أ.د .عبد الكريم ّ بكار أ.د .عبد الكريم ّ بكار
ال �أ�ستطيع �أن �أقول � :إن ما كتبته يف هذا الكتاب هو من قبيل التف�سري �أو ال�شرح لبع�ض �آيات الذكر احلكيم ،و�إمنا هو نوع من االنغما�س يف �ضيائه ونوع من احلوم حول حماه امل�صون ،و�إننا �ستظل ننهل من فيو�ض القر�آن الكرمي ،و�سنظل نقب�س من مفاهيمه و�إ�شاراته ،كما �أنه �سيظل فيه ما ينقع الغلة ،وي�شفي ال�صدر ،وينري الطريق ما تعاقب الليل والنهار ،وال حاجر على ف�ضل اهلل وكرمه. �إنني حني �أتدبر �شيئاً من الكتاب العزيز �أ�شعر بدرجة عالية من الثقة علي �سوى �أن والطم�أنينة ،و�أ�شعر �أنني �آوي �إىل ركن �شديد ،ولي�س َّ �أم ِّتع القلب والوجدان ب�شالالت �أنواره املتدفقه ومعانيه ال�سامية... كلما ن�ضجنا �أكرث وعرفنا �أكرث وجدنا �أنف�سنا �أقدر على فهم القر�آن الكرمي واال�ستفادة من بركاته
مؤسسة اإلسالم اليوم /إدارة اإلنتاج والنرش اململكة العربية السعودية الرياض ص.ب 28577 .الرمز 11447 : هاتف 012081920 :فاكس 012081902 :
للح�صول على هذا الكتاب ميكنكم التوا�صل عرب املوقع : www.drbakkar.com
� 10/05/2010 12:26:09
في إشراقة آيه
واهلل ويل التوفيق د عبد الكرمي بكار
www.wojoooh.com
اململكة العربية السعودية -الرياض ت 4918198 :فاكس :حتويلة 108 للتواصل والنرش: wojoooh@hotmail.com
���� �� ������ ���.indd 1
في إشراقة آية �أ.د عبد الكرمي بكار الطبعة الثانية جمادي الأوىل 1431هـ
� 29/04/2010 11:09:05
�� ������ ���.indd 3
في إشراقة آية
م�ؤ�س�سة الإ�سالم اليوم �إدارة الإنتاج والن�شر اململكة العربية ال�سعودية الريا�ض �ص.ب 28577 .الرمز11447 : هاتف012081920 : فاك�س012081902 : جدة: هاتف026751133 : هاتف026751144 : بريدة: هاتف063826466 : فاك�س063826053 : info@islamtoday.net www.islamtoday.net
التنفيذ الفني والن�شر والتوزيع
في إشراقة آية
www.wojoooh.com
�أ.د عبد الكرمي بكار
اململكة العربية السعودية -الرياض ت 4918198 :فاكس :حتويلة 108 للتواصل والنرش:
الطبعة الثانية جمادى الأوىل 1431هـ جميع احلقوق حمفوظة
wojoooh@hotmail.com
4
� 29/04/2010 11:09:05
�� ������ ���.indd 4
في إشراقة آية
5
� 29/04/2010 11:09:05
�� ������ ���.indd 5
في إشراقة آية
6
� 29/04/2010 11:09:05
�� ������ ���.indd 6
في إشراقة آية
مقدمة الطبعة الثانية
احلمد هلل رب العاملني ،وال�صالة وال�سالم على نبينا حممد وعلى �آله و�صحبه �أجمعني وبعد: فهذه هي الطبعة الثانية من كتاب (( يف �إ�شراقة �آية )) وقد �صدرت الطبعة الأوىل منه عام 1417هـ عن دار هجر يف �أبها ـ وكان هناك �أمل ب�أن تقوم الدار املذكورة بطباعته مرة �أخرى ،لكن لظروف �صعبة �أغلقت الدار �أبوابها ،وتوقفت عن الن�شر ،ومن ثم فقد عزمت على �إعادة النظر فيما مت ن�شره ،ورفده مبقاالت جديدة، بع�ضها ُن�شريف جملة البيان و(امل�سلمون) ال�صادرة يف لندن و جملة املعرفة ...وبع�ضها مل ي�سبق ن�شره من قبل .و�إذا عدنا �إىل الطبعة الأوىل ،ف�سنجد �أنها ا�شتملت على (خم�س وع�شرين مقالة )� ،أما هذه الطبعة فقد ا�شتملت على ( �أربع وثالثني مقالة ) يعب عن ر�ؤيته ونظرته للحياة والأ�شياء ،ف�إين �أحب �أن �أكون ومبا �أن ما يكتبه الإن�سان رِّ �أميناً مع قرائي ،ولهذا فقد تفح�صت هذه املقاالت مرة �أخرى لأرى مدى متثيلها لر�ؤيتي اليوم ،وذلك لأن بني �أول مقال منها و�آخر مقال ما يزيد قلي ًال على ع�شرين 7
� 29/04/2010 11:09:05
�� ������ ���.indd 7
في إشراقة آية
عاماً ،وهي مدة كافية لأن يح�صل لدى �أي كاتب الكثري من التجديد والتطوير يف مقوالته ور�ؤاه ،و�إن يف �إمكاين �أن �أ�شري يف هذا ال�صدد �إىل ثالثة �أمور �أ�سا�سية : 1ـ وجدت �أن اخلطوط العري�ضة يف فكري مل تتغري ،بل زادت ر�سوخاً ،وزادت لدي على �صوابها ور�شدها ،وهذا يف اجتهادي طبعاً . الرباهني َّ وتلك اخلطوط تتمثل يف الرتكيز على التغيري ال�سلمي البعيد عن الق�سر والعنف والإكراه واملعتمد على املنطق والوعي واجلاذبية والإجناز وامل�شروعية . وقد زاد يقيني خالل هذه املدة ب�أن م�شكلة امل�سلمني داخلية ،وتلك امل�شكلة تتمثل يف �ضعف االلتزام و�ضعف الوعي و�ضعف التنظيم والفاعلية بالإ�ضافة �إىل انت�شار الف�ساد و�ضياع احلقوق. 2ـ مل�ست يف املقاالت القدمية بع�ض الأمور التي ال متثِّل اليوم �أ�سلوبي وذوقي يف الكتابة ومنهجيتي يف معاجلة الأمور ،ولعل منها ما يلي : �أـ �أ�شعر �أنني كنت يف بع�ض الأحيان �أكرث حزماً وح�سماً يف الربط بني بع�ض الأ�سباب وامل�سببات ،مما يجعلني �أظهر وك�أنني �صاحب تفكري حتمي �آيل ،واليوم �أرى �أن الظواهر الكربى تت�أثر بعوامل كثرية ،ونحن ال ندري بال�ضبط حجم ت�أثري كل عامل ،وهذا يتطلب منا الت�سامح يف ربط املقدمات بالنتائج ،وال�صريورة �إىل ا�ستخدام لغة �أكرث مرونة و�أرحب يف دالاللتها . ب ـ وجدت يف مراجعتي �أنني م َّيال �إىل الت�شكيك فيما لدى الآخرين والتقليل من �ش�أنه ،وهذا يجعلني �أبدو وك�أنني �أبخ�سهم �أ�شياءهم يف بع�ض الأحيان ،وهذا ما ال �أراه اليوم ،ف�أنا �أعتقد �أن جزءاً من حلول م�شكالتنا موجود لدى �أعدائنا ،كما �أن بع�ض ما يخفف من م�شكالتهم موجود لدينا ،وهذا ال يعني �أبداً �أنني ال �أدرك 8
� 29/04/2010 11:09:05
�� ������ ���.indd 8
في إشراقة آية
امل�سافات الثقافية الفا�صلة بيننا وبني الأمم وامللل الأخرى ،كما ال يعني �أنني غافل عن الأذى الذي ي�س ِّببونه لنا . جـ ـ الحظت �أنني رمبا �أكون �أ�سرفت يف �إطالق بع�ض العبارات الرنانة ان�سياقاً وراء فخامة الألفاظ �أو حدة املعاين ،وهذا ما ال �أراه اليوم حيث �أعتقد �أن علينا �أن نكون �أكرث حر�صاً على الدقة و�أكرث حتفظاً يف ا�ستخدام التعبريات ذات الدالالت ال�ضخمة �أو العائمة . د� -سيالحظ القارئ الكرمي وجود تكرار بع�ض الأفكار واال�ست�شهادات ،وهذا ب�سبب تباعد تواريخ كتابة هذه الإ�شراقات ،ف�أرجو املعذرة. 3ـ �أود �أن �ألفت الأنظار �إىل �أنني وجدت بع�ض املقاالت املن�شورة على ال�شابكة ( الإنرتنت ) حتت عنوان (يف �إ�شراقة �آية ) وتلك املقاالت ن�س َبها بع�ض النا�س �إ َّيل، وهي لي�ست مما كتبته ،و�إن �أدنى نظر فيها يدل على �أنها ال تن�سجم مع منهجيتي كما �أن �أ�سلوبها مغاير لأ�سلوبي . هذا و�إين لأ�س�أل اهلل ـ تعاىل ـ ب�أ�سمائه احل�سنى و�صفاته العليا �أن يتقبل هذا اجلهد ،و�أن ينفع به �إخواين القراء� ،إنه ويل ذلك ،والقادر عليه. و�صلى اهلل على عبده ونبيه حممد وعلى �آله و�صحبه و�سلم . امل�ؤلف الريا�ض يف 1431 /4 /22هـ
9
� 29/04/2010 11:09:05
�� ������ ���.indd 9
�� ������ ���.indd 10
29/04/2010 11:09:05 �
في إشراقة آية
ﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ق�صة الب�شرية هي ق�صة البحث عن طريق ال�سعادة والأمن واال�ستقرار ...وق�صة البحث عن الفهم والو�ضوح ،وحماربة (العماء) و (الالتك ّون) لكن نتائج ذلك كثرياً ما تكون مو�ضوعاً حمزناً للقراءة! وهذه الآية املباركة تفتح �أعيننا على ال�سبب اجلوهري لذلك؛ �إنه بحث الب�شرية عن جناتها بعيداً عن هدي اهلل -تعاىل -وبعيداً عن �سبيله الذي َّ و�ضحه لعباده يف كتبه ،وعلى ل�سان ر�سله و�أنبيائه ـ عليهم ال�صالة وال�سالم -ولعلنا نقف مع هذه الآية الكرمية بع�ض الوقفات التي ن�ستجلي من خاللها َ بع�ض ما ت�ش ِّعه من معان ومفاهيم، َ وبع�ض ما ترتب على ا َحل ْيدة عن �سبيل اهلل من م� ٍآ�س ومهلكات ،وذلك من خالل احلروف ال�صغرية الآتية: -1تقرر هذه الآية املباركة �أن �سبيل الهداية هو ال�سبيل الوحيد الذي على الب�شرية �أن ت�سلكه ،ويف حال تنكبه ،فلي�س هناك �سبل �أخرى للنجاة والفوز والنجاح. ومعنى الآية� :أن من ي�ضلله اهلل فلي�س له طريق ي�صل به �إىل احلق يف الدنيا ،و�إىل 11
� 29/04/2010 11:09:06
�� ������ ���.indd 11
في إشراقة آية
اجلنة يف الآخرة ،لأنه قد ُ�س َّدت عليه �سبل النجاة� .إن ال�ضال يجد �سب ًال كثرية ،لكنها جميعاً تو�صله �إىل غري ما ي�ؤ ِّمله ،و�إىل غري ما يحقق من خالله ذاتيته ووجوده ،وهذا هو الذي ُيفهم من قوله َّ - جل وعال :ﱹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﱸ الأنعام.153 : ويف حديث ابن ماجه عن جابر -ر�ضى اهلل عنه -قال( :كنا عند النبي × فخط خطاً ،وخط خطني عن ميينه ،وخط خطني عن ي�ساره ،ثم و�ضع يده يف اخلط الأو�سط ،فقال: هذا �سبيل اهلل ،ثم تال هذه الآية :ﱹﭺ ﭻ ﭼ ﭽﱸ(.)1 �إن هناك دائماً الكثري من �إمكانات احلركة ،والكثري من اجتاهات ال�سري ،لكن عدم وجود (الهداية) الربانية يجعل تلك الإمكانات وبا ًال على الب�شرية ،وهذا هو احلا�صل الآن. -2يلم�س كل من ُيعمل فكره يف واقع الب�شرية وجود مفارقة عجيبة بني ما تحُ رزه يف م�ضمار االكت�شاف والتقنية والتنظيم وال�سيطرة على البيئة ،وبني ما حترزه من تقدم على ال�صعيد النف�سي واالجتماعي والأخالقي والإن�ساين -عامة -حيث �إن التقدم الرتاكمي املطرد على ال�صعيد الأول ،ال يكاد يوازيه �سوى احلرية واالرتباك، وات�ساع اخلروق على ال�صعيد الثاين ،وهذا مع �أن النا�س ي�ؤملون دائماً �أن ينعك�س توفر و�سائل الراحة والرفاهية على و�ضعهم الروحي والنف�سي واالجتماعي ،لكن ذلك -مع الأ�سف � -أمنية مل تتحقق! يف الغرب ت�سا�ؤالت كثرية اليوم عن �سبب هذه الظاهرة املزعجة ،وتف�سريات يوجه من �إمكاناته وطاقاته البحثية ما يكفي ل�سرب عديدة لها ،فمن قائل� :إن العامل مل ِّ � -1أحمد ،ح .14853 / 12
� 29/04/2010 11:09:06
�� ������ ���.indd 12
في إشراقة آية
غور الأبعاد الإن�سانية واالجتماعية املختلفة؛ وما ُبذِ ل من جهد يف هذه املجاالت �أقل بكثري مما بذل يف املجاالت الفلكية والطبية والفيزيائية والكيميائية ،...ولذلك فالنتائج مل تكن غري متوقعة ،ومن قائل� :إن امل�شكلة تعود �إىل طبيعة العلوم االجتماعية ،فهي على درجة من الهالمية جتعلها تت�أبى على الت�شكيل ،ومهما حاولنا تقنني �أ�ساليب التعامل معها ،ف�إن النتائج التي ميكن �أن نتو�صل �إليها �ستظل ظنية واحتمالية ،ومن املنهج املالئم لبحث ق�ضاياها وم�شكالتها ،والأدوات املعرفية قائل� :إننا مل نكت�شف َب ُعد َ امل�ستخدمة الآن يف املجاالت االجتماعية �أكرثها م�ستعار من منهجيات البحث واملعاجلة يف املجاالت العلمية ،ولذا ،ف�إنها �ستظل حمدودة الفاعلية ...وهكذا ،فالتحليالت كثرية، لكن ال يبدو �أن هناك �سبي ًال للخروج من امل�أزق! وعندي �أن التقدم يف جماالت العلوم الطبيعية ،يعود �إىل �أ�سباب عدة� ،أهمها: توفر الإطار الذي تتفاعل فيه اخلربات والإجنازات يف املجاالت املختلفة ،مما يجعل التقدم الأفقي يف املجاالت العلمية املختلفة ي�ساعد على التقدم الر�أ�سي يف كل جمال على حدة .وقد�أمكن التقدم يف بلورة هذا الإطار ،ويف حتديد املبادئ الأ�سا�سية للعمل فيه ل�سببني �أ�سا�سيني: يعود الأول منهما �إىل �أن العلم حمدود الطموحات ،وي�شتغل باجلزئيات؛ فكثافة �إجنازاته من توا�ضع طموحاته. ويعود الثاين �إىل �ضعف �صلته مب�سائل الوحي والروح واالعتقاد ،فك�أن الإجناز فيه يف الأ�صل جزء من �سنة االبتالء يف هذه احلياة ،والذي على النا�س �أن ي�ستخدموا فيه كل مواهبهم و�إمكاناتهم للنجاح� .أما يف جمال العلوم االجتماعية ،فالأمر خمتلف متاماً ،فمهما بذل النا�س من جهود ،ومهما اكت�شفوا من مناهج ،ف�إنهم لن ي�ستطيعوا - 13
� 29/04/2010 11:09:06
�� ������ ���.indd 13
في إشراقة آية
مث ًال -حتديد الغاية النهائية للوجود ،كما �أنهم لن ي�ستطيعوا توفري املقدمات الكافية لتحديد ما يحتاج �إليه العقل من م�سارات حتى يقوم ب�أعمال اال�ستنتاج والتوليد، كما �أنهم �سيجدون �أنف�سهم م�شتتني حيال تقومي التجارب الكلية. العقل الب�شري -على ما يتمتع به من طاقات هائلة -تظل وظيفته عند بحث الق�ضايا الكربى �أ�شبه بوظيفة (املدير التنفيذي) الذي يج ِّهز كل �أدوات الرحلة يحدد �أهدافها ووجهتها؛ فذاك من مهام (القائد) الذي يتج�سد وو�سائلها ،لكنه ال ِّ هنا يف املنهج الرباين املع�صوم .وممن انتهى �إىل هذه النتيجة (�أن�شتاين) وهو من �أكرب عباقرة القرن الع�شرين عندما قال�( :إن ح�ضارتنا متلك معدات كاملة ،لكن الأهداف الكربى غام�ضة). -3حني �أعر�ض الغرب عن (�سبيل اهلل) �أخذ يبحث بجدية نادرة عن ال�سبيل البديلة التي ميكن �أن تو�صله �إىل كل �أمنياته ،وحتقّق له كل رغباته ،وقد كان (القرن التا�سع ع�شر) قرن التفا�ؤل الكبري؛ �إذ حقق العلم انت�صارات كبرية ،واعتقد النا�س يف الغرب عندئذ �أن (العلم) �سيكون قادراً على حتقيق كل �شيء ِّ وحل كل مع�ضلة، و�سيطرت من ج َّراء ذلك النزعة الو�ضعية �أو العلمية املتطرفة التي اعتقد �أ�صحابها �أنهم قادرون على حل لغز الكون والإجابة على كل الأ�سئلة التي يطرحها الإن�سان، وامل�س�ألة م�س�ألة وقت لي�س �أكرث .وانتهى بهم الأمر �إىل االعتقاد بالت�ضاد بني (العلم) و(الإميان) ف�إما �أن تكون عاملاً غري م�ؤمن� ،أو م�ؤمناً غري عامل! يف الن�صف الثاين من القرن الع�شرين -على نحو �أكرث و�ضوحاً -بد�أت النظرة تختلف( ،)1حيث �شهد هذا القرن حربني عامليتني �إىل جانب �أكرث من 130حرباً -1انظر كتاب العلم والإميان يف الغرب احلديث 7 ،6 :ت�أليف :ها�شم �صالح� ،ضمن �سل�سلة كتاب (الريا�ض) عام 14
� 29/04/2010 11:09:06
�� ������ ���.indd 14
في إشراقة آية
�صغرية ،وحيث �صارت البيئة الطبيعية يف حالة يرثى لها ،و�أخذت البنى االجتماعية املختلفة بالتداعي واالنهيار ،وتبني ل�صفوة من علماء الغرب عظم اخلط�أ الذي ارتكبه الغربيون حني ردوا على انحرافات الكني�سة بالإحلاد وت�أليه (العلم) ،كما تبني لهم �أن العلم �أعجز من �أن يدل على طريق النجاة .يقول (بيري كاريل)(( :)1العلم يهدف �إىل متكيننا من معرف ٍة �أف�ضل بالعامل وعالقتنا به ،كما �أن العلم ينري لنا الطريق يف �صدد ما ميكن فعله ،وبخ�صو�ص الو�سائل والإمكانات املتاحة� ،أو الرهانات واملخاطر� .أما يقدم لنا الغاية من (الإميان) فيقول لنا ما ينبغي فعله لكي نعطي حلياتنا معنى� ،إنه ِّ الوجود والقيم و�أ�سباب الأمل والعمل)(.)2 هذه الأفكار �صارت من جملة معتقدات بع�ض �صفوة العلماء واملفكرين يف الغرب ،لكنها لي�ست يف واقع الأمر �سوى خطوات قليلة يف طريق طويل ،والتخريب الذي �أحدثته (العلمانية) يف بنى احلياة الغربية على مدى ثالثة قرون �شديد االنت�شار والعمق؛ والأمل يف الإ�صالح على املدى املنظور �ضئيل للغاية! � -4إن �أمة الإ�سالم ما زالت تنعم -بف�ضل اهلل -بالهداية ومعرفة (�سبيل اهلل) وهذا ما يوفر للم�سلمني اليوم متيزاً ،ال َي ْ�ش َركهم فيه �أحد ،كما �أنه يخفِّف الكثري من لأواء احلياة وم�شاقها .و�أكرب دليل على هذا عدم وجود ظاهرة (االنتحار) يف �أي جمتمع �إ�سالمي ،على حني �أنها تنت�شر يف �أكرث دول العامل تقدماً ورفاهية .لكن ال ينبغي لنا �أن نطمئن كثرياً �إىل ما نحن فيه ،فهذا الفي�ض من الأفكار وال�صور والنظم والنماذج التي يبثها يف كل اجتاه �أكرث من خم�سمائة قمر �صناعي تدور حول الأر�ض 1998م. � -1أ�ستاذ ف�سيولوجيا الأع�صاب وع�ضو �أكادميية العلوم منذ عام 1979م. -2ال�سابق.63 : 15
� 29/04/2010 11:09:06
�� ������ ���.indd 15
في إشراقة آية
�أربك (الوعي) لدى كثري من امل�سلمني ،وبتنا نرى الكثري من الثقافات املحلية العميقة اجلذور �آخذ ًة يف التحلل والتفكك واالنكما�ش ل�صالح رموز احلداثة القادمة من الغرب ،وهذا ُي ْفرِغ الكثري من الأطر والقوالب الإ�سالمية من م�ضامينها ،و ُي ِ دخل جمتمعاتنا يف امتحان لي�ست م�ستعدة له! �إن الذي يقر�أ التاريخ ب�شفافية يجد �أن التقدم العمراين كثرياً ما يكون م�صحوباً بانخفا�ض يف وتائر التدين و�سو ّيات االلتزام ،فالقرن الرابع الهجري -مث ًال -كان قمة يف التقدم العلمي والعمراين ،لكن االلتزام بتعاليم ال�شريعة مل يكن كذلك ،فقد كان يف القرون التي �سبقته �أف�ضل و�أر�سخ .وهذا معنى حتذير النبي × لأمته من االنبهار واالفتتان بزخارف الدنيا ،وخوفه من �أن تعجز عن �إقامة �أمر اهلل -تعاىل -يف ظروف الرخاء والرفاهية. �إن املنتجات التقنية -بالإ�ضافة �إىل هيمنة (نظام التجارة) � -أخذت تعيد ت�شكيل حياتنا على نحو ال يعب�أ كثرياً مبقت�ضيات التدين احلق ،و�صار من الواجب علينا �أن نتدبر �أمرنا ،ونرفع درجة ح�سا�سيتنا للوافدات اجلديدة ،و�إال فقد ن�ستيقظ بعد فوات الأوان� .إن على مثقفي الأمة -على اختالف تخ�ص�صاتهم � -أن ينه�ضوا مب�س�ؤولياتهم والوفاء بالعهد امل�أخوذ عليهم يف هذا ال�ش�أن ،فالثقافة لي�ست وجاهة فح�سب ،و�إمنا ريادة وم�س�ؤولية يف �آن واحد. وهلل الأمر من قبل ومن بعد.
16
� 29/04/2010 11:09:06
�� ������ ���.indd 16
في إشراقة آية
ﯓﯔﭶﭷ يقول اهلل :
ﱹﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ
ﭻ ﭼ ﱸ احل�شر.9 : هذه �آية جليلة ال�ش�أن يف كتاب اهلل ـ تعاىل ـ وهي ت�ضع �أيدينا على حقيقة كربى من حقائق هذا الوجود ،ومتنحنا ا�ستب�صاراً ب�ش�أننا العام ،ال يليق بنا �أن نتجاوزه دون �أن ميلأ حياتنا مبعنى جديد! ولعلنا يف ال�صفحات التالية نقتب�س من نور هذه الآية: � -1إن ن�سيان اهلل -تعاىل -يكون على م�ستويني :م�ستوى �ضعف �صلة امل�سلم به ،وتبلد �أحا�سي�سه وم�شاعره نحو خالقه وم�ستوى الإعرا�ض عن هديه وا�ستدبار منهجه. حتث ويف �إطار امل�ستوى الأول جند �أن لدينا الكثري الكثري من الن�صو�ص التي ُّ امل�سلم على �أن يكون كثري الذكر واملراقبة هلل ـ تعاىل ـ حتى ي�صل �إىل مرحلة احلب له 17
� 29/04/2010 11:09:06
�� ������ ���.indd 17
في إشراقة آية
وفرح الوعي به ،واال�ستئنا�س بذكره ،وقد قال �سبحانه :ﱹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﱸ الأحزاب 42-41 :وقال :ﱹﯪ ﯫ
ﯬ ﱸ العنكبوت.45 :
()1
ويف احلديث ال�صحيح( :مثل الذي يذكر ربه ،وال يذكره كمثل احلي وامليت) ولو رجعنا �إىل ما حثت عليه الن�صو�ص من الذكر ،مما ي�سمى بعمل اليوم والليلة ،لوجدنا �أن االلتزام بذلك يجعل امل�سلم ال يكاد ينفك عن ت�سبيح وحتميد وتهليل وا�ستغفار وت�ضرع ودعاء ،ما دام م�ستيقظاً� .إن كرثة ذكر هلل تعاىل تو ّلد لدى امل�سلم احليا َء منه وحبه ،وتن�شّ طه لل�سعي يف مر�ضاته ،كما متلأ قلبه بالطم�أنينة والأمان وال�سعادة؛ ل َي ْن َع َم بكل ذلك يف �أجواء احلياة املادية ال�صاخبة. �إن الفكر ير�سم امل�سار ،وير�شد �إىل الطريق الأ�صلح للحركة والعمل ،لكنه ال يكون �أبداً منبعاً للطاقة والعزمية والإرادة ال�صلبة ،و�إن ال�صلة باهلل ـ تعاىل ـ والتي هي لباب كل عبادة هي التي تمَ ُّدنا بكل ذلك ،و�إن املعاناة التي ي�شعر بها امل�سلم اليوم من جراء االنف�صال بني قيمه و�سلوكه ،مل تتجذر يف حياة كثري من امل�سلمني �إال ب�سبب ما ي�شعرون به من العجز عن االرتفاع �إىل �أفق املنهج الذي ي�ؤمنون به؛ وذلك العجز مل يرت�سخ ،ويت�أ�صل �إال ب�سبب ن�ضوب ينابيع امل�شاعر الإميانية يف داخلنا! �إن تيار ال�شهوات واملغريات الذي يجتاج كل ما يجده �أمامه اليوم ،ال يقا َوم يعب منه امل�سلمون ما ي�سمو بهم عن �أوحال امللذات �إال بتيار روحي فيا�ضُّ ، واملتع الدنيوية ،ويعو�ضهم عن ن�شوتها .ولذا ف�إن (�أدب الوقت) يقت�ضي من � -1أخرجه البخاري. 18
� 29/04/2010 11:09:06
�� ������ ���.indd 18
في إشراقة آية
املربني والعلماء النا�صحني و�أهل الف�ضل التوجي َه �إىل �إثراء حياة ال�شباب والنا�شئة بالأعمال الروحية ،وعلى ر�أ�سها الذكر ،حتى ال يقعوا يف م�صيدة الن�سيان واللهو والإعرا�ض عن اهلل؛ تعاىل. �إن مما �صار �شائعاً �أن ترى بع�ض العاملني يف حقل الدعوة ،وقد �شُ غلوا ب�ضروب من �أعمال اخلري ،لكن اجلانب الروحي لديهم �صار ذاب ًال ،و�أقرب �إىل اجلفاف ب�سبب �إفراغ طاقاتهم يف ال�سعي �إىل حتقيق �أهداف عامة ،كنفع النا�س� ،أو الدعوة �إىل اهلل - تعاىل -دون �أن ي�ستح�ضروا النية ،ودون �أن يطبعوا على ذلك ا�سم اهلل تعاىل ودون �أن يعطروه ب�شذى من ال�صلة به ،والإح�سا�س العميق باالمتثال لأمره. وكانت نتيجة ذلك �أن فقدت تلك الأن�شطة نكهتها وت�أثريها ،وق َُ�صرت عن بلوغ �أهدافها ،بل �صار ت�سرب حظوظ النف�س �إليها �أمراً قريباً و وارداً� .إن البنية العميقة للثقافة الإ�سالمية متمحورة على نحو �أ�سا�سي حول تعظيم اهلل ومر�ضاته ،و�إن امل�سلم �إذا فقد قوة ال�شعور باالرتباط بذلك ،لن ي�سعى يف �إعمار الأر�ض ،و�إذا فعل ذلك ف�إن عمله لن يكون له �أدنى متيز ،و�سيتخبط ،ويرتع كما يفعل غريه! -2هناك م�ستوى �آخر من ن�سيان اهلل ـ جل �ش�أنه ـ يتمثل يف تخطيط �ش�ؤون احلياة بعيداً عن االهتداء بكلماته ،والتقيد بالقيود التي فر�ضها على حركة عباده .وهذا يف احلقيقة هو الن�سيان الأكرب ،وعند تقليب النظر يف واقع �أمة الإ�سالم اليوم جند �أن ن�سبة حمدودة من املن�سوبني لهذه الأمة تلتزم على نحو كلي بفعل الواجبات ،وترك املحرمات .ومبا �أن الإح�صاء حول �أي �شيء لي�س مرغوباً فيه لدى جهات عديدة، ف�إننا ال نعرف ،وال نحزر االجتاه الذي ت�سري فيه تلك الن�سبة املحدودة من امللتزمني: هل هو النمو� ،أو هو االنكما�ش واالنح�سار؛ لكن من الوا�ضح �أن العديد من القيم 19
� 29/04/2010 11:09:06
�� ������ ���.indd 19
في إشراقة آية
والأخالق الإ�سالمية العتيدة بد�أ يفقد الت�أثري يف �ضبط ال�سلوك ،وتكوين املواقف لأ�سباب عديدة ،لي�س هنا مو�ضع �شرحها .وحني ت�سمع لكالم كثري من ذوي النفوذ والثقافة يف ال�ساحات الإ�سالمية ال جتد يف �أحاديثهم وخطابهم العام ما يدل يف ال�شكل �أو يف الروح على �أنهم على �شيء من ذكر اهلل والدار الآخرة� ،أو �أنهم مت�أثرون ب�شيء من منهجيات هذا الدين و�أدبياته ،على الرغم من �أنهم ُيذ َكرون يف عداد امل�سلمني! و�إن مما يالحظ يف هذا ال�سياق �أن تطوراً ُمريعاً قد اجتاح لغة اخلطاب لدينا خالل ال�سنوات الع�شر املا�ضية ،فقد كانت لدينا قيم مو�ضوعية ثابتة ،على من ي�ستحق الثناء �أن يتخلق بها ،وقد كان النا�س يقولون :فالن طيب ،ابن حالل، خلوق� ،صالح ،م�ستقيم ،تقي ،متوا�ضع� ..أما اليوم ف�إن �ألفاظ املديح تتمحور حول عدد من املزايا ال�شخ�صية املرتكزة على مهارات معينة ،وعلى عالقات اجتماعية وا�سعة، هي �أ�شبه مبا على (مندوبي املبيعات) �أن يتقنوه! و�صار يقال :فالن ناجح� ،شاطر، اجتماعي (دبلوما�سي) َحرِكَ ،مرِن� ،أثبت ذاته ،وحقق وجوده ،ويف اعتقادي �أن مثل هذا التطور �سوف يجعل املجتمع ميوج بالل�صو�ص واملرت�شني واملحتالني ما دام النجاح ،ال الفالح ،هو ِّ نعد هذا من �أ�سو�أ ما املنظم اخلفي للرتاتيبية االجتماعية! وقد ُّ �شاهدناه من �أ�شكال التطور الأخالقي واالجتماعي والرتبوي ،و�سوف تكون له �آثار بعيدة املدى يف البنية الأ�سا�سية لل�شخ�صية امل�سلمة على مدى عقود عديدة قادمة! � -3إن الآية الكرمية �صريحة يف �أن ن�سيان اهلل -تعاىل كان �سبباً مبا�شراً يف جعل املرء ين�سى نف�سه ،وك�أن الذي ي�ض ّيع نف�سه يف عاجلها و�آجلها ،ي�ض ّيع الدنيا فتلفه امل�شكالت من كل �صوب ،وي�ض ِّيع الآخرة بخ�سران النجاة والفوز باجلنة. �إن ن�سيان النف�س لي�س على درجة واحدة ،و�إن ال�ضرر الذي �سيلحق النا�س 20
� 29/04/2010 11:09:06
�� ������ ���.indd 20
في إشراقة آية
�سيكون بالتايل متفاوتاً ،وعلى مقدار الن�سيان والت�ضييع لأمر اهلل ـ تعاىل ـ �سيكون الت�ضييع للنف�س والدنيا والآخرة. �إن خ�سران الآخرة للذين ين�سون اهلل ،وا�ضح املعامل ،وي�ستوي يف معرفته العامة لدينا واخلا�صة ،لكن الت�ضييع لأمر الدنيا هو الذي يحتاج �إىل نوع من البيان ،ولعلنا جنلوه يف النقطتني التاليتني: �إن ع�صر املعلومات الذي يظ ّلنا الآن �سيكون -واهلل �أعلم � -أق�صر الع�صوراحل�ضارية ،و�سوف يعقبه ع�صر �آخر ،هو ع�صر (الفل�سفة) وبحث امل�سائل الكلية، و�س ُتط َرح الأ�سئلة الكربى :من �أين جئنا ،وملاذا نحن هنا ،و�إىل �أين امل�صري ،ما حدود الطبيعة الب�شرية ،وما ماهية اخلري وال�شر..؟ و�إمنا نقول ذلك؛ لأن قراءة التعاقبات التاريخية ،تنبئنا �أنه حني ت�صل حالة ما �إىل حدود متقدمة ،تبزغ من الطبيعة الب�شرية حالة م�ضادة لها؛ فحني ت�شتد العقالنية �أو التقن ّية يف �أمة ،ف�إن �أ�شواقاً تنبعث لك�سرها، والفكري� ،إنه �أحد مظاهر ُ�س ّنة الفل�سفي التقني ين فينبثق من العقال ّ ّ العاطفي ،ومن ّ ُّ ُّ التوازن التي بثها اخلالق يف هذا الكون! ولذا ف�إن الهمج ّيني و�سوقة ال�سوقة وحدهم ،هم الذين ال يت�ش ّوفون �إىل معرفة م�صريهم النهائي ،و�إىل معرفة الغايات الكربى للوجود! حني ت�صري الب�شرية �إىل هذه املرحلة� ،سيكت�شف الذين ن�سوا اهلل� ،أنهم ال ميلكون �أي جواب جازم� ،أو ُم ْقنع على الأ�سئلة الكربى املثارة ب�إحلاح ،بل �سيجد الغرب على عد امل�صدر الوحيد نحو خا�ص �أنه قد �أحرق كل �سفن العودة �إىل (الوحي) الذي ُي ُّ الذي يجيب على تلك الأ�سئلة. �إن كل �إ�صالح ل�ش�ؤون البيئة واالقت�صاد ،و�إن �أي نوع من املحافظة على منجزات 21
� 29/04/2010 11:09:06
�� ������ ���.indd 21
في إشراقة آية
الب�شرية� ،سيقت�ضي من اليوم ف�صاعداً تقدماً ملحوظاً على �صعيد (الإن�سان) وما مل يحدث هذا التقدم ،ف�إن كل �شيء �سيكون يف مهب الريح! واملالحظ بقوة �أن احل�ضارة احلديثة ب�صبغتها املادية ،قد نقلت جمال ال�سيطرة من الإن�سان �إىل الأ�شياء، حيث �أ�ضعفت �إرادة الب�شر ،و�أحاطتها بكل ما يخل بتوازنها ،وهذا يعني �أن احل�ضارة الغربية ببنيتها احلا�ضرة لي�ست م�ؤهلة للنهو�ض بالإن�سان� .إذا كنا نعتقد �أن الطبيعة الب�شرية واحدة ،فهذا يعني �أن غايات وجودها يجب �أن تكون واحدة ،وهذا هو منطوق الوحي ،وهذا ما ال يب�صره الإن�سان العلماين اليوم! لن تكون الأ�سئلة املثارة �أ�صيلة �إال �إذا كان لها �أجوبة موجودة عند جه ٍة ما وهذه اجلهة لن تكون �أبداً الإن�سان ،فمن تكون �إذن ؟ �إن اهلل ـ تعاىل ـ خلق العقل الب�شري ليكون يف الأ�صل عق ًال عملياً ،وهو يف عمله ي�شبه (احلا�سوب) ،وهو كاحلا�سوب ال ي�ستطيع �إدخال حت�سينات جوهرية على املدخالت التي ُيغذى بها ،و�سيكون الأمر م�ضحكاً �إذا عمدنا �إىل ت�شغيل العقل الب�شري وحت�سني طروحاته وعمله ب�شيء من منتجاته التي تولىّ تنظيمها الفال�سفة ،وهم الذين مل يفلحوا يف االتفاق على �أي �شيء!� .إن كل �شيء اليوم يتقدم �إال الإن�سان ف�إنه يف تدهور م�ستمر، و�إن مما يثري ال َف َزع �أنه على مدار التاريخ كان التقدم املادي والعمراين م�شفوعاً بانخفا�ض يف وتائر التدين وال�سمات الإن�سانية الأ�صيلة ،مما يدل على �أن الإن�سان ال ي�ستطيع �أن يوازن بني مطالبه الروحية واجل�سدية ،دون عون من خالقه ،ولكن امل�ؤ�سف مرة �أخرى �أننا ال نريد �أن نعرتف بذلك؛ لأن ذلك يقت�ضي منا تغيرياً هائ ًال ،نحن غري م�ستعدين الآن لدفع تكاليفه! �إن ن�سيان اهلل -تعاىل -قد �أف�سد الن�سيج الإن�ساين كله ،وحني يف�سد الن�سيج العام ،فلن يكون ثمة فائدة تذكر من وراء التعليم والتدريب والرتبية، 22
� 29/04/2010 11:09:06
�� ������ ���.indd 22
في إشراقة آية
وكيف ميكن �إ�صالح خبز �أو كعك �أو فطري ف�سد طحينه ؟! �إن �ضعف الإن�سان على مدار التاريخ كان من عوامل ا�ستمرار بقائه� ،أما اليوم فقد اجتمع للب�شرية القوة الغا�شمة مع الطي�ش ال�شديد و�ضعف الوازع الداخلي ،وهذا ما �سي�س ِّبب الكوارث ما مل يحدث انعطاف كبري يف اجتاه الر�شد ،والهداية ،والتدين املب�صر الأ�صيل. ب � -إن املهمة الأ�سا�سية للر�سل ـ عليهم ال�سالم ـ �أن يب�صِّ روا النا�س مبا يجب عليهم جتاه خالقهم ،و�أن ّ يذكروهم الدار الآخرة ومطالب الفوز فيها:ﱹﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﱸ غافر.15 : ومهمة امل�صلحني �إذا ما �أرادوا اال�ستجابة لدعوتهم �أن ين�ضحوا من التعاليم الإ�سالمية �شيئاً ميزجونه باخليال اخل�صب واخلربة الب�شرية واملالحظات الذكية، من �أجل توفري الظروف التي جتعل النا�س �أقرب �إىل االلتزام .و�إن هذه الدنيا دار ابتالء ،ولذا ف�إن علينا دائماً �أن نختار ما ُي�صلح �أحوالنا ،و�إن لكل ع�صر اختياراته واجتهاداته .وامل�شكلة �أن الف�ضائل والقيم والنظم ال يتفق بع�ضها مع بع�ض اتفاقاً كلياً ،بل �إن �إقامة كثري منها قد يتطلب الت�ضحية ببع�ضها الآخر� :إذا اخرتنا احلرية الفردية ،فقد يقت�ضي ذلك الت�ضحية ب�شكل تنظيمي نحن يف �أم�س احلاجة �إليه ،و�إذا اخرتنا العدالة ،فقد ُنر َغم على الت�ضحية بالرحمة ،و�إذا اخرتنا امل�ساواة ،فقد ن�ضحي بقدر معني من احلرية الفردية.. ومن وجه �آخر هل ي�صح �أن نعذب �أطفا ًال كي ننتزع منهم معلومات عن خونة �أو جمرمني خطرين ؟ وهل للمرء �أن يقاوم حاكماً ظاملاً ،ولو �أدى ذلك �إىل مقتل والديه �أو �أطفاله ؟ كل هذا ال ي�ستطيع العقل �أن يعطي �أجوبة وا�ضحة ،وقاطعة عنه .وننتهي 23
� 29/04/2010 11:09:07
�� ������ ���.indd 23
في إشراقة آية
من هذا �إىل �أن كل جمتمع يحتاج �إىل مقدار ما من تلك الف�ضائل والنظم ،كي يجعل حياته متوازنة ومت�سقة ،فكيف يتم حتديد ذلك املقدار؟ �إن املنهج الرباين ال يحدد لنا على نحو دقيق القدر املطلوب من التماثل االجتماعي ،وال القدر املطلوب من احلرية الفردية� ،أو العدل �أو الرحمة ..لكنه ي�ض ِّيق دوائر االختيار ،وم�ساحات البحث واالجتهاد؛ والفارق بني املهتدي بنور اهلل واملحروم منه كالفارق بني من يبحث عن �إبرة يف �صحراء ،ومن يبحث عنها يف غرفة. على اجلميع �أن يبحث ،ولكن حظوظ العثور على املطلوب متفاوتة تفاوتاً عظيماً ،كما �أن �إمكانات الوقوع يف اخلط�أ ،هي الأخرى متفاوتة كذلك� .إن العقل بطبيعة تركيبه ال ي�ستطيع �أن يعمل يف �أي جمال :فل�سفي �أو تنظيمي �أو تقني �إال �إذا �أُ�س ِعف ب�إطار املدخالت ال�ضرورية ،و�إن املنهج الرباين عقيد ًة توجيهي يهيئ له بع�ض املقدمات و َ و�شريع ًة هو الذي يوفر ذلك الإطار .يف جمال الرتبية االجتماعية مث ًال جند �أن ال�شريعة حددت لنا حماور �أ�سا�سية ،يجب �أن ترتكز عليها �أن�شطتنا الرتبوية ،وهي ما الغراء َّ �سماه �أهل الأ�صول بالكليات �أو ال�ضرورات اخلم�س ،وهي حفظ الدين والنف�س والعقل والعر�ض واملال ،وقد تكفّل الفقه الإ�سالمي بتوفري الأحكام والأدبيات التي تر�سم حدود احلركة الرتبوية يف ظل هذه املحاور اخلم�سة ،وتو�ضيح املرتبية التي يجب اتباعها عند �ضرورة الت�ضحية ببع�ضها حلفظ الآخر ،على ما هو معروف يف كتب الأ�صول والفقه؛ فال�ش�أن الرتبوي لدينا على عالته �أف�ضل مما هو موجود لدى دول كثرية متقدمة عمرانياً؛ وذلك ب�سبب وجود هذا الإطار التوجيهي ،وهذا كله مع �أن �أكرث ال�شعوب الإ�سالمية تعاين من �أو�ضاع معي�شية قا�سية ،وال نن�سى �أن اجلرائم الأخالقية لدينا �أقل ،والتما�سك الأُ ْ�سري واالجتماعي �أف�ضل. 24
� 29/04/2010 11:09:07
�� ������ ���.indd 24
في إشراقة آية
بعد ،ولكن �إذا و�صل النمو �إن حمنة العقل الذي ن�سي اهلل مل يحن �أوانها ُ االقت�صادي �إىل حدوده الق�صوى ،وانت�شرت البطالة ،وعم �ضنك العي�ش ،ف�سوف يرى كل املعر�ضني عن دين اهلل �أن الليربالية والر�أ�سمالية لي�ست �أف�ضل ما �أنتجه العقل الب�شري ،و�أن اخلال�ص يتطلب مراجعة جذرية ،من �أجل العودة �إىل �سبيل الر�شاد. الإجنازات احل�ضارية و�سعادة الأفراد ،ووحدة الكيان احل�ضاري ،كل ذلك �سيكون على حافة الهاوية �إذا مل ي�ضئ كل منعطفات الطريق �شعاع من الغاية الكربى ،و�إذا مل تتلفع جميعاً بهدي من هدي اهلل؛ واهلل غالب على �أمره.
25
� 29/04/2010 11:09:07
�� ������ ���.indd 25
�� ������ ���.indd 26
29/04/2010 11:09:07 �
في إشراقة آية
ﮉﮊﮋ
يقول اهلل
:ﱹﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ
ﮕﮖﮗﮘﮙ ﮚﮛ ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ
ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﱸ هود .113-112 ق�ضية اال�ستمرار يف االمتثال لأمر اهلل ـ تعاىل ـ يف املن�شط واملكره من الق�ضايا اجلوهرية يف الت�صور الإ�سالمي ،ومن الق�ضايا اجلوهرية كذلك يف بنية الت�شريع و�أدبياته، ولي�س �أدل على ذلك من و�صية اهلل ـ تعاىل ـ لنبيه × يف هذه الآية ويف غريها بـ (اال�ستقامة) ،التي هي( :املداومة على فعل ما ينبغي فعله ،وترك ما ينبغي تركه). وقد قام × ب�إ�سداء الن�صح بلزومها ملن �س�أله عن قولٍ ف�صل ُي�ص ِلح به جماع �أمره ،حيث جاء يف ال�صحيح� :أن �سفيان بن عبد اهلل (ر�ضي اهلل عنه) قال :قلت: (يا ر�سول اهلل ،قل يل يف الإ�سالم قو ًال ال �أ�س�أل عنه �أحداً غريك ،قال :قل� :آمنت (.)1 باهلل ،ثم ا�ستقم) � -1أخرجه م�سلم. 27
� 29/04/2010 11:09:07
�� ������ ���.indd 27
في إشراقة آية
ولنا مع هذه الآيات املباركة الوقفات التالية: � -1إن يف قوله ﱹ ﮏ ﮐ ﱸ ،وقوله:ﱹﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﱸ �إ�شارة وا�ضحة �إىل ما يعرت�ض �سبيل اال�ستقامة من مالب�سات ال�س ّراء وال�ض ّراء، وقد �أخربنا ربنا � أن من طبيعة الب�سط والتمكن ا�ستدعا َء البغي والطغيان ،حيث قال � -سبحانه :-ﱹﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﱸ ال�شورى.27 : البغي هو جماوزة احلد ،وهو يتج�سد يف �صور متعددة :فبغي القوة:البط�ش بال�ضعفاء ،وبغي اجلاه والنفوذ:الظلم و�أكل احلقوق ،وبغي العلم :اعتماد العامل على ما لديه من �شهرة ومكانة؛ مما يدفعه �إىل القول بغري دليل ،ورد �أقوال املخالفني من غري حجة وال برهان ،وطغيان املال :التبذير والإ�سراف والتو�سع الزائد يف املتع واملرفهات. والعار�ض الثاين لال�ستقامة على خالف الأول ،حيث تدفع الطموحات والتطلعات امل�صلحية وال�ضعف والظروف ال�صعبة �إىل م�صانعة الظاملني ومداهنتهم و�إ�شعارهم بالر�ضا عما هم فيه ،واال�ستفادة من قوتهم وما لديهم من متاع يف حت�سني الأحوال وحتقيق املكا�سب ...مع �أن طبيعة اال�ستقامة وااللتزام يف هذه احلال تقت�ضي املنا�صحة ،والهجر ،وال�ضغط الأدبي ،والتحذير من التمادي يف ذلك ،وهذا كله ٍ مناف للركون؛ لكن ال�شيطان يربهن دائماً على �أنه ميلك خربات مم َّيزة يف تزيني الباطل والتلبي�س على اخللق ،فهو ُين�سيهم �أحكاماً ومواعظ و�أدبيات ومواقف وجتارب ،ويدفع بهم بعيداً عن كل ذلك! � -2إن اال�ستقامة يف التحليل النهائي لي�ست �سوى متحور امل�سلم حول مبادئه ومعتقداته ،مهما ك َّلف ذلك من َع َنت وم�شقة ،ومهما ف َّوت من فر�ص ومكا�سب. وينبغي �أن يكون وا�ضحاً �أن املرء �إذا �أراد �أن يعي�ش وفق مبادئه ،ورغب �إىل جانب 28
� 29/04/2010 11:09:07
�� ������ ���.indd 28
في إشراقة آية
ذلك �أن يحقق م�صاحله �إىل احلد الأق�صى ،ف�إنه بذلك يحاول اجلمع بني نقي�ضني، و�سيجد �أنه ال بد يف بع�ض املواطن من الت�ضحية ب�أحدهما حتى ي�ستقيم �أمر الآخر. عد انت�صاراً ل�شهوة �أو م�صلحة �آن ّية� ،أما �إن حتقيق امل�صلحة على ح�ساب املبد�أ ُي ُّ االنت�صار للمبد�أ على ح�ساب امل�صلحة ف�إنه مبثابة (الرتبع) على قمة من ال�شعور بال�سعادة والر�ضا والن�صر واحلكمة واالن�سجام والثقة بالنف�س ،وقد �أثبتت املبادئ �أنها قادرة على �أن تكرر االنت�صار املرة تلو املرة ،كما �أثبت اجلري خلف ال�شهوات دون يرتد على قيد وال رادع �أنه يحقق نوعاً من املتع واملكا�سب الآن ّية ،لكنه ال يفت�أ �أن َّ �صاحبه بالتدمري الذاتي ،حيث ينمو الظاهر على ح�ساب الباطن ،ويت�أ ّلق ال�شكل على ح�ساب امل�ضمون! �إن املبد�أ �أ�شبه �شيء بـ (النظارة) �إذا و�ضعناها على �أعيننا ،ف�إن كل �شيء يت ّلون بلونها ،ف�صاحب املبد�أ له طريقته اخلا�صة يف الر�ؤية والإدراك والتقومي� ،إنه حني يرى النا�س يت�سابقون على اال�ستحواذ على من�صب ي�ستغرب من ذلك ،ويرتفّع؛ لأن مبد�أه يقول له �شيئاً �آخر غري ما تقوله الغرائز للآخرين ،و�إذا ر�أى النا�س يخبطون يف املال احلرام تقززت نف�سه؛ لأنه يعلم �ضخامة العقوبة التي تنتظر �أولئك ،و�إذا �أ�صيب مب�صيبة ف�إنه يتجلد وي�صرب؛ لأنه يرجو عليها املثوبة من اهلل؛ تعاىل. �إذا ق ّلبنا النظر يف اهتمامات النا�س ومنا�شطهم اليومية ،ف�إن من ال�سهل الوقوف على املحور الذي يع ِّلقون عليه توازنهم العام ،ويدورون بالتايل يف فلكه ،وهناك ت�شاهد هم ُه الأكرب النجاح يف عمله واملحافظة على �سمعته فيه ،كما ت�شاهد من يتمحور من ُّ حول املتعة ،فهو يبحث عنها يف كل نا ٍد وواد ،ومن يتمحور حول املال ،فهو يجوب العامل بحثاً عنه ،ومن يبحث عن ال�سيطرة والنفوذ ،فهو م�ستعد لأن يفعل �أي �شيء 29
� 29/04/2010 11:09:07
�� ������ ���.indd 29
في إشراقة آية
يف �سبيل التمكن والتحكم ..وجتد ثلة قليلة بني هذا الطوفان من الب�شر ا�ستهدفت �أن حتيا هلل ،و�أن تبحث عن ر�ضوانه ،ومن ثم :ف�إنه ميكن تف�سري كل �أن�شطتها ومقا�صدها النبي × �أن يف�صح عن حمورها يف �ضوء هذا املحور ،وهذه الثلة هي التي �أُ ِمر ّ بو�صفه رائدها وهاديها :ﱹﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﱸ الأنعام.163 ،162 : �إن الذين يعلنون الوالء للمبادئ كثريون ،بل هم ُج ُّل �أهل الأر�ض ،ولكن ال برهان على ذلك لدى �أكرثهم ،وميكن �أن يقال� :إن لأكرث النا�س دينني :ديناً مع َلناً ودين املرء احلقيقي هو الذي يك ِّر�س حياته من �أجله. وديناً حقيق ّياًُ ، �إن من طبيعة املبد�أ �أنه ميد من يتمحور حوله بقوى و�إمكانات خارقة وخارجة عن ر�صيده الفعلي ،ولذا :ف�إن الت�ضحيات اجلليلة ال ت�صدر �إال عن �أ�صحاب املبادئ وااللتزام ،وهم �أنفع النا�س للنا�س؛ لأنهم يرثون احلياة دون �أن ي�سحبوا من ر�صيدها احليوي ،حيث �إنهم ينتظرون املكاف�أة يف الآخرة. التمحور حول املبد�أ هو الذي مينح احلياة معنى ،ويجعلها تختلف عن حياة ال�سوائم الذليلة التي حتيا من �أجل التكاثر وجمرد البقاء! املبد�أ هو الذي ُي�ضفي على ت�صرفاتنا االن�سجام واملنطقية ،ويجعلها وا�ضحة مفهومة. نحن ال ننكر �أن الظروف ال�صعبة تُو ِهن من �سيطرة املبد�أ على ال�سلوك ،لكن تلك الظروف هي التي متنحنا العالمة الفارقة بني �أنا�س ت�ش َّبعوا مببادئهم؛ حتى اختلطت بدمائهم وحلومهم ،و�أنا�س ال متثل املبادئ بالن�سبة �إليهم �أكرث من تكميل �شكلي لب�شريتهم(.)1 -1انظر يف ميزات التمحور حول املبد�أ :العادات ال�سبع للقادة الإداريني� ،ص .120 30
� 29/04/2010 11:09:07
�� ������ ���.indd 30
في إشراقة آية
وال�سنن -3ال مياري �أحد يف �أن الإن�سان اكت�شف يف الع�صر احلديث من الآيات ُّ ما مل يكت�شف ع�شر مع�شاره يف تاريخ الب�شرية الطويل ،لكن مع هذا فعن�صر املخاطرة والإمكانات املفتوحة ما زال قائماً؛ حيث يتحكم يف الظاهرة الواحدة ع�شرات الألوف من العالقات التي ي�صعب معها التنب�ؤ بنتائج االجتهادات والأن�شطة املختلفة ،وال �سيما يف الق�ضايا الكربى ،كم�صائر الأمم واحل�ضارات ،وق�ضايا التقدم والتخلف ،وما تنطوي عليه من تفاعالت وتغريات ،و�إن اهلل قد �ضمن لنا نتائج اال�ستقامة يف الدنيا والآخرة ،فهي بوجه من الوجوه وعلى نحو من الأنحاء ال تكون �إال خرياً ،و�إال يف �صالح الإن�سان ،وقد قال اهلل �سبحانه :ﱹ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﱸ الأعراف،128 : وقال :ﱹ ﯗ ﯘ ﯙﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﱸ طه ،132 :وقال :ﱹ ﭑ ﭒﭓﭔ ﭕﭖﭗﭘﭙ ﭚﭛﭜﭝﭞ
ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﱸ الأعراف.96 : �أما من ي�سلك دروب املعا�صي والفجور ،ويتبع مغريات الأهواء وال�شهوات ،ف�إنه يظل يتوج�س خيفة من �سوء العاقبة ،لكنه ال يعرف �شكل العقوبة ،وال طريقة نزولها وال توقيتها؛ وبهذا ي�صبح ال�شك والغمو�ض واخلوف َ عاجل جزائه ،ومقدم ًة للبالء الذي ينتظره ،ثم تكون اخليبة الكربى واخل�سارة العظمى! �إن هناك فرتة �سماحات تطول� ،أو تق�صر بني االنحراف وعواقبه ،وهذا هو الذي جعل االبتالء تا ّماً ،كما �أنه هو الذي ج ّر�أ �أهل املعا�صي على التماري يف غيهم ،لكن العاقل احل�صيف ينظر دائماً �إىل الأمام ،ويتح�س�س ما هو � ٍآت ،وي�ضغط على واقعه من �أجل ال�سالمة يف م�ستقبله. 31
� 29/04/2010 11:09:07
�� ������ ���.indd 31
في إشراقة آية
-4علينا �أن جنمع بني الن�صو�ص التي تدل على �ضرورة اال�ستقامة وااللتزام باملنهج الرباين ،والن�صو�ص التي تفيد رفع احلرج والعنت عن هذه الأمة ،من مثل قوله :ﱹﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﱸ احلج ،78 :وقوله :ﱹﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﱸ البقرة ،286 :وقوله :ﱹ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﱸ البقرة ،185 :و�إذا فعلنا ذلك ،ف�إننا �سنفهم من جمموعها �أمرين: الأول :هو �ضرورة تزويد امل�سلمني بثقافة �شرعية تت�ضح فيها حدود الواجبات واملباحات واملحظورات ،مبا ِّ ي�شكل خارطة فكرية وا�ضحة ملا ينبغي �أن يكون عليه �سلوك امل�سلم وعالقاته. الثاين :توفري الظروف وال�شروط املو�ضوعية التي جتعل التزام امل�سلم بدينه مي�سوراً ،وبعيداً عن احلرج وامل�شقة التي ال تحُ تمل؛ �إذ �إنه ال يكفي �أن تكون التعاليم الإ�سالمية �ضمن الطوق ،بل ال بد �إىل جانب ذلك من �أن تكون الظروف املعي�شية وم�شجعة على االلتزام� .إنه كلما تعقدت الظروف العامة التي يحيا فيها امل�سلم منا�سبة ِّ املطلوبة للعي�ش الكرمي ّقل عدد �أولئك الذين يت�صرفون �ضمن مبادئهم ويلتزمون حدود ال�شرع ،فحني يكون املر َّتب ال�شهري للموظف غري ٍ كاف ل�سداد �أجرة البيت الذي ي�سكنه ،ف�إن �شريحة كبرية من املوظفني �سوف تلج�أ �إىل طرق غري م�شروعة يف ت�أمني احتياجاتها اليومية ،و�آنذاك �سي�شعرون �أن االلتزام التام ال يخلو من العنت ،وحينئذ �سيكون عدد امللتزمني بالطرق ال�شرعية يف الك�سب حمدوداً. �إن احل�ضارة احلديثة �أ�ضعفت الإرادة مبا �أوجدته من �صنوف اللهو واملتع ،وجعلت ال�شروط املطلوبة للحد الأدنى من العي�ش الكرمي فوق طاقة كثري من النا�س ،كما �أنها �أوجدت من الطموح �إىل الكماليات و�أ�شكال املر ِّفهات ما يتجاوز بكثري الإمكانات 32
� 29/04/2010 11:09:07
�� ������ ���.indd 32
في إشراقة آية
املتاحة ،وهذا كله جعل اال�ستقامة على ال�شرع احلنيف بحاجة �إىل منط راقٍ من الرجال ،كما جعل من الواجب على الأمة �أن تفكر مل ّياً يف توفري ظروف ت�ساعد على اال�ستقامة ،وحتفز عليها. �إن املنهجية الإ�سالمية تقوم دائماً على ما ميكن �أن ن�سِّ ميه بـ (احللول املركبة)؛ �إذ �إن هناك من الن�صو�ص والأحكام ما يرفع الوترية الروحية للم�سلم ،كما �أن هناك ما يزيد يف ب�صريته ،وهناك ما يدعوه �إىل ال�صرب واجللد ،وهناك ما يحفزه على حت�سني ظروف عي�شه و�أدائه ،وال بد �أن مننح الفاعلية ِّ لكل ذلك حتى ميكن جت�سيد املنهج الرباين يف حياة النا�س� ،إن الفكر مهما كان قو ّياً ،و�إن الوعي النقدي مهما كان عظيماً ،ف�إن �سلوك النا�س لن يتغري كثرياً ما مل تن�ش�أ ظروف و�أو�ضاع جديدة حتملهم حم ًال على التحول �إىل �سلوك الطريق الأقوم والأر�شد. وي�ؤ�سفني القول� :إننا مل ن�ستطع �إىل الآن �أن نبلور نظرية �إ�صالحية �إ�سالمية معا�صرة ومتعمقة يف تلم�س �شروط اال�ستجابة لأمر اهلل والظروف ال�صحيحة واملثلى لها� ،إىل جانب تلم�س جممل احل�سا�سيات والرتابطات والتداعيات التي ت�شكل املناخ املطلوب لقيام حياة �إ�سالمية را�شدة!. �إن جل اهتمامنا ين�صب على بيان ما يجب عمله� ،أما الربامج والكيفيات والإجراءات والأطر وال�سيا�سات التي يجب اتباعها وت�أ�سي�سها من �أجل حتويل املبد�أ �إىل واقع معي�ش ..ف�إنها ال تلقى ما ت�ستحقه من اهتمام ومتابعة ،واخلربات لدينا يف ذلك ما زالت �ضئيلة ،بل �إن هناك َمن ي�ستوح�ش من اخلو�ض يف غمار مثل هذا النوع عد التعمق يف ذلك �ضرباً من (اال�ستغراب) �أو اجلنوح نحو املادية!، من البحث ،و َي ُّ ومن الدعاة من يدعي �أنه عارف بكل ذلك ،لكن لو نظرت يف �إنتاجه املعريف مل تقف 33
� 29/04/2010 11:09:07
�� ������ ���.indd 33
في إشراقة آية
له يف هذه ال�سبيل على كتاب �أو ر�سالة ،بل على خاطرة �أو فكرة. العر�س لوال النفقة)! (وما �أطيب َ وهلل الأمر من قبل ومن بعد.
