ابن خلدون مساهمة في تطوير الفكر العلمي

Page 1

‫األكادميية للدراسات‬ ‫اإلجتماعية واإلنسانية‬

‫ابن خلدون ‪ :‬مساهمة‬ ‫يف تطور الفكر العلمي يف عصره‬ ‫‪Ibn Khaldun a Contribution to the Development‬‬ ‫‪of Scientific Thought in his Period‬‬ ‫زدك حممد أمني سنة ثانية دكتوراه فلسفة‬

‫جامعة معسكر‪ -‬كلية العلوم اإلنسانية واالجتماعية ‪ -‬قسم الفلسفة‬ ‫‪aminezdake@yahoo.fr‬‬

‫ملخص‬ ‫جاء ابن خلدون في الفترة‪ ،‬التي اكتملت فيها جميع العلوم والمعارف في الحضارة اإلسالمية‪ ،‬بحيث أصبح‬ ‫من الممكن القيام بتقويم موضوعي‪ ،‬لذلك لم يكن من الصعب على عقل مثل ذلك الذي امتلكه ابن خلدون‪،‬‬ ‫معرفة أماكن الخلل والسعي لتصحيحها‪ ،‬وقد قدم لنا تعريفا جديدا للعلم مفاده أن التصورات األقرب إلى‬ ‫الواقع هي المكونة للمعرفة العلمية‪ ،‬كما انه تعامل مع األشياء المعرضة للتغيير على أنها يمكن أن تصبح‬ ‫موضوع للمعرفة العلمية‪ ،‬خالفا لما كانت تميل إليه النظرة المثالية التي كانت سائدة من قبله‪ ،‬وانتقل‬ ‫أيضا إلى المنهج االستقرائي وليس تتبع التصورات العقلية المجردة التي اعتمدها الفالسفة المسلمين أخذا‬ ‫من منطق أرسطو الصوري‪.‬‬ ‫الكلمات الدالة ‪:‬المعرفة‪ ،‬العلم‪ ،‬المنهج‪ ،‬التصورات‪.‬‬ ‫‪Abstract‬‬ ‫‪Ibn Khaldun came in a period, Was completed in which all sciences and knowledge so that it became the evaluation‬‬ ‫‪is objectively possible, So it was not difficult for the mind, such as that possessed ibn khaldoun, to see the places of‬‬ ‫‪flaw and seek to correct them, he had Introduced us a new definition of science and perceptions closer to reality, he‬‬ ‫‪was dealing with things changing apt to become the subject of scientific knowledge, Unlike tend idealism that existed‬‬ ‫‪before, he also moved to the inductive approach rather than the abstract mental the perceptions adopted by Muslim‬‬ ‫‪philosophers from Aristotle's formal logic.‬‬ ‫‪Keywords: knowledge, Science, Method, perceptions.‬‬

‫مقدمة‬ ‫بعد اإلط�لاع على ال��دراس��ات اليت متت حول فكر ابن خلدون‬ ‫اتضح لي أن هناك جانبا مازال مل ينل حقه من البحث والدراسة‬ ‫وإن كان هناك شيء متعلق به قد مت الكالم فيه فإنه مل يفه‬ ‫حقه من البحث فقد الحظت الكثري من البحوث اليت متت حول‬ ‫اجن��ازات اب��ن خلدون يف ميادين املعرفة والعلم‪ ،‬كانت فيما‬ ‫تعلق بعلم التاريخ وعلم العمران وفلسفة التاريخ‪ ،‬باإلضافة‬ ‫إىل حتليل كالم ابن خلدون ومواقفه من العلوم والفلسفة يف‬ ‫عصره‪ .‬ولكن فيما تعلق بتطوير الفكر العلمي كلية وتقديم‬ ‫إضافة ملا كان موجود سابقا مل أجد هذه النقطة قد استوفت‬

