سلسلة األنصاري التذكارية
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية عمران ن .حسين
مسجد دار القرآن – لونج آيالند – نيويورك
ترجمة :علي هاشم
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية
حقوق الطبع محفوظة للناشر الطبعة األولى عام 6991 نشر مسجد دار القرآن 6161شرقا ً الشارع الثالث بايشور – نيويورك 66711 الواليات المتحدة األمريكية
البريد االلكتروني للمؤلفinhosein@hotmail.com : الموقع االلكتروني للمؤلفhttp://imranhosein.org :
2
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية
هدية إلى أخي العزيز عبد صد ّيقي من المركز اإلسالمي في نيويورك
3
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية
المحتويات
تصدير المقدمة
الفصل األول :الدبلوماسية البريطانية والهجمة على الخالفة
الفصل الثاني :انهيار الخالفة العثمانية وقيام الدولة القومية السعودية -الوهابية الحرب العالمية األولى وإلغاء الخالفة العثمانية القوميون األتراك والخالفة جواب جامعة األزهر على إلغاء الخالفة العثمانية
الفصل الثالث :مؤتمر الخالفة في القاهرة الذي أقيم في آيار عام 6991
الفصل الرابع :البديل السعودي -الوهابي للخالفة – المؤتمر العام للعالم اإلسالمي في مكة الذي أقيم في حزيران -تموز من عام 6991
الفصل الخامس :العالم اإلسالمي القديم يحاول أن ينهض من جديد :المؤتمر اإلسالمي العام الذي أقيم في كانون األول عام 6996 الخاتمة مالحظات
4
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية
تصدير هذا هو اإلصدار الثالث ضمن سلسلة األنصاري التذكارية التي تنشر تكريما ً لمعلمي وشيخي صاحب الذكرى المباركة المال محمد فضل الرحمن األنصاري ( .)6971 -6961وكان اإلصداران السابقان تحت عنوان( :دين إبراهيم ودولة إسرائيل -نظرة قرآنية) و (أهمية تحريم الربا في اإلسالم). لقد أنجزت الكثير من العمل البحثي لهذا الكتاب خالل السنوات من 6971إلى سنة 6979في مكتبة األمم المتحدة في قصر األمم في جنيف ،حينما كنت طالبا ً للدكتوراه في العالقات الدولية في المعهد العالي للدراسات الدولية في جنيف. إننا اليوم ،وفي الوقت الذي أكتب فيه هذا الكتاب ،نمر بوضع سريع التدهور في العالم اإلسالمي حيث الصراعات الدموية التي تؤدي إلى معاناة تفوق التصور للمسلمين األبرياء في البوسنة وكشمير والجزائر وفلسطين والشيشان...الخ .ففي األمس اغتُصبت خمسون ألف امرأة في البوسنة ،واليوم القصص المرعبة تحكي أن صبيا ً أُجبر على قضم خصيتي أبيه المسلم في البوسنة ،وتحكي أن ذلك المسلم األعمى البريء الشيخ عمر عبد الرحمن قد أُدين بالسجن المؤبد في الواليات المتحدة (ألنه يشكل تهديدا ً كبيرا ً للنظام العلماني المؤيد للغرب الذي يحكم مصر) وهو يتعرض لالمتهان الجنسي من الحراس كلما جاءه زائر إلى السجن. إنني اآلن مقتنع أن األوان قد حان أخيرا ً كي يصل هذا العمل إلى عموم المسلمين الذين قد يعتريهم القلق اآلن إلى حد يجعلهم يبحثون بصورة جدية عن سبب الوهن الذي أصابنا .وكنتيجة لذلك فهم قد يستقبلون هذا الكتاب بصورة جدية ويرفضون االحتجاجات المتوقعة من علماء السالطين ومن الحكومات التي يدعمونها في كل أنحاء العالم اإلسالمي ! وأنا أدعو هللا أن يتقبل ويبارك بهذا العمل المتواضع في طريق الحق .وأدعو أن يقع من المسلمين موقعا ً يفتح به أعينهم على حقيقة أن النظام السعودي -الوهابي الذي يسيطر اآلن على الحرمين وعلى الحجاز كان له دور فعال في تدمير الخالفة اإلسالمية وأضحى منذ ذلك الحين حائالً أمام استعادة قوة األمة. آمـــــــين !
عمران نزار حسين مسجد دار القرآن تشرين الثاني 6991م الموافق جمادى اآلخرة 6167هـ
5
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية المقدمة إن إحدى المميزات الجوهرية لدين اإلسالم التزامه بالمضمون الذي يقول انه حينما يقر شعب معين بأن هللا عزوجل هو (الملك) فينبغي عليهم حينئذ أن يضمنوا خضوع الدولة وكل مؤسساتها لسلطة هللا وقانونه المطلق .أما إذا أقروا أن الدولة هي ذات السيادة المطلقة وليس هللا عزوجل – وهذا هو في الحقيقة جوهر العلمانية -فان اإلسالم يعد ذلك شركاً ،وهذا هو أكبر الكبائر. فالدولة العلمانية الحديثة هي اليوم صاحبة السيادة المطلقة في كل العالم .وسلطانها هو السلطان األعلى، واألمر ذاته ينطبق على قانونها .لذا ،فان البشرية برمتها اليوم ،وفي كل بقاع األرض ،تعتنق شركا ً سياسيا ً عالميا ً .وهذا في الواقع هو أحد العالمات التي تبين أننا نعيش عصر الدجال (المسيح الدجال) الذي فتن البشرية بعبادة غير هللا عزوجل .إن الدجال هو العقل المدبر للنظام العالمي اليوم ،هذا النظام الذي يشير إليه الحديث النبوي من أن تسعمائة وتسعة وتسعون من كل ألف سيدخلون النار .ولكن يبدو أن المسلمين أنفسهم غير آبهين بذلك. وطالما أقر المسلمون بسيادة هللا عزوجل ،فإنهم ال يخضعون مطلقا ً لسيادة الدستور وال البرلمان وال المحكمة العليا وال الحكومة...الخ .إن سيادة هللا عزوجل تقتضي سيادة الدين اإلسالمي وعلى الخصوص سيادة قانون الشريعة المقدس .وقد جسدت مؤسسة الخالفة سيادة الدين اإلسالمي على الدولة وعلى الحياة العامة .حيث كان الخليفة ،والذي كان يعرف أيضا ً باألمير أو اإلمام ،قائدا ً للجماعة أو المجتمع المسلم .وكانت جماعة المسلمين تعطيه الوالء عبر مراسيم البيعة .وكانت األرض التي تعيش عليها تلك الجماعة تدعى دار اإلسالم .وقد أخذت األرض هذا االسم ألن األمير لديه الحرية والصالحية لتطبيق قانون هللا المقدس فيها. لقد قامت الحضارة األوربية المسيحية كذلك على أساس التسليم للسلطة اإللهية .إال أن الكنيسة في تلك الحضارة كانت تعتبر ممثلة لإلله على األرض ،وبالتالي فان الدولة كانت تابعة للكنيسة. ولكن أوربا شهدت صراعا ً بين الدين والدولة نتج عنه هزيمة الكنيسة .وكنتيجة لذلك شهدت أوربا تحوالً ثوريا ً ألسس الحضارة ،إذ تم علمنة الدولة وسياساتها .وتمثل الفصل األخير من هذا الصراع بالثورات األمريكية والفرنسية والبلشفية ،التي جاءت بحضارة إلحادية في جوهرها إلى الوجود .فقد تقلص نشاط الدين ليكون مقتصرا ً على طقوس العبادة الفردية والجماعية ،وتم منع البابا والسلطة المسيحية في أوربا من التدخل في أعمال الدولة .ولم يعد اإلله هو صاحب السيادة (األكبر) .بل أضحى الشعب هو صاحب السيادة بدالً عن اإلله .ومن ثم ألبسوا ثوب السيادة ذاك لنموذج الدولة العلماني الجديد .فأصبحت الدولة اآلن هي (األكبر) .تلك كانت العلمانية بالنسبة ألوربا .أما بالنسبة للدين اإلسالمي ،فذلك كان الشرك بعينه ،أكبر الكبائر. ومن الغرابة بمكان أن المسيحية غير األوربية لم تقم بأي صراع مضاد لذلك الدمار الذي أصاب نموذج الدولة المقدس الذي أسس بنيانه النبيان داود وسليمان عليهما السالم. لقد شرعت الحضارة األوربية اإللحادية في حملة عنيفة من أجل تغيير العالم بأكمله وإعادة تشكيله وفق النموذج األوربي الجديد للدولة العلمانية والمجتمع العلماني .أما بقية العالم ،فقد استُعمر أو سلبت حريته األساسية .و كان هذا حال العالم غير األوربي أيضاً .إذ تمت علمنته هو اآلخر في نهاية المطاف، 6
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية وسرعان ما تحول إلى مجتمع ملحد .وهذا بطبيعة الحال يتضمن العالم اإلسالمي ،بل كان العالم اإلسالمي في الحقيقة هو الهدف الخاص للحضارة األوربية اإللحادية. لقد است ُهلت عملية تحويل العالم اإلسالمي إلى مجتمع ملحد بعلمنة الحياة العامة .واست ُهدفت اإلمبراطورية العثمانية ،إذ أن تدميرها كان لزاماً .ولكنه لم يكن متاحا ً مادامت الخالفة باقية كمؤسسة جبارة لتوحيد المسلمين .لذا كان ال بد من تدمير الخالفة. إن الدمار الذي أصاب اإلمبراطورية العثمانية إثر الحرب العالمية األولى نتج عنه والدة الدولة العلمانية في تركيا .وكانت الحكومة مؤلفة من حفنة من األتراك القوميين العلمانيين الذين تأثروا بالغرب ،والذين عملوا جنبا ً إلى جنب مع حركة يهودية سرية .وقد قام هؤالء القوميون أوالً بتقليص الخالفة إلى حد جعلها منصبا ً مشابها ً لمنصب البابا ،ومن ثم قاموا بإلغائها .إال أن عملية العلمنة في العالم اإلسالمي قد اكتملت حينما انضم الحجاز بقيادة عبد العزيز بن سعود إلى مصطفى كمال أتاتورك في رفض هيمنة اإلسالم على الدولة .وهكذا اعتنقت الجزيرة العربية -قلب اإلسالم – نموذجا ً علمانيا ً للدولة .وقد تزامنت والدة دولة (العربية السعودية) مع تدمير دار اإلسالم التي أسس بنيانها النبي محمد صلى هللا عليه وسلم. حينما كان الحجاز يمثل (دار اإلسالم) كان لكل مسلم الحق في دخول أراضيه ولم يكن بحاجة إلى تأشيرة للدخول ،ولم يكن هناك شيء اسمه السيادة السعودية .ولم يكن هناك شيء اسمه حق المواطنة السعودية .فقد كان حق دخول أي جزء من دار اإلسالم أحد الحقوق العديدة التي كان المسلم يتمتع بها، كحق اإلقامة فيها ،إذ لم يكن المسلمون بحاجة إلى تأشيرة اإلقامة ،وحق العمل في أي جزء فيها ،إذ لم يكن بحاجة إلى تصريح بالعمل...الخ .لقد أدت والدة دولة العربية السعودية إلى إنكار جميع هذا الحقوق للمسلمين ،وبالتالي آل األمر إلى إلغائها. إن سقوط الخالفة وظهور دولة العربية السعودية كانت أحداثا ً غيرت وجه العالم اإلسالمي بطريقة أدت إلى رجوعه إلى مرحلة ما قبل الهجرة .فما من مكان في العالم اليوم توجد فيه دار اإلسالم. ونحن نعتقد أن من الصواب التأكيد على أن الفارق الوحيد مابين إسالم ما قبل الهجرة وما بعد الهجرة هو تأسيس النبي صلى هللا عليه وسلم لدار اإلسالم (أي النظام اإلسالمي العام) في المدينة .فالعالم اإلسالمي ،شأنه شأن بقية العالم غير األوربي ،قد اندرج اليوم ضمن نظام علماني ومادي لمنظمة سياسية تحاكي الدولة القومية العلمانية الحديثة .وكنتيجة لذلك فقد اختفت دار اإلسالم من الوجود اليوم، وهي ال توجد حتى في مكة أو المدينة .لذا فان لنا مسوغا ً في استنتاج أن العالم اإلسالمي بوجوده العام كأمة قد عاد إلى مرحلة ما قبل الهجرة. ويبدو أن الحضارة اإلسالمية في مسيرتها التاريخية اآلن قد دخلت مرحلة ما بعد الخالفة .وأصبح المجتمع المسلم اليوم في شتى أنحاء العالم خاضعا ً لجاهلية شاملة تهيمن على العالم ،تماما ً كما كان وضعه في مكة قبل 6111سنة .وهذه الجاهلية تتمثل بالطبع في الحضارة الغربية العلمانية والمادية الحديثة ،التي ظهرت على أنقاض المسيحية. وقد يشير الحديث الذي روي عن النبي صلى هللا عليه وسلم إلى هذا العصر بقوله( :من مات وليس في عنقه (أي في أيام حياته) بيعة (أي عهد الوالء الذي يقدمه الناس إلعطاء الشرعية لتنصيب قائد على 7
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية األمة) مات ميتة جاهلية (أي ميتة في عصر شهد رجوع جاهلية ما قبل الهجرة) .هذا الحديث رواه مسلم في صحيحه برقم .. 1296المترجم. إن هذا الحديث النبوي ال غبار على صحة سنده للنبي صلى هللا عليه وسلم وهو ذو أهمية قصوى إلى درجة أن جامعة األزهر قد استخدمته لتبرير دعوتها لعقد مؤتمر عالمي للخالفة اإلسالمية في القاهرة ليكون بمثابة الرد بطريقة الئقة على قرار الجمعية العمومية الوطنية التركية القاضي بإلغاء الخالفة في شهر آذار عام 6991م. إن المؤتمر نفسه الذي عقد في عام 6991م قد تبنى قرارات جسدت قول النبي صلى هللا عليه وسلم السابق ،وأكدت على أهمية مؤسسة الخالفة ،التي هي بمثابة النظام اإلسالمي العام للعالم اإلسالمي. فالتحدي الذي أمام األمة اليوم هو تحد صريح وواضح .إنه يتمثل بمحاولة إعادة تحريك األمة من مكة إلى المدينة مرة أخرى .وإذا ما قامت األمة بذلك فستتمكن من إعادة تأسيس دار اإلسالم (أي النظام اإلسالمي العام) .وإذا ما نجحت هذه األمة في استعادة هيمنة اإلسالم على الدولة في العالم اإلسالمي فسيكون لزاما ً على المسلمين أن يطلعوا على تاريخ سقوط الخالفة وتاريخ ظهور بديلها في قلب اإلسالم على يد الدولة القومية السعودية – الوهابية. إن هذه الدراسة لها أهمية إستراتيجية ألن العدو الذي دمر الخالفة هو اآلن يتربص بشعيرة الحج .فقد استمرت شعيرة الحج بال انقطاع منذ أن أسسها النبي إبراهيم عليه السالم قبل آالف السنين ،واستمر الحج حتى حينما اعتنقت الجزيرة العربية عبادة األوثان .وإن أحد أهم األهداف طويلة األجل ألعداء اإلسالم اليوم يتمثل في إلغاء هذا الشعيرة. فعن أبي سعيد الخدري رضي هللا عنه أن النبي صلى هللا عليه وسلم قال( :ليُحجن البيت وليُعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج) ،وقال عبد الرحمن عن شعبة (ال تقوم الساعة حتى ال ي ُحجن البيت) رواه البخاري برقم .6161 إن دراستنا لهذا الموضوع قد قادتنا إلى استنتاج أن هدف أعداء اإلسالم في إيقاف شعيرة الحج بات قاب قوسين أو أدنى .وكل ما يتطلبه األمر لتحقيق هذا الهدف هو تدمير المسجد األقصى .وبوسع دولة إسرائيل اليهودية فعل ذلك في أي وقت ،فالمسألة مسألة اختيار التوقيت األمثل .إن النظام السعودي الحالي كان وال يزال يُسحب بخبث إلى وضع ال مفر منه مع الدولة اليهودية .إذ أن تدمير المسجد األقصى سينتج عنه معارضة أكبر للنظام السعودي .ولن يكون بمقدور النظام السيطرة على مشاعر الغضب التي سيظهرها المسلمون في موسم الحج .لذا فإنهم حينما يظهرون بمظهر العاجز عن السيطرة على الحج ،فان المعارضة الداخلية في العربية السعودية ستستخدم الحج بفعالية في سبيل زعزعة النظام .هذا هو السيناريو الذي سيقود السعوديين في األغلب إلى إيقاف الحج من أجل اإلبقاء على حكمهم. وإذا ما فقد العالم اإلسالمي شعيرة الحج ،بعد فقدانهم للخالفة ،فان ذلك سيعد خطوة كبيرة أخرى نحو الجاهلية في مكة في عصر ما قبل الهجرة .إن المأزق األمني الذي سنمر به سيكون مجرد أمر عارض كما كان في مكة في عهد ما قبل الهجرة .إن اإليمان األقوى هو وحده الذي سيكون قادرا ً على تجاوز ذلك االبتالء العظيم ،فما الذي بوسعنا أن نفعله؟ .إن الخطوة األولى التي يجب أن تتخذ في أي 8
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية إستراتيجية مضادة ممكنة البد أن تكون بدراسة وتقييم تاريخ تلك الحقبة التي ضاعت فيها الخالفة .وهذا هو ما سنحاول أن نفعله في هذا الكتاب.
