القاص والشاعر سعيد منتسب يكتب عن كتاب "العين والنسيان" لبوجمعة أشفري

Page 1


‫املكتبة الفنية‬

‫ن‬ ‫«الع� والنسيان»‬ ‫ي‬ ‫لبوجمعة أشفري‬ ‫ن‬ ‫المع�‬ ‫مطاردة‬ ‫السائل للجسد‬ ‫سعيد منتسب‬

‫يقع كتاب «العني والنسيان» يف مفرتق‬ ‫طرق ذلك االنشغال الدائم بقراءة «جسد‬ ‫ما»‪ ،‬بالجسد الذي يعرب رشطه الفيزيايئ‪،‬‬ ‫ليفصح عن تاريخه الشاسع والواسع‪.‬‬ ‫إنها قراءة اقتفائية تعمل عىل كشف ما‬ ‫يسميه مارك برييلامن «الالمريئ يف املريئ‪،‬‬ ‫أو «حكم الشاهد عىل الغائب»‪ ،‬كام يقول‬ ‫املناطقة‪.‬‬ ‫فالشاعر والباحث يف الجامليات‬ ‫بوجمعة أشفري دأب‪ ،‬يف قصائده الشعرية‬ ‫كام يف أبحاثه النقدية‪ ،‬عىل الدخول يف‬ ‫حوار توددي متعدد النظر مع الجسد‪،‬‬ ‫تبعاً ملكوناته وعنارص تكوينه‪ .‬ومن هنا‬ ‫تحرض العني‪ ،‬باعتبارها إظهارا له‪ ،‬بينام‬ ‫يحرض النسيان الذي مينح لهذا اإلظهار‬ ‫قيمة جاملية‪ .‬إن النسيان هنا هو ما يعزز‬ ‫النظام ويشبعه‪ ،‬ليس ألنه تجربة منفصلة‬ ‫عن إخضاع املوضوع الفني (الجسد)‬ ‫للمعنى‪ ،‬بل ألنه يتضمن «حيوية املحو»‪،‬‬ ‫أي ما ميكن أن نسميه «االنفتاح الواثق‬ ‫عىل املجهول»‪ .‬وحني يجمع أشفري‪ ،‬يف‬ ‫هذا العمل‪ ،‬بني شيئني يختلفان يف الحكم‬ ‫والقيمة‪ ،‬أي بني العني والنسيان‪ ،‬عىل هذا‬

‫النحو الجذري‪ ،‬فهو يضعنا أمام ما ينتسب‬ ‫إليه‪ :‬عني (ال) ترى (ص‪ .)9 :‬أليس النسيان‬ ‫تعبريا عن قوة الوجود؟ أال مير الوجود من‬ ‫خالل النسيان (نيتشه)‪.‬‬ ‫يقول بوجمعة أشفري‪:‬‬ ‫«مثة جسد يسري يف اتجاه ما يبدو أنه‬ ‫ملع نور ينبعث من شق يف العتمة‪ ..‬مثة‬ ‫يد متسح سطح العتمة لينترش اللمع‪ ..‬مثة‬ ‫سؤال يتثاءب‪ :‬هل السري يف اتجاه يشء‬ ‫ما ولوج إىل العامل‪ ،‬أم انسحاب منه؟ مثة‬ ‫تواطؤ بني العني واليد‪ ،‬تواطؤ سيكون مآله‬ ‫العمى واملحو‪ .‬نسيان ما مل يحدث بعد»‬ ‫(ص‪.)9 :‬‬ ‫هناك دامئا إنزال لجسد ما‪ :‬إنزال‬ ‫عىل القامش‪ ،‬أو عىل سند أريض (نحت‪/‬‬ ‫تنصيبات)‪ ،‬إنزال لـ «يشء كان هنا‬ ‫وامنحى» (ص‪ .)01 :‬وال ميكن إنزال هذا‬ ‫اليشء إال باستعادته من النسيان عرب‬ ‫إطالق النظر‪ ،‬وتوسيعه‪.‬‬ ‫هل باإلمكان الحديث عن غيبوبة‬ ‫الزمان واملكان دون «شعرنة» اإلحساس‬ ‫بهام؟ أمل يقل ابن عريب‪« :‬الزمان مكان‬