‫نصيبها من البحث لذا أردت أن تكون هذه املساهمة سدا لتلك‬ ‫الثغرة‪ ،‬كون ابن خلدون مل يطور أو يبتكر العلوم االجتماعية‬ ‫فحسب‪ ،‬بل إن عمله جتاوز ذلك إىل التطوير يف مفهوم العلم‬ ‫مبعناه الواسع‪ ،‬وإن كانت تلك املساهمة مل تكن مقصودة بشكل‬ ‫مباشر وإمنا جاءت إضافة عرضية مقارنة باهلدف الذي وضعه‬ ‫ابن خلدون لنفسه وهو ضم علم التاريخ إىل علوم احلكمة‪،‬‬ ‫واستنباط علم العمران البشري ليكون أداة منهجية حتقق‬ ‫للتاريخ مكانة احلقيقية وتبعده عن حيز الوضعية اإلشكالية؛‬ ‫وعمل كهذا ال ميكن أن يصدر إال من فيلسوف علم‪ ،‬لكن‬ ‫على الرغم من إقرار الباحثني بأن ابن خلدون كان ساعيا إىل‬

‫األكادميية للدراسات اإلجتماعية واإلنسانية ب‪ /‬قسم اآلداب والفلسفة العدد ‪- 12‬جوان ‪ . 2014‬ص‪48-45 .‬‬

‫‪45‬‬


‫زدك حممد أمني‬

‫دراسة املوضوعية للظواهر‪ ،‬وذلك غري ما هو دارج يف التصورات حضارة قد أشرفت على السقوط‪.‬‬ ‫العلمية حلقائق األشياء آن��ذاك بني املفكرين والفالسفة يف العلم يف عصر ابن خلدون‪:‬‬ ‫القرون الوسطى‪ ،‬على الرغم من ذلك كله‪ ،‬بقي احلديث عن‬ ‫إضافات خلدونية يف فلسفة العلم وتصوره وش��روط وجوده أن ابن خلدون مل يكن مهتما بصياغة وبلورة نظرية يف املعرفة‬ ‫وكيفيته نشوءه موضوع دون البحث؛ وهنا ما جعلنا نطرح أو العلم بشكل واضح ولكن ما ذكره ابن خلدون يف املقدمة‬ ‫السؤال التالي‪ :‬هل كان هناك تصور ومفهوم جديدين للعلم مما يتصل باملوضوع دفعه إىل ذلك دراس��ة للتاريخ والعمران‬ ‫يف فكر ابن خلدون سواء بوعي منه أو بدون وعي‪ ،‬أم انه أضاف البشريني‪ .‬أي أن إسهامات ابن خلدون اإلبستمولوجية كانت‬ ‫علم العمران كموضوع جديد للمعرفة فقط‪ ،‬لكن وفق مناهج يف سياق معني ومل تكن غاية يف ذاتها؛ ومع ذلك فهي على قدر‬ ‫من اإلبداع واجلدة مما تستحق الدراسة‪ .‬وميكن اعتبار‬ ‫مقررة سلفا ودون اخلروج عما هو سائد؟‬ ‫ولكن قبل الشروع يف املوضوع مباشرة علينا إلقاء نظرة على اكرب العوامل مساهمة يف صياغة نظرية خلدونية يف العلم‬ ‫حال املعرفة العلمية يف عصر ابن خلدون‪ ،‬مستعينني يف ذلك هي نقد ابن خلدون ملكانة العقل يف الفلسفة اليونانية وعند‬ ‫بنصوص من املقدمة ليتبني لنا تشخيص صاحب املقدمة‪ ،‬وعلى من تابعهم من املفكرين العرب واملسلمني‪ ،‬للمنطق والفلسفة‬ ‫أي أساس مت جتاوزه‪ ،‬فقد امتاز "بسعة اطالعه على ما كتب اإلهلية‪ ،‬بل هذا باإلضافة إىل نزوع صاحب املقدمة إىل معرفة‬ ‫األقدمون وعلى أحوال البشر‪ ،‬وكان قادرا على استعراض اآلراء الظاهرة اإلنسانية معرفة علمية‪.‬‬

