نص قصير في الحب والحرب.. محمد عمر ما زالت صوت القنابل تتوالى ،وقد دخلت ساعات الفجر األولى ،الجبهة هنا ما زالت مشتعلة، القتال لم يتوقف منذ أيام ،أصوات الرصاص أشبه ما يكون بعزف أوركست ار كاملة هذا المساء ،ما تزال جثث أصدقاءنا الذين استشهدوا تقبع معنا في الخندق ،ال نستطيع التواصل مع أي من عائالتنا ،حتى أن بعضنا ال يعرف مصير عائلته ،هل ما تزال على قيد الحياة أو استشهدت بالكامل ،أما بالنسبة لي فأنا لست قلقا على أحد ،عائلتي ال تتكون أال من السالح الذي يعيش بين يدي ،وحبات الرصاص األخيرة التي بقيت في خزنته والصور التذكارية التي احملها في جيب سترتي العسكرية ،كل عائلتي قد استشهدت في السابق ،لم أعد أذكر أين هي قبورهم أو أين دفنوا أو تاريخ استشهادهم ،لعل هذا هو السبب الذي جعلني أنظم إلي الثوار ،لربما أجد في المقاومة ما فقدته منذ زمن بعيد. كتاب البرتقال األحمر ،هو الكتاب الوحيد الذي يؤنس وحشتي في الخندق بعدما استشهدوا جميع رفاقي ،أنت تعلمين أن بالدنا تشتهر كثي ار بالبرتقال ،أو هكذا كانت قبل أن يقوم ذاك المغتصب الصهيوني بسرقتها منا ،برتقالنا هذه األيام أصبح أحمر ،لو أنك تذوقين طعمه ،أنه ال يشابه أي طعم أخر في هذا الكون ،يقول البعض أن شجرته هي فرع من أشجار الجنة التي ال يمكن ألحد تخليها. وددت أن أبعت لك الفقرة التي كنت أقرأها قبل قليل ،لقد بدأ صوت أذان الفجر بالعلو ،سأحاول أن أستعجل فقد يشتد القصف علينا اآلن. " برتقال أحمر ،وسماء وبيتنا األول ،صوت خرير المياه ،والشالل القريب من حاكورتنا ،وأشجار الزيتون والعنب والتين ،لقد كان في السابق برتقالنا لونه طبيعي ،لكنه فجأة أصبحت شجرته تروى من الدماء ،دماء أبناءنا في يافا وحيفا وعكا والرملة والناصرة وبيت لحم والقدس ،لم تعد المياه تكفيه حتى ينضج ،لقد أصبح ال يرتوي إال بالدماء ،ليطرح بعد ذلك حباته باللون األحمر ،الشجرة األولى التي خلقت على األرض هي في بالدنا ،هذا ما أنا متأكد منه ،كيف ال ونحن بالد اهلل،
بالد إبراهيم ويعقوب ومحمد وكل األنبياء ،يسقط شهاب السماء األبيض على األرض التي لم تعرف يوما إال الحب والك ارمة ورسائل األنبياء وبيوت األولياء وقبور الصالحين". هذا الجزء دائما ما يذكرني بجدتي تلك المرأة التي فقدت جدي في حرب ،84لقد قالوا لها أنه كان سيد المعارك في حيفا ،وهي البلدة التي ولد وعاش فيها ،حتى أتوا من بعيد ،أناس ليطردوه هو وأهله وأقاربه وأصدقائه من بيوتهم ومزارعهم ،جدي الذي عاش أرستقراطيا طوال حياته، عائلته التي كانت من أغنى عائالت –البالد -كما كانت تقول لنا جدتي على لسانه ،لكن أرستقراطيته لم تمنعه من حمل السالح وقيادة مجموعة من أصدقائه ضد عصابات الصهاينة الذين سرقوا منا األرض والحلم. أبي الذي ال أتذكر من هيأته سوى طربوشه األحمر ،وعكازه وبدلته السوداء المقلمة ،لقد كان أحد رجال الثورة السياسيين ،لم يكن يحمل السالح ،كان سالحه هو قلمه وكلمته وصوته ،هو وجماعة الطرابيش كما كانت تقول عنهم جدتي - ،يا بني البالد ما بترجع غير بالسالح ،أفهم هالشيء أنتا والناس تعون الطرابيش إلي معك.- مات والدي غد ار وما زالت كلماته تأن في داخلي وفي داخل كل فلسطيني كريم كان يحاول تقريب اآلراء بين الساسة المتخاصمين من أبناء البلد الواحد ،حتى اآلن لم يعرفوا أن كان من قتله هو العدو أو أبناء البلد ،ولم تقضي شهور حتى لحقت به والدتي حزنا عليه. الكل كان يخبرني أنني أنتمي لعائلة كلها شهداء ،أشخاص ضحوا بحياتهم من أجل الوطن، جدي وأبي أعمامي وأبناء عمومتي في الخارج ،حتى أخي األكبر ،والذي كان سندي الوحيد بعد وفاة أبي وأمي ،ذهب إلي الجبهة اللبنانية أبان اجتياح لبنان ليستشهد هناك ،ويتركني في فاجعة كبيرة تدعى الدنيا ليس لي فيها سوى أنتي البعيدة القريبة والتي تسكن في رسائلي التي لن تصلك أبدا. نسيت أن أخبرك أصدقائنا القدامى أحمد والياس وعماد ومريم أوصوني أن أبعت لك سالمهم. لقد استشهدوا باألمس...