Fassl 0 ar

Page 1


‫مشروع حتت إشراف مايا وعبادي‬ ‫© ‪ 2018‬منشورات دوافع‬ ‫‪editions.motifs@gmail.com‬‬ ‫‪ ،84‬العقيد عبد الرحمان ميرا‬

‫باب الواد ‪ -‬اجلزائر‬

‫ساهم يف هذا العدد‬ ‫سارة خريف‬ ‫رحيل بالي‬ ‫ليندا نوال تباني‬ ‫أميرة ‪ -‬جهان خلف اهلل‬ ‫هاجر بالي‬ ‫صالح باديس‬ ‫العربية و تصحيح النصوص‬ ‫الترجمة إلى ال ّلغة‬ ‫ّ‬ ‫هشام مروش‬ ‫الفرنسية‬ ‫تصحيح نصوص ال ّلغة‬ ‫ّ‬ ‫سعدية قاسم‬

‫تصميم‬

‫استوديو ‪Graf-M‬‬ ‫رسومات ‪Ben‬‬

‫طبع يف اجلزائر‬


‫مجلــة النقــد األدبي‬


‫ا لفهــر س‬

‫‪1‬‬ ‫‪2‬‬

‫اإلفتتاحية‬

‫ص‪4 .‬‬

‫لماذا فصل ؟‬ ‫مايا وعبادي‬

‫الملف‬

‫ص‪6 .‬‬

‫فترة التسعينات في‬ ‫ا أل د ب ا لجز ا ئر ي‬

‫متاهات‪ ،‬ليل الفتنة‬

‫تصريح بجنون العالم‬

‫حلميدة عياشي‬

‫ص‪8 .‬‬

‫حوار قامت به سارة خريف‬ ‫‪1994‬‬

‫لعدالن م ّد ي‬

‫الدولة‬ ‫حترير السرد من قبضة ّ‬

‫ص ‪18 .‬‬

‫حوار قام به صالح باديس‬

‫األمطار الذّ هبية‬

‫األساطير و السلطة‬

‫حملمد ساري‬

‫حوار قامت به سارة خريف‬

‫ص ‪40 .‬‬


‫‪3‬‬

‫فصل ـ العدد ‪ 0‬ـ ا لفهر س‬

‫‪3‬‬

‫‪4‬‬

‫مراجعات‬

‫ص ‪50 .‬‬

‫املذياع العاق جلالل حيدر‬ ‫بقلم رحيل بالي‬

‫ص ‪51.‬‬

‫غذاء للقبطي لشارل عقل‬ ‫بقلم صالح باديس‬

‫ص ‪56.‬‬

‫مقتطف‬ ‫عينا اجلن ّية‬

‫لسعيد خطيبي‬

‫ص ‪59.‬‬

‫فصل من رواية حطب سراييفو‬

‫ص ‪60.‬‬


‫‪1‬‬ ‫اإلفتتاحية‬ ‫مايــا وعبادي‬

‫لمــا ذ ا فصــل ؟‬ ‫إنطلق مشروع مجلة « فصل » بعد عمل دام لسنوات يف‬ ‫مجال النشر باجلزائر‪ ،‬منى من خالله نوع من الشعور‬ ‫باإلحباط و ذلك لعدم قراءة ما يكفي من نقد و آراء حول‬ ‫ك ّل ما يصدر من أعمال‪ ،‬خاصة منها النصوص األدبية‪.‬‬ ‫االستقبال ا َ‬ ‫خلجول لكل ما يتج ّدد من أدبيات و إنعدام‬ ‫الردود حولها يجعل جدوى عمل سلسلة كاملة من املهنيني‬ ‫(كتّاب‪ ،‬ناشرين‪ ،‬مصممي اجلرافيك‪ ،‬ع ّمال الطباعة‪)...‬‬ ‫مجردا و مجهوال‪ .‬هنالك حلقة مفقودة ملا يعتبر همزة‬ ‫وصل بني الكتاب و القراء‪.‬‬ ‫نطمح بهذا الفضاء الثنائي اللغة (العربية و الفرنسية)‬ ‫و الذي ك ّرسناه للنقد العميق‪ ،‬للحوارات و كذلك للتعريف‬ ‫باملؤلفني اجلزائريني و األجانب‪ ،‬إلى ملء جزء من هذا‬ ‫الفراغ و إعطاء الكتاب حياة أكثر ثراءا و إهدائه شيئاً‬ ‫آخر على خالف الال مباالة‪.‬‬ ‫يدعوكم هذا العدد اإلفتتاحي للغوص يف قلب العمل‬ ‫األدبي املعاصر‪ .‬من منطقة الشاوية باجلزائر إلى‬ ‫قصر امللك حسان الثاني باملغرب‪ ،‬مروراً بحي احلراش‬ ‫بالعاصمة و كذلك املطابخ القبطية مبصر‪.‬‬


‫‪5‬‬

‫فصل ـ العدد ‪ 0‬ـ ا إل فتتا حية‬

‫إن امللف األول « فترة التسعينات يف األدب اجلزائري » قد فرض‬ ‫ّ‬ ‫نفسه علينا بصورة طبيعية و كان أمراً أساسيا بالنسبة لنا أن نخضع‬ ‫لهذا املوضوع الذي تط ّرقت له الكثير من الروايات اجلزائرية الصادرة‬ ‫خالل السنوات األخيرة ‪ -‬أع ّد امللف من طرف مساهمني من مواليد‬ ‫الثمانينات و التسعينات ‪ -‬و الذي ال يعرف عنه جيلنا يف النهاية‬ ‫غير ما تلقاه من خالل الروايات السينمائية واألدبية‪ .‬فكان من املهم‬ ‫بالنسبة لنا دراسة بعض هذه الروايات و اإللتقاء مبؤلفيها (حميدة‬ ‫عياشي‪ ،‬محمد ساري‪ ،‬عدالن مدي) حملاولة فهم أعقاب و تأثير حرب‬ ‫بالكاد عشناها على األدب اجلزائري الذي نتناوله اليوم‪.‬‬ ‫إنطالقاً من نفس ال ّرغبة يف البحث عن املعنى و إستيعاب املفاهيم‪،‬‬ ‫نقترح و يف ك ّل عدد نصوصا نقدية منها كتب صدرت من وراء حدودنا‪.‬‬ ‫ندعوكم يف هذه امل ّرة إلكتشاف الرواية البوليسية إلن كولي جان بوفان‬ ‫(جمهورية الكونغو الدميقراطية ‪ -‬بلجيكا)‪ ،‬القصة العصرية ملاحي‬ ‫بنبني (املغرب) و كذلك الرواية الغير خيالية املجنونة لشارل عقل‬ ‫(مصر)‪ .‬كما نقترح يف ك ّل عدد و حصريا مقتطفات مط ّولة من كتب‬ ‫يف صدد اإلصدار‪.‬‬ ‫أن هذا املشروع لم يكن ليرى‬ ‫يف األخير‪ ،‬يستوجب علي اإلشارة إلى ّ‬ ‫النور من دون النصوص املقدمة من طرف املساهمني ‪ :‬سارة خريف‪،‬‬ ‫رحيل بالي‪ ،‬ليندا نوال تباني‪ ،‬أميرة جيهان خلف اهلل‪ ،‬هاجر بالي‬ ‫وصالح باديس ؛ من دون ترجمة هشام مروش ؛ قراءة و تصحيح سعدية‬ ‫قاسم ؛ رسومات ‪ Ben‬و من دون تصميم أستوديو ‪ GRAF-M‬لرمية جحنني‬ ‫لهن و لهم‪.‬‬ ‫و أحالم شيخ‪ .‬جزيل الشكر ّ‬


‫‪2‬‬ ‫ا لملــف‬ ‫فترة التسعينات في‬ ‫ا أل د ب ا لجز ا ئر ي‬

‫متاهات‪ ،‬ليل الفتنة‬

‫حلميدة عياشي‬ ‫صدرت باللّغة العرب ّية سنة ‪ - 2000‬عن منشورات البرزخ‬ ‫ترجمها إلى اللّغة الفرنس ّية لطفي نية سنة ‪2016‬‬ ‫مقابلة أجرتها سارة خريف‬ ‫» ‪« 1994‬‬

‫مدي‬ ‫لعدالن ّ‬ ‫صدرت سنة ‪ - 2017‬عن منشورات البرزخ‬ ‫مقابلة أجراها صالح باديس‬

‫األمطار الذّ هبية‬

‫حملمد ساري‬ ‫صدرت باللّغة الفرنس ّية سنة ‪ - 2015‬عن منشورات الشهاب‬ ‫مقابلة أجرتها سارة خريف‬


‫‪7‬‬

‫فصل ـ العدد ‪ 0‬ـ ا مللف‬

‫تمهيــد‬ ‫لكي نتحدث عن العشرية السوداء يف األدب‪ ،‬اخترنا‬ ‫خمس روايات صدرت بني ‪ 2000‬و ‪ .2007‬أما اختيارنا‬ ‫لهذه النصوص فقد كان على أساس تن ّوعها يف طرح‬ ‫الرؤى و السرديات بخصوص هذا املوضوع املعقد‪.‬‬ ‫فإن تو ّلى محمد ساري موقف الشاهد يف روايته «األمطار‬ ‫ال ّذهبية » (التي صدرت سنة ‪ 2016‬و لكن شرع يف كتابتها‬ ‫منذ بداية التسعينات) عن بوادر الفوضى‪ ،‬فإن رواية‬ ‫حميدة عياشي « متاهات‪ ،‬ليل الفتنة »‪ُ ( ،‬كتبت و نشرت‬ ‫يف ‪ )2000‬تبتعد عن هذا‪ ،‬و بشكل متناقض‪ .‬حيث يدافع‬ ‫كاتبها عن موقعه كفنان‪ ،‬بدل أن يكون شاهداً فقط‪،‬‬ ‫موقع يسمح له أن يبني معماراً روائياً غير موضوعي‬ ‫حساس‪ .‬أما عدالن مدي‪ ،‬يف روايته « ‪ ،» 1994‬فقد‬ ‫و ّ‬ ‫اختار التطرق للعشرية السوداء عبر الرواية البوليسية‪،‬‬ ‫مهتماً بشكل خاص بشريحة معينة من السكان ‪ :‬الشباب‪،‬‬ ‫كيف عاشوا احلرب و كيف أهلكت الذاكرة من جنوا منها !؟‬ ‫و قــد ر ّكــزت احلــوارات الثالثــة علــى ك ّل هــذه النقــاط‪،‬‬ ‫لتســمح لنــا مبعرفــة املزيــد عــن أعمــال هــؤالء الكتــاب‬ ‫و عــن خصوصيــة التطــرق ملوضــوع احلــرب‪.‬‬


‫‪8‬‬

‫متاهات‪ ،‬ليل الفتنة‬ ‫حلميدة عياشي‬ ‫مقابلة أجرتها سارة خريف‬

‫كتبــت هــذه الروايــة‬ ‫حتــى ال أكــون ضحية‬ ‫تلــك الفتــرة ‪...‬‬ ‫حميدة عياشي‬


‫‪9‬‬

‫فصل ـ العدد ‪ 0‬ـ ا مللف‬

‫‪Ben‬‬

‫يف هذا احلوار‪ ،‬يكشف حميدة عياشي عن حيثيات تأليف روايته‬ ‫املترجمة من طرف لطفي نية و الصادرة عن منشورات البرزخ يف‬ ‫أكتوبر ‪ .2016‬كما يتناول املوضوعات التي يشملها الكتاب‪ ،‬منهجه‬ ‫الفني و الفكري‪ ،‬و يستحضر كذلك مسيرته الصحفية خالل فترة‬ ‫التسعينات املؤملة‪.‬‬

‫‪ -1‬نشر هذا احلوار يف يومية ‪ Reporters‬سنة ‪ ،2016‬مبناسبة صدور الترجمة‬ ‫الفرنسية للرواية‪ .‬ونعي ُد نشرهُ ‪ -‬مع بعض التعديالت ‪ -‬مبوافقة اجلريدة‪.‬‬


‫‪10‬‬

‫تصريــح بجنــون العالــم‬

‫سارة خريف ‪ :‬يف أي حالة ذهنية كتبت « متاهات » ؟‬ ‫حميــدة عياشــي ‪ :‬عندمــا كتبــت هــذا النــص‪ ،‬كنــت أواجــه ذاكرتــي‬ ‫و أواجــه نفســي و أواجــه جســدي‪ .‬كنــت قــد غــادرت اجلزائــر إلــى‬ ‫ســيدي بلعبــاس يف عــام ‪ ،1996‬و قضيــت ســنتني و نصــف محــاوال‬ ‫قــراءة و اســتعاب مــا كان يحــدث مــن حولــي‪ .‬عــدت إلــى القــراءة‬ ‫ألنــي أردت أن أفهــم هــذه الظاهــرة مــن جميــع الزوايــا‪ ،‬و ليــس‬ ‫فقــط مــن وجهــة نظــر صحفيــة‪ .‬قــرأت كل مــا ميكــن قراءتــه عــن‬ ‫الفتنــة‪ ،‬مــن أول مظاهرهــا يف التاريــخ إلــى اجلزائــر‪ .‬لكــن يف ذلــك‬ ‫الوقــت لــم أكــن أفكــر يف الروايــة بعــد‪ ،‬كان جــل عملــي يركــز علــى‬ ‫اإلســالميني‪ .‬مــع ذلــك‪ ،‬يف مرحلــة مــا‪ ،‬وضعــت كل شــيء جانبــا‬ ‫لتحريــر نفســي مــن العمــل الصحفــي‪ ،‬مــن أعمــال التحقيــق‪ ،‬ذهبــت‬ ‫إلــى األدب والروايــة و املســرحية‪ ،‬إلــى شــكل مختلــف‪...‬‬ ‫ً‬ ‫موقفــا فكر ًيــا إثــر عمليــة‬ ‫هــل ميكــن أن نعتبــر أنــك اتخــذت‬ ‫الكتابــة ؟‬ ‫شــغلني كثيــراً دور املفكــر‪ ،‬الــــذي أعتبــره دور حاســــم يف الواقــــع‪.‬‬ ‫يف كل عمــل ننتجــه‪ ،‬نحــن نتخــذ نهجــا نقديــا ؛ فنرفــض اخلضــوع‪.‬‬ ‫بالنســبة لــي‪ ،‬ليــس هنــاك تاريــخ واحــد‪ ،‬فــردي‪ .‬بــل هــو نشــأة‬ ‫عمليــة تراكــم‪ ،‬و إذا لــم نســتثمره‪ ،‬إذا لــم نرجــع إلــى هــذا‬ ‫التاريــخ‪ ،‬فــإن كل شــيء ســيعود للظهــور مــن جديــد بطريقــة غيــر‬


‫‪11‬‬

‫كيــف تتــم عمليــة حتويــل هــذا العنف حســب رأيك ؟‬ ‫بالنســبة لــي‪ ،‬تراكــم اإلنتــاج الفنــي سيســمح باســتغالل العنــف‬ ‫بشــكل إيجابــي‪ .‬كمــا ســينزع عنــا عقــدة التاريــخ‪ .‬لألســف‪ ،‬إلــى‬ ‫اليــوم وعلــى الرغــم مــن ثــراء تاريخنــا‪ ،‬فإننــا لــم نســمح بفضــاءات‬ ‫خياليــة حقيقيــة بعــد‪ ،‬و للمفارقــة‪ ،‬هــذا راجــع إلــى تاريخنــا يف‬ ‫نفــس الوقــت (التواجــد العثمانــي‪ ،‬االســتعمار الفرنســي‪.)...‬‬ ‫عــالوة علــى ذلــك‪ ،‬حتــى التاريــخ الرســمي يقــدم و يصــور حياتنــا‬ ‫بطريقــة مبســطة و بــدون ذاكــرة‪ .‬يف الواقــع‪ ،‬التاريــخ عبــارة عــن‬

‫‪ -1‬حميــدة عياشــي مؤلــف كتــاب مرجعــي عــن اإلســالميني‪ ،‬ظهــر يف التســعينات‬ ‫بعنــوان «اإلســالميني بــني الســلطة و الرصــاص» (دار احلكمــة ‪.)1992 ،‬‬

‫فصل ـ العدد ‪ 0‬ـ ا مللف‬

‫واعيــة و هــذا مــا ينتــج جيــل بــدون ذاكــرة‪ .‬إن دور الروايــة كأي‬ ‫عمــل فنــي‪ ،‬هــو بالتحديــد حتريرنــا مــن العنــف بإعــادة صياغتــه‬ ‫علــى املســتوى الرمــزي‪ .‬لذلــك نحــن نتجــه نحــو اجلماليــات‪.‬‬ ‫جميــع احلضــارات بنيــت علــى العنــف يف احلقيقــة‪ ،‬لكنهــا تتكيــف‬ ‫و تعــود لتنقيــة هــذا العنــف مــن خــالل اإلنتــاج الفنــي‪ .‬هــذا مــا‬ ‫يســمى بالعنــف اإلبداعــي‪ .‬إذا أخذنــا علــى ســبيل املثــال‪ ،‬اكتشــاف‬ ‫قــارة أمريــكا‪ ،‬فقــد كان ذلــك دموي ـاً للغايــة‪ ،‬مــع مجــازر وإبــادات‬ ‫جماعيــة‪ .‬لكــن األميركيــني خلقــوا نوعــاً مــن املصاحلــة حــول‬ ‫هويــة جديــدة‪ ،‬وأفــالم الويســترن خيــر مثــال علــى ذلــك‪ .‬مــن‬ ‫خــالل العمــل علــى العنــف يف التســعينات يف اجلزائــر‪ ،‬أدركــت أن‬ ‫العنــف كان يأخــذ يف البدايــة بعــداً مســرحياً ‪ :‬مــن جهــة‪ ،‬هنــاك‬ ‫اإلســالميني‪ 1‬مــع التجهيــزات اخلاصــة بهــم‪ ،‬وحضورهــم القــوي يف‬ ‫الفضــاء العــام‪ .‬و مــن جهــة أخــرى الســلطة‪ .‬ففــي وقــت مــا البــد‬ ‫مــن أن يحــدث تصــادم بــني هاتــني القوتــني « احلضوريتــني »‪ .‬مــن‬ ‫جهتــي‪ ،‬كروائــي‪ ،‬أردت أن أســتحضر مــا كان يف عــداد الغائبــني يف‬ ‫الروايــة (و األدب بشــكل عــام)‪ ،‬بالتعمــق يف هــذه املســائل‪ ،‬راوي ـاً‬ ‫قصتــي و مــن كانــوا يحيطــون بــي مــن أصدقــاء‪ ،‬علــى غــرار الذيــن‬ ‫فقدتهــم‪ .‬اســتحضار مــا كان غائب ـاً عــن الوعــي‪ ،‬و اســتثماره يف‬ ‫روايــة جلعلــه عمــ ً‬ ‫ال فنيــاً‪ .‬ففــي العمــل الفنــي يظهــر االلتــزام‪.‬‬ ‫التــــزام آخــر‪ ،‬التــزام داخلــي‪.‬‬


‫‪12‬‬

‫جملــة حساســيات و جتــارب تــذوب بعضهــا يف بعــض فتبنينــا‬ ‫و تبنــي ذاكرتنــا اجلمعيــة‪ ،‬و هــذه احلساســيات تعكــس وجهــة‬ ‫نظرنــا للعالــم‪ .‬لــم أرغــب يف إصــدار مجــرد روايــة‪ ،‬أردت كتابــة‬ ‫مــا يتطــرق إلــى كل هــذه األســئلة‪.‬‬ ‫هــذه الروايــة التــي ألفتهــا مــا بــن ‪ 1998‬و ‪( 2000‬صــدرت بال ّلغــة‬ ‫العربيــة عــام ‪ )2000‬تتموضــع يف قلــب العشــرية الســوداء‪ .‬منــذ تلــك‬ ‫الفتــرة‪ ،‬اتخــذ العنــف و اإلرهــاب بعــد ًا آخــر‪ ،‬فأصبــح دولي ـ ًا‪ .‬كيــف‬ ‫ميكــن قــراءة روايتــك اليــوم ؟‬ ‫يف محتواهــا‪ ،‬كانــت الروايــة متنبئــة بعــض الشــيء‪ .‬لقــد عشــت‬ ‫تســعينات القــرن املاضــي كصحفــي و ككاتــب و كمواطــن‪ ،‬و أعتقــد‬ ‫أننــا واجهنــا إرها ًبــا محل ًيــا أو قوم ًيــا‪ ،‬بينمــا اليــوم‪ ،‬بعــد ظهــور‬ ‫تنظيــم القاعــدة ثــم داعــش‪ ،‬أصبــح ظاهــرة عامليــة‪ .‬بعــد أحــداث‬ ‫‪ 11‬ســبتمبر‪ ،‬ســقوط و أفغانســتان و العــراق‪ ،‬أصبحــت اإلرهــاب‬ ‫دول ًيــا و لــم يعــد يخــص الــدول العربيــة املســلمة فحســب‪،‬‬ ‫بــل أوروبــا كذلــك‪ .‬و ليــس املهاجــرون هــم املتطرفــون و لكــن‬ ‫العديــد مــن ذوي األصــول األوروبيــة‪ .‬نحــن نواجــه ظاهــرة‬ ‫ال يــزال أمامهــا عقــد أو عقديــن مــن الزمــن‪ .‬فاإلرهــاب هــو‬ ‫الوجــه اآلخــر للعوملــة ‪ :‬هنــاك إرهــاب اإلمبراطوريــة وهنــاك‬ ‫اإلرهــاب اإلســالمي الــذي هــو نتــاج إيديولوجيــا ســلفية معوملــة‪.‬‬ ‫هنــاك مصالــح كبيــرة‪ ،‬وليــس اجلانــب فقــط دينــي أو ثقــايف‪ .‬مــن‬ ‫قبــل‪ ،‬عندمــا كان لإلرهــاب بعــد محلــي‪ ،‬كان بوســعنا التحــدث‬ ‫عنــه و دراســته فيمــا يخــص الديــن أو املدرســة‪ ،‬بينمــا اليــوم‪،‬‬ ‫مــع األزمــة االقتصاديــة‪ ،‬أزمــة الهويــات‪ ،‬بــروز واليــات جديــدة‪،‬‬ ‫و الدميقراطيــة املجهضــة يف العالــم العربــي‪ ،‬أصبحــت األمــور‬ ‫أكثــر تعقيـ ًدا‪ .‬للعــودة يف احلديــث عــن الروايــة‪ ،‬مــا جعلنــي أقبــل‬ ‫فكــرة ترجمتهــا هــو أن محتواهــا ال يــزال مواكــب للعصــر ‪ :‬األعمــال‬ ‫الهمجيــة التــي ارتكبتهــا اجلماعــات اإلســالمية يف اجلزائــر‪،‬‬ ‫جندهــا علــى ســبيل املثــال اليــوم يف داعــش‪ .‬فروايتــي جتربــة‬ ‫إنســانية للحــرب‪ ،‬ألننــا خضنــا حر ًبــا أهليــة حقيقــة‪ .‬إنهــا جتربــة‬ ‫إنســانية ملفكــر ممــزق يف مجتمعــه‪ .‬لــم أكــن ألســتغلها للحكــم‬ ‫علــى أي طــرف‪ .‬فقــد أعطيــت الكلمــة للجميــع‪ .‬لــو كنــت يف‬


‫‪13‬‬

‫الروايــة مبنيــة علــى محوريــن رئيســين ‪ :‬الصحفــي الــذي يجســد‬ ‫نوعــا مــن اخلطــاب الفــوري‪ ،‬و املــؤرخ الــذي يســتحضر معنــى‬ ‫التاريــخ‪ .‬مــا كان هدفــك األساســي يف تطويــر هــذا النــص ؟‬ ‫أردت تفكيــك اخلطــاب الرســمي حــول العنــف‪ .‬يف ذلــك الوقــت‪،‬‬ ‫قيــل لنــا أن هــذا العنــف غريــب علــى تاريخنــا و تقاليدنــا و ثقافتنــا‪،‬‬ ‫أردت تفكيــك كل ذلــك‪ .‬أردت أن أحتــدث عــن األشــياء املصمــوت‬ ‫عنهــا‪ ،‬مــن خــالل عمــل روائــي أجلــأ فيــه إلــى التاريــخ‪ .‬ألن‬ ‫التاريــخ‪ ،‬كمــا قــال فوكــو‪ ،‬يتألــف مــن « طبقــات صامتــة » يجــب‬ ‫نفــض الغبــار عنهــا‪ .‬اتخــذت منهــج عالــم آثــار بينمــا كنــت روائ ًيــا‬ ‫يف مجــال التاريــخ‪ .‬مــا كان ضروريــا بالنســبة لــي هــو محاولــة‬ ‫فهــم و عينــا التاريخــي‪ ،‬ألنــه مت محــو كل تاريخنــا‪ ،‬مــن فتــرة مــا‬ ‫قبــل اإلســالم إلــى اإلســالم إلــى غايــة احلركــة الوطنيــة‪ .‬عملــت‬ ‫يف البدايــة كباحــث ‪ -‬اســتعملت املراجــع اإلباضيــة و الشــيعية‬ ‫و الســنية ‪ -‬مــن ثــم اســتخدمت أداوات الروائــي‪ .‬لــم أتخــذ أي‬ ‫موقــف و اســتخدمت تقنيــة آرتــو يف « املســرح و ضعفــه » ‪ :‬نســخة‬ ‫أبــو يزيــد هــو أبــو يزيــد (أحدهمــا شــخصية حقيقيــة و اآلخــر‬ ‫شــخصية خياليــة)‪ ،‬نســخة حميــدو هــو حميــدة ‪ ...‬بهــذه الطريقــة‬ ‫نخلــق بعــد و يبــرز العمــل الروائــي‪ .‬هــو ً‬ ‫أيضــا أســلوب صــويف‪:‬‬ ‫فابــن عربــي يقــول شــي ًئا لينتقــده بعــد ذلــك مباشــر ًة (مثــل الكتابــة‬ ‫و احملــو)‪ .‬احليــاة كذلــك‪.‬‬ ‫هذه عملية اســتجواب مســتمر ‪...‬‬ ‫يف الواقــع‪ ،‬يقتــرح الصوفيــة واقــع التغييــر يف الوجــود ؛ إمكانيــة‬ ‫االســتجواب ‪ /‬طــرح األســئلة يف أي وقــت يفتــح البــاب للتغييــر‪.‬‬ ‫هـــو مثــل التواضــع الــذي طــوره املتصوفــون أيضــاً‪ :‬أعــرف‬ ‫شــيئاً و لكننــي أشــك يف نفــس الوقــت‪ .‬لــذا أردت العــودة إلــى تلــك‬

‫فصل ـ العدد ‪ 0‬ـ ا مللف‬

‫موقــف أيديولوجــي‪ ،‬لكنــت قــد ألفــت كتا ًبــا عــن « عشــر ســنوات‬ ‫مــن اإلرهــاب يف اجلزائــر » و لصــرت خــارج دائــرة الفــن‪ .‬لقــد‬ ‫فكــرت ملي ـاً يف مســألة الهمجيــة التــي هــي نتــاج اإلنســان‪ ،‬نتــاج‬ ‫الغبــاء و نتــاج انعــدام احلريــة‪.‬‬


