رجال السالطين األقوياء في مغرب القرن التاسع عشر من خالل كتاب "حول مائدة الغداء" لمحمد المختار السوسي مصطفى حيرن
http://www.fikrwanakd.aljabriabed.net/n34_18hayran.htm أنقذ الفقيه المغربي ألواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين محمد المختار السوسي شفاهيات سياسية وتاريخية ثمينة جدا بقيت لنا مبثوثة في صفحات من كتاباته الكثيرة. وأعتقد أن من يقرأ ويعيد قراءة المختار السوسي في السياقات التي ضمنها "تجرؤات" ال يستهان بها يستطيع أن يفهم مسارات الحياة السياسية واالجتماعية في مغرب األمس القريب والراهن المفتوح على احتماالته المستقبلية. إن من بين الشفاهيات المهمة التي أنقذها المختار السوسي من عوادي االندثار ما رواه له الباشا إدريس منو ابن القائد العسكري المخزني محمد منو على عهد السلطان موالي الحسن األول ،وهي الشفاهيات التي ضمنها المختار السوسي كتابه حول مائدة الغذاء المنشور على نفقة وبإشراف أبناء المؤلف (مطبعة الساحل ،الرباط سنة ،3891الطبعة األولى). ويبدو من مرويات الباشا منو التي سبكها كلمات الفقيه السوسي أن معاينة األحداث المهمة واألشخاص المتنفذين زمنئذ كانت على ذلك النحو من االقتراب الذي يبيح كتابة إدارة الشأن العام ساعة بساعة ،وألننا نعرف "طابو" كتابة المذكرات عند رجاالت سياستنا المغربية فضال عن افتقار أغلبهم للعالقة االفتتانية مع الحرف ،فقد تولى الفقيه المختار السوسي إنقاذ وانتشال بعض التفاصيل المهمة جدا من الشأن السياسي أواخر عهد السلطان الحسن األول ومجمل والية خلفه المولى عبد العزيز، وذلك من خالل مرويات مجالس النقاش والسمر مع الخالن واألصحاب. وثمة من بين تفاصيل كثيرة في مرويات كتاب حول مائدة الغداء ما سبق أن وقفنا عليه بالتفصيل العام في مصادر كثيرة وباألخص منها األجنبية ،غير أن في المرويات التي نحن بصددها توابل حكائية حريفة تمثلت في تفاصيل للتفاصيل لو صح التعبير. ففيها –أي المرويات -على سبيل المثال معابر نصية ثرية تضعك في الفضاء التراجيدي المحفوف بالكيدية السياسية لرحيل السلطان موالي الحسن األول .فمن المعلوم أن الصدر األعظم (وزير الداخلية) القوي أحمد بن موسى الشهير ببا حماد "اجتهد" كثيرا ليبقي موت السلطان سرا بين األقربين لغاية ظاهرية منطقية تمثلت في تجنيب الموكب السلطاني المرتحل في بادية تادال إغارات أهلها ،ولغاية أخرى مبطنة دافعها رغبة الوزير باحماد في اإلعداد لمبايعة أصغر أبناء السلطان المتوفى وهو عبد العزيز ليتمكن من بسط نفوذه كامال على شؤون المملكة. لنستمع إلى الفقيه السوسي وهو يروي عن الباشا محمد منو هذا المأزق التراجيدي المغموس في الكيدية السياسية" :وقد أحكم أحمد –أي باحماد -أمره ،وداخل (أي أسر) من شاء ممن كان في أيديهم بعض األمر ،وقد كان أوعز إلى الجواري المطلعات على وفاة السلطان وسط الليلة أن ال ينبسن إال أردن أن يتخطفهن آل تادلة فيسوقونهن سبايا ،فأمسكن متجلدات عن الصراخ، ولكن مع كثرة االحتياط في الصمت ،صار الناس يتوهمون وقوع شيء ،فاجتمع الجند ورؤساؤه ،وقد أبرم أحمد مع رئيسه األمر واتفق مع المتفقين على البيعة للمولى عبد العزيز ،فحين اجتمع الناس ووقف كل واحد في مركزه ،وقف ابن العالم ،كما أحسب أنه هو الذي ذكره ،فأعلن أن رحم هللا المولى الحسن ولينصر