لوحة الغالف للفنانة الت�شكيلية ال�سعودية تغريد البق�شي www.bagshiart.net
© دار ال�ساقي، جميع احلقوق حمفوظة الطبعة الأوىل 2007 الطبعة الرابعة 2013 2013
ISBN 978- 1- 85516- 019- 4
دار ال�ساقي بناية النور� ،شارع العويني ،فردان ،بريوت. �ص.ب .5342/113 :.الرمز الربيدي6114 - 2033 : هاتف ،+961- 1- 866442 :فاك�س+961- 1- 866443 : e- mail: info@daralsaqi.com
ميكنكم �رشاء كتبنا عرب موقعنا الإلكرتوين www.daralsaqi.com تابعونا على @DarAlSaqi
دار الساقي Dar Al Saqi
I بنيات متعددة. هذه املرة �أكتب ّ و�أعرف �أن فرق ًا �شا�سع ًا �سي�ؤمل ذهني ،ولن ينتبه �إليه �أحد� .أنا الذي ورق ياب�س ،و�أمار�س هذا القمار الثقيل ،وقد انق�سم �أكتب الآن على ٍ �إمياين �إىل �أجزاء ال يعرف � ٌّأي منها طريق النافذة ،وال �شكل ال�سماء. مل يبق عندي �إال ن�صف ال�شوق ،ون�صف الليل ،ون�صف اللغة ،بعدما تركتني الأن�صاف الأخرى من �أجل حياة �أكرث جدوى ،وطريق �أكرث �أمان ًا. هذا ما يجعلني بطيئ ًا وخائف ًا؛ �أكتب على مهل مثلما تُنق�ش التوابيت، و�أراقب يف �سطح ذهني مئات الوجوه التي ال �أعرف �أي ًا منها ،ولكنها علي �أن طفرت فج�أة على الورق ،مثل جماعات الغجر ،و�صار لزام ًا ّ النيات املتعددة ،بعد �أن �أرق�ص معها �أو �أموت غريب ًا .حا�رصتني هذه ّ أكتب ب�أكرث من نية ،مثلما ي�ستحيل �أن �أكتب ب�أكرث علي �أن � َ كان ي�ستحيل ّ من قلم ،خ�شية �أن يخرجني هذا من فردية الكتابة ،ويجعلني كالر�سامني الذين ير�سمون ب�ألوان كثرية ،وال �أ�ستطيع �أن �أقلدهم يف �ضاللهم املتعدد، فما الذي يحدث الآن يا ترى؟ 5
�رصت مثل الأ�سرتايل الأ�صلي الذي ا�ستيقظ من النوم ليجد العامل ُ قد انتقل �إىل قارته ،وقرر �أن ي�شاركه فيها! و�أنا ال �أعرف فن احلرب، وال حتى فن ال�سلم ،وال �أعرف فع ً ال ،معنى �أن يكون هناك �آخرون علي على وجه الكتابة� ،أقا�سمهم الوح�شة والنزق ،فال يردون ّ تعودت �أن �أكتب الأحالم ،و�أح�رشها يف قمي�صها املفقود� .أنا الذي ُ وجدت نف�سي هذه املرة ،موقوف ًا كب�سولة حتت الل�سان ،و�أن�ساها، ُ على جانب الطريق ،متهم ًا بحيازة �أحالم باطلة ،وكب�سوالت غري م�رشوعة! كيف ميكن �أن �أحت�سب �أجر هذه ال�ضو�ضاء يف غرفة من الروح، كانت هادئة ،كما يليق بعا�شق �سابق؟ وكيف ميكن �أن يخرج هذا الكتاب ال�صعب من وراء الغياب ،لي�ضطرين فج�أة �إىل تغيري عادات �أ�صابعي ،و�سكنات يدي ،وتقاليد الكلمات ،ورائحة الورق، و ُيدخلني يف جدل طويل مع �ضمائر ال �أعرفها ،وقوانني ال �أفهمها، ونيات ال ت�صلح �أبداً لكتابة كاملة؟ ّ تقلقني هذه االنقالبات املفاجئة يف احلرفة التي ركدت داخلي ار�س االنقالبات ،ولي�س مثل جدول قدمي ،و�أنا ال �أعرف متام ًا كيف تمُ ُ زلت متم�سك ًا بهذا الد�ستور الب�سيط، يف تاريخي ثورة واحدة .ما ُ وثقفت عليه قلبي، تعودته، ُ وكتابتي ذات النية الواحدة هي كل ما ّ وال �أعرف من طرقاتها املت�شعبة �أكرث من حتديد البقعة املنا�سبة للكتابة فقدت الأر�ض ،واجلل�سة املثلى لتخطيط القلب� ،إذا �أبى �إال �أن �إذا ُ كلمات يقي�س �أوجاعه بعر�ض الورق� ،أما �أن �أفتح دكان ًا غريب ًا من ٍ أقدم للمجهولني تقارير عن حزن حياتي ،وعثارها وبراهني كبرية ،و� ّ 6
الذي ال ينتهي ،فهذه ّنيات �صعبة ،تعوق يدي ،وجتعلها �أق�رص كثرياً مما كانت عليه. أكتب يف كنف م�صباح يف احلنني املا�ضي كان الأمر خمتلف ًاُ . كنت � ُ ويفّ ،يعرف وجهي �أكرث مني ،ويعرف متى يتواط�أ طوع ًا مع اقرتاب البكاء ،ثم ينطفئ عمداً عندما يبد أ� الأمل بجريف خارج الكتابة ،والآن أرتكب كتاب ًة ت�شبه الرق�ص الو�ضيع يف �صخب ال�سامعني �رصت � ُ ُ الناكرين ،وخونة احلكايات. ثمة ٌ حاولت �أن �أ�رشحه لقلة من فرق بني الكتابتني وال �شك، ُ النا�س الذين حت ّلقوا حويل ذات جزع ،وا�ستجابوا للغناء اخلافت، وطقطقة احلنني ،و�أ�شعلوا معي �أوراق كتابي ،وجل�سنا نتدف أ� من الربد امل�شرتكٌ . كبري بني الوعي الذي يحا�رصين الآن بقوانني فرق ٌ مريبة ،مثل وجود �أنا�س �آخرين ،حزانى ،وملعوننيّ ، وقطاع �أمل، يتقاطعون معي يف ق�ص�ص مت�شابهة ،وبكا ٍء باهت ،وبني الالوعي اجلميل الذي تعلمته منها �أثناء كتابة النية الواحدة ،والذي كان مينح �أوراقي ذات يوم م�ساح ًة ع�ضلية هائلة ،ومتارين �شاقة من الأمل املوارب. ٌ فرق بني الرك�ض يف امل�ضمار الأنيق ،ذي امل�سار الذي ال يقا�سمني راك�ض �آخر ،وال ير�سلني �إال �إىل قارئة واحدة ،وبني الرك�ض يف �إياه ٌ يباب من اجلائعني ،واخلائفني ،والعا�شقني ،واملفقودين .جميعهم لهم الأقدام نف�سها ،والأوهام نف�سها ،ويرك�ضون يف االجتاه ذاته الذي ال يف�ضي �إىل �شيء ،وال يعود �إىل نقطة البداية اجلميلة �أبداً.
**** 7
لقد كان غريب ًا حق ًا �أنها َن�شرَ ت الكتاب بطريقتها ،مثلما رتّبت كل حبنا بطريقتها �أي�ض ًا ،وحاكت هذا الفعل من غيابها اخلفي البعيد، ّ لأن الأقدار ال ت�صري �أقداراً �إال �إذا جاءت من البعيد اخلفي �أ�ص ً ال .وهي بعيد ٌة ،وخفية منذ �سنوات ،وهذا الذي جاءين منها الآن ،بنا ًء على م�صدره ،ثم �أثره ،ال ميكن بال ريب� ،إال �أن يكون قدراً .لي�س عندي ٌ احتمال �آخر. قررت يل هذا ،من دون �أن تخربين كيف ميكن �أن �أطرح ال�س�ؤال َّ مت�سو ًال و�أنا �أطرحه ،لأن بع�ض الأ�سئلة الب�سيط :ملاذا ،وال �أبدو ّ الكربونية التي حتمل تاريخ �صالحية حمدوداً ،ال تظل �إجاباتها ممكنة بعده ،وتتحول �إىل �أ�سئلة غري الئقة ،تخد�ش �سطوة الغياب الذي ترتديه هي بكل اقتدار ،ومتار�سه ك�أنها مل ت� ِأت �أ�ص ً ال �إال لتغيب ،مثلما يفعل التائبون الذين قرروا ا�ستعادة ميدالية الطهارة ،بعد دورة حياتية �ضالة! ولهذا ال �أجد �أمامي �إال �أن �أحمل �أدوات الأ�سئلة الأخرى التي عانيت طوي ً ال عدم �رصت خبرياً يف ا�ستخدامها �أخرياً� ،أنا الذي ُ ُ وفوجئت بالكتاب من�شوراً مثل أملت من ع�صيان الأ�سئلة، ُ الفهم ،وت� ُ �صحيفة عبد يحا�سبه اهلل قبل يوم احل�ساب بوقت طويل. هكذا رحت �أنقّب يف �صحراء هذا احلدث اجلديد بحث ًا عن �إجابات حمتملة ،لأفعال امر�أة مزاجية ،وغائبة ،وبعيدة. الأكرث حرية مني كان �أبي الذي مل يفهم كيف �صار ابنه الذي ي�شاركه يف الغداء والع�شاء كل يوم ،م�ؤلف ًا ،بني ليلة و�ضحاها ،بينما يف الأم�س فقط كان ال يهج�س بفكرة كتاب ،وال يعرف كيف يرتّب ال عن �أن يرتّب كتاب ًا كام ً جبينه ف�ض ً ال .كانت ت�سا�ؤالته �أكرث حمو�ضة 8
من ك�أ�س الليمون الذي ي�ساعدين على جعل ارجتافات وجهي وتقل�صاته تبدو طبيعية ،ومربرة .ال�سيما و�أنا �أكذب عليه ،كما مل �أفعل من قبل. بررت لنف�سي هذا االنتهاك ولكنه كذب الوهلة الأوىل ،هكذا ُ كنت �أحتاج �أن �أفهم �أنا �أو ًال قبل �أن �أعيد الكبري حلقيقة عالقتي ب�أبيُ . تن�سيق احلكاية ب�أكملها له ،هو الذي ال يحرتم يف حياته �شيئ ًا �أكرث من الورق املر�صو�ص بني دفتني ،ويجمع يف مكتبه ،وم�ستودع املنزل، الوراقني القدماء الذين يفي�ضون احرتام ًا و�سطحه� ،آالف الكتب ،مثل ّ للكتب حد اخلجل من كتابة �أحدها .كان من املتوقع �أن يده�شه الآن، وهو يف ال�سبعني� ،أن الكتاب الذي مل يكتبه هو قط ،كتبه ابنه الوحيد الذي مل تبد على مالحمه من قبل �سيماء الكتابة. لهذا هو اليوم يتكلم �أ�رسع من املعتاد .غابت عني لوهلة نربته البطيئة الهادئة تلك ،وراح يمُ ُِّر يل اندها�شه يف حكايات غري �رضورية، وبع�ض ال�ضحك الق�صري ،ثم �أخذين �إىل مكتبه ،وهو مي�سك بيدي طوال �صعودنا الدرج ،ويفتح الباب ،لندلف �إىل املكتب ّ املبطن بالرفوف اخل�شبية ،و�أظهر الكتب اجللدية املدموغة بتلك العناوين الذهبية العتيقة .تركني �أجل�س ،ودار حول مكتبه الكال�سيكي ال�صغري ،وراح يخرج من �أدراجه �أوراق ًا مكد�سة ،وخمطوطات معدة للن�رش ،ومعنونة فع ً ال ،وبخط اليد .كلها يف هيئة ورقية نهائية ،جاهزة لأن تتحول �إىل كتاب حقيقي ،ولكنها وقفت دون ذلك. “كلها من حرب العمر يا ولدي ،ولكن �أخاف �أن تخرج �إىل النا�س. يف الن�رش �شجاعة كبرية ،ما �شاء اهلل عليك� ،أما �أنا ،”...وتنهد و�سط ابت�سامة منك�رسة ثم �أ�ضاف “ ...ال �أعرف هل كنت �س�أت�شجع يوم ًا 9
على الن�رش �أو ال ،حتى الآن ،ومنذ زمن طويل ،قلم الباركر الأثري الدرج ،هو قارئي الوحيد �أي�ض ًا!” هو نا�رشي الوحيد ،مثلما �أن هذا ْ وعلى مرمى ب�رصي كانت ملفات �أبي البال�ستيكية املر�صو�صة حتوي كل ما �أراد �أن يكتبه ذات يوم عن جتربته القدمية يف ال�سجن: ق�صا�صات الورق ال�صغرية الباهتة التي كتبها بنف�سه يف زنزانته الرطبة جدة ،ب�أ�سطر مائلة ،و�أ�سهم تنظم اجتاهات ال�سري لكلمات تائهة، يف ّ م�صورة منها هي ولدت يف ورقة �ضيقة جداً ،لكنه كان ميتلك ن�سخ ًا ّ مرت ،راحت ،بوقاحة، نف�سها ،بعد �أن الحظ �أبي �أن ال�سنوات التي ّ حتاول �أن متحو �شيئ ًا من حرب الكلمات الأزرق ،وك�أن الزمن الذي �أرداه �سجين ًا مل يكتف بذلك ،بل جتاوزه �إىل االعتداء ال�صارخ على ذاكرة ب�ؤ�سه ،لي�رسق الأدلة والأحزان. ملف �آخر كان �أحد امللفات ي�ضم الق�صا�صات اخلم�سني تقريب ًا ،بينما ٌ يحوي �أوراق ًا من�سوخة من روايات و�سري عديدة من �أدب ال�سجون، جمعها �أبي خالل قراءاته عام ًا بعد عام كلما وجد منها ما يتقاطع مع جتربته ،ويقع فيها الأمل على الأمل ،لعله يح�شد ما ي�ستعني به على كتاب �سنوات طويلة ،قبل �أن يتغلب مل يكتبه حتى الآن ،وظل يب�شرّ نف�سه به ٍ عليه طابع احلياة الرتيب ،وترتاكم �أعوامه على ظهره ،ويقرر تدريج ًا �أن يحت�سب عند اهلل �أجر هذا البوح الذي مل يحدث البتة. ويف ملف �آخر كانت جمموعة من الأ�رشطة ال�صوتية ،وبع�ض الأجندات التلفونية ال�صغرية ،ووريقات حتمل �أ�سماء �أ�شخا�ص وعناوينهم كان �أبي يرجع �إليها كلما احتاج �إىل ذلك �أثناء الكتابة، قال يل وهو ي�ضحك بع�صبية“ :معظمهم ماتوا ومل �أكتب الكتاب 10
بعد!” ،ثم تنهد ،وو�ضع يده على كتفي وهو ير ّدد بيت ال�شعر الأثري لديه ،والذي يقوله عند كل نازلة ،و�أمام كل نعي يقر�أه يف اجلريدة، �أو ي�سمعه يف الأخبار“ :ذهب الذين ُيعا�ش يف �أكنافهم ،”...و�أ�شاح بوجهه عني ،و�أطف�أ نور املكتب ونحن نخرج منه ،و�أكمل بقية البيت مت�ص ً وبقيت يف خلف كجلد الأجرب”. ال بالزفري...“ : ُ
**** حمراب ال ميكن �أن تخطئه عيناي .دائم ًا �أملح طائفة من يف وجهه ٌ الأحزان ت�صلي فيه ،وال �أ�ستطيع متييز �أي منها .ال يف�صح �أبي عن �أي �ضن بهذا البوح املعتق يف عينيه، من �أحزانه املنيبة اخلا�شعة ،ولطاملا ّ و�أ�شفق عليه من النزول يف �آذان من ال ميلكون �شفاع ًة وال جزا ًء، وي�ؤمن �أن كل �شكوى ينطق بها يف الدنيا ،حترتق ،وت�صبح غري �صاحلة للآخرة ،وك�أن الآالم �أ�صبحت عملة م�ؤجلة ليوم احل�ساب فقط، يدخرها لليوم الذي ت�صري فيه �آالمه قابلة للتداول ،وت�شرتي ولهذا هو ّ له نعيم ًا وجنة! �شعرت ب�أنه �سيندم قريب ًا على هتكه كل هذه و�أنا �أ�سمع كالم �أبي، ُ الأدراج �أمامي بعد �أن يقر أ� كتابي فع ً ال ،فال يجده �إال قطع ًا غري مت�صلة حب مل ي�ؤ َّد كما يجب �أن ي�ؤ َّدى احلب ،فجاء ناق�ص الفرو�ض من ٍ والأركان ،ومات على عجل ،لتنب�شه امر�أ ٌة بعد �أن ت�س ّنه يف قربه فع ً ال، وتُلب�سه الكتاب ،وتعيده �إىل النا�س .ال ميكن هذا ال�شيخ الكال�سيكي الذي يكتب عن انك�سارات الظالم يف ال�سجن �أن يقبل مثل هذه 11
الكتابة الدائخة ،وال �أعتقد �أن عينيه �ستعربان �أكرث من مرتني كتاب ابنه الطارئ هذا. – وملاذا مل تخربين �أنك تكتب كتاب ًا؟ كنت �ساعدتك على الأقل. �أعرف ،يف بريوت ،وديع جالل .جهبذ يف اللغة العربية ،و�أعرف �سليم طرياين ،عنده دواوين �شعر ،وعنده خربة يف... قاطعته و�أنا �أعرف �أنه يتكلم وفق اعتبارات خمتلفة متام ًا عن حقيقة الأمر... – مل تكن فكرة جادة يا والدي ،كانت جمرد هاج�س بعيد ،وعندما التقيت النا�رش �صدفة ،وقرر �أن كنت يف بريوت يف املرة الأخرية، ُ ُ يطبع كتابي. كتابي �أم كتابها؟ أ�سميه و�أنا �أن�سبه �إىل نف�سي �أمام �أبي؟ ماذا كان يجدر بي �أن � ّ ن�سجت الن�سيج ،وهي التي خاطته ،فلماذا كنت �أنا الذي ُ �إذا ُ تتحمل م�س�ؤولية �أكرب ،وتختزل م�سافة �ألب�سه الآن وحدي ،رغم �أنها ّ تد�س ا�سمها ال�شفاف بجوار ا�سمي ما �أبعد؟ �أمل يكن من املنا�سب �أن ّ دامت قد ارت ََك َب ْت معي كل �شيء يف الكتاب ،ثم � ْأك َم َلت الطريق �إىل نهايته ،و َن�شرَ َ ْت وحدها هذا الطل�سم القلبي امل�شرتك ،من دون علمي؟ تذكرت عندما ا�ستوقفتها ذات مرة ،وهي تقلب معي دفرت ُ أنت تن�سقينها مثل خواطرها ،ويومياتها غري املنتظمة ،قلت لهاِ �“ : كتاب ،حتى �أرقام ال�صفحات!” ،واب َت َ�س َم ْت من كالمي ابت�سام ًة ت�شبه ابت�سامة �أبي ال�سابقة ،وهزت ر�أ�سها قلي ً ال ف�سقطت خ�صلة كانت معلقة ب�شكل واه خلف �أذنها. 12
– كتاب مرة وحدة؟ ال� ،صعبة. هكذا �أجابت بخجل ،ثم �رصفت الكالم �إىل جمرى �آخر. كانت �صعبة هي الكتابة كما قالت ،ولكن يبدو �أن تن�سيق الكتب الأخرى ،والتطويح بها من بعد ،لت�صيب حياتي يف ده�شة ،مل يكونا بتلك ال�صعوبة ّ قط! عرفت �أن كتاب ًا با�سمي �أ�صبح على قيد احلياة، مر �أ�سبوعان منذ �أن ُ زلت حتى الآن �أت�ساءل عن مدى قدرتي على ويتداوله النا�س ،وما ُ حتمل م�س�ؤولية هذه ال�شهادة احلربية الدكناء .مل يكن هذا ما ي�ؤرقني فح�سب ،بل ال �أدري �أي�ض ًا هل كانت هي قد فكرت يف احتمال ي�شم �أبي رائحتها يف الكتاب ،ويظن �أن قلبي ما زال يفرز حب ًا، �أن ّ و�شجن ًا ،رغم �أنها تركت هذا املنزل منذ ثالث �سنوات على الأقل. ال �أدري كيف �سيت�رصف �إذّاك ،ولكن ما �أعرفه� ،أنه �سيحزن على ابنه الوحيد الذي ما زال يت�أمل ،كما يقول الكتاب ،وت�ضيع بذلك كل حماوالتي لإقناعه ،طوال هذه ال�سنوات الثالث ،ب�أين تغريت، وجتاوزت الدوخة العابرة ،و�رصت �أقوى ،و�أكرث حكمة. و�أفقت، ُ من حق قلبه ال�سبعيني �أال يدفع �رضائب قلبي الع�رشيني وخيباته ،وهي البد �أنها مل تفكر البتة يف هذه ال�ش�ؤون ال�صغرية بني ابن و�أبيه ،وال ترتكب كل هذه الفو�ضى فج�أة .منذ �أن �شق وجودها �أدري ملاذا ُ نعول عليه ق�رشة هذه الأ�رسة ال�صغرية وهذا الن�سيان البطيء هو كل ما ّ لن�ستعيد حالة بيتنا املعتادة. حبها ولأننا متفقون على كل �شيء، ُ اتفقت �أنا و�أبي و�أمي على ّ مع ًا ،وفرحنا بها مع ًا ،والتقيناها مع ًا ،وحجزنا مكانها مع ًا ،وح�سب 13
هذا ال�سياق ،كان من املحتم �أن نحزن عليها مع ًا ،بعد �أن فوجئنا بظروفها ال�صعبة ،واحل�صار الذي فر�ضه عليها ّ قطاع الأمل ،وت�أملناها وهي تخرج من امل�شهد ببطء مثلما دخلت ،و�صار بيتنا مليئ ًا بحزن معقد ،يقبل الق�سمة على ثالثة ،وال يقل �أبداً. كان ح�ضورها وغيابها ،واالحتمال الفائت الذي كاد �أن يحول عددنا يف البيت �إىل �أربعة� ،أقوى �رضبة تتلقاها الأ�رسة منذ دخل �أبي ال�سجن ،والآن نحن نحاول �أن نطرد من هذا البيت ثالثة �أحزان ذات �أعمار خمتلفة ،و�آخر ما يحتاجه هذا البيت� ،أن �أخون وحدي هذه املحاوالت اجلادة ،و�أكتب كتاب ًا! كانا يكربان بهدوء .يتحوالن �إىل عجوزين ،و�أنا معهما! كلنا نحمل القدر نف�سه من الطاقة ،و�س ّلة الأفكار نف�سها ،وحتى ف�صيلة الدم ،وكلنا نكره عادات املدينة ،ونتفق على �أن يبقى البيت �صحيح ًا، و�سليم ًا ،ما دامت املدينة �صعبة وخاطئة .ومل يبخل �أي منهما ب�أي �صحي ًا للحياة ،لي�س معنوي ًا فقط ،بل �إن �أبي جهد ليجعل البيت مكان ًا ّ و�ضع يف كل غرفة من غرف البيت ،جهازاً لتنقية الهواء ،وو�ضعت �أمي قوائم للطعام جتعل الأكل يف املطاعم اخلارجية خياراً خالي ًا من أدخلت الفريو�س احلزين �إىل �أجواء البيت اجلاذبية متام ًا ،ووحدي �أنا � ُ تعود بالفعل حالته الثالثية الآمنة ،و�أحدثت اخللل يف املكان الذي ّ الأزلية ،ومل يرتجم نف�سه بعد �إىل حالة �أخرى. حل�سن احلظ ،كانت عائلتنا من ال�صغر واحلياد بحيث �أ�شاحت عنها املدينة املغرورة بوجهها ،ومل حتفل ب�إيذائها كما تفعل مع �آخرين. اعتقدت �أن هذه احلالة املرنة مفيدة جداً يف مدينة كالريا�ض، كثرياً ما ُ 14
ال ميكن فيها �أن نتنب أ� من �أين �ست�أتي ال�صفعة االجتماعية القادمة، ولهذا ال�سبب ،ل�سنا يف حاجة �إىل الكتب ،وال الأحزان املتجددة. كان حري ًا بها �أن ت�ساعدنا على ن�سيانها بد ًال من �أن تنفخ الكدر القدمي يف وجوهنا مرة �أخرى. حتى اجلريان كانوا يت�شابهون معنا كثرياً .اخرتنا جميع ًا �أن نقيم على حافة املدينة ،ما دام خروجنا �إليها حمدوداً ،لأن �أبي تقاعد منذ زمن طويل ،بينما تقت�رص �صداقات �أمي على ن�ساء قليالت ،ولذلك ا�شرتى �أبي البيت قريب ًا من اجلامعة من �أجلي فقط ،و�أ�ستطيع من نافذة غرفتي �أن �أرى بهوها ال�شاهق ،ومبانيها ال�شهباء ال�ضخمة ،وال �أحتاج �إال �أن �أ�ستدير ب�سيارتي عرب الطريق الدائري الغربي حتى �أكون يف حرمها املزدحم بالطالب. كبري يف ال�سن ،تبنى طف ً معوق ًا بعد �أن وهن جارنا تركي ،رجل ٌ ال ّ العظم منه ،وا�شتعل ر�أ�سه �شيب ًا ومل يهبه اهلل ولداً مثل زكريا .كثرياً ما كان ي�ست�ضيف �أبي يف خيمته ال�صغرية امللحقة ببيته بعد �صالة املغرب، ويق�ضيان بع�ض الوقت يف الكالم ،وم�شاهدة الأخبار ،قبل �أن يخرجا مرة �أخرى �إىل �صالة الع�شاء .كان طيب ًا وعفوي ًا ك�سائر الذين مل متت يف قلوبهم ع�شبة القرية بعد. ا�ستيقظت ذات �صباح على �صوته وهو يناديني من �صالة بيتنا! وبقيت وحدي نائم ًا ،وملا جاء مو ّزعو كان �أبواي قد خرجا باكراً، ُ �رشكة الغاز حلقن خزانه الكبري يف جانب البيت كما يفعلون عادة كل عدة �أ�شهر ،مل �أجب دقاتهم على جر�س الباب ،ومل تفعل اخلادمة �أي�ض ًا ح�سب قوانني �أمي ،فكادوا �أن ين�رصفوا لن�ضطر �إىل انتظارهم 15
مرة �أخرى �أ�سابيع طويلة ،ولكن جارنا تركي ت�شبث بهم ،وراح يطرق الباب ب�شدة حتى فتحت له م�أمونة ،خادمتنا ،التي ال تفتح الباب للغرباء مطلق ًا ،وال ل�رشكة الغاز. – يا ح�سان ...يا ح�ساااان... خرجت من غرفتي فزع ًا من هذا ال�صوت الغريب الذي مل ت�سمعه ُ من قبل جدران بيتنا .وجدته واقف ًا يف منت�صف ال�صالة ،وقد ّ غطى جبينه العرق ،بينما كانت م�أمونة تقف عند مدخل ال�صالة ،وهي زلت �أفكر كيف تراه تقلب عينيها بقلق بيني وبينه� ،أجبته و�أنا ما ُ و�صل �إىل هذه النقطة من عقر البيت وحده ،و�أين �أبي و�أمي؟ – يا ولدي ما تقوم ت�شوف حقني الغاز بغوا يروحون ويخلونكم؟ – �سم يابو فهد ،واهلل كنت نامي... – لو �أنهم راحوا كان ما ت�شوفونهم �إال بعد �شهرين! – يا �ساتر ،ال ..ال ..خري ان �شاء اهلل. غ�سلت وجهي على عجل ،و�أنا �أ�ضحك من عفويته الفجة تلك، ُ نزلت م�رسع ًا لأوافيهم عند الباب ،كان ال يزال واقف ًا معهم، وعندما ُ حياين حتية ال�صباح وهو يه ُّز ر�أ�سه ب�أ�سف ،قبل �أن يدور على عقبيه، ّ املعوق ،قد بلغ احلادية ع�رشة من عمره ويتجه �إىل بيته .كان ابنه فهدّ ، يعرج ب�شدة ،ويتكلم ب�صعوبة ،ويجل�س متام ًا يف كنف هذا الرجل، ُ دائم ًا �أمام باب املنزل ،يراقب ال�سيارات الذاهبة والآتية ،وال ريب �أنه هو الذي �أخرب �أباه ب�سيارة �رشكة الغاز التي تدق بابنا. يف اجلهات الأخرى تناثر جريان �آخرون ،ما بني الكثري من امل�ساحات الفارغة .كان احلي جديداً ن�سبي ًا ،تنمو فيه في ّ ال رمادية 16
جديدة كل عدة �أ�شهر ،وحتتل م�ساحة من الأفق .وكلما انتهت �إحداها، وانتقل �إليها �ساكنوها ،طرق بابهم جارنا تركي ،و�أقام لهم وليمة ع�شاء ال نغيب عنها �أنا و�أبي مطلق ًا ،وهو الذي قاد حملة لدى وزارة ال�ش�ؤون الإ�سالمية لتغيري �إمام احلي ،لأنه يرتّل القر�آن مثل الأنا�شيد الإ�سالمية، ولي�س مثلما تعودوا ،وال يحرتم كبار ال�سن ،ويت�أخر يف احل�ضور ل�صالة الفجر ،وعندما ي�أتي يكون امل�ؤذن قد �أ ّم النا�س ،و�صلى .كان تركي هو املحور االجتماعي للحي ،عنده تت�صل الو�شائج ،و�إليه تنتهي كل �أخبار احلي ،ولوال وجوده ال�رضوري ،النعزلنا متام ًا عن كل من حولنا ،لأن �أبي مل يكن اجتماعي ًا على الإطالق ،وال �أنا.
**** كان واحداً من �أغرب �أيام حياتي! ال�ساد�سة م�سا ًء ،ات�صل بي ٌ رجل ال �أعرفه ،وال هو يعرفني ،و�ضاعت عدة جمل يف احلوار امل�ضطرب و�أنا �أحاول تف�سري �أ�سلوبه وهو يتكلم ّ وظل يفرت�ض طوال متلق للمكاملة ،ولي�س هو الذي ات�صل، وك�أنه ٍّ كنت �أنتظرها منه� .سادت حالة من عدم التفاهم ،وكنت الوقت �أنني ُ زلت �أحاول فك رموز املكاملة، قد تواً من النوم ،وما ُ ُ ا�ستيقظت ّ وتو�ضيح ال�صورة ب�صعوبة ،وعيناي جتو�سان يف ظالم الغرفة .راح �صوته يبعرث غيوم النوم ،ويعيدين �إىل يبا�س اليقظة ،وهو يكرر اجلملة نف�سها �أكرث من مرة“ ،فيه ظرف ،”..ما يتنافى مع رغبته ال�رضورية يف ورحت � ُ أفرك جبيني وك�أين �أ�ستح ّثه اعتدلت �إثر �ضجعتي، التو�ضيح. ُ ُ 17
خل�صت على الفهم ،وبعد حماوالت عديدة مع لغته العربية الركيكة، ُ �إىل �أنه يحمل يل طرداً من بريوت ،ال �أكرث. كنت م�ستمراً يف تقليب قبل هذا مل يكن ثمة جديد يف حياتيُ ، نفرق ظاهره من باطنه، الأيام مثل ن�سيج من ال�صوف ،ال ميكن �أن ّ و�سعيداً بهذه احلالة ال�صوفية �سعادة الذي ما زالت على جلده �آثار عراء وبرودة ،ومل يكن خيط ال�صوف لتلك الليلة ليختلف عن املعتاد، بل كان �أه ً ال يف عاديته لأن ين�ضم �إىل الن�سيج ،و�إىل العامني امل�سطحني مرا على حياتي ب�سالم وتوا�ضع ،لوال هذه املكاملة الب�سيطني اللذين ّ أدون يف ورقة �صغرية قرب �رسيري التي نكثت العهد ،وجعلتني � ّ عنوان مكتبة الزهراء ،لألتقي هذا املجهول الذي وراء الطرد. طفيف بالرهبة و�أنا �أنهي املكاملة .هل كان احلد�س �شعور دهمني ٌ ٌ �شممت رائحة امر�أة بعيدة َّ فكرت ّ يف فج�أة� ،إنْ كانت للأفكار �أم �أين ُ روائح ميكنها �أن جتو�س يف ليل مدينة ب�أكملها؟ عادت يدي لتلتقط وعدت لأ�ضطجع على الهاتف مرة �أخرى ،وتبحث عن رقم �أمين، ُ ال�رسير يف انتظار رده. – مرحب ًا. – �أمين ،هل تورطنا يف عالقة ما يف بريوت ،ون�سينا؟ وي�ضحك �أمين ،و�أنا � ُ أفرك عيني من ثقل النوم ،و�أحاول �أن �أرتب حريتي بهذه ال�سخرية املفتعلة. – رمبا ،لي�ش ت�س�أل؟ – �شخ�ص ات�صل بي الآن ،ويقول �إنه يحمل طرداً من بريوت، با�سمي. 18
– رمبا خمالفة مرورية. – طرد يا �أمين� ،أية خمالفة هذه التي بحجم طرد! – رمبا ر�ضيع �إذاً ،مرت ت�سعة �أ�شهر على عودتنا .وال �أعرف بال�ضبط كيف كان م�ستوى ذنوبك. – �أقل بكثري من ذنوبك يا عزيزي .مع ال�سالمة. ولفرط ا�ستتباب �أيامي وب�ساطة جمرياتها �آنذاك ،كانت فكرة أ�شخا�ص وراءه ،مثرية جداً، ب�سيطة ،مثل �أن �أتنب أ� بطرد جمهول و� ٍ ولذلك قررت �أن �أنه�ض من ال�رسير وال �أكمل نومي ،وعندما دخلت ركزت �أفكاري �إىل م�ستوى يقلل الكثري من �إثارة انتعا�ش اال�ستحمام، ُ الأمر .رمبا كان طرداً دعائي ًا من الفندق مث ً ال( ،ولكن ملاذا ال ي�صل �إىل بريدي؟) رمبا كان طرداً خاطئ ًا مبا �أن الرجل الذي ات�صل مل يذكر �سوى ا�سمي الأول فقط. كنت �أنا والطرد وحدنا ،يف ال�سابعة والربع بعد �ساعة تقريب ًاُ ، من ليل الريا�ض املزدحم� ،أجل�س يف �سيارتي التي ركنتها يف طرف احلي الذي فيه املكتبة ،ي�أتيني عن قرب �ضجيج ال�شارع العام ،ومن ورائي يرتدد �أزيز امل�آذن التي بد�أت حت�شد م�ص ّليها ل�صالة الع�شاء ،وال �أزال� ،أتذكر تفا�صيل املوقف ،و�صعوبة تغليف ذلك الطرد املتوا�ضع، والكتاب الذي �صافح ده�شتي الكبرية ،بكل �صلف وبرودة. أولية يف حنجرة ملأى بالبوح ،ولي�س كان عنوانه يبدو مثل �شهقة � ّ بو�سعي �أن �أنفي �أُلفته و�أنا الذي اخرتته �أ�ص ً ال ،ولكنه كان �آنذاك نائم ًا خاو من مواقع متعرقة ،يف موقع ٍ بني دفتي �سطر ما ،يف �صفحة رمادية ّ الإنرتنت ،ال يطرقه �إال �أنا وقلة معدودة ،ولكنه الآن يبدو خمتلف ًا ،وال 19
ميكنني �أن �أتفاهم معه وقد �صار مدموغ ًا بهذا احلرب الأحمر على هامة كتاب. أملت كان الفهم يتباط�أ يف عقلي وك�أنه ال يريد �أن يكتمل .ت� ُ الكلمتني اللتني ّتربعتا فوق الغالف ،مت�شجرتني مثل عروق ورقة و�صيتني على كل ما وراءه من �أوراق عديدة يتيمة ،ال العنب، ّ أملت ا�سمي الذي يرت ّبع فوق العنوان مثل عالقة يل بها �إطالق ًا ،وت� ُ �أحفورة بازلتية ،ومينحني وهم ًا بالثبات ،واالنتماء ،والإ�شارة ،مثل �شعرت ب�أن ا�سمي فوق الكتاب ال ي�شبهني كثرياً ،و�أنه كل الأ�سماء. ُ مريب وخائن ،ولكنه يف النهاية ،كان يلتوي على �شخ�صيتي مبا ٌ يحمله من �أدلة كثرية ،وي�شري �إىل وجهي ،ك�سهم معقوف. من ر�آين من العابرين بجوار �سيارتي فقد ر�أى فمي مفتوح ًا، وحاجبي معقودين ب�شدة ،بينما كانت طاحونة الأ�سئلة تدور يف ّ عقلي بجنون .ما هذا الكتاب الذي يحمل ا�سمي؟ من ن�رشه؟ من طبعه؟ �أنا ال �أعرف �شيئ ًا عنه على الإطالق ،ال �أعرف �أوراقه املنزوعة من جذع �شجرة ،واملعجونة يف �آلة م�صنع ،وامللقاة يف جوف مطبعة، ولكني بال �شك م�س�ؤول عن كل هذا ،والكالم الذي فيه يدينني بب�صمة الكتابة ،ولهذا هو الآن �أمام وجهي املت�شنج ،يف ال�سابعة والربع من ليل الريا�ض ،يف حي من �أحيائه العادية. وزفرت حتى حركت زفرتي ب�ضع وريقات و�ضعته جانب ًا، ُ على تابلوه ال�سيارة ،ورحت �أجو�س بيدي خلف مقودها لأ�صل �إىل املفتاح ،وعيناي تت�ساقطان على م�ساحات ال�سيارة ال�ضيقة من الداخل ،و�أ�شعر بدوخة طفيفة تتمدد يف ذهني ببطء. 20
ماذا يعني ما �أنا فيه الآن؟ وكيف يجب �أن �أت�رصف لكي �أقطع الطريق على من يحاول �إدها�شي بهذا ال�شكل املتعب؟ ال ميكن �أن يكون الفاعل معجب ًا عابراً بالكالم الذي �أل�صقته على حائط الإنرتنت لأين مل �أدونه با�سمي كام ً واكتفيت بالهوية ال، ُ الناق�صة ،وال ميكن �أحداً �أن يربط بيني وبني الكلمات �إال �إذا تتبع �أثر احلب ،وا�ستطاع �أن ي�شم رائحة الظروف ،ويقر أ� رموز احلكاية ،وال أحد يعرف هذا القدر من التفا�صيل �إال �أنا ،ووزان ،وغالية. يوجد � ٌ درت بال�سيارة ،وعدت �إىل املكتبة مرة �أخرى بعد �أن خطرت يل ُ فكرة �أن �أ�ستنطق الرجل الذي �س ّلم �إ ّ يل املظروف عن معلومات �أخرى، فهناك ٌ ترجلت ،و�س�ألته خيط مفقود يف هذه الليلة البولي�سية ال�صغرية. ُ باذ ًال كل اجلهد �أن �أبدو هادئ ًا وال مبالي ًا ،وال �أدري مدى قدرة هذا الرجل على قراءة وجهي� ،إال �أنه مل مينحني �إال �إجابة �صغرية بالكاد الكث� .أخربين �أن مندوبهم �إىل معر�ض الكتاب يف تتجاوز �شاربه ّ بريوت التقى رج ً ال ما ،طلب �إليه �أن يحمل الن�سخة معه �إىل الريا�ض، وي�سلمها ل�صاحب هذا الرقم ،ال �أكرث. حركت �سيارتي مرة �أخرى وهي حتمل داخلها رج ً ال وكتاب ًا، ُ يعرف �أحدهما كل �شيء عن الآخر ،ولكنهما يجهالن كل اجلهل ملاذا هما مع ًا الآن .كان عندي لغ ٌز �صغري �أ�سهر عليه الليلة ،و�أرتّب عدت �إىل البيت، هذا اخليط ال�صويف الذي بدا نا�زشاً عن البقية ،ولهذا ُ و�صعدت �إىل غرفتي من الدرج اخلارجي مبكراً عن موعدي املعتاد، ُ والدي لأين الذي �أ�ستخدمه دائم ًا عندما �أحاول جت ّنب املرور مبجل�س ّ �أحتاج �أن �أبقى وحيداً� ،أناق�ش كتاب ًا عاد �إ ّ يل مثل قارورة حرب رميتها 21
يف املحيط قبل �سنتني ،ف�سافرت عك�س االجتاه. رحت �أقر أ� يف مواقع ع�شوائية منه كلما منحني االرتباك فر�صة ُ لذلك� .إنه كتابي فع ً ال ،ولت�سقط كل احلاالت املريبة التي تف�صلني عنه الآن ،ورغم تلك الرائحة الغريبة التي تفوح من �صفحاته الكثرية، ورغم جفاف احلروف املطبعية التي ال تريد �أن تع ّلق كثرياً حول ميد عروق ًا �أفعوانية لي�شتبك الظروف التي خلقتها ،فقد �شعرت به ّ ُ معي ،ويخرتق �صدري بلطف ،معلن ًا فعل العودة ،بعد �سنتني من املرة الأخرية التي علقت فيها كلماته الكثرية على املوقع ،يف هيئة �أخرى، وعلى �شكل خمتلف متام ًا .ثم هجرته ك�أن مل يكن ،ومل يولد. ا�ست�شعرت يف قربه دفئ ًا غريب ًا ملاذا عاد متنكراً بهذه ال�صورة؟ وملاذا ُ رغم تنكره ،و�صمته ،وعتابه الطفيف الطافر على غالفه الأبي�ض، وال�سلم الذي ي�صعد وينتهي قبل الو�صول .دهمني �إح�سا�س العودة كنت حرثته من قبل ،يوم كانت �أوجاعي متلأ هذه �إىل حقل قدميُ ، طي ًا ،ووجهي منق�سم ًا الغرفة ،وجواد احلب الأ�صهب يطوي قلبي ّ بني الليل والنهار ،ورائحتي تف�ضح هرمون احلب العظيم ،قبل �أن يغادرين الزمن جميعه ،وتتوقف �ساعتي. خالل زمن ق�صري ،قر� ُأت كل كلمة ،وبدت كل كلمة خمتلفة فع ً ال. �أتذكر �أماكنها جيداً عندما كانت معلقة فوق �شا�شة املوقع الذي ن�رشتها فيه تباع ًا ،والآن هي يف �أماكن خمتلفة من هذا الورق ،و�أنا �أعيد ترتيبها يف داخلي ،و�أت�ساءل عن غالية ،كيف رتّبتها �أي�ض ًا ،وهل �أ ّدت هذه الكلمات الر�سولة ر�سالتها الطويلة� ،أم �أنها مل تكن كافية ل�سعي كهذا؟ ٍ 22
هي التي ن�رشت هذا الكتاب حتم ًا .اتك� ُأت على هذا اال�ستنتاج املبكر ،لعلي �أرتاح قلي ً ال .كانت الده�شة على و�شك االنطفاء، واالحتماالت الكثرية املتوقعة لهذا احلدث قد مات معظمها يف الطريق ،و�صارت عندي �صورة �أكرث و�ضوح ًا ملا ميكن �أنه حدث، وكيف كانت ماهيته وخطواته .لقد و�ضع املنطق �أمامي حلو ًال مريحة ،و�إن بقيت عندي �أ�سئلة �أطول قلي ً ال منه. ومنت ،لعلي �أطفئ عقلي قلي ً ال حتى دحرجت ر�أ�سي على و�سادتي ُ ُ ال جتد فيه احلرية م�ساح ًة متاحة لالنت�شار ،ولكن نومي جاء �أبعد ما قمت يف منت�صف الليل، منت يف �ساحة حربُ . يكون عن هذا ،ك�أين ُ متعرق ًا ،ويف بطني مغ�ص طفيف من اجلوع ،وال �أ�شتهي �شيئ ًا. ّ وقت كهذا عادة� ،أعرف �أن ال مالذ لوجهي وعندما �أ�ستيقظ يف ٍ البائت �إال املزرعة .كان يف هاتفي ات�صال مل �أرد عليه من �أمين ،وكان �أمامي �ساعتان على الأكرث ميكنني �أن �أجد خاللهما �أحداً �أجال�سه و�رشبت الع�صري الذي وجدته يف مكانه أهبت على عجل، ُ هناك .فت� ُ وخرجت من املنزل و�أنا �أ�شعر ب�أن العا�صفة الرتابية املعتاد من الثالجة، ُ التي يف اخلارج ،ال تقل عن تلك التي يف ذهني على الإطالق.
**** ومرهق جداً .منذ مدة طويلة وعقلي مرتاح من هذه حائر �أنا، ٌ ٌ ال�صداعات املفاجئة .كانت لدي نزعة �أن �أك�سو احلكاية كلها ب�أ�سو�أ النيات املحتملة ،و�ألوم غالية على تخريب هدوئي ،و�إعادة االرتباك ّ 23
�إىل بيتنا بهذا الفعل ،ولكني �أفكر دائم ًا �أن امر�أة �أحببتها �إىل هذا احلد ،ال ميكن �أن تخرتع يل هذا الأذى بدون �سبب ،وال بد من تربير منا�سب. لعلها قر�أت حزين عليها و�أرادت �أن ت�شفيني مث ً تعر�ضني ل�ضوء الّ . �شخ�صته لها ال�شم�س الباهر حتى �أ�شفى تدريج ًا من وبائي ال�صعب الذي ّ كتابتي ،ومل تنتبه �إىل �أن الأمر قد يبدو وك�أنها حتاول �أن حترقني عمداً، وهذا ال�ضوء الذي يغمرين الآن يتحول �إىل �شعاع حارق تُب ِّئر ُه العد�سة علي فج�أة ،ولن �ألبث �أن �أ�شتعل حتتها مثل منلة تاهت عن التي �سلطتها ّ م�سارها ،ومل ت�صل �إال �إىل جحيم غري متوقعة ،جاءتها من الأعلى. ال �أ�ستطيع �أن �أثبت ّنياتها املحتملة ،وال �أ�ستطيع نفيها �أي�ض ًا .حتى الآن مل �أت�أمل ل ّ أ�ستدل على �أنها حتاول �أن حترقني فع ً ال بن�رشها الكتاب، قابع بني يدي ولكني �أرى �أن ال�ضوء املريب ما زال هنا ،والكتاب ٌ كطفل مهمل يتقاذفه �أبواه ،والتقومي الطويل الذي يقي�س م�سافة فراقنا ال يجيز يل �أن �أطرح ال�س�ؤال عليها مبا�رشة. عدت �إىل الكتابة من منت�صف ولهذا �أنا �أكتب الآن ،مرة �أخرى. ُ وكنت �أعتقد �أن الذين ال يعرفون ،عاد ًة ين�رصفون الفهم امل�رشوخ، ُ �شحت بي املعرفة ،رحت �أكتب! هذه للقراءة ،وحدي �أنا كلما ّ عادات الرجل الذي ال يتحمل جبينه وط�أة احلرية ،في�رصفها �إىل يده و�أ�صابعه ،وك�أين �أريد �أن �أعلن هنا ،بني رفاقي اجلدد الذين نرثتهم علي بن�رشها للكتاب� ،أن املحر�ض الأكرب للكتابة بعد احلب ،هو هي ّ ا�ستع�صاء الفهم ،ولي�س وفرته! لأن �شيئ ًا من �رصير القلم ي�شبه حفيف املكن�سة وهي تقنع الأر�ض ب�رضورة النظافة ،ولهذا ظ ّلت الكتابة 24
عندي حاجة ملحة كلما تراكمت الفو�ضى فوق قلبي ،وال �أ�ستغني عنها ب�سهولة من �أجل حياة �أكرث توازن ًا و�أمان ًا ،مثل املخمور ،البد �أن �سطر م�ستقيم ،حتى يتبدى له مدى �سكرته. مي�شي على ٍ تدربت �سابق ًا على �أال �أ�سمح لأ�سئلتي ب�أن تطرح نف�سها لوال �أين ُ ال�سبت هذه .ما ات�صلت بها يف ليلة ك�أ�سباب كافية لالت�صال ،لكنت ِ ُ زلت �أحتفظ برقمها املعقد يف هاتفي لأ�سئلة �سوداء كهذه التي حترق تو�سلت �إليها ما دامت راحلة �أن تُبقي العقل مثل قطرات من احلم�ض، ُ يف يدي طرف خيط يقود �إليها عندما ت�ضطرين ظروف جارفة �إىل مرجل من�سي على النار ،والروح طافر مثل ٍ حماقة االت�صال ،والقلب ٌ مري�ضة جداً مثل �شيخ يحت�رض ،والريا�ض هامدة حتت وط�أة ليلة �صيفية ثقيلة. �أتعرف هي الآن ماذا كان من �أمري منذ و�صلني الكتاب ،بقدر ما عرفت بالت�أكيد من الكتاب نف�سه ،كل ما حدث يل قبل ذلك؟ �أم �أنها ْ �ستنتظر مني �أن �أكتب مرة �أخرى لأخربها عن بقية امل�سل�سل؟ ال ريب �أنها مل تعد تعرف كل ما يكون ،فقد ُن�رش الكتاب وانك�شفت �صفحة أ�صب َح ْت كل �صفحة جديدة من من �أ�رساري على ملأ ال �أعرفهم ،و� َ حياتي حتتاج �إىل كتاب جديد لتعرف هي ماذا ح�صل فيها .هكذا نحن� ،أنا وهي ،نتوا�صل بهذه الطريقة ال�سميكة املريبة� ،أكتب كالم ًا، فتن�رشه هي ،من دون �أن تع ّلق عليه بكلمة واحدة ،ف�أجدين م�ضطراً لأن �أكمل الأداء الذي مل �أتفق مع �أحد عليه ،وتتوقف هي عن ن�رش كنت �أقر�أها ع�رشات املرات ،لع ّلي �أظفر منها ب�إ�شارة مقاالتها التي ُ رمزية ما� ،أو �شفرة معلقة ،بال جدوى ،وك�أننا �أطفال مل نبلغ من 25
لتحمل البقاء مت�صلني ،ي�ساعد �أحدنا الآخر على ما الر�شد ما ي�ؤهلنا ّ بعد احلب ،كما كنا نفعل �أثناءه� ،أولي�س هذا هو الوقت الذي نحن فيه �أحوج ما نكون �إىل تلك امل�ساعدة؟ ماذا يعني �أن تعرف هي بالتف�صيل خريطة �آالمي ،بكل االجتاهات، علي متام ًا من نقطة بدايتها� ،إىل نقطة نهايتي ،يف الوقت الذي ي�صعب ّ اجلوال ،و�أخربها �أين حائر جداً ،حتت وط�أة كتاب �أن �أحمل هاتفي ّ مفاجئ �أ�صابني يف َّ الظهر؟ ات�ص َلت هي فيها ،ومن خلف �أو َم�ضت يف ذاكرتي تلك املرة التي َ علي التحية ،فقط �صوتها تتهادى مو�سيقى �أعرفها جيداً ،مل تلق ّ هتفت بي�“ :إ�سمع� ،إ�سمع”. ت�صاعدت املو�سيقى بعد هذا قلي ً ال ،ثم �أطلق حممد عبده �صوته: ولهاااااااااان. ولهاااان. ولهان. �أنا باحليل ولهااااااان. خليتي وقتي :انتظار. خليتي وقتي :انتظار. الليل ما هو ليل. ماهو ليل. ماهو ليل. ونهاري ما هو نهار! 26
َ�س َح َب ْت �سمعي يف ات�صال عابر �إىل �أغنية من �أواخر الثمانينات ،لأنها �أرادت فقط �أن �أ�شاركها يف �شجن اللحظة ،بغ�ض النظر عما �إذا كنت م�شغو ًال �أو ال ،والآن يل �أحزانٌ ت�شبه �ساح ً ملوث ًا بالزيت ،وال ال ّ �أ�ستطيع حتى �أن �أنقر هذا الرقم ال�صعب النائم يف ذاكرة هاتفي مثل لغز خائب ،ال �أدري متى ي�أتي حله! هي حتب حممد عبده كما حتب املطر والغيوم ،و�أتذكر دائم ًا �أن مقالها يف اجلريدة جاءت فيه العبارة التي دفعتني مرة �أن �أهدي �إليها جمموعته املو�سيقية الكاملة ،وعليها توقيعه �شخ�صي ًا�“ ،أغنياته �أثرت يف ت�شكيل ال�سلوكيات الرومان�سية جليل كامل من البلد ،مدر�سة ثقافية حبنا ب�أغنياته، كبرية من الغناء لأجل احلب والوطن” .ولهذا ّلونت كل ّ حتى مل يبق لنا ذكرى مل ي�شاركنا فيها هذا الرجل ،ويقت�سم معنا كل �رصت أ��ؤرخ زماننا الوقت احلميم ،وكل اللحظات اخلا�صة ،ولذلك ُ ب�صوته ،و�أربط املوقف بالأغنية ،والأحزان بالأحلان ،حتى تداخلت يف ذاكرتي كمية هائلة من الكلمات والنغمات ،ن�سجت يل �شجن ًا طوي ً ال جداً. وحتول �إىل غابة من الأعواد اجلافة ،ميكن الآنّ ، جف هذا ال�شجنّ ، �أن حترتق يف �أي حلظة ،وحتت رحمة �أي مذياع ،و�أ�صبح حممد عبده، بالع�رشات من �أ�رشطته التي كانت متلأ الغرفة وال�سيارة ،جالداً �أليم ًا، ال �أجر�ؤ �أن �أبعثه من قمقمه ،وال �أحتمل �أن �أتعرث به يف قناة تلفزيونية �أو جريدة. امل�شكلة �أنهم �صاروا يذيعون �أغنياته كثرياً هذه الأيام .وما زال يرهقني �صوته كثرياً ،رغم ذبويل ،و�إعالين وفاة القلب ر�سمي ًا منذ 27
جنحت ،كما ي�شهد �صديقاي وزان و�أمين ،يف خنق �سنتني ،ورغم �أين ُ عملي ودقيق� ،صفّقا له طوي ً وجنوت بذلك من ال، ق�صة حبي ب�شكل ُ ّ التحول �إىل مري�ض �آخر يف التاريخ .لكني �أحيان ًا� ،أتنازل عن هذه أ�رشب الرغبة امللحة يف التوا�صل ،و�أدير وجهي جهة ال�شجن ،و� ُ اللحن القدمي نف�سه الذي يف�رس قلبي الآن بكل ف�صاحة. رحتي ..رحتي.. و�شاغلني �س�ؤال.. �شاغلني �س�ؤال.. �ألقاك� ..ألقاك؟ �أو هذا حمال؟ . “ح�سب الظروف.. و.. ..داخلني خوف!”
**** يخدرين �إىل �أجل كانت كتابة الرواية ت�شبه زرع حقل من الأفيونّ ، م�سمى .ف�صد مني الكثري من الكالم ،كي تعود الروح �إىل دورتها ّ املطمئنة عدة �سنوات ،قبل �أن يرتاكم كالم �آخر ،ت�ضيق به امل�سارب، والطرقات ،وحماوالت التفادي والإنكار ،وتنمو على القلب مرة �أخرى �أع�شابه الع�شوائية املعتادة ،وينتابني ال�صحو امل�ؤمل عندما ينتهي مفعول الرواية ال�سابقة. 28
أمر بحالة �شبيهة الآن ،وك�أن �أظفاري تنمو �أ�رسع من يبدو �أين � ّ املعتاد ،ويدي حبلى ب�أ�شهر طويلة من ال�صمت والتدخني .عندي ٌ أ�سوي ّنيات كثرية ،ولي�س عندي هدف وا�ضح هذه املرة� ،إال �أن � ّ وعثاء الروح ،و�أ�شذب الأ�شجار واحلديقة ،و�أكن�س الر�صيف الطويل نف�سه ،للمرة الثانية. كان غريب ًا فع ً �شمت رائحة يدي املت�أهبة للكتابة عن هذا ال �أن غالية ّ البعد ،وفعلت ما فعلت ،ال �أدري هل لت�شجعني على حالة �أخرى علي �صوراً قدمية جل�سدي امللآن من احلجامة احلربية� ،أم لتعر�ض ّ بالثقوب ،حتى ال �أكرر حماقتي. أف�س َدت كل �شيء ،عندما تنازلت طوع ًا عن طقو�س �أن �أكتب لقد � َ ين �آنذاك �أن عينيها اجلميلتني لها وحدها ،وا�ضع ًا يف اعتباري الإلكرتو ّ هما كل من �سيدخل بيت القراءة ،ويعرب فوق الكالم ،حتى �أين ال ألتفت �إىل ثيابي وذقني عندما �أكون �ألتفت �إىل النحو والإمالء ،كما ال � ُ يف البيت. رمبا هي اختارت �أن تعبرُ ين �إىل طقو�س �أكرث رحابة من ترتيلي املخنوق ذاك ،مثل �صفحات اجلرائد مث ً ال� ،أو رفوف املكتبات، ودكاكني النا�رشين ،وبيوت النا�س؟ ولكن �إذا كانت هذه حقيقة، و�أنها (ترنج�ست) من بعدي كما مل �أعهدها من قبل ،فكيف تراها �ست�ستفيد من ن�رش الكتاب بهذا ال�شكل ،وكل �شيء فيه ممو ٌه بالرمز، وما زال ا�سمها فيه مقف ً ال وجمهو ًال ،مثل جوزة م�صمتة �ضائعة يف غابة كثيفة؟ أقف �شاهداً أعيد قراءة نف�سي ،وكتابتها مرة �أخرى ،و� ُ ها �أنذا � ُ 29
فوق من�صة هذا الكتاب ،لأب�رص كيف بدت �أيامي مثل علبة احلائك، إبر خمتلفة الأحجام ،كلها قادرة على الوخز .ال �أدري كيف فيها � ٌ ت�صورت مرة �أن �أيامي مت�ساوية يف حجمها ،مت�شابهة مثل �رسب، ُ وركنت �إىل حالتها اخلطية تلك ،ولكني �أرى الآن �سل�سلة من الأيام ُ يوم ي�شبه الرحى ،عنده منهج خمتلف الغليظة ،مرتاكمة يف كتاب ،كل ٍ يف الطحن ،بينما كانت تبدو بالن�سبة يل طوال �سنتني من نقاهة احلب، وب�سمت واحد ،كفريق مثل كائنات نحيلة ،مت�شي يف اجتاه واحد، ٍ مهزوم ين�سحب ببطء. التقيت �أمين تلك الليلة ،عاودتني الفكرة يف منت�صف وعندما ُ اكت�شفت مت�أخراً ،كعادتي يف فهم الزمن� ،أن اليوم احلوار ،عندما ُ هو �أول �أيام ال�سنة الهجرية ،ولذلك وجدت نف�سي �أحاول �أن �أعيد �صوغ فكرتي لأ�سمح لأمين مب�شاركتي فيها .هو الذي كثرياً ما ت�أفف معي من الزمن ،وك�أننا �شيخان يف �أرذل العمر ،جنل�س يف و�سط هذه التداعيات ال�ساخرة ،ونتبادل تعليقات ال متت ب�صلة �إىل وقتنا ومكاننا �أبداً ،ون�سكب الزمن ،لنكت�شف فيه كل خوا�ص املواد ال�سائلة ،وهو ينفرط من �أيدينا ،ثم يتبدد ،ويتبخر يف الأيام اجلميلة ،ثم يختفي، ون�رشق به �أحيان ًا لندخل يف �سعال مر ،ويتك ّتل �أمامنا كجبل جليدي ع�صي على امل�ساءلة. م�ستحيل، ّ كان ي�رشب ال�شاي يف الوقت الذي عربت ذهني فكرة الزمن ال�سائل هذه ،كما تعربنا دائم ًا ونحن �ساهمون �أن�صاف �أفكار حكيمة وك�سلى .ت�أملته بابت�سامتي املعتادة التي �أحر�ص على بقائها كذلك حتى ال �أقع فري�سة لأ�سئلته هو� ،أو لأ�سئلة �أخيه وزان ،ذلك الذي 30
كنت وحيداً، هزمني مرتني �أخرياً ،عندما �أثبت �أين ال �أدخن �إال �إذا ُ لأن عالقتي النادرة بالتدخني هي عالقة �سيكولوجية ولي�ست كيميائية �إطالق ًا ،ومرة �أخرى ،عندما اكت�شف بهدوء ،وبكل دقة ،ملاذا �أنا خارج احلب ،منذ �سنتني. “لأنك تبالغ يف وجومك ،مثلما تبالغ يف فرحك .هذا يعني �أنك تعي�ش قيد احلب� ،أو ما بعده .احلب ال يعلق على وجوهنا لوحة احلزن الثابتة كما نتوقع .كل ما يفعله هو �أن يزيد حرارتك درجة كنت واحدة ،تكفي لتجعلك متذبذب ًا بني حاالت خمتلفة ،وهذا ما َ ثابت حتى يف �أنت عليه �أول ما عرفتك ،ولكنك الآن م�ستك ٌ ني جداًٌ ، نزواتك .هذا يعني �أن حرارتك عادت �إىل م�ستواها الطبيعي .انتهى احلب يا �صديقي!” قلت لأمين: ُ – �أ�شعر �أحيان ًا �أنه ال ميكن �أن يعربنا الزمن بوترية ثابتة ،و�أن الأيام ال تت�ساوى يف حجمها كما توهمنا احلقائق� .شخ�صي ًا� ،أنا على يقني �أن ال�سنتني الأخريتني كانتا �أق�رص بكثري من �شهر واحد يف ال�سنة التي قبلها. ووافقني �أمين الر�أي .قال عدة جمل ،ومل ُيحل ال�سبب يف عدم التكاف�ؤ �إىل الظروف ،وت�سارع رمت احلياة ،كالعادة. – فع ً ال ،لأن �سلوكنا �أحيان ًا يتحكم يف الزمن ،وطاقته ،وحجمه، بينما ال ميلك الزمن ،يف املقابل� ،إال التحكم يف معادلة بيولوجية ب�سيطة وثابتة مع �أج�سادنا .يف احلقيقة ،نحن ن�ؤثر يف الزمن �أكرث مما ي�ؤثر هو فينا. 31
– رمبا �أننا ،يف حقبة معينة من الفل�سفة ،قمنا بت�ضخيم دور الزمن، حتى منحناه بعداً وح�شي ًا مل نتخل�ص منه عرب �أجيال. – رمبا. ثم �أردف بعد �صمت ق�صري: – هذا الزمن م�سكني! وعدت �أنا �أكمل كالمي ثم عاد ين�شغل بقنوات التلفزيون، ُ – انتهى العام .ال �أتخيل كيف بد�أ وانتهى بهذه ال�رسعة� .أال تالحظ كيف �صارت عبارات التعجب من �رسعة الأعوام دارجة يف كالم النا�س؟ – �أنا �شخ�صي ًا ال تعني يل نهايات الأعوام �شيئ ًا مثرياً لل�شجن، ودائم ًا �أنظر �إىل ال�سنة على �أنها حلقة دائرية �أ�ص ً ال ،لي�س لها بدايات وال نهايات ،لأن هذا هو ال�شكل احلقيقي للزمن. – ماذا تعني بال�شكل احلقيقي للزمن؟ – �أعني �أن هذا الزمن دائري �أ�ص ً ال ،وعندما بد�أ الإن�سان ي�شعر بالدوخة من دائريته ،قرر �أن ي�ضع له بدايات ونهايات ،واخرتع الأيام وال�سنوات. – ولكن ما �أق�صده هو جمرد وقفات مع ال�سنة ،لي�س بال�رضورة �أن تكون يف �أولها �أو �آخرها. التفت �إيل ،بوجهه النحيل احلليق الذي تتعلق عليه نظارته اخلفيفة، وقال وهو يبت�سم: – على فكرة ،ما زلنا يف مار�س. – �أنا �أتكلم عن ال�سنة الهجرية. 32
– الهجرية... قالها ب�صوت ممدود ،ين�ضح بالالمباالة ، ،ممعن ًا يف الإ�شارة �إىل �أن الأمر ال يهمه �أبداً ،وماداً ذراعه بقدر ما ي�ستطيع ليلتقط كوب ال�شاي ال�ضئيل املو�ضوع على الطاولة. و�سكت ،و�ساد �صوت مو�سيقى طفيف ابت�سمت مقلداً �سخريته، ُ ّ من التلفزيون ي�سبق ن�رشة الأخبار ،قبل �أن يردف هو بعد قليل: – تعرف؟ و�ضحك �ضحكة ق�صرية ،وهو مييل ليعيد كوب ال�شاي �إىل مكانه، ثم قال – هذا ما يجعل وقع الزمن �أثقل علينا� ،أن نعي�ش يف بلد يعتمد تقوميني لتدقيق ح�ساباته معه .ليه يا �أخي؟ �سنة هجرية ،و�سنة ميالدية، وال�سنة تنتهي مرتني ،والعمر ينق�ضي مرتني. فكرت و�أنا �أقود �سيارتي عائداً من مزرعته البعيدة تلك الليلة، ُ يف كالم �أمين ،وزمنه الدائري ،رمبا كان �أف�ضل مني و�أنا �أ�ؤر�شف �أرباحي وخ�سائري بهذا الطابع الوهمي ،وك�أين �أملع وجه ال�شم�س للعام املقبل ،و�أنف�ض عن نف�سي درن املا�ضي مر ًة كل �سنة ،لأكت�شف �أن املا�ضي يعود منت�صب ًا �أمام وجهي مثل خيال م�آتة �أنيق. دهمتني رغبة �أن �أح�سب فرق عمري بني امليالدي والهجري، واكت�شفت باحل�ساب الذهني ال�رسيع �أن التقومي الهجري يجعلني �أكرب ُ �سن ًة تقريب ًا من عمري امليالدي ،ف�أين ذهبت هذه ال�سنة الهاربة؟ �أتراها كانت هي تلك ال�سنة الفقرية التي وقعت فيها حتت احلب ،وانتهت أ�شهر م�رسوقة من خزانة العمر؟ ك�أنها � ٌ 33
مل �أفكر من قبل �أننا رمبا كنا نعي�ش يف زمنني فع ً ال ،ولأ�سباب تاريخية ،ولي�س فلكية كما يفرت�ض ،لأن الفلك مل يختلف بع�ضه مع بع�ض منذ بدء التكوين ،ولكن نحن الذين اختلفنا فيه .كل هذا لأننا حائرون يف تقومينا بني نبيني ،ال ندري �أيهما �أقدر على ترتيب �أيامنا ،وال �أدري هل َحفَل النبيان بهذا ال�رصاع الوقتي الذي �أقامه بينهما الرعايا ،ولكني �أعرف �أن لهذا �أثراً يف ف�صم العمر �إىل ف�صني يتداخالن ب�شكل م�ؤذ ،ويتخالفان ب�شكل �أ�شد �أذى. �سواء �أهجري ًا كان الزمن �أم ميالدي ًا ،يبدو �أن طباعه الر�صينة قد تغيرّ ت كثرياً .فهو الذي كان يزرع خلف �آذاننا زيتون احلكمة، قامو�س ثقيل من العظات ،وقد �أ�صبح الآن جاحم ًا مثل ومي�ضي مثل ٍ علي �أيامه لتالحقني يف الأزقة ،وتزعجني ب�ألفاظ ال�صبيان ،ي�ؤلّب ّ ونكات �سوداء ،وبذيئة .هذه ال�سنة بالذات مل تبد�أ جيداً .و�أ�شعر منذ الآن ب�أن �شهورها القمرية القادمة لن تكون �إال طابوراً من اثني خمرب ًا ،ينتظر كل واحد منهم ن�صيبه من املرح يف بعرثة �أوراقي، ع�رش ّ وتو�سيخ �سجادي ،ومتزيق �سكينتي ،ودحرجة ال�صناديق القدمية من الأعلى ،وال �أعرف كيف ميكن �أن �أتعامل مع كل ه�ؤالء الأطفال النزقني الذين يخربون هدوئي ،هذا الذي بنيته من �أعواد الكربيت، وعلب الدواء ال�صغرية ،والع�رشات من كتب التاريخ الهزيلة ،و�شهادة تتجمع يف ماج�ستري يف �إدارة الأعمال ،وفن الت�صوير ،وغرفة هادئة ّ �أركانها املئات من �أقرا�ص ال�سي الدي ،والأفالم ،و�أوراق بريدية ال توجد يف الريا�ض غالب ًا. يخدرين من �ضجيج هذا العام الذي يبدو ميكنني �أن �أفتعل وعي ًا ّ 34
ال ،وال ي�ستحق �إال ف�ص ً �أنه �سي�أتي نافراً من التقومي فع ً ال واحداً من الكتابة ،ي�شبه القفل احلديدي الثقيل� ،أحب�سه خلفه حتى ال تتقافز قررت منه �شياطني التخريب ال�شقية ،وال تتمدد �إىل �أعوام �أخرى، ُ �أن �أعي�شها بهدوء ،وو�سط ترتيبات نف�سية دقيقة ،و�آمنة ،ورتيبة جداً.