‫‪14‬‬

‫« الطبقــات الصامتــة » التــي يتحــدث عنهــا فوكــو‪ ،‬لكــن مبــا أننــي‬ ‫ً‬ ‫مؤرخــا‪ ،‬فقــد غصــت يف التاريــخ و الســيما يف اخليــال‪ .‬ألن‬ ‫لســت‬ ‫فاملاضـــي ليــس خطــا مســتقيما ‪ :‬إن قلــت للجزائــري أن لديــه ماض‬ ‫شــيعي‪ ،‬فســيصدمه ذلــك بالتأكيــد‪ ،‬و هنــا تظهــر مكانــة و دور الفــن‬ ‫و األدب‪ ،‬يف (إعــادة) إبــراز كل هــذا و إعطائــه معنــى‪.‬‬ ‫كنــت قــد عملــت علــى نظريــات ‪ /‬تقنيــات فوكــو‪ ،‬آرتــو‪ ،‬يونيســكو ‪...‬‬ ‫هــل ميكنــك التحــدث علــى املنهــج الــذي اتبعتــه ؟‬ ‫هــذه ليســت تقنيــات جديــدة و لكننــي اســتخدمتها يف حقــل‬ ‫آخــر‪ ،‬حقــل خــاص بــي‪ ،‬حقــل ذاكرتــي أو باألحــرى ذكرياتــي‪،‬‬ ‫و هــذا يخــص مــا ميكــن تســميته بالتاريــخ البعيــد‪ .‬فيمــا يتعلــق‬ ‫بالتاريــخ األخــر‪ ،‬الفــوري‪ ،‬اخلــاص بالصحفــي‪ ،‬اســتعنت بخبرتــي‬ ‫الشــخصية‪ .‬و لــم يقتصــر األمــر علــى ذلــك‪ ،‬بــل أيضــاً قصــة‬ ‫العديــد مــن الصحفيــني الذيــن عايشــوا فتــرة التســعينات‪ ،‬حيــث‬ ‫وجدنــا أنفســنا وســط اإلرهــاب‪ ،‬يغمرنــا الشــعور باخلوف و الشــك‬ ‫(لــم نكــن نعــرف إن كنــا ســنعود للبيــت ســاملني)‪ .‬يف تلــك الفتــرة‪،‬‬ ‫طاملــا كنــا نواجــه املــوت يوميــاً‪ ،‬كان يجــب علينــا التغلــب علــى‬ ‫اخلــوف بالغــوص يف العمــل و خلــق مســافة مــع مــا كنــا نعيشــه‪.‬‬ ‫فعلــت الشــيء نفســه يف الروايــة ‪ :‬خلقــت مســافة‪ .‬علــى ســبيل‬ ‫املثــال‪ ،‬وضعــت جانبــا أفــكاري و وجهــات نظــري السياســية و لــم‬ ‫أكــن أريــد االنخــراط يف منطــق « األدب االســتعجالي » مــن خــالل‬ ‫إظهــار الرعــب و الهمجيــة‪ ،‬و إتبــاع املانويــة‪ .‬بالنســبة لــي‪ ،‬ال‬ ‫يوجــد أســود أو أبيــض‪ ،‬جيــد أو ســيئ‪ ،‬األمــور أكثــر تعقيــداً و كل‬ ‫شــيء نســبي‪.‬‬ ‫أنــت تتخــذ موقــف فنان إذ ًا ؟‬ ‫أنــا ال أتخــذ أي موقــف عنــد الكتابــة‪ ،‬أنــا أعبــر عــن آرائــي يف‬ ‫مــكان آخــر‪ .‬يف الكتابــة‪ ،‬أنــا مــع كل مــا هــو جميــل و إنســاني‪.‬‬ ‫و هــذا هــو االلتــزام بالنســبة لــي‪ ،‬مبــا يف ذلــك العمــل اجلمالــي‪،‬‬ ‫الــذي يتــم علــى مســتوى اللغــة‪ .‬ليــس هــذا خطابــي ! يجــب أن‬ ‫ال نخــدع أنفســنا‪ ،‬فالروايــة تكتــب للنخبــة‪ ،‬و لتحقيــق ذلــك‪،‬‬


‫‪15‬‬

‫للتحــدث أكثــر عــن اجلانــب الصحفــي‪ ،‬كنــت قــد أدخلــت بعــض‬ ‫املقتطفــات الصحفيــة علــى الروايــة‪ ،‬مــا الســبب وراء ذلــك ؟‬ ‫اختيــار إدخــال املقتطفــات و العناويــن الرئيســية هــي تقنيــة « عــني‬ ‫الكاميرا »‪ ،‬تقنية اســتعرتها من دوس باســوس و ثالثيته « الواليات‬ ‫املتحــدة األمريكيــة »‪ .‬كمــا قــرأت أيضــا إعالنــات صحفيــة إلعــداد‬ ‫الســير الذاتيــة و عملــت علــى بقايــا األخبــار‪ ،‬كمــا فعــل كارل‬ ‫ماركــس لكتابــة « رأس املــال »‪ .‬نحــن دومـاً نتحــدث عــن احلقائــق‬ ‫و القــادة و السياســات‪ ،‬ولكــن ال نتحــدث عــن املجهولــني‪ .‬بالرغــم‬ ‫مــن أن التاريــخ يصنعــه أنــاس مجهولــون‪ ،‬و مــن هنــا وجــب وجــود‬ ‫صحفيــني يف الروايــة إلعطــاء صــوت لهــؤالء املجهولــني‪.‬‬ ‫هــل كتبــت هــذا الكتــاب إلدالء بشــهادة ؟ لتــرك أثــر مــا ؟‬ ‫كتبــت هــذه الروايــة لكــي ال أكــون ضحيــة تلــك الفتــرة‪ .‬أريــد أن‬ ‫أوضــح أننــي لــم أبحــث حتــى عــن ناشــر‪ .‬أخبرنــي صديقــي‪ ،‬بشــير‬ ‫مفتــي‪ ،‬بالصدفــة عــن دار نشــر جديــدة تبحــث عــن مؤلفــني‪ .‬رمبــا‬ ‫لــو لــم يكــن هنــاك دار البــرزخ للنشــر‪ ،‬ملــا كنــت ألصــدر هــذا‬ ‫الكتــاب‪ ،‬ألننــي كنــت يف نــوع مــن الغيبوبــة ذاك الوقــت و عشــت‬ ‫يف وحــدة خــالل فتــرة كتابتــه‪ .‬كان ميكــن حتــى أن يضيــع هــذا‬ ‫املؤ َّلــف ! للعــودة يف احلديــث عــن فلســفتي يف الكتابــة‪ ،‬ســأقول‬ ‫أنــه لتمريــر الرســائل‪ ،‬كنــت أعتمــد علــى الصحافــة‪ .‬بالنســبة‬

‫فصل ـ العدد ‪ 0‬ـ ا مللف‬

‫نحــاول أن نغــوص يف وعــي النخبــة‪ ،‬يف حساســيتها‪ ،‬علــى املســتوى‬ ‫اجلمالــي‪ ،‬علــى املســتوى الفلســفي‪ ،‬إلــخ‪ .‬يف ذلــك الوقــت‪ ،‬كنــت‬ ‫أتســاءل عــن ماهيــة املــوت‪ ،‬ومــا معنــى أن تعيــش أو أن متــوت‪ .‬كنــا‬ ‫منــوت كل يــوم‪ ،‬كل يــوم يقتــل ويدفــن أصدقــاء لنــا‪ ...‬كان لدينــا‬ ‫احتمالــني ‪ :‬ســوى أن يصيــر ذلــك أمــراً بديهيــاً وتفقــد احليــاة‬ ‫معناهــا‪ .‬أو أن نعيــش املــوت‪ ،‬و ندعــه يســكننا و نتجــاوزه باخللــق‬ ‫و اإلبــداع‪ .‬فالصحفــي يكتــب اللحظــة يف آنهــا‪ ،‬و كصحفــي يف‬ ‫امليــدان‪ ،‬رأيــت أشــياء فظيعــة ‪ -‬لــم أكــن قــد شــهدت مقتــل أي‬ ‫شــخص قبــل تلــك الفتــرة ‪ -‬فصدمــة كهــذه تثيــر تســاؤالت حــول‬ ‫احليــاة و معناهــا‪ .‬و الكتابــة تســاعد يف ذلــك‪.‬‬


‫‪16‬‬

‫لــي‪ ،‬األدب يتعلــق أكثــر باإلســتراتيجية‪ .‬لقــد كتبــت هــذه الروايــة‬ ‫للشــفاء و لعــالج نفســي‪ ،‬ألن املعانــاة أصبحــت جســدية بالنســبة‬ ‫لـــي ‪ :‬خــالل تلــك الفتــرة مــن التســعينات‪ ،‬كنــت أعانــي مــن مشــاكل‬ ‫صحيــة و كنــت قــد أجريــت عمليــة جراحيــة‪ .‬كان يجــب التعبيــر‬ ‫عــن ذلــك بطريقـ ٍـة مــا ! تعاملــت مــع هــذه الروايــة بفلســفة صوفيــة‬ ‫فرفيقــي كان ابــن عربــي‪ .‬كنــت زاهــدا و الكتابــة أعطتنــي فرصــة‬ ‫لتجديــد حياتــي‪ .‬لقــد قمــت بتغطيــة الكثيــر مــن املجــازر‪ ،‬لــم أتأثــر‬ ‫وقتهــا و لكــن يف وقــت الحــق‪ ،‬عندمــا خلــوت بنفســي‪ ،‬عــاد كل‬ ‫شــيء ليظهــر مــن جديــد‪ .‬ذات مــرة اســتدعيت ألكــون عضــواً يف‬ ‫جلنــة حتكيــم يف مهرجــان مســرح مبدينــة عنابــة و قبــل مغادرتــي‪،‬‬ ‫قابلــت الطاهــر جــاووت يف مقــر ‪ .RUPTURES‬حتدثنــا ملــدة‬ ‫ســاعتني وعرضنــا وجهــات نظرنــا‪ .‬كان علينــا أن نلتقــي الحق ـاً‪،‬‬ ‫و لكــن يف اليــوم التالــي‪ ،‬حــني كنــت يف عنابــة‪ ،‬علمــت أنــه قــد مت‬ ‫إطــالق النــار عليــه‪ .‬كان هنــاك أيضــا صحفــي شــاب قتــل و قــد‬ ‫تأثــرت مبوتــه كثيــراً‪ ،‬و أردت أن أشــيد بــه يف هــذا الكتــاب مــن‬ ‫خــالل شــخصية علــي خوجــة‪ .‬عنــد الكتابــة‪ ،‬كنــت أحمــل معــي كل‬ ‫هــؤالء‪ .‬كان مثــل احلــداد علــى تلــك الفتــرة‪.‬‬

‫ترجمها من اللّغة الفرنس ّية هشام مروش‬



‫‪18‬‬

‫» ‪« 1994‬‬

‫لعدالن م ّدي‬ ‫مقابلة أجراها صالح باديس‬

‫كان علي إعادة خلق‬ ‫املدينــة و اإلقليــم‬ ‫بال ّلغــة‪...‬‬ ‫مد ي‬ ‫عدالن ّ‬


‫‪19‬‬

‫فصل ـ العدد ‪ 0‬ـ ا مللف‬

‫‪Ben‬‬

‫صدرت » ‪ « 1994‬سنة ‪ 2017‬عن منشورات البرزخ و هي رواية‬ ‫بوليسية‪ ،‬سوداء‪ ،‬تروي قصة أربعة مراهقني يعيشون رعب‬ ‫التسعينات واحلرب األهلية اجلزائرية (التي لم يتفق اجلزائريون‬ ‫بعد على اسم مشترك لها) وعن دهاليز املخابرات السرية‪ ،‬وعن‬ ‫حروب أخرى عرفتها اجلزائر‪...‬‬ ‫احلرب داخل املدينة يف ظل‬ ‫ٌ‬ ‫و كذلك عن حي احل ّراش‪ ،‬ذلك احلي الشهير يف الضاحية‬ ‫الشرقية ملدينة اجلزائر‪ .‬احلي الذي ُولِد وعاش فيه عدالن مدي‪.‬‬


‫‪20‬‬

‫» ‪ « 1994‬تحرير السرد‬ ‫ّ‬ ‫من قبضة الدولة‬ ‫كتــب عــدالن م ـ ّدي (‪ )1975‬روايتــني بوليســيتني باللغــة الفرنســية‬ ‫‪ )2002( Le casse tête turc‬و ‪.)2008( La prière du Maure‬‬ ‫قبلهــا كان قــد قضــى وقتــاً يف األكادمييــة العســكرية التــي‬ ‫تركهــا الحقـاً ليــدرس الصحافــة بــني اجلزائــر و مارســيليا‪ .‬عــاد‬ ‫أســس مــع زوجتــه الصحفيــة‬ ‫إلــى اجلزائــر و اشــتغل كصحفــي و ّ‬ ‫ميالنــي متــاراس ســنة ‪ُ 2009‬ملحــق ‪.El Watan Week-End‬‬ ‫عبــر هــذا املُلحــق تع ّرفــت علــى اســمه ألول مـ ّرة‪ ،‬حيــث كان ينشــر‬ ‫حتقيقــات و مقــاالت يف السياســة و الثقافــة كل يــوم جمعــة‪.‬‬ ‫الحقـاً‪ ،‬قــرأت روايتــه الثانيــة و بعــد أشــهر قليلــة شــاهدت برنامــج‬ ‫تلفزيونــي تكلّــم فيــه مـ ّدي عــن روايتــه « ‪ ، » 1994‬و مــن ضمــن مــا‬ ‫قالــه‪ ،‬علقــت برأســي هــذه اجلملــة « بعــد التســعينات‪ ،‬لــم أحت ّمــل‬ ‫كنــاج مــن احلــرب » ‪ .‬جملــة أثــارت بذهنــي العديــد مــن‬ ‫وضعــي ٍ‬ ‫األســئلة بخصــوص حــرب لــم أعشــها ألنــي – و للمصادفــة ‪-‬‬ ‫ُو ِلــدت ســنة ‪ ،1994‬و يف مــكان غيــر بعيــد عــن احل ـ ّراش‪ .‬أســئلة‬ ‫عــن احلــرب‪ ،‬عــن األدب اجلزائــري و غيــاب احلــرب فيــه‪ ،‬عــن‬ ‫املاضــي « ذلــك البلــد الــذي حتــدث فيــه األمــور بشــكل مختلــف »‬ ‫كمــا يقــول شــاعر مكســيكي‪ ...‬لهــذه األســباب و أخــرى‪ ،‬مــن بينهــا‬ ‫حــرب بيــروت التــي عرفهــا مــدي خــالل ‪ ، 2006‬قـ ّررت أن أحــاوره‪.‬‬ ‫تطرقنــا لــألدب و املدينــة بــني املركــز و الضاحيــة‪ ،‬و املــكان بــني‬ ‫الشــعرية و اخلريطــة‪ ...‬و أخيــراً عــن ُكتّابــه املفضلــني‪ ،‬و علــى‬ ‫رأســهم راعــي البقــر األمريكــي جيمــس لــي بيــرك‪ ،‬أحــد أشــهر‬ ‫ك ّتــاب الروايــة البوليســية يف اجلنــوب األمريكــي والــذي قــرأ لــي‬ ‫عــدالن – و هــو واقــف يف منزلــه بالضاحيــة الشــرقية للعاصمــة‬ ‫ذات يــوم ربيعــي دافــئ ‪ -‬مقطعـاً « ِشــعرياً » كامـ ً‬ ‫ال لــه‪ ،‬حيــث تتلقــى‬ ‫الشــخصية الرئيســية ضربــات تُســيل دمــه و هــو محشــور داخــل‬ ‫حــوض اســتحمام‪ ،‬متذكــرا كل احلــروب التــي م ـ ّر بهــا‪.‬‬


‫‪21‬‬

‫عــدالن مــدي ‪ :‬كان أمــني ُمق ّيــداً بــكل هــذا الثقــل‪ .‬قضــى عشــر‬ ‫ســنوات هاربــا مــن اخلــوف و الرعــب‪ .‬ال ننســى أيضـاً أن الفتــرة‬ ‫التــي عاشــها كعســكري ســاهمت كثيــراً يف جعلــه ينســى ذاتــه‪.‬‬ ‫كأنــه نفــي و لكــن إلــى الداخــل‪ .‬شــخصيا‪ ،‬قضيــت وقتــاً يف‬ ‫األكادمييــة العســكرية و أفهــم معنــى ذلــك‪ .‬عنــد خروجــي مــن‬ ‫هنــاك صــرت ال أعــرف املشــي و ال حتــى التحــدث بشــكل عــادي‪.‬‬ ‫كنــت أصــرخ بــدل أن أتكلــم‪ .‬أل ّنــك تقضــي شــهرين أو ثالثــة‬ ‫و أنــت تصــر ُخ و تتل ّقــى الصــراخ‪ .‬لتكتشــف الحقــاً أنــه متريــن‬ ‫للرئــة‪ ،‬ك ّل األغانــي و الشــعارات كانــت أيضــا مترينــات‪ .‬ال شــيء‬ ‫مجانــي يف اجليــش‪ .‬كمــا لــو أ ّنــك تعيــش يف عالــم مغايــر بقوانــني‬ ‫مغايــرة‪ .‬ال هويــة لــك‪ ،‬تتحـ ّول إلــى مجــرد رقــم‪ .‬و هــذا مــا ســاعد‬ ‫كثيــرا أمــني يف الروايــة‪ .‬هــرب داخــل هــذا العالــم املــوازي‪ .‬لذلــك‬ ‫ـأن األشــياء ســتتغ ّير‪ .‬شــيء كان‬ ‫جــاء مشــهد مــوت والــده كنذيــر بـ ّ‬ ‫ـن نفســه حتــى عــاد‬ ‫بداخلــه‪ ،‬و كان ســينفجر يف وجهــه‪ .‬لــم يكــد يـ ِ‬ ‫عاملــه القــدمي للظهــور مــن جديــد‪ .‬بعــد أن عــاش ك ّل تلــك الفتــرة‬ ‫ـاج‪ ،‬و وضعيــة الناجــي صعبــة جــدا‪ ،‬تبقيــك بــني احلــي و امليــت‪،‬‬ ‫كنـ ٍ‬ ‫يف بــرزخ‪ .‬و للتناقــض‪ ...‬علــى قــد مــا يكــون فيــه انغــالق‪ ،‬علــى‬ ‫قــد مــا األمــور تتح ـ ّرر مــن ذاكرتــه‪.‬‬ ‫ُكنــت قــد حتدثــت يف حــوار تلفــزي عــن وضعيــة الناجــي بعــد‬ ‫احلــرب األهليــة‪ ،‬و قلــت أنــك لــم تســتطع التأقلــم معهــا‪ ،‬و قبــل‬ ‫أســبوع (شــهر أفريــل ‪ )2018‬كتــب كمــال داوود عــن كتابــك يف‬ ‫‪ ،Le Quotidien d’Oran‬و قال أن روايتك هي رواية كل اجلزائرين‬ ‫ألنهم عاشوا بشكل أو بآخر أحداثها الكبرى ؛ عندما قرأت مقاله‪،‬‬ ‫ألن كل شــخص عــاش التســعينات مــن‬ ‫وجــدت أ ّنــه مخطــئ نوعــا مــا‪ّ ،‬‬ ‫زاويتــه اخلاصــة‪ .‬مــن ناحيــة أخــرى هنالــك ضميــر الغائــب الــذي‬ ‫راو عليــم و خبيــر ذو صــوت كثيــف‪ .‬ليــس‬ ‫تــروي بــه روايتــك‪ ،‬هــو ٍ‬

‫فصل ـ العدد ‪ 0‬ـ ا مللف‬

‫صــاح باديــس ‪ :‬أول شــيء لفــت انتباهــي يف روايــة « ‪ ،» 1994‬يف‬ ‫الفصــل األول بالتحديــد و الــذي تــدور أحداثــه ســنة ‪ ،2004‬أي بعــد‬ ‫نهايــة احلــرب‪ ،‬هــو غيــاب وضعيــة الوقــوف لــدى أمــن‪ ،‬ســواءا يف‬ ‫املستشــفى‪ ،‬يف جنــازة أبيــه أو يف املقهــى‪ ...‬كأنــه خــرج مــن احلــرب‬ ‫األهليــة هكــذا‪ ،‬راكع ـ ًا‪.‬‬


‫‪22‬‬

‫صــوت أمــن طبعـ ًا‪ ،‬و ال صــوت ســيد علــي الــذي تســمح لــه ببعــض‬ ‫املونولوغــات‪ ،‬رمبــا أل ّنــه يقــاوم ذلــك‪.‬‬ ‫كيــف متّ اختيــار صــوت الغائــب؟‬ ‫يف احلقيقــة‪ ،‬كان االختيــار مــن بــاب احليطــة‪ .‬أل ّننــي لــو تكلّمــت‬ ‫بصــوت أمــني‪ ،‬لكنــت قــد فقــدت املســافة بينــي و بــني األحــداث‪.‬‬ ‫لــم أرد أن يكــون عــدالن الــذي كان شــاباً يف ‪ 1994‬هــو مــن يحكــي‬ ‫قصتــه بــدل أمــني‪ .‬أردت احملافظــة علــى تلــك املســافة و يف نفــس‬ ‫الوقــت اإلبقــاء علــى حصتــي مــن القصــة‪.‬‬ ‫ليس عدالن املراهق؟‬ ‫يعني أن الذي ر َوى هو عدالن اليوم و َ‬ ‫بالضبــط‪ .‬أ ّوال‪ ،‬كان يجــب ّأال أتــرك عــدالن ال ‪ 1994‬يفعــل ذلــك‪.‬‬ ‫و ثانيــا وجــوب إبقــاء املســافة بينــي و بــني أمــني و ســيد علــي‪،‬‬ ‫أل ّنهمــا شــخصيتان حقيقيتــان و إحــدى مهامــي ككاتــب هــي حمايــة‬ ‫هويتهمــا‪ ،‬ال أريــد أن تأتــي املخابــرات غــداً لتقــول مــا قصــة هــذا‬ ‫التنظيــم املســلح ضــد اإلرهــاب ؟! (يضحــك)‬ ‫يعني القصة حقيقية؟‬ ‫أفضل اســتعمال عبارة « كان ُميكن أن تكون »‪...‬‬ ‫تقدر تقول‪ ...‬أنا ّ‬ ‫بصفتــي صحفــي‪ ،‬التقيــت العديــد مــن املجموعــات املدنيــة املســلحة‬ ‫قدميـاً‪ ،‬مثــل « األســرة » و « ‪ ،» OGA‬لكنّهــم كانــوا صحفيــني و مــن‬ ‫حــزب الطليعــة االشــتراكي‪ .‬لــم يكونــوا جديــني‪ ،‬كانــوا يحملــون‬ ‫الســالح حلمايــة أنفســهم‪ .‬لــم ُميارســوا االنتقــام كمــا أص ـ ّوره يف‬ ‫كتابــي‪ .‬لــم ينجرفــوا إلــى تلــك املنطقــة‪.‬‬ ‫علــى الصعيــد الشــخصي‪ ،‬أجــد هــذا مثيــراً‪ ،‬أل ّنــه جــزء مــن تاريــخ‬ ‫حــرب داخــل احلــرب‪ ،‬و القليــل مــن يتحــ ّدث‬ ‫اجلزائــر املجهــول‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫عــن ذلــك يف عمــل روائــي‪.‬‬ ‫املهمــة يف الكتــاب‪ ،‬هــو أ ّننــا ال نــرى األحــداث علــى أ ّنهــا‬ ‫مــن األمــور ّ‬ ‫« مأســاة وطنيــة » مثلمــا ُيسـ ّـميها اخلطــاب السياســي‪ .‬لــم ُ‬ ‫تكــن‬ ‫مامــح احلــرب ظاهــرة‪ ،‬باإلضافــة إلــى وجــود أكثــر مــن طــرف‪ ،‬بــل‬


‫‪23‬‬

‫ألن الشــباب األربعــة بالنســبة لــي هــم أبنــاء‬ ‫لــم تكــن كافيــة‪ّ ،‬‬ ‫أشــخاص ينتمــون جليــل آخــر‪ ،‬و يف عمليــة بنــاء شــخصية أدبيــة‬ ‫أن أتقشــف و ّأال أحكــي عــن آبائهــم‪ .‬هــذا أ ّوال‪،‬‬ ‫لــم ي ُكــن ممكنــا ّ‬ ‫أ ّمــا ثانيــا فاحلبكــة اســتلزمت إدخــال عالــم املخابــرات « الغامــض » ‪،‬‬ ‫و شــخصيات مثــل آيبَــك‪ ،‬فهــذا ينتمــي حلياتهــم احلميمــة و احلرب‪،‬‬ ‫أن احلــرب لــم ت ُكــن حربـاً واحــدة‪ ،‬بــل « خالوطــة » كبيــرة‪.‬‬ ‫ألقــول ّ‬ ‫تبــدو لنــا احلــرب اليــوم بســيطة و بــني طرفــني فقــط‪ ،‬و هــذه‬ ‫مغالطــة‪ .‬هنــاك ترابــط كبيــر‪ ،‬عالقــات و روابــط إنســانية بــني مــن‬ ‫قامــوا باحلــرب و مــن دفعــوا ثمنهــا‪ ،‬كان لهــؤالء عائــالت‪ .‬مثــال‬ ‫كان ســماعني العمــاري‪ 1‬يســكن يف احلــراش‪ ،‬كنــت أعــرف عائلتــه‬ ‫و كنــت أتســاءل كيــف عاشــت‪ .‬كان مــن حولــي مجاهديــن ســابقني‬ ‫حملــوا الســالح‪ ،‬كان هنــاك رجــال شــرطة‪...‬‬ ‫أن‬ ‫األمــر ُمعقــد‪ .‬كان‬ ‫علــي أن أكتــب عــن ك ّل هــذا‪ ،‬حتــى أقــول ّ‬ ‫ّ‬ ‫الواقــع كان أكثــر تعقيــداً مــن أطروحــة ‪ « :‬ال ّدولــة تُواجــه اإلرهــاب‬ ‫و الشــعب بينهمــا‪» .‬‬ ‫أن احلــرب لــم تكــن حربـ ًا أهليــة‬ ‫تأكـ ّـد عنــدي – بعــد قــراءة ‪ّ - 1994‬‬ ‫‪ guerre civile‬بــل حرب ـ ًا ضــد املدنيــن ‪،guerre contre les civils‬‬ ‫ألن الشــباب كانــوا يكرهــون ّ‬ ‫كل مــن تسـ ّبب يف احلــرب‪ ،‬ضـ ّـد كل مــن‬ ‫ّ‬ ‫أفســد شــبابهم‪ ،‬أي ضـ ّـد اجلميــع و ليــس ضـ ّـد طــرف معـ ّـن ؟‬ ‫انطلقــت مــن هــذا التناقــض‪ ،‬كيــف ميكــن للعالــم أن ينهــار مــن‬ ‫حولــك و ينفجــر يف اللّحظــة ال ّتــي ُحتــاول فيهــا بنــاء حياتــك‪ .‬مثــل‬ ‫طائــرة تنفجــر عنــد اإلقــالع‪ .‬حاولــت أن أفــ ّكك و َ‬ ‫أشــ ِّرح كيــف‬ ‫ُ‬ ‫إتــالف حيــاة كاملــة‪ ،‬كيــف ُميكــن إتــالف شــباب كامــل‪.‬‬ ‫ُميكــن‬ ‫‪ -1‬ســماعني العمــاري (‪ )2007 – 1941‬لــواء جزائــري‪ ،‬ابــن مدينــة احلــراش‪ ،‬كان‬ ‫علــى رأس مديريــة مكافحــة التجســس الداخلــي واخلارجــي‪ ،‬ومــن أهــم الوجــوه‬ ‫العســكرية التــي لعبــت دوراً كبيــراً يف التســعينات‪ُ .‬‬ ‫(احملــاور)‬