9
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية
الفصل األول الدبلوماسية البريطانية والهجمة على الخالفة لقد أرسل هللا القدير رسوله محمدا ً صلى هللا عليه وسلم بدين الحق ليظهره على الدين كله .وهذا يستدعي الخضوع المسبق لألمة لهيمنة اإلسالم على حياة المسلمين العامة والشخصية كلتيهما .لقد كانت دار الخالفة رمزا ً أسمى لتمثيل هيمنة اإلسالم على الحياة العامة .وبدون هذه الخالفة فان العالم اإلسالمي لم يكن ليحظى بالقوة .ومع هذا فقد كان هنالك صلة دائمة بين الخالفة وبين السيطرة على الحرمين ،أي األراضي المقدسة في مكة والمدينة .فمن يستطيع أن ينجح في قطع تلك الصلة سيشل دار الخالفة، وبالتالي سيجعل العالم اإلسالمي خائر القوى. وخالل 6111سنة من تاريخ أمة النبي محمد عليه الصالة والسالم ،لم يتقلد أي رجل منصب الخليفة بنجاح من خالل البيعة أو من خالل عهد الوالء من المسلمين ما لم يكن يتمتع بسيطرته الحقيقية أو قدرته على فرض هذه السيطرة على الحجاز بشكل عام وعلى الحرمين بشكل خاص .وظل منصب الخالفة والسيطرة على الحرمين مرتبطين بشكل دائم في وعي األمة الديني – السياسي. وقد كان لهذا االرتباط المتين قاعدة في الشريعة ،فالحج كان شعيرة ملزمة لعامة األمة بالسوية فضالً عن إنه يتضمن رحلة حقيقية إلى الحجاز .لذلك فليس من الممكن تنصيب شخص ليكون القائد العام للمسلمين وهو ال يتمتع بالسلطة أو الوسائل التي تتيح له ممارسة المسؤوليات الخاصة بتنظيم وإدارة شؤون الحج .وهذا بطبيعة األمر يتضمن ضمان حرية وأمان الحجاج وبالتالي يتطلب السيطرة على الحجاز .ومن ثم كان الخلفاء يعتنون أشد العناية بديمومة سلطتهم وسيطرتهم على الحجاز ،وظل األمر كذلك حينما انتقل كرسي الخالفة من الحجاز إلى الكوفة في العراق ودمشق وبغداد والقاهرة وحتى اسطنبول .واستمر هذا األمر بصورة أساسية بدون انقطاع إلى أن سقطت اإلمبراطورية اإلسالمية العثمانية في الحرب العالمية األولى. إن أعداء اإلسالم اليوم قد اعتنوا أشد العناية بدراسة وفهم االرتباط مابين الخالفة ،التي هي قوة اإلسالم بصفته قوة عالمية ،ومابين السيطرة على الحرمين ومن ثم خططوا إستراتيجيتهم الوحشية لجعل اإلسالم عاجزا ً ولجعله دينا ً محصورا ً باإليمان الشخصي الخاص ال سلطة له على الحياة العامة .وبتعبير آخر، لقد خططوا إستراتيجيتهم لعلمنة اإلسالم ولتحويل المسلمين إلى نمط الحياة األوربي اإللحادي. وإذا ما قدر للحضارة الغربية إن تنجح في النهاية في هزيمة اإلسالم والسيطرة عليه وفي دمج العالم اإلسالمي برمته في نظام علماني عالمي جديد أسسه الغرب ،فان اإلستراتيجية تتطلب أن يكون الحجاز تابعا ً للنفوذ الغربي من أجل إضعاف الخالفة وإزالتها في نهاية المطاف .ومادامت الخالفة صامدة ،فإنها ستظل شوكة في عيون الغرب ،الخالفة التي هي تجسيد لسلطة اإلسالم على الحياة العامة والتي هي رمز جبار للحكومة الدينية المركزية التي مثلت النظام اإلسالمي العام وكانت بحق نظام السالم اإلسالمي ،فضالً عن كونها نقطة للتجمع يمكن من خاللها تعبئة العالم اإلسالمي لتكوين قوة قتالية فعالة. لقد كان هنالك ارتباط وثيق بين (القوة) وبين الخالفة في اإلسالم !. وإذ كان البريطانيون مدركون لألهمية القصوى للحج والحرمين من أجل إعطاء الشرعية للخالفة العثمانية فضالً عن ديمومتها ،فقد ركزوا جهودهم الدبلوماسية في الحرب العالمية األولى على إخراج 10
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية الحجاز من سيطرة الخليفة العثماني .وقد تم لهم هذا عندما نجحوا في إغراء الشريف حسين – شريف مكة الذي عينه العثمانيون والذي هو الجد األكبر للملك حسين ملك األردن – للخروج على الخليفة العثماني ولفرض سلطته الشخصية على الحجاز بإشراف وحماية التحالف البريطاني الصديق. وبحلول عام 6961وفي خضم الحرب العالمية األولى كان الخليفة العثماني قد فقد سيطرته على مكة وجدة ،أي الحجاز الجنوبي .أما سيطرته على المدينة فقد دامت خالل الحرب حتى فقدها في نهاية عام 6969حينما أغريت بعض القوات العثمانية في داخل المدينة المنورة للخروج على قائدهم البطل فخري باشا (.)6 وبعد أن فقد الخليفة العثماني سيطرته على الحجاز أضحت الخالفة عاجزة جدا ً إلى حد أنها لم تلبث في اسطنبول سوى بضع سنوات حتى انهارت كلياً .وهذا كان بالفعل نجاحا ً باهرا ً للدبلوماسية البريطانية. لقد أدى ضعف الخالفة إلى زعزعة البناء الكلي لإلمبراطورية العثمانية اإلسالمية .وانهارت في نهاية المطاف .وفي عام 6969سيطرت القوات البريطانية بقيادة الجنرال (الينبي) على القدس .ومن الملفت للنظر أن (الينبي) حينما دخل المدينة المقدسة قال (لقد انتهت الحروب الصليبية أخيرا ً اآلن) .وإذا كان هنالك أدنى شك حيال الخطر الداهم على اإلسالم الذي تشكله الدبلوماسية البريطانية في شبه الجزيرة العربية لكانت مقولة (الينبي) هذه كفيلة بإزالتها تماماً. فما عناه (الينبي) هو أن اإلسالم أصبح اآلن نمرا ً بال أسنان .وأن مصيره هو أن يبقى عاجزا ً دائما ً ومن ثم يكون غير قادر على الرد على خسارة القدس بنفس الطريقة التي رد بها (صالح الدين األيوبي) حينما سيطر الصليبيون على القدس. لقد قاتل العرب إلى جانب (الينبي) من أجل سلب القدس من حكم الخليفة العثماني .وكان هؤالء العرب آنذاك بانتظار التقاتل على الجيفة التي خلفها االنتصار البريطاني على اسطنبول .وقد طمعوا بالحكم المحلي للحجاز ،ولكن كان من الضروري االنتظار لرؤية ما إذا كان بوسع الخليفة العثماني استعادة القوة الالزمة إلعادة فرض سيطرته على الحجاز .ولكن حينما ألغيت الخالفة في 9آذار عام ،6991 أصبح من الجلي عدم وجود مثل هذا التهديد .وفي ذلك اليوم بالذات بدأ عمالء بريطانيا تكالبهم على الجيفة التي خلفتها خيانتهم للحكم اإلسالمي العثماني. وفي 7آذار من عام 6991قام الشريف حسين بخطوة استباقية في المطالبة بالخالفة لنفسه .وكانت أكثر مزاياه أهمية أنه كان يتمتع واقعيا ً بالحكم المحلي للحجاز .وكان يتباهى بكونه هاشمياً ،أي أنه كان من نسل بني هاشم وهي نفس العشيرة القرشية التي ينتمي إليها النبي نفسه .وفي الواقع كان لهذا األمر وزن كبير بين العلماء ،حتى إن كبير القضاة في إمارة شرق األردن وافق على الفور على الطلب واعترف بالحسين كخليفة. أما ميزته األخرى ،والتي كانت قيمتها محل شك بين جموع المسلمين ،ولكنها كانت ثقيلة في ميزان سياسات القوى في شبه الجزيرة العربية ،فهي كون الشريف حليفا ً لبريطانيا ،القوة العظمى آنذاك ،وكان قد تلقى دعما ً ماليا ً ودبلوماسيا ً وعسكريا ً ضخما ً من بريطانيا في ثورته الناجحة ضد السلطة العثمانية في الحجاز .لقد ارتكب الشريف حسين ،حينما طالب بالخالفة لنفسه ،أفدح وأشنع خطأ عندما لم يحصل أوالً على موافقة البريطانيين ليفعل ما فعل .وهذا هو واقع (الدولة العميلة) الجوهري ،فالحرية تكون محدودة 11
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية فيها بشكل مؤثر .لقد تجاوز الشريف حسين القانون األساسي لسلوك الدولة العميلة .فماذا كان رد فعل البريطانيين يا ترى؟ إن السياسة البريطانية اآلن في شبه جزيرة العرب متعددة االتجاهات ولكنها متحدة في نفس الوقت .فقد كان هناك أوالً ،وقبل كل شيء ،هدف سلب السيطرة على الحرمين من الخليفة .وكان الغرض من ذلك إضعاف شرعيته ،وبال تالي إضعاف سيطرته على بقية العالم اإلسالمي ومن ثم تسهيل هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية .ثانياً ،أرادت بريطانيا نظاما ً صديقا ً يسيطر على الحجاز ليتسنى لها التالعب بسياسات شبه الجزيرة بصورة أفضل .وأخيراً ،فقد كانت سياسات شبه الجزيرة وهزيمة العثمانيين مرتبطة بصورة إستراتيجية بجهود الصهيونية لبناء اتحاد شيطاني مع بريطانيا سعيا ً في إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين .وقد اتضحت هذه السياسة المتحدة في نهاية المطاف بمعاهدة سايكس – بيكو في عام 6961وبإعالن بلفور في عام .6967 ومن ثم فإن "القوة العظمى" (في ذلك الوقت) وما يدعى "الشعب المختار" سيكونان مرتبطين في اتحاد له تبعات حقيقية جسيمة عليهما وعلى البشرية. لقد كان هدف السياسة المتحدة تفكيك النظام اإلسالمي العام برمته ليصير اإلسالم عاجزا ً عن منع الصهاينة من تحقيق هدفهم .وقد أُبطلت المؤسسات اإلسالمية المرتبطة كليا ً بنظام (أهل الذمة والجزية) اإلسالمي العام في اإلمبراطورية العثمانية اإلسالمية عام 6211كنتيجة مباشرة للضغط األوربي .ولكن ما دامت مؤسسة الخالفة باقية فسيكون بإمكان النظام اإلسالمي العام دائما ً أن يتباطأ ثم ينتعش في نهاية المطاف .لذا فان الهجمة على مؤسسة الخالفة كانت ذات أهمية قصوى من أجل تحقيق الهدف األوربي – اليهودي النهائي. وقد كان من الواضح أيضا ً لدى البريطانيين والصهاينة أن إنشاء وطن قومي لليهود (أي دولة إسرائيل اليهودية) في فلسطين المسلمة غير ممكن وليس من المؤمل أن يدوم طالما كان للعالم اإلسالمي خليفة بوسعه تعبئة موارده الهائلة وحماسه الديني وتوجيه ذلك ألهداف عسكرية .لذا فان السيطرة على الحجاز ،والذي كان غاية في األهمية في سياسات شبه الجزيرة ،كان أمرا ً أولته الدبلوماسية البريطانية أقصى اهتمامها. ولكن مطالبة الشريف حسين الهاشمي بالخالفة لم يتالءم مع األهداف الدبلوماسية البريطانية ،إذ إن تلك المطالبة كان من الممكن لها على الدوام أن تنجح .وحينئذ سيكون الشريف حسين قد عبأ العالم اإلسالمي إلى درجة تمكنه من إعادة تأسيس النظام اإلسالمي العام و "نظام السالم اإلسالمي" على األرض التي تمثل رمزا ً إسالميا ً قويا ً ،ومن ثم سيشكل خطرا ً على النفوذ والسيطرة البريطانية على أرجاء واسعة من دار اإلسالم .فضالً عن أن عالما ً إسالميا ً منبعثا ً من جديد من شأنه أيضا ً أن يجعل السيطرة اليهودية على فلسطين والقدس أمرا ً مستحيالً. لذلك فقد أعطت بريطانيا مباركتها لعميل بريطانيا اآلخر في شبه الجزيرة ،أال وهو عبد العزيز بن سعود ،ليتحرك ضد حسين ولينتزع منه السيطرة على الحجاز .وكان هذا منتهى فن الخداع وقمة النفاق. فقد است ُخدم أحد العمالء للتخلص من عميل آخر.
12
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية لقد رعت بريطانيا صداقة ابن سعود و تحالفه معها خالل الحرب واستخدمت – كعادتها -الدبلوماسية المالية (أي الرشوة) .فقد كان ابن سعود يتقاضى شهريا ً مبلغ 1111جنيه إسترليني من الخزانة البريطانية لقاء حياديته الكريمة تجاه ثورة الحسين ضد الخليفة وتجاه فرض الحكم الهاشمي على الحجاز وتجاه الجهود البريطانية على الصعيدين الدبلوماسي والعسكري في شبه الجزيرة التي كانت موجهة ضد الدولة العثمانية اإلسالمية .لقد برر ابن سعود مخالفته الصريحة ألمر هللا عزوجل وألمر رسوله بطريقة شيطانية عن طريق تسمية هذه الرشوة بالجزية(.القرآن )1611 ولكن الدبلوماسية البريطانية حيال ابن سعود كانت موجهة ألغراض ذات أهمية إستراتيجية أكبر بكثير من مجرد الحيادية في الحرب وأكبر من التخلص من الشريف حسين المتهور .لقد كان البن سعود إمكانيات أكبر بكثير بدأت بريطانيا بالتحرك اآلن الستغاللها على أثر مطالبة الشريف حسين بالخالفة. إن قوة ابن سعود في نجد ،والتي عادت من جديد بالسيطرة على الرياض عام ،6919كانت نتاج تحالف قديم بين زعيم القبيلة وبين الزعيم الديني لفرقة الوهابية .وما ضمنه هذا التحالف هو أنه طالما سيسيطر أحفاد زعيم القبيلة على القوة السياسية ضمن األراضي التي يحكمها التحالف ،فان الشؤون الدينية ستكون خاضعة لسلطة أحفاد الزعيم الديني .وبالتالي فقد كان لزاما ً أن يقع السعوديون النجديون تحت ضغط الوهابيين في محاولة إلخضاع قلب اإلسالم (الحجاز) بالقوة للفهم الوهابي لحقيقة الدين. وكانت بريطانيا في منتهى السرور إلعطاء ابن سعود الضوء األخضر كي يحرك قواته ضد حسين بعد أربعة أيام من مطالبة الهاشمي بالخالفة لنفسه .ولم يكن بوسع ابن سعود الصبر ليتحرك ضد حسين والسبب – مهما بدا غريبا ً – هو أن السيطرة اليهودية على القدس والسيطرة الوهابية على الحجاز كلتيهما واجهتا نفس التهديد .ولم يكن ألي منهما أن تتحقق أو أن تدوم طالما للعالم اإلسالمي خليفة يحكمه. وبمؤازرتهم البن سعود فان البريطانيين كانوا يضمنون عدم إمكانية عودة الخالفة ما دام السعوديون – الوهابيون يفرضون هيمنتهم على الحجاز .وزد على ذلك أن البريطانيين قد تيقنوا أن النظام اإلسالمي العام لم يكن بمقدوره االستمرار دون وجود الخالفة ،وبالتالي فان العالم اإلسالمي سيضعف كثيرا ً إلى حد استحالة تعبئته لمنع إنشاء دولة إسرائيل اليهودية .وقد علمت بريطانيا كذلك أن الوهابيين أنفسهم ال يمكنهم أن يطالبوا بالخالفة إذ أن خليفةً وهابيا ً سيكون دوما ً محل رفض األغلبية الساحقة من المسلمين في العالم .لذا فان بريطانيا بسحب دعمها لحسين وإعطائه البن سعود كانت في الحقيقة تواصل هجمتها الوحشية على مؤسسة الخالفة وعلى النظام اإلسالمي المركزي العام. وتمكن ابن سعود خالل أشهر قليلة من انتزاع مكة ،أما حسين فقد هرب إلى جدة .ثم تدخلت بريطانيا في آخر المطاف إلبعاده كليا ً من شبه الجزيرة فعرضت عليه منفى مريح في قبرص .وسرعان ما أصبحت المدينة المنورة وجدة أيضا ً تحت الحكم السعودي – الوهابي. لقد نجح التحالف السعودي – الوهابي قبل أكثر من قرن مضى في التغلب على دفاعات الطائف ومكة حيث ترتب على ذلك حمامات دم بأحجام مفجعة في الواقع .فقد عد الوهابيون ،بحماسهم المتعصب، المسلمين القاطنين في الحجاز كمشركين وبالتالي فان هذا يجعل من الجائز قتلهم .ومن جانبه قام الخليفة في اسطنبول باإليعاز إلى محمد علي ،خديوي مصر المملوكي ،ليرسل جيشا ً إلى الحجاز بقيادة ابنه إسماعيل .وقد تم طرد المحاربين السعوديين – الوهابيين بالقوة إلى خارج الحجاز ثم إلى الصحراء. 13
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية ورغم ذلك فبعد مضي قرن من الزمن لم يعد هنالك خليفة وأضحت جميع المجتمعات اإلسالمية تحت السلطة االستعمارية الغربية .أضف إلى ذلك أن ابن سعود تمتع بالحماية التي وفرتها له صداقته لبريطانيا العظمى التي كانت القوة العظمى آنذاك .وبناء على ذلك فلم تكن هنالك أية احتمالية قريبة إلزاحة القوات السعودية – الوهابية من الحرمين والحجاز. وعلى الرغم من كون ابن سعود متمتعا ً بالسيطرة اآلمنة على الحجاز ،فقد بقي يواجه مشكلة حقيقية كبيرة إثر استهالل حكمه هناك عام .6991فقد كان عليه أن يبتكر إستراتيجية معينة ليتجنب االحتمالية بعيدة األمد المتمثلة في تكرر الكارثة التي حلت على الحكم السعودي – الوهابي السابق على الحجاز. ويبدو أنه فكر أوالً بسياسة للمصالحة مع المسلمين غير الوهابيين فضالً عن استخدام سلطته على الحجاز لتعزيز قضية توحيد األمة .وهكذا وبعد فترة وجيزة من حصوله على السيطرة على مكة وبعد حصوله على اعتراف سكانها به كسلطان للحجاز ،قام ابن سعود بإعالن موجه للعالم اإلسالمي كانت فحواه أن الحجاز مع الحرمين هو ملك لكل العالم اإلسالمي وأنه ،أي ابن سعود ،يضع الحجاز تحت سيطرته كأمانة ال غير نيابة عن العالم اإلسالمي )1(.ومن ثم قام ابن سعود بدعوة العالم اإلسالمي برمته كي يرسلوا ممثليهم إلى مكة كي يتسنى لهم تأسيس إدارة كفوءة وعادلة للحجاز مبنية على أساس الشورى واإلجماع. إن هذا البيان المهم كان متماشيا ً بالكلية مع شروط النظام اإلسالمي العام .وكان الحجاز آنذاك ال يزال دار اإلسالم التي أسسها النبي .إذ لم تكن هناك إلى حد اآلن أية إشارة ألية دولة سعودية قد تطالب بـ (السيادة اإلقليمية) في الحجاز .وكانت حقوق المسلم في ربوع دار اإلسالم ما تزال تحظى باالعتراف واالحترام. ولكن لسوء الحظ فان هذا القلق حيال وحدة العالم اإلسالمي وهذا اإلعالن الحماسي الخاص بالوضع في الحجاز لم يمثل الخطط السعودية – الوهابية الحقيقية الخاصة بالحجاز .فاألمر لم يتجاوز كونه قضية (سياسات توافقية) تم وضعها من أجل حماية السعوديين – الوهابيين على أعقاب مبادرة خطيرة تبنتها جامعة األزهر في القاهرة بعد فترة وجيزة من إلغاء الخالفة العثمانية .وبالفعل فقد كان لمبادرة األزهر انعكاسات محفوفة بالمخاطر على ابن سعود وعلى الحكم السعودي – الوهابي على الحجاز .فضالً عن أنها شكلت مأزقا ً حرجا ً للصهاينة والبريطانيين المنتصرين .لقد اقترح األزهر عقد مؤتمر إسالمي عالمي للخالفة (مؤتمر الخالفة) في القاهرة وكان من المقرر لهذا المؤتمر ،من بين أمور أخرى ،تعيين خليفة جديد للعالم اإلسالمي. ولو أن الوهابيين كانوا أصالً مذعنين لإلسالم لرحبوا بجهد األزهر هذا من أجل تحقيق االمتثال ألحد متطلبات الشريعة األساسية ،أال وهو تأسيس خالفة حقيقية .ولطالما اعتبر الوهابيون الخالفة التي تلت الخالفة الراشدة باطلة وكان أحد أسباب ذلك أن هذه الخالفة لم تؤسس بطريقة تتماشى مع الشروط الشرعية .واآلن وبما أن الخالفة الباطلة قد ألغيت وكان مركز التعليم اإلسالمي الرئيسي بصدد عقد مؤتمر إسالمي عالمي لمناقشة مسألة الخالفة ولتفعيل عملية تعيين خليفة جديد ،فلم يكن على الوهابيين قبول ذلك فحسب ،بل كان عليهم تقديم كل تعاون ممكن ولكان عليهم المشاركة بطريقة جدية في هذا المؤتمر من أجل ضمان عودة الخالفة الحقيقية. ولكن الوهابيين لم يكن لديهم هذا االمتثال لإلسالم .فقد كان تصرفهم في الحقيقة عبارة عن تدين انتقائي و نفعي وانتهازي .لقد عرف الوهابيون أن العالم اإلسالمي ما كان ليقبل خليفة وهابياً ،ونتيجة لذلك فقد 14
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية وجدوا ما يالئمهم في إنكار أحد المتطلبات األساسية للنظام اإلسالمي العام .فقد جندوا كل طاقاتهم لتخريب مؤتمر الخالفة في القاهرة .وكانت إستراتيجيتهم تقضي بتنظيم مؤتمر منافس في مكة في موسم الحج من عام .6991وكان ذلك يعني أن مؤتمر مكة سينعقد بعد شهر من انعقاد مؤتمر القاهرة ،األمر الذي سيجعل من الصعب على الوفود أن يحضروا المؤتمرين كليهما .وبما أن مؤتمر مكة تم توقيته ليكون متوافقا ً مع الحج ،وكان هذا المؤتمر يحظى بالدعم الفعال للبريطانيين فقد كان له حظوة واضحة على مؤتمر القاهرة. ثانياً ،لقد قاموا وعلى وجه التخصيص باستبعاد مسألة الخالفة من جدول أعمال مؤتمر مكة .لقد كانت هذه المحاولة المكشوفة لتخريب مؤتمر القاهرة ولدفن الخالفة تمثل أكثر من دليل دامغ لفضح مزاعم الوهابية في ادعائهم أنهم أبطال الشريعة واإلسالم. إن استجابة العالم اإلسالمي لهذه المنافسة ،أي مؤتمر الخالفة في القاهرة في أيار/حزيران من عام 6991ومؤتمر العالم اإلسالمي في مكة في تموز ،6991هو موضوع جدير بالبحث الجدي .فعلى سبيل المثال ما مقدار الدبلوماسية البريطانية الذي تم بذله من أجل ضمان أن يبقى المجتمع الهندي المسلم المهم -الذي ساند الخالفة العثمانية إلى حد أنهم أسسوا جمعية الخالفة الهائلة -بعيدا ً عن مؤتمر الخالفة في القاهرة ويحضر بدالً عن ذلك إلى مؤتمر مكة المنافس الذي است ُبعدت مسألة الخالفة على وجه الخصوص من جدول أعماله؟ ليس هناك سوى القليل من البحث في هذا الموضوع. ومع ذلك ،فما كان جليا ً هو أن مؤتمر مكة قد حقق انتصارا ً تكتيكيا ً على مؤتمر القاهرة ،وهو انتصار كان له انعكاسات هائلة على بقاء كل من مؤسسة الخالفة و النظام اإلسالمي العام التقليدي ،أي (دار اإلسالم) .وقد تمنى منظمو مؤتمر القاهرة أن يضمنوا التوافق مع النظام اإلسالمي التقليدي للمنظمة السياسية .إال أنهم كانوا عاجزين فكريا ً عن إيضاح كل من مفهوم النظام اإلسالمي العام (دار اإلسالم) والمفهوم اإلسالمي لنظام عالمي قادر على إقناع العالم اإلسالمي المتشكك. ومن ناحية أخرى فان منظمي مؤتمر مكة لم يرغبوا في البقاء أوفياء للنظام اإلسالمي العام بكل ما يتضمنه هذا النظام من الخالفة ودار اإلسالم ...الخ بسبب المصالح الممنوحة لهم .بل إنهم بدالً من ذلك اختاروا قبول نظام منافس خاص بمنظمة سياسية كان قد ظهر في الحضارة الغربية الحديثة ،ذلك النظام الذي اخترق مركز الخالفة العثمانية ذاته ،أال وهو نظام الدولة القومية العلمانية بعينه .وقد فعلوا ذلك ألن نظام الدولة القومية كان النظام الوحيد الذي يستطيع من خالله السعوديون – الوهابيون بصورة ملموسة متابعة جهدهم لكسب االعتراف والشرعية لصالح حكمهم على الحجاز وبالتالي ضمان بقاء الدولة السعودية .لقد موهوا مخططاتهم الحقيقية وقاموا بمحاولة مدروسة الستغفال العالم اإلسالمي. وكان نجاحهم في لعبة الخديعة هذه متجليا ً بشدة في الصفة التمثيلية التي تحلى بها مؤتمر مكة. إن النصر التكتيكي الذي أحرزه مؤتمر مكة في منافسته لمؤتمر القاهرة كان له دور مهم في تهيئة الطريق لبقية العالم اإلسالمي ،وبضمنه قلب اإلسالم ،كي يتبعوا في النهاية مثال مصطفى كمال ونموذجه للدولة العلمانية في تركيا .ومنذ عام 6991و تاريخ العالم اإلسالمي يسجل من جهة الدواهي التي تم حقنها في جسد األمة من خالل هذه المنظمة السياسية الدخيلة ،ومن جهة أخرى يسجل المحاوالت الساذجة والمشوشة والسطحية لعلماء اإلسالم المعاصرين في إعادة بناء النظام اإلسالمي العام على األسس العلمانية لنظام الدولة القومية. 15
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية وما أفرزته هذه الجهود كان هدف (األسلمة) وهدف تأسيس (الدولة اإلسالمية) داخل نظام الدولة القومية .ولكن هذين الهدفين كانا عديمي الجدوى الن تحقيقهما كان – وال يزال – مستحيالً ما لم يتم في البدء إلغاء بعض المكونات الضرورية من الدولة القومية ،أي ضرورية لبقائها كمؤسسة علمانية. وقد غامر كل من الدكتور محمد إقبال والمال أبو األعلى المودودي في اجتهادهم من أجل إعادة بناء النظام اإلسالمي العام في إسالم ما بعد الخالفة .وقد تمخضت جهودهم عن مفهوم اسمه (الدولة اإلسالمية) .ولكن لألسف فان جهود إنشاء الدولة اإلسالمية أدت إلى إبعاد نظام المنظمة السياسية اإلسالمي التقليدي لألمة أو النظام اإلسالمي العام – نظام السالم اإلسالمي أو دار اإلسالم – وجعله في عزلة تامة .وكنتيجة لذلك أصبح الفكر السياسي في العالم اإلسالمي مضلالً بصورة كبيرة وبالتالي أضحى االضطراب الشديد الناتج عن ذلك مستمرا ً حتى يومنا هذا.
