ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻣﻦ ﻋﴫ اﻟﻴﻮﻧﺎن إﱃ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
ﺗﺄﻟﻴﻒ أﻧﺘﻮﻧﻲ ﺟﻮﺗﻠﻴﺐ
ﺗﺮﺟﻤﺔ ﻣﺤﻤﺪ ﻃﻠﺒﺔ ﻧﺼﺎر
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
The Dream of Reason
أﻧﺘﻮﻧﻲ ﺟﻮﺗﻠﻴﺐ
Anthony Gottlieb
اﻟﻄﺒﻌﺔ اﻷوﱃ ٢٠١٤م رﻗﻢ إﻳﺪاع ٢٠١٤ / ٧٣٢١ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﺤﻘﻮق ﻣﺤﻔﻮﻇﺔ ﻟﻠﻨﺎﴍ ﻣﺆﺳﺴﺔ ﻫﻨﺪاوي ﻟﻠﺘﻌﻠﻴﻢ واﻟﺜﻘﺎﻓﺔ املﺸﻬﺮة ﺑﺮﻗﻢ ٨٨٦٢ﺑﺘﺎرﻳﺦ ٢٠١٢ / ٨ / ٢٦ ﻣﺆﺳﺴﺔ ﻫﻨﺪاوي ﻟﻠﺘﻌﻠﻴﻢ واﻟﺜﻘﺎﻓﺔ إن ﻣﺆﺳﺴﺔ ﻫﻨﺪاوي ﻟﻠﺘﻌﻠﻴﻢ واﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ﻏري ﻣﺴﺌﻮﻟﺔ ﻋﻦ آراء املﺆﻟﻒ وأﻓﻜﺎره وإﻧﻤﺎ ﱢ ﻳﻌﱪ اﻟﻜﺘﺎب ﻋﻦ آراء ﻣﺆﻟﻔﻪ ٥٤ﻋﻤﺎرات اﻟﻔﺘﺢ ،ﺣﻲ اﻟﺴﻔﺎرات ،ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻧﴫ ،١١٤٧١اﻟﻘﺎﻫﺮة ﺟﻤﻬﻮرﻳﺔ ﻣﴫ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﻓﺎﻛﺲ+ ٢٠٢ ٣٥٣٦٥٨٥٣ : ﺗﻠﻴﻔﻮن+ ٢٠٢ ٢٢٧٠٦٣٥٢ : اﻟﱪﻳﺪ اﻹﻟﻜﱰوﻧﻲhindawi@hindawi.org : املﻮﻗﻊ اﻹﻟﻜﱰوﻧﻲhttp://www.hindawi.org : ﺟﻮﺗﻠﻴﺐ ،أﻧﺘﻮﻧﻲ. ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ :ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻣﻦ ﻋﴫ اﻟﻴﻮﻧﺎن إﱃ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ/ﺗﺄﻟﻴﻒ أﻧﺘﻮﻧﻲ ﺟﻮﺗﻠﻴﺐ. ﺗﺪﻣﻚ٩٧٨ ٩٧٧ ٧١٩ ٧٧٥ ٥ : -١اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ – ﺗﺎرﻳﺦ -٢اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ أ -اﻟﻌﻨﻮان ١٠٩ ﺗﺼﻤﻴﻢ اﻟﻐﻼف :ﺧﺎﻟﺪ املﻠﻴﺠﻲ. ﻳُﻤﻨَﻊ ﻧﺴﺦ أو اﺳﺘﻌﻤﺎل أي ﺟﺰء ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب ﺑﺄﻳﺔ وﺳﻴﻠﺔ ﺗﺼﻮﻳﺮﻳﺔ أو إﻟﻜﱰوﻧﻴﺔ أو ﻣﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻴﺔ، وﻳﺸﻤﻞ ذﻟﻚ اﻟﺘﺼﻮﻳﺮ اﻟﻔﻮﺗﻮﻏﺮاﰲ واﻟﺘﺴﺠﻴﻞ ﻋﲆ أﴍﻃﺔ أو أﻗﺮاص ﻣﻀﻐﻮﻃﺔ أو اﺳﺘﺨﺪام أﻳﺔ وﺳﻴﻠﺔ ﻧﴩ أﺧﺮى ،ﺑﻤﺎ ﰲ ذﻟﻚ ﺣﻔﻆ املﻌﻠﻮﻣﺎت واﺳﱰﺟﺎﻋﻬﺎ ،دون إذن ﺧﻄﻲ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﴍ. Arabic Language Translation Copyright © 2014 Hindawi Foundation for Education and Culture. The Dream of Reason by Anthony Gottlieb Copyright © 2001 by Anthony Gottlieb. published by arrangement with David Godwin Associates, London. All rights reserved.
اﳌﺤﺘﻮﻳﺎت
ﻣﻦ أﻓﻀﻞ ﻣﺎ ﻗﻴﻞ ﻋﻦ اﻟﻜﺘﺎب ﻣﻘﺪﻣﺔ املﱰﺟﻢ ﺷﻜﺮ وﺗﻘﺪﻳﺮ ﻣﻘﺪﻣﺔ
7 11 15 17
اﻟﺠﺰء اﻷول -١اﻟﻨﻤﻮذج اﻷﺻﲇ :املﻠﻄﻴﻮن -٢ﺗﻨﺎﻏﻢ اﻟﻌﺎﻟﻢ :اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﻮن -٣اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺬي ﺑﺤﺚ ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻪ :ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ -٤ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻟﻼﳾء :ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس -٥ﻃﺮق املﻔﺎرﻗﺔ :زﻳﻨﻮن -٦اﻟﺤﺐ واﻟﴫاع :إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ -٧اﻟﻌﻘﻞ واملﺎدة :أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس -٨ﻣﻦ ﻳﻀﺤﻚ أﺧريًا :دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ َ -٩ وﻫﺒﱠﺖ رﻳﺎح املﺘﺎﻋﺐ :اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﻮن
21 23 41 63 77 91 99 111 121 137
اﻟﺠﺰء اﻟﺜﺎﻧﻲ -١٠ﺷﻬﻴﺪ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ :ﺳﻘﺮاط واﻟﺴﻘﺮاﻃﻴﺎت -١١ﺟﻤﻬﻮرﻳﺔ املﻨﻄﻖ :أﻓﻼﻃﻮن -١٢املﻌﻠﻢ اﻷول :أرﺳﻄﻮ
157 159 197 247
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
اﻟﺠﺰء اﻟﺜﺎﻟﺚ -١٣اﻟ ﱡ ﻄﺮق اﻟﺜﻼث إﱃ ﱠ اﻟﺴﻜِﻴﻨﺔ :اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ واﻟﺮواﻗﻴﺔ واﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ -١٤ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
6
309 311 375
ﻣﻦ أﻓﻀﻞ ﻣﺎ ﻗﻴﻞ ﻋﻦ اﻟﻜﺘﺎب
ﻳﻘﺪم ﻫﺬا اﻟﺪﻟﻴﻞ اﻟﺮاﺋﻊ ﻟﻠﻤﺘﻔﻜﺮﻳﻦ اﻹﻟﻬﺎم واﻟﺴﻠﻮى ﰲ اﻵن ﻋﻴﻨﻪ … وﻫﻮ ﻳﺘﺴﻢ ﺑﺴﻼﺳﺔ اﻷﺳﻠﻮب ،وﻋﻤﻖ املﻌﻠﻮﻣﺔ ،وﺑﺮاﻋﺔ اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ … وﻳﻨﺘﻬﻲ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻣﺸﻮﱢﻗﺔ ﺑﻤﺠﻲء دﻳﻜﺎرت وﺑﺰوغ ﻓﺠﺮ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ،واﻟﺘﻲ ﺳﻴﺘﻨﺎوﻟﻬﺎ ﺟﻮﺗﻠﻴﺐ ﰲ ﻛﺘﺎب ﻻﺣﻖ ﻻ أﻃﻴﻖ اﻻﻧﺘﻈﺎر ﺣﺘﻰ أﻗﺮأه. ﺷﻮﺷﺎ ﺟﻮﺑﻲ ،ﺻﺤﻴﻔﺔ »ذي إﻧﺪﺑﻨﺪﻧﺖ« ﻋﲆ ﻛﻞ ﺷﺨﺺ أن ﻳﻌﺮف وﻟﻮ اﻟﻴﺴري ﻣﻦ املﻌﻠﻮﻣﺎت ﻋﻦ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻔﻜﺮ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻲ، وﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب ﻫﻮ اﻟﺴﺒﻴﻞ اﻷﻣﺜﻞ ﻟﺬﻟﻚ .إﻧﻪ ﻛﺘﺎب واﺿﺢ ،وﻣﴩوح ﺑﺸﻜﻞ راﺋﻊ، وﺧﻀﻌﺖ ﻣﺎدﺗﻪ ﻟﻠﺪراﺳﺔ املﺴﺘﻔﻴﻀﺔ ،وﻣﻜﺘﻮب ﺑﺸﻜﻞ ﺳﻠﺲ ،وﻳﺘﺴﻢ ﺑﺎﻟﻄﺮاﻓﺔ ﰲ املﻮاﺿﻊ املﻨﺎﺳﺒﺔ ،ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﻳﻔﻴﺾ ﺑﺎﻻﺣﱰام ﻹﻧﺠﺎزات املﺎﴈ. ﻛﻮﻟني ﻣﺎﻛﺠني ،ﺻﺤﻴﻔﺔ »ﻟﻮس أﻧﺠﻠﻮس ﺗﺎﻳﻤﺰ« ﻫﺎ ﻫﻮ ﻛﺘﺎب وﺿﻌﻪ ﺻﺤﻔﻲ ﻳﺘﻨﺎول ﻓﻴﻪ ﻧﺼﻒ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ،وﻛﻢ ﻳﻨﺒﺾ ﺑﺎﻟﺤﻴﺎة ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب! إﻧﻪ ﻳﺤﻮي ﻣﻦ املﻌﻠﻮﻣﺎت ﻣﺎ ﻳﻔﺘﻘﺪه ﺑﻌﺾ ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺐ اﻟﺘﻲ ﻳﻘﺪﻣﻬﺎ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ أﻧﻔﺴﻬﻢ ،وﻫﻮ ﻳﻘﺮب اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻣﻦ أذﻫﺎن اﻟﺠﻤﻬﻮر ،ﻟﻜﻦ دون اﺑﺘﺬال أو إﴎاف ﰲ اﻟﺘﺒﺴﻴﻂ … وﺣني ﻳﺼﺪر اﻟﺠﺰء اﻟﺜﺎﻧﻲ ،ﺳﺄﻛﻮن ﻗﻄﻌً ﺎ ﻣﻦ ﺑني ﻗﺎرﺋﻴﻪ. ﺗﻴﺪ ﻫﻮﻧﺪراﻳﺶ ،ﻣﺠﻠﺔ »ﺟﻮد ﺑﻮك ﺟﺎﻳﺪ«
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﺣني ﻛﻨﺖ ﺻﻐريًا اﻧﻐﻤﺴﺖ ﻷﻳﺎم ﰲ ﻓﻴﺾ ﻣﻦ املﺘﻌﺔ واﻻﻛﺘﺸﺎف ﻣﻦ ﺧﻼل ﻛﺘﺎب ﺑﺮﺗﺮاﻧﺪ راﺳﻞ »ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ« .وﰲ وﻗﺖ ﻻﺣﻖ ،ﺣﺪث اﻷﻣﺮ ﻋﻴﻨﻪ ﻣﻊ ﻛﺘﺎب إﻳﻪ ﺟﻴﻪ آﻳﺮ »اﻟﻠﻐﺔ واﻟﺤﻘﻴﻘﺔ واملﻨﻄﻖ« .إن اﻻﺳﺘﻌﺮاض اﻟﺮاﺋﻊ اﻟﺬي ﻳﻘﺪﻣﻪ ﺟﻮﺗﻠﻴﺐ ﻻ ﻳﻮﺳﻊ ﻣﻦ آﻓﺎق اﻫﺘﻤﺎﻣﺎﺗﻲ وﻣﻌﺎرﰲ اﻟﺤﺎﻟﻴﺔ ﻓﺤﺴﺐ ،وإﻧﻤﺎ ﻳﻌﻴﺪ إﱄ ﱠ ً أﻳﻀﺎ ذﻟﻚ اﻟﺸﻌﻮر ﺑﺎﻹﺛﺎرة اﻟﺬي ﻛﻨﺖ أﺷﻌﺮ ﺑﻪ ﺧﻼل رﺣﻼت اﻻﺳﺘﻜﺸﺎف املﺒﻜﺮة اﻟﺘﻲ ﻗﻤﺖ ﺑﻬﺎ ﺑني ﺟﻨﺒﺎت ﻋﺎﻟﻢ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ؛ ﻋﺎﻟﻢ املﻌﺮﻓﺔ واﻟﺘﻌﻠﻢ. ﺟﻮن ﺑﺎﻳﲇ ﻳﺮﻛﺰ ﺟﻮﺗﻠﻴﺐ ﻋﲆ أﻛﺜﺮ املﻮاﺿﻊ إﺛﺎرة ﻟﻼﻫﺘﻤﺎم وأﻛﺜﺮﻫﺎ ﺛﺮاءً ﰲ ﻓﻜﺮ أي ﻓﻴﻠﺴﻮف … وإذا ﺟﺎء اﻟﺠﺰء اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻣﻦ ﻋﻤﻠﻪ ﻋﲆ ﻧﻔﺲ املﺴﺘﻮى ،ﻓﺴﻴﺸﻜﻞ اﻟﺠﺰآن أﻓﻀﻞ ﺗﺄرﻳﺦ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ ﻣﻨﺬ أﻋﻤﺎل ﺑﺮﺗﺮاﻧﺪ راﺳﻞ. ﻧﻴﻜﻮﻻس ﻓرين ،ﻣﺠﻠﺔ »ﺳ ِﺒﻜﺘﻴﺘﻮر« ﻳﻜﺘﺐ ﺟﻮﺗﻠﻴﺐ ﺑﺴﻼﺳﺔ ورﺷﺎﻗﺔ ،وﻳﺘﻤﺘﻊ ﺑﻤﻮﻫﺒﺔ ﺟﻌﻞ اﻷﻣﻮر اﻟﺼﻌﺒﺔ ﺗﺒﺪو ﻳﺴرية اﻟﻔﻬﻢ. رﻳﺘﺸﺎرد ﺟﻨﻜﻨﺰ ،ﺻﺤﻴﻔﺔ »ذا ﻧﻴﻮﻳﻮرك ﺗﺎﻳﻤﺰ« ﻣﻦ املﻤﻴﺰات اﻟﺒﺎرزة ﻟﻠﻜﺘﺎب أﻧﻪ ﻻ ﻳﺴﺘﻌﺮض ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ ﻓﺤﺴﺐ ،ﻛﻤﺎ ﺗﻔﻌﻞ اﻟﻜﺘﺐ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻨﺎول ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺨﺘﴫ ،وإﻧﻤﺎ ﻳﻌﺮض ﻋﺪدًا ﻣﻦ اﻟﺤﺠﺞ املﻘﺪﻣﺔ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﺳﻠﺲ. أﻧﺘﻮﻧﻲ ﻛﻮﻳﻨﺘﻮن ﻳﻨﺪر أن ﻧﺠﺪ ﻣﻦ اﻟﻘﺮاء ﻣَ ﻦ ﻟﻢ ﻳﺘﻌﻠﻢ اﻟﺠﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب ،ﺑﻞ وﻳﻨﺪر أﻛﺜﺮ أن ﻳﺸﻌﺮ أﺣﺪﻫﻢ ﺑﺎﻟﺴﺄم. ﻓﺮﻳﺪرﻳﻚ راﻓﺎﻳﻞ ،ﺻﺤﻴﻔﺔ »ذا ﺻﻨﺪاي ﺗﺎﻳﻤﺰ«
8
ﻣﻦ أﻓﻀﻞ ﻣﺎ ﻗﻴﻞ ﻋﻦ اﻟﻜﺘﺎب
إن ﻛﺘﺎب ﺟﻮﺗﻠﻴﺐ ﺑﻤﺎ ﻳﺘﻤﺘﻊ ﺑﻪ ﻣﻦ أﺳﻠﻮب ﺷﺎﺋﻖ وﻣﺎ ﻳﺰﺧﺮ ﺑﻪ ﻣﻦ ﻣﻌﻠﻮﻣﺎت راﺋﻌﺔ ﻳﺴﺘﺤﻖ أن ﻳﻜﻮن املﻘﺪﻣﺔ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ املﻌﻴﺎرﻳﺔ ﻟﻠﻄﻼب وﻟﻠﻘﺮاء اﻟﻌﺎدﻳني، وأن ﻳﺤﻞ ﻣﺤﻞ ﺳﻮاه ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺐ ،ﺑﻤﺎ ﰲ ذﻟﻚ ﻛﺘﺎب ﺑﺮﺗﺮاﻧﺪ راﺳﻞ اﻟﺬي ﺣﻘﻖ ﻧﺠﺎﺣً ﺎ ﻛﺒريًا »ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ«. إﻳﻪ ﳼ ﺟﺮاﻳﻠﻴﻨﺞ ،ﺻﺤﻴﻔﺔ »ذي إﻧﺪﺑﻨﺪﻧﺖ أون ﺻﻨﺪاي« ﻛﺘﺎب »ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ« ﻟﺠﻮﺗﻠﻴﺐ ﻛﺘﺎب ﻣﻤﺘﻊ ﰲ ﻗﺮاءﺗﻪ .وﻫﻮ ﻣﻜﺘﻮب ﺑﻜﻞ رﺷﺎﻗﺔ ً وﺻﻮﻻ إﱃ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ. وﺣﺮﻓﻴﺔ ،وﻳﺮﺳﻢ ﺻﻮرة ﻛﻠﻴﺔ راﺋﻌﺔ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ﺳري روﺟﺮ ﺑﻨﺮوز إن ﻣﻨﺎﻗﺐ ﻫﺬه اﻟﺨﻼﺻﺔ اﻟﻮاﻓﻴﺔ واﺿﺤﺔ ﻟﻠﻌﻴﺎن؛ ﻓﻬﻲ ﻣﻜﺘﻮﺑﺔ ﺑﺄﺳﻠﻮب ﻣﺮح ﻻﺋﻖ ،ﺣﻴﺚ ﻳﻈﻬﺮ ﻟﻮﻳﺲ ﻛﺎرول إﱃ ﺟﻮار ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ،وﻳﺴﺎﻋﺪﻧﺎ ﻓﻼن أوﺑﺮاﻳﻦ ﻋﲆ اﺳﺘﻴﻀﺎح أﻓﻜﺎر ﻫﺴﻴﻮد ،وﻳﺤﻠﻖ أﻣﱪﺗﻮ إﻳﻜﻮ ﺑﺄﺟﻨﺤﺔ أرﺳﻄﻴﺔ. ﺟﻮرج ﺷﺘﺎﻳﻨﺮ ،ﺻﺤﻴﻔﺔ »ذي أوﺑﺰرﻓﺮ« ﻣﻊ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب،ﻳﺼري ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻣﻤﺘﻌً ﺎ ﻣﺘﻌﺔ ﻻ ﺣﺪود ﻟﻬﺎ وﻣﻔﻴﺪًا أﻗﴡ درﺟﺎت اﻻﺳﺘﻔﺎدة. ﺳري أﻧﺘﻮﻧﻲ ﻛﻴﻨﻲ ،املﻠﺤﻖ اﻷدﺑﻲ اﻷﺳﺒﻮﻋﻲ ﻟﺼﺤﻴﻔﺔ »ذا ﺗﺎﻳﻤﺰ« ﻛﻞ ﺟﻴﻞ ﻣﺤﻜﻮم ﻋﻠﻴﻪ أن ﻳﻌﻴﺪ ﺗﻔﺴري املﺎﴈ ،وﻣﺤﻜﻮم ﻋﻠﻴﻪ أن ﻳﻌﻴﺪ ﺻﻴﺎﻏﺔ ﻧﻔﺲ اﻷﺳﺌﻠﺔ اﻟﺠﻮﻫﺮﻳﺔ .وﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب اﻟﺮاﺋﻊ ﻳﺒني ﻣﺪى ﺟﺪوى ﻫﺎﺗني اﻟﻌﻤﻠﻴﺘني، وﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺴﺘﻤﺘﻊ املﺮء أﺛﻨﺎء اﻟﻘﻴﺎم ﺑﻬﻤﺎ. ﻛﺮﻳﺴﺘﻴﺎن ﺗﺎﻳﻠﺮ ،ﺻﺤﻴﻔﺔ »ﻓﺎﻳﻨﺎﻧﺸﺎل ﺗﺎﻳﻤﺰ«
9
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻛﺘﺎب آﴎ ﻟﻸﻟﺒﺎب ،ﻣﻜﺘﻮب ﺑﺼﻮرة ﺧﻼﺑﺔ وﺑﺤﺮﻓﻴﺔ ﻣﺒﻬﺮة ،وﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻋﻴﻨﻪ ﻳﺘﺴﻢ ﺑﺮوح اﻟﻬﻮاﻳﺔ ﰲ أﻓﻀﻞ ﺻﻮرﻫﺎ. روﺑﺮت ﻛﻮﻧﻜﻮﻳﺴﺖ ،املﻠﺤﻖ اﻷدﺑﻲ اﻷﺳﺒﻮﻋﻲ ﻟﺼﺤﻴﻔﺔ »ذا ﺗﺎﻳﻤﺰ« :أﻓﻀﻞ ﻛﺘﺐ اﻟﻌﺎم ﻋﲆ ﻣﺴﺘﻮى اﻟﻌﺎﻟﻢ
10
ﻣﻘﺪﻣﺔ اﳌﱰﺟﻢ
ﻣﺎ ﻣﻦ ﳾء ﻳﺴﺘﺤﻖ اﻟﺜﻨﺎء ﻛﺎﻟﺴﻌﻲ إﱃ ﺗﻴﺴري املﻌﺮﻓﺔ ملﻦ ﺗﺒﺪو ﻟﻬﻢ ﺑﻌﺾ أﻧﻮاﻋﻬﺎ ﻋﺴرية. وﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺘﺠﺎوز املﺆﻟﻒ ﻋﺮض اﻷﻓﻜﺎر ﻣﺒﺴﻄﺔ إﱃ ﺗﻘﺪﻳﻤﻬﺎ ﻟﻠﻘﺎرئ ﺳﺎﺋﻐﺔ ﰲ ﻗﺎﻟﺐ ﻳﺠﻤﻊ ﺑني ﻟﻐﺔ اﻟﺤﻴﺎة وﺣﺒﻜﺔ اﻟﻘﺼﺔ؛ ﻓﻬﻮ ﻳَﺒﻠُ ُﻎ اﻟﻐﺎﻳﺔ ﰲ ﻧﻴﻞ املﺴﻌﻰ .وﻟﻢ ﻳﻜﻦ دﺧﻮل ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب ﻗﻮاﺋﻢ اﻟﻜﺘﺐ اﻷﻛﺜﺮ ﺷﻌﺒﻴﺔ إﻻ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﻘﺪرة ﻣﺆﻟﻔﻪ أﻧﺘﻮﻧﻲ ﺟﻮﺗﻠﻴﺐ ﻋﲆ ﺗﺤﻘﻴﻖ ﻫﺬا اﻹﻧﺠﺎز ﺑﺎملﺰج ﺑني ﺗﻴﺴري اﻷﻓﻜﺎر واﺳﺘﺨﺪام اﻟﺤﻜﻲ ،إﺿﺎﻓﺔ إﱃ ﺳﻬﻮﻟﺔ اﻟﻠﻐﺔ وﺣﻴﻮﻳﺘﻬﺎ اﻟﺘﻲ ﺗﺄﺗﻲ ﻣﻦ ﻗﺪرة املﺆﻟﻒ ﻋﲆ اﺳﺘﺨﺪام اﻻﻧﺘﻘﺎﻻت اﻟﻠﻐﻮﻳﺔ اﻟﺨﺎﻃﻔﺔ ،وﺗﻌﺒريات اﻟﺤﺪﻳﺚ اﻟﻴﻮﻣﻲ املﻔﻌَ ﻤﺔ ﺑﻄﺎﻗﺔ ﻣﻦ اﻟﺤﻤﻴﻤﻴﺔ .وإذا ﺻﺢ أن ﺑﻌﺾ املﺆﻟﻔني ﻳﻨﻬﻞ ﻣﻦ ﺑﺤﺮ ﻻ ﻳﻨﻔﺪ ﻓﻼ ﺷﻚ أن ﺟﻮﺗﻠﻴﺐ أﺣﺪ ﻫﺆﻻء املﺆ ﱢﻟﻔني ،ﺣﺘﻰ وإن ﻛﺎن املﻮﺿﻮع اﻟﺬي ﻳﺘﻨﺎوﻟﻪ ﺟﺎﻣﺪًا ﻛﺎﻟﺼﺨﻮر. ﻳﺒﻠﻎ ﻣﺘﻦ اﻟﻜﺘﺎب ﰲ ﻧﺴﺨﺘﻪ اﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ أرﺑﻌﻤﺎﺋﺔ وﺛﻼﺛني ﺻﻔﺤﺔ ،ﺣﺸﺎﻫﺎ املﺆﻟﻒ ﺑﺎﻟﺘﺄرﻳﺦ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﰲ اﻟﺤﻀﺎرﺗني اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ واﻟﺮوﻣﺎﻧﻴﺔ وﻓﻠﺴﻔﺔ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ اﻷوروﺑﻲ ،ﻣﻊ إﺷﺎرات ﻟﻠﱰاث اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ اﺳﺘﻮﺟﺒﻬﺎ اﻟﺒﺤﺚ ﰲ اﻟﺤﻀﺎرات اﻷﺧﺮى، ﻛﻤﺎ ﰲ ﺣﺎﻟﺘﻲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ واﻟﻔﺎرﺳﻴﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻣﺘﻤﺜﻠﺔ ﰲ املﺎﻧﻮﻳﺔ .وﻗﺪ اﺟﺘﻬﺪ املﺆﻟﻒ ﰲ اﻟﺠﻤﻊ ﺑني ﺷﻤﻮل اﻟﻌﺮض واﻟﺤﻔﺎظ ﻋﲆ اﻧﺘﺒﺎه اﻟﻘﺎرئ اﻟﻌﺎدي ﺑﺎﻟﺘﺴﻬﻴﻞ واﻟﺘﻘﺮﻳﺐ، ً ﻣﺆﻟﻔﺎ ﻟﻜﺘﺎب ﻛﻬﺬا ﻳﻜﻤُﻦ ﰲ إﻗﻨﺎع اﻟﻘﺎرئ ﺑﺄن ﻣﺪر ًﻛﺎ أن اﻟﺨﻄﺮ اﻟﺮﺋﻴﺲ اﻟﺬي ﻳﻮاﺟﻪ ً ﻳﺴﺘﻤﺮ ﰲ اﻟﻘﺮاءة إﱃ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ،ﱠ ﻋﺎﺋﻘﺎ أﻣﺎم اﻟﻘﺮاءة املﺘﺤﻤﺴﺔ. وأﻻ ﺗﻘﻒ املﻔﺎﻫﻴﻢ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ وﻳﻐﻄﻲ اﻟﻜﺘﺎب رﺣﻠﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻋﱪ ﻣﺎ ﻳﺰﻳﺪ ﻋﲆ أﻟﻔﻲ ﻋﺎم ،ﺑﺪءًا ﻣﻦ ﻃﺎﻟﻴﺲ املﻠﻄﻲ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎدس ﻗﺒﻞ املﻴﻼد واﻧﺘﻬﺎءً ﺑﺮﻳﻨﻴﻪ دﻳﻜﺎرت ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ ،ﻟﻴﻌﺮض ﻟﺘﻘ ﱡﻠﺒﺎت اﻟﺒﺤﺚ اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ وﺧﻴﻮﻃﻪ املﻤﺘﺪة ﻋﱪ ﻗﺮوﻧﻪ اﻟﻄﻮﻳﻠﺔ وﺳﻴﺎﺣﺎﺗﻪ ﰲ ﻣﺠﺎﻻت ﺗﺨﺮج ﻋﻦ اﻟﺘﻌﺮﻳﻒ اﻟﺪﻗﻴﻖ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ اﻵن .وﻧﺤﻦ ﰲ ذﻟﻚ ﺑﺈزاء ﺗﺄرﻳﺦ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ وﺗﺄرﻳﺦ ﻟﻠﻔﻼﺳﻔﺔ أﻧﻔﺴﻬﻢ ﰲ
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
اﻫﺘﻤﺎﻣﺎﺗﻬﻢ اﻟﺘﻲ ﺗﺨﺮج أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻋﻦ اﻟﺘﻌﺮﻳﻒ اﻟﺪﻗﻴﻖ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ ،ﻣﻊ اﻷﺧﺬ ﰲ اﻻﻋﺘﺒﺎر أن ﻣﻌﻨﻰ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻛﺎن ﻳﺘﺠﺎوز ﺗﻌﺮﻳﻔﻬﺎ اﻟﻀﻴﻖ ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ .وﻻ ﺷﻚ أن ﻫﺬا ﻳﻔﻴﺪ اﻟﻘﺎرئ ﰲ اﻹملﺎم ﺑﺈﻧﺠﺎزات اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ،وﻳﻌﺮﻓﻪ ﺑﻤﺴﺎر اﻟﻌﻠﻮم ﻣﻦ اﻻﻧﺪراج ﺗﺤﺖ ﻋِ ﻠﻢ واﺣﺪ ﻫﻮ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ إﱃ ﺗﻤﺎﻳُﺰﻫﺎ واﺳﺘﻘﻼﻟﻬﺎ ﺑﺘﺄﺛري اﻟﱰاﻛﻢ املﻌﺮﰲ اﻟﻬﺎﺋﻞ اﻟﺬي ﺣﺪث ﻟﻺﻧﺴﺎن ﻋﲆ ﻣَ ﱢﺮ اﻟﻌﺼﻮر. ورﻏﻢ وُﻟﻮﺟﻪ ﰲ أﻏﻮار اﻷﻓﻜﺎر اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﻟﻢ ﻳﻔﻘﺪ املﺆﻟﻒ ﺣﻴﺎدَه وﻻ ﻗﺪرﺗﻪ ﻋﲆ اﻟﺒﺤﺚ ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ وﺗﺎرﻳﺨﻬﺎ ﺑﻨﻔﺲ اﻟﺒﺎﺣﺚ ،وإن ﻛﺎن ﻧﺠﺢ ﻓﻴﻤﺎ ﻫﻮ أﺻﻌﺐ ﻣﻦ ذﻟﻚ وﻫﻮ إرﺟﺎع ﻧﻔﺲ اﻟﺒﺎﺣﺚ إﱃ ﺧﻠﻔﻴﺔ اﻟﻜﺘﺎب ﻟﻴﻠﻌﺐ دور اﻟﺸﺎﻋﺮ املﺘﺠﻮل اﻟﺬي ﻳﻤﴤ ﰲ اﻟﺒﻼد ﺣﺎﻛﻴًﺎ ﺗﺎرﻳﺦ اﻷﻗﺪﻣني وﺣﻜﻤﺘﻬﻢ ،ﻓﻴﺴﺘﻤﻊ ﻟﻪ اﻟﻌﺎﻣﺔ وﻳﺄﺧﺬون ﻋﻨﻪ اﻟﺤﻜﻤﺔ. واﻟﻘﺎرئ اﻟﻌﺮﺑﻲ ﻟﻴﺲ ﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻦ ﻣﺮاﻣﻲ اﻟﻜﺘﺎب وﻓﻮاﺋﺪه؛ ﻓﺎملﺆﻟﻒ وإن ﺣﴫ اﻫﺘﻤﺎﻣﻪ ﰲ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ً واﻗﻔﺎ ﻋﲆ أﻋﺘﺎب اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺪﻳﺚ اﻟﺬي ﺳﻴﻐﻄﻴﻪ ﺑﻜﺘﺎب آﺧﺮ ﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﻳﻜﻮن ﻣﺤﻞ ﱡ ﺗﺮﻗﺐ ﻛﺬﻟﻚ ،ﻟﻢ ﻳ َُﻔﺘْ ُﻪ أن ﻳﺬﻛﺮ — وﻟﻮ ﰲ ﺳﻄﻮر ﻗﻠﻴﻠﺔ — ﱠ أن ﰲ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ﺑني اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻬﻴﻠﻴﻨﻴﺔ ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ وﻓﻼﺳﻔﺔ اﻟﻼﻫﻮت املﺪرﳼ وﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ آﺧﺮ ﻟﻢ ﻳ َِﺼ ْﻠ ُﻪ إﻻ اﻋﺘﻨﺎء اﻟﻌﺮب ﺑﻬﺬه اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻣﻦ ﺧﻼل ﺟﻬﻮد اﺑﻦ ﺳﻴﻨﺎ ً ﻓﻀﻼ ﻋﻦ ﺟﻬﻮد اﻟﻌﺮب املﺘﻘﺪﻣﺔ ﰲ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت واﻟﺒﴫﻳﺎت واﻟﺘﴩﻳﺢ، واﻟﻔﺎراﺑﻲ واﻟﻜﻨﺪي، وﻫﻲ ﺟُ ﱡﻠﻬَ ﺎ اﻟﺠﻬﻮد اﻟﺘﻲ أﻓﺎد ﻣﻨﻬﺎ اﻟﻐﺮب ﺑﺎﻟﺮﺣﻠﺔ إﱃ اﻷﻧﺪﻟﺲ ﻟﻄﻠﺐ اﻟﻌﻠﻢ وﺑﺎﻟﱰﺟﻤﺔ ﻋﻦ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ إﱃ اﻟﻼﺗﻴﻨﻴﺔ. وﻣﻤﱠ ﺎ ﻳﺘﻤﻴﺰ ﺑﻪ اﻟﻜﺎﺗﺐ ﻋﻦ ﻏريه رﺑ ُ ﻄﻪ اﻟﻔﻠﺴﻔﺎت اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺑﺄﺻﺪاﺋﻬﺎ ﰲ اﻟﻔﻜﺮ اﻟﺤﺪﻳﺚ، ﻛﺮﺑﻄﻪ — ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل — ﺑني ﻣﻘﻮﻻت اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني ﰲ ﻧﺴﺒﻴﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ واﻟﻨﺰﻋﺎت ً وﺻﻮﻻ إﱃ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﱪﺟﻤﺎﺗﻴﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ اﻟﻨﺴﺒﻴﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﰲ ﻣﺠﺎل اﻷﺧﻼق واﻟﺜﻘﺎﻓﺔ، َ ﺑﻴﺎن أوﺟُ ﻪ اﻻﺧﺘﻼف ﺑني اﻟﻨﺴﺒﻴﺎت اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﻟﺪى وﻟﻴﺎم ﺟﻴﻤﺲ ،ﻣﺮاﻋﻴًﺎ ﺑﺪﻗﺔ اﻟﺒﺎﺣﺚ واﻟﻨﺴﺒﻴﺔ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ .وﻳﺴﺘﻌﺮض املﺆﻟﻒ ﺑﻤﻬﺎرة وﺗﺮﻛﻴﺰ اﻟﺠﺪل اﻟﻘﺎﺋﻢ ﺑني اﻟﻘﺎﺋﻠني ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﻴﺔ واﻟﺮاﻓﻀني ﻟﻬﺎ ،واﺿﻌً ﺎ ﺣﺠﺞ اﻟﻔﺮﻳﻘني أﻣﺎم اﻟﻘﺎرئ ﻟﻴﺼﺒﺢ اﻷﺧري ﻣﺴﺘﻮﻋﺒًﺎ ﻟﻠﻤﻘﻮﻻت اﻟﺠﺪﻟﻴﺔ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻟﻠﻨﺰﻋﺘني ﰲ ﺻﻔﺤﺎت إن ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﰲ ﺳﻄﻮر ﻗﻠﻴﻠﺔ ،وﻟﻴﻔﺘﺢ ﻟﻪ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ً آﻓﺎﻗﺎ أﺧﺮى ﻣﻦ اﻟﺘﻔﻜري واﻟﺒﺤﺚ ﰲ ﻫﺬه اﻟﻘﻀﻴﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻗِ ﺪَم اﻹﻧﺴﺎن .وﻣﻦ أﻣﺜﻠﺔ ذﻟﻚ ﻋﺮﺿﻪ املﺮ ﱠﻛﺰ ﻷﺷﻜﺎل اﻟﻘﻴﺎس اﻷرﺑﻌﺔ ﻋﻨﺪ أرﺳﻄﻮ ،واﺳﺘﻤﺮار ﻫﻴﻤﻨﺔ املﻨﻄﻖ اﻷرﺳﻄﻲ ﰲ اﻟﺪواﺋﺮ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ واﻟﻼﻫﻮﺗﻴﺔ ﺣﺘﻰ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ ،ﺛﻢ إﻳﺮاده ﻧﻘﺪ اﻟﻘﺪﻣﺎء ﻟﻠﻤﻨﻄﻖ ً ﻣﺘﻤﺜﻼ ﰲ اﻟﺮواﻗﻴني ﻗﺪﻳﻤً ﺎ وﻋﺪد ﻣﻦ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ املﺤﺪَﺛني ،ﺛﻢ ذﻛﺮه اﻟﺼﻮري اﻷرﺳﻄﻲ 12
ﻣﻘﺪﻣﺔ املﱰﺟﻢ
ً اﻛﺘﻤﺎﻻ ﰲ ﻣﺤﺎوﻻت ﻻﻳﺒﻨﺘﺲ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻣﻦ ﻋﴩ ﻟﺘﻄﻮﻳﺮ املﻨﻄﻖ اﻷرﺳﻄﻲ ﻟﻴﺼﺒﺢ أﻛﺜﺮ ﻗﺪرﺗﻪ ﻋﲆ ﺿﺒﻂ املﻨﻄﻖ اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ واﻷﻗﻀﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻧُﻄﻠﻘﻬﺎ ﰲ ﻛﻼﻣﻨﺎ ،ﺛﻢ ﻳﻌﺮض ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ملﺎ ﻳﺸﻮب ﻧﻈﺮة ﻻﻳﺒﻨﺘﺲ ﻣﻦ ﻗﺼﻮر ،ﺛﻢ ﻳﺮﺗﺪ ﻋﲆ أﺛﺮه إﱃ اﻟﺮاﻫﺐ راﻣﻮن ﻟﻮل ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻟﺚ ﻋﴩ ،واﻟﺬي ﻛﺎن ﻳﺮى أﻧﻪ ﻣﻦ املﻤﻜﻦ إﻗﻨﺎع املﺴﻠﻤني ﺑﺎملﺴﻴﺤﻴﺔ إذا ﻣﺎ أﻣﻜﻦ اﻟﺘﻌﺒري ﻋﻦ ﺻﻔﺎت اﻟﺮب ﰲ املﺴﻴﺤﻴﺔ ﺑﺮﻣﻮز رﻳﺎﺿﻴﺔ ،وﻫﻮ ﺟﻬ ٌﺪ رآه املﺆﻟﻒ ﻣﺘﺴﻤً ﺎ ﺑﺎﻟﺴﺬاﺟﺔ اﻟﺸﺪﻳﺪة، ﺛﻢ ﻳﺘﻘﺪم املﺆﻟﻒ ﻣﺮة أﺧﺮى إﱃ ﺟﺬور ﻓﻜﺮة اﻟﻀﺒﻂ اﻟﺮﻳﺎﴈ ﻟﻠﺘﻔﻜري ﻋﻨﺪ ﺗﻮﻣﺎس ﻫﻮﺑﺰ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ ،ﺛﻢ ﻳﻘﻔﺰ إﱃ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ ﻣﻊ ﺟﻬﻮد اﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳ ْﱠني ﺟﻮرج ﺑﻮل وأوﺟﺴﺖ دو ﻣﻮرﺟﺎن ﰲ ﺗﺄﺳﻴﺲ املﻨﻄﻖ اﻟﺮﻳﺎﴈ ،ﺛﻢ ﻳﻨﺘﻬﻲ ﺑﱪﺗﺮاﻧﺪ راﺳﻞ وأﺳﺘﺎذه واﻳﺘﻬﻴﺪ اﻟﻠﺬﻳﻦ ﻣ ﱠﻜﻨَﺎ املﻨﻄﻖ ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻷﻣﺮ ﻣﻦ أن ﻳﺼﺒﺢ ﻋﻠﻢ املﻨﻄﻖ اﻟﺮﻳﺎﴈ .وﻫﺬا اﻟﺠﻬﺪ ً اﻧﻄﻼﻗﺎ اﻷﻣني اﻟﺬي ﻻ ﻳﺘﻄﻠﺐ ﻣﻦ اﻟﻘﺎرئ ﺳﻮى ﺑﻌﺾ اﻟﱰﻛﻴﺰ ﰲ رﺣﻠﺔ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ املﻌﺮﻓﺔ ﻣﻦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻳﺸﻬﺪ وﺣﺪه ﺑﺄن اﻟﻜﺎﺗﺐ ﻟﻢ ﻳ َُﻀﺢﱢ ﺑﺎملﻌﺮﻓﺔ ﰲ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﺤﻜﻲ ،ﺑﻞ اﺳﺘﻄﺎع ﰲ ﺟﻬﺪ ﺣﻤﻴﺪ أن ﻳﺠﻤﻊ ﺑني أﻣﺎﻧﺔ اﺳﺘﻴﻔﺎء املﻌﺮﻓﺔ وﻣﻬﺎرة اﻟﻌﺮض وﺳﻼﺳﺘﻪ. وﻳﺒﺪد املﺆﻟﻒ ﺑﻌﺾ اﻷوﻫﺎم اﻟﺮاﺋﺠﺔ ﺑﺸﺄن ﻫﺬا اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف أو ذاك وﻫﺬه اﻟﻘﺼﺔ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ أو ﺗﻠﻚ ،وﻗﺪ ﻓﻌﻞ ﻫﺬا ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﻣﻊ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني ﻣﺒﻴﻨًﺎ أﻧﻬﻢ — أﻳٍّﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺜﺎﻟﺒﻬﻢ — ﻗﺪ ﻣﺜﻠﻮا ﻧﺰﻋﺔ ﻧﻘﺪﻳﺔ ﻟﻠﻴﻘﻴﻨﻴﺎت اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻦ اﻷﻫﻤﻴﺔ ﰲ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻔﻜﺮ ﺑﻤﻜﺎن واﺳﺘﺪﻋﺖ ﺑﺎملﻘﺎﺑﻞ ردودًا وﺑﺤﻮﺛًﺎ ﻓﻠﺴﻔﻴﺔ ﱠ ﻋﱪت ﺑﺸﻜﻞ أﻓﻀﻞ ﻋﻦ اﻹﻳﻤﺎن اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ ٍ ﺑﺎملﻄﻠﻘﺎت اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ واﻟﺪﻳﻨﻴﺔ واﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ. وﻧﻈ ًﺮا ﻷﻫﻤﻴﺔ اﻷﺣﺪاث اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ املﺘﻌﻠﻘﺔ ﺑﺎﻟﺸﺨﺼﻴﺎت ﰲ ﻛﺘﺎب ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻳﺴﻌﻰ ﻟﻠﻤﺰج ﺑني ﻓﻦ اﻟﺤﻜﻲ وﻋﺮض اﻷﻓﻜﺎر ،ﻳﺘﻮﻗﻒ املﺆﻟﻒ ﻋﻨﺪ ﻟﺤﻈﺎت دراﻣﻴﺔ ﻣﻬﻤﱠ ﺔ ﰲ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﻛﻠﺤﻈﺔ ﻣﻘﺘﻞ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮﻓﺔ اﻟﺴﻜﻨﺪرﻳﺔ ﻫﻴﺒﺎﺗﻴﺎ ،وﻳﻌﺮض اﻟﺮواﻳﺘني اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺘني املﺸﻬﻮرﺗني ﱡ اﻟﺘﻌﺼﺐ اﻟﺪﻳﻨﻲ ورﻓﺾ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺑﻘﺪر ﻣﺎ ملﻘﺘﻠﻬﺎ ،ﻣﺮﺟﺤً ﺎ أن ﻣﻘﺘﻠﻬﺎ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺑﺒﺎﻋﺚ ﻣﻦ ﻛﺎن ﺑﺴﺒﺐ اﻟﴫاع اﻟﺴﻴﺎﳼ ﺑني أورﺳﺘﻴﺲ ﺣﺎﻛﻢ اﻹﺳﻜﻨﺪرﻳﺔ وﻛريﻟﺲ رﺋﻴﺲ اﻟﻘﺴﺎوﺳﺔ ﺑﻬﺎ ،وإن ﺑﻘﻴﺖ اﻟﺮواﻳﺘﺎن ﺗﺘﺼﺎرﻋﺎن وﺗﻮ ﱠ ﻇﻔﺎن أدﺑﻴٍّﺎ وﺗﺎرﻳﺨﻴٍّﺎ ﻷﻏﺮاض ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ .واملﺆﻟﻒ ُ اﻟﺘﻨﺎﻓﺲ اﻟﺴﻴﺎﳼ ﻋﲆ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﻳﻨﺤﻮ إﱃ ﺗﺮﺟﻴﺢ اﻟﺮواﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺮى ﻣﻘﺘﻞ ﻫﻴﺒﺎﺗﻴﺎ ﻧﺎﺗﺠً ﺎ ﻋﻦ ﺗﺮاه ﻋﺎﻗﺒﺔ ﻟﻠﺘﻌﺼﺐ اﻟﺪﻳﻨﻲ ﺿﺪ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮﻓﺔ ﻏري املﺴﻴﺤﻴﺔ. ﻳﺘﻤﺘﻊ ﻣﺆﻟﻒ اﻟﻜﺘﺎب ﺑﻘﺪرة ﻋﺎﻟﻴﺔ ﻋﲆ املﺰج ﺑني ﺗﺒﺴﻴﻂ املﻌﻨﻲ اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ ووﺟﺎزة اﻟﻌﺒﺎرة؛ وﻫﺬه اﻟﻘﺪرة ﻋﲆ اﻟﴩح ﻣﻊ اﻹﻳﺠﺎز ﺗ ﱠ ﻄ ِﺮد ﰲ ﺟﻤﻴﻊ ﻓﺼﻮل اﻟﻜﺘﺎب ﻟﺘﻌﻄﻴﻪ ﻣﺎ ﻟﻪ ﻣﻦ ﺳﻤﺔ ﻣﻤﻴﺰة وﺷﻌﺒﻴﺔ ﻣﺴﺘﺤَ ﻘﺔ. 13
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
وﻣﻦ ملﺤﺎﺗﻪ اﻟﻼﻓﺘﺔ ﻟﻠﻨﻈﺮ اﻟﺘﻲ ﺗﺪل ﻋﲆ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﻜﺘﺎب ﻛﻜﻞ وﻃﺮﻳﻘﺔ ﺗﺄﻟﻴﻔﻪ إﺷﺎرﺗُﻪ ﰲ اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺨﺎص ﺑﺄرﺳﻄﻮ إﱃ ﺗﺸﺎؤم أﻓﻼﻃﻮن ﻣﻘﺎﺑﻞ ﺗﻔﺎؤل أرﺳﻄﻮ ،ﻓﺎﻟﻜﻬﻒ املﻈﻠِﻢ اﻟﺒﺎﺋﺲ اﻟﺬي رأى أﻓﻼﻃﻮن أﻧﻪ ﻳﻤﺜﻞ اﻟﺤﻴﺎة ﻋﲆ اﻷرض ،وأﻧﻪ ﻻ ﺑُ ﱠﺪ ﻟﻠﻔﻴﻠﺴﻮف أن ﻳُﺮﻳﻪ ﻟﻠﻨﺎس ﻣﻦ ﻫﺬا املﻨﻈﻮر اﻟﺒﺌﻴﺲ ﻛﻲ ﻳﺪرﻛﻮا أﻧﻪ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺨﺮوج ﻣﻦ ذﻟﻚ اﻟﻜﻬﻒ إﻻ ﺑﺎﻟﺘﺄﻣﻞ ﰲ ا ُملﺜُﻞ واﻻﺳﺘﻐﺮاق ﻓﻴﻬﺎ؛ ﻳﺮاه أرﺳﻄﻮ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﻪ اﻷﺛري »اﻟﺤﻴﻮان« ﻣﻜﺎﻧًﺎ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﻌﻴﺶ ﻓﻴﻪ ﺣﺎملﺎ ﻧﻮﻗﺪ املﺼﺒﺎح ﻟﻨﺮى اﻟﻨﻮر ﻻ أﻛﺜﺮ ،وﺳﻴﺒﺪو اﻟﻜﻬﻒ أ َ َﺷ ﱠﺪ إﺛﺎرة إذا ﺑﺪأﻧﺎ ﻛﺬﻟﻚ ﰲ دراﺳﺔ اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻴﺶ ﻓﻴﻪ .وﻫﻮ ﻣﺎ ﻇﻬﺮ ﻛﺬﻟﻚ ﰲ دﻓﺎع أرﺳﻄﻮ ﻋﻦ ﱢ اﻟﺸﻌﺮ اﻟﺬي ﻳﺮاه أﻓﻼﻃﻮن ﻣﺤﺎﻛﺎة ﻟﻮاﻗﻊ ﻋﲆ اﻷرض ﻻ ﻳﺘﱠﺴﻢ إﻻ ﺑﺎﻟﻨﻘﺺ واﻟﻔﺴﺎد ،وأن اﻻﺳﺘﻐﺮاق ﻓﻴﻪ ﻳﺒﺘﻌﺪ ﺑﺎﻟﻨﺎس ﻋﻦ ﻣﺒﺎﴍة ا ُملﺜُﻞ واﻟﺘﺄﻣﻞ ﻓﻴﻬﺎ واﻟﺘﻄ ﱡﻠﻊ إﻟﻴﻬﺎ .أﻣﺎ أرﺳﻄﻮ ﻓريى اﻟﺸﻌﺮ ﻣﺤﺎﻛﻴًﺎ ﻻ ملﺎ ﻫﻮ ﻛﺎﺋﻦ ﺑﻞ ملﺎ ﻳﺠﺐ أن ﻳﻜﻮن. وﻟﻮ ﺗﻮﻗﻒ اﻟﻜﺎﺗﺐ ﻋﻨﺪ ﺣَ ﱢﺪ اﻟﻌﺮض واﻟﺮﺑﻂ واﻟﱰدﱡد ﺑني اﻟﻘﺪﻳﻢ واﻟﺤﺪﻳﺚ ﻟﻜﺎن ﺟﻴﺪًا، وﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳﺄ ُل ﺟﻬﺪًا ﻛﺬﻟﻚ ﰲ ﺗﻔﻨﻴﺪ رأي ﻫﺬا اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف أو ذاك ،ﻛﻤﺎ ﻓﻌﻞ ﰲ اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺨﺎص ﺑﺒﺎرﻣﻨﻴﺪس ً ﻣﺜﻼ ﺛ ُ ﱠﻢ ﰲ اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺘﺎﱄ اﻟﺨﺎص ﺑﺘﻠﻤﻴﺬه زﻳﻨﻮن .وﻻ ﻳﺨﻠﻮ ﻓﺼﻞ ﻣﻦ إﻳﺮاد اﻟﻨﻘﺪ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف أو ذاك أو ﻣﻦ ﺗﺒﺪﻳﺪ و َْﻫ ٍﻢ ﺷﺎﺋﻊ ﻋﻦ ﻫﺬه املﺪرﺳﺔ أو ﺗﻠﻚ ،ﻛﻤﺎ ﺳﺒﻘﺖ اﻹﺷﺎرة ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﺑﻌﺾ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني .وﻫﻮ ﰲ ﻫﺬا ﻳﻔﻴﺪ ﻣﻦ اﻟﺘﻄﻮرات املﺨﺘﻠﻔﺔ ﰲ اﻟﺒﺤﺚ ﰲ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ وﻣﻦ اﻟﺘﻄﻮﱡر ﰲ اﻟﺒﺤﺚ اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ ﻧﻔﺴﻪ .وﻣﺘﻰ ﺗﻌﺬﱠر ﺗﻜﻮﻳﻦ ﻓﻜﺮة ﻛﺎﻣﻠﺔ أو ﻣﱰاﺑﻄﺔ ﻋﻤﱠ ﺎ ﻗﺼﺪه ﻓﻴﻠﺴﻮف ﻗﺪﻳﻢ ُﻓﻘِ َﺪ ﺟُ ﱡﻞ أﻋﻤﺎﻟﻪ أو ﺑﻌﻀﻬﺎ ،أﺷﺎر إﱃ ذﻟﻚ ﺑﻮﺿﻮح ﻧﺎﺳﺒًﺎ ﻣﺎ ﻳﻠﺤﻖ ﺑﻔﻜﺮ اﻟﻘﺪﻣﺎء ﻣﻦ ﺗﺸﻮﱡه إﱃ ﻫﺬا اﻟﺴﺒﺐ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻲ ،ﺑﻞ وﻳﺤﺎول َﺳ ﱠﺪ اﻟﻔﺠﻮات ﺑﺸﻜﻞ أو ﺑﺂﺧﺮ ﻣﻌﺘﻤﺪًا ﻋﲆ اﻟﻘﺮاءات املﺘﺘﺎﺑﻌﺔ ﻷﻋﻤﺎل ﻫﺆﻻء اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻋﱪ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ،وﻳﻈﻬﺮ ذﻟﻚ ﰲ اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺨﺎص ﺑﺒﺎرﻣﻨﻴﺪس وﰲ اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺨﺎص ﺑﺄرﺳﻄﻮ ﻛﻤﺎ ﺳﺒﻘﺖ اﻹﺷﺎرة. َ ﻣﻌﺎرف أﺳﺎﺳﻴﺔ ﻟﺪى اﻟﻘﺎرئ ﺳﺘﱰدد أﺻﺪاء ﻫﺬه اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ وﺑﻌﺪ أن ﻳُﻜﻮﱢن اﻟﻜﺘﺎب اﻟﺜ ﱠ ِﺮﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﻋﺎﻳﺸﻬﺎ ﺧﻼل رﺣﻠﺘﻪ ﻣﻊ اﻟﻜﺘﺎب ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻪ وﻗﺮاءاﺗﻪ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ .وﻛﻔﻰ ﺑﻬﺬا ً ﻋﺎرﺿﺎ ﻟﻸﻓﻜﺎر اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ وأن ﻳُﺤَ ﱢﻘ َﻖ إملﺎم اﻟﻘﺎرئ ﺑﻬﺎِ ،ﻟ َﻢ اﻟﻜﺘﺎب ﻓﺨ ًﺮا أن ﻳﻜﻮن ﻻ وﻫﻮ ﻳُﻘﺪﱢم املﻌﺮﻓﺔ ﰲ ﻗﺎﻟﺐ ﻋﺠﻴﺐ وﻃﺮﻳﻒ ﻳﺴﺘﺤﻖ اﻟﻮﺻﻒ ﺑﺎﻟﺴﻬﻞ املﻤﺘﻨﻊ!
14
ﺷﻜﺮ وﺗﻘﺪﻳﺮ
ﻟﻘﺪ ﻗﺪﱠم ﱄ ﻛﺜريٌ ﻣﻦ اﻟﺒﺎﺣﺜني اﻟﻌﻮن واملﺴﺎﻋﺪة ﺑﺎﻟﺘﻌﻠﻴﻘﺎت أو اﻻﻗﱰاﺣﺎت أو اﻟﻨﻘﺪ أو ﺑﺎﻟﺮد ﻋﲆ ﻣﺎ ﻃﺮﺣﺘُﻪ ﻣﻦ أﺳﺌﻠﺔ .وﻟﺬﻟﻚ أﺧﺺ ﺑﺎﻟﺸﻜﺮ ُﻛ ٍّﻼ ﻣﻦ :ﺟﻮﻧﺎﺛﺎن ﺑﺎرﻧﺰ ،وواﻟﱰ ﺑﺮﻛﺮت ،وﺑﺮاﻳﺎن ﻛﻮﺑﻨﻬﺎﻓﺮ ،واﻷب اﻟﺮاﺣﻞ ﻛﻮﺑﻠﺴﺘﻮن ،وﺟﻮن دﻳﻠﻮن ،واﻟﺴري ﻛﻴﻨﻴﺚ دوﻓﺮ، وأﻧﺘﻮﻧﻲ ﺟﺮاﻳﻠﻴﻨﺞ ،وﺟﻴﻢ ﻫﺎﻧﻜﻴﻨﺴﻮن ،وإدوارد ﻫﺎﳼ ،وﺟﻮن ﻣﺎرﻳﻨﺒﻮن ،ووﻳﻼرد ﻓﺎن أورﻣﺎن ﻛﻮاﻳﻦ ،وﺟﻮن ﻓﺎﻻﻧﺲ ،وﻣﺎرﺗﻦ وﺳﺖ .ﻛﻤﺎ أﺗﻘﺪﱠم ﺑﺨﺎﻟﺺ اﻟﺸﻜﺮ ﻟﻜ ﱟﻞ ﻣﻦ :أوﻟﻴﻔﺮ ﺑﻼك ،وداﻧﻴﻴﻞ ﺑﻮرﺳﺘني ،وراي ﻣﻮﻧﻚ ،وأﻧﺪرو راﺷﺒﺎس ،وﻣﺎت رﻳﺪﱄ ،وإﻳﻠني ﺳﻤﻴﺚ )اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ذﻟﻚ اﻟﻜﺘﺎب ﻓﻜﺮﺗَﻬﺎ( ،واﻟﺴري ﺑﻴﱰ ﺳﱰوﺳﻮن ،وزوﺟﺘﻲ ﻣرياﻧﺪا ﺳﻴﻤﻮر؛ ملﺎ ﻗﺪﱠﻣﻮه ﱄ ﻣﻦ دﻋﻢ وﻣﺴﺎﻋﺪة وﺗﺸﺠﻴﻊ .وﻻ ﻳﻔﻮﺗﻨﻲ أن أﺗﻘﺪم ﺑﺄﺳﻤﻰ آﻳﺎت اﻟﺸﻜﺮ واﻟﺘﻘﺪﻳﺮ ﻟﻜ ﱟﻞ ﻣﻦ روﺑﺮت ﺑﻴﻨﺎﻧﺖ ري وﺑﻴﻞ إﻳﻤﻮت َ رﺋﻴﴘ اﻟﺘﺤﺮﻳﺮ املﺘﻮاﻟﻴني ﻟﺠﺮﻳﺪة »ذي إﻳﻜﻮﻧﻮﻣﻴﺴﺖ« ﻟﺴﻤﺎﺣﻬﻤﺎ ﱄ ﺑﺈﺟﺎزات ﻃﻮﻳﻠﺔ ﻟﻠﺘﻔ ﱡﺮغ ﻟﻬﺬا اﻟﻜﺘﺎب.
ﻣﻘﺪﻣﺔ
ﻛﺎن آﺧﺮ ﻣﺎ ﺗﻮﻗﻌﺖ أن أﻛﺘﺸﻔﻪ ﺣني ﴍﻋﺖ ﰲ ﺗﺄﻟﻴﻒ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب ﻣﻨﺬ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻋﴩة أﻋﻮام أﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﻫﻨﺎك ﻣﺎ ﻳﺴﻤﻰ ﻓﻠﺴﻔﺔ ،وﻟﻜﻦ ﻫﺬا ﻣﺎ اﻛﺘﺸﻔﺘُﻪ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ وﻓﴪ ﱄ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ ُ ﻇﻨﻨﺖ أﻧﻲ أﻋﺮﻓﻪ ،وﺑﺪأت ﰲ دراﺳﺔ اﻷﻣﻮر ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ .واﻧﻄﻠﻘﺖ ﻋﺎزﻣً ﺎ ﻋﲆ إﻏﻔﺎل ﻛﻞ ﻣﺎ ﻛﺘﺎﺑﺎت أوﻟﺌﻚ اﻟﺬﻳﻦ ﻋﺎﺷﻮا ﻋﲆ ﻣﺪار اﻷﻟﻔني واﻟﺴﺘﻤﺎﺋﺔ ﻋﺎم املﺎﺿﻴﺔ؛ أوﻟﺌﻚ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻌﺪﻫﻢ َ ﻓﻼﺳﻔﺔ اﻟﻐﺮب اﻟﻌِ ﻈﺎم .وﻛﺎن ﻫﺪﰲ )اﻟﺬي ﺗﺄدب أﺻﺪﻗﺎﺋﻲ ﰲ وﺻﻔﻪ ﺑ »اﻟ ﱠ ﻄﻤﻮح« اﻟﻌﺎﻟ ُﻢ وﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻘﺼﺪون »املﺠﻨﻮن«( أن أﺗﻨﺎول ﻗﺼﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻛﻤﺎ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻟﺼﺤﻔﻲ أن ﻳﻌﺎﻟﺠﻬﺎ؛ ﺑﺤﻴﺚ أﻋﺘﻤﺪ ﻋﲆ املﺼﺎدر اﻷوﻟﻴﺔ ﻓﻘﻂ أﻳﻨﻤﺎ و ُِﺟﺪ ْ َت ،وأن أﺗﺸﻜﻚ ﰲ ﻛﻞ ﳾء ﺑﺎت ﻳُﻌﺘﱪ ﺣﻜﻤﺔ ﺳﺎﺋﺮة ﻣﺄﻟﻮﻓﺔ ،وﻓﻮق ﻛﻞ ذﻟﻚ أن أﺣﺎول ﺗﻔﺴري ﻛﻞ ذﻟﻚ ﻗﺪر ﻣﺎ أﺳﺘﻄﻴﻊ ﻣﻦ اﻟﻮﺿﻮح. وﺑﻴﻨﻤﺎ ﻛﻨﺖ أﻋﺮض ﻟﻠﺸﺨﺼﻴﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﻘﺮﻧني اﻟﺨﺎﻣﺲ واﻟﺴﺎدس ﻗﺒﻞ املﻴﻼد اﻟﺬﻳﻦ ﺟﺮت اﻟﻌﺎدة ﻋﲆ وﺿﻌﻬﻢ ﰲ ﺳﻠﺔ واﺣﺪة ﺑﻮﺻﻔﻬﻢ ﻓﻼﺳﻔﺔ — ﺑﺪاﻳﺔ ﺑﺴﻘﺮاط وأﻓﻼﻃﻮن وأرﺳﻄﻮ )اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺸﺎر إﻟﻴﻬﻢ ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﺑﺎﻟﺜﺎﻟﻮث ،وﻟﻜﻦ ﻫﻞ ﻛﺎن ﻫﻨﺎك ﻣﻦ ﻫﻢ ً اﺧﺘﻼﻓﺎ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻨﻬﻢ ﻣﻦ ﻫﺆﻻء اﻟﺜﻼﺛﺔ؟( وﻣﺮو ًرا ﺑﺄﻫﻞ اﻟﻔﻜﺮ ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻬﻴﻠﻴﻨﻴﺔ، أﻛﺜﺮ واملﺘﺼﻮﻓني واﻟﺴﺤﺮة واملﻨﺠﱢ ﻤني ﻣﻦ أﻫﻞ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ،إﱃ اﻷواﺋﻞ ﻣﻦ املﻔ ﱢﻜﺮﻳﻦ املﺴﻴﺤﻴني واﻟﺮﻫﺒﺎن املﻔﺘﻮﻧني ﺑﺎملﻨﻄﻖ واﻟﻌﻠﻤﺎء ،وﻋﻠﻤﺎء اﻟﻼﻫﻮت اﻟﺬﻳﻦ ﻋﺎﺷﻮا ﰲ ﺑﺪاﻳﺔ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ،وﻣﻦ ﻋﺎش ﰲ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ ﻣﻦ ﱠ اﻟﺴﺤَ ﺮة وأﺻﺤﺎب اﻟﺮؤى واﻟﻨﺤﺎﺗني ً وﺻﻮﻻ إﱃ ﺑﺪاﻳﺎت اﻟﻌﺼﻮر اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ — ﺗﺠ ﱠﻠﺖ أﻣﺎم ﻋﻴﻨَﻲ ﺑﻨﻴﺔ »اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ« اﻟﺘﻲ واملﻬﻨﺪﺳني، ً ُ وﺗﻮﺻﻠﺖ إﱃ أن ﻋﻠﻢ اﻟﺘﺄرﻳﺦ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪي اﻓﱰاﺿﺎ أﻗﺪم ﻣﻮﺿﻮﻋﺎت اﻟﺒﺤﺚ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق، ﺗﻌﺪ اﻟﺬي ﻳﺴﻌﻰ إﱃ ﺗﻤﻴﻴﺰ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻋﻦ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻔﻴﺰﻳﺎﺋﻴﺔ واﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ واﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ واﻟﺪراﺳﺎت
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ٍّ ﺑﺴﻄﻬﺎ ﺗﺒﺴﻴ ً ﻣﺨﻼ؛ إذ ﻛﺎن ﴐﺑًﺎ ﻣﻦ املﺴﺘﺤﻴﻞ أن ُ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻗﺪ ﱠ ﺗﻘﴫ ﻣﺎ ﻳﺸﺎر إﻟﻴﻪ ﻄﺎ ﻋﺎدة ﺑ »اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ« ﻋﲆ ﻣﻮﺿﻮع واﺣﺪ ﻳﻤﻜﻦ وﺿﻌﻪ ﰲ ﺳﻬﻮﻟﺔ ﻋﲆ اﻟﺨﺮﻳﻄﺔ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ. ﱡ اﻟﺘﻐري؛ ﻓﻔﻲ ﻳﺮﺟﻊ ذﻟﻚ ﰲ أﺣﺪ أﺳﺒﺎﺑﻪ إﱃ أن أﺳﻤﺎء اﻷﻣﺎﻛﻦ ﻋﲆ ﺗﻠﻚ اﻟﺨﺮاﺋﻂ ﺗﻨﺰع إﱃ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ — ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل — ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺗﻐﻄﻲ ﻋﻤﻠﻴٍّﺎ ﻛﻞ ﻓﺮوع املﻌﺮﻓﺔ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﻨﺪرج ﺗﺤﺖ ﻋﻠﻢ اﻟﻼﻫﻮت .ﻛﺎن املﻮﺿﻮع اﻟﺒﺤﺜﻲ ﻟﻨﻴﻮﺗﻦ ﻫﻮ »اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ« ،وﻫﻮ ﻣﺼﻄﻠﺢ ﺷﺎ َع اﺳﺘﺨﺪاﻣﻪ ﰲ اﻟﻨﺼﻒ اﻷول ﻣﻦ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ ﻟﻴﻐﻄﻲ ﻣﻌﻈﻢ ﻣﺎ ﻳﻨﺪرج اﻵن ﺗﺤﺖ ﺑﻨﺪ اﻟﻌﻠﻢ وﺟﺰءًا ﻣﻤﱠ ﺎ ﻳﻨﺪرج ﺗﺤﺖ ﺑﻨﺪ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ .وﻣﺎ ﻛﺎن ﻳ َُﺴﻤﱠ ﻰ ﺑﺎﻟﺘﻔﻜري اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ ﻳﻤﻴﻞ ﺑﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﺎل إﱃ اﻟﺘﺸﺘﱡﺖ ﻋﱪ اﻟﺤﺪود اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ؛ ﻓﻔﻀﻮل ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﺘﻔﻜري اﻟﺬي ﻻ ﻳﻬﺪأ وﻧَﻬَ ُﻤ ُﻪ اﻟﺬي ﻻ ﻳﺸﺒﻊ أ َ ﱠدﻳَﺎ إﱃ ﺧﻠﻖ ﻣﻨﺎﻃﻖ ﺟﺪﻳﺪة ﻣﻦ اﻟﻔﻜﺮ ﺗﺰﻳﺪ ﻣﻬﻤﺔ رﺳﻢ اﻟﺨﺮﻳﻄﺔ ﺗﻌﻘﻴﺪًا .وﻛﻤﺎ ﺳﻨﺮى ﰲ اﻟﻔﺼﻞ اﻷول ﻓﻘﺪ ﺧﺮﺟﺖ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ﻟﻠﺤﻴﺎة ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺑﻠﻎ ﺑﻌﺾ املﻔﻜﺮﻳﻦ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴني املﻌﺮوﻓني ﺑﺎﺳﻢ »اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻷواﺋﻞ« ﻣﻦ اﻟﺠﺮأة ً ﻣﺒﻠﻐﺎ ﻋﻈﻴﻤً ﺎ ﺗﺠﺎﻫﻠﻮا ﻓﻴﻪ اﻟﺤﺪﻳﺚ املﻌﺘﺎد ﻋﻦ اﻵﻟﻬﺔ وﴍﻋﻮا ﰲ اﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ أﺳﺒﺎب ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ ﻟﻜﻞ ﺣﺪث .وﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﺑﻔﱰة ﻃﻮﻳﻠﺔ وُﻟﺪ ﻋﻠﻢ اﻟﻨﻔﺲ وﻋﻠﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎع أﻋﻤﺎل ﻣَ ﻦ ﻛﺎن ﻳُﻄ َﻠﻖ ﻋﻠﻴﻬﻢ آﻧﺬاك ﻓﻼﺳﻔﺔ .وﻣﺎ زاﻟﺖ ﻋﻤﻠﻴﺔ اﻹﺑﺪاع واﻻﻗﺘﺼﺎد ﻣﻦ َرﺣِ ﻢ ِ ﺗﻠﻚ ﻣﺴﺘﻤﺮة ﺣﺘﻰ اﻟﻴﻮم؛ ﻓﻠﻐﺎت اﻟﱪﻣﺠﺔ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﻧﺸﺄت ﺑﻔﻀﻞ ﻣﺎ ﻛﺎن ﻳُﻌﺘﱪ ﻟﻔﱰة ﻃﻮﻳﻠﺔ أﻛﺜﺮ اﺧﱰاﻋﺎت اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ً ﻣﻠﻼ أﻻ وﻫﻮ املﻨﻄﻖ اﻟﺼﻮري .وﺛﻤﺔ ﻣﺜﺎل ﺻﻐري وﻟﻜﻨﻪ ﻧﻤﻮذﺟﻲ ﻟﻜﻴﻔﻴﺔ ﻧﺠﺎح اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﰲ ﺗﺤﻘﻴﻖ ﻃﻔﺮات ﺟﺪﻳﺪة ﻳﺘﻤﺜﻞ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﺟﻮرج ﻛﺎﻧﺘﻮر — ﻋﺎﻟﻢ رﻳﺎﺿﻴﺎت أملﺎﻧﻲ ﻋﺎش ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ — وﻛﺎن ﺑﺤﺜﻪ ﰲ ﻣﻮﺿﻮع اﻟﻼﻧﻬﺎﻳﺔ ﻗﺪ اﺳﺘﺒﻌﺪه زﻣﻼؤه اﻟﻌﻠﻤﺎء ﰲ ﺑﺎدئ اﻷﻣﺮ ﺑﻮﺻﻔﻪ »ﻓﻠﺴﻔﺔ« ﻣﺤﻀﺔ ﺣﻴﺚ ﺑَﺪَا ﺑﻤﻜﺎن ،وﻟﻜﻨﻪ اﻵن ﻳُﺪ ﱠرس ﰲ اﻟﺠﺎﻣﻌﺎت ﺑﺤﺜًﺎ ﺷﺪﻳﺪ اﻟﺸﺬوذ واﻟﺘﻨﻈري وﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻣﻦ اﻷﻫﻤﻴﺔ ٍ ﺑﺎﺳﻢ »ﻧﻈﺮﻳﺔ املﺠﻤﻮﻋﺎت«. واﻟﻮاﻗﻊ أن ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻫﻮ ﺗﺎرﻳﺦ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﺗﻔﻜري ﺷﺪﻳﺪة اﻟﻨﻬﻢ إﱃ املﻌﺮﻓﺔ أﻛﺜﺮ ﻣﻨﻪ ﺗﺎرﻳﺦ ﻓﺮع ﻣﺤﺪد ﻣﻦ ﻓﺮوع املﻌﺮﻓﺔ .وﺗﻌﺘﱪ اﻟﺼﻮرة اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ ً ﻓﺼﻼ ﻏﺮﻳﺒًﺎ ﻋﻦ املﻮﺿﻮﻋﺎت ﴐﺑًﺎ ﻣﻦ ﴐوب اﻟﻌﻠﻮم اﻟﺘﺄﻣﱡ ﻠﻴﺔ ﻟﻠﺘﻔﻜري املﺤﺾ ،املﻔﺼﻮل اﻷﺧﺮى ،ﺧﺪﻋﺔ ووﻫﻤً ﺎ ﰲ اﻟﺮؤﻳﺔ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ .وﻳُﻌﺰى ذﻟﻚ اﻟﻮﻫﻢ إﱃ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﻨﻈﺮ ﺑﻬﺎ إﱃ املﺎﴈ ،وﺑﺎﻷﺧﺺ إﱃ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﻤﻴﻞ إﻟﻴﻬﺎ ﰲ ﺗﺼﻨﻴﻒ املﻌﺮﻓﺔ وﺗﻘﺴﻴﻤﻬﺎ وﻣﻦ ُ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﺗﺴﱰﻗﻬﺎ اﻟﻌﻠﻮم اﻷﺧﺮى وﺗﺘﺒﻨﺎﻫﺎ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣﻨﺘﻈﻢ؛ ﺛ َ ﱠﻢ إﻋﺎدة ﺗﺼﻨﻴﻔﻬﺎ ،ﻓﺎﻷﻋﻤﺎل ﻓﻤﺎ ﻛﺎن ﺑﺎﻷﻣﺲ ﻓﻠﺴﻔﺔ أﺧﻼﻗﻴﺔ أﺻﺒﺢ اﻟﻴﻮم ﺟﺰءًا ﻣﻦ اﻟﺘﴩﻳﻊ أو اﻗﺘﺼﺎدﻳﺎت اﻟﺮﻓﺎه، 18
ﻣﻘﺪﻣﺔ
وﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﻨﺪرج ﰲ املﺎﴈ ﺗﺤﺖ ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻌﻘﻞ أﺿﺤﻰ ﻳﻨﺘﻤﻲ إﱃ اﻟﻌﻠﻮم اﻹدراﻛﻴﺔ .وﻳﻤﺘﺪ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﰲ ﻛﻼ اﻻﺗﺠﺎﻫني؛ إذ ﺗﺜري ﺗﺴﺎؤﻻت ﺟﺪﻳﺪة ﰲ اﻟﻌﻠﻮم اﻷﺧﺮى أﺳﺌﻠﺔ ﺟﺪﻳﺪة ﻟﺪى املﻬﺘﻤني ﺑﺎﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺣﻴﺚ ﻳﺼﺒﺢ اﻗﺘﺼﺎد اﻟﻐﺪ ﴐﺑًﺎ ﻣﻬﻤٍّ ﺎ ﻣﻦ ﴐوب اﻟﻌﻠﻢ ﻟﺪى اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻷﺧﻼﻗﻴني ﺑﻌﺪ ﻏﺪٍ .وﻳﺘﻤﺜﻞ أﺣﺪ ﺗﺄﺛريات ﺗﻠﻚ اﻟﺤﺪود اﻟﻔﺎﺻﻠﺔ ﺑني اﻟﻌﻠﻮم واﻟﺘﻲ ﺗﺘﻐري ﺑﺎ ﱢ ﻃﺮاد ﰲ إﻣﻜﺎﻧﻴﺔ أن ﻳﺒﺪو اﻟﺘﻔﻜري اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ ﻋﻘﻴﻤً ﺎ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻏري ﻣﻌﺘﺎد ﺣﺘﻰ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻤﺒﺎدرات اﻟﻔﻜﺮﻳﺔ .وﻳُﻌﺰى ذﻟﻚ ﺑﺎﻷﺳﺎس إﱃ أﻧﻪ إذا اﻛﺘﺴﺐ أي ﻓﺮع ﻣﻦ ﻓﺮوع اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻗِ ﻴﻤﺔ وأﻫﻤﻴﺔ ﻓﴪﻋﺎن ﻣﺎ ﻳﺨﺮج ﻣﻦ إﻃﺎر اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ .وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻧﺸﺄ ذﻟﻚ املﻈﻬﺮ اﻟﺨﺎدع اﻟﺬي ﻳﻮﺣﻲ ﺑﺄن اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻻ ﻳُﺤﺮزون أي ﺗﻘﺪﱡم أﺑﺪًا. َ ذات ﻣﺮة وﺻﻒ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﻨﻔﺲ وﻳﻠﻴﺎم ﺟﻴﻤﺲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺑﺄﻧﻬﺎ »ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﺷﺪﻳﺪة اﻟﻌﻨﺎد ﻟﻠﺘﻔﻜري ﺑﻮﺿﻮح «.وﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﺷﺪة ﺟﻔﺎف ﻫﺬا اﻟﺘﻌﺮﻳﻒ ﻓﻬﻮ أﻛﺜﺮ اﻟﺘﻌﺮﻳﻔﺎت اﻟﺘﻲ أﻋﺮﻓﻬﺎ ﻗﺮﺑًﺎ ﻣﻦ اﻟﺼﻮاب .ﺻﺤﻴﺢٌ أن اﻟﻮﺿﻮح ﻟﻴﺲ ﺗﺤﺪﻳﺪًا أول ﻣﺎ ﻳﺨﻄﺮ ﺑﺎﻟﺬﻫﻦ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﻔﻜﺮ ﻣﻌﻈﻢ اﻟﻨﺎس ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ،ﻓﻼ أﺣﺪ ﻳﻨﻜﺮ أن ﻣﺤﺎوﻻت اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻟﻠﺘﻔﻜري ﺑﻮﺿﻮح ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﺑﺎءت ﺑﻨﺘﺎﺋﺞ ﻋﻜﺴﻴﺔ )ﻓﺄﻳٍّﺎ ﻣﺎ ﻛﺎن اﻟﻔﺮع اﻟﺬي أﻧﺘﺞ ﻟﻨﺎ ﺷﺨﺼﻴﺔ ﻣﺜﻞ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮً ، ﻣﺜﻼ، ﻣَ ﺪِﻳﻦ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ ﺑﺎﻻﻋﺘﺬار!( ورﻏﻢ ذﻟﻚ ﻓﺈن وﻳﻠﻴﺎم ﺟﻴﻤﺲ ﻛﺎن ٍّ ﻣﺤﻘﺎ ﰲ وﺻﻒ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺑﻬﺬا ً ﻏﻤﻮﺿﺎ ﻳﺴﻌَ ﻮ َْن ﺟﺎﻫﺪﻳﻦ إﱃ ﻓﻬﻢ اﻟﻮﺻﻒ؛ ذﻟﻚ أﻧﻪ ﺣﺘﻰ ﻣﻤﺎرﺳﻮ أﻛﺜﺮ أﺷﻜﺎل اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷﻣﻮر ﻓﻬﻤً ﺎ ﻋﻘﻼﻧﻴٍّﺎ ،وﻫﺬا اﻟﺠﻬﺪ ﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺠﻌﻞ ﻣﻨﻬﻢ ﻓﻼﺳﻔﺔ .وﻣﻊ أن ذﻟﻚ اﻟﺠﻬﺪ ﻻ ﻳﺆﺗﻲ ﺛﻤﺎره ﰲ ﺑﻌﺾ اﻷﺣﻴﺎن ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻨﺠﺢ ﰲ أﺣﻴﺎن أﺧﺮى. ﻛﺎن ﺧﻠﻊ ﺻﻔﺔ »اﻟﻌﻨﺎد« ﻋﲆ اﻟﺘﻔﻜري اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ ﻣﻨﺎﺳﺒًﺎ إﱃ أﺑﻌﺪ اﻟﺤﺪود؛ ﺣﻴﺚ وﺻﻔﻪ ﺑﺮﺗﺮاﻧﺪ راﺳﻞ ذات ﻣﺮة ﺑﺄﻧﻪ »ﺷﺪﻳﺪ اﻟﻌﻨﺎد ﺑﺸﻜﻞ ﻏري ﻋﺎدي« ،واﻟﴚء اﻟﺬي ﻳﻤﻴﺰه ﻋﻦ اﻷﻧﻮاع اﻷﺧﺮى ﻣﻦ اﻟﺘﻔﻜري ﻫﻮ ﻋﺪم اﺳﺘﻌﺪاده َ ﻟﻘﺒﻮل إﺟﺎﺑﺎت ﺗﻘﻠﻴﺪﻳﺔ ،ﺣﺘﻰ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺒﺪو ً ﺣﻤﻘﺎ ﻣﻦ وﺟﻬﺔ ﻧﻈﺮ ﻋﻤﻠﻴﺔ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﻳُﺼﺒﺢ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻹﻋﺮاض ﻋﻦ ﻓﻌﻞ ذﻟﻚ ﻣﻮﺿﻊ ﺳﺨﺮﻳﺔ ﻟﺪى اﻟﺠﻤﻴﻊ .وﻗﺪ أدرك اﻷواﺋﻞ ﻣﻦ ﻣﺆ ﱢرﺧﻲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻹﻏﺮﻳﻖ ﻫﺬا اﻷﻣﺮ إدرا ًﻛﺎ أﻓﻀﻞ ﻣﻨﱠﺎ اﻟﻴﻮم؛ إذ اﻣﺘﻸت ﻛﺘﺒﻬﻢ ﺑﺎﻟﺤﻜﺎﻳﺎت اﻟﻬﺰﻟﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻗﺪ ﻳﻜﻮن ﺑﻌﻀﻬﺎ ً ﻣﺨﺘﻠﻘﺎ .وﻳُﻌَ ﱡﺪ اﻻﻋﱰاض ﻋﲆ ﺗﻠﻚ ﺻﺤﻴﺤً ﺎ وﻣﻌﻈﻤﻬﺎ ﰲ ﺻﻤﻴﻢ املﻮﺿﻮع ،ﺣﺘﻰ وإن ﻛﺎن ُ ﺗﺠﺎﻫ ًﻼ ﻟﺮوح اﻟﺪﻋﺎﺑﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻜﻤُﻦ ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ،ﻓﻜﺜريًا ﻣﺎ اﻟﺴﺨﺮﻳﺔ ﻣﻤﱠ ﻦ ﻳﺴﺘﺤﻖ اﻟﺴﺨﺮﻳﺔ ً ﻣﻨﻄﻘﺎ ﺳﻠﻴﻤً ﺎ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻌﴫ. ﻛﺎن اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻳﺮﻓﻌﻮن ﺣﻮاﺟﺒﻬﻢ دﻫﺸﺔ ﻣﻤﱠ ﺎ ﻳﺮاه اﻟﻨﺎس ً ً اﻟﺘﺒﺎﺳﺎ ﻏري ﻻﺣﻘﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺘﻀﺢ أن »املﻨﻄﻖ اﻟﺴﻠﻴﻢ« ﻫﻮ ﻣﺎ اﻟﺘُﺒﺲ ﻓﻴﻪ وﺗﻜﺘﻤﻞ اﻟﺪﻋﺎﺑﺔ ﻋﺎدي .وﻻ ﺷﻚ أﻧﻪ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻻ ﺗﺼﻴﺐ اﻟﺪﻋﺎﺑﺔ ،وﻳﺒﺪو اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻷﻣﺮ ﻫﻮ اﻷﺣﻤﻖ، وﻟﻜﻨﻬﺎ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻣﺨﺎﻃﺮ املﻬﻨﺔ. 19
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﺗﺒﻮء املﺤﺎوﻟﺔ اﻟﻌﻨﻴﺪة ﻟﺪﻓﻊ اﻟﺘﺴﺎؤﻻت املﻨﻄﻘﻴﺔ إﱃ ﺣﺪودﻫﺎ اﻟﻘﺼﻮى ﺑﺎﻟﻔﺸﻞ، وﺣﻴﻨﻬﺎ ﻳﺒﺪو ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ اﻟﺬي ﻳﺴﺘﻨﻬﺾ اﻟﺘﻔﻜري اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ ﻣﺤﺾ ﴎاب ،وﻟﻜﻦ ﰲ أﺣﻴﺎن أﺧﺮى ﺗﺤﻘﻖ املﺤﺎوﻟﺔ ﻧﺠﺎﺣً ﺎ ﺑﺎﻫ ًﺮا وﻳﺘﺠﺴﺪ اﻟﺤﻠﻢ ﻋﲆ ﺻﻮرة وﺣﻲ ﻣﺜﻤﺮ .وﻳﺴﻌﻰ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب إﱃ ﻛﺸﻒ ﺟﺎ ِﻧﺒَﻲ اﻟﻘﺼﺔ املﺘﻌ ﱢﻠﻘﺔ ﺑﺤﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ ﻣﻨﺬ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎدس ﻗﺒﻞ املﻴﻼد وﺣﺘﻰ ﺛﺎن ﻣﻦ دﻳﻜﺎرت ﺣﺘﻰ ﻋﴫﻧﺎ اﻟﺤﺎﱄ. ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ ،وﺳﺘُﺴﺘﻜﻤﻞ اﻟﺤﻜﺎﻳﺔ ﰲ ﻣﺠﻠﺪ ٍ
20
اﳉﺰء اﻷول
اﻟﻔﺼﻞ اﻷول
اﻟﻨﻤﻮذج اﻷﺻﲇ :اﳌﻠﻄﻴﻮن
ﻟﻦ ﻳﺤﺴﻢ اﻟﺘﺎرﻳﺦ أﺑﺪًا ﻫﻮﻳﺔ ﻣُﻨﺸﺊ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ،ﻓﻘﺪ ﻳﻜﻮن أﺣﺪ اﻟﻌﺒﺎﻗﺮة اﻟﻔﻘﺮاء ﻫﻮ ﻣﻦ اﺧﱰﻋﻬﺎ ﺛﻢ ﻏﺮق ﰲ ﻟُﺠﱠ ِﺔ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﻏري املﻜﺘﻮب ﻗﺒﻞ أن ﻳﺘﻤﻜﻦ ﻣﻦ اﻹﻋﻼن ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻪ ﻟﻸﺟﻴﺎل اﻟﻘﺎدﻣﺔ .وﻟﻴﺲ ﻫﻨﺎك ﻣﺎ ﻳﺪﻋﻮﻧﺎ ﻷن ﻧﻌﺘﻘﺪ ﺑﻮﺟﻮد ذﻟﻚ اﻟﺸﺨﺺ ،وﻟﻜﻦ ﻋﻨﺪﺋ ٍﺬ ﻣﺎ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ِﻟﺘَﻈﻬﺮ إﱃ اﻟﻮﺟﻮد .وﻟﺤﺴﻦ اﻟﺤﻆ ﺗﻮﺟﺪ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﺳﺠﻼت ﻹﺣﺪى ﺑﺪاﻳﺎت اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ، ﺣﺘﻰ إن ﻟﻢ ﻧﺘﻴﻘﻦ ﻣﻦ أﻧﻬﺎ ﻟﻢ ﺗُﺴﺒﻖ ﺑﺒﺪاﻳﺎت أﺧﺮى زاﺋﻔﺔ. وﻳﺤﻈﻰ ﺣﺎﻟﻴٍّﺎ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻷواﺋﻞ ﺑﺪراﺳﺔ ﺟﺎدة ﰲ املﻜﺘﺒﺎت واﻟﺠﺎﻣﻌﺎت ،ﻟﻜﻦ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻨﻬﻢ اﺷﺘﻬﺮوا ﰲ ﺑﺪاﻳﺘﻬﻢ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳُﻌَ ﱠﺪ ﻓﺮﻋً ﺎ ﻣﻦ اﻷﻋﻤﺎل اﻻﺳﺘﻌﺮاﺿﻴﺔ؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻈﻬﺮون ﻟﻠﻨﺎس ﻣﺮﺗَﺪِﻳﻦ ﺛﻴﺎﺑًﺎ ﻓﺨﻤﺔ ﰲ اﻟﻐﺎﻟﺐ وﻳُﻠﻘﻮن املﺤﺎﴐات ﻋﻠﻴﻬﻢ أو ﻳﻘﻮﻟﻮن ﻗﺼﺎﺋﺪ اﻟﺸﻌﺮ ﻓﻴﻬﻢ .وﻗﺪ ﺟﺬﺑﺖ ﻫﺬه اﻟﻌﺮوض اﻟﻜﺜري ﻣﻦ املﺎرة واﻷﺗﺒﺎع املﺨﻠﺼني ﺗﺒﺴ ً وأﺻﺤﺎب اﻟﻌﻘﻮل اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ﰲ ﺑﻌﺾ اﻷﺣﻴﺎن .وﻛﺎن ﺑﻌﺾ ﻫﺆﻻء اﻟﺮﺟﺎل أﻛﺜﺮ ﱡ ﻄﺎ ﻣﻊ اﻵﺧﺮﻳﻦ ﻣﻦ ﻏريﻫﻢ .ﻓﻤﻦ ٍ ﺟﻬﺔ ﻧﺠﺪ اﻟﺸﺎﻋﺮ اﻟﺮﺣﱠ ﺎﻟﺔ زﻳﻨﻮﻓﺎﻧﻴﺲ اﻟﺬي ﻗﺎل — وﻫﻮ ﰲ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ واﻟﺘﺴﻌني ﻣﻦ اﻟﻌﻤﺮ ﺣﺴﺐ زﻋﻤﻪ آﻧﺬاك — إﻧﻪ ﻗﴣ »ﺳﺒﻌﺔ وﺳﺘني ﻋﺎﻣً ﺎ … ﻃﺎرﺣً ﺎ اﻟﻬﻤﻮم ﺑني ﺟﻨﺒﺎت أرض اﻟﻴﻮﻧﺎن «.وﻣﻦ ﺟﻬﺔ أﺧﺮى ﻧﺠﺪ ً ﻣﺜﺎﻻ ﻷﺣﺪ اﻷرﺳﺘﻘﺮاﻃﻴني اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺰدرون ﻛ ﱠﻞ ﻣﺎ ﺣﻮﻟﻬﻢ وﻫﻮ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ اﻷﻓﺴﴘ )واﻟﺬي ﻋُ ِﺮ َ ف ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺑﺎﺳﻢ »اﻟﻜﺌﻴﺐ« و»املﻨﺘﺤِ ﺐ« و»اﻟﻐﺎﻣﺾ«( واﻟﺬي ﻛﺎن ﺑﺎﻋﱰاﻓﻪ ﻳﺒﻐﺾ اﻟﺤﻜﻤﺎء وﻣﻦ ﻳﺴﺘﻤﻊ إﻟﻴﻬﻢ ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻣﺔ وﺑَﺪَا أﻧﻪ ﻳﺤﺘﻔﻆ ﺑﺂراﺋﻪ ﻟﻨﻔﺴﻪ .وﻗﺪ ﻋﺎش ﻣﻌﻈﻢ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻷواﺋﻞ ﺑني ﻃﺮﰲ ﻫﺬﻳﻦ اﻟﻨﻘﻴﻀني ،وﻛﺎن ذﻟﻚ ﰲ اﻟﻘﺮﻧني اﻟﺴﺎدس واﻟﺨﺎﻣﺲ ﻗﺒﻞ املﻴﻼد ﰲ أﺟﺰاء ﻣﻤﱠ ﺎ ﻳُﻌﺮف اﻵن ﺑﺎﻟﻴﻮﻧﺎن وﺗﺮﻛﻴﺎ وإﻳﻄﺎﻟﻴﺎ.
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
واﻟﻴﻮم ﻳُﻌ َﺮف ﻫﺆﻻء ﺑﺎﺳﻢ »ﻓﻼﺳﻔﺔ ﻣﺎ ﻗﺒﻞ ﺳﻘﺮاط« ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺸري إﱃ أن ﻣﻌﻈﻤﻬﻢ ﻟﺴﻮء ﺣﻈﻬﻢ — ﻛﻤﺎ ﻳﺮى ﻣﺆرﺧﻮ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ — ﻗﺪ ُوﻟِﺪُوا ﻗﺒﻞ ﺳﻘﺮاط )–٤٦٩ ٣٩٩ق.م( .ﻗﺪ ﻳﻔﻀﻞ اﻟﺒﻌﺾ إﻃﻼق ﻫﺬه اﻟﺘﺴﻤﻴﺔ ﻋﻠﻴﻬﻢ ،وﻟﻜﻨﻬﻢ ﰲ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻷﻣﺮ ﻟﻢ ﻳﻜﻮﻧﻮا ﻣﺤﺾ اﻓﺘﺘﺎﺣﻴﺔ ﻹﺣﺪى ﺣﻔﻼت اﻷوﺑﺮا اﻟﺴﻘﺮاﻃﻴﺔ؛ ﻓﻜﻤﺎ ﻗﺎل ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻓﺈﻧﻬﻢ اﺧﱰﻋﻮا اﻟﻨﻤﺎذج اﻷﺻﻠﻴﺔ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻼﺣﻘﺔ ،ﻛﻤﺎ أﻧﻬﻢ اﺧﱰﻋﻮا اﻟﻌﻠﻢ ،اﻟﺬي ﻛﺎن ﺣﻴﻨﺬاك ﻳﻔﴤ إﱃ اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ ﻧﻔﺴﻬﺎ اﻟﺘﻲ ﺗﻔﴤ إﻟﻴﻬﺎ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ. وﻟﻢ ﺗﻬﺒﻂ أوﱃ ﻫﺬه املﻌﺠﺰات ﻣﻦ اﻟﺴﻤﺎء ﻋﲆ ﺣني ﻏِ ﱠﺮةٍ ،ﻓﻠﻢ ﺗ ُﻜﻦ ﺑﻼد اﻹﻏﺮﻳﻖ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎدس ﻗﺒﻞ املﻴﻼد ﻫﻲ ﻓﺠﺮ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ،وﻗﺪ ﻳﻜﻮن ﺛَﻤﱠ ﺔ ﺑﺮﻫﺎن ﻋﲆ أن اﻟﺒﺪاﻳﺔ ﻗﺪ ﺳﺒﻘﺖ ذﻟﻚ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﻬﻨﺪﺳﺔ اﻟﺒﺎﺑﻠﻴﺔ اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ أو اﻟﺪﻳﺎﻧﺎت اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ .وﻗﺪ ﻳﻘﺎل ً أﻳﻀﺎ إن ﻓﻼﺳﻔﺔ ﻣﺎ ﻗﺒﻞ ﺳﻘﺮاط ﻟﻢ ﻳﺨﱰﻋﻮا اﻟﺘﻔﻜري ذاﺗﻪ ،رﻏﻢ أﻧﻬﻢ ﻛﺎﻧﻮا ﻣﻔﻜﺮﻳﻦ ﻣﻦ اﻟﻄﺮاز اﻷول ،وإن اﻟﺒﺤﺚ ﰲ ﺑﻌﺾ املﺴﺎﻋﻲ اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ﻗﺪ ﻳﺴﺎﻋﺪ ﻋﲆ إﻳﻀﺎح أﻓﻜﺎرﻫﻢ .ﻟﻜﻨﻨﺎ ٍ ﻧﻘﻄﺔ ﻣﺎ. ﺑﺼﺪد ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ وﻟﻴﺲ ﺗﺎرﻳﺦ ﻛﻞ ﳾء ،وﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﺒﺪأ ﻣﻦ أﻓﻀﻞ ﻣﻜﺎن ﻧﺒﺪأ ﻣﻨﻪ ﻫﻮ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻣﻠﻄﻴﺔ ،وﻫﻲ إﺣﺪى املﺪن اﻷﻳﻮﻧﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻊ ﻋﲆ ﺳﺎﺣﻞ آﺳﻴﺎ اﻟﺼﻐﺮى )ﰲ ﺗﺮﻛﻴﺎ ﺣﺎﻟﻴٍّﺎ( .وﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎدس ﻗﺒﻞ املﻴﻼد ،ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﺮﻋﺮع ﻛ ﱞﻞ ﻣﻦ ﻃﺎﻟﻴﺲ وأﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر وأﻧﺎﻛﺴﻴﻤﻴﻨﺲ ﻫﻨﺎك ،ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻠﻄﻴﺔ ﻗﻮة ﺑﺤﺮﻳﺔ ﺗﻤﺘﻠﻚ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ املﺴﺘﻌﻤﺮات ﰲ اﻟﺸﻤﺎل ﰲ ﺗﺮاﻗﻴﺎ وﺣﻮل اﻟﺒﺤﺮ اﻷﺳﻮد ،ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ ﻋﻼﻗﺎت ﺗﺠﺎرﻳﺔ ﻣﻊ أﺟﺰاء ﻣﻦ ﺟﻨﻮب إﻳﻄﺎﻟﻴﺎ وﺑﻼد اﻟﴩق وﻣﴫ .وﻛﺎﻧﺖ ﻣﻠﻄﻴﺔ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻣﺘﻄﻮرة ﱢ ﺗﻮﻓﺮ ﻟﻠﺒﻌﺾ ً ﻻﺣﻘﺎ أﻧﻪ أﺣﺪ املﺘﻄﻠﺒﺎت اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ .وﻗﺪ ﻧﺎﻗﺶ وﻗﺖ اﻟﻔﺮاغ اﻟﺬي أ ﱠﻛﺪ أرﺳﻄﻮ ٍ ﻣﺮات ﻋﺪة ،ﺣﻴﺚ أرﺳﻄﻮ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﺑﻤﺎﺋﺘﻲ ﻋﺎم أﻓﻜﺎر ﻫﺆﻻء اﻟﺮﺟﺎل املﻠﻄﻴني اﻟﺜﻼﺛﺔ ﻗﺴﻢ املﻔﻜﺮﻳﻦ اﻹﻏﺮﻳﻖ اﻷواﺋﻞ إﱃ »ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻼﻫﻮت« اﻟﺬﻳﻦ َرأَوْا أن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺗﺘﺤﻜﻢ ﻓﻴﻪ ﻛﻴﺎﻧﺎت ﻃﺎﺋﺸﺔ ﺧﺎرﻗﺔ ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ و»ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ« اﻟﺬﻳﻦ ﺣﺎوﻟﻮا ﺗﻔﺴري اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺬي ﻳﺒﺪو ﻣﻀﻄﺮﺑًﺎ ﻈﻢً ، وﻏري ﻣﻨ ﱠ وﻓﻘﺎ ملﺒﺎدئ أﻛﺜﺮ ﺑﺴﺎﻃﺔ وﻣﻮﺿﻮﻋﻴﺔ .وﻗﺪ أﻛﺪ أرﺳﻄﻮ أن املﻠﻄﻴني ﻫﻢ أول ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ. َدوﱠن اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﻓﻼﺳﻔﺔ ﻣﺎ ﻗﺒﻞ ﺳﻘﺮاط ﺧﻮاﻃﺮﻫﻢ ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ إﻟﻘﺎﺋﻬﺎ ﻋﲆ املﻸ، وﻟﻜﻦ ﻳﻤﻜﻦ ﺑﺎﻟﻜﺎد اﻟﺘﻌﺮف ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﻤﱠ ﺎ ﺗﺒﻘﻰ ﻣﻨﻬﺎ ﺣﺘﻰ اﻟﻴﻮم؛ إذ ﺗﻨﺎﺛﺮت ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻬﻢ ﺑﻤﺮور ﻃﻮال ﻣﺎ ﻳﻘﺮب ﻣﻦ أﻟﻔﻲ ﻋﺎمَ ، اﻟﻮﻗﺖ وﻟﻢ ﻳﻨﺞُ ﻣﻨﻬﺎ إﻻ اﻟﻘﻠﻴﻞ .و َ ﻇ ﱠﻞ اﻟﺒﺎﺣﺜﻮن ﻳﺒﺤﺜﻮن ﰲ ﻓﻘﺮات ﻻ ﺗﺘﺠﺎوز ﺑﻀﻊ ﻋﺒﺎرات ،وﻳﻘِﻔﻮن ﻋﲆ ﺑﻌﺾ اﻟﻜﻠﻤﺎت ﻫﻨﺎ وﻫﻨﺎك وﻫﻨﺎﻟﻚ ،ﻣﻌﻮﱢﻟني 24
اﻟﻨﻤﻮذج اﻷﺻﲇ :املﻠﻄﻴﻮن
ً ﺗﻌﻮﻳﻼ ﺷﺪﻳﺪًا ﻋﲆ ﻣﺼﺎدر ﺛﺎﻧﻮﻳﺔ ﻻ ﻳﺠﺪون ﻏريﻫﺎ .وﻳﻤﻜﻦ اﻻﻋﺘﻤﺎد ﻋﲆ ﺑﻌﺾ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﺘﻌﻠﻴﻘﺎت اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻋﲆ ﺗﻠﻚ اﻷﺟﺰاء اﻟﺘﻲ ﻋُ ﺜﺮ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﰲ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻟﺘَﺤَ ﱢﺮي اﻟﺪﻗﺔ ﻋﲆ أﻗﻞ ﺗﻘﺪﻳﺮ، وﻟﻜﻦ ﺣﺘﻰ أﻓﻀﻞ ﻫﺬه اﻷﺟﺰاء ﻗﺪ ُﻛﺘﺐ ﺑﻌﺪ ﻋﴫ ﻓﻼﺳﻔﺔ ﻣﺎ ﻗﺒﻞ ﺳﻘﺮاط ﺑﻌﺪة أﺟﻴﺎل، ﺑﻞ ﺑﻤﺌﺎت اﻷﻋﻮام .وﺳﻨﺠﺪ اﻟﻌﺠﺐ اﻟﻌﺠﺎب إذا ﻗﺮأﻧﺎ ﺑﻌﺾ املﺼﺎدر اﻟﺜﺎﻧﻮﻳﺔ ﻣﺜﻞ اﻟﻜﺘﺎﺑﺎت ﻏري اﻟﺪﻗﻴﻘﺔ ،رﻏﻢ إﻣﺘﺎﻋﻬﺎ ،ﻟﻜﺎﺗﺐ ﱢ اﻟﺴ َري دﻳﻮﺟني ﻟريﺗﻴﻮس )اﻟﺬي ﻋﺎش ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻟﺚ ً ﻣﺆرﺧﺎ ﻳﻔﺘﻘﺮ إﱃ اﻟﺒﺼرية ﻳﺒﺘﻠﻊ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﺼﺎدﻓﻪ ﻣﻦ رواﻳﺎت املﻴﻼدي( ﺣﻴﺚ ﻛﺎن دﻳﻮﺟني ﻛﺎﻟﺤﻮت ﻳﺒﺘﻠﻊ ﻓﺮﻳﺴﺘﻪ. وﻳﺠﺐ أﺧﺬ ﻫﺬه اﻟﺘﺤﺬﻳﺮات ﺑﻌني اﻻﻋﺘﺒﺎر ﻋﻨﺪ ﻣﻌﺎﻳﻨﺔ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف ﻃﺎﻟﻴﺲ املﻠﻄﻲ. اﺷﺘﻬﺮ ﻃﺎﻟﻴﺲ ﰲ ﺑﻼد اﻹﻏﺮﻳﻖ ﻟﻌﺪة أﺳﺒﺎب ،أﺷﻬﺮﻫﺎ ﻣﺎ ﻟﻢ ُ ﻳﻘﻢ ﺑﻪ ﰲ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻷﻣﺮ ،وﻫﻮ أﻧﻪ ﺗﻨﺒﱠﺄ ﺑﺤﺪوث ﻛﺴﻮف ﻟﻠﺸﻤﺲ ﻋﺎم ٥٨٥ق.م .ﺣﺪث ذﻟﻚ اﻟﻜﺴﻮف وﺳﻂ ﻣﻌﺮﻛﺔ ﺑني اﻟﺪوﻟﺘني املﺠﺎورﺗني ملﺪﻳﻨﺔ ﻣﻠﻄﻴﺔ ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ اﻟﴩق وﻫﻤﺎ اﻟﻠﻴﺪﻳﻮن واملﻴﺪﻳﻮن؛ ﻣﻤﺎ أﺿﺎف إﱃ اﻟﺒُﻌﺪ اﻟﺪراﻣﻲ ﻟﻸﻣﺮ وﺳﺎﻫﻢ ﰲ اﻟﺸﻬﺮة اﻟﻔﻜﺮﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﱠ ﺣﻘﻘﻬﺎ ﻃﺎﻟﻴﺲ .وﻗﺪ ﺗﺄﺛﺮ املﻘﺎﺗﻠﻮن ﺑﺤﺪوث ﻫﺬا اﻟﻜﺴﻮف أﺛﻨﺎء املﻌﺮﻛﺔ ﺣﺘﻰ إﻧﻬﻢ أﻟﻘﻮا أﺳﻠﺤﺘﻬﻢ وﺟﻨﺤﻮا ﻟﻠﺴﻠﻢ .وﻗﺪ ﺗﺄﺛﺮ اﻹﻏﺮﻳﻖ ﺑﺸﻜﻞ ﻋﺎ ﱟم ﺑﻬﺬه اﻟﻨﺒﻮءة اﻟﺘﻲ ﺑﺪا أن ﻃﺎﻟﻴﺲ املﻠﻄﻲ ﻗﺪ ﺗﻨﺒﺄ ﺑﻬﺎ؛ ﺣﺘﻰ إﻧﻬﻢ ﻧﺴﺒﻮا إﻟﻴﻪ ﻻﺣﻘﺎ ﻛﻤٍّ ﺎ ﻻ ﻳ َ ُﺼﺪ ُﱠق ﻣﻦ اﻟﺤِ َﻜﻢ اﻟﻠﻔﻈﻴﺔ واﻟﻔﻌﻠﻴﺔ واﻻﻛﺘﺸﺎﻓﺎت ،ﻣﻦ إﺛﺒﺎت اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻟﻬﻨﺪﺳﻴﺔ ،إﱃ اﻟﻘﺪرة ﻋﲆ ﺟﻤﻊ اﻟﺜﺮوات اﻟﻀﺨﻤﺔ .وأﻫﻢ ﻣﺎ ﰲ اﻷﻣﺮ أﻧﻬﻢ ﺻﺎروا ﻳﻜﻨﱡﻮن ﻟﻔﻜﺮه اﺣﱰاﻣً ﺎ ﻻ ﺣﺪود ﻟﻪ. ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ ﻟﻢ ﻳﺘﻨﺒﱠﺄ ﻃﺎﻟﻴﺲ ﺑﻨﺒﻮءة ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ ،ﺑﻞ ﻛﺎن اﻷﻣﺮ ﻣﺤﺾ اﻓﱰاض ﻣﺴﺘﻨري ﻣﺒﻨﻲ ﻋﲆ ﻣﻌﻠﻮﻣﺎت .ﻓﺄﻏﻠﺐُ اﻟﻈﻦ أن ﻃﺎﻟﻴﺲ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻳﻔﻬﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ ﻟﻜﺴﻮف اﻟﺸﻤﺲ؛ ﺣﺘﻰ إﻧﻪ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻳﻌﻠﻢ أن ﻟﻠﻘﻤﺮ أﻳ َﱠﺔ ﻋﻼﻗﺔ ﺑﺎﻷﻣﺮ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻟﺤﺴﻦ ﺣﻈﻪ ﻛﺎن ً رﺟﻼ رﺣﱠ ﺎﻟﺔ ،وﻫﺬا ﻣﺎ ﻳﻔﴪ ﺳﺒﺐ اﻓﱰاﺿﻪ املﺬﻛﻮر .ورﺑﻤﺎ ﻳﻜﻮن ﻗﺪ ا ﱠ ﻃﻠﻊ ﻋﲆ اﻟﺴﺠﻼت اﻟﺪﻗﻴﻘﺔ ﻟﺬوي اﻟﺒﺼرية ﻣﻦ املﻨﺠﱢ ﻤني اﻟﺒﺎﺑﻠﻴني ،وﻋﺮف ﻋﻦ دورة ﺗُﻤﻴﱢﺰ وﻗﺎﺋﻊ اﻟﻜﺴﻮف ﰲ املﺎﴈ، ﺣﻴﺚ ﻛﺎن ﻫﻨﺎك أﻋﻮام ﻣﺤﺪﱠدة ﻗﺪ ﻳﺤﺪث ﻓﻴﻬﺎ اﻟﻜﺴﻮف وأﻋﻮام أﺧﺮى ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺤﺪث ﻓﻴﻬﺎ .وأﻗﴡ ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن ﻗﺪ اﺳﺘﻨﺘﺠﻪ ﻃﺎﻟﻴﺲ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﺴﺠﻼت أن ﻫﻨﺎك ﻓﺮﺻﺔ ﻣﻜﺎن ﻣﺎ ﰲ وﻗﺖ ﻣﺎ ﺧﻼل ﻋﺎم ٥٨٥ق.م .وﻟﻮ ادﱠﻋﻰ ﻃﺎﻟﻴﺲ أﻛﺜﺮ ﻛﺒرية ﻟﺤﺪوث ﻛﺴﻮف ﰲ ٍ ً دﺟﺎﻻ. ﻣﻦ ذﻟﻚ ﻟﺮآه اﻟﻨﺎس وﻛﺎن ذﻟﻚ اﻟﻜﺴﻮف ﻓﺮﺻﺔ ﺳﺎﻧﺤﺔ ﻟﺘﺪﻋﻴﻢ ﻧﻈﺮة ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ .ﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أن ﻫﺆﻻء ﻛﺎﻧﻮا ﻣﻔ ﱢﻜﺮﻳﻦ ﻳُﻌﺘَ ﱡﺪ ﺑﻬﻢ .وﻗﺪ ﻳﺒﺪو ذﻟﻚ ﻏﺮﻳﺒًﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﻨﻈﺮ املﺮء ﻟﻠﺘﻔﺎﺻﻴﻞ املﺘﺒﻘﻴﺔ 25
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻃﺎﻟﻴﺲ.
ﻣﻦ آراﺋﻬﻢ؛ ذﻟﻚ أن اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت املﻨﺴﻮﺑﺔ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻳُﻌﻮﱠل ﻋﻠﻴﻬﺎ إﱃ ﻃﺎﻟﻴﺲ ﺗﺆﻛﺪ أن أﺣﺠﺎر املﻐﻨﺎﻃﻴﺲ إﻧﻤﺎ ﻫﻲ ﻛﺎﺋﻨﺎت ﺣﻴﺔ وأن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻣﺼﻨﻮع ﻣﻦ املﺎء .رﺑﻤﺎ ذﻛﺮ ﻃﺎﻟﻴﺲ ً أﻳﻀﺎ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻷﻣﻮر اﻟﺘﻲ ﺗﺄﺗﻲ ﰲ ﻣﺮﺗﺒﺔ أﻗﻞ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻟﺘﺨﻤﻴﻨﻴﺔ؛ ﻣﻤﱠ ﺎ أﻛﺴﺒﻪ ُﺳﻤﻌﺔ وﺻﻴﺘًﺎ ﺑني أﻗﺮاﻧﻪ ﺑﻮﺻﻔﻪ ً رﺟﻼ ذا ﻣﻌﺮﻓﺔ ﻋﻤﻠﻴﺔ .وإذا ﻧﻈﺮﻧﺎ إﱃ ﻫﺎﺗني اﻟﻔﻜﺮﺗني اﻟﺠﺎﻣﺤﺘني ﰲ ﺳﻴﺎﻗﻬﻤﺎ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ،ﻧﺠﺪ أﻧﻬﻤﺎ ﺗﺴﺘﺤﻘﺎن ﺑﻌﺾ اﻻﺣﱰام. ﻟﻨﻨﻈﺮ إﱃ ﻣﺴﺄﻟﺔ املﺎء ً أوﻻ .ﻣﻦ اﻟﺨﺼﺎﺋﺺ املﻤﻴﺰة ملﺎ ﻧﻄﻠﻖ ﻋﻠﻴﻪ اﻵن اﻟﺘﻔﺴري اﻟﻌﻠﻤﻲ ﻟﻸﻣﻮر أن ﻳﻜﻮن ﺑﺴﻴ ً ﻄﺎ ﻗﺪر اﻹﻣﻜﺎن ،وﻟﻜﻦ ﻃﺎﻟﻴﺲ ﺗﺠﺎوز ﺗﻠﻚ اﻟﻨﻘﻄﺔ وﺣﺎول اﺧﺘﺰال ﻛﻞ اﻷﻣﻮر ﰲ أﻣﺮ واﺣﺪ ﻓﻘﻂ وﻫﻮ املﺎء .وﻳﺒﺪو أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﺘﻤﻜﻦ ﻣﻦ اﻟﻮﺻﻮل ﻓﻌﻠﻴٍّﺎ ﻷﻳﺔ ﺗﻔﺴريات ﺗﻘﻮم ﻋﲆ املﺎء ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﻳﻌﻴﺶ ﺑﻬﺎ .إﻻ أﻧﻪ ﰲ ﺑﺤﺜﻪ ﻋﻦ ﻣﺎدة ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ ﻳﻤﻜﻨﻬﺎ ﺗﻮﺣﻴﺪ ﻇﻮاﻫﺮ اﻟﻌﺎﻟﻢ وﺗﺒﺴﻴﻄﻬﺎ ﻛﺎن ﻳﺴﻌﻰ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ وراء املﻌﺮﻓﺔ ً ﻋﻮﺿﺎ ﻋﻦ ﺗﻌﻘﻴﺪ اﻷﻣﻮر ﻣﻦ ﺧﻼل اﻻﺳﺘﻌﺎﻧﺔ ﰲ ﺗﻔﺴريه ﻓﻴﻤﺎ ﻧﻌﺘﱪه اﻵن املﻜﺎن اﻟﺼﺤﻴﺢ، ﺑﺎﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻵﻟﻬﺔ. 26
اﻟﻨﻤﻮذج اﻷﺻﲇ :املﻠﻄﻴﻮن
ﺑﺸﻜﻞ وﻟﻴﺲ واﺿﺤً ﺎ ﻣﺎ إذا ﻛﺎن ﻃﺎﻟﻴﺲ ﻳﻘﺼﺪ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ أن ﻛﻞ ﳾء ﻳﺘﻜﻮن ﻣﻦ املﺎء ٍ ﻣﺎ أم أن املﺎء ﻳﺸﻜﻞ أﺻﻞ ﻛﻞ ﳾء ،ورﺑﻤﺎ ﻗﺼﺪ ﻛﻠﻴﻬﻤﺎ .وﻣﻦ املﻔﺎرﻗﺎت اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ ﻏري املﻀ ﱢﻠﻠﺔ أن ﱠ ﻳﻔﴪ ﻣﺎ ﻳﺮﻣﻲ إﻟﻴﻪ ﻃﺎﻟﻴﺲ — ﻛﻤﺎ ﻗﺎل أرﺳﻄﻮ — ﺑﺄن املﺎء ﻫﻮ اﻷﺻﻞ ،arche وﻫﻮ ﻣﺼﻄﻠﺢ اﺳﺘﺨﺪﻣﻪ ﺑﻌﺾ املﻔ ﱢﻜﺮﻳﻦ اﻟﻼﺣﻘني ،ﻟﻴﺲ ﺑﻤﻌﻨﻰ أﺻﻞ اﻷﺷﻴﺎء ﻓﺤﺴﺐ ﺑﻞ ٍ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﺎ وﻳﻌﻮد إﻟﻴﻬﺎ ﻛﻞ ﳾء ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ. املﺎدة اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺘﻜﻮن ﻣﻨﻬﺎ ﻛﻞ ﳾء وأﻳٍّﺎ ﻛﺎن اﻟﺘﻔﺴري ،ﻟﻢ ﻳﻜﻦ املﺎء ﺧﻴﺎ ًرا ﺳﻴﺌًﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻄﺎﻟﻴﺲ؛ ﻓﻌﲆ اﻟﻨﻘﻴﺾ ﻣﻦ ً أﺷﻜﺎﻻ ﻣﺘﻌﺪدة ﻛﺎﻟﺜﻠﺞ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻷﺧﺮى اﻟﺸﺎﺋﻌﺔ ﻛﺎﻷرض واﻟﻨﺎر ،ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻤﺎء أن ﻳﺘﺨﺬ أو اﻟﺒﺨﺎر؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻳﺒﺪو ﻋﻨﴫًا ﻧﺸ ً ﻄﺎ ﻣﺘﻌﺪد اﻻﺳﺘﺨﺪاﻣﺎت .وﻋﻨﺪﻣﺎ اﻗﱰح أرﺳﻄﻮ أﺳﺒﺎﺑًﺎ أﻳﻀﺎ أن ﻟﻠﻤﺎء ارﺗﺒﺎ ً ﻆ ً ﻟﺘﻔﻀﻴﻞ ﻃﺎﻟﻴﺲ ﻟﻠﻤﺎء ﻻﺣَ َ ﻃﺎ ﺷﺪﻳﺪًا ﺑﺎﻟﺤﻴﺎة ،ﻓﺎﻟﻄﻌﺎم واﻟﺪم وا َملﻨِﻲ ﻛﻠﻬﺎ ﺗﺤﺘﻮي ﻋﲆ املﺎء ،واﻟﻨﺒﺎت واﻟﺤﻴﻮان ﻛ ﱞﻞ ﻳﺘﻐﺬى ﻋﲆ املﺎء ،واﻟﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﺤﻴﺔ ﺗﻤﻴﻞ ﻧﺤﻮ اﻟﺮﻃﻮﺑﺔ إﱃ ﺣَ ﱟﺪ ﻣﺎ وﻳﺼﻴﺒﻬﺎ اﻟﺠﻔﺎف ﻋﻨﺪ املﻮت .ﻛﻤﺎ أن اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺘﻔﺴريات اﻷﺳﻄﻮرﻳﺔ ً رﺋﻴﺴﺎ ﻟﻠﻤﺎء ﺣﻴﺚ ﺳﻄﺮ اﻟﺒﺎﺑﻠﻴﻮن وﻗﺪﻣﺎء املﴫﻳني أﺳﺎﻃري ﻋﻦ اﻟﺨﻠﻖ ﻟﻠﻜﻮن ﺗﻌﻄﻲ دو ًرا ﻳﻠﻌﺐ ﻓﻴﻬﺎ املﺎء دو ًرا ﺑﺎر ًزا ،وﻫﻮ أﻣﺮ ﻟﻴﺲ ﺑﻐﺮﻳﺐ؛ ﻷن ﻛﻠﺘﺎ اﻟﺤﻀﺎرﺗني اﻋﺘﻤﺪﺗﺎ ﻋﲆ اﻷﻧﻬﺎر اﻟﺘﻲ اﺳﺘﻘﺮ ﺣﻮﻟﻬﺎ اﻟﻨﺎس .وﰲ ﻣﻼﺣﻢ ﻫﻮﻣريوس )ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻣﻦ ﻗﺒﻞ املﻴﻼد( ﻛﺎن أوﻗﻴﺎﻧﻮس اﻟﺬي ﻳﺠﺴﺪ املﺎء املﺤﻴﻂ ﺑﺴﻄﺢ اﻷرض اﻟﺪاﺋﺮي ﻫﻮ واﻫﺐ اﻟﺤﻴﺎة ورﺑﻤﺎ ً وﻃﺒﻘﺎ ملﺎ ذﻛﺮه ﺑﻠﻮﺗﺎرخ )ﺣﻮاﱄ ،(١٢٠–٤٦ﻛﺎن اﻟﻜﻬﻨﺔ املﴫﻳﻮن ﻛﺎن ﻣﻨﺠﺐ ﻛﻞ اﻵﻟﻬﺔ. ﻳﺤﺒﻮن اﻹﺷﺎرة إﱃ أن ﻫﻮﻣريوس وﻃﺎﻟﻴﺲ ﻗﺪ اﺳﺘﻤﺪﱠا أﻓﻜﺎرﻫﻤﺎ ﺣﻮل املﺎء ﻣﻦ ﻣﴫ. ورﺑﻤﺎ ﻋﻠﻢ ﻃﺎﻟﻴﺲ ﺑﺎﻷﺳﺎﻃري املﴫﻳﺔ واﻟﺒﺎﺑﻠﻴﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ،إﻻ أن ﻫﺬا ﻻ ﻳﻌﻨﻲ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻣﺮددًا ﻟﻬﺎ وﺣﺴﺐ أو ﺣﺘﻰ إﻧﻪ اﺳﺘﻤﺪﱠﻫﺎ ﻣﻨﻬﻤﺎ ،ﺑﻞ رﺑﻤﺎ ﺗﻜﻮن اﻷﺳﺎﻃري وﺗﺄﻣﻼﺗﻪ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﻗﺪ ﻧﺸﺄت ﻋﻦ وﻋﻲ ﺑﻔﺎﻋﻠﻴﺔ املﺎء وﺗﻌﺪﱡد اﺳﺘﺨﺪاﻣﺎﺗﻪ وﺗﻐﻠﻐﻠﻪ ﰲ ﺟُ ﱢﻞ ﻋﻤﻠﻴﺎت اﻟﺤﻴﺎة .ﻛﻤﺎ أن ﻃﺎﻟﻴﺲ ﻗﺪ اﺳﺘﻔﺎد ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻮﻋﻲ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻛﻞ اﻻﺧﺘﻼف؛ إذ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ املﺎء ﻟﺪﻳﻪ ﺷﻘﻴﻖ اﻹﻟﻬﺔ ﺗﻴﺜﻴﺲ وزوﺟﻬﺎ ،ﻛﻤﺎ ﻛﺎن أوﻗﻴﺎﻧﻮس ﰲ »ﻣﻼﺣﻢ ﻫﻮﻣريوس« ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻛﺬﻟﻚ ﱠ ﺧﻠﻴ ً املﺸﺨﺼﺔ ﰲ ﻋﻠﻢ اﻟﻜﻮن اﻟﺒﺎﺑﲇ وﻫﻢ أﺑﺴﻮ وﺗﻴﺎﻣﺎت وﻣﻮﻣﻮ ﻄﺎ ﻣﻦ أﻧﻮاع املﺎء اﻟﺜﻼﺛﺔ اﻟﺬﻳﻦ أوﺟﺪوا اﻵﻟﻬﺔ ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻛﺬﻟﻚ ﻧﻮن — املﺎء اﻟﺒُﺪاﺋﻲ اﻟﺬي ﻛﺎن أﺑًﺎ ﻹﻟﻪ اﻟﺸﻤﺲ ﰲ اﻟﺼﺒﺎح ﰲ اﻷﺳﻄﻮرة املﴫﻳﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ — ﺑﻞ ﻫﻮ ﻣﺎء ﻃﺒﻴﻌﻲ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻤﺮء اﻟﺴﺒﺎﺣﺔ ﻓﻴﻪ أو ﺗﻨﺎوُﻟﻪ ،وﻫﻮ ﻻ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺄﻳﺔ آﻟﻬﺔ ﻣﺠﺴﺪة ﺳﻮاء ﺑﺎملﻴﻼد أو ﺑﺎﻟﺰواج. وﺛﻤﺔ ﻓﺮق آﺧﺮ ﺑني ﻃﺎﻟﻴﺲ وﻣﻦ ﺳﺒﻘﻪ ﻣﻦ ُ ﺻﻨﱠﺎع اﻷﺳﺎﻃري ،أﻻ وﻫﻮ أﻧﻪ رﺑﻤﺎ ﻳﻜﻮن أﺳﺒﺎب ﻟﺒﻌﺾ أﻗﻮاﻟﻪ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ؛ ﻓﻘﺪ رأى أن اﻷرض ﺗﺮﺗﻜﺰ ﻃﺎﻟﻴﺲ ﻗﺪ ﺷﻌﺮ ﺑﴬورة ذﻛﺮ ٍ 27
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻋﲆ املﺎء ،وﻳﺒﺪو أﻧﻪ ﻗﺎل ذﻟﻚ »ﻷﻧﻬﺎ ﺗﻄﻔﻮ ﻛﺎﻟﺨﺸﺐ واملﻮاد املﺸﺎﺑﻬﺔ ﺑﻤﺎ ﻳﻤﻜﻨﻬﺎ ﻣﻦ اﻻرﺗﻜﺎز ﻋﲆ املﺎء وﻟﻴﺲ ﻋﲆ اﻟﻬﻮاء «.ﻛﺎﻧﺖ ﻗﻀﻴﺔ ارﺗﻜﺎز اﻷرض ﻣﻦ أﻛﺜﺮ اﻷﺳﺌﻠﺔ اﻟﺘﻲ ً وﺑﺪﻻ ﻣﻦ اﻹﴏار ﻋﲆ ﺗﻔﺴري دوﺟﻤﺎﺋﻲ، ﺳﻌﻰ ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺟﺎﻫﺪﻳﻦ إﱃ اﻹﺟﺎﺑﺔ ﻋﻨﻬﺎ. ﻳﺒﺪو أن ﻃﺎﻟﻴﺲ ﺣﺎول اﻟﺘﻔﻜري ﰲ اﻷﻣﺮ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﻨﻄﻘﻴﺔ؛ ﻓﺎملﺎء ﻳﻤﻜﻨﻪ ﺣﻤﻞ ﺑﻌﺾ اﻷﺷﻴﺎء ﻛﺄﻟﻮاح اﻟﺨﺸﺐ ،وﻛﺬﻟﻚ ﻗﺪ ﻳﺤﻤﻞ اﻷرض ذاﺗﻬﺎ .وﻟﻜﻦ أرﺳﻄﻮ ﻟﻢ ﻳَﻨْﺒ َِﻬ ْﺮ ﺑﺬﻟﻚ اﻻﺳﺘﺪﻻل، ﺑﻞ أوﺿﺢ أﻧﻪ إذا ﻛﺎﻧﺖ اﻷرض ﺑﺤﺎﺟﺔ ملﺎ ﺗﺮﺗﻜﺰ ﻋﻠﻴﻪ ﻓﺎﻷﻣﺮ ﻧﻔﺴﻪ ﻳﻨﻄﺒﻖ ﻋﲆ املﺎء اﻟﺬي ﻳُﺰﻋﻢ أﻧﻪ ﻳﺤﻤﻞ اﻷرض .وﻫﻜﺬا ﻟﻢ ﻳ ُِﺠﺐْ ﻃﺎﻟﻴﺲ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﻋﲆ اﻟﺴﺆال .وﺛَﻤﱠ َﺔ اﻋﱰاض ﻗﻮي آﺧﺮ ﻋﲆ ﻣﻨﻄﻖ ﻃﺎﻟﻴﺲ وﻫﻮ أن أﻟﻮاح اﻟﺨﺸﺐ ﻗﺪ ﺗﻄﻔﻮ وﻟﻜﻦ ﺑﻌﺾ اﻷﺷﻴﺎء اﻷﺧﺮى ﻻ ﺗﻄﻔﻮ ،ﻓﻠﻤﺎذا إذن ﻧﻔﱰض أن ﺗﻄﻔﻮ اﻷرض ﻛﻠﻮح اﻟﺨﺸﺐ وﻻ ﺗﻐﺮق ﻛﺎﻟﺤﺠﺮ؟ وﻟﻜﻦ ﺣﺘﻰ ﺗﻠﻚ اﻟﻬﺰﻳﻤﺔ اﻧﻘﻠﺒﺖ ﻧﴫً ا ﻟﻄﺎﻟﻴﺲ ،ﻓﻜﻲ ﻧﺪﺣﺾ أﻓﻜﺎره ﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﺠﺎدﻟﻪ ﺑﺎملﻨﻄﻖ ،وﻫﻲ إﺷﺎدة ﻣﺎ ُﻛﻨﱠﺎ ﻟﻨﻔﻜﺮ ﰲ ﺗﻘﺪﻳﻤﻬﺎ ﻟﻠﻜﻬﻨﺔ املﴫﻳني. ورﺑﻤﺎ ﻳﺴﺘﺤﻖ ﻃﺎﻟﻴﺲ اﻹﺷﺎدة ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻟﺰﻋﻤﻪ أن املﻐﻨﺎﻃﻴﺲ واﻟﻜﻬﺮﻣﺎن ﻛﺎﺋﻨﺎت ﺣﻴﺔ )أو ذات روح ،ﺣﻴﺚ ﺗﺸري ﻫﺎﺗﺎن اﻟﺼﻔﺘﺎن إﱃ اﻟﴚء ﻧﻔﺴﻪ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺤﺎﴐ( .ﻓﻘﺪ ﻻﺣﻆ أﻧﻬﺎ ﺗﺘﻤﺘﻊ ﺑﺎﻟﻘﺪرة ﻋﲆ ﺗﺤﺮﻳﻚ ﺑﻌﺾ اﻷﺷﻴﺎء اﻷﺧﺮى وﺗﺤﺮﻳﻚ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺑﺎﺗﺠﺎه ﺗﻠﻚ اﻷﺷﻴﺎء، وﺣﺎول ﺗﻔﺴري ﻫﺬا اﻟﻠﻐﺰ ﺑﺎﻗﱰاح ﱠ أن ﺑﻬﺎ ﻧﻮﻋً ﺎ ﻣﻦ اﻟﺤﻴﺎة ،ﻓﺎﻟﺤﺮﻛﺔ اﻟﺘﻠﻘﺎﺋﻴﺔ ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﺗُﻌَ ﱡﺪ إﺣﺪى ﻋﻼﻣﺎت اﻟﺤﻴﺎة .وﻧﺤﻦ ﻧﺨﺘﻠﻒ ﻣﻊ ﻃﺎﻟﻴﺲ ﰲ أن اﻟﻘﺪرة ﻋﲆ إﺣﺪاث اﻟﺤﺮﻛﺔ ﻻ ﺗﻜﻔﻲ وﺣﺪﻫﺎ ﻹﺳﺒﺎغ ﺻﻔﺔ اﻟﺤﻴﺎة ﻋﲆ اﻟﺤﺠﺮ ،وﻟﻜﻦ ﻫﺬا ﻻ ﻳﻌﻨﻲ أن ﻧﺘﺠﺎﻫﻞ ﺗﺄﻣﱡ ﻼﺗﻪ ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ ٌ ﺗﻌﺮﻳﻒ دﻗﻴﻖ ﻟﻠﺤﻴﺎة ،وﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻊ ﴐﺑًﺎ ﻣﻦ اﻟﻌَ ﺘَ ِﻪ .وﺣﺘﻰ اﻟﻴﻮم ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﺑني أﻳﺪﻳﻨﺎ ﻗﺒﻞ املﻴﻼد ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻫﻨﺎك إﻻ ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن َ ﻳﻮﺻﻒ ﺑﺎﻟﺘﻌﺮﻳﻒ اﻟﻐﺎﻣﺾ ﻟﻬﺎ .وﻫﻜﺬا ﻗﺪ ﺗﺼﺒﺢ ﻓﻜﺮة ﻃﺎﻟﻴﺲ اﻟﺘﻲ ﺗﺒﺪو ﺷﺎذة ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ ﻟﻌﻘﻞ ﻓﻀﻮﱄ ﻛﺜري اﻟﺴﺆال ﰲ وﻗﺖ ﻟﻢ ﻳﻔﻬﻢ اﻟﻨﺎس ﻓﻴﻪ ﻣﻦ اﻷﻣﻮر إﻻ ً ﻗﻠﻴﻼ. وﻗﺒﻞ أن ﻧﱰك ﻃﺎﻟﻴﺲ ﺟﺎﻧﺒًﺎ وﻧﺴﺘﻌﺮض ﻓﻼﺳﻔﺔ آﺧﺮﻳﻦ ﻣﻦ املﻠﻄﻴني ،ﺛﻤﺔ ﻃﺮﻓﺔ ﻋﻨﻪ ﺗﺴﺘﺤﻖ أن ﺗُ ْﺮوَى ﺣﺘﻰ وإن ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻦ ﻛﺘﺎﺑﺎت دﻳﻮﺟني ﻟريﺗﻴﻮس: ﻳﻘﺎل إﻧﻪ ذات ﻣﺮة ﻋﻨﺪﻣﺎ اﺻﻄﺤﺒﺘﻪ اﻣﺮأة ﻋﺠﻮز ﰲ اﻟﻬﻮاء اﻟﻄﻠﻖ ﻛﻲ ﻳﺮاﻗﺐ اﻟﻨﺠﻮم ﺳﻘﻂ ﰲ ﺧﻨﺪق ،وﻋﻨﺪﻣﺎ أﺧﺬ ﻳﴫخ ﻃﺎﻟﺒًﺎ اﻟﻨﺠﺪة ﺳﺎرﻋﺖ اﻟﻌﺠﻮز ﻗﺎﺋﻠﺔ» :أﻧﱠﻰ ﻟﻚ أن ﺗﻌﻠﻢ ﻛﻞ ﳾء ﻋﻦ اﻟﺴﻤﺎء ﻳﺎ ﻃﺎﻟﻴﺲ وأﻧﺖ ﻻ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﺗﺮى ﻣﺎ ﺗﺤﺖ ﻗﺪﻣﻴﻚ؟« 28
اﻟﻨﻤﻮذج اﻷﺻﲇ :املﻠﻄﻴﻮن
وإذا ﺻﺤﺖ ﺗﻠﻚ اﻟﺮواﻳﺔ ﻓﺈن ﻃﺎﻟﻴﺲ ﻻ ﻳﺴﺘﺤﻖ املﻄﺎﻟﺒﺔ ﺑﻠﻘﺐ أول اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻓﺤﺴﺐ، ﺷﺎردي اﻟﺬﻫﻦ .وﻋﲆ أﻳﺔ ﺣﺎل ،ﻓﺈن ﺗﻠﻚ اﻟﺮواﻳﺔ ﺗﺸﻬﺪ ﺑﺤﻘﻴﻘﺔ ﺑﻞ ﺑﻠﻘﺐ أول اﻷﺳﺎﺗﺬة ِ اﺳﺘﻤﺘﺎع اﻟﻨﺎس ﺑﺎﻟﺮﺑﻂ ﺑني اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ واﻻﻧﻔﺼﺎل ﻋﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ .وﻳﺮوي ﺳﻘﺮاط ﻧﺴﺨﺔ أﺧﺮى ﻣﻦ اﻟﺮواﻳﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻋﻦ ﻃﺎﻟﻴﺲ ﰲ إﺣﺪى ﻣﺤﺎورات أﻓﻼﻃﻮن .وﰲ ﻣﴪﺣﻴﺔ »اﻟﺴﺤﺐ« ﻳﻘﺺ أرﺳﻄﻮﻓﺎن ﻧﺴﺨﺔ ﻣﺸﺎﺑﻬﺔ وﻟﻜﻨﻬﺎ أﺷﺪ ﻗﺴﻮة ﻣﻦ اﻟﺮواﻳﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻋﻦ ﺳﻘﺮاط ذاﺗﻪ. ﻟﻘﺪ ﻛﺎن اﻹﻏﺮﻳﻖ ﻳﻘﺪﱢرون اﻟﻨﻈﺎم اﻟﻌﻘﲇ وﻳﺴﻌَ ﻮْن إﱃ إﻳﺠﺎده أﻳﻨﻤﺎ أﻋﻮزﻫﻢ ،وﻫﻮ أﺣﺪ اﻷﺳﺒﺎب اﻟﺘﻲ دﻋﺖ اﻵﺧﺮﻳﻦ ﻟﺪراﺳﺘﻬﻢ .وﻣﻦ ﻣﻈﺎﻫﺮ ﺗﻠﻚ اﻟﺮﻏﺒﺔ ﰲ اﻟﱰﺗﻴﺐ املﺤﻜﻢ ﻟﻸﻣﻮر ﻣﺎ ﻧﺠﺪُه ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﺳﺠﻠﻮا ﺑﻬﺎ ﺗﺎرﻳﺨﻬﻢ .ﻓﻔﻲ املﺼﺎدر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺮوي ﻗﺼﺔ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻧﺠﺪ ﺳﻠﺴﻠﺔ ﻛﺒرية ﻣﻦ اﻷﺳﺎﺗﺬة واﻟﻄﻼب ،وﻛ ﱞﻞ ﻣﻨﻬﻢ ﻳﺴﻠﻢ ﺷﻌﻠﺔ املﻌﺮﻓﺔ إﱃ ورﻳﺚ ﻣﺤﺪﱠد .وﻫﻜﺬا أﻃﻠﻖ املﻠﻄﻴﻮن ﻋﲆ أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر )ﺣﻮاﱄ ٥٤٦–٦١٠ق.م( — وﻫﻮ ﻣﻮاﻃﻦ ﻣﻠﻄﻲ أﺻﻐﺮ ﺳﻨٍّﺎ ً ﻗﻠﻴﻼ ﻣﻦ ﻃﺎﻟﻴﺲ — ﻟﻘﺐ »ﺗﻠﻤﻴﺬ ﻃﺎﻟﻴﺲ وﺧﻠﻴﻔﺘﻪ« رﻏﻢ أﻧﻪ ﻗﺪ ﻻ ﻳﻜﻮن ﺗﺘﻠﻤﺬ ﻋﲆ ﻳﺪﻳﻪ ً أﺻﻼ .وﻋﲆ ﻏﺮار ﻃﺎﻟﻴﺲ ،ﻛﺎن أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر ﻣﻮﺳﻮﻋﻲ املﻌﺎرف، ورﻏﻢ أﻧﻪ ﻟﻢ ﱠ ﻳﺘﺒﻖ ﻟﻪ ﻣﻤﱠ ﺎ ﻛﺘﺒﻪ ﺳﻮى ﺟﺰء ﻣﻦ ﻋﺒﺎرة واﺣﺪة ﻓﻘﻂ ﻣﻦ ﻛﺘﺎب »ﻋﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ« ﻓﺜﻤﺔ أدﻟﺔ ﻛﺎﻓﻴﺔ ﻋﲆ أﻧﻪ أ ﱠﻟﻒ ﻛﺘﺎﺑًﺎ ﺑﻬﺬا اﻻﺳﻢ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ )ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ( وأن ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب ﻗﺪ ﻏﻄﻰ ﻛﻞ ﳾء ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ،ﺑﻞ إﻧﻪ رﺳﻢ أول ﺧﺮﻳﻄﺔ ﻣﻌﱰَف ﺑﻬﺎ ﻟﻸﺟﺰاء املﻌﻠﻮﻣﺔ ﻣﻦ اﻷرض آﻧﺬاك .أﻣﺎ ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﻌﻠﻤﻪ ﺣﻮل اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ — وﻫﻮ ﺑﺎﻟﻄﺒﻊ ﻗﺪر ﻛﺒري — ﻓﻘﺪ اﺧﺘﻠﻘﻪ. وﻻ ﻳﻌﻨﻲ ذﻟﻚ أن اﻟﺮﺟﻞ ﻛﺎن ﻛﺎذﺑًﺎ ،ﺑﻞ أﻧﻪ ﺣﺎول اﻟﺘﻔﻜري ﰲ اﻷﻣﻮر وﺣﻠﻬﺎ ﺑﻨﻔﺴﻪ، وأﻧﻪ ﺗﺄﻣﻞ ﻣﻠﻴٍّﺎ ﰲ ﻧﺸﺄة اﻟﻜﻮن وﻣﺂﻟﻪ واملﺒﺎدئ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﻜﻢ اﻟﻌﻤﻠﻴﺎت اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ وﺗﺮﻛﻴﺐ اﻟﺸﻤﺲ واﻟﻘﻤﺮ واﻟﻨﺠﻮم وﺗﻄﻮر اﻟﺤﻴﺎة واﻟﻄﻘﺲ واﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻷﻣﻮر اﻷﺧﺮى ،ﻛﻤﺎ و ﱠ ﻇﻒ ﺑﻌﺾ اﻟﺼﻮر واﻷﻓﻜﺎر اﻷﺧﺮى املﺸﺎﺑﻬﺔ ﻟﺘﻔﺴري ﻛﻞ ﻣﺎ ﺷﺎﻫﺪه ﻣﻦ أﻣﻮر ،وﻟﻜﻦ ﻳﺒﺪو أن ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳَ َﺮ ُه ﻛﺎن أﻛﺜﺮ أﻫﻤﻴﺔ ﻣﻤﱠ ﺎ رآه .وﻗﺪ أدرك أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر أن أﻓﻀﻞ ﺗﻔﺴري ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ً وﻋﻮﺿﺎ أن ﻳﻌﺘﻤﺪ داﺋﻤً ﺎ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻧﻼﺣﻈﻪ ﻣﺒﺎﴍة ،وﻟﻜﻨﻪ ﻳﺘﻄﻠﺐ اﻟﻐﻮص ﰲ اﻷﻋﻤﺎق أﻛﺜﺮ. ﻋﻦ املﺎء ﻋﻨﺪ ﻃﺎﻟﻴﺲ ،اﻓﱰض أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر وﺟﻮد أﺻﻞ ﺧﻔﻲ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ؛ أو ﻣﺎدة أﺳﺎﺳﻴﺔ ُ ﺻﻨﻊ ﻣﻨﻬﺎ .وإذا ﻛﺎﻧﺖ ﻓﻠﺴﻔﺔ ﻃﺎﻟﻴﺲ ﻗﺪ ﺗﻌ ﱠﺮﺿﺖ ﻷﺣﺪ املﻈﺎﻫﺮ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻟﻠﺘﻔﻜري اﻟﻌﻠﻤﻲ ﱡ وﺗﻐريﻫﺎ ،ﻓﺈن أﻋﻤﺎل أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر ﱠ ﺟﺴﺪت وﻫﻮ اﻟﺤﺎﻓﺰ ﻟﺘﺒﺴﻴﻂ اﻟﻈﻮاﻫﺮ املﺪ َرﻛﺔ ﺑﺎﻟﺤﻮاس ﻣﻈﻬ ًﺮا آﺧﺮ ﻻ ﻳﻘﻞ ﻋﻨﻪ أﻫﻤﻴﺔ ،أﻻ وﻫﻮ أن اﻟﻌﻠﻢ ﻳﺆﻛﺪ أﻧﻪ ﺛﻤﺔ اﻟﻜﺜري ﰲ ﻫﺬا اﻟﻌﺎﻟﻢ أﻛﺜﺮ ﻣﻤﱠ ﺎ ﺗﺮاه اﻟﻌني. 29
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
وأﻃﻠﻖ أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر ﻋﲆ ﻣﺎدﺗﻪ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ اﺳﻢ apeironأو »املﻄﻠﻖ« ﺑﻤﻌﻨﻰ »ﻏري املﺤﺪود« ،وﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﱰﺟﻢ إﱃ »اﻟﻼﻧﻬﺎﺋﻲ« ،وﻟﻜﻦ ﻫﺬا ﻳﺠﻌﻞ أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر ﻳﺒﺪو ﻏﺎﻣﻀﺎ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ اﻟﻼزم .وﻻ رﻳﺐ أﻧﻪ َ ً ﻇ ﱠﻦ املﻮاد اﻟﺨﺎم ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ ﻏري ﻣﺤﺪودة ﺑﻤﻌﻨﻰ أﻧﻬﺎ »ﻛﺒرية ﺟﺪٍّا« ،ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻛﻮﺻﻒ ﻫﻮﻣريوس املﺤﻴﻂ ﺑﺄﻧﻪ »ﻏري ﻣﺤﺪود« ،وﻟﻜﻦ أﻛﺜﺮ ﻣﺎ ﻋُ ﻨﻲ ﺑﻪ أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر ﻫﻮ أن املﺎدة اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ أﻳٍّﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻳﺠﺐ ﱠأﻻ ﺗﻜﻮن ﰲ ﺣَ ﱢﺪ ذاﺗﻬﺎ ذات ﺧﺼﺎﺋﺺ ﻳﻤﻜﻦ إدراﻛﻬﺎ ﺑﺎﻟﺤﻮاس ﺣﺘﻰ ﻳﺘﺴﻨﱠﻰ ﺗﻔﺴري ﻛﻞ اﻟﻈﻮاﻫﺮ املﺪرﻛﺔ ﺑﺎﻟﺤﻮاس ً وﻓﻘﺎ ﻟﻬﺎ. وﻻﺣَ َ َ ﻆ أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر أن اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ إدراﻛﻬﺎ ﺑﺎﻟﺤﻮاس ﺗﺄﺗﻲ ﰲ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﻣﺘﻀﺎدة ﻛﺎﻟﺴﺎﺧﻦ واﻟﺒﺎرد أو اﻟﺮﻃﺐ واﻟﺠﺎف ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ،وﻫﺬه اﻟﻌﻨﺎﴏ — ﻛﻤﺎ ﻳﻄﻠﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ — ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﴏاع داﺋﻢ .وﻋﻦ ذﻟﻚ ﻳﻘﻮل ﻓﻴﻤﺎ ﺗﺒﻘﻰ ﻣﻦ ﻛﻠﻤﺎﺗﻪ» :إﻧﻬﺎ ﺗﻌﺎﻗﺐ ﺑﻌﻀﺎ ﻋﲆ اﻟﻈﻠﻢ اﻟﺬي ﺗﻘﱰﻓﻪ ً ﺑﻌﻀﻬﺎ ً ﻃﺒﻘﺎ ﻟﺘﻘﻴﻴﻢ اﻟﺰﻣﻦ «.وﻳﺒﺪو أن ﻓﻜﺮﺗﻪ ﺗﺘﻠﺨﺺ ﰲ أن اﻷﺷﻴﺎء ﺗﻌﺘﺪي ﻋﲆ ﺑﻌﻀﻬﺎ )ﻣﺮﺗﻜﺒﺔ »اﻟﻈﻠﻢ«( وﺗﺘﺒﺎدل أدوار اﻟﻀﺤﻴﺔ واملﻌﺘﺪي املﻨﺘﻘﻢ ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﻠﻌﺐ اﻟﺰﻣﻦ دور اﻟﺤ َﻜﻢ .وﻳﻘﴤ اﻟﺰﻣﻦ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل أن ﺗﴩب اﻟﻈﻠﻤﺎت واﻟﻨﻮر ُ ﺗﻌﺎﻗﺐ اﻟﻠﻴﻞ ﻣﻦ ﻛﺄس اﻟﻈﻠﻢ املﺬﻛﻮر ﻗﺪ ًرا ﻣﺘﺴﺎوﻳًﺎ .وﻧﺤﻦ ﻧﺮى ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻫﺬا اﻟﴫاع ﰲ واﻟﻨﻬﺎر .وﺛﻤﺔ ﴏاﻋﺎت أﺧﺮى ﺗﺪور ﻟﻴ َﻞ ﻧﻬﺎر ﰲ ﻟﻌﺒﺔ »ﺣﺠﺮ – ورق – ﻣﻘﺺ« ﻛﻮﻧﻴﺔ، ﻓﺄﺣﻴﺎﻧًﺎ ﺗﻬﺎﺟﻢ اﻟﻨريا ُن املﺎءَ ﻓﺘﻌﻤﻞ ﻋﲆ ﺗﺒﺨريﻫﺎ ،وأﺣﻴﺎﻧًﺎ أﺧﺮى ﻳﺮد املﺎء ﺑﺈﺧﻤﺎد اﻟﻨريان. وﻳﺘﻜﺮر ﻣﻔﻬﻮم اﻟﻌﻨﺎﴏ املﺘﺼﺎرﻋﺔ اﻟﺬي ﻳﻈﻬﺮ ﻷول ﻣﺮة ﻋﻨﺪ أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر ﻛﺜريًا ﰲ اﻷدب اﻟﻐﺮﺑﻲ ﻣﺜﻞ ﻗﻮل ﻣﻴﻠﺘﻮن: اﻟﺤﺮ واﻟﱪد واﻟﺮﻃﻮﺑﺔ واﻟﺠﻔﺎف، أﺑﻄﺎل ﻳﺘﻤﻠﻜﻬﻢ اﻟﻐﻀﺐ ،ﻳﺴﻌﻮن ﻧﺤﻮ اﻟﻐﻠﺒﺔ. أرﺑﻌﺔ ٍ ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ ﻣﺎ ﻻ ﻳُﻌَ ﱡﺪ وﻻ ﻳﺤﴡ ﻣﻦ اﻷﻗﻮال اﻷﺧﺮى .وﻟﻜﻦ ﻛﻴﻒ ﻳﻨﺸﺄ اﻟﺴﺎﺧﻦ واﻟﺒﺎرد واﻟﺮﻃﺐ واﻟﺠﺎف ﻣﻦ املﻄﻠﻖ ﻏري املﺤﺪود؟ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺑﻮﺳﻊ أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر إﻻ أن ﻳﻘﻮل إن اﻷﻣﺮ ﺑﻪ ﻧﻮع ﻣﻦ »اﻟﺘﻤﺎﻳﺰ« .رﺑﻤﺎ ﺗﻜﻮن ﻧﻈﺮﻳﺘﻪ ﻗﺪ ﺗﺮﻛﺖ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻷﺳﺌﻠﺔ ﺑﻼ إﺟﺎﺑﺎت ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻟﻠﺘﻌﺎﻣُﻞ ﻣﻊ ﺑﻌﺾ اﻷﺳﺌﻠﺔ اﻷﺧﺮى .وﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻷﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر ﺗﻜﻤﻦ ﻣﻴﺰة اﻓﱰاض أن ﻛﻞ ﳾء ﻗﺪ ﺗﻄﻮﱠر ﻣﻦ ﻛﺘﻠﺔ ﺑُﺪاﺋﻴﺔ ﻏري ﻣﺤﺪودة ﰲ أﻧﻪ ﻳﺴﻌﻰ إﱃ ﺣَ ﱢﻞ ﻟﻐﺰ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ إﻻ ﻟﻴﺆ ﱢرق ﻃﺎﻟﻴﺲ أو أي ﺷﺨﺺ آﺧﺮ ﻳﻌﺘﻘﺪ أن أﺣﺪ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻫﻮ »أﺻﻞ« اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺤﺎﻟﻴﱠﺔ .واﻟﻠﻐﺰ ﻛﺎﻟﺘﺎﱄ :إذا ﻛﺎن أﺻﻞ ﻛﻞ اﻷﺷﻴﺎء ﻣﻦ املﺎء ﻓﻜﻴﻒ ﺗﻜﻮﱠﻧﺖ اﻟﻨﺎر؟ أﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻣﻦ املﻔﱰض أن ﺗﺨﻤﺪ ﻋﻨﺪ ﻟﺤﻈﺔ ﻣﻮﻟﺪﻫﺎ؟ وﻛﺎن اﻟﺤﻞ اﻟﺬي ﱠ ﺗﻮﺻﻞ إﻟﻴﻪ أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر 30
اﻟﻨﻤﻮذج اﻷﺻﲇ :املﻠﻄﻴﻮن
ﻳﻜﻤُﻦ ﰲ اﻟﻘﻮل إن اﻷﺿﺪاد اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻗﺪ ُﺧﻠ َِﻘ ْﺖ ﻣﻌً ﺎ ﻣﻦ املﻄﻠﻖ ﻏري املﺤﺪود ،ﺑﺤﻴﺚ ﻻ ﻳﺤﻈﻰ أيﱞ ﻣﻦ املﻮاد املﺘﺼﺎرﻋﺔ ﺑﺄﻓﻀﻠﻴﺔ ﻋﲆ ﺧﺼﻤﻬﺎ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻏري ﻋﺎدﻟﺔ. وﺑﻤﺰﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺘﻔﺎﺻﻴﻞ ،ﺗﺴري رواﻳﺔ أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر ﻋﻦ ﺧﻠﻖ اﻟﻜﻮن ﻋﲆ اﻟﻨﺤﻮ اﻟﺘﺎﱄ: اﻧﻔﺼﻠﺖ ﺑﻴﻀﺔ أو ﺑﺬرة أو ﺣﺒﺔ ﺳﻤﺎد ﺗﺤﺘﻮي ﻋﲆ اﻷﺿﺪاد اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ،ﻛﺎﻟﺴﺎﺧﻦ واﻟﺒﺎرد، ﻋﻦ املﻄﻠﻖ ﻏري املﺤﺪود ،ﺛﻢ أﺧﺬت ﺗﻨﻤﻮ ﺣﺘﻰ أﺻﺒﺤﺖ ﻛﺘﻠﺔ ﺑﺎردة رﻃﺒﺔ ﻣﺤﺎﻃﺔ ﺑﺤﻠﻘﺔ ﻣﻦ ﻧﺎر ،وأدﱠت اﻟﺼﺪﻣﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﺸﺄت ﻋﻦ ارﺗﻄﺎم اﻟﺴﺎﺧﻦ ﺑﺎﻟﺒﺎرد إﱃ ﻧﺸﺄة ﻏﺸﺎوة داﻛﻨﺔ ﺑني اﻻﺛﻨني ﻛﻮﱠن اﻟﺠﺰء اﻟﺒﺎرد اﻷرض ،أﻣﺎ اﻟﻨﺎر ﻓﻘﺪ ﺗﺸ ﱠﻜﻠﺖ ﻣﻨﻬﺎ اﻟﻨﺠﻮم .واﻷرض ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﻗﺮص ﻣﺴ ﱠ ﻄﺢ أو رﺑﻤﺎ أﺳﻄﻮاﻧﺔ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﺟﺴﻤً ﺎ ﻛﺮوﻳٍّﺎ ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ .واﻟﻌﺠﻴﺐ ﰲ اﻷﻣﺮ أن اﻟﺸﻤﺲ واﻟﻘﻤﺮ واﻟﻨﺠﻮم ﻟﻴﺴﺖ أﺟﺴﺎﻣً ﺎ ﻛﺮوﻳﺔ ﻓﺤﺴﺐ ،ﺑﻞ إﻧﻬﺎ ﻋﺠﻼت ﻣﻦ اﻟﻨﺎر ﺗﺪور ﺣﻮل اﻷرض ﻛ ﱞﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﻣﺤﺎﻃﺔ ﺑﺤﻠﻘﺔ ﻣﺠﻮﱠﻓﺔ ﻣﻦ اﻟﻀﺒﺎب ،وﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﺤﻠﻘﺎت ﺛﻘﻮب ﺗﺨﺮج ﻣﻨﻬﺎ اﻟﻨﺎر؛ وﻟﺬﻟﻚ ﺗﻜﻮن ﻛﻞ ﺣﻠﻘﺔ ﻣﻦ ﺣﻠﻘﺎت اﻟﻀﺒﺎب ﻣﺸﺎﺑﻬﺔ ﻟﻸﻧﺒﻮب اﻟﺪاﺧﲇ املﺜﻘﻮب ﻹﻃﺎر اﻟﺪراﺟﺔ املﻨﻔﻮخ واملﲇء ﺑﺎﻟﻨريان ،وﻣﺎ ﻧﺮاه ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻧﻨﻈﺮ إﱃ اﻟﻀﻮء ﰲ اﻟﺴﻤﺎء إﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﻫﺬه اﻟﺜﻘﻮب ،أﻣﺎ اﻟﺨﺴﻮف ﻓﻬﻮ ﻣﺎ ﻧﺮاه ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳُﺴﺪ أﺣﺪ اﻟﺜﻘﻮب ﻟﻔﱰة. ﻳﺆﻛﺪ ذﻟﻚ اﻟﺘﻔﺴري ﻋﲆ أن ﺛﻤﺔ اﻟﻜﺜريَ ﰲ اﻟﻜﻮن أﻛﺜﺮ ﻣﻤﱠ ﺎ ﺗﺮاه اﻟﻌني .وﺳﻴﺒﺪو ﺗﺼﻮﱡر ﱠ ﺗﻮﺻﻞ إﻟﻴﻪ ،ﻓﻘﺪ أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر ﻟﻸﺟﺮام اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ أﻗ ﱠﻞ ﻏﺮاﺑﺔ إذا ﺣﺎوﻟﻨﺎ أن ﻧﺘﺨﻴﻞ ﻛﻴﻒ ﺗﻜﻮن ﺻﻮرة اﻟﺸﺠﺮة اﻟﺘﻲ ﺗﻨﻤﻮ وﺗُ َﻐ ﱢريُ ﻟﺤﺎءﻫﺎ ﻫﻲ ﻣﺎ دﻓﻌﻪ إﱃ ﺗﺨﻴﱡﻞ اﻟﻨﺠﻮم ﻋﲆ ﻫﻴﺌﺔ ﱢ ﻟﻴﻮﺿﺢ ﻛﻴﻒ ﺗﻜﻮﱠن ﻏﻼف ﻣﻦ ﺣﻠﻘﺎت .وﻳﺒﺪو أن أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر ﻗﺪ اﺳﺘﺨﺪم ﺗﻠﻚ اﻟﺼﻮرة اﻟﻠﻬﺐ ﺣﻮل اﻷرض أﺛﻨﺎء اﻻﻧﻔﺼﺎل اﻷﺻﲇ ﺑني اﻟﺴﺎﺧﻦ واﻟﺒﺎرد .وإذا أﺧﺬﻧﺎ ﻫﺬه اﻟﺼﻮرة ﺑﻌني اﻻﻋﺘﺒﺎر ﻳﺴﻬُ ﻞ أن ﻧﺮى ﻛﻴﻒ ﺗﺨﻴﻞ اﻷﺟﺮام اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ ﻋﲆ ﺷﻜﻞ ﻋﺠﻼت ﺳﻠﺨﺘﻬﺎ اﻷرض ﻛﺎﻟﺠﻠﺪ ﻳُﺴﻠﺦ ﻣﻦ اﻟﻠﺤﻢ ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻔﴪ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﻣﻦ أﻳﻦ أﺗﺖ .وﻛﻞ ﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﺤﺘﺎج إﱃ ﺗﻔﺴريه ﻫﻮ ملﺎذا ﺗﺒﺪو ﻟﻨﺎ ﻫﺬه اﻷﺟﺮام ﻧﻘ ً ٍ ﻛﺮات ﻣﻦ اﻟﻀﻮء ،وﻫﻮ ﻣﺎ أﺟﺎﺑﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﻄﺎ أو ﻧﻈﺮﻳﺔ ﻓﺘﺤﺎت ﱡ اﻟﺘﻨﻔﺲ أو اﻟﺜﻘﻮب. وﺛﻤﱠ ﺔ ﻓﻜﺮة أﺧﺮى ﺧﻴﺎﻟﻴﺔ ﰲ دراﺳﺔ أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر ﻟﻌﻠﻢ اﻟﻜﻮن اﺷﺘﻬﺮت ﺑﺘﻌﻘﻴﺪﻫﺎ أﻛﺜﺮ ﻣﻤﱠ ﺎ اﺷﺘﻬﺮت ﺑﻐﺮاﺑﺘﻬﺎ اﻟﻮاﺿﺤﺔ .ﻟﻢ ﻳﻔﻜﺮ أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر ﰲ أن اﻷرض ﺑﺤﺎﺟﺔ إﱃ أﻳﱠﺔ وﺳﺎدة ﺳﻮاء ﻣﻦ املﺎء أو ﻣﻦ أي ﳾء آﺧﺮ ﻟﺘُﻤﺴﻜﻬﺎ ،وﻟﻜﻨﻪ رأى أﻧﻬﺎ ﺗﺮﺗﻜِﺰ ﻋﲆ ﻣﺮﻛﺰ اﻟﻜﻮن اﻟﻜﺮوي وﻳﺪور ﺣﻮﻟﻬﺎ ﻛﻞ ﳾء آﺧﺮ ،وأن ﻫﺬا اﻟﻮﺿﻊ املﺤﻮري ﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻔﴪ ﻋﺪم ﺳﻘﻮط اﻷرض ﰲ اﻟﻔﻀﺎء؛ ﻓﻬﻲ ﻣﺤﻔﻮﻇﺔ ﰲ ﻣﻜﺎﻧﻬﺎ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺘﻮازن ﻛﻤﺎ أوﺿﺢ أرﺳﻄﻮ )ﰲ ﴍﺣﻪ ﻟﻮﺟﻬﺔ ﻧﻈﺮ أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر وﻟﻴﺴﺖ وﺟﻬﺔ ﻧﻈﺮه اﻟﺨﺎﺻﺔ( ً ﻗﺎﺋﻼ: 31
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﺣﻴﺚ إﻧﻪ ﻳﺘﺤﺘﻢ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻳﻘﻊ ﰲ املﺮﻛﺰ وﻳﺘﺼﻞ ﺑﺎﻟﻄﺮﻓني ﺑﺼﻮرة ﻣﺘﺴﺎوﻳﺔ ﱠأﻻ ﻳﻨﺤﺮف ﻣﺜﻘﺎل ذرة ﻷﻋﲆ أو ﻷﺳﻔﻞ أو ﻧﺎﺣﻴﺔ اﻷﻃﺮاف ،وﻣﻦ املﺴﺘﺤﻴﻞ ﻋﻠﻴﻪ أن ﻳﺘﺤﺮك ﰲ اﺗﺠﺎﻫﺎت ﻋﻜﺴﻴﺔ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ ذاﺗﻪ ،ﻓﺈﻧﻪ ﺑﺎﻟﴬورة ﻳﻈﻞ ﺛﺎﺑﺘًﺎ. ﻣﺜﻞ اﻷرض ﻫﻨﺎ ﻛﻤﺜﻞ ﺣﻤﺎر ﺑﻮرﻳﺪان اﻟﺸﻬري اﻟﺬي ﺗُﺮك ﰲ ﻣﻨﺘﺼﻒ املﺴﺎﻓﺔ ﺑﺎﻟﻀﺒﻂ ﺑني ﺣﻔﻨﺘني ﻣﻦ اﻟﺘﺒﻦ ﻓﺎﺣﺘﺎر ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ وﻟﻢ ﻳﺴﺘﻄﻊ أن ﻳﻘﺮر أﻳﻬﻤﺎ ﻳﺄﻛﻞ ﺣﺘﻰ ﻫﻠﻚ ﺟﻮﻋً ﺎ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ .وﺗﻌﺪ ﻓﻜﺮة أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر ﺗﻠﻚ ﻓﻜﺮة ﻣﺘﻘﺪﻣﺔ ﻣﻦ ﻋﺪة ﺟﻮاﻧﺐ )وﻻ ﻳﻌﻨﻴﻨﺎ ﰲ ﻫﺬا املﻘﺎم ﻛﻮﻧﻬﺎ ﻓﻜﺮة ﺧﺎﻃﺌﺔ ،ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﻻﻓﱰاﺿﻬﺎ أن اﻷرض ﻣﺮﻛﺰ اﻟﻜﻮن( .ﻓﻬﻲ ً أوﻻ ﻓﻜﺮة رﻳﺎﺿﻴﺔ ﻣﻤﺘﻌﺔ ،وﻋﲆ ﻏﺮار ﻻﻋﺐ اﻟﺴريك اﻟﺬي ﻳﻘﻔﺰ ﰲ اﻟﻬﻮاء ً واﺛﻘﺎ ﻣﻦ أن زﻣﻴﻠﻪ ﺳﻮف ﻳﺘﺄرﺟﺢ ﻛﻲ ﻳﻠﺤﻖ ﺑﻪ ،ﻓﻘﺪ ﻗﻔﺰ أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر ﺣﺎﺟﺰ اﻟﺪﻋﻢ املﺎدي ﺑﺸﺠﺎﻋﺔ وآﻣَ َﻦ ﺑﻔﻜﺮة رﻳﺎﺿﻴﺔ ﻟﻠﻮﻗﻮف ﻋﲆ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻷرض .ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻗﻮاﻧني اﻟﺤﺮﻛﺔ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺠﺎﻟﻴﻠﻴﻮ أو ﻧﻴﻮﺗﻦ واﻟﺘﻲ ﺗﺤﻔﻆ اﻷﺷﻴﺎء ﰲ ﻣﺴﺎرﻫﺎ اﻟﺜﺎﺑﺖ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻳﻤﻜﻦ ﻣﻌﻬﺎ ﺣﺴﺎﺑﻬﺎ ﺑﺪﻗﺔ ﻗﺪ اﻛﺘُﺸﻔﺖ ﱢ ﺣﻮاف اﻟﻜﻮن، ﺑﻌﺪُ ،وﻟﻜﻦ ﻟﺪﻳﻨﺎ ﻣﺒﺪأ رﻳﺎﴈ ﻋﺎم ﻳﺴﺘﺸﻬﺪ ﺑﺎملﺴﺎﻓﺔ املﺘﺴﺎوﻳﺔ ﻣﻦ اﻷرض إﱃ وﻫﻮ ﻳﺴﺘﺨﺪم ﻟﺘﻔﺴري أﻣﺮ أﺳﺎﳼ .وﻋﲆ ﻏﺮار املﻄﻠﻖ ﻏري املﺤﺪود ﻟﺪى أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر ،ﻓﺈن ﻣﺒﺪأ اﻟﺘﻮازن اﻟﺨﺎص ﺑﺄﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر ﺧﻔﻲ وﻣﻮﺿﻮﻋﻲ ،وﻟﻜﻨﻪ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ ذاﺗﻪ ﻛﺎﻵﻟﻬﺔ ﰲ ﻗﻮﺗﻪ .وﻛﺎﻧﺖ ﺗﻠﻚ اﻟﻔﻜﺮة ﺟﺪﻳﺪة ﻏري ﻣﺄﻟﻮﻓﺔ ﻟﺪى ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻵﺧﺮﻳﻦ اﻟﺬﻳﻦ ﺳﺎرﻋﻮا ﺑﺈﻋﺎدة اﻟﻮﺳﺎدة املﺎدﻳﺔ ﻟﻸرض ﻛﻲ ﺗﺮﺗﻜﺰ ﻋﻠﻴﻬﺎ. ﺗﻤﺎﺳﻚ رواﻳﺔ أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر ﻣﺜري ﻟﻺﻋﺠﺎب؛ ﻓﻬﻮ ﻟﻢ ِ ُ ﻳﺼﻒ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺤﻴﻮاﻧﻴﺔ ﻋﲆ إن ﴪ ﻧﺸﺄة اﻷرض ﺑﻠﻐﺔ اﻟﺨﺮاﻓﺎت ﺑﻞ ذﻛﺮ أﻧﻬﺎ ﻧﺸﺄت ﻋﻦ ﻋﻤﻠﻴﺔ »اﻟﺘﻤﺎﻳﺰ« ﻧﻔﺴﻬﺎ اﻟﺘﻲ ﺗُ َﻔ ﱢ ُ اﻟﻜﻮن .وﻛﻤﺎ ﺗﻜﻮﱠن اﻟﻀﺒﺎب اﻟﺒُﺪاﺋﻲ اﻟﺬي ﻳﺤﻴﻂ ﺑﺎﻷﺟﺮام اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﴫاع ﺑني اﻟﺴﺎﺧﻦ واﻟﺒﺎرد؛ ﻓﻘﺪ اﻧﺒﺜﻘﺖ اﻟﺤﻴﺎة ﻣﻦ اﻟﻀﺒﺎب ﺑﻔﻀﻞ ﺗﺤﻔﻴﺰ ﺣﺮارة اﻟﺸﻤﺲ .وﻇﻠﺖ ﻓﻜﺮة ﻧﺸﺄة اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﺤﻴﺔ ﺗﻠﻘﺎﺋﻴٍّﺎ ﻣﻦ املﺎدة اﻟﺪاﻓﺌﺔ اﻟﺮﻃﺒﺔ ﻣﻨﺘﴩة ﺣﺘﻰ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ ﺣني ﺑﺪأ املﺠﻬﺮ ﻳﺸري إﱃ ﻏري ذﻟﻚ ،وﻟﻜﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﻔﻜﺮة اﺳﺘﻤﺮت ﺣﺘﻰ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ .وﻣﻦ املﻔﱰض أن أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر ﻗﺪ اﻋﺘﻘﺪ ً أﻳﻀﺎ أن املﺨﻠﻮﻗﺎت اﻷوﱃ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺤﺎﻃﺔ ﺑﴩﻧﻘﺔ ﺷﺎﺋﻜﺔ ،ﻣﺴﺘﺨﺪﻣً ﺎ املﺼﻄﻠﺢ ﻧﻔﺴﻪ ﻟﻠﻘﴩة أو اﻟﻠﺤﺎء واﻟﺬي اﺳﺘﺨﺪﻣﻪ ﰲ ﺗﻔﺴريه ﻟﻐﻼف اﻟﻠﻬﺐ اﻟﺬي ﺗﻜﻮﱠﻧﺖ ﻣﻨﻪ اﻟﻨﺠﻮم .وﻗﺪ ﺑُﻨﻴﺖ اﻟﺮواﻳﺔ ﺑﺄﻛﻤﻠﻬﺎ ﻟﺘﻜﻮن ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﻓﻜﺮة ﻣﻮﺣﱠ ﺪة؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﻬﻲ ﺗﺘﺴﻢ ﺑﺄﻗﴡ درﺟﺎت اﻟﺒﺴﺎﻃﺔ. ﻛﺎن ﺗﻔﺴري أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر ﻟﻈﻬﻮر اﻹﻧﺴﺎن ذاﺗﻪ ﺑﺎرﻋً ﺎ ،رﻏﻢ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﺘﻤﺘﻊ ﺑﺎﻟﺒﺼرية اﻟﻜﺎﻓﻴﺔ .ﺛﻤﺔ ﻓﻜﺮة ﻣﻐﻠﻮﻃﺔ ﺗﻘﻮل إﻧﻪ اﺳﺘﺒﻖ ﻧﻈﺮﻳﺔ اﻟﺘﻄﻮر ،وﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﺗﺴﺘﻤﺪ ﻗﻮﺗﻬﺎ 32
اﻟﻨﻤﻮذج اﻷﺻﲇ :املﻠﻄﻴﻮن
ﻣﻦ ﺑﻌﺾ املﻼﺣﻈﺎت — ﻣﺜﻞ ﺗﻠﻚ املﺬﻛﻮرة ﰲ أﺣﺪ املﺼﺎدر املﻬﻤﺔ اﻟﺬي ﻳﺮﺟﻊ ﺗﺎرﻳﺨﻪ إﱃ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻧﻲ املﻴﻼدي — اﻟﺘﻲ ِ ﺗﻨﺴﺐ إﻟﻴﻪ ﻓﻜﺮة ﻧﺸﺄة اﻹﻧﺴﺎن وﺗﻄﻮره ﻣﻦ ﻛﺎﺋﻨﺎت ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ اﻟﻨﻮع .ﻟﻜﻦ ﻟﻸﺳﻒ ،ﻟﻢ ﻳﻜﻦ أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر ﻫﻮ داروﻳﻦ .وﺛﻤﺔ رواﻳﺎت أﺧﺮى أﻛﺜﺮ ﺛﺮاءً ﺗﺆﻛﺪ أن ﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﺪور ﺑﺨ َﻠﺪه ﻫﻮ أن اﻟﺒﴩ اﻷواﺋﻞ ﻛﺎﻧﻮا ﻳُﺤﻤﻠﻮن ﰲ أﺣﺸﺎء اﻷﺳﻤﺎك ،أو ﻛﺎﺋﻨﺎت ﺗﺸﺒﻪ اﻷﺳﻤﺎك ،ﺗﺆدي وﻇﻴﻔﺔ اﻷم اﻟﺒﺪﻳﻠﺔ .وﺑﺎﻟﻄﺒﻊ ﻟﻢ ﻳﻘﺼﺪ أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر أن أﺣﺪ اﻷﻧﻮاع — وﻫﻮ اﻹﻧﺴﺎن — ﻗﺪ ﺗﻄﻮر ﺗﺪرﻳﺠﻴٍّﺎ ﻣﻦ ﻧﻮع آﺧﺮ وﻫﻮ اﻷﺳﻤﺎك ،وﻟﻜﻦ ﻳﺒﺪو أن ﻣﺎ دﻓﻌﻪ إﱃ اﻟﻘﻮل ﺑﺘﻠﻚ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﻫﻮ ﻣﻼﺣﻈﺔ أن اﻹﻧﺴﺎن ﻳﺤﺘﺎج إﱃ ﻓﱰة رﺿﺎﻋﺔ ﻃﻮﻳﻠﺔ ﺑﺸﻜﻞ اﺳﺘﺜﻨﺎﺋﻲ ﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﻓﻴﻬﺎ اﻻﻋﺘﻨﺎء ﺑﻨﻔﺴﻪ ،إﺿﺎﻓﺔ إﱃ اﻋﺘﻘﺎده أن أواﺋﻞ اﻟﺒﴩ ﻣﺎ ﻛﺎﻧﻮا ﻟﻴﺒﻘﻮا ﻋﲆ ﻗﻴﺪ اﻟﺤﻴﺎة إذا ﻣﺎ اﻋﺘﻤﺪوا ﻋﲆ أﻧﻔﺴﻬﻢ .وﻣﺎ إن اﻋﺘﻨﺖ ﺑﻬﻢ اﻷﺳﻤﺎك وﺗﻤ ﱠﻜﻨﻮا ﻣﻦ اﻻﻋﺘﻨﺎء ﺑﺄﻧﻔﺴﻬﻢ ﺣﺘﻰ ﺧﺮج اﻟﺠﻴﻞ اﻷول ﻣﻦ اﻷﻃﻔﺎل املﺎﺋﻴني إﱃ اﻟﻴﺎﺑﺴﺔ ﺣﻴﺚ أﻣﻜﻨﻬﻢ اﻻﻋﺘﻨﺎء ﺑﺼﻐﺎرﻫﻢ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪُ. ﻳﻌﺪ أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﻴﻨﺲ ﺧﻠﻴﻔﺔ أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر ﰲ ﺳﻠﺴﻠﺔ اﻟﻨﺴﺐ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ ﻟﻠﻔﻼﺳﻔﺔ املﻠﻄﻴني ،وﻫﻮ آﺧﺮ ﺣﺒﱠﺎت ﻋﻘﺪ ﻫﺆﻻء اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ .ﻛﺎن أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﻴﻨﺲ ﻳﺼﻐﺮ أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر ﺑﺨﻤﺴﺔ وﻋﴩﻳﻦ ﻋﺎﻣً ﺎ ،وﺗﺰاﻣﻨﺖ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﺣﻴﺎﺗﻪ املﻬﻨﻴﺔ ﻣﻊ ﺗﺪﻣري ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻣﻠﻄﻴﺔ ﻋﲆ ﻳﺪ اﻟﻔﺮس ﻋﺎم ٤٩٤ق.م. وأﻋﻴﺪ إﻧﺸﺎء املﺪﻳﻨﺔ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﺑﺨﻤﺴﺔ ﻋﴩ ﻋﺎﻣً ﺎ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ اﺷﺘﻬﺮت ﻣﻨﺬ ذﻟﻚ اﻟﺤني ﺑﺼﻨﺎﻋﺔ اﻟﺼﻮف أﻛﺜﺮ ﻣﻨﻬﺎ ﺑﺎﻟﻔﻠﺴﻔﺔ. ﻛﺎن ﻣﺆرﺧﻮ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻘﺪﻣﺎء ﻳﻨﻈﺮون ﻷﻧﺎﻛﺴﻴﻤﻴﻨﺲ ﺑﻮﺻﻔﻪ أﻋﻈﻢ املﻠﻄﻴني اﻟﺜﻼﺛﺔ، وﻗﺪ أﺧﺬﺗﻬﻢ ﻓﻜﺮة أن أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﻴﻨﺲ ﻫﻮ آﺧﺮ ﺣﺒﺎت اﻟﻌﻨﻘﻮد إﱃ اﻻﻋﺘﻘﺎد ﺑﺄﻧﻪ درة ﻫﺬا اﻟﻌﻘﺪ وﻗﻤﺔ ﻫﺬه اﻟﺴﻠﺴﻠﺔ ،أﻣﺎ املﺤﺪَﺛﻮن ﻓﻘﺪ رأوه أﻗﻠﻬﻢ أﻫﻤﻴﺔ؛ إذ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ واﺳﻊ اﻟﺨﻴﺎل ﺑﺸﻜﻞ ﻣﻤﺘﻊ ﻛﺄﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر ،ﺑﻞ إﻧﻪ ﻣﻘﺎرﻧﺔ ﺑﻤﺎ ﱠ ﺣﻘﻘﻪ أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر ﻣﻦ ﺗﻘﺪم ﰲ اﻟﺘﺄﻣﻞ واﻟﺘﻔﻜري ،ﺑﺪا ﻛﻤﺎ ﻟﻮ ﻛﺎن ﻻ ﻳﺘﻬﺎدى ﻓﺤﺴﺐ ﺑﻞ ﻳﺘﻬﺎدى ﻟﻠﺨﻠﻒ .ﻓﻌﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ،ﺗﺠﺎﻫﻞ أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﻴﻨﺲ ﻓﻜﺮة أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر املﻌﻘﺪة ﺣﻮل اﻟﺘﻮازن — رﻏﻢ ﺗﻀﻠﻴﻠﻬﺎ — وﻋﺎد إﱃ وﺟﻬﺔ اﻟﻨﻈﺮ اﻟﻘﺎﺋﻠﺔ ﺑﺄن ﺛﻤﺔ ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﺎدﻳٍّﺎ ﻳﺤﻤﻞ اﻷرض وﻫﻮ اﻟﻬﻮاء ،وﻗﺎم ﺑﺘﺸﺒﻴﻪ اﻷﻣﺮ ﺑﻮرﻗﺔ ﺷﺠﺮ ﻳﺤﻤﻠﻬﺎ اﻟﻬﻮاء ،ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻛﻤﺎ اﺧﺘﺎر ﻃﺎﻟﻴﺲ ﻣﻦ َﻗﺒﻠِﻪ املﺎء وﺷﺒﻪ اﻷرض ﺑﻠﻮح اﻟﺨﺸﺐ اﻟﻌﺎﺋﻢ .ﻛﻤﺎ ﻋﺎد أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﻴﻨﺲ ﺑﻨﻈﺮه إﱃ اﻟﺨﻠﻒ ﻋﻨﺪ اﺧﺘﻴﺎره ﻟﻠﻤﺎدة اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺘﻜﻮﱠن ً ﻋﻮﺿﺎ ﻋﻦ املﺎدة ﻏري ﻣﻨﻬﺎ اﻟﻌﺎﻟﻢ ،وﻋﲆ ﻏﺮار ﻃﺎﻟﻴﺲ ﻓﻘﺪ اﺧﺘﺎر أﺣﺪ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ املﺤﺪودة اﻟﻐﺎﻣﻀﺔ اﻟﺘﻲ اﺧﺘﺎرﻫﺎ أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر ،وﻟﻜﻨﻪ اﺳﺘﺒﺪل اﻟﻬﻮاء ﺑﺎملﺎء اﻟﺬي اﺧﺘﺎره ﻃﺎﻟﻴﺲ. 33
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ملﺎذا ﻛﺎن أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﻴﻨﺲ ﻣﻬﺘﻤٍّ ﺎ ﺑﺎﻟﻬﻮاء وﻫﻮ أﻗﻞ اﻟﻌﻨﺎﴏ ﻗﻴﻤﺔ؟ ﺗﺮﺗﺒﻂ اﻹﺟﺎﺑﺔ ﺟُ ﱠﻞ ﱡ ﺑﺎﻟﺘﻨﻔﺲ اﻟﺬي ارﺗﺒﻂ ﰲ أذﻫﺎن اﻹﻏﺮﻳﻖ ﺑﺎﻟﺤﻴﺎة واﻟﺮوح .وﻳﺒﺪو أن أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﻴﻨﺲ اﻻرﺗﺒﺎط ﻗﺪ أﺷﺎر إﱃ وﺟﻮد ﺗﺸﺎﺑُﻪ ﺑني روح اﻹﻧﺴﺎن وأﺻﻞ اﻟﻌﺎﻟﻢ؛ ﻓﻜﻼﻫﻤﺎ ﻋﲆ ﺣَ ﱢﺪ ﻗﻮﻟﻪ ﻳﺮﺟﻊ أﺻﻠﻪ إﱃ اﻟﻬﻮاء .وﻟﻠﻮﻫﻠﺔ اﻷوﱃ ﻳﺒﺪو أﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﺗﺸﺎﺑﻬً ﺎ ﻣﻔﻴﺪًا َﻗ ْﺪ َر ﻣﺎ ﻫﻮ ﻟﻐﺰ ﻣﺰدوج. ﻓﺄﻧﱠﻰ ﻟﻠﻬﻮاء أن ﻳﻜﻮن روﺣً ﺎ؟ وﺣﺘﻰ إن ﻛﺎن ﻛﺬﻟﻚ ،ﻓﻤﺎ ﻋﻼﻗﺔ ذﻟﻚ ﺑﺎملﺎدة اﻟﺘﻲ ُ ﺻﻨﻌﺖ ً ﻏﺎﻣﻀﺎ ﻛﻤﺎ ﻳﺒﺪو؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻟﻜﻠﻤﺔ ﻣﻨﻬﺎ اﻟﺼﺨﻮر واﻷﺷﺠﺎر؟ إﻻ أن أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﻴﻨﺲ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ »اﻟﺮوح« ﰲ ﻫﺬا اﻟﻮﻗﺖ دﻻﻻت ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺛﻤﺔ ﻓﺎرق واﺿﺢ ﺑني اﻟﻌﻘﻞ واملﺎدة ،وﻛﺎﻧﺖ اﻟﺮوح ﻻ ﺗﻌﻨﻲ ﺳﻮى املﺎدة اﻟﺘﻲ ﺗﻀﻔﻲ اﻟﺤﻴﺎة ﻋﲆ اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﺤﻴﺔ .وإن ﻛﺎن ﺛﻤﺔ ﻣﺎدة ً ﻣﺘﻤﺜﻼ ﰲ اﻟﻨﻔﺲ ﻫﻮ اﻟﺨﻴﺎر اﻷﻣﺜﻞ ﻟﻬﺎ .وﻟﻢ ﻳﻜﻦ أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﻴﻨﺲ أول ﻣﻦ ﻛﻬﺬه ﻓﺈن اﻟﻬﻮاء اﺧﺘﺎر اﻟﻬﻮاء؛ ﻓﻔﻲ أﺷﻌﺎر ﻫﻮﻣريوس ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺮوح — ﺿﻤﻦ أﺷﻴﺎء أﺧﺮى — ﻫﻲ ﻧ َ َﻔ ُﺲ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺬي ﻫﺮب ﻣﻦ َﻓ ِﻢ أﺣﺪ اﻷﺑﻄﺎل إذ ﻫﻮ ﻳُﺤﺘَﴬ .وﰲ ﻣﻠﺤﻤﺔ اﻹﻟﻴﺎذة ﻛﺎن ﺑﻮﺳﻊ اﻟﺮﻳﺢ أن ﺗﻠﻘﺢ اﻹﻧﺎث وﺗﺨﺼﺒﻬﻦ ،ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ اﻟﺠﻴﺎد. وإذا اﻋﺘﱪﻧﺎ اﻟﻬﻮاء ﻗﻮ ًة ﻣﺎﻧﺤﺔ ﻟﻠﺤﻴﺎة ﻓﺴﻮف ﺗﺘﻀﺢ ﻟﻨﺎ ﻓﻜﺮة أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﻴﻨﺲ اﻟﺮﺋﻴﺴﺔ، ﺣﻴﺚ أﺟﻤﻊ املﻔﻜﺮون اﻹﻏﺮﻳﻖ اﻷواﺋﻞ ﻗﺎﻃﺒﺔ ﻋﲆ أن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻗﺪ ﻧﺸﺄ وﺗﻄﻮﱠر وﺣﺪه وﻟﻢ ﺗﺨﻠﻘﻪ اﻵﻟﻬﺔ ﻣﻦ اﻟﻌﺪم .رﺑﻤﺎ ﺗﻜﻮن آﻟﻬﺔ اﻷﺳﺎﻃري اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ ﻗﺪ اﺳﺘﺤﺪﺛﺖ ﺑﻌﺾ اﻷﺷﻴﺎء، وﻟﻜﻨﻬﺎ اﺳﺘﺨﺪﻣﺖ ﰲ ذﻟﻚ ﻣﻮا ﱠد ﻣﻮﺟﻮدة ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ُ ﺻﻨﻌﻮا ﻣﻨﻬﺎ ﻫﻢ أﻧﻔﺴﻬﻢ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻣﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ أن ﻳﻌﺘﻘﺪ اﻹﻏﺮﻳﻖ أن املﺎدة اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻜﻮﱠن ﻣﻨﻬﺎ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺗﺘﻤﺘﻊ ﺑﺎﻟﻘﺪرة ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺎ .وﺑﻮﺳﻌﻨﺎ أن ﻧﻔﱰض أن ﻃﺎﻟﻴﺲ ﻗﺪ ﻋﲆ اﻟﻨ ﱡ ُﻤ ﱢﻮ واﻟﺘﻄﻮر؛ أي إﻧﻬﺎ ﺗﺮﺗﺒﻂ ﺑﺎﻟﺤﻴﺎة ٍ ﻻﺣﻆ وﺟﻮد ﺻﻠﺔ ﺑني املﺎء واﻟﺤﻴﺎة؛ ﻓﻘﺪ ُ ﺻﺪم ﺑﺤﻘﻴﻘﺔ اﺣﺘﻴﺎج اﻟﻨﺒﺎﺗﺎت واﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت إﱃ املﺎء .أﻣﺎ أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﻴﻨﺲ ﻓﻘﺪ ﻻﺣﻆ وﺟﻮد ﺻﻠﺔ ﺑني اﻟﻬﻮاء واﻟﺤﻴﺎة ،إذ ﻟﻔﺘﺖ اﻧﺘﺒﺎﻫﻪ ﺣﻘﻴﻘﺔ أن اﻟﺒﴩ ﻳﺘﻨﻔﺴﻮن وﻟﻜﻦ اﻟﺠﺜﺚ ﻻ ﺗﺘﻨﻔﺲ. وﻛﻤﺎ رأﻳﻨﺎ ﻋﻨﺪ ﻃﺎﻟﻴﺲ ،ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﺘﺄ ﱠﻛﺪ ﻣﻤﱠ ﺎ إذا ﻛﺎن ﻃﺎﻟﻴﺲ ﻳﻌﺘﻘﺪ أن ﻛﻞ ﳾء ﻳﺘﻜﻮن ﻣﻦ املﺎء أم أن املﺎء و ُِﺟ َﺪ ً أوﻻ ﺛﻢ ﺗﺴﺒﱠﺐ ﰲ ﻇﻬﻮر ﻛﻞ اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ أو ﺑﺄﺧﺮى. أﻣﺎ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﻴﻨﺲ ﻓﺜَﻤﱠ َﺔ املﺰﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﻴﻘني؛ ﻓﻘﺪ آﻣﻦ ﺑﺄن ﻛﻞ ﳾء ﻣﺼﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﻬﻮاء ﺑﻞ إﻧﻪ ﺣﺎول ﺗﻔﺴري ذﻟﻚ .وﻛﺎﻧﺖ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﺗﻠﻚ املﺤﺎوﻟﺔ ﻟﻠﺘﻔﺴري ﻫﻲ ﻣﺎ أﺛﺎرت إﻋﺠﺎب ﺑﻌﺾ أﺗﺒﺎﻋﻪ ﺣﺘﻰ ﻳﻮ ِﻣﻨَﺎ ﻫﺬا ،ﺑﻞ إﻧﻬﺎ دﻓﻌﺖ ﺑﻌﻀﻬﻢ إﱃ أن ﻳﻨﺴﺐ ﻟﻪ اﻛﺘﺸﺎف ﻧﻤﻮذج أو ِﱠﱄ ﻟﻠﺘﻔﺴري اﻟﻌﻠﻤﻲ .وﻗﺪ ﻳﺒﺪو ذﻟﻚ اﻟﺘﻘﺪﻳﺮ ﻏﺮﻳﺒًﺎ ﻋﻤﱠ ﺎ ﻳﺴﺘﺤﻘﻪ رﺟﻞ ﻳﺆﻣﻦ أن اﻷﺷﺠﺎر واﻟﺼﺨﻮر وﻛﻞ ﳾء ﻣﺼﻨﻮع ﻣﻦ ﻫﻮاء رﻗﻴﻖ. 34
اﻟﻨﻤﻮذج اﻷﺻﲇ :املﻠﻄﻴﻮن
ﰲ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻷﻣﺮ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻨﻘﻄﺔ املﺤﻮرﻳﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻷﻧﺎﻛﺴﻴﻤﻴﻨﺲ ﺣﻮل اﻟﻬﻮاء اﻟﺬي ً رﻗﻴﻘﺎ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق؛ ﻓﻬﻮ ﻳﺮى أن اﻟﻬﻮاء ﺗﻜﻮﱠﻧﺖ ﻣﻨﻪ اﻷﺷﺠﺎر واﻟﺼﺨﻮر ﺗﺘﻤﺜﻞ ﰲ أﻧﻪ ﻟﻴﺲ ُ ً ً ﺗﺨﻠﺨﻼ ﺗﺨﻠﺨﻠﻪ أو ﻛﺜﺎﻓﺘﻪ .وأﻛﺜﺮ ﻫﺬه اﻷﺷﻜﺎل أﺷﻜﺎﻻ ﻣﺘﻌﺪدة ﻋﲆ أﺳﺎس درﺟﺔ ﻳﺘﺨﺬ ﻫﻮ اﻟﻨﺎر ﺛﻢ اﻟﻬﻮاء اﻟﻌﺎدي اﻟﺬي إن ﻛﺜﻔﺘﻪ ﺗﺤﺼﻞ ﻋﲆ اﻟﺮﻳﺎح ،وﺗﻠﻴﻪ ﰲ اﻟﻜﺜﺎﻓﺔ اﻟﺴﺤﺐ ﺛﻢ املﺎء ﻓﺎﻷرض وأﺧريًا اﻷﺣﺠﺎر .أﻣﺎ اﻟﻬﻮاء اﻟﺬي ﻧﺘﻨﻔﺴﻪ ﰲ اﻟﺠﻮ ﻓﻬﻮ اﻟﺤﺎﻟﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻟﻠﻤﺎدة واﻟﺘﻲ ﺳﺘﻌﻮد إﻟﻴﻬﺎ ﻛﻞ اﻟﺤﺎﻻت اﻷﺧﺮى ،وﻟﻜﻦ ﻣﺎ ﻳﺆدي إﱃ اﺿﻄﺮاﺑﻪ ﻫﻮ ﺣﺮﻛﺘﻪ اﻟﺪاﺋﻤﺔ. وﻫﺬا ﱢ ﻳﻔﴪ وﺟﻮد اﻟﻬﻮاء ﰲ ﺑﻌﺾ اﻷﻣﺎﻛﻦ ﺑ َﻜﻤﱢ ﻴﱠﺎت أﻛﱪ ﻣﻦ أﻣﺎﻛﻦ أﺧﺮى؛ ﻣﻤﱠ ﺎ ﻳﺠﻌﻠﻪ أﻛﺜﺮ ﻛﺜﺎﻓﺔ ﰲ ﻫﺬه اﻷﻣﺎﻛﻦ .وﻟﺬﻟﻚ ﻳﻌﺘﱪ اﻟﺘﻜﺜﱡﻒ واﻟﺨﻠﺨﻠﺔ اﻟﻠﺬان ﺗﺴﺒﺒﻬﻤﺎ ﺣﺮﻛﺔ اﻟﻬﻮاء وﺳﺎﺋﻞ اﻟﺘﻐﻴري ﰲ ﻋﺎﻟﻢ أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﻴﻨﺲ؛ ﻓﻬﻤﺎ ﻳﻔﴪان وﺟﻮد اﻟﺴﺎﺧﻦ واﻟﺒﺎرد واﻟﺮﻃﺐ واﻟﺠﺎف ﱡ واﻟﺼﻠﺐ واملﺎﺋﻊ .وﻳُﻌَ ﱡﺪ ﻫﺬا اﻟﺘﻔﺴري ﺗﻄﻮ ًرا ملﻔﻬﻮم »اﻟﺘﻤﺎﻳﺰ« اﻟﻐﺎﻣﺾ اﻟﺬي ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻪ أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر ﻟﺘﻔﺴري ﻧﺸﺄة اﻟﻌﻨﺎﴏ املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ املﺎدة اﻟﻼﻧﻬﺎﺋﻴﺔ. وﻳﻜﻤﻦ اﻟﺘﺠﺪﻳﺪ املﻬﻢ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﺮواﻳﺔ ﰲ أن أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﻴﻨﺲ ﻳﺠﻌﻞ اﻻﺧﺘﻼﻓﺎت ﰲ اﻟﺠﻮدة أو اﻟﻨﻮع ﺗﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ اﻻﺧﺘﻼﻓﺎت ﰲ اﻟ َﻜ ﱢﻢ أو اﻟﻌﺪد ،ﺣﻴﺚ ﻳ َُﻔ ﱠﴪ ﺗﻨﻮع اﻟﻌﻨﺎﴏ ﻣﻦ ﺧﻼل ﱢ املﺘﻐرية ﻣﻦ اﻟﻬﻮاء اﻟﺘﻲ ﺗﻮﺟﺪ ﺑﻬﺎ .وﻗﺪ اﺳﺘﻤﺮت ﻋﺎدة اﺧﺘﺰال اﻟﺘﻨﻮﱡع اﻟﺤﻴﻮي اﻟﻜﻤﻴﺎت ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ ﰲ ﺗﻠﻚ املﻔﺎﻫﻴﻢ اﻟﻜﻤﻴﺔ ﻣﻨﺬ ﻋﻬﺪ أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﻴﻨﺲ ﺣﺘﻰ ﻋﴫﻧﺎ ﻫﺬا ،وﻟﻜﻦ اﻟﻔﻜﺮة اﻟﺘﻲ ﺗﻜﻤُﻦ ﺧﻠﻔﻪ — وﻫﻲ أن ﻛﺘﺎب اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻗﺪ ُﻛﺘِﺐَ ﺑﻠﻐﺔ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت — ﻟﻢ ﺗُ َﻔ ﱠﴪ ﻛﺎﻣﻠﺔ ﺣﺘﻰ ﱡ اﻟﺘﻮﻗﻌﺎت اﻷﻛﺜﺮ إﺛﺎرة ﻋﴫ ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ وﻧﻴﻮﺗﻦ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ) .وﺛﻤﺔ املﺰﻳﺪ ﻣﻦ ﻟﻺﻋﺠﺎب ﺑﺸﺄن ﺗﻠﻚ اﻟﻔﻜﺮة ﻟﺪى اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني — وﻫﻮ ﻣﻮﺿﻮﻋﻨﺎ اﻟﺘﺎﱄ — اﻟﺬﻳﻦ رأوا اﻷرﻗﺎم ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻷﻧﻬﻢ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺮوﻧﻬﺎ ﰲ ﻛﻞ ﳾء ﺣﻮﻟﻬﻢ(. وﻣﺎ ﺗﺒﻘﻰ ﻣﻦ رواﻳﺔ أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﻴﻨﺲ ﻻ ﻳﺸﺒﻪ ﻣﺎ ﻗﺎﻟﻪ ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ أو ﻧﻴﻮﺗﻦ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق. وﻋﻦ ذﻟﻚ ﻗﺎل ﻫﻴﺒﻮﻟﻴﺘﻮس ،وﻫﻮ رﺟﻞ دﻳﻦ ﻣﺴﻴﺤﻲ ﻋﺎش ﰲ روﻣﺎ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻟﺚ املﻴﻼدي: ﻳﻘﻮل إن اﻷﺟﺮام اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ ﻻ ﺗﺘﺤﺮك ﺗﺤﺖ اﻷرض ﻛﻤﺎ اﻓﱰض اﻵﺧﺮون ،ﺑﻞ ﺗﺘﺤﺮك ﺣﻮﻟﻬﺎ ﻛﻤﺎ ﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﻗﺒﻌﺔ ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ ﺗﻠﻒ رءوﺳﻨﺎ وﻧﺸﻌﺮ ﺑﻬﺎ ﻓﻮﻗﻬﺎ وﻧﻠﻤﺴﻬﺎ ،وإن اﻟﺸﻤﺲ ﻻ ﺗﺨﺘﺒﺊ ﺗﺤﺖ اﻷرض ﺑﻞ ﺗﻐﻄﻴﻬﺎ اﻷﺟﺰاء اﻟﻌﻠﻴﺎ ﻣﻦ اﻷرض واملﺴﺎﻓﺔ اﻟﺒﻌﻴﺪة ﺑﻴﻨﻨﺎ وﺑﻴﻨﻬﺎ. رأى أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﻴﻨﺲ اﻟﻌﺎﻟ َﻢ ﻛﻤﺎ ﻟﻮ ﻛﺎن ﻗﺒﺔ ﺳﻤﺎوﻳﺔ ﺣﺪﻳﺜﺔ ،ﺣﻴﺚ ﻧﺠﻠﺲ وﻧﻨﻈﺮ إﱃ ﺳﻘﻒ ذي ﻗﺒﺔ )اﻟﻘﺒﻌﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ( وﺗﺘﺤﺮك اﻟﻨﺠﻮم ﻓﻮﻗﻨﺎ .وﻋﲆ ﻏﺮار اﻷرض ،ﺗﺘﺨﺬ اﻟﺸﻤﺲ 35
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ً أﺷﻜﺎﻻ ﻣﺴﻄﺤﺔ؛ ﻣﻤﱠ ﺎ ﻳُﻤَ ﱢﻜﻨُﻬَ ﺎ ﻣﻦ اﻟﻄﻔﻮ ﻛﺄوراق اﻟﺸﺠﺮ ﺗﻄري ﻣﻊ اﻟﺮﻳﺎح .وﻳﻘﺎل واﻟﻨﺠﻮم إن اﻟﺸﻤﺲ واﻟﻨﺠﻮم أﺟﺴﺎم ﻧﺎرﻳﺔ ﺗﻜﻮﻧﺖ ﻋﲆ ﺷﻜﻞ رﻃﻮﺑﺔ ﺗﺒﺨﺮت ﻣﻦ اﻷرض وأﺧﺬت ُ ﺗﺨﻠﺨ ًﻼ ﺑﺼﻮرة ﺗﺪرﻳﺠﻴﺔ ﺣﺘﻰ اﻧﻔﺠﺮت ﻣﻜﻮﱢﻧﺔ أﻟﺴﻨﺔ اﻟﻠﻬﺐ .وﻳﺤﻞ ﻇﻼم اﻟﻠﻴﻞ ﺗﺰداد ُ َ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﺨﺘﻔﻲ اﻟﺸﻤﺲ اﻟﺘﻲ ﺗﻌﺘﱪ أﻛﱪ اﻷوراق املﺸﺘﻌﻠﺔ ﺧﻠﻒ اﻟﺠﺒﺎل اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ. وﻗﺪ ﺣﺎول أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﻴﻨﺲ ً أﻳﻀﺎ أن ﻳﺴﺘﺨﺪم أدواﺗﻪ اﻟﺠﺪﻳﺪة اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺎﻟﺘﺨﻠﺨﻞ واﻟﺘﻜﺜﻒ ﻟﻮﺻﻒ اﻟﺠﻮ ،وﻫﻮ ﻣﻮﺿﻮع راﺋﺞ ﻟﺪى املﻌﺘﺎدﻳﻦ ﻋﲆ ﺣﻴﺎة اﻟﺒﺤﺮ ﻣﻦ أﻫﻞ ﻣﻠﻄﻴﺔ، وﻟﻜﻦ ﺟﻬﻮده ﱠ ﺗﻤﺨﻀﺖ ﻋﻦ ﺗﺄﻛﻴﺪ آراء أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر؛ ﻓﻘﺪ اﻗﺘﺒﺲ ﺗﻔﺴري أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر ﻟﻠﺮﻋﺪ واﻟﱪق ﺑﺄﻧﻪ اﻟﻔﺮار اﻟﻌﻨﻴﻒ ﻟﻠﺮﻳﺎح اﻟﺘﻲ ﺣﺒﺴﺘﻬﺎ اﻟﺴﺤﺐ .وأﺻﺒﺤﺖ ﺗﻠﻚ اﻟﻔﻜﺮة ﻣﻮﺿﻊ ﺳﺨﺮﻳﺔ ﰲ أواﺧﺮ اﻟﻘﺮن اﻟﺨﺎﻣﺲ ﻗﺒﻞ املﻴﻼد ﰲ ﻣﴪﺣﻴﺔ »اﻟﺴﺤﺐ« ﻷرﺳﻄﻮﻓﺎن: ﺳﱰﻳﺒﺴﻴﺎدس … :إذن ﻣﺎ ﻫﻲ اﻟﺼﺎﻋﻘﺔ اﻟﺮﻋﺪﻳﺔ؟ ﺳﻘﺮاط :ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗُﺮﻓﻊ اﻟﺮﻳﺎح اﻟﺠﺎﻓﺔ إﱃ أﻋﲆ وﺗُﺤﺒﺲ ﰲ اﻟﺴﺤﺐ ﺗﻨﺘﻔﺦ اﻟﺴﺤﺐ ﺑﺎﻟﺮﻳﺎح ﻛﺎملﺜﺎﻧﺔ ﺗﻨﺘﻔﺦ ﺑﺎﻟﺒﻮل ﺣﺘﻰ ﺗﻀﻄﺮ إﱃ اﻻﻧﻔﺠﺎر وﻃﺮد اﻟﺮﻳﺎح ﴎﻳﻌً ﺎ ﺑﺴﺒﺐ ﻛﺜﺎﻓﺘﻬﺎ اﻟﻌﺎﻟﻴﺔ ،ﺛﻢ ﺗﺘﺴﺒﺐ ﻗﻮة اﻧﺪﻓﺎع اﻟﺮﻳﺎح املﻄﺮودة وزﺧﻤﻬﺎ ﰲ ﺗﺄﺟﺠﻬﺎ. ﺳﱰﻳﺒﺴﻴﺎدس :ﻧﻌﻢ ﺑﺤﻖ زﻳﻮس! وﻋﲆ أﻳﱠﺔ ﺣﺎل ﻫﺬا ﻣﺎ ﺣﺪث ﱄ ذات ﻣﺮة ﺣﻴﺚ ﺑﴚ ﻗﻄﻌﺔ ﺳﻤﻴﻜﺔ ﻣﻦ اﻟﻨﻘﺎﻧﻖ ﻷﻗﺮﺑﺎﺋﻲ ،وﻟﻢ أﻫﺘﻢ ﺑﺸﻘﻬﺎ ﻃﻮﻟﻴٍّﺎ ﻓﺎﻧﺘﻔﺨﺖ ﺣﺘﻰ ﻛﻨﺖ أﻗﻮم َ ﱢ ﻋﻴﻨﻲ ُ ﺑﺎﻟﻔﺘﺎت واﺣﱰق وﺟﻬﻲ. اﻧﻔﺠﺮت ﻓﺠﺄة ﻓﻠﻮﱠﺛﺖ ﱠ وﻛﺎن اﻟﺮﻋﺪ واﻟﺰﻻزل — وﻟﻴﺲ اﻧﻔﺠﺎر اﻟﻨﻘﺎﻧﻖ — ﻫﻤﺎ ﺑﺎﻟﻀﺒﻂ ﻧﻮع اﻟﻈﻮاﻫﺮ اﻟﺘﻲ ﺣﺎول ﻋﻠﻤﺎء اﻷﺳﺎﻃري ﺗﻔﺴريﻫﺎ ﺑﺄن ﻧﺴﺒﻮﻫﺎ إﱃ أﻓﻌﺎل اﻵﻟﻬﺔ .وﰲ أﻋﻤﺎل اﻟﺸﺎﻋﺮﻳﻦ اﻷﻳﻮﻧﻴني ﻫﻮﻣريوس وﻫﺴﻴﻮد ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺰﻻزل ﺗﺤﺪث ﺑﺴﺒﺐ ﺑﻮﺳﻴﺪون اﻟﺬي ﻳﻬﺰ اﻷرض ﻣﺤ ِﺪﺛًﺎ دوﻳٍّﺎ، أﻣﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻷﻧﺎﻛﺴﻴﻤﻴﻨﺲ ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺤﺪث )ﻛﻤﺎ ذﻛﺮ أرﺳﻄﻮ(: ﱡ ﺗﺠﻒ ﻓﺘﺘﻤﺰق إرﺑًﺎ إرﺑًﺎ ،وﺗﻬﺘﺰ ﺑﻔﻌﻞ ﻗﻤﻢ اﻟﺠﺒﺎل اﻟﺘﻲ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﺒﺘ ﱡﻞ اﻷرض ﺛﻢ ﺗﻨﻔﺼﻞ ﻋﻦ أﻣﺎﻛﻨﻬﺎ وﺗﻨﻬﺎر .وﻫﻜﺬا ﺗَﺤﺪُث اﻟﺰﻻزل ﰲ ﻛ ﱟﻞ ﻣﻦ ﻓﱰات اﻟﺠﻔﺎف ﺗﺠﻒ اﻷرض وﺗﺘﺸﻘﻖ ،وﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﺮﺗﻔﻊ واﻷﻣﻄﺎر اﻟﻐﺰﻳﺮة؛ ﻓﻔﻲ ﻓﱰات اﻟﺠﻔﺎف ِ اﻟﺮﻃﻮﺑﺔ ﺑﻬﺎ ﺗﺘﻘﻮﱠض وﺗﻨﻬﺎر. وﻫﻜﺬا ﻓﻘﺪ ﺟﻌﻞ املﺬﻫﺐ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ — وﻫﻮ ﻧﻈﺮة ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ — ﻣﻦ ﺑﻮﺳﻴﺪون ً ﺷﺨﺼﺎ ﻻ ﻗﻴﻤﺔ ﻟﻪ وﻻ وزن .وﻗﺪ ﻳﺘﺴﺎءل املﺮءُ ﻛﻴﻒ ﻛﺎن اﻹﻏﺮﻳﻖ ﻳﺆﻣﻨﻮن ﺑﻪ ﻫﺬا اﻹﻳﻤﺎن 36
اﻟﻨﻤﻮذج اﻷﺻﲇ :املﻠﻄﻴﻮن