35
II �شممت يف معطفي الوبري الثقيل رائحة الغبار� .أخرجته من زاويته ُ الوقور يف خزانة املالب�س و�أنا �أم ّني نف�سي ب�شيء من وجاهة ال�شتاء فردت املعطف قلي ً ال ،ونف�ضته لعلي �أجد �أنفي هذه الليلة ،وعندما ُ فوجئت �أن الع ّثة تركت على �أطرافه دائرة غري مكتملة، كاذب ًا، ُ وفوجئت �أي�ض ًا �أن يف جيبه فاتورة مقهى ،يرجع تاريخها �إىل �أربع ُ �سنوات خلت. ورغم �أين ال �أتذكر حتديداً كم كلفني هذا املعطف� ،أو حتى �إذا �شعرت بالكدر لأن العثة كنت �أنا الذي ا�شرتيته ولي�س �أمي ،فقد ُ ُ أحن قطعة مالب�س عندي ،ولي�س جورب ًا مث ً ال� ،أو خربت معطفيّ � ، ّ أ�سفت عليه فع ً ال .هذا املعطف الذي يحمل دليل هوانه قمي�ص ًا عادي ًاُ � . يكن يل �إال الدفء ،فلماذا كان يجب �أن تثقبه العثة يف جيبه ،مل يكن ُّ هكذا؟ رميته بنف�سي يف زاوية مهملة هذه املرة ،لتحمله اخلادمة مع كومة مالب�س �أخرى راحت تعلو مثل قمم �صغرية يف �سطح الغرفة ،وقد قررت �أن �أغتال ال�سكون الذي اعتاده هذا الركن ال�شتوي من خزانة ُ 37
كنت م�ستا ًء من العثة والغبار ،وعاجزاً عن لوم اخلادمة على املالب�سُ . أ�رص �أخرياً على �إبقاء الغرفة �إهمالها التنظيف لأين �أنا الذي ُ رحت � ّ مغلقة طوال مدة غيابي ،و�إبقاء اجلوار هادئ ًا �أثناء وجودي فيها. تدريج ًا ،فرغت زاوية اخلزانة ال�شتوية من �سكانها �إال القليل من و�شعرت براحة عابرة، اجلاكيتات اجللدية التي ال طاقة للعثة عليها، ُ تخلف االنتفا�ضات ال�صغرية. كتلك التي ُ هم�ست يل اخلادمة – �أرميها �أم �أغ�سلها؟ – �إرميها يا م�أمونة. جمعت �أنا وراحت تنقل املالب�س على عدة مراحل ،بينما ُ وخرجت من الغرفة مفاتيحي ،وهواتفي ،وبقية �أ�شياء اجليب املعتادة، ُ مرتدي ًا ثوبي الأبي�ض اخلفيف فقط ،يف ليلة تبدو باردة ،وك�أين �أتب ّنى نوبة عناد طفولية ،ال �أدري �أ�أعاقب بها العثة� ،أم ال�شتاء� ،أم �صدري الذي ال يتفق كثرياً مع الهواء البارد؟ على �أية حال ،لي�س ثمة برد ي�ستحق .مل يعد ال�شتاء ُيجيد الوقوف بنا مثلما كان يفعل من قبل� .صار �شيخ ًا م�س ّن ًا بال حول� ،أخفت الأيام �صوته القوي ،وانتهكت حنجرته اجلبارة ،وتركته علي ً ال يو�شك �أن يتقاعد من عمله يف الزمن ،ويرتك املدينة وراءه لف�صلها الوحيد الذي تعرف لغته ،ال�صيف. كنت دقيق ًا يف ر�صد تراجع ال�شتاء ،وهرمه، ولأين م�صاب بالربوُ ، ٌ و�ضعفه .ورغم �أن هذا ال يب�رشين بالهدوء على �أية حال ،فلل�صيف �أغربته وعوا�صفه الرتابية ،والزمهرير ال�صناعي الذي تبثه �أجهزة 38
التكييف غري املن�ضبطة ي�ؤمل رئتي �أي�ض ًا .ولكن ال�شتاء يف هذا العام بالذات كان الأ�ضعف على الإطالق .ر�أيته يجمع يف ب�ساطه الأبي�ض نفحات واهية ال تغني من برد ،بالكاد يوزعها على الأ�شهر القليلة ٍ ُ يحرك �أوراق ال�شجر ،ويغري �شكل التي يلفظها عليه التقومي ،وبالكاد ال�شارع ،وبالكاد ي�ؤلف بني �أحاديث النا�س وظنونهم ،مثلما كان كنت �أكرث ال�شامتني يفعل يف الأعوام اخلوايل .وهذا العام بالذاتُ ، �سخرت منه يف كل الأمكنة التي اعتاد �أن ي�ضطهدين ب�ضعفه هذا. ُ فيها ،يف مدينة ال تن�رص املظلومني على ليلة باردة ،وال على �أ ّية مظامل �أخرى .ح�رش ُت ُه يف زاوية من الذاكرة البعيدة ،دون �أن �أ�ستثني رجف ًة واحدة كالها يل يوم ًا ما� ،أو �سعل ًة جافة خد�شت حلقي يف �إحدى نكباته ،فما لبث �أن �أرجتف هو ذاته ،ومللم نفخاته الرتيبة ،ورحل. كان �آخر �شتاءات الريا�ض� ،أقول هذا و�أنا �أعرف �شتاءاته جيداً، و�أح�س بها يف مر�صدي ال�صدري الذي ال يعب�أ بالفلك ،لأنه لي�س بدقة ال�سعال ،ولهذا �أ�ستطيع �أن �أ�ست�شعر ح�ضوره ورحيله من دون �أن �ألتفت للتقومي ،ومن دون �أن �أنتبه �إىل رع�شاتي ،ومالب�سي ،وحديث النافذة ،وقرف�صاء ال�سماء. وبخالف ال�سعال ،عندي �أدوات �شخ�صية جداً �أحت�س�س بها وجه أدوات قلبية �أعرف بها دائم ًا دخوله الرمادي، ال�شتاء �إذا دخلٌ � . عندما �أجدين خانع ًا �أمام كل حاالت الذاكرة ،نزاع ًا للبكاء ،واحلنني، واجلن�س ،مثل عازف �ضائع� .أبحث عن م�أوى ،وعن موقد ،وعن تخليت عنها منذ زمن طويل .هكذا يجعلني �إ�صغاء ،وعن �أحالم ُ ال�شتاء �أتوهم �أين �أملك جذوراً و�أعرف �أين �أقف ،و�أجدين يف يومه 39
الأول ،غ�صن ًا يتب ّناه الر�صيف والريح مع ًا. رحت �أنقر �سطح جبيني ،و�أق ّلب ب�رصي يف وجوه العابرين جواري ُ ك�أ�سو أ� عادات الريا�ض ،و�أت�ساءل و�أنا �أملح مالحمهم املثبتة على حالة �ستمر تذمر م�شرتكة :ترى ما الذي ي�ستعجلون حدوثه يف الريا�ض؟ ّ رحم �أكرث �إنتاج ًا الليلة ،وت�أتي �أخرى �شبيهة جداً ب�سابقتها ،فلي�س ثمة ٌ للتوائم املت�شابهة من ليل الريا�ض ،ف�أي �شيء يجعلنا ن�سبق الزمن لنبلغ اليوم الذي يليه �إذن؟ رمبا كان الكثري من الكدر هو ما ينق�ص �سكان هذه املدينة، خمتلف يف ال�شارع القادم ،وال يف وجه العابر لي�ستيقنوا يوم ًا �أال �شيء ٌ املجاور ،وال يف خمار املر�أة البعيدة ،وال يف بركة املطر الكبرية ،وال خلف الإ�شارة التالية ،وال يف الغد ،فليتوقفوا �إذن عن مالحقة هذا الزمن املماطل ،ولكن يبدو �أنه ما زالت هناك �آمال يذكيها كل جيل بطريقته ،و�أنّ ثمة �شيئ ًا ما قد يتغري. ورحت �أت�أمل امل�شهد مهمة تغيري مزاجي، ُ ُ تركت لأغنية �صاخبة ّ من حويل يف ليلة كان من املفرت�ض �أن تكون �شتائية .ورغم انحراف ق�سوة الربد عن هذه املدينة كثرياً هذه الأعوام ،فقد بقيت لل�شتاء حاالته ،ودالئل قليلة على حلوله وهويته .ال�سيما معي �أنا� .شيء يف رائحة الهواء ُّ يدق يف قلبي �أجرا�س ًا �ضعيفة لأبواب ال �أفتحها كثرياً �إال يعلن فيه �سعايل ابتداء الف�صل الرمادي مثل يف ال�شتاء ،منذ �أول ٍ يوم ُ ديك الفجر� ،أعرف �أنه بد�أ ف�صل امل�شي �أثناء النوم ،وف�صل العودة �إىل الدفاتر الأوىل .الف�صل الذي �أ�ستخرج فيه الأرقام العتيقة ،و�أ�ستجدي الكرميات من الن�ساء الباقيات قريب ًا مني ،و�أقول الكالم نف�سه الذي 40
قلته لهن كل �شتا ٍء �سابق“ ،عندي نوبة حب ،متام ًا كنوبة الربو، فعودي موقّت ًا ،و�ساعديني” �أقولها بطرق خمتلفة ،ونربات تتفاوت يف م�ستوى الكرامة ،والإقناع ،ولكنها ت�صف احلالة نف�سها يف النهاية. كم يوجعني ال�شتاء! ذاكرتي منه موبوءة ومريرة ،مثل تواريخ البالد التعي�سة ،لي�س لأن كل �أحزاين حدثت يف ال�شتاء .ولكن ال�شتاء ميلك قدرة وحيلة على بعثها من جديد ،وعلى �أن يعيد �رسد �أخباري مثل راديو ،وي�ستطيع �أن يعيدين �صغرياً جداً ،ويلقيني مرة �أخرى يف الزاوية املظلمة املغربة من خزانة الثياب .ي�ستطيع �أن يفعل العجائب .هذا الكائن البارد عنده مهمات قهرية �أكرث بكثري من جمرد الزمهرير والربودة. ّ كنت طف ً أ�شد برداً ،و�أم�ضى حيلة ،وكان ال كانت الريا�ض � ّ عندما ُ �شتا�ؤها مليئ ًا بعافيته ،معتداً بزمهريره ،ميار�س ح�ضوره يف الفراغات الكبرية من املدينة بفحول ٍة �صارمة ،ويجعل فكرة اخلروج يف ال�صباح الباكر فكرة قابلة للمراجعة ،و�إعادة التقييم ،ووزن ال�رضورة مع التعب .ويف الليل ،كان ي�ضطرين �أن �أنام يف جوار مدف�أة الزيت احلديدية ا�ستجدا ًء لدفء �أمني ،عندما يكون املكان عاد ًة حما�رصاً بالربد الراكد مثل معادلة فيزيائية ثابتة ،كما ي�صفه اجلميع هنا ،برد يتحرك ،وال يركب الرياح مثل البلدان الأخرى ،بل يثبت يف ال ّ مكانه ،وينح�رش يف حلق الهواء املحيط بنا ،غ�ص ًة كبري ًة من االرتعا�ش والق�سوة .يخرج من الأر�ض وال ي�أتي من ال�سماء ،ك�أنه ردة فعل حانقة من الأر�ض على اخلطاب ال�شم�سي الطويل الذي يركبها طوال ال�صيف ،تلده ال�صحراء وتقذف به قلب املدينة ،وي�شعلون النار ،ال 41
�شيء ي�شفي من برد الريا�ض �إال حرز احلطب ،ولغة املواقد ،وعندها جند �أن كالمنا املتجمد يف القلوب قد �أخذ يف ال�سيالن ،وراح يتجه نحو الآخرين ببطء ،و�رسعان ما تختلط الأحوال ،وي�ضيع فيما بينهم وجل الربد. هذا يف�رس �أحيان ًا ،ملاذا �إذا ت� ّأخر احلب طوي ً ال �أ�صبحت املواقد �رضورة ،وملاذا �إذا متزق الذي يحب بني ذاكرتني� ،صار وجهه رماداً، وكالمه ي�شبه طقطقة النار .هل لأنه يعرف �أنه لن يتكلم عنها� ،أو قولته النار ما مل يكن ليقوله عنهما� ،أو عنهن �إذا كن �أكرث� ،إال �إذا ّ من �أكاذيب احلب الوحيد ،والوفاء املديد ،وخرافة هو النبيل ،وهي اجلميلة؟ يت�ضاعف حزين �شتا ًء ،لي�س لأين �أتذكر �أكرث ،ولكن لأين لهذا ُ �أتذكر ب�شكل �أ�صدق ،وبلغة �رصيحة جارحة ،جتعلني �أعرتف بنف�سي، وبقلبي املتعدد اللغات ،حتى لو عاقبني الربد ،والهجري ،والوحدة، حتر�ضني كانت النار التي ت�أتي �أحيان ًا مثل نعيم معكو�س ،هي التي ّ على انك�شافات كهذه ،انك�شافات احلب الكبري. �أنا ال �أحب ال�شتاء ،ولكنه احلالة الوحيدة التي ت�ستوجب النار، ولهذا �أنتظره و�أنا ٌ مثقل بالأكاذيب ،ومبثالية القلب العوجاء .لي�س من �أجل زمهريره ونوافذه املقفلة ،وال من �أجل ال�صوف ،واملعاطف التي أنتظم فيه ثالثة أنتظر ح�ضور املوقد الذي �س� ُ ت�أكلها العثة ،لكن لأين � ُ �أ�شهر ،مثل عا�شق جنيب ،لأتعلم الكالم ،والدفء ،واحلكاية. الأمر ي�شبه عالقتنا باحلرب ،نكرهها جداً ،ولكننا ن�ؤمن على اختالف والئنا� ،أنها احلالة الوحيدة التي ميكن �أن نلم�س من خاللها 42
الوطن على حقيقته .ال�شتاء يجعلنا ندخل غرفة احلقيقة ولو على م�ض�ض ،ونعرتف للنار مثلما يعرتف املخطئون ،ونخرج من ال�شتاء بقلوب ال يعني �شيئ ًا طهرها من عدمه ،املهم �أننا �رصنا نعرفها �أكرث. الأطفال الآخرون كانوا يحبون ال�شتاء ،ويبتهجون ب�أ�شهره الثالثة التي تك�رس رتابة ت�سعة �أ�شهر �أخرى اخت�رصها ال�صيف ،وجعلها تابعة له يف النهج وال�صفة .كانوا يحبون جتدده ،مالب�سه� ،سمره ،رحالته تبث دفئ ًا عابراً ،وبرك املاء الكبرية الربية ،ليله الطويل ،و�أمطاره التي ّ يف ال�شوارع الرئي�سة ،وال�صلوات املجموعة للتخفيف عن النا�س، وعدة رموز �أخرى ال يفعلها ال�صيف كثرياً ،والأطفال يحبون الأ�شياء التي تتغري. غري �أين مل �أكن مثلهم ،لأن �أمي كانت تدوخ �إذا نامت يف غرفة فيها مدف�أة ،ويجعلها الهواء ال�ساخن تفقد الرتكيز ،وحتى القدرة ويبث يف ر�أ�سها �صداع ًا �ضبابي ًا ،و�شعوراً بالغثيان، على امل�شي �أحيان ًاّ ، ولذلك كانت تكتفي باملالب�س الثقيلة ،والأبواب املغلقة ،بينما �أبي ال ي�ستطيع �أن ينام يف حجرة مغلقة منذ جتربة �سجنه ،و�أنا ال �أحتمل الربد، وال �أ�ستطيع النوم حم�شوراً يف لبا�س ثقيل� ،أو مطموراً حتت �أغطية ال تنتمي �إيل ،ولهذا كان ال�شتاء ي�شتت عاداتنا ،ويغري �أماكن النوم �أي�ض ًا. كانت �أمي تنام يف غرفتها ،بباب مغلق ،وحتت بطانيات عديدة، وكان �أبي ينام يف غرفة ال�ضيوف ،مكتفي ًا بلحاف خفيف ،ومدف�أة بعيدة ،و�شباك ن�صف مغلق �أحيان ًا ،بينما جتربين �أمي على النوم وحيداً يف غرفتي ،ملت�صق ًا مبدف�أة الزيت التي ت�شعلها منذ غروب ال�شم�س لتدفئ الغرفة ،وتعلق يف ثقبي الكهرباء م�صباح ًا �صغرياً وردي اللون، 43
دب وحيد هو الآخر ،و�أنا مل �أكن يف طفولتي معتاداً النوم له �شكل ّ وحدي ،ولكنه ال�شتاء ،يفرق بني الطفل و�أمه. هكذا ،كان ال�شتاء يعني يل :وح�شة الليل ،والتهاومي الغريبة التي متر يف ذهني قبل �أن �أغفو ،و�صور غري مفهومة �أتخيلها على ال�سقف، وال�شبح الذي يرتب�ص بي يف الزاوية اخلفية من ال�رسير ،وبع�ض خماوف �أخرى يبعثها يف وجدان الطفل ذلك ال�سكون الرهيب الذي ي�أتي به ال�شتاء ،بعد �أ�شهر �صيفية من االعتياد على �أجهزة التكييف ،وهديرها امل�ستمر طوال الليل ،وعلى رائحة �أمي و�أبي يف غرفة ت�ضمنا جميع ًا. ا�ستيقظت للذهاب وحتى ال�صباح ال�شتائي كان نكداً مثل ليله� .إذا ُ مفاو�ضات م�شوبة بالدموع مع �أمي التي ت�ساومني �إىل املدر�سة ،تبد�أ ٌ على جميع مالب�س اخلزانة ،و�أنا �أرف�ضها كلها .كانت ب�رشتي �شديدة احل�سا�سية ،ومل �أكن لأحتمل الت�صاق �أي ن�سيج �صويف بها ،ولذلك كنت �أهرب �إىل القطن دائم ًا ،و“القطن ال يدفئ يا ولدي” ،قالت �أمي كثرياً عبارتها اليائ�سة هذه �آخر املطاف ،معلن ًة ن�صف ا�ست�سالم، وقلق ًا يائ�س ًا. مل تكن ت�ستطيع �إجباري� ،إذ �إين �أ�ستطيع �أن �أبكي ب�سهولة يف ال�صباح ،ب�سبب اعتكار مزاجي �أ�ص ً ال بدافع اال�ستيقاظ من النوم، والربد ،واملدر�سة ،وكانت تعرف �أين قد �أخلع ما جتربين على ارتدائه يف ال�سيارة ،وهذا ما ينقله لها ال�سائق فور عودته ،مما ي�ضطرها �إىل �إر�ساله مرة �أخرى �إىل املدر�سة حام ً ال ما خلعته من املالب�س يف كي�س �صغري، وا�ضطررت �إىل ذلك ،وكثرياً ما �أفعل. لعلي �ألب�سها �إذا م�س ّني الربد، ُ ولأنها ال تثق بلعب ال�صبيان ،وتعرف �أن املالب�س الفوقية، 44
كاملعطف �أو اجلاكيت� ،سهلة اخللع ،ما دمت �ألب�سها فوق الثوب �أ�ص ً ال ،فقد كانت ت�رص �أيام الربد ال�شديد على تدفئتي باملالب�س الداخلية التي حت�رشها حتت ثوبي ،حتى ال �أخلعها ب�سهولة ،وهذه املالب�س تقتلني قت ً كنت �أكرهها �أكرث مما �أكره الأوالد البذيئني، ال! ُ وال�رصا�صري التي تطري ،وبرك املاء التي تبلل �أطراف اجلورب .حتى �إذا جفن �أجربتني �أمي عليها ا�ستجرت بالدمعات ال�صباحية القابعة قاب ٍ ُ من النقا�ش ،وبالوعود الكبرية� ،أن ال �أنزع معطفي �أبداً حتى �أعود، �إذا هي �سمحت يل بارتدائه. ويف الأيام التي يكون الربد �رشيراً جداً ،مبا ال يدع جما ًال للنقا�ش، علي الآفتني ،املالب�س الفوقية ،والأخرى التي تلب�س حتت كانت جتمع ّ الثوب ،وكانت متر يل تهديداً مب�ستوى وعيي كطفل“ :ترى �إذا �شلت مالب�سك �أنا �أعرف� ،أ�شمها ،و�أعرف �أنك ما كنت الب�سها يف املدر�سة”. ومل تكن �أمي بحاجة �إىل هذا الأنف النابه ،كان �سعايل �سينبئها بامتثايل على �أية حال ،هذا الربو كان جا�سو�س ًا خمل�ص ًا لقلب �أمي اخلائف. وال �أدري هل كان مدير املدر�سة االبتدائية التي در�ست فيها قد تلقى ات�صاالت من والدة طالب كات�صاالت �أمي ،ف�إذا ا�شتدت �صولة الربد ،فلم تكن تتوانى عن ذلك ،لتطلب منه �أن يت�أكد �أين �ألب�س معطفي ،وخج ً ال منها ،كان يبعث ر�سوله الأ�شيب البذيء الذي تذمره �إال ب�سخريته ال�سيئة ،فيطرق يتذمر من هذه املهمة ،فال يعرب عن ّ باب غرفة الدر�س ،ثم يهتف متعمداً �إ�ضحاك الطالب“ :ح�سان بن �إبراهيم� ،أمك تقول الب�س جكيتك!” وال �أدري ملاذا كانت تلك احلالة الإن�سانية العادية ،تثري �سخريته �إىل 45
هذا احلد�.أمل يكن لديه �أبناء و�أحفاد؟ لي�س هو فقط ،بل بقية التالميذ من حويل وهم ي�ضجون ب�ضحكات مكتومة �إذا كان الأ�ستاذ حا�رضاً، و�أخرى عالية �ساخرة يف �أثناء غيابه .كان حتويل �إىل �أ�ضحوكة الطفل املدلل ي�ؤذيني حتى ال�صميم قبل �أن �أفكر يف تربير يجعلني �أجتاهل أ�صبحت كثرياً ما �أنقم على �أمي ،و�أمتنى لو �أتخل�ص معايريهم الغبية� ، ُ علي ،وجتعلني �أبدو خمتلف ًا ،حمط من عاطفتها احلديدية التي ت�شد بها ّ �أنظار ال�ساخرين ،املتهكمني ،يف مدر�سة حكومية كبرية ،ال تخلو من �أمثالهم. وكان هذا ال�ش�أن املتكرر يلفت �أنظار املعلمني �إ ّ يل .هذا الطفل الذي تهتم به �أمه �إىل هذا احلد ،ذو اللهجة املهذبة ،اخلجول جداً، الهادئ دائم ًا ،يبدو ناعم ًا ،ولدى بع�ضهم ،يبدو مثرياً ،ولدى �آخرين �أ�شد جر�أة ،ورمبا كنت �أبدو كتوم ًا ،ال �أبوح مبا قد يحدث يل .لذلك مل تكن �أغلب مل�ساتهم حانية لوجه احلنو فقط .لأنه �إذا كان هذا املعلم علي فع ً ال ك�أب ،فلماذا مل يكن ي�ضمني �إال ونحن� ،أنا وهو، يعطف ّ وحدنا؟ ملاذا خارج الف�صل؟ وملاذا مل �أر غريي من الطالب ينال هذه املعاملة احلنون حد العناق؟ حتى الأول يف الف�صل ،والأف�ضل يف كرة القدم ،و�أف�صحهم خطابة يف الإذاعة ال�صباحية ،مل يكونوا جميع ًا علي �أنا فقط. ليحوزوا معاملة كهذه التي �أ�شعر ب�أنها حتط ّ كنت �أ�شعر بال�ضيق ،من دون �أن �أفهم ال�سبب .ثمة �أتذكر �أين ُ يقبلني قبالت الرجال بالت�صاق اخلدين فقط ،بل معلم �آخر مل يكن ّ كان يطبع �شفتيه بقوة على خدي ،و�إذا جنح يف خلق موقف كان يجعل القبلة تبدو عابرة �رسيعة ،لكنه كان ي�سعى �إىل جعلها �أقرب 46
�إىل �شفتي ،و�أحيان ًا يف البقعة ال�صامتة من رقبتي ،وي�ستن�شق بقوة ما يت�رسب �إليه من رائحة ج�سدي ال�صغري �آنذاك .مل �أكن �أعي �أن ثمة حتر�ش ًا كهذا يحوم حويل ،و�أين �أكاد �أكون على مرمى خلوة حمتملة من �شبه اغت�صاب .كان ّ جل ما �أخ�شاه هو �أن ينتبه �أحد الطالب �إىل هذه العاطفة اجليا�شة ،كما كنت �أظنها ،والتي يكيلها بع�ض املعلمني جتاهي ،خوف ًا من �سخرية زمالئي مني فيما بعد ،لأن بع�ض املعلمني كان ي�ستخف بعقول ال�صغار ،وي�ستهني ب�أفهامهم الفطرية الب�سيطة، فلم يكونوا حري�صني على �إخفاء حماوالتهم ال�رسيعة يف اللم�س والتقبيل �أمامهم ،كما يحر�صون على �إخفائها عن بقية املعلمني، �أو طالب ال�صفوف العليا .حتى �إذا انتهى املوقف ،ا�شتعلت �أل�سنة الطالب بال�سخرية �شهوراً طويلة بعدها. �أحد �أولئك املعلمني �ألح كثرياً على ت�سجيلي يف الأن�شطة خارج ال�صف ،حتى يت�سنى له دائم ًا �إبقائي يف غرف الن�شاط ،وقت ًا �أطول، ويف معزل عن الف�صل املكتظ بالطالب الآخرين ،و�أي�ض ًا مل �أكن �أفهم ّنياته ،ومل �أفهم �أي�ض ًا ذلك احلوار احلاد الذي دار بيني وبني معلم �أحد املواد الدينية ،الذي ا�شتم رائح ًة �سيئ ًة يف �سلوك ذلك املعلم جتاهي. كان ذا حلية كبرية ،وح�ضور مهيب ،رغم تلطفه معنا ،وحكاياته التي ال تتوقف ،غري �أنه كان ال يلم�سني بل ير ّبت ر�أ�سي تربيت ًا طفيف ًا، وب�أ�صابع نزيهة جداً. ذلك اليوم قال يل: – ح�سان� ،أالحظ تر ّددك الدائم �إىل غرفة الن�شاط ،ملاذا؟ – لأن الأ�ستاذ �سلطان ي�أخذين معه �إىل هناك. 47
– وماذا تفعالن؟ – نرتّب الأوراق ،نع ّلق بع�ض اللوحات. – لوحدك ،وال فيه طالب غريك؟ – �أحيان ًا يجي طالب غريي ،و�أحيان ًا ما يجي �أحد. – �إذا مل ي� ِأت طالب غريك ،ال جتل�س وحدك ،عد �إىل ف�صلك. – طيب. – ترى �إذا �شفتك لوحدك مع �أي �أ�ستاذ يف غرفة الن�شاط بزعل منك ،هذا ممنوع. – طيب. – و�إذا �أحد عمل لك �أي �شيء ،ال ت�سكت ،رح للمدير� ،أو تعال اعلمني� ،أو قل لأبوك. – طيب. و�أرك�ض بعيداً ،و�أنخرط يف اللهو مع بقية الطالب� ،أو �أعود �إىل ف�صلي ،وتتبعرث حتذيراته تلك خارج ر�أ�سي متام ًا. مل �أتذكر كلمات مع ّلم الدين ذاك �إال و�أنا �أرجتف تلك الظهرية، عائد �إىل املنزل� ،أ�سرتجع ما حدث يف يف املقعد اخللفي لل�سيارة ،و�أنا ٌ د�س املعلم يده بوقاحة يف م� ّؤخرتي ،بينما �أنا من�شغل ال�صباح ،وكيف ّ مفجراً يف ج�سدي طوفان ًا من االرتباكات، ب�ألواين ،وكرا�سة الر�سمّ ، واخلوف ،والرجفات التي احت ّلت يدي و�صوتي ،وجعلتني �أبتعد عنه فج�أة ،و�أرمقه بتلك النظرة املت�سائلة املذعورة! �أمي وحدها كان ميكن �أن تبلغ يداها م� ّؤخرتي يف تلك املرحلة من طفولتي ،ولكن لي�س هكذا� ،أمي ت�ساعدين يف اال�ستحمام ،وتعرب يداها 48
ومتر ج�سدي بلطافة ،ومن خلف قطعة اال�ستحمام القما�شية ال�صغريةّ ، من م� ّؤخرتي ب�شكل �أفقي �رسيع ،ولي�س عمودي ًا كما فعل املعلم .للمرة فج جداً ،وعلى الأوىل يف حياتي �أ�ست�شعر يداً خ�شنة ،تلم�سني ب�شكل ّ غري انتباه .هذا ال�شعور غري املعتاد هو الذي جفّلني مثل القطة حني نلم�س بطنها� ،شعرت بربودة �رسيعة يف �صدري ،وعلى جانبي عنقي، وبب�ضعة انقبا�ضات ال �إرادية يف م� ّؤخرتي ،ثم عاد دمي تدريج ًا يبث دفئ ًا م�ضاعف ًا يف �أو�صايل التي جفّت وهلة ،لتقييم املوقف. عمال وقتذاك تركني ،وراح ّ يتحدث عن �أ�شياء �أخرى مع بع�ض ّ املدر�سة ،وك�أمنا يريد �أن ي�رصف انتباهي عن غرابة ت�رصفه معي، واقتحامه خ�صو�صية ج�سدي بتلك اللم�سة املباغتة ،مل �أ�ستطع العودة �إىل مكاين واال�ستمرار يف الر�سم مرة �أخرى .حملت حقيبتي، وخرجت من غرفة الن�شاط ب�صمت ،فناداين قبل اخلروج: – ح�سان ،وين رايح؟ – بروح الف�صل. ا�صطنع نظر ًة جادة ،ووجه ًا جديداً ،ولكني الحظت دوران عينيه يف حمجريهما فيما ي�شبه حرية عابرة ،ثم قال يل بارتباك و�إن ب�صوت عال: – طيب ،طيب� ،آ ،ال تن�س الواجب بكره. مل يكن ثمة ما يدعوه �إىل تذكريي بالواجب يف هذه الأثناء ،رمبا واجب �أ�ص ً ال ،ال �أتذكر ،ولكنه كان يحاول جاهداً مل يكن هناك ٌ ت�شتيت تركيزي ،و�إرغام التيار الذي ا�ضطرب فج�أة على العودة من�سجم ًا داخلي ،لأن�سى ما قد حدث ،ومتر �شهوته الإ�صبعية ب�سالم، 49
من دون �أن �أتكلم عنها �أمام الآخرين. عدت �إىل املنزل من دون �أن �أنب�س بكلمة واحدة لأحد، بالفعل، ُ و�شعرت ولكني كلما تذكرت املوقف �رست يف بدين كهرباء م�ؤملة، ُ ب�أن �شيئ ًا ما يف نظراته التي �أعقبت تلك اللم�سة ،كان ي�شي ب�أمر غري مطمئن ،ولكني ال �أملك التخمينات الالزمة لو�ضعه مو�ضع �شك، ومل �أفهم ما هو التحر�ش ،كيف يكون ،وملاذا هو �سيئ. رمبا غابت عن ذاكرتي تلك احلادثة �آنذاك ،ولكن جزءاً منها حترك داخلي ،وا�ستقر يف �أ�صابعي التي حتمل �سلوك ًا كامن ًا منذ الطفولة، الفتيات اللواتي يتجه بها ال�إرادي ًا لتكرار ال�صدمة ذاتها ،وال تفهم ُ عرفتهن تباع ًا ملاذا تكون يدي دائم ًا هي �أ�سبق خيويل �إىل �أج�سادهن. عتاب خجول، يف لقاءاتي الأوىل مع جور ّية ،ارت�سم يف عينيها ٌ ومن وراء ابت�سامة مرجتفة ،قالت يل: – يدك. �ضمة ع�صبية لأنظر �إىل ُ ملقى وراءها يف ّ رفعت وجهي الذي كان ً عينيها الع�سليتني مبا�رشة. – ما بها؟ ازدادت عيناها انخفا�ض ًا ،و�أجابت بخفر: – طويلة �شوي ،يبيلها ق�ص! كنا قاب �شفة من �أول قبلة ،حتى القبلة نف�سها مل تكتمل ،بينما كانت يدي قد توغّ لت فع ً ال م�سافة غري ق�صرية من فخذها ،وراحت تدب ببطء على جلدها وحبيباته املتوترة ،وب�إ�رصار ُخ ْلدٍ �شجاع على ّ ث أعلنت و�إياها �أن اجلن�س َح َد ٌ �إكمال تنقيبه يف الأر�ض ،ومل �أكن قد � ُ 50
ٌ و�سلوك مقبول ،فكيف تراها يدي قد قررت قبلي؟ وملاذا حمتمل بعد، تنطلق يف خيارها امل�ستقل من دون الرجوع �إ ّ يل ،ومن دون �أن تلتفت �إىل ظرويف التي �أختارها مع الفتاة قبل ذلك ،وما ميكن �أن ت�ضعني فيه حرج حمتمل؟ من ٍ راحت يدي تطبق دوراً ُكتب عليها قبل �سبع ع�رشة �سنة من هذا اليوم احلنون مع جور ّية .حتى هي فعلت الأمر ذاته ،كانت تغم�ض عينيها ،ثم ترتك يديها جتو�سان يف ج�سدي حيث تقودها �شهوتها، وك�أن �أق�صى ما ي�سمح به �ضمريها املرتبك �آنذاك هو �أن تلم�س ،وال ترى .وظلت متار�س هذا العمى االختياري يف اجلن�س عدة لقاءات بعد ذلك ،قبل �أن جتد �أن حكر الذنب على يديها ال يجعله يبدو �أ�صغر ،فاندفعت ببقية حوا�سها الأخرى ،ومل تتوقف حتى �آخر ملوحة اجلن�س ،و�أول ارتواء له يف حياتها. أ�ستخرج من طفولتي تف�سريات حمتملة لكل عاداتي الآن فقط� ، ُ الب�سيطة ،عندما كان ج�سدي الطفل ال يفهم اجلن�س ،ولكن عقلي الباطن يفهمه حتم ًا ،وي�ستوعبه ،ويدركه ،وعندما يكرب ،يظل العقل ج�سد نا�ضج م�ستعد ولكن ي�صبح هناك الباطن على �إدراكه ال�سابق، ٌ ْ لتلقي تلك الأوامر املختزنة ،وممار�سة ال�سلوكيات التي ميليها عليه هذا الذي �أحاط بكل �شيء ،و“اجل�سد ال ين�سى” كما يقول فرويد. أ�شخ�ص نف�سي �أف�ضل من ت�شخي�صه النف�سي لو يعلم و ّزان �أين � ّ الد�ؤوب يل ،لربمّ ا ابتهج ،و�شعر �أين �أتوهم فهم ًا عابراً ملنحنيات حياتي� .أنا �أوقن �أن �شهادته النف�سية �أكرث احرتاف ًا من تخر�صاتي ،ولكن �أوقن �أي�ض ًا �أنني �أكرث �صدق ًا مع نف�سي ،و�أكرث جر�أة يف مواجهتها ذاتي ًا، 51
قبل �أن �أواجهها معه .هو الذي كان طبيبي ،ثم �صديقي ،ثم طبيبي مر ًة �أخرى ،ثم �أ�صبح �شخ�صية فقدت ت�صنيفها يف دائرة حياتي. هو طبيب نف�سي ،و�أنا ي�ستهويني فرويد الذي يرى و ّزان �أن نزعته للفن وميتافيزيقاه �أف�سدته ،و�أنه كان ظاهرة ع�رصه لأن املعطيات العلمية املحدودة �آنذاك كانت جتعله يبدو باهراً ...“ ،من علل التاريخ �أنه يفر�ض علينا �أن نرتدي االنبهار القهري بال�سابقني ،من دون �أن نعاير انبهارهم هذا مبعطياتنا احلا�رضة التي رمبا جتعل من فرويد �شخ�ص ًا عادي ًا” ،هكذا كان يقول. كنت �أرى �أن العبقرية كينونة متحررة من الزمن ،وميكنها ولكني ُ �أن تنتج نتاج ًا مرادف ًا ملدى توهجها �أينما ا�ستقرت على معطيات حمر�ضة ،وحمف ّزة للإبداع ،وكان �أخوه �أمين دائم ًا ن�صريي يف الآراء ّ العقالنية ،ودائم ًا هو اللدود عندما تكون ال�ش�ؤون قلبية .هو املهند�س الذي يفكر بن�صف عقله الأي�رس ،و�أنا احلامل الذي يفكر بالأمين. ولرمبا لو عرفني �أمين يف مراهقتي لوجدين مغلق القلب ،مدفوع ًا يف غمار ي�شبه ما يندفع فيه الآن هو ،وما يراه يف احلياة ،وما يطلبه منها، ولكننا التقينا يف زمن كان ٌّ كل منا قد انقلب ،على امل�ستويني العقالين والعاطفي ،كمق�ص. مل �أكن �إال راكب ًا يف عربة نقا�ش عابر مع الأخوين ،نخيط به ما مت ّزق من ثوب الليل ،ويف احلقيقة التي اكت�شفتها مت� ّأخراً ،ويف �شتاء كنت يوم ًا مهتم ًا ما كاملعتاد ،مل يكن فرويد �أ�ستاذي وال طبيبي ،وال ُ بعلمه وال نظرياته ،وال حليته وغليونه .كل ما يف الأمر �أن فرويد كان الوحيد الذي وقّع بثقة ّ �رشيرة وراء جموحي �صك براءتي من �أي نزعة ّ 52
اجلن�سي ،وطهارتي املك�سورة ،و�ألقى بكل التبعات ،كلها بال ا�ستثناء، يف فجوة �سوداء من العدم ا�سمها الالوعي ،تارك ًا يل ممحاة رائعة� ،أحمو بها الذنوب غري ال�رضورية كلما تراكمت فوق �ضمريي. �أمل يكن فرويد رائع ًا عندما نزل على عقلي مثل رجل الإطفاء، لينقذين من ّ وه َربت؟ جلة حريق كبري من الندم� ،أ�شعلته جور ّية حويل َ كان مالذي الوحيد فع ً ال عندما كانت جورية تغيرّ رقم هاتفها، علي ثالثة �أطنان من اللوم لتخنق �أنفا�سي ،وتتهمني ب�أربع وترمي ّ تهم معتادة :ت�شويه �أحالمها ،وا�ستهداف ج�سدها ،وحتري�ضها على خذالن ثقة �أهلها ،وخد�ش ال�صورة املثالية التي كان يجب �أن يجيء لذت بكتب فرويد ،وب�أي حبها الأول ،وفار�سها املنتظر .ولهذا ُ عليها ّ نظرية �أخرى تنقذين من كالمها املدبب الذي كان يخرتقني ب�سهولة، وينفجر يف داخلي ب�شكل مكتوم ،و�صامت. كنت �أتعجب من هذه الفتاة التي مل تتجاوز الع�رشين من عمرها ُ �آنذاك ،كيف متلك موهبة يف تبكيت ال�ضمري ،و�إ�شعال الندم ،ولديها قدرة ا�ستثنائية على عك�س م�سارات الذنوب متام ًا ،ولهذا تط ّلب نفذت ب�ضمريي من ق�صبة �شنقٍ كبرية كانت قد الأمر عدة �أ�شهر حتى ُ أعدتها يل على عجل ،وهي ترتب دموعها حتى تبكي �أمامي ب�شكل � َّ �أنيق وترحل ،يف اليوم الأخري من �أكتوبر كما يقول تذكارها الأخري، ثم ت�ضعني يف مواجهة غريبة مع قلبي. وحتى عندما جتاوز رحيلها ردح ًا زمني ًا طوي ً وظننت �أنها غابت ال، ُ يف الن�سيان �إىل الأبد ،وجدتها ما زالت متار�س هواية ت�أنيبي عن بعد، وترتك يل ر�سالة �إلكرتونية تع ّلق فيها على كتابي الذي انت�رش فج�أة “ال 53
يبدو وك�أين �أقر�أ �أ�شياء جديدة هنا ،الرجل يبدو م�ألوف ًا جداً �إىل حد الرثاء ،والأحداث كانت �شبه متوقعة ،”...ومل تطل التعليق ،حتى ال تك�رس �سطوة غيابها هي الأخرى. حاولت تفادي الأمل الذي �أحدثه ح�ضورها غري املتوقع يف مكان ُ م�شو�شة متام ًا� ،أحاول مل يكن معداً لها على الإطالق ،وو�سط ظروف ّ حب امر�أة �أخرى. فيها ابتالع حقيقة ن�رش كتاب يل يتحدث عن ّ حاولت ،وجنحت ب�شكل ناق�ص ،لأن اجلورية جتيد ابتكار الأمل، ُ تر�ش امل�سامري يف الطريق. وتعرف جيداً كيف ّ ويف الر�سالة الق�صرية نف�سها �رسدت اجلور ّية �شيئ ًا من �أخبارها .مل �أ�س�ألها ،ولكني مل �أ�ستغرب البتة �أن تكون كل �أخبارها جيدة ،و�سعيدة. ت�رسب يل ن�صف �شك يف �أنها حزينة على فراقي. ال ميكن اجلورية �أن ّ ذات كربياء تعمل تلقائي ًا بدون �أزرار �أحيان ًا� .أخربتني �أنها تدر�س يف بريطانيا الآن ،ومل تكن تلك معلومة مهمة ،ولكنها كانت طريقتها يف التلميح �إىل �أنها جتاوزتني جغرافي ًا �أي�ض ًا مثلما جتاوزتني عاطفي ًا. وعندما �أعيد قراءة كلماتها التي وافتني بها ر�سالتها االلكرتونية، موقّعة با�سمها امل�ستعار املعتاد (غدير)� ،أكت�شف �أنها تزداد بعداً �إىل حد مريح بالن�سبة �إيل .لقد انق�شعت اجلور ّية متام ًا عن �سمائي مثل غيمة وجدت نف�سها فوق الأر�ض اخلط�أ. بقيت �أيام ًا �أفت�ش يف تعليقها عن ملحات �أخرى جتعله �أخف وط�أة ُ قبل �أن �أكت�شف تدريج ًا �أين �أفت�ش عما ال �أحتاجه �أ�ص ً ال .هل �س�أكون حتبني مث ً ال؟ ال �أعتقد. �أقل تعا�سة لو ُ وجدت يف كالمها �أنها ما زالت ّ حيوان االعتزاز املوقّت الذي �سيقفز يف �صدري حينذاك كعا�شق 54
�سابق� ،رسعان ما يلتهمه حيوان �أكرب ،ا�سمه الذنب ،وينه�شني بعده قطيع من الندم املري�ض. كانت اجلورية تريدين �أن �أحتمل وحدي �إثم ًا ارتكبناه مع ًا .لي�س �إثم الرغبة ،واجل�سدين امللتحمني حتت ال�سماء مبا�رشة ،فوق �سطح حب منزلنا يف الريا�ض ،عندما �ضاقت الأمكنة ،بل �إثم الوقوع يف ّ غري مربر ،بني �شخ�صيتني متعاك�ستني متام ًا ،تفوح من عالقتهما رائحة املناف�سة �أكرث من االن�سجام والت�آلف ،حتى لك�أن كل حاالت احلب لي�ست �إال هدنات االنك�سار العاطفي التي نتبادلها على �شكل ّ موقّتة تفر�ضها ظروف ال�سباق ،حتى يت�أتى لكل منا بعد ذلك� ،أن ينق�ض انق�ضا�ضة قادمة على م�ساحة �أو�سع من قلب الآخر. تعرفت عليها م�صادف ًة يف �أحد مقاهي بريوت .كانت حمجبة ،تلب�س ُ نظارات �أنيقة ،وتق�ضم �أظفارها طوال امل�ساء ،وتقر أ� كتاب ًا �إجنليزي ًا �صغرياً تاركة العامل وراءها �صاخب ًا يف م�ساء �صيفي معتاد يف قلب ال�سوليدير .كان �أبي و�أمي مي�شيان على امتداد ال�شارع ،و�أنا �أبقي عين ًا ن�صف مهتمة على ما تركاه يف عهدتي من �أكيا�س وم�شرتيات قليلة. كنت يف مزاج رائق جداً ،ويف حالة مناكفة غزلية مل �أعرف ولأين ُ �شعرت ب�أن فتاة تقر�أ �أمامي بكل هذا �أنها �ستكلفني الكثري يف ما بعد، ُ الرتكيز ،تبعث ر�سائل متحدية. ا�ستطعت �أن �ألتقط عنوان الكتاب الذي ركزت ب�رصي حتى ُ فرتكت مكاين بعد �أن عاد �أبواي، تقر�أه ،ومل �أكن �أعرفه قط، ُ أدخلت وهرعت �إىل مقهى �إنرتنت �صغري يف طرف املكان ،و� ُ �رسقت من علي بنتائج كثرية. ُ عنوان الكتاب يف حمرك بحث جاد ّ 55
تعليقات القراء التي وجدتها ما يجعلني �أ�ستطيع �أن �أرمي على الفتاة عن قرب تعليق ًا ب�سيط ًا ي�شي ب�أين قر�أت الكتاب من قبل ،وي�صنع �شيئ ًا من الألفة املفتعلة. ألقيت عليها تعليقي امل�رسوق ذاك و�أنا �أمر يف جوار وبالفعلُ � ، طاولتها عائداً �إىل مكاين ،وخ ّلفتها ورائي من دون �أن �أنتظر ردها، تارك ًا ابت�سامتي تلك معلقة يف الهواء. �شعرت ب�أن عينيها تتابعان حركتي البطيئة علي ،ولكني ُ مل تعقّب ّ و�أنا �أجته �إىل والدي اللذين عادا �إىل الطاولة ،و� ّأقبل جبني �أمي ،ويد ّ �أبي ،من دون داع� ،إال ا�ست�شعاري نوع نظراتها املعلقة على ظهري. تف�ض به بكارة قلبها حب خمتلف كهذا ُّ كانت اجلورية تفت�ش عن ّ الع�رشيني املغلق ،و�أنا الذي �أقر أ� الكتب الإجنليزية نف�سها التي تقر�أها، والدي يف الأماكن العامة ك�إن�سان طيب ،منح ُتها �شيئ ًا �شبيه ًا و� ّأقبل ّ مبا حتلم به ،والكثري من م�ساحات الغمو�ض ،لتخرب�ش هي معادالتها االفرتا�ضية كما تريد ،ولرت�سم تدريج ًا �أ�سهم ًا مطواعة ،ورا�ضية، باجتاهي. هند�سة الغواية هذه تكاد تكون � َّ ألذ كثرياً من ارتعا�شات اجلن�س أعول كثرياً على حماولتي تلك، الكربى يف �أحالم الذكور ،مل �أكن � ّ وكنت �أحت�سبها �ضمن عبث املزاج ال�سياحي عندما يكون رائق ًا، ُ ومناكف ًا. �أ�صبحنا �صديقني ،وعدنا �إىل ال�سعودية لنتوا�صل �أكرث ،ولنتورط مع ًا يف حالة �أ�صعب كثرياً من عبث بريوت املكلف ذاك .مل تكن جورية الأوىل ،ولي�س عندي ٌ ورق فائ�ض �أتبجح عليه ب�سل�سلة طويلة 56
بلغت �سن ال�شهوة و�أنا �أعرف �أن طهارتي من احلكايات ،فمنذ �أن ُ ٌ م�شقوق �إىل ن�صفني ال عالقة لأحدهما بالآخر، مك�سورة ،ووجهي كوجوه البجع� .أ�ستطيع �أن �أدخل يف عالقة مع امر�أة ما ،و�أخرج من عالقة �أخرى يف اليوم نف�سه ،من دون �أن �أ�شعر ب�أ�صوات الأبواب التي تغلق وتفتح .ال �أدري من �أَودع ّ العاطفي ،رغم يف كل ذلك ال�صلف ّ �أين طيب مثل دراجة هوائية ميلكها طفل قروي ،ولطاملا اعتقد �أبواي �أن ابنهما الوحيد الذي ينهب الربو �صدره كل �شتاء ،ميلك ح�س ًا دقيق ًا، وروح ًا مرهفة ،و�أنه قاب ورقة �أو �أدنى من ال�شعر ،ولطاملا �أرهقهما حتر�ضني على �أن �أ�صبح �أقوى، وتر�ساين بكل ن�صيحة ّ احلذر الزائدّ ، و�أكرث قدرة على املواجهة واخرتاق احلياة .ولكن ،ويا للأ�سف ،مل �أ�ستطع �أن �أكون هذا القوي الذي يرجوانه �إال مع الن�ساء! ولكن جورية كانت الوا�صلة الأوىل �إىل نقطة الذنب يف داخلي، �ألي�س يف الأجهزة االلكرتونية �أحيان ًا نقطة �صغرية خمتفية ،ن�ضغطها لنم�سح ذاكرة اجلهاز متام ًا؟ جورية و�صلت �إىل نقطة �شبيهة يف داخلي ،و�ضغطتها بكل مرارة �أيامها ال�ضئيلة معي ،لتلغي جربوتي لريم يف عدة �أيام ،ولأ�صبح �ضعيف ًا �إىل حد ا�ستجداء فرويد ونظرياته مّ يد ما �أف�سدته اجلورية من �شخ�صيتي ،لي�س لأنها ناعمة كما مل تلم�سها ٌ من قبل ،وال لأنها جتيد فع ً ال العبث مب�ساحيق التجميل امللونة لتتحول للم�س ،وال لأن خ�رصها ينحني جيداً على �إىل حلم تلفزيوين غري قابل ّ �صدري كثعبان يتعلم الر�سم ،ولكن لأنها �أي�ض ًا تعرف �أين جتد يف داخلي تلك النقطة التي مت�سح ر�صيد القلب متام ًا ،وجتعله �صفراً. �أهديت �إليها باقة من الزهور احلمراء القانية لأعلن عليها احلب 57
بدون مقدمات باطلة ،ف�أهدت �إيل يف املقابل قر�آن ًا مزخرف ًا ،ومتثا ًال خ�شبي ًا نحتته بنف�سها� .أهديت �إليها بعد ذلك علبة من احللوى الفاخرة يف عيد ميالدها ،ف�أهدت �إيل يف املقابل ورق ًا بردي ًا جمي ً ال يف قارورة من الزجاج ،حتمل ر�سالة ق�صرية منها .مل �أنتبه ل�سياق الهدايا و�أنا �أقطع معها احلب لقاء بعد لقاء ،و�أك�رس نحوه حاجزاً بعد حاجز، حتى خل�صنا يف النهاية �إىل ج�سدين موتورين يقت�سمان الربونز وامللح والرغبة املت�صاعدة .قالت يل بعد ذلك�“ :أمل تالحظ �أنك �أهديت �إيل �أ�شياء ال تبقى ،بينما هداياي �إليك عك�س ذلك؟” اللعنة! نق�ش بحذر يف قلب جورية اجلديد ،ومل كل ما يحدث كان ُي ُ حبها الأول بجميع حوا�سها �أكن �أعرف �أنها ،ككل الإناث ،تر�صد ّ املمكنة ،حتى ال تفر منها حلظة قد تت�رسب منها احلالة من دون �أن كنت مراق ََب ًا يف كل �أفعايل بعد�سة مل �أتوقع حجمها الهائل، ت�شعرُ . ودقتها املخجلة .ها هي جورية الآن ت�ست�شهد بهداياي �ضدي، وتوقعني يف بقعة خطرية من اللوم املوثق بالأدلة� ...“ .أال تظن �أن نوعية هداياك هذه ميكن �أن تعك�س �شيئ ًا من ّنياتك امل�سبقة جتاهي؟”، أفر من �س�ؤالها الأول حتى حا�رصين الثاين من اجلهة ومل �أ�ستطع �أن � ّ املقابلة .ال�ضحكات التي افتعل ُتها لأك�رس جدية امل�صارحة مل تكن وانتبهت �أخرياً �إىل �أن هداياها يف املقابل ،كانت �صعبة جيدة، ُ التجاوز. مقد�س ًا مثل القر�آن؟ �أو ذلك التمثال من ي�ستطيع �أن يتجاوز �شاهداً ّ ال�صغري الذي نحتته اجلورية يف �ساعات من جهد �أ�صابعها ،و�صدق 58
يديها؟ وحتى تلك الورقة كانت ن�ص ًا مكتوب ًا يدينني ،بينما القارورة ال�صغرية التي حتملها مل تكن �إال رمز الو�صول الأبدي ،مهما طال ال�سفر يف البحار التي ال تعرف القراءة ،وال تنوي تع ّلمها. جعلك تفكرين يف هذا يا حبيبتي؟ – ما الذي ِ وانتبهت �إىل �أنها ال حتوي �شيئ ًا يدل أملت غرفتي هذا ال�صباح، ُ – ت� ُ على �أين �أعي�ش ق�صة حب� ،أي �شيء! حتى الزهور ذبلت برغم كل ما فعلته لأطيل عمرها امليت �أ�ص ً ال ،وعلبة احللوى انتهت لأنها مل ت� ِأت �إال لت�ؤكل .ماذا تريدين �أن �أفعل؟ �ضحكت بع�صبية و�أنا �أداعبها. ُ – كان ب�إمكانك جتفيف الزهور مث ً ال. وجتاه َلت هي �ضحكتي واقرتاحي متام ًا ،وراحت تكمل كالمها، َ بتلك النربة التي ال ت�صعد ،وال تهبط ،وتبقى ثابتة على م�ستوى واحد من احلقن الهادئ امل�ستمر لأطنان من الذنوب ال�صغرية ،حتت جلدي. – بالطبع �إن خلوها من عالمات احلب ال يعني �أين ال �أمر بحالة حب حقيقية ،ولكن ثمة ما ي�شعرين ب�أين لن �أعي�شها ك�أمر حمتوم. �سكت ،كما ال ينبغي يل �إال �أن �أ�سكت ،بينما �ألقت هي �س�ؤالها ُّ املفاجئ: – ح�سان ،قل يل ب�صدق :هل �ستبقى معي �إىل الأبد؟ �أجبتها ب�صوت يف�ضحه ارجتافه: – طبع ًا ،طبع ًا ،يا حبيبتي ،بال �شك. – ملاذا ال نتزوج �إذن؟ ماذا ننتظر؟ كان طموحها �أ�رسع من ق�صتنا ،هذه كانت م�شكلتنا الوا�ضحة، 59
وهذا ما جعلني �أتعرث ،و�أ�سقط ،و�أرك�ض يف االجتاه الآخر لأجنو من عربة الذنب املجنونة التي كنا نركبها مع ًا .كانت لدي ب�ضع م�شكالت �صغرية مع فكرة االرتباط ب�أنثى واحدة ،وكيف �أن كل الربونز الذي تفرزه ب�رشة جورية معي ،والذي قد تفرزه مع رجال �آخرين ،ال ميكن �أن يقنعني بارتباط �أحادي دائم كهذا ،ومل �أكن �أعرف �أن امر�أة قادمة �سوف ت�أتي بعدها ،لتعلمني على مهل ،فن التوحد فيه. �سماعة هاتفي: وبعد �أ�شهر قليلة ،كانت جورية ت�رصخ يف ّ “و�سامتك التي تتباهى بها� ،ستورثك ندم ًا عميق ًا �أيها اجلبان!”، وته�ش َم كل �شيء ،كما كان متوقع ًا لهذا احلب �أن يته�شم مثل اخلزف َّ املغ�شو�ش ،ظلت اجلورية تبت ّز مني وعداً جديداً كل �صباح ،ثم �صارت �أكرث تطلب ًا فيما يتعلق باتخاذ �إجراءات جادة لالرتباط ،وبقية ال�ش�ؤون الكثرية التي ال تطفئ قلق فتاة جترب احلب للمرة الأوىل ،وتعي�ش منذ �أ�شهر خارج ال�سقف الدافئ لل�صدق الأ�رسي ،وبعيداً عن دور الإبنة ال�شفافة امل�ستحقة ثقة الأهل ،كما تعودت �أن تعي�ش دائم ًا. وت�سببت يف ت�أخريها، قر َرت هي يف �آخر املطاف �أين �أتعبتها، ُ َّ وانح�رشت مثل ح�صاة �صغرية يف عجلة طموحها ال�ضخم، وتعطيلها، ُ ولهذا غيرَّ َ ْت رقم هاتفها فج�أة ،وال �أتذكر �أنها قالت وداع ًا ،بينما زلت بني حني و�آخر� ،أفعل مثلما يفعل تنف�ست �أنا ال�صعداء ،ولكني ما ُ ُ أمر بباب بيتها يف ليلة الع�شاق الكال�سيكيون يف الع�صور الو�سطىّ � ، �شتائية ما ،لآخذ ن�صيبي من الذنوب ،و�أم�ضي. ُعر�ض بو�سامتي الآن رغم �أنها مل تذكر ذلك كثرياً �أثناء ها هي ت ّ علي يف غمرة الغ�ضب وك�أنها تهمة! مل يكن احلب ،والآن تلقيها ّ 60
ب�إمكاين �أن �أخربها �أن الذي تراه هي و�سامة يف الوجه ،رمبا جعلتني تر�سب �أتلقى الع�رشات من التحر�شات ال�شاذة يف طفولتي ،و�أتركها ُ يف داخلي ببطء .وهي ال تعرف حتم ًا كيف �أن �إ�صبع ًا واحدة تبلغ ما ال يحق لها �أن تبلغه من م� ّؤخرتي تكلف ذهن الطفل ال�صغري ع�رشات الأيام من التفكري الثقيل ،وتزرع يف �سلوكه الع�رشات من العادات ال�سيئة .فكيف �إذن ب�أ�صابع كثرية ،وع�رشات الأيدي ،وع�رشات الأع�ضاء التي تنتفخ من وراء الثياب ،وتطرق ظهري يف الن�شوات العابرة ،كلها تر�سبت جيداً ،لتنحت لها هذا الوجه ال�صلب يف النهاية. ا�ضطررت �إىل مل تكن تلك املعاناة تطرق ذهني كثرياً ،ولكني ُ ا�ستدعائها من �صندوقي النف�سي القدمي عندما �أوجعني رحيل اجلورية واحتجت �إىل حلاف ما .ال ميكن �أن ندفع الذنب املقرتب مثل البارد، ُ غاز� ،إال باالختباء يف ملج أ� �صغري كهذا ،يقنعني ب�أين �أنا املظلوم ،وال �أ�ستحق ما يحدث يل معها. مل �أ�سمع اجلورية ت�صفني بالو�سيم �أثناء حبنا قط ،هذا ما يجعلني �أكرث اقتناع ًا ب�أن حبنا كان م�شوه ًا بحالة تناف�س غبية ،ومل تكن هي تريد �أن متنحني نقاط ًا �أكرث .ورمبا كان هذا �سبب ًا �إ�ضافي ًا يجعلنا ال نن�سجم حتى يف حاالتنا اجل�سدية ،هي التي فكرت يف اجلن�س على عجل كعالقة علوية ،طرقت بابها فج�أة مع حب مل يكن متوقع ًا ،ومل ت�ستعد له بحقيبة من الألوان الأخالقية اجلميلة ،واكتفت بالفو�ضى التي ت�أتي مع احلب ،وتربر الأ�شياء وحدها لفرتة موقّتة ،ي�صبح خاللها كل �شيء حمتم ً ال وجائزاً يف خ�ضم الدوخة الكبرية .هذا �أق�صى ما منحها �إياه ت�سارع العالقة من الوقت للتربير ،بالإ�ضافة �إىل �إحلاحي على لقاء 61
ج�سدي ما ،فلم جتد للجن�س ر ّف ًا منا�سب ًا يف خزانة حياتها املثالية جداً، ولذلك احت�سبت هذا اجلن�س املبكر �أق�ساط ًا مقدمة لعالقة البد �أنها ال �أو �آج ً �ستنتهي بالزواج عاج ً ال ،ومل يكن �إال ذلك ما ميكن �أن يربر لها �أن ّ متكنني من ج�سدها الربونزي الثمني ذاك ،ذي اخل�رص املطواع، رغم كل احلواجز املرتاكمة. كنت ال �أما �أنا ،فلم �أفكر وقتذاك يف اجلن�س كحالة �سامية البتةُ . تعر�ضت لها �أراه �إال حالة الحقة حمتملة لأي من التحر�شات التي ُ قبيح يجعل الكبار يت�رصفون بفجاجة مع يف طفولتي .اجلن�س �شيء ٌ ال�صغار ،كان هذا تف�سريي الطفويل الأويل ،فلماذا كان يجب �أن كربت ،ومل تتغري الفكرة كثرياً ،ولكنها اندجمت يتغري فهمي؟ ولهذا ُ وحتول مع مرحلتي العمرية التي ُ �رصت �أتعر�ض فيها لإحلاح الرغباتَّ ، اجلن�س �إىل فل�سفة مل �أ�صغها ،ومل �أطلع عليها ،بل مار�ستها فقط مثلما تكونت يف داخلي وحدها .فل�سفة اجلن�س املادي. وجدتها ،وقد ّ �سل�سلة االحتكاكات اجللدية التي تُورث ال�سعادة ،وقلي ً ال من ال�شجن النف�سي ليبقى الفعل �إن�ساني ًا فح�سب. اختلفت معها عند �أول فرا�ش .هي التي انتبهت �إىل يدي ولهذا ُ الطويلة ،رغم �أن طول اليد �أو ق�رصها مل ي�شكل فارق ًا كبرياً يف الأيام التي تلت ذلك ،بعد �أن ا�شتعلنا �رسيع ًا يف عالقة ج�سدية حممومة، و�أ�صبحت يدها �أطول من يدي بعدة �سنتيمرتات حرجة ،ورغم �أنها كانت الفتاة التي تتعرف على �أ�سئلة ج�سمها للمرة الأوىل ،و�أنا الذي راقني فع ً ال �أن �أجيب عنها بكل �سعادة ،و�أعلمها ،حرفي ًا ،معنى �أن تتكلم الأج�ساد ،وترق�ص بع�ضها مع بع�ض على �إيقاع الهرمونات، 62
والرع�شات ،والدقات الع�صبية املجنونة. ولكن تلك الدرو�س مل تكن هادئة دائم ًا ،بعد �أن �أ�صبحت هي غري قادرة على ترتيب ج�سدها وروحها ب�شكل مثايل بعد الطوفان انتبهت �أنا �إىل �أن جورية الذي �أحدثته جتربة اجلن�س يف حياتها ،ولهذا ُ كانت بعد كل لقاء جن�سي بيننا ،تد�س حتت و�سادتي لغم ًا موقّت ًا من الذنب ،تظن �أنها قد حتتاج �إىل تفجريه يوم ًا ما ،لتقذفني باجتاهها. انتبهت مبكراً �أي�ض ًا �إىل �أنها كانت �أكرث اعتداداً بالنف�س مما ميكنني ُ علي، من مواكبته .ا�ستفزتني طريقتها يف اال�ستحواذ التدريجي ّ و�شعرت ب�أين قد �أحتول �رسيع ًا �إىل �شهادة �صغرية معلقة يف جوار ُ �شهاداتها الأخرى �إذا جنحت يف حيازتي زوج ًا� ،أو ع�شيق ًا تاريخي ًا تهربت من االرتباط جمنون ًا� ،أو حتى م�ستمع ًا جماني ًا �إىل نوباتها الغنائية. ُ املطول بها ملقي ًا بكل التبعات على �أ�سباب قبلية واجتماعية ،رغم �أن عائلتي هي �أبعد ما يكون عن الهاج�س القبلي ،ولهذا ت�سمني هي باجلنب ،وهو �صفة �أ�ستطيع حتملها حتم ًا �أكرث من قدرتي على حتمل طموحها الأرعن بقية العمر. أكتب هذه االعرتافات امل�سيئة �إىل قلبي و�أنا يف حالة الغريب �أين � ُ كتابة ذائبة ،يف موقد من �شتاء ما ،بعد �أن �أكملت غالية ما بد�أته جورية، وحتول قلبي �إىل مكان منكوب ،ي�صلح �أن جترى عليه التجارب اخلطرية ّ التي ال ميكن توقع عواقبها .والغريب �أي�ض ًا �أين �أكتب اعرتافاتي من دون �أن ي�ضطرين �شيء �إىل ذلك ،وكما حدثت متام ًا ،خالية من كل ما ي�ضفيه املعرتفون على اعرتافاتهم من �ضمانات م�سبقة لتعاطف منتظر� .أعتقد �شخ�صي ًا �أن مفهومي للتعاطف يختلف متام ًا عما يعرفه املجتمع ،ورمبا 63
هذا االختالف هو الذي انتهى بي يف عيادة و ّزان ،بحث ًا عن تعاطف معدل ،ينا�سب اعرتايف الفج ،وذنوبي الغريبة. َّ مل تكن هناك امر�أة �أن�سب من غالية بالذات لت�أتي بعد جورية حتى يكتمل هذا الثقب الكبري يف قلبي ،ومل تكن هناك فتاة �أن�سب من جورية ،كي متهد الطريق لغالية ،لتتمكن من �إكمال هذا الثقب ،بهذا االت�ساع .كلتاهما جاءت يف الوقت املنا�سب ،لت�ؤدي الدور املنا�سب، ويف تعاقب منا�سب ،ب�شكل غيبي ن�سقته لهما الأقدار ،و�أوقعتني بينهما مثل قطعة حديد �أنهكها حدادان ،قرع ًا وطرق ًا. ومن دون �أن تعرف �إحداهما الأخرى ،ت�آمرتا على �صفعي جيداً، حتى �أنتبه �إىل �أن ج�سدي قد يت�سبب يف �إيذائي �أحيان ًا� ،أو رمبا دائم ًا بعد ذلك ،و�أن اجلن�س الع�شوائي ي�شبه التدخني ،ت�أتي �أ�رضاره الحق ًا، و�أن طريق الرغبات ال ينتهي ،و�أن �أج�ساد الن�ساء م�سمومة ،ال�سيما الراحالت منهن. ت�ضعف فيها �أحيان ًا �أعرب باب جورية يف الليايل ال�شتوية التي ُ مناعتي ،ولي�س من موقد ،ف�أقرر �أن �أخرج يف منت�صف الليل� ،أجو�س برك ع�شوائية ،و�أقرر حولها املطر املتقطع �إىل ٍ ب�سيارتي ال�شوارع التي ّ عرفت ،ورحلن ،ح�سب ترتيبهن �أن �أمر ببيوت كل الفتيات التي ُ التاريخي يف قلبي ،ولي�س ح�سب تقارب بيوتهن �أو تباعدها ،وال �أدري ملاذا كان باب اجلورية دائم ًا �أكرث الأبواب انغالق ًا ،وال يبدو �أن ثمة حياة وراءه على الإطالق؟ بابه احلديدي الأنيق ير�سم كل الأ�شكال املمكنة ليجعلني �أتهيب فكرة النظر �إليه ،ف�ض ً ال عن فكرة الدخول مث ً ال .كل �شيء يف ت�صميم بيتها ،تلك الفي ّ ال الغربية املكعبة، 64
ميعن يف تنبيهي �إىل �أمرين :الأول� ،أن اجلورية كانت م�ستحيلة جداً �آنذاك ،ومل يكن ب�إمكاين الدخول �إليها بقلب مطمئن .والثاين� ،أن اجلورية �صارت �أكرث ا�ستحالة الآن ،مئات املرات. بيت غالية املتوا�ضع الذي كانت ت�سكنه مع �أمها فلم �أكن �أعربه �أما ُ كثرياً ،لأين �أعرف �أن النافذة املطف�أة ال ت�ضم وراءها غالية حتم ًا ،فهي جدة مع زوجها املريب ،وعلى العك�س متام ًا من جورية، تعي�ش يف ّ كان باب بيتها الذي خد�شه الزمن ،و�أم�سى يحتفظ بطالئه ب�صعوبة، يبدو متعاطف ًا معي ،وعندما متر �سيارتي �أمامه ،كان مينحني مالمح انك�سار حكيم. جزت هذا الباب يوم ًا ،و�أنا زوجها ،فكيف ال يعرفني؟ ُ كم يفتح ال�شتاء من النوافذ اخللفية .هذا الذي كان يكيل يل كل تلك الق�سوة ،و�أمل اخلجل الكبري يف طفولتي و�شبابي ،من بكاء ال�صباح، حتى قيود املالب�س� ،إىل �سخرية املدر�سة ،وا�ستجداء الأبواب ،وكتابة االعرتافات ،وا�ستنطاق الأرقام املطف�أة .لطاملا مت ّثل يل مارداً �ضخم ًا، قا�سي ًا ،عندما يجيء يجيء معه الهم ،والك�آبة ،والبوح غري ال�رضوري، والأحزان املتتالية. كربت الآن� ،رصت �شاب ًا يف التا�سعة والع�رشين ،و�أ�صبح ال�شتاء �ضعيف ًا ،هزي ً ال ،يف عامه املليون رمبا .هزم ُت ُه ب�أعوام قليلة فقط ،منذ ال كام ً هزمت ف�ص ً أنفا�س هزيلة طفولتي حتى الآن، ُ ال ،ومل يبق منه �إال � ٌ يوزعها على ثالثة �أ�شهر ناق�صة الأطراف� .صار ال�شتاء يجيء لت�سجيل ح�ضور فقط. 65
66
III توقفت عن التدخني حتى قبل �أن �أخرج من املزرعة ب�ساعة تقريب ًا، ُ أح�صيت يف املنف�ضة ثالثة �أعقاب ال �أكرث، ال تعلق الرائحة بثيابي ،و� ُ من �أول هذا الليل اجلزيل ،ورحت �أنظف فلرت التدخني البال�ستيكي ال�صغري قبل �أن �أعيده �إىل جيبي ،و�أنف�ض ثوبي من جعدات اجللو�س، أو�شكت �أن �أخرج فع ً ال� ،أح�رض يل �صوام ،كاملعتاد ،تلك وعندما � ُ املدخنة اخل�شبية ال�صغرية ،وقطعة �ضئيلة من العود� ،أحرق ُتها فيه على ورحت �آوي يف غرتتي وثيابي ذلك البخور الهارب ،لعله مهل، ُ ألقيت حتية يخفي ما قد يعلق بي من �آثار التدخني عن �أنف �أبي ،ثم � ُ واجتهت �إىل �سيارتي. الوداع على ال�شقيقني، ُ مل يكن �ضمن قائمة ممكناتي �أن �أجعل �أبي ي�شك �أين �أدخن .رغم ومزاجي ،ف�إنني �أعرف كم ت�ؤمله فكرة �أن يعتني بي �أن تدخيني قليل ّ طوال عمري مثل عود �أخ�رض ،ثم يلفيني � ُ أحرق نف�سي بكل برودة، علي انتهت �إىل ابن غري مبال. وك�أن تلك الأبوة الهائلة التي �أنفقها ّ كل �شيء عنده ٌ قابل للتفاو�ض �إال التدخني ،وال �أفهم كيف ّ تركب البناء الأخالقي طوال حياته لي�ضعه هذا العبث ال�صحي العابر ،يف 67
ر�أ�س الذنوب التي ال تغفر. كنت مراهق ًا� ،أر�سلني �أبي �إىل مع�سكر �صيفي لل�شباب عندما ُ يف �إيرلندا .كنت على �أعتاب ال�ساد�سة ع�رشة تقريب ًا ،وكانت هي املرة الأوىل التي �أ�سافر فيها وحدي .ويف غمرة ما يحدث يف تلك أفرزت الكثري من الأدرينالني ،وقررت املع�سكرات من �أن�شطة كثريةُ � ، �أن �أمار�س مغامرة خطرية ،كالتدخني مث ً ال ،يف و�سط املع�سكر. ويف �صخب احتفال م�سائي �صغري ،وو�سط ثلة ال �أح�صيها من أ�شعلت �سيجارتي ،واتك�أت على فتية وفتيات من �أنحاء العامل كافة� ، ُ أنفث الدخان بينهم بكل ثقة، �سور �صغري مثل رعاة البقر، ورحت � ُ ُ و�أنا �أظن �أن كل �شيء �سيم�ضي ك�شغب عابر ،ومل �أعرف �أن امل�رشفة على املع�سكر قد نقلت �سلوكي هذا هاتفي ًا �إىل والدي يف الريا�ض ،يف الليلة نف�سها. يدخن. – ح�سان ّ كنت �أق�ضي ا�سرتاحة الظهرية يف غرفتي التي بعد �أيام قليلةُ ، �شاب بوليفي يف مثل عمري وهو يغط يف نوم عميق ي�شاركني فيها ٌ بينما �أنا �أت�صفح جملة .فج�أة ،انتبهت �إىل الباب ينفرج بهدوء، التفت وج ً ال لأجد �أبي و�أنفا�س �شخ�ص ثالث ت�شاركنا يف الغرفة. ُ واقف ًا �أمامي ،يرتدي بذلة رمادية كال�سيكية ،وربطة عنق �أرجوانية، وحذاء المع ًا ،و�شعره م�صفف بعناية فائقة جعلته �أ�شبه ما يكون بالأب الروحي للمافيا. ومل يكد يرتد �إ ّ �شعرت ب�أن �شيئ ًا بال�ستيكي ًا متو�سط يل ب�رصي حتى ُ الثقل يرتطم بوجهي بقوة جعلتني �أتراجع و�أ�سقط على ال�رسير ،و�أفقد 68
الر�ؤية لثوان ،وعندما ا�ستعدتُها ببطء ،كان �أبي ما زال واقف ًا حيث هو ،واملنطقة ما بني وجنتي و�شفتي العليا تنب�ض بذلك الأمل املفاجئ، وقد بدت يل �شفتي �أكرث تورم ًا من املعتاد� .ألقيت نظرة �رسيعة على �أر�ضية الغرفة لأعرف ما الذي ارتطم بوجهي ،فوجدت علبة دخان �صغرية ،جديدة ،ومغلفة ،تدحرجت قلي ً ال ،و�سقطت قريب ًا من خزانة املالب�س ،و�سقط معها كل ما يف ج�سدي من الطم�أنينة والقرار! ا�ستيقظ الفتى البوليفي من النوم على �صوت ارتطام علبة الدخان بوجهي ،و�أقنعته عينا �أبي ال�صارمتان ب�أن يخرج من �رسيره ،ويت�سلل من وراء ظهر �أبي حماذراً �أن يلم�سه� ،إىل خارج الغرفة ،ويرتكني وحدي يف مواجهة هذا املارد الذي خرج فج�أة من الرماد. و�ضممت رجلي وقفت �أمامه من دون �أن �أنطق بكلمة واحدة، ُ ُ ورحت �أنتظر .كان وجهه جامداً على حالة غ�ضب مل �أره يف مع ًا، ُ مثلها من قبل ،وك�أنه ٌ �سومري مرعب ،برز فج�أ ًة يف وجه عامل متثال ّ �آثار .مل �أكن �أدري ماذا يجدر بي �أن �أفعل ،وماذا ميكن �أن �أقول� .أبي الذي مل �أره منذ �شهر تقريب ًا يقف �أمامي الآن ،يف دبلن ،وي�رضبني لأول مرة يف حياتي ،ثم يقف �صامت ًا وك�أنه ينتظر مني ردة فعل ال ميكن من هو يف موقفي �أن ي�أتي بها �إطالق ًا. بقيت �صامت ًا� ،أنتظر �أن يكمل �أبي �رضبه� ،أو عتابه� ،أو �أي ًا من ّنياته املبيتة للتعامل معي ،ولكنه ظل �صامت ًا �أي�ض ًا لدقيقة كاملة ،ال ميكن �أن تكون لدقيقة �أخرى يف حياتي مثل جربوتها الذي كان يقطر يف قلبي مثل �صنبور مهمل يف زنزانة �سجني .مار�س معي ذلك ال�صمت الهائل مهملة، فقط ،وال �شيء �آخر، ُ وبقيت �أنا مطرق ًا مثل عالقة مالب�س َ 69
�أرجتف من اخلوف ،و�أ�شعر بدوخة طفيفة من فرط الف ََرق. �شعرت ب�أن �صمته هذا كان مدبراً بخربة عندما طال �إطراقي، ُ ع�سكري �سابق ،يجعلني مطرق ًا حتته مدة دقيقة كاملة ،ليت�رسب يف داخلي �شعور الذل من هذه الوقفة املهينة ،حتى وجدتني �أت�ساءل يف فعلت بنف�سي!” جوف عقلي اخلاوي امل�ضطرب“ :يا يل من غبي ،ماذا ُ �صمت �أبي وحده كفي ً ال بقدح الندم يف داخلي ،فماذا لو تكلم؟ كان ُ راحت دموعي تنزل بغزارة من دون �أن �أرفع ر�أ�سي� ،أو �أحترك من و�ضيع جداً ،وفمي �أقذر من �أن �أخاطب به �أبي. �شعرت ب�أين مكاين. ُ ٌ لوهلة ،بدت يل علبة الدخان التي طوح بها �أبي يف وجهي ،وامللقاة يف جوار خزانة املالب�س ،علبة ملعونة ،خدعتني ،ومل تف بوعدها يل رازح حتت اخلزي الثقيل، ب�أن حتيلني �إىل فتى رائق ،وكبري .ها �أنا الآن ٌ �أرتعد �أمام �أبي مثل قطعة قما�ش مهرتئة ال ترحمها الريح. �سمعت �أبي ينطق ببطء قاتل: بعد �أن م�ضت تلك الدقيقة احلارقة. ُ – خذ البكت ودخن الآن قدامي! – ال. وت�ضاعفت غزارة الدموع ال�سائلة من عيني. – ليه ما تدخن مو كوي�س التدخني؟ – ال. – ما تبغى تنب�سط وتكيف را�سك؟ – ال. راحت دموعي تت�ضاعف مع كل �س�ؤال بطيء �آخر ينزل على �سمعي مثل الإبر احلادة .مل �أعرف �إىل ماذا يرمي �أبي ،وما هذه 70
الزاوية امللعونة التي يحا�رصين فيها الآن ،ويقيدين فيها بخيوط خفية مثل خيوط العنكبوت ،ليجلدين �صوته الهادئ ،و�أ�سئلته البطيئة، على مهل .ملاذا ال يت�رصف مثل بقية الآباء عندما يعاقبون �أبناءهم؟ حركي يجعلني �أهرب من هذه الغرفة، �صفعات ،ركالت� ،أي �شيء ّ و�أفكر يف كل �شيء بعد ذلك ،بعيداً عنه. – جبت لك نف�س نوع الدخان اللي يعجبك ،كينت �أزرق ،مو؟ كانت هذه ال�سخرية املدمرة التي مل �أ�سمعها من �أبي من قبل �أق�سى مما يتحملها و�ضعي املتهالك �أ�ص ً ال ،فانفجرت �أخرياً يف بكاء كبري جداً ،وجل�ست على الأر�ض فيما ي�شبه ال�سجود الناق�ص ،ورحت �أنتظر منه �أن يركلني مثل كرة مثقوبة ،ويرتكني وحدي .ازداد بكائي حتى حتول �إىل �شهيق مت�صل ،ويف واحدة من تلك ال�شهقات الكثرية، �سمعت عقبي �أبي ي�ستديران ،و�صوت ان�سحاق ذرات الغبار بني ُ كعب حذائه الكال�سيكي و�أر�ضية الغرفة اخل�شبية ،وملحته يبتعد بخطوات هادئة ،ويرتك الغرفة. ظلت تلك احلادثة واقفة يف منت�صف عقلي مثل خيال م�آتة ،تطرد كل احتماالت التدخني املقرتبة ،وجتعل منها �آخر الأفكار املمكن تطبيقها على الإطالق .مل �ألتق �أبي يف �إيرلندا بعد �أن ترك الغرفة ،ومل دلفت من باب البيت �أره �إال بعد انتهاء ال�صيف ،يف الريا�ض ،عندما ُ و�أنا �أتوج�س من �شكل ا�ستقباله ،وقطيعته املحتملة ،ولكني وجدته ي�ضمني كعادته بعد ال�سفر ،وك�أن �شيئ ًا مل يحدث �إطالق ًا ،ومل يكن ّ تغا�ضيه املفتعل هذا �إال ليزيد من �سماكة احلاجز ،وميحق الفكرة متام ًا. عدت �إىل التدخني يف تلك املزرعة الوزانية بعد ع�رش غري �أين ُ 71
�سنوات� .شيء يف هدوئها امل�شتبه فيه يجعل كل الأفعال مقبولة، ك�أنها قطعة خارج احلياة ،يجوز فيها ما ال يجوز خارجها ،ولأن وزان خان �أمانته الطبية مرة ،و�أخربين �أن الكثري من الريا�ضة ،والقليل من التدخني ،ميحوان بع�ضهما بع�ض ًا ،وكان احلب ،واخليبة ،وبقية أ�ستحق ،بعد جولة أ�شعر ب�أين � ُّ املحر�ضات الروحية ال�صغرية جتعلني � ُ �سيئة يف احلياة� ،أن �أخرب ج�سدي قلي ً ال. كانت التمارين الريا�ضية اليومية جزءاً من العادات التي ال تتوقف يف حياتي .ومنذ بلغت الع�رشين ،حتى الآن ،و�أنا �أنق�ش هذا اجل�سد نق�ش ًا مثل بيجماليون ،و�أحاول �أن �أجعله �أنيق ًا ،و�شهي ًا ،لأغرا�ض عدة، ال عالقة لها باحلكمة ،ولي�س �أكرث من نزوة �شاب مغرور بد�أت فج�أة، وحتولت �إىل عادة يومية .ف�إذا مل �أكن قوي ًا ،فلعلي �أبدو كذلك على الأقل ،و�إذا مل تنفعني هذه القوة الع�ضلية يف واقع احلياة وظروفها، فلعلها تكون �سبب ًا �إ�ضافي ًا يجعلني �أقرب �إىل عيون العابرات. �أخربتني اجلورية يوم ًا ما ،وهي تلعق �صدري مثل قط �رضير� ،أنها تتمنى لو كانت ع�ضالتي �أقل بروزاً ،حتى �أبدو عادي ًا ،وممكن ًا ،ولي�س مثل �أبطال �أفالم العنف امل�ستحيلني .كانت حتاول �أن جتعل حبنا �أكرث حلم هوائي يعرب واقعية وهي تعرتف �ضمني ًا ب�أين ُ كنت �أبدو مثل ٍ حياتها ،وال ميكنها �أن حتب�سه يف قنينة ما مثل قطرات احلقيقة .كانت تريد �أن تكثفني حتى �أ�صبح �أكرث قابلية للتناول .وقتذاك �أخذت �شهادتها تلك على حممل اجلد ،على اعتبار �أن الذوق الأنثوي مت�شابه يف جممله يف حميط الريا�ض على الأقل ،وخف�ضت معدل متريني اليومي �أكرث من الن�صف ،وتوقفت عن تناول الربوتني متام ًا .وعندما كانت 72
جورية تز ّم �شفتيها الغا�ضبتني وترحل �إىل الأبد ،كان ج�سدي قد فقد الكثري من ات�ساقه الع�ضلي فع ً ال ،لتكتمل عندي بذلك �صورة العالقة اخلا�رسة م�سبق ًا ،واحلب امل�صاب بلعنة الغنب. لو كانت جورية عربت و�سط عالقة فقط ،لكان ذلك �أكرث من رائع ،ولكنها كانت �أكرث حنكة ،و�أطول �أظفاراً .قبل �أيام قليلة ،ر�أيت �صورة �أخيها يف اجلريدة ،يف حفل زفافه ،كما تن�رش اجلرائد املحلية �أحيان ًا �صوراً كتلك�“ .أخي هذا ي�شبهك يف كثري من ال�صفات، �ستن�سجمان جداً!” ،كانت تقول هذا ،وغريه من امل�شاهد املتوقعة التي كانت تختلقها �أثناء كالمنا دائم ًا ،لتجعل فكرة زواجنا �أكرث ثبات ًا يف ذهني ،وحتا�رصين بالكثري من الأ�سوار اجلميلة ،حتى ي�صبح الرتاجع تخولها �أن تلعنني ،بال تردد. عما مل نتفق عليه بعد ،خيانة ّ واحتجت بعدها �إىل امر�أة �أخرى، خربت قلبي وج�سمي وم�ضت. ُ ّ وثالث �سنوات ،لأقنع نف�سي ب�أن ال �آ�سف عليها �أبداً �ستظل امر�أة على تنافر مع طباعي ب�شدة .وبيننا ما بني الرجل واملر�أة من برج العذراء، ذلك الت�شابه الظاهري يف ال�صفات والعادات والذي يطلي العالقة بخديعة املر�آة ،والن�صف الآخر ،و�رشيك القلب ،وبقية الكذبات التي ي�صنعها هذا الربج امل�شتبه فيه ،وبعد ذلك يتك�شف لهما �أثناء العالقة ذلك التناف�س اخلفي ،وال�سباق على ال�سيطرة ،ونزعة اال�ستيالء على زمام احلب. ٌ ظروف جتعلني �أعي�ش ال �أ�سف على اجلورية لأنه ال ميكن �أن توجد من�سجم ًا معها ،وما يعزيني يف جراحها ال�سامة �أنني �أ�شعر دائم ًا ب�أين كنت حكيم ًا عندما تركتها تركلني ب�شدة طوال �أيامنا الأخرية ،حتى ُ 73
غابت متام ًا .كان ال بد لأحدنا �أن يلعب دور الكبري هنا ،بعد �أن ف�شلنا يف �أن نكون كبريين مع ًا� ،أو حتى �صغريين مع ًا!