‫فصل ـ العدد ‪ 0‬ـ ا مللف‬

‫كانــت حروب ـ ًا داخــل احلــرب ‪ :‬حــرب بــن األصدقــاء‪ ،‬حــرب داخــل‬ ‫العائلــة‪ ،‬حــرب داخــل املخابــرات‪.‬‬ ‫هــل قصــة الشــباب لــم ُ‬ ‫تكــن كافيــة لصنــع روايــة عــن التســعينات‬ ‫التوســع يف القصــة و إضافــة قصــة‬ ‫يف اجلزائــر ؟ هــل كان يجــب‬ ‫ّ‬ ‫احلــرب علــى اإلرهــاب‪ ،‬و الكولونيــل زبيــر ؟‬


‫‪24‬‬

‫دخلنــا يف دوامــة ال ُميكــن ألحــد أن ينجــو منهــا‪ ،‬حتــى املخابــرات‪.‬‬ ‫اجلنــرال آيبــك يقــول يف نهايــة الروايــة ‪ « :‬ال أريــد أن أســمع عــن‬ ‫احلــرب مـ ّرة أخــرى »‪ .‬أل ّنهــم قامــوا بأشــياء و أجبــروا علــى فعــل‬ ‫أشــياء و رأوا أشــياء فظيعــة‪ .‬لكــن مــن دفــع الثمــن غاليــاً هــم‬ ‫هــؤالء الشــباب‪ ،‬خرجــوا مــن الدوامــة بــال مرجعيــات و نقــاط‬ ‫ارتــكاز‪ ،‬خرجــوا بعــد أن فقــدوا أهــم املفاهيــم‪ :‬احليــاة‪ ،‬املــوت‪،‬‬ ‫احلــب و العدالــة‪ .‬اختلــط ك ّل شــيء‪ .‬هــي قصــة ‪ .gâchis‬و أيضـاً‪،‬‬ ‫هــي قصــة صداقــة قويــة‪ .‬الصداقــة بــني أمــني و ســيدعلي قويــة‬ ‫اســتوحيت منــه إحــدى‬ ‫جــدا‪ .‬تعــرف‪ ،‬حت ّدثــت مــع صديــق لــي‬ ‫ُ‬ ‫الشــخصيات األربــع خــالل الكتابــة‪ ،‬و قــال لــي ‪ « :‬مــا كان ُميكــن‬ ‫لنــا أن نصمــد لــو لــم نكــن مــع بعــض‪ » .‬صدقنــي أنــي جت ّمــدت‪.‬‬ ‫كان محق ـاً للغايــة‪ ،‬رابــط الصداقــة كان قوي ـاً‪ .‬عشــنا مــع بعــض‪،‬‬ ‫و حرســنا بعضنــا البعــض‪ .‬لــم أالحــظ هــذا مــن قبــل‪ ،‬لك ّنــه مــا‬ ‫أن قالهــا لــي‪ ،‬كان األمــر مثــل الصفعــة‪ .‬كيــف ميكــن لإلنســان أن‬ ‫يصمــد يف وجــه الوحــش ؟ خــاوة يف الــدم‪ .‬و ك ّل هــذا يعتبــر شــيئاً‬ ‫بريئ ـاً‪ ،‬أل ّنهــا صداقــات مراهقــة‪ ،‬صداقــات بريئــة‪ ،‬يعنــي عنــدك‬ ‫ك ّل هــذه البــراءة و الهشاشــة مــن جهــة‪ ،‬و مــن جهــة أخــرى عنــدك‬ ‫حــرب يــا ال ـ ّرب ! جيــش و مخابــرات و مصيــر دولــة‪.‬‬ ‫متام ـ ًا‪ ...‬و هنــا اســمح لــي أن أطــرح ســؤال عــن موضــوع الدولــة‬ ‫العميقــة‪ ،‬العلبــة املغلقــة التــي س ـ ّيرت البــاد بــدون رئيــس ملــدة‬ ‫ســنتن‪ .‬شــخصيات مثــل ســتريكتور و آيبــاك و ســونكتيار‪ ،‬هاتــه‬ ‫الشــخصيات ُتشــبه عشــرات األســماء التــي عاشــت حتــوم يف ســماء‬ ‫اجلزائر‪ .‬أو ًال دعني أســأل عن ســبب اختيار أســماء مثل ســتريكتور‬ ‫و ســونكتيار و أيبــك؟‬ ‫آيبك هو اسم مملوك يف احلقيقة‪.‬‬ ‫صــح‪ُ ...‬يشــبه قليـ ًا الزينــي بــركات يف روايــة جمــال الغيطانــي‪ .‬لكــن‬ ‫دعنــي أضيــف ســؤال‪ ،‬ملــاذا عــاد آيبــك و ســونكتيار يف هــذه الروايــة‬ ‫بعــد روايتــك صــاة املوريســكي ؟‬


‫‪25‬‬

‫هــذا صحيــح‪ ،‬لكــن أيض ـ ًا دعنــي أقــول أن الكولونيــل زبيــر يبقــى‬ ‫أكثــر واقعيــة مــن هــؤالء العســكرين‪ .‬تشــعر و أنــت تقــرأ الروايــة‬ ‫أنــه مــن حلــم و دم‪.‬‬ ‫زبيــر شــخصية يف قلــب احلركــة‪ ،‬ال تنســى أن مها َمهــم يف التعامــل‬ ‫مــع الواقــع تختلــف‪ ،‬ســونكتيار و ســتريكتير يبقيــان يف اليخــت‪...‬‬ ‫اســمح لــي أن أقاطعــك‪ ،‬مــن أيــن جــاءت فكــرة اليخــت ؟ بعــض‬ ‫القــراء أخبرونــي أ ّنهــم وجــدوا أ ّنــك بالغــت فيهــا‪.‬‬ ‫يف احلقيقــة أنــا أعــرف القليــل عــن عالــم املخابــرات‪ ،‬و يف العالــم‬ ‫كلّــه عالــم املخابــرات هــو عالــم بارانويــا‪ ،‬عملــك هــو أن تشــك يف‬ ‫كل شــيء‪ ،‬مثــل الفلســفة‪ .‬أمــا بالنســبة للزبيــر‪ ،‬فهــو مبنــي بشــكل‬ ‫أفضــل مــن آيبــك‪ ،‬ألنــي اســتلهمت شــخصية حقيقيــة و هــو‬ ‫الكولونيــل ســماعني العمــاري‪ ،‬و ســماعني كان معروف ـاً عنــه ذلــك‬ ‫اجلانــب احل ّراشــي‪ ،‬وليــد احلومــة‪ ،‬الــذي يدخــل كل املشــاجرات‬ ‫و يخــرج رابحـاً‪ ،‬حتــى يف التســعينات كان يجلــس يف املقهــى و يلعــب‬ ‫الدومينــو‪ ،‬كل هــذا حقيقــي‪ .‬و كان عضــواً شــرفياً يف نــادي كــرة‬ ‫صغيــرة‪ ،‬ليــس احتــاد احلــراش بــل آخــر‪ .‬و هــو شــرطي ســابق‪،‬‬ ‫مــن خلفيــة شــعبية‪ .‬عكــس آيبــك البورجــوازي‪ .‬زبيــر جــاء مــن‬ ‫كل هــذا‪ ،‬كانــت لديــه حيــاة اجتماعيــة‪ ،‬هــذا مــا يهمنــي‪ ،‬كيــف‬ ‫أجعلهــم يخرجــون مــن األســطورة نحــو احلقيقــة‪ .‬زبيــر هــو مــن‬ ‫يحمــل الســالح و الســيارة و يذهــب إلــى امليــدان‪ ،‬عكــس اجلنــرال‬

‫فصل ـ العدد ‪ 0‬ـ ا مللف‬

‫أنــا مرتبــط جــداً بآيبــك‪ .‬هــو شــخصية معقــدة‪ .‬هــو دائمــاً مــا‬ ‫يواجــه خيــارات صعبــة‪ .‬يف صــالة املوريســكي كان منقســماً بــني‬ ‫حمايــة أخيــه و منعــه مــن القيــام بتحريــات كثيــرة‪ .‬و هنــا أيضـاً هــو‬ ‫يواجــه حربـاً كاملــة باإلضافــة إلــى رؤســاء مجانــني‪ ،‬مثــل احملتضــر‬ ‫ســونكتيار الــذي يعيــش يف يخــت و يخــاف مــن كل شــيء‪ .‬منحصــر‬ ‫بــني حــرب هــو مجبــر أن يخوضهــا و رؤســاء منفصلــني عــن الواقــع‬ ‫رغــم أنهــم يســيرون الواقــــع يف نفــس الوقــت‪ُ ..‬كنــت مهتــم بإخــراج‬ ‫صــورة أكثــر تعقيــداً عــن العســكري اجلزائــري‪ ،‬و اخلــروج مــن‬ ‫الكيتــش العنيــف و الصــورة النمطيــة‪.‬‬


‫‪26‬‬

‫آيبــك الــذي ال يتحــرك‪ ،‬يبقــى يف الظــل‪ ،‬ال يشــتبك بالواقــع‪ .‬آيبــك‬ ‫جهــاز أكثــر منــه شــخص‪ .‬عالقتهــم بالواقــع هــي مــن حتــدد ذلــك‪.‬‬ ‫زبيــر هــو مــن ينــزل هــو مــن يشــتبك‪ ،‬بالســالح و التوكــي ووكــي‪.‬‬ ‫هــل تعــرف أن محمــد العمــاري‪ 1‬مثــال (و ليــس اســماعني هــذه‬ ‫املــرة) ملــا كان علــى رأس الــكالس‪ ،‬كان ميلــك توكــي ووكــي ينــام بــه‪.‬‬ ‫(الرضاعــة)‪ .‬جســدياً كان ملتصقـاً بــه‪،‬‬ ‫و كانــوا يســمونه البيبــرون‬ ‫ّ‬ ‫هــل تتصــور أن تعيــش عشــر ســنوات و أنــت ممســك بتوكــي ووكــي؟‬ ‫فيه كل شــيء‪ ،‬الشــرطة و الدرك و املخابرات و اجليش‪ ...‬جنون‪.‬‬ ‫كل هذه القصص الســريالية شـ ّكلت واقعنا ذات يوم‪.‬‬ ‫مبــا أننــا وصلنــا للحــراش‪ ،‬دعنــي أســألك ملــا انتظــرت ثاثــة كتــب‬ ‫حتــى تكتــب حومتــك و ح ّيــك ؟‬ ‫ســؤال مهــم‪ ...‬دعنــي أجمــع أفــكاري قليـ ً‬ ‫ال حتــى ال أتــوه و سأشــرح‬ ‫األمــر‪ .‬عندمــا كتبــت « صــالة املوريســكي »‪ ،‬كنــت قــد ُعــدت‬ ‫للتــو مــن فرنســا و كنــت قــد اشــتقت ملدينــة اجلزائــر كثيــراً‪.‬‬ ‫كان لــدي مــا ٌل ٍ‬ ‫كاف‪ ،‬فأخــذت عطلــة غيــر مدفوعــة األجــر مــن‬ ‫الصحيفــة‪ ،‬و قضيــت جــ ّل وقتــي يف الشــارع‪ ،‬متســكعا طــوال‬ ‫الليــل‪ .‬أمشــي وألتقــط صــوراً‪ ،‬الطلعــات‪ ،‬الهبطــات‪ ،‬الكباريهــات‪،‬‬ ‫البــارات‪ ...‬ك ّل شــيء‪ .‬شــاهدت أمــورا كثيــرة‪ .‬أنــا أعشــق ليــل‬ ‫اجلزائــر حقيقــة‪ .‬منــذ فتــرة نزلــت إلــى الشــارع ليــال‪ ،‬أمــر لــم‬ ‫أفعلــه منــذ عــ ّدة أشــهر‪ .‬فشــهدت علــى عركــة كبيــرة‪ ،‬شــعرت‬ ‫كأن املدينــة ق ّدمــت لــي هديــة‪ .‬كانــت عركــة تاريخيــة‪،‬‬ ‫بالســعادة‪ّ ،‬‬ ‫شــابات و شــباب‪ ،‬اجلميــع ســكارى و الــك ّل يضــرب الــك ّل‪ .‬شــعرت‬ ‫ـدت بــاراً قدمي ـاً‪ ،‬يجتمــع فيــه ك ّل أهــل الليــل‪،‬‬ ‫بالراحــة‪ .‬ثــم قصـ ُ‬ ‫كنــت متأكــداً مــن أ ّنــي ســأجده مغلقــاً‪ ،‬لكنّــي وجدتــه مفتوحــاً‪.‬‬ ‫أحــب هــذا اجلانــب مــن مدينــة اجلزائــر‪ .‬كتبــت عــن كلّ هــذا‬ ‫يف « صــالة املوريســكي »‪ ،‬و رويــت جزائــر اللّيــل‪ ،‬حتــت املطــر‬ ‫و الضبــاب و الرطوبــة‪ ...‬ليســت اجلزائــر البيضــاء املشمســة‪،‬‬ ‫املطلّــة علــى البحــر و الصيــف‪ .‬و رغــم هــذا إ ّال أن النــاس رأوا‬ ‫هــذه األخيــرة يف الروايــة‪ .‬ﻧﺤــﻦ ﻧﻌــﺎين ﻣــﻦ ﻣﺸــﻜﻠﺔ يف مــا يخــص‬ ‫صــورة املدينــة يف األدب اجلزائــري‪.‬‬ ‫‪ -1‬الفريــق محمــد العمــاري (‪ )2012 – 1939‬قائــد أركان اجليــش اجلزائــري بــني‬ ‫‪ 1993‬و ‪.2004‬‬


‫‪27‬‬

‫ال أعتقــد‪ .‬فهــؤالء قراء جزائريني‪ .‬يســكنون املدينة‪.‬‬ ‫أن العديــد مــن النــاس يف منطقتنــا‪ ،‬لــم يبنــوا‬ ‫دعنــي أقــول أيض ـ ًا ّ‬ ‫مدينتهــم اخلاصــة يف مخيلتهــم‪ ...‬مدينــة اجلزائــر و ماضيهــا‬ ‫الصوري االستعماري‪ ،‬عبر اللوحات و الصور و الكتب‪ .‬أنت بذاتك‬ ‫حتدثــت عــن التســكع يف املدينــة‪ ،‬يف ال ّليــل‪ ،‬الدخــول و اخلــروج مــن‬ ‫األماكــن و رســم خريطــة خاصــة بــك‪ .‬هــذا أمــر ال يفعلــه اجلميــع‬ ‫هنــا‪ .‬ال تــزال صــورة اجلزائــر مرتبطــة ببحرهــا‪.‬‬ ‫طــاغ علــى هــذه النظــرة‪ .‬يقولــون‬ ‫صحيــح‪ .‬اجلانــب اإلكزوتيكــي ٍ‬ ‫لــي « واو‪ ،‬أنــت تصــف اجلزائــر بشــكل جميــل »‪ ،‬و مــا دخلــي‬ ‫أنــا بجمــال اجلزائــر ؟ لــم يكــن هــذا هــديف و ال عملــي‪ .‬مدينــة‬ ‫اجلزائــر جميلــة يف هبالهــا و تناقضاتهــا‪ ،‬و ليــس ألنّ بهــا شــمس‬ ‫و بحــر‪ .‬مدينــة اجلزائــر جميلــة أل ّنــك تســمع يف هــدوء الليــل ذلــك‬ ‫الصــوت ال ـ ّذي نســميه « ال ـزّف »‪ ،‬خلفيــة صوتيــة قو ّيــة يف ا ّلليــل‬ ‫تأتــي مــن املينــاء يف أســفل املدينــة‪ .‬اجلزائــر مثــل قــدرة تغلــي‪.‬‬ ‫بهــا شــيء عصبــي‪ .‬لذلــك قــررت يف هــذه الروايــة أن أخــرج مــن‬ ‫أن مدينــة اجلزائــر هــي يف الواقــع ُمــدن‬ ‫وســط املدينــة‪ ،‬أن أظهــر ّ‬ ‫ألن الروايــة البوليســية هــي‬ ‫كثيــرة‪ .‬هــذا شــيء مهـ ّم بالنســبة لــي‪ّ .‬‬ ‫ك ّل هــذا‪ ،‬أن حتكــي الهامــش‪ .‬أن حتكــي ك ّل مــا يبــدو بعيــداً و قــذراً‪.‬‬ ‫عالــم الضواحــي‪ .‬يف هــذا نــوع مــن االنتقــام األدبــي أيضــا‪.‬أن‬ ‫أن مدينــة‬ ‫جتعــل نصــك خــارج املركــز‪ .‬خــارج املُتو ّقــع‪ .‬ال تنســى ّ‬ ‫اجلزائــر تعتبــر موضوعــا جتاريــا يف اخلــارج‪ .‬الســبب اآلخــر هــو‬ ‫أن احلــراش حومتــي و إقليمــي‪ .‬جــدود أبــي ولــدوا يف احلــراش يف‬ ‫ّ‬ ‫هجروهــم مــن تابــالط‬ ‫بدايــة القــرن العشــرين‪ .‬ك ّل أولئــك ال ّذيــن ّ‬ ‫و املديــة و نزعــوا لهــم أراضيهــم يف مرتفعــات بــن شــيكاو‪ .‬ك ّل‬ ‫تلــك القبائــل التــي عانَــت مــن الفقــر و املجاعــة أتــت لتســكن يف‬ ‫ضواحــي العاصمــة‪ .‬أردت ســرد هــذه الســاغا العائليــة مــن جهــة‬ ‫أل ّنهــا جــزء منــي و مــن جهــة أخــرى ألعطــي قصــة مغايــرة للروايــة‬ ‫بــأن اجلزائــري كان إ ّمــا يف‬ ‫املؤسســة و الطاغيــة التــي تقــول ّ‬ ‫املدينــة أو يف اجلبــل‪ .‬احلقيقــة هــي غيــر ذلــك‪ ،‬فاألغلبيــة كانــوا‬

‫فصل ـ العدد ‪ 0‬ـ ا مللف‬

‫رمبا ألنّك استعملت كلمة املوريسكي ؟‬


‫‪28‬‬

‫يف املــا بــني بــني‪ ،‬أي يف الضواحــي‪ .‬حتــى احلــرب كانــت هنــاك يف‬ ‫التســعينات‪ .‬مــا يهمنــي هــو الهامــش و شــعور الــال أمــن لــدى النــاس‬ ‫يف الضواحــي‪ ،‬تلــك التــي بهــا حــروب دائمــا‪ ،‬حتــى يف فتــرة الســلم‬ ‫تعيــش حــروب طبقيــة و اجتماعيــة‪.‬‬ ‫صحيــح‪ ،‬شــعرت بهــذا عنــد وصفــك لعائــات الشــباب األربعــة‪،‬‬ ‫أصولهــم و طبقتهــم اإلجتماعيــة‪ .‬لكـ ّـن مــا اثــار انتباهــي أيضــا‬ ‫أن احل ـ ّراش متثلــت عبــر أمريــن اثنــن ‪ :‬اخلريطــة و الشــعر‪.‬‬ ‫هــو ّ‬ ‫ـوي بالكارتوغرافيــة يف هــذه الروايــة‪،‬‬ ‫ـس قـ ّ‬ ‫هنالــك رســم دقيــق و حـ ّ‬ ‫شــيء ال جنــده يف األدب اجلزائــري الــذّ ي يجعــل ا ُملــدن بــا معالــم ؛‬ ‫الشــيء الثانــي و هــو الشــعر‪ .‬الصفحــات الثــاث التــي ُتسـ ّـجل‬ ‫عــودة ســيد علــي إلــى احل ـ ّراش‪ ،‬هــي صفحــات عظيمــة و سـ ِـخ ّية‬ ‫شــعري ًا‪ .‬ذلــك ال ـ هنــا الــذّ ي اســتعملته بتكــرار و موســيقى جميلــة‪.‬‬ ‫جاء الشــعر أل ّني أردت اســتعادة مدينتي‪ .‬لســت أملك أدنى مشــكل‬ ‫مــع احلـ ّراش‪ ،‬و ال مــع ُســمعتها كمدينــة مقــودة‪ ،‬و ال مــع معمارهــا‬ ‫أن‬ ‫بحجــة ّ‬ ‫الكولونيالــي‪ .‬لســنا متصاحلــني يف أدبنــا مــع املدينــة ُ‬ ‫املســتعمر هــو مــن بناهــا‪ .‬أنــا أحــب احلــ ّراش أل ّنهــا حومتــي‪.‬‬ ‫أل ّنهــا ضاحيــة فقيــرة و ثائــرة و فيهــا أصحابــي‪ .‬تعــرف‪ ،‬لــم أ ُكــن‬ ‫ولــداً شــعبياً‪ ،‬لــم أكــن أخــرج كثيــراً‪ .‬كنــت ولــداً محم ّي ـاً مــن قبــل‬ ‫العائلــة‪ ،‬خاصــة أ ّننــا تن ّقلنــا كثيــراً مــا بــني احلــراش و بوزريعــة و واد‬ ‫الســمار‪ ...‬ح ّتــى أنــا عشــت هنــا و يف فرنســا ثـ ّم ُعــدت‪ ،‬و اآلن أنــا‬ ‫أســكن يف منتصــف املســافة بــني احلــراش و وســط اجلزائــر‪.‬‬ ‫بقيت دائم ًا يف اجلبهة الشــرقية‪...‬‬ ‫طبعـاً‪ ...‬ال أطيـ ُق غــرب العاصمــة‪ .‬أ ّمــا بالنســبة ملســألة اخلريطــة‪،‬‬ ‫فذلــك جــاء كــرد فعــل علــى قراءاتــي لــألدب اجلزائــري و املغاربــي‪.‬‬ ‫ِب‬ ‫لدينــا مشــكلة كبيــرة مــع اإلقليــم‪ ،‬ال نشــعر أ ّنــه ينتمــي لنــا‪ .‬أل ّنه ُسـل َ‬ ‫ض علينــا بالطريقــة التــي أرادتهــا دولــة‬ ‫منــا‪ ،‬ثـ ّم اســتعدناه‪ ،‬ثـ ّم ُفـ ِـر َ‬ ‫االســتقالل‪ .‬شــوف‪ ،‬مثــال أســماء الشــوارع‪ ،‬غ ّيروهــا كمــا أرادوا‪ .‬ال‬ ‫أفهــم مثـ ً‬ ‫ال ملــاذا ال زلنــا نســتعمل اســم هــذا اخلائــن « حســني داي »‪،‬‬ ‫غ ّيــروا االســم ! (يضحــك)‬


‫‪29‬‬

‫ُتذكّرنــي اآلن بشــيء مهـ ّـم‪ ...‬األدب اجلزائــري موجــود منــذ مطلــع‬ ‫اخلمســينات‪ ،‬لنقــل منــذ أن بــدأ نشــر كتــب محمــد ديــب‪ ،‬لكــن أتعــرف‬ ‫منــذ متــى دخلــت الروايــة اجلزائريــة إلــى املدينــة و إلــى العاصمــة‬ ‫حتديد ًا ؟ جاء ذلك حتى يف بداية التسعينات‪ ،‬مع طاهر جاعوت‪...‬‬ ‫هنالــك تعلّــق باملــكان و بالنــاس‪ ،‬خاصــة أهلــي‪ .‬عندمــا تكتــب‪،‬‬ ‫أن احلــ ّراش‬ ‫تتحــ ّدث عــن الوضــع و عمــا يُلهِ مــك‪ .‬عندمــا أقــول ّ‬ ‫مدينــة معروفــة باإلخــوة املســلمني و مناضلّــي حــزب الطليعــة‬ ‫اإلشــتراكي‪ ،‬هــذا يعنــي أ ّنهــا بلــدة ثائــرة‪ .‬تعــرف‪ ،‬لــم أعــد أقطــن‬ ‫باحلـ ّراش منــذ عشــرين عامـاً‪ ،‬ولك ّنــي ُعــدت و الكاميــرا يف يــدي‪،‬‬ ‫عــدت ألرى األماكــن و أجــري القياســات‪ .‬زُرت غابــة « البابــاس »‬ ‫رغــم أ ّنهــا ُد ِّمــرت منــذ بــدء أشــغال جامــع اجلزائــر األعظــم هــذا‪...‬‬ ‫هنالــك األشــجار مثــال‪ ...‬أجريــت حتقيقــا عــن اإلقليــم‪ .‬و تسـ ّكعت‬ ‫ألن الصــور‬ ‫كثيــراً‪ .‬ك ّل هــذا يُغــذي اجلــزء الواقعــي مــن العمــل‪ّ .‬‬ ‫التــي أملكهــا هــي صــور مــن زمــن املراهقــة‪ ،‬فل ّمــا ُعــدت‪ ،‬بــدى لــي‬ ‫كل شــيء صغيــر احلجــم مقارنــة مبــا هــو يف ذاكرتــي‪.‬‬

‫فصل ـ العدد ‪ 0‬ـ ا مللف‬

‫علــي إعــادة خلــق املدينــة و اإلقليــم باللغــة‪ ،‬إقليــم ُمحــ ّدد‬ ‫كان‬ ‫ّ‬ ‫و مرســوم بد ّقــة‪ ،‬عكــس مــا نقــرأه هنــا و هنــاك عــن أقاليــم‬ ‫ّ‬ ‫أن‬ ‫هشــة‪ ،‬ال نشــعر بالتواصــل معهــا‪ .‬كمــا ال يجــب أن ننســى أيضـاً ّ‬ ‫الروايــة البوليســية هــي نــوع مدينــي‪ ،‬فقــط يف الســويد و النرويــج‬ ‫نقــرأ روايــات بوليســية حتــدث يف قــرى‪ ،‬هــذا أمــر مضحك‪.‬بالرغــم‬ ‫يســجلون جرميــة واحــدة يف الســنة‪ ،‬إ ّال أ ّنهــم يكتبــون‬ ‫مــن أ ّنهــم‬ ‫ّ‬ ‫اليــوم أحســن الروايــات البوليســية يف العالــم ! يف احلقيقــة هــذا‬ ‫أن األوروبيــني يح ّبــون الشــعور باخلــوف‬ ‫راجــع ألمــر آخــر‪ ،‬أال و هــو ّ‬ ‫(يضحــك)‪ .‬منــذ مـ ّدة قليلــة ّ‬ ‫مت تفكيــك آخــر منظمــة سـ ّرية مسـلّحة‬ ‫يف أوروبــا الغربيــة‪ ،‬هــل تتخ ّيــل الضجــر ال ـ ّذي س ـيُصيبهم ؟!‬ ‫الشــيء اآلخــر هــو أ ّننــي لــم أرد أن أغــش‪ .‬أثنــاء وصــف ســيد علــي‬ ‫و هــو ميشــي يف طريــق بــه كاليتــوس‪ ،‬كتبــت اســم الشــارع و نــوع‬ ‫األشــجار‪ ،‬لــم أكتــب « األشــجار » فقــط‪ .‬أردت أن أحتــرم القــارئ‪،‬‬ ‫أردتــه أن يــرى القرمــود األحمــر يف احلــ ّراش و يســمع املقنــني‬ ‫احلــي‪ .‬أل ّنــه مــن املهــ ّم أن‬ ‫يغنّــي‪ ...‬أردتــه أن يــرى ك ّل تفاصيــل‬ ‫ّ‬ ‫تكــون الروايــة مص ـ ّورة‪.‬‬