34
� 29/04/2010 11:09:07
�� ������ ���.indd 34
في إشراقة آية
ﯻﯼﯽﯾﯿ ﰀ ﰁﰂ يف هذه الآية الكرمية �إخبار عن قاعدة من قواعد اخللق ،ونامو�س من نوامي�س الوجود؛ وهي يف الوقت نف�سه :دليل على �أن القر�آن من عند اللطيف اخلبري الذي �أحاط بكل �شيء علماً. �إن املعرفة والتقدم العلمي الذي كان متوفراً يف زمان النبي × ِّ الميكن على �أي نحو من الك�شف عن قاعدة (الزوجية) يف الوجود ،بل �إن ما كان يف حوزة النا�س �آنذاك من ا�ستقراء واطالع مل يكن كافياً للك�شف عن ظاهرة (الزوجية) يف (الأحياء) ف�ض ًال عن ميادين الوجود املختلفة ،و�إن الك�شوفات الكونية املت�سارعة؛ تمُ يط اللثام يف كل يوم عن �أ�شكال من التزاوج واالقرتان واالرتباط يف ميادين احلياة كافة ،وعلى م�ستويات خمتلفة ،ابتدا ًء بالذرة ،وانتها ًء باملجرة؛ مما ُي�ضيف �شواهد جديدة على �صدق حممد ×. ولنا مع هذه الآية وقفات عدة ،نو�ضحها يف احلروف ال�صغرية الآتية: � -1إن َف ْطر اهلل للكون على املزاوجة دليل �إ�ضايف على املغايرة بني املخلوق 35
� 29/04/2010 11:09:08
�� ������ ���.indd 35
في إشراقة آية
واخلالق املتفرد يف ذاته و�صفاته و�أفعاله؛ حيث �إن ما يرت�سخ يف اخلربة الب�شرية على الدوام من �أن اخللق واحد ،ويخ�ضع لقوانني واحدة ،وحتكم حرك َته ومنوه وانهياره قواعد واحدة� ..إن كل ذلك يدل على وحدانية اخلالق (جل ثنا�ؤه) الذي �أوجد كل ُ ذلك التنظيم الدقيق املعجز. ويف ختم الآية بقوله ﱹ ﰀ ﰁ ﰂﱸ �إ�شارة وا�ضحة �إىل هذا املعنى ،حيث يدرك النا�س تفرد اخلالق و�أَ َحديته من خالل ما ي�شاهدون من ظواهر تزاوج الأ�شياء وتركيبها ،وارتباطاتها ،وتوازناتها على نحو ي�ستحيل معه العبث ،واالرجتال وامل�صادفة. وك�أن يف الآية بعد هذا وذاك �إيحا ًء �إىل �أهمية ا�ستثمار املعرفة ب�سنن اهلل يف اخللق يف غر�س الإميان وتقويته ،واالرتقاء يف �إدراك واجبات العبودية و�آدابها. � -2إن ظاهرة الزوجية لي�ست دلي ًال على وحدانية اخلالق فح�سب ،و�إمنا هي دليل على نق�ص املخلوقات وافتقارها لغريها ،حيث ال تتحدد معاين الأ�شياء وقيمها احلقيقية من خالل ذواتها ،و�إمنا من خالل كونها �أجزا ًء يف تركيبات �أعم، ويف هذا ال�صدد ميكن القول� :إنه عند تدقيق النظر ال يخلو �شيء عن تركيب! لوال معرفة النا�س بالقبح ملا كان للجمال �أي معنى �أو قيمة �إ�ضافية؛ ولذا قالوا� :إن لل�شوهاء ف�ض ًال على احل�سناء؛ �إذ لوالها ملا ُعرف ف�ضل احل�سناء .ما ف�ضل التنظيم لوال الفو�ضى ،والذكاء لوال الغباء ،والغنى لوال الفقر ،والف�ضيلة لوال الرذيلة ،والنهار لوال الليل ،واحللو لوال املر� ...أ�شياء ال ح�صر لها ،ال ت�ستمد قوامها من ذاتها ،و�إمنا من خالل غريها! وهكذا فاخللق ،وما َي َت َغ ّن ْونَ به من خ�صائ�ص فقراء فقراً مزدوجاً ،فقراً �إىل اخلالق املوجد ،وفقراً �إىل خملوق �آخر ،يجعل له معنى! ومن وجه �آخر :ف�إن طبيعة العالقة الزوجية متيل �إىل املرونة ،وذات �أو�ساط 36
� 29/04/2010 11:09:08
�� ������ ���.indd 36
في إشراقة آية
متدرجة؛ فالغنى درجات ،وكذلك الفقر ،وقل نحو ذلك يف الذكاء والغباء ،واجلمال والقبح ،واال�ستقامة واالنحراف ...حيث تالم�س �أدنى درجات الأول �أعلى درجات الثاين؛ مما ِّ ي�شكل مناطق برزخية مت�أرجحة ،هذه الوظيفة للعالقات الزوجية تك�سر من حدة تفرد كل طرف ،وجتعل اخل�صائ�ص الفائقة ن�سبية ،فتتطامن ،وجوانب النق�ص اعتبارية ،فت�شمخ ،وك�أنها بذلك تتهي�أ للتعاون واالندماج عو�ضاً عن التناف�س وال�صدام ،وك�أن ذلك يوحي �إلينا ب�أهمية �إيجاد الأر�ضيات امل�شرتكة ،والعدول عن النفخ يف اخل�صو�صيات االجتهادية الذي يحولها �إىل حواجز منيعة وقواطع حقيقية بني �أبناء التيار الواحد ،والأمة الواحدة! ،وهكذا ف�إذا كنا عاجزين عن �أن ن�ست�شف من الن�صو�ص ما ي�ساعدنا على �صياغة عالقات ومواقف جيدة ومنتجة ..ف�إن علينا �أن نتعلم من �إيحاءات ال�سنن الكونية ما ُن�صلح به حياتنا االجتماعية ،وعالقاتنا الأخوية؛ حيث �إننا يف نهاية الأمر جزء من الظاهرة الكونية الكربى. -3الإخ�صاب �أو�ضح نتائج التزاوج بني الأ�شياء ،وهو �أو�ضح ما يكون يف التقاء الأزواج من الإن�سان واحليوان؛ فمن خالل لقاء الزوجني يتم حفظ النوع و�إغنا�ؤه بن�سل على درجة كبرية من التنوع والتعدد ،وال ّ يقل الإخ�صاب يف الأ�شياء املعنوية واملادية عنه يف الكائنات احلية؛ فمن عنا�صر الأر�ض التي ال تزيد على املئة �إال قلي ًال يوجد بني �أيدي النا�س اليوم ما يزيد على مليونني من امل�صنوعات! ،وعلى الرغم من �صرامة القوانني واخل�صائ�ص الكيميائية يوجد يف الأ�سواق ما يزيد على ثمانني �ألف نوع من املركبات الكيميائية ،كما �أنه ُيط َرح منها يف الأ�سواق َّ كل عام �أك ُرث من �ألفي نوع جديد!. هذه اخل�صوبة الهائلة هي نتيجة مبا�شرة لألوان التزاوج التي تتم بني العنا�صر 37
� 29/04/2010 11:09:08
�� ������ ���.indd 37
في إشراقة آية
املختلفة ،ومما ال ينبغي �أن يعزب عن البال �أن اللقاء ال�سعيد بني العنا�صر املختلفة يجب �أن يت�سم باملزيد من العناية والدقة والتجربة� ،إذا ما �أردنا �إجناباً وخ�صوبة على م�ستوى عالٍ من اجلودة؛ ولهذا ال�سبب �أخذ التقدم يف علوم الكيمياء يعتمد على الريا�ضيات �أكرث ف�أكرث ،وقد كان من قبل يعتمد على التجربة ،حيث متنح الريا�ضيات م�ستويات من الدقة ،ال توفرها التجربة ،وقد �أ�صبح من مقايي�س التقدم العلمي ال�شائعة :قدرة دولة من الدول على �إنتاج (املواد اجلديدة) ذات املوا�صفات الفائقة، واملواد اجلديدة ال تتخلق �إال من خالل التزاوج بني عنا�صر مل ي�سبق لقا�ؤها على النحو اجلديد ،وبالن�سب اجلديدة. اللقاء بني الأفكار والثقافات ال َي ِق ُّل خ�صوبة عن اللقاء بني العنا�صر الطبيعية ،وهو ما�سة �إىل وعي وفطنة وحذق ،حتى يكون منجباً ،والقاعدة يف هذا� :أنه يحتاج حاجة ّ �إذا التقت فكرتان �ضمن �شروط �إيجابية ،ف�إنه ينتج عن ذلك اللقاء فكرة ثالثة ،هي �أرقى منهما جميعاً؛ حيث ت�ؤدي املزاوجة بينهما �إىل ن�ضج وتبلور كل منهما ،وحيث يتخل�ص كل منهما من �أجزائه املعطوبة من خالل املقارنة ومنو الوعي النقدي ،لكن ذلك ال يتم �إال �إذا ا ّت�سم حاملو الفكرتني بالكثري من املو�ضوعية وال�شفافية والهدوء واملرونة الذهنية والر�ؤية املركبة ...ونحن نالحظ يف هذا ال�سياق �أن �أكرث من يذهب من �إخواننا للدرا�سة يف الغرب ينق�سمون �إىل فريقني: فريق ُيف َت نَت مبا يراه هناك من تنظيم وتقدم �صناعي ورعاية حلقوق الإن�سان ،في�شغله ذلك عن �إدراك بذور االنهيار يف تلك املجتمعات ،وجوانب التخلف فيها ،وي�ؤدي ذلك به �إىل الزهادة فيما لديه ،واال�ستحياء من طرحه على م�سامع القوم. ِداع من الكرب �أو اخلوف ينغلق على نف�سه ،ويتتبع بجدية �أما الفريق الثاين :ف�إنه ب ٍ 38
� 29/04/2010 11:09:08
�� ������ ���.indd 38
في إشراقة آية
نادرة كل اجلوانب ال�سلبية لديهم ،لكنه يعجز عن تلم�س �أ�سرار النهو�ض واخليوط الدقيقة التي متد التقدم املادي الهائل الذي �أحرزوه باحليوية واال�ستمرار ،ويعود هذا ال�صنف يف العادة ب ُن َتف من املعلومات واملقوالت واخلربات التي ال تتكاف�أ �أبداً مع اجلهد واملال اللذين ُبذال خالل �سنوات عدة ،وال يالم�س هذا ال�صنف �أبداً �آفاق املنهجية الفكرية والتنظيمية والأخالقية والثقافية التي تقف خلف (احل�ضارة الغربية) ،فك�أنه ما �سافر وال اطلع وال تعلم! �إن احتكاك الثقافات والأفكار واملناهج املختلفة قديكون عامل انح�سار وهدم ومتزيق ،وقد يكون عامل �إثراء وت�صحيح وتطوير، واملهم يف ذلك �أبداً هو �شروط ذلك االحتكاك واخللفيات ،والأ�س�س التي يقوم عليها� ..إن العزلة واالنغالق ال يكونان �أبداً خياراً جيداً �إال �إذا كانت �شروط التزاوج �سيئة وغري متكافئة ،و�إذا ما ا�ستطعنا توفري ال�شروط اجليدة لذلك ،ف�إن يف تالقح الأفكار والثقافات من عوامل التجديد والنفع والغنى ما ي�صعب التعبري عنه!. � -4إن قاعدة اللقاء يف ظاهرة الزوجية الكونية هي التخالف ،ولي�ست التوافق، فاللقاء اخل�صب املنجب يجب �أن يتم بني متخالفني ومتباينني ،ومن ثم ف�إن العالقة بني الرجل واملر�أة تقوم على التخالف ،على امل�ستويات الع�ضوية والعقلية والنف�سية ،وهذا التخالف هو ال�شرط الأ�سا�س لوجود ظاهرة (التكامل) والتعاون ،حيث يظهر لكل واحد من الزوجني �أن كمال البنية امل�شرتكة بينهما ـ وهو الأ�سرة ـ ال ي�أتي من � ٍّأي منهما على انفراد ،و�إمنا من خالل اللقاء الإيجابي بينهما ،وتكميل �أحدهما للآخر. لي�س �إدراك التكامل يف ظاهرة الزوجية يف اخللق متي�س َر الإدراك واللم�س يف كل وقت؛ �إذ كثرياً ما تغلب علينا النظرة الأحادية ،فنتعامل مع الأ�شياء على �أنها عنا�صر مفردة ،ونغفل عن كونها عنا�صر يف تراكيب �أعم! 39
� 29/04/2010 11:09:08
�� ������ ���.indd 39
في إشراقة آية
ولن�ضرب لذلك بع�ض الأمثلة: �أ � -إن ت�ضخم اجلانب العاطفي لدى املر�أة على النحو املعروف ُينظر �إليه عادة على �أنه احللقة الأ�ضعف يف تركيبها النف�سي ،كما �أننا ننظر النظرة نف�سها �إىل ما نح�سه من ت�ضخم (عقالنية) الرجل وبرودة عواطفه ،ف�إذا نظرنا �إىل كل منهما على ّ �أنه طرف يف تركيب واحد هو الأ�سرة �أدركنا �أن ما خلناه نق�صاً هو يف احلقيقة مظهر كمال ،وعامل توازن وان�سجام� ،إذ �إن طبيعة وظيفة املر�أة يف رعاية الأطفال ذوي ال�شفافية والرهافة العالية ..تتطلب م�شاعر وعواطف كالتي عند املر�أة ،وطبيعة وظيفة الرجل يف قيادة الأ�سرة ،ومعاناة طلب الرزق ،وخو�ض املواقف ال�صعبة ..تتطلب من قوة ال�شكيمة ومتا�سك ال�شخ�صية كالذي جنده عند الرجل� ،إن دعاة حترير املر�أة مل ينظروا هذه النظرة ،فدفعوها �إىل املطالبة بامل�ساواة مع الرجل ،و�أدى ذلك �إىل الإخالل بالتوازن الأ�سري ،وكرثت حوادث الطالقُ ،وك ِّلفت املر�أة بالقيام ب�أعمال ال يتحملها تكوينها وال جملتها الع�صب ّية ،والأخطر من ذلك انت�شار مظاهر ال�شذوذ وا�ستغناء الن�ساء بالن�ساء! ب� -إننا كثرياً ما ن�ص ِّور (القلق) على �أنه مر�ض نف�سي -وهو كذلك عندما يتجاوز حدوداً مع َّينة -لكن يختلف الأمر حني نتذكر �أن الطم�أنينة كثرياً ما تكون زائفة ومبنية على معطيات موهومة ،وهي حينئذ تكون �أخطر من القلق و�أ�شد فتكاً بوجود الإن�سان ،ولذا :ف�إن بع�ض �صور القلق ،وال �سيما (القلق املعريف) تكون �ضرورية لتوازن ال�شخ�صية وللوعي بامل�صري وتدارك الأخطار قبل فوات الأوان. ج� -إذا نظرنا نظرة �أحادية �إىل ثبات املبادئ والت�شبث ال�شديد بها ،ف�سوف نراه جموداً وعائقاً يف �سبيل التطور ،ورمبا دفع ذلك ببع�ض النا�س �إىل التفريط بها �أو �إىل 40
� 29/04/2010 11:09:08
�� ������ ���.indd 40
في إشراقة آية
الثورة عليها ،و�إذا نظرنا �إىل (التطور) على �أنه جمموعة من التغريات امل�ستقلة ،ف�سوف نراه (تفلتاً) وطي�شاً وخيانة للأ�صالة ...ولكن حني ن�سلك ك ًال من الثبات والتطور يف ظاهرة (الزوجية) الكونية ،ف�سوف يتبني لنا �أن ثبات الأ�صول واملبادئ والنوامي�س لي�س جموداً وال عائقاً للتغري املطلوب ،و�إمنا هو �سمة �أ�سا�سية لطبيعتها؛ �إذ ال ي�ستطيع املبد�أ �أداء وظيفته �إال من خالل ثبوته وا�ستمراره ،كما �أننا �سنجد �أن جمود املبادئ �شرط �أ�سا�س جلعل التطور ذا معنى ،ولإبقائه حتت ال�سيطرة ،ويف االجتاه ال�صحيح. والتطور يف الأدوات والأ�ساليب واخلطط والأ�شكال لي�س تفلتاً ،بل �إنه �ضروري للمحافظة على املبد�أ واجلوهر والهدف؛ �إذ �إن تعاقب الأيام والليايل يعطب بع�ض جوانب املناهج واخلطط والأ�شياء ،ولي�س هناك ّ حل لذلك �سوى التخلي عن بنى ثبوتية يف �سياق الأجزاء املعطوبة ،و�إحالل غريها حملها ،و�إن حتويل الأ�شياء �إىل ً و�سط مائج بالتغري والتطور ال يعني �سوى الت�ضحية بالأ�صل والفرع ،واجلوهر واملظهر، واملبد�أ والو�سيلة ...وهكذا فما ُيظن نق�صاً يف بع�ض الأ�شياء يتحول �إىل �ضرب من �ضروب الكمال �إذا ما نظرنا �إليه على �أنه جزء من كل ،وعن�صر يف تركيب �أ�شمل. َ -5خ َلق اهلل (جل ثنا�ؤه) الدنيا داراً لالبتالء ،فوفَّر فيها َّ كل �شروط االبتالء، ومن ثم :ف�إنه حيث يكون �أمام املرء جمال لالختيار ،يكون يف احلقيقة منغم�ساً يف حالة ابتالء� ،سواء �أ�أخذ ب�أحد اخليارات� ،أو ظل عاط ًال عن اتخاذ قرار ،وكثرياً ما تتيح ظاهرة (الزوجية) جماالت لالختيار واالبتالء ،وكثرياً ما يجد الإن�سان نف�سه م�أموراً بالتوازن الدقيق يف التعامل مع الظواهر الزوجية؛ لأن الإخالل به يعني خروجاً عن املنهج الرباين ،وقد يعني ظلماً للنف�س �أو تفويت م�صلحة كربى ،وحتى يكون االبتالء تا ّماً ،ف�إن اهلل قد فطر الإن�سان على قابلية قوية لالجنذاب نحو 41
� 29/04/2010 11:09:08
�� ������ ���.indd 41
في إشراقة آية
�أحد املتقابالت و�إهمال غريه؛ مما يجعلني �أذهب �إىل �أن الإخالل بالتوازن املطلوب يف هذه امل�س�ألة ،يكاد يكون �أ�ص ًال! ومن هنا ف�إن املوقف ال�صحيح كثرياً ما يتطلب نوعاً عالياً من اليقظة الفكرية وال�شعورية و�إال فما �أ�سهل االجنراف �إىل طرف على ح�ساب طرف �آخر! عند تقليب النظر يف واقعنا التاريخي ،وواقعنا املعي�ش ،جند �أن عدم �إقامة التوازن بني الأ�شياء املتزاوجة كان �سبباً النحرافات كثرية� ،إذ كثرياً ما نرى جماعة تهتم بالفكر والتنظري ور�سم اخلطط والتحليل ال�سيا�سي ،لكنها تهمل جانب الروح والأخالق وجانب ال�سلوك؛ مما جعلها فقرية يف جنود التنفيذ و�أرباب الهمم العالية ،وجعلها بالتايل قليلة العطاء والت�ضحية! ..وجند يف املقابل :جماعات تركز على م�سائل �صفاء القلوب وح�سن ال�سلوك ،لكنك ال جتد عندها �أدنى وعي ب�أدب الوقت ومتطلبات الع�صر ،وقد يكون عدد �أتباعها ع�شرات الألوف ،ثم �إنك ال تعرث فيهم على مفكر واحد مرموق! ،وكثرياً ما يقودها ذلك �إىل �أن تكون �ألعوبة يف يد القوى املتنفذة ،مما يدفعها �إىل حتفها وقد ي�صبح �ضررها �أعظم من نفعها!. يف املا�ضي البعيد قامت مزاوجة يف بنية الرتبية والتعليم بني علوم ال�شريعة والعلوم احلياتية والكونية ،وقد �أجنب ذلك االقرتانُ ح�ضارة �إ�سالمية زاهية باهرة ،ثم �أخذت علوم احلياة تن�سحب من املناهج وا ِحل َلق الدرا�سية �شيئاً ف�شيئاً ،حتى جهلت الأمة �أبجديات املعرفة يف الطبيعة والكون وال�صناعة ،وو�صلت �إىل احل�ضي�ض ،واليوم ترتكب الأمة اخلط�أ نف�سه على نحو معكو�س ،حيث َت َراجع ن�صيب العلوم ال�شرعية يف املناهج الدرا�سية يف �أكرث البلدان الإ�سالمية ،كما تراجعت املفردات القيمية والأخالقية يف لغة الرتبية والإعالم ،وكان ح�صاد ذلك� :أعداداً كبرية من الب�شر حتيط بالكثري من املعارف املختلفة ،لكنها جتهل بدهيات و�أ�سا�سيات يف عباداتها 42
� 29/04/2010 11:09:08
�� ������ ���.indd 42
في إشراقة آية
كم هائل من املفردات التي حتث على الن�شاط والفاعلية ومعامالتها! و�صار لدينا اليوم ّ والنجاح والتنظيم وحيازة الرثوة وحتقيق الذات ..على حني تنو�سيت املفردات التي تغر�س �أخالق ال�صالح واال�ستقامة والبعد عن احلرام ،والإقبال على الآخرة ..وال بد �أن النا�س بد�ؤوا ي�شعرون بعواقب هذا اخللل من خالل انت�شار الل�صو�صية ـ وهي �أ�صناف و�أ�شكال -والر�شوة ،وال�شره املادي ،والأنانية ،واالنغما�س يف ال�شهوات، وقطع الأرحام ،ون�سيان اهلل والدار الآخرة. � -6إذا كانت (الزوجية) متثل قاعدة مهمة من قواعد خلق الوجود ،ف�إن ذلك يعني �أن نن�سجم نحن مع تلك القاعدة ،ونحاول �أن منتلك ر�ؤية ّ مركبة للأ�شياء ،ما دام لي�س هناك �شيء ال ينتمي �إىل َّ مركب ما على وجه من الوجوه ،وامتالك هذه الر�ؤية �سيكون �ضرور ّياً للمحافظة على توازننا العقلي والنف�سي ،و�ضرور ّياً لو�ضع الأمور يف ن�صابها ال�صحيح ،وعلى �سبيل املثال :ف�إنه مهما بلغ �صالح الأفراد واجلماعات ،فال ينبغي �أن نف�سِّ ر ما نراه من ت�صرفاتهم على �أ�سا�س املبادئ وحدها ،فهناك مبادئ، وهناك م�صالح �أي�ضاً ،ولي�س يف هذه الأر�ض من ي�ستطيع غ�ض الطرف عن م�صاحله على نحو كامل ،ويف مقابل هذا :ف�إن ال�سواد الأعظم يحاولون حتقيق م�صاحلهم يف �إطار املبادئ التي ي�ؤمنون بها ،ما وجدوا �أن ذلك ممكن ،ومبا �أن املبادئ وامل�صالح طرفان يف تركيب زوجي واحد ،ف�إن احتمال جور الإن�سان على �أحدهما حل�ساب الآخر ،يظل �أمراً وارداً ،بل يكون يف كثري من الأحيان �أمراً ال مفر منه ،ول�ست �أق�صد من وراء هذا �شيئاً �سوى اال�ستب�صار يف فهم �سلوك النا�س ،وفهم خلفياته ،وحماولة تف�سريه على �أنه يتم وفق موازنات ،ويف �سياق �ضرورات وطموحات ،وحتت �ضغوط و�أحياناً تهديدات ،وهذا مهم يف االقتداء والإعذار و�أمور �أخرى.. 43
� 29/04/2010 11:09:08
�� ������ ���.indd 43
في إشراقة آية
الر�ؤية املركبة جتعلنا نب�صر الق�صور الذاتي �إىل جانب الت�آمر اخلارجي ،و�إعطاء ٍّ كل منهما وزنه وت�أثريه احلقيقي ،كما �أنها جتعلنا ن�شعر بنعمة الرخاء وفيو�ض النعم �إىل جانب الإح�سا�س باحل�ساب وال�س�ؤال عنها يوم القيامة .بالر�ؤية املركبة ندرك ال�صرب وعواقبه ،والظلم وم�آالته ،وبذلك يتم لنا تو�سيع جمال الر�ؤية؛ لنقف على طريف املوازنة وعن�صري املزاوجة ،وبذلك جن�سِّ ر العالقة بني الأطراف املتناف�سة واملتحالفة، ونحاول �أن نرى الأر�ضية امل�شرتكة التي جتمع بينها.
44
� 29/04/2010 11:09:08
�� ������ ���.indd 44
في إشراقة آية
ﯩﯪﯫﯬﯭ ﯯ ﯮ ﯰ ﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ت�شعر �أمة الإ�سالم اليوم بغربة حقيقية بني الأمم املعا�صرة ،وجتد نف�سها فريدة ومتميزة على م�ستوى املبادئ واملفاهيم والأهداف؛ وهذا التميز والت�أبي على ال�سري يف ركاب القوى العظمى ج َّر عليها �ضغوطاً �أدبية ومادية ،هي �أكرب بكثري مما نظن. �إن �أدبياتنا تع ِّلمنا �أن الأ�سلوب ال�صحيح يف مواجهة �ضغوط اخلارج ،وحتدياته اليكمن يف الت�شاغل بالرد عليها؛ مما قد يجرنا �إىل معارك خا�سرة ،و�إمنا يتمثل يف االنكفاء على الداخل بالإ�صالح والتنقية والتدعيم ...وال ريب �أن ذلك �شاقٌ على والنحات يف �آن واحد! النف�س؛ لأن املرء �آنذاك ينقد نف�سه ،ويجعل من ذاته احلجر ّ والآية الكرمية التي نحن ب�صددها َم ْعلم بارز يف الت�أ�صيل لهذا االنكفاء ،ولعلنا نقتب�س من الدوران يف فلكها الأنوار التالية: يوجهنا نحو االنكفاء على الداخل يف مواجهة اخلارج � -1إن كثرياً من الن�صو�ص ِّ بالنقد والإ�صالح والتقومي والتح�سني ،و�إن املتتبع للمنهج القر�آين يف َق�صِّ ه �أحوال الأمم ال�سابقة يجد �أن ما ذكره القر�آن الكرمي من �أ�سباب انقرا�ضها واندثار ح�ضاراتها ال يعود 45
� 29/04/2010 11:09:08
�� ������ ���.indd 45
في إشراقة آية
�أبداً �إىل ق�صور عمراين� ،أو �سوء يف �إدارة املوارد وا�ستغاللها؛ و�إمنا يعود �إىل ق�صور داخلي، يتمثل يف الإعرا�ض عن منهج اهلل وا�ستدبار ر�ساالت الأنبياء (عليهم ال�صالة وال�سالم) ،وهذه احلقيقة بارزة يف جميع �أخبار الأمم ال�سابقة؛ وذلك حتى يت�أ�صل يف ح�س القارئ للكتاب العزيز �إعطاء الأولوية ل�صواب املنهج قبل �أي �شيء �آخر ،وحني ِّ ح ّلت الهزمية بامل�سلمني يف �أحد ،وقال بع�ض ال�صحابة (ر�ضوان اهلل عليهم) :كيف نُه َزم ونحن جند اهلل؟! جاء اجلواب :ﱹ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋﱸ �آل عمران 165 :فالهزمية وقعت ب�سبب خلل داخلي ،ولي�س ب�سبب �شرا�سة الأعداء ،وكرثة عددهم وعتادهم؛ �إذ ال ينبغي ت�ضخيم العدو �إىل احلد الذي يجعل ت�صور هزميته �شيئاً بعيداً؛ فالعدو َب�شَ ر له �أحا�سي�سه ،وله موازناته وم�شكالته ،وبالتايل �إمكاناته �أي�ضاً ،ويف هذا يقول �سبحانه: ﱹ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ
ﯣ ﯤ ﯥﱸ الن�ساء.104 : -2ترمي الآية الكرمية �إىل تدعيم (الذاتي) يف مقابل (املو�ضوعي)؛ �إذ تع ِّلم امل�سلم �أنه �إذا �ساءت الظروف ف�إن عليه �أن ُيح�سِّ ن من ذاته؛ لأن من املعروف �أنه حني ت�سوء الظروف ،ف�إن الغالب �أن ي�سوء الإن�سان نف�سه ،ولذلك ف�إنه يحدث يف حاالت الفقر ال�شديد نوع من التحلل اخللقي من نحو :ال�سرقة والر�شوة و�س�ؤال النا�س والذل والتحايل والغ�ش والبخل وقطيعة الرحم ...واملطلوب من امل�سلم �آنذاك� :أن يقف (وقفة رجل) في�ضغط على نف�سه ،وي�ضبط �سلوكه و ُيلغي �أوي�ؤجل بع�ض رغائبه ،ويقت�صد يف نفقاته ،حتى متر العا�صفة ،وينتهي الظرف اال�ستثنائي ،ومن الن�صو�ص الوا�ضحة يف تدعيم ال�شخ�صية عند �صعوبة الظروف قوله ×(( :يا مع�شر ال�شباب :من ا�ستطاع منكم الباءة ،فليتزوج؛ ف�إنه �أغ�ض للب�صر و�أح�صن للفرج ،ومن 46
� 29/04/2010 11:09:08
�� ������ ���.indd 46
في إشراقة آية
مل ي�ستطع فعليه بال�صوم ف�إنه له وجاء))(.)1 مل نكن على مدار التاريخ منتلك الوعي الكايف بهذه احلقيقة ،فبدل �أن نلج�أ �إىل الرتبية والتوجيه والتعا�ضد والرتاحم ،واكت�ساب عادات جديدة ،واقتالع امل�شكالت من جذورها ..كنا نواجه التف�سخ االجتماعي واالنحراف ال�سلوكي ب�أمرين :القوة، ومزيد من القوانني ،حيث كانا �أقرب الأ�شياء �إلينا تناو ًال ،و�أقلها تكلفة ح�سب ما يبدو؛ وقد رّعب عمر بن عبد العزيز (رحمه اهلل) عن هذه احلقيقة حيث قال( :يحدث للنا�س من الأق�ضية على مقدار ما ُيحدثون من الفجور) ،ونحن نقول� :إن �شيئاً من التو�سع يف الأنظمة والت�شريعات الرادعة يحدث عند جميع الأمم ،حني يقع تهديد خطري لأمن النا�س وحقوقهم ،لكن اجلزاءات والعقوبات هي �أ�شبه �شيء بالتداخل اجلراحي يف العالج الطبي ،فهو �آخر احللول ،وعند اللجوء �إليه ينبغي �أن يتم يف �أ�ضيق احلدود. دت ملن فاتتهم التن�شئة االجتماعية القومية؛ �إن العقوبات الرادعة �إمنا ُوجِ ْ والعقوبات ال تن�شئ جمتمعاً لكنها حتميه .وهذه ر�ؤية �إ�سالمية جلية ،ف�آيات الأحكام ـ والعقوبات جزء منها ـ ال ت�شكل �أكرث من ُع ْ�شر �آيات القر�آن الكرمي� ،أما الباقي فكان ي�ستهدف البناء الإيجابي للإن�سان من الداخل� .إن التجربة ع َّلمتنا �أن كرثة القوانني وتعقيدها ت�صب دائماً يف م�صلحة الأقوياء ،وتزيد يف قيود ال�ضعفاء!، و�إن البط�ش ال يحل امل�شكالت ،لكن ي�ؤجلها ،فيكون حال املجتمع كمن ي�أكل عن الدين ،فهو ينتقل من �س ِّيئ �إىل �أ�سو�أ! طريق َّ �إن الدولة الفا�ضلة هي التي تدير جمتمعها ب�أقل قدر ممكن من العنف وا�ستخدام �-1أخرجه البخاري يف كتاب النكاح. 47
� 29/04/2010 11:09:09
�� ������ ���.indd 47
في إشراقة آية
القوة؛ لأنها ِّ ترتكز �أ�سا�ساً على ا�ستخدام الأ�ساليب والأدوات ال�سلمية يف ال�ضبط والإدارة� .إن الآية الكرمية تع ِّلمنا مرة �أخرى� :أن الن�صر اخلا�ص ي�سبق الن�صر العام، و�أن الأمة املنت�صرة على �أعدائها هي �أمة حققت ن�صراً داخل ّياً �أو ًال ،وحقَّق كثري من خا�صاً على �صعيده ال�شخ�صي قبل كل ذلك. �أفرادها ن�صراً ّ -3ال ينبغي لنا �أن نفهم ّن�صاً من الن�صو�ص مبعزل عن املنظومة التي ينتمي �إليها، ويعالج معها م�شكلة واحدة؛ والن�ص الكرمي هنا يوجهنا �إىل �أمرين :ال�صرب ،والتقوى. ويعني ال�صرب :احتمال امل�شاق والدميومة يف ت�أدية التكاليف الربانية ،مهما كانت الظروف قا�سية؛ لأن ذلك ن�صف الن�صر� ،إذ �إن ن�صف الفوز ي�أتي من جهودنا ،وقبله من توفيق اهلل (تعاىل) لنا ،والن�صف الثاين ي�أتي من �أخطاء �أعدائنا� .إن ال�صرب ال يعني اال�ست�سالم للأحوال ال�سيئة ـ كما هو مفهوم العوام ـ لكنه يعني عدم اللجوء �إىل احللول ال�سريعة ،وقد جرت العادة �أن النا�س حني يرون �إن�ساناً متفوقاً يطلبون منه حلو ًال �سريعة مل�شكالتهم املتخمرة واملت�أ�سنة؛ واحللول ال�سريعة تف�ضي يف كثري من الأحيان �إىل الي�أ�س والإحباط� ،أو �إىل االندفاع والتهور؛ مما يعقِّد امل�شكلة �أكرث مما يحلها!� ،إن من املهم �أن ندرك �أن ثمة �أو�ضاعاً كثرية ال ن�ستطيع �أن نفعل حيالها الآن �شيئاً ،لكن �إذا قلنا :ماذا ن�ستطيع �أن نفعل جتاهها خالل ع�شرين عاماً ،ف�سوف نرى جداً ،فك�أن ال�صرب ا�ستخدام للوقت يف اخلال�ص �أننا ن�ستطيع �أن نفعل �أ�شياء كثرية ّ من �أو�ضاع ال ن�ستطيع الآن �أن ننجح يف اخلال�ص منها. حقيق ُة �ضرورة اقرتان ال�صرب بالعمل واحلركة للخال�ص من الأو�ضاع ال�صعبة حقيقة قر�آنية المعة ،نطق بها الكثري من الآيات القر�آنية ،مثل قوله (�سبحانه) :ﱹﯚ ﯛ
ﯜ ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤ ﯥﯦﯧ 48
� 29/04/2010 11:09:09
�� ������ ���.indd 48
في إشراقة آية
ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﱸ النحل ،110:وقوله (�سبحانه): ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﱸ البقرة ،153 :وقوله تعاىل :ﱹ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕﱸالإن�سان� ،24 :إن احتمال املعاناة دون حركة للخال�ص من م�س ِّبباتها قد يكون �ضرباً من الي�أ�س واال�ست�سالم ،وقد يكون �ضرباً من العجز �أو ق َِ�صر النظر �أو �ضيق الأفق ...وهذا ما ال ير�ضاه اهلل لعباده امل�ؤمنني. �أما التقوى فتعني هنا ب�صورة �أ�سا�سية :نوعاً من احل�صانة الداخلية من الت�أثر بالظروف ال�سيئة املحيطة؛ �إذ �إن الهزائم الع�سكرية والظروف االجتماعية واالقت�صادية القا�سية.. كل ذلك حمدود ال�ضرر ما مل ي�ؤثر يف املبادئ والأخالق والنفو�س وال�سلوك ،بل �إنها ت�ص ِّلب روح املقاومة ،و ُتك�سب اخلربة ،وتك�شف عن الأجزاء الرخوة يف البناء الداخلي، ِّ وحتطم هيبة العدو يف النفو�س ،وقد م ّرت �أمم كثرية ب�أق�سى مما منر به ،لكنها ا�ستطاعت عن طريق االنتفا�ضة النف�سية وال�شعورية� ،أن تتجاوز املحن ،وتنبعث من جديد!. � -4إن املفهوم الأ�سا�سي لل�صرب والتقوى هنا هو :تهذيب الذات وحت�سينها وتدعيمها والرقي بها؛ وهذا التدعيم ي�أخذ �أ�شكا ًال كثرية ،منها :املزيد من االلتزام ال�صارم ،ومقاومة ال�شهوات ،والتعاون ،واملفاحتة و املراجعة ،والت�ضحية واملوا�ساة بع�ضنا لع�ض ،واحلفاظ على ر�أ�س املال الوطني ،واالقت�صاد يف اال�ستهالك� ..إنه يعني اكت�ساب عادات جديدة ،من نحو تكثيف القراءة اجليدة ،والنظر دائماً �إىل امل�ستقبل بعقل مفتوح ،وحت�سني العالقات مع الآخرين ،والإكثار من املعروف والنوافل� ،إىل جانب التخل�ص من �أكرب قدر ممكن من العادات ال�سيئة ،مثل عدم الدقة وخلف الوعد وت�أجيل �أعمال اليوم �إىل �أوقات �أخرى... ِّ -5 يركز اخلطاب الإ�سالمي ب�صورة عامة على تدعيم الذات يف كل الأحوال، ﱹﯰ ﯱ ﯲ
49
� 29/04/2010 11:09:09
�� ������ ���.indd 49
في إشراقة آية
وقلما يتطرق �إىل عالج الظروف العامة التي يعي�ش فيها امل�سلم ،ومن ثم :ف�إننا جنده ي� ِّؤكد على ال�صالح وا�ستقامة ال�سلوك واالنتهاء عن املناهي... �أما تناول ال�شروط املو�ضوعية ال�ضرورية ال�ستجابة امل�سلم للدعوة ف�إنه �ضعيف، وعلى بع�ض الأ�صعدة معدوم ،وهو على كل حال فقري ،وتنق�صه اخلربة اجليدة. �إن بني الإن�سان والظروف والأو�ضاع احلياتية العامة التي يعي�شها عالقة جدلية فهو ي�ؤثر فيها ،ويت�أثر بها ،وال بد للدعاة من �أن يدركوا �أن الفرد امل�سلم ال ي�ستطيع �أن يبتعد م�سافات كبرية عن الو�ضعية العامة للمجتمع ،وذلك التباعد مرهق ومكلف؛ فحني يكون ك�سب القوت ال�ضروري ال يت�أتى لل�سواد الأعظم من النا�س �إال عن طرقٍ حمرمة �أو ملتوية مث ًال ف�إن الذين �سوف ي�ستجيبون لنداء (اللقمة احلالل) �سيكونون قلة ،و�سوف تظل مبادئهم يف حالة اختبار دائم ،ورمبا �أدخلهم ذلك يف م�شكالت مع �أقرب النا�س �إليهم .ولهذا :فكما �أن حماوالت حت�سني امل�ستوى ال�شخ�صي للم�سلم تظل �ضرور َّية وحيو َّية ،ف�إن حت�سني املناخ العام ينبغي �أن يظل مو�ضع عناية واهتمام؛ �إذ لي�س املطلوب حتقيق �شروط الدعوة اجليدة فح�سب ،و�إمنا حتقيق �شروط اال�ستجابة الناجحة �أي�ضاً. وهلل الأمر من قبل ومن بعد.
50
� 29/04/2010 11:09:09
�� ������ ���.indd 50
في إشراقة آية
ﯩﯪﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ يقول اهلل َّ (جل وعال) :ﱹ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ
ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﱸالبقرة.269 : وردت كلمة (حكمة) يف موا�ضع عديدة من الكتاب العزيز ،وذهب املف�سرون �إىل بال�س َّنة، حتديد معناها يف كل مو�ضع بح�سب ال�سياق الذي وردت فيه ،فتارة ُت َّ ف�سر ُّ وتارة باملوعظة ،وتارة بالقر�آن... �أما يف هذا املو�ضع الذي نحن ب�صدده ،ف�إن للعلماء يف تف�سريها �أقوا ًال كثرية، منها :النبوة ،والفقه يف القر�آن ،واملعرفة بدين اهلل ،والفقه فيه ،واالتباع له ،واخل�شية، والورع(...)1 وروى ابن وهب عن مالك �أنه قال يف (احلكمة)� :إنها املعرفة بالدين ،والفقه يف الت�أويل ،والفهم الذي هو �سجية ،ونور من اهلل؛ تعاىل(.)2 -1اجلامع لأحكام القر�آن :ج� ،3ص.330 -2ال�سابق :ج� ،2ص.131 51
� 29/04/2010 11:09:09
�� ������ ���.indd 51
في إشراقة آية
ولعل هذا القول هو �أقرب الأقوال ال�سابقة �إىل ال�صواب .والذي يبدو يل� :أن احلكمة تتجاوز املعلومات اجلزئية �إىل املفاهيم الكلية مع نوع من التطابق بني معارف احلكيم مواقفه العملية له؛ ومن ثم قيل� :إن احلكمة تعني :و�ضع ال�شيء يف مو�ضعه؛ و�إن كنا نرى �أن ذلك �أحد جتليات احلكمة ،ولي�س جزءاً منها ،لكنهم ملحوا �أن املواقف ال�صحيحة املالئمة هي التي تك�شف عن حكمة احلكماء ،ولعلنا نحاول احلوم حول حمى احلكمة ،وحول بع�ض جتلياتها وجت�سيداتها يف املفردات التالية: � -1إن تاريخ الإن�سان هو مكافحة (العماء) والغمو�ض يف داخل نف�سه ويف خارجها؛ فهو يحاول �أبداً �صياغة املفهومات والر�ؤى التي ّمتكنه من فهم مركزه يف هذا الكون، ومعرفة املحيط الذي يعي�ش فيه بغية فهم املوقف ال�صحيح واخلطوة املنا�سبة.ومهما بذل الإن�سان من جهود يف �سبيل الو�صول �إىل ذلك ،ف�إن جناحه يظل ن�سب ّياً ،كما �أن تقدير النا�س لذلك النجاح �سوف يظل متفاوتاً؛ حيث �إن مبادئ الإن�سان ومعارفه تتحكم دائماً يف بلورة ر�ؤيته للأ�شياء؛ ومن ثم ف�إن موقفاً ما قد يكون يف نظر واحد منا حكيماً ،على حني ينظر �إليه �آخرون على �أنه طائ�ش وخائب؛ �إال �أن الأيام مبا جت ِّليه من عواقب ونتائج ،ومبا تركمه من مناذج ت�ساعدنا على نوع من توحيد الر�ؤية والفهم. � -2إذا كنا نختلف حول تعريف احلكمة ،ف�إنه �سيظل بالإمكان حتليلها �إىل العنا�صر اللماح، املك ِّونة لها ،وهي على ما يبدو يل ثالثة :الذكاء ،واملعرفة ،والإرادة؛ فالذكاء َّ ال�صلبة تك ّون معاً( :احلكمة) ،وعلى مقدار كمال هذه واملعرفة الوا�سعة ،والإرادة ُ العنا�صر يكون كمالها. الذكاء مبفرده ال يجعل الإن�سان حكيماً؛ �إذ من امللمو�س �أن الذكاء دون قاعدة جيدة من العلم واخلربة ينتج فرو�ضاً ومعرفة (�شكلية) ،كما �أن املعرفة دون ذكاء جتعل 52
� 29/04/2010 11:09:09
�� ������ ���.indd 52
في إشراقة آية
ا�ستفادة �صاحبها منها حمدودة ،وجتعل وظيفته جمرد احلفظ والنقل ،دون التمكن من غربلة املعرفة �أو الإ�ضافة �إليها .والأهم من هذا وذاك� :أن املعرفة دون ذكاء ت�ؤخر والدة املوقف احلكيم ،وجتعل الواحد منا ي�أتي بعد احلدث ب�سبب �ضعف البداهة، اللماح ،وال اخلربة الوا�سعة يف جعل الإن�سان حكيماً ما مل ميتلك وال يكفي الذكاء ّ قوة الإرادة؛ لأن الإرادة القوية وحدها هي التي جتعلنا نن�صاع لآمر اخلربة ،وهي التي ُتنتج �سلوكاً يختفي فيه الفارق بني النظرية والتطبيق. الذكاء موهبة من اهلل (تبارك وتعاىل) ،واملعرفة الوا�سعة ك�سب �شخ�صي ،والإرادة يحدد العتبة وال�سقف املطلوبني القوية هدية املجتمع الناجح لأبنائه الربرة؛ فهو الذي ّ للعي�ش فيه بكرامة على م�ستوى الإرادة ،وعلى م�ستوى القدرة ،وهو ال مينح القدرة، والكف من خالل مناذجه الراقية ،ومن خالل (املراتبية لكنه مينح �أفراده �إرادة الفعل ِّ االجتماعية )التي ي�صوغها ت�أ�سي�ساً على اال�ستجابة لأوامره. � -3إن املعرفة مهما كانت وا�سعة ال تعدو �أن تكون �إحدى مك ِّونات (احلكمة) ،ومن ث ََّم ف�إن هناك فارقاً بني العامل واحلكيم ،فقد يكون املرء قمة يف تخ�ص�ص من التخ�ص�صات، لكنه ال ُي ّعد حكيماً ،كما �أنَّ احلكيم قد ال يكون عاملاً متبحراً يف �أي علم من العلوم. العلم يفكك املعرفة من �أجل ا�ستيعابها ،فيقوم بتنظيمها وتوزيعها على م�ساقات كثرية� ،أما احلكيم :ف�إنه يقوم برتكيب املعرفة النظرية مع اخلربة العملية من �أجل بناء وت�شكيل املفهومات العامة يف �سبيل الو�صول �إىل ر�ؤية �شاملة تندغم فيها معطيات املا�ضي واحلا�ضر من �أجل امل�ستقبل. لكن احلكمة جتعلنا نعرف متى العلم ِّميكننا من �صنع الدواء ،و�صنع ال�سالحَّ ، 53
� 29/04/2010 11:09:09
�� ������ ���.indd 53
في إشراقة آية
نداوي ،ومتى نحارب ،العلماء كرث ،واحلكماء نادرون؛ لأن حتليل املعرفة �أ�سهل من تركيبها ،والعمل الدعوي اليوم لي�س فقرياً يف االخت�صا�صيني ،لكنه حمتاج حاجة ما�سة �إىل احلكماء العظام الذين ميزجون بني العلوم والثقافات املختلفة ،ويخل�صون ّ منها �إىل َّ حمكات نهائية يف الإ�صالح والنه�ضة ومداواة العلل امل�ستع�صية... �إن احلكمة �أُم الو�سائل والأ�ساليب ،لكنها �أكرب من �أن تحُ ْ َ�صر يف �أي منهج من املناهج� ،إنها معرفة تت�أبى على التنظيم ،فهي دائماً مرفرفة ،على حني �أن العلم معرفة َّ منظمة ،وكل العلوم يبد�أ تفتحها على �أنها حكمة ،وتنتهي �إىل �أن تكون ف ّناً� ،أي: �إنها تفقد طاقتها على التجدد بعد �أن يتم �سجنها يف قوالب جاهزة ،وت�صبح بحاجة ما�سة �إىل �أن ترفرف من جديد ،وذلك من خالل تطعيمها باحلكمة ،ومن ثم :ف�إن ّ احلكمة تت�أبى على اال�ستنفاد ،ولذا :ف�إنها اخلري الكثري الفيا�ض املتجدد الذي يهيئه اهلل -تعاىل -ملن �شاء من عباده. -4جفل الوعي الإ�سالمي قدمياً من (الفل�سفة)؛ لأن �أكرث فال�سفة امل�سلمني �أخرجوا الفل�سفة من �إطار الوحي و�إطار الن�صو�ص واملعطيات ال�شرعية العامة ،ف�صارت املفاهيم الفل�سفية غريبة عن البنية الثقافية الإ�سالمية ،بل م�صا ِدمة لها ،ويف الع�صر احلديث :مل تن�ش�أ لدينا مدار�س فل�سفية ،و�إمنا �أتباع لفال�سفة الغرب ،ومر ِّوجون لفل�سفة مادية �أجنبية حمورها الأ�سا�س :هدم عقيدة الألوهية وتدعيم الإحلاد... فا�ستمر اجلفاء بني االخت�صا�صيني (العلماء) وبني ذوي النظر الكلي والر�ؤية العامة. �إن الناظر يف الآيات الكرمية التي وردت فيها كلمة (احلكمة) :يجد �أنها ما اقرتنت بذكر (الكتاب) �إال كانت تالية له ،وك�أن يف ذلك �إ�شارة �إىل �أن احلكمة مبا هي مفاهيم ونظر كلي ال ي�صح �أبداً �أن تت�شكل خارج مبادئ الكتاب ومعطياته الكربى؛ �إنه 54
� 29/04/2010 11:09:09
�� ������ ���.indd 54
في إشراقة آية
الق ّيم واملهيمن عليها ،ولي�س يف ذلك حد من عطاء احلكمة وانطالقها ،ولكنه �إم�ساك بها كي ال تفقد اجتاهها وحمورها؛ فالعقل الب�شري على �سعة �إمكاناته ال ي�ستطيع �أن يعمل بكفاءة �إال داخل �إطار توجيهي مينحه �شيئاً من الثوابت و�صالبة اليقني ،وقد �آن الأوان لتن�شيط حركة علمية ال تغرق يف التخ�ص�صات ،لكنها ت�ستفيد منها جميعاً يف تن�سيق الواقع يف �ضوء املثال ،ويف �إدراك العالقات اخلطية واجلدلية التي تربط بني الأ�شياء ،ويف معرفة �سنن اهلل (تعاىل) يف اخللق�...آن الأوان لرتك التقدم العلمي لأهل التخ�ص�صات يغو�صون على مفردات العلوم ،و ُي�ضيفون �إىل فروع املعرفة كل يوم جديداً ،وال�سعي �إىل تكوين جيل جديد من احلكماء وامل�صلحني ذوي النظر الكلي والثقافة ،الذين ي�ستخدمون املعارف املختلفة يف بناء النماذج احل�ضارية اخلا�صة وامل�شروعات النه�ضية ال�شاملة ،ويف اعتقادي �أن احلاجة �إىل (احلكماء) �سوف تزداد؛ �إذ �إن املعرفة الب�شرية على و�شك �إكمال دورتها ،وع�صر ثورة املعلومات الذي بزغ فجره �سوف يكون �أق�صر الع�صور احل�ضارية ،ثم ي�أتي زمان الأ�سئلة الكربى� :أ�سئلة ال ُهو َّية ،وعلل الوجود ،وامل�صري ،وطبيعة الكينونة الب�شرية وحدودها ،وحقوقها� ..أي: �إن الفل�سفة قد ت�ستعيد جمدها القدمي ،لكن �ضمن معطيات وم�ساقات جديدة ،وبلغة نح�ضر �أولئك ،الذين ي�ستطيعون فهم �أ�سئلة �شديدة التعقيد ،وعلينا منذ الآن �أن ّ الع�صر القادم ،و ُيح�سنون اجلواب عليها. ال�صلبة مك ِّون �أ�سا�س من مكونات (احلكمة) كما ذكرنا ،وهي -5الإرادة ُ (الإك�سري) الذي يحيل املعرفة النظرية �إىل مناذج متحققة يف الواقع املح�سو�س� ،إن احلكمة نور داخلي ي�شكل مفهومات كثرية متباينة ،ويدجمها يف نظم �أ�شمل ،فتبدو من�سجمة متنا�سقة ،لكن احلكيم ال يبدو كذلك ،فهو طراز فريد ،ومنوذج خا�ص، 55
� 29/04/2010 11:09:09
�� ������ ���.indd 55
في إشراقة آية
ي�صعب تقنني عطاءاته وتوجهاته ومواقفه؛ لأن طبيعة احلكمة تت�أبى على التحقق الكامل ،ومن ثم :ف�إنها تلوح يف بع�ض املواقف وال�سلوكات لتدل على ف�ضل اهلل (تعاىل) على �أ�صحابها وتوفيقه لهم .وتلك املواقف تفوق احل�صر والعد ،لكن نذكر بع�ضها من �أجل التقريب: �أ -احلكمة من ٌّو دائم ،فاملزج الفاعل بني الذكاء واخلربة والإرادة يجعل مفهومات احلكيم يف نوع من احلركة الدائبة؛ مفهوم يكرب ،و�آخر ي�ضمر ،ونقطة تزداد تف�صي ًال، و�أخرى تزداد تركيزاً� ،أفكار جديدة لديه تفقد بريقها ب�سرعة ،و�أفكار قدمية تنبعث حية لتخط ّ خطاً جديداً ...هذه الو�ضعية جتعل احلكيم يف حالة من الت�ألق الدائم، يف�سر لدى الكثريين على �أنه تناق�ض وا�ضطراب ،على حني �أنه نوع وهذا الت�ألق قد َّ من اال�ستجابة الناجحة للمرونة الذهنية العالية ،والروافد الثقافية الرث َّية ،والإرادة التبدل. ال�صلبة ،لكن كل ذلك ي�أخذ �سمة التغيرّ ،ال ّ احلرة ُ ب� -إيثار الآجل على العاجل ،والدائم على الآين ،وما ميليه ذلك من مواقف توجه النا�س والتزامات� :أكرب �سمة من �سمات (احلكيم) ،وال�شرائع ال�سماوية كلها ّ نحو هذه الف�ضيلة ،لكن �إغراءات املنافع وامللذات العاجلة �صرفت ّ جل النا�س عن اال�ستجابة ﱹ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﱸ القيامة ،21 ،20 :وعدم حتقق هذه الف�ضيلة يف حياة كثري من النا�س� ،سببه �ضعف يف اخلربة� ،أو �ضعف يف الإرادة� ،أو فيهما معاً ،واحلكمة جتعل احلكيم يف من�أى عنهما ،وموقف احلكيم هنا يثري لدى النا�س الده�شة؛ حيث يجدونه زاهداً م ْعرِ�ضاً عما يتقاتلون عليه ،ورمبا اتهموه بالعجز �أو الك�سل �أو الق�صور ،وهو يف الوقت نف�سه ي�ضحك يف داخله من جهادهم يف غري عد ّو وحماوالت قب�ضهم على ال�سراب! 56
� 29/04/2010 11:09:09
�� ������ ���.indd 56
في إشراقة آية
يكف �أبداً عن عمليات ج -داخل احلكيم �ساحة َم ّوارة باحلركة والن�شاط ،فهو ال ّ املقارنة ،واملوازنة ،والتحليل ،والرتكيب ،واال�ستنتاج ،والت�شذيب ،والإ�ضافة� ،إنها �أمواج وتيارات يف �أعماق املحيط� ،أما ال�سطح ف�إنه هادئ تعلوه ال�سكينة والوقار. �إن من مالمح الأذكياء �سرعة البديهة ،و�إطالق الأحكام ،و�سرعة ت�شكيل املواقف، لكن احلكيم طراز �آخر من النا�س ،فهو بطيء يف تكوين معتقداته ،و�صياغة مقوالته؛ �إذ �إنه ميلك قدرة خا�صة على �ضرب كل �أ�شكال املعرفة واخلربة يف بع�ضها بع�ضاً، ليخرج يف النهاية بزبدة تتميز عنها جميعاً ،لكنها منها جميعاً! ،ويف�سِّ ر بع�ض النا�س ذلك بالعي وا َحل َ�صر ،لكن الأيام ُتثبِت �أن مقوالت احلكماء هي بنات عوا�صف فكرية و�شعورية هائلة ،لكنها غري منظورة!. د -من �أهم جتليات احلكمة� :إدراك حجوم الق�ضايا على وجهها ال�صحيح؛ فاحلكيم يرى الأ�شياء الكبري َة كبريةً ،كما يرى الق�ضايا ال�صغري َة �صغري ًة كما هي، وتقدير الق�ضايا ب�صورة �صحيحة من �أخطر امل�شكالت التي ظ َّلت تواجه الب�شر على مدار التاريخ ،وهل ُد ّمرت احل�ضارات �إال من وراء م�شكالت و�أخطاء ظنها النا�س تافهة ،ف�إذا هي عوا�صف هوجاء تد ِّمر كل ما ت�أتي عليه!. احلكيم :رجل يرى ما قبل اللحظة الراهنة ،وي�ست�شرف ما بعدها ،وهو ال يرى ن�سقاً �أو نظاماً من التداعيات الرتابطية ،لكنه يرى �أن�ساقاً ونظماً تتوازى ،وتتقاطع، يح�س بالعا�صفة قبل هبوبهاِّ ، فيحذر قومه وينذرهم .كلنا نرى الق�ضايا وتت�صادم� ،إنه ّ بحجمها احلقيقي ،لكن بعد فوات الأوان! ،وبعد �أن نكتوي بنارها ،وتفوتنا فر�صها الذهبية ،لكن احلكيم ي�أتي يف الوقت املنا�سب ،كما قال �سفيان الثوري�» :إذا �أدبرت الفتنة عرفها كل النا�س ،و�إذا �أقبلت مل يعرفها �إال العامل«!. 57
� 29/04/2010 11:09:09
�� ������ ���.indd 57
في إشراقة آية
العامل (احلكيم) هو من و�صفناه� ،أما �أهل االخت�صا�ص ،الذين �أذهبوا العمر يف تفتيق املعرفة حول �شيء بالغ ال�صغر� ،أو حول (ال �شيء) :فه�ؤالء جنود التقدم العلمي ،لكن حظوظهم من �إ�شراقات احلكماء حمدودة للغاية!. والبم هـ ترتفع درجة املرارة يف داخلنا على مقدار فقدنا للحكمة؛ والنزق رَ َ الذي ُنبديه حول كل ما ال يعجبنا� ،سببه جهلنا بالأ�سباب واجلذور وال�سنن وطبائع الأ�شياء ومنطق �سريورتها� .أما احلكيم :ف�إن مرارته ال تنبع من مفاج�آت الأحداث لقيت عليهم ،ونبهتهم وفواجعها ،و�إمنا من غفلة النا�س وا�ستخفافهم باملواعظ التي �أُ ْ �إىل النهايات املحتومة التي يندفعون �إليها دون �أي ح�ساب� ،أو تقدير لفداحة اخلطب الذي �سيواجهونه� .إن الآالم التي ن�شعر بها عند ظهور بع�ض النتائج تكون مكافئة يف العادة للم�سرات التي ع�شناها يوم كانت (عقولنا م�سرتيحة) وم�شاعرنا غارقة يف عامل امللذات والأوهام!.