اﻟﻘﻮي ،وﻫﻮ ﺳﺆال ﺧﺎدع؛ إذ رﺑﻤﺎ ﻛﺎن ﻫﻨﺎك أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻧﻈﺮة ﻟﻠﻤﻌﺘﻘﺪات اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل اﻵن ،وﻟﻜﻦ ﻫﺬا اﻷﻣﺮ ﻻ ﻳﻌﻨﻴﻨﺎ ﰲ ﻫﺬا املﻘﺎم .وﺣﺘﻰ إن ﻛﺎن ﻣﻦ آﻣﻨﻮا ﺑﺒﻮﺳﻴﺪون واﻵﻟﻬﺔ اﻷﺧﺮى ﻗﺪ أﻋﺠﺒﺘﻬﻢ اﺣﺘﻤﺎﻟﻴﺔ وﺟﻮد ﺗﻔﺴريات ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ ﻟﻠﺰﻻزل وﻣﺎ ﺷﺎﺑﻪ ﻣﻦ اﻷﻣﻮر ﻓﻨﺤﻦ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻻ ﻧﻌﻠﻢ أن أﻳٍّﺎ ﻣﻤﻦ ﺳﺒﻖ املﻠﻄﻴني ﻗﺪ ﺗﻮﺻﻞ إﱃ ﺗﻔﺴريات ﻛﻬﺬه. وﻣﻊ اﻧﻬﻴﺎر ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻣﻠﻄﻴﺔ اﻧﺘﻘﻞ ﻣﺮﻛﺰ اﻟﻨﺸﺎط اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ ﻟﻔﱰة ﻏﺮﺑًﺎ ﻧﺤﻮ املﺴﺘﻌﻤﺮات ﱡ ﻟﺘﻐريات ﻣﻠﺤﻮﻇﺔ؛ ﺣﻴﺚ اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ ﺑﺠﻨﻮب إﻳﻄﺎﻟﻴﺎ .وﻫﻜﺬا ﺗﻌ ﱠﺮض اﻟﻨﺸﺎط اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ أﺿﻴﻔﺖ ﻟﻠﻤﻨﺎﻗﺸﺎت اﻟﻨﺰﻳﻬﺔ املﺤﺎﻳﺪة ﺣﻮل اﻟﺠﻮ ﺗﺄﻣﱡ ﻼت ﺣﻮل ﻣﺼري اﻟﺮوح وﻛﻴﻔﻴﺔ اﻟﺤﻴﺎة ﺑﺼﻮرة ﺻﺤﻴﺤﺔ .وﻗﺪ ﻳﺮﺗﺎح ﺑﻌﺾ اﻟﻘﺮاء ﻟﺴﻤﺎع ذﻟﻚ ﺣﻴﺚ ﺗُﻌَ ﱡﺪ ﺗﻠﻚ املﻮﺿﻮﻋﺎت أﻛﺜﺮ ﻣﻼءﻣﺔ ﻟﻠﻤﻔﻬﻮم اﻟﺸﺎﺋﻊ ﻋﻦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ .وﻟﻜﻦ ﻗﺒﻞ اﻻﻧﺘﻘﺎل إﱃ ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس وأﺗﺒﺎﻋﻪ ﰲ اﻟﻐﺮب، ﻣﻦ اﻷﻫﻤﻴﺔ ﺑﻤﻜﺎن أن ﻧﻘﻴﱢﻢ املﻠﻄﻴني وﻧﻘﺪم ﺗﻔﺴريًا ملﺎذا ﻳﺴﺘﺤﻘﻮن ﻫﻢ ً أﻳﻀﺎ ﻟﻘﺐ ﻓﻼﺳﻔﺔ. ﻋﻨﺪ املﻘﺎرﻧﺔ ﺑني اﻟﻄﺮق اﻟﺘﻲ اﺗﱠﺒﻌﻬﺎ املﻠﻄﻴﻮن وﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ اﺗﱠﺒﻌﻬﺎ اﻷﻃﺒﺎء اﻷﺑﻘﺮاﻃﻴﻮن ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﺑﻤﺎﺋﺔ ﻋﺎم — ﻧﺎﻫﻴﻚ ﻋﻦ أرﺷﻤﻴﺪس وإﻗﻠﻴﺪس ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻟﺚ ﻗﺒﻞ املﻴﻼد — ﻧﺠﺪ أن اﻟﻄﺮق اﻟﺘﻲ اﺗﺒﻌﻬﺎ املﻠﻄﻴﻮن ﻛﺎﻧﺖ ﺷﺪﻳﺪة اﻟﺒﺴﺎﻃﺔ .وﻣﻦ ﻗﺒﻴﻞ املﻔﺎرﻗﺔ أن ﻫﺬا ﺗﺤﺪﻳﺪًا ﻣﺎ ﻳُﺪﺧﻠﻬﻢ ﰲ ُزﻣﺮة اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن اﻟﺘﻔﻜري اﻟﻌﻠﻤﻲ ﺣﺪﻳﺚ اﻟﻮﻻدة ﺑني ﻇﻬﺮاﻧﻴﻬﻢ، وﻟﻜﻨﻬﻢ اﻣﺘﻠﻜﻮا اﻟﺠﺮأة اﻟﻼزﻣﺔ ﻟﻠﺒﺤﺚ ﻋﻦ أﺳﺒﺎب اﻷﻣﻮر ﺣﻴﺚ ﺣﺎوﻟﻮا اﻟﺘﻌﻤﱡ ﻖ ﰲ اﻟﺒﺤﺚ أﻛﺜﺮ ﻣﻤﱠ ﺎ ﻛﺎن ﻣﺘﺎﺣً ﺎ ً وﻓﻘﺎ ﻟﻠﺼﻮرة اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ ﺣﻴﻨﺌ ٍﺬ ﻣﺴﺘﺨﺪﻣني ﰲ ذﻟﻚ ﻋﻘﻮﻟﻬﻢ، وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺠﻌﻞ ﻣﻨﻬﻢ ﻓﻼﺳﻔﺔ. ﻟﻘﺪ ﻛﺎن اﺳﺘﺨﺪام اﻟﻌﻘﻞ ً ً ﺧﺎﻟﺼﺎ؛ ﻓﻼ ﻓﺎﺋﺪة ﺗُﺮﺟﻰ ﻣﻦ ﻣﺤﺎوﻟﺔ وﺻﻒ ﻋﻤﻼ إﻳﻤﺎﻧﻴٍّﺎ اﻟﻘﻮاﻧني املﻮﺿﻮﻋﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﻜﻢ اﻟﻜﻮن إذا ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺛَﻤﱠ َﺔ ﻗﻮاﻧني ﻛﻬﺬه أو إذا ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه اﻟﻘﻮاﻧني ﺧﺎرج ﻧﻄﺎق اﻹدراك .ﻟﻘﺪ اﻓﱰض املﻠﻄﻴﻮن ﺑﺒﺴﺎﻃﺔ وﺟﻮد ﺗﻠﻚ اﻟﻘﻮاﻧني وﻗﺪرة اﻟﻌﻘﻞ ﻋﲆ إدراﻛﻬﺎ ،وﺟَ ﻨَﻮْا ﺛﻤﺎر ﻫﺬا اﻹﻳﻤﺎن ﺑﻮﺟﻮد ﻧَﻤَ ٍﻂ واﺿﺢ وﺟﲇ ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﱠ ﺗﻮﺻﻠﻮا إﱃ ﻣﺎ ﺑﺪا ﻟﻬﻢ ﺗﻔﺴريات ﺟﻴﺪة ﻟﺒﻌﺾ اﻟﻈﻮاﻫﺮ ﻣﺜﻞ اﻟﺤﻴﺎة واﻟﻜﺴﻮف واﻟﺨﺴﻮف ﱢ واﻟﺮﻋﺪ .وﻳﻮﺿﺢ ﺣﺪﻳﺚ أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر ﻋﻦ »اﻟﴬورة« واﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺘﻲ »ﺗﻌﺎﻗﺐ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺑﻌﻀﺎ ﻋﲆ اﻟﻈﻠﻢ اﻟﺬي ﺗﻘﱰﻓﻪ ً ً ﻃﺒﻘﺎ ﻟﺘﻘﻴﻴﻢ اﻟﺰﻣﻦ« اﻹﻳﻤﺎن اﻟﺠﺪﻳﺪ ﻟﺪى املﻠﻄﻴني ﺑﻌﺎﻟﻢ ﺗﺤﻜﻤﻪ ﻗﻮاﻧني ﻣﻔﻬﻮﻣﺔ ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن ﻫﺬا اﻟﺤﺪﻳﺚ ﺟﺎء ﰲ أﻟﻔﺎظ ﺷﺎﻋﺮﻳﺔ. وﻟﻜﻦ ﺗﻠﻚ املﻌﺘﻘﺪات ﻟﻢ ﻳُﻌ َﻠﻦ ﻋﻨﻬﺎ ﴏاﺣﺔ إﻻ ﰲ وﻗﺖ ﻻﺣﻖ؛ ﻓﻘﺪ أﺧﺬ اﻷﻃﺒﺎء اﻟﺬﻳﻦ َ ﻳﺘﺒﺎﻫﻮْن ﺑﺎملﺬﻫﺐ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ اﻟﺠﺪﻳﺪ .وﰲ أﺣﺎﻃﻮا ﺑﺄﺑﻘﺮاط اﻟﻜﻮﳼ )ﺣﻮاﱄ ٣٧٠–٤٦٠ق.م( ذﻟﻚ ﻗﺎﻟﻮا ﻋﻦ ﻣﺮض اﻟﴫع اﻟﺬي اﺷﺘﻬﺮ ﺑﺎﺳﻢ »املﺮض املﻘﺪس«: 37
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻳﻨﺸﺄ ﻫﺬا املﺮض ذو اﻟﻄﺎﺑﻊ املﻘﺪﱠس ﻋﻦ اﻷﺳﺒﺎب ﻧﻔﺴﻬﺎ اﻟﺘﻲ ﺗﺴﺒﺐ اﻷﻣﺮاض اﻷﺧﺮى؛ ﻋﻦ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ ﺗَ ُ ﺪﺧﻞ اﻟﺠﺴﻢ وﺗﺨﺮج ﻣﻨﻪ وﻋﻦ اﻟﱪد واﻟﺸﻤﺲ واﺿﻄﺮاب اﻟﺮﻳﺎح … وﻟﻴﺴﺖ ﻫﻨﺎك ﺣﺎﺟﺔ ﻟﻮﺿﻊ ﻫﺬا املﺮض ﰲ ﻓﺌﺔ ﺧﺎﺻﺔ ً ﻗﺪﺳﻴﺔ ﻣﻦ اﻷﻣﺮاض اﻷﺧﺮى ،ﻓﻜﻠﻬﺎ إﻟﻬﻴﺔ وﰲ اﻟﻮﻗﺖ ذاﺗﻪ ﻛﻠﻬﺎ واﻋﺘﺒﺎره أﻛﺜﺮ ﺑﴩﻳﺔ ،وﻟﻜ ﱟﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﻃﺒﻴﻌﺘﻪ وﻗﻮﺗﻪ اﻟﺨﺎﺻﺔ ،وﻻ ﳾء ﻣﻨﻬﺎ ﻣﻔﻘﻮد ﻓﻴﻪ اﻷﻣﻞ أو ﻣﺴﺘﻌﺺ ﻋﲆ اﻟﻌﻼج. ٍ وﻟﻢ ﱢ ﻳﻘﺴﻢ ﻫﺆﻻء اﻷﻃﺒﺎء اﻟﻌﺎﻟﻢ إﱃ أﻣﻮر إﻟﻬﻴﺔ ﻏﺎﻣﻀﺔ وأﺧﺮى ﻗﺎﺑﻠﺔ ﻟﻠﺘﻔﺴري ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ؛ ﻓﻴﺒﺪو أﻧﻬﻢ ﺳﺎروا ﻋﲆ درب املﻠﻄﻴني واﻓﱰﺿﻮا أن ﻛﻞ ﳾء ﻗﺎﺑﻞ ﻟﻠﺘﻔﺴري. ﻟﻘﺪ ﻛﺎن اﻷﻃﺒﺎء اﻷﺑﻘﺮاﻃﻴﻮن ﻳﺘﻤﺘﻌﻮن ﺑﻘﻮة املﻼﺣﻈﺔ ﻟﻠﺤﻘﺎﺋﻖ وﻳﺴﺎورﻫﻢ َﺷ ﱞﻚ ﻛﺒري ﻓﻴﻤﺎ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ إﺛﺒﺎﺗﻪ .وﻳﻘﺎل إن املﻠﻄﻴني ﻛﺎﻧﻮا ﻋﲆ اﻟﻨﻘﻴﺾ ﻣﻦ اﻷﻃﺒﺎء اﻷﺑﻘﺮاﻃﻴني ﻏري ﱡ ﺑﺎﻟﺘﺤﻘﻖ ﻣﻦ ﺗﺄﻣﻼﺗﻬﻢ ،وﻫﻮ ﻣﺎ اﻧﺘﻘﺺ ﻣﻦ ﻗﻴﻤﺘﻬﻢ .وﺛَﻤﱠ َﺔ ﺟﺰء ﻣﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﰲ ذﻟﻚ ﻣﻬﺘﻤﱢ ني اﻟﻘﻮل ،رﻏﻢ وﺟﻮد دﻟﻴﻞ ﻋﲆ أن أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﻴﻨﺲ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﻗﺎم ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﺑﺈﺟﺮاء ﺗﺠﺎرب ﻧﻮع ﻣﺎ .ورﻏﻢ أﻧﻪ أﺟﺮى اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ ﺑﺸﻜﻞ أﺑﻌﺪ ﻣﺎ ﻳﻜﻮن ﻋﻦ اﻟﺼﻮاب؛ ﻓﻼ ﻳﻨﺘﻘﺺ ﻫﺬا ﻣﻦ ٍ ﻣﻤﺎ ﻗﺎم ﺑﻪ .ﻓﻘﺪ ذﻛﺮ )ﰲ ﺗﻮﺿﻴﺢ ﻷﺣﺪ اﻟﺘﻔﺴريات املﻘﺒﻮﻟﺔ( أﻧﻚ إذا زﻣﻤﺖ ﺷﻔﺘﻴﻚ واﺗﱠ َﺨ َﺬ ﻓﻤُﻚ ﺷﻜﻞ ﻓﺘﺤﺔ ﺻﻐرية وﻧﻔﺨﺖ ﰲ ﻳﺪك ﻓﺴﻮف ﻳﺨﺮج اﻟﻨ ﱠ َﻔ ُﺲ ﻣﻦ ﻓﻤﻚ ﺑﺎردًا ،وﻟﻜﻦ إذا أﺧﺮﺟﺖ زﻓريًا ﻣﻦ َﻓ ٍﻢ ﻣﻔﺘﻮح ﻋﲆ ﻣﴫاﻋﻴﻪ ﻓﺴﻮف ﻳﺨﺮج اﻟﻨ ﱠ َﻔ ُﺲ ﺳﺎﺧﻨًﺎ .وﻳﺒﺪو أن ﺗﻠﻚ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺗﺪﻋﻢ ﻧﻈﺮﻳﺘﻪ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺎﻟﺘﺨﻠﺨﻞ واﻟﺘﻜﺜﱡﻒ واﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮل إن اﻟﻬﻮاء املﻀﻐﻮط أﻛﺜﺮ ﺑﺮود ًة واﻟﻬﻮاء املﺘﺨﻠﺨﻞ أﻛﺜﺮ ﺳﺨﻮﻧﺔ) .وﰲ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻷﻣﺮ ،إن اﻟﻬﻮاء املﻀﻐﻮط أﻛﺜﺮ ﺳﺨﻮﻧﺔ وﻟﻜﻨﻪ ﺑﻤﺮوره ﰲ اﻟﻴﺪ ﺑﺸﻜﻞ أﴎع ﰲ ﺗﻠﻚ »اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ« ﻳﺠﻌﻞ اﻟﻴﺪ ﺗﺸﻌﺮ ﺑﺪرﺟﺔ أﻋﲆ ﻣﻦ اﻟﱪودة(. ﺗُﻌَ ﱡﺪ ﻣﺤﺎوﻟﺔ أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﻴﻨﺲ ﻟﺪﻋﻢ ﻧﻈﺮﻳﺘﻪ ﻋﻦ اﻟﻜﻮن ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺗﺪﻓِ ﺌﺔ ﻳﺪﻳﻪ ﻫﻲ اﻻﺳﺘﺜﻨﺎء اﻟﺬي ﻳﺆ ﱢﻛﺪ اﻟﻘﺎﻋﺪة .ﻓﺒﺸﻜﻞ ﻋﺎمﱟ ،ﻟﻢ ﻳﺤﻤﱢ ﻞ املﻠﻄﻴﻮن أﻧﻔﺴﻬﻢ ﻋﻨﺎء اﻟﺘﺠﺎرب. ﱠ املﻔﻀﻠﺔ — وﻫﻲ اﻟﺴﻤﺎء واﻟﺠﻮ وأﺻﻞ اﻷﺷﻴﺎء — وﻻ ﻳﺪﻫﺸﻨﺎ ذﻟﻚ ﻷن ﻣﺠﺎﻻت ﺑﺤﺜﻬﻢ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻣﻼﺋﻤﺔ ﻟﻬﺎ؛ ﻓﺎﻟﻌﻮاﺻﻒ اﻟﺮﻋﺪﻳﺔ وﻏﺮوب اﻟﺸﻤﺲ ﻇﻮاﻫﺮ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺘﻌﺎﻣﻞ ﻣﻌﻬﺎ أو ﺗﺤﻠﻴﻠﻬﺎ ﺑﺴﻬﻮﻟﺔ .وﻋﻨﺪﻣﺎ واﺟﻬﺘﻬﻢ ﻫﺬه اﻷﻟﻐﺎز وﺳﺪت ﻃﺮﻳﻘﻬﻢ ﻟﺠﺄ املﻠﻄﻴﻮن إﱃ ﻣﺎ ﻳﺠﻴﺪوﻧﻪ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ،أﻻ وﻫﻮ ﻣﺤﺎوﻟﺔ اﻟﺘﻔﻜري املﻨﻄﻘﻲ ﻓﻴﻬﺎ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﻘﻴﺎﺳﺎت واملﻼﺣﻈﺎت ُﺤﺮزون املﺘﺎﺣﺔ .وﻣﻊ وﺿﻊ اﻫﺘﻤﺎﻣﺎﺗﻬﻢ ﰲ اﻻﻋﺘﺒﺎر ،ﻳﺼﻌُ ﺐ ﻋﻠﻴﻨﺎ اﻻﻋﺘﻘﺎد أﻧﻬﻢ ﻛﺎﻧﻮا ﺳﻴ ِ املﺰﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺘﻘﺪﱡم إذا ﻓ ﱠﻜﺮوا ﰲ إﺟﺮاء املﺰﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺘﺠﺎرب. 38
اﻟﻨﻤﻮذج اﻷﺻﲇ :املﻠﻄﻴﻮن
وﺛﻤﺔ اﻧﺘﻘﺎد أﻛﺜﺮ ﺧﻄﻮرة ﻣﻮﺟﱠ ﻪ ﻟﻜ ﱟﻞ ﻣﻦ املﻠﻄﻴني واﻷﻃﺒﺎء اﻷﺑﻘﺮاﻃﻴني ،وﻫﻮ أن ادﻋﺎءاﺗﻬﻢ ﺑﺎﻣﺘﻼك ﻣﻌﺮﻓﺔ أﻛﺜﺮ رﻗﻴٍّﺎ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ إﻻ ﺧﺪﻋﺔ .ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ،ﻛﺎن ﻣﺆ ﱢﻟﻒ اﻟﻌﻤﻞ ﱠ ً ﻳﺘﺪﻓﻖ ﺳﺎﺑﻘﺎ ﻳﻌﺘﻘﺪ أن ﻣﺮض اﻟﴫع ﻳُﻌﺰى إﱃ اﻟﺒﻠﻐﻢ اﻟﺬي اﻷﺑﻘﺮاﻃﻲ املﺴﺘﺸﻬَ ﺪ ﺑﻪ ﻣﻦ اﻟﺮأس إﱃ اﻟﴩاﻳني وﻳﻘﻄﻊ ﱡ ﺗﺪﻓﻖ اﻟﻬﻮاء .ورﻏﻢ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﺤﺘﻘِ ﺮ املﺸﻌﻮذﻳﻦ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻮن اﻟﺴﺤﺮ ﰲ ﻣﺤﺎوﻻﺗﻬﻢ ﻟﻌﻼج اﻟﴫع ،ﻓﺈﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺑﺄوﻓﺮ ﻣﻨﻬﻢ ﺣ ٍّ ً وإﺟﻤﺎﻻ ﻈﺎ. ﻳﻤﻜﻦ اﻟﻘﻮل إن أواﺋﻞ املﺆﻳﺪﻳﻦ ﻟﻠﻤﺬﻫﺐ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ اﺷﺘﻬﺮوا ﺑﺮﻓﻀﻬﻢ اﻟﺸﺪﻳﺪ ﻟﻠﺘﻔﺴريات اﻟﺨﺮاﻓﻴﺔ ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ اﺷﺘﻬﺎرﻫﻢ ﺑﺘﻔﺎﺻﻴﻞ ﻣﺎ ﻗﺪﱠﻣﻮه ﻣﻦ ﺑﺪاﺋﻞ. ِ ﱡ اﻟﺘﻤﺴﻚ ﺑﺎﻟﺮؤﻳﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ؛ ﻳﺴﺘﻄﻊ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ أَﺗَﻰ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﻣﻦ اﻷﻳﻮﻧﻴني وﻟﻢ ﺣﻴﺚ ﻛﺎن ﻫﻨﺎك اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻷﻣﻮر اﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﻳﺘﻤ ﱠﻜﻨﻮا ﻣﻦ ﺗﻔﺴريﻫﺎ .وﻟﻨﺄﺧﺬ ﻫريودوت )ﺣﻮاﱄ ٤٣٠–٤٨٥ق.م( ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل؛ ﻓﻬﻮ ﻋﺎدة ﻣﺎ ﻳﻠﻘﺐ ﺑ »أﺑﻮ اﻟﺘﺎرﻳﺦ« وأﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ أﻗﻞ ً ﻟﻄﻔﺎ ﺑ »أﺑﻮ اﻷﻛﺎذﻳﺐ« ،وﻳُﺴﺘﺸﻬﺪ ﺑﻪ ﻛﺜريًا ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣﻼﺋﻢ ﺑﻮﺻﻔﻪ ﺑﺎﺣﺜًﺎ واﻗﻌﻴٍّﺎ ﻣﻌﱪًا ﻋﻦ املﻠﻄﻴني .وﻟﻜﻦ ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ أﻗﻮاﻟﻪ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﺴﻢ ﺑﺎﻟﻮاﻗﻌﻴﺔ واﻟﻨﺰوع إﱃ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻣﺜﻞ ﻣﺤﺎوﻟﺘﻪ ﺗﻔﺴري ﻓﻴﻀﺎن اﻟﻨﻴﻞ وﺗﺸﻜﻴﻜﻪ اﻟﺸﺪﻳﺪ ﰲ ﺑﻌﺾ اﻟﺮواﻳﺎت اﻟﺨﺎرﻗﺔ ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ؛ ﻓﺜَﻤﱠ َﺔ ﻫﻔﻮات ﻟﻪ ﺗﻌﻮد ﺑﻪ إﱃ دروب اﻟﻼﻫﻮﺗﻴني ﺻﺎﻧﻌﻲ اﻷﺳﺎﻃري .ﻓﻬﻮ ﻳﻘﻮل ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل إن زﻟﺰال دﻳﻠﻮس أرﺳﻠﺘﻪ اﻵﻟﻬﺔ ﺗﺤﺬﻳ ًﺮا ﻟﻠﻨﺎس ،وﻟﻴﺲ ﻣﺠﺮد ذﻛﺮ اﻷﻟﻮﻫﻴﺔ ﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﱪز اﻧﺤﺮاﻓﻪ ﻋﻦ املﺴﺎر اﻟﻀﻴﻖ املﺘﺸﻜﻚ ﻟﻌﻠﻤﺎء اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ .وﻳﻘﺎل إن ٍّ ﻛﻼ ﻣﻦ أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر وأﻧﺎﻛﺴﻴﻤﻴﻨﺲ ﻗﺪ أﺷﺎرا إﱃ »اﻷﺻﻞ« اﻟﺨﺎص ﺑﻬﻤﺎ ﺑﻮﺻﻔﻪ إﻟﻬﻴٍّﺎ ،إﻻ أن اﻟﻘﺎرئ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻳﺠﺐ ﱠأﻻ ﻳﻘﺮأ ﻛﺜريًا ﰲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻵراء .ﻓﻠﻜﻲ ﺗﻀﻔﻲ ﺻﻔﺔ اﻷﻟﻮﻫﻴﺔ ﻋﲆ أي ﳾء ﰲ ﺗﻠﻚ اﻷﻳﺎم ،ﻟﻢ ﻳﻜﻦ اﻷﻣﺮ ﻳﻠﺰم أﻛﺜﺮ ﻣﻦ أن ﻳﻜﻮن ﻫﺬا اﻟﴚء ﺣﻴٍّﺎ؛ أي ﻗﺎد ًرا ﻋﲆ إﺣﺪاث اﻟﺤﺮﻛﺔ، وﻟﻜﻦ ﻻ ﻳﻤﻮت .وﻛﻤﺎ ﻗﺎل أﺣﺪ املﻌ ﱢﻠﻘني املﺤﺪَﺛني» :ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﻄﻠﻖ ﻋﲆ أﻳﺔ ﻗﻮة ﻧﺮاﻫﺎ ﺗﻌﻤﻞ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ وُﺟﺪت ﻗﺒﻠﻨﺎ وﺳﺘﺴﺘﻤﺮ ﺑﻌﺪﻧﺎ ﻟﻘﺐ إﻟﻪ ،وﻣﻌﻈﻤﻬﺎ ﻛﺎن ﻛﺬﻟﻚ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ «.وﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺧﻄﻴﺌﺔ ﻫريودوت أﻧﻪ ﺗﺤﺪﱠث ﻋﻦ اﻷﻟﻮﻫﻴﺔ وﻟﻜﻦ أﻧﻪ ﻗﺪﱠم ﻟﻨﺎ ﻛﺎﺋﻨﺎت ﺷﺨﺼﻴﺔ ﻳﻠﻔﻬﺎ ﴏ اﻟﻐﻤﻮض اﻟﻼزم ﻟﻠﺘﻘﻮى اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ اﻟﺴﺒﺐ اﻷوﺣﺪ ﻟﻸﺣﺪاث اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ،وﻫﻮ ﻣﺎ أ َ َ ﱠ ً ﻛ ﱞﻞ ﻣﻦ ﻃﺎﻟﻴﺲ وأﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر وأﻧﺎﻛﺴﻴﻤﻴﻨﺲ ﻋﲆ رﻓﻀﻪ ً ﻣﻄﻠﻘﺎ. رﻓﻀﺎ ﻟﻜﻦ ﻣﺎ اﻟﺬي ﺣﺪَا ﺑﺎملﻠﻄﻴني واﻷﻃﺒﺎء اﻷﺑﻘﺮاﻃﻴني ِﻷ َ ْن ﻳﻨﻈﺮوا إﱃ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺑﺘﻠﻚ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة ،ﻣﺘﺤ ﱢﺮرﻳﻦ ﻣﻦ ﻗﻴﻮد اﻷﺳﺎﻃري واﻟﺨﺮاﻓﺎت ﺣﻮل اﻷﻣﺮاض املﻘﺪﺳﺔ؟ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻻ ﻳﻌﻠﻢ أﺣﺪ اﻹﺟﺎﺑﺔ ﻳﻘﻴﻨًﺎ .وﻗﺪ اﻋﺘﻘﺪ أرﺳﻄﻮ أن املﻬﻢ ﺑﺸﺄن اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻷواﺋﻞ ﻫﻮ أﻧﻬﻢ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺘﻤﺘﱠﻌﻮن ﺑﻜﺜري ﻣﻦ وﻗﺖ اﻟﻔﺮاغ ،وﻟﻜﻦ ﻟﻴﺲ ﻫﺬا ﻛﻞ ﻣﺎ ﰲ اﻷﻣﺮ ،إن ﻛﺎن ﻟﻪ ﺻﻠﺔ 39
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﺑﻪ ﺑﺎﻷﺳﺎس .ﻓﺜﻤﺔ ﺛﻼث ﺣﻘﺎﺋﻖ أﺧﺮى ﺣﻮﻟﻬﻢ أﻛﺜﺮ ﺻﻠﺔ ﺑﺎملﻮﺿﻮع؛ أوﻟﻬﺎ :أن اﻷﻳﻮﻧﻴني ً رﺟﺎﻻ ﻋﻤﻠﻴني ﻳﺤﺮﺻﻮن ﻋﲆ ﺗﻨﻤﻴﺔ ﻣﻬﺎراﺗﻬﻢ ﰲ ﻋﻠﻢ اﻟﻔﻠﻚ )وﺧﺎﺻﺔ املﻠﻄﻴني( ﻛﺎﻧﻮا واﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺎ واملﻼﺣﺔ وﻣﺴﺢ اﻷراﴈ وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﺪﻳﻬﻢ ﻣﺘﺴﻊ ﻣﻦ اﻟﻮﻗﺖ ﻟﻸﺳﺎﻃري اﻟﺨﻴﺎﻟﻴﺔ. وﺛﺎﻧﻴﻬﺎ :أن اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻨﻬﻢ ﺑﻮﺻﻔﻬﻢ ﺗﺠﺎ ًرا ﻣﺠﺘﻬﺪﻳﻦ ﻛﺎﻧﻮا َرﺣﱠ ﺎﻟﺔ ﻳﻘﺎﺑﻠﻮن اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻷﺟﺎﻧﺐ أو ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﻳﺴﻤﻌﻮن ﻋﻨﻬﻢ ،وﻛﺎن ﻟﻸﺟﺎﻧﺐ أﺳﺎﻃري وﺧﺮاﻓﺎت ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻤﱠ ﺎ ﺷﺠﻊ اﻷﻳﻮﻧﻴني ﻋﲆ اﻟﺘﺸﻜﻚ ﰲ ﻣﻌﺘﻘﺪاﺗﻬﻢ اﻟﺨﺎﺻﺔ .وآﺧﺮﻫﺎ :ﺗﻔﻜريﻫﻢ اﻟﺬي ﻳﺘﺤ ﱠﺮر ﻣﻦ اﻟﺪﻳﻦ ﻛﻤﺎ ﻳﺘﺤﺮر اﻟﺠﻤﻞ ﻣﻦ ﻋﻘﺎﻟﻪ .ﻛﺎن ﻟﻸﻳﻮﻧﻴني آﻟﻬﺘﻬﻢ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ وﻫﻲ آﻟﻬﺔ ﺟﺒﻞ أوملﺒﻮس اﻟﺘﻲ ﻛﺘﺐ ﻋﻨﻬﺎ ﻫﻮﻣريوس وﺧﺼﺼﺖ ﻟﻬﺎ املﻌﺎﺑﺪ ،وﻟﻜﻦ إﻳﻤﺎﻧﻬﻢ ﺑﺂﻟﻬﺘﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ إﻳﻤﺎﻧًﺎ ﻗﻮﻳٍّﺎ .وﻣﻘﺎرﻧﺔ ﺑﺄﻧﺼﺎر اﻟﻄﻮاﺋﻒ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ واﻷدﻳﺎن اﻟﺸﻌﺒﻴﺔ املﺘﻌﺪدة اﻟﺘﻲ ﻧﺸﺄت ﰲ ﺷﻤﺎل ﺗﺮاﻗﻴﺎ وﻏﺮﺑﻬﺎ، ﻳﺒﺪو أن املﻠﻄﻴني ﻛﺎﻧﻮا ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﻼأدرﻳني ،وﻳﺼﻌﺐ ﺗﺨﻴﱡﻞ أن ﻧﺸﺄة املﺬﻫﺐ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ﻷول ﻣﺮة ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﻈﺮوف ﻛﺎن ﻣﺤﺾ ﻣﺼﺎدﻓﺔ. ُ اﻟﺘﻨﺎﻓﺴﻴﺔ اﻟﻌﻠﻨﻴﺔ ﻋﲆ ﺗﻔﺴري ﻧﺸﺄة املﺬﻫﺐ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ وﻗﺪ ﻳﺴﺎﻋﺪﻧﺎ اﻧﺘﺸﺎر املﻨﺎﻇﺮات وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﰲ ﺑﻼد اﻟﻴﻮﻧﺎن؛ ﻓﻘﺪ اﺷﺘﻬﺮ ﻣﻮاﻃﻨﻮ املﺪن اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ ﺑﺤﺐ اﻟﺠﺪل ،وﻳﺒﺪو أن اﻹﻏﺮﻳﻖ ﻗﺪ اﻋﺘﱪوا اﻟﱪﻫﺎن واﻟﻨﻘﺪ أﻛﺜﺮ اﺳﺘﺨﺪاﻣﺎت اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻧُﺒ ًْﻼ .وﻗﺪ ﻛﺘﺐ أرﺳﻄﻮ ً ﻗﺎﺋﻼ» :إن املﺮاد ﻣﻦ ﻗﻮة اﻟﺤﺪﻳﺚ ﺗﻮﺿﻴﺢ املﻼﺋﻢ وﻏري املﻼﺋﻢ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ اﻟﻌﺎدل واﻟﻈﺎﻟﻢ «.ﻓﻼ ﻋﺠﺐ إذن أن ﺗﺘﺤﻮﱠل أدوات اﻟﺠﺪل ﰲ ﺑﻌﺾ املﺪن ﻋﲆ اﻷﻗﻞ إﱃ دراﺳﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ .وﺟﺪﻳﺮ ﺑﺎﻟﺬﻛﺮ ً أﻳﻀﺎ أﻧﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﺎن اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻷواﺋﻞ ﻳُﻠﻘﻮن اﻟﺨﻄﺐ وﻳﺤﺘﺠﻮن ﻋﲆ أي ﳾء ﻛﺎن ذﻟﻚ ﻋﲆ ﻣﺮأًى وﻣﺴﻤﻊ ﻣﻦ ﺟﻤﻬﻮر ﺗﺰداد ﺛﻘﺎﻓﺘﻪ ﻳﻮﻣً ﺎ ﺑﻌﺪ ﻳﻮم .ﻧﺸﺄت اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ اﻷﺑﺠﺪﻳﺔ ً أوﻻ ﰲ اﻟﻴﻮﻧﺎن ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻣﻦ ﻗﺒﻞ املﻴﻼد ،وأﺧﺬت ﰲ اﻻﻧﺘﺸﺎر ﺑﺤﻠﻮل اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎدس ﻗﺒﻞ املﻴﻼد؛ ﻣﻤﱠ ﺎ أﺗﺎح ﺗﺪوﻳﻦ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﻗﻮﻟﻪ ﺑﺴﻬﻮﻟﺔ وﻳُﴪ ،وﻫﻮ ﳾء ﺟﺪﻳﺪ ﻳﺼﻌﺐ ﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﻘﺪره ﺣﻖ ﺗﻘﺪﻳﺮه .وﺑﺒﻠﻮرة املﻌﺘﻘﺪات واﻷﺳﺎﻃري واﻟﻨﻈﺮﻳﺎت واﻟﺮواﻳﺎت ﻣﻦ ﻛﻞ ً ﻣﺘﺎﺣﺔ ﻟﻠﺘﻤﺤﻴﺺ واﻟﺘﺪﻗﻴﻖ ﻧﻮع؛ أﺻﺒﺤﺖ ﻫﺬه املﻌﺘﻘﺪات واﻷﺳﺎﻃري واﻟﻨﻈﺮﻳﺎت واﻟﺮواﻳﺎت واﻟﻨﻘﺪ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻟﻢ ﻳﻔ ﱢﻜﺮ ﻓﻴﻬﺎ أﺣ ٌﺪ ﻣﻦ ﻗﺒ ُﻞ ﰲ اﻟﺜﻘﺎﻓﺎت اﻟﺘﻲ اﻋﺘﻤﺪت ﻋﲆ رواﻳﺔ اﻟﻘﺼﺺ ﻗﺒﻞ اﺧﱰاع اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ .ورﻏﻢ ﻛﻞ ﻋﻴﻮﺑﻬﻢ ﻳﺒﺪو أن املﻠﻄﻴني ﻫﻢ أول ﻣﻦ ﺣﺎول اﺳﺘﻐﻼل ﺗﻠﻚ اﻟﻔﺮﺻﺔ.
40
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻧﻲ
ﺗﻨﺎﻏﻢ اﻟﻌﺎﱂ :اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﻮن
ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺮواﻳﺎت ﺣﻮل ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ﺗﻄﺎرده وﺗﻠﺘﺼﻖ ﺑﻪ ﻛﻤﺎ ﺗﻠﺘﺼﻖ ﺑﺮادة اﻟﺤﺪﻳﺪ ﺑﺎملﻐﻨﺎﻃﻴﺲ؛ ﻓﻘﺪ ﻗﻴﻞ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل إﻧﻪ ﻇﻬﺮ ﰲ أﻣﺎﻛﻦ ﻋﺪة ﰲ وﻗﺖ واﺣﺪ ،وإن روﺣﻪ ﻗﺪ ﺗﻨﺎﺳﺨﺖ ﻋﺪة ﻣﺮات .وإذا أﺧﺬﻧﺎ ﻫﺬا اﻟﻜﻼم ﻋﲆ ﻣﺤﻤﻠﻪ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ َ ﺿﻤﱡ ُﻪ إﱃ املﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻐﻔرية ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﺮواﻳﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺸﻤﻞ اﻻدﱢﻋﺎء ﺑﺄﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﻤﺘﻠﻚ ﻓﺨِ ﺬًا ذﻫﺒﻴﺔ، وﻟﻜﻦ إذا ﻓﻜﺮﻧﺎ ﰲ ﻫﺬا اﻟﻜﻼم ﺑﺸﻜﻞ رﻣﺰي ﻓﻬﻮ ﺗﻘﻠﻴﻞ ﻣﻦ ﺷﺄن اﻟﺮﺟﻞ؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس — أو ﻋﲆ اﻷﻗﻞ املﺬﻫﺐ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮري — ﻣﻮﺟﻮدًا ﰲ ﻛﻞ ﻣﻜﺎن وﻻ ﻳﺰال. وﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﻃﺎﻟﺐ ﻋﲆ وﺟﻪ اﻷرض ﻟﻢ ﻳﺴﻤﻊ ﺑﻬﺬا اﻻﺳﻢ ﻣﺮﺗني ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﰲ اﻟﻬﻨﺪﺳﺔ )ﺣﻴﺚ ﺗُﻨﺴﺐ إﻟﻴﻪ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺸﻬرية ﺣﻮل أﻃﻮال أﺿﻼع املﺜﻠﺜﺎت ﻗﺎﺋﻤﺔ اﻟﺰاوﻳﺔ( وﻛﺬﻟﻚ ﰲ ﻣﴪﺣﻴﺔ ﺷﻜﺴﺒري »اﻟﻠﻴﻠﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻋﴩة«: املﻬﺮج :ﻣﺎذا ﻳﻘﻮل ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ﻋﻦ اﻟﻄﻴﻮر اﻟﺠﺎرﺣﺔ؟ ﻣﺎﻟﻔﻮﻟﻴﻮ :ﻳﻘﻮل إن روح املﺮأة اﻟﻌﺠﻮز ﻗﺪ ﺗﺴﻜﻦ ﺟﺴﺪ ﻃﺎﺋﺮ. املﻬﺮج :وﻣﺎ ﻗﻮﻟﻚ ﰲ رأﻳﻪ؟ ً ﻣﻄﻠﻘﺎ. ﻣﺎﻟﻔﻮﻟﻴﻮ :إﻧﻨﻲ أﻗﺪر ﻟﻠﺮوح ﻣﻜﺎﻧﺘﻬﺎ وﻟﻜﻨﻲ ﻻ أواﻓﻖ ﻋﲆ رأﻳﻪ َ وﻟﺘﺒﻖ ﺣﻴﺚ أﻧﺖ ﰲ اﻟﻈﻼم .ﻋﻠﻴﻚ أن ﺗﺆﻣﻦ ﺑﺮأي ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ﻗﺒﻞ املﻬﺮج :اﻟﻮداع، َ وﻟﺘﺨﺶ ﻗﺘﻞ دﺟﺎﺟﺔ ﻋﲆ اﻷرض ﻣﺨﺎﻓﺔ أن ﺗﻀﻴﻊ روح ﺟﺪﺗﻚ. أن ﺗﺜﻖ ﺑﻌﻘﻠﻚ، ُ وﺗﻨﺎﺳﺦ اﻷرواح ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻣﻮﺿﻮﻋﺎت ﻣﺘﻨﻮﱢﻋﺔ ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻪ اﻟﻜﻔﺎﻳﺔ ،ﺑﻮﺳﻌﻨﺎ وﻛﻤﺎ ﻟﻮ أن املﺜﻠﺜﺎت اﻟﻘﻮل إﻧﻨﺎ ﻧﺠﺪ ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس أﻳﻨﻤﺎ اﺳﺘﺨﺪﻣﻨﺎ اﻟﺘﻌﺒريات اﻟﺤﺴﺎﺑﻴﺔ ﻣﺜﻞ »ﻣﺮﺑﻌﺎت« أو »ﻣﻜﻌﺒﺎت« أو ﻣﺮرﻧﺎ ﺑﺎﻟﺼﻮرة اﻟﺸﻌﺮﻳﺔ ﻟ »املﻮﺳﻴﻘﻰ اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ« أو اﺳﺘﺨﺪﻣﻨﺎ ﻣﺼﻄﻠﺢ »ﻓﻴﻠﺴﻮف« ﺑﺎملﻌﻨﻰ اﻟﺸﺎﺋﻊ ملﺤﺐ اﻟﺤﻜﻤﺔ اﻟﺬي ﻳﺴﻌﻰ إﱃ أن ﻳﺴﻤﻮ ﻓﻮق املﻨﻐﺼﺎت
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
اﻟﺪﻧﻴﻮﻳﺔ .واﻷﻫﻢ ﻣﻦ ذﻟﻚ أن أﻓﻼﻃﻮن ﻗﺪ ﺻﺎغ ﺑﻌﺾ ﻣﻌﺘﻘﺪاﺗﻪ اﻷﺷﺪ ﺗﺄﺛريًا ﻋﲆ ﻫﺪي ﻣﻦ أﻓﻜﺎر ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس. وﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺴﺘﺸﻬﺪ ﺑﺮﺗﺮاﻧﺪ راﺳﻞ ﺑﺎملﺸﻬﺪ اﻟﺴﺎﺑﻖ ﻣﻦ ﻣﴪﺣﻴﺔ »اﻟﻠﻴﻠﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻋﴩة« ﰲ اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺬي ﻳﺘﺤﺪث ﻓﻴﻪ ﻋﻦ ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ﰲ ﻛﺘﺎﺑﻪ »ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ« ،ﻳﻘﻮل ﻣﺎزﺣً ﺎ إن ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ﻗﺪ أﻗﺎم دﻳﻨًﺎ »ﻋﻘﺎﺋﺪه اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ُ ﺗﻨﺎﺳﺦ اﻷرواح وﺗﺄﺛﻴﻢ ﺗﻨﺎوُل اﻟﻔﻮل«. ﻳﺒﺎﻟﻎ راﺳﻞ ﰲ وﺻﻒ أﻫﻤﻴﺔ ﻣﺴﺄﻟﺔ اﻟﻔﻮل ،وﻟﻪ ﺑﻌﺾ اﻟﻌﺬر ﰲ ذﻟﻚ ،إﻻ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳُﻘ ﱢﻠﻞ ﻣﻦ ﺷﺄن ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ﺑﻮﺟﻪ ﻋﺎم ،ﺑﻞ إﻧﻪ ﻋﲆ اﻟﻨﻘﻴﺾ ﻣﻦ ذﻟﻚ ﻗﺎل إن ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ﻛﺎن »واﺣﺪًا ً ﻣﺘﺤﻤﺴﺎ ﻣﻦ أﻫﻢ املﻔﻜﺮﻳﻦ اﻟﺬﻳﻦ ﻣﺸﻮا ﻋﲆ اﻷرض «.وﻟﻔﱰة ﻛﺎن راﺳﻞ ﻧﻔﺴﻪ ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرﻳٍّﺎ ﰲ ﺑﻌﺾ اﻟﺠﻮاﻧﺐ ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻗﺪ ﻳﻔﴪ ﻣﻐﺎﻻﺗﻪ ﰲ اﻟﺘﻘﺪﻳﺮ.
ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس.
وإذا ﻛﺎن ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ﻣﻮﺟﻮدًا ﰲ ﻛﻞ ﻣﻜﺎن ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺐ املﺪرﺳﻴﺔ إﱃ ﻋﻘﻞ ﺑﺮﺗﺮاﻧﺪ ﱠ ﻳﺘﺒﻖ ﻣﻤﱠ ﺎ ﻗﺎﻟﻪ أو ﻛﺘﺒﻪ ﳾء اﻟﻴﻮم )ﻋﲆ ﻋني إذ ﻟﻢ راﺳﻞ؛ ﻓﻘﺪ أﺻﺒﺢ ﻛﺬﻟﻚ أﺛ ًﺮا ﺑﻌﺪ ٍ اﻷﻗﻞ ﻻ ﳾء ﻳﺤﻤﻞ اﺳﻤﻪ؛ ﻓﻔﻲ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻷﻣﺮ ﻗﺪ ﻳﻜﻮن ﻫﻮ ﺻﺎﺣﺐ ﺑﻌﺾ اﻟﻘﺼﺎﺋﺪ اﻟﺘﻲ 42
ﺗﻨﺎﻏﻢ اﻟﻌﺎﻟﻢ :اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﻮن
ﻳﻌﻮد ﺗﺎرﻳﺨﻬﺎ ﻟﻠﻘﺮن اﻟﺴﺎدس واﻟﺘﻲ ﻧ ُ ِﺴﺒ َْﺖ ﻟﻠﺸﺎﻋﺮ اﻷﺳﻄﻮري أورﻓﻴﻮس( .وﰲ اﻟﺮواﻳﺎت اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻋﻦ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني ﻳﺘﻌﺬﱠر اﻟﺘﻤﻴﻴﺰ ﺑني أﻓﻜﺎر ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ذاﺗﻪ وﺑني أﻓﻜﺎر أﺗﺒﺎﻋﻪ، وﻳﺮﺟﻊ ذﻟﻚ ﻏﺎﻟﺒًﺎ إﱃ أن أﺗﺒﺎع اﻟﻄﻮاﺋﻒ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ اﻟﺘﻲ اﺳﺘﻤﺪﱠت إﻟﻬﺎﻣﻬﺎ ﻣﻦ ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ﱠ ﻳﺘﻮﺻﻠﻮن إﻟﻴﻪ إﱃ ﻣﻌﻠﻤﻬﻢ ،ﻛﻤﺎ أن اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني ﺗﺮاءى ﻟﻬﻢ أﻧﻪ ﻳﺠﺪر ﺑﻬﻢ ﻧﺴﺐ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺘﻔﺎﺧﺮون ﺑﺤﻤﺎﻳﺔ ﻋﻘﺎﺋﺪﻫﻢ ﻛﻤﺎ ﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ أﴎا ًرا ﻻ ﻳُﻔﺼﺤﻮن ﻋﻨﻬﺎ إﻻ ملﻦ ﻳﺮﻛﺐ ﺳﻔﻴﻨﺘﻬﻢ .وﻗﺪ ﺗﻤ ﱠﻜﻨﻮا ﻣﻦ اﻟﺤﻔﺎظ ﻋﲆ ﺗﻠﻚ اﻟﴪﻳﺔ إﱃ ﺣَ ﱟﺪ ﻣﺎ وﻟﻜﻦ ﺑﺸﻜﻞ ﻏري ﻣﺒﺎﴍ؛ ﻓﻘﺪ أﺛﺎرت اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﻠﻐﻂ ﺣﻮل اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني ﺣﺘﻰ إﻧﻪ ﻳﺘﻌﺬر ﺳﻤﺎع ﺻﻮت ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ وﺳﻂ ﺿﺠﻴﺞ اﻟﺜﺮﺛﺮة. وﻓﻴﻤﺎ ﻳﲇ ﻣﺜﺎل ﺗﻘﻠﻴﺪي ﻟﺴﻔﺎﺳﻒ اﻷﻣﻮر املﺘﻨﺎﻗﻀﺔ اﻟﺘﻲ ُﻛ ِﺘﺒ َْﺖ ﰲ ﻋﺼﻮر ﻗﺪﻳﻤﺔ ﺣﻮل ﺣﻴﺎة ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس: ً أوﻻ ﻣﻨَﻊ ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ﺗﻨﺎول اﻟﱪﺑﻮن وﺑﻌﺾ أﻧﻮاع اﻷﺳﻤﺎك اﻷﺧﺮى ،وﻓﺮض اﻻﻣﺘﻨﺎع ﻋﻦ ﺗﻨﺎول ﻗﻠﻮب اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت واﻟﻔﻮل وأﺣﻴﺎﻧًﺎ — ً ﻃﺒﻘﺎ ﻟﺮواﻳﺔ أرﺳﻄﻮ — أﻣﻌﺎء اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت وﺳﻤﻚ اﻟﻐﺮﻧﺎر .وﻳﻘﻮل اﻟﺒﻌﺾ إﻧﻪ ﻗﺪ اﻛﺘﻔﻰ ﺑﺘﻨﺎول اﻟﻌﺴﻞ أو ﺷﻤﻊ اﻟﻌﺴﻞ أو اﻟﺨﺒﺰ ،وإﻧﻪ ﻟﻢ ﻳ َُﻘ ﱢﺮبْ ﻛﺄس اﻟﺨﻤﺮ ﻣﻦ ﻓﻴﻪ ﻗﻂ وﻗﺖ اﻟﻨﻬﺎر، وإﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﻀﻴﻒ اﻟﺨﴬاوات ﻣﺴﻠﻮﻗﺔ أو ﻧﻴﺌﺔ إذا أﺣﺐ أن ﻳﺘﻨﺎول ﻃﻌﺎﻣً ﺎ ﺷﻬﻴٍّﺎ ،وﻧﺎد ًرا ﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﺘﻨﺎول اﻟﺴﻤﻚ … وﻛﺎﻧﺖ اﻟﻘﺮاﺑني اﻟﺘﻲ ﻳﻘﺪﻣﻬﺎ داﺋﻤً ﺎ ﻣﻦ اﻟﺠﻤﺎد رﻏﻢ أن اﻟﺒﻌﺾ ﻗﺎل إﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﻘﺪم اﻟﺪﻳﻮك واﻟﺠﺪاء وﺻﻐﺎر اﻟﺨﻨﺰﻳﺮ، ﺑﻴﺪ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﺬﺑﺢ اﻟﺤِ ﻤﻼن ﻗﻂ .أﻣﺎ أرﻳﺴﺘﻮﻛﺰﻳﻨﺲ ﻓﻴﺰﻋﻢ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﻮاﻓﻖ ﻋﲆ ﺗﻨﺎوُل ﻟﺤﻮم اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت اﻷﺧﺮى ،وﻟﻢ ﻳُﺤَ ﱢﺮم ﻋﲆ ﻧﻔﺴﻪ إﻻ ﻟﺤﻮم اﻟﺜريان اﻟﺘﻲ ﺗﺜري اﻷرض واﻟﻜﺒﺎش. وﺑﻮﺳﻌﻨﺎ أن ﻧﺆ ﱢﻛﺪ أن ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ﻛﺎن ﻳﺘﺒﻊ أﻛﺜﺮ اﻟﻨﻈﻢ اﻟﻐﺬاﺋﻴﺔ إﺛﺎر ًة ﻟﻠﺠﺪل ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ،وأﻛﺜﺮ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت املﺜﺒﺘﺔ ﺻﺤﺘﻬﺎ ﻋﻦ ﻫﺬا اﻷﻣﺮ ﺗﻘﴤ ﺑﺄﻧﻪ ﻛﺎن ﻧﺒﺎﺗﻴٍّﺎ؛ ذﻟﻚ أﻧﻪ اﻋﺘﻘﺪ أن أرواح اﻟﺒﴩ ﺗﺘﻨﺎﺳﺦ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﰲ ﺻﻮرة ﺣﻴﻮاﻧﺎت )أو ﻛﻤﺎ ﻗﺎل ﻣﺎﻟﻔﻮﻟﻴﻮ إن روح املﺮأة اﻟﻌﺠﻮز ﻗﺪ ﺗﺴﻜﻦ ﺟﺴﺪ ﻃﺎﺋﺮ(. ورﻏﻢ أﻧﻪ ﻟﻴﺴﺖ ﺛﻤﺔ ﻋﻼﻗﺔ ﺑني ﻧﻈﺎم ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس اﻟﻐﺬاﺋﻲ وﻧﻈﺮﻳﺎﺗﻪ اﻟﻬﻨﺪﺳﻴﺔ ﻓﺎﻟﺠﻮاﻧﺐ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ واﻟﺮوﺣﻴﺔ ﰲ املﺬﻫﺐ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮري ﺗﺘﻔﻖ ﻣﻊ ﺑﻌﻀﻬﺎ .وﻗﺒﻞ ﺗﻮﺿﻴﺤﻬﺎ ﱢ املﺘﻮﻓﺮة ﻋﻦ ﺣﻴﺎة ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس وﻣﺪرﺳﺘﻪ؛ إذ ﻻ أود أن أﴎد ﺑﺎﺧﺘﺼﺎر ﺑﻌﺾ املﻌﻠﻮﻣﺎت ﻳﺘﻮﻓﺮ ﻟﺪﻳﻨﺎ ﻣﻨﻬﺎ ﺳﻮى اﻟﻘﻠﻴﻞ وﻟﻜﻨﻪ ﻗﻴﱢﻢ. 43
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﱢ وﺗﻮﰲ ﻋﻦ ﻋﻤﺮ ﻳﻨﺎﻫﺰ ﺳﺒﻌني ﻋﺎﻣً ﺎ؛ أي إﻧﻪ ﻛﺎن ﻣﻌﺎﴏًا ُوﻟِ َﺪ ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ﻋﺎم ٥٧٠ق.م ﻷﻧﺎﻛﺴﻴﻤﻴﻨﺲ .ورﻏﻢ أﻧﻪ ﻛﺎن أﻳﻮﻧﻴٍّﺎ ﻋﲆ ﻏﺮار أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﻴﻨﺲ ووُﻟﺪ ﰲ ﺟﺰﻳﺮة ﺳﺎﻣﻮس اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻊ ﺷﻤﺎل ﻏﺮب ﻣﻠﻄﻴﺔ ،ﻓﻘﺪ ﻏﺎدر ﻣﻮﻃﻨﻪ ﻧﺤﻮ املﺴﺘﻌﻤﺮات اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ ﺟﻨﻮ ِﺑ ﱠﻲ إﻳﻄﺎﻟﻴﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﺎن ﰲ اﻷرﺑﻌني ﻣﻦ ﻋﻤﺮه وﻗﴣ ﺑﻬﺎ ﻣﺎ ﱠ ﺗﺒﻘﻰ ﻣﻦ ﺣﻴﺎﺗﻪ .وﻋﻨﺪﻣﺎ ﻫﺎﺟﺮ ﻛﺎن ﺻﻴﺘُﻪ ﻗﺪ ذاع ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﺑﻮﺻﻔﻪ ﺣﻜﻴﻤً ﺎ زاﻫﺪًا .ورﻏﻢ أﻧﻪ ﻻ دﻟﻴﻞ ﻋﲆ أن ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس اﻟﺤﻜﻴﻢ وأﺗﺒﺎﻋﻪ ﻗﺪ ُ ﻃ ِﺮدُوا ﻣﻦ ﺟﺰﻳﺮة ﺳﺎﻣﻮس ﻓﻼ ﺗﺄﺧﺬﻧﺎ اﻟﺪﻫﺸﺔ إذا ﻋﻠﻤﻨﺎ أﻧﻬﻢ ﻏﺎدروا ﻣﺪﻳﻨﺔ آﺧﺬة ﰲ اﻟﺘﺪﻫﻮر ﺗﺤﺖ ﺣﻜﻢ اﻟﻄﺎﻏﻴﺔ اﻟﻔﺎﺳﻖ ﺑﻮﻟﻴﻜﺮاﺗﻴﺲ .إﻻ أن اﻻﺿﻄﻬﺎد اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﺑﺪأ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ً ﻻﺣﻘﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ اﺳﺘﻘﺮ ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ﰲ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻛﺮوﺗﻮن ﺟﻨﻮﺑﻲ إﻳﻄﺎﻟﻴﺎ وأﻧﺸﺄ ﻣﺪرﺳﺘﻪ ً رﺋﻴﺴﺎ ﰲ ﺳﻴﺎﺳﺔ املﺪﻳﻨﺔ ،وﻟﻜﻦ ﻣﺎﻫﻴﺔ اﻷﻣﺮ ﻓﻴﻬﺎ ﺣﻴﺚ ﻟﻌﺐ ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس وأﺗﺒﺎﻋﻪ دو ًرا اﻟﺬي ﺗﻮرط ﻓﻴﻪ واﻟﺴﺒﺐ اﻟﺬي دﻋﺎ إﱃ ﻧﺸﻮب ﺛﻮرة ﻋﻨﻴﻔﺔ ﺿﺪه ﺑﻌﺪ ﻋﻘﺪﻳﻦ ﻣﻦ اﻟﻨﺠﺎح واﻟﺸﻬﺮة ﻫﻨﺎك ﻻ ﻳﺰاﻻن ﻳﻜﺘﻨﻔﻬﻤﺎ اﻟﻐﻤﻮض .أﻟﻘﻲ اﻟﻘﺒﺾ ﻋﲆ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني اﻷواﺋﻞ ﰲ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻛﺮوﺗﻮن واملﺪن املﺠﺎورة ﻟﻬﺎ ُ وﻗﺘﻠﻮا ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎدس وﻣﻄﻠﻊ اﻟﻘﺮن اﻟﺨﺎﻣﺲ ﻗﺒﻞ املﻴﻼد ،وﺗﻌﺮض ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ﻧﻔﺴﻪ ﻟﻠﻨﻔﻲ .وﻳﺸري أﺣﺪ املﺆرﺧني إﱃ أن اﻟﻌﺪاء اﻟﻮاﺿﺢ ﺗﺠﺎه ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ﻗﺪ زاد ﻣﻦ ﺣﺪﺗﻪ »اﻟﻐﻀﺐ اﻟﺬي ﺷﻌﺮ ﺑﻪ رﺟﻞ اﻟﺸﺎرع ﰲ ﺗﻠﻚ اﻷﻳﺎم؛ ﻷن اﻟﺘﴩﻳﻌﺎت اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﻬﻢ ﻛﺎن ﻳﺼﺪرﻫﺎ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ املﺘﺤﺬﻟِﻘني اﻟﺬﻳﻦ أﴏوا ﻋﲆ اﻻﻣﺘﻨﺎع ﻋﻦ ﺗﻨﺎول اﻟﻔﻮل وﻣﻨﻌﻮا رﺟﻞ اﻟﺸﺎرع ﻣﻦ ﴐب ﻛﻠ ِﺒﻪ ﻷﻧﻬﻢ ﻣﻴﱠﺰوا ﰲ ﻧﺒﺎﺣﻪ ﺻﻮت أﺣﺪ اﻷﺻﺪﻗﺎء اﻟﺮاﺣﻠني«. وﺑﻌﺪ ﺗﻠﻚ اﻟﺜﻮرة رﺣﻞ ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ﺣﺘﻰ اﺳﺘﻘﺮ ﺑﻪ ا ُملﻘﺎم ﰲ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻣﻴﺘﺎﺑﻮﻧﺘﻮ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻊ ﻋﲆ ﺧﻠﻴﺞ ﺗﺎراﻧﺘﻮ .وﴎﻋﺎن ﻣﺎ ازدﻫﺮت املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﺔ ﻣﺮة أﺧﺮى وازدادت اﻧﺘﺸﺎ ًرا ﻋﱪ ﺟﻨﻮ ِﺑ ﱢﻲ إﻳﻄﺎﻟﻴﺎ .وﻟﻜﻦ ﰲ ﻣﻨﺘﺼﻒ اﻟﻘﺮن اﻟﺨﺎﻣﺲ ﻗﺒﻞ املﻴﻼد ﺗﻌﺮض اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﻮن إﱃ ﺣﻤﻠﺔ ﺗﻄﻬري أﺧﺮى أﺷﺪ وﻃﺄة ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻓ ﱠﺮﻗﺖ اﻟﻜﺜري ﻣﻨﻬﻢ وﻏﺎدروا إﻳﻄﺎﻟﻴﺎ ﻣﺘﱠ ِﺠﻬني إﱃ اﻟﻴﻮﻧﺎن .واﺗﺨﺬت اﻷﻓﺮع املﺒﺘﻮرة ﻟﻠﻤﺬﻫﺐ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮري ﺻﻮ ًرا ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﰲ اﻷراﴈ اﻟﺠﺪﻳﺪة اﻟﺘﻲ أﻗﺎﻣﻮا ﺑﻬﺎ وﺑﺪأت ﺗﻀﻌﻒ ﺷﻮﻛﺘﻬﻢ .وﺑﺤﻠﻮل ﻣﻄﻠﻊ اﻟﻘﺮن اﻟﺮاﺑﻊ ﻗﺒﻞ املﻴﻼد ﻛﺎﻧﺖ ﻛﻞ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﺔ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ﻗﺪ ﻏﺎدرت ﻣﻮﻃﻨﻬﺎ ﰲ إﻳﻄﺎﻟﻴﺎ ﺣﺘﻰ أﺻﺒﺤﻮا ﻻ ﻳُﺮى إﻻ ﻣﺴﺎﻛﻨﻬﻢ ﺧﻼل ﻫﺬا اﻟﻘﺮن. رﻏﻢ ذﻟﻚ ﻇﻞ ﺗﺄﺛري أﻓﻜﺎرﻫﻢ ﻳﺘﺰاﻳﺪ وﺧﺎﺻﺔ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ أﻓﻼﻃﻮن اﻟﺬي ﻛﺎن ﻟﻪ ﺻﺪﻳﻖ ﻣﻘﺮب ﻣﻦ أﺗﺒﺎع ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس وﻫﻮ أرﺧﻴﺘﺎس اﻟﺘﺎراﻧﺘﻮﻣﻲ .ﻛﺎن أرﺧﻴﺘﺎس اﻟﺘﺎراﻧﺘﻮﻣﻲ رﺟﻞ دوﻟﺔ وﻣﻔﻜ ًﺮا وﻋﺎﻟﻢ رﻳﺎﺿﻴﺎت ،ورﺑﻤﺎ ﻛﺎن أﺣﺪ ﻣﺼﺎدر إﻟﻬﺎم أﻓﻼﻃﻮن ﻟﻔﻜﺮﺗﻪ اﻟﺸﻬرية 44
ﺗﻨﺎﻏﻢ اﻟﻌﺎﻟﻢ :اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﻮن
ﺗﻨﻄﻮ ﻋﲆ أﻳﺔ ﺳﺨﺮﻳﺔ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑ »املﻠﻮك اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ« .وﻗﺪ ﻛﺘﺐ أرﺳﻄﻮ ﺑﴚء ﻣﻦ ﻣﺒﺎﻟﻐﺔ ﻟﻢ ِ ً ﻗﺎﺋﻼ إن ﻓﻠﺴﻔﺔ أﻓﻼﻃﻮن ﺗﺴﻠﻚ ﻧﻬﺞ ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ﰲ ﻣﻌﻈﻢ اﻟﺠﻮاﻧﺐ .وﻣﻦ املﺆ ﱠﻛﺪ أن أﻓﻜﺎر ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ﻗﺪ اﺳﺘﻮﻋﺒﻬﺎ املﺬﻫﺐ اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻲ ﻛﺎﻣﻠﺔ ﺣﺘﻰ ﺻﺎر ﻣﻦ اﻟﺼﻌﺐ اﻟﺘﻤﻴﻴﺰ ﺑني اﻟﻔﻠﺴﻔﺘني .ورﺑﻤﺎ ﻛﺎن ﻋﲆ ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس أن ﻳﺒﺘﻬﺞ ﻟﺬﻟﻚ اﻟﺘﻨﺎﺳﺦ اﻟﻌﻈﻴﻢ.
أرﺧﻴﺘﺎس.
وﻓﻴﻤﺎ ﻳﲇ ﺻﻮرة ﻣﺮﻛﺒﺔ ﻟﻠﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﺔ ،وﻟﻦ ﻧﻘﻮم إﻻ ﺑﻤﺤﺎوﻟﺔ ﻳﺴرية ﻟﻠﺘﻔﺮﻳﻖ ﺑني ﺻﻮرﻫﺎ اﻷوﱃ واﻷﺧرية ،ﻧﺎﻫﻴﻚ ﻋﻦ آراء اﻟﺮﺟﻞ ﻧﻔﺴﻪ وآراء أﺗﺒﺎﻋﻪ .ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرس ﻧﻔﺴﻪ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ اﻟﻘﻮل إﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﺆﻣﻦ ﺑﺎﻟﺘﻨﺎﺳﺦ وإﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﻬﺘﻢ ﺑﺎﻷرﻗﺎم وﻟﻮ ً ﻗﻠﻴﻼ ،وﻣﺎ أﺛري ﻋﻨﻪ ﻏري ذﻟﻚ ﻟﻴﺲ إﻻ ﺗﺨﻤﻴﻨﺎت .وﺳﻨﺰﻋﻢ ً أﻳﻀﺎ أن اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني ﺟﻤﻴﻌﻬﻢ ﻧﺴﻴﺞ واﺣﺪ ﻻ ﻓﺮق ﺑﻴﻨﻬﻢ ،رﻏﻢ أن ﺑﻌﻀﻬﻢ ﰲ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻷﻣﺮ ﻛﺎن ﻣﻬﺘﻤٍّ ﺎ ﺑﺎﻷﻣﻮر اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ واﻟﻌﻘﻠﻴﺔ ﺑﻴﻨﻤﺎ اﻧﻐﻤﺲ آﺧﺮون ﰲ ﺷﺌﻮن املﺤﺮﻣﺎت واﻷﻗﻮال اﻟﻐﺎﻣﻀﺔ واﻹرﺷﺎدات اﻟﺨﺮاﻓﻴﺔ ﻟﻠﺤﻴﺎة اﻟﺘﻲ ﺷ ﱠﻜﻠﺖ اﻟﺠﺎﻧﺐ اﻟﺪﻳﻨﻲ ﻣﻦ املﻨﻬﺞ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮري .وﺣﺘﻰ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ ﻛﺎن ﺛﻤﱠ ﺔ ﻧﻮﻋﺎن 45
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻣﺨﺘﻠﻔﺎن ﻣﻦ اﻻﻫﺘﻤﺎم ﺑﻔﻴﺜﺎﻏﻮرس؛ ﻓﻤﻦ ﻧﺎﺣﻴ ٍﺔ ﻧﺠﺪ اﻟﻌﻠﻤﺎء وﻓﻼﺳﻔﺔ اﻟﻌﻠﻢ ﻣﻦ أﻣﺜﺎل ﻓﺮﻧﺮ ﻫﺎﻳﺰﻧﱪج واﻟﺴري ﻛﺎرل ﺑﻮﺑﺮ اﻟﻠﺬﻳﻦ ﻳﺆﻛﺪان أن اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﺗﻌﻴﺪ إﱃ اﻷذﻫﺎن ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ،وﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ أﺧﺮى ﻧﺠﺪ ﻛﺘﺒًﺎ ﺣﻮل ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ﻧﻔﺴﻪ ﻗﺪ ﻧُﴩت ﰲ ﺳﻠﺴﻠﺔ أﻋﻤﺎﻻ ﻋﻦ اﻟﺨﻴﻤﻴﺎء وﻛﻬﻨﺔ اﻟﺪروﻳﺪ وﻋﻠﻢ اﻟﺘﻨﺠﻴﻢ .وﻛﺎن اﻷﻣﺮ ﻳﺘﻄﻠﺐ ً ً ﻋﻘﻼ ﺟﺮﻳﺌًﺎ ﺗﺘﻀﻤﻦ ﻛﻌﻘﻞ ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ﻟﻴﻤﺰج ﺑني ﻫﺬﻳﻦ اﻟﺠﺎﻧﺒني. وﻳﺴﻬﻞ ﺗﺒني اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑني ﻫﺬﻳﻦ اﻟﺠﺎﻧﺒني ﰲ ﻣﻔﻬﻮم ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس اﻟﺠﺪﻳﺪ ﻋﻦ اﻟﺨﻼص اﻟﺮوﺣﻲ ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻠﺨﻴﺼﻪ ﻋﲆ اﻟﻨﺤﻮ اﻟﺘﺎﱄ :إذا أردت أن ﺗﺤﻴﺎ إﱃ اﻷﺑﺪ ﻓﺎدرس اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت .وﻹدراك ﻫﺬا املﻔﻬﻮم ﺑﻤﺰﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺠﺪﻳﺔ ﻳﺠﺐ ً أوﻻ أن ﻧﻌﻠﻢ ﺑﻌﺾ اﻟﴚء ﻋﻦ ﻋﻘﺎﺋﺪ اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ اﻷورﻓﻴﺔ. ﻻ ﻧﺤﺘﺎج ملﻌﺮﻓﺔ أي ﳾء ﻋﻦ أورﻓﻴﻮس ذاﺗﻪ أو ﻋﻦ ﺗﺎرﻳﺦ اﻷورﻓﻴﺔ؛ ذﻟﻚ أن أﺣﺪًا ﻻ ﻳﻌﻠﻢ اﻟﻜﺜري ﻋﻦ أيﱟ ﻣﻨﻬﻤﺎ .ﻓﻌﻨﺪﻣﺎ ﺗﺸري املﺼﺎدر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻷورﻓﻴﻮس أو ﻟﻠﺪﻳﺎﻧﺔ اﻷورﻓﻴﺔ ُ اﻟﺘﻨﺎﺳﺦ وﻓﻜﺮة ﺣﺎﺟﺔ اﻟﺮوح ﻓﻬﻲ ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﺗﺸري إﱃ املﻌﺘﻘﺪات اﻟﺘﻲ ﻧﺸﺄت ﰲ ﺗﺮاﻗﻴﺎ ﺣﻮل إﱃ اﻟﺘﻄﻬﱡ ﺮ ﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﻈﻔﺮ ﺑﺎﻟﺴﻌﺎدة ﰲ اﻵﺧﺮة .وﻳﻌﺘﻘﺪ اﻟﺒﻌﺾ أﻧﻪ ﺛﻤﺔ ﻋﻘﻴﺪة رﺳﻤﻴﺔ ﱠ ﻣﻔﺼﻠﺔ ﻟﻠﺪﻳﺎﻧﺔ اﻷورﻓﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺪوﱠﻧﺔ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﰲ زﻣﻦ ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﻌﺘﻘﺪ آﺧﺮون أن أﻓﻜﺎر اﻷورﻓﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺣﻴﻨﺌ ٍﺬ أﻛﺜﺮ ﺗﺸﺘﱡﺘًﺎ وﻟﻢ ﺗﺘﻤﺎﺳﻚ إﻻ ﺑﻌﺪ ﻣﺌﺎت اﻟﺴﻨني .وأﻳٍّﺎ ﻛﺎن اﻷﻣﺮ ،ﻓﻘﺪ ُد ﱢوﻧ َ ْﺖ ﻛﻞ املﻔﺎﻫﻴﻢ اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻨﻴﻨﺎ ﻫﻨﺎ ﰲ إﺣﺪى ﻧﺴﺦ أﺳﻄﻮرة دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس اﻟﺘﻲ اﺗﻔﻘﺖ اﻟﻨﺴﺦ اﻟﻌﺪﻳﺪة ﻣﻦ اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ اﻷورﻓﻴﺔ ﻋﲆ اﻹﻋﺠﺎب ﺑﻬﺎ. ً ﻃﺒﻘﺎ ﻟﻸﺳﻄﻮرة ،ﻛﺎن دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس ﺛﻤﺮة ﻋﻼﻗﺔ ﻣﺰدوﺟﺔ اﻹﺛﻢ ﺑني زﻳﻮس وﺑريﺳﻴﻔﻮﻧﻲ )وﻫﻲ ﻣﺰدوﺟﺔ اﻹﺛﻢ ﻷن ﺑريﺳﻴﻔﻮﻧﻲ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺛﻤﺮة ﻋﻼﻗﺔ ﻏري ﴍﻋﻴﺔ ُ ﺑني زﻳﻮس وواﻟﺪﺗﻪ( .وﻧ َ ﱠ َ دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس ﺣﺎﻛﻤً ﺎ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ ،وﻟﻜﻦ اﻟﻄﻔﻞ ﺳﻴﺊ زﻳﻮس ﺼﺐ اﻟﻄﺎﻟﻊ ﻗﺘﻠﻪ اﻟﺘﻴﺘﺎن اﻟﺬﻳﻦ اﻟﺘﻬﻤﻮه ﻓﺄﺧﺬﻫﻢ زﻳﻮس ﺑﺼﺎﻋﻘﺔ ﻣﻦ اﻟﱪق .وﻣﻦ رﻣﺎد اﻟﺘﻴﺘﺎن ُوﻟِﺪ اﻹﻧﺴﺎن؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﻬﻮ ﻣﺰﻳﺞ ﻣﻦ اﻟﺨري واﻟﴩ ،ﻓﺠﺰء ﻣﻨﻪ ﱢ ﺧري ﺑﻞ ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ إﻟﻬﻲ ﻷن اﻟﺒﻘﺎﻳﺎ املﻬﻀﻮﻣﺔ ﻣﻦ دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس ﻛﺎﻧﺖ ﰲ اﻟﺮﻣﺎد ،واﻟﺠﺰء اﻵﺧﺮ ﻳﺤﻤﻞ اﻟﴩ ﻷن ذﻟﻚ اﻟﺮﻣﺎد ﻳﺄﺗﻲ ﻣﻦ اﻟﺘﻴﺘﺎن؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﻘﺪ ﺗﻠﻮﱠث اﻹﻧﺴﺎن ﺑﺄﻓﻌﺎﻟﻬﻢ اﻵﺛﻤﺔ .وﻳﻮازي اﻟﻌﻨﴫان — املﺪﻧﺲ واﻹﻟﻬﻲ — ﺟﺴﺪ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻔﺎﻧﻲ املﺪﻧﺲ ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ وروﺣﻪ اﻟﺨﺎﻟﺪة ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ أﺧﺮى ،وﻻ ﻳﺴﺎﻋﺪه ﻋﲆ ﱡ اﻟﺴ ُﻤ ﱢﻮ ﻋﲆ ﻣﺎ ورﺛﻪ ﻣﻦ إِﺛ ْ ٍﻢ ﺳﻮى اﻟﺘﻄﻬﱡ ﺮ اﻟﻘﺎﳼ .وﻳﻌﺘﱪ املﻮت اﻷﻣﻞ اﻟﻮﺣﻴﺪ ﻟﻠﺘﺤ ﱡﺮر اﻟﻜﺎﻣﻞ ﻣﻦ اﻟﺠﺴﺪ اﻟﺬي ﻳُﻌَ ﱡﺪ ﺳﺠﻨًﺎ ﻳﺤﺒﺲ اﻟﺮوح .ورﻏﻢ ذﻟﻚ ﻳﻌﺘﱪ اﻧﺘﻘﺎﻻ ﻣﻦ ﺳﻴﺊ إﱃ أﺳﻮأ ﻷن اﻷرواح اﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﺗﺘﻄﻬﺮ َ ً ﺗﻠﻘﻰ ﻋﻘﺎﺑًﺎ ﺷﺪﻳﺪًا ﺑﻌﺪ املﻮت أﺣﻴﺎﻧًﺎ املﻮت. 46
ﺗﻨﺎﻏﻢ اﻟﻌﺎﻟﻢ :اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﻮن
وﺗﻤﺜﻞ ﺗﻠﻚ اﻷﺳﻄﻮرة ﺟﻮﻫﺮ ﻗﺼﺎﺋﺪ أورﻓﻴﻮس وﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ وﻗﺼﺎﺋﺪه اﻟﺸﻌﺮﻳﺔ ،وﻫﻲ اﻟﻨﺺ املﻘﺪس ﻟﻠﺪﻳﻦ اﻟﺬي ﺑُﻌﺚ ﺑﻪ أورﻓﻴﻮس .وﻛﻤﺎ ﺗُﻌَ ﱡﺪ اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ اﻷورﻓﻴﺔ إﺣﻴﺎءً أﻛﺜﺮ أﻳﻀﺎ أﻛﺜﺮ ﱡ ﻋﻘﻼﻧﻴﺔ ﻟﺪﻳﺎﻧﺔ اﻟﻄﻮاﺋﻒ اﻟﺪﻳﻮﻧﻴﺴﻴﺔ واﻟﺒﺎﺧﻮﺳﻴﺔ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ً ﺗﻘﺸ ًﻔﺎ ﻣﻨﻬﺎ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻳﻤﻜﻦ اﻋﺘﺒﺎر املﺬﻫﺐ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮري ﻧﺴﺨﺔ أﻛﺜﺮ ﻋﻘﻼﻧﻴﺔ ﻣﻦ اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ اﻷورﻓﻴﺔ. ﰲ ﻋﺒﺎدة دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس ،ﻛﺎن اﻟﻐﺮض اﻟﺮﺋﻴﺲ ﻣﻦ اﻟﻄﻘﻮس اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﻫﻮ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ درﺟﺔ ﻣﻦ اﻻﺗﺤﺎد ﻣﻊ اﻟﺮب ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ إﻗﺎﻣﺔ اﻟﺸﻌﺎﺋﺮ ،وﺑﻌﺾ اﻟﻄﻘﻮس اﻷﺧﺮى اﻟﺘﻲ اﺷﺘﻬﺮت ﺑﺎﻻﻧﻐﻤﺎس ﰲ ﻣﻤﺎرﺳﺔ اﻟﺠﻨﺲ أو ﻣﻌﺎﻗﺮة اﻟﺨﻤﺮ أو ارﺗﻜﺎب اﻟﻌﻨﻒ أو أي ﻣﺰﻳﺞ ﺑﻴﻨﻬﺎ .ﻟﻜﻦ ﰲ اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ اﻷورﻓﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻄﻘﻮس أﻛﺜﺮ رﺳﻤﻴﺔ واﺣﺘﺸﺎﻣً ﺎ واﻫﺘﻤﺎﻣً ﺎ ﻋﻮﺿﺎ ﻋﻦ اﻻﻧﻐﻤﺎس ﰲ املﻠﺬات ،وﻟﻜﻨﱠﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ً ً أﻳﻀﺎ ُﻫ َﺮاءً ﻻ ﻃﺎﺋﻞ ﻣﻨﻪ. ﺑﺈﻧﻜﺎر اﻟﺬات وﺛﻤﺔ ﺻﻮرة ﻧﺎدرة ﻷﺗﺒﺎع اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ اﻷورﻓﻴﺔ — أو ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﻛﻴﻒ ﻛﺎن اﻵﺧﺮون ﻳﺮوﻧﻬﻢ — ﰲ ﻣﴪﺣﻴﺔ ﻳﻮرﻳﺒﻴﺪﻳﺲ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﻤﻞ ﻋﻨﻮان »ﻫﻴﺒﻮﻟﻴﺘﻮس« واﻟﺘﻲ ُﻗﺪﱢﻣَ ْﺖ ﻋﲆ املﴪح ﺑﻌﺪ وﻓﺎة ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ﺑﺒﻀﻌﺔ وﺳﺒﻌني ﻋﺎﻣً ﺎ ،ﻓﻌﻨﺪﻣﺎ ﻏﻀﺐ ﺛﻴﺴﻴﻮس ﻣﻦ اﺑﻨﻪ ﻏري اﻟﴩﻋﻲ ﻫﻴﺒﻮﻟﻴﺘﻮس ﺳﺨﺮ ﻣﻨﻪ ً ﻗﺎﺋﻼ: واﻵن ﻓﻠﺘَ ِﺘ ْﻪ ﻓﺨ ًﺮا ﺑﻄﻬﺎرﺗﻚ وﺗَ ْﺰ ُه ﺑﻐﺬاﺋﻚ اﻟﺨﺎﱄ ﻣﻦ اﻟﻠﺤﻮم ،وﺗﺠﻌﻞ ﻣﻦ أورﻓﻴﻮس ﺳﻴﺪك وﻧﺒﻴﻚ ،وﺗﻨﻐﻤﺲ ﰲ اﻹﻋﺠﺎب املﺠﻨﻮن ﺑﻤﺒﺎﻫﺎﺗﻪ اﻟﺨﻄﺎﺑﻴﺔ! ﻧﻌﻢ ،ﻟﻘﺪ اﻓﺘﻀﺢ أﻣﺮك! وﻫﻨﺎك ﺗﻄﻮﱡر ﺟﺪﻳﺪ ﰲ اﻟﺼﻮرة اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﺔ ﻟﻠﺪﻳﺎﻧﺔ اﻷورﻓﻴﺔ أﻻ وﻫﻮ أن اﻟﺘﻄﻬﱡ ﺮ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ اﻻﺗﺤﺎد ﻣﻊ اﻟ ﱠﺮبﱢ ﻳﺘﻄﻠﺒﺎن أن ﻳﺤﻴﺎ اﻹﻧﺴﺎن ﺣﻴﺎة اﻟﺘﺄﻣﱡ ﻞ واﻟﺘﺴﺎؤل .وﻛﻤﺎ ﻗﺎل اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ )ﺣﻮاﱄ ٤٨٠–٥٤٠ق.م( ﻓﻘﺪ »ﻛﺎن ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ﻳﺘﺴﺎءل أﻛﺜﺮ ﻣﻦ أي ﺷﺨﺺ آﺧﺮ ﻋﲆ وﺟﻪ اﻷرض «.وﻗﺪ ﺷﻤﻞ ﻫﺬا اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻷﻣﻮر ﻣﻦ أﻫﻤﱢ ﻬﺎ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت. ﻓﻤﻦ املﻔﱰض ﻋﲆ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮري املﺨﻠﺺ ﻗﺒﻞ ﻛﻞ ﳾء أن ﻳﺪرس اﻷرﻗﺎم واﻟﻬﻨﺪﺳﺔ وﻋﻠﻢ اﻟﻔﻠﻚ واملﻮﺳﻴﻘﻰ ﻷن ٍّ ﻛﻼ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﻌﻠﻮم ﺗﻮﺿﺢ ﺟﺎﻧﺒًﺎ ﻣﻦ ﻣﺒﺎدئ اﻟﻨﻈﺎم ﰲ اﻟﻜﻮن. وﻟﻘﺪ آﻣَ َﻦ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﻮن ﺑﺄﻫﻤﻴﺔ دراﺳﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻣﻦ أﺟﻞ املﻌﺮﻓﺔ املﺠ ﱠﺮدَة ﻓﺤﺴﺐ ﻻ ﻣﻦ أﺟﻞ أﻳﱠ ِﺔ ﺟﺎﺋﺰة ﻋﻤﻠﻴﺔ .وﻳﺒﺪو أﻧﱠﻬُ ﻢ ﻛﺎﻧﻮا أ ﱠو َل ﻣﻦ اﺳﺘﺨﺪم ﻣﺼﻄﻠﺢ »اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ« ﻟﻺﺷﺎرة إﱃ ﺣُ ﺐﱢ اﻟﺤﻜﻤﺔ ﻟﺬاﺗﻬﺎ ﻛﻤﺎ أوﺿﺢ ﺷﻴﴩون ﰲ اﻟﻘﺼﺔ اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ: ﻃﻠﺐ ﻣﻨﻪ ﻟﻴﻮن )ﺣﺎﻛﻢ ﻓﻠﻴﻮس وﻫﻲ أﺣﺪ ﻣﺮاﻛﺰ املﺬﻫﺐ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮري ﰲ ﺟﻨﻮب ﴍق اﻟﻴﻮﻧﺎن( … أن ﻳﺤ ﱢﺪ َد أﻛﺜﺮ اﻟﻔﻨﻮن اﻟﺘﻲ ﻳﻌﻮل ﻋﻠﻴﻬﺎ ،وﻟﻜﻦ ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس 47
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻗﺎل إﻧﻪ ﻻ ﻳﻌﻠﻢ أي ﳾء ﻋﻦ اﻟﻔﻨﻮن ﺑﻞ ﻫﻮ ﻓﻴﻠﺴﻮف .ﻓﺘﻌﺠﱠ ﺐَ ﻟﻴﻮن ﻣﻦ ذﻟﻚ املﺼﻄﻠﺢ اﻟﺠﺪﻳﺪ وﺳﺄﻟﻪ ﻋﻦ ﻣﺎﻫﻴﺔ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ … ﻓﺄﺟﺎب ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ً ﻗﺎﺋﻼ إن ﺣﻴﺎة اﻹﻧﺴﺎن ﺗﺸﺒﻪ ﻣﻬﺮﺟﺎﻧًﺎ ﺗﻘﺎم ﻓﻴﻪ أروع اﻷﻟﻌﺎب … وإن ﺑﻌﺾ اﻟﺮﺟﺎل ﰲ ﻫﺬا اﻟﺤﻔﻞ … ﻳﺴﻌَ ﻮْن إﱃ اﻟ ﱠ ﻈ َﻔﺮ ﺑﺎﻟﺘﺎج املﺠﻴﺪ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﻨﺠﺬب آﺧﺮون ﻻﺣﺘﻤﺎل ً ﺻﻨﻔﺎ ﻣﻌﻴﻨًﺎ ﻣﻦ أﻓﻀﻞ ﺗﺤﻘﻴﻖ اﻟﺮﺑﺢ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺒﻴﻊ واﻟﴩاء .وإن ﺛﻤﺔ أﺻﻨﺎف اﻟﺮﺟﺎل اﻷﺣﺮار اﻟﺬﻳﻦ ﻻ ﻳﺴﻌَ ﻮْن ﻟﻨﻴﻞ اﻹﻃﺮاء وﻻ ﻟﺘﺤﻘﻴﻖ اﻟﺮﺑﺢ، وﻟﻜﻨﻬﻢ أﺗَﻮْا ﻣﻦ أﺟﻞ ﻣﺸﺎﻫﺪة اﻟﺤﻔﻞ وﻣﻌﺎﻳﻨﺔ ﻣﺎ ﻳﺤﺪُث وﻛﻴﻒ ﻳﺤﺪث .وﻫﻜﺬا ﺣﻔﻞ ﻣﺰدﺣﻢ … ودﺧﻠﻨﺎ ﻫﺬه ﻧﺤﻦ اﻟﺒﴩ ،ﻓﻜﺄﻧﻤﺎ أﺗﻴﻨﺎ ﻣﻦ إﺣﺪى املﺪن إﱃ ٍ اﻟﺪﻧﻴﺎ ﻓﻜﺎن ﻣﻨﱠﺎ اﻟ ﱠ ﻄﻤﻮح وﻣﻨﱠﺎ ﻋﺎﺑﺪ املﺎل ،وﻟﻜﻦ ﺛﻤﺔ اﻟﻘﻠﻴﻞ ﻣﻤﱠ ﻦ أﻣﻌﻨﻮا اﻟﻨﻈﺮ ﰲ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻷﻣﻮر وﻟﻢ ﻳ َﺮوْا ﻧﻔﻌً ﺎ ﰲ ﻏري ذﻟﻚ ،وأﻃﻠﻖ ﻫﺆﻻء اﻟﺮﺟﺎل ﻋﲆ أﻧﻔﺴﻬﻢ اﺳﻢ ﻣﺤﺒﻲ اﻟﺤﻜﻤﺔ )وﻫﻮ ﻣﻌﻨﻰ ﻛﻠﻤﺔ ﻓﻴﻠﺴﻮف( .وﻛﻤﺎ ﻳﺤﺪث ﰲ ﻋﺎﻟﻢ اﻷﻟﻌﺎب أﺧﺬ ﻫﺆﻻء اﻟﺮﺟﺎل اﻟﺼﺎدﻗﻮن ﻳﺸﺎﻫﺪون اﻷﻟﻌﺎب دون اﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ أﻳﺔ ﻣﺂرب ﻷﻧﻔﺴﻬﻢ؛ إذ إن ﺗﺄﻣﱡ ﻞ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ واﻛﺘﺸﺎﻓﻬﺎ ﻳﻔﻮق ﻛﻞ املﺴﺎﻋﻲ اﻷﺧﺮى ﰲ اﻟﺤﻴﺎة. ﺛﻤﺔ ﻓﻜﺮة ﻻ ﺷﻚ ﰲ اﻧﺘﻤﺎﺋﻬﺎ ﻟﻠﺪﻳﺎﻧﺔ اﻷورﻓﻴﺔ ﺗﺘﻐﻠﻐﻞ ﰲ اﻟﺘﻔﺴريات اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﺔ ُ اﻟﺘﻨﺎﻗﺾ ﻟﻠﺘﺴﺎؤل )وﺧﺎﺻﺔ ﺗﻠﻚ املﺘﻌ ﱢﻠ َﻘﺔ ﺑﺄﻓﻼﻃﻮن ﰲ ﻟﺤﻈﺎﺗﻪ اﻷﻛﺜﺮ ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﺔ( وﻫﻲ ﱢ اﻟﺤﻮاس ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ ﺑني اﻟﺠﺴﺪ اﻟﻔﺎﻧﻲ املﻠﻮث وﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ اﻛﺘﺸﺎﻓﻪ ﻋﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻣﻦ ﺧﻼل وﺑني املﻌﺮﻓﺔ اﻷﺳﻤﻰ واﻷﻛﺜﺮ ﻧﻘﺎء ،واﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﺮوح أن ِ ﺗﺼﻞ إﻟﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ أﺧﺮى. وﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﺮى ذﻟﻚ ﰲ إﺣﺪى اﻟﻜﺘﺎﺑﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻮد إﱃ اﻟﻘﺮن اﻟﺨﺎﻣﺲ املﻴﻼدي واﻟﺘﻲ ِ ﺗﺼﻒ اﻫﺘﻤﺎم ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ﺑﺎﻟﻬﻨﺪﺳﺔ: إﻧﻨﻲ أﺣﺎﻛﻲ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني اﻟﺬﻳﻦ ﻛﺎﻧﺖ ﻟﺪﻳﻬﻢ ﻋﺒﺎرة ﺗﻘﻠﻴﺪﻳﺔ ﱢ ﺗﻌﱪ ﻋﻤﱠ ﺎ أﻗﺼﺪه وﻫﻲ »ﺷﻜﻞ وﻗﺎﻋﺪة ارﺗﻘﺎء ،ﻻ ﺷﻜﻞ وﻣﺎل «.وﻗﺪ ﻗﺼﺪوا ﺑﺬﻟﻚ أن اﻟﻬﻨﺪﺳﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺴﺘﺤﻖ اﻟﺪراﺳﺔ ﻫﻲ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻴﻢ ﻣﻊ ﻛﻞ ﻧﻈﺮﻳﺔ ﺟﺪﻳﺪة ﻣﻨﺼﺔ ﻟﻼرﺗﻘﺎء ﻋﻠﻴﻬﺎ ،وﺗﺴﻤﻮ ﺑﺎﻟﺮوح ﻋﺎﻟﻴًﺎ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ ﺗﺮﻛﻬﺎ ﺗﺘﺪﻧﻰ إﱃ ﻣﺮﺗﺒﺔ )اﻷﺷﻴﺎء املﺎدﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺪرﻛﻬﺎ اﻟﺤﻮاس( وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﺗﺼﺒﺢ ﺗﺎﻟﻴﺔ ﻋﲆ اﻟﴬورﻳﺎت اﻟﻌﺎﻣﺔ ﻟﻠﺤﻴﺎة اﻟﻔﺎﻧﻴﺔ. وﺑﻌﺒﺎرة أﺧﺮى ،إذا اﺳﺘﺨﺪﻣﺖ اﻟﻬﻨﺪﺳﺔ ﻷﻏﺮاض ﻣﺎدﻳﺔ دﻧﻴﻮﻳﺔ وﺣﺴﺐ — ﻛﻤﺎ ﻓﻌﻞ املﴫﻳﻮن اﻟﻘﺪﻣﺎء ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﻟﺤﺴﺎب ﻣﺴﺎﺣﺔ اﻷرض — ﻓﺴﻮف ﺗﻈﻞ روﺣﻚ رﻫﻴﻨﺔ 48
ﺗﻨﺎﻏﻢ اﻟﻌﺎﻟﻢ :اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﻮن
اﻟﺤﺒﺲ ﰲ ﺳﺠﻦ اﻟﺠﺴﺪ املﺎدي؛ ﻓﺎﻟﻬﻨﺪﺳﺔ ﺑﻮﺳﻌﻬﺎ ً أﻳﻀﺎ أن ﺗﻘﺪم ﻟﻠﺮوح وﺳﻴﻠﺔ ﻟﻠﻔﺮار إذا اﺳﺘُﺨﺪﻣﺖ ﻛﻤﻮﺿﻮع ﻟﻠﺪراﺳﺔ املﻮﺿﻮﻋﻴﺔ املﺠ ﱠﺮدة؛ أي إذا دُرﺳﺖ ً أوﻻ ﻻﻛﺘﺸﺎف اﻟﺼﺤﻴﺢ ﻣﻦ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت ،وﻫﻲ ﺳﻠﻮى ﻻ ﺗﺠﺪر إﻻ ﺑﺎﻷرواح اﻟﻄﺎﻫﺮة .ورﻏﻢ أن اﻟﺘﺴﺎؤﻻت اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ ﻟﻠﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني ﻗﺪ أﺗﺖ ﺛﻤﺎرﻫﺎ ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻷﻣﺮ ﻣﻦ ﻛﻞ اﻟﺠﻮاﻧﺐ اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﻓﺈن دواﻓﻌﻬﻢ ﻟﺘَﺒَﻨﱢﻴﻬَ ﺎ ﻛﺎﻧﺖ أﺧﻼﻗﻴﺔ أو روﺣﻴﺔ إﱃ ﺣَ ﱟﺪ ﻛﺒري .وﻗﺪ اﻋﺘﻘﺪ اﻟﻨﺎس أن إدراك اﻟﱰﺗﻴﺐ املﻨﻈﻢ ﻟﻠﻜﻮن وﺟﻤﺎﻟﻪ ﻳﺴﻤﺢ ﺑﻨﻮع ﻣﻦ املﺸﺎرﻛﺔ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻨﻈﺎم وﻫﺬا اﻟﺠﻤﺎل .وﻳﻤﻜﻨﻨﺎ اﻟﻘﻮل ﺑﺎﺧﺘﺼﺎر ﱠ إن ﺟﺰءًا ﻣﻦ ﻋﻈﻤﺔ اﻟﻜﻮن ﻳﻨﺘﻘﻞ إﱃ ﻣﻦ ﻳﺪرﺳﻪ. وﻗﺪ ﱠ ﻋﱪ ﺳﻘﺮاط ﻋﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﻔﻜﺮة اﻟﺘﻲ أﺻﺒﺤﺖ ﺗﻤﺜﱢﻞ ﺟﻮﻫﺮ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﺔ ﰲ »ﺟﻤﻬﻮرﻳﺔ« أﻓﻼﻃﻮن ً ﻗﺎﺋﻼ: ﻻ رﻳﺐ ﻳﺎ أدﻳﻤﺎﻧﺘﺲ؛ ﻓﻤﻦ ﻛﺎن ذﻫﻨﻪ ﺛﺎﺑﺘًﺎ ﻋﲆ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ اﻟﺨﺎرﺟﻴﺔ ﻓﻠﻴﺲ ﻟﺪﻳﻪ وﻗﺖ ﻟﻠﻨﻈﺮ ﻟﻸﺷﻴﺎء اﻟﺘﺎﻓﻬﺔ … وﻟﻜﻨﻪ ﻳُﺜَﺒﱢﺖ ﻧﺎﻇﺮﻳﻪ ﻋﲆ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻫﻮ ذا ﻃﺒﻴﻌﺔ ﴎﻣﺪﻳﺔ ﻻ ﺗﺘﺒﺪﱠل وﻻ ﺗﺘﻐري ،وﺣﻴﻨﻤﺎ ﻳﺮى اﻹﻧﺴﺎن أن ﻫﺬه اﻷﺷﻴﺎء ﻻ ﺗَﻈﻠﻢ ﺑﻌﻀﻬﺎ ً ﺑﻌﻀﺎ ﺑﻞ ﺗﻨﺘﻈﻢ ﰲ ﺗﻨﺎﻏﻢ ﻛﻤﺎ ﻳﺘﻄ ﱠﻠﺐ اﻟﻌﻘﻞ؛ ﺳﻮف ﻳﺴﻌﻰ إﱃ ﺗﻘﻠﻴﺪﻫﺎ، ورﺑﻤﺎ ﻳﺴﻌﻰ إﱃ اﻟﺘﻐﻴري ﻣﻦ ﻧﻔﺴﻪ ﻛﻲ ﻳﺼﺒﺢ ﻣﺸﺎﺑﻬً ﺎ ﻟﻬﺎ … وﻋﻨﺪ ذﻟﻚ ﻳﺼﺒﺢ ﻣُﺤِ ﺐﱡ اﻟﺤﻜﻤﺔ املﺘﻮﺣﺪ ﻣﻊ اﻟﻨﻈﺎم اﻹﻟﻬﻲ ﻋﲆ اﻟﻘﺪر ﻋﻴﻨﻪ ﻣﻦ اﻟﻨﻈﺎم واﻟﺴﻤﻮ. وﺑﻌﺪ ﻣﺮور ﺣﻮاﱄ ٢٣٠٠ﻋﺎم ﻛﺘﺐ ﺑﺮﺗﺮاﻧﺪ راﺳﻞ ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﺸﺎﺑﻬً ﺎ ﰲ اﻟﻔﺼﻞ اﻷﺧري ﻣﻦ أﺣﺪ ﻛﺘﺒﻪ اﻷواﺋﻞ واﻟﺬي ﻳﺤﻤﻞ ﻋﻨﻮان »ﻣﺸﻜﻼت اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ« ﺣﻴﺚ أﻛﺪ أن اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺗﺴﺘﺤﻖ اﻟﺪراﺳﺔ؛ »ﻷن اﻟﻌﻘﻞ ﻳﻐﺪو ﻋﻈﻴﻤً ﺎ ﻣﻦ ﺧﻼل ﻋﻈﻤﺔ اﻟﻜﻮن اﻟﺘﻲ ﺗﺘﺄﻣﻠﻬﺎ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ وﻳﺘﻤﻜﻦ ﻣﻦ ﺗﺤﻘﻴﻖ ﺗﻠﻚ اﻟﻮﺣﺪة ﻣﻊ اﻟﻜﻮن اﻟﺘﻲ ﺗﺤﻘﻖ ﻟﻪ اﻟﺨري اﻷﺳﻤﻰ«. ﻳﺒﺪو ﻛﻞ ذﻟﻚ راﺋﻌً ﺎ ،وﻟﻜﻦ ﻣﺎ اﻟﺬي ﻳُﻔﱰض أن ﻳﻬﺘﻢ ﺑﻪ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف وﻳُﺜَﺒﱢﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﻧﺎﻇﺮﻳﻪ؟ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني ﻳﺒﺪو أن ﻣﻮﺿﻊ اﻻﻫﺘﻤﺎم ﻛﺎن اﻷﺟﺮام اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺪور ﰲ ﻣﺴﺎراﺗﻬﺎ املﻨ ﱠ ﻈﻤﺔ املﺘﻨﺎﻏﻤﺔ ﰲ اﻟﺴﻤﺎء .أﻣﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻷﻓﻼﻃﻮن ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻣﻮﺿﻊ اﻻﻫﺘﻤﺎم املﺬﻛﻮر أﻣ ًﺮا أﻛﺜ َﺮ ﺗﺠ ﱡﺮدًا ﺗﺮﻣﺰ إﻟﻴﻪ اﻷﺟﺮام اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ ،وﻫﻮ اﻷﺷﻜﺎل املﺜﺎﻟﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗُﻌﺘﱪ ﱢ ﻧﻮﺿﺢ املﺰﻳﺪ ﻋﻦ ﺗﻠﻚ اﻷﺷﻜﺎل ﰲ اﻟﺤﺪﻳﺚ اﻷﺷﻴﺎء اﻷرﺿﻴﺔ ﺻﻮ ًرا أدﻧﻰ ﻣﻨﻬﺎ )وﺳﻮف ﻋﻦ أﻓﻼﻃﻮن ﻧﻔﺴﻪ( .أﻣﺎ راﺳﻞ ﻓﻴﺒﺪو أﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﺘﻐﻨﱠﻰ ﺑﺎﻟﺤﻴﺎة اﻟﻌﻘﻼﻧﻴﺔ وﻟﻜﻨﻪ ﻛﺎن أﻗﻞ وﺿﻮﺣً ﺎ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﻤﺎﻫﻴﺔ ﺗﻠﻚ اﻟﺤﻴﺎة .وﻣﺎ ﻳﺠﻤﻊ ﺑني ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻔﺴريات ﻫﻮ ﺣﻘﻴﻘﺔ أن ﺗﺄﻣﱡ ﻞ ﳾءٍ ﻣﺎ ﻗﺪ ﻳ ِ ُﻜﺴﺐ املﺮء ﺑﻌﺾ ﺻﻔﺎﺗﻪ اﻟﺤﺴﻨﺔ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻳﺒﺪو ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺘﺄﺛﱡﺮ ﺑﻪ 49
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
وﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻣﺤﺎﻛﺎﺗﻪ .ﻓﻘﺪ اﻋﺘﻘﺪ أﻓﻼﻃﻮن ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﻓﻜﺮة أن اﻟﺪراﺳﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﻟﻠﻜﻮن اﻟﴪﻣﺪي ﺗُﻀﻔﻲ ﻋﲆ املﺮء ﻧﻮﻋً ﺎ ﻣﻦ اﻟﺨﻠﻮد ﺣﻴﺚ ﻗﺎل: ﻣﻦ ﻛﺎن ﺟﺎدٍّا ﰲ ﺣﺐ املﻌﺮﻓﺔ واﻟﺤﻜﻤﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ ﻳﺠﺐ أن ﻳﺘﺴﻢ ﻓﻜ ُﺮه ﺑﺎﻟﺨﻠﻮد واﻟﻄﺎﺑﻊ اﻹﻟﻬﻲ إذا أراد ﺑﻠﻮغ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ .وﺑﻘﺪر ﻣﺎ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ أن ﺗﺸﺎرك ﰲ ﻫﺬا اﻟﺨﻠﻮد ﻳﺠﺐ أن ﻳﺘﺴﻢ ﻫﻮ ً أﻳﻀﺎ ﺑﺎﻟﺨﻠﻮد ﺑﻜﻞ ﻣﺎ ﺗﺤﻤﻞ اﻟﻜﻠﻤﺔ ﻣﻦ ﻣﻌﻨﻰ. ﻛﺎن ﻫﺬا ﺟﺰءًا ﻣﻦ ﻣﺤﺎورة »ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس« اﻟﺨﺎص ﺑﺄﻓﻼﻃﻮن ،وﻫﻲ أﻛﺜﺮ ﻣﺤﺎوراﺗﻪ اﺗﺴﺎﻣً ﺎ ﺑﺎﻟﻄﺎﺑﻊ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮري .وﻳﺮدد ﺑﺮﺗﺮاﻧﺪ راﺳﻞ اﻟﻜﻼم ذاﺗﻪ ً ﻗﺎﺋﻼ» :ﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﻜﻮن اﻟﻼﻣﺤﺪود ﻳﺤﺼﻞ اﻟﻌﻘﻞ اﻟﺬي ﻳﺘﺄﻣﻠﻪ ﻋﲆ ﻧﺼﻴﺐ ﻣﻦ اﻟﻼﻣﺤﺪودﻳﺔ«. وﻳُﻌَ ﱡﺪ اﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ »ﻧﺼﻴﺐ« ﻣﻦ اﻟﺨﻠﻮد أو اﻟﻼﻣﺤﺪودﻳﺔ ﻓﻜﺮة ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﻐﻤﻮض ﻣﺎ ً ﻣﺨﻔﻔﺎ ﻋﻦ اﻹﺷﺎدة ﺑﺎﻟﻔﻠﺴﻔﺔ .ﺑﺎﻟﻄﺒﻊ ﻛﺎن راﺳﻞ ،ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل، ﻳﻜﻔﻲ ﻻﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ ﺗﻌﺒريًا ﻻ ﻳﻘﺼﺪ ﺳﻮى ﺗﻠﻚ اﻹﺷﺎدة ،رﻏﻢ أن اﺧﺘﻴﺎره ﻟﻺﺷﺎرات اﻟﻠﻐﻮﻳﺔ ﻳﺸري إﱃ املﺎﴈ ﻧﺤﻮ ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس .وﻻ ﻳﺘﱠﻀﺢ ﻟﻨﺎ ﻋﲆ اﻟﻔﻮر ﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻤﺮء أن ﻳﺼﺒﺢ ﺧﺎﻟﺪًا ﺑﺎملﻌﻨﻰ اﻟﺤﺮﰲ ً ﻃﺒﻘﺎ ملﻌﺘﻘﺪ ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس .ﻛﻤﺎ ﺗﺒﺪو ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺗﺄﻣﱡ ﻞ ﳾء ﺧﺎﻟﺪ )ﻣﺜﻞ اﻟﻜﻮن( ﻓﺤﺴﺐ اﻟﻔﻜﺮة اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ — ﺑﺎﻟﻘﺪر اﻟﺬي ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ إﻳﻀﺎﺣﻬﺎ ﺑﻪ — ﻋﲆ اﻟﻨﺤﻮ اﻟﺘﺎﱄ :اﻟﺮوح ُﻣﺜ ْ َﻘ َﻠ ٌﺔ ﺑﺎﻟﻬﻤﻮم اﻟﺪﻧﻴﻮﻳﺔ واﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ،وإذا ﻇ ﱠﻠﺖ ﻋﲆ ﺗﻠﻮﺛﻬﺎ ﻫﺬا ﻓﻠﻦ ﺗﻬ ُﺮب ﻣﻦ ﻗﻴﺪ اﻟﺠﺴﺪ أﺑﺪًا ،ﺑﻞ ﺳﺘﻨﺘﻘﻞ إﱃ ﺟﺴﺪ آﺧﺮ ﻋﻨﺪ املﻮت ﻓﺤﺴﺐ ﺳﻮاء أﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﺠﺴﺪ ﻵدﻣﻲ أو ﻟﺤﻴﻮان ،وﻟﻜﻦ إذا اﺗﱠﺒﻊ اﻹﻧﺴﺎن املﻨﻬﺞ اﻟﺼﺤﻴﺢ ﻟﻠﺘﻄﻬﱡ ﺮ — وﻫﻮ ﻧﻮع ﻣﻦ اﻟﺘﻤﺮﻳﻨﺎت اﻟﺮوﺣﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗُﺪﻋﻰ ﺑﻨﺎء اﻷرواح ،ﻋﲆ ﻏﺮار ﺗﻤﺮﻳﻨﺎت ﺑﻨﺎء اﻷﺟﺴﺎم — ﻓﺴﻮف ﺗﻨﻄﻠﻖ اﻟﺮوح ﺣُ ﱠﺮ ًة ﻃﻠﻴﻘﺔ وﻳُﻔﻚ أﴎﻫﺎ وﺗﺘﻤﻜﻦ ﻣﻦ اﻟﺼﻌﻮد إﱃ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺮوﺣﻲ اﻟﴪﻣﺪي اﻟﺬي ﻳُﻌَ ﱡﺪ ﻣﻮﻃﻨَﻬﺎ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ. ُ ني؛ أوﻟﻬﻤﺎ :اﺗﱢﻘﺎء املﺤﺮﻣﺎت )ﻣﺜﻞ اﻻﻣﺘﻨﺎع ﻋﻦ ﺗﻨﺎول وﻳﺘﻜﻮﱠن ﻫﺬا املﻨﻬﺞ اﻟﺘﻄﻬﱡ ﺮي ﻣﻦ ِﺷ ﱠﻘ ْ ِ اﻟﻔﻮل أو ﻣﺎ ﺷﺎﺑﻪ( واﻵﺧﺮ :أن ﺗﺤﻴﺎ ﺣﻴﺎة اﻟﺘﺪرﻳﺒﺎت اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ اﻟﺼﺎرﻣﺔ؛ ﺣﻴﺎة »اﻟﺘﺄﻣﱡ ﻞ« أو اﻟﺘﺴﺎؤل اﻟﺨﺎﻟﺺ. وﻛﻤﺎ رأﻳﻨﺎ ،ﺗُﻌَ ﱡﺪ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني ﻣﻔﺘﺎح اﻟﻨﻈﺎم واﻟﺠﻤﺎل ﰲ اﻟﻜﻮن ،وﺗﻘﻊ ً وﻃﺒﻘﺎ ﻟﻠﺮواﻳﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺎﻗﻠﺘﻬﺎ اﻷﺟﻴﺎل ،ﻓﻘﺪ ﺑﺪأ ﻣﺴﺌﻮﻟﻴﺔ اﻛﺘﺸﺎﻓﻬﻤﺎ ﻋﲆ ﻋﺎﺗﻖ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ. اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﻮن ﰲ ذﻟﻚ ﺑﺎﻻﻛﺘﺸﺎف اﻟﻌﻈﻴﻢ ﻟﻠﻌﻼﻗﺔ ﺑني اﻷرﻗﺎم واﻷﺻﻮات املﻮﺳﻴﻘﻴﺔ .وﻣﻦ 50
ﺗﻨﺎﻏﻢ اﻟﻌﺎﻟﻢ :اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﻮن
دﻻﺋﻞ إداﻧﺘﻨﺎ ﺑﺎﻟﻔﻀﻞ ﻟﻠﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني أن ﻣﻌﻈﻢ ﱠ املﺜﻘﻔني اﻟﻴﻮم ﻻ ﻳﺠﺪون ﻫﺬا اﻻﻛﺘﺸﺎف ً ﻣﺪﻫﺸﺎ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق. ﻓﻘﺪ اﻛﺘﺸﻔﻮا أﻧﱠﻪ ﺛﻤﺔ ﻋﻼﻗﺔ ﻣﺒﺎﴍة ﺑني ﺛﻼث ﻣﺴﺎﻓﺎت ﻣﻮﺳﻴﻘﻴﺔ اﻋﺘﱪﻫﺎ اﻹﻏﺮﻳﻖ ﻣﺘﻨﺎﻏِ ﻤَ ًﺔ أو ﻋﺬﺑﺔ اﻟﺼﻮت ،وﻫﻲ اﻷوﻛﺘﺎف واملﺴﺎﻓﺔ اﻟﺮاﺑﻌﺔ واﻟﺨﺎﻣﺴﺔ اﻟﺘﺎﻣﺔ ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ، وﺑني ﺛﻼث ﻧ َِﺴ ٍﺐ رﻗﻤﻴﺔ ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ أﺧﺮى .وﻳﻤﻜﻦ اﻟﺘﻌﺒري ﻋﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﻌﻼﻗﺔ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ أﻃﻮال اﻷوﺗﺎر اﻟﺘﻲ ﺗُﻨ ْ َﻘ ُﺮ ﻹﺻﺪار اﻟﻨﻐﻤﺎت املﻮﺳﻴﻘﻴﺔ .وﻟﻨﺄﺧﺬ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل آﻟﺔ املﻮﻧﻮﻛﻮرد أﺣﺎدﻳﺔ اﻟﻮﺗﺮ اﻟﺘﻲ ﻗﺪ ﺗﻜﻮن أول ﻣﺎ ﻇﻬﺮ ﻓﻴﻪ ﻫﺬا اﻻﻛﺘﺸﺎف .ﻓﻌﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﻀﻐﻂ ﻋﲆ اﻟﻮﺗﺮ ﰲ أﻣﺎﻛﻦ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻨﻪ ﻳﻤﻜﻦ إﺻﺪار ﻧﻐﻤﺎت ﻣﻮﺳﻴﻘﻴﺔ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻳﺤﺪُث ﰲ اﻟﺠﻴﺘﺎر ،ﻓﺈذا ﺿﻐﻄﺖ ﻋﲆ اﻟﻮﺗﺮ ﰲ ﻣﻨﺘﺼﻒ ﻃﻮﻟﻪ ﺑﺎﻟﻀﺒﻂ ﺗُﺼﺒﺢ اﻟﻨﻐﻤﺔ اﻟﺼﺎدرة أﻋﲆ ﺑﻤﻘﺪار أوﻛﺘﺎف واﺣﺪ ﻋﻨﻬﺎ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ اﻫﺘﺰاز اﻟﻮﺗﺮ ﺑﺤﺮﻳﺔ )أي إذا ﻟﻢ ﻳُﻀﻐﻂ ﻋﲆ اﻟﻮﺗﺮ( .وﻫﻜﺬا ﻓﺈن املﺴﺎﻓﺔ املﻮﺳﻴﻘﻴﺔ ﻟﻸوﻛﺘﺎف ﺗﺘﻄﺎﺑﻖ ﻣﻊ اﻟﻨﺴﺒﺔ ،١ : ٢ﻓﺎﻟﻨﻐﻤﺔ اﻷﻛﺜﺮ ً اﻧﺨﻔﺎﺿﺎ ﺗﺼﺪر ﻋﻦ وﺗﺮ ﻳﺒﻠﻎ ﻃﻮﻟﻪ ﺿﻌﻒ ﻃﻮل اﻟﻮﺗﺮ اﻟﺬي ﻳﺼﺪر اﻟﻨﻐﻤﺔ اﻷﻋﲆ ﺑﻤﺴﺎﻓﺔ واﺣﺪة .وﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣﻤﺎﺛﻞ ﻓﺈن املﺴﺎﻓﺘني املﻮﺳﻴﻘﻴﺘني ذواﺗﻲ اﻟﺼﻮت اﻟﻌﺬب واملﻌﺮوﻓﺘني ﺑﺎﺳﻢ املﺴﺎﻓﺔ اﻟﺮاﺑﻌﺔ واﻟﺨﺎﻣﺴﺔ اﻟﺘﺎﻣﺔ ﺗﺘﻄﺎﺑﻘﺎن ﻣﻊ اﻟﻨﺴﺐ ٣ :٤و ٢ :٣ﻋﲆ اﻟﺘﻮاﱄ. ﻣﺎ أروع ﻫﺬا اﻻﻛﺘﺸﺎف! إذ ﻳﻮﺿﺢ أن اﻟﻈﻮاﻫﺮ )وﻫﻲ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﺤﺎﻟﺔ اﻷﺻﻮات املﻮﺳﻴﻘﻴﺔ( ﻟﻬﺎ ﺑﻨﻴﺔ ﺧﻔﻴﺔ ﻳﻤﻜﻦ ﻛﺸﻔﻬﺎ .وﻫﻮ ﺑﺮﻫﺎن ﻣﺎدي ﻋﲆ أن اﻷرﻗﺎم ﺑﻮﺳﻌﻬﺎ أن ﺗﻜﺸﻒ أﴎار اﻟﻌﺎﻟﻢ .ﻛﻤﺎ أن اﻟﻨﺴﺐ اﻟﺜﻼث ) ١ : ٢و ٣ : ٤و (٢ : ٣ﺗﻀﻢ اﻷرﻗﺎم ١و ٢و٣ و ٤واﻟﺘﻲ ﻳﺒﻠُﻎ ﻣﺠﻤﻮﻋﻬﺎ ،١٠وﻫﻮ أﻣﺮ راﺋﻊ ً أﻳﻀﺎ ﻷن اﻟﺮﻗﻢ ١٠ﻛﺎن اﻟﺮﻗﻢ املﺜﺎﱄ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﴎ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﻮن ﻛﺜريًا ﻟﻠﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني ﺣﻴﺚ ﻛﺎن ﻳﺘﻤﺘﻊ ﺑﻤﻐﺰى روﺣﻲ ﻋﻈﻴﻢ ﻟﺪﻳﻬﻢ .ﻟﻘﺪ ُ ﱠ ﺑﺄن ﻻﺣﻈﻮا أن املﺴﺎﻓﺎت املﺘﻨﺎﺳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻤﺘﻊ ﺑﺄﻫﻤﻴﺔ ﺧﺎﺻﺔ ﰲ املﻮﺳﻴﻘﻰ اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ ﺗﻄﺎﺑﻖ أرﻗﺎﻣً ﺎ ذات دﻻﻟﺔ ﺧﺎﺻﺔ. وﻣﻦ ﻣﻨﻈﻮرﻧﺎ اﻟﺤﺎﱄ املﻨﺘﻔﻊ ﺑﺎﻟﻔﻜﺮ اﻟﻌﻠﻤﻲ ،ﺑﻮﺳﻌﻨﺎ أن ﻧﺆ ﱢﻛﺪ أن ﺗﻔﺴري اﻛﺘﺸﺎﻓﺎت اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني ﻳَ ْﻜ ُﻤ ُﻦ ﰲ ﺛﻼث ﺣﻘﺎﺋﻖ؛ أ ُ َ وﻻﻫﺎ :أن ﻃﺒﻘﺔ اﻟﻨﻐﻤﺔ املﻮﺳﻴﻘﻴﺔ ﺗﺘﻌﻠﻖ ﺑﻤﻌﺪل اﻫﺘﺰاز اﻟﻬﻮاء ،وﺛﺎﻧﻴﺘﻬﺎ :أن ﻫﺬا املﻌﺪل ﰲ ﺣﺎﻟﺔ اﻵﻻت اﻟﻮﺗﺮﻳﺔ ﻳﺤﺪده ﻣﻌﺪل اﻫﺘﺰاز اﻟﻮﺗﺮ، وأُﺧﺮاﻫﺎ :أن ﻣﻌﺪل اﻫﺘﺰاز اﻟﻮﺗﺮ ﻫﻮ داﻟﺔ ﻟﻄﻮل اﻟﻮﺗﺮ) ،أﻣﺎ اﻟﺮﻗﻢ اﻟﺴﺤﺮي ١٠ﻓﻠﻴﺲ ﻟﻪ أي ﻣﻐﺰى ﺣﻘﻴﻘﻲ( .ﻟﻢ ﻳﻜﻦ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﻮن ﰲ ﻣﻮﻗﻒ ﻳﺴﻤﺢ ﻟﻬﻢ ﺑﺘﻘﺪﻳﻢ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺘﻔﺴريات ،وﻟﻜﻦ ﻳﺒﺪو أن ﻫﺬا اﻻﻛﺘﺸﺎف املﺬﻫﻞ ﺟﻌﻠﻬﻢ ﻳﺸﻌﺮون أﻧﻬﻢ ﰲ ﻣﻮﻗﻒ ﻳﺴﻤﺢ ﻟﻬﻢ ﺑﺎﻟﻘﻔﺰ إﱃ اﺳﺘﻨﺘﺎج ﺷﺎﻣﻞ ،وﻫﻮ أن اﻷرﻗﺎم ﻣﻦ املﺘﻄﻠﺒﺎت اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻟﻨﻈﺎم اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ 51
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
اﻟﺘﻲ ﺗﻐﻠِﺐ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻟﻔﻮﴇ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﻘﺪ َﻟﻌِ ﺐَ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﻮن دو ًرا أﺳﺎﺳﻴٍّﺎ ﰲ ﺗﻔﺴري اﻟﻈﻮاﻫﺮ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ،ﺣﺎﻟﻬﻢ ﰲ ذﻟﻚ ﺣﺎل اﻷرﻗﺎم )أو ﺑﺸﻜﻞ ﻋﺎم املﻔﺎﻫﻴﻢ اﻟﻜﻤﻴﺔ( .ﺣﺎول أن ﺗﺘﺨﻴﻞ ً ﻣﺴﺘﺤﻴﻼ. ﻛﺘﺎﺑًﺎ ﻣﺪرﺳﻴٍّﺎ ﻳﺘﺤﺪث ﻋﻦ اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء أو اﻟﻜﻴﻤﻴﺎء ﺑﻼ أرﻗﺎم ﻓﻴﻪ ،ﺳﻴﻜﻮن ذﻟﻚ أﻣ ًﺮا وﻻ ﻳﺪﻫﺸﻨﺎ أن اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني ﻟﻢ ﻳﺘﻤ ﱠﻜﻨﻮا ﻣﻦ ﺻﻴﺎﻏﺔ ﻛﻞ ذﻟﻚ ﻓﻠﺠَ ﺌُﻮا إﱃ املﻔﺮدات اﻟﺘﻲ ﺗﻮارﺛﻮﻫﺎ ﻋﻦ املﻠﻄﻴني؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﻘﺪ رأوا أن اﻷرﻗﺎم ﻫﻲ »أﺻﻞ« ﻛﻞ ﳾء. وﰲ ﺣﺪﻳﺜﻨﺎ ﻋﻦ ﻃﺎﻟﻴﺲ وﺧﻠﻔﺎﺋﻪ أﴍﻧﺎ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ إﱃ اﻟﻐﻤﻮض اﻟﺬي ﻳﻜﺘﻨِﻒ ﻣﻔﻬﻮم ً أﺻﻮﻻ ﻳﻌﻨﻲ أﻧﻬﺎ أول اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ و ُِﺟﺪ ْ َت ،أم أﻧﻬﺎ املﺎدة »اﻷﺻﻞ« .ﻓﻬﻞ َﻛ ْﻮ ُن اﻷرﻗﺎم ٍ اﻟﺘﻲ ُ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﺎ اﻟﺴﺒﺐُ ﰲ ﺣﺪوث أي ﳾء؟ ﻟﻘﺪ اﺳﺘﻌﺮض ﺻﻨﻊ ﻣﻨﻬﺎ ﻛﻞ ﳾء ،أم أﻧﻬﺎ ِ ﻣﻘﺼﺪ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني وﻟﻢ ﻳﺆﻳﱢﺪ ﻣﻌﻈﻤﻬﺎ ،ﺑﻞ ﻛﺎﻧﺖ أرﺳﻄﻮ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻻﻗﱰاﺣﺎت ﺣﻮل ﻧﱪﺗﻪ ﻋﻨﺪ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ أﺳﻼﻓﻪ اﻟﺴﺎﺑﻘني ﻧﱪة ﻣﻌﻠﻢ رﻳﺎض اﻷﻃﻔﺎل اﻟﺬي ﻳﻘﺺ اﻟﺮواﻳﺎت اﻟﺴﺎذﺟﺔ اﻟﺘﻲ ﺳﻤﻌﻬﺎ ﻣﻦ اﻷﻃﻔﺎل ﰲ املﺪرﺳﺔ اﻟﻴﻮم ،ﺧﺎﺻﺔ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺬﻛﺮ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني وﻫﺬﻳﺎﻧﻬﻢ ﺑﺸﺄن اﻷرﻗﺎم .وﻫﻮ ﻳﻌﱰض ﺑﺸﺪة ﻋﲆ »إﻳﻤﺎن اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني … ﺑﺄن اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺑﺄﻛﻤﻠﻬﺎ ﺗﺘﻜﻮﱠن ﻣﻦ اﻷرﻗﺎم« ﻣﺆﻛﺪًا أن ﻫﺬا ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن ﺻﺤﻴﺤً ﺎ ﻷن »اﻷﺟﺴﺎم اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ وﻫﺒﺘْﻬﺎ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ وزﻧًﺎ وﺧﻔﺔ ،إﻻ أﻧﻪ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺠﻤﻴﻊ ﻋﺪد ﻣﻦ اﻟﻮﺣﺪات )أي اﻷرﻗﺎم( ﻟﻨ ُ َﻜﻮﱢن ﻣﻨﻬﺎ ﺟﺴﻤً ﺎ ،وﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن ﻟﻬﺎ وزن «.وﻣﻤﱠ ﺎ ﻻ ﺷﻚ ﻓﻴﻪ أن ﺗﻔﻜري أرﺳﻄﻮ ﰲ ﻫﺬا املﻘﺎم ﻛﺎن ﺷﺪﻳﺪ اﻟﺤﺮﻓﻴﺔ ،ﻓﻬﻞ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﻮن ﻗﺪ اﻓﱰﺿﻮا ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ أن اﻟﺮﻗﻢ ٦ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﻟﻪ وزن ،أو أﻧﻚ إذا ﺣﻄﻤﺖ ﺻﺨﺮة ﻓﺴﻮف ﻳُﺨﻠﻒ ً ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻷرﻗﺎم؟ واﻹﺟﺎﺑﺔ ﻋﲆ اﻷرﺟﺢ ﻫﻲ ﻻ .ﻣﻦ املﺆﻛﺪ أن اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني ﺣﻄﺎﻣﻬﺎ ﺧﻠﺼﻮا إﱃ أن اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ رﻳﺎﺿﻴﺔ اﻷﺻﻞ .وﻧﻈ ًﺮا ﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ذﻟﻚ اﻟﻌﴫ ،ﻛﺎن ﻣﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻬﻢ أن ﻳﻘﻮﻣﻮا ﺑﺘﻠﺨﻴﺺ أﻓﻜﺎرﻫﻢ اﻟﻐﺎﻣﻀﺔ ﰲ ﻛﻮن اﻷرﻗﺎم ﺗُﻤَ ﺜ ﱢ ُﻞ »أﺻﻮل« ﻛﻞ ﳾء أو ﻣﺒﺎدِ ﺋَﻪ ،إﻻ أن ﻫﺬا ﻻ ﻳﻌﻨﻲ ﺑﺎﻟﴬورة أن اﻷﺷﻴﺎء املﺎدﻳﺔ ﻣﺼﻨﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻷرﻗﺎم ﺑﺎﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ اﻟﺘﻲ ُ ﺻﻨِﻌَ ﺖ ﺑﻬﺎ املﻨﺎزل ﻣﻦ اﻟﻄﻮب. ﻟﻜﻦ ﻳﺒﺪو ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ أن اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني ﻗﺪ اﻋﺘﻘﺪوا أن اﻷﺷﻴﺎء املﺎدﻳﺔ ﺗﺘﻜﻮن ﻣﻦ اﻷرﻗﺎم ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ أو ﺑﺎﻷﺣﺮى ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﺧﺎﺻﺔ ﺗﻨﺒﻊ ﻣﻦ أﺳﻠﻮﺑﻬﻢ ﰲ ﺗﻨﺎول اﻟﻬﻨﺪﺳﺔ .وﻟﻨﺄﺧﺬ ً ﺷﻜﻼ ﻣﻦ أرﺑﻊ ﻧﻘﺎط ﻣﺜﻞ ذﻟﻚ املﻮﺟﻮد ﻋﲆ زﻫﺮ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ :ارﺳﻢ اﻟﻨﺮد ،ﺛﻢ ﻗﻢ ﺑﺘﻮﺻﻴﻞ ﺗﻠﻚ اﻟﻨﻘﺎط ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺧﻄﻮط ﻟﺘُﻜﻮﱢن ﻣﺮﺑﻌً ﺎ ،ﺛﻢ ارﺳﻢ املﺰﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﻨﻘﺎط واﻟﺨﻄﻮط ﻟﺘُ َﻜﻮﱢن ﻣﻜﻌﺒًﺎ .ﰲ ﻫﺬا اﻟﺘﺪرﻳﺐ اﻟﺒﺴﻴﻂ ﻛ ﱠﻮﻧَﺖ اﻟﻨﻘﺎط ﺧﻄﻮ ً ﻃﺎ، ً ﺷﻜﻼ ﻫﻨﺪﺳﻴٍّﺎ ،وﻛﻮﻧﺖ اﻷﺷﻜﺎل اﻟﻬﻨﺪﺳﻴﺔ ﻣﺠﺴﻤً ﺎ .وﻫﺬه ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ﻫﻲ وﻛﻮﱠﻧﺖ اﻟﺨﻄﻮط 52
ﺗﻨﺎﻏﻢ اﻟﻌﺎﻟﻢ :اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﻮن
ﻧﻈﺮة اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني ذوي اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ اﻟﻬﻨﺪﺳﻴﺔ ﻟﻸﺷﻴﺎء املﺎدﻳﺔ؛ ﻓﻬﻲ ﻟﺪﻳﻬﻢ ﺗﺘﻜﻮن ﻣﻦ ﻧﻘﺎط وﺧﻄﻮط وﻫﻜﺬا .اﻋﺘﻘﺪ أرﺳﻄﻮ أﻧﻬﻢ ﻳﻘﺪﱢﻣﻮن إﺟﺎﺑﺔ ﻟﻠﺴﺆال اﻟﻘﺪﻳﻢ اﻟﺬي ﻃﺮﺣﻪ املﻠﻄﻴﻮن ﻋﻦ املﺎدة اﻟﺘﻲ ُ ﺻﻨﻌﺖ ﻣﻨﻬﺎ اﻷﺷﻴﺎء املﺎدﻳﺔ ،وﻟﻜﻨﻬﻢ ﰲ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻷﻣﺮ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻄﺮﺣﻮن ﱠ ً وﻓﻀﻠﻮا ﺳﺆاﻻ آﺧﺮ؛ ﻓﻘﺪ وﺟﺪوا ﰲ اﻟﱰﻛﻴﺰ ﻋﲆ اﻟﺠﺎﻧﺐ اﻟﺮﻳﺎﴈ ﻟﻸﻣﻮر ﺗﺠﺪﻳﺪًا ﻣﺜريًا ﻣﻨﺎﻗﺸﺔ ذﻟﻚ .وﻗﺪ ﻳﻜﻮن ﻫﺬا ﻫﻮ اﻟﺴﺒﺐ اﻟﺬي دﻋﺎﻫﻢ ﻟﻠﻘﻮل إن اﻷﺷﻴﺎء املﺎدﻳﺔ ُ ﺻﻨﻌﺖ ﻣﻦ اﻷرﻗﺎم ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﺎ .ورﻏﻢ أﻧﻨﺎ ﻧﻤﻴﺰ ﺑﻮﺿﻮح ﺑني اﻷرﻗﺎم واﻟﻨﻘﺎط اﻟﻬﻨﺪﺳﻴﺔ ﻓﻘﺪ ﺗﻨﺎول اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﻮن ﻣﻔﻬﻮم اﻟﻮﺣﺪات ﺑﺸﻜﻞ أوﺳﻊ ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻗﺪ ﻳﻌﻨﻲ أﻧﻪ ﻳﺸري أﺣﻴﺎﻧًﺎ إﱃ أﻣﺮ أﻣﺮ آﺧﺮ .وﻻ رﻳﺐ أن ذﻟﻚ اﻟﻐﻤﻮض ﻗﺪ زاد ﻣﻨﻪ أن ﻣﺜﻠﻮا اﻷرﻗﺎم ﻣﻌني وأﺣﻴﺎﻧًﺎ أﺧﺮى إﱃ ٍ ﺑﺄﺷﻜﺎل ﻫﻨﺪﺳﻴﺔ ﻣﻦ اﻟﻨﻘﺎط أو اﻟﺤﴡ ﻛﺎﻷﺷﻜﺎل اﻟﺘﻲ ﺗﻮﺟﺪ ﻋﲆ ﺣﺠﺮ اﻟﺪوﻣﻴﻨﻮ أو زﻫﺮ اﻟﻨﺮد. ً وﻟﺴﻮء اﻟﺤﻆ ،ﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أﻛﺜﺮ ﻣﻔﴪي اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﺔ ﺗﻌﺎﻃﻔﺎ إﻧﻘﺎذ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني ﻣﻦ ﺑﻌﺾ اﻟﺘﻄﺮف اﻟﺬي ﻗﺎدﻫﻢ إﻟﻴﻪ اﻓﺘﺘﺎﻧﻬﻢ ﺑﺎﻷرﻗﺎم .وﻳﺒﺪو أﻧﻬﻢ َ ذﻫﺒﻮا إﱃ ﺣَ ﱢﺪ ﻣﻄﺎﺑﻘﺔ ﺑﻌﺾ اﻷرﻗﺎم املﺤﺪدة ﺑﺎﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻷﻓﻜﺎر املﺠ ﱠﺮدة؛ ﻓﻘﺪ ذﻛﺮ أﺣﺪ املﻌ ﱢﻠﻘني اﻟﻘﺪاﻣﻰ أن اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني ﻛﺎﻧﻮا ﻳَ َﺮو َْن أن اﻟﻌﻘﻞ ﻳﺤﻤﻞ اﻟﺮﻗﻢ ،١واﻟﺬﻛﻮرة اﻟﺮﻗﻢ ،٢ واﻷﻧﻮﺛﺔ اﻟﺮﻗﻢ ،٣واﻟﻌﺪل اﻟﺮﻗﻢ ،٤واﻟﺰواج اﻟﺮﻗﻢ ،٥واﻟﻔﺮﺻﺔ اﻟﺮﻗﻢ ) ٧ﺑﻌﺾ املﺼﺎدر اﻷﺧﺮى ﺗﻌﻄﻲ أرﻗﺎﻣً ﺎ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻟﻠﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ املﻔﺎﻫﻴﻢ( .وﰲ ﺑﻌﺾ اﻷﺣﻴﺎن ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻤﺮء أن ﻳﺮى ﺑﺼﻌﻮﺑﺔ ﻣﺼﺪر اﻹﻟﻬﺎم ﻟﺘﻠﻚ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺮﻗﻤﻴﺔ ﻏري املﱰاﺑﻄﺔ ،وﺧري ﻣﺜﺎل ﻋﲆ ذﻟﻚ ﻫﻮ اﻟﻌﺪل اﻟﺬي ِ ﻳﺤﻤﻞ اﻟﺮﻗﻢ ٤؛ إذ ُﻣﺜ ﱢ َﻞ ﻫﺬا اﻟﺮﻗﻢ ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺮﺑﻊ ﻣﺘﺴﺎوي اﻷﺿﻼع ،وﻟﺬﻟﻚ ً ً ﻋﺎدﻻ .وﻣﺎ زﻟﻨﺎ ﺣﺘﻰ اﻵن ﻧﺴﺘﺨﺪم ﰲ اﻟﻠﻐﺔ اﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ ﻛﻠﻤﺔ ﺷﻜﻼ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﺴﻤﻴﻪ squareﺑﻤﻌﻨﻰ )ﻋﺎدل( ﻛﻤﺎ ﰲ ﺣﺪﻳﺜﻨﺎ ﻋﻦ ﺗﺴﻮﻳﺔ اﻟﺪﻳﻮن .squaring debtsوﻟﻜﻦ رﻏﻢ أﻧﻪ ﻗﺪ ﻳﻜﻮن ﰲ اﻷﻓﻜﺎر املﺠﻨﻮﻧﺔ ﳾء ﻣﻦ ﻋﻘﻞ ،ﻓﻼ ﻳﺨﺮﺟﻬﺎ ذﻟﻚ ﻋﻦ ﻛﻮﻧﻬﺎ ﺟﻨﻮﻧًﺎ .وﻻ رﻳﺐ ﱠ أن ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﺎ — ﺣﺒﺬا ﻟﻮ ﻋﻠﻤﻨﺎه — ﻗﺪ ﺣﺪا ﺑﻬﻢ إﱃ ﻗﻮل ذﻟﻚ ،وﻟﻜﻦ ﻟﺪى اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني ﺛﻤﺔ أﻓﻜﺎر أﺧﺮى أﻛﺜﺮ أﻫﻤﻴﺔ ﺗﺴﺘﺪﻋﻲ اﻟﻨﻈﺮ ﻓﻴﻬﺎ. أﻣﺎ آﺧﺮ ﺟﺰء ﻣﻦ ﻋﻘﻴﺪة اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺸﺎﻣﻠﺔ ﻟﻠﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني ﺳﻨﺘﻨﺎوﻟﻪ ﻫﻨﺎ ﻓﻬﻮ اﻟﺠﺰء اﻟﺬي ﻳﺘﻨﺎول اﻷﺻﻮل واملﺒﺎدئ اﻷوﱠﻟﻴﺔ ﻟﻠﻜﻮن ،واﻟﺬي ﻳﺄﺗﻲ ﻋﲆ رأس أوﻟﻮﻳﺎﺗﻬﻢ .رﻏﻢ ٍ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﺎ ﻫﻲ ﻣﻘﻮﱢﻣﺎت ﻛﻞ ﳾء؛ ﻓﻠﻢ ﻳﻌﺘﻘﺪوا أﻧﻬﺎ املﻘﻮﻣﺎت اﻷوﻟﻴﺔ اﻋﺘﻘﺎدﻫﻢ أن اﻷرﻗﺎم ﻓﺤﺴﺐ ﺑﻞ آﻣﻨﻮا ً أﻳﻀﺎ ﺑﺄن ﺑﻮﺳﻌﻬﻢ اﻟﻐﻮص أﻋﻤﻖ ﻣﻦ ذﻟﻚ؛ إذ إن اﻷرﻗﺎم ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻗﺪ ﺗﻜﻮﱠﻧﺖ ﻣﻦ ﳾء آﺧﺮ .وﻫﺬا اﻟﴚء اﻵﺧﺮ ﻛﺎن »املﻄﻠﻖ« اﻟﺨﺎص ﺑﺄﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر أو ﺷﻴﺌًﺎ ﻳﺸﺒﻬﻪ. 53
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
وﻳُﻌَ ﱡﺪ املﻔﻬﻮﻣﺎن اﻷﺳﺎﺳﻴﺎن ﰲ اﻟﻔﻜﺮ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮري ﻫﻤﺎ املﺤﺪود واﻟﻼﻣﺤﺪود؛ إذ ﻳﺮى اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﻮن أﻧﻪ أﻳﻨﻤﺎ ﺑﺤﺚ اﻹﻧﺴﺎن ﻋﻦ ﺗﻔﺴري ﻟﻠﻨﻈﺎم أو اﻟﺠﻤﺎل ﰲ أﻳﺔ ﻇﺎﻫﺮة ﻓﻼ ً ﻻﺣﻘﺎ ﻋﻘﻴﺪ ًة ﻻ ﺑُ ﱠﺪ وأﻧﻬﺎ رﻳﺐ أن ﻫﺬﻳﻦ املﻔﻬﻮﻣني ﻳﻜﻤﻨﺎن ﺧﻠﻔﻪ .وﻗﺪ اﻛﺘﺸﻒ أﻓﻼﻃﻮن ﺗﻨﺘﻤﻲ ﻟﻠﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني ،وﻫﻲ ﺗﻤﴤ ﻋﲆ اﻟﻨﺤﻮ اﻟﺘﺎﱄ: ُ ً ﻫﺪﻳﺔ ﰲ ﺻﻮرة أﺳﻼﻓﻨﺎ اﻟﺬﻳﻦ ﻛﺎﻧﻮا أﻓﻀﻞ ﻣﻨﱠﺎ وأﻗﺮب ﻣﻨﱠﺎ إﱃ اﻵﻟﻬﺔ ﻟﻘﺪ أورﺛَﻨﺎ ﻗﻮل ﻣﺄﺛﻮر ﻳﻘﻮل إن ﻛﻞ اﻷﺷﻴﺎء املﻮﺟﻮدة ﻣﻨﺬ اﻟﻘِ ﺪَم ﺗﺘﻜﻮﱠن ﻣﻦ ﳾء واﺣﺪ وﻣﻦ أﺷﻴﺎء ﻣﺘﻌﺪدة ،وإن ﰲ ﻃﺒﻴﻌﺘﻬﺎ ﻣﺰﻳﺠً ﺎ ﺑني املﺤﺪود واﻟﻼﻣﺤﺪود. وﻳﺒﺪو أن اﻟﻔﻜﺮة اﻟﺘﻲ ﺗﻜﻤﻦ ﺧﻠﻒ ﻫﺬا اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ املﺰﻳﺞ ﺑني املﺤﺪود واﻟﻼﻣﺤﺪود ﻫﻲ ﻛﺎﻟﺘﺎﱄ :ﻳُﺨﻠﻖ اﻟﻨﻈﺎم واﻟﺠﻤﺎل ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳُﻔﺮض ﻧﻮع ﻣﻦ اﻟﺤﺪود ،أو اﻟﺘﺤﺪﻳﺪ ،ﻋﲆ املﺎدة اﻟﺨﺎم اﻟﻼﻣﺤﺪودة ﻟﻠﻜﻮن .وﻣﻦ اﻷﻣﺜﻠﺔ اﻟﺪﻧﻴﻮﻳﺔ ﻋﲆ ذﻟﻚ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻳُﺴﺘﺨﺪم ﺑﻬﺎ ﻗﺎﻟﺐ اﻟﺨﺒﺰ ﻟﺘﻜﻮﻳﻦ ﺷﻜﻞ ﻣﺤﺪﱠد ﻣﻦ ﻗﻄﻌﺔ ﻋﺠني ﻋﺪﻳﻤﺔ اﻟﺸﻜﻞ .وﻛﻤﺎ رآﻫﺎ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﻮن ،ﺗﻘﻮم اﻟﻨ ﱢ َﺴﺐ املﻮﺳﻴﻘﻴﺔ ﺑﺘﺤﺪﻳﺪ اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ املﻬﻤﺔ ﻟﻔﺮض اﻟﻨﻈﺎم ﻋﲆ اﻟﺼﻮت ﻋﺪﻳﻢ اﻟﺸﻜﻞ .وﻣﺜﻠﻤﺎ ُ اﻟﺘﻨﺎﻏﻢ املﻮﺳﻴﻘﻲ ﻣﻦ اﻟﻀﻮﺿﺎء املﺘﻨﺎﻓِ ﺮ ،رأى اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﻮن أن ﺗﺆدﱢي اﻟﻨ ﱢ َﺴﺐ إﱃ إﺣﺪاث ُ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻷﺷﻴﺎء اﻷﺧﺮى َ ُ ﺗﻨﺎﺳﻖ اﻹﻳﻘﺎع ﻛﺎﻟﺠﺴﺪ اﻟﺘﻨﺎﻏﻢ أو اﻟﻘﻴﱢﻤﺔ إﻧﻤﺎ ﻫﻲ أﻣﺜﻠﺔ ﻋﲆ اﻟﺼﺤﻲ واﻟﺮوح اﻟﻔﺎﺿﻠﺔ واملﺠﺘﻤﻊ اﻟﻌﺎدل ،وﻫﻲ أﻣﻮر َرأَوْا ﻓﻴﻬﺎ اﻟﻨ ﱢ َﺴﺐ اﻟﺼﺤﻴﺤﺔ أو ً ﻣﺜﺎﻻ ﻋﲆ املﺰﻳﺞ اﻟﺼﺤﻴﺢ ﻣﻦ اﻟﻌﻨﺎﴏ .وﰲ ﻛﻞ ﺣﺎﻟﺔ ﺗُﻌﺪ اﻟﻨﺴﺒﺔ أو املﺰﻳﺞ املﺘﻨﺎﺳﻖ إﻧﺸﺎء اﻟﻨﻈﺎم أو اﻟﺤﺪود .وﻳﺆﺛﺮ املﻔﻬﻮم املﺰدوج ﻟﻠﻤﺤﺪود واﻟﻼﻣﺤﺪود ﻋﲆ اﻷرﻗﺎم ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ املﻔﺎﻫﻴﻢ اﻟﺤﺴﺎﺑﻴﺔ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺎﻷﻋﺪاد اﻟﺰوﺟﻴﺔ واﻟﻔﺮدﻳﺔ؛ ﻓﺎﻟﻼﻣﺤﺪود ﻳﻄﺎﺑﻖ اﻷﻋﺪاد اﻟﺰوﺟﻴﺔ )أو رﺑﻤﺎ ﻳﺆدي إﱃ ﺗﻜﻮﻳﻨﻬﺎ( ،أﻣﺎ املﺤﺪود ﻓﻠﻪ اﻟﻌﻼﻗﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ وﻟﻜﻦ ﻣﻊ اﻷﻋﺪاد اﻟﻔﺮدﻳﺔ .وﺗﺘﺤﺪ اﻷﻋﺪاد اﻟﺰوﺟﻴﺔ واﻟﻔﺮدﻳﺔ ﻣﻜﻮﱢﻧﺔ اﻟﺮﻗﻢ ،١ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺗﻜﻮﻧﺖ ﻛﻞ اﻷﻋﺪاد اﻷﺧﺮى ﻣﻦ اﻟﺮﻗﻢ .١ َ وﻫﻜﺬا ﻧﺤﺼﻞ ﻋﲆ وﺻﻔﺔ اﻷرﻗﺎم وﻣﻦ ﺛ ﱠﻢ اﻟﻮﺻﻔﺔ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﻜﻞ اﻷﺷﻴﺎء اﻷﺧﺮى اﻟﺘﻲ ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺎ .وﻟﻜﻦ ﻛﻴﻒ ﺟﺎءت اﻷرﻗﺎم ً أﺻﻼ؟ ﻗﺪم اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﻮن ﺗﻔﺴريًا ﺗﺘﻜﻮﱠن ﻣﻦ اﻷرﻗﺎم ٍ ﻟﺒﺪاﻳﺔ اﻟﻜﻮن .ﰲ ﻧﺴﺨﺔ أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر ﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﺮواﻳﺔ اﻧﻔﺼﻠﺖ ﺑﻴﻀﺔ أو ﺑَﺬرة ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺎ ﻋﻦ املﻄﻠﻖ ﻏري املﺤﺪود ،وﻇﻠﺖ ﺗﻨﻤﻮ ﺣﺘﻰ ﺻﺎرت اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺬي ﻧﻌﺮﻓﻪ اﻵن .وﺑﺎملﺜﻞ ﺗﺒﺪأ رواﻳﺔ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني ﺑﺒﺬرة ،وﻟﻜﻦ ﺑﺬرﺗﻬﻢ ﺗﻨﻤﻮ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻣﺘﺼﺎص اﻟﻼﻣﺤﺪود وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ً ﺷﻜﻼ أو ﺣﺪودًا .وﻛﺬﻟﻚ ﻧﺸﺄ ﻛﻞ ﳾء ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻣﻦ ﻛﻮاﻛﺐ وﺻﺨﻮر وﻣﻮﺳﻴﻘﻰ إﻋﻄﺎؤه 54
ﺗﻨﺎﻏﻢ اﻟﻌﺎﻟﻢ :اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﻮن
ورﺑﻤﺎ ﺣﺘﻰ اﻟﺒﴩ ،ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﻬﺬا اﻟﻨﻤﻮ اﻟﺬي ﻳﻘﺘﺎت ﻋﲆ املﺸﻴﻤﺔ اﻟﻼﻣﺤﺪودة ﻋﺪﻳﻤﺔ اﻟﺸﻜﻞ. وﻳﺒﺪو أن ﻫﺬا اﻻﻣﺘﺼﺎص ﻛﺎن ﻣﻘﺼﻮدًا ﺑﺎملﻌﻨﻰ اﻟﺤﺮﰲ إﱃ ﺣَ ﱟﺪ ﻣﺎ ،ﻓﻴﺸﺎر إﱃ اﻟﻼﻣﺤﺪود ﰲ ﻫﺬا اﻟﺴﻴﺎق ﺑﺎﻟﺮوح؛ أي اﻟﻬﻮاء أو اﻟﻨ ﱠ َﻔﺲ .وﻫﻜﺬا أﺻﺒﺢ ﻟﺪﻳﻨﺎ ﺗﻔﺴري ﻟﺘﻄﻮﱡر اﻟﻜﻮن ﺗﺴﻴﻄﺮ ﻋﻠﻴﻪ ﺻﻮرة ﻛﺎﺋﻦ ﺣﻲ ﻳﻨﻤﻮ وﻳﺘﻨﻔﺲ وﻳﺴﺘﻤ ﱡﺪ ﻏﺬاءه ﻣﻦ اﻟﺒﻴﺌﺔ املﺤﻴﻄﺔ ﺑﻪ. وﻟﻜﻦ ﻛﻴﻒ ﻳُﻔﱰض ﺑﺬﻟﻚ اﻟﺘﻔﺴري اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻲ اﻟﺰاﺋﻒ أن ﻳﺴﺘﻤﺮ ﰲ ِﻇ ﱢﻞ وﺟﻮد اﻷﻓﻜﺎر اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﺔ اﻷﻛﺜﺮ ﺗﺠ ﱡﺮدًا وﺗﻌﻘﻴﺪًا ﺣﻮل اﻟﻬﻨﺪﺳﺔ واﻷرﻗﺎم؟ إن ﺛﻤﺔ ً ﻗﻮﻻ ﺑﺄن ﻛﻞ اﻷرﻗﺎم ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻨﺸﺄ ﻣﻦ اﻟﺮﻗﻢ ) ١ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﺑﺘﻜﺮار إﺿﺎﻓﺔ اﻟﺮﻗﻢ (١أو أن املﻜﻌﺐ ﻳﻤﻜﻦ اﻋﺘﺒﺎره ﻣﻜ ﱠﻮﻧًﺎ ﻣﻦ ﻧﻘﺎط وﺧﻄﻮط .وﻟﻜﻦ ﻫﻞ ﺑﻮﺳﻌﻨﺎ اﻵن أن ﻧﻔﱰض أن اﻟﺮﻗﻢ ١ﻗﺪ ﻧﺸﺄت ﻋﻨﻪ اﻷرﻗﺎم اﻷﺧﺮى واﻟﺘﻲ ﺑﺪورﻫﺎ أﻧﺠﺒﺖ اﻟﺨﻄﻮط اﻟﺘﻲ أﻧﺠﺒﺖ اﻷﺷﻜﺎل اﻟﻬﻨﺪﺳﻴﺔ … إﻟﺦ ﰲ ﻟﺤﻈﺔ ﻣﺤﺪدة ﻣﻦ ﺗﻄﻮﱡر اﻟﻜﻮن؟ ﻳﺒﺪو اﻷﻣﺮ ﻛﻤﺎ ﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﺑﻀﻊ ﺻﻔﺤﺎت ﻣﻦ ﺑﺪاﻳﺔ ِﺳﻔﺮ اﻟﺘﻜﻮﻳﻦ ﻗﺪ ُﻓﻘﺪت واﺧﺘﻠﻄﺖ ﻣﻊ ﺻﻔﺤﺎت ﻣﻦ ﻛﺘﺎب اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ﻟﻠﻤﺮﺣﻠﺔ اﻻﺑﺘﺪاﺋﻴﺔ. ﱡ اﻟﺘﻮﻗﻒ ﻋﻦ اﻻﻓﱰاض؛ إذ إن ﻣﺼﺎدر ﻛﻞ ﺗﻠﻚ وﺗﻠﻚ ﻫﻲ اﻟﻨﻘﻄﺔ اﻟﺘﻲ ﻳُﺴﺘﺤﺴﻦ ﻓﻴﻬﺎ َ ْ ٍ ﻣﺮﺣﻠﺔ ﻣﺎ ﻳُﻀﻄ ﱡﺮ املﺮء إﱃ اﻟﺘﺄﻣﻼت ﺣﻮل اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني ﻫﺰﻳﻠﺔ ورﺑﻤﺎ ﺗﻜﻮن ﻓﺎﺳﺪة ،وﰲ اﻻﻋﱰاف ﺑﺄﻧﻪ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ ﻣﺰﻳ ٍﺪ ﻣﻦ املﻌﻠﻮﻣﺎت ﻣﻦ ﻫﺬه املﺼﺎدر .وﻫﻨﺎ ﺗﺠﺪر ً اﻹﺷﺎرة ً رﺟﺎﻻ ﺧﺎرﻗني ﺗﺤ ﱠﺮروا ﰲ ﺧﻄﻮة واﺣﺪة ﻣﻦ أﻳﻀﺎ إﱃ أن اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني ﻟﻢ ﻳﻜﻮﻧﻮا اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺒُﺪاﺋﻴﺔ ﻷﺳﻼﻓﻬﻢ ،ﺑﻞ ﻛﺎﻧﻮا ﻻ ﻳﺰاﻟﻮن ﻳﺘﺒﻌﻮن ﻃﺮق ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻷواﺋﻞ اﻟﺬﻳﻦ اﻫﺘﻤﱡ ﻮا ﻛﻤﺎ رأﻳﻨﺎ ﺑﺎﻟﺮواﻳﺎت اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ﻟﻜﻴﻔﻴﺔ ﺑَ ْﺪءِ ﻛﻞ ذﻟﻚ ،وﻛﺎﻧﻮا ﻳﺒﺬُﻟﻮن ﻗﺼﺎرى ﺟﻬﺪﻫﻢ ﻟﻼﻧﺘﻘﺎل إﱃ أﻧﻮاع أﺧﺮى ﻣﻦ اﻷﺳﺌﻠﺔ وﺧﺎﺻﺔ اﻷﺳﺌﻠﺔ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ ،وﻟﻜﻨﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﺪرﻛﻮا ﻛﻴﻒ ﻳﺘﺨﻠﺼﻮن ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻣﻦ اﻷﺳﺎﻟﻴﺐ اﻟﻌﺘﻴﻘﺔ ﰲ اﻟﺤﺪﻳﺚ. ً ﺳﺎﺑﻘﺎ ،ﻛﺎن ﻳُﻔﱰض ﺑﺎﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮري اﻟﺼﺎﻟﺢ أن ﻳُ َﻜ ﱢﺮ َس ﻛﻞ وﻗﺘﻪ وﺟﻬﺪه ﻟﺪراﺳﺔ وﻛﻤﺎ رأﻳﻨﺎ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ،وﺧﺎﺻﺔ ﻋﻠﻢ اﻟﻔﻠﻚ واﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت واملﻮﺳﻴﻘﻰ ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻔﱰض أن ﻳُ َ ﻄﻬﱢ َﺮ روﺣﻪ. وﻣﻦ اﻟﺴﻬﻞ اﻹﻋﻼن ﻋﻦ اﻟﻨﻮاﻳﺎ اﻟﺤﺴﻨﺔ ﰲ ﺑﺪاﻳﺔ اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺪراﳼ ،وﻟﻜﻦ ﻣﺎذا ﺣَ ﱠﻘ َﻖ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﻮن ﰲ ذﻟﻚ؟ ورﻏﻢ ﻗﻠﺔ ﻣﺎ ﻧﻌﻠﻤﻪ ﻋﻦ ﻣﺴﺎﻫﻤﺎﺗﻬﻢ ﰲ املﻮﺳﻴﻘﻰ )أو ﺑﺸﻜﻞ أﻛﺜﺮ دﻗﺔ ﰲ ﻋﻠﻢ ً اﻷﺻﻮات املﻮﺳﻴﻘﻴﺔ( ﻓﻬﻲ ﻣﻌﻠﻮﻣﺎت ﻣﻔﻴﺪة ،ﺗﺘﻜﻮن ﻣﻦ املﻼﺣﻈﺎت املﺸﺎر إﻟﻴﻬﺎ ﺳﺎﺑﻘﺎ واﻟﺘﻲ أﻇﻬﺮت اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑني اﻟﻨ ﱢ َﺴ ِﺐ واملﺴﺎﻓﺎت املﻮﺳﻴﻘﻴﺔ املﺘﻨﺎﻏﻤﺔ ذات اﻷﺻﻮات اﻟﻌﺬﺑﺔ، 55
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
وﻫﺬا ﻛﻞ ﳾء .ورﻏﻢ ذﻟﻚ ﻓﻘﺪ اﻧﺒﻬﺮ ﺑﻬﺎ ﻣﺆ ﱢرﺧﻮ اﻟﻌﻠﻮم ﰲ اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺪﻳﺚ ،ﺣﻴﺚ ﻳﻘﺎل إن اﻧﺸﻐﺎل اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني ﺑﻌﻠﻢ اﻟﺼﻮت ﻫﻮ »اﻟﺤﺎﻟﺔ املﻬﻤﺔ اﻟﻮﺣﻴﺪة اﻟﺘﻲ ﻧﻤﻠِﻚ ﻓﻴﻬﺎ ً دﻟﻴﻼ ﻋﲆ اﻧﺨﺮاط اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﰲ اﻟﺒﺤﺚ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻲ« ﻗﺒﻞ أﻓﻼﻃﻮن .ﻟﻜﻦ اﻟﻔﻜﺮة املﻮﺳﻴﻘﻴﺔ اﻷﺷﻬﺮ ﻟﺪى اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني — وﻫﻲ إﻳﻤﺎﻧﻬﻢ ﺑ »اﻟﺘﻨﺎﻏﻢ« أو »املﻮﺳﻴﻘﻰ اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ« — ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻟﻬﺎ إﻻ ﻋﻼﻗﺔ ﺿﻌﻴﻔﺔ ﺑﺎﻟﺒﺤﺚ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻲ ،ﺑﻞ إﻧﻬﺎ ﺻﻮرة ﺗﻠﺨﺺ ﺑﺪﻗﺔ ﺗﺨﻴﱡﻠﻬﻢ ﻋﻦ اﻟﻜﻮن .وﻗﺪ آﻣﻦ اﻟﻜﺜريون ﺑﻬﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﻷﻧﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺒﺪو ﻓﻜﺮة ﺟﺬﱠاﺑﺔ .وﻳﺸﻬﺪ ﻋﲆ ﻛﺜﺮة إﻳﺤﺎءاﺗﻬﺎ ﻇﻬﻮ ُرﻫﺎ ﰲ أﻋﻤﺎل ﻛ ﱟﻞ ﻣﻦ أﻓﻼﻃﻮن وﺷﻴﴩون وﺗﺸﻮﴎ وﺷﻜﺴﺒري وﻣﻴﻠﺘﻮن وﺑﻮب ودراﻳﺪن وآﺧﺮﻳﻦ .وﻗﺪ وﺻﻔﻬﺎ أرﺳﻄﻮ ﺑﺸﻜﻞ ﺟﻴﺪ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ ،إﻻ أن اﻟﻔﻜﺮة وُﺻﻔﺖ ﻋﲆ اﻟﻨﺤﻮ اﻷﻓﻀﻞ ﻋﲆ ﻟﺴﺎن ﻟﻮرﻧﺰو ﰲ ﻣﴪﺣﻴﺔ »ﺗﺎﺟﺮ اﻟﺒﻨﺪﻗﻴﺔ« ﺣني ﻗﺎل: اﺟﻠﴘ ﻳﺎ ﺟﻴﺴﻴﻜﺎ واﻧﻈﺮي ﻛﻴﻒ ُر ﱢ ﺻﻌَ ْﺖ اﻟﺴﻤﺎء، ﺑﺄﺟﺴﺎم ﻣﻦ اﻟﺬﻫﺐ اﻟﱪاق، إﻧﻬﺎ ﻣﻦ ﻛﻮﻛﺐ ﻣﻬﻤﺎ ُ ﺻﻐﺮ ﺣﺠﻤﻪ ﻓﻼ ﺗﺮﻳﻨﻪ إﻻ ﻳﻐﻨﻲ أﺛﻨﺎء ﺣﺮﻛﺘﻪ، ﻛﺎملﻼك اﻟﺬي ﻳﺒﻌﺚ أﻧﻐﺎﻣﻪ، إﱃ أﺳﻤﺎع املﻼﺋﻜﺔ اﻟﺼﻐﺎر، ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﺘﻨﺎﻏﻢ ﺗﻌﺮﻓﻪ اﻷرواح اﻟﺨﺎﻟﺪة، ﻓﺈن أﻃﺒﻘﺖ ﻋﻠﻴﻬﺎ أﺟﺴﺎدﻧﺎ اﻟﻔﺎﻧﻴﺔ اﻟﻐﻠﻴﻈﺔ املﺨﻠﻮﻗﺔ ﻣﻦ ﻃني، ﺳﻠﺒﺘﻨﺎ اﻟﻘﺪرة ﻋﲆ ﺳﻤﺎﻋﻪ. ﰲ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻷﻣﺮ ،ﺻﺎغ ﻟﻮرﻧﺰو اﻟﻔﻜﺮة ﺑﺸﻜﻞ ﻳﻮﺣﻲ ﺑﺄﻧﻪ ﺗﻔﻮﱠق ﻋﲆ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني .وﻳﺒﺪو أن املﻌﺘﻘﺪ اﻷﺻﲇ ﻛﺎن ﻳﻘﻮل إن ﺳﺒﺐ اﻷﺻﻮات اﻟﺘﻲ ﺗﻄﻠﻘﻬﺎ اﻷﺟﺮام اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ ﻳﺮﺟﻊ إﱃ اﻧﻄﻼﻗﻬﺎ ﺑﻌﻨﻒ ﰲ اﻟﻔﻀﺎء ﺑﴪﻋﺎت ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ،وإن اﻟﻨﺴﺐ ﺑني ﺗﻠﻚ اﻟﴪﻋﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻫﻲ اﻟﻨﺴﺐ اﻟﺼﺤﻴﺤﺔ ﻟﻀﻤﺎن ُ ﺗﻨﺎﻏﻢ ﺗﻠﻚ اﻷﺻﻮات وإﻧﻨﺎ ﻻ ﻧﻼﺣﻆ ﺗﻠﻚ املﻮﺳﻴﻘﻰ ﻷﻧﻨﺎ ﺳﻤﻌﻨﺎﻫﺎ ﻣﻨﺬ ﻟﺤﻈﺔ وﻻدﺗﻨﺎ ﺣﺘﻰ اﻋﺘﺪﻧﺎ ﻋﻠﻴﻬﺎِ . وﻳﺼﻒ أرﺳﻄﻮ اﻟﻔﻜﺮة ﰲ ﻣﻘﺪﻣﺔ ﻛﺘﺎﺑﻪ )رﻏﻢ ﻋﺪم اﻗﺘﻨﺎﻋﻪ ﺑﻬﺎ( ً ﻗﺎﺋﻼ :ﱠ »إن ﻣﺎ ﻳﺤﺪث ﻟﻠﻨﺎس ﻫﻮ ﻣﺎ ﺣﺪث ﻣﻦ ﻗﺒ ُﻞ ﻟﻠﻨﺤﺎﺳني اﻟﺬﻳﻦ اﻋﺘﺎدوا ﻋﲆ اﻟﻀﻮﺿﺎء اﻟﺼﺎدرة ﻣﻦ ورﺷﺔ اﻟﺤﺪاد ،ﺣﺘﻰ إﻧﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﻌُ ﺪ ﺗﻤﺜﻞ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻬﻢ أي اﺧﺘﻼف «.ورﻏﻢ وﺟﻮد ﻣﻌﺘﻘﺪ ﻓﻴﺜﺎﻏﻮري ﻳﺆﻛﺪ أن ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ﻧﻔﺴﻪ ﻛﺎن ﺑﺈﻣﻜﺎﻧﻪ ُ اﻟﺘﻨﺎﻏﻢ اﻟﺴﻤﺎوي ﻷﻧﻪ ﻛﺎن ﰲ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻷﻣﺮ إﻟﻬً ﺎ وﻟﻴﺲ إﻧﺴﺎﻧًﺎ ،ﻓﺈﻧﻪ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ اﻟﻜﺜري ﺳﻤﺎع ﻣﻦ اﻷدﻟﺔ ﻗﺒﻞ ﺷﻜﺴﺒري ﻋﲆ ﺣﻘﻴﻘﺔ أﻧﻨﺎ ﻻ ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ ﺳﻤﺎع ﺗﻠﻚ اﻷﺻﻮات ﻷﻧﻨﺎ ﺑﴩ .ورﻏﻢ 56
ﺗﻨﺎﻏﻢ اﻟﻌﺎﻟﻢ :اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﻮن
ذﻟﻚ ﺗﺘﱠﺴﻢ ﻓﻜﺮة ﺷﻜﺴﺒري ﻧﻮﻋً ﺎ ﻣﺎ ﺑﺎﻟﻄﺎﺑﻊ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮري أﻛﺜﺮ ﻣﻦ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني أﻧﻔﺴﻬﻢ، ﺑﺎل ﻗﺬر« ﻃﻮال اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻔﺎﻧﻴﺔ ﻣﻤﱠ ﺎ ﻳﺒﻌﺪﻫﺎ ﻋﻦ ﻓﻨﻈﺮﻳﺔ اﺣﺘﺒﺎس اﻟﺮوح ﻣﺆﻗﺘًﺎ ﰲ »ﺛﻮب ٍ اﻹدراك اﻟﻜﺎﻣﻞ ﻟﻠﻨﻈﺎم واﻟﺠﻤﺎل املﺘﻨﺎﻏﻤني ﰲ اﻟﻜﻮن؛ إﻧﻤﺎ ﻫﻲ ﻓﻜﺮة أورﻓﻴﺔ ﺧﺎﻟﺼﺔ ،وﻛﺎن ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ﺳﻴُﻌﺠَ ﺐ ﺑﻬﺎ وﻟﻜﻦ ﻳﺒﺪو أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻔﻜﺮ ﻗﻂ ﰲ ﺗﻄﺒﻴﻖ ﺗﻠﻚ اﻟﻔﻜﺮة ﻋﲆ ﻣﺴﺄﻟﺔ: »ﻟِﻢ ﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ اﻹﻧﺴﺎن ﺳﻤﺎع اﻟﺘﻨﺎﻏﻢ اﻟﺴﻤﺎوي؟« أﻣﺎ ﻣﻮﻗﻒ أرﺳﻄﻮ ﻣﻦ ﻫﺬا املﻮﺿﻮع ﻓﻘﺪ ﻛﺎن أﻗﻞ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻟﺘﺼﻮﻳﺮﻳﺔ ﺣﻴﺚ ﻗﺎل: رﻏﻢ ﻋﺬوﺑﺔ ﺗﻠﻚ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ وﺷﺎﻋﺮﻳﺘﻬﺎ ﻓﻼ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻜﻮن ﺗﻔﺴريًا واﻗﻌﻴٍّﺎ ﻟﻠﺤﻘﺎﺋﻖ … ﻓﺎﻟﻀﻮﺿﺎء اﻟﺸﺪﻳﺪة ﻛﻤﺎ ﻧﻌﻠﻢ ﺗُﺤَ ﱢ ﻄ ُﻢ اﻷﺟﺴﺎم ﱡ اﻟﺼﻠﺒﺔ ﺣﺘﻰ ﻟﻠﻜﺎﺋﻨﺎت ﻏري اﻟﺤﻴﺔ … وﻟﻜﻦ إذا ﻛﺎﻧﺖ اﻷﺟﺴﺎم املﺘﺤﺮﻛﺔ ﺷﺪﻳﺪة اﻟﻀﺨﺎﻣﺔ واﻟﺼﻮت اﻟﺬي ﻳﻨﻔﺬ ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻬﺎ إﻟﻴﻨﺎ ﻣﺘﻨﺎﺳﺒًﺎ ﻣﻊ ﺣﺠﻤﻬﺎ؛ ﻓﺴﻮف ﻳﺼﻞ إﻟﻴﻨﺎ ﻫﺬا اﻟﺼﻮت ﺑﺄﺿﻌﺎف ﺷﺪة ﺻﻮت اﻟﺮﻋﺪ ،وﺳﻮف ﺗﻜﻮن ﻗﻮة ﺣﺮﻛﺘﻪ ﻫﺎﺋﻠﺔ .وﰲ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻷﻣﺮ ﻳﻜﻤُﻦ اﻟﺴﺒﺐ وراء ﻋﺪم ﺳﻤﺎﻋﻨﺎ ﻫﺬا اﻟﺼﻮت وﻋﺪم ﺗﺄﺛﱡﺮ أﺟﺴﺎدﻧﺎ ﺑﺘﻠﻚ اﻟﻘﻮة اﻟﻌﻨﻴﻔﺔ ﰲ أﻣﺮ ﺑﺴﻴﻂ ﺟﺪٍّا أﻻ وﻫﻮ أﻧﻪ ﻻ وﺟﻮد ﻟﻬﺬه اﻟﻀﻮﺿﺎء ﻣﻦ اﻷﺳﺎس. وﻟﻜﻦ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني ،ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻠﻚ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ أروع ﻣﻦ ﱠأﻻ ﺗُﻌﺘﱪ ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ ،ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ أﻣﻮر ﻳُﻌَ ﱡﺪ اﻟﺮﺑﻂ ﺑﻴﻨﻬﺎ ﻫﻮ ﺟﻮﻫﺮ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﺔ وﻫﻲ ﻧﻈﺎم ﺗﺮﺑﻂ ﺑني ﺛﻼﺛﺔ ٍ ُ ً ً اﻟﺘﻨﺎﻏﻢ )ﻣﺘﻤﺜﻼ ﰲ )ﻣﺘﻤﺜﻼ ﰲ اﻟﺤﺮﻛﺎت املﻨﺘﻈﻤﺔ ﻟﻸﺟﺮام اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ( وﺟﻤﺎﻟﻬﺎ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ً واﻟﺘﻨﺎﺳﻖ اﻟﻨﺎﺗﺞ ﻋﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﺤﺮﻛﺎت( واﻧﺘﺸﺎر اﻷرﻗﺎم )ﻣﺘﻤﺜﻼ ﰲ اﻟﻨﺴﺐ اﻟﺘﻲ ﺗﻮﺿﺢ ذﻟﻚ اﻟﺘﻨﺎﺳﻖ(. وﻛﻤﺎ ﻋﺎﻧﺖ ﺗﻠﻚ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﻣﻦ ﺣرية اﻓﱰاض وﺟﻮد ﺻﻮت ﻟﻢ ﻳﺴﻤﻌﻪ أﺣ ٌﺪ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ، اﻋﺘﻤﺪت املﻌﺘﻘﺪات اﻟﻔﻠﻜﻴﺔ اﻷﺧﺮى ﻟﻠﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني ﻋﲆ أﺷﻴﺎء َﺧﻔِ ﻴﱠ ٍﺔ ﺗﺜري اﻟﺸﻚ ﰲ وﺟﻮدﻫﺎ. وﻳﻨﻄﺒﻖ ذﻟﻚ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﻋﲆ آﺧﺮ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻟﻔﻠﻜﻴﺔ ﻟﻠﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني وأﺷﺪﻫﺎ ﺗﺄﺛريًا واﻟﺘﻲ وﺿﻌﻬﺎ ُﻛﺘﱠﺎب اﻟﻘﺮن اﻟﺨﺎﻣﺲ ﻗﺒﻞ املﻴﻼد .وﺗﻨﺺ ﻫﺬه اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت ﻋﲆ أن اﻷرض واﻷﺟﺮام اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ ﻛﺎﻓﺔ ﺗﺪور ﺣﻮل ﻧﺎر ﻣﺮﻛﺰﻳﺔ ﻏري ﻣﺮﺋﻴﺔ أو »ﻣﻮﻗﺪ ﻣﺮﻛﺰي« ﻛﺬﻟﻚ املﻮﺟﻮد ﰲ »أرﺿﺎ ﻣﻀﺎدة« ﻏري ﻣﺮﺋﻴﺔ ً ً أﻳﻀﺎ ﺗﺪور ﰲ ﻣﺪار ﺑني اﻷرض ﻣﻨﺘﺼﻒ املﻨﺰل ،وأن ﺛﻤﺔ واﻟﻨﺎر املﺮﻛﺰﻳﺔ .وﻗﻴﻞ إن اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني ﱠ ﻓﴪوا ﺣﻘﻴﻘﺔ أﻧﻨﺎ ﻻ ﻧﺮى أﻳٍّﺎ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻷﺷﻴﺎء ﺑﺄﻧﻨﺎ ﻧﻌﻴﺶ ﻋﲆ ﺟﺎﻧﺐ ﻣﻦ اﻷرض ﺑﻌﻴﺪ ﻋﻨﻬﺎ داﺋﻤً ﺎ. 57
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﺗﺘﻤﺜﱠﻞ أﻫﻢ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﺑﺸﺄن ﺗﻠﻚ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﰲ أﻧﻬﺎ أزاﺣﺖ اﻷرض ﻋﻦ ﻣﻮﺿﻌﻬﺎ ﻛﻤﺮﻛﺰ ﻟﻠﻜﻮن ،وﺟﻌﻠﺘﻬﺎ ﺗﺪور ﺣﻮل اﻟﻨﺎر املﺮﻛﺰﻳﺔ ﻣﺜﻠﻬﺎ ﻛﻤﺜﻞ اﻷﺟﺮام اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ اﻷﺧﺮى .ﻳﺒﺪو أن ﺗﻠﻚ اﻟﻔﻜﺮة املﺒﺘﻜﺮة ﻻ ﻋﻼﻗﺔ ﻟﻬﺎ ﺑﺎﻷﺟﺰاء اﻷﺧﺮى ﻣﻦ اﻟﻔﻜﺮ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮري ﻋﲆ اﻹﻃﻼق، وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻟﻴﺴﺖ أﻣ ًﺮا ﺗﺎﻓﻬً ﺎ .وﰲ إﻫﺪاﺋﻪ ﻟﻜﺘﺎب »ﻋﻦ ﺛﻮرات اﻷﺟﺮام اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ« اﻟﺬي ﻧُﴩ ﻋﺎم ١٥٤٣ﻳﻘﻮل ﻛﻮﺑﺮﻧﻴﻜﻮس إن اﻟﺘﻔﻜري ﰲ ﻫﺬا اﻟﻨﻈﺎم اﻟﻘﺪﻳﻢ ﻫﻮ ﻣﺎ ﺷﺠﻌﻪ ﻋﲆ ﺑﺤﺚ اﻻﻓﱰاض ﻏري اﻟﺘﻘﻠﻴﺪي ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ ﺑﺄن اﻷرض ﺗﺪور ﺣﻮل اﻟﺸﻤﺲ وﻻ ﺗﻘﺒﻊ ﰲ ﻣﺮﻛﺰ ً »واﻧﻄﻼﻗﺎ اﻟﻜﻮن )وﻫﻮ املﻌﺘَ َﻘﺪ اﻟﺴﺎﺋﺪ ﻟﺪى اﻟﺠﻤﻴﻊ ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ( ﻓﻘﺎل ﰲ ذﻟﻚ: ﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﻨﻘﻄﺔ ﺑﺪأت أﻓﻜﺮ ﰲ ﺣﺮﻛﺔ اﻷرض «.وﻫﻜﺬا ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﺔ ﻧﻘﻄﺔ اﻻﻧﻄﻼق ﻟﻌﻠﻢ اﻟﻔﻠﻚ اﻟﺤﺪﻳﺚ ،ﺣﺘﻰ وإن ﻛﺎن ذﻟﻚ ﻣﺤﺾ ﻣﺼﺎدﻓﺔ. وأﻳٍّﺎ ﻛﺎﻧﺖ اﻷﺳﺒﺎب اﻟﺘﻲ دﻓﻌﺖ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني اﻟﻘﺪاﻣﻰ ﻟﻌﺮض وﺟﻬﺎت ﻧﻈﺮﻫﻢ اﻟﻔﻠﻜﻴﺔ ،ﻻ ﻳﻮﺟﺪ إﻻ اﻟﻘﻠﻴﻞ ﻣﻦ اﻷدﻟﺔ ﻋﲆ ﻣﺎ دوﱠﻧﻮه ﻣﻦ ﻣﻼﺣﻈﺎت ﺗﻔﺼﻴﻠﻴﺔ ﺣﻮل اﻷﺟﺮام اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ أو ﺣﺘﻰ ﻋﲆ ﺗﻄﺒﻴﻖ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت املﺤﺒﱠﺒﺔ إﻟﻴﻬﻢ ﻋﲆ ﻋﻠﻢ اﻟﻔﻠﻚ ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺜري اﻟﺪﻫﺸﺔ .وﻟﻜﻦ أول ﻣﻦ ﻗﺎم ﺑﻤﺤﺎوﻟﺔ ﺟﺎدة ﻟﺘﻄﺒﻴﻖ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ﻣﻦ أﺟﻞ اﻛﺘﺸﺎف ﻗﻮاﻧني ً ﺧﺎﻟﺼﺎ )وإن ﺟﺎء اﻟﺤﺮﻛﺔ اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ وﻫﻮ ﻳﻮﻫﺎﻧﺰ ﻛﺒﻠﺮ ) (١٦٣٠–١٥٧١ﻛﺎن ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرﻳٍّﺎ ﺑﻌﺪ اﻧﻘﻀﺎء ﻋﴫﻫﻢ( ،وﻗﺪ ﻗﺎده ﻳﻘﻴﻨﻪ ﺑﺄن اﻟﺴﻤﻮات ﻻ ﺑُ ﱠﺪ أن ﺗﻜﻮن ﻣﺮﺗﱠﺒﺔ ﰲ ﻧﻤﻂ ﻣﺘﻨﺎﺳﻖ ﻳﺘﺠﲆ واﺿﺤً ﺎ ﰲ ﻋﻼﻗﺎت رﻳﺎﺿﻴﺔ ﺑﺴﻴﻄﺔ إﱃ ﺻﻴﺎﻏﺔ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺘﻌﻤﻴﻤﺎت ﺣﻮل اﻟﻜﻮاﻛﺐ ،واﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﺑﻌﻀﻬﺎ أﺿﻐﺎﺛًﺎ ﻣﻀﻠﻠﺔ ﻃﻮاﻫﺎ اﻟﻨﺴﻴﺎن اﻟﻴﻮم ،وﺧﺎﺻﺔ ﻣﻤﱠ ﻦ ﻳﺮﻏﺒﻮن ﰲ إﻗﺼﺎء رﺟﺎل اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﺧﺰي اﻻرﺗﺒﺎط ﺑﺎﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﻘﺪاﻣﻰ املﺨﺒﻮﻟني ،وﺑﻌﻀﻬﺎ اﻵﺧﺮ أﺻﺒﺢ اﻵن ﻣﻦ ﻣﻌﺎﻟﻢ ﻋﻠﻢ اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء .وﻛﺜريًا ﻣﺎ ﻳُﺴﺘﺸﻬﺪ ﺑﻘﻮاﻧني ﻛﺒﻠﺮ اﻟﺜﻼﺛﺔ ﻟﺤﺮﻛﺔ اﻟﻜﻮاﻛﺐ ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ اﻟﺒﻮاﺑﺔ اﻟﺘﻲ اﻧﺘﻘﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﻋﻠﻢ ﻛﻮﻧﻴﺎت اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ إﱃ ﻋﻠﻢ اﻟﻔﻠﻚ اﻟﺤﺪﻳﺚ .ﻟﻜﻦ ﻛﺒﻠﺮ ﻛﺎن ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرﻳٍّﺎ ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ أﻓﻜﺎره ﺣﺘﻰ إن ﺑﺤﺜﻪ اﻟﺬي ﻳﺤﻤﻞ ﻋﻨﻮان »ﺗﻨﺎﻏﻢ اﻟﻌﺎﻟﻢ« ) (١٦١٩واﻟﺬي أﻋﻠﻦ ﻓﻴﻪ ﻋﻦ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻛﺘﺸﺎﻓﺎﺗﻪ اﻟﺸﻬرية ﻟﻢ ﻳﺤ ﱢﻠﻞ ﺣﺮﻛﺔ اﻟﻜﻮاﻛﺐ ﺑﻠﻐﺔ اﻟﺴﻼﻟﻢ املﻮﺳﻴﻘﻴﺔ اﻟﻜﺒرية واﻟﺼﻐرية ﻓﺤﺴﺐ ،ﺑﻞ ﺣﺪد اﻟﻨﻐﻤﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ اﻟﺨﺎﻓﺘﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺼﺪرﻫﺎ ﻣﺪارات ﻛ ﱟﻞ ﻣﻦ ُزﺣﻞ واملﺸﱰي واملﺮﻳﺦ واﻟﺰﻫﺮة وﻋﻄﺎرد ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ اﻟﻘﻤﺮ واﻷرض. ورﻏﻢ أن اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني اﻷﺻﻠﻴني ﻛﺎﻧﻮا ﻣﺼﺪر إﻟﻬﺎم ﻟﻸﺟﻴﺎل اﻟﻼﺣﻘﺔ؛ ﻓﻤﻦ اﻟﺼﻌﻮﺑﺔ ﺑﻤﻜﺎن ﺗﺤﺪﻳﺪ ﻣﺎ ﻳﺠﺐ أن ﻳُﻨﺴﺐ إﻟﻴﻬﻢ ﻣﻦ ﻓﻀﻞ ﰲ ﺗﻘﺪﱡم ﻋﻠﻢ اﻟﻔﻠﻚ اﻟﻮﻟﻴﺪ ﰲ ﻋﴫﻫﻢ .أﻣﺎ ً ﻣﺨﺘﻠﻔﺎ ،ﻓﺤﺘﱠﻰ أرﺳﻄﻮ املﺘﺸ ﱢﻜﻚ اﺿ ُ ﻄ ﱠﺮ إﱃ اﻻﻋﱰاف اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت اﻟﺒﺤﺘﺔ ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ أﻣ ًﺮا 58
ﺗﻨﺎﻏﻢ اﻟﻌﺎﻟﻢ :اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﻮن
ﺑﺄﻧﻬﻢ »أول ﻣﻦ ﺳﺎﻫﻢ ﰲ ﺗﻘﺪﱡم ذﻟﻚ اﻟﻌﻠﻢ «.وﻳﺒﺪو أن أﻫﻢ ﻧﺘﺎﺋﺞ ﻣﺎ أُﺣﺮز ﻣﻦ ﺗﻘﺪﱡم ﰲ ﻋﻠﻢ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت — واﻟﺬي ﻳﺮﺟﻊ اﻟﻔﻀﻞ ﻓﻴﻪ ﻟﻠﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻪ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺸﻬرية ذاﺗﻬﺎ — ﺗﻌﻮد إﱃ ﻣﻨﺘﺼﻒ اﻟﻘﺮن اﻟﺨﺎﻣﺲ ﻗﺒﻞ املﻴﻼد أو ﻣﺎ ﺑﻌﺪه؛ أي ﺑﻌﺪ وﻓﺎة ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ﺑﻔﱰة ﻃﻮﻳﻠﺔ ،وﻟﻜﻦ ﺑﻌﺾ اﻷﺟﺰاء اﻷﺧﺮى ﻣﻦ املﻌﺘﻘﺪ اﻟﺮﻳﺎﴈ ﻗﺪ ﻳﺮﺟﻊ ﺗﺎرﻳﺨﻬﺎ إﻟﻴﻪ .رﺑﻤﺎ ﻛﺎن ﺗﺼﻨﻴﻒ اﻷرﻗﺎم إﱃ »ﻣﺮﺑﻌﺎت« ،ﻛﺎﻟﺮﻗﻤني ٤و ٩ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ،ﻣﻮﺟﻮدًا ﻣﻨﺬ اﻟﻘِ ﺪم )ﻓﻘﺪ ﻛﺎن اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﻮن ﻳﻤﺜﻠﻮن ﺗﻠﻚ اﻷرﻗﺎم ﺑﻤﺮﺑﻌﺎت ﻣﻦ اﻟﻨﻘﺎط ،وﻫﻮ ﺳﺒﺐ ﺗﺴﻤﻴﺔ ﻫﺬا املﺼﻄﻠﺢ( ،ورﺑﻤﺎ ﻳﻨﻄﺒﻖ اﻷﻣﺮ ﻧﻔﺴﻪ ﻋﲆ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت ﺣﻮل اﻷرﻗﺎم واﻟﺘﻲ ﺗﻨﺎﺳﺐ ذﻟﻚ اﻟﺘﻤﺜﻴﻞ اﻟﻬﻨﺪﳼ .وﻗﺪ ﻳﻜﻮن ﺗﻘﺴﻴﻢ اﻷرﻗﺎم إﱃ أرﻗﺎم زوﺟﻴﺔ وأﺧﺮى ﻓﺮدﻳﺔ أﺣﺪ اﺧﱰاﻋﺎت اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ،أﻣﺎ ﻓﻜﺮة أن ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ﻧﻔﺴﻪ ﻛﺎن أول ﻣﻦ ﻗﺪﱠم إﺛﺒﺎﺗﺎت أو ﻧﻈﺮﻳﺎت رﻳﺎﺿﻴﺔ دﻗﻴﻘﺔ — وﻟﻴﺲ ﻣﺤﺾ ﻣﻼﺣﻈﺎت ﻣﺘﻌﺪدة ﺣﻮل اﻷرﻗﺎم واملﺜﻠﺜﺎت وﻏريﻫﺎ — ﻓﻬﻲ ﳾء ﻳﺘﻤﻨﻰ أﻧﺼﺎره أن ﻟﻮ ﻛﺎن ﺻﺤﻴﺤً ﺎ. وﻣﻦ ﺑني ﻫﺆﻻء اﻷﻧﺼﺎر ﻛﺎن راﺳﻞ اﻷﻛﺜﺮ ﺟﺮأة ﰲ اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺪﻳﺚ ،وﻳﻌﺘﻤﺪ ادﻋﺎؤه أن ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ﻛﺎن اﻷﻛﺜﺮ ﺗﺄﺛريًا ﺑني املﻔ ﱢﻜﺮﻳﻦ ﻋﲆ ﻓﻜﺮة أن ﺗﺄﺛري اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ﻋﲆ املﺠﺎﻻت اﻷﺧﺮى ﻣﻦ اﻟﻔﻜﺮ ﻻ ﻳﺮﺟﻊ اﻟﻔﻀﻞ ﻓﻴﻪ إﻻ ﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرس .وﻳﺒﺪو أن راﺳﻞ ﻛﺎن ِ ﻳﻘﺼﺪ ﺑﻜﻼﻣﻪ ﻧﻮﻋني ﻣﻦ اﻟﺘﺄﺛري رﻏﻢ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﺤﺪﱢدﻫﻤﺎ ﺑﻮﺿﻮح ،أﺣﺪﻫﻤﺎ ﻳﺘﻌ ﱠﻠﻖ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ اﻹﺛﺒﺎت اﻟﺮﻳﺎﴈ ﻧﺠﺪه ﰲ ﻛﺘﺎب »اﻟﻌﻨﺎﴏ« ﻹﻗﻠﻴﺪس اﻟﺬي ُﻛﺘﺐ ﻋﺎم ٣٠٠ﻗﺒﻞ املﻴﻼد ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ،واﻟﺬي اﻟﺬي ِ َ ﻇ ﱠﻞ املﺮﺟﻊ اﻟﺮﺋﻴﺲ ﰲ ﻋﻠﻢ اﻟﻬﻨﺪﺳﺔ ﺣﺘﻰ أُﺿﻴﻒ إﻟﻴﻪ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ أﺳﻔﺎر اﻟﻌﻬﺪ اﻟﺠﺪﻳﺪ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ .وﺗﻨﻄﻠﻖ ﺑﺮاﻫني إﻗﻠﻴﺪس ﺑﺒﻌﺾ اﻻﺳﺘﻨﺘﺎﺟﺎت ﻣﻦ ﻣﺴ ﱠﻠﻤﺎت ﺑﺴﻴﻄﺔ ﱢ ً اﻟﺸﺎق وﺻﻮﻻ إﱃ اﺳﺘﻨﺘﺎﺟﺎت ﺟﻮﻫﺮﻳﺔ وﻣﻌﻘﺪة .وﻛﺎن ﻟﻬﺬا اﻷﺳﻠﻮب ﻳُﻔﱰض أﻧﻬﺎ ﺑﺪَﻫﻴﺔ ﰲ اﻟﺒﻨﺎء املﻨﻄﻘﻲ ﻋﻤﻴﻖ اﻷﺛﺮ ﺧﺎرج ﻣﺠﺎل اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت وداﺧﻠﻪ ،ﻟﻴﺲ ﺑﻮﺻﻔﻪ ﻧﻤﻮذﺟً ﺎ ﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﺗﻨﻈﻴﻢ اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﻓﺤﺴﺐ )ﻓﻘﺪ ﻛﺘﺐ ﻧﻴﻮﺗﻦ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﻛﺘﺎب »اﻷﺻﻮل« ﺑﺎﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ( ﺑﻞ ﰲ اﻟﻘﺎﻧﻮن وﻋﻠﻢ اﻟﻼﻫﻮت .وﻗﺪ ﻗﺎل راﺳﻞ» :ﻟﻮﻻ ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ﻣﺎ ﻛﺎن ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻼﻫﻮت ِﻟﻴ َْﺴﻌَ ﻮْا إﱃ إﻳﺠﺎد ﺑﺮاﻫني ﻣﻨﻄﻘﻴﺔ ﻟﻮﺟﻮد ﷲ وﻟﻔﻜﺮة اﻟﺨﻠﻮد «.وإذا ﻛﺎن ﺑﻮﺳﻌﻨﺎ اﻟﻘﻮل إن ﻣﻔﻬﻮم اﻷدﻟﺔ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ ﺗﻄﻮﱠر ﻋﲆ ﻳﺪ اﻹﻏﺮﻳﻖ وﻛﺬﻟﻚ ﻗﺒﻞ ﻋﴫ إﻗﻠﻴﺪس )اﻟﺬي ﻋﺎش ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺮاﺑﻊ ﻗﺒﻞ املﻴﻼد( ﻓﻠﻴﺲ ﺛَﻤﱠ َﺔ ﻣﺎ ﻳﺪﻋﻮ ﻟﻼﻋﺘﻘﺎد أن ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس أو أﺗﺒﺎﻋﻪ ﻫﻢ ﻣﻦ ﻳُﻨﺴﺐ إﻟﻴﻬﻢ ﻛﺎﻣﻞ اﻟﻔﻀﻞ ﰲ اﺧﱰاع ﻫﺬا املﻔﻬﻮم أو ﺣﺘﻰ ﺟﺰء ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻔﻀﻞ .وﻳﻈﻬﺮ ﻫﺬ اﻻﺳﺘﻨﺘﺎج اﻟﺪﻗﻴﻖ ﺟﻠﻴٍّﺎ ﰲ أﻋﻤﺎل ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس اﻟﺬي ﺳﻨﺘﻨﺎوﻟﻪ ﰲ ﻓﺼﻞ ُﻨﺴﺐ اﻟﻔﻀﻞ إﻟﻴﻬﻢ ﻓﻴﻪ ٍّ ﻻﺣﻖ .إن ﻣﺎ ﻳ َ ﺣﻘﺎ ﻫﻮ أﻣﺮ ذو ﺻﻠﺔ وﻟﻜﻨﻪ أﻛﺜﺮ دﻗﺔ؛ إذ ﻳﺒﺪو 59
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
أن اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني ﻛﺎﻧﻮا أ ﱠو َل ﻣﻦ أ ﱠﻛﺪ أن اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ﻳﻤﻜﻦ اﻻﻫﺘﻤﺎم ﺑﻬﺎ ﻣﻦ أﺟﻞ اﻹﺷﺒﺎع اﻟﻌﻘﲇ ،وﻟﻴﺲ ﻷﻧﻬﺎ ﺗﺼﻠﺢ ﻹﺟﺮاء اﻟﺤﺴﺎﺑﺎت ﻓﺤﺴﺐ .ورﺑﻤﺎ ﻛﺎن ﺟﻮﻧﺎﺛﺎن ﺳﻮﻳﻔﺖ ﻳﺮﺳﻢ ﺻﻮرة ﻫﺰﻟﻴﺔ ﻟﻠﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني ﰲ ذﻫﻨﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ وﺻﻒ ﻋﻠﻤﺎء اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ﺷﺎردي اﻟﺬﻫﻦ ﰲ ﺟﺰﻳﺮة ﻻﺑﻮﺗﺎ ﰲ رواﻳﺘﻪ »رﺣﻼت ﺟﻠﻴﻔﺮ«: ﻟﻘﺪ ﺑُﻨﻴﺖ ﻣﻨﺎزﻟﻬﻢ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﺳﻴﺌﺔ … ﻓﻼ زواﻳﺎ ﻗﺎﺋﻤﺔ ﰲ أﻳﱠﺔ وﺣﺪة ﺳﻜﻨﻴﺔ وﻟﻮ ﺣﺘﻰ واﺣﺪة ،وﻳﺮﺟﻊ ذﻟﻚ اﻟﺨﻠﻞ إﱃ اﻻﺣﺘﻘﺎر اﻟﺬي ﻳُﻜﻨﱡﻮﻧَﻪ ﻟﻠﻬﻨﺪﺳﺔ اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ … ً وﻟﻢ أ َ َر َﻗ ﱡ ﺣﻤﻘﺎ ورﻋﻮﻧﺔ ﻣﻦ ﻫﺆﻻء ،وﻻ ﻣَ ﻦ ﻫﻢ أﺷﺪ ﻣﻨﻬﻢ ﺑﻄﺌًﺎ ﻂ ﻣَ ْﻦ ﻫﻢ أﻛﺜﺮ وارﺗﺒﺎ ًﻛﺎ ﰲ املﻔﺎﻫﻴﻢ املﺘﻌﻠﻘﺔ ﺑﻜﻞ املﻮﺿﻮﻋﺎت ﻣﺎ ﻋﺪا اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت واملﻮﺳﻴﻘﻰ. ﻛﺎن اﺗﺨﺎذ ﻣﻮﻗﻒ ﻧﻈﺮي ﺛﺎﺑﺖ ﺗﺠﺎه اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ﻛﻤﺎ ﻓﻌﻞ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﻮن اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﻮن ﺳﻴﺴﺎﻋﺪ دون ﺷﻚ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﰲ ﺗﻤﻬﻴﺪ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﻟﻔﻜﺮة اﻟﱪاﻫني اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ اﻹﻏﺮﻳﻖ — وﻫﻢ أﻛﺜﺮ اﻟﺒﴩ اﺗﺒﺎﻋً ﺎ ﻟﻠﻄﺮق اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﰲ اﻟﺘﻔﻜري ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻌﴫ — ﻟﻴﺴﺘﺨﺪﻣﻮﻫﺎ ﺑﻜﺜﺮة .وﻧﻈ ًﺮا ﻻﻫﺘﻤﺎﻣﻪ ﺑﺎﻟﺘﺄﻣﱡ ﻞ ورﻏﺒﺘﻪ ﰲ ﻛﺸﻒ اﻟﻨﻘﺎب ﻋﻦ اﻷﺳﺎس اﻟﺮﻳﺎﴈ ﻟﻸﺷﻴﺎء ،ﻳﻬﺘﻢ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮري ﺑﺎﻷﺷﻴﺎء اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ ﻛﺎملﺜﻠﺜﺎت واﻷرﻗﺎم ﰲ ﺣَ ﱢﺪ ذاﺗﻬﺎ وﻟﻴﺲ ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ ﻣﺤﺾ ﻧﻤﺎذج ﻟﻘﻄﻊ اﻷرض أو املﺒﺎﻟﻎ املﺎﻟﻴﺔ ،ﻛﻤﺎ ﻳﺤﺎول اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮري اﻟﺘﻔﻜري ﰲ ﺗﻠﻚ اﻷﻣﻮر ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺠ ﱠﺮد ﻟﻴﺘﻮﺻﻞ إﱃ ﻛﻴﻔﻴﺔ ارﺗﺒﺎط اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ واملﻔﺎﻫﻴﻢ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ ﺑﺒﻌﻀﻬﺎ؛ ﻣﻤﺎ ﻳﻨﺘﻬﻲ ﺑﻪ إﱃ أﺳﺲ ﺑﺮاﻫني إﻗﻠﻴﺪس ﺳﻮاء أدرك ﻫﺬه اﻷﺳﺲ أم ﻟﻢ ﻳﺪرﻛﻬﺎ. أﻣﺎ اﻟﻨﻮع اﻵﺧﺮ ﻣﻦ ﺗﺄﺛري اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت اﻟﺬي ﻳَﻨﺴﺐ راﺳﻞ اﻟﻔﻀﻞ ﻓﻴﻪ إﱃ ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ً ﻏﻤﻮﺿﺎ ﻣﻦ اﻟﻨﻮع اﻷول ،وﻫﻮ ﻧﺎﺗﺞ ﻋﻦ اﻟﻔﻜﺮة اﻟﻘﺎﺋﻠﺔ إن اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ﺗﺘﻴﺢ ﻓﻬﻮ أﻛﺜﺮ املﻌﺮﻓﺔ املﺘﻌﻠﻘﺔ ﺑﻌﺎﻟﻢ ﻣﻦ اﻷﺷﻴﺎء املﺜﺎﻟﻴﺔ )ﻛﺎﻟﺪواﺋﺮ املﺜﺎﻟﻴﺔ أو اﻟﺨﻄﻮط املﺴﺘﻘﻴﻤﺔ اﺳﺘﻘﺎﻣﺔ ﺗﺎﻣﺔ( ،وﻫﻮ أﻋﲆ ﻣﻨﺰﻟﺔ ﻣﻤﱠ ﺎ ﻧﺪرﻛﻪ ﻋﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ املﺎدي اﻟﻮﻋﺮ ﻏري املﺜﺎﱄ ﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﺤﻮاس. وﻳُﻔﱰض ﺑﺎملﻌﺮﻓﺔ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ ﱠأﻻ ﺗﻜﻮن أﻛﺜﺮ دﻗﺔ ﻓﺤﺴﺐ ،ﺑﻞ أن ﺗﻜﻮن أﻛﺜﺮ ﺳﻤﻮٍّا وإﻳﻀﺎﺣً ﺎ ﻛﺬﻟﻚ؛ ذﻟﻚ أﻧﻬﺎ أﻛﺜﺮ ﺗﺠﺮﻳﺪًا ﻣﻤﱠ ﺎ ﻳﺠﻌﻠﻬﺎ ﻧﻤﻮذﺟً ﺎ ﻳُﺤﺘﺬى ﺑﻪ ﻟﻜﻞ أﻧﻮاع املﻌﺮﻓﺔ اﻷﺧﺮى. ً ﻻﺣﻘﺎ ﻋﻦ »ﺗﺮاﺟُ ﻌِ ﻪ ﻋﻦ ﺗﺄﻳﻴﺪ ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس« ﺑﺸﻜﻞ ﻧﻬﺎﺋﻲ ،أ ﱠﻛﺪ أن ﻣﺎ وﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﺘﺐ راﺳﻞ ﺗﺮاﺟﻊ ﻋﻨﻪ ﻫﻮ »اﻟﺸﻌﻮر ﺑﺄن اﻟﻌﻘﻞ أرﻗﻰ ﻣﻦ اﻟﺤﻮاس أي اﻹدراك اﻟﺤﴘ ﻛﺎﻹﺑﺼﺎر«. وﻣﻦ اﻟﺴﻬﻞ اﻋﺘﺒﺎر ﻫﺬا اﻟﺸﻌﻮر ﺗﻄﻮ ًرا ﻃﺒﻴﻌﻴٍّﺎ ﻟﻠﺪﻳﺎﻧﺔ اﻷورﻓﻴﺔ؛ ﻓﺎﻟﺠﺴﺪ وﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﻨﻘﻠﻪ ﻟﻨﺎ ﻣﻦ ﻣﻌﺮﻓﺔ إﻧﻤﺎ ﻫﻲ أﺷﻴﺎء ﻣﻠﻮﺛﺔ ﻓﺎﺳﺪة ،أﻣﺎ اﻟﻌﻘﻞ أو اﻟﺮوح وﻣﺎ ﻳﻨﻘﻼﻧﻪ ﻟﻨﺎ ﻓﻬﻲ أﻓﻀﻞ ٍّ ﻣﺤﻘﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ وأﺣﺴﻦ .وﻛﺎن أﻫﻢ ﻣﺆﻳﺪي ذﻟﻚ اﻻﺗﺠﺎه ﻫﻮ أﻓﻼﻃﻮن؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻛﺎن راﺳﻞ 60
ﺗﻨﺎﻏﻢ اﻟﻌﺎﻟﻢ :اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﻮن
اﻋﺘﱪ أن اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني — وإن ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ﻧﻔﺴﻪ — ﺟﺰءًا ﻣﻦ إﻟﻬﺎم أﻓﻼﻃﻮن ﰲ وﻟﻜﻦ اﻟﺠﺰء اﻟﺬي ﻳﺒﺎﻟﻎ ﻓﻴﻪ راﺳﻞ ﻫﻮ اﻻﻓﱰاض ﺑﺄن وﺻﻮل اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني ً ﱠ أوﻻ ﻫﺬا اﻷﻣﺮ. ﻟﺬﻟﻚ اﻷﻣﺮ ﻳﻌﻨﻲ أﻧﻬﻢ أﺻﺤﺎب اﻟﻔﻀﻞ ﰲ ﻛﻞ ﻣﺤﺎوﻻت اﻟﺴري ﰲ ﻫﺬا اﻟﺪرب ،وﻟﻜﻨﻪ ﻳﺒﺪو ً ً ﻃﻮﻳﻼ ﻳﻐﺮي اﻟﻜﺜريﻳﻦ ﻟﻠﺴري ﻓﻴﻪ .وﺑﻌﺪ ﻛﻞ ذﻟﻚ ،إذا ﻛﺎن اﻟﺮوﺣﺎﻧﻴﻮن ﻣﻦ ﻃﺮﻳﻘﺎ داﺋﻤً ﺎ ً ﻋﻠﻤﺎء اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ﻳﺮﻏﺒﻮن ﰲ ﻧﻤﻮذج ﻳﺘﺨﺬوﻧﻪ ﻗﺪوة ﻓﺈن ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ﻫﻮ ﻏﺎﻳﺘﻬﻢ املﻨﺸﻮدة. وﻗﺪ ﻻ ﻳﻜﻮن ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ﰲ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻷﻣﺮ ﻗﺪ ﻗﺎم ﺑﺎملﻌﺠﺰات اﻟﺘﻲ ﺗُﻨﺴﺐ إﻟﻴﻪ وﻟﻜﻦ ﻫﺬا ﻳﻨﻄﺒﻖ ﻋﲆ ﻛﻞ اﻟﻘﺪﻳﺴني أو ﻣﻌﻈﻤﻬﻢ.