‫ونقدها‪ ،‬دقيق املالحظة أثناء ذلك كله‪ ،‬مع حرية يف التفكري مكانة العقل عند ابن خلدون‪:‬‬ ‫وإنصاف ألصحاب اآلراء املخالفة لرأيه‪ ...‬ثم إن ابن خلدون‬ ‫إن العقل حسب مفكرنا " مفطور على إدراك العامل الطبيعي‪،‬‬ ‫مفكر متزن ال مييل مع اهلوى‪ ،‬بل تراه يقيد استنتاجاته كلها‬ ‫مهيأ ل�لاس��ت��دالل على م��ا فوقه ب��آث��اره‪ .‬وه��ذا العقل تتجلى‬ ‫مبا هو مشاهد يف االجتماع اإلنساني‪ ،‬أو مبا عرفه أو بلغه من‬ ‫فاعليته يف مستويات ثالثة‪ ،‬متدرجة يف كماهلا‪ ،‬هي‪ :‬العقل‬ ‫(‪)1‬‬ ‫األحوال أو مبا تضافرت عليه األدلة"‬ ‫التمييزي‪ -‬العقل التجرييب ‪ -‬العقل النظري* ‪ )5(".‬ذلك أن ابن‬ ‫املعرفة يف عصر ابن خلدون‪:‬‬ ‫خلدون يعترب أن الفالسفة من قبله كانوا خمطئني ملا أرادوا‬ ‫كانت العلوم يف احلضارة العربية اإلسالمية‪ ،‬ماعدا العلوم أن يصلوا إىل معرفة ما وراء الطبيعة بالعقل وحده خصوصا‬ ‫الشرعية هي نفسها العلوم العقلية اليت وضعها اليونان وأخذها ملا كان من املؤكد عجز احلواس عن مساندته يف ذلك‪ ،‬فعامل‬ ‫عنهم املسلمون؛ مع االعرتاف حبدوث تغيريات أملتها ظروف الغيبيات أوسع من نطاق العقل " وليس ذلك بقادح يف العقل‬ ‫تارخيية‪ ،‬ومفكرنا " اشتغل باملعرفة العربية اإلسالمية وهي ومداركه فهو ميزان صحيح‪ ،‬فأحكامه يقينية ال كذب فيها‪...‬‬ ‫يف حالة امتالء وان��س��داد واقعيني‪ ،‬وه��ذه احلالة أصبحت يف لكن للعقل حد يقف عنده وال يتعدى ط��وره‪ ،‬حتى يكون له‬ ‫عهده قابلة للمالحظة‪ ،‬ومتس امليادين املعرفية برمتها النقلية أن حييط باهلل وبصفاته‪ ،‬فإنه ذرة من ذرات الوجود احلاصل‬ ‫والعقلية‪ )2(".‬ول��ي��س أدل على ذل��ك م��ن تصرحيات صدرت منه"(‪)6‬والعقل عند ابن خلدون جزأ من النفس البشرية وهي‬ ‫عن ابن خلدون نفسه فهو القائل‪ " :‬ولقد كسدت هلذا العهد بدورها أساس اإلدراك واملعرفة؛ فهو يرى أن اإلنسان"مركب‬ ‫أسواق العلم باملغرب‪ ،‬لتناقص العمران فيه‪ ،‬وانقطاع سند العلم من جزئني أحدهما جسماني واآلخر روحاني ممتزج به ولكل‬ ‫والتعليم‪ ،‬كما قدمناه يف الفصل قبله‪ ،‬وما ادري ما فعل اهلل واحد من اجلزئني مدارك خمتصة به‪ ،‬واملٌ ْد ِر