .‬وهكذا َ‬ ‫يؤدي الوُل دوَره مع إنشاِء الدين‪ ،‬يقوم الثاني بتأديِة الدوِر عينِ​ِه عبَر المصطلحا ِ‬ ‫اللهةُ المقَّن ةعةُ عن أماكنها لللهِة غيِر المقَّن ةعة والملوِك ال ةعراة‪ .‬وهنا ثمةَ علقةٌ بين الفلسفِة والمسافات التي‬ ‫قط ةعها فكُر النساِ ن من التقدِم والرقي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫إّ ن الفكَر الفلسفي الذي ل ةعَب دوراً محدودا في المجتمَ ةعين اليوناني والروماني سَيشَهُد ثورة عظمى في مجتمع‬ ‫أوروبا الرأسمالي‪ .‬وهنا سن ةعيش فوضى فلسفيةً شبيهةً بما حصل في الديا ن‪ .‬وُت ةعزى أسباب هذه الفوضى‬ ‫ت النظام القائم في مرحلِة الحضارِة‬ ‫ب متطلبا ِ‬ ‫ح الوطنية والطبقيِة إلى المقدمة بموج ِ‬ ‫بالكثر إلى إبراِز المصال ِ‬ ‫ب الدينية‪.‬‬ ‫ق الفلسفة لدى الفشِل في حّل التناقضات بالحرو ِ‬ ‫المدينية الجديدة‪ .‬حيث وقَع ال ةعبُء الكثر على عات ِ‬ ‫ُ‬ ‫س الوقت‪ ،‬فالقرُ ن السابُع‬ ‫نف‬ ‫وفي‬ ‫الدينية‪.‬‬ ‫الحروب‬ ‫ر‬ ‫آخ‬ ‫د‬ ‫ ةع‬ ‫ت‬ ‫ّ‬ ‫والحرو ُ‬ ‫َ‬ ‫ب الناشبةُ فيما بين أعوام ‪َ 1649 – 1618‬‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫عشر هو قرُ ن الثورِة الفلسفية‪ .‬فالفلسفة التي أّدت دوَرها في المسؤوليِة في المجتمَ ةعين اليوناني والروماني‬ ‫س الفلسفيةُ الكبرى‪ .‬وُتق َ‬ ‫طُع‬ ‫س في المجتمِع المديني الجديد‪ .‬وهكذا تنشأ ُ المدار ُ‬ ‫َغَدت الشكَل اليديولوجي الرئي َ‬ ‫ُ‬ ‫س الملوِك المتسترين‪ ،‬بينما يتّم العلُ ن أّ ن "اللهَ قد مات"‪ ،‬ويبدأ عصُر الدوِل الرأسمالية‪ ،‬التي ليست‬ ‫رؤو ُ‬ ‫سوى الدولةَ القوميةَ المؤّلهةَ والملَك ال ةعاري‪.‬‬ ‫ت البسيطة َتشَهُد المرحلةُ عدداً‬ ‫ع الثورة في ميداِ ن الفن أيضًا‪ .‬فُ ةعْقَب رسوِم المغارا ِ‬ ‫تَُمّهُد الثورةُ النيوليتيةُ لندل ِ‬ ‫ف فّن النحت‪ .‬ومع‬ ‫سلَ َ‬ ‫جماً من أشكاِل رسوِم اللهِة الم ورموِزها‪ ،‬التي ُت ةعتَبَُر مواضيَع ‪ Nesne‬الفن الولى و َ‬ ‫المجتمِع المديني تَُخ ّ‬ ‫ي م ةعاً بالتداخل‪ .‬أما التمايُز الطبقّي المتزايد‪ ،‬ومهاّم الدارِة‬ ‫ط أشكاُل الله والدار ّ‬ ‫ب فيما بينهم‬ ‫ص بالذكِر تساب َ‬ ‫المتضاعفُة‪ ،‬فتَُمّهُد لِتَ​َدّوِل الفّن أيضا ً بقدِر تَ​َدّوِل الدين‪ .‬ونخ ّ‬ ‫ق الله والَملِك والراه ِ‬ ‫ض قواُهم في الفنوِ ن المصرية والصينية والهندية‪ ،‬وكأّ ن هذه الهياكَل الضخمَة والمحفورات الباهرة‬ ‫في است ةعرا ِ‬ ‫ت‬ ‫س الحذو‪ ،‬حيث ُت ةعتَبَُر بيو ُ‬ ‫ف بُِقواهم‪ .‬وَيحذو الفّن الِم ةعمار ّ‬ ‫ي أيضا ً نف َ‬ ‫ت الديِن والداريين ساحا ِ‬ ‫دليٌل على الت ةعري ِ‬ ‫شأ القبوُر الضخمة‪ .‬كّل ذلك دليٌل وصارٌخ ومرّوٌع على‬ ‫تنفيِذ الَ ةعمار لُتشيَّد فيها الم ةعابُد والسرايا الفخمة‪ .‬كما ُتن َ‬ ‫ت اللف من البشر في سبيِل‬ ‫ف واستغلُل النساِ ن في المجتمع المديني‪ ،‬إذ ُيسَتهلَُك مئا ُ‬ ‫الب ةعاِد التي بَلَ​َغها ال ةعن ُ‬ ‫تشييِد هرٍم أو م ةعبد‪ .‬ومع تَ​َو ّ‬ ‫طِد التجارِة يصبح الّتّجاُر أيضا ً عاملً هاما ً َيطبع الفّن بطاب ةعه‪ .‬ومثلما الحاُل في‬ ‫الملوك‪ ،‬بالمقدوِر متاب ةعة شؤوِ ن التجار الجبابرِة في النتاجات الفنية أيضا‪ً.‬‬ ‫ع‬ ‫ومع عصِر المدنيِة اليونانية والرومانية َنشَهُد ثورةً في م ةعماِر المد ن‪ .‬فالمدُ ن – التي كانت عبارة عن قل ٍ‬ ‫ح الكامن‬ ‫داخليٍة وخارجيٍة – تَُمّر بتحول ٍ‬ ‫ت بنيويٍة ل تفتأ ُ تثيُر الدهشةَ والعجاَب حتى في راهننا‪ .‬وثمُن الكد ِ‬ ‫ق ُيستثَمُر وُيستهلَُك في إعماِر المد ن بنسبٍة قصوى‪.‬‬ ‫الرقي‬ ‫ح‬ ‫فكد‬ ‫ة‪.‬‬ ‫وع‬ ‫مر‬ ‫د‬ ‫بأب ةعا‬ ‫وراء ذلك هو است ةعباُد المجتمِع‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ومؤشُر ال ةعبودية هو تلك القبوُر والم ةعابُد والقلُع والمدائُن الضخمة‪ .‬كما أّ ن هذه المؤشرات دليٌل فاضٌح في‬ ‫ب في تشييِد المجتمع المديني‪ .‬يَُمثُّل المجتمُع اليوناني‬ ‫ب والدِم المسكو ِ‬ ‫‪.‬ق المتصب ِ‬ ‫نف ِ‬ ‫س الوقت على مقداِر ال ةعر ِ‬ ‫والروماني مرحلةً جديدًة من المدنية في ميداِ ن النحت أيضًا‪ ،‬إذ ُيراُد َتخليد ال ةعظمِة والبهة والجماِل في تلك‬ ‫الهياكل‪.‬‬ ‫شّكل ن منهَل قوِة اللهام‬ ‫إّ ن كلً من الثقافة والفّن اليوناني والروماني‪ ،‬واللذين بُّثت فيهما الحياةُ مع النهضة‪ ،‬يُ َ‬ ‫في المدنية الوروبية‪ .‬فأوروبا القطاعيُة‪ ،‬التي َحَكَمها الديُن‪ ،‬لم يَُكْن لها أ ن تفتَح نوافَذها للذهنيِة الجديدِة‪ ،‬إل‬ ‫ق البرجوازيِة‬ ‫مع ثقافِة النهضة هذه المنفتحِة نسبياً للفكِر الحر‪ .‬ولم يَُكْن للفّن إل أْ ن يحظى بتأثيٍر كمّي عن طري ِ‬ ‫كطبقٍة مدينيٍة حديثِة ال ةعهد‪ ،‬في حين أنه سَيفقُ​ُد بهاَءه القديَم من غيِر رج ةعة‪ .‬فالفّن بكافِة فروِعِه ِمن عماٍر‬ ‫سُر‬ ‫ت سُيصا ُ‬ ‫ب سري ةعاً بالرعونِة والتشرذِم في خدمِة الرأسمالية‪ ،‬وسَيفقُ​ُد قدسيَته‪ ،‬وسَيخ َ‬ ‫وموسيقا ورسٍم ونح ٍ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫سها ونفاذها الذريَع بم ةعنًى من الم ةعاني‪.‬‬ ‫صيَر سل ةعة استهلكية ت ةعلُِن إفل َ‬ ‫هويَته باسِم وصناعِة الفّن‪ ،‬لِيَ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫س النيوليتي‪ .‬فكأّ ن الموسيقا ال ةعريقة الوصيلة َتصَدُح‬ ‫ُيمِكُن إرجاع المنبِع ال ةعين للدا ِ‬ ‫ب والموسيقا إلى التمأس ِ‬ ‫ً‬ ‫ي الراعي‪ ،‬والمزماِر‪ ،‬والطبِل إحياَء الجّو المشحوِ ن بالحزاِ ن‬ ‫نا‬ ‫ة‬ ‫باستطاع‬ ‫ا‬ ‫أيض‬ ‫بصدى هذه المرحلة‪ .‬واليوَم‬ ‫ِ ِ‬ ‫ُ‬ ‫ف الموسيقى‪ .‬في حيِن يطرأ عليها التطويُر شك ً‬ ‫ل‬ ‫ف الجياشِة ال ةعائدِة لتلك المرحلة‪ ،‬وكأنها أسل ُ‬ ‫وال ةعواط ِ‬ ‫ومضموناً في المجتمع السومري‪ ،‬حيث يتميز الموسيقيو ن وال ةعازفو ن بمكانٍة ل غنى عنها في قصوِر الملوك‬ ‫والم ةعابد‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫‪.‬ق وقدسيِة الهويِة الولى لل ةعشيرِة ببلغٍة ُمحَكمة‪ .‬إنها المنبُع ال ةعيُن‬ ‫وأشوا‬ ‫ت‬ ‫حسرا‬ ‫ر‬ ‫ك‬ ‫ذ‬ ‫ت‬ ‫ة‬ ‫الشفهي‬ ‫والملحُم‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ب والوثائق‬ ‫للملحِم المدّونة‪ .‬وملحمة گلگامش هي أوُل وثيقٍة مدّونٍة في التاريخ‪ ،‬وربما أنها المصدُر الم للدا ِ‬ ‫شّكُل منبَع اللهاِم للشروح الدبية واللهوتيِة‬ ‫ق السومرية الدبية والدينيِة ل تُ َ‬ ‫المقدسة أيضًا‪ .‬فال ةعديُد من الوثائ ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ت الميثولوجية‪ ،‬ت ةعتَبَُر نسخَتها‬ ‫ت والتخيل ِ‬ ‫اليونانية فحسب‪ .‬فالملحُم اليونانية‪ ،‬وفي وصدارِتها كافة التصورا ِ‬ ‫الم ةعّدلةَ ال ةعاِرجةَ على بلِد الناضول ب ةعد المرور بالتحوير والتغيير‪ .‬هذه الثقافةُ الدبيةُ والموسيقية الشاهدةُ‬ ‫ث مع ظهوِر الروايِة في المجتمِع البرجوازي الوروبي‪،‬‬ ‫على تغيٍر ملحوٍظ هنا‪ ،‬تَُمّر بمرحلٍة أخيرٍة من التحدي ِ‬ ‫ُ‬ ‫ضيَّع قدسيَتها وأبَّهَتها السحرية‬ ‫وتتحوُل إلى ثقافِة رخيصة )ثقافة الصرعِة والديسكو(‪ ،‬وإلى وصناعِة الثقافة‪ ،‬لتُ َ‬ ‫الولى‪ ،‬وتغدَو وجها ً لوجٍه أماَم الستهلِك والنفاِذ كسل ةعٍة استهلكيٍة سمجٍة وبسيطة‪ ،‬مثلما َحّل بالفنوِ ن‬


‫الخرى‪.‬‬ ‫ضُح بإحدى‬ ‫يرتبطُ الفصُل بين "الفضيلة – الرذيلة" في المجتمِع المديني بالنقساِم الجتماعّي الساسي‪ ،‬ويو ّ‬ ‫‪.‬ق ال ةعام‪ ،‬فالفاضُل والرذيُل يَُ ةعّبرا ن عن‬ ‫ت بين مجموعا ِ‬ ‫جوانبِ​ِه أسباَب المسافا ِ‬ ‫ح المختلفة‪ .‬أما على النطا ِ‬ ‫ت المصالِ ِ‬ ‫ُ‬ ‫شيُر الُب ةعُد عنه‬ ‫تمايُِز المجتمع‪ .‬أي أّ ن جوهَرهما مجتم ةعي‪ .‬فبينما يَُدّل الرتباط بالمجتمع عن الخل‪.‬ق الفاضلة‪ ،‬يُ ِ‬ ‫ض مع قِيَِمِه إلى الرذالة‪ .‬إذ ن‪ ،‬فالبناُء الجتماعّي ذو طابٍع أخلقّي منذ البداية‪ .‬أي‪ ،‬يتّم ضبطُهُ بقواعِد‬ ‫والت ةعاُر ُ‬ ‫ً‬ ‫س القدسية‪ .‬فـ"الدستوُر الول" للمجتمع هو قواعُد الخل‪.‬ق‪،‬‬ ‫ب والنتظام الجديِد طوعا‪ ،‬وبموج ِ‬ ‫الترتي ِ‬ ‫ب أس ِ‬ ‫ص له من التشتت‬ ‫ليس إل‪ .‬فالخل ُ‬ ‫سِه الخلقيِة ل خل َ‬ ‫‪.‬ق موجودةٌ في جوهِر المجتمع‪ .‬والمجتمُع المفتقُد لس ِ‬ ‫والتناثر‪ .‬أما الضوابطُ الجتماعيُة‪ ،‬فت ةعني في مضموِنها اللتزاَم بهويِة المجتمع ووجوِدِه اللهي ولغتِ​ِه‪،‬‬ ‫ت ُنصَب ال ةعيِن لجلهم عندما يستدعي‬ ‫والتماسَك مع العضاِء الخرين وكأنهم جسٌد واحد‪ ،‬بل وو ْ‬ ‫ضَع المو ِ‬ ‫المر‪ .‬أما الطرُد من المجتمع‪ ،‬في ةعادل الموَت ب ةعينه‪.‬‬ ‫ت المجتمع المديني‪ ،‬وَتبُرُز للوسِط بالتزامِن مع النقساِم الجتماعي والتمايِز‬ ‫ُت ةعتَبَُر الحقو ُ‬ ‫‪.‬ق أحَد أهّم إنجازا ِ‬ ‫َ‬ ‫ق لظهوِر ديِن‬ ‫المقدسا‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫د‬ ‫ت‬ ‫ ن‬ ‫أ‬ ‫ومثلما‬ ‫لكن‪،‬‬ ‫الخل‪.‬ق‪.‬‬ ‫سها‬ ‫وأسا‬ ‫تأكيد‪.‬‬ ‫ل‬ ‫بك‬ ‫ل‬ ‫والتدو‬ ‫الطبقي‬ ‫ّ‬ ‫ت الدينية َمّهَد الطري َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ّ‬ ‫ّ َ‬ ‫َ‬ ‫ب قواعِد الخل‪.‬ق‪،‬‬ ‫ق للحقو‪.‬ق‪ .‬أي أّ ن الحقو َ‬ ‫‪.‬ق أيضا ً فتَح الطري َ‬ ‫س ترتي ِ‬ ‫‪.‬ق تَُ ةعبُّر عن أس ِ‬ ‫الدولة‪ ،‬فتَ​َدّوُل الخل ِ‬ ‫ح الطبقِة الدارية وأملِكها وأمِنها في المجتمِع الدولتي الجديد؛ وهذا بدوِره ما ي ةعني "دستوَر" هذا‬ ‫ومصال ِ‬ ‫المجتمع‪.‬‬ ‫ق المدونِة للمجتمِع السومري‪ ،‬والتي تسبق قوانيَن حمورابي بِأ َ​َمٍد طويل‪.‬‬ ‫الوثائ‬ ‫في‬ ‫للحقو‪.‬ق‬ ‫ل‬ ‫مثا‬ ‫ل‬ ‫أو‬ ‫على‬ ‫َن ةعثُ​ُر‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫بالتالي‪ ،‬فَموِطُن ولدِة الحقو‪.‬ق ليس روما أو أثينا‪ ،‬بل مدائُن سومر‪ .‬أما في عهِد أثينا وروما‪ ،‬فيتّم التشديُد على‬ ‫أواوصِر الحقو‪.‬ق مع الجمهوريِة والديمقراطية‪ ،‬وُي ةعاُد ترتيُبها وتدوينها رسميًا‪ .‬وأما ولدةُ الجمهورية‬ ‫ف المجتمع ال ةعبودي( وانحياَزها لنمِط الدارة‬ ‫والديمقراطية‪ ،‬فت ةعني نزوَع الطبقِة الرستقراطية )أسياِد وأشرا ِ‬ ‫ق أماَم الديكتاتوريات الَملكية والستبدادية )أي‪ ،‬الدارِة المزاجيِة للشخاص(‪.‬‬ ‫ض َ‬ ‫الجماعية‪ ،‬بَِغَر ِ‬ ‫سّد الطري ِ‬ ‫ق في‬ ‫وبالرغم من عثورنا على آثاِرها في المجتمع السومري‪ ،‬إل أّ ن ت ةعابيرها الولى المدونة والرسمية تتحق ُ‬ ‫ب‬ ‫المرحلِة الحضارية لمجتمِع أثينا وروما‪ .‬وترتبطُ ولدةُ الجمهورية والديمقراطية ِبال ّ‬ ‫ب على المصاع ِ‬ ‫س ةعِي للتغل ِ‬ ‫ت الدستوريةُ‬ ‫ستَُكوُ ن النَّزعا ُ‬ ‫ب شؤونها‪ .‬وهكذا َ‬ ‫ت الموجودِة في الدارة‪ ،‬وإعادِة ترتي ِ‬ ‫والفوضى والشكاليا ِ‬ ‫ُ‬ ‫ت الطابع‬ ‫‪.‬ق في وصدارِة المواضيع المتداَولِة في المدنيِة ذا ِ‬ ‫والجمهوريةُ والديمقراطية في ميداِ ن الحقو ِ‬ ‫‪.‬ق النسا ن"‪ ،‬لتطغى عليه الفردانيةُ البارزةُ‬ ‫البرجوازي الوروبي‪ .‬وسيكوُ ن الختراُع الخير م ةعنياً بـ"حقو ِ‬ ‫‪.‬ق على الص ةعيِد الجتماعي‪.‬‬ ‫والممثليةُ الواس ةعة النطا ِ‬ ‫ت الساسية‪ ،‬وكشكٍل من الوعي‪ .‬وما يَُميُّزهُ‬ ‫يتوجب النظر إلى التقدِم ال ةعلمي الحاوصِل كجزٍء من هذه التصنيفا ِ‬ ‫‪.‬ق عليها من قِبَِل الجميِع بالتجربة‪ .‬وهو ل َيشَمُل ُكّل الم ةعارف‪ ،‬بل‬ ‫عنها هو َت ةعبيُرهُ عن قسِم الم ةعرفِة الُمصاَد ِ‬ ‫ت ذاَت الم ةعانَي الخاوصةَ )الُمصاَد‪.‬ق عليها بالتجربة(‪ .‬وبشكٍل عام‪ ،‬ما ِمن م ةعلومٍة غيِر مجّربة‪.‬‬ ‫يتضمن الم ةعلوما ِ‬ ‫ت الم ةعتمدِة على التجربة وغيِر الم ةعتمدة عليها‪ ،‬وبين الوض ةعيِة منها‬ ‫الم ةعلوما‬ ‫تلك‬ ‫أما التمييُز بين‬ ‫ِ‬ ‫والميتافيزيقية‪ ،‬وبين النظريِة وال ةعملية؛ فيتطوُر في المجتمِع المديني‪ .‬وهو أمٌر على علقٍة مع الم ةعرفِة –‬ ‫س النيوليتي‬ ‫س ُ‬ ‫ت كبرى في ميداِ ن الم ةعرفة ال ةعلمية‪ .‬المرحلةُ الولى هي التمأ ُ‬ ‫السلطة‪َ .‬يشَهُد التاريُخ ثلَث ثورا ٍ‬ ‫ت المجتمِع السومري تأسيساً عليه‪ .‬المرحلةُ الثانيةُ‬ ‫)عهُد تل حلف فيما بين ‪. 4000 – 6000‬ق‪.‬م( ومساهما ُ‬ ‫هي عهُد مجتمِع أثينا وغربي بلِد الناضول )‪. 300 – 600‬ق‪.‬م(‪ .‬أما عهُد أوروبا الغربية )‪ 1600‬م‪ .‬وما ب ةعد(‬ ‫شّكُل المرحلةَ الثالثةَ منها‪ .‬وال ةعلقةُ بين الم ةعرفِة ال ةعلمية ومراحِل الحضارة المدينية جليةٌ جلَء النهار‪ .‬فكّل‬ ‫فيُ َ‬ ‫ى وثيقٍة مع كّل من‬ ‫مرحلٍة تاريخيٍة تتطوُر بالترافق مع ثورتها ال ةعلمية‪ .‬ولكن‪ِ ،‬من المهم رؤية ال ةعلم ضمن ُعر ً‬ ‫ب‪ ،‬الفن‪ ،‬والحقو‪.‬ق‪ .‬في حين أّ ن التمييَز بين ال ةعلِم والفلسفة أمٌر عصيب‪ ،‬حيث ُيمِكُن‬ ‫الدين‪ ،‬الفلسفة‪ ،‬الدا ِ‬ ‫شّكل ن الجانَبين النظري وال ةعملي في تناوِل الحادث نفسه‪.‬‬ ‫اعتبارهما يُ َ‬ ‫ت الم ةعاني تلك على شكِل ثنائيِة الم ةعنى –‬ ‫وتصنيفا‬ ‫المديني‬ ‫ع‬ ‫المجتم‬ ‫بين‬ ‫ط‬ ‫الرواب‬ ‫عن‬ ‫الت ةعبير‬ ‫يمكن‬ ‫وب ِ َ‬ ‫شكٍل كلي‪ُ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت الكبرى بين الم ةعاني وت ةعابيِرها ال ةعمليِة الناجمِة عن ممارسِة المجتمع البشري ال ةعمليِة‬ ‫السلطة‪ .‬هذه التصنيفا ُ‬ ‫ب والسلب والتحريف على يِد الشريحة الدولتية في المجتمع‬ ‫للنه‬ ‫ض‬ ‫تت ةعر‬ ‫لها‪،‬‬ ‫الطريق‬ ‫مهدت‬ ‫وعن ذهنيته التي‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫المديني‪ .‬فأوُل ما انشغلت به الشريحة المتدولة وأحَكَمت قبضَتها عليه هو ترتيُبها لها‪ ،‬لتج ةعلها مصدراً‬ ‫لبراديغمائيتها الجتماعية وقوِتها ال ةعملية‪ .‬أي أّ ن كّل مرحلٍة من مراحل المدنية ُترّتب وُتن ّ‬ ‫ظم بناًء على براديغما‬ ‫ت وض ةعيةً )ظواهَر َمرئِيّة(ً‬ ‫ي لل ةعالم(‪ .‬وبينما تَُكوُ ن هذه الترتيبا ُ‬ ‫أساسيٍة جديدة )وجهِة نظٍر جذريٍة ونظاٍم جذر ّ‬ ‫لقصى حّد بالنسبِة إلى هذه الشريحة‪ ،‬فهي بالنسبة للرعايا الموّجهين ت ةعني الحّد العظَم من الت ةعتيم والت ةعميِة‬ ‫ت نسبةً إلى‬ ‫والتقييد‪ .‬لقد كانت الشرعيةُ التي تَُؤّمُنها البراديغمائيا ُ‬ ‫ت الجديدةُ محوراً أساسياً على الدوام للدارا ِ‬ ‫ت كّل ثِقَِلها وانهمَكت أساساً في كيفيِة تقديِم مصالحها على أنها‬ ‫ضَ ةعت الدارا ُ‬ ‫تلك الدارات الطاغية علنًا‪ .‬فقد َو َ‬ ‫مصالُح المجتمع برمته‪ ،‬بل وقَ​َدُرهُ المحتوم‪ .‬وبقدِر ما تنجُح في ذلك‪ ،‬تَُكوُ ن قد أ َ‬ ‫طاَلت عمَر المجتم ةعات التي‬ ‫ص لها من النهيار‪،‬‬ ‫ُت ةعتَ​َبر حضارة‪ .‬وبشكٍل أساسي‪ ،‬فكّل مدنيٍة تفتقد شرعيَتها )قوَتها على القناع(‪ ،‬ل خل َ‬ ‫ب الوصليةُ لنهياِر المدنية‬ ‫ت ال ةعالم في يوٍم ما‪ .‬وعلى سبيل المثال‪ ،‬فالسبا ُ‬ ‫حتى ولو كانت من أعظِم مدنيا ِ‬


‫سَر بذلك‬ ‫‪.‬ق الضربِة القاضية بها على يِد المسيحية داخليًا‪ ،‬وهجرِة القواِم خارجيًا‪ ،‬لَِتخ َ‬ ‫الرومانية مت ةعلقةٌ بإلحا ِ‬ ‫ُ‬ ‫سُر القوةُ‬ ‫قْدَرها ووزَنها وجاذبيَتها‪ .‬ف ةعندما تَتِّحُد الجماعا ُ‬ ‫ت دينيٍة وأخرى قومية‪َ ،‬تخ َ‬ ‫ت البشرية على شكِل تجم ةعا ٍ‬ ‫الرومانية المذهلةُ شرعيَتها‪ ،‬وتتب ةعثر‪.‬‬ ‫ت‬ ‫وبم ةعنى من الم ةعاني‪ ،‬فإّ ن البحَث بشكٍل منفصٍل في هذه المؤسسات الجتماعية‪ ،‬التي يمكننا ت ةعريفها بالتصنيفا ِ‬ ‫ف الم ةعاني وتشويهها‪ .‬ل ريب في استحالِة النفصاِل التلقائي لهذه الوقائع‬ ‫الميتافيزيقية‪ ،‬يؤدي إلى تحري ِ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫سنٍة و َ‬ ‫الميتافيزيقية – التي لطالما انتقدها الماديو ن على نحٍو فظ ووصارم – إلى َح َ‬ ‫سّيئٍة‪ .‬في حين أّ ن التقييما ِ‬ ‫سنٍة أو سيئٍة ِب ةعقِد الترابِط الوثيق فيما بينها ومع المجتمع‪،‬‬ ‫ت َح َ‬ ‫السلوبيةَ التي تتناولها على نحِو ميتافيزيقيا ٍ‬ ‫ش بل ميتافيزيقيا‪.‬‬ ‫ال ةعي‬ ‫يمكنهما‬ ‫ل‬ ‫ ةعه‬ ‫ومجتم‬ ‫فهي الفضل والثمن؛ نظراً لّ ن ذهنيةَ النساِ ن‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ت دينيةٌ على ال ةعموم‪ .‬وحينما َيفقُ​ُد الديُن ماهيَته في تأميِن الشرعية )وهذا يكو ن‬ ‫ت الكبرى حضارا ٌ‬ ‫إّ ن الحضارا ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ق ُتشيُر‬ ‫الحقائ‬ ‫هذه‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫بالغلب‪.‬‬ ‫نت‬ ‫حا‬ ‫قد‬ ‫ت‬ ‫الحضارا‬ ‫هذه‬ ‫ة‬ ‫نهاي‬ ‫تكو ن‬ ‫الجديد(‪،‬‬ ‫ن‬ ‫الدي‬ ‫أو‬ ‫ال ةعلم‬ ‫أو‬ ‫الفلسفة‬ ‫على يِد‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫إلى مدى الهمي ِة الحياتية للتصنيفات الكبرى للم ةعاني )الدين‪ ،‬الفلسفة‪ ،‬الفن‪ ،‬الحقو‪.‬ق‪ ،‬ال ةعلم‪ ،‬والخل‪.‬ق( بالنسبة‬ ‫إلى المجتمع المديني )الطبقي‪ ،‬والدولتي(‪ .‬وبينما تَُكوُ ن َمَهّمةُ السوسيولوجيا البنيوية تسلي َ‬ ‫ط الضوء على هذه‬ ‫ح كيفيِة اللتحام مع الحياة الجتماعية الحرة‬ ‫التصنيفات في المجتمع المديني‪ ،‬تقوم سوسيولوجيا الحرية بشر ِ‬ ‫ب في تقييِم هذا الموضوع في الفصل الم ةعني‪.‬‬ ‫س انتقادها لهذه التصنيفات‪ .‬سُنسِه ُ‬ ‫والديمقراطيِة على أسا ِ‬ ‫ً‬ ‫و‪ُ -‬ي ةعتبَُر تاريُخ التفسيِر القتصادي من أكثِر المواضيِع قابلية للتحريف والتشابِك والتشويش في المجتمِع‬ ‫ي وعملي‪ .‬فهي َتبح ُ‬ ‫ث في‬ ‫ث نظر ّ‬ ‫المديني‪ .‬ومن ِحَكِم المدنية الرأسمالية أْ ن َتج ةعَل من القتصاِد موضوَع بح ٍ‬ ‫َ‬ ‫ت التاريخية على ذاتها بتقييِم نفسها‬ ‫"ماديِة" الواقِع الجتماعي‪ .‬أما المدنيةُ الرأسمالية‪ ،‬التي ُتضِفي السما ِ‬ ‫ق والسليُم لـ فرناند بروديل(‪ ،‬فبمقدورنا تسمية نظامها بالنظاِم القتصادي‪ .‬فمثلما‬ ‫كمدنية مادية )التفسيُر الُمِح ّ‬ ‫ج أو مانٍع جدي من تسميِة كافِة نظِم الحضارِة المدينية السابقة لها بـ"النظم الميتافيزيقية"‪،‬‬ ‫أنه ما ِمن حر ٍ‬ ‫ت الرأسمالية بـ"النظاِم المادي" منيراً لل ةعقول‪.‬‬ ‫فسيكو ن ن ةع ُ‬ ‫ُ‬ ‫ت المدينية )السابقِة‬ ‫المجتم ةعا‬ ‫ة‬ ‫وكاف‬ ‫الول(‬ ‫النساني‬ ‫ع‬ ‫النو‬ ‫ت‬ ‫تجم ةعا‬ ‫فيه‬ ‫)بما‬ ‫النيوليتي‬ ‫ع‬ ‫المجتم‬ ‫فبينما ُيولي‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫للرأسمالية( ِقيمة قصوى للقدسية والم ةعنى والَ ةعظَمِة الخلبة وللميتافيزيقيا ككل‪ ،‬ول َتقبَُل بتقييِم الحياة على‬ ‫سها وكأنها نظاُم "اللهِة غيِر‬ ‫ت النظاِر إليه هو تقديُم المدنيِة الرأسمالية نف َ‬ ‫منواٍل آخر؛ فالتطوُر الجديُر بَِلف ِ‬ ‫‪.‬ق الم ةعاني يستلزُم شروحا ً متقدمةً واس ةعَة النطا‪.‬ق‪ .‬إذ ن‪ ،‬فالمدنيةُ‬ ‫المقَّن ةعة والملوِك ال ةعراة"‪ .‬فالتوغُل في أعما ِ‬ ‫الرأسماليةُ مجتمٌع يتميُز بقدرٍة قصوى في التحريف والتضليل والصهر‪.‬‬ ‫ب واللصووصية أب ةعاَدهما القصوى‬ ‫حسَب قناعتي الشخصية‪ ،‬فَ​َكوُ ن الرأسماليِة شكَل المجتمع الذي يصُل فيه النه ُ‬ ‫شّكُل جوهَرها بذاته‪ .‬وكلمةُ "اقتصاد" يونانيةُ‬ ‫‪.‬ق الف ةعاليات التي تُنَ ّ‬ ‫ظُمها باسِم "القتصاد"‪ ،‬إنما يُ َ‬ ‫ضمَن نطا ِ‬ ‫‪.‬ق ال ةعائلة وم ةعيشِتها المادية‪ ،‬وضواب َ‬ ‫طها مع الجوار‪،‬‬ ‫ارتزا‬ ‫د‬ ‫قواع‬ ‫ت ةعني‬ ‫أنها‬ ‫أي‬ ‫ال ةعائلة"‪.‬‬ ‫ ن‬ ‫"قانو‬ ‫وت ةعني‬ ‫الوصل‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ع ت ةعميم هذا المصطلح في المجتمع المديني‪ ،‬لُِيفيَِد بـ"قواعِد‬ ‫وأدوا ِ‬ ‫ت ذلك ومستنداِته الخرى‪ .‬وبالمستطا ِ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫س‬ ‫السا‬ ‫النسيج‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫ش‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫ة‪،‬‬ ‫خص‬ ‫خص‬ ‫و‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫د‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫الق‬ ‫الجتماعي‬ ‫ع‬ ‫الواق‬ ‫وهو‬ ‫الصغيرة‪.‬‬ ‫ت‬ ‫للجماعا‬ ‫الم ةعيشة"‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ّ ّ‬ ‫ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ج‬ ‫النسي‬ ‫ر‬ ‫تدمي‬ ‫ا‬ ‫تمام‬ ‫ي ةعني‬ ‫والذي‬ ‫ه‪،‬‬ ‫ل‬ ‫تدوي‬ ‫أو‬ ‫ه‬ ‫ت‬ ‫خص‬ ‫خص‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫التفكي‬ ‫د‬ ‫مجر‬ ‫المحال‬ ‫من‬ ‫حيث‬ ‫لجماعيِة المجتمع‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب لم يجرْؤ أو‬ ‫السب‬ ‫ولهذا‬ ‫الحياة‪.‬‬ ‫في‬ ‫ة‬ ‫والهام‬ ‫الحيوية‬ ‫ه‬ ‫ضوابط‬ ‫م‬ ‫أه‬ ‫من‬ ‫المجتمع‬ ‫ ن‬ ‫وحرما‬ ‫الساسي‪،‬‬ ‫الجتماعي‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ي مجتمٍع ِبج ةعِل الخصخصِة والتدويِل في الميدا ن القتصادي خاوصية أولية‪ ،‬بالقدِر الذي قاَمت به‬ ‫ُيفكر أ ّ‬ ‫الرأسمالية‪ .‬ل ريَب في أّ ن المجتمَع المديني‪ ،‬وكيفما َدّوَل جميَع الميادين الجتماعية‪ ،‬فقد َحّوَل القتصاَد أيضًا‪،‬‬ ‫ع للُملكيِة الخاوصة ولُِملكيِة الدولة في آٍ ن م ةعًا‪ .‬ولكن‪ ،‬ما ِمن مجتمٍع‬ ‫والذي هو نسيُجه الرئيسي‪ ،‬إلى موضو ٍ‬ ‫َأعلَن علنا ً ورسميا ً عن ُملكيته الخاوصِة وُملكيِة الدولة كنظاٍم قائٍم بالدرجِة التي ف ةعَلتها الرأسمالية‪.‬‬ ‫ب بشكٍل مبكٍر‪ .‬وقد أفاَد كارل ماركس‬ ‫ب وسل ٍ‬ ‫إّ ن النقطةَ الِجّد هامٍة هي تقييُم خصخصِة وتدويِل القتصاِد كأداِة نه ٍ‬ ‫ع بت ةعبيٍر أكثَر "علميًة"‪ ،‬حين قال بوجوِد سرقِة القيمِة الزائدة الكامنة في قيمِة الكدح )وذلك على‬ ‫بهذا الموضو ِ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ق‬ ‫النتا‬ ‫ض‬ ‫وفائ‬ ‫ة‬ ‫القيم‬ ‫ض‬ ‫فائ‬ ‫ ن‬ ‫كو‬ ‫ي‬ ‫ ن‬ ‫أ‬ ‫وعدا‬ ‫رأيي‪،‬‬ ‫ب‬ ‫فحس‬ ‫ا‪.‬‬ ‫عمق‬ ‫ر‬ ‫أكث‬ ‫ا‬ ‫تفسير‬ ‫ر‬ ‫الم‬ ‫م‬ ‫يستلز‬ ‫شكِل ربح(‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫ج الساب ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ب ولصووصية‪ ،‬فما داَم القتصاُد موضوعا ً للُملكيِة الخاوصِة وُملكيِة الدولة‪ ،‬فُيمِكُن تقييمه كأداٍة أوليٍة‬ ‫لها أداةَ نه ٍ‬ ‫شّكُل النسيَج الساسّي للمجتمع‪ ،‬فجميُع أشكاِل التَّمّلِك فيه‪ ،‬بما‬ ‫ب واللصووصية‪ .‬وباعتباِر أّ ن القتصاَد يُ َ‬ ‫في النه ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫فيها الخاوصة والدولتية‪ ،‬أمٌر غيُر أخلقي‪ ،‬وَينَدِرُج في لئحِة النهب والسلب‪ .‬فكيفما أّ ن َخصَخصة أو تدويَل قل ِ‬ ‫ي عضٍو آخر فيه أمٌر بل م ةعنى أو ممنوٌع وخطير‪ ،‬فالمُر عيُنه َيسري على القتصاِد أيضًا‪ .‬آُمُل أْ ن‬ ‫النساِ ن أو أ ّ‬ ‫ق وأشمَل في فصِل الرأسمالية‪.‬‬ ‫أتناوَل هذا الموضوَع بتوغٍل أعم َ‬ ‫نلحظُ أّ ن التبضَع تَ َ‬ ‫طّوَر كظاهرٍة هامٍة للغاية في المجتمع المديني‪ .‬أي أنه ثمة أواوصُر مني ةعةٌ ومتراوصةٌ بين‬ ‫ُ‬ ‫ضُع في وصدارِة‬ ‫التبضِع والمجتمع المديني )ذي الُملكيِة الخاوصة‪ ،‬الطبقّي‪ ،‬والدولتي(‪ ،‬حيث َتأتي البضاعة والتَبَ ّ‬ ‫ف السل ةعة‪ .‬وبأبسِط الشكاِل‬ ‫ت البارزِة في المجتمِع والتحضر‪ .‬إذ ن‪ ،‬والحاُل هذه‪ِ ،‬من المهّم للغاية ت ةعري ُ‬ ‫الفئا ِ‬ ‫ي شيٍء ‪ Nesne‬وصفَة قيمة المقايضة )البيع والشراء‪ ،‬القيمة التجارية(‪ ،‬عدا عن‬ ‫أ‬ ‫ب‬ ‫اكتسا‬ ‫ ن‬ ‫بأ‬ ‫ل‬ ‫القو‬ ‫يمكننا‬ ‫ُ ّ‬ ‫َ ّ‬ ‫ً‬ ‫ت النسا ن )عدا ما فيه من فائدٍة أو تلبيِته حاجة ما(‪ ،‬فهذا ي ةعني أنه‬ ‫كوِنه شيئا ً ‪ Nesne‬استهلكيا ً لتلبيِة احتياجا ِ‬ ‫ضع‪ .‬بَقَِي المجتمُع غريبا ً عن قيمِة المقايضة مدةً طويلةً من الزمن‪ ،‬بل واعتَبَ​َر مجرَد التفكيِر بذلك عيباً‬ ‫قد تَبَ ّ‬


‫ت أو الفراِد ال ةعزيزين عليه‪ .‬أما بروُز "التبادِل"‬ ‫مشينًا‪ .‬حيث ُي ةعطي ما يراه شيئا ً ‪ Nesne‬ثمينا ً كهديٍة للجماعا ِ‬ ‫ت التي‬ ‫بدًل عن ال ةعطايا والهدايا‪ ،‬فهو ُبدعةٌ أو حيلةٌ من ِحيَِل المدنية بُِكّل م ةعنى الكلمة‪ .‬فالتبادُل في المجتم ةعا ِ‬ ‫تسبق المدنية‪ ،‬أو الباقيِة خارَج دائرِتها‪ ،‬أمٌر مشين‪ ،‬بل ويجب تَ​َجّنبُهُ قدَر المستطاع‪ ،‬إل في حال الضرورة‬ ‫ي شيٍء ‪ Nesne‬استهلكّي خارَج إطاِر المؤسسة‬ ‫جل ّ‬ ‫القصوى‪ .‬فالمجتمُع يدرك بتجاربِ​ِه الغائرِة أّ ن أ ّ‬ ‫ي إخرا ٍ‬ ‫ت والكوارث‪.‬‬ ‫القتصادية – التي هي نسيُجه الولي – أو ج ةعِله موضوَع تبادل؛ قد َيجلُ ُ‬ ‫ب الويل ِ‬ ‫ب له كافةَ ضرو ِ‬ ‫س جداً تجاه مسألِة التبادل‪.‬‬ ‫ولذلك‪ ،‬فهو حسا ٌ‬ ‫ُ‬ ‫سُر السل ةعَة‬ ‫وبَِتصييِر السل ةعِة قيمةً تبادليًة‪َ ،‬غَدت التجارةُ والّتّجاُر فئةً مدينيةً ِجّد هامة‪ .‬باقتضاب‪ ،‬أقوُل أني ل أفَ ّ‬ ‫ح ال ةعامل‪،‬‬ ‫على غراِر ما فَ​َ ةعَل كارل ماركس‪ .‬أي أنني أرى ادعاَءه بإمكانيِة قيا ِ‬ ‫س القيمِة التبادلية للسل ةعِة عبر كد ِ‬ ‫ً‬ ‫ض ةعنا نصَب ال ةعين انهياَر المجتمع‪ ،‬الذي َتكاُد‬ ‫‪.‬ق اوصطلحّي َأسفَ​َر عن مخاطَر ومهالَك هامة‪ .‬وإذا ما َو َ‬ ‫بداية لسيا ٍِ‬ ‫ضِع المجتمِع على الص ةعيِد‬ ‫لم َتب َ‬ ‫ضَ ةعت‪ ،‬نَُكو ن قد أوضحنا َمراَم قوِلنا على نحٍو أفضل‪ .‬فَقَُبوُل تَبَ ّ‬ ‫ق فيه قيمةٌ إل وتَبَ ّ‬ ‫َ‬ ‫الذهني ي ةعني تماماً التخلَي عن كينونِة النساِ ن كإنسا ن‪ .‬وهذا بدوِرِه ما ي ةعني تَ​َ ةعّدي حدوَد البربرية‪ .‬وإذا ما أَردنا‬ ‫ض الحيواِ ن الُمقَطِّع إربا ً إرباً في المذابح للبيِع ُتنقَُل إلى المجتمِع‬ ‫التشبيه‪ ،‬فُيمِكُن القوُل أنه ي ةعني أ ن لوحةَ عر ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫النساني برمته‪ .‬إذ تتأتى الرذالةُ الجتماعيةُ ِمن الربا‪ ،‬والربا من التجارة‪ ،‬والتجارة من السل ةعة‪ .‬كما ثمة أواوصُر‬ ‫ع‬ ‫وطيدةٌ بين التجارِة ودماِر البيئة اليكولوجية‪ .‬فالقتصاُد الخارُج عن كونه نسيجاً اجتماعيا ً بدايةٌ للنقطا ِ‬ ‫الجذري عن الطبي ةعة‪ .‬ذلك أنه يَتُّم إخضاَع وحدِة القيِم المادية والقيِم الحية لتمييٍز جذري هنا‪ .‬وهذا ما ي ةعني لَِحّد‬ ‫ما زرَع بذوِر الميتافيزيقيا السيئة‪ ،‬حيث َمّهَد الطريق لظهوِر الثنائية التي َعّكَرت وصفَو الذهِن بالرجح طيلَة‬ ‫ت‬ ‫ت والجدال ِ‬ ‫ح من المادة‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإّ ن التمييزا ِ‬ ‫التاريخ الفكري‪ ،‬عبَر تجريِد المادِة من الروح‪ ،‬وتجريِد الرو ِ‬ ‫خ الحضاري‬ ‫التاري‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫على‬ ‫ة‬ ‫والحر‬ ‫اليكولوجية‬ ‫ة‬ ‫الحيا‬ ‫ضت على‬ ‫ّ‬ ‫الزائفةَ على غراِر المادياتية والم ةعنوياتية قد قَ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫بأكمله‪ .‬أما الروحانيةُ غيُر الم ةعلومِة الملمح‪ ،‬والمناديةُ بمفهوِم المادِة الميتِة والكوِ ن الميت‪ ،‬فكأنها َتحتَّل عقَل‬ ‫النسا ن وتستولي عليه وتست ةعِمره‪.‬‬ ‫س القِيَِم الجتماعية )بما‬ ‫قيا‬ ‫ة‬ ‫إمكاني‬ ‫مدى‬ ‫من‬ ‫ب‬ ‫مرتا‬ ‫أني‬ ‫إذ‬ ‫أخرى‪.‬‬ ‫ة‬ ‫نقط‬ ‫ص‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫أَ​َوّد الت ةعبيَر عن شكوكي بخصو ِ‬ ‫ُ‬ ‫ح حّي فحسب‪ ،‬بل حصيلة أعداٍد ل‬ ‫فيها السلع والبضائع(‪ .‬فاعتباُر المادِة المصنوعة – التي هي ليست نتاَج كد ٍ‬ ‫ب‬ ‫ص ما‪ ،‬هو بَِحّد ذاته سلوٌك خاطٌ ئ َيفتَُح الطري َ‬ ‫ق أماَم نه ِ‬ ‫ح شخ ٍ‬ ‫حصَر لها من الكدح – بأنها محصلةُ قيمِة كد ِ‬ ‫س ثمُن ال ةعدِد اللمتناهي من الجهوِد والكدح؟ والنكى من‬ ‫ب واضٌح تمامًا‪ .‬إذ‪ ،‬كيف سُيقا ُ‬ ‫القِيَِم وسلِبها‪ .‬والسب ُ‬ ‫ي قياس‪.‬‬ ‫الكاد‬ ‫لهذا‬ ‫ة‬ ‫المنجب‬ ‫والم‬ ‫ال ةعائلة‬ ‫ح‬ ‫س كد‬ ‫شئِة إياه؟ هذا الكدُح ل ُيمِكُن تقديُره بأ ّ‬ ‫ُ‬ ‫ذلك‪ ،‬كيف سُيقا ُ‬ ‫ح والُمن ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫وصنَِع فيه ذاك الشيُء ‪ Nesne‬المسمى بالقيمة؟ وهكذا يمكننا‬ ‫س َح ّ‬ ‫ق المجتمع برمته‪ ،‬والذي تَ​َحق َ‬ ‫قو ُ‬ ‫كيف سُيقا ُ‬ ‫َ‬ ‫ح‪،‬‬ ‫الرب‬ ‫الربا‪،‬‬ ‫القيمة‪،‬‬ ‫–‬ ‫ح‬ ‫الكد‬ ‫ة‪،‬‬ ‫القيم‬ ‫ض‬ ‫فائ‬ ‫المقايضة‪،‬‬ ‫ة‬ ‫قيم‬ ‫ل‬ ‫بي‬ ‫ق‬ ‫من‬ ‫ت‬ ‫فالمصطلحا‬ ‫إذ ن‪،‬‬ ‫أكثر‪.‬‬ ‫الطالة‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫ق قوة الدولة(‪ .‬لذا‪ ،‬من الفضِل واَلولى إيجاُد م ةعاييَر‬ ‫طري‬ ‫وعن‬ ‫ا‬ ‫)رسمي‬ ‫والسلب‬ ‫ب‬ ‫النه‬ ‫مع‬ ‫ة‬ ‫متقاط ةع‬ ‫ة‪،‬‬ ‫والسمسر‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت لحقاً في فصِل الحداثِة‬ ‫نموذ‬ ‫من‬ ‫ة‬ ‫جديد‬ ‫ل‬ ‫أشكا‬ ‫ر‬ ‫تطوي‬ ‫أو‬ ‫للتبادل‪،‬‬ ‫أخرى‬ ‫ج ال ةعطايا‪ .‬أوّد التطر َ‬ ‫ُ‬ ‫‪.‬ق لهذه الخاوصيا ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫والحياة الحرة‪.‬‬ ‫لقد كانت التجارةُ المهنةَ الكثَر ازدراًء حتى في الثقافِة اليونانية‪ ،‬ل ن اليونانيين كانوا منتبهين للروابِط فيما بين‬ ‫التجارِة والنهب‪ .‬وفي المجتمع الروماني أيضا ً لم يَُكن التاجُر يَتَ​َميُّز بمكانٍة ُمشّرفة‪ .‬أما البضاعة‪ ،‬فكانت سائرًة‬ ‫ق على الدوام في البقاِء على مستوى التبضِع‬ ‫ص الفائ َ‬ ‫على أشياٍء ‪ِ Nesne‬جّد محدودة‪ .‬إذ كانوا يَتَ​َوّخو ن الحر َ‬ ‫ب في‬ ‫‪.‬ق المجتمع النيوليتي‪ .‬وحتى لو ُوِجَد الوسطُ المناس ُ‬ ‫ضمن حدوٍد ضيقٍة في المجتمع‪ .‬إني أتكلُم عن أخل ِ‬ ‫َ‬ ‫ض البقع فيما َقبَل سيادِة نفوِذ الرأسماليِة كنظام‪ ،‬فكا ن ل ُي ةعطى فروصة التطوِر والرواج حتى في المجتم ةعات‬ ‫ب ةع ِ‬ ‫شه في الرضيِة الملئمة في القرِ ن السادس عشر فيما‬ ‫المدينية‪ ،‬حيث ُتبِقيه على الهامش باستمرار‪ .‬أما انت ةعا ُ‬ ‫ف خاوصٍة استثنائية‪ .‬وَلربما كا ن ثمةَ حاجةٌ للنظاِم الرأسمالي‬ ‫ب وظرو ٍ‬ ‫يسمى اليوم هولندا وإنكلترا‪ ،‬فُي ةعزى لسبا ٍ‬ ‫كي ُتصبَِح تلك البلداُ ن ف ةع ً‬ ‫ض ال ةعالُم بأسره لنتشاِر‬ ‫ل هولندا وإنكلترا‪ .‬وهذا ما حصل‪ .‬فَِخلَل أرب ةعِة قروٍ ن فقط تَ​َ ةعّر َ‬ ‫َ‬ ‫ع من الحداثة في فصٍل منفصٍل بذاته‪.‬‬ ‫كنو‬ ‫المدنية‬ ‫من‬ ‫ة‬ ‫المرحل‬ ‫هذه‬ ‫هذا النظام فيه‪ .‬سنفسُر‬ ‫ٍ‬ ‫ت م ةعارِفنا وم ةعلوماِتنا‬ ‫ف التمهيدي الموجِز بالخطوط ال ةعريضة بشأِ ن المدنية هو تثبي ُ‬ ‫إّ ن الغر َ‬ ‫ض ِمن هذا الت ةعري ِ‬ ‫ب المواضيِع ال ةعويصِة‪ ،‬التي لم َينُفذ منها‬ ‫واستي ةعا‬ ‫م‬ ‫فإفها‬ ‫سليمة‪.‬‬ ‫ة‬ ‫روصين‬ ‫س‬ ‫أس‬ ‫على‬ ‫والسوسيولوجية‬ ‫التاريخيِة‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫أكثُر الفلسفة والمؤرخين حذقا ً وتمرساً على طول أعمارهم‪ ،‬أمٌر يستلزُم موهبة وكفاءةً استثنائية‪ .‬نحن ل‬ ‫نّدعي ذلك أيضًا‪ ،‬ولكّن تَ​َمّتَ ةعنا بالقدرِة على الشرح والتفسير‪ ،‬وتَ​َمّيَزنا بِ​ِ ةعلِم الم ةعاني على الص ةعيَدين التاريخي‬ ‫ت تقديرنا للحياِة الحرة‪ُ ،‬ي ةعتَبَُر شرطا ً أوليا ً لجِل كّل َمن َحَمَل على كاهله‬ ‫والسوسيولوجي كضرورٍة من ضرورا ِ‬ ‫ت اجتماعيٍة جدية‪.‬‬ ‫واجبا ٍ‬ ‫ً‬ ‫ت‬ ‫ت الوطنية التحررية‪َ ،‬وَووصفا ُ‬ ‫فمآسي "الشتراكيِة المشيدة" المَ ةعّمرِة قرنا ونص َ‬ ‫ت الثورا ِ‬ ‫ف القر ن‪ ،‬وعشرا ِ‬ ‫ت الجليدية لرأسماِل التمويِل ال ةعالمي؛‬ ‫ت الجتماعية الديمقراطية؛ وانصهاُرها جميُ ةعها في خضّم الحسابا ِ‬ ‫الحركا ِ‬ ‫ق التكامل بين ُقدرتنا على التفسيِر الُمحَكِم والضليِع بشأِ ن المدنية عموما ً والمدنيِة الرأسمالية‬ ‫تحقي‬ ‫علينا‬ ‫ض‬ ‫َ‬ ‫َيفُر ُ‬ ‫خصيصًا‪ ،‬وبين سوسيولوجيا الحرية الم ةعنيِة بالحياة الحرة؛ كي ل َننَخِدَع أو َنخَدَع الغيَر في دعاوى وقضايا‬ ‫الحريِة ال ةعظمى‪.‬‬


‫‪ -3‬قضايا انتشار المجتمع المديني‪:‬‬ ‫ي والسفلّي ِلما بيَن نهَري دجلة والفرات‬ ‫تنحاز المداول ُ‬ ‫ضين ال ةعلو ّ‬ ‫ع على أّ ن الحو َ‬ ‫ت ال ةعلميةُ الراهنة إلى الجما ِ‬ ‫شّكل ن موطَن نواِة الحضارِة المدينية المهيمنة على عالمنا الحالي‪ ،‬ومكاَ ن وزماَ ن نضوِجها وازدهاِرها‪.‬‬ ‫يُ َ‬ ‫ف بالرجح‪ .‬فشروُحنا كانت تشير إلى أّ ن موطَن‬ ‫والفصل ن الخيرا ن اللذا ن تناولناهما يتقاط ةعا ن وهذا الموق َ‬ ‫س المجتمِع المديني‬ ‫نشوِء النواة هو حوا ّ‬ ‫ف سلسلِة الجبال المحيطِة بالحوض ال ةعلوي للنهَرين‪ .‬حيث تَ​َكّوَ ن أسا ُ‬ ‫بالتزامِن مع تَ​َخّمِر النواة‪ ،‬وتط ةعيِم أوِل شتلٍة منها على يِد الرهبا ن السومريين‪ .‬علينا أل نغفَل أو ننسى أّ ن هذا‬ ‫ف السنين في الواقع‬ ‫التطوَر القَيَّم الذي َأقَحمناه في جملٍة يكفينا خم ُ‬ ‫س ثواٍ ن للتلفظ بها‪ ،‬إنما تَطَلَّب تجارَب آل ِ‬ ‫ال ةعملي حتى أينَع وأثمَر وتوطد‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َتشُ ةعُر السوسيولوجيا الوض ةعيةُ )ليست تلك النتقادية التي عّرفناها‪ ،‬بل سوسيولوجيا أميل دوركايم‪ ،‬وأوغست‬ ‫صنَةٌ كلياً من الب ةعاد الّزَمكانية‪ .‬فالحواد ُ‬ ‫ث والظواهُر التي تتحدث‬ ‫كومت‪ ،‬وكارل ماركس( بأنها م ةعفيةٌ أو ُمَح ّ‬ ‫ق ال ةعلَم التجريبّي والظواهري‪ ،‬وت ةعتقد أنها تتناول الموَر‬ ‫عنها ل مكاَ ن ول تاريَخ لها‪ ،‬وَتزَعُم بذلك أنها تُطَبّ ُ‬ ‫شب ّ ُ‬ ‫ث بهذا السلوب بَِنواِجِذها‪ .‬وبالوصل‪ ،‬يتستر‬ ‫ب ةعلميٍة بقدِر تحليِلها إياها بنحٍو مبتوٍر من الزما ن والمكا ن‪ .‬وتَتَ َ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫سها على أنها أبدية سرمدية من حيث الزماِ ن والمكا ن‪.‬‬ ‫في فحوى هذا التناوِل والت ةعاطي للمور إظهاُر الحداثِة نف َ‬ ‫ف والميوُل ساريةٌ على جميِع ال ةعلوم والفلسفات والفنوِ ن الوروبية المركز‪.‬‬ ‫وهذه المواق ُ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫صّوروا ووصاغوا‬ ‫وكيفما يَُكوُ ن اللهُ ُمنزها عن الزما ن والمكا ن‪ ،‬فهؤلء الرهباُ ن الم ةعاوصرو ن أيضا )ولنهم تَ َ‬ ‫أيديولوجيةَ المدنيِة الوروبية( مرتاحو البال وواثقو ن من أنفسهم بشأِ ن لمحدوديِة ولزمانيِة ال ةعلِم الذي‬ ‫‪.‬ق الزما ن والمكا ن‪ .‬هذا هو الخطأ ُ‬ ‫زاولوه‪ .‬فهم َي ةعتَِقدو ن أنهم َ‬ ‫سيَُلوُذو ن بِ​ِبساِط ال ةعلِم بقدِر ما يهربو ن من خنا ِ‬ ‫الذي طالما َوقَ​َع فيه براديغمائيو )ُمنَ ّ‬ ‫ظرو( كّل مرحلة‪ .‬ولكّننا َن ةعلَُم ِعلَم اليقين أنه ما ِمن ظاهرٍة أو واق ةعٍة أو‬ ‫ت الّزَمكانية في ذاته‪.‬‬ ‫ث أو مؤسسٍة أو عمليٍة أو شخصيٍة أو مجتمٍع ل َيشتَِمُل على التأثيرا ِ‬ ‫حاد ٍ‬ ‫ف من قوة م ةعنى التفسير‪ .‬فالتاريخانية ‪ tarihsellik‬في ميداِ ن ال ةعلوِم‬ ‫ب سُيضاِع ُ‬ ‫إّ ن القبوَل بهذا السلو ِ‬ ‫ي بنسبٍة‬ ‫الجتماعية ت ةعني "ال ن"‪ .‬في حين أّ ن "ال ن" هي التاريخ‪ .‬والفار‪.‬ق بينهما شكلّي بالغلب‪ ،‬وجوهر ّ‬ ‫ت "الفترة"‪.‬‬ ‫ضئيلة‪ .‬ونخ ّ‬ ‫ص بالذكر أنه ِمن المستحيل إنشاُء سوسيولوجيا ثمينٍة ومثلى دو ن اللجوِء لوصطلحا ِ‬ ‫ب أساسي‪ ،‬حتى دو ن أْ ن أقرأَ لفرناند بروديل‪ ،‬وَأعتَبُِر ذلك عنصراً أسلوبياً‬ ‫ت أدرك ُ‬ ‫وقد كن ُ‬ ‫ت ذلك وحفظُته كأسلو ٍ‬ ‫س ُ‬ ‫ق الروصيَن لهذا المفهوم‪ ،‬ولو بشكٍل هاٍو وغيِر محترف‪.‬‬ ‫ط مراف ةعاتي التطبي َ‬ ‫ل بد منه لجِل المكا ن أيضًا‪ .‬وتَْب ُ‬ ‫ب ِعلَمِوّيو‬ ‫كما بالمقدوِر رؤيةُ الثاِر عيِنها في كافِة تحليلتي أيضًا‪ .‬إذ ن‪ ،‬والحاُل هذه‪ ،‬لماذا َيغفَُل أو يَتَ​َهّر ُ‬ ‫أوروبا من الزما ن والمكا ن بالقدِر الذي َيفَ ةعُله إنساٌ ن قليُل التجربِة )مثلي(؛ رغَم حساسيتهم الفائقِة إزاَء‬ ‫ص‬ ‫ع السلوب؟ اليضاُح الم ةعقوُل والواق ةعّي لذلك هو مركزيةُ أوروبا وَكونِيُّتها‪ ،‬وعجُزهم عن الخل ِ‬ ‫موضو ِ‬ ‫سسوا مجتم ةعاً ميتافيزيقيا ً كهذا‬ ‫بخصائصهم هذه ِمن الميتافيزيقيا الصرفِة‪ ،‬أو مراتُبهم واعتقاداُتهم بأنهم أَ ّ‬ ‫بالذات‪.‬‬ ‫خ والمكا ن في السوسيولوجيا أمٌر مساِعٌد في إدراكنا كيف َتجري وَتندفُع الحياةُ التي‬ ‫بَْيَد أّ ن إدراَج التاري ِ‬ ‫ط مساَرها‪ ،‬ويَُؤّمن استي ةعاَبنا لَِما نَُكوُنه نحُن في التاريخ و"ال ن"‪ .‬فما داَم التاريُخ واللحظةُ‬ ‫ستَتَ​َحّقق‪ ،‬وكيف تَُخ ّ‬ ‫سلِّم المتوالية‬ ‫ت ال ّ‬ ‫)ال ن( قريَبين جداً من ب ةعضهما‪ ،‬وما داَمت المكنةُ أيضاً تتوالى وتت ةعاق ُ‬ ‫ب على غراِر درجا ِ‬ ‫ش وحدَتها الكليةَ‬ ‫والمتكاملة؛ فسنستطيع تفسيَر النسانيِة أيضاً على أنها كّل متكامل‪ ،‬وأنها بطبي ةعِة الحال ت ةعي ُ‬ ‫وتكامَلها الروصيَن حتى ِمن دوِ ن وجوِد القوام‪ ،‬الديا ن‪ ،‬الدول‪ ،‬المم‪ ،‬التحالفات‪ ،‬هيئات المم المتحدة‪،‬‬ ‫ت الزاعمةُ بأنها َتبح ُ‬ ‫ث عن التحاد والوحدة وتس ةعى إليهما‪ ،‬إنما هي ذاُتها التي‬ ‫والمميات‪ .‬إذ ن‪ ،‬فالمؤسسا ُ‬ ‫َ‬ ‫ب الطوار‪ ،‬حيث يَتَ​َميُّز بخاوصيٍة أشبَهُ بأ ن يَُكوَ ن الصحيُح‬ ‫تُطَبّ ُ‬ ‫س تمامًا‪ .‬إّ ن المجتمَع المديني تكويٌن غري ُ‬ ‫ق ال ةعك َ‬ ‫س كّل ما يقوله‪ .‬ولكي ل نَْبَهَت أو نَتَ​َحيَّر في أمرنا‪ ،‬يبدو أنه علينا قراءةَ المجتمِع المديني بالمقلوب‪،‬‬ ‫هو عك ُ‬ ‫وعلى الدوام‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ت النظار بالغلب إلى ضرورِة كيفيِة تناوِل وتفسيِر التوسع الزمكاني‬ ‫ض لف ِ‬ ‫لقد تَطَّرقنا لهذا التمهيِد بِغِر ِ‬ ‫للحضارة المدينية‪.‬‬ ‫ت الوصول السومرية والمصرية‪:‬‬ ‫أ‪ -‬قضايا انتشاِر الحضارات ذا ِ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ف تكّونت نواة الحضارة المدينية‪ .‬فأين ستُطّ ةعُم الط ةعَم‬ ‫س النيوليتي ُينيُر لنا كي َ‬ ‫إّ ن ما ذكرناه بشأِ ن التمأس ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ضر‪ .‬وحتى لو ُوِجَدت‪،‬‬ ‫السومري‪ ،‬دوَ ن التفكيِر في هذه البذرة النواة؟ إذ‪ ،‬ما ِمن بذرٍة أخرى يمكنها أ ن تينَع وتن ُ‬