61
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻟﺚ
اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺬي ﺑﺤﺚ ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻪ :ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ
ﺗﺮﺟﻊ اﻟﺼﻮرة اﻟﺮاﺋﺠﺔ ﺑني اﻟﻨﺎس ﻟﻠﻔﻴﻠﺴﻮف ﻋﲆ أﻧﻪ ﻣُﻌَ ﱢﻠ ٌﻢ ﺷﺎرد اﻟﺬﻫﻦ إﱃ ﻋﻬﺪ ﻃﺎﻟﻴﺲ ﻛﻤﺎ رأﻳﻨﺎ .وﻗﺪ ﺟﺎء ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ )ﺣﻮاﱄ ٤٨٠–٥٤٠ق.م( ﻟﻴﻌﺮض ﺟﺎﻧﺒًﺎ آﺧﺮ ﻣﻦ اﻟﺼﻮرة اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ اﻟﺴﺎﺧﺮة ﻋﻦ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف أﻻ وﻫﻮ ﺟﺎﻧﺐ اﻟﻐﻤﻮض؛ ﻓﻘﺪ اﺳﺘﺤﻖ ﻟﻘﺐ »ﺻﺎﻧﻊ اﻟﺤﺠﺞ« ﻋﻦ ﺟﺪارة .وﻋﻨﺪﻣﺎ ﺳﺄل ﻳﻮرﻳﺒﻴﺪﻳﺲ ﺳﻘﺮاط ﻋﻦ رأﻳﻪ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﺎت ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﻓﻤﻦ املﻔﱰض أن ﺳﻘﺮاط أﺟﺎب ﺑﻘﻮﻟﻪ» :ﻣﺎ أروع اﻟﺠﺰء اﻟﺬي أﻓﻬﻤﻪ! وﻣﺎ أروع اﻟﺠﺰء اﻟﺬي ﻟﻢ أﻓﻬﻤﻪ ً أﻳﻀﺎ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻳﺤﺘﺎج إﱃ ﻏﻮاص ﻣﺎﻫﺮ ﻛﻲ ﻳﻨﻔﺬ إﱃ أﻋﻤﺎق ﻣﻌﺎﻧﻴﻪ «.ﻟﻴﺴﺖ ﻫﺬه ﻣﺤﺾ ﻣﺰﺣﺔ ﺑﺴﻴﻄﺔ ﻣﻦ ﺳﻘﺮاط؛ ﻓﺜﻤﺔ ﻣﺜﺎﻻن آﺧﺮان ﻋﲆ أﻗﻮال ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ املﺴﺘﻌﺼﻴﺔ ﻋﲆ اﻟﻔﻬﻢ ﻧﻌﺮﺿﻬﻤﺎ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﲇ: املﻮت ﻫﻮ ﻛ ﱡﻞ ﻣﺎ ﻳﱰاءى ﻟﻨﺎ ﰲ ﻳﻘﻈﺘﻨﺎ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻣﺎ ﻧﺮاه ﺧﻼل ﻧﻮﻣﻨﺎ ﻓﻬﻮ اﻟﻨﻮم. ً ﻃﻔﻼ ﻳﻠﻌﺐ ،وﻳﺤﺮك دﻣﺎه أﺛﻨﺎء ﻟﻌﺒﻪ .وامل َﻠﻜﻴﱠﺔ ﺗﻨﺘﻤﻲ إﱃ إن اﻟﺤﻴﺎة ﺗﺸﺒﻪ اﻟﻄﻔﻞ. ً ﱢ ﺷﻜﻼ ﻣﻦ أﺷﻜﺎل ﻣﺤرية وﻣﺮﺑﻜﺔ ﺑﻬﺬه اﻟﺪرﺟﺔ ،ﺑَﻴْ َﺪ أن ﺛﻤﺔ وﻟﻴﺴﺖ أﻗﻮال ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ اﻟﺘﻨﺎﻗﺾ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ﰲ اﻷﺟﺰاء املﺎﺋﺔ واﻟﺜﻼﺛني اﻟﺘﻲ ُﻗ ﱢﺪ َر ﻟﻬﺎ اﻟﺒﻘﺎء ﻣﻦ ﻛﺘﺎﺑﻪ .وﻗﺪ ﻗﺎل أﺣﺪ املﻌﻠﻘني ﻋﲆ ﻛﺘﺎﺑﺎت ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﻋﻦ أﺣﺪ ﺗﻠﻚ اﻷﺟﺰاء اﻟﺬي ﺟﺎء ﻣﺒﺎﴍًا ﻻ ﻏﻤﻮض ﻓﻴﻪ وﻻ اﻟﺘﺒﺎس :ﱠ »إن ُﺧﻠُ ﱠﻮ ﻫﺬا اﻟﻨﺺ ﻣﻦ أي ﺷﻜﻞ ﻣﻦ أﺷﻜﺎل اﻹﺑﻬﺎم ﻳُﻠﻘِ ﻲ ﺑﻈﻼل اﻟﺸﻚ ﻋﲆ ﻣﺪى ﺻﺤﺘﻪ«. وﻻ ﻳﻌﻨﻲ ﻫﺬا أن ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﻛﺎن ﻳﺘﻌﻤﺪ أن ﻳَﺤِ ﻴ َﻚ أﻟﻐﺎ ًزا ﻻ ﻣﻐﺰى ﻟﻬﺎ وﻻ ﻫﺪف ﻣﻦ وراﺋﻬﺎ ،ﻓﻜﺘﺎﺑﺎﺗﻪ ﻋﲆ ﻣﺠﻤﻠﻬﺎ ﻻ ﺗﺴﺒﺐ ﻟﻨﺎ اﻟﻀﻴﻖ أو اﻟﺘﱪﱡم ﺑﻘﺪر ﻣﺎ ﺗﺼﻴﺒﻨﺎ ﺑﴚء
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻣﻦ اﻹﺛﺎرة واﻟﺘﺸﻮﱡق؛ ﻷن ﻫﻨﺎك ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﺷﻴﺌًﺎ ﺟﺪﻳﺪًا ﻳﺴﻌﻰ إﱃ اﻹﻓﺼﺎح ﻋﻨﻪ .ﻛﻤﺎ أن ﺛﻤﺔ ً وﻫﺪﻓﺎ ﻣﻦ وراء أﺳﻠﻮﺑﻪ اﻟﻐﺎﻣﺾ ،ﻓﻘﺪ ﻗﺎل» :إن اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺗُ ْﺆﺛِ ُﺮ اﻟﺨﻔﺎء وﺗﺤﺒﻪ«. ﻣﻐ ًﺰى وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻌﻨﻲ أن اﻷﻣﻮر ﻟﻴﺴﺖ ﰲ ﺑﺎﻃﻨﻬﺎ ﻛﻤﺎ ﻳﺒﺪو ﻇﺎﻫﺮﻫﺎ ،ﺑﻞ إن ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻷﻣﻮر ﰲ رأي ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﺗﻜﻮن داﺋﻤً ﺎ ﻋﲆ ﻋﻜﺲ ﻣﺎ ﺗﺘﺒﺪﱠى ﻟﻨﺎ .وﻻ ﺗﻤﺜﻞ ﺑﻌﺾ أﻟﻐﺎزه اﻟﺘﻲ ﻳﺒﺪو ﻓﻴﻬﺎ ﱠ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﰲ اﻟﺘﻌﺒري ﻋﻦ ﻫﺬه اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ .وﻗﺪ ﺻﻮب اﻟﺘﻨﺎﻗﺾ واﺿﺤً ﺎ ﻟﻠﻌِ ﻴﺎن إﻻ ﻃﺮﻳﻘﺘﻪ أرﺳﻄﻮ ﰲ رﺳﺎﻟﺘﻪ ﻋﻦ اﻟﺒﻼﻏﺔ ﺳﻬﺎ َم اﻟﻨﻘﺪ إﱃ اﻟﱰاﻛﻴﺐ اﻟﻠﻐﻮﻳﺔ اﻟﻐﺎﻣﻀﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻬﺎ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ،وﻟﻮ ُﻗ ﱢﺪ َر ﻟﻬﺮﻗﻠﻴﻄﺲ أن ﻳﺮد ﻋﻠﻴﻪ ﻷﺟﺎﺑﻪ أن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻧﻔﺴﻪ ﻫﻮ اﻟﺬي ﻳﻌﱰﻳﻪ اﻟﻐﻤﻮض .وﺑﺬﻟﻚ ﻧﺠﺪ ﺗﺮاﺑ ً ﻄﺎ ﺷﺪﻳﺪًا ﺑني اﻟﺸﻜﻞ واملﻀﻤﻮن ﻋﻨﺪ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ؛ ﻓﺎﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ذاﺗﻬﺎ ﻫﻲ ﻣﻨﺒﻊ اﻷﻟﻐﺎز ،وﻫﻲ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﺳﺘﺨﺪﻣﻬﺎ ﻓﻴﻤﺎ ﺣﺎﻛﻪ ﻣﻦ أﻟﻐﺎز ﺑﻬﺪف اﻟﴩح واﻟﺘﻮﺿﻴﺢ. وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﻛﺄيﱟ ﻣﻦ ﺳﺎﺑﻘﻴﻪ ،ﻓﺎﻻﻫﺘﻤﺎﻣﺎت اﻟﺘﻲ ﺷﻐﻠﺘﻪ واملﻮاﻗﻒ اﻟﺘﻲ ﺗﺒﻨﺎﻫﺎ ﺟﻌﻠﺘﻪ ﺑﻤﻨﺄًى ﻋﻦ أﻫﻞ ﻣﻠﻄﻴﺔ وأﺗﺒﺎع ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس؛ ﻓﻌﲆ ﻋﻜﺲ ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ،اﻟﺬي ﺳﻤﺎه »أﻣري اﻟﺪﺟﺎﻟني« ،ﻟﻢ ﻳُﻨﺸﺊ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﻣﺪرﺳﺔ ﻣﻦ أي ﻧﻮع ﻃﻴﻠﺔ ﻓﱰة ﺣﻴﺎﺗﻪ ،ﺑﻞ إﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﺘﺒﻊ أﻳٍّﺎ ﻣﻦ املﺪارس اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻗﺎﺋﻤﺔ آﻧﺬاك .واﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ ﺧﻼف ﻋﻠﻴﻬﺎ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻣﺘﻜﱪًا وﻣﺰدرﻳًﺎ ملﻦ ﺣﻮﻟﻪ ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻗﺪ ﻳﺴﺎﻋﺪﻧﺎ ﻋﲆ ﻓﻬﻢ اﻟﴪ وراء ﻏﻤﻮض أﺳﻠﻮﺑﻪ .ورﺑﻤﺎ أﺣﺐ أن ﻳﻈﻦ أﻧﻪ ﻳ ﱢ ُﻌﱪ ﻋﻦ ﺣﻜﻤﺘﻪ ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﻔﻌﻞ اﻟﻮﺳﻄﺎء اﻟ ﱡﺮوﺣﻴﻮن ﰲ دﻟﻔﻲ ﻛﺎﻧﻮا ﻛﻤﺎ ﻗﺎل» :ﻻ ﻳﻔﺼﺤﻮن وﻻ ﻳﺒﻬﻤﻮن وﻟﻜﻦ ﻳﻌﻄﻮن إﺷﺎرة «.وﻳﻘﺎل إﻧﻪ وﺿﻊ اﻟﻨﺴﺨﺔ اﻟﻮﺣﻴﺪة ﻣﻦ ﻛﺘﺎﺑﻪ ﰲ أﺣﺪ املﻌﺎﺑﺪ ﻟﺘﻜﻮن ﺑﻤﻨﺄًى ﻋﻦ أﻳﺪي اﻟﻌﺎﻣﺔ واﻟﺮﻋﺎع ،وﻗﺪ ﺣﺪث ذﻟﻚ ﰲ ٍ وﻗﺖ ﻣﺎ ﰲ أواﺋﻞ اﻟﻘﺮن اﻟﺨﺎﻣﺲ ﻗﺒﻞ املﻴﻼد ﺑﻌﺪ وﻓﺎة ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ﺑﻔﱰة ﻗﺼرية ﰲ ﻣﺪﻳﻨﺔ أﻓﺴﺲ )اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻊ ﻋﲆ ﺑﻌﺪ ﺑﻀﻊ وﺛﻼﺛني ً ﻣﻴﻼ ﺷﻤﺎل ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻣﻠﻄﻴﺔ( ﺣﻴﺚ ﻛﺎن ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ أﺣﺪ أﻋﻀﺎء اﻷﴎة املﺎﻟﻜﺔ املﻤﺘﺪة. وﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﻗﺮﺑﻪ ﻣﻦ ﻣﻮﻃﻦ ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻷواﺋﻞ ﻛﺎﻧﺖ دواﻓﻊ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ً اﺧﺘﻼﻓﺎ ﻛﺒريًا .وﻻ ﻳﺴﻌﻨﺎ أن ﺗﺨﺘﻠﻒ ﻋﻦ دواﻓﻊ ﻃﺎﻟﻴﺲ وأﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر وأﻧﺎﻛﺴﻴﻤﻴﻨﺲ َ ﻧﻨﻜﺮ أﻧﻪ اﺗﱠﺒﻊ ﻃﺮﻳﻘﺘﻬﻢ ﰲ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ اﻟﻌﻨﺎﴏ املﺎدﻳﺔ اﻟﺘﻲ أ َﻗ ﱠﺮ أﻧﻬﺎ ﺗﺘﻐري وﺗﺘﺒﺪل ﺑﻔﻌﻞ اﻟﻌﻤﻠﻴﺎت اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ .وﻫﻮ ﰲ ﻫﺬا ﻛﺎن أﻗﺮب إﱃ ﻣﻨﻬﺞ املﻠﻄﻴني ﻣﻨﻪ إﱃ ﻣﻨﻬﺞ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني؛ ﺣﻴﺚ ﻳﺒﺪو أﻧﻪ ﻟﻢ ﺗَ ُﺮﻗﻪ ﻓﻜﺮة اﻻﻋﺘﻤﺎد ﻋﲆ اﻷرﻗﺎم ودورﻫﺎ ﰲ ﺗﻔﺴري اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ،ﻛﻤﺎ أن ﻗﻮاﻋﺪ اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء واﻟﻔﻠﻚ املﺘﺨﺒﱢﻄﺔ اﻟﺘﻲ اﻋﺘﻤﺪ ﻋﻠﻴﻬﺎ املﻠﻄﻴﻮن ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻟﻴُﻜﺘﻔﻰ ﺑﻬﺎ ،ﻓﻠﻢ 64
اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺬي ﺑﺤﺚ ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻪ :ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ
ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ.
ﻳﺴﺎﻫﻢ ﰲ ﻫﺬه املﻮاﺿﻴﻊ أو ﻏريﻫﺎ ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻮم ﺑﴚء ﻳُﺬ َﻛﺮ .وﻳﺒﺪو ً أﻳﻀﺎ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﺆﻣِﻦ ﺑﻤﺎ ﻗﺎﻟﻪ املﻠﻄﻴﻮن ﻋﻦ أن اﻟﻜﻮن ﻧﺸﺄ ﻛﻠﻪ ﻣﻦ ﻣﺎدة واﺣﺪة ُ وﺧﻠ َِﻖ ﰲ ﻟﺤﻈﺔ واﺣﺪة ،ﺑﻞ ﻛﺎن ﻳﺆﻣﻦ ﺑﺄزﻟﻴﺔ وﺟﻮد اﻟﻜﻮن؛ وﺑﺬﻟﻚ ﻓﻬﻮ ﻟﻢ ﻳﺒﺤﺚ ﻗﻂ ﻋﻦ أﺻﻞ اﻷﺷﻴﺎء إذ ﻟﻢ ﻳﻌﺘﻘﺪ ﻳﻮﻣً ﺎ أن ﺛﻤﱠ ﺔ ً أﺻﻼ ﻟﻬﺎ ،واﺳﺘﻌﺎض ﻋﻦ ذﻟﻚ ﺑﻘﻮﻟﻪ» :أﻧﺎ ﺧﺮﺟﺖ ﻟﻠﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﻧﻔﴘ«. ﻟﻢ ُ ﻳﻘﻞ أﺣﺪ ﻣﻦ املﻠﻄﻴني ﺑﺬﻟﻚ اﻟﻜﻼم ﻣﻦ ﻗﺒﻞ؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن اﻟﺒﺤﺚ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺨﺎرﺟﻲ ُﺷﻐ َﻠﻬﻢ اﻟﺸﺎﻏﻞ ﺣﺘﻰ ﻟﻢ ﻳﺠﺪوا ﻣﺘﺴﻌً ﺎ ﻣﻦ اﻟﻮﻗﺖ واﻟﺠﻬﺪ واﻻﻫﺘﻤﺎم ﻟﻠﻨﻈﺮ ﻓﻴﻤﺎ ﰲ داﺧﻞ أﻧﻔﺴﻬﻢ .أﻣﺎ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﻓﻘﺪ ﺷﻐﻞ ﻧﻔﺴﻪ ﺑﺎﻟﺒﺤﺚ ﰲ اﻟﻌﺎ َﻟﻤَ ْني ،وﺣﻴﺚ إﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﺆﻣﻦ أن املﺒﺎدئ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﻜﻢ اﻟﻌﺎ َﻟﻤَ ْني ﺗﻨﺒﻊ ﻣﻦ ﻣﺸﻜﺎة واﺣﺪة ﻓﻘﺪ رأى أن اﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﴎ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻷول ﻻ ﻳﻜﻮن إﻻ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺒﺤﺚ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻵﺧﺮ ،وﻫﺬا ﻣﺎ دﻋﺎ اﻟﺒﻌﺾ إﱃ اﻋﺘﺒﺎر ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﻋَ ﺎ ِﻟ َﻢ اﻟﻨﻔﺲ اﻷول ﰲ اﻟﺒﴩﻳﺔ ،ﻓﺮﺑﻤﺎ ﻛﺎن املﻔ ﱢﻜﺮ اﻷول اﻟﺬي ﺑﺤﺚ ﰲ اﻟﻨﻔﺲ اﻟﺒﴩﻳﺔ ﻟﻴﺲ ﻣﻦ املﻨﻈﻮر اﻟﺘﻘﻠﻴﺪي ﻟﻠﻨﻔﺲ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﻧﻔﺤﺔ ﺳﻤﺎوﻳﺔ ﺑَﺜﱠﺖ اﻟﺤﻴﺎة ﰲ اﻟﺠﺴﺪ ﻓﺤﺴﺐ ،ﺑﻞ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﺗﻠﻌﺐ دو ًرا ﰲ ﻋﻤﻠﻴﺔ اﻟﺘﻔﻜري واﻹدراك ﻟﺪى اﻹﻧﺴﺎن .وﻗﺪ 65
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻛﺎن ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﻋﲆ دراﻳﺔ ﻓﺎﺋﻘﺔ ﺑﻤﺪى ﻏﻤﻮض ﻫﺬه اﻟﻨﻔﺲ املﻔﻜﺮة ﻓﻘﺎل» :ﻟﻦ ﺗﺘﻤﻜﻦ ﻣﻦ اﻛﺘﺸﺎف ﺣﺪود ﻫﺬه اﻟﻨﻔﺲ ﻣﻬﻤﺎ أﻣﻌﻨﺖ ﰲ اﻟﺒﺤﺚ «.وﻟﺬﻟﻚ ﴍع ﰲ رﺣﻠﺘﻪ اﻻﺳﺘﻜﺸﺎﻓﻴﺔ داﺧﻞ اﻟﻨﻔﺲ اﻟﺒﴩﻳﺔ ﻣﺴﺘﺨﺪﻣً ﺎ أﺳﻠﻮب اﻻﺳﺘﺒﻄﺎن ﻟﻮﺻﻒ ﺑﻌﺾ ﻣﺎ ﻳﻌﺘﻠﺞ ﰲ أﻋﻤﺎق اﻟﻨﻔﺲ اﻟﺪاﺧﻠﻴﺔ ،ﻓﻨﺠﺪه ﻳﺘﺤﺪث ﻋﻦ اﻷﺣﻼم واملﺸﺎﻋﺮ واﻟﺸﺨﺼﻴﺔ )وﻗﺪ ﻗﺎل ﰲ ﺷﺄن اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ» :إن ﺷﺨﺼﻴﺔ املﺮء ﻫﻲ ﻗﺪره«(. وﻻ ﻳﻌﻨﻲ ﻫﺬا اﻟﺘﺤﻮﱡل إﱃ اﻟﻨﻤﻮذج اﻻﺳﺘﺒﻄﺎﻧﻲ أﻧﻪ ﱠ ﺗﺨﲆ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻘﺘﻪ املﻮﺿﻮﻋﻴﺔ ﰲ اﻟﺒﺤﺚ اﻟﺘﻲ ﺗَﻤَ ﻴﱠ َﺰ ﺑﻬﺎ ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻋﻦ ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻼﻫﻮت ُ ﺻﻨﱠﺎع اﻷﺳﺎﻃري .ﻓﻬﻮ ﻟﻢ ﻳﻬﺘﻢ ﺑﺎﻟﻨﻔﺲ اﻟﺪاﺧﻠﻴﺔ دون اﻟﻈﻮاﻫﺮ اﻟﺨﺎرﺟﻴﺔ؛ ﺣﻴﺚ ﺷﺪد ﻋﲆ أﻫﻤﻴﺔ اﻟﺪﻻﺋﻞ اﻟﺘﻲ ﻧﺘﻠﻘﺎﻫﺎ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺤﻮاس )ﻓﻘﺎل :إن ﻛﻞ ﻣﺎ ﻧﺴﺘﻘﺒﻠﻪ ﻣﻦ اﻟﺒﴫ أو اﻟﺴﻤﻊ أو ﻣﺎ ﻧﺘﻌﻠﻤﻪ ﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﺘﺠﺎرب ﻳﻨﺪرج ﰲ ﻗﺎﺋﻤﺔ اﻫﺘﻤﺎﻣﺎﺗﻲ( .وﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﺴﻮﻗﻪ ﻣﻦ أﻣﺜﻠﺔ وأوﺻﺎف ﺗﻮﺿﻴﺤﻴﺔ ﺗﺪﻋﻢ ﻛﻼﻣﻪ ﺗﺠﻌﻠﻨﺎ ﻧﻀﻌﻪ ﰲ ﻣﻌﺴﻜﺮ املﻔﻜﺮﻳﻦ اﻟﻌﻘﻼﻧﻴني ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ إدراﺟﻪ ﻣﻊ زﻣﺮة اﻟﺸﻌﺮاء املﺒﺪﻋني ،ﺑﻞ إﻧﻪ ﻳﺤﺬر ﴏاﺣﺔ ﻣﻦ اﻟﺜﻘﺔ ﰲ ﺷﻬﺎدة اﻟﺸﻌﺮاء ﻻ ﺳﻴﻤﺎ ﻋﻨﺪ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ »اﻷﺷﻴﺎء املﺠﻬﻮﻟﺔ«. وﻟﻢ ﻳﻜﻦ اﻟﺒﺤﺚ اﻟﺪﻗﻴﻖ ﰲ اﻟﻌﻮاﻟﻢ اﻟﺪاﺧﻠﻴﺔ واﻟﺨﺎرﺟﻴﺔ ﻫﻮ ﻛﻞ ﻣﺎ ﰲ اﻷﻣﺮ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻬﺮﻗﻠﻴﻄﺲ؛ ﻓﻬﻮ ﻳﺮى أﻧﻨﺎ ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧُﻌَ ﻮﱢل ﻋﲆ ﻣﺎ ﻧﺪرﻛﻪ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺤﻮاس أو ﺑﺄي ﺷﻜﻞ آﺧﺮ ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﺪى املﺮء ﻓﻬﻢ ﺻﺤﻴﺢ ﻟﻠﻤﺒﺎدئ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﻜﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ واﻟﺘﻲ ﻳﺸري إﻟﻴﻬﺎ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﺑ »املﺒﺎدئ« أو »اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت« أو »اﻟﺼﻴﻎ« اﻟﺘﻲ ﺗﺤﻜﻢ اﻷﺷﻴﺎء .وﻗﺪ وﺻﻞ ﻃﺮﻳﻖ ﻣﺴﺪود ﻷﻧﻪ ﻟﻢ ﻳُﺤِ ﻄﻪ ﺑ »املﺒﺎدئ« اﻟﺼﺤﻴﺤﺔ ﻓﻘﺪ ﻣﺎ ﻗﺪﻣﻪ ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ﻣﻦ ﻋﻠﻢ إﱃ ٍ ﻛﺎن ﻋﻠﻤﻪ »ﻋﻠﻤً ﺎ ﻏﺰﻳ ًﺮا ،وﻟﻜﻨﻪ ﻛﺎن ﻛﺎﻟﴪاب اﻟﺨﺎدع «.وﻳﺒﺪو أن اﻟﺠﻤﻴﻊ ﻋﺪا ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ً ﺿﻼﻻ ﺑﻌﻴﺪًا ﺣﻴﺚ ﻗﺎل ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ» :إن اﻟﻨﺎس ﻗﺪ ُﺧﺪِﻋُ ﻮا ﰲ اﻟﺘﻌ ﱡﺮف ﻋﲆ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻗﺪ ﺿﻠﻮا ﻳﻈﻬﺮ ﻟﻬﻢ ،ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻣﺜﻞ ﻫﻮﻣريوس اﻟﺬي ﻛﺎن أﻛﺜﺮ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴني ﺣﻜﻤﺔ «.وﰲ ﺑﻌﺾ ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ ﱡ واﻟﺴﻜﺎرى واﻟﻨﺎﺋﻤني واﻷﻃﻔﺎل )ﻣﻮﺿﺤً ﺎ أن أﻓﻜﺎرﻫﻢ ﻳ َُﺸﺒﱢﻪ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ اﻟﻨﺎس ﺑﺎﻟﺒﻬﺎﺋﻢ ﺗﺸﺒﻪ دُﻣَ ُ ﺎﻫﻢ(؛ ذﻟﻚ أﻧﻬﻢ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ﻻ ﻳﻄﺒﻘﻮن »املﺒﺎدئ« اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻘﻮل ﻋﻨﻬﺎ» :إن اﻟﻨﺎس ﻳﻔﺸﻠﻮن داﺋﻤً ﺎ ﰲ ﻓﻬﻤﻬﺎ ﺳﻮاء ﻗﺒﻞ ﺳﻤﺎﻋﻬﺎ أو ﺣﺘﻰ ﺣﺎل ﻧﻔﺎذﻫﺎ إﱃ آذاﻧﻬﻢ«. إذن ﻣﺎ ﻫﻮ ﻫﺬا اﻟﺬي اﺳﺘﻄﺎع ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ رؤﻳﺘﻪ وإدراﻛﻪ وﻋﺠﺰ اﻟﺠﻤﻴﻊ ﻋﻦ اﻟﻮﺻﻮل إﻟﻴﻪ؟ ﻟﻸﺳﻒ ﺑﻌﺪ ﻛﻞ ﻫﺬه اﻟﻀﺠﺔ وﻫﺬا اﻟﻠﻐﻂ ﻣﻦ املﺤ ِﺒﻂ أن ﻧﺘﻮﺻﻞ إﱃ أن ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ً وﺑﺪﻻ ﻣﻦ ﴎ واﺣﺪ أو أﻣﺮ ﻋﻈﻴﻢ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻠﺨﻴﺼﻪ ﺑﺴﻬﻮﻟﺔ ﰲ ﻋﺒﺎرة ﻣﻮﺟﺰة، ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﺪﻳﻪ ِ ﱞ ذﻟﻚ ﺧﻠﻂ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻷﴎار ذات اﻟﺼﻠﺔ واﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻠﺨﻴﺼﻬﺎ ﰲ ﺷﻌﺎرﻳﻦ اﺛﻨني .أول 66
اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺬي ﺑﺤﺚ ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻪ :ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ
ﻫﺬﻳﻦ اﻟﺸﻌﺎرﻳﻦ ﻫﻮ ﻓﻜﺮة اﻟﴫاع واﻟﻜﻔﺎح اﻟﺘﻲ ﻳﺪور ﻛﻞ ﳾء ﰲ اﻟﻜﻮن ﰲ ﻓﻠﻜﻬﺎ ،وﻫﺬا ﻳﺘﻀﺢ ﰲ ﻗﻮﻟﻪ» :إن اﻷﺷﻴﺎء ﺟﻤﻴﻌﻬﺎ ﺗﻨﺸﺄ ﺑﻔﻌﻞ اﻟﴫاع ﺑﻴﻨﻬﺎ «.وﻫﺬا ﻳﻌﻨﻲ أن ﺧﻠﻒ ُ واﻟﺘﻨﺎﻏﻢ اﻟﺘﻲ ﺗﻈﻬﺮ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻷﺷﻴﺎء ﻳﺘﻐري ﻛﻞ ﳾء ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺴﺘﻤﺮ وﻻ ﻳﺜﺒﺖ ﺣﺎﻟﺔ اﻻﻧﺴﺠﺎم ﻋﲆ ﺣﺎل أﺑﺪًا؛ إذ ﺗﻮﺟﺪ ﺣﺎﻟﺔ ﻣﻦ اﻟﴫاع ﺑني اﻷﺿﺪاد وﺣﺮب ﴐوس ﺗﺪور ﺑﻴﻨﻬﺎ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ، إﻻ أن ﻫﺬه اﻷﺿﺪاد ﻫﻲ اﻟﴚء ﻧﻔﺴﻪ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ ذاﺗﻪ ،وﻫﺬا ﻫﻮ اﻟﺸﻌﺎر اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻟﺪﻳﻪ ،ﻓﻜﻤﺎ ﻳﻘﻮل» :إن اﻷﺷﻴﺎء ﻛﻠﻬﺎ واﺣﺪة «.وﻫﺬه اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ املﺰدوﺟﺔ ﻫﻲ ﺛﻤﺮة رﺣﻠﺔ اﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻪ اﻟﺘﻲ ﻗﺎدﻫﺎ ﺑﻨﻔﺴﻪ .وﻻ ﻋﺠﺐ إذن ﰲ أﻧﻪ وﺟﺪ اﻟﺘﻌﺒري ﻋﻦ ﻫﺬه اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺑﺸﻜﻞ ﱠ ﻣﺒﺴ ٍﻂ ﻳُﻌَ ﱡﺪ ﴐﺑًﺎ ﻣﻦ املﺴﺘﺤﻴﻞ. وﻳﺮى ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ أن ﻫﺬه اﻷﻓﻜﺎر ﻋﻦ اﻟﴫاع واﻟﺘﻐﻴري ووﺣﺪة اﻷﺷﻴﺎء ﻟﻴﺴﺖ ﺳﻮى ﺟﺰء ﻣﻦ ﺻﻮرة واﺣﺪة ،وأن ﻫﺬه اﻷﻓﻜﺎر ﻣﺴﺘﻘﺎة ﺟﺰﺋﻴٍّﺎ ﻣﻤﺎ ﺻﺎدﻓﻪ ﰲ رﺣﻠﺘﻪ اﻻﺳﺘﺒﻄﺎﻧﻴﺔ وﻣﻦ ﺧﻼل ﻣﻼﺣﻈﺎﺗﻪ ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ ﻛﺬﻟﻚ .وﻟﻜﻲ ﻧﺘﻤﻜﻦ ﻣﻦ ﻓﻬﻢ املﺸﻬﺪ اﻟﺬي ﻳﺮﺳﻤﻪ ﻣﻦ اﻷﻓﻀﻞ ﻟﻨﺎ أن ﻧ ُ َﻘ ﱢﺴﻢ ﻫﺬه اﻟﺼﻮرة إﱃ أﺟﺰاء ﻋﺪة وﻧﺘﻨﺎول ُﻛ ٍّﻼ ﻣﻨﻬﺎ ﻋﲆ ﺣﺪة .وﻟﻨﺒﺪأ ﱡ »اﻟﺘﻐري املﺴﺘﻤﺮ« ﺛﻢ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﻓﻜﺮة اﻟﴫاع )واﻟﺪور املﺤﻮري اﻟﺬي ﺗﻠﻌﺒﻪ ﺑﻔﻜﺮﺗﻪ ﺣﻮل اﻟﻨﺎر ﻓﻴﻬﺎ( ،ﺛﻢ ﻣﺎ ﻳﻘﻮﻟﻪ ﺑﺸﺄن اﻷﺿﺪاد وﻛﻴﻒ أﻧﻬﺎ ﺗﻌﺘﱪ اﻟﴚء ﻧﻔﺴﻪ ،ﺛﻢ ﻧﺤﺎول ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﺗﺮﻛﻴﺐ اﻟﺼﻮرة ووﺿﻊ ﻫﺬه اﻷﺟﺰاء ﺟﻨﺒًﺎ إﱃ ﺟﻨﺐ. وﻗﺪ ﴍح ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﺟﺎﻧﺒًﺎ ﻣﻦ ﻧﻈﺮﻳﺘﻪ ﻋﻦ »اﻟﺘﻐري املﺴﺘﻤﺮ« ﺑﻤﺜﺎل ﺗﺸﺒﻴﻬﻲ ﻗﺪ ﻳﺴﺘﻌﴢ ﻓﻬﻤﻪ ﻷول وﻫﻠﺔ ﻓﻘﺎل» :ﺣﺘﻰ اﻟﺠﺮﻋﺔ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻨﻔﺼﻞ ﻣﺎ ﻟﻢ ﺗُ َﻘ ﱠﻠﺐ «.وﺗﺘﻜﻮن اﻟﺠﺮﻋﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺸري إﻟﻴﻬﺎ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﻣﻦ اﻟﺸﻌري واﻟﺠﺒﻦ املﺒﺸﻮر ﺣﻴﺚ ﻳ َُﻘ ﱠﻠﺒﺎن ﰲ دورق ﻣﻦ اﻟﺨﻤﺮ .وﻋﻤﻠﻴﺔ اﻟﺘﻘﻠﻴﺐ ﻫﺬه ﻫﻲ ﺑﻴﺖ اﻟﻘﺼﻴﺪ ﰲ ﻫﺬا املﺜﺎل ،ﻓﺈذا ﻟﻢ ﻳﻜﻦ اﻟﺸﻌري واﻟﺠﺒﻦ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ دوران ﻣﺴﺘﻤﺮ أﺛﻨﺎء ﺗﻨﺎوﻟﻬﺎ ﱠ ﻟﱰﺳﺒَﺎ ﰲ ﻗﺎع اﻟﺪورق ووﺟﺪت ﻧﻔﺴﻚ ﺗﺤﺘﴘ ﺧﻤ ًﺮا ﻋﺎدﻳﱠﺔ .إذن ﻓﺎﻟﺠﺮﻋﺔ ﺗﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ اﻟﺤﺮﻛﺔ .وﻳﺠﺴﺪ ﻫﺬا املﺜﺎل ﻣﺎ ﻳﻌﺘﱪه ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻣﺒﻬﻤﺔ ﻋﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻛﻜﻞ ،ﺑﻤﻌﻨﻰ أن ﺧﺼﺎﺋﺺ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺗﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ اﻟﺤﺮﻛﺔ أو اﻟﺘﻐﻴري. ﻣﺜﺎﻻ آﺧﺮ ﺑﺎﻷﻧﻬﺎر ً ﺛﻢ ﻳﴬب ً ﻗﺎﺋﻼ» :إذا ﻧﺰل اﻹﻧﺴﺎن ﰲ اﻟﻨﻬﺮ ذاﺗﻪ ﻣﺮﺗني ﻓﺴﻴﺠﺪ ﻣﺎءً ﺟﺪﻳﺪًا ﰲ ﻛﻞ ﻣﺮة «.وﻳﻠﻔﺖ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ أﻧﻈﺎرﻧﺎ ﰲ ﻫﺬا املﺜﺎل إﱃ ﺣﻘﻴﻘﺔ أن ﻛﻞ ﻧﻬﺮ ﻳﺘﻜﻮن ﻧﺰﻟﺖ اﻟﻴﻮم ﰲ ﻣﻜﺎن ﻣﻌني ﻣﻦ ﻧﻬﺮ اﻟﺘﻴﻤﺰ ً َ ﻣﺜﻼ ﺛﻢ ﻣﻦ ﻣﻴﺎه ﺗﺘﻐري ﺑﺎﺳﺘﻤﺮار ،ﻓﺈذا ﻣﺎ ﻧﺰﻟﺖ ﻏﺪًا ﰲ املﻜﺎن ﻧﻔﺴﻪ ﻓﺄﻧﺖ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺗﻨﺰل ﰲ ﻣﺎء ﺟﺪﻳﺪ ﻛﻞ ﻣﺮة .وﻳﺮى ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ أن ﻣﺎ ﻳﺤﺪث ﻣﻊ اﻷﻧﻬﺎر ﻳﻨﻄﺒﻖ ﺑﺸﻜﻞ أو ﺑﺂﺧﺮ ﻋﲆ ﻛﻞ ﳾء ﺣﻮﻟﻨﺎ ﺑﻤﺎ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻨﻔﺲ اﻟﺒﴩﻳﺔ ،ﻓﺎﻷﻣﺮ ﻛﻤﺎ ذُ ِﻛ َﺮ ﰲ أﺣﺪ اﻟﺸﻌﺎرات اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ» :ﻛﻞ ﳾء ﻳﻄﻔﻮ«. 67
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﱡ اﻟﺘﺪﻓﻖ ﺑﺼﻮرة ﻫﺎدﺋﺔ »ﻓﺎﻟﺤﺮب أﺻﻞ ﻛﻞ ﳾء وذروة ﻛﻞ ﳾء« ﻛﻤﺎ وﻻ ﻳﺤﺪث ﻫﺬا َ ﻳﻘﻮل ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺄﺳﺎوي .وﻟﻜﻦ ملﺎذا ﻃﻌﱠ َﻢ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﻧﻈﺮﻳﺘﻪ ﻋﻦ اﻟﺘﻐري املﺴﺘﻤﺮ ﺑﻔﻜﺮة ﺧﻴﺎﻟﻴﺔ ﺣﻮل وﺟﻮد اﻟﴫاع؟ ﺑﻤﺎ أن اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺗﺆﺛِ ُﺮ اﻟﺨﻔﺎء واﻹﺑﻬﺎم ﻓﻠﻴﺲ ﺣﺘﻤً ﺎ ً ﻣﻮاﻓﻘﺎ ﻟﻠﺴﻠﻴﻘﺔ .وﻗﺪ ﺗﻜﺸﻒ ﻣﻘﻮﻟﺘﻪ اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ ﻋﻦ أن ﻳﻜﻮن ﻛﻞ ﻣﺎ ﺗﻮﺻﻞ إﻟﻴﻪ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ اﻷﺿﺪاد ﺟﺎﻧﺒًﺎ ﻣﻦ اﻹﺟﺎﺑﺔ؛ إذ ﻳﻘﻮل: ﻛﺎن ﻫﻮﻣريوس ﻣﺨﻄﺌًﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻗﺎل» :ﻫﻞ ﺳﻴﺄﺗﻲ ﻳﻮم وﺗﻀﻊ اﻟﴫاﻋﺎت واﻟﺤﺮوب ﺑني اﻵﻟﻬﺔ واﻟﺒﴩ أوزارﻫﺎ؟« ذﻟﻚ أﻧﻪ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺼﺪر ﻧﻐﻢ دون أﺻﻮات ﻋﺎﻟﻴﺔ وأﺧﺮى ﻣﻨﺨﻔﻀﺔ ،وﻛﺬﻟﻚ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻮﺟﺪ ﺣﻴﻮاﻧﺎت دون اﻟﺬﻛﻮر واﻹﻧﺎث، وﻛﻠﻬﺎ ﺗﻤﺜﻞ أﺿﺪادًا. وﻳﻤﺜﻞ اﻟﻀﺪ ﻋﻨﺪ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ اﻟﻐﺮﻳﻢ أو اﻟﺨﺼﻢ؛ وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈن املﻮﺳﻴﻘﻰ ﺗﻨﻄﻮي ﻋﲆ ﴏاع داﺧﻠﻬﺎ ﻷﻧﻬﺎ ﺗﺴﺘﺨﺪم ٍّ ﻛﻼ ﻣﻦ اﻷﺻﻮات اﻟﻌﺎﻟﻴﺔ واملﻨﺨﻔﻀﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻊ ﻋﲆ ﻧﻬﺎﻳﺎت ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﰲ اﻟﺴﻠﻢ املﻮﺳﻴﻘﻲ .وﰲ اﻟﻮاﻗﻊ إن اﻧﺘﻘﺎل ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﻣﻦ ﻣﺼﻄﻠﺢ »اﻟﻀﺪ« إﱃ »اﻟﺨﺼﻢ« ﺛﻢ إﱃ »اﻟﴫاع« وﻣﻨﻪ إﱃ »اﻟﺤﺮب« ﻛﻤﺎ ﻟﻮ ﻛﺎن اﻷﻣﺮ ﺟﻠﻴٍّﺎ أن ﻛﻞ ﺿﺪ ﻣﺴﺘﻐﺮق ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺎ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﻣﻦ اﻟﺤﺮب ،ﻗﺪ ﻳﻌﻜﺲ ﺻﻮرة املﻌﺮﻛﺔ اﻷﺑﺪﻳﺔ ﺑني اﻟﻌﻨﺎﴏ املﺎدﻳﺔ ﻛﻤﺎ ﻳﺼﻔﻬﺎ أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر ﺣني ﻳﺘﺤﺪﱠث ﻋﻦ ﻣﻔﺎﻫﻴﻢ اﻟﻌﻘﺎب واﻟﻘﺼﺎص واﻟﻌﺪاﻟﺔ .وﺑﻴﻨﻤﺎ ﻛﺎن أﻫﻞ ﻣﻠﻄﻴﺔ ﻳﺮون أن اﻟﺤﺮب ﻣﺘﻤﺜﻠﺔ ﰲ اﻟﺘﻔﺎﻋُ ﻞ ﺑني اﻟﻌﻨﺎﴏ ،وﻫﻮ ﺷﻜﻞ اﻟﺘﻐﻴري اﻟﺬي اﻫﺘﻤﻮا ﺑﻪ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻏريه؛ ﻓﺈن ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﻗﺪ ﱠ وﺳﻊ ﻓﻜﺮة اﻟﺘﻐﻴري أو اﻻﺧﺘﻼف وﺧﺮج ﺑﻬﺎ إﱃ رﺣﺎب أوﺳﻊ ،واﻗﺘﺒﺲ ﺻﻮرة اﻟﻨﺰاع اﻟﺘﻲ رﺳﻤﻮﻫﺎ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ وأﻋﻤﺎﻟﻪ؛ ﻓﻔﻲ ﻣﺜﺎل اﻷﻧﻬﺎر اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﺨﻠﻮ ﻣﻦ ﺟﻤﻮح أو ﻋﻨﻒ ﺑﺄي ﺣﺎل ﻣﻦ اﻷﺣﻮال ﻧﺠﺪ أﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﻣﻦ اﻟﺤﻜﻤﺔ أن ﻧﺒﺤﺚ ﻋﻦ دﻟﻴﻞ وﺟﻮد اﻟﴫاع ﰲ اﻟﴚء اﻟﻮاﺣﺪ؛ ﻷن ﻫﺬا ﺳﻴُﻔﻘِ ﺪُﻧﺎ ﺗﺮﻛﻴﺰﻧﺎ وﻳﺠﻌﻠﻨﺎ ﻻ ﻧﺮى ﱢ املﺘﺪﻓﻘﺔ ﺗﻤﺜﻞ ﺟﺰءًا ﻣﻦ ﺻﻮرة اﻟﴫاع اﻷﻣﻮر ﻋﲆ ﺣﻘﻴﻘﺘﻬﺎ .وﻳﺮى ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ أن اﻷﻧﻬﺎر اﻟﺪاﺋﺮ ﺑني اﻟﻌﻨﺎﴏ ﻓﻴﻘﻮل» :ﻳﻮﻟﺪ اﻟﻬﻮاء ﺣﺎل ﻣﻮت اﻟﻨﺎر ،وﺗﻮﻟﺪ املﻴﺎه ﺑﻤﻮت اﻟﻬﻮاء«. وﻗﺪ وﺿﻊ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ أَﺣَ َﺪ ﻫﺬه اﻟﻌﻨﺎﴏ ﰲ ﻣﻨﺰﻟﺔ ﺗﻌﻠﻮ ﺳﺎﺋﺮ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻷﺧﺮى؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن أﺣﺪ ﻫﺆﻻء املﻔ ﱢﻜﺮﻳﻦ اﻟﺬﻳﻦ ﻫﻮﺳﺘﻬﻢ اﻟﻨﺎر؛ ﻓﺎﻟﻜﻮن ﻋﻨﺪه »ﻧﺎر أﺑﺪﻳﺔ ﻻ ﺗﻨﻄﻔﺊ ،ﺑﻞ ﺗﺸﺘﻌﻞ ﺑﻤﻘﺪار وﺗﺨﺒﻮ ﺑﻤﻘﺪار «.ﺑﻞ ﻗﺎل» :إن ﺟﻤﻴﻊ اﻷﺷﻴﺎء ﺗُﻌَ ﱡﺪ ﻣُﻌَ ﺎدِ ﻟﺔ ﻟﻠﻨﺎر ،ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻛﻤﺎ ﻧﺤﺼﻞ ﻋﲆ اﻟﺒﻀﺎﺋﻊ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺬﻫﺐ وﻧﺤﺼﻞ ﻋﲆ اﻟﺬﻫﺐ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺑﻴﻊ اﻟﺒﻀﺎﺋﻊ«. وﻫﻨﺎ ﻳ َُﺸﺒﱢﻪ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ اﻟﺪور اﻟﺬي ﻳﻠﻌﺒﻪ اﻟﺬﻫﺐ ﰲ ﻋﻤﻠﻴﺔ اﻟﺘﺒﺎدُل اﻟﺘﺠﺎري ﺑﺎﻟﻨﺎر ودورﻫﺎ 68
اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺬي ﺑﺤﺚ ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻪ :ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ
ﰲ إﺣﺪاث اﻟﺘﻐﻴري املﺎدي ،وﻟﻜﻦ ﻫﺬا ﻳﻨﻄﻮي ﻋﲆ ﳾء ﻣﻦ املﺒﺎﻟﻐﺔ ،ﻓﺎﻟﻨﺎر )ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﺑﻤﻌﻨﺎﻫﺎ املﺘﺪاوَل( ﻻ ﺗﺪﺧﻞ ﰲ ﻛﻞ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﻟﻠﺘﻐﻴري املﺎدي ،إذن ﻣﺎ اﻟﺬي ﻳﺠﻌﻠﻬﺎ ﻓﺮﻳﺪة ﺑني ﱡ اﻟﺘﻐري اﻟﺪوري ﻟﻠﻜﻮن ،واﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮل اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻷﺧﺮى؟ رﺑﻤﺎ ﻛﺎن ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﻳﺘﺒﻨﱠﻰ ﻧﻈﺮﻳﺔ إن ﻛﻞ ﳾء ﻳﺘﺤﻮﱠل ﺑﺼﻔﺔ دورﻳﺔ إﱃ ﻧﺎر ﰲ ﺳﻠﺴﻠﺔ ﻣﺘﻌﺎﻗﺒﺔ ﻣﻦ اﻟﺤﺮاﺋﻖ اﻟﻜﻮﻧﻴﺔ .وإذا ﻛﺎن اﻷﻣﺮ ﻛﺬﻟﻚ ﻓﺈن ﻫﺬا ﻳُﻌَ ﱡﺪ ﻣﺆﴍًا ﻋﲆ أن اﻟﻨﺎر ﺗﺪﺧﻞ ﰲ ﺗﻜﻮﻳﻦ ﺟﻤﻴﻊ اﻷﺷﻴﺎء ﻣﻦ ﺣﻮﻟﻨﺎ .وإذا ﻣﺎ ﺳ ﱠﻠﻤْ ﻨَﺎ ﺑﺼﺤﺔ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻧﺠﺪ أن اﻟﻨﺎر ﺗﺘﻼءم ﺑﺸﻜﻞ ﻛﺒري ﻣﻊ ﻣﻔﻬﻮﻣﻪ ﻋﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﻣﻦ اﻟﻬﻴﺎج واﻻﺿﻄﺮاب اﻟﺪاﺋﻤَ ْني ،ﺣﺘﻰ وإن ﻟﻢ ﻧ َﺮ ﻣﻮاﻗﺪ ﻛﻮﻧﻴﺔ ﺑﺄﻋﻴُﻨﻨﺎ؛ ﻷن أﻟﺴﻨﺔ اﻟﻠﻬﺐ ﱢ ﺗﺠﺴﺪ ﺻﻮرة اﻟﴫاع اﻟﺪاﺋﺮ ﰲ ﻗﻠﺐ اﻷﺷﻴﺎء؛ وﺑﻬﺬا ً ﻣﺸﺘﻌﻼ ﺑﺸﻜﻞ ﻣﻨﺘﻈﻢ )ﻛﻠﻬﺐ ﺷﻤﻌﺔ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل( ﻳُﻌَ ﱡﺪ أﺣﺪ ﺗﺠﻠﻴﺎت ﻫﺬا ﻓﺈن ﻟﻬﺒًﺎ اﻟﺘﻐﻴري املﺴﺘﻤﺮ اﻟﺬي ﻳﺤﺪث ﰲ اﻟﺨﻔﺎء ﺗﺤﺖ ﻗﻨﺎع اﻻﺳﺘﻘﺮار اﻟﻈﺎﻫﺮي؛ ﺣﻴﺚ إﻧﻪ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻳﻈﻬﺮ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﻣﻦ اﻻﺳﺘﻘﺮار أو اﻟﺜﺒﺎت اﻟﻈﺎﻫﺮي ﻷﻧﻪ ﻳﺘﻐﺬى ﻋﲆ ﺑﻌﺾ اﻟﻮﻗﻮد ﺑﺸﻜﻞ داﺋﻢ ،ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻣﺜﻞ اﻟﻨﻬﺮ اﻟﺬي ﻳﺤﺘﺎج إﱃ ﱡ ﺗﺪﻓﻖ داﺋﻢ ﻣﻦ املﻮاد اﻟﺠﺪﻳﺪة .ﻫﺬا ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ أن اﻟﻨﺎر ﻫﻲ اﻟﻌﻨﴫ اﻟﻮﺣﻴﺪ اﻟﺬي ﻳﻤﻜﻦ ﻣﻼﺣﻈﺔ ﻛﻴﻒ ﻳﻘﻮم ﺑﺘﺤﻮﻳﻞ ﳾء ﻣﺎ إﱃ ﳾء آﺧﺮ )ﻛﺘﺤﻮﻳﻞ اﻟﺨﺸﺐ إﱃ رﻣﺎد ً ﻣﺜﻼ(؛ وﺑﻬﺬا ﻓﻬﻮ ﻳﻠﻌﺐ اﻟﺪور اﻟﺤﻴﻮي ﰲ إﺣﺪاث اﻟﺘﻐﻴري. وﻛﻞ ﻫﺬا ﻳﺘﻼءم ﻣﻊ اﻟﺼﻮرة واملﻔﻬﻮم اﻟﻌَ ﺎﻣﱠ ْني ﻟﺪى ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﻋﻦ اﻟﻬﻴﺎج واﻻﺿﻄﺮاب اﻟﺪاﺋﻤَ ْني. وﻛﺬﻟﻚ رﺑﻂ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ً أﻳﻀﺎ ﺑني اﻟﻨﺎر واﻟﺮوح واﻟﺮب و»املﺒﺎدئ« اﻟﺘﻲ ﺗﺤﻜﻢ اﻟﻌﺎﻟﻢ، إﻻ أﻧﻪ ﻻ ﻳﺒﺪو ﺛﻤﺔ أي راﺑﻂ ﺑني ﻫﺬه اﻟﻌﻨﺎﴏ ﻣﻦ اﻟﻮﻫﻠﺔ اﻷوﱃ .وﻫﻨﺎ ﻳﻔ ﱢﺮق ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﺑني ﻧﻮﻋني ﻣﻦ اﻟﻨﺎر؛ ﻓﺎﻟﻨﺎر اﻹﻟﻬﻴﺔ أو اﻟﻨﺎر اﻟ ﱡﺮوﺣﻴﺔ ﺗﺨﺘﻠﻒ ﻋﻦ ذﻟﻚ اﻟﻠﻬﺐ اﻟﻌﺎدي اﻟﺬي ُﺤﺮ ُق اﻷﺷﻴﺎء ﻋﲆ املﻮﻗﺪ ،ﻓﻬﻲ »أﺛري« اﻟﺴﻤﺎء؛ ذﻟﻚ اﻟﻬﻮاء املﺨﻠﺨﻞ اﻟﺴﺎﺧﻦ اﻟﺠﺎف ﻧﺮاه ﻳ ِ اﻟﺬي ﻳﻬﺒﻂ ﻣﻦ املﻤﺎﻟﻚ اﻟﻌﻠﻴﺎ ،وﻫﻲ اﻟﺘﻲ اﻋﺘﱪﻫﺎ املﻔ ﱢﻜﺮون اﻷواﺋﻞ اﻟﻴﻨﺒﻮع اﻟﺬي ﺧﺮﺟﺖ ﻣﻨﻪ ﱠ ً ﻋﺎﻗﻼ ﻳﻔﻜﺮ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﻬﻮ ﻛﺎﻓﺔ اﻷرواح .وﻛﻤﺎ ﻧﺮى ،ﻟﻘﺪ اﻋﺘﱪ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ اﻟﺮوح ﻛﻴﺎﻧًﺎ ﻳﺮى أن ﺛﻤﺔ ﺗﺸﺎﺑﻬً ﺎ ﻗﻮﻳٍّﺎ ﺑني اﻟﻴﻨﺒﻮع اﻟﺬي ﺧﺮﺟﺖ ﻣﻨﻪ ﻛﺎﻓﺔ اﻷرواح واملﺒﺎدئ ا ُمل َﺴ ﱢرية ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ ،ﻓﻜﻤﺎ ﻳُﻨ َ ﻈﺮ ﻟﻠﺮوح ﻋﲆ أﻧﻬﺎ اﻟﺪاﻓﻊ وراء أﻓﻌﺎل اﻹﻧﺴﺎن واﻟﻘﻮة املﺤﺮﻛﺔ ﻟﻬﺎ؛ ﻓﺈن اﻟﺮوح اﻟﺘﻲ ﺗﻬﻴﻤﻦ ﻋﲆ اﻟﻌﺎﻟﻢ ً أﻳﻀﺎ ﻫﻲ املﺒﺪأ اﻟﺤﺎﻛﻢ ﻟﻪ وﻣﺼﺪر ﻛﻞ ﻣﺎ ﻧﺮاه ﻓﻴﻪ ﻣﻦ أﺣﺪاث وﻇﻮاﻫﺮ .وﻟﻴﺲ ﻣﻦ اﻟﻐﺮﻳﺐ أن ﻳﺼﻒ اﻹﻏﺮﻳﻖ ﻫﺬه اﻟ ﱡﺮوح املﻬﻴﻤِ ﻨﺔ ﻋﲆ اﻟﻌﺎﻟﻢ واﻟﺘﻲ ﺗﺘﺼﻒ ﺑ »اﻟﴪﻣﺪﻳﺔ« .وﻗﺪ اﻋﺘﺪﻧﺎ أن ﻧﻨﻈﺮ ﻟﻠﻨﺎر ﻛﺂﻟﺔ ﻟﻠﺪﻣﺎر اﻟﻌﺸﻮاﺋﻲ ،وﻟﻜﻦ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﻳﻌﺘﱪﻫﺎ اﻟﻘﻮة املﻨﻈﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﻔﻆ اﻟﺘﻮازن ﺑني اﻟﻌﻨﺎﴏ .وﻛﺎﻧﺖ اﻟﻨﺎر ﺗﺪﺧﻞ 69
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﺑﺸﻜﻞ ﺟﻮﻫﺮي ﰲ ﻋﻤﻠﻴﺎت اﻟﺘﻨﺎوُب ﺑني اﻟﺴﺎﺧﻦ واﻟﺒﺎرد واﻟﺮﻃﺐ واﻟﺠﺎف .وﻗﺪ اﻫﺘﻢ املﻠﻄﻴﻮن ﺑﺬﻟﻚ اﻷﻣﺮ ﻛﺜريًا )ﻓﻘﺎﻟﻮا» :إن اﻟﺒﺎرد ﻳﺴﺨﻦ ،واﻟﺴﺎﺧﻦ ﻳﱪد ،واﻟﺮﻃﺐ ﻳﺠﻒ، واﻟﺠﺎف ﻳﱰﻃﺐ«(. ُ ﺗﻌﺎﻗﺐ اﻟﻨﻮم واﻟﻴﻘﻈﺔ واﻟﺤﻴﺎة وأﺷﺎر ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﰲ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻣﻮﺿﻊ إﱃ ﻣﺴﺄﻟﺔ ﱡ اﻟﺘﻐريات اﻟﺘﻲ ﺗﺼﻴﺐ اﻟﻌﺎﻟﻢ إﱃ ﻇﺎﻫﺮة امل ﱢﺪ واﻟﺠﺰر اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺪث واملﻮت ،وﻛﺎن ﻳﻌﺰو ﻫﺬه ﺑني اﻟﻌﻨﺎﴏ املﺎدﻳﺔ؛ ﻓﻴﻘﻮل ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل إن املﻮت ﻳﺤﺪث ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﺼﺒﺢ اﻟﺮوح رﻃﺒﺔ ﻟﻠﻐﺎﻳﺔ ،وﻟﻜﻦ ﻫﺬه اﻟﺮﻃﻮﺑﺔ ﺗﺘﺤﻮل إﱃ ﺣﻴﺎة ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻓﻘﺎل» :إن اﻷرواح ﻳﺼﻴﺒﻬﺎ املﻮت ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﺘﺤﻮل إﱃ ﻣﻴﺎه ،وﺗﻤﻮت املﻴﺎه ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﺘﺤﻮل إﱃ ﺗﺮاب ،وﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﱰاب ﺗﻨﺒﻊ املﻴﺎه ﻣﺮة أﺧﺮى ﻟﺘﺨﺮج ﻣﻨﻬﺎ روح ﺟﺪﻳﺪة «.وﻫﺬه اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ اﻟﺪورﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮد ﻓﻴﻬﺎ املﻴﺎه إﱃ اﻟﺤﻴﺎة وإﱃ املﻮت ً أﻳﻀﺎ ﺗﺒﻌً ﺎ ملﻜﺎﻧﻬﺎ ﰲ اﻟﺪورة ﺗُ ﱢﺒني إﱃ أي ﻣﺪى ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻸﺿﺪاد أن ﺗﺘﻀﺎﻓﺮ. وﻳﺄﺧﺬﻧﺎ ﻫﺬا إﱃ املﻜﻮﱢن اﻷﺧري ﰲ اﻟﺼﻮرة اﻟﺘﻲ رﺳﻤﻬﺎ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ؛ أﻻ وﻫﻮ وﺣﺪة اﻷﺷﻴﺎء ،واﻟﺬي ﻳﺘﻨﺎول ﻛﻴﻒ ﺗﺘﻤﺎﺛﻞ اﻷﺿﺪاد .وﻗﺪ َﻛ َﻔﺮ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﻟﺴﺎﺑﻘﻴﻪ ﻣﻦ اﻟﺤﻜﻤﺎء ﻋﺪم ﺗﻘﺪﻳﺮﻫﻢ ﻟﻬﺬه اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ،ﺣﺘﻰ ﻫﺴﻴﻮد اﻟﺬي ﻳﻌﺘﱪه ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ أﻛﺜﺮ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﺣﻜﻤﺔ وأوﻓﺮﻫﻢ ﻋﻠﻤً ﺎ ﻟﻢ ﻳﺴﺘﻄﻊ أن ﻳﺪرك ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻟﻠﻴﻞ واﻟﻨﻬﺎر وأﻧﻬﻤﺎ »ﳾء واﺣﺪ« .ﻛﺎن ﻫﺴﻴﻮد ﻳﺮى أن اﻟﻠﻴﻞ ﻧﻮع ﻣﻦ ﻗﻮى اﻟﻈﻼم اﻟﺘﻲ ﺗﻐﻄﻲ ﻣﺆﻗﺘًﺎ ﻋﲆ اﻟﻨﻬﺎر ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺸﺒﻪ اﻋﺘﻘﺎد أﺣﺪ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﺨﺮاﻓﻴني ﻟﺪى اﻟﻜﺎﺗﺐ اﻟﺮواﺋﻲ اﻟﻬﺰﱄ )ﻓﻼن أوﺑﺮاﻳﻦ( أن اﻟﻠﻴﻞ ﺣﺎﻟﺔ ﻏري ﺻﺤﻴﺔ ﻟﻠﺠﻮ ﺗﺴﺒﺒﻬﺎ ﺗﺮاﻛﻤﺎت ﻣﻦ اﻟﻬﻮاء اﻷﺳﻮد .وﻳﺒﺪو أن ﻫﺴﻴﻮد ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻴُﺪرك ﺣﻘﻴﻘﺔ أن اﻟﻠﻴﻞ واﻟﻨﻬﺎر وﺟﻬﺎن ﻟﻌﻤﻠﺔ واﺣﺪة؛ وﻟﺬﻟﻚ رأى ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ أن ﻫﺴﻴﻮد ﻗﺪ ﻓﺎﺗﻪ أﻣﺮ ﺟﻠﻞ ﻋﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ .وﻫﻨﺎك ﻣﻦ اﻷﻣﺜﻠﺔ اﻟﻜﺜري اﻟﺬي ﻳﺪﻟﻞ ﻋﲆ ﻓﻜﺮة وﺣﺪة اﻷﺿﺪاد ﻧﺬﻛﺮ ﻣﻨﻬﺎ: إن اﻟﻄﺮﻳﻘني اﻟﺼﺎﻋﺪ واﻟﻬﺎﺑﻂ ﻟﻴﺴﺎ ﺳﻮى ﻃﺮﻳﻖ واﺣﺪ. إن اﻟﺤﻲ واملﻴﺖ واﻟﻨﺎﺋﻢ واﻟﻴ ِﻘﻆ واﻟﺼﻐري واﻟﻜﺒري … ﻛﻠﻬﺎ أﺷﻜﺎل ﻟﴚء واﺣﺪ. ً ﺟﻤﻴﻼ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ اﻟﺨري اﻟﻜﺜري ،واﻟﺠﻮع إن املﺮض ﻫﻮ اﻟﺬي ﻳﺠﻌﻞ اﻟﺼﺤﺔ أﻣ ًﺮا ً ﻃﺮﻳﻘﺎ ﻟﻠﺮاﺣﺔ. ﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺴﺒﺐ اﻟﺘﺨﻤﺔ ،واﻟﺘﻌﺐ ﻳﻤﻬﺪ إن اﻟﺒﺤﺮ ﻫﻮ أﻛﺜﺮ ﻣﻨﺎﺑﻊ املﺎء ﻧﻘﺎءً وأﻛﺜﺮﻫﺎ ﺗﻠﻮﺛًﺎ؛ ﻓﻬﻮ ﻟﻸﺳﻤﺎك ﺻﺎﻟﺢ ﻟﻠﴩب ُﻮردُﻫﻢ املﻬﺎﻟﻚ. وﺣﺎﻓﻆ ﻟﻠﺤﻴﺎة ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻟﺪى اﻟﻨﺎس ﻏري ﻣﺴﺘﺴﺎغ اﻟﴩب وﻳ ِ 70
اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺬي ﺑﺤﺚ ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻪ :ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ
ﱢ ﺗﺠﺴﺪ ﻋﻼﻗﺔ اﻟﻮﺣﺪة ﺑني اﻷﺷﻴﺎء املﺘﻀﺎدة ﻇﺎﻫﺮﻳٍّﺎ ﻟﺪى ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ .أﻣﺎ وﻫﺬه أﻣﺜﻠﺔ أرﺑﻊ املﺜﺎل اﻷول ﻓﻬﻮ ﻣﺜﺎل واﺿﺢ وﴏﻳﺢ؛ ﻓﺎﻟﻄﺮﻳﻖ املﺆ ﱢدﻳَﺔ إﱃ أﻋﲆ اﻟﺘﻞ ﻫﻲ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﻨﺰول ﻣﻨﻪ ،ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻛﺎملﺪﺧﻞ ﻳﺨﺮج اﻹﻧﺴﺎن ﻣﻨﻪ .أﻣﺎ املﺜﺎل اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻓﻴﻌﱰﻳﻪ ﺑﻌﺾ اﻟﻐﻤﻮض ﺣﻴﺚ إن ﻣَ ﻦ ﻋﲆ ﻗﻴﺪ اﻟﺤﻴﺎة ﻟﻴﺲ ﺑﺎﻟﻄﺒﻊ ﻣﻴﺘًﺎ ،واﻟﻔﺘﺎة اﻟﺼﻐرية ﻟﻴﺴﺖ ﻓﺘﺎة ﻛﺒرية ﰲ ً ووﻓﻘﺎ ﻟﺮؤﻳﺘﻪ اﻟﻮﻗﺖ ذاﺗﻪ ،وﻛﺬﻟﻚ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻨﺎﺋﻢ ﻟﻴﺲ ﻳﻘﻈﺎن ،وﻟﻜﻦ ﻛﻤﺎ ﻳﺮى ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ وﻣﻔﻬﻮﻣﻪ ﺣﻮل ﻋﻤﻠﻴﺔ إﻋﺎدة ﺗﺪوﻳﺮ اﻟﻜﻮن؛ ﻓﺈن ﻫﺬه اﻷﺿﺪاد ﺗﻨﺘﻬﻲ إﱃ اﻟﴚء ذاﺗﻪ، ﻓﺎﻟﻨﺎﺋﻢ ﻻ ﺑُ ﱠﺪ وأن ﻳﺴﺘﻴﻘﻆ ،واﻟﻴﻘﻆ ﻻ ﺑُ ﱠﺪ وأن ﻳﻨﺎم ،وﻛﺬﻟﻚ اﻟﺤﻲ ﻻ ﻣﺤﻴﺺ ﻟﻪ ﻣﻦ املﻮت، واﻷﻣﻮات ﻳُﺒﻌﺜﻮن إﱃ اﻟﺤﻴﺎة ﻣﺮة أﺧﺮى )وﻛﺬﻟﻚ ﻓﻜﻞ ﻗﺪﻳﻢ ﺳﻴﺼﺒﺢ ﺟﺪﻳﺪًا( .أﻣﺎ املﺜﺎل اﻟﺜﺎﻟﺚ اﻟﺬي ﻳﺘﺤﺪث ﻋﻦ اﻟﺼﺤﺔ واملﺮض واﻷزواج اﻷﺧﺮى ﻓﻴﺒﺪو أن ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﻳﻘﺼﺪ أن اﻹرﻫﺎق ﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻌﻄﻲ ﻟﻠﺮاﺣﺔ ﻣﻌﻨﻰ واملﺮض ﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻌﻄﻲ ﻟﻠﺼﺤﺔ ﻣﻌﻨًﻰ واﻟﻌﻜﺲ ً ﺷﻜﻼ ﺟﺪﻳﺪًا ﻣﻦ أﺷﻜﺎل اﻟﱰاﺑُﻂ ﺑني اﻷﺿﺪاد ،ﻓﻴﻘﻮل ﺻﺤﻴﺢ .أﻣﺎ املﺜﺎل اﻟﺮاﺑﻊ ﻓﻴﻌﺮض ﻓﻴﻪ إن املﺎدة اﻟﻮاﺣﺪة ﻗﺪ ﺗﻜﻮن ﻟﻬﺎ ﺗﺄﺛريات ﻣﺘﻨﺎﻗﻀﺔ ﻋﲆ اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ. وﻧﺴﺘﺨﻠﺺ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻷﻣﺜﻠﺔ أن ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﻳﺮى أن ﻛﻞ ﺿﺪﱠﻳﻦ َ ﻟﻴﺴﺎ ﺷﻴﺌني ﰲ ﺣﻘﻴﻘﺘﻴﻬﻤﺎ ﺑﻞ ﳾء واﺣ ٌﺪ ﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل ﻣﻊ اﻟﻠﻴﻞ واﻟﻨﻬﺎر؛ ﻓﻬﻤﺎ ﳾء واﺣﺪ ﻻ ﺷﻴﺌني. وﻟﻜﻨﻨﺎ ﻧﺮى أن ﻫﺬا ﻳُﻌَ ﱡﺪ ﻣﻦ ﻗﺒﻴﻞ اﻟﺘﻌﻤﻴﻢ املﺒﺎ َﻟﻎ ﻓﻴﻪ وﻻ ﻧﺠﺪ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ اﻷﻫﻤﻴﺔ إﻻ ً ﻗﻠﻴﻼ. ً ﻣﺨﺘﻠﻔﺎ ﻋﻦ اﻟﻴﻘﻈﺔ وﻳﻤﻜﻨﻨﺎ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﺗﻮﺿﻴﺢ املﻈﺎﻫﺮ اﻟﺘﻲ ﻳﻜﻮن اﻟﻨﻮم ﻓﻴﻬﺎ ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ وﺟﻮد راﺑﻂ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ،وﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﴪد اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﻔﻮارق ﺑني ﻣﺎ ﺗﻌﻨﻴﻪ ﻛﻠﻤﺔ »اﻟﻀﺪ« وﻛﻠﻤﺔ »اﻟﴚء ﻧﻔﺴﻪ« ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺠﻌﻞ ﺣﺪﻳﺚ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﻳﻌﺠﺰ ﻋﻦ إﻗﻨﺎﻋﻨﺎ ﺑﺎﻟﺤﻜﻢ ﻋﲆ اﻷﺿﺪاد ﺑﺎﻟﺘﺸﺎﺑﻪ .وﻟﻜﻦ ﻛﻤﺎ ﻧﻌﺘﻘﺪ أن ﴎد ﻫﺬه اﻟﻔﻮارق ﻣﻦ اﻷﻫﻤﻴﺔ ﺑﻤﻜﺎن، ﻓﻘﺪ ﺑﺪا ﻟﻬﺮﻗﻠﻴﻄﺲ أن ﺗﺴﻠﻴﻂ اﻟﻀﻮء ﻋﲆ اﻟﻌﻼﻗﺎت اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ ﺑني اﻟﺸﺒﺎب واﻟﺸﻴﺨﻮﺧﺔ واﻟﺼﺤﺔ واملﺮض وﻃﺮق اﻟﺼﻌﻮد وﻃﺮق اﻟﻨﺰول وﻏريﻫﺎ ﳾء ذو أﻫﻤﻴﺔ ﺑﺎﻟﻐﺔ ،ﺣﻴﺚ اﻋﺘﻘﺪ أن ذﻟﻚ ﺳﻴﺴﺎﻋﺪه ﻋﲆ ﻓﻬﻢ ﻫﺬه اﻷﺷﻴﺎء .وﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ﻣﻔﺘﻮﻧًﺎ ﺑﺎﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑني اﻹﻳﻘﺎع املﻮﺳﻴﻘﻲ واﻷرﻗﺎم — وﻫﻮ ﻣﺎ ﺟﻌﻠﻪ ﻳﻘﻮل إن ﺟﻤﻴﻊ اﻟﻈﻮاﻫﺮ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻔﺴريﻫﺎ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻷرﻗﺎم ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ أو ﺑﺄﺧﺮى — ﻓﺈن ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﻛﺎن ﻣﻮﻟﻌً ﺎ ﺑﻔﻜﺮة اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑني اﻷﺿﺪاد ﻣﻤﱠ ﺎ ﺣﺪا ﺑﻪ إﱃ اﻟﻘﻮل ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ» :إن ﻛﻞ اﻷﺷﻴﺎء ﳾء واﺣﺪ«. وﻣﻦ ﺑني اﻷﺷﻴﺎء اﻟﻌﺪﻳﺪة اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﺒﺪو ﻣﻦ اﻟﻨﻈﺮة اﻷوﱃ أﻧﻬﺎ ﺗﻨﻄﺒﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻓﻜﺮة »أن ً ﻣﻨﺎﻗﻀﺎ ﻟﻨﻔﺴﻪ ﻛﻤﺎ ﺳﻴﺘﻀﺢ ﻛﻞ اﻷﺷﻴﺎء ﳾء واﺣﺪ« ﻫﻮ ﻓﻜﺮ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﻧﻔﺴﻪ؛ إذ ﻳﺒﺪو 71
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
اﻟﺘﻐري اﻟﺪاﺋﻢ واﻟﴫاع أﻳﻨﻤﺎ ﱠ ﱡ وﱃ وﺟﻬﻪ ،وﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ ﺟﺎﻧﺐ ﻳﺮى ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﻟﻨﺎ اﻵن .ﻓﻤﻦ ٍ آﺧﺮ ﻳﺒﺪو ﻫﺬا اﻟﴫاع وﻛﺄﻧﻪ ﻣﻌﺮ َﻛﺔ ﺗُﺜِري اﻟﻀﺤِ ﻚ ﺣﻴﺚ إن اﻷﺿﺪاد املﺘﻨﺎﺣﺮة — ﻣﺜﻞ اﻟﻌﻨﺎﴏ أو اﻟﻠﻴﻞ واﻟﻨﻬﺎر أو اﻟﺸﺒﺎب واﻟﺸﻴﺨﻮﺧﺔ — ﻳﻨﺘﻬﻲ ﺑﻬﺎ اﻟﺤﺎل إﱃ ﻃﺮﻳﻖ واﺣﺪ. وﻳﺒﻘﻰ اﻟﺴﺆال إذن :ﻫﻞ ﺛَﻤﱠ َﺔ ﺗﻐري ﻣﺴﺘﻤﺮ وﴏاع ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ أم ﻻ؟ واﻹﺟﺎﺑﺔ ﱡ اﻟﺘﻐري املﺴﺘﻤﺮ واﻻﺳﺘﻘﺮار واﻟﻮﺣﺪة واﻟﺘﻨﻮﱡع وﺟﻬﺎن ﻫﻲ ﻧﻌﻢ ،ﺗﻮﺟﺪ ﻫﺬه اﻷﺷﻴﺎء وﻟﻜﻦ ﻟﻌﻤﻠﺔ واﺣﺪة ﻛﺎﻟﻠﻴﻞ واﻟﻨﻬﺎر .و ْﻟﻨُﻤْ ﻌِ ِﻦ اﻟﻨﻈﺮ ﰲ ﻣﺜﺎل اﻟﻨﻬﺮ ﻣﺮة أﺧﺮى ،ﻓﻬﻮ ﻧﻬﺮ واﺣﺪ، ﻟﻜﻨﻪ ﻳﺘﻜﻮﱠن ﻣﻦ ﻣﻴﺎه ﻋﺪة ،ورﻏﻢ أﻧﻪ ﻳﺘﻜﻮن ﻣﻦ ﻣﻴﺎه ﻋﺪة ﻓﻬﻮ ﻳﺒﻘﻰ ﻧﻬ ًﺮا واﺣﺪًا .وﻣﻦ ﻫﻨﺎ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﺠﻤﻊ ﺟُ ﱠﻞ أﻓﻜﺎر ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﻋﻦ اﻟﴫاع واﻟﻮﺣﺪة ﰲ إﻃﺎر واﺣﺪ ،ورﻏﻢ ﱡ ﻟﻠﺘﻐري املﺴﺘﻤﺮ ﰲ اﻟﴚء اﻟﻮاﺣﺪ أو أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﴫﱢ ح ﺑﻬﺬه اﻟﻔﻜﺮة أﺑﺪًا ﻓﻬﺬا اﻟﺘﻔﺴري املﺰدوج ﻟﻮﺣﺪة اﻷﺷﻴﺎء املﺘﻐرية ﻳﺒﺪو ﻫﻮ املﺒﺪأ اﻟﺬي اﻋﺘﻘﺪ أن املﻔﻜﺮﻳﻦ اﻷواﺋﻞ ﻟﻢ ﻳﺪرﻛﻮه. وﻗﺪ ﻋﺠﺰ ﺑﻌﺾ املﻔ ﱢﻜﺮﻳﻦ اﻟﻼﺣﻘني ﻋﻦ إدراك ﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﺤﺪُث ﺣﺘﻰ ﺑﻌﺪ ﻣﺤﺎوﻻت ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﻟﴩﺣﻪ وﺗﻔﺴريه؛ ﻓﻘﺪ أﺳﺎء أﻓﻼﻃﻮن ً ﺑﻨﴩ أﻓﻜﺎره ﻣﺜﻼ ﻟﻬﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻗﺎم ِ ﺑﺸﻜﻞ ﻳﺸﻮﺑُﻪ اﻟﺘﺤﺮﻳﻒ واﻟﺘﺸﻮﻳﻪ ،ﻓﻘﺪ اﻋﺘﻤﺪ أﻓﻼﻃﻮن ﻋﲆ ﻓﻴﻠﺴﻮف ﻳﺪﻋﻰ ﻗﺮاﻃﻴﻠﻮس ﺑﺠﺎﻧﺐ واﺣﺪ ﻣﻦ ﻓﻜﺮ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﺛﻢ َﻫﺐﱠ ﻳﺘﺤﺪث ﺑﻪ دون ﻣﺮاﻋﺎة ﻟﺒﺎﻗﻲ اﻟﺠﻮاﻧﺐ .وﻗﺪ أ َ َﻟ ﱠﻢ ٍ ردﱠد أﻓﻼﻃﻮن وﻣﻦ ﺑﻌﺪه ﺗﻠﻤﻴﺬه أرﺳﻄﻮ آراء ﻗﺮاﻃﻴﻠﻮس ،ﺛﻢ ﱠ ﻓﴪ ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ ﻣﻦ ﺗﻼﻫﻢ ﻣﻦ املﻔﻜﺮﻳﻦ أﻓﻜﺎر ﻗﺮاﻃﻴﻠﻮس ﻣﻦ وﺟﻬﺔ ﻧﻈﺮﻫﻢ اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﻓﺤﺴﺐ. ﱡ اﻟﺘﻐري اﻟﺪاﺋﻢ واملﺴﺘﻤﺮ؛ وﺑﻬﺬا وﻳﺮى ﻗﺮاﻃﻴﻠﻮس أن ﺟﻤﻴﻊ اﻷﺷﻴﺎء ﺗﻌﺎﻧﻲ ﺣﺎﻟﺔ ﻣﻦ ﻓﻼ ﻳﻤﻜﻦ ﻹﻧﺴﺎن أن ﻳﻘﻮل أﻳﱠﺔ ﻣﻌﻠﻮﻣﺔ ﺻﺤﻴﺤﺔ ﻋﻦ ﳾءٍ ﻣﺎ إذ ﻫﻮ ﰲ ﱡ ﺗﻐري ﻣﺴﺘﻤﺮ وﴎﻳﻊ .وﻟﺬﻟﻚ أﺷﺎر أرﺳﻄﻮ إﱃ »أﻓﻜﺎر … ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ وأﺗﺒﺎﻋﻪ ﻣﺜﻞ … ﻗﺮاﻃﻴﻠﻮس ،اﻟﺬﻳﻦ اﻧﺘﻬﻮا إﱃ أﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﻣﻦ اﻟﺼﻮاب أن ﻳﻘﻮل اﻹﻧﺴﺎن ﺷﻴﺌًﺎ ﺑﻞ أن ﻳﺸري ﺑﺈﺻﺒﻌﻪ ﻓﻘﻂ «.وﰲ إﺣﺪى ﻣﺤﺎورات أﻓﻼﻃﻮن ﻗﺎم ﺳﻘﺮاط ﺑﺘﺤﻠﻴﻞ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة املﺘﻄﺮﻓﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﺘﺠﺖ ﻋﻦ ﺣﺎﻟﺔ ﱡ اﻟﺘﻐري اﻟﻌﻘﲇ ﻓﻘﺎل: ﺳﻴﺌﺔ ﻣﻦ ﰲ ﺳﻌﻴﻬﻢ ﻟﻠﻮﻗﻮف ﻋﲆ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻷﺷﻴﺎء ،داﺋﻤً ﺎ ﻣﺎ ﻳﺼﺎب ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ املﻌﺎﴏﻳﻦ ﺑﺤﺎﻟﺔ ﻣﻦ اﻟﺪوار ﻧﺘﻴﺠﺔ ﺳﻌﻴﻬﻢ املﺴﺘﻤﺮ ﰲ ﻛﻞ اﺗﱢﺠﺎه، وﻟﻜﻦ ﻳ َُﺨﻴﱠﻞ ﻟﻬﻢ أن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻫﻮ اﻟﺬي ﻳﺪور ﻣﻦ ﺣﻮﻟﻬﻢ وﻳﺘﺤﺮك ﰲ ﺟﻤﻴﻊ اﻻﺗﺠﺎﻫﺎت .وﻳﻌﺘﻘﺪون أن ﻫﺬه ﻫﻲ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻋﲆ اﻟ ﱡﺮﻏﻢ ﻣﻦ أﻧﻬﺎ ﺗﻨﺒﻊ 72
اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺬي ﺑﺤﺚ ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻪ :ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ
ﻣﻦ داﺧﻠﻬﻢ؛ ﻓﻬﻢ ﻳﻈﻨﻮن أﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﺛﻤﺔ ﳾء ﺛﺎﺑﺖ أو ﻣﺴﺘﻘﺮ وﻻ ﻳﻮﺟﺪ إﻻ اﻟﺘﻐري املﺴﺘﻤﺮ واﻟﺤﺮﻛﺔ. وﻣﺎ إن ﻧﺴﺐ أﻓﻼﻃﻮن ﻫﺬا اﻟﻬﺮاء إﱃ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﺣﺘﻰ ﺳﻬﻞ ﻋﻠﻴﻪ أن ﻳﺴﺨﺮ ﻣﻤﱠ ﻦ ﻳﺰﻋﻤﻮن أﻧﻬﻢ أﺗﺒﺎع ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ )اﻟﺬﻳﻦ ﻟﻢ ﱠ ﻳﺘﺒﻖ ﻣﻨﻬﻢ ﺳﻮى ﻗﺮاﻃﻴﻠﻮس( ﻓﻘﺎل: ﻻ ﺳﺒﻴﻞ ملﻨﺎﻗﺸﺔ ﻣﺒﺎدئ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ … ﻓﺤﺘﻰ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﺘﺤﺪث ﻣﻊ أﻫﻞ ﻣﺪﻳﻨﺔ أﻓﺴﺲ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺰﻋُ ﻤﻮن أﻧﻬﻢ ﻋﲆ ﻋﻼﻗﺔ ﺣﻤﻴﻤﺔ ﺑﺄﺗﺒﺎع ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ،ﻗﺪ ﺗﺸﻌﺮ أﻧﻚ ﺗﺘﺤﺪث ﻣﻊ ﺷﺨﺺ ﻣﺠﻨﻮن؛ ﻓﻬﻢ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﻣﻦ اﻟﺤﺮﻛﺔ اﻟﴪﻣﺪﻳﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻣﺜﻞ ً ﺳﺆاﻻ ﺗﺠﺪﻫﻢ ﰲ اﻹﺟﺎﺑﺔ ﻳﺘﺼﻴﱠﺪون ﻣﻦ ﻣﻨﻬﺠﻬﻢ أﻃﺮوﺣﺎﺗﻬﻢ … وﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﻄﺮح املﻀﻄﺮب ﺣﻜﻤﺔ أو ً ﻣﺜﻼ ﺗﻨﺒﱡﺌﻴٍّﺎ ﻟﻴﺸﻨﻮا ﺑﻪ ﻫﺠﻮﻣﻬﻢ ﻋﻠﻴﻚ ،وإذا ﻣﺎ ﺣﺎوﻟﺖ أن ﺗﺼﻞ إﱃ أي ﻣﻌﻨﻰ ﻟﺤﺪﻳﺜﻬﻢ ﻓﺴﻴﺒﺎﻏﺘﻮﻧﻚ ﺑﻤﺜﻞ آﺧﺮ وﻳُ َ ﻄﻌﱢ ﻤُﻮﻧﻪ ﺑﺎﺳﺘﻌﺎرة ﺟﺪﻳﺪة زاﺋﻔﺔ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﻠﻦ ﺗﺼﻞ إﱃ أﻳﺔ إﺟﺎﺑﺔ ﺷﺎﻓﻴﺔ ﻋﻨﺪ اﻟﺤﺪﻳﺚ إﱃ أيﱟ ﻣﻨﻬﻢ؛ إذ إﻧﻬﻢ ﺑﺒﺴﺎﻃﺔ ﻻ ﻳﺘﻔﻘﻮن ﺣﻮل رأي واﺣﺪ ،وﻟﻜﻨﻬﻢ ﻳ ُ َﺼﺒﱡﻮن ﺟُ ﱠﻞ ﺗﺮﻛﻴﺰﻫﻢ ﻋﲆ ﻋﺪَم ﺗﺮك أﻳﺔ أرض ﺻﻠﺒﺔ ﻳﻤﻜﻨﻚ اﻟﻮﻗﻮف ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺳﻮاء ﰲ ﺧﻄﺎﺑﻬﻢ أو ﰲ ﻋﻘﻮﻟﻬﻢ. وﻣﻦ أﺷﻬﺮ ﻣﺎ ﻗﺎل ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ واﻟﺬي ﻳﺒﺪو أﻧﻪ ﻳﺪﻋﻢ اﻟﺘﻔﺴري املﺘﻄ ﱢﺮف اﻟﺬي ﻗﺪﱠﻣﻪ أﻓﻼﻃﻮن وأرﺳﻄﻮ ﻫﻮ ﻣﻘﻮﻟﺘﻪ اﻟﺸﻬرية» :ﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ اﻹﻧﺴﺎن أن ﻳﻨﺰل ﰲ اﻟﻨﻬﺮ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﺮﺗني «.واﻟﻔﻜﺮة وراء ﻫﺬا املﺜﺎل واﺿﺤﺔ وﺿﻮح اﻟﺸﻤﺲ ﰲ ﻛ ِﺒﺪ اﻟﺴﻤﺎء ،ﻓﺒﻤﺎ أن املﻴﺎه اﻟﺘﻲ ﺗﺸ ﱢﻜﻞ اﻟﻨﻬﺮ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﺗﻐري ﻣﺴﺘﻤﺮ ﻓﻤﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻳﻨﺰل اﻹﻧﺴﺎن ﻧﻬ ًﺮا ﺟﺪﻳﺪًا ﰲ ﻛﻞ ﻣﺮة، اﻟﺠﺪﱢ؟ ً وﻓﻘﺎ ﻟﺮأي وﻟﻜﻦ اﻟﺴﺆال :إﱃ أي ﻣﺪى ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻟﻨﺎ أن ﻧﺄﺧﺬ ﻫﺬا املﺜﺎل ﻋﲆ ﻣﺤﻤﻞ ِ ﻗﺮاﻃﻴﻠﻮس املﺘﻄﺮف ﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﺄﺧﺬه ﻋﲆ ﻣﻌﻨﺎه اﻟﺤﺮﰲ ،ﻓﺎﻷﻧﻬﺎر ﻛﻤﺎ ﻧﻌﺮﻓﻬﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﻣﻮﺟﻮدة؛ إذ ﻟﻮ اﻓﱰﺿﻨﺎ وﺟﻮد ﻧﻬﺮ اﻟﺘﻴﻤﺰ ﻓﻬﻮ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ إﻻ ﰲ ﻟﺤﻈﺔ ﻋﺎﺑﺮة ﻻ ﻳﻠﺒﺚ ﺣﺘﻰ ﻳﺘﺤﻮﱠل إﱃ ﻧﻬﺮ آﺧﺮ .وﺗﺸري ﺑﻌﺾ اﻻﻋﺘﺒﺎرات اﻷﺧﺮى املﺘﻌ ﱢﻠﻘﺔ ﺑﺘﻔﺴري ﻗﺮاﻃﻴﻠﻮس إﱃ ﺻﺤﺔ ﻫﺬه اﻟﻨﺘﻴﺠﺔ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﻜﺎﻓﺔ اﻷﺷﻴﺎء ،ﻓﺎﻷﺷﻴﺎء ﻛﻠﻬﺎ ﺗﺘﻜﻮن ﻣﻦ ﻣﻮاد داﺋﻤﺔ اﻟﺘﻐري ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﱠ ﱡ ﻟﺨﺼﻪ ﺳﻘﺮاط ﰲ ﻋﺒﺎرة ﻗﺎل ﻓﻴﻬﺎ» :ﻟﻴﺲ ﺛﻤﺔ ﳾء ﺛﺎﺑﺖ أو ﻣﺴﺘﻘﺮ ﻓﻼ ﻳﻮﺟﺪ إﻻ اﻟﺘﻐري املﺴﺘﻤﺮ واﻟﺤﺮﻛﺔ«. َ ﻃﺮﰲ ْ ﻧﻘﻴﺾ ﻣﻊ ﻣﺎ ﻗﺎﻟﻪ وﻟﻜﻦ إذا أﻣﻌﻨﺖ اﻟﻨﻈﺮ ﰲ ﻫﺬا اﻟﻜﻼم ﻓﺴﺘﺠﺪه ﻋﲆ ً ﺳﺎﺑﻘﺎ ﺑﺸﺄن اﻟﻨﻬﺮ؛ إذ ﻳﻘﻮل» :إذا ﻧﺰل اﻹﻧﺴﺎن ﰲ اﻟﻨﻬﺮ ذاﺗﻪ ﻣﺮﺗني ﻓﺴﻴﺠﺪ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ 73
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﱠ ﺗﺘﺪﻓﻖ ﰲ ﻣﺎءً ﺟﺪﻳﺪًا ﰲ ﻛﻞ ﻣﺮة «.وﻫﻮ ﰲ ﻫﺬا املﺜﺎل ﻳﺘﺤﺪث ﺑﻮﺿﻮح ﻋﻦ ﻣﻴﺎه ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ اﻟﻨﻬﺮ ﻧﻔﺴﻪ؛ أي إن وﺟﻮد ﻣﻴﺎه ﺟﺪﻳﺪة ﻻ ﻳﻘﺘﴤ ﺑﺎﻟﴬورة ﺧﻠﻖ أﻧﻬﺎر ﺟﺪﻳﺪة؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﻴﻤﻜﻨﻚ أن ﺗﺨﻮض اﻟﻨﻬﺮ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﺮﺗني .وﻳﺒﺪو أن ﻣﺎ ﻓﻌﻠﻪ ﻗﺮاﻃﻴﻠﻮس وأﻓﻼﻃﻮن وأرﺳﻄﻮ ﻫﻮ أﻧﻬﻢ أﺧﺬوا ﺷﻄ ًﺮا واﺣﺪًا ﻣﻦ ﻓﻠﺴﻔﺔ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ذات اﻟﺤَ ﱠﺪﻳ ِْﻦ وﺗﺠﺎﻫﻠﻮا اﻟﺸﻄﺮ اﻵﺧﺮ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ .وﻣﻦ املﺴﺘﺤﻴﻞ أن ﺗﻔﻬﻢ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ إذا زﻋﻤﺖ ﻛﻤﺎ زﻋﻤﻮا أﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﻘﺼﺪ ﻣﺎ ﻳُﻔﻬَ ﻢ ﺣﺮﻓﻴٍّﺎ ﻣﻦ ﻛﻼﻣﻪ أﻧﻚ »ﻻ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﺗﺨﻮض اﻟﻨﻬﺮ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﺮﺗني«. وﻣﻤﱠ ﺎ زاد ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﻓﺨ ًﺮا وﺗﻴﻬً ﺎ أﻧﻪ اﻛﺘﺸﻒ ﺣﻘﻴﻘﺔ أن اﻷﻧﻬﺎر وﺳﺎﺋﺮ اﻷﺷﻴﺎء ﱡ اﻟﺘﻐري املﺴﺘﻤﺮ ﺣﺘﻰ وإن ﻇﻬﺮت ﻟﻨﺎ ﻋﲆ ﺧﻼف ذﻟﻚ ،وﻫﻲ اﻷﺧﺮى ﻫﻲ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﻣﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﺣﺎول أن ﻳﻠﻔﺖ إﻟﻴﻬﺎ أﻧﻈﺎرﻧﺎ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳﻔﻜﺮ أن ﻫﺬه اﻷﻧﻬﺎر وﺗﻠﻚ اﻷﺷﻴﺎء ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﺷﺪﻳﺪة ﻣﻦ اﻟﻔﻮﴇ ﻟﺪرﺟﺔ أﻧﻚ ﻻ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﺗﻨﺎﻗﺸﻬﺎ ،وﻻ ﻗﻴﻤﺔ ﻟﻬﺎ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق ﻛﻤﺎ ﻗﺎل ﻗﺮاﻃﻴﻠﻮس .وﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻟﻢ ﺗﺆ ﱢد ﻫﺬه املﺒﺎﻟﻐﺔ َ اﻟﻔﺠﱠ ﺔ إﻻ إﱃ إدﺣﺎض ﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﺤﺎول ﱡ اﻟﺘﻐري أن ﻳﻘﻮﻟﻪ وﺗﻔﻨﻴﺪه ،ﻓﻠﻮ اﻓﱰﺿﻨﺎ ﻋﺪم وﺟﻮد اﻷﻧﻬﺎر ﻓﻠﻦ ﺗﻜﻮن إذن ﻣﺤﻤﻮﻣﺔ ﺑﻬﺬا املﺴﺘﻤﺮ ﺑﻞ ﻟﻦ ﻳﻜﻮن ﺑﻬﺎ أي ﳾء. ﻟﻘﺪ اﺳﺘﻄﺎع أﻓﻼﻃﻮن ﻋﲆ اﻷﻗﻞ أن ﻳﺴﺘﺨﺪم ﺗﻔﺴريه املﻐﻠﻮط ﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣﺜﻤﺮ ،ﻓﺮﻏﻢ أﻧﻪ ﺳﺨﺮ ﻣﻤﱠ ﺎ اﻋﺘﱪه ﻧﻈﺮﻳﺔ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﻓﻘﺪ رأى أن ﺑﻬﺎ ﻗﺴ ً ﻄﺎ ﻣﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ،ﻓﺄﻓﻼﻃﻮن ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل أرﺳﻄﻮ: ﻛﺎن ﻣﻘﺘﻨﻌً ﺎ ﺑﺤﻘﻴﻘﺔ ﻋﻘﻴﺪة ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ وﻓﻠﺴﻔﺘﻪ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮل إن ﻛﻞ ﻣﺎ ﻧﺪرﻛﻪ ﻓﺎن وﻫﺎﻟﻚ؛ وﻟﺬﻟﻚ إذا ﻛﺎن ﻟﻠﻤﻌﺮﻓﺔ أو اﻟﺘﻔﻜري ﻫﺪف ﻓﻼ ﻣﺤﻴﺺ ﺑﺎﻟﺤﻮاس ٍ ﻣﻦ أن ﺗﻜﻮن ﺛﻤﺔ أﺷﻴﺎء ﺛﺎﺑﺘﺔ ﻻ ﺗﺘﻐري ﻏري ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﻧﺪرﻛﻬﺎ ﺑﺎﻟﺤﻮاس إذ ﻟﻴﺲ ﻫﻨﺎك ﻣﻌﺮﻓﺔ ﻋﻦ ﳾء ﻻ ﻳﻠﺒﺚ أن ﻳﺘﻐري. ﺟﻮﻫﺮيﱟ : ﻧﺠﺪ أن ﻣﺒﺎﻟﻐﺔ أﻓﻼﻃﻮن ﻓﻴﻤﺎ ﻗﺎﻟﻪ ﻋﻦ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ أدت إﱃ إﺛﺎرة ﺗﺴﺎؤل وﺑﺬﻟﻚ ِ ِ ﻛﻴﻒ ﻟﻨﺎ أن ﻧﺼﻞ إﱃ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﻳﻘﻴﻨﻴﺔ ﻋﻦ ﻋﺎﻟﻢ ﻣﺘﻐري؟ ً وﺗﻀﻠﻴﻼ ﻓﻴﻤﺎ ﻗﺎﻟﻪ وﻗﺪ أدﱠى اﻟﱰﻛﻴﺰ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﺴﺆال إﱃ إﻏﻔﺎل ﻣﺎ ﻫﻮ أﻛﺜﺮ ﺧﺪاﻋً ﺎ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ،ﻓﺄﻓﻜﺎره ﻟﻢ ﺗﺘﻄﻮر ﻋﲆ ﻳَ ِﺪ أي ﺷﺨﺺ آﺧﺮ؛ ذﻟﻚ أﻧﻬﺎ رﺑﻤﺎ ﻟﻢ ﺗ ُﻜﻦ ﻟﺘﺼﻞ إﱃ ً ﺷﺨﺼﺎ آﺧﺮ ﻋﺎش ﰲ ﻧﺘﺎﺋﺞ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ إذا ﻣﺎ ﺣﺎول ﺷﺨﺺ آﺧﺮ أن ﻳﺘﻨﺎوﻟﻬﺎ ﺑﺎﻟﺪراﺳﺔ .ﻟﻜﻦ زﻣﺎﻧﻪ ﺗﻨﺎول أﺣﺪ ﻣﻮﺿﻮﻋﺎﺗﻪ ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺴﺘﻘﻞ َﻓ َﺸ ﱠﻜﻞ املﺮﺣﻠﺔ اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ واﻷﻫﻢ ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ،ﻓﻤﺎ ﻗﺎم ﺑﻪ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس — واﻟﺬي ﺳﻨﻨﺘﻘﻞ ﻟﻠﺤﺪﻳﺚ ﻋﻨﻪ ﰲ اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺘﺎﱄ — ﻳﻌﺘﱪ ﺗﻄ ﱡﻮ ًرا ﻟﻔﻜﺮة 74
اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺬي ﺑﺤﺚ ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻪ :ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ
ﺗﺮاﺑﻂ اﻷﺷﻴﺎء ﻋﻨﺪ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ .ﻓﻜﻼﻫﻤﺎ اﻧﺘﻘﺪ اﻟﺘﻔﺴريات اﻷوﱃ وﻣﺎ ﺗﻼﻫﺎ ﻣﻦ ﺗﻔﺴريات ﻟﺘﻄﻮﱡر اﻟﻜﻮن وﻣﺎ ﻳﻘﻊ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﻇﻮاﻫﺮ ،وﻛﻼﻫﻤﺎ ِ ﻋﻤﻞ ﻋﲆ ﺗﺒﺪﻳﻞ ﻫﺬا اﻻﻋﺘﻘﺎد ﺑﻔﻜﺮة وﺣﺪة اﻷﺷﻴﺎء ،وﻟﻜﻦ ﺷﺘﺎن اﻟﻔﺎرق ﺑني ﻫﺎﺗني اﻟﺮؤﻳﺘني ،ﻓﺒﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻳﺮى أن ﻻ ﳾء ﻳﺘﻐري ﻋﲆ اﻹﻃﻼق ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﺮى ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ أن اﻷﺷﻴﺎء ﺟﻤﻴﻌﻬﺎ ﰲ ﱡ ﺗﻐري ﻣﺴﺘﻤﺮ )وإن ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻋﲆ اﻟﻨﺤﻮ املﺒﺎﻟﻎ ﻓﻴﻪ ﻛﻤﺎ ﻋﻨﺪ ﻗﺮاﻃﻴﻠﻮس( ،وﻟﻜﻦ أﻓﻜﺎر ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻛﺎن ﻟﻬﺎ اﻷﺛﺮ اﻷﻛﱪ ،ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬي ﻟﻢ ﱠ ﻳﺘﺒﻖ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ أﻓﻜﺎر ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ إﻻ ﻣﺎ اﺧﺘﻠﺴﻪ أﻓﻼﻃﻮن ﻣﻨﻬﺎ. وﻟﺬﻟﻚ ﻳﺮﺟﻊ اﻟﻔﻀﻞ إﱃ أﻓﻼﻃﻮن ﰲ ﻣَ ﺤْ ِﻮ اﻟﻮﺟﻪ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﻣﻦ ذاﻛﺮة ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ؛ إذ َﻗ ﱠﺪ َم ﺳﻮء اﻟﻔﻬﻢ واﻟﺘﺒﺴﻴﻂ املﺒﺎ َﻟﻎ ﻓﻴﻪ ﻳﺪ اﻟﻌﻮن ﻟﻬﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﻏﺎﻣﻀﺎ ﻣﺒﻬﻤً ﺎ ﻻ ﻳُﺪ َرك ﻛﻨﻬﻪ ،ﺑﻞ ﻗﻴﻞ إﻧﻪ أراد أن ﺗ َ ً ﻃﻲ اﻟﺨﻔﺎء ،وﻫﻮ ﻟﻴﺒﻘﻰ ﻈﻞ ﻋﻘﻴﺪﺗﻪ ﰲ ﱢ ﻣﺎ ﺣﺪث ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﻛﻤﺎ أراد.
75
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺮاﺑﻊ
ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻟﻼﳾء :ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس
ﺑﺜﻌﺒﺎن ﻳَﻠ ِﺞُ ﺟﻨﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ِ ﻳﺄت ﻟﻴﻬﺐ ﻛﺎن ﻇﻬﻮر ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس أﺷﺒﻪ ٍ املﻌﺮﻓﺔ ،ﺑﻞ ﺟﺎء ﻣﻬﺪدًا ﺑﺎﻧﺘﺰاﻋﻬﺎ ،ﻓﺤﺠﺞ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻗﻮﱠﺿﺖ ﺑﻨﻴﺎن اﻟﺘﻔﺴريات اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﺎﻗﺸﺖ ﻣﺴﺄﻟﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ .ﻟﻘﺪ ﺣﺎول ﻣﻌﻈﻢ اﻟﻌﻠﻤﺎء اﻷواﺋﻞ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ ﺗﻔﺴري ﻟﻜﻴﻔﻴﺔ ﺗﻄﻮﱡر اﻟﻜﻮن ،أﻣﺎ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻓﻘﺪ ﺣﺎول أن ﻳﱪﻫِ ﻦ أن اﻟﻜﻮن ﻟﻢ ﻳﺘﻄﻮﱠر ﺑﺎملﺮة .وﻛﺬﻟﻚ ﺣﺎول املﻔ ﱢﻜﺮون اﻷواﺋﻞ أن ﻳﺒﺤﺜﻮا ﻋﻦ ﺗﻔﺴري ﻟﻸﺣﺪاث ﰲ ﻋﺎﻟﻢ ﻣﺘﻐري ﻳﻜﺘ ﱡ ﻆ ﺑﺎﻟﻈﻮاﻫﺮ ﱡ ﺑﺎﻟﺘﻐري أو اﻟﺘﻨﻮﱡع؛ إذ املﺘﻨﻮﱢﻋﺔ ﻓﺠﺎء ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻟﻴﱪﻫﻦ أﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﰲ اﻟﻜﻮن ﻣﺎ ﻳُﻌﺮف إن اﻟﻮاﻗﻊ ﻋﻨﺪه ﻳﺘﻜﻮﱠن ﻣﻦ ﳾء واﺣﺪ ﻳﺘﱠﺼﻒ ﺑﺎﻟﻜﻤﺎل واﻟﺜﺒﺎت واﻟﺨﻠﻮد .وﺑﻌﺪ رﺣﻴﻞ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس وﺗﻼﻣﻴﺬه ﻛﺎن ﻟﺰاﻣً ﺎ أن ﻳُﻌﺎ َد ﺑﻨﺎء ﴏح املﻌﺮﻓﺔ اﻟﺬي ﻫﺪﻣﻮه وﻗﻮﱠﺿﻮا أﺳﺎﺳﻪ ﺑﻤﺎ ﺧ ﱠﻠﻔﻮه ﻣﻦ أدﻟﺔ وﺑﺮاﻫني ﻣﺤرية. ُﺨﺮج اﻟﻨﺎس ﻣﻦ رﻏﻢ ﻫﺬا ﻟﻢ ﻳَ َﺮ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس أﻧﻪ ﺟﺎء ﻟﻴﻬﺪِم ،ﺑﻞ اﻋﺘﻘﺪ أﻧﻪ ﺟﺎء ﻟﻴ ِ ﻇﻠﻤﺎت اﻟﺠﻬﻞ واﻟﻀﻼل إﱃ أﻧﻮار اﻟﺤﻖ واملﻌﺮﻓﺔ وﻳﺼﻞ ﺑﻬﻢ إﱃ ﻣﺎ ﺳﻤﱠ ﺎه »ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ« .وﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﻐﺎﻳﺔ ﺻﺎغ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﺗﻔﺴريه ﰲ ﺷﻜﻞ وﺣﻲ ادﱠﻋﻰ أﻧﻪ ﻧﺰل ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ إﺣﺪى اﻹﻟﻬﺎت ﺧﻼل رﺣﻠﺔ ﺳﻤﺎوﻳﺔ ﻓﻘﺎل: وﻗﺪ ﺣﻴﱠﺘْﻨِﻲ اﻹﻟﻬﺔ ﺑﺮﻓﻖ وأﺧﺬت ﻳﺪي اﻟﻴﻤﻨﻰ ﰲ ﻳﻤﻨﺎﻫﺎ وﺧﺎﻃﺒﺘﻨﻲ ﻗﺎﺋﻠﺔ: »ﺗﺤﻴﺎﺗﻲ أﻳﻬﺎ اﻟﺸﺎب اﻟﺼﻐري ،ﻳﺎ ﻣﻦ ﺣﴬت إﱃ ﻣﻨﺰﱄ ﰲ ﺻﺤﺒﺔ اﻟﺨﺎﻟﺪﻳﻦ ﻣﻦ اﻟﺴﺎﺋﻘني ﺗﺠ ﱡﺮك اﻟﺠﻴﺎد .ﻟﻢ ﻳﺨﺒﺊ ﻟﻚ اﻟﻘﺪر ﴍٍّا ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﺘﺐ ﻋﻠﻴﻚ أن ﺗﺴﻠﻚ ﻫﺬا اﻟﻄﺮﻳﻖ اﻟﺬي ﻳﻨﺄى ﻛﺜريًا ﻋﻦ ﻃﺮق اﻟﺒﴩ ،ﺑﻞ إﻧﻪ ﻛﺘﺐ ﻟﻚ اﻟﺤﻖ واﻟﻌﺪاﻟﺔ، وإﻧﻪ َﻟﺤَ ﱞﻖ ﻟﻚ أن ﺗﻨﻬﻞ اﻟﻌﻠﻢ ﻛﻞ اﻟﻌﻠﻢ ﻫﻨﺎ«.