ُك فيها واحد وهو‬ ‫ـباملشرق" (‪ )3‬وهذا يعين أن العرب واملسلمني كانوا آنذاك كان اجل��زء الروحاني ي��درك ت��ارة م��دارك روحانية‪ ،‬وت��ارة مدارك‬ ‫جسمانية‪ ،‬إال أن املدارك الروحانية يدركها بذاته بغري واسطة‬ ‫قد جتاوزا فرتة استيعاب علوم السابقني وامتالكها "وعمدوا‬ ‫واملدارك اجلسمانية يدركها بواسطة آالت اجلسم من الدماغ‬ ‫يف نفس الوقت إىل(‪)4‬تصحيحها ثم إضافة معارف جديدة مل واحلواس"(‪)7‬ويقسم ابن خلدون النفوس العارفة وفق مبدئه‬ ‫يسبقهم إليها احد‪ ".‬وابن خلدون قد جاء يف فرتة متأخرة عن يف االستحالة والرتقي من أسفل إىل أعلى؛ من ع��امل احلس‬ ‫ذلك من احلضارة اإلسالمية‪ ،‬كانت قد فقدت فيها مضامني إىل ع��امل املالئكة اىل"(‪)8‬ثالث أص��ن��اف‪ :‬صنف عاجز بالطبع‬ ‫املعرفة اليونانية بريقها‪ ،‬فاستطاع إن يراها على حقيقتها دون عن الوصول إىل اإلدراك الروحاني‪ ،‬فينقطع باحلركة إىل‬ ‫أن تلقى يف قلبه تعظيما يصرفه عن مكامن اخللل‪ ،‬فأمكنه اجلهة السفلى* حنو امل��دارك احلسية واخليالية‪ ،‬وتركيب‬ ‫ذل��ك من التعرض للعلم السابق عليه بالنقد والتمحيص‪ ،‬املعاني من احلافظة والواهمة على قوانني حمصورة وترتيب‬ ‫وتقديم البديل‪ .‬أي أن اب��ن خلدون ك��ان بشكل من األشكال خ��اص يستفيدون ب��ه العلوم التصورية والتصديقية اليت‬ ‫فيلسوف علم قام بثورة أحدثت قطيعة ابستمولوجية مع ما للفكر يف البدن‪ ... ،‬وهذا هو يف األغلب نطاق اإلدراك البشري‬ ‫كان موجود‪ ،‬متثلت يف انتقال العلم من البحث عن ماهيات اجلسماني وإليه تنتهي مدارك العلماء وفيه ترسخ أقدامهم"‪.‬‬ ‫األشياء إىل البحث عن اخلصائص املوضوعية هلا‪ ،‬عن طريق (‪ )9‬وأما الصنف اآلخر فهم الذين ميكنهم التوجه حبركاتهم‬ ‫االستقراء‪ ،‬والتحرر من النزعة املثالية يف املعرفة اليت ترى أن الفكرية دون االفتقار لآلالت البدنية (احل��واس)‪ ،‬حنو العامل‬ ‫احلقيقة تكمن فقط يف الثابت‪ ،‬وأن املتغري يستحيل أن تقوم الروحاني وهم األولياء أهل العلوم الدينية وهم ال يدخلون‬ ‫حوله معرفة علمية؛ لكن مل يكتب هلا االستمرار لظهورها يف ضمن نطاق حبثنا‪ ،‬هم وصنف آخ��ر يستطيع االن��س�لاخ من‬ ‫‪46‬‬