المولى عبد العزيز ،فأعلن األعوان بالتحية بصوت مزعج أكثر من العادة ،تاله في نفس الدقيقة الزعاق الهائل باألبواق الجندية وبفرقعة المدافع بكثرة هائلة ،والمقصود بتلك الصورة المرتبة على ذلك شغل الناس ،وهزهم بما يسمعونه فيؤثر فيهم ،ثم خرج األمر في الدقيقة أيضا إلى الشرفاء أوالد السلطان الحاضرين ليبايعوا أوال ،فأول من خوطب بذلك المولى عبد الكبير فثار في وجه مخاطبه ،فقال له ال وهللا إال بعد المشاورة والمداولة ورؤية ما هو األصلح ،فالتفت أحمد بن موسى فقال ماذاك؟ قيل له إن المولى عبد الكبير أبى أن يبايع فقام بمالطفة فأخذ بيده فقال حاشا سيدنا وموالنا سيدي موالي عبد الكبير أن يخرق اإلجماع ،ثم قال له تدخل لترى سيدنا المرحوم فأدخله إلى أفراك فشغله برؤية جنازة السلطان وبالبكاء حوله ،فقدم المولى عبد الحفيظ فلم يمانع ،فتتابع الحاضرون فتم كل شيء بمالطفة الداهية أحمد بن موسى ،هكذا طويت الصحافة (يقصد الصفحة) الحسنية ،ودخلت في التاريخ" (ص 11حول مائدة الغداء). امتزجت مأساة موت السلطان "بدسائس السياسة على هذا النحو الذي يذكر بما كان يجري في بالطات وكواليس األمويين عقب اندحار عهد الخلفاء الراشدين بمقتل الحسين بن علي عليهما السالم . لنستمع مرة أخرى إلى هذا التفصيل المهم بعد موت السلطان الحسن األول .." :قال إنني ألعجب من تلك الدقيقة ،فقد يؤتى لي فيها أن غشاوة كثيفة سربلت األفق ،فقد انتهك الحجاب الذي استولى على النفوس من هيبة السلطان ،حتى لتحس بأننا دخلنا في طور آخر جديد ال نعرفه ،خصوصا منا نحن النشئ الذين كان العهد الحسني لنا عهدا ذهبيا هائال ،فقد أنكرنا كل شيء بعده، كما تنكر لنا كل شيء ،حتى المخزنية الحسنية قد انحلت عروتها يوم ذاك ،وكأننا كنا ال نعرف ما هو الموت؟ حتى مات السلطان فتجلى لنا الموت بأعظم الفواجع ،حقا أقول إنني ألرى ذلك اليوم هو الفارق بين العهد القديم المقدس في أنظارنا، وبين عهد آخر نندفع إليه ونحن أيتام قد فقدنا من السلطان والدا علينا شفيقا"(ص 11و ،13نفس المرجع). هكذا كان الحال موصوفا على هذا النحو البليغ وكأن البلد فقد عموده الفقري متجسدا في السلطة العليا الوحيدة القوية وعلى رأسها السلطان ،ونعني بها الملكية المطلقة ،فنحن إبانئذ كنا ما نزال لم نعرف ال دستورا وال برلمانا وال حكومة؛ كانت السلطنة تدبر أمورها الصعبة في إدارة الشأن العام باالعتماد على رجال أقوياء مثل أحمد بن موسى (باحماد) وكان هؤالء يوسعون نفوذهم بالترغيب والترهيب ويتمرسون بسهولة على جمع خيوط سياسة بال تعقيدات حديثة قوامها مؤسسات تراقب الحكم أو ما شابه ،لذلك وجدوا أن ذكاءهم الفطري ،الذي اعتصر "فاكهته" في أتون صراعات شخصية على الزعامات، يسعفهم في أكل الكتف من المكان المناسب.
من آيات ذلك هذا المعبر النصي اإلضافي في كتاب حول مائدة الغذاء .." :قال عهدي بأناس من المستخدمين في كل أيام المولى الحسن ،قد فارقوا المعسكر ذلك النهار إلى ديارهم ثم انخنسوا فيها ولم يرجعوا بعد إلى أعتاب الحكومة إلى أن ماتوا، والحاصل أن اللولب الذي به تتصل تلك المسامير كلها قد انكسر ،فتطايرت شظايا شذر مذر"!