‫‪30‬‬

‫أن هــذه العــودة ُمرتبطــة بالســن أيضــا‪ .‬عشــت طيلــة حياتــي‬ ‫أظــن ّ‬ ‫ُمتفاديـاً االرتبــاط بحـ ّـي مــا‪ ،‬و كان هــذا يُجنّبني الدخول يف نقاشــات‬ ‫و مهاتــرات حــول « احلومــة » مــع النــاس‪ .‬و حتــى عندمــا كانــوا‬ ‫يقولــون لــي أنــت « عاصمي‪/‬آجليــروا » كنــت أقــول ‪ « :‬ال‪ ،‬لســت‬ ‫ألن الباريســي ال وجــود لــه وكذلــك‬ ‫كذلــك‪ ،‬ال وجــود للعاصمــي ّ‬ ‫النيويوركــي‪ » .‬و منــذ تركنــا احل ـ ّراش‪ ،‬عشــت نوع ـاً مــن التوهــان‪.‬‬ ‫ســكنت ك ّل أحياء اجلزائر الوســطى الحقاً‪ .‬تفاديت التعلّق باألشــياء‬ ‫و األماكــن لكونــي دائــم التن ّقــل‪ .‬لكــن اآلن‪ ،‬و مــع تقـ ّدم العمــر‪ ،‬أظـ ّـن‬ ‫أ ّننــي بحاجــة الســترجاع الرابــط مــع اجلــذور و مــع إقليــم الطفولــة‪.‬‬ ‫ملــاذا ال يوجــد صحفيــن يف روايتــك ؟‬ ‫حجــاج‪ ،‬منشــورات البــرزخ)‬ ‫حت ّدثــت مــع ناشــري‪ ،‬ســفيان (ســفيان ّ‬ ‫حــول هــذا املوضــوع‪ ،‬و وجــدت أ ّننــي ال أريــد إقحــام شــخصية‬ ‫صحفــي يف الروايــة لســبب بســيط هــو أ ّنــه لــم ي ُكــن يف محيطــي‬ ‫وقتهــا أي صحفــي‪ .‬الســبب الثانــي هــو خــويف مــن أن أح ّمــل‬ ‫الروايــة أكثــر مــن طاقتهــا‪ .‬لــو أدخلــت صحفيــا يف القصــة لكانــت‬ ‫ســتؤدلج و تفــرض علــى الروايــة خطابـاً عــن الضحيــة و الشــهيد‪،‬‬ ‫وهــذا بالتحديــد مــا أردت أن أتفــاداه‪.‬‬ ‫رمبــا أردت أن حتكــي قصــة التســعينات بشــكل ُمغايــر عــن الســردية‬ ‫الشــعبية الســائدة عنهــا ؟‬ ‫نعــم‪ ،‬رمبــا‪ ...‬أل ّنــه ســهل جـ ّدا أن تصــف التســعينات ك ُعشــرية فيهــا‬ ‫جيــش و إرهــاب و صحفيــني يُقتلــون‪ .‬يف « صــالة املوريســكي » كان‬ ‫هنالــك صحفــي أل ّننــي احتجتــه يف تفصيــل ُمحـ ّدد ثــم تخلّصت منه‪.‬‬ ‫دعنــا ننتقــل إلــى موضــوع آخــر اآلن‪ .‬عنمــا تــويف فــاروق بلوفــة‬ ‫( ‪ ،)2018 – 4 – 9‬املخــرج اجلزائــري صاحــب فيلــم « نهلــة »‪ ،‬كتبــتَ‬ ‫أ ّنــك صــرت صحفي ـ ًا بســبب هــذا الفيلــم‪.‬‬ ‫هــذا صحيــح‪ .‬أذكــر أ ّنــي شــاهدته علــى التلفزيــون عندمــا‬ ‫كنــت طفــ ً‬ ‫ال‪ .‬و املضحــك يف األمــر أ ّنــي بعدهــا بســنوات طويلــة‬


‫‪31‬‬

‫كيــف كان اللقــاء مــع بيــروت ؟‬ ‫مثــل احللــم‪ ...‬األمــر كان صعبـاً طبعـاً‪ .‬ســافرت إلــى دمشــق‪ ،‬و كان‬ ‫ألن الصحفيــني‬ ‫مــن املســتحي ًل أن ألتحــق ببيــروت عبــر الطاكســي ّ‬ ‫األجانــب رفعــوا أســعار الرحــالت‪ .‬كانــوا يدفعــون ‪ 1000‬أورو مــن‬ ‫دمشــق إلــى بيــروت‪ .‬كنــت أملــك ‪ 1000‬أورو و لكــن ألصرفهــا يف‬ ‫شــهر كامــل‪ .‬عندمــا وصلــت هنــاك‪ ،‬كانــت احلــرب قــد بــدأت منــذ‬ ‫أســبوع و كان املشــهد عظيمــا‪ .‬نزلــت مــن طرابلــس‪ ،‬عبــر سلســلة‬ ‫مــن الباصــات الصغيــرة‪ ،‬ك ّل رحلــة أدفــع فيهــا دوالراً أو اثنــني‪.‬‬ ‫ألن اإلســرائيليني كانــوا يقصفــون األنفــاق‬ ‫كانــت مخاطــرة كبيــرة‪ّ ،‬‬ ‫و الطرقــات‪ .‬مــا إن كنــا نعبــر نفقـاً حتــى نســمع النــاس يصرخــون ‪:‬‬ ‫« يــال يــال يــال نفــق نفــق نفــق »‪ ،‬فيضغــط الســائق علــى دواســة‬ ‫‪ -1‬ﻣﻘــﺎل ﻟﺼــﻼح ﺑﺎدﻳــﺲ ﰲ ﻣﻮﻗــﻊ ‪ Casbah Tribune‬ﺑﻌﻨــﻮان‪ :‬ﻓــﺎروق ﺑﻠﻮﻓــﺔ ﻳــﱰك ﻟﻨــﺎ » ﻧﻬﻠــﺔ «‬ ‫وﻳﺮﺣــﻞ ) ‪.(2018 – 4 – 17‬‬

‫فصل ـ العدد ‪ 0‬ـ ا مللف‬

‫التقيــت يوســف ســايح‪ ،‬الصحفــي و لــم أنتبــه أ ّنــه هــو مــن م ّثــل‬ ‫دور الصحفــي « العربــي » يف الفيلــم حتــى لقائنــا الثانــي‪ .‬ذلــك‬ ‫الــدور ال ـ ّذي أحببــت بســببه املهنــة‪ .‬تلــك الصحافــة التــي تضعــك‬ ‫يف مواقــف حــرب و مغامــرة‪ .‬أن تعيــش يف بيــروت حتــت القصــف‬ ‫حــب مغن ّيــة‪ ...‬هــذه هــي الصحافــة‪.‬‬ ‫و تقــع يف ّ‬ ‫املــرة الثانيــة التــي رأيــت فيهــا الفيلــم‪ ،‬كان يف ظــروف غريبــة‪ .‬كان‬ ‫ذلــك ســنة ‪ 1999‬أو ‪ ،2000‬يف الســينماتيك باجلزائــر‪ ،‬كان « جــاز »‬ ‫صديقــي هــو مــن يُنظــم األفــالم يف القاعــة‪ ،‬ســألني ‪ « :‬مــاذا‬ ‫ســتفعل غــدا ؟ » ‪ ،‬كان ذلــك يــوم عطلــة فذهبــت‪ .‬و هنــاك شــاهدت‬ ‫« نهلــة » للمــرة الثانيــة‪ ،‬كنــت أنــا و هــو فقــط يف القاعــة‪ ...‬و كانــت‬ ‫الصدمــة‪ .‬نهلــة بصوتهــا و صورتهــا علــى الشاشــة العمالقــة‪ ،‬ك ّل‬ ‫هــذا لــي وحــدي‪.‬‬ ‫املــرة الثالثــة لــم أشــاهد فيهــا الفيلــم بــل عشــته‪ .‬و ذلــك عندمــا‬ ‫ســافرت إلــى بيــروت ســنة ‪ 2006‬كــي ّ‬ ‫أغطــي أحــداث احلــرب‪ .‬أنــت‬ ‫ـت مقــاالً‪ 1‬عــن مــوت بلوفــة و قلــت فيــه أ ّنــك عندمــا‬ ‫كنــت قــد كتبـ َ‬ ‫مشــيت يف بيــروت أل ّول مــرة‪ ،‬شــعرت أ ّنــك متشــي داخــل الفيلــم‪.‬‬ ‫هــذا مــا عشــته بالــذات‪ .‬عندمــا ركبــت املينــي بــاص مــن طرابلــس‬ ‫إلــى بيــروت يف جويليــة ‪.2006‬‬


‫‪32‬‬

‫البنزيــن‪ ،‬إلــى أن اقتربنــا مــن بيــروت‪ ،‬فطلبــت مــن الســائق أن‬ ‫أصعــد مــن األمــام‪ .‬كانــت حلظــة حاســمة‪...‬‬ ‫أنــا تربيــت يف الثمانينــات علــى أخبــار احلــرب األهليــة يف لبنــان‪،‬‬ ‫أغانــي مارســيل خليفــة و شــعر درويــش و فيلــم نهلــة‪ ...‬كل هــذه‬ ‫النوســتاجليا و النضــاالت التــي لــم أعرفهــا ســوى طف ـ ً‬ ‫ال‪ ،‬عندمــا‬ ‫كنــت أقــرأ املجــالت العربيــة التقدميــة الصــادرة مــن لنــدن‪.‬‬ ‫عنــد وصولنــا بــدى لــي رأس بيــروت و املدينــة كاملــة يغشــوها‬ ‫ســحاب مــن دخــان القصــف‪ .‬النــاس معنــا كانــوا قلقــني‪ ،‬أ ّمــا أنــا‬ ‫فكنــت متحمســاً‪ ،‬يُقشــعر جلــدي اآلن و أنــا أحكــي ذلــك‪ ،‬كنــت‬ ‫أعيــش فيلــم « نهلــة » و ُكنــت ســعيداً هنــاك‪ .‬ذهبــت إلــى كل مــكان‪،‬‬ ‫ال أقــول أ ّنــي لــم أكــن خائف ـاً‪ ،‬لكـ ّـن لــم ي ُكــن هــذا مهم ـاً وقتهــا‪.‬‬ ‫ذهبــت إلــى الضاحيــة أيضـاً‪ ،‬بــل وصعدنــا إلــى املختــارة لنــرى وليــد‬ ‫جنبــالط‪ ،‬لكنّهــم منعونــا مــن ذلــك‪ .‬انتقمــت لذلــك ســنتني بعدهــا‪،‬‬ ‫و تغ ّدينــا معــا و حت ّدثنــا ملــ ّدة ســاعة كاملــة عــن اجلزائــر‪ .‬كنــت‬ ‫أعيــش شــبه حلــم عــن اجلزائــر‪ ،‬جزائــر أخــرى‪ ،‬مختلطــة‪.‬‬ ‫لدي سؤال حول هذا‪ .‬كيف جنح اللبنانيون‪ ،‬عبر أدبهم وسينماهم‬ ‫أن ُيصــدروا هــذه الصــورة عــن احلــرب‪ ،‬بــل و جعلــوا العــرب ُيعيــدون‬ ‫تصديرهــا معهــم و ُيســاهمون يف خلــق املِخيــال ؟ فــاروق بلوفــة مثـ ًا‬ ‫أخــرج فيلم ـ ًا واحــد ًا يف حياتــه‪ ،‬و كان هــذا الفيلــم حــول احلــرب‬ ‫هنــاك‪ .‬أنــت أيضــا كتبــت احلــرب‪ ،‬حربــك‪ ،‬لكــن الكثيريــن لــم يكتبــوا‬ ‫عــن ذلــك بعــد‪ ،‬لــم يصـ ّوروا‪ ،‬لــم يرســموا‪ ...‬ذاكرتنــا ال تزال متحجرة‬ ‫بخصــوص مــا حصــل يف جزائــر التســعينات‪ .‬عندمــا نتســاءل اليــوم‪،‬‬ ‫نريــد معرفــة احلقيقــة‪ ،‬و ليــس معرفــة قصــص النــاس و حكاياتهــم‬ ‫أن قصــص النــاس و اختافاتهــا‪،‬‬ ‫و كيــف عاشــوا‪ ،‬أنــا بــدوري أظـ ّـن ّ‬ ‫هــي احلقيقــة الوحيــدة‪ ،‬فسيفســاء كبيــرة و مل ّونــة‪...‬‬ ‫أن هــذه النزعــة اجلزائريــة بخصــوص « معرفــة احلقيقــة‬ ‫أظــن ّ‬ ‫ّ‬ ‫الوحيــدة » تعــود لســبب بســيط و ال ُميكننــا مقارنــة األمــر مــع لبنــان‬ ‫ألن لبنــان بهــا طوائــف عديــدة‪ ،‬ك ّل طائفــة عاشــت احلــرب‪ ...‬بــل‬ ‫ّ‬ ‫العالــم بشــكل مختلــف‪ ،‬كل طائفــة لهــا عاملهــا اخلــاص‪ ،‬ال توجــد‬ ‫هنــاك دولــة مركزيــة قويــة مثلمــا هــو احلــال هنــا‪ .‬هــذا يخلــق‬ ‫ســرديات عديــدة‪ ،‬تتصــادم و تتالحــم‪ .‬حتــى يف السياســة تــرى هــذا‬


‫‪33‬‬

‫فصل ـ العدد ‪ 0‬ـ ا مللف‬

‫االنعــكاس يف التحالفــات و الصراعــات‪ ،‬فمــا بالــك بــني طبقــات‬ ‫املجتمــع العميقــة ‪ .‬وســط ك ّل هــذا توجــد الســر ّديات‪ ،‬ســرديات لــم‬ ‫يت ـ ّم ال َبحــثّ فيهــا أبــداً‪.‬‬ ‫هنــا‪ ،‬توجــد ســردية واحــدة و مركزيــة طاغيــة‪ ،‬و هــذا ال يعنــي‬ ‫أ ّنهــا تقتصــر علــى الدولــة فحســب‪ ،‬لل ّدولــة ســرديتها التــي ميكــن‬ ‫اختصارهــا يف ‪ « :‬يــا جماعــة قعرنــا لهــا باباهــا‪ ،‬لوخريــن رفــدوا‬ ‫الســالح واحنــا قعرناهــم و مــن بعــد فهمــوا بلــي مــا فيهــاش‪ ،‬دخلــوا‬ ‫ف الصــف و خالصــت احلكايــة »‪ .‬و للمجتمــع أيضــاً ســرديته‬ ‫ألن املشــكل بالتحديــد‬ ‫اخلاصــة‪ ،‬ســردية كلّهــا خــوف ممــا حصــل‪ّ .‬‬ ‫يف كونهــا ليســت حربـاً‪ ،‬بــل مجــزرة داخليــة بــني األخ و أخيــه‪ .‬قــال‬ ‫لــي بوجــدرة خــالل حــوار أجريتــه معــه شــيئاً عظيمـاً‪ ،‬كان ذلــك يف‬ ‫‪ « : 2001‬التســعينات أســقطت أســطورة األخ اجلزائــري‪ ،‬كلمــة‬ ‫الـ « خو» أو « خويا »‪ ،‬الكلمة السـ ّر يف لغة اجلزائريني »‪ .‬ســقطت‬ ‫هــذه الكلمــة مــن اللّغــة‪ ،‬و ع ّوضتهــا صدمــة كبيــرة لــم نُسـ ِّمها بعــد‬ ‫ألن العنــف ال‬ ‫و لــم جنــد لهــا مكانــاً يف اللّغــة‪ .‬أتــدري ملــاذا ؟ ّ‬ ‫يــزال موجــودا‪ ،‬يحــوم حولنــا و فوقنــا‪ .‬ملــا تشــوف إحصائيــات الدرك‬ ‫و الشــرطة بعــد األلفينــات عــن حــوادث ضــرب األبنــاء ألهاليهــم‪،‬‬ ‫ســتجدها قــد انفجــرت‪ .‬العنــف العائلــي و الطــالق و ك ّل هــذا‪...‬‬ ‫ناهيــك عــن مــا رمينــاه حتــت الزربيــة‪ .‬مــن الطبيعــي و املفهــوم أن‬ ‫نتناســى للمضــي قدمــا‪ ،‬لتملــك تلفــازاً جديــداً و مســكن « عــدل »‪...‬‬ ‫هــذه طبيعــة اإلنســان‪ .‬حتــى بالنســبة لــي‪ ،‬انفجــرت « صدمتــي »‬ ‫اخلاصــة يف وقــت معــني‪ ،‬لــم أتعايــش معها منذ التســعينات‪ ،‬و بســبب‬ ‫ّ‬ ‫هــذا كتبــت الروايــة‪.‬‬ ‫موجهــة لكونهــا متعـ ّددة‪ .‬هنــا‪ ،‬الســردية‬ ‫يف لبنــان‪ ،‬الســردية غيــر ّ‬ ‫رهينــة سياســة معينــة و خطابــات معينــة‪ .‬الصحفيــني يقولــون‬ ‫هــذا ال ـ ّذي حــدث و نحــن ضحايــاه‪ ،‬حتــى صــار األمــر فولكلــور‪،‬‬ ‫كأن الصحفيــني لــن ميوتــوا بعــد اليــوم‪.‬‬ ‫كأن األمــر صــار نصب ـاً‪ ،‬و ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال ّدولــة عندهــا خطابهــا‪ ،‬تقــول لــك هنــاك جماعــة انتفضــت بــدون‬ ‫أن ال ّدولــة حتتكــر العنــف فقــد اســتعملته‪ .‬أهالــي‬ ‫شــرعية و مبــا ّ‬ ‫اخلاصــة‪ ،‬اإلخــوان ســردية أخــرى‪.‬‬ ‫املفقوديــن عندهــم ســرديتهم‬ ‫ّ‬ ‫الباكــس أيضــا و كذلــك الفيــس‪ .‬فل ّمــا جتــي أنــت حتــب حتكــي‬ ‫ألن احلــرب لــم ت ُعــد ملــكك بــل ملكهــم‪ ،‬و حتــت‬ ‫احلــرب مــا تقــدرش‪ّ ،‬‬ ‫ســيطرتهم‪ .‬احتكــروا الســرد‪.‬‬


‫‪34‬‬

‫يعنــي أنــت حاولــت حتريره ؟‬ ‫أنــا عشــت هــذا الوضــع‪ ،‬و حاولــت كتابتــه‪ .‬ال أســتطيع مثــال أن‬ ‫أروي مــن زاويــة داخــل عائلــة صعــد ابنهــم إلــى اجلبــل‪ .‬رغــم أ ّنــي‬ ‫أعــرف عائــالت كثيــرة عاشــت هــذا‪ .‬حاولــت اســتعادة جــزء مــن‬ ‫إقليمــي و مــن ذاكرتــي‪.‬‬ ‫هــل ُتعتبــر » ‪ « 1994‬عــن العقيــدة العســكرية اجلزائريــة ؟‬ ‫رمبــا‪ ...‬يبــدو يف الروايــة أن ّهنالــك شــيء مركــزي يُســ ّير‪ .‬مــا‬ ‫كان يهمنــي حتديــداً هــو كيفيــة تُســيير الفوضــى‪ .‬أن تكــون داخــل‬ ‫الفوضــى و مختبــئ و حتــاول أن تُســ ّير البــالد‪ .‬هــذا جنــون‪ .‬يف‬ ‫نفــس الوقــت شــوف البُنيــة األمنيــة‪ ،‬اجليــش عمومــا‪ ،‬يُقــ ّدم‬ ‫إجابــات عقالنيــة‪ .‬اجليــش قائــم اليــوم يف اجلزائــر مقارنــة ببقيــة‬ ‫مؤسســات الدولــة أل ّنــه يسـ ّير بطريقــة عقالنيــة‪ ،‬اســتوردناه كبُنيــة‬ ‫عقالنيــة‪ .‬فالقبيلــة كبنيــة مثــال لــم تســتمر‪ ،‬ال توجــد بُنيــة اســتمرت‬ ‫ســوى اجليــش‪ ،‬لذلــك يبقــى دائمـاً يف املركــز أل ّنــه مثــل اآللــة‪ ،‬آلــة‬ ‫ُمبرمجــة علــى أن تســير و تتحــ ّرك‪ .‬العســكري إنســان يتلقــى‬ ‫األوامــر و يُط ّبقهــا و والءه الوحيــد هــو لقيادتــه و للوطــن‪ ...‬بالطبــع‬ ‫هــذا يف احلالــة املثاليــة‪ .‬ففــي األخيــر‪ ،‬و خــالل التســعينات‪ ،‬لــم‬ ‫تواجــه هــذه العقالنيــة‪ ،‬عقالنيــة مماثلــة لهــا‪ ،‬بــل واجهــت ماخــوراً‬ ‫مجنونـاً و فوضــى‪ .‬أي آلــة عقالنيــة ســتواجه شــاباً عمــره ‪ 15‬عامـاً‪،‬‬ ‫يحمــل مسدسـاً يف محفظتــه و ينــزل وســط احلـ ّراش ليقتــل أخطــر‬ ‫شــرطي فيهــا ؟ هــذا مــا أرويــه أيضــا‪ ،‬التناقــض و التباعــد بــني‬ ‫األجوبــة العقالنيــة جلماعــة اليخــت و بــني الواقــع‪.‬‬ ‫كل الفوضــى التــي يواجههــا زبيــر‪ ،‬رغــم ّ‬ ‫يف الروايــة‪ ،‬و رغــم ّ‬ ‫كل‬ ‫اخلــراء الــذّ ي يلتقطــه مثلمــا يقــول‪ ،‬إ ّال أ ّنــه لــم ُيفســر احلــرب‬ ‫األهليــة يف اجلزائــر باحلــرب ال ّتــي ســبقتها مثــل مــا فعــل فــارس‪،‬‬ ‫والــد ســيد علــي‪ .‬لســت أســألك عــن رأيــك يف املوضــوع‪ ،‬لكــن أال‬ ‫أن ربــط عنــف التســعينات بعنــف ثــورة التحريــر عبــارة عــن‬ ‫تــرى ّ‬ ‫أن اجلزائريــن قتلــوا‬ ‫قــراءة متس ـ ّرعة و غيــر عادلــة ؟ كالقــول ّ‬ ‫بعضهــم البعــض يف التســعينات أل ّنهــم شــعب عنيــف و أل ّنهــم‬


‫‪35‬‬

‫أنــت تتحــدث عــن الســردية التّــي تقــول أن العنــف وراثــي لــدى‬ ‫اجلزائريــني‪ .‬لقــد خاطــرت يف روايتــي عندمــا تطرقــت لل ّثــورة‪،‬‬ ‫كنــت خائف ـاً قلي ـ ً‬ ‫ال مــن هــذه القــراءة‪ .‬لكــن ضــرورة احلديــث عــن‬ ‫‪ 1962‬هــي أبســط مــن هــذا‪.‬‬ ‫هنــاك مســألة شــرعية العنــف‪ ،‬و هــي تســاؤل أبــدي‪ .‬أهــو حماس‪،‬‬ ‫إرهــاب أم مقاومــة ؟ ‪ ...‬مــن جانــب آخــر يوجــد مســألة التعـ ّرض‬ ‫للعنــف عنــد الصغــر‪ ،‬ســواء لــدى جيــل زبيــر و فــارس يف الثــورة‬ ‫أن هــؤالء ضربــوا‬ ‫أو لــدى جيــل أوالدهــم يف التســعينات‪ ،‬لدرجــة ّ‬ ‫مثــاال بوالديهــم‪.‬‬ ‫ذكرتنــي بجملــة علــي بلحــاج الــذّ ي ضــرب مثــا ًال بوالــده عنــد قولــه‬ ‫جملتــه الشــهيرة « نديــرو الســاح »‪...‬‬ ‫طبعـاً‪ ،‬البحــث عــن شــرعية للعنــف ســيقودك لهذا‪ .‬لكـ ّـن الفخ يكمن‬ ‫هنــا بالتحديــد‪ ،‬يف ربــط العنــف مباشــرة باجلينــات و الوراثــة‪ .‬مــا‬ ‫يهمنــي أيضـاً هــو توريــث الســردية الثوريــة‪ ،‬ثــورة اآلبــاء‪ .‬و توريــث‬ ‫فكــرة أ ّنــه عنــد التعــ ّرض للظلــم يجــب حمــل الســالح‪ .‬يف هــذه‬ ‫ُوجــه نحــوه ذلــك العنــف‪،‬‬ ‫احلالــة ال يوجــد املســتعمر أو طــرف آخــر ت ّ‬ ‫بــل يوجــد ظـ ّل يأتــي يف ا ّلليــل و يقتــل و ال تعــرف مــن هــو‪ ،‬ك ّل مــا‬ ‫تعرفــه هــو أ ّنــه جزائــري مثلــك‪ .‬مــا يهمنــي أيض ـاً هــو مــا ُميكــن‬ ‫فعلــه بالعنــف عندمــا يكــون يف يــد أحدهــم‪ .‬و هــل ُميكــن للعنــف‬ ‫أن يُبــ ِّرر أفعــاالً أخــرى ؟ شــوف‪ ،‬العنــف موجــود يف ك ّل شــيء‬ ‫‪ :‬اجلنــس‪ ،‬ال ّديــن‪ ...‬لكنّــه ُم ّ‬ ‫قــن بطريقــة أو بأخــرى‪ ،‬أ ّمــا يف‬ ‫احلــرب‪ ،‬فاإلنســان يتجــاوز ال ّرعــب و يتمــادى يف عنفــه‪.‬‬ ‫برميــو ليفــي علــى ســبيل املثــال‪ ،‬عندمــا حكــى عــن احملرقــة‪،‬‬ ‫املعضلــة التــي صادفهــا هــي أن يرجــع ليغــوص مــن جديــد يف‬ ‫تفاصيــل الرعــب ليســتطيع الكتابــة عنهــا‪ ،‬و ليقــول أن مــا حصــل‬ ‫لــم يكــن « ال إنســانيا ً» بــل كان يف صميــم اإلنســاني‪ .‬شــخصياً‬ ‫أكــره عبــارة « ال إنســاني »‪ ،‬نحــن نســتعملها لنرفــع بهــا القلــم عــن‬ ‫البشــر‪ .‬هنــاك حاجــز يســقط أمــام اإلنســان‪ ،‬هــذا مــا يهمنــي‪.‬‬

‫فصل ـ العدد ‪ 0‬ـ ا مللف‬

‫أن الفرنســين قتلوهــم و عذّ بوهــم‬ ‫قتلــوا الفرنســين‪ ،‬مــع العلــم ّ‬ ‫ملـ ّـدة ‪ 132‬ســنة‪...‬‬