16
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية
الفصل الثاني انهيار الخالفة العثمانية وقيام الدولة القومية السعودية – الوهابية الحرب العالمية األولى وإلغاء الخالفة العثمانية لقد كانت الحرب العالمية األولى بالنسبة للعالم اإلسالمي أكبر من كونها مجرد حرب أوربية .فلقد كانت بال ريب حربا ً أدت إلى ثورات و تغيرات في العالم اإلسالمي لم يشهد مثلها خالل ثالثة عشر قرنا ً من وجوده. أوالً ،إن اإلمبراطورية العثمانية ،التي كانت اكبر قوة للمسلمين ومقرا ً للخالفة المعاصرة ،دخلت الحرب إلى جانب قوى المحور .وفي الوقت الذي ال يزال فيه القرار موضع جدل -إذ أن القيادة العثمانية وحتى اللحظة األخيرة لم تقرر هل ستدخل الحرب أم ال ،وإذا ما دخلت فأي جانب ستساند -فقد كان هناك أسس لتخمين وجود دور بريطاني – صهيوني في القضية. فالقادة اليهود – الصهاينة قد قاموا بعدة محاوالت فاشلة لعقد اتفاق مع الخليفة يقضي بسيطرة اليهود على القدس .حتى إنهم قدموا عرضا ً لشراء المدينة المقدسة .وقد ساندت بريطانيا هذه المحاوالت اليهودية – الصهيونية. وكان لبريطانيا في الحرب أهداف سياسية وعسكرية كان أهمها قهر اإلسالم بصفته قوة عالمية واحتالل القدس وإنشاء وطن يهودي في فلسطين من شأنه أن يمزق الشرق األوسط ويراقبه بالنيابة عن الغرب.1 وقد حاولت القيادة العثمانية كما هو متوقع تعبئة الدعم في مجهودها الحربي من العالم اإلسالمي بأسره. وفي هذا الصدد قام شيخ اإلسالم في الدولة اإلسالمية العثمانية بإصدار فتوى وبيان في 99تشرين الثاني من عام 6961معلنا ً الجهاد ومطالبا ً جميع المسلمين بالقتال ضد قوات الحلفاء .غير أن الدبلوماسية البريطانية نجحت في تعزيز واستغالل القومية العربية في شبه الجزيرة العربية كوسيلة فعالة لمهاجمة وتقويض القوة الهائلة التي تتمتع بها األخوة اإلسالمية العالمية .وكنتيجة لذلك فقد تمرد العرب ضد الحكم العثماني على أساس عرض قدمته بريطانيا للمساعدة على تحقيق االستقالل الوطني. وفي أقل من سنتين من بدء الحرب كان الشريف حسين – من ادعى كونه "ملك العرب" والذي هو الحليف القوي للبريطانيين وأبو جد الملك حسين ملك األردن – قد نجح في تمرده ضد السلطة العثمانية وتم تنصيبه ملكا ً على قلب اإلسالم ،الحجاز .وكان عاقبة ضياع مكة و بالتالي المدينة أن االستغاثة التي أطلقها الخليفة العثماني لجميع المسلمين قد القت ضررا ً يتعذر إصالحه. أما البريطانيون فقد أتبعوا نجاحهم في الحجاز بتنصيب أوالد حسين كملوك على العراق وعلى إمارة شرق األردن كذلك .وبحلول عام 6969دخل الجنرال البريطاني (الينبي) ،مع القوات العربية التي قاتلت معه بإخالص ،كمنتصر إلى القدس حيث أعلن أن الحروب الصليبية قد انتهت أخيراً .وظلت هذا االستنتاج قد اصبح اكثر تحديدا بعد 11سنة من دراسة المؤلف لعلم اخر الزمان حيث انه قد توصل الى نتيجة ان الغرض من انشاء الكيان الصهيوني هو في الحقيقة لتمكينه من حكم العالم وخروج المسيح الدجال منه ،الطبعة الثانية من الكتاب سوف تحتوي تفصيالت اكثر حول هذا
17
1
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية فلسطين تحت االنتداب البريطاني (بتفويض من عصبة األمم) حتى انسحب منها البريطانيون في عام 6912وأعلن الصهاينة اليهود تأسيس دولة إسرائيل. لقد هزمت اإلمبراطورية العثمانية في الحرب شر هزيمة .فقد جمعت قوات الحلفاء تفوقها العسكري مع سالح نفسي كان له تأثيرات بعيدة المدى على اإلسالم .فقد نجح البريطانيون والفرنسيون في كسب الدعم اإلسالمي العسكري (بطرق فاسدة أكثر من كونها عادلة) من الهند والمغرب ومناطق أخرى ،وهكذا أصبح المسلم العربي وغير العربي كالهما يقاتالن ضد أخوانهم المسلمين األتراك .والنتيجة لم تكن هزيمة اإلمبراطورية العثمانية فحسب ،بل د ُمرت أسسها اإلسالمية العالمية. وعلى أنقاض هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية األولى خاضت قوات القوميين األتراك بقيادة مصطفى كمال الحرب تلو الحرب إلى حد أن القوات األوربية التي أنهكتها الحرب ،والتي أحجمت عن التدخل استجابة لرأيها العام المحلي ،لم يكن بوسعها أن تفعل شيئا ً لمنع األتراك من إلحاق الهزيمة الشنعاء باليونانيين وكسب الحرية التركية .وقد أعطت معاهدة لوزان الموقعة عام 6991االعتراف العالمي بذلك والذي كان نتاج السواعد التركية على أرض المعركة.
القوميون األتراك والخالفة لقد كانت قوات القوميين األتراك في صراع مستمر مع الخليفة ألكثر من خمسين عاما ً يناضلون من أجل تحديد سلطاته من خالل نظام دستوري يحل محل ما اعتبروه دكتاتورية استبدادية .وكانت قوات القوميين األتراك في األساس علمانية في مظهرها السياسي وكانوا متأثرين للغاية بما فهموه كتفوق جلي للحضارة الغربية على الخالفة العثمانية وعلى اإلمبراطورية اإلسالمية. وفي أعقاب ضياع مكة والمدينة وبعد أن حارب إخوانهم المسلمون ضدهم في الحرب ،فقد أحسوا بعدم وجود أي رابط ملزم تجاه العالم اإلسالمي .وسرعان ما توجهوا لتحويل نظامهم السياسي من النموذج القديم المتمثل بـ "دار اإلسالم" أو النظام اإلسالمي العام إلى النظام الغربي المتمثل بالدولة القومية العلمانية الحديثة ،أي الجمهورية التركية. وفي مثل هذا التحول فقد كان من المحتم – وال يزال – وجود نوع من فصل "الكنيسة" عن "الدولة" ،إذ أن هذا هو األساس الحقيقي للنموذج الغربي )1(.وقد قامت الجمعية العمومية الوطنية التركية ،المخلصة للنموذج العلماني الجديد الذي كانت تمثله ،بتعيين عبد المجيد كخليفة في عام 6999ليكون رئيسا ً "للكنيسة" اإلسالمية .إال أن خالفته كانت مجردة من جميع سلطاته .فهذه السلطات كانت منوطة بالدولة. وقد كان من المحتم على النموذج الجديد أن ينهار في البيئة اإلسالمية لتركيا .فقد كان – وال يزال – من المحال أن نفعل مع اإلسالم نفس ما فعله األوربيون للمسيحية بعد انهيار اإلمبراطورية الرومانية .فلم يكن الخليفة – ولن يكون – مساويا ً للبابا )1( .فلم يكن هنالك مجال للعلمانية السياسية في النظام اإلسالمي طالما أن اإلسالم التقليدي لم يفرق بين الكنيسة والدولة .فضالً عن عدم وجود شيء اسمه "كنيسة" إسالمية.
18
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية وسرعان ما أصبح جليا ً أن النموذج الجديد للدولة القومية الحديثة ما كان ليظهر طالما كانت مؤسسة الخالفة قائمة .وقد ظهرت ثمة عالمات (كالمساندة البريطانية لجمعية الخالفة في الهند) على أن أعداء الجمهورية الكمالية قد يلجئون إلى استخدام الخليفة لزعزعة الجمهورية ومن ثم لتنحية مصطفى كمال. وبدورها فإن القوات القومية التركية فهموا بسرعة وبوضوح أن الدولة القومية في البيئة اإلسالمية عليها إما أن تستجمع قواها للسيطرة على اإلسالم ولجعله خاضعا ً للدولة ،أو تقاسي مصيرها (حسب وجهة نظرهم) حينما يسيطر اإلسالم على الدولة ويستعيد "دار اإلسالم". لذا فلم يكن من المفاجئ أن تتبنى الجمعية العمومية الوطنية التركية في 9آذار من عام 6991قانونا ً آخر يلغي الخالفة .وكانت المادة األولى من القانون كاآلتي: "يعزل الخليفة ،وتلغى مؤسسة الخالفة طالما أن الخالفة ممثلة بصورة أساسية في معاني ودالالت كلمة "الحكومة" وكلمة "الجمهورية")7( . إن نص هذا القانون قد س ّجل لحظة حاسمة في تاريخ األمة .فبعد مدة دامت ألفا ً وثالثمائة سنة كانت مؤسسة الخالفة خاللها تحظى باعتراف المسلمين كلهم تقريبا ً من دون استثناء (أي المسلمين السنيين) كضرورة من ضرورات الدين ،حتى حينما كان كرسي الخالفة يُؤخذ بطرق مخالفة لمبادئ اإلسالم، وجد العالم اإلسالمي نفسه في القرن الرابع عشر من وجوده من دون خليفة .لقد كان التغير أكيدا ً ودائما، حتى إن المرء قد يعذر حين يستنتج أن العالم اإلسالمي اآلن قد انتقل إلى مرحلة ما بعد الخالفة من وجوده.
رد جامعة األزهر على إلغاء الخالفة العثمانية إن المغزى من إلغاء الخالفة موجود في نفس المادة األولى من قانون اإللغاء ،بمعنى أن الخالفة كانت قد استبدلت وحل محلها الدولة القومية العلمانية الحديثة .لقد استبدلت مؤسسة تعد جز ًء من الدين اإلسالمي بتأثير من الفكر السياسي والحضارة الغربيان ،وحل محلها نظام سياسي ينتمي للعالم الغربي ،أما مصطلحات (الحكومة والجمهورية) التي استخدمت في النموذج التقليدي القديم فقد أصبحت تستخدم اآلن بمعنى جديد كي يالئم النموذج الجديد .حتى أن مفكرا ً عظيما ً كالدكتور محمد إقبال لم يفهم بصورة مالئمة – على ما يبدو – الطبيعة الحقيقية للتغيير الذي كان يجري)2(. وإذ أن الخالفة هي أحد مكونات الدين اإلسالمي ،فقد كان من الواضح (من وجهة النظر الدينية) أن هنالك بدعةً كبيرة ً وشنيعةً تقترف ،األمر الذي يتطلب ردا ً دينيا ً مناسباً .وبعد اثنين وعشرين يوما ً من إقرار القانون في الجمعية العمومية الوطنية التركية التقى شيخ جامعة األزهر في القاهرة بأبرز العلماء الموجودين في الجامعة وفي مصر وتم إصدار البيان التالي بشأن الخالفة: "إن حقيقة الخالفة ،التي هي مرادفة لإلمامة ،هي رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا .وإن وظيفتها الرئيسية هي حفظ حوزة الملة وإدارة األمة". وقد حصر البيان هذه "الرئاسة العامة" في منصب اإلمام الذي تم تعريفه بما يلي: "هو الذي ينوب عن األمة في السلطان لتنفيذ أحكام الشرع وإدارة الشؤون المدنية حسب ما تقتضيه الشريعة. 19
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية "وال يكون اإلمام إماما ً إال إذا تابعه أهل الحل والعقد في األمة ( )9بعقد البيعة ،أو إذا اختاره الخليفة ليكون خليفة من بعده. "وتنعقد اإلمامة أيضا ً عن طريق التغلّب ،أي إذا تغلبت جهة أخرى على الخليفة واستولت على مكانه فان الخليفة يخسر منصبه .وفي بعض األحيان فان اإلمامة المكتسبة بالتغلب تتعزز بعقد البيعة أو باختيار الخليفة السابق كما كان الحال بالنسبة ألغلب الخلفاء في الماضي" ()61 وبالعودة إلى الموقف الصعب الذي يواجههم ،فان البيان قد أدان أمرين على أنهما بدعة لم يكن لها سابقة في اإلسالم ،أما األول فقد كان تعيين عبد المجيد في خالفة قد جردت من سلطتها ،وهو األمر الذي تبنته الجمعية العمومية الوطنية التركية ،وأما الثاني فقد كان إلغاء الخالفة. ولما كانت هذه البدعة متعارضة كليا ً مع العقائد الدينية ،فقد خلص العلماء إلى ضرورة عقد مؤتمر إسالمي يدعى لحضوره ممثلون عن كل الشعوب اإلسالمية لدراسة موضوع من سيتولى أعباء الخالفة اإلسالمية. لقد كان هذا آنذاك أول رد جدي للعالم اإلسالمي على إلغاء الخالفة العثمانية .إال أنه من الضروري مالحظة أن االقتراح قد مثل ابتعادا ً ملفتا ً للنظر عن السلوك السياسي المعهود في النموذج اإلسالمي التقليدي .حتى أن المرء قد يعتبره بدعة .فقد كان علماء األزهر يقترحون استخدام مؤتمر إسالمي ،حتى وإن كان مؤتمرا ً يشارك فيه ممثلون عن جميع الشعوب اإلسالمية ،لتعيين خليفة جديد .فحتى النصف األول من القرن األول في التاريخ اإلسالمي لم يتم انتخاب خليفة عن طريق الشعب .ولم يحدث في كل التاريخ اإلسالمي أن ينتخب خليفة عن طريق جمعية أو مؤتمر لممثلي الشعوب اإلسالمية)66( . لقد واجه المقترح المصاعب السابقة حتى أن اللجنة المسئولة عن التخطيط للمؤتمر استبدلت القضية (االنفجارية) في انتخاب خليفة جديد ووضعت بدلها الموضوع األقل إثارة للجدل والعملي بصورة اكبر المتمثل بتحليل الوضع وردود األفعال المتوقعة .ومع هذا فإن النقطة األهم هي أنه وللمرة األولى في تاريخ التكوين السياسي للمسلمين قامت هيئة مهيبة مكونة من مسلمين متعلمين ،وبصورة علنية ،بتقديم فكرة تتمحور حول إمكانية أن تتولى جمعية أو مؤتمر من ممثلين عن جميع الشعوب اإلسالمية مناقشة واتخاذ قرارات تخص أهم شؤون األمة. وإنه لمن الصعب بمكان أن نقرر ما إذا كان هذا راجعا ً إلى تأثير الحضارة الغربية كما يريدنا توينبي أن نعتقد )69( .وعلى الرغم من ذلك فمن الصواب القول أن المؤتمر المقترح مادام يستخدم الشورى واإلجماع فسيظل أقرب إلى اإلسالم التقليدي من الخالفة كما صورتها جميع العصور الماضية من وجودها باستثناء العقود القليلة األولى.