58
� 29/04/2010 11:09:09
�� ������ ���.indd 58
في إشراقة آية
ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ ﰄ ﰅ ﰆ خلق اهلل الدنيا لتكون داراً لالبتالء واالختبار ،ومن ث ََّم ف�إنه جعل الإن�سان يتق َّلب فيها بني املن�شط واملكره ،والرخاء وال�شدة ،واخلري وال�شر؛ لريى �سبحانه كيف ي�صنع ه�ؤالء العباد ،وكيف يطلبون مرا�ض َيه يف جميع الأحوال ،ﱹﯺ ﯻ ﯼ ﯽﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ ﱸالأنبياء :الآية.35 ولعلنا نقب�س من نور هذه الآية املباركة عرب الوقفات التالية: -1الناظر يف ال ُن ُظم العامة التي حتكم م�سرية احلياة يجد �أن جوهر (االبتالء) يقوم على (الت�شتيت بني املتقابالت) حيث ي�ؤدي عدم القيام بحق احلالة الراهنة �أو ما ّ�سماه القدماء ب�أدب الوقت �إىل الإخفاق يف االمتحان الذي يعني حتول اخلري �إىل �شر �أو ارتفاع وترية ال�شر والتدهور ،ولعلنا منيط اللثام عن هذا املعنى من خالل منوذجني اثنني: (�أ) ي�سعى كل جمتمع �إىل �إيجاد �أكرب قدر ممكن من التماثل بني �أفراده بن َّية املحافظة على قيمه وخ�صو�صياته وزخمه احلركي ،وهذا التماثل من اخلري ،وال ريب 59
� 29/04/2010 11:09:09
�� ������ ���.indd 59
في إشراقة آية
لأن البديل عنه هو ال�شقاق واالحرتاب الداخلي لكن التجربة االجتماعية �أثبتت �أن احلر�ص على التماثل التام بني �أفراد املجتمع ي�ؤدي �إىل انق�سامه على نف�سه ،حيث يت�شوف �أع�ضا�ؤه ـ وال�سيما ال�صفوة منهم ـ �إىل النفاذ �إىل واقع املجتمع على نح ٍو منفرد ،ومنعهم من ذلك ي�ؤدي �إىل التوتر االجتماعي ،ويجعل (التماهي) الظاهر عبارة عن �شكل فارغ من امل�ضمون ،فينت�شر النفاق االجتماعي واالزدواجية يف ال�سلوك ،ومن ثم ف�إن املطلوب هو قدر من التنوع االجتماعي واحرتام اخل�صو�صيات يف �إطار النظم الكربى للمجتمع ويف �إطار �أهدافه ومبادئه العامة. (ب) حث الإ�سالم على �صلة الرحم و�أداء حقوق القرابة ،ور َّتب يف ذلك �أحكاماً و�آداباً عديدة ،وااللتزام بها ورعايتها من اخلري العظيم ،لكن ذلك البد �أن يتوقف عند حدود من �أجل رعاية م�سائل �أخرى ،ال تقل �أهمية وحيوية من مثل احرتام النظم التي تتوىل توزيع وترتيب احلقوق والواجبات يف املجتمع ،حيث ال مي�س العدالة االجتماعية� ،أو ي�ضغط عليها .امللحوظ �أن ما ي�صح لعامل القرابة �أن َّ ي�سمى بـ (�سيادة القانون) مل ت�أخذ �أبعادها ب�شكل جيد يف الع�صور احلديثة �إال حيث ا�ضمحلت العالقات الأ�سرية والقرابية كما هو ال�ش�أن يف املجتمعات الغربية� ،أما يف املجتمعات الإ�سالمية حيث التوا�صل الأ�سري والعائلي �أمنت و�أف�ضل ،ف�إن من امللحوظ �أنه يتم الكثري من التجاوز والتفلت من النظم العامة يف �سبيل �إعطاء الأقرباء ما لي�س لهم من مكت�سبات ظناً �أن يف ذلك �صلة للرحم! لكن هذا يعني عدم النجاح يف االبتالء والت�شتت بني املتقابالت� ،إن �إكرام الأقرباء ال ينبغي �أن يتم على ح�ساب الآخرين وال بخرق النظام العام ،و�إال كان �شراً وبال ًء ،ولعلنا ال نبالغ �إذا قلنا� :إن من �أ�شد ما عاناه التمدن الإ�سالمي يف تاريخنا الطويل كان نقل العرب من مرحلة 60
� 29/04/2010 11:09:10
�� ������ ���.indd 60
في إشراقة آية
(القبيلة) �إىل مرحلة (الدولة) حيث يتم الف�صل �شبه الكامل بني العالقات واحلقوق ال�شخ�صية وغري ال�شخ�صية ،وجند �إىل جانب هذا يف �سرية النبي × و�سلوك �أ�صحابه الكرام موازنة دقيقة يف هذا ال�ش�أن ،فالنبي × هو الذي قال(( :يا فاطمة بنت حممد �سليني من مايل ما �شئت ،ف�إين ال �أغني عنك من اهلل �شيئاً))( )1وهو الذي قال: لقطعت يدها))(.)2 (( ....لو �أن فاطمة بنت حممد �سرقت ُ -2النجاح يف االبتالء يقت�ضي نوعاً من اليقظة جلميع قوانا العقلية والروحية، حتى ال نقع يف �أ�سر اللحظة احلا�ضرة ون�ست�سلم خلريها و�شرها و رخائها وكربها ،وهذا يعني نوعاً من اال�ستعالء على الواقع ،وعدم الركون �إليه ،والذوبان فيه ،وذلك �إمنا يقع عند الغفلة عن (نواة) االبتالء الكامنة فيه ،على نحو ما حدث من غفلة الرماة يوم �أحد عن نواة االبتالء يف �أمر النبي × لهم بالبقاء يف مواقعهم مهما كان اجتاه املعركة ،ف�أدى ذلك �إىل حتويل الن�صر الذي كان يلوح يف م�ستهل املعركة �إىل هزمية! لكن النبي × مل َي َد ِع امل�سلمني ي�ست�سلمون ملرارة الهزمية ،ويغرقون يف التالوم والندم ،و�إمنا اندفع بهم �إىل �ساحة ابتالء جديد ب�أمره لهم بالتوجه �إىل حمراء الأ�سد حيث حتولت م�شاعر الف ّر واالنك�سار �إىل م�شاعر املباد�أة واملطاردة للعدو!(.)3 ولعل مما يع�صم من الغرق يف احلالة الراهنة تع ُّود اال�ستب�صار وتقليب النظر يف احلالة الراهنة خريها و�شِّ رها ،وحماولة فهم املنطقية والآلية التي �أدت �إىل والدتها وجت�سدها ،و�إذا ما مت ذلك �أمكن �أن ن�سيطر على تلك احلالة ،ونن�صرف �إىل اجتاهات �-1أخرجه البخاري. �-2أخرجه البخاري. -3انظر الرحيق املختوم.318 : 61
� 29/04/2010 11:09:10
�� ������ ���.indd 61
في إشراقة آية
�سريها وتطورها ،ف�إذا كان االبتالء عبارة عن خري�أ�صابه امل�ؤمن ثمر ًة جلهده وكفاحه وجب عليه �أن ي�ستمر يف ذلك اجلهد على نف�س الوترية التي كان عليها ،و�إذا كان قد �أ�صابه من غري تعب كمن ورث ما ًال وفْراً وجب عليه �أن ي�شكر اهلل على ذلك �أو ًال ،و�أن يقوم ثانياً ببحث الأ�سباب والعوامل التي ت�ؤدي �إىل املحافظة عليه ،وتنميته وتزكيته ،حتى ال ي�شعر يوماً ما �أن النعمة التي هبطت عليه مل يكن ي�ستحقها!. و�إذا كان ما �أ�صاب امل�ؤمن من �شر وحمنة ب�سبب �أخطائه وخطاياه ،ف�إن النجاح يف ي�ستحق تغيري مواجهة ذلك االبتالء ال يكون �إال باخلال�ص مما اقرتفت يداه ،وبذلك ُّ اهلل -تعاىل -له كما قال �سبحانه :ﱹ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗﱸ الرعد ،11 :و�إذا كان ما �أ�صابه ب�سبب ما جناه غريه ف�إن عليه �أن ي�صرب ،ويحاول �أن يتجاوز يعم ب�سبب ما هو فيه من بالء بتحوله من (�صالح) �إىل (م�صلح) لأن البالء حني ُّ انت�شار الف�ساد ال يت�أهل للنجاة منه �إال الذين ي�سعون �إىل حتجيمه وتطهري املجتمع منه، كما قال �سبحانه :ﱹ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌﱸ الأعراف ،165 :والبد للتوطئة لكل ذلك من �سيادة روح املفاحتة واملكا�شفة والنقد املن�صف الب ّناء حتى ال تندغم الذات يف املو�ضوع ،ون�صبح كمن كان يدفع العجلة �إىل �أن �أ�صبح يجري وراءها م�ست�سلماً لقوة اندفاعها. � -3إن مبد�أ (الزوجية) ملحوظ يف الكثري الكثري من املخلوقات واملوجودات، وهذا املبد�أ كما �أنه �سبب يف تكاثر الكائن احلي ومنو النوع كذلك هو �سبب يف حتول حاالت الرخاء وال�شدة ،ففي رحم ِّ كل رخاء (نواة) ملحنة ،كما �أن يف �أح�شاء كل �شدة نواة لرخاء ومنحة وهذا وا�ضح يف قوله :ﱹ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ 62
� 29/04/2010 11:09:10
�� ������ ���.indd 62
في إشراقة آية
ﯟ ﯠﱸ ال�شرح� .6 ،5 :إن فهم هذه امل�س�ألة يقت�ضي منا �أن ن�ضع احلالة الراهنة التي نعي�شها يف ال�سياق التاريخي وال�سببي ،حتى يتبني لنا �أنها لي�ست �أكرث من حلقة يف �سل�سلة غري متجان�سة من النجود والوهاد والنجاحات والإخفاقات. �إن هذه الدنيا لي�ست هي الظرف املنا�سب لتمو�ضع (الأحوال النهائية) يف خري �أو �شر ،و�إمنا هناك دائماً خلف الباب حمنة تنتظر �إذا ما نحن �أ�س�أنا الت�صرف بالإمكانات تفجر روح املقاومة والإ�صرار والعناد، التي بني �أيدينا ،ويف املقابل ف�إن ال�شدائد واملحن ّ تلك الروح التي كثرياً ما تظل هاجعة خامدة �إىل �أن ت�أتيها �صدمة قوية توقظها من �سباتها ،وهكذا فاملطلوب دائماً �أن نكون يف املوقع ال�صحيح ملواجهة االبتالء. �إن طبيعة االبتالء تقوم على قاعدة من التوازنات العميقة والدقيقة ،والإن�سان املبتلى ي�شبه يف كثري من الأحيان الذي ي�سري على حبل م�شدود ،فهو مطالب حتى ال يقع ب�أن ي�ستخدم كل قواه العقلية واجل�سمية على نحو دقيق ومتوازن و�إال... -4متتلك �أمة الإ�سالم بحمد اهلل عدداً من املنظومات املعيارية والرمزية التي ِّمتكنها من اخرتاق احلالة التي تعاي�شها ومعرفة �أوجه االبتالء فيها ،بل ِّمتكن ال�صفوة املمتازة من �أبنائها من معرفة ِن َ�سب اخلري وال�شر وحجم الإيجابيات وال�سلبيات يف الواقع املعي�ش ،وهذه املعرفة تنظم �أي�ضاً ردود �أفعالنا على الطوارئ والوافدات اجلديدة رف�ضاً ومدافعة وتعدي ًال وتهذيباً وقبو ًال وترحيباً ،وهذا يعني �أن كل ابتالء جديد ال يدخل يف حياة الأمة (احلية) �إال بعد �أن مير مب�صفاة قيمها ومبادئها و (عقيدتها االجتماعية)(� )1أي�ضاً ،وكلما كان وقع االبتالء اجلديد حاداً ومك�شوفاً -1العقيدة االجتماعية عبارة عن جماع املبادئ وامل�صالح ومركز التوازن بينهما. 63
� 29/04/2010 11:09:10
�� ������ ���.indd 63
في إشراقة آية
ا�ستطاع �أن ي�ستفز ردود �أفعال الأمة عليه ب�صورة قوية و�سريعة ،فظاهرة الردة الأوىل كانت ابتالء كبرياً جداً واجهته دولة اخلالفة الوليدة يف زمان �أبي بكر ر�ضي اهلل عنه بالقوة وال�سرعة املكافئة ،لكن (االبتالء املتدرج) الذي ح�صل بعد ذلك يف �صورة ِف َرق وعقائد فا�سدة وانحرافات �سلوكية ويف �صورة جتديد �أطر الدولة وفق ات�ساع �أمة الإ�سالم مل ي�ستفز الطاقات الكامنة يف الأمة ،فلم تقم بواجبها جتاهه ،ولعل هذا يدفعنا �إىل القول� :إن �أخطر ما يغ ِّيب الإح�سا�س باالبتالء على م�ستوى الفرد واجلماعة معاً لي�س الكوارث الكربى وال اجلوائح العظيمة و�إمنا (التغريات البطيئة) التي تدخل من �أ�ضيق امل�سام ،فتتكيف الأمة معها �سلبياً على �سبيل التدرج ،وهذا ما ح�صل بالن�سبة �إىل �أمة الإ�سالم وما حدث لدول عظمى يف ع�صرنا احلديث ،فقد بد�أت بريطانيا العظمى ترتاجع عن مركزها العاملي ،وبد�أت ال�شيخوخة تدب يف �أو�صالها منذ �أكرث من قرن ،لكن ذلك مل يظهر �إال يف احلرب العاملية الثانية ،ومن الطريف �أن بع�ض علماء (الأحياء) جاءوا ب�ضفدع ،وو�ضعوه يف �إناء و�أوقدوا حتته ناراً هادئة ،ف�صارت درجة حرارة املاء ترتفع مبنتهى البطء ،وكان امل�أمول �أن يقفز يح�س ب�سخونة املاء لكن حدوث الت�سخني على نحو بطيء �أدى ال�ضفدع عندما ّ (خمدر) وكانت النتيجة �أن ال�ضفدع ان�سلق دون �إىل �أن يتحول (املح ِّر�ض) �إىل ِّ �أن ُيبدي �أية مقاومة! هنا تربز مهمة العلماء الربانيني العظام واملفكرين املبدعني الذين ميتلكون حا�سة (اال�ست�شعار عن بعد) حيث يرون عواقب الأمور قبل فوات الأوان ،ويقومون مبا ت�ستحقه من مواجهة وعمل ،وحتى ننجح يف مواجهة ابتالء ات(التغريات البطيئة) ف�إن علينا �أن نقوم ب�أمرين: �أ -االن�شداد �إىل الأ�صول والثوابت يف املن�شط واملكره ،والت�أبي على ان�صهار 64
� 29/04/2010 11:09:10
�� ������ ���.indd 64
في إشراقة آية
منهجيتنا وحا�ستنا النقدية يف املعطيات اجلديدة مع حماولة ا�ستيعاب ت�أثري امل�ستجدات يف تلك الأ�صول ،وحماولة �إيجاد التكييفات والتوظيفات التي تر�سِّ خها ،وجتعلها ت�ؤتي �أكلها كل حني ب�إذن ربها. ب -املتابعة اجلادة والدقيقة ملجمل التغريات التي تطر�أ على حياتنا ال من خالل احلد�س والتخمني واملالحظة العامة ،و�إمنا من خالل ( الرقم ) والأ�ساليب الكمية، حتى نتعرف بدقة على �سريورة �أحوالنا املختلفة ،وامل�آالت ال�صائرة �إليها ،وهذا لن يتم �إال من خالل �إعادة تنظيم حياتنا وم�ؤ�س�ساتنا املختلفة على �أ�س�س جديدة بحيث تخ�صِّ �ص كل جهة �أو م�ؤ�س�سة ق�سماً �أو موظفاً يتوىل جمع املعلومات اخلا�صة بها ون�شرها حتى ينمو �إح�سا�س النا�س ب (الكم) وطريقة قيا�سه ،ولي�س من امل�ستغ َرب اليوم ذلك التالزم التام واملطلق بني درجة حت�ضر الدولة ،ودرجة تقدم الإح�صاء فيها. �إن على امل�سلم �أن يظل يكافح ويجاهد يف �سبيل التعرف على مرا�ضي اهلل ـ تعاىل ـ يف كل حالة من �أحواله ،وي�ست�شرف بعد ذلك عاقبة املتقني.
65
� 29/04/2010 11:09:10
�� ������ ���.indd 65
�� ������ ���.indd 66
29/04/2010 11:09:10 �
في إشراقة آية
ﭥﭦﭧ املح َكمة الدقيقة ،هذا الإن�سان هذا املخلوق العجيب هو �صنعة اهلل -تعاىلْ - الإن�سان الذي يبدو للوهلة الأوىل يف منتهى الب�ساطة ،م�شتمل على كل �أ�شكال التعقيد� ،إنه يبدو قوياً خميفاً مع �أنه يف حد ذاته �ضعيف يف كل جانب من جوانب �شخ�صيته �ضعفاً ال يوازيه �شيء �سوى ما يدعيه من القوة والعزة وال�سطوة! �إن هذه الكلمات القر�آنية الثالث ّخل�صت لنا جوهر الإن�سان ،لكن دون �أن ت�ضع لنا الإ�صبع على مفردات ذلك ال�ضعف ،ومظاهره ،ليظل اكت�شافها التدريجي عبارة عن درو�س وعظات م�ستمرة ِّ تذكر الإن�سان بحقيقته ،و�سوف ينفد العمر دون �أن نحيط بحقيقة �أنف�سنا .وميكن �أن ن�سلط ال�ضوء على بع�ض ما �أدركناه من �ضعفنا، وبع�ض ما يجب علينا جتاه ذلك يف الكلمات التالية: ب�صر بني الإن�سان ـ على الرغم من التقدم املعريف الكبريـ ب�أج�سامهم مازال َ -1ت ُّ حمدوداً �إىل يوم النا�س هذا ،فهناك �أجزاء من �أج�سامنا مازالت مناطق حم َّرمة ،فعلم الدماغ مازال علم �إ�صابات �أكرث من �أن يكون علم وظائف وت�شريحّ ، ومركبات الأن�سجة 67
� 29/04/2010 11:09:10
�� ������ ���.indd 67
في إشراقة آية
وال�سوائل املختلفة يف �أج�سامنا وتفاعلها مع بع�ضها مازال الكثري منها جمهوال ً ،ف�إذا ما دلفنا �إيل مناطق امل�شاعر والإدراك و�صالتها وتفاعالتها باجلوانب الع�ضوية ،وجدنا �أن كثرياً مما لدينا ظنون وتخر�صات �أكرث من �أن يكون حقائق ،ف�إذا ما خطونا خطوة �أخرى نحو العامل الوجداين والروحي وجدنا �أنف�سنا يف متاهات و�سراديب ،حتى �إن الفردية لتطبع كل ذرة من ذرات وجودنا املعنوي ،مما يجعل �إمكانات الفهم ،وو�ضع النوامي�س والنظم العامة �أموراً قليلة الفاعلية ،حمدودة النجاح. �إن الباحثني يف جماالت علوم الإن�سان يجدون الطرق مت�شعبة ملتوية كلما تقدموا نحو الأمام ،على حني �أن الباحثني يف علوم الطبيعة ي�ستفيدون من �أنواع وتقد�س التقدم املعريف الأفقي يف �إ�ضاءة ما بقي مظلماً من م�سائل الطبيعة واملادةّ . اهلل ـ تعاىل ـ �إذ يقول :ﱹﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﱸ الإ�سراء.85 : ويزداد ظهور �ضعف الإن�سان حني يدخل يف �صراع بني عقله وم�شاعره حيث يجد نف�سه عاجزاً عن دفع م�شاعره واخلال�ص من و�ساو�سه والتغلب على خماوفه� ،أو معرفة م�صدرها يف بع�ض الأحيان ،ليدرك املرة تلو املرة �أنه مع طموحه �إيل ال�سيادة على الأر�ض وغزو الف�ضاء قا�صر عن ال�سيطرة على نف�سه! -2هذا الإن�سان ال�ضعيف ال ي�ستطيع �أن يب�صر الأمور �إال �ضمن �شروط ومعطيات وحمددة ،فهو ال ي�ستطيع �أن يتخل�ص من حمدودية زمانية ومكانية وثقافية خا�صة َّ الر�ؤية و�ضرورة النظر من زاوية معينة ،وهذا هو ال�س ّر الأكرب يف �أننا ال منلك �أن نتفق حول كثري من امل�سائل والق�ضايا املطروحة� .إن خ�صو�صية تكويننا وظروفنا وم�شاعرنا تدفع مواقفنا و�آراءنا �إىل التفرد ،ومن ثم ف�إننا نعجز عن توحيد الر�ؤية وب�سط الر�أي 68
� 29/04/2010 11:09:10
�� ������ ���.indd 68
في إشراقة آية
الواحد يف معظم �ش�ؤوننا. -3نحن عاجزون عن �إدراك الأ�شكال النهائية لأكرث حقائق هذا الكون دفعة واحدة ،فاحلقائق ال ُت�سفِر لنا عن كل �أبعادها و�أطوارها �إال على �سبيل التدرج ،ومن ث ََّم ف�إن الإن�سان ال�ضعيف يظل يكت�شف عجزه با�ستمرار ،وك�أنَّ ما ُيحرزه من التقدم اليوم لي�س �إال عنواناً على ما كان يجهله بالأم�س ،وما �سي�صل �إليه غداً لي�س �إال رمزاً على ما يجهله اليوم ،ومن ثم ف�إن التغيري والتطوير يظالن مالزمني لكل �إنتاجاتنا و�إبداعاتنا علي مقدار ما نحرزه من تقدم يف العلم والفهم ،و�إن املقولة التي ال يفت�أ هذا املخلوق ال�ضعيف يرددها :لو ا�ستقبلت من �أمري ما ا�ستدبرت لفعلت كذا ،ولقلت كذا.. وانطالقاً من هذا ف�إن من �سمات النظريات العلمية الناجحة �أن تكون منفتحة وذات قابلية جيدة للإ�ضافات التي ت�أتي بها حركة ك�شف احلقائق و�إدراك املجهوالت. -4هذا الإن�سان ال�ضعيف ال ي�ستطيع �أن يجزم ب�شيء مقطوع من حوادث امل�ستقبل ،فمهما �أدرك املرء الظروف والعوامل وامل�ؤثرات التي حتيط به مل ي�ستطع �أن يعرف ماذا �سيحدث له بعد �شهر �أو يوم �أو �ساعة ،و�أعظم �أطباء الدنيا ال ي�ستطيع �ضمان ا�ستمرار حياته �أو حياة غريه �ساع ًة من زمان ،ومن ّثم ف�إن القلق واخلوف من امل�ستقبل هما الهاج�س اجلاثم فوق �صدر الإن�سان احلديث الذي فقد الإميان وف�ضيلة الدمج بني احلياة الدنيا والآخرة ،و�إن املت�أمل يف كثري من الأقوال والت�صريحات والدرا�سات يجد �أن خرباء اال�سرتاتيجية هم �أكرث النا�س جمازفة ،وال �سيما عندما ي�شرعون يف �سرد التفا�صيل للأحداث املتوقعة ،حيث تق�صر طاقات الب�شر و�إمكاناتهم عن التنب�ؤ بها(.)1 -1اقر�أ �إن �شئت ما كتبه (نيك�سون) يف كتابه (ن�صر بال حرب) عن امل�ستقبل الذي يتوقعه لرو�سيا ثم ما �آلت �إليه الأمور!. 69
� 29/04/2010 11:09:10
�� ������ ���.indd 69
في إشراقة آية
� -5أكرث ما ُي َظن فيه عجز الإن�سان و�ضعفه ،هو الإمكانات التي ميتلكها لفهم الواقع املعي�ش بكلياته وجزئياته وم�شكالته وخباياه ،وقد كرثت يف �أيامنا هذه الدعوة �إىل فهم الواقع وفقهه ،وهي دعوة مهمة ،لكنها ُتخفي يف طريقة طرحها نوعاً من التب�سيط للم�س�ألة ،حيث �إن فهم الواقع �أو مقاربته م�س�ألة من �أعقد ما يواجهه العقل الب�شري ،فالقيم التي ن�ؤمن بها تتحكم �إىل حد كبري يف ر�ؤيتنا لذلك الواقع ،وكثرياً ما ِّ ت�شكل حائ ًال بيننا وبني ر�ؤية حقيقة ما يجري فيه .والعقل الإن�ساين حتى يالم�س الواقع ف�إنه يفرت�ض ثباته وجموده ،على حني �أن الواقع يظل َّ حمطة لتدفق التحوالت امل�ش َّعثة الكثرية ،واحلادة �أحياناً مما يجعل �إدراكنا قا�صراً عن مالحقته ،وبالتايل ف�إن �أحكامنا ت�صدر على �أ�شياء فائتة ومنتهية ،ومن هنا ف�إنه البد من بناء (�إ�شكالية)، يتم من خاللها تق�سيم الواقع �إىل ق�ضايا ميكن حتديدها وتقدمي �إجابات وحلول لها، والنمط الذي �سن�ص ِّور الواقع من خالله هو عبارة عن �صورة عقلية َّ مركبة تدخل فيها ر�ؤانا العقدية �إىل جانب العنا�صر املعرفية والقيم االجتماعية التي تر�شِّ د حركة املجتمع ،ومادام كل ذلك متفاوتاً عند النا�س ،ف�إن عجزنا عن ِّمل اخلالف �سوف يظهر �أكرث و�أكرث عندما نحاول تقومي الواقع ،و�إ�صدار الأحكام عليه ،وهذا ما �سي�ؤدي بالتايل �إىل اختالفات كثرية يف مناهج الإ�صالح وم�شروعات النهو�ض احل�ضاري، وهنا يظهر مرة �أخرى م�أزق وهن الإن�سان حيث �إن التقدم العلمي ال يتحقق دون يقدم الأدوات الإغراق يف التخ�ص�ص ،والتقدم ي�ستمد م�شروعيته و�أهميته من كونه ِّ التي ت�ساعد على �إ�صالح �ش�أن الإن�سان وتر�شيد قراراته ،لكن الإغراق يف التخ�ص�ص يحول دون فهم الواقع ودون فهم حاجات الإن�سان املختلفة من منظور �شامل� ،إذ �إن جمال التخ�ص�صات هو اجلزئيات ،وفهم الواقع الإن�ساين يحتاج �إىل ر�ؤى ونظريات 70
� 29/04/2010 11:09:10
�� ������ ���.indd 70
في إشراقة آية
كلية ال تتوفر عادة عند االخت�صا�صيني ..ومن هنا ندرك ملاذا نرى تقدم املعرفة وت�أخر الإن�سان وانحداره �شيئاً ف�شيئاً نحو الرببرية! �إننا عاجزون عن رعاية �ش�ؤوننا �إذا ما ابتعدنا عن االنتفاع بالهداية الربانية. املوقف املو�ضوعي مما �سبق: �إذا كان الإن�سان على ما ذكرنا من العجز والق�صور ،ف�إن عليه �أن يطامن من نف�سه، ويخ�ضع لقيوم ال�سموات والأر�ض خ�ضوع العارف ب�ضعته املدرك لعظمة خالقه متخذاً من ذلك باباً للأوبة والتوبة الدائمة ،وعلى الإن�سان مع ذلك �أن يحرتم عقله وقدراته يزج به يف جماهيل وغيوب ال ميلك �أدنى مقدمات للبحث فيها ،حتى ال يتناق�ض فال ّ واقعه مع ذاته ،و�إن من املنهجية القومية �أن نع ِّلم �أنف�سنا ال�صرب على اال�ستقراء والت�أمل وعدم امل�سارعة �إيل �إطالق الأحكام الكبرية قبل الت�أكد من �سالمة املقدمات التي ت�ستند �إليها ،وحني ن�صل �إيل حكم ظ ِّني ف�إن علينا �أن ن�صوغة بطريقة ُت�شعر املطلع عليه بذلك ،فال ن�سوق القطعيات م�ساق الظنيات ،وال الظنيات م�ساق القطعيات. ومما يروى عن الإمام مالك ـ رحمه اهلل ـ �أنه كان كثرياً ما ير ِّدد قوله تعاىل:ﱹ ﰜ ﰝ ﰞ ﰟ ﰠ ﰡ ﰢ ﰣﱸ اجلاثية 32 :وذلك عندما ُي�ستفتى ف ُيفتي ،وقد عتب الإمام اجلويني على املاوردي �أنه كان يف كتابه (الأحكام ال�سلطانية) ي�سوق املظنونات والقطعيات على منهاج واحد«( .)1مع �أن الن�صو�ص يف جماالت (ال�سيا�سة ال�شرعية) قليلة ،و�أكرث امل�سائل فيها مبنية على االجتهاد. �إن الو�ضعية التي و�ضع اهلل -تعاىل -فيها الإن�سان حت ِّتم �أن نظل يف حالة من -1انظر الغياثي 142 :حتقيق د .عبد العظيم الديب. 71
� 29/04/2010 11:09:10
�� ������ ���.indd 71
في إشراقة آية
اال�ستعداد الدائم لقبول احلق �أياً كان م�صدره ،والرتاجع عن اخلط�أ وتعديل الر�أي وامتالك ف�ضيلة املرونة الذهنية ،وعلى اهلل ق�صد ال�سبيل.
72
� 29/04/2010 11:09:11
�� ������ ���.indd 72
في إشراقة آية
ﮰ ﮱﯓ ﯔ �إن املراد بـ (ال�سِّ لم) هنا( :الإ�سالم) على ما ّرج َحه عدد من املف�سرين و�إن (كافّة) (ال�سلم) على ما نرجحه ،ويكون املراد �آنذاك :الأمر بالأخذ بتكاليف حال من ّ الإ�سالم جميعها :ما متيل �إليه النف�س منها ،وما يخالف هواها ،وت�ص ِّرح الآية الكرمية ب�أن يف عدم الأخذ بالإ�سالم كام ًال نوعاً من اتباع ال�شيطان ،حيث �إن املنهج الرباين يباين ال�سبل الأخرى يف فل�سفتها العامة ،و�إن التفريط ب�شيء من ذلك املنهج �سيكون فيه اتباع (�آيل) ل�سبيل ال�شيطان حيث ال يوجد خيار ثالث. وميكن �أن ن�ستب�صر يف �إ�شراقة هذه الآية املباركة املفردات التالية: � -1إن املنهج الرباين يت�سم ب�سمتني �أ�سا�سيتني هما :التكامل والتفرد ،فهو نظراً لتكامله ال يف�سح املجال لعنا�صر �أخرى منافية جلوهره ،و�أما تفرده عن املناهج الأخرى ف�إنه مينحه نوعاً من احل�سا�سية اخلا�صة التي جتعل �أي انحراف عنه� ،أو به عن مقا�صده وغاياته بال َغ ال�ضرر على �أدائه و�إ�صالحه لل�ش�أن الإن�ساين كله ،فال�صفاء الكلي لي�س مطلباً من مطالب الإميان النظري ،ولكنه مطلب من مطالب توظيف املنهج ور�سم دوائر 73
� 29/04/2010 11:09:11
�� ������ ���.indd 73
في إشراقة آية
حيويته وفاعليته ،وذلك نظراً للعالقة اجلدلية بني النظرية والتطبيق ،ف�سالمة الإميان على م�ستوى االعتقاد تت�أثر �إىل حد بعيد بالأخذ اجلزئي للإ�سالم على م�ستوى التطبيق!. وقد ّ حذر القر�آن الكرمي النبي × من مطاوعة امل�شركني يف الإعرا�ض عن بع�ض املنهج الرباين حني قال :ﱹﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ
ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﱸ املائدة49 :
� -2إن خ�صال اخلري يف هذا الدين كثرية ،وعلى مقدار ما ي�أخذ امل�سلم منها يكون كمال �إميانه و�إ�سالمه ،لكن مبا �أن العمر حمدود والطاقات حمدودة ف�إن على امل�سلم �إذا �أخذ ب ُع ُمد الإ�سالم ،واهتدى بهديه العام ،وقب�س من كماالته� ،أن يبحث عن املجال احليوي املنا�سب ال�ستعداداته وظروفه وطاقاته ،كي يتخذ منه حمراباً لتعبده وتقربه �إىل اهلل -تعاىل -حتى نحفظ للمجتمع الإ�سالمي توازنه ون�سد ثغراته ،ومن هنا ف�إن عبادة طالب العلم حماولة النبوغ ،و�إتقان التخ�ص�ص حتى نحقق للأمة االكتفاء الذاتي ،ولو يف حده الأدنى على ال�صعيد العلمي والفني ،وعبادة علماء ال�شرع القيام بالتبليغ و�إحياء ال�سنن والأمر باملعروف ،والنهي عن املنكر ،وجتديد وظائف التدين والتب�صر يف واقع الأمة ،و�إن عبادة احلكام �إقامة العدل ،ورعاية �ش�ؤون الأمة وحماية البي�ضة ،والتعفف عن الأموال العامة ون�شر الدعوة ،وعبادة اجلندي دوام التمر�س بفنون القتال ،وا�ستيعاب الأ�سلحة اجلديدة وا�ست�شراف ال�شهادة، �سد حاجة الفقراء واال�ستعداد الدائم للبذل والفداء ،و�إن عبادة الأغنياء وذوي اجلاه ُّ وم�ساعدة ال�ضعفاء على حل م�شكالتهم والو�صول �إىل حقوقهم ،والبذل يف ت�شييد املرافق العامة ،وهكذا... و�إن خروج كل واحد من ه�ؤالء عن جماله احليوي �سيحرمه ،ويحرم الأمة من 74
� 29/04/2010 11:09:11
�� ������ ���.indd 74
في إشراقة آية
هم العامل خري عظيم ،بل قد ي�ؤدي �إىل �أ�ضرار بالغة ووخيمة العواقب ،ف�إذا �صار ُّ امتالك املال بنية �إعمار امل�ساجد مث ًال تقل�صت جهوده يف ميدانه احلقيقي الذي ينبغي عليه املجاهدة فيه ،و�إذا ان�شغل احلاكم ب�أعمال خريية �أو �أداء النوافل عن واجباته الأخرى ،مل يكن ذلك مو�ضع مدح وال نفع ذي �ش�أن للأمة امل�سلمة ،وهكذا ...وهذا كله يحتاج �إىل نوع من الب�صرية النافذة بغية و�ضع الأمور يف ن�صابها. يكمل بع�ضها بع�ضاً ،كما يف ّعل بع�ضها بع�ضاً ،ومن ث ََّم ف�إن � -3إن �أنظمة الإ�سالم ِّ �أي خلل �أو �ضعف يف نظام من تلك النظم ي�ؤ ِّثر بال�سلب يف �أداء باقيها ،وهذا يعود �إىل ما ذكرناه �آنفاً من ميزة (التكامل) التي ميتاز بها املنهج الرباين ،ونظراً لأهمية هذه امل�س�ألة و�ضعف الإدراك لها �سنفي�ض القول فيها ع�سى �أن ن�شعر �أننا نقف على �أر�ض �صلبة. يف البداية �أقول� :إن مبادئ الإ�سالم ومنظوماته املختلفة تن�ضوي حتت ر�ؤية واحدة مما يجعل التخلي عن �أي منها هدماً جلزء من الر�ؤية الكونية الإ�سالمية ،وي�ستوي حينئذ على ال�صعيد العملي على الأقل اجلهل بذلك اجلزء مع جتاهله �أو جحده، غب�ش يف الر�ؤية على امل�ستوى النظري ،واختالل يف التوازنات والنتيجة واحدة ،وهي ٌ العميقة على م�ستوى ال�شعور ،وا�ضطراب �أنظمة احلياة الإ�سالمية على م�ستوى الفعل والواقع املعي�ش ،و�سن�ضرب العديد من الأمثلة جلالء هذه احلقيقة: �أ -الزكاة جزء من النظام االقت�صادي الإ�سالمي ،وعدم القيام بهذه ال�شعرية ي�ؤدي �إىل �ضعف كفاية ذلك النظام؛ كما ي�ؤدي �إىل �إحلاق ال�ضرر بالنظام االجتماعي والأخالقي �أي�ضاً ،فاملقدار املفرو�ض من الزكاة يف الأموال وعرو�ض التجارة هو اثنان ون�صف يف املئة ،وهذا القدر كاف ل�سد العديد من حاجات املجتمع الإ�سالمي على مقت�ضى احلكمة الإلهية البالغة ،لكن ذلك �سيكون يف الأحوال العادية والطبيعية 75
� 29/04/2010 11:09:11
�� ������ ���.indd 75
في إشراقة آية
ويف غري الأحوال الطارئة كما هو ال�ش�أن يف حاالت الزالزل والفي�ضانات ،وذلك �أي�ضاً فيما �إذا التزم �أغنياء امل�سلمني ب�إخراجها ،و�إذا ا�ستمر ذلك االلتزام حقبة منا�سبة من جمتمع الزمن ،فلو قدرنا �أن %30من الأغنياء �أخرجوا الزكاة و�أن التزامهم ب�أدائها يف ٍِ ما مل مي�ض عليه �سوى �سنتني ،ف�إن الزكاة �آنذاك ال تقوم مبهامها على الوجه املطلوب، احلد الذي ال حيث �إن احلالتني اللتني ذكرناهما جتعالن الفقر يرتاكم ،ويتفاقم �إىل ِّ تفي �أموال الزكاة بالتخل�ص منه ،ثم �إن نظام الزكاة ي�ؤدي مهامه يف ظل فعالية الأنظمة الأخرى ،ف�إذا كانت موارد القطر �شحيحة جداً� ،أو كان النظام ال�سيا�سي فيه خمت ًال، و�أدى ذلك �إىل انت�شار البطالة والعطالة عن العمل ،ف�إن نظام الزكاة بالتايل ال يو�صلنا �إىل الأهداف املن�شودة منه ،وباعتبار الزكاة جزءاً من النظام االقت�صادي الإ�سالمي، ف�إنها �أي�ضاً ال ت�ؤدي وظائفها �إال بفاعلية النظام الذي تنتمي �إليه ،فمث ًال( :القر�ض احل�سن) جزء من ذلك النظام ،و�إعرا�ض الدولة �أو ال�شعب عنه ي�ؤدي �إىل نوع من تعطيل حركة املال ،وتداوله مما يف�ضي بالتايل �إىل �ضعف حركة التنمية واال�ستثمار، وقلة فر�ص العمل وكرثة الفقراء واملعوزين ،ومرة �أخرى ف�إن فاعلية نظام الزكاة ترتبط جزئياً بقيام الدولة بواجباتها من �ضمان احلد الأدنى من املعي�شة للفقري بالقدر الذي يحفظ كرامته ،ويجعله يف و�ضع منتج مثمر ،ف�إذا عجزت الدولة عن ق�صرت فيه ،ف�إن �آلية (نظام ال�سوق) �ستوجِ د �شريحة وا�سعة من املحتاجني ذلك �أو َّ الذين ال ميكن �أن تقوم بهم �أموال الزكوات والنذور والكفارات ...وينفعل كل ذلك ،ويت�أثر بقوة النظام القيمي وفاعليته ،ف�إذا كان نَ ِ�شطاً اندفع النا�س �إىل التطوع بكثري من الأعمال اخلدمية ،واندفع كثري من الفقراء �إىل العمل واحلركة مع ح�سن التدبري والتعفف عن �أموال الآخرين مما يخفف من غلواء احلاجة. 76
� 29/04/2010 11:09:11
�� ������ ���.indd 76
في إشراقة آية
ب -ال�ضبط االجتماعي يف الإ�سالم يقوم على ركنني �أ�سا�سيني :الأ�سرة واملجتمع العام مبا فيه من و�سائل تثقيف وتعليم ورقابة ...و�إن اخللل يف � ٍّأي من هذين الركنني �سي�ؤدي �إىل �شيوع اخللل يف �أداء الركن الآخر .ووا�ضح �أن مهمة الأ�سرة �أن ت�صقل الفرد من داخله مبا تغر�سه من قيم و�آداب ومبا ُّ تخطه يف ذهنيته وم�شاعره من خطوط عميقة ،كما �أن مهمة املجتمع الأرحب القيام بالرقابة على ت�شجيع القيم الإيجابية، وحماية �أفراده من ال�سقوط فيما يعترب �أعما ًال ُم�شينة �أو مخُ ِ َّلة ،واحلالة النموذجية يف هذا تتجلى يف عموم الإميان بالقيم والنظم ،وتوحد الرتبية الفردية مع معايري ال�ضبط االجتماعي على مقت�ضى ذلك الإميان ،ف�إذا ما افرت�ضنا وجود تباين بني القيم الأ�سرية والقيم التي يبثها الإعالم �أو تلقنها املدر�سة �أو ُي�شيعها ال�شارع ،ف�إن النتيجة هي متزق �شخ�صية الطفل بني خمتلف هذه امل�ؤثرات ،وحينئذ ف�إن الرتبية ال ْأ�سرية تتعر�ض للخطر من قبل املجتمع الأو�سع �أو ي�أتيه اخلطر مما مت التوا�ضع عليه من قبلها ،هذا من جهة ،ومن جهة �أخرى ف�إن الطفل ُيخفي يف البيت ما تلقفه من املدر�سة �أو ال�شارع، و ُيخفي فيهما ما ُل ِّق َن ُه يف البيت ،والنتيجة هي االزدواجية واحلرية وانطفاء الفاعلية� ،أي �إجها�ض عمل اجلهات الرتبوية املختلفة ،وترك النا�شئ ملوجات الظروف. ج -احلدود يف الإ�سالم و�سائل للردع ،وهي مبثابة العمل اجلراحي الذي ي�أتي ترتيبه يف التطبب مت�أخراً ،وت�ؤدي احلدود مهماتها يف جمتمع يتمتع بالعي�ش يف �أو�ضاع مقبوله ،حيث يتوفر فيه احلد الأدنى من اال�ستقرار والعدل وفر�ص العمل املنا�سبة وانعدام املغريات بالفاح�شة وان�سجام الرتبية البيتية مع معايري ال�ضبط االجتماعي وانت�شار العلم ...و�إذا ما فر�ضنا وقوع خلل فيما �سبق �أو بع�ضه ،ف�إن كفاءة احلدود يف توفري الأمن للمجتمع �سوف ترتاجع على مقدار الق�صور احلا�صل يف الأنظمة 77
� 29/04/2010 11:09:11
�� ������ ���.indd 77
في إشراقة آية
الأخرى ،وهذا كله يجعل م�س�ؤولية �أمن املجتمع وا�ستقراره م�س�ؤولية عامة يتحملها كل فرد يف املجتمع ،كما تتحملها الدولة على مقدار املُ ْك َنة والتخ�ص�ص. � -4إذا كانت �أنظمة الإ�سالم متفردة يف ر�ؤيتها الكونية ويف منطلقاتها و�أهدافها ،ف�إن مما ي�ضر بتما�سكها الداخلي �إدخال العنا�صر البعيدة عن طبيعتها عليها ،وهذا ما ميكن �أن ن�سميه بـ (التلفيق) ،و�إن الثقافة الإ�سالمية تقبل من اجلديد ما ين�شِّ ط وظائفها� ،أو ِّ يوظف مبادئها� ،أو ميلأ فراغات وهوام�ش �أوجدتها خا�صية املرونة فيها ،ف�إذا جتاوز الأمر ذلك �إىل اجلوهر والأنظمة الأ�سا�سية ،ف�إن النتيجة هي �ضرب التوازنات العميقة لتلك هاجم وتفرز الثقافة مما يجعلها تنكم�ش كما هو امل�ألوف يف �ش�أن الكائن احلي حني ُي َ نوعاً من العطالة ال�ضرورية كيما حتافظ على وجودها وان�سجامها� ،إن ثقافتنا الإ�سالمية متر مبرحلة ع�صيبة ال �سابق لها يف تاريخها املديد حيث ميتلك زما َم تثقيف الأمة �أنا�س كثريون يجهلون ثقافة الأمة ،بل �إنهم ر�ضعوا لبان الثقافة املعادية ،ول�سنا هنا ب�صدد بيان ذلك وال �أ�سبابه ،لكن ما ن�شاهده اليوم من عمليات التلفيق والتهجني الثقايف كان ح�صاد مراحل الركود الفكري واحل�ضاري ب�صورة عامة ،و�إذا كان التجديد �سنة من �سنن الكائن احلي ف�إنه �إذا مل يت َول التجديد �أهله تواله غريهم ،فالإن�سان بطبعه ال ي�صرب على طعام واحد ،وهو ي�ستهلك ال�شعارات والأفكار والنظم ال�صغرى ،ف�إذا مل نقم ب�إثراء ثقافتنا بالدرا�سات واخلربات وجتديدها وحتريرها من عوادي االنحراف واجلمود والتقليد فعل ذلك من ال ُيح�سنه ،و�صار االن�سجام والتجديد عبارة عن �سمات ظاهرة جوفاء� ،أما اجلوهر في�شوبه التناق�ض والت�آكل الداخلي. وهلل الأمر من قبل ومن بعد. 78
� 29/04/2010 11:09:11
�� ������ ���.indd 78
في إشراقة آية
ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ كان من م ّنة اهلل تعاىل على هذه الأمة �أن �شرع لها من الدين ما ُي�صلح �أمر دنياها و�آخرتها ،وكان من �أهم ما �شرعه �صوم �شهر رم�ضان املبارك .والعبادات يف الإ�سالم تكاليف ابتالء ،ومقيا�س يك�شف عن مدى متكن الإميان و�أَلقَه يف نف�س امل�سلم ،وهي يف الوقت ذاته و�سائل لتمكني ذلك الإميان� ،إنها له مبثابة املاء لل�شجر والنبات .و�آيات ال�صيام مل ت ِّعدد لنا �أنواع اخلريات التي �سنح�صل عليها من وراء هذه العبادة؛ ليظل عطاء هذه العبادة مفتوحاً متنوعاً تظهره التجربة التاريخية االجتماعية ،والواقع املعي�ش، ون�ستطيع اليوم من خاللهما �أن نتلم�س وجوهاً من ذلك اخلري يف املفردات التالية: � -1إن ال�صيام و�سيلة ف َّعالة لرتبية الإرادة احلرة: تكف امل�سلم عن �شهواته وملذاته من الوا�ضح �أنه ال توجد عبادة من العبادات ُّ مدة مت�صلة من الزمان كهذه العبادة ،فهي تدريب لإرادة امل�سلم على مقاومة الأهواء وامللذات ومغريات احلياة .واملت�أمل فيما يتفاوت فيه النا�س يف هذا الوجود يجد �أن حمور التفاوت هو الإرادة ال القدرة ،فالقدرات الفطرية لدى النا�س متقاربة، 79
� 29/04/2010 11:09:11
�� ������ ���.indd 79
في إشراقة آية
وتوجهها و تفاوتهم الأ�سا�سي يكون يف مدى �صالبة الإرادة التي تُ�سخِّ ر القدرة ِّ والتي تعني على �ضبط الوقت ،وتكبح جماح الهوى ،وتع�صم من الركون �إىل الدعة لينمي تلك الإرادة ول ُي َع ِّو َدها التوجه و�سفا�سف الأمور ،ومن هنا ف�إن ال�صيام جاء ِّ �إىل اخلري ومقاومة نزوات النف�س؛ ولذا ف�إن تفريط امل�سلم يف �أداء هذه ال�شعرية �صار نق�ص يف رجولته ،وهذا هو تف�سري �أداء كثري من لدى العامة من امل�سلمني م�ؤ�شراً �إىل ٍ امل�سلمني لل�صيام مع تفريطهم يف ال�صالة ،مع �أن �أهميتها يف الإ�سالم �أعظم! ويذكر لنا ابن اجلوزي (ت 597هـ) �أن فى زمانه �صنفاً من النا�س لو ُ�ضرب بال�سياط على �أن يفطر رم�ضان ما �أفطره ،ولو �ضرب على �أن ي�صلي ما �صلى! وما ذلك �إال لأن يعدوا ال�صالة كذلك ،ويف قوله �سبحانه: عدوا الإفطار نق�صاً يف الرجولة ،ومل ُّ النا�س ُّ ( و�أن ت�صوموا خري لكم ) يف �أعقاب ذكر الرخ�صة للمري�ض وامل�سافر بالفطر �إمياءة للم�سلم ب�أنه من الأف�ضل له �أن ي�صوم مع املر�ض املح َتمل وال�سفر غري ال�شاق ،ليكون يف حتقيق �إرادته نوع من املكابدة واملعاناة يف �سبيل اهلل ،وحتى ال ي�صري بع�ض النا�س �إىل البحث عن الرخ�ص والتذرع بها للفرار من الواجبات. -2كيف كان ال�صيام عبادة �سلبية؟. �إن ال�صيام هو امتناع عن �أنواع املفطرات ،ومن ث ََّم ف�إنه بعيد عن الرياء ،وخرق تلك العبادة �أمر مي�سور يف ال�سر ملن �أراد ذلك ،ومن هنا ف�إن �صيام رم�ضان فر�صة لتنمية الوازع الداخلي لدى امل�سلم ،هذا الوازع الذي ُتعد تنميته حمور الرتبية الفردية الناجحة ،و من امللمو�س �أن تعاظم هذا الوازع ال يتم �إال من خالل الثقة به واالعتماد عليه يف �ش�ؤون عديدة ،فهو يف ذلك �أ�شبه �شيء بع�ضالت اجل�سم يف �أن منوها يف ا�ستخدامها وحتريكها واالعتماد عليها؛ ولذا ف�إننا نرى �ضعف الوازع الداخلي 80
� 29/04/2010 11:09:11
�� ������ ���.indd 80
في إشراقة آية
لدى �أولئك الذين ميار�سون الف�ضائل ،ويقومون بالواجبات من خالل ق�سر الأبوين �أو املجتمع ،فهم يفعلون ما يفعلونه نتيجة �ضغط خارجي ،ف�إذا ما �ضَ ُع َف ذلك ال�ضغط �أو تال�شى �أتوا من الرذائل والقبائح و�أنواع التحلل ما يتنا�سب طرداً مع حجم ال�ضغوط التي تعر�ضوا لها فيما م�ضى؛ وهذا يجعلنا ن�ساوق بني الرقابة االجتماعية وتنمية الوازع الداخلي من خالل الرتبية البيتية القومية. -3يف ال�صيام فوائد طبية واقت�صادية وا�ضحة: و ذلك لأنه يخ ِّل�ص اجل�سم من بع�ض ما تراكم فيه من الدهون ،ويريح املعدة من العمل ال�شاق الذي تقوم به على مدار ال�سنة مع فوائد طبية �أخرى معروفة.. ويف ال�صيام توفري �إجباري لنحو % 40من ا�ستهالك الأطعمة والأ�شربة الذي تعوده النا�س يف �أيام الفطر ،ويف هذا نوع من التعظيم للمالية الإ�سالمية ونوع من املحافظة على املوارد الغذائية للأمة امل�سلمة. -4من خريات رم�ضان �أنه �أ�ضحى ظرفاً لأداء �أنواع من القربات هلل: قد جتاوز �صيام هذا ال�شهر مفهوم التلب�س بعبادة من العبادات ،لي�صبح نوعاً من االمتثال ملفردات كثرية يف املنهج الرباين ،ففيه قيام الليل والإكثار من قراءة القر�آن واالعتكاف يف امل�ساجد ،ولزوم اجلماعات من ِق َبل كثري من امل�سلمني ،و�إخراج �صدقة الفطر ،واال�ستب�شار بعفو اهلل وكرمه مبا ُتظهِ ره الأمة من البهجة وال�سرور يف يوم عيدها ،فك�أن �شهر رم�ضان منا�سبة الزدحام العبادات والقربات يف حياة امل�سلم على نحو ال يتوافر يف �أي وقت �آخر. -5ميثل ال�صيام نوعاً من االت�صال والتوا�صل االجتماعي: تر�سم الظروف اليومية وامل�صالح والأو�ضاع االجتماعية ،والطموحات اخلا�صة 81
� 29/04/2010 11:09:11
�� ������ ���.indd 81
في إشراقة آية
جمموع ًة من الأطياف العازلة لكل �إن�سان عن غريه ،مما ي�ؤدي �إىل فقد االت�صال �أو �ضعفه ،وفقد االت�صال يف جمتمع ما من �أكرب املعوقات له عن النمو والتجان�س وال�صمود يف وجه الكوارث و�ألوان العدوان اخلارجي ،ومن ث ََّم ف�إن امتناع �أبناء املجتمع امل�سلم عن الطعام يف وقت واحد مهما كانت �أو�ضاعهم االجتماعية وتناولهم حمدد� ،إىل جانب ال�شعائر اجلماعية الأخرى التي تعودها امل�سلمون له يف وقت �آخر َّ يف هذا ال�شهر املبارك ـ من �أهم ما مينح ال�شعور بالتجان�س ،ومن �أهم ما ُيزيل احلواجز التي تو ِّلدها الظروف املختلفة. ال�صيام اليوم: وتوجهها وفق م�ضامينها ومعطياتها، �إن مهمة املبادئ العليا �أن تك َّيف حياة النا�س ِّ لكن تلك املباديء ال تعمل يف فراغ ،و�إمنا ت�شتبك مع �أمور عديدة ،من جملتها العادات املوروثة والظروف ال�ضاغطة والأهواء وال�شهوات اجلاحمة والت�أويالت والأفهام اخلاطئة للمنهج واملباديء ،وهذا كله ينتهي �إىل �ش�أن اجتماعي معي�ش يلخ�صه ميل النا�س ب�صورة دائمة �إىل جعل املنهج الرباين جزءاً من ثقافتهم ،وقد يكون جزءاً �صلباً ،وقد يكون جزءاً رخواً على مقدار �إقبال النا�س على الإ�سالم مع �أن املطلوب هو �أن جنعل املنهج موجهاً للثقافة ومهيمناً عليها .ومن هنا ف�إن �أخطر علل التدين هي تلك التي ت�صيب الأمة يف مكانة منهجها ومبادئها من ثقافتها العامة، فتكف املبادئ عن توجيه الفعل� ،أو تنحرف عن غاياتها ومقا�صدها ،فال حتقق الحِ َكم املق�صودة من ت�شريعها ،ويكون اجلهاد الدائم هو حماولة الإبقاء على املنهج الرباين �ساطعاً مت�ألقاً متميزاً عما تواط�أ عليه النا�س من عادات وتقاليد. ومازال بحمد اهلل يف جمتمعنا امل�سلم من يحر�ص على ال�صيام على الوجه الأكمل، 82
� 29/04/2010 11:09:11
�� ������ ���.indd 82
في إشراقة آية
لكن الأكرثية الكاثرة من هذه الأمة انحرفت بال�صيام عن وهم يف تزايد م�ستمرَّ ، مقا�صده التي ذكرنا �أهمها �آنفاً ،فعلى حني كان ال�سلف يعدون رم�ضان فر�صة �سانحة يغتنمونها يف �صنوف الطاعات ،جند كثرياً من امل�سلمني ي�سهرون الليل يف �ضروب خمتلفة من اللهو حتى �إذا اقرتب وقت ال�سحر تناولوا ما َّلذ وطاب من الأطعمة، ثم ناموا قبل �أداء �صالة الفجر ،و�إذا كان هذا النائم موظفاً ف�إن وقت بداية العمل يف رم�ضان يكون مت�أخراً ،فيقوم متثاق ًال �إىل عمله ليكمل نومه هناك! و�إن كان غري موظف ف�إن رم�ضان عنده هو �شهر النوم ،في�ستغرق يف نومه �إىل ما قبل املغرب ،فيف ِّوت عليه �أكرث من فري�ضة �صالة!! ومع هذا ف�إن ال�شعار املرفوع لدى كثري من املوظفني هو �أن رم�ضان �شهر عبادة ،ولي�س �شهر عمل (العبادة التي قدمنا �صورة منها! ). فحدث عن هذا وال حرج ،حيث �إن التجار �أما تهذيب النف�س من خالل اجلوع ِّ وتقدر بع�ض ي�شرعون يف الإعداد مل�ستلزمات رم�ضان قبل جميئه بنحو �شهرينِّ ، اجلهات �أن ما ي�ستهلكه كثري من امل�سلمني يف رم�ضان ي�صل �إىل ثالثة �أمثال ما ي�ستهلكونه يف غري رم�ضان! وقد �صار رم�ضان عبئاً ثقي ًال على احلكومات التي تو ِّفر ال�سلع املدعومة ملواطنيها! وقد كان ال�سلف يدعون اهلل ـ تعاىل ـ �ستة �أ�شهر �أن يب ِّلغهم رم�ضان ،ف�إذا ان�صرم دعوا اهلل �ستة �أ�شهر �أخرى �أن يتقبل منهم �أعمالهم فيه� ،أما اليوم ف�إن كل و�سائل الإعالم يف العامل الإ�سالمي ُت ْ�ش ِعر النا�س ب�أن رم�ضان �ضيف ثقيل ،فك�أنه �شر البد منه ،ومن ثم ف�إن كثرياً من الربامج ين�صرف �إىل الرتفيه عن النا�س مبا يجوز ومبا ال يجوز ،وانقلب ال�شهر املبارك بذلك �إىل مو�سم للهو واللعب! وما يحدث لكثري من امل�سلمني يف هذا ال�شهر �أمر مفهوم ،حيث �إن الأمة 83
� 29/04/2010 11:09:11
�� ������ ���.indd 83
في إشراقة آية
تكف مبادئها عن الفعل ،وت�سيطر عليها حني متر بحالة من الركود احل�ضاري ُّ ال�شكليات والعادات ،فجيو�شها ال تقاتل ،ومبدعوها ال ُيع َرفون والف�ضائل فيها �شعارات ،والعبادات عادات ..وت�ستمر يف ذلك حتى تندثر باعتبارها �أمة متميزة �أو يبعثها اهلل بعثاً جديداً ،يحيي ما اندر�س من �سابق عهدها؛ وما ذلك على اهلل بعزيز.