(ص).13 إن آل السياسة في ذلك الزمن المغربي لم يكن لهم من سند حزبي يشفع لهم في قطف ثمار شجرة السياسة الثرة ،لذلك كان عليهم االعتماد على "كفاءاتهم" الخاصة بهم في استمالة أعلى سلطة في البالد وإقناعها بقدرة ما على اإلسهام بنصيب في إدارة الوضع المغربي الملتبس المفتوح على كل االحتماالت الفادحة (تمرد القبائل في أطراف المملكة ..خيانات محتملة من األقربين..). كان أهل الحل والعقد "يجتهدون" كثيرا ليظهروا دائما خداما مطيعين للسلطنة وبالمقابل ينالون فضاء للتحرك بسعة البلد يطلقون فيه أيديهم ،وألنهم –أي أهل الحل والعقد -يعرفون أن ما نيل بالدهاء ال يحتفظ به إال بمزيد من الدهاء فقد عرفت عنهم القسوة الشديدة والمكر األصفر في التنكيل باألعداء والمنافسين المحتملين ،كما في هذا االجتزاء من ذات الكتاب الذي نحن بصدده ،حيث جاء عن بعض من دهاء ومكر الصدر األعظم "باحماد" .." :فذكر كيف أن أحمد ساق معه الباشا حمو من مكناس وقد نزعه من مركز هائل كان فيه ،فألقاه في تارودانت ،وهكذا صنع بكل األوتاد في المملكة الحسنية ،ثم ذكر كيف فتك بقبيل في جهة الشاوية("..ص).13 كانت السياسة تمارس بتقنية األرض المحروقة التي ال تقبل حتى بالتراتبية اإلدارية بل بقطع دابر كل من تشتم فيه رائحة منافسة على النفوذ في الدائرة السلطانية المقلصة إلى أبعد حد جراء هذا التنافس الشرس الذي ال يبرز عقبه سوى رجل واحد كما في ساحات القتال بين المتصارعين على عهد الرومان. لنتمل في هذا البورتريه المتحرك لشخصية كاريزماتية مثل الصدر األعظم "باحماد" .." :كان استبداده هو الذي اجثث الرجال الكبار الحسنيين ،حتى ال يذكر معه أحد ،فكان وحده المبدئ المعيد ،والمصدر المورد ،ال تكون كبيرة وال صغيرة إال بإذنه، وكان إخوانه وأهله على كل اإلدارات ،ولكنه مع كل ذلك ال يظهر إال بمظهر المنفذ ،فكل ما سأله يقول حتى نستشير سيدنا، وال يمكن أن يتخطى ذلك ولو غلطا ،وقد فرط يوما من إنسان طلب منه شيئا فأجابه بذلك ،فقال له أنت سيدنا ،فاستشاط أحمد غضبا وناله منه ما ناله ،وكان صموتا ال يحب الكالم حوله ،فتكون دار المخزن مكتظة إلى طفافيها ثم ال تسمع صوتا وال تحس ركزا ،وإن هناك إال إشارات ،وقليل من الهمسات ،وكان يجلس دائما أمام مكتبته أي منضدة كتابته في بنيقة الوزير الكبرى ،فكان بينما هو مكب على الكتابة أو على التوقيعات أو على قراءة ما يقدم له ،يجيل عينيه فينة بعد فينة وهما كعيني العقاب في ذلك البراح (أي الفضاء) فيرى الداخل والخارج ،وقد أطل عليه مرة إنسان غريب ،فصاح به ألم ترني قط ،فأمر به إلى السلسلة ،وكذلك ال ينسى كل ما قيل له أو قاله ،قال الحاكي قدمت مرة من عند المولى عبد الحفيظ وهو خليفة على تادلة برسائل ،فذكرته إياها فقال ال تحتاج إلى تذكيري فلن أنسى ما هو وظيفي –أو كما حكاه قاله له مما يدل على ما تقدم- وكان بطاشا ال يهدأ إال بالفتك والسجن ،وسوق مسجون إليه أحب من سوق حمل مال ،ثم ال يطمع في تسريح مسجونه ،وبذلك البطش تمهد له من أراد ،وارتجفت منه األفئدة .." )...("..وكان في كل عشي يالقي الواردين إلى أن يمضي ما شاء هللا من الليل ،وكان ممعنا في مص أموال العمال بكل ما أمكن ،فهو الذي أبلغ البيع والشراء للقيادة في أيامه نفاقا عجيبا ،وذلك وإن كان قبله غير أنه لم يبلغ مرتبة ما في عهده( !"..