‫‪36‬‬

‫عدة ؟‬ ‫هل استطعت التق ّرب من هذا ؟ بعد ‪ 20‬سنة و كتب ّ‬ ‫ال‪ ،‬ال أظــن ذلــك‪ .‬التســاؤل ال يــزال قائم ـاً‪ ،‬أو ّد أن يصبــح تســاؤالً‬ ‫جماعيــا باإلضافــة لكونــه فرديــا‪.‬‬ ‫قصــة األصدقــاء األربعــة فيهــا كـ ّـم‬ ‫ســؤال آخــر‪ ،‬كنــت قــد قلــت ّ‬ ‫أن ّ‬ ‫كبيــر مــن احلقيقــة‪ ،‬لكــن هــل لهــم عاقــة باملراهقــن األربعــة‬ ‫لروايــة « جنمــة » ؟‬ ‫ألبــني كيــف يتعامــل النــاس باختــالف يف ردة‬ ‫ال‪ .‬بــل كان ذلــك‬ ‫ّ‬ ‫فعلهــم اجتــاه العنــف‪ .‬أو رمبــا وضعــت هــذا بــال وعــي منــي‪.‬‬ ‫شــيء آخــر‪ ...‬الروايــة مكتوبــة بالفرنســية‪ ،‬لكــن فيهــا حــوارات‬ ‫بالدارجــة‪ ،‬م ـ ّرات تترجمهــا بــن قوســن و م ـ ّرات تخليهــا‬ ‫مكتوبــة ّ‬ ‫مــن غيــر ترجمــة أل ّنهــا غيــر قابلــة لذلــك‪ ،‬ملــاذا شــعرت أ ّنــه يجــب‬ ‫إدخالهــا يف النــص ؟ و ثانيــا‪ ،‬كنــت تك ّلمــت عــن تســمية العنــف‪،‬‬ ‫بالدارجــة‬ ‫هــل ميكــن أن نــرى عــدالن مــدي يكتــب حــوارات كاملــة ّ‬ ‫بــدل االضطــرار لترجمــة بعــض اجلمــل فقــط إلــى الفرنســية ؟‬ ‫كان يجــب أن أضــع ال ّدارجــة‪ ،‬كان يجــب أن يقــول أمــني « بومبــة »‬ ‫بــدل ‪ .une bombe‬شــوف‪ ،‬أنــا قمــت بهــذا يف « ‪» Le casse tête turc‬‬ ‫كانــت تلــك روايتــي األولــى و كنــت أريــد لغــة وموضوعــاً خــارج‬ ‫العــادة‪ .‬لكــن عندمــا أعــدت قراءتهــا ســنوات بعــد ذلــك‪ ،‬وجــدت‬ ‫أن األمــر فولكلــوري جــداً‪ ،‬اســتعملت ال ّدارجــة فــوق طاقــة الروايــة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بالســيف ‪ .‬لذلــك لــم أكتــب‬ ‫مثــل مــن يريــد أن يُظهِ ــر أ ّنــه جزائــري‬ ‫ّ‬ ‫بال ّدارجــة يف « صــالة املوريســكي »‪ .‬أ ّمــا يف « ‪ » 1994‬فقــد‬ ‫اســتعملتها فيمــا يلــزم فقــط‪ ،‬حتـ ّـى أ ّنهــا فرضــت نفســها بذاتهــا‬ ‫يف تلــك املواضــع‪ .‬الكتابــة أســرع مــن التفكيــر‪ ،‬عنــد الكتابــة أنــت‬ ‫ـات‬ ‫تــرى املشــهد أمامــك هربــا منــك‪ ،‬لذلــك هنــاك شــتائم و ُكفريـ ٌ‬ ‫كثيــرة يف الروايــة‪ ،‬ك ُمحاولــة إليقــاف الزمــن‪ .‬كلمــة بومبــة مث ـ ً‬ ‫ال‪،‬‬ ‫تُتَرجــم شــعور أمــني عنــد ســماع صــوت اإلنفجــار‪ ،‬ال ميكنــه أن‬ ‫يقــول ‪ .une bombe‬للمزحــة‪ ،‬ســتصدرالطبعة الفرنســية يف‬ ‫ســبتمبر ‪ 2018‬عــن دار « ريفــاج »‪ ،‬و ُ‬ ‫احمل ـ ّرر األدبــي لــدار النشــر‬


‫‪37‬‬

‫ألــم تشــعر برقابــة ذاتيــة أثنــاء الكتابة ؟‬ ‫ال‪ ...‬الرقابــة األولــى يف اجلزائــر هــي والدتــك‪ ،‬مــن ث ـ ّم تتأقلــم‬ ‫مــع الوقــت و تقــول ‪ « :‬يــا هـ ّكا يــا مــا كانــش‪ ،‬و توقــف عــن الكتابــة‬ ‫و األدب واقعــد يف داركــم‪» .‬‬ ‫ألن الكاتــب يف األخيــر‬ ‫الشــيء املهــم أيضـاً هــو عمليــة خلــق اللّغــة‪ّ .‬‬ ‫هــو لغتــه‪ .‬بــدأ األمــر مــن « صــالة املوريســكي »‪ ،‬إذ حتدثــت فيــه‬ ‫مــع ســفيان ناشــري‪ .‬يف لغتنــا نحــن نســتعمل أفعــال حركــة كثيــرة‬ ‫«نــروح‪ ...‬و جنــي‪ ...‬و نعمــل‪ ،»...‬هنالــك ‪ action‬كبيــرة‪ ،‬لذلــك‬ ‫جتــد هــذه األفعــال بكثــرة يف حواراتــي‪ .‬و وســط ك ّل هــذا أحــاول أن‬ ‫ِ‬ ‫أجــد التــوازن املناســب بــني الــكالم بالفرنيســة و بال ّدارجــة‪ ،‬دعنــا‬ ‫أن رجــال املخابــرات و اجليــش‪ ،‬و خاصــة يف جيــل زبيــر‬ ‫ال ننســى ّ‬ ‫و آيبــك‪ ،‬يُتقنــون الفرنســية و يســتعملونها كثيــراً‪ .‬أشــعر يف األخيــر‬ ‫أ ّنــي اســتعملت كلمــات ال ّدارجــة يف مكانهــا املناســب‪...‬‬ ‫املــكان املناســب ! شــعرت بهــذا يف مشــهد البومبــة‪ ،‬عندمــا ينطــق‬ ‫أمــن الكلمــة و يخــرج إلــى الشــرفة و يبــدأ يف وصــف الروائــح‬ ‫و األلــوان و األصــوات عقــب االنفجــار‪ ،‬شــعرت بـ ّ‬ ‫ـكل هــذا مــن خــال‬ ‫الســرد‪ .‬نقلــتَ خبرتــك احلياتيــة مــع أصــوات االنفجــارات يف جزائــر‬ ‫التســعينات إلــى النــص‪ .‬وهــذا يف رأيــي أهـ ّـم مــن معرفــة مــا حصــل‬ ‫ج ـ ّراء تفجيــر معـ ّـن‪ ،‬ذكــر اآلثــار اجلانبيــة للتفجيــر‪ ،‬تلــك التــي‬ ‫تتمـ ّـدد مــع مــرور الزمــن‪.‬‬ ‫مــا كان مهمـاً هــو إعــادة خلــق جــو التفاصيــل اليوميــة التــي عشــتها‪.‬‬ ‫إعــادة خلــق واقــع صــار غائبـاً و مفقــوداً اليــوم‪ .‬أردت إعــادة بعثــه‬ ‫حجــراً بحجــر‪ .‬املــكان و ال ّنــاس و األجــواء‪ ،‬و طبع ـاً ك ّل هــذا عبــر‬ ‫املــرآة املش ـ ّوهة للذاكــرة‪ .‬قالــت لــي فتــاة (لهــا ســني) ذات م ـ ّرة ‪:‬‬

‫فصل ـ العدد ‪ 0‬ـ ا مللف‬

‫ــن مــع هــذا النــص‪ ...‬لــم يفهــم شــيئاً يف ك ّل هــذا‪ .‬اضطررنــا‬ ‫ُج ّ‬ ‫للعمــل ســوياً لوضــع هوامــش و شــروحات ســتُضاف يف آخــر‬ ‫الروايــة‪ .‬اســتمتعت كثيــراً بترجمــة ك ّل تلــك احلــوارات الصغيــرة‪،‬‬ ‫بــل و ضحكــت‪ ،‬تذ ّكــرت أ ّنــي أعطيــت الكتــاب لوالدتــي كــي تقــرأه‬ ‫متجاهــ ً‬ ‫ال ك ّل تلــك الشــتائم‪.‬‬


‫‪38‬‬

‫« لقــد أعــدت بنــاء ُجــزء منــي كنــت قــد فقدتــه‪ .‬أعــدت لــي جــزءاً‬ ‫مــن تاريخــي‪ ،» .‬و قالــت أيض ـاً أ ّنهــا عــادت للتح ـ ّدث مــع والديهــا‬ ‫حــول التســعينات‪.‬‬ ‫بالنســبة ملشــهد القنبلــة‪ ،‬كنــت قــد بحثــت عــن التفســير العلمــي‬ ‫لذلــك يف يوتيــوب‪ ،‬و شــاهدت أثــر االنفجــار علــى الهــواء و كيــف‬ ‫يتأ ّثــر الصــوت مبوجــات االنفجــار‪ .‬يف التســعينات لــم أكــن أعــرف‬ ‫أن هنالــك حنــني نحــو ك ّل‬ ‫ك ّل هــذا‪ ،‬لك ّنــي شــعرت بــه‪ .‬الغريــب هنــا ّ‬ ‫هــذا العالــم‪ ،‬أل ّنــه عالــم الشــباب‪.‬‬ ‫أنــت كتبــت روايــة بوليســية‪ُ ،‬ملتفّ ــة حــول جرميــة رئيســية واحــدة‬ ‫و هــي مقتــل مهــدي م ـ ّراد أخ كهينــة حبيبــة أمــن‪ ،‬و عندمــا يرفــع‬ ‫هــذا األخيــر الســاح يف وجهــه يصــرخ فيــه‪ « :‬م ـ ّراد‪à genoux ...‬‬ ‫ر ّبــك »‪ ،‬ملــاذا نــاداه بلقبــه بــدل اســمه ؟‬ ‫(يضحــك)‪ ،‬هــذا أل ّنــه تق ّمــص دور « ال ّدولــة »‪ ،‬دور والــده‪ .‬ال ّدولــة‬ ‫ـجل يف احلالــة املدنيــة‪ ،‬و الشـ ّ‬ ‫ـرطي‬ ‫التــي تعرفــك مــن اســمك املُسـ ّ‬ ‫الـ ّذي يصــرخ فيــك لتركــع علــى ركبتيــك‪ .‬يعنــي باملختصــر ‪ :‬ا ّلدولــة‬ ‫راهــي تهــدر معــاك !‬ ‫هــل هنــاك أدب بوليســي اليــوم يف اجلزائــر‪ ،‬أم تــرى نفســك وحيــدا‬ ‫يف هــذا املجــال ؟‬ ‫باللّغــة العربيــة هنالــك أكثــر مــن نــص‪ .‬حــول قضيــة كرومــي يف‬ ‫وهــران‪ ،‬و « شــفرة مــن ســراب »‪ ،‬أ ّمــا ياســمينا خضــرا لــم يعــد‬ ‫يكتــب عــن اجلزائــر منــذ عقــود‪ .‬لكــن عمومــا‪ ،‬الروايــة البوليســية‬ ‫ال تــزال يف بداياتهــا هنــا‪ ،‬وأنــا اختــرت هــذا النــوع أل ّنــي أردت أن‬ ‫أفهــم أشــيا ًء كثيــرة حتــدث مــن حولــي عبــر الكتابــة‪ ،‬وكمــا يقــول‬ ‫املثــل « لــن نهت ـ ّم بامليكانيــك حتــى تتعطــل الســيارة »‪ ،‬فقــررت يف‬ ‫حلظــة مــا أن أرفــع غطــاء الســيارة و أفهــم مــاذا حــدث‪.‬‬ ‫ســؤال أخير‪ ...‬ماذا تقرأ اآلن ؟‬ ‫انتهيت من « إله الشتاء » لكاتبي املفضل جيمس لي بيرك‪.‬‬



‫‪40‬‬

‫» األمطار الذّ هبية‬

‫«‬

‫حملمد ساري‬

‫مقابلة أجرتها سارة خريف‬

‫ا جلز ا ئــر د فعــت‬ ‫الثمــن باهظـ ًا ‪ ،‬وال‬ ‫يــزال النفــق مظلم ًا‪.‬‬ ‫محمد ساري‬


‫‪41‬‬

‫فصل ـ العدد ‪ 0‬ـ ا مللف‬

‫‪Ben‬‬

‫محمــد ســاري أكادميــي و مترجــم و كذلــك روائــي يتقــن لغتــني‬ ‫(العربيــة و الفرنســية)‪ .‬روايتــه « األمطــار الذهب ّيــة »‪ ،‬التــي صدرت‬ ‫يف مــارس ‪ 2016‬عــن منشــورات الشــهاب‪ ،‬تركــز علــى شــخصية‬ ‫املهــدي‪ ،‬التــي تعانــي مــن مشــاكل الهويــة و التــي يغريهــا اخلطــاب‬ ‫األصولــي فتغــوص يف العنــف‪ .‬يف هــذا احلــوار‪ ،‬يســتعرض املؤلــف‬ ‫املوضوعــات املختلفــة التــي تتطــرق لهــا الروايــة‪ ،‬خــالل الفتــرة‬ ‫احملوريــة أال و هــي فتــرة الثمانينيــات و التــي تنبــأت بفتــرة طويلــة‬ ‫و مؤملــة و هــي حقبــة التســعينات‪.‬‬


‫‪42‬‬

‫األســاطير و الســلطة‬

‫ســارة خــريف ‪ :‬االمطــار الذهبيــة روايــة حملتهــا طــوال خمســة‬ ‫عامــا‪ ،‬كتبتهــا و أعــدت صياغتهــا عــدة مــرات‪ .‬ملــاذا انتظــرت‬ ‫عشــر ً‬ ‫طويــا قبــل نشــرها ؟‬ ‫محمــد ســاري ‪ :‬يف الواقــع‪ ،‬لــم يكــن هــذا النــص يف البدايــة ســوى‬ ‫مجــرد سلســلة مــن األعمــدة كتبتهــا يف مطلــع التســعينات‪ .‬نُشــرت‬ ‫يف صحيفــة إقليميــة أســبوعية « ‪ .» Le pays‬كانــت اجلزائــر تعيــش‬ ‫فتــرة حاســمة‪ ،‬فالتغييــرات كانــت حتــدث كل يــوم و ذلــك منــذ‬ ‫أحــداث أكتوبــر ‪ .88‬لكــن مــا كان جديــداً هــو صعــود احلركــة‬ ‫اإلســالمية املتطرفــة‪ .‬فقــد كانــت املجموعــات تتشــكل و تنشــط‬ ‫يف جميــع أنحــاء البــالد‪ ،‬و الشــائعات ضخمــت هــذه األحــداث‬ ‫و أعطــت لهــا بعــدا وهم ًيــا‪ .‬كان ينظــر للتغيــرات االجتماعيــة‬ ‫و يتــم حتليلهــا علــى أســاس كونهــا كارثــة‪ ،‬ســواء مــن قبــل الذيــن‬ ‫أحدثوهــا و رأوا فيهــا ثــورة لــم يســبق لهــا مثيــل‪ ،‬أو مــن قبــل أولئــك‬ ‫الذيــن عاشــوها‪ ،‬و رأوا فيهــا خطــرا يهــدد حياتهــم‪ .‬كانــت تلــك‬ ‫جتربــة كتابــة دامــت عامــني ( ‪ ،)94/1993‬مبعــدل عمــود كل أســبوع‪.‬‬ ‫بعدهــا ترســخ العنــف‪ ،‬و توقفــت الصحيفــة عــن الظهــور حتــت‬ ‫ضغوطــات و تهديــدات إرهابيــة‪ .‬تفــرق شــمل املوظفــني‪ .‬فاألكثــر‬ ‫ذكاءاً غــادروا البــالد‪ ،‬وقتــل املغامــرون (احملــرر ســعيد تــازروت)‬ ‫و احملظوظــون منهــم جنــو مبعجــزة مــا‪ .‬يف أوائــل ســنة ‪،2000‬‬ ‫أخــذت بعضـاً مــن هــذه األعمــدة و أعــدت صياغتهــا قصــد صنــع‬ ‫روايــة‪ .‬كانــت النســخة األولــى جاهــزة يف عــام ‪ .2002‬قــام عبــد‬ ‫القــادر جغلــول‪ ،‬الــذي قدمــت لــه نســخة بنشــرها يف جزئــني يف‬ ‫صحيفتــه « العصــر »‪ ،‬مســبوقة مبقدمــة طويلــة‪ .‬يف وقــت الحــق‪،‬‬ ‫عندمــا أصبــح مســؤوال عــن منشــورات « الغــرب » التــي مقرهــا‬


‫‪43‬‬

‫مــاذا كانــت الفكــرة األوليــة وراء تطويــر هــذه الروايــة ؟‬ ‫كمــا أشــرت مســبقاً‪ ،‬فقــد ولــدت هــذه الرواية على أعقــاب التحول‬ ‫الكبيــر الــذي حــدث أواخــر الثمانينــات و أوائــل التســعينات‪،‬‬ ‫فقــد كنــت شــاهداً علــى االضطرابــات احلاصلــة يومي ـاً‪ ،‬و قمــت‬ ‫بتدوينهــا يف ســجالت‪ ،‬حتولــت بدورهــا إلــى مــادة خــام ال‬ ‫تقــدر بثمــن يف وقــت الحــق‪ .‬لقــد اســتغليتها بالكامــل‪ ،‬و أعــدت‬ ‫اســتثمارها يف قصــة رومانســية متجانســة‪ .‬و عــالوة علــى ذلــك‪،‬‬ ‫فــإن األشــخاص الذيــن عاشــوا يف تلــك احلقبــة ‪ -‬إن كانــوا انتبهــوا‬ ‫ملــا حــدث مــن حولهــم ‪ -‬ســوف يســتذكرون بعــض احلقائــق‪ ،‬أو‬ ‫رمبــا حتــى يتعرفــون علــى بعــض الشــخصيات املشــهورة التــي‬ ‫قمــت بإعــادة بلورتهــا جلعلهــا شــخصيات مســتقلة تفيــد الســياق‬ ‫الروائــي‪ ،‬بحيــث ميكــن للمــرء تفهمهــا و اســتيعابها دون اإلســتناد‬ ‫إلــى أي واقــع عاشــه‪ .‬وجــدت يف ذلــك الوقــت أنــه مــن الضــروري‬ ‫للكاتــب أن يســجل االضطرابــات التــي شــكلت حيــاة اجلزائريــني‬ ‫و التــي أدت بشــكل خــاص إلــى حتويــل رؤيتهــم الدينيــة للعالــم‪.‬‬ ‫كان إســالم اجلزائريــني إســال ًما متســامحاً‪ ،‬مرتبــط بحياتهــم‬ ‫الشــخصية‪ ،‬و ال ـ ّذي جتلــى بشــكل خــاص خــالل رمضــان أو عيــد‬ ‫األضحــى‪ ،‬يف األعــراس أو حفــالت اخلتــان‪ ،‬و ال ـ ّذي كان يفســح‬ ‫املجــال حلريــة عظيمــة‪ .‬كان النــاس متســامحني جــدا مــع بعضهــم‬ ‫البعــض علــى أســاس أنهــم مواطنــني‪ ،‬عاشــوا يف جــوار جيــد حتــى‬

‫فصل ـ العدد ‪ 0‬ـ ا مللف‬

‫يف وهــران‪ ،‬اتصــل بــي لنشــر النــص يف شــكل روايــة‪ ،‬و لكــن يف‬ ‫تلــك املرحلــة‪ ،‬كنــت قــد أعــدت صياغــة القصــة بالكامــل‪ ،‬مضيفــا‬ ‫مقاطــع كاملــة جلعلهــا روايــة حقيقيــة‪ ،‬معيــداً صياغــة الشــخصيات‬ ‫و جعلهــا أكثــر ســماكة‪ .‬األعمــدة التــي كانــت تتمتــع بعــض‬ ‫اإلســتقاللية‪ ،‬جمعتهــا لتشــكيل مجموعــة مــن القصــص القصيــرة‪،‬‬ ‫نشــرت يف عــام ‪ 2010‬حتــت عنــوان « ‪ » Le naufrage‬عــن‬ ‫منشــورات « ألفــا »‪ .‬مت التخلــي عــن العديــد مــن األعمــدة ألنهــا‬ ‫كانــت أقــرب إلــى اخلطابــات السياســية و املواقــف األيديولوجيــة‬ ‫منهــا إلــى طريقــة ســرد روايــة و قصــة‪ .‬صــارت النســخة النهائيــة‬ ‫جاهــزة يف عــام ‪ ،2012‬و لكــن أدت مشــاكل علــى مســتوى النشــر‬ ‫إلــى تأخيــر إصدارهــا‪.‬‬


‫‪44‬‬

‫و لــو لــم يكونــوا يف انســجام تــام مــن حيــث املعتقــد الدينــي‪ .‬و مــن‬ ‫ثــم جــاءت محاكــم التفتيــش و اســتقرت شــيئاً فشــيئاً‪ .‬فصــارت‬ ‫مجموعــات مــن الشــباب املغســولة الدمــاغ تلعــب دور حــراس‬ ‫األخــالق و بــدأت مبراقبــة مــن يذهــب إلــى املســجد و مــن ال‬ ‫يذهــب‪ ،‬و خاصــة مراقبــة النســاء اللواتــي ال يرتديــن احلجــاب‪،‬‬ ‫و الالتــي يعملــن‪ ،‬و الالتــي كــن يتأخــرن يف العــودة إلــى البيــت‬ ‫بعــد غــروب الشــمس‪ .‬مــن مجتمــع متســامح‪ ،‬منفتــح علــى العالــم‬ ‫احلديــث‪ ،‬متطلــع إلــى املســتقبل‪ ،‬أرادوا أن يجعلــوا منــه مجتم ًعــا‬ ‫مغل ًقــا‪ ،‬متعصبــاً‪ ،‬فضول ًيــا‪ ،‬وجــه اهتمامــه بشــكل أساســي نحــو‬ ‫ماضــي أســطوري لــم يثبــت تاريخيــاً حتــى‪ .‬و النظــام‪ ،‬متأثــراً‬ ‫بأزمــة النفــط و عــدم إمتــالك مشــروع اجتماعــي جديــد بعــد فشــل‬ ‫« االشــتراكية احملــددة » التــي متــت الدعــوة إليهــا بعــد االســتقالل‪،‬‬ ‫استســلم لهــذه اجلماعــات املتطرفــة‪ ،‬و قــدم تنــازالت هائلــة علــى‬ ‫املســتوى السياســي و حتــى األخالقــي‪ .‬و بهــذه الطريقــة غرقــت‬ ‫البــالد يف العنــف اإلرهابــي‪ ،‬فلــوال صحــوة بعــض كبــار ضبــاط‬ ‫اجليــش الوطنــي‪ ،‬لصــارت اجلزائــر اليــوم يف صــورة أفغانســتان‪،‬‬ ‫مفككــة إلــى عــدة مقاطعــات‪ /‬دويــالت تقتــل بعضهــا البعــض‪.‬‬ ‫تقــوم مبــوازاة تاريخيــة باإلشــارة إلــى ابــن تومــرت‪ .‬ملــاذا هــذا‬ ‫اإلســتدالل‪ /‬هــذه العــودة إلــى التاريــخ ؟ مــا مــدى أهميــة فهــم‬ ‫املاضــي مــن أجــل رؤيــة واضحــة للمســتقبل ؟‬ ‫أنــا مهتــم جــدا بتاريــخ العالــم العربــي و اإلســالمي‪ ،‬و ال ســيما‬ ‫تاريــخ املغــرب العربــي يف العصــور الوســطى و اجلزائــر بالتحديــد‪.‬‬ ‫عنــد قــراءة رحلــة محمــد بــن تومــرت‪ ،‬باألخــص رحلــة عودتــه‬ ‫مــن أرض صــدر اإلســالم‪ ،‬بعــد غيــاب دام خمــس ســنوات‪ ،‬نشــعر‬ ‫بالدهشــة مــن املــوازاة التاريخيــة الكائنــة بــني حياتــه كداعــي‬ ‫ومــا أتــت بــه بعــض اجلماعــات املعنيــة باإلســالم األصولــي يف‬ ‫اجلزائــر يف أواخــر الثمانينــات و أوائــل التســعينات‪ .‬جماعــات‬ ‫مســتقلة كانــت مصممــة علــى منــع أي مظهــر مــن مظاهــر الفــرح‬ ‫أو التنــوع أو التعبيــر الفنــي داخــل املجتمــع‪ .‬بالنســبة لهــم‪ ،‬كانــت‬ ‫املتعــة الوحيــدة أو النشــاط الوحيــد خــارج العمــل الفعلــي‪ ،‬هــو‬ ‫الذهــاب إلــى املســجد‪ .‬لــم يكــن هنالــك شــيء خــالف ذلــك‪ .‬كان‬


‫‪45‬‬

‫هنــاك فكرتــان عــن اإلســام تتعارضــان داخــل روايتــك‪ ،‬يف‬ ‫مخطوطتــن ‪ :‬األولــى متثــل إســام صــويف‪ ،‬مرابطــي‪ .‬و األخــر‬ ‫أصولي يقوم على مبدأ القوة واالســتياء على الســلطة (و بالتالي‬ ‫سياســي)‪ .‬منوذجــان متاحــان للمهــدي‪ ،‬الشــخصية الرئيســية يف‬ ‫الروايــة‪ .‬لكــن ملــاذا هــذا االســام الغيــر متســامح‪ ،‬ذو منطــق الغــزو‪،‬‬ ‫يجــذب املهــدي أكثــر مــن األخــر ؟‬ ‫إنــه ممثــل لتاريــخ اإلســالم علــى مــر العصــور‪ .‬اإلســالم هــو يف‬ ‫املقــام األول ديــن قيــم روحيــة‪ ،‬ســواء علــى املســتوى الفــردي أو‬ ‫علــى مســتوى بعــض الهيــاكل التــي مت إنشــاؤها فيمــا بعــد كالزوايــا‪،‬‬ ‫و التــي هــي يف الواقــع إال جتســيد حليــاة بعــض الزهــاد الصوفيــني‬ ‫الذيــن قضــوا حياتهــم يف عبــادة اهلل‪ ،‬دون أن يطلبــوا شــيئاً يف‬ ‫املقابــل‪ ،‬كمثــل عبــد القــادر اجليالنــي الــذي‪ ،‬مــن بغــداد‪ ،‬وجــد‬ ‫نفســه هائمــاً يف جميــع بلــدان املغــرب الكبيــر‪ .‬و لكــن األزمــة‬ ‫يف العالــم اإلســالمي قــد خلقــت‪ ،‬منــذ القــرن األول للهجــرة‪،‬‬ ‫طوائــف متشــددة راحــت تنــدد بالشــرعية و االســتيالء علــى الســلطة‪،‬‬ ‫و مبســاعدة مــن بعــض املســلمني احملرومــني ماديــا‪ ،‬و الذيــن رأوا‬ ‫يف هــذه املطالبــات طريقـاً للوصــول إلــى الفوائــد املاديــة‪ .‬لــم يتغيــر‬ ‫الوضــع البتــة خــالل ‪ 15‬قــرن‪ ،‬ألن آليــة الوصــول إلــى الســلطة لــم‬ ‫تتغيــر‪ ،‬فــال تــزال تســتخدم الشــرعية الثوريــة‪ ،‬أي القــوة العســكرية‬