**** و�صلت �إىل البيت و�أبي ال يزال م�ستيقظ ًا .فتحت الباب بهدوء، ف�ألفيته جال�س ًا على كر�سيه الأثري يف ال�صالة ،يتابع برناجم ًا وثائقي ًا، وي�أكل حبات برتقال ،و�إىل جانبه تقبع نظارته املطوية على الطاولة ال�صغرية فوق رزمة �صغرية من الورق ،بينما ين�سدل جورباه من م�سند املقعد ب�شكل �أنيق ،وك�أنهما مل ُيلب�سا بعد. كانت الإ�ضاءة خافتة كما ال ميكنها �أ�ص ً ال �أن تكون �أكرث من ذلك يف بيتنا .ابت�سم يل عندما دخلت يف جمال ر�ؤيته ،ثم عادت عيناه لتتعلقا ب�شا�شة التلفزيون ب�شكل �آيل. �شعرت ب�أين �أرغب يف البقاء معه قلي ً ال ،وال �شيء يف غرفتي ينتظرين ُ على �أية حال ،فانحنيت ل ّأقبل جبينه ،ثم جل�ست على الأريكة املواجهة لكر�سيه� .س�ألني: – اي�ش عندك الليلة؟ – ما عندي اال اخلري يا والدي. تابعت �إ�صبعه املعروقة وهي ت�شري �إىل ال�شا�شة ،ويقول بنربة ت�ستحث اهتمامي: – انظر ،احلرب العاملية ،يف �أيامها الأخرية. جل�ست �أراقب معه بع�ض �صور بالأبي�ض والأ�سود لدبابات ُ 74
وحاولت �أن �أح�رش بع�ض التعليقات عقب الأحداث وجنود قدماء، ُ التي تظهر على ال�شا�شة ،من دون �أن �أظفر بالكثري من اهتمامه .كان يحك �أذنه من حني لآخر منذ �أن �آذاه التهاب �أذنه الو�سطى الأخري، و�أفقده التوازن ،ثم هوى به يوم ًا ما ع�رش درجات كاملة بطول الدرج ،لي�سقط على الأر�ض مبا�رشة. من ح�سن حظه وحظنا �أنه مل ي�صب ب�أذى كبري ،با�ستثناء بع�ض ارت�ض ظهره قلي ً ال ،وبدا �أن بنيانه اخلدو�ش يف جبينه و�ساعده ،كما ّ الع�سكري القدمي لعب دوراً جيداً يف حمايته .ويف الليلة نف�سها، ت�صدق بع�رشة �آالف ريال ،كعادته عندما يريد �أن يبعث بامتنانه �إىل ّ اهلل ،بينما �أنفقت �أمي املبلغ نف�سه تقريب ًا يف تركيب دعائم �إ�ضافية ال�سجاد ال�سميك على كل الدرجات بطول الدرج ،وقطع من ّ الرخامية تلك. انق�ضت ن�صف �ساعة و�أنا �أتابع مع �أبي �أحداث احلرب العاملية، و�أكوام القتلى يف اخلنادق املهجورة ،وقد منحها اللونان الأبي�ض والأ�سود حاجزاً زمني ًا يجعل حدوثها مرة �أخرى ب�صورتها املهولة تذكرت احلرب الوحيدة التي كان ميكن �أن تلك �أبعد احتما ًال. ُ �أجربها لوال �أن �أبي مل ي�ش�أ ذلك ،فمنذ �أن دقت حرب اخلليج �أجرا�سها الأوىل ،كنا جميع ًا قد بلغنا الدار البي�ضاء فع ً ال ،لنق�ضي يف املغرب ثمانية �أ�شهر كاملة ،هي مدة احلرب ،وهذا كان قرار �أبي ،رغم ال�سنة الدرا�سية التي �أ�ضعتها ،ورغم احلما�س ال�صبياين الذي �أُ ِخ ْذ ُت به موقّت ًا مع مو�سيقى احلرب ،فقد ّ ظل �أبي م�رصاً على موقفه �أن �سالمة �أ�رسته ال�صغرية �أهم من كل �أوطان الدنيا. 75
ع ّلمني �أبي من تعليقاته التي �ألتقطها منه منذ طفولتي على ن�رشات الأخبار� ،أو ال�صحف ال�صباحية� ،أو النقا�شات العابرة مع �ضيوفه حرب �رشيفة ،و�أخرى و�ضيعة .كل احلروب الأ�سبوعيني� ،أنه ال توجد ٌ �أراها الآن على طريقته ،كما يقول �أبي“ :طريقة الب�رش يف �إعالن ف�شلهم” ،و�أت�ساءل ،كم مرة منذ بد�أ التاريخ �أعلن الب�رش ف�شلهم �إذن؟ وما زال �أبي عند ر�أيه مثلما �أنا كذلك ،عند ر�أيه .تلك الهزات الطفيفة من ر�أ�سه وهو يتابع الفيلم الوثائقي الآن ،عالمة الأ�سف واالمتعا�ض ،كانت ت�شي بذلك .ومل يعلق �أبي على م�شهد واحد، ال�صمت طوي ً ال �إال من �أ�صوات املدافع، ومل �أفعل �أنا �أي�ض ًا .حام بيننا ُ رحت �أ�رسب ب�رصي و�صوت املعلق على �أحداث احلرب القدمية. ُ قلي ً ٌ غارق يف متابعة �أحداث احلرب ال من ال�شا�شة ،و�أت�أمله وهو باهتمام �شديد ،وك�أنه ي�سمع عنها للمرة الأوىل يف حياته. كم أ��ؤمن ب�شيباته التي ت�صبغ ذقنه الق�صرية املحفوفة بعناية، وبالتجاعيد التي تكونت �إثر ماليني املرات التي ر�سم فيها مالحمه اجلادة تلك ،عالمة الرتكيز� ،أو حتى عالمة الرحمة املبا�رشة عندما ؤمن �أي�ض ًا بب�رشته البي�ضاء التي يخ�ضعها لطابع عملي ي�شبه �سائر حياته� .أ� ُ ترك عليها الزمن بع�ض �آثاره اللطيفة ،والندبة البادية يف طرف حاجبه الأي�رس ،عميقة ،وغائرة� ،أثراً جلرح مل ينغلق جيداً يف �شبابه ،فرب�أ كما يريد ،ونظاراته النحيلة التي يختارها دائم ًا ف�ضية الإطار ،وتتعاقب على وجهه من خالل ال�سنوات عندما ي�ستبدل واحد ًة ب�أخرى ،فال تفلح �أي واحدة منها يف تغيري منظره� ،سواء تلك املخ�ص�صة للقراءة، �أو النظر البعيد� ،أو التي يرتديها يف كل الأحوال .يف النهاية ،كانت 76
رجل طيب. كلها تفقد �صفتها املعدنية ،وتذوب يف مالمح ٍ ولأين ن�ش� ُأت و�أنا ال �أرى رج ً ال غريه ،وهو ال يعرف ابن ًا غريي، كان لهذه العالقة طعم الإميان حق ًا .فهو الرجل الذي يكفيني الكثري من التنقيب يف جهد الدنيا ،ومينحني دائم ًا ما �أحتاجه يف كل الظروف ،ويف �شكل ع�رصي قد ال يتنا�سب متام ًا مع �سنواته ال�سبعني كربت مبا يكفي لأنتبه لهذه العالقة املتوحدة، التي مرت ببطء .وحاملا ُ علي ُ �رصت �أفكر �أن الأمر �أ�شبه ما يكون بحاجة اجتماعية متبادلة� ،إذ ّ �أن �أكون ابن ًا مثالي ًا جداً حتى ال يحزن �أبي الذي ال ميلك �إخوة وال �أعمام ًا ،وعليه هو يف املقابل �أن يكون �أب ًا كافي ًا ،حتى ال �ألومه يوم ًا ما �إن مل يجعل يل عائلة �أكرب ،و�إخوة و�أخوات .ولهذا �أنا �أطيب الأبناء تلب�س حالة �شعورية عندما يتعلق الأمر ب�أبي ،ال �أملك يف ح�ضوره �إال ّ ت�شبه اخلنوع ،ال �أدري ما الذي ي�سحبها على �سلوكي معه .هل هو وجهه املت�سامح �أم �صوته املرتب جداً ك�أنه ن�شيد �أم دقته يف اختيار الكلمات ،وجتنبه تو�ضيح موقفه من الأحداث والأ�شخا�ص مثل فيل�سوف يطوي زمنه بيديه ،وال تفر منه ِعرب ٌة واحدة؟ �أحببته ب�شكل غريب ،وك�أنها حالة �أوديب �أبوية .كان يقف يف م�سها ب�شكل منت�صف حياتي مثل نقطة غام�ضة من الطاقة ،ال ميكنني ّ مبا�رش ،وال ميكنني �أي�ض ًا �أن �أخرج ب�سهولة من نطاقها املغناطي�سي الهادئ الذي يبث موجات ال�سكينة �إىل الأبد .ع ّلمني �أبجديته، ميل علي حرف ًا واحداً ،ولكني مل �أجد يف نف�سي �أي ٍ ومل يفر�ض ّ الختيارات �أخرى ،كانت قناعتي �أنه ق�ضى وقت ًا كافي ًا يف احلياة ليختار الأف�ضل ،ومن الغباء �أن �أعيد املحاولة بنف�سي .ال ميكن �أن �أ�ضيع عمراً 77
مادمت �أتكئ يومي ًا على مدر�سة �صغرية تنا�سبني متام ًا ،وال �أريد �آخر، ُ �أن �أ�صبح �أف�ضل ،وال �أنبغ .حتى طريقتي يف اللب�س والت�أنق كانت ت�ستن�سخه متام ًا ،وت�شرتي لنا �أمي قارورتني من العطر نف�سه ،ونوع ًا من الغرت احلمراء القانية نف�سها ،حتى نبدو ونحن من�شي مع ًا يف الطريق �إىل امل�سجد ،مثل �أخوين ان�شقت بينهما هوة عمرية غري مربرة. بد�أت معي نزعة تقليده منذ طفولتي ،ومل تتوقف قط .كلما مرت بنوتي له مب�شاهد �أكرث ،ازداد ميلي �إىل نحتها �أكرث يف �شخ�صيتي، ّ حبكت �أ�سلوبه يف التعامل مع موقف لأنها ت�شعرين بالأمان .وكلما ُ �شعرت بكربياء التلميذ ما بالطريقة نف�سها التي كان هو يتعامل بها، ُ النجيب ،فم�سار �أبي يف حياته الطويلة كان يبدو يل �أكرث امل�سارات �أمان ًا ونقا ًء ،ومل يكن عندي ف�ضول البحث عن م�سار �آخر ،لقد ت�رشبت من �شخ�صيته نزعة اال�ستقرار والهدوء وحماذاة الطرق ،وك�أننا ّ وحتدي بحريتان من�سيتان يف بقع ٍة جغرافية ما .كانت مناكفة احلياةّ ، �أقدارها �أق�رص نزواتي عمراً ،تولد ومتوت يف الليلة نف�سها ،وعلى الو�سادة نف�سها. حديث �رشيف منقو�ش على قطعة خ�شبية بيد خطاط ويف مكتبه ٌ دم�شقي “من �أ�صبح �آمن ًا يف �رسبه ،معافى يف بدنه ،مالك ًا قوت يومه، فقد حيزت له الدنيا” ،يحب �أبي هذا احلديث كثرياً ،وي�ستمد منه حاجته اليومية من الر�ضا منذ �سنوات ال �أعرف عددها متام ًا ،و�أنا �أخربته يوم ًا يف مكتبه �أن هذا احلديث عميق جداً ،وب�سيط يف الوقت نف�سه ،و�أجاب“ :عميق ،وب�سيط ،هكذا يتكلم الأنبياء يا ولدي”. وهكذا يتكلم هو �أي�ض ًا. 78
كنت �أقلب ب�رصي بني التلفزيون وبينه ،و�أحاول �أن �أبتلع ف�ش ً ال ُ �آخر يف �أن �أكون ابن ًا م�سلي ًا� .أبي الذي بد�أ عا ُمه ال�سبعون بالفعل قبل �أ�شهر ،يف�صلني عنه حاجز زمني هائل بحجم �أربعني �سنة تقريب ًا ،ورغم حماولتي �أن �أتقاطع معه يف الر�ؤى والعادات� ،إال �أن فارق ال�سنوات يجعل من ال�صعب �أحيان ًا �أن نقع على لغة م�شرتكة يف لقاءاتنا اليومية، وهو ال يبدي يل ذلك على �أية حال ،ولكن ردود �أفعاله الباردة جتاه يجد عليه من الأمور ،كانت جتعلني �أ�شعر ب�أنه بلغ عمراً �صار كل ما ّ يتوقع خالله كل �شيء ،و�أ�صبح يراقب احلياة وك�أنها جمموعة من الأحداث امل�سلية فقط ،ال تعني له �شيئ ًا .ويف �أحيان �أخرى كثرية ٌ من�شغل برتبيتنا مع ًا، كنت �أ�شعر �أنني �أنا و�أمي ،ل�سنا �إال طفليه ،وهو ُ وت�أمل حاالتنا اليومية بابت�سامات عميقة ،وفهم م�سبق. كان قد تقاعد من عمله قبل والدتي ،وبد أ� وظيفته ك�أب بعد �أن وولدت انتهى متام ًا من �سرية وظيفية كاملة ك�ضابط يف �سلك الأمن، ُ �أنا يف الن�صف الثاين من حياته ،وقد بد أ� م�شواراً جديداً ،واجته �إىل فكرت طوي ً ال من قبل كيف �أن وجهة �أخرى من احلياة ،ولذلك ُ حياتي ب�أكملها ،حدثت يف حقبة ما بعد تقاعده� ،أال ميكن �أن يبدو له الأمر مم ً ال بع�ض ال�شيء؟ �أحيان ًا ميعن بي ال�شعور بالذنب ،وعدم الأهمية� ،إىل �أن �أتخيل �أن وجودي يف حياته كان خذالن ًا م�ستمراً بطول �سنوات عمري ،ولرمبا كان يتمنى لو عا�ش بعد تقاعده حياة زوجية جديدة ،خمتلفة ،يف بلد �آخر ،وظروف خمتلفة .ولكن ظروف تربيتي التي حتتم ا�ستقراراً وعناية م�ستمرين جعلته يعزف عن الأحالم القدمية تلك ،وميار�س 79
�أبوته احلتمية .و�أحيان ًا �أخرى ،ينك�رس هذا ال�شعور ال�سلبي املوهوم، و�أعود �أ�شعر ب�أننا نتعاي�ش مع ًا ،ك�أب وابن ،ب�شكل حيوي وجيد، و�أتفاءل. أكد �أن والدتي �أحدثت نكداً ما يف منطقة معينة من ولكني مت� ٌ طموحه� ،أو رمبا جئت �أقل قلي ً ال من �أحالمه .هذا الرجل الذي عا�ش معظم حياته �ضابط ًا كبرياً ،ثم عندما �أولد �أنا ،حتدث لعنة غام�ضة، ويجد نف�سه وراء الق�ضبان ،بعد كل ذلك العمر الطويل الذي ق�ضاه �أمامها. ا�ست�أذنته يف ال�صعود �إىل غرفتي ،ف�أوم أ� يل ،ومنحني ابت�سامة دافئة، و�صعدت فحملت حقيبة كمبيوتري، كتلك التي تتقنها �شفاه الآباء، ُ ُ �إىل غرفتي و�أنا �أفكر :ما الذي ميكن �أن يجعل �أبي را�ضي ًا عن ابنه أتيت يوم ًا ما ب�إحدى تلك الب�شائر اال�ستثنائية التي الوحيد؟ ال �أذكر �أين � ُ تنب�سط لها �أ�سارير الآباء مطلق ًا ،حتى ذلك احلدث الوحيد املحتمل الذي ميكنني القيام به من دون حاجة �إىل عبقرية �إ�ضافية ،الزواج، أ�شعلت كل �شموعه املمكنة يف البيت ،ولكن مل يكتمل ،رغم �أين � ُ الزوجة املرتقبة مل تبق فيه ،وظلت خيبة �أبي معلقة يف قلبه ال�صبور، مثل �رشنقة جافة. حتى الكتاب الذي ُن�رش ،مرت �أيا ٌم ومل �أ�سمع من �أبي تعليق ًا واحداً عليه ،على قدر معقول من اجلدية ،بخالف تعليقاته املازحة علي من وقت لآخر ،ولقب الكاتب الذي �صار يخاطبني التي يلقيها ّ به يف �أوقات تب�سطه ،و�أثناء الوجبات .مل �أكن �أتوقع من �أبي انفعا ًال املتخبط ،كما مل �أتوقع �أي انفعال املو�شحة باحلب �أكرب مبادة الكتاب ّ ّ 80
دمت قد كتبته خارج نية الن�رش ،لوال �صفاقة من �أي قارئ �آخر ما ُ غالية ،وت�رصفاتها الفردية التي ظ ّنت �أنها �ستنزل مني منز ًال ح�سن ًا، ع�ش الأحزان ،و�أعادت احلمى �إىل جبيني البارد ومل تدر �أنها نك�شت ّ منذ �سنتني. ولكن ،مع �أبي بالذات ،يبدو يل �أحيان ًا �أن �سقف توقعاته مني منخف�ض جداً� ،إىل حد مريح ،ف�أنا ال �ألوي على �شيء ،وال �أنوي تغيري خارطة الدنيا ،ولي�س يف وجهي �أي مالمح ت�شبه امل�ستقبل �أو تومئ �إليه .يبدو يل �أحيان ًا �أين موجو ٌد لأكمل �شيخوخة �أبي ،ولي�س لأبد�أ من جديد ،وهذا ينا�سبني متام ًا.
**** ثمة �أ�سباب جعلت �أبي وحيداً �إىل هذا احلد ،فقد مات جدي قبل �أن يولد هو ،وانتقلت جدتي بعد موته من ينبع ،حيث كانت تقيم� ،إىل جدة وهي حامل بالطفل والأحزان ،لتلد �أبي هناك، بيت �أخيها يف ّ بعيداً عن �أعمامه الذين مل يعرفوا �شيئ ًا عن حملها هذا �أ�ص ً ال ،ومل ي�س�ألوا عنها وقد غابت ،ما دامت غريبة ،وقد انقطع بينهم ما انقطع. هكذا ولد �أبي وتربى يف بيت خاله ،من دون �أن يعرف �أعمامه �أن لأخيهم طف ً ال يعي�ش يف جدة� ،أخفت جدتي عنهم �أمره خ�شية �أن يطالبوا برتبيته بني �أهله ،فت�ضطر �إىل فراقه ،و�أن ين�شئوه بينهم على غري ما تريد. هكذا ظل �أبي طف ً �رسي ًا حتى بلغ اليفاع ،ال يعرف له �أب ًا �إال ال ّ 81
�ضمه �إىل عياله وبناته ،و�أ�رشف على تعليمه نهاراً، اخلال احلنون الذي ّ وتدريبه لي ً ال على العمل عندما كان ي�صحبه للحرا�سة معه عند باب �إحدى امل�صالح احلكومية. رمبا كانت هذه املهنة املبكرة قد �صاغت الكثري من �شخ�صية �أبي، ف�أن يبد أ� حياته باحلرا�سة ،جعلته حار�س ًا �إىل الأبد ،م�سكون ًا بهاج�س الأمن كقيمة عليا قبل كل �شيء �آخر ،وظل معتمداً على هذا الهاج�س يف كل قرارات حياته القليلة ،ك�أن يتزوج امر�أة بدون عائلة كبرية ليخف�ض احتماالت اخلالف �إىل حدودها الدنيا ،و�أن ينجب ابن ًا واحداً ليخف�ض احتماالت اخلطر �إىل حدودها الدنيا �أي�ض ًا ،و�أن يبقي ن�صف �أمواله دائم ًا خارج الوطن ،ليتجنب احتمال االنحبا�س يف قف�ص رديء ،يف �آخر العمر. يربر يل من حني لآخر الكثري من منذ �أن ُ بلغت الع�رشين ،و�أبي ّ ميعن يف الوقوف معي �أمام �أحداث ت�رصفاته التي مل �أكن �أفهمها ،كان ُ عابرة ،لي�سجل على هام�شها الكثري من التوجيهات ،وبخالف �إيجارات عقاراته التي �أ�صبح من م�س�ؤوليتي حت�صيلها كل �ستة �أ�شهر، وجدته يدفع باجتاهي بع�ض القرارات وك�أنها �أ�صبحت منوطة بي، وعندما �أخربته ب�أن �أحد امل�ست�أجرين ت�أخر كثرياً يف الدفع� ،أجابني بال مباالة ،بتلك النربة املتح�رشجة التي ت�صدر عنه عندما يتكلم �أثناء قيامه عن الكر�سي ،وقد امت�ص جهد الوقوف الكثري من جهد ال�صوت، “افعل ما تراه منا�سب ًا يف هذه العمارة ،ما بنيتها �إال لك!” قبل عامني بالتحديد ،ات�صل بي و�أنا خارج املنزل ،و�أخربين �أنه يريد �أن يجتمع بي بعد �صالة الع�شاء لأمر مهم ،ومل يكن قد طلب 82
مني العودة �إىل البيت بهذه الطريقة الغام�ضة البتة .وعندما رافقته �إىل امل�سجد تلك الليلة مل يتكلم كثرياً ،و�أوجز فقط ب�أنه يريد �أن يكلمني يف بع�ض الأمور القدمية ،وال �أدري ملاذا خطرت يل فكرة كرتونية �ساذجة �أنه قرر �أن ي�صارحني ،مثل الروايات الكال�سيكية ،ب�أنه لي�س �أبي! عندما عدنا �إىل البيت ،طلب من اخلادمة �أن حت�ضرّ لنا ال�شاي، وحت�رضه �إىل غرفة املكتب التي تبعته �إليها و�أنا ال �أزال �أ�رضب الأخما�س بالأ�سدا�س ،حتى وجه �أمي الذي ا�ستنطقته بنظرة �أخرية قبل �أن نغيب مع ًا يف املكتب مل يخربين ب�شيء ،وبدا يل �أنها هي نف�سها ال تعرف �أن ثمة �أمراً ما على و�شك الظهور ،و�إال لباحت يل مالحمها بالقلق على الأقل� ،أنا الذي �أجيد قراءة وجه �أمي جيداً ،مبقدار ما �أقف عاجزاً �أمام وجه �أبي دائم ًا. بعد ن�صف �ساعة ق�ضيتها معه يف املكتب ،ات�ضح يل �أنها �صفتي املعتادة يف اخلوف من املفاج�آت ،وت�ضخيمها ،هي التي جعلتني �أ�سيء تقدير املوقف ،و�أعرق �أكرث من الالزم .فما كدنا نلج املكتب، حتى فتح �أبي خزانته احلديدية تلك ،و�أخرج منها حقيبة �سام�سونايت عري�ضة ،و�ضعها على �سطح املكتب ،وطلب مني �أن �أ�سحب كر�سي ًا و�أجل�س �إىل جواره�“ .سالمتك يا ولدي ،الدنيا حياة وموت .و�أنا ب�رصاحة �أخاف ي�صري يل �شيء وحتتا�س من بعدي ،قلت خليني �أمر وياك على �شوية �أوراق ميكن تخت�رص عليك بع�ض التعب”... – اهلل يعطيك طولة العمر. قاطعته بهذه العبارة ،وعيناي زائغتان تقريب ًا ،وقد �شعرت برهبة 83
حتتجز الكلمات يف �صدري ،ومل يكمل �أبي عبارته ،بل راح يخرج من �أح�شاء احلقيبة �أوراق ًا كثرية ،يبدو �أن �أحدثها على الإطالق قد ٌ �صكوك قدمية ،اهرت�أت حقنه الزمن بالغبار وال�صفرة .كانت هناك تقريب ًا ،ومل يبقها متما�سكة �إال تلك اخلطوط املتقاطعة من الال�صق البال�ستيكي الذي يجمع �أجزاء ال�صك ن�صف املمزق ،وثمة فواتري، و�إي�صاالت ،وعقود مكتوبة بخط اليد ،و�أوراق ر�سمية �صادرة عن جهات حكومية �سعودية ولبنانية على ال�سواء ،و�شهادات �إيداع �أ�سهم ،واملئات من ق�سائم الإيداع الكربونية ال�صفراء اخلا�صة بالبنوك. منحني �أبي يف تلك اجلل�سة تفا�صيل ح�ساباته الكاملة ،و�رشح يل ق�صة كل ورقة يف تلك احلقيبة العري�ضة ،وكل ما يتعلق مبعامالته التجارية مع النا�س ،والبنوك ،وامل�ست�أجرين ،واحلكومتني ال�سعودية واللبنانية .كل تلك املعلومات املنب�سطة على ب�ضع ع�رشات من ال�سنني لقّنني �إياها �أبي بالتف�صيل حتى �أكون منتبه ًا ملا قد يطر أ� بعد موته “تذكر دائم ًا �أنه ما عندي للنا�س �أي دين �أو حق ،ولكن �أعرف �أن هناك من �سيطالبك بديون وهمية بعد موتي ،و�سي�ستغل �ضعف النا�س النف�سي جتاه حتليل ذمم �أمواتهم ،خليك �صاحي وفتح عينك ،كل معاملة �أجريتها يف حياتي جتدها يف هذا ال�صندوق ،و�أما ديوين عند النا�س ف�أنا م�ساحمهم عنها �سلف ًا ،فال تقبل منهم �أي تعوي�ض ،واطلب منهم �أن يدعوا يل وكفاية”. زلت �أتذكر تفا�صيلها جيداً عكرت هذه اجلل�سة اجلنائزية التي ما ُ مزاجي �شهوراً طويلة ،وظلت رهبتها معلقة يف �صدري مثل هواء حمبو�س ،يرف�ض �أن �أزفره .كان جمرد احتمال غيابه فج�أة ي�شبه �أن 84
�أ�ستيقظ من النوم فال �أجد �سقف ًا لغرفتي ،و�أكت�شف �أين يف العراء التام .حزنٌ حمتمل ،وال ميكنني �أبداً �أن �أتخيل �شكله ،وال �أن �أ�ستعد له م�سبق ًا ،كما يفعل �أبي الآن. هكذا يهتم برتتيب �ش�ؤوننا حتى يف حالة موته ،غري �أن كل �شيء يبدو على ما يرام حتى �إن امل�شكلة الوحيدة املتوقعة �ستكون التعامل زلت �أعتقد مع غيابه هو ،ولي�س ما قد يحدث بعد هذا الغياب .ما ُ �أن والدي حر�ص على حمايتنا من كل الآالم املحتملة� ،إىل حد �أن �صارت فكرة غيابه فج�أة هي الأمل الأكرب الذي لن يحتمل ،ولو ا�ستطاع حجبه عنا فع ً ال لفعل ذلك من دون تردد ،و�أحيان ًا �أ�شعر �أن عنايته املفرطة ب�صحته لي�ست �إال لهذا ال�سبب .هذا الرجل ،احلار�س الأبدي ،منذ �أن كان طف ً ال يذاكر درو�سه على �رساج ال�شارع� ،أمام جدة ،وحتى الآن ،ما زال يحر�س. �أبواب حمافظة ّ حكى يل ذات يوم عن املرة الأخرية التي عاد فيها �إىل ينبع ،عندما وحمية الأهل، بلغ ال�ساد�سة ع�رشة تقريب ًا ،و�أخذته حما�سة اجلذور، ّ و�سافر لعله يلتقي الأعمام الذين ال يعرفهم ،وهو يت�صور يف ذهنه الغ�ض حفاو ًة هائلة يحيطه بها اجلميع عندما يكت�شفون ابنهم الغائب، ولكنه مل يجد منهم ما توقعه قلبه الوحيد بتات ًا ،وعلى العك�س ،واجهته “ظننت �أين عيونٌ حذرة ،مت�شككة ،نفّرته منهم ،فغادر على الفور. ُ لو بقيت �أطول من هذا ،لكانوا بلغوا حداً من الت�شكك يتهمون فيه �أمي باحلرام ،وب�أنها �أجنبتني من رجل �آخر ،وقد ظنوا �أين مل �أعد �إال وعدت �إىل ّرت على نف�سي هذا الأمل، ُ لأطالب ب�إرث �أبي .ولهذا وف ُ جدة”. 85
وعندما بلغ الع�رشين ،التحق بالثانوية الع�سكرية ،وانتقل �إىل الريا�ض ،ليق�ضي بقية حياته غريب ًا بعد �أن ق�ضى �أولها يتيم ًا ،وزاد من وح�شته �أن فارقت جدتي احلياة بعد �سفره بعدة �أ�شهر وهي يف املعزل ال�صحي ب�سبب اجلدري الذي نه�ش منها اجللد والعينني ،ولينقطع �أبي متام ًا عن جذوره ،ويجد نف�سه وحيداً بال قريب �أو �صديق ،يف الريا�ض اجلافة املوح�شة ،ويف اخلم�سينات امليالدية ،بال �أهل وال عون، فلم ترتك احلياة �أمامه من خياراتها ال�ضئيلة �إال هذا امل�ستقبل الع�سكري الذي قد مينحه الدعم واملال ،فت�شبث به بروحه التي دهمها اخلوف، وبحر�ص الغرباء املعتاد ،وتزوج زوجته الأوىل التي طلقها الحق ًا، لأنها ُج ّنت ،كما يقول ،وال ي�رسف يف �أي تفا�صيل �أخرى عنها ،ثم كر�س حياته لعمله ،و�سافر �إىل القاهرة عدة مرات للدرا�سة والتدريب، ّ وت�سارعت ترقياته ،على مدى ع�رشين �سنة ،و�أ�صبح يف يوم من الأيام كما يقول� ،أ�صغر عقيد يف مديرية الأمن العام يف الريا�ض. ظل �أبي عازب ًا بعد انف�صاله عن زوجته الأوىل فرتة طويلة .ومل تكن الريا�ض مدينة ترحم العازبني ،قبل �أن تختفي هذه الرحمة كلها. ولهذا مل يكن ثمة منا�ص من الت�شبث بالعمل حتى �ساعته الأخرية. كان �أبي ينام يف مركز ال�رشطة معظم �أيام الأ�سبوع ،ويخل�ص يف �أداء عمله ب�شكل نادر ،مما جعله ي�صعد �رسيع ًا ،ويربز ا�سمه يف كل الأو�ساط الأمنية ،وتُعر�ض عليه منا�صب �أخرى يف املباحث العامة، واحلر�س امللكي ،وغريها ،لريف�ضها جميع ًا لأ�سباب خمتلفة ،ويبقى �ضابط ًا يف الأمن ،ميار�س عمله الأزيل الذي يتقنه �أكرث من �أي عمل �آخر :احلرا�سة. 86
غري �أن هذا الإفراط يف التعلق بالعمل هو ما جعله ي�صدف عنه فج�أة ،ويقرر التقاعد يف �أقرب وقت ممكن� .شيء من طاقته نفد� ،أو �أنها الأربعون عندما دقّت بابه لأول مرةّ ، ذكرته ب�أنه ق�ضى عمره يف حرا�سة النا�س ،تارك ًا عمره هو نهب ًا للزمن ،يختل�س �سنواته ب�صمت. فطلب تقاعده املبكر يف بداية ال�سبعينات ،والتقى �أمي يف �صدفة غريبة �أثناء ذلك ،يف املدينة التي ال تلعب ال�صدف �أدواراً كثرية مع والدي ،وجاءت بالرجل رجالها ون�سائها ،ولكنها فعلت ذلك مع ّ احلجازي ليلتقي املر�أة اجلنوبية ،يف قلب الو�سط اجلاف. كانت �أمي مطلقة رجل قبله ،عا�شت معه عدة �سنوات قبل �أن ت�صبح عاجزة عن حتمل خ�شونته و�صلفه ،وانهماكه يف جتارته، وان�شغاله مبا خارج البيت عن داخله ،و�أ�سباب �أخرى كثرية جعلتها تنفر منه عمداً .ورغم �أنها �أجنبت منه �أخي الأكرب� ،أحمد ،فقد جنحت يف �أن جتعله ينظر �إليها كزوجة عا�صية� ،إثمها �أكرب من نفعها ،فط ّلقها فور والدته. ظروف زواج �أمي ال�سابق ت�شبه امل�سل�سالت البدوية ،كانت هي �آخر من يعلم ،والقرى التي متعن يف اجلنوب تفعل هذا من حني لآخر ،والنما�ص ال تختلف يف ذلك كثرياً ،وهي قرية �أمي التي ولدت وتر ّبت فيها ،والتقطت منها اللهجة ال�شهرية التي ما زال �أبي يداعبها بها حتى الآن .مل تكن �أمي قد جتاوزت الرابعة ع�رشة عندما تزوجت من زوجها ال�سابق ،وجاء بها �إىل الريا�ض وهي طفلة ال تعرف ملاذا حتول احلقل فج�أة �إىل �صحراء ،واجلبل �إىل �سفح .كانت ابنة القرية، يف الزمن الذي كانت القرى منزل الأغنياء ،واملدن مق�صد البدو من 87
العمال والفقراء واملنقطعني .كان املجد للقرية ،للحقل ،للأر�ض، تعي�ش �أر�ستقراطية الطبيعة ،قبل �أن ت�سقط مثلما تت�شابه وكانت �أمي ُ ال�سقطات دائم ًا ،بني يدي من ال يدرك مكانها ،وال يفهم رموز الأر�ض على جبينها و�شفتيها. وزوجها ال�سابق ،عالوة على كونه ذا ن�سب مقبول ،كان قد قرر فع ً ال ال�سفر للعمل يف الريا�ض ،وكان التزود بزوجة ما جزءاً من �أمتعة ال�سفر ،بعد �أن يدبر له �أحد �أبناء جماعته عم ً ال يف ق�صور النا�رصية، وتلك ميزات فارهة ل�شاب قروي ،جتعل ر�أي �أمي ،ب�سنواتها الأربع ع�رشة ،غري مهم على الإطالق� .أجنح زيجات النما�ص متت بالطريقة نف�سها تقريب ًا ،فلماذا ت�شذ �أمي عن ال�رسب؟ رمبا مل تكن �أمي خمتلفة كثرياً ،و�أحيان ًا �أفكر �أنها رمبا كانت �آنذاك ت�ست�شعر حظها ال�سعيد الذي جلب �إىل بابها الزوج الذي حت�سدها عليه ن�صف بنات النما�ص ،وعلى مغامرة الريا�ض التي �ست�أخذها �إليها هذه ال�شاحنة احلمراء العتيدة التي يلم�س ال�صبية ج�سدها املعدين كنت �أعرف �أن �أمي بارتياب وجذل منذ ال�صباح .ويف كل الأحوالُ ، هي امل�صدر الوحيد الباقي لتلك احلكاية ،ومن �ش�أنها هي وحدها �أن ت�صوغها ،وتعيد ترتيب ما�ضيها كما يحب قلبها الودود .ومبا �أنها �صارت متزوجة من رجل �آخر الآن ،فلي�س من الوارد �أن ن�سمع منها ثنا ًء على ال�سابق� ،أبداً. ال ميلك �أي �شخ�ص يتعرف على �أمي الآن �إال �أن ينتبه �إىل غرابة ما يف طريقة كالمها ،و�أ�سلوبها امل�صطنع يف ا�ستدعاء الثقافة .لأنها مل تكن تعرف القراءة والكتابة ،وال تفرق بني الألف والياء ،ثم 88
عندما تعلمت ذلك ،يف مدر�سة للكبار يف بريوت ،قفزت مبا�رشة من كتاب الهجاء �إىل م�ؤلفات جربان ،ومي زيادة ،واملنفلوطي، وانكبت على تعلم ما فاتها من �أعلى الهرم ،ولي�س من �أدناه كما يفرت�ض بالأميني ،وحديثي العهد بالقراءة ،فنزلت هذه الثقافة الثقيلة على �أ�سا�س �ضعيف ،مل يقو بعد مبا يكفي ال�ستقبال فال�سفة العربية و�أدبائها �آنذاك .هذا ما يجعل �أمي عندما تتكلم ،تبدو وك�أنها تتكلم على منرب ،وعندما تكتب يومياتها كما د�أبت على ذلك منذ �سنوات طويلة ،تبدو وك�أنها تخاطب اجلماهري مبا�رشة ،ولي�س دفرت اليوميات. كانت حتاول �أن جتاري �أبي يف ثقافته ب�أ�رسع ما ميكن ،وتلك طريقتها يف التعبري عن امتنانها الهائل له ،هو الذي انت�شلها من حالة حياتية �صعبة عندما كانت مطلقة ،ونف�ساء ،ومل تتجاوز التا�سعة ع�رشة من عمرها بعد ،وال تعرف مكان ًا يف الريا�ض ي�ؤويها ،ومل يعد يف النما�ص من يحفل بها �إال خ�ؤولة قدمية ،ال ت�أمن �أن يدبروا لها زيجة �أ�سو�أ من �سابقتها �إذا ما عادت �إليهم بهذه احلال ،يف قرية ال مكان فيها المر�أة وحيدة. ولذلك هي دائم ًا مليئة باملرارة عندما تتحدث عن زوجها ال�سابق، ولرمبا ازدادت مرارتها مع الزمن من دون �أن ت�شعر ،ف�أ�صبحت ت�سكب على ذكرياتها قدح ًا �إ�ضافي ًا من امللح يف كل مرة حتكيها يل� ،أو لأبي، �أو لأي من جاراتنا .وكلها تدور حول الرجل الفظيع ،والذي ال �أراه �أنا �شخ�صي ًا �إال رج ً ال عادي ًا وفق معايري العادي من الرجال من جيله، ال�سيما �أولئك الذين كانوا من الع�صامية �أن اجرتحوا ثروات هائلة خالل �سنوات ،وهو يف �آخر املطاف ،والد �شقيقي ،و�أراه من حني 89
لآخر يف املنا�سبات والأعياد .و�أبت�سم خفية و�أنا �أتخيل ما يدور يف خلده عن �أمي ،زوجته القدمية ،وما يدور يف بال �أمي عنه. ويف احلاالت القليلة التي ي�صفو فيها الوداد بيني وبني �أخي �أحمد، يخربين وفمه مليء بال�ضحك كيف يتحدث �أبوه من وقت لآخر عن �أمنا امل�شرتكة “كانت طيبة ،لكن �أف�سدتها ال�شامية اهلل يعلن والديها!”، وال�شامية التي يق�صدها هي مديحة� ،صديقة �أمي ال�سورية التي كانت تقطن مع �أخيها و�أمها يف البيت املجاور ،يف �شارع �ضيق من حي دخنة ال�شعبي يف الريا�ض .وهي بالفعل ،من وجهة نظر اجتماعية حمايدة تتفق مع معايري ذلك الوقت ،قد �أف�سدت �أمي. ومل يكن ذلك من خالل ال�رشخ الذي حتدثه املقارنة بني احلالتني االجتماعيتني املتفاوتتني اللتني كانتا حتدثان يف بيتني متجاورين فقط، قدمت لأمي دفعات من الأفكار �شديدة االختالف عما ولكن لأنها ّ تعودتها� ،أدت �إىل �إغراق �أمي الأمية ال�صغرية �آنذاك يف حالة من احلنق الهائل ،دفعها �إىل الدخول يف ع�صيان غري مربر لزوجها ال�سابق. أتخيل ال�صورة كاملة ،يف الريا�ض، �أ�ستطيع ب�صعوبة كبرية �أن � ّ منت�صف ال�ستينات امليالدية ،كانت هناك امر�أ ٌة جاءت من النما�ص، لتقطن مع زوجها يف حي دخنة ،ثم تغريت فج�أة ،و�صارت حتاول ب�صعوبة �أن تتفاعل مع �أغنيات �أم كلثوم ،مثلما تفعل جارتها مديحة، وت�صدح يف البيت ال�ضيق الذي يك�شف املار يف ال�شارع كل �صوت فيه بكلمات الأغنية ،معر�ض ًة زوجها حلالة تهكم جماعية من رجال احلي ،وتقريع مبا�رش من �إمام امل�سجد. أتخيل �أمي �أي�ض ًا وهي تغري �أ�سلوب كالمها مع زوجها لي�صبح �أكرث � ّ 90
أتخيل كذلك كيف ميكن �أن ِّ ندية مثلما تفعل مديحة مع زوجها ،و� ّ جبلي مثل زوجها كل هذا االنب�ساط الذي حتاول �أمي يتقبل رجل ّ �أن حتوزه لنف�سها ،مناق�شة �أوامره ،اكت�ساب ال�صديقات ،و�سماع الأغاين ،وت�صفح املجالت اللبنانية ،والأكرث رف�ض ًا و�صعوبة ،حماولة اخلروج من البيت لزيارة ال�صديقات� ،أو التنزه. كانت هذه �سل�سلة ال�سلوكيات الكارثية التي مار�ستها �أمي تباع ًا لتتحول بذلك من زوجة عادية� ،إىل زوجة نا�زش ،قليلة الأدب .ويبدو �أن عبدالرحمن �آنذاك كان على عتبة جناحاته الأوىل ،ومن�شغ ً ال �إىل احلد الأق�صى بطموح يت�ضخم مثلما تت�ضخم املدينة نف�سها ،ومل يكن ميلك وقت ًا كافي ًا لت�أديب املر�أة التي تت�رصف مثل َج ْد ٍي جبلي عنيد. ولذلك طلقها فور انتهاء نفا�سها ،و�أبقاها يف غرفة م�ستقلة من البيت حتى يجد من يعيدها �إىل �أهلها يف اجلنوب. كان ذلك يف �أوائل ال�سبعينات تقريب ًا ،وقد قرر �أبي �أن يرتك عمله الع�سكري ويتقاعد مبكراً ،ويف تلك الأيام الأخرية ،كان يزور �صديق ًا �سوري ًا له يف منزله يف الريا�ض ،ويحدثه عن قرار تقاعده، وعن حلمه بالرحيل �إىل لبنان ليكمل حياته هناك .مل يكن �صديقه ذاك �إال زوج مديحة .حلقة الو�صل التي كان من �ش�أنها �أن تخلق حياتي �أنا .و�أخربته مديحة عن جارتهم اجلميلة التي طلقها زوجها بعد والدتها مبا�رشة ،و�أنها وحيدة ،وذكية ،ومتفتحة ،وم�ؤدبة ،و�أقنعته بالزواج بها ،ودبرت لهما �آنذاك لقاء ق�صرياً يف بيتها ،حتدث فيه �أبي �إىل �أمي مبا�رشة ،وهي تخفي وجهها بو�شاح ق�صري ،ثم جعلته ينظر �إليها عدة ثوان ،قرر بعدها �أن يتزوجها .وملا مل يكن لأمي و ّ يل قريب 91
يف الريا�ض ،ر�أى �إمام امل�سجد �أن يقوم القا�ضي بتزويجهما .وبعد ذلك مبا�رشة� ،سافرا �إىل بريوت ،ليرتكا وراءهما املدينة ترك نا�شدي احلياة يف مكان �أقل خ�شونة من الريا�ض التي مل تكن تعني لهما فرع ًا وال �أ�ص ً ال ،ولكنها هجرة مل تكتمل. مل يتوقعا قط �أنهما �سيعودان قريب ًا ليق�ضيا بقية عمرهما يف الريا�ض ،ولكن ال�سنوات تخاتلت من حولهما حتى �رسقت منهما القرار ،و�أبي يقول�“ :إذا قررت �أن ترحل عن الريا�ض فارحل فوراً، لأنك �إذا بقيت فيها بع�ض الوقت ،فلن ترحل ،هذا �شي ٌء من �شعوذات املدن!” و�أبي عا�ش يف الريا�ض ع�رشين �سنة ،كانت كافية �أن حتقن يف دمه طل�سم العودة. جاءا �إىل بريوت يف �أوائل ال�سبعينات ،وهي نا�ضجة جداً ،منتفخة باخلري ،وتثري �شهية من يراها ،لوال �أن الثمار التي تن�ضج جداً ،ت�سقط قريب ًا ،ويبدو �أن م�شاريع الهجرة كانت ت�ستدعي �أقداراً �أكرث تفهم ًا للأ�سباب .وهذا ما مل تكن عليه �أقدارهما البتة .حملت بي �أمي فوراً .وكانت جميع الأ�شياء املحيطة بها ،واجلديدة عليها كلي ًا �آنذاك، ت�ضاعف خ�صوبتها كما يبدو ،مثل زهرة تتوق �إىل تكوين حياة �أخرى ،هي التي لتوها تتذوق هذه احلياة يف كنف �أبي ،النموذج الرجايل الذي مل تعرفه من قبل ،ومل تتوقع �أن يكون على الأر�ض أزواج يقت�سمون كل �شيء مع زوجاتهم مثله .اتفق اجلمال والهناء � ٌ على جعلي �أجيء مبكراً ،حتى حتمد لأبي النعم التي �أغدقها عليها، بنعمة الولد الذي متناه طوي ً ال ،وحرم منه ،وهو يف �أوائل الأربعني �آنذاك. 92
ولدت ب�أ�شهر قليلة ،ا�ستدعي �أبي للمثول يف ال�سفارة بعد �أن ُ جدة للتحقيق ال�سعودية يف بريوت ،وهناك ت�سلم �أمراً للح�ضور �إىل ّ يف بع�ض ال�ش�ؤون الع�سكرية التي حدثت �أثناء توليه من�صبه الع�سكري، فو َّد َعنا على �أن يعود خالل �أيام ،وكل ما يدور يف خلده �آنذاك �أن ال�ش�أن متعلق ببع�ض �إجراءات املحا�سبة التي يتم اكت�شاف �أخطائها عاد ًة بعد عدة �سنوات� ،أو بع�ض امل�ستندات التي ترك عليها توقيعه من دون تربير يو�ضح ال�سبب الذي وقعها من �أجله ،فاحتاجوا الحق ًا �إىل �س�ؤاله عنها .ولكن الأمر مل يكن بهذا القدر من العادية التي ا�ستجاب أمر ال ميكن �أن يتوقعه من لها �أبي بكل عفوية؛ بل كان يف انتظاره � ٌ ق�ضى �أكرث من عقدين من عمره �رشطي ًا يف الأمن� ،سيارة جيب تنتظره يف املطار ،ا�ستقلها مع �ضابط وجنديني� ،إىل ال�سجن الع�سكري مبا�رشة. اتهم �أبي باالنتماء ال�سيا�سي �إىل جماعات حمظورة ،وذات �أهداف ون�شاطات م�شتبه فيها ،و�إدارة خلية من خاليا املعار�ضة الداخلية من خارج البالد ،م�ستنداً �إىل خربته احل�سا�سة يف اجلهاز الأمني للدولة .كانت التعدديات احلزبية وال�سيا�سية التي انت�رشت �آنذاك ،على اختالف �أيديولوجياتها وانتماءاتها �إىل القوى العظمى ال�سائدة ،قد حفلت ببع�ض الن�شاط �أي�ض ًا يف ال�سعودية ،وكان تكوين اخلاليا املعار�ضة ،واجلماعات احلزبية �أمراً �شائع ًا لدى زمرة املثقفني، والطالب ،ورجال الدولة �آنذاك ،ولذلك و�ضعت احلكومة جميع �أولئك الذين لي�سوا يف منا�صبهم الر�سمية حتت املراقبة .ولهذا كان �أبي حتت �أوراق البحث مثرياً لريبة املحققني� ،إذ �إنه ترك من�صب ًا عالي ًا 93
يف الأمن العام فج�أة ،ثم غاب عن البالد فرتة من الزمن ،وا�ستقر يف لبنان ،الذي هو قلب التعدديات احلزبية ،و�أخ�صب نقطة تتعاطى فيها الأقليات حريتها ال�سيا�سية ،ال�سيما املد ال�شيوعي والبعثي ،فكان لقمة �شك �سائغة جداً. ودخل �أبي ال�سجن من دون حماكمة وال ق�ضية .وبلغ �أمي خربه هذا وهي تعطر له البيت كل ليلة ترقّب ًا لعودة مفاجئة ،ولكنه مل يعد ،وكان عليها �أن ترتكني عند نادية ،اجلارة اللبنانية التي حتولت تدريج ًا �إىل مربية ،وهي تقيم مع زوجها وحيدين من دون �أبناء. كان عمري عدة �أ�شهر �آنذاك ،ووجهي ال يجيد �صنع عالمات اال�ستفهام جيداً ،تركتني �أمي وراءها و�سافرت �إىل جدة وحدها، لتالحق ما ميكنها مالحقته من �أطراف ق�ضيته الغام�ضة ،وحتاول �أن تلملم �أطرافها املبهمة ،ويف قلبها عويل امر�أ ٍة جنوبية مفجوعة يف الزوج الذي حتب. كانت �أمي خائفة جداً . ،م�شت كل الهموم يف �صدرها املثقل بحليب ال ي�صل �إىل فمي ،ولكنها مل تي�أ�س .ظلت تق�صد كل و�سيلة ت�ساعد �أبي ومل ْتع َي قط� :أبواب امل�س�ؤولني� ،أ�صدقاءه القدامى يف الأمن العام و�سلك ال�رشطة� ،أقاربه الذين كان قد اعتزلهم منذ زمن ،جمال�س الأمراء الر�سمية �أحيان ًا ،و�شيوخ الدين امل�شهورين �أحيان ًا �أخرى .مل ترتك طريقة ت�ستطيع �أن ت�ساعده فيها �إال فعلتها ،كان ي�ساعدها يف ذلك مديحة وزوجها �إذ ينقالنها يف �سيارتهما من مكان �إىل �آخر. جدة ،بينما كل اجلهات امل�س�ؤولة والغريب �أن �أبي كان م�سجون ًا يف ّ عن ق�ضيته كانت يف الريا�ض ،وهكذا كانت �أمي تق�ضي �أ�سبوع ًا �أو 94
�أ�سبوعني يف الريا�ض لتتابع الق�ضية ،ثم ت�سافر �إىل جدة لتحاول �أن تزور �أبي من دون جدوى ،لأن الزيارة كانت ممنوعة على ال�سجناء ال�سيا�سيني بالذات. جندي طيب �أن �أبي بخري ،و�أخربها �سجني �أُطلق �رساحه �أخربها ٌ �أنه يعاين مغ�ص ًا دائم ًا وقيئ ًا م�ستمراً ،و�أخربها �أحد �أقارب �أبي الأبعدين �أنه متهم بق�ضية �سيا�سية ،و�أن حب�سه قد ي�ستمر �سنوات طويلة ،ولكنها ظلت تد�أب وراء احلقيقة ال�صعبة ،ومل جتدها متام ًا ،حتى ّ خط �أبي الذي قر�أته يف ورقة جلبها �إليها ال�ضابط امل�س�ؤول كان حمفوف ًا بالأ�سئلة�“ .أم �أحمد� ،إ�صربي ال حرمني اهلل من �صربك� ،س�أخرج قريب ًا ب�إذن اهلل كما وعدوين� ،أنا بخري واجلميع يح�سنون معاملتي هنا ،كلهم علي� ،إنتبهي لنف�سك كانوا زمالئي وبع�ضهم تالميذي ،فال تخايف ّ زوجك�/إبراهيم”. وحل�سان، ِ ما زالت �أمي حتتفظ بالورقة املرتع�شة تلك يف خزانة ثيابها ،رغم �أن �أبي طالبها ب�أن تتخل�ص منها مراراً لأنها تذكره ب�أيام تعي�سة ،ولكنها كنت ،ثم كيف تلب مطالبه ،وقالت له مرةً“ :لو كنت تعلم كيف ُ مل ّ �رصت بعد هذه الورقة لعرفت ملاذا �أحتفظ بها” ،وتقيم �أمي طقو�س ُ امتنان رهيبة لقطعة الورق تلك ،كعادتها يف املبالغة يف الأ�شياء التي حبها للأ�رسة ،و�إ�رصارها الكبري على �أننا ج ّنتها التي تنعم بها، تعك�س ّ وال تر�ضى بغريها. مرت �أ�شهر على تلك الورقة ،وخرج �أبي حم�ض �صدفة قدرية تلت مقتل امللك في�صل يف الريا�ض� ،إذ مل يلبث �أن �أ�صدر امللك خالد من بعده عفواً عن زمرة من امل�سجونني يف ق�ضايا �سيا�سية ،بتهم حزبية 95
خمتلفة ،فخرج �أبي بلحية طفيفة ،وحزنٍ موقّت ،ولكنه ُمنع من مغادرة البالد بع�ض الوقت ،واندلعت �أي�ض ًا حرب لبنان الطاحنة، فانتهى م�رشوع الهجرة �إليه ،وركن �أبواي �إىل الريا�ض بعد �أن �صدر �أمر ملكي مبنح �أبي في ّ ال كبرية ،وراتب ًا تقاعدي ًا تام ًا بد ًال من راتب التقاعد املبكر اجلزئي الذي كان ي�ستحقه ،ب�أمر من الديوان امللكي، كنوع من تلطيف النفو�س ،وت�أليف القلوب. �أبي الذي روى يل ذلك مراراً ،مل يحدثني مرة واحدة عن مف�صل الأمر ،هل كان بالفعل على عالقة بخلية معار�ضة ما؟ وهل كانت له مي�س �أية �أن�شطة �سيا�سية ب�شكل مبا�رش �أو غري مبا�رش؟ رمبا كان الأمر ُّ جانب ًا حرج ًا من �شخ�صية �أبي ،و�صمته املق�صود هذا هو ما جعلني �أذهب غالب ًا �إىل تف�سريي ال�شخ�صي ،وهو �أنه ان�ساق فع ً ال وراء تنظيم قومي الطابع يف الغالب ،ا�ستجابة ملتطلبات املرحلة ،ثم تراجع ما، ّ عن ذلك ،وندم عليه ،و�أحيان ًا �أذهب �إىل �أن هدية امللك قد جنحت فع ً ال يف ت�أليف قلبه ،فوقع بني �سندان مبادئه املخالفة ،ومطرقة امتنانه وتعود ال�شخ�صي للملك خالد �آنذاك ،ف�أ�صبح يتحا�شى التطرق للأمرّ ، هذا حتى الآن.