‫غ والنضوج‪ .‬فمثلما أننا ل نستطيع اليوَم التفكيَر بوجوِد الوليات المتحدة‬ ‫فهي ليست في حالٍة تَُخّوُلها للبلو ِ‬ ‫ض الرافَدين السفلي أْ ن ينجَو ِمن التحوِل‬ ‫المريكية دو ن أوروبا‪ ،‬كذلك – بل وربما بنسبٍة أكبر – ما كا ن ِلحو ِ‬ ‫ض ال ةعلوي من الرافَدين‪ .‬دعَك حينها ِمن‬ ‫إلى مجرِد حقوٍل قصبيٍة‪ ،‬لول تَ َ‬ ‫شّكِل نواِة الحضارة المدينية في الحو ِ‬ ‫ش حياٍة َأشبَهُ بحياِة البيغما‪.‬‬ ‫تَ​َخّمِر الحضارة المدينية‪ ،‬بل ربما كا ن سُيفلُِح بالكثر في النجاِة ب ةعي ِ‬ ‫ت المتقدمةُ من الستقراِر‬ ‫ثمة قضيةٌ هامةٌ أخرى على وص ةعيِد النتشار‪ ،‬أل وهي‪ :‬لماذا َلم تَتَ​َمّد ن المستويا ُ‬ ‫سلّطُ الضوَء على‬ ‫الحاوصل في الراضي الوسطى من بلِد ما بين النهَرين‪ ،‬أو حتى في بلِد الناضول؟ ف ةعندما نُ َ‬ ‫ق التي بَلَ​َغت عتبةَ الحضارة‪ ،‬وثمة‬ ‫ما حصَل قبَل ال ن بخمسِة آل ِ‬ ‫ف عام‪ ،‬سوف نَِجُد أنه ثمة ال ةعديُد من المناط ِ‬ ‫ق‬ ‫ب ل َن ةعلُمها يقينًا‪ ،‬نلحظُ أنها انهاَرت دو ن أْ ن تَُحقّ َ‬ ‫قرى ضخمةٌ تكاُد تبلُغ مرحلةَ التمد ن؛ لكن‪ ،‬ولسبا ٍ‬ ‫ُ‬ ‫انطلقاِتها المرتَ​َقبة‪ .‬وعلى سبيِل المثال‪ ،‬فمنطقةُ جطال هويوك ‪ ،Çatalhöyük‬والراضي الواق ةعة فيما بين‬ ‫إيرا ن وتركمانستا ن هي كذلك‪ .‬نحن على علٍم بضرورِة وجوِد عدِة شروٍط أوليٍة لنشوِء المدينة‪ .‬كما ِمن الم ةعلوِم‬ ‫ض النتاج‪ .‬وما ُيمِكُن أْ ن يَُؤّمَن حصوَل‬ ‫أّ ن َتواُجَد الت ةعداِد السكاني الضخِم في منطقٍة ما مرتبطٌ بضخامِة فائ ِ‬ ‫ت النهار‪ .‬والساحةُ الرسوبيةُ‬ ‫ج الفائض هو الر ّ‬ ‫ي الصناعّي للراضي السهليِة الرسوبية على مصبا ِ‬ ‫النتا ِ‬ ‫شّكَلها كّل من نهِر النيل ونهَري دجلة والفرات على مقربٍة من مصباتها في البحار‪ ،‬إنما تَُؤّكُد‬ ‫الغرينية‪ ،‬والتي َ‬ ‫ب زيادَة الت ةعداد السكاني‪ ،‬وتأميَن الستمرارية كشرٍط أولّي لولدِة‬ ‫وصحةَ هذا الرأي‪ .‬ولجِل مرحلِة البداية‪ ،‬يتطل ُ‬ ‫المدينة‪ .‬الشر ُ‬ ‫ج ذاتها في‬ ‫ط الثاني الذي ل بد منه‪ ،‬هو وجوُد المؤثرا ِ‬ ‫ت الثقافية الجاهزة والقادرة على إنتا ِ‬ ‫شَ ئ الثقافةَ النيوليتية‪ ،‬لّ ن شروطَ ولدِة تلك‬ ‫ق الجوار‪ .‬إذ‪ ،‬ما من ساحٍة رسوبيٍة غرينية يمكنها أْ ن ُتن ِ‬ ‫مناط ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ق‬ ‫الثقافة م ةعدومة هناك‪ .‬في حين أننا ل ن ةعثُر في الثقافِة النيوليتية على شروِط المدينة القادرِة على تحقي ِ‬ ‫َ‬ ‫ي ل ملذ منه‪.‬‬ ‫ب هذه الوضاع‪ ،‬فإّ ن التكامَل وإتماَم الب ةعض شرطٌ اضطرار ّ‬ ‫ديمومتها والكثاِر من ت ةعدادها‪ .‬وبسب ِ‬ ‫ض الوسط لما بين النهَرين‪ ،‬وإْ ن لمَ‬ ‫ّكل الدلل ِ‬ ‫ت البارزِة ُتشيُر إلى وجوِد سلسلِة مدٍ ن متوسطِة الحجِم في الحو ِ‬ ‫ض في ذلك‪ ،‬فقد َخلَ​َقت حضارةُ مدينِة أوروك‪،‬‬ ‫تكْن بالمستوى الذي كانت عليه في الحوض السفلي‪ .‬وقبَل الخو ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫س نظاَم المستوطنات‪ ،‬وتزيُد من ت ةعداِد‬ ‫التي َأثبَ​َتت وجوَدها في أعواِم ‪. 3500‬ق‪.‬م‪ ،‬نظاما ً بَِحّد ذاته‪ .‬فأوروك تَؤ ّ‬ ‫س ُ‬ ‫ت التاريخ‪ .‬وما عبادةُ اللهِة إينانا‪ ،‬وملحمةُ‬ ‫ب دوَرها لتناَل شر َ‬ ‫مدنها ُمقَّدَمةً بذلك نموذَجها‪ ،‬وتل ةع ُ‬ ‫ف ُأولى مدنيا ِ‬ ‫گلگامش سوى براهيُن جليةٌ على خلودها‪ .‬ومن المحتمِل أنها تنهاُر في أعوام ‪. 3000‬ق‪.‬م حصيلةَ المناَفسِة‬ ‫الموّحدِة للمد ن الكثِر عطاًء وخيراً وت ةعداداً في شماليها‪.‬‬ ‫ت حتى أعوام ‪. 2000‬ق‪.‬م‪ ،‬حيث‬ ‫ث سلل ٍ‬ ‫ت أور في أعواِم ‪. 3000‬ق‪.‬م‪ ،‬وتستمّر على شكِل ثل ِ‬ ‫َتبدأُ مرحلةُ سلل ِ‬ ‫ق من النهياِر والنشوء‪ .‬ويجب اعتبار مرحلَتي سللِة سارغو ن‬ ‫تنسحب إلى الشمال‪ ،‬وتمر بنف ِ‬ ‫س المنط ِ‬ ‫الكادية‪ ،‬وسللة خودا ‪ Gudea‬القوطية ضمن هذا الطار‪ .‬وما َيخطُ​ُر في البال على الفوِر ِمن هذه المرحلة؛‬ ‫ت المدِ ن الضاريةَ مثلما هي الحاُل اليوم‬ ‫ت‪ ،‬ونزاعا ِ‬ ‫ق الحقوقية المدّونِة‪ ،‬الملحَم الدبية‪ ،‬الكاديميا ِ‬ ‫ُأولى الوثائ ِ‬ ‫ت نيبور ول ةعنِة آكاد(‪ .‬إذ ن‪ِ ،‬من المفهوِم أّ ن أور نظاٌم استيطانّي )كولونيالي(‬ ‫)وخيُر مثاٍل عليها ملحُم مرثيا ِ‬ ‫س الداخلي لسلسلِة جباِل‬ ‫واسع‪ .‬وبالوصل‪ ،‬فالمستوطنا ُ‬ ‫ت الولى تَتَ َ‬ ‫ق الَقو ِ‬ ‫شّكُل وتتزايد كالسيِل الجارف في مناط ِ‬ ‫طوروس – زاغروس‪ ،‬لتنتهي وتندثر بسرعة أيضًا‪.‬‬ ‫ت في أحشائه‪ .‬فإذا كانت‬ ‫صةُ ِمن ذلك هي مدى القدرِة الثقافيِة للمجتمع الذي أ ّ‬ ‫النتيجةُ الُمستخلَ َ‬ ‫سسوا المستوطنا ِ‬ ‫ت مدينيةٌ مستقلة‪ ،‬فل يمكننا‬ ‫حضارتا مصر وهرابا إلى جانب حضارِة عيلم – سوس تُقَيُّم على أنها حضارا ٌ‬ ‫طنات‪ ،‬وإْ ن لم يَُكْن برواب َ‬ ‫حينها إل التفكير في مقايستها مع السومريين على وص ةعيِد المستو َ‬ ‫ط مباشرة‪ ،‬وإنما‬ ‫بالم ةعنى الموضوعي للكلمة‪.‬‬ ‫س المنطق‪ .‬وهي حضارةٌ سومريةٌ‬ ‫َيبدأُ ال ةعهُد البابلي إلى الشماِل من تلك الراضي في أعوام ‪. 2000‬ق‪.‬م‪ ،‬وبنف ِ‬ ‫ت الوصوِل الثقافية السامّية(‪ .‬وتَُ ةعّد هذه‬ ‫من حيث الجوهر‪ ،‬وإْ ن اعتُبَِرت مندرجةً ضمَن الثنيِة الكادية )ذا ِ‬ ‫ب مدينةُ بابل دوراً مشابها ً ِلما أَّدته مدينةُ باريس في أوروبا‪.‬‬ ‫سس‪ ،‬حيث َتل ةع ُ‬ ‫الحضارةُ أوَج ازدهاِر ال ةعلم والتمأ ُ‬ ‫ق فيها‬ ‫صّبها‪ .‬كما تَتَ​َحقّ ُ‬ ‫ب كّل الثقافات في َم َ‬ ‫فهي مدينةُ ال ةعلم والثقافة‪ ،‬علوةً على ازدياِد عدِد تُّجاِرها‪ ،‬وانسكا ِ‬ ‫الكوزموبوليتية لول مرة؛ بحيث أَثَّرت في جواِرها بقوة‪ ،‬وابتَ​َدَأت عصَر النماردِة )أوائِل الملوك الشداء( في‬ ‫ث مراحَل هامة‪:‬‬ ‫شّع النوَر على أطرافها‪ .‬وقد َمّرت بثل ِ‬ ‫ب وَأشبَهَ بمدينٍة تُ ِ‬ ‫سَم بَِكوِنها مركَز الجذ ِ‬ ‫التاريخ‪ ،‬لِتَتّ ِ‬ ‫ُ‬ ‫مرحلةُ النطلقِة الزاهية فيما بين ‪. 1600 – 2000‬ق‪.‬م‪ ،‬وُت ةعَرف بمرحلِة حمورابي الشهير‪ .‬ومرحلة فقدانها‬ ‫لستقللها بتأثيِر أقواِم الهوريين فيما بين ‪. 1300 – 1600‬ق‪.‬م‪ .‬والمرحلةُ الثالثةُ هي مرحلةُ احتلِل البرسيين‬ ‫لها وتأثيِر الشوريين عليها فيما بين ‪. 550 – 1300‬ق‪.‬م‪ .‬وهكذا َيتُرُك ال ةعهُد البابلّي الُمَ ةعّمُر ألفاً وخمسمائةَ عاٍم‬


‫ت اللِه ماردوخ مع اللهِة تيامات‪ ،‬وملحمةُ‬ ‫صماِته الراسخةَ في ذاكرِة النسا ن‪ ،‬وإْ ن بشكٍل مستتر‪ .‬وما منازعا ُ‬ ‫بَ َ‬ ‫ص تروي حكايةَ الهزيمِة الشن ةعاء المؤلمِة للمرأِة – الم‪ .‬كما أّ ن علَم الفلك‪،‬‬ ‫أنوما – أليش الشهيرةُ سوى قص ٌ‬ ‫ق المدّونة‪ ،‬وبقايا ثقافِة كالدا التي ل تزال‬ ‫الكهانةَ بالسحر والش ةعوذة‪ ،‬سبَي بني إسرائيل‪ ،‬وال ةعديَد من الوثائ ِ‬ ‫ت ل ُتنسى من هذا المركز النواة‪ .‬وإذا ما استذكرنا أنها‬ ‫ت ال ةعتيدة تجاه آشور؛ كّلها ذكريا ٌ‬ ‫ُتشيُر إلى المقاوما ِ‬ ‫ف‬ ‫سِهم الفيلسو ُ‬ ‫سِهم الولى فيها‪ ،‬وعلى رأ ِ‬ ‫المدينةُ التي جاَبها ال ةعديُد من الفلسفِة اليونانيين لِتَلَّقي درو ِ‬ ‫وصولو ن ؛ سندرك حينئٍذ التأثيَر المتوالَي لها بشكٍل أفضل‪.‬‬ ‫يمكننا تقسيَم ال ةعهِد الشوري أيضاً إلى مراحَل ثلث‪ .‬المرحلة الولى هي عصر الملوك التجار )‪1600 – 2000‬‬ ‫س لهذه المدينِة( القريبِة من مدينِة المووصل‬ ‫‪.‬ق‪.‬م(‪ .‬فتَ​َمرُكُز التجاِر في مدينِة نينوى )آشور هو اللهُ المؤ ّ‬ ‫س ُ‬ ‫ُ‬ ‫ت التجارية الوسِع على‬ ‫الحالية‪ ،‬والمترعرعِة بطابٍع تجار ّ‬ ‫ي بالغلب‪ ،‬قد أدى إلى إنشاِئهم أولى المستوطنا ِ‬ ‫سسوا عدداً جماً من المستوطنات المد ن التجارية في ال ةعديِد من المناطق‪ ،‬بدءاً من‬ ‫الطل‪.‬ق في التاريخ‪ .‬إذ أَ ّ‬ ‫شرقي البحِر البيض المتوسط إلى شواطِ ئ البنجاب‪ ،‬ومن البحر السود إلى البحر الحمر‪ .‬لذا‪ ،‬يمكن القوُل‬ ‫أنهم َحّققوا انطلقةً مزهرةً في مضماِر ال ةعمارِة والتجارة‪ .‬وما مدينتا كول تبه ‪) Kültepe‬وُتدعى كانيش‬ ‫‪ Kaniş‬في ال ةعصر الشوري( المجاِورةُ لمدينِة قيصري ‪ ،Kayseri‬وَقرَقميش ‪) Karkamış‬يأتي أوصُلها من‬ ‫ت التجارة( المتواجدةُ في مكاِ ن عبوِر نهِر الفرات للراضي السورية اليوم؛‬ ‫قاروم ‪ ،Karum‬أي ِمن وكال ِ‬ ‫ُ‬ ‫سوى من بقايا هذا ال ةعهد‪ .‬أما أعواُم ما بين ‪. 1300 – 1600‬ق‪.‬م‪ ،‬فهي مرحلة نفوِذ وهيمنِة الدولة الميتانية‬ ‫ت الوصول الهورية ‪ .Hurri‬ورغم افتقاِدها أهميَتها القديمَة‪ ،‬إل أّ ن التقاليَد الشوريةَ ل تزال َتصو ن‬ ‫ذا ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫سسوا أوَل‬ ‫وجوَدها‪ .‬في حين أّ ن أعواَم ‪. 612 – 1300‬ق‪.‬م ُت ةعتَبَُر المرحلة الزهى والكثَر بريقًا‪ ،‬حيث أ ّ‬ ‫وصِة البنيا ن في التاريخ‪ ،‬والوسِع في عهدهم‪ .‬وقد اشتُِهروا بجبروتِ​ِهم في الحرب )ُيقال أنهم‬ ‫إمبراطوريٍة ُمترا ّ‬ ‫ُ‬ ‫شِهَدت أوَل تطهيٍر‬ ‫خ لكونها َ‬ ‫شادوا القلَع والسواَر من الجثث(‪ .‬وقد تَ​َرَكت هذه المرحلة آثاَر ذكرياِتها في التاري ِ‬ ‫شِهَدت تَطَّوَر وعِي المقاومة لدى الش ةعوب بالرجح‪ .‬فأعظُم‬ ‫غ كلي للمناطق؛ فضلً عن أنها َ‬ ‫عرقي‪ ،‬وأوَل إفرا ٍ‬ ‫َ‬ ‫مقاومٍة أبداها حينئذ الهوريو ن الكرُد الوائل بريادِة ملوِك أورارتو )إّ ن البنى الثنية للورارتيين موضوُع جدال‪.‬‬ ‫ت كانت َت ةعتَِمُد لغَة الثقافة السائدة في‬ ‫ت الحاكمة‪ .‬ذلك أّ ن جميَع السلل ِ‬ ‫والمُر عيُنه َيسري على كافِة السلل ِ‬ ‫مرحلتها أساسًا‪ .‬وقد كانت الشوريةُ والراميةُ اللغَتين الرسميَتين للدولة في أورارتو‪ ،‬وفي قصوِر برس‬ ‫ب الوفُر في بقاِئهم على أراضيهم الحالية‪ .‬في حين ُدّكت دعائُم هذه‬ ‫س النصي ُ‬ ‫لحقًا(‪ .‬ولهذه المقاَومِة الضرو ِ‬ ‫المبراطوريِة ال ةعملقِة واختَلَ َ‬ ‫ف الميديين – ذوي الوصوِل‬ ‫ت التاريخ في ‪. 612‬ق‪.‬م حصيلةَ تحال ِ‬ ‫طت مع وصفحا ِ‬ ‫الهورية – مع البابليين‪ .‬وباعتباِرها آخَر حضارٍة من جذوٍر سومرية‪ ،‬فقد امتاَزت بمساهماِتها ال ةعظمى في تَ َ‬ ‫طّوِر‬ ‫ي والم ةعماري(‪.‬‬ ‫ص في المجاَلين التجار ّ‬ ‫وانتشاِر الحضارِة المدينية في التاريخ )وبالخ ّ‬ ‫ولوِل مرٍة َنشَهُد مراكَز حضاريةً مختلفةً خارَج ميزوبوتاميا السفلى‪ ،‬بحيث تَُخ ّ‬ ‫ط مساراً مغايراً في التغير‬ ‫ضَ ةعة ميزوبوتاميا الوسطى في الحلقِة‬ ‫والتطور‪ ،‬سواًء من جهِة الشكل أو المضمو ن‪ .‬لن يَُكو ن من الخطأ َمْو َ‬ ‫ت الثريِة في المنطقة‪ ،‬وبفضِل‬ ‫الولى من نشوِء الحضارة السومريِة وانتشاِرها‪ .‬ومن خلِل الحفريا ِ‬ ‫التيمولوجيا والثنولوجيا؛ تزداُد م ةعلوماُتنا طرديا ً بشأِ ن هذا الجيِل ذي الوصوِل الهورية‪ُ .‬ي ةعتَبَُر الهوريو ن ُأولى‬ ‫ت المنتقلِة من اللغِة والثقافة الريِة إلى المصادِر المدّونة‪.‬‬ ‫ت البَيّنَِة الهويِة من بين الش ةعوب أو الثنيا ِ‬ ‫المجموعا ِ‬ ‫ت المستقرةَ في سلسلِة جباِل زاغروس – طوروس منذ ال ةعصِر الجليدي‬ ‫وصلء‪ ،‬حيث يُ َ‬ ‫وهم أُ َ‬ ‫شّكلو ن المجموعا ِ‬ ‫الخير‪ .‬وقد أَّدوا دوراً رئيسا ً في تَ َ‬ ‫ت‬ ‫طّوِر الزراعِة وتدجيِن الحيوانات‪ .‬أو بالحرى‪ ،‬يَتَ َ‬ ‫صّدرو ن المجموعا ِ‬ ‫المطّورةَ للثورِة القروية والزراعية النيوليتيِة في المنطقة‪ .‬وقد تَ​َميَّزت هوياُتهم الثنيةُ وتَبَيَّنت م ةعالُمها منذ‬ ‫ف للهوريين‪ .‬فالت ةعليُل التيمولوجّي للكثيِر من ألفاظهم‪،‬‬ ‫س ُ‬ ‫أعواِم ‪. 6000‬ق‪.‬م‪ .‬وَن ةعتُ​ُهم بالكرِد الوائل َأن َ‬ ‫ب ت ةعري ٍ‬ ‫ف على الروابِط بين بنيِتهم اللغويِة والكرد‪ .‬وقد َتداَخَل‬ ‫وكذلك التفسيُر الثنولوجي يُ َ‬ ‫ع شفا ٍ‬ ‫سّلطا ن الضوَء بسطو ٍ‬ ‫وتماشى الستقراُر في السهوِل مع الترحاِل في المناطق الهضابية والجبلية‪ .‬كما أّ ن اعتباَر السومريين من‬ ‫ق )‪. 2050 – 2150‬ق‪.‬م(‪،‬‬ ‫أوائِل المجموعات الهورية احتماٌل وارٌد بقوة‪ .‬بَْيَد أّ ن الحتلَل القوطّي اللح َ‬ ‫والحتلَل الكاشي )‪. 1600‬ق‪.‬م‪ ،‬وأوَل احتلٍل بابلي بالتحالف مع الحثيين ‪. Hititler 1596‬ق‪.‬م(‪ ،‬والتوسَع‬ ‫المضاّد للميديين والبرسيين فيما ب ةعد؛ كّل ذلك دلئُل برهاٍ ن على هذه الحقيقة‪ .‬هذا وُي ةعتَ​َبرو ن الجيَل النيوليتي‬ ‫الكثَر علقةً مع السومريين عن كثب‪ ،‬ويَِليِهم في ذلك الراميو ن ذوو الوصوِل السومرية‪.‬‬ ‫ت جذوٍر هورية )هذا إذا‬ ‫وابتداًء من ُمستَ​َهّل أعواِم ‪. 3000‬ق‪.‬م يمكننا ال ةعثور على الثار الجمِة لوِل حضارٍة ذا ِ‬ ‫س النيوليتي(‪ .‬إننا في الحقيقِة‬ ‫ضع في الحسباِ ن مرحلةَ ‪. 4000 – 6000‬ق‪.‬م‪ ،‬والتي هي مرحلةُ الّتمأ ُ‬ ‫َلم نَ َ‬ ‫س ِ‬


‫وجهاً لوجه أماَم تَ َ‬ ‫طّوٍر متواوصٍل بل انقطاع‪ .‬فبينما انتَقَ​َلت الجياُل المستقرةُ في سومر إلى المرحلِة المدنية‬ ‫ب الشروط المناخية‬ ‫مبكرًا‪ ،‬فقد َأبَدى الباقو ن جدارةَ تحويِل أماكِن استيطانهم إلى مدائن‪ ،‬ولو ببطء )بسب ِ‬ ‫ض ما بين‬ ‫وظروف الري(‪ .‬وقد ُعِثر على ال ةعديِد من أمثلِة المد ن في الحفريا ِ‬ ‫ت الثرية للمناطق الوسطى من حو ِ‬ ‫ت كّل من أورفا ‪ ،Urfa‬كازاز ‪،Kazaz‬‬ ‫نهَري دجلة والفرات‪ .‬فال ةعديُد من الحفريات‪ ،‬وفي مقدمِتها حفريا ُ‬ ‫توتريش ‪ ،Tutriş‬كرافره ‪ ،Grevre‬زيتونليك ‪ ،Zeytinlik‬وكذلك حفريات منطقة گوباكلي تبه‬ ‫ع الداخليِة والخارجية‪ ،‬والتي َتكتَنُِفها‬ ‫‪ Göbeklitepe‬مؤخرًا؛ كّلها ُتظِهر وجوَد أماكِن الستيطاِ ن ذاَت القل ِ‬ ‫ت القيمِة الفنية الثمينة‪ ،‬والمت ةعِة‬ ‫ب إلى أماكِن ال ةعبادة‪ ،‬الشكاِل النحتيِة ذا ِ‬ ‫السواُر وتَلُّفها‪ ،‬وكذلك البنى اَلقَر ِ‬ ‫التجارية؛ لِيَُكوَ ن كّل ذلك برهاناً قاط ةعاً على نشوِء المد ن التي تمتد تواريخ غالبيتها إلى ‪. 2750 – 3000‬ق‪.‬م‪.‬‬ ‫ت المدائِن الولى المستقلةُ عن السومريين‪ .‬أما مصاَدفَةُ وجوِد‬ ‫لذا‪ ،‬من الواق ةعّي حقا ً التبياُ ن بأنها مجموعا ُ‬ ‫ق المجاِورِة لها‪ ،‬فهو أمٌر هاّم وذو م ةعاٍ ن قَّيمة‪ .‬إذ يمكننا‬ ‫ت مغايرٍة وذا ِ‬ ‫مستوطنا ٍ‬ ‫ت أوصوٍل سومريٍة في المناط ِ‬ ‫شِهَدت الحتلَل ِمن قِبَِل أوروك‪ ،‬أور‪ ،‬وآشور بين فترٍة‬ ‫الدراُك من هذه المستوطنات أّ ن تلك المدائَن قد َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ت التيمولوجية والثنولوجية الخيرة عن أّ ن المراكَز‬ ‫ت الثريةُ الجديدة‪ ،‬والنشاطا ُ‬ ‫ف الحفريا ُ‬ ‫ش ُ‬ ‫وأخرى‪ .‬وقد َتك ِ‬ ‫ث ال ةعلميةُ‬ ‫ض الوسِط ِلما بين النهَرين كانت كّل واحدٍة منها مركزاً حضارياً عظيمًا‪ .‬والبحو ُ‬ ‫المدائنيةَ في الحو ِ‬ ‫ت الم ةعنيةَ بها‪ ،‬والتي‬ ‫سيُر في هذا المنحى‪ .‬ونخص بالذكر الّلقى الموجودَة في كوبكلي تبه والتحليل ِ‬ ‫الخيرةُ تَ ِ‬ ‫َ‬ ‫خ مجددًا‪.‬‬ ‫تَتَ​َميُّز بماهيٍة ستُِ ةعيُد كتابة التاري ِ‬ ‫ت سياسيٍة‬ ‫ت الجذور الهورية‪ ،‬فتتسُع نطاقاُته‪ ،‬وَينتَقُِل إلى شكِل إدارا ٍ‬ ‫أما الجيُل الثاني من الموجِة الحضارية ذا ِ‬ ‫َأشبَهُ بالمبراطورية‪ .‬وبالخص‪ ،‬فإّ ن الميتانيين ‪ Mitanniler‬المنحدرين من ميزوبوتاميا الوسطى يلفتو ن‬ ‫سسوا إمبراطوريةً َحَكَمت البلَد منذ عهِد ازدهاِر المبراطورية‬ ‫النظار في هذا المضمار‪ .‬وندرك من ذلك أنهم أَ ّ‬ ‫الشورية في أعوام ‪. 1600‬ق‪.‬م إلى أعوام ‪. 1250‬ق‪.‬م‪ .‬وعاوصمُتهم كانت مدينةَ سريه كانيه ‪Serêkani‬‬ ‫سّميا ن اليوم ماردين ‪ ،Mardin‬وقد كانت‬ ‫ومدينةَ عامودا ‪ Amudê‬اللَتين تق ةعا ن على الحدود السورية‪ ،‬وتُ َ‬ ‫ت أنه كا ن هناك بنيةٌ‬ ‫تُ َ‬ ‫سّمى ال ةعاوصمةُ في تلك اليام خوشكاني )وم ةعناها النبُع الطيب(‪ .‬وقد ُأدِرك من اللوحا ِ‬ ‫لغويةٌ مختلفةٌ لديهم‪ ،‬وأّ ن أوصَلها يرجُع إلى اللغِة الهورية‪ .‬كما َأبَدوا نجاَحهم المظفَر في التوسِع من مدينِة‬ ‫ب من أنطاكية على وجِه‬ ‫كركوك الحاليِة )حيث أّ ن كركوك من بقايا تلك المرحلة( إلى تّل علل ‪ Tel-Alal‬القري ِ‬ ‫سطوا نفوَذهم على الشوريين بشكٍل‬ ‫س مجموعِة اللغة الرية‪ُ ،‬ندِرُك أنهم بَ َ‬ ‫التقريب‪ .‬ومن خلِل تَ​َكّلِمِهم بنف ِ‬ ‫س الحثيو ن حينها كياَ ن أوِل دولٍة‬ ‫متواوصل‪ ،‬وأنهم إما أقرباُء مع الحثيين أو ينحدرو ن من الجذِر عينه‪ ،‬حيث أَ ّ‬ ‫س َ‬ ‫سَلها الَملُِك شوبيلوليوما ‪،‬‬ ‫مركُزها بلُد الناضول الداخليةُ )ثمةَ مثاٌل مبرَهٌن وأكيٌد من الرسالة التي كا ن َأر َ‬ ‫ب مدى‬ ‫ج من ابنته(‪ .‬كما نستوِع ُ‬ ‫الذي فتح حلب وقرقميش‪ ،‬إلى ِ‬ ‫وصهره الميتاني ماتيزافا ‪ Matizava‬المتزو ِ‬ ‫ت المصريات‬ ‫قُّوتِ​ِهم ال ةعظيمِة من خلِل الكتابِة الهيروغليفية الدارجِة في القصور المصرية )ذكريا ٌ‬ ‫ت من الَمِلكا ِ‬ ‫ت من قَِبيِل نفرتيتي التي َتدُخُل القصَر كأميرٍة عليه(‪ .‬وبالوصل‪ ،‬فَ​َقمُ ةعُهم للشوريين طيلةَ أرب ةعِة قروٍ ن‬ ‫الشهيرا ِ‬ ‫ف بَِحّد ذاته للشادِة بِقُّوتِ​ِهم‪ .‬والمُر َيسري على البابليين أيضًا‪ ،‬حيث ِمن الم ةعلوِم أنهم اسَتخَدموا‬ ‫برهاٌ ن كا ٍ‬ ‫س‬ ‫الكتابَتين الهيروغليفيةَ والمسمارية ‪ .‬وِمن الثار التي تَ​َركها الميتانيو ن على وصفحا ِ‬ ‫ت التاريخ مهنةُ تسيي ِ‬ ‫ض الشكاِل الم ةعماريِة الخاوصة‪ .‬هذا ويَتَ​َمّيزو ن بَِكونِ​ِهم‬ ‫الخيوِل والمسماة "كيكولي ‪ ،"Kiküli‬و ُ‬ ‫شهَرتُ​ُهم بب ةع ِ‬ ‫ب عنها وإظهاَرها للنور‪.‬‬ ‫ت أوصوٍل هوريٍة َتنتَِظُر َكش َ‬ ‫ف الّنقا ِ‬ ‫ثاني أهّم حضارٍة ذا ِ‬ ‫إّ ن إدراَج الحثيين في هذا الجيِل أمٌر واق ةعّي وم ةعقوٌل لقصى َحد‪ .‬فالحثيو ن ليسوا – كما ُيقال – من المجموعات‬ ‫‪.‬ق عبَر إيرا ن‪ .‬ولّ ن لغتَُهم وثقافتَُهم ُمتَرَعةً بآثاِر‬ ‫التيِة من المضائق‪ ،‬أو من بلِد القفقاس‪ ،‬أو من الشر ِ‬ ‫ٌ‬ ‫الهوريين ال ةعميقة‪َ ،‬نسَتنبِطُ ِمن ذلك أنهم مجموعةٌ حاكمة من نَُبلِء الهوريين المجاورين لهم‪ .‬كما أّ ن آلهَتهم‪،‬‬ ‫وأدبياِتهم‪ ،‬وعلقاِتهم الدبلوماسيَة‪ ،‬وبقايا قصوِرهم المصريِة ُتشيُر إلى أنهم ُيشِبهو ن الميتانيين الذين في بلِد‬ ‫سطوا نفوَذهم وَأحَكُموا قبضَتهم على مراكِز الشوريين‪ ،‬كذلك فإّ ن‬ ‫الناضول الداخلية‪ .‬فكيفما أّ ن الميتانيين بَ َ‬ ‫ت‬ ‫ت الشورية في المراحِل عيِنها‪ ،‬ليؤسسوا ويَُر ّ‬ ‫سخوا في الوق ِ‬ ‫الحثيين َألَحقوا الضربةَ القاضيةَ بالمستوطنا ِ‬ ‫سه المبراطوريةَ الحثية )‪. 1250 – 1600‬ق‪.‬م(‪ .‬إّ ن هذه الدارةَ الحثيَة‪ ،‬التي َلم نَتَ​َ ةعّرف ب ةعد على وجِهها‬ ‫نف ِ‬ ‫َ‬ ‫الحقيقي لَِحّد ما‪ ،‬تُذّكُرنا ِبمركَزين كبيَرين في منطقَتين واس ةعَتين‪ .‬حيث أنهم ليسوا أقرباَء ول متقاربين في اللغِة‬ ‫فحسب )مع الميتانيين(‪ ،‬بل إّ ن أنما َ‬ ‫ط حياِتهم متشابهةٌ لب ةعِد الحدود‪ .‬والحلقةُ المفقودةُ تقُع في المناطق‬ ‫س المرحلة‪ .‬وُكّلي قناعةٌ بأّ ن هذه الموَر‬ ‫المتوسطة بين هؤلِء الميتانيين والحثيين كقوَتين بارزَتين في نف ِ‬ ‫صّدُرها مركُز‬ ‫ش ُ‬ ‫ث بشأنها‪ .‬وب ةع ُ‬ ‫ض المراكِز الهامة المتبقيِة من الحثيين‪ ،‬يَتَ َ‬ ‫ف للنوِر مع تَطَّوِر البحو ِ‬ ‫سَتنَك ِ‬


‫ت في الحضارة المدينية‪ .‬حيث ثمةَ أماكُن مقّدسةٌ‬ ‫هاتوشاش ‪ ،‬تشير إلى أنهم َحّققوا ب ةع َ‬ ‫ض التطورات والنجازا ِ‬ ‫تَتَ​َ ةعدى في ماهيِتها الزقورات‪ .‬كما أّ ن م ةعابَدهم الدينيَة‪ ،‬والقصوَر الدارية‪ ،‬ومساكَن ال ةعاملين‪ ،‬والخزانات؛ كّلها‬ ‫ت أوسَع من السوار‪ ،‬علوةً على تشييدهم ال ةعديَد من المدِ ن‬ ‫متمايزةٌ ومنفصلةٌ للغاية‪ .‬وَيمتَِلكو ن ساحا ٍ‬ ‫المشابهة‪ ،‬وتَ​َمّيِزهم بَِكوِنهم الدولةُ العتى عسكريا ً ِنسبةً ل ةعهدهم‪.‬‬ ‫ت وثيقٍة مع الَحول‪ِ ،‬بدءاً من مدينِة طروادة )إما أنها من ِبناِء الحثيين‪ ،‬أو مدينةٌ‬ ‫وقد كانوا جيراناً على علقا ٍ‬ ‫ت إلى الغرب‬ ‫حضاريةٌ خاوصةٌ بمجموعٍة قريبٍة منهم ومتحالفٍة م ةعهم وٌتشاِطُرهم الثقافةَ ذاتها( الذائ ةعِة ال ّ‬ ‫صي ِ‬ ‫ت الريِة‬ ‫منهم‪ ،‬حتى الخيين )من الوصّح اعتباَر هذه المجموعِة من المتأثرين ببلِد الناضول‪ ،‬أو من المجموعا ِ‬ ‫س‬ ‫المهاجرِة في أعواِم ‪. 1800‬ق‪.‬م‪ .‬أما إرجاُع جذوِرها إلى الشماِل وانحداُرها من أوروبا‪ ،‬فهو تفسيٌر م ةعاك ٌ‬ ‫ق الحثيين أيضًا( المنحدرين الوائِل من شبِه‬ ‫ب بَِح ّ‬ ‫سه ُيرتَ​َك ُ‬ ‫لمساِر توسِع وانتشاِر الحضارة المدينية‪ .‬والخطأ ُ نف ُ‬ ‫الجزيرِة اليونانية‪ ،‬والشكياوا في شمالي أنطالية ‪ ،Antalya‬والكاشكائيين ‪) Kaşkalar‬ش ةعوب البحر‬ ‫شماِليِهم‪ ،‬والكليكيين ‪) Kilikyalılar‬وهو الش ةعب القاطن في جباِل طوروس‪ ،‬وكذلك اللويين‬ ‫السود( في َ‬ ‫س المرحلة لُمّدٍة طويلٍة( في جقوروفا ‪ ،Çukurova‬والدولِة المصريِة الفرعونية‬ ‫‪ Luwiler‬البارزين في نف ِ‬ ‫َ‬ ‫الشهيرة بمنافسِتها َلهم في الجنوب‪ .‬أما الهُلو ن القاطُنو ن في منطقِة النواِة المركزية‪ ،‬فهم الحاتيو ن‬ ‫ف إله" إنما تَُدّل على الهميِة الفائقِة التي ُيولونها لوصدقاِئهم‬ ‫‪ .Hattiler‬وَتسِميَُتهم أنف َ‬ ‫سهم بـ"وطِن الل ِ‬ ‫ضها ب ةعضًا‪ .‬فمن أشهِر ذكرياِتهم التي تَ​َركوها لنا إبراُمُهم‬ ‫)َت ةعِك ُ‬ ‫ت المارات(‪ ،‬أكثر من منافسِة اللهِة ب ةع َ‬ ‫س تحالفا ِ‬ ‫ب من مدينِة حماه ونهِر ال ةعاوصي بَُ ةعيَد الحرب( بين فرعوِ ن‬ ‫أوَل م ةعاهدٍة ُمدّونٍة في التاريخ )م ةعاهدة قادش بالقر ِ‬ ‫مصر رمسيس الثاني وَملِ​ِك الحثيين مواتاليش ‪ Muvataliş‬أو حاتوشيلي الثالث ‪ .‬واضٌح أنه لديهم ما هو‬ ‫س الرستقراطيين‪ ،‬وُيسّمى بانكوش ‪ .Pankuş‬ومن الم ةعقوِل القول بأولويِة وزعامِة الميِر‬ ‫َأشبَهُ بمجل ِ‬ ‫هاتوشاش ضمن فيدراليِة المارات القائمة‪.‬‬ ‫س ذاَتها‬ ‫ف نهِر النيل‪ .‬ورغم أنها َت ةعِك ُ‬ ‫ضفا ِ‬ ‫ت عديدةً للحضارِة المصرية القائمة في الشر‪.‬ق على ِ‬ ‫لقد تَطَّرقنا مرا ٍ‬ ‫شبَهُ الب ةعُد قليلً بالنسبة إلى‬ ‫وكأنها انطلقةٌ مستقلة‪ ،‬إل أّ ن القوَل بَِحمِلها آثاَر القِيَِم الثقافيِة الرية )ال ّ‬ ‫ت الداخليةَ للنيل‪ ،‬أو جيراَنها في‬ ‫السومريين( أكثُر إثباتاً لحقيقتها‪ ،‬ذلك أنه ما ِمن دليٍل يشيُر إلى أّ ن الديناميكيا ِ‬ ‫وصنِع حضارٍة كهذه‪ .‬وقتئذ‪ ،‬ل يبقى أماَمنا إل احتماُل َكوِنها ان ةعكاساً للثقافِة الريِة حصيلَة‬ ‫جو ُ‬ ‫الجوار ُمَهّيأةٌ لنتا ِ‬ ‫ت الكثيفة للغاية والمتبادلِة في تلك الزما ن‪ .‬ل جداَل البتة في َع َ‬ ‫ظمِة الحضارِة المصرية‪ ،‬ولكّن َعجَزها‬ ‫الهجرا ِ‬ ‫ت التي تَُخّوُلها للتوسع‪ ،‬فهو‬ ‫ف النيل حقيقةٌ واق ةعة‪ .‬أما أسبا ُ‬ ‫ب عدِم تَ​َحّليها بالميزا ِ‬ ‫ضفا ِ‬ ‫عن التوسِع إلى أب ةعِد من ِ‬ ‫ف‬ ‫وضٌع يتطل ُ‬ ‫ب المساءلَة والبحث‪ .‬في حين أنه ل تَتَ​َبدى م ةعالُم اعتماِدها على ثقافٍة جوهريٍة خاوصٍة على ضفا ِ‬ ‫النيل‪ ،‬وكأنها م ةعجزةٌ َنزَلت عليها من السماء‪ .‬وما داَم المُر ليس كذلك‪ ،‬فنحن ُمرَغمو ن على التبياِ ن تكراراً‬ ‫ف سلسلِة جباِل طوروس – زاغروس‪ ،‬مع أخِذ‬ ‫ومراراً بأّ ن منبَع ولدِتها هو الثورةُ النيوليتيةُ القائمةُ على حوا ّ‬ ‫حقيقِة قبيلِة الهكسوس وال ةعبرانيين بَِ ةعيِن العتبار‪.‬‬ ‫ق‬ ‫علوةً على أّ ن الكتابةَ الهيروغليفيةَ أكثُر بدائيةً من الكتابِة المسمارية‪ ،‬وغيُر ملئمٍة للتطور كثيراً بسب ِ‬ ‫ب ضي ِ‬ ‫ت م ةعماريًة خارقة‪ ،‬ولكنها إحدى ف ةعالياِتهم المتهورِة التي ابتَلَ​َ ةعت‬ ‫فاعليتها وأداِئها‪ .‬قد تَُكوُ ن الهراما ُ‬ ‫ت م ةعجزا ٍ‬ ‫كدَح ال ةعبيد بشكٍل ُمرّوع‪ .‬ولدى تقسيِمها إلى عدِة مراحل‪ ،‬فإنها َتشَمُل أيضاً مرحلةَ الَمَلكيِة القديمِة فيما بين‬ ‫ب المناطق إلى‬ ‫‪. 2500 – 3000‬ق‪.‬م‪ ،‬والتي َ‬ ‫ت وال َ‬ ‫سِر الحاكمِة في َأقَر ِ‬ ‫شِهَدت بروَز عدٍد َجّم من السلل ِ‬ ‫ب من مدينِة القاهرة الحالية‪ .‬وهي مشهورةٌ بقبوِر الهرام‪ .‬أما في‬ ‫الراضي الرسوبيِة الغرينية‪ ،‬أي‪ ،‬بالقر ِ‬ ‫مرحلِة الَمَلكيِة الوسطى فيما بين أعوام ‪. 1850 – 2050‬ق‪.‬م‪ ،‬نلحظُ َغَلبَة الم ةعابد‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬غلبةَ طابِع‬ ‫ق بالتم ةعِن فيه مليًا‪ .‬حيث‬ ‫س عليها في أعواِم ‪. 1800‬ق‪.‬م أمٌر َخلي ٌ‬ ‫الرهبا ن عليها‪ .‬في حين أّ ن استيلَء الهكسو ِ‬ ‫س لدعائِم النظاِم الفرعوني‪ ،‬الذي َعِجَزت عن هدِمِه القواُم الخرى‪ُ ،‬يشيُر إلى مدى قوِة الثقافِة‬ ‫أّ ن َدّك الهكسو ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ست مرحلة الَمَلكيِة‬ ‫ب القرَ ن ونص َ‬ ‫ف القر ن‪ .‬تَأ ّ‬ ‫والتنظيِم المستترِة خلفهم‪ ،‬إذ بَ​َقوا يديرو ن مصر ِلما ُيقاِر ُ‬ ‫س َ‬ ‫َ‬ ‫الجديدِة في أعوام ‪. 1600‬ق‪.‬م مع "سيتي الول "‪ .‬وهي تَ​َتزامُن مع مرحلِة تَطّوِر التجارة‪ ،‬تماما ً مثلما لدى‬ ‫ب النيل في الَكرَنك ‪ ،Karnak‬تماماً‬ ‫الشوريين‪ .‬هذا وقد تَطَّوَرت مرحلةُ الَملكيِة الجديدِة هذه في أقاوصي جنو ِ‬ ‫مثلما ظهَر الشوريو ن في أقاوصي شماِل ميزوبوتاميا السفلى‪ .‬وقد انتقلوا إلى مرحلٍة جديدٍة من بناِء القبور في‬ ‫ب تَ​َدّني منزلِة الرهباِ ن إلى المرتبِة الثانية‪ ،‬رغم َكونِ​ِهم ل يزالو ن أشداَء حينها‪.‬‬ ‫هذه المرحلة‪ ،‬إلى جان ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫خ لمجيئها‬ ‫في هذه المرحلِة أَ​َتت القبيلة ال ةعبرانية إلى مصر‪ .‬من المحتمل أْ ن تَُكوَ ن أعواُم ‪. 1600‬ق‪.‬م أن َ‬ ‫سَب تاري ٍ‬ ‫ب ةعد الهكسوس‪ ،‬وأنها عاَدت أدراَجها ثانيةً في أواخِر أعوام ‪. 1300‬ق‪.‬م ب ةعد أْ ن َمَكَثت هناك ثلثةَ قرو ن‪ .‬والَملُِك‬


‫ض أّ ن ذلك في أعوام ‪. 1400‬ق‪.‬م(‪ .‬كما‬ ‫أخناتو ن مشهوٌر بإعلنِ​ِه الديَن الوحدو ّ‬ ‫ي لوِل مرٍة في التاريخ )ُيفتَ​َر ُ‬ ‫ع‬ ‫ت عروسا ٍ‬ ‫ت الحثيات والميتانيا ِ‬ ‫ِجيَء بالكثيِر من الميرا ِ‬ ‫ت إلى القصوِر‪ .‬هذا وتُقَّدُم قبوُرهم أمثلةً تَُدّل بكّل سطو ٍ‬ ‫على أنهم َ‬ ‫ت للنتباه‪ ،‬حيث أَّثروا في الحضارِة الغريقية – الرومانية أكثَر من‬ ‫طّوروا ال ةعماَر على نحٍو ملف ٍ‬ ‫السومريين بكثير‪ .‬في حين أّ ن ُبنيَ​َتهم الدينيةَ المختلطةَ َأشبَهُ بنسخٍة م ةعدلٍة من خليِط السومريين‪ .‬فتقاليُد إيزيس‬ ‫ت‬ ‫ب إلى تقاليد إينانا – أنكي‪ .‬وكذلك‪ ،‬فتقاليُد آمو ن – َرع َأقَر ُ‬ ‫– أوزوريس تُنَبُّهنا إلى أنها َأقَر ُ‬ ‫ب إلى نظاِم زقورا ِ‬ ‫الرهبا ن السومريين‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ي منهما أثَّر في الثاني‪ ،‬المصريو ن أم السومريو ن؟ فَِمصُر لها نقلُتها‬ ‫سيبقى السؤاُل التالي مطروحًا‪ :‬كيف‪ ،‬وأ ّ‬ ‫س ّ‬ ‫لت الصخرية‪ ،‬ورسِم النقوش على الجدرا ن‪ ،‬وفّن‬ ‫الوصيلةُ الصافيةُ في ُ‬ ‫ب ال ةعواميِد والِم َ‬ ‫وصنِع الزوار‪.‬ق‪ ،‬وَنص ِ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫التقويِم السنوي‪ ،‬والطّب‪ ،‬وعلِم التنجيم‪ ،‬وتحنيِط المومياء ‪ .‬واضٌح وضوَح النهار أنهم أثروا في الحضارِة‬ ‫ت متقدمة‪،‬‬ ‫الغريقية‪ ،‬ومن خللها في الثقافِة اليونانية أيضًا‪ .‬هذا وكانت علقاتُ​ُهم مع الفينيقيين على مستويا ٍ‬ ‫وصداٍم مع الميتانيين والحثيين عبر أراضي سوريا وفلسطين الحالية‪ .‬وب ةعَد أعوام‬ ‫عو ِ‬ ‫في حين كانوا في نزا ٍ‬ ‫ت الوصوِل السودانية – الحبشية‪ ،‬ولوِل‬ ‫‪. 1000‬ق‪.‬م تَتَ​َ ةعّر ُ‬ ‫ت المتواوصلِة على يِد القوام ذا ِ‬ ‫ض من الجنوب للهجما ِ‬ ‫ضُع لتب ةعيِة قوٍة خارجيٍة مع هجوِم الشوريين في أعوام ‪. 670‬ق‪.‬م‪َ .‬تلهم ب ةعَد ذلك البرسيو ن‪ ،‬حيث‬ ‫مرٍة َتخ َ‬ ‫َ‬ ‫ض ةعوها لُِحكِمِهم في ‪. 525‬ق‪.‬م‪ ،‬ومن ثّم احتلُل السكندر في أعوام ‪. 333‬ق‪.‬م‪ ،‬لَِتنتَقَِل لِ​ِووصايتِ​ِه الدارية‪ .‬ومع‬ ‫أخ َ‬ ‫ت الوصوِل الثقافية الهيلينيِة تجاهَ الغزِو الروماني في ُمستَ​َهّل العواِم الميلدية‪ ،‬تنتهي‬ ‫انهزاِم كليوباترا ذا ِ‬ ‫َ‬ ‫ف عام‪.‬‬ ‫المرحلةُ الولى من قصِة نهايِة هذه الحضارة المدينية الم ةعّمرِة أرب ةعة آل ِ‬ ‫ت التاريخ بقدِر السومريين على أقّل تقدير‪ ،‬قد‬ ‫إّ ن هذه الحضارةَ المدينية‪ ،‬التي تَ​َرَكت بصماِتها على وصفحا ِ‬ ‫ي الكلسيكّي بأكثِر أحوالِ​ِه نقاًء‪ .‬إذ َلم َتشَهد أيةُ مدنيٍة أخرى هذا القدَر من التلحِم بين‬ ‫َ‬ ‫شِهَدت النظاَم ال ةعبود ّ‬ ‫ق والسيد‪ .‬فالّديُن الواعُد بالدنيا الخرِة لجِل ال ةعبيد الذين َلم يذوقوا ط ةعَم الراحة في هذه الدنيا‪ ،‬كاَ ن وسيلةً‬ ‫الرقي ِ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫شرعية وطيدة في عواطفهم‪ .‬إنها ساحة الحضارة المدينية المني ةعة التي ابتُِدعت فيها براديغما الجنِة والجحيم‪،‬‬ ‫والدنيا الخرِة برسوخ‪ .‬أما زواُج الخوِة بين الفراعنة‪ ،‬فربما أنه َيرِجُع إلى تقاليِد الكل ن القديمة‪ ،‬ومن حاجتِ​ِهم‬ ‫ل ةعدِم تدميِر بنيِة السللت‪ .‬وأكبُر الظّن أنهم أَّثروا في الدياِ ن البراهيمية بقدِر تأثيِر ال ةعقائِد الدينية السومرية –‬ ‫سلَفِ​ِه سيُدنا إبراهيم من نماردِة‬ ‫البابلية فيها بأقّل تقدير‪ .‬فانحداُر سيِدنا موسى من الثقافِة المصرية‪ ،‬وهرو ُ‬ ‫ب َ‬ ‫ي لهاَتين الثقافَتين كتركيبٍة جديدة‪ .‬ول تَُلوُح لل ةعياِ ن إمكانيةُ‬ ‫البابليين‪ ،‬إنما يحثنا على التفكير في التأثيِر القو ّ‬ ‫ب إلى‬ ‫ت هاَتين الثقافَتين‪ .‬ونظاُم فراعنِة مصر بحالِ​ِه الوصليِة َأقَر ُ‬ ‫تَ َ‬ ‫‪.‬ق تأثيرا ِ‬ ‫صّوِر الدياِ ن البراهيمية خارَج نطا ِ‬ ‫نظاِم "شيوعيِة الدولة"‪.‬‬ ‫ي‬ ‫ت الجيِل الول‪ .‬وُيجَمع على احتماِل تَ​َوّجِهها نحَو نظاِم الَمَلكيِة المركز ّ‬ ‫ُت ةعتَبَُر حضارةُ أورارتو أيضاً من حضارا ِ‬ ‫ع دائٍم مع‬ ‫الوِل في أعواِم ‪. 870‬ق‪.‬م‪َ ،‬ب ةعَد مرحلٍة طويلٍة من كونفدراليات النائيريين الذين كانوا في وصرا ٍ‬ ‫ب النائيري ي ةعني ش ةعَب النهار‪ .‬وربما أّ ن الم ةعنّيين بهم هم الكرُد الوصليو ن المتواجدو ن في‬ ‫الشوريين )الش ةع ُ‬ ‫ح أّ ن هذه‬ ‫المنطقِة الواق ةعِة بين نهِر دجلة وروافِده(‪ .‬ف ةعندما َيفتَِخُر الَملُِك ساردوري ‪) Sarduri‬على الرج ِ‬ ‫ت الشورية بقضاِئه على كّل خصوِمه الُم ةعادين‪ ،‬والّنيِل منهم بدعٍم‬ ‫الكلمةَ ت ةعني سردار ‪ (Serdar‬في الكتابا ِ‬ ‫ت خودا ‪ ،Guda‬خوَديا ‪،Gudea‬‬ ‫ف سديٍد من اللِه ال ةعظيم خالدي ‪) Haldi‬أكبُر الظّن أّ ن كلما ِ‬ ‫كبيٍر وإشرا ٍ‬ ‫خوتا ‪َ Got‬تنبُع من اسِم الله عينه‪ .‬فكيفما ي ةعني اُ بالنسبِة للسامّيين‪ ،‬فكذلك هو خودا ‪ Guda‬في الثقافِة‬ ‫سه"‪ .‬ول تزاُل هذه الكلمةُ دارجةً في اللغَتين الكرديِة والفارسيِة ِعَوضاً‬ ‫الرية‪ .‬وهي ت ةعني "الخال ُ‬ ‫ق نف َ‬ ‫سه بنف ِ‬ ‫وصوَب الَمَلكيِة المركزية‪ ،‬والتي اختاَر وا ن الحالية مركزاً لها‪.‬‬ ‫عن كلمِة ا(‪ ،‬وكأنه يُبَ ّ‬ ‫شر بمسيرِته المذهلِة َ‬ ‫ولنهم منحدرو ن من قبيلِة وانيليلي ‪ ،Vanilili‬فَ​َقد بَقَِي اسُم مدينِة وا ن إلى اليوم‪ .‬السُم الخُر الشهيُر هو‬ ‫شوب ‪ .‬وقد شادوا عدداً جما ً من‬ ‫س تَ ُ‬ ‫توشبا ‪ ،Tuşpa‬وهو مشت ّ‬ ‫ق من أسماِء أحِد اللهِة الكبرى‪ ،‬وهو إلهُ الشم ِ‬ ‫ف جباِل زاغروس على الحدوِد‬ ‫ع في المركز‪ ،‬وَأحَكموا قبضَتهم في بسِط النفوِذ المركزي الوطيِد من حوا ّ‬ ‫القل ِ‬ ‫ق الشوريين‬ ‫اليرانية في الشر‪.‬ق إلى شواطِ ئ نهِر الفرات في الغرب‪ ،‬من ودياِ ن آراس في الشماِل إلى مناط ِ‬ ‫سسوا نظاَم المحافظات‪،‬‬ ‫التي َتبلُغ حتى شمالي أراضي سوريا الحاليِة في الجنوب‪ .‬هذا وُي ةعتَ​َقد أنهم أوُل من أَ ّ‬ ‫ي‬ ‫فهذا النمطُ من واقِع التمركِز هو الوُل في التاريخ‪ .‬أما أنظمُتهم ال ةعقائديُة‪ ،‬فَيطغى عليها التأثيُر السومر ّ‬ ‫ب‬ ‫والشوري‪ .‬كما أنهم تَ​َمّيزوا بنظاٍم لغو ّ‬ ‫ي شائٍك بطبي ةعِة الحال‪ ،‬حيث اسَتخَدموا الكتابَة المسمارية‪ ،‬إلى جان ِ‬ ‫ي ل يزاُل عويصاً على التفكيِك التاّم‬ ‫الشوريِة التي انتَ​َهلوها من الداريين الشوريين‪ ،‬بالضافِة إلى خليٍط لغو ّ‬ ‫ً‬ ‫ت القبائِل النازحِة من بلِد القفقاس من جهة‪ ،‬ومن بقايا اللغِة الهورية من جهٍة ثانية؛ علوة على أنها‬ ‫من لغا ِ‬


‫لغةٌ شبيهةٌ بالرمنية‪ .‬ومن هنا جاءت عبارةُ "تَتَ​َحّد ُ‬ ‫ث في بابل ِباثَنيِن وسب ةعين لغة" لِتَُدّل على هذا الواقع‪.‬‬ ‫ت الدارجةَ في القصوِر والسرايا مختلفةٌ في كّل‬ ‫ولكن‪ ،‬من المهم التشديُد على نقطٍة هامة‪ ،‬أل وهي أّ ن اللغا ِ‬ ‫‪.‬ق بها في القصوِر‬ ‫زماٍ ن عن لغِة الجماعات التاب ةعِة لها‪ .‬فحتى قبَل قروٍ ن ليست بب ةعيدٍة كانت اللغا ُ‬ ‫ت المنطو ُ‬ ‫ت التي يتحد ُ‬ ‫ب الهُل هناك‪ ،‬من قَِبيِل اللغَتين اللمانيِة واللتينية )في‬ ‫ث بها الش ةع ُ‬ ‫الوروبية ل تَُمّت بأيِة وصلٍة لِّلغا ِ‬ ‫القديِم الب ةعيد( على سبيِل المثال‪ .‬كما أّ ن اللغةَ ال ةعربيةَ أيضا ً كانت ُت ةعتَ​َبر لغةً رسميةً في كافِة القصور ردحا ً طويلً‬ ‫من الزمن‪ .‬وكذلك‪ ،‬فالمسافةُ بين ال ةعثمانيِة والتركيِة الوصلية شاس ةعةٌ تكاٌد تَُكوُ ن بقدِر الُب ةعِد عن لغٍة أجنبيٍة‬ ‫ت البلدا ن التي ليس لها أيةُ أواوصَر أثنيٍة أو قوميٍة‬ ‫أخرى‪ .‬والنكليزيةُ الراهنةُ هي لغةُ الدولِة الرسمية في عشرا ِ‬ ‫أو وطنيٍة مع النكليز‪ .‬ويبدو أّ ن قواعَد مشابهةً لهذه كانت سائدةً في مركِز َمَلكيِة أورارتو‪ .‬وما التكلُم‬ ‫بالشورية في السابق سوى دليٌل يضُع هذه الحقيقة بين يدينا‪ .‬وهي تَُ ةعّد الحضارَة القوى في ال ةعصر الحديدي ‪.‬‬ ‫وصَلت‬ ‫ت والمراجِل والصحوِ ن والسلحِة المصنوعة من خليِط الحديد والنحاس َو َ‬ ‫فال ةعدُد الكبيُر من المصنوعا ِ‬ ‫َ‬ ‫ب آخر‪ ،‬فقد تَطّوَرت فيها‬ ‫منهم إلى يوِمنا الراهن‪ .‬إنها الحضارةُ الولى التي َتسَتخِدُم الحديَد بهذه الكثرة‪ .‬مْن جان ٍ‬ ‫ق الَمِلك‪ .‬ول تزاُل تلك‬ ‫مفاهيُم من قَِبيِل ال ةعاوصمِة ومركِز المحافظة والمدينة‪ .‬أما شبكةُ المواوصلت‪ ،‬فتُنَّبؤنا بطري ِ‬ ‫ب الصخوِر مهيبةٌ عظيمة‪ .‬فقد كانوا‬ ‫المسالك هي الُمَرّجحًة‪ .‬علوةً على أّ ن قبوَر الملوِك المنحوتةَ في قل ِ‬ ‫ب الجوار لَيسَتخِدموهم في إنشاِء المد ن وتشييِد القلع‪ .‬كما تَ​َمّيزوا بِتَقَّدِمهم‬ ‫َيجَم ةعو ن الرّقاء ال ةعبيَد من كّل ش ةعو ِ‬ ‫ت الشوريين‪.‬‬ ‫ت الري و ُ‬ ‫وصنِع البَِرك‪ .‬وهم القوةُ الوحيدةُ التي َ‬ ‫وصَمَدت في وجِه هجما ِ‬ ‫الملحوِظ في أنظمِة قنوا ِ‬ ‫َ‬ ‫سها‬ ‫س الوقت‪ ،‬وعلى يِد القوة نف ِ‬ ‫فَ​َب ةعَد وصداما ٍ‬ ‫ت محتدمٍة داَمت بينهما ثلثة قروٍ ن بحالها‪ ،‬انهاَرت كلتاهما في نف ِ‬ ‫)‪.615‬ق‪.‬م(‪ .‬ومن حينها لم َيشَهد التاريُخ كيانا ً سياسيا ً مشابهاً في هذه الراضي‪.‬‬ ‫سُد في المبراطوريِة الميدية – البرسية‪ .‬والميديو ن هم‬ ‫أما النطلقةُ الخيرةُ البهيةُ وال ةعظيمة للجيِل الول‪ ،‬فتَتَ​َج ّ‬ ‫الذين َأعّدوا وهيأوا لهذه النطلقة‪ .‬وكلمةُ ماد ‪َ Med‬تنَحِدُر بالغلب من الثقافِة اليونانية‪ُ .‬يجِمع المؤرخو ن‬ ‫شّكلو ن فرعا ً متقدما ً وشديَد البأس من الريين‪ .‬وباعتباِر أنه لم َتقِدر أيةُ مجموعٍة أثنيٍة أخرى على‬ ‫على أنهم يُ َ‬ ‫َ‬ ‫الستقراِر في تلك الراضي‪ ،‬فإّ ن الحديث عن ثقافِة الميديين الوصيلِة وثقافِة ميديا ال ةعريقِة سيكو ن في محله‪.‬‬ ‫ف الراضي عينها‪ .‬وُيلَحظ أنهم نشأوا‬ ‫وبطبي ةعِة الحال‪ ،‬فل يزال ت ةعبيرا الميديين وميديا دارَجين في ت ةعري ِ‬ ‫وزرعوا ثقافتهم وتراثهم في سلسلة جبال زاغروس‪ ،‬حيث ُيمِكُن إرجاُع أوصوِلهم إلى القوط والكاشيين‪ .‬هذا‬ ‫شّكلو ن أنساَب ال ةعشائِر التي‬ ‫وثمة إجماٌع عاّم على إدراِجهم في قائمِة الهوريين عمومًا‪ .‬وبالمقدوِر القوُل أنهم يُ َ‬ ‫ت على يدهم‪ .‬وتَ​َدّوُلهم على علقٍة وثيقٍة بهذه‬ ‫هي أكثُر من َتصاَرَع وَتناَزَع مع الشوريين‪ ،‬وعانى الويل ِ‬ ‫المقاومات‪ ،‬فقد كانوا يَ​َرو ن َ‬ ‫ح المظفر في كونفدراليِة ال ةعشائر‪.‬‬ ‫طل ِ‬ ‫سَم النجا ِ‬ ‫ب القبائل المتجم ةعة لوِل مرٍة في عام ‪. 715‬ق‪.‬م بتشكيِل وحدِتها المتراخية‪ .‬وحصيلةَ َتحاُمِل‬ ‫هكذا تقوُم أنسا ُ‬ ‫ب السكيتية الشهيرِة التية من القفقاس‬ ‫ف مع النسا ِ‬ ‫الشوريين والورارتيين عليهم‪ُ ،‬ندِرُك أنهم انحازوا للتحال ِ‬ ‫ت م ةعهم‪ ،‬حيث تَبَّدَل زماُم القيادة فيما بينهم بين الفترة الخرى‪.‬‬ ‫)يبدو أّ ن ذلك تقليٌد تاريخي(‪ ،‬وعاَنوا التناقضا ِ‬ ‫ب المقاومة بحوالي ثلثِة قرو ن‪َ ،‬دّك الميديو ن دعائَم قصوِر الورارتيين )حوالي ‪. 615‬ق‪.‬م( ثم‬ ‫وَقبَل نشو ِ‬ ‫ض ةعوا حداً فاوصلً لهاَتين الحضارَتين الخيرَتين‬ ‫انقَ ّ‬ ‫ضوا على عاوصمِة الشوريين ليَُدّمروها أشّد تدمير‪ ،‬ويَ َ‬ ‫شِهَدتُهما ميزوبوتاميا‪ُ .‬يقال أّ ن الميديين شادوا عاوصمةً أشهَر من ناٍر على َعَلم‪ ،‬وَأسَموها‬ ‫المني ةعَتين اللَتين َ‬ ‫أقبطا ن )بالقرب من همذا ن ‪ Hemedan‬الحاليِة في إيرا ن(‪ ،‬وأنهم َأحا ُ‬ ‫طوها بسب ةعِة أسواٍر مطليٍة بسب ةعِة ألوا ن‪،‬‬ ‫ت القرابِة‬ ‫سبَّبت علقا ُ‬ ‫وَو ّ‬ ‫وصَلت النهَر الحمر‪ ،‬وغَدوا جيراَ ن الفريغيين ‪ .‬وقد تَ َ‬ ‫س ةعوا حدوَدهم الغربيةَ إلى أْ ن َو َ‬ ‫َ‬ ‫صِر ُمَدِد نفوذهم‪ .‬فالكياُ ن السياسي الذي أنشأوه ووصانوه بجهوٍد دؤوبٍة حثيثٍة طيلَة‬ ‫مع القبائِل الفارسية في قِ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ثلثِة قرو ن‪َ ،‬أحَكَمت عليه السللة الخمينية الفارسية قبضَتها وانتزَعته منهم بمكيدٍة َحبَ​َكتها في قصوِرها خلَل‬ ‫ف مع القائِد‬ ‫ت تلك السللِة الفارسية‪ ،‬والذي ُيدعى كيروس ‪ Kiros‬الفارسّي‪ ،‬يتحال ُ‬ ‫مدٍة وجيزة‪ .‬فأحد أحفاِد بنا ِ‬ ‫ب مؤلٍم للغاية في‬ ‫ال ةعسكري هرباكوس ‪ Harpagos‬في القصِر للطاحِة بالَملِ​ِك ال ةعجوِز الخير أستياغ بانقل ٍ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫خ هيرودوت أّ ن أستياغ كا ن قد قال َمقابَل هذه الدناءة‪" :‬أيها السافل‪ ،‬ما ُدمَت أطحَت بي‪،‬‬ ‫القصر‪ .‬وَن ةعلَُم من تاري ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫سلُّم السلطةَ لذاك الفارسّي ابن الحرام؟ لو أنَك أنَت استلمَت السلطة على القل‪ ..‬لماذا سّلمَت دفة الحكم‬ ‫فلماذا تُ َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ق ذلك من لَُدنِّه )ونحن ُمرغمو ن‬ ‫إلى يِد الفارسيين؟ لو أنَك أبقيَتها في يِد الميديين!"‪ .‬ولو كاَ ن هيرودوت ل يُلَف ُ‬ ‫خ عالٍِم وحكيٍم َجاَب في الرض أكثَر من غيره(‪ ،‬فهذا الوضُع يشيُر إلى‬ ‫على الوثو ِ‬ ‫‪.‬ق به وتصديقِ​ِه لنه أوُل مؤر ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ف السنين‪.‬‬ ‫ي قد تَ َ‬ ‫أّ ن التواطَؤ الكرد ّ‬ ‫شّكلت مزاياهُ الدنيئة الواطئة للغاية منذ آل ِ‬ ‫شهيٍر في التاريخ هو أنكيدو ‪ ،Enkidu‬الذي أتى به گلگامش‪َ ،‬ملُِك‬ ‫ي َ‬ ‫إني على قناعٍة بأّ ن أوَل متواطٍ ئ كرد ّ‬