‫فصل ـ العدد ‪ 0‬ـ ا مللف‬

‫يجــب حظــر أي نشــاط و تدميــر أي مــكان آخــر‪ .‬لقــد اكتشــفت‬ ‫وريــداً مــن احلقائــق التاريخيــة التــي اســتغليتها إلثــراء تاريــخ‬ ‫الروايــة‪ ،‬و خاصــة لربــط ‪ -‬عبــر تاريــخ املخطوطــة التــي ســجلت‬ ‫فيهــا احلقائــق التــي مت اســتحضارها ‪ -‬التاريــخ احلالــي بتاريــخ‬ ‫القــرن التاســع‪ .‬إن مجتمعنــا يتعــرض لضغــوط تاريخيــة جتعلــه‬ ‫مقيــداً بأغــالل مــن اخلزعبــالت الدينيــة التــي يواجــه صعوبــة يف‬ ‫التخلــص منهــا‪ .‬و بــدالً مــن البحــث عــن حلــول للمشــاكل احلاليــة‪،‬‬ ‫فإننــا نكتفــي بالنظــر إلــى املاضــي لنســتنبط منــه أســوأ التجــارب‪،‬‬ ‫تلــك التــي فشــلت يف بنــاء دولــة مســتقرة‪ ،‬مســتدامة و مزدهــرة‪.‬‬ ‫تكمــن معضلــة مجتمعنــا اليــوم برمتهــا يف هــذه املعادلــة التــي‬ ‫يســتعصي حلهــا لوضــع البــالد علــى مســار مســتقبل عصــري‪،‬‬ ‫مزدهــر و يف انســجام مــع العالــم احلالــي‪.‬‬


‫‪46‬‬

‫أو مبــدأ األحقيــة التاريخيــة (كل املمالــك زعمــت رابــط الــدم مــع‬ ‫الرســول‪ ،‬حتــت غطــاء تفســير معــني آليــات القــرآن و تزويــر‬ ‫حقائــق تاريخيــة)‪.‬‬ ‫مــن هــذا املنطلــق‪ ،‬و مبجــرد وجــود أزمــة اقتصاديــة‪ ،‬جنــد هنــاك‬ ‫دائمــاً أشــخاص يثــورون و يطالبــون بالســلطة‪ ،‬و طبعــاً ليــس‬ ‫هنالــك أفضــل مــن الشــرعية القرآنيــة ‪ :‬أن تتحدث بإســم اإلســالم‬ ‫لتكــون أكثــر فعاليــة‪ .‬و نظــراً لعــدم وجــود حريــة سياســية و تــداول‬ ‫علــى الســلطة كمــا تزعــم كل األنظمــة العربيــة و اإلســالمية‪،‬‬ ‫فمــن الطبيعــي أن هــذه األشــكال مــن التمــرد تســتخدم العنــف‬ ‫باعتبــاره الســبيل الوحيــد للوصــول إلــى الســلطة‪ .‬فتســتجيب‬ ‫الســلطة القائمــة بقمــع و حبــس املعارضــني لهــا و حتــى الســلميني‬ ‫منهــم‪ .‬هــذه مأســاة قائمــة يف العديــد مــن البلــدان (العــراق و ليبيــا‬ ‫و ســوريا ‪ )...‬و التــي توقــع يف حــرب أهليــة ال مخــرج منهــا‪.‬‬ ‫لقــد دفعــت اجلزائــر الثمــن باهظـاً و ال تــزال نهايــة النفــق بعيــدة‪.‬‬ ‫وحدهــا الدميقراطيــة و التــداول علــى الســلطة مــع وجــود قوانــني‬ ‫صارمــة حتمــي يف حالــة االنحــراف متنــح التغييــر الســلمي الــذي‬ ‫يســمح بتجربــة مشــاريع اجتماعيــة متعــددة‪ ،‬دون اللجــوء للعنــف‬ ‫و مــع احتــرام جميــع شــرائح املجتمــع‪.‬‬ ‫يبــدو أن كل التوتــر املتراكــم إنفجــر و إكتســب معنــى يف أحــداث‬ ‫أكتوبــر ‪ .1988‬مــاذا يجســد هــذا التاريــخ ؟‬ ‫أكتوبــر ‪ 88‬هــي ذروة أزمــة اجتماعيــة أســاءت احلكومــة اجلزائريــة‬ ‫إدارتهــا‪ .‬مــن مجتمــع مشــوش‪ ،‬يف حالــة فوضــى علــى مســتوى‬ ‫جميــع مجــاالت احليــاة‪ ،‬نذهــب مــن عشــية إلــى ضحاهــا نحــو‬ ‫نظــام متعــدد األحــزاب غيــر مكبــوح‪ ،‬أيــن ميكــن ألي شــخص‬ ‫أن يعــد النــاس بالفــردوس األعلــى شــريطة أن يرفعــه إلــى قمــة‬ ‫الدولــة‪ ...‬كانــت النتيجــة كارثيــة‪ .‬أنــا أصــف ذلــك يف روايتــي‪.‬‬ ‫كان مــن املمكــن أن يــؤدي أكتوبــر ‪ 88‬و الســنوات الثــالث التــي‬ ‫تليتــه مــن الربيــع اجلزائــري إلــى مشــروع مســتقبلي إن لــم يتــم‬ ‫تنفيــذه يف عجالــة و تســرع‪ ،‬ناهيــك عــن اخلطــة الســاخرة للدولــة‬ ‫التــي أرادت احلصــول علــى كل شــيء دون التخلــي عــن شــيء‪،‬‬ ‫مبعنــى‪ ،‬جتــري انتخابــات تعدديــة و تفــوز بهــا هــي للبقــاء يف‬


‫‪47‬‬

‫موضــوع آخــر يف الروايــة ‪ :‬النســاء‪ ،‬الاتــي يحتلــن مكانــا هامــا‪.‬‬ ‫ال ميكــن للمــرء أن يقــص حيــاة يف غيــاب النســاء‪ ،‬خاصــة إذا كانــت‬ ‫هــذه احليــاة عبــارة عــن درامــا اجتماعيــة‪ .‬النســاء كــن الضحايــا‬ ‫األولــى يف مجتمعاتنــا الذكوريــة و احملافظــة‪ .‬هــن ضحايــا بشــكل‬ ‫مــزدوج‪ ،‬داخــل األســرة كزوجــات و أخــوات‪ ،‬و يف الفضــاء العــام‬ ‫الــذي مينعــن منــه‪ ،‬أو علــى األقــل‪ ،‬يتــم تأطيــر حريتهــن فيــه بحيــث‬ ‫ال يســتطعن اإلزدهــار‪ ،‬التعبيــر عــن النفــس‪ ...‬أو بإختصــار العيــش‬ ‫بــكل حريــة‪ .‬هــذا مــا أظهرتــه يف الروايــة مــن خــالل الشــخصيات‬ ‫النســائية التــي تتعــرض للمضايقــة مــن قبــل األزواج‪ ،‬األصحــاب‪،‬‬ ‫اآلبــاء واإلخــوة‪ ...‬الرجــال بشــكل عــام‪.‬‬ ‫مــاذا عــن مصــادر إلهامــك يف مــا يخــص هــذه الروايــة ؟ كيــف قمــت‬ ‫بعمليــة التوثيــق ؟‬ ‫يف فتــرة الكتابــة‪ ،‬كنــت كثيــراً مــا أقــرأ لفولكنــر و انبهــرت بطريقــة‬ ‫وصفــه لعالــم أمريــكا اجلنوبيــة و كذلــك وصفه للشــخصيات‪ .‬أردت‬ ‫أن أســقط ذلــك علــى املجتمــع اجلزائــري الــذي أعرفــه‪ ،‬الهتمامــي‬ ‫بنبضــه االجتماعــي و االقتصــادي و التاريخــي ‪ ...‬يف األصــل‪،‬‬ ‫كانــت هــذه الروايــة ضخمــة‪ ،‬تضــم أكثــر مــن ‪ 700‬صفحــة‪.‬‬ ‫فعــن طريــق إخضاعهــا للقــراءة مــن قبــل بعــض األصدقــاء‪ ،‬لــم‬ ‫تســتلطفهم فقــرات األوصــاف الطويلــة و اململــة‪ .‬قراءتهــا كانــت‬ ‫صعبــة‪ .‬بالرغــم مــن أنــي الزلــت محتفظ ـاً بنســخة خطيــة مــن آلــة‬ ‫كاتبــة و يؤســفني حــذف بعــض املقاطــع التــي اشــتغلت عليهــا بجــد‬ ‫و كنــت أراهــا ناجحــة‪ .‬فبــدأت بعدهــا يف تشــذيب األجــزاء اململــة‪،‬‬ ‫ممــا قلــل حجــم الروايــة ليعطيهــا شــكلها احلالــي‪.‬‬ ‫هــذه هــي قيــود النشــر و القــراء اليــوم لــم يعــد لهــم صبــر علــى‬ ‫الوصــف الطويــل و املمــل علــى طريقــة زوال‪ ،‬بلــزاك‪ ،‬بروســت أو‬ ‫فولكنــر‪ ،‬كاتــب الكتّــاب‪.‬‬

‫فصل ـ العدد ‪ 0‬ـ ا مللف‬

‫الســلطة‪ .‬كانــت هــذه مقامــرة محفوفــة باملخاطــر أدت إلــى عقــد‬ ‫مــن العنــف ال تــزال آثــاره واضحــة بعــد عشــرين ســنة‪.‬‬


‫‪48‬‬

‫أبإمكانــك الكتابــة عــن هــذه الفتــرة مــرة أخرى ؟‬ ‫نعــم‪ ،‬لقــد انتهيــت للتــو مــن كتابــة روايــة باللغــة العربيــة تــدور‬ ‫أحداثهــا يف اجلبــل‪ ،‬وســط صــراع دمــوي بــني اإلرهابيــني‬ ‫(شــخصيات « املتاهــة »)‪ ،‬العســكريني و الفالحــني الذيــن حملــوا‬ ‫الســالح للدفــاع عــن ممتلكاتهــم و شــرفهم‪.‬‬ ‫صــارت فتــرة التســعينات املؤملــة ذات أهميــة متزايــدة للمؤلفــن‬ ‫اليــوم‪ .‬أنــت كأكادميــي و مترجــم و كاتــب بلغتــن‪ ،‬رمبــا لديــك‬ ‫رؤيــة أوســع حــول هــذا املوضــوع‪ ،‬كيــف تفســر ذلــك ؟‬ ‫أعتقــد أن هــذا العقــد‪ ،‬الــذي يطلــق عليــه العشــرية الســوداء أو‬ ‫احلمــراء‪ ،‬فتــرة حاســمة يجــب علــى اجلزائريــني‪ ،‬كتــاب‪ ،‬باحثــني‬ ‫أو ســينمائيني التمعــن فيهــا حملاولــة وصفهــا و فهمهــا أكثــر و أخــذ‬ ‫العبــر منهــا‪ .‬مجتمعنــا يف غنــى عــن الغــوص مــرة أخــرى يف مثــل‬ ‫هــذا اجلنــون‪ .‬يف نفــس الوقــت‪ ،‬نســيانها و التصــرف كمــا لــو أنــه‬ ‫لــم يحــدث شــيء ميكــن أن يكــون أمــراً فتــاكاً‪ .‬اليــوم و مــع احلــروب‬ ‫التــي حتيــط بنــا‪ ،‬و باألخــص احلــرب التكنولوجيــة و رقمنــة وســائل‬ ‫اإلعــالم‪ ،‬لــن تكــون لنــا أي فرصــة للمقاومــة‪.‬‬ ‫ترجمها من اللّغة الفرنس ّية هشام مروش‬



‫‪3‬‬ ‫مر ا جعــا ت‬ ‫املذياع العاق‬

‫جلال حيدر‬ ‫صدرت باللّغة العرب ّية سنة ‪ - 2018‬عن منشورات البغدادي‬ ‫مراجعة بقلم رحيل بالي‬

‫غذاء للقبطي‬

‫لشارل عقل‬ ‫صدرت سنة ‪ - 2017‬عن منشورات الكتب خان‬ ‫مراجعة بقلم صالح باديس‬


‫‪51‬‬

‫جلالل حيدر‬

‫بقلم رحيل بالي‬

‫روايــة عــن ســيزيف الشــاوي‬ ‫مــن خنشــلة‪ ،‬أطلــق جــالل حيــدر روايتــه األولــى « املذيــاع العــاق »‬ ‫(‪ – 2018‬منشــورات البغــدادي‪ ،‬اجلزائــر) و التــي م ّثلــت مفاجــأة‬ ‫للعديــد مــن القــ ّراء‪ ،‬و لونــاً مختلفــاً يف الكتابــة اجلزائريــة اليــوم‪.‬‬ ‫الروايــة مزيــج مــن عــ ّدة أنــواع أدبيــة جتتَمــ ُع يف قالــب ســيرة ذاتيــة‬ ‫للكاتــب التــي تتبـ ُع صراعــات شــخصية « العلمــي » علــى مـ ّر األيــام‪ ،‬و هــو‬ ‫شــخصية أقــرب مــا تكــون لسـ ٍ‬ ‫ـيزيف الشــاوي‪ ،‬لعنتــه اآللهــة مبط ّبــات ال‬ ‫حصــر لهــا‪ ،‬تعــود لتســقط علــى رأســه كلمــا ُخ ّيــل لــه أنــه دفــع صخــرة‬ ‫املشــكل بعيــدا‪ .‬و تدفعــه بعيــداً‪ ،‬بــدءاً بكونــه يتيمــاً يزحــف « كجــرو‬ ‫خلــف نا ّنــة‪ ،‬متكــورا يف قشــابيته » طفــال يطــرح الكثيــر مــن التســاؤالت‪،‬‬ ‫و يعيــش حتــت فضــول يأكلــه بشــأن أمــه التــي تو ّفيــت و هــي تضعــه‬ ‫يف هــذا العالــم البائــس الــذي لطاملــا كان جاحــدا معــه‪ .‬ثــ ّم تتوالــى‬ ‫مغامراتــه ‪ :‬اكتشــاف اجلنــس‪ ،‬تكويــن صداقــات‪ ،‬تعاملــه مــع املجتمــع‪،‬‬ ‫طــرده مــن املدرســة‪ ،‬زوا ُج والــده‪ ،‬و هــر ُم ج ّديــه‪ ،‬تفـ ّكك األســرة‪ ،‬العشــرية‬ ‫ُّ‬ ‫ينفــك‬ ‫الســوداء‪ ،‬حيــاة البــارات‪ ،‬املآســي‪ ،‬الكثيــر مــن العفــن الــذي ال‬ ‫تأجــج نــار حياتــه إلــى أن تصيــر رمــا ًدا‪.‬‬ ‫ينصـ ُّ‬ ‫ـب كالزيــت ليزي ـ َد مــن ّ‬ ‫مــن ناحيــة أخــرى‪ ،‬و رغــم أن النــص أشــب ُه بزهــرة الت ّفــت بتالتهــا حــول‬ ‫البطــل « العلمــي »‪ّ ،‬إال أن هــذا لــم مينــع الكاتــب مــن وصــف احلقــل‬ ‫الــذي نبتــت بــه الزهــرة‪ .‬احلقــل القاســي اجلاحــد‪ ،‬الــذي ال يصلــح إال‬ ‫لنباتــات مثــل الصبــار‪ ،‬أو فاكهــة « الهنــدي »‪ .‬فالنــص مبثابــة مــرآة‬ ‫للواقــع الريفــي‪ ،‬للحيــاة الشــاوية بشــكل خــاص‪ ،‬لعاداتهــم و منط حياتهم‬ ‫الــذي يختلــف عــن واقــع املُــدن يف اجلزائــر ‪ :‬أوشــام النســاء‪ ،‬عمامــات‬ ‫الرجــال و قشــابياتهم‪ ،‬قطعــان املاشــية‪ ،‬الذئــاب (بشـ ًرا و حيوانــات) التي‬

‫فصل ـ العدد ‪ 0‬ـ مر ا جعا ت‬

‫» املذياع العاق‬

‫«‬


‫‪52‬‬

‫السبســي و العرعــار‪ ،‬فتــات البربوشــة املتعلّــق دومــا‬ ‫حتاصرهــم‪ ،‬تدخــني ّ‬ ‫بشــواربهم‪ ،‬افتخــار النســاء بالزيــراوي الــذي يعددنــه‪ ،‬األغانــي التــي‬ ‫املتأصلــة يف‬ ‫ـراس و احلنــاء‪ ،‬املفاهيــم‬ ‫ًيرددنهــا‪ ،‬البـ َّراح‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫القصــاب‪ ،‬األعـ ُ‬ ‫العــروش (النيــف و التاغنانــت و احلرمــة)‪ ،‬عالقــات الرجــال و النســاء‪،‬‬ ‫و تركيبــة العــروش و مبادئهــم‪.‬‬ ‫و هــو مــا يقودنــا لتصنيــف جديــد يف األدب اجلزائــري قــد يفــرض‬ ‫نفســه مســتقب ً‬ ‫ال‪ ،‬حيــث أن روايــة حيــدر تنتمــي ملــا يُعــرف بــاألدب‬ ‫املناطقــي (‪ ،)Régional‬وهــو األدب الــذي يُر ّكــز علــى ُجغرافيــا مع ّينــة‬ ‫و خطــاب و تركيبــة اجتماعيــة معينــة‪ ،‬ليــس فقــط لكونهــا خصائــص‬ ‫محل ّيــة تُف ـ ّرق منطقــة مــا‪ .‬بــالد الشــاوية (عــن باقــي مناطــق اجلزائــر‪،‬‬ ‫بــل ألنهــا شــروط جماليــة ضروريــة تؤثــر على مــزاج الشــخصيات و لغتهم‬ ‫و طريقــة تفكيرهــم‪.‬‬ ‫ـب‬ ‫« لكننــي ال أفهــم هــذا البــرو َد الــذي يجعلنــي متحج ـ ًرا‪ ..‬أنــا ال أحـ ّ‬ ‫شــيئا يف هــذه احليــاة‪ ،‬كــي يتســنى لــك فهمــي جيـ ًدا‪ ،‬يعنــي ال يهمنــي مــا‬ ‫ـدي مشــاعر جتــاه أدنــى منلــة يف الكــرة األرضيــة‪،‬‬ ‫يحصــل‪ ،‬و ليســت لـ ّ‬ ‫ـب اليــو َم مثــل غســالي املوتــى »‪.‬‬ ‫مــا جعلنــي أهـ ّ‬ ‫أخــص يف أمريــكا ّ‬ ‫الشــمال ّية‬ ‫أدبــي تبلــو َر بشــكل‬ ‫و هــو بذلــك ت ّيــار‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫(ميكــن التأريــخ لــه مــع أدبــاء القــرن ‪ 19‬يف تلــك القــارة أمثــال مــارك‬ ‫ُ‬ ‫تويــن و ناثانيــل هوثــورن) نظ ـ ًرا التســاعها و للتن ـ ّوع الثقــايف و األدبـ ّـي‬ ‫و اجلغــرا ّ‬ ‫يف بهــا‪ .‬يتّســ ُم بتكريســه لعــدد البــأس بــه مــن صفحــات‬ ‫نتجهــا يف وصـ ِ‬ ‫ـف تفاصيــل و مم ّيــزات منطقــة مع ّينــة‪،‬‬ ‫الروايــات التــي يُ ُ‬ ‫و كذلــك ســمات سـ ّكانها‪ ،‬منشــأهم و طبيعــة حياتهــم‪ .‬و علــى الرغــم مــن‬ ‫صحفي ســابق بخيال ّية الشــخص ّيات‬ ‫اعتــراف جــالل حيــدر يف كــذا حــوار‬ ‫ّ‬ ‫أن د ّقــة وصفــهِ‬ ‫لألماكــن‬ ‫ِ‬ ‫و األحــداث‪ّ ،‬إال ّ‬ ‫تعكــس معرفتــ ُه و حضــورهُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫وصــف األماكــن‪ ،‬األوديــة‪ ،‬اجلبــال‪،‬‬ ‫اجلســدي بهــا‪ :‬سالســة و د ّقــة يف‬ ‫ّ‬ ‫البولفــار‪ ،‬األز ّقــة و الزنــق‪ .‬كل هــذا يجعلــك حاضـ ًرا‪ ،‬متن ّقال بــني زواياها‪.‬‬ ‫وصــف واقعــي‪ ،‬يُخالــف صــورة القريــة التــي تك ّرســت يف الكتابــة العربيــة‬ ‫اجلزائريــة‪ .‬و التــي غالب ـاً مــا ارتبطــت بسياســات الثــورة الزراعيــة أو‬ ‫ـس جــالل‬ ‫ببــؤس « كارتونــي » متـ ّدد كحبـ ٍـل منــذ وقــت االســتعمار‪ .‬لــم ينـ َ‬ ‫أي تفصيــل‪ ،‬بــد ًءا مبالمـ ِـح األشــخاص‪ ،‬و أفكارهــم و انطباعاتهــم‬ ‫حيــدر ّ‬ ‫التــي جتعلـ َ‬ ‫ـيم البيــوت و أثاثهــا‪،‬‬ ‫ـك أقـ َ‬ ‫ـرب منهــم‪ ،‬باإلضافــة إلــى تقاسـ ِ‬


‫‪53‬‬

‫هنالــك أيضــا اللغــة‪ ،‬اللهجــة و تد ّرجاتهــا‪ ،‬خاصــة يف منطقــة الشــاوية‬ ‫ـب احلــوارات بــني أفــراد األســرة الصغيــرة كانــت بالشــاوية‪،‬‬ ‫حيــث ّ‬ ‫أن أغلـ َ‬ ‫ني قوســني‪ .‬و حل ّبــذا لــو استرســل‬ ‫متبوعــة بترجمــة لهــا إلــى العربيــة بـ َ‬ ‫الكاتــب يف جعــل كل احلــوارات الــواردة يف الكتــاب باللغــة الشــاوية أو‬ ‫الدارجــة‪ ،‬فــإن ذلــك كان ليضفــي ملســة تقـ ّرب القــارئ أكثــر مــن الوســط‪،‬‬ ‫متام ـاً كمــا حــدث يف الصفحــات األولــى مــن الكتــاب‪ ،‬فهــذا النــوع مــن‬ ‫يوضــح‬ ‫اللغــة يف هكــذا ســياق إمنــا يخلــق انطباع ـاً أكبــر بالواقعيــة‪ ،‬و ّ‬ ‫صــورة املجتمــع الشــاوي‪ ،‬التــي تنعكــس عبــر اختيــاره لكلماتــه‪ .‬األمــر‬ ‫الــذي يُذكرنــا بإمكانيــة انفتــاح خصوصيــة و حساســية لغويــة كاملــة بــني‬ ‫اللغتــني األمازيغيــة و العربيــة‪ ،‬تأتــي كإضافــة لــألدب املكتــوب باللغــة‬ ‫األمازيغيــة و الــذي ينبثـ ُق كصرخــة وســط ليقــول‪ :‬نحـ ُن ال نــزا ُل هنــا‪.‬‬ ‫تنعكــس هــذه النزعــة احمللّ ّيــة أيضـاً علــى اختيــار الكاتــب لألســماء‪ ،‬مــن‬ ‫الســبتي‪ ،‬بوحــة‪ ،‬ســعد ّية‪ ،‬توهامــي‪،‬‬ ‫قبيــل (العلمــي‪ ،‬بغــدوش‪ ،‬العيــد‪ّ ،‬‬ ‫الدراجــي‪ ،‬ال ّن ـ ّوي‪ ،‬العاليــة‪ ،‬ق ـ ّدور‪ ،‬التّومــي…) و التــي قــد تبــدو للوهلــة‬ ‫األولــى غريبــة و موغلــة يف القــدم‪ّ ،‬إال أ ّنهــا تســاه ُم يف زيــادة جرعــات‬ ‫الواقع ّيــة بالروايــة‪.‬‬ ‫ـت االنتبــاه بشــأن هــذه‬ ‫مــن هنــا‪ ،‬نقفــز إلــى صعيـ ٍـد آخــر‪ ،‬الــى جانـ ٍـب لفـ َ‬ ‫الروايــة أال و هــو اســتعمال مــا يوصــف األلفــاظ النابيــة‪ ،‬و الــذي تسـ ّب َب‬ ‫يف رفــض ال ّنــص مــن العديديــن الذيــن اعتبــروا أ ّنــه مــن غيــر الالئـ ِـق‬ ‫بالروايــة كفـ ّـن أدبـ ّـي أن تســتعمل « ألفـ ً‬ ‫أن‬ ‫ـاظ ســوق ّية » مــن الشــارع‪ ،‬و ّ‬ ‫مثـ َل هــذه اللغــة ال تليـ ُق بــاألدب‪ .‬متجاهلــني يف اســتنكارهم هــذا أ ّن ُهــم‬ ‫يلفظــون الواقـ َع الــذي نحيــا فيــه‪ .‬و اللغــة التــي نعيــش حتــت وقعهــا كل‬ ‫يــوم‪ .‬و هــو مــا يطــر ُح العديـ َد مــن األســئلة مــن قبيــل ‪ :‬لِــ َم يتق ّبـ ُل قـ ّراء‬ ‫العربيــة األشــعار احملفوفــة باأللفــاظ « الســوقية » و التــي يقرؤونهــا‬ ‫ِ‬ ‫مختلــف آداب اآلخريــن‪ ،‬انطال ًقــا مــن هنــري ميلــر و شــارلز‬ ‫يف‬ ‫بوكوفســكي‪ ،‬وصــوال إلــى غابريــال غارســيا ماركيــز‪ ،‬و يرفضــو َن أن‬ ‫ِ‬ ‫ـذاءات‬ ‫يقرؤوهــا يف كتـ ٍـب جزائر ّيــة ؟ ل ـ َم نرفــض « بذاءتنــا » و نتق ّب ـ ُل بـ‬ ‫ـرب مــن بــذاءة نعيشــها و تشــكل جــز ًءا مهمــا مــن‬ ‫الغيــر ؟ و ل ـ َم قــد نهـ ُ‬ ‫ـض أن نقرأهــا ؟‬ ‫اللّغــة اليوميــة ؟ ل ـ َم نســم ُع هــذه الكلمــات و نرفـ ُ‬

‫فصل ـ العدد ‪ 0‬ـ مر ا جعا ت‬

‫طبيعــة األحيــاء‪ ،‬و وصـ ً‬ ‫ـوال إلــى الوديــان و الســهول بــل و ح ّتــى الغطــاء‬ ‫ـص بــه املنطقــة دون غيرهــا‪.‬‬ ‫النباتــي الــذي تختـ ّ‬