**** �شعرت ب�أن عالقتي ب�أبي كانت �ستبقى �أب�سط لوال حادثة امل�رسح لطاملا ُ التي حدثت يف طفولتي ،وجعلت كل الأبعاد التي كان يولدها وجوده ك�أب تت�ضاعف ب�شكل ال نهائي ،وتظل متجذرة يف داخلي كاحتياج 96
متزايد �إىل هذا الرجل ال�سبعيني الذي �أبوء �إليه ب�أمني وخويف. ا�ضطررت �أن �أ�رسدها لو ّزان ،حتت ت�أثري دواء خفيف، �سبق �أن ُ ألح عليها بعد من دون اقتناع ب�رضورة ذلك ،ولكنه يف جل�سة ما � ّ قلت له �إنه �إذا أعر ُ �ض بها مازح ًا يف غمرة �ضحك عابرُ ، �أن �سمعني � ِّ ظن �أنه �سيجد فيها فرجة على ف�ضائي النف�سي كما كان يردد دائم ًا، ف�سي�ضيع وقت ًا ،لأن الق�صة مل تكن بتلك احلدة لت�ؤثر ،رغم �أنها كانت �أكرث حدة مما يحاول احلياء متويهها ،ونبذها يف ركن مهمل من �أيامي احلادة القدمية. كنت يف العا�رشة ،واحلفل املدر�سي على و�شك االبتداء ،و�أنا ُ � ُ أ�شارك يف الن�شيد اجلماعي مع �أكرث من ثالثني طالب ًا �آخر ،تدربوا معي عليه طوال �شهر ون�صف ال�شهر .وعلينا �أن نح�رض بالزي الر�سمي، وبالغرتة والعقال .طلب من املعلم �أن �أح�رض متام ال�ساد�سة م�سا ًء، و�أكد على ذلك كثرياً ،وعندما �أتيت م�سا ًء ،وجدتني و�إياه يف املدر�سة يجهزون العمال الآخرين الذين ّ عمال النظافة ،وبع�ض ّ اخلالية �إال من ّ املكان للحفل ،وقتذاك ابت�سم يل ابت�سامة وا�سعة ،و�صافحني مبقي ًا كفي ال�صغرية يف يده طوي ً تعرقت“ ،عليك �أن ت�ضبط غرتتك ال حتى ّ مائلة قلي ً ال!” ،قال ذلك ،وراح يجرين معه متجه ًا نحو جهة حاولت �ضبطها فوراً مق�صودة“ ،ثمة مر�آة يف غرفة امل�رسح اخللفية”، ُ بيدي احلرة الوحيدة ،دون تلك التي ما زالت غائبة يف كفه اجلافة، وعي ينتبه وم�شيت ،ولي�س عندي حد�س ٍ ٌ كاف لقدح اخلوف ،وال ٌ �إىل ريبته الوا�ضحة. كان عمري ع�رش �سنوات ق�ضيتها كلها يف كنف �أمي و�أبي ،ونادية. 97
كنت حممي ًا جداً من قبل �أمي وقوانينها ويف كل �أحوايل ال�صغريةُ ، االجتماعية التي ال تنك�رس �أبداً ،وبعيداً عن �أية ظروف �أخرى تتيح يل م�ساحة �أو�سع من الفهم ،حتى ال�صبية الآخرون يف مثل عمري مل تكن �أمي ت�سمح يل ب�أن �ألعب معهم يف احلي� ،أو يف بيوت الأقارب، ما مل يح�رضوا �إىل بيتنا لأظل دائم ًا �أمام عينيها احلذرتني. رجل تر ّب�ص بي منذ الأم�س، الآن �أنا يف املدر�سة اخلاوية ،مع ٍ ومنحني موعداً خاطئ ًا ،وك�أن املوقف �أ�سو أ� كوابي�س �أمي على الإطالق ،ولو �أنها تراين الآن لأن�شبت �أظفارها يف عنقه مثل لبوءة جنوبية ،ولكنها ال تعلم .حممتني بعد الع�رص جيداً ،و�ألب�ستني علي عطراً خفيف ًا ،و�ألب�ستني الثياب املكوية النظيفة ،وقطرت ّ ال�ساعة الرقمية ال�صغرية التي تُ�شعرين بالفخر ،وتركتني �أذهب �إىل املدر�سة بالهيئة اجلميلة التي ال تدري �أنها تزيد من فداحة املوقف. والآن هي جتل�س يف البيت ،تتخيل ابنها اجلميل الذي ي�صدح حم�شور بالن�شيد من فوق امل�رسح �أمام املئات من احل�ضور ،بينما هو ٌ رجل ّبيت ّنياته �أمام مر�آة مك�سورة يف غرفة امل�رسح اخللفية ،مع ٍ منذ الأم�س. ترك يدي بعد �أن دخلنا الغرفة فع ً وقفت �أمام املر�آة� ،أحاول ال. ُ تعديل غرتتي و�أنا �أ�شعر باخلجل من عدم ا�ستقرارها فوق ر�أ�سي، ثم وجدته يقف خلفي متام ًا ،و�صار وجهه يحتل امل�ساحة املجاورة لوجهي يف املر�آة ،وهو يع�ض على �شفته ب�شهوة بد�أت تت�صاعد يف دمه ،راح يحاول �أن ي�ساعدين على �ضبط الغرتة ،بينما ج�سده يلت�صق بي من اخللف بخفة ،ومن دون مربر ،كان يثني ركبتيه حتى توايف 98
الحظت قامته قامتي الق�صرية،مل �أحفل بذلك يف البداية ،حتى عندما ُ �أن يديه تخربان ان�ضباط الغرتة �أكرث مما تعدالنها ،لتطول بذلك هذه الوقفة املريبة. �شعرت ب�شيء �صلب ،كبري ،يتحرك خلفي ،ب�شكل بعد ثوان، ُ بطيء ،ومتكرر .كان ينت�صب تدريج ًا ،رغم حيلولة املالب�س، و�شعرت �أنه يلم�س م� ّؤخرتي كما تلم�س الأظفار �سطح ًا معدني ًا �صدئ ًا، ُ أيت عينيه يف املر�آة تنغلقان ببطء ،ثم ترجتفان يف فارجتفت بفزع ،ور� ُ ُ �ساخن ّ أيقنت حمجريهما ،بينما يندفع من فمه هوا ٌء يرطب �أذينُ � . ٌ ابتعدت قلي ً كتفي ال�صغريتني، فطوق بيديه �أن الأمر خميف حق ًا. ُ ال ّ ّ متل�صت منه ب�شكل عنيف وقد قُرع يف والت�صق بي ب�شدة ،وت� ّأوه بلذة. ُ داخلي جر�س تنبيه هائل جداً ،علقته �أمي يف ذهني على مدى �سنوات ومل �أنتبه �إليه من قبل حتى هذه اللحظة ،راح يرنّ بجنون ،ويحر�ض قررت عظامي وع�ضالتي كلها على فرار كبري ،ومل ي�ستوقفني عندما ُ أفر فع ً ورك�ضت بعيداً فخرجت من الغرفة ،ومن مبنى امل�رسح، ال، ُ ُ �أن � ّ ورحت �أرك�ض بحذاء وجتاوزت بوابة املدر�سة، باجتاه ال�شارع، ُ ُ �سورها الطويل يف جهة ال �أعلمها� ،إىل خارج هذه امل�ساحة من الذعر رك�ضت من دون توقف دقائق كاملة، التي ت�صاعدت فوق ال�سماء. ُ ال �أدري �إىل �أين �أذهب ،و�إىل متى ينبغي �أن �أ�ستمر يف هذا الرك�ض. بدا يل فع ً بعثت �أوامر ال �أين غري قادر على التوقف عن الرك�ض حتى لو ُ �ساقي وجذعي .كان ج�سدي يت�رصف وحده ،وينقذ نف�سه، عقلية �إىل ّ ورطه يف كل هذا. بعد �أن فقد ثقته بعقلي ال�صغري الذي ّ رحت �أدور حول املباين ال�صغرية، خ�شيت االبتعاد وال�ضياع عندما ُ ُ 99
ولكني مل �أتوقف عن الرك�ض .اختب� ُأت يف احلي اخللفي من مدر�ستي، و�أنا بالكاد �ألتقط �أنفا�سي ،وبالكاد �أرتب �أدراج عقلي التي انفتحت كلها دفعة واحدة على عدة �أ�شكال من الده�شة القا�سية ،العنيفة ،التي ني �صغري كجبيني. ال ي�ستحملها �أبداً جب ٌ هل من املمكن �أن يكون ذلك ال�شيء القا�سي الثقيل الذي مل�س م� ّؤخرتي هو ع�ضوه؟ �إن يديه كانتا ظاهرتني يف املر�آة وهما مت�سكان بكتفي وغرتتي ،هل يعقل �أن يكون للمعلم ع�ضو بهذا احلجم؟ وملاذا يت�ضخم هكذا فج�أة؟ وملاذا ال نراه من وراء ثوبه ما دام كبرياً �إىل هذا احلد؟ وهل توجد �أع�ضاء بهذا احلجم �أ�ص ً ال؟ �أنا الذي ال �أعرف �أع�ضاء �أخرى �إال ع�ضوي ،بحجمه الطفويل الدقيق! تخوفني يف الليل عندما ُ كنت يف الرابعة من عمري ،كانت نادية ّ من الرجل ذي اليد الكبرية .مل �أكن �أفكر ماذا يعني �أن تكون يده كنت �أعرف فقط �أنه خميف ،لأن يده كبرية ،و�إال ملا كبرية مبقدار ما ُ حذرتني نادية من القيام من فرا�شي� ،أو اخلروج من بيتها يف �ضواحي بريوت لي ً ال ،حتى ال يخطفني ،ويحملني بيده الكبرية تلك. الأ�شياء الكبرية خميفة ،فقط لأنها كبرية ،هذه قاعدة نف�سية ت�أ�س�ست يف داخلي منذ ال�صغر ،ونادية التي غر�ستها يفّ ،وعلمتني �أن �أخاف من الأ�شياء الكبرية� ،سواء �أيداً كانت �أم ق�ضيب ًا ،ويبدو �أنها بذلك هي هم بي فع ً ال ،من دون �أن تدري. التي �أنقذتني من املعلم الذي ّ كانت ال�شم�س قد �أكملت غروبها ،وبد أ� الليل ،واحلي هادئ، لهثت قلي ً ال وعن بعد ترتاءى يل �أ�ضواء املدر�سة. جل�ست حتت نخلةُ ، ُ و�أنا �أ�شعر بذلك الأمل الطفيف جانب البطن جراء الرك�ض املفاجئ، 100
ورحت �أفكر طوي ً ال يف املوقف ،و�أعيد توليد ده�شتي من جديد كل ُ مرة. تخيلت �أنه ع�ضو املعلم، ر�سمت ب�إ�صبعي على الرتاب قو�س ًا حمنيةً، ُ ُ م�سحته بيدي ،ور�سمته �أكرب ،ثم �أكرب قلي ً ورحت ال ،ثم �أكرب كثرياً، ُ ومل�ست �أت�أمل القو�س ،و�أتخيل كيف ميكن �أن يكون �شكله فعلي ًا، ُ م�ؤخرتي ،و�شبرّ تها بيدي ال�صغرية ،لأحاول ت�صور حجمه ب�شكل �أو�ضح ،حتى و�صلت �إىل �صورة قريبة. ولكن �إذا كان هذا احلجم ممكن ًا ،فمن �أين له تلك ال�صالبة؟ لقد كان قا�سي ًا وك�أنه �آلة معدنية ،هل حق ًا هذا ع�ضوه؟ �أو رمبا كان املعلم يخفي �أدا ًة ما خلف مالب�سه ليخيفني بها؟ رمبا كان ع�صا غليظة، ي�شدها �إىل ظهره بحبل ق�صري� ،أو �شيء مثل هذا القبيل .هل كان ّ ميازحني �إذن؟ وملاذا ميازحني ونحن وحدنا ،ولي�س على مر�أى من �آخرين وم�سمعهم؟ وملاذا كانت طريقته يف �ضبط غرتتي مرتبكة، حتى �إنه كان يتعمد �أن مييلها كلما اعتدلت؟ كان يكذب ،هو ال يريد لغرتتي �أن تن�ضبط �إطالق ًا ،ماذا يريد مني �إذن؟ مكثت �أكرث من حتت تلك النخلة التي �شهدت فزعي الأول، ُ ملحت �أ�ضواء �سيارات املدعوين وهي جتوز بوابة �ساعة .ومن بعيد، ُ �سيبحث عني ،ويخاف، املدر�سة .البد �أن �سيارة �أبي بينها ،والبد �أنه ُ �ضعت يف بريوت مثل ذلك اخلوف الذي �أتذكره يف وجهه عندما ُ ذات مرة .حزمة من الأفكار التي بعثتها �صورة �أبي منحتني دافع ًا للعودة �إىل املدر�سة على مهل ،لعلي �أ�شارك يف الن�شيد وك�أن �شيئ ًا مل املحنية الكبرية التي ر�سمتها على الرتاب، م�سحت القو�س يحدث. ُ ّ 101
رحت اقرتبت منها �أكرث ورحت �أم�شي باجتاه املدر�سة ،وعندما ُ ُ ُ �أحاول �أن �أميز الأ�شخا�ص عن بعد حتى ميكنني �أن �أجتنب الأ�ستاذ �إذا كان هناك� .أخرياً دخلت امل�رسح .كان لبا�سي مميزاً كمالب�س ُ بقية الطالب املن�شدين ،بذلك الو�شاح الأخ�رض الذي يحمل �شهادة التوحيد ،ولهذا ا�ستوقفني �صوت �أحد املعلمني: – ح�سان ،ليه ما طلعت يف الن�شيد؟ كنت �أ�ستطيع بلورة الق�صة كلها مل �أجب ،ومل �أكن �أعرف �إذا ما ُ بالكالم ،هل ميكن �أن ُيحكى هذا ال�شيء ويقال كبقية الأ�شياء؟ هل عندي �شيء مقبول ومنطقي ميكن �أن �أحكيه �أ�ص ً نظرت �إىل املعلم ال؟ ُ تدخل معلم �آخر: بارتباك ،وقبل �أن �أنطقّ ، – ح�سان ،فاتك الن�شيد ،انتهى قبل قليل ،وكان مكانك على املن�صة خالي ًا. – �أعرف. – ليه ما �أن�شدت ،مو حافظ الن�شيد؟ كانت �أ�سئلتهم ت�أتي بنربة عادية ،ولكني ال �أدري ملاذا �شعرت ب�أنها حتا�رصين بق�سوة مثل �أ�سالك �شائكة� ،أطرقت و�أنا �أفكر يف مهرب من الوقوف �أمامهم� ،أنا ال�صامت حتى الآن ،دون �أن �أجيب عن �أ�سئلتهم املتقافزة حويل مثل �شياطني �شقية .معلمان كبريان ،و�أنا طفل وحيد، يخفي حتت ل�سانه �أحداث ًا �صارت معه ،ال يدري كيف تقال ،وال ماذا تعني. �أ�سئلتهما مل تكن �إال منده�شة ،ال غري ،ولكنها �أوقدت يف داخلي �شعوراً �صغرياً ب�أين مذنب ،كنت �أت�صور �أين �أف�سدت احلفل ،و�أين 102
ورحت خيبت ظنون اجلميع ،و�أن املدر�سة كلها �ستنقلب �ضدي، ُ �أفاقم العواقب يف داخلي بخيال الطفل اخلائف ،وبد�أت تنمو يف حلقي غ�صة �صغرية. �أثناء ذلك ،وقف مدير املدر�سة مع املعلمني اللذين كانا يكلمانني، فت عن مل يتكلم معي ،ولكني �سمعت �أحدهما يخربه �أين تخ ّل ُ ملحت وجهه ال�سمني ،وذلك الن�شيد� ،أدار ر�أ�سه نحوي ،وفور �أن ُ زر الثوب املحكم ،مل �أعد ال�شحم املتجمع يف رقبته التي ي�ضغط عليها ّ �أ�ستطيع التما�سك ،فغدرت بي دمعة ،وارجتفت �شفتي منذرة ببكاء و�شيك ،وقبل �أن ينب�س هو بكلمة واحدة. ده�شوا متام ًا ،و�أم�سك �أحد املعلمني مع�صمي ،بعد �أن فاج�أتهم دموعي ،وفور �أن مل�ستني يده ،ا�سرتجعت لوهلة م�شهد املعلم الآخر الذي مل�سني بع�ضوه قبل �ساعتني ،وعينيه املنغلقتني على حافة ال�شهوة، وتراجعت حماو ًال الإفالت منه ،بينما �شدين هو بحركة ال �إرادية، وانفجرت يف بكاء طويل فوقعت �أر�ض ًا ،ومل �أعد �أقدر على التحمل، ُ ودفنت وجهي يف زاوية �صغرية بني يدي والأر�ض ،حماو ًال �أال جداً، ُ علي املعلمان، يرى � ٌّأي من احلا�رضين مالمح وجهي و�أنا �أبكي .انحنى ّ واملدير ،و�آخرون ال �أعرفهم ،كانوا يحاولون جذبي ،تنحيتي عن وعلي تنهمر �أ�سئلتهم احلانية امللأى باال�ستغراب. الأر�ض واملمر، ّ – ما بك يا ح�سان؟ – �أحد �رضبك؟ – لي�ش تبكي؟ – �أنت ولد �شاطر ،والن�شيد تقدر تن�شده بعدين. 103
– ما ي�صري كذا� ،أنت رجال .كيف تبكي يا ح�سان؟ علي هذه العبارات ،و�أ�شباهها ،و�أنا �أن�شج ن�شيج ًا �أحاول اندلقت ّ �أن �أجعله مكتوم ًا ،وب�شكل متوا�صل ،م�ستمر ،ودمع ال عهد يل به عيني .مل �أعد �أدري كيف �أت�رصف ،ل�ست �أملك تف�سرياً يهطل من ّ لهم ،وال يل ،ولي�س ثمة مربر مقنع حلالة بكاء كالتي تنتابني ،ويف غمرة �أ�سئلتهم بد�أت �أفكر يف �شيء خمتلف� ،شعرت ب�أنني ال بد �أن �أقدم لهم بعد �أن ينتهي بكائي تف�سرياً مقبو ًال ،و�إال بدوت �أحمق، وهذا �أ�سو�أ ،خ�صو�ص ًا بعدما بد�أت �أ�شعر بوجود طالب �آخرين من علي بف�ضول و�أنا �أبكي ،وحتت زمالئي اقرتبوا ،وراحوا يتفرجون ّ ازددت بكا ًء، وط�أة هذه امل�س�ؤولية اجلديدة ،م�س�ؤولية التربير الالحق، ُ وخوف ًا ،وقلق ًا. فج�أة جذبتني يد قوية ،ورفعتني عن الأر�ض ،و�أنا �أقاومها ب�شدة، وعيناي الدامعتان متنعانني من الر�ؤية ،و�أحاول �أن �أدير وجهي �إىل وجدت نف�سي حممو ًال �إىل الناحية الأقل ازدحام ًا باملتفرجني� ،إىل �أن ُ الأعلى ،ووجهي على م�سافة �سنتيمرتات فقط من وجه �أبي ،ومالحمه وقار وهدوء بالغان. احلافلة بالأ�سئلة ،و�إن ك�ساها ٌ ابت�سم يل ،وقال“ :خال�ص يا ح�سان ،تعال نغ�سل وجهك!”، وم�شيت معه بطواعية وهو مي�سك بيدي ،ودخل �أنزلني �إىل الأر�ض، ُ بكائي مرحلة ال�شهقات الأخرية التي ينتهي بعدها ،و�أمام املغ�سلة كنت قد توقفت عن البكاء متام ًا .غ�سل �أبي وجهي بيده املليئة برائحة ُ ف�شعرت ب�أمان كبري وهي تتخلل �أنفا�سي ورئتي ،م�سح عطره املعتادة، ُ �أنفي ،وم�سارب دموعي ،وجفّف وجهي مبنديله احلريري الذي 104
يحتفظ به دائم ًا يف جيب ثوبه. عندما خرجنا ،جذبني �أبي بعيداً عن جتمع املعلمني الذين ان�شغلوا يف �ش�أن �آخر .كان املكان قد �أخذ باالزدحام بعد �أن انتهى احلفل، و�أخذ النا�س يف اخلروج ،وراح بع�ض الآباء يدخلون يف حوارات كنت �أنا مطرق ًا .بع�ض �أ�صدقائي جانبية مع معلمي �أبنائهم ،بينما ُ حاولوا لفت انتباهي ب�إ�شارات ،ونادوين هم�س ًا وهم ملت�صقون كنت �أنتظر �أ�سئلة �أبي التي ال ب�آبائهم ،ولكني مل �أعر �أحداً انتباهيُ ، بد �أنها �ست�أتي. وركبت معه يف ال�سيارة، ولكنه مل يفعل ،لقد جتاهل الأمر متام ًا، ُ واجتهنا �إىل بقالة �صغرية مبحاذاة املدر�سة ،وا�شرتى يل حلوى ،وجملة �أطفال ،وهو يتحدث معي عن كل �شيء ،عدا املدر�سة ،واحلفل ،وما حدث هناك. بت لأبي بعارٍ كبري نتيجة عدم تنفيذي و�صلة ت�سب ُ ُ كنت مقتنع ًا ب�أين ّ الن�شيد اجلماعي تلك ،خ�صو�ص ًا �أن �أبي الذي كان ي�شجعني على علي يف هذا احلفل التدريب ،وحفظ الن�ص .كان يع ّلق �آما ًال هائلة ّ ذي الأهمية العظيمة ،فلم �أفهم كيف ميكنه �أن يتجاهل هذا اخلذالن الكبري مني ،ويبدو هادئ ًا ،ومرح ًا هكذا. يف البيت ،ا�ستقبلتنا �أمي بابت�سامة كبرية جداً ،وراحت �أ�سئلتها علي فع ً انتبهت لها، ال لوال �أن �أبي �أوم�أ �إليها ب�إ�شارة خافتة ُ تنهال ّ �سمعت �أبي أويت �إىل غرفتي، ُ فخ�ضنا يف حديث غريه ،وعندما � ُ كنت �أغ�سل �أ�سناين. يحدث �أمي بينما ُ – ............... 105
– خاف من امل�رسح ،واختب�أ. – ليه؟ – النا�س كثريون ،وهو طفل ،مل يتحمل املوقف .امل�شكلة �أنه بعد احلفل ازداد خوف ًا ،وراح يبكي. – يا حبيبي ،م�سكني� ،أكيد �أح�س بالف�شل. – ....................... ظل هذا احلوار يدق يف ر�أ�سي طوال ال�ساعة التي �أرقت فيها ومل كنت خائف ًا فع ً كنت خائف ًا ،و�إال فلماذا هربت. ال؟ َّمم؟ نعم ُ �أمن .هل ُ جل�ست مع نف�سي لأفهم حتديداً ما هو حتى تلك اللحظة مل �أكن قد ُ الت�رصف الذي قمت به يف احلفل ،ولذلك كان �أبي يف حواره مع �أمي كنت �أنا خائف ًا من احلفل فع ً ال ،ال �أكرث. ي�ضع يل احتما ًال منطقي ًا ،رمبا ُ ا�ستيقظت على يوم �إجازة ،كانت �أفكاري �أكرث يف ال�صباح، ُ وا�سرتجعت الأحداث بهدوء ،وهي تتعاقب على ذهني �صفا ًء، ُ كنت كنت خائف ًا ،ولكن لي�س من احلفل ،ولكن لأين ُ بو�ضوح� .أنا ُ وحيداً مع معلم ذي ع�ضو غريب ،وكان يت�رصف معي بغرابة �أكرث، و�أبي مل يكن يو�ضح يل الأ�شياء الغريبة قط. ذهبت �إىل �أبي ،فوجدته واقف ًا يف منت�صف احلديقة ،يراقب ُ ب�ستانيني جاءا لتن�سيقها ،ومولي ًا ظهره يل .احت�ضنته من اخللف، فندت منه عبارات ترحيب مرحة: ّ ال و�سه ً – �أه ً ال ،بطل الأبطال. – بابا. – نعم يا بطل. 106
قلت له مبا�رشة: كنت ال �أزال حمت�ضن ًا �إياه من اخللف ،عندما ُ ُ – �أم�س الأ�ستاذ �سوا يل كذا. – كيف؟ – �سوا يل كذا الأ�ستاذ. – تق�صد �أن م�سكك من ظهرك زي كذا. – ايه. – متى؟ – قبل احلفل ،ملا رحت معه ن�ضبط غرتتي يف غرفة وراء امل�رسح. كنت ال �أزال مت�شبث ًا به من اخللف ،وكانت �أ�سئلته جدية �إىل حد ُ خ�شيت مواجهتها �أمامه ،ولكنه احتفظ بنربته الهادئة ،حماو ًال �أال �أين ُ يقذف اخلجل يف قلبي الذي ظل يعرتف بطواعية. – وما كان معاكم �أحد؟ – ال – �أي �أ�ستاذ؟ – �أ�ستاذ علي� ،أ�ستاذ احلفل. – ع�شان كذا �أنت ما طلعت يف الن�شيد؟ – ايه ،كنت خايف منه. قب�ض �أبي على مع�صمي ،و�أدارين لأ�صبح يف مواجهته ،وحملني و�ضمني وهو يبت�سم ابت�سامة ع�صبية ،و�أثناء ذلك ،هم�س يف عالي ًا، ّ �أذين ب�س�ؤال ق�صري ،وهو مي�سك بطرف بنطايل: – طيب يا ح�سان� ،شال مالب�سك؟ – ال ،ب�س ح�ضني زي كذا ،بعدين �أنا طلعت. 107
– وين طلعت؟ – رك�ضت برا املدر�سة. – طيب يا بطل ،روح ملاما ع�شان تفطر ،وبعدين نطلع نتم�شى. و�أنزلني بعد �أن ّقبل وجنتي ،حتى �إذا ما بلغت قدماي الأر�ض، ال ثقي ً أخف وزن ًا ،و�أن حم ً ال قد انزاح عن كاهلي ،ورقعة �شعرت ب�أين � ّ ُ فرحت �أبحث عن �أمي يف مظانها من البيت ،و�أنا �أفكاري ال�صغرية، ُ �أرك�ض بحبور ون�شوة. أعدت مفاحتة �أبي يف الأمر. بعد ثماين ع�رشة �سنةُ � ، �ضيف يتحدث عن ا�شتباه يف حوادث اغت�صاب كان يف بيتنا ٌ متكررة حتدث يف جمعية للأطفال املعوقني ،واملتخلفني عقلي ًا، با�ستغالل �أفواههم التي ال تنطق ،وعقولهم التي ال تعي ،وتكلم �أبي بقيت �أنا و�أبي كثرياً يف تعليقه على املو�ضوع ،وعندما رحل ال�ضيفُ ، نتكلم يف جمل�س ال�ضيوف قلي ً ال ،ون�رشب بقية ال�شاي ،و�س�ألت �أبي هل كان يذكر ما قلته له عن ذلك املعلم. – نعم يا ولدي� ،صحيح. – ماذا فعلت �آنذاك يا �أبي؟ – ب ّلغت �صديق ًا يل يف ال�رشطة ،ف�أخذوه من املدر�سة ،واعرتف، وف�صلوه من وزارة املعارف. – فقط؟ – ب�س يا ولدي ،اي�ش تبغاين اعمل كمان؟ – �أمل تنفعل؟ ت�رضبه مث ً ال؟ عدت على خري. – كفاية الف�صل ،واحلمد هلل �أنها ّ 108
عدت على خري فع ً ال كما يرى �أبي ،ورمبا ال .حتى الآن �أنا نف�سي رمبا ّ كنت �س�أكون رج ً ال خمتلف ًا لو ال �أعرف �إجابة عن هذا ال�س�ؤال ،وهل ُ كنت �س�أغرق يف حكايات ن�سائية �أن حكاية كهذه مل حتدث قط؟ هل ُ طويلة على مدى �سنوات وك�أين �أغ�سل بها عالئق الذاكرة؟ ما �أعرفه ّ احتكت بداخلي مثل �أن هذه التحر�شات كانت من الفجاجة بحيث ال�رصير املجنون الذي مل يتوقف منذ الطفولة ،وما زال ي�سكنني فزعها مثلما ت�سكن الكهرباء خيال الأ�سالك النحيلة ،وبقي منها يف ج�سدي تلك الرجفات الع�صبية التي جتفّلني من الرجال ،حتى و�أنا قاب عام تقريب ًا من الثالثني .ج�سدي ال ينطق ،ولكنه حتم ًا ال ين�سى.
109
IV “عزيزتي غالية، ر�سالتك مثل جنمة البحر ،ال �أدري � ُّأي �أذرعها بدايتها ،و�أين هي ِ الذراع الأخرية .واملرهق �أنه كي �أنتقل من ذراع �إىل ذراع ،من دون علي �أن �أعود دائم ًا ،كل مرة� ،إىل �أن �أخرج من هذه الر�سالة/النجمةّ ، املركز. كيف ميكن �أن �أفهم ما تعنني من خم�س �أذرع ،ي�شري كل منها �إىل أنك تعرفني جيداً �أين عندما �أقر�أ لك ،ال �أقلب اجتاه خمتلف؟ رغم � ِ وجهي يف ال�سماء ،وال �أراود االجتاهات الأخرى .فلماذا مل تكتبي يل كنت تكتبني من قبل؟ الر�سائل التي تقودين مثل منارة ،ال هذه مثلما ِ التي ال �أعرف من �أين �أبد�أها ،وال �أين تنهيني. رجا ًء� ،إقرتبي �أكرث ،و�أُهم�سي يف قلبي مبا�رشة� .أحتاج �إىل الكثري من الإي�ضاح هذه الأيام. ح�سان – ملقا � 12أغ�سط�س ”2004
**** 111
احتفظت بن�سخة منها يف بريدي بعثت بر�سالة �إىل غالية، كلما ُ ُ كنت �أفعل ذلك ب�شكل �آيل ،لأكون قادراً على �إعادة االلكرتوينُ . �إر�سالها يف حال مل ت�صل ،بد ًال من �إعادة ن�سخها مرة �أخرى ب�شكل كنت �أفعل ذلك لأين �أ�شعر ب�أن �شيئ ًا رديء ،ولكني يف احلقيقةُ ، وعلي �أن �أحتفظ بها ،للأمانة ما تبنيه هذه الر�سائل على مهل، ّ العاطفية. بعثت بها �إىل غالية من دون تراكمت يف بريدي ر�سائل كثرية ُ �أن �أنتبه �إىل تكاثرها ،حتى نبهتني �إىل ذلك �سعة الربيد االلكرتوين امل�رشف على االمتالء ،وا�ضطررت �أن �أقف معها �أمام خيار �صعب، �إما �أن �أحموها جميع ًا لأنها مل تعد جمدية ،وال بد �أنها �ستلوث نقاهتي، �أو �أنقلها كما هي �إىل مكان �آخر ،لعلي �أحتاج �إليها يف ظرف ما. قررت �أخرياً �أن �أحتفظ بها يف ذاكرة خارجية ،بعيدة عن متناول ُ رحت �أت�صفح بع�ضها �أثناء النقل. قراءتي املبا�رشة ،ولكني ُ �شعرت و�أنا �أ�رشف عليها من �رشفة زمنية بارتفاع ثالث �سنوات ُ كيف بدت ر�سائلي مثل �سطح مائل ،ظل ينحدر نحو غالية كل يوم مثل ال�سفوح الثلجية ،رغم �أنها هي التي ك�شفت يل ورقة احلب الأوىل� ،إال �أن كل ما يف ر�سائلي كان يقودها �إىل هذا الطريق تركت الواحد ،ويهيئه لعبورها املتوقع ذاك .كان وا�ضح ًا �أين ُ أجبت عن كل تلميحاتها ال�ضمنية بذراعني الأبواب مواربة ،و� ُ مفتوحتني. كنت �أراودها يف ر�سائلي تلك ،ال �إرادي ًا؟ لأ�شهر طويلة ،كانت هل ُ أحبك� ،رشط �أن تكفيني حرج االبتداء!)، كل ر�سائلي تقول لها (�س� ِ 112
زخات غريبة من فلماذا علي من حني لآخر ّ ُ رحت �ألومها وهي تطلق ّ الغرية ،أ� ّدعي �أين ال �أفهمها ،لكي �أظفر ب�رصاحة �أكرث تدلي ً ال لغروري ال�صغري؟ كانت هذه الر�سالة التي بعثت بها �إليها من ملقا �صيف ًا ،رداً على ر�سالة �أخرى ح�شتها غالية بكالم غريب ،مل �أتعوده منها قط. “وجهك “ ...منذ ال�صباح ،حممد عبده يدق �أبواب جبيني: ِ املحبو�س يف ورق وحديد” .هو دائم ًا ي�أتي ح�سب احلالة ،وك�أنه يعرف �أين منذ ال�صباح �أ�شعر بذلك� ،أت�أمل النافذة بق�ضبانها املعدنية املتقاطعة ،والورق املتناثر �أمامي ليتحول �إىل مقال ،و�أ�شعر �أين ّ الرف حمبو�سة بني احلديد والورق ،متام ًا مثل تلك “ال�صورة على البعيد”. الأفكار مرتاكمة فوق مكتبي من دون معقّبّ ، ونظارتي مك�سورة منذ يومني وال �أجد من ي�أخذين لأ�صلحها. طنني جهاز التكييف يبعث على الإحباط ،واحل�رشات الزاحفة تكاثرت فج�أة يف الفناء مع احتدام ال�صيف. �أعتذر عن �إقحامك يف خ�صو�صيات الريا�ض ال�صيفية ،ولكن لعلك جتد يف تباين احلاالت مرتع ًا جلبينك ،يريحك من التحديق يف الأج�ساد امللقاة على �شط�آن �أ�سبانيا� ،ألي�س كذلك؟ ........ هذيان الريا�ض �صيف ًا ،ال عليك. غالية – الريا�ض � 10أغ�سط�س ”2004 113
كان ميكن �أال تعلق ر�سالتها تلك �أي جر�س يف قلبي ،لوال �شواطئ �إ�سبانيا ،والأج�ساد امللقاة عليها .مل يكن من املريح �أن �أتلقى ر�سالة تتهمني اتهام ًا مبطن ًا باللهاث ،ومن امر�أ ٍة لي�ست حبيبتي .ولوال �أنها أهملت كل التلميحات التي ت�ضمنتها ر�سالتها التي ت�شبه غالية ،ل ُ وكتبت �إليها مرة �أخرى ت�شبثت بها جداً، جنمة البحر ،ولكني ُ ُ �أطلب منها مزيداً من املبا�رشة والتو�ضيح ،وك�أين �أحاول �أن �أح�صل أ�شم منها على اتهام �أكرب ،و�رصاحة �أو�سع ،رمبا �أمتكن من خاللها �أن � ّ رائحة احلب. مر �أكرث من �سبعة �أ�شهر على ابتداء هذه الر�سائل التي مل يكن قد ّ جتري بيننا مثل “اجلناديل” الهادئة ،ومل يكن ابتدا�ؤها �صدفة البتة، تكتب لأن حدوثها كان حتمي ًا �إىل حد ما ،فاملجلة التي بد�أت غالية ُ فيها كانت ت�صل �إىل بيتنا بانتظام ،وكان البد �أن انتبه يوم ًا ما �إىل ا�سمها يعتلي عموداً جديداً فيها ،مل �أره من قبل. هت �أبي �إىل ذلك ،فلم يعلق، وعلى مائدة ع�شاء تلك الليلةّ ،نب ُ بينما هم�ست �أمي بعفوية (ما �شاء اهلل) وهي توزع الأطباق ،وتن�سق وعدت �صعدت �إىل غرفتي قبل �أن يكتمل حت�ضري الع�شاء، املائدة. ُ ُ باملجلة ،مفتوحة على مقال غالية الذي يحتل طرف ًا نحي ً ال من جانب ال�صفحة ،وو�ضعتها بني يدي �أبي ،ف�أخرج نظارته من جيبه، وو�ضعها على عينيه بهدوء ،ثم انفرجت �شفتاه قلي ً ال تلك االنفراجة املزمومة �إىل �أ�سفل كما يفعل عاد ًة عندما ينقل عينيه املتعبتني من حالة النظر يف الأ�شياء العادية �إىل الرتكيز يف منطقة �صغرية كاملقال، وراح يقر أ� قلي ً ال. 114
بعد ثوان قليلة قال: – فع ً ال� ،أعتقد �أنها بنت عبدالعزيز الرو�ضي. – بالت�أكيد. ا�ستغرق �أبي يف قراءة املقال الذي كان يف جممله بع�ض ًا من العزاء لبغداد التي �أوجعتها احلرب ،متباكية فيها على الأطفال وال�ضحايا. تعليق ما، قر�أته باكراً ،ومل �أ�رصح لأبي بر�أيي فيه ،منتظراً �أن ي�أتي منه ٌ �أعرف من خالله م�ساحة الر�أي املتاحة يل ،واجتاهه املقبول. بينما كان �أبي يقر�أ ،قالت �أمي: – عهدي بها �أنها تعي�ش مع �أمها وطفلها ،بعد �أن انف�صلت عن زوجها. كانت ت�صفّف �شعرها بتلك الهيئة التي مل تتغري منذ زمن طويل، ال ،وجمي ً رغم �أنه ما زال طوي ً ال ،وخالي ًا يف جممله من البيا�ض ،وعلى أيت وجهها لأول مرة ،بي�ضاء وجهها تنام احلمامة نف�سها منذ �أن ر� ُ مثل ال�صباح املت�أخر ،وعلى �أطراف جفنيها جتاعيد طفيفة ،ال تخفيها �أمي جيداً. �س�ألتها بف�ضول: – وملاذا انف�صال؟ – هذه �أ�رسار البيوت يا ولدي ،ال �أحد يعرف ما بني الزوجني. – اهلل يعينها. – �صار الطالق حكاية كل بيت ،ما �أدري و�ش �صار للنا�س ،ما عاد حتملوا بع�ض! بد� ُأت �أتناول ع�شائي بهدوء ،و�أجتاذب مع �أمي �أطراف حديث 115
ٌ منهمك يف قراءة املقال ،ويحرك �شفتيه وك�أنه يلوك معتاد .بينما �أبي �شيئ ًا وهمي ًا يف فمه ،وبعد دقيقتني من قراءة املقال ،راح يرطب �إبهامه بل�سانه ،ويقلب ال�صفحة ،وين�شغل يف قراءة موا�ضيع �أخرى. �س�ألته من دون �أن �أبدي اهتمام ًا كبرياً: – كيف ترى مقالها يا �أبي؟ �أجابني من دون �أن يتوقف عن تقليب ال�صفحات الأخرى: – ال �أدري ،فيه كال ٌم عن ال�سيا�سة ،وفيه كال ٌم ك�أنه �شعر. ابت�سمت لإجابته التي تبدو مثل امتعا�ض حمت�شم .كان وا�ضح ًا �أن ُ املقال مل يعجبه ،ولكن �شخ�صيته املتوا�ضعة متنعه من انتقاد الآخرين قررت �أن �أ�سعى وراء ر�أي �أكرث دقة ،مبا �أننا نتناول ب�شكل مبا�رش. ُ الع�شاء الذي ت�أتي الرثثرة العائلية جزءاً معتاداً منه ،كاخلبز متام ًا: – تق�صد �أنه مقال �ضعيف؟ – ال ،ال. يل ن�صف التفافة ،ونظر �إ ّ ثم التفت �إ ّ يل من فوق نظارته التي انحدرت قلي ً ال على �أنفه ،و�أردف: – عندما �أقر�أ مقا ًال عن ال�سيا�سة ،يجب �أن يكون مقا ًال عميق ًا بغ�ض النظر عن وجهة نظر كاتبه ،يجب �أن تكون كتابته ووافي ًا ّ �سيا�سية ومو�ضوعية بحتة .ال�سيا�سة معقدة ،مو �شعر وكالم خيايل. وعلقت �أمي من دون اهتمام ،ومن باب امل�شاركة يف احلوار: – �صحيح ،يجب �أن يكتب كل �شخ�ص يف جمال تخ�ص�صه. مل يبد �أبي �أنه �سمع تعليق �أمي قط .طرق ب�إ�صبعه على املجلة، و�أردف قائ ً ال: 116
– هذه البنت ت�أخذ من طرف ال�سيا�سة ،ومن طرف الكالم احللو، ومن طرف امل�شاعر االجتماعية ،وتكتب ما يريده النا�س. ثم �أردف وهو يغلق املجلة وي�ضعها جانب ًا ،ثم يعدل جل�سته: – وهذا ما تريده املجالت عموم ًا. ثم بد�أ يف تناول طعامه ،وهو يقول: – ولكن كوي�س منها �إنها تكتب� ،أعتقد �أنها �صغرية ،وكتابتها جديرة بالت�شجيع. وع ّلقت �أمي بعدها: قد ح�سان! – و�ش �صغرية اهلل يهديكّ ، و�ضحك �أبي ،وهو يتناول ب�إ�صبعيه حبة زيتون: – وح�سان �صغري كمان� ،شايفته كبري يعني! وجتيب �أمي بابت�سامة وا�سعة: كنت يف عمره كنت �أ ْم ،وعندي بيت. – �ستة وع�رشين �سنة ،ملا ُ – وانتي كمان �صغرية ،وال يهمك. ويقهقه �أبي ،ل ُتمحى من وجهه جميع املالمح اجلادة التي طبعتها عليه القراءة ،ويحل مكانها حاجبان مرفوعان كمظلتني �صغريتني، ووجنتان ما زالتا ،رغم التجاعيد ،قادرتني على التكور بلطف حول فم مزموم كدائرة غري منتظمة ،ترتب ال�ضحك ،وتطلقه مثل فقاعات ال�صابون التي يلهو بها الأطفال. دائم ًا يبدو وجهه عندما ي�ضحك على هذه ال�صفة ،وك�أن البهجة اندفعت يف قلبه فج�أة مثل �شالل ،ومل يكن جا ّد املالمح ،مقطب احلاجبني قبل ثوان قليلة فقط .قدرته على املرح بهذه ال�رسعة دائم ًا 117
تقول يل �إنّ يف قلبه �سالم ًا روحي ًا مل ت�ستطع كل �أيامه الكثرية �أن تك�رسه البتة. ومل تكن كلماته تعرب �أمي ب�سالم ،كان وجهها ي�رشق مثل تفاحة تنفتح تواً ،وتطرق قلي ً ال يف خجل ال حتاول �إخفاءه �أبداً. كنت �أ�سمع هذا اجلدل الغزيل بينهما ،و�أعلق على فمي ابت�سامة ُ حب تكفيهما مع ًا ،و�أتناول ع�شائي ببطء ،م�ستمتع ًا بهناء العي�ش مع �أبوين يتكلمان كثرياً على الع�شاء من دون ملل. را�سلت غالية على الربيد �صعدت �إىل غرفتي بعد الع�شاء، عندما ُ ُ املرفق يف املقال مهنئ ًا �إياها ،ومعرباً عن �إعجابي الذي مل �أذكره �أمام ومنت تلك الليلة كما �أنام عاد ًة على �ضو�ضاء فيلم ما ،ت�صدر منه �أبيُ ، �أ�ضواء ع�شوائية ح�سب امل�شاهد ،تنري ظالم الغرفة ،وتر�سم �أ�شكا ًال غري منتظمة على اجلدار الذي خلفي ،بينما تذبل عيناي تدريج ًا مع ت�أخر الوقت. ن�سيت �أين ولو �أن غالية مل ترد على ر�سالتي الأوىل تلك ،لرمبا ُ �أر�سلتها �أ�ص ً ال .كانت الأ�شياء من العادية والطفافة بحيث يده�شني وجدت يف ال�صباح �أنها تركت �أثراً بهذا احلجم يف ما بعد ،ولكني ُ ر�سال ًة منها ،معلق ًة يف بريدي االلكرتوين مثل ع�صفور �أزرق ،بدا يل منذ و�صول الر�سالة� ،أنه ّ ظل ينتظرين منذ الفجر ،ليغني يل قلي ً ال. فكرت يف هذه الفتاة التي تر ّد على ر�سائلها فجراً ،ملاذا ت�سهر يا ُ ترى؟ هل تكلم �أحداً؟ �أم �أنها انتقائية جداً يف اختيار �أوقات �صفائها ي�ضج بقرا ٍء كرث غريي؟ رمبا هذا الذي وجنوى بريدها الذي رمبا كان ُّ جعلني �أحاول يف ر�سالتي �أن �أح�شد �أ�شياء ت�شري �إىل قرابتنا لع ّلي �أحظى 118
باهتمام خمتلف ،رغم �أين مل �أكن �أعرف ما الذي ميكنني �أن �أجنيه من هذا االهتمام �إذا حتقق .فغالية� ،آنذاك ،كانت تدور يف فلك بعيد متام ًا عن توقعاتي املحدودة ،واملنح�رصة يف حاالت �أنثوية قريبة ،وواقعية، و�أكرث ترابية بكثري من كاتبة مقال ،وذات قربى. �أخربتها �أين �أتذكر كيف لعبنا مر ًة لعبة الر�سم على الرمل فوق كثيب يف ال�صحراء ،و�أن هذا هو �آخر عهد ذاكرتي بها ،و�أعادت �إ ّ يل زلت �أذكر ذلك ،وت ََركت بني عباراتها ر�سالتي وهي �سعيدة لأين ما ُ كالم ًا ي�شبه العتاب على جمتمع يف�صل بيننا رغم كوننا �أقارب ،وعلى أر�سلت الأ�رسة التي توقفت عن عاداتها ال�سنوية يف جمع �شتاتها� . ُ �إليها ر�سالة �أخرى يف الوقت نف�سه ،وقد �أغرتني �شكواها العابرة، و�أوحت يل بارتياحها معي نوع ًا ما ،ف�أخربتها مبا تفتقت عنه ذاكرتي من تفا�صيل �أدق عن ذكريات ذاك الكثيب ،وردت علي بر�سالة جديدة �أكرث مرح ًا و�صخب ًا يف اختيار الكلمات ال�ضاحكة�“ ،أتذكر تفا�صيل �أكرث .ذاكرة الأنثى �أقوى!” كانت غالية �أجمل الأطفال ،بينما �أنا �أكرثهم خج ً ال والت�صاق ًا ب�أمي .حاجباي معقودان دائم ًا ك�أين ورثت انعقادهما عن �أبي ،من تربيت يف بيت ال �أرى فيه �إال دون �أن �أرث �شيئ ًا مما وراءهما .ولأين ُ الكبار .كانت تلك املخلوقات ال�صغرية التي ترك�ض �أمامي وتلهو مع ًا بعفوية تبدو يل كائنات خميفة ،غري رحيمة ،ال تكلمني ب�شكل حنون تعودت من الكبار ،وال �أظنها ت�ضمر يل خرياً. كما ُ كانت �أ�رستنا قد عادت تواً من لبنان ،وبقايا اللهجة اللبنانية يف علي ل�ساين جتعلني �أتكلم ب�شكل غريب وخمتلف ،ال يلبث �أن يعود ّ 119
كنت ب�سخرية وانتقاد الذعني من �أفواه الأطفال ال�رصيحة .ولهذا ُ �أ�ؤثر ال�صمت ،من دون �أن �أفهم ملاذا كانوا ي�ضحكون كلما نطقت، وال يفهمون بع�ض الكلمات العادية التي تخرج من فمي. كنت �أت�أملهم عن بعد ،واقف ًا عند حد �ساحة اللعب متام ًا، ولذلك ُ ألتفت كل وهلة جهة جمل�س من دون �أن �أجر�ؤ على االقرتاب �أكرث ،و� ُ الن�ساء لأت�أكد �أن �أمي باقية يف حميط ب�رصي ،و�أين باق يف حميط ب�رصها، وهذا هو الأهم. كان للأطفال بهجة اللعب ،ويل غنب املراقبة .ولأين ٌ طفل يف �آخر املطافُ � ، أمتلك القدرة التي يغبطها �أي كبري على اخرتاع اللهو يف �أي أحول فعل املراقبة هذا �إىل لعبتي الآمنة علي �أن � ّ حاالت احلياة ،كان ّ ال�صغرية عند حد �ساحة اللعب. كان ميكن �أن �أراقبهم جميع ًا و�أح�صي �أفعالهم ،وكان ميكن �أن �أراقب غالية.مل يكن من املمكن تفاديها ،لعدة �أ�سباب �أعتقد �أين �أقدر على �صياغتها الآن و�أنا �أتذكر ،كان لها مالمح الكبار ،وتبدو كامر�أة ي�صعب تف�سريه على طفل يراقب الأطفال �صغرية تلهو ،وهذا ما ُ عن بعد ،بينما كان ينعك�س على بقية الأطفال املنهمكني باللعب ب�شكل مبا�رش :كان مينحها روح القيادة .ولهذا هي الأكرث ن�شاط ًا يف توجيه الأطفال الآخرين ،واختيار اللعبة ،وو�ضع القوانني ،و�إعالنها ب�صوتها احلاد الذي مل يكن ينق�صه �إال طبقة واحدة ليكت�سب نربات امر�أة بالغة ،وبلهجتها الآمرة التي ي�ستجيب لها كل الأطفال بوالء، ما زادين انطوا ًء ،وخوف ًا من م�شاركة هذه الطفلة القوية يف �أي لهو ما. كل هذا كان يحدث يف خميم �صحراوي كبري �شمال الريا�ض ،قرر 120
�أفرا ٌد من عائلة �أمي الكبرية ا�ستئجاره مر ًة يف ال�سنة ،لتجتمع فيها العائلة املنقطعة بع�ضها عن بع�ض ،وال �أدري ملاذا كانت �أمي تواظب على هذا احل�ضور ،رغم ترديدها دائم ًا �أنها ال تثق بهم ،وال ترجو منهم خرياً ،ولكنها على ما يبدو كانت حت�رض لتثبت �أنها ما زالت حا�رضة يف ال�سياق العائلي. كانت غالية ت�أتي مع �أمها وحيدتني ،ولكنها ال تلبث بعد نزولها من �سيارتهم املتوا�ضعة تلك� ،أن ت�صبح �سيدة الأطفال املت�رصفة يف لهوهم كله .كان �أبوها هو الذي يلتقي مع �أمي يف قرابة بعيدة، وهو مزواج �شهري حتى يف �شيخوخته ،كتبوا عنه مر ًة يف الأخبار ال�صحفية العابرة عندما جتاوزت زيجاته الع�رشين امر�أة ،واحتفظت غالية بق�صا�صة اجلريدة تلك منذ طفولتها على هام�ش ال�سخرية املرة، ولأن �أمها �إحدى الزوجات املبكرات ،احتفظت مبزية البقاء يف ذمته، وحتت نفقته ،رغم �أنها ال تراه �إال نادراً ،وال ي�أتي �إىل املنزل �إال يف منا�سبات نادرة. وت�سلقت كثيب ًا �صغرياً من الرمل عند حملت كرتي ال�صغرية، ُ ُ حدود املزرعة ،حماو ًال �أن �أبدو ظاهراً جلمع الأطفال البعيد ،حتى �أثبت علوي عليهم ،ونفوري منهم ،بكربياء طفل ال يتنازل ان�صياع ًا جل�ست وحيداً حتى دقت لتلك الطفلة املتحكمة� .أذكر جيداً �أين ُ ال�شم�س ر�أ�سي ،و�أين ط�أط�أت يف النهاية ،ومللت الوقوف والتظاهر ُ فجل�ست كما يجل�س الأطفال املهزومون ،على باالن�شغال بكرتي، ُ ظهر الكثيب� ،أراقب ظهور اخلناف�س املنتفخة وهي تدحرج كرات لزجة ب�سيقانها اخللفية ،ومت�شي �إىل الوراء ،حتى تدخل جحورها. 121
تقرتب من الكثيب ،ب�صحبة أيت غالية ،وهي ويف تلك الأثناء ،ر� ُ ُ طفلة �أخرى من العائلة ،وتتجهان نحوي متام ًا ،فتقل�ص بطني قلي ً ال، ال�شم�س مبا يكفي ورحت �أنتظر ،مق ّلب ًا يف ذهني ال�صغري الذي �أرهقته ُ �أ�سئل ًة خائفة .ماذا تريدان يا ترى؟ وكيف يجب �أن �أت�رصف؟ ال ،وتناهى �إ ّ بد�أت غالية تت�سلق الكثيب فع ً يل �صوت حوارهما الذي يدور بال مباال ٍة بوجودي ،وتوقفتا عند مكان غري بعيد مني، وجل�ستا على ظهر الكثيب ،و�أخرجت غالية من جيبها عدة �أغ�صان ق�صرية ،ثم �سوت بذراعها م�ساح ًة �صغرية من الرمل ،وراحت تر�سم ب�أغ�صانها تلك على �سطحه املت�ساوي ،من دون �أن تعريين هي فتنف�ست ال�صعداء بعد النجاة من مواجهة مل و�صاحبتها �أي انتباه، ُ �أكن م�ستعداً لها. ورحت وا�ستجمعت �شيئ ًا من الكربياء، جتاهلتهما وجتاهلتاين، ُ ُ كنت �أ�رسب �إىل وجه غالية �أع�صي رغبة عيني يف املراقبة ،غري �أين ُ واكت�شفت �آنذاك ،لأول مرة، نظرات حذرة ،تراقبها ب�شك وف�ضول، ُ �أن يف وجه غالية نقطة �سوداء �صغرية ،و�أن �شعرها ناعم مثل دعايات ال�شامبو ،و�أنّ يف يدها خامت ًا مثل �أمي ،ومالحظات �أخرى �صغرية على �أفعالها متنحها كل �سيماء الكبار. وعندما �صارت غالية قاب �رسير مني ،وهي زوجتي ،كانت حبة اخلال تلك تبدو وك�أنها مل تولد معها ،بل نزلت �إليها من ال�سماء، امتلكت �أثمن نقطة ميكن كنت �أقبلها قبالت م�ؤمنة ،و�أ�شعر �أين ُ ولهذا ُ �أن ميتلكها رجل ما ،يف الريا�ض! و�صار �شعرها الأ�سود الطويل فاتن ًا احلرين، جداً عندما ت�سدله مثل ليل الدهر ،وتخبئ وراءه نهديها ّ 122
وترتكني �أك�شفه عنهما على مهل ،خ�صلة خ�صلة ،حتى �أنتهي �إليهما، و�أحتكم بنف�سي يف ال�شم�س والقمر. هذه الطفلة التي كانت تلعب �أمامي على الكثيب ،وال ت�شاركني يف اللعب ،كربت ،و�شاركتني يف ال�رسير ،و�صارت ت�ضبط حرارة ج�سدي جيداً قبل �أن تنام عليه ،وتعرف كيف جتعلني �أكرب حتى �أح�ضنها ،و�أنكم�ش بعد ذلك حتى حت�ضنني .و�صارت تف�رس يل لغة املاء امل�سافر بني ج�سدينا كل مرة ،وتفك النب�ضة ،واخلفقة ،والرع�شة، واالنتفا�ضة ،وجتمع كل �شيء ،وتنرثه بدقة مباغتة ،ف�إذا كل �شيء منظم ،وواقعي ،وفاعل ،وجميل. وحولت ال�رسير �إىل مدر�سة ،فبات ق ّلمت غالية �أظفار الفو�ضى، ّ كل �شيء م�ضبوط ًا ك�ساعة ،وع ّلمتني قاعدة الرتكيز حتى ال يتحول الت�صاقنا �إىل جمرد رك�ض �صعب .مل يكن لهذه احلاالت �أن متر بذهني و�أنا �أراقب غالية التي تلعب على الكثيب ،و�أمتنى لو �أنها تدعوين للعب معها ،ومل �أكن �أعرف ماذا كانت ت�ؤجل يل. تبادلنا خالل �أ�سبوعني ر�سائل مليئة بتفا�صيل �أكرث عن طفولتنا، وازدحمت احلكايات ،و�ضاقت بنا الر�سائل االلكرتونية ،ف�أخذت غالية رقمي ،وات�صلت بي ذات ليلة .وتكلمنا �أربع �ساعات متوا�صلة، كالم ًا مل �أعرف كيف بد�أ ،وال �أين انتهى. تخرجت يف اجلامعة تواً ،واحتفل بي �أبي �أكرث من مرة، كنت قد ُ ُ ويف كل منا�سبة كان يدعو نفراً من املدعوين يختلفون عن الآخرين، علي �أن �أفعله ،كان جمرد وبعد ذلك ال �أتذكر �أننا تكلمنا قط يف ما ّ يتورع �أبي عنه ،حتى اخلو�ض يف حديث عن م�ستقبلي حمظوراً كبرياً ّ 123
ولو كان ر�أي ًا �صغرياً يلقيه على عتبة و�صايته ك�أب ،خ�شية �أن �أت�أثر به، فيكون يف ذلك تدخ ً ال غري مبا�رش منه يف خياراتي ال�شخ�صية. مل �أخرت �أن �أقوم ب�أي عمل بعد التخرج .هذا الأمر �أزعج �أحمد كثرياً ،رغم �أنه ال يقوم ب�أي عمل على الإطالق ،ولكنه كان يطالبني ب�إكمال الدرا�سة� ،أو البحث عن وظيف ٍة ممتازة تليق بي ،ومل يكن ذلك كنت �أ�شم حماول ًة طيبة لإيجاد دور له يف على الأغلب حر�ص ًا بقدر ما ُ منزلنا ،وبقدر ما �أدرك �أن �أحمد يحاول �أن ينتمي �إلينا �أكرث مما ينتمي منق�سم متام ًا بني �شخ�صيتني� ،إحداهما �إىل �أ�رسته الأخرى ،و�أ�شعر �أنه ٌ تلك اجلافة اجلبلية التي ورثها من �أبيه ،والأخرى تلك الن ّزاعة لوعي �أكرث لين ًا ومرون ًة وت�شبث ًا مبعطيات الرقي احل�ضاري الذي يرتجمه له �أبي �أنا �أحيان ًا ،و� ّأمنا امل�شرتكة. ُ �شخ�صيتي �أحمد يف �أوقات متقاربة، تختلط مالمح كثرياً ما ْ و�أبت�سم لهذا النزاع القائم يف داخله ،والذي ال ينتهي ،لأنه هو نف�سه مل يخرت �أيهما �أ�صلح له ،هذا ما جعل خياراته يف احلياة فا�شلة غالب ًا ،فلم يحقق �شيئ ًا يذكر ،وهذا ما ترثي �أمي حلاله عليه ،فلم يكن يعمل ،ومل يكمل درا�سته يف اجلامعة ،ولي�س عنده مال وال جتارة، وكان يقيم يف منزل �أبيه الكبري ،ون�شاطه االجتماعي تغلب عليه ال�سطحية غالب ًا ،لوال �أنه يحاول هو �أن يلقي عليه ظال ًال من العمق، والتميز. قالت �أمي�“ :أبوه ال�سبب .معاملته �سيئة معه من �صغره ،وهذي النتيجة ،”...والنتيجة التي تق�صدها �أمي هي الطبيعة الع�صبية التي متيل �إليها �شخ�صيته ،كان يثور �أحيان ًا لأتفه الأ�سباب ،و�إذا فعل، 124
فقد ل�سانه طالقته ،و�صار يت�أتئ يف الكالم ،وي�ضغط على احلروف لتخرج ،فال تخرج ،فيزداد انفعا ًال لتمرد ل�سانه عليه ،في�ستغني عن كلمة لي�أتي بكلمة �أكرث طواعية ،فت�صبح اجلملة غريبة �أحيان ًا ،ولكنا تعودنا طريقته هذه يف الكالم. تقول �أمي �إنه كان يت�أتئ يف طفولته ب�شكل ب�سيط جداً ،و�إنه �أمر �سائد لدى الأطفال ،لوال �أن �أباه �ساهم يف تفاقم هذه احلالة عنده ،و�أنا تعودت �أن �أ�سمع غري مت�أكد متام ًا من م�س�ؤولية والده عن هذا ،ولكني ُ من �أمي دائم ًا عيوب زوجها الأول ،وكيف �أن حياتها معه كانت ال تطاق ،وت�سعى لتثبت �أن قرارها باالنف�صال عنه والزواج من �أبي بعد ذلك ،كان �صحيح ًا جداً. علي بلطف ،و�رصفته عن حماولة ُ تخل�صت من �إحلاح �أحمد ّ م�شاركتي يف �صنع قراري العملي القادم .كان هناك القليل من الأعمال التي �أقوم بها نيابة عن �أبي ،دون �أن يطلبها مني بالطبع، ولكن لتطرد عني هاج�س البالدة والتفاهة ،وتعبئ قلي ً ال من فراغ م�س�ؤوليتي نحوه كابن وحيد.
**** جاء �صباح غائم قلما ت�شهده يف الريا�ض .اختارت غالية �أن تراين، وعلى حني غرة ،من دون �أن �آخذ منها موثق ًا من القلب� ،أال جتعلني �أغرق يف حبها �إىل هذا احلد. كنت �أقود �سيارتي على غري هدى ،يف عادة من عادات ال�شتاء. ُ 125
كنت �أخرج من بيتي مبجرد �أن تبد�أ الريا�ض ارتداء ثوب الغيم ،ومتطرُ ، �صباح ًا ،و�أ�ستمتع بهذا الطق�س وحدي� ،أ�سمع مو�سيقاي الهادئة، و�أتكلم مع كوب قهوة ف�صيح ،و�أخرتق ال�شوارع املنده�شة باملياه، حماو ًال �أن �أت�صالح مع املدينة ،يف حلظات �ضعفها وبكائها تلك. تلقيت ات�صال غالية ،لي�أتيني �صوتها الرقيق عرب هاتفي اجلوال ُ ويبث املوزع على �سماعات ال�سيارة وك�أنه يحت�ضنني من اخللف، ُّ دفئ ًا تدريج ًا يف ال�سيارة التي يكت�سب جلدها برودة ال�شتاء �رسيع ًا. – مرحب ًا – �أهلني غالية – ك�أنك يف ال�سيارة� ،صح؟ – نعم. – �إىل �أين يف هذا ال�صباح املاطر؟ – لي�س �إىل مكان� ،أنا �أ�ستمتع بالقيادة حتت املطر ،فقط. – اهلل! أنت؟ – و� ِ جل�ست �أكتب حتت وقع املطر. – بعد الفجر مل �أمن، ُ – كم هي �أيامك مرتبة! – وهل يومك مبعرث؟ �صوتك وحده يبعرث كل �شيء. – جداً، ِ �ضحكت غالية ،وو�شو�شتني بعبارة �شكر ق�صرية ،ثم �صمتت ب�ضع فالتزمت ال�صمت فتوقعت �أنها تبحث عن مو�ضوع للكالم ثوان، ُ ُ بدوري ،حتى تكلمت �أخرياً ،بعد تنحنح مفتعل: 126
– مبا �أن �صوتي هو الذي يبعرثك ،فما ر�أيك �أن �أعيد ترتيب يومك؟ – كيف؟ – تعال خذين� ،أبغى �أطلع �أ�شوف املطر. – و�أهلك؟ – �أمي نائمة ،و�أنا �أخرج يف �أي وقت مع �صديقاتي ،ال تقلق. هكذا �أقود �سيارتي من دون هدف لأتعر�ض فج�أة حلادث جميل ورحت �أت�أمل �سيارتي كهذا! تفتحت يف داخلي م�سا ّم جديدة للعرق، ُ �إن كان ينق�صها �شيء ملثل هذا اللقاء .كل �شيء كان هادئ ًا ،وك�أنه ينتظر عا�صفة كدخول غالية .كوب القهوة الذي يف يدي كان يجعلني �أكرث انتباه ًا ،و�أ�صابعي �أكرث قلق ًا. وقفت �أمام ذلك الباب لأول مرة ،وتعاقبت بعدها ع�رشات املرات ُ املتفاوتة احلال بني اجلذل واجلزع .ولهذا �أبدو م�ألوف ًا جداً لهذا الباب نقرت على هاتف غالية بنغمة احلكيم مثلما �صار م�ألوف ًا يل يف ما بعد. ُ أملت الباب وهو ينفرج تدريج ًا وك�أنها كانت تنتظرين واحدة ،ثم ت� ُ أطرقت من دون �سبب. وراءه ،ف� ُ كانت �سماو ّية اللون ،تلك التنورة� .شيء ما كانت حتاول غالية �أن تعيد بعثه يف امل�شهد ،مثل لون ال�سماء الذي �أخفته الغيوم املرتاكمة بلونها الرمادي الثقيل� ،أو حاجتي �إىل م�ساحة �أو�سع �أ�ستطيع فيها ترتيب نف�سي ،بد ًال من �ضيق ال�سيارة الذي يجعل غالية بهذا القرب، على بعد مل�سة واحدة من كفي. �شعرت برع�شة و�أنا �أملح تنورتها �أول ما ملحت منها ،وهي تدلف ُ �إىل �سيارتي مثل �رشفة مزدحمة بالنوار�س ال�صغرية ،و�أنا �أ�شعر �أن 127
رددت حتيتها �أ�صداف ًا كثرية تنح�رش يف حلقي ،ومتنعني من الكالم. ُ تركت املطر وحده يحرك �سيارتي مهزوم جداً ،ثم الأوىل ب�صوت ُ ٍ مثل قارب ،بينما عقلي ،الذي تاه فج�أةً ،يح�سد الزجاج الذي جتلو �ضباب كثيف، عنه املا�سحات قطرات املطر ،بينما تراكم فيه هو ٌ وغيوم. انتبهت تدريج ًا �إىل �أن ما يربكني هو �أين ال �أ�ستقبل غالية كما ُ تتوقعها حوا�سي ،حتى الآن �أنا �أت�أمل تنورتها ال�سماوية ال�ضيقة، ثم �إ�صبعها وهي جتو�س برفق فوق �أزرار امل�سجلة ،لرتفع �صوت الأغنية قلي ً ال مبا ينا�سب مزاجها املطري هذا اليوم ،ويكمل طقو�س دخولها حياتي ،مب�ؤ ّثرات �صوتية الئقة ،ومل �أر وجهها بعد ،ولهذا حرت كثرياً يف ا�ستقبال �أنوثة جزئية ،تدريجية ،تنورة ،ف�إ�صبع ،فيد ُ ملونة �صافحتني بخجل .حتى �ساقها العاجية ظهرت ب�ضع ثوان �أثناء الركوب ،مثل �أنبوب من ال�ضوء ،قبل �أن تتوارى فوراً. بعد عبارات قليلة ،حول �سيارتي ،واملطر ،وظروف خروجها من البيت ،و�أ�شياء �أخرى �أ�ستطيع تذكرها كلمة كلمة ،قالت بدالل خجول وهي تت�أمل كوب قهوتي الذي يتدىل من ما�سكة الأكواب: – �أبي قهوة مثلك! و�ضح َك ْت �ضحكة ق�صرية. ِ متنيت لو �أن الربازيل �أقرب قلي ً ال! ُ غطيت بالإيجاب رغب ًة داخلي ًة يف �أن �أحتول �إىل كي�س بن .رغم ُ �أن رائحة الكافيني بد�أت تفوح من ج�سمي فع ً أ�صبحت م�أخوذاً ال ،و� ُ 128
تطلب مني غالية طلب ًا �صغرياً كهذا ،و�أ�شعر �أن تلبيته بالطريقة التي ُ ت�أخذ �شك ً ال م�صريي ًا جداً. اجتهت نحو �شارع التحلية ،ووقفنا عند تلك املقاهي التي يتناثر ُ وطلبت �أنا كوب ًا وطلبت لها قهوتها، العاملون فيها على الر�صيف، ُ ُ �آخر ،وابتعد النادل ليح�رض الطلب ،وهو يهرول هارب ًا من بلل املطر، والتفتت غالية نحوي ،ونظرت �إ ّ يل قلي ً ال ،ثم هم�ست: – ك�أنك الطفل القدمي نف�سه ،مل تتغري. كانت غالية تغطي وجهها بغطاء خفيف ،فلم �أنظر �إليها ،تركتها تت�أمل جانب وجهي و�أنا �أحاول �إلقاء نظرة ال مبالية على الزجاج الأمامي .ال �أدري ما العبارة املنا�سبة التي �أرد بها على �شخ�ص يخربين �أين مل �أتغري منذ �صغري؟ �إنها ال حتمل �إطراء ،وال انتقاداً، جمرد عبارة حمايدة ،ت�صطاد بها غالية تعابري وجهي ،وارتباكاتي، حتى تتوىل زمام الكالم ،كما تعودت يف طفولتها �أن تتوىل زمام اللعب. وبقيت �صامت ًا ،حماو ًال �أن �أجعل مهمتها �أ�صعب، ابت�سمت، ُ ُ فعادت هي تتكلم: – هل تتذكر مالحمي؟ – نعم� ،أتذكر حبة اخلال يف خدك ،كال�سيكية جداً! �ضحكت غالية �ضحكتها املميزة تلك ،وكان املطر يهادن، أيت يدها ترتفع وال�شارع خالي ًا من املارة يف هذا ال�صباح الرمادي ،ر� ُ عرفت �أنها �ستك�شف عن وجهها لأراها، نحو خمارها الرقيق ذاك، ُ فافتعلت ان�شغا ًال ب�سيط ًا بهاتفي اجلوال ،ثم علقت عيناي بتنورتها ُ 129
ال�سماوية ،بعد �أن قررت �أن �أبد�أ من هناك ،و�أ�صعد بعيني تدريج ًا �إىل وجهها الذي انك�شف ،وفاح عطر طفيف من اخلمار الذي حترك. �شي ٌء ما يف داخلي كان يتمنى �أال �أجد غالية جميلة كما كانت، كنت �أرجو لو ظلت بها ملحة من �ضباب املا�ضي� .أريدها �أن تبحر يف ُ دمي بعقالنية ،وال �أريد لأ�سطورة مفاجئة �أن تقلب هدوئي. �إنني عاز ٌم �أن �أجرب معها احلب ،مكاملاتنا كانت تثري ّ يف الن�شوة منط جديد من عالقتي باملر�أة ،و�صلة القرابة جتعل الأمر �أكرث لتجريب ٍ جاذبية بالن�سبة يل .ولكن لو كانت جميل ًة جداً لغدا حبي م�ضطرب ًا. ال �أحب �أن �أقدم الكثري من التنازالت .بع�ض اجلمال عندما ُيفرط، يتحول �إىل خرافة. ع َلت طرقات عجلى على زجاج النافذة ،كان النادل يقف هناك ،وبيده كوبا القهوة الورقيان ،ويحاول جاهداً �أن مينع املطر من ملحت وجه غالية لوهلة ق�صرية ،قبل �أن �ألتفت نحو النادل، بلوغهما. ُ �رصير متذمر لرغبة مل تكتمل. ويف داخلي ٌ
**** ال �شيء يجعلني �أتذكر التفا�صيل العابرة �إال لعنة التذكر نف�سها .كل بحبي لغالية �أ�صبحت عميقة الأثر ،و�صعبة االنتزاع، احلاالت املتعلقة ّ طوحت به الأيام عن بعد ،فالت�صق بظهري، �صبار ثقيلّ ، ك�أنها جذع ّ ا�ستلقيت وبقيت �أحمل هذه الأ�شواك معي حتى �أمد بعيد ،ت�ؤملني كلما ُ ُ على الن�سيان لأرتاح. 130
لهذا ما زلت منذ رحلت غالية واقف ًا رغم العديد من اجلراحات ال�صغرية التي �أجراها و ّزان لينتزع هذه الأ�شواك ال�سيئة .يف احلقيقة �أنه مل ينتزعها بقدر ما راح يقنعني ب�أن وجودها معلقة بظهري �ش�أنٌ ٌ حتولت تدريج ًا يف قابل لالعتياد ،وقد �آلف بينها وبني حلمي حتى ُ عيادته و�صداقته �إىل عا�شق �سيامي ،تلت�صق �أقداره بظهره ،ويتجاهل وجودها متام ًا! رغم �أنها مل تكن �أول امر�أ ٍة تغ�شاين ،وال كانت هي �آخر امر�أة �أغ�شاها ،ولكن �أن تقرتب مني جداً ،حتى �أر�سم بح�ضورها �أطول علي �أن �أراها خطة يف حياتي ،ثم تبتعد فج�أة ،حتى ي�ستحيل ّ زلت و�أمل�سها ،كان حدث ًا مروع ًا بالن�سبة لرجل مثلي� ،أنا الذي ما ُ م�صاب ًا بفريو�س الندم بعد عالقتي بجورية ،ولهذا �أقنعتني بع�ض ال�شياطني النف�سية ب�أن ما حدث يل مع غالية مل يكن �إال عقاب ًا من �شعرت بالفو�ضى والك�آبة، اهلل على ما �أكلته من ثمارها املحرمة. ُ و�ضاقت احلياة يف عيني كثرياً ،حتى �صار ما بني ا�ستيقاظي ونومي، �شعرت ب�أين �أمار�س يف اليوم والليلة حالة يقظة غري �رضورية �أبداً. ُ العادات نف�سها التي يقوم بها �أي حيوان ما ،ومل �أكن �أقوم ب�أي فعل �إ�ضايف ي�شهد على �إن�سانيتي. ٌ أ�شواط غريبة من االرهاق النف�سي ،والتلك�ؤ يف العودة علي � ّ مرت ّ كنت ك�سو ًال �إىل احلياة ،و�إعادة ترتيب �ش�ؤوين الواقعية كما يجبُ . �إىل حد �أين ال �أريد �أن �أغ�سل وجهي من احلزن ،ومنغم�س ًا يف وحل من العاطفة ال �أريد �أن �أخرج منه .وكان ال�شعور الت�صاعدي بالذنب أبوي الذي مل يتعكر منذ �سنوات طويلة، لأين ت�سببت يف تعكري �صفو � ّ ُ 131
هو ما جعلني �أ�ضيق بجدران البيت ،و�أنزع �إىل ق�ضاء �أوقات خارجه، كنوع من العالج الطبيعي لهذا الذنب الأعرج الذي تركته يل غالية بعد انف�صالنا. آثم وخاطئ كان يجعلني �أنفر من البقاء داخل البيت �شعوري ب�أين � ٌ الطاهر اجلميل ،و�أنزع �إىل اخلارج ،م�ساحة الذنوب احلرة �أ�ص ً ال، حيث يجدر بي �أن �أبقى بع�ض الوقت ،حمتم ً ال �ضيق �أنفا�سي ،مثلما نتحمل البقاء يف غرف ال�ساونا ال�ضيقة. �رصت �أغيب عن الوجبات ،و�أت�أخر يف اال�ستيقاظ من النوم ،وال ُ �أرافق �أبي �إىل امل�سجد لل�صلوات اخلم�س ،وال �أرافقه مبكراً �إىل �صالة اجلمعة كما تعودنا ،بل �أذهب وحدي لأحلق �أي م�سجد مت�أخر �أدرك أ�صبحت فيه الدقائق الأخرية من ال�صالة املزدحمة و�أعود �إىل البيت� . ُ �أ�سافر حتى يف الإجازات الق�صرية كالأعياد �إىل مدن قريبة ،وكعادة يلمحا �إىل �أي عتب �أو لوم .وهذا ما ّ والدي ،مل يعرت�ضا مطلق ًا ،ومل ّ �ضاعف �شعوري بال�سلبية ،وعجزي عن الإتيان مبا يفرحهما حق ًا، ولد طيب ،و�أنهما مل يراهنا طوال حياتهما على نطفة ويخربين �أين ٌ خائبة. قررت �أن �أخ�ضع جلل�سات نف�سية. ُ جاء هذا القرار الآن وقد انتهى عهد غالية كم�ؤ�س�سة حب كبرية كنت �أعمل فيها ،وال �أدري كيف �أ�صف انتهاء عالقتنا حتديداً ،مل يكن انك�ساراً� ،أو هجران ًا� ،أو �إجباراً .كان �شيئ ًا ال تنتهي به ق�ص�ص ّ اختل حلم �ضبابي عميق، احلب عادة� ،أ�شبه ب�إفاقة مليئة بالكدر من ٍ يذوب، فيه الزمن كثرياً ،وحتولت غالية �إىل ما ي�شبه �أفق ًا من ال�شمع، ُ 132
وتتجمع قطراته حتته لتعيد بناءه من جديد ب�شكل خمتلف ،فتتكرر يف ذاكرتي ب�أمناط متجددة ال تنتهي. كنت يف الطائرة عائداً من بريوت عندما حت�سن حظي لأول مرة ُ اخرتت اجلريدة غري املعتادة ،وقر� ُأت ال�صفحة منذ وقت طويل، ُ كنت دائم ًا �أجتاوز غري املعتادة �أي�ض ًا ،ولكني و�صلت �إىل ّبر �آمنُ . ُ ال�صفحة الطبية من �أي جريدة ب�شكل تلقائي ،هذه املرة قر�أتها بعيني مري�ض .كانت اجلريدة تن�رش حتقيق ًا مو�سع ًا عن الطب النف�سي يف العامل العربي ،بني القبول والرف�ض .قر�أته كام ً و�شعرت �أين ال، ُ أجرب. �أ�ستطيع �أن � ّ بعد يومني من و�صويل �إىل الريا�ض ،بحثت يف االنرتنت ب�شكل ع�شوائي عن عيادات نف�سية يف الريا�ض ،ووقعت يف بحثي على عيادة و ّزان ،مبوقعها الأنيق يف قلب الريا�ض ،وما زال جنم حظي يف ال�سماء� ،إال �أن الأمر برمته كان يبدو يل مثل جتربة عابثة ،وحماولة وحجزت �أقرب ات�صلت بهم، ت�رض ،ومل يكن عندي ما �أخ�رسه. ُ ُ ال ّ كنت هناك ،مع موعد ممكن قبل �أن تتبخر الفكرة ،وبعد �أيام قليلةُ ، و ّزان يف مكتبه الزجاجي ذاك. ال�سباك �أخرياً ،نح�شد له كل ما ولأننا عندما نقرر �أن نح�رض ّ هو معطل ،وما نتوقع �أن يتعطل يف امل�ستقبل القريب ،م�ستغلني ح�شدت لو ّزان �أ�شياء كانت ت�ضايقني وجوده الذي لن يتكرر قريب ًا، ُ رتبت يف وقررت �أن �أطلب منه معاجلتها تدريج ًا. منذ طفولتي، ُ ُ وقررت �أن �أ�ضعها �أمامه ،وك�أين �أخترب قدرته ذهني عدة �شكاوى ُ و�سعيت �إليه يف مزيج من الالمباالة واالهتمام على لفت انتباهي، ُ 133
العادي ،ي�شبه ما نفعله عندما ن�شرتي تذكرة �سينما ،ونتجه مل�شاهدة الفيلم. ومنذ طرقاتي الأوىل على باب عيادته ،كان الف�ضح هو العنوان العري�ض جللو�سنا مع ًا يف تلك العيادة املع ّلقة مثل كرة ف�ضية يف �سقف الريا�ض ،لتطل ،ويا لل�سخرية ،على مكان غري بعيد من قت ب�رصي بها يف غرفة بيت غالية ،حيث �ألقتني النافذة التي ع ّل ُ بعيني طريق ًا ع�صبي ًا كان ي�أخذين �إليها يف أق�ص االنتظار، ُ ورحت � ُّ ّ ليالٍ قدمية. حبها يف عيادة طبيب ّ تطل على هكذا كان يجب �أن �أُعالج من ّ بيتها ،وال �أنتبه لهذه املناكفة �إال بعد �أن �صعدت �إىل العيادة فع ً ال، أملت املدينة من النافذة .ال يبدو االنكفاء الآن ،والعودة �إىل �سيارتي وت� ُ فع ً منحت احلياة ،طوع ًا ،فر�صة وعلي �أن �أحتمل فكرة �أين ال رزين ًا، ُ ّ �سخرية! ياب�س مثلي، كان و ّزان وعيادته �رضورتني مبهمتني بالن�سبة لعا�شق ٍ زلت زلت عملي ًا كما �أتذكر نف�سي قبل احلب ،وما ُ �صحيح �أين ما ُ ٌ كنت �أحتاج �إىل دافع أظن �أن عندي فر�ص ًا جيدة لل�سعادة ،ولكني ُ � ُّ خارجي ،فكرة تتكون خارج ر�أ�سي حتى �أ�ستطيع �أن �أتذوق �إثارتها، و�أمتطيها نحو �أيام خمتلفة .كل ما حاولت فعله بنف�سي ال يبدو كافي ًا، نف�سيتي تتجاوب مع �أفكاري �أنا بالذات ،وك�أين فقدت وال يبدو �أن ّ الثقة بها ،وو�سمتها باال�ضطراب والت�رسع. الكثري من القراءة ،وال�سفر ،والفراغّ ، قطر يف عيني تفا ؤ� ًال زلت غري قادر على الر�ؤية بو�ضوح ،وا�ستيعاب مغب�ش ًا ،ولكني ما ُ 134
كنت �أحتاج �إىل هذا العن�رص املختلف الذي حجم ما ُ مررت بهُ . ي�رشح يل احلالة ،ويرى الأ�شياء بحجمها الطبيعي. ورغم �أن الفكرة بدت يل موغلة يف دراميتها� ،أن �أجل�أ �إىل طبيب أمار�س حالة حب تقليدية على طريقة الأفالم الغربية، نف�سي ،وك�أين � ُ ّ وفكرت �أن لت �أن �أطرق جميع الأبواب املمكنة حلل ما، فقد ّ ُ ف�ض ُ الأمر قد يكون خمتلف ًا عما �أت�صوره ،و�إذا مل تنجح ،فلتكن نكتة �سوداء �أ�ضيفها �إىل ق�صتي البطيئة ،و�أ�ضحك وحدي. قررت �أن �أكون هنا ،و�ألتقي و ّزان ،وقرر هو يف ما بعد هكذا ُ �أن ي�صبح �صديقي ،وما بني القرارين ،كانت حياتي ب�أكملها معر�ضة للف�ضح ،وو ّزان يفرغ جيوبي من كل الأدوات التي ميكن �أن �أحاول بها الكتمان� ،أو االنتحار �صمت ًا .واحلقيقة �أنه غيرّ الكثري من خارطة ت�صوراتي عن اجلل�سات النف�سية ،و�أريكة الرثثرة ،وال�ساقني املمتدتني، وال�ضجعة املهينة تلك. وجل�ست على ذلك املقعد اجللدي عندما اقرتبت من و�سط مكتبه، ُ بدوت متملم ً ال منذ الدقيقة الأوىل ،ويف الأنيق ،الكال�سيكي الطابع. ُ انتظار �أن يرميني ب�أ�سئلته املتوقعة :مم ت�شكو؟ وماذا حدث؟ وبقية الأ�سئلة التي تنحتني مثل �أزاميل روتينية ،مهي�أة ،ومعتادة ممار�سة النوع نف�سه من التق�صي مع كل مري�ض .ولكن ،على خالف ذلك ال�س�ؤال الذي توقعته ،ومللته قبل �أن �أ�سمعه� ،س�ألني و ّزان عن نوع القهوة التي أف�ضل ،وحاملا �أخربته ،فوجئت به يتجه نحو ركن �صغري من مكتبه، � ّ جمهز بكل �أدوات حت�ضري القهوة ،ثم راح ين�شغل ب�صنعها بنف�سه، داخل مكتبه ،منتزع ًا من داخلي ،بكل ا�ستحقاق ،اعرتاف ًا �صغرياً 135
و�شعرت بانعكا�س هذا الت�رصف على راحتي وهدوئي بالطم�أنينة. ُ و�شعوري بالألفة� .أو لنقل ،جناتي من حماولة ت�أطري ذات طابع معني، ميار�سها و ّزان مع جميع املر�ضى. الوقت �صباح ًا ،ونافذة مكتبه الغربية ال ينفذ منها الكثري كان ُ أملت كل زوايا املكتب لع ّلي �أجد �شيئ ًا ّ يدل على �أنها من ال�ضوء ،ت� ُ عيادة طبيب نف�سي� ،أو �أن هذا ال�شاب يحاول �أن يبدو خمتلف ًا .مل كنت �أكن متحم�س ًا للدخول يف �أي ٍّ حتد حمتمل مع نزعته لالختالفُ . حمتاج ًا �إليه� ،إىل �أي فكرة ميكن �أن يلقيها يف طريقي لأ�شعر ب�أين ٌ رجل �أف�ضل حا ًال مما �أنا عليه ،و�أحتاج �إىل �شعاع �صاف من الن�سيان يكن�س كل الزجاج املك�سور يف داخلي ،والذي يلتمع ،ويعك�س �أ�ضواء مررت بذكرى �شديدة الت�شبث ب�أ�شيائها. مزعجة كلما ُ ك�أن الريا�ض ،عندما بد� ُأت احلب ،كانت �صفحة من الطني ّعت فوقه بكل ب�صماتي ،و�أخطائي ،و�أ�سمائي، الالزب ،و�أنا وق ُ ورغباتي ،وحاجاتي العاطفية ،ثم جاءت ال�شم�س لتجفّف هذا الطني الكثري ،وحتفظ �آثاري فوقه �إىل الأبد ،وحتيل الريا�ض برمتها، ت�شهد �ضدي على كل ما فعلته ،وتذكرين به ،يف �إىل منحوتة هائلة، ُ ال�شوارع ،والأزقة ،والفنادق ،واملطاعم ،وال�سيارات. كنت �أعانيه ،وهذا ما مطرقة �ضخمة من التذكر القا�سي .هذا ما ُ كنت �أريده باخت�صار �أن ّ يعطل قدرتي � ُ أردت �أن يركز و ّزان عليهُ . على تذكر التفا�صيل الط ّنانة التي متزق يومي ،وجتعلني �أ�رشب حرب دمت م�ضطراً الك�آبة ب�شهوة مري�ضة ،حتى يلوث فمي وكلماتي .فما ُ توحدت كثرياً ،فال بد للبقاء يف الريا�ض ،وما �شاءت يل روحي التي ّ 136
ال�شبحي املتوح�ش من العالج �إذن ،وال ميكن �أن �أ�ست�سلم لهذا احلب ّ �إىل الأبد. يعد القهوة باهتمام �شديد ،بينما ا�ستمرت عيناي يف ما زال و ّزان ّ الحظت خلط ًا ديكوري ًا وا�ضح ًا بني الطرازين م�سح املكان بهدوء. ُ ميد عليه الإجنليزي والأمريكي .مل �أجد ذلك الكر�سي ال�شهري الذي ُّ ّ املر�ضى �أقدامهم ويرحلون يف الكالم .كان هناك مقعدان جلديان أجل�س على �أحدهما ،والآخر يقابله بزاوية مريحة ،وبينهما �أنيقانُ � ، طاولة �صغرية ،ينت�صب فوقها ٌ متثال من الربونز بال ر�أ�س. ألت و ّزان �س�ؤا ًال عابث ًا ،وهو يجتهد “ملاذا التمثال بال ر�أ�س؟”� ،س� ُ يف جتهيز كوب القهوة� .صمت قلي ً غائب يف ذلك الركن، ال وهو ٌ فبقيت �أراقبه ّ لعل رداً ي�أتي من هناك، حتى تخيلت �أنه مل ي�سمعني، ُ ولكنه عاد بنف�سه ،حام ً ال كوبني يت�صاعد منهما البخار والرائحة النفاذة لقهوة ال�شك �أنها جيدة كما �أخربين �أنفي ،وجل�س على املقعد ومد يل �أكيا�س ال�سكر ال�صغرية ،وملعقة ،ثم قال “ال �أ�ستطيع املقابلّ ، أقدم لك الإجابة التي حقيقة �أن �أجيبك ،الوقت مبكر جداً على �أن � ّ ٌ تنا�سب مزاجك!” – هل يزعجك ف�ضويل �إذا �س�ألتك �أن متنحني كل الإجابات املمكنة؟ – مطلق ًا ابت�سمت بهدوء ،و�أنا �أقول له: ُ – �أو رمبا تعترب هذا ك�شف ًا مبكراً لأوراقك؟ – مطلق ًا مطلق ًا ،احلقيقة �أين مل �أفكر يف هذه الأوراق بعد! 137
– ّ فكر الآن� ،س�أنتظر. ال ،ودعك جبينه مفتع ً �أطلق و ّزان ابت�سامة مرحة ،ثم �أطرق قلي ً ال التفكري قبل �أن يجيب: – ح�سن ًا� ،أ�ستطيع �أن �أجيبك على اعتبار �أنك مري�ض حمبط (لأنه ال يحتاج �إىل ر�أ�س يف عامل م�سيرّ كهذا) ،رمبا �إجابة �أخرى على اعتبار �أنك مري�ض ع�صبي (لأنه فقد ر�أ�سه يف �إحدى نزوات الفنان الذي �صنعه). – هل هذه �إجابات كانت جاهزة من قبل؟ – �أبداً� ،أبداً. ثم �أردف بعد قليل: – ال ميكن �أن تكون �إجابات جاهزة ل�سبب ب�سيط ،لأنه ما من �أحد قبلك �أبدى اهتمام ًا بر�أ�س متثال �صغري من الربونز! – جميل. – ما هو اجلميل؟ اهتمامك بالنحت؟ �سجل هذا يف مالحظاتك. – ال� ،أنا ال �أتباهى باهتماماتيّ . – ما اجلميل �إذن؟ فكرت وقتذاك �أن و ّزان ،الطبيب النف�سي ،ال يرتك الإجابات ُ العابرة يف و�سط الكالم من دون �أن يالحقها ،ويتحقق من هويتها، وهو ي�رص على معرفة ما ر�أيته جمي ً ال بالتحديد ،رغم �أنها قد ال تكون �أكرث من كلمة جماملة �صغرية ،ولكنه ا�ستغلها ليعك�س تيار الأ�سئلة باجتاهي. �أجبته بارتياح: 138
– اجلميل �أن �أجدك �شخ�ص ًا متلك �إجابات متعددة. – ا�سمح يل �أن �أ�س�ألك الآن ،كجزء من اجلل�سة� ،أي الإجابات تروقك؟ – ب�رصاحة ،كل �إجابة على حدة مل تكن لرتوقني ،ولكن عندما �شعرت بجمالية معينة. �سمعتها جمتمعة ،ومتتابعة، ُ �أطلق و ّزان ابت�سام ًة �أخرى ،وبدا ك�أنه �سيقطع احلوار حول التمثال ،وهذا ما حدث: – ماذا عن قهوتك ،كيف جتدها؟ – ممتازة� ،شكراً لأنك �صنعتها بنف�سك. تعلمت – العفو ،عندي يف العيادة عامل يح�رض القهوة ،ولكني ُ هذا الت�رصف من �أحد �أ�ساتذتي الأمريكيني. ملوح ًا بابت�سامة ،ثم �س�ألني وزان: �أوم� ُأت بر�أ�سي ّ – باملنا�سبة� ،إىل �أين ت�سافر غالب ًا؟ – بريوت. – ماذا تفعل هناك؟ – �أ�ستجم� ،أ�سرتخي .ق�ضيت جزءاً من طفولتي يف بريوت قبل احلرب. – وكيف ق�ضيت وقتك هذه املرة؟ كنت حزين ًا ،فلم �أ�ستمتع باملدينة التي ولدت فيها، – هذه املرة ُ كما تعودت. – وماذا تفعل �إذا كنت حزين ًا يف بريوت؟ �صمت قلي ً ال لأفكر يف �س�ؤاله ،ثم �أجبت: ُّ 139
اخرتعت �أحزان ًا جديدة. – �أعتقد �أين هذه املرة ُ – غريب تعبريك .كيف عرفت �أنك اخرتعت �أحزان ًا جديدة؟ – قبل �أن �أذهب �إىل هناك ،تعر�ضت حلادث عاطفي كبري، �شعرت ب�أين �أكرث حزن ًا مما �أتذكره وحزنت .وهذه املرة يف بريوت، ُ عند ال�صدمة. – ماذا كانت ال�صدمة؟ باخت�صار طبع ًا ،لأننا �سنعود �إليها الحق ًا بالتف�صيل. – انف�صلت عن زوجتي ،بعد �أ�سبوع من الزواج.