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻻ ﻧﻌﺮف ﻋﻦ ﻛﺎﺗﺐ ﻫﺬه اﻷﺳﻄﺮ إﻻ ً ﻗﻠﻴﻼ .وإن ُﻛﻨﱠﺎ ﻧﻌﺮف اﻟﻜﺜري ﻋﻦ ﺣﻴﺎة ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﻓﻼ ﻧﻌﺮف ﻋﻦ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس إﻻ ً ﻗﻠﻴﻼ ،ﻓﻠﻴﺲ ﻟﺪﻳﻨﺎ إﻻ ﻣﺎ ﺗﺒﻘﻰ ﻣﻦ ُرﻓﺎت أﻓﻜﺎره؛ إذ ﻟﻢ ﻧﻘﻒ ﱠ اﻟﺨﺎﺻﺔ .وﻳﻮﺿﺢ وﺻﻒ أﻓﻼﻃﻮن ﻟﻠﻘﺎء ﺳﻘﺮاط وﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻋﲆ أيﱟ ﻣﻦ أﺧﺒﺎر ﺣﻴﺎﺗﻪ أﻧﻪ ُوﻟِ َﺪ ﺣﻮاﱄ ﻋﺎم ٥١٥ق.م ،وﻛﺎن ﺣﻴﻨﻬﺎ ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ أﺻﻐﺮ ﺳﻨٍّﺎ ﻣﻦ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ وأﻛﱪ ﻣﻦ ﺳﻘﺮاط .وﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ ﻟﺬﻟﻚ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ اﻟﻘﻮل إﻧﻪ ﻗﺪ ﻋﺎش ﻫﻮ وﺗﻠﻤﻴﺬه زﻳﻨﻮن ﰲ ﻣﺪﻳﻨﺔ إﻳﻠﻴﺎ وﻫﻲ إﺣﺪى املﺴﺘﻌﻤﺮات اﻷﻳﻮﻧﻴﺔ ﻋﲆ اﻟﺴﺎﺣﻞ اﻟﻐﺮﺑﻲ ﻹﻳﻄﺎﻟﻴﺎ ،وﻗﺪ ﻛﺎن ﻋﲆ ﻗﺪر ﻻ ﺑﺄس ﺑﻪ ﻣﻦ اﻟﺜﺮاء واﻟﻨﺒﻮغ ﺷﺄﻧﻪ ﰲ ﻫﺬا ﺷﺄن اﻟﻜﺜري ﻣﻦ ﻓﻼﺳﻔﺔ ﻋﴫه. ﻳﺴﺘﻖ أﻓﻜﺎره ﻣﻦ أي ﻣﺼﺪر وﻛﺄﻧﻬﺎ ﻧﺰﻟﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ اﻟﺴﻤﺎء؛ ﻓﻘﺪ زﻋﻢ وﻳﺒﺪو أﻧﻪ ﻟﻢ ِ ﱢ املﻨﺸﻘني ﻋﻦ إﻳﻄﺎﻟﻴﺎ ﻣﻌﺘﻤﺪﻳﻦ ﰲ زﻋﻤﻬﻢ ﻫﺬا ﻋﲆ ﻗﺪوﻣﻪ اﻟﺒﻌﺾ أﻧﻪ أﺣﺪ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني ﻣﻨﻬﺎ ،وﻟﻜﻦ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ داﻓﻊ ﺣﻘﻴﻘﻲ ﻟﻠﻘﻮل ﺑﺼﺤﺔ ﻫﺬا اﻷﻣﺮ اﻟﻠﻬﻢ إﻻ اﺳﺘﺨﺪاﻣﻪ اﻷدﻟﺔ اﻻﺳﺘﻨﺒﺎﻃﻴﺔ اﻟﺘﻲ اﻓﱰض اﻟﻨﺎس أن اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني اﺳﺘﺨﺪﻣﻮﻫﺎ ﰲ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ﰲ اﻟﻮﻗﺖ ذاﺗﻪ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ .وﻳﻘﺎل ﻛﺬﻟﻚ إﻧﻪ ﻛﺎن أﺣﺪ ﺗﻼﻣﺬة اﻟﺸﺎﻋﺮ ورﺟﻞ اﻟﻼﻫﻮت زﻳﻨﻮﻓﺎﻧﻴﺲ، ً ﻣﻀﻠﻼ ﺑﻌﺾ اﻟﴚء — وإن َ ﺻﺢﱠ — ﻷن ﻓﻜﺮ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻳﺘﻤﻴﺰ وﻟﻜﻦ ﻫﺬا اﻟﻘﻮل ﻗﺪ ﻳﻜﻮن ً ﺑﺎﻷﺻﺎﻟﺔ وﻻ ﻳﺒﺪو أﻧﻪ اﺳﺘﻘﺎه ﻣﻦ أي ﺷﺨﺺ ﻛﺎﺋﻨﺎ ﻣﻦ ﻛﺎن. ً ﻻﺣﻘﺎ ،ﻓﺈن ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻗﺪ ﺗﻼﻋﺐ ﻛﺜريًا ﺑﻤﻔﻬﻮم »اﻟﻼﳾء« ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ وﻛﻤﺎ ﺳﻨﺮى ﺗﺬﻛﺮﻧﺎ ﺑﺎﻟﻨﻜﺎت اﻟﺴﺎﺧﺮة اﻟﺘﻲ ﺣِ ﻴ َﻜ ْﺖ ﺣﻮل ﻣﺼﻄﻠﺢ »ﻻ أﺣﺪ« اﻟﺬي ﻟﻢ ﻳﺴﺘﻄﻊ ﻟﻮﻳﺲ ﻛﺎرول أن ﻳﻘﺎوﻣﻪ ﻓﻘﺎل: اﺳﺘﺄﻧﻒ املﻠﻚ ﺣﺪﻳﺜﻪ ﻣﻊ اﻟﺮﺳﻮل ﺑﺎﺳ ً ﻄﺎ إﻟﻴﻪ ﻳﺪه ﻟﻴﻨﺎوﻟﻪ ﻣﺰﻳﺪًا ﻣﻦ اﻟﻘﺶ وﺳﺄﻟﻪ» :ﻣﻦ ﻗﺎﺑﻠﺖ ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻖ؟« ﻓﺄﺟﺎب اﻟﺮﺳﻮل» :ﻻ أﺣﺪ«. ﻓﺮد املﻠﻚ» :ﺻﺤﻴﺢ ،ﻫﺬه اﻟﻔﺘﺎة رأﺗﻪ ً أﻳﻀﺎ؛ ﻟﺬا ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻻ أﺣﺪ ﻳﻤﴚ أﺑﻄﺄ ﻣﻨﻚ«. ﻗﺎل اﻟﺮﺳﻮل ﺑﻨﱪة ﻋﺎﺑﺴﺔ» :ﻟﻘﺪ ﺑﺬﻟﺖ ﻣﺎ ﰲ وﺳﻌﻲ ،وأﻧﺎ ﻋﲆ ﻳﻘني أن ﻻ أﺣﺪ ﻳﻤﴚ أﴎع ﻣﻨﻲ«. ﻓﺄﺟﺎﺑﻪ املﻠﻚٍّ : »ﺣﻘﺎ ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻪ أن ﻳﻔﻌﻞ ذﻟﻚ وإﻻ ﻟﺴﺒﻘﻚ إﱃ ﻫﻨﺎ«. وﻫﻨﺎك ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﻨ ﱢ َﻜﺎت اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺘﺪاوﻟﺔ ﺑني اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴني ﻣﻨﺬ ﻋﻬﺪ ﻫﻮﻣريوس؛ ﻓﻔﻲ ً اﻷودﻳﺴﺔ ً آن واﺣﺪ ﻳﺪﻋﻰ ﺑﻮﻟﻴﻔﻴﻤﻮس ﻗﺪ أﻣﺴﻚ ﻣﺜﻼ ﻳُﺮوى أن ﻋﻤﻼﻗﺎ وﺳﻴﻤً ﺎ وﻏﺒﻴٍّﺎ ﰲ ٍ 78
ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻟﻼﳾء :ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس
ً ﻣﻌﺮوﻓﺎ ﺑﺤِ ﻴَﻠﻪ وأﻻﻋﻴﺒﻪ املﺎﻛﺮة — ﺑﺄودﻳﺴﻴﻮس وﺳﺄﻟﻪ ﻋﻦ اﺳﻤﻪ — وﻛﺎن أودﻳﺴﻴﻮس ﻓﺄﺟﺎﺑﻪ» :ﻻ أﺣﺪ «.ﺛﻢ ﻗﺎم أودﻳﺴﻴﻮس ﺑﻔﻖء ﻋني ﻫﺬا اﻟﻌﻤﻼق اﻟﺬي ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻟﻪ إﻻ ﻋني واﺣﺪة ،ﻓﺎﻧﺘﺒﻪ ﺟريان ﺑﻮﻟﻴﻔﻴﻤﻮس ﻋﲆ ﴏاﺧﻪ ﻣﻦ ﺷﺪة اﻷﻟﻢ وﻫﺮﻋﻮا ﻟﻴﻘﺪﻣﻮا ﻟﻪ ﻳﺪ اﻟﻌﻮن ﻓﺄﺧﱪﻫﻢ أن »ﻻ أﺣﺪ« ﻗﺪ ﺗﻌ ﱠﺮض ﻟﻪ ﺑﺎﻷذى ،وﻫﻮ ﻣﺎ أﺳﺎء ﺟرياﻧﻪ ﻓﻬﻤﻪ ﻓﺮﺟﻌﻮا ﻋﻨﻪ وﺗﺮﻛﻮه وﺣﻴﺪًا .وﻳﺴﻌﻨﺎ اﻟﻘﻮل ﻫﻨﺎ إن ﻫﺬه اﻟﻘﺼﺔ ﺗﻨﻄﻮي ﻋﲆ ﻟُﺐﱢ ﻓﻠﺴﻔﺔ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس، ً ﺷﻜﻼ ﺟﺪﻳﺪًا. وﻟﻜﻦ اﺳﺘﻐﻼل ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻟﻠﺘﻼﻋُ ﺐ ﺑﺎﻷﻟﻔﺎظ ﰲ ﻫﺬه اﻟﻘﺼﺔ اﺗﺨﺬ ً ﻣﺄﻟﻮﻓﺎ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻛﻤﺎ أن اﻟﺸﻜﻞ اﻟﺬي اﺧﺘﺎره ﻟﻜﺘﺎﺑﺔ أﻋﻤﺎﻟﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻠﻔﻼﺳﻔﺔ؛ ﻓﻘﺪ اﺳﺘﺨﺪم اﻟﺸﻌﺮ ﺳﺪاﳼ اﻟﺘﻔﻌﻴﻠﺔ وﻫﻮ اﻟﺸﻜﻞ اﻟﺬي ﻛﺎن ﺷﺎﺋﻌً ﺎ ﻣﻨﺬ ﻋﻬﺪ ﻫﻮﻣريوس وﻫﺴﻴﻮد وﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﺸﻌﺮاء اﻷﻗﻞ ﺷﺄﻧًﺎ .وﻟﻢ ﻳﻜﺘﺐ ﺑﺎﻟﺸﻌﺮ ﻣﻦ ﻓﻼﺳﻔﺔ ﻣﺎ ﻗﺒﻞ ﺳﻘﺮاط ﺳﻮى زﻳﻨﻮﻓﺎﻧﻴﺲ وإﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ .وﻋﲆ ﻋﻜﺲ زﻳﻨﻮﻓﺎﻧﻴﺲ ﻳﻘ ﱢﻠﺪ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس اﻷﺳﻠﻮب واﻟﺨﻴﺎل اﻟﻠﺬَﻳْﻦ اﺳﺘﺨﺪﻣﻬﻤﺎ اﻟﺸﻌﺮاء املﻠﺤﻤﻴﻮن ﰲ ﻣﻘﺪﻣﺔ ﻗﺼﺎﺋﺪه ﻋﲆ اﻷﻗﻞ. وﺗﺬﻛﺮﻧﺎ رﺣﻠﺘﻪ ﺑﺮﺣﻠﺔ أودﻳﺴﻴﻮس إﱃ ﻫﺎدﻳﺲ ،ﻛﻤﺎ أن اﻹﻟﻬﺔ اﻟﺘﻲ أﻟﻘﺖ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺘﺤﻴﺔ ﺗُﺬَ ﱢﻛ ُﺮﻧَﺎ ﺑﺮﺑﺎت ﱢ اﻟﺸﻌﺮ اﻟﻼﺗﻲ ُﻛ ﱠﻦ ﻳﻮﺣني ﺑﺎﻟﺮؤى اﻟﺸﻌﺮﻳﺔ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ .وﻫﻜﺬا ﺗﻘﻮل اﻹﻟﻬﺎت اﻟﻼﺗﻲ ُﻛ ﱠﻦ ﻋﲆ ﺟﺒﻞ ﻫﻴﻠﻴﻜﻮن — واﻟﻼﺗﻲ ﻇﻬﺮن ﰲ ﻣﻘﺪﻣﺔ ﻗﺼﻴﺪة »ﻣﻴﻼد اﻵﻟﻬﺔ« ﻟﻬﺴﻴﻮد ً ﺻﺪﻗﺎ ،وﻟﻜﻨﻨﺎ ﻛﺬﻟﻚ ﻧﺪري — ﻟﻠﺸﺎﻋﺮ» :إﻧﻨﺎ ﻟﻨﺪري ﻛﻴﻒ ﻧﺘﺤﺪث ﺑﺎﻟﻜﺬب ﻛﻤﺎ ﻟﻮ ﻛﺎن ﻛﻴﻒ ﻧﺘﺤﺪث ﺑﺎﻟﺤﻖ ﻣﺘﻰ أردﻧﺎ ذﻟﻚ «.وﺑﺎملﺜﻞ ﻓﺈن إﻟﻬﺔ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس أﺧﱪﺗﻪ أﻧﻬﺎ ﺳﺘُﺤَ ﱢﺪﺛ ُ ُﻪ ﺑﺤﺪﻳﺚ ﻳﺨﺘﻠﻂ ﻓﻴﻪ اﻟﺤﻖ ﺑﺎﻟﺒﺎﻃﻞ ﻓﻘﺎﻟﺖ» :ﻛﻞ ﻣﻦ اﻟﻘﻠﺐ اﻟﺮاﺳﺦ ﻟﻠﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﻜﺎﻣﻠﺔ وآراء اﻟﺨﺎﻟﺪﻳﻦ اﻟﺘﻲ ﻻ ﻳﻌﻮل ﻋﻠﻴﻬﺎ أﺑﺪًا«. وﻟﺤﺴﻦ ﺣﻆ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس — أو ﺑﺎﻷﺣﺮى ﻟﺤﺴﻦ ﺣﻆ ُﻗ ﱠﺮاﺋِﻪ — ﻇ ﱠﻠﺖ ﻛﻠﻤﺎت اﻹﻟﻬﺔ اﻟﺼﺎدﻗﺔ ﺑﻤﻨﺄًى ﻋﻦ ﻛﻠﻤﺎﺗﻬﺎ اﻟﺰاﺋﻔﺔ .وﺗﺘﻜﻮﱠن ﻗﺼﻴﺪة ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس اﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﱠ ﻳﺘﺒﻖ ﻣﻨﻬﺎ ﺳﻮى ١٥٠ﺑﻴﺘًﺎ ﻣﻦ ﺛﻼﺛﺔ أﺟﺰاء ﻫﻲ املﻘﺪﻣﺔ اﻟﺘﻲ ُﻛﺘﺒﺖ ﻋﲆ ﻏﺮار ﻣﻘﺪﻣﺎت اﻟﻘﺼﺎﺋﺪ اﻟﺒﻄﻮﻟﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺳﺒﻖ أن اﻗﺘﺒﺴﻨﺎ ﻣﻨﻬﺎ ﺟﺰءًا ،واﻟﺠﺰء اﻟﺜﺎﻧﻲ اﻟﺬي ﻳﺘﺤﺪث ﻋﻦ »اﻟﻄﺮﻳﻖ إﱃ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ« واﻟﺬي ﻳﺘﺴﻢ ﺑﴚء ﻣﻦ اﻟﻜﺜﺎﻓﺔ واﻟﻐﻤﻮض واﻟﺬي ﻳﻘﻮل ﻓﻴﻪ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس إن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﴎﻣﺪي ﺟﺎﻣﺪ ﻻ ﻳﺘﻐري وﻻ ﻳﺘﺒﺪل ،ﺛﻢ اﻟﺠﺰء اﻷﺧري اﻟﺬي ﻗﺪ ﻳﺆدي إﱃ ﺧﺪاع اﻟﻘﺎرئ ﺑﺎﻋﱰاف ﱠ ﻳﺘﺒﻖ ﻣﻨﻪ ﺳﻮى ﻓﻘﺮات ﺻﻐرية. ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻧﻔﺴﻪ وﻳ َُﺴﻤﱠ ﻰ »ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺘﺠﲇ« واﻟﺬي ﻟﻢ وﻳﺴﻬُ ﻞ ﻓﻬﻢ ﻫﺬه اﻷﺳﻄﺮ اﻟﻘﻠﻴﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺄﺗﻲ ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﻘﺼﻴﺪة؛ ﻓﻬﻲ ﺗﻘﺪﱢم ﺗﻔﺴريًا ﻃﺒﻴﻌﻴٍّﺎ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ املﺎدي املﺘﻐري .وﻳﻈﻞ اﻟﺴﺒﺐ اﻟﺬي دﻋﺎ ﻟﻜﺘﺎﺑﺘﻬﺎ ﻣﺒﻬﻤً ﺎ ،ﻓﻠﻤﺎذا ﺗُ َﻘ ﱢﺪ ُم اﻹﻟﻬﺔ ﺗﻔﺴريات أﻗ ﱠﺮت ﺑﻨﻔﺴﻬﺎ أﻧﻬﺎ ﺧﺎدﻋﺔ وﻣﻀ ﱢﻠﻠﺔ وﺗﺘﻨﺎﻗﺾ ﻣﻊ ﻣﺎ ورد ﰲ اﻟﺠﺰء اﻟﺴﺎﺑﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ »ﻃﺮﻳﻖ 79
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ«؟ وﺳﺄ ُ ْر ِﺟﺊ ُ اﻹﺟﺎﺑﺔ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﺴﺆال ً ﻗﻠﻴﻼ؛ ﻓﺎﻟﺠﺰء اﻷﻫﻢ ﻣﻦ اﻟﻘﺼﻴﺪة ﻫﻮ »ﻃﺮﻳﻖ ﻧﺴﺘﻬ ﱠﻞ ﺣﺪﻳﺜﻨﺎ) .وﻟﻜﻲ ﻳﺴﻬُ ﻞ ﻓﻬﻢ ﻫﺬا اﻟﺘﻔﺴري ﺳﺄﺗﻨﺎول ﺑﻌﺾ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ« وﺑﻪ ﻳ َِﺠﺐُ أن ِ أﻓﻜﺎر ﻣﻴﻠﻴﺴﻴﻮس وﻫﻮ أﺣﺪ ﺗﻼﻣﻴﺬ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس املﺨﻠﺼني واﻟﺒﺴﻄﺎء ،ﺛﻢ أﴍح ﻃﺮﻳﻘﺔ ﺗﻔﻜري ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﺑﺸﻜﻞ ﻳﺘﻼءم ﻣﻊ ﻓﻜﺮه اﻟﻌﺎم(. ﻟﻘﺪ ﺑﺪأ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﺑﻔﻜﺮة ﺑﺴﻴﻄﺔ ﺣﻮل اﻟﻔﻜﺮ واﻟﻠﻐﺔ ﺛﻢ ﺣﻮﱠل ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة إﱃ ﻓﻠﺴﻔﺔ ﻛﺎﻣﻠﺔ .ﻟﻘﺪ ﻗﺎل إﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﺑﻮ ُْﺳ ِﻊ أي إﻧﺴﺎن أن ﻳﻔ ﱢﻜﺮ ﰲ ﳾء ﻏري ﻣﻮﺟﻮد أو ﻳﺘﺤﺪﱠث ﻋﻨﻪ؛ ﻓﻬﺬا ﻣﻦ وﺟﻬﺔ ﻧﻈﺮه ﻳﻌﺎدل اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ اﻟﻼﳾء ،واﻟﺸﺨﺺ اﻟﺬي ﻳﺘﺤﺪﱠث ﻋﻦ اﻟﻼﳾء أو ﻳﻔ ﱢﻜﺮ ﻓﻴﻪ ﻟﻦ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻳﺘﺤﺪﱠث أو ﻳﻔ ﱢﻜﺮ ﺑﺸﻜﻞ َﺳ ِﻮيﱟ ﺑﺄي ﺣﺎل ﻣﻦ اﻷﺣﻮال؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﻤﺤﻮ اﻷﺷﻴﺎء ﻏري املﻮﺟﻮدة أو اﻟﻼﳾء ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻣﻦ ﻓﻜﺮﻧﺎ .وﻋَ ﺠَ ﺐٌ ﻋُ ﺠَ ﺎبٌ أن ﻧﺠﺪ أن اﻷﻣﺮ ﻟﻴﺲ ﺑﺎﻟﺴﻬﻮﻟﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺘﺤﺪﱠث ﺑﻬﺎ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ،ﻓﻬﺬه اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺴﻠﺒﻴﺔ ﻣﻮﺟﻮدة ﰲ ﱢ وﻳﻮﺿﺢ ذﻟﻚ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل أﻧﻪ ﻻ ﺳﺒﻴﻞ ﻟﻨﺎ ﻟﻠﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ أن ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﺎ ﻗﺪ ﻛﻞ ﳾء ﺣﻮﻟﻨﺎ. ﺧﺮج إﱃ اﻟﻮﺟﻮد؛ إذ ﻳﺘﻀﻤﻦ ذﻟﻚ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﻮﺟﻮدًا ﻣﻦ ﻗﺒ ُﻞ ،وﻫﺬا ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﺒﺎرﻣﻨﻴﺪس ﴐبٌ ﻣﻦ املﺴﺘﺤﻴﻞ ﻓﻼ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﺘﺤﺪﱠث ﻋﻦ ﳾء ﻏري ﻣﻮﺟﻮد .وﺑﺎملﺜﻞ ﻻ ﺳﺒﻴﻞ ﻟﻨﺎ إﱃ َ ْ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﳾء ﺳﻴﻨﻘﻄﻊ ﻳﻮﻣً ﺎ ﻣﻦ اﻟﻮﺟﻮد؛ ﻷن ﻫﺬا ﻳﻨﻄﻮي ﻋﲆ اﻟﻔﻜﺮة املﺴﺘﺤﻴﻠﺔ أﻧﻪ ﺳﻴﺄﺗﻲ ﻋﻠﻴﻪ ﻳﻮم ﻳﻜﻮن ﻓﻴﻪ ﻻ وﺟﻮد ﻟﻪ ،وﻟﺬﻟﻚ ﻓﻼ ﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﻧﺪﱠﻋﻲ أن ﻫﻨﺎك ﺷﻴﺌًﺎ ﺳﻴﺄﺗﻲ إﱃ اﻟﻮﺟﻮد أو ﻳﻨﻘﻄﻊ ﻋﻨﻪ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﻜﻞ اﻷﺷﻴﺎء ﺧﺎﻟﺪة. وﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﰲ ﺣَ ﱢﺪ ذاﺗﻬﺎ ﻛﺎﻓﻴﺔ ﻹﺛﺎرة اﻟﺪﻫﺸﺔ؛ ﻓﻜﻠﻨﺎ ﻳﺮى أن اﻷﺷﻴﺎء ﺗُﻮ َﻟ ُﺪ وﺗﻤﻮت وﺗﺄﺗﻲ إﱃ اﻟﻮﺟﻮد ﺛﻢ ﺗﻨﻘﻄﻊ ﻋﻨﻪ ،وﻟﻜﻦ اﻷﺳﻮأ ﻟﻢ ِ ﻳﺄت ﺑﻌﺪ ،إذ ﻳﱰﺗﺐ ﻋﲆ ﻓﻜﺮة ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﺑﺄﻧﻪ ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﳾء ﻏري ﻣﻮﺟﻮد أو اﻟﺘﻔﻜري ﻓﻴﻪ أن ﻻ ﳾء ﻳﺘﻐري أﺑﺪًا؛ ﻷﻧﻪ إذا ﺗﻐري أي ﳾء ﻓﺈن ﻫﺬا ﻳﻌﻨﻲ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻣﻮﺟﻮدًا ﰲ وﻗﺖ ﱠ ﱠ ﻣﻌني ﺑﺸﻜﻞ ﻣﻌني ﺛﻢ أﺻﺒﺢ ﻏري ﻣﻮﺟﻮد ﰲ وﻗﺖ آﺧﺮ ،وﻟﻜﻨﻨﺎ ﻻ ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﳾء ﻏري ﻣﻮﺟﻮد؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻻ ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ اﻟﺘﻐﻴري .وﻳﺴﺘﺘﺒﻊ ذﻟﻚ ً أﻳﻀﺎ أﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﺛﻤﺔ ﳾء ﻳﺘﺤ ﱠﺮك ،ﻓﺤﺮﻛﺘﻪ ﺗﻌﻨﻲ أﻧﻪ ﰲ ٍ ﻣﻜﺎن ﻣﻌني ﺛﻢ اﻧﺘﻘﻞ ﻣﻦ ﻣﻜﺎﻧﻪ ذاك إﱃ ﻣﻜﺎن آﺧﺮ ﻓﺄﺻﺒﺢ ﻏري وﻗﺖ ﻣﺎ ﻛﺎن ﻣﻮﺟﻮدًا ﰲ ٍ ﻣﻮﺟﻮد ﰲ ﻣﻜﺎﻧﻪ اﻷول .وﻻ ﻳﺴﻌﻨﺎ أن ﻧﺘﺤﺪﱠث ﻋﻦ اﻧﻌﺪام وﺟﻮد اﻟﴚء ﰲ ﻣﻜﺎن ﻣﻌني؛ ﻷن ﻫﺬا ﻳﻨﻔﻲ ﻗﺪرﺗﻪ ﻋﲆ اﻟﺤﺮﻛﺔ .وإذا ﻛﺎن ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻣﺼﻴﺒًﺎ ﰲ ﺗﻔﻜريه ،ﻓﻠﻴﺲ ﰲ اﻋﺘﻘﺎد ﺑﻜﻮن داﺋﻢ اﻻﺿﻄﺮاب إﻻ ﻣﺤﺾ اﻟﺨﻄﺄ. ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ٍ 80
ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻟﻼﳾء :ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس
ﻳﺮى ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ً أﻳﻀﺎ أن وﺟﻮ َد أي ﳾء ﻳﻘﺘﴤ ﻛﻮﻧَﻪ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﻣﻦ اﻟﻜﻤﺎل اﻟﺘﺎم ،ﻓﺈذا اﻓﱰﺿﻨﺎ أن ﻫﺬا اﻟﴚء ُ ﻳﻨﻘﺼﻪ أو ﻛﺎن ﻳﻨﻘﺼﻪ ﺟﺰءٌ ﻣﺎ ﰲ وﻗﺖ ﻣﻦ اﻷوﻗﺎت؛ ﻓﻬﺬا ﻳﻌﻨﻲ أن ﻫﻨﺎك ﺟﺰءًا ﻣﻨﻪ ﻟﻴﺲ ﻣﻮﺟﻮدًا ،وﻫﻮ أﻣﺮ ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻨﻪ أو اﻟﺘﻔﻜري ﻓﻴﻪ؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﺈن ﺗﻔﺴريات أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر وأﻧﺎﻛﺴﻴﻤﻴﻨﺲ ﻻ ﺑُ ﱠﺪ أن ﺗﻜﻮن ﺧﺎﻃﺌﺔ إذا اﻓﱰﺿﻨﺎ ﺻﺤﺔ أﻗﻮال ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ،إذ ﻟﻢ ﻳﻤﺮ اﻟﻜﻮن ﺑﻤﺮاﺣﻞ اﻟﺘﻄﻮر اﻟﺘﻲ ﻗﺎﻟﻮا ﺑﻬﺎ أو ﺑﺄي ﺷﻜﻞ آﺧﺮ؛ ﻷﻧﻪ وُﺟﺪ ﻋﲆ ﺣﺎﻟﺘﻪ ﺗﻠﻚ ﻣﻦ اﻟﻜﻤﺎل اﻟﺘﺎم .وﰲ ﺳﻴﺎق اﻟﺠﺪل ﺣﻮل اﻟﻜﻮن وﻋﺪم ﺗﻄﻮﱡره ﻋﱪ ً ﻣﺘﺴﺎﺋﻼ: اﻟﺰﻣﻦ ﻳﻘﺪم ﻟﻨﺎ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﺳﺒﺒًﺎ آﺧﺮ ﻋﲆ ﻓﻜﺮة ﻋﺪم اﻧﺒﺜﺎق اﻟﻜﻮن ﻣﻦ اﻟﻼﳾء ً »ﻣﺎ اﻟﺬي دﻓﻊ اﻟﻜﻮن إﱃ اﻟﻮﺟﻮد ﻣﻦ اﻟﻌﺪم ً ﺳﺎﺑﻘﺎ؟« أي »ملﺎذا ﻧﺸﺄ اﻟﻜﻮن ﻣﻦ ﻻﺣﻘﺎ وﻟﻴﺲ اﻟﻌﺪم ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﺤﻈﺔ دون ﻏريﻫﺎ؟« وﻳﺒﺪو أن ﻫﺬا اﻟﺴﺆال ﻟﻢ ﻳﺤﺎول أﺣﺪ ﻗﺒﻞ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس اﻹﺟﺎﺑﺔ ﻋﻠﻴﻪ. وﺑﻤﺎ أن اﻟﻜﻮن أو »املﻮﺟﻮد« ﻛﻤﺎ ﻳﺤﺐ أن ﻳﺴﻤﻴﻪ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻻ ﻳﺘﻐري ﰲ ﻛﻞ اﻷوﻗﺎت ﻓﻬﻮ ﻻ ﻳﺘﻐري ﰲ أي ﻣﻜﺎن؛ ﻓﻼ ﻣﻜﺎن ﻓﺎرغ ﰲ اﻟﻜﻮن ﻷن ﻫﺬا ﻳﻌﻨﻲ أﻧﻪ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﳾء ﰲ ﻫﺬا املﻜﺎن ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺮﻓﻀﻪ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﺗﻤﺎﻣً ﺎ؛ إذ إن اﻟﻮﺟﻮد ﻻ ﺑُ ﱠﺪ أن ﻳﻮﺟﺪ ﻣﻤﺘﻠﺌًﺎ ﺑﻜﺎﻣﻠﻪ .وأﺧريًا ،ﺑﻤﺎ أن ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻳﻌﺘﻘﺪ أن »املﻮﺟﻮد« ﻳﺘﱠﺴﻢ ﺑﺎﻻﺗﺴﺎق واﻟﻮَﺣﺪة ﻓﻬﻮ أﻳﻀﺎ أﻧﻪ ﻓﺮﻳﺪ ﻻ ﻣﺜﻴﻞ ﻟﻪ؛ أي إﻧﻪ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﻣﻨﻪ إﻻ ﳾء واﺣﺪ ،وﻟﺬﻟﻚ ﻗﺎل ً ﻳﺮى ً ﻣﺜﻼ» :إن املﻮﺟﻮد ﻳﺘﱠﺴﻢ ﺑﺎﻟﻜﻤﺎل واﻟﺘﻤﺎم واﻧﻌﺪام املﺜﻴﻞ «.وﻷﻧﻪ ﻋﲆ ذﻟﻚ اﻟﺤﺎل ﻣﻦ اﻟﻜﻤﺎل )ﻷﺳﺒﺎب أﻛﺜﺮ ﺗﻌﻘﻴﺪًا ُﻗ ُ ﻤﺖ ﺑﺤﺬﻓﻬﺎ( ﻳ ُِﻨﻬﻲ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس اﻟﺠﺰء اﻟﺨﺎص ﺑ »ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ« ﺑﺘﺸﺒﻴﻪ ﻏﺎﻣﺾ ﻟﺬﻟﻚ اﻟﴚء اﻟﻮاﺣﺪ املﻮﺟﻮد اﻟﻔﺮﻳﺪ ﺑﺎﻟ ُﻜ َﺮة ،اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﻳﻨﻈﺮ إﻟﻴﻬﺎ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﻮن ﻋﲆ ﱠ ﺗﺘﺤﻘﻖ ﻓﻴﻪ ِﺳﻤَ ُ ﺎت اﻟﻜﻤﺎل .وﻳﺘﻤﻴﺰ ﻫﺬا اﻟﴚء — ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس أﻧﻬﺎ اﻟﺸﻜﻞ اﻟﺬي »ﻣﺘﺴﺎو ﰲ ﺑﻌﺪه ﻋﻦ املﺮﻛﺰ ﻣﻦ ﺟﻤﻴﻊ اﻻﺗﺠﺎﻫﺎت« وﺑﻬﺬا ﻓﻨﺤﻦ اﻵن ﻧﻌﻠﻢ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ — ﺑﺄﻧﻪ ٍ ﺼﺪﱠق؛ ﻓﻠﻴﺲ ﺛﻤﱠ ﺔ ﻣﻴﻼد وﻻ ﻣﻮت وﻻ ﱡ أو ﺑﺎﻷﺣﺮى ﺣﻘﻴﻘﺔ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗُ َ ﺗﻐري وﻻ ﺣﺮﻛﺔ وﻻ ﺗﻨﻮﱡع ،ﻓﻠﻴﺲ ﻫﻨﺎك ﺳﻮى ﳾء واﺣﺪ ﴎﻣﺪي ﻻ ﻳﺘﺤﺮك ﻳﺘﺴﻢ ﺑﺎﻟﻜﻤﺎل وﻋﺪم اﻟﻘﺎﺑﻠﻴﺔ ﻟﻼﻧﻘﺴﺎم وﻳﺸﺒﻪ اﻟﻔﻠﻚ. ﻣﻦ أﻫﻢ ﺳﻤﺎت ﻫﺬا اﻟﻔﻜﺮ أﻧﻪ ﻳﺘﻤﻴﱠﺰ ﺑﺎﻻﺗﺴﺎق اﻟﺬاﺗﻲ؛ ﻓﺒﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻳﻌﻮد ﻣﺮا ًرا وﺗﻜﺮا ًرا ً واﻧﻄﻼﻗﺎ ﻣﻦ ﻫﺬه ﻟﻔﻜﺮة اﺳﺘﺤﺎﻟﺔ اﻟﺘﻔﻜري ﰲ ﳾء ﻏري ﻣﻮﺟﻮد ،وﻫﺬا ﻫﻮ ﻣﺼﺪر روﻋﺘﻪ. اﻟﻔﻜﺮة ﻳﻨﺴﺞ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﺷﺒﻜﺔ ﻋﻨﻜﺒﻮﺗﻴﺔ ﺗُﻤَ ﱢﻜﻨ ُ ُﻪ ﻣﻦ اﺻﻄﻴﺎد أﻓﻜﺎر اﻟﺘﻐﻴري واﻟﺤﺮﻛﺔ واملﻴﻼد واملﻮت واﻟﺘﻨﻮﱡع واﻟﻨﻘﺺ واﻟﺘﻬﺎﻣﻬﺎ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳ َْﺴ َﻠ ْﻢ ﻣﻦ اﻟﺨﻄﺄ اﻟﺸﺪﻳﺪ 81
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﰲ ﺑﻌﺾ اﻷﻣﻮر اﻟﺘﻲ ﻋ ﱠﻠﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ أرﺳﻄﻮ ً ﻗﺎﺋﻼ» :رﻏﻢ أن ﻫﺬه اﻷﻓﻜﺎر ﺗﺒﺪو وﻛﺄﻧﻬﺎ ﺗﺘﺒﻊ ﻧﻬﺠً ﺎ ﻣﻨﻄﻘﻴٍّﺎ ﻓﺎﻹﻳﻤﺎن ﺑﺼﺤﺘﻬﺎ ﻳﺠﻌﻠﻨﺎ ﻋﲆ َ ﺣﺎﻓﺔ اﻟﺠﻨﻮن إذا وﺿﻌﻨﺎ ﰲ اﻋﺘﺒﺎرﻧﺎ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ املﻌﺮوﻓﺔ«. وﻻ ﺗﺘﻨﺎﻗﺾ أﻓﻜﺎر ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻣﻊ املﻨﻄﻖ اﻟﺴﻠﻴﻢ ﻓﺤﺴﺐ ﺑﻞ ﻣﻊ ﺑﻌﻀﻬﺎ اﻟﺒﻌﺾ وﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﺟﻠﻴﺔ واﺿﺤﺔ ﻟﻠﻌﻴﺎن؛ ﻓﻬﻮ داﺋﻢ اﻹﻧﻜﺎر ﻟﻸﺷﻴﺎء ،وﻣﻦ ذﻟﻚ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل أﻧﻪ ﻳُﻨﻜِﺮ وﺟﻮد اﻟﺤﺮﻛﺔ أو املﻴﻼد أو املﻮت ،وﻫﺬا ﰲ ﺣَ ﱢﺪ ذاﺗﻪ ﻳُﻌَ ﱡﺪ ﺣﺪﻳﺜًﺎ ﻋﻦ أﺷﻴﺎء ﻏري ﻣﻮﺟﻮدة وﺗﻔﻜريًا ﻓﻴﻬﺎ ،وﻫﺬا ً وﻓﻘﺎ ﻟﻔﻜﺮه وﻓﻠﺴﻔﺘﻪ ﴐب ﻣﻦ ﴐوب املﺴﺘﺤﻴﻞ .وﻣﻦ اﻟﻐﺮﻳﺐ أن ﺗﻨﻜﺮ ﻛﻞ ﻫﺬا ﰲ ﺣني أﻧﻚ ﺗﺘﺠﻨﺐ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺴﻠﺒﻴﺔ. وﻟﻜﻦ ﻫﺬا اﻻﻋﱰاض ﻻ ُ َ َ ﻳﻨﻔﺬ إﱃ ُ ﺻﻠﺐ املﻮﺿﻮع؛ إذ إﻧﻪ ﻳﱪﻫﻦ ﻋﲆ أﻧﻪ ﺛﻤﱠ ﺔ ﺧﻄﺄ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﻘﻮﻟﻪ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس — وﻫﻮ أﻣﺮ ﻗﺪ أدرﻛﻨﺎه ﻋﲆ أﻳﺔ ﺣﺎل — وﻟﻜﻨﻪ ﻻ ﻳﺤﺪد ﻫﺬا اﻟﺨﻄﺄ أو ﺳﺒﺒﻪ ،ﻓﻨﺤﻦ ﻧﺤﺘﺎج إﱃ ﺗﴩﻳﺢ ﻣﺎ ﺑﻌﺪ اﻟﻮﻓﺎة ،ﻻ ﻣﺠﺮد ﺷﻬﺎدة وﻓﺎة .وﻟﺤﺴﻦ ﺣَ ﱢ ﻈﻨَﺎ ،ﻟﻴﺲ ﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﺘﻜ ﱠﻠﻒ ﻋﻨﺎء اﻟﺒﺤﺚ اﻟﻄﻮﻳﻞ ﺣﺘﻰ ﻧﺼﻞ إﱃ ﺑُﻐﻴَﺘِﻨﺎ وﻧﺘﻌﺮف ﻋﲆ ﻣﺼﺪر اﻟﺨﻄﺄ؛ ﻓﺎﻟﺨﻄﺄ ﻳﻨﺒﻊ ﻣﻦ ﻓﻜﺮﺗﻪ اﻷوﱃ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮل إﻧﻪ ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﳾء ﻏري ﻣﻮﺟﻮد أو اﻟﺘﻔﻜري ﻓﻴﻪ ،ﻓﻨﺤﻦ ﺑﻜﻞ وﺿﻮح ﻳُﻤﻜِﻨﻨﺎ أن ﻧﻔﻌﻞ ذﻟﻚ ﻣﻬﻤﺎ ﺣﺎول ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس أن ﻳﺨﺎﻟﻔﻨﺎ؛ ﻓﻌﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﻘﻮل إن ﺣﻴﻮاﻧًﺎ ﺧﺮاﻓﻴٍّﺎ ﻛﺎﻟﺤﺼﺎن وﺣﻴﺪ اﻟﻘﺮن ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﰲ أي ﻣﻜﺎن ،وإن ﻛﺮﻳﺴﺘﻮﻓﺮ ﻛﻮﻟﻮﻣﺒﻮس ﻟﻴﺲ ﻋﲆ ﻗﻴﺪ اﻟﺤﻴﺎة اﻵن ،وإن اﻟﻄﺒﺸﻮر ﻟﻴﺲ ﻛﺎﻟﺠﺒﻦ ،وإﻧﻨﻲ ﻻ أﻣﺘﻠﻚ أي رﺻﻴﺪ ﰲ املﴫف ،واﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻷﺷﻴﺎء اﻷﺧﺮى اﻟﺘﻲ ﻳُﻌَ ﱡﺪ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻨﻬﺎ ﺣﺪﻳﺜًﺎ ﻋﻦ أﺷﻴﺎء ﻏري ﻣﻮﺟﻮدة .وإذا ﻛﺎن ﻫﺬا ﺻﺤﻴﺤً ﺎ — أي إذا أﻣﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﺘﺤﺪث ﻋﻦ أﻣﻮر ﻏري ﻣﻮﺟﻮدة وﻧﻔﻜﺮ ﻓﻴﻬﺎ — ﻓﺴﻴﻜﻮن ﻟﻨﺎ أن ﻧﻨﻜﺮ اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ اﻟﺘﻲ ﱠ ﺗﻮﺻﻞ إﻟﻴﻬﺎ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻣﻌﺘﻤﺪًا ﻋﲆ اﺳﺘﻨﺘﺎﺟﺎﺗﻪ اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ. وﻟﻮ ﻛﺎن ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﺑني أﻇﻬُ ِﺮﻧﺎ ملﺎ ﻛﺎن ﺗﺤﻠﻴﻠﻨﺎ ﻫﺬا ِﻟﻴُﻘﻨﻌﻪ ،وﻟﻘﺎل إن اﻟﻨﺎس ﱠ ﻳﺘﻮﻫﻤﻮن ﻗﺪرﺗﻬﻢ ﻋﲆ اﻟﺘﻔﻜري ﰲ أﺷﻴﺎء ﻏري ﻣﻮﺟﻮدة واﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻨﻬﺎ ﻋﲆ ﺧﻼف اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ؛ ﻓﻬﻮ ﻳﻌﺘﻘﺪ أن ﻛﻞ ﻣﺎ ﻧﻔﻌﻠﻪ ﻋﻨﺪ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ أﺷﻴﺎء ﻏري ﻣﻮﺟﻮدة أو اﻟﺘﻔﻜري ﻓﻴﻬﺎ ﻟﻴﺲ ﺳﻮى »ﻫﺮاء ﻻ ﻃﺎﺋﻞ ﻣﻨﻪ« ،ﻓﻜﻤﺎ ﺗﻘﻮل إﻟﻬﺘﻪ: ﻳﺠﺐ أن ﺗﻤﺴﻚ ﺑﺰﻣﺎم ﻓﻜﺮك ﱠ وأﻻ ﺗﺪﻋﻪ ﻳﺘﻄﺮق إﱃ ﻫﺬه اﻷﻣﻮر ،ﻛﻤﺎ ﻳﺘﻌني ﱠأﻻ ﺗﺪع ﻋﺎدة اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﻫﺬه اﻷﻣﻮر اﻟﺘﻲ ﺗﻤﺨﻀﺖ ﻋﻦ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﺘﺠﺎرب ﺗﺪﻓﻌﻚ إﱃ وﻟﻮج ﻫﺬا اﻟﻄﺮﻳﻖ؛ ﻓﺘﺠﺪ ﻧﻔﺴﻚ ﺗﻨﻈﺮ إﱃ ﻫﺮاء ﻻ ﻃﺎﺋﻞ ﻣﻨﻪ أو ﺗﺴﻤﻊ أو ﺗﺘﺤﺪث ﻋﻨﻪ ،ودع ﻋﻘﻠﻚ ﻳﺤﻜﻢ ﻋﲆ ﻛﻠﻤﺎﺗﻲ اﻟﺘﻲ أﺛﺎرت ﻛﺜريًا ﻣﻦ اﻟﺠﺪل. 82
ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻟﻼﳾء :ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس
ﰲ ﻫﺬه اﻟﻔﻘﺮة ﺗﻄﻠﺐ اﻹﻟﻬﺔ ﻣﻦ اﻹﻧﺴﺎن أﻻ ﻳﻔﻜﺮ إﻻ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺨﱪه ﺑﻪ ﻋﻘﻠﻪ ،وأن ﻳﻨﻈﺮ ﰲ ﺣﺪﻳﺜﻬﺎ ﺑﻌني اﻻﺳﺘﻘﺼﺎء واﻟﻌﻘﻞ ،وأن ﻳﻨﴗ ﻣﺎ ﻳُﻤﻠِﻴﻪ ﻋﻠﻴﻪ املﻨﻄﻖ اﻟﺴﻠﻴﻢ ،وﺣﻴﻨﻬﺎ ﺳريى اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺟَ ِﻠﻴ ًﱠﺔ واﺿﺤﺔ وﺿﻮح اﻟﺸﻤﺲ ﰲ ﻛﺒﺪ اﻟﺴﻤﺎء. ﻛﺎن ﻣﻦ اﻟﺴﻬﻞ ﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﻔﻬﻢ ﻫﺬه اﻟﻨﺼﻴﺤﺔ إذا أﺳﻬﺒﺖ اﻹﻟﻬﺔ ﰲ ﺣﺪﻳﺜﻬﺎ إﱃ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس وأﺳﻬﺐ ﻫﻮ ﰲ إﻳﻀﺎﺣﻬﺎ ﻟﻨﺎ؛ ﻓﺄﺟﺰاء اﻟﻘﺼﻴﺪة اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻨﺎول ﺗﻔﺴري ﻓﻜﺮة اﺳﺘﺤﺎﻟﺔ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﳾء ﻏري ﻣﻮﺟﻮد واﻟﺘﻔﻜري ﻓﻴﻪ ﱠ ﻣﻌﻘﺪة وﻣﺒﻬﻤﺔ ورﺑﻤﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﻛﺎﻣﻠﺔ، ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ أن ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻣﻦ اﻟﺸﻌﺮاء املﺘﻤ ﱢﻜﻨني؛ ﻓﻜﺜريًا ﻣﺎ ﻧﺠﺪه ﻳﺘﻌﺜﱠﺮ ﰲ إﻧﺸﺎء اﻟﺘﻔﻌﻴﻠﺔ ﱡ اﻟﺴﺪاﺳﻴﺔ .ﺑﻞ ورﺑﻤﺎ ﻟﻮ ﻧﺎﻗﺶ ﻓﻜﺮﺗﻪ وﻋﺮض ﻣﺒﺪأه ﻫﺬا ﰲ ﻗﺎﻟﺐ ﻧﺜﺮي ﻣﺒﺎﴍ ﻟﻌﺠﺰ ﻛﺬﻟﻚ ﻋﻦ ﺗﻔﺴري وﻟﻌﻪ اﻟﺰاﺋﺪ ﺑﻬﺬه اﻟﻔﻜﺮة ،ﻟﻠﺪرﺟﺔ اﻟﺘﻲ ﺟﻌﻠﺖ ﻣﻦ اﻟﺼﻌﺐ أن ﻳﺤﺎول ﺷﺨﺺ آﺧﺮ ﻓﻬﻤﻪ وﺗﻔﺴريه ﻣﻦ ﺑﻌﺪه) .وﻟﻌﻞ ﻣﻠﻚ ﻟﻮﻳﺲ ﻛﺎرول ﻳﺰﻋﻢ أﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﺛﻤﱠ ﺔ ﻣﻦ ﻫﻮ أﻣﻬﺮ ﻣﻦ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس أو أذﻛﻰ ﻣﻨﻪ( .وﻋﲆ ﻛ ﱟﻞ ﻓﻤﺎ زال ﻣﻦ املﻤﻜﻦ أن ﻧﻌﻴﺪ ﺑﻨﺎء ﺟﺰء ﻣﻦ اﻟﻘﺼﺔ ﺣﻴﺚ إن ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻟﻢ ﻳﺮﺗﻜﺐ ﺧﻄﺄ ً ﺳﺎذَﺟً ﺎ ﻓﺤﺴﺐ ﰲ ﺣﺪﻳﺜﻪ ﻋﻤﱠ ﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻤﺮء أن ﻳﻔﻜﺮ ﻓﻴﻪ وﻳﺘﺤﺪث ﻋﻨﻪ وﻣﺎ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻔﻌﻞ ﻣﻌﻪ ذﻟﻚ ،ﺑﻞ ﻋﲆ اﻟﻌﻜﺲ ﻳﺒﺪو أﻧﻪ ارﺗﻜﺐ ﺧﻄﺄ ً ﻳﻨﻢ ﻋﻦ ﻣﻬﺎرة ﻋﺎﻟﻴﺔ. ً اﺗﺼﺎﻻ ﻣﺒﺎﴍًا ﻣﻊ اﻟﴚء اﻟﺬي ﻟﻘﺪ ﺗﻮﺻﻞ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس إﱃ أن ﻋﻤﻠﻴﺔ اﻟﺘﻔﻜري ﺗﺘﻀﻤﻦ ﻳﻔﻜﺮ املﺮء ﻓﻴﻪ ،وﺷﺒﱠﻪ ﻋﻤﻠﻴﺔ اﻟﺘﻔﻜري ﺑﺎﻟﻠﻤﺲ رﻏﻢ ﻋﺪم ﺗﴫﻳﺤﻪ ﺑﺬﻟﻚ ،ﻓﻜﻤﺎ ﻳﺴﺘﺤﻴﻞ ملﺲ ﳾء ﻏري ﻣﻮﺟﻮد ﻓﺈن اﻟﺘﻔﻜري ﻓﻴﻪ أو اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻨﻪ أﻣﺮ ﻣﺴﺘﺤﻴﻞ ﻛﺬﻟﻚ؛ ﻓﺎﻟﺘﻔﻜري ﰲ ﳾء ﻏري ﻣﻮﺟﻮد أﺷﺒﻪ ﺑﻤﺤﺎوﻟﺔ اﻹﻣﺴﺎك ﺑﺸﺒﺢ ،وﻫﺬا ﱢ ﻳﻮﺿﺢ اﻟﺴﺒﺐ وراء ﺣﺬﻓﻪ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺴﻠﺒﻴﺔ ﻣﺜﻞ »اﻟﻼﳾء« و»ﻏري املﻮﺟﻮد« ﻣﻤﱠ ﺎ ﻗﺪﻣﻪ ﻣﻦ ﺗﻔﺎﺳري ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ. وﻟﻌﻞ ﻣﻜﻤﻦ املﻬﺎرة ﰲ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة اﻟﻘﺎﺋﻠﺔ إن اﻟﻌﻘﻞ ﻳﺠﺐ أن ﻳﻜﻮن ﻋﲆ اﺗﺼﺎل ﺑﻤﺎ ﻳﻔﻜﺮ ﻓﻴﻪ ﻫﻮ أﻧﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺟﺰءًا ﻣﻦ اﻹﺟﺎﺑﺔ ﻋﲆ ﺳﺆال ﻟﻢ ﻳﺸﻐﻞ ﺑﺎ َل أﺣ ٍﺪ ﻗﺒﻠﻪ ،أﻻ وﻫﻮ: ﻛﻴﻒ ﻟﻠﻜﻠﻤﺎت واﻷﻓﻜﺎر داﺧﻞ ﻋﻘﻠﻚ أن ِ ﺗﺼﻒ اﻷﺷﻴﺎء املﻮﺟﻮدة ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺨﺎرﺟﻲ؟ أو ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ أﺧﺮى :ﻛﻴﻒ ﻳﺘﺼﻞ اﻟﻠﻐﺔ واﻟﻔﻜﺮ ﻣﻊ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺨﺎرﺟﻲ؟ واﻹﺟﺎﺑﺔ اﻟﻮﺣﻴﺪة اﻟﺘﻲ ﱠ ﺗﻮﺻﻞ ﻟﻬﺎ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﰲ ﻫﺬا اﻟﺸﺄن ﻫﻲ أن اﻟﻌﻘﻞ ﻻ ﺑُ ﱠﺪ ﻟﻪ أن ﻳﺘﺼﻞ ﺑﺎﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺨﺎرﺟﻲ ٍ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﺎ ،وإن ﻛﺎن ﻫﺬا ﻻ ﱢ ﻳﻔﴪ اﻷﻣﻮر ﺑﻮﺿﻮح وﻟﻜﻨﻪ ﺑﺪاﻳﺔ ﻻ ﺑﺄس ﺑﻬﺎ. ﻻ ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ اﻵن أن ﻧﻔﻬﻢ اﻟﻘﻀﻴﺔ ﺑﺸﻜﻞ أﻋﻤﻖ ﻣﻦ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ،وﻟﻜﻦ ﻻ ﻳﺰال ﻫﻨﺎك اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻷﺳﺌﻠﺔ ﺣﻮل اﻟﻔﻜﺮ واملﻌﻨﻰ ﻟﻢ ﻧﻌﺜﺮ ﻟﻬﺎ ﻋﲆ إﺟﺎﺑﺎت ﺣﺘﻰ اﻵن ،وﻫﻲ اﻷﺳﺌﻠﺔ َ ﺗﺸﻐﻞ ﺑﺎل ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻨﻔﺲ وﻋﻠﻤﺎء اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻨﻈﺮﻳني واﻟﻔﻼﺳﻔﺔ وﻋﻠﻤﺎء اﻹدراك .وﻣﻨﺬ اﻟﺘﻲ 83
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻋﻬﺪ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس واﻟﺴﺆال اﻟﺬي ﻳﺆ ﱢرﻗﻬﻢ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ﻫﻮ ﻣﻌﺮﻓﺔ ُﻛﻨﻪ ﻋﻤﻠﻴﺔ اﻟﺘﻮاﺻﻞ ﺑني اﻟﻌﻘﻞ واﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺨﺎرﺟﻲ واﻟﺬي ﻳﻔﺮز ﻟﻨﺎ اﻟﻔﻜﺮ واﻟﻠﻐﺔ .ﻟﻘﺪ َ ﺻﺐﱠ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﺟَ ﱠﻢ ﺗﺮﻛﻴﺰﻫﻢ ً ﺻﺒﻐﺔ ﻣﻦ ﻋﲆ ﻫﺬه اﻷﺳﺌﻠﺔ ﻣﻨﺬ ﻣﻄﻠﻊ اﻟﻘﺮن املﺎﴈ ،وﺣﻤﻞ ﻛﺜريٌ ﻣﻦ إﺟﺎﺑﺎﺗﻬﻢ اﻷوﱃ ﻓﻜﺮ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ،وﻟﻜﻦ ﻟﻢ ﻳﺬﻫﺐ أﺣﺪ ﻣﻨﻬﻢ ﺑﻌﻴﺪًا رﻏﻢ ذﻟﻚ وﻳﺪﱠﻋﻲ أﻧﻪ ﻋﻨﺪ ﴍوﻋﻚ ﰲ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﳾء ﻏري ﻣﻮﺟﻮد أو اﻟﺘﻔﻜري ﻓﻴﻪ ﻓﺈﻧﻚ ﺗﻘﻮل ﻫﺮاءً ﻻ ﻃﺎﺋﻞ ﻣﻨﻪ .وﻳﺒﺪو أن ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﻟﻢ ﻳﺆﻣﻦ ﺑﻬﺎ ﺳﻮى ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس وﺗﻼﻣﻴﺬه. ﻛﺎن أﻓﻼﻃﻮن ﻫﻮ أول ﻣﻦ ﺣﺎول أن ﻳﻔ ﱢﻜﻚ ﺷﺒﻜﺔ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس املﻌﻘﺪة ﺑﺎﻻﺳﺘﻔﺴﺎر ﻋﻤﱠ ﺎ ﻛﺎن ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻳﻌﻨﻴﻪ ﺑﻔﻜﺮة »اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﳾء ﻏري ﻣﻮﺟﻮد« ،وأوﺿﺢ أﻓﻼﻃﻮن اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﻄﺮق املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻻﺳﺘﺨﺪام وﺻﻒ »ﻏري ﻣﻮﺟﻮد« ،ﱠ وﺑني أن وﺿﻊ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻻت ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ﰲ ﺳﻠﺔ واﺣﺪة ﻛﻤﺎ ﻓﻌﻞ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻓِ ﻌْ ٌﻞ ﻓﻴﻪ ﻣﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﻋﺪم اﻟﻨﱡﻀﺞ ،ﱠ وﺑني ﻛﺬﻟﻚ أﻧﻪ ﺣﺎل إﻣﺎﻃﺔ ﻟﺜﺎم اﻟﻐﻤﻮض ﻋﻦ ﻣﻔﻬﻮﻣَ ﻲ »املﻮﺟﻮد« و»ﻏري املﻮﺟﻮد« ﺳﺘﺘﻼﳽ أﺳﺒﺎب اﻟﺤَ رية واﻟﺘﺨﺒﱡﻂ ﻋﻨﺪ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ »ﻏري املﻮﺟﻮد« ،وﺳﻴﻜﻮن ﻣﻦ اﻟﺴﻬﻞ أن ﻧﺪرك أن اﺳﺘﺨﺪام ﻣﺼﻄﻠﺤﺎت ﺳﻠﺒﻴﺔ أو إﻧﻜﺎر اﻷﺷﻴﺎء ﻳﺨﺘﻠﻒ ﺗﻤﺎم اﻻﺧﺘﻼف ﻋﻦ اﻟﺘﻔﻮﱡه ﺑﻬﺮاء ﻻ ﻃﺎﺋﻞ ﻣﻨﻪ. ً ﺷﺎﻣﻼ ﻟﻌﻼج ﻫﺬه اﻟﻘﻀﻴﺔ ،إﻻ أﻧﻪ ﻛﺎن داﻓﻌً ﺎ ﻛﺎﻓﻴًﺎ ﻟﺘﻠﻤﻴﺬه وﻟﻢ ﻳﻘﺪم أﻓﻼﻃﻮن ﺗﺼﻮ ًرا أرﺳﻄﻮ أن ﻳﺮﻓﺾ ﻓﻜﺮ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس وﻳﻨﺤﻴﻪ ﺟﺎﻧﺒًﺎ ﰲ ﻗﻮﻟﻪ» :إن زﻋﻤﻪ أن اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ »املﻮﺟﻮد« ﻻ ﻳﻜﻮن إﻻ ﻣﻦ ﻃﺮﻳﻖ واﺣﺪ ﻟﻬﻮ ﻗﻮل ﻣﻐﻠﻮط وزاﺋﻒ؛ ﻷﻧﻪ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻨﻪ ﺑﺄﺷﻜﺎل ﻋﺪﱠة«. ﻟﻜﻦ ﻗﺒﻞ أن ﻧﺤﺬف ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻣﻦ ﻗﺎﻣﻮس اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﺑﺴﺒﺐ ﻣﺎ ﻗﺪﱠﻣﻪ ﻣﻦ ﺷﻌﺮ رديء، وﻟﻌﺠﺰه ﺣﺘﻰ ﻋﻦ ﻓﻬﻢ ﻟﻐﺘﻪ اﻷﺻﻠﻴﺔ ،ﻳﺠﺐ أن ﻧﻀﻊ ﰲ اﻋﺘﺒﺎرﻧﺎ ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﻬﻤٍّ ﺎ وﻫﻮ أن أدوات اﻟﺘﺤﻠﻴﻞ اﻟﻨﺤﻮي اﻟﺘﻲ اﺳﺘﻌﻤﻠﻬﺎ أﻓﻼﻃﻮن ﻟﺘﻔﺴري ﻣﻔﻬﻮم »اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﳾء ﻏري ﻣﻮﺟﻮد« ﻛﺎﻧﺖ ﻗﺪ اﺳﺘﺤﺪﺛﻬﺎ ﻟﻠﺘﻮ اﻟﺮﺣﺎﻟﺔ ﻣﻦ املﻌﻠﻤني اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني اﻟﺬﻳﻦ ﺗﺠﻤﱠ ﻌﻮا ﰲ أﺛﻴﻨﺎ ﰲ اﻟﻌﴫ اﻟﺬي ﻋﺎش ﻓﻴﻪ ﺳﻘﺮاط .وﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻫﺬه املﺼﻄﻠﺤﺎت اﻟﻠﻐﻮﻳﺔ ﺷﺎﺋﻌﺔ ﰲ رﻳﻌﺎن ﺷﺒﺎب ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ،وﻟﻌﻠﻪ ﻟﻢ ﻳﻔ ﱢﻜﺮ ﻓﻴﻬﺎ ﺑﺸﻜﻞ ﻣﻨﻬﺠﻲ ﻗﻂ .وﻟﻌﻞ أﻓﻼﻃﻮن وأرﺳﻄﻮ ﻟﻢ ﻳﺨﻄﺮ ﺑﺒﺎﻟﻴﻬﻤﺎ أن ﻳ َُﻔ ﱢﻜ َﺮا ﰲ اﺳﺘﺨﺪام ﻫﺬه املﺼﻄﻠﺤﺎت ً أﻳﻀﺎ ﻟﻮﻻ أن دﻓﻌﺘﻬﻤﺎ إﱃ ذﻟﻚ ﻛﺘﺎﺑﺎت ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس وﻣﻦ ﺳﺒﻘﻮه ،واﻟﺘﻲ ﺗﺘﻤﻴﺰ ﺑﺎﻟﻐﻤﻮض واﻟﺘﻌﻘﻴﺪ .وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻫﻮ وﺣﺪه ﻣﻦ ﻋﺠﺰ ﻋﻦ إدراك ﺑﻌﺾ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﺣﻮل اﻟﻠﻐﺔ واﻟﺘﻲ ﻧَﻌُ ﺪ َﱡﻫﺎ اﻵن واﺿﺤﺔ ﺑﻞ ﺗﺎﻓﻬﺔ .وﰲ اﻟﺪﻓﻮﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﻗﺪﻣﻬﺎ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﺗﺠﺪر اﻹﺷﺎرة إﱃ أن ﻓﻜﺮة إﻳﺠﺎد ِ وﺟﻪ َﺷﺒَ ٍﻪ ﺑني اﻟﺘﻔﻜري واﻟﻠﻤﺲ اﻟﺘﻲ ﻳﺒﺪو أﻧﻬﺎ أﻋﺠﺒﺘﻪ رﺑﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺴﺘﻌﺼﻴﺔ ﻋﲆ اﻟﻔﻬﻢ ﰲ زﻣﺎﻧﻪ 84
ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻟﻼﳾء :ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس
أﻛﺜﺮ ﻣﻦ اﻵن ،ﻓﺎﻟﻔﻌﻞ noeinاملﺴﺘﺨﺪَم ﰲ »ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ« واﻟﺬي ﻳﻌﻨﻲ »ﻳﻔ ﱢﻜﺮ« ،ﻳﺤﻤﻞ دﻻﻻت وﻣﻌﺎﻧﻲ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻋﻤﱠ ﺎ ﻳﺤﻤﻠﻪ اﻟﻔﻌﻞ »ﻳﻔﻜﺮ« اﻟﺬي ﻧﺴﺘﺨﺪﻣﻪ اﻵن؛ ﻓﻬﻮ ﻳﻌﻨﻲ ﻛﺬﻟﻚ إدراك ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻷﺷﻴﺎء ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺤﻮاس ﻋﺎدة؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﻤﻌﻨﺎه ﻳﻜﺎد أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻳﻔﻮق ﻣﻌﺎن .وﰲ اﻟﻮاﻗﻊ ،ﻗﺎل أرﺳﻄﻮ ذات ﻣﺮة إن اﻟﻨﺎس ﰲ ﻋﴫ ﻣﺎ ﻳﺤﻤﻠﻪ اﻟﻔﻌﻞ »ﻳﺪرك« ﻣﻦ ٍ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس وﻣﻦ ﻗﺒﻠﻪ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻨﻈﺮون إﱃ ﻋﻤﻠﻴﺔ اﻟﻔﻬﻢ ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺟﺴﺪﻳﺔ ﻣﺜﻞ اﻹدراك. وﻗﺪ ﺣﻠﻞ أﻓﻼﻃﻮن ﻓﻘﺮة »ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ« ﺑﻼ رﺣﻤﺔ وﻻ ﻫﻮادة إﻻ أﻧﻪ أﻋﲆ ﻣﻦ ﺷﺄن ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس وأﻇﻬﺮ ﻟﻪ ﻛﻞ ﺗﺒﺠﻴﻞ وﺗﻘﺪﻳﺮ واﺣﱰام .ﻓﻔﻲ إﺣﺪى ﻣﺤﺎوراﺗﻪ ﻗﺎل أﻓﻼﻃﻮن ﻋﲆ ً ﺷﺨﺼﺎ أُﻛ ﱡِﻦ ﻟﻪ اﺣﱰاﻣً ﺎ ﻳﻔﻮق اﻟﺠﻤﻴﻊ ،إﻧﻪ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻟﺴﺎن ﺑﻄﻠﻪ اﻷﺛري ﺳﻘﺮاط» :إن ﺛﻤﱠ ﺔ ً ﺷﺨﺼﺎ »وﻗﻮ ًرا ﻣَ ﻬﻴﺒًﺎ« .ﻟﻘﺪ ﻗﺎﺑﻠﺘﻪ ذات ﻣﺮة وأﻧﺎ ﰲ ﻣﻘﺘﺒﻞ اﻟﺬي أراه ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل ﻫﻮﻣريوس ﻋﻤﺮي ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻛﺎن ﻫﻮ ﻗﺪ ﻃﻌَ ﻦ ﰲ اﻟﺴﻦ وأﻟﻔﻴ ُْﺖ ﻓﻴﻪ ﻧﻈﺮة ﻋﻤﻴﻘﺔ ﻻ ﺗﺘﺴﻢ إﻻ ﺑﺎﻟﺠﻼل واﻟﻨﺒﻞ «.وﻗﺪ ﻛﺎن ﻟﺒﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻛﺒري اﻷﺛﺮ ﰲ ﺗﻜﻮﻳﻦ أﻓﻼﻃﻮن؛ ﻓﻤﻦ أﻫﻢ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺘﻲ أﺧﺬﻫﺎ أﻓﻼﻃﻮن ﻣﻦ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻫﻲ أن ﻛﻞ ﳾء ﻳﺘﺼﻒ ﺑﺎﻟﺤﻘﻴﻘﺔ املﻄﻠﻘﺔ ﻻ ﺑُ ﱠﺪ أن ﻳﻜﻮن ﺛﺎﺑﺘًﺎ ﻻ ﻳﺘﻐري وﺧﺎﻟﺪًا ﻻ ﻳﻔﻨﻰ وﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻟﻴﺲ ﺑﻤﺨﻠﻮق ،رﻏﻢ أن اﻟﺤﺠﺞ اﻟﺘﻲ ﺳﺎﻗﻬﺎ أﻓﻼﻃﻮن ﻻ ﻋﻼﻗﺔ ﻟﻬﺎ ﺑﻤﺎ ﻳﺪﱠﻋﻴﻪ ﻣﻦ اﺳﺘﺤﺎﻟﺔ »اﻟﺘﻔﻜري ﰲ ﳾء ﻏري ﻣﻮﺟﻮد «.وﻛﺬﻟﻚ اﻗﺘﺒﺲ أﻓﻼﻃﻮن ﻓﻜﺮة ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﺣﻮل اﻟﺘﻔﺮﻳﻖ ﺑني اﻟﻌﻘﻞ واﻟﺤﻮاس ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ اﻟﻔﻜﺮة اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﺔ )واﻷورﻓﻴﺔ اﻟﺨﺎﻟﺼﺔ( اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮل إن اﻟﻔﻜﺮ ﻳﺤﻈﻰ ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ أﻋﲆ وأرﻗﻰ ﻣﻦ اﻟﺤﻮاس .وﻛﻤﺎ رأﻳﻨﺎ ،ﻓﻘﺪ دﻋﻢ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﻮن ﻫﺬا اﻟﻔﻜﺮ اﻟﻌﻘﻼﻧﻲ ،وﻟﻜﻦ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻛﺎن ﻫﻮ أول ﻣﻦ ﻃﺒﻘﻪ ﻋﻤﻠﻴٍّﺎ ﰲ ﻓﻠﺴﻔﺘﻪ. أﻗﺎم أﻓﻼﻃﻮن ﺑﻨﺎء ﻋﲆ ﻓﻜﺮة اﻟﺘﻔﺮﻳﻖ ﺑني اﻟﻌﻘﻞ واﻟﺤﻮاس ﻧﻈﺮﻳﺔ ﺗﻘﻮل إن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﱠ ﻣﻘﺴﻢ إﱃ ﺟﺰأﻳﻦ :أﺣﺪﻫﻤﺎ ﺧﺎﻟﺪ ﻻ ﻳﻔﻨﻰ أدرﻛﻨﺎه ﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﻌﻘﻞ ،واﻵﺧﺮ ﻣﺘﻐري ﻣﺘﺒﺪل أدرﻛﻨﺎه ﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﺤﻮاس .وﻋﲆ اﻟﻌﻜﺲ ﻣﻦ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ،ﻛﺎن أﻓﻼﻃﻮن ﻣﺴﺘﻌﺪٍّا ﻟﻘﺒﻮل ﻓﻜﺮة أن اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻷدﻧﻰ ﻣﻨﺰﻟﺔ وﻣﻜﺎﻧﺔ واﻟﺬي ﻧﺮاه وﻧﺴﻤﻌﻪ وﻧﻠﻤﺴﻪ ﻫﻮ ﻋﺎﻟﻢ واﻗﻌﻲ وﻟﻜﻦ ً واﺻﻔﺎ إﻳﺎﻫﺎ ﺑﺄﻧﻬﺎ ﻣﺤﺾ ﺗﺨﺮﻳﻒ وأوﻫﺎم ،وﻣﺎ ﻛﺎن ﺑﺪرﺟﺔ أﻗﻞ ،وﻟﻜﻨﻪ رﻓﺾ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﻟﻴﻘﻮل إﻧﻨﺎ ﻧﺪرك ﻫﺬا اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﺤﻮاس ،ﺑﻞ إن اﻟﺤﻮاس وﺣﺪﻫﺎ ﺗﺨﺪﻋﻨﺎ وﺗﺠﻌﻠﻨﺎ ﻧﺼﺪق ﻫﺬا اﻟﻜﻼم .وﺛﻤﱠ ﺔ ﻓﺮق آﺧﺮ ﺑني اﻟﺮﺟﻠني ،وﻫﻮ أن أﻓﻼﻃﻮن رﻏﻢ اﻋﺘﻘﺎده أن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﱡ اﻟﺘﻐري ،ﻛﺎن ﻳﻌﺘﻘﺪ أﻧﻪ ﻳﺘﻀﻤﱠ ﻦ ﻋﺪة أﺷﻴﺎء ﻋﲆ اﻷرﻓﻊ ﻣﻨﺰﻟﺔ وﻣﻜﺎﻧﺔ ﻳﺘﺴﻢ ﺑﺎﻟﺨﻠﻮد وﻋﺪم ﺧﻼف ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس اﻟﺬي ادﱠﻋﻰ أن اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ املﻄﻠﻘﺔ »واﺣﺪة« ﺗﺘﻜﻮن ﻣﻦ أﺷﻜﺎل أو أﻓﻜﺎر 85
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﺻﺎﻓﻴﺔ ﺛﺎﺑﺘﺔ )ﺳﻨﺘﻌﺮض ﻟﻬﺎ ﺑﺎﻟﺘﻔﺼﻴﻞ ﻋﻨﺪ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ أﻓﻼﻃﻮن ﻧﻔﺴﻪ(؛ وﺑﻬﺬا ﻧﺠﺪ أن أﻓﻼﻃﻮن اﻗﺘﺒﺲ ﺟﺰءًا ﻣﻦ اﻟﺼﻮرة اﻟﺘﻲ ﻗﺪﻣﻬﺎ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻋﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ وﴐب ﺻﻔﺤً ﺎ ﻋﻦ اﻷﺟﺰاء اﻷﺧﺮى .وﻗﺪ راﻗﺖ ﻷﻓﻼﻃﻮن ﻓﻜﺮة وﺟﻮد ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻣﻄﻠﻘﺔ ﻟﻢ ﺗُﻮﻟﺪ وﻻ ﺗﺘﻐري وﻻ ﺗﻔﻨﻰ ،وﻟﻜﻦ ﻳﺒﺪو أن ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﻟﻢ ﺗ ُﻜﻦ ﻛﺎﻓﻴﺔ ﻟﻪ ،ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻘﺘﻨﻊ ﺑﺄﺳﺒﺎب ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﰲ اﻹﻳﻤﺎن ﺑﺄن اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻮاﻗﻌﻲ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﺣﺎول أن ﻳﺜﺒﺖ وﺟﻮده ً أﻳﻀﺎ. وﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ أﻓﻼﻃﻮن أول ﻣﻦ ﻧﺎﻗﺶ ﻓﻠﺴﻔﺔ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس؛ ﻓﻘﺪ ﻗﺎم أرﺑﻌﺔ ﻣﻦ ﻛﺒﺎر اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻗﺒﻞ أﻓﻼﻃﻮن ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺨﺎﻣﺲ ﻗﺒﻞ املﻴﻼد ﺑﻤﺤﺎوﻟﺔ ﻹرﺟﺎع اﻟﻔﻜﺮة املﻌﻬﻮدة ﻋﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ إﱃ ﺳﺎﺑﻖ ﻋﻬﺪﻫﺎ ،وإن اﺣﺘﻔﻈﻮا رﻏﻢ ذﻟﻚ ﺑﺸﻄﺮ ﻣﻦ ﻓﻜﺮ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس .ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﻗﺎل إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ )ﺣﻮاﱄ ٤٣٥–٤٩٥ق.م( إن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻳﺘﻜﻮن ﻣﻦ ﻋﻨﺎﴏ أرﺑﻌﺔ ﻫﻲ اﻟﻨﺎر واﻟﻬﻮاء واملﺎء واﻟﱰاب ،وﻛﻠﻬﺎ ﺗﺘﻤﺘﻊ ﺑﺎﻟﺨﻠﻮد واﻟﺜﺒﺎت ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻣﺜﻞ ﻓﻜﺮة اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ املﻄﻠﻘﺔ اﻟﻮاﺣﺪة ﻟﺪى ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس .ورﻏﻢ أن ﻛﻞ ﻋﻨﴫ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﻌﻨﺎﴏ ﻻ ﻳ َُﻐ ﱢريُ ﻣﻦ ﺧﺼﺎﺋﺼﻪ وﻻ ﻳﺪﺧﻞ إﱃ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﻮﺟﻮد وﻻ ﻳَﻔﻨﻰ ،ﻛﺎن إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﻳﺮى أن ﻫﺬه اﻟﻌﻨﺎﴏ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺘﺤﺮك وأن ﺗﺘﱠﺤﺪ ﻣﻊ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻟﺘُ َﻜﻮﱢن ﻟﻨﺎ اﻟﻈﻮاﻫﺮ اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﺮاﻫﺎ. وﻗﺪ أ َ َﻗ ﱠﺮ أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس )ﺣﻮاﱄ ٤٢٨–٥٠٠ق.م( ﺑﻔﻜﺮة أن املﻮاد اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻻ ﺗﻨﺸﺄ وﻻ ﺗﻔﻨﻰ ،وﻟﻜﻦ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ اﻹﻳﻤﺎن ﺑﻮﺟﻮد أرﺑﻌﺔ ﻋﻨﺎﴏ ﻓﻘﻂ ﻣﺜﻞ إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ رأى أن ﻛﻞ املﻮاد اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﴎﻣﺪﻳﺔ ﻻ ﺗﺘﺒﺪل وﻻ ﺗﺘﻐري ،وأن اﻷﺷﻴﺎء اﻟﻌﺎدﻳﺔ ﺗﺘﻜﻮن ﻣﻦ ﺧﻠﻴﻂ ﻣﻦ ﻫﺬه املﻮاد ﻏري اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﻔﻨَﻰ .وﻛﻤﺎ ﻳﺮى إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ،ﻳﺘﻜﻮن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ ﱡ اﻟﺘﻐري. اﻟﻌﻨﺎﴏ ﺗﺘﺴﻢ ﻫﻲ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺑﺎﻟﺨﻠﻮد وﻋﺪم وﻛﺎن اﻟﺸﻜﻞ اﻷﺧري واﻷﻛﺜﺮ ﺗﺄﺛريًا ﰲ ﻫﺬه اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ ﻫﻮ »اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺬﱠ ﱢرﻳﱠﺔ« .ﻟﻘﺪ ﻗﺪم ﻛ ﱞﻞ ﻣﻦ ﻟﻴﻮﻛﻴﺒﻮس )ﺣﻮاﱄ ٣٩٠–٤٦٠ق.م( ودﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ )ﺣﻮاﱄ ٣٥٧–٤٦٠ق.م( ﻧﻈﺮﻳﺔ ﺗﺘﺤﺪث ﻋﻦ »ذرات« ﻣﺘﺤ ﱢﺮﻛﺔ وﻣﺘﻨﺎﻫﻴﺔ اﻟﺼﻐﺮ ﺗﺘﻤﺘﻊ ﺑﺎﻟﺼﻔﺎت اﻟﺘﻲ ﻋﺰاﻫﺎ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس إﱃ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ املﻄﻠﻘﺔ اﻟﻮاﺣﺪة ﻣﻦ ﺧﻠﻮد وﺛﺒﺎت ،وﺗﺨﺘﻠﻒ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻨﻬﺎ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﻟﺸﻜﻞ واملﻮﻗﻊ ﰲ اﻟﻔﻀﺎء ،وﺟﻤﻴﻊ اﻷﺷﻴﺎء اﻷﺧﺮى اﻟﺘﻲ ﻧﺮاﻫﺎ ﰲ اﻟﻜﻮن ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻔﺴريُﻫﺎ ﻋﲆ أﺳﺎس ﻫﺬه اﻟﺬﱠ ﱠرات؛ ﺣﻴﺚ إن ﺟﻤﻴﻊ املﻮاد واﻷﺷﻴﺎء اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﺑﻤﺎ ﰲ ذﻟﻚ اﻹﻧﺴﺎن واﻟﺤﻴﻮان ﺗﺘﻜﻮﱠن ﺧﺎو( ﺣﺘﻰ ﺗﺼﻄﺪم ﺑﺬَ ﱠرات أﺧﺮى ﻟﺘُ َﻜﻮﱢن اﻷﺷﺠﺎر أو ﻣﻦ ذرات ﺗﺴﺒﺢ ﰲ اﻟﻔﺮاغ )ﻓﻀﺎء ٍ اﻹﻧﺴﺎن أو ُﻛﺘَ ًﻼ ﻣﻦ اﻟﻔِ ﱠﻀﺔ وﻫﻜﺬا .وﻫﺬا اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻌﺎﻣﺮ ﺑﺎﻟﺤﺮﻛﺔ واﻟﻀﻮﺿﺎء ﻳﺒﻌُ ﺪ ﻛﺜريًا ﻋﻦ ﻓﻜﺮة اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺬي ﺗﺨﻴﱠ َﻠﻪ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس؛ ﻓﻬﻮ ﻳﺤﺘﻮي ﻋﲆ ﺣﺮﻛﺔ وﺗﻨﻮﱡع وﻛﺬﻟﻚ ﻓﺮاغ ﰲ ﺑﻌﺾ أﺟﺰاﺋﻪ. 86
ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻟﻼﳾء :ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس
ﻟﻘﺪ ﻋﺮﺿﻨﺎ اﻵن ﺑﻌﺾ املﺤﺎوﻻت اﻟﺘﻲ ﻗﺎم ﺑﻬﺎ ﺧﻠﻔﺎء ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ُمل َﺴﺎﻳَ َﺮ ِة ﻓﻜﺮه ،وﻟﻜﻦ ﻛﻴﻒ ﺳﺎﻳﺮ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻧﻔﺴﻪ؟ ﻟﻘﺪ و َ َﺿ َﻊ ﻧﻔﺴﻪ ﰲ ﻣﻮﺿﻊ املﺴﺘﺤﻴﻞ .ﻓﺈذا ﻛﺎن ﻫﻨﺎك ﳾء َ ً واﺣﺪ ﻓﻘﻂ ﻛﻤﺎ ﻳُﻌﺘﻘﺪ إذن ﻓﻜﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻤﻴﱢﺰ ﻧﻔﺴﻪ ﻋﻨﻪ؟ ووﻓﻘﺎ ملﺎ ﻗﺪﱠﻣَ ُﻪ ﻣﻦ ﺣﺠﺞ، إﻣﺎ أن ﻳﻜﻮن ﻫﻮ ﻧﻔﺴﻪ ً ﱢ املﺘﻐري اﻟﺬي رﻓﻀﻪ أو أن زاﺋﻔﺎ أو ﺧﻴﺎﻟﻴٍّﺎ ﻣﺜﻞ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺒﺪَﻫﻲ ً ﻣﻤﺎﺛﻼ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ اﻟﺜﺎﺑﺖ ﻏري املﺘﺤﻮل اﻟﺬي ﻟﻴﺲ ﻓﻴﻪ إﻻ ﺣﻘﻴﻘﺔ واﺣﺪة .وإذا ﻣﺎ ﻧَﺤﱠ ﻴْﻨَﺎ ﻳﻜﻮن ﻫﺬا اﻻﺧﺘﻴﺎر اﻟﺬي ﻟﻴﺲ ﺑﻪ ﺳﻮى اﻟﺴﺨﺎﻓﺎت ﺟﺎﻧﺒًﺎ ،ﻓﻜﻴﻒ ﻟﻺﻧﺴﺎن أن ﻳﺘﴫف ﰲ ﻣﺜﻞ ﱡ اﻟﺘﻐري واﻟﺤﺮﻛﺔ ﴐوب ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻌﺎﻟﻢ؟ واﻟﺤﻖ أن ﻻ ﻓﺎﺋﺪة ﺗُﺮﺟﻰ ﻣﻦ اﻟﻘﻴﺎم ﺑﺬﻟﻚ؛ ﻷن املﺴﺘﺤﻴﻞ .وﻟﻨﺄﺧﺬْ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﻣﺸﻜﻠﺔ ﻣﻴﻠﻴﺴﻴﻮس اﻟﺘﻠﻤﻴﺬ اﻟﻮﰲ ﻟﺒﺎرﻣﻨﻴﺪس .ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻓﻴﻠﺴﻮﻓﺎ ﻟﺒﻌﺾ اﻟﻮﻗﺖ ﻓﺤﺴﺐ ،ﺑﻞ ﻛﺎن أﻣريًا ﻷﺳﻄﻮل ﺳﺎﻣﻮس اﻟﺬي ﱠ ً ﺣﻘﻖ ﻣﻴﻠﻴﺴﻴﻮس اﻟﻨﴫ ﰲ إﺣﺪى املﻌﺎرك اﻟﺸﻬرية ﻋﲆ اﻷﺳﻄﻮل اﻷﺛﻴﻨﻲ ﻋﺎم ٤٤١ق.م؛ ﻓﻘﺪ ﺗﻠﻘﻰ ﻛﻞ أﻓﻜﺎر ﻣﻌ ﱢﻠﻤﻪ وآﻣﻦ ﺑﻬﺎ ،وﻟﻜﻦ ﻣﺎذا ﻛﺎن ﻋﻠﻴﻪ أن ﻳﻔﻌﻞ ﰲ رأﻳﻪ؟ ﻓﺎﻟﺴﻔﻦ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺘﺤﺮك، وﻫﻮ ﻛﺬﻟﻚ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺘﺤﺮك؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﺎملﻌﺎرك ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻘﻊ ،ﻫﺬا ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ أﻧﻪ ﻟﻦ ﻳﻮﺟﺪ ﻣﻦ ﻳﺤﺎرﺑﻪ. وﻟﻴﺲ ﺑﻮﺳﻌﻨﺎ إﻻ اﻟﻈﻦ أن ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس وﻣﻴﻠﻴﺴﻴﻮس ﻗﺪ اﻋﺘﱪا اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻌﺎدﻳﺔ ﴐﺑًﺎ ﻣﻦ اﻷوﻫﺎم ،أو ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﻟﻐ ًﺰا ﻣﺒﻬﻤً ﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻤﺮء أن ﻳﻠﻬﻮ ﺑﻪ ﻛﻴﻔﻤﺎ ﺷﺎء ،ورﻏﻢ أﻧﻬﻤﺎ ً ﴏاﺣﺔ ﻓﻤﻦ اﻟﺼﻌﺐ أن ﻧﻈﻦ ﻓﻴﻬﻤﺎ ﻏري ذﻟﻚ؛ ﻓﻜﻼﻫﻤﺎ ﻋﺎش ﺣﻴﺎة ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ ﻟﻢ ﻳُﻌ ِﻠﻨَﺎ ﻫﺬا وﻟﺬﻟﻚ ﻓﺸﻼ ﰲ اﻟﺘﴫف؛ أو ﺑﺎﻷﺣﺮى ﻟﻢ ﻳﺘﴫﻓﺎ ﻣﻦ اﻷﺳﺎس ً وﻓﻘﺎ ملﻌﺘﻘﺪاﺗﻬﻤﺎ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ اﻟﻈﺎﻫﺮة. َ َ ْ َ ً َ ورﺑﻤﺎ ﻟﻢ ﻳَﺸﻐﻼ ﻧﻔﺴﻴﻬﻤﺎ أﺻﻼ ﺑﺎﺧﺘﺒﺎر أﻓﻜﺎرﻫﻤﺎ وﻣﻌﺘﻘﺪاﺗﻬﻤﺎ ﺑﺘﻄﺒﻴﻘﻬﺎ ﻋﲆ ﻣﺘﻄﻠﺒﺎت ﺣﻴﺎﺗﻬﻤﺎ اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ .ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﻣﺎ ﻳﺪﻋﻮﻧﺎ ﻟﻼﻋﺘﻘﺎد ﺑﺬﻟﻚ ،وﻻ ﻳﺤﻤﻞ اﻟﺠﺰء اﻟﺬي ﱢ اﻟﺘﺠﲇ« — وﻫﻮ اﻟﺠﺰء اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻣﻦ ﻗﺼﻴﺪة ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس اﻟﺬي ﻓﴪت ﻳﺤﻤﻞ اﺳﻢ »ﻃﺮﻳﻖ ً ﻣﺨﺘﻠﻔﺎ .ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ ،ﻫﺬه اﻷﺟﺰاء ﻻ ﻓﻴﻪ اﻹﻟﻬﺔ املﻌﺘﻘﺪات اﻟﺨﺎﻃﺌﺔ ﻟﺪى اﻹﻧﺴﺎن — ﺷﻴﺌًﺎ ً وﻏﻤﻮﺿﺎ .وﻗﺪ ﻗﺎل ﺑﻠﻮﺗﺎرخ )ﺣﻮاﱄ (١٢٠–٤٦إن ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﰲ ﺗﺰﻳﺪ اﻷﻣﺮ إﻻ إﺑﻬﺎﻣً ﺎ ﱢ اﻟﺘﺠﲇ« »أﺧﱪﻧﺎ اﻟﻜﺜري ﻋﻦ اﻷرض واﻟﺴﻤﻮات واﻟﺸﻤﺲ اﻟﺠﺰء اﻟﺬي ﻳﺤﻤﻞ اﻟﻌﻨﻮان »ﻃﺮﻳﻖ واﻟﻘﻤﺮ وﴎد ﻛﻴﻒ ﻧﺸﺄ اﻹﻧﺴﺎن …« وﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳﻔﴪ ﻟﻨﺎ ﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻬﺬه اﻟﺮواﻳﺔ أن ﺗﺘﱠ ِﺴﻖ ﻣﻊ ﻣﺎ ورد ﰲ »ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ« اﻟﺬي رأى اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻛﻠﻪ ﺷﻴﺌًﺎ واﺣﺪًا وأﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﺛﻤﱠ ﺔ ﳾء ﺟﺪﻳﺪ ﻳﻨﺸﺄ ﰲ اﻟﻮﺟﻮد. ﻟﻜﻦ رﻏﻢ أن اﻟﺠﺰء اﻟﺨﺎص ﺑ »ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺘﺠﲇ« ﻻ ﻳﻔﺼﺢ ﻋﻦ آراء ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس اﻟﺨﺎﺻﺔ؛ إﻻ أﻧﻪ ﻻ ﻳﻌﺘﱪ ﻣﺤﺾ ﺗﺴﺠﻴﻞ ﺗﺎرﻳﺨﻲ ملﺎ ﻗﺎﻟﻪ اﻟﻨﺎس ﰲ ﻫﺬا اﻟﺸﺄن ﻓﺤﺴﺐ ،ﺑﻞ إﻧﻪ 87
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﺳﺠﻞ أﺻﲇ ُﻛﺘِﺐَ ﻋﲆ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ وإن ﻛﺎن أﺷﺪ ﺗﻌﻘﻴﺪًا ﰲ ﺑﻌﺾ املﻮاﻃﻦ، ﻗﺎﻟﺖ اﻹﻟﻬﺔ إﻧﻬﺎ أﻟﻔﺘﻪ ﱠ »ﻟﺌﻼ ﻳﺘﺨﻄﺎك ﺗﻔﻜري أي إﻧﺴﺎن آﺧﺮ «.وﻳﻮﺿﺢ ﻫﺬا أن ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس َ ﺿﻤﱠ َﻦ ﺟﺰء »ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ« ﰲ ﻗﺼﻴﺪﺗﻪ ﻟﻴُﺜﺒﺖ أﻧﻪ ﻳﻤﺴﻚ ﺑﻨﺎﺻﻴﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ؛ ﻓﻘﺪ اﺳﺘﻐﻞ ﻋﺎدة ﺣﺪﻳﺚ رﺑﺎت اﻟﺸﻌﺮ ﺑﺎﻟﺤﻖ واﻟﺒﺎﻃﻞ ﻛﻤﺎ ﰲ ﻫﺴﻴﻮد ﰲ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻣﻨﻪ ﻹﺛﺒﺎت ﻗﺪرﺗﻪ ﻋﲆ اﺑﺘﻜﺎر ﺗﻔﺴري ﻃﺒﻴﻌﻲ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ ﻣﻦ ﺣﻮﻟﻪ وإﺛﺒﺎت أن أي ﺷﺨﺺ ﻳﻤﻜﻨﻪ ﻓﻌﻞ ذﻟﻚ وأﻧﻪ ﻳﻔﻮق أﻏﻠﺒﻬﻢ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺸﺄن. ْ ﻳﺘﻤﻜﻦ أي ﺷﺨﺺ ﻣﻦ ﻛﺘﺎﺑﺔ »ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ« ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻛﺘﺒﻪ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس، ورﻏﻢ ذﻟﻚ ﻓﻠﻢ اﻟﺬي ﺗﻌﺪ ﻛﺘﺎﺑﺘﻪ إﻧﺠﺎ ًزا راﺋﻌً ﺎ ﰲ ﻫﺬا املﻜﺎن وذﻟﻚ اﻟﺰﻣﺎن .وﻗﺪ ﺗﻜﻮن ﺣﺠﺞ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس املﺠ ﱠﺮدة ﺗﺠﺎوزت ﻛﻞ اﻟﺤﺪود وﻟﻜﻨﻬﺎ ٍّ ﺣﻘﺎ ﻇﺎﻫﺮة ﻓﺮﻳﺪة ﻣﻦ ﻧﻮﻋﻬﺎ ،ﻓﻤﻦ ﺧﻼل املﺤﺎوﻟﺔ اﻟﺘﻲ ﻗﺎم ﺑﻬﺎ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﺑﺎﺳﺘﺨﺮاج ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻷﻓﻜﺎر ﻣﻦ ﻣﺒﺪأ واﺣﺪ ،وﻫﻲ ﻓﻜﺮة ﺗﺠﻨﺐ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ »ﳾء ﻏري ﻣﻮﺟﻮد« وﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻳﺘﺒﻊ املﻨﻄﻖ واﻟﺤﺠﺔ اﻟﻘﻮﻳﺔ ،ﻛﺎن ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس أول ﻣﻦ اﺑﺘﺪع اﺳﺘﺨﺪام اﻟﺘﺤﻠﻴﻞ اﻟﻨﻈﺎﻣﻲ ﻟﻼﺳﺘﻨﺘﺎج ﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻦ ﻋﻠﻢ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ،وﻗﺪ اﺑﺘﺪع ﻛﺬﻟﻚ ﻃﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻔﻜري اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺘﻬﺞ ﻣﺤﺎورة ﻃﻮﻳﻠﺔ ﺗﺪور ﺣﻮل املﺒﺎدئ اﻟﻌﺎﻣﺔ ﻟﻠﻮﺻﻮل إﱃ اﺳﺘﻨﺘﺎﺟﺎت ﺻﺎدﻣﺔ ﻋﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ وﻣﻌﺮﻓﺔ اﻹﻧﺴﺎن ﺑﻪ .وﻫﻨﺎك اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻌﺘﻘﺪون ﻛﺬﻟﻚ أن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻟﻴﺲ ﻛﻤﺎ ﻳﺒﺪو ﻟﻨﺎ ،وﻟﻜﻦ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﺗﻤﻴﱠﺰ ﻋﻨﻬﻢ ﺑﺎﺳﺘﺨﺪام ﱠ املﻔﺼﻞ ﻹﺛﺒﺎت وﺟﻬﺔ ﻧﻈﺮه واﻛﺘﺸﺎف اﻟﺨﺼﺎﺋﺺ اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ ﻟﻠﻮاﻗﻊ .وﻗﺪ ﺳﺎر اﻟﱪﻫﺎن ﱠ آﺧﺮون ﻋﲆ اﻟﺪرب ﻧﻔﺴﻪ اﻟﺬي ﺷﻘﻪ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ،ورأﻳﻨﺎ ﻧﻤﺎذج ﻟﻬﺆﻻء ﻋﲆ ﻣﺪار اﻟﺘﺎرﻳﺦ. وﻧﺠﺪ أﻫﻢ ﻫﺬه اﻟﻨﻤﺎذج ﰲ ﻛﺘﺎﺑﺎت ﻫﻴﺠﻞ وﻣﻦ اﺗﱠﺒَﻌُ ﻮه .ﻓﻔﻲ ﻣﺤﺎﴐاﺗﻪ ﻋﻦ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ِ ﻗﺎل ﻫﻴﺠﻞ» :إن ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻗﺪ اﺳﺘﻬﻞ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ وﺳﺎر ﻓﻴﻬﺎ ﺑﺸﻜﻞ ﺻﺤﻴﺢ «.ورﺑﻤﺎ ﻗﺼﺪ ﺑﺬﻟﻚ أن ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻛﺎن املﻔﻜﺮ اﻷول اﻟﺬي اﻣﺘﻠﻚ ﻣﻦ اﻟﺤﻜﻤﺔ ﻣﺎ ﱠ أﻫ َﻠﻪ ﻷن ﻳﺴﺒﻖ ﻫﻴﺠﻞ. أﻣﺎ ﺑﺎﻗﻲ ﺣﺪﻳﺚ ﻫﻴﺠﻞ ﻋﻦ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻓﻴﻜﺘﻨﻔﻪ اﻟﻐﻤﻮض ،وﻟﻜﻦ ﻳﺒﺪو أن أﻛﺜﺮ ﻣﺎ أﻋﺠﺒﻪ ﻫﻮ ﻓﻜﺮة أن »اﻟﴚء اﻟﻌﺎﺑﺮ ﻻ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻟﻪ« وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻌﻨﻲ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ أن أي ﳾء ﻳﺘﻐري ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن ﺣﻘﻴﻘﻴٍّﺎ .وﻫﺬه ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ ﻫﻲ ﻓﻜﺮة ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس اﻟﺮﺋﻴﺴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ ﺻﻴﺎﻏﺘﻬﺎ ﺑﺤﻴﺚ ﺗﺒﺪو وﻛﺄﻧﻬﺎ ﻓﻜﺮة دﻳﻨﻴﺔ أو ﺻﻮﻓﻴﱠﺔ ،رﻏﻢ أن اﺳﺘﺨﺪاﻣﻪ ﻟﻠﺠﺪل املﻨﻄﻘﻲ ﻳﺒﻌﺪه ﻛﺜريًا ﻋﻦ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳني واﻟﺮوﻣﺎﻧﺴﻴني ﻣﻦ اﻟﺼﻮﻓﻴني) .وﻗﺪ أﺳﻬﺐ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﺘﻪ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس اﻟﺒﺎرد … املﲇء ﺑﺎﻷﻓﻜﺎر املﺠﺮدة املﺬﻫﻠﺔ (.وﻻ رﻳﺐ أن ﻫﻨﺎك ﺗﺸﺎﺑﻬً ﺎ ﻛﺒريًا ﺑني ﻣﻔﻬﻮم ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻋﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ املﻄﻠﻘﺔ ﻛﴚء واﺣﺪ ﻻ ﻳَﺤُ ﺪﱡه اﻟﺰﻣﻦ وﻻ ﻳﺼﻴﺒﻪ ﱡ ﺗﻐري وﻻ ﺗﺒﺪﻳﻞ ،وﻣﻔﻬﻮم زﻳﻨﻮﻓﺎن ﻋﻦ اﻹﻟﻪ اﻷﺣﺪ اﻟﺼﻤﺪ واﻟﺬي ﻟﻢ ﻳﻜﻦ 88
ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻟﻼﳾء :ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس
ً ﻣﺄﻟﻮﻓﺎ ﻟﺪى اﻹﻏﺮﻳﻖ .ورﻏﻢ ذﻟﻚ ﻓﻼ ﻓﺎﺋﺪة ﺗُﺮﺟﻰ ﻣﻦ اﻟﺘﻔﻜري ﻓﻴﻤﺎ إذا ﻛﺎن ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻗﺪ ﺗﺄﺛﱠﺮ ﺑﺰﻳﻨﻮﻓﺎن أم أن اﻟﺘﻮاﻓﻖ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﻣﺤﺾ ﺻﺪﻓﺔ ﻻ أﻛﺜﺮ ﻛﻤﺎ ﻳﺮى ﻧﻴﺘﺸﻪ .ﻛﻤﺎ أن اﻟﺮؤﻳﺔ اﻟﻘﺎﺋﻠﺔ ﱠ إن ﺛَﻤﱠ ﺔ ﻋﺎ َﻟﻤً ﺎ ﺳﻤﺎوﻳٍّﺎ ﻳﻘﻊ ﻓﻮق ﻋﺎ َﻟﻤﻨﺎ املﻀﻄﺮب واﻟﺘﻲ ﻧﺠﺪﻫﺎ ﻋﻨﺪ ﻛ ﱟﻞ ﻣﻦ زﻳﻨﻮﻓﺎن ﰲ ﺷﻌﺮه وﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﰲ ﺣﺠﺠﻪ ،ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﻨﺴﺒﻬﺎ ﻷيﱟ ﻣﻨﻬﻤﺎ دون اﻵﺧﺮ. ورﻏﻢ أﺻﺎﻟﺔ اﻻﺳﺘﺪﻻل املﻨﻄﻘﻲ ﻟﺪى ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس وأﻫﻤﻴﺘﻪ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ ﻓﻼ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ إﻏﻔﺎل أﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﻨﻄﻮي ﻋﲆ ﺷﻜﻞ ﻣﻦ أﺷﻜﺎل اﻟﻌﺒﺜﻴﺔ .أَوَﻟﻴﺲ ﻣﻦ اﻟﺴﺨﺮﻳﺔ أن ﻳﺨﺘﻠﻖ ﺣﺠﺠً ﺎ وﻫﻮ ﻣﺮﺗﺎح ﻋﲆ أرﻳﻜﺘﻪ — أو ﻣﻦ اﻷﺟﺴﺎم اﻟﺴﻴﺎرة ﰲ اﻟﺴﻤﺎء ﻛﻤﺎ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس — ﺗﺘﻨﺎﻗﺾ ﺑﻜﻞ ﺑﺴﺎﻃﺔ ﻣﻊ ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﺪرﻛﻪ ﺑﺎﻟﻄﺮق املﺒﺎﴍة واﻟﻮﺳﺎﺋﻞ اﻟﺘﻲ ﻳُﻌَ ﱠﻮ ُل ﻋﻠﻴﻬﺎ؟ وﻣﺎ اﻟﻔﺎﺋﺪة ﻣﻦ اﻟﺴﻌﻲ ﻹﺛﺒﺎت أن ﺷﻴﺌًﺎ واﺣﺪًا ﻓﻘﻂ ﻳﻤﺜﱢﻞ اﻟﻮﺟﻮد ﰲ ﺣني أﻧﻚ ﺗﺠﺪ أن ذﻟﻚ ﻫﺮاء ﻻ ﻃﺎﺋﻞ ﻣﻨﻪ؟ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﻨﻈﺮ ﺣﻮﻟﻚ ِ ورﻏﻢ ذﻟﻚ ﻓﻼ ﻳﺠﺐ أن ﻧﺠﻌﻞ ﺑﺪاﻳﺔ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻏري املﻘﻨﻌﺔ ﺗُﻠﻘِ ﻲ ﺑﻈﻼﻟﻬﺎ ﻋﲆ ﻫﺬه ً ﴏاﺣﺔ ﻣﻊ ﻣﺎ ﻳﻌﺘﻘﺪ اﻟﻨﺎس أﻧﻪ املﻨﻄﻖ املﴩوﻋﺎت اﻟﻔﻜﺮﻳﺔ ،ﻓﺤﺘﻰ ﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺘﻨﺎﻗﺾ اﻟﺴﻠﻴﻢ ﰲ ﻫﺬا اﻟﻮﻗﺖ ﻓﺈن اﻟﺤﺠﺞ املﻨﻄﻘﻴﺔ املﺠﺮدة ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻜﺸﻒ ﻋﻦ ﺣﻘﺎﺋﻖ ﻣﻬﻤﺔ؛ ذﻟﻚ أن »املﻨﻄﻖ اﻟﺴﻠﻴﻢ« أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻣﺎ ﻳ ِ ُﺨﻄﺊ ُ وداﺋﻤً ﺎ ﻣﺎ ﻳﻌﱰﻳﻪ اﻟﻨﻘﺼﺎن .وﻣﻦ أﻓﻀﻞ املﺤﺎوﻻت اﻟﺘﻲ ﻗﺎم ﺑﻬﺎ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ،ورﺑﻤﺎ املﺤﺎوﻟﺔ اﻟﻮﺣﻴﺪة اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﻘﺘﻔﻲ أﺛﺮﻫﺎ، ﻫﻲ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﻧﺠﺪﻫﺎ ﰲ أﻋﻤﺎل ﺗﻠﻤﻴﺬه زﻳﻨﻮن وﻫﻲ ﻣﻮﺿﻮﻋﻨﺎ اﻟﺘﺎﱄ.
89
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺨﺎﻣﺲ
ﻃﺮق اﳌﻔﺎرﻗﺔ :زﻳﻨﻮن
ﻟﻢ ﻳﺤﺘَ ِﺞ اﻟﻌﺎﻟﻢ أﻟﻔني وﺧﻤﺴﻤﺎﺋﺔ ﻋﺎم ﺣﺘﻰ ﻳﺪرك ﻋﺒﺜﻴﺔ ﻣﺎ ﺗﻮﺻﻞ إﻟﻴﻪ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻣﻦ اﺳﺘﻨﺘﺎﺟﺎت أوردﻫﺎ ﰲ ﻗﺼﻴﺪﺗﻪ »ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ«؛ ﻓﻘﺪ اﻧﺠﲆ ﻫﺬا اﻷﻣﺮ ﰲ ﻋﴫه وﻟﻜﻨﻪ ﱡ اﻟﺘﻤﺴﻚ ﺑﺂراء ﻣﻌﻠﻤﻪ؛ ﻓﻈﻞ زﻳﻨﻮن )اﻟﺬي ُو ِﻟﺪ ﰲ ﺣﻮاﱄ ﻋﺎم ﻟﻢ ﻳﺮدع ﺗﻠﻤﻴﺬه زﻳﻨﻮن ﻋﻦ ٤٩٠ق.م( ﻣﻘﺘﻨﻌً ﺎ ﺑﺄﻓﻜﺎر ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻷﻧﻪ اﻋﺘﻘﺪ أن ﺑﻤﻘﺪوره أن ﻳﻘﻠﺐ اﻟﻄﺎوﻟﺔ ﻋﲆ اﻵراء املﻨﺎﻓﺴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﺤﺪث ﻋﻦ »املﻨﻄﻖ اﻟﺴﻠﻴﻢ«. وﺛﻤﺔ رواﻳﺔ ﻋﻦ زﻳﻨﻮن ﺗﻮﺿﺢ ﻟﻨﺎ ﻛﻴﻒ ﺣﺎول زﻳﻨﻮن ﻓﻌﻞ ذﻟﻚ؛ إذ ﻳﺮوي ﻟﻨﺎ أﻓﻼﻃﻮن ﻛﻴﻒ أن ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس وزﻳﻨﻮن ﻫﺠ َﺮا ﺑﻠﺪﺗﻬﻤﺎ إﻳﻠﻴﺎ ﻗﺎﺻ َﺪﻳْﻦ أﺛﻴﻨﺎ اﺑﺘﻐﺎء ﺣﻀﻮر ﻣﻬﺮﺟﺎن »ﺑﺎﻧﺎﺛﻴﻨﺎ اﻟﺮﻳﺎﴈ اﻟﻌﻈﻴﻢ« اﻟﺬي ﻳُﻘﺎم ﻛﻞ أرﺑﻌﺔ أﻋﻮام وﺗﻜﻮن ﻓﻴﻪ ﻋﺮوض ﻟﻠﻤﻮﺳﻴﻘﻰ ﱠ وﻳﺨﺼﺺ ﻹﻟﻬﺔ أﺛﻴﻨﺎ .وﺑﻴﻨﻤﺎ ﻫﻤﺎ ﻫﻨﺎك ﻓﺈذا ﺑﻬﻤﺎ ﻳﻠﺘﻘﻴﺎن ﺑﺴﻘﺮاط واﻟﺸﻌﺮ واﻟﺮﻳﺎﺿﺔ اﻟﺬي ﻛﺎن ﺻﻐريًا آﻧﺬاك ،ﻓﻘﺮأ ﻋﻠﻴﻪ زﻳﻨﻮن رﺳﺎﻟﺔ ﻛﺎن ﻗﺪ ﻛﺘﺒﻬﺎ ،ﻓﺴﺄﻟﻪ ﺳﻘﺮاط ﻋﻦ اﻟﻜﺘﺎب وﻣﻀﻤﻮﻧﻪ ،ﻓﺄﺟﺎب زﻳﻨﻮن ﺑﺄﻧﻪ »ﻛﺘﺎب ﻳﺪاﻓﻊ ﻓﻴﻪ ﻋﻦ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس« ﺿﺪ ﻣﻦ ﻳﺴﺨﺮون ﻣﻨﻪ وأﻧﻪ ﻳﺮد ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻓﻴﻪ ﻣﺴﺘﺨﺪﻣً ﺎ ﻣﻨﻄﻘﻬﻢ ﻧﻔﺴﻪ ،وﺧﺘﻢ ﺣﺪﻳﺜﻪ ﺑﻘﻮﻟﻪ إن اﻟﻬﺠﻮم ﻫﻮ ﺧري وﺳﻴﻠﺔ ﻟﻠﺪﻓﺎع .وﻛﺎﻧﺖ ﻋﺪﺗﻪ ﰲ ذﻟﻚ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ املﻔﺎرﻗﺎت ﻏﺎﻳﺔ ﰲ اﻟﱪاﻋﺔ واﻟﺤﺬاﻗﺔ ﰲ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻣﻨﻪ ﻟﻠﺘﺸﻜﻴﻚ ﰲ ر َؤى املﻨﻄﻖ اﻟﺴﻠﻴﻢ ﺑﺘﻮﺿﻴﺢ أن ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺮؤى ﻗﺪ ﺗﻘﻮد إﱃ ﻧﺘﺎﺋﺞ ﻏري ﻣﻘﺒﻮﻟﺔ ،وﻛﺎن ﻏﺮﺿﻪ ﻣﻦ ذﻟﻚ ﻫﻮ إﻋﻼء ﺷﺄن ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﺑﺘﻮﺿﻴﺢ أن آراء ﻣﻌﺎرﺿﻴﻪ ﻟﻴﺴﺖ ﺑﺄﻓﻀﻞ ﻣﻨﻪ ً ﺣﺎﻻ. وﻟﻨﺄﺧﺬ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل إﺣﺪى ﻣﻔﺎرﻗﺎت زﻳﻨﻮن اﻟﻔﺎﺿﺤﺔ ﻋﻦ اﻟﺤﺮﻛﺔ .ﻟﻨﻔﱰض ﺟﺪﻻ أن اﻟﺤﺮﻛﺔ ﻣﻤﻜِﻨﺔ ً ً ﻓﻌﻼ ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل املﻨﻄﻖ اﻟﺴﻠﻴﻢ وﻋﲆ ﻋﻜﺲ ﻣﺎ ﻳﺮى ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس، وﻟﻨﻔﱰض ﻛﺬﻟﻚ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ اﻹﻳﻀﺎح أن اﻟﻌَ ﺪﱠاء اﻟﴪﻳﻊ أﺧﻴﻞ ﻳﻨﻮي أن ﻳﺸﱰك ﰲ ﺳﺒﺎق ﻟﻠﺠﺮي ﺧﻼل ﻣﻬﺮﺟﺎن ﺑﺎﻧﺎﺛﻴﻨﺎ اﻟﺮﻳﺎﴈ اﻟﻌﻈﻴﻢ ،وﻟﻜﻦ زﻳﻨﻮن ﻳﻘﻮل ﻷﺧﻴﻞ إﻧﻪ ﻗﺒﻞ أن
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻳﺘﻌني ﻋﻠﻴﻪ ً ﱠ أوﻻ أن ﻳﻤﺮ ﺑﻤﻨﺘﺼﻒ اﻟﻄﺮﻳﻖ ،وﻗﺒﻞ أن ﻳﺼﻞ إﱃ ﻳﺼﻞ إﱃ ﻧﻘﻄﺔ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻣﻨﺘﺼﻒ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﻻ ﺑُ ﱠﺪ ﻟﻪ أن ﻳﻘﻄﻊ ﻣﺴﺎﻓﺔ ُرﺑُﻊ اﻟﻄﺮﻳﻖ ،وﻟﻜﻲ ﻳﻘﻄﻊ ﻫﺬه املﺴﺎﻓﺔ ً أﻳﻀﺎ ﻻ ﺑُ ﱠﺪ ﻟﻪ أن ﻳﻘﻄﻊ ﻣﺴﺎﻓﺔ ﺛُﻤُﻦ اﻟﻄﺮﻳﻖ ،ﻓﺒﺪأ اﻟﻘﻠﻖ ﻳﻨﺘﺎب أﺧﻴﻞ ﻷن ﻋﻤﻠﻴﺔ اﻟﺘﻔﻜري ﻫﺬه ﻗﺪ ﺗﺴﺘﻤﺮ دون ﻧﻬﺎﻳﺔ؛ وﺑﺬﻟﻚ أﻗﻨﻌﻪ زﻳﻨﻮن أﻧﻪ ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻪ أن ﻳﻘﻄﻊ أﻳﺔ ﻣﺴﺎﻓﺔ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق ﻷن ﻫﺬا ﻳﻘﺘﴤ ﻣﻨﻪ ﻗﻄﻊ ﻧﺼﻒ املﺴﺎﻓﺔ ﺛﻢ ُرﺑُﻌﻬﺎ ﺛﻢ ﺛﻤﻨﻬﺎ إﱃ ﻣﺎ ﻻ ﻧﻬﺎﻳﺔ؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﻼ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﺴﺒﺎق أن ﻳﺒﺪأ أﺑﺪًا .وﻳﻠﻤﺢ زﻳﻨﻮن إﱃ أن ﻫﺬه ﻫﻲ ﺣﺎﻟﺔ اﻻرﺗﺒﺎك اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺘﺎب املﺮء ﺣني ﻳﻔﻜﺮ ﰲ اﻟﺤﺮﻛﺔ؛ وﻟﺬﻟﻚ اﻧﺘﻬﻰ زﻳﻨﻮن إﱃ أﻧﻪ ﻣﻦ اﻷﻓﻀﻞ اﻻﻋﱰاف ﺑﺼﺤﺔ ﻗﻮل ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﺑﻌﺪم ﺣﺮﻛﺔ اﻷﺷﻴﺎء. ﱠ ﻳﺘﺒﻖ ﻣﻦ ﻣﻔﺎرﻗﺎت زﻳﻨﻮن ﺳﻮى ﺗﺴﻊ وﺛﻤﺔ أﻟﻐﺎز ﻛﺜرية ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﺸﺎﻛﻠﺔ .وﻟﻢ ﻣﻔﺎرﻗﺎت :أرﺑﻊ ﻣﻨﻬﺎ ﺗﺘﺤﺪث ﻋﻦ اﻟﺤﺮﻛﺔ ،وﺛﻼث ﻋﻦ ﻓﻜﺮة »اﻟﺘﻌﺪدﻳﺔ« اﻟﺘﻲ ﺗﺸري إﱃ وﺟﻮد اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻷﺷﻴﺎء ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ ﳾء واﺣﺪ ﻓﻘﻂ ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ،وواﺣﺪة ﻟﻠﺮد ﻋﲆ ﻓﻜﺮة اﻟﻔﻀﺎء ،وأﺧﺮى ﺗﻮﺿﺢ أن اﻟﺤﻮاس ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻻﻋﺘﻤﺎد ﻋﻠﻴﻬﺎ أو اﻟﻮﺛﻮق ﺑﻬﺎ. ً ﺣﺎذﻗﺎ ﰲ اﺑﺘﻜﺎر ﻫﺬه اﻷﻟﻐﺎز وﻗﺪ ﻳﻜﻮن ﻫﻨﺎك املﺰﻳﺪ ﻣﻦ ﻫﺬه املﻔﺎرﻗﺎت ،ﻓﺰﻳﻨﻮن ﻛﺎن واﺳﺘﺨﺪاﻣﻬﺎ ﰲ ﻣﻨﺎﻇﺮاﺗﻪ .وﻳﺬﻛﺮ ﺑﻠﻮﺗﺎرخ ﰲ اﻟﺴرية اﻟﺬاﺗﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺘﺒﻬﺎ ﻋﻦ رﺟﻞ اﻟﺪوﻟﺔ واﻟﺨﻄﻴﺐ اﻷﺛﻴﻨﻲ ِﺑﺮﻳﻜﻠﻴﺲ أﻧﻪ »ﻛﺎن ﻳﻮﻣً ﺎ ﻣﺎ ﺗﻠﻤﻴﺬًا ﻟﺰﻳﻨﻮن اﻹﻳﲇ وأﻧﻪ ﻗﺪ ﺗﻌ ﱠﻠﻢ ﻣﻨﻪ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ املﻔﺎرﻗﺎت ﻟﺘﻔﻨﻴﺪ آراء ﻣﻌﺎرﺿﻴﻪ ﻟﻠﺪرﺟﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺠﻌﻠﻬﻢ ﻳﺼﺎﺑﻮن ﺑﺎﻟﺤﺰن واﻟﻜﺪر«. وﻟﻜﻦ أرﺳﻄﻮ اﻟﺬي ﻛﺎن ﻳﻤﺘﻠﻚ ﰲ ﺟﻌﺒﺘﻪ إﺟﺎﺑﺔ ﻟﻜﻞ ﳾء ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ﻟﻢ ﺗَﺠﻠِﺐ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻔﺎرﻗﺎت زﻳﻨﻮن ﻻ ﺣﺰﻧًﺎ وﻻ ﻛﺪ ًرا ،ﻓﻘﺪ اﻋﺘﻘﺪ أﻧﻪ ﺑﺈﻣﻜﺎﻧﻪ أن ﻳﺘﻤ ﱠﻠﺺ ﻣﻨﻬﺎ رﻏﻢ أن ﺑﻌﺾ ﻣﺤﺎوﻻﺗﻪ ﻗﺪ ﺑﺎءت ﺑﺎﻟﻔﺸﻞ ،وﻟﻜﻨﻪ اﻋﱰف ﺑﺄن زﻳﻨﻮن ﻫﻮ »ﻣﺒﺘﻜﺮ اﻟﺠﺪل« .وﻳُﻌ ﱢﺮف أرﺳﻄﻮ »اﻟﺠﺪل« ﺑﺄﻧﻪ ﻃﺮﻳﻘﺔ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﺘﻲ اﺗﺒﻌﻬﺎ ﺳﻘﺮاط ﰲ ﻣﺤﺎورات أﻓﻼﻃﻮن اﻷوﱃ؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﺳﻘﺮاط ﻳﺤﺐ ﻣﺤﺎورة اﻟﻨﺎس وﺳﺆاﻟﻬﻢ ﻋﻦ آراﺋﻬﻢ ﻟﻴﺘﻮﺻﻞ إﱃ ﻧﺘﺎﺋﺞ ﻣﺎ ﻛﺎﻧﻮا ﻟﻴﻔ ﱢﻜﺮوا ﻓﻴﻬﺎ إﻻ ﺑﻔﻀﻞ أﺳﺌﻠﺘﻪ اﻟﺜﺎﻗﺒﺔ ،وﺑﺬﻟﻚ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻳﺘﻤ ﱠﻜﻦ ﺑﺎﻟﺘﺪرﻳﺞ ﻣﻦ ﺗﻘﻮﻳﺾ اﻷﺳﺎس اﻟﺬي ﺑَﻨَﻮْا ﻋﻠﻴﻪ آراءﻫﻢ وﺟﻌﻠﻬﻢ ﻳﻌﻴﺪون اﻟﻨﻈﺮ ﰲ اﻷﻣﻮر ﺑﺸﻜﻞ أﻋﻤﻖ ﻟﻴﺼﻠﻮا إﱃ إﺟﺎﺑﺔ ﻟﻸﺳﺌﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﺑني أﻳﺪﻳﻬﻢ .وﻳﺒﺪو أن ﺳﻘﺮاط ﻗﺪ أﺧﺬ ﻫﺬه اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﻦ أﺳﻠﻮب زﻳﻨﻮن اﻟﺘﻤﺤﻴﴢ؛ ﻓﻔﻲ املﻔﺎرﻗﺔ اﻟﺴﺎﺑﻖ ذﻛﺮﻫﺎ اﻧﻄﻠﻖ زﻳﻨﻮن ﻣﻦ رؤﻳﺔ املﻨﻄﻖ اﻟﺴﻠﻴﻢ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮل إن اﻟﺤﺮﻛﺔ ﻣﻤﻜﻨﺔ )وﺗﺤﺪﻳﺪًا اﻟﺤﺮﻛﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﺤﺘﺎﺟﻬﺎ ﻟﺨﻮض ﺳﺒﺎق( ،ﺛﻢ أوﺿﺢ ﺗﺪرﻳﺠﻴٍّﺎ ﻛﻴﻒ أن ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﻗﺪ ﺗﻘﻮدﻧﺎ إﱃ ﻛﺜري ﻣﻦ املﺸﻜﻼت .وﻳﺒﺪو أن زﻳﻨﻮن 92
ﻃﺮق املﻔﺎرﻗﺔ :زﻳﻨﻮن
ً ﻣﺘﺨﺼﺼﺎ ﰲ اﻟﺤﺠﺞ اﻟﺘﻲ ﺗﺪﺣﺾ آراء ﺧﺼﻮﻣﻪ ﰲ اﻟﺤﺎل ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺑﺮع ﺳﻘﺮاط ﰲ ﻛﺎن إﺿﻌﺎف آراء ﺧﺼﻮﻣﻪ ﺑﺒﻂء ﺣﺘﻰ ﻳﺪﺣﻀﻬﺎ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ،ﺛﻢ ﻳﻌﻄﻴﻬﻢ اﻧﻄﺒﺎﻋً ﺎ ﺑﺄن ﻫﺬا ﻟﻢ ﻳﻜﻦ إﻻ ملﺼﻠﺤﺘﻬﻢ ،وإن ﻛﺎن ﻛﻼﻫﻤﺎ ﻗﺪ اﺳﺘﺨﺪم اﻷﺳﻠﻮب اﻟﺴﻠﺒﻲ املﺘﻤﺜﻞ ﰲ اﺳﺘﻨﺘﺎج اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ ﻏري املﺮﻏﻮب ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻤﺎ ﻳﻘﻮﻟﻪ اﻵﺧﺮون أو ﻣﻤﺎ ﻳﻌﺘﻘﺪون ﻓﻴﻪ. ٍّ ﻣﺤﻘﺎ أن أﺳﻠﻮب اﻟﺠﺪل اﻟﺬي اﺳﺘﺨﺪﻣﻪ ﺳﻘﺮاط ﻛﺎن أﺳﻠﻮﺑًﺎ وﻗﺪ رأى أﻓﻼﻃﻮن إﻳﺠﺎﺑﻴٍّﺎ ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ املﻄﺎف؛ إذ ﻛﺎن ﻳُﻌَ ﱡﺪ أﺣﺪ املﺘﻄﻠﺒﺎت اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻟﻠﻤﻌﺮﻓﺔ ،ﻛﻤﺎ أن اﻟﻐﺮض ﻣﻨﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ اﻟﺠﺪل وﺗﻔﻨﻴﺪ ﺣﺠﺞ اﻵﺧﺮﻳﻦ ﺑﻘﺪر ﻣﺎ ﻛﺎن ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻟﺘﺼﺤﻴﺢ أي ﺧﻄﺄ ﰲ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ اﻟﺤﻜﻤﺔ ،وﻗﺪ ﻛﺎن ﺳﻘﺮاط ﻧﻔﺴﻪ ﻳﻨﻈﺮ ﻷﺳﻠﻮﺑﻪ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻨﺤﻮ ً أﻳﻀﺎ. وﻟﻜﻦ ﻳﺒﺪو أن أﻫﺪاف زﻳﻨﻮن ﻟﻢ ﺗ ُﻜﻦ ﻋﲆ اﻟﻘﺪر ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻦ ﱡ اﻟﺴ ُﻤ ﱢﻮ واﻟ ﱡﺮﻗ ﱢِﻲ ،ﻓﻠﻢ ﺗﻜﻦ ﻟﺪﻳﻪ أﻳﱠﺔ ﻧﻮاﻳﺎ ﺑَﻨﱠﺎءة ﻋﲆ ﺧﻼف ﺳﻘﺮاط ،وﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻟﺪﻳﻪ ﺳﻮى رﻏﺒﺔ ﰲ اﻟﺪﻓﺎع ﻋﻦ اﻟﻌَ ﻮَار اﻟﺸﺪﻳﺪ اﻟﺬي ﺷﺎبَ ﻛﺜريًا ﻣﻦ أﻓﻜﺎر ﻣﻌ ﱢﻠﻤﻪ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻳُﻨ َ ﻈ ُﺮ إﱃ زﻳﻨﻮن ﻧﻈﺮة ﺳﻠﺒﻴﺔ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎره ﺳﺒﺒًﺎ ﻟﻜﺜري ﻣﻦ املﺸﻜﻼت واﻟﺨﻼﻓﺎت وإن ﻛﺎن ﺑﺎرﻋً ﺎ ،وﻟﻜﻦ اﻟﺘﺎرﻳﺦ أﻧﺼﻔﻪ ﱠ ﺗﻮﺻﻞ ﻟﻴﺲ ﺑﻜﺸﻒ اﻟﻐﻄﺎء ﻋﻦ ﺟﻮاﻧﺐ اﻟﺨري ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻪ أو ﺑﺈﺛﺒﺎت ﺻﺤﺔ اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ اﻟﺘﻲ إﻟﻴﻬﺎ ،وﻟﻜﻦ ﺑﺎﻛﺘﺸﺎف ﺟﺎﻧﺐ داﺋﻢ اﻻﺳﺘﻔﺰاز واﻻﺳﺘﺜﺎرة ﰲ ﻣﻔﺎرﻗﺎﺗﻪ .ﻛﻤﺎ ﻛﺘﺐ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف وﻋﺎﻟِﻢ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت أﻟﻔﺮﻳﺪ واﻳﺘﻬﻴﺪ ﻋﺎم ١٩٣٢ﻣﻴﻼدﻳﺔ ً ﻗﺎﺋﻼ» :إن ﻣﺤﺾ اﻹﻗﺒﺎل ﻋﲆ ﺗﻔﻨﻴﺪ ﻣﻔﺎرﻗﺎﺗﻪ ﻋﲆ ﻣﺪار ﻛﻞ ﻗﺮن ﻫﻮ دﻟﻴﻞ ﻋﲆ اﻟﻨﺠﺎح اﻟﺒﺎﻫﺮ اﻟﺬي ﱠ ﺣﻘﻘﻪ زﻳﻨﻮن … ﻓﻠﻢ ﻳﺪ ُرس أﺣﺪ ﻓﻠﺴﻔﺔ زﻳﻨﻮن دون أن ﻳﺤﺎول ﺗﻔﻨﻴﺪَﻫﺎ ،ورﻏﻢ ذﻟﻚ ﻳﺮى اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﰲ ﻛﻞ ﻗﺮن أن آراءه ﻣﺎ زاﻟﺖ ﺗﺴﺘﺤﻖ اﻟﺘﻔﻨﻴﺪ«. ﻟﻘﺪ ُﻛﺘﺐ ملﻔﺎرﻗﺎت زﻳﻨﻮن — ﺧﺎﺻﺔ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺪﱠث ﻓﻴﻬﺎ ﻋﻦ اﻟﺤﺮﻛﺔ — أن ﺗُﻌَ ﻤﱢ ﺮ أﻃﻮل ﻣﻦ املﻔﺎرﻗﺎت اﻷﺧﺮى اﻟﺘﻲ ذاﻋﺖ ﰲ ﻋﻬﺪ ﻣﺎ ﻗﺒﻞ ﺳﻘﺮاط؛ ﻓﻘﺪ ﻧﺎﻗﺸﻬﺎ ﻋﻠﻤﺎء اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت وﻋﻠﻤﺎء اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ واﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﺑﺎﻟﺘﻔﺼﻴﻞ ،وﺗﻨﺎوﻟﻮﻫﺎ ﺑﺎﻟﺬﱢﻛﺮ ﻣﻨﺬ أن ُﻛﺘﺒﺖ ﻋﲆ ﻳﺪﻳﻪ ﺣﺘﻰ ﻳﻮﻣﻨﺎ ﻫﺬا .وﻗﺪ ﻧﻔﺦ ﺑﺮﺗﺮاﻧﺪ راﺳﻞ ﰲ ﻫﺬه املﻔﺎرﻗﺎت ُروحَ ﺣﻴﺎ ٍة ﰲ أواﺋﻞ ﻫﺬا اﻟﻘﺮن ﻟﻢ ﺗﺒﻠﻎ أرذل ﻋُ ﻤُﺮﻫﺎ ﺣﺘﻰ اﻵن ،ﺑﻞ إﻧﻬﺎ زﺣﻔﺖ إﱃ ﻣﺠﺎﻻت أﺧﺮى ﺣﻴﺚ اﺗﱠﺴﻊ اﺳﺘﺨﺪاﻣُﻬﺎ ﻟﻴﺸﻤﻞ ﺗﺤﻠﻴﻞ ﺑﻌﺾ اﻷﻋﻤﺎل اﻷدﺑﻴﺔ ﺑﺪءًا ﻣﻦ رواﻳﺔ )اﻟﺤﺮب واﻟﺴﻼم( ﻟﺘﻮﻟﺴﺘﻮي )اﻟﺘﻲ اﺳﺘُﺨﺪِﻣﺖ ﻓﻴﻬﺎ ﻫﺬه املﻔﺎرﻗﺎت؛ ﻹﻗﺎﻣﺔ ﻋﻼﻗﺔ ﺗﺸﺒﻴﻬﻴﺔ ﺿﻌﻴﻔﺔ ﺑني إدراك اﻟﺤﺮﻛﺔ وﻓﻬﻢ ً ووﺻﻮﻻ إﱃ ﻣﴪﺣﻴﺔ ﻫﺰﻟﻴﺔ ﻣﻦ أدب اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ )اﺳﺘُﺨﺪِﻣﺖ ﻓﻴﻬﺎ إﺣﺪى اﻟﺘﺎرﻳﺦ( ﻣﻔﺎرﻗﺎت زﻳﻨﻮن ﱠ املﻌﻘﺪة ﻹﺿﻔﺎء ﺟَ ﱟﻮ ﻣﻦ املﺮح ﻋﲆ أﺣﺪاث املﴪﺣﻴﺔ(. 93
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
وﻻ ﺗﺜري ﻫﺬه املﻔﺎرﻗﺎت إﻋﺠﺎﺑﻨﺎ ﺣﺘﻰ اﻵن ﻓﺤﺴﺐ ،ﺑﻞ ﻳﻘﺎل إن ﺗﺄﺛريﻫﺎ ﻻ ﻳﺰال ً دروﺳﺎ ﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﺘﻌ ﱠﻠﻤﻬﺎ ﻣﻨﻬﺎ .وﻳﻨﻄﻮي ﻫﺬا اﻻدﱢﻋﺎء املﺜري ﻓﻌﱠ ًﺎﻻ ﺣﺘﻰ اﻵن ،وإن ﺛﻤﺔ ﻟﻺﻋﺠﺎب ﻋﲆ ﳾء ﻣﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ وإن ﻛﺎن ﻣُﻀ ﱢﻠ ًﻼ إﱃ ﺣَ ﱟﺪ ﻣﺎ .إن ﻣﻔﺎرﻗﺎت زﻳﻨﻮن ﺗﺪﻳﻦ ﺑﺎﻟﻔﻀﻞ ﰲ اﻟﺒﻘﺎء ﺣﺘﻰ اﻵن إﱃ ﺣﻘﻴﻘﺔ أﻧﻨﺎ ﻻ ﻧﺪرك ﻛﻨﻬﻬﺎ ﺑﺎﻟﺘﺤﺪﻳﺪ ،ﻓﻨﺤﻦ ﻧﻌﺘﻤﺪ ﰲ َ املﻘﺘﻀﺒﺔ اﻟﻐﺎﻣﻀﺔ ورﺑﻤﺎ ﻏري اﻟﺪﻗﻴﻘﺔ اﻟﺘﻲ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ أﺷﻬﺮ ﻣﻔﺎرﻗﺎﺗﻪ ﻋﲆ اﻟﺘﻠﺨﻴﺼﺎت ﻗﺪﱠﻣﻬﺎ ﻟﻬﺎ أرﺳﻄﻮ ،وﻫﺬا ﻳﻌﻄﻲ ﻣﺴﺎﺣﺔ ﻛﺒرية ﻟﻠﻨﺰاع ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻌﻨﻲ ﻛﺬﻟﻚ أن املﻌ ﱢﻠﻘني ﻋﲆ ﻓﻠﺴﻔﺘﻪ ﻳﻤﻜﻨﻬﻢ أن ﻳﺘﻼﻋﺒﻮا ﺑﺎﻟﺘﻔﺴريات وﻳﻌﻴﺪوا ﺗﻔﺴريﻫﺎ ً وﻓﻘﺎ ﻟﺮؤﻳﺘﻬﻢ ،ﺑﻞ رﺑﻤﺎ ً ﺑﻌﻀﺎ ﻣﻦ أﻓﻜﺎرﻫﻢ إﱃ زﻳﻨﻮن وﻳﻨﺴﺒﻮﻧﻪ إﻟﻴﻪ ﰲ ﻧﺼﻮﺻﻪ املﻔﻘﻮدة .ﻛﻤﺎ أن ﻛﺜريًا ﻳﻌﺰون ﻣﻦ ﻫﺬه املﻔﺎرﻗﺎت ﻳﺘﻀﻤﻦ ﺣﺪﻳﺜًﺎ ﻋﻦ اﻟﻼﻧﻬﺎﻳﺔ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ أو ﺑﺄﺧﺮى .وﺑﻤﺎ أن ﻫﻨﺎك اﻟﻜﺜري ﻣﻤﱠ ﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﻘﻮﻟﻪ ﻋﻦ ﻫﺬه املﻔﺎرﻗﺎت ﻓﻬﻨﺎك اﻟﻜﺜري ً أﻳﻀﺎ ﻣﻤﱠ ﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﻘﻮﻟﻪ ﻋﻦ ﻓﻜﺮة اﻟﻼﻧﻬﺎﻳﺔ )ﺑﻞ إن ﻫﺬا أﺻﺢﱡ وأﻗﻮى( .وﻳﻤﻴﻞ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ واﻟﻌﻠﻤﺎء ﻣﻦ ﻣﺨﺘﻠﻒ اﻟﻌﺼﻮر إﱃ اﺳﺘﺨﺪام ﻣﻔﺎرﻗﺎت زﻳﻨﻮن ﻛﻤﺸﺠﺐ ﻳﻌ ﱢﻠﻘﻮن ﻋﻠﻴﻪ أﻓﻜﺎرﻫﻢ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻨﺎول اﻟﻼﻧﻬﺎﻳﺔ ،ﻣﻨﻬﺎ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل إﻣﻜﺎﻧﻴﺔ ﺗﻘﺴﻴﻢ املﻜﺎن واملﺎدة وﻣﻔﺎﻫﻴﻢ اﻟﻮﻗﺖ واﻟﺤﺮﻛﺔ .أﻣﺎ وﻗﺪ دﻓﻊ زﻳﻨﻮن املﻔﻜﺮﻳﻦ إﱃ اﻗﺘﺤﺎم ﻋﺎﻟﻢ اﻟﻼﻧﻬﺎﻳﺔ املﺤﻤﻮم ﺑﺎملﺸﻜﻼت ﻓﻘﺪ ﻓﺘﺢ ﻃﺎﻗﺔ ﻣﻦ ﺟﻬﻨﻢ أﺧﺬت ﺗﻘﺾ ﻣﻀﺠﻊ ﻋﺎﻟِﻢ ﻣﺜﻞ ﻧﻴﻮﺗﻦ ﺑﻌﺪ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ أﻟﻔﻲ ﻋﺎم ،ﺑﻞ ﻻ ﺗﺰال ﻫﺬه املﻔﺎرﻗﺎت ﻳُﺴﺘﺸﻬَ ﺪ ﺑﻬﺎ ﰲ اﻟﻨﺰاﻋﺎت املﻌﺎﴏة ﺑني ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء. وﻳ َْﱪُ ُز ﻫﻨﺎ أﺣﺪ اﻟﺠﻮاﻧﺐ اﻹﻳﺠﺎﺑﻴﺔ ﰲ ﻣﻔﺎرﻗﺎت زﻳﻨﻮن؛ ﻓﻘﺪ ﺗﺨﻄﺖ ﻣﺠﺎﻟﻬﺎ ﻟﺘﻔﺘﺢ ً آﻓﺎﻗﺎ أوﺳﻊ ﻟﻠﺤﺪﻳﺚ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ اﻟﺘﻘﻴﱡﺪ ﺑﻤﺎ ورد ﻓﻴﻬﺎ .وﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﺄﺧﺬ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﺳﺒﺎق أﺧﻴﻞ وأن ﻧﻔﴪه ﻋﲆ اﻟﻨﺤﻮ اﻟﺘﺎﱄ :ﻻ ﺷﻚ أن أﺧﻴﻞ إذا أراد أن ﻳﺠﺘﺎز أﻳﱠﺔ ﻣﺴﺎﻓﺔ ﻓﻌﻠﻴﻪ ً أوﻻ أن ﻳﺠﺘﺎز ﻧﺼﻔﻬﺎ ،وﻫﻜﺬا إﱃ ﻣﺎ ﻻ ﻧﻬﺎﻳﺔ ،وﻫﺬا ﻳﻌﻨﻲ أن ﻫﻨﺎك ،ﺑﻤﻌﻨﻰ ﻣﺎ، ﻋﺪدًا ﻻﻧﻬﺎﺋﻴٍّﺎ ﻣﻦ املﺴﺎﻓﺎت اﻟﺘﻲ ﻋﻠﻴﻪ اﺟﺘﻴﺎزﻫﺎ .إﻻ أن ﻫﺬا ﻻ ﻳﻌﻨﻲ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ أﻧﻪ ﻻ ﺑُ ﱠﺪ ﻟﻪ أن ﻳﺠﺘﺎز ﻛﻞ املﺴﺎﻓﺎت ﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻋﻴﻨﻪ ،ﺑﻞ ﻳﻌﻨﻲ أﻧﻪ ﻣﺘﻰ اﺟﺘﺎز ﻣﺴﺎﻓﺔ ﻣﻨﻬﺎ اﻧﺘﻘﻞ إﱃ اﻷﺧﺮى .وﻫﻨﺎ ﻳﻜﻤﻦ اﻟﺨﻄﺄ .وﻗﺪ ﻳﺴﺎﻋﺪﻧﺎ ﻫﻨﺎ أﺣﺪ اﻟﺘﺸﺒﻴﻬﺎت اﻟﺘﻲ ﺳﺎﻗﻬﺎ أﺣﺪ املﻌ ﱢﻠﻘني املﻌﺎﴏﻳﻦ ،ﻓﺈذا ﻛﺎن ﻟﺪﻳﻨﺎ ﺑﻴﻀﺔ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﱢ ﻧﻘﺴﻤﻬﺎ إﱃ ﻋﺪد ﻏري ﻣﺤﺪود ﻣﻦ اﻷﺟﺰاء ﻓﺈن ﻫﺬا ﻻ ﻳﻌﻨﻲ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ أﻧﻚ إذا أردت أن ﺗﺄﻛﻠﻬﺎ ﻓﻌﻠﻴﻚ أن ﺗﺘﻨﺎول ﻫﺬه اﻷﺟﺰاء واﺣﺪًا ﺗﻠﻮ اﻵﺧﺮ ،ﻓﺈذا ﻛﺎن ﻳﺠﺐ ﻋﻠﻴﻚ أن ﺗﻔﻌﻞ ذﻟﻚ ﻓﻌﻠﻴﻚ إذن أن ﺗﻤﺘﻠﻚ ﴎﻋﺔ ﻻﻧﻬﺎﺋﻴﺔ ﰲ اﻟﺘﻬﺎم أﺟﺰاء اﻟﺒﻴﺾ ،وإﻻ ﻓﺴﺘﻈ ﱡﻞ ﺗﺘﻨﺎول إﻓﻄﺎرك ﺣﺘﻰ ﻗﻴﺎم اﻟﺴﺎﻋﺔ. وﻟﺤﺴﻦ اﻟﺤﻆ ﻟﻴﺲ ﻋﻠﻴﻚ ﻫﺬا وﻻ ذاك ،ﻓﻤﺎ دام ﺑﺈﻣﻜﺎﻧﻚ أن ﺗﺘﻨﺎول ﻋﺪدًا ﻻﻧﻬﺎﺋﻴٍّﺎ ﻣﻦ 94
ﻃﺮق املﻔﺎرﻗﺔ :زﻳﻨﻮن
أﺟﺰاء اﻟﺒﻴﻀﺔ اﻟﺼﻐرية ﰲ ﻗﻀﻤﺎت ﻣﻌﺪودات ﺣﻴﺚ ﺗﺨﻠﺼﻚ ﻛﻞ ﻗﻀﻤﺔ ﻣﻦ ﻋﺪد ﻻﻧﻬﺎﺋﻲ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﻘﻄﻊ ،ﻳﻤﻜﻨﻚ ﻛﺬﻟﻚ أن ﺗﻘﻄﻊ ﻋﺪدًا ﻻﻧﻬﺎﺋﻴٍّﺎ ﻣﻦ املﺴﺎﻓﺎت ﰲ ﺧﻄﻮات ﻗﻠﻴﻠﺔ؛ إذ إن ﻛﻞ ﺧﻄﻮة ﺳﻮف ﺗﺠﺘﺎز ﺑﻚ ﻋﺪدًا ﻏري ﻣﺤﺪود ﻣﻦ املﺴﺎﻓﺎت اﻟﺼﻐرية .وﺗﻜﻔﻲ ﻫﺬه اﻟﻨﻘﻄﺔ ﻟﺪﺣﺾ ﻣﻔﺎرﻗﺔ اﻟﺴﺒﺎق اﻟﺴﺎﺑﻖ ذﻛﺮﻫﺎ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ رﻏﻢ ذﻟﻚ ﺗﻀﻊ ﻋﻼﻣﺎت اﺳﺘﻔﻬﺎم أﺧﺮى ،ﻓﻜﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻄﺮﻳﻖ ﺳﺒﺎق ﺑﻤﺴﺎﻓﺔ ١٠٠ﻣﱰ ً ﻣﺜﻼ أن ﻳﺤﺘﻮي ﻋﲆ ﻋﺪد ﻻﻧﻬﺎﺋﻲ ً ً ﻃﻮﻳﻼ ﻻ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻟﻪ؟ وإذا ﻛﺎن ﻟﻠﺒﻴﻀﺔ ﻃﺮﻳﻘﺎ ﻣﻦ املﺴﺎﻓﺎت؟ وملﺎذا ﻻ ﺗﺠﻌﻠﻪ ﻫﺬه املﺴﺎﻓﺎت ﻋﺪد ﻻﻧﻬﺎﺋﻲ ﻣﻦ اﻷﺟﺰاء ﻓﻠﻤﺎذا ﻻ ﻳﺠﻌﻠﻬﺎ ﻫﺬا ﺑﻴﻀﺔ ﻛﺒرية ﺑﺤﺠﻢ ﻻ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻟﻪ؟ ﻟﻘﺪ ﺳﺄل زﻳﻨﻮن ﻧﻔﺴﻪ ﻫﺬا اﻟﺴﺆال ﰲ ﻣﻮﺿﻊ إﺣﺪى ﻣﻔﺎرﻗﺎﺗﻪ ،وﻛﺎﻧﺖ اﻹﺟﺎﺑﺔ ُﻘﺴﻢ اﻟﻄﺮﻳﻖ إﱃ ﻧﺼﻔني ،وﻳ ﱠ ﻘﺴﻢ اﻟﺒﻴﻀﺔ أو ﻳ ﱠ أﻧﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗُ ﱠ ُﻘﺴﻢ اﻟﻨﺼﻔﺎن إﱃ ﻧﺼﻔني ُ ﺗﺼﻐﺮ أﻛﺜﺮ وأﻛﺜﺮ ﻛﻠﻤﺎ آﺧﺮﻳﻦ ،وﻫﻜﺬا إﱃ ﻣﺎ ﻻ ﻧﻬﺎﻳﺔ؛ ﻓﺈن أﺟﺰاء اﻟﺒﻴﻀﺔ أو اﻟﻄﺮﻳﻖ ازداد ﺗﻘﺴﻴﻤﻬﻤﺎ وﻛﺬﻟﻚ إﱃ ﻣﺎ ﻻ ﻧﻬﺎﻳﺔ) .وﻳﻘﻮل ﻋﻠﻤﺎء اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت إن ﻫﺬه اﻟﺴﻠﺴﻠﺔ ﻣﻦ اﻟﺘﻘﺴﻴﻤﺎت واﻟﺘﺼﻐري ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻘﱰب ﻣﻦ ﺣَ ﱟﺪ ﻣﻌني وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻻ ﺗﺼﻞ إﻟﻴﻪ أﺑﺪًا (.وﻟﻢ ﻳﻜﻦ زﻳﻨﻮن ﰲ اﻟﻈﺎﻫﺮ ﻋﲆ ﻋﻠ ٍﻢ ﺑﻬﺬه اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ،إﻻ أن ﻋﺪم وﺟﻮد ﺣَ ﱟﺪ ﻧﻬﺎﺋﻲ ﻟﺘﻘﺴﻴﻢ اﻷﺟﺰاء — ً إﻣﻜﺎﻧﻴﺔ ﻛﺬﻟﻚ ﻟﻺﺿﺎﻓﺔ إﻟﻴﻬﺎ إﱃ ﺣَ ﱟﺪ ﻻﻧﻬﺎﺋﻲ .وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﺗﺼﻐريﻫﺎ — ﻳﻌﻨﻲ أن ﺛﻤﺔ ﻓﻼ ُ ﱢ ﻣﺘﻮﺳﻄﺔ اﻟﺤﺠﻢ ﺗﺤﺘﻮي ﻋﲆ ﻋﺪد ﻻﻧﻬﺎﺋﻲ ﺗﻨﺎﻗﺾ ﰲ املﻔﺎرﻗﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮل إن اﻟﺒﻴﻀﺔ ﻣﻦ اﻷﺟﺰاء ،وإن ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺴﺒﺎق اﻟﺒﺎﻟﻎ ﻃﻮﻟﻪ ١٠٠ﻣﱰ ﻳﺤﺘﻮي ﻫﻮ اﻵﺧﺮ ﻋﲆ ﻋﺪد ﻻﻧﻬﺎﺋﻲ ﻣﻦ املﺴﺎﻓﺎت. واﻟﻘﺎرئ اﻟﺬي ﻻ ﻳﺰال ﰲ ﺣَ ري ٍة ﻣﻦ أﻣﺮه ﺑﺴﺒﺐ ﻫﺬه اﻷﻟﻐﺎز اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﻨﺘﻬﻲ ﻳﻤﻜﻨﻪ أن ﻳﻠﺘﻤﺲ اﻟﺴﻠﻮى ﰲ ﺣﻘﻴﻘﺔ أﻧﻪ ﻟﻴﺲ أوﱠل ﻣﻦ ﻳﺘﻤﻠﻜﻪ ﻫﺬا اﻟﺸﻌﻮر؛ إذ إن ﻓﻜﺮة وﺟﻮد ﺳﻠﺴﻠﺔ ﻣﻦ اﻟﺘﻘﺴﻴﻤﺎت اﻟﻼﻧﻬﺎﺋﻴﺔ ﻟﻢ ﺗُﴩَ ح ﺑﺸﻜﻞ ٍ واف ﺣﺘﻰ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ .ﻓﻔﻲ ﻫﺬا اﻟﻌﴫ ﻛﺎن ﻧﻴﻮﺗﻦ وﻻﻳﺒﻨﺘﺲ ﻗﺪ أﺣﺮزا َ ﺑﻌﺾ اﻟﺘﻘﺪﱡم ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌ ﱠﻠﻖ ﺑﻨﻮﻋﻴﺔ ﻣﺸﺎﺑﻬﺔ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻷﺳﺌﻠﺔ ﺑﺎﺳﺘﺨﺪام ﻋﻠﻢ ﺣﺴﺎب اﻟﺘﻔﺎﺿﻞ واﻟﺘﻜﺎﻣﻞ اﻟﺬي وﺿﻌﺎه .وﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن ﻫﺬا اﻟﻌﻠﻢ ﻗﺪ أﻋﻄﻰ ﻓﺮﺻﺔ ﻟﺒﻌﺾ اﻟﻌﻠﻤﺎء ﻹﺟﺮاء اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺤﺴﺎﺑﺎت ﻋﻦ اﻟﺤﺮﻛﺔ ﱡ واﻟﺘﻐري اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﻣﻦ املﺴﺘﺤﻴﻞ إﺟﺮا ُؤ َﻫﺎ ﰲ املﺎﴈ؛ ﻓﻘﺪ ﻇ ﱠﻞ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻷﻓﻜﺎر ﻓﻴﻪ ﻣﻠﺘَ ِﺒ ًﺴﺎ ﻋﲆ اﻟﻨﺎس ﺣﺘﻰ ﺗﻨﺎوﻟﻪ ﺑﺎﻟﴩح واﻟﺘﻔﺴري اﻟﻌﻠﻤﺎء دﻳﺪﻳﻜﺎﻳﻨﺪ وﻓﺎﻳﺸﱰاس وﻛﺎﻧﺘﻮر وﻏريﻫﻢ ﻣﻦ ﻋﻠﻤﺎء اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ .أﻣﺎ ﻓﻜﺮة ﻧﻴﻮﺗﻦ املﺸﻮﻫﺔ ﺣﻮل اﻟ َﻜﻤﱢ ﻴﱠﺎت ﻣﺘﻨﺎﻫﻴﺔ ﱢ اﻟﺼ َﻐﺮ — وﻫﻲ إﺣﺪى ﺧﺼﺎﺋﺺ ﻋﻠﻢ ﺣﺴﺎب اﻟﺘﻔﺎﺿﻞ واﻟﺘﻜﺎﻣﻞ اﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻧﻴﻮﺗﻦ ﻧﻔﺴﻪ راﺿﻴًﺎ ﻋﻨﻬﺎ — ﻓﻘﺪ ﻫﺎﺟﻤﻬﺎ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف ﺑﻴﺸﻮب ﺑريﻛﲇ اﻟﺬي ﻋﺎش ﰲ اﻟﻘﺮن 95
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
اﻟﺜﺎﻣﻦ ﻋﴩ ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ ﻧﻔﺮ آﺧﺮ ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻤﺎء .وﻗﺪ ﺗﺤﺪث ﺑريﻛﲇ ﻋﻦ اﻟﻜﻤﻴﺎت ﻣﺘﻨﺎﻫﻴﺔ اﻟﺼﻐﺮ ﺳﺎﺧ ًﺮا ﻓﻘﺎل» :إن اﻟﻜﻤﻴﺎت ﻣﺘﻨﺎﻫﻴﺔ اﻟﺼﻐﺮ إﻧﻤﺎ ﻫﻲ ﺑﻘﺎﻳﺎ اﻟﻜﻤﻴﺎت اﻟﻬﺎﻟﻜﺔ «.وﻗﺪ اﺣﺘﺎج اﻷﻣﺮ إﱃ ﻋﺒﻘﺮﻳﺔ ﻛﺎﻧﺘﻮر وآﺧﺮﻳﻦ ﺣﺘﻰ ﻳﺘﺨﻠﺼﻮا ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﺒﻘﺎﻳﺎ ،ﻓﻼ داﻋﻲ إذن أن ﻳﺸﻌﺮ املﺮء ﺑﺎﻟﺤﺮج إذا ﻋﺮﻗﻠﺘﻪ ﻫﺬه اﻟﺒﻘﺎﻳﺎ. وﺛﻤﺔ ﻣﻔﺎرﻗﺔ أﺧﺮى ﻣﻦ ﻣﻔﺎرﻗﺎت زﻳﻨﻮن ﺣﻮل اﻟﺤﺮﻛﺔ ﺗﺒﺘﻌﺪ ﻋﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻋﲆ اﻟﻘﺪر ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻦ اﻟﱪاﻋﺔ واﻟﺤﺬاﻗﺔ .وﺗﻬﺪف ﻫﺬه املﻔﺎرﻗﺔ إﱃ ﺗﻮﺿﻴﺢ أن اﻟﺴﻬﻢ ٍ ﺣﺎﻟﺔ ﻣﻦ اﻟﺜﺒﺎت ﻻ ﻳﺘﺤﺮك؛ ﺣﻴﺚ إﻧﻚ ﻟﻮ رﺻﺪﺗﻪ املﻨﻄﻠِﻖ ﰲ اﻟﻬﻮاء ﻳﻜﻮن ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﰲ ﰲ ﻛﻞ ﻟﺤﻈﺔ ﻣﻦ ﻟﺤﻈﺎت ﻃرياﻧﻪ ﻟﻮﺟﺪﺗﻪ ﻳﺸﻐﻞ ﺣﻴ ًﺰا ﻣﻦ اﻟﻔﻀﺎء ﻳﺘﻤﺎﺛﻞ ﻣﻌﻪ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ً ﻓﻤﺜﻼ اﻟﺴﻬﻢ املﺘﺤﺮك اﻟﺬي ﻳﺒﻠﻎ ﻃﻮﻟﻪ ١٢ﺑﻮﺻﺔ ﻳﺸﻐﻞ ﺳﻠﺴﻠﺔ ﻣﻦ املﺴﺎﺣﺎت اﻟﺤﺠﻢ، ﻃﻮل ﻛ ﱟﻞ ﻣﻨﻬﺎ ١٢ﺑﻮﺻﺔ .وﻳﺒﺪو أن زﻳﻨﻮن ﻳﻘﺼﺪ ﻫﻨﺎ أن اﻟﺴﻬﻢ ﻳﻜﻮن داﺋﻤً ﺎ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﻣﻦ اﻟﺴﻜﻮن ﰲ ﻣﺴﺎﺣﺔ ﻃﻮﻟﻬﺎ ١٢ﺑﻮﺻﺔ .وﻟﻨﺎ أن ﻧﻨﻈﺮ إﱃ اﻷﻣﺮ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ أﺧﺮى ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻧﺴﺄل» :ﻣﺘﻰ ﺗﺤﺪﻳﺪًا ﻳﻜﻮن اﻟﺴﻬﻢ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ اﻟﺤﺮﻛﺔ؟« ﻓﺈذا ﻓ ﱠﻜﺮﻧﺎ ﰲ ﺣﺮﻛﺔ ﻃرياﻧﻪ املﺰﻋﻮﻣﺔ ﻣﻜﺎن ﻣﺎ ﺛ ُ ﱠﻢ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﻳﻨﺘﻘﻞ إﱃ ﻣﻜﺎن آﺧﺮ ،وﺧﻼل اﻧﺘﻘﺎﻟﻪ ﻣﻦ ﻓﺴﻨﺠﺪ أن اﻟﺴﻬﻢ اﻵن ﰲ ٍ ﻣﻜﺎن ملﻜﺎن ﻻ ﺑُ ﱠﺪ وأن َ ﻳﺸﻐﻞ ﻣﺴﺎﺣﺔ ﺑني ﻫﺬﻳﻦ املﻜﺎﻧني؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻳﺒﺪو ﰲ ﺣﺎﻟﺔ داﺋﻤﺔ ﻣﻦ اﻟﺴﻜﻮن ﺑﺸﻜﻞ أو ﺑﺂﺧﺮ .إذن ﻣﺘﻰ ﻳﺘﺤﺮك ﻣﻦ ﻣﻜﺎن ﻵﺧﺮ؟ ﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﺛﻤﺔ وﻗﺖ ﻳﺘﺤﺮك ﻓﻴﻪ. ﱢ املﺘﺪﻓﻘﺔ ﻟﻠﺴﻬﻢ ﰲ ﻗﺎﻟﺐ ﻣﻦ اﻟﺠﻤﻮد ﺣني رﺻﺪﻫﺎ وﻳﺒﺪو أن زﻳﻨﻮن ﻗﺪ وﺿﻊ اﻟﺤﺮﻛﺔ ﻣﺘﻨﺎو ًﻻ ﻛﻞ ﻟﺤﻈﺔ ﻣﻦ ﻟﺤﻈﺎت ﺣﺮﻛﺘﻪ ﻋﲆ ﺣﺪة ،وﻫﺬا ﰲ ﺣَ ﱢﺪ ﻋﲆ ﺷﻜﻞ ﺻﻮر ﻓﻮﺗﻮﻏﺮاﻓﻴﺔ ِ َ ذاﺗﻪ ﻻ ﻳﺨﺮج ﻋﻦ ﺟﺎدة اﻟﺼﻮاب وﻟﻜﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﺘﻲ أ َ ﻏﻔ َﻠﻬﺎ ﻫﻲ أن اﻟﺤﺮﻛﺔ ﺗﺘﻜﻮﱠن ﰲ اﻷﺳﺎس ﻣﻦ ﺳﻠﺴﻠﺔ ﻣﻦ ﻣﻮاﺿﻊ اﻟﺴﻜﻮن ،وﺧﻄﺄ زﻳﻨﻮن ﻳﻜﻤُﻦ ﰲ ﱡ ﺗﻮﺻﻠﻪ ﻻﺳﺘﻨﺘﺎﺟﻪ اﻟﺬي ﻳﻘﻮل إﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﻫﻨﺎك أي ﳾء ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﺣﺮﻛﺔ ﻣﻦ ﻫﺬه املﻘﺪﱢﻣﺎت .وﻧﺤﻦ ﺣني ﻧﻘﻮل إن َ ﻳﺸﻐﻞ أﻣﺎﻛ َِﻦ ﻣﺘﻌﺎﻗِ ﺒَﺔ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ وﰲ أوﻗﺎت ﺷﻴﺌٍّﺎ ﻣﺎ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﻣﻦ اﻟﺤﺮﻛﺔ؛ ﻓﻬﺬا ﻳﻌﻨﻲ أﻧﻪ ﻣﺘﻌﺎﻗﺒﺔ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﺰﻳﻨﻮن ﻛﺎن ﻋﲆ ﺣَ ﱟﻖ ﻋﻨﺪﻣﺎ أﻧﻜﺮ أن ﻳﻜﻮن اﻟﺴﻬﻢ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﻣﻦ اﻟﺤﺮﻛﺔ ﰲ ﻟﺤﻈﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ ،ﻟﻴﺲ ﻷن اﻟﺴﻬﻢ ﻛﺎن ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﻣﻦ اﻟﺴﻜﻮن ﰲ ﻫﺬه اﻟﻠﺤﻈﺔ ،ﺑﻞ ﻷن اﻟﺘﻔﺮﻳﻖ ﺑني اﻟﺤﺮﻛﺔ واﻟﺴﻜﻮن أﻣﺮ ﻻ ﻓﺎﺋﺪة ﻣﻨﻪ ﻋﻨﺪ رﺻﺪه ﰲ ﻟﺤﻈﺎت ﻣﺴﺘﻘﻠﺔ ،ﺑﻞ ﻋﻨﺪ رﺻﺪه ﻣﻜﺎن واﺣﺪ ﻃﻴﻠﺔ اﻟﻮﻗﺖ ﻓﺈﻧﻪ ﺧﻼل ﻓﱰة ﻣﻤﺘﺪة ﻣﻦ اﻟﻮﻗﺖ .وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﺈذا ﻛﺎن اﻟﺴﻬﻢ ﰲ ٍ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﺳﻜﻮن ،أﻣﺎ إذا و ُِﺟ َﺪ ﰲ أﻣﺎﻛﻦ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻜﻮن ﻗﺪ ﺗﺤ ﱠﺮك .وﻫﺬا ﻫﻮ املﻌﻨﻰ املﻘﺼﻮد ﺑﺎﻟﺤﺮﻛﺔ ﻻ أﻛﺜﺮ. 96
ﻃﺮق املﻔﺎرﻗﺔ :زﻳﻨﻮن
وﻳُﻌ َﺮف ﻫﺬا اﻟﺘﻔﺴري ﺑﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺤﺮﻛﺔ اﻻﺳﺘﺎﺗﻴﻜﻴﺔ ،ودون ﻗﺼﺪ ﺗُﻘﺪﱢم ﻣﻔﺎرﻗﺔ ﺳﻬﻢ زﻳﻨﻮن ﺳﺒﺒًﺎ ﻗﻮﻳٍّﺎ ﻟﻘﺒﻮﻟﻬﺎ .وﺛﻤﺔ ﻣﻔﺎرﻗﺔ أﺧﺮى ﻟﺰﻳﻨﻮن ﻟﻦ ﻧﻨﺎﻗﺸﻬﺎ ﰲ ﻫﺬا املﻘﺎم ،وﻫﻲ ﻈﻬﺮ دون ﻗﺼﺪ ﺣﻘﻴﻘﺔ أن ﺣﺮﻛﺔ ﳾء ﻣﺎ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ رﺻﺪُﻫﺎ إﻻ ﻣﻦ ﺧﻼل ﻣﻘﺎرﻧﺘﻬﺎ ﺗُ ِ ﺑﺤﺮﻛﺔ أﺷﻴﺎء أﺧﺮى؛ أي ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﻘﻮل إن اﻷﺷﻴﺎء ﺗﺘﺤﺮك ﰲ ذاﺗﻬﺎ ،وإﻧﻤﺎ ﻓﻘﻂ ﻋﻨﺪ ﻣﻘﺎرﻧﺘﻬﺎ ﺑﻐريﻫﺎ ﻣﻦ اﻷﺷﻴﺎء ،وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈن ﻣﻔﺎرﻗﺎت زﻳﻨﻮن ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ أن ﺗﻨﺒﺬ ﻓﻜﺮة اﻟﺤﺮﻛﺔ ﻣﻦ اﻷﺳﺎس — وﻫﻮ ﻣﺎ ﻛﺎن ﻣﻦ أﻫﺪاف زﻳﻨﻮن املﻌﻠﻨﺔ — ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺗﺴﻮي ﺑني اﻟﻔﻜﺮﺗني ﺑﺘﻮﺟﻴﻬﻨﺎ إﱃ َﻓﻬﻢ أﻛﺜﺮ دﻗﺔ ملﻔﻬﻮم اﻟﺤﺮﻛﺔ. وﻧﺤﻦ اﻵن ﺑﺼﺪد اﻟﺘﻌﻠﻴﻖ ﻋﲆ ﻣﺎ ﱠ ﺣﻘﻘﻪ زﻳﻨﻮن ﻣﻦ إﻧﺠﺎزات .ﻟﻘﺪ رأﻳﻨﺎ ﻛﻴﻒ أﺛﺎرت ﻣﻔﺎرﻗﺎﺗﻪ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻷﺳﺌﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﱠ ﺣريت اﻟﻜﺜري ﻣﻦ ﻣﻔ ﱢﻜﺮي ﻋﴫه ،ﺑﻞ وﻛﺜريًا ﻣﻤﱠ ﻦ ﺟﺎءوا ﺑﻌﺪه ﺑﺰﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ؛ ﺣﻴﺚ ﻟﻢ ﻳﺘﻤ ﱠﻜﻨﻮا ﻣﻦ ﺗﻘﺪﻳﻢ إﺟﺎﺑﺎت ﺷﺎﻓﻴﺔ ﻟﻬﺎ .وﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل ﻣﻊ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ،ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﺰﻋﻢ ﺑﺎﻟﻨﻴﺎﺑﺔ ﻋﻦ زﻳﻨﻮن أن أﺣﺪ اﻷﺳﺒﺎب اﻟﺘﻲ ﺗﺠﻌﻠﻨﺎ ﻧﻔﻬَ ُﻢ ﻣﻔﺎرﻗﺎﺗﻪ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺪﱠث ﻓﻴﻬﺎ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺴﺒﺎق ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل أو ﺗﻌﺮﻳﻒ اﻟﺤﺮﻛﺔ ،ﻫﻮ أن اﻷﻟﻐﺎز اﻟﺘﻲ ﺳﺎﻗﻬﺎ ﻗﺎدت املﻔ ﱢﻜﺮﻳﻦ ﻣﻦ ﺑﻌﺪه إﱃ ﺗﻨﻘﻴﺢ أﻓﻜﺎرﻫﻢ ﻟﻴﺘﻤ ﱠﻜﻨﻮا ﻣﻦ اﻟﺘﻌﺎﻣُﻞ ﻣﻌﻬﺎ .ﻓﺎﻷﻓﻜﺎر ﺗﺘﻄﻮر ﻣﻊ اﻟﻮﻗﺖ ،ووﺟﻮد ﻣﺜﻞ ﻫﺬه املﺸﻜﻼت اﻟﺘﻲ ﺗﺜريﻫﺎ ﻣﻔﺎرﻗﺎت زﻳﻨﻮن ﻫﻮ أﻛﱪ ﻋﺎﻣﻞ ﻣﺴﺎﻋِ ﺪ ﰲ ﺗﻄﻮر ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻷﻓﻜﺎر. وﻳﺒﺪو أن زﻳﻨﻮن ﻗﺪ َﺷ ﱠ َ وﻏﺎﱃ ﰲ ﺣﻤﺎﺳﻪ ﻻﺻﻄﻴﺎد اﻷﻟﻐﺎز واﻟﺤﺠﺞ ،وﻫﻮ ﻂ ﺑﻌﻴﺪًا ﻣﺎ أدﱠى ﺑﻪ إﱃ ﺧﻠﻂ اﻟﺤﺎﺑﻞ ﺑﺎﻟﻨﺎﺑﻞ .أﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﻦ اﻷﻓﻀﻞ ﻟﺰﻳﻨﻮن أن ﻳﻘﻮل إن ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﺮﻛﺔ وﻓﻜﺮة اﻟﻼﻧﻬﺎﻳﺔ ﺗﺤﺘﺎﺟﺎن ملﺰﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺒﺤﺚ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ إﻧﻜﺎر ﺣﺮﻛﺔ اﻷﺷﻴﺎء ﺑﺎﻟﻜﻠﻴﺔ؟ وﺑﺈدراﻛﻨﺎ اﻟﺤﺎﱄ ﻟﻸﻣﻮر ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﻘﻮل إن اﻹﺟﺎﺑﺔ ﻫﻲ ﻧﻌﻢ؛ ﻓﻘﺪ ذﻫﺐ زﻳﻨﻮن ﺑﻌﻴﺪًا ﰲ أﻳﻀﺎ أن ﻧﺪرك َﻛ ْﻢ ﱠ أﻓﻜﺎره ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﺟﺬب اﻻﻧﺘﺒﺎه إﻟﻴﻪ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ .وﻟﻜﻦ ﻋﻠﻴﻨﺎ ً ﺗﺄﺧ ْﺮﻧﺎ ﰲ إﺻﺪار ﻫﺬا اﻟﺤﻜﻢ ﻋﻠﻴﻪ؛ ﻓﻘﺪ ﺛﺒَﺖ أﻧﻪ ﻣﻦ املﻤﻜﻦ ﺗﻄﻮﻳ ُﺮ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺘﻲ ﺗﺪور ﺣﻮل اﻟﺤﺮﻛﺔ وﻗﺎﺑﻠﻴﺔ اﻟﺘﻘﺴﻴﻢ إﱃ ﻣﺎ ﻻ ﻧﻬﺎﻳﺔ وإﻋﺎدة ﺑﻨﺎﺋﻬﺎ ﻟﻨﺄﺧﺬ اﻋﱰاﺿﺎﺗﻪ ﺑﻌني اﻻﻋﺘﺒﺎر ،وﻟﻜﻦ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ زﻳﻨﻮن ﻧﻔﺴﻪ ﻟﻴﻌﻠﻢ ﻛﻴﻔﻴﺔ اﻟﻘﻴﺎم ﺑﻬﺬا اﻷﻣﺮ؛ ﻓﻘﺪ رأى أن أﻓﻜﺎر اﻟﺤﺮﻛﺔ وﻗﺎﺑﻠﻴﺔ اﻟﺘﻘﺴﻴﻢ إﱃ ﻣﺎ ﻻ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻣﺤﺾ ﺣﺪﻳﺚ أﺟﻮف ﻻ ﻃﺎﺋﻞ ﻣﻦ وراﺋﻪ. وﺗﻌﺮض ﻣﻔﺎرﻗﺎت زﻳﻨﻮن ﺑﻮﺿﻮح َﻛ ﱠﻢ املﻌﺮﻓﺔ اﻟﺘﻲ ﻗﺪ ﻳﺤﺼﻞ ﻋﻠﻴﻬﺎ املﺮء ﻣﻦ اﻟﺘﺄﻣﻼت اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ؛ ﻓﻬﻲ ﺗﺴﺘﺠﲇ اﻷﻓﻜﺎر وﺗﺴﺘﺜريﻫﺎ ،وﻫﻮ أﻣﺮ ﻣ ُِﻬ ﱞﻢ ﻟﺘَ َﻘ ﱡﺪ ِم املﻌﺮﻓﺔ؛ إذ إن اﻟﺤﺠﺞ املﺠﺮدة واﻟﺘﺄﻣﻞ ﰲ املﻔﺎﻫﻴﻢ ﻳﻠﻌﺒﺎن دو ًرا ﻛﺒريًا ﰲ اﻛﺘﺸﺎف اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﻋﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ أﻛﺜﺮ 97
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻣﻤﱠ ﺎ ﻗﺪ ﻳﻈﻨﻪ املﺮء ﻟﻠﻮﻫﻠﺔ اﻷوﱃ ،ﻓﺤﻘﻴﻘﺔ أن اﻟﻌﻠﻤﺎء ﻳﻘﻮﻣﻮن ﻓﻘﻂ ﺑﺘﺴﺠﻴﻞ ﻣﻼﺣﻈﺎﺗﻬﻢ وﺟﻤﻊ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ أﺛﻨﺎء ﺗﺠﻮﱡﻟﻬﻢ ﻫﻲ اﻋﺘﻘﺎد ﺧﺎﻃﺊ وﻳﻌﻜﺲ ﺻﻮرة ﻣﻐﻠﻮﻃﺔ ﻋﻦ ﻣﻬﻤﺘﻬﻢ اﻟﺘﻮﺻﻞ إﱃ ُ ﱡ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ،ﻓﻬﻢ ﻳ َْﺴﻌَ ﻮ َْن ﻛﺬﻟﻚ إﱃ ﻃ ُﺮ ٍق ﻟﻮﺻﻒ ﻣﺎ ﻳﻼﺣﻈﻮﻧﻪ وﻳﺤﺎوﻟﻮن ﺗﻮﺻﻠﻮا إﻟﻴﻬﺎ ﰲ ﺻﻮرة ﻧﻈﺮﻳﺎت ﺗﻔﺴريﻳﺔ َ ﺻﻴﺎﻏﺔ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ اﻟﺘﻲ ﱠ ﻣﺘﻘﻨَﺔ وﻳﺘﺄﻣﻠﻮن ﰲ اﻷدﻟﺔ اﻟﺘﻲ ﺟﻤﻌﻮﻫﺎ .وﻳﻤﻜﻨﻨﺎ اﻟﻘﻮل إﻧﻬﻢ ﻳﻘﻮﻣﻮن ﺑﺈﻋﺎدة ﺑﻨﺎء أﻓﻜﺎرﻧﺎ وﻣﻌﺘﻘﺪاﺗﻨﺎ ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﺗُﺴﺘﺨﺪَم ﻣﻦ أﺟﻠﻪ ﻣﻔﺎرﻗﺎت زﻳﻨﻮن وﻏريه ﻣﻦ املﻔ ﱢﻜﺮﻳﻦ ،ﻓﻴﻤﻜﻦ وﺻﻒ ﻣﺎ ﺗﻘﺪﻣﻪ ﻫﺬه اﻟﺤﺠﺞ ﺑﺎﻟﻨﻘﺪ املﻔﻬﻮﻣﻲ .وﻫﺬا اﻟﻨﻘﺪ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ وﺻﻔﻪ ﻋﲆ أﻳﱠﺔ ﺣﺎل ﺑﺄﻧﻪ املﺠﺎل اﻟﻮﺣﻴﺪ اﻟﺬي ﻳﺪور ﰲ ﻓﻠﻜﻪ ﻣﻦ ﻳ َُﺴﻤﱡ َ ﻮن أﻧﻔﺴﻬﻢ ﻓﻼﺳﻔﺔ؛ ﻓﻬﻮ ﻟﻴﺲ ﺣﻜ ًﺮا ﻋﲆ أﺣ ٍﺪ ﺑﻌﻴﻨﻪ .ﻻ ﻳﻬﻤﻨﺎ ﻣﻦ أي ﻣﺼﺪر اﺳﺘﻘﻰ زﻳﻨﻮن أﻓﻜﺎره وﻣﻔﺎرﻗﺎﺗﻪ ،وﻻ ﻳ ُِﻬﻤﱡ ﻨَﺎ ﻛﺬﻟﻚ ﻣﺎ إذا ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺘﻨﺎﻗﺾ ﻣﻊ املﻨﻄﻖ اﻟﺴﻠﻴﻢ اﻟﺬي ﻧﻌﺮﻓﻪ اﻟﻴﻮم ﻣﺎ داﻣﺖ ﺗﻌﻤَ ﻞ ﻋﲆ ﺗﺤﻔﻴﺰﻧﺎ ،وأﻧﻨﺎ ﻧ َ ِﺠ ُﺪ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﺪروس ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ اﻻﺳﺘﻔﺎدة ﻣﻨﻪ. إن اﻟﺘﺄﺛري اﻷﻛﱪ ﻷﻓﻜﺎر ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس وزﻳﻨﻮن ﻫﻮ إﺛﺎرة اﻻﻫﺘﻤﺎم ﺑﺒﻌﺾ أﻋﻤﺎل ﻣﻔﻜﺮي اﻟﻘﺮن اﻟﺨﺎﻣﺲ أﻣﺜﺎل إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ وأﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس وﻟﻴﻮﻛﻴﺒﻮس ودﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ )وﻻ ﺳﻴﻤﺎ اﻷﺧريَﻳْﻦ(؛ إذ ﻳﻤﺜﻞ ﻫﺆﻻء اﻟﺮﺟﺎل املﺮﺣﻠﺔ اﻟﻨﻬﺎﺋﻴﺔ ﰲ ﻓﻜﺮ ﻣﺎ ﻗﺒﻞ ﺳﻘﺮاط ،ﺗﻠﻚ اﻟﻔﱰة املﺘﻮﺳﻄﺔ اﻟﺘﻲ ﺷﻬﺪت ﻣﺤﺎوﻻت اﻟﺘﺴ ﱡﻠﻞ ﺧﻠﺴﺔ ﻟﻠﻌﻮدة إﱃ ﺟﻨﺔ اﻟﺘﺴﺎؤل واﻟﺒﺤﺚ ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺎت واﻟﺘﻲ ﺷﻐﻠﺖ املﻔﻜﺮﻳﻦ ﻗﺒﻞ ﻋﻬﺪ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس .وﻳُﻌَ ﱡﺪ »ﺗﺤﻜﻴﻢ اﻟﻌﻘﻞ« اﻟﺬي ﺗﻮﴆ ﺑﻪ إﻟﻬﺔ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس اﻟﻨﺼﻴﺤﺔ اﻷﻓﻀﻞ ﻣﺎ داﻣﺖ ﻻ ﺗُﺆﺧﺬُ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﻣﺤﺾ ﺗﻮﺻﻴﺔ ﻟﺘﺠﺎﻫﻞ اﻷدﻟﺔ ،ﺑﻞ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ ﻧﺼﻴﺤﺔ ﻟﻠﺘﻔﻜري ﰲ ﻫﺬه اﻷدﻟﺔ ﺑﻌﻘﻼﻧﻴﺔ واﻻﺳﺘﻔﺎدة ﻣﻨﻬﺎ. ورﺑﻤﺎ ﻳﻜﻮن ﻫﺬا ﻫﻮ ﻣﺎ ﻓﻬﻤﻪ اﻵﺧﺮون ﻣﻦ ﻣﻔ ﱢﻜﺮي ﻣﺎ ﻗﺒﻞ ﺳﻘﺮاط ﻣﻦ ﺣﺪﻳﺚ اﻹﻟﻬﺔ. وﻛﻤﺎ ﺳﺄوﺿﺢ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪُ ،ﻓﻘﺪ ﺗﺨﻄﻰ اﻫﺘﻤﺎم ﻫﺆﻻء املﻔﻜﺮﻳﻦ املﺘﻨﻮﻋني دورﻫﻢ ﻛﻮرﺛﺔ ﻣﺘﻤﺮدﻳﻦ ﻋﲆ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس وزﻳﻨﻮن.
98
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎدس
اﳊﺐ واﻟﴫاع :إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ
اﺑﺘﻜﺮ إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ اﻷﻛﺮاﺟﺎﳼ )ﺗﻌﺮف أﻛﺮاﺟﺎس اﻵن ﺑ »أﺟﺮﻳﺠﻨﺘﻮ« وﺗﻘﻊ ﺟﻨﻮب ﺻﻘﻠﻴﺔ( ً ﺑﻤﻜﺎن ﺟﻌﻞ اﻟﺠﻤﻴﻊ ﻳﺆﻣﻨﻮن ﺑﺎﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﻧﻈﺮﻳﺔ ﺣﻮل املﺎدة ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻦ اﻟﺒﺴﺎﻃﺔ واﻹﻗﻨﺎع ٍ ﺟﻮاﻧﺒﻬﺎ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ .واﻟﺤﻖ ﱠ أن ﺗَﺒَﻨ ﱢ َﻲ أرﺳﻄﻮ ﻫﺬه اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﻗﺪ ﺳﺎﻋﺪ ﻛﺜريًا ﻋﲆ اﻧﺘﺸﺎرﻫﺎ ﺑﻌﺪ إدﺧﺎل ﺑﻌﺾ اﻟﺘﻌﺪﻳﻼت ﻋﻠﻴﻬﺎ .وﰲ ﻇﻞ دﻋﻢ أرﺳﻄﻮ ﻟﻬﺎ ،ﺑﻘﻴﺖ ﻫﺬه اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﺳﺎﺋﺪة ﺑني أﻋﻤﺎل اﻟﱰاث اﻟﻘﺪﻳﻢ ﺣﺘﻰ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻣﻦ ﻋﴩ املﻴﻼدي ،ﺣﻴﺚ ﺧﻀﻌﺖ ﻟﻨﻘﺪ ﻣﺘﻨﻮﱢر ﻋﲆ ﻳﺪ ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻜﻴﻤﻴﺎء ﻣﻦ أﻣﺜﺎل ﺑﻮﻳﻞ .وﺗﻘﻮم اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﻋﲆ أن ﺟﻤﻴﻊ اﻷﺷﻴﺎء ﺗﺘﻜﻮﱠن ﻣﻦ أرﺑﻌﺔ ﻋﻨﺎﴏ ﻫﻲ اﻟﱰاب واﻟﻬﻮاء واﻟﻨﺎر واملﺎء وﻟﻴﺲ ﻷﻳﻬﺎ أﻓﻀﻠﻴﺔ ﻋﲆ اﻵﺧﺮ، ً ﻣﺜﺎﻻ ﻋﲆ إﺣﺪى وﺻﻔﺘﻲ وﻟﻜﻨﻬﺎ ﺗﺘﺤﺪ ﺑﻜﻤﻴﺎت ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﰲ اﻷﺷﻴﺎء املﺨﺘﻠﻔﺔ .وﻟﻨﴬب إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ اﻟﻠﺘني ﻗﺪﻣﻬﻤﺎ ﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﺒﻘﺎء؛ ﻓﺎﻟﻌﻈﺎم ﺗﺘﻜﻮﱠن ﻣﻦ ﺟﺰأﻳﻦ ﻣﻦ املﺎء وﺟﺰأﻳﻦ ﻐﺮﻳﻨﺎ ﺑﺘﻘﺪﻳﻢ ﻣﻦ اﻟﱰاب وأرﺑﻌﺔ أﺟﺰاء ﻣﻦ اﻟﻨﺎر .وﻫﺬه اﻟﻮﺻﻔﺔ اﻟﺘﻲ ذﻛﺮﻫﺎ إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﺗُ ِ وﺻﻔﺔ ﺷﺨﺼﻴﺔ ﻹﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﻧﻔﺴﻪ ،ﻓﻬﻮ ﻋﺎ ِﻟ ٌﻢ أو ِﱠﱄ ﱞ ﰲ ﺟﺰأﻳﻦ ﻣﻨﻪ ،وواﻋﻆ ﻓﻴﺜﺎﻏﻮري ﰲ ﺟﺰأﻳﻦ آﺧﺮﻳﻦ ،وﺻﺎﻧﻊ أﻋﺎﺟﻴﺐ ﰲ ﺟﺰء آﺧﺮ ،وﻻ ﻳﺨﻠﻮ ﻣﻦ ﻋﺠﺮﻓﺔ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ وﻟﻮ ﺷﻴﺌًﺎ ﻳﺴريًا. وﻗﺪ ﺷﺒﱠﻪ اﻟﺒﻌﺾ إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﺑﻔﺎوﺳﺘﻮس؛ ذﻟﻚ أﻧﻪ زﻋﻢ أن املﻌﺮﻓﺔ اﻟﺘﻲ اﻛﺘﺴﺒﻬﺎ ﺟﻌﻠﺘﻪ ﺷﺒﻴﻬً ﺎ ﺑﺎﻵﻟﻬﺔ وﻣ ﱠﻜﻨﺘﻪ ﻣﻦ ﻣﻤﺎرﺳﺔ اﻟﺴﺤﺮ ،ﻓﺄﺻﺒﺢ ﻳُﺤ ِﻴﻲ املﻮﺗﻰ وﻳﺘﺤ ﱠﻜﻢ ﰲ اﻟﻄﻘﺲ )أو »اﻟﻌﻨﺎﴏ« ﻛﻤﺎ ﻧﺴﻤﻴﻬﺎ أﺣﻴﺎﻧًﺎ( .وﻫﺬا ﻳﺬﻛﺮﻧﺎ ﺑﻜﻠﻤﺎت ﻣﻼك اﻟﴩ اﻟﺘﻲ ﻗﺎﻟﻬﺎ ﻟ »دﻛﺘﻮر ﻓﺎوﺳﺘﻮس« ﺷﺨﺼﻴﺔ ﻛﺮﻳﺴﺘﻮﻓﺮ ﻣﺎرﻟﻮ اﻟﺸﻬرية ﺣني ﻗﺎل ﻟﻪ: اﻣﺾ ﻳﺎ ﻓﺎوﺳﺘﻮس ﰲ ذاك اﻟﻔﻦ اﻟﺸﻬري، ِ اﻟﺬي ﻳﺤﻮي ﻛﻨﻮز اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺑني دﻓﺘﻴﻪ.
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
وﻛﻦ ﰲ اﻷرض ﻛﺠﻮﺑﻴﱰ ﰲ اﻟﺴﻤﺎء؛ ُﴫﻓِ ﻬﺎ. َربﱢ ﻫﺬه اﻟﻌﻨﺎﴏ وﻣ َ ﱢ ﺑﻞ إن اﻷﺳﻄﻮرة ذﻛﺮت أن ﻧﻬﺎﻳﺔ إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺜﻞ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻓﺎوﺳﺘﻮس ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ،ﻓﻴﻘﺎل إﻧﻪ ﺑﻌﺪ أن ﺗﻨﺎول ﻋﺸﺎءه ﻣﻊ ﺑﻌﺾ أﺗﺒﺎﻋﻪ ﻗﻔﺰ إﱃ داﺧﻞ ﻧريان ﺑﺮﻛﺎن إﺗﻨﺎ واﺧﺘﻔﻰ، ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻛﻤﺎ ﺟ ﱠﺮت اﻟﺸﻴﺎﻃني ﻓﺎوﺳﺘﻮس إﱃ ﻧريان اﻟﺠﺤﻴﻢ ﰲ ﻣﻨﺘﺼﻒ اﻟﻠﻴﻞ .وﻗﺪ ﺑﻘﻴﺖ ﻫﺬه اﻟﻘﺼﺔ وﻋﺎﺷﺖ ﺑﻔﻀﻞ دﻳﻮﺟﻴﻨﻴﺲ ﻻرﺗﻴﻮس وﻣﻴﻠﺘﻮن وﻣﺎﺛﻴﻮ أرﻧﻮﻟﺪ .ﻟﻜﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ أن إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﺗﻮﰲ ﺧﻼل ﻧﻔﻴﻪ ﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻦ ﺻﻘﻠﻴﺔ ﻷﺳﺒﺎب ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ ورﺑﻤﺎ ﰲ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﺑﻴﻠﻮﺑﻮﻧﻴﺰ .وﻣﺎ ﻛﺎن ﻏﻨﻴٍّﺎ ﺑﺎﻷﺣﺪاث اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ ٍّ ﺣﻘﺎ إﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﻻ ﻣﻮﺗﻪ.
إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ.