20
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية
الفصل الثالث مؤتمر الخالفة في القاهرة – حزيران 6291 جدول األعمال كان لمؤتمر الخالفة الذي عقد أخيرا ً في القاهرة في شهر حزيران من عام 6991برنامج يتضمن النظر في المواد التالية: -6 -9 -9 -1 -5 -1
بيان حقيقة الخالفة وشروط الخليفة في اإلسالم. هل الخالفة واجبة في اإلسالم؟ بم تنعقد الخالفة؟ هل يمكن اآلن إيجاد الخالفة المستجمعة للشروط الشرعية ؟ إذا لم يكن من الميسور إيجاد هذه الخالفة فما الذي يجب أن يعمل ؟ إذا ما افترضنا أن المؤتمر قرر أن من الضروري نصب خليفة ،فما هي الخطوات التي يجب أن تُتخذ لتفعيل هذا القرار؟"
الوفود لقد جاءت الوفود التي حضرت المؤتمر من مصر وليبيا وتونس ومراكش وجنوب أفريقيا وجزر الهند الشرقية الهولندية (إندونيسيا اآلن) واليمن والحجاز (اآلن في العربية السعودية) وفلسطين والعراق وبولندا .وقد كان واضحا ً غياب وفود الكثير من الدول والمجتمعات اإلسالمية المهمة كتركيا وفارس (إيران اآلن) وأفغانستان ونجد (اآلن في العربية السعودية) و المجتمعات اإلسالمية في روسيا والصين والهند. أما تركيا فقد رفضت دعوة المشاركة متذرعة بأن دولتها ال تعاني من أي مشكلة مع الخالفة .وأما إيران ،الدولة الشيعية ،فلم تظهر أي اهتمام بمؤتمر الخالفة السني .أما مسلمو روسيا والصين والهند وكل األقليات التي تعيش في بيئات معادية لإلسالم فقد تبنت موقفا ً مشتركا ً تمثل في ابتعادهم عن مؤتمر الخالفة في القاهرة معتبرين إياه ممارسة أكاديمية بحتة واجتماعا ً مجردا ً من أية قوة حقيقية ،حتى إنه من المستبعد أن يمنحهم أية مساعدة أو حماية ملموسة .ولكنهم فعلوا ذلك في األساس بسبب وجود مؤتمر منافس قد رتب له شخص يبدو أنه يشكل قوة حقيقية ،أال وهو عبد العزيز بن سعود .وفي الواقع كان هذا األخير في هلع قاتل خشية عودة الخالفة ،فقد انتزع لتوه السيطرة على مدينتي مكة والمدينة المقدستين وضمها لساللته المالكة. وأخيرا ً فقد كان من بين الحضور في مؤتمر القاهرة شيخ الطائفة السنوسية (الصوفية) السيد إدريس السنوسي الملقب بأمير برقة وطرابلس .وقد أُشيع أن هنالك احتمالية قوية النتخابه كخليفة إذا ما قرر المؤتمر أن يختار شخصا ً لهذا المنصب)69( . 21
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية
جلسات المؤتمر لقد انعقد المؤتمر بواقع أربع جلسات في 69و 61و 62و 69حزيران من عام .6991و في الجلسة األولى تم تعيين اللجنة األولى لغرض "النظر في المقترحات وعرضها أمام المؤتمر" .وسرعان ما اقترحت اللجنة أن تنعقد جلسات المؤتمر "بسرية" .وقد ُرفض هذا المقترح في الجلسة الرابعة التي حضرها كامل األعضاء مع حصيلة أن نحتفظ بالمحضر الحرفي الكامل لهذا المؤتمر كوثيقة عامة. ()61 وفي الجلسة الثانية لكامل األعضاء عُينت اللجنتان الثانية والثالثة ،أما اللجنة الثانية فقد وكل إليها النظر في الفقرات 6و 9و 9من جدول أعمال المؤتمر ،أما اللجنة الثالثة فقد وكل إليها النظر في الفقرات 1و 1و .1إن قرارات اللجان الثانية والثالثة إضافة إلى المناقشات والقرارات المستندة إلى هذه التقارير قد شكلت جوهر عمل المؤتمر .وقد آن األوان لننتقل إلى تحليل هذه التقارير.
اللجنة الثانية لقد اعتمدت اللجنة الثانية في تعريف الخالفة على المؤلفات الموثقة للعلماء أمثال الماوردي وابن خلدون وآخرين .بل إنها ركزت بالخصوص على حقيقة أن الخليفة ال بد أن يجمع في منصبه بين القيادة الدنيوية والدينية .ثانياً ،ال يجوز أن يكون هناك أكثر من خليفة واحد في كل مرة طالما أن دور مؤسسة الخالفة يتمحور ،من بين أشياء أخرى ،على توحيد األمة)61( . وكان السؤال الثاني الذي واجهته اللجنة (هل الخالفة واجبة في اإلسالم؟) أمرا ً ال يصدق على أقل تقدير. فلدينا هنا مؤسسة كانت دائما ً ذات أهمية جوهرية لنظام الحكم بالنسبة للمسلمين السنة والتي كانت مع المسلمين منذ ممات النبي .وقد عاشت األمة على مر تاريخها ليس مع الخالفة وحسب ،ولكنها ،إضافة إلى ذلك ،لم تفكر بجدية أبدا ً في إمكانية وجود بديل لها .و من المؤكد أن المرء إذا ما تلبس بالمقترح القائل أن هنالك بديالً ممكنا ً عن الخالفة فسيكون عرضةً لتهمة بالغة الخطورة وهي االبتداع .ومع هذا، وكنتيجة لما عمله شخص واحد وهو مصطفى كمال التركي ،فقد كان أعلى مركز للتعليم في العالم اإلسالمي أجمع مطروحا ً أمام مؤتمر الخالفة للنظر في السؤال :هل الخالفة ضرورية في اإلسالم؟ وعلى أية حال فربما كان هذا هو السؤال األهم الذي كان على األمة أن ترد عليه في تاريخها كله .فقد خلصت اللجنة ،كما هو محتم ،إلى تأكيد أن الخالفة كانت ضرورة في اإلسالم ولكنها أمر ال يمكن تحقيقه في ذلك الوقت )61( .وبتعبير آخر ،فقد أوجب هللا على المسلمين أمرا ً لم يكن باستطاعتهم تحقيقه في ذلك الوقت .ولكن هذا الجواب كان بالكاد مقنعاً ،حيث إن هللا العالم بكل شيء ال يكلف عباده ما ال يطيقون. وحينئذ ،فأما أن ال تكون الخالفة ضرورة في اإلسالم أو إنها كانت ضرورة وال يمكن تحقيقها .وفي كال الحالتين فإن الفشل في إعادة تأسيس الخالفة سيكون ذنبا ً مشتركا ً سيعاقب المؤمنون عليه. 22
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية أما بخصوص السؤال الثالث (كيف يتم تحقيق أو عقد الخالفة؟) فقد كانت إجابة اللجنة كما يلي: " -6النص من الخليفة السابق. " -9بيعة أهل الحل والعقد من المسلمين ،أي الرجال الذين يطيعهم عامة الناس كالعلماء واألمراء والوجهاء وأهل الرأي والتدبير. " -9التغلب والقهر من شخص مسلم حتى لو لم تتوفر فيه الشروط األخرى")67( . وقد أدى تقديم اللجنة الثانية لهذا التقرير إلى مناظرة مهمة ومثيرة جدا ً بين عبد العزيز األفندي ،وهو أستاذ تونسي وكان أحد الموفدين العراقيين ،وبين رئيس الوفد المصري الشيخ محمد األحمدي الظواهري ( )62حول إمكانية تطبيق المبادئ اإلسالمية النظرية وضرورة االجتهاد: ثعالبي أفندي: " ال يشك شاك في أن مسألة الخالفة من أهم المسائل ،والبت فيها من الصعوبة بمكان عظيم .فأقترح تأجيل المؤتمر سنة حتى نقتل هذه المسألة بحثًا .وأن البحث الفقهي في هذه المسألة غير كاف . فللظروف أحكام ولألمكنة أحكام .وتأثر النظم اإلسالمية ببعض السياسات األجنبية له حكم آخر". الشيخ الظواهري: " نحن لم نرد فيما اجتمعنا لنظره من المسائل العلمية أن نكون مجتهدين لنحدث آراء جديدة ومذاهب جديدة في اإلسالم .أن بحثنا ينحصر فيما نقول المذاهب المعتبرة في اإلسالم .أما التطبيق فلكم أن تقولوا :إن هذا ليس من اختصاصنا". ثعالبي أفندي: " ال أريد مذهبًا جديدًا أو القول باالجتهاد ،إنما أقول ذلك مستفتيًا .فإن كنتم تنقلون مسائل غير قابلة للتطبيق في هذا العصر فماذا يكون الحكم ؟" الشيخ الظواهري: " إن فتح باب تطبيق األحكام الشرعية في عصر دون عصر خطر على اإلسالم .نحن نعرف أن تطبيق أحكام الدين العامة شيء واحد ،أما مراعاة أحكام األزمنة في إحداث شروط جديدة فال نقول بها")69( . ّ المنزل غير خاضع إن إصرار الشيخ الظواهري على أن الشريعة أو القانون اإلسالمي المقدس للتنقيحات لمالئمة الظروف واألوقات المختلفة كان أمرا ً سائغا ً تماما ً بالطبع .فال بد للشريعة أن تبقى محفوظة بشكلها الذي نزلت به بغض النظر عما إذا وجد المسلمون أنفسهم قادرين أم ال لتطبيقها في عصر معين .لذلك فإن استعادة الخالفة بالنسبة للشيخ الظواهري كان واجبا ً دينياً .وقد كان مصيبا ً بذلك فعالً! وكان طرح الثعالبي أفندي للسؤال الذي لم يتل ّق أي إجابة عليه أكثر من سائغ ،ذلك السؤال الذي مفاده إذا ما كانت استعادة الخالفة واجبا ً دينيا ً في عنق المسلمين فماذا ستكون العواقب عليهم إذا فشلوا في سعيهم الستعادة الخالفة؟ 23
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية إن الخلل الرئيسي في طريقة كل من الظواهري والثعالبي أفندي تمثل في عدم التفاتهم إلى النص القرآني الصريح الذي يشير إلى أن هللا قد جعل لكل مجتمع ديني شريعةً ومنهاجا ً (أو طريقا ً مفتوحاً))91( . ونتيجة لذلك فباإلضافة إلى القانون المقدس الخالد الذي ال يتغير والذي أصر الظواهري على أن نظل أوفياء له على الدوام ،فهناك أيضا ً منهاج مرن حيث يمكن للعبقرية البشرية أن تتجلى فيه بتكييفه حسب األوضاع والحاالت مع الحفاظ على القانون في الوقت ذاته. إن المشكلة األساسية ،التي فشلت اللجنة الثانية والمؤتمر بأسره في إدراكها وفي معالجتها والتي نتج عنها فشل المؤتمر ،كانت مشكلة إعادة النظر في ما يسمى بالتفسير التقليدي للنظام اإلسالمي العام (دار اإلسالم) وللمفهوم اإلسالمي للنظام العالمي .فمؤسسة الخالفة لم تنشأ في فراغ .وإنما مثلت جز ًء من دار اإلسالم .ودار اإلسالم لم تعد موجودة في العالم في العام .6991بل إنها لم تكن موجودة حتى في مكة أو المدينة .لقد عاد العالم اإلسالمي إلى مرحلة ما قبل الهجرة من وجوده. إن حل هذه المشكلة يتمثل بتأسيس جماعات متعددة في كافة أرجاء العالم اإلسالمي ،وكل جماعة لها أمير أو إمام يبايعه أعضاء تلك الجماعة ،ومن ثم يتولى األمير شؤون الجماعة بحذر وإلى أقصى حد ممكن بطريقة تتالءم مع الشريعة .حتى إذا ما ظهرت إمكانية إنهاء الحكم السعودي – الوهابي على الحجاز وصار بمقدور المسلمين استعادة االستقالل الحقيقي للحجاز فحينئذ سيكون من الممكن استعادة دار اإلسالم .وفي ذلك الوقت سيكون لدار اإلسالم أمير وسيكون على أمير كل جماعة إعطاء البيعة 2 ألمير دار اإلسالم وقد أمر الرسول في حالة كان هنالك رجالن يد ّعيان اإلمارة على جماعة المسلمين في الوقت نفسه (أي في دار اإلسالم) فينبغي قتل الثاني منهم. إنه ألمر بالغ األهمية أن نالحظ أن اآلية القرآنية: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا هللا وأطيعوا الرسول وأولي األمر منكم" النساء 19 لم تأمرنا أن نطيع شخصا ً واحدا ً كونه ولي األمر .بل إنها أمرتنا بطاعة أولي األمر (بالجمع) .لذا فإن القرآن يقر بوضوح إمكانية وجود قيادة جماعية (مؤقتة) في األمة ما دامت دار اإلسالم غير موجودة. في المرحلة المبكرة لتاريخ اإلسالم بعد وفاة الرسول ،أعطت األمة السلطة على كامل المجتمع لشخص واحد .وكان هذا ،وال يزال ،أمر ال غنى عنه لتدعيم التكوين السياسي اإلسالمي .وبالتأكيد فقد اتضح، ولنفس السبب ،ضرورة تحديد اختيار القائد ليكون من قبيلة قريش ،وهي القبيلة التي ينتمي إليها الرسول. إال أن القيادة المركزية ،على الرغم من ذلك ،دامت قرابة قرن من الزمان قبل أن تظهر التعددية .وحينئذ لم تفلح األمة طوال بقية تاريخها في استعادة القيادة المركزية .ولكنها ،مع ذلك ،ظلت موجودة كأساس عقائدي من المفترض على األمة أن تطمح إليه.
بعد حوالي أربعين سنة من تأليف هذا الكتاب وبعد دراسة المؤلف لعلم اخر الزمان توصل الى نتيجة ان عودة الخالفة اإلسالمية الحق لن تتم سوى بعد ظهور االمام المهدي في اخر الزمان وأن الحل حتى ذلك الوقت هو في القرى اإلسالمية في الريف البعيد التي يكون لها امير وشورى وتطبق بأقصى قدر ممكن نموذج الخالفة اإلسالمية على مستوى هذه القرية الصغيرة. 2
24
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية أقر إمكانية تعددية القيادة فقد م ّكن األمة من استعادة نظام القيادة ولكن ينبغي أن نفهم أن القرآن حينما ّ المركزية في دار اإلسالم من خالل عملية تدريجية تعترف مؤقتا ً بتعددية القيادة على جماعات مختلفة ما دامت دار اإلسالم غير موجودة. لقد فشلت اللجنة الثانية في النظر في هذه اإلمكانية ،ونتيجة لذلك انتهى المؤتمر نفسه بالفشل .وقد احتوى تقرير اللجنة الثانية على خلل خطير آخر ،وهو خلل يعود للنظرية السياسية اإلسالمية القديمة .فالتقرير يقول إن منصب الخليفة من الممكن أن يعطى عن طريق تعيين الخليفة السابق أو عن طريق التغلّب. فليس هنالك ال في القرآن وال في السنة النبوية وال في نموذج الخلفاء الراشدين أي أساس يدعو إلى اعتقاد أن القيادة في اإلسالم يمكن تكتسب عن طريق التغلّب أو بتعيين الخليفة السابق .ومع هذا فمن الجدير بالذكر مالحظة أن اإلمارة اإلسالمية في أغلب أزمان التاريخ اإلسالمي بل وحتى في العالم اإلسالمي المعاصر كانت بصورة مطردة في الغالب على شكل سالالت حاكمة أو عن طريق التغلّب (والحكم العسكري المعاصر اآلن يشكل جز ًء من "التغلّب"). لقد أساءت األجيال الالحقة من علماء المسلمين فهم الطبيعة الحقيقية لتعيين الخليفة األول أبو بكر (رضي هللا عنه) المزعوم للخليفة الثاني عمر .و قد يشك المرء بالتأكيد بأن الكثير من علماء السنة قد استغلوا الفهم الخاطئ الذي ساد قرون التنظير الالحقة إلعطاء الشرعية العقائدية لقرون السالالت الملكية الحاكمة في اإلسالم .وفي الواقع فإن تعيين أبي بكر (رضي هللا عنه) لعمر (رضي هللا عنه) لم يكن بسبب أن منصب الخليفة أعطاه الحق لذلك ،ولكن بسبب أن الناس الذين كان لهم الحق في تعيين الخليفة الجديد وكلوا ذلك الحق بحرية ألبي بكر (رضي هللا عنه). لقد كان العلماء في الحقيقة مخطئين خطأ ً فادحا ً في إعالنهم أن الشريعة أجازت أن يقوم الخليفة الحالي بتعيين من يخلفه وأخطئوا في دعمهم – نتيجة لذلك -للسالالت الملكية الحاكمة على مر تاريخ الخالفة وحتى يومنا هذا كاألمويين والعباسيين وكالخالفة العثمانية والمملكة السعودية في الجزيرة العربية والمملكة الهاشمية في األردن والمملكة الشريفية في مراكش فضالً عن الممالك الخليجية المتعددة. و بعد ذلك ،ولخلط األمور أكثر ،قام العلماء بمنح كل من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي (رضي هللا عنهم أجمعين) لقب "الخلفاء الراشدين" مؤكدين بذلك أن ثمة شيئا ً خاطئا ً بصورة جدية في خالفة معاوية وكل من جاء بعده .واألمر الالفت للنظر في خالفة الخلفاء األربعة األول بالطبع كان الغياب التام حتى لشائبة الشبهة في وجود الساللة الملكية الحاكمة أو اكتساب المنصب عن طريق التغلّب( .هذا وإننا ندرك أن ه ناك البعض ممن يتساءل عن الحكمة في قيام العلماء بإسدال ستار الخلفاء الراشدين بموت علي. وهم سوف يصرون على أن يُضم معاوية إليهم أيضاً .ورغم ذلك فإن هؤالء يشكلون أقلية ضئيلة في صفوف علماء اإلسالم السنة). إن المأزق الذي وقع فيه العلماء في مؤتمر الخالفة عام 6991كان وال يزال سببا ً للقلق الحقيقي .فقد احتجوا عام 6991على إلغاء الخالفة العثمانية التي كانت في الواقع ساللة ملكية حاكمة .وكانوا في عام 6991عاجزين تماماً ،حتى على مستوى التحليل النظري ،عن استبدال النظام الالإسالمي المتمثل بالساللة الملكية الحاكمة بالنظام العام الذي يتوافق مع متطلبات الدين.
25
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية فاآلية القرآنية األساسية التي تخص آليات القيادة في النموذج اإلسالمي تبين أن على المسلمين القيام بشؤونهم على أساس التشاور المشترك: "وأمرهم شورى بينهم" الشورى 12 لقد كان المعنى األساسي لهذه اآلية هي أن تنصيب القائد وعزله واستبداله بغيره في المجتمع اإلسالمي (وهذه األمور هي األهم من بين الشؤون المشتركة للمؤمنين) ال بد أن يتم من خالل عملية شورى مشتركة بين جميع المؤمنين .وعندما اعترف العلماء ( )96بحق الخليفة السابق في تعيين من يخلفه أو بصحة منصب الخليفة المكتسب بالتغلّب فقد وقعوا في تناقض واضح مع القرآن ،فالمؤمنون قد ُحرموا حقا ً أُعطوه من هللا نفسه. والمؤمنون بالتأكيد قد أصابهم بالغ الضرر خالل تاريخ األمة بأسره تقريباً .فقد كانوا يُستدعون (ألداء الواجب الديني المتمثل بالبيعة) وأرواحهم على المحك ،للمصادقة على تعيين قيادة لم يكن لهم أي دور في صنعها .إذ كان من الجلي أن رفض المصادقة كان يعد عصيانا ً ،والذي بدوره يشكل تهديدا ً واضحا ً للخليفة الحالي الذي كان يطمح فقط في إعطاء الشرعية لحكمه)99( . لقد كان جواب اللجنة الثانية على السؤال " كيف يتم عقد الخالفة؟" ناقصا ً من ناحية أخرى .فالطريقة األولى والثالثة (التعيين والتغلّب) كانت كما أسلفنا معارضة لصريح القرآن وال يوجد ما يساندها في نموذج الرسول والخلفاء الراشدين .بل حتى فيما يتعلق بالطريقة الثانية ،أي "اختيار الناس" ،فإن اللجنة الثانية فشلت في تبيين اآللية التي كان من الممكن استخدامها في عام 6991لغرض تطبيق هذه الطريقة. وفي النهاية فلنا أن نالحظ مجددا ً أن مداوالت اللجنة الثانية قد أظهرت بوضوح أن علماء األزهر ،الذين يبدو أنهم لم يدرسوا الفكر المعاصر ،كانوا في الواقع غافلين عن الطبيعة الحقيقية لنظام الدولة الحديثة الذي كان على وشك أن يُفرض على العالم اإلسالمي ويفتن وعي المسلم السياسي ويحبسه.