‫سائل‪ ،‬واملكان زمان متجمد»؟ أال‬ ‫«يتجسد» الوجود‪ ،‬يف العمق‪ ،‬إال بإبحار‬ ‫ريحها منها»؟‬ ‫تلك «السفينة التي تجيئها ُ‬ ‫إن أي يشء خارج الجسد يف حكم‬ ‫امللغى‪ .‬كل يشء يوجد داخله‪ ،‬مبا يف ذلك‬ ‫املوت‪ .‬بل إن مارينا أبراموفيتش (وجها‬ ‫لوجه مع اللحم) «تأخذ جسدها أبعد‬ ‫من املوت‪ ،‬إىل بداية الحياة‪ ،‬إىل ما قبل‬ ‫الحياة حني كانت هي واملوت سيان‪،‬‬ ‫جسدا واحدا يعيش تعدده دون مفارقة‬ ‫أو غياب» (ص‪ .)51 :‬إن الجسد يصبح هو‬ ‫السالك الذي تتعدد مسالكه إىل الحقيقة‪،‬‬ ‫أي إىل الغياب الذي يجعله أكرث انفتاحا‬ ‫عىل حقيقته‪ .‬فالغياب هو الذي يضع‬ ‫العني أمام «الوجود األقىص للجسد»‪.‬‬ ‫يعلمنا فيتجنشتاين أنه ال ميكن إقامة‬ ‫أي عالقة خارجية بني النظام (الجسد‬ ‫املقيد بالوجود والعدم) وتنفيذه فنيا‪ ،‬أي‬ ‫إشباعه‪ .‬فـ «االحساس بأن لديك جسدا‪،‬‬ ‫وال يشء غري الجسد» (ص‪ )51 :‬يستبعد‬ ‫أي تفسري‪ .‬ذلك أننا ال نتعامل مع قواعد‬ ‫بإمكانها حرص املعنى خارج التأويل‪،‬‬ ‫أي خارج تلك القدرة الخارقة والحيوية‬ ‫العدد الخامس ‪ -‬أبريل ‪129 2022‬‬


‫واملتعددة التي يجب عىل الفن إظهارها‬ ‫عرب التأويل لتحقيق إشباع الجسد‪ .‬بيد‬ ‫أن الفنانة اللبنانية نينار إسرب تنقل الجسد‬ ‫إىل الفضاء العمومي‪ .‬إنها متنحه وظيفة‬ ‫جديدة‪ ،‬انطالقا من هوية جنسية متمردة‬ ‫وناقدة للتمرتس خلف إيديولوجيات‬ ‫الحجب واإلبعاد (الدين والسلطة)‪ .‬كام‬ ‫تضعه فوق «اإلغواء والتحريم»‪ .‬لكن‬ ‫أليس هذا التفريغ للجسد من «النظرة‬ ‫ا ُمل َقولبة» انتصارا لرؤية أخرى تقف عند‬ ‫الحد الفاصل بني التفكري يف الجسد‪،‬‬ ‫وبني تحييده وتنظيفه من األثاث الثقايف‬ ‫واالجتامعي؟‬ ‫أما الفنانة الفرنسية كوليت دوبيل‪،‬‬ ‫فهي متنح للجسد الطايف إطارا آخر خارج‬ ‫الزمان واملكان‪« .‬هذا اإلحساس بالطفو‬ ‫مدعم باملادة املستعملة داخل ما ليس‬ ‫سندا وال قامشا‪ ،‬حيث تصري الهيئات‬ ‫املرسومة مختلسة‪ ،‬منفلتة من الهيكل أو‬ ‫اإلطار‪ ،‬يتم التحايل عليها مبقص يعبث‬ ‫يف ثناياها‪ ،‬فتصري جسدا من نسيج قابل‬ ‫للسحب واللمس‪ :‬تأخذ كوليت دوبيل‬ ‫أشكاال وتنرثها يف الفضاء» (ص‪.)16 :‬‬ ‫واملؤكد أن أعامل كوليت دوبيل‪،‬‬ ‫وهذا ما يعيه بوجمعة أشفري جيدا‪،‬‬ ‫تعيد الجسد إىل نفسه‪ ،‬إىل ذلك الفضاء‬ ‫املعجز والرحمي للحياة‪ ،‬إىل ما وراء العني‬ ‫التي بالنسيان وحده تجعلنا نؤمن بأننا‬ ‫خالدون‪ ،‬عرب االختالس والقص واالنفالت‬ ‫من الهياكل واإلطارات‪ .‬إنها تجعلنا‬ ‫نقف أمام أجساد عابثة ومتهاوية‪ ،‬وغري‬ ‫مكتملة‪ ،‬وال ميكن إصالحها‪ ،‬كام أنها غري‬ ‫معنية بالرتميم‪.‬‬ ‫هذا هو طموح هذا الكتاب (العني‬ ‫‪ 130‬العدد الخامس ‪ -‬أبريل ‪2022‬‬