84
� 29/04/2010 11:09:11
�� ������ ���.indd 84
في إشراقة آية
ﮮ ﮯﮰﮱﯓﯔ
ق�ص اهلل علينا خرب مو�سى مع �شعيب -عليهما ال�سالم -حني جاء مدين، ّ ووجد ابنتني ل�شعيب قد منعتا غنمهما من الورود بانتظار ذهاب الرعاء وفراغ املكان، وما حدث من تطوع مو�سى بال�سقيا لهما ،وما كان من �أمر �شعيب حني بلغه ما قام به مو�سى حيث �أر�سل له يطلبه؛ ليجزيه على ذلك ،وذكر لنا القر�آن الكرمي كذلك ن�صيحة ابنة �شعيب لأبيها با�ستئجاره ،وع َّللت ذلك بقوة مو�سى و�أمانته ،ويذكر املف�سِّ رون �أن �شعيباً -عليه ال�سالم� -أثارت حفيظته الغرية من كالمها ،فقال :وما علمك بقوته و�أمانته ؟ فذكرت له �أن مو�سى حمل حجراً من فوق فوهة البئر ،ال يحمله يف العادة �إال النفر من النا�س ،وتلك قوته ،و�أنه حني ذهبت تكلمه �أطرق ت�صيب الريح ثياب َها ر�أ�سه ،ومل ينظر �إليها ،كما �أنه �أمر املر�أة �أن مت�شي وراءه ،حتى ال َ فت�صف ما ال حتل له ر�ؤيته ،وتلك �أمانته ،وقد �صدق حد�سها فهي ما ر�أت �إال نبياً َ من �أويل العزم امل�ؤمتنني على الوحي ،الأ�شداء الأقوياء! وقد قيل� :إن �أفر�س النا�س ثالثة :بنت �شعيب و�صاحب يو�سف حني قال ﱹﯚ ﯛ ﯜﱸ يو�سف ٢١:و�أبو بكر 85
� 29/04/2010 11:09:12
�� ������ ���.indd 85
في إشراقة آية
حني اختار عمر لإمارة امل�ؤمنني( ،)1وقد جمعت ابنة �شعيب يف تعليلها املخت�صر ذاك بني �أمرين عظيمني ،ين�ضوي حتتهما معظم الكماالت الإن�سانية ،وهما الأمانة والقوة، وهذه وقفات �سريعة معهما: -1لي�ست الأمانة هنا �إال رمزاً ملا ي�ستلزمه الإميان باهلل ـ تعاىل ـ من املحامد والكف عن املحرمات؛ كالإخال�ص والأمانة وال�صدق وال�صرب واملروءة ،و�أداء الفرائ�ض ِّ وقد قال �أكرث املف�سرين يف قوله �سبحانه :ﱹﯟ ﯠ ﯡ ﱸ الأحزاب� :72:إن املراد ()2 طر َفه، بها التكاليف ال�شرعية عامة ،وقد و�صفت ابنة �شعيب مو�سى بالأمانة لغ�ضِّ ه ْ وم�شيه �أما َمها. �أما القوة فهي رمز ملجموع الإمكانات املادية واملعنوية التي يتمتع بها الإن�سان. -2الأمانة والقوة لي�ستا �شيئني متوازيني دائماً ،فقد يتحدان ،وقد يتقاطعان فال�صرب جزء من الأمانة؛ لأنه قيمة من القيم ،وهو يف ذات الوقت قوة نف�سية �إرادية ،و�إذا كان العلم من جن�س القوة ،ف�إنه يو ِّلد نوعاً من الأمانة؛ �إذ �أهله �أوىل النا�س بخ�شية اهلل ،ﱹ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﱸ �سورة فاطر 28:والإميان � ُّ أجل القيم الإ�سالمية ،فهو من جن�س الأمانة ،ومع ذلك ف�إنه يو ِّلد لدى الفرد طاقة روحية هائلة جتعله ي�صمد �أمام ال�شدائد �صمود اجلبال ،ومن ثم كانت الظاهرة الإ�سالمية العاملية؛ ظاهرة (امل�سلم ال ينتحر)!� .إن هذا التالقي بني الأمانة والقوة ميثِّل بع�ض الأر�ضية امل�شرتكة لتالقي �أهل الأمانة و�أهل القوة، كما يجعل التحقق من �إحداهما امل ْع رَ َب للتحقق من الأخرى. -1الك�شاف .163 :3 -2انظر البحر املحيط .253 :7 86
� 29/04/2010 11:09:12
�� ������ ���.indd 86
في إشراقة آية
� -3سوف يظل النمط الذي يجمع بني القوة والأمانة نادراً يف بني الإن�سان، والقوي الذي ال ي�ؤمتن، وكلما اقرتبا من الكمال يف �شخ�ص �صار وجوده �أكرث ندرة، ُّ واملوثوق العاجز هم �أكرث النا�س ،والذين فيهم �شيء من القوة و�شيء من الأمانة كثريون ،وقد روي عن عمرـ ر�ضي اهلل عنه ـ �أنه قال� :أ�شكو �إىل اهلل َج َلد الفاجر وعجز الثقةٌّ ، فكل منهما ال ميثِّل امل�سلم املطلوب ،ودخل عمر �أي�ضاً على لفيف من ال�صحابة يف جمل�س لهم فوجدهم يتمنون �ضروباً من اخلري ،فقال� :أما �أنا ف�أمتنى �أن يكون يل ملء هذا البيت من �أمثال �سعيد بن عامر اجلمحي ،ف�أ�ستعني بهم على �أمور امل�سلمني!. -4العمل املقبول يف املعايري الإ�سالمية هو ما توفر فيه الإخال�ص وال�صواب، والإخال�ص �ضرب من الأمانة ،وال�صواب ـ وهو هنا موافقة ال�شريعة ـ �ضرب من القوة ،هذا ب�صورة عامة ،لكن يف �أحيان كثرية يكون ما ُي ْطلب من �أحدهما �أكرث مما يطلب من الآخر؛ فالثواب يتعلق بالإخال�ص �أكرث من تعلقه بال�صواب ،فاملجتهد امل�ؤهل ينال �أجراً �إذا ا�ستفرغ و�سعه و�إن كان اجتهاده خاطئاً ،لكن ال ثواب �ألبتة على عمل ال يراد به وجه اهلل ـ تعاىل ـ �أما النجاح والو�صول �إىل الأهداف املر�سومة يف الدنيا ف�إنه مرتبط بال�صواب �أكرث من ارتباطه بالإخال�ص ،فكم من م�ؤ�س�سة يديرها �أكفاء لي�س عندهم �شيء من الأمانة ،ثم حققت �أهدافها املادية كاملة وكم من م�ؤ�س�سة �أدارها �أخيار غري م�ؤهلني ،ف�أعلنت �إفال�سها! وقد ذكر ابن خلدون �أن للنا�س مذهبني يف ا�ستخدام الأكفاء غري الثقات وتقدميهم على الثقات غري الأكفاء ،واختار هو ا�ستخدام غري الثقات �إذا كانوا م�ؤ َّهلني؛ لأن يف الإمكان و�ضع بع�ض التدابري التي 87
� 29/04/2010 11:09:12
�� ������ ���.indd 87
في إشراقة آية
امل�ستخدم ال يح�سن �شيئاً فماذا نعمل به( )1؟. حتد من �سرقاتهم� ،أما �إذا كان َ وقد ولىَّ النبي × �أهل الكفاية احلربية من �أ�صحابه مع �أن فيهم من هم �أتقى منهم و�أورع؛ لأن القوة (الب�سالة وح�سن التخطيط) ُتطلب يف قيادة اجلي�ش �أكرث من الأمانة ،مع �أنهم كانوا بكل املقايي�س من الأمناء الأخيار ،وطلب بع�ض ال�صحابة ممن ُعرفوا بالزهادة والورع الوالي َة على بع�ض �أمور امل�سلمني ،فحجبها عنهم ل�ضعفهم. -5نحن يف مراجعة �أخطائنا ِّ نركز على جانب الأمانة ،ونهمل جانب القوة ،ف�إذا عمل ما قلنا :نحن بحاجة �إىل تقوى و�إخال�ص ،و�إن اتباع الأهواء هو ما �أخفقنا يف ٍ ال�سبب يف ذلك .وال ريب �أن الإخال�ص مفتاح القبول والتوفيق ،و�أن التقوى مما ي�ستنزل ال َف َرج ،لكن ما هي املعايري التي متكننا من قيا�س درجة التقوى ومقدار الإخال�ص املوجود �إذا ما �أردنا التحقق منه؟ وكيف ن�ستطيع التفريق بني عمل دفع �إليه الهوى و�آخر دفع �إليه االجتهاد ؟ كل ذلك مما ي�ستحيل قيا�سه ،وبالتايل ف�إنه ال ميكن حتديده ،وما ال ميكن حتديده ،ال ي�صلح لأن يكون هدفاً. �إن يف �إمكان النا�س �أن يقولوا �إىل ما �شاء اهلل :نحن �أتباع هوى دون �أن ت�ستطيع �أن ترد على �أحد منهم رداً �شافياً قاطعاً ،على حني �أن قيا�س القوة ممكن ،واخللل فيها يكون عادة ظاهراً ميكن و�ضع الإ�صبع عليه ،فحني ي�أتي خطيب ليتوىل �إدارة جي�ش� ،أو التخطيط ملعركة ،وحني يتوىل ر�سم �سيا�سات العمل ٌ رجل ال يعرف الواقع ،فال يقر�أ جريدة وال ي�ستمع �إىل ن�شرة �أخبار ،وال ُيح�سن قراءة �أي �شيء يحيط به ،ف�إن اخللل �شرحه النتائج! .وحني يت�صدى لالجتهاد ال يحتاج �إذ ذاك �إىل �شرح حيث تتوىل َ يف �أمور خطرية �أ�شخا�ص ال ميلكون احلد الأدنى من املعلومات حولها ،وترتتب على -1انظر مقدمة ابن خلدون .279 :2 88
� 29/04/2010 11:09:12
�� ������ ���.indd 88
في إشراقة آية
اجتهاداتهم فواجع �أكرب من �أي جرمية ماذا تكون احلال ؟! قد �آن الأوان لو�ضع الأمور يف ن�صابها ،بت�أهيل ال�شخ�ص قبل �إيجاد العمل الذي �سيعمل فيه ،بد ًال من �أن يتم �إيجاد املن�صب ثم ُيبحث عمن ي�سد الفراغ لي�س �أكرث! -6عاملنا الإ�سالمي منوذج مثايل للقوى الكامنة ،فكل ما عندنا (خام) :الإن�سان والطبيعة واملوارد ،ولعل هلل يف ذلك حكمة بالغة؛ �إذ �إن ت�شكيل الإن�سان امل�سلم لو مت قبل بزوغ ال�صحوة املباركة لكان �أكرث �ضرراً من بقائه على حاله ،هذه القوى الكامنة �ستظل ثغرات يف حياتنا ـ �أياً كان موقعها ـ يف ظل التكالب العاملي على ال�صعيد الثقايف واالقت�صادي ،وهذه القوى الكامنة حتتاج �إىل تفجري و�إىل �إخراج يف �شكل جديد مينحها وزنها احلقيقي ،و�إن �إخراج القوة هو مهمة الدولة �أو ًال؛ فهي امل�س�ؤولة عن تفجري الطاقات كافة وتوجيهها ،ومهمة �صفوة ال�صفوة من �صانعي املبادرات اخليرّ ة، الذين ميتد ب�صرهم دائماً �إىل م�ستوى �أعلى من امل�ستوى الذي تعي�ش فيه �أمتهم، فيوجِ دون با�ستمرار الأفكار والأطر والأجواء والآليات التي ُتف ِّعل القوى اخلامدة املجهولة للنا�س حتى حامليها ،واليهود هم من �أ�ساتذة العامل يف (�إخراج القوة) وتوظيفها وا�ستغاللها ،و�صحيح �أن ديننا يحول بيننا وبني و�سائل كثرية ا�ستخدموها حتى و�صلوا �إىل ما و�صلوا �إليه ،لكنني �أعتقد �أنه مازال يف هذا العامل مكان ف�سيح للم�سلم املب�صر الأريب ..وقد بد�أت الأمة يف امتالك القوة ،وبد�أ املارد الذي نام قروناً ي�صحو ،وهو الآن يتفقد �أع�ضاءه وحوا�سه ،ويحاول �أن يتعلم امل�شي يف (حارة) الكرة الأر�ضية ،لكن بع�ضاً منا بد�ؤوا يخبطون مينة ،وي�سرة قبل �أن يفتحوا عيونهم ،وقبل �أن يعقلوا الأجواء التي ي�صحون فيها؛ ليغروا العدو بتوجيه الر�صا�صة القاتلة قبل �أن يقفوا على �أقدامهم!. 89
� 29/04/2010 11:09:12
�� ������ ���.indd 89
في إشراقة آية
�إن فهم احلياة املعا�صرة �شرط �أ�سا�سي يجب توفريه عند كل �أولئك الذين يريدون توجيهها والت�أثري فيها ،ولن يكون ذلك ممكناً ما مل نكن نحن من امل�شاركني يف �صناعة قراراتها وخياراتها.. -7الأمانة قيد على القوة ،فهي التي حتدد جماالت ا�ستخدامها وكيفياته ،والقوة الآن يف يد الآخرين على ما نعرف ،والقيود الأخالقية عندهم �آخذة يف ال�ضعف يوماً بعد يوم؛ لأنها ال تعتمد على �إطار مرجعي �أعلى مينحها الثبات ،ومن ثم ف�إن القوة لي�ست يف طريقها �إىل االنطالق من �أي �ضابط �أو رقيب ،لكنها يف طريقها �إىل �صنع قيودها بنف�سها ِ ال�صناع َة التي ِمتك َّنها من مزيد من االنطالق ،وهي بذلك جتعل الآخرين يتوهمون �أنها قيود؛ حتى ال ي�شعر �أحد �أن هناك فراغاً �أخالقياً يجب مل�ؤه! وما النظام العاملي اجلديد �سوى الأحرف الأوىل يف �أبجديات القيود اجلديدة! وهذا يوجب علينا املزيد من التفكري والت�أمل فيما يجب عمله ،ونحن مع �ضعفنا قادرون يف هذا امل�ضمار على عمل الكثري الكثري �إذا فهمنا لغة الع�صر ،و�أح�سنا �إدارة ال�صراع؛ �إننا منلك القيود (الأمانة) ،وهم ميلكون القوة ،فهل ن�سعى �إىل امتالك القوة املق َّيدة حتى ي�صطلي العامل بالنار دون �أن يحرتق ؟؟
90
� 29/04/2010 11:09:12
�� ������ ���.indd 90
في إشراقة آية
ﯟﯠﯡﯢ �أنزل اهلل يف املنافقني �سورة ُ�سميت با�سمهم ،تف�ضح بع�ض مواقفهم ،و ُتخرب عن بع�ض �صفاتهم ،وكان من جملة ما نَ َع َت ُه ْم اهلل ـ تعاىل ـ به قوله :ﱹ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ
ﯳ ﯴﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻﱸ املنافقون.4: عجب بجمال �أج�سامهم ،ومن فقد و�صفهم اهلل -تعاىل -ب�أن الناظر �إليهم ُي َ ي�سمعهم ُي�ؤخذ بف�صاحة �أل�سنتهم ،لكنهم كالهياكل الفارغة� ،أ�شباح بال �أرواح، و�أج�سام بال �أحالم ...وهذه ال�صفات تتنا�سب مع حالة النفاق� ،إذ �إن ظاهر املنافق دائماً خري من باطنه ،فظاهره الإميان ،وباطنه الكفر ،وهو ذلق الل�سان ،لكنه يقول غري ما يعتقد؛ فهو كذاب ،وهو جميل ال�صورة ،لكنه عاطل من ال�صفات النبيلة كالإميان واملروءة والرجولة ،وكل ما ي ِّزين الباطن ،وقد روي عن ابن عبا�س -ر�ضي اهلل عنهما � -أنه قال» :كان عبد اهلل ابن �أُ ّبي (ر� ُأ�س النفاق) و�سيماً ج�سيما �صحيحاً 91
� 29/04/2010 11:09:12
�� ������ ���.indd 91
في إشراقة آية
�صبيحاً ذلق الل�سان ،ف�إذا قال �سمع النبي × مقالته«(.)1 القوي يف الت�أثري ،وانتزاع الإعجاب ع َّلم النبي × �أ�صحابه وملّا كان للظاهر �سلطانه ُّ �ضرورة جتاوزه �إىل املعاين الباطنة؛ لأنها هي الفي�صل احلقيقي يف تقييم الرجال؛ وقد ورد يف احلديث ال�صحيح� :أن رج ًال م َّر على النبي × فقال :ما تقولون يف هذا؟ حري �إن خطب �أن ُينكح ،و�إن �شفع ُي�شف َّع ،و�إن قال �أن ُي�ستمع ،ف�سكت ر�سول قالواٌّ : حري �إن اهلل × فمر رجل من فقراء امل�سلمني ،فقال :ما تقولون يف هذا؟ قالواٌّ : خطب �أال ُينكح ،و�إن �شفع �أال ُي�شفَّع ،و�إن قال �أال ي�ستمع ،فقال ر�سول اهلل ×: هذا خري من ملء الأر�ض َ فف�ضل النبي × الفقري على الغني ،وذلك مثل هذا(َّ )2 ال يلزم منه تف�ضيل كل فقري على كل غني� ،إمنا �أراد �أن يع ِّلمهم �أن التفا�ضل ال يقوم �أبداً �إال على املعاين الباطنية ،وما يتبعها من �أعمال ،وتطرح هذه الآية الكرمية م�س�ألة خطرية يف حياة الإن�سانية عامة وحياة امل�سلمني خا�صة ،هي ق�ضية العالقة بني ال�شكل وامل�ضمون� ،أو اجلوهر واملظهر(.)3 ونعني باجلوهر ابتدا ًء :جمموع اخل�صائ�ص ا ُخل ُل ِق َّية والنف�سية وال�صور الذهنية، واخلربات واملوازنات العميقة للفرد. �أما املظهر :ف�إنه جمموع ما يحمله الفرد من ال�صفات اجل�سمية ،وما ميتلكه من الأ�شياء ،وما َي ْ�شغَله من وظائف ،مما ال ُي َع ُّد على �صلة مبا�شرة بكينونته الذاتية. يف البداية لي�س اجلوهر واملظهر �شيئني منف�صلني انف�صا ًال تاماً ،بل بينهما عالقة -1تف�سري القرطبي .124 / 18 � -2أخرجه البخاري. -3نن�صح بالرجوع �إىل كتاب الإن�سان بني اجلوهر واملظهر ال�صادر �ضمن �سل�سلة عامل املعرفة يف الكويت وقد �أفدت منه هنا يف بع�ض ما كتبت. 92
� 29/04/2010 11:09:12
�� ������ ���.indd 92
في إشراقة آية
ت�أثر وت�أثري و�أخذ وعطاء ،وقد ورد ما يدل على هذا فقد كان النبي × مي�سح مناكب فتختلف قلوبكم«( .)1واملرء حني �أ�صحابه يف ال�صالة ،ويقول» :ا�ستووا ،وال تختلفوا َ ين�شرح �صدره يظهر ذلك على محُ ّياه ،ومن ثم قيل» :من كرثت �صالته بالليل �ضاء وجهه يف النهار« ،و�إذا كان بني الظاهر والباطن مثل هذا التجاذب والتالزم ف�إن من البدهي �أال يز ِّهد الإ�سالم النا�س يف ال�شكل؛ فال�صالة موقف روحي بحت، ومع ذلك حر�ص النبي × على انتظام ال�صفوف فيها ،والأمر قريب من ذلك يف �صفوف القتال ،وحث الإ�سالم على النظافة ،كما ام َّنت اهلل -تعاىل -علينا مبا ن�شعر به من الت�أنق عند غد ِّو الأنعام ورواحها ،حيث قال �سبحانه :ﱹ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﱸ النحل ،)2( 6 :وتلك م�س�ألة �شكلية .والأمثلة على هذا �أكرث من �أن تحُ �صى. �إذن ما هي امل�شكلة ؟ تكمن امل�شكلة يف اختالل التوازن بني اجلوهر واملظهر� ،أو بني امل�ضمون وال�شكل؛ فالب�شر متفقون على �أن اللباب هو الأ�صل ،و�أنه ينبغي �أن ُيعطى من االهتمام والعناية والبلورة َ الق�سط الأكرب لأن كل الإجنازات احلقيقية التي تتم على ال�سطح نابعة �أ�سا�ساً من �إجنازات متت على م�ستوى الكينونة واجلوهر ،وهذا يتنا�سب مع حقيقة ت�سخري الكون الذي حبا اهلل -تعاىل -به الإن�سان؛ كيما يظل حراً طليقاً ،يحكم وي�أمر دون �أن ُي َك َّبل ب�شيء �إال �شيئ َا ي�صنعه بيديه! وللمجتمع وما يقره من �أعراف �سلطانٌ كبري على النا�س ،وملا كان احلكم االجتماعي �-1أخرجه م�سلم وغريه. -2
ومثل هذا قوله �سبحانه :ﱹ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﱸ
93
� 29/04/2010 11:09:12
�� ������ ���.indd 93
في إشراقة آية
من�صباً على ال�شكل كان االنحدار نحو االهتمام بال�شكل هو الأمر الطبيعي املتبا َدر �إليه� ،أما العناية باجلوهر فيمكن �أن تنمو عن طريق الرتبية اخلا�صة يف الأ�سرة �أو املدر�سة ،لكن ذلك �سيظل �ضعيف الت�أثري ما مل يكن املجتمع كله خا�ضعاً ملبادئ عليا خارجة عن �إنتاجه ،ولن يكون م�صدر تلك املبادئ حينئذ الأر�ض ،و�إمنا ال�سماء! لكن حني يكون الدين عبارة عن بع�ض الر�ؤى الغيبية� ،أو الدغدغات العاطفية ـ كما هو ال�ش�أن عند بع�ض امللل ـ ف�إنه ال ي�صنع �شيئاً يف مواجهة التيارات االجتماعية العاتية؛ لأنه ال يعدو �آنذاك �أن يكون عن�صراً رخواً من عنا�صر الثقافة! و�إن الدين يوجه ،ويقاوم هو الذي ُنكر�س حياتنا من �أجله! الذي ِّ حني ي�ضعف الوازع الديني لدى امل�سلم ف�إن امليزان مييل مبا�شرة ل�صالح املظهر. ومبا �أننا نعي�ش يف ع�صر نت�أثر فيه �أكرث مما ن�ؤثِّر فقد �أ�ضيف �إىل �ضعف الوازع الديني عند �أكرث النا�س الوقوع حتت ت�أثري الفل�سفة الغربية يف جوانب احلياة املختلفة ،تلك الفل�سفة التي َّ �شكلت من الإنتاج غري املحدود واحلرية غري املحدودة وال�سعادة غري املتناهية ديناً جديداً ا�سمه التقدم! واقت�ضى ذلك توجهاً كلياً نحو الطبيعة ال�ستثمار كل �شيء فيها! ثم ا�ستهالكه ب�صورة ج�شعة مل ي�سبق لها مثيل نا�سني �أن موارد الطبيعة حمدودة ،و�أن الطبيعة �سوف ترد على ذلك ،بل �إنها بد�أت بالرد فع ًال! وعلى �صعيد الرمز فقد كان البطل امل�سيحي ي�ستوحي �شخ�صية ال�شهيد ،وهو عي�سى ـ عليه ال�سالم ـ حيث وهب حياته من �أجل غريه -حني ُ�صلب -كما يزعمون ـ ثم انقلبت الأمور ر�أ�ساً على عقب ،حيث �صار العامل الغربي ي�ستوحي �شخ�صية البطل الوثني ،كما يتج�سد يف �أبطال الإغريق والرومان ،ذلك البطل الذي يغزو، وينت�صر ،ويدمر ،وي�سرق ،وينهب ...و�شتان ما بني �شخ�صية ال�شهيد الذي يهب 94
� 29/04/2010 11:09:12
�� ������ ���.indd 94
في إشراقة آية
حياته من �أجل غريه ،وبني املقاتل الذي غايته ال�سيطرة على الآخرين وت�ضخيم احلياة ال�شخ�صية! وكانت النتيجة والدة جمتمعات تعاين من الوحدة ،والقلق ،واالكتئاب ،والنزوع التدمريي ،واخلوف من امل�ستقبل ،والأنانية ال�شخ�صية ،والتفكك الأ�سري... ت�أثرنا -نحن امل�سلمني -بهذا كله من حيث ندري ،وال ندري ،وتوجهت قوانا الفاعلة نحو اخلارج ،و�أهملنا اجلوهر ،وكانت حالتنا يف بع�ض النواحي �أ�سو�أ ممن ت�أثرنا بهم؛ لأن القوم �صاروا �إىل ال�شكل بعد �أن حققوا ذواتهم بطريقة ف َّعالة و�إن كان انحراف احل�ضارة يحمل يف النهاية بذرة موتها؛ �أما نحن فقد غادرنا اجلوهر لغمر �أنف�سنا بال�شكليات! والناظر يف �سرية النبي × واحلياة العامة ل�صحابته -ر�ضوان اهلل عليهم -يجد �أن ال�سيطرة كانت للكينونة الداخلية ،ولي�س ملا ميتلكه النا�س من �أ�شياء؛ لأن املحور الأ�سا�سي للحياة االجتماعية كان الإن�سان ،ولي�س الأ�شياء؛ �أما الآن فقد �صارت (امللكية) هي املحور ،ويتجلى ذلك وا�ضحاً يف �أمور عديدة منها: - 1تناق�صت الألفاظ امل�ستعملة يف الداللة على اجلوهر ،يف حني زاد تداول الألفاظ الدالة على الأ�شياء ،فحديث املجال�س مل يعد يتمحور حول البطوالت، والإجنازات ،واملواقف الكرمية ،وال�صفات احلميدة ،و�إمنا حول العقارات ،وال�سيارات، و�أ�سعار ال�سلع ،و�أثاث البيوت ،والأر�صدة املالية... - 2الرغبة يف مزيد من الإنتاج لتحقيق مزيد من اال�ستهالك جعلت اعتماد النا�س مكم ًال على الآلة يتزايد يوماً بعد يوم ،و�صار الإن�سان تر�ساً من ترو�سها ،و�صار دوره ِّ لدورها؛ ومن طبيعة هذا ال�ش�أن �أن يزيد اهتمامنا باملظاهر ،وي�شغلنا عن احلقائق. م�ستمدة مما ُيح�سن ويتقن ،و�صارت املعادلة - 3كانت قيمة وجود الإن�سان َّ 95
� 29/04/2010 11:09:12
�� ������ ���.indd 95
في إشراقة آية
اجلديدة :قيمة وجودي م�ستمدة من مقدار ما �أملك ،ومقدار ما � ُ أ�ستهلك! وهذا و َّلد اخلوف الدائم من ذهاب امللكية؛ لأن ذهابها ذهاب ملالكها؛ واقت�ضى ذلك مزيداً من ال�شح َ والأ َث َرة والتقاطع... ِّ - 4عالقتنا باملعرفة تبدلت؛ فقد كان حب العلم واكت�ساب املعرفة من �أجل الفقه يف الدين وتنمية ال�شخ�صية ومعرفة احلياة ...وكانت العملية التعليمية عبارة عن اندماج بني العلم وطالبه� ،أما الآن فقد �صارت عالقة طالب العلم مبا يطلب عالقة جتارية بحتة ،فهو يتعلم لينال ال�شهادة؛ وحفظه للمعلومات ظاهري ينتهي عند �إفراغها على الورق يف االمتحان! - 5ال�سمات الأ�سا�سية للإن�سان املهتم باجلوهر هي :اال�ستقاللية ،واحلرية، وح�ضور العقل النقدي ،واال�ستخدام املثمر للطاقة الإن�سانية ،والنمو ،والتدفق ،لكن العالقات االجتماعية ،وال�سيا�سية ،واالقت�صادية اجلديدة جعلت �أن�شطة الإن�سان ويحد من عبارة عن ان�شغال دائم مف�صول متاماً عن قواه الروحية ،بل يقف �ضدهاُّ ، فاعليتها يف كثري من الأحيان؛ مما �أدى �إىل االتكالية وال�س�أم والتذمر ،وجعل احلياة تفقد طعمها احلقيقي ب�شكل عام!. - 6كان من عواقب االجتاه �إىل ال�شكل والتغافل عن امل�ضمون ك ِرث ُة اللذائذ وانعدام ال�سعادة! واللذة �إ�شباع الرغبة على نحو ال يتطلب ن�شاطاً ،مثل لذة احل�صول على مزيد من الربح� ،أو هي :جتربة حلظة من حلظات الذروة يعقبها يف الغالب نوع من الك�آبة ،وال �سيما حني تكون غري م�شروعة ،حيث يبد�أ التقريع الداخلي. �أما ال�سعادة فهي� :شعور م�صاحب للن�شاط الإن�ساين؛ وهي �أقرب �إىل �أن تكون وهج لكينونة الإن�سان ،ون�شاطه حالة من الوجود املت�صل على ربوة رحبة؛ لأنها ٌ 96
� 29/04/2010 11:09:13
�� ������ ���.indd 96
في إشراقة آية
الداخلي ،وميكن القول� :إن ال�سعادة يف مقيا�سنا الإ�سالمي تتعاظم كلما ردم امل�سلم من الفجوة القائمة بني معتقداته و�سلوكياته ،حيث ير�ضى امل�سلم عن �أدائه ،وي�ست�شرف عاقبة املتقني. كل هذه التحوالت باجتاه ال�شكليات جعلت كثرياً من �أمة الإ�سالم قوة عددية لي�س غري؛ لأن الذي يفقد ال�صلة مبكوناته الأ�سا�سية البد �أن ي�صبح �شكلياً .فهل تعيد ال�صحوة املباركة الأمر �إىل ن�صابه ب�إعادة التوازن من جديد بني ال�شكل وامل�ضمون، واجلوهر واملظهر لن�ست�أنف ر�سالتنا احل�ضارية ؟ هذا ما نرجوه؛ وعلى اهلل ق�صد ال�سبيل.
97
� 29/04/2010 11:09:13
�� ������ ���.indd 97
�� ������ ���.indd 98
29/04/2010 11:09:13 �
في إشراقة آية
ﭝﭞ ﭟﭠﭡ
�أكرم اهلل � -سبحانه وتعاىل -اخللق ،ف�أر�سل لهم الر�سل ترتى حتى تظل �أعالم الهداية من�شورة ،وحتى ال يكون لأحد على اهلل حجة بعد �إر�سال الر�سل .وينق�سم �صدق ،وفريق ِّ يكذب ،وكانت حجة النا�س �إزاء كل ر�سالة يف العادة �إىل فريقني فريق ُي ِّ املكذبني اجلاحدين ما حكى اهلل عنهم :ﱹﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝﭞ ﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦ ﭨﭩ ﭪ
ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﱸ الزخرف.24 -23: وظاهر هذه الآية �أن الر�ؤ�ساء والوجهاء واملرتفني هم -يف الغالب -الذين قاوموا دعوات الر�سل؛ لأن �أية ر�سالة �ستحدث تغيرياً يف القيم ال�سائدة والأحوال املعي�شة، �سيم�س م�صاحلهم ومكا�سبهم ،ومن ث ََّم ف�إن موقفهم هو الت�أبي واملعاندة. وهذا التغيري ُّ ومبا �أن احلياة اجلمعية ال ميكن �أن ت�ستقيم ،وتنتظم من غري �ضوابط عرفية ت�ؤ ِّمن نوعاً من التعاون ،وتحَ ُ ول دون بغي اخللطاء بع�ضهم على بع�ض كان اجلواب دائماً� :أن ما تقوم عليه حياتهم االجتماعية هو ما َورِثوه عن �آبائهم و�أجدادهم من الأعراف 99
� 29/04/2010 11:09:13
�� ������ ���.indd 99
في إشراقة آية
والعادات والتقاليد ،وما حياتهم �إال ا�ستمرار حلياة �سلفهم الذين يفاخرون بهم، أ�صم عن ال�سلف ،لكنه ين�شئ من الفل�سفات واخللف ال يكتفي عادة بالتلقي ال ّ واملقوالت واخلرافات ما مينح ما ورثه -من تقاليد -القدا�س َة واالحرتام مما يجعلها حموراً للمنظومات العقدية والفكرية والرمزية والتاريخية! وهذا كله طبيعي؛ لأنه يف حالة اندرا�س معامل املنهج ت�صبح ال�سوابق التاريخية هي املنهج ،ومن ثم كان من مهمات امل�صلحني و�ضع ال�سوابق التاريخية يف �إطارها ال�صحيح. ماذا تعني الآبائية ؟ لي�س كل ما يرثه املرء عن �آبائه و�أجداده رديئاً -لأنه ال يوجد جيل خمت�ص بالرذائل -لكن الرديء هو �أن نفقد القدرة على احلكم على تلك املوروثات ،و ُنحلها يف ِّ تب�صر وال حمل القبول واالقتداء! و�إذا ت�أملنا ق�ضية التقاليد املوروثة وقبولها دون ُّ متييز وجدنا �أنها تعني �أموراً عديدة منها: �إن الإن�سان قادر على امتالك منهج ُي َ�س رِّي حياته من خالل خربته الرتاثيةدون مر�شد خارج عن حدود ذاته ،وهذا ما جنده وا�ضحاً يف جواب املترَ فني للر�سل حني قالوا لهم :ﱹ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﱸ الزخرف ،24:وكان اجلواب:ﱹ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﱸ الزخرف .24ويف هذا اجلواب القاطع اخلايل من �أي تدليل �أو برهان تو�صيف �آخر للآبائية ،هو �أن التقليد و�إن بنى حوله بع�ض الفل�سفات الت�سويغية �إال �أنه يظل مع الدليل والربهان على طريف نقي�ض ،فهو ظاهرة ال دليل لها �سوى وجودها فح�سب! ومما تعنيه الآبائية �أن الب�شر امتلكوا نا�صية احلقيقة كاملة فيما يتعلق ب�ش�ؤون حياتهم االجتماعية؛ وال�شعور بامتالك احلقيقة مع �أنه غري �صحيح �إال �أنه يدفع �إىل اجلمود؛ لأن حركة الفكر والعلم ال تن�شط 100
� 29/04/2010 11:09:13
�� ������ ���.indd 100
في إشراقة آية
�إال عند الإح�سا�س ب�أن هناك حقائق خافية �أو م�شكالت حتتاج �إىل ّ حل ،ومن هنا كانت متابعة الآباء والأجداد من غري ميزان عبارة عن حركة �إىل الوراء ت�صادم منطق التاريخ ،وجتعل �أ�صحابها متخلفني بكل ما حتمله هذه الكلمة من معنى! و�إذا كان املنهج احلق ي�سعى �إىل جتديد ذوات معتنقيه ونقدها وا�ستيعاب العظات والعرب من حياة الأولني ف�إن الآبائية تعني تعطيل تراكم اخلربة الب�شرية وتقوميها؛ لأن ذلك ُي ِخ ُّل باملكانة التي �أنزلوا �آباءهم فيها! ومتحجر، وتعني الآبائية �أي�ضاً �إحالة العادات والأخالق �إىل �إطار مرجعي ال منطقي ّ يحكم النا�س يف حاالت اجتماعهم ،ويتيح لهم االنطالق احلر يف خلواتهم� ،أي: ي�ؤ�سِّ �س احلياة على نوع من االزدواجية ،على حني �أن الدين يجعل الوازع الداخلي �أ�سا�ساً لالن�ضباط الفردي واجلماعي� .إن التقليد امل�ستمر يف كل �ش�ؤون احلياة يجعل تقليد الآباء فارغاً من م�ضامينه يف �أحيان كثرية ،ف�إذا كان الآباء يتقلدون ال�سيف - مث ًال -ملواجهة حيوان مفرت�س ،فما معنى حمل الأبناء له وهم يركبون الطائرة ؟! و�إن الآبائية بعد هذا �أو ذاك توجِ د نوعاً من االنحبا�س االجتماعي امل�صادم ل�س ّنة التغيري التي بثها اهلل -تعاىل -يف الكون ،ومن ث ََّم ف�إن االنغالق على مواريث بالية البد �أن يعقبه انفالت غري متزن يطيح ب�صالح املوروثات وطاحلها. امل�صلحون والآبائية: ال ن ُب ِعد النجعة �إذا قلنا� :إن الآبائية هي �أخطر م�شكلة واجهت الأنبياء -عليهم ال�صالة وال�سالم -وواجهت �أتباعهم من امل�صلحني على مدار التاريخ حيث متتلئ ال�ساحات االجتماعية برتكة الآباء وخم َّلفات الأجداد مما يجعلهم يحتاجون �إىل تزييف املوروثات �أو ًال ،ثم �إحالل املنهج الرباين حملها .و�إن َح َملة الهدى الرباين ي�صطدمون 101
� 29/04/2010 11:09:13
�� ������ ���.indd 101
في إشراقة آية
بالآبائيني �صداماً مبا�شراً حيث يرون �أن ما ب�أيديهم من الهدى يجعل الرتاث مملوكاً خا�ضعاً للمحاكمة على حني يرى الآبائيون �أن الرتاث هو مالكهم والقا�ضي يف حياتهم ال املتهم! لكن ال�س�ؤال الذي يطرح نف�سه هو هل ب�إمكان الب�شر الفرار من االرتهان للما�ضي بدون منهج منف�صل عن خربة الإن�سان� ،أي :ال زماين؟ الوا�ضح �أن ذلك �صعب؛ لأننا باعتبا ٍر ما جزء من املا�ضي ومكوناتنا الثقافية �أكرثها موروث، فنقده وجتاوزه مببادئ و�أدوات منه ع�سري جداً .ونحن حينئذ ن�شبه اجل َّراح الذي مهما كان ماهراً ف�إنه عاجز عن ا�ستئ�صال زائدته �أو مرارته بنف�سه! وعلى املهتمني ب�صالح الأمة الغيورين على م�ستقبلها �أن يخو�ضوا معركتني يف �آن واحد :معركة احلياة العامة وتنقيتها من الروا�سب وال�شوائب التي تو ِّلدها حركة الأيام ،ومعركة داخلية يف جمال احلياة الفكرية ،وما فيها من م�شكالت التجديد والتقليد واالجتهاد وغمو�ض حدود �سلطان العقل والنقل الخ.. �إن معامل املعركة الأوىل تتمحور حول (مفا�صل) التقاليد وال�سنن والتوزيع ال�صحيح لالهتمام مبفرادت التكاليف ال�شرعية ،وما يت�صل بها مما يحفظ كيان الأمة. وعلى هذا ال�صعيد نالحظ �أن امل�سلمني منت�شرون يف بقاع الأر�ض؛ ولذا ف�إنهم يعي�شون يف ظروف �شديدة االختالف ت�ؤدي �إىل تفاوت عظيم يف معرفتهم بالدين ،كما �أن الثقافات الأجنبية التي ت�أثروا بها خمتلفة �أي�ضاً ،وامل�ؤثرات املدر�سية واملناهجية التي تعر�ضوا لها متفاوتة ،وهذا كله يجعل �إمكانات �إقامة التوازن بني متطلبات الدين ومتطلبات الدنيا خمتلفة ،كما يجعل حترير اخلالف وترجيح ال�صواب خمتلفاً �أي�ضاً! وال نن�سى يف هذا ال�سياق الآثار الكثرية التي ترتكها توجهات احلكومات املختلفة يف �إبراز �أجزاء من الدين و�ضمور �أجزاء �أخرى بح�سب امل�صلحة! ون�ستطيع القول: 102
� 29/04/2010 11:09:13
�� ������ ���.indd 102
في إشراقة آية
�إنه كلما خمدت حركة الفقه يف دين اهلل ،زحفت العادات والتقاليد ،والبدع لتحل مكانه يف حياة النا�س ،ذلك لأن من �ش�أن الب�شر �أن يجعلوا الدين -الذي هو منهج املوجه رباين مطلق فوق الزمان واملكان -واحداً من عنا�صر ثقافتهم بدل �أن يكون ِّ لتلك الثقافة واحلاكم عليها ،وذلك مي�سور عليهم ،وال �سيما حني تكون هناك بع�ض املالب�سات بني العادات وحقائق الدين يف ُ الك ْن ِه �أو املظهر ،ويف زماننا �صار �إنكار النا�س لتعدد الزوجات يف كثري من بالد امل�سلمني �أعظم من �إنكارهم للزنا! كما �أن يف زماننا من ي�ستغرب من �إقبال ال�شباب على امل�ساجد ،لأن امل�ساجد خُ لقت ملن �أكل الدهر عليهم و�شرب ،على ما تعودوه يف عقود م�ضت .ويف زماننا ُت ْ�س َت ْن َك ُر الفاح�شة من البنات ُّ ويغ�ض النا�س الطرف عنها �إذا وقعت من الرجال ،وال �سيما ال�شباب! ويزداد الطني ب َّلة حني ُي�سهم يف هذا اخللل �أ�شخا�ص تثق بهم العامة ملا عندهم من العلم والتقوى ،والعامة ال تقوى على مناق�شة الأفكار ،وال التمييز بني الأدلة؛ مما يجعلهم تبعاً للأعلى �صوتاً والأكرث تابعاً .وهذا كله يجعل م�س�ألة حتجيم الآبائية �أكرث �صعوبة وتكلفة ،لكن ال خيار :ف�إما املنهج و�إما املنهج ،و�إال فكيف يكون خلود الر�سالة ،وكيف ت�ستمر �أنوار النبوة يف العاملني ؟ املعركة الثانية ال تبتعد يف منطلقاتها وعقابيلها عن املعركة الأوىل؛ �إذ �إنّ تقدي�س القدمي ملجرد �أنه قدمي هو الطاقة املحركة لأبطالهما ،لكن اخل�صوم يختلفون ،ف�إذا كان اخل�صوم يف معركة احلياة االجتماعية من العامة والدهماء و�أن�صاف املتنورين ،فهم يف الثانية ممن يحمل العلم ،ويح�سب نف�سه من امل�صلحني -وقد يكون كذلك -لكن ُب َنى ثقافت ِه العميقة ال تختلف كثرياً عما لدى العامة! هذه املعركة هي معركة االجتهاد والتقليد؛ واالجتهاد هو بذل اجلهد ملد �سلطان 103
� 29/04/2010 11:09:13
�� ������ ���.indd 103
في إشراقة آية
الن�صو�ص �إىل ِّ امل�ستجدة امل�شابهة يف علة احلكم حلاالت ورود كل احلوادث واحلاالت َّ يحجم من فاعلية الن�صو�ص، الن�ص وتطبيقاته لدى ال�سلف ،على حني �أن التقليد ِّ ويجعل جماالت االهتداء بها تت�ضاءل يوماً بعد يوم ،ذلك لأن �أية مرحلة �سابقة ال َت َّت ِ�سع يف تنظيماتها و�آلياتها ومعطياتها اجلزئية ملرحلة الحقة ،وهذا ما دعا ال�صحابة والتابعني من بعدهم �إىل االجتهاد ،وهو ما يدعونا �أي�ضاً �إليه ،لعل نقطة اخلالف تكم ُن الأ�سا�سية لي�ست يف جتويز االجتهاد والتقليد ل�شرائح حمددة من الأمة ،و�إمنا ُ يف نزع (�صفة دوام ال�صواب) عن املجتهد ،ومع �أن اجلميع ُي َ�ص ِّرحون ب�أن املجتهد ُيخطئ ،و ُي�صيب� ،إال �أننا جند يف املمار�سة العملية مواقف ال حت�صى ال ّ تدل �إال على اعتقاد �أ�صحابها الع�صمة يف بع�ض الأئمة واملجتهدين ،وذلك العتقادهم �أن �إحاطة �أولئك الأئمة بالأدلة َو ِح َّدة ذكائهم وفهمهم مع ما �أكرمهم اهلل به من التوفيق ،يجعل وقوع اخلط�أ منهم نادراً �أو معدوماً! وقد ر�أينا كثرياً من طالب العلم يلتزم الواحد منهم مذهباً واحداً يف كل دقائقه ،ويحاول الدفاع عن ذلك بكل ما �أوتي من قوة ،وهو يظن �أنه يخو�ض معرك ًة ِل ُن�صرة دين يوايل و ُيعادي يف ذلك ،ويخ�سر �إخوة يف اهلل ،وهو ّ جهل فا�ضح يف العملية االجتهادية املعقَّدة ،والتي تلتحم فيها اهلل! وهذا يدل على ٍ عنا�صر �أربعة ،هي جمال رحب ،لالختالف بني املجتهدين ،هذه العنا�صر هي: الإمكانات الذهنية التي �أكرمنا اهلل بها والن�صو�ص والأدلة املتعلقة بالق�ضية مو�ضع االجتهاد واخللفية الثقافية للمجتهد (وهي ما كان ُي ْ�س ّمى بالأهلية) بالإ�ضافة �إىل الواقعة نف�سها والظروف واخللفيات املحيطة بها .وتمَ َُّك ُن املجتهدين من كل ذلك حد بعيد ،وهذا كله ينفي عن املجتهد دوام ال�صواب يف ّ كل ما ينظر فيه. متفاوت �إىل ٍّ و�إن من املفيد �أن ننظر �إىل املجتهد بعيون �أبناء زمانه حيث �إنهم يف الغالب يكونون 104
� 29/04/2010 11:09:13
�� ������ ���.indd 104
في إشراقة آية
قد تخل�صوا من َو ْه ِم التقدي�س ب�سبب املعا�صرة واملعا�شرة ومعرفة اخلفايا والإمكانات لبع�ضهم بع�ضاً. �إننا �إذا مل نتمكن من التجديد الذاتي ف�سنع ِّر�ض �أنف�سنا �إىل غزو من اخلارج� ،أو انحبا�س داخلي يعقبه انفجار ال ينفع معه الرتقيع! و�إنِّ جتاو َزنا ملعطيات مراحل عديدة ٍ يف حياة املتقدمني ،لنلت�صق بالأدلة يف �إطا ٍر من مقا�صد ال�شريعة العامة �أمر حيوي للغاية؛ حتى ال نق َع �ضحي ًة للغرق يف مراحل االنحطاط والتدهور التي مرت بها هذه الأمة يف قرونها املت�أخرة؛ وعلى اهلل ق�صد ال�سبيل.
105
� 29/04/2010 11:09:13
�� ������ ���.indd 105
�� ������ ���.indd 106
29/04/2010 11:09:13 �
في إشراقة آية
ﮟﮠ ﮡ ﮢﮣﮤﮥ ﮦ ق�ص اهلل -تعاىل -علينا يف كتابه العزيز نب�أ لقاء مو�سى بالعبد ال�صالح اخل�ضر ّ عليهما ال�سالم ،وما جرى بينهما من �إخبار اخل�ضر ملو�سى بعدم �صربه على ما �سرياه من �أعماله ،وتع ُّهد مو�سى بال�سمع والطاعة وعدم العجلة حتى يكون اخل�ضر هو الذي يخربه بكنه ما يراه وعواقبه ،كما ت�ضمنت الق�صة عدم متكن مو�سى -عليه ال�سالم- من ال�صرب الذي التزم مبكابدته ،ويف ثنايا هذه الواقعة ِع رَ ٌب ودرو�س عديدة جنلوها يف النقاط التالية: � -1أراد اهلل -تعاىل� -أن ُيع ِّلم مو�سى وجوب تفوي�ض ما ال يعلمه �إليه؛ فقد ورد يف ال�صحيح �أن رج ًال �س�أل مو�سى على ملأٍ من بني �إ�سرائيل :هل تعلم �أحداً �أعلم منك؟ قال :ال .ف�أوحى اهلل �إليه :بل عبدنا خ�ضر �أعلم منك( .)1ويف هذا �إر�شاد لأويل فنبي اهلل مو�سى كان ر�سو ًال من �أويل النهي �أن يقفوا املوقف املنهجي مما ال يعرفونه؛ ُّ العزم ،وهو كليم اهلل ومب ِّلغ ر�سالته ،ومع هذا بينَّ اهلل له وجوب تفوي�ض ما ال يعلمه � -1أخرجه البخاري يف �أحاديث الأنبياء. 107
� 29/04/2010 11:09:13
�� ������ ���.indd 107
في إشراقة آية
خ�ص اهلل به من �شاء من عباده، �إليه؛ فهو مل يجتمع بكل الب�شر ،ومل يعرف مقادير ما َّ ويف هذا الزمان ت�شعبت العلوم ،وتفرعت حتى �صار من الع�سري على الواحد منا �أن يحيط بفرع من فروع املعرفة ف�ض ًال �أن يحيط بها جميعاً .و�أمانة العلم تقت�ضي الرتيث بالفتوى والتحرز من التطاول على ما ال ُن ِ ح�سن حتى ،ال جتتاحنا الفو�ضى العلمية.. -2يف هذه الرحلة املباركة وقف مو�سى موقف املتعلم ،ووقف اخل�ضر يف موقف الأ�ستاذ ،مع �أنه ال خالف يف �أن مو�سى �أف�ضل من اخل�ضر ،وهذا يدل على �أن الأف�ضلية العامة ال تقت�ضي التفوق يف العلم ،وهذا يحثنا على �أن نرجع �إيل �أهل االخت�صا�ص يف اخت�صا�صاتهم ،و�أال نرهق �أهل الف�ضل بال�س�ؤال عما ال يعرفونه ،وال يح�سنونه في�سقطون من �أعيننا لعدم معرفتهم� ،أو ي�سقطون و ُي�سقطوننا معهم �إذا ما هم قالوا بغري علم! ورحم اهلل الإمام مالكاً حني كان يقول� ( :إن من �شيوخي من �أطلب منه الدعاء ،وال �أقبل روايته ). -3التزم مو�سى -عليه ال�سالم -يف البداية بال�صرب على ما يراه وعدم الع�صيان حني قال :ﱹ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﱸ الكهف .69 وهذا االلتزام كان بناء على ما يعرفه من نف�سه من احلر�ص على طلب العلم ،ومعرفة اخلري ،وكان ت�أكيد اخل�ضر له �أنه لن ي�صرب معه على ما يراه ملا يعرف عنه من احلر�ص وااللتزام مبا �شرع اهلل من حرمة الأنف�س والأموال ،وكانت النتيجة �إنكار مو�سى على اخل�ضر ،كما توقع اخل�ضر .وموقف مو�سى كان على النهج العام الذي ينبغي على امل�سلم اتباعه ،وهو �إنكار ما خالف ال�شرع ،وعدم ال�سكوت عليه ما دام ذلك ممكناً،
108
� 29/04/2010 11:09:13
�� ������ ���.indd 108
في إشراقة آية
وال يعكر �صفو هذا خ�صو�صية املوقف واحلادثة(.)1 وقد �أنكر مو�سى على اخل�ضر مع علمه بقدره وعلمه ،لأن املنهج فوق الأ�شخا�ص �أياً كانوا .وقد ابتليت هذه الأمة يف تاريخها املديد ب�أقوام �أ�صيبوا بداء تقدي�س الأ�شخا�ص و�إقامة الرباهني على خريية ما يفعلونه وت�سويغ ما يرتكبونه من مناكر وخمالفات قطعية التحرمي ملا يعتقدونه فيهم من ال�صالح! .و�أدى ذلك �إىل غب�ش عظيم يف الر�ؤية ،وقد ُّ حطوا من قدر املنهج املع�صوم على قدر ما رفعوا من �ش�أن من ِّ يعظمون! وما زال ذلك م�ستمراً �إىل يوم النا�س هذا؛ واهلل امل�ستعان. -4كان اخل�ضر موقناً بعدم �صرب مو�سى على ما يراه منه ،وع َّلل لذلك بقوله: ﱹﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﱸ الكهف .68وهذا ي�شري �إىل ظاهرة ثابتة يف حياة الب�شر ،هي عدم ال�صرب على ر�ؤية �أحداث و�أعمال تخالف ما ا�ستقر عندهم من �أعراف ومعايري� ،أو على بذل جهود ال يرون لها نتائج تن�سجم معها ،وقد وقف ال�صحابة -ر�ضوان اهلل عليهم -موقفاً م�شهوراً من �شروط �صلح احلديبية التي كانت يف ظاهرها خمالفة مل�صالح امل�سلمني ،ولوال �أن الذي ارت�ضى تلك ال�شروط هوالنبي × امل�ؤ َّيد بالوحي لكان لهم �ش�أن �آخر .لكن اهلل -تعاىل - جعل فيها من اخلري والربكة ما حمل �أكرث املف�سرين على القول� :إن املراد بالفتح يف قوله � -سبحانه :-ﱹ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﱸ الفتح 1:هو �صلح احلديبية ( .)2و�سبب ذلك املوقف �أن ال�صحابة ما كانوا قادرين على �إب�صار م�آالت تلك املعاهدة ونهاياتها ،واليوم جند رغبة جاحمة لدى كثري من الدعاة والعاملني يف حرق لق�ص اهلل علينا من �أمرهما. -1ورد يف البخاري �أن النبي - × -قال :يرحم اهلل مو�سى لو كان �صرب ّ -2انظر فتح القدير. 109
� 29/04/2010 11:09:13
�� ������ ���.indd 109
في إشراقة آية
املراحل والقفز فوق احلواجز بدافع من ال�صدق والإخال�ص ،وال�سبب يف ذلك �أنهم ما �أحاطوا خُ رْباً بجوانب العملية التغيريية الكربى التي يت�صدون للقيام بها ،وجند ذلك ب�شكل وا�ضح لدى ال�شباب الذين يغلي يف دمائهم حب هذا الدين والغرية على هذه الأمة ،و�سبب اال�ستعجال عند ال�شباب يعود -يف �أكرث الأمر � -إىل �أن كثرياً من قادة الدعوات يوهمون ال�شباب ب�أن التمكني يف الأر�ض وب�سط �سلطان الدين هو قاب قو�سني �أو �أدنى ،وذلك رغبة يف ك�سبهم و�إغرائهم بالعمل الدعوي ،حتى �إذا مرت ال�سنني تلو ال�سنني �أدرك �أولئك ال�شباب �أن الطريق �أطول بكثري مما قيل لهم، في�ؤدي ذلك -عند �أية هزة � -إىل الإحباط واالنزواء وال�سلبية �أو �إىل ت�سفيه القيادات واتهامها بالق�صور وجتاوز املرحلة لها ،ثم االندفاع خلف قيادات �شابة تفتقر يف �أكرث الأوقات �إىل احلكمة واخلربة والعلم ،والنتيجة يف هذه احلالة معروفة! و�سبب ذلك �أن ال�شيوخ ما َّب�صروا ال�شباب بطبيعة طريق الدعوة وتكاليفه وم�شا ِّقه ،مع �أن الن�صو�ص، الواردة يف ذلك كثرية جداً. �أما اجلوانب التي مل نحط بها خُ رْباً فهي عديدة ،نذكر منها ما يلي: �أ -املنهج الرباين الذي نحمله ،منهج م�شتمل على �أجزاء �صلبة را�سخة ال يجوز غ�ض الطرف عن �شيء منها ،وذلك كي ت�ؤدي وظائفها يف الهداية �أن تتطور �أو ُي َّ والإ�صالح ،وفيه �أجزاء مرنة تقبل �شيئاً من املوازنة لتحقيق خري اخلريين ودفع �شر ال�شرين؛ وكل �أجزاء املنهج خري ،ومطلوب التحقق بها؛ لكن الظرف هو الذي يعطي ترجح الأولوية لبع�ضها على بع�ض؛ ف�أعمال اخلري كثرية جداً لكن احلال املعي�شة ِّ �شيئاً على �شيء ،ف�إذا كانت يف امل�سلمني جماعة كان جمال �إطعام الطعام �أوىل بالبذل من جمال التنفل باحلج والعمرة ،و�إذا اجتاح العد ُّو بال َد امل�سلمني كان جتهيز املقاتلني 110
� 29/04/2010 11:09:14
�� ������ ���.indd 110
في إشراقة آية
�أوىل من بناء م�سجد �أو ت�أثيث مكتبة عامة وهكذا ..و�إذا كان املري�ض الذي نعاجله ي�شكو من �أمرا�ض عديدة وجب �أن نبد�أ بالأخطر منها ،كالنزيف مث ًال. ب -ومما مل نحط به خُ رْباً على الوجه املطلوب الواقع الذي نتحرك فيه ،وهو واقع م ِف َعم بامل�ؤثرات املختلفة حيث �صار من غري املمكن معاجلة �أية ق�ضية من ق�ضايانا الكربى على �أنها �ش�أن حملي خا�ص ،فو�سائل االت�صال العجيبة املتاحة ،وت�شابك امل�صالح وتداخلها ،ونفوذ الثقافة العاملية ،كل �أولئك يجعل ما نظنه داخلياً خا�ضعاً العتبارات دولية و�إقليمية �إيل جانب االعتبارات املحلية .وفهم تلك االعتبارات ما عاد ممكناً عن طريق الت�أمل وا َحل ْد�س ،و�إمنا عن طريق الدرا�سات املتقَنة وال�صالت والعالقات واملعاي�شات الداخلية ..وفهم طريقة التفكري ل�صانعي اخليارات والقرارات. ج -مما مل نحط به خُ رْباً الإن�سان مو�ضع الدعوة ،وهذا الإن�سان �صار يخ�ضع ملزيج كبري من امل�ؤثرات الثقافية املت�ضادة -يف كثري من الأحيان -مما يجعل تفكريه خمتلفاً عن تفكريه يف القرن املا�ضي ،ومفاتيح اهتمامه �أي�ضاً تبدلت ،والطريق �إىل حفز م�شاعره �صارت �أكرث التواء ،ومل ي�صاحب ذلك التعقيد ما يحتاجه من الفهم العميق القائم على معرفة النف�س الب�شرية وال�سنن الإلهية التي حتكمها .و�آية ذلك جمود خطاب كثريين منا دون �أدنى حت�سني �أو حتوير. د -مما مل نحط به خُ رْباً �سنن اهلل -تعاىل -يف تغري املجتمعات ،ذلك التغري الذي ال يتوقف �أبداً ،لكنه ال يخرج عن الأحكام والأنظمة الإلهية التي ت�سريه ،وهو تغري �أ�سا�سه احلركة البطيئة التي �إن ت�سارعت مل ت�صل �أبداً �إىل حد الطفرة املنا ِق�ضة للفطرة .ومبا �أن عمر الإن�سان ق�صري فهو مت�شوق �أبداً �إىل معرفة نتائج �أعماله وجمهوداته قبل �أن يرحل عن هذه الدنيا ،لكن �سنن اهلل -تعاىل -ال تخ�ضع للرغبات والأهواء، 111
� 29/04/2010 11:09:14
�� ������ ���.indd 111
في إشراقة آية
ومن ثم ف�إن اهلل -تعاىل -قال لنبيه :ﱹ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ
ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﱸ الرعد ،46و�إذا كان الوقوف على مفاتيح �شخ�صية الفرد �صار معقداً ،ف�إن الوقوف على مفاتيح �شخ�صية املجتمع �أكرث تعقيداً؛ لأن �أبناءه ينتمون �إىل �شرائح متعددة ،وكل �شريحة منها تخ�ضع مل�ؤثرات مغايرة ،وهذا يجعل التعامل معه غاية يف التعقيد! �إن احلل الوحيد حلاالت اال�ستعجال على قطف الثمار قبل ن�ضجها هو الإحاطة املب�صرة بكل جوانب التغيري املن�شود و�آلياته ،و�إال ف�إن كثرياً من اجلهود �سيكون جهاداً يف غري عدو ،بل �سيكون �أخطر على الدعوة من �أعدائها! �إن فقه التحرك باملنهج �أ�شق من فقه املنهج نف�سه؛ لأنه يقوم على ركائز عائمة ،وتراكم اخلربة فيه �ضعيف لتنوع �أحواله وكرثة خ�صو�صياته.