اللجنة الثالثة لقد كانت اللجنة الثالثة صريحة إلى حد بعيد وواقعية في مداوالتها فاستنتجت بشجاعة في تقريرها ما يلي: " ...إن الخالفة ...ال يمكن تحققها في الوقت الحاضر نظرا ً للوضع الذي عليه المسلمون اآلن)99( . وكانت أسباب ذلك هي: " ...ففي المقام األول لم تظهر حتى اآلن جماعة من الثقات تكون مسئولة شرعا ً عن إعطاء البيعة". ()91 إن اللجنة الثالثة اعترفت هنا إن اآللية التقليدية (أهل الحل والعقد) ،والتي من المفترض أن تُستخدم لتقرير خيار الشعب ،كان تطبيقها متعذرا ً عام .6991وكانت اللجنة لتبدو أكثر صراحة لو أنها ذكرت أيضا ً أن هذه اآللية لم تطبق في الحقيقة بشكل صحيح في التاريخ اإلسالمي .ومع هذا فقد كانت صريحة بما يكفي لتعترف بـالتالي:
26
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية " ..فإن الخالفة المتوافقة مع الشريعة اإلسالمية بالمعنى الحقيقي للكلمة وجدت فقط في الصدر األول من اإلسالم)91( ". وقد الحظت اللجنة أن المؤتمر حاول أن يجمع الممثلين عن كل الشعوب اإلسالمية في القاهرة وأن يدرس إمكانية توليتهم مهمة اختيار خليفة جديد .لكن اللجنة لفتت االنتباه إلى أن المؤتمر لم يمثل كل العالم اإلسالمي حيث إن الكثير من الشرائح المهمة في المجتمع اإلسالمي العالمي لم ترسل ممثليها. وينبغي أن نالحظ أن هذا اإلعالن يفهم منه ضمنا ً أن المؤتمر لو استقطب ممثلين من كل الشعوب اإلسالمية ،لتمكن من اختيار خليفة .ولكان ذلك ،بصرف النظر عن حقيقة كونه انتخاباً ،األول من نوعه في التاريخ اإلسالمي كله. ولكن ربما كان األمر األكثر إثارة من بين كل األسباب التي قدمتها اللجنة الثالثة لتفسير استحالة تحقيق الخالفة في ذلك الوقت بالتحديد متمثالً في الحقيقة بما يلي: " ...إن الخليفة ،إذا ما نُصب ،لن يكون بمقدوره أن ينجز واجبه األساسي في ممارسة النفوذ الفعلي على دار اإلسالم .فالكثير من أجزاء دار اإلسالم كانت تحت السيطرة األجنبية .والقلة القليلة الباقية ،التي كانت تتمتع بالحرية واالستقالل ،كانت مشحونة بالنزعة القومية التي تأبى على إحدى الجماعات أن تقبل قيادة جماعة أخرى ،ناهيك عن السماح لها بالتدخل في شؤونها العامة)91( ". ويبدو أن اللجنة الثالثة لم تكن واعية حتى لحقيقة أن المفهوم السياسي لدار اإلسالم كان نفسه متعرضا ً لهجوم شرس يشنه الفكر السياسي العلماني الغربي ،وكان على وشك أن ينتقل إلى عالم النسيان. بل إن األمر األغرب كان حقيقة أن تسمى أجزاء من العالم اإلسالمي التي كانت تحت االحتالل األجنبي بدار اإلسالم .فهي ما دامت تحت السيطرة األجنبية لم تعد تشكل جز ًء من دار اإلسالم (ألن التعريف األساسي لدار اإلسالم يتطلب أن تكون أرضا ً حيث السلطة الكبرى هلل هي الغالبة على المؤمنين) .ثانياً، إذا لم يستطع خليفة معين من بسط نفوذه الفعال على باقي العالم المسلم الحر فهذا بالتأكيد لم يكن بالشيء الجديد في اإلسالم .وهذا لم يمنع الخالفة من العمل ألكثر من ألف وثالثمائة سنة. إن الحقيقة التي كان على اللجنة الثالثة أن تبينها هي أن مدن مكة والمدينة كانت تحت السيطرة السعودية – الوهابية ،ونتيجة لذلك فان أي خليفة يتم تعيينه سيعاني من مسؤوليات ال تحصى تتمثل في عدم قدرته على بسط نفوذه على الحرمين .وفي الوقت الذي لم يكن ثمة خليفة وكانت المؤسسة نفسها متعرضة للهجوم ،وبشكل أكثر منه في األوقات االعتيادية ،فقد كان من الواجب على أي رجل يتم تعيينه للمنصب أن يفرض سيطرته على الحرمين ومن ثم على الحج .ولقد كان هذا في الواقع أساس مسعى الشريف حسين في ادعاء الخالفة لنفسه. إن الحاكم السعودي – الوهابي الذي بسط نفوذه على الحرمين قد أعطى مثاالً واضحا ً عن حقيقة كونه قوة تؤخذ بعين االعتبار فضالً عن عدم كونه مهتما ً بالخالفة أصالً .وهنا تكمن أهم المآزق التي واجهت مؤتمر الخالفة. وما كان على اللجنة أن تفعله ،وهي لم تفعله ،هو أن تخلص إلى االستنتاج اليسير الذي يقول بعدم إمكانية تعيين خليفة يحظى باعتراف المسلمين طالما أن الغرب قد سيطر على الحرمين وعلى الحج. وسيستمر الغرب في ممارسة هذه السيطرة السياسية ما دام الوهابيون مسيطرين على الحرمين .وبالتالي 27
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية فان الواجب الحتمي في تلك الساعة كان إيجاد الطرق والوسائل لمقارعة الدبلوماسية البريطانية في شبه الجزيرة وإنهاء السيطرة السعودية – البريطانية على الحرمين واستعادة السيطرة على الحرمين وعلى األمة. إن التقرير الذي قدمته اللجنة الثالثة قد ناشد المؤتمر أن ال تثبط عزيمته بسبب عدم النجاح في حل مشكلة الخالفة وفي تعيين خليفة جديد: "يكفي المؤتمر أن يعلم أنه قد قدم خدمة جليلة للمسلمين في تحديد الداء وتسمية الدواء لهم)97( ". وكان هذا الدواء متمثالً في التوصية التالية: " ...أن تتضافر الشعوب اإلسالمية على تنظيم عقد مؤتمرات بالتوالي في البالد اإلسالمية المختلفة لتبادل اآلراء بين أعضائها من وقت إلى آخر حتى يتيسر لهم مع الزمن تقرير أمر الخالفة على وجه يتفق مع مصلحة المسلمين )92( ".
قرارات المؤتمر إن المؤتمر قد أصابه الذعر بسبب التشاؤم الذي مأل تقرير اللجنة الثالثة .حتى إن الشيخ الظواهري أطلق عليه "تأبين اإلسالم" .أما الوفود التي قامت مسبقا ً بفتح المؤتمر للعموم وللصحافة فقد قرروا اآلن إخفاء فقرة من فقرات التقرير عن الصحافة )99( .أما الشيخ الظواهري ،والذي قاد المعارضة ضد تقرير اللجنة الثالثة ،فقد قدم مسودة قرار تبناه المؤتمر )91( .وقد أكد القرار على أن الخالفة يمكن تحقيقها. ويجب عقد مؤتمر آخر تكون فيه كل الشعوب اإلسالمية ممثلة بصورة كافية وسوف يتخذ ذلك المؤتمر اإلجراءات الالزمة لتأسيس الخالفة التي تتوفر فيها كل الشروط التي حددتها الشريعة .وباختصار ،فان مؤتمرا ً كهذا سوف ينتخب خليفة جديداً. وعلى هذه المالحظة المتفائلة اختتم المؤتمر .أما اللجنة الثالثة ،والتي رفضها المؤتمر ،فقد وجدت أن شكوكها قد تحققت في النهاية إذ إن المؤتمر المقترح ،والذي كان من المفترض أن ينتخب خليفة جديداً، لم ينعقد أصالً .وكان العالم اإلسالمي في الواقع داخالً في مرحلة ما بعد الخالفة من وجوده .والسبب الرئيسي لهذا كان الحكم السعودي – الوهابي على الحجاز والحرمين ،ومن ثم تأسيس الدولة القومية السعودية – الوهابية المتمثلة بالعربية السعودية كدولة عميلة للغرب الملحد. وحالما هدأت األوضاع المتعلقة بمبادرة األزهر في الرد على إلغاء الخالفة العثمانية ،كان من الواضح أن اإلستراتيجية العدائية لبريطانيا وصهاينة اليهود قد تمخضت عن إنجاز استثنائي ،أال وهو :إسالم ما بعد الخالفة!
28
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية
الفصل الرابع البديل السعودي – الوهابي المخادع للخالفة
مؤتمر العالم اإلسالمي في مكة في حزيران – تموز من عام 6291 إن مؤتمر العالم اإلسالمي ،والذي عقد في مكة في شهر تموز من عام ،6991قد بدأ نشأته في جزيرة العرب على أثر إلغاء الخالفة العثمانية وبالتحديد في بيت آل سعود الذي بسط نفوذه حديثا ً على الجزيرة. فقد استعاد عبد العزيز بن سعود أرض نجد بعد سلسلة صراعاته التي بدأت بسيطرته على الرياض عام .6919وإذ إن اللبنة السياسية لحكم آل سعود قد بنيت على األسس الدينية للحركة الوهابية فقد كان من المحتم لنجد الوهابية أن تتحدى الحجاز كلما سنحت الفرصة من أجل إخضاع قلب اإلسالم بالقوة لـ (المفهوم الوهابي) لإليمان الحقيقي. وقد الحت الفرصة حين انتزع الشريف حسين (شريف مكة الذي عينه العثمانيون) -والذي كان يعمل بانسجام مع إستراتيجية قوى الحلفاء في الحرب العالمية األولى -الحجاز من أيدي العثمانيين األتراك عام 6961وبسط عليها نفوذ البيت الهاشمي للحسين .وهو بفعله هذا قد منع الوهابيين من أداء الحج. وبصرف النظر عن الصراع العقائدي مع الوهابيين الذي استخدمه لتبرير هذا المنع ،فقد كان واعيا ً لحقيقة أن نجدا ً الوهابية تمثل أقوى تهديد لحكمه على الحجاز. وقد دخل كل من حسين وابن سعود في تحالف مع البريطانيين خالل الحرب ،لذا فلم يكن ابن سعود ليحاول أن يأخذ الحجاز ما دامت الحرب مستمرة .وحتى بعد انتهاء الحرب فقد كان من الحكمة أن يتريث ليرى ما هي الخطوات التي سيتخذها الخليفة في اسطنبول الستعادة السيطرة على الحجاز. وما كان إال أن ألغيت الخالفة حتى حان الوقت أخيرا ً ليتحرك ابن سعود ضد حسين .وكان حسين بالطبع مدركا ً تماما ً لذلك ،ولم يكن ثمة جدوى في محاولة حشد دعم العالم اإلسالمي ليقوي جانبه ضد ابن سعود فقد نادى بالخالفة لنفسه في 7آذار من عام ( 6991أي بعد مرور أربعة أيام على إلغاء الخالفة العثمانية). 29
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية لقد أصبحت سنة 6991أكثر سنة للحوادث في تاريخ اإلسالم .فقد رد ابن سعود على إعالن خالفة حسين بالهجوم على الحجاز .واحتلت القوات النجدية البن سعود مدينة الطائف في 1أيلول من عام 6991واحتلت مكة في 69كانون الثاني من عام 6991أما جدة فقد تم االستيالء عليها وذهب "الخليفة" و "ملك العرب" المنحوس إلى المنفى .ولم يكن من المفاجئ أن يجد أعيان مكة أن من المالئم أن ينادوا بابن سعود ملكا ً على الحجاز. وبدأت جزيرة العرب ،التي أضحت موحدة تحت الحكم السعودي – الوهابي ،وعلى الفور تقريبا ً في تأكيد دعواها في قيادة األمة ،وعرضت ،خالل هذه المسيرة ،طريقا ً بديالً للوحدة اإلسالمية سوى الخالفة ،أال وهو طريق التضامن اإلسالمي "اإلقليمي" داخل نظام للدول القومية اإلسالمية ذات السيادة. لقد كان جميع حكام الحجاز السعوديين – الوهابيين مدركين بشكل جيد أن العالم اإلسالمي لن يقبل قيادة وهابية .لذا فقد كانت الخالفة السعودية – الوهابية أمرا ً مستحيالً .ومن ناحية أخرى فإذا ما اجتمع المسلمون ونصبوا خليفة فان ذلك سيكون أمرا ً ينطوي على خطر فعلي كبير على الحكم السعودي – الوهابي على الحجاز .وقد ينتج عنه تكرر التجربة الكارثية التي حدثت قبل أكثر من قرن حينما تم طرد الوهابيين خارج الحجاز على يد جيش أرسل من مصر. ونتيجة للتهديد الوشيك الذي فرضه مؤتمر الخالفة المنعقد في القاهرة في شهر أيار من عام ،6991فقد بدأ السعوديون في البحث عن مؤسسة وميدان سياسي بديل للخالفة .وقد وجدوا ضالتهم في نظام الدول القومية اإلسالمية و نظام التضامن والتعاون اإلسالمي العالمي )96( .إن أسس النظام الجديد كانت قد وضعت مسبقاً ،وبشكل مالئم فعالً للسعوديين – الوهابيين ،مع تأسيس جمهورية تركيا على يد مصطفى كمال في مركز الخالفة نفسه. ولم يلقوا باالً لكون نظام الدول القومية -والذي كان االبتكار السياسي للغرب العلماني ،والذي شكل حجر األساس لنموذج المجتمع العلماني الجديد -متعارضا ً بشكل واضح مع األحكام الشرعية للنظام اإلسالمي العام .فما كان مهما ً بالنسبة لهم هو أن نظام الدول القومية اإلسالمي سيضع الحكم السعودي – الوهابي على الحجاز في موقع حصين من الناحية العملية .إن الدولة الوهابية التي رفعت أعظم االعتراضات على البدعة أصبحت اآلن ،بنفسها ،تقترح أعظم البدع على اإلطالق في تاريخ األمة ! وبناء على ذلك فإن اإلستراتيجية السعودية – الوهابية تمثلت بتنظيم مؤتمر منافس لمؤتمر الخالفة الذي عقد في حزيران من عام .6991وقد أطلقوا على مؤتمرهم اسم (مؤتمر العالم اإلسالمي) وعقدوه في مكة في شهر تموز من عام 6991في موسم الحج .وبالنظر إلى طبيعة وسائل النقل المتوفرة في عام 6991فقد كان من الصعوبة بمكان على الوفود أن يحضروا المؤتمرين كليهما .وهكذا كان السعوديون يقومون بمبادرة سياسية محسوبة وماكرة ترغم العالم اإلسالمي على اختيار حضور أحد المؤتمرين فقط. لقد كان الغرض الوحيد للمؤتمر الذي أشرف عليه السعوديون هو تعليق النظام اإلسالمي العام التقليدي وإدخال نظام الدول القومية اإلسالمية .ففي هيكلية النظام اإلقليمي اإلسالمي الجديد سيسعى السعوديون – الوهابيون إلى كسب االعتراف بحكمهم على الحجاز. إال إن األعمال التحضيرية للمؤتمر أظهرت أن القائد السعودي قد أبرز نفسه بمكر لجميع المدعوين على أنه "بطل" اإلسالم وتعهد باستعادة اإلسالم األصلي إلى جزيرة العرب. 30
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية لقد كان الوهابيون ،كما الحظنا مسبقاً ،يدركون أن العالم اإلسالمي لن يقبل بخليفة وهابي .ولكن قبل ذلك بزمن طويل كان محمد بن عبد الوهاب نفسه قد تأثر بآراء ذلك المفكر اإلسالمي الحاذق اإلمام بن تيمية. وكانت وجهة نظرهم تتمثل في إن الخالفة األصلية ،وبسبب أنها لم تؤسس بشكل صحيح ،قد عملت كأداة لتفريق األمة .وبنا ًء على ذلك ،فال يمكن أن تكون الخالفة رمز وأساس وحدة األمة .فهذا الدور ال بد أن يعطى للشريعة. ولذلك ،فقد بدا من الطبيعي أن تبقى نجد والحجاز الوهابيتان بمعزل عن مؤتمر الخالفة في القاهرة. وبسبب المكانة اإلستراتيجية التي احتلتها نجد والحجاز من حيث سيطرتها التي اكتسبتها حديثا ً على قلب اإلسالم ،فقد كان من المتوقع أن تنتهز القيادة السعودية – الوهابية الفرصة التي توفرت بسبب إلغاء الخالفة العثمانية وهزيمة الخالفة الشريفية قصيرة األمد ،ليقودوا األمة قدما ً في مسيرة جديدة للوحدة. ()99 إن حقيقة التاريخ الذي حدده ابن سعود لعقد مؤتمر العالم اإلسالمي في حزيران – تموز من عام 6991 (أي بعد شهر واحد من عقد مؤتمر الخالفة في القاهرة) كان يعني بوضوح أن هذا المؤتمر قد نُظم ليكون بديالً لمؤتمر الخالفة. وعالوة على ذلك فقد كان هناك سبب آخر لقرار عقد مؤتمر العالم اإلسالمي في مكة .فقد أراد ابن سعود اعترافا ً إسالميا عالميا ً بسلطته على األرض المقدسة .وكان هذا أمرا ً بالغ األهمية بالنسبة للوهابيين إذ كانت هنالك اختالفات دينية كبيرة بينهم وبين بقية العالم اإلسالمي .وكان أحد هذه االختالفات حقيقة أن الوهابيين قد اتبعوا المذهب الحنبلي في الفقه وكانوا أقلية صغيرة في عالم إسالمي هيمن عليه أتباع المذهب الحنفي والشافعي والمالكي)99( . وعندما كسب الوهابيون في القرن الثامن عشر سيطرة قصيرة األمد على األرض المقدسة ارتكبوا – بتعصبهم األعمى – حمامات دم شنيعة .وكان هنالك غضب وكراهية لهم منتشرة بشكل واسع في العالم اإلسالمي وتمكن جيش مصري أُرسل إلى الحجاز من هزيمتهم وطردهم إلى الصحراء .لذا فقد أراد الوهابيون في المرة الثانية ضمان أن العالم اإلسالمي سيعترف بحكمهم على األرض المقدسة)91( . وكان هذا هو الهدف األساسي الثاني من وراء عقد مؤتمر العالم اإلسالمي.
وفود المؤتمر إن مؤتمر العالم اإلسالمي الذي عقد في مكة في شهر حزيران من عام 6991كثمرة لجهود ابن سعود قد لقي ترحيبا ً كبيرا ً لكونه أول اجتماع من نوعه في تاريخ اإلسالم .حتى إن ابن سعود نفسه أشار إلى ذلك في خطبته االفتتاحية قائالً: "لعل اجتماعكم هذا ،في شكله وموضوعه ،أول اجتماع في تاريخ اإلسالم)55( ". وقد كان المقصود من المؤتمر منذ البداية أن يكون منظمة دائمية: "ونسأله تعالى أن يكون هذا المؤتمر سنة حسنة ،تتكرر في كل عام (في موسم الحج))53( ".