140
V و�صلت هذه الليلة �إىل مزرعة وزان و�أمين يف الدرعية ،فتح باب عندما ُ �صوام ،وابت�سم يل وه ّز ر�أ�سه كثرياً ،وافتعل �سيارتي اخلاد ُم اللطيفّ ، حفاوة �ساذجة وك�أنه ال يراين هنا يف كل يوم من �أيام الأ�سبوع تقريب ًا، ويف التوقيت نف�سه. فطلبت منه �أن يح�رض يل كنت قد و�صلت قبلهما كالعادة، ُ ُ كمبيوتري املتنقل من حقيبة ال�سيارة .هرع م�صطنع ًا رك�ض ًا خفيف ًا لي�س �أ�رسع من امل�شي العادي ب�أي حال ،ولكن بقدر ما تتيحه له عظام حو�ضه املهرتئة ،وعاد وهو يحمله بحر�ص ،ثم و�ضعه �أمامي ،و�أعاد �إيل مفتاح ال�سيارة ،وراح يتكلم باهتمام مفتعل. – �أنا �أحب القراءة يا �أ�ستاذ ح�سان ،در�ست حتى الإعدادية. ولكن عندي كتب ًا يف م�رص. الظروف مل ت�ساعدين، ّ �صوام؟ – �أي كتب يا ّ بدا �س�ؤايل مفاجئ ًا له ،ولكنه �أجاب من دون �أن يتلعثم: – نا�س كثري ،اهلل يرحمهم. – العقّاد مث ً ال؟ طه ح�سني؟ 141
– �أيوه العقاد ،وطه احل�سني ،وال�شعراوي. – جميل ،وماذا تقر أ� هنا؟ وجل�س يف جواري جل�سة متوا�ضعة ،وك�أمنا �أراد �أن يغتنم الوقت النادر الذي �أ�صل فيه قبل و�صول ر�ؤ�سائه و�أوامرهم ليم�ضي يف م�رشوع توثيق عالقته بي. – هنا ال�شغل كتري يا �أ�ستاذ ح�سان ،و�أنا تعبان زي ما انت عارف. �صوام. – اهلل يعينك يا ّ – الكتب التي ر�أيتها يف �سيارتك كثرية� ،أنت مثقف ،ما �شاء اهلل عليك يا �أ�ستاذ ح�سان .تقر�أ يف كل �شيء. – �أي كتب يا �صوام ،كلها كتاب واحد. – ال واهلل كتب كثرية يابيه! – �أق�صد يا �صوام �أن كلها ن�سخ متعددة من كتاب واحد. – وليه؟ �صوام� ،أنا الذي كتبته. – لأنه كتابي يا ّ عاد بر�أ�سه فج�أة �إىل الوراء ،وات�سعت عيناه بده�شة و�إعجاب كبريين ،وقال: – يا ما�شاء اهلل ،تبارك اهلل� .أنت واهلل حاجه كبرية يا �أ�ستاذ ح�سان! ابت�سمت و�أنا �أقوم بت�شغيل �صوام يتكلم كما يف الأفالم. ُ وبد أ� ّ الكمبيوتر ،وانتظار �إ�شارة ال�شبكة ،وبد�أت فعلي ًا يف مطالعة بريدي االلكرتوين� ،أنقل ب�رصي �إليه بني وهلة و�أخرى ،و�أومئ له عالمة 142
الإ�صغاء ،لعله ينهي احلوار الذي ميكنني بب�ساطة �أن �أتنب أ� بكل جمله وردوده ،ولكنه بدا متم�سك ًا بهذا احلوار املفتعل ،و�أنا غري قادر على مقاومة االبت�سام امل�ستمر. �صوام باهتمام: �س�ألني ّ – وبتكتب ايه يا �أ�ستاذ ح�سان؟ كتبت رواية. – ُ – ما �شاء اهلل ،زي جنيب حمفوظ يعني؟ ابت�سمت لعملية الت�صنيف الب�سيطة الناجحة التي قام بها ،و�أجب ُته ُ فوراً: �صوام ،زي جنيب حمفوظ. – بال�ضبط يا ّ – ما �شاء اهلل! ما �شاء اهلل! �صوام. – لكن جنيب حمفوظ �أف�ضل بكثري طبع ًا يا ّ – لكن �أنت فيك الربكة بر�ضه يا �أ�ستاذ ح�سان. – �شكراً لك. – ممكن ح�رضتك بعد �إذنك طلب ب�سيط� ،أ�ستعري ن�سخة منها، �أقر�أها ،و�أرجعها. �صوام طبع ًا ،خذ الن�سخة لك ،ال داعي لأن تعيدها. – طب ًعا يا ّ ناولته املفتاح ،فهرع �إىل ال�سيارة مرة �أخرى ،وراقبته بهدوء ،وهو يقطع املمر املر�صوف بحجر يتخلله الع�شب ،ويتجه مبا�رشة نحو �سيارتي التي ال �أدري ملاذا طر�أ يل وقتذاك و�أنا �أت�أملها من اخللف� ،أنها ال�سن ،و�أين �أ�ستحق �سيارة جديدة؟ ّ تقدمت يف ّ هذا املجل�س يجعلني دائم ًا �أفكر يف تغيريات كثرية ،ها هي 143
�سيارتي وقعت �أخرياً �ضحية لهذا التحري�ض الذي يثريه املكان ،وقبله قائمة من احلاالت ،والعادات ،و�أ�شياء �أخرى .حتى �أظفاري يطر أ� يل �أحيان ًا �أنها حتتاج �إىل تق�صري و�أنا �أقبع يف ركني املعتاد ،لأدخل جد ًال معتاداً مع �أمين حول تقليم الأظفار �أمام الآخرين ،و�إذا ما كان فع ً ال مقبو ًال ،وهو ال يراه كذلك ،وو ّزان ال يبايل ،و�أنا ال يعنيني كثرياً تذمر دمت �أجمع عورة �أظفاري يف منديل �صغري يف نهاية �أمين املفتعل ،ما ُ النتهيت تركت لأمين مهمة توجيهي ذوقي ًا، املطاف ،لأين �أعلم �أين لو ُ ُ ب�سل�سلة طويلة من العادات الذوقية ال�صغرية غري املجدية ،واحلياة ال تكافئ كثرياً هذا اللطف الزائد. يحدث القليل من املختلف يف هذا املجل�س الثالثي الذي يفي�ض فيه الكالم ،و ُيق�ضى فيه ن�سبي ًا على �أوقات م�ؤذية من �أوقات الريا�ض، آمنت منذ �سنوات ب�أن املدينة ال ميكن تفاديها �إال يف مكان ي�شبه هذاُ � . �إذا حتالفت مع ال�صحراء ،فلن يدفع �رضيبة هذا احللف املريب �إال �ساكنوها الذين تخد�شهم الريح اجلافة منذ الأزل ،ولهذا ف�إن جمل�س املزرعة مل يكن ذريعة لتزجية الوقت ،بقدر ما كان حماولة لتجنب اخلدو�ش غري ال�رضورية يف اخلارج. والريا�ض التي تتمتع بقدر ال ب�أ�س به من حذق ال�صحراء وخبث املدن ،حتتاج �إىل حذق مثله حتى نتكاف�أ معها يف جدل احلياة اليومي، و�سكنى املدينة ال�صعبة .فاحلياة فيها ت�شبه حالة �شطرجن نف�سية م�ستمرة وحتمل ما تفرزه من نفايات ب�شكل يومي ،ملقارعة �ضجيج املدينة، ّ الكدر ،وال�ضيق ،ككل املدن الكبرية التي تن�ش أ� ع�شوائي ًا يف و�سط ال�صحراء. 144
آمن ُ ليل هذا املجل�س الذي �أحبه ،بقدر ما هو النهار وبقدر ما هو � ٌ �شاحب وال يعجبني� .صحيح �أن للدرعية لكنة خمتلفة يف لغة فيه ٌ النهار ،متيز بها نف�سها عن نهار جارتها الكبرية ،كما هي مهمة كل ال�ضواحي الطيبة� ،إال �أنها تظل على قدر من ال�شظف غري طفيف ،وال ت�ستطيع التخل�ص منه مهما عال نخيلها ،وهو ما �أ�شعر به �أنا �أكرث من غريي. يف ال�صباح متتنع النخالت عن الكالم ،و�أ�شعر ب�صمتها املتعمد، وك�أنها حالة خا�صة من اليوغا ،تركز فيها جهدها على اال�ستطالة، لعلها تب�رص �آفاق ًا �أبعد� .أما بعد الظهرية ،فتتنهد جميع ًا بعد �أن تفرغ من طقو�سها ال�صوفية املرهقة ،وذلك هو �أ�سو أ� �أوقاتي فيها على الإطالق، عندما تتنهد مئات النخالت دفعة واحدة ،يف وجهي. أحبذ املجيء �إىل هنا يف �أوقات نهارية� ،إال �إذا ولهذا مل �أكن � ّ ا�ضطرتني ظروف اجل�سد .عندئذ يكون هذا ا�ضطراراً ع�صبي ًا له مربراته التي جتعلني �أجتاهل تعا�سته ،فت�أتيني هذه التعا�سة تدريج ًا، من دون ح�سبان .وعندما �أ�ست�أذن و ّزان �أو �أمين ملقابلة امر�أة حرمتني لقاءها عيون املدينة و�آذانها� ،أجدهما غري مباليني با�ستئذاين ،ولهذا �رصت �أحيان ًا �أجته �إىل املزرعة مبا�رشة ،ب�صحبة �أي امر�أة ممكنة ،دون �أن ُ ٌ ملدوغ من الن�ساء مرتني ،ك�أ�سو أ� امل�ؤمنني� ،إال �أين �أ�ست�أذنهما ،رغم �أين �أ�ؤمن �أن البد من ح�ضور امر�أة ما دائم ًا ،متنحني وهم ًا �رضوري ًا بوفرة الن�ساء ،و�سخافة البكاء على �إحداهن. رمبا كان ال�سبب يف تعا�سة املكان نهاراً هو �أنه ّ ظل �شاهداً على حماوالتي الدائبة لك�رس الطوق ،و�إعادة توجيه املر�أة يف حياتي يف 145
أن�ش َبت جورية وغالية �أظفارهما يف ب�ؤرة ج�سدية مرة �أخرى ،بعد �أن � َ وخد�شتاها حتى اختلفت املالمح تقريب ًا. البقعة الطرية من روحي، ّ كدت �أموت فع ً ال لو مل �أت�رصف بوحي هذه ورغم �أنهما طيبتان ،فقد ُ الفل�سفة. جممل معادالتي مع املر�أة انتهت بي �إىل �أربع نتائج حمدودة� :إما �أن �أ�ستمر يف االنحبا�س حتت قعر ذنوبي مع جورية� ،أو �أن �أذوب تدريج ًا من البكاء على رحيل غالية الذي ف ّتت قلبي بعد �أن تزوجنا فع ً ال، �أو �أن �أع�شق امر�أة جديدة بحث ًا عن �أمل منافق �آخر� ،أو ،وهو اخليار أحرم احلب على قلبي ،تارك ًا جل�سدي �أن يعبث ح�سب الأخري� ،أن � ّ ظروفه وحظوظه. ولأنها كانت معادالت لعينة �أ�ص ً ال ،مل يكن من املمكن �أن تفرز نتائج �أكرث بركة من هذه .لي�س بيدي حيلة على �أي حال ،وال �أظن �أن �أحداً ي�ستطيع تف�صيل جتاربه يف احلياة كما ي�شتهيها حتى تنتهي به �إىل نتائج يتفق عليها القلب واجل�سد ،ويباركها ال�ضمري ،ويوافق عليها النا�س ،وال �أ�ستطيع �أن �أختار لنف�سي حاالت من احلب جتعلني �أنتهي نقي ًا ووا�ضح ًا مثل �أحالم ال�ضوء. ال جمي ً ل�ست �أدري �أية حالة �ستجعلني �أبدو نبي ً ال يف عيونهن .ال ُ �أظن �أن �أي احلاالت �ستخولني ذلك� .أ ّي ًا يكن ،يبدو �أن ورقة النبل احرتقت فع ً ال ،وال جدوى من حماولة �إحيائها ،ومن احلماقة �أن �أحرتق وراءها ،وال خيار �أمامي يف مدينة حمدودة اخليارات كهذه، �إال ما �أفعله الآن ،دون �أن �أنقلب على نف�سي انقالب ًا ال �أ�ستطيع توقع أحتمل قلي ً ال من تعا�سة اختيار �أوقات غري الئقة نتائجه. وعلي �أن � ّ ّ 146
للجن�س يف مزرعة �شمالية ،ونهاراً. النبل دائم ًا حالة قابلة لإعادة املمار�سة ،مثل بقية الأخالق ،ولهذا �أنا مرنٌ جداً يف خلعه ولب�سه مرة �أخرى كما تقت�ضي احلاجة ،ما اقتنعت �أخرياً ب�أن الأمل الذي �أ�شعر به وحدي� ،س�أظل �أ�شعر دمت قد ُ ُ جمهور من املتعاطفني كما يحدث به وحدي ،ولن ي�شاركني فيه ٌ مع �أبطال الأفالم ال�سينمائية .فال �أحد يف الدنيا يراقبني عرب �شا�شة كبرية جتعل الأ�شياء جميلة مثل �شا�شات ال�سينما ،وتنقل ما يحدث يف الركن احلزين ،والوحدة الناه�شة .وال ت�أتي الأحداث مدرو�سة �سلف ًا كما يفعلون� .إنني �أت�رصف يف املجهول ،و�أمار�س حياتي يف عدم ال امل�شاهد ،و�أنا كنت �أنا ي�شعر به � ٌ ِ أحد �سواي ،فما جدوى النبل هنا �إذا ُ امل�شهد؟ ال توجد رائح ٌة تفوح من اجلبني تخرب الن�ساء �أين نبيل ،و�أ�ستحق الو�صال ،ولهذا ال يعنيني الأمر منذ �سنوات .ال يوجد ٌ فرق بني امر�أة ت�أتي من �أجل النبل ،وامر�أة ت�أتي لغريه ،ما دامت متار�س معي ال�ش�ؤون اجل�سدية نف�سها يف النهاية ،بل �إن الأخرية ت�ستطيع �أن تكلم ج�سدي ب�شكل �أف�صح ،من دون �أن تتلعثم ب�أخالقها املفرت�ضة. عرفت تدريج ًا �أن اجل�سد حالة فيزيائية ،بينما الأخالق حالة ُ معنوية .ولهذا ،ال يبدو �أنّ لأحدهما �ش�أن ًا بالآخر ،وال ي�ؤدي اخللط بينهما �إال �إىل �سل�سلة من �آالم الب�رش ،وتعا�ستهم الدائرية املتكررة ،وما دمت ال �أ�ؤذي �أحداً ،وال �أنزل حتت م�ستوى احلد الأدنى للتعاي�ش ُ ال�سلمي مع النا�س ،فماذا يزعج الكون عندما �أعقد �صفقة ج�سدية يغمر الر�ضا طرفيها ،ونعود منها بج�سدين �صغرية مع امر�أة ما؟ ُ 147
طيبني ،هادئني ،و�أقدر على احلياد يف ممار�سة احلياة بعد ذلك؟ هذه املزرعة مكانٌ جيد لفل�سفة كهذه ،لطوق طهارة مك�سور، وللنبل امل�شكوك يف جدواه ،ال�سيما بعد الظهرية هنا ،عندما ُ متيل ال�شم�س بزاوية ملعونة يف الغرب ،وتقدح �أ�سو�أ �أ�شعتها على وقت للجن�س الإطالق ،وتفوح الأر�ض بحرارة الفحة .هل هذا ٌ وقت �أكرث ما يليق بنكاح القطط ،وعربدة الأنيق؟ بدا يل �آنذاك �أنه ٌ الغبار ،وب�إمياءات النخيل بع�ضه �إىل بع�ض �إمياءات ك�سلى ال �أفهمها. ولكن لي�س من خيار ،وال بد من ترتيب الأمور ح�سب �أولويتها، وجدواها ،و�إمكانيتها. �أعرتف ،معانداً كل رغباتي يف ادعاء غري ذلك� ،أن جميع الن�ساء أمعنت يف االت�صال بهن، اللواتي تعرفت �إليهن بعد جورية وغالية ،و� ُ ُ علي، يكن �إال ّ مل َّ مق�شات قوية متعاقبة تكن�س بقية الركام الذي تركتاه ّ ومل تفلح يف كن�سه �أي كتابة ع�شوائية فعل ُتها على �أمل� ،أو �أي طبيب نف�سي ،كو ّزان ،جل� ُأت �إليه ذات ي�أ�س .و�أعرتف �أي�ض ًا ،ب�أنهن كن غالب ًا �إما خاويات كما ميكن افرتا�ضه يف ن�ساء ي�ستجنب ب�سهولة لأي م�ؤثر ج�سدي� ،أو عابثات ،ويف العبث حكمة بالغة �أحيان ًا� ،أو خارجات من جتربة مريرة كتجربتي ،بالنتائج نف�سها ،ومبوازين جديدة للطهارة، والنبل وبقية الرتو�ش الأخالقية. وال فرق عندي تقريب ًا ،فجميعهن( :اخلاويات ،والعابثات، واحلكيمات ،واملجربات) ،لهن �أج�ساد مت�شابهة يف النهاية ،وهذا ما يعنيني� .أولئك الن�ساء اللواتي كن �أج�ساداً حم�ضة ،و�إغواءات حمددة الهدف ،ك�رسن طوقي بالفعل ،وجنحن ب�شكل ا�ستثنائي يف جعلي 148
�أتوقف عن البكاء �أخرياً ،و�أقف من جديد متزن ًا على ج�سد وروح ال يجور �أحدهما على الآخر ،وتركن املكان نظيف ًا لوهلة� ،أو �شبه نظيف. هكذا يعرتف القلب عندما يكون منهك ًا �إىل حد الأنانية ،وهكذا ينتف�ض اجل�سد رافع ًا قائمة باحللول املمكنة ،الواقعية .مل �أكن ،كما يبدو من ت�رصيف� ،أفكر يف �أي انتقام .ومن الغباء �أن �أنتقم من امر�أة راحلة مبمار�سة �أمر لن تعلم به ،ولن ي�صلها نب�أه ،ومل يكن فعل االنتقام ممكن ًا �أ�ص ً ال ما دامت غالية قد غادرت ،وهي �أكرث انك�ساراً دمت باقي ًا على و�أمل ًا مني ،نحو حياة �أق�سى ،وم�صري �أ�صعب ،وما ُ يقيني ب�صعوبة ان�سجامي مع اجلورية مهما طال غيابها ،مما يلغي احتماالت الندم. كنت �أفكر فيه ،بال ّنيات �أخرى ،هو �أن �أعيد ت�أهيل عاطفتي كل ما ُ لتكون �أكرث فعالية ،و�صالحية ملدينة كالريا�ض. وكالغيم الذي يقطع �سماء املزرعة على عجل ،قطع ًا �صغرية، ومرات عجلى ،جاءت �أكرث من امر�أة من�سية �سلف ًا �إىل هذه املزرعة، ّ وجال�ستني عدة مرات ،و�أحيان ًا كان مقام ظهريتنا يطول حتى امل�ساء، ويدركنا �أمين �أو و ّزان .مل �أكن �أفكر يف �أبعد من عالقات كهذه ،مما جعل �أمين يغمزين ذات يوم ب�إ�شارة ت�شبه العهر الرجايل“ ،هل يدفعن لك؟” ،كان م�ضحك ًا يف ذلك الغمز ،وم�ؤمل ًا �أي�ض ًا ،فلم تكن هذه حالة �أتخيلها لنف�سي قط. ولكن �أمين ،يف احلقيقة ،كان ينت�شي بي ك�صديق وهو يراين وي�رسه م�شتت ًا هكذا ،مما يجعل من امل�ستبعد �أن �أنزلق يف �أمل جديد، ّ 149
كنت �أدرى �أن يطمئن �إىل قلبي الأعرج بني احلني واحلني� ،إال �أين ُ منه بنف�سي ،ولذلك مل �أفكر يف حب �آخر ،وال يف زواج م�صطنع، ما دامت هناك دائم ًا امر�أ ٌة ما ،تطعم ج�سدي �إذ يجوع ،وتك�سو جلدي �إذ يعرى.
**** كان ال�شقيقان يرفعان عنهما وعثاء املدينة يف هذه املزرعة ،على مقربة ياع �أنيقة من جثة التاريخ النائمة يف الدرعية ،وقد نمَ َ ْت فوق قربه ِ�ض ٌ لأغنياء املدينة ك�أبيهما ،ومزارع تتجاور بع�ضها بع�ض ًا ،بينما تطوي كل منها �أ�رسارها ال�صامتة ،وترفها الهادئ ،ورائحة النخيل ال ت�شهد على �شيء ،وتختزن يف داخلها الكالم ،والأ�سماء ،واللحظات، و�أجزاء الليل ،وبزوغ ال�شم�س ال�ساخر ،وتزداد طو ًال ،ويحرتق بع�ضها واقف ًا ،وتنك�رس ر�ؤو�سها بال �صوت. ويف هذا اجلزء من املزرعة ،ينت�صب بناءان �أنيقان من احلجر الأحمر ،مل يكونا موجودين قبل �أن يعود و ّزان من �أمريكا منذ عدة �سنوات ،ويقرر �أن يو ّدع ُ�سمنته �إىل الأبد .كان وزنه يزيد على مائة وع�رشين كيلوغرام ًا ،ومل �أكن �أعرفه �آنذاك� .أخربين �أنه منذ عودته، �أ�صيب بخيبته املتوقعة يف الريا�ض ،كما هم العائدون بعد �سنوات من الإقامة يف املدن احليوية ،فقرر �أن يق�ضي معظم وقته يف مزرعة �أبيه املرتفة هذه ،خمتلي ًا ب�أوراقه و�أبحاثه ،وهواياته القليلة ،وال�سباحة التي �أعادت �إىل ج�سده الوزن الطبيعي الذي �سعى �إليه. 150
كان البناءان ال�صغريان م�سقوفني ب�صفوف مت�ساوية من القرميد الأكرث دكنة من احمرار الطالء ،والنوافذ الكبرية ق ّل�صت م�ساحة اجلدران �إىل �أقل من الن�صف ،ويحويان ثالث غرف للنوم ،وجمل�سني �صغريين ،وفنا ًء �صغرياً مرتفع ًا ّ يطل على �رشق املزرعة ،حيث يرتاءى نخيلها البعيد يف منت�صف الدرعية ،واقف ًا يف �صف منت�صب ،ك�أنه فريق من حمامي التاريخ. تزوج و ّزان قبل �سنة ون�صف ال�سنة ،ومل يوفق .قال لزوجته يوم ًا على م�سمع مني ،يف مطعم كبري تناولنا فيه غداءنا مع ًا يف الريا�ض “الأحالم طيور بطريق يا زوجتي العزيزة ،مت�شي بغباء ،وال ميكن �أن تطري البتة ،فال تثقي مبخلوقات كهذه” ،و�أتذكر �أنه �أعاد العبارة �شممت رائحة حنق مل �أعتده منه، مر ًة �أخرى على غري عادته ،ومنها ُ وت�أففت هيفاء من ذلك بزمة مق�صودة من �شفتيها املطليتني بعناية �شعرت ب�أن وجودي معهما كان جزءاً من فائقة ،ومل تكمل النقا�ش. ُ ال يل ولها �أن ي�سدد وزان �إليها كالم ًا ثقي ً حنقها ،وكان خمج ً ال كهذا يف ح�ضوري ،ف�أكملنا طعامنا يف �صمت. مل �أكن مرتاح ًا من الأ�صل لفكرة �أن �أجل�س مع زوجته ،لي�ست تلك من اجتماعيات املدينة املعتادة ،ولكن ال مي�ضي يوم من دون �أن عرفني ب�أمين، يقربني و ّزان منه �أكرث ،حتى �أدخلني يف ن�سغ عائلتهّ . تعودت ذلك ،وها �أنا الآن ثم �أ�صبح يدعوين مراراً �إىل املزرعة حتى ُ حم�شور �أجل�س معه ب�صحبة زوجته يف �إحدى الريا�ض� ،أ�شعر ب�أين ٌ بينهما ب�شكل مزعج .ماذا يفعل ٌ رجل واحد بني زوجني يف مطعم؟ �أظن �أنها ظلت مت�شي وراء بطارقها حتى �سقطت وراءها يف 151
املاء ،ومل يحتمل و ّزان عقلها املبلول ،فانف�صال بعد �شهرين من تلك العبارة ،ال �أكرث ،رغم �أنه مل يكن زواج ًا مرتب ًا كعامة النا�س ،بل ختام ًا لعالقة جيدة ،ومنفتحة ،جمعتهما مع ًا لأ�شهر طويلة ،منذ �أن التقيا يف �أمريكا ،حتى عادا مع ًا �إىل الريا�ض .قال يل و ّزان بعد طالقه بفرتة زمنية كافية لأن يخرج من فو�ضى القرار ،ويرتب �ش�ؤونه اخللفية تلك يف �أماكنها املنا�سبة “وا�ضح �أنها تبي الدنيا!”... – ومن ال يريد الدنيا يا و ّزان؟ – �صحيح ،ولكنها كانت �صفيقة! غمزته مبت�سم ًا. – تعي�ش وتاخذ غريها! – طبع ًا� ،س�أ�ستمر يف نظرية (التجربة واخلط�أ) حتى �أح�صل على زوجة �سليمة! – �أو على الأقل قابلة للتعديل ،مبا �أنك طبيب نف�سي. – ال� ،صدقني ،كل ما در�سته يف �أمريكا غري قابل للتطبيق على ال�سعوديات .بل �إين �رصت �أخاف على �صحتي النف�سية منهن. و�أ�ضحك من ذلك ،رغم �أين �أعرف �أن و ّزان ال يعني ذلك ،وما زالت يف قلبه جذوة وطنية خ�رضاء ال �أدري ما الذي يغذيها ،عك�س �شقيقه الأ�صغر الذي �أكاد �أرى يف وجهه تذكرة �سفر جاهزة كلما ويتذمر كثرياً من كل ما يراه هنا ،من ن�رشة �أخبار القناة نظرت �إليه، ّ الأوىل ،حتى �أعمال احلفر يف ال�شوارع التي دفعتنا �أخرياً �إىل �أن ن�سلك طريق ًا فرعي ًا �إىل املزرعة ،مليئ ًا باحلفر املختبئة حتت الظلمة. هذا ال�صديق الطبيب الذي مل يح�سم �أمره معي بعد ،يحاول �أحيان ًا 152
�أن يقنعني ب�أين مري�ض ،و�أحيان ًا �أخرى يقنعني بالعك�س .قال يل مرة ونحن يف مطار الريا�ض ،عائدان من م�ؤمتر طبي كان يح�رضه يف ارتكبت معك خط�أً طبي ًا النم�سا ،ورافقته هناك عدة �أيام�“ ،أظنني ُ ما ،مثلك يجب �أ ّال ي�شفى �أ�ص ً ال” ،هذا ما عاد به بعد �أن تركته �أ�شهراً طويلة يفح�ص روحي الواهنة ،املليئة بجثث البطارق ،وهياكلها امل�شوهة. العظمية ّ وبطيئ ًا مثل �أطباء البدو ،بد أ� يف تنظيفي ،ويف منت�صف الطريق قال “�أنت ال تريد �أن ت�ستجيب!” ،وقلت له من دون مالمح “و�أنت ال تريد �أن مت ّلني ،كيف ميكنك �أن تكن�س ال�صحراء من الرمال يا و ّزان؟” .ولكنه ا�ستطاع كن�س ال�صحراء كما يبدو ،وال �أدري هل كانت �صداقته� ،أم �شهادته ،هي التي �ساعدتني �أكرث ،ف�أنا ال �أتذكر �أين التقيته يف عيادته تلك �أكرث من مرات قليلة ،ثم �أ�صبحت هذه املزرعة تداركت ال�شمالية املحببة م�شفاي ال�صغري ،وحمطة �إعادة الت�أهيل التي ُ فيها �شخ�صيتي ،قبل التف ّتت الأخري. “�أعرف الكثري مما تقوله يل .هو م� ٌ ألوف عندي قبل �أن تبوح مررت بظروف م�شابهة، طبيب نف�سي ،ولكن لأين به ،لي�س لأين ُ ٌ وهذا لي�س غريب ًا هنا ،فاحلب يف الريا�ض قلما يتغري لونه وطعمه. كلنا من ّثل امل�شهد ال�سينمائي الركيك نف�سه ،وال تختلف الأدوار”... اعتقدت �أنها حيلة بي�ضاء مدرو�سة ميار�سها ومل �أ�صدقه بادئ الأمر، ُ بنيات طيبة حتى يت�س ّنى له �أن يفتح قلبي على الطبيب النف�سي ّ م�رصاعيه ،ولكن حكى يل الكثري بعد ذلك. “العيادات النف�سية يف الريا�ض ال ت�ستقبل الكثري من الرجال 153
الع�شاق ،بقدر ما تزدحم �أحيان ًا بالكثريات اللواتي ك�رسهن الرجال بطريقة �أو ب�أخرى .مطلقات ،وعا�شقات ،ومغت�صبات ،وم�ضطهدات �أحيان ًا ،ومدلالت ب�شكل مفرط �أحيان ًا �أخرى ،كلهن ينتهني �إىل عيادة نف�سية .ولأنها عيادة خا�صة ،ال يق�صدين من يعانون �أمرا�ض ًا نف�سية �أو عقلية �شديدة ،بل يتجهون غالب ًا �إىل امل�شايف احلكومية .معظم احلاالت التي متر بي حاالت ك�آبة ت�سببها عوامل كثرية ،مثل طبقية املجتمع ،وال�شعور بالهوان وال�صغارة ،وحماوالت تطوير الذات”. ثم يرفع �إ�صبعه ال�سمينة ،وي�شري �إىل قلبي مبا�رشة وهو يبت�سم ابت�سامة “�صدقني� ،أنت �أول رجل يدلف �إىل على و�شك التحول �إىل �ضحكة: ّ عيادتي ويقول� :أنا عا�شق!” – حق ًا؟ كان خط�أي �إذن �أين ق�صدتك و�أنت بدون خربة! – بل �أعتقد �أنك ق�صدت الطبيب النف�سي الذي كان عا�شق ًا مثلك. لقد جلبتك رياح طيبة. – عا�شق .جميل ،متى كان هذا؟ – ال جميل وال حاجة ،كان هذا قبل �سفري �إىل �أمريكا ،يف ال�سنة ما قبل الأخرية من الطب ،ووزين تقريب ًا �ضعفا ما هو عليه الآن! – �أكمل� ،إين �أ�سمع ،يعجبني �أن نتبادل الأدوار ولو لدقائق. ويبت�سم و ّزان ،وتربق عيناه بوم�ضات كهربائية متتابعة من الذكريات ،ثم تتعلقان بنقطة وهمية عرب النافذة: – قلت لك �إن �أدوار الع�شق ال تختلف كثرياً يف الريا�ض ،ولكني ع�شته ب�أبط أ� حاالته ،تلك التي ت�رسق كل يوم قطرة من دمك ،من دون �أن تنتبه .وقعت يف حب ملعون ،بني رجل بدين جداً ،وفتاة ال تعرف 154
�أ�ص ً ال �أي �شيء عني ،كان حب ًا من طرف واحد ،وهي ابنة عمتي. – ................. جمرات يف – هل تعرف مقطع الأطالل ذاك “...والثواين ٌ دمي؟” .بو�سعك �أن تتخيل حالة من الأمل كانت تدفعني �إىل �أن �أعيد �سماع هذا املقطع الكلثومي احلارق ،ع�رشين ،خم�سني� ،أو �سبعني مرة! يدي معلقة على زر الإعادة ،بينما دمي بالفعل ي�ست�شعر كيف ميكن �أن ت�سافر اجلمرات يف جمراه املعتاد. – �أمل تفكر يف �أن تخربها مث ً ال؟ – البدناء ال يفكرون بهذه اجلر�أة يا عزيزي! �ضحكت ،و�أردف و ّزان: – هذه العالقة الق�صرية ،يف املرحلة احلا�سمة قبل تخرجي ،هي الطب النف�سي .عندما تكون طبيب ًا على التخ�ص�ص يف التي دفعتني �إىل ّ ّ التخرج ،تنتابك ثقة غبية ب�أنك ت�سيطر على ج�سدك مبا �أنك و�شك ّ حيث �أجهل. �رصت تعرفه �أكرث ،ولهذا �شعرت ب�أن الأمل وخزين من ُ ُ التقيت عدة �أطباء نف�سيني و�شجعوين على التخ�ص�ص. ُ ثم �سكت قلي ً ال ،قبل �أن يغمزين وي�ضحك: – من ح�سن حظك طبع ًا! – هل كان من ح�سن حظك يا ترى؟ هل �ساعدت نف�سك؟ جتاوزت هذا احلب يف اليوم الثاين على و�صويل �إىل – �أعتقد �أين ُ أجواء خمتلفة فقط .ال�سفر على �أمريكا .بكل ب�ساطة ،لأين ُ أحتاج � َ كنت � ُ حب ،مثل الأدوية احلرجة ،قد ي�شفيك ،وقد يرديك .بع�ض املدن ّ حتمل يف �شوارعها قوة ال�شفاء ،وبع�ضها مدنٌ �سامة فع ً ال. 155
– �أفهم هذا جيداً ،بريوت كانت من املدن ال�سامة ،يجب �أ ّال تزورها و�أنت على ع�شق! عندما كان و ّزان ي�صنف املدن هكذا ،وك�أنها ب�ضاعة مركومة يف تذكرت كالمنا �إبان لقاءاتي الأوىل يف عيادته ،ونحن نتكلم �صيدلية، ُ كمري�ض وطبيب ،بعيداً عن ب�ساط ال�صداقة الذي �صار �أكرث �أريحية الآن� .أخربته �أين كنت يف بريوت ،كعادتي يف كل �إجازة ،ولكني وعدت �إىل الريا�ض تارك ًا �أبي و�أمي قطعتها يف منت�صفها هذه املرة، ُ يكمالن الإجازة من دوين. – كيف ق�ضيت وقتك فيها هذه ال�سنة؟ كنت �أكتب� .أحاول �أن �أكتب بالأحرى. – ُ – هل ميكن �أن �أقر أ� بع�ض ما تكتبه. – طبع ًا ،كله من�شور يف موقع على الإنرتنت. – هل �س�أح�صل على عنوانه؟ – بالت�أكيد. وكتبت له العنوان على بطاقة �صغرية من بطاقاته ال�شخ�صية ،فت�أمله ُ قلي ً ال ،ثم قال: – �إذن ،انتهت جل�ستنا يا عزيزي ح�سان .يجب �أن �أقر�أ ما يف املوقع �أو ًال ،ثم �أت�صل بك لنحدد جل�سة �أخرى. – ولكن مل جنل�س �أكرث من ع�رش دقائق. أف�ضل �أن كنت م�ستعداً جلل�سة �أطول .ولكني � ّ – �أعرف .حتى �أنا ُ �أقر�أ لك �أو ًال ،ثم نتكلم� .س�ألغي هذه اجلل�سة من �سجل اجلل�سات، و�ستكون جل�ستنا القادمة هي الأوىل. 156
ر�شفت الر�شفة الأخرية من قهوتي والفنجان ما زال ملآن، ُ وهم�ست ب�ضيق: ُ – وهو كذلك! و�أمام باب امل�صعد ،قال يل: – �أنتم الك ّتاب ،جتعلون مهمتي �أحيان ًا �سهلة. راقب ابت�سامتي غري الرا�ضية بعني خبرية ،ثم �أردف قبل �أن ينغلق باب امل�صعد: – و�أحيان ًا �أخرى :م�ستحيلة. مل ت�ستمر هذه اجلل�سات الر�سمية �أكرث من خم�سة �أ�شهر تقريب ًا، قبل �أن يدعوين وزان �إىل م�ستقره املف�ضل ،املزرعة ،وهناك �أخذت كنت �أخرج له �أمل ًا �صغرياً من قلبي ،وكان اجلل�سات طابع املنادمةُ . يخرج �أمل ًا �شبيه ًا ،ولأنه يكربين بعدة �سنوات ،كان عنده �آال ٌم كافية أحت�سن تدريج ًا ،من دون �أن �أ�ستيطع �أن دائم ًا .هكذا ُ �شعرت ب�أين � ُ �أحدد النقطة املعينة التي قلبت انحداري �إىل متا�سك و�صعود معاك�س. هل كان و ّزان وحده ،وتلك اجلل�سات النف�سية التي مي�سحني فيها بكالمه الهادئ من دون �أن �أنتبه �أ�ص ً ال �إىل كونها جل�سة نف�سية؟ �أم وقررت �أن �أتوقف عنه؟ �أم �أن هناك مللت احلزن فقط، ُ �أنني �أنا الذي ُ عوامل �أخرى م�ؤثرة ،ك�أمين مث ً عرفني به ال؟ هذا ال�صديق املرح الذي ّ وزان يف ما بعد ،والذي يتقاطع مع و ّزان يف �أقل الأ�شياء ،وي�شتبك معي يف الكثري منها. كان �أكرث �صخب ًا من �أخيه ،و�أكرث حدة يف معاقبة الأ�شياء التي ال تتفق مع عقله الهند�سي امل�شاغب ،وعندما عاد من لندن بعد رحلة 157
ق�صرية لدرا�سة اللغة ،وجد يف مكث �أخيه الأكرب يف املزرعة فكرة جيدة لتطهري نف�سه من نوازع العودة مرة �أخرى �إىل ال�سفر ،بعد �أن ّ تخرجه يف كلية الهند�سة يخرتع لأبيه كل مرة حجج ًا جديدة ظل منذ ّ
المتطاء الطائرة ،واخلروج من الأفق العربي ب�أكمله ،وملا �ضاق �أبوه ذرع ًا بالدورات التدريبية الوهمية ،ودرا�سة اللغة االجنليزية ،وغريها، قال له بهدوء“ :يا �أمين ،قل �أنك تبي ت�صيع �شوي ،وب�س” ،و�أمين نف�سه الفج، م� ٌ �رصح به �أبوه بهذا ال�شكل ّ ؤمن ب�أن ّنياته مل تختلف كثرياً عما ّ ولكنه �شعر ب�أن �أباه احلليم على و�شك �أن يغ�ضب ،فعاد �إىل الريا�ض بعدة لغات مفككة ،جناها من الدورات املفتعلة التي يختار بها �شكل املدينة التي ي�شتهيها ،ومل يبق منها �إال التحيات ،وبع�ض الكلمات ال�سيئة ،بالفرن�سية والإ�سبانية. وعندما قرر �أن يتوقف عن �إدمان املطارات ،الذي �شجعه عليه ح�ساب �أبيه املفتوح� ،أطلق بع�ض التحديثات يف املزرعة ،و�أعاد جتهيزها ب�شبكة من خمتلف الأجهزة التي جعلت املكان مريح ًا، وكوني ًا ومليئ ًا بالأزرار ابتدا ًء بالنظام التلفزيوين احلديث جداً ،وعدة �أطباق ف�ضائية� ،أحدها ل�شبكة االنرتنت فقط ،كما �أنه �أفرد للمكان �صوام ،امل�رصي الب�سيط الذي يهتم بنظافة املكان، خادمني� ،أحدهما ّ هندي ،كان يعمل طباخ ًا يف خطوط الطريان املاليزية. والآخر ّ و�صوام حتديداً ق�ضى يف هذه املزرعة ثالث ع�رشة �سنة ،عرف فيها ّ حكاية كل نخلة� ،أو �شجرة كانت �أو بقيت ،وكان قد تعر�ض قبل عدة �سنوات حلادث خطري عندما �سقط عن �إحدى النخالت التي حاول �أن يلتقط متراتها الرطبة ،و�أ�صيب بك�سور يف الظهر واحلو�ض ،ومل 158
يعد يقوى بعد ذلك على العمل ال�شاق ،فقرر والد و ّزان �أن يعفيه من ذلك ،فا�ستخل�صه �أمين لنف�سه ،و�أبقاه مراوح ًا بني املبنيني الأحمرين اللذين �سميتهما يوم ًا يف غمرة جذل و�سخرية :قرطبة وغرناطة. �أما ذلك اخلادم الهندي ،ذو ال�شعر املن�سدل على جبينه بكثافة، فلطاملا بدا وك�أنه ذو جمد تليد .كانت لغته االجنليزية اجليدة التي اكت�سبها من عمله يف خطوط الطريان املاليزية جتعله يبدو �أعلى �ش�أن ًا من خادم� ،إال �أنه قانع مبا يجري عليه هنا ،وب�ساعات العمل القليلة يحبه من الطبخ ،و�إعداد القهوة وال�شاي يف التي ميار�س فيها ما ّ مواعيد متفرقة .كان ا�سمه احلقيقي راجن ،ولكنه مذ �أتى وهو ي�سمي نف�سه �أحمد ،مفتع ً ظن �أنه �سيقيه عوادي الظلم يف بلد ال ا�سم ًا �إ�سالمي ًا ّ ولكن انتهاءه �إىل هذه املزرعة الآمنة �إ�سالمي ال يعرتف بهندو�سيته، ّ بعد عدة �أعمال ،جعله يتخ ّلى تدريج ًا عن ا�سمه املزعوم ،وتعاوده الثقة بدينه ،وعندما دار بينه وبني �أمين نقا�ش ق�صري ذات ليلة على هام�ش برنامج عن غاندي ظهر يف التلفزيون ،بدا لنا وك�أنه ا�ستيقن �أخرياً� ،أن ال خوف عليه هنا يف هذه املزرعة من نزعة دينية ما ،فخلع ثوبه وطاقيته املثقّبة تلك ،وعاد �إىل بنطاله وقم�صانه تدريج ًا. نحن اخلم�سة كنا ّ ن�شكل �أطراف امل�شهد الليلي يف ذلك املكان، قلما يزورنا �أ�صدقاء �آخرون ،وكثرياً ما يق�ضون وقت ًا ق�صرياً ويرحلون، وقد �ضاقوا ذرع ًا بهدوء املكان ،وت�شابه جدولنا الليلي .بينما كنا نحن نكاد �أن نقيم هنا ،نلتقي يف � ّأول امل�ساء ،ونرتك املكان تباع ًا عندما ينت�صف الليل ،وقد ذرفنا تدخين ًا ،وترف ًا ،ون�سيم ًا ،و�أفالم ًا ،ون�رشات �أخبار ،و�ألعاب ًا ورقية خفيفة ،والكثري من الكالم املفيد ،وغري املفيد. 159
ق�ضيت عامني حتى الآن ،على الوترية نف�سها .وكانت نقاهة ال تن�سى ُ مت �أن �ألتقيهم هنا ،يف املزرعة لقلبي الذي كان مري�ض ًا جداً .تع ّل ُ خمب�أة بحذق ل�ص �آثار ماهر التي ك�أنها قطع ٌة م�رسوقة من الأندل�سّ ، يف ال�شمال الغربي من الريا�ض ،حيث ال ميكن �أن يفت�ش عنها �أحد. البنيان الأحمر القليل ،وال�شجر الأخ�رض الذي ي�سيل بات�ساع املكان، و�ضد ّنيات ال�صحراء ،والن�سائم التي تعرب بال ا�ستئذان ،والهدوء الذي ير�صد كل �شيء ،ويتجاهله ،وخطوات اخلدم القانعني الب�سطاء، واملجل�س الذي ال ي�شغله �سوانا نحن الثالثة غالب ًا ،يف العامني ّ امل�سطحني اللذين تبددا بهدوء ،واختفيا يف ف�ضاء العمر ،مثل البخار
الذي تبدده �أفواهنا يف الليايل الباردة. كان و ّزان يجل�س دائم ًا يف ركنه الركني ،يتعامل مع كتبه وجهاز الكمبيوتر بحميمية ،و�أمين يهتم دائم ًا بتفا�صيل ترف املكان ،من قناة التلفزيون ،حتى نكهة القهوة ،وحجم الن�سيم امل�سموح له بالدخول، وخطوات اخلدم ،ونوع ال�سجاد ،ونوع الطعام ،بدقة املهند�س الذي ال ميار�س هند�سته �إال يف املزرعة ،و�أنا �أحاول �أن �أبدو خليق ًا بالبقاء هنا .هذا الو�ضع الثالثي ا�ستمر وفق التفا�صيل نف�سها تقريب ًا ،مع اختالف الرتو�ش .ماذا ميكن �أن يفعل بك الليل يف الريا�ض �أف�ضل من هذا؟ وكيف ميكن �أن تكون �أكرث حنكة يف ا�ستخدام الليل مما نفعله هنا؟ كل املدينة الكبرية التي نرتكها وراءنا ّ ي�شذبها هذا الليل ،وهذا املكان يبدو وك�أنه ركنها الذي ت�أوي �إليه لي ً ال ،لتتوب وتبكي من وح�ش طيب القلب ،وي�سمع النخيل �أنينها، ذنوب نهارها ،وك�أنها ٌ
160
واعرتافها وب ّثها ،وهي تغ�سل �ضمريها وتن�رشه على �سعفاته ليجف حتى �صباح جديد .كيف �إذن ال ي�ستعمر الأغنياء املكان �ضيع ًة تلو �ضيعة ،ويحتلون قطع ًا من هذا الدير املظلم الهادئ من املدينةٌ ، كل ح�سب حجم �أمواله ،وحجم �أخطائه ،ورغبته يف غ�سل �ضمريه يف اله َدن الليلية ،يف مغ�سلة ال�ضمائر هذه ،الدرعية؟ ُ �صوام يهرع �إىل الباب الكبري ُ خرجت من �أفكاري عندما ر�أيت ّ بعد �أن ر�أى �أ�ضواء �سيارة تت�رسب من حتته ،وعرف بالت�أكيد من لون متورمتني ،مليئتني ال�ضوء الأبي�ض� ،أنه �أمين .وبالأم�س ،كانت وجنتاه ّ بالبثور التي ثارت يف وجهه فج�أة �إثر ح�سا�سية الربيع ،وكان ي�ضع على كل برثة نقطة بي�ضاء �صغرية من دواء لزج ،وبدا يل وجهه �آنذاك توت عجفاء .ومل �أتوان البتة عن �إخباره بذلك ،كما مل مثل �شجرة ٍ يكن ل�سانه ليتوانى عن ذلك لو كنت مكانه. أحبه كثرياً ،لأنه ميار�س معي مالكمة كالمية عنيفة ،تخرج مني � ّ ودر�ست معه يف كل الأفكار املنهكة مع العرق .كان يف مثل عمري، ُ جامعة امللك �سعود ومل �أره فيها �إطالق ًا ،حتى جاء �أخوه ليعرف �آخر مر�ضاه ،ب�أخيه الأ�صغر .وكم كانت عالقة م�شوبة بال�شك حينذاك. – م�ساء اخلري ،و�أرجو �أن تن�شغل ب�أي �شيء عن مراقبة وجهي. – ال �أ�ستطيع! – هل تعلم �أن احل�سا�سية مر�ض ُمعدٍ ينتقل بالتهكم؟ ابت�سمت ،و�س�ألته بهدوء: ُ – نعم �أعلم ذلك .لعلك �أح�سن حا ًال؟ – قلي ً ال. 161
ورمى على الأر�ض حزمة جرائد وجمالت جديدة ،ثم خلع �شماغه ،وطواه بكل عناية ،وو�ضع ال�شماغ يف مكانه املعتاد فوق الأريكة التي ال ي�شغلها �إال �شماغ �أمين الالمع� .س�ألني وهو يجل�س: – كيف �أنت؟ – ما�شي احلال. – و�صلت كتبك؟ – معظمها. – ماذا �ستفعل بها؟ – �س�أوزعها يف امل�ساجد. �ضحك �أمين ،ثم راح يلم�س وجهه ب�أطراف �أ�صابعه ،وهو يفكر مباذا يعود ،وك�أن �ضحكته املفاجئة مزقت �شيئ ًا من تلك البثور التي بد�أت جتف. – �أمل تكت�شف ال�رس بعد؟ ورحت �أقر�أها من اخللف، �سحبت واحدة من اجلرائد املطوية، ُ ُ و�أنا �أجيبه: – �إذا اكت�شفته �أنت� ،أكون ممنون ًا لك. – �صديقة �سابقة� ،أحبت �أن تقدم لك هدية مبتكرة ،وتن�رش كتاباتك املبعرثة يف االنرتنت. جرب مث ً ال :زوجة �سابقة. – ليتك ّ تعدل من �صفتهاّ ، – طيب ليه ما تكلمها ،وت�س�ألها؟ – ما يحتاج. – ليه ما يحتاج؟ 162
– لأين مو مب�سوط ،ولو كلمتها راح �أزعلها ،و�أزعل �أنا ،و�أنا ما �أبي وجع را�س! ير�ش جملة من الأوامر والرتتيبات على �صوام نه�ض �أمين ،وراح ُّ �صوام قلي ً وانهمكت �أنا بقراءة اجلرائد ال، ُ وراجن ،ثم �أخذ ي�ضحك مع ّ الكثرية التي تبعرثت �أمامي ،ومل مي�ض وقت طويل حتى كان و ّزان هو الآخر يدخل املزرعة ،م�شغو ًال مبكاملة هاتفية ،ويحمل يف يده هاتفه ّ احتل ركنه من املجل�س وهو ال يزال الآخر� .ألقى التحية بهدوء ،ثم يتكلم ،ورحت �أالحقه بعينني با�سمتني وهو مي�سح عرق جبينه ،وقد بدا �شعره الأ�سود املج ّعد يعاين غزو ال�شيب البطيء. ج�سده الذي فقد كيلوغرامات عديدة ،ما زال �ضخم ًا .كثرياً ما كان يبدو يل وزان وك�أنه رجل ع�صابات �أدركته التوبة فج�أة، كنت �أقول له �إن هيئته ف�سلك طريق ًا �آخر ،و�صار طبيب ًا! وكثرياً ما ُ للوهلة الأوىل ال ميكن �أن جتعلني �أتكهن مبهنته ،وعلى العك�س من هيئته تلك ،يبدو �أمين دقيق املالمح ،وناعم ال�شعر ،ويلب�س نظارات خفيفة متنحه تلك ال�صورة الطبية ،ولكنه مل يكن كذلك قط �إال �أن �شيئ ًا خفي ًا يف مالحمهما يجمعهما ،ويجعل منهما �شقيقني ،ال�سيما �إذا خلع كل منهما �شماغه ،وتر ّبع على �أريكته املف�ضلة ،وبدا �صوام وراجن قائمني حولهما ،حتى يبدوا يف قرطبة ،مثل ملكني �أخريين من ملوك الطوائف. ورغم �أن �أباهما يرتدد �إىل املزرعة كثرياً ،ف�إننا ال نراه عادة يف هذا اجلزء منها ،فهو يدلف عادة من البوابة ال�رشقية ،ويق�ضي وقته أحد منا يراهم مهمني .مل يكن � ٌ مهمني� ،أو غري ّ يف ا�ستقبال �ضيوف ّ 163
على �أي حال� .أما والدتهما فقد ق�ضت ب�أمرا�ض متعددة يف الكبد، مزاجي الطبع ،والن ّزاع للهدوء وال�سفر، امل�سن، تارك ًة وراءها زوجها ّ ّ والرتدد �إىل هذه املزرعة الأنيقة ،ليقر�أ فيها جرائد ال�صباح .وكذلك عرفت من أخت مط ّلقة وغائبة عن امل�شهد متام ًا. و ّزان و�أمين ،ولهما � ٌ ُ خالل حوارٍ عار�ض بني الأخوين� ،أن ا�سمها� :سارة. أخت غري كان �شي ٌء ما يف غيابها الدائم عن كالمنا ،ينبئني �أنها � ٌ متردت م�ست�ساغة .حدث مرة �أن �أخربين �أمين بعد وقت طويل �أنها ّ متردها قلب �أبيها ،وتزوجت �رساً من رجل غري �سعودي، حتى قطع ّ ومل يك�شف �أمين جن�سيته لأ�سباب كالمية مل �أفهمها �أثناء حديثنا ذاك، والذي كان �أ�شبه بالدوار الطفيف املرافق للبوح بني �صديقني عادة. كنت قد �أخربته قبل يومني فقط ،ق�صة �سجن �أبي ،يف ال�سبعينات، ُ ويبدو �أن �أمين ر�أى �أن يكافئني على بوحي ببوح �آخر ،له الكثافة ال�رسية نف�سها. عادت �سارة بعد نزوة زواجها �إىل ال�سعودية ،وانف�صلت عن زوجها ،وظ ّلت منذ عودتها منقطعة عن �أبيها متام ًا .مل �أ�صدق �أمين بادئ الأمر عندما �أخربين �أنهما يعي�شان يف بيت واحد ،ومل يحدث كنت �أعرف كما �أن التقت �أباها منذ ثالث �سنوات ،وحتى الآنُ . هو وا�سع بيتها و�ضخم ،ولكن �شيئ ًا من هذا ال�سلوك الأ�رسي مل يكن ليخطر يل� ،أنا الذي يعي�ش مع �أبويه فقط ،من دون �إخوة ،منذ ت�سع وع�رشين �سنة ،وبحميمية �أ�رسية عالية جداً. أبوي وجبتني يف اليوم ،بال انقطاع ،ويف انتظام كنت �أتناول مع � ّ ُ يجعلنا �أ�شبه بعائلة لورد بريطاين من القرن املا�ضي� .أتخلف عنهما 164
عند وجبة الإفطار ،ويف حاالت ال�سفر املتعددة ،ولكن يف ما عدا كنت �أق�ضي معظم �ساعات اليوم معهما� ،أو على بعد �أمتار من ذلكُ ، جمل�سهما ،يف غرفتي .يتناهى �إىل �سمعي ما يجد من نقا�شهما� ،أو ما حتر�ضهما عليه لقطة تلفزيونية ما� ،أو خرب من الأخبار ،ولكن يبدو �أن خمتلف كثرياً ما يحدث يف بيت و ّزان و�أمين� ،أو ق�رصهما بالأحرى، ٌ عن بيتنا. أ�صبت ب�أرق امتد حتى �أ�رشقت ال�شم�س، حدث يف �إحدى الليايل �أن � ُ فخرجت من بيتنا بعد �أن طردين ال�رسير ،والغرفة ،واملكتب ،ومل �أجد ُ مكان ًا �آوي �إليه يف �صباح اليوم الذي كان �إجاز ًة �أ�ص ً فخرجت ال، ُ وا�شرتيت جرائد كثرية وجدتها ما زالت مطوية بقوة، ب�سيارتي، ُ أموي وحيد �إىل ومتكومة يف طرف املحل، ُ وقررت �أن �أذهب مثل � ٍّ قرطبة وغرناطة. �صوام ُ كنت �أعرف �أين لن �أجد �أي ًا من �صديق َّي ،ولكني �أعرف �أن ّ �سيكون هناك حتم ًا ،و�س�أجد من �أكلمه حتى مي�ضي ال�صباح البطيء، وتبد�أ حياة املدينة يوم الإجازة ،و�أجنز �ش�أن ًا ما .مل �أكن �أتوقع �أين باملجيء �إىل املزرعة يف هذا الوقت الغريب من ال�صباح� ،س�أجد نف�سي وجه ًا لوجه ،مع الغريبة� ،سارة. دلفت �إىل املزرعة ب�سيارتي ،وحاملا �أوقفتها يف ركنها الذي تعرفه، ُ مكثت يف ملحت من �آخر الطريق الداخلي يف املزرعة �سيارة تقرتب، ُ �سيارتي حتى مت�ضي ،ولكنها تباط�أت تدريج ًا حتى وقفت مبحاذاتي، وكانت ،ويا لده�شتي ال�صغرية التي حا�رصتُها �رسيع ًا ،فتاة تقود ال�سيارة كنت علي التحية وك�أنها تعرفني منذ زمن بعيد .ولأين ُ بهدوء ،وتلقي ّ 165
خج ً تعمدت ال من حريتها، ُ قاومت ذلك بعد �أن �شعرت ب�أنها ال ريب ّ �إيقاعي يف هذا اخلجل. – مرحب ًا. – مرحب ًا. ثم راحت ترمقني بعينني وا�سعتني ،وابت�سامة ن�صف خمتبئة يف فم مل يبد قط �أن الكالم ينق�صه. – �أنا ح�سان� ،صديق وزان و�أمين� .آتي �إىل هنا من وقت لآخر. وابت�سمت �سارة ،بوجهها الطويل املتنا�سب �إىل حد ما مع نحول يدها التي مت�سك مقود ال�سيارة ،و�أ�صابعها الطويلة اخلالية من �أي زينة ،والتي تنتهي ب�أظفار مق�ضومة �إىل احلد الأخري. – �أه ً ال يا ح�سان� ،أنا �سارة .عادة �أجيء �إىل هنا يف ال�صباح لأقود ال�سيارة قلي ً ال داخل املزرعة ،حتى ال �أن�سى القيادة. – �أ�ستبعد �أن تن�سي ،و�ضع يدك على املقود ي�شي مبهارة. ه ّزت كتفيها ،و�أردفت بالمباالة: – �شكراً. ولوحت لها بال�شكر، واجتهت �إىل املجل�س، نزلت من �سيارتي، ُ ُ ُ وانتظرتني هي حتى دلفت ،ثم حتركت بال�سيارة. كنت �سعيداً ب�أن �صار ومل �أر �سارة بعد ذلك مطلق ًا ،ولكني ُ للحكاية التي �سمعتها عنها �أبعاد حقيقية ،مثل �صوتها ،و�صورتها. ولوهلة ،بد�أت الأمور �أقرب للواقعية منها �إىل حكاية حرجة تنزلق من فم �أمين .ف�سارة ،بجمالها القليل الذي ال ميكن مالحظته ب�سهولة، ونحولها ال�شديد ،وعينيها الوا�سعتني املتحديتني ،وحماولتها الوا�ضحة 166
قبل قليل ك�رس احلواجز بكل جر�أة ،وممار�سة لعبة التحرر ،تبدو �صورة مثالية لفتاة �صلبة املرا�س ،حادة الطباع ،ومتمردة يف بيت �أر�ستقراطي ال ميلك �أدوات قمعية كافية لتمرد كهذا ،بقدر ما ميلك �أدوات ح�صار حمدودة ،مواربة ،قابلة لالخرتاق .كانت مالمح �سارة تربر فع ً ال كل ما �سمعته عنها تربيراً كافي ًا جداً. أخربت �أمين يف الليلة التالية ذلك اللقاء ال�صباحي املفاجئ، عندما � ُ �ضحك بع�صبية ،و�صاح بي“ :حتى �أختي �رصت تقابلها هنا!” ومل وبقيت �صامت ًا حتى �أنهى �ضحكته. �أع ّلق على مزحته الثقيلة، ُ قال �أمين ،بعد �صمت طال ع�رشين ثانية على الأقل: كنت �أنا – عندما كنا �صغاراً ،كثرياً ما �سمعت �أمي تتم ّنى لو ُ ُ ووزان ابنتيها ،مقابل �أن تكون �سارة ولداً. – جميل� ،آنذاك �ستكون �أنت الذي �ألتقيك �صباح ًا يف هذا املكان. رددت مزحته عليه ب�رسعة ،وعقّب وابت�سمت لأين �ضحك �أمين، ُ ُ علي: ّ تخوف. – ال ب�أ�س� ،أنت ت�ست�أهلني ،وما ّ ثم �أردف بعد �أن عادت املالمح اجلادة �إىل وجهه: – �أحيان ًا كثرية �أ�شفق على �سارة� ،أعرف �أنها ذات طاقة هائلة، ولكن كل الأ�شياء هنا ت�ستفزها ،وهي يف املقابل ،ال متلك احلد الأدنى من املرونة وال�صرب. – وما هي م�شكالتها؟ – ال م�شكلة معينة ،ولكنها دائم ًا يف حالة من الع�صبية ،والت�رصفات 167
كنت �أمتنى لو �أنها تعي�ش خارج الريا�ض ،ولكن �أبي �أق�سم �أن احلادةُ . يترب�أ منها لو خرجت من البيت. – وماذا تفعل الآن؟ تخرجت يف اجلامعة ،وكل – ال�شيء� ،أيامها خاوية متام ًا منذ �أن ّ يوم تطر�أ لها فكرة م�رشوع ناق�ص ،رمبا كان هذا ما يجعلها حانقة وع�صبية غالب ًا. – وما ر�أي و ّزان يف حالتها النف�سية؟ وحدتها – مل �أ�سمع منه ر�أي ًا حمدداً ،ولكن دائم ًا يقول �إن جموحها ّ ورثتهما من �أبي ،و�ستهد�أ تدريج ًا مع التقدم يف ال�سن .وهي يف ال�سابعة والع�رشين الآن. – رمبا ي�ضايقها �شعورها ب�أنها بلغت هذا العمر ومل حتقق �شيئ ًا حتى الآن .هل فكرت يف احل�صول على وظيفة مث ً ال؟ – مار�ست �أكرث من وظيفة ب�شكل موقّت ،وانقطعت� .إنّ ل�سارة ذات ًا مت�ضخمة جداً ،وت�ضيق بالعمل املنتظم .حالي ًا ،فتحت معر�ض ًا �صغرياً للوحات الفنية ،تعر�ض فيه بع�ض لوحاتها ،ولوحات �أخرى. �أما وزان ،فلم �أخربه قط عن لقائي �سارة� ،شيء ما يف عالقتي به ما زال يحتفظ باحلاجز الر�سمي بني طبيب ومري�ض ،رغم انتهاء فرتة العالج يف مدة ق�صرية جداً� ،أخربين بعدها �أنه على يقني �أن ما �أعانيه لي�س الآثار ال�سلبية ل�صدمة عاطفية كما �أتوقع ،بل حالة �إحباط عامة، تطورت يف مرحلة ما ،بتحري�ض من ق�صة احلب� ،إىل �شبه ك�آبة. ي�رص على �أن غالية يف حياتي جمرد عار�ض ،ولي�ست مر�ض ًا كان ّ حقيقي ًا ،وهذا ما جعله يركز كالمه معي على كوامن احلفز النف�سي، 168
وهو ما يجيده و ّزان بالتحدث يف �أي �ش�أن من �ش�ؤون احلياة التي يتخللها قليل من التوجيه والن�صح ،وقد يعقبها ب�ضع مقاالت يبعث بها �إىل بريدي االلكرتوين لأقر�أها منفرداً .كانت هذه باخت�صار ،كل رو�شتة و ّزان لعالجي. ولأين بقيت على حالة امتنان ال تزال تظلل عالقتي به ،بقي احلاجز اخلفي قائم ًا ،مع �أننا حتولنا �إىل �صديقني يلتقيان كل م�ساء تقريب ًا ،بينما ت�سارعت عالقتي ب�أمين من دون حواجز ،هو الذي التقيته بعد �أ�شهر من لقائي الأول ب�أخيه ،ولكن هكذا �شاءت �أمزجتنا االجتماعية. كان م�ضحك ًا مقامي بينهما� ،إنّ يل �صديقني من هذا النوع. تذكرت اخلرب الذي قر�أته يف جريدة ذات يوم عن م�سافر �أ�صيب بنوبة ُ قلبية على منت طائرة كانت ّ تقل م�صادف ًة فريق ًا كام ً ال من جراحي القلب قادمني من م�ؤمتر طبي� .إن هذا ي�شبه القفز من علو �شاهق فوق حقل من املطاط� ،أو �أن �أثمل مث ً ال حتى �آخر �شهقة ،و�أنا يف �رسيري �أ�ص ً ال.