112
� 29/04/2010 11:09:14
�� ������ ���.indd 112
في إشراقة آية
ﮄﮅﮆﮇ ﮈﮉ ﮊﮋﮌ يقول اهلل �-سبحانه وتعاىل :-ﱹ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ
ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﱸ البقرة ،249 ُت�س ِّلط الآية الكرمية ال�ضوء على ق�ضية مهمة يف حياتنا ،هي ق�ضية (الكم والكيف)، وعلى العالقة اجلدلية بينهما؛ فحني خرج طالوت حلرب جالوت خرجت معه الألوف امل�ؤلفة من اجلند (كم) ف�أراد �أن يعرف نوعية الرجال الذين �سيقاتل بهم فابتالهم بال�شرب من النهر ،ف�شرب منه ال�سواد الأعظم منهم ،ومل ينجح يف ذلك االمتحان �سوى ما يزيد قلي ًال على ثالثمائة رجل -كعدة �أ�صحاب بدر -وكان موقف هذه القلة القليلة من جي�ش جالوت املوقف الذي يتنا�سب مع كيفهم ،فقالوا :ﱹ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﱸ هذه الفئة القليلة هي الغالبة ملا نالت من ت�أييد اهلل ون�صره؛ ب�سبب ا�ستحواذها على �شروط الن�صر. ويف ختم الآية :ﱹﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﱸ �إ�شارة �إىل �أن هذه الفئة كانت 113
� 29/04/2010 11:09:14
�� ������ ���.indd 113
في إشراقة آية
تتحلى -يف جملة ما تتحلى به -بال�صرب ال�ضروري ملجالدة العدو� ،إن للكيف �ش�أناً و�أي �ش�أن يف �أوقات الأزمات عامة وم�صارعة الأعداء خا�صة؛ حتى �إن الرجل ليغالب الع�شرة من الرجالﱹ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﱸ الأنفال .65وهذه الدنيا دار ابتالء ،ومن ثم ف�إن بني الب�شر حماطون بكل ما من �ش�أنه �أن يكون ابتال ًء لهم :الزمان واملكان والأ�شياء والأفكار والأعرا�ض؛ و �إن كل �شي نرتكه غف ًال على (كم) يتحدى ،وي�ضايق ،وقد ي�شوه ،ويقتل!! ومن ثم ف�إننا منتلك حالته الفطرية هو ٌّ من القدرة واحلرية على مقدار ما نك ِّيفه من تلك الفطريات ،ونحن بني الب�شر حمدودو الكم ال بد �أن يكون على الطاقات والإمكانات والأعمار ،...ومن ثم ف�إن تو�سعنا يف ِّ ح�ساب الكيف ،كما �أن التو�سع يف الكيف ال بد �أن يكون على ح�ساب التو�سع يف الكم ،وهذا يوجب علينا �أن نتعلم كيف نركز على الكم ،وكيف ِّ نركز على الكيف، ومتى يكون هذا ،ومتى يكون ذاك ؟ و�إال فرمبا ذهب كثري من جهدنا هبا ًء! وعلى �سبيل املثال ف�إن الظواهر االجتماعية تتكون على �سبيل التدرج ،و�إذا ما ا�ستقرت، و�صارت عرفاً �ضغطت على النا�س �ضغطاً �شديداً ،وهي ال تعتمد يف �سريورتها على الكيف ،لكن على الكم ،ومن ثم ف�إن القول ال�سائر يف �صددها يكون با�ستمرار: النا�س يعيبون هذا ،والنا�س يحبون هذا ،بقطع النظر عن نوعية القائلني ،ومن هنا جاء احلديث ال�شريف ( :من كثرَّ �سواد قوم فهو منهم )( )1حيث �إن تكثري ال�سواد يف بع�ض املواقف ،كامل�ؤمترات والتظاهرات -مث ًال -يكون هو الهدف مهما كان الق�صد! وهذا يعني �أن جهداً كبرياً ينبغي �أن ُيبذل يف اجتاه جعل الدين ثقافة عامة للنا�س ي�ؤ�صلون �أعرافهم عليها؛ فال ي�صبح املعروف منكراً وال املنكر معروفاً ..وعلى �صعيد الكيف -1من حديث البن م�سعود يرفعه انظر فتح الباري .37/13 114
� 29/04/2010 11:09:14
�� ������ ���.indd 114
في إشراقة آية
ف�إن باحثاً واحداً يعد مرجعاً يف فرع من فروع املعرفة �أجدى على التقدم العلمي من الوظائف الإدارية والقيادية العليا ،ف�إن موهوباً ُ �ألوف امللقنني املدر�سيني .ونح ٌو من هذا واحداً م�ؤ َّه ًال �أنفع من مئات الأ�شخا�ص (اخلام) الذين يحتاجون �إىل من ي�ص ِّرف �أمورهم ..ويف ق�ضايا الفكر والر�أي وااللتزام قد ننظر للكم تارة ،وقد ننظر للكيف تارة �أخرى؛ ف�إذا كان احلق الذي نتبعه قطعياً � -أي لي�س مناطاً لالجتهاد -ف�إن الكم مهدور حينئذ ،وهذا معنى قول ابن م�سعود ـ ر�ضي اهلل عنه :-اجلماعة �أن تكون على احلق ،ولو كنت وحدك .وحني يكون احلق اجتهادياً ف�إن الكم حينئذ معترب ،ومن هنا ن�ش�أت �أهمية كلمة (جمهور) عند الفقهاء وغريهم. نق�ص يف (الكم) على �أي �صعيد من ال�صعد ،لكنها �إن �أمتنا اليوم ال تعاين من ٍ تعاين من نق�ص �شديد يف (الكيف)؛ فنحن اليوم �أكرث من خم�س العامل ،و�أرا�ضينا وا�سعة �شا�سعة وخرياتنا كثرية وفرية ،لكننا �إىل جانب هذا يف حالة معي�شية م�أ�ساوية على �أكرث الأ�صعدة ،ف�أكرث بلدان العامل الإ�سالمي م�ص َّنفة مع البلدان الفقرية، وكثري من �شعوبنا يعي�ش حتت م�ستوى الفقر! و�أعلى ن�سبة للأمية موجودة عندنا! �أما الوزن الدويل فنحن جميعاً على الهام�ش موزعون ما بني �شرق �أو�سط و�أق�صى و�أدنى� ،أي �أننا ُن�ص َّنف با�ستمرار تبعاً ملوقعنا من املركز! ومع �أن الوحدة ظلت املحور الذي يجذب م�شاعرنا و�أدبياتنا� ،إال �أن حالتنا الراهنة تتجه با�ستمرار �إىل مزيد من التمزق والتفكك ،هذا مع �أن العامل من حولنا ي�سري �إىل التوحد واالندماج! �أما حقوقنا وكرامتنا و�أرا�ضينا ،فو�ضعنا وو�ضع العامل منها يلخِّ �صه املثل العربي القدمي: (�أو�سعتهم �سباً و�أودوا بالإبل)! ،وال �أريد �أن �أمتادى يف (النب�ش) وتتبع املواجع حتى ال نقع فري�سة الي�أ�س القاتل لكن ما �أريد �أن �أقوله هو �أن و�ضعنا احلايل قد جاءت به 115
� 29/04/2010 11:09:14
�� ������ ���.indd 115
في إشراقة آية
النذارة يف ن�صو�ص كثرية منها :حديث ( )1الق�صعة املعروف ،والذي و�صف حالة الأمة بالغثائية ،والت�ضا�ؤل على امل�ستوى الظاهري( :غثاء كغثاء ال�سيل) ،وعلى م�ستوى امل�ضمون (الوهن)( :حب الدنيا وكراهية املوت) ،وللغثاء �سمتان �أ�سا�سيتان: خفة الوزن وعدم الرتابط ،ويرتتب عليهما نتيج ٌة خميفة ،هي فقد االجتاه احلر ،فالغثاء ي�ساق دائماً �إىل حيث يريد ،و�إىل حيث ال يريد؛ ويف موازين عديدة ُي َع ُّد فقد االجتاه فقداً للوجود ذاته! وهذا كله يعني �أن �أحوالنا الثقافية وال�سلوكية واالقت�صادية �إذا ظ َّلت على ما هي عليه فلن تفرز �إال التبعية للآخرين ،والتي �ستفرز من جهتها با�ستمرار �صراعات يف ُبنانا العميقة ت�ؤكد الغثائية وت�ؤِّ�صلها! كيف نح ِّول الكم �إىل كيف ؟ نحن يف حركتنا اليومية نقوم با�ستمرار بتحويل (الكم) �إىل (كيف) فال م�شكلة يف املمار�سة العملية ،لكن الإ�شكال يكمن يف فقد التوازن بني الكم والكيف، �أو بعبارة �أخرى يف الكم الهائل الذي مل ن�ستطيع تكييفه؛ مما يح ِّوله �إىل عبء ثقيل وعقبة ك�أداء يف طريق جناحنا؛ فالأمي واجلائع واملري�ض واملنحرف والفو�ضوي ي�شدون الأمة بعنف نحو الوراء ،ويقفون يف وجهها ،وهي والك�سول ،كل �أولئك ُّ تخطو نحو اخلال�ص من الغثائية ،ولي�س هذا فح�سب بل �إن هذه الهالميات ت�ستطيع �أن تت�أبى على �أي قالب ت�شكيل ت�صادفه ،مما يجعلها دائماً نقاط �ضعف يف ج�سم الأمة ونقاط ارتكاز ور�ؤو�س ج�سور للمرتب�صني بها الدوائر! ويكون ال�س�ؤال حينئذ: كيف نحد من ن�سبة ه�ؤالء لتكون قريبة من الطبيعية ؟ �إن هناك كالماً كثرياً ميكن �أن نقوله يف هذا ال�ش�أن ،لكنني �أود �أن �أ�شري �إ�شارة عابرة �إىل حماور �أربعة� ،أح�سبها �-1أخرجه �أحمد و�أبو داود. 116
� 29/04/2010 11:09:14
�� ������ ���.indd 116
في إشراقة آية
منطلقات مهمة يف هذه ال�سبيل: � -1أن ن�شيع يف الأمة روح التوحد على الأ�صول واحلق القطعي ،وذلك ي�ستلزم جهوداً دائمة يف بلورة ذلك؛ و�أن ن�شيع �إىل جانب ذلك روح التعاذر يف الفروع واحلق االجتهادي ،ون�ضرب للنا�س الأمثلة العملية التي تنري لهم ال�سبيل ،و�أن ُنبقي يف احلالتني هام�شاً للتوا�صل والتب�شري والإنذار. � -2أن نو�سِّ ع يف تربيتنا وحياتنا اليومية من مفاهيم العبادة لت�شمل جماالت النفع العام ،كالأخذ بيد �أولئك الذين قعدت بهم ظروفهم و�إمكاناتهم عن �أن يعي�شوا حياة كرمية طبيعية( ،ال�ساعي على الأرملة وامل�سكني كاملجاهد يف �سبيل اهلل �أو القائم الليل ال�صائم النهار)( )1وذلك بغية التخفيف من املعاناة التي يكابدها كثريون من �أفراد الأمة. -3رعاية النابهني و�إعطا�ؤهم ما ي�ستحقونه من االهتمام واملتابعة والبذل، والنابهون هم �أولئك الذين �آتاهم اهلل � -سبحانه -من املكنة ما جعلهم حماور يدور يف فلكهم الآخرون ،والنابه قد يكون طالباً عبقرياً ،وقد يكون وجيهاً ي�أمتر ب�أمره كثريون، وقد يكون واحداً من ذوي ر�ؤو�س الأموال الطائلة ،وقد يكون ويكون ،...وهذا من باب �إنزال النا�س منازلهم. � -4إقامة امل�ؤ�س�سات الكربى على خمتلف ال�صعد ،وتلك امل�ؤ�س�سات ت�ؤ�صل فينا روح الفريق ،كما توفر الأطر الإدارية والفنية والعملية لأولئك الذين ميلكون روح الإخال�ص والعطاء� .إن امل�ؤ�س�سات متثل مهمة املحرك لل�سفينة تارة ومهمة املرا�سي تارة �أخرى� ،أي :ت�ؤ ِّمن حركة را�شدة متزنة. �-1أخرجه ال�شيخان وغريهما. 117
� 29/04/2010 11:09:14
�� ������ ���.indd 117
في إشراقة آية
و�إذا ما فعلنا ذلك �أو بع�ضه نكون قد �ساعدنا الأمة يف اخلروج من نفق (الغثائية الكمية) املظلم ،ودفعناها نحو تبوء املكانة التي تليق بها؛ وعلى اهلل ق�صد ال�سبيل.
118
� 29/04/2010 11:09:14
�� ������ ���.indd 118
في إشراقة آية
ﯜ ﯝﯞ ﯟ يف هذه الآية خري عظيم� ،إذ فيها الب�شارة لأهل الإميان ب�أن للكرب نهاية مهما طال �أمده ،و�أن الظلمة حتمل يف �أح�شائها الفجر َ املنتظر .وتلك احلالة من التعاقب بني الأطوار والأو�ضاع املختلفة تن�سجم مع الأحوال النف�سية واملادية لبني الب�شر، والتي تت�أرجح بني النجاح واالنك�سار والإقبال والإدبار ،كما تن�سجم مع �صنوف االبتالء الذي هو �شرعة احلياة ومي�سمها العام .وقد بثت هذه الآية الأمل يف نفو�س ال�صحابة -ر�ضوان اهلل عليهم -حيث ر�أوا يف تكرارها توكيداً لوعود اهلل -عز وجل بتح�سن الأحوال ،فقال ابن م�سعود :لو كان الع�سر يف ُج ْحر لطلبه الي�سر حتىيدخل عليه .وذكر بع�ض �أهل اللغة �أن (الع�سر) مع َّرف ب�أل ،و (ي�سراً) َّ منكر ،و�أن العرب �إذا �أعادت ذكر املعرفة كانت عني الأوىل ،و�إذا �أعادت النكرة كانت الثانية غري (.)2 الأوىل ( .)1وخ َّرجوا على هذا قول ابن عبا�س :لن يغلب ع�سر ي�سرين -1انظر البحر املحيط .488/8 -2ال�سابق ,وبع�ض املحدثني يرفعه �إىل النبي؛ ×. 119
� 29/04/2010 11:09:14
�� ������ ���.indd 119
في إشراقة آية
ويف الآية �إ�شارة بديعة �إىل اجتنان الفرج يف ال�شدة والكربة ،مع �أن الظاهر �أن الرخاء ال يزامن ال�شدة ،و�إمنا يعقبها ،وذلك لتطمني ذوي الع�سرو البالء وتب�شريهم بقرب اجنالء الكرب ،ونحن اليوم �أحوج ما نكون �إىل اال�ستب�شار بهذه الآية حيث يرى امل�سلمون الكثري من �صنوف الإحباطات والهزائم و�ألوان القهر والنكد؛ مما �أدى �إىل �سيادة روح الت�شا�ؤم والي�أ�س ،و�صار الكثريون ي�شعرون بانقطاع احليلة واال�ست�سالم للظروف واملتغريات ،و�أفرز هذا الو�ضع مقوالت ميكن �أن ن�سميها بـ ( �أدبيات الطريق امل�سدود)! هذه الأدبيات تتمثل بال�شكوى الدائبة من كل �شيء: من خذالن الأ�صدقاء ،ومن ت�آمر الأعداء ،و من تركة الآباء والأجداد ،و ت�صرفات الأبناء والأحفاد! وه�ؤالء امل�أزومون ي�س ِّلطون �أ�شعة النقد دائماً نحو اخلارج؛ فهم يف ذات �أنف�سهم على مايرام ،وغريهم هو الذي يفعل كل ما يحدث لهم! و�إذا ر�أوا من يتجه �إىل ال�صيغ العملية بعيداً عن الر�سم يف الفراغ �أطف�ؤوا حما�سته بالقول :لن يدعوك تعمل ،ولن يدعوك تربي ،ولن يدعوك مت�سي عمالقاً ،ولن يدعوك ...وكل ذلك يف�ضي �إىل متحارجة تنطق بال�صريورة �إىل العطالة والبطالة� ،إىل �أن ي�أتي املهدي، فيكونوا من �أن�صاره �أو يحدث اهلل -تعاىل -لهم من �أمرهم َف َرجاً وخمرجاً! ولعلنا نلخ�ص الأ�سباب الدافعة �إىل تلك احلالة البائ�سة فيما يلي: -1الرتبية اخلا�صة الأوىل التي يخ�ضع لها الفرد: قد تقوم الرتبية ببث روح الت�شا�ؤم والي�أ�س يف نف�س الفرد من �صالح الزمان و�أهله ،كما تقوم ببث نوع من العداء بينه وبني البيئة التي ينتمي �إليها ،ف�إذا ما قطع �أ�سبابه بها وانعزل �شعورياً بحث عن نوع من االنتماء اخلا�ص �إىل �أ�سرة �أو بلدة �أو جماعة حتى ينفي عنه ال�شعور باالغرتاب .لكن يكت�شف �أن ما كان يعتقد فيه 120
� 29/04/2010 11:09:14
�� ������ ���.indd 120
في إشراقة آية
املثالية ،ويت�شوق �إىل حتقيق �أماله من خالله ال يختلف عن غريه كثرياً ،مما يورثه الإحباط والي�أ�س حيث يفقد الثقة بكل ما حوله ،وتكون النتيجة الربم والت�أفف من كل �شيء وردود الأفعال ال�سلبية جتاه التحديات املختلفة. -2التعامل مع الواقع على �أنه كتلة �صلدة: مييل �أكرث النا�س �إىل النظرة التب�سيطية التي ال ترى لكل ظاهرة �إال �سبباً واحداً، وال ترى يف تركيبها �إال عن�صراً واحداً ،وهذه النظرة اخلاطئة تف�ضي �إىل مع�ضلة منهجية كربى ،هي عدم القدرة على تق�سيم امل�شكلة مو�ضع املعاناة �إىل �أجزاء رئي�سة و�أخرى ثانوية ،كما ت�ؤدي �إىل عدم القدرة على �إدراك عالقات ال�سيطرة يف الظاهرة الواحدة، وعدم القدرة بالتايل على تغيريها �أو تبديل مواقعها ،والنتيجة النهائية هي الوقوف م�شدوهني �أمام م�شكلة متكل�سة م�ستبهمة ال نرى لها بداية وال نهاية ،وعاقبة ذلك هي اال�ست�سالم لل�ضغوط وانتظار املفاج�آت ،مع �أننا لو با�شرنا العمل باملمكن اليوم ل�صار ما هو م�ستحيل اليوم ممكناً غداً. -3عدم االنتباه للعوامل الداخلية للم�شكلة: يندر �أن نرى ظاهرة كربى ال تخ�ضع يف وجودها وا�شتدادها واجتاهها لعدد من العوامل الداخلية واخلارجية ،ويظل العامل اخلارجي حمدود الت�أثري ما مل ي�ستطع �إزاحة �أحد العوامل الداخلية واحللول حمله ،ون�ستطيع �أن نطبق ذلك على �أية م�شكلة كربى نواجهها اليوم ،وقد �أ�شار القر�آن الكرمي �إىل هذه احلقيقة الباهرة حني قال :ﱹ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﱸ �آل عمران .120 والذي يحدث �أننا كثرياً ما نب�صر امل�ؤثرات اخلارجية -وهي م�ؤثرات قوية حقاً - ونغ�ض الطرف عن العوامل الداخلية؛ فنحن مث ًال ال منلك �إقناع الأعداء ب�أن يخفِّفوا 121
� 29/04/2010 11:09:14
�� ������ ���.indd 121
في إشراقة آية
من غلوائهم يف عدائنا ،كما ال ميلك بنو الب�شر جميعاً �أن مينعوا الثلوج من الت�ساقط؛ لكن الذي ن�ستطيعه هو تقوية �أنف�سنا حتى ال نكون لقمة �سائغة ،كما يفعل النا�س يف مواجهة ظروف املناخ ،لكن امل�شكلة �أن �أ�صعب �أنواع املواجهات هو مواجهة الذات، كما �أن �أرقى �أنواع االكت�شاف هو اكت�شاف الذات! -4عدم �إدراك حركة اجلدل بني الأحوال: تتعاقب الأحوال كما يتعاقب الليل والنهار ،وما بعد ر�أ�س القمة �إال ال�سفح ،وما بعد ال�سفح �إال القاع .و�إن دفع �أية ق�ضية �إىل حدودها الق�صوى �سي�ؤدي يف النهاية �إىل ك�سر ثورتها �أو �إنهائها ب�صورة تامة .وحني ت�صل جتربة �أو نظرية �أو منهج �إىل طريق م�سدود ف�إن النا�س لن يتلبثوا �إال قلي ًال حتى يجدوا املخرج الذي قد يكون منا�سباً، وقد ال يكون، وهنا ي�أتي دور الثالثي ال ّن ِكد من الأذكياء والعمالء والبلهاء الذين يحاولون - على اختالف الق�صود -عدم و�صول �أي م�شكلة �إىل مرحلة االنفجار حتى تظل م�ستمرة �إىل ما ال نهاية! وامل�شكالت يف عاملنا الإ�سالمي مل تدم تلك القرون املتطاولة �إال نتيجة الهند�سة الإخراجية لذلك الثالثي! وهنا ي�أتي �أي�ضاً دور املفكرين الذين ح�س النا�س ميتلكون ر�ؤية نقدية �شاملة ينقلون من خاللها م�شكالت جمتمعاتهم �إىل ِّ و�أع�صابهم حتى ال يتكيف النا�س معها �سلبياً ،وحتى يتاح بالتايل جتاوزها. ﱹﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﱸ و�إن الن�صر مع ال�صرب و�إن ال َف َرج مع الكرب ،و�إن يف رحم كل �ضائقة �أج َّنة انفراجها ومفتاح حلها ،و�إن جلميع ما نعانيه من �أزمات حلو ًال منا�سبة �إذا ما توفر لها عقل املهند�س ومب�ضع اجلراح وحرقة الوالدة.. وعلى اهلل ق�صد ال�سبيل. 122
� 29/04/2010 11:09:15
�� ������ ���.indd 122
في إشراقة آية
ﯶ ﯷﯸﯹﯺ
بث فيه �سنناً تت�سم كان من جملة ت�سخري اهلل -تعاىل -الكونَ لهذا الإن�سان �أن ّ باالطراد والثبات وال�شمول .وهذه ال�سنن مبثوثة يف الأ�شياء والأنف�س واملجتمعات. و�إن وجود ال�سنن رحمة من اهلل -تعاىل -بنا؛ �إذ �إننا نتمكن ب�سببها من اخت�صار كثري من اجلهود التي كان علينا �أن نبذلها لفهم ما حولنا والتعامل معه .ولنت�صور �أن قانون �إحراق النار� ،أو قانون اجلاذبية� ،أو قانون تغري الأو�ضاع �إىل الأح�سن �أو الأ�سو�أ تبعاً جلهد الإن�سان و�سلوكه مل يكن ثابتاً وال َّمطرداً ،فكيف �ستكون احلال �إذن ؟! وثمة مظهر �آخر للرحمة يف اطراد ال�سنن هو �أن التحول يف �أكرث الظواهر االجتماعية يتم ببطء؛ وعمر الإن�سان ق�صري �إذا ما قي�س بعمر احل�ضارات؛ مما يجعله ُيب�صر مقدمات احلدث دون نتائجه ،ونتائجه دون مقدماته و�أ�سبابه ،وحينئذ ف�إن من ال�سهولة مبكان �أن ي�صاب املرء بغب�ش الر�ؤية و�ضالل الأحكام ،وال�سنة بتج�سريها للعالقة بني املا�ضي واحلا�ضر وامل�ستقبل جعلت يف �إمكان امل�سلم �أن يعرف النتائج من خالل الوقوف على الأ�سباب ،و يعرف املقدمات من خالل ر�ؤية نتائجها� ،أي جعلت 123
� 29/04/2010 11:09:15
�� ������ ���.indd 123
في إشراقة آية
الأزمنة كتلة واحدة ،وهي بهذا االعتبار تكون قد �أ َّمنت للم�سلم نوعاً من التوا�صل عرب حقب الزمان املختلفة ،فاملا�ضي مل يغادرنا حتى ترك يف حا�ضرنا ثقافة ع�صرنا و�صفات وراثية حمددة وظروفاً ت�ؤطر م�ساحات حركتنا اليوم� .إن املا�ضي �سيظل يظهر يف احلا�ضر ب�صور ٍة ما ،و�إن احلا�ضر �سيظل يظهر يف القابل ب�صور ٍة ما ،و�إن فيزياء التقدم عبارة عن حديث احلا�ضر مع املا�ضي عن امل�ستقبل. ال�س َّنة� :إلتحام بكل الأبعاد.. ُ ال�سنة هي النامو�س العام الذي ي�ؤ ِّمن اال�ستقرار واالن�سجام بني جزئيات �إذا كانت ُّ الظاهرة الواحدة �إذا ما توفرت بع�ض ال�شروط املو�ضوعية ،ف�إن هذا يعني �أن امل�سلم م�أمور بعبور املا�ضي ليفهم حا�ضره ،وم�أمور بتجاوز احلا�ضر ليمد النظر نحو امل�ستقبل؛ كيما يفقه اخلطوة املنا�سبة .وجند ن�صو�صاً كثرية يف هذا الأمر ،كقوله �سبحانه :ﱹ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﱸ �آل عمران.137 : وقوله �سبحانه :ﱹ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﱸ العنكبوت� .20 :إنها دعوة لل�سري يف الأر�ض واخلروج من �سجن املكان امل�ألوف لر�ؤية خلق اهلل و�إب�صار �سننه فيه .ومبا �أن املكان يرث دائماً الزمان ،ف�إننا �سوف نب�صر من خالل ال�سري يف الأمكنة الكثري من الأزمنة املا�ضية، وما خ َّلفته لنا من �آثار خلق اهلل؛ تعاىل ،وقد كانت هذه الأمة حتتل يف يوم من الأيام مكان ال�صدارة بني الأمم؛ ف�إذا بها تبحث عن مكان يف الذيل ،فال جتد! واخلطوة الأوىل نحو ا�ستعادة بع�ض ما فات تتمحور حول بحث الأ�سباب التاريخية التي �أدت بنا �إىل هذه احلالة املنكورة ،وهذا يعني �أن علينا �أن نثابر يف قراءة التاريخ املرة تلو املرة حتى نقف على جذور الواقع الذي نعي�شه �إذا ما كنا جادين يف تغيريه نحو الأح�سن. 124
� 29/04/2010 11:09:15
�� ������ ���.indd 124
في إشراقة آية
�إن ظواهر كثرية يف حياتنا �ستظل غري مفهومة ما مل نعد �إىل جذورها العميقة ال�ضاربة يف ال ِق َدم؛ ف�إذا ما نظرنا -مث ًال -يف ظاهرة »ذل امل�سلم وخ�ضوعه« مل ن�ستطع �أن نفهمها ما مل نعد �إىل املا�ضي ،ف�إذا عدنا ر�أينا ما ي�س ِّوغ ذلك ،فقد ُ�ص َّب عليه من �صنوف التعذيب النف�سي واجل�سدي ،ومن �صنوف الإذالل والإهانة و�سيا�سة »ا�سحق الذبابة باملطرقة« ما ال يفرز �إال م�سلم اليوم! وقد كان ذلك با�ستمرار با�سم امل�صلحة العامة و�أمن الأمة واال�ستقرار العام!! لكن ال بد من القول �إن انفتاح العامل بع�ضه على بع�ض حتى حتول �إىل »قرية �إعالمية« -كما يقولون -قد جعل فهم الواقع اليوم �أكرث تعقيداً ،وال�سبب �أن جزءاً م�سه� ،أما الباقي فجذوره وخيوطه رمبا كانت خارج من هذا الواقع هو الذي ميكن ُّ �أرا�ضي امل�سلمني كلها! ال�سنة تر�سم لنا امل�سار العام �إن مل ُت ْتحفنا لكن مهما يكن من �أمر ف�إن ُّ بالتفا�صيل. ال�سنة وعلوم امل�ستقبل: يف الغرب اليوم حركة حممومة لدرا�سة امل�ستقبل ،حتى �صار لديهم علم ا�سمه »علم امل�ستقبليات« .وهم ي�صنفون امل�ستقبل �إىل مبا�شر ،وهو يغطي م�ساحة زمنية قدرها عام ،وم�ستقبل �أقرب وهو يغطي م�ساحة قدرها خم�سة �أعوام ،وم�ستقبل قريب يغطي م�ساحة قدرها ع�شرون عاماً ،وم�ستقبل بعيد ميتد �إىل نحو خم�سني عاماً ،وم�ستقبل �أبعد يتجاوز اخلم�سني .وهم خلربتهم احل�سنة بالواقع ي�ستطيعون مد الب�صر نحو امل�ستقبل يف املجاالت التقنية والتنموية املادية ب�صورة خا�صة .لكن العتقادهم �أن العلم هو الذي يك ِّيف �سلوك الب�شر ،ولي�س الدين ،ف�إن كثرياً من توقعاتهم �سوف يكون خم ِّيباً للآمال. 125
� 29/04/2010 11:09:15
�� ������ ���.indd 125
في إشراقة آية
وتاريخ الب�شرية هو تاريخ الر�ساالت وال�شرائع وما حتدثه من دوائر اال�ستجابة وردود الفعل؛ و�سيظل م�ستغلق الفهم على من نظر �إليه انطالقاً من غري ذلك ،و�إذا كانت وظيفة الإن�سان يف احلياة هي االلتزام ب�شرع اهلل والقيام ب�إعمار الأر�ض ،ف�إن القر�آن الكرمي يحدثنا �أن هالك الأمم املا�ضية مل يكن يف �أي ع�صر ب�سبب الق�صور العمراين، و�إمنا ب�سبب التق�صري يف جانب العبودية هلل -تعاىل -واالنحراف عن منهجه .وهذا ما ال ي�ستطيع الغربيون اليوم فهمه؛ ومن ثم ف�إن كثرياً من درا�سات امل�ستقبل لديهم �سيظل جهاداً يف غري عدو! ون�ستطيع القول� :إن الإ�سالم يربي امل�سلم على النظر دائماً نحو الأمام؛ فهو منذ البلوغ �إىل �أن يلقى اهلل -تعاىل -يرنو نحو م�ستقبله الأخروي -بل يجعله َح َكماً يف حا�ضره بكل حركاته و�سكناته .وهناك ن�صو�ص كثرية تتحدث عن امل�ستقبل، وهذه الن�صو�ص منها ما ُيقدِّ م الإطار العام كقوله � -سبحانه :-ﱹ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﱸ الرعد .11 :وكقوله � -سبحانه :-ﱹﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁﰂ ﭑ ﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ ﭚ ﭛﭜ
ﭝ ﭞ ﭟﱸ نوح.12-10 : ومنها ما يقدم بع�ض التف�صيالت ك�إخباره × عن �أن الفتنة �ست�أتي من قبل امل�شرق ،و�إخباره عن ف�شو الأمرا�ض الغريبة يف الذين تف�شو فيهم الفاح�شة (� )1إلخ.. وقد �أوجدت معرفة ال�سنن عند ال�سلف ح�سِّ اً خا�صاً بالتعامل مع الواقع من خالل �إفرازاته امل�ستقبلية؛ فهذا �أبو بكر -ر�ضي اهلل عنه -يقول: »ال تغبطوا الأحياء �إال على ما تغبطون عليه الأموات« وهذا تعبري َّ ينم عن مركز ُّ ر�ؤية الأ�شياء ونهاياتها يف حلظة واحدة! وهذا عمر -ر�ضي اهلل عنه -ي�أتيه خرب فتح -1انظر هذه الأخبار وكثرياً نحوها يف كتاب الفنت من �صحيح البخاري . 126
� 29/04/2010 11:09:15
�� ������ ���.indd 126
في إشراقة آية
خرا�سان ،فيقول للنا�س يف املدينة» :ال تبدلوا ،وال تغريوا ،في�ستبدل اهلل بكم غريكم، ف�إين ال �أخاف على هذه الأمة �إال �أن ت�ؤتى من قبلكم«( .)1وهذا هو ي�ؤتى �إليه بغنائم »جلوالء« ،فريى ياقوته وجوهره ،فيبكي ،فيقول له عبد الرحمن بن عوف -ر�ضي اهلل عنه :-ما ُيبكيك يا �أمري امل�ؤمنني وهذا موطن �شكر ؟! فيقول عمر» :واهلل ما ذاك ُيبكيني ،وتاهلل ما �أعطى اهلل هذا �أقواماً �إال حتا�سدوا وتباغ�ضوا ،وال حتا�سدوا �إال �ألقى اهلل ب�أ�سهم بينهم«( !)2وقد كان ما خافه رحمه اهلل! ملاذا التعرف على ال�سنن؟ ال�سنن ما�ضية قاهرة ،ونحن ال نتعلمها من �أجل تغيريها �أو حتييدها ،و�إمنا من �أجل االن�سجام معها والعمل مبقت�ضاها ،وتاليف اال�صطدام بها .وال�سنن مع جربيتها ال متنعنا من احلركة؛ �إذ �إن بني جربية ال�سنن وو�سع امل�سلم وطوقه م�ساحات وا�سعة ت�صلح للتحرك والعمل؛ فالقوانني الفيزيائية والكيميائية ثابتة ،لكننا من خالل فهمها ا�ستطعنا �إيجاد مئات الألوف من ال�صناعات الكيميائية والفيزيائية م�ستغلني ما بينها من خالف وتنوع. وم�شكلتنا يف هذه الق�ضية ذات ر�ؤو�س متعددة :فهناك من هو غارق يف املا�ضي غريب عن احلا�ضر ،فهو يرى مقدمات الأحداث وجذورها ،دون �أن يرى النتائج ،فهو مغرتب �أبداً. وم ِّنا من غرق يف احلا�ضر دون �أن يعرف عن بدايات اخللق لأزماته وم�شكالته �شيئاً؛ فهو يدور يف حلقة مف َرغة ال يرى خمرجاً ،وال يهتدي �سبي ًال ،وم ِّنا من �شهد -1الطربي . 173/4 -2ال�سابق . 30/4 127
� 29/04/2010 11:09:15
�� ������ ���.indd 127
في إشراقة آية
جربية ال�سنن ،ومل ي�شهد م�ساحات التكليف و�إمكانات احلركة ،فوقف عاط ًال عن العمل هاجعاً يف �إجازة مفتوحة ،لكنه �أثرى �أدب ال�شكوى من الزمان والظروف وتواط�ؤ الأعداء مبا ال مزيد عليه! وم َّنا من غرق يف الأحالم الوردية؛ فهو ال يرى ما هو كائن لينطلق به �إىل ما ينبغي �أن يكون؛ فهذا �شاق ،ويقت�ضي عم ًال ،فوجد �أن التعامل مع ما حوله على ما ينبغي �أن يكون �أ�سهل و�أجمل ف�صار �إليه! ومنا من مل ي�سمع بال�سنن فتفكريه �إىل اخلرافة �أقرب ،وعلمه بالإرادة الكونية والإرادة ال�شرعية هباء ،واحلياة �أمامه ُب ْع ٌد واحد ،ينتهي بطريق م�سدود! واجبنا اليوم: - 1الرتكيز يف معارفنا العامة على الدرا�سات التاريخية والنف�سية والرتبوية واالجتماعية؛ لنتمكن من ا�ستجالء �أكرب عدد ممكن من �سنن اهلل -تعاىل -يف الأنف�س واملجتمعات(.)1 -2بلورة مناهج للعمل الدعوي تتنا�سب مع تلك ال�سنن يف �أ�ساليبها و�أدواتها. -3تربية �أبنائنا وطالبنا على التفكري ال�سنني؛ ليحل حمل الأوهام واخلرافات التي ع�ش�شت يف �أذهان كثري منهم. - 4حماولة القيام بتقومي �سنني للأحداث الكربى يف تاريخنا واملعامل البارزة يف واقعنا املعي�ش. -5القيام بدرا�سات علمية م�ستقبلية تعتمد على ما فقهناه من �سنن اهلل -تعاىل- يف حركة الفرد واملجتمع. -1للم�ؤلف حماولة متوا�ضعة يف هذا حيث �صدر له كتاب بعنوان :هي هكذا "كيف نفهم الأ�شياء من حولنا" . 128
� 29/04/2010 11:09:15
�� ������ ���.indd 128
في إشراقة آية
و�إذا ما فعلنا ذلك ف�سوف جند اخلال�ص من كثري من م�شكالتنا ،كما �سنجد �ساحات ودروباً للحركة والعطاء. وعلى اهلل ق�صد ال�سبيل.
129
� 29/04/2010 11:09:15
�� ������ ���.indd 129
�� ������ ���.indd 130
29/04/2010 11:09:15 �
في إشراقة آية
ﯟﯠ
خلق اهلل تعاىل اجلنة داراً لتكرمي �أوليائه ،فوفَّر فيها كل �شروط التكرمي ،وخلق النار داراً لإهانة �أعدائه ،فوفَّر فيها كل �شروط الإهانة ،وخلق الدنيا داراً البتالء الفريقني، فوفَّر فيها كل �شروط االبتالء� ،إن هذا الدين يع ِّلمنا �أن كل ما يحيط بنا يف دائرتي الزمان واملكان ميثل بالن�سبة �إلينا �ضرورة تتحدانا ،وعلينا �أن نعيه ،ونت�صرف معه الت�صرف الالئق بالإن�سان املك َّرم املبتلى. �إن كل حلظة متر على الإن�سان يف هذه احلياة هي حلظة اختبار ،وهي يف الوقت ذاته �ضرورة تتحدى ،وهي (كم) يتطلب منا تكييفاً منا�سباً ،ف�إذا مل ن�ستطع تكييف تلك اللحظة م�ضت تاركة وراءها قيداً على حرياتنا ووجودنا! و�إن التكييف يف موازين هذا الدين ال�سمح قد ي�أخذ يف بع�ض الأحيان �صورة اعتبارية حم�ضة ،كما هو ال�ش�أن مع الذي يبادر �إىل فرا�شه كيما يتمكن من ح�ضور �صالة الفجر مع اجلماعة؛ ف�إنه قد ك َّيف كل حلظه نوم مبا انطوت عليه �سريرته من ق�صد ،وعلى هذا ف�إن البطالة والنوم غري املكيف � -ضربان من �ضروب العبودية املك َّبلة بالأغالل!131
� 29/04/2010 11:09:15
�� ������ ���.indd 131
في إشراقة آية
�إن كل ما حولنا من فكر ومادة و�ضرورات هي الأخرى تنادي الإن�سان املبتلى كي يتحرر من قيودها بتكييفها� .إن الفكرة ال�صحيحة تتحدانا كي نعممها ،و�إن الفكرة اخلاطئة تتحدانا كي نفندها ونحجمها ،و�إن الفكرة الغام�ضة تتحدانا؛ لننفذ �إىل جوهرها ،كما �أن الفكرة القا�صرة تتحدانا لنطورها� ،إن الأر�ض تتحدانا لنزرعها، ف�إذا قب�ضنا على منتوجها حتدانا هو الآخر كي ن�ص ِّنعه على الوجه الأمثل� .إن نديف القطن يتحدى الن�ساجني ،ف�إذا ما �صار قما�شاً دخل يف طور من التحدي جديد، فلئن كان الن�ساجون قد حترروا من قيود النديف فقد وقع اخلياطون يف �ضرورة الن�سيج �إىل �أن يحيلوه ثوباً جمي ًال .ف�إذا ما عجزت �أمة عن �أن تخيط ن�سيجها بيديها� ،أو تزرع �أر�ضاً خ�صبة متلكها حت َّول ذاك وهذا �إىل قيود على حريتها ووجودها ،و�إن من القيود ما يقتل ،ومنها ما ي�شل ،ومنها ما ي�ش ِّوه ...ولي�س انتقال الإن�سان من �ضرورة �إىل �أخرى انتكا�ساً �أو زجاً له يف دائرة مغلقة -كما قد يتوهم -فنحن �إذ نرتدد بني م�شكالتنا وحلولها �إمنا من�ضي يف حركة لولبية �صاعدة متنحنا املزيد من احلرية والقدرة والت�أنق. �إن كل �سلعة م�ص َّنعة ن�ستوردها هي عبارة عن �ضرورة نطوق بها �أعناقنا ،و�إن �أ�شد امل�ستوردات خطراً على حريتنا تلك التي تكون �أكرث �إلغاء للعمل عند م�ستوردها؛ لأن العمل هو احلرية ،والذي يلغيه يلغي احلرية؛ ذلك لأن ال�سلعة امل�ص َّنعة كانت من ُ قبل مادة غف ًال وكان يف �إمكاننا �أن منار�س حريتنا يف ت�صنيعها وحتويلها ،وقد �صودرت هذه احلرية حني قام بت�شكيلها غرينا ،وقد �أدركت الأمم املتقدمة هذه احلقيقة فت�سابقت �إىل ا�سترياد املواد اخلام ،وو�ضعت القيود على ا�سترياد ال�سلع امل�صنعة؛ فهي ال تبادل الدول الأخرى منها �إال ْقدراً ب ْقدر حتى متار�س حريتها كاملة؛ وترى ثمار ما عملته �أيديها.. 132
� 29/04/2010 11:09:15
�� ������ ���.indd 132
في إشراقة آية
�إن حرية الفرد يف املجتمع على قدر عمله ،ف�إذا ما �أخذ من الآخرين �أكرث مما يعطيهم َفقَد من حريته على مقدار ما يزيد لهم عنده .و�إن �أق�سى ما يواجهه احلر الكرمي �أن يرى نف�سه غارقاً يف عطاء الآخرين دون �أن يكون لديه ما يعطيهم؛ ل�شعوره ب�أن ذلك على ح�ساب حريته� ،أي :على ح�ساب وجوده! �إن العمل هو طريق اخلال�ص ،وهو طريق حتقيق الذات؛ ولكن هل كل حركة بركة ،وهل كل عمل هو ك�سر للقيود و�إعتاق للرقاب ؟ الريب �أن الأمر لي�س كذلك ،فال�سكون يف �أيام الفنت -مث ًال -خري من احلركة، متعجلة ُق ِ�صد منها ك�سب احلرية �أدت �إىل الر�سف يف �أغالل العبودية ورب حركة ِّ �سنني طويلة ،ذلك لأن العمل عبارة عن غزو ال�صورة للمادة ،و�إذا ما ُ ِّ �شكلت ماد ٌة ما على �صورة خاطئة ف�إن هذا قد يعني احلرمان منها باعتبارها كماً ،وباعتبارها كيفاً؛ لأن �أ�شياء كثرية قد ال تقبل �أن تت�شكل �إال مرة واحدة! �إنه ال بد من توفر �شرطني �أ�سا�سيني يف العمل الكرمي ،هما ال�صواب والإخال�ص� ،أي القوة والأمانة� ،أو القدرة والإرادة ،و�إن كان بع�ض الأعمال يعتمد على �أحدهما �أكرث من اعتماده على الآخر؛ ف�أعمال الآخرة تعتمد على الإخال�ص �أكرث من اعتمادها على ال�صواب ،و�إن يكن ال�صواب �أ�سا�سياً .و�أعمال الدنيا تعتمد على ال�صواب �أكرث من اعتمادها على الإخال�ص ،فكلما كان الإخال�ص �أعظم كانت املثوبة �أكرب ،وكلما كان ال�صواب �أكرب كان النجاح �أكرب ،تلك هي �سنة اهلل ،وتقا�س حيوية املجتمع بقدر ما ميور به من حركة الفكر واليد؛ وعلى هذا ال�صعيد فقد َّفجر الإ�سالم طاقات امل�سلم على م�ستوى القيم ،وعلى م�ستوى الأداء ب�صورة َّقل نظريها يف التاريخ ،ف�شيد امل�سلمون يف قرن من الزمان ح�ضارة زاهرة ظلت تعطي وتقاوم عوامل الفناء نحواً من ع�شرة 133
� 29/04/2010 11:09:15
�� ������ ���.indd 133
في إشراقة آية
قرون ،ثم �صارت املجتمعات الإ�سالمية ،من �أقل جمتمعات الأر�ض حراكاً وعطاء، فماال�سبب الذي �أف�ضى �إىل هذه احلالة املنكورة ؟ يف مقاربة �أولية للوقوف على جواب هذا الت�سا�ؤل الكبري ،ميكن �أن نقول �أو ًال� :إن ف�سر بعامل واحد؛ ولكن ب�إمكاننا ظاهر ًة كربى كظاهرة الركود احل�ضاري �أكرب من �أن ُت َّ �أن ن�سلط ال�ضوء على عامل نح�سب �أنه كان على جانب كبري من الت�أثري يف هذه الظاهرة ،هذا العامل هو انخفا�ض م�ستوى الإميان باهلل -تعاىل � -أو انخفا�ض جوهر ال�سلم ذلك الإميان� ،أعني (ال�صلة باهلل تعاىل) .حقاً لقد ظلت قيمة الإميان يف �أعلى ُّ القيمي للم�سلمني ،ولكن ذلك وحده غري ٍ كاف لإطالق الطاقات وتوجيهها نحو ب�ؤرة حمددة ما مل تتوفر �شروط مو�ضوعية يف الإميان نف�سه ،ويف البيئة التي يعمل فيها. و�إمنا كان ذلك هو ال�سبب يف ت�صورنا ،لأن العالقات تتمحور داخل بنية الثقافة الإ�سالمية حول ثالثة �أقطاب هي :اهلل � -سبحانه ،-الإن�سان ،الطبيعة ،و�إذا �أردنا تكثيف هذه العالقات حول قطبني اثنني لكانا ( :اهلل /الإن�سان ). و�أما الطبيعة ف�إنها هام�شية ن�سبياً حيث �إن وظيفتها ترتكز يف كونها �إحدى الدالئل على وجود اهلل ،وكونها جما ًال لالبتالء؛ فامل�سلم يكت�شفها ويعمرها امتثا ًال لأمر اهلل ـ تعاىل ـ وهذا على خالف ما هو م�ستقر يف العقل اليوناين الأوربي الذي تتمحور العالقات فيه على (الإن�سان والطبيعة)� .أما فكرة (الإله) فيه فهي عون على ك�شف الطبيعة� ،أي �إنها تقوم بالوظيفة نف�سها التي تقوم بها الطبيعة يف الثقافة الإ�سالمية ،ومن هنا ف�إن تعامل امل�سلم مع الطبيعة لي�س مبا�شراً ،ونظرته �إليها معيارية قيمية؛ فعلى مقدار ما يتوهج الإميان يف �صدره يكون تفاعله مع الطبيعة ،ويكون عطا�ؤه احل�ضاري ،ف�إذا ما خبا الإميان يف �صدره -ل�سبب من الأ�سباب -انحب�س جهده يف 134
� 29/04/2010 11:09:16
�� ������ ���.indd 134
في إشراقة آية
البناء احل�ضاري� ،أو فرت ،ولي�س كذلك ال�ش�أن عند �أهل احل�ضارة املادية .وال يكفي �أن يتوهج الإميان يف �صدور �أفراد قليلني يف املجتمع الإ�سالمي ال�ستئناف م�سرية احل�ضارة الإ�سالمية؛ لأن احل�ضارة ظاهرة اجتماعيه ،ال ظاهرة فردية ،ونلمح هذا املعنى �شائعاً يف اخلطاب القر�آين كله؛ فكثرياً ما تفتتح �آيات الأوامر والنواهي بـ ﱹ ﯓ ﯔ ﯕ ﱸ وكثرياً ما ُتخ َت َتم بـ ﱹ ﯳ ﯴ ﯵ ﱸ ﱹﮔ ﮕ ﱸ؛ تذكرياً ب�أن االميان املت�ألق هو الذي ُيطلق طاقات امل�سلم ،ويف ِّعل القيم لديه ،ومل ت�شذ الآية الكرمية التي نحن ب�صددها عن هذا الن�سق حيث يقول �سبحانه :ﱹ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﱸ
فقد ربطت العمل بر�ؤية اهلل ـ تعاىل ـ لهذا العمل وجمازاته عليه يف الآخرة. وقد �أدى ال�ضعف يف فاعلية امل�سلم وحركته اليومية �إىل وجود خلل كبري يف حياة امل�سلمني ،ف�صارت بالدهم �أفقر بالد اهلل ،كما �أن نظامهم الرمزي الذي كان يف يوم من الأيام �أغنى نظم العامل بالأبطال العظام �صار اليوم جمدباً على م�ستوى الكم والكيف! ومل يقت�صر الأمر على هذا ،بل �إن الأزمة على �صعيد الفعل �أدت �إىل وجود �أزمة خطرية على �صعيد (الفكر)؛ ذلك لأن العقل عقالن على حد تعبري (الالند) عقل فاعل وعقل �سائد� .أما العقل الفاعل فهو الن�شاط الذهني الذي يقوم به الفكر حني البحث والدرا�سة ،وهو الذي ي�صوغ املفاهيم ويقرر املبادئ .و�أما العقل ال�سائد فهو جمموع القواعد واملبادئ التي ن�ستخدمها يف ا�ستدالالتنا؛ فلي�س العقل ال�سائد �شيئاً غري الثقافة .والعقل الفاعل �أ�شبه �شيء بالرحى ،والعقل ال�سائد �أ�شبه �شيء بالقمح ُيلقى فيها؛ وماذا ت�صنع رحى ال قمح فيها ؟! ومن �أين �ست�أتي الثقافة لأمة ال حترك يداً ؟ وال تبني منوذجاً �إال يف نطاق ال�ضرورات ؟ �إن كل انحبا�س 135
� 29/04/2010 11:09:16
�� ������ ���.indd 135
في إشراقة آية
يف حركة اليد �سي�ؤدي اىل انحبا�س يف حركة الفكر ،وكل انخفا�ض يف وترية الإميان �سي�ؤدي -لدى امل�سلم � -إىل انخفا�ض يف تردد اليد .فهل كتبنا احلرف الأول يف �أبجدية البداية؟
136
� 29/04/2010 11:09:16
�� ������ ���.indd 136
في إشراقة آية
ﮧﮨﮩﮪ
طاملا وقفت خا�شعاً يف حمراب هذه الآية ،وطاملا غمرين �ضيا�ؤها ب�أ�شعته الهادية حيث �أودع الرحمن يف كلمات قليلة من املعاين الكرمية الفيا�ضة ما ميدنا باملفاهيم النرية كلما ات�سعت م�ساحات الوعي لدينا ،وكلما تعاظم ر�صيدنا من التجارب. و�س�أقف مع القارئ الكرمي وقفات عدة يف �إ�شراقة هذه الآية لنغرف من معينها النمري: الوقفة الأوىل: متثل هذه الآية مظهراً من مظاهر رحمة اهلل ـ تعاىل ـ بعباده حني ر�ضي منهم �أن يطيعوه على قدر طوقهم وقدرتهم؛ وهذا الأمر �أحد �أهم الأ�س�س التي يقوم عليها الت�شريع الإ�سالمي ،وهو يف الوقت ذاته �أحد دعائم خلود ال�شريعة الغراء؛ �إذ �إن تعاقب الأيام والليايل ي�أتي مبا ال ُيح�صى من الظروف والأحوال ،وحينئذ ف�إن قدرات النا�س على القيام ب�أمر اهلل تتفاوت تفاوتاً كبرياً ،خا�صة تلك الأحداث التي ال يجد املفتي 137
� 29/04/2010 11:09:16
�� ������ ���.indd 137
في إشراقة آية
حكماً تف�صيلياً يغطيها ،وت�أتي هذه الآية لتمثل املنطلق الرحب والنامو�س الأعلى الذي يحكم فقه ال�ضرورات ،وفقه ارتكاب �أخف ال�ضررين ودفع �شر ال�شَّ رين ،و ُت�شعر امل�سلم الذي وقع يف ظروف حرجة �ضاغطة بالطم�أنينة من الوقوع هذه الآية الكرمية َ يف الإثم ما دام قد اتقى اهلل ما ا�ستطاع ،كما �أنها ت�ستنه�ضه ملقاومة الظرف الطارئ، وبذل الو�سع يف االقرتاب من املركز �أكرث ف�أكرث،وهو �إذ يفعل كل ذلك ي�شعر برقيب ذاتي ،منب ُع ُه خ�شية اهلل؛ �سبحانه وتعاىل. الوقفة الثانية: �إن دوائر اال�ستطاعة تت�سع على �صعيدي القيم والعمل كلما ا�ستطاعت الأمة �أن ترقى ُ�ص ُعداً يف �سلم احل�ضارة� .أما على �صعيد القيم ف�إن التقدم املادي والتقني يهيئ الظروف املنا�سبة لن�شر القيم وحملها ،و�إذا �أخذنا قيمة (احلرية) باعتبارها واحدة من �أخطر القيم املتفق عليها ب�شكل عام لوجدنا �أن هذه القيمة لي�ست حالة يت�صف بها الفرد� ،أو دعوى يطلقها ،و�إمنا هي عملي ُة موا َكبة للإمكانات التي يح�صل عليها؛ ف�إذا ما امتلك الواحد منا ثروة كبرية من املفردات اللغوية وجد نف�سه حراً يف اختيار الألفاظ والأ�ساليب املتعددة التي ِّمتكنه من نقل املعلومة التي يريد �إي�صالها ملخاطبيه مهما تفاوتت م�ستوياتهم الثقافية .ومن توفرت يف بالده فر�ص كبري للعمل ب�شروط مي�سرة وجد نف�سه قادراً على رف�ض ما ميكن �أن يتعر�ض له من ظلم �أو حيف من َّ يعده مهنة �شاقة �أو غري منا�سبة ،وهو بذلك يجد �أمامه �أرباب العمل ،وعلى رف�ض ما ُّ جماالت وا�سعة للحركة وقدراً �أكرب من اخليارات املريحة ،وقد رَّعب العرب قدمياً عن هذه احلالة مبثل �شائع حني قالوا( :من �أخف�ض تخيرّ ). 138
� 29/04/2010 11:09:16
�� ������ ���.indd 138
في إشراقة آية
يف املقابل كيف ميكن ملن بحث عن فر�صة للعمل �سنوات عدة حتى عرث عليها �أن يت�صرف كما ت�صرف الأول ،و�أن ي�شعر ب�أنه قادر على �أن يكون حراً ي�أبى الظلم ويعي�ش بعيداً عن الق�سر والقهر ؟ و�أما على ال�صعيد العملي ف�إن كثرياً من املخرتعات �أعطت جوارح الإن�سان نوعاً من االمتداد يف �سلطانها وقدراتها؛ فالآلة مدت يف �سلطان اليد والطائرة يف �سلطان الرجل والهاتف يف �سلطان ال�سمع و(الرائي) يف �سلطان العني والأذن وهكذا.. ويرتتب على ات�ساع دوائر اال�ستطاعة تعاظم امل�س�ؤولية ووجود �إمكانات جديدة للمزيد من التقوى ،وبهذا االعتبار ف�إن العمل لتح�سني املناخ العام الذي يعي�ش فيه امل�سلم عبادة هلل ـ تعاىل ـ يه ِّيئ النا�س ملزيد من الطاعات والعبادات ،و�إذا ما حدث خلل يف االرتباط بني اال�ستطاعة والتقوى ،ف�إن ذلك يعني نوعاً من البغي املمقوت الذي يخل بالتوازنات العميقة للفرد ،كما ي�ستنزل له املحن والعقوبات. وقد �أ�شار النبي × �إىل عقوبة �شيء من ذلك اخللل حني ذكر امللك الكذاب يف جملة من ال يكلمهم اهلل يوم القيامة وال يزكيهم ،وال ينظر �إليهم� :إذ �إن ال�سلطان ذو قدرات كبرية ف�إذا مل يواكبها ال�صدق �أحدث من ال�ضرر ما ال تنفع معه رقابة الرقباء، ولذلك ا�ستحق العقوبة التي تتنا�سب مع فعله. الوقفة الثالثة: ولكل منا طموحاته و�أهدافه التي يرمي �إىل حتقيقها لكل منا طاقات حمدودةٍ ، ٍ يف هذه احلياة قبل �أن يرحل ،وتنتهي الإمكانات والطموحات؛ ومهما كانت قدرات الإن�سان كبرية فهي حمدودة ،ون�شاهد يف كثري من الأحيان �أن طموحاتنا �أكرب من 139
� 29/04/2010 11:09:16
�� ������ ���.indd 139
في إشراقة آية
طاقاتنا ،وكثري م ِّنا ي�صابون حينذاك بالعجز والإحباط ،وي�ؤدي بهم هذا �إىل البقاء يف �إجازة مفتوحة! وهذا مع علمنا �أن التكليف على قدر الو�سع ،ولو �أننا با�شرنا ما هو ممكن اليوم ل�صار ما هو م�ستحيل اليوم ممكناً غداً ،ولنو�ضح هذا مبثال �صغري ،فلو �أننا عمدنا �إىل طفل يف اخلام�سة من عمره مل يدخل املدر�سة ،وطلبنا منه كتابة ا�سمه لوجد �أن ذلك بالن�سبة �إليه م�ستحيل ،ف�إذا ع َّلمناه كتابة حروف ا�سمه حرفاً حرفاً ،ثم ع َّلمناه الو�صل بينها لوجد �أن ما كان م�ستحي ًال قبل �ساعة �صار الآن ممكناً وهكذا... ونحن يف كثري من الأحيان نطوف يف املجل�س الواحد يف �أنحاء العامل الإ�سالمي ينف�ض املجل�س عن نحو مت�أملني ملا يحدث للم�سلمني ،و�شاكني من الت�آمر عليهم ،ثم َّ ما انعقد عليه دون �أن ي�ستفيد م�سلم من �شيء مما قلناه ،وذلك لأننا مل نبا�شر املمكن، و�إمنا �أذهبنا �أوقاتنا يف احلديث عن �أمور ال حول لنا ،وال طول يف الت�أثري فيها ،ولو �أننا حتدثنا مبا ُي�ص ِلح �أمراً من �أمور احلي �أو يف كيفية جعل فالن من النا�س يرتاد امل�سجد لكان ذلك �أنفع للم�سلمني ،و�أبر�أ للذمة من �شيء م�شغولة به. الوقفة الرابعة: �إن النبي × تركنا على املحجة البي�ضاء ،ووقع التكليف من اهلل -تعايل -باتباع ذلك املنهج والتزامه على قدر الو�سع والطاقة ،وهذا التكليف �سنة اهلل -تعاىل -يف الأنبياء -عليهم ال�سالم -و�سنة �أممهم؛ فقد مكث نوح -عليه ال�سالم -يدعو قومه �ألف �سنة �إال خم�سني ،وكانت ح�صيلته يف ذلك ما ذكره اهلل ـ تعاىل ـ بقوله ﱹﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﱸ هود 40:نعم �إنهم قليل حملتهم �سفينة واحدة ،ومع ذلك ف�إن نوحاً ظل ر�سو ًال من �أويل العزم الأبرار ،ذلك لأن املنزلة على مقدار اجلهد املوافق للمنهج 140
� 29/04/2010 11:09:16
�� ������ ���.indd 140
في إشراقة آية
املن َّزل ،ولي�س على مقدار ما يتحقق من جناح وفالح ،ولكن الذي يحدث يف بع�ض الأحيان �أننا ن�ضع �أهدافاً مع َّينة نريد الو�صول �إليها عاج ًال ،ولو كانت هذه الأهداف ت�ستدعي ال�ضغط على املنهج �أو القفز عليه �أو االنحراف عنه ،وحني يحدث ذلك تفقد الدعوة ان�سجامها الذاتي كما تهتز الفل�سفة النظرية التي ت�ستند �إليها؛ ورمبا �أدى ذلك �إىل ا�ستعمال و�سائل غري م�شروعة ،وال يعني هذا �أن نعفي �أنف�سنا من عمليات املراجعة ،بل يعني �أن املراجعة املطلوبة هي الت�أكد من موافقة �أ�ساليبنا وو�سائلنا للمنهج الرباين الذي تع َّبدنا اهلل تعاىل باتباعه واحلركة على هديه بالإ�ضافة �إىل مراجهة الفاعلية التي �صاحبت ا�ستخدام تلك الأ�ساليب والو�سائل.