‫‪54‬‬

‫إن اســتعمال األلفــاظ النابيــة باللغــة الدارجــة‪ ،‬و التــي كانــت يف العديــد‬ ‫ّ‬ ‫مــن املواضــع مجــ ّر َد « تســمية لألشــياء مبســ ّمياتها »‪ ،‬كاســتعمال‬ ‫ألفــاظ ‪ :‬خصيتــني‪ ،‬قحبــة‪ ،‬حلزونتــي‪ ،‬قضيــب‪ ،‬ترمــة‪ ،‬مؤخــرة‪ ،‬البــول‪،‬‬ ‫كبــول (باإلضافــة إلــى شــتائم مزروعــة هنــا و هنــاك يف احلــوارات التــي‬ ‫ـرب علــى‬ ‫ـؤس و النزاعــات)‪ .‬تضفــي طاب ًعــا واقع ًيــا أكثـ َر و أقـ َ‬ ‫ـس البـ َ‬ ‫تعكـ ُ‬ ‫خاصــة لكــون الروايــة تع ـ ّري نوع ّيــة مع ّينــة مــن البؤســاء‪ ،‬مــن‬ ‫ـص‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫النـ ّ‬ ‫الطبقــة الكادحــة التــي بالــكاد تلحــق لقمــة عيشــها‪ .‬األزهــار املدهوســة‬ ‫مــن املجتمــع‪ .‬التــي غال ًبــا مــا يتعامــل معهــا هــذا األخيــر علــى أ ّنهــا‬ ‫ـراض جمال ّيــة‪ .‬النــاس‬ ‫ـب التخلّــص منهــا ألغـ ٍ‬ ‫األعشـ ُ‬ ‫ـاب الضــا ّرة التــي يجـ ُ‬ ‫املنســ ّيون‪ ،‬الــذي يعيشــون علــى الهامــش‪ .‬الذيــ َن نســ ُّد آذاننــا ً‬ ‫رفضــا‬ ‫لســماع صرخاتهــم احملقــورة‪ .‬أولئــك الذيــن وصفهــم حيــدر بقولــه ‪:‬‬ ‫« نشــعل النــار يف احللفــاء‪ ،‬و نضــع عليهــا األعــواد‪ ،‬وأنوفنــا تســيل‬ ‫باملخــاط‪ ،‬و نحــن منســح بأكمــام قشــابياتنا »‪ « ،‬يكــون عمــرك ‪15‬‬ ‫ســنة‪ ،‬و قــد ولــدت يف قريــة‪ ،‬يف األوراس‪ ،‬أول شــيء حفظتــه (إيــخ) أو‬ ‫(بــع) ‪ :‬األولــى تقــال للنعــاج كــي تتحـ ّرك ‪،‬و الثانيــة صــوت النعــاج عندمــا‬ ‫ـرب لتفتــح بــاب الزريبــة »‪.‬‬ ‫تشــاهدك تقتـ ُ‬ ‫رمبــا مــا ميكــن أن نعيب ـ ُه علــى الروايــة هــو االســتعمال املفــرط لنفــس‬ ‫ّ‬ ‫الكلمــات البذيئــة‪ ،‬و هــو األمــر الــذي ُميكــن تفســيره بنفــس الوقــت‬ ‫علــى أ ّنــه انعــكاس لطبقــة مع ّينــة مــن اللغــة اليوميــة يف بعــض مناطــق‬ ‫اجلزائــر‪ ،‬خاصــة يف محيــط ذكــوري‪.‬‬ ‫« أجم ُل األشــياء هي التي نخشــى أن تفضحنا‪» .‬‬ ‫ولع ـ ّل النســاء وأحاديثهـ ّـن وأســرا َر اصطيادهـ ّـن نل ـ َن قس ـ ًما ال بــأس بــه‬ ‫مــن صفحــات الكتــاب‪ .‬بــد ًءا مبغامــرة العلمــي مــع ســارة التــي اغتصبهــا‬ ‫يف لعبــة العريــس و العروســة‪ ،‬ثــم مسلســل ثقــب البــاب الــذي يتلصــص‬ ‫ني جســد ج ّدته‬ ‫منــه علــى أم صديقــه و هــي عاريــة‪ ،‬مالحظتــه للفــوارق بـ َ‬ ‫ً‬ ‫وصــوال‬ ‫العــاري و جســد « ســعد ّية » الهائجــة‪ ،‬جارتــه و أ ّم صديقــه‪.‬‬ ‫ـور‬ ‫إلــى القحــاب اللّواتــي ترعــر َع بــني سـ‬ ‫ـيقانهن علــى حا ّفــة أنهــار اخلمـ ِ‬ ‫ّ‬ ‫يف البــارات‪ .‬نصائ ـ ُح ا ّبــا ق ـ ّدور التــي تعلّمــه كيـ َ‬ ‫الصبايــا‬ ‫ـف يقتـ ُ‬ ‫ـرب م ـ َن ّ‬ ‫الشـ َ‬ ‫ـب ّ‬ ‫ـباك للظفــر بهـ ّـن مــن دو َن أن يصيــدهُ‬ ‫يف الوديــان كثعلــب و ينصـ ّ‬ ‫إخوتهـ ّـن الرجــال‪.‬‬


‫‪55‬‬

‫علــى صعيـ ٍـد آخــر‪ ،‬حــاو َل الكاتــب يف روايتــه تصويـ َر العشــرية الســوداء‪،‬‬ ‫و فظاعتهــا‪ .‬يتّض ـ ُح ذلـ َ‬ ‫مذبوحــا‪ ،‬ث ـ ّم يف‬ ‫ـك جل ًّيــا بداي ـ ًة مبــوت أســتاذه‬ ‫ً‬ ‫التحـ ّوالت التــي شــهدتها املنطقــة و التــي تظهـ ُر يف شــخص ّية « العيــد »‬ ‫الــذي أصب ـ َح « يتمومــن » ويصلّــي و يُدعــى بالشــيخ‪ ،‬ضــف إلــى ذلــك‬ ‫تضييقــات جماعــة « القواديــن » التــي تنتظــر عنـ َد مدخــل القريــة لتقــوم‬ ‫باســتجوابات يوم ّيــة حتــت وقــع التهديــد‪ .‬مصـ ّو ًرا ً‬ ‫أيضــا اخلــوف الــذي‬ ‫يتملّـ ُ‬ ‫ـك أصحــاب و ر ّواد البــارات و قحابهــا‪ ،‬نظ ـ ًرا ألخبــار تفجيــرات‬ ‫و اغتيــال أصحــاب الفنــادق و البــارات‪.‬‬ ‫في األخيــر‪ ،‬أكثــ ُر مــا ميكــ ُن أن نعيبــ ُه علــى الروايــة هــو ذلــك‬ ‫اإلحســاس بالبتــر و االجتثــاث يف نهايتهــا التــي جــاءت متسـ ّرعة‪ .‬فقــد‬ ‫ـس ك ّل مش ـ ّو ٍق قبلهــا‪ .‬تاركــة‬ ‫تسـ َ‬ ‫ـارعت عجلــة أحداثهــا لتســي َر و تدهـ َ‬ ‫القــارئ متخ ّب ًطــا يف كومـ ٍـة مــن األســئلة و الغمــوض‪ .‬اإلجابــات أشــب ُه‬ ‫ـرب مــن إحداهــا‪ ،‬اكتشـ َ‬ ‫ـف أ ّنــه‬ ‫بالســراب‪ ،‬كلّمــا خ ّيــل للقــارئ أنــه اقتـ َ‬ ‫ال يــزال بعي ـ ًدا‪.‬‬

‫فصل ـ العدد ‪ 0‬ـ مر ا جعا ت‬

‫« السـ ّر هــو الــذي يجعلُــك مقر ًبــا مــن النســاء و محبوبــا لديهن‪ ،‬و مينحك‬ ‫ك ّل شــيء برضــى‪ ...‬يجــب أن حتفــظ أســرارك مــع النســاء‪ ،‬ال تصاحــب‬ ‫دب‪ ،‬و ال تــروي قصصــك معهــن ألي حلــوف‪ ،‬الهــدرة‬ ‫مــن هــب و ّ‬ ‫أخــت النــار‪ ،‬تلتهــم كل شــيء‪ ،‬أجلــم فمــك و تعلــم أن ال تكثــر احلديــث‬ ‫حصــال‪ ،‬قــد يــودي بــك إلــى الهــالك‪ ،‬و املــرأة يجــب‬ ‫معهــن‪ ،‬اللســان ّ‬ ‫أن تشــعرها دائمــا أنــك قليــل الــكالم و غامــض‪ ،‬الثرثــار ال تثــق فيــه‬ ‫ـتهواهن كالمــه‪» .‬‬ ‫النســاء حتــى و إن اسـ‬ ‫ّ‬


‫‪56‬‬

‫» غذاء للقبطي‬

‫«‬

‫لشارل عقل‬

‫بقلم صالح باديس‬

‫كيــف و مــاذا يــأكل‬ ‫أقبــاط مصــر ؟‬ ‫املســيح قــال للمؤمنــني أنتــم ملــح األرض‪ ،‬و امللــح كان مــادة مهمــة و نــادرة‬ ‫يف وقــت اإلمبراطوريــة الرومانيــة ممــا جعــل هــذه األخيــرة تطلــق اســم‬ ‫« طريــق امللــح » علــى إحــدى أهــم طرقهــا بــل و كانــت تدفــع يف بعــض‬ ‫األحيــان مرتّبــات جنودهــا بامللــح و مــن هنــا جــاءت كلمــة ‪ salaire‬مــن‬ ‫ـظ الطعــام و يعطــي طعم ـاً‬ ‫‪ sal‬الكلمــة الرومانيــة للملــح‪ ،‬و امللــح يحفـ ُ‬ ‫لروحــه و هــو أســاس كل مطبــخ‪ ،‬و يعتقــد األقبــاط يف مصــر اليــوم‬ ‫– و منــذ قيــام الدولــة الوطنيــة بدايــة اخلمســينات ‪ -‬أنهــم هــم ملــح‬ ‫البــالد‪ ،‬و ســبب توازنهــا و عــدم انزالقهــا نحــو أس ـل َ ٍ‬ ‫مة شــاملة‪ ،‬و أنــه‬ ‫بســببهم ال تــزال هنالــك بــارات مفتوحــة و ســياحة قائمــة و مجتمــع‬ ‫متجانــس نــوع مــا و غيــر متطــرف‪ ...‬كل هــذه النــوادر و املعلومــات‪،‬‬ ‫التــي تتن ـ ّوع بــني التاريــخ و الديــن و الطبــخ و الســخرية الالذعــة مــن‬ ‫أقليــة دينيــة‪ ،‬نقرأهــا يف كتــاب ممتــع و جميــل صــدر يف القاهــرة منــذ‬ ‫أشــهر‪ ،‬عــن « الكتــب خــان » للنشــر‪ ،‬عنوانــه « غــذاء للقبطــي » و هــو‬ ‫أول كتــاب لصاحبــه شــارل عقــل‪.‬‬ ‫ليــس مــن الســهل إيجــاد هــذا الكتــاب يف اجلزائــر‪ ،‬فكاتــب هــذه‬ ‫توصــل بــه بعــد طلبــه إلكترونيــا‪ ،‬و هــو يســتحق عنــاء ذلــك‪ .‬نعود‬ ‫الســطور ّ‬ ‫ملوضوعنــا‪ ،‬شــارل عقــل – كمــا يُع ـ ّرف نفســه علــى غــالف الكتــاب ‪-‬‬ ‫هــو شــاب مــن اإلســكندرية‪ ،‬يكــره مهنــة الكتابــة أقــل ممــا يكــره باقــي‬ ‫املهــن و يهــوى اجللــوس‪ .‬و هــذه التركيبــة بــني املعلومــة و الفكاهــة لــن‬ ‫تبقــى علــى ســطح الغــالف بــل ســنجدها طيلــة قراءتنــا للكتــاب الصغيــر‬ ‫الــذي يربــو علــى ‪ 200‬صفحــة‪.‬‬ ‫« غــذاء للقبطــي » هــو كتــاب غيــر تخييلــي أي مــا يُعــرف اليــوم يف عالــم‬ ‫األدب بـــ ‪ ،non-fiction‬يتنــاول موضوع ـاً مثيــراً و هــو املطبــخ القبطــي‬


‫‪57‬‬

‫يبــدأ عقــل كتابــه بالقــول أنــه نشــأ يف مجتمــع قبطــي يعــرف عنــه‬ ‫الكثيــر‪ ،‬أكثــر ممــا يحتــاج‪ ،‬و راقبــه و فحصــه مــن الداخــل ثــم مــن‬ ‫اخلــارج عندمــا كبــر و نضــج خارجــه ُمنســلخاً « دون أي ضغينــة‪ .‬فقــط‬ ‫كمــا تســقط الثمــار فــور مــا تنضــج تاركــ ًة شــجرتها‪ ،‬تنفصــل عنهــا‬ ‫و تبــدأ دورتهــا يف بــذرة لشــجرة جديــدة أو تنهيهــا يف فــم جائــع‪،‬‬ ‫دون ارتبــاط ســري بجذورهــا‪ » .‬يظهــر مــن الكتــاب أن صاحبــه طبــاخ‬ ‫ماهــر‪ ،‬نحــن لــم نتــذ ّوق طبخــه‪ ،‬لكنــه يُجيــد وصــف مكونــات األطبــاق‬ ‫و التعامــل معهــا‪ ،‬و يحفــظ عشــرات الوصفــات املصريــة و القبطيــة‬ ‫و املتوســطية (مــن البحــر األبيــض) و ال يتوانــى كــي يُد ِّقــ َق يف أصغــر‬ ‫التفاصيــل‪ ،‬فنجــده يشــرح مختلــف طــرق حتضيــر الفــول املصــري‪ ،‬مــن‬ ‫األبســط (زيــت‪ ،‬كمــون‪ ،‬ملــح و ليمــون) إلــى أكثرهــا تعقيــداً كإضافــة‬ ‫البيــض و الســجق‪ .‬لكــن « غــذاء القبطــي » ليــس كتــاب طبــخ فقــط‪،‬‬ ‫لذلــك نكتشــف عــادات األقبــاط خــالل فتــرات الصــوم (الصــوم عندهــم‬ ‫يــدوم ملــدة تقــارب نصــف الســنة‪ ،‬علــى فتــرات متفرقــة‪ ،‬و الصــوم‬ ‫األكبــر يــدوم ‪ 50‬يومــاً) و هــو صــوم نباتــي‪ ،‬أي يتفــادى فيــه األقبــاط‬ ‫أكل املنتجــات احليوانيــة و مشــتقاتها‪ .‬ينطلــق شــارل يف تعديــد األكالت‬ ‫التــي مـ ّرت بتاريــخ املطبــخ القبطــي‪ ،‬و كيــف أ ّثــرت التجــارة و االنفتــاح‬ ‫ـس مصــر يف التســعينات علــى عــادات و أكالت األقبــاط‪ ،‬بــل‬ ‫الــذي مـ ّ‬ ‫و نقــرأ صفحــات كاملــة عــن سياســة بعــض الشــركات الغذائيــة ُجتــاه‬ ‫فئــة متثــل قرابــة الســت ماليــني نســمة مــن املجتمــع‪ ،‬تتح ـ ّرك يف كتلــة‬ ‫واحــدة ُجتــاه منتجــات معينــة و تقاطــع بعضهــا اآلخــر‪.‬‬ ‫هنالــك أيضـاً الرمزيــة و التاريــخ احلاضــران بقــوة يف املطبــخ القبطــي‪،‬‬ ‫حيــث يكتــب أن الكائنــات البحريــة ليســت ممنوعــة خــالل فتــرة‬

‫فصل ـ العدد ‪ 0‬ـ مر ا جعا ت‬

‫املصــري‪ ،‬مــن زاويــة أنثروبولوجيــة و شــخصية‪ .‬حيــث يتطــ ّرق عقــل‬ ‫طيلــة كتابــه إلــى مســتويني ‪ :‬التاريــخ الشــخصي‪ ،‬و هــو تاريــخ الكاتــب‬ ‫و عائلتــه‪ ،‬و التاريــخ العــام للجماعــة الدينيــة و هــي األقبــاط و التــي‬ ‫تبلــغ حوالــي ‪ 6‬باملئــة (‪ 5,4‬مليــون نســمة) مــن إجمالــي الشــعب املصــري‬ ‫(‪ 90‬مليــون نســمة)‪ .‬ويف عشــرة فصــول‪ ،‬تبــدأ بطــرق طبــخ الفــول‬ ‫املصــري و املخبــوزات و مكانــة املأكــوالت البحريــة يف الديانــة القبطيــة‬ ‫حتــى املنتجــات اخلالفيــة مثــل اخلنزيــر و اخلمــور و اقتصــاد الكنائــس‬ ‫و األديــرة التــي تــزرع و تبيــع منتجاتهــا ؛ عالــم ُمغلــق و ســري يفتــح لنــا‬ ‫عقــل نوافــذه و أبوابــه‪.‬‬


‫‪58‬‬

‫الصــوم‪ ،‬ألنهــا حتتــل مكانــة كبيــرة يف هــذا املطبــخ‪ ،‬و ذلــك راجــع لكــون‬ ‫املســيح عــاش يف قريــة اجلليــل التــي كانــت قريــة صياديــن‪ ،‬بــل و أن‬ ‫رمــز املســيحيني األوائــل لــم يكــن الصليــب طبع ـاً بــل خطــان منحنيــان‬ ‫يرســمان ســمكة‪ ،‬ألن أغلبهــم كانــوا مــن الصياديــن‪ .‬و خــالل كل هــذه‬ ‫القــراءات‪ ،‬نصــادف رحلــة الكاتــب مــن وســط اجلماعــة إلــى خارجهــا‪،‬‬ ‫مــن التطبيــق الصــارم للتعالــم و الفــروض إلــى التخلــي الكامــل عنهــا‪،‬‬ ‫و كل هــذا بلغــة رشــيقة و ســخرية الذعــة‪ ،‬تبــدأ مــن بعــض مشــاهد‬ ‫اإلجنيــل و حيــاة املســيح حتــى البابــاوات و الطائفــة القبطيــة عمومــا‪،‬‬ ‫حيــث نقــرأ عــن مفهــوم مبــدأ « األمانــة » عنــد األقبــاط‪ ،‬و كيــف‬ ‫يُحافظــون عليــه منــذ أن وضــع األمويــون يف دمشــق مســيحياً يديــر بيــت‬ ‫مــال املســلمني‪ ،‬و يف نفــس الوقــت نقــرأ كيــف حت ـ ّول شــرب الكحــول‬ ‫عنــد األقبــاط‪ ،‬بســبب عقــد الذنــب و تأثرهــم بغالبيــة املســلمني يف‬ ‫مصــر‪ ،‬إلــى شــيء غيــر مســتحب و شــبه مكــروه مــع الوقــت‪.‬‬ ‫و إن كان « الكبــار » قــد بــدؤوا يف التخلّــي عــن الكحــول بدافــع ضغــوط‬ ‫و أوضــاع اجتماعيــة (بــل و وصلــوا يف بعــض األحيــان إلــى تبريرهــا‬ ‫بتأويــل بعــض اآليــات مــن اإلجنيــل‪ ،‬رغــم أن اخلمــر و اخلبــز كمــا يقــول‬ ‫شــارل من أساســيات غذاء املســيح)‪ ،‬فإ ّنهم ال يتوان َون عن دفع أوالدهم‬ ‫إلظهــار « قِ بطيتهــم » و إبــراز اختالفهــم عــن أقرانهــم املســلمني‪ ،‬فنقــرأ‬ ‫عــن حتضيــر األمهــات لسندويتشــات املدرســة ألوالدهــن‪ ،‬حتــى يف شــهر‬ ‫رمضــان‪ ،‬حيــث يبــدأ التالميــذ املســلمون يف الصــوم‪ .‬و يقــول عقــل أن‬ ‫جيــل اآلبــاء يُبـ ّرر هــذه التصرفــات بكــون األوالد الزالــوا صغــارا و ليــس‬ ‫عليهــم احتمــال اجلــوع والعطــش‪ ،‬مثــل األقبــاط الكبــار الذيــن ميتنعــون‬ ‫عــن األكل أمــام املســلمني يف العمــل و الشــارع‪.‬‬ ‫هكــذا هــي قــراءة « غــذاء للقبطــي »‪ ،‬رحلــة متواصلــة مــن املطبــخ‬ ‫إلــى الفضــاء مــع إســقاطات تاريخيــة مســل ّية و مفيــدة‪ ،‬يربــط شــارل‬ ‫السياســي بالغذائــي باالقتصــادي باالجتماعــي بالتاريخــي‪ ،‬ينتقــل مــن‬ ‫طاولــة عشــاء العيــد العائلــي احملاطــة بالنفــاق و األجــواء العائليــة‬ ‫امل ُ ّدعيــة إلــى أيقونــة العشــاء األخيــر املعلّقــة علــى احلائــط‪ ،‬إلــى‬ ‫طبقــات األكل الدهنــي و الدســم علــى الطاولــة‪ ،‬إلــى خطبــة البابــا‬ ‫علــى التلفزيــون و الرســائل السياســية التــي حتملهــا و يحملهــا كذلــك‬ ‫تصفيــق األقبــاط احلاضريــن علــى الــزوار و التهانــي التــي يتلقونهــا مــن‬ ‫السياســيني و الشــخصيات العامــة‪ ،‬و كل هــذا مربــوط بخيــط الكتابــة‪،‬‬ ‫الكتابــة الصريحــة و املمتعــة و الناقــدة مــن دون انحنــاءة أخالقيــة أو‬ ‫ـاس للســياقات التــي أنتجــت هــذا الوضــع‪.‬‬ ‫تنـ ٍ‬


‫‪4‬‬ ‫مقتطــف‬ ‫حطب سراييفو‬

‫لسعيد خطيبي‬ ‫رواية‬ ‫ستصدر عن منشورات اإلختالف‬


‫‪60‬‬

‫ّ‬ ‫عينــا الجنيــة‬ ‫فصل مقتطف من رواية‬ ‫‪.‬‬ ‫اإلختاف‬ ‫منشورات‬

‫حطب سراييفو‬

‫ستصدر الحقا عن‬

‫يف هــذه املدينــة الوجلــة و املُرجتفــة‪ ،‬التــي تتلــ ّوى و تتحايــل علــى‬ ‫التّاريــخ كــي تنســى حاضرهــا‪ ،‬تتناســل املصائــب‪ ،‬دفعــة واحــدة‪ ،‬مــن‬ ‫جحرهــا‪ ،‬تنــزل علــى رؤوســنا و ّ‬ ‫الســفارة رفضــت طلبــي‬ ‫تهشــمها‪ّ .‬‬ ‫للحصــول علــى تأشــيرة إلــى ســلوفينيا‪ ،‬و يف اليوم املوالي‪ ،‬اســتيقظت‬ ‫ّ‬ ‫و قــد صــرت بــال عمــل‪ ،‬بــال دخــل‪ ،‬بــال رزق‪ ،‬بــال أمــل‪ُ ،‬مشــتتاً‪ ،‬تائهـا‪ً،‬‬ ‫مغضوب ـاً علــي‪ ،‬ال أعلــم أيــن أو ّلــي وجهــي‪.‬‬ ‫بعــد حــوار‪ ،‬نُشــر‪ ،‬قبــل أ ّيــام‪ ،‬مــع ُمعــارض سياســي‪ ،‬يُقيــم يف لنــدن‪،‬‬ ‫الصــدور‪ .‬القــرار لــم‬ ‫جــاء القــرار القاصــم‪ ،‬مبنــع اجلريــدة مــن ّ‬ ‫يصــل إلــى رئيــس التّحريــر و ال إلــى مديــر النّشــر‪ ،‬بــل ُو ِجــه إلــى‬ ‫املطبعــة‪ ،‬حيــث أخبرنــا مســؤول فيهــا أن أمــراً وصلهــم بعــدم ســحب‬ ‫اجلريــدة‪ ،‬دون أن يق ّدمــوا ســبباً أو يبــرروا قرارهــم‪ ،‬نحــن فقــط‬ ‫اجتهدنــا و خم ّنــا أن القــرار ســببه احلــوار الــذي نُشــر قبــل أ ّيــام‪.‬‬ ‫تلــك « احليتــان املاضويــة »‪ ،‬التــي حتكــم البلــد و أرزاق أهــل البلــد‪،‬‬ ‫ال تشــفق علــى أحــد‪ .‬يعتقــدون أن جريدتنــا تــر ّوج خلصومهــم أو‬ ‫تتعاطــف معهــم و يتجاهلــون أننــا نعيــش كالقطــط املفزوعــة أو‬ ‫اخلرفــان الفــا ّرة مــن ســكني جـزّار‪ ،‬خشــية نواطيــر األرواح و حلفائهم‪.‬‬ ‫كثيــر مــن الزّمــالء تركــوا بيوتهــم و أهاليهــم و أبناءهــم حفاظـاً علــى‬ ‫أرواحهــم‪ ،‬تش ـ ّردوا بســبب مقاومتهــم و رفضهــم أن تصيــر البــالد‬ ‫بيــت عــزاء كبيــر‪ ،‬مــع ذلــك‪ ،‬مــا تــزال تلــك « احليتــان املاضويــة »‬ ‫الصــدور‪ ،‬و الع ّمــال‪ ،‬مــن‬ ‫تنظــر إلينــا بــازدراء‪ .‬اجلريــدة ســتتو ّقف عــن ّ‬ ‫صحافيــني و إداريــني‪ ،‬سيتشـ ّردون‪ .‬ثمانيــة عشــر شــخصا‪ ،‬مــن ســائق‬ ‫إلــى مديــر‪ ،‬ســيجدون أنفســهم بــال ُمعيــل لهــم و لعائالتهــم و أطفالهم‪.‬‬


‫‪61‬‬

‫فصل ـ العدد‬ ‫‪0‬‬

‫ـ مقتطف‬

‫ صرت عاط ً‬‫ال‪.‬‬ ‫أخبرت مليكة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫سأوظفك عندي‪ ،‬كحارس شخصي‪ ،‬و أدفع لك راتباً ك ّل شهر‪.‬‬ ‫‬‫علي ساخرة‪.‬‬ ‫ر ّدت ّ‬ ‫ســخر ّيتها بــدت لــي يف غيــر محلّهــا‪ ،‬لكــن قصدهــا كان بريئــا‪ .‬أرادت‬ ‫توجســي مــن‬ ‫أن تن ّكــت لتغ ّيــر مزاجــي و تُلهينــي عــن قلقــي و توتــري و ّ‬ ‫اآلتــي‪ .‬حدســها لــم يخطــئ‪ .‬قبــل أشــهر‪ ،‬حــني أخبرتهــا‪ ،‬يف الهاتــف‪،‬‬ ‫عــن تكليفــي باســتطالع يف قريــة « ســيدي رغيــس »‪ ،‬ر ّدت علّــي‪،‬‬ ‫ببــرودة دم ‪ « :‬أنــت تُرهــق نفســك‪ ،‬و لــن تخــرج بطائــل »‪ .‬اســتأت‬ ‫مــن ر ّدهــا حينهــا‪ ،‬لكننــي اســتوعبت كلماتهــا فيمــا بعــد‪ .‬يف بعــض‬ ‫األحيــان‪ ،‬يتملّكنــي شــعور غريــب جتــاه مليكــة‪ّ .‬‬ ‫أشــم فيهــا رائحــة‬ ‫األمومــة التــي يبحــث عنهــا رجــل فقــد أ ّمــه قبــل أن يفطــم مــن تعلّقــه‬ ‫احلاجــة فاطمــة عينيهــا‪ ،‬بعدمــا‬ ‫ـت ســنوات‪ ،‬أغمضــت‬ ‫بهــا‪ .‬مــن سـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫هــزل جســدها و فقــدت ّ‬ ‫الشــهية لــألكل و عانــت مــن غثيــان مزمــن‬ ‫الســرطان روحهــا‪ .‬لــم أجــد رائحــة لهــا يف واحــدة مــن‬ ‫و افتــرس ّ‬ ‫خاالتــي‪ ،‬و ال يف أي امــرأة أخــرى مــن اللواتــي قابلتهــن فيمــا مضــى‪،‬‬ ‫ـس فيهــا دفئ ـاً ضائع ـاً‪ ،‬نــوراً يُعيدنــي للمــرأة‬ ‫عــدا مليكــة‪ ،‬التــي أحـ ّ‬ ‫التــي أحتــاج حلضورهــا‪ .‬أ ّمــي كانــت عينـاً حترســني‪ ،‬و أنــا عالــق بهــا‬ ‫كحبيبــة لــي‪ ،‬و أريــد مــن حبيبتــي أن تشــعرني بأمومــة حانيــة‪.‬‬ ‫بقامتــي ّ‬ ‫الطويلــة‪ ،‬بشــرتي الفاحتــة و مالمحــي الهادئة‪ ،‬أبــدو يف مظهر‬ ‫األخ األصغــر ملليكــة‪ ،‬التــي علــت جبهتهــا جتاعيــد خفيفــة‪ ،‬و ليــس‬ ‫حارسـاً شــخصياً لهــا‪.‬‬ ‫ ملاذا ال تذهب إلى جريدة أخرى ؟‬‫ نفقــات اإلعالنــات قلّــت و فــرص إيجاد عمل تضاءلت‪.‬‬‫يف العــام الــذي صــرت فيــه يتيم ـاً‪ ،‬بعــد حصولــي علــى ليســانس يف‬ ‫اإلعــالم‪ ،‬التحقــت بجريــدة « احلــ ّر »‪ .‬عملــت يف األشــهر ال ّثالثــة‬ ‫األولــى كمحــ ّرر يف صفحــة « مراســلون »‪ ،‬خلفــاً ُ‬ ‫حملــ ّررة ثالثينيــة‪،‬‬ ‫خرجــت يف إجــازة أمومــة‪ ،‬ثــم اســتقالت و انتقلــت للعيــش‪ ،‬برفقــة‬ ‫زوجهــا و رضيعهــا‪ ،‬يف مدينــة ســاحلية‪ ،‬غــرب البــالد‪ .‬كنــت أتل ّقــى‪،‬‬ ‫ك ّل يــوم‪ ،‬عشــرات الفاكســات و املكاملــات الهاتفيــة‪ ،‬مــن مراســلني‪ ،‬عــن‬ ‫أخبــار بســيطة و أحيان ـاً غيــر ذات أهميــة‪ ،‬أخبــار متــأل صفحتــني‪،‬‬ ‫عــن تهيئــة أرصفــة يف قريــة نائيــة أو حملــة تشــجير يف قريــة أخــرى‪،‬‬