31
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية وخالفا ً لمؤتمر الخالفة في القاهرة فان مؤتمر مكة قد استقطب تجمعا ً تمثيليا ً إضافة إلى التمثيل عالي المستوى .فقد كانت كل المجتمعات اإلسالمية المهمة وكل الدول اإلسالمية المستقلة ممثلة (ما عدا إيران) .فمن شبه القارة اآلسيوية الجنوبية جاء ممثلون على أعلى مستوى عن كل المنظمات اإلسالمية المهمة .فعلى سبيل المثال ترأس السيد سليمان الندوي الوفد الممثل لجمعية الخالفة الهندية )53( .أما أعضاء الوفد الثالثة اآلخرين فقد كانوا المال محمد علي جوهر وأخاه المال شوكت علي وصهره شعيب قرشي .وكان ثمة وفد ترأسه السيد محمد كفاية هللا يمثل جمعية العلماء الهندية ووفد آخر ترأسه الشيخ ثناء هللا يمثل جمعية أهل الحديث الهندية. وترأس مفتي فلسطين العام السيد أمين الحسيني وفد فلسطين ،وترأس اللواء غالم جيالني خان وفد األفغان وترأس أديب سارويت الوفد التركي وترأس الشيخ الظواهري الوفد المصري وترأس رياض الدين فخر الدين وفد مسلمي روسيا .وكان بمرافقة فخر الدين على ذلك الوفد وفود من أوفا وأستراكان وكريميا وسيبيريا وتركستان .وجاءت وفود أيضا ً من جاوة وسوريا والسودان ونجد والحجاز واليمن ...الخ. وقد د ُعي بعض األفراد بصورة خاصة إلى المؤتمر .وكان من بينهم الشيخ رشيد رضا العالم السوري الشهير الذي كان تلميذا ً للشيخ محمد عبده وسردار إقبال علي شاه العالم األفغاني المستقر في لندن الذي كتب سلسلة من المقاالت عن المؤتمر لتنشر في بريطانيا )53( .وكان الغائبون المهمون عن المؤتمر هم إيران والصين والحركة السنوسية في ليبيا وبقية دول المغرب. وقد اختلف تكوين مؤتمري القاهرة ومكة في أمر مهم آخر .ففي الوقت الذي لم تكن أي من الوفود التي حضرت مؤتمر القاهرة رسمية ،بل كانت جميعها مشاركة بصفتها الشخصية ،لم يكن األمر كذلك في مؤتمر مكة .فبالنسبة لهذا األخير أرسلت الدول والمنظمات اإلسالمية وفودا ً رسمية ،وهي بفعلها هذا قد أعطت أفضلية الجتماع مكة وللمسيرة الجديدة للوحدة .وهنا يكمن تفسير سهل ولكنه أساسي لمنظمة العالم اإلسالمي المعاصر كنظام للدول القومية ،بمعنى :إن الجماهير اإلسالمية مالت إليه من دون تمحيص لسببين: الوضع القاتم الذي كان يواجه العالم اإلسالمي آنذاك، ألن العلماء لم يستطيعوا أن يوضحوا بصورة فاعلة أسس النظام اإلسالمي العام (دار اإلسالم) فضالً عن المفهوم اإلسالمي للنظام العالمي الذي تقام فيه دار اإلسالم.
الملك عبدالعزيز والمؤتمر لقد تسلم المؤتمر رسالتين من الملك عبد العزيز بن سعود .وفي الرسالة األولى ،والتي كانت الخطبة االفتتاحية للمؤتمر ،أشار الملك إلى التاريخ المؤسف للحجاز انتها ًء بطغيان حسين الذي كان من بين خطاياه أن وضع الحجاز تحت "النفوذ األجنبي الكافر" )53( .وبما أنه أمر قد حرمه النبي ،فقد أُعطي النجديون مبررا ً لغزو الحجاز .ونتيجة لذلك الغزو ،وهو أمر كان الملك مسرورا ً ليبينه ،لم يكن ثمة أمان في الحجاز .وقد د ُعي المؤتمر لعقد جلساته في ذلك الجو من األمن والحرية الكاملة .والتحفظ الوحيد في المؤتمر كان التحفظ حيال الشريعة اإلسالمية و "عدم التدخل في السياسات العالمية أو في الخالفات التي تفصل مسلمين معينين عن حكوماتهم )04( ".ومع هذا فلم يكن ابن سعود صادقا ً في خطابه االفتتاحي ما دام مذنبا ً حاله حال حسين في تواطئه في مساندة التغلغل البريطاني في شبه الجزيرة. 32
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية ويالحظ على خطاب الملك أمران .األول إن القيادة الوهابية كانت تبرز أفضل وجوهها لتتملق دعم المؤتمر ،ومن ثم الحصول على "األمن" و "الحرية الكاملة" الموعودة .ولكن األمر الثاني – وهو األهم هو إن منع الكالم عن السياسات العالمية في مناقشات المؤتمر أوحتى بوضوح أن أمن الدولة السعودية– الوهابية والمحافظة على عالقاتها مع حلفائها (وعلى الخصوص بريطانيا) كان لهما األولوية على اآلراء المعتبرة لألمة حتى حينما تطرح تلك اآلراء خالل عملية الشورى في مؤتمر إسالمي "غير مسبوق" في تاريخ اإلسالم. وقد عهد الملك إلى المؤتمر بالمهمة "اآلمنة" التي تمثلت في "النظر في الطرق والوسائل الضرورية لجعل األماكن المقدسة أفضل مراكز الثقافة والتعليم اإلسالمي ،وأحسن المناطق من حيث الرفاهية والصحة ،ولجعلها الدولة اإلسالمية األكثر بروزا ً بسبب اهتمامها الخاص باإلسالم)04( ". لقد كان من الواضح جدا ً في هذا الخطاب أن الملك كان يحاول أن يدس في المؤتمر تفريقا ً مصطنعا ً بين "الدين" و "السياسة" ،و نظرية جديدة تعطي انطباعا ً عن إن الموضوع الذي يستحق دراسة المؤتمر اإلسالمي كان موضوع "الدين" و "الشؤون الدينية" .وكان هذا في الواقع بدعة ذات طبيعة مقيتة بالفعل نظرا ً لكونها في تعارض واضح مع التعاليم القرآنية والسنة النبوية والقواعد األساسية للتراث اإلسالمي. وكان الملك في الحقيقة يحاول تحويل (اإلسالم) الذي كان (الدين) إلى (ديانة) بالمعنى الضيق والمشوه الذي كان يستخدم في الحضارة الغربية العلمانية. وفي الثاني من تموز من عام 4393وبمناسبة الجلسة 45بكامل األعضاء ،وجه الملك رسالة ثانية للمؤتمر ،سعى من خاللها إلى تحقيق أحد األهداف الرئيسية للمبادرة الوهابية ،وهو الحصول على االعتراف والقبول اإلسالمي العالمي بالسيطرة السعودية – الوهابية على الحجاز. وقد أسهب الملك في شرح سياسته على الحجاز كما يلي: -4 -9 -5 -0
"نحن ال نسمح بأي تدخل أجنبي في هذه البالد المقدسة مهما كانت طبيعة هذا التدخل. "نحن ال نسمح بأي امتيازات تكون ممنوحة للبعض وممنوعة عن اآلخرين ،فأي شيء يحصل في هذه البالد ال بد أن يكون متوافقا ً مع الشريعة. "البد أن يكون للحجاز نظام حكم محايد خاص .ويجب أال يشن حربا ً وال يُعتدى عليه ،وعلى جميع الدول اإلسالمية المستقلة أن تضمن هذه الحيادية. "هنالك حاجة للنظر في مسألة المساعدات المالية التي ترد "إلى الحجاز" من العديد من الدول اإلسالمية ،وفي طريقة توزيعها و (الحاجة إلى ضمان) استفادة األماكن المقدسة منها)09( ".
وما كان يحاول الملك أن يفعله في خطابه هذا لم يكن سوى عرض لنظرية إسالمية سياسية جديدة .وبدا وكأن السعوديين – الوهابيين كانوا مقتنعين بأنهم هم المسلمون الوحيدون ،ومن ثم فان الحجاز ونجد، والتي كانت تحت سيطرتهم ،كانت دار اإلسالم الحقيقية .لذا فان كل األراضي خارج نجد والحجاز (أو العربية السعودية المعاصرة) كانت "أجنبية" .وعندما تكلم الملك عن الحاجة إلى منع أي تدخل "أجنبي" في الحجاز ،فانه كان يشير بوجه خاص إلى صورة ذلك التدخل الذي طرد الوهابيين من الحجاز قبل أكثر من قرن من الزمن .وفي إشارته إلى أن العالم اإلسالمي برمته يعد "أجنبياً" ،فان الملك كان قريبا ً جدا ً من ارتكاب عمل (كفري).
33
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية وكانت النقطة الثانية بالطبع مثيرة لإلعجاب ،أال وهي تطبيق أوامر الشريعة من دون تمييز بين أحد. ولكن النقطة الثانية لم تكن متوافقة مع النقطة األولى .فالعالم اإلسالمي قد أُعطي منزلة "األجانب" الذين لن يكونوا بالطبع مؤهلين لكل االمتيازات المفتوحة للسعوديين – الوهابيين .فاألجانب ،على سبيل المثال ،ال بد لهم من الحصول على تأشيرة لدخول الحجاز حتى ولو كانوا يؤدون فريضة الحج .أما السعوديون – الوهابيون فلن يحتاجوا إلى التأشيرة ما داموا مواطنين لدولة العربية السعودية المولودة حديثا ً ولذلك فان الحجاز ملك لهم .والمسلمون غير السعوديون قد يتعرضون للسجن اآلن إذا ما امتدت فترة بقائهم في الحجاز بعد انتهاء زمن تأشيرتهم ،ألنهم اآلن أجانب والحجاز ،الذي لم يعد دار اإلسالم، ليس ملكا ً لهم .ويستطيع السعوديون – الوهابيون البقاء ما شاءوا في الحجاز ما دام الحجاز اآلن ملكا ً لهم. إن بن سعود في الحقيقة قد فكك دار اإلسالم التي بناها النبي بنفسه وصحابته في الحجاز ،وجرد العالم اإلسالمي من ملكيته لقلب اإلسالم ،وأهان المسلمين ،وقُدر له أن يجد طريقة للهروب بهذا التصرف المتهور ألكثر من ستة عقود. وقد كانت النقطة الثالثة في خطاب بن سعود جديرة بالمالحظة نوعا ً ما .ولم يكن ثمة أدنى شك في كون التعبير بدعة واضحة .فليس هناك ال في القرآن وال في سنة النبي وال في التراث اإلسالمي بأسره مفهوم "حيادية" الحجاز .إن القول بأن الحجاز ال يجب أن يقوم بالحرب هو بالتأكيد مساو لعزل قلب اإلسالم عن الجهاد ،وبالتالي يكون متعارضا ً بصورة واضحة مع صريح القرآن .وكان بن سعود هنا مرة أخرى يمشي في طريق الكفار. وفي ما يتعلق بطلب بن سعود أن على جميع الدول اإلسالمية المستقلة أن تعترف بـ "حيادية" نظام حكمه ،فقد كان جليا ً أن ذلك الطلب كان بالكاد محاولة متنكرة لكسب اعتراف العالم اإلسالمي بالسيطرة السعودية – الوهابية على الحجاز. وقد رد المؤتمر على خطاب بن سعود باالستغالل الذكي للحرية التي منحها بن سعود .فقد تكلم الوفود بحرية وصراحة ولم يكن ثمة شيء ،حسبما بينت قراءة التقرير النهائي للمؤتمر ،يشير إلى أمر مدبر من النظام .وبالتأكيد فان وفود الحجاز قد وجدت نفسها في بعض األحيان مهزومة)05( . وقد بقي المؤتمر بصورة عامة ضمن الحدود التي فرضت عليه بعدم الخوض في السياسات العالمية .لذا فان مسألة الخالفة لم تناقش أبداً .وكان هذا نصرا ً كبيرا ً لمنهج وحدة المسلمين الجديد .وعلى الرغم من ذلك فان المؤتمر تدخل في السياسة حينما أقر قرارا ً ( )00يطالب بعودة معن والعقبة إلى السيطرة الحجازية حيث إن ضم بريطانيا هذه األراضي إلى إمارة شرق األردن (والتي كانت تحت االنتداب البريطاني) يتعارض مع ما ادعاه رشيد رضا في إن النبي قد أمر أن تكون جزيرة العرب خالية من أي نفوذ غير إسالمي)05( . وحينما أدخل ابن سعود السياسات الدولية بنفسه إلى المؤتمر مع عرض سياساته على الحجاز ،ناقش المؤتمر القضية بشكل مطول ثم أظهر حكمته وأمانته وإخالصه لإلسالم الحقيقي برفضه االعتراف الذي كان الملك يسعى إليه .وقرر المؤتمر ببساطة أن "يسجل" تصريح الملك .وربما كان هذا هو القرار األهم الذي تتخذه هيئة تمثيلية لألمة خالل الستين سنة الماضية.
34
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية وكان ذلك بكل تأكيد ضربة مريرة البن سعود والذي نتج عنه بقاء المؤتمر خامالً للعشرين سنة القادمة وما كان لينعقد ثانية في مكة برغم إن االتفاق كان أن ينعقد المؤتمر سنويا ً هناك في موسم الحج. ومع ذلك فقد وجد المؤتمر ،فيما يتعلق بالمشكلة األخرى ،أن من الحصافة أن يرضخ لرغبات مضيفه. فقد لفت ابن سعود انتباه المؤتمر ،بصفته أحد رؤوس الدولة المسلمين ،إلى إنه على الرغم من كون جميع المسلمين أحرارا ً في ممارسة العبادة في األرض المقدسة حسب أحكام مدارسهم الفقهية الخاصة، إال إن اإلدارة الوهابية لن تتسامح مع أي تصرف يتعارض مع الشريعة .وقد أثارت هذه القضية أحد أسخن الحوارات في المؤتمر .إال إن الشيخ الظواهري أنقذ الموقف بتقديمه مسودة قرار تسوية يلتزم بحريات طقوس العبادة الملحة ،إال إنه لم يدخل في النطاق الخالفي المتمثل بإعادة بناء قبور صحابة النبي التي دمرها الوهابيون ..الخ. لقد ضربت هذه القضية الوهابيين في الصميم وعلى الرغم من إنها لم يتح لها المجال لتتطور وتصبح أزمة ،إال إن الوفود مع ما كانت تبديه من أعلى درجات التعقل في عدم الضغط الشديد على ابن سعود لم يمنع الموفدين الهنود من مغادرة المؤتمر بمشاعر مريرة .وهذا يبين لنا ،جزئيا ً ،سبب عدم انعقاد المؤتمر في مكة مرة أخرى ،رغم االتفاق على ذلك مسبقاً. وفي الحقيقة كان القائد الهندي المسلم المال شوكت علي ،هو الذي لعب الدور األهم في تنظيم المؤتمر الثالث اإلسالمي العام في عام 4354بعد المؤتمرين عام .4393ولم يبد أي تردد من أي نوع في تجنب مكة والقبول بالقدس كمكان النعقاده. وكانت بعض منجزات مؤتمر مكة وأكثرها فائدة تتعلق بتحسين ظروف الحج من طرق النقل (وعلى الخصوص سكة حديد الحجاز) والمؤسسات الصحية وتوفر الطعام والشراب والحماية من االستغالل .. الخ .فقد كانت تلك أمورا ً تؤثر على الحجاج كل سنة وقد تداول المؤتمر في هذه األمور بشكل مطول وتبنى الكثير من القرارات المفيدة.
35
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية
الفصل الخامس العالم اإلسالمي القديم – محاولة أخيرة للنهضة المؤتمر اإلسالمي العام في القدس في كانون األول من عام 1391 على مر خمس سنوات طوال بعد مؤتمري عام ،4393لم يكن ثمة محاولة جماعية بارزة من العالم اإلسالمي للرد على انهيار الخالفة أو على التغيرات الجسيمة والخطيرة التي كانت تعصف بذلك العالم. وقد كان آخر أمل لدار اإلسالم المشرفة على الهالك هو المؤتمر اإلسالمي العام الذي عقد في القدس في كانون األول من عام 4354نتيجة لجهود هندية – فلسطينية )03( .وقد كان يحمل في كنفه الرغبة العارمة في استرجاع بعض مظاهر الشرف للنظام القديم المنهار الذي خلفه النبي .ولكنه لم يفلح في تحقيق أي شيء .فقد بدا إنه قد ولد ميتاً ،مثله مثل مؤتمر القاهرة ومؤتمر مكة. أما بالنسبة للمفتي العام للقدس ،الحاج أمين الحسيني ،فقد كان التغلغل الصهيوني الخطير في فلسطين المسلمة ما بين عام 4393و 4354يشكل تهديدا ً على اإلسالم .وهذا التهديد ال يمكن أن يجابه إال بالعالم اإلسالمي الموحد .وقد كانت درجة البساطة والسذاجة والبراءة التي تحلى بها الفكر اإلسالمي المعاصر آنذاك تمكنّه أن يدعي أن مؤتمرا ً إسالميا ً آخر يعقد في القدس ،التي تحتلها بريطانيا ،سيكون الطريق األمثل لمواجهة التحدي .وال بد من إن صالح الدين األيوبي قد تلوى في قبره بسبب ذلك .ويبدو برغم كل شيء إن عالم المعرفة اإلسالمية قد غاب عن نظره العالقة الوطيدة التي أسسها القرآن بين "القوة" و "الحرية" و "اإليمان". وفي شهر آب من عام 6999كان هنالك أعمال شغب بين المسلمين واليهود بخصوص حائط المبكى في القدس .وقد أرسلت عصبة األمم لجنة للتحقيق في األمر ،وكانت النتائج التي توصلت إليها اللجنة هي إن المسلمين لديهم "حق الملكية" لحائط المبكى ولكن اليهود لديهم "حق العبادة" أمامه .ولم يكن هذا التقرير سارا ً ال للمسلمين وال لليهود و كان يمكن القول بأنه أدى بصورة غير مباشرة إلى المناداة بعقد مؤتمر إسالمي. وفي بدايات عام 6996وبمناسبة دفن جثمان القائد الهندي المسلم المال محمد علي جوهر ( )17في باحة الحرم الشريف في القدس ،تم التوصل إلى اتفاقية بين أخيه المال شوكت علي وبين الحاج أمين الحسيني عن الحاجة لعقد مؤتمر. 36
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية وتم اإلعالن الرسمي عن اتفاقية عقد المؤتمر وعن تحديد تاريخ انعقاده في 1أيلول من عام 6996على لسان المال شوكت علي في خطابه الذي ألقاه بعد صالة الظهر في المسجد األقصى في القدس .ويمكن أن يقال اآلن إن المسلمين الهنود قد نالوا مكانة وقيادة ذات أهمية فريدة واستثنائية في العالم اإلسالمي.
تاريخ ومكان االنعقاد لقد عقد المؤتمر اإلسالمي العام في القدس من السادس إلى السادس عشر من كانون األول من عام .6996وكان ذلك التاريخ يوافق السابع والعشرين من رجب إلى السابع من شعبان في التقويم الهجري. ولعلنا نالحظ من دون تردد أن اإلشارة إلى التقويم الهجري تعد أمرا ً مهما ً شأنها شأن اختيار المسجد األقصى كمكان النعقاد الجلسة االفتتاحية للمؤتمر في السابع والعشرين من رجب)12( . واآلن ،وفي الوقت الذي انعقد مؤتمر الخالفة في مصر المستقلة اسمياً ،والتي كانت ضمن دائرة النفوذ البريطاني ،وانعقد مؤتمر العالم اإلسالمي في الحجاز المستقل اسمياً ،والذي كان أيضا ً تحت دائرة النفوذ البريطاني وبقوة ،فان مؤتمر األقصى اإلسالمي كان سيعقد في منطقة تقع تحت حكم االنتداب البريطاني المباشر .ولم يكن للقدس حتى "ورقة التوت" لتخفي واقعها كأرض محتلة .حتى إن البعض سيدعي إن المناطق المحتلة ستكون واقعة تحت مسمى "دار الحرب" ! ولعله كان المشهد األغرب على اإلطالق أن يجتمع العالم اإلسالمي في مؤتمر إسالمي عالمي على أرض محتلة لدراسة استرجاع النظام العام للشريعة .وفي هذا الصدد فقد كان المؤتمر اإلسالمي العام في القدس فريدا ً من نوعه واألول من نوعه في التاريخ اإلسالمي برمته .وهذا في الحقيقة قد عكس الوضع المحزن الذي صار إليه العالم اإلسالمي .ولعل الحكومة البريطانية قد صعقت بكل هذا التغير .وبقدر ما يتعلق األمر بالبريطانيين فان العالم اإلسالمي سيعمد إلى إعالن ضعفه أمام الناس .حتى إن الحكومة البريطانية المبتهجة لم تكلف نفسها سوى باإليعاز إلى مندوبها السامي أن يحذر الحاج أمين الحسيني بأن الحكومة لن تسمح بانعقاد أي مؤتمر قد يتناول قضايا من شأنها أن تؤثر على الشؤون الداخلية والخارجية للقوى الصديقة)19( . ومن ناحية أخرى ،فان الصحافة الصهيونية أعربت عن بالغ قلقها إزاء الدعوة إلى المؤتمر ،متهمة الحكومة البريطانية بالسماح بانعقاد المؤتمر ألنها "تريد المؤتمر بالفعل ،ال بل إنها حثت عليه من أجل إرضاء مسلمي فلسطين والهند ومن أجل مقارعة الحركة الصهيونية)11( ". وعلى المرء أيضا ً أن يأخذ بالحسبان الشعور القوي جدا ً الذي عبر عنه الكثيرون من أن المؤتمر سيعيد تنصيب عبد المجيد كخليفة على عرشه في القدس .إن مثل هذا التصرف قد يكون له أثر في زعزعة نظام أنكورا (أنقرة اآلن) ،فضالً عن إن وجود خليفة في القدس يكون تابعا ً للنفوذ البريطاني سيكون أيضا ً أمرا ً ترحب به بريطانيا العظمى وقد تستغله للحصول على أقصى المصالح)16( .