‫األكادميية للدراسات اإلجتماعية واإلنسانية ب‪ /‬قسم اآلداب والفلسفة العدد ‪- 12‬جوان ‪ . 2014‬ص‪48-45 .‬‬


‫ابن خلدون مساهمة يف تطور الفكر العلمي يف عصره‬

‫بشريته يف فرتات معينة‪ ،‬ليصبح يف طور املالئكة وهم األنبياء‪.‬‬ ‫وهم غري معنيني بالعلوم العقلية أو الفلسفية‪ .‬وإىل هذا احلد‬ ‫يتبني لنا أن املعرفة العلمية يقوم بها العقل واحلواس وحتديد‬ ‫العقل النظري هو املنوطة به حتصيل العلوم إذ يقول عنه ابن‬ ‫خلدون أنه "يحُ ّ َص ُل به يف تصور املوجودات غائبا وشاهدا على ما‬ ‫هي عليه"(‪ )10‬أي معرفة الوجود مبا هو موجود وتصوره كما هو‬ ‫ال كما ينبغي أن يكون أو من خالل أقييسة وجتريدات ذهنية‬ ‫قد ال يكون هناك ما يربط واقعها بتصورها‪.‬‬ ‫موضوع العلم عند ابن خلدون‪:‬‬ ‫صحيح أن ع��امل احل��س هو ما ميكن اإلن��س��ان معرفته حبكم‬ ‫مالئمة م��ا ميتلكه اإلن��س��ان م��ن وس��ائ��ل لطبيعة ه��ذا العامل‬ ‫وخصائصه‪ ،‬اب��ن خ��ل��دون ينطلق م��ن م��ب��دأ عقلي م��ف��اده أن‬ ‫الطبيعة متسقة مطردة القوانني وحتت طبيعة ظاهرة‪ ،‬فـ"‬ ‫كل حادث من احلوادث ذات كان أم فعال البد له من طبيعة‬ ‫ختصه يف ذاته وفيما يعرض له من أحواله"(‪ )11‬وتقع يف مدارك‬ ‫النفس "على نظام وترتيب‪ ،‬ألن الطبيعة حمصورة للنفس‬ ‫وحت��ت طورها"(‪ )12‬وه��و قسمني ذوات وأف��ع��ال‪ :‬وه��و يقبل الن‬ ‫حتيط به العلوم معرفة‪ .‬ووظيفة البحث العلمي حسب مفكرنا‬ ‫هي تتبع األعراض الذاتية وهو هذه االخرية عبارة عن مفهوم‬ ‫اقتبسه ابن خلدون من عند اإلمام الغزالي الذي فصل فيه يف‬ ‫كتابه مقاصد الفالسفة‪ ،‬حيث يقول عن األع��راض الذاتية‬ ‫" ونعين بها‪ :‬اخلــواص ال�تي تقـــع يف موضــوع ذل��ك الــعلم‪،‬‬ ‫وال تقـــع خارجــة عــنه‪ ،‬كاملـــــثلث واملـــربع لبعض املقادير‪،‬‬ ‫واالحن��ن��اء واالستقامة لبعضها‪ ،‬وه��ي أع��راض ذاتية ملوضوع‬ ‫اهلندسة‪ ،‬وكالزوجية والفردية للعدد‪ ،‬وكاالتفاق واالختالف‬ ‫للنغمات‪ ،‬أعين التناسب‪ ،‬وكاملرض والصحة للحيوان‪ ،‬والبد‬ ‫يف أول كل علم من فهم األعراض الذاتية حبدودها على سبيل‬ ‫التصور‪ .‬أما وجودها يف املوضوعات فإمنا يستفاد من متام ذلك‬ ‫العلم‪ ،‬إن مراد العلم أن يربهن عليه فيه"(‪)13‬و"العلم بهذا املعنى‬ ‫يبحث يف خواص األشياء اليت تشكل موضوعه"(‪)14‬وهي تصورات‬ ‫نامجة عن املالحظة املباشرة أي قريبة من الواقع غري مبالغة يف‬ ‫التجريد كما هو احلال يف النهج الذي اتبعه السابقون عليه‪.‬‬ ‫ابن خلدون واملنهج القديم‪:‬‬ ‫وبعد أن ضبط ابن خلدون حدود اجملال الذي ميكن للعقل أن‬ ‫يبحث فيه عن معرفة علمية‪ ،‬جنده يشري إىل الطريقة اليت‬ ‫على العقل أن يتبعها يف سبيل امتالك معرفة صحيحة منطقيا‬ ‫وواقعيا‪ ،‬أي أنه تكلم يف منهج معني عربه فقط يستطيع اإلنسان‬ ‫أن يتكشف العلوم باحلقائق‪ .‬يصرح اب��ن خ��ل��دون أن املنهج‬ ‫العلمي هو استقرائي يتتبع خصائص املوضوع الذاتية من خالل‬ ‫املالحضة املباشرة‪ ،‬واخلطاب العلمي عنده يكتفي بالتعبري عن‬ ‫(‪)15‬‬ ‫" املعاني العينية اليت ما تزال الصـورة احلسيــة عالــــقة بــها"‬ ‫من خــالل نقده للمنــطق ومن خــالل عبـــارات جندهـــا متفرقة‬ ‫يف أحناء شتى من املقدمة تشري بشكل واضح إىل أهم مالمح‬ ‫منهجه اجلديد‪.‬‬ ‫وعلينا التذكري أن املنهج ال��ذي كان سائدا قبله هو املنطق‬