141
� 29/04/2010 11:09:16
�� ������ ���.indd 141
�� ������ ���.indd 142
29/04/2010 11:09:16 �
في إشراقة آية
ﯼﯽﯾﯿﰀ
�سيظل للكلمة �أثرها الفعال يف تغيري �أفكار النا�س و�أمزجتهم وم�شاعرهم وواقعهم ،وذلك �إذا ا�ستوفت �شروطاً معينة .ولي�س �أدل على رفعة مكانة الكلمة يف حياة الب�شر من �أن الأنبياء -عليهم ال�صالة وال�سالم -كانوا يجيدون ا�ستخدامها يف التعبري عن احلقائق الرا�سخة ،والربط بينها وبني واقع الب�شر ور�صيد الفطرة املتبقي �ضج قومه من ذلك لديهم ،فهذا نوح -عليه ال�سالم -يجادل قومه با�ستفا�ضة ،حتى َّ حني قالوا :ﱹﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﱸ هود ،32:وهذا �إبراهيم - عليه ال�سالمُ -يك ِّرمه اهلل ـ تعاىل ـ فيهبه من قوة احلجة ما يفحم به قومه :ﱹ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﱸ
الأنعام .83 :وهذا مو�سى -عليه ال�سالم -يقول:ﱹﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ
ﯨﱸ طه ،28 ،27 :ثم يطلب من اهلل ـ تعاىل ـ �أن يتف�ضل عليه ب�إ�شراك هارون معه يف التبليغ لف�صاحة ل�سانه حني يقول :ﱹﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﱸ الق�ص�ص .34 :واهلل ـ تعاىل -يقول خلامت 143
� 29/04/2010 11:09:16
�� ������ ���.indd 143
في إشراقة آية
�أنبيائه :ﱹ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﱸ الن�ساء .63:وكل هذا قب�س مما ن�سبه الباري َّ جل وعال -لنف�سه حني قال :ﱹﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑﱸ الأنعام 149:وحجج النبيني وم�ضامني خطابهم للخلق-يف الأ�صول - واحدة �أو تكاد ،مما يجعل جذور الكلمة الطيبة �ضاربة يف �أعماق الزمن من لدن نوح عليه ال�سالم� -إىل خامتهم حممد × ،وهذا يجعل حركة التاريخ كلها يف �سياقٍعام ٍ واحد ،هو :الت�أكيد على �أهمية الكلمة الطيبة يف �إنقاذ الب�شرية من ال�ضاللة. ٍ ن�ستخف بقيمة الكلمة ،ومع �أهمية العمل �إال �أن لكل نحن يف كثري من الأحيان ُّ منهما جماله الذي ال ي�صلح فيه غريه ،وفى تاريخنا الإ�سالمي �أمثلة كثرية جداً غيرَّ ت فيها الكلمة م�سار �شخ�ص �أو مدينة ،بل قا َّرة ،ومما يذكرونه يف هذا ال�صدد �أن حاجاً ،فالتقى بالإمام مالك ابن �أن�س وفداً من بع�ض بالد �أفريقية قدم �إىل احلجاز ّ �صاحب املذهب؛ ف�أثنى مالك على وايل ذلك البلد خرياً ،ومتنى لو ُ رزِقت املدينة مثله يف عدله و�صالحه ،فبلغ ثنا�ؤه وايل ذلك البلد الإفريقي ،ف�أمر بتدري�س كتب مالك يف بلده ،و�أدى ذلك �إىل انت�شار املذهب املالكي يف �أرجاء �أفريقية! .وما �أظن �أن ما حدث كان يخطر للإمام على بال! وقد ُتغني الكلمة الواحدة غناء جي�ش �أو جيو�ش ،كما حدث يف غزوة الأحزاب حني �أ�سلم نعيم بن م�سعود ،وا�ستخدم عدم علم امل�شركني بذلك يف تبديد الثقة بني قري�ش واليهود على ما هو م�شهور .وقد �أدركت ال�شركات وامل�ؤ�س�سات التجارية قيمة الكلمة يف الت�أثري على امل�شرتي ودفعه �إىل �شراء ما ال يحتاج له ،حتى قال �أحدهم :لو كان ىل ع�شرة دوالرات لتاجرت ٍ بواحد و�أنفقت الت�سعة الباقية يف الدعاية ملا �أتجَّ ر به. و�إذا �أردت �أن َّ �شخ�ص ما ،فيكفى �أن تقنعه� :أن عمله غري ذي فائدة. ت�شل فاعلية ٍ 144
� 29/04/2010 11:09:16
�� ������ ���.indd 144
في إشراقة آية
والآية التي نحن ب�صددها زاخرة باملعاين وال�صور التي جتعل الكلمة يف �أرقى حال جما ًال وكما ًال ونفعاً .ولنقر�أ الآية وما تالها لنقتب�س �شيئاً من نورها ،قال اهلل :ﱹ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ
ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﱸ �إبراهيم ،25-24 :لقد �ش َّبه الباري -عز ا�سمه -الكلمة الطيبة ب�شجرة طيبة ،وهذه ال�شجرة الطيبة تت�صف بثالث �صفات �أ�سا�سية :ثبات �أ�صلها وعمق جذورها ،ثم ذهاب فروعها و�أفنانها يف ال�سماء ،ثم نفعها الدائم للخلق با�ستمرار �أكلها وثمارها .وهذا تف�صيل للقول يف تنزيل هذه ال�صفات على الكلمة الطيبة: - 1ثبات الأ�صول: حني نعرف �أن �أ�صول دعوات الأنبياء -عليهم ال�سالم -واحدة ،تركزت يف الدعوة �إىل التوحيد اخلال�ص وعبادة اهلل تعاىل و�إقامة احلق والعدل يف الأر�ض و�إعمارها مبا ي�سمح ب�إقامة جمتمع التوحيد؛ ندرك �أي جذور �ضاربة متتلكها الكلمة الطيبة على ات�ساع �أمداء الزمان واملكان ،وندرك �أي ر�صيد من املنطق العام الذي بناه الأنبياء ت�ستند �إليه ،و�أي ر�صيد �ضخم من الفطرة ي�ؤازرها يف عملية البالغ املبني ،وقد �أخرج البخاري عن �أبي هريرة -ر�ضي اهلل عنه -قال :قال ر�سول اهلل ×� (( :أنا �أوىل النا�س بعي�سى ابن مرمي يف الدنيا والآخرة ،والأنبياء �إخوة لعلاّ ت� ،أمهاتهم �شتى ودينهم واحد )) .قال ابن حجر :ومعنى احلديث �أن �أ�صل
145
� 29/04/2010 11:09:16
�� ������ ���.indd 145
في إشراقة آية
دينهم واحد ،وهو التوحيد و�إن اختلفت فروع ال�شرائع( ،)1فالكلمة الطيبة �إرث موروث مت�صل بالأنبياء -عليهم ال�صالة وال�سالم -ولكن امل�شكلة �أن التفريق بني الأ�صول والفروع قد ال يتهي�أ لكل النا�س مما يجعل اخللط بينهما وارداً ،وحينئذ فقد يجمد ما ينبغي �أن يتطور ،وقد يتطور ما ينبغي �أن يثبت ،واليوم نتيجة لعلميات ال�ضغط الفكري التي متار�سها التيارات املادية ،جند �أن كثرياً من الك َّتاب واملفكرين الذين لهم �صبغة �إ�سالمية بد�ؤوا يتزحزحون عن كثري من مواقعهم ،م�صطحبني معهم �أفكاراً �أو �أحكاماً ،عليها الإجماع� ،أو ال�سواد الأعظم من علماء امل�سلمني ،بل بع�ض الأ�صول التي لي�ست مو�ضع نزاع ،ويح�ضرين هنا ما كتبه �أحد الذين لهم نَفَ�س �إ�سالمي عن لقائه مع بع�ض الق ُُ�س�س الذين يعي�شون يف �أحد بلدان العامل الإ�سالمي ،حيث �أثنوا على كتاباته ،و�س�ألوه عن الو�ضع الذي ينبغي �أن يكونوا عليه وهم يعي�شون بني امل�سلمني ؟ وقد �أجابهم بقوله� :أول ما نطلبه من الن�صراين الذي يعي�ش بيننا �أن يتم�سك بن�صرانيته…! وهذا املطلب عجيب غريب ،وهو غني عن كل تعليق .فهل ي�صح لهذا و �أ�ضرابه �أن يدعي �أنه يكمل مهمة نبيه × يف تبليغ الر�سالة وهداية اخللق ؟!. وقريب من هذا الفتاوى التي �صفّق لها كثرياً الذين يف قلوبهم مر�ض ،من �أمثال� :إباحة الربا الذي تتعامل به البنوك اليوم ،ومن مثل :القول بعدم وجود حد للردة يف ال�شريعة… .الخ .و�إذا ا�ستمر هذا النهج على ما هو عليه اليوم ف�سنجد �أنف�سنا �أمام دين يقبل كل �إ�ضافة ،كما يقبل �أي حذف ،وي�صبح قاب ًال للت�شكيل على ما ي�شتهي �أهل الأهواء وال�شهوات ،لأنه �صار �شيئاً لي�س بذي طعم -1فتح الباري 6/489 146
� 29/04/2010 11:09:17
�� ������ ���.indd 146
في إشراقة آية
وال لون وال رائحة… ولكن ذلك لن يكون -ب�إذن اهلل -مادام هناك من ين�شط يف تو�ضيحه والذود عن حيا�ضه. - 2مرونة الأ�ساليب وتنوعها: على مقدار ما تكون جذور الكلمة الطيبة و�أ�صولها را�سخة ثابتة تكون �أ�ساليبها مرنة نامية من َّوعة ،وهذا يف حد ذاته �أحد مقت�ضيات ثبات الأ�صول؛ ف�أحوال الب�شر و�أفهامهم خمتلفة ،ولذلك تعدد الأنبياء -عليهم ال�صالة وال�سالم -وتنوعت �شرائعهم ،و�صدق اهلل العظيم �إذ يقول:ﱹﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﱸ �إبراهيم ،14 :فالر�سول ُيك ِّلم النا�س بلغتهم التي يتكلمون بها على �أو�سع ما حتمله هذه الكلمة من دالالت ،والهدف هو� :أن يبني لهم ما يدعو �إليه، وقد �أخذ الأ�سلوب القر�آين من العرب كل م� ٍ أخذ ،وحتداهم ،وطاولهم يف التحدي، و�أقام عليهم احلجج الدامغة التي تنا�سب �أو�ضاعهم الفكرية �آنذاك .اللغة يف �أب�سط تعريفاتها هي :جمموعة الإمكانات التعبريية ال�سائدة يف بيئة من البيئات ،وهذه الإمكانات التعبريية تت�سع بات�ساع ح�ضارة الالغني بها ،وات�ساع غنى اخللفيات الثقافية لديهم ،وهذه الإمكانات دائمة التغري والت�شكل ،ومتر بعني الأطوار التي مير بها الكائن احلى من الوالدة �إىل املوت وما بينهما من مراحل ،ولغتنا الف�صحى تنمو �ضمن �أطر �صارمة ،فالفاعل لن يتطور لي�صبح جمروراً ،وامل�ضاف �إليه لن يتطور ليكون مرفوعاً ،ولكن بني تلك الأطر م�ساحات وا�سعة �شا�سعة تتحرك فيها اللغة على م�ستوى الرتاكيب والدالالت والأ�صوات ،وتلك احلركة ت�ساير وتناغم �شالالت ثقافة الأمة يف تنوعها ودرجة عنفها. 147
� 29/04/2010 11:09:17
�� ������ ���.indd 147
في إشراقة آية
لغة الع�صر: لنوع �أو لأنواع من العلم من �سمات حركة التاريخ �أن دور العبادة تظل كهوفاً ٍ مهما �ساءت �أحوال الأمة الثقافية ،وعلى امتداد تاريخنا الإ�سالمي كان علماء ال�شرع ي�شِّ كلون ال�سواد الأعظم من الك ّتاب والباحثني واملفكرين ،مما جعل اللغة التي يتكلم بها ال�صفوة من النا�س هي عني اللغة التي يتحدث بها الدعاة ،لأنهم هم الذين َّ �شكلوها ،وعلى �أل�سنتهم تطورت ومنت ...ولكن الزمان قد اختلف ،حيث �إن اللغة التي تتكلم بها النخبة اليوم تكونت من جهد ثقايف متنوع ف�أجهزة الإعالم واجلرائد واملجالت والق�ص�ص والروايات والكتب التي �صنفها باحثون تنوعت ثقافاتهم على م�ستوى امل�ضامني والأ�ساليب �أ�سهمت يف تلك اللغة ،وبفعل و�سائل االت�صاالت احلديثة �صار العامل مبثابة قرية �صغرية تكثفت فيها الآراء واالجتاهات والثقافات... وقد �أ�صبح يف هذا ٍ حتد عظيم لكل من يريد خماطبة النا�س والت�أثري فيهم� ،إذ �إنَّ اخللفية الثقافية للمخاطبني �صارت �أكرث تعقيداً ب�سبب ثراء ال�ساحة الثقافية وتنوعها ،مما �أ�سفر عن وجود حواجز كثرية ،على الكلمة �أن تتجاوزها قبل اال�ستقرار يف الذهن �أو العاطفة ،كما �صار التزام الدقة يف �أداء الكلمة �شرطاً �أ�سا�سياً للحيلولة دون وقوع الإ�ساءة يف فهمها،كما �صار اختيار العبارات املنا�سبة للحقيقة التي ُيراد �إي�صالها للمخاطب �أمراً �ضرورياً جداً ،ف�إذا كانت احلقيقة التي نريد تو�صيلها �أدبية �أو ح�ضارية ،ف�إن العبارة القادرة على اخرتاق احلجب هي التي حتمل يف تركيبها قابلية تعدد املعاين عند خمتلف الدار�سني ،بحيث يكون لكل منهم فيها حظه من التف�سري و الت�أويل ،ب�شرط �أن يكون ذلك �ضمن طاقة الرتكيب اللغوي الذي بني يديه� .أما احلقيقة العلمية و الكونية والعقدية و الفقهية ،فينبغي �أن ت�صاغ بعبارة غاية يف الدقة 148
� 29/04/2010 11:09:17
�� ������ ���.indd 148
في إشراقة آية
ال تدع جما ًال �إال ملعنى واحد ،كما �أن ذلك املعنى ال يجد دقة �صياغته �إال يف تلك العبارة ،ف�إذا مل يراع املتحدث �أو الكاتب هذا �أحدثت عباراته للنا�س فتناً ،و�أوقعته يف الريبة مع �سالمة ق�صده ،وفتحت عليه من نوافذ النقد ما ال ِقبل له به. من خ�صائ�ص لغة الع�صر: يتمخ�ض عن تالطم الأفكار والثقافات املختلفة قناعات ومفاهيم يف �أذهان ال�سواد الأعظم من النا�س ،وهذه املفاهيم قد تكون �صحيحة ،وقد ال تكون ،لأنها ال ترتكز يف �أكرث الأمر على حقائق مو�ضوعية بقدر ما تنبع من قوة الف َّعاليات على ال�ساحات الثقافية والفكرية ،وهذه القناعات ت�شكل مفردات الرتكيب الذهني لدى النا�س، مما يجعل امت�صا�صهم للمعلومات التي يطلعون عليها ذا �سمات خا�صة تن�سجم مع ذلك الرتكيب ،وحينئذ ف�إن الداعية مطالب مبعرفة تلك القناعات واملفاهيم ،كما �أنه مطالب بتح�س�س الرتكيب الذهني ال�سائد يف ع�صره حتى يخاطب النا�س بل�سانهم، ومن تلك ال�سمات: �أ -اعتماد الإح�صاء عو�ضاً عن الفل�سفة: كانت الفل�سفة ت�سمى ملكة العلوم ،وذلك ب�سبب ت�أثري منهج �أر�سطو يف منحنيات الفكر الب�شري وم�ساراته ،وقد كان النا�س �إىل عهد قريب ي�سمون من �أوتي فيهم مقدرة خا�صة على التعبري بـ (الفيل�سوف) ،بل �إن بلداً مثل بريطانيا مازال ي�ستخدم كلمة (فل�سفة) يف �شهادات التخ�ص�صات العليا لديه .وقد ت�أثر الفكر الإ�سالمي قدمياً باملنطق الأر�سطالي�سي ،وت�سربت مقوالته و�أقي�سته �إىل كثري من كتب الأ�صول والفقه والعربية ،بل العقيدة ،ذلك الفكر الذي ال يقيم للتجربة �أدنى وزن ،ومن الطرائف املتناقلة يف هذا �أن �أر�سطو كان يزعم �أن �أ�سنان الرجل �أكرث من �أ�سنان املر�أة! ولو �أن 149
� 29/04/2010 11:09:17
�� ������ ���.indd 149
في إشراقة آية
وعد �أ�سنانها لعرف �أن زعمه حديث خرافة ..وقد �أدركت �أوربة زوجته فتحت فمها َّ يف �أوائل ع�صر نه�ضتها �أن ال نه�ضة وال تقدم قبل نبذ الفكر الأر�سطي القيا�سي ،ثم االجتاه �إىل التجريب لتتويجه ملكاً على العلوم املادية ،ومن ذلك اليوم بد�أت قناعات النا�س تنحو منحى لغة الرقم ال�ستفتائها والبناء عليها ،وهذه نقطة �إيجابية �إذا �أح�س ّنا التعامل معها ،ولكن كثريين م َّنا مازالوا غري واعني بهذه احلقيقة ،مما يجعلهم ي�ستمرون يف �سوق احلجج العقلية مع توفر �أرقام واقعية تدعم قولهم ،وت�ؤيده ،وعلى �سبيل املثال حمددة على ما ميكن �أن ينتج من الأمن والرخاء ف�إن تقدمي مناذج واقعية ذات �أرقام َّ نتيجة تطبيق احلدود والنظام االقت�صادي الإ�سالمي �أجدى و�أجنع بكثري من �سرد جملدات من العلل واحلجج العقلية التي ت�شرح فوائد االلتزام بالإ�سالم� ،أو تلك التي تو�ضِّ ح �سلبيات الربا وتطبيق القوانني الو�ضعية. ومن املفيد هنا �أن نقول� :إن �أر�سطو �أن�ش�أ فن اجلدل لي�سد الثغرات التي يرتكها ن�شئت فل�سف ُة التاريخ فيما بعد لت�سد اال�ستقراء الناق�ص للأحداث والأفكار؛ كما �أُ ْ النق�ص يف التفا�صيل التاريخية� ،أما اليوم فقد �أ�ضحى الإح�صاء �أحد �أهم ال�سمات البارزة لع�صرنا ،مما ي�س ِّهل ا�ستخدامه حتى نخفف من اجلدل واملماحكات اللفظية العقيمة. ب -رف�ض التعميم: قد تعقدت احلياة ،وكرثت التفا�صيل فيها �إىل درجة جعلت تعميم الأحكام يف �أكرث الأحيان �أمراً بعيداً عن احلقيقة؛ و�صار التعميم يف لغتنا �أحد �أهم الثغرات التي ينفذ منها اخل�صم لهدم ما نقوله ،ومتييع الق�ضايا التي نعرِ�ضها .على �أن التعميم مرفو�ض يف املنهج الإ�سالمي ب�صورة عامة ،ومن ثم كرثت الآيات الكرميةالتي ترد فيها 150
� 29/04/2010 11:09:17
�� ������ ���.indd 150
في إشراقة آية
كلمة (�أكرث) ،وكلمة (كثري) مبعنى �أكرث ،كما �أن يف ال�سنة ما ين�سجم مع هذا من مثل قوله ×�( :إن �أعظم النا�س فرية ٌ لرجل هاجى رج ًال فهجا القبيلة ب�أ�سرها)(.)1 واملحدثون الذين يت�سم عملهم بالدقة والإتقان كانت لهم تفريقات رائعة يف ِّ �أبواب نقد الرجال واحلكم على الأحاديث من مثل قول مالك -رحمه اهلل �(:-إن من �شيوخي من �أتربك بدعائه ،ولكن ال �أقبل روايته ) ،ومن مثل قولهم :فالن �صدوق �إال �أنه غري �ضابط.. فالتعبري بـ (االجتاه العام� ،أو االنطباع العام� ،أو الأقرب �أو الأكرث) هو الأدنى من احلق والأكرث ان�سجاماً مع لغة الع�صر. ج -النفور من الوعظ املبا�شر: َّ عكر الن�سيج الثقايف القائم اليوم الر�ؤي َة عند كثري من النا�س ،كما �أف�سد الكثري من الفطر ال�سليمة ،كما �أدى منو اخل�صائ�ص الفردية يف �صورة م َر�ضية يف بع�ض الأحيان، �إىل ت�ضخيم اخل�صو�صيات لتن�سحب على كثري من �ش�ؤون احلياة العامة التي هي �أقرب �إىل العموميات ،وقد �أدى ذلك كله �إىل تكوين مزاج ال يرتاح للوعظ املبا�شر، و�صار ُينظر �إليه يف بع�ض الأحيان على �أنه خروج عن اللباقة والآداب االجتماعية املرعية� ،أ�ضف �إىل هذا �أن انخفا�ض نوعية بع�ض الدعاة -كما هو �ش�أن �أكرث الأمة- يف جانب االلتزام يجعل قبول النا�س للموعظة �أمراً غري �سهل ،ومن ثم فالبد من االعتماد على الإيحاء والتلميح و�ضرب الأمثال وغريها �أ�سلوباً للخطاب و�إنِّ زكانة الداعية تفتح له يف كل يوم �آفاقاً جديدة يف هذا. � 1أخرجه ابن ماجه والبيهقي قال الهيثمي :رجاله ثقات و�إ�سناده �صحيح . 151
� 29/04/2010 11:09:17
�� ������ ���.indd 151
في إشراقة آية
د -االخت�صار: النا�س اليوم يف عجلة من �أمرهم؛ حيث �إن امل�ستوى املادي الذي يطمحون �إليه جعل الوقت ي�ضيق عن ال�شروح الطويلة وتكرار البدهيات وا�ستخدام املرتادفات ،مما يقت�ضي الإيجاز -غري املخل -يف �إي�صال الأفكار واملعلومات �إليهم ،و�صار الإطناب من ف�ضول القول. هـ -ال�ضيق باملبالغات: مرت على �أمتنا بع�ض الفرتات التاريخية التي �سادت فيها املح�سِّ نات البديعية، و�صار �إطالق الألقاب الفخمة يجري دون �أي اعتبار �أو حتاكم �إىل الواقع ،ويقف املرء على هذا يف مقدمات بع�ض الكتب ،وما ُيط َّرز به �أ�سماء م�ؤلفيها من ال�صفات التي تبتعد عن احلقيقة قلي ًال �أو كثرياً؛ لأنها ال ت�ستند �إىل قاعدة من املعلومات ال�صحيحة املجدد جمال الدين ،فريد ع�صره ،ووحيد دهره الذي كما يف قولهم :البحر ال َع َلم ِّ مل تقع العني على مثله ...وتطلق هذه الأو�صاف على ع�شرات من العلماء الذين يعي�شون يف ع�صر واحد� ،أو يف بلد واحد يف بع�ض الأحيان .وكانت هذه الإطالقات جمافية ملا عرف عن �سلف هذه الأمة ،بل ملا عرف عن منهجه × حيث �أثنى على كثري من �أ�صحابه ،وو�صفهم ب�صفات حمددة ،فواحد �أعلمهم بالقراءة ،و�آخر بالق�ضاء ،وثالث باحلالل واحلرام ،وهكذا ..ومل تقت�صر املبالغة على �إطالق الألقاب، بل جتاوزت ذلك �إىل �أن �أ�صبحت جزءاً من االعتبارات الذهنية والعلمية عند كثري من النا�س ،وقد عاد الأمر �إىل ن�صابه يف لغة الع�صر ،و�صارت املبالغة مملولة ممجوجة. و -التجديد: كان من خُ لق بني �إ�سرائيل �أنهم ال ي�صربون على طعام واحد ،وقد ان�سحب هذا 152
� 29/04/2010 11:09:17
�� ������ ���.indd 152
في إشراقة آية
اخل ُلق اليوم على كثري من جوانب احلياة يف امل�سكن وترتيب �أثاثه ،واملالب�س و�أ�شكال تف�صيلها ،واملراكب و�أنواعها ،و�ش�أن النا�س يف الق�ضايا املعنوية نح ٌو من هذا ،فهم تواقون �إىل اجلديد من املعاين والأفكار والأ�ساليب ،ولديهم �شعور بجمود وق�صور من ال يواكبهم يف ذلك ...ولي�س يف التجديد ما ُي َذ ُّم �إذا َّمت مع املحافظة على الأ�صول والثوابت ،بل قد ال تتم املحافظة على الأ�صول �إال من خالل التجديد يف الو�سائل والأ�ساليب ،حيث ُتعر�ض ب�أ�شكال تن�سجم مع روح الع�صر. ز -املعاجلة العملية: تقدم العلوم على ال�صعد العملية َّ ح�س النا�س ومنطقهم العام يف امليل ُّ �شكل َّ �إىل الواقعية واالرتياح �إىل ال�صيغ العملية ،ونظام اخلطوات املتتابعة ،التي ت�سلم كل واحدة منها �إىل الأخرى يف طريق الو�صول �إىل هدف �أو حل م�شكلة ،و�صارت ملحة �إىل (كيف) ،ومل يعد طرح املبادئ كافياً وحده ،حيث مل يعد جمدياً احلاجة َّ الرتديد لنحو :البد من رفع امل�ستوى اخللقي لدى الفرد� ،أو البد من ن�شر الدعوة بني النا�س ،بل �أنت مطالب ب�أكرث من هذا ،مطالب ببيان الإمكانات املتاحة ،ثم بيان املنهج واخلطط والأدوات التي ميكن ا�ستخدامها يف اال�ستفادة من تلك الإمكانات؛ وذلك لأن تعقد الأ�شياء وت�شابكها يحتاج �إىل نوع مكافئ من تعقد الفاعلية على م�ستوى اخلطط والأ�ساليب والأدوات. ح -عدم قبول تف�سري الظواهر الإن�سانية بعامل واحد: الإن�سان ذو �أبعاد ف�سيحة و�أغوار عميقة ،وكل الظواهر التي تت�صل به على درجة عالية من التعقيد على م�ستوى الأفكار واملبادئ واملواقف والعادات ،يف االجتماع واالقت�صاد ...كل �أولئك يت�شكل ويتبلور نتيجة ن�سيج معقد من العوامل ،و�إذا كان 153
� 29/04/2010 11:09:17
�� ������ ���.indd 153
في إشراقة آية
هذا هو الواقع ف�إن تف�سري �أية ظاهرة �إن�سانية وتعليلها بعلة مفردة غري �صحيح وال دقيق؟ ي�صح �أن يقال مث ًال� :إن ال�شعب الأفغاين �صمد يف وجه املحتلني ب�سبب �إميانه �أو فال ُّ ب�سبب �صعوبة ت�ضاري�س �أر�ضه من جبال وكهوف� ،أو ب�سبب ر�صيد الفطرة لديه� ،أو ب�سبب العون اخلارجي� ..إنه مل ينفرد �سبب واحد من هذه الأ�سباب بوالدة ظاهرة ال�صمود ،بل �إنها جميعاً مع �أ�سباب �أخرى �أ�سهمت يف �إيجاد و�ضع متميز ي�ستمد متيزه من خ�صو�صية �شروطه و�أ�سبابه ،وهكذا... كيف منتلك لغة الع�صر ؟ يف العامل اليوم ما ي�سمى بثورة املعلومات ،مما يفر�ض على املثقف امل�سلم �أن ير�سم لنف�سه خطة تثقيفية خا�صة تنا�سب رغباته واخت�صا�صه العلمي ،واملهمة التي ندب نف�سه �إليها .وامل�شكلة الكربى تكمن يف عزوف كثري من النا�س عن القراءة ف�أمة (اقر�أ) مل تعد تقر�أ ،مما �أوجد نوعاً من اخللخلة الثقافية يف �ساحتنا الفكرية ،وجعل كثرياً من �أهل اخلري عاجزين عن فهم لغة الع�صر ،و�إذا عزم املرء على القراءة فالبد له من القراءة الوا�سعة يف �شتى �أنواع العلوم ،وعليه �أن يقر�أ لكل املدار�س حتى ال يقع فري�سة لالنغالق الفكري �أو �ضحية للأفكار الفقرية التي تظهر يف �أ�ساليب �شتى، والبد ملن يريد �أن ي�سري يف طريق االنفتاح الثقايف من ثقافة �شرعية �أ�سا�سية يتمكن بها من حتديد الثوابت ،والتي من �أكرب ف�ضائلها دوا ُمها وا�ستقرارها -حتى ال ينجرف مع نتاج املدار�س والتيارات التي يقر�أ لها ،كما البد له من حماولة امتالك منهج يف التفكري ي�ستند �إىل وعي �صحيح ب�أحداث املا�ضي ،ووعي جيد بظروف احلا�ضر ،حتى يتمكن من امتالك ر�ؤية وا�ضحة لكيفية عمل �سنن اهلل يف الأنف�س والآفاق� .إن الذي ميلك �شذرات من املعلومات كمن ميلك ِقطعاً من الذهب� ،أما الذي ميلك منهجاً 154
� 29/04/2010 11:09:17
�� ������ ���.indd 154
في إشراقة آية
ذا مناذج خا�صة ،ف�إنه ميتلك مفتاح منجم من الذهب ،ف�إذا ح�صل على هذا وذاك ف�إن االنفتاح يف االطالع يكون خرياً كله ،وحينئذ يتجاوز الداعية مرحلة ال�سيطرة على اللغة لي�صبح من مطوريها ،لكن البد قبل االنهماك يف القراءة من اختيار ما يقدرون م�س�ؤولية الكلمة ،والذين ال يدفعون نقر�أ ،فلنقر�أ للعباقرة ،ولأولئك الذين ِّ بكتابهم �إىل املطبعة �إال بعد االعتقاد ب�أنه ي�شكل �إ�ضافة جديدة للفكر الإن�ساين. - 3دوام نفعها: �إن ال�شجرة الطيبة التي �ضربها اهلل ـ تعاىل ـ مث ًال للكلمة الطيبة دائمة الثمار، ودميومة عطائها نابعة من تنا�سق ال�صفتني ال�سابقتني :ثبات اجلذور ،وب�سوق فروعها يف جو ال�سماء ،والكلمة التي ال جذور لها ال ت�ستطيع �أن ت�صنع �شيئاً ،والأفكار التي تبثها تكون ق�صرية العمر كزهور الربيع؛ والكلمة التي ال تن�سجم مع لغة الع�صر ال ت�ستطيع مالم�سة �أعماق الإن�سان الذي تقرع �سمعه ،والذي و�صفناه ب�أنه بالغ التعقيد. املقيا�س الذي نتعرف به على الكلمة الطيبة ،وهذا وقد م َّلكتنا هذه الآيات الكرمية َ املقيا�س هو :ﱹ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﱸ ،فنحن �إذا �أردنا من هذا املنظور �أن نقي�س �أداء خطب اجلمعة يف عاملنا الإ�سالمي و�آثارها يف ترقية فهم النا�س للإ�سالم والتزامهم به وجدنا �أن �أطناناً من الورق تكتب �أ�سبوعياً دون �أن ت�ؤتي الثمار التي تتنا�سب مع حجم ذلك اجلهد املبذول ،وذلك ب�سبب الق�صور يف الأ�سلوب. �إن من مهمات املثقَّف امل�سلم �أن يعي�ش ع�صره ،ويكون م�ؤثراً ال مت�أثراً ،و�أن يكون له دور يف �صياغة لغة الع�صر.
155
� 29/04/2010 11:09:17
�� ������ ���.indd 155
في إشراقة آية
156
� 29/04/2010 11:09:17
�� ������ ���.indd 156
في إشراقة آية
ﯡﯢﯣ هذه �آية جليلة ال�ش�أن يف الكتاب العزيز �سرت م�سرى املثل ،وذاعت على الأل�سنة والأقالم؛ لأنها تعني وجوب اال�ستفادة من تراكم اخلربات الب�شرية ،و�أخذ العظة والعربة من �أحوال الأمم ال�سابقة ،واملعا�صرة توفرياً للجهد ،واخت�صاراً للطريق ،وفراراً من عذاب ق�ص اهلل ـ تعاىل ـ علينا يف �سورة احل�شر ق�صة جالء بني الن�ضري من اهلل؛ تعاىل ...وقد َّ املدينة �إىل خيرب وال�شام مبيناً وقوع ما لي�س يف احل�سبان ،فقال تباركت �أ�سما�ؤه:ﱹ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ
ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚﯛ ﯜ
ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﱸ احل�شر.2 : قد كان خروج بني الن�ضري يف تلك ال�صورة املهينة الذليلة حدثاً بعيداً عن �أذهانهم و�أذهان امل�سلمني لأن الأ�سباب املادية التي �أخذ بها القوم كانت على درجة من الإتقان والإحكام حتول دون ت�صور ما وقع.. ولكن العزيز اجلبار الذي ال را َّد لأمره ،وال معقِّب حلكمه �أتاهم من حيث مل 157
� 29/04/2010 11:09:17
�� ������ ���.indd 157
في إشراقة آية
يحت�سبوا� :أتاهم من الداخل ،ف�ألقى يف قلوبهم الرعب ،فخارت عزائمهم ،و�أدركوا �أنَّ ق َّوتهم ما عادت تغني عنهم �شيئاً ،وما �أ�شبه الليلة بالبارحة!فهذه هي النظرية ال�شيوعية تنهار اليوم يف �أ�سرع مما كان يدور يف خلد الب�شر ،وهذه هي مئات الألوف من الكتب واملجلدات التي ُ�س ِّطرت يف فل�سفة النظرية وترويجها وتكييف الب�شر معها تغدو رماداً ت�سفوه رياح التغيري العاتية يف وجوه ال�سدنة والكهنة ..قد كان �سقوط النظرية ال�شيوعية �أمراً ال مفر منه ،ولكن املذهل هو انهيار البناء الذي �أنفق فيه ثالثة �أرباع القرن من الزمن مع �إزهاق ماليني الأنف�س ،وما ال يح�صى من الآالم والعذابات و�صنوف املعاناة الإن�سانية يف �أ�سرع من ملح الب�صر! قد كانت �أفكار (كارل مارك�س) رد فعل حلرمان طويل ومعاناة �شخ�صية قا�سية، والنامو�س العام لردود الأفعال البعد عن املو�ضوعية وفقدان االتزان ،وقد قبل �أفكار (كارل مارك�س) يف البداية �صنفان من الب�شر� :صنف طحنه الظلم واحلرمان ،وتق َّلب دهراً يف التعا�سة ،وطرق كل باب للخروج من نفق الظلمات الذي ولد فيه ف�إذا فهب �إىل بنظرية تعده بج َّنة على الأر�ض ُتن�سيه طعم كل ما م�ضى من العناء والبالءَّ ، اعتناقها والرتويج لها على �أنها احلل الأخري واملخرج الوحيد ،وال�صنف الآخر -وهم الكرثة من الأ�شياع -وجد يف ال�سلطات املطلقة التي تركزها النظرية يف قب�ضة احلزب ال�شيوعي والدولة املارك�سية ما يلبي من خالله كل طموحاته ال�شخ�صية من اجلاه واملال والت�سلط ،وما يتفرع عن ذلك من �شهوات وملذات وم�صالح ..ومل مي�ض وقت طويل حتى �أدرك الذين كانوا يحلمون بالفردو�س �أن ا ُخلرب غري ا َخلرب و�أن املح�صول غري امل�أمول ..ولكن �إدراك ال�شعوب كثرياً ما ي�أتي مت�أخراً بعد فوات الأوان ..فقد ركزت احلكومات البل�شفية املتعاقبة على �صناعة 158
� 29/04/2010 11:09:17
�� ������ ���.indd 158
في إشراقة آية
ال�سالح دون باقي ال�صناعات حتى تتمكن من ك�سر �شوكة �أي معار�ضة حمتملة للثورة على حني �أنها مل توفر ل�شعوبها �أحذية جيدة تنتعلها ..وجمعت �إىل ذلك جتنيد ع�شرات الألوف من املخربين ال�سريني الذين يح�صون �أنفا�س ال�شعوب وي َّعدون نب�ضات قلوبهم، وجل�أت ال�شعوب �إىل �سالحها املا�ضي وحيلتها الأخرية ،ف�شرعت يف املقاومة ال�سلبية، و�أدارت ظهرها خلطط التنمية املتعاقبة التي كانت ت�ضعها احلكومات ال�شيوعية .ومن البدهي �أن احلكومة تخطط ،و�أن ال�شعب ينفِّذ ف�إذا مل ينفِّذ ال�شعب كانت اخلطط حرباً على ورق �أو �صرخة يف واد ،وهذا ما جرى ،فكان كل عام مير يعنى مزيداً من الفروق املعي�شية واحل�ضارية بني �أتباع ال�شيوعية و�أتباع الر�أ�سمالية ،وحني انهار جدار (برلني) �أدرك الأملان ال�شرقيون -الذين كانوا ُيد ُّلون ب�أنف�سهم على �أ�شياعهم من �أبناء �أوربا ال�شرقية -الفجوة ال�ضخمة التي تف�صلهم عن الأملان الغربيني ،فالدخل عند الغربيني ع�شرة �أ�ضعاف الدخل عند ال�شرقيني ،والهواتف ع�شرة �أ�ضعاف و�أعداد ال�سيارات م�ضاعفة ،وهكذا �أ�شياء كثرية على هذه الالزمة.. وفى اعتقادي �أن الأحزاب ال�شيوعية انهارت بهذه ال�صورة؛ لأنها عجزت عن بناء ح�ضارة منا�سبة للع�صرُ ،تغني �شعوبها عن تكفف الآخرين ،وتوجِ د الثقة بالأ�س�س النظرية التي قامت عليها ،و�أ�سباب �أخرى من هذا القبيل ،ال نق�صد هنا �إىل تعدادها. هل من معترب ؟ كانت الأحزاب ال�شيوعية واحلكومات التابعة لها بحاجة �إىل نوعني من املراجعة: الأول :مراجعة �أ�صول النظرية وقواعدها الأ�سا�سية والتي �أثبتت ال�سنني �أنها خيالية ومتناق�ضة. الثاين :قيا�س �أداء النظرية من خالل الواقع الذي �أفرزته التجربة الطويلة ،ملعرفة 159
� 29/04/2010 11:09:17
�� ������ ���.indd 159
في إشراقة آية
مكامن اخللل وموا�ضع الداء يف النظرية والتطبيق .ومع �أن (برجنيف) كان يقول: �إذا مل ن�ستطع ك�شف الأخطاء َق َتلتنا ،ف�إن �سدنة الأحزاب ال�شيوعية بدءاً بقائل هذه احلكمة مل ي�ستطيعوا الك�شف عن �أي خط�أ ذي �ش�أن ف�ض ًال عن القدرة على �إ�صالحه .وكان ال�شغل ال�شاغل هو التربير والدفاع ،والثناء باجلملة على الو�ضع القائم ،وفى عاملنا الإ�سالمي اليوم الكثري الكثري من الأخطاء و�أ�صناف الق�صور على امل�ستويات كافة ،ووجود الأخطاء �أمر طبيعي؛ ذلك لأن حركة الزمن تدع الكثري من اجلديد بالياً ،وتوجِ ب ا�ستمرار االجتهاد والتكييف بني املبد�أ وامل�صلحة ،وبني الو�سائل والغايات ،وبني الأ�ساليب والأهداف ،وخالل عمليات التكييف هذه حت�صل مفارقات تحُ �سب للأمة تارة ،وعليها تارة �أخر ى. والأمة احلية اليقظة ال تكف �أبداً عن عمليات املراجعة وقيا�س �أداء املناهج والأ�ساليب والأ�صول ،كما ال متل من بحث امل ِّعوقات وطرح احللول لها ،و�إذا كان الآخرون يحتاجون �إىل نوعني من املراجعة ف�إننا بحمد اهلل ن�سري يف طريق الحبة ر�سمها الأ�صفياء الأولون من ر�سل اهلل و�أوليائه ،ومن ثم ف�إننا يف حاجة �إىل نوع واحد منها ،وهو الت�أكد من موافقة خطانا لروح ال�شريعة الغراء ون�صو�صها ومدى توافر ال�شروط النف�سية واالجتماعية التي يجب توافرها يف حياة خري �أمة �أخرجت للنا�س. وتت�شخ�ص هذه املراجعة يف املفردات التالية: - 1امتالك ال�شجاعة الكافية لالعرتاف بالأخطاء ،و�أنواع التق�صري يف م�سريتنا احلياتية. - 2التفريق الدقيق بني الأمرا�ض ،و�أعرا�ضها حتى ال نعالج مظاهر املر�ض 160
� 29/04/2010 11:09:18
�� ������ ���.indd 160
في إشراقة آية
و�أعرا�ضه ،ونرتك حقيقته ،فيكون العالج م�ؤقتاً. -3البحث يف البنى التحتية لتلك الأخطاء للوقوف على عللها الأوىل و�أ�سبابها احلقيقية اهتداء بقوله تعاىل :ﱹ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﱸ العنكبوت.20 : -4التغيري يف براجمنا و�أ�ساليبنا مبا يتنا�سب مع نتائج تلك املراجعات. -5و�ضع ِ �ص َمام الأمان الذي يحول دون تكرار الوقوع يف تلك الأخطاء. -6غر�س روح حتمل امل�س�ؤولية يف �أفراد الأمة والرتبية على ال�شجاعة الأدبية الباعثة على حما�صرة اخلط�أ والنقد الب َّناء ،وتنمية روح املبادرة الفردية لديهم. �إذا فعلنا هذا ف�إنا نكون قد �ضم ّنا ا�ستمرار الثقة ب�أ�صولنا االعتقادية والفكرية، و�أوينا �إىل ركن �شديد يع�صمنا من الأعا�صري العاتية واالنهيارات املدمرة. ولي�س هذا بعزيز ،على وارثة تراث الأنبياء واملك َّلفة بتبليغ كلمة ال�سماءالأخرية. وهلل الأمر من قبل ومن بعد.
161
� 29/04/2010 11:09:18
�� ������ ���.indd 161
�� ������ ���.indd 162
29/04/2010 11:09:18 �
في إشراقة آية
ﭼﭽﭾﭿ ﮀﮁ ِّ ي�شكل انهيار العالقات االجتماعية واحدة من �أهم امل�شكالت التي تعانى منها وح ِّكمت امل�صالح اخلا�صة يف املجتمعات احلديثة حيث منا ال�شعور بالفردية والتوحدُ ، كثري من �شئون احلياة ،وقد �أ�صاب �أم َة الإ�سالم �شيء من ذلك ،فا�ضمحلت �ضوابط الرتبية االجتماعية التي ت�شكل احل�س اجلماعي لدى الفرد امل�سلم مما �أ�شاع الفو�ضى الفكرية واالجتماعية ،وت�ضخمت م�شكالت امل�سلمني االقت�صادية ،لأن عمليات التنمية ال تتم على ما ينبغي يف جمتمع واهي الروابط خمتلف الأفكار واملفاهيم. من هنا �شددت تعاليم الإ�سالم على �ضرورة املحافظة على العالقات االجتماعية و�إقامتها با�ستمرار على هدي الر�سالة اخلامتة التي ُت َع ُّد ا�ستمراراً لدعوات الأنبياء؛ ق�ص اهلل تعاىل علينا �أخبار الأمم عليهم ال�صالة وال�سالم ،وحتقيقاً لذلك التوا�صل َّ ال�سابقة والعواقب الوخيمة التي انتهوا �إليها حني �شاعت فيهم االنحرافات واملخالفات دون �أن يرفع �أحد منهم ر�أ�ساً� ،أو يقول كلمة لأولئك الذين ي�ستعجلون �أيام اهلل لأنف�سهم و�أممهم فقال تعاىل:ﱹ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ 163
� 29/04/2010 11:09:18
�� ������ ���.indd 163
في إشراقة آية ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ
ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﱸ املائدة.79-78 : فقد �أجرم القوم مرتني :مرة حني وقعوا يف الآثام ،و�أخرى حني تركوا املعا�صي ت�شيع فيهم دون �أن تتحرك فيهم روح التناهي عنها ،وقد جاء يف احلديث ما يف�سر تدرجهم نحو احلال التي ا�ستوجبت لهم اللعن ،فقد روى ابن م�سعود عن ر�سول اهلل × �أنه قال� ( :إن �أول ما دخل النق�ص على بني �إ�سرائيل �أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول :يا هذا اتق اهلل ودع ما ت�صنع؛ ف�إنه ال يحل لك ،ثم يلقاه من الغد وهو على حاله ،فال مينعه ذلك �أن يكون �أكيله و�شريبه وقعيده ،فلما فعلوا ذلك �ضرب اهلل قلوب بع�ضهم ببع�ض ثم قال :ﱹ ﭩ ﭪ ﭫﱸ ( ،)1قد طال العهد ب�صاحلي بني �إ�سرائيل ،فبد�أت املناكر تزحف �إىل حياتهم عن طريق �أهل الأهواء وال�شهوات ،وكان فيهم �صاحلون ،فقاموا ونهوا �أ�صحاب املعا�صي ووعظوهم ،ولكن ه�ؤالء ت�أ�صل فيهم املنكر ،و�صار النزوع عنه �أمراً ع�سرياً ،وكان الأمر يتطلب من �صاحليهم َج َلداً و�صرباً ومفا�صلة �إال �أن درجة التوتر احليوي عند �أولئك ال�صاحلني مل تكن كافية بحيث ي�شعرون بالتميز وي�شكلون تياراً نَ�شِ طاً يحا�صر �أولئك الع�صاة ،و ُي ْ�شعرهم بال�شذوذ و الوقوع يف الإثم...وكانت املرحلة التالية �سيطرة �شعور العجز وال�ضعف على �أولئك ال�صاحلني مما جعلهم يخالطون �أهل املعا�صي ،وير�ضون عن �أعمالهم� ،أو يظهر للناظر �أنهم كذلك ،ف�ضاعت معامل احلق ،وجاءت �أجيال تالية ،فن�ش�أت يف االنحراف، و�شبت فيه ،و�صار التفريق بني املعروف واملنكر �أمراً غري متي�سر لكل النا�س. وح�سنه . �-1أخرجه الرتمذي َّ 164
� 29/04/2010 11:09:18
�� ������ ���.indd 164
في إشراقة آية
بع�ضها ببع�ض ،وهذه العبارة يف احلديث وكانت العاقبة �أن �ضرب اهلل قلوبهم َ النبوي ترمز �إىل حالة من الفو�ضى امل�صحوبة بالعذاب حيث فقدت جتمعاتهم ال�شروط ال�ضرورية لبقائهم وا�ستمرارهم املادي واملعنوي ،فكانت �أيام اهلل يف خامتة املطاف جزاء ما فعلوا. �إن كل جمتمع مهما بلغ من الف�ضل والرقي ال ي�ستغنى عن �شريحة تتمثل فيها املثل العليا لذلك املجتمع ،حتفظ عليه وجوده املعنوي املتمثل يف عقيدته و�أخالقه و�ضوابط عالقاته ،وه�ؤالء ميثلون اخلريية يف ذلك املجتمع كما قال عليه ال�صالة وال�سالم» :ما من نبي بعثه اهلل يف �أمة قبلي �إال كان له يف �أمته حواريون و�أ�صحاب ي�أخذون ُب�س َّنته ويقتدون ب�أمره ،ثم �إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ماال يفعلون� ،)1( «...إن ه�ؤالء الآمرين باملعروف الناهني عن املنكر ميلكون من التوهج هم َهم الأكرب ،في�سعد بهم هم جمتمعهم َّ يف �أرواحهم واحليوية يف نفو�سهم ما يجعل َّ ذلك املجتمع �إذ يحفظون عليه توازنه وا�ستقامته و�شروط ا�ستمراره ،وكما ال ي�شرتط ل�صحة املجتمع ج�سمياً وبيئياً �أن يكون كل �أفراده من الأطباء كذلك ال ي�شرتط يف املجتمع امل�سلم �أن يكون كل �أفراده من الدعاة النا�صحني ،ولكن ينبغي �أن تتوفر ن�سبة كافية يف املجتمع م�سموعة ال�صوت وا�ضحة الت�أثري متلأ الفراغ الثقايف ،ومتلك من الو�سائل امل�ؤثِّرة ما ي�سمح با�ستمرار و�ضوح جادة احلق واخلري وال�صواب ،وي�سمح با�ستمرار �سنة املدافعة بني احلق والباطل على وجه مكافىء ،وهذا ما ي�شري �إليه قوله ـ عز ا�سمه :-ﱹ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ -1رواه م�سلم . 165
� 29/04/2010 11:09:18
�� ������ ���.indd 165
في إشراقة آية
ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﱸ �آل عمران.104 : وقد جرت �سنة اهلل يف االبتالء �أن تلقى هذه الفئة الطيبة اخلرية املُ َحا َربة دائماً، وتلقى الأذية والعنت ،وما ذلك �إال لأنها ت�سري يف االجتاه امل�ضاد لأهل ال�شهوات والأهواء الذين ميكن �أن ن�سميهم بـ ( املختزلة ) حيث يكثِّفون هموم الب�شرية كلها يف هم واحد هو همهم ،ويتجاوزون رغبات اخللق ،وم�صاحلهم -مهما عظمت� -إىل رغباتهم وم�صاحلهم هم ...وعلى كل حال ف�إن الذي يظن �أن يف ا�ستطاعته �أن ي�سري يف دروب الأنبياء ـ عليهم ال�صالة وال�سالم ـ مق ِّوماً للمعوج وحمارباً للأهواء وال�شهوات ونا�صراً للمظلوم ،ثم ال يلحقه �شيء مما حلق بهم ،فهو واهم يف ذلك ،و�إىل هذا �أ�شار لقمان وهو يعظ ابنه حني قال :ﱹ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﱸ لقمان 17 :فقد �أ�شعر ابنه مبا ميكن �أن يلحقه من الأذية �إذا هو قام بواجب الأمر باملعروف ،والنهي عن املنكر ،ولكن نظراً عد قلبها الناب�ض وب�صريتها للأخطار التي تهدد الأمة بخل ِّوها من هذه ال�شريحة املباركة التي ُت ُّ النافذة ،ف�إن اهلل ـ تعاىل ـ قرن حماربة هذه الفئة بالكفر به وقتل ر�سله حيث قال ـ َّ جل وعال: ﱹﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪ
ﯫ ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﱸ �آل عمران.22-21 : واليوم والأمة ت�سعى جاهدة �إىل اخلروج من نفق الظلمات ناف�ضة عنها غبار ال�ضعف والفرقة والتبعية والتخلف؛ تكرث امل�شاريع احل�ضارية املطروحة يف البالد الإ�سالمية من قبل �أهل العلم والفكر ،كما يكرث ال�ضرب يف الأر�ض لدرا�سة التجارب احل�ضارية احلديثة ،واملعا�صرة للأمم الأخرى ،والنتيجة امللمو�سة �إىل هذه ال�ساعة من وراء كل 166
� 29/04/2010 11:09:18
�� ������ ���.indd 166
في إشراقة آية
ذلك �سلبية ،وال�سبب يف ذلك -واهلل �أعلم � -أننا ن�أتي البيوت من غري �أبوابها ،ذلك لأن التخلف املادي الذي يعاين منه امل�سلمون لي�س هو املر�ض ولكنه من �أعرا�ض املر�ض ،واملعاجلة ال�صحيحة تكون بتفح�ص املر�ض و�أ�سبابه وجذوره ،ف�إذا عاجلنا املر�ض ذهبت كل �أعرا�ضه� ،أما املر�ض فهو كامن يف اخللل الذي �أ�صاب ر�ؤية امل�سلمني للدنيا والآخرة ،واخللل الذي �أ�صاب �أخالقهم ومقا�صدهم وعالقاتهم بع�ضهم ببع�ض ،مما �أوجد مفا�سد جمة ،قعدت بال�سواد الأعظم من امل�سلمني عن �أن يكونوا َلبِنات �صاحلة يف �أي بناء ح�ضاري ٍفذ متميزٍ ،وغاب عنا روح الفريق حني التفت ٌ كل منا �إىل م�صلحته اخلا�صة �ضارباً ُعر�ض احلائط بكل �شيء وراءها .والبد من وقفة مت�أنية عند هذه النقطة نظراً خلطورتها وكرثة امل�شكالت النا�شئة عنها� ،إن كثرياً من جمتمعات امل�سلمني اليوم ال يتوفر فيه ما يجعله �صاحلاً لإطالق ا�سم (جمتمع) عليه لأن التفلت من الواجبات ال�شرعية والوقوع يف املحظورات -والتي يف جمملها ت�شكل احل�س اجلماعي عند امل�سلمني -يجعل �صفة الفردية طاغية على هذه التجمعات ،و�إن بدت ح�سب الظاهر يف �صورة جمتمعات منظمة متحدة� ..إن املجتمع -كما يقول مالك بن نبي -الذي يعمل فيه كل فرد ما يحلو له لي�س جمتمعاً ،ولكنه �إما جمتمع يف بداية تكونه و�إما جمتمع بد�أ حركة االن�سحاب من التاريخ ،فهو بقية جمتمع. واليهود حني �أرادوا تدمري املجتمعات الغربية خططوا لت�ضخيم جانب الفردية عدها العرف هناك احل�س اجلماعي حتى كرثت الق�ضايا التي َي ُّ على ح�ساب ّ خ�صو�صيات تخ�ضع ملزاج الفرد وم�صلحته ،وكانت النتيجة التي انتهوا �إليها ،تفكك تلك املجتمعات على نحو خميف ذهب ب�أمن احلياة وروائها ،و�سيع�صف بكل اجلهود العزيزة التي بذلت يف بناء احل�ضارة احلديثة يف يوم من الأيام! وقد انتقلت هذه 167
� 29/04/2010 11:09:18
�� ������ ���.indd 167
في إشراقة آية
العدوى �إىل بالد امل�سلمني ،ف�صار كثريون م ّنا غري م�ستعدين لقبول الن�صيحة من يالحظ عليهم يعود �إىل خ�صو�صياتهم التي ال تقبل �أي نوع من �أحد بحجة �أن ما َ التدخل .وهذا ال�صنف من النا�س -وهو ميثل اليوم يف امل�سلمني الأكرثية -على غري دراية بفل�سفة هذا الدين يف �إقامة املجتمعات و�إن�شاء احل�ضارات مما يجعل ر�ؤيتهم للحياة كثوب �ضم �سبعني رقعة خمتلفة الأ�شكال والألوان! ويف �إمكان امل�سلم من خالل نظرة �سريعة يف بع�ض الن�صو�ص �أن يتعرف وجهة ال�شريعة يف هذا ،و�إليك حديث ال�سفينة الذي و�ضع النقاط على احلروف يف هذه امل�س�ألة ب�صورة مده�شة ،فقد روى النعمان بن ب�شريـ ر�ضي اهلل عنه ـ عن النبي × أنه قالَ ( :مث َُل القائم يف حدود اهلل والواقع فيها َك َمثَل قوم ا�ستهموا على �سفينة، ف�صار بع�ضهم �أعالها وبع�ضهم �أ�سفلها ،وكان الذين يف �أ�سفلها �إذا ا�ستقوا من املاء مروا على من فوقهم ،فقالوا :لو �أنا خرقنا يف ن�صيبنا خرقاً ،ومل ن�ؤذ من فوقنا ،ف�إن تركوهم وما �أرادوا هلكوا جميعاً ،و�إن �أخذوا على �أيديهم جنوا وجنوا جميعاً) رواه البخاري . �إن هذه ال�سفينة متثل املجتمع الإ�سالمي الذي توحدت عقائده وتوحد اجتاه �سريه ،وتوحدت غاياته واملخاطر والتحديات التي تواجهه ،و�إن القائم يف حدود اهلل ـ تعاىل ـ هو تلك الفئة ال�صاحلة امللتزمة ب�شرع اهلل الآمرة باملعروف الناهية عن املنكر، و�إن الواقعني فيها هم �أولئك الذين ينتهكون حرمات اهلل برتك الواجبات والوقوع يف املحرمات ،واحلديث يق ِّرر �أن ما يتوهمه بع�ض النا�س من خ�صو�صياته لي�س كذلك كما �أن الذين احتلوا �أ�سفل ال�سفينة كانوا واهمني حني ظنوا �أن لهم احلرية الكاملة مي�س م�صالح الذين يف الت�صرف يف �أر�ض ال�سفينة؛ وذلك لأن ت�صرفهم فيها بخرقها ُّ 168
� 29/04/2010 11:09:18
�� ������ ���.indd 168
في إشراقة آية
فوقهم ،بل م�صائرهم ،ولن�ضرب ملا يتوهمه بع�ض النا�س من خ�صو�صياتهم مث ًال من تعب عن حياتنا املعي�شة حيث وقع يف َخ َلد كثري من النا�س �أن ال�صالة عبادة بدنية رِّ �صلة خا�صة بني العبد وربه ،و�أن املق�صر يف �أدائها ال ي�ؤذي جاراً ،وال ينتهك ملجتمعه حرمة ،وبذا تكون ال�صالة من امل�سائل اخلا�صة باملرء ،ي�ؤديها كلما حال له ذلك، عن له ذلك ،ومن ث ََّم ف�إن م�ساءلة النا�س له عنها يعد �ضرباً من الف�ضول ويرتكها كلما َّ الذي ينفر منه ذوق الإن�سان املعا�صر ذي الإح�سا�س املرهف والر�سوم االجتماعية الدقيقة ،ولكن الأمر يف نظر ال�شريعة الغراء لي�س كذلك �إذ �إن فقهاء الأمة جممعون على �أن ال�صالة لي�ست من خ�صو�صيات الإن�سان التي يقف املجتمع امل�سلم جتاه تاركها �صامتاً غري مبال وال م�ؤاخذ ،لذلك ر�أى بع�ض الفقهاء �أن تاركها (ك�س ًال) �سجن مقراً بفر�ضيتها يقتل كفراً ،وبع�ضهم قال يقتل حداً ،وبع�ضهم ذهب �إىل �أنه ُي َ �إىل �أن ي�صلي ،وهم يف هذا ي�صدرون عن فهم �صحيح لطبيعة عمل هذا الدين يف ت�سيري دفة احلياة االجتماعية ،لأن املع�صية حني ت�شيع يف النا�س ي�ستوجبون نزول العقوبة وذهاب الريح ،وال ت�شيع الفاح�شة �إال حني يغ�ض املجتمع الطرف عنها وطاملا �أُجهِ�ض اجلهد الإن�ساين ال�ضخم يف �إعمار الأر�ض ب�سبب التق�صري يف جانب العبودية هلل ـ تبارك وتعاىل ـ و�شواهد املا�ضي واحلا�ضر ناطقة بذلك ،وكيف ال واهلل ـ تعاىل ـ يقول :ﱹﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿﱸ الأنفال .50:وكيف ال والر�سول × يقول جميباً ملن �س�أله� :أنهلك وفينا ال�صاحلون ؟ بقوله ( :نعم �إذا كرث اخلبث )( ،)1نعم �إن الأمن حني ي�ضطرب � -1أخرجه ال�شيخان. 169
� 29/04/2010 11:09:18
�� ������ ���.indd 169
في إشراقة آية
حبله ال ي�ضطرب على الطاحلني وحدهم ،و�إن الأ�سعار حني تغلو لتفوق طاقة النا�س ال ترتفع بالن�سبة �إىل الطاحلني فقط ،و�إن العدو حني ي�ستبيح احلمى ال ي�ستثنى �أحداً وهكذا ...و�إذا كان �أ�صحاب الأهواء وال�شهوات ال يب�صرون �أكرث من مواقع �أقدامهم، وال يعب�أون بحا�ضر وال م�ستقبل ،ف�إن على املجتمع �أن يتحمل امل�س�ؤولية جتاه حا�ضره وم�ستقبله و�آخرته.