‫‪62‬‬

‫عــن مواطــن يبحــث عــن دواء مفقــود و آخــر ميســور احلــال تبــ ّرع‬ ‫مبــال لبنــاء مســجد‪ ،‬عــن مقبــرة نصــارى تع ّرضــت لتخريــب و نبــش‬ ‫للقبــور‪ ،‬أو كالب تتج ّمــع خلــف مدرســة و تُرعــب األطفــال‪ .‬أخبــار‬ ‫متن ّوعــة‪ ،‬و أحيانــاً ال تســتحق ال ّذكــر‪ ،‬أُعيــد قراءتهــا و حتريرهــا‬ ‫و أختــار عناويــن لهــا وأرســلها للتّركيــب و للنّشــر يف اليــوم املوالــي‪.‬‬ ‫بعــد انقضــاء ثالثــة أشــهر‪ ،‬ح ّولنــي رئيــس التّحريــر إلــى القســم‬ ‫ال ّثقــايف‪ ،‬و تع ّرفــت علــى فتحــي‪ ،‬الــذي أثــار يف نفســي شــغف األدب‬ ‫و الكتابــة‪ .‬صــرت أُقــوم مبهـ ٍـام خارجيــة‪ ،‬بإجــراء تغطيــات ميدانيــة‪،‬‬ ‫و أحيانـاً تصــل اجلريــدة ُكتــب جديــدة‪ ،‬بالعربيــة أو الفرنســية‪ ،‬أقــوم‬ ‫باإلطــالع عليهــا‪ ،‬أنــا و فتحــي‪ ،‬نتناقــش حــول مضامينهــا و حيــاة‬ ‫مؤلفيهــا‪ ،‬و أكتــب تقاري ـ َر عنهــا‪ .‬لكننــي لــم أبــق يف القســم ال ّثقــايف‬ ‫الصفحــة ال ّثقافيــة مــن‬ ‫أكثــر مــن عــام و أربعــة أشــهر‪ُ .‬حذفــت ّ‬ ‫اجلريــدة‪ ،‬نابــت عنهــا صفحــة تســلية و كلمــات متقاطعــة‪ ،‬تتح ـ ّول‪،‬‬ ‫يف رمضــان‪ ،‬إلــى صفحــة وصفــات طبــخ‪ ،‬و ُح ّولــت‪ ،‬مــع فتحــي‪ ،‬إلــى‬ ‫السياســي‪ .‬وجدتنــي أكتــب‪ ،‬مــع ثالثــة زمــالء آخريــن‪ ،‬عــن‬ ‫القســم ّ‬ ‫املــوت و املوتــى‪ ،‬عــن الغــول الــذي يتر ّبــص بنــا‪ ،‬و عــن تصريحــات‬ ‫مســؤولني ســاميني يف ال ّدولــة‪ ،‬أعــرف أســماءهم و ص ّورهــم‪ ،‬لكــن‬ ‫لــم يســبق لــي أن التقيــت واحــداً منهــم‪ .‬و صــرت أُكلّــف باخلــروج‬ ‫يف مهــام‪ ،‬الســتطالعات و تقاريــر عــن أحــداث دمويــة‪ ،‬وقعــت يف‬ ‫مناطــق ُمجــاورة للجزائــر العاصمــة أو أخــرى بعيــدة‪.‬‬ ‫ أنت العازب الوحيد‪ ،‬الذي ميكن أن نتّكل عليه‪.‬‬‫علّق‪ ،‬م ّرة‪ ،‬رئيس التّحرير‪.‬‬ ‫كلّفنــي بتلــك املهــام ألن بقيــة الزّمــالء متز ّوجــون و لهــم أبنــاء يخافــون‬ ‫عليهــم‪ .‬لكــن أنــا أيض ـاً أخــاف علــى نفســي‪ .‬صحيــح أننــي فقــدت‬ ‫أ ّمــي‪ ،‬و خســرت والــدي الــذي أصابــه األلزهاميــر‪ ،‬لكننــي لســت‬ ‫مســتعداً أن أفقــد روحــي‪ ،‬مــن أجــل بشــر ال أعرفهــم‪ ،‬أتعاطــف معهم‪،‬‬ ‫مــت بســبب حماســتي يف‬ ‫لكــن ال أحــد منهــم ســيتعاطف معــي لــو ّ‬ ‫الكتابــة عنهــم وعمــا يجــرى لهــم‪.‬‬ ‫مات‪.‬‬ ‫فات ْ‬ ‫ اللي ْ‬‫تعلّق مليكة‪.‬‬ ‫أنظــر يف عينيهــا املل ّونتــني‪ ،‬أزرق يُجانــب ب ّنــي‪ ،‬و أقــول يف نفســي رمبــا‬ ‫مســها جـ ّـن و هــي بعــد جنــني يف بطــن أ ّمهــا‪ .‬رمبــا هــي نفســها جن ّيــة‪،‬‬ ‫ّ‬


‫‪63‬‬

‫فصل ـ العدد‬ ‫‪0‬‬

‫ـ مقتطف‬

‫امــرأة مشــؤومة و أنــا ال أدري‪ .‬أنــزل بنظــري إلــى شــفتيها‪ ،‬اللتــني‬ ‫تبللهمــا باســتمرار بلســانها‪ ،‬أنتظــر منهــا أن تبتســم لتظهــر أســنانها‬ ‫البيضــاء‪ ،‬لكنهــا تتم ّنــع‪ .‬و تعــود إلــى نكتهــا‪.‬‬ ‫ لــو تقبــل بالعمــل كحــارس شــخصي لــي‪ ،‬ســأدفع لــك مقابــ ً‬‫ال‬ ‫وأبحــث لــك عــن زوجــة تُناســبك‪.‬‬ ‫نهضــت مــن مكانــي‪ .‬غــادرت الغرفــة إلــى املطبــخ إلحضــار قنينــة مــاء‬ ‫بــاردة‪ ،‬مــن ال ّثالجــة‪.‬‬ ‫ ألن تذهب لزيارة أهلك ؟‬‫ كال‪ ،‬أ ّمــي زارتنــي قبــل أســابيع‪ .‬و أنــا أتّصــل بهــم‪ ،‬بــني احلــني‬‫واآلخــر‪ ،‬و ال رغبــة لــي يف زيارتهــم‪ ،‬و مواجهــة أســئلتهم املكـ ّررة عــن‬ ‫أن خالتــي تــو ّد خطبتــي‬ ‫حياتــي‬ ‫اخلاصــة‪ .‬حوريــة زارتهــم و أخبرتنــي ّ‬ ‫ّ‬ ‫لواحــد مــن أبنائهــا‪ .‬تخ ّيــل !‬ ‫ ما املانع ؟‬‫ لست من النّوع الذي مييل إلى زواج األقارب‪.‬‬‫ إن بقيت تتمنعني‪ ،‬فلن تتز ّوجي أبداً‪.‬‬‫صمتــت‪ ،‬لبرهــة‪ ،‬ثــم انفعلــت ‪ « :‬وش دخلــك ؟ »‪ .‬فاجأتنــي‪ « .‬قـ ّوادة »‬ ‫غمغمــت‪ .‬اختفــت مالمــح الهــزل عــن وجههــا و صــارت عيناهــا ح ّبتــا‬ ‫كــرز المعتني‪.‬‬ ‫الحظت أنها أضافت مزالجاً ثالثاً للباب اخلارجي‪.‬‬ ‫ هل عاود نواطير األرواح ُمراسلتك ؟‬‫أي وقت‪.‬‬ ‫ كال‪ .‬لكن‪ ،‬قد يفعلونها يف ّ‬‫أظنّهــا علــى حــقّ ‪ .‬مــن احلكمــة أن نحتــاط ألنفســنا‪ ،‬يف هــذا الزّمــن‬ ‫الصدئــة جســد املدينــة‪ .‬زميلــة لنــا‬ ‫املُخــادع‪ ،‬الــذي يختــرق بســكاكينه ّ‬ ‫يف العمــل أرســلوا لهــا‪ ،‬قبــل أشــهر‪ ،‬قطعــة قمــاش أبيــض تشــبه كفنـاً‪،‬‬ ‫و صابونـاً‪ ،‬و كتبــوا لهــا يف ورقــة صغيــرة « إن ُعــدت‪ُ ،‬عدنــا »‪ .‬حلســن‬ ‫ّ‬ ‫حظهــا أن اجلريــدة أغلقــت و لــن تعــود و لــن تُخاطــر بحياتهــا‪ .‬كلّمــا‬ ‫توجســنا مــن اآلخريــن و من‬ ‫أبصرنــا مــا يــدور مــن حولنــا زاد خوفنــا و ّ‬ ‫أنفســنا‪ .‬يف هــذا البلــد‪ ،‬ال أحــد يثــق يف اآلخــر‪ .‬امــرأة ج ّذابــة و مث ّقفة‬ ‫مثــل مليكــة لهــا ك ّل األســباب لتخــاف علــى روحهــا‪ ،‬هي تُشــاطر ســكان‬ ‫املدينــة فلســفتهم العا ّمــة ‪ « :‬أنــا خائــف‪ ،‬إذاً أنــا موجــود »‪ .‬ال شــيء‬ ‫الصبــر يحيينــا ويحمينــا مــن أن يتحـ ّول خوفنــا إلــى جرميــة يف‬ ‫غيــر ّ‬ ‫حــقّ ذواتنــا‪ ،‬أو نتحـ ّول إلــى مســوخ تخشــى ظاللهــا‪.‬‬


‫‪64‬‬

‫الصغيــرة‪ ،‬املرتّبــة مبــا يليــق بقارئــة‬ ‫أنعــزل أنــا و مليكــة يف غرفتهــا ّ‬ ‫وف ّيــة جلــون شــتينباك‪ ،‬أناييــس نــن و إرنســت هيمنغــواي‪ .‬ك ّل شــيء‬ ‫نظيــف و يف مكانــه ‪ :‬ســتار النّافــذة‪ ،‬األغطيــة‪ ،‬الكرسـ ّيان اخلشــب ّيان‬ ‫الصغيــر‪ ،‬الــذي تتزاحــم فيــه روايــات كتّابهــا األمريكيــني‬ ‫و مكتبهــا ّ‬ ‫املفضلــني‪ .‬جنلــس متقابــالن و نصمــت‪ .‬صمــت ال يكســره ســوى‬ ‫ّ‬ ‫صــوت ّ‬ ‫الشــاب خالــد‪ ،‬املنطلــق مــن آلــة التّســجيل‪ ،‬حــني يرتفــع‬ ‫بأغنياتــه القدميــة‪ ،‬نشــعر أن األرض تتو ّقــف عــن الــ ّدوران‪.‬‬ ‫« إذا لقيتو حبيبتي متشط‪ ..‬بشعرها ّ‬ ‫غطوني‬ ‫إذا لقيتو حبيبتي تبكي‪ ..‬بدموعها أروني‬ ‫إذا لقيتــو حبيبتــي ميتــة‪ْ ..‬حذاهــا أدفنونــي »‪ ..‬يصــدح خالــد حــاج‬ ‫إبراهيــم‪ ،‬و تغمــض مليكــة عينيهــا املل ّونتــني‪ .‬ليكتمــل جمالهــا ال ب ـ ّد‬ ‫أن تفتــح عينيهــا‪ ،‬تش ـ ّرعهما‪ ،‬همــا نصــف حســنها‪ .‬تتــرك الكرســي‬ ‫و جتلــس القرفصــاء‪ .‬تُعيــد خصلــة طائــرة إلــى خلــف أذنهــا وتتنهد كما‬ ‫لــو أ ّنهــا تــو ّد قــول شــيء مــا‪ ،‬ثــم تتــرك صــوت خالــد يتحـ ّدث بدلهــا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الشــاب خالــد هــو ملــح البدايــات و ربيــع األســفار و ذاكرتنــا الوطنيــة‪.‬‬ ‫ذلــك الوهرانــي األســمر يتكلّــم ع ّنــي‪ ،‬عــن قصــد أو دون قصــد منــه‪،‬‬ ‫يصفنــي‪ ،‬يف أغنياتــه‪ ،‬أفضــل ممــا قــد أصــف ذاتــي‪ .‬يف الزّمــن‬ ‫األحمــر هــذا‪ ،‬تســتحيل أصــوات البشــر إلــى نــواح و بــكاء‪ ،‬عــدا صــوت‬ ‫ـب واالنعتــاق‪ « .‬النيغــرو » أو الزّجنــي‪ ،‬كمــا‬ ‫خالــد الــذي يُجاهــر باحلـ ّ‬ ‫يُســميه الوهرانيــون‪ ،‬يعــرف كيــف يـ ّ‬ ‫ـدق علــى قلــب مــن يســتمع إليــه‪.‬‬ ‫شــاهدته‪ ،‬قبــل فتــرة‪ ،‬يف التّلفزيــون‪ ،‬يغ ّنــي بعينــني مغمضتــني‪ ،‬و هــو‬ ‫يقــف أمــام امليكروفــون مثــل جنــدي ُمطيع‪ ،‬بابتســامة ســاطعة‪ ،‬و شــارب‬ ‫غيــر مص ّفــف ال يشــبه شــوارب غيــره مــن ال ّرجــال‪ .‬أحــد الك ّتــاب قــال ‪:‬‬ ‫« رجــل بــال شــارب أشــبه بامــرأة بشــارب » و املثــل ّ‬ ‫الشــعبي عندنــا يقــول‬ ‫‪ « :‬إذا حلــق رجــل شــاربه صــارت املــرأة أفضــل منــه »‪ .‬هــل يعنــي هــذا‬ ‫إننــي لســت رجـ ً‬ ‫ال مكتمــل الفحولــة ؟ هــل تــو ّد مليكــة أن ترانــي بشــارب‬ ‫وتخفــي رغبتهــا ع ّنــي ؟ لــم يســبق لهــا أن علّقــت علــى مالمحــي‪ ،‬لكنّهــا‬ ‫ـب ّ‬ ‫الشــاب خالــد‪ ،‬و خالــد ال يحلــق شــاربه‪ ،‬رمبــا تُريــد أن تســمعني‬ ‫حتـ ّ‬ ‫املفضــل لتوصــل لــي رســالة‪ ،‬تعجــز عــن اإلفصــاح عنها‪.‬‬ ‫صــوت مغنيهــا‬ ‫ّ‬ ‫« مــا عنــدي حاجــة يف ال ّنــاس‪ ..‬أنــا إن شــاء اهلل دميــا البــأس‪ ..‬و اللــي‬ ‫هــدر خاطفلــي ذنبــي‪ ..‬أنــا نامــن بالقــدر‪ ..‬و مــا نــدي غيــر مكتوبــي‪..‬‬ ‫مــا نحبــش نشــغل البــال‪ ..‬مــا راحليــش يف القيــل و القــال‪ ..‬طبعــي‬


‫‪65‬‬

‫فصل ـ العدد‬ ‫‪0‬‬

‫ـ مقتطف‬

‫نكــره األنــذال‪ ..‬ومــا نطمــع إال يف ربــي »‪ ..‬يواصــل خالــد غنــاءه‪،‬‬ ‫الســرير‪ .‬متــ ّرر يدهــا اليمنــي‬ ‫و تســند مليكــة رأســها إلــى حافــة ّ‬ ‫بهــدوء علــى شــعرها‪ ،‬الــذي طــال و صبغتــه باألســود‪ ،‬كشــعر إيزابيــل‬ ‫عجانــي يف فيلــم « صيــف قاتــل »‪ .‬صبغــت شــعرها مــن أجلــي ؟ للفــت‬ ‫ّ‬ ‫انتباهــي‪ .‬لكننــي لــم أتفــ ّوه بكلمــة و لــم أمتــدح جمالهــا‪ .‬أق ـ ّر أننــي‬ ‫لســت رومانســياً‪ ،‬و ال أليــق بنســاء رومانســيات‪ .‬ظللــت أتفـ ّرس فيهــا‬ ‫و أنــا أســتمع إلــى صــوت الـ ّراي الصــادح مــن آلــة التّســجيل‪ ،‬املنطلــق‪،‬‬ ‫بهــدوء‪ ،‬نحــو ســماء أرحــم مــن األرض التــي نعيــش عليهــا‪ ،‬و هــي‬ ‫تشــيح بنظرهــا ع ّنــي‪.‬‬ ‫مليكة ال تشــتري أشــرطة كاســيت و ال أســطوانات موســيقية‪ ،‬تتفادى‬ ‫ال ّدخــول إلــى محــالت بيعهــا‪ ،‬خشــية ّ‬ ‫الشــبهات كمــا تقــول‪ ،‬تتج ّنــب‬ ‫ال ّذهــاب إلــى احلمــام النّســائي يــوم اجلمعــة و ال تذهــب إلــى صالــون‬ ‫حالقــة‪ ،‬بــل تســتضيف صديقــة لهــا تص ّفــف لهــا شــعرها‪ ،‬أو تصبغــه‪،‬‬ ‫ـجل األغانــي من اإلذاعة‪ ،‬التي تبثّ ســهرات‬ ‫مــن حــني إلــى آخــر‪ ،‬و تسـ ّ‬ ‫أغــان قدميــة و أخــرى جديــدة‪ .‬يف‬ ‫ٍ‬ ‫اخلميــس و اجلمعــة و اإلثنــني‪،‬‬ ‫الليــل تُراقــص األحيــاء و يف النّهــار تترحــم علــى األمــوات‪.‬‬ ‫حــني دخلــت حوريــة إلــى البيــت‪ ،‬و اســتلّت خمارهــا ليظهــر شــعرها‬ ‫املصبــوغ باألشــقر‪ ،‬و املعقــود كذيــل حصــان‪ ،‬مثــل شــعر شــتيفي‬ ‫غــراف‪ ،‬قمــت مــن مكانــي بغــرض االنصــراف‪ .‬حاولــت مليكــة أن‬ ‫تقنعنــي بالبقــاء و أن أتعشــى معهمــا‪ ،‬لكننــي أصــررت علــى العــودة‬ ‫إلــى ش ـ ّقتي‪ .‬علــى رغــم مــا يجمعنــي مبليكــة‪ ،‬لــم يســبق أن قضيــت‬ ‫ليلــة واحــدة معهــا‪ .‬أزورهــا فقــط يف النّهــار‪.‬‬ ‫ تخ ّيلــي لــو أن نواطيــر األرواح زارونــا لي ـ ً‬‫ال‪ ،‬و وجدونــي معــك‪ ،‬يف‬ ‫الســرير‪ ،‬و ليــس بيننــا دفتــر عائلــي؟‬ ‫ّ‬ ‫مازحتها‪.‬‬ ‫ سأضمن أن منوت معاً و ال تخدعني مع امرأة أخرى‪.‬‬‫ُعدت إلى كتبي املفتوحة و املبعثرة‪ ،‬يف ش ّقتي‪ ،‬إلى مالبسي و أغراضي‬ ‫املتناثــرة‪ ،‬نظــرت إليهــا بقلــب منقبــض‪ ،‬فأنــا لــم أعــد مثلمــا كنــت يف‬ ‫الســابق‪ .‬أنــا رجــل منحــوس‪ .‬عاكســني القــدر ولــم أحصــل علــى فيــزا‬ ‫ّ‬ ‫للســفر‪ ،‬إلــى ســلوفينيا‪ ،‬و صــرت بــال عمــل‪ ،‬صحــايف عاطــل‪ .‬و بقائــي‬ ‫ّ‬ ‫يف هــذه العمــارة بــات مســألة وقــت ال أكثــر‪ .‬لــن أســتطيع توفيــر مــال‬ ‫و دفــع تســبيق آخــر‪ ،‬بعــد انتهــاء اإليجــار ال ّربيــع القــادم‪.‬‬


‫‪66‬‬

‫تقلّــب مزاجــي و فقــدت ّ‬ ‫الشــهية يف األكل‪ .‬اتّصــل بــي فــاروق‪ ،‬يســألني‬ ‫الســفارة لطلبــي‪ .‬ح ّرضنــي علــى أن‬ ‫عــن حالــي‪ ،‬و أخبرتــه عــن ر ّد ّ‬ ‫أعيــد الكـ ّرة‪ ،‬و أردت أن أخبــره أننــي صــرت بــال عمــل‪ ،‬و أن اجلريــدة‬ ‫الصــدور‪ ،‬لكننــي تــر ّددت‪ .‬كان ســيجد يف األمــر ســبباً‬ ‫تو ّقفــت عــن ّ‬ ‫ليكـ ّرر تأنيبــه لــي‪ ،‬فهــو و احلــا ّج لــم يكونــا راضيــني علــى خيــار عملــي‬ ‫كصحــايف‪ .‬أظـ ّـن أن ســي أحمــد أيض ـاً لــم يكــن راضيــا عــن قــراري‪.‬‬ ‫أ ّمــا خاالتــي ال ّثــالث ‪ :‬زوليخــة‪ ،‬ســعدية و شــريفة‪ ،‬فلــم يقلــن شــيئاً‪،‬‬ ‫و لــم يكــن لهـ ّـن رأي فيمــا يحصــل مــع ابــن أختهــن‪ .‬اقتــرح علـ ّـي احلــا ّج‪،‬‬ ‫الصحــراء‪ ،‬للعمــل يف شــركة‬ ‫بعدمــا أنهيــت اجلامعــة‪ ،‬أن أذهــب إلــى ّ‬ ‫بتروليــة‪ ،‬بفضــل و ســاطة مــن صديــق قــدمي لــه‪ ،‬لكنني رفضــت‪ .‬اعتبر‪،‬‬ ‫هــو و فــاروق‪ ،‬قــراري غيــر منطقــي و أننــي غير حريص على مصلحتي‪،‬‬ ‫و لــو علــم فــاروق مبــا حصــل يف اجلريــدة‪ ،‬ســيُكرر علــى مســامعي‬ ‫تلــك األســطوانة القدميــة‪ ،‬و يكـ ّرر بأنــه أدرى مبصلحتــي م ّنــي‪ .‬فــاروق‬ ‫يُعاملنــي أحيانـاً معاملــة القاصــر‪ ،‬كواحــد مــن أبنائــه‪ .‬ال تفصــل بيننــا‬ ‫ســوى خمــس ســنوات‪ ،‬إال أنــه يُحــاول فــرض وصايتــه علـ ّـي‪.‬‬ ‫ سأف ّكر و أعيد طلب التأشيرة‪ ،‬م ّرة أخرى‪.‬‬‫ّ‬ ‫اخلط‪.‬‬ ‫قلتها له‪ ،‬من غير اقتناع‪ ،‬ثم أقفلت‬ ‫ش ـ ّغلت ال ّراديــو‪ ،‬و أنــا أنـ ّ‬ ‫ـش ال ّذبــاب‪ ،‬الــذي لــم تنفــع معــه ُمبيــدات‪،‬‬ ‫ـدي‪ ،‬و ســمعت املذيــع يثرثــر عــن فريــق وداد تلمســان‪ ،‬الــذي‬ ‫براحتــي يـ ّ‬ ‫فــاز ّ‬ ‫الشــهر املاضــي‪ ،‬بــكأس اجلمهوريــة‪ ،‬و عــن حتضيــرات الفريــق‬ ‫للموســم القــادم‪ .‬كلّمــا أرادوا الهــروب مــن الفظاعــات‪ ،‬اســتحضروا‬ ‫كــرة القــدم‪ .‬هــي البديــل األنســب عــن مشــاهدة أنفســنا و نحــن‬ ‫ّ‬ ‫احملطــة‪ ،‬إلــى اإلذاعــة النّاطقــة‬ ‫نركــض إلــى جحيــم بــال قــاع‪ .‬غ ّيــرت‬ ‫الصومــام »‪.‬‬ ‫بالفرنســية‪ ،‬و ســمعت املُذيــع يتكلّــم عــن ذكــرى « مؤمتــر ّ‬ ‫يتحــ ّدث عنــه باعتبــاره حدثــاً مفصليــاً يف تاريــخ البلــد و يف ثــورة‬ ‫الصومــام كان بوصلــة غ ّيــرت تاريــخ اجلزائــر »‪،‬‬ ‫التّحريــر‪ « ..‬مؤمتــر ّ‬ ‫قــال املذيــع بنبــرة املُنتصــر‪ ..‬ليــت ّ‬ ‫الشــهداء يعــودون و يُشــاهدوا أيــن‬ ‫ـي‬ ‫أوصلتنــا البوصلــة‪ .‬غ ّيــرت احملطــة إلــى إذاعــة مغربيــة‪ ،‬تبــثّ أغانـ َ‬ ‫الســرير‪ ،‬ككلــب واهــن‪ ،‬و رائحــة عــرق لــزج تطلــع‬ ‫شــرقية‪ .‬متـ ّددت يف ّ‬ ‫مــن جســمي‪ ،‬أغمضــت عينـ ّـي‪ ،‬و طفــت علــى مخ ّيلتــي وجــوه زمالئــي‬ ‫ّ‬ ‫الشــاحبة و جت ّهمهــم‪ ،‬بعــد أن علمــوا بقــرار وقــف ســحب اجلريــدة‪.‬‬ ‫الشــهداء‪ ،‬عم ً‬ ‫لــم يبــق لــي ســوى ال ّذهــاب إلــى مقهى شــعبي‪ ،‬يف ســاحة ّ‬ ‫ال‬ ‫بنصحية فتحي‪ ،‬و مقابلة واحد من « البزناسة »‪ ،‬و مساومته يف تأشيرة‬ ‫ســفر مــز ّورة‪ .‬فاخلــروج مــن هكــذا بلــد مز ّيف‪ ،‬يحتاج إلى تزييــف صارم‪.‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.