املكتبة الفنية
ن «الع� والنسيان» ي لبوجمعة أشفري ن المع� مطاردة السائل للجسد سعيد منتسب
يقع كتاب «العني والنسيان» يف مفرتق طرق ذلك االنشغال الدائم بقراءة «جسد ما» ،بالجسد الذي يعرب رشطه الفيزيايئ، ليفصح عن تاريخه الشاسع والواسع. إنها قراءة اقتفائية تعمل عىل كشف ما يسميه مارك برييلامن «الالمريئ يف املريئ، أو «حكم الشاهد عىل الغائب» ،كام يقول املناطقة. فالشاعر والباحث يف الجامليات بوجمعة أشفري دأب ،يف قصائده الشعرية كام يف أبحاثه النقدية ،عىل الدخول يف حوار توددي متعدد النظر مع الجسد، تبعاً ملكوناته وعنارص تكوينه .ومن هنا تحرض العني ،باعتبارها إظهارا له ،بينام يحرض النسيان الذي مينح لهذا اإلظهار قيمة جاملية .إن النسيان هنا هو ما يعزز النظام ويشبعه ،ليس ألنه تجربة منفصلة عن إخضاع املوضوع الفني (الجسد) للمعنى ،بل ألنه يتضمن «حيوية املحو»، أي ما ميكن أن نسميه «االنفتاح الواثق عىل املجهول» .وحني يجمع أشفري ،يف هذا العمل ،بني شيئني يختلفان يف الحكم والقيمة ،أي بني العني والنسيان ،عىل هذا
النحو الجذري ،فهو يضعنا أمام ما ينتسب إليه :عني (ال) ترى (ص .)9 :أليس النسيان تعبريا عن قوة الوجود؟ أال مير الوجود من خالل النسيان (نيتشه). يقول بوجمعة أشفري: «مثة جسد يسري يف اتجاه ما يبدو أنه ملع نور ينبعث من شق يف العتمة ..مثة يد متسح سطح العتمة لينترش اللمع ..مثة سؤال يتثاءب :هل السري يف اتجاه يشء ما ولوج إىل العامل ،أم انسحاب منه؟ مثة تواطؤ بني العني واليد ،تواطؤ سيكون مآله العمى واملحو .نسيان ما مل يحدث بعد» (ص.)9 : هناك دامئا إنزال لجسد ما :إنزال عىل القامش ،أو عىل سند أريض (نحت/ تنصيبات) ،إنزال لـ «يشء كان هنا وامنحى» (ص .)01 :وال ميكن إنزال هذا اليشء إال باستعادته من النسيان عرب إطالق النظر ،وتوسيعه. هل باإلمكان الحديث عن غيبوبة الزمان واملكان دون «شعرنة» اإلحساس بهام؟ أمل يقل ابن عريب« :الزمان مكان
سائل ،واملكان زمان متجمد»؟ أال «يتجسد» الوجود ،يف العمق ،إال بإبحار ريحها منها»؟ تلك «السفينة التي تجيئها ُ إن أي يشء خارج الجسد يف حكم امللغى .كل يشء يوجد داخله ،مبا يف ذلك املوت .بل إن مارينا أبراموفيتش (وجها لوجه مع اللحم) «تأخذ جسدها أبعد من املوت ،إىل بداية الحياة ،إىل ما قبل الحياة حني كانت هي واملوت سيان، جسدا واحدا يعيش تعدده دون مفارقة أو غياب» (ص .)51 :إن الجسد يصبح هو السالك الذي تتعدد مسالكه إىل الحقيقة، أي إىل الغياب الذي يجعله أكرث انفتاحا عىل حقيقته .فالغياب هو الذي يضع العني أمام «الوجود األقىص للجسد». يعلمنا فيتجنشتاين أنه ال ميكن إقامة أي عالقة خارجية بني النظام (الجسد املقيد بالوجود والعدم) وتنفيذه فنيا ،أي إشباعه .فـ «االحساس بأن لديك جسدا، وال يشء غري الجسد» (ص )51 :يستبعد أي تفسري .ذلك أننا ال نتعامل مع قواعد بإمكانها حرص املعنى خارج التأويل، أي خارج تلك القدرة الخارقة والحيوية العدد الخامس -أبريل 129 2022