‫األرسطي الساعي إىل الوصول إىل ماهيات األشياء‪ ،‬باعتبار‬ ‫هذه األخرية متثل " مجلة اخلصائص الثابتة يف الشيء واليت‬ ‫بها يتم تصوره"(‪)16‬لكن ابن خلدون كان له موقفه اخلاص‬ ‫والذي نلمسه يف حديثه عن إبطال الفلسفة اإلهلية‪ ،‬اليت جعلت‬ ‫مسارها ونهجها يف أن ينظر الذهن يف "املوجودات الشخصية‬ ‫فيجرد منها أوال صورا‪ ...‬وهذه اجملردة من احملسوسات تسمى‬ ‫املعقوالت األوائ���ل‪ ...‬ثم جترد ثانيا إن شاركها غريها وثالثا‬ ‫إىل أن ينتهي التجريد إىل املعاني البسيطة الكلية املنطبقة‬ ‫على مجيع املعاني واألشخاص وال يكون منها جتريد بعد هذا‪،‬‬ ‫وهي األجناس العالية‪ ،‬فإذا نظر الفكر يف هذه املعقوالت اجملردة‬ ‫وطلب تصور الوجود كما هو فالبد للذهن من إضافة بعضها‬ ‫إىل بعض ونفي بعضها عن بعض"(‪)17‬وهذا هو املنطق‪ .‬ولقد‬ ‫انتهى ابن خلدون بعد الفحص املعمق إىل رفض هذا النوع من‬ ‫املعرفة على أساس أنها معرفة علمية‪ ،‬وكان سبب اعرتاض‬ ‫ابن خلدون هو" أن املطابقة بني النتائج الذهنية اليت تستخرج‬ ‫باحلدود واألقييسة‪ ...‬وبني ما يف اخلارج غري يقيين‪ ،‬ألن تلك‬ ‫أحكام ذهنية كلية عامة وامل��وج��ودات اخلارجية مشخصة‬ ‫مبوادها"(‪ )18‬وهذا اعرتاض وجيه نابع من نزعة واقعية صارمة‪،‬‬ ‫اجنر عنها رفض للمنهج السابق متمثال يف املنطق األرسطي؛‬ ‫على الرغم من املكانة املرموقة اليت كان حيظى بها يف األوساط‬ ‫املعرفية اإلسالمية آنذاك‪ .‬لكن دون أن ننسى أن املعنيني بنقده‬ ‫هم املتأخرون من فالسفة اإلسالم‪ ،‬وقد اخذ ابن خلدون على‬ ‫هؤالء أنهم يوجهون كل عنايتهم إىل (( منطق الصورة )) أو‬ ‫(( الشكل )) وهو الذي يدرس القضية من حيث شكلها وصورتها‬ ‫فقط‪ ،‬ويغفلون منطق املادة‪ ،‬وهو الذي يدرس القضية من حيث‬ ‫مادتها‪ ،‬أي من حيث صدق عناصرها وانطباقها على الواقع‪،‬‬ ‫أو ال يوجهون إليه إال يسريا من عنايتهم‪ ،‬مع انه أهم كثريا‬ ‫من منطق الصورة‪ .،‬ومن ثم أغفلوا النظر يف الكتب اخلمسة‬ ‫املتعلقة مبنطق املادة من كتاب أرسطو‪ ،‬وهي"(‪ (( )19‬الربهان‬ ‫واجل��دل واخلطابة‪ ،‬والشعر والسفسطة‪ ،‬ورمب��ا يلم بعضهم‬ ‫باليسري منها إملاما‪ ،‬وأهملوها كأن مل تكن‪ ،‬وهي املهم املعتمد‬ ‫يف هذا الفن ))‪ )20(".‬وهذا دليل واضح من ابن خلدون على نزوعه‬ ‫حنو التفكر املرتبط بالواقع والتلبس بصوره وخصائصه وعلى‬ ‫انه استشعر جانب النقص الذي كان يشوب املعرفة العلمية‪،‬‬ ‫وال��ذي تسببت فيه نزعة مثالية متعلقة بفلسفة القيم لدى‬ ‫اليونان‪ ،‬كما يعتب على املتأخرين من املسلمني اقتصارهم‬ ‫على املنطق الصوري الذي أدى إىل استمرار تلك النزعة املثالية‬ ‫يف الفكر اإلسالمي‪.‬‬ ‫املنهج العلمي عند ابن خلدون‪:‬‬ ‫يبقى اىل حد اآلن س��ؤال املنهج مطروحا يف فكر ابن خلدون‬ ‫العلمي‪ .‬ولكي يتجلى بشكل اوض��ح نذكر بأنه على الرغم‬ ‫من االنتقادات اليت وجهها ابن خلدون ملنهج املناطقة إىل انه‬ ‫مل يرتكه بالكلية ففي استخدامه ملنهجه اجلديد مل يلغي‬ ‫اخلطوات أربعة تعارف عليها املناطقة واشرتطوها لكل علم‪،‬‬ ‫وه��ي‪ :‬املوضوع واألع��راض الذاتية واملسائل واملقدمات‪ ،‬وإمنا‬ ‫ترك اخلطوة األخرية واملتعلقة بالربهان ألن ذلك ليس من نوع‬