‫ق التي َيستَقِّر فيها الكرُد الوائل بالغلب(‪،‬‬ ‫ت )كانت الغابا ُ‬ ‫أوروك‪ ،‬من الغابا ِ‬ ‫ت كثيفًة في تلك الزما ن في المناط ِ‬ ‫خ لدرجِة أنها أوصبَحت‬ ‫لِيُ َ‬ ‫سّخَرهُ ك ةعميٍل متواطٍ ئ م ةعه في غزِو مناط ِ‬ ‫ق الغابات‪ .‬أي أّ ن هذه المسألةَ غائرةٌ في التاري ِ‬ ‫ضّحى بأجواِء الجباِل‬ ‫موضوَع الملحِم الولى؛ وبالطبع‪ ،‬بوساطة المرأة‪ ،‬مثلما هي الحال في كّل الوقات! فقد َ‬ ‫ضّللة‪َ .‬كم هذا الوضُع شبيهٌ لب ةعِد َحّد بهذه‬ ‫الحرِة وبأوصدقائِ​ِه َكرمى ل ةعيَني راهبِة الم ةعبد وجاذبيِتها وشهواِتها الُم َ‬ ‫ف حركِة الحريِة الكرديِة و ‪!(PKK‬‬ ‫ت المطابقِة لـ هرباكوس‪ ،‬والبارزِة بين وصفو ِ‬ ‫ت الشخصيا ِ‬ ‫اليام )شبيهٌ بمئا ِ‬ ‫شّكَلت تاريخيًا‪ ،‬وأنه ل يتوانى عن بيِع‬ ‫ي المتواطِ ئ الحالّي قد تَ َ‬ ‫ب الدراك يقينا ً وجليا ً أّ ن شخصيةَ الكرد ّ‬ ‫إذ ن‪ ،‬يج ُ‬ ‫ب ابَت ةعَد عن النبالِة‬ ‫أيِة قيمٍة نفيسٍة في سبيِل زوجِته وعائلته التي ل تساوي خمسةَ قروش‪ .‬ولهذا السب ِ‬ ‫والوصالِة والسياسة والحكمِة الحقيقية‪ ،‬واغتَ​َرَب عن الحياِة الثمينة الفاضلِة الممت ةعِة بَِحق )والتي تَُمّر من الحياِة‬ ‫الحرة(‪ ،‬وبالتالي‪َ ،‬رّجَح حياةً بغيضةً ممقوتًة‪.‬‬ ‫ص هيرودوت‪ ،‬قسماً‬ ‫صُد اليونانيين القدامى‪ ،‬وليس الحداثويين َغريِبي الطوار(‪ ،‬وبالخ ّ‬ ‫يَُخ ّ‬ ‫ص اليونانيو ن )َأق ُ‬ ‫ص ُ‬ ‫خ لجِل الميديين‪ .‬إذ ُيطِلق اسَم الميديين على كّل المنحدرين من الثقافِة الهورية‪ ،‬حسبما أعتقد‪،‬‬ ‫كبيراً من التاري ِ‬ ‫وَيحتَِرُم َعظَ​َمةَ الميديين‪ ،‬في حين َي ةعتَبُِر البرسيين من المرتبِة الثانية‪ .‬وكأنه َيرى عيَن الحقيقة عندما قاَل أّ ن‬ ‫الطابَع الثقافّي للمنطقِة ممهوٌر بُمهِر َنسِل الميديين‪ .‬فالبرسيو ن حينها كانوا مجموعةً مجهولةَ السم ظَ​َهَرت‬ ‫ف ثقافِتها‪ .‬في حين أّ ن َعظَ​َمةَ الثقافِة الهورية كا ن قد دّوى وصداها من‬ ‫سُم بِ ُ‬ ‫ض ةع ِ‬ ‫لِتَّوها على َحلَبَِة التاريخ‪ ،‬وتَتّ ِ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ت الضوَء على هذه‬ ‫سلط هيرودو ُ‬ ‫شواطِ ئ بحِر إيجة إلى عيلم‪ ،‬ومن حدوِد القوقاز إلى الحدوِد المصرية‪ .‬وقد َ‬ ‫الحقيقِة في تاريِخه عن وجِه َحق‪.‬‬ ‫ح جميِع الحضارات عمومًا( ِمن دوٍر في‬ ‫ما أَّداه الرهباُ ن الوائُل في الحضارِة السومرية )وفي بدايا ِ‬ ‫ت تشييِد وصر ِ‬ ‫إنشاِء الذهنيِة الجديدة واللِه الجديد‪ ،‬إنما يجري على الحضارِة الورارتية والميديِة – البرسية المشّيدِة قَْبلً في‬ ‫سّمو ن ماغ تحت رايِة الريادِة الزرادشتيِة كرمٍز –‬ ‫الساحِة نفسها‪ .‬إذ بمقدوِرنا القول أنهم َ‬ ‫شّكلوا رهباَنهم الُم َ‬ ‫َ‬ ‫ب – يشير إليهم‪ ،‬وأّ ن موشاسيَر ‪ Muşasir‬المتواجدة في منطقِة برادوست ‪ Bradost‬الحاليِة كانت‬ ‫وربما لق ٍ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫س هناك‪ ،‬ومن ثّم انتَقَل إلى توشبا وأقبطا ن‬ ‫مركَز مدائِنهم المقدسة‪ ،‬وأّ ن أوَل مجمٍع لللهِة الولى قد تَأ ّ‬ ‫س َ‬ ‫ح حضارٍة جديٍة وطيدة‪ ،‬ما لم يَُكْن لهم تقاليُد رهبانيةٌ‬ ‫وبرسابوليس ‪ .‬ذلك أنه من الص ةع ِ‬ ‫ب عليهم تشييد وصر ِ‬ ‫م ةعّمرة‪ .‬ويؤدي الفلسفةُ في الثقافِة اليونانية بفلسفاِتهم البارزِة‪ ،‬وكذلك المثقفو ن المتنورو ن في مرحلِة التنويِر‬ ‫خ لدى الساِمّيين والنبياِء لدى ال ةعبرانيين في‬ ‫في المدنيِة الوروبية دوراً شبيهاً بذلك‪ .‬ومن المفيِد إدراج الشيو ِ‬ ‫ف عيِنه‪.‬‬ ‫الصن ِ‬ ‫ت ورهباُ ن ماغ في مرحلِة انطلقِة‬ ‫ف بدقٍة على الدواِر الِجّد هامٍة التي أَّداها زرادش ُ‬ ‫ي بمكاٍ ن التَّ ةعّر ُ‬ ‫ِمن الضرور ّ‬ ‫س زرادشت شهيرةٌ ِبدوِرها في‬ ‫ي قناعةٌ أكيدةٌ بأّ ن أخل َ‬ ‫‪.‬ق وعقائَد الرهباِ ن الميديين وال ةعنصِر المؤ ّ‬ ‫الميديين‪ .‬لَ​َد ّ‬ ‫س ِ‬ ‫سِهم بجانبِ​ِهم هذا لِقِيَِم‬ ‫سهم للناِر والزراعِة والحيوانات‪ ،‬وَعك ِ‬ ‫خ المدنية‪ ،‬وذلك عبَر تقدي ِ‬ ‫َعَدِم التلو ِ‬ ‫ث بأوسا ِ‬ ‫ع الرهباِ ن السومريين للَمِلك – اللِه المقَّنع‪ ،‬بل‬ ‫المجتمِع النيوليتي‪ .‬فالزرادشتيةُ مختلفةٌ كّل الختل ِ‬ ‫ف عن ابِتدا ِ‬ ‫ع الفضيلة – الرذيلة‪،‬‬ ‫وهي على الضّد منه‪ .‬فهي ُمتَرَعةٌ بمفاهيَم جدليٍة َتنظُ​ُر إلى الكوِ ن ِبأنه عبارة عن وصرا ِ‬ ‫‪.‬ق الحرةَ دستوٌر أولّي في َرهبَنَِة زرادشت الُملَهمِة بهواِء الجباِل الحرة )ثقافِة‬ ‫والنوِر – الظلم‪ .‬كما أّ ن الخل َ‬ ‫اللِه ديونيسوس في الثقافة اليونانية( غيِر الغارقِة كلياً في أجواِء المدنية‪ .‬فهي تَتَ​َحّد ُ‬ ‫ث عن قدسيِة الزراعة‬ ‫والحيوانات‪ ،‬وعن طبائِع النسا ن الحر؛ بدلً من أْ ن َتصنَ​َع اللهة‪.‬‬ ‫‪.‬ق مكانُتها البارزةُ ونصيُبها الوافُر في ُرقِّي الميديين – البرسيين وهزيمِة وانهياِر الشوريين‪.‬‬ ‫ولهذه الخل ِ‬ ‫َ‬ ‫صُد‬ ‫فلول َولَُ ةعُهم و َ‬ ‫شَغفُ​ُهم بالحياِة الحرة لَ​َوقَُ ةعوا أسرى بِيَِد الخصوِم بكّل سهولة‪ ،‬مثلما حصَل للش ةعوب الخرى‪ .‬أق ُ‬ ‫ع تحت تأثيِر المجتمع المديني‪.‬‬ ‫بالش ةعو ِ‬ ‫ب الخرى‪ ،‬تلك المتخبطةَ حتى النخا ِ‬ ‫ي‬ ‫ت منشأ ٍ ميد ّ‬ ‫ت كيروس )مرحلة ما بين ‪. 529 – 559‬ق‪.‬م(‪ ،‬يتّم القضاُء بكّل سهولٍة على مجموعٍة ذا ِ‬ ‫َب ةعَد َمو ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ب على يِد الرهبا ن الميديين‪ِ ،‬ليبدأ عهُد داريوس الشهير‬ ‫كانت قد است ةعاَدت دفة الحكم في ‪. 628‬ق‪.‬م عبَر انقل ٍ‬ ‫س أوسُع إمبراطوريٍة في التاريخ خلل مدة قصيرة‪ ،‬ب ةعَد سقوِط مدائِن بابل‬ ‫)ما بين ‪. 521 – 586‬ق‪.‬م(‪ ،‬وتَتَأ َ ّ‬ ‫س َ‬ ‫ومصر ومدينِة إيو ن الواق ةعِة على شواطِ ئ بحر إيجة‪ ،‬لَِتمتَّد من شواطِ ئ إيجة إلى شواطِ ئ بينجاف )النهار‬ ‫الخمسة( في الشر‪.‬ق؛ وَتنَدِرَج هيمنةُ كافِة المدنيات في ال ةعالم تحت سقفها‪ ،‬فيما خل الصين‪ .‬ل شّك في أنها‬ ‫ت المدنية( السومرية‪ ،‬الشوريِة‪ ،‬البابلية‪ ،‬والورارتية‪ .‬فضلً عن‬ ‫انتَ​َهَلت واستَ​َقت الكثيَر من الثقافات )الثقافا ِ‬ ‫أنها اقَتاَتت أيضاً على الشراييِن الحرِة للثقافِة الرية‪ ،‬وبَ​َدَأت تَتَأ َثُّر بالثقافِة اليونانية عبر السكيت الشهيرين‬ ‫ت م ةعهم‪ .‬وباحتضانها هذا ال ةعدَد الَجّم من‬ ‫المنحدرين من الشمال‪ ،‬وبالتراِك الوائل في شرقيهم؛ وَت ةعقُِد ال ةعلقا ِ‬


‫ت وَجْمِ ةعها كتركيبٍة جديدٍة في بنيتها‪َ ،‬أهَدت التاريَخ مثالً خاوصا ً بها‪.‬‬ ‫الثقافا ِ‬ ‫شّكلوا على الدوام‬ ‫تَُمّثل المبراطوريةُ الميدية – البرسيةُ )وبالف ةعل‪ ،‬فقد كا ن الميديو ن في المرتبِة الثانية‪ ،‬و َ‬ ‫ت‬ ‫ت القرابِة الوطيدِة تأثيُرها في ذلك( تَُمثُّل آِخَر إمبراطوريا ِ‬ ‫القوةَ الغالبَة والساسية في الجيش‪ .‬وقد كا ن ل ةعلقا ِ‬ ‫الجيِل الول وأوسَ ةعها نطاقًا‪ .‬فقد بَ​َلغوا أوَج الحضارة وَحّققوا الحدوَد القصوى الممكن ووصولها في الثقافِة‬ ‫الحضارية للجيِل الول‪ .‬أما َع َ‬ ‫ظَمةُ مركِزهم )بقايا مدينِة برسابوليس ل تزال بهية زاهية(‪ ،‬وَمنَ​َ ةعةُ مراكزهم في‬ ‫المحافظات‪ ،‬فهي َأشبَهُ بإمبراطوريِة روما التمهيدية‪ .‬فالحضارةُ الغريقيةُ ‪ -‬الرومانية ُت ةعتَبَُر أقوى مؤثٍر َهيّأَ‬ ‫سُخ نظاَم المحافظات في التاريخ ب ةعَد الورارتيين(‪،‬‬ ‫ال ةعالَ​َم وأَ​َعّده‪ .‬وهي مشهورةٌ بنظاِمها السياسي )أوُل من يَُر ّ‬ ‫ف‬ ‫ق الَمِلك‪ ،‬الذي يَُح ّ‬ ‫ق شهيٍر في التاريخ‪ ،‬وهو طري ُ‬ ‫‪.‬ق المواوصل ِ‬ ‫ت الضخمة )أوُل أطوِل طري ٍ‬ ‫وبالبريِد وطُ​ُر ِ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ت الحماية الخاوصة‪،‬‬ ‫شواطَ ئ بحِر إيجة‪ ،‬ويبدأ من سارد ‪ Sard‬لينتهَي في برسابوليس(‪ .‬كما أنها م ةعروفة بَِوَحدا ِ‬ ‫ت اللف‪ .‬هذا وقد َحقَّقت تَ َ‬ ‫طّوراً ملحوظا ً في المجاِل الم ةعماري‪،‬‬ ‫وألويِة الفدائيين‪ ،‬وبامتلِكها جيشا ً َقواُمهُ مئا ُ‬ ‫ب الفصِل بين ِديِن النبلء وِديِن الش ةعب‬ ‫وتَ​َميَّزت بَِتبايُِنها في ال ةعقائِد والطقوس والش ةعائِر الدينية‪ ،‬إلى جان ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫)الميترائية (‪ .‬هذا وَحقَّقت نقلةً من التقاليِد القَبَلِّية إلى تقاليٍد أرستقراطيٍة متقدمٍة للغاية‪ ،‬وأضافت تطورا ٍ‬ ‫ف الولويِة في إبداِء فّن َجْمِع عدٍد ل‬ ‫ملحوظةً فاَقت مجموَع مياديِن الحضارات التي تسبقها‪ ،‬بحيث ناَلت شر َ‬ ‫ت‪ ،‬وتوحيِدها في بوتقٍة واحدة‪ .‬إنها آخُر‬ ‫ت والثقافا ِ‬ ‫حصَر له من القبائِل وال ةعشائِر والديا ن والمذاهب واللغا ِ‬ ‫َ‬ ‫حضارٍة للشر‪.‬ق في ال ةعصوِر الولى‪ ،‬وهي حضارةٌ خلبةٌ ُتبِهُج البصاَر وُتبِهُرها‪ ،‬وتَتَ​َميُّز بِتَفّوِقها الذي ل ُيمكُن‬ ‫البتة مقاَرنَ​َته مع الحضارِة اليونانية الكلسيكية الصاعدِة حديثا ً من أيِة ناحيٍة كانت‪ .‬وإسكندُر – تلميُذ أرسطو –‬ ‫في الحقيقِة هو ذاك البربري الغازي ذو القوة الصاعدة‪ ،‬والذي يتطلع للستيلء على بلداِ ن الجوار‪ ،‬والُمتَلَّوي‬ ‫‪.‬ق ال ةعريقة‪ ،‬والُمتَ​َغ ّ‬ ‫ش على ذاتِ​ِه تجاه َعظَ​َمِتها وَرْغبَتُهُ‬ ‫ضُن والُمنَكِم ُ‬ ‫تحَت وطأِة ُعقَدِة الّنق ِ‬ ‫ص لديه إزاَء ثقافِة الشر ِ‬ ‫في اسِتملِكها‪ .‬فكيفما تَُكوُ ن المبراطوريةُ الرومانيةُ تجاه القوط‪ ،‬هكذا هي تماما ً حاُل المبراطوريِة البرسية‬ ‫بالنسبة إلى المقدونيين‪ ،‬واليونانيين ال ةعاطلين عن ال ةعمل‪ ،‬ورؤساِء القبائل‪ ،‬والممالك الصغيرة‪ .‬فهي – وبُِكّل‬ ‫تأكيد – ليست أَقَّل شأناً من روما من حيث ال ةعظمِة والغنى والبهاِء والّزُهّو‪ .‬وإذا ما نَ َ‬ ‫ظرنا إلى غزِو السكندِر من‬ ‫خ على منواٍل أوصح وأفضل‪.‬‬ ‫هذه الزاوية‪ ،‬فسوف نستطيُع تفسيَر التاري ِ‬ ‫ق النَّقلت والنطلقات‪،‬‬ ‫تحقي‬ ‫في‬ ‫له‬ ‫ك‬ ‫ومشا‬ ‫المديني‪،‬‬ ‫ع‬ ‫المجتم‬ ‫من‬ ‫ِلننتِه من قضايا النتشاِر في المرحلِة الولى‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ضَ ةعِة القبيلِة ال ةعبرانية ومكانِتها في تَ َ‬ ‫طّوِر المجتمع‬ ‫بإضافِة ِبضَ ةعِة نقاط‪ .‬تَتَ​َ ةعلّ ُ‬ ‫ق إحدى هذه القضايا بكيفيِة َمو َ‬ ‫سمو ن بمزايا حياكٍة َمّكوكيٍة جام ةعٍة فيما بين‬ ‫المديني‪ .‬أَّوُل ما علينا قوُله في هذا المضمار‪ ،‬هو أّ ن ال ةعبرانيين يَتّ ِ‬ ‫ت المنشأِ المصري‪،‬‬ ‫ت المنشأِ السومري وتلك ذا ِ‬ ‫ت ذا ِ‬ ‫اللغَتين والثقافَتين الريِة والسامية‪ ،‬وكذلك بين الحضارا ِ‬ ‫منُذ أعوام ‪. 1700‬ق‪.‬م إلى يومنا الحاضر‪ .‬وقد ُذِكَرت أسماُء سروج ‪ ،Seruç‬أورفا‪ ،‬حرا ن ‪ Harran‬في ُكتُبِ​ِهم‬ ‫ب أّ ن قبائَلهم كانت َترعى مواشَيها‬ ‫المقدسِة بالذات‪ ،‬حيث تَنُ ّ‬ ‫ف إبراهيم‪ .‬وعلى الغل ِ‬ ‫ص على أنها مواطُن أسل ِ‬ ‫وتَتَنَقُّل بها من تلك الماكن إلى مصر‪ ،‬مع انشغاِلها نوعاً ما بالتجارة‪ .‬أما عقائُدهم الدينيُة‪ ،‬فتَتَ​َأرَجُح بين يَْهَوه‬ ‫صّدو ن النصهاَر في بوتقِة المجتمع المديني‪ .‬ول ةعقيدِتهم اللهيِة‬ ‫وآل – ا ‪ .ELLALLAH‬كما أنهم يَتَ َ‬ ‫صدي‪ ،‬إذ يَتَ​َمّيزو ن عن غيِرهم بتص ةعيدهم الكبر لمفهوِم إلهيِة القبيلة‪ .‬أما‬ ‫الخاوصِة بهم روابطُ وثيقةٌ مع هذا التّ َ‬ ‫وصراعاُتهم ومنازعاُتهم المبتدئةُ مع إبراهيم تجاه نمرود )ملوُك بابل(‪ ،‬والمستمرةُ مع موسى تجاه فرعو ن‬ ‫سَتستَِمّر في حياِتهم داخَل فلسطين أيضا ً تجاهَ ال ةعديِد من القبائل‪ ،‬وبالطبع‪ ،‬تجاهَ آلهِتها أيضًا‪.‬‬ ‫)ملوُك مصر(‪ ،‬ف َ‬ ‫صونو ن خصووصياِتهم وخاوصياِتهم مدةً طويلًة‬ ‫هذا ولَُهم قص ٌ‬ ‫ب المقّدس‪ ،‬حيث يَ ُ‬ ‫ص غريبةٌ عجيبةٌ في الكتا ِ‬ ‫َ‬ ‫بزعامِة الرهبا ن )َوُهم أشبَهُ بممالِك الرهبا ن السومريين الوائِل( المنحدرين من هارو ن الخ في عائلِة موسى‪.‬‬ ‫ب المشهوِر‬ ‫وب ةعَد مرحلِة الرهبا ن الوائِل المبتدئِة مع موسى )أواخر ‪. 1300‬ق‪.‬م(‪ ،‬والمنتهيِة مع الراه ِ‬ ‫وصاموئيل ؛ َتبَدأُ مرحلةُ الَمَلكيِة )مرحلةُ شاؤول‪ ،‬داوود ‪ ،‬سليما ن ‪ ،‬وَمن تَبَِ ةعهم ِبدءاً من ‪. 1020‬ق‪.‬م( القويِة‬ ‫شّداء السابقين‪ ،‬لِيُِقيموا َمَلكيةً‬ ‫بجوانبها السياسيِة وال ةعسكرية‪ ،‬حيث َي ةعَتلي ال ةعر َ‬ ‫ش الملوُك الض ةعفاُء بدلً من الَ ِ‬ ‫ب الثنائية‬ ‫ت فيما بين الملوِك والرهبا ن‪ ،‬وعلى بروِز الحزا ِ‬ ‫ت والتناقضا ِ‬ ‫وصغيرةً تَظَّل شاهدةً على المنازعا ِ‬ ‫سُر كليا ً مع‬ ‫والثلثية التاب ةعِة دوماً للقوى الخارجية‪ .‬في حين أّ ن الشرائَح المقاِومةَ والمتصديةَ والمتواطئةَ َتخ َ‬ ‫‪.‬ق‬ ‫صّديها لشور في أعوام ‪. 720‬ق‪.‬م‪ ،‬لَِيبَدأَ نفُيهم إلى بابل في ‪. 540‬ق‪.‬م‪ ،‬وَيخلُ ُ‬ ‫تَ َ‬ ‫صوا من النفِي مع إلحا ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ص اليهوِد الباقين على قيِد الحياة أثناَء‬ ‫البرسيين الضربة القاضية بالنفوِذ البابلي‪ .‬وهذا شبيهٌ إلى َحّد ما بَِخل ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ص شبيهٍة بتلك‪ .‬فَمث ً‬ ‫ل؛ َينشأ حزبا ن متواطئا ن مرًة‬ ‫ش السوفييت إلى برلين‪ .‬وهكذا‪ ،‬لهم عدةُ قص ٍ‬ ‫دخوِل جي ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫سْبُي‬ ‫صدوقيو ن والفريسيو ن ‪ .‬ثم هناك المقاَوَمة تجاه روما‪ ،‬ثم ال ّ‬ ‫ع البرسي – الغريقي‪ :‬ال ّ‬ ‫أخرى في الصرا ِ‬


‫سْبُي الثاني )أعواَم السب ةعين ‪ 70‬فيما قبَل الميلد وما ب ةعَده(‪ ،‬لِيَ​َتناَثروا في أراضي مصر والناضول‬ ‫الوُل وال ّ‬ ‫ت البرسية والغريقية والرومانية‪.‬‬ ‫ق الحضارية على التوالي‪ ،‬بما فيها مناط ُ‬ ‫ق الحضارا ِ‬ ‫أَّوًل‪ ،‬ثُّم في كافِة المناط ِ‬ ‫شّكَل بدايةً دينيةً ثانيةً ذاَت أوصوٍل إبراهيمية‪ ،‬ويَتَ​َحّوَل لبدايِة ملحمٍة‬ ‫وَيظهُر عيسى المقاِوُم‪ ،‬وُيصَلب‪ ،‬لِيُ َ‬ ‫ت الكارثية للقبيلِة ال ةعبرانية الصغيرِة مع‬ ‫أسطوريٍة بالنسبة إلى بروليتارّيي روما‪ .‬وهكذا َتستَِمّر بَلِيّةُ المغامرا ِ‬ ‫سّمو ن قسما ً هاّماً من رؤسائهم بـ الرباني والنبي‪،‬‬ ‫الحضارِة الغريقية – الرومانية والحضارِة الوروبية‪ .‬ويُ َ‬ ‫والذي َي ةعني السيَد ورسوَل الرب‪ .‬وهكذا َتبَدأُ سلسلةٌ طويلةٌ من النبياء‪ ،‬يَُكو ن عيسى ومحمد خاتمُتها‪ .‬ولكن‬ ‫ت السياسية‪ .‬أما عهُد الُكّتاب‪ ،‬فيبدأُ‬ ‫الموسويين ل َي ةعتَِرفو ن بهما‪ ،‬فَتستَِمّر التناقضا ُ‬ ‫ت الدينيةُ في أحشاِء الصراعا ِ‬ ‫ب المتنورين الشداِء إلى يومنا بقوٍة ُتماثُِل قوةَ جيِل‬ ‫بالرجح ب ةعَد الهيمنة الرومانية‪ ،‬لَِتستَِمّر تقاليُد جيِل الُكّتا ِ‬ ‫ب مع الزمن في ولدِة‬ ‫سب ّ ُ‬ ‫النبياء بأقّل تقدير‪ .‬وبالمقابل‪ ،‬فإّ ن الخطوةَ التجاريةَ الصغيرةَ في بداياتها‪ ،‬تَتَ َ‬ ‫ٌ‬ ‫الرأسمالية‪ ،‬وتؤدي دوراً أساسيا ً في هيمنِة الرأسماِل المالّي الراهن‪ .‬إنهم قِلّةٌ قليلة في ال ةعدد‪ ،‬ولكّن تأثيَرهم في‬ ‫ي بقدِر تأثيِر المبراطوريات‪ .‬لذا‪ ،‬فالقبيلةُ ال ةعبرانيةُ موضوٌع جديٌر بالبحث‬ ‫خ الحضارة ال ةعالمية قو ّ‬ ‫تاري ِ‬ ‫ص الدقيق بما ُيماثُل البحَث في حضارٍة ما بأقّل تقدير‪ .‬فكأنهم أباطرةُ الِ ةعلِم والدستوِر والمال‪ ،‬ول‬ ‫والتمحي ِ‬ ‫َ‬ ‫َيفَتئو ن َيلَ ةعبو ن الدوَر عيَنه بكافِة جوانِبه الغريبِة والملفتة في يومنا الحاضِر‪ ،‬مثلما كانوا عليه طيلة مساِر‬ ‫صّغٍر لقصِة هذه القبيلة‪ .‬حي ُ‬ ‫ت من سروج التاب ةعِة لورفا‪،‬‬ ‫ث خرج ُ‬ ‫التاريخ‪ .‬وحكايَِتي الشخصيةُ َأشبَهُ بإسقاٍط ُم َ‬ ‫ب مغايٍر بَِمُ ةعونَِة الُملوِك‬ ‫تماما ً مثلما فَ​َ ةعَل إبراهيم‪ .‬إل أّ ن مقاومتي َتستَِمّر – مثلما الحاُل في عيسى – على وصلي ٍ‬ ‫صتي هو بين‬ ‫المتواطئين مع النظاِم القائم )الَملُِك يهوذا يتواطأ ُ في قصِة عيسى‪ ،‬في حين أّ ن التحال َ‬ ‫ف في قِ ّ‬ ‫ت المتحدة المريكية(‪.‬‬ ‫الموساِد والوليا ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ضَحة الهويِة في أعواِم ‪. 800‬ق‪.‬م‪ ،‬والتي تَُ ةعوُد‬ ‫القضيةُ الخرى هي الهجرا ُ‬ ‫ت السكيتية التية من الشمال‪ ،‬والُمتّ ِ‬ ‫ت الجذوِر القوقازية‪ .‬إّ ن هذه القبائَل المنتشرةَ في كّل الماكن‪ ،‬من أراضي أوروبا الداخليِة إلى‬ ‫إلى القبائِل ذا ِ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ب اعتماِدها على‬ ‫ب روسيا الجنوبيِة إلى ميزوبوتاميا؛ لم َتتُرْك آثارا واضحة الم ةعالِم بسب ِ‬ ‫‪.‬ق آسيا‪ ،‬ومن سهو ِ‬ ‫أعما ِ‬ ‫س وهدِم ال ةعديِد من المبراطوريات‪ ،‬مثلما هي‬ ‫القوِة الجسديِة أكثَر من الثقافة‪ .‬ولكنها ذا ُ‬ ‫ت دوٍر أساسّي في تأسي ِ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ت كثيرة عبَر حواشيها ال ةعسكريِة ونساِئها في‬ ‫حاُل القبيلِة ال ةعبرانية‪ .‬وَنسَتخلِ ُ‬ ‫ص من ذلك أنها قّدَمت خدما ٍ‬ ‫القصور‪ ،‬لَِتستَِمّر في دوِرها هذا إلى عهِد المبراطوريِة ال ةعثمانية الخيرة‪ ،‬بل وإلى فترِة جمهوريِة تركيا‪ .‬ولكن‪،‬‬ ‫ط ةعما ً أو َنكَهةً‬ ‫سِبهم َ‬ ‫يبدو أنهم َعِجزوا عن الحفاِظ على ذاِتهم بقدِر ما فَ​َ ةعَل ال ةعبرانيو ن‪ ،‬رغم أنهم ُيضُفو ن بطابَِع نَ َ‬ ‫ق‬ ‫ُمغايرةً على الثقافات‪ .‬وقد تَُكوُ ن لهم َجمالياُتهم‪ ،‬ومواقُفهم الباسلة‪ .‬لذا‪ ،‬فإّ ن السكيت وأمثاَلهم موضوٌع َخلي ٌ‬ ‫ث بإم ةعاٍ ن ضمن الجيِل الوِل من المجتمِع المديني‪.‬‬ ‫بالبح ِ‬ ‫شّكِل النظمِة التاريخية‪ .‬إذ أّ ن‬ ‫ث الَم ةعنِيِّة بِتَ َ‬ ‫ضيٍّة في البحو ِ‬ ‫ح الَمرَكِز – الطراف َكفَ​َر ِ‬ ‫ع استخدام مصطل ِ‬ ‫بالمستطا ِ‬ ‫التساؤَل َعّما يحصُل في الطراف َيحظى بالهميِة عندما تَُكوُ ن مراكُز الحضارِة المدينية موضوَع الحديث‪.‬‬ ‫ف‬ ‫ف ةعندما تَأ َ ّ‬ ‫س َ‬ ‫ت السومرية والمصرية والصينيِة لوِل مرٍة في التاريخ‪ ،‬كانت قوى الطرا ِ‬ ‫ست مراكُز المدنيا ِ‬ ‫ت الوصوِل السامّية؛ والُهو ن ‪Hunlar‬‬ ‫الهاّمِة بالنسبِة للسومريين والمصريين هي قبائُل الراميين وال ةعابيرو ذا ُ‬ ‫التراُك الوائل بالنسبة للصينيين‪ ،‬والقوط بالنسبِة إلى الرومانيين‪ .‬وزعماُء قبائِل هذه النساب‪ ،‬التي َتشَهُد‬ ‫ح الحضارِة واسَتحَوذوا عليه؛ ما بَِرحوا‬ ‫مرحلةَ البربريِة ال ةعليا بالغلب‪ ،‬عندما تَ​َ ةعّلموا كيفيةَ استخداِم سل ِ‬ ‫ب النصار‪ .‬وكانت مصائُِرهم تنتهي إما بالنصهاِر في بوتقِة‬ ‫ع حر ِ‬ ‫َيهجمو ن وُيداف ةعو ن بطراٍز َأشبَهُ بنو ٍ‬ ‫ع من أنوا ِ‬ ‫ف شبيهٍة في ُبناها بتلك المركزية‪ .‬وعلى‬ ‫س مراكَز مدنيٍة في الطرا ِ‬ ‫مراكِز الحضارة المدينية الحاكمة‪ ،‬أو بتأسي ِ‬ ‫سبيِل المثال؛ فقد تَ​َدّوَل ال ةعموريو ن الكاديو ن على شكِل سللٍة منفصلٍة حصيلةَ هجماِتهم المتواليِة دو ن انقطاع‪.‬‬ ‫س ال ةعبرانيو ن أيضا ً َملَِكيَّتهم المستقلةَ بناًء على ما تَ​َ ةعّلموه وَعِرفوه في مصر‪ .‬في حين أّ ن الُهو ن ِمن‬ ‫كما أَ ّ‬ ‫س َ‬ ‫شِهَدها التاريخ‪ ،‬ولكنهم لم َينجوا من النصهاِر في الصين وأوروبا وحتى في‬ ‫ت الطراف التي َ‬ ‫أَ َ‬ ‫شّد وأعتى حركا ِ‬ ‫ت مراكِز الحضارة المدينية عمومًا‪ ،‬بَقَِيت فروُع‬ ‫ت إدارية في ثقافا ِ‬ ‫إيرا ن‪ .‬وبينما َيبقى زعماُء القبائل كقيادا ٍ‬ ‫َ‬ ‫ب مجدداً الحفاظ على مواقِ ةعها مع زعماَء ُجُدد‪ .‬أما‬ ‫ش ضيق‪ ،‬أو تَُجّر ُ‬ ‫القبائِل الفقيرة مدةً طويلةً ت ةعي ُ‬ ‫ش في هام ٍ‬ ‫ض ةعوا تاَج روما على‬ ‫ت اللمانية بهجماِتهم المتلحقِة على روما‪ ،‬وأحيانا ً َو َ‬ ‫ت المارا ِ‬ ‫القوط‪ ،‬فقد شادوا لَ​َبنا ِ‬ ‫ّ‬ ‫سِر‬ ‫س أولى ال َ‬ ‫رؤو ِ‬ ‫سهم أيضًا‪ .‬وُيبِرز لنا التاريُخ زعماَء قبائِل المغول والوغوز‪ ،‬التي احتَلت مكاَنها في تأسي ِ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫س يَُدّل على أنهم كانوا قوةً هامة بالنسبِة للمدنية البيزنطية من بيِن قوى الطراف‪،‬‬ ‫الحاكمِة ال ةعثمانية‪ ،‬كمثاٍل نفي ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ف والمركز‪ ،‬لِيَتَ​َخلصوا ِمن َكونِ​ِهم في‬ ‫ت السنين بين الطرا ِ‬ ‫ع داَم مئا ِ‬ ‫وأنهم اسَتولوا على المركِز ب ةعَد تناُز ٍ‬ ‫الطراف‪ ،‬ويَتَ​َحّولوا إلى مركٍز بَِحّد ذاته‪.‬‬


‫والسكيت المنحدرو ن من الشمال عمومًا‪ ،‬ومن بلِد القفقاس خصووصًا‪ ،‬كانوا أيضا ً قوًة من قوى الطراف التي‬ ‫ت المدينية على وجِه الخصوص‪ .‬ف ةعندما تَ​َ ةعّرفوا على‬ ‫أَّدت دوراً رئيسياً في مراكِز الحزاِم الوِل من الحضارا ِ‬ ‫سّلحوا بأسلحِتها‪َ ،‬غدوا قوةً هجوميةً مذهلة‪ .‬وُي ةعتَ​َقد أنهم كانوا فّ ةعالين ونشطاَء للغاية فيما بين‬ ‫الحضارات‪ ،‬وتَ َ‬ ‫‪. 500 – 3000‬ق‪.‬م‪ .‬ورغَم تأِديَِتهم دوَر ال ةعساكِر المرتزقين وَخَدِم القصور بالغلب‪ ،‬إل أنهم بَ​َقوا قاوصرين عن‬ ‫صوا من النصهاِر بنسبٍة كبرى‪.‬‬ ‫بناِء مراكَز حضاريٍة مدينيٍة هامٍة باسمهم‪ ،‬ولم َيخلُ ُ‬ ‫ب‪ -‬التطورات في ثقافة الصين والهند والهنود الحمر‪:‬‬ ‫وصد المختصر للتطورات الحاوصلِة في الصين والهند والهنود الحمر‬ ‫سيكو ن من المفيد أيضاً القيام بالَر ْ‬ ‫المريكيين ضمن إطاِر النُظُِم الحضارية الخاوصة بهم‪.‬‬ ‫ومثلما َذَكرنا سابقًا‪ ،‬فمع انتهاِء ال ةعصِر الجليدي الخير‪َ ،‬غَدت الصيُن المنطقةَ الهّم للمجموعات النازحة من‬ ‫الجنوب الغربي لِ​ِسيبيريا نحو أقصى الجنوب لتستقر فيها اعتباراً من أعوام ‪. 000,10‬ق‪.‬م‪ .‬فالراضي الخصبةُ‬ ‫على شواطِ ئ البحر‪ ،‬والنهُر الكبيرة‪ ،‬ووفرةُ النباتات وشتى أنواع الحيوانات؛ َمنَ​َحتهم فَُروصاً كبرى لظهوِر‬ ‫ت المدنية على السواء‪ .‬وُيلَحظ تَطَّور ثورٍة نيوليتيٍة وصينية في أعوام ‪. 4000‬ق‪.‬م‪.‬‬ ‫الثقافة النيوليتية والحضارا ِ‬ ‫القضيةُ الهامة هنا َتكمن في مدى َكوِ ن هذه الثورِة الزراعية النيوليتيِة خاوصةً بالصين‪ ،‬ومدى َكوِنها ثمرةَ التأثرّ‬ ‫بانتشار الثقافة الرية‪ .‬إذ ل ُي ةعتَ​َقد عدم انتشاِر هذه الثقافة النيوليتية الرية في الصين‪ ،‬باعتبارها ُمنشأةٌ َقبل‬ ‫ف عاٍم على القل‪ .‬وتزداد أهميةُ كو ن الثقافة الرية ُمَ ةعّينة هنا‪ .‬فالتاريُخ َيسُرُد أماَمنا كيف أّ ن‬ ‫ثقافتها بستِة آل ِ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ق المدِة الطول وتَ​َوفَر الظروف الخاوصة‬ ‫ت الثقافيةَ ال ةعظمى لم تَتَ​َكّو ن بسهولة‪ ،‬بل تَطلَبت على الدوام تَ​َحق َ‬ ‫الثورا ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫بها‪ .‬وحسَب تخميني‪ ،‬فبقدِر ما تَُكو ن اشتراكية الصين ورأسماليُتها الراهنة محلية وأوصلية خاوصة بها‪ ،‬تَُكو ن‬ ‫نيوليتيُتها ومدنيُتها أيضا ً خاوصةً بها ومتسمةً بطابِ ةعها المحلي‪ .‬أرجو أل ُأفَهَم خطًأ‪ ،‬ولكني ل أشّك أبداً في َكوِ ن‬ ‫ت قومويةً إنما هي ُمستوَردة‪ .‬وهذا ما َيسري على الصين أيضًا‪ .‬ويمكننا القوُل أّ ن جميَع‬ ‫أكثِر الرأسماليا ِ‬ ‫ت اللحقة عبَر انتشاِر نيوليتيِة الصين نحو فييتنام وغيِرها من شبِه ُجُزِر الهند الصينية‪ ،‬وشبِه الجزِر‬ ‫التطورا ِ‬ ‫ع تاريِخها إلى ما قبِل أعواِم ‪4000‬‬ ‫اليابانية والندونيزية‪ ،‬وشبِه الجزيرة الكورية؛ تشير إلى استحالِة إرجا ِ‬ ‫‪.‬ق‪.‬م‪.‬‬ ‫والتاريُخ الُمرَتأى لولدِة الحضارِة المدينية ال ةعبودية الصينية ُيقاِرب أعواَم ‪. 1500‬ق‪.‬م‪ .‬إذ يمكنني القول أّ ن أوَل‬ ‫ست في هذه الزمنة‪ ،‬وكانت ُمف ةعمةً بال ةعديد من القدسيات‪ ،‬لِتُِكوَ ن بمثابِة مدينِة‬ ‫أعظِم إمبراطوريٍة مركزيٍة قد تَأ َ ّ‬ ‫س َ‬ ‫أوروك بالنسبِة إلى الصين‪ .‬أما في أعوام ‪. 1000‬ق‪.‬م‪ ،‬فنلحظُ انتشاَرها وتوسَ ةعها ب ةعَد مرحلِة التأسيس‪ ،‬تماماً‬ ‫س عدٍد جّم من الدوِل المدينية‪،‬‬ ‫مثلما حصَل لدى السومريين والمصريين‪ .‬وَتشَهُد هذه المرحلةُ الثانيةُ تأسي َ‬ ‫شبَهُ بما كانت عليه حال السومريين في عهِد مدينِة أور‪ .‬أما المرحلةُ‬ ‫ع تنافسّي حاّد بين المدائن‪ ،‬أَ ْ‬ ‫ونشوَب وصرا ٍ‬ ‫ت الحاكمة المركزيِة فيها مرةً أخرى‪ ،‬لَِتتُرَك بصماِتها‬ ‫الثالثةُ )‪. 250‬ق‪.‬م – ‪ 250‬م‪ (.‬فتَتَ​َ ةعّزُز مكانةُ السلل ِ‬ ‫ت محليةً أو دخيلةً في أوصولها‪ ،‬ولكنها َتستَِمّر بنفوِذها‬ ‫الواضحةَ على ال ةعهِد القطاعي‪ .‬قد تَُكوُ ن هذه السلل ُ‬ ‫ت القر ن ال ةعشرين‪ .‬وخلَل هذه المرحلِة َنشَهُد انتشاَر الحضارِة الصينية في أعوام ‪ 500‬م‪.‬‬ ‫الصارِم إلى بدايا ِ‬ ‫ضمن ُجُزِر الهنِد الصينية والجزِر اليابانية‪ ،‬وبين المغول والتراِك الوائل في آسيا الوسطى‪.‬‬ ‫ب في شأِ ن الثقافِة الصينية هو َغلَبَةُ تفسيِر ُحَكماِئها للكو ن‪ ،‬بدلً من اختراِعهم اللهةَ على غراِر الرهبا ن‬ ‫والغري ُ‬ ‫صّورو ن الكوَ ن‬ ‫ب عليها ال ّ‬ ‫السومريين‪ .‬فشروُحهم واوصطلحاُتهم حول الكو ن والطبي ةعِة َتغلُ ُ‬ ‫سمةُ ال ةعلمية‪ ،‬حيث يَتَ َ‬ ‫حيًا‪ .‬كما أّ ن ت ةعريفاِتهم للطاقِة مفيدةٌ للغاية‪ .‬وبشكٍل عام‪ُ ،‬يطَلق على الروحانيِة الصينية اسَم "الطاوية"‪ ،‬والتي‬ ‫ش في أعواِم ‪. 500‬ق‪.‬م‪ ،‬إلى تنظيِر‬ ‫ُيمكننا تسميَتها بـ"الِحْكمة" أيضًا‪ .‬هذا ويس ةعى كونفوشيوس‪ ،‬الذي عا َ‬ ‫‪.‬ق السليمة‪،‬‬ ‫مباد ِ‬ ‫‪.‬ق نظاِم المدينِة الحضارية والدولة‪ .‬من هنا‪ ،‬فإسناُد إرادِة مجتمِع الدولة إلى الخل ِ‬ ‫ئ وأخل ِ‬ ‫ّ‬ ‫ب كونفوشيوس‪ ،‬الذي َي ةعَمُل على تطويِره‪ ،‬فيَُؤثُر في المجتمِع‬ ‫ِعَوضاً عن القوانيِن الرسميِة‪ُ ،‬ي ةعزى إلى مذه ِ‬ ‫َ‬ ‫س الفترة‪ .‬هؤلء‬ ‫المديني الذي ينتمي إليه‪ ،‬بقدِر ما كا ن عليه شأُ ن زرادشت وسقراط اللذين عاشا في نف ِ‬ ‫الُحَكماُء ال ةعظاُم الثلثةُ يؤكدو ن بالغلب على أهميِة الخل‪.‬ق والفضيلِة الجوهرية‪ .‬إنهم الُحَكماُء والمداف ةعو ن‬ ‫ال ةعظاُم عن الخل‪.‬ق‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ت ملحوظة هامة في ميداِ ن المدنية المادية‪ ،‬حيث َيسبُِقو ن الغرَب في الرقي بالتطور‬ ‫ُينِجُز الصينيو ن تطورا ٍ‬ ‫ي في أقاوصي‬ ‫صّدرو ن الميداَ ن التجار ّ‬ ‫الصناعي بمدٍة طويلة‪ .‬إنهم مخترعو الور‪.‬ق والباروِد والمطب ةعة‪ ،‬ويَتَ َ‬ ‫‪.‬ق أوسطية‪ ،‬فقد‬ ‫ق الحريِر التاريخي‪ .‬أما َتما ّ‬ ‫سهم المتواوصُل والُمَرّكُز مع الحضارا ِ‬ ‫ت الشر ِ‬ ‫الشر‪.‬ق‪ ،‬في ُمبتدأِ طري ِ‬ ‫َ‬ ‫حصَل في القروِ ن الولى ِلما قبِل الميلد وب ةعده‪ ،‬لَِينفِتحوا على الرأسماليِة في أواسِط القرِ ن التاسِع عشر‪،‬‬


‫ق‬ ‫وصُد الجميُع بُفضوٍل بارٍز ما سيف ةعله‪ ،‬وكيف سيَُحقّ ُ‬ ‫ضّخُمهم في راهننا‪ ،‬وكأنهم لوياثاٌ ن جديٌد َير ُ‬ ‫ويتفاقَم تَ َ‬ ‫اتساَعه‪.‬‬ ‫أما في الهند‪ ،‬فل نلحظُ تطوراً نيوليتيا ً محليا ً لمدٍة طويلة‪ .‬ويَُخّمُن أنهم عاشوا مرحلةَ الكلِ ن البدائية على نحٍو‬ ‫سهم الوِل مع الريين الذين َدخلوا الهند في أعوام ‪. 1500 – 2000‬ق‪.‬م‪ .‬وبروُز‬ ‫سوِد إّباَ ن تما ّ‬ ‫َأشبَهُ بالبيغما ال ّ‬ ‫الثورِة النيوليتية إنما مرتب ٌ‬ ‫ط بهذه التطورات‪ .‬هذه الثورة‪ ،‬التي َتليها مباشرةً ودو ن فواوصَل زمنيٍة بارزٍة ثورةُ‬ ‫ب المقدسةُ‬ ‫الحضارة المبتدئةُ في أعوام ‪. 1000‬ق‪.‬م‪ ،‬فَُرّواُدها هم الرهباُ ن‪ ،‬مثلما الحال لدى السومريين‪ .‬والكت ُ‬ ‫سّماة بُِرهباِ ن براهما ن الشهيرين هي أسفار "الفيدا" ‪ ،‬والمَؤّلفةُ في أعوام ‪1500‬‬ ‫الساسيةُ لهذه الطبقِة الُم َ‬ ‫ب ال ةعبراني المقدس‪ ،‬ولكنها أكثُر طولً وت ةعقيدًا‪ .‬وهي‬ ‫‪.‬ق‪.‬م‪ .‬وهي أَْقَر ُ‬ ‫ب لْ ن تَُكوَ ن نسخةً هنديةً ُم ةعّدلةً من الكتا ِ‬ ‫شّكَل‬ ‫ص نشوِء طبقِة الرهبا ن بركائَز إلهيٍة مذهلة‪ ،‬مع عدِم إهماِل إضفاِء الطابِع الملحمي عليها‪ ،‬لتُ َ‬ ‫َتروي قص َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ب طبقِة "راجا" كقوٍة سياسيٍة وعسكرية في أعواِم ‪1000‬‬ ‫بذلك الرضية المني ةعة لنظاِم الكاست ‪ .‬وَيظَهر أوصحا ُ‬ ‫ت محتدمةً وضاريةً مع البراهمانيين‪ ،‬لَِيغدوا الوصحاَب الجدَد للدولِة – مثلما يحصل‬ ‫‪.‬ق‪.‬م‪ ،‬ويَُخوضو ن وصراعا ٍ‬ ‫َ‬ ‫شّكلوا القوةَ الكاستية الثانية‪ .‬ومثلما الوضُع في الصين‪ ،‬ففي الهنِد أيضا ً ُتساِعُد شواطُ ئ‬ ‫في كل مدنية – ويُ َ‬ ‫ُ‬ ‫البحار والمياهُ ال ةعذبة على ِفلحِة الراضي‪ .‬وتتزايُد المدُ ن في أعوام ‪. 1000‬ق‪.‬م بالغلب‪ ،‬لِتَتَ​َميَّز بم ةعابِدها‬ ‫ب المهِن الحرِة طبقةً كاستيةً‬ ‫وقصوِرها الضخمة‪ .‬أما الزراعُة‪ ،‬فهي أرقى بكثير‪ ،‬ويَُؤّلف الَفلحو ن وأوصحا ُ‬ ‫ثالثة‪ .‬وفي الطبقِة الخيرة السفلى يقبع الباريائيو ن )الَمنُبوذو ن(‪ ،‬الذين َيزَدِريهم الجميُع بما يضاهي ازدراَءهم‬ ‫للحيوا ن‪ ،‬لدرجِة اعتباِرهم مجرَد الحتكاِك م ةعهم ُجرما ً ل ُيغتَفر‪.‬‬ ‫شئو ن عدداً يَُجّل حصُره من الموجودات اللهية‪ ،‬بقدِر‬ ‫يَ ُ‬ ‫ت ثيولوجيةً مت ةعددةَ اللوا ن‪ ،‬حيث ُين ِ‬ ‫صوغ الهنود إلهيا ٍ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ت السومريةَ ال ةعميقةَ لديهم‪ .‬أما زيادةُ‬ ‫َ‬ ‫ما ُيولو ن الهمية لنشاِء اللهة الكبرى‪ .‬في الحقيقة‪ ،‬إننا نتَلّم ُ‬ ‫س التأثيرا ِ‬ ‫ق تركيبٍة جديدة‪ ،‬ولنحداِرها من َمشاِرَب‬ ‫جان ِ‬ ‫ب الت ةعقيد الشائِك فيها‪ ،‬فت ةعوُد إلى افتقاِرها للكفاءِة اللزمِة لتحقي ِ‬ ‫خارجية‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ح الدينّي ال ةعظيِم بوذا‪ ،‬مثلما ُيلَحظ ذلك في كّل الحضارا ِ‬ ‫َتشَهُد الهنُد في أعواِم ‪. 500‬ق‪.‬م ولدة وتَ​َرعُرَع الُمصلِ ِ‬ ‫الهام ِة آنذاك )كونفوشيوس في الصين‪ ،‬سقراط لدى الغريق‪ ،‬زرادشت لدى الميديين – البرسيين(‪ .‬وبوذا‬ ‫ت المتفاقمِة في الطبي ةعة‬ ‫مشهوٌر بتطويِره إوصلحا ً قواُمه الخل ُ‬ ‫‪.‬ق دو ن اللهة‪ ،‬حيث َينتَبِهُ لللِم والمخاضا ِ‬ ‫ف لتلفيها‪ .‬البوذيةُ ت ةعاليٌم ُم ةعاِرضةٌ للحضارة المدينية‪،‬‬ ‫والمجتمع‪ ،‬فيس ةعى لتطويِر نظريٍة ميتافيزيقيٍة تهد ُ‬ ‫ومتميزةٌ بطابِ ةعها اليكولوجّي الوطيد‪ .‬وتتصاعد في الصين واليابا ن وأراضي الهند الصينية‪ .‬إنها ت ةعاليٌم جديرةٌ‬ ‫ب عليه روصُد النْفس الباطنية‪،‬‬ ‫بالتركيِز والتأمِل من جهِة ميتافيزيقيِة الخل‪.‬ق فيها‪ ،‬ونظاٌم إوصلحّي َيغلُ ُ‬ ‫ب إلى عبادِة‬ ‫سّمى "كريشنا" ‪ ،‬وكأنه َأقَر ُ‬ ‫والجوان ُ‬ ‫ح اللهي الُم َ‬ ‫ب التطبيقيةُ الراسخة‪ .‬علوةً على وجوِد الوصل ِ‬ ‫ت الَملَِكيِّة في مراحِل البدايِة بالغلب(‪ .‬إنه ديٌن قواُمه‬ ‫ديونيسوس منه إلى عبادِة زيوس )وَيرُمُز إلى التطورا ِ‬ ‫ت القويِة‬ ‫ق الصميمي مع الَْلِويَِة النسائيِة الحرة‪ ،‬وُمَحّمٌل بالبصما ِ‬ ‫الحياةُ الجبليةُ والترحال‪ ،‬ومف ةعٌم بقص ِ‬ ‫ص ال ةعش ِ‬ ‫للثقافِة النيوليتية‪ .‬أو بالحرى‪ ،‬هو مفهوٌم أخلقّي ُيضِفي ِقيمةً عليا على رغبِة الحياة الحرة‪ .‬وكو ن اللهيات‬ ‫ضة للميتافيزيقيا المفرطِة‪ ،‬إنما يَُدّل بما فيه‬ ‫الهندية مشحونة بالتيارات المنحازة إلى شكٍل من المادّية المناِه ِ‬ ‫‪.‬ق الم ةعيشية في الهند‪.‬‬ ‫ق وضخامة الت ةعقيِد الجتماعي والفوار ِ‬ ‫الكفاية على مدى ُعم ِ‬ ‫ب الحضارةُ الهنديةُ بنيةً مركزيةً ب ةعَد غزِو السكندِر والبرسيين واستيلئهم عليها‪ .‬أما أوُل تَ​َمرُكٍز شائٍع‬ ‫س ُ‬ ‫َتكتَ ِ‬ ‫ت‬ ‫وطيٍد ومستقّل ِبذاِته للراجائيين‪ ،‬فيَُؤ ّ‬ ‫س ُ‬ ‫سه المبراطوُر ماشوكا في أعواِم ‪. 300‬ق‪.‬م‪ .‬وعلى غراِر الصل ِ‬ ‫ح الذي نادت به الديانةُ الزرادشتيةُ وتشييِد المبراطوريِة الميدية – البرسية المركزية‪ ،‬فَ​َقد‬ ‫الوثيقِة بين الوصل ِ‬ ‫تَقَبَّل ماشوكا من الصميِم الوصلَح الدينّي الذي نادى به بوذا‪ ،‬لُِيحِرَز النجاَح في مساعيه تلك‪ .‬ولكنه َي ةعَجُز عن‬ ‫ب‬ ‫َ‬ ‫وصوِ ن نجاِحه لحقاً حتى ولو بالقدِر الذي َحقَّقته الصين‪ ،‬لِيَُ ةعّم فساُد الراجائيين‪ ،‬وتسوَد حياةُ الفوضى والشَغ ِ‬ ‫ُ‬ ‫في أنحاِء الهند‪ ،‬إلى أْ ن تغزوها الدوُل السلمية في أعوام ‪ 1000‬م‪ .‬وفي ُمستَ​َهّل أعوام ‪ 1500‬م‪َ .‬تستَِرّد‬ ‫ُ‬ ‫ف وإدارِة الباطرِة المغوليين المسلمين‪ ،‬لُِتنِجَز تَ َ‬ ‫طوراً حضاريا ً ملحوظًا‪ ،‬وَتستَِمّر قُدماً‬ ‫مركزيَتها مجدداً بإشرا ِ‬ ‫ي لها في‬ ‫ب ال ةعناوصِر الم ةعتمدة على الرأسماليِة منذ أعوام ‪ ،1500‬والحتلِل النكليز ّ‬ ‫في توسِ ةعها‪ .‬ومع تَ َ‬ ‫سّر ِ‬ ‫ب ال ةعالمية‬ ‫ج مرحلٍة جديدة‪ .‬في حين تناُل استقلَلها كدولة ب ةعَد الحر ِ‬ ‫أواسِط القر ن التاسع عشر؛ ُتشِرُع بولو ِ‬ ‫َ‬ ‫شّكل ن طرفيها في الشمال الشرقي والشمال الغربي‪ ،‬إل أنها‬ ‫الثانية‪ .‬ورغم خسارِتها باكستا ن وبنغلدش اللَتين تُ َ‬ ‫ل تزاُل محافظةً على غناها الثقافّي بكّل ت ةعقيداِته الشائكة – ب ةعَد تط ةعيِمه بالمدنيِة الرأسمالية الراهنة – م ةعتمدًة‬ ‫ف جبال هماليا‪ ،‬لَِتحتَّل مساحةً شاس ةعة َتشَمُل شبَه‬ ‫على مياهها ال ةعذبة وشواطِ ئ بحارها‪ ،‬التي تبدأ من حوا ّ‬


‫ت المتناقضة‪ ،‬ومف ةعمٍة بالبنى السياسيِة‬ ‫الجزيرِة سائرًة‪ .‬وفي ِخ َ‬ ‫ضّم أجواٍء متوترٍة مشحونٍة بالفوضى والكيانا ِ‬ ‫واللغوية المتباينة والمتنوعة‪ ،‬بدءاً من الدين إلى الفن والخل‪.‬ق‪ ،‬ومت ةعرفٍة أيضاً على الديمقراطية؛ تَ​َحّوَلت‬ ‫ي يزداد الفضوُل بشأِ ن كيفية تأثيِره في ال ةعالم‪ ،‬بما ُيماثُل‬ ‫ئ متشرذٍم للغاية إلى لوياثاٍ ن قو ّ‬ ‫ش متجز ٍ‬ ‫الهنُد من وح ٍ‬ ‫الصيَن بأقّل تقدير‪.‬‬ ‫ي في البلداِ ن الخرى المتأتي من الثقافِة الم ذات المنشأِ الصيني‪ ،‬من قَِبيِل اليابا ن‪،‬‬ ‫أما التطوُر الحضار ّ‬ ‫أندونيزيا‪ ،‬فييتنام‪ ،‬وكوريا وغيِرها؛ فهو ذو طابٍع مماثل‪ ،‬حيث َيحَتذو ن بالحضارِة الّم في التطور والتوسع‪.‬‬ ‫ث فيه بالِنسَبة لموضوعنا‪.‬‬ ‫ولكننا ل نرى حاجةً للبح ِ‬ ‫ي القائِل بانتشاِر‬ ‫َتنتشُر الحضارةُ في القارِة المريكية على مرحلَتين‪ .‬حيث ُيجَمع بشأِ ن المرحلة الولى على الرأ ِ‬ ‫ت الهنوِد الحمر في أمريكا الشمالية ثم الجنوبية عبر مضيق برينغ خلَل أعواِم ‪. 7000‬ق‪.‬م )رغَم‬ ‫مجموعا ِ‬ ‫ً‬ ‫ح التاريخية‪ ،‬إل أّ ن الكثَر م ةعقولية هو النتشاُر ُعقَب ال ةعصِر الجليدي‪ ،‬وهذا ما يتزامُن مع هذه‬ ‫اختل ِ‬ ‫ف الشرو ِ‬ ‫ُ‬ ‫ضِر في أعوام ‪500‬‬ ‫السنين(‪ .‬ويَُخّمن تَ​َ ةعّرفهم على الثورِة النيوليتية في أعوام ‪. 3000‬ق‪.‬م‪ ،‬وتوّجُههم نحو التَّح ّ‬ ‫ت في الشر‪.‬ق )أمريكا الجنوبية(‪ ،‬بدءاً من المكسيِك إلى تشيلي باسِم آزتك‬ ‫م‪ ،‬حيث ُيشيدو ن وصرَح ُأولى الحضارا ِ‬ ‫ت المشابهة لحضارِة مدينِة أوروك الولى لدى السومريين َتنطفُ ئ‬ ‫‪ ،‬مايا ‪ ،‬وإنكا ‪ .‬ولكّن ُجذوةَ هذه الحضارا ِ‬ ‫ف المناخية‬ ‫ح إلى الظرو ِ‬ ‫وَتخبو قبل أْ ن تَتَ​َمّكَن من تأسي ِ‬ ‫س مدٍ ن أكبر‪ ،‬أو من زيادِة ت ةعدادها‪ .‬وُي ةعزى ذلك بالرج ِ‬ ‫ً‬ ‫والجغرافيِة على وجِه التخمين‪ ،‬حيث كانت ل تزال محافظة على وجودها‪ ،‬ولو خام ً‬ ‫ل‪ ،‬لدى مجيِء الوروبيين‪.‬‬ ‫ت التوسِع نحو‬ ‫أما ُبناها المدنيةُ القويةُ وبقايا م ةعابِدها‪ ،‬فكانت َتصوُ ن تأثيَرها حينذاك‪ .‬ولو أنهم َوَجدوا إمكانيا ِ‬ ‫س مراكَز موحدٍة أكثَر عددًا‪ .‬هذا وُيلَحظُ‬ ‫‪.‬ق القارة‪ ،‬لربما تَ​َمّكنوا عندئٍذ من الرقّي لمراحَل أرقى‪ ،‬وتأسي ِ‬ ‫أعما ِ‬ ‫ت الرهبا ن‪ .‬في حين أّ ن‬ ‫ب الحضارية أيضًا‪ ،‬مما ُيمكننا تسميتها بحضارا ِ‬ ‫أسبقية منزلِة الرهبا ن في هذه التجار ِ‬ ‫ً‬ ‫ت تقديَم النسا ن قربانا لللهة(‪.‬‬ ‫تقديَمهم الشباَ ن الياف ةعين كقرابين‪َ ،‬تق َ‬ ‫شِ ةعّر له البدا ن )َتشَهُد الكثيُر من الحضارا ِ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ق بالتقويِم السنوي‪ ،‬وَزّودوا‬ ‫ت أَْقَرب للكتابة‪ .‬في حين أّ ن آفاقهم واس ةعة فيما يت ةعل ُ‬ ‫وتَُ ةعّد بدائيًة‪ ،‬رغَم ظهوِر إشارا ٍ‬ ‫ت والحيوا ن‪ .‬أما أمريكا الشمالية‪ ،‬فلم تَُكن قد تَ​َ ةعّرَفت ب ةعْد على الحضارِة‬ ‫ع النبا ِ‬ ‫الحضارةَ ال ةعامةَ بال ةعديد من أنوا ِ‬ ‫وقَتذاك‪.‬‬ ‫س عشر ب ةعَد الميلِد‪ ،‬لدى‬ ‫يتزامُن ِبدُء النفجاِر الحضار ّ‬ ‫ي المديني الوصلّي في القارِة المريكية مع القرِ ن الساد ِ‬ ‫ف والحتلل والست ةعماِر والستيلء‪ .‬ومع التطوِر الحضاري المديني الرأسمالّي الجديِد ببروِز‬ ‫ع بالكتشا ِ‬ ‫الشرو ِ‬ ‫البلدا ن المستقلِة ظاهريا ً ب ةعَد تقسيِم الرأسمالية إلى دوٍل قوميٍة في القرِ ن التاسع عشر‪ ،‬وبالتزامِن مع بناِء‬ ‫ب أنظمِة الحضارة المدينية ال ةعالمية‪ ،‬وَتتكامل م ةعها‬ ‫الوليات المتحدة المريكية في أمريكا الشمالية؛ َتلَح ُ‬ ‫ق بموك ِ‬ ‫)ولنها لم تَتَ​َ ةعّرف على أيِة حضارٍة سابقة‪ ،‬فإّ ن التطوَر الرأسمالي ُيحِرُز تَ​َقدما ً جذريا ً عالَي الوتيرِة(‪ .‬وبَِمِ ةعيِّة‬ ‫ت المتحدة المريكية َيستَِمّر النظاُم في انطلقِته كقوٍة مهيمنٍة ب ةعَد الحرب ال ةعالمية الثانية‪ .‬أما أمريكا‬ ‫الوليا ِ‬ ‫ي جديٍد مقابل المدنيِة الرأسمالية‬ ‫ج حضار ّ‬ ‫ع في راهننا على البح ِ‬ ‫ث عن نموذ ٍ‬ ‫الجنوبيُة‪ ،‬فل تزال ُتثابُِر بكّل اندفا ٍ‬ ‫المنتميِة في جذو ِرها إلى أوروبا والوليات المتحدة المريكية )كوبا‪ ،‬فنزويل‪ ،‬بوليفيا وغيرها(‪.‬‬ ‫ب أوروبا‪ ،‬اللوياثا ن ال ةعمل‪.‬ق في راهننا‪ .‬ول يخطر على‬ ‫س َ‬ ‫بالمقابل‪ ،‬فقد كانت َمأْ َ‬ ‫سةُ الثقافِة النيوليتية من نصي ِ‬ ‫سَع‬ ‫ت رومانية مشّيدٍة في عام ‪. 100‬ق‪.‬م الذي َ‬ ‫شِهَد تَ​َو ّ‬ ‫البال اسُم أيِة حضارٍة في أوروبا‪ ،‬فيما خل بض ةعِة حاميا ٍ‬ ‫المبراطوريِة الرومانية‪ .‬بل َنشَهُد تجارةً متواض ةعةً بالم ةعاد ن في أماكِن تواجدها‪ ،‬مع تَ َ‬ ‫طّوٍر في الزراعة‬ ‫ح القبائل وهجراِتها ووصراعاتها‪ ،‬وسيادِة ذلك بأسماٍء عديدٍة من قَِبيِل السكيت‪،‬‬ ‫القروية‪ ،‬إضافةً إلى سيادِة نزو ِ‬ ‫الُهو ن‪ ،‬القوط‪ ،‬الكلتيين ‪ ،Keltler‬والنورديين ‪ .Nordikler‬نُنَّوهُ إلى أننا نستثني روما والثقافةَ اليونانية من‬ ‫ف الغربية من الحضارِة الشر‪.‬ق أوسطية‬ ‫هذه المرحلة‪ ،‬حيث سنتناول لحقا ً هاَتين الساحَتين الُمَؤلّفَ​َتين للطرا ِ‬ ‫على شكِل عنواٍ ن منفصل‪.‬‬ ‫ل تزاُل أفريقيا محافظًة على أواوصرها مع المسيرِة الولى للنسا ن‪ ،‬حين كا ن َيبح ُ‬ ‫ث عن الكِل وأدواُته في يده‪،‬‬ ‫شّكِل الثقافِة الفريقية ال ةعريقِة الّم البالغِة‬ ‫ق تَ َ‬ ‫وبثقافِته الجذريِة الوصيلِة الولى الطويلِة المِد الُم ةعاشِة في مناط ِ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ت الرمزيِة ب ةعَد لغِة الشارات‪ .‬هذه القارةُ المريكية – التي لم يَتَ​َخط تَ​َ ةعّرفها على الحضارِة المصرية‬ ‫لغةَ الصوتيا ِ‬ ‫ب الحضارة المسيحيِة في ال ةعصور الولى –‬ ‫حدوَد السودا ن‪ ،‬في حين اسَتم َ‬ ‫ب من جوان ِ‬ ‫سَكت الحبشةُ فقط بجان ٍ‬ ‫َ‬ ‫ب السامّيين لَِيشَهَد انفجاراً‬ ‫وبينما َ‬ ‫ح على يِد ال ةعر ِ‬ ‫شِهَد شماُلها ظاهرةَ السلمِة ُعقَب الغزِو السلمي الكاس ِ‬ ‫وصرةً بالمدنيِة الرأسماليِة الوروبية من جميِع أطرافها في القر ن‬ ‫حضاريّا ً إسلميّا ً عظيماً حينئذ؛ نراها محا َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ت نظراً لبنيِتها الداخلية‪ ،‬فَتشَهُد‬ ‫التاسِع عشر‪ .‬أما أفريقيا‪ ،‬التي ُتلقي وص ةعوبة كبرى في تَ​َحّمِل وَهضِم المدنيا ِ‬