ص 13و).19 إن هذا التوصيف للبورتريه اليومي لكبير وزراء السلطان المولى الحسن األول وخلفه المولى عبد العزيز يلخص لب سياسة الشأن العام كما كانت تدبر من أقوياء السلطنة الذين يستحوذون على النفوذ بدهائهم ومكرهم فيخضع لهم العباد والبالد ،لذلك لم يكن استثناء أن يبقى الصدر األعظم أحمد بن موسى (با احماد) في منصبه الخطير آمرا ناهيا ومستوليا على مالية الدولة إلى درجة قيامه بنقل كل ثروة البالد التي كانت في دار المخزن على أيام السلطان المولى الحسن األول إلى داره الخاصة في الباهيا عقب تولي المولى عبد العزيز الحكم! ..أقول أنه لم يكن استثناء أن يظل (با احماد) في منصبه الكبير حتى وفاته. غير أنه في مكان ظليل (لكن واضح) من سلطة باحماد المطلقة كان ثمة رجل من ذات عيار الدهاء والمكر يطرز خالفته بصبر بينلوبي –نسبة إلى بينلوب زوجة ديونسوس في األسطورة اليونانية المعروفة ،-يتعلق األمر بالمهدي المنبهي الذي تولى وزارة الحربية كمهمة واضحة إال أنه كان في الواقع نسخة كربونية فيما يتعلق بمجال النفوذ الذي شغله ابا حماد من قبل. لنستمع مرة أخرى إلى ما جاء ضمن مرويات الفقيه السوسي في كتاب حول مائدة الغداء بخصوص أفول نجم وحياة ابا حماد: " ..فكان أول عارف بالخبر –يقصد المنبهي وموت با حماد -فطار مسرعا إلى باب السلطان فطلب المالقاة باسم الفقيه – وبذلك يدعى أحمد عند أصحابه -فبمجرد ما القى السلطان أسمعه النعي ،فخر السقف على المولى عبد العزيز ،فلم يدر ما يصنع ،لكونه ال يعرف مآتي األمور ،فشجعه المنابهي ،فقال له إن األمر كله لك ،فمر ينفذ أمرك ،وكلنا طوع يدك ،في كالم معسول مثل هذا ،فاستشاره السلطان في المعمول وهو يبكي أحر بكاء لرقة قلبه ،فقال له يأمر سيدنا بإعداد جنازة وباحتفال الناس لها وأن يخرج سيدنا نفسه حتى يدفن ،فذلك هو الواجب ،وإن أذن لي سيدي نفذت كل هذا ،فأمره فخرج المنابهي فأمر بكل شيء ،وظهر من وقته آمرا ناهيا ،فذهبت الجنازة كما ينبغي بمحضر السلطان فمن دونه ثم سأل السلطان المنابهي عما يجب فعله اآلن فقال له يأمر سيدنا بتثقيف دار أحمد وأمواله وكل أهله كما هي العادة ،ونقل أموال السلطان من داره إلى دار المخزن ،فأمره بكل ذلك ،فقام به في الحين ،فألقى القبض على كل آل أحمد فغرب عزهم في لحظة ،كما بزغ نجم المنابهي في اللحظة نفسها ،ولما كان أحمد قد مزق كل الرجال الحسنيين في عهده ،ولم يبق إال شبه عجائز من أدنياء النفوس ،وجد المنابهي الجريء المقدام الميدان فارغا ،فتقدم فاستحوذ بكل بساطة ،فدفع غريط إلى الوزارة وهو ثقيل الرأي والفهم فاستحوذ المنابهي على الحربية ،والحقيقة أنه مستحوذ على كل شيء ،ألنه حين أمر بنقل األموال والمتاع من الباهية إلى دار المخزن، كان سرب إلى داره نحو الثلثين أو أكثر ،فأنشأ يبذر بال حساب ،فأنال كل الناس أمواال طائلة( !"..ص 33و).34 ونحن نعرف خاتمة هذا المسار "السياسي" الناجح للسي المهدي المنبهي ،إذ سيكثر حساده ويسعون بذات أسلوبه إلى اإليقاع به حين ذهب إلى أوروبا موفدا من قبل المولى عبد العزيز ،غير أن المنبهي سيتدارك األمر حين رجوعه فيحتفظ بسطوته