الوفود لقد انعقد المؤتمر في جو خال نوعا ً ما من أية قيود ،وباستثناء طرد الموفد المصري ،عبد الرحمن عزام ،بسبب انتقاده الالذع للسياسة االيطالية في ليبيا ،فان السلطات البريطانية في فلسطين لم تتدخل بأي شكل من األشكال بالمؤتمر ولم تفرض أي قيود على الحضور. 37
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية وقد جاءت وفود المؤتمر من إيران (بعض علماء الشيعة) والهند (وكان من بين وفودها العالم والمفكر اإلسالمي العظيم الدكتور محمد إقبال) ويوغوسالفيا ومراكش والجزائر وتونس وليبيا وسوريا ونايجيريا .وعلى الرغم من إن الحكومة المصرية قررت أخيرا ً عدم إرسال أي وفد رسمي ،فقد كانت هنالك وفود مصرية حاضرة لدعم الملك .وكان هنالك وفد يمثل حزب الوفد المصري يعارض تلك الوفود .وكان هنالك أيضا ً تمثيل لعدة حركات إسالمية أخرى في مصر. كما وأرسلت حكومات كل من العراق وإمارة شرق األردن وفودا ً رسمية .أما العاهل السعودي ،عبد العزيز ابن سعود ،فقد كان متذبذبا ً في موقفه تجاه المؤتمر ولكنه قام أخيرا ً وبدهاء بإرسال ممثل لم يفلح في الوصول إلى القدس في الوقت المناسب ليشارك في المؤتمر .وقد رفضت تركيا وأفغانستان المشاركة في المؤتمر .ومقارنة بمؤتمر مكة في شهر تموز من عام ،6991فقد كان هنالك تدني حاد في عدد الوفود الحكومية الرسمية المشاركة في مؤتمر القدس.
عمل المؤتمر إثر االفتتاح الرسمي للمؤتمر في المسجد األقصى بعد صالة المغرب في 1كانون األول ( 97رجب)، ( )19شكلت ثمان لجان لدراسة وتقرير األمور التالية:
النظام الداخلي للمؤتمر منشورات وإصدارات المؤتمر التمويل والتنظيم ثقافة المسلم وجامعة األقصى اإلسالمية المقترحة سكة حديد الحجاز األماكن المقدسة وحائط المبكى المنشورات والتوجيهات اإلسالمية المقترحات المطروحة أمام المؤتمر
وقد تبنى مؤتمر القدس ،شأنه شأن مؤتمر مكة عام ،6991الئحة أو نظاما ً داخلياً .وقد دعا نظام مؤتمر مكة إلى االجتماعات السنوية في مكة .أما نظام مؤتمر القدس فقد دعا إلى اجتماعات نصف سنوية في القدس .وتم أيضا ً تأسيس سكرتارية صغيرة في القدس (تماما ً كما حدث في مكة) .وقد استمرت سكرتارية القدس بالعمل لسنوات قليلة ولكن المؤتمر نفسه لم يجتمع مجددا ً أبداً)19( . وقد قرر المؤتمر إنشاء جامعة إسالمية في القدس .وقد اتخذ القرار على الرغم من الغيرة الكبيرة التي أثيرت من جامعة األزهر والتي لم ترحب بإنشاء منافس لمركزها الفريد في عالم التعليم اإلسالمي. ()11 إال إن األمر األهم الذي لفت انتباه المؤتمر كان ،ومن دون شك ،التهديد الصهيوني لفلسطين .وقد كان سلوك المؤتمر وتحركه تجاه هذا الموضوع المتقلب موضوعيا ً وواسع األفق بشكل مدهش .وقد دعي ورفضت رئيس الوكالة اليهودية سوكولو ،لحضور المؤتمر لغرض توضيح وجهة النظر الصهيونيةُ . الدعوة التي وجهها شوكت علي .وبدورها سخرت الصهيونية المسلحة في الصحافة الصهيونية من المؤتمر واستخفت به)11( . 38
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية وكان ثمة قسم آخر من الصهاينة ،أكثر مسالمة من المجموعة األولى ،وهم الذين أسسوا الجامعة اليهودية .فهؤالء تكلموا باحترام أكبر عن المؤتمر على الرغم من إنهم انتقدوا بريطانيا بشدة أيضاً، شأنهم شأن الصهاينة اآلخرين ،لسماحها للمؤتمر أن يناقش السياسة البريطانية في فلسطين)11( . أما اليهود التقليديون القدماء في القدس ،الذين عملوا بشكل منفصل نوعا ً ما عن الصهاينة ،فقد رحبوا بالمؤتمر في البداية وتمنوا له كل النجاح .وقد بينوا إن اليهود ال يريدون األماكن المقدسة ولم يكن لهم أي حق فيها ،ولكنهم ناشدوا المؤتمر أال يعارض طقوس العبادة اليهودية في الصالة عند حائط المبكى. ()17 وكان ما فعله المؤتمر العكس بالضبط ! فقد رفض تقرير لجنة حائط المبكى التابعة لعصبة األمم الذي (أكد حيازة المسلمين لحائط المبكى وأيد حق اليهود في الصالة عنده) )12( .إن المؤتمر بفعله هذا قد أبعد عنه دعم اليهود التقليديين وأضعف قوتهم (أي اليهود) في صراعهم ضد الصهاينة)19( . وقد احتج المؤتمر لدى عصبة األمم ضد انتهاك الحقوق مذ ّكرا ً إياها بالمساعدة التي قدمها العرب للحلفاء في الحرب العالمية األولى .وقد حذر المؤتمر من إن "االنتداب" ال يعني استعباد العرب واغتصاب حقوقهم .ولم يرفض مبدأ هجرة اليهود إلى فلسطين و ال شراء األراضي والممتلكات .وبهذا فان المؤتمر قد اعترف ضمنا ً بحق اليهود في الدخول إلى فلسطين والعيش فيها وفي حق التملك هناك .وعلى الرغم من ذلك ،وفي سياق الخطة اليهودية في إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين ،فقد استجاب المؤتمر باقتراح إنشاء مصرف زراعي وظيفته تحويل الدعم المالي للفالحين والمزارعين المالكين لألرض من أجل تقوية المقاومة ضد الجهود الصهيونية الرامية إلى شراء أراضيهم. إن رد المؤتمر على التهديد الصهيوني قد يوصف بكونه معتدالً ،األمر الذي تناقض بشدة مع الرد القومي العربي .فالمؤتمر قاوم بكل تأكيد ضغط القوميين العرب الرامي إلى تبني موقف مسلح أكثر .وقد التقى القوميون العرب في أثناء المؤتمر بصورة منفصلة وقاموا بصياغة "ميثاق عربي" ،وهو الرد الذي توقعته القومية اليهودية )11( .فقد كانت إحداها ،بالتأكيد ،ندا ً لألخرى)16( . ومع هذا فان المؤتمر لم يفلح في إدراك إن الرد اإلسالمي الديني كان ينبغي أن يتضمن إستراتيجية فعالة لبناء جبهة دينية مشتركة مع هؤالء اليهود الذين عارضوا الصهيونية والذين كانوا ودودين تجاه المسلمين )19( .وعلى الرغم من إن القرآن قد حرم تأسيس مثل هذه العالقات مع اليهود (وغيرهم من غير المسلمين) بشكل يجعل المسلمين في وضع التبعية والخضوع ،إال إنه لم يحرم إنشاء تحالف أو جبهة مشتركة ال تبعية فيها)19( . وما كان مخيبا ً لآلمال على وجه الخصوص هو فشل المؤتمر ،المقام على تلك األرض المقدسة ،في القيام بتقييم واقعي للواقع الكئيب الذي كان يواجه العالم اإلسالمي آنذاك ،وفي صياغة إستراتيجية محكمة وذكية وطويلة األمد بصورة شجاعة وخالقة إلرجاع القوة لألمة. وفي خضم كل النقاشات السياسية المثيرة والساخنة للمؤتمر ،كان هنالك صوت واحد يمثل صوت الدولة والحكمة .فقد كانت لدى الدكتور محمد إقبال رؤية جعلته يطلق تحذيرا ً مفاده إن أسوأ األخطار التي تواجه اإلسالم لم تكن التخطيطات الصهيونية الشنيعة وال جشع القوى االمبريالية ولكنها كانت المادية اإللحادية والوطنية القطرية .وما لم تقاوم هذه األخطار فان اإلسالم سيبدأ في االضمحالل. 39
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية ومع إن إقبال كان فعالً يمتلك القدرة على رؤية األخطار الفلسفية الجسيمة ،كالمادية ،التي تقبع أمام الحضارة اإلسالمية ،فيبدو إنه ل ّما يكن قادرا ً على إعادة صياغة مفهوم النظام اإلسالمي العام (دار اإلسالم) والمفهوم اإلسالمي للنظام العالمي من الناحية النظرية ،ومن ثم التكلم عنها بطريقة تبين وبشكل مقنع تفوقها على منافستها العلمانية التي كانت تتحداها اآلن .بل إن حقيقة األمر هي إن إقبال لم يكن يعلم ما هي الخطوات التي يجب اتخاذها في عام 6996الستعادة قوة األمة !
نشاطات ما بعد المؤتمر لقد انتخب المؤتمر لجنة تنفيذية ( )11عملت بدأب لمدة سنة واحدة .وشُ ّكلت فروع للمنظمة في بلدان مختلفة والتقى ممثلو هذه الفروع في القدس في شهر آب من عام 6999لمناقشة الطرق والوسائل لجمع األموال .وفي عام 6999قام أمين الحسيني والتباح باشا بجولة في العراق والهند من اجل جمع األموال. ولم يفلحوا في ذلك ،وبالتالي لم تؤسس الجامعة وال المصرف الزراعي (لمساعدة المزارعين). أما االجتماع الثاني للمؤتمر والذي كان من المقرر ،حسب النظام الداخلي ،أن يجري في تشرين الثاني من عام 6999فانه لم ينعقد .وباستثناء النشاط الفجائي للجنة التنفيذية في "تسوية النزاع" في عام 6991 ( )11والنهضة قصيرة العمر في الخمسينات ،فان المؤتمر اإلسالمي العام في القدس مات أيضا ً ميتة طبيعية. وقد استمرت السكرتارية التي أسسها المؤتمر في العمل في القدس حتى الحرب العالمية الثانية .وعلى الرغم من ذلك فهي لم تستطع الصمود في ظروف الحرب الوخيمة وفي ظل المواجهة المباشرة بين فر الحاج أمين إلى مصر إبان الحرب. الحاج أمين والبريطانيين .و ّ إن المؤتمر اإلسالمي العام في القدس عام 6996قد فشل لذات األسباب التي أفشلت مؤتمر الخالفة ومؤتمر العالم اإلسالمي في عام .6991فلم يكن المؤتمر قادرا ً على التنظير لسبيل الخروج من المستنقع الذي وقع فيه العالم اإلسالمي .وكان عاجزا ً فكريا ً عن التصدي للتحدي الذي شكلته العلمنة السياسية للحضارة الغربية المتعجرفة والواثقة ،والتي كانت تد ُس في العالم اإلسالمي ،الذي كان يعاني من الركود الفكري ،نظاما ً للدول القومية العلمانية ليحل محل دار اإلسالم. إن موت الخالفة شهد نهاية نظام مؤسسة سياسية مألوفة لألمة ،كانت تقر بسيادة اإلسالم في الحياة العامة .وكان ظهور الدولة القومية السعودية – الوهابية في قلب اإلسالم يعني إن اإلسالم كان في طريقة اآلن نحو العلمنة .وسوف ينحسر اآلن ليكون شأنا ً للحياة الخاصة .وستحاول جماعة التبليغ غير السياسية والسلفيون السعوديون الموالون للنظام مأل الفراغ .وستكون ترجمة عبدهللا يوسف علي "الصحيحة من الناحية السياسية" للقرآن شائعة بين أفراد جيل المسلمين الذين ال يخامرهم الشك والذين هم بطبيعة الحال خاملون سياسياً)17( .
40
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية
الخاتمة إن تدمير خالفة اإلسالم كان نتيجة مؤامرة شيطانية دبرها اليهود الصهاينة والبريطانيين .وقد مثل السعوديون دور المساعد في تلك الجريمة ضد األمة .لقد مثلت الخالفة نظاما ً لمؤسسة سياسية (أال وهي دار اإلسالم) تعترف بسيادة اإلسالم في الحياة العامة وفي العالقات العالمية للعالم اإلسالمي. إن ظهور الدول القومية العلمانية التركية والعربية السعودية في مقر الخالفة وفي قلب اإلسالم قد مهد الطريق لعلمنة نظام المؤسسة السياسية للعالم اإلسالمي .وبما إن حكومات الدول القومية العلمانية ضمن العالم اإلسالمي هي التي ستمثل هذا العالم ،فان النتيجة ستكون إن اإلسالم لن يكون مهيمنا ً على الحياة العامة أو على العالقات العالمية للعالم اإلسالمي. والطريقة األخرى األكثر جفافا ً لقول نفس الشيء هي :إن هللا لن يكون األكبر في الحياة العامة في العالم اإلسالمي ! وليس هنالك مسلم يقرأ هذه السطور من دون أن يشعر بالغضب الشديد تجاه الذين خانوا هللا ورسوله ! وإن نوعية إيمان المسلم يمكن أن تقاس من خالل الطريقة التي يستجيب من خاللها لهذا الوضع البائس. تكون جز ًء من دار إن العالم اإلسالمي هو اليوم من دون قوة .واستنتاجنا هو إن مؤسسة الخالفة ،التي ّ اإلسالم ،هي أمر ال غنى عنه السترجاع القوة .ومن دون القوة سيكون هنالك الكثير من مآسي البوسنة وكشمير والجزائر والشيشان وفلسطين ..الخ .إن الطريقة الوحيدة التي يمكن من خاللها تغيير هذه الظروف المؤلمة هي استرجاع سيادة اإلسالم في الحياة العامة للمسلمين وفي العالقات العالمية للعالم اإلسالمي .وهذا األمر يتطلب استعادة دار اإلسالم والخالفة .لذلك فنحن بحاجة إلى أن نبين من جديد شروط النظام اإلسالمي العام (دار اإلسالم) والمفهوم اإلسالمي للنظام العالمي ،والى أن نبرهن على تفوقها الواضح على منافستها العلمانية التي جاءت من الحضارة الغربية. ونحن أيضا ً بحاجة إلى أن ندرك ،كما يوضح هذا الكتاب ،استحالة استعادة الخالفة ،في الحاضر والمستقبل ،مادام الحجاز تحت سيطرة التحالف السعودي – الوهابي .وال يمكن استعادة القوة من دون تحرير الحرمين والحج من سيطرة أولئك الذين ساهموا بتدمير الخالفة. إن تحرير الحرمين والحج سيصبح ممكنا ً حين يتمزق التحالف السعودي – الوهابي .وهنالك مؤشرات عن كون التحالف تحت ضغط شديد ويمكن أن ينهار .فثمة الكثير من العلماء السعوديين في السجن اآلن أو في اإلقامة الجبرية .والقضية التي ستودي بهذا التحالف في غالب الظن ستكون "اعتراف" السعودية بدولة إسرائيل اليهودية ،وهنا تبرز أهمية مؤلفنا األخير بعنوان" :دين إبراهيم ودولة إسرائيل" الذي 41
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية حللنا فيه ،ومن وجهة نظر دينية إسالمية بحتة ،معنى "االعتراف" بدولة إسرائيل اليهودية بالنسبة للمسلمين.