‫والنسان)‪ ،‬التأمل الجاميل يف صيغ‬ ‫اإلشباع عرب أجساد غري منفصلة عن‬ ‫«التجربة»‪ .‬وهذا ما يوضحه‪ ،‬عىل نحو‬ ‫جيل‪ ،‬بريفورمانس الفنانة الرصبية مارينا‬ ‫أبراموفيتش (إيقاع ‪ .)0‬فالجسد يتحول‬ ‫إىل موضوع للنظر‪ ،‬لكن هل نكتفي بالنظر‬ ‫أمام «جسد مستباح» ومحرض وغاو؟ هل‬ ‫نحن حياديون متاما أمام «موضوع» أعزل‬ ‫يضع نفسه خارج النسق العام؟‬ ‫تتحدث أبراموفيتش عن هذه التجربة‬ ‫قائلة‪« :‬هذا العمل يكشف عام يكمن من‬ ‫بشاعة يف الناس‪ .‬هذا يظهر مدى الرسعة‬ ‫التي يقرر فيها أحد ما إيالمك عندما يسمح‬ ‫له بذلك‪ .‬هذا يظهر كم هو سهل إذالل‬ ‫شخص ال يدافع عن نفسه‪ .‬هذا يظهر‬ ‫أن أغلبية الناس «الطبيعيني» ميكنهم أن‬ ‫يصريوا أكرث عدوانية وسط الحضور عندما‬ ‫متنح لهم الفرصة واإلمكانية» (ص‪.)24 :‬‬ ‫إن تبئري وضعية «وجها لوجه» مع‬ ‫«اليشء»‪ ،‬مع التحريض عليه بأدوات‬ ‫تدمري حادة أو قاتلة (سكاكني‪ ،‬شفرات‬ ‫حالقة‪ ،‬مقص‪ ،‬قضيب من حديد‪ ،‬مسدس)‪،‬‬ ‫يظهر أهمية األثر االجتامعي والثقايف‬ ‫والسيايس للنظرة (العني)‪ ،‬وكيف يتفاعل‬ ‫هذا األثر إلنتاج «نظرة وحشية مشرتكة»‪.‬‬ ‫بيد أنه ينبغي‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬تحديد ماهية‬ ‫«املتفرج» (ملاذا مل يقم كل املتفرجني‬ ‫باالعتداء عىل جسد أعزل مستباح؟)‪،‬‬ ‫ودراسة شكل الرؤية إىل الجسد وطبيعتها‬ ‫عىل املستوى الثقايف (هل هو مجرد يشء‬ ‫شخيص؟ هل هو التقاء بليد ملجموعة‬ ‫أشياء عضوية؟ هل يشعر ويتأمل ويتعرض‬ ‫للتلف؟ هل ندرك أننا أيضا أجساد؟)‪ .‬كام‬ ‫ينبغي تحليل كيفية تنصيب املساحات‬ ‫الطقسية بواسطة النظرة (هل ميكن‬