‫ب احتوائها خليطاً متمايزاً من الثقافات‬ ‫ت الراهن‪ ،‬وتشبه الشوربة بسب ِ‬ ‫فوضًى عارمةً ِبكّل م ةعنى الكلمة في الوق ِ‬ ‫ب النظاَر إليها لَِروصِد ماهية الحياِة الحرة أو الحضارة أو الحداثِة‬ ‫والمراحِل المتباينة من المدنية‪ .‬وهذا ما َيجِذ ُ‬ ‫التي سَتندِمُج وتتكاَمل م ةعها‪ ،‬وانتظاِر ذلك بفضوٍل ولهفٍة وريبٍة وأمل؛ تماما ً مثلما ُيلَحظ ذلك في مثاِل أمريكا‬ ‫‪.‬ق الوسط أيضاً ولو بدرجٍة نسبية‪.‬‬ ‫الجنوبية‪ ،‬وفي الشر ِ‬ ‫ج‪ -‬الحضارة الغريقية – الرومانية وقضايا انتشارها‪:‬‬ ‫ب من َبحِثنا في التوسِع الحضاري ذي الجذوِر السومرية والمصريِة م ةعًا‪ ،‬ذلك أّ ن كلَتيهما‬ ‫يجب عدَم الستغرا ِ‬ ‫َ‬ ‫حضارَتا ن جذريتا ن أحرزتا التطوَر بالتزامن وبتأثيٍر متبادٍل لوِل مرٍة في التاريخ البشري‪ .‬كما أثَّرتا في ب ةعضِهما‬ ‫ب آخٌر لهذا التكامِل‬ ‫‪.‬ق أوسطية‪ ،‬فهو سب ٌ‬ ‫ب أثناَء التوسِع أيضًا‪ .‬أما انحدارهما إلى المشار ِ‬ ‫عن كث ٍ‬ ‫ب الشر ِ‬ ‫ت‬ ‫والتلحم‪ .‬ذلك أّ ن تداُخَلهما منذ الولدة من المزايا المميزة للمنطقة‪ .‬كما َ‬ ‫شِهدنا إنشاَءهما لل ةعديِد من البدايا ِ‬ ‫ت اللحقة باعتماِد هاَتين الحضارَتين أساساً من حيث‬ ‫الولى‪ .‬ول ُيمِكُن إنكار تَ َ‬ ‫ت والتوس ةعا ِ‬ ‫شّكِل النتشارا ِ‬ ‫المضموِ ن والشكِل على السواء‪ .‬إذ ن‪ ،‬ل جداَل في ترابِطهما من حيث الجذر‪ ،‬وإْ ن لم تَُكونا متطابقَتين كليًا‪ .‬لذا‪،‬‬ ‫يبقى احتماُل التحليِل أو التفكيِك الكافي ليِة حضارٍة مدينيٍة أخرى ض ةعيفا ً دوَ ن التفكيِر بمصر وسومر‪ .‬ومثلما‬ ‫شُر ويتكاثُر بالعتماِد على‬ ‫الحاُل في المدنيِة الرأسمالية تمامًا‪ ،‬فالنموذُج الوُل للحضارِة المدينية ال ةعبودية َينتَ ِ‬ ‫َ‬ ‫ع ل َينفّكو ن‬ ‫ج السومر ّ‬ ‫ض الت ةعديل ِ‬ ‫ي أولً ُثم المصري‪ ،‬مع ب ةع ِ‬ ‫ت الطفيفة‪ .‬إل أّ ن المؤرخين وعلماَء الجتما ِ‬ ‫النموذ ِ‬ ‫ّ‬ ‫سلم بها دو ن تأسيسها على هذه القرابة الحرجة‪ ،‬أياً كانت السباب‪ .‬وما إوصراُرنا في‬ ‫يَُكّررو ن شروَحهم الُم َ‬ ‫ّ‬ ‫سلمات‪.‬‬ ‫ف تحطيِم مفاهيِم هذه الُم َ‬ ‫التشديد على ذلك سوى بهد ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ت التي واجهناها في هذا النتشاِر الول‪ .‬فكا ن أّولها مستوى التأثيِر المتبادل بين سومر‬ ‫لقد تَطَّرقنا للص ةعوبا ِ‬ ‫ومصر‪ ،‬وهو موضوٌع يتطلب تسلي َ‬ ‫ط الضوِء عليه‪ .‬وثانيها قضيةُ الحضارِة الميدية – البرسية السّباقِة لغيرها‬ ‫‪.‬ق مراكِز ميزوبوتاميا‪ ،‬ومدى اعتباِرها أوصلً حضاريا ً منفصلً بَِحّد ذاته أم ل‪ .‬إذ أنه‬ ‫في تشكيِل ذاتها خارَج نطا ِ‬ ‫من الم ةعلوم استقاَءها الكثيَر من تصنيفاِتها الساسيِة من السومريين‪ ،‬وكذلك من البابليين والشوريين‬ ‫ت عظمى في التاريخ‪.‬‬ ‫والورارتيين‪ ،‬الذين هم امتداٌد للسومريين‪ .‬لكنه من الم ةعلوم أيضا ً إنجاُزهم إوصلحا ٍ‬ ‫ت المركزية‪ ،‬ونظاُم الجيوش؛ ُكّلها‬ ‫‪.‬ق الحرية(‪ ،‬ونظاُم الوليا ِ‬ ‫فالثورةُ الخلقيةُ الزرادشتيةُ )القريبةُ إلى أخل ِ‬ ‫سنا مضطرين لتفسيِرها كحلقٍة انتقاليٍة مختلفٍة‬ ‫ب َوَجدنا أنف َ‬ ‫ُي ةعتَبَُر ِمن ُأولى ساحاِتهم الجديدة‪ .‬ولهذا السب ِ‬ ‫ومتمايزٍة هامة تتوسطُ الحضارةَ الرومانيَة – الغريقية والحضارَتين السومرية والمصرية‪ .‬وهذه الفوار‪.‬ق‬ ‫ع تحليِل مراحِل الحضارة المدينية‪ ،‬انطلقا ً من مفهوٍم‬ ‫والتمايزات والهمية َتل ةع ُ‬ ‫ح في موضو ِ‬ ‫ب دوَر المفتا ِ‬ ‫تاريخّي سليٍم ووصائب‪ .‬وفي حاِل ال ةعكس‪ ،‬فلن َنقِدَر على تحليِل الحضارِة الغريقية – الرومانية على نحٍو سليم‪،‬‬ ‫ت َأعَقد‪.‬‬ ‫أو أننا َ‬ ‫سنُقَّدُم شروحا ً غيَر علميٍة بشأِنها‪ ،‬فَ​َن ةعزو إليها مزايا م ةعجزوية استثنائية‪ ،‬وُنقِحمها في تشويشا ٍ‬ ‫أما القضيةُ الثالثُة‪ ،‬فكانت م ةعنيةً بمشاكِل أوصوِل الحضارَتين الصينية والهندية‪ ،‬حيث نَّوهنا إلى ضرورِة النظِر‬ ‫شَبه‬ ‫ب ةعيِن الحيطِة إلى َكوِنهما مستقلَتين بخاوصياِتهما‪ ،‬مما يساعدنا أكثر على التفسير الصحيح لوجِه ال ّ‬ ‫ف بين الحضارات المدينية‪.‬‬ ‫والختل ِ‬ ‫ت مدينيةً خاوصةً بذاتها حقا ً مثلما ُيزَعم‪ ،‬وحتى لو كانت حضارَتا‬ ‫فإذا كانت حضارا ُ‬ ‫ت أمريكا الجنوبية حضارا ٍ‬ ‫وصتين بذاَتيهما؛ فسيَُكو ن من الم ةعقول أكثر القبول بأّ ن جذوَتها َخمَدت حتى قبَل تَ​َخ ّ‬ ‫طيها‬ ‫هارابا وموهانجادارو خا ّ‬ ‫لمرحلِة المدينِة التأسيسيِة الولى )على نمِط أوروك(‪ .‬علينا التبيا ن بأّ ن ُك ً‬ ‫ل من أفريقيا وأوروبا )عدا الغريق‬ ‫شِهَدت التحضَر في مراحِل النتشار اللحقِة بِأ َ​َمٍد ب ةعيد‪ ،‬وأنها – بما فيها أمريكا –‬ ‫– الروما ن( وحتى أستراليا َ‬ ‫َ‬ ‫ضِر هذه المناطق في تلك‬ ‫س الرأسمالية‪ ،‬وأّ ن المدنيةَ الرأسماليةَ أّدت دوَرها البارَز في تَ​َح ّ‬ ‫تَ​َح ّ‬ ‫ضَرت على أسا ِ‬ ‫ف وتفسيٍر أوصّح بشأِ ن الحضارِة الغريقية – الرومانية ب ةعَد هذا‬ ‫المراحل وما قبلها‪َ .‬‬ ‫سنَتَ​َمّكُن من تقديِم ت ةعري ٍ‬ ‫التمهيِد المختزل‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ي – البرسي في‬ ‫ل جداَل في أّ ن الحضارةَ الغريقية الرومانية َ‬ ‫شيَّدت وصرَح حضارٍة مدينيٍة ُتضاِرع المثاَل الميد ّ‬ ‫ف شبِه الجزيرة‪ ،‬دو ن الخِذ ب ةعيِن الحسباِ ن‬ ‫‪.‬ق هذه الخاوصيِة في ظّل ظرو ِ‬ ‫خاوصياتها وُرقِّيها‪ .‬أما الزعُم بانبثا ِ‬ ‫ت اللحقِة من بابليٍة‪ ،‬آشورية‪،‬‬ ‫ف للحضارَتين المصريِة والسومرية‪ ،‬وللحضارا ِ‬ ‫التوسَع المترامَي الطرا ِ‬ ‫ض النظِر عن مزاياها وِطباِعها الوصليِة؛ فلن يَُكوَ ن سوى عمًى‬ ‫ميتانيٍة‪ ،‬حثية‪ ،‬أورارتيٍة‪ ،‬وميديٍة – برسية‪ ،‬وبَِغ ّ‬ ‫ت دينيٍة وأخلقيٍة‬ ‫ت ذهنية‪ ،‬وتطورا ٍ‬ ‫ت‪ ،‬وتصنيفا ٍ‬ ‫تاريخيا ً فادحًا‪ ،‬وتحريفا ً فظي ةعًا‪ .‬فَُكّل ما بَِحوَزِتنا من اختراعا ٍ‬ ‫ع تلك‬ ‫ع ووصرا ِ‬ ‫وفلسفيٍة وفنيٍة وسياسيٍة واقتصاديٍة وعلمية‪ ،‬إنما تَ​َحقَّقت في خضّم مراحِل ولدِة وتَطَّوِر ونزا ِ‬ ‫س المجتمِع النيوليتي‪.‬‬ ‫ت النفة الذكر‪ ،‬والتي كانت قد َوِرَثتها بنسبٍة ل ُيستها ن بها ِمن مراحِل تَ​َمأ ُ‬ ‫الحضارا ِ‬ ‫س ِ‬


‫ح الحاكمِة في اللجوِء إلى‬ ‫وقد كنا َ‬ ‫سَ ةعينا لسرِد قصِة ذلك سابقًا‪ ،‬ومن دو ن التغاضي البَتّةَ عن جهوِد الشرائ ِ‬ ‫ب واللصووصية والت ةعمية والتستِر والشرعنِة على وجِه التخصيص‪.‬‬ ‫النهب والسل ِ‬ ‫يَُلوح أّ ن حركةَ التنويِر والتقدم ال ةعلمي في أوروبا بَقَِيت جاهلةً بهذا الواقِع أَ​َمداً طوي ً‬ ‫وصلَْت في‬ ‫ل‪ .‬وعندما تَأ َ ّ‬ ‫ت هي من اختراِعها‬ ‫صُر بِ​ِ ةعناٍد على أّ ن نسبًة عظمى من المنجزا ِ‬ ‫نهضِة الثقافِة اليونانية والرومانية‪ ،‬راحت تُ ِ‬ ‫ف الخاط ئ للحضارِة الغريقية – الرومانية‪.‬‬ ‫واكتشاِفها هي‪ ،‬لَِتغُدَو مسئولةً أيضاً عن الت ةعري ِ‬ ‫خ هيرودوت‪.‬‬ ‫ولن يَُ ةعّز على المرِء اكتشا ُ‬ ‫ف َمنشأ ِ أوصوِل الثقافِة اليونانية بنسبٍة كبرى حتى ِبمجرِد مطال ةعِة تاري ِ‬ ‫َ‬ ‫ب الثقافِة واللغة الهندوأوروبية )الرية( أّولً إلى شبِه‬ ‫ت التاريخية التي بَِحوَزتنا ُتشير إلى تَ َ‬ ‫سّر ِ‬ ‫فجميُع المستندا ِ‬ ‫ف عن‬ ‫سُم عدم َغ ّ‬ ‫ض الطّْر ِ‬ ‫الجزيرة الغريقيِة منذ أعوام ‪. 5000‬ق‪.‬م‪ ،‬ومن ثَّم ُم ةعايشِتها للثورِة النيوليتية‪ .‬ويَتّ ِ‬ ‫ت ب ةعيٍن سليمة‪ .‬ومن الم ةعقوِل القول بأنه‪ ،‬وابتداًء من‬ ‫خ التطورا ِ‬ ‫منبِع هذه الفترة بأهميٍة كبرى لقراءِة سيا ِ‬ ‫‪.‬ق تاري ِ‬ ‫َ‬ ‫س أوِل‬ ‫أعوام ‪. 1800‬ق‪.‬م‪ ،‬نَقَ​َلت الموجا ُ‬ ‫ت الجديدةُ الكتشافا ِ‬ ‫ت الحضارية مع هجراِتها‪ ،‬لَِي ةعُبروا إلى مرحلِة تأسي ِ‬ ‫ُ‬ ‫ج من‬ ‫ج أوروك في أعوام ‪. 1400‬ق‪.‬م‪ .‬وقد َحِظَيت هذه المرحلة بالدعِم والَمُ ةعونِة والنماذ ِ‬ ‫مدينٍة مماثلٍة لنموذ ِ‬ ‫ّ‬ ‫ت مختلفة‪ ،‬حيث ُيلَحظ َرَجحاُ ن تأثيِر الحثيين‪ ،‬الذين يَُوثقو ن هذه المناطق باسم آهيافا ‪.Ahiyeva‬‬ ‫ث جها ٍ‬ ‫ثل ِ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ومنذ أعوام ‪. 3000‬ق‪.‬م َيبدأ التبادُل التجاري مع المنطقة عبر طروادة‪ ،‬التي كانت َتحتَّل مكانة مصيرية بالنسبِة‬ ‫لشبِه الجزيرة في هذه المرحلة )‪. 1200 – 3000‬ق‪.‬م(‪ ،‬وبالتالي كانت من ُأولى أهدافها‪ .‬لقد َمّدهم الحثيون‬ ‫ل اليديولوجية )اللهة‪ ،‬الداب‪ ،‬العلم( والماديةِ )بالخص الشياء المعدنية والفخاريات‬ ‫بالوفيِر من الوسائ ِ‬ ‫ث النقلة إلى الحضارة‪ .‬أما الفينيقيون‪،‬‬ ‫جرة بها(‪ ،‬ليؤدوا دورا بارزا في إحدا ِ‬ ‫ت النسيجية للمتا َ‬ ‫والمنتوجا ِ‬ ‫ن التجاريَة على غراِر النموذ ِ‬ ‫ج‬ ‫شّيدون المد َ‬ ‫عّلمونهم البجديَة الفينيقية‪ ،‬وُي َ‬ ‫ملحِة البحريِة‪ ،‬وُي َ‬ ‫صون بال ِ‬ ‫َفَيخَت ّ‬ ‫ل تأكيد‪ .‬هذ‬ ‫كونوا ُرّواَده بك ّ‬ ‫الشرق أوسطي‪ ،‬لَي ُ‬ ‫ة الغريقيِة المتطورة بالعتماِد‬ ‫ق الحضار ِ‬ ‫ء مباشرة‪ ،‬أو عن طري ِ‬ ‫ل بارز‪ ،‬سوا ً‬ ‫وُيَؤّثُر فيهم المصريون بشك ٍ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ع الختراعا ِ‬ ‫ة التي أّثَرت فيها مصر(‪ .‬وشتى أنوا ِ‬ ‫ة الخاصُة الوحيد ُ‬ ‫على مستوطناِتهم )وهي الحضار ُ‬ ‫ت الربع )حتى أعوام ‪ 600 – 2000‬ق‪.‬م(‪.‬‬ ‫ق أوسطية تتغذى على الدوام من هذه القنوا ِ‬ ‫الحضارية الشر ِ‬ ‫جّول كل من صولون‪ ،‬فيثاغورس ‪ ،‬وتاِلس في أنظمِة القصور والمدارس‬ ‫وفي المرحلِة الخيرة‪َ ،‬يَت َ‬ ‫سهم‬ ‫ل الميلد‪ِ ،‬لَينَتِهلوا منها درو َ‬ ‫س قب َ‬ ‫المصريِة والبابلية والميديِة – البرسية في القرَنين السابع والساد ِ‬ ‫وأنظمَة قواعِدهم‪ ،‬وَينقلوها معهم إلى شبِه الجزيرة‪.‬‬

‫ض السواحُل الغربية لبحِر إيجة إلى غزِو القبائِل اليونية‪،‬‬ ‫وب ةعَد سقوِط طروادة )أعوام ‪. 1200‬ق‪.‬م( تت ةعر ُ‬ ‫خ الهجرات من أعواِم ‪. 1000‬ق‪.‬م على وجِه التخمين‪ .‬هذه‬ ‫اليولية ‪ ،Aiol‬والدورية ‪ .‬ويمكننا البدء بتاري ِ‬ ‫سّمي المصريو ن أوصحاَبها بالقواِم الساحلية – على وصلٍة بسقوِط طروادة‪ ،‬وَتمتَّد‬ ‫الهجما ُ‬ ‫ت الولى – التي يُ َ‬ ‫لَِتشم َل شرقي البحر البيض المتوسط ومصر‪ .‬أما هذه المجموعات‪ ،‬التي اكتظ بها غربي الناضول وجزر‬ ‫إيجة‪ ،‬فهي بمثابِة "البرابرة" الهمجيين في نظِر الحضارَتين الطروادية والحثية‪ .‬أما ساحاُتها الحضاريةُ فَتكُمُن‬ ‫ف‬ ‫في بلِد الحثيين وَمملكِة طروادة الصغيرة‪ .‬وكا ن لن يستطيَع البرابرةُ التحضَر إل ب ةعَد الستقراِر طويلً في كن ِ‬ ‫ثقافِة الحضارة المدينية‪ .‬وهذا ما حصَل بطبي ةعِة الحال‪ ،‬حيث يشرعو ن بالتَّمّدِ ن ب ةعَد فاوصٍل زمنّي طويٍل‪ ،‬بدءاً من‬ ‫أعوام ‪. 700‬ق‪.‬م‪ ،‬سواًء في شبِه الجزيرة ذاِتها‪ ،‬أو في جزِر إيجة وشواطِئها‪ .‬وَيقوُم هوميروس بتسطيِر‬ ‫ف‬ ‫ت القائمِة في أطرا ِ‬ ‫ب المتبقيِة من هذه المرحلِة الطويلة من الستقرار‪ ،‬والمستجدا ِ‬ ‫ت الحر ِ‬ ‫ص بطول ِ‬ ‫قص ِ‬ ‫ص الستقراِر في الجزيرة‪ .‬وَكوُ ن مراكِز التمد ن القائمِة في‬ ‫طروادة على نحٍو ملحمي‪ .‬أما الوديسا ‪ ،‬فهي قص ُ‬ ‫سواحِل بحِر إيجة م ةعبأةً بالوصالِة لَِحّد ما هو حقيقةٌ واق ةعة‪ .‬فميرا ُ‬ ‫ت الغنية والمتنوعة لقصى الحدود‪،‬‬ ‫ث الثقافا ِ‬ ‫وتربةُ أراضيهم الخصبةُ الصالحةُ لِنُ​ُمّو النباتات ورعِي الحيوانات بشكٍل استثنائي‪ ،‬ساَعَدهم وَمّدهم بالقدرِة‬ ‫س هذه التركيبِة الجديدة المنقط ةعِة النظيِر على هويِة هذه المدائِن الحديثِة ال ةعهد‪ .‬وهكذا ُيبُدو ن‬ ‫الكافية على عك ِ‬ ‫ت عليها‬ ‫‪.‬ق أوسطية وإطراِء التحول ِ‬ ‫مهاراِتهم البارعةَ في تحويِر ال ةعناوصِر اليديولوجيِة والمادية للثقافة الشر ِ‬ ‫ت جوهرية نسبيا ً وشكليٍة بنسبة هامة‪.‬‬ ‫ت الجديدة منها بإخضاعها لتغييرا ٍ‬ ‫ص التركيبا ِ‬ ‫ُكّليًا‪ ،‬وفي استخل ِ‬ ‫ت الحاوصلةَ في‬ ‫ت والكتشافا ِ‬ ‫وبالمقدوِر القوُل أنهم ُيبُدو ن مساهماِتهم التاريخيةَ الخاوصةَ بهم بما ُيماثُِل الختراعا ِ‬ ‫ق مثيلِتها في المراحِل السومرية والمصرية والحثيِة‬ ‫ال ةعصِر النيوليتي ‪. 4000 – 6000‬ق‪.‬م‪ ،‬وكذلك بما ُيطابِ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫والورارتية والميديِة – البرسية‪ .‬أي أنهم ُينِجزو ن الحملة الثقافية ال ةعظمى الثانية أو الثالثة‪.‬‬ ‫ت التنوير ال ةعظمى‪ .‬فإذا ما أخذنا ب ةعيِن الحسباِ ن أّ ن أوَل‬ ‫القضيةُ الهامةُ هنا تَتَ​َج ّ‬ ‫سد في موقِع المركِز كأحِد حمل ِ‬


‫ف الظلم‪ ،‬وأنه َلم‬ ‫تكويٍن مدنّي )في أعوام ‪. 1400‬ق‪.‬م( َلم يَُحّقق الثباَت‪ ،‬وأّ ن المرحلةَ اللحقةَ له بَقَِيت في كن ِ‬ ‫ضن في‬ ‫َيب َ‬ ‫ت الفينيقيين التجارية؛ سنلحظ أّ ن شبهَ الجزيرِة الغريقية لم َتحتَ ِ‬ ‫ق منها سوى بض ةعةُ مستوطنا ِ‬ ‫ت قبليةٌ حينها‪ ،‬وثمة َمن اشتَ​َهر كالكائيين‬ ‫طواياها أيةَ حضارٍة مدينيٍة حتى أعوام ‪. 700‬ق‪.‬م‪ .‬بل ثمة وصراعا ٌ‬ ‫ق بحِر إيجة‪ .‬من‬ ‫ق الحضارية في الناضول عن طري ِ‬ ‫‪ ،Akalar‬وخاوصةً هجماُتهم المتواوصلةُ على المناط ِ‬ ‫سهم هو زعيُم القبيلة‪ ،‬أكثَر ِمن أْ ن يَُكوَ ن َمِلكا ً )فالَملُِك‬ ‫المؤكِد أنهم كانوا في المرحلِة البربرية‪ ،‬وأّ ن َمن َيرأ ُ‬ ‫يستلزُم وجوَد المدينة(‪ .‬وكانت أثينا وقتئذ ب ةعيدةً عن أْ ن تَُكوَ ن مركزاً حضاريا ً – رغَم ازدهاِرها – في أعوام‬ ‫ستها القبائُل التي على سواحِل بحِر إيجة أَّدت دوراً‬ ‫ت تَُدّل على أّ ن المدائَن التي أَ ّ‬ ‫س َ‬ ‫‪. 600‬ق‪.‬م‪ .‬وُكّل الحتمال ِ‬ ‫ت في حملِة التنوير‪ ،‬وفي مقدمِتها هوميروس‪ ،‬الحكماُء السب ةعة‪ ،‬تاِلس‪،‬‬ ‫مركزياً أوطد‪ .‬فالسماُء الذائ ةعةُ ال ّ‬ ‫صي ِ‬ ‫هيروقليطس ‪ ،‬بارمنيدس ‪ ،‬ديموقريطس‪ ،‬وفيثاغورس؛ جميُ ةعها تنتمي إلى مدِ ن السواحل الغربية لبحِر إيجة‪.‬‬ ‫ست سلسلةٌ من المدِ ن المت ةعاقبة في هذه البق ةعة‪.‬‬ ‫لقد تَأ َ ّ‬ ‫س َ‬ ‫ص ولدِة اللهِة الشهيرِة – وفي وصدارِتها أبولو – إلى هذه المناطق‬ ‫المُر الهاّم هنا هو انحداُر أغل ِ‬ ‫ب قص ِ‬ ‫وِجواِرها‪ .‬فالمدنيةُ الماديةُ فيها أكثُر ُرقِيّاً بالنسبِة إلى شبِه الجزيرة‪ .‬فضلً عن أّ ن أكثَر الم ةعابِد ومراكِز التكهِن‬ ‫شهرةً تقُع في السواحِل الغربية لبحِر إيجة‪ .‬والكثيُر ِمن الدلِة والبراهيِن الخرى التي ُيمِكُننا سرُدها‪ ،‬تَُدّل‬ ‫جميُ ةعها على أّ ن مدَ ن اليونيين كانت مراكَز إيجة الحضاريةَ الجديدةَ ب ةعَد مرحلِة الحثيين والفريغيين والليديين ‪،‬‬ ‫أو على القّل في زماِنهم‪ .‬في حين أّ ن سكاَ ن شبِه الجزيرة ليسوا سوى استمراٌر لهم‪ .‬والخاوصيةُ الحرجةُ هنا‬ ‫تَتَ​َمثُّل في انتقاِل مركِز الحضارة المدينية إلى أثينا مع احتلِل المبراطورية الميديِة – البرسية لهذه الراضي في‬ ‫ب بالذات بالمكاِ ن تسميةُ أعواِم ‪. 400 – 500‬ق‪.‬م ب ةعصِر أثينا ال ةعظيم‪ ،‬حيث َتنتَقُِل كافةُ‬ ‫‪. 545‬ق‪.‬م‪ .‬ولهذا السب ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫آثاِر الحضارة اليديولوجيِة والمادية الموجودِة في مدِ ن سواحِل إيجة إلى أثينا‪ ،‬ويَلوذ القسُم العظُم من‬ ‫ف‬ ‫ض الجزر الخرى‪ ،‬لَِتنَحطّ مكانةُ المنطقِة شيئا ً فشيئا ً في كن ِ‬ ‫المتنورين إلى هناك‪ ،‬وإلى جنوبي إيطاليا وب ةع ِ‬ ‫النفوذ البرسي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫والحضارةُ البرسية – دو ن أدنى شك – هي العظُم والبهى في تلك المرحلة‪ .‬فهي ل َتكَتفي بالستقاِء من‬ ‫سُر م ةعها المنطقةُ‬ ‫ت عديدًة‪ .‬لكن‪ ،‬ومع ُخسراِ ن إيجة لستقللها‪َ ،‬تخ َ‬ ‫ق الغريقية‪ ،‬بل وتُقَّدُم لها مساهما ٍ‬ ‫المناط ِ‬ ‫ً‬ ‫ح حضارٍة عظمى‪ .‬وأستطيُع القول أنه لو َلم َيحصْل ذلك‪،‬‬ ‫وصر‬ ‫د‬ ‫تشيي‬ ‫في‬ ‫–‬ ‫ا‬ ‫أيض‬ ‫رها‬ ‫آخ‬ ‫وربما‬ ‫–‬ ‫لها‬ ‫ة‬ ‫فروص‬ ‫أوَل‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫سوا حضارةً ُتناِزُع وتضاهي في َع َ‬ ‫ت‬ ‫َلربما أَ ّ‬ ‫س ُ‬ ‫ظَمِتها وُزُهّوها وانتشاِرها في سائِر بلِد الناضول جميَع الحضارا ِ‬ ‫الخرى من سومريٍة ومصريٍة وهندية ووصينيٍة وحثية وبرسية‪ .‬وربما بَقَِيت شبهُ الجزيرَتين الغريقيِة‬ ‫‪.‬ق بيزنطة بمضاميِنها‬ ‫سرو ن فروصَة بناِء إمبراطوريٍة تَُفو ُ‬ ‫واليطاليِة في مستوى وليَتين خاض ةعَتين لها‪ .‬إنهم َيخ َ‬ ‫‪.‬ق انتفاَع أهالي إيجة من‬ ‫وأب ةعاِدها أض ةعافاً مضاعفة‪ .‬فوجوُد البرسيين في إيجة قضى عليهم من جهة‪ ،‬وأعا َ‬ ‫ي عظيٍم من جهة أخرى‪َ .‬فلنَتَ​َذّمْر ولَنسخْط ولنَتَأ َلّْم من ذلك قدَر ما شئنا عن وجِه‬ ‫َحّقهم في ريادِة نظاٍم حضار ّ‬ ‫حق‪ .‬لقد َجّرَب المقدونيو ن ح ّ‬ ‫ض عن ذلك كا ن ثقافةً متجزئًة‬ ‫ظهم في ذلك أولً متمثلً في السكندر‪ ،‬لكّن ما تَ​َمّخ َ‬ ‫سّمَيت تلك الثقافةُ ب ةعالَِم الثقافِة "الهيلينية"‪ ،‬إل أنها كانت مت ةعددَة‬ ‫صّب فيه‪ .‬ومهما ُ‬ ‫للغاية‪ ،‬مفتقرةً لمركٍز تَ ُ‬ ‫المراكز‪ ،‬ولم َتذَهْب أب ةعَد مْن أْ ن تَُكوَ ن تركيبةً جديدةً شرقيةً – غربية توفيقيةً متمفصلةً ‪ Eklektik‬ب ةعيدةً عن‬ ‫ي الروماني اللحق‪ ،‬فلم َيمَنح إيجة أيةَ فروصٍة أكثَر من أْ ن‬ ‫ع الوصيل الحقيقي‪ .‬أما البتكاُر المبراطور ّ‬ ‫البدا ِ‬ ‫تَُكوَ ن وليةً مركُزها بارغاما ‪ Bergama‬خصيصًا‪ .‬بم ةعنى آخر‪ ،‬فما فَ​َ ةعَله البرسيو ن بهم في الشر‪.‬ق‪َ ،‬كّرَرهُ‬ ‫الروما ن في الغرب‪.‬‬ ‫من الصحيح على سبيِل الوصطلح النظر إلى الحضارِة المتمركزِة في أثينا على أنها حضارةٌ مدينيةٌ حقيقيةٌ ِمن‬ ‫جهِة َت ةعاظُِم ُمُدِنها وتكاثِرها َكّمًا‪ .‬فقد تَ​َرَكت بصماِتها على عصِرها في ميداِ ن الحضارة المادية واليديولوجية‪.‬‬ ‫ت المذكورِة سابقاً‬ ‫ولدى تقييمنا أثينا‪ ،‬علينا قراءتها على أنها َأشبَهُ بخليٍط جديٍد ناجٍم عن وصهِر كافِة الحضارا ِ‬ ‫خ‬ ‫خ الحضارة برمته‪ ،‬بقدِر تجديدها لتاري ِ‬ ‫في بوتقٍة واحدة‪ .‬فهي ُتنِجُز ثورَتها الحضاريةَ ال ةعظمى بتجديِد تاري ِ‬ ‫الثقافِة النيوليتية خصووصًا‪ ،‬وبالستفادِة مجدداً من جميِع منجزاِتها واختراعاتها وابتكاراِتها اليديولوجيِة‬ ‫ت عصِرها الجديد‪.‬‬ ‫والمادية‪ ،‬لتَُوّحَدها مع تأثيراِتها المحليِة بقدِر توحيِدها مع متطلبا ِ‬ ‫سُد في َهضِمها وتَبَّنيها للفلسفِة أيديولوجياً من حيث هي فكٌر وشكٌل عقائدي‪،‬‬ ‫الخاوصيةُ ال ةعظمى الولى فيها تَتَ​َج ّ‬ ‫شت‬ ‫أكثَر من نزوِعها للدياِ ن الوثنية‪ .‬ذلك أّ ن الفلسفةَ ُتسفُِر عن انفجاٍر عظيٍم في الم ةعاني‪ .‬وهكذا نُثَِرت َوُر ّ‬ ‫بذوُر كّل الميوِل الفلسفيِة لل ةعيا ن في هذه المرحلة‪ ،‬لِتَِجَد جميُع النماِط الفكرية ُفروصَتها في الولدِة والتداول‪،‬‬ ‫بدءاً من المثاليِة المحتوى إلى المادية‪ ،‬من الميتافيزيقيِة المضمو ن إلى الَجَدلية‪ .‬وبينما كانت السبقيةُ‬


‫ب تفاقُم "القضايا‬ ‫لـ"الفلسفِة الطبي ةعية" َقبَل سقراط‪َ ،‬رَجَحت َكفّةُ "فلسفِة المجتمع" في عهِده وما ب ةعد‪ .‬وَيلَ ةع ُ‬ ‫شّدْد مرةً أخرى على أّ ن‬ ‫الجتماعية" )القمُع والستغلُل والست ةعمار( دوَره في بروِز هذه المستجدات‪ .‬لِنُ َ‬ ‫س سلسلِة المدينة‪ ،‬التجارِة‪ ،‬الدولِة‪ ،‬والداري الحاكم‪ .‬فضلً عن أّ ن المدينةَ –‬ ‫"القضايا الجتماعية" ت ةعني تأسي َ‬ ‫باعتباِرها مركَز المدنية المادية – تَُؤثُّر في ج ةعِل الفكِر الفلسفي ضرورًة اضطرارية‪ .‬فالمدينةُ بَِحّد ذاِتها ت ةعني‬ ‫شّكُل ذهنيٍة منقط ةعٍة عن الطبي ةعِة في أجواِء المدينة‪.‬‬ ‫النقطاَع عن المجتمِع ال ةعضوي‪ .‬بالتالي‪ ،‬من السهل بمكا ن تَ َ‬ ‫سسةُ على‬ ‫ب الفكاِر الميتافيزيقيِة والماديِة الُمَجّرَدِة والفظة هو المدنيةُ المؤ ّ‬ ‫بم ةعنى آخر‪ ،‬فالّرِحُم الّم لكّل ضرو ِ‬ ‫دعامِة خيانِة البيئِة والط ةعِن بها‪.‬‬ ‫ب عن‬ ‫ب الخر شكٌل آخُر ِمن أنماِط الفكِر المغتر ِ‬ ‫إذ ن‪ ،‬وبينما تَُكوُ ن الفلسفةُ انطلقًة في الفكر‪ ،‬فهي من الجان ِ‬ ‫َ‬ ‫شبَهُ بُِمتَنَّوري تلك المرحلة )مثقفو‬ ‫البيئة‪ .‬والصوفيو ن الذين َي ةعَملو ن على نشِر الِحَكم والم ةعارف الفلسفيِة أ ْ‬ ‫س‬ ‫ضوَنه من مال‪ .‬ويَُؤ ّ‬ ‫س ُ‬ ‫أوروبا في القر ن الثامِن عشر(‪ .‬حيث يَُدّرسو ن أولَد ال ةعوائِل الميسورِة مقابَل ما يَ​َتقا َ‬ ‫س التاب ةعين للم ةعبد‪ .‬إنهم َيبُنو ن ما‬ ‫سهم‪ ،‬تماماً مثلما اخترَع الرهباُ ن الديَن‪ ،‬ومثلما َ‬ ‫شّكلوا النا َ‬ ‫الفلسفةُ مدار َ‬ ‫س الفلسفيِة على غراِر ما في الدياِ ن الت ةعددية‪ .‬يمكننا النظُر‬ ‫ُيشبِهُ الكنائ َ‬ ‫س )المجالس(‪ .‬ويَتَ​َكّوُ ن زخٌم من المدار ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ي في نهايِة مطافها‪ ،‬فُيمِكُن‬ ‫ب مستقّل بذاته‪ .‬ونظراً لّ ن الدياَ ن نمط فكر ّ‬ ‫إلى كّل مدرسٍة منها َكِديٍن أو مذه ٍ‬ ‫َ‬ ‫‪.‬ق بينهما‬ ‫اعتبارها فلسفةً تقليديةً متمأسسةً وواضحة الم ةعالِم ال ةعقائدية‪ .‬أي‪ ،‬من المهم عدَم النظِر إلى الفوار ِ‬ ‫س والموّجه بالغلب‪ ،‬تَُكوُ ن الفلسفةُ غذاَء المتنورين‬ ‫على أنها تَ َ‬ ‫ضاّد‪ .‬فبينما يَُكوُ ن الديُن ُقوتا ً للش ةع ِ‬ ‫ب المرؤو ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ت ومهاّم أقَرَب إلى‬ ‫والشباِ ن المنتمين للطبقات المتقدمة‪ .‬من هنا‪ ،‬فأفلطو ن وأرسطو يَتَطل ةعا ن لِتَ​َحّمِل مسئوليا ٍ‬ ‫س مدينِة الرهبا ن والحفاِظ عليها وإنقاِذها‪ ،‬ولكْن‪ ،‬بمنظوٍر فلسفي‪ .‬أي أّ ن ال ةعمَل‬ ‫أْ ن تَُكوَ ن س ةعياً للنجاح في تأسي ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫صوُ ن المثُل لمجتمِع المدينة ودولِتها‪،‬‬ ‫الساسّي الذي َينَكّب عليه الفلسفة هو كيفية تحديِد الدارِة المثلى‪ ،‬وال ّ‬ ‫سها المثلى‪.‬‬ ‫ت تأسي ِ‬ ‫بل وقبَل كّل شيء‪ ،‬تحديُد مقوما ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫سّباقة )الولى( في تركيِزها ب ةعنايٍة فائقٍة على‬ ‫أما الخاوصيةُ الهامةُ الثانيةُ لحضارِة أثينا‪ ،‬فَتكُمُن في كوِنها ال ّ‬ ‫خ الحضارة‪،‬‬ ‫الديمقراطية )الجمهورية( على الص ةعيَدين النظر ّ‬ ‫ي وال ةعملي‪ .‬إنها مرحلةٌ ِجّد هامٍة في عموِم تاري ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ولكنها ديمقراطيةٌ م ةعنيةٌ بالشريحِة الرستقراطية فحسب‪ .‬فإذا ما وض ةعنا نصَب ال ةعيِن ت ةعريفها المحدوَد للغاية‬ ‫شِر المجتمع‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فهو تجديٌد هاّم حقًا‪ ،‬حيث يؤدي دوراً‬ ‫لمواطني المدينة‪ ،‬نرى أنها ل َتشتَِمُل حتى على ُع ْ‬ ‫سه بالسياسة‪،‬‬ ‫ب نف ِ‬ ‫عظيماً في تكوين وَتطويِر الفلسفِة وفّن السياسة‪ .‬فالديمقراطيةُ كمصطلح ت ةعني اهتماَم الش ةع ِ‬ ‫أي النشغاَل بالذات بشؤوِ ن الدارة والحكم‪ .‬والسياسةُ الديمقراطيةُ َقواُمها التفكيُر في جميِع القضايا الجتماعية‬ ‫ت بصددها‪ .‬بالتالي‪ ،‬فخاوصيةُ السياسِة الديمقراطيِة – والتي ت ةعني المجتمَع‬ ‫الحيوية‪ ،‬وتداوُلها‪ ،‬واتخاُذ القرارا ِ‬ ‫ت ليست بالَهّينِة في حضارِة أثينا‪.‬‬ ‫المنفتَح أيضا ً – تُقَّدُم مساهما ٍ‬ ‫وَيبُرُز مجّمُع اللهِة في هيئٍة م ةعماريٍة جديدٍة كليًا‪ ،‬حيث ُتبِهُر النظاَر بأعمدِتها المستطيلِة الواس ةعِة التي تَُحّفها‪،‬‬ ‫س فيما بينها لبراِز‬ ‫وأسواِرها الخارجيِة التي تستوعبها وتَلُّفها‪ .‬فكأّ ن م ةعابَد أبولو وأرتميس وأثينا تتناف ُ‬ ‫َع َ‬ ‫ب إدراُك مدى َكوِ ن اللهِة تصوراً خياليًا‪ ،‬ليس إل‪.‬‬ ‫ظَمِتها في جميِع المدِ ن الشهيرة‪ .‬وفي مجتمِع أثينا يَْغلُ ُ‬ ‫بالتالي‪َ ،‬تنَح ّ‬ ‫سسي آلهِة المدائِن السومرية ي ةعيشو ن مراحَلهم‬ ‫ط مكانةُ ال ةعقائِد الدينية شيئا ً فشيئًا‪ ،‬وكأّ ن مؤ ّ‬ ‫سّمَيت مدينةُ أثينا بهذا‬ ‫الخيرةَ في حضارِة أثينا وروما‪ .‬ومع الخِذ ب ةعيِن الحسباِ ن أنها مدينةٌ تأسيسية‪ ،‬فقد ُ‬ ‫ضُع‬ ‫السِم ِنسبَةً لللهِة أثينا‪ ،‬مؤ ّ‬ ‫سستها وحاميتها‪ ،‬والتي تَُذّكُرنا ِبإينانا‪ ،‬إلهِة أوروك‪ .‬وهذا المثاُل بَِحّد ذاِته يَ َ‬ ‫ْ‬ ‫ب للنظار‪ .‬أما القساُم‬ ‫الَبناَ ن على أوُجِه ال ّ‬ ‫ض كتقليٍد ضار ٍ‬ ‫شَبه بين الحضارات‪ ،‬وَحذِوها حذَو ب ةع ِ‬ ‫ضها الب ةع ِ‬ ‫‪.‬ق‬ ‫الخرى من المد ن‪ ،‬فَ​َغلَ​َب عليها الطابُع المؤسساتّي عبَر ال ةعديِد من الكيانات‪ ،‬من قَِبيل الغورا )السو ِ‬ ‫ع التّنَّزه الُم َ‬ ‫ظّللة(‪ ،‬وأماكِن الرياضِة البَ​َدنِّية‬ ‫التجارية(‪ ،‬الكنيسِة )مكاِ ن المجلس(‪ ،‬المسرحيِة‪ ،‬الروقِة )شوار ِ‬ ‫ضها من السوار‪ ،‬وتحتوي عدداً‬ ‫ى راقياً من البنى‪ ،‬بَِحيث َتخلو ب ةع ُ‬ ‫ب الُمَدّرجة( وغيِرها؛ وَأنَجَزت مستو ً‬ ‫)الملع ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ضخَماً من القصوِر الفخمة‪ .‬إنها ُبنى شبيهة بَِقريناِتها لدى الحثيين‪ ،‬ولكنها ُتفوقها ُرقِيًّا‪ ،‬كما َتزيد عليها من‬ ‫َ‬ ‫حيث ت ةعداِدها السكاني‪.‬‬ ‫ب المكتوبة‪ .‬بل وربما أننا أماَم ثقافٍة أدبيٍة هي العظُم على الطل‪.‬ق من جهِة توثيقها‬ ‫هذا و َ‬ ‫شِهَدت تَطَّوَر الدا ِ‬ ‫ت الملحميةُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ش أمَجد مراحِله الثورية‪ ،‬وَكثَرت النتاجا ُ‬ ‫ت المدّونة طيلة مساِر التاريخ‪ .‬فالمسرُح عا َ‬ ‫ضمن المستَ​َندا ِ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫وصيَغت‬ ‫والمأساوية‪ ،‬وُكتَِبت الُمَؤلفا ُ‬ ‫ت التاريخية‪ .‬كما كانت ملحمة هوميروس ُتقَرأ وكأنها كتا ٌ‬ ‫ب مدرسي‪ ،‬و ِ‬ ‫شُر بولدِة السينما‪ .‬وتَطَّوَرت الِملحةُ البحريةُ‬ ‫ُ‬ ‫الكثيُر من الوقائِع والحداث بِلغٍة مسرحيٍة بارعة‪ ،‬وكأنها تُبَ ّ‬ ‫ُ‬ ‫والتجارةُ لدرجِة أنها َغَدت الحضارةَ الثانيةَ ب ةعَد الفينيقيين في وصناعِة السفن المتطورة‪ .‬كما بَ​َرَزت التجارة في‬


‫ضلة – لَِتزَرَع فيها أولى بذوِر الرأسمالية‪ ،‬حيث‬ ‫‪.‬ق ضيق‪ ،‬وليس كمهنٍة لم ةعٍة أو ُمفَ ّ‬ ‫مجتمِع أثينا – ولو بنطا ٍ‬ ‫َتبدو وكأنها سَتنتَقُِل إلى النظاِم الرأسمالي فيما لو قاَمت بحملٍة أخرى إلى َحّد ما‪ .‬هذا وتَ َ‬ ‫طّوَر فّن الم ةعمار فيها‬ ‫ت َأقَرَب إلى المثالية‪ .‬بالضافِة إلى‬ ‫أيضًا‪ ،‬إذ تَُبرِهن بنى المدينِة ذلك بما فيه الكفاية‪ .‬وَأحَرَز فّن النحت مستويا ٍ‬ ‫ب النظاَر وهي ُتحيي الميثولوجيا على خشبِة المسرح‪ .‬هذا ونُنَّوهُ على الفوِر‬ ‫مشاهِد تضخيِم المور‪ ،‬والتي َتجِذ ُ‬ ‫ت‬ ‫ت ميثولوجيٍة متماسكٍة وقويٍة للغاية‪ ،‬ومؤّلفٍة من َجِمي ةعٍة ‪ sentez‬تتضمن كافةَ ميثولوجيا ِ‬ ‫أنها تَ​َميَّزت بأدبيا ٍ‬ ‫ص الوقائِع‬ ‫الحضارات السابقة لها )العتقادا ِ‬ ‫ت غيِر الدينية‪ ،‬النماِط الفكرية(‪ .‬فالميثولوجيا هي فّن سرِد قص ِ‬ ‫التي يَُ ةعّز على المجتمِع تفكيُكها وإدراُكها‪ ،‬وكانت شائ ةعًة في ال ةعصور الولى‪.‬‬ ‫كما َأحَرَزت الموسيقا تَ َ‬ ‫طّوراً ملحوظًا‪ ،‬سواًء في عدِد اللت الموسيقية‪ ،‬أو في تَنَّوِعها )اللهيِة منها وغيِر‬ ‫ي في وجوِده‪ ،‬وإْ ن لم يَُكن بقدِر ما كا ن عليه في عصِر‬ ‫اللهية‪ ،‬المهتمِة بال ةعشق والملحم(‪ .‬واستَ​َمّر النثُر الش ةعر ّ‬ ‫البطولت )إّباَ ن بناِء مجتمِع المدينة‪ ،‬وهو مرحلةٌ بربريةٌ عليا(‪.‬‬ ‫سيرورِة التقاليِد الَملَِكّية القديمِة فيها بأكثِر درجاِتها‬ ‫تأتي إسبارطة في المرتبِة الثانيِة ب ةعَد أثينا‪ ،‬حيث تَتَ​َميُّز بِ َ‬ ‫ب مستمرةً فيما بينهما‪ .‬كما تَ​َرَك هذا ن النموذجا ن – أثينا‬ ‫وصلبًة ووصرامة‪ .‬وقد كانت النزاعا ُ‬ ‫ت والحرو ُ‬ ‫شِهدت تطوراً سري ةعاً في التوسِع المديني‪ ،‬فَ​َ ةعّجْت‬ ‫وإسبارطة – بصماِتهما في جميِع أنحاِء شبِه الجزيرة‪ ،‬حيث َ‬ ‫ج عيِنه من المد ن‪ ،‬ثم تَ​َلتها سواحُل البحر السود وبحِر مرمرة‬ ‫شبهُ الجزيرِة والسواحُل المقابلةُ لها أولً بالنموذ ِ‬ ‫س المد ن‪ .‬فالت ةعداُد السكانّي الهائُل والتجارةُ َحّفزا على بدِء عصِر استيطاٍ ن جديٍد متطوٍر‬ ‫في النتقاِل إلى تأسي ِ‬ ‫ّ‬ ‫جدًا‪ ،‬لدرجِة أّ ن جميَع سواحِل وجزِر البحر البيض المتوسط على وجِه التقريب اكتَظت بالمدِ ن الستيطانية‪ .‬بل‬ ‫ج الغريقي‪ .‬هذا وانطلقوا نحو مرسيليا جنوبي‬ ‫و َ‬ ‫شِهَدت مصُر أيضاً بناَء محل ٍ‬ ‫ت أو مدٍ ن متفرعٍة من النموذ ِ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ف‬ ‫فرنسا ونحو حدوِد إسبانيا الُمِطلة على شواطِ ئ البحر البيض المتوسط‪ ،‬لِيَُؤ ّ‬ ‫سسوا فيها ما هو أشبَهُ بِغَر ِ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ب إيطاليا أيضا بنسبٍة هامة‪ ،‬لِتَلوَح‬ ‫التجارة ‪ ،‬التي ُ‬ ‫ب بروِز المستوطنات في جنو ِ‬ ‫وصيَّرت مدناً فيما ب ةعد‪ .‬إلى جان ِ‬ ‫ت المد ن في‬ ‫س وحدا ِ‬ ‫وكأنها تتولى دوَر الفينيقيين في ذلك‪ .‬لكن‪ ،‬ورغَم كّل هذه التطورا ِ‬ ‫ت ال ةعظيمة‪ ،‬ورغَم تأسي ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫شبِه الجزيرة؛ إل أنها َلم تبلْغ مستوى قوٍة إمبراطوريٍة كتلك التي تَ​َمتَ ةعت بها المبراطورية البرسية أو‬ ‫صير إمبراطوريةً كما‬ ‫ت كانت هي الخرى عاجزةً عن أْ ن تَ ِ‬ ‫الرومانية‪ ،‬بل وَدَخَلت تحت ُحكِم ونفوِذ إمبراطوريا ٍ‬ ‫تتطلب روح ال ةعصر‪ .‬أما حضارةُ شبِه الجزيرة التي راَدتها أثينا في ‪. 330‬ق‪.‬م‪ ،‬فُتواِجهُ خطَر المقدونيين المت ةعالي‬ ‫شأُنهم كَملَِكيٍّة حديثِة ال ةعهد في شمالها‪ .‬وهكذا‪ ،‬فالحضارةُ الغريقيةُ القاوصرةُ عن تصييِر قوِتها وكفاءاِتها‬ ‫‪.‬ق المد ن‪ ،‬قد فَقَ​َدت استقلَلها – الذي لن تسترّده‬ ‫اليديولوجيِة والماديِة ال ةعظمى نظاما ً سياسيا ً مركزياً يتخطى آفا َ‬ ‫صَر على الستمراِر في‬ ‫ب التي خاضتها‪ ،‬لَِتقتَ ِ‬ ‫ت عدةً في الحرو ِ‬ ‫أبداً – منذ عام ‪. 330‬ق‪.‬م ب ةعَد إبدائها مقاوما ٍ‬ ‫ق ديمومتها لمٍد طويٍل كمركٍز ثقافّي جديٍد وحسب‪ ،‬تماماً مثلما كانت حاُل بابل‪.‬‬ ‫تحقي ِ‬ ‫ت كاسحًة فيما قبل في حروبها المريرة‬ ‫أما الضربةُ القاضيةُ التي لَِحَقت بديمقراطيِة أثينا )وقد كانت تَلَّقت ضربا ٍ‬ ‫س َ‬ ‫طَ ةعت‬ ‫ت المقدونية‪ ،‬التي كانت قد َ‬ ‫التي خاضتها طيلةَ ثلثين عاما ً مع َملَِكّية إسبارطة(‪ ،‬فقد أَ​َتتها من التحادا ِ‬ ‫ف القبائل التي تحت‬ ‫شم ُ‬ ‫س َملَِكيِّتها لِتَّوها‪ .‬ذلك أّ ن فيليب وابَنه السكندر – الساِعَيين لتوطيِد التماسِك بين وصفو ِ‬ ‫شّكلَِة أنسابا ً وأوصولً مغايرًة‪،‬‬ ‫إشراِفهم‪ ،‬والمنحدَرِة من الثقافِة اليونانية‪ ،‬والمست ةعِمَلة لغةً مختلفة‪ ،‬والم َ‬ ‫صّيراها اتحاداً ملتئَم الشمل – َيظفرا ن بَِنيِل العتراف بنفوذِهما في جميِع أرجاِء شبِه الجزيرة عام ‪. 359‬ق‪.‬م‪.‬‬ ‫لي ُ َ‬ ‫هذا السكندُر البُن‪ ،‬الذي َمّر بحياٍة غريبِة الطوار ومثيرة‪ ،‬بَقَِي مدةً طويلةً تلميذاً لرسطو‪ ،‬الذي كا ن ُوِلد في‬ ‫مدينٍة قريبٍة من منطقِة المقدونيين‪ .‬ويبدو – فيما يبدو – أّ ن ال ةعلقةَ فيما بينهما تَ​َ ةعّدت حدوَد التلميِذ والم ةعلِّم‬ ‫ت السكندِر سوى دليٌل وصارٌخ على ذلك‪ .‬فقد كا ن‬ ‫لتغدَو حميمةً للغاية‪ .‬وما ِفراُر أرسطو من أثينا بَُ ةعْيَد مو ِ‬ ‫س للسكندر في المدينة القاِئمِة على شواط ئ إيجة‪ ،‬وقام بَِت ةعبِئَِته وشحِن دماِغه بالذخِر الوافِر‬ ‫أرسطو لَقَّن الدرو َ‬ ‫ت كا ن نفوُذ البرسيين في آخر محطاته‪ .‬ولم يَُكْن ثمةَ‬ ‫من القيم الثقافيِة اليونانية وآلهِتها الميثولوجيِة في وق ٍ‬ ‫َ‬ ‫سياسّي يونانّي َيجَهُل غنى المبراطوريِة البرسية الذي َيفتَُح الشهية وَيشَرُح الصدور‪ ،‬لدرجِة أّ ن القضاَء على‬ ‫سِره للقضاِء على البيزنطيين‪ .‬وقد ساَد‬ ‫البرسيين قبَل آٍ ن قد غدا مسألةَ ولٍع وهياٍم أَْقَرَب إلى تَلَّوي السلِم وتَ​َح ّ‬ ‫ش السكندر لم يَُك جيشا ً عبودياً‬ ‫هذا الش ةعوُر في أفئدِة جميِع ال ةعساكر المتأهبين للهجوم والنقضاض‪ .‬أي أّ ن جي َ‬ ‫تقليديًا‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫‪.‬ق‬ ‫من المهّم الدراك جيداً أّ ن السكندَر قد َوضَع عينه على ثقافٍة أثبَ​َتت نجاَحها وجدارَتها‪ ،‬وتَطلَع إلى غنى الشر ِ‬ ‫ت الطوعية الجديدِة المسماِة بـ الكتائب )فالنج ‪ (Falanj‬بقيادِة زعماِء ال ةعشائر‬ ‫الزاخر‪ ،‬فتَ​َحّرَك بِ​ِرفقِة التحادا ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫صَل في نهايِة المآِل إلى‬ ‫ج حديثاً من المرحلِة البربرية‪ .‬وهكذا غزا الراضَي التي كا ن يَطأها لِيَ ِ‬ ‫الجاهدِة للخرو ِ‬


‫سواحل نهر السند في بلِد الهند‪ ،‬وذلك بالشتباِك والوصطداِم المتواوصِل على التوالي مَع كّل َمن يواجهه‪،‬‬ ‫ب وم ةعارك كثيرة َأشَهُرها م ةعارُك غرانيكوس وجقوروفا في بلِد الناضول‪ ،‬وإيسوس في شرقي‬ ‫ض حرو ٍ‬ ‫وخو ِ‬ ‫ض المتوسط‪ ،‬وآربيل في شمالي ال ةعرا‪.‬ق‪ .‬ولدى مسيِره مجدداً في أراضي جنوبي إيرا ن البَلِيِّة‬ ‫البحر البي ِ‬ ‫ث والثلثين‪ُ ،‬تواِفيه المنيةُ في بابل – التي كانت مركَز ال ةعاَلم في وقتها –‬ ‫الل ةعينة‪ ،‬وهو ل يزاُل في ربيِ ةعِه الثال ِ‬ ‫سَ ةعِتها‪ ،‬وَتغدو‬ ‫ض يَلُّفها؛ لِيَُخلّ َ‬ ‫ب ل يزال الغمو ُ‬ ‫ف وراَءه أراضَي مفتوحةً ُتضاِرُع المبراطوريةَ البرسيةَ في ِ‬ ‫لسبا ٍ‬ ‫منفتحةً كلياً للثقافِة اليونانية‪.‬‬ ‫ضَرت سابقًا‪ ،‬إل أّ ن َقواَم عناوصِرها اليديولوجيِة والماديِة كانت تمتد إلى عبوديِة الجيِل‬ ‫كانت هذه المنطقةُ قد تَ​َح ّ‬ ‫الول‪ .‬في حين أّ ن الثقافةَ اليونانيةَ كانت تَ​َخ ّ‬ ‫طت هذه الثقافةَ الحضاريةَ منذ أَمٍد ب ةعيد‪ ،‬وياف ةعةً تَِ ةعُد بمستقبٍل‬ ‫مشر‪.‬ق‪ .‬وبالتالي‪ ،‬فهي قابلةٌ للتط ةعيم أيضًا‪ .‬فكيفما قاَم الرهبا ن السومريو ن بتط ةعيِم الثقافة النيوليتية لُينشئوا‬ ‫منها أوَل ثقافٍة طبقيٍة مدينيٍة ودولتية‪ ،‬فكذا كا ن أمُر الثقافِة اليونانية في َنضارِتها وقدرِتها على تط ةعيِم هذه‬ ‫سّماة‬ ‫ق ذاته‪ .‬هكذا تَأ َ ّ‬ ‫ست ال ةعديُد من الَملَِكّيات في هذه المرحلة الُم َ‬ ‫س َ‬ ‫الساحات الحضاريِة القديمة‪ ،‬وإْ ن ليس بال ةعم ِ‬ ‫ت البارزِة حديثاً‬ ‫بال ةعهد "الهيليني"‪ ،‬والتي دامت فيما يبدو بين سنوات ‪. 330‬ق‪.‬م و ‪ 250‬م‪ .‬وأبرُز هذه الَملَِكّيا ِ‬ ‫َملَِكيّةُ بتولما ‪ Ptoleme‬في مصر‪ ،‬وباركانيوس ‪ Berganios‬في الناضول‪ ،‬والسلفكوسيين ‪Selevkoslar‬‬ ‫في سوريا وميزوبوتاميا‪ .‬وب ةعَد هزيمِة السللِة الخمينية‪ ،‬انكّبت سللةُ البارثيين الحديثةُ ال ةعهد على ترميِم‬ ‫سَد‬ ‫س المرحلة ويدوَم حتى أعوام ‪. 250‬ق‪.‬م – ‪ 220‬م‪ ،‬دو ن أ ن يَُج ّ‬ ‫المبراطوريِة اليرانية‪ ،‬لَِيمتَّد نفوُذها في نف ِ‬ ‫سد تركيبةً جديدةً فائقةَ الهمية‪ ،‬خاوصةً‬ ‫تجديداً ُيذَكر‪ .‬هذا ال ةعهُد "الهيليني"‪ ،‬الذي داَم حوالي خمسمائةَ سنة‪ ،‬يَُج ّ‬ ‫سها اللهةُ‬ ‫من جهِة إنشاِء المد ن الجديدة‪ ،‬ومجمِع آلهتها الذي يَُمثُّل ثقافةً شائكةً ومت ةعددَة المشارب‪ ،‬وعلى رأ ِ‬ ‫اليونانيةُ واليرانية‪ ،‬وكذلك باعتباِر َكوِ ن اللغِة والثقافِة اليونانية قد سادتا رسمياً في جميِع هذه الراضي‬ ‫سها كانت تَُ ةعّبر عن َجمي ةعٍة شرقيٍة – غربيٍة‪ .‬ورغم أنها كانت تَُمّثل تركيبةً‬ ‫الفسيحة‪ .‬بل إّ ن حياةَ السكندِر نف ِ‬ ‫ت التي كانت مهيمنًة في تلك الزمنة‪ ،‬إل أ ن ذلك لم يَُك لُِيفقَِدها أهميَتها‪ ،‬لدرجِة أّ ن‬ ‫ع الثقافا ِ‬ ‫جديدةً من مجمو ِ‬ ‫التاريَخ َلم َيشَهد ب ةعَدها جمي ةعةً ثقافيةً بهذه ال ةعظمِة والبهاء‪ ،‬بما في ذلك راهُننا أيضًا‪ .‬وأكبُر برهاٍ ن على ذلك‪،‬‬ ‫ح جبِل نمرود‪ ،‬والذي كا ن‬ ‫ض قبِر آنتيوشوس ‪َ ،Antiochus‬مِلك كوماگين ‪ ،Komagene‬على ُ‬ ‫أنقا ُ‬ ‫سفو ِ‬ ‫س أعتى َملَِكيٍة اتَّخَذت من مدينِة أدياما ن ‪ Adıyaman‬مركزاً لها )كانت عاوصمُتها حينئذ مدينةَ ساموسات‬ ‫َيرأَ ُ‬ ‫‪ Samosat‬التي َ‬ ‫ب الدنيا الم ةعدودة‪ ،‬غدت بذلك رمَز‬ ‫طَمرتها مياهُ نهِر الفرات لحقًا(‪ .‬فَلَِكوِنها إحدى عجائ ِ‬ ‫الجمي ةعِة )التركيبة( الشرقية – الغربية‪ ،‬أكثر من كوِنها مجرَد دليٍل على هذه الحقيقِة وحسب‪.‬‬ ‫سَع الحضارة المدينية ال ةعبودية في الراضي الخاويِة أو‬ ‫ب الهميَة هنا بالنسبة لموضوعنا ليس تَ​َو ّ‬ ‫س ُ‬ ‫ما َيكتَ ِ‬ ‫ت شأ ن‪ ،‬بل المهُم هو مساعي حضارٍة مدينيٍة عبوديٍة‬ ‫ت ذا ِ‬ ‫ت النيوليتيةَ والبربريةَ إلى مدنيا ٍ‬ ‫تحويَلها والثقافا ِ‬ ‫حديثِة ال ةعهد – الحضارِة اليونانية الهيلينية‪ ،‬التي َأنَجَزت مرحلةً أعلى من التقدم – في َبسِط هيمنِة ثقافِتها‬ ‫الجديدِة على كافِة المناطق‪ ،‬بدءاً من الهند إلى روما‪ ،‬ومن السواحِل الشماليِة للبحِر السود إلى البحِر الحمِر‬ ‫ت في ِظّلها‪ .‬فالممثُل اليافُع الِمقداُم لهذه الثقافِة الجديدِة‬ ‫ج الفارسي‪ ،‬وإعادِة تصييِرها حضارا ٍ‬ ‫ُووصولً إلى الخلي ِ‬ ‫خ‬ ‫سه والسيِر عليه‪ ،‬ليُ َ‬ ‫ج نف ِ‬ ‫شيَّد وصرَح حضارٍة هي العظُم في التاري ِ‬ ‫الصاعدِة في مدينِة روما‪ ،‬قاَم بَِتطويِر النه ِ‬ ‫ِنسبةً ل ةعهدها‪.‬‬ ‫ف الثقافِة الرومانيِة بأهميٍة قد ُت ةعاِدُل ثقافةَ أثينا على القل‪ .‬تَُ ةعوُد ال ةعلةُ الولى في أهميِتها إلى َكوِنها‬ ‫يَتَ​َحّلى ت ةعري ُ‬ ‫سُد‬ ‫ذروةَ الحضارِة المدينية ال ةعبودية وكأنها قمةُ جباِل أفرست‪ ،‬حيث َيليها التهاوي السريع لهذه الحضارة‪ .‬وتَتَ​َج ّ‬ ‫ال ةعلةُ الثانيةُ في َكوِنها الممثَل العظَم لثقافِة المبراطوريِة بأب ةعاِدها وأعماقها‪ .‬حيث َلم َتبُلغ أيةُ إمبراطوريٍة في‬ ‫التاريخ البهاَء وال ةعظمةَ التي َحقَّقتها روما‪ .‬ثالثًا؛ كونها آخَر أقوى وأعتى ممثلي اللهِة – الملوك الُمقَّن ةعين‪.‬‬ ‫سهم في‬ ‫خ على أ ّ‬ ‫ب إرادٍة أو ُقدرٍة ُتماثُِل ما كا ن عليه أباطرةُ روما باعتباِر أنف ِ‬ ‫ي أحٍد وصاح ِ‬ ‫حيث ل ُي ةعَثر في التاري ِ‬ ‫ِعداِد اللهِة والبشِر م ةعًا‪ ،‬وانتهاِلهم قوَتهم من إراداِتهم وكفاءاتهم في المِر وال ةعمل‪ ،‬ول َيأَبهو ن بمحاسبِة أحٍد‬ ‫س وكّل الشياِء في ال ةعالم‪،‬‬ ‫لهم )ل ُتحا ِ‬ ‫سُبهم أيةُ قوٍة ماديٍة أو م ةعنوية(‪ ،‬ولكنهم ُمقتَِدرو ن على محاسبِة كّل النا ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫‪.‬ق والمواطنة وتَُ ةعّرفهما لوسِع‬ ‫وتأميِن الذعاِ ن والمتثاِل لوامرهم‪ .‬راب ةعًا؛ كونها الدولة التي َتنشُر الحقو َ‬ ‫َ‬ ‫‪.‬ق أماَم المواطنِة ال ةعالمية‪،‬‬ ‫ت البشرية‪ .‬خامسًا؛ هي المبراطوريةُ ال ّ‬ ‫ت الجماعا ِ‬ ‫قطاعا ِ‬ ‫ح الفا ِ‬ ‫سّباقةُ في فت ِ‬ ‫والكوزموبوليتية‪ ،‬وبالتالي أماَم الديِن ال ةعالمي )الكاثوليكي والبطريركي(‪ .‬سادسًا؛ كوُنها فجر المدنيِة الوروبيِة‬ ‫الكبرى‪ ،‬وُمبتَ​َدأ ِجسِرها‪ .‬ساب ةعًا؛ بقاؤها كجمهوريٍة مدةً طويلة‪.‬‬ ‫ت المجيدِة عبَر الم ةعجزات‪ ،‬بل َحِظَيت بهذه القدرِة‬ ‫ل شّك البتةَ في أّ ن مدينةَ روما لم َتسَتحِوذ على هذه التطورا ِ‬