ونفوذه إلى غاية أفول نجمه جراء حشد خصومه لقرائن أدانته وبررت إبعاده ،ونجا من التتريك (مصادرة أمالكه كسلفه المتوفي با حماد) بفضل احتمائه بالبعثة اإلنجليزية في طنجة. غني عن اإليضاح أن السمة البارزة لممارسة الحكم في المغرب "أخلصت" لهذا المسار التقليدي المشبع بذهنية الصراع الكالسيكي على السلطة :أي أن النفوذ والمال لألكثر قدرة على التنكيل بالخصوم واإلقدام والجرأة في الظهور بمظهر "فكاك الوحايل" كما في حالة وفاة شخص أعلى سلطة في البالد (الملك) أو شخصية سلطوية كبيرة في الدولة (ابا حماد) أو أيضا التصدي بالحزم الالزم النتفاضات القبائل (ردع السيبة) ..إلى غيرها من عوارض السياسة اليومية في تفصيلها الصغيرة والكبيرة المزعجة. ومعروف أن التناقضات الداخلية في تدبير الشأن العام :تمرد بعض القبائل واستفحال المديونية جراء نهب المال العام من قبل كبار المسؤولين في الدولة من وزراء وحاشياتهم واتباعهم وأتباع أتباعهم ..التناقضات التي التقت مع طموحات أوروبية ناهضة بصناعاتها الرأسمالية المتنامية الحاجيات ،حيث سيتقدم هذه المرة األجنبي –وليس صدر أعظم -لحل المشاكل االقتصادية واألمنية؛ ويفرض قوته التنظيمية المشفوعة بذكريات الغلبة الماحقة في موقعة إيسلي الشهيرة سنة 3993وحرب تطوان سنة .3989 ثمة سؤال يطرح بإلحاح على هذه المرحلة الملتبسة من تاريخنا وهو :ألم نعرف إبانئذ تيارا إصالحيا يدفع في اتجاه التحديث السياسي. لم تتوفر للمغرب –لألسف -تلك السيرورة االجتماعية واالقتصادية التي ترفد نوايا اإلصالح التي ظهرت عند النخبة الثقافية والعلمية (بعثة السلطان الحسن األول العلمية إلى الديار األوروبية) والسياسية (جماعة لسان المغرب ودستورها المقترح على المولى عبد العزيز سنة ،)3899فقد اصطدمت هذه النخب اإلصالحية ببنيات التخلف االجتماعي واالقتصادي ووجدت أن الحل األجنبي المستقوي بمبرراته االستعماري سينسف الحل الداخلي الذي احتاج إلى الوقت لإلنضاج وإحداث التراكم الضروري ,لذلك احترقت أشرعة اإلصالح الواحد تلو اآلخر النتقاء الشروط الموضوعية عن بنية اجتماعية وسياسة سادرة في تقليديتها. ومن عجب أن سؤال التحديث واإلصالح في كل المحطات المغربية الكبرى طرح دائما بصيغة إصالحية دون االلتفات إلى شروطها الموضوعية االقتصادية واالجتماعية والسياسية. لنستمع مرة أخرى إلى معبر نصي دال في هذا الصدد من مرويات الفقيه السوسي ضمن كتاب حول مائدة الغداء ،يقول هذا المعبر النصي .." :حاورته يوما –يقصد الباشا محمد منو -محاورة طويلة فيمن هو المسؤول عن انهيار المغرب أهو السلطان الذي كان ال يخفى عليه شيء أم األمة التي أبت أن تستفيق والعالم كله مستفيق ،فكان هو يميل إلى أن السلطان ينفع حقا لو تنبه لإلصالح المنشود كما ينبغي ،ولكن نفعه ال يكون إال بمقدار ،كما أنه إن مشى في ذلك خطوة سيلقى عراقيل كثيرة من كل جهة ،ثم قال إن جمود ذلك العهد وجهله السائد بالعالم المتمدن وما وقع فيه ،ال يمكن أن يدركه كما هو من نشأوا بعد ذلك في المغرب ،ولذلك ال يقدر أن يعذر أصحاب ذلك العهد إال من كان عاش فيه واستيقن أنه ال يمكن أن يكون إال كذلك!".. (ص).13 قيل هذا التشخيص الموضوعي في زمن مغربي إبان النصف الثاني من القرن التاسع عشر ،وإذا ما تفحصنا ما تالها من محطات تالية كبرى فسنجد أن ذات الجواب الجبري بقي محتفظا بكل صدقيته أي أنه ال يمكن للمغرب أن يكون إال كذلك!؟ واإلرادة البشرية المرتبطة فزيولوجيا ووجوديا بالسيرورة والتغيير؟! ال شك أن لسان حالنا ..يجيب دائما" :ال راد للقدر"! وال خيار آخر لنا سوى أن نترك "مدرسة" باحماد والمهدي المنبهي و.. تفكر لنا وحينما ستعييها "الحيلة" فسيفكر اآلخرون لنا