ُوﻟِﺪ إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﺣﻮاﱄ ﻋﺎم ٤٩٢ق.م ﻷﺑﻮﻳﻦ ﺷﻬريﻳﻦ وﻛﺎن ذا ﻣﻈﻬﺮ ﻣﻤﻴﺰ؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻳﺮﺗﺪي ﺛﻮﺑًﺎ أرﺟﻮاﻧﻴٍّﺎ ﺑﺤﺰام ذﻫﺒﻲ وﺣﺬاءً ﺑﺮوﻧﺰﻳٍّﺎ وإﻛﻠﻴﻞ ﻏﺎر .وﻳﺒﺪو أن ﻫﺬه اﻷزﻳﺎء ﻗﺪ ﺣﻘﻘﺖ ﻫﺪﻓﻬﺎ املﻨﺸﻮد ﺣﻴﺚ ﻳﻘﻮل: 100
اﻟﺤﺐ واﻟﴫاع :إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ
ً ﻣﻜﻠﻼ ﺑﺎﻟﺘﻴﺠﺎن واﻟﺰﻫﻮر ،وﻛﻨﺖ ﻛﻠﻤﺎ دﺧﻠﺖ ﻛﻨﺖ أﺳري وﺳﻂ ﺣﻔﺎوة اﻟﺠﻤﻴﻊ ً رﺟﺎﻻ وﻧﺴﺎء أﻟﻘﻰ اﻟﱰﺣﻴﺐ واﻟﺘﻜﺮﻳﻢ ،وﺳﺎر اﻵﻻف ﻣﺪﻳﻨﺔ وﻣﺮرت ﻋﲆ أﻫﻠﻬﺎ ﻣﻨﻬﻢ ﺧﻠﻔﻲ … واﻋﱰف إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﻗﺒﻞ ﻫﺬا اﻟﺤﺪﻳﺚ املﻔﻌَ ﻢ ﺑﺎﻟﻔﺨﺮ واﻹﻋﺠﺎب ﻣﺒﺎﴍة أﻧﻪ »إﻟﻪ ﺧﺎﻟﺪ وﻟﻢ ﻳَﻌُ ْﺪ إﻧﺴﺎﻧًﺎ ﻳﻤﻮت وﻳﻔﻨﻰ« وأن ﻫﺆﻻء اﻟﺬﻳﻦ ﻻ ﻳﻌﺮﻓﻮن ﻗﺪر ﺗﻌﺎﻟﻴﻤﻪ ﻟﻴﺴﻮا ﺳﻮى »ﺣﻤﻘﻰ!« وﻗﺪ ﺗﻨﺘﺎﺑﻨﺎ اﻟﺪﻫﺸﺔ إذا أدرﻛﻨﺎ أن ﻧﺸﺎﻃﻪ اﻟﺴﻴﺎﳼ ﰲ ﻣﺪﻳﻨﺔ أﻛﺮاﺟﺎس ﻛ ﱠﺮﺳﻪ ﻟﻠﺪﻓﺎع املﺴﺘﻤﻴﺖ ﻋﻦ ﻓﻜﺮة إﻗﺎﻣﺔ اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ وﺗﺤﻘﻴﻘﻬﺎ ﰲ وﺟﻪ ﻧﻈﺎم اﻟﺤﻜﻢ اﻻﺳﺘﺒﺪادي، وﻫﻮ اﻷﻣﺮ اﻟﺬي ﺣَ ﺪَا ﺑﻤﻦ ﻳﺤﻤﻞ ﻟﻪ اﻟﺠﻤﻴﻞ ﻣﻦ املﻮاﻃﻨني أن ﻳﻌﺮض ﻣﻨﺼﺐ املﻠﻜﻴﺔ ﻋﻠﻴﻪ ً اﻋﱰاﻓﺎ ﻣﻨﻬﻢ ﺑﺠﻬﻮده اﻟﻨﺎﺟﺤﺔ ﰲ املﻄﺎﻟﺒﺔ ﺑﺎملﺴﺎواة .واﻟﺤﻖ أن ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺘﻮاﻓِ ﻘﺔ ﻣﻊ ﺳﻴﺎﺳﺎﺗﻪ وإن ﺑﺪت ﺷﺨﺼﻴﺘﻪ ﻣﺨﺎﻟﻔﺔ ﻟﺬﻟﻚ؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺘﺐ ﺑﻜﻞ ﺣﻤﺎس ﻋﻦ ذﻟﻚ اﻟﻌﴫ اﻟﺬﻫﺒﻲ اﻟﺬي ﻧَﻌِ َﻢ ﻓﻴﻪ اﻟﺒﴩ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ﺑﺎﻟﻌﻴﺶ ﺳﻮﻳٍّﺎ ،ﻛﻤﺎ أن ﺗﻌﺎﻟﻴﻤﻪ وﻣﻮاﻋﻈﻪ ﺗﻘﻮل إن اﻟﻨﺎس ﺟﻤﻴﻌً ﺎ — وﻟﻴﺲ إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ذو اﻟﺤﻆ اﻟﻌﻈﻴﻢ وﺣﺪه — ﻳﺴﺘﻄﻴﻌﻮن أن ﻳﺴﺘﻌﻴﺪوا ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ اﻹﻟﻬﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﻮا ﻋﻠﻴﻬﺎ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻣﻦ دﻋﺎة ﻣﺬﻫﺐ املﺴﺎواة اﻟﺮوﺣﺎﻧﻴﺔ. وﻗﺪ ﻏﺎﱃ إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺸﺄن ﻛﺜريًا ﺣﺘﻰ ﻗﺎل إن ﺟﻤﻴﻊ املﺨﻠﻮﻗﺎت اﻟﺤﻴﺔ ﺑﻴﻨﻬﺎ ﺗﺸﺎﺑُﻪ روﺣﺎﻧﻲ؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻳﺆﻣﻦ ﺑﻤﺎ آﻣﻦ ﺑﻪ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﻮن ﻣﻦ أن اﻷرواح ﺗﻔﺎرق اﻟﺠﺴﺪ ﺑﻌﺪ املﻮت وﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺘﻨﺎﺳﺦ ﻣﺮة أﺧﺮى ﰲ أﺷﻜﺎل اﻟﻨﺒﺎﺗﺎت أو اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت أو اﻟﺒﴩ ،ﺣﺘﻰ ﻗﺎل ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻪ ذات ﻣﺮة إﻧﻪ ﻛﺎن »ﺻﺒﻴٍّﺎ وﻓﺘﺎة ﺛﻢ ﺷﺠرية وﻃﺎﺋ ًﺮا ﺛﻢ ﺳﻤﻜﺔ ﻣﻦ اﻷﺳﻤﺎك املﻬﺎﺟﺮة«. وﻟﻜﻦ ﻛﻴﻒ ﻟﻬﺬا اﻟﻬﺬﻳﺎن اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮري أن ﻳﺘﻨﺎﺳﺐ ﻣﻊ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﻜﻴﻤﻴﺎﺋﻴﺔ اﻟﺠﺪﻳﺔ ﻧﺠﺪ ﺛَﻤﱠ َﺔ ارﺗﺒﺎ ً ﻃﺎ ﺑني اﻟﺘﻲ أﻛﺴﺒﺘﻪ ﻣﻜﺎﻧﺘﻪ ﰲ اﻟﺘﺎرﻳﺦ؟ ﻛﻤﺎ ﻛﺎن اﻟﺤﺎل ﻟﺪى ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ِ ً اﺗﺼﺎﻻ أﻧﺸﻄﺔ إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ وآراﺋﻪ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ،ﺣﻴﺚ ﻳﺮى اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﻮن أن ﺛﻤﺔ ﺑني اﻷﻣﻮر اﻟﺮوﺣﺎﻧﻴﺔ وﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ،وأﻧﻬﻢ ﺗﻮﺻﻠﻮا إﻟﻴﻪ ﻣﻦ ﺧﻼل ﻣﻔﻬﻮم )اﻟﺘﺄﻣﱡ ﻞ( ﻟﺪﻳﻬﻢ ،وﻫﻮ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﺗﺄﻣﱡ ﻞ ﺳﺎﻣﻲ ﻳﻌﻤﻞ ﻋﲆ ﺗﻨﻘﻴﺔ اﻟﺮوح ،وﻟﻜﻦ ﻫﺬا اﻻﺗﺼﺎل ﻳﺄﺧﺬ ً ﺷﻜﻼ ﻣﺒﺎﴍًا ﺑﺼﻮرة أﻛﱪ ﻋﻨﺪ إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ؛ ﻓﺎﻷﻓﻜﺎر اﻷورﻓﻴﺔ أو اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﺔ ﻋﻦ اﻟﺮوح وﺧﻼﺻﻬﺎ واﻟﺘﻲ ﻳﺘﻨﺎوﻟﻬﺎ إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﰲ ﻗﺼﻴﺪة ﻟﻪ ﺑﻌﻨﻮان ُ »ﺳﺒُﻞ اﻟﻨﻘﺎء« أو ﺑﺎﻷﺣﺮى ً ﺗﻄﺒﻴﻘﺎ ﻟﻸﻓﻜﺎر اﻟﺒﴩﻳﺔ ﰲ ﻗﺼﻴﺪﺗﻪ »اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ« )أو رﺑﻤﺎ ﰲ ﺟﺰء ﻣﻨﻬﺎ ﻳﻤﻜﻦ اﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺟﺰءًا ﻣﻦ اﻟﻘﺼﻴﺪة ﻧﻔﺴﻬﺎ( اﻟﺘﻲ ﺗﺴﻤﻰ »ﻋﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ« .ﺗﻤﺜﻞ اﻟﺪراﻣﺎ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ً ﻓﺼﻼ واﺣﺪًا ﻣﻦ املﴪﺣﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺆدﱢﻳﻬﺎ اﻟﻌﻨﺎﴏ ﰲ اﻟﻜﻮن ،وﻃﺎﻗﻢ اﻟﺘﻤﺜﻴﻞ ﻫﻮ ﻧﻔﺴﻪ 101
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
املﻮﺟﻮد ﰲ ﻗﺼﻴﺪﺗﻲ »ﺳﺒﻞ اﻟﻨﻘﺎء« و»ﻋﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ«؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﺈن ﻗﻮة اﻟﺤﺐ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮم ﺑﺠﺬب اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﻜﻴﻤﻴﺎﺋﻴﺔ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻟﺒﻌﺾ ﻟﺘﺘﺠﻤﻊ وﺗﻠﺘﺤﻢ ﻫﻲ ذاﺗُﻬﺎ اﻟﻘﻮة اﻟﺘﻲ ﻳﺸﻌﺮ ﺑﻬﺎ اﻟﻨﺎس ﰲ ﻗﻠﻮﺑﻬﻢ واﻟﺘﻲ ﱢ ﺗﻔﴪ ﺳﺒﺐ اﻻﻧﺠﺬاب اﻟﺠﻨﴘ ،أﻣﺎ ﻗﻮة اﻟﴫاع ،اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮم ﺑﺈﺑﻌﺎد اﻟﻌﻨﺎﴏ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻋﻦ ﺑﻌﺾ ،ﻓﻬﻲ املﺴﺌﻮﻟﺔ ﻋﻦ اﻻﻧﻬﻴﺎر اﻟﺮوﺣﻲ ﻟﻺﻧﺴﺎن. ً وﻟﻢ ﱠ ﻣﺘﻔﺮﻗﺎ ﻣﻦ اﻟﺸﻌﺮ ﻟﻢ ﺗﻀﻤﻬﺎ ﻳﺘﺒﻖ ﻣﻦ أﻋﻤﺎل إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﺳﻮى ﻧﺤﻮ ٤٥٠ﺑﻴﺘًﺎ ﻫﺎﺗﺎن اﻟﻘﺼﻴﺪﺗﺎن ،وإﻧﻤﺎ وردت ﰲ ﻃﻴﺎت ﻛﺘﺎﺑﺎت أﺧﺮى ﻟ ُﻜﺘﱠﺎب آﺧﺮﻳﻦ .وﻣﺎ ﺗﺒﻘﻰ ﻣﻦ ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ ﻳﻔﻮق ﺑﻜﺜري ﻣﺎ ﺗﺒﻘﻰ ﻣﻦ ﻛﺘﺎﺑﺎت أي ﻣﻔ ﱢﻜﺮ آﺧﺮ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻌﴫ وﻳﻌﻜﺲ ﻛﻴﻒ ﻛﺎﻧﺖ ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ ﻣﻦ أﻛﺜﺮ اﻟﻜﺘﺎﺑﺎت املﺴﺘﺸﻬَ ﺪ ﺑﻬﺎ آﻧﺬاك .وﻗﺪ ﻛﺎن إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ آﺧﺮ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴني اﻟﺬﻳﻦ ﻛﺘﺒﻮا ﺑﺎﻟﺸﻌﺮ ،ورﺑﻤﺎ ﻛﺎن أﻣﻬﺮﻫﻢ ﰲ ﻗﺮض اﻟﺸﻌﺮ ﺣﻴﺚ ﺳﻤﱠ ﺎه أرﺳﻄﻮ »أﺑﻮ اﻟﺨﻄﺎﺑﺔ« ،وﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ أﺳﻬﻞ ﰲ ﻓﻬﻤﻬﺎ ﻣﻦ ﻛﺘﺎﺑﺎت ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس. وﻳﺘﻔﻖ إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﻣﻊ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﰲ ﻓﻜﺮة ﻋﺪم ﺧﻠﻖ اﻷﺷﻴﺎء أو ﻓﻨﺎﺋﻬﺎ وﻟﻜﻨﻪ ﺻﺎﻏﻬﺎ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ أﻓﻀﻞ ﻓﻘﺎل» :إن ﺟﻤﻴﻊ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﻬﺎﻟﻜﺔ ﻻ ﺗُﻮ َﻟﺪ وﻻ ﺗﻔﻨﻰ ﺑﺎملﻮت ،ﺑﻞ ﺑﺨﻠﻂ اﻷﺷﻴﺎء وﺗﺒﺪﻳﻠﻬﺎ ،واﻹﻧﺴﺎن ﻫﻮ ﻣﻦ أﻃﻠﻖ ﻋﲆ اﻷﺷﻴﺎء املﺨﺘﻠﻄﺔ اﺳﻢ املﻴﻼد «.وﻳُﻌﺘَﱪ ﻫﺬا ٍّ ﺣﻼ وﺳ ً ﻄﺎ ﺑني ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس واملﻨﻄﻖ اﻟﺴﻠﻴﻢ ،ﻓﺈﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﻋﲆ اﺳﺘﻌﺪاد »ﻟﻼﻟﺘﺰام ﺑﺎﻟﻌﺮف« واﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ املﻴﻼد واملﻮت ،ﻣﺎ دُﻣﻨﺎ ﻧﺘﺤﺪث ﰲ إﻃﺎر ﻓﻜﺮﺗﻪ ﻋﻦ أن املﻴﻼد أو ً ﺳﺎﺑﻘﺎ ،وأن املﻮت أو اﻟﻔﻨﺎء اﻟﻨﺸﻮء ﻫﻮ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺗﻜﻮﻳﻦ ﳾء ﻣﻦ ﺧﻼل ﺧﻠﻂ املﻮاد املﻮﺟﻮدة ﻻ ﻳﻌﻨﻲ إﻻ ﺗﻔﻜﻴﻚ ﻫﺬه اﻟﻌﻨﺎﴏ وإﻋﺎدة ﺗﺠﻤﻴﻌﻬﺎ ﻟﺘﻜﻮﻳﻦ ﳾء آﺧﺮ ،وﻫﺬه اﻟﻌﻨﺎﴏ ﰲ ٍّ ﺣَ ﱢﺪ ذاﺗﻬﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﻣﺨﻠﻮﻗﺔ وﻻ ﻳﺼﻴﺒﻬﺎ َ ﻣﺤﻘﺎ إﱃ ﺣَ ﱟﺪ اﻟﻔﻨَﺎء؛ وﺑﻬﺬا ﻓﺈن ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻛﺎن ً ﻓﺮاﻏﺎ، ﻣﺎ .وﻳﺘﻔﻖ إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﻣﻊ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻛﺬﻟﻚ ﻋﲆ أن ﻟﻴﺲ ﰲ اﻟﻮﺟﻮد ﻣﺎ ﻳﺴﻤﻰ وﻟﻜﻦ َﻗ ﱠﻠﻤَ ﺎ ﻧﺴﻤﻊ ﺷﻴﺌًﺎ ﻋﻦ اﺳﺘﺤﺎﻟﺔ اﻟﺤﺮﻛﺔ أو أن ﻟﻴﺲ ﻫﻨﺎك إﻻ ﳾء واﺣﺪ .وﺑﺸﻜﻞ ﻋﺎ ﱟم ﻳﺒﺪو أن إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﺗﺠﺎﻫﻞ ﻫﺬه اﻷﺟﺰاء ﻏري املﻨﺎﺳﺒﺔ ﰲ ﻣﺬﻫﺐ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻛﻤﺎ ﻓﻌﻞ ﻣﻊ ﻣﻔﺎرﻗﺎت زﻳﻨﻮن اﻟﺪاﻋﻤﺔ ﻟﻬﺎ. وﻳﺸري ﺣﺪﻳﺚ إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﻋﻦ »اﻻﺧﺘﻼط واﻟﺘﺒﺎدل« إﱃ دﻣﺞ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻷرﺑﻌﺔ ،وﻫﻮ ﻳﺸﺒﻪ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﺗَﺨﻠﻂ ﺑﻬﺎ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﻌﻨﺎﴏ ﻟﻜﻲ ﺗُ َﺸ ﱢﻜﻞ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﺑﺎﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺨﻠِﻂ ﺑﻬﺎ اﻟﺮﺳﺎم أﻟﻮاﻧﻪ ﻓﻴﻘﻮل: إن اﻟﻨﺎس … ﻳﻤﺘﻠﻜﻮن ﺑني أﻳﺪﻳﻬﻢ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻷﻟﻮان واﻷﺻﺒﺎغ وﻳﻘﻮﻣﻮن ً أﺷﻜﺎﻻ ﺗﺤﺎﻛﻲ ﺟﻤﻴﻊ املﻮﺟﻮدات، ﺑﺨﻠﻄﻬﺎ ﰲ ﺗﻨﺎﻏﻢ واﻧﺴﺠﺎم وﻳﺼﻴﻐﻮن ﺑﻬﺎ 102
اﻟﺤﺐ واﻟﴫاع :إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ
ﻓﻴﺼﻨﻌﻮن اﻷﺷﺠﺎر واﻟﺮﺟﺎل واﻟﻨﺴﺎء واﻟﻮﺣﻮش واﻟﻄﻴﻮر واﻷﺳﻤﺎك واﻵﻟﻬﺔ اﻟﺨﺎﻟﺪة ،وﻳ ُ ُﻀﻔﻮن ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻫﺎﻟﺔ ﻣﻦ اﻟﺠﻼل. وﻻ ﺗﺸري اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻷرﺑﻌﺔ ﻟﺪى إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﻣﻦ ﺗﺮاب وﻫﻮاء وﻧﺎر وﻣﺎء — اﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ اﻷﻟﻮان اﻟﺘﻲ ﺗَ َﺸ ﱠﻜﻞ ﻣﻨﻬﺎ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻮاﻗﻌﻲ — إﱃ ﻣﺎ ﻧﻌﻨﻴﻪ اﻟﻴﻮم ﺑﻬﺬه اﻟﻜﻠﻤﺎت؛ ﻓﺎﻟﻬﻮاء ﺗﺸﻜﻠﺖ ﻣﻨﻪ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﻐﺎزات ،واملﺎء ﺗﺸ ﱠﻜﻠﺖ ﻣﻨﻪ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﺴﻮاﺋﻞ ،واملﻌﺪن ﻳُﻌَ ﱡﺪ ﻣﻦ اﻟﺴﻮاﺋﻞ ﻷﻧﱠﻪ ﻳﺬوب وﻳﺘﱠﺤِ ﺪ ﻣﻊ ﻋﻨﺎﴏ أﺧﺮى ،ﺑﻞ إﻧﻪ أﻋﻄﻰ ﻛﻞ ﻋﻨﴫ اﺳﻢ أﺣﺪ اﻵﻟﻬﺔ )وأﺣﻴﺎﻧًﺎ اﺳﻤني( ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻫﺬا ﻣﻦ ﻗﺒﻴﻞ اﻟﴬورة اﻟﺸﻌﺮﻳﺔ وﺣﺴﺐ؛ ﻓﺒﻤﺎ أن اﻟﻌﻨﺎﴏ ﺧﺎﻟﺪة وﻻ ﺗﻔﻨﻰ؛ ﻓﺠﺪﻳﺮ ﺑﻬﺎ أن ﺗﺼﺒﺢ ﻣﺜﻞ اﻵﻟﻬﺔ ﰲ ﻋﻠﻢ اﻟﻼﻫﻮت اﻟﺬي ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﻀﻊ ﺣﺪودًا وﻻ ﻗﻴﻮدًا ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ .واﻟﴚء ﻧﻔﺴﻪ ﻳﴪي ﻋﲆ اﻟﻘﻮﺗني اﻷﺳﺎﺳﻴﺘني ﻟﺪﻳﻪ وﻫﻤﺎ اﻟﺤﺐ واﻟﴫاع اﻟﻠﺬﻳﻦ ﻳﻌﻄﻴﻬﻤﺎ أﺳﻤﺎء آﻟﻬﺔ ﰲ ﺑﻌﺾ اﻷﺣﻴﺎن؛ ﻓﺎﻟﺤﺐ ﻳﺠﺬب اﻟﻌﻨﺎﴏ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻟﺒﻌﺾ وﻳﺠﻤﻊ ﺑﻴﻨﻬﺎ ،ﰲ ﺣني أن اﻟﴫاع ﻳﻨﻔﺮﻫﺎ وﻳﺒﻌﺪﻫﺎ ﻋﻦ ﺑﻌﻀﻬﺎ .وﺗﻀﻊ ﻫﺬه اﻟﺤﺮب اﻟﺪاﺋﺮة أوزارﻫﺎ ﰲ ﺻﻮرة اﻟﻌﺎﻟﻢ املﺘﻐري اﻟﺬي ﻧﺮاه. وﻳﺮى إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ أﻧﻪ ﰲ وﻗﺖ ﻣﻦ اﻷوﻗﺎت ﺳﺎ َد اﻟﺤﺐ ﻛﻞ اﻟﻌﺎﻟﻢ واﺟﺘﻤﻌﺖ ﻛﻞ اﻟﻌﻨﺎﴏ ﰲ ﺷﻜﻞ إﻟﻬﻲ واﺣﺪ )رﺑﻤﺎ ﻳﻜﻮن ﻣﺸﺎﺑﻬً ﺎ ﻟﻠﺸﻜﻞ اﻷﺷﺒﻪ ﺑﺎﻟ ُﻜﺮة ﻟﺪى ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس(، وﻟﻜﻦ ﺷﻮﻛﺔ اﻟﴫاع أﺧﺬت ﺗﻘﻮى وﺑﺪأت ﺗُ َﻔ ﱢﺮ ُق ﺑني اﻟﻌﻨﺎﴏ ،ﻓ َﺮ ﱠد اﻟﺤﺐ ﻫﺬا اﻟﻌﺪوان اﻟﻐﺎﺷﻢ واﺳﺘﻄﺎع ﺗﻮﺣﻴﺪ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﺟﺒﺎل وﺑﺤﺎر وﻧﺠﻮم وﻏري ذﻟﻚ .وﰲ ﻋﺎملﻨﺎ املﻌﺎﴏ ﻣﺎ زال اﻟﺤﺐ واﻟﴫاع ﰲ ﻣﻨﺎﻓﺴﺔ ﴍﺳﺔ ﺣﻮﻟﻨﺎ ﻣﺜﻞ ﻣﻌﺮﻛﺔ اﻷﺳﺪ ﻣﻊ اﻟﺤﺼﺎن وﺣﻴﺪ اﻟﻘﺮن ﰲ رواﻳﺔ ﻟﻮﻳﺲ ﻛﺎرول اﻟﺘﻲ ﻳﺘﻘﺎﺗﻼن ﻓﻴﻬﺎ ﻋﲆ اﻟﺘﺎج ،ﻓﻴﻨﺠﺢ اﻟﺤﺐ ﰲ ﺗﺠﻤﻴﻊ ﺑﻌﺾ اﻟﻌﻨﺎﴏ ﻣﻜﻮﻧًﺎ ﺑﻬﺎ أﺣﺪ املﺨﻠﻮﻗﺎت ﺛﻢ ﻳﺄﺗﻲ اﻟﴫاع ﻟﻴﻔﻜﻜﻬﺎ وﻳﺤﻮﻟﻬﺎ إﱃ رﻣﺎد، وﻫﻜﺬا. َ وﻳﻮﻣً ﺎ ﻣﺎ ﺳﻴُﻜﺘﺐ اﻻﻧﺘﺼﺎر ﻟﻠﴫاع )وﻟﻜﻦ ﻟﻴﺲ ﻟﻸﺑﺪ( وﺗﻌﻮد ﺟﻤﻴﻊ اﻷﺷﻴﺎء إﱃ ﺳريﺗﻬﺎ اﻷوﱃ ذرات ﻣﻦ ﻋﻨﺎﴏ ،وﻟﻜﻦ اﻟﺤﺐ ﺳﻴﺸﻦ ﻫﺠﻮﻣً ﺎ ﻣﻀﺎدٍّا رﻫﻴﺒًﺎ وﻳﺠﻤﻊ اﻟﻌﻨﺎﴏ ﻛﻠﻬﺎ ﰲ ﺷﻜﻞ آﺧﺮ ﺿﺨﻢ ﻟﺘﺒﺪأ املﻌﺮﻛﺔ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﻣﻦ ﺟﺪﻳﺪ .وﻳُﺸ ِﺒﻪ اﻷﻣﺮ إﱃ ﺣَ ﱟﺪ ﻛﺒري ﺣﺪﻳﺜﻨﺎ ﻋﻦ »اﻻﻧﻔﺠﺎر اﻟﻌﻈﻴﻢ« و»اﻻﻧﺴﺤﺎق اﻟﺸﺪﻳﺪ« ﰲ ﻋﻠﻢ اﻟﻜﻮﻧﻴﺎت املﻌﺎﴏ. ﻓﻜﻤﺎ ﻳﻘﻮل اﻟﺤﻜﻤﺎء اﻟﻴﻮم إن املﺎدة واﻟﻄﺎﻗﺔ ﻛﻠﺘﻴﻬﻤﺎ ﻛﺎﻧﺘﺎ ﻣﻀﻐﻮﻃﺘني ﺑﺸﻜﻞ ﻛﲇ ﰲ ﻣﻜﺎن واﺣﺪ ﺛﻢ اﻧﻔﺠﺮﺗﺎ وﺗﺒﻌﺜﺮﺗﺎ ﰲ »اﻧﻔﺠﺎر ﻋﻈﻴﻢ« .وإذا ﻛﺎن اﻟﺤﺎل ﻛﺬﻟﻚ ﻓﺴﻴ َِﲇ ذﻟﻚ ﰲ املﺴﺘﻘﺒﻞ اﻟﺒﻌﻴﺪ ﺣﺮﻛﺔ اﻧﻌﻜﺎﺳﻴﺔ ﺗﺴﻤﻰ »اﻻﻧﺴﺤﺎق اﻟﺸﺪﻳﺪ« وﺳﻴﺘﺠﻤﻊ ﻓﻴﻬﺎ ﺟﻤﻴﻊ اﻷﺷﻴﺎء وﻳﻠﺘﺼﻖ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺑﺒﻌﺾ ﰲ ﻧﻘﻄﺔ واﺣﺪة ﺑﻔﻌﻞ ﻗﻮة اﻟﺠﺎذﺑﻴﺔ .وﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﺗُﻌَ ﺎدِ ُل 103
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻓﻜﺮة اﻧﺘﺼﺎر اﻟﺤﺐ ﻟﺪى إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﻴﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﻌﺘﱪ ﺗﻔﺴري إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﻟﻠﻜﻮن ﺧﻠﻴ ً ﻄﺎ ﻣﻦ ﻓﻴﺰﻳﺎء ﺳﺘﻴﻔﻦ ﻫﻮﻛﻨﺞ واﻟﺮواﻳﺎت اﻟﺮوﻣﺎﻧﺴﻴﺔ ﻟﺒﺎرﺑﺮا ﻛﺎرﺗﻼﻧﺪ. وﻳﺒﺪو ﺟﺰء ﻣﻦ ﻗﺼﺔ إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﺑﺸﻜﻞ ﻳﺜري اﻟﺸﻚ ﻣﺸﺎﺑﻬً ﺎ ﻟﺒﻌﺾ اﻟﺘﻔﺎﺳري اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ واﻟﺘﻮﻗﻌﺎت اﻟﻌﺠﻴﺒﺔ ﻟﻠﺘﻔﺎﺳري اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ .وﻗﺪ رأﻳﻨﺎ ﻣﻦ ﻗﺒ ُﻞ ﻛﻴﻒ اﺳﺘﻔﺎد املﻠﻄﻴﻮن ﻣﻦ »املﺘﻀﺎدات« اﻷرﺑﻊ — اﻟﺴﺎﺧﻦ واﻟﺒﺎرد واﻟﺮﻃﺐ واﻟﺠﺎف — واﻟﺘﻲ ﺗﺸﺒﻪ ﻛﺜريًا اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻷرﺑﻌﺔ ﻟﺪى إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ .أﻣﺎ اﻟﴫاع ﻟﺪى إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﻓﻤَ ﺜَﻠُ ُﻪ ﻛﻤَ ﺜ َ ِﻞ اﻟﺤﺮب ﻟﺪى ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ،ورﺑﻤﺎ ﻳﺸﺒﻪ ﻓﻜﺮة »اﻻﻧﻔﺼﺎل« ﻟﺪى أﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر .إذن ﻣﺎ ﻣﺪى أﺻﺎﻟﺔ أﻓﻜﺎر ﻫﺬا اﻟﺬي ﻧﺼﺐ ﻧﻔﺴﻪ إﻟﻬً ﺎ؟ ﻫﻞ ٍّ ﺣﻘﺎ أن إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﺑﻤﺎ ﻗﺪﻣﻪ ﻣﻦ أﻓﻜﺎر أﺳﺎﺳﻴﺔ ﻟﻢ ﻳ ُِﻀﻒ إﺿﺎﻓﺔ ﻋﻈﻴﻤﺔ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ واﻟﻔﻜﺮ ﻣﺜﻞ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ وﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس؟ ﻗﺪ ﻳﻜﻮن ﻫﺬا ﻫﻮ اﻟﺴﺒﺐ وراء ﺳﻬﻮﻟﺔ َ ﺿ ﱢﻢ ﻧﻈﺮﻳﺘﻪ ﻋﻦ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻷرﺑﻌﺔ إﱃ اﻟﺤﻜﻢ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ أيﱟ ﻣﻦ ﻧﻈﺮﻳﺎﺗﻬﻢ .أﻣﺎ ﻣَ ْﻜﻤَ ُﻦ ﻋﺒﻘﺮﻳﺘﻪ ﰲ ﻫﺬه اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﻓﻬﻮ اﻟﺘﻔﺎﺻﻴﻞ اﻟﺘﻲ أوردﻫﺎ ﻟﻠﴩوح واملﻼﺣﻈﺎت اﻟﺘﻲ ﻳﺪوﱢﻧﻬﺎ ﻻ ﺳﻴﻤﺎ ﰲ ﻋﻠﻢ اﻷﺣﻴﺎء ﻛﻤﺎ ﺳﻨﺮى ،وﺗﻬﺬﻳﺒﻪ ﻷﻓﻜﺎر ﺳﺎﺑﻘﻴﻪ ﻋﻦ املﻮاد واﻟﻘﻮى .ورﻏﻢ ﺗﺄرﺟُ ﺤﻬﺎ ﺑني اﻹﺣﻜﺎم واﻟﺴﻄﺤﻴﺔ ﻓﻘﺪ ﻗﺪﻣﺖ ﻫﺬه اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﻟﻨﺎ اﻟﻜﺜري. وﻟﻨﴬب ً ﻣﺜﺎﻻ ﻋﲆ ذﻟﻚ؛ ﻓﺎﻟﴚء اﻷﻫﻢ ﰲ ﻋﻨﺎﴏ إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﻳﺘﻤﺜﻞ ﰲ أﻧﻬﺎ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ﻣﺘﺴﺎوﻳﺔ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﻣﺎ ﻳﻤﻴﱢﺰ أﻳٍّﺎ ﻣﻨﻬﺎ ﻋﻦ اﻵﺧﺮ ،ﻓﻠﻢ ﻳﺴﺒﻖ أﺣﺪﻫﺎ ﺑﺎﻗﻲ اﻟﻌﻨﺎﴏ ﰲ اﻟﻮﺟﻮد وﻻ ﻳ َ ُﻌﺘﱪ أﻳﻬﺎ أﺻﻞ اﻟﻌﺎﻟﻢ .وﻟﻴﺲ ﺛﻤﱠ ﺔ ﳾء ﺟﻮﻫﺮي ﻟﺪى إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﻠﻴﺲ ﻋﻠﻴﻪ ري ﺗﻔﺴري ﻛﻴﻔﻴﺔ ﺗﻜﻮﻳﻦ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻷﺷﻴﺎء املﺨﺘﻠﻔﺔ املﻮﺟﻮدة ﺣﻮﻟﻨﺎ .أﻣﺎ ﻣﺎ ﺗﻨﺎوﻟﻪ ﺑﺘﻔﺴ ٍ ﻳﺠﺐ ﺗﻔﺴري اﻟﺘﻨﻮﱡع اﻟﻼﻧﻬﺎﺋﻲ ﻟﻠﺤﻴﺎة واملﺎدة ﺑﺎﻹﺷﺎرة وﺗﻮﺿﻴﺢ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﺳﺎﺑﻘﻴﻪ ﻓﻬﻮ أﻧﻪ ِ إﱃ اﻟ َﻜﻤﱢ ﻴﱠﺎت اﻟﻘﻠﻴﻠﺔ ﻣﻦ املﻮاد اﻟﻨﱠﻘﻴﱠﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺘﻮﻳﻬﺎ اﻷﺷﻴﺎء ،واﻟﺘﻲ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﺧﺘﺰاﻟﻬﺎ ﰲ أي ﳾء آﺧﺮ .وﻣﻊ ﱡ ﺗﻮﺻﻞ ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻜﻴﻤﻴﺎء ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ إﱃ أن اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻷرﺑﻌﺔ ﻟﻴﺴﺖ ﻛﺎﻓﻴﺔ ﻟﻠﻘﻴﺎم ﺑﻬﺬه اﻟﻮﻇﻴﻔﺔ )وﻗﺖ ﻛﺘﺎﺑﺔ ﻫﺬه اﻟﺴﻄﻮر ﺗﻢ اﻟﺘﻌﺮف ﻋﲆ ١١٥ﻋﻨﴫًا( وأن ﺣﺎل ﻣﻦ اﻷﺣﻮال َ ﻇ ﱡﻠﻮا ﻋﲆ ﻗﺮب ﻣﻨﻪ أﻛﺜﺮ ﻋﻨﺎﴏ إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ اﻷرﺑﻌﺔ ﻟﻢ ﺗ ُﻜﻦ ﻧﻘﻴﺔ ﺑﺄي ٍ ﻣﻦ أيﱟ ﻣﻦ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴني اﻟﺴﺎﺑﻘني .أﻣﺎ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎﻟﺤﺐ واﻟﴫاع ،ﻓﺮﻏﻢ َروﻋﺔ اﺳﻤﻴﻬﻤﺎ ﻓﺈﻧﻬﻤﺎ ﻳﻈﻼن اﻷﻗﺮب ﻣﻦ أﻓﻜﺎر اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻵﺧﺮﻳﻦ إﱃ ﻣﻔﻬﻮم اﻟﻘﻮى املﺬﻛﻮر ﰲ اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ .وﻛﺎﻧﺖ اﻟﻌﻨﺎﴏ املﺎدﻳﺔ ﻗﺒﻞ إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﻫﻲ املﻨﻮط ﺑﻬﺎ ﺗﻜﻮﻳﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ، وﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻫﻨﺎك ﺗﻔﺮﻳﻖ واﺿﺢ ﺑني اﻷﺷﻴﺎء املﺎدﻳﺔ واﻟﻘﻮى اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻤﻞ ﻋﻠﻴﻬﺎ ،أﻣﺎ ﻧﻈﺮﻳﺔ اﻟﺤُ ﺐﱢ واﻟﴫاع ﻋﻨﺪ إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﻓﺘُ َ ﺼﻮﱢر ﴏاﻋً ﺎ ﺑني ﻗﻮﺗني ﻣﻨﻔﺼﻠﺘني ﻣﺜﻞ ﻗﻮة اﻟﺠﺎذﺑﻴﺔ أو اﻟﻘﻮة املﻐﻨﺎﻃﻴﺴﻴﺔ اﻟﻜﻬﺮﺑﻴﺔ املﻌﺮوﻓﺔ ﻟﻨﺎ اﻟﻴﻮم. 104
اﻟﺤﺐ واﻟﴫاع :إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ
ﻟﻮ ﻗﺎل إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ إن اﻟﺤﺐ ﻫﻮ اﻟﺬي ﻳﺆ ﱢﻟﻒ ﺑني اﻟﻌﻨﺎﴏ واﻛﺘﻔﻰ ﺑﺬﻟﻚ؛ ﻟ ُﻜﻨﱠﺎ ﻗﺪ ﻣﺤﻮﻧﺎه ﻣﻦ ﺳﺠﻼت اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ وﻧﺤﻴﱠﻨﺎه ﺟﺎﻧﺒًﺎ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎره أﺣﺪ اﻟﺮوﻣﺎﻧﺴﻴني اﻟﺬﻳﻦ ﺣﺎوﻟﻮا أن ﻳﺘﻨﺒﱠﺌُﻮا ﺑﺒﻌﺾ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ،واﻧﺘﻘﻠﻨﺎ ﻟﺸﺨﺺ آﺧﺮ أﻛﺜﺮ ﺛﻘﺎﻓﺔ وﻋﻠﻤً ﺎ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳﱰك اﻟﺤﺒﻞ ﻋﲆ اﻟﻐﺎرب وﻟﻢ ﻳَﺪ َِع اﻷﻣﺮ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻨﺤﻮ ،ﻓﻘﺪ ﺟﺴﺪ إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ دور اﻟﺤﺐ واﻟﴫاع ﰲ ﺗﻜﻮﻳﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﰲ ﺻﻮرة ﻋﻤﻠﻴﺎت ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ ﻣﻌﺘﺎدةً ، ﺑﺎذﻻ ﰲ ذﻟﻚ ﺟﻬﺪًا ﻣﻀﻨﻴًﺎ ﻟﻴﺼﻔﻪ وﻳُﺨﺮﺟﻪ ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺘﱠ ِﺴ ٍﻖ وﻣﺘﻨﺎﺳﻖ .وﻛﻤﺎ ﻛﺎن اﻟﺤﺎل ﻣﻊ ﺟﻤﻴﻊ املﻔﻜﺮﻳﻦ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴني، ﻟﻢ ﺗَﻌْ ُﺪ ﻫﺬه اﻟﺘﻔﺴريات أن ﺗﻜﻮن ﻣﺤﺾ ﻣﻼﺣﻈﺎت واﺳﺘﻘﺮاء ﻳﺨﺘﻠﻂ ﺑﺎﻟﺨﻴﺎل ،وﻳﺨﻀﻊ ﻫﺬا اﻻﺳﺘﻘﺮاء ﻟﻠﺘﺠﺮﺑﺔ ﻟﻴﺲ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﺧﺘﺒﺎره اﺧﺘﺒﺎ ًرا ﻣﺼﻄﻨﻌً ﺎ ،وﻟﻜﻦ ﺑﺎﻻﺳﺘﺨﺪام املﻘﻨﻊ ﻷدوات اﻹﻗﻨﺎع ﻣﻦ اﺳﺘﻌﺎرات وﺗﻤﺜﻴﻼت ﻋﻤﻠﻴﺔ. وﻋﲆ ﻫﺬا ﻳﺸﺒﱢﻪ إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ دور اﻟﺤﺐ ﰲ ﺗﻜﻮﻳﻦ أول املﺨﻠﻮﻗﺎت ﺑﺼﻨﺎﻋﺔ َ اﻟﻔ ﱠﺨﺎر ﺤﺮﻗﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺠﺮي ﻓﻴﻬﺎ ﺗﺠﻤﻴﻊ ُﻛﺘَ ِﻞ اﻟﱰاب وﺑ ﱡﻠﻬﺎ ﺑﺎملﺎء ﺛﻢ ﺗُ َﺸ ﱠﻜﻞ وﺗُﱰَك ﰲ اﻟﺸﻤﺲ ا ُمل ِ ﻟﺘﺠﻒ .ﻛﻤﺎ اﺳﺘﺨﺪم ﻛﺬﻟﻚ ﺗﺸﺒﻴﻪ املﺎء واﻟﺪﻗﻴﻖ ﰲ ﺻﻨﻊ اﻟﺨﺒﺰ؛ ذﻟﻚ أن ﺟﻔﺎف اﻟﻌﻈﺎم وﻇﻬﻮرﻫﺎ ﺑﺎﻟﻠﻮن اﻷﺑﻴﺾ إﺛﺮ ﺧﺒﺰﻫﺎ ﰲ درﺟﺔ ﺣﺮارة ﻋﺎﻟﻴﺔ ﺟﺪٍّا ﻗﺪ ﺟﻌﻞ إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﻳﻘﻮل إن اﻟﻌﻈﺎم ﺗﺘﻜﻮﱠن ﻣﻦ أرﺑﻌﺔ أﺟﺰاء ﻣﻦ اﻟﻨﺎر ﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮع ﺛﻤﺎﻧﻴﺔ أﺟﺰاء) .ورﺑﻤﺎ ﱠ ﻳﺘﺤﻘﻖ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﻮﺻﻔﺔ ﺑﺼﻨﻊ اﻟﻌﻈﺎم .رﺑﻤﺎ اﻋﺘﻘﺪ ﻧﺘﺴﺎءل ملﺎذا ﻟﻢ ﻳﺤﺎول ذات ﻣﺮة أن أﻧﻪ أﻣﺮ ﻣﺴﺘﺤﻴﻞ ،ﺑﻞ وﻳﻨﻄﻮي ﻋﲆ ﳾء ﻣﻦ اﻟﺪﻧﺲ أن ﻳﻘﻮم ﺑﺎﺳﺘﺪﻋﺎء اﻟﺸﻤﺲ ا ُملﺤْ ِﺮ َﻗﺔ ﺑﻨﻔﺴﻪ( .وﻳﻘﻮل إﻧﻪ ﺑﺼﻔﺔ ﻋﺎﻣﺔ ﻧَﺘﺠﺖ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﺑﻔﻌﻞ اﻟﺘﺼﻠﻴﺐ اﻟﺬي ﺗُ َﺴﺒﱢﺒُ ُﻪ ﺤﺮ َﻗﺔ ﻋﲆ اﻷرض واملﺎء .وﻻ ﺗﺪﻫﺸﻨﺎ ﻛﺜريًا اﻷﻫﻤﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻮﻟﻴﻬﺎ ﻟﻔﻌﻞ اﻟﺸﻤﺲ اﻟﺸﻤﺲ ا ُمل ِ املﺤﺮﻗﺔ ﻋﲆ ﻋﻨﴫ اﻟﱰاب إذا ﻋﻠﻤﻨﺎ أﻧﻪ ﻋﺎش ﺗﺤﺖ ﺷﻤﺲ ﺻﻘﻠﻴﺔ اﻟﺤﺎرﻗﺔ .ﻛﻤﺎ ﺗﺴﺎﻋﺪﻧﺎ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻛﻮﻧِﻪ ﻣﻦ ﺻﻘﻠﻴﺔ ﻋﲆ ﺗﻔﺴري ﻓﻜﺮﺗﻪ اﻷﺧﺮى املﺤرية اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮل إن اﻷﺟﺴﺎم ﱡ اﻟﺼﻠﺒﺔ رﺑﻤﺎ ﺗﻜﻮﻧﺖ ﻣﻦ ﺗﺴﺨني املﻴﺎه واﻟﱰاب ،ﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل ﻣﻊ ﻓﻜﺮﺗﻪ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮل إن اﻟﺼﺨﻮر ﺗﻜﻮﱠﻧﺖ ﻣﻦ املﺎء ،وﻫﻲ ﺑﻼ ﺷﻚ ﻓﻜﺮة ﻻ أﺳﺎس ﻟﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﺼﺤﺔ ﺣﻴﺚ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺒﻠﻮرات املِ ْﻠﺤِ ﻴﱠﺔ ﱡ اﻟﺘﺒﺨﺮ ﻷﻏﺮاض ﺗﺠﺎرﻳﺔ ،ﻓﺮﺑﻤﺎ ﺗﺴﺘﺨﺮج ﰲ ﺻﻘﻠﻴﺔ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ ﻣﻦ اﻟﺒﺤﺮ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﺳﺘﻨﺒﻂ إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﻣﻦ ذﻟﻚ أن اﻟﺼﺨﻮر ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺘﻜﻮﱠن ﻣﻦ املﺎء .وﻛﺬﻟﻚ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺤُ ﻤَ ﻢ ﱢ املﺘﺪﻓﻘﺔ ﻣﻦ ﺑﺮﻛﺎن إﺗﻨﺎ ﺗﻘﺬِف ﺻﺨﻮ ًرا ،وﺑﻤﺎ أن اﻟﺤُ ﻤَ ﻢ ﺳﺎﺋﻠﺔ ﻓﻘﺪ رأى إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ أﻧﻬﺎ ﺗﻌﺘﱪ ﻣﺎءً .وﻟﻮ ﻛﺎن إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﻣﻦ ﺳﻜﺎن اﻹﺳﻜﻴﻤﻮ ﻻ ﺻﻘﻠﻴﺔ ﱠ ﻟﺘﻐريت اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ اﻟﺘﻲ ﱠ ﺗﻮﺻﻞ إﻟﻴﻬﺎ ﻋﻦ اﻟﻌﻤﻠﻴﺎت اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ،ﻓﺮﺑﻤﺎ أَو َْﱃ اﻫﺘﻤﺎﻣً ﺎ أﻛﱪ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل 105
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ً اﻟﺼﻠﺒﺔ إﱃ ﺳﻮاﺋﻞ ً إﱃ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﺗُﺬﻳﺐُ ﺑﻬﺎ اﻟﺸﻤﺲ اﻷﺟﺴﺎم ﱡ ﺗﻤﺜﺎﻻ ﻣﻦ ﻣﺜﻼ إذا رأى اﻟﺠﻠﻴﺪ ﻳﺘﺤﻮل ِﻟﱪﻛﺔ ﻣﺎء. ً ﻓﻤﺜﻼ ﻻﺣﻆ أن ﻗﺪم إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﺗﻔﺴريات أﻛﺜﺮ ﺗﻘﺪﱡﻣً ﺎ ﺑﺨﺼﻮص اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﺤﻴﺔ، اﻟﺼﻔﺎت املﺘﺒﺎﻳﻨﺔ ﺑﺸﻜﻞ واﺿﺢ ﻟﻠﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﺤﻴﺔ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻜﻮن ﻟﻬﺎ اﻟﻮﻇﻴﻔﺔ ُ ﻧﻔﺴﻬﺎ وأن ً أﻋﻤﺎﻻ ﻣﺘﺸﺎﺑﻬﺔ ،وﻫﻮ أﺣﺪ املﺒﺎدئ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﰲ ﻋﻠﻢ اﻷﺣﻴﺎء؛ وﻣﻦ ﺛﻢ ﻓﻬﻮ ﻳﺼﻒ ﺗﺆدي اﻟﺰﻳﺘﻮن ﻋﲆ ﺷﺠﺮة اﻟﺰﻳﺘﻮن ﺑﺄﻧﻪ ﺑﻴﺾ اﻟﺸﺠﺮة ،وأن اﻟﺸﻌﺮ واﻟﺮﻳﺶ واﻟﻘﺸﻮر ﻫﻲ اﻟﴚء ﱡ ً اﻟﺘﻨﻔﺲ ﺗﻔﺼﻴﻼ ﻋﻦ اﻟﺒﻘﺎء ﻫﻮ ﺗﻔﺴريه ﻟﻌﻤﻠﻴﺎت ﻧﻔﺴﻪ .أﻣﺎ أﻛﺜﺮ ﺗﻔﺴرياﺗﻪ اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﱡ ﻋﻨﺪ اﻹﻧﺴﺎن واﻟﺤﻴﻮان؛ إذ ﻳﺮى أن اﻧﺘﻈﺎم ﺣﺮﻛﺔ اﻟﺘﻨﻔﺲ ﻳﱰﺗﺐ ﻋﲆ ﺣﺮﻛﺔ اﻟ ﱠﺪ ِم ﰲ ﺛﻘﻮب ﺣﺎﻣ َﻠ ِﺔ اﻟ ﱠﺪ ِم ﰲ ﱠ ﺻﻐرية ﻣﻮﺟﻮدة ﰲ اﻷﻧﺎﺑﻴﺐ ِ ﻣﺆﺧ َﺮة ﻓﺘﺤﺎت اﻷﻧﻒ ،وﻫﺬه اﻟﺤﺮﻛﺔ ﺗﻤﺘﺺ اﻟﻬﻮاء ﻟﺪاﺧﻞ اﻷﻧﻒ ،ﻛﻤﺎ أن اﻟﺜﻘﻮب ﻛﺒرية ﺑﺎﻟﺸﻜﻞ اﻟﺬي ﻳﺴﻤﺢ ﺑﺪﺧﻮل اﻟﻬﻮاء وﻻ ﻳﺴﻤﺢ ﺑﻬﺮوب اﻟﺪم )وﻟﺬﻟﻚ ﻳ ُْﻔ َﱰ َُض أن اﻟﻬﻮاء أﻓﻀﻞ ﻣﻦ اﻟﺪم( .ﺛﻢ ﻳﺴﺘﻔﻴﺾ ﰲ ﴍح ﻫﺬا املﺒﺪأ ً اﺳﺘﻔﺎﺿﺔ ﺗﻨﻢ ﻋﻦ ﻣﻬﺎرة وذﻛﺎء ﺑﺘﺸﺒﻴﻬﻪ ﺟﻬﺎ ًزا ﺑﺴﻴ ً ﻄﺎ وﺷﺎﺋﻌً ﺎ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ املﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻲ ﻟﺤﻤﻞ املﻴﺎه ﻳﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ ﻓﻜﺮة اﻟﻔﺮاغ .وﻫﺬه اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ وإن ﻛﺎﻧﺖ ﺑﻌﻴﺪة ﻋﻦ اﻟﻬﺪف إﻻ أﻧﻬﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﻏﺮﻳﺒﺔ ﻋﲆ ﺷﺨﺺ ﻛﺎن ﻳﻌﺘﱪ ﻧﻔﺴﻪ ذات ﻳﻮم ﺷﺠرية. اﻗﱰب إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﻣﻦ ﻟُﺐﱢ اﻟﻘﻀﻴﺔ اﻟﺠﻮﻫﺮﻳﺔ ﰲ ﻋﻠﻢ اﻷﺣﻴﺎء؛ ﺣﻴﺚ ﻗﺎل إن ﺟﻤﻴﻊ املﺨﻠﻮﻗﺎت ﺗَﺪِﻳ ُﻦ ﺑﺎﻟﻔﻀﻞ ﻓﻴﻤﺎ ﺗﺤﻤﻠﻪ ﻣﻦ ﺻﻔﺎت ﻣﻔﻴﺪة وﻧﺎﻓﻌﺔ إﱃ ﺣﻘﻴﻘﺔ أﻧﻪ ﻛﺎن ﺛﻤﺔ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ أﻧﻮاع املﺨﻠﻮﻗﺎت ،وأن اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ واملﺸﻮﻫﺔ ِ ﻓﺸﻠﺖ ﰲ اﻟﺒﻘﺎء ﻷﻧﻬﺎ ﻟﻢ ً َ ﱠ ِ املﺨﻠﻮﻗﺎت اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻻﺋِﻘﺔ ﺑﺎﻟﺒﻘﺎء ﻟﻜﻲ ﺗﺘﻜﺎﺛﺮ ﻳﺘﺒﻖ ﺳﻮى ﺗ ُﻜﻦ ﻻﺋﻘﺔ ﻟﺬﻟﻚ ،وأﻧﻪ ﻟﻢ وﺗﻤﻸ اﻟﻌﺎﻟﻢ .وﻳﻨﻄﻮي ﻫﺬا اﻟﺘﻔﺴري ﻋﲆ ﺗﻔﺼﻴﻼت ﺧﻴﺎﻟﻴﺔ ﺗﻠﻴﻖ ﺑﻌﺎﻟﻢ اﻷﺳﺎﻃري اﻟﺘﻘﻠﻴﺪي )ﻓﻴﻘﻮل :ﻟﻘﺪ ﻛﺎن ﰲ ﻫﺬه املﺮﺣﻠﺔ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻷوﺟُ ﻪ ﺑﻼ رﻗﺎب ،وﻛﺎﻧﺖ اﻷذرع ﺗﻬﻴﻢ ﺑﻼ أﻛﺘﺎف ﺗﻠﺘﺤﻢ ﺑﻬﺎ ،وﻛﺎﻧﺖ اﻟﻌﻴﻮن ﺗﴬب ﰲ اﻷرض وﺣﻴﺪة ﺑﺤﺜًﺎ ﻋﻦ ﺟﺒﺎه( .وﻟﻜﻦ ﻳﺒﺪو أﻧﻪ ﺗﻔﻬﻢ ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﻦ ﻋﻤﻞ اﻻﻧﺘﺨﺎب اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ﻗﺒﻞ أن ﻳﻘﺪم داروﻳﻦ وواﻻس أدﻟﺔ ﻣﻠﻤﻮﺳﺔ ﻋﲆ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﺑﻤﺎ ﻳﻘﺮب ﻣﻦ ٢٣٠٠ﻋﺎم .وﺗﻘﻮل ﻧﻈﺮﻳﺔ أرﺳﻄﻮ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺸﺄن: »إن ﻣﻌﻈﻢ أﻋﻀﺎء اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت ﺗﻜﻮﱠﻧﺖ ﺑﻤﺤﺾ اﻟﺼﺪﻓﺔ« ﺑﻌﺪ أن ُزجﱠ ﺑﻬﺎ ﺑﺸﻜﻞ ﻋﺸﻮاﺋﻲ ﰲ املﻌﺮﻛﺔ اﻟﺪاﺋﺮة ﺑني اﻟﺤﺐ واﻟﴫاع ،وﻋﻨﺪﻣﺎ أﺛﺒﺘﺖ ﻫﺬه اﻷﻋﻀﺎء ﺟﺪواﻫﺎ ﻓﺈن املﺨﻠﻮﻗﺎت اﻟﺘﻲ أﺳﻌﻔﻬﺎ اﻟﺤﻆ ﺑﺄن ﺗﻜﻮن ﻟﻬﺎ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻷﻋﻀﺎء »ﺗﻤ ﱠﻜﻨﺖ ﻣﻦ اﻟﺒﻘﺎء ﻋﲆ ﻗﻴﺪ اﻟﺤﻴﺎة وﻧ ُ ﱢ ﻈﻤَ ﺖ ﺑﺸﻜﻞ ﺗﻠﻘﺎﺋﻲ ﰲ ﺷﻜﻞ ﻻﺋﻖ ،ﰲ ﺣني أن املﺨﻠﻮﻗﺎت اﻷﺧﺮى اﻟﺘﻲ ﻧَﻤَ ﺖ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ 106
اﻟﺤﺐ واﻟﴫاع :إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ
ً ﻣﻌﻠﻘﺎ ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﻔﻘﺮة» :ﻳﻤﻜﻦ ﻣﺸﻮه ﻗﺪ اﻧﺪﺛﺮت أو آﺧﺬة ﰲ اﻻﻧﺪﺛﺎر «.وﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل داروﻳﻦ أن ﻧﺘﻌﻘﺐ ﻧﻈﺮﻳﺔ اﻻﻧﺘﺨﺎب اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ﻣﻦ ﻫﻨﺎ ﻓﺼﺎﻋﺪًا«. وﻗﺪ ذﻛﺮ أرﺳﻄﻮ ﻫﺬه اﻟﻘﺼﺔ اﻟﻐﻴﺒﻴﺔ ﻋﻦ إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﻟﻜﻲ ﻳﻔﻨﺪﻫﺎ ،ﻓﻠﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻴﻘﺒﻞ ﺗﻔﺴريًا ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ ﻳﻘﻮم ﻋﲆ اﻟﺼﺪﻓﺔ وﻳُﻨﻜﺮ وﺟﻮد أﻳﱠﺔ ﻏﺎﻳﺔ ﻣﻨﻬﺎ أو ﻫﺪف ﻟﻬﺎ ،ﻓﺄرﺳﻄﻮ ﻳﻌﺘﻘﺪ — وﻛﺬﻟﻚ اﻋﺘﻘﺪ أﻓﻼﻃﻮن ﻣﻦ ﻗﺒﻠﻪ — أن اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻣ َ ُﺼﻤﱠ ﻤَ ٌﺔ ﺑﺸﻜﻞ ﻣﻦ وراﺋﻪ ﻣﻘﺼﺪ وﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻔﺴريﻫﺎ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻴﺔ ﺑﺤﺘﺔ .وﻗﺪ اﻧﺘﴫ أرﺳﻄﻮ وأﻓﻼﻃﻮن ﰲ ﻫﺬه ﻇ ﱠﻞ ﺗﻔﺴري إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﻟﻠﺘﻜﻴﱡﻒ اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻲ ﻏري ﻣ َ املﻌﺮﻛﺔ ،ﰲ ﺣني َ ُﻌﱰ ٍَف ﺑﻪ ﺣﺘﻰ ﻇﻬﻮر داروﻳﻦ .ورﻏﻢ أن أرﺳﻄﻮ رﺣﱠ ﺐ ﺑﻔﻜﺮة إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﻋﻦ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻷرﺑﻌﺔ ﻓﺈﻧﻪ وﺟﱠ ﻪ ﺳﻬﺎم ﻧﻘﺪه إﱃ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻛﺘﺒﻪ إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﻏري ذﻟﻚ ،ﺣﺘﻰ ﻗﺎل ذات ﻣﺮة إن إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ »ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﺪﻳﻪ ﻣﺎ ﻳﻜﺘﺒﻪ«. وﻣﻦ أﻫﻢ اﻷدوات اﻟﺘﻲ اﺳﺘﺨﺪﻣﻬﺎ إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﰲ ﺗﻔﺴرياﺗﻪ املﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻴﺔ ﻧﻈﺮﻳﺘﻪ ﺣﻮل املﺴﺎم واﻟﺪﻓﻘﺎت .ﻓﻘﺪ رأى أن ﺟﻤﻴﻊ املﻮاد ﺗﺘﺨ ﱠﻠﻠﻬﺎ ﻣﺴﺎم وﻓﺘﺤﺎت ﻣﺘﻔﺎوﺗﺔ اﻷﺣﺠﺎم وأن ﻫﺬه اﻟﻔﺘﺤﺎت ﺗﻘﻮم ﺑﻘﺬف ﺟﺰﺋﻴﺎت ﻣﺘﻨﺎﻫﻴﺔ اﻟﺼﻐﺮ ،وﺗﻘﻮم املﻮا ﱡد ﺑﺘﺒﺎدُل ﻫﺬه اﻟﺪﻓﻘﺎت ﺑﺼﻮرة ﻣﺴﺘﻤ ﱠﺮة واﻧﺘﻘﺎﺋﻴﺔ ،ﻛﻤﺎ أن ﺑﻌﺾ املﺴﺎم ﺗﺘﱠﺴﻊ ﻟﻨَﻮ ٍْع ﱠ ﻣﻌني ﻣﻦ اﻟﺠﺰﻳﺌﺎت ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺗﺘﺴﻊ ﻣﺴﺎ ﱡم أﺧﺮى ﻷﻧﻮاع أﺧﺮى وﻫﻜﺬا .وﻗﺪ اﺳﺘﺨﺪم إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﻫﺬه اﻵﻟﻴﺔ ﻟﺘﻔﺴري ﻛﻴﻔﻴﺔ اﺗﺤﺎد اﻟﻌﻨﺎﴏ واﻧﺪﻣﺎﺟﻬﺎ ،وملﺎذا ﺗﻨﺪﻣﺞ ﺑﻌﺾ اﻟﻌﻨﺎﴏ وﻻ ﺗﻨﺪﻣﺞ ﻋﻨﺎﴏ أﺧﺮى، ﻣﺜﻞ اﺧﺘﻼط املﺎء ﺑﺎﻟﺨﻤﺮ وﻋﺪم اﺧﺘﻼﻃﻪ ﺑﺎﻟﺰﻳﺖ .وﻗﺪ اﺳﺘﺨﺪم إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﻫﺬه اﻵﻟﻴﺔ ً )ﻗﺎﺋﻼ إن اﻷﺷﻴﺎء ﻟﺘﻔﺴري ﺟﻤﻴﻊ اﻟﻈﻮاﻫﺮ ﺑﻤﺎ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻈﻮاﻫﺮ املﻐﻨﺎﻃﻴﺴﻴﺔ وﻇﺎﻫﺮة اﻟﺘﺤ ﱡﻠﻞ ﺗﻔﻨﻰ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﻘﺬِف أﻛﺜﺮ ﻣﻤﱠ ﺎ ﺗﻤﺘﺺ( .وﺗﺠ ﱠﻠﺖ ﺣﻨﻜﺘﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ اﺳﺘﺨﺪم ﻫﺬه اﻵﻟﻴﺔ ﻟﺘﻔﺴري ﻇﺎﻫﺮة اﻹدراك ﺣﻴﺚ ﻗﺎل إن ﻛﻞ ﱠ ﺣﺎﺳﺔ ﻟﻬﺎ ﻣﺴﺎﻣﻬﺎ اﻟﺨﺎﺻﺔ وﺗﺴﻤﺢ ﺑﺪﺧﻮل ﻣﺎ ﻳﻨﺎﺳﺒﻬﺎ ﱡ اﻟﺘﺪﻓﻖ اﻟﺼﺎدر ﻋﻦ اﻷﺷﻜﺎل ،وﻫﻮ ﻣﻦ ﺟﺰﻳﺌﺎت؛ ﻓﻌﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل »ﺗﻌﺘﱪ اﻷﻟﻮان ﻧﻮﻋً ﺎ ﻣﻦ ﻣﺴﺎو ﻟﻠﺒﴫ وﻳﻤﻜﻦ إدراﻛﻪ ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻪ« ،ﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل ﻣﻊ أﻓﻼﻃﻮن اﻟﺬي ﻗﺎل إن ﺗﺪﻓﻖ ٍ اﻟﺸﻢ واﻟﺘﺬوﱡق واﻟﺴﻤﻊ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻔﺴريﻫﺎ ﺑﻄﺮق ﻣﺸﺎﺑﻬﺔ. وﺛﻤﺔ ﻓﻜﺮﺗﺎن ﻣﻤﻴﺰﺗﺎن ﰲ رؤﻳﺔ إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﻋﻦ اﻹدراك ،إﺣﺪاﻫﻤﺎ ﺗﺪﺧﻞ ﰲ إﻃﺎر ﻧﻈﺮﻳﺔ ﻋﺎﻣﺔ ﻋﻦ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻹدراك؛ ﻓﻬﻨﺎك ً ﻣﺜﻼ اﻷﻃﺮوﺣﺔ املﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻴﺔ ﻏري اﻟﻨﺎﺿﺠﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮل إن اﻹدراك ﻳﺤﺪث ﻣﻦ ﺧﻼل اﻻﺗﺼﺎل املﺎدي ﺑني اﻟﺤﻮاس واﻷﺷﻴﺎء اﻟﺨﺎرﺟﻴﺔ ﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﺪﻓﻘﺎت املﻘﺬوﻓﺔ ﺑﻴﻨﻬﺎ ،واﻷﺧﺮى ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﻣﺒﺪأ ﻋﺎم ﻳﻜﺘﻨﻔﻪ ﻣﺰﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﻐﻤﻮض ﻳﻘﻮل» :ﻳُﻌ َﺮف اﻟﴚء ﺑﻤﺜﻠﻪ «.وﻫﺬه املﻘﻮﻟﺔ ﺟﺰء ﻣﻦ ﺣﻜﻤﺔ ﻳﻮﻧﺎﻧﻴﺔ ﻗﺪﻳﻤﺔ ﺗﺘﺤﺪث ﻋﻦ 107
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
اﻟﻔﻜﺮة اﻟﻐﺎﻣﻀﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮل إن اﻷﺷﻴﺎء ﺗﺠﺬب أﻣﺜﺎﻟﻬﺎ .ﻓﻌﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ،ﻳﻘﺎل إﻧﻨﺎ ﻧﺮى اﻷﺷﻴﺎء اﻟﻼﻣﻌﺔ ﻷن املﺎدة اﻟﺘﻲ ُ ﺻﻨِﻌَ ﺖ ﻣﻨﻬﺎ أﻋﻴﻨُﻨﺎ ﻻﻣﻌﺔ .وﻗﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﻣﻘﺒﻮﻟﺔ ﻟﺪى اﻟﻘﺪﻣﺎء ،ﻟﻜﻨﻬﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﻛﺬﻟﻚ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻌﻘﻞ اﻟﺤﺪﻳﺚ. وإذا ﻛﺎن اﻟﺘﻔﺴري اﻟﻘﺎﺋﻢ ﻋﲆ املﺴﺎ ﱢم واﻟﺪﻓﻘﺎت ﻳُﻌﺘَﱪ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻟﻮﺻﻒ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﻋﻤﻞ اﻟﻌني واﻷذن واﻷﻧﻒ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻟﻔﺴﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ؛ ﻓﺈن ﻓﻜﺮة أن اﻟﴚء ﻳُﻌ َﺮف ﺑﻤﺜﻠﻪ إﻧﻤﺎ ﻫﻲ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻣﺘﻌﺜﱢﺮة ﻟﻠﻮﺻﻮل إﱃ ﳾء ﺑﺨﺼﻮص اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﻌﺎﻣﺔ ﻟﻠﻮﻋﻲ ،ﻓﺈﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﻳﺮى أن اﻹدراك واﻟﺘﻔﻜري ﺷﻜﻼن ﻣﻦ أﺷﻜﺎل اﻻﻧﺠﺬاب ﺑني اﻹﻧﺴﺎن واﻟﻄﺒﻴﻌﺔ؛ إذ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﺮى اﻷﺷﻴﺎء وﻧﺪرﻛﻬﺎ ﻷﻧﻨﺎ ُﺧﻠِﻘﻨﺎ ﻣﻨﻬﺎ ،وﺑﺎملﺜﻞ ﺗﻮﺟَ ﺪ ﻗﻮى اﻟﺤﺐ واﻟﴫاع داﺧﻞ اﻹﻧﺴﺎن؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﻬﻮ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ إدراك ﺗﺠﻠﻴﺎﺗﻬﺎ ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ،وﻟﻜﻦ ﻟﻸﺳﻒ ﻃﻐﻰ اﻟﴫاع ﻋﲆ ﺣﻴﺎة اﻹﻧﺴﺎن — أو ﻛﺬﻟﻚ اﻋﺘﻘﺪ إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ — وﻣﺎ ﻳﺤﻴﺎه اﻹﻧﺴﺎن ﻣﻦ ﺣﻴﺎة ﺗﻌﺞ ﺑﺎملﺸﻜﻼت ﻳﻌﻜﺲ ﻫﺬه اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ .وﺗﻤﻬﺪ ﻫﺬه اﻟﻌﺎﻃﻔﺔ ﻟﺪﺧﻮل اﻷﻓﻜﺎر اﻷورﻓﻴﺔ واﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﺔ إﱃ ﻣﺎ ﻳﻨﻈﻤﻪ ﻣﻦ ﺷﻌﺮ دﻳﻨﻲ أُﻃﻠِﻖ ﻋﻠﻴﻪ »ﺳﺒﻞ اﻟﻨﻘﺎء«. ﻓﻬﻢ املﺴﺘﻤﻌﻮن ﻗﺼﻴﺪة إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ »ﺳﺒﻞ اﻟﻨﻘﺎء« ﻋﲆ أﻧﻬﺎ إﺷﺎرة إﱃ ﺷﻌﺎﺋﺮ ورﺑﻤﺎ ِ اﻟﺘﻄﻬري ،ﺑﻤﻌﻨﺎﻫﺎ اﻟﺤﺮﰲ واملﺠﺎزي ،اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﴐورﻳﺔ ﻟﻬﺆﻻء اﻟﺬﻳﻦ أﺳﺎءُوا ﻟﻶﻟﻬﺔ أو ﺧﺎﻟﻔﻮا ﺑﻌﺾ اﻷواﻣﺮ املﻘﺪﺳﺔ .وﻳﺘﺤﺪﱠث ﻫﺬا اﻟﺠﺰء ﻣﻦ ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ ﻋﻦ اﻷﺷﻜﺎل اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ﻟﻠﺤﺐ واﻟﴫاع ،وﻳﺼﻒ ﻛﻴﻒ ﺗﻤﻜﻦ اﻟﴫاع ﻣﻦ ﻓﺼﻞ اﻹﻧﺴﺎن ﻋﻦ ﻃﺒﻴﻌﺘﻪ اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ ﺑﺈﻏﺮاﺋﻪ ﺑﺎرﺗﻜﺎب اﻟﺨﻄﻴﺌﺔ ،وﺗﺮﺗﺐ ﻋﲆ ذﻟﻚ أن ُ ﻃ ِﺮ َد اﻹﻧﺴﺎن ﻣﻦ اﻟﻨﻌﻤﺔ اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ ﻓﻘﺎل: ﻇﻞ اﻹﻧﺴﺎن ﺛﻼﺛني أﻟﻒ ﻋﺎم ﻳﺘِﻴﻪ ﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻦ املﻜﺎن املﺒﺎرك ﺣﻴﺚ ﺗَ َﺸ ﱠﻜﻞ ﺧﻼل ﻫﺬا اﻟﻮﻗﺖ ﻋﲆ ﺷﺎﻛﻠﺔ ﺟﻤﻴﻊ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﻔﺎﻧﻴﺔ ﻣﺘﻘﻠﺒًﺎ ﰲ أﻟﻮان اﻟﺸﻘﺎء ،وﻇﻠﺖ ﻗﻮى اﻟﺮﻳﺢ ﺗﻄﺎرده ﰲ أواﺳﻂ اﻟﺒﺤﺎر ﺛﻢ ﺗﻘﺬف ﺑﻪ أﻣﻮاج اﻟﺒﺤﺎر إﱃ ﺗﺮاب اﻟﻴﺎﺑﺴﺔ ،ﺛﻢ ﺗﻠﻘﻴﻪ اﻷرض ﺗﺤﺖ أﺷﻌﺔ اﻟﺸﻤﺲ اﻟﺤﺎرﻗﺔ ﺛﻢ ﺗﻌﻴﺪه اﻟﺸﻤﺲ إﱃ دواﻣﺎت اﻟﺮﻳﺢ اﻟﻘﻮﻳﺔ ،ﻓ َ ﻈ ﱠﻞ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺸﻘﺎء ﺗﺘﻘﺎذﻓﻪ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﻔﺎﻧﻴﺔ وﻻ ﺗﻘﺒﻠﻪ. ﺣﺎﱄ اﻟﺬي أﻋﻴﺶ ﻓﻴﻪ اﻵن؛ ﻓﺄﻧﺎ ﻣﻨﻔﻲ ﻋﻦ رﺣﺎب اﻵﻟﻬﺔ وﻫﺎﺋﻢ ﻋﲆ وﻫﺬا ﻫﻮ ِ وﺟﻬﻲ ﻷﻧﻨﻲ وﺛﻘﺖ ﻳﻮﻣً ﺎ ﰲ اﻟﴫاع اﻟﺠﺎﻣﺢ. وﻳﺮى ﻫﺴﻴﻮد أﻧﻪ ﻳﻤﻜﻦ ﻃﺮد أﺣﺪ آﻟﻬﺔ ﺟﺒﻞ أوملﺒﻮس ملﺪة ﻣﻌﻴﻨﺔ إذا أﺳﺎء اﻟﺘﴫف ،ﻓﻘﺎل: »وﻳُﻄ َﺮد ﻣﻦ زﻣﺮة اﻵﻟﻬﺔ اﻟﺨﺎﻟﺪة ملﺪة ﺗﺴﻌﺔ أﻋﻮا ٍم وﻟﻦ ﻳﻌﻮد إﱃ ﻣﺠﺎﻟﺴﻬﻢ أو ﻳﺤﺘﻔﻞ 108
اﻟﺤﺐ واﻟﴫاع :إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ
ﺑﺄﻋﻴﺎدﻫﻢ ،وﻟﻜﻨﻪ ﰲ اﻟﻌﺎم اﻟﻌﺎﴍ ﻳﻌﻮد إﱃ اﻵﻟﻬﺔ اﻟﺨﺎﻟﺪة ﻟﻴﻌﻴﺶ ﰲ ﺑﻴﺖ أوملﺒﻮس «.وﻗﺪ اﻋﺘﻨﻖ إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﺗﻠﻚ اﻟﻔﻜﺮة اﻟﺘﻲ وﺟﺪﻫﺎ ﰲ ﻋﻠﻢ اﻷﺳﺎﻃري اﻟﺘﻘﻠﻴﺪي ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ ﺑﻌﺾ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻷﺧﺮى ﻣﻦ اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ اﻷورﻓﻴﺔ وﺑﻌﺾ اﻟﻄﻮاﺋﻒ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ اﻷﺧﺮى اﻟﺘﻲ ﻳﻜﺘﻨﻔﻬﺎ اﻟﻐﻤﻮض؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﺈن ﻋﻘﺎب اﻹﺛﻢ ﻻ ﻳﻘﺘﴫ ﻋﲆ اﻟﻨﻔﻲ وﻟﻜﻦ ﻳﺘﻀﻤﻦ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﻋﻤﻠﻴﺎت اﻟﺘﻨﺎﺳﺦ ،وﻛﺬﻟﻚ ﻻ ﻳﻘﺘﴫ ﻫﺬا اﻟﻌﻘﺎب ﻋﲆ آﻟﻬﺔ ﺟﺒﻞ أوملﺒﻮس اﻵﺛﻤني ﻓﺤﺴﺐ ،ﺑﻞ ﻳﺸﻤﻞ ﻛﻞ إﻧﺴﺎن ﻣﴙ ﻋﲆ ﻇﻬﺮ اﻷرض؛ ﻓﻜﻞ إﻧﺴﺎن ﻛﺎن ﻟﻪ ﻗﺒﺲ ﻣﻦ اﻟﻨﻮر اﻹﻟﻬﻲ ،وﻟﺬﻟﻚ »ﻓﻬﻮ ﻳﺴﺘﺤﻖ اﻟﻨﻔﻲ وأن ﻳﻬﻴﻢ ﰲ اﻷرض ﻋﲆ وﺟﻬﻪ دون ﻫﺪف «.وﻳﺒﺪو أن اﻟﺨﻄﻴﺌﺔ اﻟﺘﻲ ﺟﻠﺒﺖ ﻋﲆ اﻹﻧﺴﺎن ﻫﺬا اﻟﻘﺪر املﺸﺌﻮم ﺑﺄن ﻳﻮﻟﺪ ﺣﻘريًا ﺻﺎﻏ ًﺮا ﻫﻲ اﻟﺘﻀﺤﻴﺔ ﺑﺎﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت واﻷﻛﻞ ﻣﻦ ﻟﺤﻮﻣﻬﺎ ،ﻓﻘﺎل ﰲ ذﻟﻚ» :وا ﺣﴪﺗﺎه! ﻟﻴﺘﻨﻲ ُﻗ ِﴤ ﻋﲇ ﱠ ﰲ ﻫﺬا اﻟﻴﻮم ﻗﺒﻞ أن ً ووﻓﻘﺎ ﻟﻠﻤﻌﺘﻘﺪ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮري ،ﻓﺈن اﻟﺘﻜﻔري ﻋﻦ ارﺗﻜﺐ ﻫﺬا اﻟﻔﻌﻞ اﻟﺸﻨﻴﻊ وآﻛﻞ ﻣﻦ اﻟﻠﺤﻢ«. ﻫﺬا اﻟﺬﻧﺐ ﻳﻘﺘﴤ أن ﻳﺘﺤﻮل اﻹﻧﺴﺎن إﱃ إﻧﺴﺎن ﻧﺒﺎﺗﻲ ﻻ ﻳﺄﻛﻞ اﻟﻠﺤﻢ. وﻳﻜﻤُﻦ املﻐﺰى اﻟﺮﺋﻴﺲ ﻣﻦ ﻗﺼﺘﻪ ﰲ ﴐورة أن ﺗﻘﻮم ﺣﻴﺎة اﻹﻧﺴﺎن ﻋﲆ ﻣﺒﺪأ اﻟﺤﺐ ﻻ اﻟﴫاع .وﻫﻮ ﻳﺘﺤﺪث ﻋﻦ ﻋﴫ ذﻫﺒﻲ ﻛﺎﻧﺖ اﻷرواح ﻓﻴﻪ ﺗﻌﻴﺶ ﰲ ﻫﻨﺎء »ﻗﺒﻞ أن ﺣﺮب ﻟﻴُﻌﺒَﺪ، ﻳﻜﺴﻮﻫﺎ اﻟﻠﺤﻢ اﻟﻐﺮﻳﺐ« ﻋﻘﺎﺑًﺎ ﻟﻬﺎ ،ﻓﻘﺎل ﰲ ذﻟﻚ» :ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺑني أﻇﻬﺮﻫﻢ إﻟﻪ ٍ ﺑﻞ ﻛﺎن اﻟﺤﺐ ﻫﻮ املﻠﻜﺔ املﺘﻮﺟﺔ ﻓﻮق رءوﺳﻬﻢ «.وﻗﺎل ً أﻳﻀﺎ» :ﻟﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﺟُ ﱡﻞ املﺨﻠﻮﻗﺎت ودﻳﻌﺔ َ ﺎن اﻹﻧﺴﺎن ،ﻓﻜﺎﻧﺖ اﻟﻮﺣﻮش واﻟﻄﻴﻮر ﰲ ﻋﻼﻗﺔ ﺻﺪاﻗﺔ راﺋﻌﺔ ﻣﻌﻪ «.وﻟﻜﻦ ﻃ ْﻮ َع ﺑَﻨ َ ِ ﻗﺘﻞ اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت أو اﻟﺘﻀﺤﻴﺔ ﺑﻬﺎ ﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﻄﻌﺎم ﻛﺎن أﻣ ًﺮا ﺧﺎﻃﺌًﺎ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻳﺒﺪو؛ ﻷن اﻹﻧﺴﺎن ﻳﺠﺐ أن ﻳﻌﻴﺶ ﻣﻌﻬﺎ وﻣﻊ ﻛﻞ ﻣﺎ ﺣﻮﻟﻪ ﰲ ﺳﻼم. وﻳُﺸ ِﺒﻪ ﻫﺒﻮ ُ ط اﻹﻧﺴﺎن ﻣﻦ اﻟﻔﺮدوس ﻟﻴُ َﺰجﱠ ﺑﻪ ﺑني اﻟﻌﻨﺎﴏ واملﺨﻠﻮﻗﺎت اﻷﺧﺮى ﰲ ﺳﻠﺴﻠﺔ إﻋﺎدة اﻟﺒﻌﺚ واﻹﺣﻴﺎء ﻣﺎ ﺣﺪث ﻣﻦ ﺗﻔ ﱡﻜﻚ ﻹﻣﱪاﻃﻮرﻳﺔ اﻟﺤﺐ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ،ﻋﻨﺪﻣﺎ دﻣﺮ اﻟﴫاع اﻟ ُﻜﺮة اﻟﻜﻮﻧﻴﺔ وﻗﺎم ﺑﻔﺼﻞ اﻟﻌﻨﺎﴏ ﻋﻦ ﺑﻌﻀﻬﺎ .وﻛﻤﺎ أن اﻟﻌﻨﺎﴏ ﺳﺘﺘﺠﻤﻊ ﻳﻮﻣً ﺎ ﻣﺎ ﺑﻔﻀﻞ ﻗﻮة اﻟﺤﺐ؛ ﻓﺈن اﻷرواح اﻟﺘﻲ ﺗﻜﺴﻮﻫﺎ أﻧﻮاع ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﻠﺤﻢ اﻵن ﺳﺘﻌﻮد ﻛﺬﻟﻚ إﱃ ﺳريﺗﻬﺎ اﻹﻟﻬﻴﺔ اﻷوﱃ ،ﻓﻬﻲ ﺗﺸﻖ ﻃﺮﻳﻘﻬﺎ ﻋﱪ ﺳﻠﺴﻠﺔ ﻣﻦ ﻋﻤﻠﻴﺎت اﻟﺘﻨﺎﺳﺦ ،وﰲ ذﻟﻚ ﻗﺎل: وﻟﻜﻨﻬﺎ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﺗﺄﺗﻲ ﺑني أﻇﻬُ ﺮ اﻟﻨﺎس ﻋﲆ اﻷرض ﰲ ﺻﻮرة أﻧﺒﻴﺎء وﺷﻌﺮاء وأﻃﺒﺎء وأﻣﺮاء ،ﺛﻢ ﻳﻨﺎﻟﻮن ﻣﻦ اﻟﺠﻼل واﻟﻌﻈﻤﺔ ﻣﺎ ﻧﺎﻟﻪ اﻵﻟﻬﺔ ﻗﺒﻠﻬﻢ ،ﻓﻴﺘﻘﺎﺳﻤﻮن ﻣﻊ اﻟﺨﺎﻟﺪﻳﻦ ﴍاﺑﻬﻢ وﻣﺄﻛﻠﻬﻢ وﻣﺴﻜﻨﻬﻢ دون ذﻟﻚ اﻟﺠﺰء اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ املﲇء ﺑﺎﻷﳻ واﻟﺤﺰن واﻟﻨ ﱠ َ ﺼﺐ. 109
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
وﻗﺪ ﻛﺎن إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ٍّ ﺣﻘﺎ ذﻟﻚ اﻟﻨﺒﻲ واﻟﺸﺎﻋﺮ واﻟﻄﺒﻴﺐ ،ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﻌﺎﻣﻠﻪ اﻟﺠﻤﻴﻊ ﻛﺄﻣري ﻣﺤﺒﻮب .ﺑﻴﺪ أن اﻟﻄﺐ — أو ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﻋﻠﻢ وﻇﺎﺋﻒ اﻷﻋﻀﺎء اﻟﺘﻘﻠﻴﺪي — ﻛﺎن ﻣﺤﻞ اﻫﺘﻤﺎﻣﻪ اﻟﻌﻤﲇ اﻷﻛﱪ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ﻫﻲ اﻟﺸﻐﻞ اﻟﺸﺎﻏﻞ ﻟﻠﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني .ﻟﻘﺪ َ ﻏﺎﱃ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﻮن ﰲ ﺗﻌﻈﻴﻢ ﻋﻠﻢ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ﺣﺘﻰ اﻋﺘﱪوا دراﺳﺘﻪ ﻣﻦ أ َ َﻫ ﱢﻢ اﻟﻮﺳﺎﺋﻞ اﻟﺘﻲ ﺗﺠﻠِﺐ ﻟﻬﻢ اﻟﺨﻼص ،وﻳﺒﺪو أن إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﻗﺪ ﻋ ﱠ ﻈﻢ ﻋﻠﻢ اﻟﻄﺐ ورﻓﻌﻪ إﱃ ﻫﺬه املﻜﺎﻧﺔ؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن اﻟﻄﺐ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﻳﺴﺘﺤﻮذ ﻋﲆ إﻋﺠﺎب اﻟﻌﺎﻣﺔ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ اﻟﻬﻨﺪﺳﺔ. وﻛﺎن إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ أول ﻣﻦ ﻳ َ ُﻨﺴﺐ إﻟﻴﻪ اﻟﻔﻀ ُﻞ ﰲ إﻧﺸﺎء واﺣﺪة ﻣﻦ ﻣﺪارس اﻟﻄﺐ اﻟﺜﻼﺛﺔ؛ أﻻ وﻫﻲ املﺪرﺳﺔ »اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴﺔ« ،ﻟﻌﺮض أﺳﻠﻮﺑﻪ ﰲ اﻛﺘﺴﺎب املﻌﺮﻓﺔ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ املﻼﺣﻈﺔ اﻟﺪﻗﻴﻘﺔ .وﻗﺪ ﻛﺎن ﺑﻌﻴﺪًا ﻛﻞ اﻟﺒﻌﺪ ﻋﻦ ﻓﻜﺮة ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس اﻟﺘﻲ ﺗﺮى أن اﻟﺤﻮاس ﻻ ﺗَﺠُ ﱡﺮ ﻋﻠﻴﻨﺎ إﻻ اﻟﻮﻫﻢ واﻟﺨﺪاع ،أﻣﺎ إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﻓﻘﺪ ﺣﺚ ﺟﻤﻬﻮره ً ﻗﺎﺋﻼ: ﻫﻠﻤﱡ ﻮا وﻛ ﱢﺮﺳﻮا ﻛﻞ ﻃﺎﻗﺎﺗﻜﻢ ملﻼﺣﻈﺔ ﻛﻴﻒ ﻳﺒﺪو ﻛﻞ ﳾء واﺿﺤً ﺎ ﺟﻠﻴٍّﺎ ،ﻓﻼ َ اﻟﺜﻘﺔ اﻟﻜﺎﻣﻠﺔ دون اﻟﺴﻤﻊ ،وﻻ ﺗُﻌ ُ ﻄﻮا اﻟﺴﻤﻊ أﻓﻀﻠﻴﺔ ﻋﲆ اﻟﻠﺴﺎن، ﺗُﻮﻟُﻮا اﻟﺒﴫ ً ﻃﺮﻳﻘﺎ ﻟﻠﻔﻬﻢ وﻻ ﺗﺴﺤﺒﻮا اﻟﺜﻘﺔ ﻋﻦ أيﱟ ﻣﻦ اﻷﻋﻀﺎء اﻷﺧﺮى ،ﻓﻜ ﱞﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﻳﺸﻖ واﻹدراك ،وﻟﻜﻦ ﺣﺎوﻟﻮا أن ﺗﻔﻬﻤﻮا ﻛﻞ ﳾء ﺑﻮﺿﻮح. ورﻏﻢ ﻛﻞ اﻹﻋﺠﺎب اﻟﺬي أﺑﺪاه إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﻟﺒﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻓﻘﺪ رﻓﺾ ﻓﻜﺮة اﻻﻋﺘﻤﺎد ﻋﲆ اﻟﻌﻘﻞ ﻓﺤﺴﺐ ﺑﻮﺻﻔﻪ اﻟﻄﺮﻳﻖ اﻟﻮﺣﻴﺪ ﻟﻠﺤﻘﻴﻘﺔ ورﻓﺾ »ﺳﺤﺐ اﻟﺜﻘﺔ« ﻣﻦ اﻟﺤﻮاس. وﺳﻨﻌﺮض ﰲ ﻣﻮﺿﻮﻋﻨﺎ اﻟﺘﺎﱄ ﻷﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس اﻟﺬي ﻧﺸﺄ ﰲ ﻛﻼزوﻣﻨﻲ واﺷﱰك ﻣﻊ إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﰲ رﻏﺒﺘﻪ ﰲ ﻓﻬﻢ ﻛﻞ ﻇﻮاﻫﺮ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ رﻓﻀﻬﺎ .وﻟﻢ ﻳﺤﻤﻞ أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس أﻳٍّﺎ ﻣﻦ ﺻﻔﺎت اﻷﻧﺒﻴﺎء واﻟﺸﻌﺮاء اﻟﺘﻲ ﺣﻤﻠﻬﺎ إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻛﺎملﻠﻄﻴني ﺑﺎﺣﺜًﺎ ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻳﺘﻤﻴﱠﺰ ﺑﺎﻟﺼﻔﺎء واﻟﺒﺴﺎﻃﺔ؛ ﻣﻤﺎ ﺟﻌﻞ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﻐﺎﻣﻀﺔ ﻋﻦ اﻟﺘﻨﺎﺳﺦ ﰲ أﺷﻜﺎل اﻟﺸﺠريات واﻟﻮﺣﻮش واﻷﺳﻤﺎك واﻟﻄﻴﻮر ﺗﺘﻼﳽ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ.
110
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎﺑﻊ
اﻟﻌﻘﻞ واﳌﺎدة :أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس
وﻟﺪ أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس )ﺣﻮاﱄ ٤٢٨–٥٠٠ق.م( ﰲ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻛﻼزوﻣﻨﻲ ﺑﺎﻟﻘﺮب ﻣﻦ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﺳﻤريﻧﺎ ،وﻟﻜﻦ ﻟﺤﺴﻦ ﺣﻈﻪ ﻟﻢ ﻳَﺒ َْﻖ ﻫﻨﺎك؛ ﻓﻬﻮ اﻟﺬي ﺣﻤﻞ ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻄﺒﻌﺎﻧﻴﺔ اﻷﻳﻮﻧﻴﺔ ﻏﺮﺑًﺎ ﺣﻴﺚ أﺛﻴﻨﺎ .وﻋﻨﺪﻣﺎ وﺻﻞ إﱃ أﺛﻴﻨﺎ ﻋﺎم ٤٦٠ق.م ﻛﺎن ﺳﻘﺮاط ﺣﻴﻨﻬﺎ ﻻ ﻳﺰال ﺻﺒﻴٍّﺎ وﻟﻢ ﺗﻌﺮف أيﱠ ﻓﻴﻠﺴﻮف أو رﺟﻞ ﻋﻠﻢ ﺣﺘﻰ ﻳﻜﻦ أﻓﻼﻃﻮن ﻗﺪ ُوﻟِ َﺪ ﺑﻌﺪُ ،وﻳﺒﺪو أن املﺪﻳﻨﺔ ﻟﻢ ِ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ .وﻗﺪ ﺗﺤﻤﻠﻪ ﺳﻜﺎن أﺛﻴﻨﺎ ﻗﺮاﺑﺔ ﺛﻼﺛني ﻋﺎﻣً ﺎ ،وأﻃﻠﻘﻮا ﻋﻠﻴﻪ اﺳﻤً ﺎ ﻳﺸﻮﺑﻪ اﻟﺘﻬ ﱡﻜﻢ إذ ﺳﻤﻮه »ﻋﻘﻞ« ،وﻛﺎﻧﻮا ﻳﻠﻬﻮن ﺑﺘﺪاول اﻟﻨﻮادر ﻋﻦ ﻓﻜﺎﻫﺎﺗﻪ اﻟﺴﺎﺧﺮة وﺑُﻌﺪه ﻋﻦ أرض اﻟﻮاﻗﻊ ،وﻟﻜﻨﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﻜﻮﻧﻮا ﻟﻴﺘﺴﺎﻫﻠﻮا ﻣﻌﻪ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ذﻟﻚ ،ﻓﺎﺗﻬﻤﻮه ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﺑﺎﻟﻔﺴﻖ ﻓﻔﺮ ً ﻋﻤﻴﻘﺎ ﰲ ﻧﻔﻮس أﻫﻞ أﺛﻴﻨﺎ. ﻧﺤﻮ املﴩق ﺣﺘﻰ وﺻﻞ إﱃ ﻻﻣﺒﺴﻜﺲ ﺑﻌﺪ أن ﺗﺮك أﺛ ًﺮا وﺗﺘﻤﺜﻞ ﺟﺮﻳﻤﺘﻪ املﻌﻠﻨﺔ رﺳﻤﻴٍّﺎ ﰲ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﻌﺘﻘﺪ ﺑﺄن اﻷﺟﺮام اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ ﻟﻴﺴﺖ آﻟﻬﺔ ﺗﺴﺘﺤﻖ اﻟﻌﺒﺎدة ﺑﻞ أﺣﺠﺎر ﻣﻠﺘﻬﺒﺔ ﻳﺠﺐ ﺗﺠﻨﱡﺒﻬﺎ ،إﻻ أن اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟ ُﻜﺘﱠﺎب اﻟﻘﺪاﻣﻰ ﻗﺎﻟﻮا إن اﻟﺴﺒﺐ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﰲ ﻣﻘﺎﺿﺎﺗﻪ ﻫﻮ ﺻﺪاﻗﺘﻪ ﻟﻠﻘﺎﺋﺪ اﻟﻌﻈﻴﻢ ﺑﺮﻳﻜﻠﻴﺲ؛ إذ وﺟﺪ أﻋﺪاؤه ﰲ أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس ﺑﺒُﻌﺪه ﻋﻦ اﻟﻮاﻗﻌﻴﺔ ً ً ﻣﻌﻘﻮﻻ؛ ﻓﻘﺪ ﻫﺪﻓﺎ أﺳﻬﻞ ﻟﻬﻢ .وﻳﺒﺪو ﻫﺬا اﻟﺘﻔﺴري ﻃﺎﻟﺖ ﺗﻠﻚ اﻻﺗﱢﻬﺎﻣﺎت ﻏريه ﻣﻦ أﺻﺪﻗﺎء ﺑﺮﻳﻜﻠﻴﺲ ،وﺷﺎﻋﺖ ﰲ أﺛﻴﻨﺎ املﺤﺎﻛﻤﺎت ذات اﻟﺪواﻓﻊ اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﺑﺘﻬﻤﺔ اﻟ ِﺒﺪَع اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﺑﻨﻬﺎﻳﺔ اﻟﻘﺮن اﻟﺨﺎﻣﺲ ﻗﺒﻞ املﻴﻼد ،إﻻ أن ﺗﻠﻚ املﺤﺎﻛﻤﺎت ً ﻣﺘﺄﺻﻼ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻟﺘﺆدﱢي أﻏﺮاﺿﻬﺎ اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﻟﻮ ﻟﻢ ﺗُﺜِﺮ اﻟﻬﺮﻃﻘﺔ واﻟﻜﻔﺮ ﺑﺎﻟﻐﻴﺒﻴﺎت اﺳﺘﻴﺎءً ﺑني أﻫﺎﱄ أﺛﻴﻨﺎ ،أو ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﰲ ﻧﻔﻮس ﺑﻌﻀﻬﻢ. وﻗﺪ ﺟﺎء ذﻛﺮ أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس ﰲ رواﻳﺔ أﻓﻼﻃﻮن ﻋﻦ ﻣﺤﺎﻛﻤﺔ ﺳﻘﺮاط ﺑﺘﻬﻤﺔ اﻟﻔﺴﻖ ﺑﻌﺪ ﻧﺤﻮ ﺛﻼﺛني ﻋﺎﻣً ﺎ ،ﺣﻴﺚ ﺗﻮﺟﻪ ﺳﻘﺮاط إﱃ أﺣﺪ ُﻣﺘﱠ ِﻬﻤﻴﻪ وﻫﻮ رﺟﻞ ﻳُﺪﻋﻰ ﻣﻴﻠﻴﺘﻮس، وﺳﺄﻟﻪ ﻋﻤﱠ ﺎ إذا ﻛﺎن اﻻﺗﻬﺎم املﻮﺟﱠ ﻪ إﻟﻴﻪ ﻫﻮ »أﻧﻲ ﻻ أؤﻣﻦ ﺑﺄن اﻟﺸﻤﺲ واﻟﻘﻤﺮ آﻟﻬﺔ ،ﰲ ﻗﺎﺋﻼ» :إﻧﻪ ً ﺣني أن ﻣﻌﻈﻢ اﻟﻨﺎس ﻳﺆﻣﻨﻮن ﺑﺬﻟﻚ «.ﻓﺄﻛﺪ ﻣﻴﻠﻴﺘﻮس ﻛﻼﻣﻪ ً ﻓﻌﻼ ﻻ ﻳﺆﻣﻦ
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﺑﺬﻟﻚ أﻳﻬﺎ اﻟﺴﺎدة املﺤ ﱠﻠﻔﻮن؛ ﻓﻬﻮ ﻳﻘﻮل إن اﻟﺸﻤﺲ ﻗﻄﻌﺔ ﻣﻦ اﻟﺤﺠﺎرة واﻟﻘﻤﺮ ﻛﺘﻠﺔ ﻣﻦ اﻟﱰاب «.وﻗﺪ أﺗﺎح ﻫﺬا اﻟﺮد اﻟﻔﺮﺻﺔ ﻟﺴﻘﺮاط ﻟﻴﻤﺰح ً ﻗﻠﻴﻼ ﻋﲆ ﺣﺴﺎب ﻣﻴﻠﻴﺘﻮس ﻓﻘﺎل: »ﻋﺰﻳﺰي ﻣﻴﻠﻴﺘﻮس! ﻫﻞ ﺗﺘﺨﻴﻞ أﻧﻚ ﺗﺤﺎﻛﻢ أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس؟ أﻟﻬﺬا اﻟﺤﺪ ﺗﺴﺘﻬني ﺑﻬﺆﻻء اﻟﺴﺎدة ﺣﺘﻰ ﺗﻈﻦ أﻧﻬﻢ ﺟﻬﻼء ﻓﻼ ﻳﻌﺮﻓﻮن أن ﻛﺘﺎﺑﺎت أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس اﻟﻜﻼزوﻣﻨﻲ ﻣﻔﻌﻤﺔ ﺑﻨﻈﺮﻳﺎت ﻣﺜﻞ ﻫﺬه؟« ﻻ ﺷﻚ أن أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس ﻛﺎن ﻣﻬﺘﻤٍّ ﺎ ﺑﺎﻟﻔﻠﻚ اﻫﺘﻤﺎﻣً ﺎ ً ﺑﺎﻟﻐﺎ وﻟﻜﻦ ﺑﺼﺒﻐﺔ أﻳﻮﻧﻴﺔ .وﻗﺪ ﻗﻴﻞ إﻧﻪ ﺗﻨﺒﱠﺄ ﺑﺴﻘﻮط ﻧﻴﺰك وﺳﻘﻂ ً ﻓﻌﻼ ﻋﲆ ﻣﺪﻳﻨﺔ إﻳﺠﻮﺳﺒﻮﺗﺎﻣﻲ ﰲ ﺗﺮاﻗﻴﺎ ﻋﺎم ٤٦٧ق.م. ﺻﺤﻴﺢ أن ﻫﺬه اﻟﻘﺼﺔ أﺑﻌﺪ ﻋﻦ املﻨﻄﻖ ﺣﺘﻰ ﻣﻦ ﻗﺼﺔ ﻧﺒﻮءة ﻃﺎﻟﻴﺲ ﺑﺎﻟﻜﺴﻮف ﻣﻨﺬ ﻗﺮن ﻗﺒﻠﻪ ،إﻻ أن ﻫﺬه اﻟﻘﺼﺔ ذات ﻣﻐ ًﺰى؛ ﻓﺮﺑﻤﺎ ﺗﻜﻮن ﻗﺼﺔ ﺳﻘﻮط ﺻﺨﺮة أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ٍ ﻣﻦ اﻟﺴﻤﺎء ﻗﺪ أ ﱠﻛﺪت ﻓﻜﺮة أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس ﻋﻦ ﻣﺎﻫﻴﺔ اﻟﻨﺠﻮم .وﻻ ﺑﺄس ﺑﺬﻟﻚ اﻟﺘﺨﻤني ﻋﻦ اﻷﺟﺮام اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ ﰲ أﻳﻮﻧﻴﺎ ﺑﻔﻜﺮﻫﺎ اﻟﺤﺮ ،أﻣﺎ ﰲ أﺛﻴﻨﺎ املﺘﺤﻔﻈﺔ ﻓﻤﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ً ﻣﻘﺒﻮﻻ. ً ﻣﻌﺎرﺿﺎ ﻟﻠﺨﺮاﻓﺎت ﺑﺸﺘﱠﻰ أﺷﻜﺎﻟﻬﺎ وﻟﻴﺲ ﻟﻠﺨﺮاﻓﺎت املﺘﻌﻠﻘﺔ ﻛﺎن أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس ﺑﺎﻟﻨﺠﻮم ﻓﺤﺴﺐ .وﻗﺪ روى ﺑﻠﻮﺗﺎرخ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﻪ »ﺣﻴﺎة ﺑﺮﻳﻜﻠﻴﺲ« ﻗﺼﺔ إﺣﻀﺎر رأس ﺧﺮوف ﺑﻘﺮن واﺣﺪ إﱃ ﺑﺮﻳﻜﻠﻴﺲ وﻛﺎن ﺑﻪ ﻧﺘﻮء ﰲ ﻣﻨﺘﺼﻒ رأﺳﻪ ،وادﱠﻋﻰ أﺣﺪ اﻟﻌﺮاﻓني — وﻳُﺪﻋﻰ ﻻﻣﺒﻮن — أن وﺟﻮد ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﴚء اﻟﻐﺮﻳﺐ ﻋﲆ أرض ﺑﺮﻳﻜﻠﻴﺲ ﻳﻌﻨﻲ أن ﺑﺮﻳﻜﻠﻴﺲ ﺳﻴﺼﺒﺢ ﻗﺎﺋﺪ أﺛﻴﻨﺎ )وﻫﻮ ﻣﺎ ﺣﺪث ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ( .أﻣﺎ أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس — ﻛﻤﺎ ﺗﺮوي اﻟﻘﺼﺔ — ﻓﺄﻣﺮ ﺑﺒﺴﺎﻃﺔ ﺑﺘﴩﻳﺢ رأس اﻟﺨﺮوف ،وأوﺿﺢ أن اﻟﻘﺮن اﻟﻮﺣﻴﺪ ﻧﻤﺎ ﻋﲆ ﺗﻠﻚ اﻟﺸﺎﻛﻠﺔ ﻷن ﻣﺦ اﻟﺨﺮوف ﻛﺎن ﻣﺸﻮ ًﱠﻫﺎ .وﻳﺸري ﺑﻠﻮﺗﺎرخ إﱃ وﺟﻬﺔ ﻧﻈﺮ أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس داع ﻟﻠﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﻣﻌﻨﻰ وراء ﻫﺬا اﻟﺤﺪث ﻣﺎ داﻣﺖ ﺗﻠﻚ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﻘﺎﺋﻠﺔ إﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻫﻨﺎك ٍ اﻟﻔﺴﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻗﺪ اﻛﺘُ ِﺸ َﻔﺖ. وﻳﺒﺪو أن ﺑﺮﻳﻜﻠﻴﺲ ﻗﺪ أﻓﺎد ﻛﺜريًا ﻣﻦ ﺻﺤﺒﺔ ﻣﺴﺘﺸﺎر ﺷ ﱠﻜﺎك وﻣﺤﺐﱟ ﻟﻼﺳﺘﻄﻼع ﻣﺜﻞ أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس؛ ﻓﻘﺪ أملﺢ ﺑﻠﻮﺗﺎرخ إﱃ إن ﺑﺮﻳﻜﻠﻴﺲ »ﺗﺸﺒﱠﻊ ﺑﻤﺎ ﻳ َُﺴﻤﱠ ﻰ ﺑﺎﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ً ﻗﺎﺋﻼ» :ﻓﺴﻤﻰ ﺑﻪ أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس اﻟﻌﻠﻴﺎ واﻟﺘﺪﺑﱡﺮ اﻟﺮﻓﻴﻊ« إﺛﺮ ارﺗﺒﺎﻃﻪ ﺑﺄﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس ﻓﻮق اﻟﺨﺮاﻓﺎت« اﻟﺘﻲ ﻟﻄﺎملﺎ »أﺻﺎﺑﺖ ﻫﺆﻻء اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺠﻬﻠﻮن أﺳﺒﺎب … اﻷﺷﻴﺎء ،ﻓﺄﺻﺒﺤﻮا ﻣﻬﻮوﺳني ﺑﻔﻜﺮة اﻟﺘﺪﺧﻞ اﻹﻟﻬﻲ …« ﻛﻤﺎ ﻳﻌﺰو ﺑﻠﻮﺗﺎرخ ﺟُ ﱠﻞ وﻗﺎر ﺑﺮﻳﻜﻠﻴﺲ وروح اﻟﺪﻋﺎﺑﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺘﻤﺘﻊ ﺑﻬﺎ ﻟﺘﻌ ﱡﺮﺿﻪ ﻟﻔﻠﺴﻔﺔ أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس .ﻛﺬﻟﻚ ﻗﺎل ﺳﻘﺮاط إن ﻓﻠﺴﻔﺔ أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس ﻫﻲ ﺳﺒﺐ ﻣﻬﺎرة ﺑﺮﻳﻜﻠﻴﺲ ﰲ اﻟﺠﺪل واﻟﺒﻼﻏﺔ .ﻟﻜﻦ ﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ اﻵﺛﺎر 112
اﻟﻌﻘﻞ واملﺎدة :أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس
اﻟﻄﻴﱢﺒﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺮﻛﺘﻬﺎ رؤﻳﺔ أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ ﻋﲆ ﺑﺮﻳﻜﻠﻴﺲ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﺳﻘﺮاط ُ ﻟﻴﺄﺧﺬَ َﻫﺎ ً ﻛﺎﻣﻠﺔ؛ ﻓﻘﺪ رأى أﻧﻬﺎ ﻋﻠﻤﻴﺔ ﺿﻴﱢﻘﺔ اﻷﻓﻖ ﺗﻬﺘ ﱡﻢ ﻛﺜريًا ﺑﺎﻷﺳﺒﺎب املﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻴﺔ ﻟﻸﺷﻴﺎء وﺗُ ِ ﻬﻤﻞ ﻣﻌﻨﺎﻫﺎ وﻏﺮﺿﻬﺎ. َ ﻛﺎن رﻓﺾ ﺳﻘﺮاط ﻟﺮؤﻳﺔ أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس ﻧﻘﻄﺔ ﺗﺤﻮﱡل ﰲ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ،وﻳُﻘﺎل أﺣﻴﺎﻧًﺎ إﻧﱠﻪ ﺑﻴﺖ اﻟﻘﺼﻴﺪ اﻟﺬي ﺗﺤﻮﱠل ﻓﻴﻪ املﻮﺿﻮع ﻣﻦ دراﺳﺔ ﺗﺄﻣﱡ ﻠﻴﺔ ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ إﱃ دراﺳﺔ ﻣﻌﻨﻮﻳﺔ ﺟﺎدﱠة ﻟﻺﻧﺴﺎن ،وﻫﺬا ﻣﺎ ﻗﺎﻟﻪ ﺷﻴﴩون ﺑﻌﺪ ﻗﺮاﺑﺔ ﺛﻼﺛﺔ ﻗﺮون: ﻣﻨﺬ ﻗﺪﻳﻢ اﻷزل وﺣﺘﻰ ﻋﻬﺪ ﺳﻘﺮاط ﺗﻨﺎوﻟﺖ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺤﺮﻛﺎت واﻷرﻗﺎم، وﺗﺴﺎءﻟﺖ ﻋﻦ اﻷﺷﻴﺎء ﻣﻦ أﻳﻦ أﺗﺖ وﻫﻞ ﻋﺎدت أم ﻻ ،ﻛﻤﺎ ﺑﺤﺜﺖ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺑﺸﻐﻒ ﰲ ﺣﺠﻢ اﻟﻨﺠﻮم واملﺴﺎﻓﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻔﺼﻠﻬﺎ وﻣﺴﺎراﺗﻬﺎ وﻛﻞ اﻟﻈﻮاﻫﺮ اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ اﻷﺧﺮى .أﻣﺎ ﺳﻘﺮاط ﻓﻬﻮ أول ﻣﻦ أﺗﻰ ﺑﺎﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﺴﻤﺎء ووﺿﻌﻬﺎ ﰲ ﻣﻴﺎدﻳﻦ اﻹﻧﺴﺎن … وأﻛﺮﻫﻬﺎ ﻋﲆ ﻃﺮح أﺳﺌﻠﺔ ﻋﻦ اﻟﺤﻴﺎة واﻷﺧﻼﻗﻴﺎت واﻟﺨري واﻟﴩ. ٌ ﺑﻌﺾ ﻣﻦ اﻟﺼﺤﺔ وﻟﻜﻦ ﻟﻴﺲ اﻟﻜﺜري ،ﻓﻠﻴﺲ ﺻﺤﻴﺤً ﺎ أن اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻘﺼﻮرة ﻋﲆ املﺴﺎﺋﻞ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﺣﺘﻰ ﻣﺠﻲء ﺳﻘﺮاط؛ إذ إن ﻛﺜريًا ﻣﻦ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻣﺜﻞ ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس وﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﻃﺮﺣﻮا »أﺳﺌﻠﺔ ﻋﻦ اﻟﺤﻴﺎة واﻷﺧﻼﻗﻴﺎت واﻟﺨري واﻟﴩ« ﻗﺒﻞ ﱠ ﺗﻮﺻﻠﻮا إﻟﻴﻬﺎ ﰲ ﻇﻞ اﻟﻘﺮن ﺳﻘﺮاط ﺑﻮﻗﺖ ﻃﻮﻳﻞ .وﻗﺪ ﻛﺎﻧﺖ أﺣﻜﺎﻣﻬﻢ اﻟﻐﺎﻣﻀﺔ اﻟﺘﻲ ً اﻟﺴﺎدس أﻗﻞ ﺗﻌﻘﻴﺪًا ﻣﻤﱠ ﺎ ﻗﺎﻟﻪ ﺳﻘﺮاط ،إﻻ أﻧﻪ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك ﻣﺤﺎوﻻت أﻛﺜﺮ ﺣﺬﻗﺎ وﺣﺠﺎﺟً ﺎ ﻟﺘﻨﺎوُل ﻣﺴﺄﻟﺔ اﻷﺧﻼﻗﻴﺎت ﰲ ﻋﻬﺪ ﺳﻘﺮاط ﺑﺄﺛﻴﻨﺎ ،وﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻫﺬه املﺤﺎوﻻت ﻧﺎﺗﺠﺔ ﻋﻦ ﺗﺄﺛريه )اﻧﻈﺮ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻣﻦ( .وﻇﻠﺖ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺗﺘﻨﺎول ﻣﻮﺿﻮﻋﺎت اﻟﻔﻠﻚ وﻏريﻫﺎ ﻣﻦ املﺴﺎﺋﻞ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﻟﻮﻗﺖ ﻃﻮﻳﻞ ﰲ أﺛﻴﻨﺎ وﻛﻞ ﺑﻘﻌﺔ أﺧﺮى ﰲ ﺑﻼد اﻟﻴﻮﻧﺎن ﻟﻮﻗﺖ ﻃﻮﻳﻞ ﺑﻌﺪ أن أﺗﻰ ﺑﻬﺎ ﺳﻘﺮاط ﻣﻦ اﻟﺴﻤﺎء إﱃ اﻷرض. وﻳﺮﺟﻊ ﻋﺪم اﻛﱰاث ﺳﻘﺮاط ﺑﺎﻟﺠﺎﻧﺐ اﻟﻌﻠﻤﻲ ﻣﻦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺟﺰﺋﻴٍّﺎ إﱃ أﻧﻪ وﺟﺪ ذﻟﻚ ِ ﻳﺴﺘﻄﻊ أن ﻳﻘﺮر أﻳﱠﺔ ﻣﺪرﺳﺔ ﻳﺘﺒﻊ ﻣﻦ اﻟﺠﺎﻧﺐ ﻣﺜريًا ﻟﻠﺠﺪل واﻟﺨﻼف؛ ﺣﺘﻰ إﻧﻪ ﻟﻢ ﺑني املﺪارس املﺘﺨﺎﺻﻤﺔ ﰲ ذﻟﻚ املﺠﺎل ،ﻟﻜﻦ اﻟﺴﺒﺐ اﻟﺮﺋﻴﺲ ﰲ ذﻟﻚ ﻫﻮ أﻧﻪ ﻛﺎن أﻛﺜﺮ اﻫﺘﻤﺎﻣً ﺎ ﺑﺎﻹﻧﺴﺎن وﺳﻠﻮﻛﻪ ﰲ ٍ وﻗﺖ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﺪى اﻟﻌﻠﻢ ﻣﺎ ﻳﻘﻮﻟﻪ ﻋﻨﻬﻤﺎ إﻻ اﻟﻘﻠﻴﻞ .ﻛﻤﺎ أن ﺳﻘﺮاط وأﻓﻼﻃﻮن وَﺟَ ﺪَا ﻣﺸﻜﻠﺔ أﺧﺮى ﺗﺘﻌ ﱠﻠﻖ ﺑﻔﻼﺳﻔﺔ ﻣﻦ ﻃﺮاز أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس؛ ﻓﺎﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻧَﺎ َدﻳَﺎ ﺑﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﺴﺘﻔِ ﺪ ﺑﺪور اﻟﺴﺒﺐ واﻟﻐﺮض ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ إﻻ ً ﻗﻠﻴﻼ. وﻻ ﻧﻌﺮف رأي ﺳﻘﺮاط ﰲ ﻫﺬا املﺬﻫﺐ ،ﻟﻜﻦ أﻓﻼﻃﻮن ﻗﺎل إﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﺘﺒﻨﱠﻰ ذﻟﻚ اﻟﺮأي .وﻛﺎن 113
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﺳﻘﺮاط ﻳَ َﻮ ﱡد ﺳﻤﺎع ﺗﻔﺴريات ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ ﺗﺤﺎﻛﻲ ﻋَ ﻤَ َﻞ وﻇﺎﺋﻒ اﻟﻌﻘﻞ اﻟﺬﻛﻴﺔ ،ﻓﻜﺎن ﻳﺮﻳﺪ ﺗﻔﺴريًا ﻟﺴﻠﻮﻛﻴﺎت اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻳﺸﺒﻬﻪ ﺑﺴﻠﻮﻛﻴﺎت اﻹﻧﺴﺎن وﻳﴩح ﻣﺎ ﻳﻘﻮم ﺑﻪ ﻣﻦ ﻋﻤﻠﻴﺎت ﰲ ﺿﻮء اﻷﻫﺪاف اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﻳﺴﻌﻰ إﱃ ﺗﺤﻘﻴﻘﻬﺎ. وﻳﻘﻮل أﻓﻼﻃﻮن إن ﻫﺬا ﻫﻮ ﺳﺒﺐ اﻧﺠﺬاب ﺳﻘﺮاط ﰲ ﺑﺎدئ اﻷﻣﺮ ملﺎ ﺳﻤﻌﻪ ﻣﻦ ً »ﻋﻘﻼ« ﻳﺘﺤﻜﻢ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺑﺄﴎه أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس؛ ﻓﻘﺪ أملﺢ أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس إﱃ أن ﺛَﻤﱠ َﺔ وﰲ ﻛﻞ اﻟﻌﻤﻠﻴﺎت اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ،وﻟﻜﻦ ﴎﻋﺎن ﻣﺎ ﺧﺎب ﻇﻦ ﺳﻘﺮاط ﰲ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﻷن أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس ﻟﻢ ﻳﺴﺘﻔِ ﺪ ﻣﻨﻬﺎ ﺣﻖ اﻻﺳﺘﻔﺎدة ﻓﻘﺎل: ً ﺷﻐﻮﻓﺎ ﺑﺎﻟﻌﻠﻮم اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ؛ إذ ﻇﻨﻨﺖ أﻧﻪ ﺳﻴﻜﻮن أﻣ ًﺮا ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﻨﺖ ﺻﻐريًا ﻛﻨﺖ واﺳﺘﻤﺮارﻫﺎ ﰲ راﺋﻌً ﺎ أن ﻳﻌﺮف املﺮء اﻷﺳﺒﺎب اﻟﺘﻲ ﺗﺆدﱢي إﱃ وﺟﻮد اﻷﺷﻴﺎء ِ اﻟﻮﺟﻮد واﻧﻘﻄﺎﻋﻬﺎ ﻋﻨﻪ ،وﺗﺴﺎءﻟﺖ :ﻫﻞ ﺻﺤﻴﺢ أن املﺨﻠﻮﻗﺎت ﺗﺘﻜﺎﺛ َ ُﺮ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻻﺧﺘﻤﺎر ﺑﻔﻌﻞ اﻟﺤﺮارة واﻟﱪودة ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل اﻟﺒﻌﺾ؟ وﻫﻞ ﻧﻔ ﱢﻜﺮ ﺑﻔﻌﻞ اﻟﺪﻣﺎء اﻟﺘﻲ ﺗﺠﺮي ﺑﺪاﺧﻠﻨﺎ أم ﺑﻔﻌﻞ أﺑﺨﺮة اﻟﻨريان املﺸﺘﻌﻠﺔ داﺧﻠﻨﺎ؟ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﺗﻮﺻﻠﺖ ً ﻣﺆﻫﻼ ملﺜﻞ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﺴﺎؤﻻت .ﻟﻘﺪ ﺣريَﺗْﻨﻲ إﱃ أﻧﻨﻲ ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﺨﺼﻮص ﻟﺴﺖ ُ ﻇﻨﻨﺖ أﻧﻲ أﻋﺮﻓﻬﺎ … ﺗﻠﻚ اﻟﺘﺄﻣﱡ ﻼت ﺣﺘﻰ إﻧﻲ ﻟﻢ ﺗَﻌُ ْﺪ َﻟﺪَيﱠ املﻌﺮﻓﺔ اﻟﺘﻲ وذات ﻣﺮة ﺳﻤﻌﺖ أﺣﺪَﻫﻢ ﻳﻘﺮأ ﻣﻦ ﻛﺘﺎب ﻗﺎل إﻧﻪ ﻷﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس ،وأﻛﺪ وﴎرت ﺑﻬﺬا اﻟﺘﻔﺴري، أن اﻟﻌﻘﻞ ﻫﻮ املﺘﺤ ﱢﻜﻢ ﰲ اﻟﻨﻈﺎم ،وﻫﻮ ﻣﺴﺒﺐ ﻛﻞ ﳾءِ ُ . وﺑَﺪَا ﱄ ﻣﻨﻄﻘﻴٍّﺎ أن ﻳﻜﻮن اﻟﻌﻘﻞ ﻫﻮ ﻣﺴﺒﱢﺐ ﻛﻞ ﳾء ،وﺑﺪأت أﺗﺄﻣﻞ أن ﻟﻮ ﻛﺎن اﻷﻣﺮ ﻛﺬﻟﻚ ﻓﺈن اﻟﻌﻘﻞ ﻳﻨﻈﻢ ﻛﻞ ﳾء ﻛﻴﻔﻤﺎ ﻳﻼ ِﺋﻤُﻪ .وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ إذا أردﻧﺎ أن ﻧﻌﺮف ﺳﺒﺐ ﺣﺪوث أي ﳾء أو ﱡ ﺣﺎل ﻟﺬﻟﻚ ﺗﻮﻗﻔﻪ أو اﺳﺘﻤﺮاره ﻳﺠﺐ أن ﻧﺘﺒني أﻓﻀﻞ ٍ اﻟﴚء … وﻗﺪ دﻓﻌﺘﻨﻲ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﺄﻣﱡ ﻼت إﱃ اﻻﻋﺘﻘﺎد أﻧﻲ ﻗﺪ وﺟﺪت ﰲ أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس ً ﻣﺮﺟﻌﻴﺔ أﻃﻤﱧ ﻟﻬﺎ ﺣﻮل املﺴﺒﱢﺒﺎت ،واﻓﱰﺿﺖ أﻧﻪ ﺳﻴﴩع ﰲ إﺧﺒﺎرﻧﺎ ﻣﺎ إذا ﻛﺎﻧﺖ اﻷرض ﻣﺴﻄﺤﺔ أم ﻛﺮوﻳﺔ ،ﺛﻢ ﺳﻴﺴﻬﺐ ﰲ ﴍح ﺳﺒﺐ ذﻟﻚ وﴐورﺗﻪ ﺣﺎل وﻣﺎ ﻫﻲ أﺳﺒﺎﺑﻪ .وﻟﻢ املﻨﻄﻘﻴﺔ ﺑﺄن ﻳﴩح ﻟﻨﺎ ﻛﻴﻒ أن ذﻟﻚ ﻫﻮ أﻓﻀﻞ ٍ ﻳﺨﻄﺮ ﺑﺒﺎﱄ أﺑﺪًا أن ﻳﻘﺪﱢم اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺬي أ ﱠﻛﺪ أن ﻣﺎ ﺗﺒﺪو ﻋﻠﻴﻪ اﻷﺷﻴﺎء ﻣﻦ ﻧﻈﺎم إﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻋﻤﻞ اﻟﻌﻘﻞ أيﱠ ﺗﻔﺴري آﺧﺮ ﻟﻬﺎ ،ﻏري أﻧﻬﺎ ﰲ أﻧﺴﺐ ﺣﺎل ﻟﻬﺎ … )ﻳﻘﻮل ﺳﻘﺮاط إﻧﻪ اﺷﱰى ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﻧﺴﺨﺔ ﻣﻦ أﻋﻤﺎل أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس(. 114
اﻟﻌﻘﻞ واملﺎدة :أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس
… وﻋﻨﺪﻣﺎ ﴍﻋﺖ ﰲ اﻟﻘﺮاءة اﻛﺘﺸﻔﺖ أن ذﻟﻚ اﻟﺮﺟﻞ ﻟﻢ ﻳﺴﺘﻔِ ﺪ ﻣﻦ اﻟﻌﻘﻞ وﻟﻢ ﻳﻨﺴﺐ ﻟﻪ أي ﻋﻠﺔ )أي ﺗﻔﺴري( ﻟﻨﻈﺎم اﻟﻌﺎﻟﻢ ،ﺑﻞ أﺧﺬ ﻳُﻘﺪم أﺳﺒﺎﺑًﺎ ﻣﺜﻞ اﻟﻬﻮاء واﻷﺛري واملﺎء وﻏريﻫﺎ ﻣﻦ اﻟﺴﺨﺎﻓﺎت. ً ﻻﺣﻘﺎ ﻟﻠﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ أﻫﻤﻴﺔ ﺑﻌﺒﺎرة أﺧﺮى ،ﻟﻢ ﻳﻘﺪم أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس ﺷﻴﺌًﺎ ﺟﺪﻳﺪًا .وﺳﺄﻋﻮد ﺗﻔﺴري اﻷﺷﻴﺎء ﺑﺎﻟﺮﺟﻮع إﱃ اﻟﻌﻘﻞ وﺑﺤﺚ »اﻟﺤﺎل اﻷﻧﺴﺐ ﻟﻸﺷﻴﺎء« .وﻗﺪ ﻗﺎد أﻓﻼﻃﻮن — وﻳﻠﻴﻪ أرﺳﻄﻮ — ذﻟﻚ اﻻﺗﺠﺎه ،وﻋﲆ ﻣﺮ ٢٠٠٠ﻋﺎ ٍم ﺗﻮارى ﺧﻠﻔﻬﻤﺎ اﻟﺘﻔﻜري اﻟﻌﻠﻤﻲ ذو اﻟﻄﺮاز املﺎدي املﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻲ اﻟﺬي ﺻﺎﻏﻪ أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس وﻋﻠﻤﺎء اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻣﻦ ﻗﺒﻠﻪ .وﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﻋﺎد ﻋَ َﻠﻢ اﻟﻌِ ْﻠﻢ املﺎدي ﻳﺮﻓﺮف ﻓﻮق ﺳﺎرﻳﺔ اﻟﺤﻴﺎة ،وازدﻫﺮ ﰲ ﻋﻬﺪ ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ وﻧﻴﻮﺗﻦ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻗﺒﻞ أن ﻳﺨﺒﻮ ﻣﺆﻗﺘًﺎ وراء أﻓﻼﻃﻮن وأرﺳﻄﻮ ﻛﺎن ﻗﺪ ﺑﻠﻎ أوج ﻣﺠﺪه ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻘﺪﻳﻢ ﻋﲆ ﻳَ ِﺪ ﻣﻦ ﻳُﺪﻋَ ﻮن »اﻟﺬﱠ ﱢرﻳﱢني« ،ﻣﺜﻞ ﻟﻴﻮﻛﻴﺒﻮس ودﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ،اﻟﺬﻳﻦ ﻳُﻌَ ﺪ َ ﱡون ﰲ ﺑﻌﺾ اﻷوﺟﻪ ﻣﻦ زﻣﺮة ﻣﻔ ﱢﻜﺮي اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ ،ﺑﻴﺪ أﻧﻬﻢ ﺟﺎءوا ﺳﺎﺑﻘني ﻟﺰﻣﺎﻧﻬﻢ. ﻧﺸﺄ ﺗﻔﺴري أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ ﰲ ِﻇ ﱢﻞ ﻓﻜﺮ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ،ﺷﺄﻧﻪ ﰲ ذﻟﻚ ﺷﺄن ً اﻟﺬﱠ ﱢرﻳﱢ َ ﺳﺒﻴﻼ ﻹﻋﺎدة ﺗﺮﺗﻴﺐ اﻟﻌﺎﻟﻢ ني ﻣﻦ ﺑﻌﺪه وإﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﻣﻦ ﻗﺒﻠﻪ ،ﻓﻜﺎن ﻋﻠﻴﻪ أن ﻳﺠﺪ ﱢ املﺘﻐري اﻟﺬي ﻫﺎﺟﻤﻪ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس .ورﻏﻢ أن أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس ﻟﻢ ﻳﺬﻛﺮ ﻋﻦ اﻟﻌﻘﻞ ﻣﺎ املﺎدي ﻳﺮﴈ أﻓﻼﻃﻮن ﻓﻘﺪ ذﻛﺮ ﻋﻦ املﺎدة اﻟﻜﺜري ،وذﻟﻚ ﻣﺎ أﻋﻄﺎه ﻣﻜﺎﻧﺘﻪ ﰲ ذاﻛﺮة ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ وﻟﻴﺲ ﻫﺠﻮﻣﻪ ﻋﲆ اﻟﺨﺮاﻓﺎت. ﻟﻘﺪ اﻧﻄﻠﻖ أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس ﻣﻦ اﻟﻨﻘﻄﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ اﻟﺘﻲ اﻧﻄﻠﻖ ﻣﻨﻬﺎ إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ،ﻟﻜﻨﻪ اﻧﺘﻬﻰ ﰲ ﻧﻘﻄﺔ ﻣﺨﺎﻟﻔﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ .ﻓﺈذا ﻛﺎن إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﻗﺪ ﺿﺎﻋَ َ ﻒ »اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﻮاﺣﺪة« اﻟﴪﻣﺪﻳﺔ ﻏري اﻟﻘﺎ ِﺑ َﻠﺔ ﻟﻼﻧﻬﻴﺎر ﻟﺪى ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس وأﺗﻰ ﺑ »اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻷرﺑﻌﺔ« اﻟﺨﺎﻟﺪة ﻏري اﻟﻘﺎﺑﻠﺔ ﻟﻼﻧﻬﻴﺎر ،ﻓﺈن أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس ﻛﺎن ﻳﻄﻤﺢ إﱃ ﻣﻀﺎﻋﻔﺔ ﻋﺎﻟ ِﻢ ﻣﺎ وراء اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺑﻄﻤﻮح أﻛﱪ ﻣﻦ ذﻟﻚ؛ ﻓﻘﺎل إن ﻛﻞ املﻮاد ﺧﺎﻟﺪة وﻏري ﻣﺨﻠﻮﻗﺔ وﻏري ﻗﺎﺑﻠﺔ ﻟﻼﻧﻬﻴﺎر .وﻳﻤﻜﻨﻨﺎ ﱡ ﺗﺒني ﻣﺼﺪر ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة إذا ﻧﻈﺮﻧﺎ ﰲ اﻟﺘﺴﺎؤل اﻟﻐﺮﻳﺐ اﻟﺬي اﻋﱰاه» :ﻛﻴﻒ ﱠ ﻟﻠﺸﻌﺮ أن ﻳﻨﺸﺄ ﻣﻦ ﻏري ﱠ اﻟﺸﻌﺮ …؟« ﻳﺸري أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس ﰲ ﻫﺬا اﻟﺴﺆال إﱃ أن اﻟﻄﻌﺎم اﻟﺬي ﻧﺄﻛﻠﻪ وﻳﺒﺪو )ﰲ املﺠﻤﻞ( أﻧﻪ ﻻ ﻳﺤﺘﻮي ﻋﲆ أي َﺷﻌﺮ ﻓﻴﻪ ﻳﺘﺤﻮل إﱃ أﺟﺴﺎﻣﻨﺎ اﻟﻨﺎﻣﻴﺔ ،اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺘﻮي ﻋﲆ ﺷﻌﺮ .إذن ﻓﺎﻟﺸﻌﺮ ﻳﻨﺸﺄ ﻣﻦ ﻏري اﻟﺸﻌﺮ .وﻟﻜﻦ ملﺎذا ﱠ ﺗﺤري أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس ﻣﻦ ذﻟﻚ؟ ﻳﺮﺟﻊ ذﻟﻚ ﻛﻤﺎ ﻗﺎل أﺣﺪ أﺗﺒﺎع ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس إﱃ اﺳﺘﺤﺎﻟﺔ ﻧﺸﻮء اﻟﴚء ﻣﻦ اﻟﻌﺪم أو ﻣﻦ ﳾء ﻣﻐﺎﻳﺮ ،ﻓﺪﻓﻌﻪ 115
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ذﻟﻚ إﱃ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﺗﻔﺴري ﻛﻞ اﻟﺤﺎﻻت اﻟﻈﺎﻫﺮة ﻟﻸﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ ﺗﺄﺗﻲ إﱃ اﻟﻮﺟﻮد ﻣﺜﻞ ﻧ ُ ُﻤ ﱢﻮ اﻟﺸﻌﺮ .وﻛﺎن إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﻗﺪ ﺣﺎول ﰲ ﻧﻈﺮﻳﺘﻪ ﻋﻦ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻷرﺑﻌﺔ ﺗﻔﺴري ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻐريات ً ً ﻓﻤﺜﻼ ﺑﱰﺗﻴﺐ املﺎء واﻟﱰاب واﻟﻨﺎر ﻛﻤﺎ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻗﺎﺋﻼ إﻧﻬﺎ ﺗﺘﻤﺜﻞ ﰲ إﻋﺎدة ﺗﺮﺗﻴﺐ ﻟﻠﻌﻨﺎﴏ؛ ﺗﺤﺼﻞ ﻋﲆ اﻟﻌﻈﺎم .وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﻠﻴﺲ ﻫﻨﺎك أي ﳾء ﺟﺪﻳﺪ ﻳﻨﺸﺄ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﻨﻤﻮ اﻟﻌﻈﺎم ﻷﻧﻬﺎ ً ﻟﻴﺴﺖ إﻻ ﻧﺘﺎج إﺣﺪى ُ ﻣﺴﺒﻘﺎ ﻃ ُﺮ ِق اﻟﱰﺗﻴﺐ املﺘﻌﺪدة اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ ملﻜﻮﻧﺎت اﻟﻌﺎﻟﻢ املﻮﺟﻮدة أن ﺗﱰﺗﺐ ﻋﻠﻴﻬﺎ .وﻟﻜﻦ أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس ﻟﻢ ﻳﻨﺠﺬب إﱃ ﺗﻠﻚ اﻟﻔﻜﺮة ﻓﻄﺮح ﻧﻈﺮﻳﺘﻪ املﺘﻄﺮﻓﺔ. وﺗﺘﻤﺜﱠﻞ ﻓﻜﺮة أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس اﻟﺠﻮﻫﺮﻳﺔ ﰲ أن ﻛﻞ ﻣﺎدة ﺗﺤﺘﻮي ﻋﲆ َﻛﻤﻴﺎت ﺻﻐرية ﻣﻦ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ املﻮاد اﻷﺧﺮى .وﺗﻘﺪم ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ٍّ ﺣﻼ ملﺸﻜﻠﺔ ﺗﺤﻮﱡل اﻟﴚء إﱃ ﳾء آﺧﺮ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﺗﻘﻮل إن املﺎدة »اﻟﺠﺪﻳﺪة« ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻮﺟﻮدة ﰲ املﺎدة اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻃﻮال اﻟﻮﻗﺖ ،إذن ﻓﻠﻴﺲ ﻫﻨﺎك ﺟﺪﻳﺪ ﻓﻴﻤﺎ ﻧﺸﺄ .وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﻌﻨﺪﻣﺎ ﻳﻐﺬﻳﻨﺎ اﻟﻄﻌﺎم اﻟﺬي ﻧﺘﻨﺎوﻟﻪ وﻳﺘﺤﻮل إﱃ َﺷﻌﺮ أو ﻋﻈﺎم أو ﻏري ذﻟﻚ؛ ﻓﻬﺬا ﻷﻧﻪ ﻳﺤﺘﻮي ﻋﲆ ﱠ اﻟﺸﻌﺮ ﻣﻦ اﻟﺒﺪاﻳﺔ .وﻳﺒﺪو أن أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس رأى أن أيﱠ ﳾء ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺘﺤﻮل إﱃ أي ﳾء آﺧﺮ )رﺑﻤﺎ ﻣﻦ ﺧﻼل ﻣﺮاﺣﻞ وﺳﻴﻄﺔ ﻋﺪة(؛ وﻟﺬا ﻗﺎل إن ﻛﻞ ﻣﺎدة ﺗﺤﺘﻮي ﻋﲆ َﻛﻤﻴﺎت ﻣﻦ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ املﻮاد اﻷﺧﺮى ﺑﻞ ﻣﻦ ﻛﻞ املﻮاد اﻷﺧﺮى .وﻟﺬﻟﻚ ﻓﻤﺎ ﻧﺴﻤﱢ ﻴﻪ ﺧﺒ ًﺰا ﻳﺤﺘﻮي ً أﻳﻀﺎ ﻋﲆ اﻟﻠﺤﻢ واملﺎء واﻟﱰاب واﻟﺪﻗﻴﻖ واﻟﺬﻫﺐ وﻛﻞ ﳾء آﺧﺮ ﻟﻜﻦ ﺑﻜﻤﻴﺎت ﺻﻐرية؛ ﺣﺘﻰ إﻧﻨﺎ ﻻ ﻧﺮى إﻻ املﺎدة اﻟﺴﺎﺋﺪة وﻫﻲ ﻣﺎدة اﻟﺨﺒﺰ. وﻳﺼﻒ أرﺳﻄﻮ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة )اﻟﺘﻲ ﻳﻌﺎرﺿﻬﺎ( ً ﻗﺎﺋﻼ: ﺗﺒﺪو اﻷﺷﻴﺎء … ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻋﻦ ﺑﻌﻀﻬﺎ وﺗﺤﻤﻞ ﻣﺴﻤﻴﺎت ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ً وﻓﻘﺎ ملﺎ ﻳﺰﻳﺪ ﻋﺪده ﻓﻴﺴﻮد ﺑني ﺧﻠﻴﻂ ﻣﻜﻮﻧﺎﺗﻬﺎ اﻟﻼﻧﻬﺎﺋﻴﺔ؛ ﻓﻠﻴﺲ ﺛﻤﺔ … ﻣﺎ ﻫﻮ ﺑﺄﻛﻤﻠﻪ أﺳﻮد أو أﺑﻴﺾ أو ﺣﻠﻮ أو ﻋﻈﻢ أو ﻟﺤﻢ ،وإﻧﻤﺎ ﻳﻜﺘﺴﺐ اﻟﴚء ﻃﺒﻴﻌﺘﻪ ﻣﻤﺎ ﻳﻐﻠﺐ ﺑني ﻣﻜﻮﻧﺎﺗﻪ. ﻛﺎن ذﻟﻚ ٍّ َﴪ ﻋﲆ ﺣﻼ ﻳﺴﺘﻨﺪ إﱃ اﻟﺨﻴﺎل — إذا اﺳﺘﺨﺪﻣﻨﺎ أﺧﻒ اﻷﻟﻔﺎظ — ﻣﻤﺎ ﻳ ﱠ َ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف اﻟﺮوﻣﺎﻧﻲ ﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس )ﺣﻮاﱄ ٥٥–٩٨ق.م( أن ﻳﺴﺨﺮ ﻣﻨﻪ ﰲ ﻗﺼﻴﺪﺗﻪ »ﻋﻦ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻷﺷﻴﺎء« ،ﻓﺰﻋﻢ أﻧﻪ ً وﻓﻘﺎ ﻟﻨﻈﺮﻳﺔ أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس »ﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﻳﻈﻬﺮ ﻋﲆ ﺣﺒﺎت اﻟﺬﱡرة ﻋﻨﺪ ﻃﺤﻨﻬﺎ ﺗﺤﺖ ﺣﺠﺮ اﻟ ﱠﺮﺣَ ﻰ ﻋﻼﻣﺎت وﺟﻮد اﻟ ﱠﺪ ِم أو ﻏريه ﻣﻦ املﻮاد اﻟﺘﻲ ﺗﻐﺬي أﺟﺴﺎدﻧﺎ «.ورأى ﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس أن ذﻟﻚ اﺳﺘﻨﺘﺎج ﻋﺒﺜﻲ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻟﻮ واﺟﻪ أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس ﺑﻬﺬا اﻻﺳﺘﻨﺘﺎج َ ﻟﻘ ﱠﺪ َم أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس ردٍّا ﺟﺎﻫ ًﺰا ﻟﻪ وﻟﻘﺎل إن اﻟ ﱡﺬرة ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﺗﺤﺘﻮي ﻋﲆ اﻟ ﱠﺪ ِم، 116
اﻟﻌﻘﻞ واملﺎدة :أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس
وﻟﻜﻦ ﻻ ﻳﺒﺪو ﻟﻨﺎ أﻧﻬﺎ ﺗﺪﻣﻰ ﻷن ﺣﺠﺮ اﻟ ﱠﺮﺣَ ﻰ ﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻳﻄﺤﻨﻬﺎ ﺑﻤﺎ ﻳﻜﻔﻲ ﻟﻨﺮى ﺟﺰﻳﺌﺎت اﻟﺪم اﻟﺼﻐرية رأي اﻟﻌني .وﻻ ﻳﻜﻔﻲ اﻟﻨ ﱠ َ ﻈﺮ ﻟﻠﺬﱡرة ملﻌﺮﻓﺔ ﺑﻮاﻃﻨﻬﺎ اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ. ﻟﻘﺪ رأى أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس إذن أن اﻟﺤﻮاس ﻻ ﺗُ َﻘ ﱢﺪ ُم ﻣﺎ ﻳﻜﻔﻲ ﻣﻦ املﻌﻠﻮﻣﺎت اﻟﺪﻗﻴﻘﺔ ﻋﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ .وﰲ إﺷﺎرة إﱃ اﻟ َﻜﻤﻴﺎت ﻏري املﺮﺋﻴﺔ املﻮﺟﻮدة ﰲ اﻟﺨﺒﺰ واملﺎء ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل، ﻗﺎل أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس إن ﺗﻠﻚ املﻮاد ﺗﺤﺘﻮي ﻋﲆ »أﺟﺰاء ﻻ ﻳﺪرﻛﻬﺎ إﻻ اﻟﻌﻘﻞ «.أي إن اﻟﺤﺠﺞ اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ ﻻ اﻟﺤﻮاس ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﺮﺷﺪﻧﺎ إﱃ أن اﻟﺨﺒﺰ ﻻ ﺑُ ﱠﺪ وأن ﻳﺤﺘﻮي ﻋﲆ َﻛﻤﻴﺎت ﺻﻐرية ﻣﻦ اﻷﺷﻴﺎء اﻷﺧﺮى .وﺗﺸري ﻫﺬه اﻟﺤﺠﺔ إﱃ أﻧﻪ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ﻃﺮﻳﻘﺔ أﺧﺮى ﻟﺘﻔﺴري ﺗﺤﻮﱡل اﻟﺨﺒﺰ إﱃ ﻣﻮاد أﺧﺮى ﰲ أﺟﺴﺎدﻧﺎ ﻟﻴﻐﺬﻳﻨﺎ .وﰲ ﻫﺬا اﻹﻃﺎر اﺗﱠﺒَﻊ أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس اﻟﻔﺮﺿﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻗﺪﺳﺘﻬﺎ إﻟﻬﺔ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس واﻟﺘﻲ ﺗﻨﺎدي ﺑ »ﺗﺤﻜﻴﻢ اﻟﻌﻘﻞ« وﻋﺪم اﻻﻧﺴﻴﺎق وراء ﻣﺎ ﻧﺪرﻛﻪ ً ﺗﻄﺮﻓﺎ وﺗﺸ ﱡﺪدًا ﻣﻦ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس؛ ﺑﺤﻮاﺳﻨﺎ واﻻﻧﺨﺪاع ﺑﻪ .وﻟﻜﻦ أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس ﻛﺎن أﻗﻞ ً ُ ﻣﻌﻘﻮﻻ، ﺑﺘﺠﺎﻫﻞ اﻟﺸﻮاﻫﺪ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ،وإﻧﻤﺎ ﺑﻤﺤﺎوﻟﺔ ﻓﻬﻤﻬﺎ ﻓﻬﻤً ﺎ ﻓﻠﻢ ﻳﻌﻤﺪ إﱃ ﺗﺤﻜﻴﻢ اﻟﻌﻘﻞ وأﻋﺮب ﻋﻦ ذﻟﻚ ﰲ ﻋﺒﺎرة ﻏﺎﻣﻀﺔ ﻗﺎل ﻓﻴﻬﺎ» :ﻣﺎ اﻟﻈﻮاﻫﺮ إﻻ ملﺤﺔ ﻣﻦ اﻟﻐﻤﻮض واﻹﺑﻬﺎم«. ﻃﺎ ﺿﺒﺎﺑﻴﺔ َ أي إن اﻟﺤﻮاس ﺗﺮﺳﻢ ﻟﻨﺎ ﺧﻄﻮ ً ﻟﻔﻬﻢ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻓﻴﺄﺗﻲ اﻟﻌﻘﻞ ﻟﻴﻮﺿﺤﻬﺎ ﻟﻨﺎ وﻳﺮﻛﺰ ﻋﻠﻴﻬﺎ. وزﻋﻢ أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس أن املﺎدة ﺣﺘﻤً ﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻘﺴﻴﻤﻬﺎ ﺗﻘﺴﻴﻤً ﺎ ﻻ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻟﻪ ،ﻓﻤﻬﻤﺎ ﻃﺤﻨﺖ ﻗﻄﻌﺔ ﻣﻦ اﻟﺬﻫﺐ ً َ ﻣﺜﻼ )واﻟﺬﻫﺐ ﻳﻌﻨﻲ ﻷﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس ﺟﺰءًا ﻣﻦ ﻣﺎدة ﻳﻐﻠِﺐ اﻟﺬﻫﺐ ﻋﲆ ﻣﻌﻈﻤﻬﺎ( ﻓﺈن ﻛﻞ ﺟﺰيء ﻣﻨﻬﺎ ﺳﻴﺤﺘﻮي ﻋﲆ ﺟﺰﻳﺌﺎت أﺻﻐﺮ ﻣﻦ اﻟﺬﻫﺐ ،وﻫﻜﺬا إﱃ ﻣﺎ ﻻ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻟﻪ ،وإﻻ ﻷﻣﻜﻦ إﺑﺎدة ﻗﻄﻌﺔ اﻟﺬﻫﺐ ﺑﻄﺤﻨﻬﺎ إﱃ ﻗﻄﻊ ﺻﻐرية ﺟﺪٍّا ﺣﺘﻰ ﻻ ﻳﺒﻘﻰ ﻣﻨﻬﺎ ﳾء .أﻣﺎ أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس وﻏريه ﻣﻦ أﺗﺒﺎع ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس اﻟﺠﺪد ﻓﻠﻢ ﻳﺴﺘﺴﻴﻐﻮا ﻗﻂ ﻓﻜﺮة اﻹﺑﺎدة املﻄﻠﻘﺔ ،وﻗﺪ ﻗﺎل ﰲ ذﻟﻚ :ﻟﻴﺲ ﻫﻨﺎك »أﺻﻐﺮ ﺻﻮرة« ملﺎ ﻫﻮ ﺻﻐري ،وﻟﻜﻦ ﻫﻨﺎك داﺋﻤً ﺎ »ﺻﻮرة أﺻﻐﺮ« )ﻷﻧﻪ ﻳﺴﺘﺤﻴﻞ ﻟﴚء ﻣﻮﺟﻮد أن ﻳﻔﻨﻰ ﺑﺘﻘﻄﻴﻌﻪ(. ﻟﻘﺪ رأى أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس إذن أن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻣ َ ُﺘﺨﻢ ﺑﻤﺎ ﻳﺸﺒﻪ ﻋﺪدًا ﻻﻧﻬﺎﺋﻴٍّﺎ ﻣﻦ اﻟﺼﻨﺎدﻳﻖ اﻟﺼﻴﻨﻴﺔ ﻣﺘﺪرﺟﺔ اﻟﺤﺠﻢ ،ﻳﺤﻮي ﻛ ﱞﻞ ﻣﻨﻬﺎ اﻵﺧﺮ ﺑﺪاﺧﻠﻪ .ﻟﻜﻦ ﻛﻴﻒ وﺻﻞ اﻷﻣﺮ إﱃ ذﻟﻚ؟ ﻟﻘﺪ ﱠ ﻓﴪ إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﺗﺮﺗﻴﺐ اﻷﺷﻴﺎء ﰲ اﻟﻜﻮن ﺑﺎﺳﺘﺤﻀﺎر ﻗﻮى اﻟﺤﺐ واﻟﴫاع املﺴﺘﺨﺪﻣﺔ ﰲ ﻓﻠﺴﻔﺘﻪ ،واﻟﺘﻲ ﺟﻌﻠﺖ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻷرﺑﻌﺔ اﻷﺻﻠﻴﺔ ﺗﻠﺘﺤﻢ وﺗﻨﻔﺼﻞ ﺑﺎﻟﺘﺒﺎدُل ﱢ واملﺘﻐرية اﻟﺘﻲ ﻧﺮاﻫﺎ اﻟﻴﻮم .أﻣﺎ أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس ﻓﻘﺪ اﺳﺘﺤﴬ ﺣﺘﻰ أﺧﺬت اﻷﺷﻜﺎل املﺘﻨﻮﻋﺔ ﻗﻮة أﻗﻞ ﺣﻴﻮﻳﺔ وﻟﻜﻨﻬﺎ ﺗﻨﻢ ﻋﻦ اﺧﺘﻴﺎر أﺑﻌﺪ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﻟﺨﻴﺎل أﻻ وﻫﻲ ﻗﻮة اﻟﻌﻘﻞ ،ﻓﻘﺎل إﻧﻪ ﰲ اﻟﺒﺪاﻳﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك ﻛﺘﻠﺔ ﺟﺎﻣﺪة وﻏري ﻣﺘﻤﺎﻳﺰة ﻣﻦ اﻷﺷﻴﺎء ﺗﺘﻜﻮن ﻣﻦ ﻛﻞ املﻮاد ٍ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﺎ ﺑﺪأ اﻟﻌﻘﻞ ﰲ ﺗﺤﺮﻳﻚ اﻷﺷﻴﺎء ﻓﻘﺎل: ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻣﻊ ﺑﻌﺾ ،ﺛﻢ 117
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
وﻗﺪ ﺑﺪأت ﺗﺪور ﰲ ﻣﺤﻴﻂ ﺻﻐري ،ﻟﻜﻨﻬﺎ ﺻﺎرت اﻵن ﺗﺪور ﰲ ﻣﺤﻴﻂ أﻛﱪ، وﺳﺘﺪور ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﰲ ﻣﺤﻴﻂ أﻛﱪ ﻣﻨﻪ … وﻛﻞ ﻣﺎ ُﻛﺘﺐ ﻟﻪ اﻟﻮﺟﻮد … رﺗﺒﻪ اﻟﻌﻘﻞ، ﺣﺘﻰ دوران اﻟﻨﺠﻮم واﻟﺸﻤﺲ واﻟﻘﻤﺮ وﻛﺬا اﻟﻬﻮاء واﻷﺛري اﻟﻠﺬان ﻳﻨﻔﺼﻼن اﻵن، وﻗﺪ ﺗﺴﺒﱠﺐ ذﻟﻚ اﻟﺪوران ﰲ ﻫﺬا اﻟﻔﺼﻞ ،ﻓﻴﻨﻔﺼﻞ اﻟﻐﺰﻳﺮ ﻋﻦ اﻟﻘﻠﻴﻞ واﻟﺴﺎﺧﻦ ﻋﻦ اﻟﺒﺎرد واﻟﻔﺎﺗﺢ ﻋﻦ اﻟﺪاﻛﻦ واﻟﺠﺎف ﻋﻦ اﻟﺮﻃﺐ. ً ﻣﺄﻟﻮﻓﺎ ﺣﻴﺚ اﺳﺘﻌﺎر أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس أﻓﻜﺎر املﻠﻄﻴني ﻋﻦ ﻓﺼﻞ ﱢ اﻟﺴﻤَ ﺎت ﻗﺪ ﻳﺒﺪو ﺑﻌﺾ ذﻟﻚ املﺘﻀﺎدة وﻃﻮرﻫﺎ ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺘني أﺳﺎﺳﻴﺘني؛ أوﻻﻫﻤﺎ :أﻧﻪ أﺗﻰ ﺑﻔﻜﺮة ﺟﺪﻳﺪة ﺑﺄن ﻛﻞ أﻧﻮاع ً رﻏﺒﺔ ﻣﻨﻪ ﰲ اﻟﺘﻮﻓﻴﻖ ﻣﻊ ﻣﺒﺪأ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس اﻟﻘﺎﺋﻞ املﻮاد ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻮﺟﻮدة ﰲ املﺰﻳﺞ اﻷﺻﲇ ﺗﻲ ﺑﻘﻮة ﺧﺎرﺟﻴﺔ ﰲ ﺻﻮرة إﻧﻪ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﴚء أن ﻳﻨﺸﺄ ﻋﻦ ﳾء آﺧﺮ ،واﻷﺧﺮى :أﻧﻪ أ ُ َ اﻟﻌﻘﻞ ﻟﺘﻔﺴري اﻟﺤﺮﻛﺔ .وﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أن أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس ﻗﺪ ﺧﺎﻟﻒ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﰲ اﻻﻋﺘﻘﺎد ﺑﺎﺳﺘﺤﺎﻟﺔ اﻟﺤﺮﻛﺔ ،إﻻ أن ﻫﺠﻮم ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﱠ ﺣريه ﺣﺘﻰ ﺷﻌﺮ ﺑﺎﻟﺤﺎﺟﺔ ﻹﻳﺠﺎد ﺗﻔﺴري ﻟﻬﺎ، وﻟﻢ ﻳﺴﺘﻄﻊ أن ﻳﻘﺒﻞ اﻟﺤﺮﻛﺔ ﻛﺄﻣﺮ ﻣﺴ ﱠﻠ ٍﻢ ﺑﻪ ﻛﻤﺎ ﻓﻌﻞ املﻠﻄﻴﻮن. واﻟﺤﻖ أن ﺗﻔﺴريه ﻟﻠﺤﺮﻛﺔ ﻟﻢ ٍ ﻳﺄت ﺑﴚء ذي ﺟﺪوى ،ﻓﻜﻞ ﻣﺎ ﻓﻌﻠﻪ ﻫﻮ أن وﺟﱠ ﻪ ﺑﻨﺎﻧﻪ ﻧﺤﻮ ﻫﺬا »اﻟﻌﻘﻞ« اﻟﻐﺎﻣﺾ واﺗﻬﻤﻪ ﺑﺎﻟﺘﺴﺒﺐ ﰲ ﻛﻞ ﻫﺬا .وﻟﻜﻦ ملﺎذا اﺧﺘﺎر اﻟﻌﻘﻞ ﺑﺎﻟﺬات ﻟﻬﺬا اﻟﺪور؟ ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﺳﺘﻜﻮن اﻹﺟﺎﺑﺔ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﺴﺆال ﻛﻤﺎ ﻳﲇ :ﻳﻘﻮل أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس ﰲ ﻣﻨﺎﺳﺒﺔ أﺧﺮى إن اﻟﻌﻘﻞ ﻟﻢ ﻳﺪﻓﻊ اﻟﺪوران اﻷو ِﱠﱄ ﻟﻠﻤﻮاد اﻟﺒُﺪاﺋﻴﺔ وﺣﺴﺐ ،ﺑﻞ إﻧﻪ ﻻ ﻳﺰال ﻳﺘﺤ ﱠﻜﻢ ﰲ ﻛﻞ اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﺤﻴﺔ ،ﻫﺬا ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ ﺣﻘﻴﻘﺔ أن ﻛﻞ ﻗﻄﻌﺔ ﻣﻦ أﻳﱠﺔ ﻣﺎدة ﺗﺤﺘﻮي ﻋﲆ ﻛﻞ أﻧﻮاع املﻮاد اﻷﺧﺮى ،وﻗﺪ ﻗﺎل ﰲ ذﻟﻚ» :ﻫﻨﺎك ﺑﻌﺾ اﻷﺷﻴﺎء )وﻳﻘﺼﺪ ﺑﻬﺎ اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﺤﻴﺔ( ﻟﺪﻳﻬﺎ ﻋﻘﻞ ﻛﺬﻟﻚ «.واﻟﻔﺎرق اﻟﻮﺣﻴﺪ ﺑني اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﺤﻴﺔ وﻏري اﻟﺤﻴﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻺﻏﺮﻳﻖ ﻫﻮ أن اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﺤﻴﺔ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﺗﺤﺮك ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺑﻨﻔﺴﻬﺎ؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻳُﻔﱰض أن أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس اﺳﺘﻨﺘﺞ أن اﻟﻌﻘﻞ ﻫﻮ اﻟﺬي ﻳﻤ ﱢﻜﻨﻬﺎ ﻣﻦ ذﻟﻚ )ورﺑﻤﺎ ﺗﺘﻤﺘﻊ اﻟﻨﺒﺎﺗﺎت ﺑﻌﻘﻮل ﺑُﺪاﺋﻴﺔ ﺗُﻤَ ﱢﻜﻨُﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﻨ ﱡ ُﻤﻮﱢ( .وﺑﺬﻟﻚ ﻟﻢ ﱠ ﻳﺘﺒﻖ إﻻ ﺧﻄﻮة ﺑﺴﻴﻄﺔ ﻟﻠﻮﺻﻮل إﱃ اﻻﺳﺘﻨﺘﺎج ﺑﺄن اﻟﻌﻘﻞ ﻫﻮ اﻟﺬي ﺑ ﱠَﺚ اﻟﺤﻴﺎة ﰲ اﻟﻜﻮن ﰲ ﺑﺪاﻳﺘﻪ وﺣَ ﱠﺮ َﻛﻪ ،ﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل ﻣﻊ اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﺤﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ ﻳﺰال ﻳﺒﺚ اﻟﺤﻴﺎة ﻓﻴﻬﺎ. ﻟﻘﺪ ﺗﺤﺪﱠث أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس ﻋﻦ ﻋﻘﻠﻪ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎره ﻛﻴﺎﻧًﺎ »ﻳﻤﻠﻚ املﻌﺮﻓﺔ اﻟﻜﺎﻣﻠﺔ ﻋﻦ ﻛﻞ ﳾء وﻳﻤﺘﻠﻚ أﻋﻈﻢ اﻟﻘﻮى« وﻋﲆ أﻧﻪ ﳾء »ﻻﻧﻬﺎﺋﻲ وﻣﺴﺘﻘﻞ وواﺣﺪ ﻗﺎﺋﻢ ﺑﺬاﺗﻪ« وﻣﻨﻔﺼﻞ ﻋﻦ املﺎدة اﻟﻌﺎدﻳﺔ ،وﻫﺬا ﻳﺴﻮﱢل ﻟﻠﻤﺮء أن ﻳﺴﺘﻨﺘﺞ أﻧﻨﺎ ﻧﻘﻒ أﺧريًا أﻣﺎم ﻓﻴﻠﺴﻮف إﻏﺮﻳﻘﻲ ﻧﺠﺢ ﰲ اﻟﺘﺨ ﱡﻠﺺ ﻣﻦ املﺎدﻳﺔ اﻟﻔﻈﺔ وﺑﺎﻟﺘﺎﱄ ﻳﺴﺘﺤﻖ أن ﻧﻨﺴﺐ ﻟﻪ اﻟﺮؤﻳﺔ »اﻟﺜﻨﺎﺋﻴﺔ« ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ 118
اﻟﻌﻘﻞ واملﺎدة :أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس
اﻟﺘﻲ ﺗﺮى اﻟﻮاﻗﻊ ﻣﻨﻘﺴﻤً ﺎ إﱃ ﻋﺎ َﻟﻤَ ني :أﺣﺪﻫﻤﺎ ﻫﻮ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﻌﻘﻞ املﻌﻨﻮي اﻟﺬي ﻳﻤﻴﺰه اﻟﺬﻛﺎء، واﻵﺧﺮ ﻫﻮ ﻋﺎﻟﻢ املﺎدة ﱡ اﻟﺼﻠﺒﺔ اﻟﻌﺠﻤﺎء .إﻻ أن ﻫﺬا اﻻﺳﺘﻨﺘﺎج ﺳﺎﺑﻖ ﻷواﻧﻪ؛ ﻓﺎﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ً ﺷﻜﻼ ﻣﻤﻴ ًﺰا ﻣﻦ أﺷﻜﺎل املﺎدة وﻟﻴﺲ ﻛﻴﺎﻧًﺎ ﻫﻲ أن أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس ﻧﻈﺮ ﻟﻠﻌﻘﻞ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎره َﺻﻔﻪ ﺑﺼﻔﺎت ﻣﺎدﻳﺔ ً ً ﻣﻨﻔﺼﻼ ﻋﻨﻬﺎ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ،ﻓﻮ َ ﻗﺎﺋﻼ إﻧﻪ ﻣﺎدة رﻗﻴﻘﺔ وﻧﻘﻴﺔ ،وإﻧﻪ ﻳﺸﻐﻞ ﺣﻴ ًﺰا وﻟﻴﺲ ﺑﻤﻌﺪوم املﺎدﻳﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ .إذن ﻓﺮﻏﻢ أن أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس ﻛﺎن ﻳﺼﺎرع ﺿﺪ ﻗﻴﻮد املﺎدﻳﺔ اﻟﻔﻈﺔ ﻓﻠﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻴﺘﺠﻨﺒﻬﺎ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ. ً ﻻﺣﻘﺎ أﻧﻪ ﺑﻌﺪ ﻇﻬﻮر اﻟﻌﻘﻞ ﻋﲆ ﻋﺠﺎﻟﺔ ﻟﺪى ﻣﻮﻟﺪ اﻟﻜﻮن ﴎﻋﺎن أوﺿﺢ ﺳﻘﺮاط ﻣﺎ اﺧﺘﻔﻰ ﻣﻦ املﺸﻬﺪ؛ ﻣﻤﺎ ﺧﻴﺐ أﻣﻠﻪ ،ﻓﻴﺒﺪو أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳَﻌُ ْﺪ ﻟﻠﻌﻘﻞ دور ﻧﺤﻮ املﻮاد ﻏري اﻟﺤﻴﺔ ﺑﻌﺪ أن ﺑﺪأ دوراﻧُﻬﺎ اﻷو ِﱠﱄ ﱡ ،وﴎﻋﺎن ﻣﺎ ﻃﻐﺖ اﻷﺳﺒﺎب املﺠﺮدة اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻋﲆ ﺳﺎﺣﺔ اﻟﺘﻔﺴريات ﻓﻠﻢ ﻳﺬﻛﺮ أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس ﺳﻮى ﺗﻠﻚ اﻷﺳﺒﺎب ﻋﻨﺪ ﺗﻔﺴريه ﻟﺘﻄﻮﱡر اﻟﻜﻮن ﺑﻌﺪ أن ﺑﺪأ اﻟﺪوران ،ﻓﻘﻴﻞ إن اﻟﻨﺠﻮم ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ أﺣﺠﺎر ﻗﺬﻓﻬﺎ دوران اﻷرض وأﺻﺒﺤﺖ ﻣﻀﻴﺌﺔ ﺑﻔﻌﻞ اﻟﺤﺮارة اﻟﻨﺎﺗﺠﺔ ﻋﻦ ﴎﻋﺔ ﺣﺮﻛﺘﻬﺎ .وﻫﻜﺬا أﺧﺬ أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس ﻳﻔﴪ ﻣﺎ ﺑﻮﺳﻌﻪ ﻣﻦ ﻇﻮاﻫﺮ ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ ﺑﺬﻟﻚ اﻷﺳﻠﻮب املﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻲ ﻣﺴﺘﻨﺪًا إﱃ ﻗﻮة اﻟﻄﺮد املﺮﻛﺰي وﻗﻮة اﻻﻧﺪﻓﺎع ﻧﺤﻮ املﺮﻛﺰ واملﺒﺪأ اﻹﻏﺮﻳﻘﻲ اﻟﻘﺪﻳﻢ اﻟﻘﺎﺋﻞ ﺑﺎﻧﺠﺬاب املﺘﻤﺎﺛﻠني .وﺑﺬﻟﻚ اﻗﺘﴫ دور اﻟﻌﻘﻞ ﻋﲆ إﻟﻘﺎء اﻟﻜﺮة ﰲ املﻠﻌﺐ اﻟﻜﻮﻧﻲ ،وﺣﺎل اﻧﻄﻼق ﺗﻠﻚ اﻟﻜﺮة ﺗﻨﻄﻠﻖ املﻮاد ﴎﻳﻌً ﺎ وﺣﺪﻫﺎ ﰲ ﻃﺮﻳﻘﻬﺎ اﻟﺼﺎﺧﺐ اﻟﻨﺎﺑﺾ ﺑﺎﻟﺤﻴﺎة. وﻣﻦ ﺣﺴﻦ ﺣﻆ أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس أﻧﻪ ﻧﺤﱠ ﻰ اﻟﻌﻘﻞ ﺟﺎﻧﺒًﺎ ،ﻓﻬﺬا ﻣﺎ ﻧﺠﺎه ﻣﻦ اﻟﱰاﺟﻊ إﱃ ﻣﺮﺗﺒﺔ »ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻼﻫﻮت« اﻟﻘﺪاﻣﻰ ﺑﻘﺼﺼﻬﻢ ﻋﻦ أﻫﻮاء اﻵﻟﻬﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺘﻨﺒﺆ ﺑﻬﺎ، ﻛﻤﺎ أن ﺗﻔﺴريه ﻷﻏﻠﺐ ﻋﻤﻠﻴﺎت اﻟﻜﻮن ﻣﻦ ﺧﻼل ﻗﻮى ﻣﺠﺮدة وﻃﺒﻴﻌﻴﺔ أﻋﺎده إﱃ ُزﻣﺮة ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء املﻌﺎﴏﻳﻦ ﻓﺄﺻﺒﺢ أﺣﺪ أواﺋﻞ ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء. وﻣﻦ ﺿﻤﻦ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ ﺗَ َﻔ ﱠﻜ َﺮ ﻓﻴﻬﺎ أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس اﻟﻄﻘﺲ وﺑﻌﺾ ﺟﻮاﻧﺐ ﻋﻠﻢ اﻷﺣﻴﺎء واﻹدراك ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ ﻋﻠﻮم اﻟﻜﻮن واﻟﻔﻠﻚ وﻏريﻫﺎ ﻣﻦ اﻷﻣﻮر .وﻳﺒﺪو أﻧﻪ أدرك أن اﻟﻘﻤﺮ ﻳﺄﺗﻲ ﺑﻀﻮﺋﻪ ﻣﻦ اﻟﺸﻤﺲ ﱠ وأن ﻇﻞ اﻷرض ﻫﻮ املﺘﺴﺒﱢﺐ ﰲ ﺧﺴﻮف اﻟﻘﻤﺮ .وﻧﺮى ﰲ ﻛﻞ ذﻟﻚ أﺛﺮ ﺗﺮاث املﻠﻄﻴني ،إﻻ أن أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس — ﻋﲆ ﻋﻜﺲ ﻃﺎﻟﻴﺲ — ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ً رﺟﻼ ﻋﻤﻠﻴٍّﺎ؛ ﺣﻴﺚ وُﻟﺪ ﺛﺮﻳٍّﺎ ﺛﻢ ﺗﺨﲆ ﻋﻦ أﻣﻼﻛﻪ ﻟريﻛﺰ ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ،وﻟﻢ ﻳُﺒ ِﺪ أي اﻫﺘﻤﺎم ﺑﺎﻟﺴﻴﺎﺳﺔ أو املﺎل .وﺗﺮوي إﺣﺪى اﻟﻘﺼﺺ أن ﻃﺒﻌﻪ اﻟﺮواﻗﻲ اﻟﺬي ﻻ ﻳﻠﻘﻲ ً ﺑﺎﻻ ﻟﻸﻣﻮر اﻟﺪﻧﻴﻮﻳﺔ ﻃﺎل أﺑﻨﺎءه أﻧﻔﺴﻬﻢ ﺣﺘﻰ ﻗﻴﻞ إﻧﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ وﺻﻠﺘﻪ أﻧﺒﺎء ﻣﻮت أﺑﻨﺎﺋﻪ ﻗﺎل» :أﻋﻠﻢ أن أﺑﻨﺎﺋﻲ ﻗﺪ وُﻟﺪوا ﻟﻴﻤﻮﺗﻮا «.وﺑﺎملﺜﻞ ﻋﻨﺪﻣﺎ وﺑﺨﻪ ﺷﺨﺺ )رﺑﻤﺎ ﻣﻦ أﻫﻞ أﺛﻴﻨﺎ وﻛﺎن ﻳﻮَد ﻟﻮ 119
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
أن أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس ﺑﻘﻲ ﰲ ﻛﻼزوﻣﻨﻲ( ً ﻗﺎﺋﻼ» :أﻻ ﻳﻬﻤﻚ ﺑﻠﺪك اﻷم؟« أﺟﺎب» :ﺑﻞ ﻳﻬﻤﻨﻲ ﺑﻠﺪي اﻷب ﻛﺜريًا «.وأﺷﺎر إﱃ اﻟﺴﻤﺎء.
120
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻣﻦ
أﺧﲑا :دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﻣﻦ ﻳﻀﺤﻚ ً ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺬرﻳﺔ ﻫﻲ آﺧﺮ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ وأﺑﺮزﻫﺎ ﰲ أﻋﻘﺎب ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس .وﻳﺒﺪو أن ﻣﺨﱰﻋﻬﺎ ﻫﻮ ﻟﻴﻮﻛﻴﺒﻮس اﻟﺬي ﻻ ﻧﻌﺮف ﻓﻌﻠﻴٍّﺎ ﻋﻨﻪ ﺷﻴﺌًﺎ ،ﺛﻢ ﻃﻮﱠرﻫﺎ دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ )ﺣﻮاﱄ ٣٧٠–٤٦٠ق.م( اﻟﺬي ﻳﺒﺪو أﻧﻪ ﻳﻜﺎد ﻳﻌﺮف ﻛﻞ ﳾء أو ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﻇﻦ أﻧﻪ ﻳﻌﺮف ُ َ دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﻛﻤﺎ ﻟﻮ ﻛﺎن ﻣﺰﻳﺠً ﺎ ﻣﻦ ﺷريﻟﻮك املﺆرخ دﻳﻮﺟني ﻟريﺗﻴﻮس ﻛﻞ ﳾء .وﻳﺼﻒ ﻫﻮملﺰ واﻟﻌﺮاف اﻟﺪﻟﻔﻲ :ﻓﻌﻨﺪﻣﺎ ﺗﺬوﱠق ﻛﻤﻴﺔ ﻣﻦ اﻟﻠﺒﻦ ﻳﻘﺎل إﻧﻪ اﺳﺘﻨﺘﺞ أن ﻫﺬا اﻟﻠﺒﻦ ﺟﺎء ﻣﻦ أﻧﺜﻰ ﻣَ ﻌْ ٍﺰ ﺳﻮداء اﻟﻠﻮن وﻗﺪ أﻧﺠﺒﺖ ﻟﻠﺘﻮ أول ﺻﻐﺎرﻫﺎ .وﻻ ﺗَﻘِ ﱡﻞ ﻫﺬه اﻟﻘﺼﺔ ﻋﺠﺒًﺎ ﻋﻦ ﻗﺼﺔ ﺗﺄﺧريه ﻣﻮﺗَ ُﻪ ﺑﻤﺤﺾ إرادﺗﻪ ﺑﻌﺪ أن ﺗﺠﺎوز ﺳﻦ املﺎﺋﺔ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﺳﺘﻨﺸﺎق راﺋﺤﺔ ً ﻣﻌﺮوﻓﺎ ﺑني اﻟﻨﺎس ﺧﺒﺰ ﻃﺎزج .وﺑﻌﺪﻣﺎ ُﻗ ِﺒ َﻀﺖ روﺣﻪ ﰲ آﺧﺮ املﻄﺎف ﻇﻞ دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﺑﺎﺳﻢ »اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف اﻟﻀﺎﺣﻚ«؛ ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻷﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﻬﺰأ ﻣﻦ ﺣﻤﺎﻗﺔ اﻟﺒﴩﻳﺔ .وﻻ ﻳﺨﻄﺮ ﺑﺒﺎل ﻣﻦ ﻳﻘﺮأ ﻣﺎ ﱠ ً ﺷﺨﺼﺎ ﻣﺮﺣً ﺎ ﻳﺴﺨﺮ ﻣﻦ اﻟﺤﻴﺎة .ﻓﺠﺪﻳﺔ ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ ﺗﺠﻌﻞ ﺗﺒﻘﻰ ﻣﻦ ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻣﻦ املﺴﺘﺤﻴﻞ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﺗﺼﻮره وﻫﻮ ﻳﻀﺤﻚ ﻋﲆ أي ﳾء .ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻘﻮل ً ﻣﺜﻼ» :إﻳﺎك أن ﺗﺸﻚ ﰲ أﺣﺪ ،وﻟﻜﻦ ﻛﻦ ﻣﺎﻛ ًﺮا وﺗﺠﻨﺐ اﻟﺨﻄﺮ «.وﻳﻘﻮل ً أﻳﻀﺎ» :إن اﻟﺘﻮﺑﺔ ﻣﻦ ﻋﻤﻞ اﻟﺴﻴﺌﺎت واﻗﱰاف اﻟﺬﻧﻮب واﻵﺛﺎم ﻫﻲ اﻟﻨﻌﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻨﻘﺬ اﻟﺤﻴﺎة «.وﻛﺬﻟﻚ ﻳﻘﻮل» :ﻣﻦ ﻳﺤﺎﻓﻆ ﻋﲆ ﻧﻈﺎم ﺳﻠﻮﻛﻪ ﻳﺤﺎﻓﻆ ﻋﲆ ﻧﻈﺎم ﺣﻴﺎﺗﻪ«. ﺑﺎﻟﻨﻈﺮ ﻟﻸﻣﺮ ﻣﻦ ﻣﻨﻈﻮرﻧﺎ اﻟﺤﺎﱄ ،ﻳﺘﻀﺢ أن اﻟﺘﻔﺴري اﻷوﻗﻊ ﻟﻠﻘﺐ »اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف اﻟﻀﺎﺣﻚ« ﻫﻮ أن دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﻛﺎﻧﺖ ﻟﻪ اﻟﻀﺤﻜﺔ اﻷﺧرية .ﻓﻌﲆ ﻣﺮ ٢٤٠٠ﻋﺎم ﺗﻔﺼﻠﻨﺎ ﻋﻨﻪ ﻗﺒﻌﺖ ﻣﺒﺎدئ دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﺗﺤﺖ وﻃﺄة رﻓﺾ أﻓﻼﻃﻮن وأرﺳﻄﻮ واﻟﻜﻨﻴﺴﺔ ﻟﻬﺎ، ﺛﻢ اﺑﺘﺴﻢ ﻟﻪ اﻟﺤَ ﱡ ﻆ ﻣﻊ اﻟﺜﻮرة اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ ،وﻇﻞ ﻣﺒﺘﺴﻤً ﺎ ﻟﻪ ﻣﻨﺬ ﴐبَ ﺑﺎﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻟﻔﻴﺰﻳﺎﺋﻴﺔ ﻷﻓﻼﻃﻮن وأرﺳﻄﻮ ﻋُ ﺮض اﻟﺤﺎﺋﻂ؛ ذﻟﻚ اﻟﺤني ،ﰲ ﺣني ُ ِ ﻓﺎﻟﺘﺼﻮر اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ ﻳﺸﺒﻪ أﻓﻜﺎر دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ وأﺗﺒﺎﻋﻪ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ أﻓﻜﺎر أيﱟ ﻣﻦ ﻏريه
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻣﻦ اﻹﻏﺮﻳﻖ .وﺳﻴﺘﻀﺢ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﲇ أن ﺑﻌﺾ اﻷﻓﻜﺎر املﻨﺴﻮﺑﺔ ﻟﺠﺎﻟﻴﻠﻴﻮ )١٦٤٢–١٥٦٤م( واﻟﺘﻲ ﺑﺪت ﺛﻮرﻳﺔ ﻟﻴﺴﺖ إﻻ إﻋﺎدة ﺻﻴﺎﻏﺔ ملﺎ ﻗﺎﻟﻪ دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ .ﺑﻞ وﻣﺎ ﻳﺰﻳﺪﻧﺎ اﻧﺒﻬﺎ ًرا أن ﺳﻠﺴﻠﺔ اﻟﺘﺄﺛري ﺗﻤﺘﺪ ﻣﻦ اﻟﺬرﻳني اﻟﻘﺪاﻣﻰ ﺣﺘﻰ اﻧﺘﺼﺎر اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺬﱠ ﱢرﻳﱠﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﻟﻠﻤﺎدة ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ .ﻻ رﻳﺐ أن ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ واﻟﺬرﻳني املﻌﺎﴏﻳﻦ َﺳﻌَ ﻮْا ﺟﺎﻫﺪﻳﻦ إﱃ اﺧﺘﺒﺎر اﺳﺘﻨﺘﺎﺟﺎﺗﻬﻢ وإﺛﺒﺎﺗﻬﺎ ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻛﺎن دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﺑﺒﺴﺎﻃﺔ ﻳﺆ ﱢﻟﻔﻬﺎ ﺛﻢ ﻣﻦ ﺣﺴﻦ ﻃﺎﻟﻌﻪ ﻳﺘﻀﺢ أﻧﻬﺎ اﺳﺘﻨﺘﺎﺟﺎت ﺻﺤﻴﺤﺔ .وﻟﻜﻦ َ ﺗﺒﻘﻰ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺬرﻳﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻫﻲ اﻹﻧﺠﺎز اﻟﺬي ﺗﻮﱠج اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ ﻗﺒﻞ ﻋﴫ أﻓﻼﻃﻮن. وأﻏﺮب ﻣﺎ ﰲ اﻷﻣﺮ أن ﻫﺬه اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺒﺪو ﻋﻠﻤﻴﺔ ﰲ ﻇﺎﻫﺮﻫﺎ ﻗﺪ ﻧﺸﺄت ﻣﺒﺎﴍة ﻣﻦ آراء ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس املﻈﻠﻤﺔ وﻏري املﻌﻘﻮﻟﺔ؛ ﻓﺒﺘﻌﺪﻳﻞ ﺑﺴﻴﻂ ﻷﻓﻜﺎر ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﺗﺤﻮﻟﺖ اﻟﻜﻴﻨﻮﻧﺔ اﻟﻮاﺣﺪة اﻟﺜﺎﺑﺘﺔ واﻟﺴﺎﻛﻨﺔ ﻟﺪﻳﻪ إﱃ اﻟﺬﱠ ﱠرات اﻟﻐﺰﻳﺮة واﻟﺤﻴﻮﻳﺔ ﻟﺪى دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ. وﻟﻜﻦ ﻛﻴﻒ ﺣﺪث ذﻟﻚ؟ ﻫﺬا ﻣﺎ ﺳﻨﺠﻴﺐ ﻋﻨﻪ ﺑﻌﺪ ﻗﻠﻴﻞ. َ ورﻏﻢ ﻧﺠﺎح اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺬﱠ ﱠرﻳﱠﺔ ﰲ ﺑﻠﻮغ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ وﻣﺎ ﻳﻠﻴﻪ ،ﻓﻘﺪ ﻋﺎﻧﺖ اﻷﻣَ ﱠﺮﻳْﻦ ﻟﺘﺼﻞ إﻟﻴﻪ .ﻓﻘﺪ ﻛ ﱠﺮس أرﺳﻄﻮ ﺟﻬﺪًا ﻋﻈﻴﻤً ﺎ ﻟﻴﺜﺒﺖ أن اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺬرﻳﺔ ﻟﻴﺴﺖ إﻻ ﻫﺮاءً ﰲ ﻣﻌﻈﻤﻬﺎ ،أﻣﺎ أﻓﻼﻃﻮن ﻓﻨﻔﺮ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﺣﺘﻰ ﻳﺒﺪو أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﺘﻘﺒﱠﻞ ﺣﺘﻰ ذﻛﺮ دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ،ﻧﺎﻫﻴﻚ ﻋﻦ ﺗﻔﻨﻴﺪ آراﺋﻪ .وﻳﻘﺎل إن أﻓﻼﻃﻮن أراد ﻟﻜﻞ ﻛﺘﺐ دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ أن ﺗُﺤﺮق ،ﻟﻜﻦ ذﻟﻚ ﻛﺎن أﻣ ًﺮا ٍّ ﺷﺎﻗﺎ ﻷن ﻛﺘﺎﺑﺎت دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ وﺣﺪه ﺗﻔﻮق ﻛﺘﺎﺑﺎت ﻛﻞ ﻣﻦ ﺣﺎل ﻷن ﻣﻌﻈﻢ ﻛﺘﺎﺑﺎت ﺳﺒﻘﻮه ﻣﺠﺘﻤﻌِ ني .وﻟﺴﻮء اﻟﺤﻆ ﻛﺎن ﻷﻓﻼﻃﻮن ﻣﺎ أراد ﻋﲆ أﻳﱠ ِﺔ ٍ دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﺿﺎﻋﺖ إﺛﺮ اﻹﻫﻤﺎل .وﻗﺪ اﻧﺘﻬﺰ املﻔﻜﺮون املﺴﻴﺤﻴﻮن اﻷواﺋﻞ ﻛﻞ ﻓﺮﺻﺔ ﺳﺎﻧﺤﺔ ﻹداﻧﺔ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺬﱠ ﱢرﻳﱠﺔ وإﺛﻨﺎء اﻟﻨﺎس ﻋﻦ دراﺳﺘﻬﺎ ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ وﺟﻪ ﻋﺪاوﺗﻬﻢ ﻫﻮ أن اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺬرﻳﺔ ﺗﺰﻋُ ﻢ أن ﻛﻞ املﻮاد ﺗﺘﻜﻮن ﻣﻦ ﺟﺰﻳﺌﺎت ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻘﺴﻴﻤﻬﺎ ﰲ ﺣني أن املﺴﻴﺢ وأﻧﺒﻴﺎء اﻟﻌﻬﺪ اﻟﻘﺪﻳﻢ ﻟﻢ ﻳﺬﻛﺮوا ً ﻗﻮﻻ ﰲ ذﻟﻚ .ﻓﻘﺪ ﻣﻘﺖ املﺴﻴﺤﻴﻮن اﻷواﺋﻞ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺬﱠ ﱢرﻳﱠﺔ ﻟﺴﺒﺒني رﺋﻴﺴني؛ أوﻟﻬﻤﺎ :أﻧﻬﺎ ﺣﺎوﻟﺖ ﺗﻔﺴري ﻛﻞ ﳾء ﰲ إﻃﺎر ﻣﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻲ دون اﻹﺷﺎرة إﱃ ﻗﺪرة اﻟﺮب )اﻟﺘﻲ ﻳﺮاﻫﺎ اﻟﺬرﻳﻮن إﺳﻬﺎﺑًﺎ ﻻ ﻗﻴﻤﺔ ﻟﻪ( ،واﻵﺧﺮ :أﻧﻬﺎ زﻋﻤﺖ أن ﻻ ﺣﻴﺎة ﺑﻌﺪ املﻮت؛ ذﻟﻚ أن ﻛﻞ اﻷﺷﻴﺎء ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻬﺎ اﻷرواح واﻵﻟﻬﺔ — إذا ﻛﺎن ﻷيﱟ ﻣﻨﻬﺎ وﺟﻮد ﻣﻦ اﻷﺳﺎس — ﻣﺎ ﻫﻲ إﻻ ﺗﺸﻜﻴﻠﺔ ﱠ ﻣﺆﻗﺘﺔ ﻣﻦ اﻟﺬرات ﺳﺘﺬوب ﻋﺎﺋﺪة إﱃ اﻟﻔﻮﴇ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ. ﻛﻤﺎ ﻋﺎﻧﺖ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺬرﻳﺔ ﻣﻦ أﺻﺤﺎب اﻟﺴﻮء؛ ﻓﻘﺪ أﻳﱠﺪﻫﺎ وﻃﻮﱠرﻫﺎ أﺑﻴﻘﻮر )–٣٤١ واﻟﴩه ﻣﻤﺎ أﺳﺎء إﱃ ﺳﻤﻌﺘﻬﺎ ﺑني أوﱄ ٢٧٠ق.م( اﻟﺬي اﺷﺘﻬﺮ ﺑﺘﻘﺪﻳﺲ ا ُملﺘَﻊ اﻟﺤﺴﻴﺔ ﱠ َ 122
ﻣﻦ ﻳﻀﺤﻚ أﺧريًا :دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ
اﻷﻟﺒﺎب .ﺑﻞ واﻷﺳﻮأ ﻣﻦ ذﻟﻚ ﻫﻮ أن أﻓﻀﻞ ﻧﺴﺨﺔ ﻟﻠﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺬرﻳﺔ وأﺷﺪﻫﺎ ﺗﺄﺛريًا ﻫﻲ اﻟﻨﺴﺨﺔ املﻄﺮوﺣﺔ ﰲ ﻗﺼﻴﺪة ﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس »ﻋﻦ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻷﺷﻴﺎء« اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺎﻫﺾ اﻟﺪﻳﻦ ﴏاﺣﺔ ،ﻓﻴﻘﻮل ﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس ﺑﻜﻞ وﺿﻮح إن ﻗﺼﻴﺪﺗﻪ ﺗﻬﺪف إﱃ ﺗﺤﺮﻳﺮ اﻹﻧﺴﺎن ﻣﻦ اﻟﺨﺮاﻓﺎت وﻣﻦ رﻫﺒﺔ املﻮت وﻃﻐﻴﺎن اﻟﻜﻬﻨﺔ: ُ اﻟﺨﺮاﻓﺎت اﻟﺘﻲ ﺗُ ِﻄ ﱡﻞ ﺑﺮأﺳﻬﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ زﺣﻔﺖ ﺣﻴﺎة اﻹﻧﺴﺎن ﻣُﻜ َﺮ َﻫ ًﺔ ﺗُﺜﻘِ ُﻞ ﻇﻬﺮﻫﺎ ﻣﻦ اﻟﺴﻤﻮات اﻟﻌُ ﲆ وﺗﻘﱰب ﻣﻦ اﻟﻬﺎﻟﻜني ﺑﻮﺟﻪ ﺑ َِﺸ ٍﻊ ،ﻛﺎن رﺟﻞ اﻟﻴﻮﻧﺎن ﻫﻮ أول ﻣﻦ ﺗﺠ ﱠﺮأ ﺑﺮﻓﻊ اﻟﻌني ﰲ ﻋﻴﻨﻬﺎ وأول ﻣﻦ وﻗﻒ أﻣﺎﻣﻬﺎ وﺟﻬً ﺎ ﻟﻮﺟﻪ؛ ذﻟﻚ أن أﺳﺎﻃري اﻵﻟﻬﺔ ﻻ ﺗﺨﻴﻔﻪ ،وﻻ ﺗُﺨﻤﺪه اﻟﺼﻮاﻋﻖ وﻻ ﻳُﺜﻨﻲ ﻋﺰﻣﻪ زﺋري اﻟﺴﻤﺎء املﺮﻋﺐ ،ﺑﻞ إﻧﻬﺎ اﺳﺘﻨﻬﻀﺖ اﻟﺸﺠﺎﻋﺔ ﻓﻴﻪ ﺣﺘﻰ ﻛﺎن أول اﻟﺮاﻏﺒني ﰲ اﻗﺘﺤﺎم ﻋﺎﻟﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ وﻛﺸﻒ اﻟﻨﻘﺎب ﻋﻦ أﴎاره. و»رﺟﻞ اﻟﻴﻮﻧﺎن« اﻟﺒﻄﻞ اﻟﺬي ﻳﻘﺼﺪه ﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس ﻫﻮ أﺑﻴﻘﻮر ،إﻻ أن اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ أن أوﱠل ﻣﻦ اﻗﺘﺤﻢ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻫﻤﺎ دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ وﻟﻴﻮﻛﻴﺒﻮس ﺗﺤﺖ اﺳﻢ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺬﱠ ﱢرﻳﱠﺔ. ﻗﺎل دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ذات ﻣﺮة إﻧﻪ ﻳﻔﻀﻞ أن ﻳﺘﻮﺻﻞ إﱃ ﺗﻔﺴري واﺣﺪ ﺣﻘﻴﻘﻲ ﻋﻦ أن ﻳﺘﻮﱠج ﻣﻠ ًﻜﺎ ﻋﲆ ﺑﻼد ﻓﺎرس .وﻗﺪ ﺣﻤﻠﻪ ﻓﻀﻮﻟﻪ ﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻦ وﻃﻨﻪ ﻓﺬﻫﺐ ﺑﻪ إﱃ ﺑﻼد ﺑﺎﺑﻞ وﻣﴫ وﻓﺎرس ورﺑﻤﺎ إﱃ اﻟﻬﻨﺪ وإﺛﻴﻮﺑﻴﺎ .وﻗﺪ أﻧﺘﺞ ﺑﺨﱪﺗﻪ اﻟﻮاﺳﻌﺔ واﻫﺘﻤﺎﻣﺎﺗﻪ املﺘﻨﻮﻋﺔ ﻣﺎ ﻳﻘﺮب ﻣﻦ ﺧﻤﺴني رﺳﺎﻟﺔ ﻋﻦ ﻣﻮﺿﻮﻋﺎت ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﺜﻞ املﻐﻨﺎﻃﻴﺴﻴﺔ واﻟﺰراﻋﺔ واملﻮﺳﻴﻘﻰ واﻟﺮﺳﻢ وﻋﻠﻢ وﻇﺎﺋﻒ اﻷﻋﻀﺎء ،ورﺑﻤﺎ ﺗﺤﺪﱠﺛﺖ إﺣﺪى رﺳﺎﺋﻠﻪ ﻋﻦ ﻛﻴﻔﻴﺔ اﻟﻘﺘﺎل ﺑﺎﻟﺪروع ،ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ ً ﺷﻐﻮﻓﺎ ﺑﻌﻠﻢ اﻷﺣﻴﺎء ،وﻟﻜﻦ ﻟﻢ ﱠ ﻳﺘﺒﻖ ﻣﻤﱠ ﺎ إﱃ ﻛﺘﺒﻪ ﰲ ﻣﻮﺿﻮﻋﺎت ﻓﻠﺴﻔﻴﺔ ﺑﺤﺘﺔ .وﻗﺪ ﻛﺎن ﻛﺘﺒﻪ ﻓﻴﻪ إﻻ اﻟﻘﻠﻴﻞ ،وﻛﺬﻟﻚ اﻟﺤﺎل ﻣﻊ ﻣﻌﻈﻢ املﻮﺿﻮﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻜ ﱠﻠﻢ ﻓﻴﻬﺎ .وﻳﺘﺒﻘﻰ ﺑني ً ﻗﻄﻌﺔ ﻣﻔﻬﺮﺳﺔ ﻣﻦ ﻛﺘﺎﺑﺎت دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ؛ أي أﻛﺜﺮ ﻣﻤﱠ ﺎ ﺗﺒﻘﻰ ﻣﻦ ﻛﺘﺎﺑﺎت أي أﻳﺪﻳﻨﺎ ٢٩٩ ﻓﻴﻠﺴﻮف ﻗﺒﻞ أﻓﻼﻃﻮن ،إﻻ أن ﻣﻌﻈﻤﻬﺎ ﻣﻦ ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ ﻋﻦ اﻷﺧﻼق ،وﺑﻌﻀﻬﺎ ﻛﻠﻤﺎت ﻣﻨﻔﺮدة ﻗﻴﻞ إﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻬﺎ .وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﺈن ﻣﺎ ﺑﻘِﻲ وﺧﺎﺻﺔ ﻣﻤﺎ ﻛﺘﺒﻪ ً ﻻﺣﻘﺎ ﻋﻦ اﻟﻨﻘﺪ ﻳﻜﻔﻲ ﻟﻴﺒني اﻟﺨﻄﻮط اﻟﻌﺮﻳﻀﺔ ﻟﻠﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺬرﻳﺔ. إن أول ﻣﻦ وﺿﻊ ﻫﺬه اﻟﺨﻄﻮط اﻟﻌﺮﻳﻀﺔ ً وﻓﻘﺎ ملﺎ ﻗﺎﻟﻪ أرﺳﻄﻮ ﻫﻮ ﻟﻴﻮﻛﻴﺒﻮس .وﻗﺪ ُوﻟِﺪ ﻟﻴﻮﻛﻴﺒﻮس ﺣﻮاﱄ ﻋﺎم ٤٦٠ق.م إﻣﺎ ﰲ ﻣﺪﻳﻨﺔ إﻳﻠﻴﺎ أو ﰲ ﻣﻠﻄﻴﺔ ،وﻛﻠﺘﺎﻫﻤﺎ ﻣﻦ أﻏﺰر ﻣﻨﺎﺑﻊ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ .وﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ُو ِﻟﺪ دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﰲ اﻟﻌﺎم ﻧﻔﺴﻪ ﰲ ﻣﺪﻳﻨﺔ أﺑﺪﻳﺮة ،وﻫﻲ ﻣﺪﻳﻨﺔ 123
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
أﻳﻮﻧﻴﺔ ﻋﲆ ﺷﺎﻃﺊ ﺗﺮاﻗﻴﺎ ﻛﺎن ﻳُﴬب ﺑﻬﺎ املﺜﻞ ﻟﻐﺒﺎء أﻫﻠﻬﺎ .ودرس دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﻣﻊ ﻟﻴﻮﻛﻴﺒﻮس وﺣﻤﻞ اﻟﻔﻜﺮة اﻟﺘﻲ َﺧ ﱠﻠﺪَت ذﻛﺮ ﻟﻴﻮﻛﻴﺒﻮس وﻫﻲ أن ﻋﺪدًا ﻻﻧﻬﺎﺋﻴٍّﺎ ﻣﻦ اﻟﺬرات اﻟﺼﻐرية ﻳﻨﺪﻓﻊ ﺣﻮل ﻣﺴﺎﺣﺔ ﺧﺎﻟﻴﺔ )ﺗُﺴﻤﱠ ﻰ »اﻟﻔﺮاغ«( ﺣﺘﻰ ﺗﺼﻄﺪم اﻟﺬرات وﻳﻠﺘﺼﻖ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺑﺒﻌﺾ َﻓﺘُ َﺸ ﱢﻜﻞ ﻛﻞ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ ﻧﻌﺮﻓﻬﺎ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺳﻮاء اﻟﺤﻴﺔ أو ﻏري اﻟﺤﻴﺔ. وﻳﻘﻮل أﺣﺪ املﻌﻠﻘني اﻟﻼﺣﻘني ﻋﻦ ذﻟﻚ: ﻫﺬه اﻟﺬرات ﺗﺘﺤﺮك ﰲ اﻟﻔﻀﺎء اﻟﻼﻧﻬﺎﺋﻲ ﻣﻨﻔﺼﻠﺔ ﻋﻦ ﺑﻌﻀﻬﺎ وﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﰲ اﻟﺸﻜﻞ واﻟﺤﺠﻢ واملﻜﺎن واﻟﱰﺗﻴﺐ ،ﺛﻢ ﺗﺴﺒﻖ إﺣﺪاﻫﺎ اﻷﺧﺮى ﻓﺘﺼﻄﺪم ،وﻳُﺴﺎق ﺑﻌﻀﻬﺎ إﱃ أي اﺗﱢﺠﺎه ﻋﺸﻮاﺋﻲ ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﻠﺘﺤﻢ ﺑﻌﻀﻬﺎ اﻵﺧﺮ ً وﻓﻘﺎ ﻟﻼﺗﻔﺎق ﰲ اﻟﺸﻜﻞ واﻟﺤﺠﻢ واملﻜﺎن واﻟﱰﺗﻴﺐ وﺗﺒﻘﻰ ﻛﺬﻟﻚ؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﺗﺘﺸﻜﻞ ﰲ ﺻﻮرة أﺟﺴﺎم ُﻣ َﺮ ﱠﻛﺒَﺔ.
دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ.