‫ت الربِع ال ةعظمى السابقِة لها‪ .‬فالثقافةُ الولى‬ ‫الكامنِة والقوِة الف ةعالة بفضِل كونها الممثُل المبدُع والخيُر للثقافا ِ‬ ‫هي الثقافةُ النيوليتيةُ القدُم على الطل‪.‬ق‪ .‬فمثلما هي الحاُل في أوروبا سائرًة‪ ،‬فقد أَثَّرت هذه الثقافةُ على شبِه‬ ‫الجزيرة اليطاليِة أيضاً في أعوام ‪. 4000‬ق‪.‬م‪ ،‬وأحَكَمت قبضَتها عليها‪ ،‬لِتَُكوَ ن قبائُل لتينو اليطاليةُ آِخَر ممثٍل‬ ‫شَرَعت بإضفاِء الهويِة على ما ُي ةعَرف اليوم بإيطاليا‪ ،‬وتحديِدها م ةعالَِم هويِتها‬ ‫لها‪ .‬لذا‪ ،‬فالقوُل بأّ ن هذه القبائَل قد َ‬ ‫ب إلى الصواب‪ .‬حيث تَ​َ ةعّرَفت عبَر هذه الهويِة على شتى‬ ‫الثنيِة في أعوام ‪. 1000‬ق‪.‬م‪ ،‬إنما هو احتماٌل أقر ُ‬ ‫ت النيوليتية وذهنياِتها‪ .‬وُي ةعتَ​َقد أنها من أوصوٍل أوروبية‪ .‬وحاِملو الهويِة الثقافيِة الثانية من المحتمل‬ ‫المؤسسا ِ‬ ‫شبهَ عبودية‪ ،‬والتي نَقَ​َلت م ةعها اللغَة‬ ‫شبهَ نيوليتيٍة – ِ‬ ‫ت أتروسك ‪ ،Etrüsk‬التي كانت ِ‬ ‫أْ ن يكونوا مجموعا ِ‬ ‫والثقافةَ الرية ذاَت المنشأِ الميزوبوتامي عبر بلِد الناضول في أعوام ‪. 1000‬ق‪.‬م‪ ،‬والتي يَُخّمن أنها استَقَّرت‬ ‫ب نثَ​َر بذوَر أوِل حضارٍة‬ ‫في شمالي إيطاليا في أعوام ‪. 800‬ق‪.‬م‪ ،‬لَِتن ُ‬ ‫شَر تلك الثقافةَ فيها‪ ،‬وتناَل شر َ‬ ‫ف أوِل ش ةع ٍ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫في إيطاليا ومدينِة روما‪ .‬والثالثةُ هي الثقافةُ الغريقية‪ ،‬التي اتَّخذت أثينا مركزاً لها‪ ،‬وكانت في َمجِدها‪ ،‬والتي‬ ‫ق َجناٌح منها وصوَب جنوبي إيطاليا‪ ،‬لَِيستَقِّر كأوِل مستوطنٍة فيها )فيثاغورس‬ ‫ما لَبَِثت أْ ن تكّونت حتى انطل َ‬ ‫ت الجذوِر‬ ‫ومجموعُته‪ ،‬وذلك في أواخِر أعوام ‪. 500‬ق‪.‬م(‪ .‬ورابُ ةعها ثقافةُ شرقي البحِر البيض المتوسط ذا ُ‬ ‫سسو قرطاجة‬ ‫المصرية والسامّية‪ ،‬والتي نَقَ​َلها إلى شبِه الجزيرة اليطالية في أعوام ‪. 800‬ق‪.‬م الفينيقيو ن‪ ،‬مؤ ّ‬ ‫ت الفينيقيِة الخرى‪.‬‬ ‫والمستوطنا ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫شّكُل الذري ةعة الولية وال ةعلة الركَن في قصِة روما بانسللها إلى شبِه‬ ‫ت الربَع تُ َ‬ ‫وبالمقدور القول أّ ن هذه الثقافا ِ‬ ‫ح الُمقَطِّر من جميِع الثقافات‪ ،‬فيما خل الصين‪ .‬إنها الماُء الجوهر المتكوُ ن في رحِم الم‪.‬‬ ‫الجزيرة كال ةعسِل الُمر ّ‬ ‫ش ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫‪.‬ق وُتضاهي الجمي ةعة الثقافية لثينا وغربي إيجة‪َ ،‬تنبُع من تَ​َجّمِع‬ ‫من هنا‪ ،‬فالقوُل بأّ ن هذه الَجمي ةعة‪ ،‬التي تَفو ُ‬ ‫َ‬ ‫ت الربِع كقوٍة كامنٍة ودفاقة‪ ،‬إنما هو القوُل الدنى إلى الحقيقة‪ .‬وثمة قوٌل ش ةعبّي شائٌع يقول‬ ‫والتئاِم هذه الثقافا ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫بإنشاِء روما على يِد الخَوين رومولوس وروموس الَمولوَدين ِمن أنثى الذئب‪ ،‬مثلما نِجُد أقوال كهذه عن جميِع‬ ‫البنى المشابهة‪ .‬إنها مقولةٌ غريبةٌ في إشارِتها لَِكوِ ن المنشأ ِ دخيلً )خارجيًا( وُمنَّقى )وصهر الثقافات في بوتقة‬ ‫واحدة(!‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫تَتَ​َمثُّل الفائدة الكبرى في القصِة الميثولوجيِة التي تروي إنشاَء المدنيِة الرومانية ب ةعَد سقوِط طروادة على يِد‬ ‫ح للطابِع الناضولي فيها‪ .‬إنها الت ةعبيُر الملحمّي‬ ‫ب الناشبة؛ في عك ِ‬ ‫ق باريس في الحرو ِ‬ ‫إينياس ‪ ،‬وصدي ِ‬ ‫سها الصري ِ‬ ‫عن مقاربتنا وسلوكنا نحن‪.‬‬ ‫فقصةُ النشاِء على يِد الملوِك الرهبا ن حوالي أعوام ‪. 700‬ق‪.‬م إنما َتن َ‬ ‫ت تشييِد وإنشاِء مدِ ن‬ ‫طبِ ُ‬ ‫ق على نزعا ِ‬ ‫ت المتواليةَ المندل ةعةَ بين‬ ‫ت المدينية الولية المشابهة‪ .‬في حين أّ ن القص َ‬ ‫ص التي َتروي النزاعا ِ‬ ‫جميِع الحضارا ِ‬ ‫سلّطُ الضوَء كفايةً على ال ةعلقِة الكائنة بين بناِء المدينة والتمايِز الطبقي‬ ‫ف المد ن تُ َ‬ ‫ب ال ةعشائِر في أطرا ِ‬ ‫أنسا ِ‬ ‫ت‬ ‫ت والمشاّدا ُ‬ ‫والتَّدّول‪ .‬فالّنزاعا ُ‬ ‫ت الحاوصلةُ بين قبائِل التروسك واللتينو‪ ،‬وكذا ال ةعديُد من الصراعا ِ‬ ‫ع بين الثقافِة النيوليتيِة‬ ‫والمشاحنا ِ‬ ‫ت التي ُنصادفها في الكثيِر من أمثلِة البناِء والتشييد‪ ،‬إنما تَُ ةعوُد إلى النزا ِ‬ ‫ت التمدِ ن الم ةعتَ​َبرِة دخيلةً عليها‪.‬‬ ‫الهلية المحلية‪ ،‬وبين ثقافا ِ‬ ‫شبِه الجزيرِة آنذاك‪ ،‬واحتلِلها مكاَنها في‬ ‫َيكُمُن ُحسُن طالِع روما أثناَء بناِء المدينِة وازدهاِرها في منزلِة ِ‬ ‫ب من الحضارات‪ ،‬وعدِم وجوِد حضارٍة أقوى وَأمتَ​َن منها في شماليها تَُكو ن القارةُ الوروبية‬ ‫أقاوصي الغر ِ‬ ‫شبِه الجزيرِة الغريقية التي مركُزها أثينا‪،‬‬ ‫منشَأها‪ .‬ذلك أّ ن الخطَر كا ن سَيأتيها من جانَبين حينئذ‪ :‬من حضارِة ِ‬ ‫ومن قرطاجِة التي كانت َغَدت حضارةً مدينيةً مستقلةً رغَم َكوِنها المستو َ‬ ‫طنة الفينيقية القوى في شمالي‬ ‫أفريقيا‪ .‬ف ةعجُز الحضارِة اليونانية عن تَ​َخ ّ‬ ‫ت البرسيِة‬ ‫طي حدوِد عصِر المستوطنات‪ ،‬وتَ​َ ةعّر ُ‬ ‫ضها المتواوصُل للهجما ِ‬ ‫س‬ ‫من الشر‪.‬ق‪ ،‬وعدُم قدرِتها على التحوِل إلى َمَلكيٍة موّحدٍة أو إنشاِء إمبراطوريٍة متجانسٍة بسب ِ‬ ‫ب التناف ِ‬ ‫المستشري بين المدائن‪ ،‬وسقو ُ‬ ‫ت‬ ‫طها خلَل مدٍة قصيرٍة تحت قبضِة الهيمنِة الَملَِكيِّة المقدونية؛ كّل ذلك مؤشرا ٌ‬ ‫شكٍل‬ ‫ي على روما‪ .‬بينما كا ن بمقدوِر قرطاجة أْ ن تَُكوَ ن نِّداً لها بِ َ‬ ‫على ُقصوِرها عن أْ ن تَُكوَ ن مصدَر تهديٍد جد ّ‬ ‫ق نفسها‪ ،‬وهرَعهما الدائم‬ ‫جد ّ‬ ‫ي‪ ،‬ذلك أّ ن ُقرَبهما ِمن ب ةع ِ‬ ‫ضهما لدرجٍة كبيرة‪ ،‬واست ةعداَدهما للتوسِع في المناط ِ‬ ‫ب بينهما عاجلً أم آج ً‬ ‫ل‪ .‬وهكذا كانت‬ ‫وراَء الهيمنة نظراً لطبائِع المدنيات؛ كّل ذلك كا ن سُيشِ ةعُل فتيَل الحر ِ‬ ‫ت الضاريةُ المحتدمةُ بينهما طيلةَ ما يناهُز عصراً بأكمِله )أكثر من قر ن( ستنتهي بانتصاِر روما‬ ‫الصراعا ُ‬ ‫ُ‬ ‫ف له قَبيل وفاِته كا ن سيَُكوُ ن‬ ‫الكاسح‪ ،‬لُتزيَل ِمن درِبها ال ةعائ َ‬ ‫ق الساسّي الُمقِلق‪ .‬فتحديُد السكندِر لروما كهد ٍ‬ ‫ف أوصلً بنفوِذِه كإلٍه َمِلك(‪ .‬من هنا‪ ،‬فإّ ن ُحسَن الطالِع‬ ‫التهديَد الخطَر عليها )شبهُ الجزيرِة اليونانية كانت َت ةعتَِر ُ‬ ‫الكبر الخر لروما َيكُمُن في قضاِء السكندِر َحتفَهُ مبكرًا‪ ،‬حيث كا ن من السهِل جداً أْ ن تَُحّل المبراطوريةُ‬


‫وصَ ةعَدت مسرَح التاريخ حتى وقتذاك‪ .‬وكا ن السكندُر‬ ‫السكندرانيةُ مكاَ ن المبراطوريِة الرومانية كأعتى قوٍة َ‬ ‫ت القديمِة والثقافِة‬ ‫ب قرطاجة( كا ن عالَُم كّل الحضارا ِ‬ ‫قديراً على ذلك‪ .‬وب ةعَدها )حوالي أعوام ‪. 150‬ق‪.‬م بَُ ةعيَد حر ِ‬ ‫النيوليتيِة منبسطا ً أماَم مطامِع روما وفتوحاِتها‪ ،‬فيما عدا البارثيين في أقاوصي الشر‪.‬ق‪ ،‬ومن َب ةعِدهم‬ ‫المبراطوريةُ اليرانيةُ بزعامِة السللِة الساسانية‪.‬‬ ‫س‬ ‫أما انتقاُل روما إلى الجمهوريِة في ‪. 508‬ق‪.‬م‪ ،‬فهو استمراٌر مؤسساتّي لديمقراطيِة أثينا‪ .‬وبقدِر ما أَثَّر السا ُ‬ ‫الثقافّي الجديُد في هذه النقلة‪ ،‬فللنفوِذ الذي تَتَ​َمتُّع به الرستقراطيةُ أيضا ً نصيُبه الوافُر في ذلك‪ .‬وقد يَُكو ن عدم‬ ‫ت عادًة‬ ‫تأديِة إسبارطة دوراً تطويريّا ً ملحوظا ً تجاهَ أثينا في تجاوِز التجربِة الَملَِكيِّة السابقة سبباً آخر‪ .‬فالَملَِكّيا ُ‬ ‫ضّخِمها‪.‬‬ ‫ما تَُكوُ ن تَ​َ ةع ّ‬ ‫ش الرستقراطيِة وتَ َ‬ ‫صبيًة‪ ،‬ول َتسَمُح ِبانت ةعا ِ‬ ‫ُ‬ ‫ص شؤوَ ن مصالِحه‪ .‬فُبنيَُتها‬ ‫سلَّحته بالرادِة فيما يَُخ ّ‬ ‫لقد َعبَّأت الجمهورية ش ةعَب مدينِة روما بأقصى الدرجات‪ ،‬و َ‬ ‫سواِد الش ةعب(‪ ،‬والقنصليُة‪ ،‬وتَ َ‬ ‫طّوُر‬ ‫سين )مجل ٌ‬ ‫س للرستقراطيين‪ ،‬وآخٌر للمواطنين ِمن َ‬ ‫المشتملةُ على مجل َ‬ ‫س قوى حماية المدينِة على غراٍر مماثل؛ كّل ذلك ُيشيُر بأدلٍة وصارخٍة‬ ‫س ُ‬ ‫القضاِء كمؤسسٍة منفصلٍة بذاتها‪ ،‬وتَ​َمأ ُ‬ ‫َ‬ ‫شّكُل إدارةُ الجمهوريِة‬ ‫خ الجمهوريِة الرومانية بما ُيضاهي ديمقراطية أثينا الِغّرة‪ .‬هذا وتُ َ‬ ‫على احترا ِ‬ ‫ف ورسو ِ‬ ‫‪.‬ق‬ ‫‪.‬ق الُ ةعرى بين الحقو ِ‬ ‫وُحكُمها أَ​َحَد المناهِل الساسيِة في تطويِر فّن السياسة‪ .‬وكما أّ ن هذا الوضَع يَُدّل على وثو ِ‬ ‫‪.‬ق‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬مدى َكوِنه أرضيةٌ‬ ‫سطُ لل ةعيا ن تَ​َمأ ُ‬ ‫والسياسة‪ ،‬فهو في ال ن عيِنه مثٌل تاريخّي أوصيٌل َيب ُ‬ ‫س َ‬ ‫س الحقو ِ‬ ‫ت عظمى خارجيا ً في‬ ‫‪.‬ق السياسي‪ .‬والكّل على علٍم بأّ ن روما عا َ‬ ‫شت َمجَدها الثقافّي داخليًا‪ ،‬وقاَمت بغزوا ٍ‬ ‫للوفا ِ‬ ‫ظّل الجمهورية‪ .‬وُت ةعتَبَُر الحضارةُ الرومانيةُ قد َووصَلت حدوَدها الطبي ةعيةَ مع عهِد الجمهورية‪ .‬في حين أّ ن قصةَ‬ ‫ت المتفاقمِة وأخطاِرها المت ةعاظمِة‬ ‫النتقاِل من الجمهوريِة إلى المبراطوريِة ليست سوى اعترافا ٌ‬ ‫ت بالصراعا ِ‬ ‫س على شكِل‬ ‫داخليا ً وخارجيًا‪ .‬إذ ُيمكُن القوُل – وبُِكّل سهولة – أّ ن الصراَع بين يوليوس قيصر وأنداِده قد ان ةعك َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ت بين مركِز روما وأطراِفه وبين الرستقراطيِة وعامِة الش ةعب‪ .‬ذلك أّ ن تَ​َحّجَج روما بالخيانِة التي تَلقاها‬ ‫نزاعا ٍ‬ ‫َ‬ ‫صَن وراَء ذلك كذري ةعٍة لحمايِة ذاِتها‪ ،‬وكوَ ن‬ ‫بروتوس بِقوِلها أّ ن الشر َ‬ ‫ضّحَي به فداًء للغرباء‪ ،‬والتَّح ّ‬ ‫ف العظَم ُ‬ ‫ضلٌع في المؤامرِة الُمحاكة‪،‬‬ ‫عامِة الش ةعب َمّيالين أكثَر إلى قيصر‪ ،‬وكوَ ن وصفوِة أرستقراطيي المدينِة لهم ِ‬ ‫ت حول قيصر؛ كّل ذلك ُيؤّكُد وصحةَ هذا الُحكم‪.‬‬ ‫والتفا َ‬ ‫ف أغلبيِة المحافظا ِ‬ ‫وكيفما استَ​َمّرت التمرداُت في الخارج‪ ،‬فقد كا ن اليرانيو ن َبلغوا شواطَ ئ نهِر الفرات‪ .‬أما أسفاُر قيصر في بلد‬ ‫ث كراسيوس‬ ‫غالة وبريطانيا وجرمانيا ‪ ،‬والتمردا ُ‬ ‫ت المندل ةعةُ في بلِد الناضول‪ ،‬وبَْتُر إيرا ن رأ َ‬ ‫س الرجِل الثال ِ‬ ‫ف‬ ‫ب ةعَد هزيمِته في ساحِة الوغى‪ ،‬وانتفاضا ُ‬ ‫ب التي ل َت ةعِر ُ‬ ‫ض المتوسط‪ ،‬والحرو ُ‬ ‫ت اليهوِد في شرقي البحِر البي ِ‬ ‫‪.‬ق شرارِة الهجوِم بين القوط والسكيت والُهو ن‬ ‫هدوءاً أو سكينةً بين شبِه الجزيرِة اليونانيِة والبلقا ن ‪ ،‬وانطل ُ‬ ‫ت القبائِل ال ةعربيِة التي ل َيهَدأُ لها‬ ‫صّمو ن آذاَنهم َعّما حوَلهم‪ ،‬وغزوا ُ‬ ‫المنحِدرين من الشماِل الشرقي‪ ،‬والذين يَ ُ‬ ‫ب َ‬ ‫طَم ةعاً في اغتناِم الغنائم‪ ،‬وبقايا الَمَلكيِة المصريِة التي ل َتنفَّك موجودةً وقتئذ؛ كّل ذلك‬ ‫باٌل في أقاوصي الجنو ِ‬ ‫س العياِ ن التي ل َتنقَِطع‪،‬‬ ‫إنما يَ َ‬ ‫ضُح جليا ً أّ ن نقاشا ِ‬ ‫ضُع الَبناَ ن على مدى فداحِة المخاطِر ووطأِتها‪ .‬يَتّ ِ‬ ‫ت مجل ِ‬ ‫ضَع‬ ‫ب المتنافسِة لجِل مفّوضيها في القنصل )المجلس الستشاري(‪ ،‬وو ْ‬ ‫ت بين الحزا ِ‬ ‫ت والمشاّدا ِ‬ ‫المشاجرا ِ‬ ‫ب النظاِم‬ ‫ب الم ةعتاِد على الغنائِم الخارجيِة والُم َ‬ ‫س بموجِبها؛ كّل ذلك كا ن ُيزيُد ال ةعراقيَل على در ِ‬ ‫الش ةع ِ‬ ‫سي ّ ِ‬ ‫ت المصيريِة التاريخيِة التي َتقَتضي القراَر‬ ‫الجمهوري أثناَء مقاومِته المهالَك الخارجية‪ ،‬وفي اتخاِذ القرارا ِ‬ ‫سب‪.‬‬ ‫باللزِم في وقِته المنا ِ‬ ‫ي للنتقاِل من‬ ‫ف التي رّتبناها آنفا ً َتكُمُن خل َ‬ ‫ت الحفيِد أغسطس ‪ ،‬السُم الرمز ّ‬ ‫ف سياسا ِ‬ ‫كّل هذه ال ةعوامِل والظرو ِ‬ ‫ت‬ ‫ف هو سياسا ُ‬ ‫ضيه هذه الظرو ُ‬ ‫ت الميلد‪ .‬وما كانت َتقتَ ِ‬ ‫الجمهوريِة إلى المبراطورية‪ ،‬والذي تزاَمَن مع بدايا ِ‬ ‫الستقراِر الداخلّي والمِن الخارجّي‪ .‬وما عصُر سلِم روما ‪ Pax Romana‬المجيُد الُمَ ةعّمُر حتى ‪250‬م‪ .‬على‬ ‫صَلت‬ ‫ت َح َ‬ ‫ت والجراءا ِ‬ ‫ب سوى ثمرةٌ من ثماِر هذه السياسات‪ .‬والكّل على ِعلٍم بأّ ن كافةَ الترتيبا ِ‬ ‫وجِه التقري ِ‬ ‫س شورى‪ ،‬وت ةعزيِز‬ ‫س العياِ ن الخائِر القوى واله ّ‬ ‫بموج ِ‬ ‫ش إلى مستوى مجل ِ‬ ‫ب ذلك‪ِ ،‬بدءاً من إسقاِط مجل ِ‬ ‫ب وإمتاِعه بأياٍم تَُ ةعّج بالّلهِو والتسليِة‬ ‫ت وإدارِتها بالت ةعييِن بدلً من النتخاب‪ ،‬مروراً بإلهاِء الش ةع ِ‬ ‫المؤسسا ِ‬ ‫ت اللزمِة‬ ‫ت المنيِة في الخارج‪ ،‬والقياِم بالت ةعزيزا ِ‬ ‫ت والحاميا ِ‬ ‫ب والُمماطلة‪ ،‬ووصولً إلى تشكيِل الم ةعسكرا ِ‬ ‫والّتلُع ِ‬ ‫َ‬ ‫ع بُِكّل السفاِر الهجوميِة الُمتِّجَهِة وصوَب‬ ‫ببناِء السوار‪ ،‬والنتقاِل ِمن ثّم إلى الحرو ِ‬ ‫ب الدفاعية‪ .‬ورغَم الشرو ِ‬ ‫ف الدفاع‪ .‬وفيما ب ةعد‪ ،‬تقُع بين أيدينا‬ ‫ت المذكورِة آنفًا‪ ،‬إل أّ ن جميَ ةعها َلم تَُكن في حقيقِتها سوى أسفاٌر بهد ِ‬ ‫الجها ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ب‬ ‫قائمةٌ طويلة من الباطرِة الذائ ةعي ال ّ‬ ‫صيت‪ .‬إنها القوائُم الخيرة من أسماِء أشباِه اللِه – أشباِه النسا ن! والغري ُ‬ ‫في المِر أّ ن أباطرةَ روما أيضا ً كانوا َيزدادو ن انتباها ً مع مروِر الياِم إلى عدِم جدوى أو م ةعنى مجمِع اللهِة‬


‫ع اللهِة ذاك‪.‬‬ ‫الكلسيكي‪ .‬أي أنهم َأدَركوا يقينا ً استحالةَ تأميِن مشروعيِتهم اللزمِة عبَر قنا ِ‬ ‫ت والنهياِر ب ةعَد ‪. 250‬ق‪.‬م من خلِل البلبلِة والفوضى المستفحلِة وتطبيق نموذج‬ ‫في حين تَبَّدت م ةعالُم التشت ِ‬ ‫المبراطورية المت ةعددة الدارات‪ .‬فحتى زنوبيا ‪ ،‬ملكةُ تدمر )بالميرا( الشهيرة‪ ،‬كانت ُمنَجّرةً وراَء مطامِ ةعها في‬ ‫‪.‬ق )هذه الت ةعابيُر لم تَُكن موجودةً في‬ ‫بناِء إمبراطوريٍة تحتضُن في ثناياها مصَر وسوريا وبلَد الناضول وال ةعرا َ‬ ‫ف بالجغرافيا المقصودة(‪ .‬ولكّن قصَتها الُمحزنةَ ت ةعبيٌر‬ ‫تلك الزمنة كما هي اليوم‪ ،‬ولكننا َنذُكُرها لتيسيِر الت ةعري ِ‬ ‫س السللِة الساسانيِة الحديثِة ال ةعهِد في‬ ‫ب روما الكلسيكية‪ .‬ذلك أّ ن أرده شير الول ‪ ،‬مؤ ّ‬ ‫س َ‬ ‫وصارٌخ عن آدا ِ‬ ‫الشر‪.‬ق‪ ،‬وشاهبور الول ‪ ،‬المبراطوَر الذي ُيضاِرُع أغسطس في َع َ‬ ‫ش‬ ‫ظَمِته‪ ،‬قد ألحقا الهزائَم النكراَء بالجيو ِ‬ ‫الرومانيِة على التوالي‪ .‬ومن الم ةعلوم أّ ن الساسانيين بَ​َلغوا شرقي البحِر البيض المتوسط وجباَل طوروس‪.‬‬ ‫ت وبيراجيك ‪ ،Birecik‬والتي‬ ‫وأُنَّوهُ هنا على الفوِر أّ ن مدينةَ زوغما ‪ Zeugma‬الشهيرة القريبةَ من الفرا ِ‬ ‫ست تحت الثرى في ‪256‬م‪ .‬فلم تَ​َر النوَر ثانيًة‪َ .‬فقد تَ​َحّوَلت‬ ‫كانت حاميةً في تلك اليام‪ ،‬قد ُخّرَبت وطُِم َ‬ ‫ت ضاريةً بين المبراطوريِة الرومانية‬ ‫ص إلى ساحِة وغى َ‬ ‫شِهَدت عراكا ٍ‬ ‫ميزوبوتاميا ال ةعليا على وجِه التخصي ِ‬ ‫وكّل من المبراطوريَتين البارثيِة واليرانيِة الساسانية؛ مثلما كانت شاهَد َعياٍ ن على انتقاِل السلطاِ ن والنفوِذ‬ ‫ت‪ ،‬قد انتَقَ​َل‬ ‫بينهم‪ .‬وكأّ ن المنط َ‬ ‫ق الجدلّي لهذه الراضي المقدسِة‪ُ ،‬موّلدِة الثورِة النيوليتيِة وبانيِة ُأولى الحضارا ِ‬ ‫ت إلى ساحٍة لِ​ِ ةعراِك المدنيات ووصراِعها‬ ‫ث للحضارا ِ‬ ‫لُِقطبِ​ِه الم ةعاِكس‪ ،‬لِتَُدوَر عليها الدائرة‪ ،‬وتَتَ​َحّوَل ِمن باع ٍ‬ ‫ضها منذ ذاك الحين إلى‬ ‫ي ب ةعَد عهِد الورارتيين‪ ،‬وتَ​َ ةعّر ُ‬ ‫ق كياٍ ن مركز ّ‬ ‫الُمستَِميت‪ .‬فَ​َ ةعجُز هذه الراضي عن َتحقي ِ‬ ‫ت الكثِر‬ ‫ب واحتلِل قوى الحضارِة المدينية الخرى؛ إنما هو أَ​َحُد التطورا ِ‬ ‫راهننا لستيلِء واست ةعماِر وانتدا ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫مأساويةً في التاريخ‪ .‬تماماً مثلما المرأة الّم التي غَدت كائنا ً أكثَر انسحاقا ً واندهاسًا‪َ ،‬ب ةعَدما كانت ُمبِدعة الثورِة‬ ‫الثقافيِة ال ةعظمى‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ت لِتَتَقّدَم حتى شواطِ ئ نهِر دجلة‪ .‬إل أّ ن الموَت المبكَر الذي‬ ‫لكّن الجيو َ‬ ‫ش الرومانية كانت تَُرّد على الهجما ِ‬ ‫ي للغاية في آخِر ُم ةعتَ​َرٍك له على‬ ‫انق ّ‬ ‫ض على حياِة المبراطوِر الشهيِر يوليا ن عاَم ‪ 365‬م‪ .‬على نحٍو مأساو ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫سواحِل دجلة – وكأنه ُيحاكي السكندَر بذلك ويُقلده – كا ن بداية لِخسراِ ن روما عصَر الباطرِة ال ةعظاِم إلى غيِر‬ ‫‪.‬ق‬ ‫رج ةعة‪ .‬لقد كانت روما ُتقفُِل على ذاِتها باَب عصِر الباطرِة الَمِجيد‪ .‬وبالوصل‪ ،‬فالحرو ُ‬ ‫ب الُمستَِ ةعَرةُ في الشر ِ‬ ‫والقارِة الوروبية على وجِه الخصوص كانت تشيُر إلى استحالِة إدارِة إمبراطوريٍة من روما ب ةعدئذ‪ ،‬أَّيما كانت‪.‬‬ ‫ستّةُ‬ ‫ف ةعندما َقضى المبرطوُر الشهيُر دياكليتيانوس حتَفه في عام ‪306‬م‪ .‬كا ن قد اعتلى ال ةعر َ‬ ‫سه ِ‬ ‫ت نف ِ‬ ‫ش في الوق ِ‬ ‫أباطرٍة م ةعًا‪ .‬وَمن َنجا ِمن بينهم كا ن قسطنطين ‪ ،‬الذي انَهَمَك في تغييِر ديِن المبراطوريِة عاَم ‪312‬م‪ ،‬وتبديِل‬ ‫عاوصمِتها عاَم ‪325‬م‪ .‬لكن‪ ،‬وب ةعَد انقضاِء عهِد يوليا ن‪ ،‬آخِر إمبراطوٍر من سللِة قسطنطين‪ ،‬عاَنت السللةُ من‬ ‫‪.‬ق رسميا ً عاَم ‪ .395‬وهكذا تَ​َحّوَل أباطرةُ روما الغربيِة إلى ُدمى متحركٍة بأيدي زعماِء‬ ‫ت والتفكِك وال ّ‬ ‫التشت ِ‬ ‫شقا ِ‬ ‫القوط الغائرين عليهم‪ .‬فحتى زعيُم الُهو ن آتيل كا ن بمقدوِره إحكام القبضِة على روما في عام ‪ 451‬لو كا ن شاءَ‬ ‫ت التاريخ على يِد أودواكر ‪َ ،‬ملِ​ِك القوط عاَم‬ ‫ذلك‪ .‬وبينما طُِو َ‬ ‫ي عهُد المبراطوريِة الرومانيِة الولى في وصفحا ِ‬ ‫‪.‬ق من تحت الثرى مدةً طويلة‪ ،‬ولكنها َلم تَُمْت‪.‬‬ ‫‪ ،476‬فقد بَقَِيت ثقافُتها المطمورةُ َتنتَِظُر النبثا َ‬ ‫أما قصةُ روما الثانية‪ ،‬أي بيزنطة‪ ،‬فقد استَ​َمّرت في بقاِئها مدةً طويلةً ضمن بنى مهّمشٍة وُمقَّلدة )إمبراطوريةٌ‬ ‫‪.‬ق والغرَب على السواء‪ ،‬وقاوصرةٌ عن ابتكاِر تركيبٍة جديدة(‪ .‬ولَئِْن كانت مساعي جوستنيا ن )‬ ‫عقيمةٌ تُقَلُّد الشر َ‬ ‫ت المبراطوريِة القديمِة تَتَ​َميُّز بَِتأثيِرها الملحوظ‪،‬‬ ‫‪ 565 – 527‬م( ال ةعظمى في سبيِل إحكاِم القبضِة على مساحا ِ‬ ‫ت من زماِم مبادرِتهم شيئا ً فشيئًا‪.‬‬ ‫ت كانت َتفلِ ُ‬ ‫إل أّ ن الوليا ِ‬ ‫سها على أنها روما الثانية‪ ،‬إل أّ ن مطامَع القسطنطينية في أْ ن تَُكوَ ن روما الثانيِة مغالى فيها‪،‬‬ ‫تَُ ةعّر ُ‬ ‫ف بيزنطةُ نف َ‬ ‫ذلك أنه ِمن ال ةعسيِر إضفاُء م ةعنى عليها غيَر كوِنها تكراراً عقيما ً في أحضاِ ن الراضي القديمِة لروما‪ .‬أما‬ ‫س‬ ‫ماهيُتها المسيحية‪ ،‬فهي موضوٌع مختلف‪ ،‬وَتقَتضي تدقيقا ً ُمغايرًا‪ .‬وِمن ب ةعِدهم أتى ال ةعثمانيو ن والرو ُ‬ ‫السلفيو ن )مركُزهم موسكو( الذين يَُحّبذو ن تسميةَ عهِدهم بـ روما الثالثة‪ .‬إل أّ ن مزاعَمهم تلك‪ ،‬والتي هي‬ ‫على وصلٍة مع المسيحيِة والسلِم كثقافٍة أيديولوجية‪ ،‬فهي ليست مجرَد مبالغٍة ومغالة‪ ،‬بل إنها َت ةعني الخل َ‬ ‫ط بين‬ ‫ش فظيٍع في الم ةعاني‪ .‬سَن ةعَمُل في القسِم التالي على تناوِل‬ ‫مراحَل مختلفٍة وثقافا ٍ‬ ‫ت متباينة‪ ،‬لُِتسفَِر عن تشوي ٍ‬ ‫َ‬ ‫ت المسيحيِة والسلميِة والموسوية"‪.‬‬ ‫ت الشكاليِة ِمن قِبيِل "الحضارا ِ‬ ‫الوصطلحا ِ‬ ‫ت الجديدِة من روما استذكاراً لها‪ِ ،‬بدءاً من إنكلترا إلى البحِر السود‪ .‬فب ةعَد انهياِر‬ ‫اشتُّقت ال ةعديُد من المبراطوريا ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ت ثورٍة دينيٍة جديدة‪ .‬لكّن‬ ‫الوثنيِة المجاريِة لسقوِط روما‪ ،‬كا ن قد تَ​َكّو ن فراغ فسيٌح َيحِمُل بين أحشاِئه مخاضا ِ‬ ‫ُ‬ ‫ج روما‪ .‬في حيِن كا ن جليا ً تماما ً استحالة َتصييِر الوثنيِة‬ ‫الوثينَة والميثولوجيا الوروبيةَ َتبَقيا ن َقزماً إزاَء نموذ ِ‬


‫ضة‪ .‬فال ةعصُر كا ن َيقَتضي ثورةً م ةعنويةً ودينيةً بقدِر‬ ‫المنهارِة كديٍن رسمّي في روما ُقوتاً أيديولوجياً لوروبا الَغ ّ‬ ‫صُ ةعِد الخرى الماديِة منها والسياسيِة والقتصادية‪.‬‬ ‫ت على ال ّ‬ ‫حاجِته للثورا ِ‬ ‫ض‬ ‫لَِن ةعمْل على تقديِم مقارنٍة إحصائيٍة ِلروما على الص ةعيَدين الثقافّي والمادي‪ ،‬ولو بالخطوِط ال ةعريضة‪ ،‬قبَل الخو ِ‬ ‫ت وم ةعاني الثورِة المسيحيِة والثورِة السلميِة اللحقِة لها‪.‬‬ ‫في انطلقا ِ‬ ‫ق الحضارة المدينية العظِم‬ ‫لقد كانت ِحَر ُ‬ ‫ج الزراعّي والت ةعديِن والِمَهِن الحرِة والتجارة الظاهرة في مناط ِ‬ ‫ف النتا ِ‬ ‫‪.‬ق تؤدي إلى روما" إنما تَُحّدد‬ ‫في ال ةعالم؛ قد ت ةعاظَمت واتّ َ‬ ‫سَ ةعت آفاُقها في ظّل المبراطورية‪ .‬ومقولةُ "كّل الطر ِ‬ ‫ّ‬ ‫ب السمسارية الكبرى‬ ‫ِوجهةَ َ‬ ‫س ِ‬ ‫سَيلِ ن هذه الموارِد القتصادية‪ ،‬حيث كا ن ال ةعالَُم بِ​ِرّمِته يَُغذي روما‪ .‬وبهذه المكا ِ‬ ‫َ‬ ‫شَئت المدُ ن الفخمة‪ ،‬وأّوُلها روما‪ .‬كما أّ ن ال ةعهَد الهيلينّي وصاَ ن هذه المدائَن كما هي‪َ ،‬و َ‬ ‫طّوَرها أكثر‪ .‬فِمن‬ ‫كانت ُأن ِ‬ ‫ب ةعِد روما تأتي أنطاكيا ‪ ،Antakya‬السكندرية ‪ ،İskenderiye‬بارغاما‪ ،‬تدمر‪ ،‬ساموسات‪ ،‬أديسا ‪ ،‬آِمد‬ ‫صرية ‪ ،Kayseria‬تارسوس ‪،Tarsus‬‬ ‫صر ‪َ ،Neo Kayser‬قي َ‬ ‫‪ ،Amid‬أرضروم ‪ِ ،Erzeni Rum‬نيو َقي َ‬ ‫تراَبزوس ‪ ،Trapezus‬وغيُرها من المدِ ن الهيلينيِة الجمِة التي كانت كالنجوِم المتللئِة في سماِء الشر‪.‬ق‪ .‬في‬ ‫ت الولى لُِدنيا المدائِن الجديدة في أوروبا‪ ،‬أي ولدةَ أمثاِل أوروك‪ ،‬وفي مقدمِتها‬ ‫حيِن أننا َنشَهُد َروص َ‬ ‫ف اللَ​َبنا ِ‬ ‫باريس؛ والتي تَ​َميَّز عماُرها بَِتطابُِقه مع م ةعماِر المدِ ن اليونانية‪ ،‬ولكْن‪ ،‬مع َمسَحٍة من ال ةعظمِة والتساع‪ .‬علوًة‬ ‫ي وسواقيها وعجلِتها كانت َحقَّقت تَطَّوراً ملحوظاً آنذاك‪ .‬أما شبكةُ الطرقات‪ ،‬فل نظيَر لها‪.‬‬ ‫على أّ ن أقنيةَ الر ّ‬ ‫والمُن كا ن مستتبا ً لدرجِة أنه كا ن ثمةَ سلُم روما )‪ (Pax Romana‬حقًا‪ .‬وكذا كانت وصناعةُ الت ةعديِن‬ ‫وصْقُل الحجاِر ونحُتها‪ ،‬فل ُيمكُن مقارنُته إل ب ةعهِد مصر‬ ‫والوسائُل الم ةعماريةُ متطورة‪ .‬أما المناجُم الحجرية‪َ ،‬و َ‬ ‫ف الكثر‬ ‫القديم‪ .‬بالضافة إلى أّ ن تغلي َ‬ ‫ع الم ةعدنيِة والسلحة كا ن – بطبي ةعِة الحال – من شؤوِ ن الِحَر ِ‬ ‫ف الدرو ِ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫سها الكامل‪ ،‬وراَجت فاستَ​َرّدت اعتباَرها ِنسبة للثقافِة اليونانية‪،‬‬ ‫تطورًا‪ ،‬في حين كانت التجارةُ قد أنَجَزت تَ​َمأ ُ‬ ‫س َ‬ ‫سوَد عهٌد ُمزهٌر في انطلقِته التجارية‪.‬‬ ‫وَتكاثَ​َر التجاُر المشهورو ن‪ ،‬لِيَ ُ‬ ‫ت‬ ‫س لوِل مرٍة في تاريخها‪ .‬فالدساتيُر والتشري ةعا ُ‬ ‫وَلربما كانت الحقو ُ‬ ‫‪.‬ق َتقطَُع كّل هذه المسافِة من التقدِم والتمأس ِ‬ ‫الحقوقيةُ جديرةٌ بأخِذها مثالً ُيحتذى به حتى في يوِمنا الحاضر‪ .‬ومؤسسةُ الموا َ‬ ‫طنِة القوية الراسخة كانت‬ ‫النتيجةَ الطبي ةعيةَ للحقو‪.‬ق‪ .‬أما موا َ‬ ‫طنةُ روما‪ ،‬فكانت امتيازاً عظيمًا‪ ،‬حيث كانت كّل الوساِط الرستقراطيِة‬ ‫ش على غراِر سكاِ ن روما امتيازاً بَِحّد ذاته‪ .‬لقد غدا نمطُ الحياِة على منواِل روما‬ ‫والتجاريِة في ال ةعالِم َت ةعتَِبر ال ةعي َ‬ ‫َمَرضا ً ُمستشرياً آنذاك‪ ،‬مثلما الحاُل اليوم بالنسبِة لنمِط حياِة الحداثِة الرأسمالية‪ .‬وقد يَُكوُ ن تأثيُر الموضِة‬ ‫اليطاليِة على الص ةعيِد ال ةعالمّي يتأتى من هذه التقاليد‪.‬‬ ‫سود‪ ،‬أو َترُك الُمجاِلدين‬ ‫لقد كانت المبارزا ُ‬ ‫ت الرياضيةُ وحشيةً وُمَرّوعة‪ .‬فُمصاَرعةُ الُمجاِلدين ‪ ،‬وُمصاَرعةُ الُ ٌ‬ ‫ت كهذه‬ ‫سوِد الجائ ةعِة ضمن الَحَلبة‪ ،‬كانت َتق َ‬ ‫ُلقَمةً سائغةً في فَِم الُ ُ‬ ‫شِ ةعّر لها البدا ن‪ .‬وكانوا يُلَّقنو ن الش ةعَب تسليا ٍ‬ ‫ت اللهِة والم ةعابِد الُمشيَّدِة باسِم اللهِة بنسبٍة كبيرٍة في المراحِل الخيرة‪.‬‬ ‫لَِتنَحطّ أخلُقه‪ .‬وَتراَجَ ةعت منزلةُ ُمَجّم ةعا ِ‬ ‫ضَمها ويَتَقَبَّلها‪ .‬ف ةعلى سبيِل المثال‪ ،‬كا ن فرجيليوس‬ ‫ت الرومانّي اكتفى بَِتغييِر أسماِء آلهة اليونا ن لَِيه ِ‬ ‫فِ ةعلُم اللهو ِ‬ ‫قد َكتَ​َب ملحمَته إينياس عن بناِء روما باقتصاِرِه على الحذِو حذَو هوميروس في كتابِة ملحمِة طروادة‪ .‬أي أّ ن‬ ‫ضَمت‬ ‫ت اليونانيةُ والكتابا ُ‬ ‫جميَع ال ةعناوصِر الثقافية‪ ،‬بما فيها الدبيا ُ‬ ‫ت المسرحيةُ والتاريخيةُ والفلسفية‪ ،‬كانت ُه ِ‬ ‫ت هامًة‪ ،‬فقد كانت الخطابةُ فناً‬ ‫سيَغت بتحويِلها إلى اللتينيِة فحسب‪ .‬وبالرغِم من ذلك‪ ،‬فقد قَّدموا نتاجا ٍ‬ ‫واستُ ِ‬ ‫ُ‬ ‫وصبغةٌ وَمسَحةٌ خاوصةٌ بشكٍل‬ ‫راسخًا‪ ،‬وكانت اللغةُ الرومانيةُ بَِحّد ذاِتها أسلوباً في المحادثِة أيضًا‪ .‬كما أضفَِيت ِ‬ ‫‪.‬ق ال ةعميقة‪ .‬وقد كانت اللتينيةُ َحّلت َمَحّل اللغِة‬ ‫بارٍز على الملبس والهيئات‪ ،‬رغَم احتواِئها تأثيرا ِ‬ ‫ت الشر ِ‬ ‫ت إلى اللتينية‬ ‫الغريقيِة رويداً رويدًا‪ ،‬لَِتغدَو اللغةَ الرسميةَ في الم ةعاييِر الديبلوماسيِة وال ةعالمية‪ .‬وللترجما ِ‬ ‫ب َتصييِر السياسِة فنا ً مستقلً بذاِته‪.‬‬ ‫ت اليونانية‪ ،‬إلى جان ِ‬ ‫نصيُبها الوافُر أيضاً في الحفاِظ على الكلسيكيا ِ‬ ‫ولدى قياِمنا ب ةعقِد مقارنٍة بين ثقافَتي روما وأثينا‪ ،‬سنجُد – وبكّل سهولة – أّ ن الجانَب اليديولوجّي َيطغى على‬ ‫ي السياسّي هو الذي َيتُرُك بصماِته على ثقافِة روما‪ .‬لكن‪ ،‬من المهم بمكا ن‬ ‫ثقافِة أثينا‪ ،‬في حين أّ ن الجانَب الماد ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫النتباهُ إلى َكوِ ن كلتا الثقافَتين ُتشّكل ن ُكلً متكام ً‬ ‫ل‪ ،‬وكأّ ن السكندَر وَمن أعقَ​َبه من َملَّكيات‪ ،‬ومن ثم الروما ن‬ ‫صّوُر روما‪ ،‬أو حتى نقلِتها نحَو إمبراطوريٍة‬ ‫أنفسهم قد َجَنوا ثماَر الرضيِة الثقافيِة لثينا‪ .‬وكأنه من المحاِل تَ َ‬ ‫عالمية‪ ،‬دوَ ن التفكيِر بثقافِة أثينا‪.‬‬ ‫َ‬ ‫لكّن الهّم من هذا وذاك هو َكوُ ن كلتا الثقافَتين تَُ ةعّدا ن آخَر أطواِر تَطّوِر الثقافِة الشرقية‪ .‬بم ةعنى آخر‪ ،‬وعلى‬ ‫ض مما ُي ةعتَ​َقد‪ ،‬فإّ ن أثينا وروما لم ُتبِدعا ثقافةً وإمبراطوريةً أوصليَتين‪ .‬بل كلتاهما ثمرةُ التَّغّذي على‬ ‫النقي ِ‬ ‫ّ‬ ‫ض بالتالي عن تركيبٍة جديدٍة أرقى وأعلى‪ .‬فحتى أوروبا‬ ‫الظرو ِ‬ ‫ف المحليِة للمناهِل الثقافيِة الشرقية‪ ،‬والتَّمخ ِ‬


‫نَ​َجَحت في إنجاِز ثورِتها الثقافيِة الكبرى ِبمزِجها هذه المشارَب الثقافيةَ مع تركيبِة روما وأثينا مرةً أخرى‪ .‬أي‬ ‫ت الشر‪.‬ق‪.‬‬ ‫‪.‬ق ميزوبوتاميا ومصر اللَتين تُ َ‬ ‫أنه من المحاِل تَ َ‬ ‫شّكل ن مهَد حضارا ِ‬ ‫صّوُر أوروبا خارَج نطا ِ‬ ‫ي أيضا ً متكاملةٌ فيما بينها‪ .‬فبناُء وتكاثُ​ُر المدِ ن المبتدئِة بأوروك‪،‬‬ ‫ت التاريخيةَ في التخطيِط الماد ّ‬ ‫كما إّ ن التطورا ِ‬ ‫ت سلسلٍة مت ةعاقبٍة مترابطة‪ .‬وقد لحظنا كيف كا ن لُِكّل حضارٍة "أوروكـ"ها‪ .‬وهذا المر ليس‬ ‫إنما يُ َ‬ ‫شّكُل حلقا ِ‬ ‫‪.‬ق ولدِة وانتشاِر الثقافِة‬ ‫ض وصدفة‪ ،‬بل هو جدليةُ المدينة‪ .‬وقد ظهَرت الجدلية نف ُ‬ ‫مح َ‬ ‫سها أمامنا في سيا ِ‬ ‫النيوليتية أيض ًا‪ .‬يستحيل علينا إضفاء الم ةعاني على التطورات الجتماعية في حال بترنا إياها من أرضياتها‬ ‫التاريخية والمكانية‪ .‬وهذا ما َنشَهده من خلل هذا العداد والسرد المقتضب بشأ ن انتشاِر وتوسِع الحضارة‬ ‫المدينية‪.‬‬ ‫ح أّ ن فَ ْتَ​َح ال ةعالَِم على يِد أنظمِة الحضارة المدينية قد اسَتكَمَل دورَته مع الحضارِة الرومانية‪ ،‬بل وكا ن‬ ‫ِمن الراج ِ‬ ‫َ‬ ‫ت بين المدنيات َيغلَُب عليها‬ ‫ق المفتوحة سابقًا‪ .‬والفتوحا ُ‬ ‫سه حينئٍذ في دوامٍة عقيمٍة بإعادِة فتِحه المناط َ‬ ‫َأقَحَم نف َ‬ ‫ت متشابهة‪ ،‬فَجميُ ةعها ل َهّم لها ول َغّم سوى اللَّه ُ‬ ‫ث‬ ‫ب والستغلِل‪ .‬ذلك أّ ن طبائَع المدنيا ِ‬ ‫ب والسل ِ‬ ‫عادةً طابَُع النه ِ‬ ‫َ‬ ‫صُد‬ ‫ب الثرو ِة السمسارية الزاخرة المتراكمة‪ ،‬وإحكام قبضتها الستملكية عليها )أق ُ‬ ‫ب وسل ِ‬ ‫وراَء مطامِ ةعها في نه ِ‬ ‫ْ‬ ‫ص أو ُملِك الدولة‪ .‬فجميُع القِيَِم المستولى عليها‬ ‫ت الُملك‪ ،‬سواًء تَ​َحّوَلت إلى ُملٍك خا ّ‬ ‫ح السمسرة‪ :‬واردا ِ‬ ‫باوصطل ِ‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫س ةعا ُ‬ ‫ع بُطوِ ن ال ةعاملين في الراضي‪ ،‬إنما َت ةعتَِمُد على ذري ةعِة الُملِكية‪ ،‬وُت ةعتَ​َبر سمسرة(‪ .‬بالتالي‪ ،‬فالتَّو ّ‬ ‫ب ةعَد إشبا ِ‬ ‫َ‬ ‫ت وتناُزِعها وانتقاِل زماِم الدارِة من واحدٍة إلى أخرى‪ ،‬إنما قواُمها تدميُر القِيَِم‬ ‫ع المدنيا ِ‬ ‫المرتكزةُ إلى تصاُر ِ‬ ‫ع الجديدِة منها‪.‬‬ ‫أكثَر ِمن إبدا ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ت إلى الوراء‪ ،‬سنرى بنظرٍة خاطفٍة أّ ن المرحلة المبتدئة مع الشوريين تَفّرَدت عن مثيلِتها‬ ‫ولدى اللتفا ِ‬ ‫ُ‬ ‫شهوانّي‬ ‫المنصرمِة بنهِبها للقيِم الحضارية‪ .‬فالباطرة الشوريو ن الُمسَتفِردو ن بذهنيِة التباهي بالستيلِء ال ّ‬ ‫ع والسواِر من الجثث‪،‬‬ ‫على الحضارا ِ‬ ‫ت الحثيِة والهورية والفينيقيِة والمصرية‪ ،‬والعتداِد فخراً ببناِء القل ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫فكأّنهم بذلك يُقِّرو ن وَي ةعتَِرفو ن بهذه الحقيقِة بجلٍء ل تَ ُ‬ ‫ب المدنيا ِ‬ ‫شوُبه شائبة‪ .‬إنها حقيقة كوِ ن حرو ِ‬ ‫ق عيَنه بـ"مذابح التاريخ"‪ .‬وعندما تَُكوُ ن‬ ‫وصَم الَمنِط َ‬ ‫ووصراعاِتها وحشيةٌ ومرّوعة‪ ،‬ليس إل‪ .‬وكا ن هيغل قد َو َ‬ ‫ب الُمْلِك والثروة السمسارية‪ ،‬فمن المحاِل احتماُل تَ​َحقِّقها بطريقٍة أخرى‪ .‬ففي‬ ‫دوافُ ةعها قائمةً على تَ​َغّيِر أوصحا ِ‬ ‫ف المقابِل ثمة مجتمٌع مدينّي‬ ‫ف الوِل ثمة مجتمٌع مت ةعلقةٌ حياُته على الثقافِة الحضاريِة بِ​ِرّمِتها‪ ،‬وفي الطر ِ‬ ‫الطر ِ‬ ‫ع أَ​َحِدهما لُِكّل القِيَِم الماديِة والم ةعنويِة‪ ،‬وبَْتِر أواوصِر‬ ‫طامٌع في نهِبها وسلِبها‪ .‬وبما أّ ن نَْيل الُمراِد مرتبطٌ باقتطا ِ‬ ‫الخِر عنها‪ ،‬فل َيبقى بالتالي أماَم هذا الخِر ِمن خياٍر سوى الزواُل والفناء‪ .‬فحتى لو اسَتسَلم )حينها سوف‬ ‫َيسري قانوُ ن الستيلِء على الطفاِل والنساء‪ ،‬وَتقِتيِل الشباِ ن الياف ةعين(‪ ،‬فَ​َلن َتنتَِظَر الشريحةُ المقتدرةُ ِمن‬ ‫الِهلين سوى الهلَك الذريع‪ .‬وهنا َتكُمُن المأساة‪.‬‬ ‫ص مأساويةً عن ال ةعصِر الكلسيكي‪.‬‬ ‫لقد فَّكَك وحلَّل المتنورو ن اليونا ن هذا الوضَع جيدًا‪ ،‬وَكَتبوا أكثَر القص ِ‬ ‫ت آكاد تُْخِبرنا بحاِل‬ ‫والملحُم السومريةُ أيضا ً قص ٌ‬ ‫ت نيبور ‪ Nippur‬ول ةعنا ِ‬ ‫ص مأساويةٌ مماثلة‪ .‬فَ​َكأ َّ ن َمرثِّيا ِ‬ ‫ص بالذكِر إعاقةَ شواطِ ئ إيجة من‬ ‫بغداد اليوم‪ .‬والمبراطوريةُ البرسيةُ أيضا ً تَتَ​َميُّز بِ ُ‬ ‫شهَرٍة مشابهة‪ ،‬ونَُخ ّ‬ ‫سه‪،‬‬ ‫ق نف ِ‬ ‫التطوِر المستقل‪ ،‬والذي يَُ ةعّد أَ​َحَد أكثِر خسائِر التاريخ مأساويًة‪ .‬وقد لجأ َ السكندُر فيما ب ةعد إلى المنط ِ‬ ‫س وتُِبيُد النمَل بَِوطأِتها الثقيلة‪ِ .‬من هنا‪َ ،‬غَدت الَملَِكيّةُ اللهيةُ عنواناً‬ ‫وكأنه ِمدَحلَةٌ أسطوانيةٌ ‪َ silindir‬تدَه ُ‬ ‫ب إلى‬ ‫يَتَ​َحقّ ُ‬ ‫سّر ُ‬ ‫ت تَتَ َ‬ ‫ق على الدوام بِ َ‬ ‫سِهم كالنمل‪ .‬يبدو – فيما يبدو – أّ ن مثَل هذه التطورا ِ‬ ‫ق البشِر وَده ِ‬ ‫سح ِ‬ ‫ق لذروِة التّفَّنِن به‪ .‬أما هذه‬ ‫الـ"أنا" لدى ب ةع ِ‬ ‫ض الناس‪ .‬وما فَ​َ ةعَلتهُ روما ربما ليس سوى الووصوُل بهذا المنط ِ‬ ‫ب القدامى مع أتباعهم بالطبع‪ ،‬أو َتصييُرهم‬ ‫الدوامةُ ال ةعقيمةُ عيُنها‪ ،‬وتَ​َغّيُر المتسلطين‪ ،‬والقضاُء على الوصحا ِ‬ ‫ف ضميِر النسانيِة وإماتَِته‪ ،‬فماذا عساه يكو ن؟‬ ‫أسر ً‬ ‫ى ذوي فائدة؛ فإذا َلم يَُك ُكّل ذلك عملً لَِتجفي ِ‬ ‫سنَِجُد أّ ن مناهضَتها لنظمِة الحضارة المدينية النظيرِة للدياِ ن الت ةعدديِة‬ ‫ث في الدياِ ن التوحيدية‪َ ،‬‬ ‫لدى البح ِ‬ ‫ت التاريخيِة الكثر‬ ‫والتوثينية‪ ،‬وم ةعاَرضَتها إياها بذهنيٍة جديدٍة وممارسٍة عمليٍة جديدة؛ إنما ُي ةعتَ​َبر أحَد التطورا ِ‬ ‫ت الحضاريِة قد استَ​َمّرت استناداً لهذه الديا ن‪ ،‬إل أنه من الساطع – دو ن ريب‬ ‫م ةعنى‪ .‬ولَئِْن كانت ب ةع ُ‬ ‫ض التوس ةعا ِ‬ ‫َ‬ ‫ت ضمَن َبنٍد منفصل‪.‬‬ ‫– أننا وجهاً لوجه أماَم تَطّوٍر مغاير‪ .‬لِنَقُْم بَِتفسيِر هذه النطلقا ِ‬ ‫‪ -4‬مراحُل المجتمِع المديني وقضايا المقاومة‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫لدى سقوِط روما في نهايِة القرِ ن الرابع‪ ،‬ل تنهاُر م ةعها مدينة وحضارةٌ َمقرونة باسِمها فحسب‪ ،‬بل وتنتهي‬ ‫سّمى‬ ‫م ةعها حقبةٌ طويلةٌ َ‬ ‫ت ال ةعصوِر الولى وال ةعصوِر الكلسيكية‪ .‬وقد َجَرت ال ةعادةُ أْ ن تُ َ‬ ‫شِهَدت كافةَ حضارا ِ‬ ‫القروُ ن اللحقةُ لها بال ةعصوِر الوسطى‪ ،‬والتي طالما ُتسَتذَكر باسِم عصِر ال ّ‬ ‫ظُلمات‪ .‬إل أّ ن هذه التسميةَ متأتيةٌ من‬


‫سُد للم ةعنى‪.‬‬ ‫نمِط إنشاِء علِم التاريخ‪ ،‬ول تشتمُل على قيمِة م ةعاٍ ن مؤثرة وقديرة‪ ،‬بل ويطغى عليها الجان ُ‬ ‫ب الُمف ِ‬ ‫ق المفهوِم الماركسي للتاريخ على‬ ‫أما تسميُتنا إياها بال ةعصِر القطاعي‪ ،‬فتنبُع من طريقِة تَ َ‬ ‫ت وف َ‬ ‫شّكِل المجتم ةعا ِ‬ ‫ف الجتماعي للقطاعيِة بالرغام‪ ،‬فل ُي ةعطيها الم ةعنى ال ةعميق‪ ،‬بل –‬ ‫ق بها الت ةعري ُ‬ ‫ص َ‬ ‫وجِه الخصوص‪ ،‬وكأنه ُأل ِ‬ ‫ومثلما بَيّ​ّنا آنفا ً – قد َيخِدُم خل َ‬ ‫ط الم ةعاني أكثر‪.‬‬ ‫في حين أّ ن تفسيَر انهياِر روما على أنه اضمحلُل وتَفَّكُك كّل النظِم ال ةعبوديِة في ال ةعصوِر الولى والكلسيكية‪،‬‬ ‫ق بالم ةعنى بالكثر‪ .‬وبطبي ةعِة الحال‪ ،‬فإرجاُع أوصوِل النجيل‪ ،‬مانيفستو المسيحيِة وصاحبِة‬ ‫ربما يؤدي إلى الت ةعم ِ‬ ‫ب الوفِر في هذا النهيار‪ ،‬إلى ال ةعهَدين السومري والمصري؛ إنما يَُ ةعّبر عن تكامِل هذه ال ةعصور‪ ،‬ولكْن من‬ ‫النصي ِ‬ ‫الجهة الُمقاِبلة‪ .‬والموُر عيُنها َتسري على ثنائيِة السلِم والبيزنطيين أيضًا‪.‬‬ ‫ب التمهيد – فإّ ن َن ةعَت‬ ‫وحسَب رأيي‪ ،‬فالمرحلةُ اللحقةُ ِلروما تقتضي تفسيراً مغايرًا‪ .‬من هنا – ولو ِمن با ِ‬ ‫شّرفة" ب ةعيٌد عن إضفاِء‬ ‫ال ةعصِر الجديِد بـ"ال ةعصوِر الوسطى المظلمة" و"عصوِر المسيحيِة والسلمية الُم َ‬ ‫الم ةعاني اللزمِة للوقائِع والمجريات‪ ،‬بل ويَُحّرفها أيضًا‪ .‬لقد كنا تَطَّرقنا – أو بالحرى انتَ​َبهنا – إلى أهميِة‬ ‫النشاِء لدى الرهباِ ن طيلَة تقييمنا للحضارة المدينية‪ .‬ومن ثَّم رأينا أوصحاَب النفوِذ والسلطاِ ن السياسي‬ ‫صماِتهم الراسخةَ على كافِة مراحِل الحضارة‬ ‫ضوا على عهِد الرهبا ن‪ ،‬وكي َ‬ ‫ف تَ​َركوا بَ َ‬ ‫وال ةعسكري‪ ،‬الذين قَ َ‬ ‫ع ثقافِة الحضارة المدينية عموماً ضد الثقافِة‬ ‫المدينية‪ .‬كما َ‬ ‫سَ ةعينا عبَر تفسيِرنا الفّذ والراسخ إلى تبياِ ن وصرا ِ‬ ‫وصهِرها في سبيِل القضاِء‬ ‫‪.‬ق على ساحتها‪ ،‬واست ةعمارها‪ ،‬واستغللها‪ ،‬و َ‬ ‫النيوليتية‪ ،‬وكيف َ‬ ‫ق الخنا ِ‬ ‫سَ ةعت لتضيي ِ‬ ‫َ‬ ‫ع الطبقي‪ ،‬بل ويَتَ​َ ةعّداه لِيَُكوَ ن هذا‬ ‫عليها‪ .‬و َ‬ ‫ع الثقافّي أَهّم من الصرا ِ‬ ‫شّددنا على ضرورِة إدراِك َكوِ ن هذا الصرا ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫صابين"‪.‬‬ ‫ت على أنها "مذبحة الق ّ‬ ‫ت المحتدمة بين المدنيا ِ‬ ‫الخيُر جزءاً منه‪ .‬علوة على أننا قّيمنا النزاعا ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫‪.‬ق مصطلَحين اثنين‪ :‬الثقافة اليديولوجية‪،‬‬ ‫وَيلوُح لي أنه من المفيِد إعادةُ تفسيِر كّل ما شرحناه سابقاً ضمن نطا ِ‬ ‫والثقافةُ المادية‪ .‬ذلك أني ُأولي الهميةَ لتسميِة فرناند بروديل للثقافِة الرأسمالية بـ"الثقافة المادية"‪ .‬أما‬ ‫ت‬ ‫صَر على المدنيِة الرأسمالية فحسب‪ ،‬بل ويَتَ​َ ةعّداها ليشمَل كّل الحضارا ِ‬ ‫‪.‬ق ت ةعبيِره هذا لكي ل َيقتَ ِ‬ ‫توسيُع نطا ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ص تحليلنا‪ .‬فالتمييز بين الثقافِة المادية والثقافِة الم ةعنوية قد‬ ‫الطبقيِة والمدينية والدولتية‪ ،‬فسوف ُيزيُد ِمن فَر ِ‬ ‫ً‬ ‫استَ​َمّر بل انقطاع طيلةَ مراحِل الحضارة المدينية‪ِ ،‬بدءا من مراحِل تأسيِسها إلى الرأسماليِة‪ ،‬التي هي ت ةعبيٌر عن‬ ‫الذروِة الخيرة لهذه المرحلِة على وص ةعيِد الثقافة المادية‪ ،‬ليس إل‪ .‬إضافةً إلى أّ ن الثقافةَ اليديولوجيةَ )يمكن‬ ‫ق‬ ‫تسميُتها أيضاً بالثقافِة الم ةعنويِة‪ ،‬وِمن ثَّم بِ ةعلِم الم ةعنى( قد َتواَجَدت هي الخرى منذ البداية‪ ،‬وعليها أْ ن تَُحقّ َ‬ ‫ق‬ ‫ذروَتها في مرحلِة سوسيولوجيا الحرية المتزامنِة مع ال ةعصِر الرأسمالي‪ .‬وإذا تناولنا أبحاَثنا و َ‬ ‫شَرعنا بها وف َ‬ ‫ت الكائنة بين الحضارة‬ ‫هذا المنظور‪ ،‬فسوف ُنضاِع ُ‬ ‫ت والصراعا ِ‬ ‫ف من قدرتنا فِي إضفاِء الم ةعاني على ال ةعلقا ِ‬ ‫ب‬ ‫خ الحضارة‪ .‬ومن جان ٍ‬ ‫والثقافَتين الماديِة واليديولوجية من حيث كوِنهما المقاَومةَ المضادةَ لها طيلةَ تاري ِ‬ ‫ت "ال ةعصوِر الوسطى والحداثِة الرأسمالية" مع سوسيولوجيا‬ ‫آخر‪ ،‬سنَُكوُ ن بذلك قادرين على عقِد علقا ِ‬ ‫ت ثمينٍة بشأِ ن م ةعنى الحياِة الحرة على وص ةعيِد الثقافِة اليديولوجيِة فيها‪.‬‬ ‫الحرية‪ ،‬لِنَتَ َ‬ ‫سلَّح بتقييما ٍ‬ ‫ت النيوليتية‬ ‫من هنا‪ ،‬فالشروُح التي سأطرُحها سوف تَُكوُ ن بالغلب عملً تجريبياً مت ةعلقا ً بجميِع الثقافا ِ‬ ‫والحضاريِة المدينية التي شهدناها إلى ال ن‪ ،‬وبكيفيِة إنشاِئها لسوسيولوجيا الحرية‪ .‬في حين أّ ن مساعينا‬ ‫سَن ةعَمُل على طرِحها ب ةعَد سرِد ملحظاِتنا بشأِ ن المدنيِة الرأسمالية‬ ‫الوصليَة في إنشاِء سوسيولوجيا الحرية َ‬ ‫‪.‬ق أوسع بكثير‪.‬‬ ‫)الحداثة( بآفا ٍ‬ ‫آ‪ -‬علّي التوضيَح بأنه لم تَُكن الثقافةُ النيوليتيةُ ت ةعاني من مشاكَل جديٍة من حي ُ‬ ‫ث الفصِل بين ُب ةعَديها اليديولوجّي‬ ‫والمادي‪ ،‬بل وَلم ُتواِجه القضايا المتفاقمةَ إل ب ةعَد ولوِجها مرحلةَ النسداد‪ ،‬وعجِزها عن حمايِة ذاِتها تجاه‬ ‫ح "القضايا" الذي طالما ج ةعلُته عنواناً‬ ‫َتصاُعِد المجتمِع المديني‪ .‬وهنا أَتَلَّم ُ‬ ‫ح مصطل ِ‬ ‫س أَّولً ضرورةَ شر ِ‬ ‫أساسيًا‪ .‬فحسَب الم ةعنى الذي استخدمُته‪ُ ،‬يفيُد هذا المصطلح ِبحالِة الفوضى المتأزمِة التي َلم يَُ ةعد الفرُد‬ ‫ص من الوضِع‬ ‫والمجتمُع فيها قادرين على الستمراِر بالثقافَتين اليديولوجية والمادية‪ .‬في حين أّ ن الخل َ‬ ‫الشكالّي الُمَ ةعقِّد ي ةعني الحالةَ المنتَ َ‬ ‫ظمةَ للمجتمِع الجديد ب ةعَد اكتساِبه بنيةً قَّيمة‪ .‬أما الثقافةُ اليديولوجية – ومثلما‬ ‫ت والنسجة‪،‬‬ ‫سّخَرت لها البنى والمؤسسا ُ‬ ‫س ةعي ُ‬ ‫ت والوظائف التي ُ‬ ‫ت لشرِحها كثيراً – فتَُ ةعّبر عن ماهيِة الفاعليا ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫وم ةعانيها وأحوالها الذهنية‪ .‬في حين أّ ن الثقافة المادية ت ةعني القسَم الظاهَر والملمو َ‬ ‫س من الوظائف والفاعليا ِ‬ ‫ت من قَِبيِل المظهر المرئي‪ ،‬الظاهرة‪ ،‬المؤسسة‪ ،‬البنية‪،‬‬ ‫والم ةعاني التي اضطرر ُ‬ ‫ت لتوضيِحها بمصطلحا ٍ‬ ‫َ‬ ‫ث عن الثنائيِة الجدلية لـ الطاقة – المادة داخَل‬ ‫والنسيج‪ .‬وإذا ما حاولنا لحَمها مع الكونية‪ ،‬فهي َت ةعَمُل على البح ِ‬ ‫الواقِع الجتماعي‪ ،‬وتفسيِرها بموجب ذلك‪.‬‬