‫تغييب وثنية العني يف هذا البريفورمانس؟‬ ‫هل ميكن أن تقفز عىل فكرة القربان حني‬ ‫تضطجع أبراموفيتش فوق الطاولة دون‬ ‫حراك‪ ،‬ليفعل بها الزوار‪ /‬الكهنة الجدد ما‬ ‫يشاؤون؟)‪.‬‬ ‫ليس من شك أن أبراموفيتش‪ ،‬تضعنا‪،‬‬ ‫أمام البعد املذهل والقديم لـ «اللحم»‪،‬‬ ‫من خالل إظهار تأثرياته القوية عىل انتباه‬ ‫الزوار‪ ،‬ومن خالل تحويل فضاء العرض إىل‬ ‫مساحة طقسية وأداء مرسحي‪ .‬وهذا هو‬ ‫الذي دفع بوجمعة أشفري إىل التساؤل‪:‬‬ ‫«هل بريفورمانس مارينا أبراموفيتش‬ ‫يجسد الحد الفاصل بني «موت اإلله»‬ ‫و»يقظة الجسد‪ /‬الكائن»؟ هل هي‬ ‫بالفعل والقوة تقف عىل عتبة ما قبل‬ ‫الكالم (عتبة اللحم) حني كانت حركة‬ ‫الجسد خالية من الرمزية التي ستغلف‬ ‫الكائن اآلدمي بعد االنتقال من الطبيعة‬ ‫إىل الثقافة؟»‪.‬‬ ‫إن الحديث عن الحد الفاصل بني‬ ‫اإللهي والجسدي يجرنا إىل تثغري املساحة‬ ‫التي ميكن أن تنشأ بني النظرة والفجوة‪،‬‬ ‫بني املعدن والرشر‪ ،‬بني املادة واإلزميل‪،‬‬ ‫بني القامش والفرشاة‪ ،‬يف أعامل الفنانة‬ ‫الكندية ماري جوزي غوا‪ .‬غري أن هذا‬ ‫التثغري رسعان ما يعلن عن زواله حني‬ ‫تجتمع حقائق متعددة يف جسد واحد‪.‬‬ ‫أليس هذا رضبا من التصوف؟‬ ‫إن» ماري جوزي غوا‪ ،‬حسب بوجمعة‬ ‫أشفري‪ ،‬تشعر كام لو أن املعدن أضحى‬ ‫جزءا من جسدها‪ ،‬جلدا ثانيا‪ْ َ ،‬لمة واقية»‪.‬‬ ‫(ص‪ .)31 :‬هذا هو الفهم األساس للفن‪:‬‬ ‫«إخراج األصل من األصل» أو بعبارة أخرى‬ ‫االنصهار فيه والتوحد معه‪ ،‬وهذا يتيح‬


‫الخروج من مفهوم «التحديق»‪ ،‬الذي يتم‬ ‫تعريفه عىل أنه «فعل» يتم عرب استخدام‬ ‫اإلدراك الحيس وتوجيهه نحو كائن ما أو‬ ‫غرض محدد‪ ،‬إىل مفهوم آخر أكرث أصالة‬ ‫ُيسقط منطق الثنائية‪ ،‬كام ُيسقط املسافة‬ ‫الفاصلة بني الذات وموضوعها الفني‪ .‬فال‬ ‫مسافة بني الجنني والرحم‪ ،‬وال بني النظرة‬ ‫والعني‪ .‬فهل معنى ذلك أن كل تأويل‬ ‫ألعامل ماري جوزي غوا فسادٌ ووهم‪،‬‬ ‫وأن االستغوار هو الطريق الوحيد لقياس‬ ‫التوحد بني املادة وشكلها؟‬ ‫إذا كانت النظرة (التحديق) تفرتض‬ ‫دامئًا ما وجود غرضية ما‪ ،‬فإن املوضوع‬ ‫املتاح (املعروض) يتعرض لتحديدات‬ ‫(تفسريات وتأويالت) مختلفة تأيت من‬ ‫تعدد النظرة‪ ،‬وأيضا من مدى اتساعها‬ ‫(نظرة املتفرجني أو الشخصيات أو‬ ‫«املؤلف» نفسه)‪ .‬لكن ماذا إذا كانت تلك‬ ‫النظرة محارصة بالرمادي‪ :‬فجيعة األلوان‪،‬‬ ‫كام ُيس ّميه بوجمعة أشفري (ص‪)35 :‬؟‬ ‫أال يتيح الرمادي وحده فرصة االشتغال‬ ‫آللة التأويل؟ أليس الرمادي تركيزا منقطع‬ ‫النظري لاللتباس الذي قد يحدثه التوحد‬ ‫بني عنرصين‪ ،‬بني بعدين‪ ،‬بني مادتني‪ ،‬بني‬ ‫جسدين؟‬ ‫يتضح جليا أن أشفري منشغل‬ ‫بالرتكيب؛ باليشء املركب وتحوالته؛‬ ‫بالتعايش املثايل بني العنارص يف العمل‬ ‫الفني‪ .‬وهذا ما يتضح جليا يف قراءته‬ ‫ألعامل الفرنسية كيني سوهالل التي‬ ‫يقول عنها‪ « :‬األعامل‪ ،‬الشبيهة بعوارض‬ ‫أركيولوجية‪ ،‬تحول تعاريف وحالة املواد‪،‬‬ ‫مثلام تفعل ذلك باألشياء املختارة بعناية‬ ‫تامة‪ .‬املنحوتات ناجمة عن تحريات‬ ‫تقنية‪ ،‬ويف الوقت نفسه‪ ،‬مادية وشكلية‪.‬‬