واملتعددة التي يجب عىل الفن إظهارها عرب التأويل لتحقيق إشباع الجسد .بيد أن الفنانة اللبنانية نينار إسرب تنقل الجسد إىل الفضاء العمومي .إنها متنحه وظيفة جديدة ،انطالقا من هوية جنسية متمردة وناقدة للتمرتس خلف إيديولوجيات الحجب واإلبعاد (الدين والسلطة) .كام تضعه فوق «اإلغواء والتحريم» .لكن أليس هذا التفريغ للجسد من «النظرة ا ُمل َقولبة» انتصارا لرؤية أخرى تقف عند الحد الفاصل بني التفكري يف الجسد، وبني تحييده وتنظيفه من األثاث الثقايف واالجتامعي؟ أما الفنانة الفرنسية كوليت دوبيل، فهي متنح للجسد الطايف إطارا آخر خارج الزمان واملكان« .هذا اإلحساس بالطفو مدعم باملادة املستعملة داخل ما ليس سندا وال قامشا ،حيث تصري الهيئات املرسومة مختلسة ،منفلتة من الهيكل أو اإلطار ،يتم التحايل عليها مبقص يعبث يف ثناياها ،فتصري جسدا من نسيج قابل للسحب واللمس :تأخذ كوليت دوبيل أشكاال وتنرثها يف الفضاء» (ص.)16 : واملؤكد أن أعامل كوليت دوبيل، وهذا ما يعيه بوجمعة أشفري جيدا، تعيد الجسد إىل نفسه ،إىل ذلك الفضاء املعجز والرحمي للحياة ،إىل ما وراء العني التي بالنسيان وحده تجعلنا نؤمن بأننا خالدون ،عرب االختالس والقص واالنفالت من الهياكل واإلطارات .إنها تجعلنا نقف أمام أجساد عابثة ومتهاوية ،وغري مكتملة ،وال ميكن إصالحها ،كام أنها غري معنية بالرتميم. هذا هو طموح هذا الكتاب (العني 130العدد الخامس -أبريل 2022
والنسان) ،التأمل الجاميل يف صيغ اإلشباع عرب أجساد غري منفصلة عن «التجربة» .وهذا ما يوضحه ،عىل نحو جيل ،بريفورمانس الفنانة الرصبية مارينا أبراموفيتش (إيقاع .)0فالجسد يتحول إىل موضوع للنظر ،لكن هل نكتفي بالنظر أمام «جسد مستباح» ومحرض وغاو؟ هل نحن حياديون متاما أمام «موضوع» أعزل يضع نفسه خارج النسق العام؟ تتحدث أبراموفيتش عن هذه التجربة قائلة« :هذا العمل يكشف عام يكمن من بشاعة يف الناس .هذا يظهر مدى الرسعة التي يقرر فيها أحد ما إيالمك عندما يسمح له بذلك .هذا يظهر كم هو سهل إذالل شخص ال يدافع عن نفسه .هذا يظهر أن أغلبية الناس «الطبيعيني» ميكنهم أن يصريوا أكرث عدوانية وسط الحضور عندما متنح لهم الفرصة واإلمكانية» (ص.)24 : إن تبئري وضعية «وجها لوجه» مع «اليشء» ،مع التحريض عليه بأدوات تدمري حادة أو قاتلة (سكاكني ،شفرات حالقة ،مقص ،قضيب من حديد ،مسدس)، يظهر أهمية األثر االجتامعي والثقايف والسيايس للنظرة (العني) ،وكيف يتفاعل هذا األثر إلنتاج «نظرة وحشية مشرتكة». بيد أنه ينبغي ،مع ذلك ،تحديد ماهية «املتفرج» (ملاذا مل يقم كل املتفرجني باالعتداء عىل جسد أعزل مستباح؟)، ودراسة شكل الرؤية إىل الجسد وطبيعتها عىل املستوى الثقايف (هل هو مجرد يشء شخيص؟ هل هو التقاء بليد ملجموعة أشياء عضوية؟ هل يشعر ويتأمل ويتعرض للتلف؟ هل ندرك أننا أيضا أجساد؟) .كام ينبغي تحليل كيفية تنصيب املساحات الطقسية بواسطة النظرة (هل ميكن