‫ع تَُهّدُد الحياةَ فيما بين عناوصِر الثقافَتين اليديولوجية‬ ‫وعلى ضوِء هذه الوصطلحا ِ‬ ‫ت نجُد أنه ما ِمن أوضا ٍ‬ ‫والمادية للمجتمِع النيوليتي‪ ،‬وما ِمن أموٍر َتبَ ةع ُ‬ ‫شقا‪.‬ق فيما بينهما‪ ،‬وبالخص في مراحِل البناِء‬ ‫ع وال ّ‬ ‫ث على النزا ِ‬ ‫‪.‬ق الجتماعيةَ ل َتسَمُح بذلك البتة‪ .‬فالُمْلِكيةُ الخاوصةُ لم تَِجد ُفروصَتها في النمّو ب ةعد‪،‬‬ ‫سس‪ .‬ذلك أّ ن الخل َ‬ ‫والتَّمأ ُ‬ ‫سين‬ ‫ت الجتماعية‪ .‬وتأسيساً على ذلك‪ ،‬فتقسيُم ال ةعمِل بين الجن َ‬ ‫باعتباِرها المؤثَر الساسّي الُمفضي إلى التصدعا ِ‬ ‫ت والكِل حصيلةَ النشاِط المشترِك َلم َيشَهْد‬ ‫لم يَتَ​َ ةعّرف ب ةعد على علقِة الُمْلكيِة وال ةعنف‪ .‬علوةً على أّ ن تأميَن الُقو ِ‬ ‫ت‬ ‫ب ةعْد الُمْلكيَة الخاوصة‪ .‬بم ةعنى آخر‪ ،‬فالجماعا ُ‬ ‫ت الصغيرةُ التي لم تَتَ َ‬ ‫سُم بثقافا ٍ‬ ‫ضّخْم ب ةعد – حجما ً وعدداً – تَتّ ِ‬ ‫ق بجميِع النقاِط النفة الذكر‪ .‬ذلك لنهم اعتَ​َبروا الُمْلكيَة‬ ‫أيديولوجيٍة وماديٍة مشتركة ومتماسكٍة فيما يت ةعل ُ‬ ‫سكوا بالتقاسِم‬ ‫الخاوصةَ وال ةعن َ‬ ‫ف من المهالِك الحيويِة القادرة على تدميِر هذه البنى وإفسادها‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬اسَتم َ‬ ‫ُ‬ ‫ص المجتمِع‬ ‫المشتَرِك والَم ُ‬ ‫شورِة الجماعية كقاعدٍة ركن في أخلِقهم لنها المبدأ الولي المحافظُ على َترا ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫سِكه‪ .‬ونظراً لطبي ةعِة مبدأِ الم ةعاني هذا‪ ،‬فالبنية الداخلية للمجتمِع النيوليتي َتبدو مني ةعة وملتئمة لقصى‬ ‫وَتما ُ‬ ‫َ‬ ‫ت بين المجتمِع والطبي ةعِة‬ ‫ف السنين إلى هذه الحقيقة‪ .‬أما إذا قارّنا الصل ِ‬ ‫الحدود‪ .‬وَي ةعوُد استمراُرها طيلة آل ِ‬ ‫آنذاك مع ما هي عليه في المجتمِع المديني‪ ،‬فَدعَك ِمن وجوِد ُهّوٍة فسيحٍة بينهما آنذاك‪ ،‬بل إّ ن التناغَم‬ ‫ب الذهنيِة من الطبي ةعِة ُمفَ ةعٌم‬ ‫والنسجاَم مع المبدأِ اليكولوجي مستمّر وبكّل قوة في ِكلتا الثقافَتين‪ .‬فاقترا ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ت واللوهيات‪ ،‬ذلك أنهم َين ُ‬ ‫ظرو ن إلى الطبي ةعِة على أنها حيويةٌ مثُلهم تمامًا‪ .‬فباعتباِرها سخية بَِمنِحِهم‬ ‫بالقدسيا ِ‬ ‫ع النباتية والحيوانية والغذاء‪ ،‬فهي ُت ةعاِدُل اللهَ عندهم‪ ،‬بل وهي ِمن أعظِم‬ ‫الهواَء والماَء والناَر وشتى النوا ِ‬ ‫ث القويِة على اوصطلَحي اللِه واللوهية مستترةً في هذه‬ ‫عناوصِر اللوهية‪ .‬ولطالما َنسَتشِ ةعُر ب ةع َ‬ ‫ض البواع ِ‬ ‫الحقيقة‪.‬‬ ‫ح الله في مكاِنها المناسب‪ .‬المهّم هنا هو َكوُ ن‬ ‫سنشرُح الم ةعاني التي أضفاها المجتمُع المديني على مصطل ِ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫اللوهيات‪ ،‬التي احتّلت حيزاً فسيحاً في ذهنيِة المجتمع النيوليتي‪ ،‬خاوية تماما من القمِع والستغلل وال ةعنف‪،‬‬ ‫ع والحماس‪ .‬وعندما‬ ‫أو من التّ َ‬ ‫سّتِر عليهم‪ .‬بل َترجُح فيها َكفُّة الرحمة‪ ،‬الشكرا ن‪ ،‬الرفاه والوفرة‪ ،‬الِود‪ ،‬الندفا ِ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ف والورع والنور‪ ،‬لتأميِن التناغِم م ةعها ثانية )أي‬ ‫َتسوُء الوضاع‪َ ،‬يغل ُ‬ ‫ت من قِبيل الخو ِ‬ ‫ب ربط ذلك باوصطلحا ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫مع الطبي ةعة‪ .‬وبت ةعبيٍر علمي‪ ،‬يَتِب ةعو ن السلوَك اليكولوجي‪ ،‬وَيسَ ةعو ن للتناغِم م ةعها وأْ ن يَكونوا ِبيئَِوّيين(‪ .‬وإذا‬ ‫ت والشباَب الياف ةعين قرباناً في سبيل ذلك‪ .‬أما‬ ‫ت أكبادهم من الشابا ِ‬ ‫استدعى المر‪ ،‬يُقَّدمو ن َأثمَن ما لديهم‪ ،‬فِلِّذا ِ‬ ‫ت "الطوطم"‪،‬‬ ‫الجان ُ‬ ‫ب المجتم ةعّي للله‪ ،‬فَيقَبلونه على أنه الوجوُد ال َ‬ ‫سلَفِّي للجماعة‪ ،‬وذلك عبَر اوصطلحا ِ‬ ‫"الطابو"‪ ،‬و"الم ةعنى" التي تَُ ةعّد عبادةً أوليةً في مجتمِع الكل ن القديم أيضًا‪ .‬بم ةعنى آخر‪ ،‬فهو مشحوٌ ن بالم ةعاني‬ ‫ت الطوطِم‬ ‫سلَفِّية ‪ "atacılık‬و"اللهِة الم"‪ .‬ولَئِْن كانت القدسيةُ ومصطلحا ُ‬ ‫ب ديِن "ال ّ‬ ‫ب من ضرو ِ‬ ‫كضر ٍ‬ ‫والطابو والم ةعنى التي ذكرناها ل َتدخُل في ِعداِد اللوهية بم ةعنى الكلمة‪ ،‬إل أنها تصبُح هالةً ثقيلةَ الوطأِة على‬ ‫‪.‬ق رؤوِسهم على الدوام‪ .‬وما القدسيةُ في جوهِرها سوى مواقُفهم المتَّب ةعةُ إزاَء كّل ما هو‬ ‫الذها ن‪ ،‬تَُحوُم فو َ‬ ‫ع والحماس‪ ،‬وأحيانا ً الورَع والرتياب‪ ،‬وأحيانا ً أَُخر‬ ‫مؤثٌر على حياِتهم‪ ،‬وَتحتَ ِ‬ ‫ضن في ثناياها مشاعَر الخشو ِ‬ ‫المحبةَ والتقدير‪ ،‬وأحيانا ً أيضا ً اللَم والنَّدَب والبكاء‪ .‬إنها القيمةُ التي َيخَل ةعونها على تأثيِر المواضيع والشياء‬ ‫‪.‬ق تلَك اللهِة‬ ‫‪ Nesne‬والم ةعاني في حياِتهم‪ ،‬ويمكننا تسميُتها أيضاً بالخل‪.‬ق‪ .‬وبالوصل‪ ،‬تَتَ​َخّفى وراَء الخل ِ‬ ‫ت‬ ‫ت التي يُْؤِمنو ن بقدرتها على وصوِ ن جماعاِتهم قويةً متماسكة‪ ،‬وبدوِرها الساسي في ذلك‪ .‬والجماعا ُ‬ ‫والقدسيا ِ‬ ‫ي ُبخٍل في‬ ‫وصُغر – أو أ ّ‬ ‫جديةٌ للغاية في هذا السيا‪.‬ق‪ .‬هذا ويؤمنو ن بأّ ن أ ّ‬ ‫ب – مهما َ‬ ‫ي إخلٍل أو إساءٍة أو سوِء أد ٍ‬ ‫ت أخلقيةٌ بكّل م ةعنى الكلمة‪.‬‬ ‫تقديِم القرابين؛ من شأِنه أْ ن َينتهي بكوارَث كاسحة‪ .‬أي أنها مجتم ةعا ٌ‬ ‫سة فَجَ ةعلوها جوهَر ثقافاِتهم‪ ،‬إل أنه ل‬ ‫ومهما يَُك ثمَة امتلٌك اجتماعي جماعي للنباتات والحيوانات المسَتأنَ َ‬ ‫ٌ‬ ‫يمكن تسميةُ ذلك بالُمْلكية‪ .‬فالملكيةُ تشتمل على التشييء‪ .‬ولكن‪ ،‬لم يَُكن ثمةَ ذهنية تسفر عن التمييز بين‬ ‫سهم‬ ‫الذاتاني والموضوعاني ب ةعد‪ .‬بل وكانوا َي ةعتَِبرو ن الشياَء ‪ Nesne‬مثَلهم‪ .‬فبقدِر ما يَُكونو ن ُملكا ً لنف ِ‬ ‫س الدرجة‪ .‬وبالتالي‪ ،‬ل ُيمكُن الحدي ُ‬ ‫ث عن‬ ‫ت والحيوانا ُ‬ ‫ضهم‪ ،‬تَُكوُ ن الثقافةُ والنبا ُ‬ ‫ولب ةع ِ‬ ‫ت الُمَدّجنةُ أيضا ً ُملكا ً بنف ِ‬ ‫ت تَُمّهُد للتوجِه وصوَب الُمْلكية‪ ،‬ولكّن تحويَلها إلى ُمْلكيٍة‬ ‫خلٍل أيكولوجّي جدي أياً كا ن‪ .‬ل شك في أنه ثمة بدايا ٌ‬ ‫ص من سرِدنا هذا أّ ن‬ ‫بَِحق كا ن سيَتَ​َحقّ ُ‬ ‫ف مختلفة‪ .‬يجب أل ُيسَتخلَ َ‬ ‫ح طويٍل من الزمن‪ ،‬وفي ظرو ٍ‬ ‫ق ب ةعَد رد ٍ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ضرًا‪ ،‬ويَُمّر بمرحلٍة حرجٍة تَُحفها المخاطر‪،‬‬ ‫المجتمَع النيوليتّي "جنة"‪ ،‬حيث أّ ن المجتمَع بذاته ل يزال غ ّ‬ ‫ضا ً ن َ ِ‬ ‫ضها عن‬ ‫ف الطبي ةعية والمناخية غيِر المستقرة‪ ،‬وخطورِة تَ​َمّخ ِ‬ ‫ب الظرو ِ‬ ‫لّ ن مستقبَله ل يزال مبَهمًا‪ ،‬وكذلك بسب ِ‬ ‫ت جديٍة قد يواجهها‪ .‬والمجتمُع كا ن واعياً لذلك يقينًا‪ .‬وما َيتُرُك بصماِته على الذهنيِة‬ ‫ت وانتكاسا ٍ‬ ‫انكسارا ٍ‬ ‫َ‬ ‫بالوصل هو هذه المخاوف‪ .‬وبحثاً منه عن الحل – ولو لَح ساذجا ً وبسيطاً – يبدو أنه لم يَُك له بُّد ِمن تطويِر‬


‫ت أب ةعاٍد ميثولوجيٍة ودينية‪.‬‬ ‫ميتافيزيقيٍة ذا ِ‬ ‫ب هذه الشروح‪ ،‬بمقدورنا – وعلى نحٍو أفضل – إدراُك م ةعانَي ميتافيزيقيِة الحياِة الجماعية المتمحورِة‬ ‫وبموج ِ‬ ‫ب والتنشئِة‬ ‫حوَل المرأِة الم‪ ،‬وما يَنُّم عنها من قدسيٍة وألوهية‪ .‬فمزايا المرأِة المماثلةُ للطبي ةعة في النجا ِ‬ ‫والشفقة والرحمة‪ ،‬ومكانُتها الرفي ةعةُ المجيدة في الحياة‪َ ،‬تج ةعُلها ال ةعنصَر الولّي للثقافَتين الماديِة والم ةعنوية‬ ‫على السواء‪ .‬أما الرجل‪ ،‬فدعَك من أْ ن يَُكوَ ن زوجاً لها‪ ،‬بل ل "ظّل" لُِحكِمه ب ةعْد على جماعيِة المجتمع‪ ،‬ومن‬ ‫س الحاكم‪،‬‬ ‫المحال أْ ن يكو ن‪ .‬فنمطُ حياِة المجتمع ل َيسَمُح بذلك إطلقًا‪ .‬بالتالي‪ ،‬فأووصا ُ‬ ‫ف الرجل من قَِبيل الجن ِ‬ ‫ب الدولة تَتَ​َميُّز بطابٍع اجتماعّي بحت‪ ،‬وكانت ستَتَ َ‬ ‫طّوُر وَتبُرُز فيما ب ةعد‪ .‬فالمجتمُع‬ ‫ب الُمْلك‪ ،‬ووصاح ِ‬ ‫الزوج‪ ،‬وصاح ِ‬ ‫شَح ليكوَ ن زوجا ً كا ن‬ ‫آنذاك كا ن ي ةعني المرأةَ الم‪ ،‬أطفاَلها‪ ،‬وأشقاَءها وشقيقاِتها‪ .‬ومن المحتمل أّ ن الرجَل الُمَر ّ‬ ‫سن؛ ليكوَ ن‬ ‫ت أخرى عدا الزوجية‪ ،‬مثَل الصيِد وتربيِة الحيوا ن وال ةعنايِة بالنبات على نحٍو َح َ‬ ‫ُيبدي نفَ ةعه بمهارا ٍ‬ ‫ب لم تَُك قد نَ​َمت كظاهرٍة‬ ‫س بأنه زوٌج أو أ ٌ‬ ‫جديراً للقبوِل به عضوًا‪ .‬في حين أّ ن حقوَقه أو مشاعَره بالحسا ِ‬ ‫اجتماعيٍة ب ةعد‪ .‬وعلينا أل نغفَل أبداً عن أّ ن البوةَ والمومَة مصطلحا ن وظاهرتا ن وإدراكا ن اجتماعّيا ن‬ ‫بالساس‪ ،‬ولو أنهما ليسا خالَيين من الب ةعاِد النفسية أيضًا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫سِ ةعَي لِتَ​َخطيه؟ من المهم سرُد الشروح في هذا المضمار‬ ‫متى دخَل المجتمُع النيوليتي في الضائقة‪ ،‬أو متى ُ‬ ‫ب والدوافع الداخلية والخارجية‪ .‬فَلربما كا ن تجاُوُز الرجل لنقاِط ض ةعفه‪ ،‬وتَ​َحّوله إلى وصياٍد‬ ‫بالعتماد على السبا ِ‬ ‫ً‬ ‫حاذ‪.‬ق‪ ،‬وبلوُغه مكانةً مني ةعة مع حاشيته الملتفِة حوله؛ قد َهّدد النظاَم المومي‪ .‬كما ُيحتَ​َمل أْ ن َتكوَ ن مهارُته في‬ ‫سّببت في ذلك أيضًا‪ .‬في حين أّ ن أغلَب مشاهداِتنا تَُرّجُح لدينا احتماَل وصهِر‬ ‫تنشئِة الحيواِ ن وتنميِة النبات قد تَ َ‬ ‫ب ومجتمِ ةعه‬ ‫ت خارجية‪ .‬ول ريَب في أّ ن هذه المؤثرات تَتَ​َج ّ‬ ‫سُد في دولِة الراه ِ‬ ‫المجتمع النيوليتي وَحّله بمؤثرا ٍ‬ ‫ف النيل تَُؤّكُد وصحةَ هذا الرأي‬ ‫سين‪ .‬وقص ُ‬ ‫المقّد َ‬ ‫ت الحضارية في ميزوبوتاميا السفلى وضفا ِ‬ ‫ص ُأولى المجتم ةعا ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ي في الراضي‬ ‫بنسبٍة كبرى‪ .‬فمثلما ذَكرنا بشكٍل ُمَبرَهن‪ ،‬فثقافة المجتمع النيوليتي الصاعدة‪ ،‬وتقنيا ُ‬ ‫ت الر ّ‬ ‫ض النتاج الذي يتطلبه هذا المجتمُع الجديد المتمّدُ ن ِبالتَّمحوِر حوَل‬ ‫الرسوبيِة السهلية أّدَيتا إلى ظهوِر فائ ِ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ض النتاج المت ةعاظم‪ ،‬والذي نَ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ق قوِة الرجل‬ ‫ظم أموَره على هيئِة دولة‪ ،‬وَحق َ‬ ‫فائ ِ‬ ‫ق منزلة مختلفة للغاية عن طري ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫سّرب في شراييِن‬ ‫بالغلب‪ .‬والتمدُ ن المتزايُد ي ةعني التبضَع‪ ،‬الذي َيجل ُ‬ ‫ب بدوِره التجارة‪ .‬والتجارة من جهِتها تت َ‬ ‫َ‬ ‫شَر م ةعها تصاعديا ً التبضَع والُمْلكيةَ وقيمةَ المقايضة‬ ‫تن‬ ‫ل‬ ‫كولونيالية‪،‬‬ ‫ت‬ ‫ِ ُ‬ ‫المجتمع النيوليتي على شكِل مستوطنا ٍ‬ ‫سوُد ال ةعطايا والهدايا‬ ‫)قيمةُ الستخداِم للشياِء ‪ Nesne‬هي السارية في المجتمِع النيوليتي‪ ،‬في حين أنه تَ ُ‬ ‫ت أوروك وأور‬ ‫سّرَع بالتالي من انفكاِك وانحلِل المجتمع النيوليتي‪ .‬ومستوطنا ُ‬ ‫ِعَوضاً عن المقايضة(‪ ،‬وتُ َ‬ ‫شوُبه أدنى شك‪.‬‬ ‫وآشور إنما تَُبرِهن هذه الحقيقةَ بما ل يَ ُ‬ ‫ي والوسطُ إلى الحضارِة كمنطقٍة نيوليتيٍة أولية‪ .‬في حين‬ ‫وتأسيساً على ذلك انضّم َحوضا دجلة والفرات ال ةعلو ّ‬ ‫ت الكلنية الخرى‪ ،‬سواًء بَلَ​َغت المستوى النيوليتّي أم َلم تبلغه‪ ،‬فقد أوصبَحت بالغلب في‬ ‫أّ ن كافةَ الجماعا ِ‬ ‫ت المجتمع المديني الخارجية‪ ،‬وأساليِبه وممارساِته في الحتلل والستيلِء والست ةعمار والصهر‬ ‫مواجهِة هجما ِ‬ ‫ق التي‬ ‫ت البشرية بتطورا ٍ‬ ‫والتصفية‪ .‬وملحظاُتنا تَُدّل على مروِر جميِع الجماعا ِ‬ ‫ت في هذا التجاه ضمن المناط ِ‬ ‫قَ َ‬ ‫ض المجتمِع النيوليتي – الذي يمكننا اعتباُره الخليةَ النواةَ للمجتمع – وكّل ما تَبَّقى من‬ ‫طَنتها‪ .‬وَأعقَ​َب ذلك تَ​َ ةعّر ُ‬ ‫ت أعلى؛ لَِيبَقوا محافظين على‬ ‫ت المجتمِع المديني في جميِع المناطق وعلى مستويا ٍ‬ ‫المراحِل السالفِة له لهجما ِ‬ ‫وجوِدهم إلى هذه اليام على نحِو بقايا فقط‪.‬‬ ‫أما فكري الشخصي‪ ،‬فيتَ​َمثُّل في استحالِة القضاِء على المجتمع الذي يسبق الحضارِة المدينية أو إفناِئه‪ ،‬ل‬ ‫لَِكوِنه مني ةعا ً أو قويا ً جدًا‪ ،‬بل لستحالِة استمراِر الوجوِد الجتماعّي بدونه‪ ،‬تماماً مثلما نصادف ذلك في ظاهرِة‬ ‫الخليا النواة‪ .‬ول يمكن للمجتمِع المديني أْ ن يتواجَد إل بَِمِ ةعّية المجتمِع السابق له بالتأكيد‪ .‬وهذا المُر مماثٌل‬ ‫لواقِع استحالِة وجوِد الرأسماليِة بل ُعّمال‪ .‬وكذا شأُ ن المجتمِع المديني‪ ،‬الذي ل تتحقق َكينونَُته دياليكتيكيا ً إل‬ ‫ت التطهيِر قد تَ​َحقَّقت‬ ‫ت وعمليا ُ‬ ‫شبِه المتحضرة‪ .‬قد تَُكوُ ن البادا ُ‬ ‫ت غيِر المتحضرِة أو ِ‬ ‫بالرتكاِز إلى المجتم ةعا ِ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫شذ عنها‪.‬‬ ‫ف طبي ةعة المجتم ةعية ويَ ُ‬ ‫نسبيًا‪ ,‬إل أّ ن إنجاَزها بشكٍل كلي يخال ُ‬ ‫ف بالثقافِة اليديولوجية للمجتمِع النيوليتي الصامد طيلةَ‬ ‫بالضافة إلى ذلك‪ ،‬من المهّم بمكا ن عدم الستخفا ِ‬ ‫ُ‬ ‫‪.‬ق المومة‪ ،‬التضامُن الجتماعي‪ ،‬الُخّوة‪ ،‬الِوّد الخالي من المنف ةعِة والمتطلُع – فقط وفقط‬ ‫مسيرِة التاريخ‪ .‬فحقو ُ‬ ‫– لمصلحِة المجتمع‪ ،‬الحتراُم‪ ،‬فكرةُ الفضيلة )أي الخل‪.‬ق(‪ ،‬الت ةعاوُ ن النزيهُ بل مقابل‪ ،‬تقديُر كّل َمن ُينتُِج القِيَ​َم‬ ‫وُيحيي المجتمَع عن وجِه حق‪ ،‬الرتباطُ بالجوهِر السليم والسوي لمصطلَحي القدسية واللوهية‪ ،‬تقديُر الِجوار‪،‬‬ ‫ب كينونِة هذا‬ ‫سر والشو ُ‬ ‫التَّح ّ‬ ‫ب للمساواة والحياِة الحرة‪ ،‬وغيُرها من القِيَِم الخالدة؛ إنما هي أسبا ُ‬ ‫ض ُ‬ ‫‪.‬ق الذي ل َين ُ‬


‫ت عيِنه قِيٌَم يستحيُل زواُلها ما داَمت الحياةُ الجتماعيةُ قائمة‪ .‬في حين أّ ن قِيَ​َم‬ ‫المجتمِع أساسًا‪ ،‬وهي في الوق ِ‬ ‫المدنية‪ ،‬ولَِكوِنها ُمتَرَعةً بالكثيِر من القِيَِم الثقافيِة المادية والم ةعنويِة التي ل فائدَة لها على المجتمع ول نفع‪ ،‬من‬ ‫ف وان ةعداِم الضمير‬ ‫ب‪ ،‬المجازر‪ ،‬الجحا ِ‬ ‫ب‪ ،‬السلب‪ ،‬العتداِء‪ ،‬الغتصا ِ‬ ‫قَِبيِل القمع‪ ،‬الستغلِل‪ ،‬الست ةعمار‪ ،‬النه ِ‬ ‫ت المجتمِع‬ ‫ف المجتمع يَُكوُ ن وقتيًا‪ .‬إنها بالغلب وصفا ُ‬ ‫)اللأخلقية(‪ ،‬الفناِء‪ ،‬والصهِر؛ فُوجوُدها بين وصفو ِ‬ ‫المريض والشكالي‪.‬‬ ‫سنس ةعى في فصِل سوسيولوجيا الحرية لتفسيِر كيفيِة تجاوِز القِيَِم المريضِة والمشّوهِة والمنحرفِة للمجتمِع‬ ‫ج ما يتبقى من القيِم الراسخِة مع المجتمِع الحّر المتساوي وال ةعادل الديمقراطي‪.‬‬ ‫المديني‪ ،‬وكيفيِة دم ِ‬ ‫ث مراحل‪ :‬الولى‪ ،‬الوسطى‪ ،‬والخيرة‪ .‬ولكن‪ ،‬من المهم‬ ‫ب‪ -‬سيكو ن من المفيد تناول المجتمِع المديني على ثل ِ‬ ‫ت بمقدوِرها تسهيل التحليل – ليس‬ ‫ع تام أّ ن المجتمَع المدينّي كّل متكامل‪ ،‬وأّ ن مثَل هذه التقسيما ِ‬ ‫الدراك بسطو ٍ‬ ‫ُ‬ ‫إل – في حين أنها في الواقِع الملموس ُتحافِظ على ُم ةعضلِتها الشكاليِة وَتكاُمِلها على وص ةعيِد "الفترة الطويلة"‪.‬‬ ‫وصف بها المجتمُع المديني من قَِبيِل‪ :‬الّنبِل واللطف‪ ،‬الّرقِة والدقة‪ ،‬اللياقِة واللباقة‪َ ،‬يلتزم‬ ‫أما الووصا ُ‬ ‫ف التي ُيو َ‬ ‫ت ُمبتَ​َدعةٌ‬ ‫ٌ‬ ‫بالقواعِد ويحترمها‪َ ،‬يمتَِثل للم ةعايير‪ ،‬ممنَهج‪ ،‬عاقٌل‪ ،‬مرتبط بالحقو‪.‬ق‪ ،‬ومسالم؛ فجميُ ةعها وصفا ٌ‬ ‫ت‬ ‫وُمل َ‬ ‫صقَةٌ به ِبتمام الكلمة‪ ،‬ول قيمَة لها سوى الدعاية‪ .‬فالوجهُ الحقيقي للمجتمِع المديني ُمَ ةعبّأ ٌ بالنحرافا ِ‬ ‫َ‬ ‫ع‪،‬‬ ‫ف‪ ،‬الكذ ِ‬ ‫ض الجتماعيِة المخالفة لطبي ةعِة الحياة‪ ،‬من قِبيِل‪ :‬ال ةعن ِ‬ ‫والتشويشات والمرا ِ‬ ‫ب والرياء‪ ،‬الخدا ِ‬ ‫َ‬ ‫سِر‪ ،‬البادِة‪ ،‬الست ةعباِد والسترقا‪.‬ق‪ ،‬الغدِر والخيانة‪،‬‬ ‫ب والسلب‪ ،‬ال ْ‬ ‫ب‪ ،‬النه ِ‬ ‫الفظاظة‪ ،‬الِحيَِل والدسائس‪ ،‬الحرو ِ‬ ‫ف مبدأِ القدسية‬ ‫‪.‬ق والخلِل بها‪ ،‬عبادِة مبدأِ القوة‪ ،‬تحري ِ‬ ‫ب‪ ،‬الجحا ِ‬ ‫الغتصا ِ‬ ‫ف وَعَدِمّية الضمير‪َ ،‬دْه ِ‬ ‫س الحقو ِ‬ ‫ب الجنسوي الجتماعي‪،‬‬ ‫واللوهية لتسخيره في خدمِة حفنٍة قليلٍة من المنف ةعيين‪ ،‬التَّ ةعّدي والعتداء‪ ،‬الت ةعص ِ‬ ‫ف في‬ ‫الكواِم المتكدسِة لل ةعبيد‪ ،‬القرويين الهائمين على وجوههم بل عمل‪ ،‬وال ةعماِل ال ةعاطلين‪ ،‬وبينما َيغَر‪.‬ق طر ٌ‬ ‫ف الخر من المجاعة والبؤس والفقر المدقع‪ ،‬وهكذا دواليك‪ .‬لكنه يبذل‬ ‫ف والبذخ‪َ ،‬يموت الطر ُ‬ ‫الملِك والتَّر ِ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جهوداً مريرةً وممنَهَجة بل انقطاع في سبيِل إخفاِء وجِهه الحقيقي‪ ،‬مستفيدا في ذلك من قدراِته الدعائيِة‬ ‫ومواقِفه الميتافيزيقيِة الرذيلِة الزائفة‪.‬‬ ‫وبت ةعبيٍر أكثر علمية‪ ،‬فالمجتمُع المديني – ومثلما سَ ةعينا لشرحه على الدوام – هو ذاك المجتمُع المتزامُن مع‬ ‫ق مع التمايِز الطبقي‪ ،‬والُمداُر بالتنظيم المسمى بالدولة‪ .‬فالقرابةُ والتضامُن السائَدا ن في‬ ‫المدينة‪ ،‬والمتحق ُ‬ ‫ق أماَم تمايٍز اجتماعّي في مستوى الهرميِة بالكثر‪ ،‬ليس إل‪ .‬في حين أّ ن‬ ‫الثنيات وال ةعشائِر قد َيفتحا ن الطري َ‬ ‫التقسيَم الطبقّي وبلوَغ مستوى الدولة ل يتناسب وطبي ةعَتها‪ .‬بم ةعنى آخر‪ ،‬فالثقافةُ ال ةعشائريةُ ل تتناغم والثقافَة‬ ‫ج المتزايد وادخاِرها إياه‪ .‬في حين أّ ن ما‬ ‫الطبقيةَ الدولتية‪ .‬فجوهُرها الساسي َيكمن في تصرِفها بفائ ِ‬ ‫ض النتا ِ‬ ‫ج هو العتداُء والستيلُء على وسائِل النتاج واستملُكها‪ ،‬بما فيها الراضي‬ ‫يَُمّهد الطري َ‬ ‫ق لبروِز فائ ِ‬ ‫ض النتا ِ‬ ‫ج ثمَن تلك اللصووصية‬ ‫أوًل‪ .‬ومثلما ُيقال دائمًا‪ :‬الُملكيةُ هي ما ُيسَر‪.‬ق من المجتمع‪ .‬في حين يَُكوُ ن فائ ُ‬ ‫ض النتا ِ‬ ‫ض‬ ‫ع فائ ِ‬ ‫وثمرَتها‪ .‬وتنظيُم الدولة بالسا ِ‬ ‫س هو أداةُ حمايِة هذه الُمْلكية‪ ،‬ووسيلةُ التوزيِع الجماعي لمجمو ِ‬ ‫ب الدولة‪ .‬أي أنها َت ةعني تَ​َمّلَك ما نُ ّ‬ ‫ض القيمة‪ .‬وبطبي ةعِة‬ ‫النتاج على أوصحا ِ‬ ‫ج وفائ ِ‬ ‫ظَم من الُمْلِكية وفائ ِ‬ ‫ض النتا ٍ‬ ‫ت‬ ‫ش القاهرة‪ ،‬والبيروقراطيات‪ ،‬والسلحِة‪ ،‬وأدوا ِ‬ ‫الحال‪ ،‬فقد اقتضى ذلك طيلةَ مجرى التاريخ وجوَد الجيو ِ‬ ‫‪.‬ق‬ ‫ت وفلسفا ٍ‬ ‫سب مآرَبها من علوٍم ويوتوبيا ٍ‬ ‫ض اشتَّقت لنفسها ما ُينا ِ‬ ‫الشرعنة‪ .‬ولهذا الغر ِ‬ ‫ت وفنوٍ ن وحقو ٍ‬ ‫ت‬ ‫ف الدواِر الجتماعيِة لجميِع هذه الفئا ِ‬ ‫‪.‬ق وأديا ن‪ .‬وَعِمَلت الميتافيزيقيا الخاويةُ من الم ةعاني على تحري ِ‬ ‫وأخل ٍ‬ ‫س هنا هو بنيويةُ المجتمِع المديني‪ ،‬بالرغم من احتواِئها‬ ‫والتصنيفات‪ ،‬وتشويِه روابِطها مع الحياِة الحرة‪ .‬السا ُ‬ ‫ت القصوى بشأ ن وصلِتها مع الثقافِة اليديولوجيِة والمادية‪ .‬وهذا تماما ً ما‬ ‫ت والتحريفا ِ‬ ‫ت والشكاليا ِ‬ ‫الم ةعضل ِ‬ ‫ُيفيُد بَِنماِء الثقافِة الماديِة تصاعديًا‪ .‬أنا ل أتحد ُ‬ ‫وصيَّتين‬ ‫سُم بخا ّ‬ ‫ث عن زواِل الثقافِة اليديولوجية‪ .‬بل إّ ن وجوَدها يَتّ ِ‬ ‫أساسيَّتين‪ :‬البقاء في المرتبِة الثانية‪ ،‬والنحراف‪.‬‬ ‫َتقَتضي هاتا ن الخاوصّيتا ن شرَحهما أكثر لستي ةعاِبهما على نحٍو أفضل‪ .‬من الم ةعلوم أّ ن الجميَع ُيجِمع على َكوِ ن‬ ‫ت "علِم الم ةعاني"‪ .‬فلُِكّل بنيٍة وظيفُتها‪ ،‬ولكّل وظيفٍة ُبنيُتها‪ .‬وفي وضِع‬ ‫البنيويِة والوظيفيِة من مصطلحا ِ‬ ‫ض‬ ‫الفوضى ت ةعاني البنيةُ والوظيفةُ من الزمة‪ ،‬وتغدوا ن وجهاً لوجه أمام التب ةعثِر والنحلل‪ .‬وحينها َتدُخُل ب ةع ُ‬ ‫البنى المختلطِة الوقتيِة والوظائف المتناقضِة المتميزِة بماهيِتها الكونيِة َحيَّز ال ةعمل‪ .‬وعلى سبيِل المثال‪:‬‬ ‫َ‬ ‫ست‪.‬‬ ‫فالتركيبةُ البنيويةُ للماء هي ‪ .H2O‬فأينما يَتَ​َكّوُ ن تَ​َوّحُد ‪ H2O‬في أيِة بق ةعة من ال ةعالم‪ ،‬تَُكوُ ن البنيةُ قد تَأ ّ‬ ‫س َ‬ ‫ي تَ​َجّمٍد أو تَبَّخٍر ُيصيُبه ي ةعني دماَر بنيِته‬ ‫ف السّيال‪ .‬وأ ّ‬ ‫أما وظيفُتها‪ ،‬فتَتَ​َج ّ‬ ‫سُد فيما نسميه بـ"الماِء" الشفا ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ب أو الم ةعد ن عمٌل‬ ‫الوصلية‪ ،‬وبالتالي فقدانه وظيفَته الوصلية أو تحديَد نطاِقها‪ .‬كما أّ ن ُ‬ ‫وصنَع طاولٍة من الخش ِ‬


‫بنيوي‪ ،‬في حين تَُكوُ ن فائدةُ الطاولِة وظيفُتها التي تؤديها‪ .‬فإذا َلم تَُ ةعْد تلك الجزاُء الخشبيةُ أو الم ةعدنيةُ طاولة‪،‬‬ ‫ت عوجاُء منحرفة‪ ،‬وحينها ل مفر من‬ ‫تَُكوُ ن قد فَقَ​َدت وظيفَتها‪ ،‬حتى وإْ ن َلم َتفَن أو تَُزل‪ .‬وقد تتواجُد طاول ٌ‬ ‫ث الفساِد البنيوي والوظيفي على السواء‪.‬‬ ‫حدو ِ‬ ‫سُم بَحملِ​ِه خاوصيَتي البنيويِة والوظيفية م ةعًا‪ .‬وبالم ةعنى ال ةعام‪ ،‬إذا ما اعتَ​َبرنا المادةَ بنيًة‪،‬‬ ‫كّل كياٍ ن في الكو ن يَتّ ِ‬ ‫َتخطُ​ُر الطاقةُ على بالنا فوراً للحفاِظ على هذه البنية‪ .‬أي أّ ن الطاقةَ وظيفةٌ بالنسبِة للمادة‪ .‬وفيما يت ةعلق بأولويِة‬ ‫الطاقِة أم المادة‪ ،‬فقد ُأثبَِت علميا ً أّ ن الطاقَة هي الساس‪ .‬فالبنى الماديةُ ل َتتواجُد بل طاقة‪ ،‬في حين ثمة طاقةٌ‬ ‫بل ُبنى مادية‪ .‬من هنا ُندرك إمكانيَة فناِء المادة )بنيويًا(‪ ،‬واستحالَة فناِء الطاقة‪ .‬بالطبع‪ ،‬وحسب م ةعرفتنا‪ ،‬ل بد‬ ‫ت وثيقٍة بالوساِط والبنى الماديِة‬ ‫من وجوِد البنى الماديِة لتطويِر وظيفِة الطاقة‪ .‬فحتى الحيويةُ ذا ُ‬ ‫ت وصل ٍ‬ ‫المحدودة والراقية للغاية‪ ،‬بحيث من غيِر الممكن التفكيُر بحيويٍة بل مادة‪ ،‬أو بالوصح‪ ،‬بل بنيٍة ماديٍة مقابلٍة‬ ‫ف متطورةً مكافئة لها‪.‬‬ ‫لها‪ .‬وإْ ن ُوِجَدت‪ ،‬فنحن َنجَهُلها إذ ن‪ .‬فالتكوينا ُ‬ ‫ت البنيويةُ الرقى تقتضي بالمقابل وظائ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أما ما ُيقابل البنيةَ الماديةَ والوظيفَة في المجتمع‪ ،‬فهو الثقافة المادية والثقافة اليديولوجية‪ .‬وبَِتقييمنا‬ ‫للمجتم ةعيِة نجد أنه‪ ،‬ومقابَل التطوِر المفرِط للبنيِة المادية في المجتمع المديني‪ ،‬فقد َعِجَز عن تطويِر وظيفِته‬ ‫سَرها‪ .‬وهذا بدوره ما أدى إلى تدميِره لُِبناه أيضًا‪ .‬أما ِعلّةُ ذلك فتكمن في تغاضيه وعدِم‬ ‫بشكٍل تام‪ ،‬وبالتالي َخ ِ‬ ‫‪.‬ق على الثقافات البنيوية واليديولوجيِة الرئيسية‪ ،‬التي َتجَ ةعُل المجتم ةعيةَ‬ ‫ق الخنا ِ‬ ‫التزامه‪ ،‬بل وإفراِطه في تضيي ِ‬ ‫َ‬ ‫سد الماء‪ ،‬وبالتالي ُيفِقده وظيفَته‪ .‬فالبتروُل‬ ‫ممكنة‪ .‬يمكننا تشبيه ذلك بالمثال التالي‪ :‬إّ ن خلط الماِء بالبتروِل ُيف ِ‬ ‫َ‬ ‫أيضا ً سائٌل كالماء‪ ،‬ولكّن وظيفَته مختلفةٌ كليًا‪ .‬وكذا إْ ن كاَ ن تَطَّوُر الثقافِة المادية ُم ةعاِدلً ومتناغما ً مع تَطّوِر‬ ‫الثقافِة اليديولوجية‪ ،‬فل يمكننا حينئذ الحديث عن مخاطِر ذلك أو عن تأثيراِته السلبية على المجتمع‪ .‬بل نقول‬ ‫سها في قبضِة حفنٍة اجتماعيٍة نخبوية‪ ،‬فم ةعنى‬ ‫حينها أنه طبي ةعّي الحال‪ .‬لكن‪ ،‬وفي حاِل تَطَّوِر الثقافِة المادية وتَ​َكّد ِ‬ ‫‪.‬ق ال ةعام‪ ،‬وت ةعا ُ‬ ‫ظم ثقافِته المادية‬ ‫ذلك فقدا ن المجتمع – وبكّل تأكيد – لخاوصياِته البنيويِة والوظيفيِة على النطا ِ‬ ‫‪.‬ق الضيق‪.‬‬ ‫وانحلل ثقافِته اليديولوجية على النطا ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ت مصر بنى مادية عملقة‪ .‬ولكن‪ ،‬مقابل ذلك ثمة‬ ‫ضُح أفكاَرنا على نحٍو أفضل‪ :‬أهراما ُ‬ ‫وبمثاٍل آخر ربما نَُو ّ‬ ‫سروا وظيفَتهم‪ ،‬وحياَتهم الغالية‪ ،‬وحريَتهم‪ ،‬أي أنهم أضاعوا ثقافَتهم اليديولوجية‪.‬‬ ‫المليين من البشر الذين َخ ِ‬ ‫شيُّد البنى الضخمَة‪ ،‬وربما َرِغَبت في إبداِء عظمِتها عبر تلك‬ ‫الحضارةُ المدينية أيضاً شيٌء كذلك‪ ،‬حيث تُ َ‬ ‫ت‬ ‫ت وال ةعنابر‪ ،‬وحتى الِغلِل والمنتوجات‪ .‬فمجتم ةعا ٌ‬ ‫الم ةعابد‪ ،‬المدائِن‪ ،‬السواِر‪ ،‬الجسور‪ ،‬الحقوِل‪ ،‬المستودعا ِ‬ ‫س المجتم ةعات‪،‬‬ ‫كهذه ممكنةُ الحصوِل من قِبَِل المدنيات‪ .‬لكن‪ ،‬ولدى البدِء بالبح ِ‬ ‫ث عن الثقافِة اليديولوجية في نف ِ‬ ‫سواِد‬ ‫فما سنواجهه حينها إما زواُل هذه القيمة‪ ،‬أو تَ َ‬ ‫شّوُهها وانحراُفها‪ .‬بم ةعنى آخر‪ ،‬حفنةٌ قليلةٌ مجّردةٌ من َ‬ ‫ض عليه القمَع والستغلَل بل رحمٍة أو شفقة‪ ،‬وَتبتُ​ُره عن ثقافِته اليديولوجية‪ ،‬أو أنها َتمنَُحه‬ ‫المجتمع‪َ ،‬تفُر ُ‬ ‫إياها ب ةعَد أ ن تَُحّرفها‪ ،‬لتَُجّرَده من قِيَِمه الثقافيِة اليديولوجية الوصلية‪.‬‬ ‫ع مريض‪ ،‬ذي‬ ‫ضيان إلى مجتم ٍ‬ ‫أما هاتان الثقافتان الماديُة واليديولوجية اللتان َتقتُات عليهما القلية‪ ،‬فُتف ِ‬ ‫ق في بحِر المادة‪ ،‬ومبتوٍر تماما عن اليديولوجيا البيئوي‬ ‫وجَهين‪ ،‬غار ٍ‬

‫ت التي َأسَميناها "القضايا الجتماعية" سوى ثمرُة هذا التطوِر الدياليكتيكي‪ .‬ولهذا‬ ‫ِ والحرة‪ .‬وما الحال ُ‬ ‫ب بالذات َينقطع المجتمُع المديني عن البيئة‪ .‬أي أّ ن هذا النقطاَع أنطولوجّي )وجودي(‪ ،‬وليس نوعيا ً أو ما‬ ‫السب ِ‬ ‫يت ةعلق بالماهية كما ُي ةعتَ​َقد‪ .‬بم ةعنى آخر‪ ،‬فَ​َكينونةُ المجتمِع المديني تقتضي بالضرورة انقطاَعه عن البيئة‪ .‬فالبيئةُ‬ ‫ق‬ ‫ق تكاُمِل الطبي ةعِة والمجتمع‪ ،‬أو بت ةعبيٍر علمّي للغاية وف َ‬ ‫واليكولوجيا – سواء تناولناها بمنظوِرها القديِم وف َ‬ ‫اتحاِد الطبي ةعِة والمجتمع – تقتضي مجتم ةعا ً يَتَ​َحتُّم فيه تَ​َخ ّ‬ ‫طي الم ةعاييِر الوليِة الُمَكّونِة للحضارة المدينية‪ ،‬أي‬ ‫طبقاِتها ومدِنها ودولِتها‪ .‬أنا ل أتحدث عن عمٍل ف ّ‬ ‫ض حصوُل التوازِ ن والتناغِم فيما‬ ‫ظ للزالة أو الفناء‪ ،‬بل ُيفتَ​َر ُ‬ ‫س هذا المجتمُع التوازَ ن والتناغَم فيما بين‬ ‫بين الثقافَتين الماديِة واليديولوجيِة لبناِء مجتمٍع جديد‪ .‬ف ةعندما َي ةعِك ُ‬ ‫الثقافَتين الماديِة واليديولوجية ضمَن وصفوِفه – وبالتالي التحاَمهما مع الطبي ةعة – على شكِل طبي ةعٍة متحررة‬ ‫ب على الخلِل‬ ‫)أي‪ ،‬الطبي ةعِة الثالثة‪ ،‬حسَب ت ةعبيِر موراي بوكين(؛ فهذا ما يَُمّهد الطري َ‬ ‫سه للتغل ِ‬ ‫ت نف ِ‬ ‫ق في الوق ِ‬ ‫ض القائِم بين الطبي ةعِة والمجتمع ضمَن المجتمِع المديني‪.‬‬ ‫واللتوازِ ن في التناق ِ‬ ‫ت الوصطلحيِة ال ةعامة‪ ،‬سنجد في‬ ‫وإذا ما قَّيمنا مرحلَة النشاِء الولى للمجتمِع المديني على ضوِء هذه الرشادا ِ‬ ‫ت‬ ‫ت المصريةُ ال ةعملقة‪ ،‬وزقورا ُ‬ ‫جميِ ةعها – على وجِه التقريب – َمشَهَد ثقافٍة ماديٍة عملقة‪ ،‬ليس إل‪ .‬فالهراما ُ‬ ‫السومريين‪ ،‬والمدينةُ الصينيةُ تحَت الرض‪ ،‬وم ةعابُد الهنديين‪ ،‬والمدُ ن والم ةعابُد المماثلة في أمريكا اللتينية؛‬ ‫ضّمُنه‪ ،‬أي الثقافةُ‬ ‫كّل ذلك َيب ُ‬ ‫سطُ أماَمنا وجوَد الثقافِة الماديِة دو ن أدنى غموض‪ .‬أما الم ةعنى التي تَتَ َ‬ ‫َ‬ ‫شه‪.‬‬ ‫اليديولوجية‪ ،‬فيَتَ​َج ّ‬ ‫ث الُمَحّنطة‪ ،‬هياكِل اللهة‪ ،‬ومسيرِة الَمِلك في الحياِة الخرة أيضا ً بِ​ِرفقِة جيو ِ‬ ‫سُد في الجث ِ‬


‫ح‬ ‫أي أّ ن الم ةعنى قد تَ​َجّمَد‪ ،‬أو ُحّر َ‬ ‫ف على نحٍو مذهل‪ ،‬وُتكتَ َ‬ ‫ع بالتشديِد على مصطل ِ‬ ‫سب الم ةعاني في هذه الوضا ِ‬ ‫َ‬ ‫ح جليا ً أّ ن الم ةعنى الحقيقّي َيكُمُن في التّغّيِر والتحوِل‬ ‫الـ"أنا" الكائِن في نفسيِة النسا ن أيضًا‪ .‬ولكن‪ِ ،‬من الواض ِ‬ ‫القائِم في المجتم ةعية‪ .‬حيث ُندِرك يقيناً استحالةَ أْ ن يخطَر بباِل المرءِ مثُل هذه البنى لول وجوِد المجتمِع أو‬ ‫حصوِل تَ​َغّيِره‪ .‬وتأليهُ الَملِ​ِك أيضا ً موضوُع ذهنيٍة وصرفة‪ ،‬إل أنها ذهنيةٌ ُمَحّرفةٌ ومشّوهةٌ ومدّمرةٌ للذهنيِة‬ ‫ب الذهنيِة الجتماعيِة‬ ‫شئه‪ .‬وهي ذهنيةٌ بَ​َرَزت للوسِط على حسا ِ‬ ‫اليديولوجيِة الساسية التي ُتوِجد المجتمَع وُتن ِ‬ ‫ُ‬ ‫ضتها وحارَبتها الدياُ ن التوحيدية الساسية بِ​ِحقٍد‬ ‫الحقيقية‪ ،‬فَكلّ َ‬ ‫ف ثمُنها دماَر الثقافِة اليديولوجية‪ ،‬ولذلك ناه َ‬ ‫ت كبير‪ ،‬واعتَبَ​َرتها علةَ وجودها‪ .‬أما هذا المجتمُع المتموقُع في المدينة‪ ،‬والمن ّ‬ ‫ظُم شؤوَنه كدولٍة‬ ‫ق ومق ٍ‬ ‫عمي ٍ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ج عن‬ ‫الخرو‬ ‫ة‪،‬‬ ‫السيئ‬ ‫الميتافيزيقيا‬ ‫المنحرفة‪،‬‬ ‫ة‬ ‫الذهني‬ ‫في‬ ‫ة‬ ‫المتمثل‬ ‫ة‬ ‫المادي‬ ‫ة‬ ‫الثقاف‬ ‫من‬ ‫مه‬ ‫زخ‬ ‫ر‬ ‫س‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫ف‬ ‫طبقية‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫سُر‬ ‫و‬ ‫ف‬ ‫ت‬ ‫وال‬ ‫ة‬ ‫بالطبي ةع‬ ‫م‬ ‫والتحك‬ ‫الطبي ةعة‪،‬‬ ‫ضه ذاَته وكأنه ابتكاٌر خارَج حدوِد الطبي ةعة وفوَقها كليًا؛ نُفَ ّ‬ ‫‪.‬ق عليها‪ ،‬وعر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ضها للتحريف والتشويه‪.‬‬ ‫ر‬ ‫ ةع‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫الثانية‪،‬‬ ‫ة‬ ‫المرتب‬ ‫إلى‬ ‫اليديولوجية‬ ‫ة‬ ‫الثقاف‬ ‫ط‬ ‫سقو‬ ‫أنه‬ ‫على‬ ‫ذلك كّله‬ ‫َّ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫لذا‪ ،‬من غيِر الوارد القوُل بمروِر هذه المرحلِة خاوية من ردوِد الف ةعل‪ ،‬وُمتَرَعة بالحماس‪ ،‬أو الزعُم باستقباِلها‬ ‫بحفاوٍة خاليٍة من اللِم وكم ةعجزٍة خارقة‪ .‬وما السرُد الميثولوجّي سوى ت ةعبيٌر خفّي للحقيقة‪ .‬فسواًء الميثولوجيا‬ ‫ص المقاومة‪ .‬أما تفسيُر المقاومِة الولى على أنها‬ ‫أو الوثائ ُ‬ ‫ق الدينيةُ المقدسة‪ ،‬ليست سوى ضر ٌ‬ ‫ب من أقاوصي ِ‬ ‫ضُح بجلء‬ ‫انتفاضةُ الثقافِة اليديولوجية‪ ،‬فسيكو ن تحديداً قَّيمًا‪ .‬فالمقاَومةُ ذا ُ‬ ‫ت أب ةعاٍد مت ةعددة‪ .‬فَ​َقبَل كّل شيء تَتّ ِ‬ ‫سها في البيت وإْتباِعها للرجل‪ .‬أما إحاطةُ المدِ ن بالسواِر‬ ‫في رسوِم إينانا تلك المقاومةُ ال ةعظمى للمرأِة إزاَء َحب ِ‬ ‫ت اليديولوجية‪ .‬وإذا ما تَ​َمّ ةعّنا‬ ‫بَُ ةعيَد إنشاِئها على الفور‪ ،‬فَيرُمُز تماماً إلى تمرٍد وانتفاضٍة كاملٍة لثقافِة الثنيا ِ‬ ‫وُغصَنا في أغواِر مفهوِم اللِه الخالق والنساِ ن ال ةعبد‪ ،‬فسوف نلحظُ الصراَع الطبقّي ال ةعظيَم الُمخاض‪.‬‬ ‫غ من محتواه‪ .‬وفي الحقيقة‪،‬‬ ‫ق قد ُو ِ‬ ‫فاوصطناُع وابتداُع اللِه الخال ِ‬ ‫ضَع َمَحّل مفهوِم الطبي ةعِة – اللِه الوصلّي الُمفَّر ِ‬ ‫ف ةعندما تَُقوُم الطبقةُ الداريةُ الحاكمة – التي ل علقةَ لها بالَخلق‪ ،‬بل ومنقط ةعةٌ عنه كلياً – بالعل ن عن ذاِتها‬ ‫ف أعضاِء المجتمع –‬ ‫ف أيديولوجّي كامل؛ فهي بالمقابل تَُقوُم بَِووص ِ‬ ‫كآلهٍة ُمقَّن ةعٍة ُمبِدعٍة بحق‪ ،‬عبَر تحري ٍ‬ ‫ت النفيسِة والُمبدعِة عن حق – بأنهم ُخِلقوا من ُبراِزها وُقذاراتها؛ لُِتشيَر بِلَُغٍة‬ ‫ت واللوهيا ِ‬ ‫ب القدسيا ِ‬ ‫أوصحا ِ‬ ‫ضروس‪.‬‬ ‫ع طبقّي محتدٍم َ‬ ‫ع وصرا ٍ‬ ‫ميثولوجيٍة إلى اندل ِ‬ ‫ستُّر السقو ُ‬ ‫ط المتهاوي للثقافِة اليديولوجية في تلك السرود‪ .‬حيث بِ​ِوسِ ةعنا قراءة السروِد الميثولوجيِة لولى‬ ‫يَتَ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ق لدى الله‪ ،‬وتقييمها كشكٍل‬ ‫ص تلك التي تَن ّ‬ ‫ت الحضارة المدينية‪ ،‬وبالخ ّ‬ ‫ص على مهارا ِ‬ ‫إنشاءا ِ‬ ‫ت الخل ِ‬ ‫ع والنضاِل الطبقّي الجاري‪ .‬وبالوصل‪ ،‬ما ِمن لغٍة أخرى للسرِد والت ةعبير في تلك المرحلة‪.‬‬ ‫للصرا‬ ‫ي‬ ‫أيديولوج‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ت‬ ‫س بين المدائن‪ ،‬وتدميُرها وحرُقها قد َ‬ ‫فالتناف ُ‬ ‫شِهَد كفاحاً اجتماعياً ضاريًا‪ .‬كما أّ ن السروَد الَملَحميَة‪ ،‬وترتيبا ِ‬ ‫شوُبه شّك تلك الُهّوةَ الطبقيةَ الحاوصلة‪،‬‬ ‫س بما ل يَ ُ‬ ‫مجمِع اللهة‪ ،‬وعماَر المدائن‪ ،‬وأبنيةَ المقابر؛ جميُ ةعها َت ةعِك ُ‬ ‫سّجُل مدى‬ ‫ص فرعو ن ونمرود ليست سوى وثائ ُ‬ ‫والمسافةَ الفسيحةَ المفتوحةَ إزاَء المجتمِع الريفي‪ .‬وقص ُ‬ ‫ق تُ َ‬ ‫ُ‬ ‫ق‬ ‫ضُن التراتيُل ال ةعشائرية بين طياتها آثاَر المصاع ِ‬ ‫ت والشروخ في المجتمع‪ .‬بينما َتحتَ ِ‬ ‫غوِر التصدعا ِ‬ ‫ب والضوائ ِ‬ ‫ت المدنية‪.‬‬ ‫هجما‬ ‫واليأس تجاه‬ ‫ِ‬ ‫ت المتماسكة التي تَ​َمّكَنت من إيصاِل وصوِتها من مرحلِة النشاِء الولى‬ ‫تأتي تقاليُد النبياء في وصدارِة المقاوما ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫سرِد قصِة آدم وحواء‪ ،‬أي أوِل إنساَنين على وجِه‬ ‫ب‬ ‫ئ‬ ‫د‬ ‫ت‬ ‫تب‬ ‫التي‬ ‫صهم‬ ‫للمجتمع المديني إلى هذه اليام‪ .‬فأقاوصي‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ ِ َ‬ ‫َ‬ ‫ت الثقافِة اليديولوجية‪ .‬فإذا قّيمنا آدَم وحواَء على‬ ‫البسيطة‪ ،‬إنما َتشتَِمُل في أحضاِ ن جميِع مزاياها على بَ َ‬ ‫صما ِ‬ ‫ب ذهنيِة الحضارة المدينية المتألهِة تجاه المجتمِع النيوليتي‪ ،‬سنجد أنها تَُمّدنا ِبأولى‬ ‫منواٍل سليٍم وف َ‬ ‫ق استي ةعا ِ‬ ‫ت آدِم مع الرب‪ ،‬وعلقِته‬ ‫ع بين السيِد وال ةعبد‪ .‬حيث ِبوسِ ةعنا تفسيُر محادثا ِ‬ ‫رؤو ِ‬ ‫س الخيِط الذي يَُؤدينا إلى الصرا ِ‬ ‫مع حواء على أنها مؤشٌر للتمييِز بين السيِد وال ةعبد‪ ،‬بقدِر ما َترمُز إلى سقوِط المرأِة الم إلى المنزلِة الثانية‪ .‬أما‬ ‫خروُج نوح‪ ،‬فكأنه ُيوحي لنا بإنقاِذه المجتمَع النيوليتي من قبضِة السيِد الجباِر الطاغي‪ ،‬فَيحِمُله على متِن‬ ‫السفينة إلى منطقٍة جبليٍة َيستحيُل ووصوُل المدنية إليها‪ ،‬لُي ةعيَد إنشاَءه من جديد‪ .‬فالقصةُ بالوصل َتشَرُح المجتمَع‬ ‫ت‬ ‫السومري‪ ،‬وكذلك المجتمَع النيوليتّي المقاِوَم تجاَهه‪ ،‬والساعَي للحفاِظ على وجوِده ملتئمًا‪ .‬إّ ن إرجاَع بدايا ِ‬ ‫تقاليِد هَذين النبّيين إلى مرحلِة إنشاِء المجتمِع المديني ُيظِهر لنا وجوَد المقاومِة منذ المراحِل الولى لدرجِة أنها‬ ‫ت ال ةعليا‪ ،‬فكذا يَُكوُ ن تاريُخ‬ ‫م ةعّمرةٌ ومستمرةٌ ِبقدِر المدنية على القل‪ .‬وكيفما يَُمثُّل تاريُخ السللت تاريَخ الطبقا ِ‬ ‫خ البطال‪ .‬فجميُ ةعها تتقاطُع في نقطٍة مشتركة‪ ،‬أل‬ ‫خ الثقافا ِ‬ ‫ت وال ةعشائِر المقاِومة وتاري ِ‬ ‫النبوِة ممثلً بالغلب لتاري ِ‬ ‫ضةُ الوثنية‪.‬‬ ‫وهي مناَه َ‬ ‫من الضروري التمييز بين وثنيِة المجتمع المديني وبين الطوطِم وما شابَهه من رموِز القبائل‪ .‬فاللهةُ الُمَجّم ةعةُ‬ ‫خ من رسوِم ووصوِر ُحّكاِم المرحلِة وأسياِدها‪ .‬وجميُ ةعها بالوصل مرسومةٌ‬ ‫في مجمِع المجتمِع المديني َأشبَهُ بِنُ َ‬ ‫س ٍ‬ ‫على هيئِة إنسا ن‪ ،‬بل والنكى أنها تَُمثُّل الُحّكاَم تمامًا‪ .‬وهنا بالذات يَُكوُ ن هجوُم النبياِء على هذه التماثيل ُم ةعاِدلً‬ ‫ضةَ الدولتية‪ .‬إنها م ةعاَرضةٌ ومقاَومةٌ تجاه شتى‬ ‫ف الحكام‪ .‬فمناَهضةُ الوثنية ت ةعني مناَه َ‬ ‫في جوهِره لستهدا ِ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ت السياسية‪،‬‬ ‫كيا‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫وال‬ ‫ ن‬ ‫الرهبا‬ ‫بين‬ ‫فيما‬ ‫ة‬ ‫القائم‬ ‫ت‬ ‫النزاعا‬ ‫أما‬ ‫المتمأسس‪.‬‬ ‫ع‬ ‫للمجتم‬ ‫ة‬ ‫ثل‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ال‬ ‫ز‬ ‫ُ‬ ‫َ ِ ِ‬ ‫ت والرمو ِ ُ َ ِ‬ ‫المصطلحا ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫فماهياُتها مختلفة‪ .‬فالرهباُ ن يطالبو ن الملوَك بنصيِبهم وحصِتهم من المجتمِع الذي أنشؤوه‪ .‬وهكذا َينش ُ‬ ‫ت ال ةعليا‪ .‬إنه وصراٌع داخَل أروقِة الدولة‪ .‬وبما أنهم ُمبِدعو الثقافِة اليديولوجية‪،‬‬ ‫الصراُع فيما بين الطبقا ِ‬


‫ب في أساسه يَُمثُّل رجَل الدين في الدولة‪ ،‬ول‬ ‫فُيؤّثرو ن بالتالي على النبياء‪ ،‬ولو بشكٍل غيِر مباشر‪ .‬والراه ُ‬ ‫ً‬ ‫ج عن‬ ‫ص علقةً م ةعاكسة‪ ،‬حيث َتنِط ُ‬ ‫ُي ةعنى كثيراً بالمجتمع المدني‪ .‬في حين أّ ن النبوةَ تَقُ ّ‬ ‫ق باسِم المجتمِع الخار ِ‬ ‫حدوِد الدولة‪.‬‬ ‫ع‬ ‫ب الخا ّ‬ ‫يَتَ​َج ّ‬ ‫سُد الجان ُ‬ ‫ص للتقاليِد المبتدئة بالنبّي إبراهيم‪ ،‬والمتمأسسِة مع النبّي موسى في الجرأِة على النقطا ِ‬ ‫ف هنا‬ ‫الكلّي عن المجتمَ ةعين المصري والسومري‪ ،‬وإبداِء الرادِة الروصينِة في بناِء مجتمَ ةعيهما هما‪ .‬إننا نَتَ​َ ةعّر ُ‬ ‫على ثورٍة ثقافيٍة أيديولوجيٍة بكّل م ةعنى الكلمة‪ .‬أما نمروُد وفرعو ن‪ ،‬فهما رمزا المجتمَ ةعين السومري والمصري‬ ‫ب الُحّكاِم فيهما‪ ،‬ويَتِّسما ن بمزايا متمأسسِة متأوصلة‪ ،‬ويَُ ةعّبرا ن عن السيادة المطلقة‪.‬‬ ‫ودولَتيهما‪ ،‬ويدل ن على لَقَ ِ‬ ‫ق ثقافِتهما اليديولوجية‪،‬‬ ‫طري‬ ‫عن‬ ‫ة‬ ‫السياد‬ ‫بهذه‬ ‫فهما‬ ‫اعترا‬ ‫م‬ ‫عد‬ ‫عن‬ ‫وموسى‬ ‫إبراهيم‬ ‫صّرُح كّل من‬ ‫وبالتالي‪ ،‬يُ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫سُم ش ةعاُر اليوم‬ ‫أي مقاوماِتهما الذهنية‪ .‬وهذه المقاومة تَ​َمّرٌد ذو قيمٍة نفيسة بالنسبة لتلك المرحلة‪ .‬فكيفما يَتّ ِ‬ ‫"ثمةَ عوالُم أخرى" بأهميٍة كبرى‪ ،‬فكذا ُي ةعِلنا ن هما في تلك الزما ن أنه ثمةَ عوالُم خارَج السيادِة الرسميِة‬ ‫ب بَِمِ ةعّية جماعاِتهما وأتباِعهما‪ .‬إنها – قبَل كّل شيء –‬ ‫للفراعنة والنماردة‪ .‬ويناضل ن في سبيِل ذلك بِ​ِهّمٍة ودأ ٍ‬ ‫ب هذه القصِة في َمّد إسرائيِل الراهنة بالقوة‪ ،‬أو في تَ​َغّذيها على تلك‬ ‫حركا ُ‬ ‫ت المل‪ .‬ول ُيمِكُن استصغاُر نصي ِ‬ ‫ُ‬ ‫ص على‬ ‫ص واليوتوبيات التي تشتمُل عليها التقاليُد البراهيمية تَن ّ‬ ‫الثقافِة اليديولوجيِة بأقّل تقدير‪ .‬فجميُع القص ِ‬ ‫سّدت المدنيةُ السبَل أمامها‪ ،‬وَتسُرُد حسراِتها وأشواَقها‪ .‬لقد تَأ َثَّرت تلك القبائُل‬ ‫أنماِط حياِة القبائل ونُظُِمها التي َ‬ ‫ضها الضمني لهما‪ .‬ذلك أنها لم تَُك تَتَطَلعّ‬ ‫بِ​ِكلتا المدنيَتين‪ ،‬ولكن‪ ،‬من الضروري القيام بالتفسيِر السليِم لكيفيِة رف ِ‬ ‫ت الدائمِة‬ ‫إلى تشييِد حضارٍة على غرارهما‪ .‬لذا‪ ،‬تَتَ​َميُّز مكانةُ هذه الحقيقِة الواق ةعِة بأهميٍة قصوى في الشتباكا ِ‬ ‫ت في هذه الوجهِة مستمرةً في راهننا أيضا ً – وبكل‬ ‫الناشبِة بين ملوِك إسرائيل ورهباِنهم‪ .‬ول تزاُل النزاعا ُ‬ ‫ِحّدتها – بين دولِة إسرائيل ومجتمِ ةعها‪ .‬كما أنها الشاهُد التاريخّي على الحثيين‪ ،‬الميتانيين‪ ،‬الشوريين‪،‬‬ ‫ب هذه الحضارات موجودةً في ذاكرتها‪.‬‬ ‫الميديين – البرسيين‪ ،‬وأخيراً الغريق – الروما ن‪ .‬ول َتزاُل رواس ُ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ق الثقافِة المادية‪ .‬حيث تُقَّدُم ال ةعلقا ُ‬ ‫يُ َ‬ ‫صّور التاريُخ سنوا ِ‬ ‫ت ما بين ‪. 1200 – 1600‬ق‪.‬م على أنها عصُر تَأّل ِ‬ ‫فيما بين الحثيين والمصريين والميتانيين أولى المثلِة الحيويِة على الدبلوماسيِة الدولية‪ .‬في حين أّ ن ال ةعبرانيين‬ ‫وصدونهم ويَتَ​َ ةعّلمو ن منهم‪ .‬أما التفكيُر بإبراهيم‬ ‫ب إليهم في هذه المرحلة‪ ،‬حيث َي ةعِرفو ن كيف َير ُ‬ ‫هم القوُم القر ُ‬ ‫وموسى بشكٍل منفصٍل عن هذا التواوصِل المتبادِل في تلك المرحلة‪ ،‬فسَيتُرُك فهَمنا إياهما ناقصًا‪ .‬ذلك أّ ن الجواَب‬ ‫الذي ُي ةع ُ‬ ‫ب الثقافِة اليديولوجية‪.‬‬ ‫طونه هو جوا ُ‬ ‫كما يَُ ةعّد كّل من عيسى ومحمد إوصلحّيين عظيَمين في هذه التقاليد‪ .‬سَن ةعَمُل على سرِد مكانِتهما في تصاعِد‬ ‫الثقافِة اليديولوجية فيما ب ةعد‪.‬‬ ‫ُت ةعتَ​َبر بابُل وآشور حلقَتين هامَتين في تصاعِد وُرقِّي الثقافِة المادية‪ .‬فالمدُ ن المت ةعاظمة‪ ،‬والتجارةُ المتنامية‬ ‫َتق َ‬ ‫س زمانها‪ ،‬في حين كا ن الشوريو ن الُمَمّثلين‬ ‫ت شاس ةعةً في عهِد هاَتين الَملَِكيَّتين‪ .‬بابل كانت باري َ‬ ‫ط ةعا ن مسافا ٍ‬ ‫ب التجسيِد المثُل لتقاليِد حكِم‬ ‫الجبابرةَ للملوِك الّتّجاِر في البداية‪ ،‬ولنشاِء المبراطوريِة فيما ب ةعد‪ .‬وهم أوصحا ُ‬ ‫‪.‬ق الوسط‪ .‬تلك التقاليُد التي تَُؤدي دوَرها في البقاِء على الثقافِة اليديولوجية في‬ ‫المجتمِع الماد ّ‬ ‫ي في الشر ِ‬ ‫المنزلِة الثانية من جهة‪ ،‬وتحريِفها من جهة أخرى‪ .‬وبالنسبِة إلى الثقافِة الزرادشتيِة التي َترتَِكز إليها التقاليُد‬ ‫الميدية – البرسية‪ ،‬فقد َجِهَدت وكافَحت ببسالٍة لعادِة الثقافِة اليديولوجية إلى مكانِتها الرفي ةعة‪ .‬إّ ن ثالوَث‬ ‫‪.‬ق الفاضلِة الذين عاشوا في أزمنٍة متقاربٍة للغاية‪ ،‬وَيرمُز‬ ‫زرادشت وبوذا وسقراط يَُمثُّل فلسفةَ الخل ِ‬ ‫‪.‬ق الثقافِة اليديولوجية إزاَء الثقافِة المادية في شخصياِتها‪.‬‬ ‫سَدت تَفَّو َ‬ ‫ت الحكيمِة ال ةعظيمة والفذِة التي َج ّ‬ ‫للشخصيا ِ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫سطوا لل ةعيا ن‬ ‫سته‪ .‬لقد بَ َ‬ ‫إنهم الموِقظو ن الِ ةعظاُم لضميِر البشريِة‪ ،‬والمنادو ن به ب ةعدما َحطت المدنية من شأِنه وَدَه َ‬ ‫ق ل ةعالَِم الثقافِة المادية الناضجِة في زمانهم‪ ،‬وَأثَبتوا أنهم‬ ‫‪.‬ق الساح ِ‬ ‫إمكانيةَ وجوِد عوالَم أخرى تجاهَ التفو ِ‬ ‫سدوها في شخصياِتهم بأعظِم الشكال‪.‬‬ ‫نَّزاُعو ن وَمّياُلو ن لتلك ال ةعوالِ​ِم الخرى‪ ،‬وَج ّ‬ ‫ت التي ل َعّد لها ول حصر‪ ،‬ليست‬ ‫ت المحيطِة في الطراف‪ ،‬وعلى رأِسها السكيت‪ ،‬والمقاوما ِ‬ ‫ت الثقافا ِ‬ ‫إّ ن هجما ِ‬ ‫سوى براهيٌن متواوصلةٌ على استحالِة إفناِء الثقافِة اليديولوجية بهذه السهولة‪ .‬فممثلو ال ةعموريين من الثقافة‬ ‫السامّية‪ ،‬والهوريين من الثقافة الرية‪ ،‬والسكيت من ثقافِة القوقاز الشمالية إزاَء المدنية‪ُ ،‬يظِهرو ن لنا أّ ن‬ ‫ت الحضارة المدينية بأقّل تقدير‪ .‬وما يَُمثُّله القوط بالنسبة إلى‬ ‫ت المقاومِة كانت عتيدةً متواوصلةً بقدِر حلقا ِ‬ ‫حلقا ِ‬ ‫ت‬ ‫حضارِة روما‪ ،‬كذا هو شأ ُ ن ال ةعموريين – ال ةعرب‪ ،‬والهوريين – الميديين‪ ،‬والسكيت بالنسبة إلى المبراطوريا ِ‬ ‫ت‬ ‫‪.‬ق أوسطية‪ .‬هذا وَلم تتناقص النطلقا ُ‬ ‫ت الدينيةُ ال ةعديدةُ المشابهةُ للمسيحيِة بتاتاً ضمن المقاَوما ِ‬ ‫الشر ِ‬ ‫‪.‬ق أوسطية‪.‬‬ ‫الجتماعيِة الشر ِ‬ ‫َ‬ ‫خ الحضارة‪ .‬وبالمكاِ ن‬ ‫تاري‬ ‫ر‬ ‫مسا‬ ‫في‬ ‫الوسطى‬ ‫ج‬ ‫النضو‬ ‫ة‬ ‫مرحل‬ ‫الروماني‬ ‫–‬ ‫ي‬ ‫الغريق‬ ‫المديني‬ ‫ج‪ -‬يَُمثُّل المجتمُع‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ت الحضارة المدينية الكامنة‪،‬‬ ‫ت الكثَر تألقا من طاقا ِ‬ ‫تسميته بحضارِة ال ةعصوِر الكلسيكية‪ .‬لقد طّوروا الف ةعاليا ِ‬ ‫وَخَلقوا أزهى عصوِر الثقافِة المادية نَ َ‬ ‫ظراً ل ةعهِدِهم‪ .‬كما يَُمّثلو ن الكلمةَ الفصَل لزماِنهم‪ ،‬باعتباِرهم بَ​َلغوا‬ ‫ً‬ ‫ت المادية السابقِة لهم‪ .‬ول يزال يَُ ةعّز على المرِء الزعم‬ ‫الثقافا‬ ‫ع‬ ‫لجمي‬ ‫ا‬ ‫نجاح‬ ‫بحضارِتهم التركيبةَ الجديدةَ الكثَر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫غ ثقافٍة ماديٍة بهيٍة جديدٍة يمكن مقارنُتها بروما‪ .‬أما المدنية الصناعية الرأسمالية الُمبَرزةُ على أنها ثورة‪،‬‬ ‫ببلو ِ‬ ‫فهي ليست بحضارة‪ ،‬بل هي داُء الحضارة‪.‬‬