النهاية
المالحظات -6
-9
-9 -1 -1
-1
-7 -2
-9
إيلي كيدوري ،في الفصل المعنون "سقوط المدينة – كانون الثاني ( "6969اإلسالم في العالم المعاصر ،هولت رينهارت ووينستون ،ن ي 6921 .الصفحات )977-91يعطي تفسيرا ً واضحا ً وتحليالً رائعا ً للدفاع البطولي للقائد العثماني فخري باشا حتى شهر كانون الثاني من عام 6969حينما تعرض للخيانة من بعض قطعاته. أهل الذمة هم أناس محميون غير مسلمين يسمح لهم باإلقامة في دار اإلسالم .والجزية هي ضريبة مالية يفرضها القرآن على الناس الذين هزموا في الجهاد ،والذين يرغبون في االستمرار باإلقامة في أراضيهم السابقة .وإن الغرض من دفع هذه الضريبة المالية هو بيان خضوعهم لحكم اإلسالم في تلك األرض. "يا أيها الذين آمنوا (بالقرآن) ال تتخذوا اليهود والنصارى أولياء (أي ال تدخلوا في عالقة تحالف وتبعية مع اليهود والنصارى تعتمدون فيها عليهم من أجل أمانكم) القرآن ()1611 توينبي أد ،استعراض الشؤون العالمية.6991 ، س ف .بي ،رستم" :مستقبل الدين اإلسالمي" ،القرن التاسع عشر وما بعده ،الجزء ،619رقم 121حزيران ،6991الصفحات ،211-11حيث يناقش المفكر التركي الليبرالي المسألة بمقالة عقالنية. لمناقشة مثيرة عن الموضوع انظر توينبي ،ا د .استعراض الشؤون العالمية ،6991 ،الجزء 6 الصفحات ،12-16وخصوصا ً الصفحة .11وانظر أيضا الفصل الختامي لسيلفيا هايم في ارنولد ،ت .الخالفة .طبعة منقحة ،مطبعة جامعة اوكسفورد 6911 ،الصفحات .911-11 النص التركي الرسمي في قوانين مجمواسي ،6911/6991رقم ،196أنقرة .مطبعة الجمعية العمومية التركية .الترجمة االنكليزية في استعراض ،اوبسيت ،الملحق )9( 66صفحة .171 "حسب الفقه السني فان تعيين إمام أو خليفة هو أمر ال غنى عنه ..ويقول االجتهاد التركي إننا إذا ما رجعنا إلى روح اإلسالم فان الخالفة أو اإلمامة يمكن أن تعهد إلى مجموعة أشخاص أو جمعية منتخبة (أي الجمعية العمومية التركية أو البرلمان) .وأنا شخصيا ً أعتقد إن الرؤية التركية صائبة جداً ".إقبال ،م .تجديد الفكر الديني في اإلسالم .مطبعة جامعة اوكسفورد .لندن6991 . الفصل" 1 .أساس الحركة في بناء اإلسالمي" صفحة .619 هذه الجماعة كان من المفترض أن تنشئ هيئة انتخابية افتراضية في النموذج اإلسالمي التقليدي .وعلى الرغم من ذلك فعبر التاريخ اإلسالمي ظلت على الدوام تقريبا ً أساسا ً نظريا ً لم يكن له أي دور في عملية اتخاذ القرار المهم. 42
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية إن هذا اإلعالن هو غاية في األهمية في سياق الجهود المبذولة في الوقت الراهن إلعادة -61 تأسيس نظام إسالمي أصلي .وهو يصور العيوب الفاضحة في فهم نظام القيادة اإلسالمي لدى ذلك المركز األعلى للتعليم اإلسالمي .االستعراض الكامل للنص ،وب.سيت ،.الملحق ،666 الصفحات .171-2 لقد كان المقترح غير مألوف تماما ً إلى حد إن كبير القضاة في إمارة شرق األردن -66 رفضه لكونه بدعة مناقضة لتقاليد الدين األصلية .االستعراض ،وب .سيت ،.صفحة .21 "حينما ألغت الجمعية العمومية الوطنية في أنكورا (أنقرة) الخالفة العثمانية وحينما -69 أخرج الوهابيون الساللة الهاشمية الحاكمة خارج الحجاز ،كان االتجاه العام في العالم اإلسالمي أن يتم التعامل مع الوضع باستخدام الطريقة الغربية الحديثة بعقد مؤتمر عالمي وليس باستخدام الطريقة اإلسالمية في الدعوة إلى حرب مقدسة ".االستعراض ،وب ،سيت ،.صفحة .91 تدعي سيلفيا هايم أنه لم تكن هنالك أدلة كافية إلثبات أن المؤتمر قد ُخطط له وشُجع -69 عليه من خالل تحريض الملك فؤاد الذي كان يرغب سرا ً في الحصول على منصب الخليفة .إال إن ذلك لم يكن ممكنا ً بسبب المعارضة داخل وخارج مصر .س ف أرنولد ،وب .سيت. الصفحات .916-9وفيما قد يكون ذلك صحيحا ً فان الموقف العام لفؤاد كان عدم الرغبة في الخالفة .فقد حافظ رئيس وزرائه سعد زغلول على حيادية مدروسة حيال هذا الموضوع. إن النص الحرفي لسجل المؤتمر قد ترجم إلى الفرنسية ونشره أ .سيكالي في ريفو دو -61 موند مسلمان ،الجزء – 6الصفحة ،61باريس .6991وهذا النص هو الذي استخدمه الكاتب. باإلضافة إلى اإلشارة إلى إن الخالفة كانت ضرورية من أجل "تطبيق األحكام والحدود -61 والمرابطة وتجهيز الجيوش ..الخ" فان اللجنة وجدت إن نقل حديثين للنبي كان مهما ً بصورة كافية" :من مات ولم يعرف خليفة زمانه مات ميتة جاهلية" و "من مات وليس في عنق بيعة مات ميتة جاهلية" استعراض ،وب .سيت ،الصفحات .71-1 المصدر السابق .الصفحات .71-1وقد تجاهلت اللجنة بفعلها هذا آراء المعتزلة الذين -61 اعتبروا الخالفة أمرا ً ضرورياً ،والخوارج الذين تبنوا الرأي الذي يقول بعدم الحاجة إلى الخالفة .واختارت اللجنة أيضا ً تجاهل الرأي الذي وضحه الشيخ علي عبد الرزاق ،خريج األزهر ،الذي ناقش في بحث له نشر في مصر إن الخالفة لم تكن ضرورة في اإلسالم .وقد أثارت آراؤه نوعا ً من الهياج في مصر. االستعراض وب .سيت ،الصفحات .71-7 -67 وقد أصبح شيخ األزهر في عام 6999 -62 االستعراض وب .سيت ،الصفحات .77-2 -69 (القرآن )1211 -91 وقد تمت اإلشارة إلى مثل هذه السلطات كما يذكر الماوردي (األحكام السلطانية) -96 والغزالي (إحياء علوم الدين) .ولمزيد من التفصيل عن آراء العلماء انظر آرنولد ،ت .وب. سيت. لقد عين الخليفة الخامس ،معاوية ،ابنه ،يزيد ،كخليفة له وقد خلفه بالفعل .وقد تحدى -99 الحسين ،حفيد النبي ،صحة خالفة يزيد ودفع حياته ثمنا ً لذلك .والكثير من المسلمين ال يهتمون بمتابعة مثال الحسين في القرون الالحقة. 43
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية االستعراض وب .سيت ،صفحة 619 -99 نفس المصدر صفحة .612ويمكن ايجاد النص الكامل لتقرير اللجنة الثالثة في -91 استعراض ،وب .سيت .الملحق ،1الصفحات 172-26 نفس المصدر ..صفحة 611 -91 استعراض ،وب ،سيت ،صفحة 611 -91 استعراض ،وب ،سيت ،صفحة 611 -97 نفس المصدر ..صفحة 617 -92 يمكن العثور على الفقرة في استعراض ،وب .سيت ،.صفحة " ،612وريع هذا، ".. -99 وفي االستعراض ،وب،سيت ،.صفحة "،121ويتابعه من األعلى".. يوجد نص القرار في استعراض ،وب،سيت ،صفحة .662واستعراض ،وب،سيت -91 الصفحات 91-29 س.ف .فاروقي ،كمال" :خطوات نحو الوحدة اإلسالمية" .آفاق باكستان .الجزء ،91 -96 رقم ،9الصفحات 69-9حيث يفسر هذا البديل للخالفة ،أو للعصر اإلسالمي ،الذي هو العالمية اإلسالمية – التي تعتمد على الوحدة في عقائد المسلمين العامة وأعمالهم .ويتجاهل فاروقي ،مع ذلك ،الحقيقة الواضحة جدا ً في إن الخالفة قد ُوجدت واكتسبت شرعيتها من عقائد وأعمال المسلمين. فاروقي ،وب،سيت ،الصفحات 69-9 -99 المسلمون السنة يقرون بأن المدارس الفقهية األربعة متساوية في شرعيتها. -99 حتى قيام الثورة اإلسالمية اإليرانية ،كان السعوديون – الوهابيون قد نجحوا في كسب -91 هذا االعتراف من جميع حكومات الدول القومية اإلسالمية .وعلى الرغم من ذلك فما يزال ثمة استياء ال يستهان به بين جموع المسلمين. استعراض ،وب ،سيت ،صفحة 692 -91 نفس المصدر السابق -91 لقد كان من التناقضات العجيبة أن تقوم حركة الخالفة الهندية بمقاطعة مؤتمر الخالفة -97 في القاهرة في أيار وتحضر مؤتمر العالم اإلسالمي في مكة في حزيران والذي استبعد من جدول أعماله على وجه الخصوص مسألة الخالفة إن هذه المقاالت ستكون مادة للقراءة الممتعة إذا ما نشرت اليوم. -92 إشارة إلى عالقات حسين مع البريطانيين -99 استعراض ،وب ،سيت ،الصفحات 696 - 692 -11 استعراض ،وب ،سيت ،الصفحات 692 - 96 -16 استعراض ،وب ،سيت.. -19 على سبيل المثال ،فقد أقر المؤتمر مشروع بناء خطين للسكة الحديد من جدة إلى مكة -19 ومن ينبع إلى المدينة على الرغم من المعارضة الشديدة لموفدي الحجاز "الذين كان لديهم اعتراضات دينية ضد إنشاء السكك الحديد في بالد اعتمدت حياتها على البعير ".استعراض، وب ،سيت ،صفحة .699كم تمنى المرء لو إن العلماء السعوديون بنوا اعتراضاتهم على السكة الحديد في سياق كونها ستحل محل نمط من أنماط النقل قد خلقه هللا .ولكانت السلطات السعودية 44
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية حينئذ مدركة للخطر الذي تشكله التقنية الحديثة والستطاعت أن تشترط إبقاء نمط النقل الطبيعي إلى جانب النقل الميكانيكي. نص القرار موجود في استعراض ،وب ،سيت .الصفحات .917-2وامتنعت مصر -11 وتركيا وأفغانستان عن التصويت. يقول توينبي ..." :إن أحد آثار الحرب في عام 62 – 6961كان إبعاد األتراك عن -11 الجزيرة العربية وامتداد دائرة النفوذ البريطاني ليشمل كامل الجزيرة العربية (استعراض ،وب. سيت ..الصفحات )979 ولكن من المهم جدا ً أن نالحظ أن في هذا االنجاز البريطاني الفريد والخطير والذي كان نتيجة لعصيان أمر النبي للمرة األولى خالل ثالثة عشر قرناً ،تلقت بريطانيا المساعدة والدعم من حسين وابن سعود كليهما .وبالطبع أراد كل منهما ثمنا ً لخدماته التي قدمها لبريطانيا .ففي الواقع قاتلت قوات حسين العربية مع البريطانيين ضد األتراك .أما حيادية ابن سعود الطيبة في هذا الصراع فقد زادت من فرص نجاح بريطانيا .وحتى حلول عام 6991حين توقفت دفعاته الشهرية من البريطانيين ،كان حسين قد تسلم مبلغا ً قدره حوالي ستة ماليين جنيها ً إسترلينياً .أما ابن سعود ،الذي تسلم مبلغا ً أكثر تواضعا ً من الحكومة البريطانية وقدره 911,111جنيها ً بمعدل 1111جنيه شهرياً ،فقد فسر األمر بصورة شيطانية على إنه جزية (الضريبة التي يدفعها غير المسلمين المقيمين على أرض دار اإلسالم)" .استعراض ،وب .سيت.. صفحة .979 وكانت بريطانيا (قوة االنتداب في إمارة شرق األردن) هي التي ألحقت معن والعقبة بإمارة شرق األردن في عام .6991وعلى الرغم من احتجاج الملك حسين السابق على هذا اإللحاق من منفاه في قبرص وقيام ابن سعود بتحريك مؤتمر العالم اإلسالمي لتبني قرار احتجاج على ذلك اإللحاق ،فقد كان التصرف البريطاني بوضوح أمرا ً مقضياً. ومن المثير أن نالحظ إن أمر النبي (صلى هللا عليه وسلم) لو لم يخالفه حسين وابن سعود في مساعدتهم الضالة للبريطانيين في محاولة لتخليص شبه الجزيرة من النفوذ العثماني ،لما كان من الممكن تنفيذ إعالن بلفور وال تأسيس الدولة الصهيونية في فلسطين المسلمة .ومن المثير أن نالحظ أيضا ً أن العقبة لو بقيت تحت السيطرة الحجازية ،لكانت العربية السعودية دولة الخط األمامي في الصراع المعاصر في الشرق األوسط .ولعل التاريخ يكشف في يوم من األيام أن أحد أسباب اإللحاق البريطاني لمعن والعقبة كان خلق فاصل بين أرض قلب اإلسالم المتقلبة وبين الوطن القومي اليهودي في فلسطين الذي صوره إعالن بلفور .وينبغي أن يكون من الجلي إن حدوث مواجهة مباشرة بين الحجاز (اآلن جزء من العربية السعودية) وبين الوطن القومي اليهودي في فلسطين (اآلن دولة إسرائيل) سيثير مشاعر إسالمية ال يمكن السيطرة عليها ،األمر الذي ال يزال يشكل التهديد الحقيقي الوحيد لبقاء الدولة الصهيونية. من الخطأ التأكيد (كما يفعل المؤتمر اإلسالمي العالمي في كراتشي اآلن) على إن -11 المؤتمر اإلسالمي المنعقد في القدس في عام 6996كان الجلسة الثانية لمؤتمر العالم اإلسالمي (األولى انعقدت في مكة عام .)6991أوالً الن مؤتمر القدس اختار لنفسه اسما ً مختلفا ً عن "مؤتمر العالم اإلسالمي" .والمادة األولى لنظام المؤتمر الداخلي سمته بـ "المؤتمر اإلسالمي العام" .ثانياً ،لقد تبنى المؤتمر نظاما ً داخليا ً خاصا ً به – مختلفا ً عن نظام المؤتمر اإلسالمي العام. 45
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية مات محمد علي جوهر فعالً في لندن حيث كان يشارك في مؤتمر الطاولة المستديرة -17 بخصوص الهند .وقد تحرك الفلسطينيون من أجل أن يدفن في الحرم الشريف كاعتراف بعظمته من جهة ،ومن جهة أخرى لكسب دعم هندي أكبر في الصراع ضد الصهيونية وقوة "االنتداب" البريطانية. ثمة رابط مهم بين السابع والعشرين من رجب وبين المسجد األقصى وبين حائط -12 المبكى ،وهو رابط يثير المشاعر بقوة كبيرة في العالم اإلسالمي .وتفسير ذلك كما يلي :إن السورة السابعة عشر من القرآن ،بعنوان "سورة بني إسرائيل" ،تستهل بآية تشير إلى الرحلة الليلية اإلعجازية للنبي محمد من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد األقصى في القدس الذي بارك هللا المناطق المتاخمة له ،حسب اآلية ،حينما أخذه هللا في رحلة كي يريه بعضا ً من "آياته". وتفيد األحاديث إن النبي حينما وصل إلى األقصى صلى إماما ً بجميع األنبياء .وبعد ذلك عرج به إلى السماء وتشرف بمراسيم الدخول إلى تجل خاص هلل .ويمثل حائط المبكى أو الحائط الغربي جز ًء من الحرم الشريف الذي يضم المسجد األقصى إضافة إلى البقعة التي بدأت منها رحلة معراج النبي .ويعتقد عموما ً إن هذه الرحلة حدثت في 97رجب( .مشكاة المصابيح) ،الترجمة االنكليزية لجيمس روبسون ،الهور ،شيخ محمد أشرف ،6971 ،الجزء ،9الفصل ،99الكتاب 91الصفحات .6911 – 71 كيب ،هـ .أ .ر" ،المؤتمر اإلسالمي في القدس في كانون األول عام ".6996 .19 استعراض الشؤون العالمية ،لندن ،مطبعة جامعة أوكسفورد .6991 ،صفحة .619 نيلسن ،أ" .المؤتمر اإلسالمي في القدس ".العالم اإلسالمي ،تشرين األول ،6999 .11 الجزء 99صفحة .912 كان الملك فؤاد على وجه الخصوص قلقا ً جدا ً حيال اإلشاعات التي تقول بأن مسألة .16 الخالفة ستناقش وحيال تصريح الخليفة أن على المفتي العام زيارة القاهرة شخصيا ً ليؤكد شفويا ً وتحريريا ً على إن المسألة لن تناقش .أما بالنسبة للمال شوكت علي ،من الناحية األخرى ،فلم تكن هنالك مسألة خالفة طالما أنه باق على اعترافه بخالفة "عبد المجيد"( .آرنولد ،ت .وب. سيت ..الصفحات .)916-1 في النظام اإلسالمي يبدأ اليوم بالغروب وينتهي بالغروب التالي .لذا فإن 97رجب (أو .19 ليلة المعراج) لم تبدأ حتى غروب شمس 1كانون األول. كيب ،هـ .أ .ر ،وب .سيت ..صفحة .611لقد تم إحياء مؤتمر القدس في عام 6991 .19 وعقدت ثالثة مؤتمرات في األعوام 6991و 6911و .6911ولم تنعقد مجددا ً أبدا ً منذ .6911 وسبب ذلك يرجع بصورة جزئية إلى إن رئيس مؤتمر القدس ،الحاج أمين الحسيني ،أصبح رئيسا ً لمؤتمر العالم اإلسالمي الذي تم إحياؤه أيضاً .وقد فضل أن يعمل مع المنظمة األخيرة طالما إنها تمتعت بالدعم السياسي من حكومة باكستان وبالدعم المالي من الحكومة السعودية. كيب ،وب .سيت ،.صفحة .619 .11 نيلسن ،وب .سيت ،.صفحة 919 .11 نفس المصدر السابق .11 46
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية نيلسن ،وب .سيت ،.صفحة 919 .17 النص الكامل للتقرير الملحق بحائط المبكى أو الحائط الغربي الفلسطيني ،النظام في .12 المؤتمر 6996كما في جدول 6و .9انظر األنظمة والتعليمات القانونية لعام .6996هـ م مكتب الوثائق ،لندن .6999 .الصفحات .119 – 1 لقد تم شرح هذا التصرف بصورة أكثر قسوة خالل الفترة مابين 6917 – 6912حينما .19 كانت القدس الشرقية تحت النفوذ األردني .حيث منع اليهود من الصالة عند حائط المبكى. "إن األراضي العربية هي كل ال يتجزأ ،وإن أي تقسيم من أي نوع تعرضت له هذه .11 األراضي فان األمة العربية ال تقره وال تعترف به "..كيب ،وب .سيت .صفحة 617ف ن. س ف .مارمورستاين ،إيمل" :المعارضة الدينية للقومية في الشرق األوسط ".الشؤون .16 العالمية ،تموز ،6919الصفحات .917-911 ومن بين اليهود المحافظين كان العالم البروفيسور يعقوب دي حان .وتم قتله على أيدي .19 الصهاينة بسبب استنكاره الالذع للصهيونية .وفي لقاء معه في منتصف العشرينات شرح وجهة نظره كما يلي: "هل تعتقد إن التاريخ ليس إال سلسلة من األحداث؟ ال أعتقد ....فالصهاينة يعانون من نفس العمى الروحي الذي تسبب بانهيارنا .فإن ألفي سنة من النفي اليهودي والحزن لم تعلمهم شيئاً .وبدالً من محاولة فهم األسباب العميقة لتعاستنا ،فإنهم يحاولون اللف حولها ،ببناء "وطن قومي" على أسس جاءت بها سياسات القوى الغربية .وأثناء عملية بناء ذلك "الوطن القومي" فإنهم يرتكبون جريمة إخراج شعب آخر من وطنه" .أسد ،محمد ،الطريق إلى مكة .الصفحات .29 – 9 "يا أيها الذين آمنوا ال تتخذوا اليهود والنصارى أولياء (أي ال تلجئوا إليهم لغرض -19 التحالف األمني وال تقيموا عالقات اعتماد وخضوع معهم" .القرآن ()1611 الشرق األدنى والهند 91 .كانون األول .6996 ،صفحة 127 -11 كان شوكت علي حزينا ً حيال تشكيل اللجنة ورفض أن يعمل فيها .وقد استخدم الحاج -11 أمين أغلبيته الستبعاد الخصوم الذين كان من بينهم رجال أكفاء. نجحت اللجنة التنفيذية في التوسط في حرب دامت سبعة أسابيع بين العربية السعودية -11 واليمن .وتم أخيرا ً توقيع معاهدة إلنهاء الحرب. كان عبد هللا يوسف علي أديبا ً عبقرياً .وكان تفسيره للقرآن عمالً أدبيا ً مدهشاً .إال إنه -17 كان ساذجا ً نوعا ً ما في فهمه للتوجيهات السياسية واالقتصادية في القرآن .وقاده والؤه الكامل والثابت للحكومة البريطانية إلى تركيبة عقلية جعلته عاجزا ً عن إدراك الحقيقة األساسية في إن هللا أرسل الدين اإلسالمي الكامل ليكون المهيمن على الحياة الخاصة والعامة كلتيهما .وقد فشل أيضا ً في إدراك إن الفائدة المصرفية هي ربا .انظر كتاب م .أ .شريف عن السيرة الذاتية لعبد هللا يوسف علي بعنوان" :البحث عن السلوان" .نتاجات الكتاب اإلسالمي .كواال المبور.6991 . (نتاجات الكتاب اإلسالمي 9 ،لورانج 6أ 76 /ج ،جاالن كاري 11111 ،بيتالينك جايا، ماليزيا)
47
الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية -الوهابية
عن المؤلف عمران ن .حسين ولد في جزيرة ترينداد ،جزر الهند الغربية .درس اإلسالم تحت إشراف العالم اإلسالمي الصوفي الشيخ المال الدكتور محمد فضل الرحمن األنصاري في معهد العليمية للدراسات اإلسالمية ،كراتشي ،وأمضى سنة دراسية واحدة في جامعة األزهر ،القاهرة .درس الفلسفة في جامعة كراتشي ودرس العالقات العالمية في جامعة جزر الهند الغربية ومعهد الدراسات العالمية ،جنيف. موظف سابق في وزارة الخارجية في ترينداد وتوباغو ،واستقال من عمله في عام 6921ليكرس حياته لخدمة اإلسالم فعمل مديرا ً لمعهد العليمية للدراسات اإلسالمية حتى عام 6922حينما سافر إللقاء محاضراته اإلسالمية في جنوب شرق آسيا وأمريكا الشمالية والجنوبية وجزر الكاريبي .ومنذ عام 6996وهو يعمل في خدمة اإلسالم في نيويورك في مسجد دار القرآن في لونغ آيالند. وكمؤلف في األديان المقارنة فقد أنتج كتابا ً عن "اإلسالم والبوذية" نشر في باكستان عام .6979 وتضمنت أعماله عن اإلسالم والعالقات الخارجية "الدبلوماسية في اإلسالم – تحليل لمعاهدة الحديبية" و "الحرب والسلم في اإلسالم" و "اإلسالم والنظام العالمي الجديد" و "نبي اإلسالم في القدس – األهمية اإلستراتيجية لإلسراء والمعراج" ..الخ .ونشرت مجموعة من كتاباته التي تضمنت مواضيع مثل "األحالم في اإلسالم" و "من مكة إلى المدينة مرة أخرى" و "القوات الغربية في الجزيرة العربية – رؤية إسالمية" ..الخ في سنغافورة عام 6991بعنوان "اإلسالم والنظام العالمي المتغير". والسلسلة الحالية لكتاباته في مجموعة األنصاري التذكارية تحتوى على العناوين الثالثة التالية" :دين إبراهيم ودولة إسرائيل – نظرة من القرآن" و "الخالفة والحجاز والدولة القومية السعودية الوهابية" و "أهمية تحريم الربا في اإلسالم"
48