تغييب وثنية العني يف هذا البريفورمانس؟ هل ميكن أن تقفز عىل فكرة القربان حني تضطجع أبراموفيتش فوق الطاولة دون حراك ،ليفعل بها الزوار /الكهنة الجدد ما يشاؤون؟). ليس من شك أن أبراموفيتش ،تضعنا، أمام البعد املذهل والقديم لـ «اللحم»، من خالل إظهار تأثرياته القوية عىل انتباه الزوار ،ومن خالل تحويل فضاء العرض إىل مساحة طقسية وأداء مرسحي .وهذا هو الذي دفع بوجمعة أشفري إىل التساؤل: «هل بريفورمانس مارينا أبراموفيتش يجسد الحد الفاصل بني «موت اإلله» و»يقظة الجسد /الكائن»؟ هل هي بالفعل والقوة تقف عىل عتبة ما قبل الكالم (عتبة اللحم) حني كانت حركة الجسد خالية من الرمزية التي ستغلف الكائن اآلدمي بعد االنتقال من الطبيعة إىل الثقافة؟». إن الحديث عن الحد الفاصل بني اإللهي والجسدي يجرنا إىل تثغري املساحة التي ميكن أن تنشأ بني النظرة والفجوة، بني املعدن والرشر ،بني املادة واإلزميل، بني القامش والفرشاة ،يف أعامل الفنانة الكندية ماري جوزي غوا .غري أن هذا التثغري رسعان ما يعلن عن زواله حني تجتمع حقائق متعددة يف جسد واحد. أليس هذا رضبا من التصوف؟ إن» ماري جوزي غوا ،حسب بوجمعة أشفري ،تشعر كام لو أن املعدن أضحى جزءا من جسدها ،جلدا ثانياْ َ ،لمة واقية». (ص .)31 :هذا هو الفهم األساس للفن: «إخراج األصل من األصل» أو بعبارة أخرى االنصهار فيه والتوحد معه ،وهذا يتيح
الخروج من مفهوم «التحديق» ،الذي يتم تعريفه عىل أنه «فعل» يتم عرب استخدام اإلدراك الحيس وتوجيهه نحو كائن ما أو غرض محدد ،إىل مفهوم آخر أكرث أصالة ُيسقط منطق الثنائية ،كام ُيسقط املسافة الفاصلة بني الذات وموضوعها الفني .فال مسافة بني الجنني والرحم ،وال بني النظرة والعني .فهل معنى ذلك أن كل تأويل ألعامل ماري جوزي غوا فسادٌ ووهم، وأن االستغوار هو الطريق الوحيد لقياس التوحد بني املادة وشكلها؟ إذا كانت النظرة (التحديق) تفرتض دامئًا ما وجود غرضية ما ،فإن املوضوع املتاح (املعروض) يتعرض لتحديدات (تفسريات وتأويالت) مختلفة تأيت من تعدد النظرة ،وأيضا من مدى اتساعها (نظرة املتفرجني أو الشخصيات أو «املؤلف» نفسه) .لكن ماذا إذا كانت تلك النظرة محارصة بالرمادي :فجيعة األلوان، كام ُيس ّميه بوجمعة أشفري (ص)35 :؟ أال يتيح الرمادي وحده فرصة االشتغال آللة التأويل؟ أليس الرمادي تركيزا منقطع النظري لاللتباس الذي قد يحدثه التوحد بني عنرصين ،بني بعدين ،بني مادتني ،بني جسدين؟ يتضح جليا أن أشفري منشغل بالرتكيب؛ باليشء املركب وتحوالته؛ بالتعايش املثايل بني العنارص يف العمل الفني .وهذا ما يتضح جليا يف قراءته ألعامل الفرنسية كيني سوهالل التي يقول عنها « :األعامل ،الشبيهة بعوارض أركيولوجية ،تحول تعاريف وحالة املواد، مثلام تفعل ذلك باألشياء املختارة بعناية تامة .املنحوتات ناجمة عن تحريات تقنية ،ويف الوقت نفسه ،مادية وشكلية.