124
ﻣﻦ ﻳﻀﺤﻚ أﺧريًا :دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ
ﻟﻘﺪ اﺷﺘُ ﱠﻘ ْﺖ ﻛﻠﻤﺔ ) atomذرة( ﻣﻦ atomosﺑﻤﻌﻨﻰ »ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻗﻄﻌﻪ« ،وﻗﺪ ﻗﺎل دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ وﻟﻴﻮﻛﻴﺒﻮس إن اﻟﺬرات ُ ﺻﻠﺒﺔ ﺟﺪٍّا وﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻘﺴﻴﻤﻬﺎ أو ﺗﺪﻣريﻫﺎ .وﺗﻤﻮت اﻷﺷﻴﺎء اﻟﻌﺎدﻳﺔ أو ﺗﺘﻔﻜﻚ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﺘﻨﺎﺛﺮ اﻟﺬرات املﻜﻮﱢﻧﺔ ﻟﻬﺎ .وﻟﺬﻟﻚ ﻓﺈن اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺬرﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﺠﺪﻫﺎ ﻋﻨﺪ إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ وأﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس ﺗﺤﺎول ﺗﻔﺴري اﻟﺘﻐﻴري واﻟﺪﻣﺎر اﻟﻠﺬَﻳْﻦ اﻋﺘﱪﻫﻤﺎ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻣﻦ ﴐوب املﺴﺘﺤﻴﻞ ،وذﻟﻚ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﻃﺮح ﺣﻞ وﺳﻂ .وﺗﻘﻮل اﻟﺤﻠﻮل اﻟﻮﺳﻂ اﻟﺜﻼﺛﺔ إن اﻷﺷﻴﺎء اﻟﻌﺎدﻳﺔ املﺘﻐرية ﺗﺘﻜﻮن ﻣﻦ ﻣﻜﻮﱢﻧﺎت ﻻ ﺗﺘﻐري ﰲ ﺣَ ﱢﺪ ذاﺗﻬﺎ وﻟﻜﻦ ﻗﺪ ﻳﺘﻐري ﺗﺮﻛﻴﺒُﻬﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﺠﺘﻤﻊ أو ﺗﺘﻔﺮق ،وﻫﺬه اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ أُﻋﻴﺪ ﺗﺮﻛﻴﺒﻬﺎ ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺘﺞ ﻟﻨﺎ اﻟﻌﺎﻟﻢ املﺘﻐري اﻟﺬي ﻧﺮاه. أﻣﺎ اﻟﻘﻮة اﻟﺘﻲ ﺗﺠﻤﻊ اﻟﺬرات ﻣﻌً ﺎ ﻓﻬﻲ املﺒﺪأ اﻹﻏﺮﻳﻘﻲ اﻟﻘﺪﻳﻢ اﻟﻘﺎﺋﻞ إن املﺘﻤﺎﺛﻼت ﺗﻨﺠﺬب ﻟﺒﻌﻀﻬﺎ .وﰲ ذﻟﻚ ﻳﻘﻮل دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ» :ﺗﺠﺘﻤﻊ املﺨﻠﻮﻗﺎت ﻣﻊ ﻧﻮﻋﻬﺎ … اﻟﺤَ ﻤﺎم ﻣﻊ اﻟﺤَ ﻤﺎم واﻟﻜﺮﻛﻲ ﻣﻊ اﻟﻜﺮﻛﻲ … إﻟﺦ ،واﻟﴚء ﻧﻔﺴﻪ ﻳﺤﺪث ﻣﻊ اﻟﺠﻤﺎد ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻧﺮاه ﰲ ﺗﺠﻤﻊ اﻟﺤﺒﻮب ﰲ ا ُملﻨ ْ ُﺨﻞ واﻟﺤﴡ ﻋﲆ اﻟﺸﺎﻃﺊ «.وﺗﻤﻴﻞ اﻟﺬرات ﻣﺘﺸﺎﺑﻬﺔ اﻟﺸﻜﻞ إﱃ اﻻﻟﺘﺼﺎق ﺑﺒﻌﻀﻬﺎ ،ﺑﻞ إن ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻟﺪﻳﻬﺎ ﺧﻄﺎﻓﺎت ﺻﻐرية ﻟﺘﺘﻌ ﱠﻠﻖ ﺑﻬﺎ .وﻗﺪ ﺣﺎول دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﺗﻔﺴري أﻗﴡ ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻨﻪ ﻣﻦ اﻟﺴﻤﺎت اﻟﺘﻲ ﻧﺮاﻫﺎ ﻟﻸﺷﻴﺎء اﻟﻌﺎدﻳﺔ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ أﺷﻜﺎ ُل ذراﺗﻬﺎ املﺨﺘﻠﻔﺔ وأﺣﺠﺎﻣﻬﺎ وﺗﺮﻛﻴﺒﻬﺎ ،ﻓﺎﻷﺷﻴﺎء ﺣﻠﻮة اﻟﻄﻌﻢ ﺗﺘﻜﻮن ﻣﻦ ذرات ﻣﺴﺘﺪﻳﺮة وﻛﺒرية ،أﻣﺎ اﻷﺷﻴﺎء ﺣﺎدﱠة املﺬاق ﻓﺘﺘﻜﻮن ﻣﻦ ذرات ﺻﻐرية وﻣﺪﺑﺒﺔ وﻏري ﻣﺴﺘﺪﻳﺮة )وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ وﺻﻔﻬﺎ ﺑ »اﻟﺤﺎدة«( ،واﻷﺷﻴﺎء املﺎﻟﺤﺔ ﺗﺘﻜﻮﱠن ﻣﻦ ذرات ﻛﺒرية ﻣﺪﺑﱠﺒﺔ وﻣﻘﻮﱠﺳﺔ أﺿﻼﻋﻬﺎ ﻣﺘﺴﺎوﻳﺔ ،أﻣﺎ اﻷﺷﻴﺎء ا ُمل ﱠﺮة ﻓﺘﺘﻜﻮن ﻣﻦ ذرات ﻣﺴﺘﺪﻳﺮة وﻧﺎﻋﻤﺔ ﻟﻜﻦ ﻏري ﻣﻨﺘﻈﻤﺔ ،وﺗﺘﻜﻮن اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺰﻳﺘﻴﺔ ﻣﻦ ذَ ﱠرات ﻣﻠﺴﺎء ﻣﺴﺘﺪﻳﺮة وﺻﻐرية )وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﺗﺸﺒﻪ ﺣﺒﱠﺎت اﻟﺮﻣﺎن اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺰﻟﻖ ﺑﺴﻬﻮﻟﺔ واﺣﺪة ﺗﻠﻮ اﻷﺧﺮى ،وﻳُﻔﱰض أن ﻫﺬا ﻣﺎ اﻋﺘﻘﺪ دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ أﻧﻪ ﻳﻔﴪ ﻟُ ُﺰوﺟَ َﺔ اﻟﺰﻳﺖ(. وﺑﻨﺎء ﻋﲆ ﻧﻈﺮﻳﺔ دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻧﺘﻌﺮض ﻟﺴﻴﻞ ﻣﻦ ﻫﺬه املﻜﻮﱢﻧﺎت اﻟﺪﻗﻴﻘﺔ ﻃﻮال اﻟﻮﻗﺖ ،ﻓﺒﻤﺎ أن ﻛﻞ ﳾء ﻻ ﺑُ ﱠﺪ ﻟﻪ أن ﻳﺘﻜﻮﱠن ﻣﻦ ذرات ﺗﺘﺤﺮك؛ ﻓﺈن اﻹدراك ﰲ ﺣَ ﱢﺪ ذاﺗﻪ ﻳ َُﻔ ﱠﴪ ﻋﲆ أﻧﻪ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﺧﺮوج أﻋﺪاد ﺻﻐرية ﻣﻦ اﻟﺬﱠ ﱠرات ﻣﻦ اﻷﺷﻴﺎء ودﺧﻮﻟﻬﺎ أﺟﺴﺎﻣﻨﺎ ﻣﻦ ً ﺧﻼل اﻟﺤﻮاس .أﻣﺎ ﻣﺎ ﻳﺤﺪث داﺧﻞ اﻟﺠﺴﻢ ﻋﻨﺪ إدراك اﻟﴚء ﻓﻴَ َ ﻏﺎﻣﻀﺎ ﻻ ﻳُﺪ َرك ُﻛﻨْﻬُ ﻪُ. ﻈ ﱡﻞ ﻣﻜﺎن ﻣﺎ ﺑﺎﻟﺠﺴﻢ ،أﻣﺎ اﻟﺘﻔﻜري وﻳﻘﺎل إن اﻟﻌﻘﻞ ﻫﻮ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﺬﱠ ﱠرات اﻟﻜﺮوﻳﺔ ﺗﻘﺒﻊ ﰲ ٍ ﻓﻬﻮ ﻳﺘﻤﺜﱠﻞ ﰲ ﺣﺮﻛﺔ ذرات اﻟﻌﻘﻞ إذا ﻣﺎ ﻫﺎﺟﺖ ﺑﺴﺒﺐ اﻟﺘﻌ ﱡﺮض ﻟﺴﻴﻞ اﻟﺬرات املﻨﺪﻓﻊ .وﻗﺪ اﺳﺘﻌﺎر دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﰲ ﺗﻔﺴرياﺗﻪ ﻟﻠﻈﻮاﻫﺮ اﻷﻛﱪ ﻣﺜﻞ اﻟﺠﻮ ﺗﻔﺴريات ﻋﴫه املﻌﻬﻮدة، 125
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ً ِ ﻣﻨﺘﻈﻤﺔ ﻣﻦ اﻟﺬﱠ ﱠرات ﻣﻤﱠ ﺎ ﻳﺪﻓﻊ اﻟﺴﺤﺎﺑﺔ ﻓﻤﺜﻼ ﻗﺎل إن اﻟﺮﻋﺪ ﻳﺤﺪث ﻧﺘﻴﺠﺔ ﺗﻮﻟﻴﻔﺔ ﻏري اﻟﺘﻲ ﺗﺤﻤﻠﻬﺎ ﻟﻸﺳﻔﻞ. ﻟﻘﺪ أﺧﺬ دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﻛﻞ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺎﺳﺒﻪ وﻋَ ﱠﺪ َل ﻓﻴﻬﺎ ﺑﺎﻟﻘﺪر اﻟﻼزم ﻟﻴﺘﺴﻨﱠﻰ ﻟﻪ إدﺧﺎل اﻟﺬرات ﰲ اﻟﺼﻮرة؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﺈن أﻗﻮى ﻣﺎ ﺗﺘﻤﻴﺰ ﺑﻪ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﻔﻴﺰﻳﺎﺋﻴﺔ ﻟﻠﺬرﻳني ﻫﻮ ﻓﻜﺮة اﻟﺬرات ﰲ ﺣَ ﱢﺪ ذاﺗﻬﺎ وإﴏارﻫﻢ ﻋﲆ ﺗﻔﺴري اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺑﺄﴎﻫﺎ ،ﺑﻞ وإدراك اﻹﻧﺴﺎن ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ ﻋﲆ أ ُ ُﺳ ٍﺲ اﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﺑﺤﺘﺔ .وﺑﺈﴏار دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﻋﲆ أن ﺣﺠﻢ اﻟﺬرات ﻳﺠﺐ ﺗﻨﺎوُﻟﻪ ﰲ اﻟﺘﻔﺴريات اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ ﻧﺠﺢ ﰲ اﻟﺬﻫﺎب إﱃ ﻣﺎ وﺷﻜﻠﻬﺎ وﺗﺮﺗﻴﺒﻬﺎ ﻫﻮ ﻛﻞ ﻣﺎ ِ ﻫﻮ أﻋﻤﻖ وأﺑﻌﺪ ﻣﻤﱠ ﺎ وﺻﻞ إﻟﻴﻪ إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ وأﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس ،ﺣﺘﻰ إن ﻟﻢ ﻳﺤﻘﻖ ﻧﺠﺎﺣً ﺎ ﱡ ً ﺑﺎﻟﺘﻮﻗﻒ ﻋﻦ اﻟﺘﻌﻤﻖ ﰲ ﻧﻈﺮﻳﺎﺗﻬﻤﺎ ﺣﺎل ﻫﺎﺋﻼ .ﻟﻘﺪ رﴈ إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ وأﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس ﱡ اﻟﺘﻮﺻﻞ ﻟﺘﻔﺴري اﻟﺴﻤﺎت أو اﻷﺷﻴﺎء املﻌﺘﺎدة ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ أو ﺑﺄﺧﺮى )ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ »ﻋﻨﺎﴏ« اﻟﱰاب واﻟﻬﻮاء واﻟﻨﺎر واملﺎء ﻟﺪى إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ،وﻃﺮﻳﻘﺔ اﻟﻜﻤﻴﺎت اﻟﻀﺌﻴﻠﺔ ﻣﻦ ﻛﻞ املﻮاد اﻟﻌﺎدﻳﺔ ﻟﺪى أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس(. وﻟﻜﻦ ﻣﻦ أﻳﻦ أﺗﺖ ﻓﻜﺮة اﻟﺬﱠ ﱠرات؟ وﻣﺎ دﻟﻴﻞ دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻗﺎﻟﻪ ﻋﻦ أﺷﻜﺎﻟﻬﺎ ﰲ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺤﻠﻮة أو املﺎﻟﺤﺔ ً ﻣﺜﻼ؟ ﻟﻴﺲ ﺛَﻤﱠ َﺔ ﻣﺎ ﻳﺸري إﱃ إﺟﺮاﺋﻪ ﺗﺠﺎرب ﻋﲆ ﺗﻠﻚ اﻷﻓﻜﺎر أو ﻓﺤﺼﻬﺎ .ورﺑﻤﺎ اﺳﱰﻋﺖ ﻓﻜﺮة اﻟﺠﺰﻳﺌﺎت اﻟﺪﻗﻴﻘﺔ اﻧﺘﺒﺎه دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ أﺛﻨﺎء ﺗﺄﻣﱡ ﻠﻪ ﻟﻠﻐﺒﺎر اﻟﻄﺎﺋﺮ؛ ﻓﻘﺪ ﻗﺎرن اﻟﺬرات ذات ﻣﺮة ﺑ »ذﻟﻚ اﻟﻬﺒﺎء اﻟﺬي ﻧﺮاه ﻣﺤ ﱢﻠ ًﻘﺎ ﰲ اﻟﻬﻮاء ﰲ أﺷﻌﺔ ً ﻣﻘﺒﻮﻻ ﻟﺪى أﺻﺤﺎب املﻨﻄﻖ اﻟﺸﻤﺲ ﻋﱪ اﻟﻨﺎﻓﺬة «.أﻣﺎ ﻋﻦ أﺷﻜﺎل اﻟﺬرات ﻓﻴﺒﺪو ﺗﻔﺴريه اﻟﺴﻠﻴﻢ ﻏري املﺘﻌ ﱢﻠﻤني إذا ﻣﺎ ﺗﺪﺑﺮوه ﺑﺤﺪﺳﻬﻢ .وﺑﻌﺪ ﻣﺮور أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ٢٠٠٠ﻋﺎم وﰲ أواﺧﺮ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ ﻛﺘﺐ أﺣﺪ اﻟﻜﻴﻤﻴﺎﺋﻴني اﻟﻔﺮﻧﺴﻴني ﰲ أﺣﺪ اﻟﻜﺘﺐ اﻟﺪراﺳﻴﺔ ً ﻗﺎﺋﻼ: إن أﻓﻀﻞ وﺳﻴﻠﺔ ﻟﺘﻔﺴري اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺨﻔﻴﺔ ﻟﻸﺷﻴﺎء ﻫﻲ أن ﻧ َ ِﺼ َ ﻒ أﺟﺰاءﻫﺎ ﺑﺄﺷﻜﺎل ﺗﺘﻤﺎﳽ ﻣﻊ ﻛﻞ ﺗﺄﺛرياﺗﻬﺎ ،ﻓﻼ أﺣﺪ ﻳﻨﻜﺮ أن ﺣﻤﻮﺿﺔ اﻟﺴﻮاﺋﻞ ﺗﺘﻤﺜﱠﻞ ﰲ ﺟﺰﻳﺌﺎت ﻣﺪﺑﺒﺔ ،وﻛﻞ اﻟﺘﺠﺎرب ﺗﺆﻛﺪ ذﻟﻚ ،ﻓﺤﺎملﺎ ﺗﺘﺬوﱠﻗﻬﺎ ﺗﺸﻌﺮ ﺑﻮﺧﺰ ﰲ ﻟﺴﺎﻧﻚ ﻛﺬﻟﻚ اﻟﺬي ﺗﺴﺒﱢﺒﻪ ﺑﻌﺾ املﻮاد ﺣني ﺗُ َﻘ ﱠ ﻄﻊ إﱃ أﺳﻨﺎن دﻗﻴﻘﺔ. ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﺪى ذﻟﻚ اﻟﻜﻴﻤﻴﺎﺋﻲ أي دﻟﻴﻞ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻗﺎل أﻛﺜﺮ ﻣﻤﱠ ﺎ ﻛﺎن ﻟﺪى دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ، ﻛﻞ ﻣﺎ ﰲ اﻷﻣﺮ أن ﻫﺬا ﻫﻮ ﻣﺎ ﺑﺪا ﻟﻪ أﻧﻪ اﻟﺘﻔﺴري اﻟﺼﺤﻴﺢ. وﻳﺒﺪو أن اﻟﺴﺒﺐ اﻟﺮﺋﻴﺲ اﻟﺬي ﻗﺎد ﻟﻴﻮﻛﻴﺒﻮس ودﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﻟﻠﺬﱠ ﱠرة ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ً دﻟﻴﻼ أو ﺑﺮﻫﺎﻧًﺎ وإﻧﻤﺎ ﻣﻔﺎرﻗﺎت زﻳﻨﻮن ﺑﺎﻷﺳﺎس؛ ﻓﻘﺪ ﺗﻮﺻﻼ إﱃ اﺳﺘﻨﺘﺎج أن املﺸﻜﻠﺔ ﰲ ﻣﻔﺎرﻗﺎت 126
ﻣﻦ ﻳﻀﺤﻚ أﺧريًا :دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ
زﻳﻨﻮن أو ﰲ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﻫﻲ أﻧﻪ اﻓﱰض أن اﻷﺷﻴﺎء املﺎدﻳﺔ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻘﺴﻴﻤﻬﺎ إﱃ ﻣﺎ ﻻ ﻧﻬﺎﻳﺔ .ﻟﻘﺪ اﻓﱰض زﻳﻨﻮن ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ أﻧﻪ إذا ﻛﺎﻧﺖ املﻮاد املﻌﺘﺎدة ﻣﻮﺟﻮدة ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻘﺴﻴﻤﻬﺎ إﱃ ﻣﺎ ﻻ ﻧﻬﺎﻳﺔ ،ﺛﻢ ﻗﺎل إن ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﻗﺪ أدﱠت ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ إﱃ ﻧﺘﺎﺋﺞ ﻋﺒﺜﻴﺔ ،وﻫﺬا أﺣﺪ أﺳﺒﺎب إﻧﻜﺎره ﻟﻌﺎﻟﻢ املﻨﻄﻖ اﻟﺴﻠﻴﻢ .أﻣﺎ ﻟﻴﻮﻛﻴﺒﻮس ودﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﻓﻘﺪ اﻋﺘﻘﺪَا أن إﻣﻜﺎﻧﻴﺔ ﺗﻘﺴﻴﻢ اﻷﺷﻴﺎء إﱃ ﻣﺎ ﻻ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻗﺪ ﺗﻜﻮن ﻫﻲ ﻧﻘﻄﺔ اﻟﻀﻌﻒ ﰲ املﻔﺎرﻗﺎت ،ﻓﺰﻳﻨﻮن ﻟﻢ ﻳﻘﺪم أي دﻟﻴﻞ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻋﲆ أﻳﱠﺔ ﺣﺎل ﺑﻞ اﻓﱰﺿﻬﺎ ﻓﻘﻂ؛ وﻣﻦ ﻫﻨﺎ اﻧﻄﻠﻘﺖ ﻛﻞ ﻣﻔﺎرﻗﺎﺗﻪ. وإذا اﻓﱰﺿﻨﺎ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ ذﻟﻚ أن املﺎدة ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻘﺴﻴﻤُﻬﺎ إﱃ ﻣﺎ ﻻ ﻧﻬﺎﻳﺔ؛ أي إن ﻫﻨﺎك ﻣﺎ ﺗﺠﺰﺋﺘﻪ أو ﺗﻘﺴﻴﻤﻪ ،ﻋﻨﺪﻫﺎ ﺳﻴﺘﻮﻗﻒ ﻣﺴﺎر ﻳﻤﺜﱢﻞ أﺻﻐﺮ ﻣﻘﻴﺎس ﻟﻠﻤﺎدة واﻟﺬي ﻳﺴﺘﺤﻴﻞ ِ ﻓﻜﺮ زﻳﻨﻮن ،أو ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﻫﺬا ﻣﺎ اﻋﺘﻘﺪه دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ وﻟﻴﻮﻛﻴﺒﻮس ،وﺑﻨﺎء ﻋﲆ ذﻟﻚ َ ﻃ َﺮﺣَ ﺎ اﻟﺬرة ﻋﲆ أﻧﻬﺎ أﺻﻐﺮ ﻣﻘﻴﺎس ﻟﻠﻤﺎدة. وﻫﻜﺬا ﺑﻌﺪ أن ﻓﻨﱠﺪ اﻟﺬرﻳﻮن ﻧﻈﺮﻳﺔ زﻳﻨﻮن ﺟﺎء اﻟﺪور ﻋﲆ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس .ﻛﺎن أﺣﺪ اﻋﱰاﺿﺎت ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻋﲆ ﻓﻜﺮة اﻟﺤﺮﻛﺔ ﻫﻮ أﻧﻬﺎ ﺗﺤﺘﺎج إﱃ ﻣﺴﺎﺣﺔ ﺧﺎﻟﻴﺔ ،وإﻻ ﻓﻠﻦ ﻳﻜﻮن ﻫﻨﺎك ﻣﺘﱠﺴﻊ ﻳﺘﺤﺮك ﻓﻴﻪ أي ﳾء .وﺑﻤﺎ أن املﺴﺎﺣﺔ اﻟﺨﺎﻟﻴﺔ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ »ﻻ ﳾء« ﻳﺮى ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس أﻧﻬﺎ ﻣﺴﺘﺤﻴﻠﺔ اﻟﻮﺟﻮد ،وإذا ﻛﺎﻧﺖ املﺴﺎﺣﺔ اﻟﺨﺎﻟﻴﺔ ﻣﺴﺘﺤﻴﻠﺔ ﻓﺎﻟﺤﺮﻛﺔ ﱢ ﻳﻮﺿﺤﻮا وﺟﻪ ﻣﺴﺘﺤﻴﻠﺔ ﻛﺬﻟﻚ .وﻗﺪ اﺧﺘﻠﻒ اﻟﺬرﻳﻮن ﻣﻊ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﰲ اﻟﺮأي دون أن اﻋﱰاﺿﻬﻢ ﻋﲆ دﺣﻀﻪ ﻟﻠﻤﺴﺎﺣﺔ اﻟﺨﺎﻟﻴﺔ ،ﻓﻘﺎﻟﻮا إﻧﻪ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻮﺟﺪ ﻣﺎ ﻳﺴﻤﻰ ﺑ »اﻟﻔﺮاغ«، ً وﺣﺎل إﻳﺠﺎد ذﻟﻚ اﻟﻔﺮاغ ﺗُﻬ َﺮع إﻟﻴﻪ اﻟﺬﱠ ﱠر ُ إﺟﻤﺎﻻ .ﻓﺈذا ات املﺘﺤﺮﻛﺔ .ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه ﻫﻲ ﺣﺠﺠﻬﻢ ﻗﺒﻠﻨﺎ ﺑﻮﺟﻮد اﻟﻔﻀﺎء ﻓﻼ ﺑُ ﱠﺪ أن ﻧﻘﺒﻞ ﻓﻜﺮة وﺟﻮد أﺷﻴﺎء ﻛﺜرية وﻟﻴﺲ اﻟﻜﻴﻨﻮﻧﺔ اﻟﻮاﺣﺪة ﻓﻘﻂ ﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل ﻟﺪى ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس؛ ذﻟﻚ أن ﺛَﻤﱠ َﺔ ﻣﺴﺎﺣﺔ ﺧﺎﻟﻴﺔ ﺗﻮﺟﺪ ﺑني اﻷﺷﻴﺎء املﺨﺘﻠﻔﺔ وﺗﻔﺼﻠﻬﺎ ﻋﻦ ﺑﻌﻀﻬﺎ ،وﻟﻜﻦ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ﻣﺴﺎﺣﺔ ﺧﺎﻟﻴﺔ داﺧﻞ اﻟﺬرات ﻧﻔﺴﻬﺎ؛ ذﻟﻚ أﻧﻪ ﻟﻮ و ُِﺟﺪ ْ َت ﻣﺜﻞ ﺗﻠﻚ املﺴﺎﺣﺔ ملﺎ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺬﱠ ﱠرات ُ ﺻ ْﻠﺒ ًَﺔ وﻟﺼﺎر ﻣﻤﻜﻨًﺎ ﺗﻘﺴﻴﻤُﻬﺎ إﱃ أﺟﺰاء أﺻﻐﺮ ﺗﻨﻔﺮد ﺑﻌﻜﺲ ذﻟﻚ .وﺑﻤﺎ أن ﻫﺬه اﻟﺬﱠ ﱠرات ﻻ ﺗﺘﻜﻮن ﻣﻦ أﺟﺰاء ﻓﻬﻲ ﰲ ﺣني أﻧﻬﺎ اﺻﻄﻼﺣً ﺎ ِ ﻟﻴﺴﺖ ﻋﺮﺿﺔ ﻟﻠﺘﻐري أو اﻟﺘﺤﻠﻞ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﻬﻲ ﺧﺎﻟﺪة. وﻫﻜﺬا ﺑﺈزاﻟﺔ ﻫﺬا اﻟﱰس ﻣﻦ ﻋﺠﻠﺔ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس )أي دﺣﺾ زﻋﻤﻪ اﺳﺘﺤﺎﻟﺔ وﺟﻮد املﺴﺎﺣﺔ اﻟﺨﺎﻟﻴﺔ( ﺣَ ﱠﻮ َل اﻟﺬرﻳﻮن ﻫﺬه اﻟﻌﺠﻠﺔ ﻟﺨﺪﻣﺔ أﻏﺮاﺿﻬﻢ .وﺑﴫف اﻟﻨﻈﺮ ﻋﻦ ﺣﻘﻴﻘﺔ أن اﻟﺬرات ﺗﺘﺤﺮك وأن ﻫﻨﺎك اﻟﻜﺜري ﻣﻨﻬﺎ ،ﺗﺘﺸﺎﺑﻪ اﻟﺬرة ﻟﺪى دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ واﻟﻜﻴﻨﻮﻧﺔ اﻟﻮاﺣﺪة اﻟﻐﺎﻣﻀﺔ ﻟﺪى ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻛﺜريًا؛ ﻓﻜﻼﻫﻤﺎ ﺧﺎﻟﺪ ﻟﻸﺑﺪ وﻻ ﻳﺘﻐري أﺑﺪًا وﻻ ﻳﺘﻜﻮن ﻣﻦ أﺟﺰاء وﻻ ﻳﺤﺘﻮي ﻋﲆ ﻣﺴﺎﺣﺔ ﺧﺎﻟﻴﺔ داﺧﻠﻪ .ﺑﻞ وﰲ اﻟﻮاﻗﻊ ﻳﺒﺪو أن ﻣﻠﻴﺴﻮس ،وﻫﻮ 127
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
أﺣﺪ أﺗﺒﺎع ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ،ﻗﺪ ﺗﻨﺒﱠﺄ ﻧﺒﻮءة ﻏﺎﻣﻀﺔ ﺑﺎﺣﺘﻤﺎﻟﻴﺔ ﻣﺮور آراء أﺳﺘﺎذه ﺑﻤﺜﻞ ذﻟﻚ اﻟﺘﻄﻮﱡر ،وﻗﺎل ذات ﻣﺮة إﻧﻪ إذا ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك أﺷﻴﺎء ﻛﺜرية ﻓﺴﻴﺘﻀﺢ ﻟﻠﻌﻴﺎن أن ُﻛ ٍّﻼ ﻣﻨﻬﺎ ﻳﺸﺒﻪ اﻟﻜﻴﻨﻮﻧﺔ اﻟﻮاﺣﺪة ﻟﺪى ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس. ﺗﺠﻤﻊ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺬرﻳﺔ ﺑني ﻗﻠﻴﻞ ﻣﻦ ﺳﻤﺎت اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﺔ وﻛﺜري ﻣﻦ ﺧﺼﺎﺋﺺ ﻓﻠﺴﻔﺔ ﻣﺒﻨﻲ ﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﻣﻦ »وﺣﺪات« ﻳُﺰﻋﻢ أﻧﻬﺎ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ،ﻓﻜﻞ ﳾء ﰲ ﻋﺎﻟﻢ ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ﱞ ٍ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﺎ ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ أي ﳾء آﺧﺮ .وﻳﺮى اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﻮن أن ﻫﺬه اﻟﻮﺣﺪات ﺗﺘﻜﻮﱠن ﻣﻦ أرﻗﺎم ،أﻣﺎ ﻟﺪى دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ وﻟﻴﻮﻛﻴﺒﻮس ﻓﻬﻲ أﺟﺴﺎم ﻣﺎدﻳﺔ ُ ﺻﻠﺒﺔ .وﻟﻢ ﻳ َِﺮد ﰲ ﴍوح اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺬﱠ ﱢرﻳﱠﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ذﻛﺮ أﻳﺔ أرﻗﺎم أو ﺣﺘﻰ اﻟﺮﻏﺒﺔ ﰲ ﻗﻴﺎس أﻳﱠﺔ َﻛﻤﱢ ﻴﺎت )ﻟﻜﻦ ﻳ َ ُﻔﱰَض أن دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﻗﺪ ﻛﺘﺐ ﻧﺤﻮ ﻋﴩة ﻛﺘﺐ ﰲ ﻣﻮﺿﻮﻋﺎت ﺣﺴﺎﺑﻴﺔ( ،وﻫﺬا ﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺮﺳﻢ اﻟﺨﻂ اﻟﻔﺎﺻﻞ ﺑني اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺬرﻳﺔ ﻗﺪﻳﻤً ﺎ وﺣﺪﻳﺜًﺎ ،وﻟﻢ ﻳﺰدﻫﺮ ذﻟﻚ املﺬﻫﺐ ﰲ ﺻﻮرة ﻣﴩوع ﻋﻠﻤﻲ ﻧﺎﺿﺞ إﻻ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻃﻮر ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻜﻴﻤﻴﺎء واﻟﻔﻴﺰﻳﺎء ً ﻃﺮﻗﺎ ﻣﻌﻘﺪة ﻟﻘﻴﺎس اﻟﻈﻮاﻫﺮ املﺎدﻳﺔ. ً وﻣﻊ ذﻟﻚ إذا ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﻤﻜﻨﺎ ﰲ زﻣﻦ دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﺗﺤﺪﻳﺪ ﺳﻤﺎت اﻟﺬرات املﺬﻛﻮرة ﰲ ﻧﻈﺮﻳﺘﻪ؛ ﻓﺈﻧﻪ ﻣﻦ اﻷﻫﻤﻴﺔ ﺑﻤﻜﺎن أن ﻧﺬﻛﺮ أن ﻫﺬه اﻟﺬرات ﻳﻤﻜﻦ ﻗﻴﺎﺳﻬﺎ ﺑﺪﻗﺔ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ،وﻫﻲ املﺎدة اﻟﺼﺤﻴﺤﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻋﲆ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت واﻟﻔﻴﺰﻳﺎء ﺗﻨﺎوُﻟﻬﺎ. ﻟﻘﺪ ﺗﺤﺮﻛﺖ اﻟﺬرات وﻛﺎن ﻟﻬﺎ أﺣﺠﺎم وأﻣﺎﻛﻦ وأوزان وأﺷﻜﺎل ﻫﻨﺪﺳﻴﺔ ،وﻛﺎن ﻫﺬا أﻫﻢ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﻋﻨﻬﺎ .وﻣﻦ املﺆ ﱠﻛﺪ أن اﻟﺴﻤﺎت اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻟﻠﺬرات ﻻ ﺗﺘﻀﻤﻦ أﻳٍّﺎ ﻣﻦ اﻟﺴﻤﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺼﺎﺣﺐ ﺣﻮاس اﻹﻧﺴﺎن ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﺨﺼﻮص ﻛﺎﻟﻠﻮن أو اﻟﺮاﺋﺤﺔ أو اﻟﻄﻌﻢ .وﻳﺮى دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ أن أﻟﻮان اﻷﺷﻴﺎء اﻟﻌﺎدﻳﺔ وﻧﻜﻬﺎﺗﻬﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﺻﻔﺎت ﻣﻮﺿﻮﻋﻴﺔ ﻳﺘﺼﻒ ﺑﻬﺎ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺨﺎرﺟﻲ ،وإﻧﻤﺎ ﻳﺒﺪو أﻧﻬﺎ ﺣﺎﻻت ﻟﺠﺴﻢ اﻹﻧﺴﺎن ﺗﻨﺘﺞ ﻋﻦ ﱡ ﺗﺪﻓﻖ اﻟﺬرات إﻟﻴﻪ. وﻟﺬﻟﻚ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﻘﻮل ً ﻣﺜﻼ إن ذرات اﻷﺷﻴﺎء ذات املﺬاق اﻟﺤُ ِﻠﻮ ﻣﺴﺘﺪﻳﺮة وﻛﺒرية ﻓﻬﻮ ﻻ ﻳﻌﻨﻲ أﻧﻬﺎ ﺣﻠﻮة ﰲ ﺣَ ﱢﺪ ذاﺗﻬﺎ وﻟﻜﻦ اﺳﺘﺪارﺗﻬﺎ وﻛﱪ ﺣﺠﻤﻬﺎ ﻳﺴﺒﺒﺎن ﻟﻨﺎ اﻹﺣﺴﺎس ﺑﺎﻟﺤﻼوة. وﻣﺎ دﻓﻌﻪ إﱃ ﻗﻮل ذﻟﻚ ﻫﻮ ﺣﻘﻴﻘﺔ أن اﻷﺣﺎﺳﻴﺲ ﺗﺨﺘﻠﻒ ﻣﻦ ﺷﺨﺺ ﻵﺧﺮ ،ﺣﺘﻰ وﻟﻮ ﻟﻢ ﻳﺨﺘﻠﻒ اﻟﴚء ا ُملﺪ َرك .وﻳﻘﻮل أرﺳﻄﻮ» :إن اﻟﴚء ﻧﻔﺴﻪ ﻳﺒﺪو ﺣﻠﻮًا ﻟﺪى اﻟﺒﻌﺾ وﻣ ٍّﺮا ﻟﺪى اﻟﺒﻌﺾ اﻵﺧﺮ ،ﺑﻞ ﻻ ﻳﺸﻌﺮ اﻟﻔﺮد ﺑﺎﻟﴚء ﺑﺎﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻃﻮال اﻟﻮﻗﺖ «.وﻳﺼﻴﻎ دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ذﻟﻚ ً ﻗﺎﺋﻼ» :ﺟﺮى اﻟﻌﺮف ﺑﺄن ﻳُﻌَ ﱠﺪ اﻟﴚء ﺣﻠﻮًا أو ﻣ ٍّﺮا أو ﺳﺎﺧﻨًﺎ أو ﺑﺎردًا أو ﺑﻠﻮن ﻣﻌني ،وﻟﻜﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ أن ﻫﺬا اﻟﴚء ﻟﻴﺲ إﻻ ذرات وﻓﻀﺎء«. ﱡ ﺣﻮاﺳﻨﺎ ﻋﻦ اﻟﺤﺮارة أو اﻟﻄﻌﻢ أو ﺑﻌﺒﺎرة أﺧﺮى ،ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ اﻟﻘﻮل إن ﻣﺎ ﺗﺨﱪﻧﺎ ﺑﻪ اﻟﻠﻮن أو ﻏري ذﻟﻚ ﻛﻠﻪ ﻣﺴﺎﺋﻞ ذاﺗﻴﺔ ﺑﺤﺘﺔ ،وﻗﺪ ﺟﺮى اﻟﻌُ ﺮف ﻋﲆ أﻧﻨﺎ ﻧﻨﺴﺐ ﺗﻠﻚ اﻟﺼﻔﺎت 128
ﻣﻦ ﻳﻀﺤﻚ أﺧريًا :دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ
ﻟﻸﺷﻴﺎء املﺎدﻳﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ وﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﻧﺘﻔﻖ ﺣﻮل اﻟﺼﻔﺎت املﻮﺟﻮدة ﰲ ﻫﺬه اﻷﺷﻴﺎء .واﻟﺤﻘﻴﻘﺔ أﻧﻪ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻷﺷﻴﺎء ﺳﻮى ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﻣﻦ اﻟﺬرات ﺗﺴﺒﺢ ﰲ اﻟﻔﻀﺎء ﺑﺄﺣﺠﺎﻣﻬﺎ وأوزاﻧﻬﺎ وﻣﺎ إﱃ ذﻟﻚ .وﻫﺬا ﻳُﺬَ ﱢﻛ ُﺮﻧَﺎ ﺑﺒﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻣﺮة أﺧﺮى؛ إذ ﻗﺎل إن اﻷﻟﻮان وﻏريﻫﺎ ﱢ ﺣﻮاﺳﻬﻢ ﻟﻴﺴﺖ إﻻ »أﺳﻤﺎء«. ﻣﻦ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ ﻳﺆﻣﻦ ﺑﻬﺎ اﻟﻨﺎس ﻷﻧﻬﻢ ﺑﺴﺬاﺟﺔ ﻳﺜﻘﻮن ﰲ وﻗﺪ اﺗﻔﻖ دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﻣﻊ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﰲ ﻋﺪم اﻟﺜﻘﺔ ﰲ اﻟﺤﻮاس ،إﻻ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﺘﺒﻌﻪ إﱃ ﺣَ ﱢﺪ اﻟﺘﻐﺎﴈ ﻋﻨﻬﺎ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ .وﻗﺪ ﻣﻴﱠﺰ دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﺑني املﻌﺮﻓﺔ املﻜﺘَ َﺴﺒﺔ ﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﻔﻜﺮ )أو اﻟﻌﻘﻞ( واملﻌﺮﻓﺔ املﻜﺘﺴﺒﺔ ﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﺤﻮاس ﻓﻘﺎل: وﻳﻘﺮ ﴏاﺣﺔ ﺑﺄن »ﻟﻠﻤﻌﺮﻓﺔ ﻫﻴﺌﺘني :اﻟﻬﻴﺌﺔ اﻷﺻﻠﻴﺔ واﻟﻬﻴﺌﺔ اﻟﺰاﺋﻔﺔ .أﻣﺎ اﻟﻬﻴﺌﺔ اﻟﺰاﺋﻔﺔ ﻓﻬﻲ اﻟﺘﻲ ﻳﻨﺘﻤﻲ إﻟﻴﻬﺎ ﻛ ﱞﻞ ﻣﻦ اﻟﺒﴫ واﻟﺴﻤﻊ واﻟﺸﻢ واﻟﺘﺬوق واﻟﻠﻤﺲ، وأﻣﺎ اﻟﻬﻴﺌﺔ اﻷﺧﺮى ﻓﻬﻲ أﺻﻠﻴﺔ وﻣﺘﻤﺎﻳﺰة ﻋﻦ اﻟﻬﻴﺌﺔ اﻟﺰاﺋﻔﺔ «.ﺛﻢ اﺳﺘﻄﺮد ً ﻗﺎﺋﻼ» :وﻣﺘﻰ ﻋﺠﺰت املﻌﺮﻓﺔ اﻟﺰاﺋﻔﺔ ﻋﻦ رؤﻳﺔ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺻﻐري ﺟﺪٍّا أو ﺳﻤﺎﻋﻪ أو ﺷﻤﻪ أو ﺗﺬوﻗﻪ أو إدراﻛﻪ ﺑﻠﻤﺴﻪ ،ﻳﻀﻄﺮ املﺮء ﻟﻠﺠﻮء إﱃ أداة أﺧﺮى أﻛﺜﺮ دﻗﺔ «.وﻟﺬﻟﻚ ﻓﺎﻟﻌﻘﻞ ﻫﻮ املﻌﻴﺎر )اﻟﺬي ﻧﻤﻴﺰ ﺑﻪ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻣﻦ اﻟﺰﻳﻒ(. ﻳﺮى اﻟﺬرﻳﻮن أﻧﻪ ﻳﻤﻜﻦ اﻻﻋﺘﻤﺎد ﻋﲆ اﻟﺤﻮاس »اﻟﺰاﺋﻔﺔ« ﻟﻠﺘﺄﻛﺪ ﻣﻦ وﺟﻮد ﻋﺎﻟﻢ ﻣﻦ اﻷﺷﻴﺎء املﻌﺘﺎدة املﺘﺤﺮﻛﺔ ،وﻗﺪ أﺧﻄﺄ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﺑﺈﻧﻜﺎره ﻟﻬﺬا اﻟﻌﺎﻟﻢ ،إﻻ أن اﻟﻌﻘﻞ وﺣﺪه ﻳﻤﺘﻠﻚ ﻣﻦ اﻟﺜﻘﺔ واﻟﻘﻮة ﻣﺎ ﻳُﻤَ ﱢﻜﻨ ُ ُﻪ ﻣﻦ ﻛﺸﻒ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ اﻷﻋﻤﻖ ﻋﻦ اﻷﺷﻴﺎء أﻻ وﻫﻲ أﻧﻬﺎ ﰲ أﺻﻠﻬﺎ ﺗﺘﻜﻮن ﻣﻦ ذرات ﻣﻌﺪوﻣﺔ اﻷﻟﻮان .وﻗﺪ ﺗﻮﺻﻞ اﻟﻌﻘﻞ إﱃ ﻫﺬه اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺑﺎﻟﺘﻔﻜﺮ ﰲ اﻟﺤﺠﺞ اﻟﺘﻲ ﺳﺎﻗﻬﺎ اﻵﺧﺮون ﻣﺜﻞ زﻳﻨﻮن وﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس وﺗﻘﻴﻴﻤﻬﺎ واﻟﺒﻨﺎء ﻋﻠﻴﻬﺎ. وﺗﺘﺸﺎﺑﻪ اﻟﺼﻮرة اﻟﺘﻲ ﻧﺘﺠﺖ ﻋﻦ ﻛﻞ ذﻟﻚ ﻣﻊ اﻟﺼﻮرة اﻟﺘﻲ رﺳﻤﻬﺎ ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ ﺗﺸﺎﺑﻬً ﺎ ً ﻣﺬﻫﻼ ،ﻓﻴﻘﻮل ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ ﰲ ﻓﻘﺮة ﻳُﺴﺘَﺸﻬَ ﺪ ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﺑﺎﻟﺼﻮرة اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺮﺳﻤﻬﺎ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ واﻟﺘﻲ ﻳُﻔﱰض أﻧﻬﺎ ﺻﻮرة ﺟﺪﻳﺪة: ﻛﻠﻤﺎ أدرﻛﺖ أي ﳾء … أو أﻳﺔ ﻣﺎدة ،ﺷﻌﺮت ﰲ اﻟﺤﺎل ﺑﺎﻟﺤﺎﺟﺔ ﻟﻠﺘﻔ ﱡﻜﺮ ﻓﻴﻬﺎ … ﺑﺄي ﺷﻜﻞ ﻣﻦ اﻷﺷﻜﺎل ﻫﻲ؟ وﻫﻞ ﻫﻲ ﻛﺒرية أم ﺻﻐرية؟ وﰲ أي ﻣﻜﺎن ﺗﻮﺟﺪ وﰲ أي وﻗﺖ؟ وﻫﻞ ﻫﻲ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﺣﺮﻛﺔ أم ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﺳﻜﻮن؟ وﻫﻞ ﺗﺘﻼﻣﺲ ﻣﻊ أي ﺟﺴﺪ آﺧﺮ أم ﻻ؟ وﻫﻞ ﺗﺘﻜﻮن ﻣﻦ رﻗﻢ واﺣﺪ أم ﻣﻦ أرﻗﺎم ﻗﻠﻴﻠﺔ أم ﻛﺜرية؟ … ﻟﻜﻦ ذﻫﻨﻲ ﻻ ﻳﺸﻌﺮ ﺑﴬورة إدراج ﻣﺼﺎﺣﺒﺎت أﺧﺮى ﻛﺄن ﻳﻜﻮن ﻟﻮﻧﻬﺎ أﺑﻴﺾ أو أﺣﻤﺮ وﻃﻌﻤﻬﺎ ﺣﻠﻮًا أو ُﻣ ٍّﺮا وﺻﻮﺗﻬﺎ ﻣﺰﻋﺠً ﺎ أو ﺻﺎﻣﺘًﺎ وراﺋﺤﺘﻬﺎ 129
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
زﻛﻴﺔ أو ﱢ ً ﻣﻨﻔﺮة .ﻳﺤﺘﺎج اﻟﻌﻘﻞ أو اﻟﺨﻴﺎل ﻹرﺷﺎد ﻣﻦ اﻟﺤﻮاس وإﻻ ﻓﻐﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﺳﻴﻌﺠﺰ ﺑﺪوﻧﻬﺎ ﻋﻦ اﻟﺘﻮﺻﻞ ملﺜﻞ ﺗﻠﻚ اﻟﺼﻔﺎت .وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ أﻇﻦ أن املﺬاﻗﺎت واﻟﺮواﺋﺢ واﻷﻟﻮان وﻏريﻫﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﺳﻮى أﺳﻤﺎء ﻋﻨﺪ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ ﻧﻨﺴﺒﻬﺎ إﻟﻴﻬﺎ ،وأﻧﻬﺎ ﻻ ﺗﻘﺒﻊ إﻻ ﰲ إدراﻛﻨﺎ ،ﻓﺈذا أﺑﻌﺪﻧﺎ اﻟﻜﺎﺋﻦ اﻟﺤﻲ زاﻟﺖ ﻛﻞ ﺗﻠﻚ اﻟﺼﻔﺎت َ وﻓ ِﻨﻴ َْﺖ. ﻛﺎن دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﺳﻴﻮاﻓﻖ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻋﲆ ﻛﻞ ﻫﺬا )ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳَﻤِ ﻞ إﱃ اﻋﺘﺒﺎره ﴎﻗﺔ أدﺑﻴﺔ(. وأﺧريًا ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ آن اﻷوان ﻟﺘﻠﻚ اﻟﻔﻜﺮة أن ﺗﺮى اﻟﻨﻮر إذ ﻗﺎم روﺑﺮت ﺑﻮﻳﻞ ) — (١٦٩١–١٦٢٧وﻫﻮ أﺣﺪ ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء واﻟﻜﻴﻤﻴﺎء اﻷﻳﺮﻟﻨﺪﻳني اﻟﺬﻳﻦ ﺗﺒﻨﱠﻮْا ﻓﻜﺮ »اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺬرﻳﺔ ﺑﻌﺪ أن أﺻﻠﺤﻬﺎ وﻃﻬﺮﻫﺎ ﻣﻦ أوﻫﺎم ﻣﺨﱰﻋﻴﻬﺎ اﻷواﺋﻞ وﺷﻄﻄﻬﻢ« — ﺑﻮﺻﻒ املﺎدة ﻣﻦ ﺧﻼل ﻣﺎ ﺳﻤﺎه ﺑﺎﻟﺼﻔﺎت »اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ« و»اﻟﺜﺎﻧﻮﻳﺔ« ﻟﻸﺷﻴﺎء .أﻣﺎ اﻟﺼﻔﺎت اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻓﻬﻲ اﻟﺤﺠﻢ واﻟﺸﻜﻞ واﻟﱰﺗﻴﺐ واﻟﻘﻮام واﻟﺼﻼﺑﺔ وﺣﺮﻛﺔ اﻟﺠﺰﻳﺌﺎت؛ ﻓﻬﺬه ﻫﻲ اﻟﺼﻔﺎت اﻟﺘﻲ ﻳﺤﺘﺎﺟﻬﺎ اﻟﻌﺎﻟِﻢ ﻟﻴﻔﴪ أﻳﺔ ﻇﺎﻫﺮة ﻣﻦ ﻇﻮاﻫﺮ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ .وﻟﺬﻟﻚ ﺣﺎول ﺑﻮﻳﻞ أن ﱢ ﻳﻔﴪ اﻟﺤﺮارة واﻻﻟﺘﺤﺎم واﻟﺴﻴﻮﻟﺔ واﻟﺼﻼﺑﺔ واﻟﻠﻮن وﻏري ذﻟﻚ ﻣﻦ اﻟﺼﻔﺎت ﰲ إﻃﺎر اﻟﺼﻔﺎت اﻷوﻟﻴﺔ ﻟﺪﻳﻪ ،وﺣﻘﻖ ﰲ ذﻟﻚ ﻧﺠﺎﺣً ﺎ ﻛﺒريًا ﻓﺎق ﻣﺎ ﺣﻘﻘﻪ دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ .ﺛﻢ ﻃﻮﱠر اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف ﺟﻮن ﻟﻮك ) (١٧٠٤–١٦٣٢ﻋﲆ ﻫﺬا اﻷﺳﺎس ﻧﻈﺮﻳﺔ ﻣﻔﺼﻠﺔ ﺑﻌﻴﺪة اﻷﺛﺮ ﺑ ﱠَني ﻓﻴﻬﺎ ﺧﻤﺲ ﺻﻔﺎت أﺳﺎﺳﻴﺔ وﻫﻲ :اﻟﺤﺠﻢ واﻟﺸﻜﻞ واﻟﻌﺪد واﻟﺼﻼﺑﺔ واﻟﺤﺎﻟﺔ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﻟﺤﺮﻛﺔ أو اﻟﺴﻜﻮن ،وﻗﺎل ﻛﺬﻟﻚ إن اﻟﺼﻔﺎت اﻟﺜﺎﻧﻮﻳﺔ اﻟﺤﺴﻴﺔ ﻣﺜﻞ اﻟﻠﻮن أو اﻟﺮاﺋﺤﺔ »ﻟﻴﺴﺖ ﺑﺼﻔﺎت ﰲ اﻷﺷﻴﺎء ذاﺗﻬﺎ وإﻧﻤﺎ ﻗﻮى ﺗﺨﻠﻖ ﻓﻴﻨﺎ أﺣﺎﺳﻴﺲ ﻣﺘﻨﻮﻋﺔ ﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﺼﻔﺎت اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ «.وﻻ ﺗﺰال اﻟﻌﻠﻮم اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﺗﺤﺘﻔﻆ ﺑﻔﻜﺮة ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﺼﻔﺎت اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ اﻟﻘﺎﺑﻠﺔ ﻟﻠﻘﻴﺎس ﺑﺪﻗﺔ واﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻬﺎ ﺗﻔﺴري ﻛﻞ ﳾء )رﻏﻢ أن ﻗﺎﺋﻤﺔ ﻫﺬه اﻟﺼﻔﺎت اﻟﻴﻮم ﺗﺨﺘﻠﻒ ﻋﻦ ﻗﺎﺋﻤﺘﻲ ﺑﻮﻳﻞ وﻟﻮك( .أﻣﺎ ﻣﻊ ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ ﻓﻼ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﺘﺄﻛﺪ ﺑﴪﻋﺔ ﻣﻦ أن اﻟﺼﻔﺎت اﻟﺤﺴﻴﺔ ﻛﺎﻷﻟﻮان »ﻣﺤﺾ أﺳﻤﺎء« ﺗﻨﻌﺪم ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﻏﻴﺎب ﻣﻦ ﻳﺪرﻛﻬﺎ .وﻻ ﻳﺰال ً اﻟﻨﺎس ﻣﺨﺘﻠﻔني ﺣﻮل إذا ﻣﺎ ﻛﺎن ذﻟﻚ ً ﻣﻀﻠﻼ. ﻗﻮﻻ ﺛﻤﺔ ﳾء واﺣﺪ اﺧﺘﻠﻒ ﻓﻴﻪ ﻋﻠﻤﺎء ﻋﴫﻧﺎ ﻣﻊ دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ — ﻛﻤﺎ اﺧﺘﻠﻒ ﻓﻴﻪ ﻣﻌﻪ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ وﺑﻮﻳﻞ وﻟﻮك — وﻫﻮ أن اﻟﺤﻮاس »اﻟﺰاﺋﻔﺔ« ﻻ ﺗﻠﻌﺐ دو ًرا ﺣﻘﻴﻘﻴٍّﺎ ﰲ اﻟﺘﻌ ﱡﺮف ﻋﲆ اﻟﻌﺎﻟﻢ .ﻓﻌﲆ اﻟﻌﻜﺲ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ،ﺗﺪﺧﻞ اﻟﺤﻮاس ﺑﺪرﺟﺔ ﻛﺒرية أو ﺻﻐرية ﰲ ﺗﺠﻤﻴﻊ اﻷدﻟﺔ واﺧﺘﺒﺎرﻫﺎ ﰲ ﻛﻞ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻟﻔﻴﺰﻳﺎﺋﻴﺔ املﺤﱰﻣﺔ .وﻟﺘﺠﻨﱡﺐ املﺒﺎﻟﻐﺔ ﰲ اﻟﺘﺸﺒﻴﻪ ﺑني أﻓﻜﺎر اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ وأﻓﻜﺎر دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﺣَ ﱢﺮيٌ ﺑﻨﺎ أن ﻧﺬﻛﺮ إﱃ أي 130
ﻣﻦ ﻳﻀﺤﻚ أﺧريًا :دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ
ُ ُ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴﺔ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺬرﻳﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻦ ﻣﻌﺘﻨﻘﻴﻬﺎ اﻟﻘﺪﻣﺎء .إن اﻷدﻟﺔ ﻣﺪى ﺣﻤﻠﺖ اﻟﺬرات اﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻣﻮﺿﻊ دراﺳﺘﻨﺎ ﰲ اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻟﻴﺴﺖ ﻫﻲ ذاﺗﻬﺎ اﻟﺬرات اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺪث ﻋﻨﻬﺎ ﻟﻴﻮﻛﻴﺒﻮس ودﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ رﻏﻢ أﻧﻬﺎ ﻣﻦ ﻧﺴﻠﻬﺎً . أوﻻ اﻟﺬرة اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﻟﻴﺴﺖ ﺧﺎﻟﺪة أو ﻏري ﻗﺎﺑﻠﺔ ﻟﻠﺘﺪﻣري أو ُ ﺻﻠﺒﺔ أو ﻏري ﻗﺎﺑﻠﺔ ﻟﻼﻧﻘﺴﺎم ،ﺑﻞ إﻧﻬﺎ ﺗﺘﻜﻮن ﺑﻔﻌﻞ اﻟﻌﻤﻠﻴﺎت اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ،وﺗﺘﺤﻠﻞ وﺗﺘﻜﻮن ﰲ ﻣﻌﻈﻤﻬﺎ ﻣﻦ ﻣﺴﺎﺣﺔ ﺧﺎﻟﻴﺔ )ﻓﻬﻲ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﺿﺨﻤﺔ ﻣﻦ اﻹﻟﻜﱰوﻧﺎت ﺗﺤﻴﻂ ﺑﻨﻮاة ﺻﻐرية وﻏﻠﻴﻈﺔ( وﻳﻤﻜﻦ »ﺷﻄﺮﻫﺎ« وإﻋﺎدﺗﻬﺎ إﱃ ﻣﻜﻮﻧﺎﺗﻬﺎ .وﻗﺪ ﺧﻠﺖ ﻛﺘﺎﺑﺎت دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﻣﻦ أﻳﺔ إﺷﺎرة ملﻌﻈﻢ أﻫﻢ اﻟﺼﻔﺎت واﻟﻘﻮى املﺴﺘﺨﺪﻣﺔ ﻟﻮﺻﻒ ﺳﻠﻮك اﻟﺬرات؛ ﻓﻬﻮ ً ﻣﺜﻼ ﻟﻢ ﻳﻌﺮف ﺷﻴﺌًﺎ ﻋﻦ اﻟﺸﺤﻨﺎت اﻟﻜﻬﺮﺑﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺘﻨﺎﻗﺾ ﺳﻠﻮﻛﻬﺎ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻣﻊ ﻣﺎ ﱠ ﺗﻮﻗﻌﻪ اﻹﻏﺮﻳﻖ اﻟﻘﺪﻣﺎء ،ﻣﻤﺎ ﻳﺰﻳﺪ اﻷﻣﺮ ﺳﻮءًا؛ ﻓﻔﻲ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﻜﻬﺮوﻣﻐﻨﺎﻃﻴﺴﻴﺔ املﺘﻤﺎﺛﻼن ﻻ ﻳﻨﺠﺬﺑﺎن ﺑﻞ ﻳﺘﻨﺎﻓﺮان. وﻗﺪ ﺗﻄﻮل ﻗﺎﺋﻤﺔ اﻻﺧﺘﻼﻓﺎت ﺑني املﺬﻫﺐ اﻟﻘﺪﻳﻢ واﻟﺤﺪﻳﺚ وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻗﺪ ﺗﺨﺪع ً أﻳﻀﺎ، وﻋﲆ املﺮء إذن أن ﻳﺤﺬر ﻣﻦ اﻻﻧﺨﺪاع ﺑﺎﺧﺘﻼﻓﺎت زاﺋﻔﺔ ﻧﺎﺗﺠﺔ ﻋﻦ ﻣﺼﺎدﻓﺔ ﰲ اﺳﺘﺨﺪام املﺼﻄﻠﺤﺎت .ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ،دأب ﻣﺆرﺧﻮ اﻟﻌﻠﻮم ﻋﲆ اﻹﺷﺎرة إﱃ أن اﻟﺬرة ﻟﺪى ﻟﻴﻮﻛﻴﺒﻮس ودﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﺗﺘﻤﻴﺰ اﺻﻄﻼﺣً ﺎ ﺑﺄﻧﻬﺎ ﻻ ﺗﻘﺒﻞ اﻻﻧﺸﻄﺎر ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﻌﻠﻢ اﻟﺠﻤﻴﻊ اﻵن أن ﻣﺎ ﻧﺴﻤﻴﻪ »ذرة« ﻗﺪ اﻧﺸﻄﺮت وﻟﻢ ﺗﻌُ ﺪ ﺗﻤﺜﻞ اﻟﻌﻨﴫ اﻷﺳﺎﳼ ا ُمل َﻜﻮﱢن ﻟﻠﻤﺎدة، ﻓﻘﺪ أﺻﺒﺢ ﻟﺪﻳﻨﺎ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻨﻬﺎ ﺟﺰﻳﺌﺎت أﺳﺎﺳﻴﺔ أﺻﻐﺮ ﺣﺠﻤً ﺎ ﺗﻨﻘﺴﻢ إﱃ ﻓﺌﺘني :اﻟﻜﻮارك واﻟﻠﺒﺘﻮن ،وﻟﻜﻦ ذﻟﻚ ﻓﻴﻪ ﺿﻼل ﻛﺒري وﻻ ﻳﺜﺒﺖ أن اﻟﻔﻜﺮة اﻟﺮﺋﻴﺴﺔ ﻟﺪى اﻟﺬرﻳني اﻟﻘﺪاﻣﻰ ﺧﺎﻃﺌﺔ .ﻓﻌﻨﺪﻣﺎ اﺗﻀﺢ أن ﻣﺎ ﻧﺴﻤﻴﻪ ﺑ »اﻟﺬرة« ﻟﻴﺲ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻫﻮ املﻜﻮن اﻟﺮﺋﻴﺲ ﻟﻠﻤﻮاد، ﻟﻢ ﻳﻌﻜﺲ ﻫﺬا ﺳﻮى اﺳﺘﻌﺠﺎل ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء ﰲ اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﺑﺘﺴﻤﻴﺔ ﺗﻠﻚ اﻟﺠﺰﻳﺌﺎت ﺑﺎﺳﻢ »اﻟﺬرة« .ﻟﻘﺪ أﻃﻠﻖ ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ اﺳﻢ »اﻟﺬرة« ﻋﲆ اﻟﺠﺰﻳﺌﺎت اﻟﺘﻲ درﺳﻮﻫﺎ ﻷﻧﻬﻢ اﻋﺘﻘﺪوا ﺧﻄﺄ ً )ﻛﻤﺎ اﺗﻀﺢ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ( أن ﺗﻠﻚ اﻟﺠﺰﻳﺌﺎت ﻻ ﺗﻘﺒﻞ اﻻﻧﺸﻄﺎر. وﻻ ﻳﻤﻜﻦ دﺣﺾ ﻧﻈﺮﻳﺔ ﻟﻴﻮﻛﻴﺒﻮس ودﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﻋﻦ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺬرﻳﺔ ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﺜﺒﺖ أﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﺛﻤﺔ ﺟﺴﻴﻤﺎت أﺳﺎﺳﻴﺔ ﻻ ﺗﻘﺒﻞ اﻻﻧﺸﻄﺎر أﻳٍّﺎ ﻛﺎن اﺳﻤﻬﺎ ،وﻫﻮ أﻣﺮ ﻻ ﻳﺰال ﻗﻴﺪ اﻟﺒﺤﺚ .إﻻ أن أﻫﻤﻴﺔ ﻫﺬا اﻷﻣﺮ ﺗﺼري ﻏري ذات ﺻﻠﺔ ﻳﻮﻣً ﺎ ﺑﻌﺪ ﻳﻮم .ﻓﻘﺪ ﻋﻔﻰ اﻟﺰﻣﻦ ﻋﲆ ﻓﻜﺮة اﻟﺠﺴﻴﻢ ﰲ اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ؛ ﻓﻠﻢ ﻳَﻌُ ْﺪ ﻟﻪ ﻣﻜﺎن ﻓﻴﻬﺎ .وﻗﺪ أﺻﺒﺤﺖ اﻟﺠﺴﻴﻤﺎت أﻗﺮب ﺻﻠﺔ ﺑﺎﻟﻘﻮى واملﺠﺎﻻت ،وﰲ ﺑﻌﺾ اﻷﺣﻴﺎن ﻟﻢ ﺗﻌُ ﺪ ﺗﻤﺜﻞ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻣﺤﺾ وﺳﻴﻠﺔ ﻟﻠﺘﻌﺒري. وﻗﺪ ﻗﻴﻞ ﰲ أﺣﺪ اﻟﺘﻔﺴريات املﻌﺎﴏة» :ﺗﻤﺜﻞ اﻟﺠﺴﻴﻤﺎت اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﺑﺄﻧﻮاﻋﻬﺎ املﺨﺘﻠﻔﺔ ﺣُ َﺰﻣً ﺎ ﻣﻦ اﻟﻄﺎﻗﺔ وﻗﻮة داﻓﻌﺔ ﻷﻧﻮاع املﺠﺎﻻت املﺘﻮاﻓﻘﺔ ﻣﻌﻬﺎ«. 131
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
وﺗﺘﻀﺢ اﻟﺤﺪاﺛﺔ ﻏري اﻟﻨﺎﺿﺠﺔ ﻟﺪى ﻟﻴﻮﻛﻴﺒﻮس ودﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﻋﻨﺪ اﻟﻨﻈﺮ ﰲ رؤﻳﺘﻬﻤﺎ ﻟﻠﻜﻮن ﻛﻜﻞ وﻣﻜﺎﻧﺔ اﻹﻧﺴﺎن ﻓﻴﻪ ،وﻟﻴﺲ ﰲ ﺗﻔﺎﺻﻴﻞ ﻣﺎ ﻗﺎﻻه ﻋﻦ اﻟﱰاﻛﻴﺐ اﻟﺪﻗﻴﻘﺔ ﻟﻠﻤﺎدة. ﻟﻘﺪ رأﻳﺎ ﻛﻮﻧًﺎ ﺷﺎﺳﻌً ﺎ ﻣﺘﺠﺮدًا ﻏري ﻣﺤﺪود ﻳﺨﺘﻠﻒ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻋﻦ اﻟﻜﻮن اﻟﺪاﻓﺊ واﻹﻧﺴﺎﻧﻲ اﻟﺬي ﺻﻮره أﻓﻼﻃﻮن وأرﺳﻄﻮ وأورﺛﺎه ﻋﲆ ﻣﺮ اﻟﺴﺒﻌﺔ ﻋﴩ ﻗﺮﻧًﺎ اﻷوﱃ ﻣﻦ اﻟﺤﻘﺒﺔ املﺴﻴﺤﻴﺔ. وﻗﺪ ﻛﺎن ﻋﲆ اﻟﺬرﻳني أن ﻳﻔﴪوا ﻗﻴﺎم اﻟﻨﻈﺎم واﻟﺤﻴﺎة ﻣﻦ اﻟﺬرات اﻟﻔﻮﺿﻮﻳﺔ املﺘﺪاﻓﻌﺔ ﻓﻄﺮﺣﻮا ﺗَ َ ﺼ ﱡﻮ ًرا ﻟﻜﻮن ﻻﻧﻬﺎﺋﻲ ﻳﻘﺒﻞ اﻟﻌﻘﻞ أن ﻳﺘﺼﻮر ﻗﻴﺎم ﻛﻞ أﻧﻮاع اﻟﻌﻮاﻟﻢ ﻓﻴﻪ ﻟﺸﺪة اﺗﺴﺎﻋﻪ ﻓﻘﺎﻟﻮا: ﻫﻨﺎك ﻋﻮاﻟﻢ ﺑﻼ ﺷﻤﺲ وﻻ ﻗﻤﺮ ،وﻫﻨﺎك ﻋﻮاﻟﻢ ﻳ ُ َﻜﱪ اﻟﺸﻤﺲ واﻟﻘﻤﺮ ﻓﻴﻬﺎ ﻋﻦ اﻟﺸﻤﺲ واﻟﻘﻤﺮ ﰲ ﻋﺎملﻨﺎ ،وﻫﻨﺎك ﻣﻦ اﻟﻌﻮاﻟﻢ ﻣﺎ ﻓﻴﻪ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺸﻤﻮس واﻷﻗﻤﺎر .وﺗﺨﺘﻠﻒ اﻟﻔﱰات اﻟﺰﻣﻨﻴﺔ ﺑني ﻛﻞ ﻋﺎﻟﻢ وآﺧﺮ ،ﺣﺘﻰ إن ﻫﻨﺎك أﺟﺰاءً ﺗﺤﻔﻞ ﺑﺎﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﻌﻮاﻟﻢ ،وأﺟﺰاءً ﻻ ﺗﻀﻢ إﻻ اﻟﻘﻠﻴﻞ .وﺑﻌﺾ اﻟﻌﻮاﻟﻢ ﻻ ﺗﺰال ﺗﻨﻤﻮ ،وﺑﻌﻀﻬﺎ ﺑﻠﻎ ذروﺗﻪ ،وﺑﻌﻀﻬﺎ آﺧﺬ ﰲ اﻟﺼﻐﺮ .وﺗُﺪَﻣﱠ ُﺮ ﺗﻠﻚ اﻟﻌﻮاﻟﻢ ﻋﻨﺪ اﺻﻄﺪام ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺑﺒﻌﺾ .وﻫﻨﺎك ﻣﻦ اﻟﻌﻮاﻟﻢ ﻣﺎ ﻻ ﻛﺎﺋﻦ ﺣﻴٍّﺎ ﻓﻴﻪ وﻻ ﻧﺒﺎت وﻻ رﻃﻮﺑﺔ. وﺑﻨﺎءً ﻋﲆ ﻫﺬا ﻣﺎ ﻋﺎملﻨﺎ إﻻ واﺣﺪ ﻣﻦ ﻋﺪة اﺣﺘﻤﺎﻻت أﺗﺖ ﺑﻪ اﻟﻈﺮوف املﻨﺎﺳﺒﺔ ﻟﻘﻴﺎم اﻟﺤﻴﺎة )وﻛﻠﻤﺔ »ﻋﺎﻟﻢ« ﻫﻨﺎ ﺗﻌﻨﻲ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ﻛﻮﻛﺒًﺎ أو ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻛﻮاﻛﺐ(؛ ذﻟﻚ أن اﻟﺬرات ﻛﻤﺎ ﻗﺎل ﻋﻨﻬﺎ ﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس: ﻗﺪ اﻋﺘﺎدت ﻣﻨﺬ اﻷزل وﺣﺘﻰ ﻳﻮﻣﻨﺎ ﻫﺬا اﻟﺤﺮﻛﺔ واﻻﻟﺘﻘﺎء ﺑﺸﺘﻰ اﻟﻄﺮق وﺗﺠﺮﺑﺔ ﻛﻞ اﻟﱰﻛﻴﺒﺎت وأي ﳾء ﻳﻤﻜﻨﻬﺎ ﺻﻨﻌﻪ ﻣﻦ ﺗﺠﻤﱡ ﻌﻬﺎ ﻣﻌً ﺎ؛ وﻟﻬﺬا ﺣﺪث أن ﺗﻠﻚ اﻟﺬرات إﺛﺮ اﻧﺘﺸﺎرﻫﺎ ﺑﺎﻟﺨﺎرج ﻋﲆ ﻣَ ﱢﺮ اﻟﺰﻣﻦ وﻣﺤﺎوﻟﺘﻬﺎ أن ﺗﺘﺠﻤﻊ وﺗﺘﺤﺮك ﺑﺸﺘﻰ اﻟﻄﺮق ﻗﺪ اﻟﺘﻘﺖ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ،وﻫﺬا ﻫﻮ ﻣﺎ ﺻﻨﻊ ﺑﺪاﻳﺎت اﻷﺷﻴﺎء اﻟﻀﺨﻤﺔ ﻛﺎﻷرض واﻟﺒﺤﺮ واﻟﺴﻤﺎء وﺧﺮوج أﺟﻴﺎل ﻣﻦ اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﺤﻴﺔ. ﻗﺎرن ذﻟﻚ ﺑﻜﻠﻤﺎت ذُ ِﻛ َﺮت ﰲ ﻛﺘﺎب ﻋﻠﻤﻲ ﺣﺪﻳﺚ وﻫﻮ »اﻟﺠني اﻷﻧﺎﻧﻲ« ﻟﺮﻳﺘﺸﺎرد دوﻛﻴﻨﺰ اﻟﺬي ﻳﺒﺪؤه ﺑﺈﻗﺮار ﺷﺪﻳﺪ اﻟﺸﺒﻪ ﺑﻤﺎ ﻗﺎﻟﻪ ﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس ﻓﻴﻘﻮل» :ﻻ ﺣﺎﺟﺔ ﻟﻨﺎ ﺑﻌﺪ اﻟﻴﻮم إﱃ اﻟﻠﺠﻮء إﱃ اﻟﺨﺮاﻓﺎت ﻛﻠﻤﺎ واﺟﻬﺘﻨﺎ أﺳﺌﻠﺔ ﻣﻌﻘﺪة ﻣﺜﻞ :ﻫﻞ ﻟﻠﺤﻴﺎة ﻣﻌﻨﻰ؟ وﻣﺎ ﺳﺒﺐ وﺟﻮدﻧﺎ؟« ﺛﻢ ﻳﺼﻒ ﻛﻴﻒ أن اﻟﻌﻠﻮم »ﺗُﺒ ﱢ ُ َني ﻟﻨﺎ ﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺘﺤﻮل اﻟﺒﺴﺎﻃﺔ إﱃ 132
ﻣﻦ ﻳﻀﺤﻚ أﺧريًا :دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ
ِ املﻨﺘﻈﻤﺔ أن ﺗﺘﺠﻤﻊ ﰲ أﻧﻤﺎط أﺷﺪ ﺗﻌﻘﻴﺪًا ﺣﺘﻰ اﻧﺘﻬﻰ ﺗﻌﻘﻴﺪ ،وﻛﻴﻒ أﻣﻜﻦ ﻟﻠﺬرات ﻏري َ ﺑﻬﺎ املﻄﺎف إﱃ ﺗﻜﻮﻳﻦ اﻟﺒﴩ« ،وﻣﻦ ﺛ ﱠﻢ »ﻓﻼ ﺣﺎﺟﺔ ﺑﻨﺎ إﱃ اﻟﺘﻔﻜري ﰲ اﻟﺘﺼﻤﻴﻢ أو اﻟﻐﺎﻳﺔ أو اﻟﺘﻮﺟﱡ ﻪ .وإذا ﻣﺎ اﺳﺘﻘﺮت ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﺬرات … ﰲ ﻧﻤﻂ ﺛﺎﺑﺖ ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺳﺘﻨﺰع إﱃ اﻟﺒﻘﺎء ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﺤﺎل«. وﻫﻜﺬا ﻛﺴﺎ اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻈﺎم دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ وأﺑﻴﻘﻮر وﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس ﻟﺤﻤً ﺎ ،ﻓﻬﻮ ً ﺗﺤﻮﻻ ﻃﺒﻴﻌﻴٍّﺎ ﺑﺪون ﺑﺎرئ؛ ﻳﻘﺪم ﴎﻳﻌً ﺎ ﺗﻔﺎﺻﻴﻞ ﺗﺤﻮﱡل اﻟﻔﻮﴇ اﻟﺬرﻳﺔ إﱃ ﻧﻈﺎم وﺣﻴﺎة ﻣﻤﺎ ﻳﺤﻘﻖ ﻟﻬﻢ آﻣﺎﻟﻬﻢ .وﻗﺪ أﻣﺴﻚ داروﻳﻦ ﺑﺄﻛﱪ ﺧﻴﻂ ﰲ ﻟﻐﺰ اﻟﺤﻴﺎة ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻗﺪﱠم ﺗﻔﺴريه ﻣﻦ ﺧﻼل ﻧﻈﺮﻳﺔ اﻟﺘﻄﻮر واﻻﻧﺘﺨﺎب اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ اﻟﺘﻲ رأﻳﻨﺎ ﻣﺒﺎدﺋﻬﺎ اﻷوﻟﻴﺔ ﰲ ﱡ ﺗﻮﻗﻌﺎت إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ املﺒﻬﻤﺔ .ﻓﻼ ﻋﺠﺐ إذن ﻣﻦ أن رواﻳﺔ اﻟﺬرﻳني ﻋﻦ ﺧﻠﻖ اﻹﻧﺴﺎن ﻻﻗﺖ اﻟﺮﻓﺾ واﻻرﺗﻴﺎب اﻟﻠﺬَﻳْﻦ ﻻﻗﺎﻫﻤﺎ داروﻳﻦ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ؛ ﻓﻘﺪ ﻗﺎل ﻋﻨﻬﻢ أﺣﺪ ﱢ املﺘﺤريﻳﻦ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺮاﺑﻊ ﻋﴩ إﻧﻬﻢ ﻳﻌﺘﻘﺪون أن اﻟﺒﴩ »ﻧﺸﺌﻮا ﻣﻦ اﻷرض املﺴﻴﺤﻴني ﻣﺜﻞ اﻟﺪود ،ﺑﻼ ﺧﺎﻟﻖ وﻻ ﺳﺒﺐ«. ِ ﻳﻜﺘﻒ دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﰲ ﻗﺼﺘﻪ ﺑﻤﺎ ﺳﻤﺎه ﺗﻨﻴﺴﻮن ﰲ ﻗﺼﻴﺪة ﻟﻪ ﻋﻦ ﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس وﻟﻢ »ﺗﻠﻚ اﻟﺒﺪاﻳﺎت اﻟﻌﻤﻴﺎء اﻟﺘﻲ ﺟﻌﻠﺖ ﻣﻨﻲ ً رﺟﻼ« ،ﺑﻞ ﻃﻔﻖ ﻳﻘﺪم ﺗﻔﺴريًا ﻋﻦ ﺗﻄﻮر اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ً ً ﻣﺘﻜﺎﻣﻼ ﻟﻸﺧﻼﻗﻴﺎت .وﻳﻘﻮل ﰲ ذﻟﻚ إن اﻟﺒﴩ وﻧﻈﺮﻳﺔ ﻋﻦ ﺳﻌﺎدة اﻟﺒﴩ وﻧﻈﺎﻣً ﺎ اﻟﺒﴩﻳﺔ اﻷواﺋﻞ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺘﺼﺎرﻋﻮن وﺣﺪﻫﻢ ﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﺒﻘﺎء ﰲ ﻋﺎﻟﻢ ﻋﺪواﻧﻲ ،ﺛﻢ ﺑﺪءوا ﻳﺘﻌﺎوﻧﻮن ﰲ ﻣﻮاﺟﻬﺔ ﻋﺪوﻫﻢ املﺸﱰك ﻣﻦ اﻟﻮﺣﻮش اﻟﻀﺎرﻳﺔ ،ﺛﻢ ﴎﻋﺎن ﻣﺎ ﻫﺬﱠﺑﻮا أﺻﻮات اﻟﺨﻮار اﻟﺘﻲ ﻣﻌﺎن ﻟﺘﻘﺎﺑﻞ أوﺿﺢ اﻷﺻﻮات ﻛﺎﻧﻮا ﻳُﺼﺪِروﻧﻬﺎ وﺑﺪءوا ﻳﺘﻮاﺻﻠﻮن ﻣﻦ ﺧﻼل اﻻﺗﻔﺎق ﻋﲆ ٍ اﻟﺘﻲ ﻳﺼﺪروﻧﻬﺎ .وﺑﻤﺮور اﻟﻮﻗﺖ ﻋ ﱠﻠﻤﺘﻬﻢ اﻟﺘﺠﺎرب ﺗﺤﺴني ﻣﻌﻴﺸﺘﻬﻢ ﻣﻦ ﺧﻼل اﻹﻳﻮاء إﱃ اﻟﻜﻬﻮف وﺗﺨﺰﻳﻦ اﻟﻄﻌﺎم .ﺛﻢ ﺗﻌ ﱠﻠﻤﻮا اﻟﻜﺜري ﺑﻤﺤﺎﻛﺎة اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت اﻷﺧﺮى؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻳﻘﻮل ﻓﻤﺜﻼ ﺗﻌﻠﻢ َ ً اﻟﻐ ْﺰل دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ إن اﻹﻧﺴﺎن ﺗﺘﻠﻤﺬ ﻋﲆ أﻳﺪي اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت ﰲ أﻫﻢ ﺷﺌﻮﻧﻪ، واﻟ ﱠﺮﺗْﻖ أول ﻣﺎ ﺗﻌﻠﻤﻪ ﻣﻦ اﻟﻌﻨﺎﻛﺐ ،وﺣﺎﻛﻰ اﻟﺒﻼﺑﻞ ﰲ ﻏﻨﺎﺋﻬﺎ ،وأﺗﻰ ﺑﺒﻨﺎء اﻟﺒﻴﻮت ﻣﻦ ﻃﺎﺋﺮ اﻟﺴﻨﻮﻧﻮ .إﻻ أن أﻏﲆ ﻣَ َﻠ َﻜ ِ ﺎت اﻹﻧﺴﺎن ﻫﻲ ذﻛﺎؤه اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ اﻟﺬي ﻳُﻤَ ﱢﻜﻨ ُ ُﻪ ﻣﻦ ﺗﻌ ﱡﻠﻢ ﻧﻈﺎم اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺨﱪة .إذن اﺗﻀﺢ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ أن املﻌﺮﻓﺔ »اﻟﺰاﺋﻔﺔ« اﻟﺘﻲ ﺗﻘﺪﻣﻬﺎ ﻟﻨﺎ اﻟﺤﻮاس ﻣﻦ اﻷﻫﻤﻴﺔ ﺑﻤﻜﺎن. ﱡ وﺣﺎملﺎ اﻧﺘﻬﻰ اﻹﻧﺴﺎن ﻣﻦ ﺗﻌﻠﻢ ﻣﺎ ﻳﻜﻔﻴﻪ ﻟﺘﻠﺒﻴﺔ اﺣﺘﻴﺎﺟﺎﺗﻪ اﻟﴬورﻳﺔ ﺑﺎﻧﺘﻈﺎم، اﺳﺘﻄﺎع ﺣﻴﻨﻬﺎ أن ﻳﻠﺘﻔﺖ إﱃ اﻟﻬﻮاﻳﺎت ﰲ َر ِوﻳﱠ ٍﺔ وأوﻟﻬﺎ املﻮﺳﻴﻘﻰ ،ﻛﻤﺎ اﺳﺘﻄﺎع أن ﻳﻜ ﱢﺮس ﻧﻔﺴﻪ ﻟﻠﺒﺤﺚ ﻋﻦ اﻟﺴﻌﺎدة .واﻟﺴﻌﺎدة ﻋﻨﺪ دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﻫﻲ ﻧﺘﺎج اﻻﻋﺘﺪال واﻻﺗﺰان وﻏﻴﺎب 133
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
اﻟﺮﻏﺒﺎت املﺸﺘﱠﺘﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺴﻌﻰ إﱃ ﻣﺎ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺤﺼﻮل ﻋﻠﻴﻪ أو إﱃ ﻣﺎ ﻫﻮ زاﺋﻞ .ﻓﺈذا اﻫﺘﺰ اﻟﻌﻘﻞ أو اﻟ ﱡﺮوح ﺑﻔﻌﻞ ﺗﻠﻚ املﺸﺎﻋﺮ املﺰﻋﺠﺔ ﻓﻘﺪت ذراﺗﻪ ﻧﻈﺎﻣﻬﺎ واﺳﺘﻘﺮارﻫﺎ .وﺗﻌﻜﺲ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة اﻵراء اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ ﻟﻠﻄﺐ اﻹﻏﺮﻳﻘﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮل إن اﻟﺼﺤﺔ اﻟﺠﺴﺪﻳﺔ ﻫﻲ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﺗﻮازن ﰲ ﻋﻨﺎﴏ اﻟﺠﺴﻢ .وﺑﻤﺎ أن اﻟﻌﻘﻞ ﻳﺘﻜﻮن ﻣﻦ ذ ﱠرات ﻣﺎدﻳﺔ ﻛﺎﻟﺠﺴﺪ ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﻓﺈن اﻟﺼﺤﺔ اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ واﻟﺴﻌﺎدة ﺗﺴﺘﻠﺰﻣﺎن ﻣﻜﻮﻧﺎت اﻟﺼﺤﺔ اﻟﺠﺴﺪﻳﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ، وﻻ ﺑُ ﱠﺪ ﻟﻬﺎ ﻣﻦ اﻻﺗﺰان وﻏﻴﺎب اﻹزﻋﺎج اﻟﻨﺎﺗﺞ ﻋﻦ اﻟﴫاع. وﻟﻜﻲ ﻳﻜﻮن املﺠﺘﻤﻊ ﺻﺤﻴٍّﺎ ﻓﻬﻮ ﻳﺤﺘﺎج إﱃ املﻜﻮﻧﺎت ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻣﻦ اﺳﺘﻘﺮار واﻋﺘﺪال وﻧﻈﺎم .وﺗﻌﺘﱪ اﻟﺤﻀﺎرة — اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻨﻲ املﺪﻳﻨﺔ ﻟﺪى دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ — ﻧﺘﺎﺟً ﺎ إﻧﺴﺎﻧﻴٍّﺎ ً ﻣﺤﻔﻮﻓﺎ ﺑﺎملﺨﺎﻃﺮ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻨﺰﻟﻖ ﺑﺴﻬﻮﻟﺔ إﱃ اﻟﻬﻤﺠﻴﺔ ﻣﺮة أﺧﺮى ،ﻓﺈذا ﻣﺎ اﺧﺘﻞ اﻟﺘﻨﺎﻏﻢ واﻻﻧﻀﺒﺎط اﻟﻠﺬان ﺗﻌﺘﻤﺪ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ اﻟﺤﻀﺎرة ﻓﴪﻋﺎن ﻣﺎ ﺳﺘﺨﺘﻔﻲ اﻟﻔﻨﻮن واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺑﻞ اﻟﺠﺪﱢ؛ واﻟﺴﻌﺎدة ﻧﻔﺴﻬﺎ .وﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أن دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﻗﺪ أﺧﺬ ﺗﻠﻚ املﺨﺎﻃﺮ ﻋﲆ ﻣﺤﻤﻞ ِ ﻓﻘﺪ ﻧﺎدى ﺑﺘﻄﺒﻴﻖ ﺣﻜﻢ اﻹﻋﺪام ﻋﲆ ﻛﻞ ﻣﻦ ﻳﻬﺪد ﺑﺰﻋﺰﻋﺔ اﺳﺘﻘﺮار املﺪﻳﻨﺔ ،ﻓﺎملﺠﺘﻤﻊ ﻟﻦ ﻳﻮاﺻﻞ ازدﻫﺎره إﻻ ﺑﺘﻮرﻳﺚ اﻟﺤﻜﻤﺔ واﻟﺴﻠﻮﻛﻴﺎت املﺴﺌﻮﻟﺔ ﻟﻸﺟﻴﺎل اﻟﻘﺎدﻣﺔ ﺑﻌﻨﺎﻳﺔ ﻓﺎﺋﻘﺔ. وﻳﺘﻨﺎول اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻷﺟﺰاء املﺘﺒﻘﻴﺔ ﻣﻦ ﻛﺘﺎﺑﺎت دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﻣﺴﺄﻟﺔ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ؛ إذ اﻋﺘﱪﻫﺎ ﻣﺴﺌﻮﻟﻴﺔ ﺛﻘﻴﻠﺔ ﻓﻜﺘﺐ ً ﻗﺎﺋﻼ إن أﺳﻮأ ﳾء ﰲ اﻟﻮﺟﻮد ﻫﻮ اﻟﺘﻬﺎوُن ﰲ ﺗﻌﻠﻴﻢ اﻟﺼﻐﺎر .وﻻ أﺣﺪ ﻳﻌﺮف إذا ﻣﺎ ﻛﺎن ﻟﺪﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ أﺑﻨﺎء أم ﻻ .وأﻏﻠﺐ اﻟﻈﻦ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻟﻪ أﺑﻨﺎء ،وإذا ﻛﺎن ﻟﻪ أﺑﻨﺎء ﻓﻼ ﺑُ ﱠﺪ وأﻧﻪ ﻧ َ ِﺪ َم ﻋﲆ ذﻟﻚ ً ﻻﺣﻘﺎ؛ إذ ﻧﺠﺪه ﻳﻘﻮل: ً أﻃﻔﺎﻻ ﺧري ﻟﻪ أن ﻳﺄﺧﺬ أﺣﺪ أﺑﻨﺎء أﺻﺪﻗﺎﺋﻪ ،ﻋﻨﺪﻫﺎ أﻇﻦ أن املﺮء اﻟﺬي ﻳﺮﻳﺪ ﻳﻤﻜﻨﻪ أن ﻳﺨﺘﺎر اﻟﻄﻔﻞ ﻋﲆ اﻟﺸﺎﻛﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺮﻳﺪﻫﺎ ،وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻳﻤﻜﻨﻪ أن ﻳﺨﺘﺎر ﻣﺎ ﻳﻬﻮاه ﻋﻘﻠﻪ ﻣﻦ ﺑني اﻟﻜﺜري ،أﻣﺎ إذا أﻧﺠﺐ املﺮء أﻃﻔﺎﻟﻪ ﺑﻨﻔﺴﻪ ﻓﺴﻴﻮاﺟﻪ ﻋﺪة ﻣﺨﺎﻃﺮ؛ إذ ﻋﻠﻴﻪ أن ﻳﻌﻴﺶ ﻣﻊ ﻣَ ﻦ أﺗﻰ ﺑﻪ أﻳٍّﺎ ﻛﺎن. ﺑﺎﻟﻨﻈﺮ إﱃ إﴏاره اﻟﺸﺪﻳﺪ ﻋﲆ ﺗﺮﺳﻴﺦ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ﰲ أذﻫﺎن اﻟﻨﺎس وﻧﻔﻮﺳﻬﻢ ﻻ ﺑُ ﱠﺪ وأﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﺤﺎول أن ﻳﺘﻌﺎﻳﺶ ﻣﻊ ﻧﻔﺴﻪ .وﻟﻢ ﺗﻜﻦ اﻟﻘﻴﻢ اﻟﺘﻲ أراد أن ﻳُﻌَ ﱢﻠﻤَ ﻬﺎ ﻟﻠﻨﺎس ﻛﺎﻟﻌﺪاﻟﺔ واﻟﺮﺿﺎ ﺑﺎﻟﻨﺼﻴﺐ واﻟﺤﻜﻤﺔ ﺑﻘﻴﻢ ﺛﻮرﻳﺔ ،ﺑﻞ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻌﻜﺲ ا ُملﺜ ُ َﻞ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺳﺎﺋﺪة ﰲ ﻋﴫه ﺑﻌﺪ أن ﻋَ ﱠﺪ َﻟﻬﺎ ﻟﺘﺘﻀﻤﻦ اﻟﺘﻔﺴري اﻟﺬري ﻟﻠﻌﻘﻞ .إن أﺑﺮز ﻣﺎ اﺑﺘﻜﺮه دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﰲ وﻋﻈﻪ ﻫﻮ أﻧﻪ ﺣَ ﱠﺚ رﻓﻘﺎءه ﻋﲆ اﺗﺒﺎع اﻟﺴﻠﻮك اﻟﻘﻮﻳﻢ ﻻ إرﺿﺎءً ﻟﻶﻟﻬﺔ أو ﻟﻀﻤﺎن ﺣﻴﺎة ﻳﺮﺿﻮن ﺑﻬﺎ ﰲ اﻵﺧﺮة ،وإﻧﻤﺎ ﻷن ﺗﻠﻚ اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ ﻣﻬﺪت اﻟﻄﺮﻳﻖ اﻟﻮﺣﻴﺪ اﻟﺬي ﻳﻤﻜﻦ اﻻﻋﺘﻤﺎد 134
ﻣﻦ ﻳﻀﺤﻚ أﺧريًا :دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ
ﻋﻠﻴﻪ ﻟﻴ َِﺼ َﻞ اﻹﻧﺴﺎن ﻟﻠﺴﻌﺎدة ﻋﲆ اﻷرض؛ أي إن اﺗﺒﺎع اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ ﻣﺼﻠﺤﺔ ذاﺗﻴﺔ .وﻗﺪ ﻃﻮﱠر أﺑﻴﻘﻮر وﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس ً ﻻﺣﻘﺎ ﺗﻠﻚ اﻷﺧﻼﻗﻴﺎت اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗَﻤ ﱡ ُﺖ إﱃ اﻟﺪﻳﻦ ﺑﺼﻠﺔ ،وﻫﻮ ﻣﺎ َﺷ ﱠﻖ ﻋﲆ املﺴﻴﺤﻴني اﻷواﺋﻞ. ﻟﻘﺪ ﺗﺴﺒﱠﺒﺖ ﻓﻜﺮة اﺗﺒﺎع أﺧﻼﻗﻴﺎت ﻣﻦ ﺻﻨﻊ اﻹﻧﺴﺎن ﰲ إﺛﺎرة ﺑﻌﺾ اﻷﺳﺌﻠﺔ املﻘﻠِﻘﺔ ﺑني املﻔﻜﺮﻳﻦ ﻣﻦ ﻣﻌﺎﴏي دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ .ﻓﻜﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻤﺮء أن ﻳﻤﻨﻊ ﻣﺼﻠﺤﺔ اﻟﺬات اﻟﺤﻜﻴﻤﺔ ﻣﻦ اﻟﺘﺪﻧﱢﻲ إﱃ اﻷﻧﺎﻧﻴﺔ اﻟﻼأﺧﻼﻗﻴﺔ؟ ﺗﺨﻴﻞ ﻣﻮﻗﻒ ﺷﺨﺺ ﻳﻤﻠﻚ ﻣﻦ اﻟﻘﻮة ﻣﺎ ﻳﻜﻔﻴﻪ ﻷن ﻳﻔﻌﻞ ﻣﺎ ﻳﺮﻳﺪ وﻳُﻔﻠِﺖ ﻣﻦ اﻟﻌﻘﺎب ،وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻟﻦ ﻳﻐﺮم ﻣﻦ ﺗﺠﺎﻫﻞ اﻟﻘﻮاﻋﺪ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ املﺘﻔﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ .وإذا ﻟﻢ ﻳﺒﻠﻎ إﺛﻢ ذﻟﻚ اﻟﺮﺟﻞ ﺣَ ﱠﺪ اﻟﻘﻀﺎء ﻋﲆ اﺳﺘﻘﺮار املﺪﻳﻨﺔ وﺟَ ﻌَ َﻠﻪ ذﻟﻚ اﻟﺴﻠﻮ ُك راﺿﻴًﺎ ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻪ ﻓﻌﲆ أي أﺳﺎس ﺳﻴﺪﻳﻨﻪ دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ؟ ﻟﻘﺪ اﺣﺘﺪﻣﺖ ﻣﻨﺎﻗﺸﺔ ﺗﻠﻚ اﻷﺳﺌﻠﺔ ﰲ اﻟﻨﺼﻒ اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻣﻦ اﻟﻘﺮن اﻟﺨﺎﻣﺲ ﻗﺒﻞ املﻴﻼد ﻟﺪى ﺣﺮﻛﺔ ﻓﻜﺮﻳﺔ ﺑﺄﺛﻴﻨﺎ ﺗُﺪﻋﻰ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﺔ .وﻗﺪ ﻛﺎن أﻓﻼﻃﻮن ﻣﺆﺧ ًﺮا ﺷﺪﻳﺪ اﻟﻬﺠﻮم ﻋﲆ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني ووﺻﻔﻬﻢ ﺑﺄﻧﻬﻢ ﻛﺎﻧﻮا ﻣﺤﺘﺎﻟِني ﺳﺎﺧﺮﻳﻦ ﻳﻠﻮُون ﻓﻦ اﻟﺤﺠﺎج اﻟﻌﻘﲇ. وﻟﻢ ﻳﻜﻦ أﻓﻼﻃﻮن اﻟﻮﺣﻴﺪ اﻟﺬي ﻗﺎم ﺑﺬﻟﻚ ،ﺑﻞ ﻧﺠﺤﺖ ﺗﻠﻚ اﻟﺪﻋﺎﻳﺔ اﻟﺴﻠﺒﻴﺔ؛ ﺣﺘﻰ إن ﻛﻠﻤﺔ »ﺳﻔﺴﻄﺔ« أﺻﺒﺤﺖ ﺗُﺴﺘَﺨﺪَم ﻫﻲ وأﺷﺒﺎﻫﻬﺎ ﺑﻤﻌﻨﻰ املﻨﻄﻖ املﻀ ﱢﻠﻞ أو املﺮاوﻏﺔ أو اﻟﺘﻼﻋُ ﺐ ﺑﺎﻷﻟﻔﺎظ .وﻛﺎن ﻫﺬا ﻫﻮ املﻌﻨﻰ اﻟﺬي ﻳﻘﺼﺪه دزراﺋﻴﲇ ﻋﻨﺪﻣﺎ وﺻﻒ أﺣﺪ ﺧﺼﻮﻣﻪ اﻟﺴﻴﺎﺳﻴني وﻳﺪﻋﻰ ﺟﻼدﺳﺘﻮن ﺑ »ﺧﻄﻴﺐ ﺳﻔﺴﻄﺎﺋﻲ أﺛﻤﻠﺘﻪ ﻏﺰارة إﺳﻬﺎﺑﻪ ﰲ اﻟﻜﻼم«. وﺑﻐﺾ اﻟﻨﻈﺮ ﻋﻦ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﺟﻼدﺳﺘﻮن ﻓﺈن اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني اﻷﺻﻠﻴني ﻳﺴﺘﺤﻘﻮن ذﻛ ًﺮا أﻓﻀﻞ ﻣﻦ ذﻟﻚ .وﻣﻦ أﺑﺮز آﺛﺎرﻫﻢ أﻧﻬﻢ أَﺛ ْ َﺮوا اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻔﻜﺮﻳﺔ ﰲ أﺛﻴﻨﺎ وﻗﺎدوﻫﺎ ﻧﺤﻮ ﻣﺎ ﻧﻌﺮﻓﻪ اﻟﻴﻮم ﺑﺎﺳﻢ ﻋﻠﻮم اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺎت .وﺑﻴﻨﻤﺎ ﻗﺎم ﺑﻌﺾ ﻣَ ﻦ ذﻛﺮﻧﺎﻫﻢ ً آﻧﻔﺎ ﻣﻦ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﺑﺘﻐﻴري اﻟﺘﻔ ﱡﻜﺮ ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ إﱃ ﺑﺤﺚ ﻋﻦ ﺗﻔﺴريات ﻋﻘﻼﻧﻴﺔ ،ﻗﺎم أﺻﺤﺎب اﻟﻌﻘﻮل اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﻣﻦ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني ﺑﺎﻟﺘﻔ ِﻜري ﰲ اﻟﴫاع ﺑني اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ واﻟﺘﻘﺎﻟﻴﺪ أو اﻟﻘﻮاﻧني اﻟﺘﻲ وﺿﻌﻬﺎ اﻹﻧﺴﺎن .وﺛﻤﺔ ﻋﺪة ﺟﻮاﻧﺐ ﻟﺬﻟﻚ اﻟﻨﺰاع ﺑني اﻟﺘﻘﺎﻟﻴﺪ واﻟﻄﺒﻴﻌﺔ؛ ﻓﻘﺪ ﺗﻮﺻﻞ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﻮن إﱃ ﻓﻜﺮة ﻣﺸﻮﱢﻗﺔ ﻋﻦ املﻄﺎﻟﺐ املﺘﻨﺎﻗﻀﺔ ﻟﻐﺮاﺋﺰ اﻹﻧﺴﺎن اﻷﻧﺎﻧﻴﺔ ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ وﻣﺘﻄﻠﺒﺎت اﻟﻌﺪاﻟﺔ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻷﺧﺮى ،وﻋﻦ املﺸﻜﻼت اﻟﺘﻲ ﻃﺮأت ﻋﲆ ﻓﻜﺮة دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﺣﻮل ﻣﺴﺄﻟﺔ املﻌﺮﻓﺔ املﻮﺿﻮﻋﻴﺔ واﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮل إن ﺟُ ﱠﻞ ﻣﺎ ﻳﺪﱠﻋِ ﻲ اﻹﻧﺴﺎن ﻣﻌﺮﻓﺘﻪ ﻣﺎ ﻫﻮ إﻻ ﻣﺴﺄﻟﺔ ﺗﻘﺎﻟﻴﺪ وأﻋﺮاف .ﻓﻠﻨﺴﱰﺟﻊ ﻣﻘﻮﻟﺔ دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﰲ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺬرﻳﺔ» :ﺟﺮى اﻟﻌﺮف ﺑﺄن ﻳُﻌَ ﱠﺪ اﻟﴚء ﺣﻠﻮًا أو ﻣ ٍّﺮا أو ﺳﺎﺧﻨًﺎ أو ﺑﺎردًا أو ﺑﻠﻮن ﻣﻌني ،وﻟﻜﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ أن ﻫﺬا اﻟﴚء ً وﻓﺮاﻏﺎ «.أﻣﺎ أﺑﺮز اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني ﻓﻠﻢ ﻳﻜﻮﻧﻮا ﻟﻴﻘﻮﻟﻮا ﺑﺬﻟﻚ ،ﻓﻘﺪ ﺗﻮﺻﻠﻮا ﻟﻴﺲ إﻻ ذرات 135
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
إﱃ اﺳﺘﻨﺘﺎج ﻣﺨﺘﻠﻒ ﻋﻦ ﻣﺪى املﻌﺮﻓﺔ ،وﻟﻜﻨﻬﻢ ﻛﺎﻧﻮا ﺳﻴﺪرﻛﻮن ﺟﻴﺪًا املﺸﻜﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻌﺎﻧﻲ ﻣﻨﻬﺎ دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ؛ أﻻ وﻫﻲ اﻟﺘﻨﺎﻗﺾ ﺑني اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ املﻮﺿﻮﻋﻴﺔ واﻹدراك اﻟﺬاﺗﻲ. ﻳﻜﺎد دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﻳﻨﺘﻤﻲ إﱃ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني وﻟﻜﻦ ﻟﻴﺲ ﺑﺸﻜﻞ ﻛﲇ ،وﻣﺎ ﻳﻔﺼﻠﻪ ﻋﻨﻬﻢ ﻟﻴﺲ اﻟﺰﻣﻦ؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﻮن ﻳُ َﺪ ﱢر ُﺳﻮن ﻋﻠﻮﻣﻬﻢ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﺎن دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﰲ ﺳﻨﻮات ﻋﻤﺮه اﻷوﱃ ،إﻧﻤﺎ ﻓﺮﻗﻬﻤﺎ اﺧﺘﻼف املﺼﺎﻟﺢ املﻬﻨﻴﺔ واﻟﻔﻜﺮﻳﺔ .ورﻏﻢ أن أﻓﻜﺎر دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﻗﺪ اﺗﺠﻬﺖ إﱃ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺎوﻟﻮﻫﺎ ﺑﺎﻟﺒﺤﺚ — ﺑﻞ إﻧﻪ ﺗﻨﺎول ً ﻃﺮﻳﻘﺎ ﻏري ﻃﺮﻳﻘﻬﻢ. ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﺑﻌﺾ أﻓﻜﺎرﻫﻢ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ — ﻓﻘﺪ ﺳﻠﻚ
136
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺘﺎﺳﻊ
وﻫ ﱠﺒﺖ رﻳﺎح اﳌﺘﺎﻋﺐ :اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﻮن َ ﻋﺎش »اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﻮن« ﰲ أﺛﻴﻨﺎ ﰲ اﻟﻨﺼﻒ اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻣﻦ اﻟﻘﺮن اﻟﺨﺎﻣﺲ وﺷﻐﻠﻮا ﻣﻨﺎﺻﺐ وﻣﺤﺎﴐﻳﻦ وﻣﻤﺜﲇ ﻣﴪح وﻛﺎﺗﺒﻲ ﺳﻔﺮاء وﻣﻌﻠﻤني ﺧﺼﻮﺻﻴني وﻣﺴﺘﺸﺎري ﻋﻼﻗﺎت ﻋﺎﻣﺔ ِ ِ آن واﺣﺪ ،أو اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﻫﺬه املﻨﺎﺻﺐ ﺧﻄﺎﺑﺎت وﻓﻼﺳﻔﺔ وﺧﻄﺒﺎء ﻟﻴﻠﻴني وأﻃﺒﺎء ﻧﻔﺴﻴني ﰲ ٍ ً ﻓﻀﻼ ﻋﻦ ﻃﺒﻘﺔ ﻣﻦ اﻟﻨﺎس ﰲ ﻣﻌﻈﻢ اﻟﺤﺎﻻت ﻋﲆ اﻷﻗﻞ .وملﻌﺮﻓﺔ ﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﺸﺨﺺ — — أن ﻳﺠﻤﻊ ﻛﻞ ﻫﺬه اﻟﻮﻇﺎﺋﻒ وﻳﻘﻮم ﺑﻜﻞ ﻫﺬه اﻷدوار ،ﻻ ﺑُ ﱠﺪ ﻣﻦ اﻻﺑﺘﻌﺎد ﻋﻦ اﻟﺨﻼﻓﺎت اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ واﻟﻨﻈﺮ إﱃ ﻣﺪﻳﻨﺔ أﺛﻴﻨﺎ وﺳﻜﺎﻧﻬﺎ. ً ﺑﺤﻠﻮل ﻣﻨﺘﺼﻒ اﻟﻘﺮن اﻟﺨﺎﻣﺲ ﺗﺤﻮل ﻣﺎ ﻛﺎن ﺗﺤﺎﻟﻔﺎ ﻣﻔ ﱠﻜ ًﻜﺎ ﺑني اﻟﻮﻻﻳﺎت اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ ﺿﺪ اﻟﻔﺮس إﱃ إﻣﱪاﻃﻮرﻳﺔ ﻣﺮﻛﺰﻫﺎ ﻣﺪﻳﻨﺔ أﺛﻴﻨﺎ ،وﻳﺮﺟﻊ اﻟﻔﻀﻞ ﰲ ذﻟﻚ إﱃ أﺳﻄﻮل أﺛﻴﻨﺎ، وﻫﻮ ﻣﺎ ﺟﻌﻠﻬﺎ إﻣﱪاﻃﻮرﻳﺔ ﻏﻨﻴﺔ .وﻛﺎﻧﺖ اﻟﻮﻻﻳﺎت اﻷﺧﺮى اﻷﻋﻀﺎء ﰲ اﻟﺤﻠﻒ ﻳﺪﻓﻌﻮن ﻟﻬﺎ اﻟﺠﺰﻳﺔ .وﻗﺪ أُﻧﻔﻖ ﺟﺰء ﻣﻦ ﻫﺬه اﻷﻣﻮال ﻋﲆ أﺷﻴﺎء ﻻ ﺗﺰال ﺑﺎﻗﻴﺔ ﺣﺘﻰ ﻳﻮﻣﻨﺎ ﻫﺬا ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻌﺒﺪ اﻟﺒﺎرﺛﻴﻨﻮن .وﻛﺎن اﻟﺪاﻓﻊ وراء ﺗﺸﻴﻴﺪ ﻣﻌﻈﻢ ﻫﺬه اﻟﴫوح ﻫﻮ ﺗﺸﺠﻴﻊ ﺑﺮﻳﻜﻠﻴﺲ ﺣﺎﻛﻢ أﺛﻴﻨﺎ اﻟﺬي ﺟﺎء ذﻛﺮه ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﺿﻤﻦ رﻓﺎق أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس ﻣﻦ املﻔﻜﺮﻳﻦ ﺣﻴﺚ ﻗﺎل: »ﻣﺎ أﻋﻈ َﻢ ﺗﻠﻚ املﻌﺎﻟﻢ واﻟﺘﻤﺎﺛﻴﻞ اﻟﺘﻲ ﺗﺮﻛﻨﺎﻫﺎ ﰲ إﻣﱪاﻃﻮرﻳﺘﻨﺎ! ﺳﻴﺘﻌﺠﺐ اﻟﻼﺣﻘﻮن ﻣﻦ ﺻﻨﻴﻌﻨﺎ ﻛﻤﺎ ﻳﺘﻌﺠﺐ أﺑﻨﺎء ﻫﺬا اﻟﺠﻴﻞ ﻣﻨﻪ «.ﻫﺬا ﻣﺎ أﺻﺎب ﺑﺮﻳﻜﻠﻴﺲ ﰲ ﱡ ﺗﻮﻗﻌﻪ ﰲ ﺧﻄﺎﺑﻪ اﻟﺬي أﻟﻘﺎه ﰲ ذﻛﺮى املﺤﺎرﺑني اﻷﺑﻄﺎل ﰲ املﺪﻳﻨﺔ. وﰲ اﻟﺨﻄﺎب ﻧﻔﺴﻪ أﺛﻨﻰ ﺑﺮﻳﻜﻠﻴﺲ ﻋﲆ اﻟﺤﻴﺎة ﰲ أﺛﻴﻨﺎ اﻟﺘﻲ َﻓ ﱠﴪت — ﺑﺠﺎﻧﺐ ﺛﺮاء املﺪﻳﻨﺔ — ﻇﻬﻮر اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني ً ﻗﺎﺋﻼ: إن دﺳﺘﻮرﻧﺎ ﻳ َ ُﻮﺻﻒ ﺑﺎﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻲ ﻷن اﻟﺴﻠﻄﺔ ﻟﻴﺴﺖ ﰲ ﻳَ ِﺪ أﻗﻠﻴﺔ وإﻧﻤﺎ ﰲ ﻳﺪ اﻟﻨﺎس ﺟﻤﻴﻌً ﺎ .وﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ اﻷﻣﺮ ﺑﺘﺴﻮﻳﺔ اﻟﻨﺰاﻋﺎت اﻟﺨﺎﺻﺔ ﻓﺎﻟﻜﻞ أﻣﺎم
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
اﻟﻘﺎﻧﻮن ﺳﻮاء ،وﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ اﻷﻣﺮ ﺑﺘﻔﻀﻴﻞ ﺷﺨﺺ ﻋﲆ آﺧﺮ ﰲ املﻨﺎﺻﺐ اﻟﻌﺎﻣﺔ ﻓﻼ ﻳﻬﻢ اﻻﻧﺘﻤﺎء إﱃ ﻃﺒﻘﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ ﺑﻞ ﻗﺪرات اﻟﻔﺮد ﻧﻔﺴﻪ. وﻛﺎﻧﺖ أﻫﻢ ﺗﻠﻚ اﻟﻘﺪرات ﻋﲆ اﻹﻃﻼق ﻫﻲ اﻟﻘﺪرة ﻋﲆ اﻟﻜﻼم وﻣﺠﺎدﻟﺔ اﻟﻨ ﱡ َﺨﺐ اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ أو ﻫﻴﺌﺎت املﺤ ﱠﻠﻔني وإﻗﻨﺎﻋﻬﺎ .وﺗﻜﻤُﻦ ﻗﻮة ﺑﺮﻳﻜﻠﻴﺲ ﺑﺸﻜﻞ ﻛﺒري ﰲ ﻗﺪرﺗﻪ ﻋﲆ اﻟﺘﺄﺛري ﰲ املﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﺘﻲ أﻣﺎﻣﻪ وﺿﻤﻬﺎ إﱃ ﺻﻔﻪ .وﻳﺴﺘﻤﺮ ﰲ ﻛﻴﻞ املﺪﻳﺢ واﻹﺷﺎدة ً ﻗﺎﺋﻼ: إﻧﻨﺎ أﻫﻞ أﺛﻴﻨﺎ ﻧﺒﻨﻲ ﻗﺮاراﺗﻨﺎ ﻋﲆ أﺳﺎس وﺗﺨﻄﻴﻂ أو ﻧ ُ ِ ﺨﻀﻌُ ﻬﺎ ﻟﻠﻤﻨﺎﻗﺸﺔ؛ ﻷﻧﻨﺎ ُ اﻟﺘﻮاﻓﻖ ﺑني اﻷﻗﻮال واﻷﻓﻌﺎل ،ﻓﻤﺎ أﺳﻮأ اﻻﻧﺪﻓﺎع إﱃ ﻋﻤﻞ ﳾء ﻻ ﻧﺆﻣﻦ ﺑﻌﺪم ﻗﺒﻞ ﻣﻨﺎﻗﺸﺔ ﻋﻮاﻗﺒﻪ ﺑﺸﻜﻞ ﺳﻠﻴﻢ! ﻟﻘﺪ أَﺣَ ﺐﱠ أﻫﻞ أﺛﻴﻨﺎ اﻟﺤﺠﺞ اﻟﻘﻮﻳﺔ ،ﺑﻞ وأﺣﺒﻮا اﻟﺮدﻳﺌﺔ ﻣﻨﻬﺎ ً أﻳﻀﺎ إذا ﻛﺎن اﻟﺠﺪال ﻣﺴﻠﻴًﺎ .ﻛﻤﺎ اﺷﺘﻬﺮوا ً أﻳﻀﺎ ﺑﺎملﺸﺎﻛﺴﺔ ،وأﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺠﻌﻠﻮن ﻣﻦ أﻧﻔﺴﻬﻢ ﻣﺎدة ﻟﻠﻤﺰاح ﻟﻠﻐﺮض ﻧﻔﺴﻪ .وﰲ ﻣﴪﺣﻴﺔ ﻫﺰﻟﻴﺔ ﻷرﺳﻄﻮﻓﺎن ﻳﻘﻮد أﺣﺪ اﻟﺘﻼﻣﻴﺬ ﻓﻼﺣً ﺎ ﻳﺪﻋﻰ ﺳﱰﺑﺴﻴﺎدس داﺧﻞ ﻣﺪرﺳﺘﻪ وﻳ ُِﺮﻳﻪ اﻟﺘﺠﻬﻴﺰات اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﻓﻴﻬﺎ وﻳﺪور اﻟﺤﻮار ﻛﻤﺎ ﻳﲇ: اﻟﺘﻠﻤﻴﺬ :وﻟﺪﻳﻨﺎ ﻫﻨﺎ ﺧﺮﻳﻄﺔ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ .ﻫﺬه أﺛﻴﻨﺎ. ﺳﱰﺑﺴﻴﺎدس :دﻋﻚ ﻣﻦ ﻫﺬا ،ﻓﺄﻧﺎ ﻻ أﺻﺪﻗﻚ .أﻳﻦ ﻫﻴﺌﺔ املﺤ ﱠﻠﻔني؟ ﻟﻘﺪ أُﻋﺠﺐ ﺳﱰﺑﺴﻴﺎدس ﺑﻬﺬه املﺪرﺳﺔ؛ ﻷﻧﻪ أراد ﻻﺑﻨﻪ أن ﻳﺘﻘﻦ ﻓﻦ اﻟﻜﻼم ﺣﺘﻰ ﻳﺮد ﻋﲆ داﺋﻨﻴﻪ ﰲ املﺤﺎﻛﻢ ﺑﻌﺪ إﻓﻼﺳﻪ .وﻟﻢ ﻳﻬﺘﻢ املﺤﺘﺎﻟﻮن ﻓﺤﺴﺐ ﺑﺎﻟﺘﻤ ﱡﺮن ﻋﲆ اﻟﺠﺪال، ﻓﻜﻴﻒ ﻛﺎن ملﻮاﻃﻦ أن ﻳﺴﺘﻐﻞ اﻟﻔﺮص اﻟﺘﻲ ﺗﻘﺪﻣﻬﺎ اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ إن ﻟﻢ ﻳُﻮ َﻟﺪ ﺧﻄﻴﺒًﺎ ﻣﻔﻮ ًﱠﻫﺎ؟ وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻧﻈﺎم اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪي وﻗﺘﻬﺎ وﺳﻴﻠﺔ ﻟﺘﺤﻘﻴﻖ ذﻟﻚ ،ﻓﻜﺎن اﻟﻔﺘﻴﺔ ﰲ أﺛﻴﻨﺎ ﻳﺘﻌﻠﻤﻮن اﻟﻘﺮاءة واﻟﻜﺘﺎﺑﺔ واملﻮﺳﻴﻘﻰ ،وﻳﻤﺎرﺳﻮن اﻟﺮﻳﺎﺿﺔ واﻟﺘﻤﺮﻳﻨﺎت اﻟﺒﺪﻧﻴﺔ ،ورﺑﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻤﻮن ﺑﻌﺾ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت وﻗﺪ ًرا ﻛﺒريًا ﻣﻦ ﱢ اﻟﺸﻌﺮ املﻠﺤﻤﻲ .وﻛﺎﻧﻮا ﻳﺒﺪءون ﺗﻌﻠﻴﻤﻬﻢ ﰲ ﺳﻦ اﻟﺴﺎﺑﻌﺔ وﻳﻨﺘﻬﻮن ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﰲ اﻟﺮاﺑﻌﺔ ﻋﴩة .أﻣﺎ اﻟﻔﺘﻴﺎت َﻓ ُﻜ ﱠﻦ ﻳﺘﻌﻠﻤﻦ ﺑﻌﺾ اﻷﻋﻤﺎل اﻟﻴﺪوﻳﺔ ﻓﻘﻂ .وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻏﺮﻳﺒًﺎ أن ﻳﻄﺎﻟﺐ ﺑﻤﺴﺘﻮى أﻋﲆ ﻣﻦ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﻣَ ﻦ ﻳﻄﻴﻘﻮن ﺗﺤﻤﻞ ﻧﻔﻘﺎﺗﻪ .وﻛﺎن اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﻮن ﻫﻢ اﻟﺬﻳﻦ َﻗ ِﺪﻣُﻮا ﻣﻦ ﺟﻤﻴﻊ أﻧﺤﺎء اﻟﻴﻮﻧﺎن ﻟﻠﻮﻓﺎء ﺑﺎﻟﺤﺎﺟﺔ إﱃ ﺗﻬﺬﻳﺐ اﻟﻨﻔﺲ ﻓﻜﺮﻳٍّﺎ. 138
َ وﻫﺒﱠﺖ رﻳﺎح املﺘﺎﻋﺐ :اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﻮن
وﻛﺎن ﻣﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ أن ﻳﻨﺠﺬب أيﱞ ﻣﻦ ﻣﺘﺤﺪﺛﻲ اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ ﻣﻦ ذوي اﻟﻌﻠﻢ واملﻮﻫﺒﺔ إﱃ أﺛﻴﻨﺎ .وﻟﻮ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻫﺬا اﻟﺮﺟﻞ ﻣﻮاﻃﻨًﺎ ﻣﻦ أﻫﻞ أﺛﻴﻨﺎ ملﺎ ﺗَﻤَ ﱠﻜﻦ ﻣﻦ املﺠﺎدﻟﺔ ﻋﲆ املﻸ ،وﻣﺎ ﺣﻘﻖ أﻫﺪاﻓﻪ ﺑﺘﻠﻚ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ،وﻟﻜﻦ ﻛﺎن ﻳﻤﻜﻨﻪ أن ﻳﻜﺴﺐ ﻗﺪ ًرا ﻻ ﺑﺄس ﺑﻪ ﻣﻦ املﺎل وأن ﻳﺘﻤﺘﻊ ﺑﻜﺮم اﻟﻀﻴﺎﻓﺔ ﻣﻦ ﺧﻼل ﺗﺪرﻳﺐ أﻫﻞ أﺛﻴﻨﺎ ﻋﲆ املﺠﺎدﻟﺔ وﺗﻌﻠﻴﻢ أوﻻدﻫﻢ ،وﺗﺴﻠﻴﺘﻬﻢ وﺗﺜﻘﻴﻔﻬﻢ ﰲ وﻻﺋﻤﻬﻢ واﻟﱰﻓﻴﻪ ﻋﻨﻬﻢ ﰲ ﺣﻔﻼﺗﻬﻢ وإﺳﺪاء اﻟﻨﺼﺢ ﻟﻬﻢ. وﻛﺎن ﻣﻦ أواﺋﻞ ﻣﻦ َﻗ ِﺪﻣُﻮا إﱃ أﺛﻴﻨﺎ وﺣَ ﱠ ﺼﻠﻮا املﺎل ﺑﺎﻻﺷﺘﻐﺎل ﺑﺎﻟﺘﺪرﻳﺲ ﻫﻮ ﺑﺮوﺗﺎﺟﻮراس ً ﺻﺪﻳﻘﺎ ﻟﱪﻳﻜﻠﻴﺲ ،وﻗﺪ ﻇﻬﺮ ﺑﺎﺳﻤﻪ اﻟﺬي ﻋﺎﴏ أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس وإﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ وأﺻﺒﺢ أو ﺷﺨﺼﻪ ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ ﻣﺤﺎورات أﻓﻼﻃﻮن .وﻛﺎن ﺑﺮوﺗﺎﺟﻮراس ﻗﺪ ﺟﺎء ﰲ اﻷﺳﺎس إﱃ أﺛﻴﻨﺎ ﺳﻔريًا ﻟﺒﻠﺪﺗﻪ أﺑﺪﻳﺮة ،ﻛﻤﺎ ﺟﺎء ﺳﻔﺴﻄﺎﺋﻴﻮن ﻣﺸﻬﻮرون آﺧﺮون ﺳﻔﺮاء ً أﻳﻀﺎ ،وﻣﻦ ﺿﻤﻨﻬﻢ ﺟﻮرﺟﻴﺎس اﻟﻠﻴﻮﻧﺘﻴﻨﻲ ﰲ ﺻﻘﻠﻴﺔ وﻫﻴﺒﻴﺎس اﻹﻳﲇ. َ وﻗﺒﻞ ﻇﻬﻮر ﻫﺆﻻء اﻟﺮﺟﺎل ﻛﺎﻧﺖ ﻛﻠﻤﺔ ﺳﻔﺴﻄﺎﺋﻲ ﺗُﻄﻠﻖ ﻋﲆ ﺟﻤﻴﻊ أﻧﻮاع اﻟﺤﻜﻤﺎء. وﻣﻦ اﻟﻐﺮﻳﺐ أﻧﻪ ﺣﺘﻰ ﺑﻌﺪ ﻫﺬا اﻟﻮﻗﺖ اﺳﺘﻤﺮ ﺑﻌﺾ ُﻛﺘﱠﺎب اﻟﻘﺮن اﻟﺮاﺑﻊ ﰲ اﺳﺘﺨﺪام اﻟﻜﻠﻤﺔ ﻟﻺﺷﺎرة إﱃ ﻛﻞ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﺴﺎﺑﻘني ﺣﺘﻰ ﻃﺎﻟﻴﺲ ،وﻟﻜﻦ ﰲ زﻣﺎﻧِﻬﻢ اﻗﺘﴫت اﻟﻜﻠﻤﺔ ﺑﺼﻮرة رﺋﻴﺴﺔ ﻋﲆ اﻟﺬﻳﻦ ﻳُﻌَ ﱢﻠﻤُﻮن اﻟﻨﺎس ﻣﻘﺎﺑﻞ املﺎل ،وﺧﺎﺻﺔ ﻣﻦ ﻋﺮﺿﻮا ﺗﺪرﻳﺲ املﻬﺎرات اﻟﺒﻼﻏﻴﺔ واﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ وﻛﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻔﻮﱡق ﰲ املﺠﺎدﻻت اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ واﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻴﺔ )وﻫﺬا ﻣﺎ ﺳﻨﻘﺼﺪه ﺑﻜﻠﻤﺔ »ﺳﻔﺴﻄﺎﺋﻲ« ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ( .وﰲ إﺣﺪى ﻣﺤﺎورات أﻓﻼﻃﻮن ،ﻳﺘﻮﺟﻪ ﺳﻘﺮاط — وﻫﻮ اﻟﺮاوي — ﺑﺎﻟﺴﺆال إﱃ ﺑﺮوﺗﺎﺟﻮراس ﻋﻤﱠ ﺎ ﻳﻘﱰﺣﻪ ﺑﺎﻟﺘﺤﺪﻳﺪ ﻟﺘﻌﻠﻴﻤﻪ ﻷﺣﺪ اﻟﺘﻼﻣﻴﺬ املﺮﺗﻘﺒني ،ﻓﻴﺠﻴﺐ ﺑﺮوﺗﺎﺟﻮراس: أﻋ ﱢﻠﻤﻪ ﻛﻴﻔﻴﺔ اﻻﻫﺘﻤﺎم ﺑﻜﻞ أﻣﻮره اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﻟﻜﻲ ﻳﺤﺴﻦ إدارة ﺑﻴﺘﻪ ،وأﻋﻠﻤﻪ ﻛﺬﻟﻚ اﻻﻫﺘﻤﺎم ﺑﺄﻣﻮر اﻟﺪوﻟﺔ ﻟﻜﻲ ﻳﺼﺒﺢ ﻗﻮة ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ ﰲ املﺪﻳﻨﺔ ﻛ ُﻤﺘَ َﻜ ﱢﻠﻢ ورﺟﻞ أﻓﻌﺎل. وﻳﺮد ﺳﻘﺮاط :ﻫﻞ أﻓﻬﻢ ﻣﻦ ﻛﻼﻣﻚ أﻧﻚ ﺗﻘﺼﺪ ﻓﻦ اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ واﻟﻮﻋﺪ ﺑﱰﺑﻴﺔ ﻣﻮاﻃﻨني ﺻﺎﻟﺤني؟ ﻓﻘﺎل :إن ﻫﺬا ﺗﺤﺪﻳﺪًا ﻣﺎ أﻓﻌﻠﻪ. ﻳﻘﺪم أﻓﻼﻃﻮن ﻫﻨﺎ ﺻﻮرة ﺑﺮوﺗﺎﺟﻮراس ﺑﺒﺴﺎﻃﺔ ﻣﺒﺎﻟﻎ ﻓﻴﻬﺎ ،ﻓﺮﻏﻢ أن أﻓﻼﻃﻮن ﻳﻈﻬﺮ اﺣﱰاﻣﻪ ﻟﻠﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني اﻷﺷﻬﺮ؛ ﻓﻬﻮ ﻳﺨﺘﻠﻒ ﻣﻊ ﻛﻞ ﻣﻌﺘﻘﺪاﺗﻬﻢ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ،وﻋﺎ َر َ ض ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﺘﺤﺪﻳﺪ ﻓﻜﺮة أﻧﻪ ﻣﻦ املﻘﺒﻮل أو ﺣﺘﻰ ﻣﻦ املﻤﻜﻦ دﻓﻊ املﺎل ﻣﻘﺎﺑﻞ ﺗﻌﻠﻴﻢ 139
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻗِ ﻴَ ٍﻢ وﻓﻀﺎﺋﻞ ﻣﺜﻞ املﻮاﻃﻦ اﻟﺼﺎﻟﺢ أو اﻟﺴﻴﺎﳼ املﺎﻫﺮ .وﻟﻬﺬا ﻛﺎن ادﱢﻋﺎء اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني ﺗﻌﻠﻴﻢ اﻟﻨﺠﺎح اﻟﻌﻤﲇ ﻫﻮ ﻣﺎ ر ﱠﻛﺰ ﻋﻠﻴﻪ أﻓﻼﻃﻮن ﻫﺠﻮﻣﻪ .وﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻛﺎن ﻫﺬا ﺑﻌﻴﺪًا ﻛﻞ اﻟﺒُﻌﺪ ﻋﻦ أن ﻳﻜﻮن ﺟُ ﱠﻞ ﻣﻨﻬﺠﻬﻢ ،ﻓﻤﻦ ﺑني املﻮاد اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﻮا ﻳُ َﺪ ﱢرﺳﻮﻧﻬﺎ :ﻗﻮاﻋﺪ اﻟﻠﻐﺔ وﻧﻈﺮﻳﺎﺗﻬﺎ ،واﻟﺒﻼﻏﺔ ،واﻟﻨﻘﺪ اﻷدﺑﻲ ،واملﻮﺳﻴﻘﻰ ،واﻟﻘﺎﻧﻮن ،واﻟﺪﻳﻦ ،واﻷﺧﻼق ،واﻟﺴﻴﺎﺳﺔ، وأﺻﻞ اﻹﻧﺴﺎن واملﺠﺘﻤﻊ ،واﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ،وﺑﻌﺾ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ .وﺑني أﻧﻔﺴﻬﻢ ﻗﺪﱠﻣﻮا ً ﻣﺘﻜﺎﻣﻼ ﻟﻠﺘﻌﻠﻴﻢ اﻟﻌﺎﱄ ،ﻓﺒﺪءوا ﻳﺤﻠﻮن ﻛﻨﺎﴍﻳﻦ ﻟﻠﺤﻜﻤﺔ ﻣﺤﻞ اﻟﺸﻌﺮاء اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳني ﻣﻨﻬﺠً ﺎ وﺷﻌﺮاء اﻟﻘﺼﺎﺋﺪ املﻠﺤﻤﻴﺔ واﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ذوي اﻷﻃﻮار اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ اﻟﺬﻳﻦ ﻋﻤﻠﻮا دون أﺟﺮ ﻣﺜﻞ أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس. ﱠ ﺗﺨﺼﺼﻮا ﰲ ﺑﻌﺾ املﻮاد ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻗﺪﱠم اﻟﺒﻌﺾ اﻵﺧﺮ وﻻ رﻳﺐ أن ﺑﻌﺾ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني ﺷﺎﻣﻼ .ﻓﻘﺪ ﻛﺘﺐ ﺑﺮوﺗﺎﺟﻮراس ً ً ﻣﺜﻼ رﺳﺎﻟﺔ ﻋﻦ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻵﻟﻬﺔ ،ﻳﻘﺎل إﻧﻬﺎ ُﻗ ِﺮﺋَﺖ ﺗﺪرﻳﺒًﺎ ﻋﲆ املﻸ ﻷول ﻣﺮة ﰲ ﺑﻴﺖ اﻟﻜﺎﺗﺐ اﻟﱰاﺟﻴﺪي ﻳﻮرﻳﺒﻴﺪﻳﺲ .وﻣﻦ املﺆﻛﺪ أﻧﻪ اﻫﺘ ﱠﻢ ﺑﺎﻟﻘﺎﻧﻮن واﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﺣﻴﺚ إن ﺑﺮﻳﻜﻠﻴﺲ ﻗﺪ أوﻛﻞ إﻟﻴﻪ َﺳ ﱡﻦ اﻟﻘﻮاﻧني ملﺪﻳﻨﺔ ﺟﺪﻳﺪة ﰲ ﺟﻨﻮب إﻳﻄﺎﻟﻴﺎ. ً ﻛﺎﻣﻼ ﰲ ﻣﻨﺎﻗﺸﺔ ﻣﺸﻜﻠﺔ ﻗﺎﻧﻮﻧﻴﺔ ﺗﺘﻌﻠﻖ وﻳﻘﺎل إن ﺑﺮوﺗﺎﺟﻮراس وﺑﺮﻳﻜﻠﻴﺲ اﺳﺘﻐﺮﻗﺎ ﻳﻮﻣً ﺎ ﺑﺘﺤﺪﻳﺪ اﻟﺠﺎﻧﻲ ﰲ ﺣﻮادث اﻟﻘﺘﻞ اﻟﺨﻄﺄ ﰲ ﻣﻨﺎﻓﺴﺎت رﻣﻲ اﻟﺮﻣﺢ .ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﺑﺮوﺗﺎﺟﻮراس ﻳﻔﴪ ﻣﻌﺎﻧﻲ اﻟﻘﺼﺎﺋﺪ ،وﻗﺪ َد ﱠر َس اﻟﻠﻐﺔ وأ ﱠﻟﻒ ﻓﻴﻬﺎ ﺣﺘﻰ إﻧﻪ ﻳﻮﺻﻒ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﺑﺎﻟﻨﺤﻮي اﻷول )إذ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻔﻮارق اﻟﻠﻐﻮﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﻗﺪﱠﻣﻬﺎ ﻣﻔﻴﺪة ﻷﻓﻼﻃﻮن اﻟﺬي أﺿﺎف إﻟﻴﻬﺎ ﻟﻴﺪﺣﺾ آراء ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس املﻌﻘﺪة ﺑﺨﺼﻮص اﻟﻼﳾء( .وﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻤﻮﺿﻮﻋﺎت اﻷﻗﻞ ارﺗﺒﺎ ً ﻃﺎ ﺑﺎﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻇﻬﺮ ﺑﺮوﺗﺎﺟﻮراس ﰲ ﻣﺤﺎورات أﻓﻼﻃﻮن وﻫﻮ ﻳﻨﺎﻗﺶ ﻗﻀﺎﻳﺎ أﺧﻼﻗﻴﺔ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ وﻳﻨﺎﻗﺶ ً ﻃﺒﻴﻌﺔ املﻌﺮﻓﺔ ،ﻛﻤﺎ ﻛﺘﺐ ﺑﺮوﺗﺎﺟﻮراس ً ﻣﻘﺎﻻ ﻋﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻳﺘﻀﻤﻦ املﻘﻮﻟﺔ اﻟﺸﻬرية أﻳﻀﺎ واﻟﻐﺎﻣﻀﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮل إن اﻹﻧﺴﺎن ﻣﻘﻴﺎس ﻛﻞ ﳾء ،وﺳﻨﻨﺎﻗﺶ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ً ﻻﺣﻘﺎ. رﺟﻼ ﻣﻮﺳﻮﻋﻴٍّﺎ ﺑﺎﻫ ًﺮا ،وﻗﺪ ﻛﺎن ﻛﺬﻟﻚ ٍّ ً ﺣﻘﺎ ﺣﺘﻰ إﻧﻪ ﻛﻞ ﻫﺬا ﻳﺠﻌﻞ ﺑﺮوﺗﺎﺟﻮراس ً ﱠ وﻟﻜﻦ ﻣﺎ وﺻﻞ إﻟﻴﻪ ﻻ ﻳﻘﺎرن ﺑﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻲ أﺻﻐﺮ ﻣﻨﻪ ﺳﻨٍّﺎ ﻫﻮ ﻣﻘﺎﻻ ﻋﻦ املﺼﺎرﻋﺔ. ﻛﺘﺐ ﻫﻴﺒﻴﺎس؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻫﻴﺒﻴﺎس ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﻣﺴﺘﻌﺪٍّا ﻟﺘﺪرﻳﺲ أي ﳾء ،وﻟﻢ ﺗﻘِ ﻒ ﻣﻮاﻫﺒﻪ ﻋﻨﺪ اﻟﺘﺪرﻳﺲ ﻓﺤﺴﺐ ،ﺑﻞ روى أﻓﻼﻃﻮن أن ﻫﻴﺒﻴﺎس ﻗﺪ ﺗﺒﺎﻫﻰ ﺑﺄﻧﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻇﻬﺮ ﰲ اﻷﻟﻌﺎب اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻘﺎم ﻋﲆ ﺟﺒﻞ أوملﺒﻮس ﻟﻴﻠﻘﻲ ﺑﻌﺾ ﻗﺼﺎﺋﺪه ،وﻗﺪ ﺻﻨﻊ ﻧﻌﻠﻴﻪ وﻋﺒﺎءﺗﻪ وﺳﱰﺗﻪ وﺣﺰاﻣﻪ وﺧﺎﺗﻤﻪ ﺑﻨﻔﺴﻪ ،إﺿﺎﻓﺔ إﱃ ﻓﺮﺷﺎة وﻗﺎرورة زﻳﺖ ﻛﺎﻧﺘﺎ ﺑﺤﻮزﺗﻪ. وﰲ ﻇﻬﻮره اﻟﻌﻠﻨﻲ اﻟﺬي ادﱠﻋﻰ أﻧﻪ ﺟﻤﻊ ﻣﻨﻪ ً ﻣﺎﻻ ﻛﺜريًا ﻛﺎن ﻫﻴﺒﻴﺎس ﻣﺴﺘﻌﺪٍّا ﻹﻟﻘﺎء ﺧﻄﺐ ﻣُﺤَ ﱠﴬة وﺗَ َﻠ ﱢﻘﻲ اﻷﺳﺌﻠﺔ ﻣﻦ ﻛﻞ اﻟﺤﺎﴐﻳﻦ .وﺣﻴﻨﻤﺎ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﺼﻨﻊ ﻣﻼﺑﺴﻪ أو 140
َ وﻫﺒﱠﺖ رﻳﺎح املﺘﺎﻋﺐ :اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﻮن
ﺣُ ِﻠﻴﱠ ُﻪ ﻛﺎن ﻳﺠﻤﻊ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ،ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﻜﺘﺐ ﺑﻌﺾ املﴪﺣﻴﺎت ،إﻻ أن ً ﻋﻤﻴﻘﺎ ﺑﻘﺪر ﻣﺎ ﻛﺎن أﻓﻼﻃﻮن َﺳﺨِ َﺮ ﻣﻨﻪ وﻣﺎ ذﻟﻚ ﻋﻠﻴﻪ ﺑﺠﺪﻳﺪ .وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺗﻌﻠﻴﻢ ﻫﻴﺒﻴﺎس ﻣﻮﺳﻮﻋﻴٍّﺎ ﻣﺘﻌﺪد املﺠﺎﻻت ،وﻳﺒﺪو أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳ َُﻘﺪﱢم إﺳﻬﺎﻣﺎت ﻛﺒرية ﰲ أيﱟ ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻮم املﺘﻌﺪدة اﻟﺘﻲ َد ﱠرﺳﻬﺎ ،رﺑﻤﺎ ﺑﺎﺳﺘﺜﻨﺎء اﻛﺘﺸﺎف أﺣﺪ املﻨﺤﻨﻴﺎت اﻟﻬﺎﻣﺔ ﰲ اﻟﻬﻨﺪﺳﺔ .وﻟﻢ ﻳﻘﺮ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﻗﺎﺋﻼ» :ﻟﻢ أ َ ِﺟ ْﺪ َﻗ ﱡ ﺑﻤﺎ أﻗ ﱠﺮه ﻫﻴﺒﻴﺎس ﻣﻦ ﺗﻘﻴﻴﻢ ﻟﻨﻔﺴﻪ واﻟﺬي ﻧﻘﻠﻪ أﻓﻼﻃﻮن ﻋﲆ ﻟﺴﺎﻧﻪ ً ﻂ ً رﺟﻼ ﻳﺘﻔﻮﱠق ﻋﲇ ﱠ ﰲ أي ﳾء«. ﻛﺎن أﻧﺘﻴﻔﻮن أﺣﺪ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني اﻷﻛﺜﺮ ﺗﻮاﺿﻌً ﺎ ﻣﻦ ﻫﻴﺒﻴﺎس ،وﻛﺎﻧﺖ ﻛﻠﻤﺎﺗﻪ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻣﻔﻌﻤﺔ ﺑﺎﻟﺘﺸﺎؤم؛ ﻓﻬﺎ ﻫﻮ ذا ﻳﻘﻮل» :إن اﻟﺤﻴﺎة ﻛﻠﻬﺎ ﻣﺪﻋﺎة ﻟﻠﺸﻜﻮى ،ﻓﻠﻴﺲ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺎ ﻫﻮ ﻣﻤﻴﱠﺰ أو ﻋﻈﻴﻢ أو ﻧﺒﻴﻞ ،ﻓﻜﻞ ﳾء ﺗﺎﻓﻪ وواﻫﻦ وزاﺋﻞ وﻣﺤﺰن «.وﻗﺪ ﻛﺘﺐ ً أﻳﻀﺎ» :وﻣﺎ اﻟﺤﻴﺎة إﻻ ﻳﻮم واﺣﺪ ،ﻻ ﺗﻠﺒﺚ إﻻ ﻟﻬﺬا اﻟﻴﻮم اﻟﺬي ﻣﺎ إن ﻧ َﺮ ﻓﻴﻪ اﻟﻨﻮر ﺣﺘﻰ ﻧﻨﻘﻞ أﻣﺎﻧﺘﻨﺎ إﱃ اﻟﺠﻴﻞ اﻟﻘﺎدم «.أﻣﺎ أﻫﻢ ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ اﻟﺒﺎﻗﻴﺔ ﻓﻘﺪ ﺗﺤﺪﱠﺛﺖ ﻋﻦ اﻷﺧﻼق وﺗﺤﺪﻳﺪًا ﻣﺎﻫﻴﺔ اﻟﻌﺪاﻟﺔ، وﻫﺬا ﻣﻦ املﺮﺟﺢ ﻣﺎ ﻛﺎن ﻳُ َﺪ ﱢرﺳﻪ ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﺨﺼﻮص .ﻛﻤﺎ ﻋﺮض ً أﻳﻀﺎ املﺰﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺴﻠﻊ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻟﻠﺒﻴﻊ ،وﻛﺎن ﻣﻬﺘﻤٍّ ﺎ ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﺨﺼﻮص ﺑﺎﻷﺣﻼم وﺗﻔﺴريﻫﺎ ،وﻳﺒﺪو أﻧﻪ ﻗﺪﱠم ﻧﻮﻋً ﺎ ﻣﻦ ﺧﺪﻣﺎت اﻟﻌﻼج اﻟﻨﻔﴘ. ً ﺗﺨﺼﺼﺎ؛ إذ ﻛﺎن ﺧﻄﻴﺒًﺎ ﻣﺸﻬﻮ ًرا ﻛﺎن ﺟﻮرﺟﻴﺎس ﻣﻦ ﺑني اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني اﻷﻛﺜﺮ وأﻟﻒ ﻋﺪة ﻛﺘﻴﺒﺎت ﻋﻦ اﻟﺒﻼﻏﺔ .وﺿﻤﻦ أﺷﻴﺎء أﺧﺮى أ ﱠﻟﻒ ﺟﻮرﺟﻴﺎس ﻋﺪدًا ﻣﻦ اﻟﺨﻄﺐ اﻟﺘﻲ أُﻋِ ﺪﱠت ﻟﺘُﺪ َرس وﺗﻘﺎ َرن ﻛﻨﻤﺎذج ﻟﻠﺠﺪل اﻹﻗﻨﺎﻋﻲ ،وﻛﺎﻧﺖ أﻃﻮﻟﻬﻦ ﻫﻲ اﻟﺨﻄﺒﺔ اﻟﻘﻮﻳﺔ ﰲ اﻟﺪﻓﺎع ﻋﻦ ﻫﻴﻠني اﻟﻄﺮوادﻳﺔ .وﻗﺪ رﻛﺰ أﻓﻼﻃﻮن ﺟُ ﱠﻞ اﻟﻬﺠﻮم اﻟﺬي ﺷﻨﻪ ﻋﲆ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﺠﺎﻧﺐ؛ ﺣﻴﺚ ادﱠﻋﻰ أﻧﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﻬﺘﻤﻮا ﺑﺎﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﰲ ﺟﺪاﻟﻬﻢ ﺑﻞ ﺑﺘﻌﻠﻴﻢ ﺗﻼﻣﻴﺬﻫﻢ ﺧﺪع ً ﻋﺎدﻻ أو ﺻﺎﺣﺐ ﺣﺠﺔ ﻗﻮﻳﺔ؛ اﻟﻔﻮز ﺑﺎﻟﺠﺪال .وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳَﻌﻨِﻲ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني ﻣﺎ إذا ﻛﻨﺖ ﻓﺎﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﻮن ﺳﻴﻌﻠﻤﻮﻧﻚ ﻛﻞ أﻧﻮاع اﻟﺤﻴﻞ اﻟﺘﻲ ﺗُﺠﺪي ﰲ أﻳﺔ ﻣﻨﺎﻓﺴﺔ ﻛﻼﻣﻴﺔ .وﻗﺪ اﻗﺘﻔﻰ أرﺳﻄﻮ أﺷﻬﺮ ﺗﻼﻣﻴﺬ أﻓﻼﻃﻮن أﺛ َﺮ أﺳﺘﺎذه ،وواﺻﻞ ﻫﺠﻮﻣﻪ ﻋﲆ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني ً ﻗﺎﺋﻼ» :إن ﻣﻬﻨﺔ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻲ ﻫﻲ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ ﺻﻮرة ﻟﻠﺤﻜﻤﺔ دون اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ،واﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻲ رﺟﻞ ﻳﻜﺴﺐ املﺎل ﻣﻦ اﻟﺤﻜﻤﺔ اﻟﻈﺎﻫﺮﻳﺔ ﻏري اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ«. إن اﻟﻨﻘﺪ اﻟﺬي وﺟﱠ ﻬَ ﻪ أﻓﻼﻃﻮن وأﻧﺼﺎره إﱃ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني اﻟﺘﺼﻖ ﺑﻬﻢ ،ﻛﻤﺎ ﺳﻴﺸﻬﺪ أيﱡ ﻗﺎﻣﻮس ﺗُﻌَ ﱠﺮف ﻓﻴﻪ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﺔ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ .ﻓﻬﻞ ﻛﺎن ذﻟﻚ اﻟﻨﻘﺪ ﻣﺴﺘﺤَ ٍّﻘﺎ؟ وملﺎذا وُﺟﱢ ﻪ إﻟﻴﻬﻢ؟ ﻟﻴﺲ ﺻﺤﻴﺤً ﺎ أن ﻣﻨﺘﻘﺪي اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﺔ رأَوْا أن اﻟﺠﺪال واﻹﻗﻨﺎع ﻻ ﻳﺠﺐ ﺗﻨﻤﻴﺘﻬﻤﺎ 141
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻛﻤﻬﺎرات أو ﺗﺪرﻳﺴﻬﻤﺎ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق .وﻗﺪ ﻛﺘﺐ أرﺳﻄﻮ ﻧﻔﺴﻪ أﻗﻮى املﻘﺎﻻت ﺗﺄﺛريًا ﻋﻦ اﻟﺒﻼﻏﺔ ،وذﻛﺮ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺎ ﺗﻌ ﱠﻠﻤﻪ ﻣﻦ ﺟﻮرﺟﻴﺎس ﻓﻘﺎل» :ﺣﻴﺚ أوﴅ ﺟﻮرﺟﻴﺎس ﺑﻤﻮاﺟﻬﺔ ِﺟ ﱢﺪ ﺑﺎﻟﺠﺪﱢ ،وﻫﻮ ﻣﺎ أﺻﺎب ﻓﻴﻪ «.وﻟﻢ ﻳﻜﻦ أﻓﻼﻃﻮن وأرﺳﻄﻮ ﻳﻌﺘﻘﺪان اﻟﺨﺼﻢ ﺑﺎﻟﻬﺰل وﻫﺰﻟﻪ ِ أﻧﻪ ﻣﻦ املﻨﺎﰲ ﻟﻸﺧﻼق ﺗﻌﻠﻴﻢ اﻟﺘﻼﻣﻴﺬ رؤﻳﺔ ﻛ َِﻼ اﻟﺠﺎﻧﺒني ﻣﻦ اﻟﺠﺪال — وﻫﻲ ﺗﻬﻤﺔ ﻛﺜريًا ﻣﺎ وُﺟﱢ ﻬَ ْﺖ ﻟﻠﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني وﻛﺄﻧﻬﺎ ﻗﻤﺔ اﻟﻮﺿﺎﻋﺔ — ﺣﻴﺚ ﻗﺎل أرﺳﻄﻮ ذات ﻣﺮة: َ ﻧﻜﻮن ﻗﺎدرﻳﻦ ﻋﲆ اﺳﺘﺨﺪام وﺳﺎﺋﻞ اﻹﻗﻨﺎع … ﰲ ﻛ َِﻼ اﻻﺗﺠﺎﻫني ،ﻟﻴﺲ ﻳﺠﺐ أن ﻟﻜﻲ ﻧﺘﻤﻜﻦ ﻣﻦ اﻹﻗﻨﺎع ﺑﺸﻜﻞ ﻋﻤﲇ ﻋﲆ ﻛ َِﻼ اﻟﻄﺮﻓني )ﻓﻼ ﻳﺠﺐ ﱠأﻻ ﻧُﻘ ِﻨ َﻊ اﻟﻨﺎس ﺑﻤﺎ ﻫﻮ ﺑﺎﻃﻞ( وﻟﻜﻦ ﻟﻜﻲ ﻧﺮى اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﺑﻮﺿﻮح ،وﺣﺘﻰ ﻧﺘﻤﻜﻦ ﻣﻦ دﺣﺾ ﺣﺠﺞ ﻣﻦ ﻳﺠﺎدﻟﻮن ﺑﺎﻟﺒﺎﻃﻞ. أﻳﻀﺎ أن أﻓﻼﻃﻮن وأرﺳﻄﻮ َ وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺻﺤﻴﺤً ﺎ ً ﻗﺎﻻ إن ﻛﺒﺎر اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني ﻛﺎﻧﻮا ﺑﻼ ﻣﺒﺪأ وﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻟﻬﻢ أﻳﱠﺔ ﻗﻴﻤﺔ ،ﺑﻞ ﻛﺎن ﻣﻌﻈﻤﻬﻢ ﻳُﻌﺎﻣَ ﻞ ﺑﺎﺣﱰام ﻳ َِﺼ ُﻞ إﱃ ﺣَ ﱢﺪ اﻹﺷﺎدة ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺄﺗﻲ ذﻛﺮه .وﻟﻜﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ املﺜرية ﻫﻲ أن »اﻟﻔﺎﺳﺪﻳﻦ« ﻣﻦ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني أﻳٍّﺎ ﻣﻦ ﻛﺎﻧﻮا ﱢ ﻣﻨﺪﺳني ﺑﻼ اﺳﻢ ،إﻻ أﻧﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﺘﻌﺮﺿﻮا ﻟﻨﻘﺪ أﻓﻼﻃﻮن اﻟﻼذع داﺋﻤً ﺎ ﻣﺎ ﺑَ َﺪوْا ﻛﻤﺤﺘﺎﻟني ﻟﺸﺨﺼﻬﻢ إﻻ ﻧﺎد ًرا؛ ذﻟﻚ أن دواﻓﻊ أﻓﻼﻃﻮن ﻟﻠﻨﻘﺪ واﻟﻬﺠﻮم ﻛﺎﻧﺖ ﻋﻤﻴﻘﺔ ﺑﺤﻴﺚ ﻳﺼﻌُ ﺐ اﻟﺘﻌﺒري ﻋﻨﻬﺎ ﺑﻮﺿﻮح أو ﻣﻮاﺟﻬﺔ أيﱟ ﻣﻦ ﻛﺒﺎر اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني ﺑﻬﺎ ﴏاﺣﺔ. ﺛَﻤﱠ ﺔ ﻋﻮاﻣﻞ أﺧﺮى ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻘﻒ وراء ﻫﺬا اﻟﻨﻘﺪ ﻗﺪ ﻳﻜﻮن ﻣﻦ ﺿﻤﻨﻬﺎ اﻟﻌﺠﺮﻓﺔ؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن أﻓﻼﻃﻮن أﺣﺪ اﻟﻨﺒﻼء وﻛﺎن )ﻋﲆ ﻋﻜﺲ ﺗﺎﺑﻌﻪ ﺑﺮﻳﻜﻠﻴﺲ اﻟﻨﺒﻴﻞ( ﻣﺘﺸﻜ ًﻜﺎ ﰲ ﻓﻀﺎﺋﻞ اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ ،ورﺑﻤﺎ ﻋﺎرض ﻣﺒﺎدئ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﺔ املﻨﺎدﻳﺔ ﺑﺎملﺴﺎواة واﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮل إن ﻛﻞ ﱠ ﻳﺘﺤﲆ ﺑﺎﻟﻔﻀﻴﻠﺔ وأن ﻳُﻌَ ﱠﺪ ﻷداء دور ﻣﻌني ﰲ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ إﻧﺴﺎن ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺘﻌ ﱠﻠﻢ اﻟﺤﻜﻤﺔ وأن إذا ﻛﺎن ﻟﺪﻳﻪ املﺎل اﻟﻼزم ﻻﺳﺘﺌﺠﺎر ﻣﻌﻠﻢ ﺳﻔﺴﻄﺎﺋﻲ ﻓﺤﺴﺐ .وذﻛﺮ أﺣﺪ رﻓﺎق ﺳﻘﺮاط أﻧﻪ ﺷﺒﱠﻪ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني ﺑﺎﻟﻌﺎﻫﺮات ﻷﻧﻬﻢ ﻣﺴﺘﻌﺪﱡون ﻟﺒﻴﻊ ﺧﺪﻣﺎﺗﻬﻢ ملﻦ ﻳﺪﻓﻊ ﺛﻤﻨﻬﺎ .وﻟﻜﻦ ﻛﺎن ﻫﻨﺎك داﻓﻊ ﺷﺨﴢ أﺷﺪ أ ًملﺎ ﻟﺪى أﻓﻼﻃﻮن ،ﻓﻠﻘﺪ أ ﱠﻟﻒ ﻣﻌﻈﻢ أﻋﻤﺎﻟﻪ )ورﺑﻤﺎ ﻛﻠﻬﺎ( ﺑﻌﺪ ﻣﺤﺎﻛﻤﺔ ﺑﻄﻠﻪ ﺳﻘﺮاط ﻋﺎم ٣٩٩ق.م وإﻋﺪاﻣﻪ ،وﻫﻲ املﺄﺳﺎة اﻟﺘﻲ ﻳُﺤَ ﻤﱢ ﻞ أﻓﻼﻃﻮ ُن اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني املﺴﺌﻮﻟﻴﺔ ﻏري املﺒﺎﴍة ﻋﻨﻬﺎ .وﻛﺎن أﻓﻼﻃﻮن ﻳﺮى أن اﻟﺠﺮاﺋﻢ اﻟﺘﻲ اﺗﱡﻬﻢ ﺳﻘﺮاط ﺑﻬﺎ — وﺧﺎﺻﺔ اﻻدﱢﻋﺎء ﺑﺄﻧﻪ أﻓﺴﺪ ﻋﻘﻮل اﻟﺸﺒﺎب؛ ﻷﻧﻪ »ﺟﻌﻞ اﻟﺤُ ﺠﱠ ﺔ اﻷﺿﻌﻒ ﺗﻐﻠﺐ اﻟﺤﺠﺔ اﻷﻗﻮى وﻛﺎن ﻳﻌ ﱢﻠﻢ اﻵﺧﺮﻳﻦ أن ﻳﺤﺬوا ﺣﺬوه« — ﻧﺎﺗﺠﺔ ﻋﻦ ﺳﻤﻌﺔ ﺑﻌﺾ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني .وﻛﺎن ﻛﺒري ُﻣﺘﱠ ِﻬ ِﻤﻲ ﺳﻘﺮاط دﻳﻤﻘﺮاﻃﻴٍّﺎ ﻳُﺪﻋﻰ أﻧﻴﺘﻮس ،وﻗﺪ زﻋﻢ أﻓﻼﻃﻮن 142
َ وﻫﺒﱠﺖ رﻳﺎح املﺘﺎﻋﺐ :اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﻮن
أﻧﻪ ﻛﺎن ﻳُﻜ ﱡِﻦ اﻟﻜﺮاﻫﻴﺔ واﻟﺒﻐﻀﺎء ﻟﻠﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني ،رﻏﻢ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﻌﺮف ﻣَ ﻦ ﻫﻢ ﺑﺎﻟﺘﺤﺪﻳﺪ. وﰲ إﺣﺪى املﺤﺎورات اﻟﺘﻲ ُﻛ ِﺘﺒَﺖ ﰲ اﻷوﻗﺎت اﻟﺴﻌﻴﺪة ﻗﺒﻞ املﺤﺎﻛﻤﺔ ﻳﺮوي أﻓﻼﻃﻮن ﺣﻮا ًرا ً ﻋﻨﻴﻔﺎ ﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني ﻟﻢ ﻳﺴﻤﻬﻢ، ودﻳٍّﺎ ﺑني أﻧﻴﺘﻮس وﺳﻘﺮاط ،وﻛﺎن أﻧﻴﺘﻮس ﻗﺪ وﺟﱠ ﻪ ﻧﻘﺪًا وﻛﺎن ﻫﺬا ﻧﺺ اﻟﺤﻮار: ﺳﻘﺮاط :ﻫﻞ ﺗﺴﺒﱠﺐ أيﱞ ﻣﻦ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني ﻟﻚ ﰲ أي أذًى؟ وإﻻ ﻓﻤﺎ ﺳﺒﺐ اﻧﺘﻘﺎدك ﻟﻬﻢ؟ َ أﻧﻴﺘﻮس :ﻳﺎ إﻟﻬﻲ ،ﻻ! ﻟﻢ أﺣْ ﺘَ ﱠﻚ ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻲ ﺑﺄيﱟ ﻣﻨﻬﻢ ،ﻛﻤﺎ ﻟﻢ أﺳﻤﻊ أن أﺣﺪًا ﻣﻦ أﻫﲇ ﻗﺪ اﺣْ ﺘَ ﱠﻚ ﺑﻬﻢ. ﺳﻘﺮاط :إذن ﻟﻴﺲ ﻟﻚ أﻳﺔ ﺗﺠﺮﺑﺔ ﻣﻊ أيﱟ ﻣﻨﻬﻢ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق؟ أﻧﻴﺘﻮس :وﻻ أرﻳﺪ ذﻟﻚ أﺑﺪًا. ﻟﻢ ﻳﻜﻦ اﻟﺮﺟﻞ اﻟﻌﺎدي ﰲ أﺛﻴﻨﺎ ﻟﻴﻤﻠﻚ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﻜﺎﰲ ﻟﻴﻔﺮق ﺟﻴﺪًا ﺑني أﺳﺎﻟﻴﺐ املﺸﻬﻮر ﺳﻘﺮاط وأﺳﺎﻟﻴﺐ ﻏريه ﻣﻦ املﻔﻜﺮﻳﻦ ،ﺑﻞ ﻛﺎن ﻳﺴﻤﻊ ﻋﻦ ﺳﻘﺮاط أﻧﻪ داﻫﻴﺔ ﻳﺠﻠﺲ ﻃﻮال اﻟﻴﻮم ﻟﻴﻨﺎﻗﺶ اﻟﺸﺒﺎب اﻟﺬﻳﻦ أرادوا أن ﻳﺘﻌﻠﻤﻮا ﻣﻨﻪ ،وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻛﺎن ﺳﻘﺮاط ﻳﺒﺪو ﺳﻔﺴﻄﺎﺋﻴٍّﺎ وﺣﺴﺐ ﰲ ﻧﻈﺮ اﻟﺮﺟﻞ اﻟﻌﺎدي .وﻛﻤﺎ رأى أﻓﻼﻃﻮن؛ ﻓﺈن اﻻﺗﻬﺎم اﻟﺬي ﻛﺎن ﻳﺘﻌني ﻋﲆ ﺳﻜﺎن أﺛﻴﻨﺎ أن ﻳﻮﺟﱢ ﻬﻮه إﱃ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني اﻟﻔﺎﺳﺪﻳﻦ ﻗﺪ أﴐ ﺳﻘﺮاط ﺑﺎﻟﺨﻄﺄ ﻣﺜﻞ اﻟﺮﻣﺢ اﻟﻘﺎﺗﻞ اﻟﺬي ﺗﺤﺪﱠث ﻋﻨﻪ ﺑﺮﻳﻜﻠﻴﺲ وﺑﺮوﺗﺎﺟﻮراس. وﻻ رﻳﺐ أن اﻟﻜﺜري ﻣﻦ ﺳﻜﺎن أﺛﻴﻨﺎ ﻗﺪ ﺧﻠﻄﻮا ﺑني ﺟﻤﻴﻊ أﻧﻮاع املﻔﻜﺮﻳﻦ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻛﺎن ﻳﻮرﻳﺒﻴﺪﻳﺲ ﻳُﻌﺘَ َﱪ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﺳﻔﺴﻄﺎﺋﻴٍّﺎ ﻷن ﻣﴪﺣﻴﺎﺗﻪ ﻛﺎﻧﺖ ﺣﺪﻳﺜﺔ اﻟﻄﺎﺑﻊ ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺰﻋﺞ )ﻓﻘﺪ ﻗﺪﱠم أﺣﻴﺎﻧًﺎ اﻟﻌﺒﻴﺪ ﻛﻨﺒﻼء واﻷﺑﻄﺎل أدﻧﻰ ﻣﻦ أن ﻳﻮﺻﻔﻮا ﺑﺎﻟﻔﻀﻴﻠﺔ( .وﻗﺪ اﻧﺘﴩت ﺷﺎﺋﻌﺔ أن ﺳﻘﺮاط ﺳﺎﻋﺪ ﻳﻮرﻳﺒﻴﺪﻳﺲ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﺔ ﻫﺬه املﴪﺣﻴﺎت رﺑﻤﺎ ﺑﺴﺒﺐ ﻣﺎ ﺷﺎع ﻋﻦ ﻏﺮاﺑﺔ ﻛﻼ اﻟﺮﺟﻠني .وﻗﺪ ﻇﻬﺮ ﺳﻘﺮاط ُ ﻧﻔﺴﻪ ﰲ ﻣﴪﺣﻴﺔ أرﺳﻄﻮﻓﺎن »اﻟﻐﻴﻮم« اﻟﺘﻲ ﻋُ ِﺮ َ ﺿ ْﺖ أول ﻣﺮة ﰲ أﺛﻴﻨﺎ ﻋﺎم ٤٢٣ق.م ﻛﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻲ أﺣﻤﻖ ﻓﺎﺳﻖ ﻓﺎﺳﺪ اﻷﺧﻼق ،ﻛﻤﺎ ﻇﻬﺮ ً أﻳﻀﺎ ﰲ ﻋﺪة ﻣﴪﺣﻴﺎت ﻫﺰﻟﻴﺔ ﺿﺎﻋﺖ اﻵن رﺑﻤﺎ ﻋﲆ اﻟﻘﺪر ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻦ اﻟﺒﺬاءة )ﻳﺮد ﰲ أﺣﺪ أﺟﺰاﺋﻬﺎ اﻟﺒﺎﻗﻴﺔ :إﻧﻨﻲ أﺑﻐﺾ ﺳﻘﺮاط ذاك اﻟﻔﻘري اﻟﺜﺮﺛﺎر( .وﰲ رواﻳﺔ أﻓﻼﻃﻮن ملﺤﺎﻛﻤﺔ ﺳﻘﺮاط ﺑﻌﺪ ﻋﺪة أﻋﻮام ،ﻳﺸري ﺳﻘﺮاط ﺑﺤﺰن إﱃ اﻟﻔﻜﺮة اﻟﺨﺎﻃﺌﺔ اﻟﺸﺎﺋﻌﺔ ﻟﺪى اﻟﻨﺎس ﻋﻨﻪ ﻓﻴﻘﻮل» :ﻟﻘﺪ رأﻳﺘﻢ ﺳﻘﺮاط ﺑﺄﻧﻔﺴﻜﻢ ﰲ ﻣﴪﺣﻴﺔ أرﺳﻄﻮﻓﺎن وﻫﻮ ﻳﻤﴚ وﻛﺄﻧﻪ ﰲ دوار ﻣﺪﻋﻴًﺎ أﻧﻪ ﻳﻤﴚ ﻋﲆ اﻟﻬﻮاء وﻳﺘﻔﻮه ﺑﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﻬﺮاء «.وﻳﻘﻮل ً أﻳﻀﺎ» :ﺳﺄﺣﺎول 143
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﻘﻠﻴﻞ املﺘﺒﻘﻲ ﻟﺪيﱠ أن أﺧ ﱢﻠﺺ أذﻫﺎﻧﻜﻢ ﻣﻦ اﻻﻧﻄﺒﺎع اﻟﺨﺎﻃﺊ اﻟﺬي ﺗَ َﻜﻮ َﱠن ﻋﻨﻲ ﻋﲆ ﻣﺪار أﻋﻮام ﻋﺪﻳﺪة«. وﻟﻢ ﻳﺸﻐﻞ أرﺳﻄﻮﻓﺎن ﺟﻤﻬﻮره ﺑﺎﻟﻔﺮوق اﻟﺪﻗﻴﻘﺔ ﺑني اﻟﻌﻠﻤﺎء اﻷواﺋﻞ واﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني، ﺑني ﺳﻘﺮاط واملﺨﺎدﻋني ذوي اﻷﺧﻼق اﻟﻔﺎﺳﺪة؛ إذن ﻷﻓﺴﺪ اﻟﺪﻋﺎﺑﺎت اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺎدﻓﺔ ﰲ ﻋﻴﻮن ﻣﻌﻈﻢ أﻫﻞ أﺛﻴﻨﺎ .ﻛﺎن ﻣﻦ ﻳﻄﺮح أﻳﺔ ﺗﺴﺎؤﻻت ﻋﻠﻤﻴﺔ ﺑﺨﺼﻮص اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻳُﻌﺘَ َﱪ ﻣُﺨِ ٍّﻼ ﺑﺘﻌﺎﻟﻴﻢ اﻟﺪﻳﻦ املﻮروﺛﺔ ،وﺑﻬﺬا ﻳُﺨِ ﻞ ﺑﺎﻟﻘﻴﻢ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ .وﻛﺬﻟﻚ اﻋﺘُﱪ ﻣَ ﻦ ﻳﺘﺴﺎءل ﻋﻦ اﻷﺧﻼﻗﻴﺎت اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ ﻣُﺨِ ٍّﻼ ﺑﺘﻌﺎﻟﻴﻢ اﻟﺪﻳﻦ املﻮروﺛﺔ ،واﺗﱡ ِﻬﻢ ﺑﺎﻟﺤﺪﻳﺚ ﺑﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﻬﺮاء ﺣﻮل ﺻﻮاﻋﻖ اﻟﱪق واﻟﺬرات .وﻗﺪ ﻛﺎن ﻫﺬا ﺣﺎل املﻔﻜﺮﻳﻦ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ﻓﺎﺳﺘﺤﻘﻮا ﻣﺎ أﺻﺎﺑﻬﻢ .ﻓﻔﻲ ﻣﴪﺣﻴﺔ »اﻟﻐﻴﻮم« ،اﺣﱰق »ﻣﺼﻨﻊ املﻨﻄﻖ« اﻟﺨﺎص ﺑﺴﻘﺮاط ﻋﻦ آﺧﺮه املﺜﻘﻞ ﺑﺎﻟﺪﻳﻮن واملﺬﻛﻮر ً ﻋﲆ ﻳﺪ ﻣﻮاﻃﻦ ﻏﺎﺿﺐ )وﻫﻮ ﺳﱰﺑﺴﻴﺎدس اﻟﻔﻼح َ آﻧﻔﺎ( .وﰲ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻮاﻗﻌﻴﺔ وﺑﻌﺪ أرﺑﻌﺔ وﻋﴩﻳﻦ ﻋﺎﻣً ﺎ ،أُدﻳﻦ ﺳﻘﺮاط وﺣُ ﻜِﻢ ﻋﻠﻴﻪ ﺑﺎﻹﻋﺪام ﻣﻦ أﻧﺎس ﻛﺎﻧﻮا ﻣﻦ املﺤﺘﻤﻞ ﺿﻤﻦ ﺟﻤﻬﻮر ﻣﴪﺣﻴﺔ »اﻟﻐﻴﻮم«. وﺣﺘﻰ ﻟﻮ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻫﺆﻻء ﺑﺎﻟﺴﻮء ﻧﻔﺴﻪ اﻟﺬي ﻳﺘﱠﺴﻢ ﺑﻪ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﻮن ﰲ »ﻣﺼﻨﻊ املﻨﻄﻖ« اﻟﺬي اﺑﺘﺪﻋﻪ أرﺳﻄﻮﻓﺎن ،ﻓﻤﻦ املﺤﺘﻢ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻫﻨﺎك ﺑﻌﺾ اﻟﺸﺨﺼﻴﺎت اﻟﺴﻴﺌﺔ ﺑني اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني اﻟﺤﻘﻴﻘﻴني .وﺣﺘﻰ أَﺟَ ﱡﻞ املﻌﻠﻤني ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳُﺴﺄل ﻋﻦ أﻓﻌﺎل ﺗﻼﻣﻴﺬه؛ ﻓﻘﺪ أﺻﺒﺢ أﺣﺪ اﻟﺸﺒﺎب اﻟﺬﻳﻦ َﺳﻌَ ﻮْا إﱃ ﻣﺮاﻓﻘﺔ ﺳﻘﺮاط ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﻃﺎﻏﻴﺔ وﺳﻔﺎﺣً ﺎ ﺑﻌﺪ ٍ ﻣﻨﺎف ﻟﻠﻌﺪاﻟﺔ ﻳﺼﺪر ﻣﻦ أي ﺷﺨﺺ ذﻟﻚ .وﻋﺒﺜًﺎ ﻗﺎل ﺳﻘﺮاط» :ﻟﻢ أﺷﺠﻊ أﺑﺪًا أي ﻋﻤﻞ ﺑﻤﺎ ﰲ ذﻟﻚ ﻣﻦ ﻳﻌﺘﱪﻫﻢ ﺑﻌﺾ اﻟﻨﺎس ﺗﻼﻣﻴﺬي ﺑﺪاﻓﻊ ﻣﻦ اﻟﺤﺴﺪ «.وﰲ ﻇﻞ ﻋﺪم ﺳﻴﻄﺮة اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني ﻋﲆ زﻣﻼﺋﻬﻢ أو أﺗﺒﺎﻋﻬﻢ ﻛﺎن ﻋﻤﻠﻬﻢ ﺧﻄريًا وﻗﺪ ﻳﺆﺛﺮ ﻋﲆ ﺳﻤﻌﺘﻬﻢ .وﻗﺪ ﻛﺎن أﻓﻼﻃﻮن ﻣﺪر ًﻛﺎ ﻟﺘﻠﻚ املﺸﻜﻼت ﻓﻘﺎل: ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺒﺪأ اﻟﺸﺒﺎب ﰲ اﻛﺘﺴﺎب ﺣﺲ املﺠﺎدﻟﺔ ﻳﺴﻴﺌﻮن اﺳﺘﺨﺪاﻣﻪ وﻛﺄﻧﻪ ﻧﻮع ﻣﻦ اﻟﺮﻳﺎﺿﺔ ،وﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻮﻧﻪ ﺑﺎﺳﺘﻤﺮار ﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﺠﺪل .وﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺘﻐ ﱠﻠﺒﻮن ﻋﲆ اﻵﺧﺮﻳﻦ وﻳﻐﻠﺒﻬﻢ اﻵﺧﺮون ﻓﴪﻋﺎن ﻣﺎ ﻳﻔﻘﺪون ﺛﻘﺘﻬﻢ ﻓﻴﻤﺎ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺆﻣﻨﻮن ﺑﻪ وﺗﻜﻮن اﻟﻨﺘﻴﺠﺔ ﺗﺸﻮﻳﻪ ﺳﻤﻌﺘﻬﻢ وﺳﻤﻌﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻛﻜﻞ. وﻹﻧﻘﺎذ ﺳﻤﻌﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺑﺸﻜﻞ ﻋﺎم وﺳﻘﺮاط ﺑﺸﻜﻞ ﺧﺎص ،ﻛﺎن ﻋﲆ أﻓﻼﻃﻮن أن ﻳﻔﺼﻞ ﺑني ﺳﻘﺮاط واﻟﺤﺮﻛﺔ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﺔ ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻓﻌﻠﻪ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﺑﺘﻌﻈﻴﻢ اﻟﻔﺮوق ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ. ُ ً ً أﺧﻼﻗﻬﻢ أو ﻋﲆ ﻓﺎﺿﻼ ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻛﺎن اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﻮن ﻗﻮﻣً ﺎ ﻓﺎﺳﺪ ًة رﺟﻼ ﻟﻘﺪ ﻛﺎن ﺳﻘﺮاط 144
َ وﻫﺒﱠﺖ رﻳﺎح املﺘﺎﻋﺐ :اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﻮن
اﻷﻗﻞ ﻳﺴﺒﺒﻮن اﻟﴬر وﻳﺠﻠﺒﻮن اﻷذى أﻳﻨﻤﺎ ﺣَ ﱡﻠﻮا ،وﻛﺎن ﺳﻘﺮاط ﻳﺴﻌﻰ وراء اﻟﺘﺴﺎؤﻻت اﻟﻔﻜﺮﻳﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ ﻋﲆ ﻋﻜﺲ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني اﻟﺬﻳﻦ اﺧﺘﻠﻒ ﺳﻌﻴﻬﻢ ﻋﻦ ذﻟﻚ ﻛﺜريًا .ﻛﺎن أﻓﻼﻃﻮن ﻳﻘﺮ أن ﺑﻌﺾ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني ﻣﺜﻞ ﺑﺮوﺗﺎﺟﻮراس وﺟﻮرﺟﻴﺎس ﻛﺎﻧﻮا ﺻﺎدﻗني إﻻ أﻧﻪ ﻗﺎل إﻧﻬﻢ ً أﻳﻀﺎ ﻗﺪ ﺿﻠﻮا اﻟﻄﺮﻳﻖ ﰲ ﺑﻌﺾ اﻟﺠﻮاﻧﺐ ،وإن ﻣﺬﻫﺒﻪ ﻛﺎن ﰲ ﻣﺠﻤﻠﻪ ﺳﻴﺌًﺎ. ﻟﻘﺪ ﻧﺠﺢ أﻓﻼﻃﻮن ﰲ ﻋﺮض ﻧﻘﺎط اﻟﻀﻌﻒ ﰲ ﺑﻌﺾ ﻣﺎ ﻗﺎﻟﻮا إﻻ أﻧﻪ أﻏﻠﻖ ﻋﻴﻨﻴﻪ ﻋﻦ ﻧﻘﺎط اﻟﻘﻮة ﻟﺪﻳﻬﻢ وﻋﻦ أن ﻛﺒﺎر اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺒﺤﺜﻮن ﻋﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﻫﻮ ﻧﻔﺴﻪ ﻳﺒﺤﺚ ﻋﻨﻬﺎ ،ﻛﻞ ﻣﺎ ﰲ اﻷﻣﺮ أﻧﻬﻢ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺒﺤﺜﻮن ﻋﻨﻬﺎ ﰲ ﻣﻜﺎن آﺧﺮ. وﻛﻤﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺘﻮﻗﻊ املﺮء ﻣﻦ وﺿﻌﻬﻢ املﻬﻨﻲ ،ﻛﺎن ﻟﻠﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني ﻣﺬﻫﺐ ﻋﻠﻤﻲ ﰲ املﺴﺎﺋﻞ اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ املﻔ ﱢﻜﺮﻳﻦ اﻵﺧﺮﻳﻦ؛ ﻓﻠﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﺪﻳﻬﻢ ﻣﺎ ﻳﻜﻔﻲ ﻣﻦ اﻟﻮﻗﺖ ملﺎ اﻋﺘﱪوه ﻧﻈﺮﻳﺎت وﺗﺄﻣﱡ ﻼت ﻋﺒﻘﺮﻳﺔ وﻟﻜﻦ ﻏري ﻣﻘﻨﻌﺔ وﻏري ﻣﺜﻤﺮة .ﻓﻤﻦ ﻳﻤﻜﻨﻪ ﺗﺤﺪﻳﺪ ﻣﺎ إذا ﻛﺎن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻛﺘﻠﺔ ﻣﻦ املﻴﺎه أم ﺣﺸﺪًا ﻣﻦ اﻷرﻗﺎم أم ﺟﺴﻤً ﺎ ﺗَ َﻜﻮﱠن ﻣﻦ اﻧﺪﻻع ﺣﺮﻳﻖ أم ﻣﺰﻳﺠً ﺎ ﻣﻦ اﻟﻌﻨﺎﴏ أم ﻋﺎﺻﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﺬرات؟ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ أيﱞ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت أﻗﻮى ﺑﺼﻮرة ﻓﺎرق ﰲ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ .أﻟﻢ ﻳﻨﻜﺮ ﻗﺎﻃﻌﺔ ﻣﻦ ﻧﻈرياﺗﻬﺎ ،وﻟﻢ ﻳُﺤﺪِث اﻻﺧﺘﻴﺎر ﺑﻴﻨﻬﺎ أي ٍ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ وﺟﻮد اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ؟ وﻣﻦ ﻛﺎن ﻳﻤﻜﻨﻪ أن ﻳﺼﺪق ﺣﺠﺞ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس اﻟﺘﻲ ﺳﺎﻗﻬﺎ ﻟﻴﺜﺒﺖ أﻧﻪ ﻻ ﳾء ﻳﺘﻐري ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﺜﺒﺖ ﻛﻞ ﺣﺪث ﰲ ﻛﻞ ﻳﻮم ﻋﻜﺲ ﺣﺎﻻ؛ ﻷﻧﻬﺎ ً ذﻟﻚ؟ وﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺬرﻳﺔ ﺑﺄﻓﻀﻞ ﻣﻨﻬﺎ ً أﻳﻀﺎ أﻟﻐﺖ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﺨﱪات اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ ﺑﻮﺻﻔﻪ ﺣﺠﺎﺑًﺎ ﻗﺒﻴﺤً ﺎ ﻳﻮاري اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﺠﻮﻫﺮﻳﺔ ﻟ »اﻟﺬرات واﻟﻔﺮاغ«. ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻌﻘﻞ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻲ ﻳﺒﺪو أن ﺛﻤﺔ ً ﺧﻠﻼ ﺣﺪث ﰲ ﻣﺠﺎل اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ؛ ﻓﻘﺪ ﺑﺪا ﴎﻗﺖ ،وﺑﺪا أن املﻨﻄﻖ اﻟﺴﻠﻴﻢ ﻗﺪ ﺿﺎع ﺧِ ْﻠ َﺴ ًﺔ .وﻫﻨﺎك ﻣﻘﺎﻟﺔ اﻟﻌﻘﻞ واﻟﺠﺪل واﻟﻠﻐﺔ ﻛﺄﻧﻬﺎ ُ ِ ً ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻋﺒﻘﺮﻳﺔ ﻟﺠﻮرﺟﻴﺎس ﺗﻘﻮل إن اﻟﻠﻐﺰ ﻳﺘﻨ ﱠﻜﺮ ﰲ ﺻﻮرة ﺟﺪال ،وﻳﻤﻜﻦ اﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ ﻟﺘﻮﺿﻴﺢ ﺳﺨﺎﻓﺔ اﻷﻣﺮ ﺑ ُﺮﻣﱠ ﺘِﻪ؛ ﻓﻬﻲ ﺗﺪﻋﻲ إﺛﺒﺎت ﺛﻼﺛﺔ أﺷﻴﺎء؛ أوﻟﻬﺎ :أﻧﻪ ﻻ ﳾء ﻛﺎﺋﻦ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق ،وﺛﺎﻧﻴﻬﺎ :أﻧﻪ ﺣﺘﻰ إن و ُِﺟ َﺪ ﳾء ﻓﻤﻦ املﺴﺘﺤﻴﻞ ﻓﻬﻢ ﻃﺒﻴﻌﺘﻪ ،وآﺧﺮﻫﺎ :أﻧﻪ ﺣﺘﻰ إذا أﻣﻜﻦ ﻓﻬﻢ ﻃﺒﻴﻌﺘﻪ ﻓﻤﻦ املﺴﺘﺤﻴﻞ ﻣﺸﺎرﻛﺔ ذﻟﻚ ﻣﻊ اﻵﺧﺮﻳﻦ. ورﺑﻤﺎ ﻛﺎن ﺟﻮرﺟﻴﺎس ﻧﻔﺴﻪ ﺳﻴﺘﺤري أﻣﺎم ﻟﻐﺰه وﻟﻮ ﺷﻴﺌًﺎ ﻳﺴريًا ،وإن ﻟﻢ ﻳﺘﺤري، ﻓﺤﺮيﱞ ﺑﻪ أن ﻳﻔﻌﻞ .ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻴﺴﺘﻄﻴﻊ ﺗﺤﺪﻳﺪ املﻐﺎﻟﻄﺎت ﰲ اﻟﻠﻐﺰ ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﺪﻗﺔ ،ﺣﻴﺚ إن املﻔﺮدات اﻟﻨﻘﺪﻳﺔ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﱠ ﻣﻌﻘﺪة ﺑﺪرﺟﺔ ﺗﻜﻔﻲ ﻟﻠﻘﻴﺎم ﺑﺬﻟﻚ ،وﻟﻜﻨﻪ ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻟﻢ ﻳﻘﺒَﻞ ﻫﺬا اﻟﺸﺬوذ املﻨﻄﻘﻲ ﻋﲆ ﻋﻮاﻫﻨﻪ .ورﺑﻤﺎ أراد أن ﻳﺤﺮج ﺑﻪ أي ﻓﻴﻠﺴﻮف ﻳﻨﻘﺼﻪ 145