170
� 29/04/2010 11:09:18
�� ������ ���.indd 170
في إشراقة آية
ﮊ ﮋ ﮌﮍ هذه �آية عظيمة القدر يف كتاب اهلل حيث �إنها ت�سهم �إ�سهاماً كبرياً يف ت�شكيل ر�ؤية امل�سلم �إىل �أ�شياء كثرية يف عامل الأحياء ،وقد تر َّتب على عدم االهتداء بهدي هذه الآية كثري من اخللل يف حياتنا املعا�صرة ،وما اخرتناه ليكون عنوانا لهذه املقالة جزء من �آية ،هي قول �شعيب ـ عليه ال�سالم ـ لقومه ﱹﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ
ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓﮔ ﮕ ﮖ
ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﱸ الأعراف ،85 :و�سياق الآية و�إن كان يدل يف ظاهره على �أن املق�صود املبا�شر بـ (�أ�شياءهم) هنا ما يتبادله النا�س يف معامالتهم من املتاع �إال �أن ما ميلكه النا�س ويتمتعون به من �أخالق و�أفكار وتاريخ� ...أوىل ب�إقامة العدل و�إنزاله يف منازله من غري وك�س وال بخ�س ،وال �شطط؛ ملا يرتتب على الإخالل بذلك من احلقد والقطيعة والفرقة وذهاب الريح ...وملا كانت �أ�صول دعوات الأنبياء -عليهم ال�سالم واحدة ف�إن الأمر ب�إقامة املوازين واحلكم بالعدل ،والإن�صاف ظل الو�صية اخلالدة171
� 29/04/2010 11:09:18
�� ������ ���.indd 171
في إشراقة آية
التي يوجهها كل نبي �إىل قومه؛ لأنه بالعدل قامت ال�سماوات والأر�ض ...وقد �أو�صى اهلل ـ تعاىل ـ ر�سوله حممداً × �أن يعلن لأمته �أم َر اهلل له ب�إقامة العدل فيها ،فقال: ﱹ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿﰀ
ﰁ ﰂ ﰃ ﰄﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉﱸ ال�شورى ،15 :و�أو�صى امل�ؤمنني ب�إقامة العدل مع النا�س كافة حتى الأعداء الذين يبغ�ضونهم ويحاربونهم ،فقال ـ تعاىل :ﱹﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ
ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ
ﯦﱸ املائدة ،8 :وقد كان × يقوم هلل بال�شهادة ،فيعطي كل ذي حق حقه، ويف �سريته العطرة مئات ال�شواهد التي تفيد التزامه املطلق ب�إنزال النا�س منازلهم، وذكر حما�سنهم وميزاتهم ،مهما كان انتما�ؤهم ،وحيث كان موقعهم ،فهذا هو يقول: (�أ�صدق كلمة قالها �شاعر كلمة لبيد� :أال كل �شيء ما خال اهلل باطل) ،مع �أن لبيداً وقتها كان كافراً( ،)1وكان ب�إمكانه × �أن يثني على �شعر بع�ض �أ�صحابه اململوء حكم ًة وهدى بدافع ح�صر اخلري فيهم ،ولكن االلتزام باحلق والإن�صاف وعدم بخ�س �أحد ً رجل كافر. حقَّه ي�أبى ذلك ،ف�أثنى على كالم ٍ ومن اجلدير بالذكر هنا �أن عثمان بن مظعون ـ ر�ضي اهلل عنه ـ �سمع لبيداً ين�شد البيت ،فلما قال: �أال كل �شيء ماخال اهلل ُ باطل قال له عثمان� :صدقت ،فلما قال: -1فتح الباري . 1530/7 172
� 29/04/2010 11:09:19
�� ������ ���.indd 172
في إشراقة آية
وكل نعيم ال حمال َة ُ زائل قال له عثمان :كذبت نعيم اجلنة لي�س بزائل. و�إن املرء ليعجب لهذا الإن�صاف �أي�ضاً من عثمان املقتبِ�س من مدر�سة النبوة حيث �أثنى يف الن�صف الأول على لبيدَّ ، وكذبه يف الن�صف الثاين! وجاء امل�سلمون ب�سفَّانة بنت حامت الطائي يف ال�سبي ،فذكرت لر�سول × من �أخالق �أبيها ونبله فقال لها: (يا جارية هذه �صفة امل�ؤمنني حقاً لو كان �أبوك م�ؤمناً لرتحمنا عليه ،خ ُّلوا عنها؛ يحب مكارم الأخالق ،واهلل تعاىل يحب مكارم الأخالق)(.)1 ف�إن �أباها كان ُّ قد وقف ر�سول اهلل × من حامت املوقف الذي متليه �شريعته الغراء التي جاء بها، ف�أثنى عليه؛ و�أطلق �سراح ابنته ،و�أكرمها ،ولكنه مل يرتحم عليه لعدم �إميانه لتهتدي الأمة بهذا الهدي النبوي العظيم! ون َّبه × الن�ساء على ما يجري على �أل�سنتهن من ريت النار ف�إذا �أكرث انتقا�ص �أزواجهن وجحد معروفهم عند �أدنى خالف فقال�( :أُ ُ �أهلها الن�ساء يكفرن ،قيل� :أيكفرن باهلل ؟ قال :يكفرن الع�شري ،ويكفرن الإح�سان ،لو ()2 �أح�سنت �إىل �إحداهن الده َر ثم ر�أت منك �شيئا قالت :ما ر�أيت منك خرياً قط) �إن هذا احلديث ُيربز ق�ضية العدل �إبرازاً َّقل نظريه حيث جعل× جحودهن املعروف �سبباً كبرياً لكرثة وجودهن يف النار ،وك�أن كفران الع�شري ُيحدث يف احلياة الزوجية من ال�شروخ والندوب ما يوازي اجلرائم االجتماعية الكربى ،وعلى هذا املنوال ن�سج ال�صحب الكرام ـ ر�ضوان اهلل عليهم ـ حني كانوا ُي�صدرون الأحكام على اخل�صوم علي ـ ر�ضي اهلل عنه ـ اخلوارج ـ وقاتلوه ،ثم ف�ض ًال عن الإخوة والرفاق ،فقد قاتل ُّ -1البداية والنهاية . 198/2 � -2صحيح البخاري . 24/1 173
� 29/04/2010 11:09:19
�� ������ ���.indd 173
في إشراقة آية
قتلوه ،وملا �سئل من ِق َبل بع�ض النا�س عنهم� :أم�شركون هم؟ قال :من ال�شرك فروا، فقالوا� :أفمنافقون ؟ قال� :إن املنافقني ال يذكرون اهلل �إال قلي ًال ـ �أي ه�ؤالء يذكرون اهلل كثرياً ـ قيل :فما هم يا �أمري �أمل�ؤمنني ؟ قال� :إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم ببغيهم علينا!( ،)1فهل بعد �إن�صاف �أبي احل�سن من �إن�صاف ؟ وهل هنالك كالم يقوله �شاهر �سيف �أرق من هذا الكالم ؟! وظل روح العدل والإن�صاف �سارياً يف الأمة قروناً ٍ عديدة ،وجتلى ذلك ب�شكل وا�ضح جداً يف القواعد التي �صاغها املحدثون يف اجلرح و�ضحوا اجلوانب املختلفة ل�شخ�صية الراوي ،وحكموا على كل زاوية والتعديل حيث َّ على حدة ،ثم انتهوا �إىل حكم عام حوله ،و�صار من الظواهر امل�ألوفة عندهم �أن يطلب �أحدهم الدعاء من رجل ،ف�إذا جاءه حديث عن طريقه حكم على احلديث بال�ضعف، لأن طلب الدعاء مبني على اعتقاد ال�صالح� ،أما قبول روايته فيعتمد على �شيء �آخر ك�ضبط الراوي وعلمه ونباهته ،وغري ذلك ...ولكن تراجعت هذه الر�ؤية املو�ضوعية َّ الفذة فيما تراجع من اجلوانب املختلفة من حياة امل�سلمني ،و�صار املن�صفون الذين يجردون ال�شهادة هلل ،وي�ضعون الأمور يف موا�ضعها دون بخ�س �أو تزيد من ال ِق َّلة الذين ي�شار �إليهم بالبنان ،وهذه بع�ض النماذج التي �ضربت بجذورها يف حياة امل�سلمني اليوم ،و�صارت ِّ ت�شكل ظاهرة َم َر�ضية مزمنة ،وذلك نتيجة التطفيف يف املكاييل وبخ�س النا�س �أ�شياءهم: -1يقوم �شاعر ماجن �أو ملحد بنظم ق�صيدة ع�صماء تتوفر فيها كل العنا�صر الفنية املجمع عليها ،فيت�صدى لنقده واحد من �أهل اخلري ،في�سقطه وي�ش ِّنع عليه غا�ضاً الطرف -1البداية والنهاية . 300/7 174
� 29/04/2010 11:09:19
�� ������ ���.indd 174
في إشراقة آية
عن كل �إبداعه الفني ،وما ذاك �إال لأن اجتاه ذلك ال�شاعر ال يروقه فاتخذ منه موقفاً مي�س �أ�صولنا االعتقادية ،وال م�سلماتنا ثابتاً ،حتى لو كان م�ضمون تلك الق�صيدة ال ُّ املذهبية ،والواجب يف مثل هذا �أن يثنى على جوانب الإبداع يف الق�صيدة ،وينتقد امل�ضمون �إن كان فا�سداً نقداً مو�ضوعياً هادئاً عفيفاً .ومن الواجب كذلك �أن ُيف َّرق بني يقدم �إنتاج الرجل الواحد فيكون الثناء على ال�صالح منه ،وينتقد ما فيه َد َخن ،فقد ِّ �أحد الكتاب �أو ال�شعراء خدمة ُج ّلى للم�سلمني يف كتاب �أو ق�صيدة ،ويتعرث يف كتاب كل منها دون بخ�س �أو �شطط ،وحني يكون النقد �أو كتب �أخرى ،فيعطى حقَّه يف ٍ �أواخلالف يف وجهات النظر على هذا املنهاج يكون �إمكان الإ�صالح �أقوى ،ونكون �أقرب من ال�صواب ،و�أقرب للتقوى ،والر�ؤية التي ِّ ي�شكلها الإ�سالم لدى امل�سلم ي�شجع الأعمال الإيجابية ،ويثني عليها ،ويكون عوناً فيها، ِّ ال�سوي يف مثل هذا هي �أن ِّ ف�إذا ر�أى خل ًال نبه عليهَّ ، وحذر منه وقام بالبالغ املبني ،ولو جرى مثل هذا يف املجتمع ل�ساد االنطباع بالإن�صاف لدى كل الفرقاء ،ولأدى ذلك �إىل تفتيت كتل املت�شنجني واملتحازبني الذين ال يرون لغريهم ف�ض ًال ،وال يظنون فيمن خالفهم �إال �سوءاً. - 2يت�آخى بع�ض �أهل اخلري يف اهلل ،وي�سعون جهدهم خلدمة هذا الدين و�أهله �صفاً واحداً ،ثم حتدث اجتهادات �أو �أخطاء ت�ؤدي �إىل تباين وجهات النظر ،فتن�ش�أ يف ال�صف الواحد تيارات ومدار�س ،وقد يتطور الأمر فيجد بع�ضهم اال�ستمرار م�ستحي ًال مما يجعله يقعد� ،أو ينحو منحى �آخر يجده �أجدى و�أنفع ،و�سرعان ما يختلف اجتاه الرياح ،في�صبح الأخ النا�صح �أو القائد املحنك �أو ال�صادق املخل�ص جباناً� ،أو بخي ًال �أو �صاحب م�صالح ،بل قد ي�صبح عمي ًال �أو منافقاً� ...إىل �آخر ما يجود به قامو�س(عمى الألوان) من الأو�صاف ال�شنيعة واالتهامات املقذعة ،وي�صبح اللقاء بني احلميمني/ 175
� 29/04/2010 11:09:19
�� ������ ���.indd 175
في إشراقة آية
العدوين �ضرباً من امل�ستحيل مع �أن نظرة مت�أنية من�صفة يف �ساعة �إنابة هلل كفيلة خللل يف الرتبية االجتماعية، بتبديد الغيوم و�إذابة الثلوج .و�إمنا يحدث مثل هذا ٍ و�أ�سلوب التلقي ،وغياب املناهج ،واملعايري الدقيقة التي يتحاكم �إليها املتنازعون، وما غابت املناهج النرية �إال كان البديل هواالتهام و�سوء الظن وطم�س احلقوق� ،أو تقدي�س الأ�شخا�ص واملبالغة يف الثناء واملديح. -3قد يحدث �أن ي�سوق اهلل طالب علم �إىل �أحد امل�شايخ ،في�أخذ عنه بع�ض ما عنده من العلم يف بع�ض الفنون ،وي�شعر الطالب يف بع�ض الأحيان �أن ما عند تخ�ص�ص ما ال ينقع الغلة ،وال يروي ال�صادي ،فيتجه �إىل �شيخ �آخر هذا ال�شيخ يف ٍ يلتم�س ما عنده ،وهنا ي�شعر الأ�ستاذ الأول �أن ما فعله هذا الطالب فيه نوع من �إ�ساءة الأدب وعدم الوفاء ،بل قد ي�شعر �أن ت�صرف هذا الطالب يوحي ب�أن ما عند ال�شيخ يف هذا الفن �ضئيل الفائدة ،وحينئذ يبد�أ تقطيب الوجه ،والت�صريح والتلميح بعدم الوفاء والإ�شادة ب�أقران ذلك الطالب الذين ميثِّلون الأدب ،وح�سن العهد والعبقرية، ثم تكون اجلفوة والقطيعة ....ونحن الآن يف زمان ترك فيه احلالق احلجامة ،وقلع الأ�ضرا�س ،وترك فيه الطبيب الفلك واحل�ساب ،بل �إن �إحاطة املرء ب�أي فن من الفنون �صار متعذراً نظراً للرتاكم املعريف العظيم واالنفجار الهائل يف املعلومات ،وهذا الداء قدمي عندنا ،وما مل تحُ َّرر النيات هلل ـ تعاىل ـ ف�ستقطع رحم العلم ،ويحل اجلفاء مو�ضع الدعاء ،والإزورار مو�ضع التزاور .وكم تختلف ال�صورة لو �أن هذا الأ�ستاذ �أر�شد تالميذه �إىل �أويل االخت�صا�ص ل ُيفيدوا منهم �إذاً لقار�ضه الأ�ستاذ الآخر الثناء، والت�صلت الأن�ساب العلمية و�أثريت احلياة الثقافية ،ويح�صل قبل هذا وذاك االلتزام 176
� 29/04/2010 11:09:19
�� ������ ���.indd 176
في إشراقة آية
مبنهج اهلل ـ تعاىل ـ الذي ال ير�ضى لعباده التباغ�ض والتحا�سد وبخ�س احلقوق... واخلال�صة �أن هذه الآية الكرمية مما ُع ِّطل به العمل عند كثري من امل�سلمني ،ون�ش�أ عن هذا التعطيل مر�ض ا�سمه( :عمى الألوان) ولكنه يف الب�صرية دون الب�صر، ف�أطفئت �ألوان كثرية ال تكاد حت�صى كانت تتوهج بني الأبي�ض والأ�سود ،وكرث النمط الذي ُيق َّرظ بـ(وحيد دهره وفريد ع�صره) والنمط الذي يقول فيه (الرجال) :ما ر�أينا منه خرياً قط...
177
� 29/04/2010 11:09:19
�� ������ ���.indd 177
�� ������ ���.indd 178
29/04/2010 11:09:19 �
في إشراقة آية
ﮨﮩ ﮪﮫﮬﮭ ﱹﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ
ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﱸ يون�س � 10 :إن مو�سى ـ عليه ال�سالم ـ قد َّذكر قومه ب�أن من مقت�ضيات الإميان باهلل ـ تعاىل ـ التوكل عليه وتفوي�ض الأمر �إليه، فقال قومه :على اهلل توكلنا ،ثم �س�ألوا اهلل ـ تعاىل ـ �أن ال يجعلهم فتنة للظاملني .قال بعذاب من عندك ،فيقول جماهد(( :املعنى :ال ُتهلكنا ب�أيدي �أعدائنا ،وال تعذبنا ٍ �أعدا�ؤنا :لو كانوا على احلق مل ُن�س َّلط عليهم ،ف ُيف َتنوا)) وقال �أبو جملز( :يعني ال ً ()1 ُتظهرهم علينا ،فريوا �أنهم خري م ّنا ،فيزدادوا طغيانا) ولنا مع هاتني الآيتني املباركتني الوقفات الآتية: 1ـ قد وقف قوم مو�سى ـ عليه ال�سالم ـ املوقف املنهجي الذي ينبغي �أن يقفه كل م�سلم ،فقد �أعلنوا توكلهم على اهلل ـ تعاىل ـ و�إذعانهم له وا�ست�سالمهم لأمره ،ثم طلبوا منه املعونة يف عالقتهم مع �أعدائهم� ،إنهم يطلبون من اهلل ـ تعاىل ـ الغلبة عليهم، 1ـ اجلامع لأحكام القر�آن 370 :8 179
� 29/04/2010 11:09:19
�� ������ ���.indd 179
في إشراقة آية
و�أن ال ِّميكنهم من رقابهم ،وامل�سلم حني يطلب من اهلل ـ تعاىل ـ املعونة على �ش�أن من ال�ش�ؤون �أو يف حاجة من احلاجات ،ف�إنه يعلم �أن عليه دوراً يقوم به ،وهو الأخذ بالأ�سباب ،وبذل الو�سع والطاقة يف �سبيل حتقيق ما يطلب املعونة عليه من ربه ف�إذا طلب العبد من اهلل �أن يرزقه رزقاً وافراً ،كان عليه �أن يو�سِّ ع ن�شاطه ،ويزيد يف حركته، و�إذا طلب من اهلل ـ تعاىل ـ الن�صر على الأعداء� ،أخذ يف �إعداد العدة التي يتطلبها الن�صر ،و�إذا طلب من اهلل ـ تعاىل ـ �أن ُي ْ�صلح عالقته مع زوجه ،ف�إنه يح�سِّ ن عالقته به ،وي�سري يف درب الإ�صالح وهكذا ...وك�أنَّ امل�سلم حني ي�س�أل اهلل �شيئاً يقوم بفتح وعيه ال�شخ�صي على واجباته ال�شرعية واحل�ضارية ،وحني نفهم الدعاء على هذا امل�ستوى من املالحظة ،ف�إنه يكون علينا �أن ن�س�أل �أنف�سنا عن اجلهود الذاتية التي قمنا بها من �أجل بلوغ ما ن�س�أل اهلل ـ تعاىل ـ �أن ُيب ِّلغنا �إياه .ومن هنا ف�إن على امل�سلم حني يدعو ،وال ي�ستجاب له �أن يحا�سب نف�سه على التق�صري يف الأخذ بالأ�سباب عو�ضاً عن الي�أ�س والقنوط. 2ـ يحتمل قول قوم مو�سى(( :ال جتعلنا فتنة للقوم الظاملني املعنيني اللذين �أ�شار �إليهما املف�سرون :معنى فتنة امل�ؤمنني من خالل انت�صار الكافرين ،ومعنى فتنة الكافرين من خالل هزمية امل�ؤمنني ونزول البالء بهم ،واملعنى العميق للحالتني واحد� ،إن النا�س حني ُيه َزمون� ،أو يعي�شون حالة انحطاط �شامل ،يقومون مبراجعات كثرية ،وهذه مت�س بع�ض عقائدهم و�أ�صولهم ومناهجهم ،ولي�س �أهل الإميان مبنجاة املراجعات قد ُّ من هذا ،فامل�ؤمنون يرون �أن اتباعهم لدين �صحيح ٍ كاف لتوفري كل �أ�سباب الن�صر واالزدهار ،ف�إذا مل يحدث ذلك ت�س ِّرب ال�شك� ،أو ما هو قريب من ال�شك �إىل نفو�س بع�ضهم .ونحن نرى اليوم ممن ينت�سبون �إىل الإ�سالم من يتحدث عن بع�ض ال�شعائر 180
� 29/04/2010 11:09:19
�� ������ ���.indd 180
في إشراقة آية
والأحكام الإ�سالمية ب�أنها �سبب تخلف امل�سلمني ،وما كان لهذا �أن يقال لو كانت الأمة يف حالة نه�ضة وازدهار. يف املقابل ف�إن هزمية امل�سلمني وانحطاطهم وارتباكهم يف �أمور معا�شهم قد يكون فتن ًة للكافرين والظاملني حني يقارنون �أحوالهم املزدهرة ب�أحوال امل�ؤمنني البائ�سة، وبذلك يكون �أهل الإميان هم ال�سبب يف افتتان �أهل الكفر ومتاديهم يف طغيانهم لأنهم يعتقدون �أنهم على احلق� .إذن احلالة ال�سيئة للم�سلمني ميكن �أن ت�ؤذي �أهل لكن عملها يكون بطريقة خمتلفة. الإميان ،وت�ؤذي �أهل الكفر يف �آن واحدَّ ، 3ـ يف الآية �إ�شارة لطيفة تبدو لنا عند تف�سريها على املعنى الثاين حيث يدعو امل�ؤمنون ربهم �أال يجعلهم �سبباً لإيقاع الظاملني يف الفتنة ،وهذا �إن دل على �شيء، ف�إمنا يدل على النبل الذي ينبغي �أن يكون يف قلب كل م�سلم� ،إذ �إن نفو�س �أهل الإميان تنطوي على حب اخلري لكل النا�س ،و�إن الهداية ،و�سلوك ال�صراط امل�ستقيم ومند لهم يف ذروة اخلري واملعروف ،وهكذا ف�إن علينا جميعاً �أن ُن ْ�شفق على الآخرينَّ ، يد املعونة ،ونحاول �أال نكون يف و�ضعية ت�ؤدي �إىل �ضاللهم و�إغوائهم ،وما �أحوجنا �إىل �إحياء هذا املعنى يف نفو�س الأمة يف هذه الأيام!. 4ـ �إن حالة التخلف ال�صناعي والعمراين والإداري الذي يعي�ش فيه معظم ال�شعوب الإ�سالمية �أ�ساءت �إ�ساءة بالغة �إىل الإ�سالم ،واحلقيقة �أننا نعاين من نوعني من التخلف :تخلف عن تعاليم ديننا ،فنحن يف حاجة �إىل �أن نتقدم ونرتقي �إليه، وتخلف عن زماننا ،فنحن يف حاجة �إىل م�ساعدات ومنتجات الأمم املتقدمة يف معظم �ش�ؤون حياتنا .قد يقول قائل :ال ي�صح للآخرين �أن يعتقدوا �أن حال امل�سلمني تعك�س مبادئ الإ�سالم على نحو كامل ،فهناك فرق بني الإ�سالم وبني امل�سلمني.. 181
� 29/04/2010 11:09:19
�� ������ ���.indd 181
في إشراقة آية
هذا �صحيح لكن احلقيقة �أن النا�س يف البلدان الأخرى ال يعرفون هذا التف�صيل، منمق عن مبادئها و�أخالقها ،لكن الذي وهم يقولون� :إن كل الأمم تتحدث بكالم َّ ي�صنع الفرق بني ال�شعوب هو واقعها العملي .وقد رَّعب عن هذا املعنى العديد من الغربيني الذين دخلوا الإ�سالم من خالل االطالع على بع�ض الكتب الإ�سالمية، وال �أ�ستطيع �أن �أن�سى قول �أحدهم بعد �أن جاء �إىل �إحدى الدول العربية :احلمد هلل �أنني تعرفت على الإ�سالم ،و�أ�سلمت قبل �أن �أختلط بامل�سلمني ،و�إال ملا كنت �أ�سلمت، لأن �أو�ضاع امل�سلمني وتعامالتهم ال تدفع �أحداً يف اجتاه الدخول يف الإ�سالم!. 5ـ من الذين َي ْظهرون باملظهر الإ�سالمي ،ويتم�سكون ببع�ض ال�سنن وال�شعائر الإ�سالمية من يقوم بعملية �إجها�ض منكرة للتعاليم والأخالق الإ�سالمية ،فينفِّرون �أقواماً من الدين و�أهله ،وي�ش ِّوهون مفاهيم �أقوام �آخرين عن الدين ال�صحيح ،هناك فتيات يلب�سن الثياب ال�ضيقة جداً ،وي�ضعن على ر�ؤو�سهن قطعة من القما�ش ،فيظن بع�ض النا�س �أنهن حمجبات احلجاب ال�شرعي ،ثم يجدون بع�ضاً من املحجبات يف اجلامعات يقمن باالختالط بال�شباب واملزاح معهم �إىل حد جتاوز كل حدود الأدب واحل�شمة ،مما يجعل ق�سماً من النا�س يرى يف احلجاب ويف املحجبات �شيئاً �سيئاً و�سلبياً! وهناك �شباب وكهول �أطلقوا حلاهم ،ثم جتدهم ال يتورعون عن الكذب وخلف املواعيد! وهناك رجال ي�صلون يف ال�صف الأول خلف الإمام وهم ي�أكلون الربا ،ومياطلون يف دفع حقوق النا�س ،ويحرمون بناتهم من املرياث!� .إن ه�ؤالء و�أ�ضرابهم يفتنون النا�س ،وي�ش ِّوهون �صورة الإ�سالم النقية!. 6ـ �إذا �أرادت �أمة الإ�سالم �أال تُف َتنت يف �أنف�سها من خالل انت�صار الأعداء عليها ،و�أال تكون فتنة لغريها من خالل �سوء �أحوالها ،ف�إنه لي�س �أمامها �سوى التم�سك ال�صحيح ب�أهداب 182
� 29/04/2010 11:09:19
�� ������ ���.indd 182
في إشراقة آية
الدين ،و�سوى �إ�صالح �أو�ضاعها ال�سيا�سية والأخالقية واالجتماعية واالقت�صادية� ...إنها بهذا وذاك ت�ستحق اخلالفة يف الأر�ض ،وت�صبح �أو�ضاعها العامة عوامل جذب للتدين ال�صحيح ،كما �أنها حت�صِّ ن نف�سها من خماطر �إيقاع الأعداء لها يف الفتنة. واهلل من وراء الق�صد.
183
� 29/04/2010 11:09:19
�� ������ ���.indd 183
�� ������ ���.indd 184
29/04/2010 11:09:19 �
في إشراقة آية
ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ يقول اهلل ـ تعاىل ـ ﱹ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ
ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﱸ �سورة الرعد 11 :وقال ـ �سبحانه :ﱹ ﯩ ﯪ
ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ
ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﱸ �سورة الأنفال 52 :ـ .53 تفيد �آيتا الأنفال املباركتان �أمراً جوهرياً ،هو �أن اهلل ـ تعاىل ـ جواد كرمي ،حيث تغي تلك الطائفة يف �إنه �إذا �أ�سبغ ف�ضله على طائفة من النا�س ،ف�إنه يدمي نعماءه ما مل رِّ �أنف�سها و�سلوكها� ،أي ما مل تق�صِّ ر يف ال�شكر� ،أو ت�ستخدم ما �أنعم اهلل ـ تعاىل ـ عليها به يف مع�صيته ،ف�إن اهلل حينئذ ينزع تلك النعمة منها .ون�ستفيد من �آية الرعد �أن اهلل ـ يغي �أحوال قوم من الأقوام من اخلري والرخاء والعافية �إىل الكرب �سبحانه وتعاىل ـ ال رِّ وال�ضيق والبالء ،كما �أنه ال يغري �أحوالهم من الكرب وال�شدة �إىل الرخاء والنعمة �إال �إذا قاموا بتغيري ما ب�أنف�سهم ،وما هو انعكا�س ملا يف �أنف�سهم ،وهو �سلوكهم ومواقفهم 185
� 29/04/2010 11:09:19
�� ������ ���.indd 185
في إشراقة آية
وعالقاتهم ،وهذا دليل عدله ـ �سبحانه ـ فهو يعامل النا�س ب�أعمالهم من خري و�شر دون حماباة لأمة على �أمة ،ويف هذا تكرمي عظيم للإن�سان ،حيث جعل ما يف بيئته تابعاً له ،ف�إن �صلح �أ�صلح له ما يعجز عن �إ�صالحه ،وحباه ما لي�س يف متناول يده ،و�إن ف�سد ،وخان الأمانة رفع يده عنه ،ووكله �إىل نف�سه ،ونزع منه الكثري من نعمائه .ويف هذا �إ�شعار للإن�سان ب�أنه مركز الكون ،و َمل ال وهو الذي �سخر اهلل له ما يف ال�سموات وما يف الأر�ض ،كما �أن فيه ما يدل على �أن الإن�سان يتحمل م�س�ؤولية �أعماله على نحو كامل ،وعليه �أن يت�ص َّرف على هذا الأ�سا�س ولنا مع هذه الآيات املباركة الوقفات التالية: التغي ي�شتمل 1ـ �إنَّ فط َر اهلل ـ تعاىل ـ �ش�ؤون احلياة عامة والإن�سان خا�صة على رِّ على رحمة كربى بالعباد ،بل �أرى فيه كر ًة ثانية على �صعيد العدالة الإلهية املطلقة، �إذ �إن النا�س يولدون يف ظروف متفاوتة تفاوتاً كبرياً ،وبع�ض تلك الظروف يكون ممتازاً وحمفِّزاً ،وم�ساعداً على االزدهار ونيل ال�سعادة ،وبع�ضها يكون م�ؤملاً للغاية كما هو �ش�أن من يولد يف خميم لالجئني ،ومن يولد وعنده عاهة دائمة ،ومن يولد يف بيت بائ�س ومنق�سم على نف�سه ...ولوال ما بثه اهلل ـ تعاىل ـ يف الكون من �سنن التغيري َّ لظل ه�ؤالء يعي�شون حياة مملوءة بالكروب ب�سبب الظروف ال�صعبة التي و ِلدوا فيها. ال�س َّنة على �أنها مظهر من مظاهر رحمة اهلل ـ تعاىل ـ ومن هنا وجب �أن ننظر �إىل هذه ُّ ت�صوروا معي لو كان املرء ي�ؤخذ بذنبه بعد وقوع الذنب مبا�شرة دون �إتاحة �أي فر�صة للتوبة واملراجعة والتغيري ،كم �سيكون الو�ضع �شاقاً وخميفاً ؟!. 2ـ من الوا�ضح �أن معظم النا�س يعتقدون بوجود �أخطاء يف حياتهم ،ووجود عقبات وم�شكالت ،وهذه وتلك تكون موجودة ب�سبب ق�صورنا الذاتي وب�سبب 186
� 29/04/2010 11:09:20
�� ������ ���.indd 186
في إشراقة آية
رعوناتنا و�أهوائنا ،وبع�ضها يكون ب�سبب جتاوزات الآخرين ،كما �أن بع�ضها يكون ب�سبب الو�ضعية العامة� ،أي جمهولة امل�صدر ...ونحن نالحظ �أننا ماهرون جداً يف ت�شخي�ص امل�شكالت التي �س َّببها لنا الآخرون ،لكن الذين يتحدثون عن دورهم ال�شخ�صي يف �أ�شكال معاناتهم يظلون قليلني؛ وهذا لأن ذلك �سوف يجعلهم ُيدِ ينون �أنف�سهم ،وتلك الإدانة مع ما فيها من توبيخ للذات ،تتطلب جماهدة النفو�س والإقالع عن الأخطاء واخلطايا ال�شخ�صية ،وهذا ما ال يريده معظم النا�س؛ لكن الآية التي نحن ب�صددها، تو�ضِّ ح بجالء �أننا �إذا �أردنا تغيري ظروفنا ونوعية عالقات الآخرين بنا ،ف�إن هناك طريقاً نغي ما يف قلوبنا ونفو�سنا ،و�أن نغِّري يف �سلوكنا و�أعمالنا ،وهذا بيان واحداً لذلك هو �أن رِّ وا�ضح للنا�س ،يجعلهم فع ًال �أمام م�س�ؤولياتهم بدقة متناهية!. وما يقرره اهلل ـ تعاىل ـ يف الآيات املباركة التي نحن يف �صددها هو ما انتهى �إليه زعماء الإ�صالح يف العامل اليوم ،كما �أنه ي�شكل العمود الفقري لأدبيات التنمية الب�شرية التي يحتفل العامل بها �أعظم االحتفال يف هذه الأيام؛ ف�سبحان العليم اخلبري! 3ـ �إن الآيات الكرمية التي نحن ب�صددها ت�شري بو�ضوح �إىل �أن ما ننتظره من معونة اهلل ـ تعاىل ـ ون�صره وتوفيقه ...ينبغي �أن يرتبط مبا ُنحدثه يف حياتنا من التغيري الإيجابي ،والذي يتمثل �أ�سا�ساً يف فعل ما ُير�ضي اهلل ـ تعاىل ـ والكف عما ُيغ�ضبه، العد َة التي كما يتمثل يف جماهدة الأنف�س والأخذ بالأ�سباب والإعداد لكل �أمر َّ تنا�سبه .ف�إذا مل نقم ب�شيء من ذلك فكيف �سيغيرَّ اهلل لنا الأحوال والأو�ضاع العامة؟ �إن �شيئاً من ذلك لن يحدث على ح�سب ما نفهم من الآيات التي �أمامنا� .إن كثرياً من امل�سلمني م�ضى عليهم ع�شرات ال�سنني وهم يطلبون من اهلل ـ تعاىل ـ الن�صر على اليهود وحترير فل�سطني ،ومل يحدث �شيء من ذلك .وهناك م�سلمون كثريون 187
� 29/04/2010 11:09:20
�� ������ ���.indd 187
في إشراقة آية
يطلبون ال�سعة يف الرزق منذ �سنوات كثرية ،ومل يو�سِّ ع اهلل ـ تعاىل ـ عليهم .وهناك وهناك ...اهلل ـ �سبحانه وتعاىل ـ رحيم بعباده لطيف بهم ،لكن هذه الدار دار �أ�سباب وعمل وابتالء وتكليف ،فكيف يكون الن�صر على اليهود ونحن ال نعد العدة املطلوبة للن�صر؟ وكيف يو�سِّ ع اهلل رزق عبد ،ال يزيد يف ن�شاطه ،وال يعامل النا�س ب�أخالق التاجر ال�صدوق ،وال يح�سِّ ن معرفته مبهنته وعمله؟ �إن املعا�صي حني ت�شيع يف الأمة ،وال يقوم الأخيار من �أبنائها مبحا�صرتها وال ينهون عنها بالقدر الكايف� ،أي ال ُيحدثون مبادرات تتنا�سب مع الفواح�ش والأخطاء املع َلنة يحرمون �أنف�سهم من بركات الدعاء وا�ستجابة اهلل ـ تعاىل ـ لهم ،وقد ورد هذا املعنى يف قوله ×(( :والذي نف�سي بيده لت�أم ُرنَّ باملعروف ولتنهونَّ عن املنكر� ،أو َ ليو�شك َّن اهلل �أن يبعث عليكم عذاباً ،ثم تدعونه ،فال ي�ستجيب لكم))(.)1 4ـ �إن الآيات الكرمية ن�صت على تغيري ما يف النفو�س� ،أي تغيري امل�شاعر والتوجهات واالهتمامات وتخلي�ص القلوب من �أمرا�ضها والنفو�س من رعوناتها ،وهذا هو التغيري اجلوهري والأ�سا�سي ،لأن الأ�صل يف �سلوك الإن�سان �أن يكون �صدى ملعتقداته ومبادئه وروحه ونف�سه .ويدلنا القر�آن الكرمي على �أن تغَّريت امل�شاعر ممكن من خالل العديد من الطرق ،منها تغيري الأفكار ،فاملرء �إذا تغريت �أفكاره حول �شيء تغيرَّ ت م�شاعره ،كما حدث لبع�ض الرهبان والق�سِّ ي�سني حني �سمعوا القر�آن الكرمي :ﱹ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ
ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﱸ �سورة املائدة.83 : -1حديث ح�سن رواه الرتمذي. 188
� 29/04/2010 11:09:20
�� ������ ���.indd 188
في إشراقة آية
وميكن للنفو�س �أن تتغري وللم�شاعر �أن تتبدل من خالل الإح�سان واملعاملة احل�سنة ،على نحو ما جنده يف قوله ـ �سبحانه :ﱹﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﱸ �سورة ف�صلت 34 :لكن هناك من يجادل يف تغيري الطباع ،ويعتقد �أنها ال تتغري ،ولهذا فال فائدة من العمل على ذلك .ونحن نقول� :إن تهذيب الطباع الرديئة ممكن ب�إذن اهلل ـ عز وجل ـ �إذا جاهد املرء نف�سه ،وجعل وعيه ي�سيطر على �أن�شطته وعالقاته .ومن وجه �آخر ف�إن املهم كنت ال �أرتاح ل�شخ�ص من الأ�شخا�ص ،وحاولت �أن �أك ِّون �صورة هو ال�سلوك ،ف�إذا ُ علي �أال �أغتابه ،وال �أ�ؤذيه ،و�أن �أ�ساعده �إذا احتاج �إىل �إيجابية عنه ،فلم �أ�ستطع ،ف�إن َّ امل�ساعدة� ...إنني �إذا فعلت ذلك �أكون قد فعلت �شيئاً مهماً �أ�ؤجر عليه� .إذن يكون تغيري ما يف النفو�س باقتالع الأمرا�ض �أحياناً وباملقا�صد احل�سنة والنوايا الطيبة �أحياناً �أخرى ،ف�إذا عجز املرء عن �شيء من ذلك ،ف�إن عليه �أن يجعل �سلوكه يف معزل عنه، وهذا ممكن .وحني يرى اهلل ـ تعاىل ـ من عبده حر�صه على تغيري نف�سه وبذله جلهده يف ذلك ،ف�إنه ُي�سعفه مبعونته ،وينزل عليه من توفيقه وبركاته ،وهو �أرحم الراحمني.
189
� 29/04/2010 11:09:20
�� ������ ���.indd 189
�� ������ ���.indd 190
29/04/2010 11:09:20 �
في إشراقة آية
ﯝﯞ ﯟﯠ فطر اهلل ـ تعاىل ـ الإن�سان على حب الدنيا والتعلق بها ،وال�سعي �إىل اال�ستحواذ على �أكرب قدر منها ،ويبدو �أن كل الأ�سوياء من بني �آدم معرتفون بهذه احلقيقة، وحركتهم اليومية ت�ؤكد هذا املعنى ،و�إن كان لدى كثري منا �شعور عميق ب�أن مي�س الكرامة ويجرح املروءة ،وقد �أعجبني التهافت على جمع املال ينطوي على ما ّ ما ُنقل عن �أبي الوفاء ابن عقيل من قوله ( :من ادعى �أنه ال يحب الدنيا ،فهو عندي كذاب �إىل �أن يثبت �صدقه ،ف�إذا ثبت �صدقه ثبت جنونه)! .ولدينا عدد من الن�صو�ص التي ت�ؤكد حب الإن�سان للمال ،منها قول اهلل ـ تعاىل :-ﱹ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﱸ �سورة العاديات 8 :وقوله :ﱹ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﱸ �سورة ف�صلت .49 وقال ـ �سبحانه وتعاىل :ﱹ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﱸ �سورة �آل عمران14 :
ولدينا �أحاديث معروفة
191
� 29/04/2010 11:09:20
�� ������ ���.indd 191
في إشراقة آية
وم�شهورة يف بيان تع ِّلق النا�س باملال وعدم �شبعهم منه ،ال داعي ل�سوقها .ولعلي �أ�شري يف م�س�ألة املال وحبه �إىل املعاين الآتية 1ـ يف زماننا هذا ازدادت حمورية املال يف حياة النا�س ،فقد انتهى ع�صر الأ�شياء املجانية� ،أو كاد ،وكما �أن النا�س ي�شرتون املاء النقي من �أجل ال�شرب ،فقد ي�شرتون قريباً الهواء النقي من �أجل التنف�س! �أ�سعار كل الأ�شياء يف ارتفاع م�ستمر ،و�أحياناً يكون ال�شيء متوفراً ،ويرتفع �سعره لأ�سباب غري معروفة .هذه الو�ضعية جعلت النا�س و�صاحب هذا تراج ٌع يف يخافون كثرياً من امل�ستقبل ،وما ع�سى �أن ت�أتي به الأيام؛ َ درجة التكافل والرتابط االجتماعي ،مما � َّأكد للنا�س �أن الو�سيلة الوحيدة التي ميكن �أن يواجهوا بها �صعوبات احلياة هي (املال) وهذا �أدى �إىل اندفاع رهيب ،ويف كل اجتاه من �أجل احل�صول على �أكرب قدر منه ،بقطع النظر عن مدى ما ميكن �أن يكون فيه من حمظور وم�شبوه! وع ّزز هذه الو�ضعية قيام ظاهرة العوملة على نظام التجارة ،وقد ثبت �أن هذا النظام هو �أقوى النظم الثقافية على الإطالق ،وهو نظام ال يلتفت كثرياً �إىل م�س�ألة احلالل واحلرام ،و�إمنا ِّ يركز على احل�صول على �أكرب قدر من الربح ،وقد �أ�شاع بع�ض الأخالق ال�سيئة ،مثل امل�ساومة والتنازل والكذب يف مديح ال�سلع ،والتخلف َ يف �سداد القرو�ض ،وما �شابه ذلك! وقد ورد يف احلديث ال�صحيح ما ي�شري �إىل انت�شار ( التجارة ) يف �آخر الزمان و�إىل تقارب الأ�سواق ،وقد حدث هذا اليوم بالفعل. يوجهنا ،وي�ؤكد علينا ب�أن كل ما يف �أيدينا من خريات وعطايا 2ـ �إن القر�آن الكرمي ِّ هو �أداة ابتالء لنا ،ومنه املال ،حيث يقول ـ �سبحانه :ﱹ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺﱸ �سورة الأنفال 28 :وقال ـ �سبحانه :ﱹ ﯺ 192
� 29/04/2010 11:09:20
�� ������ ���.indd 192
في إشراقة آية
ﯻ ﯼ ﯽﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ ﰄ ﰅ ﱸ �سورة الأنبياء� 35 :إن الإ�سالم يحاول كبح جماح الإن�سان واحلد من حر�صه على اقتناء املال عن طريق تقنني احل�صول عليه ،فال ي�صح للم�سلم �أن يكت�سبه عن طريق الربا �أو العقود الفا�سدة، وال عن طريق الر�شوة �أو الن�صب �أو الكذب �أو التحايل ....كما يحاول كبح جماحه عن طريق حتديد قنوات �صرف املال واالنتفاع به ،حيث ال يجوز للمرء �أن ينفقه يف �إ�سراف �أو تبذير �أو حم َّرم �أو للح�صول على �أ�شياء غري م�شروعة �أو ريا ًء و�سمع ًة وخميلةً ...وكون املال هو �أداة اختبار ُيلقي يف روع امل�سلم م�س َّلمة جوهرية ،هي �أن الفرح احلقيقي ال ينبغي �أن يقرتن باحل�صول على املزيد من املال ،و�إمنا بالنجاح يف ا�ستخدامه على نحو ٍ يق ِّرب العبد من ربه. ، 3ـ ما دمنا لن ن�شبع من املال ،وما دمنا �سنظل م�شغولني باحل�صول على املزيد منه ،ف�إن علينا �إذن �أن ندرك �أن علينا حقوقاً لربنا ولأنف�سنا ولأهلنا وجمتمعاتنا ،وال بد من �أداء تلك احلقوق� .إن االعتدال والتو�سط ومراعاة جوانب احلياة كافة يجعلنا �أكرث حكمة يف التعامل مع املال ،وعلى كل من َج َمع ثروة طائلة� ،أو حقق جناحاً باهراً �أن ي�س�أل :على ح�ساب من َّمت ذلك ؟ فقد يكون على ح�ساب الدين وا ُخل ُلق واملروءة ،وقد يكون على ح�ساب الأ�سرة والأبوين ،وقد يكون على ح�ساب ال�صحة واال�ستقرار... 4ـ �إن اهلل ذكر حب الإن�سان للمال يف معر�ض الذم لأن احلب ال�شديد للمال هو يف نهاية املطاف حب للدنيا ،وفيه الكثري من االن�شغال عن الآخرة واال�ستعداد لها ،ولهذا ف�إن علينا �أن ن�سعى �إىل تخفيف الطلب على املال من خالل 193
� 29/04/2010 11:09:20
�� ������ ���.indd 193
في إشراقة آية
�إنعا�ش اجلانب الروحي لدينا ،وتقوية ال�صلة باهلل ـ تعاىل ـ ومن خالل تعزيز الأن�شطة اخلية ،حيث �إن اختناق املجتمع يكون ببطء حراكه الدعوية والأدبية واالجتماعية رِّ االجتماعي؛ والنا�س يحبون �أن يحققوا ذواتهم ،و�أن ي�شعروا بالتفوق والتقدم والنجاح ،وهذا قد يتم عن طريق رئا�سة جمعية �أو منظمة �أو ن�شر فكرة �أو حماربة �آفة من الآفات الأخالقية وال�سلوكية ،و�إذا مل يجد النا�س الفر�صة للقيام بذلك ،ف�إنهم يتجهون �إىل جمع املال من �أجل ا�ستخدامه يف التفوق على الأقران ومباهاة الزمالء وتوليد الإح�سا�س بالنجاح ،وهذا ي�ضاعف امل�شكلة؛ �إذ �إن املال بطبيعته يثري التوتر وال�صدام؛ لأن املعرو�ض منه دائماً �أقل من املطلوب ،ف�إذا �صار هو الو�سيلة الوحيدة لل�شعور بالتميز ،ف�إن ال�صراع على اقتنائه �سوف يحتدم ،و�سوف ي�سلك النا�س كل �سبيل �إىل الو�صول �إليه .وقد �صدق من قال� :إن درهم مال يحتاج �إىل قنطار عقل، ويحتاج اليوم �إىل قنطار من الدين �أي�ضاً واهلل امل�ستعان.
194
� 29/04/2010 11:09:20
�� ������ ���.indd 194
في إشراقة آية
ﭘﭙﭚﭛﭜ ﭝﭞﭟ ﭠ ﭡﭢﭣ ت�شري الآية الكرمية �إىل ما وقع فيه الن�صارى على م�ستوى الكليات حني جعلوا املعبود الواحد ثالثة ،ومنحوا الب�شر املخلوقني املحتاجني ما لي�س لهم من العبادة والتقدي�س والدعاء والرجاء ،وحني ح َّرموا احلالل ،و�أحلوا احلرام ،فخرجوا بالر�سالة ال�سماوية عن خطها الأ�صيل املمتد الذي خطه الأنبياء ـ عليهم ال�صالة وال�سالم- ودعوا النا�س �إليه ،وج َّر ذلك عدداً من االنحرافات على العقيدة وال�شريعة وال�سلوك، وكانت نتيجة ذلك خروجاً عن �سبيل اهلل؛ لي�سلكوا �سب ًال تتوازى معه �أحياناً وتتقاطع �أحياناً �أخرى ،وكانت عواقب ذلك بغ�ضاء وعداوة ه َّيجها اهلل ـ �سبحانه وتعاىل ـ بينهم حتى �أ�صبحوا مل ًال وفرقاً ،بني كل واحدة والأخرى من البعد واخلالف كما بني �أهل دينني خمتلفني ،و�صار كل منهم يتقرب �إىل اهلل مبعاداة الآخر! وملا كانت �سنن اهلل ـ تعاىل ـ ما�ضية يف الأمم جميعاً على نحو واحد دون حماباة لأحد كان علينا �أن نقف �أمام هذه امل�س�ألة وقفة ا�ستب�صار ُنفيد منها يف حياتنا العامة ،حتى ال يحيق بنا ما حاق بغرينا. 195
� 29/04/2010 11:09:20
�� ������ ���.indd 195
في إشراقة آية
والذي نود �أن نقوله هنا هو� :أن يف الر�سالة ال�سماوية التي �أكرمنا اهلل ـ تعاىل ـ بها نظاماً للأ�صول والكليات ميثل املدار الأعظم الذي تتحرك يف فلكه اجلزئيات والفرعيات ،وهذه الأ�صول لو�ضوحها ور�سوخها وقطعية ثبوتها لي�ست مناطاً لالجتهاد واجلدل والنظر ،وهي �أ�صول ال تقبل التطوير والتحوير؛ لأن �أداءها ملهام كثرية �أبدية ي�ستلزم ذلك ،و�إال ملا �أمكن ا�ستمرار االنتفاع بها .وهذه الأ�صول متثِّل �إطاراً من الثوابت التي ال تقبل احلركة لأن وظيفتها تنظيم حركة الإن�سان وتوجيهها .و�إىل جانبها هناك جزئيات وفرعيات كثرية تختلف فيها الأنظار واالعتبارات بني جيل و�آخر ،و�أهل بلد و بلد �آخر ،والنامو�س العام الذي يحكم هذه وتلك �أن ما ال يختلف مف�ص ًال وا�ضحاً ،وهو يت�سم بالثبات النعدام باختالف الزمان واملكان والإن�سان جاء َّ دواعي التغيري ،وما كان يختلف باختالف الأزمنة والأمكنة والأ�شخا�ص جاء جمم ًال ،لي�س فيه �أكرث من توجيهات عامة هادية ،حتى يتاح للمجتهدين امل�سلمني النظر فيه وتف�صيله بح�سب ظروفهم وحاجاتهم املتغرية واملتجددة ،وعلى �سبيل املثال ف�إنه لن ي�أتي على النا�س زمان يرون فيه �أنف�سهم حمتاجني لأن ي�ضيفوا �صفة جديدة هلل ـ تعاىل ـ مل ُي َن َّ�ص عليها من قبل� ،أو �أن ي�ص ُّلوا الظهر �أربع ركعات� ،أو يقفوا على عرفات يف اليوم العا�شر وهكذا ....فو�ضوح الثوابت ي�ساعد يف ر�سم امل�سارات العامة حلياة الأمة ،وحتديد ق�ضاياها الكربى ،و�إجمال الفرعيات يتيح لها احلركة والتجدد والتكيف و�إعادة ترتيب الأولويات و�إثراء فقه املوازنات... وهناك اليوم جهود جبارة ُتبذل من قبل فرقاء �أخفقوا يف تقدمي �شيء ذي بال لأمتهم ،وعجزوا عن التفاعل مع �أُطرها الثقافية ...جهود ُت َبذل للت�شكيك يف تلك الثوابت وطريقة حتديدها وبلورتها من قبل ال�سلف ،حتى يتاح لهم �صرف الأمة عن 196
� 29/04/2010 11:09:20
�� ������ ���.indd 196
في إشراقة آية
وجهتها التي والها اهلل �إياها .وهم يتذرعون مبقوالت نقد الرتاث وا�ستلهامه و�إعادة قراءته وو�ضعه يف �إطاره التاريخي ..وهذه امل�صطلحات كلها حق على م�ستوى النظر، لكنهم مل يريدوا منها �إال الباطل ،و�إذا ما ُكتب لهم النجاح يف ذلك ف�إن هذا يعني �أن الأمة �ستدخل يف نفق مظلم تفقد فيه اجتاهها وان�سجامها مع نظام ثوابتها ،و�سيكون ذلك ن�سياناً حلظ عظيم مما ُذ ِّكرت به ،و�سيكون العاقبة عداوة وبغ�ضاء و�صداماً� ،إن كل انحراف على م�ستوى ال�سلوك ميكن تقوميه �إذا �سلمت الأ�صول� ،أما �إذا �ضاعت الأ�صول ،و�أما �إذا حتول املعروف �إىل منكر ،وحتول املنكر �إىل معروف ،ف�إن اخلالف ي�صبح �ضربة الزب� ،إذ ينهدم الإطار املرجعي ،وامل�ستند الفل�سفي الذي تتحاكم �إليه الأمة يف كل �شئون حياتها! �إن مقاومة تلك اجلهود املخ ِّربة واجب يف عنق كل �أولئك القادرين على مقارعة احلجة باحلجة؛ ولن يكون ذلك باخلطابة ولكن بالطرح املت�أين وبالفكر امل�ستنري املتوقد؛ واهلل امل�ستعان.