‫أما عصُر أثينا‪ ،‬فيَُحّدُد نقطةَ النهايِة لثقافِة ال ةعصوِر الولى اليديولوجية‪ .‬وما الفلسفةُ في أحِد جوانبها سوى‬ ‫ت آلهِتها‪ ،‬أي الخاسرِة لِقِيَِمها الثقافيِة‬ ‫محصلةٌ لهذه الحقيقة‪ ،‬فكأنها مقبرةُ اللهِة المفتقدِة لحيويِة مجم ةعا ِ‬ ‫اليديولوجية‪ .‬ومن المفهوِم دوافُع مواجهِة وضٍع كهذا عندما يَُكو ن في الذروة‪ ،‬مثلما هي الحاُل في كّل المور‪.‬‬ ‫ذلك أّ ن السقو َ‬ ‫ط نهايةُ كّل ذروة‪.‬‬ ‫من المؤكِد أّ ن ال ةعبوديةَ نظاُم ثقافٍة ماديٍة وصرفة‪ .‬والح ّ‬ ‫ط من شأِ ن البشريِة ِمن أولى مزايا هذا النظام‪ ،‬حيث‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ي كائٍن حّي آخر‪ .‬هذا وتَ ةعّد الرضية المساِعدة لنهياِر‬ ‫َيستحيُل ملحظة مثِل هذا السقوِط الغائِر في دنيا أ ّ‬ ‫وتدهوِر الضميِر لهذه الدرجِة على وصلٍة وثيقٍة بَِ ةع َ‬ ‫سنا‬ ‫ظَمِة الثقافِة المادية وجاذبيِتها‪ .‬ول نفتأ ُ غير متمالكين أنف َ‬ ‫ّ‬ ‫ج القش ةعريرِة بد َ‬ ‫ب ال ةعملقِة والثاِر الفخمة‬ ‫ص‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫تلك‬ ‫َ‬ ‫ء‬ ‫إزا‬ ‫آخر‬ ‫ب‬ ‫جان‬ ‫من‬ ‫ننا‬ ‫ُ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫من الذهوِل من جانب‪ ،‬ومن اختل ِ‬ ‫لهذه الثقافة‪ .‬ل يمكن لتأليِه النسا ن إل أْ ن َيبلَُغ هذا القدر‪ .‬لكّن تأليهَ النساِ ن يَتَ​َحّوُل إلى كوارَث مفج ةعٍة عندما‬ ‫ح بهذا‬ ‫َيسَتهِد ُ‬ ‫ف البشَر ذاَتهم‪ .‬فما يَتَبَّقى لجِل اللهِة حينذاك هم عبيٌد‪ ،‬ليس إل‪ .‬لذا‪َ ،‬لم َيبُرْز أ ّ‬ ‫ي تناق ٍ‬ ‫ض أو كفا ٍ‬ ‫ي نضاٍل اجتماعّي على الطل‪.‬ق‪ .‬ولهذا‬ ‫‪.‬ق أو تَ َ‬ ‫ق اجتماعي‪ ،‬وبالتالي في أ ّ‬ ‫القدِر من ال ةعلنيِة في أ ّ‬ ‫شّق ٍ‬ ‫ي انفل ٍ‬ ‫الغرض‪ ،‬فسيَُكو ن من الناجع للغاية القياُم بالتحليِل السليِم لواق ةعِة "الغلمانية" )اللواطية( في الثقافِة اليونانية‬ ‫ب أفضل للسقوِط الحاوصل‪ .‬فَرواب ُ‬ ‫طها مع عبوديِة المرأة وصاعقةٌ للنظر‪ ،‬ليس لَِكوِ ن‬ ‫الكلسيكية‪ ،‬في سبيِل استي ةعا ٍ‬ ‫ض الذات جنسياً وحسب‪ ،‬بل ولنهما تتشاركا ن الظاهرةَ الجتماعيةَ عيَنها‪.‬‬ ‫ِكلَتيهما عبارة عن عر ِ‬ ‫ب للغاية‪ ،‬والذي ُيخِرُجها‬ ‫ب أكثر‪ ،‬فسَيلفِ ُ‬ ‫ت انتباَهنا جانُبها الساح ُ‬ ‫ق والغال ُ‬ ‫وإذا ما تَ​َمّ ةعّنا في عبوديِة المرأِة عن كث ٍ‬ ‫ب‬ ‫من إنسانيِتها‪ .‬فحب ُ‬ ‫سها في البيت ليس مجرَد أسٍر مكانّي‪ ،‬بل وليس بسجٍن فحسب‪ .‬بل إنه ُيفيُد بوضِع الغتصا ِ‬ ‫سها‬ ‫من الجذور‪ .‬فَْليَتَ َ‬ ‫ق تقاليِد الخطبِة وإلبا ِ‬ ‫‪.‬ق قدَر ما شاءوا عن طري ِ‬ ‫سّتروا على هذه الحقيقِة الغائرِة في العما ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫سه‪.‬‬ ‫ئ َي ةعِر ُ‬ ‫ثياَب الُ ةعرس‪ ،‬فممارسة عملية ليوٍم واحٍد فقط َت ةعني انتهاَء كرامِة النساِ ن من أجِل أ ّ‬ ‫ف نف َ‬ ‫ي امر ٍ‬ ‫ف والشدة الجمة‪،‬‬ ‫ال ةعن‬ ‫ل‬ ‫وسائ‬ ‫ف‬ ‫ِ‬ ‫ف السنين بهذه الدرجِة من المنهجيِة عبَر مختل ِ‬ ‫فسوُء م ةعاملِة المرأِة على َمّر آل ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫بل وحتى عبَر وسائِل الَح ّ‬ ‫ط والتدني اليديولوجي )بما فيها ألفاظ ال ةعشق(‪ ،‬لِتَتَ​َجّرَد من القِيَِم النتاجيِة والتربويِة‬ ‫ب أب ةعَد من الستسلِم بكثيٍر في نهايِة المآل‪ .‬أما إضاعُتها هويَتها بالكامل‪،‬‬ ‫والداريِة والتحررية؛ إنما َيذَه ُ‬ ‫ً‬ ‫سُد في تَ​َحّوِلها إلى حقيقٍة مغايرٍة كليًا‪ ،‬أي إلى "زوجة"‪ .‬فحتى أكثر الرجاِل سماجة وسذاجة‪ ،‬بما فيهم‬ ‫فتَتَ​َج ّ‬ ‫ح الجبال‪َ ،‬ين ُ‬ ‫ظرو ن إلى المرأِة بأنها مجرُد زوجة‪ ،‬ل غير‪ .‬أما أْ ن َتكوَ ن زوجة‪ ،‬فَي ةعني نشوَء‬ ‫سفو‬ ‫على‬ ‫الراعي‬ ‫ِ‬ ‫ص إلى أب ةعِد‬ ‫ح ّ‬ ‫ف بها بل حدود )بما في ذلك َقتُلها متى أراد(‪ .‬فهي ليست مجرَد ُمْلك‪ ،‬بل هي ُمْلٌك خا ّ‬ ‫ق التصر ِ‬ ‫ف كيف َيسَت ةعِمله‪.‬‬ ‫َحد‪ ،‬يَُخّول وصاحَبه لِيَُكوَ ن إمبراطوراً وصغيرًا‪ .‬وَيكِفيه فقط أْ ن َي ةعِر َ‬ ‫ت الولية المتخفيِة‬ ‫ت الساسية الممهدِة للمدنية‪ .‬أما َكوُنه أحَد المؤثرا ِ‬ ‫هذا هو الواقُع الذي كا ن أحَد المقوما ِ‬ ‫ت متينة‪ .‬فالتجربةُ‬ ‫ف عندها‪ ،‬فيَتَ​َ ةعلّ ُ‬ ‫وراَء عدِم م ةعرفِة الثقافِة المادية ليِة حدوٍد أو ضوابٍط تَقِ ُ‬ ‫صل ٍ‬ ‫ق بهذا الواقِع بِ ِ‬ ‫ف المجتمِع برمته‪ .‬وهذا بالذات التأثيُر الوخيُم‬ ‫الناجحةُ في تطبيِقها على المرأِة ُأريَد لها النتقاُل إلى وصفو ِ‬ ‫الثاني‪ .‬حيث كا ن على المجتمع أْ ن َينش َ‬ ‫ح كيفيِة‬ ‫ط وَي ةعَمَل كالزوجة الخان ةعة تجاه أسياِده‪ .‬سَنجَهُد لحقا ً لتوضي ِ‬ ‫وصَفت أرضيُتها في أولى مراحِل الحضارة‬ ‫ث المجتمِع في النظاِم الرأسمالي‪ .‬ولكّن هذه ال ةعمليةَ قد ُر ِ‬ ‫إتماِم تأني ِ‬ ‫ُ‬ ‫ح في الثقافِة الغريقية – الرومانية‪ ،‬حيث ل يمكن الحدي ُ‬ ‫ث فيها‬ ‫المدينية‪ ،‬وأريَد تقديُمها كنموذ ٍ‬ ‫ج للمجتمِع الناج ِ‬ ‫ث المجتمع‪ .‬فالمجتمُع الغريقي – الروماني قد اسَتشَ ةعَر ذلك جيداً واتَّخَذ إجراءاِته‬ ‫ث الرجِل وتأني ِ‬ ‫سوى عن تأني ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ث الرجِل غيِر‬ ‫بموجِبه‪ ،‬فاشتهَر بال ةعبيِد الذين َو ْ‬ ‫ضُ ةعُهم أسوأ من وضِع الزوجة‪ .‬لكّن الم ةعضلة كانت َتكُمُن في تأني ِ‬ ‫ال ةعبد‪ .‬ل أتحد ُ‬ ‫ض الظواهِر‬ ‫ح الُقربى أو الشذوِذ الجنسي‪ ،‬ول عن الَخَنث )ازدواج الجنس(‪ .‬فب ةع ُ‬ ‫ث هنا عن ِ‬ ‫سفا ِ‬ ‫ُ‬ ‫ب تقييمها بشكٍل منفصٍل عن الواقِع الذي‬ ‫التي لها أب ةعاُدها النفسية‪ ،‬بل ولها أسباُبها البيولوجية الحيوية‪ ،‬يَِج ُ‬ ‫أتحد ُ‬ ‫ف ِخّل‬ ‫وصي ٍ‬ ‫ب َو ِ‬ ‫ث عنه‪ .‬فالموضةُ الدارجةُ في المجتمِع اليوناني الكلسيكي كانت وجوَب وجوِد وصاح ٍ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫سَب الشاّب التجارَب‬ ‫‪ partner‬لكّل رجٍل حّر شاب‪ .‬وكا ن على ذاك الخليِل أْ ن يَكوَ ن الحبيَب إلى أْ ن َيكت ِ‬ ‫والم ةعارف‪ .‬ومثلما تَ َ‬ ‫ث أّ ن المهّم ليس كثرةَ است ةعماِل ذاك الغلم‪،‬‬ ‫طّرق ُ‬ ‫ت سابقًا‪ ،‬فحتى سقراط َيقوُل عن هذا الَحَد ِ‬ ‫ق انسجاِم‬ ‫الرو‬ ‫تلك‬ ‫ش‬ ‫ح والحالة‪ .‬إذ ن‪ ،‬فالذهنيةُ وصريحةٌ للغاية‪ :‬باعتباِر أنه من المستحيل تحقي ُ‬ ‫بل المهّم هو عي ُ‬ ‫ِ‬ ‫شّكُل تهديداً‬ ‫المجتمِع ال ةعبودي مع مبدأِ الحريِة والكرامة‪ ،‬كا ن ل مفر من محِو هذه المزايا من المجتمِع لنها تُ َ‬ ‫عليه‪ .‬وف ةعلً كا ن ذلك وصحيحًا‪ .‬فأينما َتواَجَدت حريةُ النساِ ن وكرامُته ل ُيمِكُن لل ةعبوديِة أْ ن تحيا‪ .‬كاَ ن النظاُم قد‬ ‫َأدَرَك ذلك جيدًا‪ ،‬وكا ن ُمرَغماً على تأديِة متطلباته‪.‬‬ ‫ل شّك في أّ ن الثقافةَ الغريقيَة – الرومانية لم تستطع إكماَل هذه الَمَهّمة‪ .‬فالمسيحيةُ المتناميةُ داخليا ً عن‬ ‫ت التي ل َتهدأُ ول َتسُكُن خارجيًا؛ كانت سَتتُرُك‬ ‫ت وغارا ُ‬ ‫س الفلسفيِة الحرة‪ ،‬وانتفاضا ُ‬ ‫ت الثنيا ِ‬ ‫ق المدار ِ‬ ‫طري ِ‬ ‫ً‬ ‫ت الدالّةُ على أّ ن الثقافَة‬ ‫أوضا‬ ‫م‬ ‫أما‬ ‫ه‬ ‫لوج‬ ‫ا‬ ‫وجه‬ ‫ع‬ ‫المجتم‬ ‫ع مختلفٍة كليًا‪ .‬كما َلم تَُكن قليلةً أبداً تلك المؤشرا ُ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫الماديةَ ليست كّل شيء‪ ،‬وأنها ليست قديرةً على كّل شيء‪ .‬وما كا ن للمجتمِع أْ ن يَُؤنَّث دو ن الحاجة لِّلجوِء إلى‬ ‫"الغلمانيِة واللواطية" إل في الرأسمالية‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ت ل حدوَد لها؛ فكانت في‬ ‫ومخاضا‬ ‫ا‬ ‫آلم‬ ‫فتهم‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫التي‬ ‫ة‬ ‫والجسور‬ ‫ة‬ ‫الباسل‬ ‫ت المسيحيين‬ ‫أما قوةُ القبائل‪ ،‬ومقاوما ُ‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ض وضِع َحّد نهائّي لذاك المجتمِع الذي كا ن َي ةعني النفاذ والضمحلل‪ .‬ول ُيمكن التغاضي‬ ‫سبيِل النسانية‪ ،‬وبغر ِ‬ ‫ت الحاوصلة فيما ب ةعد‪ .‬في حين‬ ‫المساوما‬ ‫ة‬ ‫بذري ةع‬ ‫ة‬ ‫النبيل‬ ‫فها‬ ‫وأهدا‬ ‫ت‬ ‫المقاوما‬ ‫لتلك‬ ‫اليديولوجية‬ ‫عن قيمِة الثقافِة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫ت – التي لم تَُك ذاَت شأٍ ن في عيِن الثقافِة‬ ‫ت الكبرى اللحقِة لتلك الحركا ِ‬ ‫أّ ن التفسيَر الوصّح هو النظُر إلى الحمل ِ‬ ‫ت‬ ‫المادية – على أنها َتصاُعُد ونُ​ُمّو الثقافِة اليديولوجية‪ .‬وكا ن سُي ةعاش مثاٌل مشابهٌ لذلك في ال ةعلقا ِ‬ ‫ت الطورانية ‪ .‬بم ةعنى آخر‪ ،‬ليس ِبوسِ ةعنا إيضاُح السقوِط‬ ‫ت فيما بين الساسانيين – المسلمين والهجرا ِ‬ ‫والصراعا ِ‬ ‫َ‬ ‫ت ال ةعلميِة البسيطة والسطحيِة من قِبيِل القمِع‬ ‫ت عبر المصطلحا ِ‬ ‫المتهاوي والص ةعوِد المتنامي للمجتم ةعا ِ‬ ‫ت والحدا ُ‬ ‫ث أوسُع آفاقاً بكثير‪ .‬من هنا‪ ،‬فالدوافُع الكامنةُ وراَء عدِم انحلِل‬ ‫والستغلِل والست ةعمار‪ .‬فالمجريا ُ‬ ‫ق الشامِل الضروري‬ ‫ق ال ةعم ِ‬ ‫الرأسمالية وال ةعجِز عن تحليِلها‪ ،‬إنما هي على علقٍة وطيدٍة مع القصوِر في تحقي ِ‬ ‫ص الرأسمالية َأشبَهُ بقسِم الجباِل الجليديِة‬ ‫لذلك )بشأِ ن تحليِل المجتمع المديني(‪ .‬فالتحليل ُ‬ ‫ت الموجودةُ بخصو ِ‬ ‫الطافي فو‪.‬ق الماء‪ .‬فالكتلةُ الوصليةُ هي المجتمع المديني‪ .‬وهي بَِدوِرها تقُع تحت الماء‪.‬‬ ‫د‪ -‬إّ ن التساؤَل عن َكوِ ن المسيحيِة والسلِم حضارةً مدينية أم ِقيمةً )أخلقيًة( موضوُع جدال‪ .‬فتسليطُ الضوِء‬ ‫على هذه القضية‪ ،‬التي ل تزال ُتحافظُ على أهميِتها القصوى‪ ،‬ليس بالمِر الَهّين كما ُي ةعتَ​َقد‪ .‬فاللهوتيو ن‬ ‫صّدُر قائمةَ الموِر‬ ‫والمؤمنو ن المسيحيو ن والمسلمو ن هم بالذات من ي ةعاني بالكثر من تَ َ‬ ‫ش الفكر‪ .‬حيث يَتَ َ‬ ‫شّو ِ‬ ‫سوُد ال ةعجُز في تنويرها موضوُع أين وإلى متى يَُكونو ن حقا ً نظاماً من اليماِ ن وال ةعقيدِة والخل‪.‬ق‪ ،‬وماهيةُ‬ ‫التي يَ ُ‬ ‫ي م ةعنى‬ ‫ي حضارٍة ُي ةعاِرضونها‪ ،‬وبأ ّ‬ ‫علقاِتهم مع كّل من المجتمِع المديني والمجتمِع المطروِد المنبوذ‪ ،‬وأ ّ‬ ‫شّكلو ن تلك الم ةعاَرضة‪.‬‬ ‫يُ َ‬ ‫ف المبراطوريَتين‬ ‫هذا ن النظاما ن ال ةعقائديا ن والخلقيا ن الهاما ن )تفسيري الخاص( المتشكل ن في ظرو ِ‬ ‫الساسانية والغريقيِة – الرومانية‪ ،‬يَُ ةعّدا ن حملةً ثقافيةً أيديولوجيةً عظمى تجاهَ الثقافِة الماديِة المتضخمة‬ ‫للنظاِم ال ةعبودي‪ ،‬وتجاه قِيَِمِه اليديولوجيِة المصابِة بالرعونِة والتفسخ البليغ‪ .‬فلو كانا َي ةعِنيا ن إنشاَء مجتمٍع‬ ‫ت المدينيِة والطبقية أساسًا‪ ،‬مثلما ُيلَحظ في جميِع النشاءات الكلسيكية‪ .‬أجل‪،‬‬ ‫مدينّي جديد‪ ،‬لتَّخذا من التكوينا ِ‬ ‫لقد كانا َيهدفا ن إلى المدِ ن والطبقات‪ ،‬ولكنهما َف ةعل ذلك بمقصِد إيصاِلها إلى قِيَِمهم ال ةعقائديِة والخلقية‪ ،‬ل لكي‬ ‫ب الطافحةُ فيهما لم تَتَ​َمثّْل في الس ةعي إلى السلطة‪ ،‬أي في إحكاِم‬ ‫يَُكونا كذاك المجتمِع المديني بذاِته‪ .‬فالجوان ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫صوُ ن‬ ‫ت‬ ‫ة‬ ‫جديد‬ ‫ة‬ ‫أيديولوجي‬ ‫ة‬ ‫ثقاف‬ ‫ذ‬ ‫نفو‬ ‫ط‬ ‫بس‬ ‫إلى‬ ‫ل ةعا‬ ‫ط‬ ‫ت‬ ‫–‬ ‫النقيض‬ ‫القبضِة على الثقافِة المادية‪ ،‬بل – وعلى‬ ‫ٍ ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت الثقافِة المادية المت ةعاظمة‪ ،‬والمفتقدِة م ةعانيها‪ ،‬والمتخبطِة في الحدود‬ ‫البشريةَ وتحافظُ عليها تجاه كيانا ِ‬ ‫القصوى من الختلل‪.‬‬ ‫ت‬ ‫سُم بالنقصا ن‪ ،‬وُيفضي إلى إدراكا ٍ‬ ‫بالتالي‪ ،‬فإّ ن َن ةعَت عصَري المسيحية والسلِم بالنظاَمين المدنّيين إنما يَتّ ِ‬ ‫خاطئة‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ب التشديد ب ةعنايٍة فائقة على كوِ ن سقوِط روما ليس بسقوِط مدنيٍة بسيطٍة أو عادية أّيما كانت‪ ،‬حيث‬ ‫من الواج ِ‬ ‫َتهاَوت – أو بالوصّح ُأسقِ َ‬ ‫ف عام‪.‬‬ ‫طت – من خلِلها تقاليُد المجتمِع المديني الُم ةعّمِر ما ل َيقّل عن أرب ةعِة آل ِ‬ ‫ح الدوافِع الداخلية والخارجية للسقوط‪ ،‬فسنكتفي‬ ‫ولَِكوننا لسنا م ةعنيين في موضوِعنا بالسها ِ‬ ‫ب في شر ِ‬ ‫ُ‬ ‫ت ومكانة قِيَِم المجتمِع المديني مع ذاك السقوِط عمومًا‪ ،‬ومكانُتها فيه‪.‬‬ ‫وصل ُ‬ ‫بإيجازها‪ .‬وما نس ةعى إليه أوصلً هو ِ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ت المدينية الولى والكلسيكية‪ ،‬فيما خل الصين‬ ‫الحضارا‬ ‫ع‬ ‫جمي‬ ‫ل‬ ‫ث‬ ‫م‬ ‫ت‬ ‫روما‬ ‫س ةعنا القول – وبكّل راحة – أّ ن‬ ‫َ‬ ‫يَ َ‬ ‫ِ‬ ‫َ ُ‬ ‫صر ذلك على مؤسساِتها ال ةعبوديِة فحسب‪ ،‬بل تَ​َ ةعّداه‬ ‫)وقد كانت بَلَ​َغتها أيضا ً ِبدءاً من أعوام ‪. 100‬ق‪.‬م(‪ .‬ولم َيقتَ ِ‬ ‫ت‬ ‫المجتم ةعا‬ ‫ل‬ ‫تحلي‬ ‫ ن‬ ‫أ‬ ‫وهو‬ ‫أل‬ ‫هام‪،‬‬ ‫ع‬ ‫موضو‬ ‫على‬ ‫ليشمَل جميَع ثقافاِتها الماديِة والم ةعنوية‪ .‬هذا وعلّي التشديد‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫ب ال ةعجِز عن تناوِل الحقيقِة على‬ ‫ع الوقائ ةعيِة من قمٍع واستغلٍل واست ةعماٍر يومي‪ ،‬هو ِمن أهّم أسبا ِ‬ ‫وفق الوضا ِ‬ ‫ب الفكِر‬ ‫ت المدرسِة الوض ةعيِة َيكُمُن في هذا المضمار‪ .‬وَيبدو أّ ن أخطَر جوان ِ‬ ‫‪.‬ق واسع‪ .‬وأفدُح تحريفا ِ‬ ‫نطا ٍ‬ ‫ق الثقافّي المادي‬ ‫الوروبي مت ةعل ٌ‬ ‫ق بهذه النطلقِة الوض ةعية‪ .‬لذا‪ ،‬وِمن دو ن تناوِل المجتم ةعا ِ‬ ‫‪.‬ق ال ةعم ِ‬ ‫ت ضمن سيا ِ‬ ‫واليديولوجي‪ ،‬وبجميِع تناقضاِتها ووصراعاتها‪ ،‬وبكافِة توازناِتها وتنافراِتها؛ فمن المحاِل القيام بتفسيٍر قَّيم‪،‬‬ ‫ت تتطلُع إلى حياٍة أكثر حرية‪.‬‬ ‫وبالتالي‪ ،‬من ال ةعسيِر إنشاُء براديغمائيا ٍ‬ ‫ق مع سقوِط روما هو سقوطُ ثقافِتها الماديِة المهيمنِة والبالغِة‬ ‫ق هذا المنظوِر الوصطلحي نجد أّ ن ما َترافَ َ‬ ‫ووف َ‬ ‫أب ةعاداً‬ ‫ب سقوِط الثقافِة اليديولوجية بِ​ِرّمِتها‪ ،‬والتي َلم تَُ ةعْد لها أيةُ أواوصر مع الحياِة الثمينة‪.‬‬ ‫جان‬ ‫إلى‬ ‫قصوى‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ف‬ ‫وبالوصل‪ ،‬تَُمثُل مدينة روما من حيث إنشائها الم ةعمار ّ‬ ‫ي ذروةَ التقاليِد الم ةعماريِة السابقة لها على َمّر أرب ةعِة آل ِ‬ ‫ق‬ ‫الطاب‬ ‫ت‬ ‫حال‬ ‫وأبهى‬ ‫ر‬ ‫آخ‬ ‫روما‬ ‫ة‬ ‫آله‬ ‫ع‬ ‫مجم‬ ‫د‬ ‫ ةع‬ ‫ي‬ ‫المنوال‬ ‫س‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫عام‪ ،‬وعلى رأ ِ‬ ‫سها التقاليُد المصرية‪ .‬وعلى نف ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ف عام‪ .‬وتحديُد هذه النقاِط ليس بالمِر‬ ‫ت الرهبا ن السومريين ودواخِلها‪ ،‬والُمنشأِة قبل أرب ةعِة آل ِ‬ ‫ال ةعلوي لزقورا ِ‬ ‫ت الماديةُ والم ةعنويةُ الُمَ ةعّمَرةُ ما‬ ‫ي هو الثقافا ُ‬ ‫ال ةعصيب‪ ،‬على القل بالنسبة إلي‪ .‬ومن هذه الزاوية نجد أّ ن المتهاو َ‬ ‫ت‬ ‫ل يَقُّل عن آرب ةعِة آلف عام‪ .‬هذا وبمقدورنا بلوُغ تحليٍل مشابٍه إذا ما تَ​َمّ ةعّننا في انهياراِتها وتَ​َمّح ْ‬ ‫صنا هويا ِ‬ ‫ت الناشبةَ تَُكّوُ ن ُكلً متكام ً‬ ‫ت ال ةعموريِة‬ ‫ت والمقاوما ِ‬ ‫ل‪ِ ،‬بدءاً من ُأولى الهجما ِ‬ ‫الُمسِقطين لها‪ .‬كما أّ ن الهجما ِ‬ ‫ُ‬ ‫ت القوطية‪ ،‬والتي ل يَقّل عمُرها عن أرب ةعِة آلف عام‪ .‬كما أّ ن‬ ‫والهورية‪ ،‬ووصولً إلى آخِر الهجمات والمقاوما ِ‬ ‫ت‬ ‫وصَلت النبّي محمد لها تاريٌخ طويٌل ومت ةعاق ٌ‬ ‫ت الداخليةَ التي استَ​َهّلها النبّي نوح إلى أْ ن َو َ‬ ‫ب كحلقا ِ‬ ‫المقاوما ِ‬ ‫السلسلِة المتواوصلة‪ .‬هذا ول تَت ِّ‬ ‫سُم فقط بطوِل تاريِخها وآماِدها‪ ،‬بل وتنفرُد بمكانٍة مف ةعمٍة بالم ةعاني النبيلة‪.‬‬ ‫ف سلسلِة جباِل طوروس –‬ ‫فَ​َكوُنها مشتملةٌ على الراضي الممتدِة من الصحراِء ال ةعربيِة الكبرى إلى حوا ّ‬ ‫ت‬ ‫ت الوروبية؛ إنما تَ​َرَك بصماِته الواضحةَ على التكوينا ِ‬ ‫‪.‬ق الغابا ِ‬ ‫زاغروس‪ ،‬ومن باديِة آسيا الوسطى إلى أعما ِ‬


‫ضُع الَبناَ ن على‬ ‫الثقافيِة الماديِة والم ةعنويِة بالنسبِة إلى القبائِل النازحِة والمهاجرة‪ .‬فقصةُ كّل نبّي لَِوحِده تَ َ‬ ‫س جماعِته وأتباِعه الملتفين حوَله في خضّم ال ةعراقيِل والمصاعب‪ .‬بَْيَد أّ ن‬ ‫الثماِ ن الباهظِة التي َكلَّفته في تأسي ِ‬ ‫ع الوروبّي المركِز ل يَ​َوّد حتى وضَع هذه المواضيِع حيَز النقاش والمداولة‪ .‬ولذلك‪ ،‬لن نكوَ ن على‬ ‫علَم الجتما ِ‬ ‫خطأٍ كثيراً إذا ما أسميناه بالبنيِة الم ةعرفيِة الوروبيِة المركز‪ .‬لن يكوَ ن بمقدورنا ت ةعريف روما على نحٍو سليم‪،‬‬ ‫ف مصادِر الثقافِة المادية‬ ‫سَ ةعنا ت ةعري ُ‬ ‫خ الحضارة المدينية‪ .‬وكذا‪ ،‬لن يَ َ‬ ‫ما لم نطرح تفسيراً قَّيما ً لتاري ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫خ حقيقي لروما‪.‬‬ ‫واليديولوجية الوروبية‪ ،‬ما لم نقْم بإنشاِء تاري ٍ‬ ‫ت الظلِم والبلبلِة الشكالية‪ .‬بالتالي‪ ،‬فحواد ُ‬ ‫ث‬ ‫َي ةعتَِبر التاريُخ القرَنين السابَقين لسقوِط روما أيضاً بأنها سنوا ُ‬ ‫السقوِط ليست من شئوِ ن الزمنِة الوقائ ةعية السنوية‪.‬‬ ‫ح عيِنها بصدِد المبراطوريِة الساسانية‪ ،‬توأِم أو شبيِه روما في الشر‪.‬ق‪ .‬كما إنها القصةُ‬ ‫بالمكا ن طرح الشرو ِ‬ ‫الشرقيةُ لدولِة الرهبا ن السومريين‪ .‬فال ةعنصُر الزرادشتي لوحِده في بنيِتها قد أبقى على طبائِ ةعها الخلقيِة‬ ‫ب عليه‬ ‫‪.‬ق محدود‪ .‬لكن‪ ،‬وكيفما َعِجَز بوذا عن إعاقِة إنشاِء المجتمِع المديني الذي َتغلُ ُ‬ ‫وطيدةً مني ةعة‪ ،‬ولو بنطا ٍ‬ ‫ت الم ةعاني الدخيلِة بامتياز لدى الراجائيين‪ ،‬ومثلما َلم يستِطع سقراط التَّغّلَب على الفساِد‬ ‫الثقافةُ الماديةُ ذا ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ت المادية‬ ‫المستفحل في الدعائِم الخلقيِة لثقافِة أثينا؛ فكذا لم َيقِدر زرادش ُ‬ ‫ت أيضاً على وصّد َتكابُِر وأبَّهِة الثقافا ِ‬ ‫ق المراحِل الخيرِة للمبراطوريِة الساسانية اليرانية مع حاِل روما‪.‬‬ ‫البرسيِة والساسانية‪ .‬يُ َ‬ ‫صّرُح التاريُخ بتطاب ِ‬ ‫ضُع الَحّد الفاوصَل لها‪.‬‬ ‫فالهجما ُ‬ ‫ب في الداخِل كاَد يَ َ‬ ‫ت الطورانيةُ من الشماِل الشرقي‪ ،‬وتماُزُج ال ةعقائِد والمذاه ِ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ح‬ ‫لقا‬ ‫من‬ ‫مت‬ ‫ر‬ ‫ح‬ ‫راسخة‪،‬‬ ‫ة‬ ‫أيديولوجي‬ ‫ة‬ ‫ثقافي‬ ‫ة‬ ‫انطلق‬ ‫د‬ ‫ ةع‬ ‫ت‬ ‫التي‬ ‫م(‪،‬‬ ‫‪250‬‬ ‫)أعوام‬ ‫المانوية‬ ‫ة‬ ‫الحرك‬ ‫على‬ ‫ِ‬ ‫ء‬ ‫وبالقضا‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ت جهاديٍة إسلميٍة حينذاك‪ ،‬لكاَ ن الرهباُ ن النسطوريو ن على‬ ‫الفتوِة الياف ةعِة اللزِم لها‪ .‬ولو لم تنَدِلع بض ةعة غزوا ٍ‬ ‫وشِك إتماِم َفتِحِهم وغزِوهم الثقافّي اليديولوجّي ليرا ن وعاوصمِتها‪ ،‬تماما ً مثلما فَ​َ ةعَل الرهباُ ن الكاثوليُك في‬ ‫الغرب )الذين َغَدوا أباطرةً باسِم الثقافِة الم ةعنوية‪ ،‬طبقاً لما كانت عليه حاُل أباطرِة الثقافِة الماديِة في زمٍن ما(‪.‬‬ ‫ولكن الفتَح السلمي حاَل دو ن ذلك‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫وت ةعري‬ ‫ث‬ ‫بح‬ ‫على‬ ‫ت‬ ‫لنأ‬ ‫النحو‪،‬‬ ‫هذا‬ ‫على‬ ‫تين‬ ‫ال ةعظيم‬ ‫تين‬ ‫ال ةعبودي‬ ‫تين‬ ‫الحضار‬ ‫ف م ةعاني سقوِط‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وب ةعَدما ُقمنا بت ةعري ِ‬ ‫سيِهما على أنهما البديُل‬ ‫ف انطلقِة المسيحيِة والسلم‪ ،‬تلك الحركَتين الشهيرَتين اللَتين تَُ ةعّرفا ن نف َ‬ ‫ظرو ِ‬ ‫اليديولوجي‪.‬‬ ‫ح الهامشيِة الُمنَحلِّة أثناَء بناِئها لمجتمِ ةعها الرسمي‪َ .‬لم تَُكن تلك‬ ‫لقد َأبَرَزت روما و َ‬ ‫سطاً فسيحاً من الشرائ ِ‬ ‫ت القواِم التقليدية‪ ،‬وَلم تَُكن َتحِمُل في مضموِنها مزايا أثنيةً أّيما كانت‪ .‬بل كانت‬ ‫ت هجرا ِ‬ ‫الشرائُح من مجموعا ِ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ت جديدةً هشًة‪ ،‬دنيئة‪ ،‬واطئة‪ ،‬و"بروليتارية" على َحّد ت ةعبيِر الروما ن‪ .‬لذا‪ ،‬ل َتدخُل في ِعداِد‬ ‫مجموعا ٍ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫غ الكامل‪ .‬لقد كانت نوعا ً ِمن ال ةعاطلين عن ال ةعمل‬ ‫الفرا‬ ‫من‬ ‫ر‬ ‫بح‬ ‫في‬ ‫ح‬ ‫ب‬ ‫تس‬ ‫و‬ ‫هيم‬ ‫ت‬ ‫لنها‬ ‫اليديولوجية‪،‬‬ ‫ت‬ ‫المجموعا‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫شّكل الرضيةَ ليِة أيديولوجيٍة تمد يَدها إليهم‪ ،‬أياً كانت‪ .‬وقد كا ن الوسطُ يغلي ويَُ ةعّج بأمثاِل‬ ‫ت‬ ‫بحيث‬ ‫ال ةعبودية‪،‬‬ ‫في‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫هؤلِء في عهِد روما المبراطوري‪ ،‬والذين َكّونوا طبقة اجتماعية للمرِة الولى في التاريخ‪ .‬وشيئا ً فشيئا ً كانت‬ ‫سِنيين إِّبا ن ظهوِر عيسى‪.‬‬ ‫شّكُل الطرائ ُ‬ ‫تَتَ َ‬ ‫ق ال ةعقائديةُ الم ةعتمدةُ عليهم‪ ،‬تماماً مثلما حاُل ال َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ضه الوسط‪ .‬لكّن هذا المَر ل‬ ‫ل َيبَرُح الجداُل دائراً فيما يَتَ​َ ةعل ُ‬ ‫ق بالتساؤل‪ :‬هل عيسى إنساٌ ن حقيقّي أم أنه رمٌز فَر َ‬ ‫شِهَدت روما نقلةً إلى الذروة متمثلةً في شخصيِة أغسطس‪ ،‬أوِل أباطرتها‪،‬‬ ‫أهميةَ له بالنسبِة لموضوِعنا‪ .‬وقد َ‬ ‫ت السابقِة لها‪،‬‬ ‫بالتزامِن مع أعواِم ولدِة عيسى‪ ،‬سواًء كانت تلك الولدةُ نظريةً أم ملموسة‪ .‬وحصيلةَ المقاوما ِ‬ ‫ح شرقي البحِر البيض المتوسط‪ .‬وكا ن الوالي ال ةعاّم‬ ‫فُتَِحت أبوا ُ‬ ‫ب الَملَِكيِة اليهوديِة الصغيرة‪ ،‬فكاَنت َأشبَهُ بفت ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫يَتَ​َدبُّر شؤوَ ن إدارِتها‪ ،‬بينما الطبقا ُ‬ ‫ت ال ةعليا متمرسة في نزوِعها إلى التواطؤ‪ .‬ونظرا لِكوِ ن التواطِؤ اليهود ّ‬ ‫ت مذكورةً في ظاهرِة التواطِؤ‬ ‫اكتَ َ‬ ‫سَب تجارَب وخبرة ُمّدَخَرةً منذ أياِم النماردِة والفراعنة‪ ،‬فكا ن لن َيلقى وص ةعوبا ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫مع الروما ن أيضا‪ .‬ومقابَل ذلك‪ ،‬فقد تواَجَد لديهم على الدواِم نزوٌع راسخ إلى الحريِة منذ أياِم إبراهيم وموسى‪.‬‬ ‫س دائماً على أنها حسناٌء متأهبةٌ للتتويج‪.‬‬ ‫صّورو ن القد َ‬ ‫وكا ن عيسى استمراراً لهذه التقاليد‪ .‬لقد كانوا يُ َ‬ ‫ف من شروِحهم أّ ن عيسى كا ن تَقَّدَم لِ َ‬ ‫ب تلك الحسناء‪ ،‬بالم ةعنى اليديولوجّي بالطبع‪ .‬وبالمقدوِر تفسيُر‬ ‫ش ّ‬ ‫طلَ ِ‬ ‫وَنستَ ِ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ب على أنها ناب ةعة من َمراٍم كهذا‪ .‬ففي ُمستَ​َهّل ِحراِكه َلم يَُكن ثمة أية حركٍة‬ ‫حركِته الخيرِة وانتهاؤها بالصل ِ‬ ‫تنظيميٍة ملتئمِة الشمِل متماسكة‪ ،‬ول دليُل عمٍل أيديولوجّي ملموس‪ .‬بل كا ن َيتبَُ ةعه حفنةٌ قليلةٌ ممن ُيشِبهونه في‬ ‫الحال‪َ ،‬ترب ُ‬ ‫سّمو ن بالحواريين‪ ،‬الذين يَُ ةعّز على‬ ‫طهم روابطُ متراخيةٌ لب ةعِد الحدود‪ .‬وهم ذاُتهم الّرّواُد الوائُل الُم َ‬ ‫ب‪ ،‬فكاَ ن نظاَم‬ ‫ت أو الرسميات‪ .‬أما الصل ُ‬ ‫ت أو الثنيا ِ‬ ‫المرِء القوُل باحتلِلهم مكانًة ملحوظة‪ ،‬سواًء في الهرميا ِ‬ ‫ب شائٍع في المنطقة‪ .‬وهو إيجاٌد رومانّي ُمَهّوٌل وُمفِزع‪ ،‬تماماً كالفريسِة المتروكِة للسِد يَُمّزُقها إربا ً إربا‪ً.‬‬ ‫عقا ٍ‬ ‫ب على الفور إلى دواخِل سوريا وأطراِفها خوفاً من ذاك ال ةعقاب‪.‬‬ ‫والكّل َي ةعلَُم أّ ن تلك المجموعةَ َتشرُع بالهرو ِ‬ ‫س فيما ب ةعد‪ ،‬خوفا ً من‬ ‫وإبراهيُم أيضا ً كا ن قد تَ​َحّرَك في التجاِه الم ةعاكس‪ ،‬وصوَب المنطقِة التي َ‬ ‫شِهَدت بناَء القد ِ‬ ‫ظلِم نمرود‪ .‬من الطبي ةعي بمكا ن حصوُل ال ةعديِد من وقائِع الص ةعوِد والهبوِط في هذه الزما ن‪ .‬ولكّن مشروَع‬ ‫النجيِل الوِل لم يَُكن له أْ ن يَتَّكَوَ ن إل ب ةعَد قرٍ ن من الزمن‪ .‬وعلى سبيِل المثال‪ ،‬فإنجيُل ماركيو ن ‪Marcion‬‬ ‫ع للنجيل‪.‬‬ ‫المفقوُد في هذه اليام هو أوُل مشرو ٍ‬ ‫وَيظَهُر أوائُل "القديسين" في القرَنين الثاني والثالث بالحذِو على ُخطى إمبراطوريِة روما‪ ،‬لِيَُكوَ ن القرُ ن الرابُع‬


‫شِهَدت‬ ‫قرَ ن المسيحيِة على وجِه الكمال‪ .‬وما أْ ن أعلَ​َن المبراطوُر قسطنطين المسيحيةَ ديناً رسميا ً حتى َ‬ ‫ت المؤمنة‪ .‬وَيبُرُز أوُل تمايٍز‬ ‫ف ت ةعداِد المجموعا ِ‬ ‫الوساطُ انفجاراً كالبركاِ ن في ت ةعاظُِم وجوِد "القديسين" وتضاُع ِ‬ ‫سوُد "عقيدةُ‬ ‫مذهبّي وقتذاك‪ ،‬وَيدوُر الجدُل حوَل المسيحيِة الرسمية )مسيحيِة الدولة(‪ .‬وكما هو م ةعلوم‪ ،‬تَ ُ‬ ‫ب‪ .‬ولَئِْن كاَ ن موضوُعنا‬ ‫ب والّم والبِن الّر ّ‬ ‫الثالوث" في المسيحية‪ ،‬والتي ُيمِكُن تفسيرها على أنها تصويٌر لل ِ‬ ‫ش اللهوتي‪ ،‬إل أنه من الم ةعلوِم ارتكاُز دعائِم هذه ال ةعقيدِة إلى الماضي السحيق‪ .‬وكا ن‬ ‫غيَر م ةعنّي بالنقا ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ب الّرّب "أ ن"‬ ‫السومريو ن َأول مجتمٍع َحَمَل هذه ال ةعقيدة إلى الزقورات‪ .‬حيث كانت الّم اللهة "إينانا‪ ،‬وال ُ‬ ‫ض النظِر عن المقولِة الشائ ةعِة‬ ‫ث مذكوٍر في مجمِع اللهة‪ .‬بالتالي‪ ،‬من ال ةعسيِر َغ ّ‬ ‫والبُن الّرّب "أنكي" أوَل ثالو ٍ‬ ‫القائلِة بَِتأّثِر المسيحيِة من الوثنية )‪ .(Paganizm‬لكّن الغرَب في المر انحداُر عيسى ذاُته من التقاليِد‬ ‫ض التقاليُد البراهيميةُ مع الوثنيِة بِ​ِحّدة‪ ،‬في حين نَِجُد في التياِر الدينّي‬ ‫ال ةعبرانية‪ ،‬أو اعتباُره كذلك‪ .‬حيث تتناق ُ‬ ‫المقاِوم باسِم عيسى وكأ ن التقليَدين في وفا‪.‬ق‪ .‬والتفسيُر الوصّح هو هذا‪ ،‬حسب رأيي‪.‬‬ ‫ت الكبرى‪،‬‬ ‫هذا الموضوُع الُم َ‬ ‫ش لل ةعقوِل قد َمّهَد الطري َ‬ ‫شّو ُ‬ ‫ت المذهبيِة الحادة‪ ،‬والنشقاقا ِ‬ ‫ق فيما ب ةعد للمداول ِ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ت موضوُع اعتباِر عيسى ذا طبي ةعٍة إلهيٍّة أم بشرية‪ .‬ولدى‬ ‫الصراعا‬ ‫تلك‬ ‫َ‬ ‫ء‬ ‫ورا‬ ‫فى‬ ‫خ‬ ‫ت‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫الضارية‪.‬‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫والصراعا ِ‬ ‫ّ‬ ‫تفسيِر هذا التمييز‪ ،‬نلحظ أّ ن القائلين بكوِنه من الجوهِر اللهي غالبيُتهم من الُملتَفين حوَل المسيحية الرسمية‪.‬‬ ‫و"قسطنطين" بذاِته من الُم ةعتَِرفين بهذا التفسير‪ ،‬أي القائلين بُِألوهيِة عيسى‪ .‬والجميُع على علٍم بأّ ن ألوهيَة‬ ‫الدولِة هي اللوهيةُ الرسمية‪ ،‬التي أرسى قواعَدها الرهباُ ن السومريو ن‪ .‬وانقساُم الديا ن إلى شطَرين‬ ‫اجتماعّيين َيبدأُ لوِل مرٍة مع السومريين‪ .‬في حين أّ ن ألوهيةَ النساِ ن من بقايا ثقافِة المجتمع النيوليتي‪ ،‬أو أنها‬ ‫ف المقابل‪ ،‬أي القائلو ن‬ ‫ب مشابهة‪ .‬أما الطر ُ‬ ‫ضُن في ثناياها بقايا هامةً من تلك الثقافة‪ .‬وِللَوثَنِيِّة أيضا ً جوان ُ‬ ‫َتحتَ ِ‬ ‫ت الخرى غيِر المتدولة‪ ،‬أو هو النزوُع الديني‪ .‬إنه تماماً‬ ‫بطبي ةعِة عيسى البشرية‪ ،‬فهو تفسيُر المجموعا ِ‬ ‫ّ‬ ‫ب ال ةعلوي )ديِن المجتمِع خارج‬ ‫والمذه‬ ‫الدولة(‬ ‫ن‬ ‫)دي‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫س‬ ‫ال‬ ‫ِ‬ ‫كالتمييِز في الديانِة السلمية فيما بين المذه ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب ّ ّ‬ ‫الدولة(‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫سه شكُلها‬ ‫نف‬ ‫ ن‬ ‫ال‬ ‫في‬ ‫وهو‬ ‫الدولة‪،‬‬ ‫ن‬ ‫دي‬ ‫إلى‬ ‫لها‬ ‫و‬ ‫ح‬ ‫ت‬ ‫أولهما؛‬ ‫الرابع‪:‬‬ ‫ ن‬ ‫القر‬ ‫في‬ ‫مين‬ ‫عظي‬ ‫لين‬ ‫و‬ ‫ح‬ ‫ت‬ ‫ة‬ ‫المسيحي‬ ‫َتشَهُد‬ ‫ِ ِ‬ ‫َ ّ‬ ‫َ ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫الذي اتَّخذته بَِكوِنها ِديَن المدنية‪ .‬وبه أريَد النفاذ من الزمِة الم ةعنويِة الخانقِة للثقافِة المادية في روما‪ ،‬أي أزمِة‬ ‫ت القديسين‬ ‫إضفاِء ال ّ‬ ‫صبغِة الشرعية‪ .‬والتَّحّوُل الثاني هو تَ​َجمُهُرها‪ .‬حيث َخَرَجت من َكوِنها عقيدةُ مجموعا ِ‬ ‫ت الش ةعبية‪ .‬والرمُن‪ ،‬الشوريو ن‪ ،‬الهيلينيو ن‪،‬‬ ‫الضيقة‪ ،‬لَِتغُدَو الّديَن الرسمّي أو غيَر الرسمي لِ َ‬ ‫سَواِد المجموعا ِ‬ ‫واللتينيو ن ُهم أوُل الش ةعوب الم ةعتنقِة للمسيحية التي َتخطُ​ُر على الباِل‪.‬‬ ‫سّماِة بال ةعصوِر الوسطى‪ .‬أي‪ :‬ثمةَ روما الوصليةُ المنهارةُ‬ ‫وهكذا َيبَدأُ ُولوُج "فترِة" الحقبِة الذائ ةعِة ال ّ‬ ‫ت الُم َ‬ ‫صي ِ‬ ‫في طرف‪ ،‬وتَُحّل َمَحّلها روما قسطنطين الم ةعتمدةُ على الشرعيِة المسيحية‪ ،‬وفي الطرف المقابِل ثمة الت ةعاظُم‬ ‫المتسارُع كالسيِل الجارف للديانِة اللمسيحية‪ ،‬باعتباِرها حملةً ثقافيةً أيديولوجيةً عظمى‪ .‬من هنا‪ ،‬فالمدةُ‬ ‫سطُ لنا ضرورةَ هَذين ال ةعاِمَلين في عقيدِة "الثالوث" التي َتحَتويها المسيحية‪ :‬الديُن‬ ‫ت َتب ُ‬ ‫الُم َ‬ ‫سّماةُ بَِ ةعصِر الظلما ِ‬ ‫اللهّي الرسمي‪ ،‬وديُن اللهِة غيُر الرسمية‪ .‬وَيستَِمّر النقساُم التاريخي في ال ةعصوِر الوسطى أيضًا‪ ،‬ولكن‪،‬‬ ‫ت السابقةُ فيما‬ ‫ت فيما بين القسَمين بدمويٍة ُمَهّولة‪ .‬وهكذا انَزلَ​َقت الشتباكا ُ‬ ‫ُمتَ​َحّوراً وُمتَّحوًل‪ .‬وتَُمّر الشتباكا ُ‬ ‫بين الوثنيين لَِتغُدَو فيما بين عيسى اللهّي وعيسى البشري‪ .‬وما هي بتفسيِرها الخيِر سوى امتداٌد لتقاليِد‬ ‫ف‬ ‫ح القديمِة فيما بين القوى الحضاريِة والقوى الطبقيِة والثنية‪ ،‬ولكْن‪ ،‬بأقن ةعٍة جديدٍة تتواءُم والظرو َ‬ ‫الكفا ِ‬ ‫المستجدة‪.‬‬ ‫ت الرواسي‬ ‫والتفسيُر الكثُر شفافيةً بشأِ ن النقساِم الحاوصِل في هذه الحملِة الثقافيِة اليديولوجية الجديدِة ذا ِ‬ ‫ب‬ ‫التاريخيِة الغائرِة هو‪ :‬تَ​َح ّ‬ ‫ضُر شريحٍة منها‪ ،‬ووفاُقها مع الثقافِة المادية‪ ،‬وبالتالي تَ​َمّيُ ةعها وَبلدُتها؛ وتَ​َهّر ُ‬ ‫َ‬ ‫سِط النفوِذ الثقافّي اليديولوجي‪.‬‬ ‫ث ولهفة وراَء بَ ْ‬ ‫الشريحِة الخرى من ذاك الوفا‪.‬ق‪ ،‬واستمراُرها بِلَه ٍ‬ ‫أما المرحلةُ التي َأعقَ​َبت سقو َ‬ ‫ف عام‪ ،‬أي فيما بين سنوات ‪ 1500 – 500‬م‪،‬‬ ‫ط روما‪ ،‬والمستمرةُ ُقرابةَ أل ِ‬ ‫‪.‬ق‬ ‫‪.‬ق فيما بين التياِر الساعي لتأميِن سيرورِة تَفَّو ِ‬ ‫ع والوفا ِ‬ ‫ع والصرا ِ‬ ‫فَتقييُمها بأنها مرحلةُ َمّد وَجزٍر في النزا ِ‬ ‫َ‬ ‫‪.‬ق الثقافِة اليديولوجية؛ إنما يَتَ​َميُّز بالقدرِة على إعطاِء‬ ‫الثقافِة المادية‪ ،‬وبين التياِر النابِذ للتَّخّلي عن تَفّو ِ‬ ‫ب الكثِر اقتداراً وكفاءةً للواقِع التاريخي‪ .‬في حين أّ ن َت ةعابيَر "عصِر الظلمات" أو "ال ةعصِر القطاعي" قد‬ ‫الجوا ِ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تَُكوُ ن أجوبة ِنسبية للواقع‪.‬‬ ‫والماهيةُ الساسيةُ لهذه العواِم اللف يَُحّدُدها سقوطُ الثقافِة المادية لروما‪ .‬أما التساؤُل عما إذا كانت‬ ‫المسيحيُة‪ ،‬أو الثقافةُ اليديولوجيةُ المغايرة‪ ،‬قد َم َ‬ ‫ت المتولدةَ في عناوصِر الثقافِة الماديِة المنهارِة أَْم‬ ‫لت الفراغا ِ‬ ‫ت أكفأ وأمهر‪.‬‬ ‫ل؛ فالجوبةُ التي ستُقَّدُم قد تُِتيُح إمكانيةَ تقييما ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ت إنشاِء المدِ ن الصغيرِة الجديدِة في‬ ‫ت البيزنطية في الشر‪.‬ق‪ ،‬وحمل ُ‬ ‫أما عوامُل الثقافِة المادية‪ ،‬فهي الحمل ُ‬ ‫ت‬ ‫تاري‬ ‫ع‬ ‫إرجا‬ ‫ننا‬ ‫بإمكا‬ ‫وبالف ةعل‪،‬‬ ‫الغرب‪ ،‬أو بالحرى في عموِم أوروبا‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫خ الثقافِة الماديِة في أوروبا إلى حركا ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫التمدِ ن فيها‪ .‬فإذا اعتَبَْرنا جذوَر مدينٍة مثل باريس‪ ،‬والتي يَُ ةعوُد أقدُمها إلى القرِ ن الرابِع الميلدي‪ِ ،‬بأنها مماثلةٌ‬ ‫لستيطاِ ن روما‪ ،‬فلن يَُكوَ ن بِ​ِوسِ ةعنا الحدي ُ‬ ‫ث حينها عن سيطرِة ثقافٍة ماديٍة مع ووصوِلنا أعواَم ‪ 1500‬م‪ .‬إذ ن‪،‬‬ ‫وكما ل يمكننا مقارنةَ المدِ ن البارزِة للوسِط مع مدينِة روما؛ فهي ل تَتَ​َخ ّ‬ ‫طى كثيراً ُبنى المدِ ن الناشئِة في‬


‫ش ّ‬ ‫طي بحِر إيجة أعواَم ‪. 300 – 600‬ق‪.‬م‪ .‬أما‬ ‫ميزوبوتاميا أعواَم ‪. 2000 – 3000‬ق‪.‬م‪ ،‬أو تلك الناشئِة على َ‬ ‫ف سلسلِة جباِل‬ ‫شّيدِة على حوا ّ‬ ‫ع الُم َ‬ ‫القصوُر المني ةعةُ الُمن َ‬ ‫شَأة‪ ،‬فهي ب ةعيدةٌ عن َتجاُوِز تلك القصوِر والقل ِ‬ ‫طوروس – زاغروس أعواَم ‪. 1500 – 2000‬ق‪.‬م‪ .‬باختصار‪ ،‬ومثلما َتفتَقُِر مدنيةُ أوروبا في مرحلِة ‪– 500‬‬ ‫‪ 1500‬للكفاءِة التي تَُخّولها لِتَ​َخ ّ‬ ‫طي "عصِر الظلمات"‪ ،‬فبُِمسَتطاِعنا القوُل أيضا ً أّ ن الثقافةَ الم ةعنويةَ الجديدة‪،‬‬ ‫ح المسيحية‪،‬‬ ‫أي السيادةَ الثقافيةَ اليديولوجيةَ للمسيحية‪ ،‬هي الكثُر بروزاً وقَتذاك‪ .‬أما أْ ن يَُكوَ ن التّفَّو ُ‬ ‫‪.‬ق ِلصال ِ‬ ‫خ الوروبي‪ .‬من هنا‪ ،‬فَتقييُم المؤرخين لهذه المرحلِة‬ ‫فل َ‬ ‫شّك في الهميِة القصوى لذلك بالنسبِة إلى التاري ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ق الثقافِة الم ةعنوية‪ ،‬أي عبَر القِيَِم الم ةعنويِة وال ةعقائديِة المسيحية‪ ،‬أكثُر وصوابا ً من‬ ‫طري‬ ‫عن‬ ‫أوروبا‬ ‫ح‬ ‫ت‬ ‫ف‬ ‫نها‬ ‫ُ‬ ‫بَِكو ِ‬ ‫ِ‬ ‫النظِر إليها على أنها َفتٌح على يِد الثقافِة المادية‪.‬‬ ‫سّمَرةً في مستوى الثقافِة الماديِة ال ةعائدِة ِلما َقبَل ألَفي عام؟‬ ‫َلكّن القضيةَ الهامةَ أوصلً هي‪ :‬لماذا بَقَِيت روما ُمتَ َ‬ ‫ع نَ​َهِمه واحتياجاِته الثقافيِة‬ ‫بل والهّم من ذلك هو أّ ن نظاماً عقائديا ً م ةعنوياً قاوصراً لَِحّد ب ةعيٍد عن إشبا ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ب الهامِة في‬ ‫ح أوروبا؟ أَحُد السبا ِ‬ ‫ح في فْت ِ‬ ‫اليديولوجيِة القائمِة كالنظاِم المسيحي‪ ،‬لماذا أبدى قدرَته على النجا ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ف عاٍم هذه الحقيقَة‬ ‫الل‬ ‫خ‬ ‫تاري‬ ‫ت‬ ‫ب‬ ‫أث‬ ‫فقد‬ ‫وبالوصل‪،‬‬ ‫صُد ما َتزَرع‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ذلك هو عذريةُ النيوليتيِة في أوروبا‪ ،‬حيث َتح ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ب بِغزِوهم‬ ‫ت التراِك َكمسلمين وكوثنيين‪ ،‬وتهديدا ُ‬ ‫ب الثاني خارجيًا‪ :‬تهديدا ُ‬ ‫كفاية‪ .‬في حين قد يَُكوُ ن السب ُ‬ ‫ت ال ةعر ِ‬ ‫َ‬ ‫ب ال ةعصوِر الوسطى‬ ‫بالمستطا‬ ‫ ن‬ ‫سيكو‬ ‫رين‬ ‫المؤث‬ ‫ذين‬ ‫ه‬ ‫م‬ ‫تحا‬ ‫بال‬ ‫و‬ ‫وإسبانيا‪.‬‬ ‫ق وصقلية‬ ‫ُ‬ ‫ع استي ةعا ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫من الجنوب عن طري ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫لوروبا‪ ،‬أي ُمّدِتها الطويلِة من "الظلمات"‪ ،‬على نحٍو أفضل‪ .‬لقد كانت بحاجٍة للمسيحية‪ ،‬لّ ن الوثنية كانت‬ ‫ضَ ةعت الَبناَ ن منذ زمٍن ب ةعيٍد على نقصاِ ن وقصوِر الم ةعاني ال ةعقائديِة‬ ‫َتهاَوت مع روما‪ .‬وكانت المسيحيةُ قد َو َ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫سط المسيحية سيادتها ك ةعنصٍر ثقافّي‬ ‫والم ةعنويِة للوثنيِة الوروبية السابقِة لها‪ .‬هكذا‪ ،‬كانت الظرو ُ‬ ‫ف ملئمة لِتب ُ‬ ‫أيديولوجي‪ ،‬في حين َ‬ ‫ظّلت ثقافُتها الماديةُ خامدةً خابيةً مقابَل ثقافِة روما المتألقة‪ ،‬ول ُيمِكُن حتى مقارنتها‬ ‫ت الخارجِة من ال ةعصِر‬ ‫بالمجموعا‬ ‫الباهرة‬ ‫باريس‬ ‫ل‬ ‫أمثا‬ ‫ر‬ ‫ظهو‬ ‫ل‬ ‫يستحي‬ ‫كا ن‬ ‫أنه‬ ‫أي‬ ‫الشر‪.‬ق‪.‬‬ ‫بالثقافِة الماديِة في‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫النيوليتي‪ .‬وحسَب رأيي‪ ،‬فهذا ن المؤثرا ن في الّنقصا ن‪ ،‬أي الُب ةعُد الشاسُع للمسيحيِة ِمن أْ ن تَُكوَ ن نظاما ً ُيشِبع‬ ‫ق‬ ‫ف عام؛ قد َمّهَد الطري َ‬ ‫الخواء القائَم للثقافِة اليديولوجية‪ ،‬وتَ​َحّجُر البنى المدينيِة في مستوى ما قبِل أل ِ‬ ‫س عشر"‪.‬‬ ‫لـ"الحملِة الماديِة الكبرى لوروبا في القرِ ن الساد ِ‬ ‫ت‬ ‫ثمة وصل ٌ‬ ‫ت وثيقةٌ بين النقلِة الكبرى للثقافِة المادية وبين سيادِة المسيحيِة كثقافٍة أيديولوجية‪ .‬وما النزاعا ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ب سوى تأكيٌد على وصحِة هذه الحقيقة‪ .‬والرأسمالية الوروبية قد‬ ‫الكبرى المحتدمة بين الدياِ ن الكبرى والمذاه ِ‬ ‫ف المسيحيِة المفتقرِة‬ ‫َأحَرَزت نجاحا ً باهراً كحملٍة ثقافيٍة ماديٍة مذهلٍة في الستفادِة بمهارة من نقاِط ض ةع ِ‬ ‫لل ةعناوصِر اليديولوجية المني ةعة‪ ،‬وفي بناِء عصٍر جديٍد ِبالتَّجّرِؤ على ما َلم َتجُرْؤ عليه أيةُ حضارٍة سابقٍة في‬ ‫ح إلى قوِة الحضارِة المدينية الرسمية‪ ،‬ب ةعَد‬ ‫إيصاِل التّبَ ّ‬ ‫ضِع )اكتسا ِ‬ ‫ب قيمِة المقايضة( و"طرائقيِة" التجارِة والرب ِ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ت للحفاِظ‬ ‫المجتم ةعا‬ ‫ت‬ ‫دعا‬ ‫ص‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ققا‬ ‫ش‬ ‫ت‬ ‫في‬ ‫ة‬ ‫الموجود‬ ‫ت‬ ‫الثغرا‬ ‫من‬ ‫دين‬ ‫ومستفي‬ ‫الدوام‪،‬‬ ‫على‬ ‫رين‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫س َ‬ ‫أْ ن كانا ُمتَ َ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫على وجوِدهما الَخفِّي‪ .‬وهذا ما م ةعناه أّ ن روما استطاعت النتقاَل من المرحلِة الوسطى للثقافِة الماديِة إلى‬ ‫ق ِبالنّ َ‬ ‫سّمى بالحداثِة الرأسماليِة على أنه أزمةُ المدنية‪ ،‬أَْم‬ ‫مرحلِتها الخيرة‪ .‬أما فيما يَتَ​َ ةعلّ ُ‬ ‫ظِر إلى هذا ال ةعصِر الُم َ‬ ‫ض في تناوِله وتقييِمه في الفصِل اللحق‪.‬‬ ‫شكُلها السرطاني‪ ،‬أم آخُر أطواِر الشيخوخة؛ فسوف َنستَِفي ُ‬ ‫ضُره السريُع‪ ،‬أو َتصاُرُعه مع اليهوديِة‬ ‫أما قصةُ السلم‪ ،‬فهي موضوٌع أكثُر ت ةعقيداً وإشكالية‪ .‬فسواًء تَ​َح ّ‬ ‫ت المذهبيِة حتى العما‪.‬ق؛ كّلها أدلةٌ كافيةٌ‬ ‫والمسيحيِة منذ أولى أياِم ظهوِره‪ ،‬أو تَ​َخّب ُ‬ ‫ت وال ّ‬ ‫شقاقا ِ‬ ‫طه في التناقضا ِ‬ ‫للشارِة إلى ت ةعقيِد القضيِة وُعسرها‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ومثلما تَطَّرقنا سابقًا‪ ،‬بالمكاِ ن اعتبار القرنين السابقين لمحمد كأزمِة المراحِل الخيرِة للحضارِة المدينية‬ ‫ح‬ ‫ال ةعبودية‪ .‬وكانت المسيحيةُ استَ​َمّدت قُّوَتها من هذه الزمة‪ ،‬ونَ​َجَحت في أْ ن تَُكوَ ن أوَل تنظيٍم شامٍل للشرائ ِ‬ ‫الجتماعيِة الفقيرة‪ .‬وبالف ةعل‪ ،‬فقد اكتَ ّ‬ ‫ب الفقيرة‪،‬‬ ‫ب اهتماِم الش ةعو ِ‬ ‫ظت تلك القروُ ن بالديرة‪ ،‬بل ونَ​َجَحت في َجذ ِ‬ ‫لِتَُكوَ ن بالتالي قُّوةً بديلةً في الوساط‪ .‬ولَئِْن كانت لها إشكالياُتها المختلفة‪ ،‬إل أني مضطّر لتماِم هذا الفصِل‬ ‫بتناوِل قضايا المسيحيِة والسلِم سويًة‪ ،‬نظراً لنحداِرهما من الوصوِل عيِنها‪ ،‬للنظِر في مدى وجوِد بدائَل‬ ‫ح انطلقِة السلم‪.‬‬ ‫مغايرة‪ ،‬وكذلك شر ِ‬ ‫س ال ةعديِد من ال ةعناوصر‪ .‬أوُلها؛ كوُ ن السلِم الديَن الخيَر للتقاليِد‬ ‫تما‬ ‫ال‬ ‫م‬ ‫يستلز‬ ‫السلم‬ ‫إّ ن شرَح انطلقِة‬ ‫ُ ِ َ‬ ‫ق له بما ل‬ ‫البراهيمية‪ ،‬وَيبني نف َ‬ ‫سه تأسيساً عليها‪ .‬بالتالي‪َ ،‬تتنامى ركائُزه بانطلقٍة على طراِز إبراهيم الساب ِ‬ ‫يَقُّل عن ألَفي عام‪ .‬ما َنسَتنبِ ُ‬ ‫طه من هنا أّ ن الصراَع ال ةعربّي – اليهودي وصراٌع بين مذهَبي ديٍن واحد‪ ،‬ليس إل‪.‬‬ ‫سّمي الذهنيةَ السائدةَ في َمّكةَ التي َخَرَج منها بَِ ةعصِر الجاهلية‪ ،‬مما ي ةعني أنه شكٌل من النتقاِد الصارِم‬ ‫ثانيها؛ يُ َ‬ ‫سه مع الرهباِ ن النسطوريين‪ُ ،‬يمِكُن إقامة روابِطه مع المسيحية‪.‬‬ ‫ت نف ِ‬ ‫لوثنيِة مكة‪ .‬ثالُثها؛ إّ ن تَ​َحاُور محمد بذا ِ‬ ‫شّدة ِمن‬ ‫وصلِته مع التجارة‪ ،‬كناشٍط لدى خديجة ‪ ،‬ومن ثَّم كزوج لها‪ .‬خام ُ‬ ‫رابُ ةعها؛ يُ َ‬ ‫سها؛ يَتَأ َثُّر بِ​ِحّدٍة و ِ‬ ‫صّرح عن ِ‬ ‫سها؛ َمّر ِبآخِر‬ ‫ف السنين‪ ،‬والحيو ّ‬ ‫ي دائما ً في الوساِط ال ةعربية‪ .‬ساد ُ‬ ‫الوسِط القبائلّي ال ةعائِد في دعائِمه إلى آل ِ‬ ‫عصوِر المبراطوريَتين البيزنطيِة والساسانيِة البهيِة الفخمة‪.‬‬ ‫ب ال ةعديِد من الثانويِة منها –‬ ‫ت كثيرةً بشأِ ن تأثيِر هذه ال ةعناوصِر الساسيِة – إلى جان ِ‬ ‫ع تدوين مجلدا ٍ‬ ‫وبالمستطا ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ف الماديِة والتاريخيِة الوطيدة‪،‬‬ ‫الظرو‬ ‫ة‬ ‫ثمر‬ ‫م‬ ‫السل‬ ‫ ن‬ ‫كو‬ ‫هو‬ ‫هنا‬ ‫إيضاحه‬ ‫د‬ ‫و‬ ‫ن‬ ‫ما‬ ‫ره‪.‬‬ ‫وظهو‬ ‫م‬ ‫السل‬ ‫ج‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫في خرو ِ‬