تستخدم الفنانة الخشب ،أديم األرض، الطفح ،األلياف النباتية ،الحجر ،اإلسمنت أو املعدن ،يك توظف ،إما األشكال املوجودة قبال يف الطبيعة ،وإما األشياء الناجمة عن املامرسات الحرفية والتقليدية الساللة ،صناعة األثاث أو الرساميك» مثل ِّ (ص.)40 / 39 : إن سوهالل تدعونا ،كام يدعونا أشفري ،إىل إلقاء نظرة «فضولية» عىل العامل من حولنا ،وإىل إعادة اكتشاف األشياء امللموسة وإضفاء معنى شعري عليها ،وهذا ما تسميه «تقدير ما يحيط بنا» .والسؤال الذي يطرح نفسه هو :هل التهجني هو السبيل الوحيد لتوليد األشكال الجديدة؟ وهل تبحث عن الجديد أم الالمتوقع؟ إن ما تقوم به سوهالل يبقى يف العمق ترحال فني بني نظرة ونظرة ،بني مركزين متنافرين أحيانا ،ومتناغمني أو متكاملني أحيانا أخرى .يقول بوجمعة« :تقيم كيني سوهالل جسورا بني األرايض ،بني الفن والحرفية ،بني الطبيعة والثقافة ،بني الغرب والرشق ،بني املصطنع والطبيعي» (ص .)42 :ولن يتحقق هذا «التجسري» إال من خالل فعل املزج ،دون أي خوف من احتاملية ‹الصور الخاطئة» .ذلك أن مامرسة املزج تقتيض الوعي ،عىل نحو جذري ،بأن األشياء يف جوهرها مراوغة وتحب القناع مثل الحقيقة. وإذا كان الرتكيب دليل عىل التحويل والتغيري واملزج بني العنارص ،فإن بناء مواجهة بني الحجر ،كامدة فنية ،وبني الفنان ،الذي يريد أن يعكس وجهة نظره عليها ،يضع سجل الرؤية البرصية
يف موقف تراجيدي .الحجر ليس طيعا. فهو الذي يحدد الشكل الفني من خالل العالقة التي ينشئها الفنان معه .إنه يبني شخصيته التي تتقاطع معها يد الفنان، بل يعيد تعريف نفسه ليس كموضوع، بل كفاعل .هذا ما يتبناه أشفري حني يتحدث عن حجر إكرام القباج« :حينام يصبح الحجر أثرا ال يعود مثة فاصل بني الجسد ولحم الحجر .يصري متاما مثل اآلخر ،اآلخر الذي ُق ّد من أديم األرض.. اآلخر الذي يتمرأى يف املرآة فيصري هيئات متعددة األشكال واألحجام ال أحد منها يشبه اآلخر» (ص.)48 : هل يريد أشفري أن يعطينا املفاتيح العامة للعالقة بني العني والحجر؟ هل مثة وراء هذا القول رغبة (نظرة خفية) للتجسس عىل كائن خفي وغري ناطق؟ أال يجعلنا ذلك نستعيد ذلك املعنى السائل (الزمن) املختبئ يف كتلة الحجر؟ إن الحجر ال يسمح لنفسه باالنجراف نحو نظرة ال تحتمي باملعرفة والوهم ،أما األشكال املرتنحة بني النور والظل (التقوس أو التجويف أو االنتصاب أو االنحناء)، فام هي إال وجه أصيل واحد منفتح عىل «املواقف» و»التحوالت». يقول ألبري كامو « ،إننا ننىس األسايس، وننىس برسعة كبرية :دعونا نتذكر دامئًا». وما نتذكره مع الفنانة اللبنانية آين كوركدجيان هو أن الجسد البرشي املكثف والرسيايل واملكدس مثري لالنتباه. جسد لحمي «يف أشد حاالت االنتشاء بالعود األبدي للخلق» (ص.)07/96 : جسد ال تنقله ،وال تستنسخه ،وال تستعيده ،وال تكرره .جسد خارج الذاكرة العدد الخامس -أبريل 131 2022
البرصية العامة .جسد ازدرايئ يستدعي النسيان .جسد ال يتحدد وجوده إال بإعادة البداية ،واتساع ممكناتها .جسد ميكن الدفاع عنه فنيا بالطريقة نفسها التي يدل فيها الشكل عىل التهور .جسد ضد العادي جدًا ،والشائع جدًا .جسد مبتذل وانتشايئ وحلمي .جسد يصنعه فنان حامل بكل «الالمباالة الخادعة يف العمل». فهذا الجسد «بدأ ينفر من أعضائه ،يتخىل عنها ،يعيد تركيبها يف مواضع أخرى غري التي كانت فيها ..فراغ العني «يعدم الرباين والجواين» ..تطفو العني الفارغة عىل السطح؛ تنتفي املسافة بني من َيرى ومن ُيرى ..جسد من ،إذا ،هذا الجسد الذي ينزع عنه أعضاءه ،يتمطط ،يرتد إىل نفسه ،يقف عىل حافة الفراغ؟!» (ص: .)86هذا الجسد الذي يولد من نفسه باستمرار ،بدون شكل محدد ،وبغري قليل من التصميم عىل الزوغ واملواربة .