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻣﻦ اﻟﺤﻜﻤﺔ ﻣﺎ ﻳﺠﻌﻠﻪ ﻳﻨﻜﺮ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻴﻮﻣﻲ ،وذﻟﻚ ﺑﺒﻴﺎن أن ﻫﺬه اﻷﻓﻜﺎر ﻗﺪ ﺗﻔﺎﻗﻤﺖ ﴎﻳﻌً ﺎ، أو رﺑﻤﺎ أراد أن ﻳﺒني أن ﻣﺎ ﻳُﺪْﻋﻰ »اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ« ﻳﻤﻜﻦ ﻷي ﺧﻄﻴﺐ ﻣﺎﻫﺮ ﻣﺜﻠﻪ أن ﻳُﻀﻌِ ﻔﻬﺎ ﺣﺘﻰ وﻟﻮ ْ ﺑﺪت ﻣﺆﻛﺪة ،أو رﺑﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﺴﲇ ﺑﻪ ﻧﻔﺴﻪ وﺟﻤﻬﻮره؛ إذ ﻛﺎن اﻹﻏﺮﻳﻖ ﻳﺤﺒﻮن اﻷﻟﻐﺎز اﻟﻜﻼﻣﻴﺔ .وأﻳٍّﺎ ﻛﺎن اﻟﻐﺮض ﻓﺎملﺤﺼﻠﺔ واﺣﺪة؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن اﻟﻠﻐﺰ ﺗﺬﻛريًا ﺑﺄن ﻫﻨﺎك ﻣﺎ ﻳﺜري اﻟﺸﻚ ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﻳﺘﺤﺪث ﺑﻬﺎ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ وﻳﺠﺎدﻟﻮن ﺑﺨﺼﻮص اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ املﻄﻠﻘﺔ .وﻣﻦ املﻤﻜﻦ أن ﻳﺘﺤﻮل ﺣﺪﻳﺜﻬﻢ ﻫﺬا إﱃ ﻓﻴﺾ ﺟﺎرف ﻣﻦ اﻟﺴﺨﺎﻓﺎت. وﻻ ﻧﺤﺘﺎج إﱃ اﺳﺘﻘﺼﺎء ﺗﻌﻘﻴﺪات ﻟﻐﺰ ﺟﻮرﺟﻴﺎس ،ﻛﻤﺎ أن إدراﻛﻪ اﻟﺬاﺗﻲ املﻨﻤﱠ ﻖ ﻻ ﻗﻴﻤﺔ ﻟﻪ .ﻓﻔﻲ اﻟﺠﺰء اﻟﺜﺎﻟﺚ ﻣﻦ اﻟﻠﻐﺰ اﻟﺬي ﻳﺘﺤﺪث ﻋﻦ املﺸﺎرﻛﺔ ﻣﻊ اﻵﺧﺮﻳﻦ ،ﻋﻘﺪ ﺟﻮرﺟﻴﺎس ﻣﻘﺎرﻧﺔ ﺑني »اﻟﻜﻼم« وﺑني »ﻣﺎ ﻳﻮﺟﺪ ﺣﻮﻟﻨﺎ« .ﻟﻘﺪ أدرك اﻟﻔﺠﻮة اﻟﻜﺒرية ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ، ﻛﻤﺎ أدرك ﻗﺪرة اﻟﻠﻐﺔ ﻋﲆ ﺻﻴﺎﻏﺔ ﻧﻈﺮة اﻹﻧﺴﺎن ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ .وﻗﺪ ﻛﺘﺐ ﰲ ﻣﻮﺿﻊ آﺧﺮ أن »ﺗﺄﺛري اﻟﻜﻼم ﻋﲆ ﺑﻨﺎء اﻟﺮوح ﻳﺸﺒﻪ ﺗﺄﺛري املﺨﺪﱢرات ﻋﲆ ﺣﺎﻟﺔ اﻟﺠﺴﺪ« ،وأﺿﺎف أن »اﻹﻗﻨﺎع ﻋﻨﺪ اﻣﺘﺰاﺟﻪ ﺑﺎﻟﻜﻼم ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳ َُﺨ ﱢﻠﻒ أي اﻧﻄﺒﺎع ﺗﺮﻳﺪه ﻋﲆ اﻟﺮوح «.وﻛﻤﺎ ﻳﺮى ﺟﻮرﺟﻴﺎس وﺑﻌﺾ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني اﻵﺧﺮﻳﻦ ،اﺳﺘﺨﺪم اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﻗﺪﻣﺎء اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﻠﻐﺔ ﻟﺨﻠﻖ ﺻﻮرة ﻏري ﻣﺠﺪﻳﺔ وﻏري ﺻﺤﻴﺤﺔ ﻋﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ ،وﻣﺎ ﻧﻬﺪف إﻟﻴﻪ اﻵن ﻫﻮ ﺧﻠﻖ ﺻﻮر ﻣﺠﺪﻳَﺔ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻨﻬﺎ. ﻛﺎن ﻫﺪف ﻫﺆﻻء اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني ﻫﻮ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ ﻓﻠﺴﻔﺔ ﺗﺸﻤﻞ ﺧﱪات اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ، إﻻ أن ﻫﺬا اﻟﻬﺪف وﺿﻌﻬﻢ وﺟﻬً ﺎ ﻟﻮﺟﻪ ﻣﻊ أﻓﻼﻃﻮن ﰲ ﺳﺎﺣﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ .ﻓﻜﻤﺎ رأﻳﻨﺎ ،ﻛﺎﻧﺖ ﻧﻈﺮة أﻓﻼﻃﻮن ﻟﻠﻤﻌﺮﻓﺔ ﺣُ ﺒ َْﲆ ﺑﻜﺜري ﻣﻦ ﺷﻌﺎﺋﺮ اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ اﻷورﻓﻴﺔ واﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﺔ .وﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻪ وﻷﺳﻼﻓﻪ ﻣﻦ املﻔ ﱢﻜﺮﻳﻦ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻬﻤﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ أن ﺗﻔﺘﺢ اﻟﻄﺮﻳﻖ إﱃ ﻣﺎ وراء ﻋﺎﻟﻢ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ ﻟﺘﻨﻘﻴﺔ ﺣﻘﺎﺋﻖ اﻟﻌﻘﻞ .أﻣﺎ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﻮن ﻓﻘﺪ أرادوا اﻟﺴري ﰲ اﻻﺗﱢﺠَ ﺎ ِه املﻌﺎﻛﺲ؛ ﻓﺒﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻬﻢ ﻛﺎن اﻟﻬﺪف إﻋﺎدة ﺻﻴﺎﻏﺔ اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﺑﻜﻞ ﺗﻌﻘﻴﺪاﺗﻬﺎ اﻟﻔﻮﺿﻮﻳﺔ ﻛﻮﺳﻴﻠﺔ ﻟﻠﻮﺻﻮل إﱃ اﻟﺤﻴﺎة املﻨﺸﻮدة .وﻟﻜﻦ اﻷﻓﻌﺎل ﺗﺨﺘﻠﻒ ﻋﻦ اﻷﻗﻮال ،ﻓﻤﺎ ﻫﻲ اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺼﻠُﺢ أن ﺗﻜﻮن وﺳﻴﻠﺔ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ اﻟﺤﻴﺎة املﻨﺸﻮدة؟ ﻓﺎﻟﻌﺎ َﻟﻢ ﻳﻤﺜﻞ ر ًؤى ﻣﺘﺼﺎرﻋﺔ ﺗﺨﺘﻠﻒ ﺑﺎﺧﺘﻼف اﻟﺒﴩ .إن اﻹدراك املﺘﺒﺎ ِﻳﻦ ﻫﻮ املﺸﻜﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﺣﺎول دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ أن ﻳﻘﻒ ﻟﻬﺎ ﻋﲆ ﺣﻞ ﺣﻴﻨﻤﺎ رﻓﺾ اﻷﺣﻜﺎم اﻟﺬاﺗﻴﺔ ﻋﻦ اﻟﺤﻠﻮ واملﺮ واﻟﺴﺎﺧﻦ واﻟﺒﺎرد وﻏري ذﻟﻚ ﻷﻧﻬﺎ ً ﺑﺪﻳﻼ ﻣﻮﺿﻮﻋﻴٍّﺎ ﻟﻬﺎ وﻫﻮ »اﻟﺬرات واﻟﻔﺮاغ« .أﻣﺎ ﺑﺮوﺗﺎﺟﻮراس ﻣﺤﺾ اﻋﺘﻘﺎدات ،وﻗﺪﱠم ﻓﻘﺪ ﻗﺪﱠم اﻟﺤﻞ ﻟﻠﻤﺸﻜﻠﺔ ﻧﻴﺎﺑﺔ ﻋﻦ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني ﰲ ﺻﻮرة ﻓﻜﺮة ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ وﺻﺎدﻣﺔ؛ إذ ﺗﻤﺴﻚ ﺑﺎﻟﺬاﺗﻴﺔ ً ﱠ ﺑﺪﻻ ﻣﻦ رﻓﻀﻬﺎ ،ﻓﻤﺎ أُدرﻛﻪ ﻫﻮ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﱄ وﻣﺎ ﺗﺪرﻛﻪ أﻧﺖ ﻫﻮ 146
َ وﻫﺒﱠﺖ رﻳﺎح املﺘﺎﻋﺐ :اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﻮن
ﺣﻘﻴﻘﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻚ ،ﻓﻘﺎل إﻧﻪ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ﺣﻘﻴﻘﺔ واﺣﺪة ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ املﺎدي وﻟﻜﻦ ذﻟﻚ ﻻ ﻳﻌﻨﻲ أﻧﻪ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻟﻪ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق ،ﺑﻞ ﻋﲆ اﻟﻌﻜﺲ ﻓﻬﻨﺎك َﻛ ﱞﻢ ﻣﻦ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﻟﻜﻞ ﳾء ﰲ اﻟﻮﺟﻮد ﻷن ﻣﺎ ﻳﺪرﻛﻪ ﻛﻞ ﻓﺮد ﻫﻮ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻪ .وﻫﺬا ﻣﺎ ﻗﺼﺪه ﺑﺮوﺗﺎﺟﻮراس ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻗﺎل ﻣﻘﻮﻟﺘﻪ املﺸﻬﻮرة» :إن اﻹﻧﺴﺎن ﻣﻘﻴﺎس ﻛﻞ ﳾء«. ﻳُﻌﺮف ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ وﺟﻬﺎت اﻟﻨﻈﺮ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﻴﺔ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﺗﻘﻮل إن اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻧﺴﺒﻴﺔ ﰲ ﻧﻈﺮ ﻛﻞ ﻣﺆﻣﻦ ﺑﻬﺎ ﻛﻤﺎ ﺗﻌﻨﻲ ﺣﺎﻟﻴٍّﺎ أن اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻧﺴﺒﻴﺔ ﰲ ﻧﻈﺮ ﻛﻞ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻤﻦ ﻳﺆﻣﻨﻮن ﺑﻬﺎ. ً وﺑﺪﻻ ﻣﻦ أن ﺗﻜﻮن اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺧﻔﻴﺔ ﻳﺼﻌﺐ اﻛﺘﺸﺎﻓﻬﺎ إﻧﻬﺎ وﺳﻴﻠﺔ ﻹﻋﺎدة املﻌﺮﻓﺔ إﱃ اﻟﻨﺎس. َ ﻗﺪر ﻣﻨﻪ. ﻓﻬﻲ ﻣﺘﻨﺎﺛﺮة ﰲ ﻛﻞ ﻣﻜﺎن ﻣﺜﻞ ﻃﻌﺎم امل ﱢﻦ ﻣﻦ اﻟﺴﻤﺎء ﻳﺤﺼﻞ ﻛﻞ إﻧﺴﺎن ﻋﲆ ٍ وﻳﺒﺪو أن ﺑﺮوﺗﺎﺟﻮراس ﻫﻮ أول ﻣﻦ وﺿﻊ ﻣﻔﻬﻮم اﻟﻨﺴﺒﻴﺔ اﻟﺬي ﻧﻮﻗﺶ ﺑﺎﻟﺘﻔﺼﻴﻞ ﻓﻴﻤﺎ ﺑني ﺑﻌﺾ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني وﺧﺼﻮﻣﻬﻢ وﻋﲆ رأﺳﻬﻢ أﻓﻼﻃﻮن ،وﻣﻨﺬ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ ﻇﻬﺮ ﻟﻬﺎ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺼﻴﻎ .وﻳُﻌﺰى ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﺰﺧﻢ ﻟﻠﻨﺴﺒﻴﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ إﱃ ﻛﺎﻧﻂ )(١٨٢٤–١٧٢٤ وﻫﻮ ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻴَﺴﻌَ ﺪ ﺑﻪ ﻛﺎﻧﻂ ﻧﻔﺴﻪ؛ ﻓﻘﺪ آﻣﻦ ﻛﺎﻧﻂ ﺑﻮﺟﻮد ﺣﻘﺎﺋﻖ ﻣﻄﻠﻘﺔ وﺛﺎﺑﺘﺔ، وﻟﻜﻨﻪ ﻓﺘﺢ اﻟﺒﺎب دون ﻗﺼﺪ أﻣﺎم اﻟﻨﺴﺒﻴﺔ ﺑﺴﺒﺐ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻓﴪ ﺑﻬﺎ ﺗﻠﻚ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ، ﺣﻴﺚ ﻗﺎل إن اﻟﺨﺼﺎﺋﺺ املﺘﻌﺪدة ﻟﺼﻮرة اﻟﻌﺎﻟﻢ ﰲ أذﻫﺎﻧﻨﺎ ﻳﻔﺮﺿﻬﺎ اﻟﻌﻘﻞ اﻟﺒﴩي، وﺑﻤﺎ أن ﻛﻞ اﻟﻌﻘﻮل اﻟﺒﴩﻳﺔ ﻣﺘﻤﺎﺛﻠﺔ ﰲ ﺟﻮاﻧﺐ ﻣﻬﻤﺔ ﻓﺈن ﺗﻠﻚ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﻣﺘﻤﺎﺛﻠﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﺠﻤﻴﻊ .وﺗﺒﻨﱠﻰ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ املﻔﻜﺮﻳﻦ ﺑﻌﺪ ﻛﺎﻧﻂ ﻓﻜﺮﺗﻪ أن اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺗﺘﺤﺪد ﺟﺰﺋﻴٍّﺎ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﻌﻘﻞ اﻟﺒﴩي ،وﻟﻜﻨﻬﻢ رﻓﻀﻮا اﻓﱰاﺿﻪ اﻟﻘﺎﺋﻞ ﺑﺄن ﻛﻞ اﻟﻌﻘﻮل ﻣﺘﻤﺎﺛﻠﺔ؛ ﻓﻜﺎﻧﺖ اﻟﻨﺘﻴﺠﺔ ازدﻫﺎر اﻟﻨﺴﺒﻴﺔ؛ إذ إن ﻛﻞ اﻟﺼﻮر املﺮﺳﻮﻣﺔ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ ﺗﻌﻜﺲ اﻷدوات املﻔﺎﻫﻴﻤﻴﺔ اﻟﺘﻲ اﺳﺘﺨﺪﻣﻬﺎ أﺻﺤﺎﺑﻬﺎ ،إﻻ أن أﻳٍّﺎ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﺼﻮر ﻟﻴﺴﺖ أﺻﺢ ﻣﻦ أﺧﺘﻬﺎ. ً وﺗَﻈﻬَ ﺮ اﻟﻨﺴﺒﻴﺔ ُ ﻧﻄﺎﻗﺎ ﻣﻦ اﻵﺧﺮ ،ﻓريى ﻧﻔﺴﻬﺎ ﰲ ﺻﻮر وأﺷﻜﺎل ﻋﺪة ،ﺑﻌﻀﻬﺎ أوﺳﻊ ﺑﻌﺾ اﻟﻨﺎس أن اﻟﻘﻴﻢ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ﻧﺴﺒﻴﺔ ﺑﺤﻴﺚ ﻳﻌﺘﻤﺪ اﻟﺼﻮاب واﻟﺨﻄﺄ ﻋﲆ املﺠﺘﻤﻊ أو اﻟﺤﻘﺒﺔ ﻣﺤﻞ اﻟﻨﻘﺎش ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﺆﻣﻦ آﺧﺮون أن اﻟﻨﺴﺒﻴﺔ ﻻ ﺗﻨﻄﺒﻖ ﻋﲆ اﻟﻘﻴﻢ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ،ﺑﻞ ﻋﲆ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ أو رﺑﻤﺎ ﻛﻞ »اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ« .وﺑﺸﻜﻞ ﻋﺎم ﺗﻈﻬﺮ ﻗﻴﻮد اﻟﺘﻔﻜري اﻟﻨﺴﺒﻲ ﰲ ﻫﺬا اﻟﻌﴫ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﺎت ﻋﻠﻢ اﻹﻧﺴﺎن وﻋﻠﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎع واﻟﻨﻘﺪ اﻷدﺑﻲ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻛﺘﺎﺑﺎت اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ. وﺑﻴﻨﻤﺎ ﺗﺒﺪو املﻌﺮﻓﺔ املﻮﺟﻮدة ﺑﺘﻨﻮﱡع املﻌﺘﻘﺪات واﻟﻌﺎدات اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻣﺸﺠﱢ ﻌﺔ ﻋﲆ اﻟﺘﻌﺎ ُ ﻃﻒ ﻣﻊ اﻟﻨﺴﺒﻴﺔ ،ﻳﻤﻴﻞ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ إﱃ اﻟﺤﺬر ﻣﻦ اﻻﻟﺘﺒﺎس واملﻔﺎرﻗﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻜﻤُﻦ وراء اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﺻﻮرﻫﺎ .ﻟﻨﺄﺧﺬْ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل اﻟﻨﺴﺒﻴﺔ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ،ﺣﻴﺚ ﺗﻘﻮل إﺣﺪى ﻧﺴﺨﻬﺎ املﺒﺎﴍة إﻧﻪ ﻣﻦ اﻟﺨﻄﺄ اﻧﺘﻘﺎد ﻗِ ﻴَ ِﻢ اﻟﺜﻘﺎﻓﺎت اﻷﺧﺮى؛ ﻷن ﻛﻞ ﻣﺎ ﺗﺆﻣﻦ ﺑﻪ ﻛﻞ ﺛﻘﺎﻓﺔ ﻫﻮ اﻟﺼﻮاب 147
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻬﺎ .وﻟﻜﻦ ﻫﺬه اﻷﻃﺮوﺣﺔ املﺴﺎملﺔ املﺘﺴﺎﻣﺤﺔ ﺗﻨﺎﻗﺾ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ .ﻓﻤﺎ ﻫﻲ املﻌﺎﻳري اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﴤ ﺑﺄﻧﻪ ﻣﻦ »اﻟﺨﻄﺄ« اﻧﺘﻘﺎد ﻗِ ﻴَ ِﻢ اﻵﺧﺮﻳﻦ؟ ﻓﺈذا ﻛﺎﻧﺖ إﺣﺪى اﻟﺜﻘﺎﻓﺎت ﺗﺮى أﻧﻬﺎ أﻓﻀﻞ أﺧﻼﻗﻴٍّﺎ ﻣﻦ اﻟﺜﻘﺎﻓﺎت اﻷﺧﺮى ﻓﺎﻟﻨﺴﺒﻴﺔ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ذاﺗﻬﺎ ﺗﺴﺘﻠﺰم ُ اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ﻧﻈرياﺗﻬﺎ. أﻧﻪ ﻣﻦ اﻟﺼﻮاب أن ﺗﻨﺘﻘﺪ ﻫﺬه ﺗﻤﻴﻞ اﻟﻨﺴﺒﻴﺔ ﺑﻜﻞ أﺷﻜﺎﻟﻬﺎ إﱃ اﻹﺧﻔﺎق ﺣﻴﻨﻤﺎ ﺗُﻄﺒﻖ ﻋﲆ ﻧﻔﺴﻬﺎ ،ﻛﻤﺎ أن ﺑﻬﺎ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺼﻌﻮﺑﺎت واﻟﻨﻘﺎط اﻟﻐﺎﻣﻀﺔ .وﻟﻘﺪ أﺛﺎر ﺳﻘﺮاط ﺑﻌﺾ املﺸﻜﻼت املﺘﻌﻠﻘﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﻴﺔ ﰲ إﺣﺪى ﻣﺤﺎورات أﻓﻼﻃﻮن ،وﺗُﺪﻋﻰ »ﺛﻴﺎﺗﻴﺘﻮس« ،واﻟﺘﻲ ﻧﻮﻗﺸﺖ ﻓﻴﻬﺎ آراء ﺑﺮوﺗﺎﺟﻮراس وﺟﺮى ﺗﺤﻠﻴﻠﻬﺎ ﺛﻢ رﻓﻀﻬﺎ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ .ﰲ ﺑﺪاﻳﺔ املﺤﺎورة اﻗﺘﺒﺲ ﺳﻘﺮاط ﺟﻤﻠﺔ ﺑﺮوﺗﺎﺟﻮراس اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮل إن اﻹﻧﺴﺎن ﻣﻘﻴﺎس ﻛﻞ ﳾء ،ﺛﻢ ﴍع ﰲ ﺗﻔﺴريﻫﺎ ﺑﺄﻧﻬﺎ ﺗﻌﻨﻲ أن أي ﳾء »أرى ﺣﻘﻴﻘﺘﻪ ﻛﻤﺎ ﻳﺒﺪو ﱄ أﻧﺎ وﺗﺮى أﻧﺖ ﺣﻘﻴﻘﺘﻪ ﻛﻤﺎ ﻳﺒﺪو ﻟﻚ أﻧﺖ«. وﻳﴬب ﺳﻘﺮاط ﺑﺎﻟﺮﻳﺎح ً ﻣﺜﻼ ﻳﺪ ﱢﻟﻞ ﺑﻪ ﻋﲆ ﺻﺤﺔ ﻣﺎ ﻳﻘﻮل ﻓﻘﺎل» :أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﻬﺐ ﻫﺬه اﻟﺮﻳﺎح ﻳﺸﻌﺮ أﺣﺪﻧﺎ ﺑﱪد ﺧﻔﻴﻒ ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻻ ﻳﺸﻌﺮ اﻵﺧﺮ ﺑﺬﻟﻚ ،أو ﻳﺸﻌﺮ أﺣﺪﻧﺎ ﺑﱪد ﺧﻔﻴﻒ وﻳﺸﻌﺮ اﻵﺧﺮ ﺑﱪد ﻗﺎرس «.وﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﻘﻮل إن ﺣﺎل أﺣﺪ اﻟﺮﺟﻠني )اﻟﻘﺎﺋﻞ إن اﻟﺮﻳﺎح ﺑﺎردة( ﻳﺨﺘﻠﻒ ﻋﻦ ﺣﺎل اﻵﺧﺮ .وﻗﺎل دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ إﻧﻪ ﺑﻤﺎ أن اﻟﺮﻳﺎح آن واﺣﺪ ﻓﻼ ﻣﺤﻴﺺ ﻣﻦ أن اﻟﺮﻳﺎح ذاﺗﻬﺎ ﻏري ذﻟﻚ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ. ﺗﺒﺪو ﺑﺎردة وﻏري ﺑﺎردة ﰲ ٍ أﻣﺎ ﺑﺮوﺗﺎﺟﻮراس ﻓﺎﺳﺘﻨﺘﺞ ﻣﻦ املﻈﺎﻫﺮ املﺘﻨﺎﻗﻀﺔ أن اﻟﺮﻳﺎح ﺑﺎردة وﻏري ﺑﺎردة ﻣﻌً ﺎ ،ﻓﻜﻞ إﻧﺴﺎن ﻫﻮ اﻟﺴﻠﻄﺔ املﻄﻠﻘﺔ )أو »املﻘﻴﺎس«( ﻟﻠﺤﻜﻢ ﻋﲆ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ ﺗﺒﺪو ﻟﻪ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﻤﺎ ﻳﻘﻮﻟﻪ ﻋﻨﻬﺎ ﺻﺤﻴﺢ. وﻟﻜﻦ ﻋﻨﺪ اﻟﻘﻮل إن اﻷﺷﻴﺎء ﰲ ﺣﻘﻴﻘﺘﻬﺎ ﺗﻄﺎﺑﻖ ﻣﺎ ﺗﻈﻬﺮ ﺑﻪ ﻟﺸﺨﺺ ﻣﺎ ،ﻓﻘﺪ اﻧﺤﺮف ﺑﺮوﺗﺎﺟﻮراس ﻛﺜريًا ﻋﻦ ﺟﺎدة اﻟﺼﻮاب؛ ﻷن ذﻟﻚ ﻳﺘﻀﻤﱠ ﻦ أﻧﻪ ﻣﺎ ﻣﻦ إدراك ﺧﺎﻃﺊ .وﻫﺬه أﻃﺮوﺣﺔ ﻏري ﻣﻌﻘﻮﻟﺔ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﺷﻦ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺳﻘﺮاط ﻫﺠﻮﻣً ﺎ ﺿﺎرﻳًﺎ. ﺳﻘﺮاط :ﻳﺒﻘﻰ اﻟﺴﺆال ﺣﻮل اﻷﺣﻼم واﻻﺿﻄﺮاﺑﺎت وﺑﺨﺎﺻﺔ اﻟﺠﻨﻮ ُن، وﺟُ ﱡﻞ اﻷﺧﻄﺎء اﻟﺘﻲ ﻳُﻌﺘﻘﺪ أﻧﻬﺎ ﺗﻨﺘﺞ ﻋﻨﻪ ﰲ اﻟﻨﻈﺮ أو اﻟﺴﻤﻊ أو ﻏري ذﻟﻚ ﻣﻦ اﻟﺨﻄﺄ ﰲ اﻹدراك؛ ﻓﻔﻲ ﺗﻠﻚ اﻟﺤﺎﻻت ﻳﻜﻮن إدراﻛﻨﺎ ﺧﺎﻃﺌًﺎ ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ،وﻳﻜﻮن ﻣﺎ ﻳﺒﺪو ﻷي إﻧﺴﺎن أﺑﻌﺪ ﻣﺎ ﻳﻜﻮن ﻋﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ،ﺑﻞ إن ﻫﺬا اﻹدراك ﻟﻴﺲ ﺻﺤﻴﺤً ﺎ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق. ﺑﺮوﺗﺎﺟﻮراس :ﻫﺬا ﺻﺤﻴﺢ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻳﺎ ﺳﻘﺮاط. 148
َ وﻫﺒﱠﺖ رﻳﺎح املﺘﺎﻋﺐ :اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﻮن
ﺳﻘﺮاط :إذن ﻣﺎذا ﻳﺘﺒﻘﻰ ﻣﻦ ﺣﺠﺔ ملﻦ ﻳﺆﻣﻦ أن ﻣﺎ ﻳﻈﻬﺮ ﻟﻜﻞ إﻧﺴﺎن ﺻﺤﻴﺢ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻪ؟ ﺑﺮوﺗﺎﺟﻮراس … :ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻻ أﺳﺘﻄﻴﻊ إﻧﻜﺎر أن املﺠﺎﻧني واﻟﺤﺎﻟِﻤني ﻳﺆﻣﻨﻮن ﺑﻤﺎ ﻫﻮ ﺑﺎﻃﻞ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺘﺨﻴﻞ املﺠﺎﻧني أﻧﻬﻢ آﻟﻬﺔ ،وﻳﻌﺘﻘﺪ اﻟﺤﺎملﻮن أن ﻟﻬﻢ أﺟﻨﺤﺔ ﻳﻄريون ﺑﻬﺎ ﰲ ﻣﻨﺎﻣﻬﻢ. وﻋﻨﺪﻣﺎ َﺷﻌَ َﺮ ﺳﻘﺮاط أن َﺧﺼﻤﻪ ﺑﺪأ ﻳﻀﻌﻒ زاد ﻣﻦ اﻟﻀﻐﻂ ﻋﻠﻴﻪ ،ﻓﺤﺘﻰ وإن ً ﻓﻀﻼ ﻋﻦ ﺣﺎﻻت اﻹدراك اﻟﺨﺎﻃﺊ اﻋﺘﱪ ﺑﺮوﺗﺎﺟﻮراس املﺠﺎﻧني واﻟﺤﺎملني ﺣﺎﻟﺔ ﺧﺎﺻﺔ — اﻟﺘﻲ ﺗَﻘِ ﱡﻞ ﰲ اﻷﻫﻤﻴﺔ — ﻓﺒﻤﺎذا ﻳﺮد ﺑﺮوﺗﺎﺟﻮراس ﻋﲆ اﻻﻋﱰاض اﻟﺬي ﻳﻘﻮل إﻧﻪ إذا ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻨﺴﺒﻴﺔ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻓﻬﺬا ﻳﻠﻐﻲ وﻇﻴﻔﺘﻪ؟ وﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل ﺳﻘﺮاط ﰲ ﻣﻨﺎﺳﺒﺔ أﺧﺮى: ٍّ ﻣﺤﻘﺎ ﰲ أن ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻷﺷﻴﺎء ﻫﻲ ﻣﺎ ﺗﻈﻬﺮ ﻋﻠﻴﻪ ﻟﻜﻞ إذا ﻛﺎن ﺑﺮوﺗﺎﺟﻮراس َ إﻧﺴﺎن ،ﻓﻜﻴﻒ ﻳﻜﻮن أﺣﺪﻧﺎ ﺣﻜﻴﻤً ﺎ واﻵﺧﺮ أﺣﻤﻖ؟ وإذا ﻛﺎن ﻣﺎ ﻳﻈﻬﺮ ﻟﻜﻞ إﻧﺴﺎن ﻫﻮ ﺻﺤﻴﺢ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻪ ﻓﻼ رﺟﻞ أﻛﺜﺮ ﺣﻜﻤﺔ ﻣﻦ اﻵﺧﺮ. ﺑﻌﺒﺎرة أﺧﺮى ،ﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﱪوﺗﺎﺟﻮراس أن ﻳُﻌَ ﱢﻠﻢ اﻟﺤﻜﻤﺔ إذا ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻣﻮﺟﻮدة ﻣﻦ اﻷﺳﺎس؟ َ أراد ﺳﻘﺮاط أن ﻳﻨﺼﻒ ﺑﺮوﺗﺎﺟﻮراس ﻓﺒ ﱠَني ﻟﻪ ﻛﻴﻒ ﻳﺮد ﻋﲆ ﻫﺬا اﻻﻋﱰاض .وﺗﻘﻮدﻧﺎ ﻫﺬه اﻹﺟﺎﺑﺔ إﱃ ﻗﻠﺐ اﻟﻔﻜﺮ واملﻤﺎرﺳﺎت اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﺔ .ﻳﺘﺼﻮر ﺳﻘﺮاط أن ﺑﺮوﺗﺎﺟﻮراس ﻳﺠﻴﺐ ﺑﺄن اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻲ اﻟﺤﻜﻴﻢ ﻻ ﻳﻌﺮض ﺗﻌﻠﻴﻢ اﻟﺘﻼﻣﻴﺬ أﻳﺔ ﻣﻌﺘﻘﺪات أﺻﺢ ﺑﺄي ﺷﻜﻞ ً ﻣﺴﺘﺤﻴﻼ إذا ﺻﺤﺖ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﻨﺴﺒﻴﺔ ،ﺑﻞ ﻋﻠﻴﻪ أن ﻣﻦ ﻣﻌﺘﻘﺪاﺗﻬﻢ؛ إذ إن ذﻟﻚ ﺳﻴﻜﻮن ﻳﻌﻠﻤﻬﻢ ﻣﻌﺘﻘﺪات أﻧﻔﻊ ﻟﻬﻢ وأﺟﺪى .ﻓﻤَ ﺜَﻞ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻲ ﻛﻤَ ﺜَﻞ اﻟﻄﺒﻴﺐ ﻳﻌﺎﻟﺞ ﻋﻘﻮل اﻟﻨﺎس ﺑﺪﻻ ﻣﻦ ﺑﻄﻮﻧﻬﻢ ،وﻳﻌﻠﻢ اﻵﺧﺮﻳﻦ ﻛﻴﻒ ﻳﻔﻌﻠﻮن ذﻟﻚ ً ً أﻳﻀﺎ ،ﻓﻤﻦ اﻷﺟﺪى واﻷﻧﻔﻊ أن ﻳﺘﺒﻨﱠﻰ املﺮء أﻓﻜﺎ ًرا ﺑﻌﻴﻨﻬﺎ ،وﻫﺬا ﻣﺎ ﻳﻘﺪﻣﻪ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﻮن. وﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ ﺣﺎول ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻷﻣﺮﻳﻜﻴني — أﻃﻠﻘﻮا ﻋﲆ أﻧﻔﺴﻬﻢ اﺳﻢ اﻟﱪﺟﻤﺎﺗﻴني — أن ﻳﻄﻮروا ﻓﻜﺮة أن اﻟﴚء املﻬﻢ ﰲ املﻌﺘﻘﺪات ﻫﻮ ﻓﺎﺋﺪﺗﻬﺎ اﻟﻌﺎﻣﺔ ودورﻫﺎ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة .وأوﺿﺢ اﻟﱪﺟﻤﺎﺗﻲ اﻟﻜﺒري وﻳﻠﻴﺎم ﺟﻴﻤﺲ )ﺷﻘﻴﻖ ﻫﻨﺮي ﺟﻴﻤﺲ( ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﺑﺸﻜﻞ ﻳﺬﻛﺮﻧﺎ ﺑﻤﺎ ﻗﺎﻟﻪ ﺳﻘﺮاط ﻋﲆ ﻟﺴﺎن ﺑﺮوﺗﺎﺟﻮراس. ورﻏﻢ أن ﺟﻴﻤﺲ ﻟﻢ ﻳﺘﻮﺻﻞ إﱃ أن اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻧﺴﺒﻴﺔ ﻓﻘﺪ رأى أن أﻓﻀﻞ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﻟﺘﺤﺪﻳﺪﻫﺎ ﺗُﺒﻨﻰ ﻋﲆ املﻨﻔﻌﺔ ﺑﺎملﻌﻨﻰ اﻟﻌﺎم ﻟﻬﺎ ،ﻓﻘﺎل ﰲ ذﻟﻚ: 149
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
إن ﻛﻞ ﳾء ﻳﺜﺒُﺖ أﻧﻪ ﺻﺎﻟﺢ ﰲ ﻇﻞ املﻌﺘﻘﺪات اﻟﺴﺎﺋﺪة ﰲ ﻋﺎملﻨﺎ ﻫﻮ ﳾء ﺣﻘﻴﻘﻲ ،ﻓﻜﻤﺎ أن ﻫﻨﺎك أﻃﻌﻤﺔ ﻣﻌﻴﱠﻨﺔ ﻻ ﺗﻨﺎﺳﺐ ﱠ ﺣﺎﺳﺔ اﻟﺘﺬوق ﻟﺪﻳﻨﺎ ﻓﺤﺴﺐ، وإﻧﻤﺎ ﺗﻔﻴﺪ أﺳﻨﺎﻧﻨﺎ وﺑﻄﻮﻧﻨﺎ وأﻧﺴﺠﺘﻨﺎ ،ﻓﻬﻨﺎك ﻛﺬﻟﻚ أﻓﻜﺎر ﻻ ﻳﻤﻜِﻦ اﻟﺘﻔﻜري ﻓﻴﻬﺎ واﺳﺘﺨﺪاﻣﻬﺎ ﻟﺪﻋﻢ ﻣﺎ ﻳﺮوق ﻟﻨﺎ ﻣﻦ اﻷﻓﻜﺎر اﻷﺧﺮى ﻓﺤﺴﺐ ،ﺑﻞ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ ﻛﺬﻟﻚ اﻻﻧﺘﻔﺎع ﺑﻬﺎ ﰲ اﻟﻜﻔﺎح اﻟﻌﻤﲇ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة .وإذا ﻛﺎن ﺛَﻤﱠ ﺔ ﺣﻴﺎة أﻓﻀﻞ ﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﻧﺴﻌﻰ إﱃ ﺗﺤﻘﻴﻘﻬﺎ ،وإذا ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك ﻓﻜﺮة ﺗﺴﺎﻋﺪ ﻋﲆ ذﻟﻚ إذا اﻋﺘﻨﻘﻨﺎﻫﺎ؛ ﻓﻤﻦ اﻷﻓﻀﻞ ﻟﻨﺎ أن ﻧﺆﻣﻦ ﺑﻬﺬه اﻟﻔﻜﺮة إﻻ إذا ﺗﻌﺎرض اﻹﻳﻤﺎن ﺑﻬﺎ ﺑﺎملﺼﺎدﻓﺔ ﻣﻊ ﻣﻨﺎﻓﻊ أﺧﺮى أﻛﱪ وأﻛﺜﺮ ﺣﻴﻮﻳﺔ. إن املﻌﺘﻘﺪات اﻟﺘﻲ ﻳﺒﺪو ﻫﺬا اﻟﺘﻔﺴري اﻟﱪﺟﻤﺎﺗﻲ ﻣﻨﺎﺳﺒًﺎ ﻟﻬﺎ — وﻟﻮ ﰲ اﻟﻈﺎﻫﺮ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ — ﻫﻲ املﻌﺘﻘﺪات اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎﻷﻣﻮر اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺎﻟﺒﴩ ﻛﺎﻟﺴﻴﺎﺳﺔ واﻷﺧﻼق. وﻳﺴﺘﻤﺮ ﺳﻘﺮاط ﰲ إﻳﻀﺎح ﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﱪوﺗﺎﺟﻮراس أن ﻳﺪاﻓﻊ ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻪ ﰲ ﻫﺬا املﻮﺿﻮع ﻓﻴﻘﻮل: إن اﻟﺨﻄﺒﺎء اﻟﺤﻜﻤﺎء واﻟﴩﻓﺎء ﰲ املﺠﺘﻤﻊ ﻳﺴﺘﺒﺪﻟﻮن اﻵراء اﻟﺴﻠﻴﻤﺔ )ﺑﻤﻌﻨﻰ »اﻟﺼﺤﻴﺔ« أو »اﻟﻨﺎﻓﻌﺔ«( ﺑﺎﻵراء اﻟﺨﺎﻃﺌﺔ ملﺎ ﻫﻮ ﺻﺤﻴﺢ؛ ﻓﺄﻧﺎ أُوﻣِﻦ أن ﻛﺎﻓﺔ ٍ دوﻟﺔ ﻣﺎ ﺗﻌﺘﱪ ﺻﺤﻴﺤﺔ املﻤﺎرﺳﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺒﺪو ﺻﺤﻴﺤﺔ وﻗﺎﺑﻠﺔ ﻟﻠﺘﻄﺒﻴﻖ ﰲ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻬﺬه اﻟﺪوﻟﺔ ﻃﺎ َﻟﻤَ ﺎ ﱠ ﺗﻤﺴﻜﺖ ﺑﻬﺎ ،أﻣﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﺼﺒﺢ ﻫﺬه املﻤﺎرﺳﺎت ﺧﺎﻃﺌﺔ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻓﺈن اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺤﻜﻴﻢ ﻳﺴﺘﺒﺪل ﺑﻬﺎ ﻣﻤﺎرﺳﺎت أﺧﺮى ﺳﻠﻴﻤﺔ .وﺑﺎملﺒﺪأ ﻧﻔﺴﻪ ﻳﺘﺼﻒ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻲ ،ﺑﻤﺎ ﻟﻪ ﻣﻦ ﻗﺪرة ﺑﺎﻷﺳﻠﻮب ﻧﻔﺴﻪ ﱠ ﻳﺘﻌني ﻋﻠﻴﻬﻢ اﺗﺒﺎﻋﻪ ،ﺑﺎﻟﺤﻜﻤﺔ وﻳﺴﺘﺤﻖ ﻋﲆ إرﺷﺎد ﺗﻼﻣﻴﺬه إﱃ اﻟﻄﺮﻳﻖ اﻟﺬي أﺟ ًﺮا ﻣﻨﺎﺳﺒًﺎ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﻨﺘﻬﻲ ﻣﻦ ﺗﻌﻠﻴﻤﻬﻢ .وﺑﻬﺬه اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﻳﻜﻮن ﻛ َِﻼ اﻷﻣﺮﻳﻦ ﺻﺤﻴﺤً ﺎ؛ ﻓﻬﻨﺎك ﻣﻦ ﻫﻢ أﻛﺜﺮ ﺣﻜﻤﺔ ﻣﻤﻦ ﺳﻮاﻫﻢ ،وﻛﺬﻟﻚ ﻟﻴﺲ ﺛَﻤﱠ ﺔ رﺟﻞ أﺣﻤﻖ ﰲ ﺗﻔﻜريه .وﻫﺬه اﻻﻋﺘﺒﺎرات ﺗﻨﻘﺬ ﻋﻘﻴﺪﺗﻲ ﻣﻦ اﻻﻧﻬﻴﺎر. وﻳﺠﺐ ﻋﲆ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻲ أن ﻳﻮ ﱢ ﻇﻒ ﻗﺪراﺗﻪ اﻟﺒﻼﻏﻴﺔ ﻟﻴﺠﻌﻞ اﻟﺮؤﻳﺔ اﻟﻨﺎﻓﻌﺔ أو »اﻟﺼﺎﻟﺤﺔ« ﻣﻘﺒﻮﻟﺔ ﰲ املﺠﺘﻤﻊ ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ اﻟﺮؤﻳﺔ اﻟﺼﺤﻴﺤﺔ أو اﻟﻌﺎدﻟﺔ؛ وﻟﺬا ﻳﺒﺪو ﰲ ﻫﺬه اﻟﻨﺴﺨﺔ ﻣﻦ ﻋﻘﻴﺪة ﺑﺮوﺗﺎﺟﻮراس أن اﻟﻨﺴﺒﻴﺔ ﺗﻨﻄﺒﻖ ﻋﲆ ﺑﻌﺾ اﻷﺷﻴﺎء دون ﻏريﻫﺎ ،ﻓﻬﻲ ﺗﻨﻄﺒﻖ ﻋﲆ اﻟﻌﺪاﻟﺔ واﻟﴩﻋﻴﺔ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ؛ )إذ إن »ﻛﺎﻓﺔ املﻤﺎرﺳﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺒﺪو ﺻﺤﻴﺤﺔ وﻗﺎﺑﻠﺔ ﻟﻠﺘﻄﺒﻴﻖ ﰲ دوﻟﺔ ﻣﺎ ﺗﻌﺘﱪ ﺻﺤﻴﺤﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻬﺬه اﻟﺪوﻟﺔ«( وﻟﻜﻦ ﻟﻴﺲ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻫﻮ ﻧﺎﻓﻊ وﻣﻔﻴﺪ 150
َ وﻫﺒﱠﺖ رﻳﺎح املﺘﺎﻋﺐ :اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﻮن
ﰲ ﺟﻮﻫﺮه) ،ﻓﺄﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻣﺎ ﺗﻜﻮن آراء املﺠﺘﻤﻊ »ﻏري ﺻﺎﻟﺤﺔ ﻟﻪ«( .وﻳﻤﻜﻦ ﺗﺸﺒﻴﻪ اﻷﻣﺮ ﻫﻨﺎ ﺑﺎملﺮﻳﺾ وﻃﻌﺎﻣﻪ؛ ﻓﻜﻞ إﻧﺴﺎن ﻋﲆ ﺻﻮاب ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺨﺺ ﻣﺬاق ﻃﻌﺎﻣﻪ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻪ ،وﻟﻜﻦ إﺣﺴﺎﺳﻪ ﻗﺪ ﻳﻜﻮن ﻣﻊ ذﻟﻚ »ﺧﺎﻃﺌًﺎ« ﺑﻤﻌﻨﻰ أﻧﻪ ﻗﺪ ﻳﻜﻮن ﻫﺬا اﻟﻄﻌﺎم أﻓﻀﻞ ﻟﻪ إن ﻛﺎن ً ﻣﺨﺘﻠﻔﺎ .وﻋﲆ أﻳﺔ ﺣﺎل ﻫﺬا ﻣﺎ ﺗﺼﻮر ﺳﻘﺮاط أن ﺑﺮوﺗﺎﺟﻮراس ﻳﻘﻮﻟﻪ. ﻻﺣ ْ ﻆ ﻛﻴﻒ ﺗﺒﺪﱠل ﻣﻮﺿﻮع اﻟﻨﺴﺒﻴﺔ ﺗﺪرﻳﺠﻴٍّﺎ ﻣﻦ اﻟﻔﺮد إﱃ »اﻟﺪوﻟﺔ« ،ﻓﻠﻢ ﻳَﻌُ ِﺪ اﻷﻣﺮ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﻤﺎ ﻳﺮاه ﻛﻞ ﻓﺮد ﰲ اﻟﻌﺪاﻟﺔ ﺻﺤﻴﺤً ﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻪ ،ﺑﻞ ﺑﻤﺎ ﺗﻈﻨﻪ ﻛﻞ دوﻟﺔ أو ﻣﺠﺘﻤﻊ ﺻﺤﻴﺤً ﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﺘﻠﻚ اﻟﺪوﻟﺔ أو ذﻟﻚ املﺠﺘﻤﻊ .إن اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت وﻟﻴﺲ اﻷﻓﺮاد ﻫﻲ ﻣﺎ ﻻ ﺗﺨﻄﺊ ﰲ ﻣﻤﺎرﺳﺎﺗﻬﺎ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ واﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﻣﺎ داﻣﺖ ﺗﺘﻤﺴﻚ ﺑﻬﺎ .وﻳﺜري ﻫﺬا اﻟﺘﺤﻮل ﻣﺰﻳﺪًا ﻣﻦ املﺸﻜِﻼت املﺰﻣﻨﺔ ﰲ اﻟﻨﺴﺒﻴﺔ ،ﻓﻜﻢ ﻋﺪد اﻷﻓﺮاد اﻟﴬورﻳني ﻟﺘﻜﻮﻳﻦ ﻣﺠﺘﻤﻊ ﻛﺒري ﻳﺼﻠﺢ ﻟﺤﻤﺎﻳﺔ اﻟﻨﺴﺒﻴﺔ؟ وإﱃ أي ﻣﺪى ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻟﻬﻢ أن ﻳﺘﱠﻔﻘﻮا ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻨﻬﻢ ﻟﻴﺼريوا ﻣﺠﺘﻤﻌً ﺎ ﻣﻮﺣﱠ ﺪًا؟ وﻣﺎذا إذا ﻟﻢ ﻳﺘﻔﻖ ﻓﺮد واﺣﺪ ﻓﻘﻂ أو ﻗﻠﻴﻞ ﻣﻦ اﻷﻓﺮاد ﻣﻊ رأي اﻟﺒﻘﻴﺔ؟ وﻫﻞ ﻳﺠﺐ ﱢ املﻨﺸﻘني ﺑﺴﻮء ﻓﻬﻢ ﻓﻠﺴﻔﻲ إذا ﻗﺎﻟﻮا إن اﻷﻏﻠﺒﻴﺔ ﺧﺎﻃﺌﺔ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺨﺺ اﻟﺨري اﺗﱢﻬﺎم ﻫﺆﻻء واﻟﴩ ﻛﻤﺎ ﺗﻘﻮل اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﻨﺴﺒﻴﺔ ،أم أﻧﻬﻢ ﻳُﻌَ ﺪ َ ﱡون ﻣﺠﺘﻤﻌً ﺎ ﺻﻐريًا ﻳﺴﺘﺤﻖ ﻧﺼﻴﺒًﺎ ﻣﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ املﺆ ﱠﻛﺪة ﰲ ﻇﻞ إﻋﺎدة اﻟﺘﻮزﻳﻊ اﻟﺴﺨﻲ ﻟﻠﻨﺘﺎج اﻟﻔﻜﺮي ﰲ ﻇﻞ اﻟﻨﺴﺒﻴﺔ؟ ً ﻣﻮﻗﻔﺎ ﻧﺴﺒﻴٍّﺎ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﰲ اﻟﺨﻼﻓﺎت ﺣﻮل اﻟﻌﺪاﻟﺔ واﻟﻮاﻗﻊ أن ﻣﻌﻈﻢ اﻟﻨﺎس ﻻ ﻳﺘﺨﺬون ً ﻓﻀﻼ ﻋﻦ ﻣﻮاﺿﻴﻊ أﺧﺮى ﻳُﻔﱰض أن ﺗﻨﻄﺒﻖ اﻟﻨﺴﺒﻴﺔ ﻋﻠﻴﻬﺎ ،وإن اﻟﺘﺰﻣﻮا واﻟﻘﻴﻢ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﻴﺔ ﻓﻠﻦ ﻳﻜﻮن ﻫﻨﺎك ﺧﻼﻓﺎت ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ .وﺗﻌﺘﱪ ﻫﺬه اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ذاﺗﻬﺎ ﻣﺸﻜﻠﺔ ﰲ اﻟﻨﺴﺒﻴﺔ ﻛﻤﺎ ﺳﻴﺒني ﺳﻘﺮاط؛ ﻓﻬﻮ ﻳﻮﺿﺢ أن اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﻨﺎس ﺑﻤﻦ ﻓﻴﻬﻢ ﻫﻮ ﻧﻔﺴﻪ ﻻ ﻳﺘﻔﻘﻮن ﻋﲆ أن ﻛﻞ إﻧﺴﺎن أو ﻣﺠﺘﻤﻊ ﻫﻮ ﻣﻘﻴﺎس ﻛﻞ ﳾء .وﻳﺮى ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﻨﺎس أن ﻫﻨﺎك ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ً وﻃﺒﻘﺎ ﻟﻠﻨﺴﺒﻴﺔ ذاﺗﻬﺎ ﻳﻌﺘﱪ اﻋﺘﻘﺎدﻫﻢ ﺻﺤﻴﺤً ﺎ ﺣﻘﺎﺋﻖ ﺻﺤﻴﺤﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻜﻞ ﺷﺨﺺ، ﻷن اﻟﻨﺴﺒﻴﺔ ﺗﻘﻮل إن أﺣﺪًا ﻻ ﻳﺨﻄﺊ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺆﻣﻦ ﺑﻪ )رﺑﻤﺎ ﺑﺎﺳﺘﺜﻨﺎء املﻌﺘﻘﺪات املﺘﻌﻠﻘﺔ ﺑﻤﺎ ﻫﻮ ﻧﺎﻓﻊ( .وﺑﻨﺎء ﻋﻠﻴﻪ ﻓﺈن اﻟﻨﺴﺒﻴﺔ ﻻ ﺗﻜﻮن ﰲ أﺣﺴﻦ اﻷﺣﻮال ﺻﺤﻴﺤﺔ إﻻ ملﻦ ﻳﺆﻣِﻦ ﺑﻬﺎ ،ﻓﻬﻲ رﺑﻤﺎ ﺗﻜﻮن ﺻﺤﻴﺤﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﱪوﺗﺎﺟﻮراس وﻟﻜﻦ ﻟﻴﺲ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﺴﻘﺮاط، وﻟﻜﻦ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﱪوﺗﺎﺟﻮراس أن ﻳﻘﻮل إن ﺳﻘﺮاط أﺧﻄﺄ ﺑﺮﻓﻀﻬﺎ .وإذا ﻛﺎن رأي اﻷﻏﻠﺒﻴﺔ ﻫﻮ ﻣﻌﻴﺎر اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ؛ ﻓﻌﲆ ﺑﺮوﺗﺎﺟﻮراس ﻧﻔﺴﻪ أن ﻳُ ِﻘ ﱠﺮ ﺑﺨﻄﺄ ﻋﻘﻴﺪﺗﻪ ﻷن ﻣﻌﻈﻢ اﻟﻨﺎس ﻳﺨﺘﻠﻔﻮن ﻣﻌﻬﺎ .وﺑﻤﺴﺎﻋﺪة ﺳﻘﺮاط وﺿﻊ ﺑﺮوﺗﺎﺟﻮراس ﻧﻔﺴﻪ ﰲ ﻣﻮﻗﻒ ﻻ ﻳ َ ُﺤﺴﺪ ﻋﻠﻴﻪ. وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻳﺠﺐ ﱠأﻻ ﻧﻨﴗ أن ﻫﺬا ﻣﺤﺾ ﺧﻴﺎل؛ ﻓﱪوﺗﺎﺟﻮراس اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﻗﺪ ﻣﺎت ﻗﺒﻞ ﻛﺘﺎﺑﺔ ﻣﺤﺎورة أﻓﻼﻃﻮن »ﺛﻴﺎﺗﻴﺘﻮس« ﺑﻮﻗﺖ ﻃﻮﻳﻞ ،وﻻ أﺣﺪ ﻳﻤﻜﻨﻪ اﻟﺘﺄ ﱡﻛﺪ ﻣﻦ ﻛﻴﻔﻴﺔ 151
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ً ﻓﻀﻼ ﻋﻦ أﻧﻨﺎ ﻧﺘﻨﺎول ﺣﺮﻛﺔ ﻓﻜﺮﻳﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﻧﺸﻄﺔ ﰲ ﻳﻮم ﻣﻦ رده ﻋﲆ ﻫﺬه اﻻﻧﺘﻘﺎدات، ً ﺷﺨﺼﺎ آﺧﺮ ﻛﺎن ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ اﻟﻘﻀﺎء ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻷﻳﺎم ،وﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺨﻤﺪ أو ﺗﺨﺘﻔﻲ ﻓﻘﻂ ﻷن ﺑﺎﻟﻮﺳﺎﺋﻞ املﻨﻄﻘﻴﺔ ،ﻓﺮﺑﻤﺎ ﻛﺎن ﺑﺮوﺗﺎﺟﻮراس — ﰲ ﻣﻮاﺟﻬﺔ ﺣﺠﺞ ﺳﻘﺮاط اﻟﺪاﺣﻀﺔ — ﺳﻴﺠﺪ ﻏﺎﻳﺘﻪ ﰲ ﻟﻐﺰ ﺟﻮرﺟﻴﺎس .أﻟﻢ ﻳﺒني ﻫﺬا — ﺑﻘﺪر ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﻨﺎس آﻧﺬاك — أن اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف اﻟﺒﺎرع ﻳﻤﻜﻨﻪ دَﺣْ ُ ُ ﺗﺠﺎﻫﻞ ﻫﺬه اﻟﺤﺠﺞ ﺾ أي ﳾء إن أراد ذﻟﻚ؟ ﻓﻤﻦ اﻷﻓﻀﻞ اﻟﺪاﺣﻀﺔ إذن وﻣﺘﺎﺑﻌﺔ اﻟﻄﺮﻳﻖ. ﻛﺎﻧﺖ ﻓﻜﺮة ﺑﺮوﺗﺎﺟﻮراس اﻟﻘﺎﺋﻠﺔ إن اﻹﻧﺴﺎن ﻫﻮ ﻣﻘﻴﺎس ﻛﻞ ﳾء — إﺿﺎﻓﺔ إﱃ ﻛﻞ أﻓﻜﺎر اﻟﱪﺟﻤﺎﺗﻴني واﻟﻨﺴﺒﻴني املﺴﺘﻤﺪة ﻣﻦ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني — اﺳﺘﺠﺎﺑﺔ ﻋﻤﻠﻴﺔ ملﺸﻜﻼت ﻋﻤﻠﻴﺔ .ﻟﻘﺪ زاد إدراك اﻹﻏﺮﻳﻖ ﻟﺘﻨﻮﱡع املﻌﺘﻘﺪات واﻟﻌﺎدات اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ،وﻫﻮ أﻣﺮ ﻛﺎن اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﻮن ﻣﻌﺘﺎدﻳﻦ ﻋﻠﻴﻪ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﱠ اﻟﱰﺣﺎل املﺴﺘﻤﺮ .وﻗﺪ ﻧﺘﺞ ﻋﻦ ﻫﺬا اﻟﺘﻨﻮع اﻷﺧﻼﻗﻲ ﻣﺸﻜﻠﺔ املﻈﺎﻫﺮ املﺘﻨﺎﻗﻀﺔ ﻛﺎﻟﺘﻲ ﺗَﺤَ ﺪ َ ﱠث ﻋﻨﻬﺎ دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ وﺑﺮوﺗﺎﺟﻮراس واملﺘﻌﻠﻘﺔ ﺑﺎﻟﺤﺲ واﻹدراك ،ﻓﻜﻤﺎ ﻗﺪ ﻳﺠﺪ ﺷﺨﺺ ﻣﺎ اﻟﺮﻳﺎحَ ﺑﺎردة ﺑﺸﻜﻞ ﻏري ﻣﺴﺘﺤﺐﱟ وﻳﺠﺪﻫﺎ اﻵﺧﺮ ﻣﻨﻌﺸﺔ ،ﻗﺪ ﻳﺮى اﻹﻏﺮﻳﻘﻲ أن ﻓﻜﺮة إﺣﺮاق املﻮﺗﻰ ﻓﻜﺮ ًة ﻧﺒﻴﻠﺔ ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﺮاﻫﺎ ﺑﻌﺾ اﻷﺟﺎﻧﺐ ﻓﻜﺮ ًة ﺑﻐﻴﻀﺔ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ .وﻳﺬﻛﺮ املﺆ ﱢرخ ﻫريودوت ﺑﻌﺪ أن ﻻﺣﻆ ﻫﺬا اﻟﺘﻀﺎ ُرب ﰲ اﻷﺧﻼق أﻧﻪ »إن ﺳﺄل أﺣﺪﻫﻢ اﻟﻨﺎس ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ﻋﻦ أﻓﻀﻞ اﻟﻌﺎدات ﻣﻦ ﺑني املﺘﺎح ﻟﻠﺠﻤﻴﻊ ،ﻻﺧﺘﺎرت ﻛﻞ أﻣﺔ — ﺑﻌﺪ اﻟﺘﻔﻜري — ﻋﺎداﺗِﻬﺎ؛ ﻷن اﻟﺠﻤﻴﻊ ﻋﲆ اﻗﺘﻨﺎع ﺗﺎ ﱟم أن ﻋﺎداﺗﻪ ﻫﻲ اﻷﻓﻀﻞ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق «.وأﺿﻒ إﱃ ﻫﺬا أﻧﻪ ﻣﺎ ﻣﻦ ﳾء أﻛﺜﺮ ﺣﻜﻤﺔ وﻋﻘﻼﻧﻴﺔ ﻣﻦ اﻟﻘﻮل أن ﻻ أﻣﺔ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺗﻤﺘﻠﻚ »اﻟﺘﻘﺎﻟﻴﺪ اﻷﻓﻀﻞ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق« وﻟﻜﻦ املﻌﻘﻮل أن »ﺗﻘﺎﻟﻴﺪ ﻛﻞ أﻣﺔ ﻫﻲ اﻷﻓﻀﻞ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻬﺎ«. ً ﺗﺴﺎؤﻻ ﻣﻬﻤٍّ ﺎ ﺑﺤﺚ ﻓﻴﻪ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﻮن ،ﻓﻜﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺘﺒﺎﻳﻦ وﻗﺪ أﺛﺎر ﻫﺬا اﻷﻣﺮ اﻟﻘﻴﻢ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ واﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﰲ املﻘﺎم اﻷول؟ وﻗﺪ أﺟﺎب اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﻮن ﺑﺎﻻﺳﺘﺸﻬﺎد ﺑﺒﻌﺾ َ واملﻌﺘﻘﺪات اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ اﻻﺧﺘﻼف ﺑني اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ واﻟﺘﻘﺎﻟﻴﺪ اﻟﺒﴩﻳﺔ؛ ﻓﺎﻟﺘﻘﺎﻟﻴﺪ واملﻤﺎرﺳﺎت اﻟﺒﴩﻳﺔ ﻟﻢ ﺗُﻤﻠِﻬﺎ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ )وﻻ اﻵﻟﻬﺔ اﻟﺘﻲ ﺗُﻌَ ﱡﺪ ﺟﺰءًا ﻣﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ( ﺑﻞ ﺗﻄﻮرت ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺴﺘﻘ ﱟﻞ ﺗَﺒَﻌً ﺎ ﻟﻠﻈﺮوف وﻣﺎ ﻛﺎن ﻣﻨﺎﺳﺒًﺎ ﻟﻜﻞ ﻣﺠﺘﻤﻊ .وﻫﻜﺬا ﻗﺪم اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﻮن ﺗﻔﺴريًا ﻟﻨﺸﺄة املﺠﺘﻤﻊ ﻛﺬﻟﻚ اﻟﺬي ﻗﺪﱠﻣﻪ دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ،واﻟﺬي ﻳﻘﻮل إن اﻷﻧﻈﻤﺔ اﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻴﺔ واﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ﻇﻬﺮت ﻟﻠﺤﻔﺎظ ﻋﲆ اﻟﺤﻀﺎرة .وﻗﺪ َﻗ ِﺒﻞ أﻓﺮاد املﺠﺘﻤﻊ ﻗﻮاﻋﺪ ﻫﺬه اﻷﻧﻈﻤﺔ ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ ﻋﻘﺪًا اﺟﺘﻤﺎﻋﻴٍّﺎ ﻣﻠﺰﻣً ﺎ ،وﻳﻌﻮد ﺑﺎﻟﻨﻔﻊ ﻋﲆ اﻟﺠﻤﻴﻊ ،وﻫﻲ ﻣﻦ اﻟﻨﻮع اﻟﺬي ﺗﺤﺪث ﻋﻨﻪ ﻟﻮك وروﺳﻮ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌ ُﺪ ﰲ اﻟﻘﺮﻧني اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ واﻟﺜﺎﻣﻦ ﻋﴩ .وﻛﻤﺎ ﻗﺎل أﻧﻴﻔﺘﻮن — 152
َ وﻫﺒﱠﺖ رﻳﺎح املﺘﺎﻋﺐ :اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﻮن
أﺣﺪ ﻛﺒﺎر اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني» :إن اﻟﻘﻮاﻧني اﻟﺒﴩﻳﺔ ﻋ َﺮﺿﻴﺔ وﻟﻜﻦ ﻗﻮاﻧني اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺣﺘﻤﻴﺔ ،وﻗﺪ و ُِﺿﻌَ ﺖ اﻟﻘﻮاﻧني اﻟﺒﴩﻳﺔ ﺑﺎﻻﺗﻔﺎق وﻟﻴﺲ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ«. ً اﺧﺘﻼﻓﺎ ﻛﻠﻴٍّﺎ ﻋﻦ وﻳﺮى اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﻮن أن اﻟﻘﻮاﻧني اﻟﺒﴩﻳﺔ املﻘﺒﻮﻟﺔ ﻃﻮﻋً ﺎ ﺗﺨﺘﻠﻒ ﻗﻮاﻧني اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﺘﻤﻴﺔ ،إﻻ أن ﺟُ ﱠﻞ ﻫﺬه اﻟﻘﻮاﻧني ﺗﺨﺘﻠﻒ ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ ﻋﻦ ﺑﻌﻀﻬﺎ .وأﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻣﺎ ﺗﺘﻌﺎرض ﻣﺘﻄﻠﺒﺎت اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻣﻊ اﻟﻘﻮاﻧني اﻟﺒﴩﻳﺔ .وﻗﺪ ﺷﻂ أﻧﺘﻴﻔﻮن ﺑﺨﻴﺎﻟﻪ ﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻗﺎل» :ﻣﻌﻈﻢ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﻌﺎدﻟﺔ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻴﺔ ﻣﻌﺎدﻳﺔ ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ «.ﻛﻤﺎ ﻗﺎل ً أﻳﻀﺎ إﻧﻪ إذا اﺗﺒﻊ اﻹﻧﺴﺎن ﻣﺎ ﺗﻤﻠﻴﻪ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻋﻠﻴﻪ ﻓﺴﻴﻔﻌﻞ ﻣﺎ ﻳُﻤَ ﱢﻜﻨُﻪ ﻣﻦ اﻟﻨﺠﺎح وﻣﺎ ﻓﻴﻪ أﻛﱪ ﻗﺪر ﻣﻦ اﻟﻨﻔﻊ .وإذا ﻛﺎن اﻹﻧﺴﺎن ﺳﻴﻔﻠﺖ َ ﺑﻔﻌﻠﺘﻪ ﻓﻬﺬا ﳾء ﻳﺮﻏﺐ اﻟﻔﺮد ﻓﻴﻪ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﺗﺮﻏﺐ ﻓﻴﻪ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ،إﻻ أن اﻟﻘﺎﻧﻮن ﻳﺴﻌﻰ ﻏﺎﻟﺒًﺎ إﱃ ﺗﻘﻴﻴﺪ املﺼﻠﺤﺔ اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﰲ ﺳﺒﻴﻞ ﻣﺼﻠﺤﺔ املﺠﺘﻤﻊ ﻛﻜﻞ .وﺑﻬﺬه اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ أو ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ أﺧﺮى »ﺗﺴﺒﺐ اﻟﺘﻘﺎﻟﻴﺪ — اﻟﺘﻲ ﺗﻌﺘﱪ اﻟﻄﺎﻏﻴﺔ اﻟﺒﴩي — اﻟﴬر ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ« ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل ﻫﻴﺒﻴﺎس اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻲ ﰲ إﺣﺪى ﻣﺤﺎورات أﻓﻼﻃﻮن. ً ﱢ ﻓﺎﺿﻼ وﻻ ﻳﺠﻮر ﻋﲆ ﺣﻖ ﻏريه؛ ﻓﺈن وﻳﻮﺿﺢ أﻧﺘﻴﻔﻮن أﻧﻪ ﺣﺘﻰ إذا ﻛﺎن اﻹﻧﺴﺎن ً ً رﺟﻼ آﺧﺮ ﻳﻠﺠﺄ ﻓﻤﺜﻼ إذا ﻇ َﻠﻢ رﺟ ٌﻞ اﻻﻟﺘﺰام ﺑﺎﻟﻘﻮاﻧني ﻗﺪ ﻳﴬ ﺑﻤﺼﻠﺤﺘﻪ اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ. َ املﻈﻠﻮم إﱃ اﻟﻘﺎﻧﻮن ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ اﻻﻧﺘﻘﺎم وﻣﻌﺎﻟﺠﺔ اﻷﻣﺮ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻏري ﻗﺎﻧﻮﻧﻴﺔ ،وﻗﺪ ﻻ ﻳُﻌَ ﺎﻗﺐ املﺨﻄﺊ أﺑﺪًا ،وﺣﺘﻰ ﻟﻮ ﻋﻮﻗﺐ ﻓﺴﻴﺤﺪث ﻣﺎ ﻳﲇ: إذا أُﺣﻴ َﻠﺖ اﻟﻮاﻗﻌﺔ ﻟﻠﻤﺤﺎﻛﻤﺔ ﻓﻠﻦ ﻳﻜﻮن ﻟﻠﻤﺠﻨﻲ ﻋﻠﻴﻪ أﻳﱠﺔ أﻓﻀﻠﻴﺔ ﻋﲆ اﻟﺠﺎﻧﻲ؛ إذ ﻋﻠﻴﻪ أن ﻳُﻘﻨِﻊ اﻟﻘﻀﺎة ﺑﺪﻓﻮﻋﺎﺗﻪ أﻧﻪ ﺗﴬﱠ ر ﺣﺘﻰ ﻳﻘﺘَ ﱠ ﺺ ﻟﻨﻔﺴﻪ .وﻗﺪ ﻳُﻨﻜِﺮ اﻟﺠﺎﻧﻲ ﻫﺬا اﻻﺗﻬﺎم ﻷﻧﻪ ﻳﻤﻜﻨﻪ اﻟﺪﻓﺎع ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻪ ،وﻟﺪﻳﻪ اﻟﻔﺮﺻﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﰲ أن ﻳُﻘﻨِﻊ اﻟﻘﻀﺎة أن املﺠﻨﻲ ﻋﻠﻴﻪ ﻫﻮ ﻣﻦ ارﺗﻜﺐ املﺨﺎﻟﻔﺔ؛ وﺑﺬﻟﻚ ﻻ ﻳﻜﻮن اﻟﻨﴫ ً ﺣﻠﻴﻔﺎ إﻻ ملﻦ ﻳﺘﺤﺪث ﺑﺸﻜﻞ أﻓﻀﻞ. وﻫﺬه اﻟﺠﻤﻠﺔ اﻷﺧرية ﻫﻲ ﻟﺐ ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني؛ ﻓﻔﻜﺮة أن »اﻟﻨﴫ ﻻ ﻳﻜﻮن ً ﺣﻠﻴﻔﺎ إﻻ ملﻦ ﻳﺘﺤﺪث ﺑﺸﻜﻞ أﻓﻀﻞ« ﻟﻴﺴﺖ ﺑﺎﻟﴬورة دﻋﻮة ﺳﻮداوﻳﺔ أو ﻓﺎﺳﺪة ﻟﻠﻐﺶ ﰲ اﻟﻨﺰاﻋﺎت ﻛﻤﺎ اﻋﺘﻘﺪ أﻓﻼﻃﻮن وﻏريه ﻣﻦ أﻋﺪاء اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﺔ ،ﺑﻞ ﻳﻤﻜﻦ اﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ إﻋﻼﻧًﺎ ﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻷﻣﻮر ﰲ املﺤﺎﻛﻢ .وﺑﻤﺎ أن اﻟﻨﴫ ﻳﺬﻫﺐ ً ﻓﻌﻼ إﱃ ﻣﻦ ﻳﻘﺪر ﻋﲆ اﻹﻗﻨﺎع )أو ﻳﻮﻇﻒ ﻏريه ﻟﺬﻟﻚ(؛ ﻓﺈن ﻣﻬﺎرات اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻜﻮن ﻗﻮة ﰲ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﺨري واﻟﻌﺪاﻟﺔ واﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ،وﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗُﺴﺘَﺨﺪَم ﻫﺬه اﻟﻘﻮة ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺴﺌﻮل ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗُﻌﺎﻟِﺞ اﻟﻌﻴﻮب املﻮﺟﻮدة 153
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﰲ أيﱢ ﻧﻈﺎم ﻗﺎﻧﻮﻧﻲ .وﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ رؤﻳﺘﻨﺎ ﻟﻔﻜﺮة اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني أن ﺣﺴﻦ اﻟﺨﻠﻖ ﻣﺤﺾ ﺗﻘﻠﻴﺪ إﻧﺴﺎﻧﻲ ،ﻓﻼ ﻳﻤﻜﻦ إﻧﻜﺎر أن إﺟﺮاءات اﻟﻌﺪاﻟﺔ ﻛﻤﺎ ﺗﻄﺒﻖ ﻓﻌﻠﻴٍّﺎ ﰲ أي ﻣﺠﺘﻤﻊ ﻻ ﺗﺼﻞ إﱃ اﻟﻜﻤﺎل. وﻳﺴﺘﻄﻴﻊ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻲ أن ﻳﻮﻇﻒ ﻣﻬﺎراﺗﻪ ﻟﻴﺪاﻓﻊ ﻋﻦ ﺑﺮيء أو ﻳﺤﺎﻛﻢ املﺬﻧﺐ واﻟﻌﻜﺲ ﺻﺤﻴﺢ ،ﻛﻤﺎ ﻳﻤﻜﻨﻪ ً أﻳﻀﺎ أن ﻳﺴﺎﻋِ ﺪ املﺠﺘﻤﻊ ﻋﲆ ﺗﺤﺴني ﻣﻔﺎﻫﻴﻤﻪ ﺑﺘﻨﻘﻴﺘﻬﺎ وﻧﻘﺪﻫﺎ .وﻻ رﻳﺐ أن ﺑﻌﺾ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني اﺳﺘﺨﺪﻣﻮا ﻗﺪراﺗﻬﻢ ﺑﻤﺎ ﻳﻨﺎﰲ اﻷﺧﻼق ،وﻟﻜﻦ ﱠ ﺗﺨﺼﺼﻮا ﰲ اﻟﺠﺪل املﺒﺎﻟﻎ اﻟﻀﺌﻴﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﺣﺼﻠﻮا ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻟﺘﺤﺘﻜﺮ ﻟﻬﻢ اﻟﴩ؛ ﻓﻘﺪ اﻷﺧﻼﻗﻲ واﻟﺴﻴﺎﳼ إن ﻟﻢ ﻳﺤﺘﻜﺮوه ،وﻳﺤﺴﺐ ﻟﻬﻢ أﻧﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﺴﺘﻤﺘﻌﻮا ﺑﺎﻟﻔﻮز ﺑﺎﻟﻘﻀﺎﻳﺎ وﺗﻌﻠﻴﻢ اﻵﺧﺮﻳﻦ ﻛﻴﻔﻴﺔ اﻟﻔﻮز ﺑﻬﺎ ﻓﺤﺴﺐ ،ﺑﻞ ﺗﻜ ﱠﻠﻤﻮا ﻋﻦ اﻷﺳﺲ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ﻛﺬﻟﻚ. وﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﻛﺎﻧﺖ أﻓﻜﺎرﻫﻢ ﻫﺪاﻣﺔ؛ ﻓﻘﺪ َﺧ ﱠﻠ َﻔﺖ اﻷﺳﺌﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﻃﺮﺣﻮﻫﺎ ﺣﻮل اﻟﺘﻌﺎ ُرض ﺑني اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ واﻟﺘﻘﺎﻟﻴﺪ أﻓﻜﺎ ًرا ﺳﻴﺌﺔ وﺻﺎدﻣﺔ .ﻓﻬﻞ اﻟﻌﺪاﻟﺔ ﻣﻮﺟﻮدة ﻟﺤﻤﺎﻳﺔ اﻟﻀﻌﻔﺎء ﻓﺤﺴﺐ؟ وﻫﻞ ﻟﻠﻘﻮي أن ﻳﺘﺠﺎﻫﻠﻬﺎ إن اﺳﺘﻄﺎع؟ وﻫﺬا اﻟﺴﺆال داﺋﻤً ﺎ ﻣﺎ َ ﻃ َﺮﺣﻪ أﻓﻼﻃﻮن. وإذا َ ﻇ ﱠﻦ ﺑﻌﺾ املﺤﺎﻓﻈني ﻣﻦ أﻫﻞ أﺛﻴﻨﺎ أن اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني ﻗﺪ أﺧﺮﺟﻮا اﻟﺜﻌﺎﺑني ﻣﻦ ﺟﺤﻮرﻫﺎ ﻓﻘﺪ أﺻﺎﺑﻮا ،وﻟﻜﻦ إﺧﺮاﺟﻬﺎ ﻛﺎن ﺣﺘﻤﻴٍّﺎ ،ﻓﺈذا ﻟﻢ ﺗﻄﺮح اﻟﺴﺆال ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﻓﻠﻦ ﺗَ ِﺼ َﻞ إﱃ اﻟﺠﻮاب .وﻗﺪ أﺧﺬ أﻓﻼﻃﻮن ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﻋﲆ ﻋﺎﺗﻘﻪ ﺑﻨﺎء اﻷﺧﻼق ﻋﲆ ﻣﺎ اﻋﺘﻘﺪ أﻧﻪ أﺳﺎس ﻣﺘني؛ وذﻟﻚ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺴﻌﻲ إﱃ املﻮاءﻣﺔ ﺑني أﻓﻜﺎر اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ واﻟﺘﻘﺎﻟﻴﺪ ﻛﻤﺎ ﺳﻨﺮى .ورﺑﻤﺎ ﻣﺎ ﻛﺎن أﻓﻼﻃﻮن ﻟﻴﺘﺤﻤﱠ ﻞ ﻋﻨﺎء اﻟﻘﻴﺎم ﺑﺬﻟﻚ إن ﻟﻢ ﻳﺰﻋﺠﻪ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﻮن، ﻛﻤﺎ أﻗﺮ أﻓﻼﻃﻮن ﻛﺬﻟﻚ ﺑﺄن أﻓﻀﻞ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني ﻟﻢ ﻳﻨﴩوا اﻷﻓﻜﺎر اﻟﻬﺪاﻣﺔ ﺑﻘﺪر ﻣﺎ أﺛﺎروا ﻣﺨﺎوف ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻮﺟﻮدة ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﻟﺪى اﻟﻨﺎس ﺑﺨﺼﻮص اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ ﻟﻸﺧﻼق. ﻟﻘﺪ ﻛﺎن واﺿﺤً ﺎ ﰲ أﻋﻤﺎل ﻫﺴﻴﻮد — اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻟُﺐﱠ اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ اﻟﺘﻌﻠﻴﻤﻴﺔ ﺑﺠﺎﻧﺐ أﻋﻤﺎل ﻫﻮﻣريوس — أﻧﻪ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬي ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ ﻟﻸﺧﻼق ﺗﺮﺗﻜِﺰ ﻋﲆ ﻃﺎﻋﺔ اﻟﺮﻏﺒﺎت املﻔﱰﺿﺔ ﻟﻶﻟﻬﺔ ،اﻋﺘﻤﺪت ﻫﺬه اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻋﲆ ﻧﻮع ﻣﻦ املﺼﻠﺤﺔ اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ؛ ﻓﺎملﺨﻄﺌﻮن ﺳﻴُﻌَ ﺬﱠﺑﻮن ﻷن زﻳﻮس ﻳﻀﻤﻦ ﻋﻘﺎﺑﻬﻢ ،وﻟﻜﻦ إن ﻟﻢ ﻳﺘﻤﻜﻦ زﻳﻮس ﻣﻦ ﻓﺮض اﻷﺧﻼق ﺑﺘﻠﻚ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ وﻋﺎش املﺨﻄﺌﻮن ﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﰲ ﻧﻌﻴﻢ؛ ﻓﻼ ﻓﺎﺋﺪة ﺗُﺮﺟﻰ ﻣﻦ اﻟﺘﺤﲇ ﺑﺎﻟﻔﻀﻴﻠﺔ .وﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل ﻫﺴﻴﻮد: ﻋني زﻳﻮس ﺗﺮى ﻛﻞ ﳾء وﺗﻔﻬﻢ، وﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺮﻳﺪ ﻳﺮﻣﻲ وﻻ ﺗﺨﻴﺐ رﻣﻴﺘﻪ. ﻣﺎ أﻋﺪل املﺪﻳﻨﺔ ﺑﺪاﺧﻠﻪ! 154
َ وﻫﺒﱠﺖ رﻳﺎح املﺘﺎﻋﺐ :اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﻮن
ً ً ﻋﺎدﻻ، ﻋﺎدﻻ وﻟﻦ ﻳﻜﻮن اﺑﻨﻲ وﻟﻜﻨﻲ ﻟﻦ أﻛﻮن ﺑني اﻷﴍار ﻷﻧﻪ ﻣﻦ اﻟﴩ أن ﺗﻜﻮن أﻣﻴﻨًﺎ ﺑني ُ اﻟﻔﺠﱠ ﺎر، وأﻓﻮض أﻣﺮي إﱃ زﻳﻮس أن ﻳﺨﻠﺼﻨﻲ ﻣﻦ اﻟﻌﺜﺎر. ً أﺳﺎﺳﺎ واﻫﻴًﺎ ﻟﻠﻔﻀﻴﻠﺔ ،ﻓﻜﺎن ﻣﻦ اﻟﺼﻮاب أن أﻋﺎد اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﻮن ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺜﻘﺔ ﺑﺰﻳﻮس دراﺳﺔ ﻣﻔﻬﻮم اﻟﻌﺪاﻟﺔ املﻌﺮوف ﺑﺸﻜﻞ ﻛﺎﻣﻞ. ﻟﻘﺪ ﺷﺠﻊ أﺳﻠﻮب اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني ﰲ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ اﻟﺘﻔﺘﱡﺢ اﻟﻌﻘﲇ املﺘﱠﺴﻢ ﺑﺎﻟﺸﻚ اﻟﺬي أزﻋﺞ ﺑﻌﺾ اﻟﻨﺎس وأﺛﺎر اﻟﺴﺨﺮﻳﺔ اﻟﻌﺪاﺋﻴﺔ ﻟﺪى أرﺳﻄﻮﻓﺎن .ﻓﺒﻤﻤﺎرﺳﺔ ﻓﻦ اﻟﺠﺪال وﺗﺪرﻳﺴﻪ اﺷﺘﻐﻞ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﻮن ﺣﺘﻤً ﺎ ﺑﺎﻟﺒﺤﺚ ﰲ اﻷﺳﺒﺎب اﻟﺘﻲ ﺗﺪﻋﻢ اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ املﺨﺘﻠﻔﺔ أو ﺗﺪﺣﻀﻬﺎ ،ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ واﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ وﺣﺘﻰ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ .وﺣﺎملﺎ ْ اﺳﺘَ ﱠﻞ أﺗﺒﺎع َ ﺳﻴﻮﻓﻬﻢ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ أي ﻣﻌﺘﻘﺪ ﺗﻘﻠﻴﺪي ﻏري راﺳﺦ ﰲ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني املﺬﻫﺐ اﻟﻌﻘﲇ ﻟﻴﺼ ُﻤ َﺪ أﻣﺎﻣﻬﻢ ،وﻫﺬا ﻣﺎ َ آﺧﻰ ﺑني اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني واﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴني اﻷواﺋﻞ ،رﻏﻢ أن اﻟﻔﺮﻳﻖ اﻷول ﺗﺠﺎﻫﻞ اﻟﺘﺄﻣﱡ ﻼت ﻏري املﺠﺪﻳَﺔ ﻟﻠﻔﺮﻳﻖ اﻟﺜﺎﻧﻲ .وﻛﺎن ﻛ َِﻼ اﻟﻔﺮﻳﻘني ﻣﻦ أﺗﺒﺎع َ واملﻌﺘﻘﺪات اﻷﺳﻄﻮرﻳﺔ املﺬﻫﺐ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ اﻟﺘﺸﻜﻴﻜﻲ؛ إذ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻤﻴﻠﻮن ﻟﺮﻓﺾ اﻟﺘﻔﺴريات اﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﺗ ُﻜﻦ َ ﻟﺘﻠﻘﻰ َﻗ ً ﺒﻮﻻ ﻓﻴﻤﺎ ﺳﺒﻖ إﻻ ﻋﲆ أﺳﺎس ﻣﻦ ﻋﺎدات أو ﺗﻘﺎﻟﻴﺪ أو دﻳﻦ .ﻟﻘﺪ ً وﺑﺪﻻ ﻣﻦ ﻧﻈﺮ ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺑﺎرﺗﻴﺎب إﱃ ﻣﺤﺎوﻻت ﺗﻔﺴري اﻟﻌﺎﻟﻢ وﻣﺎ ﻳﺤﻮﻳﻪ ﻣﻦ آﻟﻬﺔ، ذﻟﻚ َﺳﻌَ ﻮْا إﱃ اﻟﻮﻗﻮف ﻋﲆ أﺳﺒﺎب ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ ﻟﺘﻔﺴري ﻇﺎﻫﺮة وﺟﻮد اﻷﺷﻴﺎء ﻛﻤﺎ ﺗﺒﺪو. وﻛﺎن اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﻮن ﻳﺴﺎورﻫﻢ اﻟﺸﻚ ﺑﺎﻟﺸﻜﻞ ذاﺗﻪ ﻋﻦ ﻋﻼﻗﺔ ذﻟﻚ ﺑﺎﻟﺪﱢﻳﻦ ،واﻟﺬي ﻛﺎن ﻣﻦ اﻟﺼﻌﺐ ﻣﻨﺎﻗﺸﺘﻪ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ .وﻗﺪ ﻗﺎل ﺑﺮوﺗﺎﺟﻮراس» :ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺨﺺ اﻵﻟﻬﺔ ﻻ أﺳﺘﻄﻴﻊ أن أﻋﺮف إن ﻛﺎﻧﻮا ﻣﻮﺟﻮدﻳﻦ أم ﻻ ،وﻻ أن أﻋﺮف ﻫﻴﺌﺘﻬﻢ؛ ﻷن اﻟﻌﻮاﻣﻞ اﻟﺘﻲ ﺗﻤﻨﻊ ذﻟﻚ ﻛﺜرية ﻣﻨﻬﺎ ﻏﻤﻮض املﻮﺿﻮع وﻗﴫ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺒﴩﻳﺔ «.وأراد اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﻮن ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻷﺳﺒﺎب اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﻮﻗﻮف ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎﻟﻘﻀﺎﻳﺎ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ،واﺗﺒﻌﻮا ﰲ ذﻟﻚ املﺬﻫﺐ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ. َﴪ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ داﺋﻤً ﺎ ﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﺰﻋﺞ آﺧﺮﻳﻦ، إن ﻣﺎ ﻛﺎن ﻳ ُ ﱡ ﺧﺎﺻﺔ إذا ﻛﺎن ﻫﻨﺎك ﻣﻦ أﻫﻞ اﻟﺠﺪل اﻟﻌﺒﺎﻗﺮة ﻣَ ﻦ ﻳﻘﺪم اﻟﺤﺠﺞ ﻣﺜﻞ ﺟﻮرﺟﻴﺎس .وﻻ ﺑُ ﱠﺪ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻣﻦ املﺮ ِﺑﻚ أن ﺗَ ِﺠ َﺪ أﺣﺪ ﺗﺠﺎر اﻟﺴﻼح املﺜﻘﻔني ﻣﺜﻞ ﺟﻮرﺟﻴﺎس ﻳﻘﻒ ﺑﻌﺘﺒﺔ دارك. ﱠ ﺑﺎﻟﻀﺤِ ﻚ ﰲ ﻣﴪﺣﻴﺔ »اﻟﻐﻴﻮم« ،وﻻ وﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻣﻦ اﻟﻐﺮﻳﺐ أن ﻳﻘﺎوم اﻟﻨﺎس اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني ط ﺑﻮﺻﻔﻪ ً أن ﻳ َُﻘﺪﱢم أرﺳﻄﻮﻓﺎ ُن ﺳﻘﺮا َ ﺑﻄﻼ ﺳﻔﺴﻄﺎﺋﻴٍّﺎ؛ إذ ﻛﺎن ﺳﻘﺮاط أﺷﻬﺮ املﺠﺎدِ ﻟني ﰲ أﺛﻴﻨﺎ .ﻟﻘﺪ َﻗ ﱠﺪ َم أرﺳﻄﻮﻓﺎن ﺻﻮر ًة ﻏري ﻣﻨﺼﻔﺔ ﻟﺴﻘﺮاط ،وﻟﻜﻦ أﺛﻨﺎء اﻟﺪﻓﺎع ﻋﻦ ﺳﻘﺮاط 155
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻗﺪﱠم أﻓﻼﻃﻮن ﺻﻮرة ﻏري ﻣﻨﺼﻔﺔ ﻛﺬﻟﻚ ﻋﻦ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني .وﺑﻌﺪ ﺗﻨﺎوُل اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني اﻟﺤﻘﻴﻘﻴني َ آن ﻟﻨﺎ أن ﻧﺘﺤﺪث ﻋﻦ ﺳﻘﺮاط اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ.
156
اﳉﺰء اﻟﺜﺎﲏ
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﻌﺎﴍ
ﺷﻬﻴﺪ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ :ﺳﻘﺮاط واﻟﺴﻘﺮاﻃﻴﺎت
ﺳﻘﺮاط ﻫﻮ ﻗﺪﻳﺲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ وﺷﻬﻴﺪﻫﺎ؛ ﻓﻠﻢ ﻳﻜﻦ أيﱞ ﻣﻦ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﻜﺒﺎر ﻣﻬﺘﻤٍّ ﺎ ﺑﺎﻟﺤﻴﺎة ً ﻣﻬﻮوﺳﺎ ﺑﻬﺎ .وﻛﺤﺎل اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ املﺴﺘﻘﻴﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻐﻠﻔﻬﺎ اﻟﺘﻘﻮى ﺑﻘﺪر ﻣﺎ ﻛﺎن ﺳﻘﺮاط اﻟﺸﻬﺪاء اﺧﺘﺎر ﺳﻘﺮاط ﱠأﻻ ﻳﺤﺎول إﻧﻘﺎذ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻛﺎن ذﻟﻚ ﻣﻤﻜﻨًﺎ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺗﻐﻴري ً ووﻓﻘﺎ ﻟﺮواﻳﺔ أﻓﻼﻃﻮن اﻟﺬي ﻋﺎش ﰲ اﻟﻔﱰة ﻧﻔﺴﻬﺎ؛ ﻓﺈن ﺳﻘﺮاط ﻗﺎل ﻟﻠﻘﻀﺎة ﰲ أﺳﺎﻟﻴﺒﻪ. ﻣﺤﺎﻛﻤﺘﻪ» :إﻧﻜﻢ ﻣ ْ ُﺨ ِﻄﺌُ َ ﻮن ﰲ ﻇﻨﻜﻢ أن اﻹﻧﺴﺎن ذا اﻟﻘﻴﻤﺔ اﻟﻌﺎﻟﻴﺔ ﻋﻠﻴﻪ أن ﻳﻘﴤ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﰲ ﺣﺴﺎب اﺣﺘﻤﺎﻻت اﻟﺤﻴﺎة واملﻮت؛ ﻓﻠﻴﺲ ﻋﲆ اﻹﻧﺴﺎن أن ﻳﻀﻊ ﰲ اﻋﺘﺒﺎره إﻻ ﺷﻴﺌًﺎ واﺣﺪًا ﻋﻤﻞ وﻫﻮ ﻣﺎ إذا ﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﻌﻤﻞ ﺻﻮاﺑًﺎ أم ﺧﻄﺄ «.وﻟﻜﻦ ﻋﲆ ﻋﻜﺲ اﻟﻜﺜري ﻋﻨﺪ ﻗﻴﺎﻣﻪ ﺑﺄي ٍ ﻣﻦ اﻟﻘﺪﻳﺴني ﻛﺎن ﺳﻘﺮاط ﻳﺘﻤﺘﻊ ﺑ ُﺮوح اﻟﺪﻋﺎﺑﺔ واﻟﻔﻜﺎﻫﺔ ،وﻛﺎن ﻫﺬا ﻳﻈﻬﺮ ﰲ ﺻﻮرة ُ ﻇﺮف وﻣﺰاح ﺗﺎرة وﰲ ﺻﻮرة ﺳﺨﺮﻳﺔ ﺣﺎﻓﻠﺔ ﺑﺎملﻌﺎﻧﻲ ﺗﺎرة أﺧﺮى .وﻋﲆ ﻋﻜﺲ اﻟﻘﺪﻳﺴني ﰲ ﻛﻞ اﻷدﻳﺎن ،ﻟﻢ ﻳﻜﻦ إﻳﻤﺎن ﺳﻘﺮاط ﰲ اﻻﻋﺘﻤﺎد ﻋﲆ اﻟﻮﺣﻲ أو اﻷﻣﻞ اﻷﻋﻤﻰ ،وإﻧﻤﺎ ﰲ اﻟﺘﻔﺮغ ﻟﻠﻤﻨﻄﻖ اﻟﺠﺪﱄ ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻴﺴﺘﺠﻴﺐ ﻷﻗﻞ ﻣﻦ ذﻟﻚ. ً ﻗﺼﺼﺎ ﻋﻦ ﻣﺪى ﻏﺮاﺑﺘﻪ؛ ﻓﻔﻲ إﺣﺪى اﻟﻠﻴﺎﱄ ﺑﻌﺪ اﻟﻌﺸﺎء وﻗﺪ روى أﺻﺪﻗﺎء ﺳﻘﺮاط — ﻛﻤﺎ ﰲ أﺣﺪ أﺣﺎدﻳﺚ أﻓﻼﻃﻮن — ﺣﻜﻰ أﺣﺪ اﻟﻔﺘﻴﺎن ،وﻛﺎن ﻗﺪ ﻗﴣ ﺧﺪﻣﺘﻪ اﻟﻌﺴﻜﺮﻳﺔ ً ﻣﻮﻗﻔﺎ ﻟﻪ ﻓﻘﺎل: ﻣﻊ ﺳﻘﺮاط، ً واﺟﻪ ﺳﻘﺮاط ﻣﺸﻜﻠﺔ ﺗﺘﻌﻠﻖ ﺑﴩوق اﻟﺸﻤﺲ ﰲ أﺣﺪ اﻷﻳﺎم وﻇﻞ ً ﻣﺴﺘﻐﺮﻗﺎ واﻗﻔﺎ ﰲ ﺗﻔﻜريه ،و ﱠملﺎ ﻟﻢ ﻳﺼﻞ إﱃ ﺣ ﱟﻞ ﻇﻞ ً واﻗﻔﺎ ﻳﻔ ﱢﻜﺮ وﻗﺪ رﻓﺾ اﻻﺳﺘﺴﻼم .وﻣﺮ اﻟﻮﻗﺖ ،وﺑﺤُ ﻠُﻮل ﻣﻨﺘﺼﻒ اﻟﻨﻬﺎر أﺧﺬ اﻟﺠﻨﻮد ﻳﺘﻨﺎﻗﻠﻮن ﺑﻴﻨﻬﻢ ﻗﺼﺔ وﻗﻮف ﺳﻘﺮاط ﰲ ﻣﻜﺎﻧﻪ ﻳﻔ ﱢﻜﺮ ﻣﻨﺬ ﻣﻄﻠﻊ اﻟﻔﺠﺮ ،وﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻗﺒﻞ أن ﻳﺴﺪل اﻟﻈﻼم ﺳﺘﺎره أﺧﺮج ﺑﻌﺾ اﻷﻳﻮﻧﻴني ﻓﺮﺷﻬﻢ ﺑﻌﺪ اﻟﻌﺸﺎء ﻟريوا ﻣﺎ إذا ﻛﺎن ﺳﻴﺒﻘﻰ
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻇ ﱠﻞ ً ﻃﻮال اﻟﻠﻴﻞ ،وﻗﺪ َ واﻗﻔﺎ ﺣﺘﻰ ﻧﴩ اﻟﺼﺒﺎح ﺿﻴﺎءه ،وﻋﻨﺪﻣﺎ ﻃﻠﻌﺖ اﻟﺸﻤﺲ ﺗﻼ ﺻﻠﻮاﺗﻪ ﻟﻬﺎ وذﻫﺐ. وﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ اﺳﺘﻐﻼﻟﻪ وﻗﺖ ﻓﺮاﻏﻪ ﺑﻬﺬا اﻟﺸﻜﻞ ،روت ﺟﻤﻴﻊ املﺼﺎدر أن ﺳﻘﺮاط ﻛﺎن ﻟﻪ ﺳﺠﻞ ﻋﺴﻜﺮي ﻣﴩف. وﰲ اﻟﻄﺮﻳﻖ إﱃ ﺣﻔﻞ اﻟﻌﺸﺎء اﻟﺬي ُر ِوﻳ َْﺖ ﻓﻴﻪ اﻟﻘﺼﺔ اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ،وﺻﻒ ﺻﺪﻳﻖ آﺧﺮ ﻛﻴﻒ »وﻗﻊ ﺳﻘﺮاط ﰲ ﻧﻮﺑﺔ ﻣﻦ اﻟﺘﻔﻜري املﺠﺮد وﺑﺪأ ﻳﺘﻠ ﱠﻜﺄ ﰲ ﻣﺸﻴﺘﻪ« ،وﺑﻌﺪﻫﺎ اﻧ ْ َﺴ ﱠﻞ إﱃ ﻋﺘﺒﺔ أﺣﺪ اﻟﺠريان ﻟﻴﺴﺘﻤﺮ ﰲ ﺗﻔﻜريه ،ﻓﻘﺎل اﻟﺮاوي» :إﻧﻬﺎ ﻋﺎدة ﻣﺘﺄﺻﻠﺔ ﻓﻴﻪ أن ﻳﺬﻫﺐ ﺑﻌﻴﺪًا وﻳﻘﻒ أﻳﻨﻤﺎ ﻛﺎن «.وﻟﻢ ﺗﺘﻀﻤﱠ ﻦ ﻋﺎداﺗﻪ املﻨﺘﻈﻤﺔ اﻷﺧﺮى أن ﻳﻐﺘﺴﻞ ،ﻓﺤﺘﻰ أﻗﺮب ﻣﻐﺘﺴﻼ وﻗﺪ ارﺗﺪى ﻧﻌﻠﻴﻪ .ﻟﻘﺪ ﻛﺎن َر ﱠ ً ث اﻟﺜﻴﺎب أﺻﺪﻗﺎﺋﻪ أﻗﺮوا أﻧﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﻌﺘﺎدوا رؤﻳﺘﻪ َ أﺷﻌﺚ ،وﻟﻢ ﻳَ ُﻜ ْﻦ أﺑﺪًا ﻣﻦ أﺻﺤﺎب املﺎل وﻟﻢ ﻳﻬﺘﻢ ﻣﻦ أﻳﻦ ﺳﻴﺤﺼﻞ ﻋﲆ وَﺟﺒﺘﻪ اﻟﻘﺎدﻣﺔ. وﻗﺪ أﻗﺮ ﺳﻘﺮاط أﻣﺎم املﺤﻜﻤﺔ ً ﻗﺎﺋﻼ» :ﻟﻢ أﻋﺶ ﻳﻮﻣً ﺎ ﺣﻴﺎة ﻋﺎدﻳﺔ ﻫﺎدﺋﺔ ،وﻟﻢ أﻫﺘ ﱠﻢ ﻳﻮﻣً ﺎ ﺑﻤﺎ ﻳﻬﺘﻢ ﺑﻪ ﻣﻌﻈﻢ اﻟﻨﺎس؛ ﻛﺠﻤﻊ املﺎل ،واﻣﺘﻼك ﻣﻨﺰل ﻣﺮﻳﺢ ،واﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ رﺗﺒﺔ ﻋﺴﻜﺮﻳﺔ أو ﻣﻜﺎﻧﺔ ﻣﺪﻧﻴﺔ ﻣﺮﻣﻮﻗﺔ ،وﺟﻤﻴﻊ اﻷﻧﺸﻄﺔ اﻷﺧﺮى اﻟﺘﻲ ﻳﻘﻮم ﺑﻬﺎ اﻟﻨﺎس ﰲ ﻣﺪﻳﻨﺘﻨﺎ«. وﻟﻜﻦ ﺳﻘﺮاط ﻟﻢ ﻳَ َﺮ أن أﻳٍّﺎ ﻣﻦ زﺧﺎرف اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻨﺎﺟﺤﺔ ﺑﺸﻜﻞ ﺗﻘﻠﻴﺪي ﻛﺎن ﺳﻴﺌًﺎ ﰲ ذاﺗﻪ، ﱡ اﻟﺘﻘﺸﻒ )وﻳﻘﻮل ﻛﻤﺎ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻫﻮ ﻧﻔﺴﻪ زاﻫﺪًا ﺑﺎملﻌﻨﻰ املﻌﺮوف ﻟﻠﻜﻠﻤﺔ ،ﻓﻠﻢ ﻳَ ْﺪ ُع ﻳﻮﻣً ﺎ إﱃ أﺻﺪﻗﺎؤه إﻧﻪ ﻗﺪ ﻳَﺰﻳﺪ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻛﺜريًا ﰲ ﴍب اﻟﺨﻤﺮ ،وإن ﻛﺎن ﻟﻢ ﻳﺮه أﺣﺪ ً ﺛﻤﻼ ﻗﻂ( ،ﻛﻤﺎ ً ﺷﺨﺼﺎ ﻗﻂ أن ﻳﺤﻴَﺎ ﺣﻴﺎة ﺑﺴﻴﻄﺔ ﻣﺜﻠﻪ .وﻷﻧﻪ ﻗﻮي اﻻﺣﺘﻤﺎل ﻣﻨﺸﻐﻞ اﻟﺬﻫﻦ ﻓﻘﺪ ﻟﻢ ﻳَ ْﺪ ُع ﻛﺎن ﻻ ﻳﻌري اﻫﺘﻤﺎﻣﻪ ﻷﺷﻴﺎء ﻣﺜﻞ املﻠﺒﺲ واﻟﻄﻌﺎم واملﺎل. ً ﻣﻨﺸﻐﻼ ﻣﻌﻈﻢ اﻟﻮﻗﺖ ﺑﻤﺤﺎورة اﻵﺧﺮﻳﻦ وﻟﻴﺲ ﺑﺎﻟﺘﺄﻣﱡ ﻞ وﺣﺪه ﻟﻘﺪ ﻛﺎن ﺳﻘﺮاط ﻓﺤﺴﺐ .وﻳﺒﺪو أن ﻣﻨﺎﻗﺸﺎﺗﻪ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺤﺘﺪِﻣﺔ وﺷﺪﻳﺪة ﻣﺜﻞ ﻧﻮﺑﺎﺗﻪ اﻟﺘﺠ ﱡﺮدﻳﺔ اﻻﻧﻔﺮادﻳﺔ. وﻗﺪ ﻗﺎل أﺣﺪ اﻟﻘﺎدة املﻌﺮوﻓني ﻛﺎن ﻋﲆ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﺑﺴﻘﺮاط: إذا دﺧﻞ أيﱞ ﻣﻦ املﻘﺮﺑني ﻣﻦ ﺳﻘﺮاط ﰲ ﻣﺤﺎدﺛﺔ ﻣﻌﻪ ،ﻛﺎن ﻋﺮﺿﺔ ﻷن ﻳ ُْﺴﺘَ ْﺪ َرجَ إﱃ ﺟﺪال ،وأﻳٍّﺎ ﻛﺎن املﻮﺿﻮع اﻟﺬي ﺳﻴﺨﺘﺎره ﻓﺴﻴﺴﺘﻤﺮ ﺳﻘﺮاط ﰲ ﻣﺠﺎدﻟﺘﻪ ﺣﺘﻰ ﻳﻜﺘﺸﻒ أﺧريًا أن ﻋﻠﻴﻪ أن ﻳﻘﺪم ﺗﻘﺮﻳ ًﺮا ﻋﻦ ﺣﻴﺎﺗﻪ املﺎﺿﻴﺔ واﻟﺤﺎﴐة، اﻟﴩكِ ﻓﻠﻦ ﻳﱰﻛﻪ ﺳﻘﺮاط ﺣﺘﻰ ﻳُﻤَ ﺤﱢ َ ﺼ ُﻪ ﺑﺸﻜﻞ ﻛﺎﻣﻞ. وإذا وﻗﻊ ﰲ ﱠ َ ﻟﻘﺪ ﻛﺎن ﺳﻘﺮاط ﻓﻘريًا ،وﻟﻢ ﻳﺮﺗﺒﻂ اﺳﻤﻪ ﺑﺄيﱟ ﻣﻦ اﻹﻧﺠﺎزات اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ ،وﻛﺎﻧﺖ ﻧﺸﺄﺗﻪ ﻣﺘﻮاﺿﻌﺔ؛ إذ ﻛﺎن أﺑﻮه ِ ﻋﺎﻣ َﻞ ﺑﻨﺎء وﻛﺎﻧﺖ أﻣﻪ ﻗﺎ ِﺑ َﻠ ًﺔ .وﻳﺸﻬﺪ ﻟﻘﺪرات ﺳﻘﺮاط اﻻﺳﺘﺜﻨﺎﺋﻴﺔ ﰲ 160
ﺷﻬﻴﺪ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ :ﺳﻘﺮاط واﻟﺴﻘﺮاﻃﻴﺎت
ﺳﻘﺮاط.
املﺤﺎورة أﻧﻪ ا ْﻟﺘَﺤَ َﻖ ﺑ َﺮﻛﺐ اﻟﻄﺒﻘﺎت اﻟﻌﻠﻴﺎ ﰲ املﺠﺘﻤﻊ اﻷﺛﻴﻨﻲ .وﻗﺪ ﺷﺒﱠﻪ أﻟﺴﻴﺒﻴﺎدس اﻟﺬي َ ﺣﺪﻳﺚ ﺳﻘﺮاط ﺑﻤﻮﺳﻴﻘﻰ ﻣﺎرﺳﻴﺎس روى ﻗﺼﺔ ﺳﻬﺮ ﺳﻘﺮاط ﺣﺘﻰ اﻟﺼﺒﺎح ﰲ املﻌﺴﻜﺮ إﻟﻪ اﻷﻧﻬﺎر »اﻟﺬي ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻋﻠﻴﻪ إﻻ أن ﻳﻀﻊ اﻟﻨﺎي ﻋﲆ ﺷﻔﺘﻴﻪ ﻟﻴﺴﺤﺮ اﻟﻨﺎس« ،وﻗﺪ ﻗﺎل ﻛﺬﻟﻚ ﻟﺴﻘﺮاط» :إن اﻟﻔﺮق ﺑﻴﻨﻚ وﺑني ﻣﺎرﺳﻴﺎس أﻧﻚ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ اﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ اﻟﻨﺘﻴﺠﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ دون اﻟﺤﺎﺟﺔ إﱃ أﻳﱠﺔ آﻟﺔ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق ،ﺑﻞ إﱃ ﺑﻌﺾ اﻟﻜﻠﻤﺎت اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ وﻟﻴﺲ اﻟﺸﻌﺮ ﺣﺘﻰ «.وﻗﺎل ﻛﺬﻟﻚ: ﺑﺎﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﻧﻔﴘ أﻳﻬﺎ اﻟﺴﺎدة ،ﻟﻮ ﻟﻢ أ َ ْﺧ َﺶ أن ﺗﻘﻮﻟﻮا إﻧﻨﻲ ُﻏ ِﻠﺒ ُْﺖ؛ ﻷﻗﺴﻤﺖ ﺑﺼﺪق ﻋﲆ اﻷﺛﺮ ﻏري اﻟﻌﺎدي ﻟﻜﻠﻤﺎﺗﻪ ﰲ ﻧﻔﴘ ،ﻓﻌﻨﺪﻣﺎ أﺳﻤﻊ ﺣﺪﻳﺜﻪ ﻳﺨﻠﺒﻨﻲ ﻋﻴﻨﻲ. اﻟﱰاﻗِ َﻲ ،وﺗﻨﻬﻤﺮ اﻟﺪﻣﻮع ﻣﻦ ﻧﻮع ﻣﻦ اﻟﻐﻀﺐ املﻘﺪﱠس … وﺗﺒﻠﻎ ﻧﻔﴘ ﱠ َ ﱠ وﻟﺴﺖ وﺣﺪي ﻣﻦ ﻳﺤﺪث ﻣﻌﻪ ذﻟﻚ ﺑﻞ ﺛﻤﺔ ﻛﺜريون ﻛﺬﻟﻚ …
161
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
وﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﻳﱰﻛﻨﻲ ﻣﺎرﺳﻴﺎس ﰲ اﻟﻴﻮم اﻟﺜﺎﻧﻲ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ أﺷﻌﺮ ﻓﻴﻬﺎ أﻧﻲ ﺑﺒﺴﺎﻃﺔ ﻻ أﺳﺘﻄﻴﻊ أن أﻋﻴﺶ ﻛﻤﺎ ﰲ اﻟﺴﺎﺑﻖ .ﻟﻘﺪ ﺟﻌﻠﻨﻲ أﻋﱰف أﻧﻪ ﺑﻴﻨﻤﺎ أﻗﴤ وﻗﺘﻲ ﰲ اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﻓﺈﻧﻲ أﺗﺠﺎﻫﻞ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ ﺗﺼﻄﺮع ﺑﺪاﺧﲇ. ﻟﻘﺪ ُ »ﻏﻠِﺐَ « أﻟﺴﻴﺒﻴﺎدس اﻟﺼﻐري ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﰲ ﻫﺬه املﺮﺣﻠﺔ ﻣﻦ اﻟﻌﺸﺎء؛ ﻟﺬا ﻓﻼ ﺷﻚ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻣﻨﺒﻬ ًﺮا .إﻧﻬﺎ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﺑﺎﻟﻐﺔ أن اﻟﺠﻤﻴﻊ ﻛﺎﻧﻮا ﻳُﺒﺪُون اﻧﺒﻬﺎ ًرا أﺛﻨﺎء ﺣﺪﻳﺜﻬﻢ ﻋﻦ ﺳﻘﺮاط ﺳﻮاء ﻛﺎن ذﻟﻚ أﻟﺴﻴﺒﻴﺎدس وﻫﻮ ﻳﺘﻐﻨﱠﻰ ﺑﻤﺪﺣﻪ أو أﻋﺪاءه وﻫﻢ ﻳﻬﺬون أﻣﺎﻣﻪ. ً وﻗﺪ أراد أﻟﺴﻴﺒﻴﺎدس ً ﻣﺄﻟﻮﻓﺎ ﺑني ﻓﻼﺳﻔﺔ أﺛﻴﻨﺎ أﻳﻀﺎ أن ﻳﺤﺒﻪ ﺳﻘﺮاط؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن واﻟﻔﺘﻴﺔ أن ﻳﻜﻮن ﻓﻴﻬﻢ ﻣﺴﺤﺔ ﻣﻦ رﻏﺒﺔ ِﻣﺜ ْ ِﻠﻴﱠﺔ وﺧﺎﺻﺔ ﻓﻴﻤﻦ ﺣﻮل أﻓﻼﻃﻮن .وﻛﺎن أي ﻟﻠﻮﻟﺪان وﻫﻮ ﺳﻌﻴﺪ ﻣﺴﺘﺒﴩ ﻣﺘﺄﺛ ًﺮا ﺑﻮﺳﺎﻣﺔ ﺷﺒﺎﺑﻬﻢ وﺟﺎذﺑﻴﺘﻪ. رﺟﻞ ﻛﺒري ﻳُﻌَ ﱢﻠ ُﻢ اﻟﺤﻜﻤﺔ ِ وﻟﻜﻦ أﻓﻼﻃﻮن وﺳﻘﺮاط ﻛﻠﻴﻬﻤﺎ اﻧﺘﻘﺪا املِ ﺜﻠﻴﺔ اﻟﺠﻨﺴﻴﺔ؛ ﻓﻘﺪ ﺷﻌﺮ أﻟﺴﻴﺒﻴﺎدس ﺑﺎﻟﺨﺰي ﰲ اﻟﺒﺪاﻳﺔ ﻋﻨﺪﻣﺎ رﻓﺾ ﺳﻘﺮاط اﻟﺘﺠﺎوُب ﻣﻊ رﻏﺒﺎﺗﻪ اﻟﺠﺴﺪﻳﺔ .وﻛﻤﺎ أوﺿﺢ ﺳﻘﺮاط ﺑﻠﺒﺎﻗﺔ وﻗﺘﻬﺎ ﻓﻘﺪ َ ﺻ ﱠﺪ ﻣﺤﺎوﻻت أﻟﺴﻴﺒﻴﺎدس ﻷﺳﺒﺎب أﺧﻼﻗﻴﺔ وﻟﻴﺲ ﻟﻌﺪم اﻧﺠﺬاﺑﻪ إﻟﻴﻪ .ﻟﻘﺪ اﺷﺘﻬﺮ أﻟﺴﻴﺒﻴﺎدس ﺑﺎﻟﻮﺳﺎﻣﺔ اﻟﻜﺒرية وﻋُ ِﺮ َ ف ﺳﻘﺮاط ﺑﺪَﻣﺎﻣﺔ وﺟﻬﻪ ،وﻟﻜﻦ اﻟﺠﻤﺎل اﻟﺬي رآه أﻟﺴﻴﺒﻴﺎدس ﰲ ﺳﻘﺮاط ﻫﻮ ﺟﻤﺎل داﺧﲇ ﻓﻘﺎل» :ﻟﻘﺪ ُﺳﺤِ َﺮ ﻗﻠﺒﻲ أو ﻋﻘﲇ أو ﻣﺎ ﺷﺌﺖ أن ﺗﺴﻤﻴﻪ ﺑﻔﻠﺴﻔﺔ ﺳﻘﺮاط اﻟﺘﻲ ﺗﺘﺸﺒﺚ ﺑﺄي ﻋﻘﻞ ﺻﻐري وﻣﻮﻫﻮب ،ﺗﺼﻞ إﻟﻴﻪ ﻛﻤﺎ ﺗﺘﺸﺒﺚ اﻷﻓﻌﻰ ﺑﻔﺮﻳﺴﺘﻬﺎ«. ﻟﻘﺪ ﺳﺨﺮ ﺳﻘﺮاط ﻣﻦ دﻣﺎﻣﺔ وﺟﻬﻪ واﺳﺘﻄﺎع أن ﻳﻘﺪم ﺷﻴﺌًﺎ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻣﺤﺾ ﺷﺒﻪ ِﺟﺪﱢي ﺣﺘﻰ ﻣﻦ ﻣﻮﺿﻮع ﻫﺰﱄ ﻛﻬﺬا .وﻗﺪ ﺗﺤﺪاه أﺣﺪ أﺻﺪﻗﺎﺋﻪ ﻳﺪﻋﻰ ﻛﺮﻳﺘﻮﺑﻴﻮﻟﻮس ﰲ »ﻣﺴﺎﺑﻘﺔ ﺟﻤﺎل« ﻳﺤﺎول ﻓﻴﻬﺎ ﻛﻞ رﺟﻞ أن ﻳﻘﻨﻊ ﻧﻤﻮذﺟً ﺎ ﻟﻬﻴﺌﺔ ﺣُ ﱠﻜﺎم أﻧﻪ أﺟﻤﻞ ﻣﻦ ﻧﻈريه، وﻗﺪ ﺑﺪأ ﺳﻘﺮاط املﻨﺎﻓﺴﺔ ً ﻗﺎﺋﻼ: ﺳﻘﺮاط :اﻟﺨﻄﻮة اﻷوﱃ إذن ﰲ دﻋﻮاي ﻫﻲ اﺳﺘﺪﻋﺎؤﻛﻢ إﱃ ﺟﻠﺴﺔ اﻻﺳﺘﻤﺎع اﻟﺘﻤﻬﻴﺪﻳﺔ، ﺑﺮﺟﺎء اﻟﺘﻔﻀﻞ ﺑﺎﻟﺠﻮاب ﻋﲆ أﺳﺌﻠﺘﻲ :ﻫﻞ ﺗﺆﻣﻨﻮن أن اﻟﺠﻤﺎل ﻻ ﻳﻮﺟﺪ إﻻ ﰲ اﻹﻧﺴﺎن؟ أم أﻧﻪ ﻣﻮﺟﻮد ﰲ أﺷﻴﺎء أﺧﺮى؟ ﻛﺮﻳﺘﻮﺑﻴﻮﻟﻮس :أرى ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ أن اﻟﺠﻤﺎل ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻮﺟﺪ ً أﻳﻀﺎ ﰲ اﻟﻔﺮس وﰲ اﻟﺜﻮر أو أيﱟ ﻣﻦ اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت ﻏري اﻟﺤﻴﺔ ،وأﻋﻠﻢ أﻧﻪ ﺑﺸﻜﻞ ﻋﺎم ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن اﻟﺪر ُع أو ً ﺟﻤﻴﻼ. اﻟﺴﻴﻒ أو اﻟﺮﻣﺢ ﺳﻘﺮاط :وﻛﻴﻒ ﻟﻬﺬه اﻷﺷﻴﺎء أن ﺗﻜﻮن ﺟﻤﻴﻠﺔ وﻫﻲ ﻏري ﻣﺘﺸﺎﺑﻬﺔ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق؟ 162
ﺷﻬﻴﺪ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ :ﺳﻘﺮاط واﻟﺴﻘﺮاﻃﻴﺎت
ﻛﺮﻳﺘﻮﺑﻴﻮﻟﻮس :و ِﻟ َﻢ ﻻ؟ إﻧﻬﺎ ﺟﻤﻴﻠﺔ وﺟَ ﻴﱢﺪة إذا ﻣﺎ أُﺣْ ِﺴ َﻦ ُ ﺻﻨﻌُ ﻬﺎ ﻟﻸﻏﺮاض اﻟﺘﻲ ﻧﻤﺘﻠﻜﻬﺎ ﻷﺟﻠﻬﺎ ،أو إذا ﻣﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻬﻴﱠﺄة ﺑﻄﺒﻴﻌﺘﻬﺎ ﻟﺘﻠﺒﻴﺔ اﺣﺘﻴﺎﺟﺎﺗﻨﺎ. ﺳﻘﺮاط :ﻫﻞ ﺗﻌﻠﻢ ِﻟ َﻢ ﻧﺤﺘﺎج اﻷﻋني؟ ﻛﺮﻳﺘﻮﺑﻴﻮﻟﻮس :ﻟﻨﺮى ﺑﻬﺎ ﺑﺎﻟﻄﺒﻊ. ﻋﻴﻨﻲ أﺣﺴﻦ ﻣﻦ ﻋﻴﻨﻴﻚ. ﺳﻘﺮاط :ﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ﺳﻴﺒﺪو ﺑﻼ ﺟﺪال أن ﱠ ﻛﺮﻳﺘﻮﺑﻴﻮﻟﻮس :وﻛﻴﻒ ذاك؟ ﻋﻴﻨﻲ وﻫﻤﺎ ﺟﺎﺣﻈﺘﺎن ﻫﻜﺬا ﺳﻘﺮاط :ﻷﻧﻪ ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻻ ﺗﻨﻈﺮ ﻋﻴﻨﺎك إﻻ إﱃ اﻷﻣﺎم؛ ﻓﺈن ﱠ ﺗﺮﻳﺎن ﻣﺎ ﻋﲆ اﻟﺠﻮاﻧﺐ ً أﻳﻀﺎ. ﻛﺮﻳﺘﻮﺑﻴﻮﻟﻮس :ﻫﻞ ﺗﻌﻨﻲ أن اﻟﺴﻠﻄﻌﻮن ﻣﻬﻴﱠﺄ ٌ ﺑﴫﻳٍّﺎ ﺑﺸﻜﻞ أﻓﻀﻞ ﻣﻦ ﺑﺎﻗﻲ اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت؟ ﺳﻘﺮاط :ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ. ﻛﺮﻳﺘﻮﺑﻴﻮﻟﻮس :ﺣﺴﻨًﺎ ،ﻟﻨﺘﺠﺎوز ذﻟﻚ .وﻟﻜﻦ أي اﻷﻧﻔني أﺟﻤﻞ :أﻧﻔﻚ أم أﻧﻔﻲ؟ ﺳﻘﺮاط :أﻇﻨﻪ أﻧﻔﻲ؛ ﺑﻤﺎ أن اﻟﻌﻨﺎﻳﺔ اﻹﻟﻬﻴﺔ ﺟﻌﻠﺖ ﻟﻨﺎ ً أﻧﻮﻓﺎ ﻟﻨ َ َﺸﻢ ﺑﻬﺎ ،وﻷن ﻣﻨﺨﺮﻳﻚ ﻳﺘﺠﻬﺎن ﻷﺳﻔﻞ ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻣﻨﺨﺮاي واﺳﻌﺎن وﻣﺘﺠﻬﺎن ﻷﻋﲆ ﻓﺄﺳﺘﻄﻴﻊ أن أﻟﺘﻘﻂ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﺮواﺋﺢ ﻣﻦ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﺠﻬﺎت. ﻛﺮﻳﺘﻮﺑﻴﻮﻟﻮس :وﻟﻜﻦ ﻛﻴﻒ ﺗﻌﺘﱪ اﻷﻧﻒ اﻷﻓﻄﺲ أﺟﻤﻞ ﻣﻦ اﻷﻧﻒ املﺴﺘﻘﻴﻢ؟ ً ﺣﺎﺋﻼ ﺑني اﻟﻌﻴﻨني ﺑﻞ ﻳﺴﻤﺢ ﻟﻬﻤﺎ ﺑﺮؤﻳﺔ ﻣﺎ ﺗﺮﻳﺪان ﺑﻼ ﺳﻘﺮاط :ﻷﻧﻪ ﻻ ﻳﺸ ﱢﻜﻞ ﻋﻮاﺋﻖ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ اﻷﻧﻒ املﺮﺗﻔﻊ ﻳﻔﺼﻞ ﻛﻞ ﻋني ﻋﻦ اﻷﺧﺮى ﻛﺎﻟﺠﺪار ﻳﻔﺼﻞ ﺑني ﺷﻴﺌني. ﻛﺮﻳﺘﻮﺑﻴﻮﻟﻮس :أﻣﺎ ﺑﺨﺼﻮص اﻟﻔﻢ ،ﻓﺄﻧﺎ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﻨﻘﻄﺔ ﻣﻐﻠﻮب؛ ﻷﻧﻪ إذا ُﺧﻠ َِﻖ ﻟﻘﻀﻢ اﻟﻄﻌﺎم ﻓﺴﺘﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﺗﻘﻀﻢ ﻗﺪ ًرا ﻣﻦ اﻟﻄﻌﺎم أﻛﱪ ﻣﻤﱠ ﺎ أﺳﺘﻄﻴﻊ .أﻻ ﺗﻌﺘﻘﺪ ً أﻳﻀﺎ أن ُﻗﺒﻠﺘﻚ أﻛﺜﺮ رﻗﺔ ﻷن ﻟﺪﻳﻚ ﺷﻔﺘني ﺳﻤﻴﻜﺘني؟ ﺳﻘﺮاطً : ﻃﺒﻘﺎ ملﺎ َ ﻗﻠﺖ ﺳﻴﺒﺪو أن ﻟﺪيﱠ ﻓﻤً ﺎ أﻗﺒﺢ ﻣﻦ ﻓﻢ اﻟﺤﻤﺎر. ﻛﺮﻳﺘﻮﺑﻴﻮﻟﻮس :ﻟﻢ أﻋُ ﺪ أﻃﻴﻖ ﻣﺠﺎدﻟﺘﻚ ،دﻋﻬﻢ ﻳﻮزﻋﻮا أوراق اﻟﺘﺼﻮﻳﺖ. َ ﻳﻮﺻﻒ ﺑﺤﺴﻦ اﻟﻬﻴﺌﺔ ،وﻛﺎن ﺑﺎﻟﻄﺒﻊ ﺧﴪ ﺳﻘﺮاط اﻟﺘﺤﺪي؛ ﻓﻘﺪ ﻋﻠﻢ أﻧﻪ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن اﻷﻣﺮ ﻛﻠﻪ ﻣﺤﺾ ﻣﺰاح .وﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻫﺬا اﻟﻨﻘﺎش )املﺄﺧﻮذ ﻣﻦ ﻣﺤﺎورة ﻷﺣﺪ املﻌﺠَ ﺒني اﻵﺧﺮﻳﻦ ِﻲ أﻟﺴﻴﺒﻴﺎدس إﻻ ﺿﺎﺣ ًﻜﺎ ،ﻛﻤﺎ ﻻ ﻳُ ْ ﻈ ِﻬ ُﺮ اﻟﻨﻘﺎش ﺳﻘﺮاط وﻫﻮ ﰲ ﻗﻤﺔ وﻫﻮ زﻳﻨﻮﻓﻮن( ِﻟﻴُﺒْﻜ َ ﺗﻌﻘﻴﺪه ،ﺑﻞ ﻋﲆ اﻟﻌﻜﺲ ﻣﻦ ذﻟﻚ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻓﻬﺬا ﺳﻘﺮاط املﺒﺘﺪئ .وﻟﻜﻦ اﻟﻼﻓﺖ أن ﻫﺬا املﺰاح 163
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻳﻈﻬﺮ ﻓﻴﻪ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ ﺷﺨﺼﻴﺔ ﺳﻘﺮاط اﻟﺬي ﻳﺮاه اﻟﻨﺎس ﰲ املﻨﺎﻗﺸﺎت اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ اﻷﻋﻤﻖ واﻷﺷﻬﺮ اﻟﺘﻲ رواﻫﺎ أﻓﻼﻃﻮن ﰲ ﻣﺤﺎوراﺗﻪ. ﰲ اﻟﺒﺪاﻳﺔ ﻧﺘﻨﺎول أﺳﻠﻮب اﻻﺳﺘﺠﻮاب املﻤﻴﺰ ﻟﺴﻘﺮاطً ، ﻓﺒﺪﻻ ﻣﻦ ﺗﻘﺪﻳﻢ أﻃﺮوﺣﺘﻪ ﻳﱰك ﺳﻘﺮاط ﻣﻨﺎﻓﺴﻪ ﻟﻴﻔﻌﻞ ذﻟﻚ وﻋﻨﺪﻫﺎ ﻳﺴﺘﻨﺒﻂ اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ .وﻛﻌﺎدة ﺳﻘﺮاط ﺗﺒﺪأ املﻨﺎﻗﺸﺔ ﺑﻄﻠﺐ ﺗﻌﺮﻳﻒ ﻣﺒني ملﺎ ﺗﺠﺮي ﻣﻨﺎﻗﺸﺘﻪ ،وﻫﻮ اﻟﺠﻤﺎل ﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ .وﻳﺒﺘﻠﻊ ﻛﺮﻳﺘﻮﺑﻴﻮﻟﻮس اﻟ ﱡ ﻄﻌﻢ وﻳﻘﺪم ﺗﻌﺮﻳﻔﻪ ً ﻗﺎﺋﻼ »)اﻷﺷﻴﺎء( ﺟﻤﻴﻠﺔ وﺟﻴﱢﺪة إذا ﻣﺎ أُﺣْ ِﺴ َﻦ ﺻﻨﻌﻬﺎ ﻟﻸﻏﺮاض اﻟﺘﻲ ﻧﻤﺘﻠﻜﻬﺎ ﻷﺟﻠﻬﺎ أو إذا ﻣﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻬﻴﱠﺄة ﺑﻄﺒﻴﻌﺘﻬﺎ ﻟﺘﻠﺒﻴﺔ اﺣﺘﻴﺎﺟﺎﺗﻨﺎ «.وﻋﻨﺪﺋ ٍﺬ ﻳﺴﺤﺐ ﻳﺠﺪ أﻳﱠﺔ ﺻﻌﻮﺑﺔ ﰲ إﺛﺒﺎت أﻧﻪ إذا ﻛﺎن ﻫﺬا ﻫﻮ اﻟﺠَ ﻤﺎل ﺳﻘﺮاط ﺧﻴﻂ املﻮﺿﻮع ﺗﺠﺎﻫﻪ ﻓﻼ ِ ﻓﻬﻮ ﻧﻔﺴﻪ ﺟﻤﻴﻞ ،ﻓﺤﻴﻠﺔ ﺳﻘﺮاط ﰲ ﻟﻌﺒﺔ اﻟﺠﺪل ﻫﻲ ﺗﻔﻨﻴﺪ ادﱢﻋﺎءات اﻵﺧﺮﻳﻦ. وﺗﻮﺿﺢ ﺗﻠﻚ املﻨﺎﻓﺴﺔ ً ﱢ أﻳﻀﺎ ﺳﺨﺮﻳﺔ ﺳﻘﺮاط املﺮ ﱠﻛﺒﺔ؛ ﻓﻬﻮ ﻳﻌﻠﻢ أﻧﱠﻪ دﻣﻴﻢ اﻟﻮﺟﻪ ﱠ وﻛﺄن أﻳٍّﺎ ﻣﻦ ﻫﺎﺗني وﻳﻌ َﻠﻢ أن ﺗﻌﺮﻳﻒ ﻛﺮﻳﺘﻮﺑﻴﻮﻟﻮس ﻟﻠﺠﻤﺎل ﺧﺎﻃﺊ وﻟﻜﻨﻪ ﻳُﺘَﺎ ِﺑ ُﻊ املﻨﺎﻗﺸﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﺘني ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ،ﻓﻬﻮ ﻳﺒﺪو ﺳﻌﻴﺪًا ﺑﺘﺒﻨﻲ ﻫﺬا اﻟﺘﻌﺮﻳﻒ وﺗﻮﻇﻴﻔﻪ ﻹﺛﺒﺎت أﻧﻪ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺣَ َﺴ ُﻦ اﻟﻬﻴﺌﺔ .وﻻ ﻳﺤﺎول ﺳﻘﺮاط اﺳﺘﻐﻼ َل ﻛﻠِﻤﺎت ﻛﺮﻳﺘﻮﺑﻴﻮﻟﻮس ﻟﻠﻔﻮز ﺑﻤﺴﺎﺑﻘﺔ اﻟﺠﻤﺎل ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻏري ﻧﺰﻳﻬﺔ ﻓﺤﺴﺐ ،ﺑﻞ ﻻ ﻳﺤﺎول اﻟﻔﻮز ﺟﺪﻳٍّﺎ ﺑﺎملﻨﺎﻓﺴﺔ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق .وﺑﻴﻨﻤﺎ ادﱠﻋﻰ ﺳﻘﺮاط املﻨﺎﻓﺴﺔ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻳﻔﻌﻞ ﺷﻴﺌًﺎ آﺧﺮ ،ﻓﺒﺘﺒﻨﱢﻴﻪ ﺗﻌﺮﻳﻒ ﻛﺮﻳﺘﻮﺑﻴﻮﻟﻮس ﺑﻤﻬﺎرة ﻳُﺜ ِﺒﺖ ﺳﻘﺮاط أﻧﻪ ﻟﻢ ِ ﻳﺼﻞ إﱃ املﺴﺘﻮى اﻷدﻧﻰ ﻣﻦ ﺗﻌﺮﻳﻒ اﻟﺠﻤﺎل؛ ﻓﻼ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻌﺮﻳﻒ اﻟﺠﻤﺎل ﺑﺎملﻼءﻣﺔ أو املﻨﻔﻌﺔ وﺣﺪﻫﻤﺎ؛ ﻷن ذﻟﻚ ﻳﻌﻨﻲ أن ﻣﻼﻣﺢ ﺳﻘﺮاط ﺟﻤﻴﻠﺔ ُ ﺗﻈﺎﻫﺮه ﺑﺈﻗﻨﺎع ﻛﺮﻳﺘﻮﺑﻴﻮﻟﻮس واﻟﺠﻤﻴﻊ ﻳﻌﺮف أﻧﻬﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﻛﺬﻟﻚ ،وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈن ﺳﻘﺮاط ﰲ ﺑﺠﻤﺎﻟﻪ ﻛﺎن ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻳُﺜ ِﺒﺖ اﻟﻨﺘﻴﺠﺔ اﻟﺴﻠﺒﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻨﻲ أن اﻟﺠﻤﺎل ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن ﻛﻤﺎ ﻋَ ﱠﺮ َﻓ ُﻪ ﻛﺮﻳﺘﻮﺑﻴﻮﻟﻮس. ﻟﻘﺪ أﻧﻜﺮ ﺳﻘﺮاط ﻣﺮا ًرا ﻣﻌﺮﻓﺘﻪ أي ﳾء ﻋﻦ اﻟﺠﻤﺎل أو اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ أو اﻟﻌﺪل أو أﻳٍّﺎ ﻛﺎن ﻣﺎ ﻳﻨﺎﻗﺶ ،وﻗﺪ ﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﺠﻬﻞ املﻌ َﻠﻦ ﻋﻼﻣﺘﻪ املﻤﻴﺰة .وﻛﻤﺎ ﻛﺎن ادﻋﺎ ُؤه املﺎﻛﺮ ﺑﺄﻧﻪ ﺟﻤﻴﻞ ﻛﺎن ذﻟﻚ اﻹﻧﻜﺎر ﺳﺎﺧ ًﺮا إﱃ ﺣَ ﱟﺪ ﻣﺎ رﻏﻢ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻟﻐﺮض أﻫﻢ .وﺑﻴﻨﻤﺎ ﻛﺎن ﺳﻘﺮاط داﺋﻢ ً أﻧﺸﻄﺔ ﺗﺪرﻳﺴﻴﺔ ﺑﺸﻜﻞ ﻛﺒري ،ﺣﺘﻰ اﻻدﱢﻋﺎء أﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﻟﺪﻳﻪ ﻣﺎ ﻳُ َﺪ ﱢر ُﺳﻪُ؛ ﻓﻘﺪ ﺑﺪت أﻧﺸﻄﺘﻪ إﻧﻪ ﻛﺎن ﻳُﺴﺘﺪﻋﻰ أﻣﺎم املﺤﺎﻛﻢ ﺑﺼﻔﺘﻪ ﻣﻌﻠﻤً ﺎ ذا ﺗﺄﺛري ﺧﺒﻴﺚ .وﺳﻨﺘﻨﺎول اﻵن ﻣﺤﺎﻛﻤﺔ ﺳﻘﺮاط ودﻓﺎﻋﻪ ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻪ اﻟﺬي ﻳﺒني ﺳﺒﺐ ﻋﺪم اﺷﺘﻬﺎره ﰲ ﺑﻌﺾ أوﺳﺎط أﻫﻞ أﺛﻴﻨﺎ املﺤﺎﻓِ ِﻈني واﺷﺘﻬﺎره ﰲ أوﺳﺎط ﻣَ ْﻦ أَﺗَﻰ ﺑﻌﺪه ﻣﻦ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ. 164
ﺷﻬﻴﺪ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ :ﺳﻘﺮاط واﻟﺴﻘﺮاﻃﻴﺎت
ﺟﺮت ﻣﺤﺎﻛﻤﺔ ﺳﻘﺮاط ﻋﺎم ٣٩٩ق.م ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﺎن ﰲ اﻟﺴﺒﻌني ﻣﻦ ﻋﻤﺮه ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ،وﻛﺎن ﻣﺘﻬﻤٍّ ﺎ ﺑﺮﻓﺾ اﻻﻋﱰاف ﺑﺎﻵﻟﻬﺔ اﻟﺮﺳﻤﻴﺔ ﻟﻠﺪوﻟﺔ وﺑﺎﻟﺪﻋﻮة ﻵﻟﻬﺔ ﺟﺪﻳﺪة ﻋﲆ دﻳﻨﻬﺎ وﺑﺈﻓﺴﺎد اﻟﺸﺒﺎب ﻓﻴﻬﺎ .وﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك ﺧﻠﻔﻴﺔ ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ ﻗﻮﻳﺔ ﻟﻠﻘﻀﻴﺔ ،وﻟﻜﻦ ذﻟﻚ ﻻ ﻳﻌﻨﻲ أن اﻟﺘﱡﻬَ ﻢ ﻛﺎﻧﺖ زاﺋﻔﺔ وأن املﺤﺎﻛﻤﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ ﰲ ﺣﻘﻴﻘﺘﻬﺎ؛ ﻓﻘﺪ ﺗﺪاﺧﻠﺖ اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ واﻟﺪﻳﻦ واﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﰲ اﻷﻣﺮ .وﻣﻬﻤﺎ اﺧﺘﻠﻔﺖ اﻵراء ﻓﻼ ﺑُ ﱠﺪ ﻣﻦ اﻻﻋﱰاف أن ﺳﻘﺮاط ﻛﺎن ﻳﻨﻄﻖ ﺑﺎﻷﺷﻴﺎء اﻟﺨﺎﻃﺌﺔ ﰲ اﻟﺘﻮﻗﻴﺖ ﻏري املﻨﺎﺳﺐ. ﰲ ﻋﺎم ٤٠٤ق.م — أي ﻗﺒﻞ املﺤﺎﻛﻤﺔ ﺑﺨﻤﺴﺔ أﻋﻮام — اﻧﺘﻬﺖ اﻟﺤﺮب اﻟﺘﻲ دارت رﺣﺎﻫﺎ ﻋﲆ ﻣﺪار ﺳﺒﻌﺔ وﻋﴩﻳﻦ ﻋﺎﻣً ﺎ ﺑني أﺛﻴﻨﺎ وإﺳﱪﻃﺔ ﺑﻬﺰﻳﻤﺔ أﺛﻴﻨﺎ ،وﺳﻘﻄﺖ ﻃﻠ َِﻖ ﻋﻠﻴﻬﻢ ً اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ ﰲ أﺛﻴﻨﺎ وﺣَ ﱠﻞ ﻣﺤﻠﻬﺎ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﺮﺟﺎل ﻋﻴﻨﺘﻬﻢ إﺳﱪﻃﺔ أ ُ ْ ﻻﺣﻘﺎ اﺳﻢ »اﻟﻄﻐﺎة اﻟﺜﻼﺛني« .وﻟﺘﻜﻮﻳﻦ ﺳﻤﻌﺔ ﻟﻬﻢ ﺑني اﻟﻨﺎس َﻗﺘَ َﻞ »اﻟﻄﻐﺎة« ﻧﻔ ًﺮا ﻛﺜريًا ﻣﻦ اﻟﻨﺎس ﻟﺪرﺟﺔ أﻧﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﺴﺘﻤ ﱡﺮوا إﻻ ﻟﻌﺎم واﺣﺪ ،رﻏﻢ أﻧﻪ ﻟﻢ ﺗُ ْﺴﺘَﻌَ ْﺪ اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ ﺑﺸﻜﻞ ﻛﺎﻣﻞ ﺣﺘﻰ ﻋﺎم ٤٠١ق.م .وﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أن اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴني ﻛﺎﻧﻮا ﻻ ﻳﺰاﻟﻮن ﻳﺸﻌﺮون أﻧﻬﻢ ﻣﺰﻋﺰﻋﻮن ﻧﺴﺒﻴٍّﺎ ﻋﺎم ٣٩٩ق.م ،وﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك أﺳﺒﺎب ﻋﺪﻳﺪة ﺗُﺸﻌِ ُﺮﻫﻢ ﺑﻌﺪم اﻻرﺗﻴﺎح ﻟﻮﺟﻮد ﺳﻘﺮاط ﰲ املﺪﻳﻨﺔ. ﻟﻘﺪ ﺗﻮ ﱠرط اﺛﻨﺎن ﻣﻦ رﻓﺎق ﺳﻘﺮاط اﻟﺴﺎﺑﻘني ﰲ اﻟﻄﻐﻴﺎن :أوﻟﻬﻤﺎ ﻫﻮ ﻛﺮﻳﺘﻴﺎس ﻗﺎﺋﺪ ً ﻣﺘﻌﻄﺸﺎ ﻟﻠﺪﻣﺎء ،واﻵﺧﺮ ﻫﻮ ﻛﺎرﻣﻴﺪس أﺣﺪ اﻟﻄﻐﺎة اﻟﺜﻼﺛني ،وﻛﺎن ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﺨﺼﻮص ﻣﻤﺜﱢﻠﻴﻬﻢ )وﻛﺎن ﻛ َِﻼ اﻟﺮﺟﻠني ﺑﺎملﺼﺎدﻓﺔ ﻣﻦ أﻗﺎرب أﻓﻼﻃﻮن( .ﻛﻤﺎ ﺗﺒني أن أﻟﺴﻴﺒﻴﺎدس ﻛﺎن ً ً وﻣﺘﻌﺠﺮﻓﺎ ﻓﻘﺪ اﺗﱡ ِﻬ َﻢ ﺑﺄداء ﺗﻌﺎوﻳﺬ ﻋﺎﺋﻘﺎ ﰲ ﻃﺮﻳﻘﻬﻢ ،وﺣﻴﺚ إﻧﻪ ﻛﺎن أرﺳﺘﻘﺮاﻃﻴٍّﺎ ﻋﻨﻴﺪًا وأﻋﻤﺎل ﻣﺪﻧﺴﺔ ا ْرﺗُ ِﻜﺒ َْﺖ ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻛﺎن »ﻣﻐﻠﻮﺑًﺎ« .وﻗﺪ ﺳﻤﻊ أﻟﺴﻴﺒﻴﺎدس ﺑﻬﺬه اﻻﺗﻬﺎﻣﺎت ﱠ ً اﻧﺸﻖ وﺣﺎرب وﺑﺪﻻ ﻣﻦ أن ﻳﺮﺟﻊ ﻟﻴﻮاﺟﻬﻬﺎ أﺛﻨﺎء وﺟﻮده ﰲ ﺣﻤﻠﺔ ﻋﺴﻜﺮﻳﺔ ﰲ ﺻﻘﻠﻴﺔ، ﰲ ﺻﻔﻮف ﺟﻴﺶ إﺳﱪﻃﺔ ،إﻻ أن أﻳٍّﺎ ﻣﻦ أﻓﻌﺎل ﻫﺆﻻء اﻟﺮﺟﺎل ﻟﻢ ﻳَ ُﺮ ْق ملﻌﻠﻤﻬﻢ اﻟﺴﺎﺑﻖ ﺳﻘﺮاط. ُ وﻟﻜﻦ ﰲ ﻋﺎم ٤٠٣ق.م أﻋْ ﻠ َِﻦ ﻋﻔﻮ ﺳﻴﺎﳼ ﻋﺎم؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻣﻦ املﻤﻜﻦ ﺗﻮﺟﻴﻪ اﺗﻬﺎﻣﺎت ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ ﴏﻳﺤﺔ ﻟﺴﻘﺮاط ﺣﺘﻰ ﻟﻮ أراد اﻟﺠﻤﻴﻊ ذﻟﻚ .ﻫﺬا ﺑﺠﺎﻧﺐ وﺟﻮد أﺳﺒﺎب أﻛﱪ ﺗﺪﻓﻊ ﻟﻠﻘﻠﻖ ﻣﻦ ﺗﺄﺛري اﻟﺮﺟﻞ .وأﺛﻨﺎء اﻟﺤﺮب اﻟﻄﻮﻳﻠﺔ ﻣﻊ إﺳﱪﻃﺔ زاد ﻗﻠﻖ ﺳﻜﺎن أﺛﻴﻨﺎ ﻣﻦ اﻟﺠﺒﻬﺔ اﻟﺪاﺧﻠﻴﺔ؛ ﻓﻘﺪ ﺳﺎد ﺷﻌﻮر ﺑﺄن املﻔ ﱢﻜﺮﻳﻦ ﻳُﻀﻌِ ﻔﻮن املﺠﺘﻤﻊ اﻷﺛﻴﻨﻲ ﺑﺘﻘﻮﻳﺾ ﻗِ ﻴ َِﻤ ِﻪ وﻣﺒﺎدِ ﺋِﻪ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ .وﻗﺪ ﻛﺎن ﻣﻦ املﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن ﻣﺼﺪر اﻟﺸﻜﻮك اﻟﺘﻲ أ ُ ِﺛري َْت ﻫﻮ ﴎ اﻟﺸﺒﺎب اﻟﻌﺎﻃﻠني وﻓﺘﻨﻬﻢ ﺑﺘﺴﺎؤﻻﺗﻪ ﻋﻦ اﻟﻌﺪل .وﻟﻢ ﻳُﺴﺎﻋِ ﺪ ﺗﻘﺪﻳﻢ ﺳﻘﺮاط ﰲ رﺟﻞ أ َ َ َ 165
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﺻﻮرة ﻣﻌ ﱢﻠﻢ ﻣﺘﻠﻌﺜِﻢ وﻣُﺬﻋِ ﻦ وﺧﺎﺿﻊ ﰲ ﻣﴪﺣﻴﺔ ﻷرﺳﻄﻮﻓﺎن ﻋُ ِﺮ َ ﺿ ْﺖ ﰲ أﺛﻴﻨﺎ ﻗﺒﻞ أرﺑﻌﺔ وﻋﴩﻳﻦ ﻋﺎﻣً ﺎ ﰲ ﺗﺤﺴني اﻷوﺿﺎع .وأﻳٍّﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻟﺸﺎﺋﻌﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮل إن ﺳﻘﺮاط ﻗﺪ ﻛﻔﺮ ﺑﺎﻵﻟﻬﺔ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ — وﻳﺒﺪو أﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﻨﻜﺮ اﻟﺘﻬﻤﺔ وﻟﻜﻦ ﺑﺸﻜﻞ ﻏري ﻣﻘﻨِﻊ — ﻓﻠﻢ ﻳَ ُﻜ ْﻦ ﻫﻨﺎك ﺷﻚ أن ﺳﻘﺮاط ﻛﺎن ﻟﻪ ﻣﺬﻫﺐ ﻏري ﻣﺄﻟﻮف ﰲ اﻟﻼﻫﻮت .وﻗﺪ أﻋﻄﺖ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺪث ﺑﻬﺎ ﻋﻤﱠ ﺎ ﺳﻤﺎه »داﻳﻤﻨﻴﻮن« — وﻫﻮ »اﻟﺮوح اﻟﺤﺎرﺳﺔ« أو »ﻋﻼﻣﺔ إﻟﻬﻴﺔ« ﺷﺨﺼﻴﺔ — ﻣﱪ ًرا ﻟﻠﻘﻠﻖ ﺑﺸﺄن »اﻟﺪﻋﻮة إﱃ آﻟﻬﺔ ﺟﺪﻳﺪة« ﺣﺴﺐ اﻻﺗﻬﺎم اﻟﺬي وُﺟﱢ َﻪ إﻟﻴﻪ .وﻗﺪ ﻛﺎن ﻫﺬا ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ ﺧﻄﻴﺌﺔ ﺑﺸﻌﺔ ﰲ ﺣﻖ اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ املﱰﻧﱢﺤﺔ .ﻓﺎﻟﺪوﻟﺔ وﺣﺪﻫﺎ ﻟﻬﺎ اﻟﺤﻖ ﰲ ﺗﺤﺪﻳﺪ ِ املﻨﺎﺳﺐ ﻟﻠﺘﻘﺪﻳﺲ ،ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﻟﻬﺎ إﺟﺮاءاﺗُﻬﺎ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﰲ اﻻﻋﱰاف رﺳﻤﻴٍّﺎ ﺑﺎﻵﻟﻬﺔ وﻛﻞ اﻟﴚء ﻣَ ْﻦ ﻛﺎن ﻳﺘﺠﺎﻫﻞ ذﻟﻚ ﻛﺎن ﺑﺎﻟﺘﺒﻌﻴﺔ ﻳﺘﺤﺪﱠى ﴍﻋﻴﺔ اﻟﺪوﻟﺔ اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ .ﻟﻘﺪ ﻛﺎن ﻛﻞ ﻫﺬا ﺑﺎﻧﺘﻈﺎر ﺳﻘﺮاط ﻋﻨﺪﻣﺎ وﻗﻒ أﻣﺎم ﺧﻤﺴﻤﺎﺋﺔ ﻣﻦ ﻣﻮاﻃﻨﻲ أﺛﻴﻨﺎ ﻟﻴﺤﺎﻛﻤﻮه. ﻛﺎن أﻓﻼﻃﻮن ﺣﺎﴐً ا ﰲ املﺤﺎﻛﻤﺔ ،وﻣﻦ املﺮﺟﱠ ﺢ أن دﻓﺎع ﺳﻘﺮاط )أو »ﻣﺮاﻓﻌﺔ اﻟﺪﻓﺎع«( اﻟﺘﻲ ﻛﺘﺒﻬﺎ أﻓﻼﻃﻮن ﺑﻌﺪ ﺑﻀﻌﺔ أﻋﻮام ﻫﻲ أول أﻋﻤﺎﻟﻪ .وﺛﻤﺔ ﻏري ﺳﺒﺐ ﻳﺪﻓﻌﻨﺎ ﻟﻼﻋﺘﻘﺎد ﺑﺄن أﻓﻼﻃﻮن ﺑﺬل ﰲ ﻫﺬا اﻟﻌﻤﻞ ﻣﺠﻬﻮدًا أﻛﱪ ﻣﻤﱠ ﺎ ﺑﺬل ﰲ ﻏريه ﻹﻇﻬﺎر ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻳﺴﱰﺟ َﻊ أﻟﻔﺎﻇﻪ ﺑﺪﻗﺔ؛ ﻟﺬﻟﻚ ﺳﻨﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ ﻣﺎ ُﺤﺎو ْل ﺑﺎﻟﴬورة أن ِ ﺳﻘﺮاط ،رﻏﻢ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳ ِ ورد ﻋﻦ أﻓﻼﻃﻮن )ﻛﻤﺎ ﻓﻌﻠﻨﺎ ﰲ ﻣﻌﻈﻢ املﻌﻠﻮﻣﺎت ﻋﻦ ﺳﻘﺮاط ﺣﺘﻰ اﻵن( .ﻟﻴﺲ ﻫﻨﺎك ﺑﺪﻳﻞ ،ﻓﻼ ﻳﻮﺟﺪ ﰲ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻛﻠﻪ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ﻏري ﺳﻘﺮاط املﻮﺟﻮد ﰲ »اﻟﺪﻓﺎع« ﻷﻓﻼﻃﻮن. ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺮاﻓﻌﺔ ﺳﻘﺮاط ردﻳﺌﺔ؛ ﻓﻘﺪ ﺑﺪأ ﺑﻘﻮﻟﻪ إﻧﻪ ﻻ ﻳﺠﻴﺪ اﻟﺤﺪﻳﺚ وﻻ ﻳﻤﺘﻠﻚ ﻣﻬﺎراﺗﻪ ،وﻫﺬه ﺣﻴﻠﺔ ﺑﻼﻏﻴﺔ ﻣﻌﺘﺎدة ،وﻟﻜﻦ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﻮاﻓِ َﻘ ُﻪ اﻟﻘﻮل إذا ﻛﺎن ﻫﺪﻓﻪ ﻣﻦ اﻟﺨﻄﺎب أن ﻳﱪﱢئ ﻧﻔﺴﻪ .ﻛﻤﺎ أن ﻛﻞ ﻣﺎ ﻗﺎﻟﻪ ﻟﺪَﻓﻊ اﻻﺗﱢﻬﺎﻣﺎت اﻟﺮﺳﻤﻴﺔ املﻮﺟﱠ ﻬﺔ إﻟﻴﻪ إﻣﺎ ﻏري ذي ﺻﻠﺔ ﺑﻬﺎ أو ﻏري ﻣﻘﻨِﻊ؛ ﻓﻘﺪ اﻧﺸﻐﻞ ﺑﺨﺼﻮص اﻻﺗﻬﺎﻣﺎت اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ اﺳﺘﻔﺰازه ،ﺣﺘﻰ ﻧﺎﻗﺾ ﻧﻔﺴﻪ ﺑﻘﻮﻟﻪ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﺑﺎﻟﺴﺨﺮﻳﺔ ﻣﻦ املﺪﻋﻲ ﺣﻴﺚ ﻋﻤﻞ ﻋﲆ ِ إن ﺳﻘﺮاط ﻣﻠﺤﺪ ﻻ ﻳﺆﻣِﻦ ﺑﺄي إﻟﻪ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق ،ﺛﻢ ﻳﺘﺴﺎءل ﺳﻘﺮاط ﻋﻨﺪﻫﺎ ﻛﻴﻒ ﻳﻜﻮن ﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ﻣﺘﻬﻤً ﺎ ﺑﺎﻟﺪﻋﻮة ﻵﻟﻬﺔ ﺟﺪﻳﺪة؟ أﻣﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻼﺗﻬﺎم ﺑﺈﻓﺴﺎد اﻟﺸﺒﺎب ﻓﺄﻋﻄﻰ ﺳﻘﺮاط ﺟﻮاﺑًﺎ ٍّ ﻣﻠﺘﻔﺎ ﻏري ﻣﻘﻨﻊ ﺑﺄﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻔﻌﻞ أﻳٍّﺎ ﻣﻦ ذﻟﻚ ﻋﻦ ﻋﻤ ٍﺪ ﻷن ﻫﺬا ﺿﺪ ﻣﺼﺎﻟﺤﻪ، ً ﺷﺨﺼﺎ ﻓﺴﻴﺤﺎول أن ﻳﺮد ﺑﺎﻷذى؛ ﻟﺬا ﻓﺈﻓﺴﺎده أي ﺷﺨﺺ ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل ﺳﻴﺆذﻳﻪ وإذا آذﻳﺖ ﻓﻤﻦ ﻏري املﻤﻜﻦ أن ﻳﺨﺎﻃﺮ ﺑﺬﻟﻚ .وﻟﻜﻦ ﻫﺬا ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻴﻘﻨﻊ أﺣﺪًا. ﻛﺎن ﺳﻘﺮاط ﻳﻌﻠﻢ أن اﻟﻘﻀﺎة اﻟﺬﻳﻦ ﻣﺜَﻞ أﻣﺎﻣﻬﻢ ﻛﺎﻧﻮا ﻣﺘﺤﺎﻣﻠني ﻋﻠﻴﻪ ﺑﺴﺒﺐ ﺗﺸﻬري أرﺳﻄﻮﻓﺎن ﺑﻪ ،ﻓﴩع ﰲ ﺗﺼﺤﻴﺢ ﻫﺬه اﻻﻧﻄﺒﺎﻋﺎت اﻟﺨﺎﻃﺌﺔ؛ ﻓﻘﺎل إﻧﻪ ﻻ ﻳﺸﺘﻐﻞ 166
ﺷﻬﻴﺪ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ :ﺳﻘﺮاط واﻟﺴﻘﺮاﻃﻴﺎت
ﺑﺎﻟﺘﺪرﻳﺲ ﻣﻦ أﺟﻞ املﺎل ﻛﻤﺎ ﻳﻔﻌﻞ »اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﻮن« املﺤﱰﻓﻮن اﻟﺬﻳﻦ ﻟﻢ ﻳﻤﻴﱢﺰ أرﺳﻄﻮﻓﺎن ﺑﻴﻨﻪ وﺑﻴﻨﻬﻢ .وﻳﺒﺪو ﻫﺬا ﺻﺤﻴﺤً ﺎ؛ ﻓﻬﻮ ﻟﻢ ﻳﻔﺮض ﻗﻂ أﻳﺔ رﺳﻮم ،وﻟﻜﻨﻪ ﻛﺎن ﻳﻐﻨﱢﻲ ﻟﻴﻜﺴﺐ ﻗﻮت ﻳﻮﻣﻪ ،وﻛﺎن ﻳﻘﺒﻞ اﺳﺘﻀﺎﻓﺘﻪ ﰲ ﺻﻔﻘﺔ ﺿﻤﻨﻴﺔ ﻣﻘﺎﺑﻞ ﻣﺤﺎوراﺗﻪ اﻟﺘﺜﻘﻴﻔﻴﺔ، وﻟﻢ ﻳﺸﺘﻐﻞ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻳﺒﺪو ﺑﺄي ﻋﻤﻞ آﺧﺮ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻟﻢ ﺗ ُﻜﻦ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻜﺴﺐ ﺑﻬﺎ ﻗﻮت ﻳﻮﻣﻪ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻛﺜريًا ﻋﻦ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني ،وﻛﻠﺘﺎ اﻟﻄﺮﻳﻘﺘني ﻻ ﺗُﻌﺘَ َﱪان ﻣﻮﺿﻊ ﺷﺒﻬﺔ ﰲ ﻳﻮﻣﻨﺎ ﻫﺬا .ﻛﻤﺎ ﺣﺎول ﺳﻘﺮاط ً أﻳﻀﺎ دﻓﻊ اﻻﻓﱰاء ﺑﺄﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﻌ ﱢﻠﻢ اﻟﻨﺎس ﻛﻴﻒ ﻳﺤﺘﺎﻟﻮن ﻟﻠﻔﻮز ﰲ املﺠﺎدﻻت ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﻜﻮﻧﻮن ﻋﲆ ﺧﻄﺄ .وﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻦ ذﻟﻚ ﻛﻤﺎ ﻗﺎل ،ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﻌﻠﻢ ﻣﺎ ﻳﻜﻔﻲ ِﻟﻴُﻌَ ﱢﻠ َﻢ أي ﳾء ﻷي ﺷﺨﺺ. ﻟﻘﺪ ﻛﺎن ﻫﺬا ﻫﻮ املﻮﺿﻮع اﻟﺮﺋﻴﺲ ﻟ »ﻣﺮاﻓﻌﺔ اﻟﺪﻓﺎع« واﻟﺘﻲ ﺗُﻌَ ﱡﺪ دﻓﺎﻋً ﺎ ﻋﺎﻣٍّ ﺎ ﻋﻦ ً ودﺣﻀﺎ ﻟﻬﺎ .وﻳﻜﻤُﻦ أﺳﻠﻮب ﺣﻴﺎﺗﻪ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻛﻮﻧﻬﺎ ﺗﻔﻨﻴﺪًا ﻟﻼﺗﻬﺎﻣﺎت اﻟﺮﺳﻤﻴﺔ املﻮﺟﱠ ﻬﺔ إﻟﻴﻪ أﻫﻢ ﻣﺎ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺪﻓﺎع ﰲ ادﱢﻋﺎء ﺳﻘﺮاط أﻧﻪ اﺳﺘﻔﺎد ﻣﻦ أﻫﻞ أﺛﻴﻨﺎ ﺑﺈﺧﻀﺎﻋﻬﻢ ﻻﺳﺘﺠﻮاﺑﺎﺗﻪ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ وﻟﻜﻨﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﺪرﻛﻮا ذﻟﻚ ﻓﺴﺨﻄﻮا ﻋﻠﻴﻪ؛ وﻫﺬا ﻣﺎ أدﱠى إﱃ ﻣﺤﺎﻛﻤﺘﻪ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ. وﻳﻘﻮل ﺳﻘﺮاط إﻧﻪ ﻛﺎن ﱢ ﻳﻨﻔﺬ رﻏﺒﺔ اﻵﻟﻬﺔ ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﺘﺠﻮﱠل وﻳﺠﺎدل اﻟﻨﺎس .وﰲ ﻣﺮة ذﻫﺐ ﺻﺪﻳﻖ ﻟﻪ إﱃ ﻋ ﱠﺮاف دﻟﻔﻲ وﺳﺄﻟﻪ إذا ﻛﺎن ﻫﻨﺎك رﺟﻞ أﻛﺜﺮ ﺣﻜﻤﺔ ﻣﻦ ﺳﻘﺮاط. وﺟﺎء اﻟﺠﻮاب ﺑﺎﻟﻨﻔﻲ ،وﻫﻮ ﻣﺎ وﺿﻊ ﺳﻘﺮاط ﰲ ﺣرية ﺷﺪﻳﺪة — أو ﻛﺬﻟﻚ ﻗﺎل — ﻷﻧﻪ ﻃﺎملﺎ اﻋﺘﻘﺪ أﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﺑﺤﻜﻴﻢ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق ،وﻋﻦ ذﻟﻚ ﻗﺎل» :ﺑﻌﺪ أن ﺷﻌﺮت ﺑﺎﻟﺤرية ﺗﺠﺎه ﻫﺬا اﻷﻣﺮ ﻟﺒﻌﺾ اﻟﻮﻗﺖ ﻗ ﱠﺮرت أﺧريًا وﺑﻌﺪ رﻓﺾ ﺷﺪﻳﺪ أن أﺗﺄﻛﺪ ﻣﻦ ﺻﺤﺔ ﻫﺬا اﻟﻜﻼم«. ﱠ وﻟﻜﻦ آﻣﺎﻟﻪ داﺋﻤً ﺎ وﻗﺪ ﻓﻌﻞ ذﻟﻚ ﺑﺎﺳﺘﺠﻮاب ﻛﻞ ﻣَ ْﻦ ﻋﺮف اﻟﺤﻜﻤﺔ أو املﻌﺮﻓﺔ املﺘﺨﺼﺼﺔ، ﻣﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗَﺨِ ﻴﺐُ ﻷﻧﻪ — ﻋﲆ ﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﺒﺪو — ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻫﻨﺎك ﻣﻦ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ ﺣﻜﻤﺘﻪ املﺰﻋﻮﻣﺔ ﻣﻮاﺟﻬﺔ اﺳﺘﻔﺴﺎراﺗِﻪ؛ إذ ﻛﺎن ﻗﺎد ًرا داﺋﻤً ﺎ ﻋﲆ ﺗﻔﻨﻴﺪ ﺟﻬﻮد اﻵﺧﺮﻳﻦ ﰲ إﺛﺒﺎت ﻧﻈﺮﻳﺎﺗﻬﻢ، ﱠ املﺘﻮﻗﻌﺔ ﻵراﺋﻬﻢ .ﻛﻤﺎ وذﻟﻚ ﻋﺎدة ﺑﺈﻟﻘﺎء اﻟﻀﻮء ﻋﲆ ﺑﻌﺾ اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ ﻏري املﺮﻏﻮﺑﺔ وﻏري اﺳﺘﺠﻮب ﺳﻘﺮاط اﻟﺸﻌﺮاء وﻟﻜﻨﻬﻢ ﻓﺸﻠﻮا ﺣﺘﻰ ﰲ ﴍح ﻗﺼﺎﺋﺪﻫﻢ ﺑﺸﻜﻞ ﻳﺮﺿﻴﻪ .وﻗﺪ ﻗﺎل ﰲ إﺣﺪى املﻮاﺟﻬﺎت: ﻟﻘﺪ ﻓﻜﺮت ﻣﻠﻴٍّﺎ وأﻧﺎ ﰲ ﻃﺮﻳﻘﻲ ووﺟﺪت أﻧﻲ أﻛﺜﺮ ﺣﻜﻤﺔ ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﺮﺟﻞ .وﻣﻦ اﻟﻮارد ﺟﺪٍّا أن أﻳٍّﺎ ﻣﻨﺎ ﻻ ﻳﻤﻠﻚ ﻣﻦ املﻌﺮﻓﺔ ﻣﺎ ﻳﺴﺘﻌﺮﺿﻪ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻳﻌﺘﻘﺪ أﻧﻪ ﻳﻌﺮف ﺷﻴﺌًﺎ ﻫﻮ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻻ ﻳﻌﺮﻓﻪ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ أدرك أﻧﺎ أﻧﱢﻲ ﺟﺎﻫﻞ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ .ﻋﺎﻣﺔ ﻳﺒﺪو أﻧﻨﻲ أﻛﺜﺮ ﻣﻨﻪ ﺣﻜﻤﺔ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﰲ أﻧﻨﻲ ﻻ أﻋﺘﻘﺪ أﻧﻲ أﻋﺮف ﻣﺎ ﻻ أﻋﺮﻓﻪ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ. 167
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
وﻋﻨﺪﻫﺎ ﺧﻄﺮ ﺑﺒﺎﻟﻪ ﻣﺎ ﻗﺪ ﻳﻜﻮن اﻟﻌُ ﺮف ﻗﺪ ﻋﻨﺎه ،ﻓﻴﻘﻮل: ﻣﺘﻰ ﻧﺠﺤﺖ ﰲ إﺛﺒﺎت ﺧﻄﺄ ادﱢﻋﺎء أﺣﺪﻫﻢ اﻟﺤﻜﻤﺔ ﰲ ﻣﻮﺿﻮع ﻣﻌني َ ﻇ ﱠﻦ املﺘﻔﺮﺟﻮن أﻧﻨﻲ أﻋﺮف ﻛﻞ ﳾء ﻋﻦ ﻫﺬا املﻮﺿﻮع ،وﻟﻜﻦ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻷﻣﺮ ﺑﻜﻞ ﺗﺄﻛﻴﺪ أﻳﻬﺎ اﻟﺴﺎدة ﻫﻲ أن اﻟﺤﻜﻤﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ ﻟﻠ ﱠﺮبﱢ وﺣﺪه ،وأن ﻫﺬا اﻟﻌَ ﱠﺮاف ﻫﻮ وﺳﻴﻠﺘﻪ اﻟﺘﻲ ﻳﺨﱪﻧﺎ ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻬﺎ أن املﻌﺮﻓﺔ اﻟﺒﴩﻳﺔ ﻗﻠﻴﻠﺔ اﻟﻘﻴﻤﺔ ،أو إن ﺷﺌﺖ ﻓﻘﻞ ﻻ ﻗﻴﻤﺔ ﻟﻬﺎ .وﻳﺒﺪو ﱄ أن اﻟﻌﺮاف ﻻ ﻳﺸري ﺣﺮﻓﻴٍّﺎ إﱃ ﺳﻘﺮاط وﻟﻜﻨﻪ ذﻛﺮ اﺳﻤﻲ ﻛﻤﺜﺎل ،وﻛﺄﻧﻪ ﻳﻘﻮل ﻟﻨﺎ إن أﻛﺜﺮﻛﻢ ﺣﻜﻤﺔ أﻳﻬﺎ اﻟﻨﺎس ﻫﻮ ﻣَ ْﻦ أدرك أﻧﻪ ﻻ ﻗﻴﻤﺔ ﻟﻪ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌ ﱠﻠﻖ ﺑﺎﻟﺤﻜﻤﺔ ﻛﻤﺎ أدرك ﺳﻘﺮاط ذﻟﻚ. ﺑﻌﺒﺎرة أﺧﺮى ﻓﺈن ﺣﻜﻤﺔ ﺳﻘﺮاط اﻟﻐﺎﻟﺒﺔ ﻣﻜﻤﻨُﻬﺎ أﻧﻪ وﺣﺪه ﻣﻦ ﻳﺪرك ﺿﺂﻟﺔ ﻣﻌﺮﻓﺘﻪ، وﻟﻜﻦ ﺑﺎﻟﻄﺒﻊ ﻫﻨﺎك ﻣﺎ ﻫﻮ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ إدراك ذﻟﻚ وﺣﺴﺐ ﻛﻤﺎ اﻋﱰف ﰲ ﻣﻮاﺿﻊ أﺧﺮى ﰲ ﻣﺤﺎورات أﻓﻼﻃﻮن .وﻣﻊ ادﻋﺎﺋﻪ »أن املﺠﺎدﻻت ﻻ ﺗﺒﺪأ ﻣﻦ ﻋﻨﺪي أﺑﺪًا ،ﺑﻞ داﺋﻤً ﺎ ﻣﺎ ﺗﺒﺪأ ً ً ﻃﻔﻴﻔﺎ ﺑﺎﻣﺘﻼﻛﻪ ﻣﻬﺎرة اﺳﺘﺨﻼص »ﺗﻔﻮﻗﺎ ﻣﻦ ﻋﻨﺪ ﻣَ ْﻦ أﺗﺤﺎور ﻣﻌﻪ« ،ﻓﻬﻮ ﻳﻌﱰف أن ﻟﺪﻳﻪ ﺗﻔﺴري ﻟﻠﻤﻮﺿﻮع ﻣﻦ ﺣﻜﻤﺔ ﺷﺨﺺ آﺧﺮ وﻣﻮاﺟﻬﺔ ﺣﻜﻤﺘﻪ ﺑﻤﻌﺎﻣﻠﺔ ﻻﺋﻘﺔ« ،ﻓﻬﻮ ﻳﺼﻒ ﻧﻔﺴﻪ ﻋﻦ ﺟﺪارة ﺑﺄﻧﻪ ﻣﺜﻞ ﻗﺎﺑﻠﺔ ﻓﻜﺮﻳﺔ ﺗُ ْﺨ ِﺮجُ ﺗﺴﺎؤﻻﺗﻬﺎ أﻓﻜﺎر اﻵﺧﺮﻳﻦ إﱃ اﻟﻨﻮر .وﻟﻜﻦ ً ﺷﻜﻼ ﻣﻦ أﺷﻜﺎل اﻟﺤﻜﻤﺔ ﻣﻬﺎرة اﻟﴩح واملﺠﺎدﻟﺔ ﻫﺬه اﻟﺘﻲ ﻳﻤﺘﻠﻜﻬﺎ ﺳﻘﺮاط ﺑﻮﻓﺮة ﻟﻴﺴﺖ اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﺴﻘﺮاط؛ ﻓﺎﻟﺤﻜﻤﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ ﻫﻲ املﻌﺮﻓﺔ اﻟﻜﺎﻣﻠﺔ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺨﺺ اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ُ وﺳﺒُﻞ املﻌﻴﺸﺔ .وﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺪﱠﻋﻲ ﺳﻘﺮاط اﻟﺠﻬﻞ ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻌﻨﻲ اﻟﺠﻬﻞ ﺑﺄﺳﺲ اﻷﺧﻼق، َ وﻫﻮ ﻻ ﻳﺪاﻓﻊ ﻋﻦ أي ﻧﻮع ﻋﺎ ﱟم ﻣﻦ اﻟﺸﻚ ﺑﺸﺄن اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ ،ﻓﻬَ ﻤﱡ ُﻪ اﻟﻮﺣﻴﺪ ﻫﻮ اﻟﺘﺄﺛري ﱠ ﻳﺘﺨﲆ ﻋﻦ ﻣﻬﻤﺘﻪ ﰲ دﻋﻢ ﻫﺬا اﻟﺘﺄﺛري ﰲ راض أن اﻷﺧﻼﻗﻲ ،وﻫﻮ ﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﺑﻀﻤري ٍ اﻵﺧﺮﻳﻦ ،وﰲ ذﻟﻚ ﻳﻘﻮل: ﻟﻮ ﻗﻠﺖ إن ﻫﺬا ﺳﻴﻜﻮن ﻋﺼﻴﺎﻧًﺎ ﻟﻠﺮب وإن ﻫﺬا ﻫﻮ ﺳﺒﺐ أﻧﻲ »ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻨﻲ اﻻﻋﱰاض ﻋﲆ ﻣﺎ أﻗﻮم ﺑﻪ أﻧﺎ« ملﺎ َ ﺻﺪ َﱠق أﺣﺪ أﻧﻲ ﺟﺎدﱞ .وﻟﻮ ﻗﻠﺖ ﻟﻚ إن أﻓﻀﻞ ﳾء ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻔﻌﻠﻪ اﻹﻧﺴﺎن ﻫﻮ ﱠأﻻ ﻳﱰك ﻳﻮﻣً ﺎ ﻳَ ُﻤ ﱡﺮ دون ﻣﻨﺎﻗﺸﺔ اﻟﺨري وﺳﺎﺋﺮ املﻮﺿﻮﻋﺎت اﻷﺧﺮى اﻟﺘﻲ ﺗﺴﻤﻌﻨﻲ أﻧﺎﻗﺸﻬﺎ وأﺑﺤﺚ ﻓﻴﻬﺎ ﰲ ﻧﻔﴘ وﰲ ﻧﻔﻮس ﱡ ﺗﺴﺘﺤﻖ أن ﻳﺤﻴﺎﻫﺎ املﺮء؛ اﻵﺧﺮﻳﻦ ،وإن اﻟﺤﻴﺎة ﺑﺪون ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﺒﺤﺚ ﻻ ﻷﺻﺒﺤﺖ أﻗﻞ ً َ ﻣﻴﻼ ﻟﺘﺼﺪﻳﻘﻲ ،وﻟﻜﻦ ﻫﺬه ﻫﻲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ. 168
ﺷﻬﻴﺪ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ :ﺳﻘﺮاط واﻟﺴﻘﺮاﻃﻴﺎت
اﻟﻮرﻋﺔ ﻟﺤﻜﻤﺔ اﻟﺮب )وﻫﻮ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻣﺎ ﻳﺘﺤﺪث ﻋﻦ إﻟﻪ واﺣﺪ وﻳﻤﻜﻦ ﻹﺷﺎرات ﺳﻘﺮاط ِ وأﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻋﻦ آﻟﻬﺔ ﻣﺘﻌﺪدة( أن ﻳﺨﻔﻲ ﻣﻮﻗﻔﻪ ﻏري اﻟﺘﻘﻠﻴﺪي ﻣﻦ اﻟﻼﻫﻮت .ﻓﻌﻨﺪﻣﺎ ﻳﻘﻮل إن اﻟﺤﻜﻤﺔ ﻟﻠﺮب وﺣﺪه ﻳﺒﺪو أﻧﻪ ﻳﻌﻨﻲ ذﻟﻚ ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺠﺎزي ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻛﻤﺎ ﻳﻬﺰ املﺮء ﻛﺘﻔﻴﻪ ً ﻗﺎﺋﻼ: ً ﻣﺤﺎوﻻ اﺳﺘﻨﺘﺎج ﻣﻼﺣﻈﺎت ﻋﻦ »ﺣﻜﻤﺘﻪ«. »اﻟﺮب أﻋﻠﻢ «.ﻓﺎﻧﻈﺮ ﻛﻴﻒ ﻳﻔﴪ »ﻛﻼم« اﻟﺮب ً ً ﺻﺎدﻗﺎ ﻟﻠﺮب ﻛﺄي رﺳﻮل آﺧﺮ أرﺳﻠﻪ اﻟﺮب ﰲ ذﻟﻚ اﻟﺰﻣﺎن، رﺳﻮﻻ وﻗﺪ ﻛﺎن ﻋﺮاف دﻟﻔﻲ وﻟﻜﻦ ﺳﻘﺮاط ﻟﻢ ﻳﻘﺒﻞ ﻣﺎ ﻗﺎﻟﻪ ﺑﻞ أﺧﺬ »ﻳﺘﺤﻘﻖ ﻣﻦ ﺻﺤﺘﻪ« .وﻳﻘﻮل ﺳﻘﺮاط ﰲ ﻏري ﻣﻮﺿﻊ» :إﻧﻨﻲ داﺋﻤً ﺎ ﻻ أﻗﺒﻞ ﻧﺼﻴﺤﺔ أَيﱟ ﻣﻦ أﺻﺪﻗﺎﺋﻲ إﻻ إذا ﺑﻴﱠﻨﺖ اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ أﻧﻬﺎ ﺧري ﻃﺮﻳﻖ ﻳﻘﺪﻣﻪ اﻟﻌﻘﻞ «.وﻳﺒﺪو أﻧﻪ اﺗﺒﻊ اﻟﻨﻬﺞ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻊ ﻧﺼﻴﺤﺔ اﻟﺮب؛ ﻓﻠﺪى ﻣﻌﺮﻓﺘﻪ ﺑﺎﻹﻋﻼن اﻹﻟﻬﻲ أﻧﻪ ﻻ أﺣﺪ أﻛﺜﺮ ﺣﻜﻤﺔ ﻣﻦ ﺳﻘﺮاط ،رﻓﺾ ﺳﻘﺮاط اﻟﺘﺴﻠﻴﻢ ﺑﻬﺬا اﻷﻣﺮ وأﺧﺬه ﻋﲆ ﻋﻮاﻫﻨﻪ ﺣﺘﻰ ﻳﺘﺄﻛﺪ ﺑﻨﻔﺴﻪ ﻣﻦ إﻣﻜﺎﻧﻴﺔ إﻳﺠﺎد ﻣﻌﻨﻰ ﺣﻘﻴﻘﻲ ﻓﻴﻪ. ﱟ ﻣﻠﺘﻒ ﻋﻨﺪ اﻹﺷﺎرة إﱃ ﻣﻬﻤﺘﻪ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﻣﻘﺪﺳﺔ؛ وﻳﺒﺪو أن ﺳﻘﺮاط ﻛﺎن ﻳﺘﺤﺪﱠث ﺑﺸﻜﻞ ﻷن ﻋﺮاف دﻟﻔﻲ ﻟﻢ ﻳﺨﱪه ﴏاﺣﺔ ﺑﺄن ﻳﻘﺪم ﻋﲆ اﻟﺘﻔﻠﺴﻒ ،رﻏﻢ أﻧﻪ ذﻛﺮ ﰲ أﺣﺪ املﻮاﺿﻊ أن ﻣﻬﻤﺔ املﺠﺎدﻟﺔ واﻟﺘﺴﺎؤل اﻟﺘﻲ أﺧﺬﻫﺎ ﻋﲆ ﻋﺎﺗﻘﻪ ﻛﺎﻧﺖ »ﻃﺎﻋﺔ ﻷواﻣﺮ اﻟﺮب اﻟﺘﻲ ﻧﺰﻟﺖ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﻌﺮاف ،وﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﺮؤى وﻛﻞ وﺳﻴﻠﺔ أﺧﺮى ﻓﺮﺿﺖ ﺑﻬﺎ اﻹرادة اﻹﻟﻬﻴﺔ ً ﻓﺮوﺿﺎ ﻋﲆ اﻹﻧﺴﺎن« ،وﻟﻜﻨﻪ ﺣني ﻳﺘﺎﺑﻊ ﺑﻘﻮﻟﻪ إن ﻫﺬا ﻛﻼم ﺻﺎدق »ﻳﺴﻬﻞ اﻟﺘﺜﺒﱡﺖ ﻣﻨﻪ« ﻳﺘﻀﻤﻦ ﱡ ﺗﺤﻘﻘﻪ ﻣﻦ ﺻﺤﺔ ﻫﺬا اﻟﻜﻼم ﻣﺤﺎوﻟﺔ إﺛﺒﺎت أن ﻣﻬﻤﺘﻪ ﺟﻴﺪة ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ. ﻓﻬﻮ ﻻ ﻳُﻘﺪﱢم أي دﻟﻴﻞ ﻋﲆ أن اﻟﺮب ﻗﺪ ﻛ ﱠﻠﻔﻪ ﺑﺬﻟﻚ ،وﻋﲆ اﻷرﺟﺢ أﻧﻪ وﺻﻞ إﱃ ﻟُﺐﱢ املﻮﺿﻮع ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻗﺎل» :أرﻳﺪﻛﻢ أن ﺗﻌﺘﱪوا ﻣﻐﺎﻣﺮاﺗﻲ رﺣﻠﺔ ُ ﻫﺪﻓﻬﺎ إﺛﺒﺎت ﺻﺪق اﻟﻌﺮاف ﻣﺮة وﻟﻸﺑﺪ«. وﻗﺪ ﻛﺎن ﺿﻤريه وذﻛﺎؤه ﻫﻤﺎ ﻣﺎ دﻓﻌﺎه ﻻﺳﺘﺠﻮاب ﻣَ ْﻦ ﻳﻈﻨﻮن ﰲ أﻧﻔﺴﻬﻢ اﻟﺤﻜﻤﺔ .وﻟﻘﺪ ﻛﺎن ﺑﺈﻣﻜﺎﻧﻪ اﻻدﱢﻋﺎء أن ذﻟﻚ »ﻳﺨﺪم ﻗﻀﻴﺔ اﻟﺮب«؛ ﻷن ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻷﻋﻤﺎل ﺗﺴﻬﻢ ﰲ ﺗﺄﻛﻴﺪ ُ ﺑﺮﻳﻘﻪ اﻟﺬي إﻋﻼن اﻟﻌَ ﱠﺮاف أﻧﻪ ﻣﺎ ﻣﻦ أﺣﺪ أﻛﺜﺮ ﺣﻜﻤﺔ ﻣﻦ ﺳﻘﺮاط ،وﻟﻜﻦ ﻛﻼم اﻟﺮب ﻟﻪ ﻳﺴﻬﻢ ﰲ إﻇﻬﺎر ﻫﺪف ﺳﻘﺮاط اﻷﺧﻼﻗﻲ اﻟﺴﺎﻣﻲ وﻛﺴﺐ ﺗﺄﻳﻴﺪ ﻣﺴﺘﻤﻌﻴﻪ؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن داﻓﻌﻪ اﻷﺳﺎﳼ ﻟﻠﺘﻔﻠﺴﻒ ﺑﺒﺴﺎﻃﺔ ﻫﻮ أﻧﻪ رأى أن ﻫﺬا ﻫﻮ اﻟﺼﻮاب. وﻗﺪ ذﻛﺮ ﺳﻘﺮاط أﻧﻪ ﺗﺄﺛﱠﺮ ﰲ أﻓﻌﺎﻟﻪ ﺑﻤﺎ ﺳﻤﺎه روﺣﻪ اﻟﺤﺎرﺳﺔ ،أو ﺻﻮت ﻻ َزﻣَ ﻪ َ ﻃﻮال ﻃﻔﻮﻟﺘﻪ .وﻳﺒﺪو أن ﻫﺬا ﻛﺎن ﻳﻤﺜﻞ ﻓﻜﺮه اﻟﻼﻫﻮﺗﻲ اﻟﺼﺎﺑﺊ أو »اﻵﻟﻬﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة« املﺸﺎر إﻟﻴﻬﺎ ﰲ اﻻﺗﱢﻬﺎﻣﺎت املﻮﺟﻬﺔ إﻟﻴﻪ .وﻣﺮة أﺧﺮى ﻳﺘﻌﺎﻣﻞ ﺳﻘﺮاط ﻣﻊ ﻧﺼﻴﺤﺔ اﻟﺮوح اﻟﺤﺎرﺳﺔ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﻧﺼﻴﺤﺔ ﻳﺠﺐ اﻗﺘﻨﺎع اﻟﻌﻘﻞ ﺑﻬﺎ ﻗﺒﻞ أن ﺗﻨﻔﺬ ،ﻛﻤﺸﻮرة اﻷﺻﺪﻗﺎء أو ﻛﻠﻤﺎت ﻋﺮاف دﻟﻔﻲ .وﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أن ﺻﻮت اﻟﺮوح اﻟﺤﺎرﺳﺔ ﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﻄﻠﻖ ﻋﻠﻴﻪ 169
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
أﺟﺪه ﻳﺜﻨﻴﻨﻲ ﻋﻤﱠ ﺎ أﻓﻜﺮ ﰲ ﺻﻮت اﻟﻀﻤري اﻟﻮاﻋﻲ ،وﻋﻨﻪ ﻳﻘﻮل ﺳﻘﺮاط» :ﻋﻨﺪﻣﺎ أﺳﻤﻌﻪ ِ ﻋﻤﻠﻪ وﻻ ﻳﺸﺠﻌﻨﻲ ﻋﻠﻴﻪ أﺑﺪًا«. وﻳﻘﻮل ﺳﻘﺮاط إن اﻟﺮوح اﻟﺤﺎرﺳﺔ ﻗﺪ ﺣﺬﱠرﺗﻪ ﻣﻦ أي اﺷﺘﻐﺎل ﺑﺎﻟﺴﻴﺎﺳﺔ؛ ﻷﻧﻪ ﻟﻮ ﺻﻨﻊ ﻣﻦ ﻧﻔﺴﻪ ﺷﺨﺼﻴﺔ ﻋﺎﻣﺔ ﻟﻜﺎن ُﻗ ِﺘ َﻞ ﻗﺒﻞ أن ﻳﻌﻤﻞ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻷﻋﻤﺎل اﻟﺼﺎﻟﺤﺔ .وﻫﺬا ﴎا ﻓﻴﻘﻮل: ﺳﺒﺐ اﺧﺘﻴﺎره أن ﻳﺨﺪم اﻟﻨﺎس ٍّ ً ﻣﺤﺎوﻻ إﻗﻨﺎﻋﻜﻢ ﺻﻐﺎ ًرا وﻛﺒﺎ ًرا ﱠأﻻ ﺗﺠﻌﻠﻮا َﻫﻤﱠ ُﻜﻢ اﻷول ﻟﻘﺪ ﻗﻀﻴﺖ ﻛﻞ ﻋﻤﺮي وﺷﻐﻠﻜﻢ اﻟﺸﺎﻏﻞ أﺟﺴﺎدﻛﻢ وﻣﻤﺘﻠﻜﺎﺗﻜﻢ وإﻧﻤﺎ ﺗﺤﻘﻴﻖ أﻗﴡ ﻓﺎﺋﺪة ﻟﻠﺮوح، وأﻗﻮل ﻟﻜﻢ إن اﻟﺜﺮوة ﻻ ﺗﺠﻠﺐ اﻟﺨري وﻟﻜﻦ اﻟﺨري ﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺠﻠﺐ اﻟﺜﺮوة وﻛﻞ ﻧﻌﻤﺔ أﺧﺮى ﻟﻠﻔﺮد واﻟﺪوﻟﺔ ﻋﲆ اﻟﺴﻮاء. وﻳﺒﺪو أن أﺳﻠﻮب اﻹﻗﻨﺎع ﻫﺬا ﻛﺎن ﺣﺎدٍّا ﰲ ﺑﻌﺾ اﻷوﻗﺎت ،ﻓﺴﻘﺮاط ﻳﻘﺼﺪ ﺿﻤﻨﻴٍّﺎ أن ﺳﻜﺎن أﺛﻴﻨﺎ ﻳﺠﺐ أن »ﻳﺸﻌﺮوا ﺑﺎﻟﺨﺰي واﻟﺨﺠﻞ ﻣﻦ اﻧﺸﻐﺎﻟﻬﻢ ﺑﺠﻤﻊ أﻛﱪ ﻗﺪر ﻣﻤﻜﻦ ﻣﻦ املﺎل وﺑﺒﻨﺎء اﻟﺴﻤﻌﺔ اﻟﺤﺴﻨﺔ واﻟﴩف واﻻﻧﴫاف ﻋﻦ اﻻﻧﺸﻐﺎل ﺑﺎﻟﺤﻘﻴﻘﺔ وﺑﻜﻤﺎل اﻟﺮوح «.وﻻ ﺑُ ﱠﺪ أﻧﻪ ﻗﺪ أزﻋﺠﻬﻢ أﺛﻨﺎء ﻣﺤﺎﻛﻤﺘﻪ ﺑﻘﻮﻟﻪ إﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﻘﺪم ﻷﻫﻞ أﺛﻴﻨﺎ »أﻋﻈﻢ ﺧﺪﻣﺔ ﻣﻤﻜﻨﺔ« ﺑﺈﻇﻬﺎر أﺧﻄﺎﺋﻬﻢ ﻟﻬﻢ .وﻗﺪ ﻛﺎن ﻫﺬا ﰲ ﻣﺮﺣﻠﺔ ﻣﻦ إﺟﺮاءات املﺤﺎﻛﻤﺔ ﱢت ﺑﺈداﻧﺘﻪ و ُ ﺻﻮ َ ﻋﻨﺪﻣﺎ ُ ﻃﻠِﺐَ ﻣﻨﻪ أن ﻳﺠﺎدل ﺑﺸﺄن اﻟﻌﻘﻮﺑﺔ املﻨﺎﺳﺒﺔ ملﻮاﺟﻬﺔ ﻃﻠﺐ اﻻدﱢﻋﺎء ﺑﺎﻟﺤﻜﻢ ﻋﻠﻴﻪ ﺑﺎﻹﻋﺪام .وﻛﺎملﻌﺘﺎد ﺗﻌﺎﻣﻞ ﺳﻘﺮاط ﻣﻊ ﻫﺬه املﺴﺌﻮﻟﻴﺔ ﺑﺴﺨﺮﻳﺔ ،ﻓﻴﻘﻮل إﻧﻪ ﻳﺴﺘﺤﻖ ﻣﻜﺎﻓﺄة ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ اﻟﻌﻘﻮﺑﺔ ﻧﻈري اﻟﺨﺪﻣﺔ اﻟﺘﻲ ﻗﺪﻣﻬﺎ ﻟﺴﻜﺎن أﺛﻴﻨﺎ ،وﻳﻘﱰح أن ﺗﻜﻮن ﻣﻜﺎﻓﺄﺗﻪ وﺟﺒﺎت ﻣﺠﺎﻧﻴﺔ ﻣﺪى اﻟﺤﻴﺎة ﻋﲆ ﻧﻔﻘﺔ اﻟﺪوﻟﺔ ،وﻛﺎن ﻫﺬا اﻣﺘﻴﺎ ًزا ﻳُﻤْ ﻨَﺢُ ﻟﻠﻔﺎﺋﺰﻳﻦ ﺑﺎﻷﻟﻌﺎب اﻷوملﺒﻴﺔ وﻣﺎ ﺷﺎﺑﻬﻬﺎ ،ﻓﻴﻘﻮل إﻧﻪ ﻳﺴﺘﺤﻖ ﻫﺬا اﻻﻣﺘﻴﺎز أﻛﺜﺮ ﻣﻨﻬﻢ ﻷن »ﻫﺆﻻء ﻳﻘﺪﻣﻮن ﺻﻮرة ﻟﻠﻨﺠﺎح ﺑﻴﻨﻤﺎ أُﻗﺪم أﻧﺎ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ «.وﻳﻨﻬﻲ ﺳﻘﺮاط ﻫﺬا اﻟﺠﺰء ﻣﻦ ﺣﺪﻳﺜﻪ ﺑﺎﻗﱰاح ﻏﺮاﻣﺔ ﺑﺪﻳﻠﺔ ،ﻳﺘﻜﻔﻞ ﺑﻬﺎ أﻓﻼﻃﻮن واﻷﺻﺪﻗﺎء اﻵﺧﺮون اﻟﺬﻳﻦ ﻋﺮﺿﻮا أن ﻳﺘﺤﻤﻠﻮﻫﺎ ﻋﻨﻪ .وﻟﻜﻦ ﺻﱪ أﻫﻞ أﺛﻴﻨﺎ ﻛﺎن ﻗﺪ ﻧَﻔِ َﺪ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ؛ ﻓﻘﺪ ﺻﻮﺗﻮا ﻋﲆ إﻋﺪاﻣﻪ ﺑﺄﻏﻠﺒﻴﺔ أﻛﱪ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ أداﻧﺘﻪ .وﻫﺬا ﻳﻌﻨﻲ أن ﺑﻌﺾ ﻣَ ْﻦ رأَوْه ﺑﺮﻳﺌًﺎ ﰲ اﻟﺒﺪاﻳﺔ ﻗﺪ اﺳﺘﻔﺰﺗﻬﻢ وﻗﺎﺣﺘﻪ ﻟﺪرﺟﺔ أﻧﻬﻢ ﱠ ﻏريوا رأﻳﻬﻢ أو ﻗﺮروا اﻟﺘﺨﻠﺺ ﻣﻨﻪ ﺑﺄي ﺣﺎل. وﺗﺬﻛﺮ إﺣﺪى اﻟﺮواﻳﺎت أﻧﻪ ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻛﺎن ﺳﻘﺮاط ﻳﻐﺎدر املﺤﻜﻤﺔ ،ﺻﺎح أﺣﺪ املﻌﺠﺒني املﺨﻠﺼني واﻷﻏﺒﻴﺎء ﻣﻌً ﺎ ﻳﺪﻋﻰ أﺑﻮﻟﻮدورس أن أﺻﻌﺐ ﳾء ﻋﻠﻴﻪ أن ﻳُﺤْ َﻜ َﻢ ﻋﲆ ﺳﻘﺮاط ً ﺑﺎﻹﻋﺪام ﻇﻠﻤً ﺎ ،ﻓﺮد ﻋﻠﻴﻪ ﺳﻘﺮاط ﻣﺤﺎوﻻ اﻟﺘﺨﻔﻴﻒ ﻋﻨﻪ» :ﻣﺎذا؟ وﻫﻞ ﺗﺮﻳﺪ أن ﻳُﺤْ َﻜ َﻢ ﻋﲇ ﱠ ﺑﺎملﻮت ً ﻋﺪﻻ؟« 170