‫األكادميية للدراسات اإلجتماعية واإلنسانية ب‪ /‬قسم اآلداب والفلسفة العدد ‪- 12‬جوان ‪ . 2014‬ص‪48-45 .‬‬

‫‪47‬‬


‫زدك حممد أمني‬

‫العلوم اليت يريد ابن خلدون اخلوض فيها فهو عندما يتحدث‬ ‫عن علم العمران يقول‪ ":‬وكأن هذا علم مستقل بنفسه‪ .‬فهو‬ ‫ذو موضوع‪ ،‬وهو العمران البشري واالجتماع اإلنساني‪ ،‬وهو‬ ‫ذو مسائل وهي بيان ما يلحقه من العوارض لذاته واحدة بعد‬ ‫أخ��رى‪ ،‬وه��ذا شأن كل علم وضعيا كان آو عقليا‪ )21(".‬وابن‬ ‫خلدون يذهب بدل اعتماد اخلطوة الرابعة من خطوات املناطقة‬ ‫اليت هي الربهان يذهب إىل اعتبار االستقراء كمنهج وظيفة‬ ‫الفكر فيه أن "يتوجه إىل واحد واحد من احلقائق وينظر ما‬ ‫يعرض له لذاته واحد بعد آخر ويتمرن على ذلك حتى يصري‬ ‫إحلاق العوارض بتلك احلقائق ملكة له‪ ،‬فيكون حينئذ علمه‬ ‫مبا يعرض لتلك احلقيقة علما خمصوصا"(‪ )22‬وبيان العوارض‬ ‫ال ميكن ان يكون إال بتتبعها كما قال هو واحدا واحدا‪ ،‬وهذا هو‬ ‫شأن االستقراء ألن العلم حسب فيلسوفنا يرتكز على تصورات‬ ‫" ال تبعد عن احل��س كل البعد وال يتعمق فيها الناظر؛ بل‬ ‫كلها تدرك بالتجربة وبها يستفاد‪ ،‬ألنها معاني جزئية تتعلق‬ ‫باحملسوسات وصدقها وكذبها‪ ،‬يظهر قريبا يف الواقع‪ ،‬فيستفيد‬ ‫(‪)23‬‬ ‫طالبها حصول العلم بها من ذلك‪".‬‬ ‫اخلامتة‬

‫‪ -4‬ج�لال مظهر‪ :‬احلضارة اإلسالمية أس��اس التطور العلمي احلديث‪،‬‬ ‫مركز كتب الشرق األوسط‪ ،‬مصر‪1969 ،‬م‪ ،‬ص‪.68‬‬ ‫‪ -5‬فائز الربازي‪ ،‬ابن خلدون واالجتماع العربي‪ ،‬مركز دمشق للدراسات‬ ‫النظرية واحلقوق املدنية‪ ،‬سوريا‪08-07-2007 ،‬م‪http://www.mokarabat. ،‬‬ ‫‪com/s2511.htm‬‬

‫‪ -6‬املقدمة‪ ،‬ص‪.468-469‬‬ ‫‪ -7‬املقدمة‪ ،‬ص ‪.566‬‬ ‫‪ -8‬اجلياللي ابن التهامي مفتاح‪ ،‬فلسفة اإلنسان عند ابن خلدون‪ ،‬دار الكتب‬ ‫العلمية‪ ،‬لبنان‪2011 ،‬م‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬ص ‪.135‬‬ ‫‪ -9‬املقدمة‪ ،‬ص ‪ .112‬بتصرف‪.‬‬ ‫‪ -10‬املقدمة‪ ،‬ص ‪.481‬‬ ‫‪ -11‬املقدمة‪ ،‬ص‪.50‬‬ ‫‪ -12‬املقدمة‪ ،‬ص ‪.467‬‬ ‫‪ -13‬الغزالي أبو حامد‪ ،‬مقاصد الفالسفة‪ ،‬حتقيق وتقديم‪ :‬حممود بيجو‪،‬‬ ‫مطبعة الصباح‪ ،‬سوريا‪1420 ،‬هـ ‪2000 -‬م الطبعة األوىل‪ ،‬ص ‪.57‬‬ ‫‪ -14‬حممد عابد اجلابري‪ ،‬فكر ابن خلدون العصبية والدولة‪ :‬معامل نظرية‬ ‫خلدونية يف التاريخ‪ ،‬مركز دراس��ات الوحدة العربية‪ ،‬لبنان‪1994،‬م‪،‬‬ ‫الطبعة السادسة‪ ،‬ص ‪.104‬‬