‫ولم يَتَ َ‬ ‫طّور كـ"م ةعجزٍة في الصحراء"‪ .‬وِبقدِر ما َترتَبِطُ قُّوُته بهذه الظروف‪ ،‬فكذا نقاطُ ض ةعِفه أيضًا‪ .‬وهو ليس‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َجمي ةعةً حضارية جديدة على غراِر الحضارِة السومرية الولى أو الرومانيِة الخيرة‪ ،‬بل َيطفُح جانُبه كحركٍة‬ ‫صه‬ ‫عقائديٍة وأخلقية‪ .‬فمحمد نف ُ‬ ‫سه ليس شخصيةً مجهولةً مثلما إبراهيُم وموسى وعيسى‪ .‬والكثيُر من خصائ ِ‬ ‫ف البشريةَ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ب قوما أو قبيلة أو طبقة م ةعينة‪ ،‬بل َتسَتهِد ُ‬ ‫م ةعلومة‪ .‬ورسالُته المتجسدةُ في "القرآ ن" ل ُتخاِط ُ‬ ‫ت‬ ‫جم ةعاء‪ .‬ومصطلُح "ا"‪ ،‬الذي َترجُح َكفُّته في القرآ ن‪ ،‬هو في حقيقة المر الموضوُع الرئيسّي للنشاطا ِ‬ ‫سيَّد ال ةعاَلمين‪ .‬فهذه الكلمةُ‬ ‫ت هذا الوصطلح‪ ،‬وَي ةعتَبُِره "ر ّ‬ ‫ب"‪ ،‬أي َ‬ ‫‪.‬ق تأثيرا ِ‬ ‫اللهوتية‪ .‬ومحمد قابٌع في أعما ِ‬ ‫ُ‬ ‫ح المجيِد بهذا القدر‪ ،‬إنما تَُوّحُد في محتواها على‬ ‫الوصطل‬ ‫ت‬ ‫ذا‬ ‫ا‬ ‫ة‬ ‫وكلم‬ ‫المقدس‪.‬‬ ‫ب‬ ‫ُ‬ ‫مذكورةٌ بكثرة في الكتا ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت الحسنى التس ةعةُ والتس ةعو ن التي‬ ‫فالصفا‬ ‫الجتماعية‪.‬‬ ‫ة‬ ‫واللوهي‬ ‫ة‬ ‫الطبي ةع‬ ‫ة‬ ‫ألوهي‬ ‫بين‬ ‫الص ةعيِد السوسيولوجي‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َيشَمُلها ويتميز بها‪ ،‬ليست سوى ت ةعبيٌر عن التأثيِر المشتَرِك للقوى الطبي ةعيِة والجتماعية‪ .‬في حين أّ ن "الوامَر‬ ‫والشرائَع البدية" التي يَتَ َ‬ ‫طلُّع منسوبوه إلى فهِمها‪ ،‬فَتَُحّفها هالةٌ من الغموض إلى أقصى الحدود‪ .‬وبقدِر كوِ ن‬ ‫ت المنشأِ الجتماعي َمرَحلِيّةً وعابرة‪ ،‬فكذا ل يَُ ةعّد كّل مظهٍر طبي ةعّي قانونًا‪ .‬بَْيَد أّ ن الَقانونيةَ‬ ‫ف ذا ِ‬ ‫الووصا ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ت"‬ ‫"النزعا‬ ‫عن‬ ‫ث‬ ‫الحدي‬ ‫ن‬ ‫ك‬ ‫يم‬ ‫إذ‬ ‫اليهودية‪.‬‬ ‫ة‬ ‫القبائلي‬ ‫د‬ ‫وقواع‬ ‫ط‬ ‫ضواب‬ ‫في‬ ‫ط‬ ‫الفرا‬ ‫ة‬ ‫محصل‬ ‫تها‬ ‫ذا‬ ‫ت‬ ‫والتشري ةعا‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب الشديِد في‬ ‫والميوِل التي طالما َيغلُ ُ‬ ‫ب طابُ ةعها في المجتمع‪ .‬وسيؤدي هذا المفهوُم التشري ةعّي فيما ب ةعد إلى الت ةعص ِ‬ ‫ق التطوِر الجتماعي‪.‬‬ ‫المجتمع السلمي‪ .‬ربما أفادت الشرائُع الصارمةُ في تجاوِز الفوضويِة القَ​َبليِة وتحقي ِ‬ ‫ض ةعنا نصَب ال ةعيِن َتساُرَع التطوِر الجتماعي‪ ،‬فسندرك تلقائيا ً مخاطَر مفهوِم المة هذا‪.‬‬ ‫لكن‪ ،‬إذا ما َو َ‬ ‫خ إيماِ ن محمد بال يَُ ةعّين قُّوَته الميتافيزيقية‪ .‬وعلى القل‪ ،‬فاعتراُفه بقوٍة تَُفوُقه وَت ةعُلوه‪ ،‬يج ةعله ل‬ ‫إّ ن مدى رسو ِ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ع الضاري الدائِر‬ ‫ُيصا ُ‬ ‫ب بَِمَر ِ‬ ‫ض التألِه الذي شاهدناه سائدا من أياِم سومر إلى عهِد روما‪ .‬وإذا ما قاَرناه بالصرا ِ‬ ‫ف محمد أكثَر تقدمية‪ .‬إل أّ ن عجَزه عن تَ​َخ ّ‬ ‫شّكل‬ ‫طي الصرامِة الموسوية يُ َ‬ ‫حوَل ألوهيِة عيسى‪ ،‬يَتَبَّدى لنا موق ُ‬ ‫ع ال ةعربّي السرائيلي‪.‬‬ ‫جانَبه السلبي‪ ،‬الذي ُتدفَُع فاتورُته الباهظة في الصرا ِ‬ ‫ُ‬ ‫ب‬ ‫ب عليه الثقافة المادية‪ ،‬أم َيرجُح فيه الجان ُ‬ ‫والتساؤُل فيما إذا كا ن المجتمُع الذي تَطَلَّع محمٌد إلى بناِئه تَْغلُ ُ‬ ‫ق النقاش‪ .‬فحسب رأيي‪ ،‬وبينما َيبُرُز ال ةعنصُر الخلقّي في المسيحية‪ ،‬نَِجُد وجوَد‬ ‫اليديولوجي؛ إنما َيستَِح ّ‬ ‫َ‬ ‫ص ويتكاثُر الجدُل فيه‪ ،‬إل إّ ن َت ةعاُدَل الثقافَتين‬ ‫ق بينهما في السلم‪ .‬ولئِْن كا ن َيحتوي ال ةعديَد من النواق ِ‬ ‫توازٍ ن دقي ٍ‬ ‫شّكُل جانَبه المتين‪ .‬وبطبي ةعِة الحال‪ ،‬فالحدي ُ‬ ‫ي القائل "اعمْل‬ ‫الماديِة والم ةعنويِة في السلم – ربما – يُ َ‬ ‫ث النبو ّ‬ ‫ف عن هذه البنيِة المتكافئِة كفايًة‪ .‬والكّل‬ ‫لخرتَِك وكأنك تمو ُ‬ ‫ش ُ‬ ‫ت غدًا‪ ،‬واعمْل ليوِمك وكأنك ت ةعي ُ‬ ‫ش أبدًا" إنما َيك ِ‬ ‫ضه وَنبِذه للنظمِة الرومانيِة والبيزنطية والساسانيِة وحتى الفرعونيِة والنمروديِة الكلسيكية‪ ،‬بل‬ ‫على علٍم بَِرف ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫وانتقاِده إياها بصرامة‪ .‬وهو بجانِبه هذا ناقٌِد قديٌر للمدنية‪ .‬إل أّ ن الشروط المادية ل ةعصِره‪ ،‬وآفاقه اليديولوجية‬ ‫ل َتكِفيه للعلِ ن عن مفهوِمه في "المدينة"‪ .‬وهو بذلك شبيهٌ بَِ ةعجِز اشتراكيي زماِننا عن تطويِر البديِل اللزم‪.‬‬ ‫ض المجتمِع المديني‪ .‬وهو بجانِبه هذا‬ ‫لكّن مناداَته الحثيثةَ إلى التشب ِ‬ ‫ث بالخل‪.‬ق ُتشيُر ِلمدى إدراِكه الكلّي لمرا ِ‬ ‫ق أماَم‬ ‫ي ل َي ةعتَِر ُ‬ ‫إوصلحّي عتيد‪ ،‬بل وثور ّ‬ ‫ف بالمجتمِع الذي ل تَ ُ‬ ‫سّنها لِ َ‬ ‫سوُده الخل‪.‬ق‪ .‬والقواعُد التي َ‬ ‫سّد الطري ِ‬ ‫َ‬ ‫ضّي للمجتمِع الرأسمالي‪ .‬وانطلقاً من هذه المزايا‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫ال‬ ‫ع‬ ‫الوض‬ ‫نحو‬ ‫ه‬ ‫التوج‬ ‫قت‬ ‫أعا‬ ‫س المال‪ ،‬قد‬ ‫َ‬ ‫ِ َ​َ ِ‬ ‫الّربا في رأ ِ‬ ‫ً‬ ‫ف َكوِنه أكثَر تقدمية من المسيحية واليهودية‪ .‬فُجنوُحه لَِنبِذ ال ةعبوديِة‬ ‫البنيويِة لدى محمد‪ ،‬يمكننا مباشرةً استشفا ُ‬ ‫أمٌر م ةعروف‪ .‬وهو رحيٌم عطوف‪ ،‬وَمّياٌل للتحريِر لب ةعِد الحدود‪ .‬ورغَم ُب ةعِد مواقِفه عن الحريِة والمساواِة فيما‬ ‫ق بالخلوصِة التي يمكننا اسِتنبا ُ‬ ‫طها من‬ ‫ص المرأة‪ ،‬إل أنه َيستاُء ويَْمقُ ُ‬ ‫ت ال ةعبوديةَ الغائرةَ للمرأة‪ .‬وفيما يَتَ​َ ةعلّ ُ‬ ‫يَُخ ّ‬ ‫ف بالُملِكيِة‬ ‫وجوِد جواريه ومن زواِجه بال ةعديد من النساء‪ ،‬فهي َتحِمُل في طواياها هاَتين النزعَتين‪ .‬لقد كا ن َي ةعتَِر ُ‬ ‫ق أماَم‬ ‫ص ديمقراطّي اجتماعي تماماً – كا ن يس ةعى لِ َ‬ ‫‪.‬ق الطبقيِّة في المجتمع‪ ،‬ولكنه – كشخ ٍ‬ ‫سّد الطري ِ‬ ‫والفوار ِ‬ ‫ق الفراِط في َجبِي الضرائب والتاوات‪.‬‬ ‫طري‬ ‫عن‬ ‫وذلك‬ ‫الجتماعي‪،‬‬ ‫ذ‬ ‫النفو‬ ‫ط‬ ‫بس‬ ‫و‬ ‫الحتكاِر‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ف – وبكّل سهولة – أّ ن محمد كّوَ ن توازنا حاذقا في السلم‪ ،‬فلم َيجنح إلى الثقافِة‬ ‫ش ّ‬ ‫ومن خلِل هذا اليجاِز نست ِ‬ ‫الماديِة الُمْختَّلة‪ ،‬وَلم َيرغْب في القتصاِر على الثقافِة اليديولوجيِة المحضة‪ .‬هذا الوضُع يوضُح كفايةً دوافَع‬ ‫ت اليديولوجيِة والثقافية الخرى‪ .‬وَلربما‬ ‫تَ​َ ةعّزِزه ورسوِخه‪ ،‬سواًء إزاَء قوى الحضارة المدينية‪ ،‬أو إزاَء الكيانا ِ‬ ‫‪.‬ق في تأميِن سيرورِة‬ ‫َلم تستِطع أيةُ حركٍة اجتماعية – فيما َخل رهباِ ن سومر ومصر – من إبداِء المهارِة والحذ ِ‬ ‫التحاِم الثقافَتين الماديِة واليديولوجيِة بقدِر ما كانتا عليه في السلم‪ .‬وإْ ن كنا اليوم نَتَ​َكلُّم عن دواِم قوِة السلِم‬ ‫الراديكالّي والسياسّي على السواء‪ ،‬فَ​َ ةعلينا بالضرورِة إدراُك خاوصيِته البنيويِة هذه أفضَل إدراك‪.‬‬ ‫ت الجاريِة في الثقافَتين الماديِة واليديولوجية ب ةعَد سقوِط‬ ‫ت والتحول ِ‬ ‫ِمن المفيِد إعادةُ تفسيِر التطورا ِ‬ ‫المبراطوريَتين الرومانيِة والساسانية‪.‬‬ ‫ت غائرةً في ضميِر‬ ‫ف عام قد أَلَ​َح َ‬ ‫يَتَبَيُّن طبي ةعيا ً من سقوِط روما أّ ن النظاَم ال ةعبود ّ‬ ‫ق تخريبا ٍ‬ ‫ي الُمَ ةعّمَر أرب ةعةَ آل ِ‬ ‫ت الحقوقيةُ الخيرةُ التي‬ ‫ت والترتيبا ُ‬ ‫ت فسيحة فيها‪ ،‬بينما الجراءا ُ‬ ‫البشرية‪ ،‬أي في أخلِقها‪ ،‬وفَتَ​َح بالتالي ثغرا ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ت الشاس ةعة المتولدة في دنيا‬ ‫ضُح جليا ً تلك الُهّوا ُ‬ ‫قاَمت بها روما كانت قاوصرًة عن ملِء تلك الثغرات‪ .‬كما تَتّ ِ‬ ‫َ‬ ‫ف عام‪ ،‬لم تَُك‬ ‫آل‬ ‫ة‬ ‫أرب ةع‬ ‫ة‬ ‫طيل‬ ‫بها‬ ‫س‬ ‫النا‬ ‫ع‬ ‫لقنا‬ ‫ ةعوا‬ ‫ال ةعقائد‪ .‬حيث انَك َ‬ ‫ش َ‬ ‫سَ‬ ‫ع أيضا ً أّ ن تلك اللهَة‪ ،‬التي َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ف بسطو ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫مثلما كانوا َي ةعتَِقدو ن البَّتة‪ .‬وكانت الوثنية أضاَعت قدسيَتها القديمة‪ .‬بل وُيزَعم أنه كا ن أَتى يوٌم َلم تَُ ةعد فيه أروُع‬ ‫ف وراَءها سوى إنسانيةً ُمنَهكةً ُمنهارة‪.‬‬ ‫هياكِل جوبيتر ُتساوي ُقرشًا‪ .‬فالُبنى الماديةُ الضخمةُ لم تَُخلّ ْ‬


‫سُ ةعنا القوُل أنها كانت‬ ‫ب التي ل َت ةعِر ُ‬ ‫ف الخموَد والنقطاع‪ ،‬فكانت َجَ ةعَلت من ال ّ‬ ‫أما الحرو ُ‬ ‫سلِم طوباويةً خيالية‪ .‬ويَ َ‬ ‫ُ‬ ‫مرحلةَ أزمٍة وفوضى عارمة‪ .‬فبينما كانت قيمة أنماِط الحياِة والقواعِد القديمِة َتهوي وتَ​َتراجع‪ ،‬لم يَُك ثمة بدائُل‬ ‫ُتذَكر‪ .‬وراَح الجميُع َينتَِظرو ن رسالةَ الخلص‪ ،‬وَيسَتشِ ةعرو ن مصطلَحي الجنِة والجحيم في الوساط‪ .‬كانت أكواُم‬ ‫ال ةعاطلين عن ال ةعمل‪ ،‬والرقاِء المن ةعِتقين الهائمين على وجوِههم َتسَتفِحُل في الوساِط المركزية‪ ،‬في حين‬ ‫ح لدى القواِم القاطنين في الطراف‪ .‬وكانت الوساطُ في حالٍة مثلى لِتَلَّقي وصدى رسالِة‬ ‫ف حركا ُ‬ ‫تتضاع ُ‬ ‫ت النزو ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫سُد فيما‬ ‫الُمنِقذ التاريخي‪ .‬إنه وق ُ‬ ‫ف كانت تَتَ​َج ّ‬ ‫ت الكبرى‪ .‬فالحاجة الماسة في ِظّل تلك الظرو ِ‬ ‫غ فجِر الحركا ِ‬ ‫ت بزو ِ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ج ال ةعظيمة‪.‬‬ ‫والمناه‬ ‫ت‬ ‫لليوتوبيا‬ ‫ة‬ ‫محصل‬ ‫ ن‬ ‫كو‬ ‫ت‬ ‫قد‬ ‫الكبرى‬ ‫ت‬ ‫والحركا‬ ‫الجديدة‪.‬‬ ‫ج‬ ‫والمناه‬ ‫ت‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫نُ َ‬ ‫ِ‬ ‫سّميه اليوم باليوتوبيا ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫‪.‬ق الحضاري بِ​ِرّمِته‪.‬‬ ‫السيا‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫على‬ ‫ة‬ ‫ذ‬ ‫ق‬ ‫من‬ ‫ال‬ ‫ج‬ ‫والمناه‬ ‫ص‬ ‫الخل‬ ‫ت‬ ‫ليوتوبيا‬ ‫ة‬ ‫الماس‬ ‫ة‬ ‫الحاج‬ ‫هذه‬ ‫ل‬ ‫مث‬ ‫دت‬ ‫سا‬ ‫وقد‬ ‫َ‬ ‫َ ّ‬ ‫ِ ُ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ج كانت تَتَ​َميُّز بيوتوبياتها وَووصفاِتها التحريريِة ال ةعمليِة على‬ ‫والخار‬ ‫ل‬ ‫الداخ‬ ‫في‬ ‫ة‬ ‫م ةعاش‬ ‫ال‬ ‫ت‬ ‫فالحركا‬ ‫وبالوصل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫‪.‬ق هذه المرة‪ ،‬ولم تَُ ةعد المرحلةُ‬ ‫الدوام‪ .‬إل أّ ن الزمةَ البنيويةَ والوظيفيةَ لل ةعبوديِة كنظاٍم قائم كانت غائرةَ العما ِ‬ ‫ق إدارَتها بأنظمٍة عبوديٍة جديدة‪.‬‬ ‫بأوضاِعها وظروِفها تُِطي ُ‬ ‫ُ‬ ‫غ الُبنى الماديِة الخيرِة حالةً‬ ‫بلو‬ ‫ولدى‬ ‫الظمأ‪.‬‬ ‫من‬ ‫ر‬ ‫بح‬ ‫في‬ ‫رها‬ ‫وضمي‬ ‫ة‬ ‫البشري‬ ‫ة‬ ‫ذهني‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫وفي ِظّل ظرو ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ف كهذه تَُ ةعو ُ‬ ‫ِ‬ ‫ف للديا ن ال ةعالمية )رسائُل‬ ‫ج الظرو ِ‬ ‫َت ةعَجُز فيها عن الستمراِر لتأميِن بقاِء النظام‪ ،‬فهذا ما م ةعناه اكتماُل نضو ِ‬ ‫شهما(‪ .‬لكن‪ ،‬وما داَم ال ةعصُر الجديُد‬ ‫ب إلى ذهنيِة وضميِر سائِر البشريِة وُتنِ ةع ُ‬ ‫سّر ُ‬ ‫ص والتحرِر التي تَتَ َ‬ ‫الخل ِ‬ ‫ب لن يَُكوَ ن عصراً عبوديا ً جديدًا‪ ،‬فماذا‪ ،‬وكيف عساه يَُكو ن؟ هذا ما َيشغل الباَل حقا‪ً.‬‬ ‫ب والمقتَِر ُ‬ ‫الُمرتَقَ ُ‬ ‫ي القديم‪ ،‬ولكْن‪ُ ،‬يمِكُن إعادة‬ ‫لقد ِقيَل الكثيُر عن المجتمِع القطاعي‪ .‬وُيقاُل أنه ال ةعصُر اللح ُ‬ ‫ق للنظاِم ال ةعبود ّ‬ ‫ت والقطاعيات التي قاَم عليها إلى أعوام ‪. 4000‬ق‪.‬م من حيث النمِط والهيئِة‪ .‬في حين يمكننا‬ ‫ت المارا ِ‬ ‫مثيل ِ‬ ‫ت القرويين‬ ‫سهولة – أّ ن الُقصوَر الكثَر تماسكا ً ومتانةً قد بُنَِيت في أعواِم ‪. 2000‬ق‪.‬م‪ .‬أما مجموعا ُ‬ ‫التذكيُر – بِ ُ‬ ‫ت‬ ‫شّكَلت في كّل مكاٍ ن منذ القديِم السحيق‪ .‬وكا ن يَُح ّ‬ ‫شِم المحيطةُ بأغلِبهم‪ ،‬فكانت تَ َ‬ ‫والَخَدِم والَح َ‬ ‫ق للمجموعا ِ‬ ‫ت المبراطوريات‬ ‫ت الداخليِة لديها‪ ،‬أو في أزماِ ن تَ َ‬ ‫شّت ِ‬ ‫الثنيِة – أَّيما كانت – أْ ن تُِقيَم إماَرِتها من ضمِن الهرميا ِ‬ ‫ت البنى الصغيرِة المتأسسِة ب ةعَد ال ةعهَدين الرومانّي‬ ‫وتَ​َب ةعثُِرها‪ .‬ولم يَُك ثمة فوار ُ‬ ‫ت ذا ِ‬ ‫‪.‬ق بارزةٌ بين الدويل ِ‬ ‫ع هذه الدويلت‪،‬‬ ‫والساساني وأمثاِلهما من المراحِل السابقة‪ .‬ولم تَُك المبراطوريا ُ‬ ‫ت سوى اتحاداً من مجمو ِ‬ ‫قليلًة كانت أم كثيرة‪ ،‬فيدراليًة كانت أم كونفدرالية‪ .‬ولم تَُكن القرى بذهنياِتها مختلفةً كثيراً عما كانت عليه أثناَء‬ ‫سين‪ ،‬وَلم‬ ‫سها النيوليتّي في أعواِم ‪. 6000‬ق‪.‬م بأقّل تقدير‪ .‬هذا وَلم َيطَرْأ أ ّ‬ ‫تَ​َمأ ُ‬ ‫ت بين الجن َ‬ ‫ي تغييٍر على ال ةعلقا ِ‬ ‫س ِ‬ ‫ت وأْتباِعهم من الخدِم‬ ‫تَُكن ال ةعلقا ُ‬ ‫ت بين القناِ ن والسياِد منذ غابِر الزما ن مختلفًة عن تلك التي بين الغوا ِ‬ ‫ي تَطَّو ٍِر ثوري‪ .‬ولطالما َتطّرقنا إلى البنى الحاكمِة‬ ‫جأ ّ‬ ‫وال ةعبيد‪ .‬أما الُملكيُة‪ ،‬فكانت عيَنها‪ .‬ولم َتشَهد وسائُل النتا ِ‬ ‫س‬ ‫وآلهِتها‪ .‬إذ ن‪ ،‬والحاُل هذه‪ ،‬من ال ةعسيِر اعتبار النظمِة والترتيبا ِ‬ ‫ت الماديِة المتكونة فيما ب ةعَد القرَنين الخام ِ‬ ‫س الميلدّيين حضارةً جديدة‪ .‬وبطبي ةعِة الحال‪ ،‬فالبنى المدينيةُ في أوروبا غيُر ُمؤّهلٍة إطلقا ً لَِتكويِن‬ ‫والساد ِ‬ ‫ح وثناء‪ ،‬بل َلم تَُكن َت ةعني‬ ‫ت الُم َ‬ ‫حضارٍة جديدة‪ .‬وهكذا شأُ ن المبراطوريا ِ‬ ‫شّيدة‪ ،‬حيث لم تَُكن كما ِقيَل فيها من َِمد ٍ‬ ‫شيئا ً غيَر تلك الطلِل القديمِة المتبقيِة من روما‪.‬‬ ‫ق للرأسماليِة أراها أكثَر م ةعنى‪.‬‬ ‫يمكن ُقول الشيِء نف ِ‬ ‫سه لجِل الشرقيين أيضًا‪ .‬فتسميةُ هؤلء ببقايا النظاِم الساب ِ‬ ‫ب في أقصاها أب ةعَد من‬ ‫بالبيو‬ ‫ت أو الحياِء الصغيرة المتبقيِة من الطلِل والخرائب‪ ،‬أو ل َتذه ُ‬ ‫والبقايا شيٌء َأشبَهُ‬ ‫ِ‬ ‫َكوِنها ت ةعدي ً‬ ‫ل للقديم‪ .‬ويجب – إلى جانب ذلك – عدم إنكاِر البنى الماديِة السابقِة للرأسمالية‪ .‬قد تَُكوُ ن بنى مرحلِة‬ ‫النتقاِل إلى الرأسماليِة مغايرة‪ ،‬فتَ​َمّدُ ن أوروبا فيما ب ةعَد القرِ ن ال ةعاشِر الميلدي على وجِه الخصوص‪ ،‬كانت‬ ‫ف كثيراً عند‬ ‫وكأنها تُبَ ّ‬ ‫شُر بُِقدوِم الرأسمالية‪ .‬إذ ن‪ ،‬وما داَم المُر كذلك‪ ،‬فقد يَُكوُ ن من الناجِع عدَم الوقو ِ‬ ‫ب إلى الصحة‪ ،‬فهو انحلُل نظاِم آلهٍة ُمقَنَّ ةعٍة‬ ‫مصطلَحي "القطاعيِة" و"عصر الظلمات"‪ .‬أما التفسيُر القر ُ‬ ‫ت النظاِم‬ ‫ف عام‪ ،‬وانهياُره ضمن إطاِر "الفترِة الطويلة"‪ .‬فانهيارا ُ‬ ‫ومجتمٍع ُمسَت ةعبٍَد استَ​َمّر طيلةَ أرب ةعِة آل ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ت الطويلِة قد يَطوُل انهياُرها ِعّدَة‬ ‫النيوليتي ل َتفتَأ ُ مستمرةً في راهننا‪َ .‬مراِمي من ذلك هو أّ ن النظمة ذاَت الفترا ِ‬ ‫س‬ ‫ضّيقنا الِخنا َ‬ ‫قرو ن‪ ،‬وقد تَتَ​َجّدُد بل انقطاع‪ .‬وإذا ما َ‬ ‫‪.‬ق أكثر‪ ،‬فيمكننا تسميةُ النظِم اللحقِة للقرَنين الخام ِ‬ ‫س الميلدّيين بالنظمِة المتأخرة‪.‬‬ ‫والساد ِ‬ ‫ما الذي َت ةعِنيه كّل هذه الموِر بالنسبِة إلى السلِم والمسيحية؟ إذ ل ِغنى في يوتوبياِتهما عن الوعِد الجنة‪ .‬بل‬ ‫وتَتَ​َحّد ُ‬ ‫ص عليه كّل يوتوبيا‪َ .‬لطالما يَُذّكرني "وعُد‬ ‫ف عام‪ .‬وهو الجزُء الذي تَنُ ّ‬ ‫ث عن أنظمِة الس ةعادِة الممتدِة لل ِ‬ ‫س ةعيِر الصحراِء اللذع‪ .‬وبالوصل‪ ،‬فالُمقابُل لذاك الوعِد‬ ‫الجنة" بَِحنيِن النساِ ن إلى "الواحِة" وهو َيسيُر في َ‬ ‫صّحَرة‪ .‬قد يَِ ةعُد النبياُء أيضا ً جماعاِتهم بالمستقبِل الرغيد والياِم المفَ ةعمِة بالمل‪ .‬ما يَتُّم‬ ‫أوصلً هو الحياةُ الُمتَ َ‬ ‫َعَمُله من خلِل يوتوبيا المستقبِل الرغيِد كالِجنا ن‪ ،‬هو البح ُ‬ ‫ث عن حياٍة أخرى مغايرة‪ ،‬ليس إل‪ .‬وقد تَُكوُ ن ملذاً‬ ‫ً‬ ‫ضاَقت به الدنيا وهو َينتَِظُر تنفيَذ ُحكِم العداِم فيه‪ ،‬أو ملجأ لَِمن ليس بحوزِتهم ولو‬ ‫اضطراريا ً لنساٍ ن متشائٍم َ‬ ‫ُ‬ ‫وصّدام إِّبا ن العدام‪ ،‬وبين نسخِة القرآِ ن التي في َكّفيه‪ ،‬إنما تَُ ةعلُّمنا الكثير‪.‬‬ ‫ص أمل‪ .‬من هنا‪ ،‬فال ّ‬ ‫َبصي ُ‬ ‫صلَة بين َ‬ ‫فالقرآُ ن قوةٌ ذهنيةٌ إنشائيةٌ قصوى ِلمراحِل الحياِة التي على حافِة العدام‪ .‬إنها حالةٌ من المِل في النشاِء ب ةعَدما‬ ‫ب المقدسة‪،‬‬ ‫ب القياُم بتفسيٍر سليٍم للرسائِل التي تَُوّجُهها الكت ُ‬ ‫ان َ‬ ‫‪.‬ق الحل‪ .‬وكذا المر‪ ،‬فِمن ال ةعصي ِ‬ ‫سّدت جميُع طر ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫س‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫س‬ ‫للنسا ن‪،‬‬ ‫ة‬ ‫الميتافيزيقي‬ ‫ع‬ ‫الطبائ‬ ‫عن‬ ‫ض‬ ‫تغا‬ ‫ن‬ ‫لم‬ ‫وإذا‬ ‫لها‪.‬‬ ‫بأكم‬ ‫ة‬ ‫ال ةعبودي‬ ‫ط‬ ‫شرو‬ ‫ك‬ ‫ْ‬ ‫ندر‬ ‫أو‬ ‫ب‬ ‫نستوع‬ ‫لم‬ ‫ما‬ ‫ْ‬ ‫ّ ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫أنه ل تزاُل ثمةَ ضرورةٌ لنشاِء عدٍد غيِر محصوٍر من اليوتوبيات‪ ،‬بما فيها تلك القائلةُ بالجنِة والجحيم‪ .‬فالواقُع‬ ‫ب كذلك أماَم أنماِط حياٍة‬ ‫النساني َيستلزم ذلك‪ .‬وإل‪ ،‬فمثلما لن ُيطا َ‬ ‫ش في الحياِة بسهولة‪ ،‬فلن ُيفتَ​َح البا ُ‬ ‫‪.‬ق ال ةعي ُ‬ ‫أجمل وأحسن وأفضل‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ض إنشاؤها‪.‬‬ ‫شَئت أو فِر َ‬ ‫ت بَِحّد ذاِته ظاهرة اجتماعية أن ِ‬ ‫ف من المو ِ‬ ‫علّي إضافة أمٍر آخر‪ ،‬أل وهو َكوُ ن الخو ِ‬ ‫ت الجتماعيِة الجديدة‪ .‬بل وقد ُيسَتنَبط‬ ‫ف الُمن َ‬ ‫شأ ِ عبَر النشاءا ِ‬ ‫ع الخو ِ‬ ‫ع القضاُء على فَ​َز ِ‬ ‫بالتالي‪ ،‬بالمستطا ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ت الجتماعية في‬ ‫ت الحياة‪ .‬فالِميتا ُ‬ ‫ت في الطبي ةعِة ل تشبِهُ الِميتا ِ‬ ‫ت آنئٍِذ أروُع وأفضُل حال ِ‬ ‫وُيسَتخَرج من المو ِ‬ ‫ت الجتماعيِة َتنبُع من‬ ‫المجتمِع البشري في أ ّ‬ ‫ت من الوقات‪ .‬فاللُم ال ةعميقة‪ ،‬والحزاُ ن السحيقة للِميتا ِ‬ ‫ي وق ٍ‬ ‫ب‬ ‫ت الطبي ةعي‪ .‬وإل‪ ،‬فَلم يَُك لَِيبقى شيٌء اسُمه الحياة‪ ،‬إْ ن َلم يتواجد الموت‪ .‬ولهذا السب ِ‬ ‫َتضاّدها مع حقيقِة المو ِ‬ ‫ُ‬ ‫سلَّحة بوعِي الموت‪ .‬وهي ت ةعني اللموَت والخلود‪.‬‬ ‫بالذات‪ ،‬فالحياةُ السمى م ةعنى هي تلك الُمتَ َ‬ ‫ج من ال ةعبودية‪ ،‬ولكّن النتيجةَ التي سُتسفُِر‬ ‫الخرو‬ ‫ل‬ ‫لج‬ ‫ر‬ ‫للنظا‬ ‫كانت يوتوبَيتا السلِم والمسيحية جاذبَ​َتين‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ف لتجاوِز تلك البلبلة‪ .‬وَلربما إيراُد المثلِة على‬ ‫عنهما كانت محفوفةً بالمجهول‪ .‬وكأّ ن القوَل بحياٍة كالجنة كا ٍ‬ ‫س يُِ ةعيُننا في فهِم م ةعالِ​ِم المجتمِع الجديِد المزمِع بناؤه‪.‬‬ ‫جماعا ِ‬ ‫ت الديرِة والمدار ِ‬ ‫ُ‬ ‫ت لنشاِء المجتمِع الجديد‪ ،‬والتي جّربها كل‬ ‫ب إنما هي برامج ومحاول ٌ‬ ‫س‪ ،‬الديرة‪ ،‬الطرائ ُ‬ ‫ق‪ ،‬والمذاه ُ‬ ‫فالمدار ُ‬ ‫ت‬ ‫الّديَنين‪ ،‬ول يزال ن‪ ،‬بل َكلٍَل أو َ‬ ‫سأم‪ .‬لذا‪ ،‬يجب أل َتمتَلَِكنا الحيرةُ والدهشةُ من استمراِر هذه الميوِل والنزعا ِ‬ ‫ت‬ ‫س المسيحية‪ ،‬وقادةُ الفتوحا ِ‬ ‫ف وخمسمائِة عام‪ .‬ومن جان ٍ‬ ‫في ِكَليِهما منُذ ألفي‪ ،‬وأل ٍ‬ ‫ب آخر‪ ،‬فزعماُء الكنائ ِ‬ ‫ق النظر‪ ،‬سنجد أّ ن هذه النظمَة‬ ‫السلمية قد ابتَ​َدعوا بكّل سهولة نظاما ً عبوديا ً ُمَ ةعّدلً ومتأخرًا‪ .‬فحالما نَُدقّ ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ال ةعبوديةَ المتأخرَة عبارة عن استرخاء وهدوِء الفتوحات‪ ،‬وليست أنظمةً حياتية دائمة تشمُل المجتمَع برمته‪.‬‬ ‫ت ل َهّم لها في إنشاِء‬ ‫أما َتسميُتها بالمدنية السلمية والمسيحية‪ ،‬فكأنه إرغاٌم إلى حّد ما‪ ،‬ذلك أّ ن اليوتوبيا ِ‬ ‫ي‬ ‫ال ةعقائد‬ ‫م‬ ‫فالنظا‬ ‫ت الجماِل عليها‪ .‬إذ ن‪،‬‬ ‫الحضارة المدينية‪ ،‬بقدِر ما َتهِد ُ‬ ‫ّ‬ ‫ف إلى إنقاِذ الحياِة وإضفاِء لَ​َمسا ِ‬ ‫ُ‬ ‫ب المبدئّي الراسخ على سؤال الحضارة المدينية‪ .‬فقد كا ن لهما الدوُر‬ ‫والخلقّي لِ​ِكلتا الشري ةعَتين خاٍل من الجوا ِ‬ ‫ُ‬ ‫البارُز في تَ​َخ ّ‬ ‫ض النظمِة ال ةعبودية المَ ةعّدلَِة على‬ ‫ب ةع‬ ‫مهما‬ ‫باس‬ ‫مت‬ ‫أقي‬ ‫و‬ ‫عام‪،‬‬ ‫ف‬ ‫آل‬ ‫ة‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫طي النظمِة القائمِة طيلةَ أرب ةع ِ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ت والمد ن والمبراطوريات‪ .‬إل أنه من الص ةعب اعتبار ذلك مدنية إسلمية ومسيحية‪ ،‬أو يمكن‬ ‫طراِز المارا ِ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ج من‬ ‫للخرو‬ ‫د‬ ‫مست ةع‬ ‫س‬ ‫ق‬ ‫ال‬ ‫فل‬ ‫اليديولوجي‪.‬‬ ‫بها‬ ‫جان‬ ‫في‬ ‫ة‬ ‫منحرف‬ ‫ة‬ ‫مدني‬ ‫–‬ ‫والحالت‬ ‫ض‬ ‫الفرو‬ ‫ن‬ ‫أحس‬ ‫اعتباُره – في‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ش الدولة‪.‬‬ ‫الكنيسِة للمكو ِ‬ ‫ج من الجامِع للتَّرّبِع على عر ِ‬ ‫ث في قصوِر المبراطورية‪ ،‬ول الماُم مست ةعّد للخرو ِ‬ ‫ضاّلين‪ .‬في حين أنهم‬ ‫وبالوصل‪ ،‬فالُمتَ​َدّولو ن منهم انَحَرفوا دومًا‪ ،‬ولم يَتَ​َرّدد الخرو ن منهم في َتسِميَِتهم بال ّ‬ ‫ت الدينية‪ .‬ولنهم كذلك‪ ،‬فقد استطاعوا الحفا َ‬ ‫ظ على وجوِدهم‬ ‫نا َ‬ ‫شدوا ونّبهوا رؤساَء الدوِل بالمتثاِل للواجبا ِ‬ ‫وسيرورِتهم إلى ال ن‪ ،‬وإْ ن كانوا خاِملي التأثير‪ ،‬وخائِبي المل‪.‬‬ ‫يقول ماكس فيبر في المدنيِة الرأسماليِة أنها الحضارةُ المنتهي سحُرها‪ .‬وبالطبع‪ ،‬ل حياةً ساحرةً وجذابةً في‬ ‫نظاِم الثقافِة الماديِة الكثِر تقدمًا‪ .‬فالحياةُ الساحرةُ الخلبةُ ل يمكن أْ ن تَُكوَ ن إل في دنيا الثقافِة اليديولوجية‪.‬‬ ‫ت في إضفاِء السحِر والروعِة على الحياِة‬ ‫ت ل َتمتَلُِك المهارا ِ‬ ‫لكّن السلَم والمسيحيةَ وأشباَههما من الثقافا ِ‬ ‫ث الغنّي الزاخِر للثقافِة اليديولوجية أْ ن َيقِدَر‬ ‫الرأسمالية‪ .‬ول يمكن لغيِر سوسيولوجيا الحريِة المرتكزِة إلى الر ِ‬ ‫ع ضمن الفصِل الم ةعني‪،‬‬ ‫الموضو‬ ‫هذا‬ ‫على تأميِن هذه المهارِة والتَّحّلي بهذه الكفاءة‪ .‬سَنجَهُد للتركيِز في‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫وسُنثِبت أّ ن الحياةَ ذاَتها هي القيمةُ الكثُر جاذبيةً وروعة‪ .‬من هنا‪ ،‬فش ةعاُرنا الجديُد لن يَُكوَ ن "إما الرأسمالية أو‬ ‫الشتراكية"‪ ،‬بل سيَُكوُ ن "إما الرأسماليةُ أو الحياةُ الحرة"‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ع إعطاُء الرّد بُِيسٍر أكبر على التساؤل‪ :‬لماذا المدنية الرأسمالية؟ فِبقضاِء المسيحيِة‬ ‫بناء على ذلك‪ ،‬بالمستطا ِ‬ ‫ت ال ةعملقِة المترامية الطراف‪ ،‬التي كانت عائقا ً أماَم ظهوِر الرأسمالية‪ ،‬وبَِ ةعَدِم‬ ‫والسلِم على المبراطوريا ِ‬ ‫توجِههما نحَو التمد ن )بنيةً وهدفًا(؛ إنما يكونا ن بذلك قد َمّهدا الجواَء للرأسمالية‪ ،‬سواًء أكا ن بوعٍي أو بدونه‪.‬‬ ‫ت متناقضةٌ وعلى الضّد من الرأسمالية‪ ،‬إنما َيطَرُح وجهةَ نظٍر ثاقبٍة‬ ‫ف ةعندما يقول والرشتاين أّ ن المبراطوريا ِ‬ ‫حقًا‪ .‬وماكس فيبر َيشَرُح الرأسماليةَ‬ ‫ح البروتستانتيِة بالتمهيِد‬ ‫الرو‬ ‫م‬ ‫قيا‬ ‫ة‬ ‫كيفي‬ ‫في‬ ‫ب‬ ‫ه‬ ‫يس‬ ‫و‬ ‫أكثر‪،‬‬ ‫ة‬ ‫باستفاض‬ ‫ُ ِ ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫للرأسمالية‪.‬‬ ‫ولكن‪ ،‬أَلَْم يَُكن ممكنا ً الحّل بل مدنية؟ إّ ن الرّد على هذا التساؤِل َيكاُد ُيشبِهُ ال ةعودةَ الَقهَقرى إلى ال ةعصِر‬ ‫ق أماَم التجارة‪ ،‬أو‬ ‫النيوليتي‪ .‬فما داَم من المستحيل إزالة المدائن من الوسط‪ ،‬فلن يَُكوَ ن بالمقدوِر َ‬ ‫سّد الطري ِ‬ ‫ع القضاء على الدولة في تلك الظروف‪ ،‬مهما يَُكن‬ ‫التَّخّلي عن المجتمِع الذكور ّ‬ ‫ي التسلطي‪ .‬كما لم يَُك بالمستطا ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ق الدينية والصوفية‪ ،‬جميُ ةعها‬ ‫ذلك موضوَع انتقاد‪ .‬وبالوصل‪ ،‬فالحياة الم ةعتمدة على الديرة‪ ،‬المدارس‪ ،‬الطرائ ِ‬ ‫سدةَ والرعونةَ الناب ةعةَ من‬ ‫ت الُمف ِ‬ ‫ليست سوى ثمرةُ ال ةعقِم والنسداد‪ .‬ورغم أنهم كانوا يَ​َرو ن بِأ ُّم أعيِنهم التأثيرا ِ‬ ‫ص منها؛ إل أّ ن الحلوَل التي ارتَ​َأوها َلم َتذَهْب أب ةعَد من البقاِء ُمهّمشين‬ ‫تلك التصنيفات‪ ،‬وكانوا َيجَهدو ن للخل ِ‬ ‫ب بالذات كا ن الوسطُ ُمَهيّأ ً تماما ً لظهوِر حضارٍة جديدة‪.‬‬ ‫منزوين‪ .‬ولهذا السب ِ‬ ‫وفي هذه النقطة سيكو ن من الناجِع إعادةُ النظِر في قصِة القبيلِة ال ةعبرانية‪ .‬حيث كا ن اليهوُد ماهرين في شؤوِ ن‬ ‫شروا في كافِة أرجاِء الم ةعمورة في ال ةعهِد الروماني‬ ‫ب براعِتهم في الكتابة‪ .‬وكانوا انتَ َ‬ ‫التجارِة والمال‪ ،‬إلى جان ِ‬ ‫َ‬ ‫ب داخَل الماِل والتجارة‪ ،‬وكأنهم روُح المدنية المادية‪،‬‬ ‫والتسر‬ ‫ل‬ ‫النسل‬ ‫في‬ ‫سين‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫كانوا‬ ‫والبرسي الساساني‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ُ َ ّ ِ‬ ‫ِ‬


‫شُرو ن بالمستقبل‪،‬‬ ‫ب أقرَب إلى النبياء الذين يَتَ​َحّدثو ن عن الماضي‪ ،‬ويُبَ ّ‬ ‫صّفاة‪ .‬وكا ن الُكّتا ُ‬ ‫أو بالوصح‪ ،‬قُّوُتها الُم َ‬ ‫سوا َترَك بصماِتهم على‬ ‫ويتصدرو ن الظرو َ‬ ‫ف الممّهدةَ ِلظهوِر نظاٍم مدينّي جديٍد‪ ،‬أي الرأسمالية‪ .‬ولم َين َ‬ ‫ت أيضًا‪ ،‬بينما كانت الدياُ ن واللهةُ حقوَلهم التي َيحتَِرفونها ويَتَ​َمّرسونها‪.‬‬ ‫اليوتوبيا ِ‬ ‫كانت المسيحيةُ في عصِرها الثقافّي اليديولوجي قد فَتَ​َحت أوروبا سائرة‪ ،‬وَولَ​َجت آسيا لَِحّد ما‪ ،‬في حين لمَ‬ ‫ف الفتُح السلمي على جميِع أوصقاع ال ةعالَِم‬ ‫تتواَ ن عن َترِك بصماِتها على الحضارِة الفريقية‪ .‬كما كا ن قد َزَح َ‬ ‫ُ‬ ‫ال ةعربي لِيَتَ​َ ةعّداه إلى شمالي أفريقيا وآسيا الوسطى‪ .‬وكيفما فُتَِحت كافة مواطِن النظِم الحضاريِة القديمة أماَمهم‪،‬‬ ‫فقد انَخَر َ‬ ‫ق َلم‬ ‫طت المناط ُ‬ ‫ف المبراطوريات الثقافيِة اليديولوجية الجديدة‪ .‬إل أّ ن ما تَ​َحقّ َ‬ ‫ق الجديدةُ أيضا ً في وصفو ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ف ذاِتها‬ ‫ووص‬ ‫في‬ ‫ة‬ ‫المسيحي‬ ‫ل‬ ‫قو‬ ‫وما‬ ‫الم ةعنوي‪.‬‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ال ةعا‬ ‫ر‬ ‫و‬ ‫ط‬ ‫ت‬ ‫ب‬ ‫ن ةعته‬ ‫رنا‬ ‫بمقدو‬ ‫بل‬ ‫الحضارة‪،‬‬ ‫‪.‬ق‬ ‫آفا‬ ‫ع‬ ‫يَُكن تَ​َو ّ‬ ‫س َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ف عام" سوى إشارةٌ لهذه الحقيقة‪.‬‬ ‫بـ"دولِة إلِه الل ِ‬ ‫شةٌ للغاية‪ ،‬بينما جوانُبهما الخلقيةُ متطورة‪ .‬وقد‬ ‫ت ال ةعلميةَ لليوتوبيَتين السلميِة والمسيحية َه ّ‬ ‫إّ ن الدعاما ِ‬ ‫ب لْ ن‬ ‫شها‪ .‬أما لهوتياُتهما‪ ،‬فهي أقر ُ‬ ‫تَأ َثَّرتا بالفلسفِة اليونانيِة الكلسيكية‪ ،‬ولَِ ةعَبتا دوراً ملحوظا ً في إعادِة انت ةعا ِ‬ ‫ت مصر وسومر‪ .‬كما أنهما في مكانٍة‬ ‫تَُكوَ ن َتسَتقي من أرسطو وأفلطو ن‪ ،‬وَتنتَِهُل ِقسَمها الخَر من لهوتيا ِ‬ ‫س بالنسبة للديا ن هو الخل‪.‬ق‪ ،‬وأّ ن‬ ‫ت الحرية‪ .‬ولنَُذّكْر مرةً أخرى أّ ن السا َ‬ ‫متخلفٍة بالنسبِة إلى يوتوبيا ِ‬ ‫‪.‬ق بالذات لم َتفُقد أهميَتها‪ ،‬فقد استطاَعت المسيحيةُ والسلمية‬ ‫صّدُرها كما ُي ةعتَ​َقد‪ .‬ولّ ن الخل َ‬ ‫ت ل تَتَ َ‬ ‫اللهوتيا ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫‪.‬ق لهذه الموِر في الماكِن الم ةعنية ضمن‬ ‫وغيُرهما من الشرائِع المشابهة الحفاظ على مكانِتها البارزة‪ .‬سنتَطّر ُ‬ ‫فصِل سوسيولوجيا الحرية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ف أهدافها‪ .‬فاليوتوبيتا ن‬ ‫ليست اليوتوبيا ُ‬ ‫ت كاملةً ُمَكّملة على الدوام‪ ،‬ولطالما قّدَمت غالبيتها خدماِتها بِخل ِ‬ ‫السلميةُ والمسيحية على سبيِل المثال قد َخَدَمتا تَ َ‬ ‫ف أهداِفهما نوعا ً ما؛‬ ‫طّوَر الرأسماليِة بنسبٍة ملحوظة‪ ،‬وبخل ِ‬ ‫ع ثانيةً في فصِل الرأسمالية‪.‬‬ ‫رغَم أّ ن الواقَع شاهٌد أكيٌد على وصراِعهما تجاهها‪ .‬سَننظُ​ُر في هذا الموضو ِ‬ ‫ق أماَم أرستقراطّيي القبائِل الحاكمِة‬ ‫المُر الخُر الممكُن إضافته بالنسبِة إلى السلم‪ ،‬هو َتمهيُده الطري َ‬ ‫ف حدوداً ول َيأبَهُ بُِحقو‪.‬ق‪ .‬وكثيراً ما ُيقال أنه‬ ‫ت الَحوِل نهبا ً وسلبا ً ل َي ةعِر ُ‬ ‫ق وثقافا ِ‬ ‫والبرابرة لِيَُ ةعوُثوا في مناط ِ‬ ‫ع‬ ‫ض التراجع على المسيحيين‪ .‬وهذه الموُر َتسري على جميِع الديا ن بل استثناء‪ .‬في حين أّ ن َعك َ‬ ‫فر َ‬ ‫س وصرا ِ‬ ‫سطُ الحقيقةَ كاملة‪.‬‬ ‫السلِم الُمتَ​َدّوِل مع المسيحيِة الُمتَ​َدّولِة على أنه وصراٌع بين السلِم والمسيحية‪ ،‬إنما ل َيب ُ‬ ‫ت جذوٍر حضارية‪ ،‬وأنها َتسَتخِدُم الدياَ ن ِغطاًء لمآربها‪.‬‬ ‫ت ذا ُ‬ ‫فجميُ ةعنا َن ةعِر ُ‬ ‫ت والصداما ِ‬ ‫ف أّ ن مثَل هذه الصراعا ِ‬ ‫خلوصة؛ وبشكٍل عام‪ ،‬فمواضيُع الثقافِة اليديولوجية والثقافِة المادية مواضيٌع شائكة‪ .‬ولكنها في الِ ن عيِنه‬ ‫ت بين ال ةعبيِد والسياد‪ ،‬وبين القناِ ن والشراف‬ ‫وقائٌع قائمةٌ تقتضي البحَث والتدقيق‪ .‬في حين أّ ن دوَر الصراعا ِ‬ ‫محدوٌد وغيُر مباشر في تحريِك عجلِة التاريخ التي تَُدوُر على منواٍل مختلف‪ .‬وهانحُن ذا َنبَح ُ‬ ‫ث في ذلك‪ ،‬وإْ ن‬ ‫بخطوٍط عريضٍة وبشكٍل هاٍو ِغّر‪ .‬إل أنها بحو ٌ‬ ‫خ وفهِمه‪ ،‬وللرّد على قضايا يوِمنا‬ ‫ث ضروريةٌ لستي ةعا ِ‬ ‫ب التاري ِ‬ ‫الراهِن على السواء‪.‬‬ ‫شّكُل‬ ‫ولن نَُكوَ ن تناَوْلنا الموضوَع بتكامٍل متماسك‪ ،‬ما َلم نُقَيّْم – ولو باختصاٍر شديد – القواَم المهاجرةَ التي تُ َ‬ ‫ق شبِه الجزيرِة ال ةعربية‬ ‫الجناَح الخَر من المقاَومِة‪ .‬فقد كا ن القوط والُهو ن من شمالي أوروبا‪ ،‬وال ةعر ُ‬ ‫ب عن طري ِ‬ ‫ضّد الحضارة المدينية ال ةعبودية وهي في‬ ‫ت الغارِة الواحدةَ ِتلَو الخرى ِ‬ ‫ت الهجوِم وتكتيكا ِ‬ ‫يقومو ن بحمل ِ‬ ‫ت الهجوِم والغارِة والمقاَومة لتلك القواِم –‬ ‫ت من الهجرة‪ ،‬أو بالحرى حمل ُ‬ ‫مراحِلها الخيرة‪ .‬فهذه الموجا ُ‬ ‫التي تَ َ‬ ‫ي الذي يسبق الحضارةَ المدينية التي‬ ‫ش ضمن المجتمِع البو ّ‬ ‫طّوَرت لديها الهرميةُ القبَِلية‪ ،‬والتي َت ةعي ُ‬ ‫س‬ ‫سّميها بالمجتمِع البربري – إنما هي ضر ٌ‬ ‫نُ َ‬ ‫ب حركا ِ‬ ‫ب من ضرو ِ‬ ‫ت الثقافِة اليديولوجية‪ .‬وكانت تتميز بالحما ِ‬ ‫والندفاع‪ِ ،‬مقدامةً جسورة‪ ،‬وَتحِمُل م ةعها الدماَء الطازجة‪ .‬وبينما كانت يوتوبياُتهم تحتضن في ثناياها – ولو‬ ‫جزئيا ً – عناوصَر المساواِة وال ةعوامَل المتبقيةَ من ال ةعصِر النيوليتي‪ ،‬إل أنهم بالرجح كانوا متلهفين ومتطل ةعين‬ ‫إلى الحضارة المدينية‪ .‬كما َلم يُ َ‬ ‫طّوروا ميتافيزيقيةً بارزةً بقدِر ما للديا ن‪ .‬بالتالي‪ ،‬فأغلُبهم َغَدوا دماً طازجاً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ت التاريخ‪.‬‬ ‫ل ةعجل‬ ‫ة‬ ‫رك‬ ‫ح‬ ‫م‬ ‫ال‬ ‫القوى‬ ‫م‬ ‫أه‬ ‫د‬ ‫ح‬ ‫أ‬ ‫هم‬ ‫ف‬ ‫ذلك‪،‬‬ ‫ورغم‬ ‫وجنوداً مرتزقًة للمبراطوريات‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫ِ‬ ‫ُ َ ّ ِ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫ولو َلم تَُك غزوا ُ‬ ‫ب‪ ،‬ومن قبِلهم الهوريين‪ ،‬وال ةعموريين‪ ،‬والسكيت؛ فأغل ُ‬ ‫ت الجرما ن‪ ،‬التراِك‪ ،‬المغول‪ ،‬ال ةعر ِ‬ ‫ً‬ ‫ب بالمبراطوريَتين الرومانيَتين‪،‬‬ ‫وال ةعر‬ ‫ ن‬ ‫الجرما‬ ‫ح‬ ‫أطا‬ ‫فبينما‬ ‫ا‪.‬‬ ‫مختلف‬ ‫سيكو ن‬ ‫كا ن‬ ‫خ‬ ‫التاري‬ ‫الظّن أّ ن جرياَ ن‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫فللتراِك والمغوِل نصيُبهم الوافُر في َدّك دعائِم المبراطوريَتين اليرانيِة والبيزنطية‪ .‬إل أّ ن ما قاَم به زعماُء‬ ‫ف جيشها‬ ‫سهم‪ ،‬أو احتلِلهم أماكَنهم في وصفو ِ‬ ‫ج المبراطوريِة الجديدة على رؤو ِ‬ ‫قبائلهم َلم يَُكن أكثَر من وضِع تا ِ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ع المجتمِع ك ةعناوصَر‬ ‫وبيروقراطيتها‪ .‬أما الباقو ن منهم‪ ،‬فإما أنهم َكّونوا القبائَل مجددا‪ ،‬أو أنهم تَخّبطوا في قا ِ‬ ‫مهّمشٍة ل شأَ ن لها‪ .‬في حين أّ ن دوَر هاَتين القوَتين الداخليِة والخارجيِة في انهياِر النظاِم ال ةعبودي ل َيقبُل الجدَل‬ ‫س النسبة‪ .‬أي أنهما َتهِدما ن وتنهبا ن وتَُدّمرا ن‪،‬‬ ‫ح البديل وإنشاِء الجديد بنف ِ‬ ‫والنقاش‪ ،‬رغم عجِزهما عن طر ِ‬ ‫وصوِ ن الجديد‪.‬‬ ‫ولكنهما ت ةعجزا ن عن البناِء و َ‬ ‫س الحداثِة الرأسمالية عبر هذا ال ةعمل‪ ،‬الذي يمكننا تسميُته بالبحث‪.‬‬ ‫أس‬ ‫ر‬ ‫سب‬ ‫ال ن‬ ‫سَ ةعينا إلى‬ ‫في الحقيقة‪ ،‬لقد َ‬ ‫ِ‬ ‫َ ِ‬ ‫ُ‬ ‫ضت عنها الحداثة الرأسمالية‪ .‬ذلك أّ ن إحدى أهّم مزايا البنيِة‬ ‫ت التاريخيِة التي تَ​َمّخ َ‬ ‫ف التطورا ِ‬ ‫وَعِملنا على كش ِ‬ ‫ال ةعلمية – السلطويِة الرأسمالية هي تقديُم ذاِتها بل تاريخ‪ .‬فاللتاريُخ‪ ،‬واللمكاُ ن ُمِهّما ن للدعاِء ِبأِنها النظاُم‬


‫ب الّزَمكانية‪ ،‬لِيَُدّونوا‬ ‫الثاب ُ‬ ‫ت الدقيقِة للغاية والمذهلِة للغاية في غيا ِ‬ ‫ت الراسُخ والخير‪ .‬وعليه َيقومو ن بالتحليل ِ‬ ‫َ‬ ‫ت الوقائ ةعيِة اليومية‪ .‬فضلً عن أنهم‬ ‫ت الم ةعنيِة بالتاريخ الوصغر ‪ Mikro‬والمستجدا ِ‬ ‫ما يَُجّل َحصُره من المؤلفا ِ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ق‬ ‫طري‬ ‫عن‬ ‫رنا‬ ‫دو‬ ‫ب‬ ‫هرنا‬ ‫أظ‬ ‫بالتالي‪،‬‬ ‫عليه‪.‬‬ ‫‪.‬ق‬ ‫خنا‬ ‫ال‬ ‫أضاقوا‬ ‫وكأنهم‬ ‫مكا ن‪،‬‬ ‫ز‬ ‫ال‬ ‫ر‬ ‫تأثي‬ ‫على‬ ‫َيجنَُحو ن للتظاهِر بالقضاِء‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ضه‪ ،‬وأنه في حالِة دوراٍ ن‬ ‫هذا ال ةعمل أنه ثمةَ جرياٌ ن وتدف ٌ‬ ‫ق اجتماعّي مغايٌر لما َتسَ ةعى تلك الجهود لتقديِمه وعر ِ‬ ‫صِل من التاريخ‪،‬‬ ‫ضحنا بجلء استحالةَ التّنَ ّ‬ ‫دائٍم بوساطِة جهوِد النساِ ن الدؤوبِة المذهلة‪ .‬وبهذه المناسبة َأو َ‬ ‫َ‬ ‫وأنه مهما اعتَ​َبرت الرأسماليةُ ذاَتها آخَر التاريخ‪ ،‬فثمة الكثيُر من قوى الحضارة المدينية‪ ،‬التي طَرَحت مثل تلك‬ ‫وصُل‬ ‫ج في تحليِل الرأسمالية‪ .‬حيث سُنوا ِ‬ ‫المزاعِم بالنسبِة ل ةعصِرها‪ .‬وال ن‪ ،‬نحن على أَُهبِّة الست ةعداِد للُولو ِ‬ ‫ف خروِجها كمدنية‪ .‬وسنُبَيُّن ب ةعنايٍة فائقة ما استَلَ​َمته من‬ ‫إيضاحاِتنا – ولو تكراراً – بشأِ ن ت ةعريِفها وظرو ِ‬ ‫ت والمدنيات السابقة‪ ،‬وما أضاَفته هي‪.‬‬ ‫الحضارا ِ‬ ‫َ‬ ‫ح أولّي على النحِو التالي‪ :‬إّ ن النظاَم المدينّي الدولتّي البارَز‬ ‫طر‬ ‫ك‬ ‫مراف ةعتي‬ ‫من‬ ‫ل‬ ‫الفص‬ ‫هذا‬ ‫إيضاح‬ ‫بالمكا ن‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫اعتماداً على التكوين المتداخِل للطبقِة والمدينِة والدولة‪ ،‬والذي يُطّور نف َ‬ ‫سه بالتكاثِر المتواوصِل دو ن انقطا ٍ‬ ‫حتى ووصل الرأسماليةَ وعصَرها الخير المتمثل في الرأسمال المالي؛ إّنما َي ةعتَِمُد بالرجح إلى است ةعماِر واستغلِل‬ ‫ضّم طبقةَ كادحي المدِ ن المتس ةعةَ مع الزمن إلى نظاِمه الستغللّي‬ ‫وقمِع المجتمِع الزراعّي والريفي‪ .‬هذا ويَ ُ‬ ‫ف‬ ‫القم ةعي أيضًا‪ .‬والهيمنةُ اليديولوجيّةُ هي المصدُر الساسي الذي تنهل المدنيةُ الدولتيةُ الُمَ ةعّمرةُ خمسةَ آل ِ‬ ‫عام قدرَتها الساسية في الحفاِظ على سيرورِتها إلى اليوِم الراهن ِبالّتضاّد مع الحضارِة الديمقراطية‪ ،‬التي‬ ‫ت‬ ‫ف َزَمكانيٍة ربما هي أطوُل عمرًا‪ ،‬ولكنها لم َتستِطْع ِبأ ّ‬ ‫ي شكٍل من الشكال النفاَذ من التشت ِ‬ ‫َترتَِكُز إلى ظرو ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫خ إل‬ ‫والتب ةعثِر أيديولوجيا وعسكريا وسياسيا واقتصاديا‪ .‬فالنظُم القم ةعية وال ةعنفية الطاغية لم تنجح في الرسو ِ‬ ‫ض الساسّي بذلك طبقياً فحسب‪ ،‬بل هو على مستوى الحضارة‪.‬‬ ‫ببسِط نفوِذها اليديولوجي‪ ،‬فلم يَُكن التناق ُ‬ ‫خ المدّو ن‪ ،‬إنما هو َبيَن المدنيِة‬ ‫التاري‬ ‫من‬ ‫القل‬ ‫على‬ ‫م‬ ‫عا‬ ‫ف‬ ‫آل‬ ‫فالنضاُل التاريخي‪ ،‬الذي نَتَ​َ ةعقُّبه خلَل خمسِة‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫الدولتية )الم ةعتمدِة أساساً على المدينِة الطبقيِة والدولِة الطبقية( وَبيَن الحضارِة الديمقراطيِة غيِر المتدولة‪،‬‬ ‫ف هيكُلها الساسي من المجتمِع الزراعي والريفي‪ ،‬وَكّو ن كادحو المد ن مضموَنها شيئا ً فشيئا ً مع‬ ‫والتي يتأل ُ‬ ‫ت والنضالت اليديولوجيِة وال ةعسكرية والسياسية‬ ‫ت والتناقضات والصراعا ِ‬ ‫مروِر اليام‪ .‬وجميُع ال ةعلقا ِ‬ ‫والقتصاديِة في المجتمع‪ ،‬إنما َتجري في حقيقِتها في ظل هَذين النظاَمين الرئيسّيين‪.‬‬ ‫س‬ ‫سأ ُقَّدم الفصوَل اللحقَة من مراف ةعتي ضمن إطاِر تحليِل هذه الطروحِة الرئيسية بإسقاِطها على الواقِع الملمو ِ‬ ‫‪.‬ق الوسِط وكردستا ن‪.‬‬ ‫للشر ِ‬ ‫حزب الحل الديمقراطي الكوردستاني‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.