إنه جسد يعض ويشبق ويتفكك ،بيد أن عينَه ال تنذهل .االنذهال يقع يف العني األخرى التي ترى يك ال تنىس ما رأته من «مقاطع شعرية مكسوة باللحم» (ص.)96 : إنه ،بعبارة أخرى ،جسد مضاد للفراغ .جسد ال يتوقف عن ملء نفسه بأشكال ووضعيات مختلفة .ويف االتجاه املعاكس لهذا الجسد ،يقودنا الباحث نحو «مونوكروم» كنزة بنجلون الذي يؤسس جسديته عىل العالقة بني الصمت والفراغ. «عالقة تتجىل يف االنعكاسات الضوئية املنبعثة من طيات األحمر واألصفر واألزرق ..نور شفيف يتصادى هنا وهناك، يف هذا اللون أو ذاك ،يف األسود يرتاقص لهبا» (ص .)37 :إن املونوكروم ،بهذا املعنى ،ال يتحدد وجوده إال بالنور .فالنور 132العدد الخامس -أبريل 2022
هو الذي مينحه شكال ،وهو الذي يضفي عليه معنى .كام أن جسدية اللون ،مع املونوكروم ،تكشف ،بالنور ،جزءه الغوري، واألثر الذي تخلفه العني عرب إخراجه من االنطامس إىل الوجود .إن النور ،هنا، يخفي «جدلية الخفاء والتجيل» ،الحجب و اإلظهار ،الوجود والعدم .كام أنه حجر الزاوية يف كل تأويل أو معنى يصنعه املونوكروم .إنه بتعبري بارمينيدس هو التعبري اإليجايب للوجود .فكنزة بنجلون، كام يقول أشفري« ،ال ترىض أن يكون عملها ثابتا ،ألنها مهووسة بالتحول .كأن اللون مفرد بصيغة الجمع ،كأنه جسد ولج القامش .الجسد يلج القامش مائال، منحرفا ،منحنيا ،يستحيل إىل خطوط تبدأ تهجي الرقص ..رقص لهوي» (ص.)67 : ومعنى ذلك ،أن هذا الجسد يحتاج إىل عني ،أي إىل ضوء ،لرؤيته وهو يرقص وينشئ عالقات ما بني أطرافه وأبعاده، حتى ينتج شكال له معنى ،أو أشكاال تسند وجودها املتعدد واملتحرك عىل حيوية الضوء. يقول بوجمعة أشفري عن أعامل ليىل الرشقاوي« :من األحجام الصغرية إىل األحجام الكبرية ،استطاعت الفنانة عربها أن تخرتق السند موهمة العني بأن املريئ ما هو إال رضبات ولطخات لونية، وهكذا بعفوية .غري أن األمر ال يقف عند هذا الحد ،بل إنه يتجاوز اللطخات والرضبات اللونية .يتأثث الفضاء بعالمات تأخذ أشكاال متعددة :دروب ،أزقة ،قباب، أقواس ،خطوط ملتهبة ،وهل يحدث هذا بفعل تداخل الصباغة؟ هل هي دعوة السترشاف العمق؟ أم أن األمر فقط يتعلق بالعودة إىل تلك العفوية غري
املفكر فيها؟» (ص.)58/48 : السؤال الذي يطرح نفسه هنا :هل هناك تلقائية يف الفن ،سواء أكانت تلقائية خاملة أم حيوية؟ إن تحديد شكل اللوحة واللون (األسود واألبيض واألزرق) واألبعاد والعمق ونوع الرضبات عىل القامش ،فضال عن استبعاد الخطوط والظالل يقودنا إىل الحديث عن «تلقائية خاصة» /تلقائية املوضوع الذي تذهب بعيدا يف استخراج العمق النفيس .تلقائية فطنة وذكية، لتوليد املعاين بشعرية ضوئية متأرجحة تعب ،تومئ وال تشري ،تخفي توحي أكرث مام ّ أكرث مام تظهر .وهذا التأرجح ،ال يتم فقد عىل مستوى التدرج اللوين الطامس لحركة األشكال ،بل أيضا عىل مستوى الحضور والغياب ،اإلقامة واملغادرة .ففي لوحاتها «مثة أشكال وهيئات وكائنات غري مكتملة ،هناك ،تنتظر رضبة فرشات أو لطخة لون لتنبعث فيها الحياة( »..ص: .)58ولن يتحقق االنبعاث هنا إال بتلك العني التي تالحق الالنهايئ واملنفلت. العني املدربة التي تستطيع أن تتجاوز خداع «التلقائية» ،لتكشف ذلك الهاجس الشعري والفلسفي العميق الكامن خلف الشكل وموضوعه. إجامال ،ميكن القول إن بوجمعة أشفري ،نجح يف هذا الكتاب ،يف مطاردة املعنى السائل للجسد .كام استطاع، عرب إعامل رصيده الفلسفي والجاميل، أن يجعلنا (نرى) األشكال والهيئات تغياتها ،عىل نحو يعمق واألطياف ،بكل ّ معرفتنا بالجسد ،وأن يضعنا عىل مسافة من العني التي يتأسس وجودها أيضا عىل «النور والظالم».