169
VI يف �إحدى اجلل�سات� ،أذكر �أين �س�ألت و ّزان هل �أنت متديّن �أم ال؟ ابت�سم وطلب مني �أال �أقلق ،و� ّأكد يل �أنه �سيكون مهني ًا جداً كعادته. قال يل �أي�ض ًا �إنه رمبا ي�ستخدم احللول الدينية مع من تقنعهم مثل هذه احللول“ ،املهم �أن جند لك ح ً ال يقنعك!� ،أي ًا يكن� ،”...أخرياً �سكنت ُ �إليه بعد هذه العبارة ،و�أخربته كيف �أن امر�أة رحلت ،ونك�ش رحيلها يف طريقه عدة م�شاكل نف�سية. قلت ُ ثرثرت كما هي العادة عندما يكون امل�ستمع طبيب ًا نف�سي ًاُ . ا�ست�شعرت وتوقفت بعد �أن له كل ما ي�ضايقني ،وجل ما يثري ك�آبتي، ُ ُ الآالم الطفيفة يف حلقي جراء الكالم ،وكان و ّزان يتكئ على يده حد�ست من نظرته املتحم�سة وينظر �إيل وك�أنه ي�شاهد فيلم ًا مثرياً. ُ �أنه اكت�شف ح ً ال يل ،و�سي�ضعه يف جيبي قبل �أن �أترك العيادة ،ولكنه فاج�أين عندما قال بهدوء“ :ال �أجد �أي �شبهة ال�ضطراب نف�سي� ،أنت فقط ال تريد �أن ت�شعر ب�أي وخزة �أمل يف احلياة ،وهذا م�ستحيل”. �شعرت لوهلة ب�أنه �أهانني عندما اخت�رص حالتي يف جملة واحدة، ُ ومتنيت لو �أين اخت�رصت منذ ذلك البوح الثقيل الذي ال تكافئه هذه ُ 171
وحاولت من دون �إرادة �أن �أفند ر�أيه ،قبل �أن اجلملة الوحيدة جيداً، ُ �أنتبه �إىل �أنه من الغريب �أن �أ�ست�شعر �إهان ًة من �شخ�ص يخربين �أين �سليم، ف�أحاول �أن �أدافع عن نف�سي ب�إثبات �أين خمتل نف�سي ًا. قلت ُ قررت �أن �أرمي كل الأوراق .مل ُي ْجدين �أن �أحتفّظ معه كثرياًُ ، وكنت �أت�صل بهن ج�سدي ًا. له �إين عرفت ن�سا ًء كثريات، ُ – نعم ،وماذا يف ذلك؟ – من دون حب ،ومن دون عاطفة. – و�أين امل�شكلة؟ ل�صيق بج�سدي، – ولكن �أحيان ًا عندما تنام بقربي امر�أة ،وج�سدها ٌ ال �أدري ماذا �أقول لك. – ماذا؟ – ال �أدري� ،أحيان ًا� ،آ... – تكلم وال تقلق. – �أحيان ًا �أمتنى لو كانت رج ً ال! مل يكن ذلك مفاجئ ًا لو ّزان ،ومل تكن امليول املثلية حاالت نادرة قررت �أن �أخلع كل يف العيادات النف�سية ،ال�سيما يف الريا�ض ،و�أنا ُ �شيء ،هذه الرغبات الدفينة التي مل �أحققها منذ �سنوات الطفولة. ورغم احل�ضور الأنثوي املغني بعد ذلكّ ، ظل هاج�س الرغبة القدمي ذاك يراودين� .أحاول قمعه ،لأين �أخاف �أن يتطور ،ف�أحتول �إىل �شاذ. �س�ألني و ّزان �أ�سئلة توقعتها متام ًا. – هل تنام مع ذكور الآن؟ – ال. 172
– هل حدث لك هذا من قبل؟ – نعم. – متى كانت �آخر مرة؟ – يف الثالثة ع�رشة. – مع من؟ – �صديق ،من عمري! ابت�سم يل و ّزان ،وقال يل بالهدوء نف�سه الذي مل يتغري: – ال يوجد �أي �شيء غري طبيعي �أي�ض ًا! – هل ت�شعر بامللل مني؟ – ال طبع ًا. ت�صدقني �إذن؟ – ملاذا ال ّ – �إذا كنت �أنت �صادق ًا يف كل ما قلته يل ،ف�أنا �أقول لك بكل �رصاحة �إنك ال حتتاج �إىل �أي معاجلة نف�سية ،جمرد �ضغوط طبيعية جداً بت�صور م�سبق تنتج من �أي ارجتاج عاطفي ما ،ولكنك ح�رضت �إىل هنا ّ �أين �أملك عبارة �سحرية من �ش�أنها �أن جتعلك تخرج من هنا م�رسوراً، ل�ست �ساحراً� ،أنا طبيب ،وممار�ستي ملهنتي تتطلب �أن يكون هناك و�أنا ُ مر�ض �أ�ص ً ال ،و�أنت ل�ست مري�ض ًا ،ال يوجد ما �أقدمه لك. – ماذا عن الرغبة يف الرجال� ،ألي�س ال�شذوذ مر�ض ًا؟ – هذا لي�س �شذوذاً ،مبا �أنك تت�صل بالن�ساء ب�شكل طبيعي ،ومل متار�س اجلن�س مع رجل منذ طفولتك رغم ا�ستطاعتك هذه ،فهذا يعني �أنك ال تعاين ا�ضطرابات ال�شاذين �إطالق ًا ،وال ترغب فيهم� .أما �ش�ؤون الطفولة فال ُيعتد بها يف م�س�ألة اجلن�س �إال �إذا كانت اغت�صاب ًا 173
�أو �أ�شبه بهذا� ،أما ما فعلته �أنت فال يخرج عن �إطار العبث ال�صبياين، وحماولتك اكت�شاف ال�شهوة اجلديدة الطارئة على ج�سدك ،ولذلك اجتهت �إىل �صديقك الذي ،هو �أي�ض ًا ،ي�شاركك يف رغبة االكت�شاف نف�سها يف هذه املرحلة العمرية .ولو كانت لك �صديقة �أنثى �آنذاك الخرتتها هي طبع ًا ،الأمر لي�س جن�س ًا ،فالأطفال ال ميار�سون اجلن�س، �إنه ي�شبه ممار�سة العادة ال�رسية جماعي ًا �أو عبثي ًا ،ال �أكرث. – وملاذا �أ�شعر بهذه الرغبة الآن وقد كربت؟ حري – هذا جمرد �شغب �صوتي متار�سه معك الذاكرة ،وهو ّ باحلدوث ،كما قلت لك ،بعد �أي ارجتاج عاطفي .وكثري من املراجعني يف العيادات النف�سية يعانون �أوهام ًا وظنون ًا �سيئة ب�أنف�سهم، مل تتحرك �إال بعد �صدمة ما� .أنت حتاول �أن تدين نف�سك ،وتقنعها بخرابها حتى توا�سي الرجل احلزين الذي يف داخلك. وقت طويل لأتخل�ص من حالة احلنق الب�سيطة التي مل �أحتج �إىل ٍ حلقت بي جراء لقائه .انق�شع هذا احلنق تدريج ًا ليظهر حتته �شعور باالرتياح لتخل�صي من �أحد همومي ال�صغرية .و�إن بقي يف داخلي �شيء من القلق ،فلم يذهب متام ًا. أحد الأطباء مرة �أنه عندما ي�ضطر �إىل �أن ي�صارح مري�ض ًا �أخربين � ُ ب�أخبار �سيئة عن ج�سده ،يح�شد معها �أخباراً مطمئنة �أخرى ،ك�أن ولكن قلبك ورئتك �سليمان متام ًا ،رغم �أن يقول له �إن كبدك متعب، ّ املري�ض مل ي�س�أله عنهما ،فيبتلع املري�ض �أحزان كبده بنعومة .رمبا كان هذا ما فعله معي و ّزان� ،أولي�س طبيب ًا نف�سي ًا �أ�ص ً ال؟ قلت له مرة �إن من يع�شق يف هذا البلد ،يجب �أن ُيحجر على 174
قلبه وم�شاعره ،مثل ال�سفهاء .وكان يتلقى كالمي بهدوء عميق وك�أنه حتول �إىل بقعة من الرمال املتحركة ،كعادة الأطباء النف�سيني يف تلقي وطلبت منه �أن ينزع عنه هذا ثرت، انفعاالت مر�ضاهم املفاجئةُ . ُ أترجل من �سيارته. القناع الرتيب� ،أو � ّ وال �أزال �أتذكر ال�شارع ال�صامت الذي �أنزلني فيه و ّزان بدون تردد ،وذهويل الذي امتطيته ن�صف �ساع ٍة و�أنا �أم�شي بني املزارع املظلمة حتى �أ�صل �إىل �أقرب مكان ميكن �أن متر به �سيارة �أجرة ،ومنذ و�ضعت �أن اختفت �أ�ضواء �سيارته احلمراء يف �آخر املنعطف� ،إىل �أن ُ ج�سدي املنهك فوق ال�رسير ،و�أنا �أفكر يف الطريقة التي طردين فيها من �سيارته ،بنا ًء على رغبتي. هل ّ تعاليت على حد�سه الطبي؟ �أو �أنه فقط �شعر ب�أين مل من فرط ما ُ ق�صدت عيادته برتف ،من �أجل التغيري ال �أكرث ،وم�شاكلي ال ت�ستحق ُ املعاجلة؟ رمبا كان خرياً يل لو �أن و ّزان عاجلني خفي ًة ك�صديق ،من دون �أن ي�ستخدم �أدوات مهنته ،وهل ميل الأطباء انفعاالت مر�ضاهم؟ �أمل يب�رص يف عمله جمانني يب�صقون عليه ،ويقدمون �إهانات �أ�شد من تهديدي الب�سيط الذي �ألقيته عليه يف حلظة �إحباط؟ فهمت يف ما بعد �أنه كان يريد �أن يخربين �أن ثمة �أ�شياء �أخرى ُ ت�ستحق احلزن ،غري �صعوبة امر�أة .احتمال غياب �صديق مث ً ال ،وراهن بنف�سه ،وجنح يف اعت�ساف عاطفتي امل�شوهة للتفكري فيه بد ًال من غالية بالهم. الهم طوال يومني ،ومل �أفهم �إال �أخرياً كيف ُي َ ّ عالج ّ
**** 175
توقّف �صدور مقال غالية منذ �شهور طويلة ،وهو الذي كان غذاء بحثت عنها يف كل ال�صحف الأخرى ،يف كل ذاكرتي اجلائعة. ُ وا�ستخدمت ا�سمها املجالت ،لعلها انتقلت للكتابة يف مكان �آخر، ُ كام ً ال للبحث على الإنرتنت ،ومل �أرجع �إال ب�أر�شيف عتيق من مقاالتها ال�سابقة .راجعته كله ،لعل مقا ًال جديداً اختب أ� بينها ومل �أقر�أه من قبل، حتبني ،ومقاالتها �أثناء احلب، فلم �أجد �شيئ ًا ،عدا مقاالتها قبل �أن ّ ثم مقاالتها الأربع العجفاء بعد انف�صالنا ،ثم توقَّفت غالية متام ًا عن ات�صلت باملجلة ،و�س�ألت عنها ب�صفتي جمرد قارئ متابع، الكتابة. ُ ف�أخربوين �أنها انقطعت طوع ًا ،وتقدمت بطلب �إجازة مفتوحة. ملاذا والكتابة رديفة احلزن؟ هل توقفت غالية عن احلزن مث ً ال حتى تتوقف عن الكتابة؟ �أو �أنها اختارت �أن تبتعد عن مرمى قراءتي لت�ساعد ذاكرتي على الربء العاجل؟ كلتا احلالتني ت�ؤذي القلب ،رغم �أين أ��ؤمن دائم ًا �أن غالية التي �أحببتها وهي �أم ،وتركتها وهي �أم ،تعرف م�صلحتي �أكرث مني. ولأين �أعرف �أن الكتابة يف حياتها �أكرث من جمرد مهنة �صحفية. هي التي ن�ش�أت ابنة لأب �ضال ،ال يعرف طريقه �إىل املنزل كثرياً ،و�أم وحيدة مل تنجب منه �إال غالية قبل �أن يبد�أ زوجها يف هجراته املتتالية خارج املنزل� ،سواء لل�سفر� ،أو الزواج ب�أخريات. ولأن � ّأمها فكرت ب�شكل تقليدي ،وخ�شيت �أن يهدد غياب الأب امل�ستمر عن املنزل �أخالق ابنتها� ،ضاعفت القيود حتى �صار اخلروج من املنزل �إىل غري املدر�سة واجلامعة قراراً م�ستحي ً ال تقريب ًا ،فالتج�أت غالية �إىل القراءة ك�صديق مقبول ،وا�ستطاعت �أن جتمع يف ت�سع 176
�سنوات� ،أكرث من �ألفي كتاب ال يزال قابع ًا يف قبو بيت �أمها املتوا�ضع. قالت يل غالية مرة“ :ما يغفر لأبي غيابه عن املنزل �أنه مل يكن يتدخل يف �ش�ؤوننا!” ،ورغم �أن امليزان ال يبدو عاد ًال عد ًال كافي ًا ،مل تكن غالية م�صاب بلعنة طائر ٌ ت�ضمر حقداً كبرياً على �أبيها ،بل كانت ترى �أنه ٌ احلرية ،وال ي�ستطيع �أن ي�ستقر يف ع�ش واحد .قالت يل مرة“ :تقدم خلطبتي �أكرث من رجل ،و�أولئك الذين كانوا يتقدمون عن طريق �أبي، كان يبلغني عنهم مبكاملة هاتفية فقط ،يذكر يل ا�سم الرجل ،ثم يرتك يل اخليار متام ًا ،ويطلب مني �أن �أبلغه قراري حاملا اتخذه .تخيل لو �أنه �أجربين على �أحدهم!” ،ثم تتنهد غالية ،و�أتذكر متام ًا �شكل تنهدها ذاك، اخرتت �أ�سو�أهم على الإطالق!” وت�ضيف“ :امل�شكلة �أين ُ الآن مل يبق عندي من رائحة قلمها �إال بقية من ق�صا�صات قدمية، ملحت فيها �إ�شار ًة كنت �أحتفظ بها كلما ُ الق�صا�صات اخلا�صة التي ُ �صغرية ال يفهمها �سوانا .يروق غالية �أن حت�رش يف مقالها ر�سائل تفهمها مدين ٌة ب�أ�رسها بطريقة ،و�أفهمها �أنا وحدي بطريقة �أخرى. هذا العبث برغم ر�صانة ال�صحافة ،كان لذيذاً بلذة الغزل ال�رسي الذي تب ّثه غالية بني الكلمات باجتاه واحد ،وتن�رشه على امللأ. كانت العبارة الأخرية من مقالها دائم ًا تعنيني �أنا ،ت�ضع فا�ص ً ال بينها وبني املقال ،ثم جتعلها حتت عنوان فرعي �أخري�( :آخر الكالم)، حتدثنا عنه من قبل ،كي وحتم ًا تكون لعبارتها تلك عالق ٌة ب�ش�أن ّ �أعرف �أنها تفكر ّ يف دائم ًا حتى عندما تكتب ،وعندما تفكر ،وعندما مربعات �شماغي التي �أخذتها مني ذات لقاء، تعد ِ ت�صلي ،وعندما ّ وخاطتها لت�صبح غطا ًء للو�سادة. 177
وجدت �أن غالية ابتدرتني يوم ًا بكتابة ما، ال �أدري مباذا �س�أ�شعر لو ُ �شيء يوثق ق�صة احلب املك�سورة هذه يف مدينة ال تعرف القراءة .هل �س�أتعزى قلي ً ال بالكلمات املائية التي ميكن �أن تكتبها كاتبة ب�أناقتها؟ �أو �أين �س�أ�شتعل من جديد ،و�أعيد تركيب �أحزاين طبق ًا فوق طبق؟ ا�ستبعدت �أنها لن حتبذ امل�شي فوق حقل ال�شوك امل�سموم مرة لو ُ �أخرى ،فلرمبا امت َن َع ْت عن الكتابة خوف ًا على قلبي املثقف .ولكني ال �أخ�شى حقل �شوك كهذا ،و�أي�ض ًا �أعرف �أن غالية غابت مثل جنمة مل مر على انقطاع فلكي واحد ،ولهذا ينتبه لها �إال ُ ت�ساءلت مر ًة بعد �أن ّ ٌّ توا�صلنا متام ًا ب�ضعة �أ�شهر ،هل من املمكن �أن �أكتب لها �أنا �إذن .هذا فكرت فيه عندما بلغت مرحلة ّ ني فيها ج�سدي متام ًا، ما �شل احلن ُ ُ ويف ال�شتاء �أي�ض ًا حتى ال �أخلف وعد مواقده الرثثارة ،هذه الكتابة العك�سية التي لن تتوقعها غالية .هي الكاتبة ،ال تعرف �أنها ،بعدما تركتني ،انبثق من �إ�صبعي غ�صن كالم �ضئيل. كتبت غت للفكرة بكل وفاء ،وعلى بيا�ض كمبيوتري املتنقلُ ، تفر ُ ّ كل �شيء ،منذ �أحببتها يف �شتاء 2004حتى انف�صلنا يف منت�صف �صيف تنهب كتبت مدة �شهرين متوا�صلني ،حلقات متقاربة كانت ،2005 ُ ُ يدي نهب ًا لتخرج ،ون�رشتها يف �صفحة خا�صة على ال�شبكة ،بخلفية رمادية تليق بال�شتاء الذي �أجل�س على كر�سيه كل ليلة لأ�ست�أجر منه الكلمات ،وب�أحرف حمراء دكناء ،هي كل ما �أ�ستطيع نطقه من �أبجدية ذلك املوقد. كتبت كثرياً ،كثرياً .وكتابة الإنرتنت تفقدين وعيي بالأ�سطر ُ ٌ فقدت وعيي من�سدل مثل �ستارة ال تنتهي. وال�صفحات ،كل �شيء ُ 178
وتخيلت �أن خم�سة �أ�شهر من غياب غالية امل�ستمر عن باملكان تقريب ًا. ُ حياتي ،كانت فرتة اختمار كافية حلقل هائل من النبيذ احلزين الذي تكد�س يف دمي ،وراح ي�سيل بدكنة الأحمر على رماد ال�صفحة التي ّعت با�سمي الأول فقط ،ك�أي �سجلتها على ال�شبكة با�سم غالية ،ووق ُ جبان. مل يكن ثمة �رصير قلم� ،أو انطواء ورقة ميكن �أن يوقظني من حالة حلمية طويلة اجرتحتها بهذه الكتابة ،حالة مقاومة للموت ،ال�سيما أكدت متام ًا ،من خربة خم�سة �أ�شهر يف ذلك املوت العادي الذميم .ت� ُ ميدان الفراق التام� ،أن �أوجع الأيام بعد احلب ،لي�س �أولها ،لأن النبتة ال تت�أمل فور انقطاع املاء ،بل عندما يبد أ� اجلفاف فع ً ال .و�أنا بد� ُأت مرت هذه الأ�شهر اخلم�سة على غياب غالية، �أت�شقق فعلي ًا بعدما ّ و�صارت م�شاعري تنق�سم انق�سامات جمنونة مثل البكترييا ،وال يبقى اال�شتياق وحده املحفّز احل�رصي للأمل ،بل تتكون م�شاعر جديدة، رمبا ننده�ش عندما نت�صور �أن ال عالقة لها باحلب. كنت �أ�شعر �أن انقطاعي عن غالية ي�شبه و�صويل �إىل نهاية طريق ُ �شعرت يف الأ�شهر اخلم�سة تلك بحالة هائلة من التكا�سل م�سدود. ُ عن ابتداء �أي احتمال حب �آخر ،هذا الك�سل القلبي موجع لوهلة، ورمبا مفيد يف وهالت �أخرى ،ولكنه �أثناء الأ�شهر اخلم�سة ،كان �سبب ًا جيداً للتعا�سة .هذا ال�شعور ب�أن قلبي فقد احل�س متام ًا ،و�أ�صبح جمرد كتلة ع�ضلية تتقلب يف �صدري بروتينية فارغة ،ال تر�سل ،وال ت�ستقبل. وال�سبب الآخر ،هو �أن غيابها امل�ستمر يو ّلد حالة متزايدة من ال�شعور بالهوان� ،شيء ال عالقة له باحلب تقريب ًا ،ولكنه يت�صاعد يف �شخ�صيتي 179
�شعور �رشير فع ً يحر�ض على �أفعال �رشيرة ،ويجعلنا كل يوم ،وهو ٌ ال ،لأنه ّ نت�رصف خارج �آداب احلب ،ويفتح الباب لنزالء غري مرغوب فيهم يف الق�صة كلها ،كاالنتقام مث ً ال ،كالعهر ،وغريهما .وكلهم ي�شو�رشون ب�شكل م�ضاعف على �أي حماولة للبقاء نبي ً ال عن بعد. �إنها �أ�سو�أ امل�شاعر على الإطالق هي تلك التي حتدث عندما ن�ستيقن تدريج ًا �أن ق�صة احلب بد�أت باملوت فع ً ال ،وب�شكل عادي، موت �آخر ،ينتخبنا ب�صمت ،وينجزنا بهدوء، موت خمتلف عن �أي ٍ وبروتينية ال منلك �إزاءها حنق ًا كافي ًا ونحن منوت ،ولذلك هو بالن�سبة �إ ّ يل �أ�سو أ� احتماالت النهاية ،وهو ،ال احلب ،ما جرين �إىل عيادة و ّزان يف النهاية ،لأبحث عن ب�ضع كلمات تقيم الأود ،ورمبا حبوب تقعده. وفق ذلك �أقي�س النهايات الأخرى التي حتدث يف حياتي من وقت فكرت دائم ًا �أن ال لآخر .نهاية �أية مرحلة ،نهاية �أية فكرة ،و�أي حلم. ُ يحبذ املوت العادي البارد لهذه الأ�شياء ،وال النهايات احلام�ضة، �أحد ّ كلنا نريد �أن تنتهي ب�شكل �أ�سطوري مينح هذا املوت عزا ًء �صوري ًا على الأقل. يحبذ الع�شاق �إطالق �رصخاتهم احلادة عند رمبا لهذا ال�سبب ّ النهاية ،هم الذين ما لبثوا ي�ؤجلونها منذ �أول احلب ،مكتفني �أثناءه ب�أنني هادئ ق�صري وم�ستمر ،وعندما ي�ستب�رصون النهاية الو�شيكة يفجعهم ت�صور فكرة املوت العادي لكل ما مروا به من دراما قلبية، وعندما ال ت�ساعدهم الأحداث الرتيبة على تفادي عاد ّية هذا املوت، وبرودته ،جتدهم ي�ستجريون باحلنجرة ،ويطلقون ال�رصخة الأخرية، والأعلى على م�ستوى احلب. 180
لي�س للمقابر �آذان على �أي حال! رمبا من �أجل هذا �أكتب �أنا بعد نهاية امل�شوار ،ولي�س �أثناءه .وهذا م�ؤمل .ليتهم يعلمون ،ي�شبه �أن �أقرر بدء رحلة عك�سية بعد انتهاء الوقود �أ�ص ً أمر ،ببطء م�ؤمل ،يف كل الأمكنة ال ،ولهذا �أكره ال�سري للخلف ،و� ُّ التي قطعتها من قبل �رسيع ًا كوم�ضة ريح جميلة� .أعرتف بهذا الأمل، ولكني ال �أملك من �أمري �شيئ ًا ،فكل �شيء يحتمل� ،إال هذا املوت العادي. املتدرج ،جفّت حكايتي مع غالية ،وك�أنها بهذا الهدوء املاكر ّ كانت التهاب ًا عابراً يف حياتي ،وانتهى .وال �أدري �أ ُيراد بي اخلري �أم يدي �أ�صبحتا منفو�ضتني عن �آخر قطعة من حلوى ال�رش؟ ما �أعرفه �أن ّ احلب ،و�أين ال �أ�ستطيع حتى �أن �أ�شعل �أ�شجان عابر ب�سيط بحكايتي، رغم �أنها كانت مدف�أتي الكربى لأ�شهر عديدة. ي�ؤملني �أن بع�ض احلكايات عندما تبعث على هيئة كتابة ،تتحول �إىل ما ي�شبه الرنني الذي ي�صعد ويهبط يف مواقع خمتلفة من احلكاية، معط ً ال م�سرية ال�شجن� ،إال الذي يرتدد يف �صدري �أنا وحدي ،ورمبا يف �صدر غالية .رمبا هذا ما يجعلنا حمدودين بعدة �آالف فقط من احلكايات املكتوبة� ،إزاء املاليني منها التي حدثت يف احلياة ،ولكنها رف�ضت �أن حتني ر�أ�سها الدرامي الرفيع للكتابة. كل هذه العا�صفة التي بعرثتني طوال هذا احلب ،مل يبق يل منها ما ت�صورت �أن ميكنني من بعث ارتعا�شة طفيفة يف �أطراف ال�سامعني. ُ احلب يندر �أن يجمع لنا احل�سنيني� ،إما �أن مينحنا رغداً موقّت ًا وهادئ ًا ال يلفت الأنظار امل�ؤذية ،نق ّلب فيه بع�ض الأمل ،و�إما �أن يعود مر ًة 181
�أخرى بعد حني ،لي�سرتد عاديته ،ويلملم �أ�شياءه ،وحلظاته ،وغمراته، ويجمع �أ�صداء القبالت يف كي�سها ،وال�ضحكات يف �صندوقها، ويح�رش و�شاح الرحمة الكبري يف جيبه الوا�سع ،ويغلق علينا ال�ستارة، ويو�صد وراءنا امل�رسح ،ويختم علينا باملوت العادي ،ثم يرحل نحو اثنني �آخرين. هل حدث �أن ُخيرّ نا مث ً ال �إذا كنا نرغب يف �أحداث خمتلفة؟ ك�أن ن�شتعل مع ًا مثل خيطني م�ضفورين من البارود ،ينتهيان �إىل ديناميت؟ لنفر�ض �أننا رغبنا طوع ًا يف �أن ننفجر منبهني كل من حولنا �إىل �أن ثمة ق�صة حب لولبية حدثت هنا ،و�أنّ العا�شقني حتمال �آالم هذا اال�شتعال، وم َزق هذا االنفجار ،من �أجل �أن يخلفا وراءهما حكاية ال جترفها ِ الأيام ب�سهولة ،وي�ستحيل �أن تلملم �أطرافها الأفواه ،والأوراق، واملقاهي ،لأنها انفجرت ،وتبعرثت يف كل املجرة. ال مينح احلب خيارات �أخرى� ،إال عندما نتوهم ذلك ،ويف اعتقادي �أن الب�رش مل يكتبوا الكتب ،ومل ي�صنعوا الأفالم� ،إال عندما بلغ يربون كل ما حولهم ليتحول �إحباطهم من عادية الأ�شياء حداً جعلهم ُ �إىل �أ�سنة حادة يخرتقون بها هذا اجلدار العادي امل�ؤمل .اال�شتعال مل يحدث يوم ًا وحده ،لي�س من عادة الطبيعة �أن حترق نف�سها ،علينا نحن �أن نتحمل �أعباء ذلك �إذا بقينا تواقني �إىل كل حريق جميل. كنت �أمر يف كل هذه املراحل بعماء تام ،تارك ًا حتديد و�أنا الذي ُ قررت �أن �أ�رصخ االجتاهات حلاالتي النف�سية املتعاقبة بعد احلب، ُ ال�رصخة الكبرية بعد �أن رحلت غالية ،و�أكتب لها عن احلب ،رغم �أنها مل تكن يف حاجة�إىل ذلك ،وال �أنا. 182
أفجر كل ما يف الأمر �أين ٌ كنت �أقاوم املوت العادي ،و�أحاول �أن � ّ تخيلت �أنها ال حتفل كثرياً مبا بع�ض الألعاب النارية يف ال�سماء التي ّ كنت �أمار�س احلالة النف�سية الطبيعية واملتوقعة بعد يجري حتتهاُ . احلب :ال�رصاخ! وعندما مار�ست هذا ال�رصاخ االلكرتوين ،بدا يل وك�أين دخلت جمعية �رسية لل�صارخني .الق�صة التي كانت حكر القلب� ،أ�صبحت م�شاع الف�ضاء ،والكالم الذي كان رهن رجل وامر�أة ،وهاتفني، وب�ضع ر�سائل ،وج�سديات� ،أ�صبح نافذة لر�سائل ت�أتيني من الآخرين، ال يخرجون عمن عرفتهم م�سبق ًا :حزانى ،وملعونني ،وقطاّع �أمل. �أ�شياء تتقاطع ب�أمل ،و�أخرى تختلف ب�سخف ،ولكني ،تدريج ًا، �رصت مهوو�س ًا بال�رصخات الأخرى ،حمبو�س ًا بينها �أحيان ًا ،وم�شغو ًال ُ برتتيبها وتن�سيقها ،ح�سب م�ستوى القلق الذي ن�شرتك فيه جميع ًا. قلق كامن ،مل يتحرك بعد ،ال �أدري هل كانت كان يف داخلي ٌ الأيام القادمة حتمل يل نوبة ك�آبة جديدة� ،أو �أنها �ستت�أجل طوي ً ال ،حتى تختمر الأحزان متام ًا يف داخلي ،وتعيد ح�شد نف�سها ،ثم تعك�س تيار دمائي فج�أة وتقتلني. م�ضطر لأن �أ�شعر ب�أين �أجته نحو الكتابة ب�شكل م�صريي� ،أ�شعر ب�أين ٌ �أفوح تدريج ًا مثل فوهة بركان ب�أبخرة كثرية ،حتى ال �أ�ضطر للثوران يوم ًا ما ،وتخريب كل �شيء� ،إنه الفعل الوحيد الذي �سيمكنني من نقل املوقد معي ،خارج ال�شتاء. منذ �أن تعلمت عادة البحث عن امر�أة كلما ا�ستيقظ داخلي حزنٌ قدمي ،يف �شتاء جديد ،و�أنا �أرى الفو�ضى التي يخلفها ورائي قلبي، 183
و�أتذكر دائم ًا ب�أنها عاد ٌة �سيئة ،وعاداتي ال�سيئة كرثت يف الآونة أ�صبحت �أقفز يف قرارة اجلرح بنف�سي ،لذلك �أحتاج الأخرية ،و� ُ �إىل خطة ت�صحيحية ،ووقت حمايد ،و�أوراق ،و�أ�صدقاء ،وطبيب نف�سي. ُكتب على احلد الأخري كانت كتابتي تلك ك�أنها الر�سائل التي ت ُ جل�ست تخيلت �أين من ال�سخرية ،باعتبارها �آخر مراحل احلزن. ُ ُ على الر�صيف ،وبد�أت الغناء ،ومل �أبق وحيداً .هناك �آخرون كانوا ينتظرون رفقة الر�صيف هذه ،بقدر ما يكرهون وح�شته ،ويف�شلون متام ًا يف الغناء الفردي. م�شاري �أحد الذين جل�سوا معي منذ البداية ،وا�ست�أذنني يف الغناء الذي ال ي�سمعه غريي ،جاءتني ر�سالته عرب الربيد االلكرتوين هكذا، كنت جمدو ًال بال�صوف ،و�صادف ًا عن الكتابة حادة ومبا�رشة .ولأين ُ انتهيت منها فع ً �شعرت بحنق �صغري �إزاء ر�سائله التي تعاقبت ال، بعدما ُ ُ يف ما بعد ،ولقاءاتنا الق�صرية ،و�سخريته املرة من حزنه وتعبه ،ال�سيما عندما قال يل ذات بوح“ :اكتبني� ،أ�شعر ب�أنك تفهم ما �أقول”. كان هذا �ش�أن ًا يبعث على احلنق بالفعل ،من دون �أن �أعرف له حانق على قراري القا�ضي بالكتابة ،لأجد نف�سي �سبب ًا� ،أ�شعر ب�أين ٌ ُ يحمل حب ًا فريداً ،ف�إذا به يق�صده رجل كان يظن �أنه حتولت من قد ُ ٍ الآخرون من �أجل ب�ضاعة م�شرتكة. رددت طلب م�شاري ل�ست ناق�ش �أو�شام يا عزيزي” ،هكذا ُ “�أنا ُ الذي تقبله بابت�سامة عري�ضة“ ،وال �أ�ستطيع �أن �أكتب حرف ًا �آخر يف الأ�صل ،كل �شيء مل يكن باختياري ،وال �أ�ستطيع بالفعل �أن �أخربك 184
ولكن �شيئ ًا من ال�سخرية ملاذا” ،وكانت نظراته حزينة ،وهو مطرق، ّ كان يفوح من كالمه الأخري. – ال ب�أ�س� ،أنت تعرف كل �شيء الآن. – ماذا تعني؟ – كل ما تعرفه عني لن يكون ق�صة مري�ضة ذات يوم ،تدريج ًا �سرت�سب يف داخلك ،وتنعجن ،وتخرج يف �صورة �أخرى ،ال مييزها ُ الآخرون ،ولكن �أعدك �أن �أميزها �أنا ،لأنها ق�صتي! وابت�سم بانك�سار بارد. قلت له: – ال �أعتقد �أنك فهمتني جيداً يا م�شاري .الأمر ال عالقة له بك، وال بق�صتك ،بل مبدى ا�ستعدادي ال�شخ�صي للكتابة ،ال �أ�ستطيع �أن كنت قادراً �أ�رشح لك كل �شيء هنا ،ولكن على �أقل تقدير� ،أمتنى لو ُ على تفهم بوحك كما يليق. – وهو كذلك. مل �أر م�شاري كثرياً ،تكد�ست يف بريدي �إحدى ع�رشة ر�سالة منه، ّ كل منها حتمل طرف ًا غري مرتابط من ق�صة حب رعناء ،ثم مل يلبث �أن انقطع بينهما احلبل الودود .ويف بريدي اختمرت عدة �أ�شهر ،كنت �أعيد قراءتها من حني لآخر ،من دون �أن �أنتبه �إىل �أن فعل الر�سوب قد بد�أ بالفعل ،و�أين عندما جتتاحني �شهوة الكتابة مرة �أخرى� ،س�أجدين غري قادر على تفادي تفا�صيلها ،وهذا ما حدث فع ً قررت ال .ولهذا ُ �أن �أم�سحها جميع ًا ،حتى ال �أجد نف�سي ذات يوم متورط ًا يف �رسقة بالنيات املتعددة. حزن لي�س يل ،و�أجد نف�سي حما�رصاً ّ 185
ومرمي التي كتبت يل بعد طول تردد كما تقول� ،أكرثت من �شتمي، ومل ترتك تف�سريات كافية ل�شططها ذاك ،ومل �أتتبع احلكاية .وبعد ب�ضعة �أ�سابيع ،جاءتني عدة ف�صول مكتوبة �إىل الربيد الإلكرتوين، وعدة �صفحات م�صورة من موقعي .وو�ضعت خطوط ًا هنا وهناك، وع ّلقت يف �إحدى ر�سائلها “يوجد �شيء من العزاء يف �أن ننطفئ وحدنا من دون �أن ن�ؤذي العامل ،ولكن �أن منوت يف جماعة م�شرتكة، فهذا �أكرث �إهانة مما نحتمل� ،شيء يجعلنا نرف�ض فكرة االنطفاء �أ�ص ً ال، هل فهمت؟ �أنت هو املجاعة امل�شرتكة!” رمبا كانت مرمي هي النقي�ض العك�سي متام ًا لفكرة ال�رصاخ حبها حتت �آخر كثيب من رمل الأخري .هي قررت �أن تدفن ّ ال�صحراء ،وتوفر طاقة ال�رصاخ لت�ستغلها يف امل�شي ،وجتاوز منطقة حب جائر مليء ّ بقطاع الأمل ،قالت يل اليباب التي تركها فيها ٌ يف ر�سالتها قبل الأخرية“ :امل�ؤمل �أن تقرر بنف�سك �أن تكون عابراً، خفيف العبور جداً ،ثم حني ال ينتبه �أحد كما كنت ترغب ،ت�شعر بغ�ضب ال ميكنك تربيره ،فتجد نف�سك تقول كالم ًا مل تكن م�ستعداً لقوله ،لأنك قررت م�سبق ًا �أن تكون خفيف العبور” ،ثم تركت مرمي عدة �سطور خالية ت�شي بالبكاء“ ،تخيل �أن تكون معلق ًا يف م�ساحة مثل هذه الأ�سطر �أعاله ،ال �أنت �أكملت م�رشوع العبور، وال �أح�سنت البقاء ،وبد ًال من �أال ينتبه �إليك �أحد ،انتبهوا فج�أة �إىل �أن الفتاة ،ال تثري االنتباه!” ورحت �أتابع ق�صتها �أعرتف �أن مرمي �أغرتني �أكرث من م�شاري، ُ ارتقيت فعلي ًا من مرحلة احلزانى كنت قد ُ معها ،ونتكلم كثرياً .لأين ُ 186
�إىل مرحلة امللعونني ،وهذا ال يلغي احلزن �أبداً ،ولكنه ي�ستثني براءته وطهره. وافرت�ضت ذلك يف مرمي التي مل يكن حبها كان طوقي مك�سوراً، ُ �أقل �صعوبة من حبي ،وهذا يخت�رص الكثري من امل�سافات بيننا .كانت جميلة كما يفرت�ض بفتاة كانت قيد احلب ،من قلب الريا�ض املليئة ّ أ�صبحت بقطاع الأمل ،التقيتها مراراً يف �أماكن متفرقة من املدينة التي � ُ واكت�شفت تدريج ًا كم هي حزينة، خبرياً يف ارتياد مظالتها العاطفية، ُ وملعونة ،مثلي .وتركنا الأج�ساد تتباكى بع�ضها على بع�ض ،ورممّ نا �شيئ ًا ما ،ور�صفنا طرق ًا مقطوعة ،وتعاونا على تقبل ّ م�سكنات الأمل، كبدائل عملية للحياة ال�سعيدة. �س�ألتها: أ�ساعدك على جتاوز الأمر؟ – هل �أنا � ِ بعد �صمت ق�صري� ،أجابتني مرمي: – �أعتقد �أنك فقط جتعلني �أقل انتباه ًا لتعا�ستي. ابت�سمت قلي ً ال ،و�س�ألتها ونحن جال�سان يف �أعلى غرفة ،من �أعلى ُ فنادق الريا�ض ،نت�أمل من �سقفها املفرت�ض لوحة من الأ�ضواء ال�صفراء التي تبدو مثل خيوط من الذهب ،تخيط املدينة املمزقة ،وتبقيها ن�سيج ًا واحداً موهوم ًا للناظر من �أعلى ،فقط. – هل يفرت�ض �أن �أغ�ضب لتفاهة هذا الدور يا ترى؟ رفعت حاجبيها الرفيعني ،وه ّزت ر�أ�سها عالمة الدراية. عظيم لو تعلم. – هذا الدور ٌ دور عظيم قبل �أن �أ�س�ألها� .أمل يكن هذا هو هديف ُ وكنت �أدرك �أنه ٌ 187
ق�صدت عيادة و ّزان؟ �أن يجعلني �أقل انتباه ًا للتفا�صيل الأول عندما ُ التي ّ أ�صبحت �أ�ساعد كنت مري�ض ًا بهذا� ، ُ تعذب ذاكرتي� .أنا الذي ُ مرمي� ،أو رمبا كانت هي التي ت�ساعدين. كانت مطلقة ،و�أم ًا لثالثة �أطفال مل تعد تراهم منذ �أن قررت هي بنف�سها �أال تراهم�“ .سيكونون بخري لو ظلوا �أبعد ...و�أنا �أي�ض ًا”، وعندما �شعرت ب�أن ذلك مل يقنعني ،قالت يل ب�صوت خفي�ض “ال �أ�ستطيع �أن �أجعل من �أطفايل �ضمادات يل” ،كانت يف منت�صف الثالثني ،لها عينان ميتتان تقريب ًا ،ووج ٌه ممتلئ .كانت ت�شبه �سينثيا قلت لها ،وهي نيك�سون ،بطلة م�سل�سل “اجلن�س واملدينة” ،هكذا ُ �أخربتني �أنها ال ت�ستغرب �أبداً �أن �أتابع مثلها م�سل�س ً ال كهذا. كل حلقة عبارة عن عدة خيبات �صغرية مموهة بال�سخرية ،حتى تلك اللحظات ال�سعيدة كانت جزءاً من �رصاعات �أ�سا�سية مع العمر واملدينة وفو�ضى امل�شاعر ،ولذلك كانت م�شاهدة امل�سل�سل بجوار خيباتنا ،يجعلها تت�ضاءل تدريج ًا حتى ت�صبح واحدة منها ،ونلتفت لوهلة لنجدها قد اختفت ،وذابت يف �أحد امل�شاهد. قالت مرمي: – ثم �إن امل�سل�سل يجعلك تتوهم �أنك قادر على هزم املدينة ،وهذا وهم مفيد. – ملاذا ال يكون حقيقة؟ – لأن مدينتنا ال ميكن هزمها يا عزيزي ،النقطة الوحيدة التي ميكن �أن تك�سبها يف �رصاع خميف مع الريا�ض ،هي �أن ترحل عنها. – �أ�صبحت كلمة الرحيل دارجة عندما يتعلق الأمر بالع�شق. – هل تالحظ هذا مثلي ،جميل .توقّعت �أين الوحيدة التي 188
الحظت ذلك. – ملاذا يف ر�أيك؟ – ملاذا ،ملاذا ،ملاذا ،ملاذا! ابت�سمت بخجل ،وقلت: ُ أعدك ،فقط �أجيبيني. – هذه �آخر ملاذاِ � ، – �أعتقد �أن يف الرحيل طاقة رومان�سية معربة. – ال. – ماذا �إذن؟ – يف الرحيل �رصخة كبرية. التقيت مرمي عدة �ساعات ،يف فندقنا العايل ويف �إحدى املرات ُ نف�سه ،وعندما تركتني بعد ارتواء� ،أر�سلت ر�سالة �إىل هاتفي: “�أر�أيت؟ مل تنتبه الريا�ض �إىل �أن التي جاءت ظم�أى ،خرجت وقد ارتوت كثرياً .املدينة مل تعد تنتبه كثرياً ،و�ضعف ب�رصها وذاكرتها، خمن ماذا؟ ال فرق!” ومرمي مل تعد مرمي ،وّ ... ج�رس من الكتابة جعل مرمي وغريها كثريات يعربن �إ ّ يل .تدريج ًا بد� ُأت �أ�ستنتج كم يف هذه املدينة من اجلياع واجلائعات .ال ميكن �أن تكون عندنا م�ساحة �ضيقة جداً �إىل هذا احلد وال ننتبه �إليها �إال عندما عرفت ملاذا جدران هذه املدينة �أ�سمك نقع �صدف ًة يف عملية حب. ُ و�أ�سوارها �أعلى ،ثمة �أ�شياء من اجلموح بحيث ال ميكن �أن يبقيها يف أ�سوار كهذه. الداخل �إال � ٌ ولهذا يتكلم اجلميع هنا لغة ال�رسية بطالقة. كنت �أعيد تق�سيم حياتي و�سط هذا الفي�ض من احلزانى الذين ُ 189
�شعرت ب�أن ال �شيء يف حياتي ب�أ�رسها كان م�صريي ًا جل�سوا معي فج�أة، ُ كنت ولداً مطيع ًا ومثالي ًا يف �أ�رسة �صغرية وعادية، وحا�سم ًا ومهم ًاُ ، لي�س عندي موهبة وال ميزة وال حتى م�رشوع مكتمل .ومل يبد�أ �شيء يف تغيري هذا امل�سار الب�سيط يف حياتي �إال الن�ساء ،وبدونهن ،ال يبقى أ�سكن ج�سده �إال م�ساحة باهتة هائلة جداً ،ال مييزها يف الرجل الذي � ُ �شيء من � ّأي يباب �إن�ساين عابر. هن! �إن حياتي تر�سمها الن�ساء ،وتاريخي يكتبنه ّ وال �أجد يف �سجالت عمري �أية ف�سح ٍة زمنية �أ�ستطيع �أن �أعلنها منطقة خالية من الفعل الأنثوي� ،أو م�ساح ًة مل تتداخل فيها مقومات ح�ضارته ،ومل ترتك لها �أثراً يفّ ،ويف حياتي .حتى برجي كان العذراء، قررت �أال تخرج �إىل احلياة، وحتى �رشيكتي يف رحم �أمي كانت بنت ًا َّ وماتت يف جواري ،يف الرحم العميقة ،قبل الوالدة .ت�صورت �أنها، �سمتها �أمي (هيفاء) ،عندما �أح�ست �أنها ال ت�ستطيع �إكمال �أختي التي ّ رحلتها ،و�ستموت ،حقنت يف ج�سدي الل�صيق بها قبل �أن متوت كل هرمونها الأنثوي ،ورحلت ،حتى �أ�ستطيع �أن �أخرج �أنا حي ًا ،و أ��ؤدي ر�سالة مزدوجة يف احلياة. وحتى نفحة الهواء التي اخرتت منها �أول �أنفا�سي يف الدنيا ،كانت من بريوت ،املدينة الأنثى ،كما �أن �أول يد ب�رشية مل�ست جلدي كانت أعلنت والئي لهذا العامل الذي ال �أنتمي يد طبيبة �أنثى .العذر يل �إذا � ُ �إليه. كنت م�ستعداً جيني ًا حلاالت الع�شق ،ورقة �أمزجته ،فال هكذاُ ، �أمي تعبت يف تربيتي ،وال نادية واجهت �صعوب ًة يف حبها يل ،ومل 190
ترهقني كثرياً بنات ال�صيف اللواتي �أراهن �أثناء الإجازات يف التقاط املتع الق�صرية معهن ،ومل تتعب غالية يف اعتقال نب�ضي امل�شاغب، ويعد وكان �صوت اجلورية� ،صوتها وحده ،يكتب تذكرة ال�سفر، ُّ حقائبه. الو�صول �إ ّ علي �صعب .هذا هو �أنا مع الن�ساء، يل �سهل ،والإبقاء ّ باخت�صار .وحدها غالية التي عاملتني كم�رشوع �أكرث مني كرجل، كانت الأقدر على االحتفاظ بي ،وعندما جنحت ،عندما �أقنعتني متام ًا �أنها �أطل�س كل الن�ساء ،ا�ضطرتها ظروفها �أن تهجر بنف�سها ما �سعت يف توطينه با�سمها ،وتركتني �أتهادى بني �أفقني ،ممكن وم�ستحيل. تركتني م�رشوع ًا يف منت�صف التنفيذ ،اختفت خمططاته ،وبقي معلق ًا يف ق�صبة الظن. هل كان ممكن ًا �أن متنحني غالية المر�أة �أخرى ،رج ً ال حمتمل الوفاء؟ جنحت يف اللقاء رمبا كان �أكرث من ثالثني امر�أة ،جمموع اللواتي ُ افتتحت مو�سم ًا م�ستق ً ال من اجل�سدي بهن ،لكل واحدة منهن ُ واحتفظت بتذكار من الق�ص�ص. احل�صاد، ُ متنيت يف ولكن ،كم هي رتيبة الق�ص�ص عندما ت�صبح كثرية .وكم ُ حلظات قدمية لو كان عندي ق�ص ٌة واحدة عتيدة ،عن امر�أة ال ثانية لها، تخت�رص كل احلاالت التي ميكن �أن متررها يل الن�ساء الأخريات. تدحرجت كرند مذهول وكنت �صغرياً ،فهل ُيالم ال�صغار؟ عندما ُ ُ على �أول �أنثى يف حياتي ،كان عمري خم�س ع�رشة �سنة ،وكانت هي رقع ًة غري عادلة بالن�سبة يل ،عمرها جتاوز الثالثني بعدة �سنوات� ،أكرث 191
من �أرقام الرند� ،أكرث من ال�صفر الكبري الذي يرتجم ح�صيلة جتاربي مع امر�أة �آنذاك. جذبتني بابت�سامة وا�سعة� ،أكرث االبت�سامات التي ر�أيتها يف حياتي ات�ساع ًا ،كادت �أن تبتلعني بها ،ومل تتكلم كثرياً ،كانت ب�ضع كلمات تتحرك نحو الهدف مبا�رشة ،و�أنا �أرتب الرجولة ال�صغرية املتف�شية يف ج�سدي �آنذاك ،و�أحاول �أن �أجهز �أول ت�شكيل لها يف مواجهة عر�ض ترددت �إليها لر�ضو�ض �أنثوي كهذا .املكان عياد ٌة �صغرية يف الريا�ض ُ يف يدي من لعب الكرة ،واملر�أة كانت طبيبة عربية ،وجهها م�ستدير، و�صدرها �ضخم جداً ،والفت لالنتباه. جعلتني تلك املر�أة لعين ًا جداً كما ي�سميني �أحمد �أحيان ًا ،ويعرف بحد�س الأخ الأكرب �أين بد�أت �أنقّب يف �أر�ض الن�ساء ،و�أبحث عن احلياتي منهن ،ولأن امر�أة ما ،تركب �سيارة فارهة ،ومعتمة ن�صيبي ّ جداً ،ا�ستوقفتني ذات يوم مع �أ�صدقائي ،وتركت يل رقمها مع ب�ضع ٌ فطويت خجلي مقبول جداً عند الن�ساء، �شعرت �أنني كلمات ناعمة، ُ ُ وانتحلت جر�أة كبرية يف اقتحام الكالم معهن ،وكانت ورميته بعيداً، ُ تروقهن دائم ًا. ا�ستيقظ ج�سدي مبكراً جداً ،وال �أدري �أي �آثار �سيئة حلقت بي جراء ذلك� ،أنا مت�أكد �أنها �آثار �سيئة� ،أو رمبا خ�سائر مرحلية ،لأين ّ كنت معطل احلوا�س ال�شعورية �إال من أحببت غاليةُ ، حتى عندما � ُ كنت مكر�س ًا لذلك العبث ،ذلك الطرب اجل�سدي الق�صري، الرغبةُ ، خ�رست عمراً كان �أجدر به �أن ي�صاغ جيداً يف ذلك العنفوان ال�ضائع. ُ كموئل روحي عميق كان ميكن �أن �أنفق منه خ�رست املر�أة نف�سها، ُ ٍ 192
على �أحا�سي�سي وقدراتي ال�شعورية ،و�أ�ستمد منه لغة الروح ،و�أقطف منه كب�سولة النور �أحيان ًا .امتهنتها كثرياً عندما حولتها من دون �أن �أدري �إىل هدف موقّت ،يبد أ� باملراودة ،وينتهي باجلن�س املتكرر عدة مرات حتى �أم ّلها ومت ّلني .طوال �سنوات واملر�أة عندي هدف م�ؤقت، ولكن ا�شتعايل اخلاطئ مل تكن هكذا من قبل ،وهي لي�ست هكذا الآن، ّ رمبا جعلني �أخ�رس ح�ضورها يف روحي كل تلك ال�سنوات تقريب ًا. �أ�صبحت املر�أة عندي جمرد خرب� ،إما �أن يكون ،و�إما �أنه كان ٌ حا�صل يف جملة اعرتا�ضية ال �أريدها .كم �أكره وانتهى ،و�إما �أنه العالقة التي �أن�سى بعدها ا�سم الفتاة! وكلما قفزت يف ذهني الآن �صورة قدمية لفتاة ق�ضيت معها بع�ض الوقت ،ومل �أفلح يف قطف ا�سمها كام ً خ�رست �صفق ًة كبري ًة معها� ،أ�شعر ال من ذاكرتي� ،أ�شعر ب�أين ُ منجم ما ،من دون �أن �أنتبه ملا فيه ،ومل �أ�ستخرج من كنت يف ب�أين ُ ٍ �أنوثتها التي كانت �أمامي زيت ال�شهوة ،كما ُي�ستخرج امل�سك من الغزالن. زيت كهذا .ولهذا �أنا خ�سائري كثرية ،والرتف �أي امر�أة ،عندها ٌ غم�ست ج�سدي فيه ب�ضع �سنوات �أبطل الكثري من حوا�سي، الذي ُ و�أحرق �أ�شجاراً كان من املمكن �أن تغري ت�ضاري�س نف�سي ،لو قدر لها �أن تبقى ،ولكن الن�ساء ال يعدن ،و�إن عدن فال تكون عودتهن كالإتيان الأول �أبداً� ،أبداً. تثقفت مع غالية� ،أو تثقفت مع كل امر�أة مقدار ما �أتخيل لو �أين ُ ُ بع�ضه� ،أي رجل �س�أكون؟ رغم �أن الن�ساء يكتنب تاريخي ،ف�إن �أجزاء كثيفة من هذا التاريخ 193
م�شوهة ،ومل حتفظ جيداً ،كما هو التاريخ دائم ًا ،ال ميكن �أن يظل ّ نظيف ًا .ثالثون امر�أة� ،أو �أكرث ،مل �أحفل ب�إح�صاء عددهن �إال الآن، ا�ستطعت احتجت �إىل �أن �أكتب هذه الكلمات ،لي�س منهن من عندما ُ ُ �أن �أحوز بيدي منها حدث ًا ُيروى� ،أو كالم ًا ُيقال ،ولو على عتبات بقيت حتى املقاهي ،ولوال �أن جتربتي مع غالية غيرّ ت الكثري ،لرمبا ُ هذا العهد متنق ً ال من جلد امر�أة �إىل جلد امر�أة �أخرى كبعو�ضة �شبقة، ال يهمها �إال �أن متلأ بطنها باملتعة ،وال �أعرف كيف �أ�ستثمر حادثة حياتية كبرية جداً ،مثل حادثة لقاء رجل وامر�أة. كنت �أرحل دائم ًا قبل �أن ورغم �أن حياتي تر�سمها الن�ساء ،فقد ُ ينهني ر�سمهن ،و�أحيان ًا يف اخلطوط الب�سيطة الأوىل على “�سكيت�ش” التجربة .ومل �أكن �أعرف �أين �أغامر بالتعر�ض للحياة باهت ًا ،حمروم ًا خ�سارات كبرية املفرقة ملالحمي� ،إنها ٌ من الألوان ،و ُم َّ غي َب التفا�صيل ِّ فع ً ال. ال ،ت� ّأملت �أمي وجهي طوي ً كنت طف ً ال ،و�أنا م�ضطجع يف عندما ُ وكنت يف املقابل ح�ضنها ،وكانت تقول�“ :سينبت �شاربك مبكراً”، ُ �أت� ّأمل وجهها العابق برائحة احلنو و�أنده�ش ،فرتدف“ :بلى� ،سي�صبح �شارب مثل بابا” ،ف�أتذكر �شاربه الأبي�ض الذي يلت�صق بلحيته، عندك ٌ و�أحتج ب�صوت خمنوق“ :ما �أبغى �شنب� ،أبغى �أ�صري مثلك ..وجهي نظيف!” رجال يا ولدي. – ولكنك ّ – طيب فيه رجال بدون �شنب؟ – همممم ،فيه ،ب�س يحلقونه. 194
– كيف يحلقونه؟ – باملو�س. يعور؟ – ما ّ يعورهم. يعور ،ال�صغار ّ – للكبار ب�س ما ّ – ملا يطلع يل �شنب راح �أحلقه. – طيب يا حبيبي. – طيب ليه بابا ما يحلق �شنبه؟ – لأن �شنبه حلو. – لأ ،انتي �أحلى! وت�ضمني �إىل وتقبلني �أمي يف �شفتي ،يف �شفتي متام ًا ،كعا�شقني، ّ ّ علي دعاءها املعتاد“ :جعل �صدرها ك�أمنا ُ كنت تائه ًا منذ قرون ،ومتد ّ يومي قبل يومك ،اهلل ال يحرمني من حبيبي” كنت حمظوظ ًا برعاية �أمي ،حمفوظ ًا جداً عندها وك�أين حبة ف�ستق ُ بني �شقيها ال�صلبني ،ولوال �أننا ب�رشٌ حلملتني على ظهرها مثلما تفعل يحتج عليها ال�سلحفاة ب�صغارها .دللتني مبزاج مو�صول عند � ٍأب ال ُّ بدعوى الإف�ساد كما يفعل الآباء عادة ،بل يعينها على م�رشوعها املتوا�صل يف �إبقائي معلق ًا بني دفتي �سماء ،كنعمة �إلهية.
**** ّ أفقت حل العيد، ُ وقررت �أن �أ�سافر �إىل بريوت� .صباح ذلك اليومُ � ، �سمعت �صوت �أبي يف مبزاج قلق ،كما هي حايل دائم ًا قبل ال�سفر. ُ 195
نزلت �إليه بعد اغت�سال �رسيع لعلي �أجل�س معه قبل �أن يحني احلديقةُ . موعد الطائرة ،ووجدته قد �أوى �إىل طاولته ال�صغرية يف ركنه الذي يحب �أن يقر�أ فيه جرائده دائم ًا. كنت �أ�شعر بحمو�ضة ما يف عقلي� ،أو قلبي ،ال �أتذكر حتديداً، ُ كنت متفق ًا على لقاء مرمي هناك بعد ولكنها ال تبعث على ال�سكينةُ . أخرت �أنا �إىل اليوم �أن �سبقتني �إىل بريوت منذ بدء الإجازة ،بينما ت� ُ الثاين للعيد حتى �أمار�س طقو�س العيد الأوىل مع �أبي. – �أه ً ال يا ،يا (م�سافر وحدك). قالها �أبي ،وابت�سامة �ضئيلة تنح�رش يف فمه ال�صغري ،وتكملها عيناه اللتان ت�ضحكان ب�صمت من وراء النظارة. – �صباح اخلري� ،أم�س رجعت ما لقيتك ع�شان �أقول لك �إين م�سافر. – يعني كنت ناوي تودعني (من غري ما ت�س ّلم). حممد عبد الوهاب حا�رضٌ معنا �إذن على الطاولة ال�صباحية التي جتمعني ب�أبي ،و�أغنيته اللطيفة تلك حتتل مزاج �أبي يف �صباح اليوم الثاين للعيد. �أمتنى �أحيان ًا لو �أرث من �أبي قدرته الفائقة على �ضبط مزاجه ل�سنوات ،من دون �أن يختل �إال يف ظروف نادرة جداً ،ولفرتة ق�صرية غالب ًا ،هذه الروح الرا�ضية التي تفوح من قمي�ص �أيامه تثري احل�سد فع ً ال ،هو الذي ميتطي �آخر عقده ال�سابع على عجل ،و�أنا يف �أواخر كهالم على �صخرة. مزاج متقلب ٍ الع�رشين وعندي ٌ رمبا نظامه املحكم جداً يف �إدارة الوقت والتاريخ يجعله يفوز 196
دائم ًا بهذا املزاج امل�ستقر ،بجوار اال�ستقاللية التي يحيط نف�سه و�أ�رسته ال�صغرية بها� ،أقول رمبا وال �أدري ،لأين �أحتفظ لنف�سي ولكن مزاجي �شيء ال ميكن تنظيمه بحياة �شبه منتظمة كتلك، ّ �إطالق ًا . – عندي �أ�شغال يف بريوت. – فع ً ال ،بريوت حتتاجك هذه الأيام ،هناك �أزمة برملانية. ت�ضحك �أمي ،و�أبت�سم �أنا ل�سخرية �أبي العابرة .تبادلنا بع�ض الكالم ،وبع�ض القهوة ،ثم تركتهما وهما ي�ستعدان للخروج .قال �أبي قبل �أن يذهب: – ال تن�س نادية يا ح�سان. – طبع ًا يا والدي ،طبع ًا. جل�ست �أكمل قهوتي و�ضممت �أمي .ثم ّقبلته على جبينه ويده، ُ ُ بهدوء ،وقد �أ�صبحت فكرة ال�سفر �إىل بريوت تروقني جداً. عندما حتركت ال�سيارة فع ً �شعرت ب�أن قلبي ينب�ض ب�سذاجة، ال، ُ أ�صدق �أنه ينتظرين حقيق ًة خلف وك�أنّ بريوت �صارت وهم ًا ال � ّ �ساعتني ون�صف ال�ساعة فقط .ثمة كنوز �صغرية تخبئها يل مرمي وبريوت حتم ًا .طرق دمي �أبواب ًا �صغرية يف ج�سدي ظلت مقفلة منذ �أن رحلت غالية ،وعروق ًا تتكفل دائم ًا بالن�شوة والرغبة يف احلياة، ويف نيل بهجة عابرة قبل �أن ي�سحبها القدر من �أمامي ،ويعيدها �إىل جيبه ،فبد�أت �أ�ستح�رض يف الطريق �إىل املطار تلك الفل�سفات التي متجد املتعة ،ووجدتها �سهلة املرور يف فرجات عقلي. ّ يف الطائرة فكرت ما ال�شعور الذي �سرياودين لو مل �أجد 197
ما �أتوقعه من متعة؟ هل �س�أن�سجم مع دور ال�سائح الذي مل ي�أت من �أجل ال�سياحة �أ�ص ً ال ،و�إمنا ر�ضي به كمعطى �إ�ضايف؟ �أو �أنني �س�أنتك�س كعادتي الطفولية الدائمة ،و�أ�سعى للخروج من دائرتها املغلقة التي دخلتها را�ضي ًا ،و�أحاول تربير كل ت�رصفاتي امل�ضادة مل�صلحة ظرويف ،ملقي ًا كل التبعات املتعلقة ب�ضمريي يف منطقة التفكري امل�ؤجل؟ هذا هو املطار �أخرياً ،وهذه مرمي ،تقف يف زحام امل�ستقبلني ك�أنها �شجرة من �أ�شجار الزينة البال�ستيكية النحيلةّ ،قبلتها ،و�ضممتها، عطر ثقيل بدا وا�ضح ًا ُ و�شممت يف �شعرها رائحة تدخني قريب ّ ميوهه ٌ خرجت معها من املطار �إىل ال�سيارة التي تنتظرنا تواً. �أن مرمي ّ ُ ر�شته ّ خارجه. تخاطبني مرمي بلقب (حبيبي) ،و�أنا �أ�شعر ب�أن الكلمة ثقيلة جداً على �سمعي ،وك�أنها ٌ طبل �صفيق .مل �أكن �أ�ستطيع �أن �أطلب منها اختيار كلمة �أخرى حتى ال �أبدو �سمج ًا متعالي ًا .كان وا�ضح ًا �أنها ت�ستمتع كثرياً ب�شكل عالقتنا امل�رسحي هذا ،والطريقة التي نتداخل فيها مع �أنف�سنا من دون ت�شابك خطر. ورغم القليل من اخل�شونة التي ت�شوب ت�رصفات مرمي ،وردود كنت �أ�شعر بالراحة �أفعالها غري املربرة �أحيان ًا جتاه �ش�ؤون �سخيفةُ ، معها .كانت عالقتنا ت�شبه التمارين الريا�ضية ،واال�ستمتاع بالإرهاق. تثبت اقتناعي مبا قاله يل �أمين يوم ًا� .أحيان ًا �أتخيل ك�أن عالقتي بها ُ مررت به �أنا ،و�إال فكيف نقع على الأفكار مر ب�أ�شياء �شبيهة مبا ُ �أنه ّ 198
نف�سها يف النهاية ،و�أحيان ًا �أخرى �أنف�ض هذه الفكرة من ر�أ�سي، و�أفكر ب�شكل منطقي :رمبا ا�ست�شعارنا امل�سبق لت�شابه اقتناعاتنا ،هو الذي جعلنا نبد أ� هذه ال�صداقة �أ�ص ً ال. كان يقول عن عالقتي مبرمي: – هذا هو امل�ستوى احلقيقي للعالقة مع الأنثى ،مبا �أنك ال تخدع، وال تكذب ،وال تغوي ،فهناك امر�أة تريدك �أنت ،و�أنت تريدها ،وفق اتفاق �ضمني �أن ال تربطا م�صرييكما الواحد بالآخر .من الذي ابتدع بدعة احلب امل�صريي هذه؟ كنت يف مزاج عابث وهو يقول يل هذا الكالم ،ولهذا �أجبته ُ ب�سخرية: – قي�س. – لي�س وحده ،بل ابتدعتها العقلية الذكورية امل�سيطرة عرب التاريخ، عقلية احتكار املر�أة ،واعتبارها من بقية الأمالك التي �إما �أن حتوزها، �أو تقاتل من �أجلها� ،أو متوت كمداً عليها .حتى املر�أة نف�سها مت�أثرة بهذا االغتيال اجلماعي جلن�سها ،و�أ�صبحت تتجه ال �إرادي ًا لأن حتول نف�سها �إىل هذا ال�شيء اململوك ،فرتيدك �أن تتزوجها� ،أو ت�سعى للزواج بها� ،أو تعلن حزنك عليها ،ال�شيء نف�سه! تذكرت غالية ،وقرار عودتها �أخرياً �إىل مط ّلقها ال�سابق ،ترى هل ُ عادت �إليه فع ً ال �أم ترددت؟ – اتفق معك يا �أمين ،ولكن من ال�صعوبة �أن تقف يف وجه جمتمع ب�أ�رسه� .أنت تعرف �أين ال �أملك هذه الروح الن�ضالية� ،أنا �أعي�ش يومي الآن ،ولكني �أعرف �أين ال بد منته �إىل امر�أة واحدة يف النهاية، 199
�ستكون زوجتي ،وال�سالم. – هذا يف النهاية ،ال ب�أ�س� ،أما الآن ف�صدقني �أن ال �أحد يلومك على �سلوكك احلايل ،لأنه �سلوك فطري ،ي�شبه �سلوك الطيور التي تتجه يف كل مو�سم تزاوج �إىل �رشيك جديد ،مما يجعل حياتها �أخ�صب ،و�أجود .هل هناك �أ�سعد من الطيور؟ – رمبا. – ال تبدو مقتنع ًا. – ماذا يهم يف املو�ضوع؟ ال يوجد �أي قرار ينتظر �أن �أتخذه .ها �أنا �أعي�ش مثلما تريد الرياح. – �أعرف .ولكن بع�ض نوبات الذنوب والندم التي حتتل وجهك فج�أة ،ت�ستفزين. – رمبا �أنا �ضعيف �أمام النقد واللوم. – ّ فكر دائم ًا يف من يلومك� ،ستجد �أ�سباب ًا خفية وراء لومه لك ،ال يدعيها. عالقة لها باملثالية التي ّ – ولكن هناك ن�ساء مثاليات فع ً ال ،ل�سن مثل مرمي ،ال تنكر هذا. – ال �أنكر ذلك ،بل هناك ن�ساء خارقات جداً� ،أنت ال تفهمني جيداً ،الن�ساء ل�سن قطيع �أغنام مت�شابهة يا رجل .هل تعتقد �أن جن�س الرجال وحده هو الذي ي�أتي بالعظماء والكبار ،بينما اجلن�س الأنثوي لي�س كذلك؟ لكن... – ال طبع ًا ،ال �أق�صدْ ، وقاطعني بيده ،وهو ير�شف البقية من كوب املاء ،ثم �أكمل: – يف الن�ساء عظيمات ،مميزات ،خارقات ،وا�ستثنائيات فع ً ال ،ال 200
ميكن �أن ترف�ض هذا ،ولكن ال�س�ؤال :هل املر�أة اال�ستثناء ،الأف�ضل، الأعظم ،الأكرث متيزاً هي الأف�ضل لك بال�رضورة؟ – ال ،طبع ًا. – �أكيد ،لأن امر�أة كهذه �سيقتلك متيزها �أكرث مما �سيمتعك� ،أو ًال لأنك �ستحبها اقتناع ًا بعقلك مثلما �ستحبها اجنذاب ًا بقلبك ،وهذه االزدواجية يف احلب �ستق�سمك ن�صفني عند �أول منعطف يف عالقتكما. – ملاذا ت�سميها ازدواجية؟ رمبا كانت وحدة عقلية قلبية جتعل الأمور �أكرث ي�رساً� .أنا وغالية اتفق قلبانا حتم ًا ،ولكن اختلفنا يف القرار ال�صحيح الذي يجب �أن تتخذه ،هذا اختالف عقلي. – ال ،بالعك�س. – كيف العك�س؟ هل تعرف غالية �أكرث مني؟ – ال �أعرفها ،فقط �إ�سمع وجهة نظري .اختالفك مع غالية هنا ال منكما ر�أى ر�أي ًا خمتلف ًا ،بل لأن ك ً لي�س اختالف ًا عقلي ًا لأن ك ً ال منكما ميتلك قدرة عقلية م�ضاهية للآخر ،وهذا ما اعرتفتما به منذ البدء، حبكما عقلي ًا ،ال�ستطاع � ٌّأي منكما �أن وعربمتا عنه باحلب ،فلو مل يكن ّ يقنع الآخر .باخت�صار ،لو مل يكن حبكما عقلي ًا ،لأ�صبحتما تفكران بعقل واحد ،عقلك �أو عقلها ،فتتفقان حتم ًا. – طيب وما احلل؟ ماذا كان يجب �أن �أفعل؟ هل �أطفئ عقلها منذ البداية؟ – ال ،كان عليك �أن تتجنبها منذ البداية .تهرب منها بالأحرى. دائم ًا حاول �أن جتعل املر�أة املميزة ،العظيمة ،اال�ستثنائية �صديقتك، 201
حبها ،متيزها �سي�ؤذيك، ولي�س حبيبتك� ،ست�ستمتع ب�صداقتها �أكرث من ّ �سي�ؤملك ،ويف املقابل ،ال �أريح ،وال �أجمل من حب امر�أة عادية، جتدها يف كل مكان. وهربت بب�رصي بعيداً عن وجهه، ابت�سمت ابت�سامة وا�سعة، ُ ُ ومتتمت بكلمات خجلى من منطقه القوي. ُ – هذا �صعب. أ�سباب �أخرى مل تدعني �أقولها ،وهي �أن املر�أة املميزة – هناك � ٌ �صعبة التعوي�ض �إذا ما حيل بينك وبينها ،و�أخرياً حتى لو بقيت معك، ف�ستكون امر�أة متطلبة غالب ًا ،وترهقك. �صمت ق�صري ،و�أنا �أفكر يف كالمه بعمق ،وابت�سم. �ساد ٌ قال �أمين: – �إذا ر�أيتك تبت�سم بعد كالمي �أعرف �أنك مقتنع متام ًا. و�أدار وجهه نحو اجلهة الأخرى من املقهى ،وهو يبت�سم ابت�سام ًة ال تخلو من خجل طفيف. بعد �صمت عابر ،عاد �أمين يتكلم بانفعال �أقل ،ونربة �أكرث هدوءاً، وببطء: لق معها – تعرف يا ح�سان �أن كل امر�أة مميزة يخلقها اهللْ ، يخ ُ �أحزان ًا وم�شاكل كثرية ،لأن متيزها هو خروج عن امل�ألوف ،و�إال ما كان متيزاً �أ�ص ً ال ،والبد من خ�سائر �إذن ،هناك خ�سارة مرادفة يجب �أن حتدث يف مكان ما على الأر�ض� ،إما يف قلب رجل� ،أو يف �أوراق كاتب� ،أو يف م�صري �أ�رسة� ،أو حتى يف تاريخ دولة� ،إىل �آخر ف�ساد تنفثه يف الأر�ض �أنثى عظيمة ما. 202
– رحمتك يا اهلل. – حتى هي نف�سها ي�ؤذيها متيزها .ولو �أنها كانت عادية ،لرمبا كانت �آالمها �أقل. – �صحيح ،الب�سيطات عاد ًة ال يحزنّ كثرياً� ،سطحية التفكري كثرياً ما تتعار�ض مع عمق الهموم. – ولهذه �أقول دائم ًا :اجعلهن عاديات يا �إلهي ،ت�صبح الأر�ض �أكرث هدوءاً. قت عليها ب�إمياءات ر�أ�سي، �ضحكت من عبارته الأخرية، ّ و�صد ُ ُ قبل �أن ي�ضع �أمين عبارته الأخرية: – تذكر دائم ًا �أنه من نعم اهلل الكربى� ،أنه ال يوجد عالقة تنا�سبية بني جمال الن�ساء وم�ستوى عقولهن ،و�إال النق�سمت الن�ساء �إىل� :إما نابغات ال ِق َبل لنا بهن� ،أو طحالب ال يلفنت االنتباه �إطالق ًا! هكذا �أمين ،دائم ًا م ّتك أ� يل ،يف حلظات كثرية �أ�شعر براحة كبرية معه؟ �أحيان ًا ال �أعتقد �أن عمرنا املتقارب جداً� ،أو ثقافتنا� ،أو �أي ًا من العوامل املت�شابهة الأخرى� ،سبب ذلك ،بقدر ما �أعتقد �أن مهاراته االجتماعية عالية جداً ،مما يجعله ذكي ًا يف قراءة �شخ�صيتي ،والإتيان �سلوكي ًا مبا ينا�سبني ،ف�أ�شعر بالراحة معه. ويك�سب هو ت�ألق ًا اجتماعي ًا متزايداً ،معارفه كرث ،حتى �إن �شعرة واحدة تكاد تف�صله عن �أن يكون م�شهوراً مثل النجوم .الكثريون ي�س ّلمون عليه هنا ،ومعظمهم �أ�صدقاء قدامى� ،أ�ستغرب احلميمية اخلا�صة التي يبديها اجلميع عندما يلتقونه ،و�أ�س�أل �أين وجد �أمين وقت ًا كافي ًا يق�ضيه مع كل منهم حتى يجعله حميم ًا �إىل هذا احلد؟ 203
ق�ضيت معه أ�صبحت �أنا نف�سي �صديق ًا حميم ًا لأمين؟ وهل متى � ُ ُ وقت ًا كافي ًا يربر ذلك؟ لقد ق�ضيت مع �أخيه و ّزان وقت ًا �أطول ،بحكم �أن �صداقتنا ابتد�أت قبل تعريف �إىل �أمين ب�أ�شهر� .أحيان ًا �أ�شعر ب�أن و ّزان مل يعرفني �إىل �أمين� ،إال كجزء من العالج.