‫يف األخري نستنتج أن احلس النقدي اخللدوني قد امتد ليشمل‬ ‫حتى املستوى االبستمولوجي من املعرفة يف احلضارة العربية‬ ‫اإلسالمية وق��د ع��دل م��ا ارت���آه احن���راف ع��ن مقاصد املعرفة ‪ -16‬حممود يعقوبي‪ ،‬معجم الفلسفة‪ ،‬مكتبة الشركة اجلزائرية‪،‬‬ ‫العلمية اليت جتعل من احلقيقة هدفا هلا خاصة وأن��ه كان اجلزائر‪1399 ،‬هـ ‪1979 -‬م ‪ ،‬ص ‪.213‬‬ ‫ميتلك فكرا منفتح وم��ب��دع مس��ح ل��ه ب��ان يفكر خ��ارج األطر‬ ‫‪ -17‬املقدمة‪ ،‬ص ‪ 563‬بتصرف‪.‬‬ ‫اليت وضعها اآلخ��رون‪ ،‬فوضع لنا تصور للعلم أكثر واقعية‬ ‫‪ -18‬املقدمة‪ ،‬ص ‪.565‬‬ ‫وموضوعية وطور يف مبادئ ومنطلقات العلم‪ ،‬حبيث تتالئم‬ ‫‪ -19‬علي عبد الواحد وايف‪ ،‬عبقريات ابن خلدون‪ ،‬عكاظ‪ ،‬اململكة العربية‬ ‫مع ما كان يصبو اليه من إضافة املعرفة باإلنسان إىل حقل‬ ‫السعودية‪1404 ،‬هـ ‪1984 -‬م‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬ص ‪.181‬‬ ‫العلوم احلكمية والفلسفية اليت تعترب إنسانية ال ختتص بأمة‬ ‫أو ملة معينة‪ ،‬ومن هنا تفجرت إبداعاته يف جماالت معرفية ‪ -20‬املقدمة‪ ،‬ص ‪.518‬‬ ‫وعلمية شتى وجعلته من أرائه تعرف أطول فرتة من الراهنية ‪ -21‬املقدمة‪ ،‬ص ‪.53‬‬ ‫‪ -22‬املقدمة‪ ،‬ص ‪.437‬‬ ‫واالستمرار عرب التاريخ‪.‬‬ ‫‪ -15‬حممود اليعقوبي‪ ،‬أص��ول اخلطاب الفلسفي‪ (،‬ط‪2‬؛ اجلزائر‪ :‬ديوان‬ ‫املطبوعات اجلامعية‪2009 ،‬م )‪ ،‬ص ‪.75‬‬

‫‪ -23‬املقدمة‪ ،‬ص ‪.478‬‬

‫اهلوامش‬ ‫‪ -1‬عمر فروخ‪ ،‬تاريخ الفكر العربي إىل أيام ابن خلدون‪ ،‬دار العلم للماليني‪،‬‬ ‫لبنان‪1983 ،‬م‪ ،‬الطبعة الرابعة‪ ،‬ص ‪.694‬‬ ‫‪ -2‬س��امل مح��ي��ش‪ ،‬اخللدونية يف ض��وء فلسفة ال��ت��اري��خ‪ ،‬دار الطليعة‪،‬‬ ‫لبنان‪1998،‬م‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬ص‪.17‬‬ ‫‪ -3‬عبد الرمحن اب��ن خلدون‪ ،‬املقدمة‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬لبنان‪2007 ،‬م‪ ،‬طبعة‬ ‫جديدة ومنقحة ومصححة‪ ،‬ص ‪.444‬‬

‫‪48‬‬

‫األكادميية للدراسات اإلجتماعية واإلنسانية ب‪ /‬قسم اآلداب والفلسفة العدد ‪- 12‬جوان ‪ . 2014‬ص‪48-45 .‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.