197
� 29/04/2010 11:09:21
�� ������ ���.indd 197
�� ������ ���.indd 198
29/04/2010 11:09:21 �
في إشراقة آية
ﮏﮐ ﮑﮒ قال اهلل ـ �سبحانه :ﱹ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ
مين اهلل يف ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﱸ الإ�سراءُّ 70 : هذه الآية الكرمية على بني �آدم مبا حباهم �إياه من عل ِّو املنزلة ،وتوفر الإمكانات واال�ستعدادات التي حجبها عن غريهم ،ومبا ه َّي�أ لهم من �سبل العي�ش الكرمي للتمتع مبا �سخره لهم .ولعلنا نوجز هنا بع�ض مظاهر ذلك التكرمي 1ـ � َّأمد اهلل الإن�سان بنعمة العقل الذي هو جمموع الإمكانات الذهنية التي ِّمتكنه من �إدراك الأ�شياء على وجهها ال�صحيح ،كما ِّمتكنه من �إيجاد البدائل واخليارات وحل امل�شكالت املختلفة.... 2ـ ميز اهلل الإن�سان عن باقي املخلوقات بالنطق الذي يتمكن به من البيان البليغ، والتعبري عن م�شاعره و�أفكارهِّ ، وميكنه من تبادل اخلربات والتجارب مع �أبناء جن�سه. 3ـ ملا كان الإن�سان ال ينه�ض بالعقل وحده ،وال ميكنه من خالله �إدراك منطق العالقات الكلية يف هذا الكون �أر�سل له الر�سل ترتى ،فكان العقل مبثابة العني 199
� 29/04/2010 11:09:21
�� ������ ���.indd 199
في إشراقة آية
املب�صرة ،وكانت الر�ساالت مبثابة ال�ضياء ف�إذا كانت العني �سليمة �أمكنها ر�ؤية كل الأ�شياء التي غمرها النور. �سخر اهلل ـ �سبحانه ـ للإن�سان كل ما يف الأر�ضَّ ، ومكنه من �إدراك كثري من 4ـ َّ العالقات القائمة بني الأ�شياء حتى ي�ستطيع ا�ستثمار الطبيعة على الوجه الأكمل، بث من النوامي�س ما يجعله ي�ستفيد من بع�ض الأجرام ال�سماوية كال�شم�س كما َّ والقمر والنجوم ،و َو�ضَ ع �-سبحانه -من الت�شريعات ما يحفظ الطبيعة من التدمري واال�ستهالك اجل�شع؛ حتى يطول �أمد انتفاع الإن�سان بها؛ فجعل اهلل املبذرين �إخوان ال�شياطني يف �أن ك ًال منهم ُيف�سد ،ويهدم ما حوله ،ومل يبح قتل احليوان ملن ال يريد االنتفاع به ،وحث على االقت�صاد يف املاء مهما كان كثرياً ،كما حث على النظافة ال�شخ�صية والعامة؛ حتى ال تتلوث البيئة ،وت�صبح غري �صاحلة للعي�ش الكرمي. 5ـ م َّتع اهلل ـ تعاىل ـ الإن�سان بالإرادة احلرة التي يتمكن بها من اختيار االجتاه املنا�سب له ،واخلروج من �أ�سر غرائزه و�شهواته ،وبنى على ذلك م�ساءلة الإن�سان عن �أعماله؛ حتى تبتعد حياته عن العبث واللهو والفراغ وال�ضياع والعدوان. 6ـ ّمد اهلل ـ تعاىل ـ يف وجود الإن�سان ،فجعله يتجاوز احلياة الدنيا �إىل الآخرة؛ فوجوده لي�س عار�ضاً كوجود اجلماد واحليوان ،وع َّزز ذلك بفطره على النزوع �إىل البقاء وحب اخللود؛ فهو مت�ش ِّوف �إليه �أبداً ،وم�ستعد لأن يتخلى عن كثري من رغباته العاجلة يف �سبيل الآجل املن َت َظر ،مما خفَّف من غلواء التزاحم على متاع الدنيا، و�أ�شاع نوعاً من الت�سامح يف بع�ض الأمور. 7ـ ك َّّرم اهلل ـ تعاىل ـ هذا الإن�سان حني راعى �أنواع ق�صوره اجل ِب ِّل ِّي ،وحني راعى الطوارئ والعوار�ض التي ُتوقعه يف احلرج ،ف�ساحمه مبا يقع منه نتيجة خط�أ �أو ن�سيان، 200
� 29/04/2010 11:09:21
�� ������ ���.indd 200
في إشراقة آية
كما خفَّف عنه يف �أحوال اال�ضطرار والإكراه وامل�شقَّة التي ال تحُ تمل. يحمله عواقب �أخطاء الآخرين، 8ـ مل ي�ؤاخذ الإن�سان بذنب ارتكبه غريه ،ومل ِّ ومع هذا وذاك ترك له �أبواب التوبة والأوبة م�شرعة ِم َّنة منه وكرماً .فهل قابل الإن�سان كل �أ�شكال هذا التكرمي مبزيد من العبودية واالنك�سار وااللتزام ؟ الواقع �أن �أكرث بني الإن�سان خالفوا �شروط اال�ستخالف و�أهدافه ،فعملوا على ا�ستنزاف كل موارد الطبيعة ب�صورة ج�شعة وغري م�س�ؤولة ،ول َّوثوا البيئة ،و�أ�شاعوا يف الأر�ض الف�ساد ،و�أعر�ضوا عما �أو�صتهم به ر�ساالت ال�سماء كافة من القيام ب�أمر اهلل والعمل للدار الآخرة ﱹ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﱸ �إبراهيم34 : والبد �إن ا�ستمر �أهل الأر�ض على هذا من �أن تنزل بهم ال�سنن التي نزلت مبن قبلهم ،فهل من متدب ّر؟ وهل من ِّ متذكر؟.
201
� 29/04/2010 11:09:21
�� ������ ���.indd 201
�� ������ ���.indd 202
29/04/2010 11:09:21 �
في إشراقة آية
ﭿ قال تعاىل :ﱹ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ
ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﱸ احلجرات 13 :
يف هذه الآية نداء عام �إىل بني الإن�سان ببيان الأ�صل امل�شرتك ،فهم ينحدرون من �أب واحد و�أم واحدة ،وهم لأ�سباب كثرية متفاوتون يف ق�ضايا متعددة ،لكن اخلالف الذي بينهم ميكن اعتباره بوجه من الوجوه تنوعاً ،والتنوع يجمعه �إطار عام واحد، وهو يقت�ضي التكافل ،ال التنافر ،وهذا وا�ضح من لفظ ( لتعارفوا ). �إن ذلك التخالف والتنوع بني الب�شر مدعاة جادة �إىل ال�سعي نحو التفاهم والتعاون املثمر كي يتم �إعمار الأر�ض وب�سط �سلطان احلق و�إ�شاعة اخلري فيها� .إن املنهج العام للإ�سالم ِ ال يحبذ التوتر العاملي ،وال ي�سعى �إليه للأ�سباب الآتية: 1ـ �إن الإ�سالم دعوة لإ�صالح العامل و�إنقاذه ،والتوتر عدو لدود النت�شار املبادئ والأفكار ،ومن هنا نفهم بع�ض �سر قبول النبي × بال�شروط املجحفة لكفار قري�ش يف �صلح احلديبية ،حيث �أراد �أن ُتلقي احلرب �أوزارها ،لي َّعم ال�سال ُم احلجا َز ،وينخف�ض 203
� 29/04/2010 11:09:21
�� ������ ���.indd 203
في إشراقة آية
التوتر ،وي�صبح هناك جمال لإعادة النظر فيما ُيعر�ض على القبائل هناك من الدينونة لرب العاملني ،وهذا الذي حدث. 2ـ �إن التوتر العاملي يخدم �أ�صحاب القوة ،ومل تكن القوة يف يوم من الأيام �أف�ضل ما ميلكه امل�سلمون ،و�إمنا املبادئ والأ�س�س والقيم والنظرات ال�شمولية الثاقبة.. ومن هنا دخل من دخل من النا�س يف الإ�سالم عن طريق االقتناع واحلب ال حتت �صليل ال�سيوف. 3ـ �إن التوتر العاملي ي�ؤدي �إىل انهيار احلياة الفطرية وتدهور البيئات ون�ضوب املوارد على هذا الكوكب ،مع �أن الإ�سالم يريد من بني الب�شر �أن ي�سعوا �إىل �إبقائه �صاحلاً حلياة طيبة كرمية ر�ضية ،ولهذه الأ�سباب ،و�أ�سباب �أخرى يحث الإ�سالم �شعوب الأر�ض على التعارف والتعاون ،والبحث عن �أوجه الت�شابه بدل النفخ يف دواعي النزاع وال�شقاق ،لكن الإ�سالم مع هذا يرف�ض ب�أن يكون ثمن ال�سالم العاملي ا�ستغالل الأقوياء لل�ضعفاء ،وا�ستهالك موارد الطبيعة ب�صورة ج�شعة مل ي�سبق لها مثيل� ،أو �سيادة �أفكار الفجور واالنحراف والغواية ...ومن هنا جاء تذييل الآية الكرمية بقوله �سبحانه� (( :إن �أكرمكم عند اهلل �أتقاكم )) فالتقوى مبعناها ال�شامل هي التي ينبغي �أن تكون معيار التفا�ضل يف ال�ساحة الدولية ،ال القوة وال النفوذ� ،إن احلاجة �إىل التفاهم العاملي لي�ست مطلباً للفقراء ،وال لأبناء الدول النامية ،و�إمنا هي حاجة عامة ،لأن م�شكالت الت�صحر وتلوث البيئة والهواء وارتفاع درجة حرارة الأر�ض املج َهد ون�ضوب مواردها �ستطال �آثا ُرها العامل كله دون ا�ستثناء ،و�إن عامل الفقراء ْ النازف لن يقوى على اال�ستهالك املحفِّز للإنتاج بعد اليوم ،وهذا �س ُيلحق �أوخم العواقب باقت�صاديات الدول املتقدمة� ،إنها لن جتد من ي�ستهلك منتجاتها ،ومن ثم، 204
� 29/04/2010 11:09:21
�� ������ ���.indd 204
في إشراقة آية
ف�إن كل الأنظمة العاملية اجلديدة ،والقدمية �سوف ت�صري �إىل الإخفاق والزوال ما مل تراع التعددية واخل�صو�صية الثقافية ،وما مل تقم على العدل وحماية احلق و�إن�صاف املظلوم وتر�شيد ا�ستخدام املوارد املتاحة ،و�إذا ما مت ذلك ف�إنه �سيكون املدخل ال�صحيح �إىل �سالم عاملي يقرتب من اال�ستفادة من تراث الأنبياء ،واالهتداء بخامتة ِّ و�سي�شكل ذلك كله الف�صل الأول من رواية العودة �إىل ريا�ض العبودية الر�ساالت، لرب العاملني.
205
� 29/04/2010 11:09:21
�� ������ ���.indd 205
�� ������ ���.indd 206
29/04/2010 11:09:21 �
في إشراقة آية
ﮰﮱﯓﯔﯕ ﯖ ﯗﯘﯙﯚ ﯛ ﯜﯝﯞ ذكر اهلل ـ تعاىل ـ هذه الآية يف �سياق احلديث عن املعركة الفا�صلة بني امل�ؤمنني بقيادة طالوت ،وبني الكافرين بقيادة جالوت ،وما انتهت �إليه من قتل داود جالوت مع �صغر �سن داود وق َّلة عدد جنده .وت�شري الآية الكرمية �إىل ُ�سنة من �سنن اهلل يف الكون ،هي �سنة ( املدافعة ) هذه ال�سنة التي ال جتعل اخلري خامداً �ساكناً يف ح ِّي ٍز �أوجهة كما ال ت�سمح لل�شر �أن يكون كذلك ،فبينهما من التزاحم والتدافع ما ين�شِّ ط احلياة ،و ُيطلق الطاقات املذخورة يف عقول الب�شر ودمائهم .وقد فهم بع�ض املف�سرين يحجم بع�ضهم بع�ضاً، �أن التدافع يجري بني �أهل ال�شر والف�ساد فيتحولون �إىل فرقاء َّ وهذا ق�صور؛ �إذ �إن الآيات ال�سابقة على هذه الآية حتكي ق�صة املدافعة بني �أهل اخلري و�أهل ال�شر ،بل �إن امل�شاهد يف هذه احلياة �أن �سنة التدافع عامة؛ فهناك تدافع من َّوع ي�شتد كلما ا�شتد اخلالف بني املتدافعني وي�ض ُعف ،ويتهم�ش كلما احتدت املنطلقات والأهداف �إىل �أن ترى �شيئاً من التدافع يف نطاق الأ�سرة الواحدة .وهذا التدافع �ضروري حلفظ التوازن احليوي على ُ�ص ُع ِد احلياة كافة ،فال يطغى جانب على جانب 207
� 29/04/2010 11:09:21
�� ������ ���.indd 207
في إشراقة آية
وال عن�صر على عن�صر �آخر؛ فمن خالل الفعل ورد الفعل يتم حفظ التوازن ،كما يتم ا�ستخراج �أف�ضل الإمكانات املخبوءة ،ومن هنا ف�إن �أولئك الذين يح ُلمون بالعي�ش يف عامل ي�سوده ال�سالم والوئام ،ويخلو من ال�صراعات� ،إمنا ميرحون يف حدائق من الوهم و�أحالم اليقظة الوردية؛ فمفرزات العقائد ومعطيات التاريخ وال�صراع على اجلغرافيا و�إغراءات تو�سيع النفوذ ،كل �أولئك يجعل من منع ال�صراع �ضرباً من امل�ستحيل. و�إن العامل اليوم �أ�شبه بكتلة م�ضغوطة ال ميكن جلزء منها �أن يتمدد �إال على ح�ساب جزء �آخر ،هذا ال يعني بال�ضرورة ثبات �أ�شكال ال�صراع وال ثبات منطقه و�أدواته، فلكل ع�صر �صراعه ،ولكل �صراع منطقه وحموره ،والذين ميلكون القدرة على فهم ع�صرهم وميلكون �آليات �إدارة ال�صراع هم الذين يربحونه ،ومن هنا ف�إن الأمة �إذا كان لها �أن تختار �صراعاً من ال�صراعات ،ف�إن عليها �أن تختار �ساحة ال�صراع التي متتلك �أدواتها ،وتحُ �سن املغالبة فيها ،ووا�ضح �أن االقت�صاد هو حمور �صراع هذا الع�صر، و�أن القادرين على التحكم يف مفا�صل حركته هم الذين ي�صبحون عمالقة ،و�إن مل يريدوا؛ �أما �أولئك الفقراء واملحتاجون واجلياع ،ف�سيظلون يبحثون عن مكان يف ذيل القافلة �إىل �أن يتبدل حمور ال�صراع ،فتولد توازنات جديدة ،وتربز قوى جديدة. فهل لأمتي من خيار ؟
208
� 29/04/2010 11:09:21
�� ������ ���.indd 208
في إشراقة آية
ﰇﰈﰉﰊﰋ كان من �إكرام اهلل لهذه الأمة �أن بعث فيها ر�سو ًال من �أنف�سها يع ِّلمها ،ويزكيها، ِّ وي�شكل عقولها على نحو معني ِّميكنها من بناء احلياة الدنيا على منهج اهلل ـ تعاىلـ ومراده .والنا�س يف كل زمان ومكان ميالون للتعامل مع احلقائق على غري املنهج املطلوب ،فكثري منهم يتيه عن �إدراك احلقيقة ب�سبب نق�ص يف خلفيته الثقافية� ،أو ب�سبب خلل يف تربيته �أو و�سطه االجتماعي�...أو ...و�إيجاد بدائل عن احلقائق للتعامل معها فن ميار�سه النا�س يف �صور خمتلفة ،فقد تكون خوفاً من الأ�شباح ،كما قد تكون ت�شا�ؤماً من دار �أو ا�سم �أو رقم ...ويف ع�صرنا احلا�ضر تطور الهروب من احلقيقة �إىل �أ�شكال خمتلفة �أكرث تعقيداً ،فمن النا�س من يلقي اللوم يف �إخفاقه و�أخطائه على احلظ� ،أو على الظروف املحيطة� ،أو على اال�ستعمار والقوى العظمى ،وقد �أراد القر�آن الكرمي من امل�سلم �أن يقف وهو يتعامل مع احلقيقة �أمام نف�سه وجهاً لوجه ان�سجاماً مع العامل الذي نعي�ش فيه ،وهو عامل الأ�سباب وعامل املقدمات والنتائج ،والوقوف �أمام النف�س باملراجعة واملفات�شة يعني بلوغ قمة املو�ضوعية ،كما يعني وجود �إمكاني ٍة 209
� 29/04/2010 11:09:21
�� ������ ���.indd 209
في إشراقة آية
ما للإ�صالح� ،إذ �إن �أدوات املرء التي يحتاجها يف البناء واملدافعة قد تكون ناق�صة �أو غري موجودة ،مما يجعل وقوع العطالة �أمراً ال مفر منه ،ولكن حني يكون االتهام موجهاً �إىل الق�صور الذاتي ،ف�إن الظروف اخلارجية مهما �ساءت يكون ت�أثريها الأول َّ �آنذاك حمدوداً ،فقد ال ي�ستطيع املرء يف بع�ض الأحيان �أن يدعو �إىل احلق الذي ي�ؤمن به� ،أو ال ي�ستطيع �إحالته �إىل واقع يف دنيا النا�س ،ولكن ذلك ال مينعه �أبداً من �أن يحيا يف ظالل ذلك احلق يف ذات نف�سه ،كما ال يوجد من ي�ستطيع منعه من �أن ميوت يف �سبيله �إذا اقت�ضى الأمر ذلك .وحني �أ�صاب امل�سلمني ما �أ�صابهم يوم �أحد قال بع�ضهم :ﱹ ﰄ ﰅﰆ ﱸ ؟ متعجبني من حلول الهزمية بهم وهم جند اهلل و�أوليا�ؤه وجاء اجلواب �صريحاً ومبا�شراً :ﱹﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋﱸ ،ب�سبب ع�صيان الرماة لأمر النبي × �أو ب�سبب اخلروج من املدينة ،وقد كانت رغبته القتال فيها، �أو ب�سبب قبول فداء الأ�سرى يوم بدر .وكان بالإمكان التعلل ب�أن �أعداد امل�شركني كانت �أكرث من �أربعة �أمثال امل�ؤمنني� ،أو التعلل ب�أن عدة امل�سلمني �أقل و�أدنى من ِع َّدة امل�شركني� ،إىل ما هنالك مما ميكن للعقل الب�شري �أن يبتدعه ،ولكن القر�آن الكرمي �أراد �أن ُي�شعرهم �أن ما َّ حل بهم كان ب�سبب �ضعف داخلي اعرتاهم يف �صورة من ال�صور ،وقد ا�ستفاد امل�سلمون الأوائل من هذا الدر�س الثمني الذي دفعوا ثمنه دما ًء و�أ�شال ًء و�آالماً ،و�صار االنكفاء على الذات باملحا�سبة واملراجعة �أحد الأ�س�س التي يقوم عليها الت�صور الإ�سالمي يف التعامل مع الأ�شياء والأحداث ..ومن هنا ف�إن عمر ر�ضي اهلل عنه كان يخاف على جيو�شه املعا�صي والذنوب �أ�شد من خوفه عليهم من ُع َدد الأعداء و�أعدادهم� ،إذ �إن املعا�صي رمز الوهن النف�سي ،وامليل �إىل الأهواء وال�شهوات مدعاة لأن َي ِك َل اخلالقُ النا�س �إىل �أنف�سهم ،والذي ينظر يف تاريخ 210
� 29/04/2010 11:09:22
�� ������ ���.indd 210
في إشراقة آية
�سلف الأمة يخرج بانطباع عام ،هو �أن َّ جل اهتمامهم كان من�صرفاً لإ�صالح ذواتهم، ومبا�شرة ما ميكن مبا�شرته من الأعمال ا�ستجابة للمنطق الذي رباهم عليه هذا الدين من التكليف على قدر الو�سع ،وعدم ت�ضييع املمكن يف طلب الع�سري �أو امل�ستحيل. قد تعلم �أولئك الأخيار �أن مبا�شرة املمكنات خري طريق لتذليل الع�سري وفق املقولة: ((�إذا فعلنا ما هو ممكن اليوم �صار ما هو م�ستحيل اليوم ممكناً غداً)) وهذا هو القر�آن الكرمي يخاطب امل�صطفى × بقوله :ﱹ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﱸ الن�ساء84 :
�إنه ت�صور رائع ملا ينبغي �أن يكون عليه امل�ؤمن من وجوب �أداء الواجب و�إبراء الذمة ،ولو وقف وحده يعمل ويدفع ..وك�أن هذا احل�س َّ الذي ك َّونه الإ�سالم عند ربى اهلل عليه ر�سله الأخيار من قبل ،فهذا مو�سى -عليه ال�سالم- امل�سلم امتداد ملا َّ يدعو قومه �إىل دخول الأر�ض املقد�سة ،فيدعو اهلل ب�ضراعة م�شوبة باال�ستعداد لتنفيذ ما ميلك تنفيذه حيث يقول :ﱹ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﱸ املائدة ،25:واليوم كثرياً ما يجتمع �أهل الغرية واخلري فينا ،فيتحدثون يف �ش�ؤون العامل الإ�سالمي من �أدناه �إىل �أق�صاه م�ستعر�ضني العذابات والآالم التي ينف�ض املجل�س بعد ذلك عن مثل ما اجتمع عليه دون �أن يعي�شها ذلك العامل ،ثم ُّ يكون قد تغري �شيء من ذلك احلال ،وهذا يف البداية يدل على �أنه ما زال فينا ـ رغم ما املح�صالت �أ�صابنا ـ بع�ض الأوتار احلية ،ولكن النظر ينبغي �أن ين�صرف با�ستمرار �إىل َّ والنتائج حتى ال ينطبق علينا املثل القائل� ( :أو�سعتهم �س َّباً و�أودوا بالإبل ). �إننا حني ن�ش ِّرق ،ونغ ِّرب نتجاوز �أمرين مهمني: 211
� 29/04/2010 11:09:22
�� ������ ���.indd 211
في إشراقة آية
الأول :هو �أنف�سنا� ،إذ �إن احلقيقة املاثلة �أن امل�سلمني �إن كانوا متخلفني فنحن جزء منهم ،و�أعمالنا ومواقفنا جزء من واقع التخلف ،ف�إذا �أردنا �أن نقوم بعمل ذي �ش�أن فليتعاقد وليتعاهد الذين يبحثون �ش�ؤون العامل ،وهم متكئون على الأرائك الوثرية على حماربة �أمناط من ال�سلوكيات اخلاطئة مثل الرتف والك�سل والفو�ضى وال�سلبية والأنانية �إىل �آخر ما يفي�ض به معجم الوهن من �ألفاظ ...فذلك �أجدى من كالم كثري ال ُي�شبع جائعاً ،وال يع ِّلم جاه ًال وال يرفع لذليل ر�أ�ساً. الثاين :الو�سط العام ال�ضيق الذي نعي�ش فيه ،حيث �إننا دائمو ال�شكوى من تلف العامل الإ�سالمي ،وبد ًال من احل�سرة والأمل من كرثة كرثة �أنواع الق�صور التي ُّ �إعرا�ض النا�س عن �صالة اجلماعة ـ مث ًال ـ ب�إمكاننا �أن نزور �أحد جرياننا لنبني معه عالقة اجتماعية طيبة منرر من خاللها عدداً من الأفكار ،من جملتها احلر�ص على �أداء ال�صالة مع اجلماعة ،ثم متابعة ذلك دون كلل �أو ملل ،وبهذا نكون قد �أوقدنا �شمعة ،و�أ�ضفنا �إىل ر�صيد امل�سلمني نقطة ،وال ينبغي �أن ُيف َهم من هذا �أننا ندعو �إىل عدم االهتمام ب�ش�ؤون امل�سلمني ،و�إمنا املراد �أن نركز اهتمامنا على ما ميكن تغيريه نحو املن�شود ،وال ينبغي �أن ننهي هذا املقال قبل الوقوف عند احلديث ال�شريف الذي عد معلماً بارزاً يف هذه الفكرة� ،أال وهو قوله ×�(( :س�ألت ربي ثالثاً ،ف�أعطاين ُي ُّ اثنتني ،ومنعني واحدة� ،س�ألته �أال ي�س ِّلط عليهم عدواً من غريهم ،ف�أعطانيها ،و�س�ألته �أال يجعل ب�أ�سهم بينهم ،فرد علي )) ويف رواية :يا حممد �إين �إذا ق�ضيت ق�ضاء ف�إنه ال يرد ،و�إين �أعطيت لأمتك �أال �أهلكهم َب�س َن ٍة عامة ،و� اَّأل �أ�س ِّلط عليهم عدواً من �سوى �أنف�سهم ي�ستبيح بي�ضتهم ،ولو اجتمع عليهم من �أقطارها حتى يكون بع�ضهم ُيهلك 212
� 29/04/2010 11:09:22
�� ������ ���.indd 212
في إشراقة آية
بع�ضاً ،وي�سبي بع�ضهم بع�ضاً))(.)1 �إن كل �أنواع االعتداءات التي وقعت على هذه الأمة من خارجها كانت نتيجة ا�ستعداد لدينا لقبول العدوان ،و�إن من دولنا و�شعوبنا من ازدادوا �سوءاً بعد خروج امل�ستعمر!!.. �إننا نعاين يف حياتنا العامة من نق�ص يف الفهم ونق�ص يف الرتبية وق�صور يف احليوية وق�صور يف االلتزام ،وحني نتالفى هذه الفنون من الوهن وال�ضعف ف�إنه لن ي�ضرنا كيد امل�ستعمرين ولو اجتمعوا من �أقطارها .وهلل الأمر من قبل ومن بعد.
-1رواه م�سلم وغريه بروايات عدة. 213
� 29/04/2010 11:09:22
�� ������ ���.indd 213
�� ������ ���.indd 214
29/04/2010 11:09:22 �
في إشراقة آية
ﮑﮒﮓ امت اهلل ـ تعاىل ـ على هذه الأمة حني بعث فيها ر�سو ًال من �أنف�سها يدلها على نَّ مرا�شد احلق ومقاطع ال َر�شَ د ،و�أنزل عليه كتاباً َي َظ ُّل تذكرة لأوىل الألباب مهما ات�سعت �أمداء الزمان واملكان حيث تعهد بحفظه ،فال متتد �إليه يد التغيري والتحريف على نحو ما �أ�صاب الكتب ال�سماوية ال�سابقة ،فقال ـ �سبحانه :ﱹ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﱸ احلجر ،9 :وال ريب �أن حفظ اهلل ـ تعاىل ـ لكتابه هو الق ََدر الأعلى لكن ال�ستار لقدر اهلل ـ تعاىل ـ هم امل�ؤمنون ال�صادقون الذين يحفظون هذا الكتاب يف �صدورهم ،و ُي�شيعون تالوته يف امل�ساجد والبيوت امتثا ًال لأمر اهلل بالعناية به ،وقد قامت الأمة بجزء من واجبها جتاه الذكر احلكيم حني �أن�ش�أت املدار�س وا ِحل َلق حلفظه و�ضمه �إىل ال�صدور ،ف�شاعت بذلك ثقافة قر�آنية عطرة يف �أو�ساط الأ�شبال وال�شباب، لت يف �سبيل يف ذلك جهود مربورة م�شكورة ،و�إننا لننتظر منها املزيد ...وهناك و ُب ِذ ْ جانب �آخر من جوانب الثقافة القر�آنية كان حمط �أنظار ال�سلف ،بل كان لدى كثري منهم اجلانب الأهم ،لكننا مل ُن ِعره االهتمام الكايف يف الع�صور املت�أخرة �أال وهو جانب 215
� 29/04/2010 11:09:22
�� ������ ���.indd 215
في إشراقة آية
( التدبر ) لذلك الكتاب ،وحماولة الغو�ص على كنوزه ودرره بغية �إ�ضاءة دروب احلياة ب�أنواره الهادية يف عامل ي�سوده الظالم والتناف�س والتغيري ال�سريع� ،إن العامل اليوم يغرق يف املاليني من مفردات املعلومات والتفا�صيل ال�صغرية ،لكنه فقد يف فقدها املقابل �إحكام الأ�صول والكليات ،بل فقد االجتاه والأهداف العليا التي يعادل ُ فقد الوجود ذاته! و�صار الإن�سان احلديث يف ت�أمالته وت�صوراته �أ�شبه مبن حب�س نف�سه َ يف حجرة �صغرية ،ثم �شرع يردد النظر يف حمتوياتها حتى �أحاط بها علماً ،لكنه يجهل العمارة التي تقع فيها تلك احلجرة ،كما يجهل احلي واملدينة والقا َّرة ...ومما ي�ؤ�سف له �أن هذه احلالة البائ�سة قد �أ�صابت كثرياً من م�سلمي اليوم حيث حتولت م�شاغل احلياة اليومية ال�صغرية �إىل حماور جذب الهتماماتهم و�أن�شتطهم بعيداً عن الغايات والأهداف العليا التي على امل�سلم �أن يحقِّقها قبل �أن يرحل عن هذه احلياة� ...إن امل�سلمني مل يكونوا يف يوم من الأيام �أحوج �إىل تدبر القر�آن منهم يف هذه الأيام حيث اختلطت عند كثري منهم الثوابت باملتغريات ،فط َّوروا ماح ُّق ُه الثبات ،وجمدوا على ما حقه التغيري ،وحيث فقد كثري من مبادئهم الفاعلية ،فما عادت ِّتكيف حياتهم وال تو ِّلد لديهم طاقة احلركة والعطاء. التقدم العلمي وتدبر القر�آن: ال�ص ُعد النف�سية واالجتماعية والطبيعية فر�صاً جديدة �أتاح لنا التقدم العلمي على ُّ لتدبر القر�آن الكرمي على نحو مل يكن متاحاً ملن كان قبلنا ،فالرتاكم الثقايف والعلمي �أدى �إىل تعاظم اخللفية الثقافية ومنوها منواً يق ِّرب الأذهان من فهم �إطالقات القر�آن الكرمي وتقييداته و�إمياءاته ب�صورة ح�سنة ،و�إمنا قلنا هذا لأن الإن�سان حني يقر�أ ن�صاً ـ �أي ن�ص ـ يقر�ؤه عرب تفاعل ن�شط لإمكاناته الذهنية وخلفياته الثقافية مع الطاقات 216
� 29/04/2010 11:09:22
�� ������ ���.indd 216
في إشراقة آية
حت�سن م�ستمر ،كما �أن الداللية للن�ص املقروء ،ويف هذا الإطار ف�إن خلفيتنا الثقافية يف ُّ الطاقات الداللية والإيحائية للن�ص القر�آين تتجاوب مع كثري من ذلك النمو.. ال�ص ُعد احلياتية كافة جاءت لت� ِّؤكد �أن �إن كل الإجنازات العلمية واحل�ضارية على ُ القر�آن الكرمي تنزيل من العليم اخلبري ،و�صارت تلك املك َت�شفات تقوم مبهام ال�شارح واملف�سِّ ر لقوله ـ �سبحانه ـ ﱹ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﱸ ف�صلت ،35 :لكن متابعة ذلك وتنزيله على القر�آن يحتاج �إىل موازين دقيقة ،حتى ال تقع يف ال�شطط. مت�س احلاجة �إىل تدبره: منازج مما ُّ ما�سة لتدبر جميع القر�آن الكرمي و�سوره ،وامل�ؤ�شِّ رات �إن حاجة امل�سلمني �ستظل َّ الوقتية والظروف احلا�ضرة قد متلي علينا �أن ِّ نركز على بع�ض املحاور القر�آنية فقهاً وت�أم ًال وتدبراً على نحو ما ي�صفه الطبيب من الأدوية يف �أوقات خمتلفة .وتواجه �أمتنا اليوم نوعاً من الركود احل�ضاري حيث �ضعفت �إنتاجيتها وطا�شت �أوزانها يف املعايري الدولية ،و�صارت نهبة لكل طامع ،وهذا يفر�ض علينا �أن نقوم بتحديد الأ�سباب والعوامل التي �أدت بنا �إىل هذه احلال مع وزن ت�أثري كل عامل من تلك العوامل ،ثم تو�صيف احللول والعالجات وبيان �أولويات ا�ستخدامها ،ويف هذا الإطار جند �أن من الواجب علينا �أن نتد َّبر ما يلي: 1ـ نتيج ًة لكثري من الت�آمر وكثري من اجلور العاملي على �أمة الإ�سالم �ساد اعتقاد لدى العامة ،وكث ٍري من اخلا�صة ب�أن م�صدر م�صائبنا هو العداء اخلارجي الذي نتعر�ض له و�أننا لو ُت ِركنا و�ش�أننا لكنا �شيئاً �آخر ،وما دمنا نعي�ش يف دار االبتالء وتنازع البقاء ف�إن 217
� 29/04/2010 11:09:22
�� ������ ���.indd 217
في إشراقة آية
توجه الآخرين �إلينا بالأذية �سيكون مفهوماً ،والقر�آن الكرمي ُير�شدنا �إىل �أننا �إذا كنا يف الو�ضع ال�صحيح ف�إن �آثار ت�أمر الأعداء �ستكون حمدودة ،ويف هذا يقول ـ �سبحانه ـ ﱹ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﱸ �آل عمران . 111 :ويقول ـ �سبحانه :ﱹ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﱸ �آل عمران ،120 :والتب�صر يف �آيات القر�آن التي تتحدث يف هذه امل�س�ألة مع التب�صر يف ال�ش�أن العاملي املعي�ش ِّ �سيمكننا من العي�ش يف حالة من التوازن العقلي والنف�سي ونحن نواجه حتديات الداخل واخلارج. موجهة نحو -2مييل كثري من امل�سلمني اليوم �إىل جعل النقد عبارة عن �أ�شعة َّ اخلارج ،فكل فئة ُتلقي تبعات امل�شكالت التي تعاين منها على فئة �أخرى ،بل �إن جي ًال كام ًال ُيلقي تبعات ما يعانيه من �أزمات على الأجيال ال�سابقة ،وعندما ُن ْن ِعم ق�ص علينا العديد من حاالت النقد النظر يف القر�آن الكرمي جند �أن اهلل ـ تعاىل ـ َّ الذاتي الذي مار�سه الأنبياء واملر�سلون ـ عليهم ال�سالم ـ مع ما �أكرمهم اهلل به من الع�صمة ،وذلك حتى تت� َّأ�سى بهم الأجيال فتلتفت �إىل معاجلة الأخطاء واخلطايا التي اقرتفتها جتاه ربها و�أنف�سها .ومما عر�ضه لنا القر�آن الكرمي يف هذا قول �أبينا �آدم وزوجه بعد الأكل من ال�شجرة :ﱹ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﱸ الأعراف .23 :وهذا يون�س عليه ال�سالم ي�ستغفر وي�سرتحم ،ويقول: ﱹﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ
ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﱸ الأنبياء ،87ويف هذا كله �ضروب من تعليم القر�آن الكرمي لنا وتعميمه لثقافة النقد الذاتي ،وعلينا �أن نكت�شف املزيد من تلك الثقافة ،و�أن ننفعل بها حتى ال ت�ستم َّر �ألوان االنحرافات وترتاكم.. 218
� 29/04/2010 11:09:22
�� ������ ���.indd 218
في إشراقة آية
3ـ تكاليف الإ�سالم كثرية ،و�ألوان الق�صور يف حياتنا �أكرث ،وقد كرث الدعاة �إىل الإ�صالح ،وجنح بع�ضهم �إىل التهويل من خطر االنحراف يف بع�ض الأمور على حني غفلوا عن �إ�صالح االنحراف يف �أمور �أخرى رمبا كانت يف موازين اهلل �أخطر ،وميكننا �أن نتعرف على ذلك من خالل اهتمام القر�آن الكرمي نف�سه به وتكراره له يف �أ�ساليب عديدة ،لأنه ِّ ي�شكل �أ�ص ًال �إذا ما مت االلتزام به ُح َّلت م�شكالت كثرية مرتبطة به؛ ف�إ�سالم الوجه هلل وخوف يوم احل�ساب والإميان وال�صالة والزكاة والعدل والعلم والتقوى و�إ�شاعة اخلري واملعروف بني النا�س �أمور تكررت يف القر�آن الكرمي على وجه غزير الفت للنظر؛ لأنها متثل �أ�صو ًال َي ْ�صلح مبقت�ضاها دين الإن�سان ودنياه .و�إذا ما نظرنا يف القر�آن وجدنا �إىل جانب هذا �أن القر�آن الكرمي مل يذكر الغيبة ـ مث ًال ـ �إال مرة واحدة ،ومل يذكر ال�سرقة �إال مرتني �أو ثالثاً ،وهناك حمرمات مل يرد ذكرها يف القر�آن الكرمي مثل حرمة لب�س الذهب واحلرير على الرجل امل�سلم ..وال يعني هذا عدم حر�ص القر�آن الكرمي على �صون �أموال النا�س و�أعرا�ضهم �أو ا�ستهانته بخطر ولوغ امل�سلمني يف الرتف والبذخ مبقدار ما يعني �أن الإميان باهلل ـ تعاىل ـ حني يتمكن يف قلب يكف عن ارتكاب هذه القبائح امل�سلم وي�صحبه تذكر دائم ليوم احل�ساب ،ف�إن امل�سلم ُّ وما دونَها ،وحني ال تر�سخ تلك الأ�صول يف قلب امل�سلم وحياته اليومية ،ف�إن االمتناع عن بع�ض املحرمات ميكن �أن يتم ب�صورة �شكلية ليقع امل�سلم يف بع�ض املعا�صي التي تخالف مقا�صد الت�شريع �أكرث من ذلك املحرم الذي نهى اهلل -تعاىل ـ عنه ...ومن هنا ف�إن تدبر القر�آن الكرمي ُي�سعِفنا يف ترتيب �أولويات ما ينبغي عالجه ،كما يفيدنا يف �إعطاء كل م�شكلة ما هي جديرة به من العناية والعمل. 4ـ خلق اهلل ـ تعاىلـ بنى �آدم ليبلوهم �أيهم �أح�سن عم ًال ،وذلك االبتالء يتجلى 219
� 29/04/2010 11:09:22
�� ������ ���.indd 219
في إشراقة آية
يف �أمرين �أ�سا�سيني ،هما :العبودية هلل -تعاىل -بفعل الأوامر واجتناب النواهي، و�إعمار الأر�ض من خالل الك�شف عن كنوزها ،وتثوير الطاقات الكامنة فيها وك�شف العالقات القائمة التي حتكمها .والذي نالحظه اليوم �أن كثرياً من امل�صلحني ان�صرفوا �إىل العناية باجلانب الثاين و�إهمال اجلانب الأول ،فحركة الفكر تتجه ب�صورة متزايدة �إىل ت�أ�سي�س ثقافة تتمحور حول ق�ضايا الإعمار والبناء والعمل والرفاهية ...على حني �أنه َّقل االهتمام لدى كثري من الباحثني وامل�صلحني بق�ضايا االلتزام وتطوير احلياة لتتكيف مع تعليمات ال�شرع احلنيف ،وذلك كله ب�سبب طغيان احل�ضارة املادية احلديثة و�ضغطها على ثقافات �شعوب الأر�ض املختلفة .والتدبر للق�ص�ص القر�آين �سينتهي بنا �إىل �أن ا�ستئ�صال الأمم ال�سابقة مل يحدث ب�سبب تق�صريها يف �إعمار الأر�ض والعزوف عن ا�ستنباط خرياتها ،و�إمنا كان ب�سبب االنحراف عن منهج اهلل وع�صيان ر�سله! ويف هذا تذكرة لأولئك امل�سلمني الذين مل ُي ْف ِ�سحوا ـ �إن �أف�سحوا ـ يف خططهم احل�ضارية والتنموية للق�ضايا ال�شرعية والأخالقية� ،إال �أ�ضيق امل�ساحات املتعمد لكل ما يت�صل بجانب املنهج ب�أن البالء القادم �سيكون من ذلك الإهمال َّالرباين من ن�شره ،وتربية النا�س على االلتزام به وبناء اخلطط احل�ضارية املختلفة يف هديه!. �إن حاجتنا �إىل مدار�س ِ وح َلق لتدبر كتاب اهلل ـ تعاىل ـ ال تقل عن حاجتنا �إىل مدار�س حفظ القر�آن الكرمي ،و�إننا نتطلع �إىل �أن ينه�ض بع�ض �أهل اخلري يف هذا املجال من �أجل تر�سيخ قيم التدبر وف�ضله؛ وعلى اهلل ق�صد ال�سبيل.
220
� 29/04/2010 11:09:22
�� ������ ���.indd 220
في إشراقة آية
ﯷﯸﯹﯺﯻﯼ عد كان �أهل الكتاب يف جزيرة العرب ُيكثرِ ون من الأ�سئلة التي تتعلق ب�أمور ُي ُّ البحث فيها نوعاً من الف�ضول والرتف العلمي .وكان مما وجهوه للنبي × من �أ�سئلة، ا�ستف�سارهم عن ماهية ( الروح) وكنهها على نحو ما ورد يف قوله تعاىل :ﱹﯮ
ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﱸ الإ�سراء85 :
�إن املوقف العام للقر�آن الكرمي جتاه �شئون احلياة املختلفة لي�س حجر البحث والنظر وال ت�ضييق اخلناق على العقل ،و�إمنا توجيه الإن�سان �إىل البحث واالهتمام مبا يعود عليه بالنفع والفائدة،وال�سيما �أن �إمكاناته وخرباته حمدودة و�ضئيلة ،وهذا التذييل اجلميل للآية بالو�صف بقلة ما �أوتيه النا�س من علم يتنا�سب مع غمو�ض �ش�أن الروح وماهيتها ،وتعقد و�صفها وا�ست�شفافها .وعلى الرغم من اجلهود احلثيثة التي ُب ِذلت يف حقل الروح ف�إن �أقل ما حازه الإن�سان من العلم ،واخلربة هو يف جمال الروح ،وما يتعلق بها من �أ�سرار احلياة ،وك�أنَّ الن�ص الكرمي يومئ �إلينا �أن ن�ستزيد من العلم ما دامت ب�ضاعتنا منه حمدودة ،كما ير�شدنا �إىل �أال نغرت مبا لدينا من املعرفة 221
� 29/04/2010 11:09:22
�� ������ ���.indd 221
في إشراقة آية
مهما ك رُ ََب حجمه يف امل�ستقبل ،لأن ذلك �سيظل بالن�سبة �إىل ما جنهله قلي ًال ،وهو �إذا ما قورن بعلم خالق ال�سموات والأر�ض ال يعدو �أن يكون قطرة يف بحر. ويف القرن التا�سع ع�شر منح العلماء للعلم �أهمية بالغة ،و�أناطوا به من الآمال العري�ضة ما ال ي�ستطيع حمله ،وت�أثر رجال الإ�صالح لدينا �آنذاك بذلك ت�أثراً بالغاً لكن املعطيات العامة للقرن الع�شرين ر�سمت دوائر من ال�شكوك وخيبة الأمل حول كثري مما كان ُي َع ٌّد م�صادر للبهجة والأحالم اجلميلة .واخلرباء مبجاري الأمور يدركون اليوم �أكرث من �أي وقت م�ضى َع ْج َز العلم عن الإدراك الكلي ملا ي�ؤدي �إىل تقدم الإن�سان ،وفرزه عن العنا�صر التي ت�ؤدي �إىل تقهقره و�شقائه ،وهذا �ضرب من �ضروب (قلة العلم ) التي تزداد و�ضوحاً يوماً بعد يوم. �إن االنتكا�سات التي يالقيها الإن�سان على ُ�ص ُعد عديدة ،وال�سيما ال�صعيد حتجم الثقة باخلربات الب�شرية املرتاكمة ،وتدفع االجتماعي والأخالقي بد�أت ِّ النا�س �إىل الي�أ�س واحلرية! وقد كانت الفل�سفة �أيام اليونان هي (ملكة العلوم )، ثم ّ حل الإح�صاء واعتماد لغة الرقم حملها على ما هو م�شاهد اليوم ،لكن البنية الذهنية للعامل تتجه الآن نحو الفل�سفة من جديد بعد الت�أزم واالختناق الذي تعاين منه الب�شرية اليوم نتيجة هيمنة املنطق العملي ،ورمبا كانت ال�صحوة الدينية العاملية تعبرياً عن بع�ض مالمح التوجه اجلديد ،كما �أنها تعبري عن �إفال�س مناهج التقدم التي اعتمدتها احل�ضارة الغربية خالل القرون الثالثة املن�صرمة ،وهذا �أي�ضاً من نق�ص علم الإن�سان وعجزه عن اال�ستقالل ب�إدراك ال�صراط امل�ستقيم دون عون وهداية من رب العاملني.ولعل من �أبرز ما ح�صل يف هذا القرن من ت�شكك يف كفاءة ما ا�ستحوذ عليه الإن�سان من علم ما جرى ( للأملان ) عقب احلرب العاملية الأوىل حيث تطلع 222
� 29/04/2010 11:09:23
�� ������ ���.indd 222
في إشراقة آية
العلماء الأملان �أثناءها �إىل مرحلة ما بعد احلرب على �أمل �أن يتطور العلم وتزدهر التقنية ،وتتمتع �أملانيا مبزيد من الهيبة الدولية ..لكن الهزمية الكارثية التي حاقت بهم َه َّز ْت �إميان الأملان بالنظام وعقالنية العامل ،وبدا �أن ا�سرتداد العافية البد �أن ي�ستند �إىل فل�سفة جديدة تعمل على تقوية البواعث الإن�سانية والوجدانية اجلميلة �أكرث من تلك (اليد امليتة) والنظرة الآلية القدمية التي كانت �سبباً يف الهزمية .و�ساد نوع من العداء لفكرة (ال�سببية) .وعرب عن الأمل من الثقة الزائدة بالعلم و�أهله ( كارل بيكر) وزير التعليم الرو�سي بقوله� (( :إن املبالغة يف تقومي املثقفني هو ال�شر الأ�سا�سي وما علينا �إال �أن نطالب مرة �أخرى مبا هو غري عقالين )) .ونحن نتوقع �أن يح�صل مثل ذلك على ال�صعيد العاملي �إذا ما ا�ستمر الت�أزم يف االقت�صاد ،وا�ستمرت احلياة الروحية يف الرتاجع! �إن الأحوال واملظاهر التي ت� ِّؤكد على ( قلة العلم ) لدى الإن�سان كثرية جداً، لكننا نريد هنا �أن ن�شري �إىل ثالثة �أن�ساق نظن �أنها مهمة يف هذا ال�صدد ،وهي: 1ـ يقولون�(( :إذا �أردت �أن تعرف امل�ستقبل فانظر �إىل املا�ضي)) ونحن �إذا نظرنا يف تاريخ العلم وجدنا �أنه ـ يف كثري من الأحيان ـ عبارة عن نظريات متنا�سخة ،فكل جيل ي�شعر بالده�شة من �سذاجة الأجيال ال�سابقة ،و�ضعف ح�صيلتها العلمية وت�سرعها يف �إ�صدار الأحكام الكربى دون مقدمات كافية ت�سندها .ونحن نعتقد �أن �أبناء ع�صرنا لي�سوا بدعاً من الب�شر ،و�أن �شيئاً مما نقوله عن غرينا �سوف يقال عنا! ومن ثم ف�إن من الأخطاء القاتلة �أن ُن�ضفي �صفة ( النهائية ) على ما هو حتت الت�أ�سي�س .وعلينا �أن نكون على حذر من ا�ستخدام العبارات الرنانة و�إطالق ال�شعارات الكربى حتى ال يكون م�ستقبلنا عالمة 223
� 29/04/2010 11:09:23
�� ������ ���.indd 223
في إشراقة آية
ا�ستهزاء مبا�ضينا ،فنحن مل ن�ؤت من العلم �إال قليالً. 2ـ �إن من قلة علمنا �أن جهلنا �أظهر ما يكون عند البحث يف ال�ش�أن الإن�ساين اخلا�ص ،فالباحثون يف علم االجتماع ويف علم النف�س خا�صة يجدون طرق البحث تت�شعب �أكرث ف�أكرث كلما ّ غذوا ال�سري قدماً ،وي�شعرون به�شا�شة الأر�ض التي يقفون عليها ،ويتوفر عدد �أكرب من االحتماالت كلما توغلوا يف م�سارات النف�س الب�شرية، على حني �أن الباحثني يف علوم الطبيعة يفيدون من �أنواع االنت�شار الأفقي للمعارف املختلفة يف التقدم الر�أ�سي احلثيث يف جماالت بحوثهم .وال�سبب يف ذلك �أن العن�صر والنحات الروحي ما دخل يف �أمر �إال عقِّده مما يجعل املرء ي�شعر �أحياناً ب�أنه احلجر ّ معاً! .و�صدق اهلل ـ تعاىل ـ �إذ يقول :ﱹ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﱸ الذاريات21: 3ـ ِّ ي�شكل املا�ضي واحلا�ضر وامل�ستقبل عنا�صر ( الدميومة ) الثالثة .و ُيعذر املرء حني يعجز عن فهم املا�ضي واجرتاح امل�ستقبل لأ�سباب مو�ضوعية معروفة ،لكن املده�ش حقاً هو عجز العلم الظاهر عن فهم الواقع و�سرب �أغواره! فالواقع الذي يدعي كل منا فهمه وا�ستيعابه �أكرث تعقيداً مما نت�صور ،فنحن ال نفهمه �إال بعد �أن ن�شكله عرب عمليات ذهنية عديدة تقوم على ما لدينا من عقائد وخربات ،وعلى العنا�صر املو�ضوعية التي ِّ ت�شكل الواقع .و�إذا كانت �صالبة كل ر�أي نابعة من �صالبة العمليات الذهنية التي �أدت �إليه �أدركنا مدى الق�صور وال�ضعف الذي يعرتينا كلما �أردنا القب�ض على هذه املادة الهالمية املتفلتة! وذلك �أي�ضاً من قلة العلم وحمدوديته ،مل نرد هنا نزع الثقة من العلم ،وال التقليل من �ش�أنه ،ولكننا �أردنا �أمرين: الأول� :أال نطلب من العلم توليد العقائد الكربى ،وال الأهداف العليا للوجود، فذاك �شيء ذهب به الوحي ،والعلم يتعلق باجلزئيات ال بالكليات. 224
� 29/04/2010 11:09:23
�� ������ ���.indd 224
في إشراقة آية
الثاين :التعامل املو�ضوعي املرن مع املعطيات العلمية التي ت�شتمل على �أجزاء متحركة ،وتلك التي ما زالت يف طور الت�شكل والنمو .و�إذا فعلنا ذلك �أمكننا �أن ن�ست�ضئ بالعلم دون �أن نحرتق بناره .واهلل �أعلم.
225
� 29/04/2010 11:09:23
�� ������ ���.indd 225
في إشراقة آية
226
� 29/04/2010 11:09:23
�� ������ ���.indd 226
في إشراقة آية
ﭷﭸﭹﭺ ﭻ قال اهلل ـ تعاىل ـ
ﱹﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ
ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ
ﭿ ﱸ البقرة ،79 :حتكي لنا هذه الآية الكرمية خُ لقاً قدمياً من �أخالق اليهود ،وهو خُ ُلق التحريف والتزوير ،ويزداد ذلك �شناعة حني يكون يف كالم اهلل الذي �أنزله ليكون هدى للنا�س .وقد ذكر بع�ض املف�سرين �أن مما ح َّرفه اليهود يف التوراة تغيريهم بع�ض �صفات حممد × حتى ي�سدوا �سبل الهداية �أمام بني دينهم ،وكان الدافع لذلك هو احلر�ص على املكا�سب واالمتيازات التي �ستذهب لو �أن اليهود دخلوا يف الإ�سالم ،فعمد �أحبارهم �إىل التزوير والتحريف .وما �أ�شبه اليوم بالبارحة! فقد �شهد ع�صرنا �أكرب عمليات التزوير ،ويف كل اجتاه حيث �صار كثري من م�صادر اخلرب وو�سائل انت�شاره يف �أيدي اليهود؛ وهذا ي�شكل حتدياً كبرياً �أمام العرب وامل�سلمني. وقد ا�ستق َّر كثري من الأعراف الدولية على عدم جواز تدخل دولة يف �ش�ؤون دولة �أخرى ،كما ا�ستقرت على �ضمان حرية املعتقد و�ضمان حرية التعبري عن الر�أي لبني 227
� 29/04/2010 11:09:23
�� ������ ���.indd 227
في إشراقة آية
الب�شر ،ويف هذه الأجواء ف�إن امل�ستعمرين ( اجلدد) ال ي�ستطيعون دخول بلد دون توطئة منا�سبة ودون �إقناع للر�أي العام ب�أخالقية ذلك التدخل ،ملا فيه من حفاظ على ال�سلم العاملي� ،أو ملا فيه من دفع الظلم وال�شر �إلخ ....وبالن�سبة �إيل العامل الإ�سالمي فقد اتخذ حتريف مبادئه وواقعه �أ�سلوبني خمتلفني يف ال�شكل ،متكاملني يف الطبيعة أ�سا�سه امل�ست�شرقون ،ثم تلقفت و�سائل والوظيفة� ،أما الأ�سلوب الأول فقد و�ضع � َ الإعالم الغربية ح�صيلة البحوث والدرا�سات التي انتهوا �إليها هم ،ومن يحطب يف حبالهم لتدجمها يف �أطروحتهم التحليلية والإخبارية املنا�سبة ،وم�ضامني هذا الأ�سلوب تتمحور حول ت�شويه حقائق الإ�سالم ومبادئه و�إبرازه على �أنه مناق�ض لكثري من القيم الإن�سانية ،كما تتمحور حول ت�شويه �صورة نبي الإ�سالم × وت�شويه واقع ال�صحوة الإ�سالمية املباركة.... �أما الأ�سلوب الثاين فهو اللعبة املف�ضلة لدى بع�ض من ُين�سب �إىل هذه الأمة حيث ال ي�ستطيعون ت�شويه الإ�سالم ،وال القدح يف النبي × وهم يعلنون االنتماء �إليه، وحيث يحول ال�ضغط ال�شعبي دون ذلك ،وهذا الأ�سلوب يقوم يف جممله على اتخاذ ال�صورة التي ر�سمها �أعداء الإ�سالم يف اخلارج له �إطاراً مرجعياً يجب على امل�سلمني �أن يحاكوه ويتماثلوا معه ،ومن ثم ف�إن ال�صحوة الإ�سالمية هي غلو وانحراف عن الإ�سالم ال�سمح الكرمي امل�سامل الذي ي�شبه املاء يف �أنه لي�س له طعم وال ريح!! وحني كنت �صغرياً كنت �أعجب من كلمة واحدة يقولها املرء من غ�ضب اهلل فيهوى بها يف النار حيث ورد يف احلديث� (( :إن العبد ليتكلم بالكلمة من �سخط اهلل ـ تعاىل ـ ال يلقي لها با ًال يهوي بها يف جهنم )) والآن بعد �أن ر�أيت �أثر الكلمة وفنون لدي يقني ب�أن من الكالم ما يجاوز يف فظاعته اجلرائم الكربى!!.. ا�ستخدامها �صار َّ 228
� 29/04/2010 11:09:23
�� ������ ���.indd 228
في إشراقة آية
لأنه ق ََّدم امل�ستند الفل�سفي لها� .إن بع�ض الك َّتاب �سيبعثون يوم القيامة ويف �صحائفهم رائحة الدم ـ مع �أنهم كانوا يف الدنيا �أجنب من �أن يحملوا �سكيناً ـ مبا كتبت �أميانهم، ومبا ا�شرتوا من عر�ض الدنيا الفاين.
229
� 29/04/2010 11:09:23
�� ������ ���.indd 229
�� ������ ���.indd 230
29/04/2010 11:09:23 �
في إشراقة آية في إشراقة آية
الفهرس مقدمة الطبعة الثانية
7
1
ﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ .
11
2
ﯓﯔﭶﭷ
16
3
ﮉ ﮊ ﮋ.
27
4
ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ.
35
5
ﯩﯪﯫﯬﯭﯮ ﯰ ﯯ.
45
6
ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ.
51
7
ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ.ﰃ
59
8
ﭥ ﭦ ﭧ.
67 231
� 29/04/2010 11:09:23
�� ������ ���.indd 231
في إشراقة آية
9
ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ.
73
10ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ .
79
11ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ .
85
12ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ .
91
13ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ .
99
14ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ.
107
15ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ.
113
16ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ .
119
17ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ.
123
18ﯟ ﯠ.
131
19ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ .
137
20ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ.
143
21ﯡ ﯢ ﯣ.
157
22ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ.
163
232
� 29/04/2010 11:09:23
�� ������ ���.indd 232
في إشراقة آية
23ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ.
171
24ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ.
179
25ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ .
185
26ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ .
191
ﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ ﭠ 27 ﭡ ﭢ ﭣ.
195
28ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ.
199
29ﭿ .
203
30
ﮰﮱﯓﯔﯕ ﯖﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ.
207
31ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ.
209
32ﮑ ﮒ ﮓ .
215
33ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ.
221
34ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ .
227
233
� 29/04/2010 11:09:23
�� ������ ���.indd 233
في إشراقة آية
234
� 29/04/2010 11:09:24
�� ������ ���.indd 234
أ.د .عبد الكريم ّ بكار أ.د .عبد الكريم ّ بكار
ال �أ�ستطيع �أن �أقول � :إن ما كتبته يف هذا الكتاب هو من قبيل التف�سري �أو ال�شرح لبع�ض �آيات الذكر احلكيم ،و�إمنا هو نوع من االنغما�س يف �ضيائه ونوع من احلوم حول حماه امل�صون ،و�إننا �ستظل ننهل من فيو�ض القر�آن الكرمي ،و�سنظل نقب�س من مفاهيمه و�إ�شاراته ،كما �أنه �سيظل فيه ما ينقع الغلة ،وي�شفي ال�صدر ،وينري الطريق ما تعاقب الليل والنهار ،وال حاجر على ف�ضل اهلل وكرمه. �إنني حني �أتدبر �شيئاً من الكتاب العزيز �أ�شعر بدرجة عالية من الثقة علي �سوى �أن والطم�أنينة ،و�أ�شعر �أنني �آوي �إىل ركن �شديد ،ولي�س َّ �أم ِّتع القلب والوجدان ب�شالالت �أنواره املتدفقه ومعانيه ال�سامية... كلما ن�ضجنا �أكرث وعرفنا �أكرث وجدنا �أنف�سنا �أقدر على فهم القر�آن الكرمي واال�ستفادة من بركاته
مؤسسة اإلسالم اليوم /إدارة اإلنتاج والنرش اململكة العربية السعودية الرياض ص.ب 28577 .الرمز 11447 : هاتف 012081920 :فاكس 012081902 :
للح�صول على هذا الكتاب ميكنكم التوا�صل عرب املوقع : www.drbakkar.com
� 10/05/2010 12:26:09
في إشراقة آيه
واهلل ويل التوفيق د عبد الكرمي بكار
www.wojoooh.com
اململكة العربية السعودية -الرياض ت 4918198 :فاكس :حتويلة 108 للتواصل والنرش: wojoooh@hotmail.com
���� �� ������ ���.indd 1