**** زرت نادية �صباح ًا. ُ ال�شوارع التي ر�صفها الربيع باخ�رضار مفاجئ �أخذتني �إليها، تلك هي نف�سها التي ظ ّلت ت�أخذين �إليها طوال �سنوات عديدة كل �إجازة بعد احلرب ،و�سنوات قليلة �أخرى مل �أكن �أتذكر فيها �شكل �شعور طاغ ب�إلفة مررت بها ،اكتنفني ال�شوارع متام ًا ،ولكني كلما ُ ٌ متوح�شة ،غائ�صة يف طفولتي ،وال �أ�ستطيع انت�شاله متام ًا ،وال تذكر تفا�صيله. وعرثت بعثاري الأول، �شممت الرائحة الأوىل يف احلياة، هنا ُ ُ وتكلمت كلماتي الأوىل� .أبي و�أمي كانا يعمالن على م�رشوع ُ تن�شئتي ك�شجرة �أرز يف لبنان ،حماط باملكان اجلميل ،والكالم اجلميل، موال� ،أو متدلٍ من تويج زهرة .كانا يعتزمان البقاء ومهدهد يف قلب ّ هنا بقية العمر ،وكان �أبي �سيبني بيت ًا يف جوار بيت نادية ،ووداع ًا �أيتها الريا�ض الغريبة. املنعطف الأخري قبل بيت نادية ،ثم الدجاجات املتناثرة �أمامه مثل كرات كبرية من القطن ،تتدحرج هارب ًة من ال�سيارة التي اقرتبت، 204
ومنبه ًة نادية التي هرعت من الفناء اخللفي ،ويف يدها دلو ماء كبري، تر�ش احلديقة. وردا�ؤها اخلفيف حم�شور بني فخذيها .كانت ُّ مات زوجها قبل �سنوات فقرياً ،وهي ال تزال مت�شبثة بعرق احلياة. وتطوق عنقي، �أزورها دائم ًا ،وتعانقني مثل فتاة مراهقة يف ال�سبعني، ّ وتختار لقبلتها �أوفر مكان يف خدي .كنت وحدي يف مرمى �شفتيها تقبل يفّ� ،أمي ،و�أبي ،وال�سنوات اللطاف النحيلتني ،ولكنها كانت ّ التي غ ّلفت عالقتنا ك�أ�رستني �صغريتني ،جتاورتا ردح ًا من الزمن يف تلونت الأ�شجار ب�ألوان �أخرى. جونيه ،ثم ّ – يا ابني كيفا � ّأمك ،وكيفو ّبيك؟ – كلهم بخري ،وم�شتاقني لك كثري. – ولي�ش ما �إجو معك؟ �شنب ،تعبانني �شي؟ – �أبداً ،كلهم ب�صحة ونعمة ،وجايني يف الإجازة القادمة كالعادة. – �أي ،واهلل يا ابني احلالة متل مانك �شايفَا ،معترّ ة ،و�أنا كربت خال�ص. هكذا نادية يف ال�سنوات الأخرية ،تفتح �صنبور ال�شكوى من ك�سوف م�ستمر ،وبعد موت كنت �أعرف �أنها يف حال ٍ دون منا�سبةُ . ع�شت فيه طفول ًة ال زوجها ازدادت وحد ًة وتعا�سة .بيتها الذي ُ ت�سعفني بها الذاكرة كان يهرتئ يوم ًا بعد يوم ،وتغري مالحمه حماوالتها الكثرية لرتميمه ب�شكل غري منظم. – اهلل ال يحرمني منكن ،واهلل لوال م�ساعدتكن كان �أنا خل�صت من زمان ،ك�رست �ضهري هاالر�ض اجلردا ،منزوعة بركتها نزع. 205
– انتي غالية علينا يا خالة ،احنا �أهل. ح�ضرّ ت يل قهوة ،و�إفطاراً ب�سيط ًا من بي�ض ،وخبزاً �أبي�ض جلبه جل�ست �أتناول �إفطاري يف مطبخها �صبي قريب ،وبع�ض الأجبان، ُ ال�صغري ،وهي جتل�س يف جواري ،وتتكلم كالم ًا كثرياً جداً .حتكي يل عن كل �شيء ،منذ �أن زرتها �آخر مرة ،كيف تركها الفالحون الذين كانت تتفق معهم على فالحة �أر�ضها مقابل جزء من الفواكه وبع�ض اخل�رض .حكت يل عن ال�شتاء الأخري كيف جاء قار�س ًا ،وعن فاتورة الكهرباء ،وعن انقطاع خط الهاتف ،وعن �آالم ركبتيها، والدجاجات التي تنفق ،والزيت الذي ينفد �أ�رسع من املعتاد .الكثري من ال�شكوى ،فقط. ملاذا ال حتدثني نادية مثل حكاياتها القدمية؟ �أ�ساطري ال�ضيعة، علي قدمي ًا، وتخاريف املا�ضي ،والأ�شياء الغريبة التي كانت تق�صها ّ ويف كل مرة تتغري الق�صة ،لأعرف �أن نادية ت�رسد من خميلتها �أكرث مما ت�رسد من ذاكرتها ،املهم �أن تبقيني م�ستمتع ًا ،وم�شدوداً �إليها بالأذن والقلب .ملاذا منذ مات زوجها �أ�صبح كالمها ال يخرج عن حيز ال�شكوى والتذمر؟ هل هذا الذي ك�رس حالها ك�رس حكاياتها كنت �أ�سامره ليايل طويلة وك�أنه وجه فتاة �أي�ض ًا؟ هل هذا وجهها الذي ُ جامد على املالمح غجرية ،ال وجه امر�أة يف �أرذل العمر؟ هو الآن ٌ ذاتها منذ زيارتي الأخرية ،و�سيبقى هكذا حتى �أزورها يف املرة علي ذاكرتي اخل�صيبة القادمة� .أ�صبحت زياراتي لها جمرد واجب متليه ّ كنت هنا الآن. معها ،ولوال هذه الذاكرة ملا ُ ال �شيء يبقى على حاله ،حتى وجوه املُ�س ّنني التي نحب ،وحتى 206
مواقيت الف�صول �صارت تتغيرّ ح�سب مقيا�س الوجع اجلديد� .إىل هذا البيت كان يهفو قلبي قبل �أن تبلغه خطاي الراك�ضة نحو ح�ضنها الهزيل ،والآن �أجيء �إىل هنا هارع ًا �إىل ال�ساعة يف كل حني ،لعلها تدور �رسيع ًا ،ولعلي �أن�رصف بعد �أن �أكلني امللل. �أ�صبحت مملة ،نادية� ،أرجوحة احلكايات القدمية� ...صدئت. تركت يف يدها الدوالرات الألفني التي حملتها لها معي ،وحقيب ًة ُ كبري ًة من املالب�س �أر�سلتها �إليها �أمي ،ووعدتها �أن �أزورها دائم ًا خالل �إجازتي. – ببريوت انته نازل؟ – �أجل. – ولي�ش ما نزلت عندي يا ابني ،ل�شو هالأوتيالت والغلبة؟ انت ما تعلمت مت�شي وال حتكي غري بي هالبيت. – �أكيد ،ولكن معي �صديق ،وكمان عندي �أ�شغال كثرية يف بريوت. – بال�سالمة يا ابني. قلت لأبي مر ًة بعد عودتي من بريوت “�إنني �أحب نادية ك�أمي، ُ بلت على الع�شب ،والتي حرمتني ولكني �أحب نادية التي �رضبتني عندما ُ �ضعت منها يف م�شوارنا نحو اخلروج يومني �أمامك �أنت و�أمي عندما ُ البقالة ،من دون �أن تتدخال يف قرارها� .أحب نادية القدمية التي كانت تت�رصف وك�أنها تقا�سمكما �سلطات �أبوتكما يل� ،أحببتها �أكرث من نادية ح�سن �إليها ونت�صدق عليها كل �إجازة”. الآن ،العجوز التي ُن ُ ورمى �أبي نظرته خلف كالمي ،ومل يزد على قوله: 207
– اهلل يلطف بحالها يا ولدي. الإح�سان يقطع من اجل�سور �أحيان ًا �أكرث مما يبني ،و�أبي قال �إنه رمبا يجعل نادية تقيم يف �شقتنا يف بريوت �إذا ا�شرتاها ،لتهتم ب�أمورها يف غيابنا .تدريج ًا �ستتحول نادية �إىل خادمة بعد �أن كانت جار ًة طيبة ،و�أم ًا بديلة ،و�صديقة عريقة ،تب ًا للأ�شياء التي نعرفها، وال منلك تبديلها.
208
VII كان يوم ًا �صعب ًا بالن�سبة يل ،والكثري من العرق ن�ضحته على قارعة التفكري ،و�أعو�ضه بقارورة املاء البال�ستيكية التي �أقب�ض عليها بتوتر، جزت الغرفة املربعة مراراً منذ فتحتج ب�أ�صوات تك�رساتها املرتدة. ُ ُّ عدت من �صالة الفجر ،ومل �أمتكن من النوم مرة �أخرى .كانت �أن ُ الفكرة تتوغّ ل يف عقلي ب�شكل م�ؤمل ،وم�شاعري ترك�ض من �أق�صى القلب �إىل �أق�صاه ،وتطلق �أ�صوات ًا عالية ،وحتدث �صخب ًا ال ميكن معه �أن �أركن �إىل قرار هادئ. “يبدو �أنك مل تنم جيداً” ،قال �أبي ونحن من�شي على مهل ،عائدين من امل�سجد ،والريا�ض ت�ستيقظ ببطء�“ .شيل التلفزيون من غرفتك، �أنا ما �رصت �أنام مرتاح �إال بعد ما �شلته” ،و�أوم�أت بر�أ�سي عالمة �إيجاب مطواع ،قبل �أن �أالحظ �أنه ال يراين ما دمنا من�شي متحاذ َيني، فتمتمت بخفوت “لي�س التلفزيون يا �أبي ،هناك بع�ض الأمور ت�شغلني ُ هذه الأيام”. �صمت �أبي قلي ً يد�س املفتاح يف ثقب الباب ال ،ثم قال وهو ّ اخلارجي للبيت: 209
– كان اهلل يف عونك. آثرت �أن �أفعل ذلك يف وقت فكرت �أن �أ�صارحه مبا ي�شغلني ،ثم � ُ ُ ا�ستطعت �أن �أتو�صل �إىل قرار مريح وحدي هذا اليوم. الحق ،فرمبا ُ العلوي ،واجتهت �إىل غرفتي يف �أق�صى افرتقت عنه بعد �أن بلغنا الطابق ّ ُ الي�سار. أيت ع�صفوراً رمادي ًا من ع�صافري الريا�ض املت َعبة يقف على ر� ُ نافذتي ،يت�أمل غرفتي بف�ضول من وراء الزجاج ال�سميك ،هل بعثته غالية؟ رمبا جت ّند الع�صافري يف مهمات يومية كما تفعل اجلميالت، لتحر�ضني على قرارات �صعبة� ،أو �أن �شيئ ًا م�رشوخ ًا يف عقلي �صار ّ يرى غالية وراء كل ما يحدث يف حياتي. وقفت �أمام النافذة �أت�أمله قلي ً ال لعله ي�ساعدين ،ولكنه مل يفعل. ُ نظر �إ ّ يل بعينيه اجلامدتني ،ور�أ�سه املائل ،قبل �أن يقفز عدة قفزات على �ساقيه النحيلتني ،ثم يقرر �أن يرتك نافذتي ويطري ،ليحط على خزان بيت جارنا تركي ،ويحاول �أن يح�سو من املاء القليل املتجمع فوقه. كنت � ّ أقل حرية الآن مما �أنا عليه لو �أن غالية جاءت �أقل جما ًال، رمبا ُ لأجيء �أنا �أقل اندفاع ًا يف املقابل .امل�شكلة �أنها ا�ست�أثرت بتلك الفتنة اجلنوبية الطاغية التي تقر�ص القلب ،وت�سقطه يف حالة �شهوة كربى للظفر ،واالمتالك ،واال�ستئثار بهذا الينبوع الأنثوي املكتمل ،كل يوم ،وكل ليلة .ال �أ�ستغرب �أنها تزوجت يف تلك ال�سن املبكرة .رغم حياتها املنعزلة هي و�أمها ،طارت الأخبار �إىل ال�ساحل الغربي ،ليطرق بابهما فج�أة ٌ رجل ال يعرفهما ،وال يعرفانه ،ويعود بغالية. الأغنياء ال ميلكون فقط القدرة على جمع املال ،بل احلقيقة �أن 210
الغنى مينح ذويه مهارة خا�صة متكنهم من اقتنا�ص الأ�شياء اجلميلة وحيازتها �أف�ضل من غريهم� ،أي ًا كانت هذه الأ�شياء .كان يف الثالثني من عمره ،وهي يف التا�سعة ع�رشة ،وكانت �سنتها الأوىل التي تدر�سها يف اجلامعة كافية ليت�رسب خرب جمالها كما يت�رسب ال�صباح تدريج ًا فوق الدنيا. قابع على الطاولة مثل ماراثوين منهك، ُ حت�س�ست هاتفي ،وهو ٌ �شا�شته ال�صامتة تخفي وراءها غيب ًا ما .هذا الهاتف نف�سه كان هدي ًة منها ،مل يكن عيد ميالد ،وال منا�سبة �أخرى ،كان جمرد بديل لهاتفي حمام ال�سباحة القدمي الذي كان يف جيبي عندما دفعتني غالية يف ّ الكبري يف بيتنا. – ح�سان ،هل املاء بارد؟ واقرتبت لأمل�س �سطح املاء ،و�أعود �إليها باخلرب ،واختلط �صوت ُ ارتطامي باملاء ب�ضحكتها النافذة التي تخرج ب�أناقة مفرطة ،مكتومة غ�صت بل�ؤل�ؤة ،وتدحرجت من فمها رنات بع�ض ال�شيء ك�أنها ّ مدوزنة بانتظام �شديد. زلت �أمل�س فيها حاالت متقنة منذ �أن بد�أت �ألتقي غالية مراراً ،ما ُ جداً من الفتنة ،والكالم ،و�أالحظ حتى طريقتها يف ال�ضحك والبكاء. هذه احلاالت تلت�صق بالذاكرة مثل الكائنات الهالمية ،وتفرز كل ما ميكنه �أن يقلب كيمياء الروح ،ويغري قوانينها ،وتظل يف ر�سالتها الطويلة تلك حتى ي�صبح قرار احلب جاهزاً ،ومو�ضوع ًا على الطاولة، بانتظار �أول نب�ضة قلب ت�ستيقظ يف ال�صباح ،وحتمله �إىل بقية العمر. غمرتني غالية بالآالف من هذه احلاالت ،فلم ترتك يل فر�صة 211
للتعود .لفتات وجهها تربق يف عقلي مثل الفال�شات ال�ضوئية املبهرة، والكلمات التي تقولها بتحريف متعمد ّ تظل معلقة يف �سمعي مدة طويلة مثل الأوتار امل�شدودة� .أكررها على نف�سي وك�أين �أحاول تعلم لغة جديدة ،بينما �أنا �أزداد انغما�س ًا يف قناعات عاطفية مبهمة� ،أنها الفتاة التي �أريد. بحمام ال�سباحة ،و�أغلقت اجتهت غالية نحو باب الغرفة امللحقة ّ بابها ب�إحكام ،وراحت ظاللها من وراء الباب الزجاجي املموه تنحني وت�ستقيم عدة مرات ،مبا ي�شي �أنها تغري مالب�سها ،وتعلقها برتتيب يف امل�شاجب املنبثقة من اجلدار ال�سرياميكي الأزرق ،ولكنها يف احلقيقة مل تكن تغريها كما بدا يل ،بل كانت تخلعها فقط. بعد ثوان ،م�شت نحو امل�سبح وهي تبت�سم بدالل ،ثم تغم�س نف�سها فيه تدريج ًا ،عارية متام ًا ،وراحت دوائر املاء من ج�سدها حتج �إىل �أطراف امل�سبح ،تلقي �أخباراً ،وجتلب ما ًء جديداً املنحدرُّ ، يلم�س ج�سدها ،ويلمع على بطنها ،و�صدرها ،وخدها ،ويقطر من �شعرها الطويل على فمي� .رسق املاء من جلدها الكثري من ُنحاتة �رسبها من م�سام جلدي� ،آالف ًا ال�ضوءّ ، وذوبها يف هذا املاء الكثري ،ثم ّ من الطرواديني ال�صغار. أحداث كثرية تتدافع يف �سجل الع�شق املائي ذاك ،قبل ٌة كانت � ٌ ٌ ٌ جذل بني طريف و�سباق بطول �أنفا�سنا املحبو�سة على عمق مرتين، ٌ وعناق حمموم فوق طوق املطاط .وغالية جتيد ال�سباحة احلو�ض، مثل �سمكة ق�ضت حياتها يف البحر ،و�أنا يدركني اللهاث وال �أملك جماراتها ،ولكني �أحاول ب�صعوبة �أن �أبدو متما�سك ًا ،و�أخفف قلي ً ال 212
من عالمات االنبهار املحرجة التي راحت تطفو على وجهي، وكلماتي. عندما ا�ضطجعنا مع ًا على �ضفة احلو�ض كانت غالية مل�ساء جداً، يقطر منها املاء ،ونظراتها امللقاة على وجهي كانت �صاخبة ،والأ�شياء التي حولنا ت�شهد العزف املجنون الذي ت�ؤديه غالية على �أع�صابي، وقعت عليها مثل حبات املاء ،وزجاج ال�سقف ،وده�شات الرخام. ُ و�شعرت �أين مل �أرك�ض م�سافة كهذه من قبل، مت�سلق بلغ القمة �أخرياً، ُ مرات بهذا العدد ،منذ �أن ابتد�أت حياتي. ومل �أنتف�ض ٍ غالية الآن حتتل جهات غرفتي الأربع� .أحاول �أن �أجتنب االت�صال حاولت �أن �أ�ضع املعادلة يف �أب�سط بها خ�شية �أن �أخد�ش القرار. ُ �صورها لعلها متنحني حلها املفقود� ،أو تومئ �إ ّ يل ،وتتزن ،ولو لثوان معدودات� ،أتخذ فيها قراري ،وال �أبايل بعد ذلك. �رشبت كل ما تبقى من قنينة املياه ال�صحية يف جوار �رسيري ،ثم ُ وات�صلت بها: حملت هاتفي، ُ ُ – غالية. – مرحب ًا حبيبي. غيابك. أحبك فوق قدرتي على احتمال ِ – �أعتقد �أين � ِ – حبيبي ،توين �شفتك من يومني! – انتظري قلي ً ال حتى �أنهي كالمي. وت�ضحك غالية. – طيب ،ولكن من البداية� ،صدقني ما �أقدر �أ�شوفك ،لأن �أمي داخت اليوم ،والزم �أقعد معها. 213
– لي�س هذا �سبب ات�صايل. كمل. – طيب ّ أحبك! –� ِ – و�أنا كمان حبيبي. كنت كرمي ًة جداً عندما �أحببتني. – و�أعتقد � ِ أنك ِ – حياتي �أنت. ا�ستيقظت اليوم �صباح ًا ،لأكت�شف �أن �أقبح م�ساحة – و�أعتقد �أين ُ يف العامل هي م�ساحة ال�رسير الزائدة عن ج�سدي ،واخلالية من ج�سدك. – ..................... أتزوجك. – و�أعتقد �أين ال �أملك خياراً �آخر� ،إال �أن � ّ �أذكر �أن غالية �صمتت طوي ً ال ،ثم ن�شجت ،وبد�أت تبكي. �صارحت فيه م�ضى كل �شيء بعد ذلك بي�رس ،حتى اليوم الذي ُ والدي برغبتي يف الزواج بها كان ناعم ًا كاحلرير� .أبي مل يعرت�ض ّ البتة ،وك�أن الأمر ال يعنيه ،بل �ضحك قلي ً ال وهو ير ّدد ب�صوت عال: “مل يكن جمرد مقال يف املجلة �إذن” ،ثم نه�ض من جل�سته كي �أفهم �أنه ال يطالبني بالتربير ،و�أنه كان ميزح فقط“ ،رتّب مع �أمك ،واهلل يكتب اللي فيه اخلري”� .أما �أمي فقد �أبدت بع�ض التحفظات الطفيفة جتاه �أمومتها. – يا ولدي �أنا عارفة �أن غالية بنت طيبة ،و�أمها كمان ،لكن متنيت لك بنت متفرغة ،ما عندها �أوالد ،وال تزوجت من قبل. – �أهم �شيء التفاهم يا �أمي ،هذي التفا�صيل ب�سيطة. تطول. – طيب فكر �أكرث ،خلي اخلطبة ّ 214
– فكرت كثري يا �أمي ،هذي القرارات مو �سهلة ،و�أنا مو مراهق ع�شان �أندفع. – وابنها؟ – راح يعي�ش معنا ،اتفقنا على هذا ال�شيء من زمان. تتحمله؟ – مت�أكد �أنك تقدر ّ – بالت�أكيد يا �أمي. ر�ضوخ �أمي وموافقتها ال�رسيعة ّ �شكال لنا ده�ش ًة جماعية ،هي التي كثرياً ما حدثتني عن تلك الفتاة التي �ستختارها يل عندما �أقرر الزواج، كف الرحمن ،حتى ال يوجد يف و�أنها ال بد �أن تكون موزون ًة يف ّ الدنيا امر�أة �أف�ضل منها .ها هي تقبل تزويجي مط ّلقة ،و� ّأم ًا ،وقد ابتلعت يف �سبيل موافقة كهذه تقاليد هائلة. انتظرنا �أ�سابيع قليلة ليعود والد غالية من �سفره ،وكانت موافقته فورية جداً ،كعادة �آباء املطلقات ،وانتهت الطقو�س املعتادة �رسيع ًا، اخلطبة والقران يف يوم واحد ،و�أ�صبحت غالية زوجتي تقريب ًا ،على �أن يتم الزفاف خالل �أ�سابيع ال �أكرث. وجهي �آنذاك �أ�صبح مر�آ ًة كبريةُ ،يرى فيها كل �شيء .والأحالم التي طفحت من قرارة القلب ،لتحتفل يف ذروة اجلبني .كل ال�سعادة التي �أ�سقطها اهلل على الأر�ض التقط ُتها وحدي تلك الليلة ،وركبتني بقيت يف بيت غالية حتى ن�شوة العاملني ،وبركتهم ،وخري ربهم. ُ مهر َجينْ ُجعل رزقهما يف �ساعات الفجر الأوىلُ � ، أرق�ص معها مثل ّ رق�صهما ،فذهبا يجتهدان يف ذلك كثرياً .التقطنا مئات ال�صور، حولنا ودارت بي غالية يف �أرجاء البيت بعد �أن ان�رصف املدعوونّ ، 215
املكان �إىل فو�ضى كبرية ،وتناولنا قبالت عميقة جداً� ،سالت لها �شفة بدم طفيف. غالية ٍ حتول جذلها �إىل ما ي�شبه �سكر ًة �صغرية، �أخذتني �إىل غرفتها وقد ّ واقف فوق �أعلى قمة على وجه ولي�س جمرد حبور ،و�أنا �أ�شعر ب�أين ٌ أ�شم �أ�صابع القدر ،و�أ�شعر بالندى يكتنف كل الأر�ض ،حتى �أين � ُّ زاوية �ضيقة من روحي ،ويغ�سلها جيداً بعطر غريب� .إلت�صق �أحدنا بالآخر �أكرث من �أي يوم ،و�أبلغ من كل مرة ،و�أعلى من كل لقاء ،لهثنا كثرياً ،وابت�سمت يل غالية االبت�سامة التي ال ت�صنعها �إال �شفتاها فقط، وهم�ست: – فيه �شي خمتلف. – ما هو؟ – هاملرة ،حالل. – ولكني ال �أرى �أن املرات ال�سابقة كانت حرام ًا! – هممم� ،صحيح ،ولكن لي�س باتفاق اجلميع. عدت من بيتها ذلك اليوم يف ال�ساد�سة �صباح ًا ،نزلت دموعي ُ و�أنا �أخلع مالب�سي ،و�أ�ستحم ،و�أتخيل وجه غالية الذي �صار مو�شوم ًا على كل بقع ٍة من جلدي ،وميلأين جذ ًال مثل بالون �أحمر يف �سماء كرنفال جمنون .كم �أنت كر ٌمي يف منح ال�سعادة اليوم �أيها الأعلى، فامنحني فم ًا �أو�سع لأ�ضحك ،وجبين ًا �أطهر لأ�سجد ،و�شفاه ًا �أكرث لأبت�سم ابت�سامة �شاطئية تخت�رص كل مالحمي منذ �أن ولدت ،وحتى أ�صبحت هذا الزوج ال�سعيد. � ُ أنواع من النب�ضات مل يعرفها من قبل ،وا�شتعلت مرت بقلبي � ٌ 216
يف وجهي �أ�ضواء ال ت�شتعل �إال مر ًة واحدة يف عمر الإن�سان، وا�ستهلكتها غالية كلها �آنذاك ،يف �شهر وحيد ،كان يقع حم�شوراً بني عقد قراننا وليلة الزفاف املوعودة. متنيت لو �أن كنت ُ ليت �أمي مل ت�رص على �أن تقيم حفل زفافُ . أ�رصت. الزفاف كان جمموع ًا يف ليلة القران نف�سها، ّ ولكن �أمي � ّ – كم مرة راح �أفرح فيك يعني؟ مو كفاية كل �شي اتفقتوا عليه انت واياها من دوين ،خلي يل �أنا مو�ضوع احلفلة ،يعني انتو م�ستعجلني على اي�ش؟ كلها �شهر واحد نح�رض للحفل ،وانتهينا. منت يف لأننا كنا جذلني جداً ،كان ال�شهر �أكرث من �أن نعتد بهُ ، بيت غالية ليايل ووالدتها ته ُّز ر�أ�سها بابت�سامة غام�ضة �إذا ر�أتني، بحمى العجلة ،ونفاد ال�صرب، وتتعجب لأمر الزوجني اللذين ينتف�ضان ّ �أال ي�صربان ب�ضعة �أيام حتى يتزوجا؟ ولكنها مل تكن تعرت�ض� ،أو رمبا غالية كانت تتفاهم مع �أمها جيداً .وعندما تنام غالية يف بيتي ،كان وي�رص على �أن ويرحب بغالية كثرياً، �أبي يبتهج جداً من جنوننا ذاك، ّ ّ يقدم لها الإفطار بيده على طاولة الطعام ،تارك ًا �إياها ُ تغرق يف خجل �شديد فال تتكلم �إال ملام ًا ،بينما مت�سك �أمي بذراعي خلف الباب، وتهم�س يل بعتب. – يا ح�سان ،ترى ما ي�صري كذا ،مو �أ�صول .كيف جتيبها تنام عندنا قبل الزواج ،ما ت�صربون كم يوم؟ – يا �أمي ،مو احنا متزوجني الآن؟ – نعم يا ولدي ،ولكن الزم الإ�شهار. – كان هناك مدعوون كرث يف القران ،هذا هو الإ�شهار. 217
– طيب انتبهوا يا ولدي. و�أفهم متام ًا ما ترمي �أمي �إليه ،وما تريدين �أن �أنتبه �إليه و�أحذر، ونعرف يف قرارة نف�سينا� ،أنا وغالية� ،أننا يف الليلة املا�ضية ،والتي قبلها ،والتي قبلها �أي�ض ًا ،مل ننتبه قط ،يكفي �أننا انتبهنا جيداً ،ومبا فيه الكفاية ،يف الأيام التي �سبقت عهد احلب القلق. كنت �أهم�س لها يف �أوج الدوخة التي ت�سبق انهماري يف �رسيري ُ عليها كمطر �شهوة ا�ستوائية حارة. متزوجني ،وزفافنا بعد ب�ضعة �أيام ،ما الداعي لهذه الأ�شياء – �أل�سنا ّ الآن؟ وترميني غالية بعني خجلى ،وتفكر قلي ً ال ،ثم تومئ بر�أ�سها عالمة املوافقة ،ف�أرمي علبة الواقي بعيداً ،و�ألتحم بها �إىل �آخر ما ي�أخذنا �إليه مدى الرغبة ،و�أبعرث يف ج�سمها لقاح ًا مليئ ًا بالأمل اجلامحّ ، ظل منذ �أول احلب �إما حمبو�س ًا يف حمب�س البال�ستيك� ،أو مبعرثاً خارج بقعة �أحالمه. حتى عندما �سافرت �إىل دبي قبل الزفاف ب�أ�سبوع� ،سافرت غالية معي� ،رضبت �أمي كف ًا بكف ،وقالت �إنني �س�أجعلها جمنون ًة يف هذه الأيام القليلة التي ت�سبق زفايف. – يابن احلالل خ ّلي البنت جتهز نف�سها قبل الزواج ،لي�ش تاخذها معك؟ – هي تبي تروح معي. – طيب و�ش يقولون النا�س؟ �سافروا وهم ما تزوجوا بعد؟ – ما راح �أحد يدري �أنها �سافرت معي ،كلها يومني ب�س. 218
وطارت بنا الطائرة على ده�شة �أمي ،وقلقها ال�شديد ،وحد�سها �أن ما نفعله �أنا وغالية يجب �أال يكون ،لأن الأحداث يجب �أال ت�سبق �أوانها ،فقط. عرفت مطارها، ا�ستقبلتنا دبي ،فاحت ًة الذراعني الأو�سع منذ ُ و�شعرها الأ�سود الطويل نزلت ويف يدي يد غالية، و�شوارعها الأوىلُ . ُ منر بها ،ويعرب ج�سمها يكتب على الهواء ،ويوقّع دفاتر الأ�شياء التي ّ ال�شيق حيث ال �أملك �إال �أن �أرمقها دائم ًا بعني ملأى غبط ًة ور�ض ًا، ّ اخرتت جناح ًا رائع ًا حتى و�شعوراً بالرثاء� .سك ّنا يف فندق �ساحلي، ُ ا�ستحمام تورق فيه غالية كما ت�شاء ،وحتى �أ�ضمن �أن �أجد فيه حو�ض ٍ يكفينا مع ًا. �أحيان ًا ،تغيرّ املدن لغة اجل�سد ،ولهجاته يف ارتكاب الرغبات، وثقافته يف االت�صال باجل�سد الآخر املوجود يف حيازته ،ولهذا فتحنا �شباك ال�رشفة الكبري على هواء �أر�سله البحر بال انتظار ،وارمتينا على جنيات �شبقات ال�رسير ،وال�ستائر املتطايرة من هواء البحر تولول مثل ّ وطلبت زجاجة �شامبانيا ثمينة. ال يهد�أن. ُ كنت حما�رصاً برائحة الك�أ�س ،ووجه غالية الذي اتفق مع دبي ُ جداً� .رشبنا كثرياً .وعينا غالية ت�ست�أذنان كل دقيقة ،وتغط�سان يف البحر القريب ،ثم تعودان بزرق ٍة جديدة للنظرة القادمة� .رشبنا كثرياً .وبدا يل �أن كل كلمة تقولها غالية ال �أ�سمعها فقط ،بل تلعقني �أحيان ًا من �أول ال�صدر حتى �آخر العنق ،ثم تنزل يف قلبي مثل �إلهام وحتول الليل �إىل مو�سم ،وحتولت غالية �إىل حقل، راق� .رشبنا كثرياًّ . وحتولت �أنا �إىل حمراث .و�رشبنا �أكرث ،و�أ�صبحت غالية حمراب ًا �أجد 219
رزقي عنده كل وهلة ،وخ�صلة �شعر تفر من البقية وتر�سم قو�س ًا �سوداء تبد أ� من جبينها وتنتهي يف الزاوية ال�صعبة بني �شفتيها ،وجتعل وجه غالية خمتلف ًا ،و�ضحكتها تلك التي مل تكن مر�صود ًة يف كنوز الكالم ،جتعلني �أنفق ده�شة جديدة من الده�شات التي �أدخرها لبقية عمري معها. �شعرت خالل وهلة �صمت �أن جمال غالية عريق جداً و�أ�صيل، ُ �إىل حد �أين �أعتقد �أنها ابنة حواء املبا�رشة ،ولي�س بينهما تلك ال�سل�سلة الطويلة من الن�ساء ،و�شعرها ال�سيمفوين الذي �ضفرته قبل قليل� ،أ�صبح وكنت �أ�شعر �أين �إذا �سحبته انبلج النهار، حبل مع ّلق ب�سقف الليل، ُ مثل ٍ مثل �أباجورة .وعرفت ،لأول مرة� ،أن مفتاح �إنارة الدنيا يف �ضفرية غالية. ُ ن�رسف يف �إعالن احلب ،جناهر به مثل انقالب، كنا يف دبي، وهناك يف الريا�ض ،كانت الأقدار قد نزلت فع ً ال ،يف غيابنا الذي مل ن�ؤمنه جيداً �ضد ظروف �أخرى قد تلحق بنا ،وحلقت فع ً ال ،عندما عاد زوجها ال�سابق ،وانتزع في�صل من عند جدته ،وغادر. ُج ّنت غاليةُ ،ج ّنت متام ًا! كنا ن�ستعد لليلة جديدة من �أن�سنا ال�سابق ،عندما قررت غالية �أن تهاتف �أمها ،ف�أخربتها مبا كان ،ومل حتتمل غالية ،انهارت مثل بيت من كنت الق�ش ،وراحت ت�رصخ من دون �أن �أعي ما الذي حدث ،فقط ُ �أ�سمعها تطرح على �أمها �أ�سئلة مذهولة ك�أنها تعاتبها�“ :أخذه!! متى؟ ال�سماعة من يدها املرجتفة، وليه تخلينه ياخذه؟” ،و�أخرياً �سقطت ّ واندفعت تبكي بوجل رهيب وهي تهتف“ :ولدي ،ولدي”. 220
– يله نروح املطار. – غالية ،غداً رحلتنا �صباح ًا على �أي حال ،وال يوجد رحالت الآن. – يله نروح املطار ،حرام عليك ،ولدي بياخذونه مني. – ما راح ياخذه يا غالية� ،أكيد الرجال يبغى يق�ضي كم يوم مع ولده ،وراح يرجعه. – م�ستحيل! هذي �أول مرة ياخذه من عندي� ،أكيد ما راح يرجعه ،م�ستحيل ،يله نروح املطار ،وال ترى بروح لوحدي. رحت �أحاول �أن �أ�ضمها وهي تتمل�ص مني بعناد ،وتنادي ابنها ُ بال�صوت املذهول نف�سه ،ودموعها تدفق بغزارة ،ووجهها م�شوب لثكل مرتقب ،وبالكاد جل�ست �أخرياً ،بعد �أن اقرتحت بلوعة حقيقية ٍ عليها �أن نت�صل ببيت مط ّلقها ،ونتفاهم و�إياه. وطلبت طبيب ًا وحبوب ًا مهدئة، ات�صلت بخدمة النزالء �أو ًال، ُ ُ فجاء الطبيب ،وتناولت غالية احلبوب التي جلبها معه وهي ذاهلة النظرات ،تبكي ببطء و�أ�سى ،بينما راح يلف على ذراعها �آلة قيا�س ال�ضغط ،وينفخها بد�أب ،وهو يراقب �ساعته. دقات طويلة خلف �أرقام الهواتف التي حتفظها غالية لبيتها ٌ ال�سابق ،قبل �أن ترد خادمة عرفتها غالية ،ف�صاحت بها بتو�سل: – فني في�صل؟ – نائم. – ليه بابا �أخذ في�صل؟ – ما �أعرف! 221
– طيب فني بابا؟ – حلظة. ورحت �أراقب غالية وهي ترجتف ،وتنتظر �صوته ،وفور �أن �سمعته ال�سماعة هتفت به: يتنحنح قريب ًا من ّ – ليه �أخذت في�صل؟ وجاء �صوته الثقيل مليئ ًا ب�ضجر راكد: – لأنك متزوجة� ،أنا ما راح �أخلي ابني يعي�ش مع رجل ثاين. – لكن احنا ما اتفقنا على كذا. – احنا ما اتفقنا على �شي �أ�ص ً ال ،والولد خليته معك لأنه �صغري فقط ،بدون حماكم وم�شاكل ،لكن �إذا تزوجتي ما راح �أخليه يبقى معك ،انتهى املو�ضوع. – حرام عليك ،حرام. علي �إذا خليت ابني يرتبى مع رجل غريب. – حرام ّ – ولكنه معي �أنا� ،أنا �أمه ،تعتقد �أين ما راح �أهتم فيه؟ – لو بتهتمني فيه فع ً ال ما تزوجتي. – حرام عليك ،تبيني �أقعد بدون زواج طول عمري؟ – ال طبع ًا .تزوجي زي ما حتبني ،لكن في�صل عندي. واختلط �أنني غالية الغريب ،مع دقات الهاتف التي تعلن انف�صال اخلط. �ش ّتان بني ليلة �أم�س ،وهذه الليلة. كيف ي�ستطيع القدر �أن يقلب الأدوار �إىل هذا احلد ،وبهذه الزاوية ،من النقي�ض �إىل النقي�ض؟ كيف َ�ش َط َبنا فج�أة من الئحة ال�سعداء اجلذلني ،و�أعاد كتابتنا يف الئحة الأ�شقياء اجلزعني ،من دون �أن نلملم 222
�أطراف �سعادتنا ،ومن دون �أن ن�أخذ معنا ذاكرة احللم الوهمي الذي انق�ضى قبل �أن يبد�أ ،ومات قبل �أن ُيخلق؟ �صامتان مثل زورقني يف مرف أ� مهجور ،ال �شيء يك�رس ال�سكون �إال �شهقات �صغرية ت�سحب بها غالية �أنفا�سها الباكية ،وجترع مرارة جتهز لها ذهو ًال الئق ًا. الك�أ�س املفاجئة التي مل تتخيلها ،ومل ّ وفتحت �أنا نافذة ال�رشفة على م�رصاعيها من قامت �إىل احلمام، ُ دون مربر ،لأحرك همود �صدري الكبري. ود�ست عادت غالية بعد قليل ،اقرتبت مني بينما �أراقبها �أنا بقلقّ ، ر�أ�سها حتت عنقي ،وهم�ست يل ب�صوت مبحوح: – �أنت عارف و�ش الزم ي�صري يا ح�سان؟ – ماذا؟ – ما نقدر نتزوج. – ال تت�رسعي يا غالية ،هناك حلول كثرية. – ال يا ح�سان� ،أنا �أعرف �أبو في�صل ،ما راح يرتكنا يف حالنا. – ليه؟ مو قلتي يل قبل �أنه مو مهتم يف ولده ،حتى ملا كنتي عنده ما كان ي�شوفه ،وال يلعب معه ،وال يحبه �أ�ص ً ال. – امل�س�ألة مو م�س�ألة في�صل ،ولكن هو رجل عنيد ،عزيز النف�س جداً ،ما راح ير�ضى �أنه يرتك ابنه عند رجل �آخر ،م�ستحيل. – �أنا ما راح ا�رصف على ابنه ،هو اللي راح ي�رصف عليه ،ما عالقة عزة النف�س هنا؟ – ح�سان� ،أنت عارف لو يف �أمل واحد باملئة �أنه ميكن يعدي املو�ضوع ما ترددت� ،أنت تعرف �أين �أحبك �أكرث من �أي �إن�سان 223
يف الدنيا ،و�أعرف �أنك بتقدر ظرويف� ،أنا م�ستحيل �أعي�ش بدون في�صل. – بنتزوج ،وفي�صل بيعي�ش معك ،ال تخافني. – يا ح�سان افهمني. – املو�ضوع �سابق لأوانه ،خلينا نرجع الريا�ض ونتفاهم. و�سن ترو�ض �أوجاعها على قلق ،بينما �أخذين ٌ ومل تنم غالية ،ظ ّلت ّ وا�ستيقظت فجراً على �سيئ جداً ،ملي ٌء باملرارات ،والوهن الكثيف، ُ حركة غالية ،وهي تو�ضب احلقائب ،بوجه خال من املالمح تقريب ًا، �شعرت بالربودة ،وب�أمل بطني الطفيف �إال من �آثار �صدمة مل تندثر بعد. ُ الذي يعودين يف النوازل. حملتنا طائر ٌة يف االجتاه املخالف لفرحنا ،وتفرقنا يف الريا�ض. � ونزلت وهي تقبل ظهر يدي قبل ًة حائرة ،ال أو�صلت غالية �إىل بيتها، ُ ْ �أدري ما �سببها ،وك�أنها تعتذر مبكراً عن كل �أحالمي التي �ستهلك، وعدت �أنا �إىل بيتي. ثم توارت خلف باب بيتها، ُ
**** مو�صد يف وجه اجلميع ،حتى غالية ،ال �أريد �أن �أ�سمع منها هاتفي ٌ الكالم املميت .ع�شائي مركونٌ هناك ،كما و�ضعته م�أمونة ،يب�س وع�ض اللنب �شفتي بيا�ضه ،وغمر ال�صحن كله اخلبز ،وبرد احل�ساء، ّ �شعور بالبالدة� .سجادتي مفرو�ش ٌة على ذكرى �سجدات خائفة يف ٌ لرب لن ي�ضيق بي حتم ًا. دوامة تو�سلي املت�أخر ّ 224
�إلهي الكبري... هنا �أطياف الليايل الهاربة ،والطنني الذي يحوم يف فراغ الغرفة، ولغة اخلواء التي تتهام�س بها الأ�شياء بقلق .هل حق ًا �ستجعلني �أفقد غالية؟ هل تراين الآن من فوق؟ و�أنا �أتهجد يف حمراب الوح�شة مثل راهب منكوب� ،أنتبذ مكان ًا من الليل ك�أق�صى حالة من احللكة ،و�أطارد كل ما يطري يف ال�سواد من ر�ؤى ،و�أركمها يف �سلة �أرقي� .أعرف �أين ال �أجل�أ �إليك كثرياً هذه الأيام .ال �أ�صلي �أحيان ًا ،رغم �أنك تتغا�ضى عن ذلك ،وتعطيني كثرياً .و�أعرف �أنك تفهمني جيداً ،وتعرف �أين �ضعيف جداً حينما مت�سكني �أقدارك من قلبي. ٌ هل ر�أيت غالية ليلة نزل بنا قدرك املهيب؟ كانت تبكي مثل �شمعة كنت �أنا �أتلم�س حافات ذهويل ،و�أحاول �أن �أبدو يف �ضخمة ،بينما ُ م�ستوى املوقف .كانت دموعها حقيقية ،لأنها ا�ست�رشفت ما �سيكون كنت �أن�سخ الدموع من وجهها و�أختزنها يف �صدري، حتم ًا ،بينما �أنا ُ لأبكي بها الحق ًا. لعل غالية الآن قد توقفت عن البكاء ،واتخذت قرارها ،وهد�أت، �صنم ملقى يف قوارع مكة ،ال يعرف م�صريه الآن ،بعد �أن بينما �أناٌ ، �سددت غالية م�ستحقاتها البكائية بوفاء عاثت فيه �أيدي امل�ؤمنني .لقد َّ ماطلت فيهما بجفنني مكابرين ،وها قد �ضاعفت حلظة ال�صدمة ،و�أنا ُ ماطلت �إال طمع ًا فيك! الأيام د ْيني ،وما ُ الليل ينق�ضي تدريج ًا ،وال ميوت ،ي�ستحم بعرق ال�ساهرين، ودعاء امل�ساكني ،و�صوت الرجل العريق الذي ينادي �إىل ال�صالة. 225
هل �أ�صلي �أكرث فتعيد �إيل غالية يا ربي؟ كنت �صغرياً. �أعلم �أين تخليت عن ن�ساء عابرات من قبل ،ولكني ُ ُ �أخذتني �إحداهن على حني غرة ،علمتني اجلن�س ب�شكل فج ،ثم �أقفلت مدر�ستها ال�سيئة ،وغادرتني ،وتركتني �أخرب�ش على �أي جدار رب ال مثل تلميذ وقح ،ال يدري �أين ميار�س الكتابة ب�شكل �صحيحّ . يكن يبكني تعلق ًا بي، ت�أخذ مني غالية بذنبهن ،الن�ساء العابرات مل َّ يجربن جدوى دموعهن على متثال رجل ،وال ميكن �أن بقدر ما كن ِّ تقي�س دموعهن بدموعي الآن� ،أنت عادل.
**** قررت تذكرت بعد انفراط عقد زواجنا عندما عدنا من دبي ،كيف ُ ُ �أن �أحاول حماول ًة �أخرية ،لي�س مع زوجها الذي بعرث كل �أوراقنا فج�أة، عرفت �أن حماولتي معه لن تزيد الأمر �إال ت�أزم ًا ،فم�شكلته الكربى لأين ُ معي �أ�ص ً ظننت �أنه ميلك ت�أثرياً ال ،رغم �أنه ال يعرفني .ولكني مع من ُ مبا�رشاً عليه ،والده. �سافرت �إىل جدة ،حيث يقيم .كانت �أطول رحلة ميكن �أن يقطعها ُ رجل مكلوم نحو �أمل غري وا�ضح املالمح ،مل �أحتمل �أن �أنام ليلة مليئة ق�صدت بيتهم فور خروجي من بالهواج�س واالحتماالت ،ولذلك ُ جدة. املطار ،يف ذلك اليوم الرطب احلار ،الذي ي�شبه معظم الأيام يف ّ وعربت مداخل كان �أبوه �ستيني املالمح ،ا�ست�أذنته عند الباب، ُ بلغت جمل�س ًا �صغرياً كان يجل�س فيه وحده. عديدة مقوداً بخادم حتى ُ 226
ر�أيته لأول مرة ،له جبه ٌة ناتئة ،وعينان حادتا النظرات رغم �صغر حجمهما ،وانح�صارهما بني جفنني متهدلني .حدق ّ يف مرات عديدة ،ثم �سعل قلي ً ال ،وا�شتكى من التدخني الذي �أرهق �صدره، وك�أمنا يفتح يل فرجة �إن�سانية �صغرية من نف�سه. كان يعرفني ابتدا ًء ،منذ �أن عرفته من �أكون يف مكاملتي الهاتفية ظن �أين قريب لغالية يف الأ�صل مما التي ُ طلبت فيها هذا املوعد ،ولرمبا ّ جعله يتوقّعني ر�سو ًال ل�صلح حمتمل .فوافق على لقائي. �صامت مثل قلت كل الكالم اجلميل الذي �أعددت ،وهو ٌ ُ �صخرة ،يت�أمل فنجان قهوته ،وي�رشب منه ،وال يرفع عينيه �إ ّ يل �إال رحت �أعيد عليه انتهيت ووجدته �صامت ًا، ملام ًا �أثناء حديثي ،وكلما ُ ُ كالم ًا مكرراً ،لعله يكون يف غمرة اقتناع ،ولعلي �أتيته يف �ساعة �شفقة. رفع �إ ّ أحد معنا يف يل يده م�شرياً بها �إىل وجهي ،رغم �أنه مل يكن � ٌ املجل�س غري خادمه الذي ي�صب القهوة ،وقال: – �أنت اللي بتتزوجها؟ فت بنف�سي مراراً بهذه ال�صفة ،ال �أدري ملاذا �أحتاج عر ُ ُ كنت قد ّ يوجه يل هذا ال�س�ؤال ،ولكني �أجبته ب�صيغة م�ضاعفة من الأدب: �أن ّ – نعم ،نعم. �أطرق قلي ً قو�س حاجبه ال وك�أمنا ي�ستعيد �صورة غالية يف ذاكرته ،ثم ّ الأمين ،فالأي�رس �أي�ض ًا ،ور�شف ر�شفة ق�صرية من قهوته ،قبل �أن يناول الفنجان الفارغ للخادم ،وقال يل: – يا �أخي� ،ش�أن هذا الولد عند �أبيه� ،أنا ال �أملك ح ً ال وال ربط ًا. 227
– ولكن كلمتك م�سموعة عنده بالت�أكيد. أ�ست�شعر م�صري ورحت � كان قلبي يف حالة م�أزومة من اخلفقان، ُ ُ زواجي بني �شفتيه ،و�سعادتي مرهون ٌة بني طيات عقله وهو يفكر، ولكنه مل يطل التفكري على ما يبدو �إال يف كيفية �إنهاء النقا�ش. تزوجا ،ولكن ابننا �سيبقى – نحن مل مننعكما من الزواجّ ، معنا. – ولكنه ابنها �أي�ض ًا ،وال �أحد يف الدنيا �أرفق به من �أمه ،وهي ال تتزوجني. ميكن �أن ت�ضحي بابنها ،من �أجل �أن ّ – هذه عادات �أ�رسية ،ال �أ�ستطيع �أن �أناق�شها معك ،وب�إمكان � ّأمه �أن ت�أتي لزيارته يف �أي وقت ،ومن املمكن �أي�ض ًا �أن يزورها هو من وقت لآخر ،وي�سافرا مع ًا لفرتات ق�صرية ،نحن ل�سنا معقدين وال رجعيني يا �أخ ح�سان ،ولكن لو و�ضعت نف�سك مكان �أبيه ،لفهمت �صعوبة الأمر .من العيب عندنا �أن يرت ّبى الولد يف بيت رجل غريب حي يرزق. بينما �أبوه ّ ل�ست غريب ًا� ،أنا زوج � ّأمه ،ثم �إين قريبها �أ�ص ً ال ،يعني يف – ولكني ُ مقام خاله. – �أنت جتادل بدون هدف ،مل يعد عندي كالم �آخر يا �أخي. كنت حانق ًا ،رحت �أقود �سيارتي يف عندما خرجت من عنده ُ ُ جدة وفمي ملي ٌء باللعنات الثقيلة .مل �أت�صور �أن تكون غالية �شوارع ّ قبيح هذا قريبتي ،و�أنا �أوىل بها ،ثم يحول بيننا ه�ؤالء النا�س ،كم هو ٌ املكان وما فيه. يلتفت ب�صوت م�سموع و�أنا يف �سيارتي، كنت �أتكلم مع نف�سي ٍ ُ ُ 228
�إ ّ أحرك فمي بغ�ضب وحدي ،ورمبا ي�ضحكون، يل املارة و�أنا � ّ كنت �ألعنهم جميع ًا يف جملة من �ألعن، وينده�شون ،ولكني ُ و�أر�صدهم جميع ًا يف دائرة القبح الكبرية التي ترتاءى �أمامي الآن �أو�سع من كل �شيء. رحت �أكلم نف�سي ب�صوت غا�ضب مرتفع يف ال�سيارة. ُ – ح�سن ًا� ،سنبقى عا�شقني يا غالية ،يلعن اهلل �أوراقهم الر�سمية، كنت لن تتزوجي ف�أنا لن �أتزوج �أي�ض ًا، يلعن قوانينهم ،و�أنانيتهم� ،إذا ِ ُ ي�سجل النا�س هذا �أو ال. ما دمنا مع ًا ،فال �أبايل ب�أن ّ لن يكون هذا احلل �أبدي ًا ،ب�ضع �سنوات ،ويكرب في�صل ،وي�صل حد التخيري ال�رشعي بني �أبويه ،وحتى لو اختار �أن يعي�ش مع �أبيه فلن ت�ستطيع غالية منعه من ذلك �سواء تزوجنا �أو ال ،ال ب�أ�س ،ت�سع �سنوات ،ع�رش ،خم�س ع�رشة �سنة ،واحلب لن يخذلنا.
**** خذلنا احلب ب�أ�رسع مما ت�صورت ،ويف غ�ضون �شهر فقط ،ولي�س راهنت عليها ذات حنق يف �سيارتي. �سنوات طويلة كتلك التي ُ غابت غالية ،بعد �أن اكت�شفت حملها مني ،بعد �أربعة �أ�سابيع املخ�صب �أخرياً ،بعد ثمانية �أ�شهر على عودتنا من دبيّ ،نبهها الرحم ّ و�صدقت غالية، من الع�شق العميق� ،أن كل ما كنا نفعله ،كان ذنب ًا، ّ ت�شوه ًا. ووقعت �أنا يف �أيام بائ�سة كانت ،بحق� ،أكرث �أيام حياتي ّ عندما �أخربتني غالية بذلك ،انق�سم قلبي �إىل �شطرين� ،أحدهما 229
ابتهج �إذ ر�أى �أنها فر�صة لإقناع غالية باال�ستغناء عن في�صل ،و�إمتام املر الكبري. الزواج ،والثاين ا�ضطرب �أمام �رصاخ غالية ،وبكائها ّ – غالية ،ملاذا تبكني هكذا ،ما زلنا متزوجني �رشع ًا ،لن يلومك �أحد. – م�ستحيل ،الزم �أن ّزل اجلنني. – يا غالية �إعقلي. – كارثة يا ح�سان .ماذا �سيقول النا�س؟ �سيظنون �أن زواجنا كله مل يكن �إال لإخفاء هذا اجلنني. – يا غالية ،هذه حكاية قدمية ،مل يعد النا�س يفكرون هكذا ،كل الأزواج يجامعون يف فرتة القران. ال�سماعة بعد �أن اختنق �صوتها احتد كالمنا� ،أقفلت غالية ّ ّ متام ًا ،ومل ت�ستطع �أن تكمل النقا�ش الذي ك�رست ق�سوته �صدري و�صدرها. ات�صلت بها باكراً ،ف�أخربتني ب�صوت ينبئ �أنها يف اليوم التايل، ُ بكت طوال الليل� ،أنّ هناك �أم ً ال �شاحب ًا ،و�أنها ميكن �أن جته�ضه، ب�شكل �رشعي ،يف �أي م�ست�شفى. – والعذر؟ – جنني ميت. – وهل يوافقون؟ – نعم ،القانون ي�سمح ب�إجها�ض اجلنني �إذا كان عمره �أقل من �شهرين ،مبوافقة الزوج. – .......................... 230
– الزم تروح معي امل�ست�شفى يا ح�سان ،اهلل يخليك. أنت متم�سكة بقرارك يا غالية؟ – هل � ِ – ما يف خيار ثاين يا ح�سان. – �إنه ابننا! – ولهذا لن ن�سمح له �أن يعي�ش يف ظروف قا�سية ،ب�أبوين منف�صلني. – ولكن ،رمبا جتمعنا الأقدار يوم ًا ما. – عندها �سننجب �أطفا ًال �آخرين. أخذت معي عقد قدت �سيارتي نحو بيت غاليةُ � ، بعد �أيام قليلةُ ، النكاح ،الورقة التي �أ�صبحت جمرد ذريعة تتيح لنا القيام بعملية �إجها�ض ات�صلت بها ،وخرجت. ووقفت عند بابها، تخل�ص ًا من اجلنني، ُ ُ ت�أملتها وهي تنزل ،وثارت حفنة كبرية من الرماد املر يف حلقي، و�صدري ،و�أنا �أعجن يف داخلي لعنات كثرية �أخرى من �أجل هذا القدر العابث ،وهذا التكرار املعكو�س لأ�شكال لقائنا. خرجت مع غالية ونحن را�شدان كانت هكذا ،عند هذا �أول مرة ُ الباب حتديداً ،ويف مثل هذا الوقت من ال�صباح ،قبل �أ�شهر طويلة خلت ،قررنا �أن نلتقي متخذين قراراً ع�شوائي ًا مل نخطط له قط� .أما الآن ،فنحن زوجان يتجهان لإ�سقاط جنني. يف ال�سيارة ،مل تلم�س غالية يدي قط مثل عادتها ،وال �أنا حاولت �أن �أر ّبت يدها عندما بد�أت تن�شج يف جواري ب�صوت ُ كنت �أ�شعر بنقمة عليها ،وعلى قرارها القا�سي .ال �أدري خافتُ . كنت �أ�شعر ب�أن غالية التي يف جواري لي�ست تلك التي �أحببت، ملاذا ُ 231
كنت �أ�شعر بخذالن كبري منها ،رغم �أين ال �أ�ستطيع �أن �أناق�شها رمبا ُ حنق يف �أمومتها ،ولذلك تراكم يف داخلي حنق ال ي�ستطيع التعبريٌ ، �صامت ،يجعلني �أقود ال�سيارة �آلي ًا من دون �أن �أتكلم مع غالية التي ك�شفت وجهها ،وراحت مت�سح دموعها وك�أنها ت�ستجدي حناين، فال يجديها ذلك �شيئ ًا. مغلف نظرت �إليها لوهلة �أثناء الإ�شارة .بدت عادية جداً ،لأن قلبي ٌ ُ مبرارته الآن .حبة خالها التي كانت تتحكم يف جاذبية ال�شم�س تبدو نقط ًة من�سية �سوداء لي�س �إال� ،شفتها ال�سفلى كانت متهدلة �أكرث مما تكونت هالتان رماديتان يجب ،وال �أ�شتهي تقبيلها ،وحول عينيها ّ كبريتان. و�صلنا �إىل امل�ست�شفى ،ونزلت غالية قبلي ،وك�أنها تهرب من ف�شلها معي طوال الطريق ،راحت مت�شي بخطى �رسيعة ،ور�أيتها جتوز ممرات امل�ست�شفى ،بحذائها الريا�ضي اخلفيف ،ك�أي امر�أة كنت �أرى م�شيتها من قبل �أروع من ن�شيد روماين عابرة ،رغم �أين ُ قدمي. �أنهينا كل ال�ش�ؤون التي ت�سبق العملية بطريقة يت�ضح منها �أن غالية زارت املكان من قبل ،واتفقت مع امل�ست�شفى على كل �شيء ،حتى �أنها دفعت له مقدم ًا ،ويبدو �أن دوري هنا يقت�رص على ت�سجيل املوافقة �شعرت ب�إهانات �صغرية تكيلها يل غالية من دون �أن الورقية التافهة. ُ تغيبني تعلم ،وك�أنها تعاقبني على زرع تلك النطفة يف رحمها ب�أن ّ متام ًا عن قرار �إجها�ضها .هل �س�أكون خمطئ ًا يا ترى لو تركتها وحدها وعدت �إىل بيتي؟ الآن، ُ 232
دخلت علينا طبيبة ،و�س�ألتها غالية: – كم ت�ستغرق؟ – �ساعة على الأكرث. وجهت كالمها نحوي ،وك�أنّ غالية تعرف هذا من قبل: ثم ّ – ال تقلق ،العملية ب�سيطة ،وب�إمكانها اخلروج بعد الظهر. وبقيت وحدي ،يف غرفة انتظار غابت غالية يف غرفة الطبيبة، ُ وقحة جداً ،والكدر ينه�ش �صدري مثل جرادة تافهة ،دقيقة بعد دقيقة ،ومطرقة من الأفكار ال�صعبة تهوي على عقلي الذي قاء كثرياً هذه الأيام ،وحتاول �أن تقنعه بحزن عميق ،يليق مبا �أنا فيه من حرية، وتخبط. ولكني �أرف�ض �أن �أحزن .الق�ضية كلها حماولة زواج فا�شلة، وتداعياتها لي�ست �أكرث من خط أ� �صغري ارتكبناه عندما مل نت�أكد من ردة فعل مط ّلقها ال�سابق جتاه ابنه ،احلماقات �أحيان ًا ال ت�ستحق �أن تكون وقوداً حلزن �ضخم ،بع�ض ال�ضيق يكفي� ،إجازة �صغرية، ويكون كل �شيء على ما يرام. تذكرت اجلورية ،لتكتمل بذلك وقاحة غرفة االنتظار هذه التي ُ ال تدري جدرانها اخل�رضاء ال�شاحبة �أي �أفكار �سخيفة تكيلها يل يف توقيتها اخلاطئ متام ًا� ،أتراها جتاوزت قدرتها على حقني بالندم حتى منحتها احلياة فر�صة �شماتة �أكرب ،كهذه؟ ل�ست جبان ًا الآن كما تقول اجلورية ،يف �آخر املطاف القرار �أنا ُ قرار غالية ،وال ميكن �أن تلعب �شجاعتي �أو جبني �أي دور هنا .وهذا املخلوق ال�صغري الذي ميوت الآن داخل غرفة الطبيبة هو �ضحية 233
املجتمع ،ولي�س �ضحيتي. كنت �أبحث عن زاوية �أ�ضع فيها عقلي� .أريد �أن �أتخذ �أي خطة ُ تنظيمية للأيام املقبلة ،عندما تغيب غالية ،ولكن كل اخلطط كانت معوقة ،وعاجزة عن انت�شايل �إىل و�ضع �أح�سن. تن�سحق ،وت�صبح ّ كنت بخري� ،أقر أ� املجلة ،و�أ�ستعد للنوم ،ملاذا قبل ب�ضعة �أ�شهر فقط ُ كان يجب �أن �أجد مقا ًال لكاتبة جميلة ا�سمها غالية؟ ها هي الكاتبة ترقد الآن يف الغرفة املجاورة ،ت�رشع فخذيها و�سعت احلقنة رحمها عدة مرات ،لت�ستقبل ذلك املنفرجني بعد �أن ّ ويكحت بطانة الرحم ال�شافط الذي يقتل الأطفال ،وي�رسق احلياة، ُ نكحت مبلعقة �صغرية ثمرة ماجنو! مثلما ُ كانت تبدو �أجمل بكثري يف مقالها ذاك من هذه احلالة الوقحة. من يتحمل هذا؟ عندما تخرج غالية من هذه الغرفة فهذا يعني �أنها نفذت قراراً �أ�صعب من قرار الطالق نف�سه ،ويعني �أن طالقنا �سيكون حتمي ًا ،بعد يوم �أو يومني على الأكرث ،ثم لن تكون غالية هنا� .سينتهي املو�سم فج�أة ،بينما يدي معلق ٌة على ثمرة مل �أقطفها ،ومل �أنزع يدي عنها بعد. قمت �أم�شي يف �أروقة امل�ست�شفى ،ووجهي مغطى مللت اجللو�سُ ، ُ بو�شاح من اجلدية ال يجعل �أحداً قادراً على الكالم معي. بني كل الأن�سجة والدماء املتخرثة التي �ستعود بها تلك الأداة أت�صور هذا اللعينة مراراً �سيكون اجلنني ال�ضئيل مقتو ًال ،قبل حياتهّ � . امل�صري لأوىل حماوالتي �إجناز م�رشوع حياة ،و�أنا �أجول يف املمر حمدق ًا 234
يف �أر�ضيته مثل ك ّنا�س �ضعيف الب�رص. �أخربتني املمر�ضة �أن العملية جنحت بهم�سة �صغرية ،قبل �أن ت�أخذ �سبيلها يف ممرات امل�ست�شفى. كان هذا يعني �ضمني ًا� ،أن ابني املحتمل ،مات. جل�ست فوق جبل من ال�رشود ،كلمتني املمر�ضة مرة �أخرى ُ لتخربين �أن غالية نامت قلي ً ال ،وقد ال تفيق قبل �ساعة. قلت لها: ّ قت يف وجهي ببالهة عندما ُ حد ْ – عندما تفيق� ،أخربيها �أن تعود يف �سيارة �أجرة.