‫تستخدم الفنانة الخشب‪ ،‬أديم األرض‪،‬‬ ‫الطفح‪ ،‬األلياف النباتية‪ ،‬الحجر‪ ،‬اإلسمنت‬ ‫أو املعدن‪ ،‬يك توظف‪ ،‬إما األشكال‬ ‫املوجودة قبال يف الطبيعة‪ ،‬وإما األشياء‬ ‫الناجمة عن املامرسات الحرفية والتقليدية‬ ‫الساللة‪ ،‬صناعة األثاث أو الرساميك»‬ ‫مثل ِّ‬ ‫(ص‪.)40 / 39 :‬‬ ‫إن سوهالل تدعونا‪ ،‬كام يدعونا‬ ‫أشفري‪ ،‬إىل إلقاء نظرة «فضولية» عىل‬ ‫العامل من حولنا‪ ،‬وإىل إعادة اكتشاف‬ ‫األشياء امللموسة وإضفاء معنى شعري‬ ‫عليها‪ ،‬وهذا ما تسميه «تقدير ما يحيط‬ ‫بنا»‪ .‬والسؤال الذي يطرح نفسه هو‪ :‬هل‬ ‫التهجني هو السبيل الوحيد لتوليد األشكال‬ ‫الجديدة؟ وهل تبحث عن الجديد أم‬ ‫الالمتوقع؟‬ ‫إن ما تقوم به سوهالل يبقى يف العمق‬ ‫ترحال فني بني نظرة ونظرة‪ ،‬بني مركزين‬ ‫متنافرين أحيانا‪ ،‬ومتناغمني أو متكاملني‬ ‫أحيانا أخرى‪ .‬يقول بوجمعة‪« :‬تقيم كيني‬ ‫سوهالل جسورا بني األرايض‪ ،‬بني الفن‬ ‫والحرفية‪ ،‬بني الطبيعة والثقافة‪ ،‬بني‬ ‫الغرب والرشق‪ ،‬بني املصطنع والطبيعي»‬ ‫(ص‪ .)42 :‬ولن يتحقق هذا «التجسري»‬ ‫إال من خالل فعل املزج‪ ،‬دون أي خوف‬ ‫من احتاملية ‹الصور الخاطئة»‪ .‬ذلك أن‬ ‫مامرسة املزج تقتيض الوعي‪ ،‬عىل نحو‬ ‫جذري‪ ،‬بأن األشياء يف جوهرها مراوغة‬ ‫وتحب القناع مثل الحقيقة‪.‬‬ ‫وإذا كان الرتكيب دليل عىل التحويل‬ ‫والتغيري واملزج بني العنارص‪ ،‬فإن بناء‬ ‫مواجهة بني الحجر‪ ،‬كامدة فنية‪ ،‬وبني‬ ‫الفنان‪ ،‬الذي يريد أن يعكس وجهة‬ ‫نظره عليها‪ ،‬يضع سجل الرؤية البرصية‬

‫يف موقف تراجيدي‪ .‬الحجر ليس طيعا‪.‬‬ ‫فهو الذي يحدد الشكل الفني من خالل‬ ‫العالقة التي ينشئها الفنان معه‪ .‬إنه يبني‬ ‫شخصيته التي تتقاطع معها يد الفنان‪،‬‬ ‫بل يعيد تعريف نفسه ليس كموضوع‪،‬‬ ‫بل كفاعل‪ .‬هذا ما يتبناه أشفري حني‬ ‫يتحدث عن حجر إكرام القباج‪« :‬حينام‬ ‫يصبح الحجر أثرا ال يعود مثة فاصل بني‬ ‫الجسد ولحم الحجر‪ .‬يصري متاما مثل‬ ‫اآلخر‪ ،‬اآلخر الذي ُق ّد من أديم األرض‪..‬‬ ‫اآلخر الذي يتمرأى يف املرآة فيصري هيئات‬ ‫متعددة األشكال واألحجام ال أحد منها‬ ‫يشبه اآلخر» (ص‪.)48 :‬‬ ‫هل يريد أشفري أن يعطينا املفاتيح‬ ‫العامة للعالقة بني العني والحجر؟ هل‬ ‫مثة وراء هذا القول رغبة (نظرة خفية)‬ ‫للتجسس عىل كائن خفي وغري ناطق؟ أال‬ ‫يجعلنا ذلك نستعيد ذلك املعنى السائل‬ ‫(الزمن) املختبئ يف كتلة الحجر؟‬ ‫إن الحجر ال يسمح لنفسه باالنجراف‬ ‫نحو نظرة ال تحتمي باملعرفة والوهم‪ ،‬أما‬ ‫األشكال املرتنحة بني النور والظل (التقوس‬ ‫أو التجويف أو االنتصاب أو االنحناء)‪،‬‬ ‫فام هي إال وجه أصيل واحد منفتح عىل‬ ‫«املواقف» و»التحوالت»‪.‬‬ ‫يقول ألبري كامو ‪« ،‬إننا ننىس األسايس‪،‬‬ ‫وننىس برسعة كبرية‪ :‬دعونا نتذكر دامئًا»‪.‬‬ ‫وما نتذكره مع الفنانة اللبنانية آين‬ ‫كوركدجيان هو أن الجسد البرشي‬ ‫املكثف والرسيايل واملكدس مثري لالنتباه‪.‬‬ ‫جسد لحمي «يف أشد حاالت االنتشاء‬ ‫بالعود األبدي للخلق» (ص‪.)07/96 :‬‬ ‫جسد ال تنقله‪ ،‬وال تستنسخه‪ ،‬وال‬ ‫تستعيده‪ ،‬وال تكرره‪ .‬جسد خارج الذاكرة‬ ‫العدد الخامس ‪ -‬أبريل ‪131 2022‬‬