235
VIII املقطع الأخري من مقال غالية ،بعد �شهرين: “ �آخر الكالم: �أيها ال�سيد احلب� ،إن العباءة النورانية تت�سخ عمداً هنا ،ما الذي ال�شم�سي اجلميل ،ولو يف �سيارة �أجرة. جاء بك؟ عد �إىل كوخك ّ الع�شاق ،و�أرباع امل�ؤمننيُ ، وك ْل خبزك، واغ�سل يديك من �أن�صاف ّ ومن ،وال حتلم بنا مر ًة �أخرى!” ويف غرفتي يف الريا�ض ،كانت هناك ر�سال ٌة من غالية حم�شورة يف املنطقة الفو�ضوية بني ال�رسير و�س ّلة املجالت ،حتمل كالم ًا مثل هذا، و�صلتني �أخرياً مع باقة ورد �سوداء ،وال �أتذكر كيف �أ�ضعتها يف غمرة أقتات به من كنت � ُ بكائي الأخري .كانت ورق ًة ت�شبه رغيف ًا دافئ ًا لطاملا ُ الكوثري تلوث خيالك َّ جوع فراقها“ ،ال حتلم بي مر ًة �أخرى! ال ِّ بامر�أة تافهة مثلي� ،أنت جميل ،ولي�س عندي ما �ألب�سه لأحالمك!”، زلت �أتذكر موا�ضع النقاط ،وميالن احلروف ،و�آثار الطية الوحيدة ما ُ حتو ُم يف خيايل مثل اجلياد التي ترك�ض بني فوقها ،وظلت الكلمات ّ الأ�سوار اخل�شبية. 237
ومل �أحلم بها بعد ذلك ،مل �أحلم بغالية قط ،لي�س لأين �أحرتم ر�سائل ُّ تن�سل �أرواح الوداع الدافئة ،وال لأنها حاولت �أن ترحل برفق ،مثلما امل�ؤمنني ،من دون �أن تدمرين يف خروجها مني ،ولكن لأن ترو�س اكت�شفت �أنها مت�ضغني احللم يف جبيني توقفت عن الدوران منذ �أن ُ تكون التاريخ، حتتها بال طائل ،وت�ؤذيني بال معنى ،و�أن ال �شيء منذ ّ جاءت به الأحالم. مل �أكتب لغالية ر�سال ًة �أخرية ،ومل �أ�سمع بعدها ،من �أي نب�ضة عابرة، �أن قلبي حلم بامر�أة �أخرى� ،أما ج�سدي فله ما له ،وعليه ما عليه. مل يكن من املمكن �إيقافهما مع ًا ،قلبي وج�سدي ،ال بد �أن يتوقف �أحدهما عن العمل ب�سبب عجزه ،ويعمل �أحدهما لإعالة الآخر، جتل�س معي فيه هكذا ُ ق�ضيت بينهما يف يوم �شديد الو�ضوح ،وكانت ُ امر أ� ٌة �أخرى ،ثم امر�أة �أخرى ،ثم امر�أة �أخرى. خب�أت �شيئ ًا من حزين عليها يف �صناديق �صغرية، كنت �أمتنى لو ّ حتى �إذا المني �أحد على طوق طهارتي املك�سور �أمنحه �إ ّياه ليتذوقه قلي ً ال ،وليعرف �أن حداً ما من املرارة ،يك�رس الأطواق �أحيان ًا ،و�أن قلبي �أ�صبح ي�شك كثرياً يف م�شاريع احلب الطويلة ،وع�شق الن�ساء اجلليالت. التاريخ منت�صف �أبريل ،و�أخيلتي كثيفة� .أ�ستيقظ من النوم وال عيني� .أتذكر رائحة لعابها عندما كان يتجمع �أحيان ًا �أرغب يف فتح ّ على �صدري وهي نائمة� ،سائ ً ال من فرجة �صغرية يف فمها ال تنفتح �إال �إذا نامت. ولأنها تعرف �أن فمها ُيحدث هذه الفتحة ال�صغرية �أثناء النوم، 238
وي�رسب ر�ضابها ال�شفاف دائم ًا على خمدتها ،كانت ت�سارع �أول ما ت�ستيقظ �إىل م�سح القطرات املتجمعة يف الوادي ال�ضيق بني �صدري ونهدها الأي�رس� ،أو التي �سالت كخيط من خيوط الفجر على �أ�ضالعي، وبلغت ظهري. ر�شفت قبل �أن ننام �ضعفَي هذه القطرات ،وتعرف �أن تعرف �أين ُ آمنت بها فيها ،بعد حبة اخلال العتيقة ر�ضابها هو ثالث العنا�رص التي � ُ يف وجنتها اليمنى ،و�شعرها الأ�سود الطويل املمتد مثل قافل ٍة من ليايل التاريخ ،ولكن غالية تخجل مني كل �صباح خج ً ال جديداً ،وك�أنه �أول �صباح لنا ،هذا �أغرب �شيء فيها ،اخلجل الذي يتجدد كل يوم، وال ميكن �أن ينتهي. “يا غالية� ...إن كل قبلة من �شفتيك الناعمتني ال تقف حيث ت�ضعينها من ج�سدي فح�سب ،بل تدخله وتفتح مدر�س ًة ومزرع ًة و�سوق ًا �صغرية! وتنجب �أوالداً ،و�أحفاداً ،وحتا�رصين من الداخل، وتُن�شئ جمتمع ًا �صغرياً من امل�شاعر ،وحتكمه با�سمك� ،أيتها املر�أة التي �أحب. كل هذا تخلقه قبل ٌة واحدة! ماذا خلقت يف داخلي �آالف القبالت �إذن يا غالية؟!” �آنذاك كان حبنا عظيم ًا ،وكانت الأ�سماك يف �آخر حميط يف الدنيا طل�سم كبري جداً، وكنت �أعتقد جازم ًا �أن غالية تتنهد من �أجلنا، ُ ٌ ٌ وب�سيط جداً ،و ُمعج ٌز جداً ،رغم اعتيادي �إياها ،ورغم ح�ضورها يف
طفولتي و�شبابي متام ًا مثل الأ�سماك التي تتنهد يف �آخر حميط يف الدنيا. كانت حتمل ماج�ستري القمر ،غالية ،و�أنا قلبي مثقف جداً 239
يف ع�شقه ،والآن قررت �أن ت�أفل ،و�أنا قررت �أال �أحب الآفالت، وفتحت �أبوابي املو�صدة لن�ساء �أخريات .فرتة النقاهة من احلب دائم ًا ُ مليئة بال�ضمادات الن�سائية ،هكذا الأ�شياء تبدو متعاونة ن�سبي ًا ،و�أنا �أحاول �أن �أعود �إىل مداري ،بعد خروج ا�ضطراري عمره عمر عمدتني فيها غالية بحبها. الأ�شهر املتقلبة التي ّ و�شعرت تدريج ًا �أن مرت �أ�شهر �أخرى على غيابها الأخري، ُ كنت �أظنها م�ستفحلة ،وموغلة يف ال�صعوبة بد�أت ال ُعقد احلياتية التي ُ تنحل �أمامي ،ويتفكك ت�شابكها الكثيف بطواعية متنحني �إياها الأيام الهادئة� .إن احلب ا�ستثناء� ،أما القاعدة فهي �أن ت�أخذ من املر�أة ما متليه عليك رغباتك الروحية واجل�سدية .وكما هي اال�ستثناءات دائم ًا حمفوفة بالقلق ،ف�إن القاعدة دائم ًا معبدة بالراحة وال�سكون. ان َز َلقت غالية من حياتي كما ينزلق الرمل يف �ساعة رملية قا�سية ،مل يكن يف ف�سحة الوجدان كلم ٌة تكفي ال�ستبقائها ،راقبتها وهي تغيب تدريج ًا من حياتي ،اجل�سد ثم الوجه وال�صوت والر�سائل ،ثم احلب، تور َطت فيها وكلما ابت َع َدت ُ �شعرت ب�أين �ضحية م�ؤامرة ح�سدٍ كبرية َّ �شعرت ب�أين ملي ٌء بالر�ضا ابتعدت �أنا كائنات كونية كربى ،وكلما ٌ ُ ُ والأمل ،وماج يف داخلي بحر من الذنوب ال يهد�أ ،وما زال ي�رضبني ال �ساح ً �ساح ً ال ،حتى انك�رس طوق الطهارة. الآن ،من ال�سهل �أن �أقر�أ على زجاج �سيارتي كل �صباح رموزاً كان يهلكني غمو�ضها الأ�سود ،رموزاً من حياتي ،كهويتها ،وماهيتها، مت�س واجتاهها ،ومعطياتها ،كل هذه الفو�ضى العظيمة حتدثها امر�أة ُّ مت�س الكهرباء �سطح املاء الراكد. القلب ب�شكل مك�شوف ،مثلما ّ 240
�أقمت �سياج ًا حول قلبي ،وتركته يلعق جراحه يف داخله مثل وجعلت له ق�ضبان ًا ت�سمح للن�ساء باالقرتاب قط .تركته حمبو�س ًا خلفه، ُ منه ،و�إلقاء فتات احلنني �إليه من الفتحات ،من وراء ال�سياج فقط، واعتذرت من قلبي على هذا العزل املهني ،لأنه كائن يتعاطى احلب ُ ب�رشاهة م�ؤذية ،و�أنا ال ميكن �أن �أ�سمح المر�أة �أن ت�صل �إليه مرة �أخرى، فلرمبا نه�شها ،ورمبا خنقته ،وال بد من �سياج كهذا يقيهما حماقة بع�ضهما بع�ض ًا. ها �أنذا �أعقل القلب �أخرياً ،ولكن من يعقل اجل�سد؟ ال �شيء ،هذا الكائن الطيني ال ميكن التفاو�ض معه ب�سهولة ،وهذه �أول امل�شاكل عا�شق يف ابتداء م�رشوعه لرتميم نف�سه بعد ع�شق حميم. التي يواجهها ٌ حمى اجل�سد احلزين امللتهب الذي اعتاد التدليل والر�ضا. الكالم املختلف الذي �أقوله ،واملحاولة ال�صعبة لإبراز طابع عملي هروب من �صفحات ووالدي ،كلها للحياة يف وقائعها اليومية يل �أنا ّ ٌ ألغيت ب�ضعة قوانني �أخرية ،وكان ال متعبة يف ال�سنوات التي م�ضتُ � ، بد من ح�ضور كهذا لأتغلب على البقية. عندما نف�شل متام ًا يف �إيجاد نتيجة مقبولة ،فال بد �أن يكون اخلط�أ يف القانون الذي نعمل به ،ولنت�أكد من هذا يجب �أن نخو�ض مغامرة �صغرية ،ونغيرّ ه ،وعندما ن�سقط بعدها ،نقع يف خيارين� ،إما �أن نف�رس تعود القانون الغائب� ،أو �أن القانون �أ�ص ً ال مل يكن �سقوطنا ب�أنه عدم ّ ي�ستوجب �أن يغيب. وقلت يف نف�سي� :إن بقيت بللت باملاء ورقة احلب الأخرية �إذن، ُ ُ زرقاء بقي الي�أ�س متعامداً مع ف�ضاء الروح ،و�إن �سال كل �شيء، 241
واغت�سلت الورقة من �إثم احلرب ،جاز يل �أن �أبد�أ احلياة اجلديدة. ي�ستحق مغامر ًة مثل هذه لتغيريه ،لي�س احلب قانون احلب كان ُّ نف�سه ،ولكنها الطريقة التي �أفعله بها ،ال جتدي .ال جتدي �شيئ ًا على الإطالق. نحتاج �أحيان ًا �إىل ع�شاق كومبار�س ي�ؤدون �أدوار احلب اخلطرية بد ًال منا خربت �أن الأبناء الذين ي�أتون وحيدي �أهليهم ،مثلي ،كثرياً ما ُ تتحول الأ�شياء القريبة منهم �إىل كينونات قابلة لالمتالك ،رمبا كان هذا حاولت �أن �أحب �أي�ض ًا ،بطريقة الكينونات هو عمود حزين ،و�إال فما ُ القابلة لالمتالك هذه. ارتع�ش وجه �أبي عدة ثوانٍ ،ثم خ ّلفني وراءه وم�ضى� .أمي �أحرقت كنت يف حال ال يف وجهي ع�رشات الأ�سئلة ،ومل �أ�ستطع م�ساعدتهاُ ، عرفت �أ�ستطيع معها �أن �أطفئ �أي حريق ،غري حرائقي ال�شخ�صية. ُ من خالل الأيام القليلة التي توترت فيها عالقتي ب�أبوي� ،أنه يجب علي بالفعل �أن �أجتهد ،لأكون �أقبح قلي ً ال مما �أنا عليه ،لعلي �أفهم �أين ّ علي ال�شعور باحلزن ،وال�شعور بالظلم. �أ�ستحق ما �أنا فيه ،فال يجتمع ّ �أحدهما يكفي. حق ًا ،ماذا ميكن �أن �أجني من امل�شي على الر�صيف ،رغم �أن �أحدهم مل يثبت �أن امل�شي على الع�شب م�رض ب�صحة الطريق مث ً ال؟ با�ستثناء تلك الإ�شارات العمياء التي يبقوننا بها بعيداً عن الع�شب ،لأهدافهم ال�شخ�صية .كان عندي خطة �رسيعة ،مبا�رشة ،للتخل�ص من حزين على غالية قبل �أن يتحول �إىل يوغا عتيقة يف و�سط القلب ال�ضيق. 242
دلو من الفل�سفة الفجة� ،أ�شطف به املكان ،و�أكون بخري .رغم �أن القلب تراوده اله ّنات من حني لآخر ،ولكني ال �أعتقد �أنه �سيفعل احلب مرة �أخرى يف حياته ،و�أ�شعر �أن غالية فطمتني عن احلب فطام ًا ا�ستطعت �شديداً ،حتى لو �أنها عادت هي نف�سها �إىل حياتي الآن ،ملا ُ �أن �أحبها. حتدث معي �آنذاك ،ي�شهد �أين �أحد متاثيل املادية العريقة، هكذا ،من ّ كنت �أ�سمع حديثي و�أ�ستغرب ال�صوت اجلديد ،والوجه الذي حتى �أنا ُ �صار خمطط ًا ب�شكل متقاطع مثل جدار من الطوب ،و�أه ّنئ نف�سي، ا�ستخرجت نف�سي من منجم عميق انهار فج�أة. وك�أين ُ هكذا �إذن؟ الهدوء ال يك�رس املوت ،رمبا ال�ضجيج هو الذي يقف يف وجه هد�أة املوت املتعجرفة ،رمبا �أف�ضل ما ميكننا �أن نفعله بعد احلب �أال نقف على �أطراف �أ�صابعنا نت�أمل الراحلني مثل حيوانات النم�س الع�صبية ،بل يجدر بنا �أن نرك�ض يف االجتاه العك�سي متام ًا، فاجلهات مل تخلق �أربع ًا لوجه العبث. كنت �أرف�ض ،بقوة م�ضاعفة يف الرف�ض� ،أن �أكون �ضحية معتادة ُ لكال�سيكيات احلياة :كاحلب مث ً �شعرت ب�أنه من الغباء �أن ن�ستمر ال. ُ حزانى بعد ماليني ال�سنني من اخرتاع احلزن ،من دون �أن نكت�شف بعد طريقه ال�رسي يف داخلنا. �أريد اليوم �أن �أكون � ّ أقل حزن ًا فقط .ال �أريد �أن �أكون �أكرث نب ً ال� ،أو �شعراً� ،أو احرتاق ًا حتت مظلة الوهن� ،أو تذمراً من معاندة الزمن .ال تعنيني كل املدن ّ املركبة من �أرق العا�شقني ،ودموع املتعبني .كل هذه اخلياالت الزائفة لي�ست �إال حماولة لتعوي�ض ف�شلنا يف �أن نكون �أقل 243
أف�ضل النجاح على الف�شل ،و�أريد �أن �أكون � ّ أقل حزن ًا... حزن ًا ،و�أنا � ِّ فقط.
**** كنت �أ�شعر �أين متجه نحو � ُ أخربت �أبي �أين �س�أبحث عن وظيفة ،رمبا ُ دمت حزن بطيء ،وبد�أت �أحمل حقائبي �إليه .ولهذا فكرت :ما ُ �أفتعل هذه الهجرات ال�صغرية من البيت بال مربر ،فلأبحث عن وظيفة �إذن .رمبا كانت احللول ال�صناعية جمدية �أحيان ًا ،عندما �أعيتنا احللول الروحية املتاحة يف مدينة بال روح �أ�ص ً ال. وتعلمت تعلمت �أن ما يثني عن احلزن �أحيان ًا رمبا ي�صبح حزن ًا �آخر، ُ ُ �أي�ض ًا �أن بقائي خاوي ًا مثل حقل �شعري جمدب لن يجعلني �أح�سن حا ًال، ولن يعيد �إيل الأ�شياء التي مل مينحني �إ ّياها اهلل ،كما منحني �أ�شياء كثرية �أخرى ،مثل غالية� ،أمل تكن هذه املر�أة حم�ض نعمة من اهلل؟ هي ذلك فع ً ال ،كانت كل اللحظات معها فاخرة مثل ال�سياحة، كل الأيام ثمينة وك�أنها متحف ،و�أنيقة ك�أنها فندق ،و�سعيدة ك�أنها �ساحل ،ولهذا كان يجب �أن تنتهي ك�أنها �إجازة. مل يعقّب �أبي على قراري العمل ب�أكرث من كلمات ب�سيطة ال حتمل الت�شجيع وال التثبيط ،بقدر ما حتمل تفوي�ض ًا كام ً ال بحرية القرار، كنت �أنا الذي “طيب يا ولدي اللي ت�شوفه ،اهلل يوفقك” ،وبالفعلُ ، اختار االنخراط يف عمل منظم ،يرتب جدول يومي الذي يبعرثه ال�سهر ،وجدول �شهوري الذي يبعرثه ال�سفر. 244
كنت �أجل�س معه �إىل طاولة الغداء ،عندما �س�ألني عن نية بعد �أيامُ ، كنت ال �أزال عازم ًا عليها ،وبدا يل �أن يف �س�ؤاله الوظيفة تلك ،وما �إذا ُ اهتمام ًا ،بل مي ً ال مف�ضوح ًا لهذا القرار ،وك�أنه بد أ� يلمح يف وجهي خوا ًء ينذر بالأمل يف حد�س الكبار ،ورمبا �صار يعرف �أن فراغي انقلب بلغت عمراً ي�رصخ فيه كدحي الإن�ساين ب�أنه ال بد �ضدي ،و�أين البد قد ُ �أن ي�ستويف حقه من الأخذ ،ومن امل�صري. قال �أبي: – �أما زلت ترغب يف وظيفة؟ – �إن �شاء اهلل. – هذا الوقت منا�سب جداً ،ففي بداية ال�سنة املالية اجلديدة لكل �رشكة ،هناك فر�ص وظيفية �أكرث. – �صحيح ،بد�أت جتهيز �أوراقي ،ولكن مل �أبد أ� البحث فعلي ًا. – �أين تريد �أن تعمل؟ – يف بنك غالب ًا. و�أوم�أ �أبي �إمياءة قبول �صغرية ،وهو م�شغول بالطعام ،وال �أدري ملاذا يعجبني دائم ًا �شكل حاجبيه �إذا انعقدا �أثناء النقا�ش ،هل لأن �أبي ال يعقدهما كثرياً ،ودائم ًا تظل مالحمه منب�سطة ،ف�أميل �إىل اكت�شاف زوايا جديدة ،ونادرة ،يف وجهه الطلق؟ مل تتكلم �أمي �أثناء الغداء ،وك�أمنا كان هناك �ش�أنٌ قد ُد ِّبر بينهما يف غيابي ،كانت الأمور ت�سري ح�سبما تريد على ما يبدو ،ومل �أحتمل �ضغط ابت�سامة كبرية اغت�صبت فمي و�أنا �أراقب � ّأمي ،وحماوالتها ال�صعبة اللتزام ال�صمت �أثناء النقا�ش ،رمبا هي م�أخوذة الآن بنظرية 245
تربوية حول معاملة الفتى يف هذا العمر ،وم�س�ؤولية �أبيه عن ذلك، كعادتها �أمي ،ال تغري من �سريورة ت�رصفاتها �إال عندما تكون م�أخوذة بفكرة ما ،قر�أتها� ،أو �سمعتها� ،أو انفلقت يف ذهنها فج�أة ك�صبح، ولهذا كان الكتاب� ،أو الكتابان الوحيدان اللذان تقر�أهما �أمي يف ال�سنة ،يخت�رصان �سنة كاملة من �سلوكها ،كما �أن بع�ض املقاالت قد تخت�رص الأ�شهر والأيام. لأنها وجلت الثقافة عن جوع ،ت�رص دائم ًا �أن متار�سها ب�إتقان زائد �أحيان ًا ،وهي تقر�أ الكتاب يف �شهر تقريب ًا ،ل�صعوبة �إيجاد كتاب ينا�سبها ،وغالب ًا لأنها تخ�شى �أن تفوتها فكرة ما يف �سطوره ،ال تقتن�صها منه لتعلقها مع جتاربها الأخرى مثل املفاتيح .تظن �أمي دائم ًا �أن كل كاتب البد �أنه يخفي �شيئ ًا ما للقارئ الن�شيط ،وت�شعر بالبهجة �إن هي اكت�شفت ما يرمي �إليه� ،أو ظنت ذلك. كنت �أحتدث مع �أبي عن وظيفة ،وهذا �ش�أن رجايل كما يبدو ،و�أمي ُ تتمنى لو �أين �أعمل ،حتى �أتوقف عن ال�سفر ،وعن البقاء خارج البيت، ولكنها رمبا ت�شعر ب�أن تدخلها �سيجعلني �أتردد ،ولهذا بقيت �صامتة. وما �أجمل �أمي وهي ت�سعى لتطبيق قناعاتها ب�رسعة ،فور عبورها منطقة اليقني عندها ،مما يجعل منط عي�شها ممتع ًا ملن يراقبها عن حب ،مثلي. غ�سل �أبي يديه ببطء كعادته ،وقبل �أن ي�صعد �إىل غرفته ليق�ضي قيلولته ،عاد مرة �أخرى �إىل الطاولة وهو يجفّف يديه ليقول يل: – خليني �أكلم عبد احلكيم بخ�صو�ص البنك يا ح�سان ،اي�ش ر�أيك؟ – اللي ت�شوفه. 246
وهذه كانت �إ�شارة �أخرى تف�ضح رغبة �أبي يف ذلك ،مهما �أعلن علي دائم ًا حرية املوقف ،ال ميكنه �أن يفتعل احلياد متام ًا ،هو الآن يف ّ وقت ق�صري ،مل يبارك قراري فقط ،بل راح يعمل على تنفيذه بنف�سه، و�إذا بلغ الأمر عبد احلكيم� ،صديقه املقرب ،واملدير الكبري يف البنك الأهلي ،ف�ستكون وظيفتي على مرمى توقيع �صغري� ،أعلم هذا. بعد �أيام� ،أجريت معي مقابلة �شكلية فقط يف البنك الأهلي ،ثم مت العمل ر�سمي ًا ،وك�أمنا بد�أت �أر�سم خطوط ًا جديدة يف حياتي. ت�س ّل ُ ولكن الألوان نف�سها ،ال تتغري.
**** كان قراري �أن �أعمل لأين �أغبط النا�س الذين يعملون ،ال�سيما �إذا كانوا منهمكني يف �أعمالهم ،على ما يك�سو وجوههم من مالمح تركيز وجدية ،ولي�س �أمامهم �إال �أوراق ،و�أرقام ،و�شا�شات كمبيوتر رمبا� ،أو �أي �أداة ي�ستخدمونها يف �أعمالهم ذات الطابع املادي .كم هم حمظوظون �إذ يحرقون الفائ�ض من �أرواحهم يف العمل ،بدل �أن يحرتق يف داخلهم ،بدون �سبب ،وي�ؤذيهم. هل يدركون احلياة �أكرث؟ هل العمل اليومي الذي ي�صنع رزق ًا هو �أعلى قيمة من االن�شغال الروحي مببهمات احلياة ،من فن ،وكتابة، وفل�سفة ،وفكر ،ومتع� ،أو �أي �شيء �آخر مما تخرتعه الأرواح اخلالية مكر�س ًا من مقت�ضيات املادة؟ ملاذا ُ كنت �أحزن �إذن عندما كان يومي ّ لأكون خالي ًا من كل �شيء� ،إال مما يجذبني �إليه� ،سواء امر�أة كان� ،أم 247
�صديق ًا� ،أم كتاب ًا� ،أم �أغنية� ،أم مدينة؟ ويظن �أولئك الذين ي�سعون وراء رزق اليوم �أن ذلك ٌ ترف يحبذونه وال يجدونه ،بينما �أنا م�ستلقٍ على ح�شيته منذ �سنوات ،حتى �إن ما �أفعله يف الدقيقة القادمة هو ما �أقرره يف الدقيقة التي قبلها فقط� .أنا الآن �أخرج من هذا ،و�أجته �إليهم� ،إىل عاملهم الذي يجعلهم يفكرون كثرياً يف بقعة الرزق ،بد ًال من التفكري يف بقاع �أخرى ،ال �أحد يعرف مكانها حتديداً. �أعرف �أن الع�شاق ينامون يف العراء �أحيان ًا من فرط الع�شق ،ولكني ال �أريد �أن �أ�شعر حتى بال�ضيق من وم�ضات الذكرى ،من حقي �أن �أدلل نف�سي �إىل هذا احلد ،من حقي �أن �أتخذ احتياطات م�ضاعفة جداً �ضد وجع ما ولو كان طفيف ًا ،الوجع هو الوجع� ،سواء جراء الوهن التام �أو ال�ضيق العابر ،كالهما يلحق �أذى ،و�أنا �أجتنب الأذى ب�شكل طبيعي ،وال �أعترب نف�سي مرتف ًا. أ�ضيعه! وعملي فعلي �أن � َّ وما دام الوقت بات ال ي�ؤمن جانبهّ ، انت�صار �أعتد به ،مثلما �أن النا�س الذين يعملون يحققون اليومي ٌ كنت يوم ًا يف اجلانب انت�صاراتهم من دون �أن ي�شعروا ،وحدي الذي ُ الآخر من املعركة �أعرف الفرق ،و�أدرك التفا�صيل ،ولهذا ت�صبح ذاكرتي الطافحة بالق�ص�ص الكبرية ،م�شغولة برتتيب الأ�شياء ال�صغرية التافهة التي �أدفعها �إليها يومي ًا ،حتى ال جتد مت�سع ًا لإعادة لفظ ما لديها على عيني ،وجبيني. يت الفجر ب�رسعة ،وحملت احلقيبة ،وخرجت �صباح اليوم� ،ص ّل ُ وامتطيت الدرج نزو ًال، كهارب يدعي �أنه غري هارب، من الغرفة ٍ ُ 248
نحو املطبخ ،لتناول قهوتي. وجدت �أمي ،ولأين ال بد �أن �أتبادل و�إياها حديث ال�صباح هناك ُ هربت منه يف غرفتي ،و�أغلقت اكت�شفت بعده �أن الوجع الذي الق�صري، ُ ُ بابها عليه ،خرج من فرجة �أخرى ،رمبا من النافذة ،وتدحرج �إىل هنا قبلي ،وتعلق يف فم �أمي ،ثم انطلق نحوي ،مثل �سهم. عرفت الآن فقط من �أمي �أن املر�أة التي ماتت قبل �أ�سبوع مل تكن ُ جارتنا التقية ،مل تكن تلك التي تق�ضي ن�صف ال�سنة يف ّ مكة ،ون�صفها الآخر يف ا�ستقبال امل�ساكني ،وا�ست�ضافة الندوات الوعظية اخلفيفة ،مل تكن ،خالة نورة �إذن ،بل كانت امر�أة �أخرى ا�سمها نورة ،و�أنا اختلط علي اال�سمان. ّ كانت �أم غالية. م�ضى �أ�سبوع و�أنا �أحمل اخلرب يف داخلي يف �س ّلة الأخبار التي كلمات عابرة هذا ال�صباح، �س ُتن�سى قريب ًا ،قبل �أن تت�سلل من فم �أمي ٌ عرفت منها كل �شيء، و�أنا �أ�شاركها وقف ًة ق�صري ًة عند عتبة الباب، ُ املرة وانتقل اخلرب الذي كاد �أن ُين�سى� ،إىل مكان �آخر ،مع الأخبار ّ التي تغيرّ طعم ال�صباح. العجوز الدافئة ،تلك� ،أهدر قلبها النب�ضات الأخرية ،وتوقّف عن احلركة ،بينما جارتنا التي حتمل اال�سم نف�سه ،ما زالت تنام يف امل�ست�شفى ،على قيد احلياة ،بعد �أن �ألب�ستها ظنوين كفن ًا مل يكن على قيا�س �أقدارها. توقفت القهوة يف فمي مع ن�صف ارت�شافة ،وبدت عيناي مثل وان�صعت للذهول ،وهو يحوم بي كرتني مد ّالتني من �سقف وجل، ُ 249
يف دوائر متداخلة ،مكتومة امل�ساحات ،تتدافع فيها �آال ٌم كان هناك ما ينذر بها منذ �أن ا�ستيقظت ،و�أخرياً اندلقت فج�أة مثل دلو مليء. – يا �أمي� ،إذن� ...أم غالية ،ولي�ست جارتنا. – �أوه ،وجارتنا هي الأخرى مري�ضة �أي�ض ًا. – ماذا ح�صل؟ – نائمة يف امل�ست�شفى ،ت�أتيها غيبوبات �سكر متالحقة. – يا �أمي �أق�صد �أم غالية ،كيف ماتت؟ – يبدو �أنها جلطة. – وليه ما قلتي يل ،ما رحت عزيتهم ،وال حتى ات�صلت. – يا ولدي واهلل ما كنت �أدري �أنك بتخلط بينهم. ال وهي تنظر �إ ّ �صمتت �أمي قلي ً يل بعينني قلقتني ،ثم �أردفت: – ال تخف يا ولدي ،غالية بخري ،مت�أ�سية ،و�صابرة. يعدل مالحمه املفجوعة ببطء ،وتنف�ست مل �أجب، تركت وجهي ّ ُ ورحت �أر�شف القهوة ب�شكل ال �إرادي بطيء. بعمق، ُ �س�ألت �أمي بنربة جعلتها هادئة ب�صعوبة: – هل ما زالت تعي�ش وحدها؟ – هي وولدها� ،أما �أبوها و�إخوانها فاهلل يخلف عليها فيهم. – �أكيد احلني بيتدخلون يف حياتها ،وي�ضايقونها ،ما راح يرتكونها تعي�ش لوحدها وهي مطلقة. ت�صمت �أمي هنا ،و�أعلم �أن �أمل ًا ما يعرب قلبها وهي تتح�س�س ذلك ُ الأمل الآخر الذي خرج من �صوتي الهادئ ،وتلمع يف عينيها حرية ترم به حزين القدمي الذي نت أ� فج�أة. وهي ال جتد ما مّ 250
الآن �أ�سرتجع اليوم الذي قالت يل فيه �أمي اخلرب اخلاطئ قبل فهمت ملاذا هم�ست يل به بحزن ،ويف كلمات قليلة، �أ�سبوع ،الآن ُ ثم خرجت من الغرفة ك�أنها تهرب من انك�سار ما كانت تتوقعه مني، كنت �أعرف �أن جارتنا نورة يف امل�ست�شفى ،توقعت �أنها هي التي و�أنا ُ ماتت ،وتوقعت �أن �أمي حزينة لأنها زارتها قبل يوم فقط ،وال ريب �أنها مت�أثرة لذلك ،ومل �أعرف �أن �أمي كانت مت�أثرة من �أجلي �أنا، ولي�س من �أجل جارتنا التي ما زالت رهينة مر�ضها املزمن. وبعد يومني من نقلها يل اخلرب� ،س�ألتني و�أنا عائد من العمل �س�ؤا ًال عابراً: – رحت عزيت؟ – ال يا �أمي ،ما �أعرف �أحد منهم. وبالفعل ،مل �أكن �أعرف �أحداً من عائلة جارتنا ،لأنها كانت تقيم ابن يدر�س خارج البالد ،فلم �أجد ثمة �رضورة لتقدمي وحيدة ،ولها ٌ وكنت �أعرف �أن �أبي �سيفعل ،بينما ظ ّنت �أمي �أن يف ر ّدي العزاء، ُ ا�ستدراراً للأمل “ما �أعرف �أحد منهم” ،وك�أين �أنكر غالية ،مط ّلقتي وبقيت �أنا على التي مل �أتزوجها متام ًا ،ف�سكتت �أمي ،ومل تعقّب، ُ فهمي اخلاطئ ،ومل ت�ستطع �أمي �أن تعيد بث املو�ضوع يف �أي يوم الحق. ما الذي جعلني هذا ال�صباح �أ�ستمع �إىل مكاملتها ال�صباحية مع قريبة بعيدة ،وهي تخربها �أن نورة ،التي هي �أم غالية ،ماتت قبل �أ�سبوع ،وتنطق ا�سم زوجها كام ً ال حتى ت�ؤكد لها اخلرب ،ملاذا مل تنطق ال �أي�ض ًا ،وت� ّؤجل ذلك �أ�سبوع ًا كام ً �أمي اال�سم يل كام ً ال؟ 251
علي حزن ما ،وال �أنتبه �إليه؟ هل كان �أمل يكن من املمكن �أن مير ّ واجب الأحزان التي �أخط�أتني قبل �أ�سبوع �أن تعود لرتتب نف�سها مرة �أخرى حتى ت�صيب هدفها بدقة هذه املرة؟ زلت �أرت�شف الر�شفات عاد الهاتف يرن مرة �أخرى ،و�أنا ما ُ الذاهلة من فنجان القهوة ،و�أت�أمل قطعة اخلبز املدهونة باجلبنة التي �سماعة الهاتف ،وكان و�ضعتها �أمي �أمامي ومل �أمل�سها .رفعت �أمي ّ حتدثها قبل دقائق ،القريبة من الوا�ضح �أنها القريبة نف�سها التي كانت ّ نف�سها التي حملت �إىل �أمي خرب الوفاة ب�شكل مزدوج .كانت ت�س�أل عن �شيء �أعرفه ،و�أحفظه عن ظهر قلب ،رغم �أن ذاكرتي ال حتتفظ ب�أ�شياء كهذه طوي ً مت�سكت به �أكرث من �سنتني. ال ،ولكنها ّ قالت �أمي يف الهاتف ،بعد �أن جلبت دفرت الأرقام: – هذا رقم ابنتها� ،أم فار�س. في�صل يا �أمي ولي�س فار�س ،الطفل الذي قتلتني �أمومة غالية له! أبوة مل تكتمل، رغم �أين ،وحديُ ، كنت �أراهن عليه يف م�رشوع � ّ أزعجك �أن تكون زوجة ولكنك مل تهتمي بتذكر ا�سم ابنها ،رمبا لأنه � ِ ِ حلمت طوي ً ال بيوم ابنك الأ�صغر الذي ابنك ،مطلقة ،و�أم ًا �أي�ض ًاِ . ِ ِ أعياك �أحمد برف�ضه الزواج ،وجاء كل �شيء حمزن ًا ،فال زفافه ،بعد �أن � ِ كنت حتلمني به املر�أة التي تقبلني تزوجها ،وال حفل الزفاف الذي ِ حتقق ،وال الزواج نف�سه الذي �صار واقع ًا حتاولني قبوله ،اكتمل! ما زالت �أمي تدير حوارها مع القريبة ،رغم �أين ال �أدري من هي، ولكني �أ�شعر بحقدٍ ما جتاه هذه املر�أة التي �شاركت يف �صوغ ب�ؤ�سي ال�سماعة. هذا ال�صباح ،و�أنا �أ�سمع �أزيز �صوتها يت�رسب من ّ 252
قالت �أمي لها يف حوار ال �أعرف ن�صفه: – كان اهلل يف عونها ،اهلل يبعث لها ن�صيب ًا. �أمي تعني غالية هنا حتم ًا� .آه ،ملاذا تقول �أمي هذا الكالم �أمامي؟ �أال تدرك �أن عبارتها الأخرية مل تكن �أمني ًة �سعيدة لغالية ،بقدر ما هي �أمني ٌة قاتلة يل؟ و�أنها مار�ست الدعاء �ضدي من دون �أن تعلم؟ �أو �أنها ظنت �أين غري منتبه �إىل هذا احلوار الهاتفي؟ واحتفظت بارجتافاتي ال�صغرية داخل مللمت �أع�صابي من املكان، ُ ُ وخرجت من املطبخ، ودفنت ا�ضطرابي يف حوقلة عابرة، عظامي، ُ ُ و�أمي ترمقني بنظرة قلقة وهي تكمل حديثها يف الهاتف بتوتر. كنت �أتخيل وجه غالية الذي يبكي وهو يدخل مثل يف ال�سيارة ُ حدقتي ،وميلأين مباليني امل�شاعر ،ويغطي من �أمامي �سحابة كبرية يف ّ �أفق الر�ؤية ،وم�ساحة ال�شارع .ملن تبقى هذه النبتة املقد�سة بعد �أن فقدت �سياجها الوحيد؟ �أي �شيء يقيها عوادي اليوم ،وعوادي الغد، وذلك الأب الغائب بني بلد و�آخر ،والإخوة الكثريين� ،أولئك الذين تن�سى �أ�سماءهم �أحيان ًا لفرط تفرقهم ،وذلك الطفل الذي يورق بني يديها ،وي�س�ألها مزيداً من احلياة؟ تظاهرت بالوجوم عند دخويل البنك حتى �أجتنب حتيات مازحة جل�ست �شعور بعد �أن كنت �أنا الذي �أبد�أها غالب ًا .انتابني ُ من زمالئي ُ ٌ �أخرياً على كر�سي املكتب ،ب�أن بع�ض الأيام من الأف�ضل �أن ال ن�ستيقظ فيها �أبداً ،حتى ال نواجه �صباح ًا رث ًا كهذا. هم�ست لنف�سي “ح�سن ًا ،ال داعي للتفكري العميق ،الأمر �أب�سط من هذا ،غالية توفّيت والدتها ،وال بد �أن �أت�صل بها للعزاء” ،هكذا 253
ال �أك ّلف نف�سي عناء تقليب االحتماالت على �أوجه خائبة م�سبق ًا ،ال علي من انتكا�سات �صعبة بعد �أ�شهر من يعنيني ماذا �سيفتح �صوتها ّ كنت �أعالج هذا ال�صباح� ،أم �أزيده اعتال ًال ،ال غيابها ،ال يعنيني �إن ُ يعنيني �شي ٌء من هذا ،حبيبتي العظيمة متوت �أمها وال �أعزيها؟ هل ُيعقل هذا؟ علي �أن �أتوقف عن تدليل نف�سي �إىل هذا احلد بتفادي الأحزان، ّ لأين �أو�شك الآن �أن �أتفادى �إن�سانيتي نف�سها ،و�أجتاهل �آالم امر�أة وحدي �أعرف كم �أع�شقها ،و�أبقي ذلك اليقني يف �صدري ،ولو قت نف�سي رمبا. بحت به ملا ّ �صد ُ بت هاتف املكتب� ،إن غالية ال تعرفه حتم ًا ،ولو ات�صلت من قر ُ ّ هاتفي اجلوال لرمبا عرفت رقمي فال ترد ،ال �أحد يدري هل كانت علي فع ً فينقلب يومي �إىل ال �أم ال� ،أو رمبا جتاهلتني لأي �سبب، ُ نقمت ّ ا�ستخدمت هاتف املكتب حتى �ألتم�س لها عذراً ب�أنها جهنم �صغرية! ُ ال تر ّد على الأرقام املجهولة �إن مل ت�ش�أ الر ّد فع ً ال ،وحتى ال �أحزن كثرياً. ٌ مفرط يف تدليل نف�سي.
نقرت �أرقامها ب�أكرث �أ�صابعي �شجاعة ،ورغم ذلك �أغلقت ُ ال�سماعة عدة مرات قبل �أن يكتمل الرقم بحجة �أين رمبا �أخط�أته، ّ ومل �أكن كذلك ،ولكني �أبحث عن حجج �صغرية ت� ّؤخر ات�صايل بها لثوان ،لأ�سيطر على توتري. �أخرياً� ،أكملت الرقم ،وبد�أت النغمة املت�صلة تنبعث معلن ًة �أنها ترن يف الطرف الآخر ،بدت يل النغمة التي تعودت �أن �أجدها
254
رتيبة وك�أنها املو�سيقى الت�صويرية التي تواكب اللقطات احلا�سمة من الأفالمّ ، مركزة جداً على احلدث ،على توتري ،وخويف ال�شديد، وا�ستعدادي الناق�ص ل�صوت غالية الذي قد يجيء ،وقد ال يجيء. – �آلو؟ – غالية. – مني؟ – �أنا ح�سان. قطعنا دقيقتني ،نتبادل الأ�سئلة املعتادة ،تلك التي ن�س�ألها ونعرف �إجابتها ،ولكنها تخرج على منط ال نتعب يف ت�شكيله� ،أنا الذي ال �أملك �أن �أ�شكل �أي عبارة مبتكرة الآن ،وهذه النربات التي يحملها يل �صوت غالية الأليف ،ت�شنقني �شنق ًا. – مل �أكن �أعلم يا غالية... أ�صيل ثقيل: زفرت غالية مثل � ٍ – احلمد هلل على كل حال. – مل �أكن �أعلم� ،صدقيني! – هل كنت م�سافراً ؟ – ال. – جاءت �أمك .كيف مل تعلم �أنت؟ – لقد �أخربتني ب�شكل غري وا�ضح ،ظننتها امر�أ ًة �أخرى ،ظننتها جارتنا. ال ،رمبا راحت تخترب مغفرتها مث ً �سكتت غالية قلي ً ال: علي ،و�رصت تكرهني. – �أنا ظننتك ناقم ًا ّ 255
– م�ستحيل يا حبيبتي� ،أنقم على ماذا؟ – ح�صل خري. – ..................... – ...كيف ت�سري �أمورك؟ كلمات ناق�صة ،و�أحا�سي�س مبتورة �أخرى ،وانتهت مكاملتنا. ٌ غالية بالذات تدرك جيداً طقو�س كالمي ،و�رسية لغتي ،وال ترتكني �أهذي وحيداً من دون �أن يتحول فمها �إىل حقل كالم ،غري �أنها الآن ما�ض يجب تخلع الثياب القدمية ،وت�ؤر�شف كل الكلمات يف طيات ٍ �أن يذيبه الن�سيان. كنت �أتلقاها كل دقيقة من هكذا ُ بررت اخل�سارات املتكررة التي ُ مكاملتنا التي ا�ستغرقت ربع �ساعة ،كنا نبدو ك�صديقني جديدين ،مل مرات يف ماء جتمع بينهما و�سادة من قبل ،ومل تنغم�س روحاهما ٍ احلب� ،إن كان ثمة ما ٍء للحب ،ال يتبخر �أحيان ًا. يف �آخر املكاملة قالت يل: – كن بخري يا ح�سان ،وانتبه لنف�سك. احتياجك أنك �ستطلبني م�ساعدتي فور – �س�أكون بخري �إذا ِ تيقنت � ِ ُ �إليها. – بالت�أكيد يا ح�سان ،ومن غريك؟ منحتني العبارة الأخرية حبة �أمان ،وجنبتني بكا ًء خمزي ًا كان ميكن �أن يكون لو انتهت املكاملة على تلك ال�صفة الباردة التي اكتنفت كل كلماتنا ،فقمت بعملي اليومي بهدوء ن�سبي ،بينما رحت �أ�سرتجع كل �ساعة �رشيط املكاملة يف ذهني ع�رشات املرات ،وكل مرة تتميز منها 256
عبارة �أقلبها على وجهني وثالثة ،و�أحاول �أن �أ�ست�شف من ورائها مازلت �أوقن �أن غالية حتتفظ بها يل ،يل وحدي. عاطف ًة ُ قررت �أن �أنام ،رغم �أين �أعرف �أين عدت من العمل، عندما ُ ُ �أخلط كل �أوراق اليوم هكذا ،و�أجازف بالبقاء م�ستيقظ ًا طوال الليل وحدي ،و�صوت غالية ال يزال مبلو ًال يف روحي مثل لثغة طفل منذ ال�صباح ،ولكني �أ�شعر برغبة يف دفن �رسيع ملا حدث� ،أريد �أن �أف�صل بني ما كان يف يوم ما ،يوهمني �أنه كان بالأم�س ،وما يف الأم�س يجب �أن ُين�سى ،ويجب �أن �أعود كما كنت. املنوم فور و�صويل ،وتناولت طعام ًا خفيف ًا، ُ تناولت �أقرا�ص ّ ورحت �أقر أ� يف �ضوء خافت يجهد ودخلت غرفتي� ،أطف�أت الأنوار، ُ العني لعلها تغفو ،ومنت فع ً ال. أفقت ثقيل الر�أ�س كعادتي ال �أدري كم �ساعة ا�ستمر نومي ،ولكني � ُ املنوم ،وكان ال�ضجيج القادم من ال�شارع ي�شي حني �أنام �إثر �أقرا�ص ّ اعتدت منذ ب�أن الوقت مل يت�أخر كثرياً ،ومل ينت�صف الليل بعد ،ولأين ُ وا�ستيقظت لي ً حاولت �أن ال، منت نهاراً، ُ ُ طفولتي اعتكار مزاجي �إذا ُ �أدبر هروب ًا من �ضجر حمتمل قبل �أن �أنه�ض من �رسيري. و�ضغطت �أزراره التي كانت حت�س�ست بيدي هاتفي اجلوال، ُ ُ رقم مل ُيرد عليه ،رقم غالية. �صامتة ،ليوم�ض يف وجهي ،وعلى �شا�شته ٌ اتك� ُأت على مرفقي و�أنا �أحاول �أن �أت�أكد �أنها حقيقة ،و�أين واع بوجيب �شديدٍ يف �شعرت ول�ست غارق ًا يف �ضباب النوم، لذلك، ٍ ُ ُ أفت�ش يف اجلهاز ،وكانت قلبي الذي كان م�سرتخي النب�ض، ورحت � ُ ُ غالية قد حاولت االت�صال بي ثالث مرات ،قبل �ساعة تقريب ًا. 257
ترى ماذا تريد غالية؟ هل ات�صلت من �أجلي �أنا ،عا�شقها الذي كان ،وزوجها الذي مل يكن؟ هل �ستقول يل كالم ًا كانت حتب�سه عني هذا ال�صباح ومل ت�ستطع �إبقاءه حمبو�س ًا حتى الليل؟ وكم �ستكون خيبتي عنيفة لو �أنها تطلبني يف �ش�أن عابر� ،أو رمبا �أرادت �أن تذكرين �أنه يجب عدم االت�صال بها مرة �أخرى. أنت التي ملاذا يا غالية �أ�صبحت احتماالتي ِ معك حم�شوة بالأمل؟ � ِ ح�ضورك تغلب عليه جفن بعني� ،أ�صبح ِ ِ علي �أكرث من ٍ كنت حنون ًا ّ أنت؟ �أم ظروفنا املخاوف ال�سيئة ،والهواج�س الرديئة .من فعل هذا؟ �أ� ِ التي انحرفت فج�أة من حيث مل نحت�سب؟ و�سحبت حلايف لأخبئ ر�أ�سي امللت�صق بالهاتف يف طلبت رقمها، ُ أغم�ضت عيني يف انتظار �صوتها. حيز الظالم ال�ضيق ،و� ُ لو �أن ما تطلبني فيه غالية �سي�صدمني� ،س�أعود �إىل النوم ،و�س�أعتربه حلم غبي ،ورمبا ،رمبا �أعتقل حلظة جر�أة ،و�أقول لغالية �إنني �أريد جمرد ٍ �أن �أن�ساها ،و�إنها ما كان يجب عليها �أن تت�صل بي �أ�ص ً ال. ردت غالية ،وجاء �صوتها هادئ ًا ،ومن حولها ترتيل قر�آن بعيد: كنت نائم ًا؟ – َ – �أجل. الوقت مبكراً. – ما زال ُ منت بعد عودتي من العمل. – ُ �صمتنا مع ًا ،و�أنا �أ�شعر ب�أن رياح ًا �صامتة تهب يف املكان ،عرب الهاتفني. هل �أرتكب حماقة؟ 258
ٌ غارق يف �رسيري ،والظالم مل ال؟ ال داعي للأقنعة الكثرية� ،أنا دام�س ،والكالم الذي �س�أقوله رمبا ال يتحول بال�رضورة �إىل حقيقة ٌ عدم �صغري كهذا الذي �أ�صنعه حتت حلايف. واقعية� ،إذ يخرج يف ٍ – وح�شتيني! توقعت هذا ،ولكني لن �أجعل كالمي مبتوراً ت�صمت غالية. ُ �صمت ل�صمتها ،ا�شتياقي �إليها لي�س �ضعيف ًا �إىل احلد الذي يبرته ٌ متوقع ،ولأنه قرر املثول كحقيقة ،فال بد �أن يكتمل ح�ضوره متام ًا. – غالية ،وح�شتيني كثري ،ما زلت �أحبك� ،أحبك جداً. وما دام كالمي قد انق�سم �إىل م�ستويني ،م�ستوى اال�شتياق، وم�ستوى احلب ،فلرمبا �صار �أ�سهل على غالية �أن جتاريني يف امل�ستوى الأدنى ،حتى ال تخ�رس الكالم ،وال تعترب نف�سها �أنها ان�ساقت متام ًا وراء م�شاعري. – حتى �أنت وح�شتني يا ح�سان. أ�صمت �أنا هذه املرة ،رغم �أن ردها كان حمر�ض ًا لأن �أفتح عليها و� ُ كنت عاجزاً عن �صعود العتبة التالية، م�رصاع الكالم الكثيف ،ولكني ُ خائف ًا �إذا ما �صعدتها �أن جتربين غالية على نزولها مرة �أخرى. اخرتعت غالية خمرج ًا منا�سب ًا من الزاوية ال�ضيقة التي جعلتها فيها، وراحت حتدثني عن ظروف وفاة والدتها ،و�أيام العزاء ،وح�ضور وكنت �أ�ستمع �إىل �إخوتها من �أبيها الذي مل تره وترهم منذ �سنوات، ُ حكايتها �صامت ًا. قطعت غالية �صمتي فج�أة: – ح�سان� ،أبغى �أقول لك �شيء مهم. 259
– ماذا؟ – �س�أعود �إليه. – من؟ – �أبو في�صل. هزتني املفاج�أة ،و�أخرجتني من الركود الذي جعلتني فيه حكايتها الأخرية اخلالية من وم�ضات حبنا ،وعالقتنا ال�سابقة. – ملاذا يا غالية؟ كيف؟ – لأين ال �أملك �إال �أن �أعود ،هو عر�ض الأمر قبل فرتة. رجل هو ،كيف تراهنني ولكنك – ِ ف�شلت معه ،و� ِ ِ أنت تعرفني �أي ٍ بنف�سك مر ًة �أخرى؟ ِ – هذه املرة يبدو منك�رساً ووحيداً ،وبه ندم. – وملاذا مل يندم طوال ال�سنوات املا�ضية؟ – ال يهم يا ح�سان ،في�صل يكرب ،و�أنا ال �أ�ستطيع تربيته وحدي. متكنك من هذا. أنت موظفة ،ولديك ا�ستقاللية ِ – ملاذا؟ � ِ – في�صل يحتاج �إىل �أكرث من ذلك. نف�سك لأقدار �سوداء يا غالية. ولكنك ت�س ِّلمني – ِ ِ تتخيل يل ظروف ًا �أخرى؟ �أنا امر�أة وحيدة يا ح�سان، – حاول �أن ّ يف مكان ال يقبل الوحيدات �أبداً. – يا غالية� ،إنه ّ �سكري! – ..................... – غالية هل ت�سمعينني؟ هل تقبلني احلياة مع ّ �سكري؟ – ما الفرق! و�أنا زانية! 260
ّ حتطم هذا الإناء بعنف يف �أر�ضية مكاملتنا الليلية اخلافتة تلك. ّ حتطم رافع ًا مئات ال�شظايا قبل �أن تهوي لتتحطم هي الأخرى، وكان دو ُّيها العايل يجربين على التلثم بال�صمت. ال�صمت الأبكم ال�صمت املكبل بال موعد ل�صوت الحق، ُ املهجور ،ذلك الذي بد أ� فع ً ال يفاو�ض معي تهدج الأنفا�س ،وي�ساوم دموعي ب�أمانة. رحماك! كلم ٌة �أخرى غري هذه يا غالية، ِ أخف زجمر ًة من تلك ،و� ُّ أقل عوي ً ال يف �صدري .ملاذا هذا كلم ٌة � ُّ الإ�رساف يف �سحق النقا�ش؟ ملاذا هذه الفداحة يف قتل كل الكلمات الأخرى التي كان ميكن �أن تقال ،وتعي�ش حيا ًة �صغري ًة و�سط هذا الكالم؟ ملاذا هذا احلريق الكبري واملكان مليء باخل�شب اجلاف �أ�ص ً ال؟ رغم نربة �صوتها التي كانت متدحرجة نحو البكاء ،جاءت عبارتها قا�سية جداً ،لأن املعنى �أبعد من جمرد ت�أنيب ذاتي ،كان �أبعد من ندم امر�أة �أحبها .كانت غالية تقت�سم معي جمر ال�ضمري ،وتقذف نحوي بن�صيبي من الذنوب. �أهكذا �إذن كانت تفكر ّ يف طوال فراقنا؟ كانت حتاكمني عن ُبعد، كنت �أت�سلى بتقدي�سها �أكرث. �أنا الذي ُ ل�ست �إال الطرف الآخر يف هذا ال ّزنا الذي حتدثت عنه. الآن� ،أنا ُ هل �صار ا�سمه زنا �أخرياً يا غالية؟ امل�شكلة �أنه بعد التوبةُ ،يعا ُد تعريف الأ�شياء ،ف�أخ�رس حبيبتي. ويربحها ٌ رجل �آخر. ّ وت�شذب عالقتنا هكذا ،تتوب فج�أة .تقرتح ترتيب ًا معين ًا للذنوب، 261
من كل الأغ�صان ال�صغرية الأخرى التي منت يف عهد احلب ،وتبقي الع�صا جرداء ،تقطع بها طريقها وحدها نحو اهلل ،وتنف�ضني عن ب�ساطها التائب مع بقية الآثام الغزيرة ،وال تعود يل ،لأنها تائبة. ما �أ�سو�أ �أن ت�رسق التوبة حبيبتي. ب�سببي �أنا ،ب�سبب هذا الذنب الذي ارتكبته معها ،قررت غالية �أن تك�رس كربياءها ،ومت�شي فوق �شظايا �أنوثتها املته�شمة نحو الرجل فرت منه من قبل ،الرجل الذي انتزعت نف�سها من قلعته الذي ّ �رصت �أنا جنديه الذي �أعادها �إليه مقيد ًة ب�أغالل ب�صعوبة كبرية، ُ اخلطيئة ،وعاثر ًة يف عفافها املثقوب! ملاذا مل نتب مع ًا يا غالية على الأقل؟ ملاذا تتعلقني بحبال القدر قبلي ،وترتكينني وحيداً على الأر�ض� ،أفاو�ض لعناته املحتملة؟ دمت غري واثقة بثبات فيك ب�شهوة ما وملاذا تركتني �أعيث ِ ِ قلبك، قامو�سك يف احلب ،وال ت�أمنني على نف�سك غارة تنزل على ِ ِ وت�أتي مبا مل نتوقع ،وتغري تعاريف الأ�شياء التي كانت �صديقتنا؟ وملاذا ال تظل الأ�شياء مرتبطة بالزمن الذي ح�صلت فيه؟ كان إمكانك �أن تتوبي من الآن ف�صاعداً ،وترتكي ما م�ضى كما كان .ملاذا ب� ِ توبتك ب�أ�سمائها اجلديدة على املا�ضي املليء باحلب ،فيتعثرّ كل تن�سحب ِ ثقوب كبرية يف جدران مل تعد موجود ًة �أ�ص ً ال؟ �شيء ،ويتغري ،وتُف َت ُح ٌ ال ،طوي ً �صمت طوي ً ال ،تند مني �أنفا�س م�شبعة برائحة البكاء، ُّ ت�شمها غالية حتم ًا ،وحتاول �أن تتجاهلها ،كما تتجاهل العفيفات بكاء اخلاطئني� ،أو رمبا �أوحى لها �شي ٌء ما ب�أن حزين لي�س �أكرث من �شيطان مراود. 262
– ح�سن ًا يا غالية ،اهلل يوفقك فيما تريدين. – ........................ – تبني �شي؟ – �سالمتك. – مع ال�سالمة. مبثل هذا االقت�ضاب �أعيد ال�سيطرة على نف�سي ،وبت�صميم عفوي قررت �أن �أكون �أنا من ينهي املكاملة ،ما دامت هي �أنهت وليد اللحظة ُ كل �شيء. �ستظن الآن �أين �أمار�س عادتي القدمية عندما �أعتب عليها ،وعندما تفكر يف كالمنا لن جتد نف�سها قد �أ�ساءت �إيل ،و�ستعرف �أن ح�سان، حبيبها القدمي ،ما زال مدل ً ال ونزق ًا فقط. ال يهم! بعد دقيقتنيَ ،ب َع َث ْت يل غالية بر�سالة ق�صرية يف الهاتف“ :ت�صبح على خري يا ح�سان ،وانتبه لنف�سك كثري� ،أنت �إن�سان جميل جداً”. وم�سحت ر�سالتها فوراً ،ثم قر� ُأت تربيتها امل�صطنع على قلبي، ُ لك ،بذنوبي ال�صادقة رحت �أرد عليها بر�سالة �أخرية“ :غفر اهلل ِ ُ وبتوبتك اخلائنة ،ال �أدري ماذا �ستفعلني!” �س�أجنو، ِ ومل �أر غالية ،ومل �أ�سمع منها �شيئ ًا بعد ذلك قط.
263
IX الحظت �أن ن�سخ كتابي دخلت غرفتي التي ال تتغري كثرياً، عندما ُ ُ خرجت من كرتونها البني ،وراحت تنمو مثل الأع�شاب املت�سلقة قبل �أن تتجمد عندما �أدركتها عند منت�صف اجلدار ،بجوار الكر�سي ال�صغري الذي �ألب�س عليه اجلورب ،والأباجورة التي مل تعرف النور منذ �أ�شهر طويلة ،والركن الذي كانت تتجه �إليه غالية �أحيان ًا ،وت�صلي. حتولت ن�سخ الكتاب التي �أحب�سها يف الكرتون منذ �أن و�صلتني �إىل �ست م�سالت فرعونية طويلة ،حدها الورقي يواجه اجلدار ،بينما حدها الذي عليه العنوان يواجهني متام ًا ،ويت�أمل وجهي مثل البغايا. اخرتت عنوان ًا كهذا ،فيه �أربعة �أحرف من ذوات الدوائر ال �أدري ملاذا ُ املغلقة ،مما جعلها تبدو وهي مرتا�صة بع�ضها فوق بع�ض ك�أربع �أعني خاوية يف كل كتاب ،بطول �ست م�سالت من �سبعمائة ن�سخة. كيف �س�أحتمل �أن تراقبني كل هذه الأعني املطلة من كتابي ،من ني �آخر؟ دون �أن �أ�شعر ب�أنني ا�ستنفدت حريتي متام ًا ،ولي�س عندي جب ٌ ُ أكتب الر�سالة ،و�أنا �أ�ضغط أم�سكت بهاتفي املحمول، � ُ ُ ورحت � ُ على كل زر ب�شدة يئن لها ج�سده البال�ستيكي ال�ضئيل ،ويكاد يغو�ص 265
كنت �أمعن يف ذلك .فهذا حزنٌ يجب يف حفرته ال�صغرية ويختفيُ . علي الهيكل النف�سي الآمن الذي بنيته �أن يح�سم الآن ،قبل �أن يخرب ّ ل�سنتني ،وا�سع ًا مثل م�ساحة التعب ،واهي ًا مثل حبات الدومينو. زلت “ا�شرتيت كل الن�سخ التي بقيت يف خمازن النا�رش ،وما ُ ُ أنت تن�رشين �أحاول جمع البقية ،وال �أزال عاجزاً عن ت�صورك و� ِ ِ خربت كل �شيء!” حزين ويجف ،ك�أين مل �أكن �إال �سجادة عتيقة... ِ وتركت الر�سالة ميت�صها د�س�ست رقم غالية يف امل�ستطيل امل�ضيء، ُ ُ الأثري بهدوء ،ويبعث بها �إليها. رحت �أت�أمل الكتب مرة �أخرى ،وهي مر�صو�صة �أمامي مثل ُ عمالق م�شلول .ترى ماذا ميكنني �أن �أفعل بها؟ عندي رغب ٌة �ضائعة �أن �أطلق عليها حكم الإعدام ،و�أحرقها يف �أي �أر�ض خالية ،وال �أبايل. أحد على ف�أنا ال�ضحية هنا ،واجلالد ،واحلكومة ،وال ميكن �أن يعرت�ض � ٌ جرمية �شخ�صية بحت كهذه. علي �أن �أت�صور �أن كتاب ًة وزن ُتها وزن ًا ،وعلقتها يف كان �صعب ًا ّ الإنرتنت ،ون�سيتها مثلما نن�سى م�شابك الغ�سيل على احلبال القدمية، �سوف تعود لتلت�صق بوجهي مثل و�شم خمجل! مل �أكن م�ستعداً لهذا الكتاب مهما كانت املربرات التي ميكن �أن تفرت�ضها غالية لتربر بها �سخافة ن�رش كتاب يحمل ا�سمي ،وال يحمل ا�سمها �أبداً .وكل ما فيه، حاالت كاريكاتورية باكية لرجل يرك�ض وهو �أعمى ،باجتاه امر�أة ركبت �سيارتها منذ زمن وم�ضت ،تاركة له الغبار واحلنق. وعدت �أم�شي �صحيح ًا مثل الأ�سوياء ألقيت عكاز احلزن، ُ �ألأين � ُ كنت �أعرج و�أحبها؟ �أرادت �أن تذكرين كم ُ 266
م�رسب ما ،عالقتي ب�إحدى الفتيات �أو رمبا ت�رسبت �إليها ،من ٍ الرثثارات ،ف�أرادت �أن تعيد النفخ يف الأبواق القدمية ،حتى يعكر علي ال�ضجيج �صفو اجل�سد ،ما دامت هي مل ترتك يف قلبي �شجن ًا كافي ًا ّ يعكر هذا ال�صفو وحده؟ �أو رمبا تعتقد غالية �أنها بعدما نالت مني كل هذا احلب ،بقي �أن تنال �أي�ض ًا كل هذا احلزن ،وتخلده يف التاريخ ال�ضئيل الذي بيننا. الن�ساء يحبنب �أن يجمعن �شهادات جميلة مثل هذه �أحيان ًا ،ت�شهد �أنهن مل يعربن احلياة ب�شكل عادي ،بل كن جديرات ب�أن يت�سبنب يف بع�ض احلب ،وبع�ض احلزن. “لعلمك، كتبت مرة �أخرى وا�ستلقيت على ال�رسير. خلعت ثوبي ِ ُ ُ ُ بحجمك. بحبك، بك، ِ ِ حزين حالة �شخ�صية جداً ،ال عالقة لها ِ ٌ قررت �أن �أحزن ،وحزنت ،وقررت �أن �أكف عن حزين، رجل �أنا ُ منك ،ال يغري الكثري” ،وو�ضعت وكففت ،وهذا الرق�ص املت�أخر ِ وفتحت وتركت الر�سالة تلحق �سابقتها، �إ�شارة االبت�سام الهادئة، ُ ُ ذراعي فوق ال�رسير ،مثل �صليب. بع�ض الق�سوة لذيذ ،و�أحيان ًا ال يبقى �إال هي يف خزانة الأدوية .لو عاملت غالية واجلورية منذ البداية مثل بقية الفتيات ،لرمبا �أ�صبحتا، �أين ُ كنت �أحاول جتريب م�ساحات خمتلفة طوع ًا ،مثلهن ،ولكني �أنا الذي ُ من عالقتي باملر�أة ،و�ألعب يف مناطق حمظورة ،ال �أعرف قوانينها ،وال �رشوطها الع�شوائية. كان من املمكن جداً �أن تكون العالقتان عاديتني جداً .غالية التي كان مي�شطها اجلوع بعد انف�صالها عن زوجها الأول� ،أمل تكن لتجد 267
معي مطعم ًا حنون ًا ،من ذوي القربى ،مي ّتعها بهدوء ،وال يف�ضحها، وال ي�ؤذيها؟ بالت�أكيد ،و�أنا �أجيد هذا اللعب الهادئ ،فلماذا فر�ضنا احلب فر�ض ًا يف منت�صف الظروف ،ورحنا نطرز احللم ال�سخيف ب�سذاجة راعيي غنم يف ق�صة قروية ما؟ خرجت �إليها ب�صدر للحمى� .أنا الذي �ضت نف�سي ُ عر ُ ّ لقد ّ اعتقدت �أن قلبي قوي مثل ج�سدي ،وخبري مثل مك�شوف ،وك�أين ُ يدي ،وهي التي وجدت �أمامها قلب ًا مك�شوف ًا فلم تتوان �أن تنزل عليه ٌ طرف مثل ذبابة .زوج عا�شق� ،أف�ضل من ع�شيق عابر ،ويف املعادلة يجعلها �أكرث رجحان ًا ،وجاذبية لها .طرف املر�أة املطلقة ،و�أم الطفل، وما زلت يف الع�رشين. كنت �سائغ ًا ،ولذيذاً ،وطيب ًا ،ومبذراً يف احلزن. اللعنة ،كم ُ انثنيت ان�سقت بهدوء وراء حلمها هي ،ولي�س حلمي ،وعندما ُ ُ فع ً ال بني يديها مثل معدن مطيع� ،إذا بها تتذكر فج�أة �أنها مل ترتب منذ فرتة طويلة قائمة �أولوياتها ،و�أن هناك من هم قبلي يف هذه القائمة: ال�ضمري ،والطفل ،واملجتمعّ ،... تذك َرتهم فج�أة عندما ّ دق جر�س التحدي الأول ،فهرعت �إليهم وتركتني وحيداً ،عا�شق ًا مكتمل الع�شق ،وزوج ًا مكتمل احللم ،وابن ًا خائب ًا لأبوين منك�رسين على حافة الفرح ،و�أب ًا ناق�ص ًا مل�ضغة جمه�ضة مرمية يف قمامة م�ست�شفى. لقد تركتني ك�أ�سو�أ ما ميكن �أن تخلفه امر�أة وراءها ،جمرد معدن مثني ،على جانب الطريق. أفقت من كل هذه احلقن ال�سامة ،وراحت قطعة املعدن وعندما � ُ املثنية تعدل نف�سها ب�صعوبة ،بعد �أن ظلت على حالتها املهينة تلك 268
�سنتني ،كانت حتاول �أن ت�ستقيم مرة �أخرى ،م�ستعينة بالكثري من العالج ،والكتابة ،والقلق ،وهوان الدخول على طبيب نف�سي ،حتى �رصت متما�سك ًا ،وعادي ًا مرة �أخرى .وبعد هذا كله ،عادت غالية ُ بهذا ال�شكل ال�سينمائي ،تن�رش كتاب ًا كبرياً كل ما فيه يقول �إين �أحبها، �أحبها� ،أحبها ،وو�ضعت ا�سمي فوقه وك�أنها حتتكر ا�سمي مثل العقود الفنية. و�شعرت �أن �أفكاري ارت�سمت على فمي ابت�سامة ازدراء و�أمل. ُ تنز من �سطح عقلي ،وجتف عليه مثل العرق ،تارك ًة ملح ًا ،و�أمل ًا، وقرف ًا ،و�صوراً كثرية للن�ساء ،يقفن �أمام وجهي مثل بنات الكوت�شينة ذوات الوجوه املثلثة ،والأج�ساد الناق�صة ،والأعني التي ال تنظر �إىل �شيء .ن�سا ٌء يردن �أن يكتملن فقط ،حتى لو �رسقن �أج�ساد الآخرين، وتراجعن يف منت�صف الطريق ،وتز َّيني بحزن خمطوف من كتاب ما. قررت �أن �أ�ستحم ،و�أحتفل مع املاء بالعودة �إىل م�رشوعي النف�سي ُ املتما�سك ،والنجاة من حفرة �أنثوية كبرية حفرتها يل غالية ،بيديها احلانيتني ،وقلبها املعقوف كمجرفة �صغرية .تكفيني ال�سنتان اللتان مرتا و�أنا �أفرت�ض �أن غالية �أعظم حزن ًا ،فال �ألومها على �شيء“ .الفتاة التي انك�رس حلمها فج�أة مثل قطعة خزفية ،املر�أة ال�ضعيفة التي مزقتها �أيدي ّ أحتمل لأين قطاع الأمل ،وحرمتها باب اجلنة املفتوح� .أنا � ّ كنت رجل ،ولكن كيف بها هي!” كان عقلي مي�شي �إىل اخللف ،لأين ُ معطوب ًا ومغف ً ال� ،أمنو مثل نبتة عمياء باجتاه ال�ضوء فقط ،وال �أعرف بكيت على غالية خرجت عن م�ساري منذ �أ�شهر طويلة ،منذ �أن �أين ُ ُ لأول مرة ،بينما راحت هي متحوين ببطء ،وتلغيني ب�آلية ،مثلما نلغي 269
الربامج التي ات�ضح �أنها مل تت�صالح مع �أجهزتنا ،ثم تعود �إىل حياتها ال�سابقة ،كما كانت بال�ضبط ،قبل �أن �أر�سل �إليها �أول بريد. كتبت لها ر�سالة �أخرى “�أمل يبق يف احلمام، ُ قبل �أن �أدخل �إىل ّ ورميت الهاتف ت�رسيحتك م�ستح�رض زينة �آخر ،غري حزين!”، ُ وخلعت ثيابي و�أنا �أ�شعر مبوجات هادئة تركب على ال�رسير بخفة، ُ �أع�صابي ،ودوامة دافئة تدور داخل عقلي ،والكثري من الأفكار الآمنة تر ّب ُت �صدري ،وتغذي هذا الإميان الوليد. �سواء �أكانت نياتها بهذا ال�شكل امللطخ الذي �أت�صوره الآن� ،أو كانت غري ذلك .لقد ت�رصفت غالية ب�شكل خاطئ ،وجتاوزت حدودها يف التعامل مع ا�سمي ،وكلماتي ،وعليها �أن تدفع �أحد الثمنني� ،صفاقتها �أو �سذاجتها .كالهما ي�ستحق عقاب ًا �صغرياً ،ور�سائل جوال قار�صة. �إذا كانت تريد �أن تغيب متام ًا كما قررت من قبل ،فعليها �أن تكون أمر بحجم الغياب� ،أما �أن تعبث بحزين من دون �أن �أ�شعر بها ،فهذا � ٌ ي�ستفز الأع�صاب فع ً ال! كم يبدو الغ�ضب �آمن ًا ومتعاون ًا هذه املرة .رمبا كان الغ�ضب هو امل�ضاد احليوي املنا�سب حلاالت احلزن املزمنة .على احلزانى �أن يتعلموا كيف يغ�ضبون يف االجتاه املنا�سب ،والوقت املنا�سب ،فوحده هذا الغ�ضب الآمن يعيد ترتيب الدماء ،ور�صف القلب ،و�إعادة الأمور �إىل علي �أن ن�صابها بعد �أن التوت على نف�سها مثل العظام امل�شوهة .كان ّ يوم �أخربتني فيه غالية �أن زواجنا لن يكتمل ،بد ًال من �أغ�ضب من �أول ٍ حماولة احتوائها مثل درع غبية� .أخربتني بهذا القرار يف غمرة االنهيار والبكاء حتى ال �أجد منا�ص ًا من �أن �أحتول �إىل “ماكنة” ب�رشية للرتبيت، 270
وال�ضم ،والتهدئة ،واالحتواء ،بينما دموعي تتجمد خلف جفني لأنها ال يجدر بها �أن تختلط بدموعها ،فدموع غالية لها الأولوية دائم ًا. كان يجب �أن �أخربها �أين عزي ٌز عند نف�سي ،وعندي �أبي ،و�أمي. أ�ستحق منها �أن تتحمل ثك ً ال موقّت ًا كهذا الذي كان يهددها به و� ُّ زوجها ال�سابق .وكان يجب �أن �أخربها �أن عليها �أن تقوم بالكثري من �أجلي قبل �أن تبد�أ يف البكاء ،وندب احلظ ،وافتعال ال�ضعف .هناك واجبات كثرية غري مكتملة يف دفرت الطالبة اجلميلة مل تكتبها بعد، ٌ ومل حتملها �إىل قلبي مهراً معنوي ًا ،يجعل الأمور متكافئة ومتزنة على الأقل. كنت �أ�ستمتع بقطرات املاء تغ�سل ج�سدي وقلبي من درن احلزن، ُ و�أراه يتجمع يف دوائر زيتية ،وي�ضيع يف هدير املاء. أغم�ضت �سمعت هاتفي يرنُّ يف الغرفة ،وراح رنينه يت�صاعد ،وقد � ُ ُ ومتددت بهدوء. عيني، ُ كان يرنّ ب�إحلاح ،ومل تكن لدي رغبة يف الر ّد عليه... �أبداً! بورتلند مايو 2007
271
املوقع ال�شخ�صي للم�ؤلف www.alalwan.com