‫البرصية العامة‪ .‬جسد ازدرايئ يستدعي‬ ‫النسيان‪ .‬جسد ال يتحدد وجوده إال بإعادة‬ ‫البداية‪ ،‬واتساع ممكناتها‪ .‬جسد ميكن‬ ‫الدفاع عنه فنيا بالطريقة نفسها التي‬ ‫يدل فيها الشكل عىل التهور‪ .‬جسد ضد‬ ‫العادي جدًا‪ ،‬والشائع جدًا‪ .‬جسد مبتذل‬ ‫وانتشايئ وحلمي‪ .‬جسد يصنعه فنان‬ ‫حامل بكل «الالمباالة الخادعة يف العمل»‪.‬‬ ‫فهذا الجسد «بدأ ينفر من أعضائه‪ ،‬يتخىل‬ ‫عنها‪ ،‬يعيد تركيبها يف مواضع أخرى غري‬ ‫التي كانت فيها‪ ..‬فراغ العني «يعدم‬ ‫الرباين والجواين»‪ ..‬تطفو العني الفارغة‬ ‫عىل السطح؛ تنتفي املسافة بني من َيرى‬ ‫ومن ُيرى‪ ..‬جسد من‪ ،‬إذا‪ ،‬هذا الجسد‬ ‫الذي ينزع عنه أعضاءه‪ ،‬يتمطط‪ ،‬يرتد‬ ‫إىل نفسه‪ ،‬يقف عىل حافة الفراغ؟!» (ص‪:‬‬ ‫‪ .)86‬هذا الجسد الذي يولد من نفسه‬ ‫باستمرار‪ ،‬بدون شكل محدد‪ ،‬وبغري قليل‬ ‫من التصميم عىل الزوغ واملواربة‪ .‬إنه‬ ‫جسد يعض ويشبق ويتفكك‪ ،‬بيد أن عينَه‬ ‫ال تنذهل‪ .‬االنذهال يقع يف العني األخرى‬ ‫التي ترى يك ال تنىس ما رأته من «مقاطع‬ ‫شعرية مكسوة باللحم» (ص‪.)96 :‬‬ ‫إنه‪ ،‬بعبارة أخرى‪ ،‬جسد مضاد‬ ‫للفراغ‪ .‬جسد ال يتوقف عن ملء نفسه‬ ‫بأشكال ووضعيات مختلفة‪ .‬ويف االتجاه‬ ‫املعاكس لهذا الجسد‪ ،‬يقودنا الباحث نحو‬ ‫«مونوكروم» كنزة بنجلون الذي يؤسس‬ ‫جسديته عىل العالقة بني الصمت والفراغ‪.‬‬ ‫«عالقة تتجىل يف االنعكاسات الضوئية‬ ‫املنبعثة من طيات األحمر واألصفر‬ ‫واألزرق‪ ..‬نور شفيف يتصادى هنا وهناك‪،‬‬ ‫يف هذا اللون أو ذاك‪ ،‬يف األسود يرتاقص‬ ‫لهبا» (ص‪ .)37 :‬إن املونوكروم‪ ،‬بهذا‬ ‫املعنى‪ ،‬ال يتحدد وجوده إال بالنور‪ .‬فالنور‬ ‫‪ 132‬العدد الخامس ‪ -‬أبريل ‪2022‬‬

‫هو الذي مينحه شكال‪ ،‬وهو الذي يضفي‬ ‫عليه معنى‪ .‬كام أن جسدية اللون‪ ،‬مع‬ ‫املونوكروم‪ ،‬تكشف‪ ،‬بالنور‪ ،‬جزءه الغوري‪،‬‬ ‫واألثر الذي تخلفه العني عرب إخراجه‬ ‫من االنطامس إىل الوجود‪ .‬إن النور‪ ،‬هنا‪،‬‬ ‫يخفي «جدلية الخفاء والتجيل»‪ ،‬الحجب‬ ‫و اإلظهار‪ ،‬الوجود والعدم‪ .‬كام أنه حجر‬ ‫الزاوية يف كل تأويل أو معنى يصنعه‬ ‫املونوكروم‪ .‬إنه بتعبري بارمينيدس هو‬ ‫التعبري اإليجايب للوجود‪ .‬فكنزة بنجلون‪،‬‬ ‫كام يقول أشفري‪« ،‬ال ترىض أن يكون‬ ‫عملها ثابتا‪ ،‬ألنها مهووسة بالتحول‪ .‬كأن‬ ‫اللون مفرد بصيغة الجمع‪ ،‬كأنه جسد‬ ‫ولج القامش‪ .‬الجسد يلج القامش مائال‪،‬‬ ‫منحرفا‪ ،‬منحنيا‪ ،‬يستحيل إىل خطوط تبدأ‬ ‫تهجي الرقص‪ ..‬رقص لهوي» (ص‪.)67 :‬‬ ‫ومعنى ذلك‪ ،‬أن هذا الجسد يحتاج إىل‬ ‫عني‪ ،‬أي إىل ضوء‪ ،‬لرؤيته وهو يرقص‬ ‫وينشئ عالقات ما بني أطرافه وأبعاده‪،‬‬ ‫حتى ينتج شكال له معنى‪ ،‬أو أشكاال تسند‬ ‫وجودها املتعدد واملتحرك عىل حيوية‬ ‫الضوء‪.‬‬ ‫يقول بوجمعة أشفري عن أعامل‬ ‫ليىل الرشقاوي‪« :‬من األحجام الصغرية‬ ‫إىل األحجام الكبرية‪ ،‬استطاعت الفنانة‬ ‫عربها أن تخرتق السند موهمة العني بأن‬ ‫املريئ ما هو إال رضبات ولطخات لونية‪،‬‬ ‫وهكذا بعفوية‪ .‬غري أن األمر ال يقف‬ ‫عند هذا الحد‪ ،‬بل إنه يتجاوز اللطخات‬ ‫والرضبات اللونية‪ .‬يتأثث الفضاء بعالمات‬ ‫تأخذ أشكاال متعددة‪ :‬دروب‪ ،‬أزقة‪ ،‬قباب‪،‬‬ ‫أقواس‪ ،‬خطوط ملتهبة‪ ،‬وهل يحدث‬ ‫هذا بفعل تداخل الصباغة؟ هل هي‬ ‫دعوة السترشاف العمق؟ أم أن األمر‬ ‫فقط يتعلق بالعودة إىل تلك العفوية غري‬

‫املفكر فيها؟» (ص‪.)58/48 :‬‬ ‫السؤال الذي يطرح نفسه هنا‪ :‬هل‬ ‫هناك تلقائية يف الفن‪ ،‬سواء أكانت تلقائية‬ ‫خاملة أم حيوية؟ إن تحديد شكل اللوحة‬ ‫واللون (األسود واألبيض واألزرق) واألبعاد‬ ‫والعمق ونوع الرضبات عىل القامش‪ ،‬فضال‬ ‫عن استبعاد الخطوط والظالل يقودنا إىل‬ ‫الحديث عن «تلقائية خاصة»‪ /‬تلقائية‬ ‫املوضوع الذي تذهب بعيدا يف استخراج‬ ‫العمق النفيس‪ .‬تلقائية فطنة وذكية‪،‬‬ ‫لتوليد املعاين بشعرية ضوئية متأرجحة‬ ‫تعب‪ ،‬تومئ وال تشري‪ ،‬تخفي‬ ‫توحي أكرث مام ّ‬ ‫أكرث مام تظهر‪ .‬وهذا التأرجح‪ ،‬ال يتم‬ ‫فقد عىل مستوى التدرج اللوين الطامس‬ ‫لحركة األشكال‪ ،‬بل أيضا عىل مستوى‬ ‫الحضور والغياب‪ ،‬اإلقامة واملغادرة‪ .‬ففي‬ ‫لوحاتها «مثة أشكال وهيئات وكائنات غري‬ ‫مكتملة‪ ،‬هناك‪ ،‬تنتظر رضبة فرشات أو‬ ‫لطخة لون لتنبعث فيها الحياة‪( »..‬ص‪:‬‬ ‫‪ .)58‬ولن يتحقق االنبعاث هنا إال بتلك‬ ‫العني التي تالحق الالنهايئ واملنفلت‪.‬‬ ‫العني املدربة التي تستطيع أن تتجاوز‬ ‫خداع «التلقائية»‪ ،‬لتكشف ذلك الهاجس‬ ‫الشعري والفلسفي العميق الكامن خلف‬ ‫الشكل وموضوعه‪.‬‬ ‫إجامال‪ ،‬ميكن القول إن بوجمعة‬ ‫أشفري‪ ،‬نجح يف هذا الكتاب‪ ،‬يف مطاردة‬ ‫املعنى السائل للجسد‪ .‬كام استطاع‪،‬‬ ‫عرب إعامل رصيده الفلسفي والجاميل‪،‬‬ ‫أن يجعلنا (نرى) األشكال والهيئات‬ ‫تغياتها‪ ،‬عىل نحو يعمق‬ ‫واألطياف‪ ،‬بكل ّ‬ ‫معرفتنا بالجسد‪ ،‬وأن يضعنا عىل مسافة‬ ‫من العني التي يتأسس وجودها أيضا عىل‬ ‫«النور والظالم»‪.‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.