ﺷﻬﻴﺪ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ :ﺳﻘﺮاط واﻟﺴﻘﺮاﻃﻴﺎت
أﻣﺎ ﺑﺨﺼﻮص اﺣﺘﻤﺎﻟﻴﺔ املﻮت ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻓﻘﺪ ﻗﺎل إﻧﻪ رﺟﻞ ﻃﺎﻋﻦ ﰲ اﻟﺴﻦ ﻗﺮﻳﺐٌ ﻣﻦ املﻮت ﻋﲆ أﻳﺔ ﺣﺎل ،وإﻧﻪ ﻗﺪ ﻋﺎش ﺣﻴﺎة ﺻﺎﻟﺤﺔ وﻣﺠﺪﻳﺔ .وﻗﺎل ً أﻳﻀﺎ: إن اﻟﺨﻮف ﻣﻦ املﻮت ﻫﻮ ﺻﻮرة أﺧﺮى ﻣﻦ اﻋﺘﻘﺎد اﻹﻧﺴﺎن أﻧﻪ ﺣﻜﻴﻢ ﰲ ﺣني أﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﻛﺬﻟﻚ … ﻓﻼ أﺣﺪ ﻳﻌﻠﻢ ﻣﺎ إذا ﻛﺎن املﻮت ﻫﻮ اﻟﻨﻌﻤﺔ اﻟﻜﱪى اﻟﺘﻲ ﻳﺤﺼﻞ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻹﻧﺴﺎن ،وﻟﻜﻦ اﻟﻨﺎس ﻳﺮﻫﺒﻮﻧﻪ وﻛﺄﻧﻬﻢ ﻋﲆ ﻳﻘني أﻧﻪ ﻫﻮ اﻟﴩ اﻷﻋﻈﻢ، وﻫﺬا اﻟﺠﻬﻞ اﻟﺬي ﻳﺪﻓﻊ ﺻﺎﺣﺒﻪ ﻟﻼﻋﺘﻘﺎد ﺑﻤﻌﺮﻓﺔ ﻣﺎ ﻻ ﻳﻌﺮف ﻳﺠﺐ أن ﻳﻜﻮن ﻣﺤﻞ اﺳﺘﻨﻜﺎر … وإذا اد ُ ﱠﻋﻴﺖ أﻧﻲ أﻛﺜﺮ ﺣﻜﻤﺔ ﻣﻦ ﺟﺎري ﰲ أي ﺟﺎﻧﺐ؛ ﻓﻬﺬه اﻟﺤﻜﻤﺔ ﻫﻲ أﻧﻨﻲ ﻟﻴﺲ ﻟﺪيﱠ أﻳﺔ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ ﺑﻤﺎ ﺑﻌﺪ املﻮت وأﻧﻨﻲ ﻣﺪرك ﻣﻊ ذﻟﻚ أﻧﻲ ﻟﻴﺲ ﻟﺪيﱠ ﺗﻠﻚ املﻌﺮﻓﺔ. وأﺿﺎف أﻧﻪ إذا ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك ﺣﻴﺎة ﺑﻌﺪ املﻮت ﻓﺴﻴﻜﻮن ﻟﺪﻳﻪ ﻓﺮﺻﺔ ملﻘﺎﺑﻠﺔ »أﺑﻄﺎل اﻷﻳﺎم اﻟﺨﻮاﱄ اﻟﺬﻳﻦ َﻟ ُﻘﻮا ﺣﺘﻔﻬﻢ ﺑﻤﺤﺎﻛﻤﺎت ﻏري ﻋﺎدﻟﺔ وﻣﻘﺎرﻧﺔ ﺣَ ِﻈ َﻲ ﺑﺤﻈﻬﻢ ،وﺳﻴﻜﻮن ﻫﺬا ﻣﻤﺘﻌً ﺎ«. ورﻏﻢ ﺣﺪﻳﺚ ﺳﻘﺮاط ﻋﻦ اﻟﺠﻬﻞ وإﴏاره ﻋﲆ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻣﺤﺾ ﻗﺎﺑﻠﺔ ﺗُ َﻮ ﱢﻟ ُﺪ أﻓﻜﺎر اﻵﺧﺮﻳﻦ؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻟﺪﻳﻪ ﻣﻌﺘﻘﺪات ﻗﻮﻳﺔ ﺧﺎﺻﺔ ﺑﻪ ،وﻟﻜﻦ ﻟﺴﻮء اﻟﺤﻆ ﻟﻢ ﻳُﺪوﱢﻧﻬﺎ ﻗﻂ .وﻛﺎن أﺣﺪ ﻫﺬه املﻌﺘﻘﺪات ﻫﻮ أن اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻫﻲ ﻧﺸﺎط أﺳﺎﳼ وﺗﻌﺎوﻧﻲ ،ﻓﻬﻲ ﻣﺎدة دﺳﻤﺔ ﰲ املﻨﺎﻗﺸﺎت ﺑني ً ﺑﻌﻀﺎ ﻟﻴﺼﻞ ﻛ ﱞﻞ ﻣﻨﻬﻢ إﱃ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺑﻨﻔﺴﻪ. ﺟﻤﺎﻋﺎت ﺻﻐرية ﻣﻦ اﻟﻨﺎس ﻳﺠﺎدل ﺑﻌﻀﻬﻢ وﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﺳﱰﺟﺎع روح اﻟﻠﻬﻮ ﻫﺬه ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﰲ ﻣﺤﺎﴐة أو ﰲ رﺳﺎﻟﺔ .وﻫﺬا ﻫﻮ ﺳﺒﺐ اﺧﺘﻴﺎر أﻓﻼﻃﻮن وزﻳﻨﻮﻓﻮن )واﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﻣﻌﺎﴏﻳﻬﻢ اﻟﺬﻳﻦ ﺿﺎﻋﺖ أﻋﻤﺎﻟﻬﻢ( أن ﻳﻘﺪﻣﻮا أﻓﻜﺎر ﺳﻘﺮاط ﰲ ﺻﻮرة ﻣﺤﺎورات؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن اﻟﺤﻮار ﺣﺮﻓﺘﻪ ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﺗﺮﻛﻪ ﻟﻨﺎ ﻣﻦ ﺑﻌﺪه. ﺛَﻤﱠ َﺔ أرﺑﻌﺔ ﺷﻬﻮد رﺋﻴﺴني ﻋﲆ أﻓﻜﺎر ﺳﻘﺮاط اﻟﻌﻤﻴﻘﺔ :أﻓﻼﻃﻮن ،وزﻳﻨﻮﻓﻮن، وأرﺳﻄﻮﻓﺎن ،وأرﺳﻄﻮ .وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺣﺎل أيﱟ ﻣﻦ ﻫﺆﻻء ﻛﻤﺎ ﻳﺘﻤﻨﻰ أي ﻣﺆرخ .ﻛﺎن أﻓﻼﻃﻮن أﻛﺜﺮ ﻣَ ْﻦ ﺗﺤﺪﱠث ﻋﻦ أﻓﻜﺎر ﺳﻘﺮاط ،وﻟﻜﻨﻪ ﺑﻮﺻﻔﻪ ﻣﺮﺷﺪًا ﻣﻮﺿﻮﻋﻴٍّﺎ ﻟﺴﻘﺮاط ﻓﻘﺪ ﻋﺎﺑﻪ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﺠﻞ ﺳﻘﺮاط ﻟﺪرﺟﺔ اﻟﻌﺒﺎدة؛ ﻟﺬﻟﻚ ﻓﻤﻦ املﺮﺟﱠ ﺢ أﻧﻪ ﻗﺪ ﺑﺎﻟﻎ ﻓﻴﻤﺎ رأى أﻧﻪ أﺣﺴﻦ ﺻﻔﺎﺗﻪ .ﻓﺒﺨﻼف أﻧﻪ ﻋﲆ ﻣﺪار أرﺑﻌني ﻋﺎﻣً ﺎ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ﻣﻦ اﻟﺘﻔﻜري واﻟﺘﺪرﻳﺲ ﺗﻐريت ﻓﻴﻬﺎ أﻓﻜﺎره ﻛﺜريًا؛ ﻓﻘﺪ اﻋﱰف أﻓﻼﻃﻮن ﺑﺎﻟﻔﻀﻞ ﻟﺴﻘﺮاط ﰲ اﺳﺘﺨﺪاﻣﻪ ﻛﻨﺎﻃﻖ ﺑﻠﺴﺎﻧﻪ .ﻟﻘﺪ ً ﻣﺘﻔﻮﻗﺎ؛ ﻟﺬﻟﻚ ﻛﺎن ﻳﻘﺪم أي ﳾء ﻳﺮى ﻓﻴﻪ اﻟﺤﻜﻤﺔ ﻋﲆ ﻛﺎن أﻓﻼﻃﻮن ﻳﺮى ﺳﻘﺮاط ﺣﻜﻴﻤً ﺎ 171
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻟﺴﺎن ﺳﻘﺮاط .وﻗﺪ وﺻﻒ أﻓﻼﻃﻮن )أو أﺣﺪ اﻟﺮﻓﻘﺎء املﻘﺮﺑني اﻵﺧﺮﻳﻦ( ﻣﺤﺎوراﺗﻪ ﺑﺄﻧﻬﺎ »أﺣﺪ أﻋﻤﺎل ﺳﻘﺮاط اﻟﺘﻲ ﻧ ُ ﱢﻘﺤَ ْﺖ وﺟُ ﱢﺪد ْ ِ ﻳﻜﺘﻒ ﺳﻘﺮاط ﰲ َت «.وﻫﺬه ﻣﺸﻜﻠﺔ ﻣﺮ ﱠﻛﺒﺔ؛ إذ ﻟﻢ ﺑﺪﻻ ﻣﻦ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻪ ،وﻟﻜﻨﻪ ﺟﻌﻠﻪ ً ﻣﺤﺎورات أﻓﻼﻃﻮن ﺑﺎﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ أﻓﻼﻃﻮن ً أﻳﻀﺎ ﻳﻘﻮل أﺷﻴﺎء ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ وﻗﻌﺖ ﰲ املﺮاﺣﻞ املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ ﺣﻴﺎة أﻓﻼﻃﻮن اﻷدﺑﻴﺔ. وﻣﺎذا ﻋﻦ اﻟﺸﻬﻮد اﻟﺜﻼﺛﺔ اﻵﺧﺮﻳﻦ؟ ﻟﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﻋﻴﻮب زﻳﻨﻮﻓﻮن )٣٥٥–٤٣٠ق.م( ً ﻓﻴﻠﺴﻮﻓﺎ ﺑﺸﻜﻞ واﺿﺢ — ﻋﲆ ﻋﻜﺲ أﻓﻼﻃﻮن — ﻟﻴﻜﻮن ﻣﺮﺷﺪًا ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ؛ ﻓﻠﻢ ﻳﻜﻦ إﱃ ﺳﻘﺮاط .ﻟﻴﺲ ﻣﻦ اﻟﻌﻴﺐ أن ﻳﻜﻮن زﻳﻨﻮﻓﻮن ﻗﺎﺋﺪًا ﻋﺴﻜﺮﻳٍّﺎ ﺗﻘﺎﻋَ ﺪ وأﺻﺒﺢ أﺣﺪ ﻛﺒﺎر املﺰارﻋني ،وﻟﻜﻨﻪ رﺑﻤﺎ ﻻ ﻳﻜﻮن ﺧري ﺣﺎﻓﻆ ﻟﻸﺛﺮ اﻟﺪﱠا ﱢل ﻋﲆ أﺣﺪ ﻓﻼﺳﻔﺔ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻌﻈﺎم؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻳﺴﺘﺨﺪم ﺷﺨﺼﻴﺔ ﺳﻘﺮاط ﻟﻴﻘﺪم ﻧﺼﺎﺋﺤﻪ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﻋﻦ اﻟﺰراﻋﺔ واﻟﻔﻨﻮن اﻟﻌﺴﻜﺮﻳﺔ، ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﻳﺼﻮﱢره ﻋﲆ أﻧﻪ ﺷﺨﺺ ﻃﻴﱢﻊ ﻟني اﻟﻌﺮﻳﻜﺔ ﻓﻴﻘﻮل» :ﻟﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﻛﻞ ﺳﻠﻮﻛﻴﺎﺗﻪ اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﻗﺎﻧﻮﻧﻴﺔ وﻧﺎﻓﻌﺔ؛ ﻓﻘﺪ اﻟﺘﺰم اﻟﻄﺎﻋﺔ اﻟﺼﺎرﻣﺔ ﻟﻠﺴﻠﻄﺔ اﻟﻌﺎﻣﺔ ﰲ ﻛﻞ ﻣﺎ ﺗﻔﺮﺿﻪ اﻟﻘﻮاﻧني ﰲ ُﻛ ﱟﻞ ﻣﻦ اﻟﺤﻴﺎة املﺪﻧﻴﺔ واﻟﺨﺪﻣﺔ اﻟﻌﺴﻜﺮﻳﺔ ،ﺣﺘﻰ إﻧﻪ ﻛﺎن ﻧﻤﻮذﺟً ﺎ ﻟﻼﻧﻀﺒﺎط واﻻﻟﺘﺰام ﻳﺤﺘﺬي ﺑﻪ اﻟﺠﻤﻴﻊ «.وﻗﺪ أﺷﺎر أﺣﺪ اﻟﺒﺎﺣﺜني اﻟ ﱡﺮوﱠاد ﰲ ﻣﺠﺎل اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ً ً وإﻧﺼﺎﻓﺎ إﺣﻘﺎﻗﺎ ﻟﻠﺤﻖ ﺑﺸﻜﻞ ﻣﻔﻬﻮم إﱃ زﻳﻨﻮﻓﻮن ﺑﺄﻧﻪ »ﻣﻨﺎﻓﻖ ﻣﺘﺠﻬﻢ وﻋﺠﻮز «.ﻟﻜﻦ ﻟﺰﻳﻨﻮﻓﻮن ﻳﺠﺐ اﻟﻘﻮل إﻧﻪ ﻣﺎ ﻣﻦ أﺣﺪ أُﻋْ ِﺠﺐَ ﺑﺸﺨﺺ ﻏﺮﻳﺐ اﻷﻃﻮار ﻣﺜﻞ ﺳﻘﺮاط ﻛﻤﺎ أُﻋْ ِﺠﺐَ ﺑﻪ زﻳﻨﻮﻓﻮن ،ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن ﻋَ ﺒﻮس اﻟﻮﺟﻪ ﻣﺘﺠﻬﻤً ﺎ .وﻟﻜﻦ زﻳﻨﻮﻓﻮن ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻫﻮ ﺳﻘﺮاط ﻧﻔﺴﻪ ،ورﺑﻤﺎ ﻟﻢ ﻳﺴﺘﻄﻊ إدراك ﻏﺮاﺑﺔ ﺷﺨﺼﻴﺘﻪ وﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﺮﻣﻲ إﻟﻴﻪ .وإذا ﻛﺎن زﻳﻨﻮﻓﻮن ﻗﺪ ﻓﻌﻞ ﻣﺎ ﺑﻮﺳﻌﻪ ِﻟﻴُ ْ واملﻠﺘﺰم ﻓﺈن اﻟﻜﺎﺗﺐ ﻈ ِﻬ َﺮ ﺳﻘﺮاط ﺑﻤﻈﻬﺮ اﻟﺮﺟﻞ املﺤﱰم ِ املﴪﺣﻲ أرﺳﻄﻮﻓﺎن )ﺣﻮاﱄ ٣٨٠–٤٤٨ق.م( ﻟﻢ ﻳﺪﱠﺧ ْﺮ ﺟﻬﺪًا ﻟﻴﻔﻌﻞ اﻟﻌﻜﺲ؛ ﻓﺴﻘﺮاط ﻋﻨﺪه ﻫﻮ ﻣﻬﺮج ﺧﺪﻋﺘﻪ أﺳﺌﻠﺔ ﻣﺜﻞ :ﻣﻦ أﻳﺔ ﻧﺎﺣﻴﺔ ﺗﺨﺮج اﻟﺒﻌﻮﺿﺔ رﻳﺤﻬﺎ؟ وﻳﺘﻀﺢ ﻋﺠﺰ أرﺳﻄﻮ ﻋﻦ وﺻﻒ ﺳﻘﺮاط ﺑﺒﺴﺎﻃﺔ ﰲ ﻗﻮﻟﻪ» :ﻟﻘﺪ ُوﻟِ َﺪ ﻣﺘﺄﺧ ًﺮا ﺧﻤﺴﺔ ﻋﴩ ﻋﺎﻣً ﺎ«. وﻟﻜﻦ أرﺳﻄﻮ ﻫﻮ ﻣﻦ ﻳﻌﺮف ﺣﻘﺎﺋﻖ ﻣﻬﻤﺔ ،ﻓﺮﻏﻢ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﺴﻤﻊ آراء ﺳﻘﺮاط ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺒﺎﴍ ﻓﻘﺪ درس ﰲ أﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ أﻓﻼﻃﻮن ملﺎ ﻳﻘ ُﺮب ﻣﻦ ﻋﴩﻳﻦ ﻋﺎﻣً ﺎ ،وﺣﺼﻞ ﻋﲆ ﻓﺮﺻﺔ ﻛﺒرية ﻟﻴﺴﻤﻊ آراء أﻓﻼﻃﻮن ﻣﻦ أﻓﻼﻃﻮن ﻧﻔﺴﻪ؛ ﻟﺬﻟﻚ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﰲ ﻣﻮﺿﻊ ﻳﺴﻤﺢ ﺑﺎﻟﻔﺼﻞ ﺑني آراء اﻟﺮﺟُ ﻠني .وﺗﺴﺎﻋﺪ ﺷﻬﺎدة أرﺳﻄﻮ ﺑﺸﻜﻞ ﻛﺒري ﻋﲆ ﺣﺬف آراء أﻓﻼﻃﻮن ﻣﻦ ﻣﺤﺎوراﺗﻪ ورؤﻳﺔ ﻣﺎ ﱠ ً ﺗﺒﺠﻴﻼ ﻟﺴﻘﺮاط ﻣﻦ ﺗﺒﻘﻰ ﻟﺴﻘﺮاط .ﻛﻤﺎ أن أرﺳﻄﻮ ﻛﺎن أﻗﻞ أﻓﻼﻃﻮن؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻧﺠﺢ ﰲ ﺗﺒﻨﱢﻲ ﻧﻬﺞ أﻛﺜﺮ ﺣﻴﺎدﻳﺔ ﰲ ﺗﻌﺎﻟﻴﻤﻪ. ﻟﻘﺪ اﺗﱠﻀﺢ أن اﺧﺘﻼف املﺼﺎدر اﻟﺮﺋﻴﺴﺔ اﻷرﺑﻌﺔ ﻟﺴﻘﺮاط ﻣﻴﺰ ٌة وﻟﻴﺲ ﻋﻴﺒًﺎ؛ ﻓﻬﻮ ﻳﻌﻨﻲ زﻳﺎدة اﺣﺘﻤﺎل ِﺻﺪق ﻣﺎ ﻫﻮ ﻣﺸﱰك ﺑني اﻟﺮواﻳﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ .وﻛﻠﻤﺎ ﻋ َﺮﻓﻨﺎ املﺰﻳﺪ ﻋﻦ 172
ﺷﻬﻴﺪ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ :ﺳﻘﺮاط واﻟﺴﻘﺮاﻃﻴﺎت
ﻛ ﱟﻞ ﻣﻦ اﻷرﺑﻌﺔ وﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﺴﻌﻰ إﻟﻴﻪ ﻛ ﱞﻞ ﻣﻨﻬﻢ؛ َﺳﻬُ َﻞ ﺗﺠﺎﻫﻞ ﺗﺤﺎﻣُﻼﺗﻪ واﻧﺤﺮاﻓﺎﺗﻪ ورؤﻳﺔ ﺳﻘﺮاط اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ وراءﻫﺎ .وﺑﺘﺘﺒﱡﻊ ﺗﻠﻚ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ اﺳﺘﻄﺎع اﻟﺒﺎﺣﺜﻮن املﻌﺎﴏون ﺗﺠﻤﻴﻊ ﻛﺜري ﻣﻦ ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺬي أدﻣﻦ اﻟﺠﺪال ﺣﺘﻰ املﻮت ﺣﺮﻓﻴٍّﺎ. وﻣﻦ اﻟﺴﻬﻞ ﺗﺪا ُرس آراء ﺳﻘﺮاط ﰲ ﺿﻮء ﻋﻼﻗﺘﻬﺎ ﺑﺂراء أﻓﻼﻃﻮن؛ ﻓﺎﻟﺘﺄرﻳﺦ اﻟﺘﻘﺮﻳﺒﻲ ملﺤﺎورات أﻓﻼﻃﻮن إﺿﺎﻓﺔ إﱃ ﺑﻌﺾ املﻌﻠﻮﻣﺎت ﻋﻦ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﻳﺠﻌﻞ ﻣﻦ املﻤﻜﻦ ﺗﺘﺒﱡﻊ ﺧﻄﻮات رﺣﻠﺘﻪ اﻟﻔﻜﺮﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﺑﺪأﻫﺎ ﺑﺼﺤﺒﺔ ﺳﻘﺮاط وأﻧﻬﺎﻫﺎ ﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻨﻪ .ﰲ اﻟﺒﺪاﻳﺔ ﻗﻴﱠﺪ أﻓﻼﻃﻮن ﻧﻔﺴﻪ ﺑﺈﻋﺎدة إﻧﺘﺎج ﻣﺤﺎورات أﺳﺘﺎذه ﱠ املﻮﻗﺮ .وﺑﻌﺪ ذﻟﻚ أُﺿﻴﻔﺖ ﺗﺪرﻳﺠﻴٍّﺎ ﺑﻌﺾ اﻟﺘﻌﻠﻴﻘﺎت اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﺔ واﻟﺼﻮﻓﻴﺔ إﱃ أﻓﻜﺎر ﺳﻘﺮاط .وﻇﻞ أﻓﻼﻃﻮن ﻳﺘﺄﺛﱠﺮ ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺘﺰاﻳﺪ ﺑﺎﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني اﻹﻳﻄﺎﻟﻴني .وأﺧريًا وﺻﻞ أﻓﻼﻃﻮن إﱃ ﻣﺮﺣﻠﺔ اﺳﺘﻌﺎن ﻓﻴﻬﺎ ﺑﺸﺨﺼﻴﺔ ﺳﻘﺮاط ﻋﻨﺪ ﴍح ﺟﻤﻴﻊ املﻮﺿﻮﻋﺎت. اﻟﺠﺪﱢﻳﺔ ﺑﺨﺼﻮص ﺳﻘﺮاط اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﻓﻘﻂ ﺣﻮل اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﻟﻘﺪ ﺗﻤﺤﻮرت املﻨﺎﻗﺸﺎت ِ اﻟﺘﻲ ﻳﺠﺐ أن ﻳﻌﻴﺶ ﺑﻬﺎ اﻹﻧﺴﺎن ﺣﻴﺎﺗﻪ ،واﻫﺘﻤﺖ ﺑﺎﻟﻔﻀﺎﺋﻞ اﻟﺘﻲ ﺳﺎد اﻟﻌُ ﺮف أﻧﻬﺎ ﺧﻤﺲ: ُ ﻣﻬﻤﺔ ﺳﻘﺮاط ﺣَ ﱠﺚ اﻟﻨﺎس ﻋﲆ اﻟﺸﺠﺎﻋﺔ ،واﻻﻋﺘﺪال ،واﻟﺘﻘﻮى ،واﻟﺤﻜﻤﺔ ،واﻟﻌﺪل .وﻛﺎﻧﺖ ﺗﻬﺬﻳﺐ أرواﺣﻬﻢ ﺑﻤﺤﺎوﻟﺔ َﻓﻬﻢ ﻫﺬه اﻟﺼﻔﺎت واﻛﺘﺴﺎﺑﻬﺎ ،وﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه املﻬﻤﺔ ﻛﻔﻴﻠﺔ ﺑﺈﺑﻘﺎء ً ﻣﺸﻐﻮﻻ ،وﻟﻜﻦ أﻓﻼﻃﻮن ﻛﺎن أﺷ ﱠﺪ ﻃﻤﻮﺣً ﺎ ﺑﺎﻟﻨﻴﺎﺑﺔ ﻋﻦ أﺳﺘﺎذه ،ﻓﻜﺘﺐ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﺳﻘﺮاط ً رﺋﻴﺴﺎ ﻣﻦ املﺤﺎورات اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﻬﺘﻢ ﺑﺎﻷﺧﻼق ﻋﲆ اﻹﻃﻼق ،وﻟﻜﻨﻬﺎ اﺗﺨﺬت ﺳﻘﺮاط ﻣﺘﺤﺪﺛًﺎ ﻓﻴﻬﺎ؛ ﻓﻜﺘﺎب أﻓﻼﻃﻮن »اﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ« ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﻳﺒﺪأ ﺑﻤﻨﺎﻗﺸﺔ اﻟﻌﺪل ،وﻟﻜﻦ ﻳﻨﺘﻬﻲ ﺑﺘﻨﺎول ﻛﻞ ﻣﺎ أﺛﺎر اﻫﺘﻤﺎم أﻓﻼﻃﻮن. ً وﺣﺘﻰ ﻋﻨﺪﻣﺎ أﻋﻠﻦ ﺳﻘﺮاط اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ أﻧﻪ ﻻ ﻳﻌﻠﻢ ﺷﻴﺌﺎ ،ﻇﻞ أﻓﻼﻃﻮن ﻣﻨﺪﻓﻌً ﺎ ﰲ ً ﻓﻤﺜﻼ اﻋﺘﻘﺪ ﺳﻘﺮاط أن ﻣﺎ ﻳﺤﺪث ﺑﻌﺪ املﻮت ﻫﻮ ﺳﺆال اﻟﻐﺎﻟﺐ وأﺛﻨﻰ ﻋﻠﻴﻪ ﺑﺂراء واﺛﻘﺔ؛ ﻣﻔﺘﻮح ﻟﻠﺒﺤﺚ ،وﻟﻜﻦ ﰲ ﻣﺤﺎورة »ﻓﻴﺪون« اﻟﺘﻲ ﺗُﻮﻫِ ﻢ ﺑﻨﻘﻞ ﻛﻠﻤﺎت ﺳﻘﺮاط اﻷﺧرية ﻗﺒﻞ ﺗﻨﺎوُﻟﻪ ﺳﻢ اﻟﺸﻮﻛﺮان ﰲ ﺳﺠﻨﻪ ،ﺟﻌﻠﻪ أﻓﻼﻃﻮن ﻳﻘﺪم ﺳﻠﺴﻠﺔ ﻛﺎﻣﻠﺔ ﻣﻦ اﻷدﻟﺔ ﻋﲆ ﻓﺴﺎد اﻟﺮوح. ﻟﻘﺪ ﺑﺪا أن أﻓﻼﻃﻮن ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻟﺪﻳﻪ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﺸﻜﻮك ﺑﺸﺄن ﻣﺎ ﻳﺤﺪث ﺑﻌﺪ املﻮت .ﻟﻘﺪ اﻋﺘﻘﺪ أن اﻟﺮوح ﻣﻨﻔﺼﻠﺔ ﻋﻦ اﻟﺠﺴﺪ وأﻧﻬﺎ ﻣﻮﺟﻮدة ﻗﺒﻞ اﻟﻮﻻدة وأﻧﻬﺎ ﺳﺘﺒﻘﻰ ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ملﺎ ﺑﻌﺪ املﻮت .وﻧﺘﻴﺠﺔ ﺗﺄﺛﱡﺮه ﺑﻔﻴﺜﺎﻏﻮرس واﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني اﻋﺘﻘﺪ أﻓﻼﻃﻮن أﻧﻪ ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺗﺮﺗﺒﻂ اﻟﺮوح ﺑﺠﺴﺪ ﻣﺎدي أﺛﻨﺎء اﻟﺤﻴﺎة ،ﻓﻬﻲ ﺗﻌﻴﺶ ﺣﻴﺎة دوﻧﻴﺔ ﻣﺪﻧﺴﺔ ﺗﺤﺘﺎج أن »ﺗُﻨ َ ﱠﻘﻰ« ً ووﻓﻘﺎ ملﺎ ذﻛﺮه أﻓﻼﻃﻮن ﰲ ﻫﺬه املﺤﺎورة؛ ﻓﺈن ﻣﺎ ﻣﻨﻬﺎ ،وأن »ﺗُﺤَ ﱠﺮ َر ﻣﻦ ﻗﻴﻮد اﻟﺠﺴﺪ«. 173
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻳﺮﺟﻮه اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺼﺎﻟﺢ ﺑﻌﺪ املﻮت ﻫﻮ إﻋﺎدة اﻻﺗﺤﺎد أو ﻋﲆ اﻷﻗﻞ املﺸﺎرﻛﺔ ﻣﻊ اﻷﺳﻤﻰ ﻣﻦ أﺷﻜﺎل اﻟﻮﺟﻮد املﻌﻨﻮﻳﺔ اﻷﺧﺮى واﻟﺘﻲ ﻳﻄﻠﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ »اﻷﺷﻜﺎل املﻘﺪﺳﺔ« ،وﻋﲆ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف ﺑﺨﺎﺻﺔ أن ﻳﻌﺘﱪ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﻛﻠﻬﺎ اﺳﺘﻌﺪادًا ﻟﻠﻌِ ﺘﻖ اﻟﺴﻌﻴﺪ ﻋﻨﺪ املﻮت .وﻛﻤﺎ رأﻳﻨﺎ ﻓﻘﺪ ﻋﺎش ﺳﻘﺮاط ﺣﻴﺎ ًة َ ﻣﺜﻘﻠﺔ ﻓﻘرية ﻏري ﺗﻘﻠﻴﺪﻳﺔ وﻛﺎﻧﺖ ﻏري دﻧﻴﻮﻳﺔ ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ .أﻣﺎ أﻓﻼﻃﻮن ﻓﻘﺪ آﻣَ ﻦ ﺑﺎﻟﺤﻴﺎة اﻷﺧﺮى ﺑﺸﻜﻞ إﻳﺠﺎﺑﻲ وﻫﻮ أﻣﺮ ﻣﺨﺘﻠﻒ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ )وﻟﻘﺪ ﻋﺎش ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺣﻴﺎة ﻣﺮﻳﺤﺔ ﰲ ﻣﺠﻤﻠﻬﺎ ﺣﺘﻰ ﺗﺨ ﱠﻠﺺ ﻣﻦ ﻗﻴﻮد ﺟﺴﺪه املﻤﺘﻠﺊ(. ﻟﻘﺪ ﺳﻌﻰ ﺳﻘﺮاط إﱃ اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ ﻷﻧﻪ أَﺣَ ﱠﺲ أﻧﻪ ﻣﻠ َﺰم ﺑﺬﻟﻚ ﻓﻮ ًرا دون ﺗﺴﻮﻳﻒ؛ ﻓﺎﻟﺤﻴﺎة اﻟﺪﻧﻴﻮﻳﺔ ﺗﻔﺮض واﺟﺒﺎﺗﻬﺎ اﻟﺨﺎﺻﺔ وﺗَﻤ ﱡُﻦ ﺑﻨِﻌَ ِﻤﻬَ ﺎ اﻟﺨﺎﺻﺔ ،وﻫﻲ ﺑﺒﺴﺎﻃﺔ ﻟﻴﺴﺖ اﺳﺘﻌﺪادًا ﻟﴚء آﺧﺮ .وﻗﺪ ﻛﺎﻧﺖ دواﻓﻊ أﻓﻼﻃﻮن أﻗ ﱠﻞ اﺳﺘﻘﺎﻣﺔ ﻷﻧﻪ وﺿﻊ ﻧُﺼﺐ ﻋﻴﻨﻴﻪ َ املﻌﺘﻘﺪ املﺸﱰك ﺑني اﻟﺮﺟﻠني ﻫﻮ أن اﻟﺴﻌﻲ إﱃ اﻟﺨري ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﺤﺾ ﺷﻴﺌًﺎ أﺑﻌﺪ .وﻛﺎن أﻳﻀﺎ ،وﻟﻜﻦ ٍّ أﻓﻌﺎل ﻣﻌﻴﻨﺔ وﻟﻜﻨﻪ ﻋﻤﻞ ﻋﻘﲇ ً ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺨﺘﻠﻒ؛ ﻛﻼ ﻣﻨﻬﻤﺎ رأى ﻫﺬا اﻟﻌﻤﻞ ٍ ﻓﻘﺪ اﻋﺘﻘﺪ ﺳﻘﺮاط أن َﻓﻬﻢ اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ ﴍ ٌ ط واﺟﺐ ﻟﻠﺤﺼﻮل ﻋﻠﻴﻬﺎ ،ﻓﻼ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ املﺮء أن ً ﻓﺎﺿﻼ ﺑﺤﻖ إﻻ ﺑﻤﻌﺮﻓﺘﻪ ﻣﺎ ﻫﻲ اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ ،واﻟﻮﺳﻴﻠﺔ اﻟﻮﺣﻴﺪة ﻟﻠﺤﺼﻮل ﻋﲆ ﻫﺬه ﻳﻜﻮن املﻌﺮﻓﺔ ﻫﻲ دراﺳﺔ اﻵراء املﺘﻌﻠﻘﺔ ﺑﺎﻟﻔﻀﺎﺋﻞ املﺨﺘﻠﻔﺔ ،وﻫﺬا ﻣﺎ دﻓﻊ ﺳﻘﺮاط إﱃ أن ﻳﺴﺄل اﻟﻨﺎس وﻳﺠﺎدﻟﻬﻢ .أﻣﺎ أﻓﻼﻃﻮن ﻓﻘﺪ آﻣﻦ ﺑﻬﺬا اﻟﺒﺤﺚ اﻟﺠﺪﱄ وﻟﻜﻨﻪ ﻓﴪه ً أﻳﻀﺎ ﺑﺄﻧﻪ ﳾء روﺣﻲ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ .وﺑﻴﻨﻤﺎ رأى ﺳﻘﺮاط أن اﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﺗﻌﺮﻳﻔﺎت اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ ﻫﻮ وﺳﻴﻠﺔ إﱃ ﻏﺎﻳﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻫﻲ ﻣﻤﺎرﺳﺔ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ،رأى أﻓﻼﻃﻮن أن اﻟﺒﺤﺚ ﻫﻮ ﻏﺎﻳﺔ ﰲ ﺣَ ﱢﺪ ذاﺗﻪ؛ ﻓﺎﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ اﻟﺘﻌﺮﻳﻒ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻷﻓﻼﻃﻮن ﻛﺎن ﺳﻌﻴًﺎ وراء اﻟﺼﻮرة املﺜﺎﻟﻴﺔ اﻷﺑﺪﻳﺔ اﻟﺜﺎﺑﺘﺔ ﻟِﻤَ ﺎ ﻳﺨﻀﻊ ﻟﻠﻤﻨﺎﻗﺸﺔ ،واﻟﺘﺄﻣﱡ ﻞ ﰲ ﻫﺬه ا ُملﺜ ُ ِﻞ ﻫﻮ ﻗِ ﻤﱠ ُﺔ اﻟﺼﻼح .وﻫﺬا ﻣﺎ رأى أن أﺳﺌﻠﺔ ﺳﻘﺮاط ﻗﺪ ﺑﻠﻐﺘﻪ ،وﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﺗﺴﻌﻰ إﻟﻴﻪ. واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻷﻓﻼﻃﻮن ﻫﻲ ﱡ اﻟﺴ ﱠﻠ ُﻢ ﻟﻬﺬا اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺴﺎﻣﻲ ﻣﻦ ا ُملﺜ ُ ِﻞ ،وﻟﻜﻦ ﻟﻴﺲ ﻛﻞ ﺷﺨﺺ ﺑﻘﺎدر ﻋﲆ ﺻﻌﻮده؛ ﻓﺪرﺟﺎﺗﻪ اﻟﻌُ َﲆ ﻣﺤﻔﻮﻇﺔ ملﻦ ﻳﺘﻤﺘﻌﻮن ﺑﻤﻬﺎرة اﻟﺤِ ﺠﺎج اﻟﺠﺪﱄ ،وﻫﻢ ﺻﻔﻮة ﻣﺜﻞ واﺿﻌﻲ اﻷدﻳﺎن أو اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني اﻟﺬﻳﻦ ا ﱠ ﻃﻠﻌﻮا ﻋﲆ أﴎار أﺳﺘﺎذﻫﻢ .أﻣﺎ ﺳﻘﺮاط ﻓﻘﺪ ﺗﺒﻨﱠﻰ ﻣﺬﻫﺒًﺎ ﻳﻤﻴﻞ إﱃ املﺴﺎواة ﺑني املﻌﺮﻓﺔ واﻟﻔﻀﻴﻠﺔ؛ ﻓﺎﻟﺤﻴﺎة اﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﺗﺨﻀﻊ ﻟﻼﺧﺘﺒﺎر — ﻛﻤﺎ ﻗﺎل ﰲ ﻣﺮاﻓﻌﺔ دﻓﺎﻋﻪ اﻟﺸﻬرية — ﻻ ﺗﺴﺘﺤﻖ أن ﺗﻌﺎش، وﻫﺬا ﻟﻴﺲ أﻣ ًﺮا ﻣﻘﻀﻴٍّﺎ ﻗﺼﺪ ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻪ إداﻧﺔ اﻟﺠﻤﻴﻊ ﻋﺪا ﻗﻠﺔ ﻣﺨﺘﺎرة؛ ﻓﻜﻞ ﻓﺮد ﻟﺪﻳﻪ اﻟﻘﺪرة ﻋﲆ ﺗﻤﺤﻴﺺ ﺣﻴﺎﺗﻪ وأﻓﻜﺎره وأن ﻳﻌﻴﺶ ﺣﻴﺎ ًة ذات ﻗﻴﻤﺔ .وﻛﺎن ﺳﻘﺮاط ﻳﺴﻌﺪ ﺑﺴﺆال أي ﺷﺨﺺ — ﻣﻦ ُ ﺻﻨﱠﺎع اﻷﺣﺬﻳﺔ وﺣﺘﻰ املﻠﻮك — وﻣﺠﺎدﻟﺘﻪ ،وﻛﺎن ﻫﺬا ﻛﻞ ﻣﺎ 174
ﺷﻬﻴﺪ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ :ﺳﻘﺮاط واﻟﺴﻘﺮاﻃﻴﺎت
ﻳﺠﺪ أﻳﱠﺔ أﻫﻤﻴﺔ ﺗُﺬْ َﻛ ُﺮ ِﻟ ُﻤﺜ ُ ِﻞ أﻓﻼﻃﻮن أو املﻬﺎرات اﻟﻨﺎدرة ﺗﻌﻨﻴﻪ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻪ .وﻟﻢ ِ اﻟﻼزﻣﺔ ﻻﻛﺘﺸﺎﻓﻬﺎ. وﻛﺎن ﻣﻦ ﺑني اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ ﻗﺎدت أﻓﻼﻃﻮن إﱃ ا ُملﺜ ُ ِﻞ اﻟﻐﺎﻣﻀﺔ وﻟﻌُ ﻪ ﺑﺎﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت، وﻫﺬا ﻣﻈﻬﺮ آﺧﺮ ﻣﻦ ﻣﻈﺎﻫﺮ ﺗﺄﺛﱡﺮه ﺑﻔﻴﺜﺎﻏﻮرس واﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني ،وﺗﻠﻚ إﺣﺪى ﻧﻘﺎط اﺧﺘﻼﻓﻪ ﻋﻦ ﺳﻘﺮاط .وﻗﺪ ورد أن أﺑﻮاب أﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ أﻓﻼﻃﻮن ُﻛﺘِﺐَ ﻋﻠﻴﻬﺎ أﻧﻪ »ﻻ ﻳ ُْﻘﺒَ ُﻞ اﻟﺠﺎﻫﻠﻮن ﺑﺎﻟﻬﻨﺪﺳﺔ ﻫﻨﺎ «.وﺷﻜﺎ أرﺳﻄﻮ ﻣﻦ أن »اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت أﺿﺤﺖ ﻛﻞ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ« ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻷﺗﺒﺎع أﻓﻼﻃﻮن ،وﻫﻲ ﻣﺒﺎﻟﻐﺔ َﻓ ﱠ ﻈ ٌﺔ وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻫﺎدﻓﺔ .ﻓﻤﺎ ﺟﺬب أﻓﻼﻃﻮن ﰲ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻌﺎﻣﻞ ﻣﻌﻬﺎ اﻟﻬﻨﺪﺳﺔ ﻣﺜﻞ اﻷﻋﺪاد واملﺜﻠﺜﺎت ،ﻫﻮ أﻧﻬﺎ ﻣﺜﺎﻟﻴﺔ وأﺑﺪﻳﺔ وﺛﺎﺑﺘﺔ وﻣﺴﺘﻘﻠﺔ ﺑﺸﻜﻞ ﻣﻤﺘﻊ ﻋﻦ اﻷﺷﻴﺎء املﺮﺋﻴﺔ ﻋﲆ وﺟﻪ اﻷرض ،ﻓﻼ أﺣﺪ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻳﺮى اﻟﺮﻗﻢ أرﺑﻌﺔ أو ﻳﻠﻤﺴﻪ؛ ﻟﺬا ﻓﻬﻮ ﻣﻮﺟﻮد ﰲ ﻋﺎﻟﻢ ﻣﻦ ﻧﻮع آﺧﺮ ً وﻓﻘﺎ ﻷﻓﻼﻃﻮن .ﻛﻤﺎ أن اﻟﺨﻄﻮط واملﺜﻠﺜﺎت وﻏريﻫﺎ ﻣﻦ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ ﺗﻈﻬﺮ ﰲ اﻹﺛﺒﺎﺗﺎت اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ إﻳﺠﺎدُﻫﺎ ﻫﻲ اﻷﺧﺮى ﻓﻴﻤﺎ ﻫﻮ ﻣﺎدي، ﻓﻼ ﺗﺘﻌﺪى ﺑﻌﺾ اﻟﺨﻄﻮط واملﺜﻠﺜﺎت املﺎدﻳﺔ ﻛﻮﻧَﻬﺎ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ﻟﻨﻈﺎﺋﺮﻫﺎ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ املﺜﺎﻟﻴﺔ؛ ﻓﺎﻟﺨﻂ املﺜﺎﱄ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﻟﻴﺲ ﻟﻪ ُﺳﻤْ ٌﻚ ﻋﲆ ﻋﻜﺲ أي ﺧﻂ ﻣﺮﺋﻲ أو ﺣﺎﻓﺔ ﺟﺴﻢ ﻣﺎدي .وﻗﺪ اﺳﺘﻨﺘﺞ أﻓﻼﻃﻮن أﻧﻪ ﺑﻨﺎء ﻋﲆ إﻋﺠﺎز ﻋِ ﻠﻢ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ،ﻓﺈن أﻧﻮاﻋً ﺎ أﺧﺮى ﻣﻦ ﻳﺠﺐ أن ﺗﻘﺘﻔﻲ أﺛﺮﻫﺎ وأن ﺗﻬﺘﻢ ﺑﺎﻷﺷﻴﺎء املﺜﺎﻟﻴﺔ واملﻌﻨﻮﻳﺔ ً أﻳﻀﺎ .وﻫﺬه اﻷﺷﻴﺎء املﻌﺮﻓﺔ ِ اﻟﺘﻲ ﺗﺨﺘﺺ ﺑﻬﺎ املﻌﺮﻓﺔ ﻫﻲ ا ُملﺜُﻞ. ﻟﻘﺪ اﺳﺘﺨﺪم أﻓﻼﻃﻮن ﰲ إﺣﺪى ﻣﺤﺎوراﺗﻪ ً ﻣﺜﺎﻻ ﻫﻨﺪﺳﻴٍّﺎ ﻟﻴﱪﻫﻦ ﻋﲆ أن ﻣﻌﺮﻓﺔ ا ُملﺜ ُ ِﻞ — واﻟﺘﻲ ﺗﻌﻨﻲ ﺟﻤﻴﻊ أﺻﻨﺎف املﻌﺮﻓﺔ املﻬﻤﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻪ — ﺗُ ْﻜﺘَ َﺴﺐُ ﻗﺒﻞ اﻟﻮﻻدة؛ ﻓﺤﻘﺎﺋﻖ اﻟﻌﻘﻞ اﻟﺒﺤﺖ — ﻣﺜﻞ ﻗﻮاﻧني اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت — ﻻ ﺗُ ْﻜﺘَ َﺸ ُ ﻒ ﻣﻦ ﺟﺪﻳﺪ ،وإﻧﻤﺎ ﺗُ ْﺴ َﱰْﺟَ ُﻊ ﺑﻌﻨﺎء ﻣﻦ ﺣﻴﺎة ﺳﺎﺑﻘﺔ ﻋﺎﺷﺖ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺮوح ﺑﻼ ﺟﺴﺪ واﺳﺘﻄﺎﻋﺖ أن ﺗﻮاﺟﻪ ﻫﺬه ا ُملﺜ ُ َﻞ ﻣﺒﺎﴍة؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﺈن اﻹﻧﺴﺎن ﻻ ﻳﺘﻌﻠﻢ ﻫﺬه اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﺑﺎملﻌﻨﻰ اﻟﺤﺮﰲ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق ﺑﻞ ﻳﺠﺘﻬﺪ ﰲ ﺗﺬﻛﺮﻫﺎ .وﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗُﻨ ْ َﻔ ُﺦ اﻟ ﱡﺮوح ﰲ اﻟﺠﺴﺪ ﻓﺈن املﻌﺮﻓﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻤﺘﻌﺖ ﺑﻬﺎ ﰲ اﻟﺴﺎﺑﻖ ﺗﻀﻴﻊ ﻣﻦ اﻟﺬاﻛﺮة ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻛﺘَﺐ وردزورث ﰲ ﻗﺼﻴﺪﺗﻪ »إرﻫﺎﺻﺎت اﻟﺨﻠﻮد« أن »وﻻدﺗﻨﺎ ﻣﺎ ﻫﻲ إﻻ ﻏﻔﻠﺔ وﻧﺴﻴﺎن «.وﻟﻢ ﻳﻜﻦ وردزورث ﻳﻔﻜﺮ ﰲ اﻟﻬﻨﺪﺳﺔ ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﺨﺼﻮص وﻟﻜﻨﻪ أُﻋْ ِﺠﺐَ ﺑﺎﻟﻔﻜﺮة اﻟﻌﺎﻣﺔ .وﻟﺘﻮﺿﻴﺢ ﻫﺬه اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﺟﻌﻞ أﻓﻼﻃﻮن »ﺳﻘﺮاط« ﻳﺴﺘﺨﺮج ﺑﻌﺾ املﻌﻠﻮﻣﺎت اﻟﻬﻨﺪﺳﻴﺔ اﻟﺒﺪَﻫﻴﺔ ﻣﻦ ﻋَ ﺒْ ٍﺪ ﻏري ﻣﺘﻌ ﱢﻠﻢ ،وﻫﺬا ﻟﺘﺄﻛﻴﺪ اﻟﻔﻜﺮة اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮل إن املﻌﺮﻓﺔ ﺗُ ْﺴ َﱰْﺟَ ُﻊ ﻣﻦ ﺣﻴﺎة ﺳﺎﺑﻘﺔ ،وﻟﺒﻴﺎن أن ﺗﺪرﻳﺲ ﺳﻘﺮاط ﻛﺎن ﻣﺜﻞ اﻟﺘﻮﻟﻴﺪ ﻛﻤﺎ ادﱠﻋﻰ ﺳﻘﺮاط ﻧﻔﺴﻪ. 175
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻛﺎﻧﺖ املﺸﻜﻠﺔ اﻟﺘﻲ وﺿﻌﻬﺎ »ﺳﻘﺮاط« ﻟﻠﻌﺒﺪ ﻫﻲ ﺗﺤﺪﻳﺪ أﺿﻼع ﻣﺮﺑﻊ ﻣﻌﻠﻮم املﺴﺎﺣﺔ؛ ﻓﺒﺪأ ﺑﺮﺳﻢ ﻣﺮﺑﻊ ﻳﺒﻠﻎ ﻃﻮل أﺿﻼﻋﻪ ﻗﺪﻣني وﻣﺴﺎﺣﺘﻪ ﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﺳﺘﻜﻮن أرﺑﻌﺔ أﻗﺪام ﻣﺮﺑﱠﻌﺔ، ﺛﻢ ﺳﺄﻟﻪ ﻋﻦ ﻃﻮل اﻷﺿﻼع إذا أﺻﺒﺤﺖ املﺴﺎﺣﺔ ﺛﻤﺎﻧﻴﺔ أﻗﺪام ﻣﺮﺑﻌﺔ .ﰲ اﻟﺒﺪاﻳﺔ اﺳﺘﻨﺘﺞ اﻟﻌﺒﺪ ﺧﻄﺄ ً أن اﻷﺿﻼع ﻳﺠﺐ أن ﻳﻜﻮن ﻃﻮﻟﻬﺎ ﺿﻌﻒ ﻣﺎ ﻛﺎن ﻋﻠﻴﻪ ﰲ املﺮﺑﻊ اﻷﺻﲇ؛ أي أن ﻳﻜﻮن ﻃﻮﻟﻬﺎ أرﺑﻌﺔ أﻗﺪام .وﺑﺮﺳﻢ آﺧﺮ ﱢ ﻳﻮﺿﺢ »ﺳﻘﺮاط« ﴎﻳﻌً ﺎ أن اﻹﺟﺎﺑﺔ ﺧﺎﻃﺌﺔ ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ؛ ﻷﻧﻪ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﺤﺎﻟﺔ ﺳﺘﻜﻮن ﻣﺴﺎﺣﺔ ﻫﺬا املﺮﺑﻊ ﺳﺘﺔ ﻋﴩ ﻗﺪﻣً ﺎ ﻣﺮﺑﻌﺔ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ ﺛﻤﺎﻧﻴﺔ .ﻟﻘﺪ ﺗﻔﺎﺟﺄ اﻟﻌﺒﺪ ﺑﺄﻧﻪ ﻻ ﻳﻤﺘﻠﻚ ﻣﻦ املﻌﺮﻓﺔ ﻣﺎ ﻇﻦ أﻧﻪ ﻳﻌﺮﻓﻪ .وﻳﺸري »ﺳﻘﺮاط« إﱃ أﻧﻪ ﰲ ﻫﺬه املﺮﺣﻠﺔ »ﻗﺪﻣﻨﺎ ﻣﺴﺎﻋﺪ ًة ﻣﺎ ﻟﻬﺬا اﻟﻌﺒﺪ ﰲ إﻳﺠﺎد اﻹﺟﺎﺑﺔ اﻟﺼﺤﻴﺤﺔ؛ ﻓﻬﻮ ﻻ ﻳﺠﻬﻠﻬﺎ اﻵن ﻓﺤﺴﺐ ﺑﻞ ﺳﻴﻜﻮن ﺳﻌﻴﺪًا إذا ﺑﺤﺚ ﻋﻨﻬﺎ «.وﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﺑﻤﺴﺎﻋﺪة رﺳﻮﻣﺎت أﺧﺮى وﺑﻄﺮح اﻷﺳﺌﻠﺔ اﻟﺼﺤﻴﺤﺔ ﺑﺨﺼﻮﺻﻬﺎ دﻓﻊ ﺳﻘﺮاط اﻟﻌﺒﺪ ﺗﺪرﻳﺠﻴٍّﺎ إﱃ اﻛﺘﺸﺎف اﻹﺟﺎﺑﺔ ﺑﻨﻔﺴﻪ؛ ﻓﻄﻮل أﺿﻼع املﺜﻠﺚ اﻟﺬي ﺗﺒﻠﻎ ﻣﺴﺎﺣﺘﻪ ﺿﻌﻒ ﻣﺴﺎﺣﺔ املﺜﻠﺚ اﻷﺻﲇ ﺳﻴﺴﺎوي ﻃﻮل ﺿﻠﻊ املﺜﻠﺚ اﻟﻘﻄﺮي ﰲ املﺮﺑﻊ اﻷﺻﲇ ،وﻫﺬا ﻣﺎ ﱠ ﻳﺘﻠﺨﺺ ﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﰲ ﻧﻈﺮﻳﺔ ُﺨﱪ اﻟﻌﺒﺪ ﺑﺬﻟﻚ ﻗﻂ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن اﻟﻌﺒﺪ »ﻳﻌﺮﻓﻬﺎ« ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس اﻟﺸﻬرية .وﻟﻜﻦ ﻷن ﺳﻘﺮاط ﻟﻢ ﻳ ِ ﺑﺎﻟﴬورة. وﻻ ﻳﱪﻫﻦ ﻫﺬا املﻮﻗﻒ اﻟﺒﺴﻴﻂ ﺑﺎﻟﻘﻄﻊ ﻋﲆ ﻧﻈﺮﻳﺔ اﻟﺘﺬ ﱡﻛﺮ ﻟﺪى أﻓﻼﻃﻮن ﻛﻤﺎ اﻋﱰف أﻓﻼﻃﻮن ﻧﻔﺴﻪ .وﻟﻜﻦ اﻟﺮواﻳﺔ ﱢ ﺗﻮﺿﺢ ﻧﻈﺮﻳﺔ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻟﺴﻘﺮاط ﺣﻮل املﻌﺮﻓﺔ وﻛﻴﻔﻴﺔ ﻧﻘﻠﻬﺎ؛ ﻓﺄﺳﺌﻠﺔ ﺳﻘﺮاط ﻟﻠﻌﺒﺪ ﻛﺎﻧﺖ إرﺷﺎدﻳﺔ )وﻗﺪ ﺳﺎﻋﺪت اﻟﺮﺳﻮﻣﺎت ً أﻳﻀﺎ( ،وﻟﻜﻦ ﻣﻊ ذﻟﻚ ﱠ ﺗﻮﺻﻞ إﱃ اﻹﺟﺎﺑﺔ ﺑﻨﻔﺴﻪ ﻓﻠﻢ ﻳ َُﻘ ﱠﺪ ْم إﻟﻴﻪ اﻟﺠﻮاب ﺑﺒﺴﺎﻃﺔ ،ﻛﻤﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﺻﺤﻴﺢ أن اﻟﻌﺒﺪ إﺧﺒﺎر اﻟﻔﺮد ﺑﻤﺴﺎﺣﺔ ﻓِ ﻨﺎء ﻣﺎ أو ﺑﺎﺳﻢ ﻋﺎﺻﻤﺔ اﻟﻴﻮﻧﺎن .ﻟﻘﺪ أدرك اﻟﻌﺒﺪ ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﻦ ﺧﻼل ﻗﺪراﺗﻪ اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ اﻟﺨﺎﺻﺔ؛ وﺑﺬﻟﻚ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﺳﻘﺮاط ﺑﺴﻬﻮﻟﺔ أن ﻳﺪﱠﻋﻲ ﻛﻌﺎدﺗﻪ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳُﻘﺪﱢم أﻳﺔ ﻣﻌﻠﻮﻣﺎت ﺑﻨﻔﺴﻪ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻣﺜﻞ اﻟﻘﺎﺑﻠﺔ ﻳﺴﺘﺨﺮج املﻌﻠﻮﻣﺎت ﻣﻦ اﻵﺧﺮﻳﻦ .وﺛَﻤﱠ َﺔ ﳾء آﺧﺮ، ﻓﻜﻤﺎ ﻗﺎل ﺳﻘﺮاط إﻧﻪ ﻟﻜﻲ ﻳﻌﺮف اﻟﻌﺒﺪ ﻫﺬه املﻌﻠﻮﻣﺔ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ ﺑﺸﻜﻞ ﺟﻴﺪ ﻓﻼ ﻳﻜﻔﻲ أن ﻳﺘﻨﺎول املﺜﺎل ﻣﺮة واﺣﺪة ﻓﻘﻂ ﻓﻴﻘﻮل: إن آراء اﻟﻌﺒﺪ اﻟﺘﻲ ﺗﻜﻮﱠﻧﺖ ﺣﺪﻳﺜًﺎ ﻣﺸﻮﺷﺔ ﻣﺜﻞ اﻟﺤُ ْﻠ ِﻢ ،وﻟﻜﻦ إذا ﻃﺮﺣﺖ ﻋﻠﻴﻪ اﻷﺳﺌﻠﺔ ذاﺗﻬﺎ ﰲ ﻋﺪة ﻣﻮاﻗﻒ وﺑﻄﺮق ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ؛ ﻓﺴﺘﺠﺪه ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻳﻤﺘﻠﻚ ﻣﻌﻠﻮﻣﺎت دﻗﻴﻘﺔ ﻋﻦ ﻫﺬا املﻮﺿﻮع ﻣﺜﻞ أي ﺷﺨﺺ آﺧﺮ … وﻻ ﺗﺄﺗﻲ ﻫﺬه املﻌﻠﻮﻣﺎت ﺑﺎﻟﺘﻠﻘني وﻟﻜﻦ ﺑﺎﻻﺳﺘﺠﻮاب ،وﺳﻴﺴﱰﺟﻌﻬﺎ اﻟﻌﺒﺪ ﺑﻨﻔﺴﻪ. 176
ﺷﻬﻴﺪ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ :ﺳﻘﺮاط واﻟﺴﻘﺮاﻃﻴﺎت
وﻫﻨﺎك ﺣﺎﺟﺔ ُﻣﻠِﺤﱠ ٌﺔ إﱃ ﺗَﻜﺮار اﺳﺘﺠﻮاﺑﺎت ﺳﻘﺮاط .ﺑﻌﺒﺎرة أﺧﺮى ،ﻣﺎ ﻳﺤﺘﺎﺟﻪ اﻟﻌﺒﺪ ﻫﻮ املﻌﺎﻣﻠﺔ ذاﺗﻬﺎ اﻟﺘﻲ ﻗﺪﱠﻣﻬﺎ ﺳﻘﺮاط اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ إﱃ أﻫﻞ أﺛﻴﻨﺎ اﻟﺠﺎﺣﺪﻳﻦ .وﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل ﺳﻘﺮاط ﰲ »اﻟﺪﻓﺎع« ﻟﻮ أن أﺣﺪًا ادﱠﻋﻰ اﻟﺼﻼح »ﻟﺴﺄﻟﺘﻪ واﺧﺘﱪﺗُﻪ «.ﻟﺬﻟﻚ ﻓﻔﻲ ﻗﺼﺘﻪ اﻟﺨﻴﺎﻟﻴﺔ ﻋﻦ اﻟﺘﺬ ﱡﻛﺮ اﻟﺬي ﻋﺎوﻧﻪ ﻋﻠﻴﻪ ،ﻳﻘﺪم أﻓﻼﻃﻮن ﺗﻮﺿﻴﺤً ﺎ ملﺎ ﻛﺎن ﻳﻔﻌﻠﻪ ﺳﻘﺮاط ﻋﻨﺪﻣﺎ ادﱠﻋﻰ ﻣﺴﺎﻋﺪة اﻵﺧﺮﻳﻦ ﻋﲆ إﺑﺪاء آراﺋﻬﻢ ،وﻛﺄن ﺳﻘﺮاط ﻛﺎن ﻳُﺜَﺒ ُﱢﺖ ﺑﻌﺾ املﻌﺮﻓﺔ املﻮﺟﻮدة ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ. ﻣﺎ أﺟﻤﻞ ﻛﻞ ﻫﺬه اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﻋﻦ ﻣﺜﺎل أﻓﻼﻃﻮن ﻋﻦ املﺜﻠﺜﺎت واملﺮﺑﻌﺎت اﻟﺘﻲ أﺣﺒﻬﺎ؛ ﻓﻠﻴﺲ ﻣﻦ اﻟﺼﻌﺐ ﺗﺼﺪﻳﻖ أن املﺴﺘﺠﻮب املﻮﻫﻮب ﻳﻤﻜﻨﻪ أن ﻳُﻌَ ﱢﻠ َﻢ ﺗﻠﻤﻴﺬه ﺣﻘﻴﻘﺔ رﻳﺎﺿﻴﺔ دون أن ﻳﺬﻛﺮﻫﺎ ﻟﻪ ﴏاﺣﺔ ،وﺳﻴﺪرك ذﻟﻚ ﻣَ ْﻦ ﻛﺎن ﻟﻪ ﻣﻌﻠﻢ ﺟَ ﻴﱢ ٌﺪ ﻳﻮﻣً ﺎ .وﻟﻜﻦ ﻣﺎذا ﻋﻦ ﻣﺴﺎﺋﻞ اﻟﻌﺪاﻟﺔ واﻟﻘﻴﻢ اﻷﺧﺮى اﻟﺘﻲ اﻫﺘ ﱠﻢ ﺑﻬﺎ ﺳﻘﺮاط اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ؟ ﻓﺎﻷﺧﻼق أﺻﻌﺐ ﰲ ني ﻟﺘﻘﺪﻣﻬﺎ؛ ﻟﺬا ﻓﻤﻦ َ اﻟﺘﻨﺎول ﻣﻦ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ،ﻓﻤﻦ ﺟﻬﺔ ﻻ ﻳﺒﺪو أن ﻟﺪﻳﻬﺎ ﺑﺮاﻫ َ املﻔﱰَض أن اﻻﺷﺘﻐﺎل ﺑﺘﻌ ﱡﻠﻢ اﻷﺧﻼق ﻣﺨﺘﻠﻒ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻋﻦ اﻻﺷﺘﻐﺎل ﺑﺘﻌ ﱡﻠﻢ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت. ﻟﻘﺪ ﻋﻠﻢ ﺳﻘﺮاط ذﻟﻚ؛ ﻓﻠﻢ ﻳﺘﻮﻫﻢ اﻟﻘﺪرة ﻋﲆ اﻹﺛﺒﺎت اﻟﺤﺎﺳﻢ ﻷﻳﺔ ﻣﻌﺘﻘﺪات أﺧﻼﻗﻴﺔ، ً ﻓﻤﺜﻼ ﻗﺒﻞ ُﴫ داﺋﻤً ﺎ ﻋﲆ اﻟﺘﺸﻜﻴﻚ اﻟﺬي اﻛﺘﻨﻒ اﺳﺘﻔﺴﺎراﺗﻪ، ﺑﻞ ﻋﲆ اﻟﻌﻜﺲ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻳ ِ ﱡ ٍ أﻃﺮوﺣﺔ ﻣﺎ ،ﻳﻌﱰف» :إﻧﻨﻲ أﺣﻴﺎﻧًﺎ أﻛﻮن ﻣﻊ اﻟﺮأي املﻀﺎد؛ ﻷن اﻟﴩوع ﰲ اﻟﺪﻓﺎع ﻋﻦ أﻓﻜﺎري ﺑﺨﺼﻮﺻﻪ ﺷﺪﻳﺪة اﻻﺗﺴﺎع ،وﻫﻲ ﺣﺎﻟﺔ ﻳﺴﺒﺒﻬﺎ اﻟﺠﻬﻞ ﺑﻮﺿﻮح «.وﻳﻘﻮل ملﺤﺎوره إﻧﻪ ﻻ رﻳﺐ ﰲ أﻧﻪ أﺧﻄﺄ ﰲ ﺗﺒﻨﱢﻲ ﻫﺬه اﻷﻃﺮوﺣﺔ اﻵن ،وﻟﻜﻦ دﻋﻨﺎ ﻧﺘﺎﺑﻊ اﻟﺤِ ﺠﺎج ﺣﻴﺜﻤﺎ ﻳﻘﻮدﻧﺎ ﻓﺮﺑﻤﺎ ﺗﺘﻤﻜﻦ ﻣﻦ إرﺷﺎدي إﱃ اﻟﺼﻮاب .وﻋﻨﺪﻣﺎ ﻗﺎل ﺳﻘﺮاط ً ﺳﻠﻔﺎ ﰲ ﺗﻠﻚ املﺤﺎورة: »أﻧﺎ ﻣﲇء ﺑﺎﻟﻌﻴﻮب وداﺋﻤً ﺎ ﻣﺎ أﺧﻄﺊ ﰲ ﻓﻬﻢ اﻷﺷﻴﺎء ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ أو ﺑﺄﺧﺮى «.ﻓﻬﻮ ﻳﺘﻮاﺿﻊ ﺑﻌﺾ اﻟﴚء وﻟﻜﻨﻪ ﻳﺪرك ﺗﻤﺎﻣً ﺎ أﻧﻪ ﻻ ﻳﻤﻠﻚ ﺑﺮاﻫني ﻗﺎﻃﻌﺔ ﻋﲆ ﻏﺮار اﻟﱪاﻫني اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺨﺺ اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ. ً ﻫﻞ وﺻﻞ ﺳﻘﺮاط إﱃ ﳾء إذن؟ ﻫﻞ ﻧﺠﺢ ﻓﻌﻼ ﰲ ﺗﻘﺪﻳﻢ أﻳﺔ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﺑﺎﻟﻔﻀﺎﺋﻞ؟ ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴ ٍﺔ ﻣﺎ ﻧﻌﻢ؛ ﻓﻬﻮ ﻳﻘﺪم — وإن ﻛﺎن ﺑﺸﻜﻞ ﻏري ﻣﺒﺎﴍ — اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻵراء اﻟﴫﻳﺤﺔ وﻏري اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ ﺑﻌﺾ اﻟﴚء ﺣﻮل اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ واﻟﺘﻲ ﺗُ َﺸ ﱢﻜ ُﻞ ﰲ ﻣﺠﻤﻠﻬﺎ ﻧﻈﺮﻳﺔ ﻟﻠﺤﻴﺎة اﻟﺒﴩﻳﺔ .أﻣﺎ ﺑﺨﺼﻮص ﻣﺎ إذا ﻛﺎن ﻗﺪ ﻧﺠﺢ ﰲ إﻗﻨﺎع ﻣﺴﺘﻤﻌﻴﻪ ﺑﻨﻈﺮﻳﺘﻪ ﻓﺎﻹﺟﺎﺑﺔ ﻋﺎﻣﱠ ﺔ ﺑﺎﻟﻨﻔﻲ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻻ ﻳﺴﺘﻬﺪف إﻗﻨﺎﻋﻬﻢ ﻋﲆ أﻳﱠﺔ ﺣﺎل؛ ﻷﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﻣﺘﺄﻛﺪًا ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻣﻦ ﺻﺤﺔ ﻧﻈﺮﻳﺘﻪ ،إﺿﺎﻓﺔ إﱃ أن ﻋﲆ اﻟﻨﺎس أن ﻳﺠﺪوا ﻃﺮﻳﻘﻬﻢ اﻟﺨﺎص إﱃ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺣﻮل ﻫﺬه املﺴﺎﺋﻞ .إن ﻣﺎ ﻳﻬﺪف ﺳﻘﺮاط ﻟﻔﻌﻠﻪ ﻫﻮ إﺧﻀﺎع ﺑﻌﺾ اﻵراء ﺣﻮل اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ﻟﻠﺘﺠﺮﺑﺔ، 177
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
وﻫﺬا ﻳﻨﻄﺒﻖ ﻋﲆ ﻛ ﱟﻞ ﻣﻦ آراﺋﻪ وآراء ﻣَ ْﻦ ﻳﺤﺎورﻫﻢ .ﺛﻢ ﺗﺘﺤﻮل ﻫﺬه اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ إﱃ ﻣﺤﺎﻛﻤﺔ ﺑﺎﻹﺷﻜﺎل اﻟﺠﺪﱄ ،ﺣﻴﺚ ﻳﺠﺐ اﻟﺘﺸﻜﻴﻚ ﰲ ﺗﻌﺮﻳﻔﺎت اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ املﺴﺎﺋﻞ أو ﺗﻔﺴرياﺗﻬﺎ؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ً أﻳﻀﺎ ﺣ ﱡﻠﻬﺎ ،وأﻳٍّﺎ ﻣﺎ ﻳﺘﺠﺎوز ﻫﺬا اﻻﺳﺘﺠﻮاب ﻳﺠﺮي ﻗﺒﻮﻟﻪ ﻣﺆﻗﺘًﺎ .إن اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﻘﻘﻬﺎ ﻫﺬه اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﻻ ِ ﺗﺼﻞ إﱃ ﻛﺜري ﻣﻦ ﻣﻈﺎﻫﺮ اﻟﺤﻜﻤﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻣﻊ ذﻟﻚ ﺗﺒﻘﻰ أﻓﻀﻞ اﻟﻄﺮق املﺘﺎﺣﺔ ،ﻓﺘﻠﻚ اﻻﺳﺘﻔﺴﺎرات ﺗﻘﻮد إﱃ ﻧﻮع ﻣﻦ املﻌﺮﻓﺔ؛ ﻟﺬﻟﻚ ﻓﺈن إﻧﻜﺎر ﺳﻘﺮاط اﻟﴫﻳﺢ ملﻌﺮﻓﺘﻪ أي ﳾء ﻓﻴﻪ ﻣﻔﺎرﻗﺔ ﺟﺰﺋﻴﺔ. إن ﻣﻌﻈﻢ اﻻﺳﺘﻘﺼﺎءات اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻮد ﰲ أﺻﻠﻬﺎ إﱃ ﺳﻘﺮاط ﰲ ﻣﺤﺎورات أﻓﻼﻃﻮن ﺗﻨﺘﻬﻲ دون اﻟﻮﺻﻮل إﱃ اﺳﺘﻨﺘﺎج ﻧﻬﺎﺋﻲ؛ ﻓﻬﻮ ﻳﺴﻌﻰ ﺑﴩاﻫﺔ ﻟﻠﺒﺤﺚ ً ﻣﺜﻼ ﻋﻦ ﻣﺎﻫﻴﺔ اﻟﻌﺪاﻟﺔ ،وﻳﻈﻞ ﻳﺠﺎدل ﻟﺒﻌﺾ اﻟﻮﻗﺖ ﺛﻢ ﻳﻌﻮد إﱃ ﻣﻨﺰﻟﻪ ﺧﺎﱄ اﻟﻮﻓﺎض ،وﻟﻜﻦ ﻟﻴﺲ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ؛ ً ﻓﻤﺜﻼ ﰲ إﺣﺪى ﻓﺎملﺤﺎورات ﻋﺎد ًة ﻣﺎ ﺗﻨﺠﺢ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﰲ ﻛﺸﻒ ﳾء ﻣﻬﻢ ﰲ ﻃﺮﻳﻘﻬﺎ، ﻣﺤﺎورات أﻓﻼﻃﻮن اﻷوﱃ ﻳﺴﺘﺠﻮب ﺳﻘﺮاط ً رﺟﻼ ﻳﺪﻋﻰ ﻳﻮﺛﻴﻔﺮو ﺣﻮل ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﺘﻘﻮى أو اﻟﻘﺪﺳﻴﺔ .ورﻏﻢ أن ﺳﻘﺮاط ﻟﻢ ﻳﻨﺠﺢ ﰲ ﺗﻌﺮﻳﻒ اﻟﺘﻘﻮى ﺑﺪﻗﺔ ﻓﻘﺪ ﺗﻤ ﱠﻜﻦ ﻣﻦ ﺗﻮﺿﻴﺢ ﳾء ﻣﺜري ﻋﻤﱠ ﺎ ﻻ ﺗﻤﺜﻠﻪ. ﻳﺘﻘﺎﺑﻞ اﻟﺮﺟﻼن ﺧﺎرج ﻗﺎﻋﺔ املﺤﻜﻤﺔ ﺣﻴﺚ ﻳﻘﺎﴈ ﻳﻮﺛﻴﻔﺮو أﺑﺎه ﻟﺘﺴﺒﱡﺒﻪ ﻏري املﺘﻌﻤﱠ ﺪ )وﻟﻜﻦ رﺑﻤﺎ ﺑﺸﻜﻞ ﻳُﺪﻳﻨﻪ( ﰲ ﻣﻘﺘﻞ ﻋَ ﺒْ ٍﺪ ﻗﺘَﻞ ﺑﺪوره ﻋﺒﺪًا آﺧﺮ .وﻋﻘﺪت اﻟﺪﻫﺸﺔ ﻟﺴﺎن ﺳﻘﺮاط ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻋَ ِﻠ َﻢ أن ﻳﻮﺛﻴﻔﺮو ﻳﺮﻳﺪ أن ﻳﺴﺘﻤﺮ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﻘﻀﻴﺔ .وﻳﴫ ﻳﻮﺛﻴﻔﺮو ﻋﲆ أﻧﻪ ﻳﻌﻠﻢ ﻣﺎ ﻳﻔﻌﻠﻪ ،رﻏﻢ أن ﻋﺎﺋﻠﺘﻪ ﺗﺮاه اﺑﻨًﺎ ٍّ ﻋﺎﻗﺎ ملﻘﺎﺿﺎﺗﻪ واﻟﺪه ﺑﻮﺻﻔﻪ ً ﻗﺎﺗﻼ ،ﻓﻌﺎﺋﻠﺘﻪ ﺗﺠﻬﻞ ً »ﻣﻌﺮﻓﺔ دﻗﻴﻘﺔ ﺑﻜﻞ ﻣﺎ ﻫﻮ ﻛﺬﻟﻚ«؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﻠﻴﺲ ﻟﺪﻳﻪ ﺷﻚ ﻣﺎ ﻫﻮ ﻣﻘﺪﱠس ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﻤﺘﻠﻚ ﻫﻮ ﰲ ﺻﻮاب ﻣﺎ ﻳﻔﻌﻞ .وﻳﺘﻌﺠﱠ ﺐ ﺳﻘﺮاط ﻣﻤﱠ ﺎ ﻟﺪى ﻳﻮﺛﻴﻔﺮو ﻣﻦ ﺣﻜﻤﺔ واﺛﻘﺔ ،وﻳﻄﻠﺐ ﻣﻨﻪ أن ﻳﺸﺎرﻛﻪ ﺗﻠﻚ اﻟﺤﻜﻤﺔ وﻳُﺨﱪه ﻣﺎ ﻫﻲ اﻟﻘﺪﺳﻴﺔ .ﰲ اﻟﺒﺪاﻳﺔ ﻳُﺠﻴﺐ ﻳﻮﺛﻴﻔﺮو ﺑﺄن اﻟﻘﺪﺳﻴﺔ ﻫﻲ ﻣﺎ ﺗُﺤِ ﺒﱡ ُﻪ اﻵﻟﻬﺔ ،وﻟﻜﻦ ﺳﻘﺮاط ﻳﺄﺧﺬه إﱃ ﻓﻜﺮة أﻧﻪ ﻣﺎ داﻣﺖ اﻵﻟﻬﺔ ﺗﺨﺘﻠِﻒ ﻋﻦ ﺑﻌﻀﻬﺎ ً اﺧﺘﻼﻓﺎ ﻛﺜريًا؛ ﻓﻤﻦ املﻔﱰض أﻧﻬﺎ ﻻ ﺗﺤﺐ اﻟﴚء ﻧﻔﺴﻪ أو ﺗﺒﻴﺤﻪ داﺋﻤً ﺎ ،وﻫﺬا ﻳﻌﻨﻲ أن إﺑﺎﺣﺔ اﻹﻟﻪ ﻟﴚءٍ ﻣﺎ أو ﻣﻨﻌﻪ إﻳﺎه ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن ﻣﻌﻴﺎ ًرا ملﺎ ﻫﻮ ﻣﻘﺪﱠس؛ إذ ﻗﺪ ﻳﺒﻴﺤﻪ أﺣﺪ اﻵﻟﻬﺔ وﻻ ﻳﺒﻴﺤﻪ اﻵﺧﺮ ،وﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﺤﺎﻟﺔ ﻻ ﻳُﻤﻜِﻦ أن ﻳﻜﻮن اﻟﻔﺮد ﺣﻜﻴﻤً ﺎ ﺑﺨﺼﻮص ﻗﺪﺳﻴﺔ ﻫﺬا اﻟﴚء .وﻟﺬﻟﻚ ﻳﻌﺪل ﺳﻘﺮاط وﻳﻮﺛﻴﻔﺮو اﻟﺘﻌﺮﻳﻒ املﻘﱰح ﻟﻴُﺼ ِﺒﺢ ﻛﻞ ﻣﺎ ﺗﺘﻔﻖ ً ﻣﻘﺪﺳﺎ ﻷن اﻵﻟﻬﺔ ﰲ إﺑﺎﺣﺘﻪ .وﻟﻜﻦ ﻳﺨﻄﺮ ﺑﺒﺎل ﺳﻘﺮاط ﻫﺬا اﻟﺴﺆال» :ﻫﻞ ﻳُﻌَ ﱡﺪ املﻘﺪس اﻵﻟﻬﺔ أﺑﺎﺣﺘﻪ؟ أم أن اﻵﻟﻬﺔ أﺑﺎﺣﺘﻪ ﻷﻧﻪ ﻣﻘﺪس؟« وﻫﺬا ﺳﺆال ﻣﻤﺘﺎز ﻟﺪرﺟﺔ أن ﻳﻮﺛﻴﻔﺮو ً ﻣﻘﺪﺳﺎ ملﺠﺮد أﻧﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﻔﻬﻤﻪ ﰲ اﻟﺒﺪاﻳﺔ ،وأﺻﺒﺢ اﻟﺴﺆال ﻫﻜﺬا» :ﻫﻞ ﻳُﻌَ ﱡﺪ ﻣﺎ أﺑﺎﺣﺘﻪ اﻵﻟﻬﺔ 178
ﺷﻬﻴﺪ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ :ﺳﻘﺮاط واﻟﺴﻘﺮاﻃﻴﺎت
ﻣﻠﺘﺰﻣُﻮن ﺑﺈﺑﺎﺣﺔ أﺷﻴﺎءَ ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻓﻘﻂ وﻫﻲ اﻷﺷﻴﺎء املﻘﺪﱠﺳﺔ ﰲ ذاﺗﻬﺎ ِﺑ َﻐ ﱢﺾ أﺑﺎﺣﻮه؟ أم أﻧﻬﻢ ِ اﻟﻨﻈﺮ ﻋﻦ إﺑﺎﺣﺔ اﻵﻟﻬﺔ ﻟﻬﺎ؟« ﻟﺴﻮء اﻟﺤﻆ ﻟﻢ ﻳﻤﻠﻚ أﻓﻼﻃﻮن ﻣﻦ املﻔﺮدات اﻟﻠﻐﻮﻳﺔ ﻣﺎ ﻳُﻤَ ﱢﻜﻨ ُ ُﻪ ﻣﻦ ﺗﻮﺿﻴﺢ اﻟﻔﺎرق؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﻌﻨﺪﻣﺎ ﻳﺤﺎول ﺳﻘﺮاط أن ﻳﴩﺣﻪ ﻳﺘﻌﺜﱠﺮ ﻛﻼﻣﻪ ﺑﺄﻣﻮر ﻣﻠﺰﻣﺔ .وﻟﻜﻦ ﻳﺒﺪو أن ﺳﻘﺮاط ﻗﺪ أﻣﺎط اﻟﻠﺜﺎم ﻧﺤْ ﻮﻳﺔ ﻟﻴﺴﺖ ذات ﺻﻠﺔ وﻟﻴﺴﺖ ﰲ ﻣﺠﻤﻠﻬﺎ ِ ﻋﻦ ﻣﻌﻀﻠﺔ ﺗﺘﻤﺜﱠﻞ ﰲ اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑني اﻟﺪﻳﻦ واﻷﺧﻼق .ﻓﺈذا ﻃﺮﺣﻨﺎ اﻟﺴﺆال ﻧﻔﺴﻪ ﺣﻮل ﻣﺎ ً ﻳُﻌَ ﱡﺪ ﺻﻮاﺑًﺎ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ً ﻛﺎﺷﻔﺎ ﻳﻘﻮل إﻣﺎ ﺑﺪﻻ ﻣﻤﱠ ﺎ ﻫﻮ ﻣﻘﺪﱠس ،ﻓﺴﻨﻮاﺟﻪ ﺧِ ﻴﺎ ًرا أن اﻟﺼﻮاب ﻻ ﻳﻤﻜﻦ وﺻﻔﻪ ﺑﺒﺴﺎﻃﺔ ﺑﺄﻧﻪ ﻣﺎ ﺗﺮﻳﺪه اﻵﻟﻬﺔ ،أو أن اﻷﻣﺮ ﻣﺠﺮد ﺣﺸﻮ ﻟﻠﻘﻮل ﱠ وﻣﺤﻘﺔ ،وﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ﺳﻴﻜﻮن اﻟﺜﻨﺎء ﻋﲆ اﻵﻟﻬﺔ ﻣﺠﺮد ﻋﺒﺎدة ﻟﻠﻘﻮة. إن اﻵﻟﻬﺔ ﺻﺎﻟﺤﺔ وﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل ﻻﻳﺒﻨﺘﺲ ﰲ ﺑﺪاﻳﺔ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻣﻦ ﻋﴩ )ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ اﻵﻟﻬﺔ ﻗﺪ ﺗﻘﻠﺼﺖ إﱃ إﻟﻪ واﺣﺪ(: إن اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺆﻣﻨﻮن أن اﻟﺮب ﻗﺪ ﺧﻠﻖ اﻟﺨري واﻟﴩ اﻋﺘﺒﺎ ً ﻃﺎ ﻻ ﻣﻨﻄﻖ ﻓﻴﻪ ،إﻧﻤﺎ ﻳﺠ ﱢﺮدون اﻟﺮب ﻣﻦ ﺻﻔﺔ اﻟﺨريﻳﺔ؛ إذ ﻻ ﺳﺒﺐ ﻳﺠﻌﻞ اﻟﻌﺒﺪ ﻳﺤﻤَ ﺪه وﻳﺜﻨﻲ ﻋﻠﻴﻪ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻳﻔﻌﻠﻪ إذا ﻛﺎن ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﻓﻌﻞ ﳾء ﻣﺨﺘﻠﻒ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﺑﺪرﺟﺔ اﻹﺗﻘﺎن ﻧﻔﺴﻬﺎ. ﻟﻢ ﻳﻄﻮﱢر ﺳﻘﺮاط — اﻟﺬي ﰲ ﻣﺤﺎورات أﻓﻼﻃﻮن — اﻟﺠﺪل إﱃ ﻫﺬه املﺮﺣﻠﺔ ،وﻟﻜﻦ ﻳﺒﺪو ُ اﺷﺘﻘﺎﻗﻬﺎ ﺑﺒﺴﺎﻃﺔ ﻣﻦ اﻋﺘﺒﺎرات ﻣﺎ ﺗﺤﺒﻪ اﻵﻟﻬﺔ؛ أﻧﻪ ﻗﺪ رأى أن اﻟﻘِ ﻴَﻢ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻷن ذﻟﻚ ﻳﺠ ﱢﺮد اﻵﻟﻬﺔ )أو اﻟﺮب( ﻣﻦ أﻳﺔ ﺳﻠﻄﺔ أﺧﻼﻗﻴﺔ .وﻳﺒﺪو أن ﻳﻮﺛﻴﻔﺮو ﻗﺪ اﻗﺘﻨﻊ ،رﻏﻢ أﻧﻪ ﺗﺮاﺟﻊ ﺑﻌﺪﻫﺎ وﻫﺮع إﱃ ﻗﺎﻋﺔ املﺤﻜﻤﺔ دون أن ﻳﺴﺘﺴﻠﻢ ملﻨﻄﻖ ﺳﻘﺮاط .وﻫﻜﺬا ﻧﺠﺢ ﺳﻘﺮاط ﰲ إﺣﺮاز ﺗﻘﺪﱡم ﻣﻬﻢ ﺣﺘﻰ ﻟﻮ ﻟﻢ ﻳﺤﺴﻢ املﺴﺄﻟﺔ ﻣﺤﻞ اﻟﻨﻘﺎش. وﻟﻜﻦ ﻣﺎ زال ﻫﻨﺎك ﳾء ﻏري ﻣﻘﻨﻊ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﻬﺪف إﻟﻴﻪ ﺳﻘﺮاط ﰲ املﺤﺎورات املﻤﺎﺛﻠﺔ، ﻓﻬﻞ ﻻﺳﺘﺠﻮاﺑﻪ أو ﺣﺘﻰ أي ﻧﻮع ﻣﻦ اﻻﺟﺘﻬﺎد اﻟﻌﻘﲇ أن ﻳُﺤﺼﻞ اﻟﻔﻮاﺋﺪ اﻟﺘﻲ ﻳﺰﻋﻤﻬﺎ؟ ﻓﺮﻏﻢ أﻧﻪ ﻻ ﻳﺰﻋﻢ ﻣﺤﺎوﻟﺔ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﻜﺎﻣﻠﺔ ﻟﻠﻔﻀﻴﻠﺔ ،ورﻏﻢ أﻧﻨﺎ ﻧﺘﻔﻖ أﻧﻪ ﻧﺠﺢ ﻣﻊ ذﻟﻚ ﰲ إﺣﺮاز ﺗﻘﺪﱡم ﻓﻜﺮي؛ ﻓﻤﻦ اﻟﺼﻌﺐ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﻛﻴﻒ ﻳﻜﻮن ملﻨﺎﻗﺸﺎﺗﻪ اﻟﻘﻮة اﻟﺘﻲ ﻳﻨﺴﺒﻬﺎ إﻟﻴﻬﺎ .وﺗﻜﻤُﻦ املﺸﻜﻠﺔ ﰲ اﻋﺘﻘﺎده أن ﻣﻨﺎﻗﺸﺔ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ﺗﺆدي ﺑﺎﻟﻔﺮد ً ﻓﻌﻼ إﱃ أن ﻳﺼﺒﺢ إﻧﺴﺎﻧًﺎ أﻓﻀﻞ .وﻫﺬا ﻟﻴﺲ ﻋَ َﺮ ً ﺿﺎ ﺟﺎﻧﺒﻴٍّﺎ ﺑﻞ ﻫﻮ اﻟﻔﻜﺮة ذاﺗﻬﺎ اﻟﺘﻲ ﻳﺴﺘﺤﴬﻫﺎ ﺳﻘﺮاط ﻟﺘﱪﻳﺮ إﺧﻀﺎﻋﻪ اﻵﺧﺮﻳﻦ ملﺤﺎوراﺗﻪ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴﺔ ،وﻫﻮ ﻳﻌﺘﻘﺪ أن ﻫﺬا ﰲ ﻣﺼﻠﺤﺘﻬﻢ، ﻟﻴﺲ ﻷن ﺗﻠﻚ املﻨﺎﻗﺸﺎت ﻣﻬﻤﺔ ﰲ ذاﺗﻬﺎ ،وﻟﻜﻦ ﻷن إﺟﺮاءﻫﺎ ﻫﻮ اﻟﺴﺒﻴﻞ اﻟﻮﺣﻴﺪ إﱃ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ .وﻳﺒﺪو ﻫﺬا ﻏري ﻣﻘﺒﻮل ﻋﲆ أﻗﻞ ﺗﻘﺪﻳﺮ؛ ﻓﻤﻌﺮﻓﺔ أن ﻣﺒﺪأ ً ﻣﺎ ﺻﻮاب أﻣﺮ ﺑﻴﻨﻤﺎ 179
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
اﻟﺘﴫف وﻓﻖ ﻫﺬا املﺒﺪأ أﻣﺮ ﻣﺨﺘﻠﻒ ﺗﻤﺎﻣً ﺎً . أوﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أي ﺷﺨﺺ أن ﻳﻌﺮف ﻛﻞ ﳾء ﻋﻦ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ﻣﻦ ﺧﻼل ﻣﻨﺎﻗﺸﺔ ﺳﻘﺮاط ﺛﻢ ﻳﱰﻛﻪ وﻳﺘﺤﻮل إﱃ اﻟﴩ؟ وﻛﻤﺎ رأﻳﻨﺎ ﻳﺒﺪو أن ﻛﺮﻳﺘﻴﺎس وﻛﺎرﻣﻴﺪس ورﺑﻤﺎ أﻟﺴﺒﻴﺎدس ﻗﺪ ﻓﻌﻠﻮا ﻫﺬا ﺗﻤﺎﻣً ﺎ. وﻗﺪ َﺷ ﱠﻦ أرﺳﻄﻮ ﻫﺠﻮﻣً ﺎ ﻣﺘﻜﺮ ًرا ﻋﲆ ﺳﻘﺮاط ﰲ ﻫﺬه اﻟﺴﻄﻮر ً ﻗﺎﺋﻼ» :ﻻ ﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﻳﻘﺘﴫ ﺗﺴﺎؤﻟﻨﺎ ﻋﲆ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﻣﺎ ﻫﻲ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ،ﺑﻞ ﻳﺠﺐ أن ﻳﺸﻤﻞ ﻫﺬا اﻟﺘﺴﺎؤل ﻛﻴﻔﻴﺔ ﺗﺤﻘﻴﻘﻬﺎ «.واﺗﻬﻢ ﺳﻘﺮاط ﺑﺎﻟﻔﺸﻞ ﰲ اﻟﺘﻔﺮﻗﺔ ﺑني اﻷﺳﺌﻠﺔ اﻟﺘﻄﺒﻴﻘﻴﺔ واﻷﺳﺌﻠﺔ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﻓﻴﻘﻮل: ﻟﻘﺪ اﻋﺘﻘﺪ أن اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ﻧﻮ ٌع ﻣﻦ أﻧﻮاع املﻌﺮﻓﺔ ﺑﺤﻴﺚ ﺗﺄﺗﻲ ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﻌﺪاﻟﺔ واﻟﺘﺤﲇ ﺑﺼﻔﺔ اﻟﻌﺪل ﻣﻌً ﺎ؛ ﻟﺬﻟﻚ ﻓﻬﻮ ﻳﺘﺴﺎءل ﻋﻦ ﻣﺎﻫﻴﺔ اﻟﻌﺪاﻟﺔ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ أﺳﺒﺎﺑﻬﺎ وﻣﺼﺎدرﻫﺎ .وﻳَﺼﻠُﺢ ﻫﺬا املﺬﻫﺐ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎملﻌﺮﻓﺔ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ؛ ذﻟﻚ أﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﺛﻤﺔ أي ﳾء آﺧﺮ ﰲ ﻋﻠﻢ اﻟﻔﻠﻚ أو اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء أو اﻟﻬﻨﺪﺳﺔ ﺳﻮى اﻟﺘﺄﻣﱡ ﻞ ﰲ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻷﺷﻴﺎء؛ ﻓﻬﺬا ﻫﻮ ﻣﺠﺎل ﺑﺤﺚ ﻫﺬه اﻟﻌﻠﻮم ،وﻟﻜﻦ ﻫﺪف اﻟﻌﻠﻮم اﻟﺘﻄﺒﻴﻘﻴﺔ ﻣﺨﺘﻠﻒ؛ ﻷﻧﻨﺎ ﻻ ﻧ َ َﻮ ﱡد ﻣﻌﺮﻓﺔ ﻣﺎ ﻫﻲ اﻟﺸﺠﺎﻋﺔ ﺑﻞ ﻛﻴﻒ ﺗﻜﻮن ﺷﺠﺎﻋً ﺎ، أﺻﺤﱠ ﺎءَ ً ً ﻋﺎدﻻ ،ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻛﻤﺎ ﻧ َ َﻮ ﱡد أن ﻧﻜﻮن ِ ﺑﺪﻻ وﻻ ﻣﺎ ﻫﻲ اﻟﻌﺪاﻟﺔ ﺑﻞ ﻛﻴﻒ ﺗﻜﻮن ﻣﻦ أن ﻧﻌﺮف ﻣﺎ ﻫﻲ اﻟﺼﺤﺔ. ﻛﺎن ﻟﺪى ﺳﻘﺮاط َر ﱞد ﻋﲆ ذﻟﻚ ،ورﺑﻤﺎ ﻛﺎن َر ﱡد ُه ﺳﻴﺴري ﻋﲆ اﻟﻨﺤﻮ اﻟﺘﺎﱄ» :ﻟﻘﺪ ﻇﻠﻤﺘﻨﻲ؛ ﻓﺎﻟﺴﺒﺐ ﰲ ﻓﺸﻞ ﻛﺮﻳﺘﻴﺎس وﻛﺎرﻣﻴﺪس وﻏريﻫﻢ ﻣﻦ اﻟﺘﻼﻣﻴﺬ املﺜريﻳﻦ ﻟﻠﻤﺸﻜﻼت ﰲ أن ﻳﺘﺤ ﱠﻠﻮْا ﺑﺎﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ﺑﺒﺴﺎﻃﺔ ﻫﻮ أﻧﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﺘﻌ ﱠﻠﻤﻮا ﻣﺎ ﻳﻜﻔﻲ ﻋﻨﻬﺎ .وﻟﻮ أﻧﻨﺎ اﺳﺘﻜﻤﻠﻨﺎ ﻣﻨﺎﻗﺸﺎﺗﻨﺎ ﱠ ﻟﺘﺤﲆ ﻫﺆﻻء ﺑﺎﻟﻌﺪل واﺗﺼﻔﻮا ﺑﻪ .وﻫﻜﺬا ﺑﻴﻨﻤﺎ أﺗﻔﻖ أﻧﻨﺎ ﻻ ﻧﺮﻳﺪ ﻣﻌﺮﻓﺔ ُﻛﻨ ْ ِﻪ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ﻓﺤﺴﺐ ﺑﻞ ﻧﺮﻳﺪ أن ﻧﻜﻮن أﻧﻔﺴﻨﺎ ﻓﺎﺿﻠني؛ ﻓﺈن ﻣﺎ أﻗﺼﺪه ﻫﻮ أﻧﻪ إذا ﻋَ َﺮ ْﻓﻨَﺎ ﻣﺎ ﻫﻲ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ﻓﺴﺘﺄﺗﻲ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ﺗﺒﻌً ﺎ ﻟﺬﻟﻚ ﻣﻦ ﺗﻠﻘﺎء ﻧﻔﺴﻬﺎ .وﻛﻤﺎ أﻗﻮل داﺋﻤً ﺎ ﻓﺄﻧﺎ ﻻ أﻋﺮف ﱠ أﺗﺤﲆ ﺑﻬﺎ ﰲ ﻧﻔﴘ ﻧﺎﻫﻴﻚ ﻋﻦ اﻵﺧﺮﻳﻦ .وﻫﺬا ﻣﺎ ﻫﻲ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ؛ ﻟﺬا ﻓﺈﻧﻲ ﻻ أﺳﺘﻄﻴﻊ أن ﻳﻮﺟﺐ ﻋﻠﻴﻨﺎ اﻻﺳﺘﻤﺮار ﰲ اﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ«. ﺑﺎﻟﻀﺒﻂ ﻣﺎ ِ اﻟﻔﻜﺮة اﻟﺮﺋﻴﺴﺔ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺮد ﻣﻘﺒﻮﻟﺔ؛ وﻻ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ اﻟﻘﻮل ﺑﺪﺣﺾ ادﱢﻋَ ﺎء ﺳﻘﺮاط ﺑﺨﺼﻮص ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻨﺠﺰه أﺳﺎﻟﻴﺒﻪ وﺗﻔﻨﻴﺪه؛ إذ ﻟﻢ ﻳﻮﺿﻊ ﻫﺬا اﻻدﱢﻋﺎء ﻣﻮﺿﻊ اﻻﺧﺘﺒﺎر ً أﺳﺎﺳﺎ ﻷﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﺘﺸﻒ ﺑﻌ ُﺪ ﻣﺎﻫﻴﺔ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ .وﻟﻜﻦ ﻣﻊ ذﻟﻚ ،ملﺎذا ﻳﺠﺐ أن ﻳﺼﺪﻗﻪ ﻣَ ْﻦ ﻳﺴﻤﻌﻪ ﻳﻘﻮل إن املﻌﺮﻓﺔ اﻟﻜﺎﻣﻠﺔ ﻟﻠﻔﻀﻴﻠﺔ إذا ﻣﺎ ﻧﺠﺤﻨﺎ ﰲ اﻟﻮﺻﻮل إﻟﻴﻬﺎ ﺗﺆدﱢي إﱃ ﺳﻠﻮك 180
ﺷﻬﻴﺪ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ :ﺳﻘﺮاط واﻟﺴﻘﺮاﻃﻴﺎت
ً اﻓﱰاﺿﺎ ﻏري ﻣﻌﻘﻮل ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻧﻔ ﱢﻜﺮ ﻛﻴﻒ أن اﻟﻨﺎس ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﻳﻤﻠﻜﻮن إرادة ﻓﺎﺿﻞ؟ ﻳﺒﺪو ﻫﺬا ﺿﻌﻴﻔﺔ وﺗﻌﻴﺒﻬﻢ اﻷﻧﺎﻧﻴﺔ وﻗﴫ اﻟﻨﻈﺮ؛ ﻓﻜﺜريًا ﻣﺎ ﻳﺮى اﻟﻨﺎس ﺧﻄﺄ ﳾءٍ ﻣﺎ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ،وﻟﻜﻨﻬﻢ ﻣﻊ ذﻟﻚ ﻳُﻘﺪِﻣﻮن ﻋﻠﻴﻪ ،ﻓﻤﺎ ﻳﺪﻓﻌﻨﺎ ﻟﻼﻋﺘﻘﺎد أن اﻟﻮﺿﻊ ﺳﻴﺨﺘﻠﻒ إذا ﻣﺎ ﻋﺮﻓﻮا املﺰﻳﺪ؟ ً َ اﻋﺘﻘﺪ أرﺳﻄﻮ أن ﺳﻘﺮاط ﻛﺎن ﻳﻤﻠﻚ ﺻﻮرة ﻣُﺒﺎﻟﻐﺎ ﰲ ﺑﺴﺎﻃﺘﻬﺎ ﻋﻦ اﻟﻨﻔﺴﻴﺔ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻓﻘﺎل» :إﻧﻪ ﻳﺘﺨﻠﺺ ﻣﻦ اﻟﺠﺰء ﻏري اﻟﻌﻘﻼﻧﻲ ﻣﻦ اﻟﺮوح؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﻬﻮ ﻳﺘﺨﻠﺺ ً أﻳﻀﺎ ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻃﻔﺔ واﻟﺸﺨﺼﻴﺔ «.ﻟﻘﺪ ﻧﻈﺮ ﺳﻘﺮاط إﱃ اﻷﻓﻌﺎل واﻟﻌﺎﻃﻔﺔ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻣﻦ ﻣﻨﻈﻮر ً ﻣﺘﺠﺎﻫﻼ اﻟﺪواﻓﻊ واﻟﻼﻋﻘﻼﻧﻴﺔ املﺘﻌﻤﱠ ﺪة ﻓﻴﻘﻮل» :ﻻ أﺣﺪ ﻣﻨﻄﻘﻲ أو ﻋﻘﻼﻧﻲ ﺑﺸﻜﻞ ﻛﺒري ﻳﺘﴫﱠف ﻋﻜﺲ ﻣﺎ ﻳﺆﻣﻦ أﻧﻪ اﻷﻓﻀﻞ ،وﻣﺎ ﻳﺘﴫف اﻟﻨﺎس ﻫﻜﺬا إﻻ ﺑﺪاﻓﻊ ﻣﻦ ﺟﻬﻞ «.وﻫﺬا ﻳﻔﴪ اﻻﻫﺘﻤﺎم املﺒﺎ َﻟﻎ ﻓﻴﻪ اﻟﺬي ﻣَ ﻨَﺤَ ُﻪ ﺳﻘﺮاط ﻟﻠﺘﺴﺎؤﻻت ﺣﻮل اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ،ﻓﺈذا ﻣﺎ ﻛﺎن اﻟﺴﺒﺐ اﻟﻮﺣﻴﺪ ﻟﻌﺠﺰ اﻟﻨﺎس ﻋﻦ ﻓﻌﻞ اﻷﻓﻀﻞ أﻳٍّﺎ ﻛﺎن ﻫﻮ ﺟﻬﻠﻬﻢ ،ﻓﺎﻟﻌﻼج إذن ﻟﻼﻧﺤﺮاف اﻷﺧﻼﻗﻲ ﻫﻮ املﺰﻳﺪ ﻣﻦ املﻌﺮﻓﺔ. ﻳﺒﺪو أﻓﻼﻃﻮن ﻷول ﻣﺮة ﰲ ﻫﺬه اﻟﻨﻘﻄﺔ أﻛﺜﺮ واﻗﻌﻴﺔ ﻣﻦ ﺳﻘﺮاط؛ ﻓﻘﺪ أدرك اﻟﺠﺰء ﻏري اﻟﻌﻘﻼﻧﻲ ﻣﻦ اﻟ ﱡﺮوح ورأى أﻧﻪ ﰲ ﴏاع داﺋﻢ ﻣﻊ اﻟﺠﺰء اﻟﻌﻘﻼﻧﻲ) .وﰲ اﻷوﻗﺎت َﺻ َ اﻟﺘﻲ ﺑَﺪَا ﻓﻴﻬﺎ أﻛﺜﺮ ﺗﺄﺛ ﱡ ًﺮا ﺑﻔﻴﺜﺎﻏﻮرس وﻣﺬﻫﺒﻪ و َ ﻒ أﻓﻼﻃﻮن ذﻟﻚ اﻟﴫاع ﺑﺄﻧﻪ ﴏاع ﺑني اﻟ ﱡﺮوح واﻟﺠﺴﺪ(؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻟﻢ ﻳَ ُﻜ ْﻦ ﺗﺤﻘﻴﻖ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻷﻓﻼﻃﻮن ﺗﺤﺼﻴﻞ املﻌﺮﻓﺔ ﻓﺤﺴﺐ وﻟﻜﻦ ﺗﺸﺠﻴﻊ ﺳﻠﻮك ﻣﻌني .وﰲ املﺪﻳﻨﺔ اﻟﻔﺎﺿﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺪﱠث ﻋﻨﻬﺎ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﻪ َ دﻗﻴﻘ ْني ﻟﻠﺸﺒﺎب ،وﻣﺘﺎﺑﻌﺔ ﻗﺮﻳﺒﺔ ﻟﺒﻴﺌﺘﻬﻢ اﻷوﱃ »اﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ« ﺗﻀﻤﻦ اﻷﻣﺮ ﺗﺪرﻳﺒًﺎ وﻧﻈﺎﻣً ﺎ ﺑﻞ ﻟﻨﻮع املﻮﺳﻴﻘﻰ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺴﺘﻤﻌﻮن إﻟﻴﻬﺎ وﻧﻮع اﻟﺤﻜﺎﻳﺎت اﻟﺘﻲ ُﺳ ِﻤﺢَ ﻟﻬﻢ ﺑﺎﻻﺳﺘﻤﺎع إﻟﻴﻬﺎ. وﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أن ﺳﻘﺮاط ﻧﻔﺴﻪ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﰲ ﺣﺎﺟﺔ ملﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﺘﺪرﻳﺐ؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻣﻨﻀﺒ ً ﻄﺎ ﻣﻦ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﻨﻮاﺣﻲ ﺑﺸﻜﻞ ﻓﺎﺋﻖ ،وﻛﺎن أﺳﺘﺎذًا ﻟﻠﺘﺤ ﱡﻜﻢ ﰲ اﻟﻨﻔﺲ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻋﻘﻼﻧﻴﺔ .ورﺑﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه ﻫﻲ املﺸﻜﻠﺔ؛ ﻓﻘﺪ ﻳﻔﴪ ذﻟﻚ ِﻟ َﻢ ﻋ ﱠﻠﻖ ً آﻣﺎﻻ ﻋﺮﻳﻀﺔ ﻋﲆ اﻵﺧﺮﻳﻦ ﺑﺸﻜﻞ ﻳﺴﺘﺤﻴﻞ ﻣﻌﻪ ﺗﺤﻘﻴﻘﻬﺎ ،و ِﻟ َﻢ اﻓﱰض أﻧﻬﻢ ﻟﻮ ﻋﻠﻤﻮا ﻓﻘﻂ ﻣﺎﻫﻴﺔ اﻟﻌﺪاﻟﺔ ﻟﺘﺤ ﱠﻠﻮْا ﺑﺎﻟﻌﺪل ﻓﻮ ًرا .وﻗﺪ ﻗﻴﻞ ﻋﻦ ﺳﻘﺮاط إن »ﻗﻮة ﺷﺨﺼﻴﺘﻪ ﻫﻲ ﻣﻮﻃﻦ ﺿﻌﻒ ﻓﻠﺴﻔﺘﻪ «.وﻫﺬه ﺻﻴﺎﻏﺔ أﻧﻴﻘﺔ، وﻟﻜﻦ أﻓﻜﺎر ﺳﻘﺮاط ﻛﺎن ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﱰاﺑﻂ واﻟﻮﺿﻮح أﻛﺜﺮ ﻣﻤﱠ ﺎ ﻳﺒﺪو .ﺑﻴﺪ أﻧﻪ ﻳﺠﺐ اﻟﻘﻮل إن ﺗﻔﺴريه اﻟﻌﻘﻼﻧﻲ ﺑﺸﻜﻞ ﻏري ﻣﻘﺒﻮل ﻟﻠﻨﻔﺲ اﻟﺒﴩﻳﺔ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ املﺸﻜﻠﺔ اﻟﻮﺣﻴﺪة ﻋﲆ أﻳﺔ ﺣﺎل ،ﻓﺤﺘﻰ ﻟﻮ ﻛﺎن ﺛَﻤﱠ ﺔ ﺣﻜﻴﻢ ﻳﻨﺎﻫﺰه اﻧﻀﺒﺎ ً ﻃﺎ واﻟﺘﺰاﻣً ﺎ ،و ُوﻟِ َﺪ ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺎ دون اﻟﺠﺰء 181
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ً ﺷﺨﺼﺎ ﺻﺎﻟﺤً ﺎ ﻣﻦ ﻏري اﻟﻌﻘﻼﻧﻲ ﻣﻦ ُروﺣﻪ؛ ﻓﻤﻦ اﻟﺼﻌﺐ ﺗﺼﻮﱡر ﻛﻴﻒ ﺳﻴﺠﻌﻠﻪ ﻫﺬا اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ .أﻓﻼ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن ﻫﻨﺎك ﺷﺨﺺ ﻋﲆ اﻟﻘﺪْر ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻦ ﻋﻘﻼﻧﻴﺔ ﺳﻘﺮاط وﻳﺘﺼﻒ ﺑﺎﻟﺤﻜﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﻳﺴﻌﻰ إﻟﻴﻬﺎ ،وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﻬﻮ ﺧﺒﻴﺚ ﻣﺜﻞ ﺷﻴﻄﺎن ﻣﻴﻠﺘﻮن اﻟﺬي ﺗﺒﻨﱠﻰ اﻟﴩ ﻋﲆ ﻋﻠ ٍﻢ ﺑﻘﻮﻟﻪ» :ﻓﻠﺘﻜﻦ أﻳﻬﺎ اﻟﴩ ﺧريي؟« وﻋﲆ ﻋﻜﺲ ﻣﺎ ﻳﻘﻮل ﺳﻘﺮاط ً )وﻓﻘﺎ ﻟﺮواﻳﺔ أرﺳﻄﻮ(» :ﻻ أﺣﺪ ﻳﺨﺘﺎر اﻟﴩ وﻫﻮ ﻳﻌﻠﻢ «.وﻟﻢ ﻳﺘﺠﺎﻫﻞ ﺳﻘﺮاط اﻟﺬي ﻗﺎل اﻟﺘﻬﻮر واﻻﻧﺪﻓﺎع واﻟﻼﻋﻘﻼﻧﻴﺔ ﺑﺸﻜﻞ ﺟﻴﺪ ﻓﺤﺴﺐ ﺑﻞ أﻋﻠﻦ أن اﻻﻧﺤﺮاف اﻷﺧﻼﻗﻲ املﺘﻌﻤﱠ ﺪ ﻣﺴﺘﺤﻴﻞ ﺑﺒﺴﺎﻃﺔ .وﻳﺒﺪو أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻘﺎﺑﻞ َﻗ ﱡ ً ﻓﻀﻼ ﻋﻦ ﻣﻼك ﴍﻳﺮ. ﻂ إﻧﺴﺎﻧًﺎ ﴍﻳ ًﺮا ﻫﻞ ﻛﺎن ﺳﻘﺮاط ﺳﺎذﺟً ﺎ إذن؟ ﻟﻘﺪ ﻛﺘﺐ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻋﻦ »اﻟﺴﺬاﺟﺔ واﻟﻴﻘني اﻹﻟﻬﻴني ﰲ أﺳﻠﻮب ﺣﻴﺎة ﺳﻘﺮاط« ،وﻟﻜﻦ ﻳﺒﺪو أن ﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﻘﺼﺪه ﻫﻮ اﻟﱰ ﱡﻛﺰ اﻟﺤﺎ ﱡد ﰲ رؤﻳﺔ ﺳﻘﺮاط وﻟﻴﺲ ﻣﺠﺮد ﺑﺮاءة ﺣﻤﻘﺎء .ﻟﻘﺪ ﻇﻞ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻳﻔﻜﺮ ﻣﻠﻴٍّﺎ ﰲ ﻋﺎدة ﺳﻘﺮاط ﰲ اﻟﺘﻌﺒري ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻪ ﺑﻌﺒﺎرات ﺗﺒﺪو ﺳﺎذَﺟﺔ ،واﺳﺘﻨﺘﺞ أن ذﻟﻚ ﻛﺎن ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ »ﺣﻜﻤﺔ ﻣﻠﻴﺌﺔ ﺑﺎملﺰاح« .وﻗﺪ أدرك ﻧﻴﺘﺸﻪ أﻧﻪ ﻣﻦ املﻬﻢ وﺿﻊ اﻟﻈﺮوف اﻟﺘﻲ أﺟﺮى ﻓﻴﻬﺎ ﺳﻘﺮاط ﻣﻨﺎﻗﺸﺎﺗﻪ ﰲ اﻻﻋﺘﺒﺎر. ﻟﺸﺨﺺ ﻣﺎ أو وﺗﻌﺘﻤﺪ ﻣﻌﻈﻢ اﻵراء املﺘﻨﺎﻗﻀﺔ اﻟﺘﻲ ﻗﺪ ﺗُﻨ ْ َﺴﺐُ إﱃ ﺳﻘﺮاط ﻋﲆ أﺷﻴﺎءَ ﻗﺎﻟﻬﺎ ٍ أﺷﻴﺎء اﺗﻔﻖ ﻣﻌﻬﺎ ﻟﻐﺮض ﻣﻤﻴﺰ وﰲ ﺳﻴﺎق ﻣﻤﻴﺰ؛ ﻓﻘﺪ ﺳﻌﻰ ﻟﻠﺘﺪرﻳﺲ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻹﻏﺎﻇﺔ واﻟﺘﻤ ﱡﻠﻖ واﻻﺳﺘﻔﺰاز ،وأﻧﻜﺮ أﻧﻪ َد ﱠر َس ﻣﻦ اﻷﺳﺎس .وﻗﺪ ﺣﺎول إﻣﺎﻃﺔ اﻟﻠﺜﺎم ﻋﻦ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻷﺷﻴﺎء ﺑﺘﺠﺮﻳﺐ أﻓﻜﺎر ﻋﺪة ﻋﲆ ﻣﺴﺘﻤﻌﻴﻪ ﺑﱪاﻋﺔ ،وﻟﻢ ﺗ ُﻜﻦ اﻟﺤﻴﻞ اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ ﺟﺰءًا وﻟﻮ ﺻﻐريًا ﻣﻦ ﻫﺬه اﻷﻓﻜﺎر .وﻗﺪ ﻛﺘﺐ ﺟﺎﻟﻦ — وﻫﻮ ﻃﺒﻴﺐ وﻓﻴﻠﺴﻮف ﻋﺎش ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻧﻲ املﻴﻼدي — ﻳﻘﻮل» :إن ﻫﺬا ﻛﺎن ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ رﺑﺔ اﻟﺸﻌﺮ ﻟﺪى ﺳﻘﺮاط اﻟﺘﻲ ﺗﻤﻜﻨﻪ ﻣﻦ املﺰج اﻟﺠ ﱢﺪ وﻗﻠﻴﻞ ﻣﻦ اﻟﻬﺰل«. ﺑني ِ وﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﱪﻳﺮ اﻟﺠﻮاﻧﺐ ﻏري املﻌﻘﻮﻟﺔ ﰲ آراﺋﻪ ﺑﺎﻟﻘﻮل إﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﻌﻨﻴﻬﺎ؛ ﻓﻬﺬا ﻗﺪ ﻳُﺤَ ﱢﺴ ُﻦ ﻣﻦ ﺻﻮرة املﻨﻄﻖ اﻟﺴﻠﻴﻢ اﻟﺪﻧﻴﻮي ﻟﺪى ﺳﻘﺮاط ،وﻟﻜﻦ ﻋﲆ ﺣﺴﺎب اﺳﺘﺒﻌﺎد ﻛﻞ ﻣﺎ ﻗﺎﻟﻪ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ .وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻔﺴري ﻣﺎ ﻳﻘﻮﻟﻪ ﺳﻘﺮاط ﺑﺸﻜﻞ أﻓﻀﻞ ﻋﻨﺪ وﺿﻊ ﻣﴩوﻋﺎﺗﻪ اﻟﺘﻌﻠﻴﻤﻴﺔ ﻏري اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ ﰲ اﻻﻋﺘﺒﺎر .وﺳﻨﻘﻮم اﻵن ﺑﺘﺠﻤﻴﻊ أﺟﺰاء ﻧﻈﺮﻳﺔ اﻟﺤﻴﺎة اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺟﺎءت ﰲ ﺗﴫﻳﺤﺎت ﺳﻘﺮاط اﻟﺴﺎذﺟﺔ وﻏري املﻌﻘﻮﻟﺔ .واﻟﻨﺘﻴﺠﺔ ﻫﻲ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺘﻲ ﺛﺒَﺖ أﻧﻬﺎ ﻣﺜﻤﺮة ﺟﺪٍّا ﻋﲆ أﻗﻞ ﺗﻘﺪﻳﺮ ،ﻟﻴﺲ ﰲ ﺗﻬﺬﻳﺐ ﺑﻌﺾ ﻣﺴﺘﻤﻌﻴﻪ املﺒﺎﴍﻳﻦ ﻓﺤﺴﺐ ،ﺑﻞ ﰲ ﺗﺤﻔﻴﺰ ﻗﺪر ﻛﺒري ﻣﻦ ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻷﺧﻼق ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪُ.
182
ﺷﻬﻴﺪ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ :ﺳﻘﺮاط واﻟﺴﻘﺮاﻃﻴﺎت
ﺗﺒﺪأ ﻧﻈﺮﻳﺔ ﺳﻘﺮاط ﺑﺎﻟ ﱡﺮوح وﺗﻨﺘﻬﻲ ﻋﻨﺪﻫﺎ ،وﻫﻮ ﻳﻘﻮل ﰲ »اﻟﺪﻓﺎع« إن أﻫﻢ ﳾء ﰲ اﻟﺤﻴﺎة ﻫﻮ اﻟﻨﻈﺮ إﱃ رﻓﺎﻫﻴﺘﻬﺎ ،وﻳﻘﻮل ﰲ ﻣﻮاﺿﻊ أﺧﺮى إن اﻟﺮوح ﻫﻲ ﻣﺎ »ﺗﺸﻮﱢﻫﻬﺎ اﻷﻋﻤﺎل اﻟﻄﺎﻟﺤﺔ وﺗﻔﻴﺪﻫﺎ اﻷﻋﻤﺎل اﻟﺼﺎﻟﺤﺔ «.وﻫﻮ ﻻ ﻳﻌﻨﻲ أﻋﻤﺎل اﻵﺧﺮﻳﻦ ﺑﻞ أﻋﻤﺎل املﺮء ﻧﻔﺴﻪ، ﻓﺎﻷﻋﻤﺎل اﻟﺼﺎﻟﺤﺔ ﺗﻌﻮ ُد ﺑﺎﻟﻨﻔﻊ ﻋﲆ اﻟﺮوح ،واﻷﻋﻤﺎل اﻟﻄﺎﻟﺤﺔ ﺗﻌﻮد ﺑﺎﻟﴬر ﻋﻠﻴﻬﺎ واﻷذى ﻟﻬﺎ .وﺑﻤﺎ أن اﻟﺮوح ﺗﺤﻈﻰ ﺑﺄﻛﱪ ﻗﺪر ﻣﻦ اﻷﻫﻤﻴﺔ ﻓﺈن أﻧﻮاع اﻟﴬر اﻷﺧﺮى ﻟﻴﺴﺖ ﻋﲆ اﻟﻘﺪْر ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻦ اﻷﻫﻤﻴﺔ .ﻓﻼ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﴚء ﻳﻔﻌﻠﻪ اﻟﻨﺎس ﺿﺪك أن ﻳﻀﻴﱢﻊ املﻨﻔﻌﺔ اﻟﺘﻲ ﺣﻘﻘﺘﻬﺎ ﻟﻨﻔﺴﻚ ﺑﺄﻋﻤﺎﻟﻚ اﻟﺼﺎﻟﺤﺔ .وﻳﺴﺘﺘﺒﻊ ذﻟﻚ أن اﻟﻔﺎﺳﺪﻳﻦ ﻻ ﻳﴬﱡ ون إﻻ أﻧﻔﺴﻬﻢ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻓﻴﻘﻮل» :ﻻ ﳾء ﻳﴬ اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺼﺎﻟﺢ ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻪ أو ﺑﻌﺪ ﻣﻤﺎﺗﻪ«. وﻟﺬﻟﻚ ﻟﻢ ﻳﺘﻤ ﱠﻠﻚ ﺳﻘﺮاط اﻟﺨﻮف ﻣﻦ املﺤﻜﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﻣﺜ َﻞ أﻣﺎﻣﻬﺎ ،ﻓﻬﻮ ﻟﻢ ﻳ ُﻜ ْﻦ ﻟﻴﻨﺤﻨﻲ ﻣﺨﺰ ﻛﻲ ﻳﺤﺼﻞ ﻋﲆ اﻟﱪاءة ﻷن »اﻟﺼﻌﻮﺑﺔ ﻻ ﺗﻜﻤُﻦ ﰲ اﻟﻔﺮار ﻣﻦ املﻮت ،ﺑﻞ ﰲ ﻟﺴﻠﻮك ٍ اﻟﻔﺮار ﻣﻦ اﻷﻋﻤﺎل اﻟﺨﺎﻃﺌﺔ وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺘﺠﺎوز ﻓﺮار اﻷﻗﺪام ﺑﻜﺜري «.وﺗﺮﺟﻊ ﺻﻌﻮﺑﺔ اﻻﻣﺘﻨﺎع ﻋﻦ اﻟﴩ ﰲ أﺣﺪ أﺳﺒﺎﺑﻬﺎ إﱃ أﻧﻪ إذا ﺣﺎول ﺷﺨﺺ أن ﻳﺆذﻳﻚ ﻓﻤﻦ املﻐﺮي ﰲ اﻟﻐﺎﻟﺐ أن ﺗﺤﺎول اﻻﻧﺘﻘﺎم ﻣﻨﻪ ،وﻟﻜﻦ ﺑﻤﺎ أﻧﻪ ﻣﻦ اﻟﺨﻄﺄ أن ﺗﻔﻌﻞ ﴍٍّا أو ﺗﻘﱰف إﺛﻤً ﺎ — وﻫﻮ ﻣﺎ ﻗﺪ ﻳﴬ ُروﺣﻚ ﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎن ﻋﺬ ُرك — ﻳﻘﻮل ﺳﻘﺮاط إﻧﻪ ﻳﺠﺐ ﱠأﻻ ﺗﺮد اﻹﺳﺎءة ﺑﺎﻹﺳﺎءة. ً ﻣﻘﺒﻮﻻ ،رﻏﻢ وﻳﺘﻌﺎرض ﻫﺬا ﻣﻊ اﻷﻋﺮاف اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻌﺘﱪ إﻳﺬاءَ اﻷﻋﺪاء أن ذﻟﻚ ﻻ ﻳﺸﻤﻞ اﻷﺻﺪﻗﺎء وﺑﺨﺎﺻﺔ اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ .وﻟﻜﻦ اﻟﻘﻴﻢ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ اﻟﺼﺎرﻣﺔ ﻟﺴﻘﺮاط ﺗُﺰﻳﻞ ﺗﻠﻚ اﻟﻔﺮوق ﺑني اﻟﻨﺎس وﺗُﻘﺪﱢم ﻣﻨﻈﻮﻣﺔ أﺧﻼﻗﻴﺔ ﻛﻮﻧﻴﺔ ﺑﺪﻳﻠﺔ .وﻣﻤﱠ ﺎ ﻳﻠﻔﺖ اﻟﻨﻈﺮ ﻓﻴﻬﺎ ﻫﻮ أﻧﻬﺎ ﺗﻔﻌﻞ ذﻟﻚ ﺑﻤﺮاﻋﺎة املﺼﻠﺤﺔ اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﻻ ﻣﺸﺎﻋﺮ اﻹﻳﺜﺎر اﻟﺘﻲ ﺗُﻌَ ﱡﺪ ﻋﺎد ًة اﻟﺪاﻓ َﻊ اﻟﺮﺋﻴﺲ وراء اﻟﺴﻠﻮك اﻷﺧﻼﻗﻲ؛ ﻓﺎﻟﻌﻤﻞ اﻟﺼﺎﻟﺢ ﻳﺸﺒﻪ اﻻﻫﺘﻤﺎم ﺑﺎﻟﺠﺰء اﻷﻫﻢ ﻣﻦ اﻟﻨﻔﺲ وﻫﻮ اﻟ ﱡﺮوح .وﻻ ﻳﺸﺒﻪ ﻫﺬا اﻷﻣﺮ اﻷﻧﺎﻧﻴﺔ املﻌﺘﺎدة ﻷن اﻟﺴﺒﻴﻞ اﻟﻮﺣﻴﺪ ﻟﺘﺤﻘﻴﻖ ﺗﻠﻚ املﻨﻔﻌﺔ ﻟﻠﻨﻔﺲ ﻫﻮ اﻟﺘﺤﲇ ﺑﺎﻟﻌﺪل وﻣﻤﺎرﺳﺔ اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ اﻷﺧﺮى ً أﻳﻀﺎ ،وﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺤﻘﻴﻘﻬﺎ ﺑﺘﻘﺪﻳﻢ املﺼﺎﻟﺢ اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﻋﲆ ﻣﺼﺎﻟﺢ اﻵﺧﺮﻳﻦ ،ﺑﻞ ﺑﺠﻌﻞ ﺗﻄﻮﻳﺮ اﻟﻨﻔﺲ أﺧﻼﻗﻴٍّﺎ ﻓﻮق ﻛﻞ اﻟﺪواﻓﻊ اﻷﺧﺮى .وﻛﺬﻟﻚ ﻻ ﺗﻌﺘﻤﺪ ﻫﺬه اﻷﺧﻼق ﻏري اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ ﻋﲆ اﻧﺘﻈﺎر ﻣﻜﺎﻓﺄة ﺳﻤﺎوﻳﺔ أو اﻟﺨﻮف ﻣﻦ ﻋﻘﺎب؛ ﻓﺜﻤﺎر اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ﺗُﺠْ ﻨَﻰ ﰲ اﻟﺤﺎل ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ﻷن »اﻟﻌﻴﺶ اﻟﺼﺎﻟﺢ ﻳﻜﺎﻓﺊ اﻟﻌﻴﺶ ﺑﴩف« و»)اﻟﺮﺟﻞ( اﻟﺼﺎﻟﺢ ﻳﺴﻌﺪ واﻟﻄﺎﻟﺢ ﻳﺸﻘﻰ «.وﻳﺮى ﺳﻘﺮاط أن اﻟﺴﻌﺎدة واﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ﻣﱰاﺑﻄﺘﺎن؛ وﻟﺬا ﻓﺈن ﻣﺼﻠﺤﺔ أﻫﻠﻬﺎ أن ﻳﺘﺤﻠﻮا ﺑﺎﻷﺧﻼق اﻟﺤﺴﻨﺔ. ﻣﻦ اﻟﺼﻌﺐ َﻓﻬﻢ ﻫﺬا اﻟﺠﺰء ﺑﺎﻟﺘﺤﺪﻳﺪ؛ ﺣﻴﺚ إﻧﻪ ﻣﻦ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﻏري املﻨﺼﻔﺔ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة أن اﻷﴍار ﻳﻨﻌﻤﻮن أﺣﻴﺎﻧًﺎ ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳَﺤ ﱡﺪ ﻣﻦ ﺑﺮﻳﻖ ﻓﻜﺮة ﺳﻘﺮاط ،وﻟﻜﻦ ﺳﻘﺮاط ﻳﺮى أن 183
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ً واﺿﺤﺔ ﰲ اﻟﺒﺪاﻳﺔ. اﻟﻌﻨﺎﻳﺔ اﻟﻨﺎﺟﺤﺔ ﺑﺎﻟ ﱡﺮوح ﺗﺠﻠِﺐ ﺟﻤﻴﻊ أﻧﻮاع اﻟﺨري اﻟﺘﻲ ﻗﺪ ﻻ ﺗﺒﺪو ﱠ وﻳﺮى ﺳﻘﺮاط ﻛﺬﻟﻚ أن ﺛَﻤﱠ َﺔ رواﺑ َ ﻣﺘﻮﻗﻌﺔ ﺑني ﺑﻌﺾ اﻷﻋﻤﺎل اﻟﺼﺎﻟﺤﺔ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة، ﻂ ﻏري وأن اﻟﺴﻌﺎدة ﻣﺴﺄﻟﺔ أﻋﻘﺪ ﻣﻤﱠ ﺎ ﻳﻈﻨﻬﺎ املﺮء ﰲ اﻟﺒﺪاﻳﺔ؛ ﻓﻘﺪ ﻳﺒﺪو أن اﻷﴍار ﻳﺘﻤﺘﻌﻮن ﺑﻜﻞ أﻧﻮاع ا َمل َﻠﺬﱠات وﻟﻜﻦ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻫﻨﺎك ﻣﺎ ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻬﻢ اﻟﺘﻤﺘﱡﻊ ﺑﻪ ،وﻫﺬا ﻟﻪ ﻣﻦ اﻷﻫﻤﻴﺔ ﻣﺎ ﻳﻜﻔﻲ ﱠ ﻟﻠﺸ ﱢﻚ ﰲ ﻓﻜﺮة أن ﻫﺆﻻء اﻟﻨﺎس ﻳﻤﻜﻨﻬﻢ أن ﻳﻜﻮﻧﻮا ﺳﻌﺪاء ﻋﲆ اﻹﻃﻼق .وﻳُ ْﺰﻋَ ُﻢ أن ﺗﻨﺪرج ﺿﻤﻦ ﻫﺬه اﻟﻔﺌﺔ ،ﻛﻤﺎ أن ﺛَﻤﱠ َﺔ أﻧﻮاﻋً ﺎ أﺧﺮى ﻣﻦ اﻟﺮﺿﺎ واﻻرﺗﻴﺎح اﻟﺘﻲ املﺘﻊ اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ ِ ﻣﺜﺎﻻ ﺑﺴﻴ ً ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺤﺼﻮل ﻋﻠﻴﻬﺎ دون ﻣﻤﺎرﺳﺔ اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ .و ْﻟﻨﴬب ً ﻄﺎ ﻋﲆ ذﻟﻚ :إذا ﻟﻢ ﻳﻤﺎرس املﺮء ﻓﻀﻴﻠﺔ اﻟﻮﺳﻄﻴﺔ َﻟﻤﺎ ﺗﻤﺘﻊ ﺑﺎﻟﺼﺤﺔ ،ورﺑﻤﺎ ﻳﺤﺮم ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻦ ﻣَ َﻠﺬﱠات ﻋﺪﻳﺪة ﰲ املﺴﺘﻘﺒﻞ ﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﻘﻠﻴﻞ اﻵن .ﻟﺬا ﻓ ِﺒﺪون ﻣﻤﺎرﺳﺔ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ﻟﻦ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ اﻹﻧﺴﺎن أن ﻳﺴﻌﺪ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق. وﻳﺘﻀﺢ أن اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻫﻲ أﺣﺪ ﺟﻮاﻧﺐ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺼﺎﻟﺤﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺮﺗﺒﻂ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺑﺒﻌﺾ ﺑﺸﻜﻞ راﺋﻊ وﻣﺪﻫﺶ .وﻳﺮى ﺳﻘﺮاط أﻧﻬﺎ ﺗﺄﺗﻲ دﻓﻌﺔ واﺣﺪة أو ﻻ ﺗﺄﺗﻲ ﻋﲆ ً ﻓﻀﻴﻠﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻻ ﺗﻌﻤﻞ ﺑﺸﻜﻞ ﺻﺤﻴﺢ إﻻ اﻹﻃﻼق ،ﻓﺪاﺋﻤً ﺎ ﻣﺎ ﺗﺤﺎول ﻣﺤﺎوراﺗﻪ إﻇﻬﺎر أن ﺑﻮﺟﻮد ﻓﻀﻴﻠﺔ أﺧﺮى؛ ﻓﺎﻟﺸﺠﺎﻋﺔ ً ﻣﺜﻼ ﺗﺘﻄﻠﺐ اﻟﺤﻜﻤﺔ .وﻟﻴﺲ ﻣﻦ اﻟﺠﻴﺪ أن ﺗﻜﻮن ﺟﺮﻳﺌًﺎ َ أﺣﻤﻖ ﻷن اﻟﺸﺠﺎﻋﺔ املﻨﺸﻮدة ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﺤﺎﻟﺔ ﺳﺘﺘﻀﺎءل إﱃ ﻣﺤﺾ ﺗﻬﻮر .وﻛﺬﻟﻚ إذا ﻛﻨﺖ ٍّ ﺧﺎﺻﺎ وﻫﻲ ﻓﻀﻴﻠﺔ ﺗﺘﺸﺎﺑﻚ ﻛﻞ اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ اﻷﺧﺮى ﺑﻄﺮق ﻣﻤﺎﺛﻠﺔ ،وﺗﻠﻌﺐ إﺣﺪاﻫﺎ دو ًرا ﻣﻘﺪار ﻣﻌني ﻣﻦ اﻟﺤﻜﻤﺔ ﺳﻴُﴘء اﻟﻨﺎس ﺗﻘﺪﻳﺮ ﻋﻮاﻗﺐ اﻷﻋﻤﺎل ﺣﺘﻰ اﻟﺤﻜﻤﺔ؛ ﻷﻧﻪ دون ٍ ﻻ ﻳﺘﻤﻜﻨﻮا ﻣﻦ ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﺼﻮاب ﻣﻦ اﻟﺨﻄﺄ ،وﻫﻮ اﻟﴩط اﻷﺳﺎﳼ ﻟﻠﺤﻴﺎة اﻟﻔﺎﺿﻠﺔ .وﺑﺪون اﻟﺤﻜﻤﺔ ﻟﻦ ﻳﺘﻤ ﱠﻜﻨﻮا ً أﻳﻀﺎ ﻣﻦ أن ﻳﻜﻮﻧﻮا ﺳﻌﺪاء؛ ذﻟﻚ أن املﻨﻔﻌﺔ اﻟﺘﻲ ﻗﺪ ﺗﺆدي إﱃ إﺳﻌﺎد اﻹﻧﺴﺎن ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳُﺴﺎء اﺳﺘﺨﺪاﻣﻬﺎ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﺗﺆدي إﱃ اﻟﻌﻜﺲ .وﻟﺬﻟﻚ ﻳﺤﺘﺎج اﻹﻧﺴﺎن ً وأﻳﻀﺎ ﻟﻴﺘﺤﲆ ﺑﺎﻟﻔﻀﻴﻠﺔ. ﻟﻠﺤﻜﻤﺔ ﻟﻜﻲ ﻳﺤﻘﻖ املﻨﻔﻌﺔ ﻣﻦ وراء اﻷﻋﻤﺎل اﻟﺼﺎﻟﺤﺔ وﻳﺮى ﺳﻘﺮاط أن اﻟﺮاﺑﻂ ﺑني اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ واﻟﺤﻜﻤﺔ ﺷﺪﻳﺪ اﻟﻘﻮة؛ ﻟﺪرﺟﺔ أﻧﻪ ﻗﺪ ﻃﺎﺑﻖ ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺎ .ﻣﻦ املﺆ ﱠﻛﺪ أﻧﻬﻤﺎ ﻣﺘﺪاﺧﻠﺘﺎن ،ﻛﻤﺎ ﻳﺮى ﺳﻘﺮاط أﻧﻪ إذا ﱠ ﺗﺤﲆ أي ﺷﺨﺺ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ٍ ﱠ ﻳﺘﺤﲆ ﺑﺎﻟﺤﻜﻤﺔ ﻷﻧﻪ إن ﻟﻢ ﻳﻔﻌﻞ ﻓﺴﻴﻜﻮن ﺑﺄيﱟ ﻣﻦ اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ اﻷﺧﺮى ﻓﻤﻦ املﺆﻛﺪ أﻧﻪ ً ﻓﺎﺿﻼ ،أﻣﺎ إن ﻛﺎن ﻳﺘﺤﲆ ﺑﻔﻀﻴﻠﺔ اﻟﺤﻜﻤﺔ ﻓﺴﻴﻜﻮن ﻗﺪ ﺗﺤﲆ ﻗﺪ ﻓﺸﻞ ﰲ أن ﻳﻜﻮن ﺑﺎﻟﻔﻀﺎﺋﻞ اﻷﺧﺮى ﻛﺎﻓﺔ؛ ذﻟﻚ أن ﻫﺬه اﻟﺤﻜﻤﺔ َﺳﺘُﻤَ ﱢﻜﻨ ُ ُﻪ ﻣﻦ إدراك أﻧﻪ ﻟﻦ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﺗﺤﻘﻴﻖ اﻟﺴﻌﺎدة دون ﻣﻤﺎرﺳﺔ اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ اﻷﺧﺮى ً أﻳﻀﺎ .وﻛﻤﺎ رأﻳﻨﺎ ﻓﻘﺪ اﻋﺘﻘﺪ ﺳﻘﺮاط أن اﻟﺴﻠﻮك ﺻﺢﱠ اﻷﺧﻼﻗﻲ ﻳﻌﻮ ُد ﺑﺎﻟﻨﻔﻊ ﻋﲆ اﻟ ﱡﺮوح ،وأن اﻟﺸﺨﺺ اﻟﴩﻳﺮ ﻳﺆذي ﻧﻔﺴﻪ روﺣﻴٍّﺎ .وإن َ 184
ﺷﻬﻴﺪ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ :ﺳﻘﺮاط واﻟﺴﻘﺮاﻃﻴﺎت
ﱟ ُﺪرك ﻫﺬه اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ وﻛﻞ ﻫﺬا ﻓﺴﻴﺪرك ﻣﻦ ﻛﺎن ﺣﻜﻴﻤً ﺎ ﺑﺤﻖ ﻫﺬه اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ .وﻛﻞ ﻣَ ْﻦ ﻳ ِ ﻣَ ْﻦ ﻳ َُﻘ ﱢﺪ ُر ﻗﻴﻤﺔ ُروﺣِ ِﻪ ﻛﻤﺎ ﻳﻔﻌﻞ ﻛﻞ رﺟﻞ ﺣﻜﻴﻢ ﺳﻴﺘﺠﻨﺐ ﺣﻴﻨﺌ ٍﺬ اﻷﻋﻤﺎل اﻟﻄﺎﻟﺤﺔ .وﻫﺬا ﱢ ﻳﻮﺿﺢ ملﺎذا اﻋﺘﻘﺪ ﺳﻘﺮاط أن أﺣﺪًا ﻻ ﻳﻔﻌﻞ اﻟﴩ ﻋﻦ ﻋﻠﻢ؛ ﻷﻧﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺮﺗﻜﺐ اﻹﻧﺴﺎن ﺧﻄﺄ ً ﻓﺈن اﻟﺘﻔﺴري اﻟﻮﺣﻴﺪ املﻌﻘﻮل ﻟﺬﻟﻚ ﻫﻮ أﻧﻪ ﻻ ﻳﻌﻠﻢ أن أﻓﻌﺎﻟﻪ ﺗﻠﻚ ﺗﺆذي ُروﺣﻪ؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﻬﻮ ﻳﺘﴫف ﻋﻦ ﺟﻬﻞ .وﺑﺸﻜﻞ ﻋﺎ ﱟم ﻓﺈن ﻫﺬه اﻻﻋﺘﺒﺎرات ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺪﻋَ ﻢ ﻓﻜﺮة ﺳﻘﺮاط اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮل إﻧﻪ إذا ﺳﺎﻋﺪت ﻣﺤﺎوراﺗﻪ اﻟﻨﺎس ﰲ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ اﻟﺤﻜﻤﺔ ﻓﺴﻴﻜﻮن ﻫﻮ ﻗﺪ ﺳﺎﻋﺪﻫﻢ ﰲ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ً أﻳﻀﺎ. وﰲ إﺣﺪى ﻣﺤﺎورات أﻓﻼﻃﻮن ﱠ ﻟﺨﺺ ﺳﻘﺮاط ﺟﺰءًا ﻛﺒريًا ﻣﻦ ﻧﻈﺮﻳﺘﻪ ﻋﻨﺪ إﻧﻬﺎﺋﻪ ملﻨﺎﻗﺸﺘﻪ ﻣﻊ ﻛﺎﻟﻴﻜﻠﺲ ،وﻫﻮ أﺣﺪ اﻟﻨﺒﻼء اﻟﺼﻐﺎر ﻳﻮﺷﻚ ﻋﲆ دﺧﻮل اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻌﺎﻣﺔ ً ﻗﺎﺋﻼ: ﻣﻦ اﻟﴬوري أن ﻳﻜﻮن اﻟﺮﺟﻞ املﻌﺘﺪل ﺻﺎﺣﺐ اﻟﻌﻘﻞ اﻟﺴﻠﻴﻢ ﻳﺎ ﻛﺎﻟﻴﻜﻠﺲ ﺻﺎﻟﺤً ﺎ — ﻛﻤﺎ أوﺿﺤﻨﺎ أﻧﻪ ﻋﺎدل وﺷﺠﺎع وﺗﻘﻲ — وﻳﺠﺐ ﻋﲆ اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺼﺎﻟﺢ أن ﻳﺘﻘﻦ أي ﳾء ﻳﻔﻌﻠﻪ ،وﻣﻦ ﻳﺘﻘﻦ ﻋﻤﻠﻪ ﻳﻌِ ﺶ ﺳﻌﻴﺪًا ﻣﻨﻌﱠ ﻤً ﺎ ،أﻣﺎ اﻟﴩﻳﺮ اﻟﺬي ﻳُﻔﺴﺪ ﻋﻤﻠﻪ ﻳﺼﺒﺢ ﺑﺎﻟﴬورة ً ﺑﺎﺋﺴﺎ. ﻫﻞ ﻧﺠﺢ ﺳﻘﺮاط ً ﻓﻌﻼ ﰲ أن ﻳﺜﺒﺖ ﻛﻞ ﻫﺬا؟ ﻟﻘﺪ أﺟﻔﻞ ﻣﺴﺘﻤﻌﻮه ﻛﺜريًا ﻣﻦ اﻟﻘﻔﺰات املﻨﻄﻘﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﻳﻘﻮم ﺑﻬﺎ دون ﻋﻨﺎء؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻇﻠﺖ أﺷﻴﺎء ﻛﺜرية ﻣَ ﺤَ ﱠﻞ ﺷﻚ وﺑﺨﺎﺻﺔ ٍّ ﻣﺤﻘﺎ ﰲ اﻋﱰاﺿﻪ ﻋﲆ ﺗﻠﻚ اﻟﻨﻘﻄﺔ ﺣﻴﺚ ﻳﻘﻮل: ﺣﺪﻳﺜﻪ ﻋﻦ اﻟﺴﻌﺎدة .وﻗﺪ ﻛﺎن أرﺳﻄﻮ »إن اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻘﻮﻟﻮن إن اﻟﻀﺤﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻌﺮض ﻟﻠﻤﻌﺎﻧﺎة ،أو اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺬي ﻳﺘﻌﺮض ﻟﻠﻤﺤﻦ ﻳﺴﻌﺪ إن ﻛﺎن ﺻﺎﻟﺤً ﺎ ﺳﻮاء ﻗﺼﺪ ذﻟﻚ أم ﻻ؛ ﻓﻜﻼﻣﻪ ﻫﺮاء ﻻ ﺻﺤﺔ ﻓﻴﻪ وﻻ ﻃﺎﺋﻞ ﻣﻦ وراﺋﻪ «.وﰲ إﺣﺪى امل ﱠﺮات ﻋ ﱠﻠﻖ أﺣﺪ املﺴﺘﻤﻌني ﻟﺴﻘﺮاط ﺑﻨﱪات ﻣﺮﺗﺒﻜﺔ ﺑﻘﻮﻟﻪ» :إذا ﻛﻨﺖ ﺟﺎدٍّا وﻛﺎن ﻣﺎ ﺗﻘﻮﻟﻪ ﺻﺤﻴﺤً ﺎ ﻓﻤﻦ املﺆﻛﺪ أن ﺣﻴﺎﺗﻨﺎ ﻧﺤﻦ اﻟﺒﴩ اﻟﻔﺎﻧني ﻣﻘﻠﻮﺑﺔ ً رأﺳﺎ ﻋﲆ ﻋﻘﺐ«. َ َ وﻫﺬا ﺑﺎﻟﻀﺒﻂ ﻫﻮ ﻣﺎ أراد ﺳﻘﺮاط ﻓﻌﻠﻪ :أﻻ وﻫﻮ إﻋﺎدة ﺻﻴﺎﻏﺔ أﻓﻜﺎر اﻟﻨﺎس ﻋﻦ اﻷﺧﻼق .وﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أن ﻫﺬا ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﺑﺎﻷﻣﺮ اﻟﺴﻬﻞ؛ ﻓﻠِﻜﻲ ﻳﺘﻤﻜﻦ ﻣﻦ ﻓﻌﻞ ذﻟﻚ ﺑﺎملﺠﺎدﻟﺔ ﻳﺠﺐ أن ﺗﻜﻮن املﻨﺎﻗﺸﺎت ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﺗﻤﺎم اﻻﺧﺘﻼف ﻋﻦ املﻨﺎﻗﺸﺎت اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ؛ ﻷن »ﻣﺎ ﻳُﻨ َ َﺎﻗ ُﺶ ﻟﻴﺲ أﻣ ًﺮا ﻋﺎدﻳٍّﺎ ﺑﻞ ﻛﻴﻒ ﻳﺠﺐ أن ﻧﻌﻴﺶ «.وﺳﻴﻜﻮن ﻣﻦ اﻟﴬوري أﺣﻴﺎﻧًﺎ اﺳﺘﺨﺪام َﻗﺪ ٍْر ﻣﻦ املﺒﺎﻟﻐﺔ واﻟﺘﺒﺴﻴﻂ إذا ﻣﺎ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻔﻜﺮة اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ﻣﺤَ ﻞ اﻟﻨﻘﺎش ﺗُ ْﻔ َﺮ ُ ض ﺑﺎﻟﻘﻮة ،ﻓﻌﻨﺪﻣﺎ ﻗﺎل ﺳﻘﺮاط ً ﻣﺜﻼ إن اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺼﺎﻟﺢ ﻻ ﻳﻤﺴﻪ اﻟﺴﻮء ،ﻟﻢ ﻳﻘﺼﺪ ﻣﻦ ذﻟﻚ أﻧﻪ ﺑﻤﻨﺄًى ﻋﻦ 185
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻷﺷﻴﺎء املﻜﺮوﻫﺔ ،ﺑﻞ ﻛﺎن ﻳﺤﺎول إﻗﻨﺎع ﻣﺴﺘﻤﻌﻴﻪ ﺑﺄن ﺗﻠﻚ املِ ﺤَ ﻦ أﻗﻞ وﻃﺄ ًة ﻣﻦ إﻓﺴﺎد اﻟﺮﺟﻞ ُروﺣﻪ .وﺑﺎملﺜﻞ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻗﺎل إن اﻹﻧﺴﺎن اﻟﴩﻳﺮ ﺑﺎﺋﺲ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﻌﻨﻲ أﻧﻪ ﻻ ﻳﻤﺮ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﺑﺄﻳﺎم ﺳﺎ ﱠرة .ﻟﻘﺪ ﻛﺎن ﻳَﻌِ ُ ﻆ ﻣَ ْﻦ ﻳﺴﻤﻌﻮﻧﻪ ﺣﺘﻰ ﻳﻘﺪروا ﻗﻴﻤﺔ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ﺑﺄوﺳﻊ ﻣﻌﺎﻧﻴﻬﺎ ،ورﺑﻤﺎ ﻟﻴﺸﻔﻘﻮا ﻋﲆ ﻣَ ْﻦ ﻟﻢ ﻳﺘﻤﻜﻦ ﻣﻦ اﻟﻮﺻﻮل إﻟﻴﻬﺎ .وﻋﻨﺪﻣﺎ ﻗﺎل إن اﻟﺼﻼح ﻳﺠﻠِﺐ اﻟﺜﺮاء وﻛﻞ اﻟﻨﻌﻢ اﻷﺧﺮى ،ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ِ ﻳﻘﺼﺪ أﻧﻪ ﺑﺘﻬﺬﻳﺐ اﻟﻨﻔﺲ ﻳﺼﺒﺢ اﻹﻧﺴﺎن ﺛﺮﻳٍّﺎ ﺑﺸﻜﻞ ﴎﻳﻊ .وﰲ ﻫﺬا اﻟﺴﻴﺎق اﻟﺬي اﻫﺘﻢ ﻓﻴﻪ ﺑﻨﻔﻲ أن اﻟﺜﺮوة ﺗﺠﻠﺐ اﻟﺼﻼح أﻛﺜﺮ ﻣﻦ اﻫﺘﻤﺎﻣﻪ ﺑﺈﻗﻨﺎع اﻟﻨﺎس ﺑﺎﻟﻌﻜﺲ ،رﺳﻢ ﺳﻘﺮاط ﺻﻮرة ﻷﻓﻀﻞ أﻧﻮاع اﻟﺤﻴﺎة اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻳﺴﻌﻰ ﻓﻴﻬﺎ اﻹﻧﺴﺎن ﺧﻠﻒ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺻﺎﻟﺢ وﻳﺴﺘﻤﺘﻊ ﺑﻪ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻛﺎﻣﻞ؛ ﺑﻔﻀﻞ ﻣﻤﺎرﺳﺔ اﻟﺤﻜﻤﺔ اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ واﻟﻔﻀﺎﺋﻞ اﻷﺧﺮى. وﻟﻴﺴﺖ ﻫﺬه ﻓﻌﻠﻴٍّﺎ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻋﺎدﻳﺔ ﻣﻦ املﺒﺎدئ ،ﺑﻞ إﻧﻬﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﻣﺒﺎدئ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق. إن ﻣﺎ أُﻃﻠﻖ ﻋﻠﻴﻪ ﻧﻈﺮﻳﺔ ﺳﻘﺮاط ﻋﻦ اﻟﺤﻴﺎة اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻟﻢ ﻳﻘﺪﻣﻪ ﺳﻘﺮاط ﻣﺒﺎﴍة ﺑﻬﺬا اﻟﺸﻜﻞ؛ ﻓﻬﺬه اﻷﻓﻜﺎر ﻫﻲ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺘﻲ اﻋﺘﻤﺪ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻋﻨﺪ اﺳﺘﺠﻮاﺑﻪ ﻟﻶﺧﺮﻳﻦ أو اﻟﺘﻲ ﻗﺎوﻣﺖ املﺤﺎﻛﻤﺔ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻹﺷﻜﺎﻟﻴﺎت اﻟﺠﺪﻟﻴﺔ .وﻛﺎن اﻟﻬﺪف اﻟﻨﻬﺎﺋﻲ اﻟﺬي رﺑﻤﺎ ﻟﻢ ﻳﺘﺤﻘﻖ ﻗﻂ ﻫﻮ إﻧﺘﺎج ﻧﻮع ﻣﻦ املﻌﺮﻓﺔ املﺘﺨﺼﺼﺔ ،ﻛﻤﺎ املﻌﺮﻓﺔ املﺘﺨﺼﺼﺔ ﻟﻠﺤﺮﻓﻴني املﻬَ ﺮة ،رﻏﻢ أﻧﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﺨﺘﺺ ﺑﺼﻨﺎﻋﺔ اﻷﺣﺬﻳﺔ وﻻ ﺑﺎملﻌﺎدن وﻟﻜﻦ ﺑﺎﻟﺤِ ﺮﻓﺔ اﻷم وﻫﻲ اﻟﻌﻴﺶ اﻟﺴﻠﻴﻢ. وﻻ ﻳﺠﺐ اﻟﻨﻈﺮ إﱃ ﻣﺎ اﻧﺘﻬﻰ إﻟﻴﻪ ﺳﻘﺮاط ﻣﻦ املﻨﺎﻗﺸﺎت ﻋﲆ أﻧﻪ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻣﺠﺮد ﺧﻄﻮات ﻣﺘﻌﺜﱢﺮة ﰲ ﺳﻌﻴﻪ إﱃ املﻌﺮﻓﺔ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ املﺘﺨﺼﺼﺔ .وأﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻣﺎ اﻧﺤﺮف ﺳﻘﺮاط ﻋﻦ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﻛ ﱠﻠﻤﺎ ﺗﻤ ﱠﻠﻖ ﺳﻘﺮاط إﱃ رﻓﺎق دَر ِﺑﻪ أو ﺣﺜﻬﻢ ﻋﲆ اﻟﺴﻌﻲ ﺑﻮﺧﺰاﺗﻪ اﻟﺴﺎﺧﺮة أو ﺑﺘﻘﺪﻳﻢ ﺣﺠﺔ ﺗﺠﺬِﺑﻬﻢ ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺸﻮﱢق )أو ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﺗﺪﻓﻌﻬﻢ إﱃ اﻟﺘﻮﻗﻒ واﻟﺘﻔﻜري( .وﻛﺎﻧﺖ اﻟﻨﺘﻴﺠﺔ ﻛﻤﺎ ﻗﺎل ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻫﻲ ﺣﻜﻤﺔ ﻣﻔﻌَ ﻤﺔ ﺑﺎملﺰاح .وﻷن ﻣﺎ ﺣﺎول ﺳﻘﺮاط اﻟﻮﺻﻮل إﻟﻴﻪ ﻛﺎن ﻧﻮﻋً ﺎ ﻣﻦ اﻟﺤﻜﻤﺔ ﻳﺘﻤﻴﺰ ﺑﻄﺎﺑَﻊ أﺧﻼﻗﻲ؛ ﻓﻘﺪ اﺻﻄﺒﻐﺖ ﻣﺤﺎوراﺗﻪ ﺑﺎﻟﻮﻋﻆ واملﺜﺎﻟﻴﺔ وﻣﺨﺎﻃﺒﺔ اﻟﻌﺎﻃﻔﺔ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ واملﻨﻄﻖ واﻟﻔﻄﺮة اﻟﺴﻠﻴﻤﺔ ﻋﲆ ﺣَ ﱟﺪ ﺳﻮاء .وﻟﻬﺬا ﺑﺪا أن ﺗﻠﻚ املﺤﺎورات — ﻣﻦ وﺟﻬﺔ اﻟﻨﻈﺮ املﺠ ﱠﺮدة وﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ ﻣﺤﺎوﻻت ﻟﻠﻮﺻﻮل إﱃ ﻣﻨﻄﻖ ﺧﺎﻟﺺ — ﺗﺘﻀﻤﱠ ﻦ ﻓﺠﻮات ﻏري ﻣﻌﻘﻮﻟﺔ ﻣﻦ اﻟﻨﻮع اﻟﺬي ﻻﺣﻈﻪ أرﺳﻄﻮ. وﻟﻢ ﻳﻘﺪﱢم ﺳﻘﺮاط ﺗﺼﻮ ًرا ﻣﻠﻬﻤً ﺎ ﻋﻦ اﻟﺤﻴﺎة املﺜﺎﻟﻴﺔ ﻓﺤﺴﺐ ،ﺑﻞ إن أﺳﻠﻮب ﺣﺪﻳﺜﻪ ُﺰاوج ﺑني اﻟﻮﻋﻆ واملﻨﻄﻖ ،وﻫﻮ اﻟﺴﺒﺐ ﰲ اﻋﺘﺒﺎر أﺳﻠﻮﺑﻪ إﺿﺎﻓﺔ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺠﺪﻟﻴﺔ وإﺛﺮاءً ﻳ ِ ﻟﻬﺎ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ اﻟﻮﻋﻆ اﻟﺪﻳﻨﻲ؛ ﻓﻜﻞ ﻣﺎ ﻳﻘﻮﻟﻪ ﻳﺄﺗﻲ ﰲ ﺳﻴﺎق ﺟﺪﱄ ﺣﻴﺚ ﺗُ ْ ﻄ َﻠﺐُ اﻷﺳﺒﺎب وﺗُ ْﺨﺘَ َﱪُ اﻻﺳﺘﻨﺘﺎﺟﺎت وﺗُﻨ َ ﱠﻘﺢُ اﻟﺘﻌﺮﻳﻔﺎت وﺗُ ْﺴﺘَﻨْﺒَ ُ ﻂ اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ وﺗُ ْﺴﺘَﺒْﻌَ ُﺪ اﻟﻔﺮﺿﻴﺎت .وﻫﺬا ﻫﻮ 186
ﺷﻬﻴﺪ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ :ﺳﻘﺮاط واﻟﺴﻘﺮاﻃﻴﺎت
اﻟﺠﺪﱢﻳﺔ ﻣﺎ ﻳﻜﻔﻲ ﻟﻠﺘﻌﺎﻣُﻞ ﺑﺈﻧﺼﺎف ﻣﻊ ﻣﺴﺄﻟﺔ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺴﻠﻴﻤﺔ؛ املﺬﻫﺐ اﻟﻮﺣﻴﺪ اﻟﺬي ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ِ ﱠ ﺪال ﻣﺪﻋﻮم ﺑﺎﻟﱪاﻫني .وﻻ وﻟﺬﻟﻚ ﻳﺮى ﺳﻘﺮاط أن اﻟﻮﻋﻆ املﺴﺌﻮل ﻳﺘﻌني ﺗﻀﻤﻴﻨﻪ ﰲ ِﺟ ٍ ﻳﻤ ِﻜﻦ ﻟﻠﺘﻠﺨﻴﺺ املﺠﺮد ﻻﺳﺘﻨﺘﺎﺟﺎت ﺳﻘﺮاط املﺮﺣﻠﻴﺔ ﻛﺬﻟﻚ اﻟﺬي ﻋﺮﺿﻨﺎه ﻫﻨﺎ أن ﱢ ﻳﺒني ﻗﻮة ﻣﺰﺟﻪ ﺑني املﺜﺎﻟﻴﺔ واملﻨﻄﻖ اﻟﻮاﻗﻌﻲ؛ إذ إن ﻫﺬا اﻟﺘﻠﺨﻴﺺ ﺑﺎﻟﴬورة ﻳﺠﻌﻞ أﻓﻜﺎره ﻛﴪب ﻣﻦ اﻷﺳﻤﺎك اﻟﺘﻲ ﻟﻔﻈﻬﺎ اﻟﺒﺤﺮ ﻋﲆ اﻟﺸﺎﻃﺊ وﺗﻌﺎﻧﻲ ﻟﻠﻌﻮدة إﻟﻴﻪ .ﻟﻘﺪ ﺗﺮﻋﺮﻋﺖ ٍ أﻓﻜﺎره أﺛﻨﺎء َﺳﺒْﺤِ ِﻪ ﰲ ﺑﺤﺮ اﻟﺠﺪال ،وﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﻨﻈﺮ إﻟﻴﻬﺎ اﻵن إﻻ ﰲ ﺳﻴﺎق ﻣﺤﺎورات أﻓﻼﻃﻮن اﻷوﱃ. ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺳﻘﺮاط ﻣﻌﻠﻤً ﺎ ﻳﺴﻬُ ﻞ اﺗﺒﺎﻋﻪ؛ وﻣﻦ أﻫﻢ أﺳﺒﺎب ذﻟﻚ أﻧﻪ رﻓﺾ ﺑﺈﴏار أن ﻳﻜﻮن ﻣﻌﻠﻤً ﺎ .وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﻠﻴﺲ ﻣﻦ املﺪﻫِ ﺶ أن ﻧ َ ِﺠ َﺪ ﺑﻌﺾ أﺻﺪﻗﺎﺋﻪ أرادوا ﺑﻌﺪ وﻓﺎﺗﻪ أن ﻳﺴﺘﻜﻤﻠﻮا ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺎ .وﺑﻤﺎ أﻧﱠﻪ ﻛﺎن وﻻ ﻳﺰال ﻣﻦ اﻟﺼﻌﺐ ﺗﺤﺪﻳﺪ ﻣﺎ وﺻﻞ إﻟﻴﻪ ﻫﺬا اﻟﻌﻤﻞ اﻟﺼﺎﻟﺢ ٍ ﻫﺬا اﻟﻌﻤﻞ؛ ﻓﻠﻴﺲ ﻣﻦ املﺪﻫﺶ ً أﻳﻀﺎ أن ﻧ َ ِﺠ َﺪ ﺧﻠﻔﺎء ﺳﻘﺮاط املﺴﺘﻘﺒﻠﻴني وﻗﺪ اﻧﺘﻬﻰ ﺑﻬﻢ اﻷﻣﺮ ﺑﺘﺒﻨﱢﻲ ﻗﻀﺎﻳﺎ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ .ﻛﺎن أﻓﻼﻃﻮن أﻋﻈﻢ ﻣَ ْﻦ ﺧ َﻠﻔﻪ .أﻣﺎ اﻟﺒﻘﻴﺔ ﻓﻜﺎﻧﻮا ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﺘﻨﻮﻋﺔ ،وﻟﻜﻦ ﻛﺎن ﻟﺜﻼﺛﺔ ﻣﻨﻬﻢ ﺗﺄﺛري ﻣﻠﺤﻮظ ﺑﺸﻜﻞ أو آﺧﺮ. وﻗﺪ ﺻﺎر اﺛﻨﺎن ﻣﻤﱠ ﻦ ﻛﺎﻧﻮا ﺣﺎﴐﻳﻦ وﻗﺖ وﻓﺎة ﺳﻘﺮاط — وﻫﻢ أﻧﺘﻴﺰﻳﻨﻴﺲ اﻷﺛﻴﻨﻲ ﱢ ﻣﺆﺳ َﺴ ْني ملﺪارس ﻓﻜﺮﻳﺔ اﺳﺘﻤ ﱠﺮت آﺛﺎرﻫﺎ ﻟﻌﺪة ﻗﺮون وإﻗﻠﻴﺪس املﻴﺠﺎري — ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌ ُﺪ ﺗﺎﻟﻴﺔ أو أﺑﻮﻳﻦ ُروﺣﻴ ْﱠني ﻟﻬﺎ .وﻟﻢ ﺗﺴﺘﻤﺮ املﺪرﺳﺔ اﻟﺘﻲ أﻧﺸﺄﻫﺎ رﻓﻴﻖ ﺛﺎﻟﺚ ﻟﺴﻘﺮاط وﻫﻮ أرﺳﻄﻴﺒﻮس اﻟﻘﻮرﻳﻨﻲ ﰲ ﻟﻴﺒﻴﺎ )ﺣﻮاﱄ ٣٥٥–٤٣٥ق.م( ﺑﺎﻟﺸﻜﻞ ﻧﻔﺴﻪ ،وﻟﻜﻦ ذﻟﻚ ﻟﻢ ﻳﻤﺜﻞ ﺧﺴﺎرة ﻛﺒرية .وﻛﺎن ﻣﺎ ﻓﻌﻠﻪ أرﺳﻄﻴﺒﻮس وأﺗﺒﺎﻋﻪ ﺑﺘﻌﺎﻟﻴﻢ ﺳﻘﺮاط ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﻦ اﻷﻫﻤﻴﺔ ﺑﻤﻜﺎن ﻛﻤﺜﺎل ﻋﲆ أن أﺗﺒﺎع ﺳﻘﺮاط ﻛﺎﻧﻮا ﺑﺴﻬﻮﻟﺔ ﻳﺒﺎﻟﻐﻮن ﻓﻴﻤﺎ ﺗﻌﻠﻤﻮه وﻳﺤﺮﻓﻮﻧﻪ. ٍ ﻟﻘﺪ ﺗﻔ ﱠﺮغ اﻟﻘﻮرﻳﻨﻴﻮن اﻟﺬﻳﻦ اﺗﱠﺒﻌﻮا أرﺳﻄﻴﺒﻮس ﻟﻠﻤﺘﻌﺔ ﻟﻜﻦ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻓﻠﺴﻔﻴﺔ ﻏﺮﻳﺒﺔ. ﻓﻔﻲ ِﻇ ﱢﻞ اﻧﺒﻬﺎر أرﺳﻄﻴﺒﻮس ﺑﺎﻟﺘﺤ ﱡﻜﻢ اﻟﻌﻘﻼﻧﻲ ﰲ اﻟﻨﻔﺲ ﻟﺪى ﺳﻘﺮاط ﺣَ ﱠﻮ َل اﻧﻀﺒﺎﻃﻪ إﱃ ﺳﻌﻲ ُﻣ َﻜ ﱠﺮ ٍس ﻹﺷﺒﺎع رﻏﺒﺎﺗﻪ .وﺑﻴﻨﻤﺎ ﻟﻢ ﻳ َِﺠ ْﺪ ﺳﻘﺮاط ﺣﺮﺟً ﺎ ﰲ اﻻﺳﺘﻤﺘﺎع ﺑﻤَ َﻠﺬﱠ ِ ات اﻟﺤﻴﺎة — ﴍﻳﻄﺔ ﱠأﻻ ﻳﺘﻌﺎرض ذﻟﻚ ﻣﻊ ﺳﻌﻴﻪ إﱃ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ﺑﺎﻟﻄﺒﻊ — ﻟﻢ ﻳ َِﺠ ْﺪ أرﺳﻄﻴﺒﻮس داﻋﻴًﺎ ﻟﻔﻌﻞ ﻣﺎ ﺳﻮى ذﻟﻚ .وﺑﻌﺪ وﻓﺎة ﺳﻘﺮاط أﺻﺒﺢ أرﺳﻄﻴﺒﻮس ﻣﻬﺮﺟً ﺎ ﻣﻠﻜﻴٍّﺎ رﺳﻤﻴٍّﺎ ﻟﺪﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس اﻷول اﻟﺤﺎﻛﻢ املﺴﺘﺒ ﱢﺪ ﻟﴪﻗﻮﺳﺔ ﰲ ﺻﻘﻠﻴﺔ اﻟﺬي اﺷﺘﻬﺮ ﺑﻮﻓﺎﺗﻪ أﺛﻨﺎء ﴍﺑﻪ ً اﺣﺘﻔﺎﻻ ﺑﻔﻮزه ﺑﺠﺎﺋﺰة ﰲ ﻣﺴﺎﺑﻘﺔ ﻣﴪﺣﻴﺔ. اﻟﺨﻤﺮ 187
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
أرﺳﻄﻴﺒﻮس.
وﻗﺪ ﻛﺎن أﺳﺎس ﺳﻌﻲ أرﺳﻄﻴﺒﻮس ﻧﺤﻮ املﺘﻌﺔ اﻟﺼﺎﺧﺒﺔ أو ﻣﺎ ﺳﻮاﻫﺎ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻳﺒﺪو ً ﺻﺎدﻗﺎ ،وﻛﺎن اﺗﱢﺒﺎﻋً ﺎ ملﺬﻫﺐ ﺳﻘﺮاط ﰲ ﺟُ ْﺰءٍ ﻣﻨﻪ .وﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل ﻣﻊ ﻣﻌﻈﻢ أﺻﺤﺎب اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ﻳُﺤَ ﺬﱢ ُر ﺳﻘﺮاط ﻣﻦ أن ﻳﺼﺒﺢ اﻹﻧﺴﺎن ﻋﺒﺪًا ﻟﺮﻏﺒﺎﺗﻪ .وﻳﺘﱠﻔﻖ أرﺳﻄﻴﺒﻮس ﻣﻊ ﻫﺬا اﻟﻜﻼم ،وﻟﻜﻦ ﺗﻔﺴريه املﺒﺘﺪع ﻟﻪ ﻳﻌﻨﻲ ﻓﺮض اﻟﺴﻠﻄﺔ ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﺮﻏﺒﺎت ﺑﺠﻌﻠﻬﺎ ﺗﻌﻤﻞ وﻗﺘًﺎ إﺿﺎﻓﻴٍّﺎ ﻟﺤﺴﺎﺑﻪ .وﻗﺪ ﺟﻌﻠﻪ ﻫﺬا ﺳﻌﻴﺪًا ،وﻟﻜﻦ ﻣﺎ اﻟﻌﻴﺐ ﰲ اﻟﺴﻌﺎدة ﻋﲆ أﻳﺔ ﺣﺎل؟ أﻟﻢ ﻳَﻌِ ْﺪ ﺳﻘﺮاط ﺑﺎﻟﺴﻌﺎدة ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ ﺣﺎﻓ ًﺰا ﻋﲆ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ؟ ﻓﻼ ﺣﺮج ﰲ ذﻟﻚ إذن. ً ﺗﻌﺮﻳﻔﺎ ﻣﻐﻠﻮ ً ﻃﺎ ﻋﻦ اﻟﺴﻌﺎدة ﺑﺄﻧﻬﺎ ﺣﺎﻟﺔ ﻣﻦ اﻹﺷﺒﺎع اﻟ ﱡﺮوﺣﻲ ﻳﺴﺒﺒﻪ ﻟﻘﺪ ﻗﺪﱠم ﺳﻘﺮاط اﻟﻌﻴﺶ اﻟﻨﺒﻴﻞ .ﻫﻨﺎ ﺳﻌﻰ أرﺳﻄﻴﺒﻮس ﻟﻼﺧﺘﻼف ﺑﻜﻞ ﻗﻮﺗﻪ؛ ﻓﺤﺴﺐ ﻗﻮﻟﻪ ﱠ ﻓﺈن اﻟﺴﻌﺎدة اﻟﺘﻲ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻟﻺﻧﺴﺎن أن ﻳﺴﻌﻰ إﻟﻴﻬﺎ ﻫﻲ املﺘﻌﺔ اﻟﺠﺴﺪﻳﺔ ﺣﻴﺚ اﻋﺘﱪ أن ﻫﺬه املﺘﻌﺔ ﻫﻲ املﻌﻴﺎر اﻟﻮﺣﻴﺪ اﻟﺼﺎﻟﺢ ملﻌﺮﻓﺔ ﻣﺎ ﻫﻮ اﻟﺼﺎﻟﺢ وﻣﺎ ﻫﻮ اﻟﻄﺎﻟﺢ ﺑﺸﻜﻞ ﻋﺎمﱟ .وﻳﺒﺪو أﻧﻪ اﻋﺘﻘﺪ أﻧﻪ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ ﺑﺄي ﳾء ﺳﻮى ﺣﻮاس اﻹﻧﺴﺎن ﻧﻔﺴﻪ ،وﻫﻲ ﻓﻜﺮة ﻓﻠﺴﻔﻴﺔ َ داﻓﻊ ﻋﻨﻬﺎ اﻟﻜﺜريون ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ؛ ﻟﺬﻟﻚ ﻓﺈن اﻹﺣﺴﺎس ﺑﺎﻟﻠﺬة — واﻟﺬي 188
ﺷﻬﻴﺪ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ :ﺳﻘﺮاط واﻟﺴﻘﺮاﻃﻴﺎت
ﻛﺎن ﺑﻼ رﻳﺐ ﺷﻴﺌًﺎ ﺟﻴﺪًا ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﺎ ﺣﺘﻰ إن ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻫﻨﺎك ﺳﻮاه — رﺑﻤﺎ ﻛﺎن اﻟﴚء املﻨﻄﻘﻲ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻔﻴﻠﺴﻮف ﻟري ﱢﻛﺰ ﻋﻠﻴﻪ ﰲ ﻇﻞ ﻋﺎﻟﻢ ﻣﻠﺘﺒﺲ. وﻟﺬﻟﻚ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن اﻟﺴﻌﻲ وراء املﻠﺬﱠات أﻣ ًﺮا ﺟﺎدٍّا ،وﻛﺎﻧﺖ وﻇﻴﻔﺔ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف أن ﻳُ َ ﻄ ﱢﻮ َع رﻏﺒﺎﺗﻪ وﻇﺮوﻓﻪ ملﻀﺎﻋﻔﺔ إﺣﺴﺎﺳﻪ ﺑﺎﻟ ﱠﻠﺬﱠة ،وأن ﻳﻨﻘﻞ اﻟﺤﻜﻤﺔ ﻣﻦ أﺳﻠﻮب اﻟﻌﻴﺶ ﻫﺬا إﱃ ً ﻣﻘﺎﺑﻼ ﻟﺘﻠﻚ اﻟﻨﺼﻴﺤﺔ اﻟﻘﻴﻤﺔ(. اﻵﺧﺮﻳﻦ )اﻟﺬﻳﻦ وﺟﺐ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺑﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﺎل أن ﻳﺪﻓﻌﻮا ﻟﻘﺪ ﺗﻄ ﱠﻠﺐ اﻷﻣﺮ ﺿﺒﻂ اﻟﻨﻔﺲ ﻟﻴﺘﻤﻜﻦ ﺳﻘﺮاط ﻣﻦ إﻧﺠﺎز ﻫﺬه املﻬﻤﺔ ﺑﺸﻜﻞ ﺻﺤﻴﺢ ،أو ﻫﻜﺬا ﻇﻦ أرﺳﻄﻴﺒﻮس ،وﻛﺎن ﻣﻦ املﻬﻢ ﱠأﻻ ﺗﴫﻓﻪ ﻣﺴﺎﻋﻲ اﻵﺧﺮﻳﻦ اﻟﺘﻲ ﻗﺪ ﺗﻠﻬﻲ اﻹﻧﺴﺎن ﻋﻦ املﻄﻠﺐ اﻟﻌﻤﲇ اﻟﻮاﺿﺢ واﻟﻮﺣﻴﺪ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة وﻫﻮ املﺘﻌﺔ .وﻟﻢ ﺗَ ُﻜ ِﻦ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت واﻟﻌﻠﻮم ً ُ ﺗﺠﺎﻫﻠﻬﻤﺎ .وﻫﻨﺎ ﻳﻤﻜﻦ اﺳﱰﺟﺎع ﻣﺜﺎل ﺳﻘﺮاط ﻣﺮة أﺧﺮى ﻣﺜﻼ ذواﺗﻲ ﻓﺎﺋﺪة وﻛﺎن ﻳﻨﺒﻐﻲ ﺑﺼﻌﻮﺑﺔ .أﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻳﺒﺤﺚ ﺑﻼ اﻧﻘﻄﺎع ﰲ ﻛﻴﻔﻴﺔ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺴﻠﻴﻤﺔ ﻋﲆ ﺣﺴﺎب ﻛﻞ اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ اﻷﺧﺮى؟ ﻛﺎن ﺳﻘﺮاط ﻟﻴﺴﺘﻤﺘﻊ ﺑﺘﻌﺮﻳﻒ أرﺳﻄﻴﺒﻮس واﻟﻘﻮرﻳﻨﻴني اﻵﺧﺮﻳﻦ ﻛﻴﻒ أﻧﻬﻢ ﻣﺨﻄﺌﻮن ،وﻛﺎن ﻟريﻏﺐ ً ﻣﺜﻼ ﰲ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﻣﺎذا ﺣﺪث ﻟﻠﻌﺪاﻟﺔ واﻟﻔﻀﺎﺋﻞ اﻷﺧﺮى اﻟﺘﻲ دَﻋَ ﺎ إﻟﻴﻬﺎ .ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﻟريﻓﺾ ﻛﺬﻟﻚ أﻓﻜﺎر اﻟﻜﻠﺒﻴني رﻏﻢ أﻧﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺜرية ﻟﻼﻫﺘﻤﺎم .ﻓﻌﲆ ﻏﺮار اﻟﻘﻮرﻳﻨﻴني ﴎق أﻧﺘﻴﺰﻳﻨﻴﺲ )ﺣﻮاﱄ ٣٦٠–٤٤٥ق.م( وﻣَ ْﻦ ﺗﺒﻌﻪ ﻣﻦ اﻟﻜﻠﺒﻴني ﺑﻌﺾ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺘﻲ ﺗﻠﻘﻮﻫﺎ ﻣﻦ ﺳﻘﺮاط وأﺧﺮﺟﻮﻫﺎ ﻣﻦ ﺳﻴﺎﻗﻬﺎ .وﻗﺪ وﺻﻒ أﻓﻼﻃﻮن دﻳﻮﺟني ﱠ وﻟﻜﻦ اﻟﻜﻠﺒﻴني ﺣﺎﻓﻈﻮا اﻟﻜﻠﺒﻲ ،وﻫﻮ أﺣﺪ أﺗﺒﺎع أﻧﺘﻴﺰﻳﻨﻴﺲ ،ﺑﺄﻧﻪ »ﺳﻘﺮاﻃﻲ ﻓﻘﺪ ﻋﻘﻠﻪ«. ﻋﲆ ﻣرياﺛﻬﻢ ﻣﻦ ﺳﻘﺮاط ﺑﺸﻜﻞ أﻓﻀﻞ ﻣﻦ أرﺳﻄﻴﺒﻮس ،وﻛﺎن ﻣﺬﻫﺒﻬﻢ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﻋﲆ اﻟﻨﻘﻴﺾ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻣﻦ اﻻﻧﻐﻤﺎس اﻟﻘﻮرﻳﻨﻲ. ﻟﻘﺪ رأى أﻧﺘﻴﺰﻳﻨﻴﺲ ﻣﺜﻞ أرﺳﻄﻴﺒﻮس أن ﻗﻮة ﺳﻘﺮاط اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﴐورﻳﺔ ﻟﻠﺴﻌﻲ ﻧﺤﻮ اﻟﺴﻌﺎدة؛ وﻫﻨﺎ ﻳﻨﺘﻬﻲ اﻻﺗﻔﺎق ﺑﻴﻨﻪ وﺑني أرﺳﻄﻴﺒﻮس ﺣﻴﺚ آﻣﻦ أﻧﺘﻴﺰﻳﻨﻴﺲ أن اﻟﺴﻌﺎدة ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ﰲ إﺷﺒﺎع اﻟﺮﻏﺒﺎت ﻛﻤﺎ اﻋﺘﻘﺪ اﻟﻘﻮرﻳﻨﻴﻮن ﺑﻞ ﰲ ﻓﻘﺪاﻧﻬﺎ؛ ﻓﻘﺪ اﻧﺒﻬﺮ أﻧﺘﻴﺰﻳﻨﻴﺲ ﺑﻌﺪم اﻛﱰاث ﺳﻘﺮاط ﺑﺎﻟﺜﺮوة واﻟﻨﻌﻴﻢ ،وﺣَ ﱠﻮ َل ﻫﺬا إﱃ ﻓﻠﺴﻔﺔ زاﻫﺪة ﺗُ َﺮﺣﱢ ﺐُ ﺑﺎﻟﻔﻘﺮ ،ﻓﻘﺪ ﻗﺎل ﺳﻘﺮاط ﻋﲆ أﻳﺔ ﺣﺎل إن اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺼﺎﻟﺢ ﻻ ﻳَﻤَ ﱡﺴ ُﻪ ﺳﻮء .وﻗﺪ اﺳﺘﻨﺘﺞ أﻧﺘﻴﺰﻳﻨﻴﺲ أﻧﻪ ﻣﺎ دام اﻹﻧﺴﺎن ﻗﺪ ﻇﻞ ﺻﺎﻟﺤً ﺎ ﻓﻼ ﳾء ﻳ ُِﻬ ﱡﻢ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ .وﻻ رﻳﺐ أن ﻫﺬا اﻟﻘﻮل ﻳﺘﺠﺎوز ﺳﻘﺮاط اﻟﺬي ﻟﻢ ﻳﻨﻜﺮ أﺑﺪًا أن اﻣﺘﻼك اﻟﺜﺮوة أو اﻷﻣﻼك إن و ُِﺿﻌَ ْﺖ ﰲ ﻣﻮﺿﻌﻬﺎ اﻟﺴﻠﻴﻢ ﺧريٌ ﻣﻦ ﻋﺪﻣﻪ ،ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻋﺪم اﻛﱰاﺛﻪ اﻟﻈﺎﻫﺮ ﺑﻬﻤﺎ — ﺑﺨﻼف ﴍود اﻟﺬﻫﻦ — ﻧﺘﻴﺠﺔ ﺛﺎﻧﻮﻳﺔ ﻟﻠﺴﻌﻲ اﻟﺤﺜﻴﺚ ﻧﺤﻮ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ وﺳﻼﻣﺔ اﻟ ﱡﺮوح. 189
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
أﻧﺘﻴﺰﻳﻨﻴﺲ.
ُ ﻟﺘﺠﺎﻫﻞ اﻟﻌﺎدات واﻟﻘﻴﻢ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ إذا ﺗﻄﻠﺒﺖ وﺑﻴﻨﻤﺎ ﻛﺎن ﺳﻘﺮاط ﻋﲆ اﺳﺘﻌﺪاد ﻣﺒﺎدِ ﺋُﻪ ذﻟﻚ ،ﺑﺪا أﻧﺘﻴﺰﻳﻨﻴﺲ وﻛﺄﻧﻪ ﻳﺴﻌﻰ ﻧﺤﻮ اﻟﻼﺗﻘﻠﻴﺪﻳﺔ ﰲ ﺣَ ﱢﺪ ذاﺗﻬﺎ ،ﻓﺈذا ﻛﺎن ﻫﻨﺎك ﻣﺎ ﻟﻴﺲ ﺑﻌﻤﻞ ﻓﺎﺿﻞ وﻻ ﴍﻳﺮ ،ﻓﻼ ﻓﺮق إذا ﻗﺎم اﻹﻧﺴﺎن ﺑﻬﺬا اﻟﻌﻤﻞ أو اﻣﺘﻨﻊ ﻋﻨﻪ. وﻳﻤﻜﻦ ﺗﺼﻮﱡر ﺗﻠﻚ اﻟﻔﻜﺮة ﻛﺈرﺷﺎدات ﻓﻌﱠ ﺎﻟﺔ ﻟﻴﺼﺒﺢ اﻹﻧﺴﺎن ﻏﺮﻳﺐ اﻷﻃﻮار .ﻓﺎﻟﺮﺟﻞ اﻟﺤﻜﻴﻢ ﺑﺘﺤ ﱡﺮره ﻣﻦ اﻟﺮﻏﺒﺔ ﰲ اﻟﺘﻤ ﱡﻠﻚ وﻣﻦ اﻟﺴﻠﻮك املﺄﻟﻮف ،ﻳﻤﻜﻨﻪ أن ﻳﺴري ﰲ اﻷرض ﻣﻬﺎﺟﻤً ﺎ ﻋﺎدات املﺠﺘﻤﻊ اﻟﺤﻤﻘﺎء وأن ﻳﻤﻴﺰ ﻧﻔﺴﻪ ﻋﻤﻮﻣً ﺎ .وﻛﺎن أﻧﺘﻴﺰﻳﻨﻴﺲ ﻳُﻌَ ﱢﺰي ﻧﻔﺴﻪ ﺑﻤﻌﺮﻓﺘﻪ أن اﻟﻘﻴﻢ املﺄﻟﻮﻓﺔ ﻻ ﺗﺴﺎوي ﺷﻴﺌًﺎ وﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻋﻦ اﻟﻘﻴﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻟﻠﺤﻴﺎة اﻟﺴﻠﻴﻤﺔ .وﻟﺴﻮء اﻟﺤﻆ ﻟﻢ ﻳﺘﻀﺢ ﻗﻂ ﻣﺎ ﻫﻲ اﻟﻘﻴﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ وﻣﺎ ﻫﻲ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ، ﻓﺄﻧﺘﻴﺰﻳﻨﻴﺲ ﻛﺎن ﻳﺠﻴﺪ اﻧﺘﻘﺎد ﻣﺎ ﻻ ﻳﺪﺧﻞ ﰲ ﺧﺼﺎﺋﺼﻬﻤﺎ. ﻧﺰل دﻳﻮﺟني اﻟﺴﻴﻨﻮﺑﻲ )ﺣﻮاﱄ ٣٢٥–٤٠٠ق.م( — وﺳﻴﻨﻮب ﻣﺪﻳﻨﺔ ﺗﻘﻊ ﻋﲆ اﻟﺒﺤﺮ ﻳﻠﺘﺰم ﺑﺎﻟﺘﻌﺎﻟﻴﻢ اﻷﺳﻮد — ﺑﺄﺛﻴﻨﺎ وﻓﺘﻨﺘﻪ أﻓﻜﺎر أﻧﺘﻴﺰﻳﻨﻴﺲ ،وﻟﻜﻨﻪ رأى أن أﻧﺘﻴﺰﻳﻨﻴﺲ ﻟﻢ ِ اﻟﺘﻲ وﺿﻌﻬﺎ ﺑﻨﻔﺴﻪ ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ذﻟﻚ ﺑﻐﺮﻳﺐ .وﻗﺪ أﺿﺎف دﻳﻮﺟني اﻟﻜﺜري إﱃ أﻧﺘﻴﺰﻳﻨﻴﺲ 190
ﺷﻬﻴﺪ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ :ﺳﻘﺮاط واﻟﺴﻘﺮاﻃﻴﺎت
ﺑﺸﻜﻞ راﺋﻊ ﺧﺎﺻﺔ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﻐﺮاﺑﺔ اﻷﻃﻮار واﻟﻌﻴﺶ ﻏري املﺄﻟﻮف ﺣﻴﺚ ورد ﰲ إﺣﺪى اﻟﺮواﻳﺎت املﺸﻬﻮرة ﻋﻦ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻷواﺋﻞ أن دﻳﻮﺟني ﻋﺎش ﰲ ﺣﻮض ﺧﺰﰲ ،وورد ﰲ رواﻳﺔ أﺧﺮى أﻧﻪ اﺑﺘﺪع ﺑني اﻟﻜﻠﺒﻴني ﻣﻤﺎرﺳﺔ اﻻﺳﺘﻤﻨﺎء ﺑﺎﻟﻴﺪ ﻋﲆ املﻸ .وﺳﻮاء َ ﺻﺢﱠ ذﻟﻚ أم ﻻ، ﺗﺸري ﻧﺘﻴﺠﺔ ﺗﻠﻚ اﻟﺮواﻳﺎت ﻋﻦ ﻛﻠﻤﺎﺗﻪ وأﻓﻌﺎﻟﻪ اﻟﺤﻤﻘﺎء إﱃ اﻻﻧﻄﺒﺎع املﺮ ِﺑﻚ اﻟﺬي َﺧ ﱠﻠ َﻔﻪ. وﻗﺪ ﻛﺎن ﻳﺴﺘﻤﺘﻊ ﺑﻠﻘﺐ »اﻟﻜﻠﺐ« وﻫﻮ اﻟﺴﺒﺐ ﰲ ﺗﺴﻤﻴﺔ اﻟﻜﻠﺒﻴني ﺑﻬﺬا اﻻﺳﻢ .ﻟﻘﺪ أ ُ ْ ﻃﻠ َِﻖ ﻋﻠﻴﻪ ﻫﺬا اﻟﻠﻘﺐ ﻷﻧﻪ أراد ﺣﻴﺎة ﺑﺴﻴﻄﺔ ﻓﻄﺮﻳﺔ وﻗِﺤﺔ ﻛﺎﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت؛ ﻷﻧﻬﺎ املﻤﺜﻞ ﱟ ﺑﺤﻖ ﻟﻠﻘﻴﻢ »اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ «.ﻟﻘﺪ ﻛﺎن ﺳﻠﻴﻂ اﻟﻠﺴﺎن وﻛﺎن ﴎﻳﻊ اﻟﻬﺠﻮم ﻋﲆ ﻣَ ْﻦ ﻳﺨﺘﻠﻒ ﻣﻌﻬﻢ ،وﻫﻮ اﻷﻣﺮ اﻟﺬي رﺑﻤﺎ ﺳﺎﻫﻢ ﰲ إﻃﻼق ﻫﺬا اﻟﻠﻘﺐ ﻋﻠﻴﻪ .وﻗﺪ ﻛﺎن ﻣﻌﺎدﻳًﺎ ﻷﻓﻼﻃﻮن ﺑﺎﻟﺘﺤﺪﻳﺪ، وﻛﺎن ﻳﺤﺐ ﺗﺪﺑري املﻘﺎﻟﺐ اﻟﻔﻜﺎﻫﻴﺔ ﻟﻪ .وﰲ إﺣﺪى ﻣﺤﺎﴐات أﻓﻼﻃﻮن ﻟﻮﱠح ﺑﺪﺟﺎﺟﺔ ﻧُﺘ َ ﺑﺎﺣﺘﻘﺎر ﻛﻼﻣَ ﻪ أﺛﻨﺎء ﺗﻘﺪﻳﻤﻪ ﻟﺘﻌﺮﻳﻒ ﻣﺎ ،وﻫﻮ ﻣﺤﺎﻛﺎة دﻧﻴﺌﺔ ﻟﺤﻜﻤﺔ ِﻒ رﻳﺸﻬﺎ ﻟﻴﻘﺎﻃﻊ ٍ ﺳﻘﺮاط »املﻔﻌﻤﺔ ﺑﺎملﺰاح«. وﻟﻢ ﻳﻜﻦ زﻫﺪ دﻳﻮﺟني املﺰﻋﺞ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ ﻛﺎﻓﻴًﺎ ﻟﻴﻜﻮن ﻫﺬا »اﻟﺴﻘﺮاﻃﻲ اﻟﺬي ﻓﻘﺪ ﻋﻘﻠﻪ« ﻧﺎﺳ ًﻜﺎ زاﻫﺪًا؛ ﻓﻠﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﻤﻠﻚ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﻜﺎﰲ ﻟﺬﻟﻚ .ﻟﻘﺪ ﻛﺎن ﻫﻨﺎك أﻧﺎس ﻳﺠﺐ إﻗﻨﺎﻋﻬﻢ وأﻣﺜﻠﺔ ﻳﺠﺐ وﺿﻌﻬﺎ ووﻋﻆ ﻳﺠﺐ ﺗﻘﺪﻳﻤﻪ وﻧﺼﺎﺋﺢ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﻳﺠﺐ إﺳﺪاؤﻫﺎ. ِ وﻳﺒﺪو أن أﻧﺸﻄﺔ دﻳﻮﺟني أﻛﺴﺒﺘﻪ ﺷﻬﺮة واﺳﻌﺔ .وﻗﺪ ﻗﻴﻞ إن ﺳﻜﺎن أﺛﻴﻨﺎ ﺗﻌﺎوﻧﻮا ﻓﻴﻤﺎ ً ﺣﻮﺿﺎ ﺟﺪﻳﺪًا ﻟﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ اﻧﻜﴪ ﺣﻮﺿﻪ .وﻳﺒﺪو أن ِﺻﺪﻗﻪ وﺑﺴﺎﻃﺔ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﺑﻴﻨﻬﻢ واﺷﱰَوْا ﻗﺪ ﺣﺎ َزا اﻹﻋﺠﺎب ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ ،رﻏﻢ أن ﺗﻌﺎﻟﻴﻤﻪ ﻛﺎﻧﺖ أﻛﺜﺮ ﺗﺸ ﱡﺪدًا ﻣﻦ أن ﺗﺠﺬب أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﴍذﻣﺔ ﻗﻠﻴﻠني ﻣﻦ اﻟﺘﺎﺑﻌني املﺨﻠِﺼني أو أن ﻳﻜﻮن ﻟﻬﺎ أي ﺗﺄﺛري ﺳﻴﺎﳼ ﻣﺒﺎﴍ .ﻟﻘﺪ َد ﱠر َس أن اﻟﺴﻌﺎدة ﺗﻜﻤُﻦ ﰲ إﺷﺒﺎع اﻟﺤﺎﺟﺎت اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻓﻘﻂ وﰲ ﺿﺒﻂ اﻟﻨﻔﺲ ﻟﻜﻴﻼ ﺗﺮﻏﺐ ﰲ املﺰﻳﺪ ،وﻧﺒﺬ ﻣﺎ وراء ذﻟﻚ ﻣﺜﻞ املﺎل واﻟﺮﻓﺎﻫﻴﺔ واﻟﺤﻴﺎة اﻷﴎﻳﺔ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﻻ ﺗﺠﻌﻞ اﻹﻧﺴﺎن أﻓﻀﻞ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ .ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻧﺒﺬ زﺧﺎرف اﻟﺤﻀﺎرة املﻘﻴﺪة ﰲ ً وﺻﻮﻻ إﱃ اﻟﺰواج ،إﺿﺎﻓﺔ إﱃ ﻗﻴﻮد املﺪﻳﻨﺔ ﻣﻦ ﺗﺤﺮﻳﻢ ﻧﻜﺎح املﺤﺎرم أو أﻛﻞ ﻟﺤﻢ اﻟﺒﴩ املﻜﺎﻧﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ واﻟﺪﻳﻦ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪي ﻟﻠﺴﺒﺐ ذاﺗﻪ .أﻣﺎ املﺠﺘﻤﻊ املﺜﺎﱄ ﻓﻬﻮ املﺠﺘﻤﻊ اﻟﺤﺮ ُ اﻟﺬي ﺗﻌﻴﺶ ﻓﻴﻪ ﻛﺎﺋﻨﺎت ﺗُ َﻐ ﱢﻠ ُ اﻟﺒﺴﺎﻃﺔ ﺣﻴﺎﺗﻬﺎ ،وﺗﺤﻘﻖ اﻛﺘﻔﺎءﻫﺎ ﺑﻨﻔﺴﻬﺎ ،وﺗُﻌْ ِﻤ ُﻞ ﻋﻘﻠﻬﺎ ﻒ ﰲ ﻛﻞ ﳾء ،وﺗﻘﻴﻢ ﻛﻞ أﻧﻮاع اﻟﻌﻼﻗﺎت اﻟﺘﻲ ﻳﻮاﻓﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺟﻤﻴﻊ أﻃﺮاﻓﻬﺎ دون اﻟﺘﻘﻴﺪ ﺑﺎملﺤﻈﻮرات اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ. ﻛﺎن اﻟﻬﺪف ﻣﻦ ﻛﺜري ﻣﻤﱠ ﺎ ﻗﺎﻟﻪ دﻳﻮﺟني أن ﻳﺼﺪم اﻟﻨﺎس ،ﻓﺮﺑﻤﺎ ﻟﻢ ﻳَﻌْ ﺘَ ْﺪ داﺋﻤً ﺎ اﻧﺘﻬﺎك ﺟُ ﱢﻞ ا ُملﺤَ ﱠﺮﻣﺎت اﻟﺘﻲ أداﻧﻬﺎ ،وﻟﻜﻨﻪ أراد أن ﻳﺤ ﱢﺮك اﻟﻨﺎس ﻟﻴﺨﺘﱪوا ﺣﻴﺎﺗﻬﻢ .وﺑﻤﺮور اﻟﺰﻣﻦ 191
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
وﺑﺨﺎﺻﺔ ﰲ اﻟﻘﺮﻧني اﻷ ﱠو َﻟ ْني ﻣﻦ اﻟﻌﻬﺪ املﺴﻴﺤﻲ ،ﺟﺬﺑﺖ اﻟﻜﻠﺒﻴﺔ ﻛﻞ أﻧﻮاع اﻟﺸﺒﺎب املﺘﻤ ﱢﺮد وﻣﺤﺒﻲ اﻟﺤﺮﻳﺔ واملﺘﺴﻮﻟني اﻟﺮﺣﱠ ﺎﻟﺔ ،اﻟﺬﻳﻦ ﻛﺎﻧﻮا ﻣﻬﺘﻤني ﺑﺎﺳﺘﻨﻜﺎر ﻛﻞ ﳾء واﻟﺴﺨﺮﻳﺔ ﻣﻦ املﺠﺘﻤﻊ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ اﻫﺘﻤﺎﻣﻬﻢ ﺑﺎﻟﻔﻠﺴﻔﺔ أو ﺑﺎﻟﻌﻤﻞ اﻟﺼﺎﻟﺢ .وﻗﺪ أدﱠى وﺟﻮد ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﺒﴩ ﺑﺠﺎﻧﺐ اﻷدب اﻟﺴﺎﺧﺮ واملﺘﻬ ﱢﻜﻢ اﻟﺬي ﺗﺄﺛﺮ ﺑﻬﺬا اﻟﺘﻴﺎر إﱃ ﻇﻬﻮر املﺼﻄﻠﺢ اﻟﺤﺪﻳﺚ »اﻟﻜﻠﺒﻲ« .وﻟﻜﻦ اﻟﻜﻠﺒﻴني اﻷواﺋﻞ رﻏﻢ أﻧﻬﻢ ﻛﺎﻧﻮا ﺑﻮﻫﻴﻤﻴني ﻓﻘﺪ َرأَوْا أﻧﻬﻢ ﻣﻌ ﱢﻠﻤﻮن ﻟﻸﺧﻼق ،وﻳﺒﺪو أﻧﻬﻢ ﻳﻘﺪﻣﻮن ﺧﺪﻣﺎت ﺟﻠﻴﻠﺔ ﻟﻠﺒﴩﻳﺔ؛ ﻓﻘﺪ ﺗﻨﺎزل ﻗﺮاﻃﻴﺲ اﻟﻄﻴﺒﻲ )ﺣﻮاﱄ ٢٨٥–٣٦٥ق.م( — ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل — ﻋﻦ ﺛﺮوﺗﻪ اﻟﻜﺒرية ﻟﻴﻜﻮن ﺗﻠﻤﻴﺬًا ﻟﺪﻳﻮﺟني .وﻛﺎن ﻳﺘﺠﻮﱠل ﺑني املﻨﺎزل ﻋﲆ أﻧﻪ ﻣﻌﺎﻟﺞ أو ﻗﺲ ﻟﻴﻘﺪﱢم ﺧﺪﻣﺎت اﻹرﺷﺎد اﻷﺧﻼﻗﻲ اﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﺗ ُﻜﻦ ﻣﺘﻮاﻓﺮة ﻟﻠﻌﺎﻣﺔ ﻣﻦ أﻳﱠﺔ ﻣﺼﺎدر أﺧﺮى ،وﺑﺨﺎﺻﺔ ﻣﺪارس اﻟﺒﺤﺚ اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ ﱡ اﻟﺼﻮرﻳﺔ اﻟﺘﻲ أﺳﺴﻬﺎ أﻓﻼﻃﻮن وأرﺳﻄﻮ .وﻗﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻴﺒﺎرﻛﻴﺎ أﺧﺖ أﺣﺪ ﺗﻼﻣﻴﺬ ﻗﺮاﻃﻴﺲ اﻟﻄﻴﺒﻲ ﺗﺘﻮق إﱃ ﻣﺸﺎرﻛﺔ ﻗﺮاﻃﻴﺲ اﻟﻄﻴﺒﻲ ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﻏري اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ ،وﻟﻜﻦ ﻛﺎن ﻋﻠﻴﻬﺎ أن ﺗﻬﺪد أﺑﻮﻳﻬﺎ اﻟﺜﺮﻳني ﺑﺎﻻﻧﺘﺤﺎر ﻗﺒﻞ أن ﻳﻮاﻓﻘﺎ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻋﲆ ﻣﺎ ﺗﺮﻳﺪ» ،ﻓﻜﺎﻧﺖ ﺗﺘﺠﻮل رﻓﻘﺔ زوﺟﻬﺎ وﻳﻤﺎرﺳﺎن اﻟﺠﻨﺲ ﻋﲆ املﻸ وﻳﺨﺮﺟﺎن ﻟﺘﻨﺎول اﻟﻌﺸﺎء«. ً ﻣﺨﻠﺼﺎ ﻛﺎن إﻗﻠﻴﺪس — آﺧﺮ أﺗﺒﺎع ﺳﻘﺮاط اﻟﺬﻳﻦ ﺳﻨﺘﻨﺎوﻟﻬﻢ ﰲ ﻫﺬا اﻟﻔﺼﻞ — ﻷﺳﺘﺎذه؛ ﻟﺪرﺟﺔ أﻧﻪ ﻗﻴﻞ ﻋﻨﻪ إﻧﱠﻪ ﺗﻨﻜﺮ ﰲ ﺷﻜﻞ اﻣﺮأة ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻣَ ﻨﻌﺖ أﺛﻴﻨﺎ دﺧﻮل أﻫﻞ ﻣﻴﺠﺎرا إﻟﻴﻬﺎ ،وﺗﺴﻠﻞ إﱃ املﺪﻳﻨﺔ ﰲ ﺟُ ﻨﺢ اﻟﻈﻼم ﻟﻴﺼﻞ إﱃ ﺳﻘﺮاط .وﻟﻢ ﻳﺸﱰك إﻗﻠﻴﺪس ﻣﻊ ﺳﻘﺮاط ﰲ اﻻﻫﺘﻤﺎم ﺑﺤﺴﻦ اﻷﺧﻼق ﻓﺤﺴﺐ ،ﺑﻞ ﺑﺸﻐﻔﻪ ﺑﺎملﺠﺎدﻟﺔ ً أﻳﻀﺎ .وﺑﻴﻨﻤﺎ ﺑَﺪَا ﺳﻘﺮاط ﻣﺴﺘﻌﺪٍّا ﻻﺗﱢﺒﺎع أﻳﺔ ﺳﻠﺴﻠﺔ ﻣﻨﻄﻘﻴﺔ واﻋﺪة ﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻧﺘﻴﺠﺘﻬﺎ ،اﻫﺘﻢ إﻗﻠﻴﺪس ﺑﺎملﺠﺎدﻻت املﻨﻄﻘﻴﺔ ﰲ ﺣَ ﱢﺪ ذاﺗﻬﺎ وﺑﺨﺎﺻﺔ املﺘﻨﺎﻗﻀﺔ ﻣﻨﻬﺎ .وﻗﺪ ﺗﺤﺪﱠث أﺣﺪ اﻟﺨﺼﻮم ﻋﻦ »إﻗﻠﻴﺪس املﺠﺎدل اﻟﺬي أﻟﻬﻢ أﻫﻞ ﻣﻴﺠﺎرا ﺣﺐ املﺠﺎدﻟﺔ املﺴﺘﻌِ ﺮ«. وﺳﻮاء أﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﺤﺐ ﻣﺴﺘﻌ ًﺮا أم ﻻ ،ﻓﻘﺪ أدﱠى اﻟﻔﻀﻮل اﻟﻌﻘﲇ ﻷﻫﻞ ﻣﻴﺠﺎرا إﱃ ﺗﻘﺪﻳﻤﻬﻢ ﺑﻌﺾ أﻗﻮى اﻷﻟﻐﺎز ﰲ املﻨﻄﻖ واﻟﻠﻐﺔ .وﻗﺪ ﻧ ُ ِﺴﺐَ إﱃ ﻳﻮﺑﻮﻻﻳﺪس — وﻫﻮ أﺣﺪ ﺗﻼﻣﻴﺬ إﻗﻠﻴﺪس — اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻷﻟﻐﺎز ،ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻬﺎ أﺷﻬﺮ اﻷﻟﻐﺎز واملﻌﺮوف ﺑ »اﻟﻜﺎذب«، وﻫﻮ ﻣﻔﺎرﻗﺔ ﺟﺎءت ﰲ ﻗﻮل أﺣﺪﻫﻢ» :ﻫﺬه اﻟﺠﻤﻠﺔ ﺧﺎﻃﺌﺔ «.وﺗﻜﻤُﻦ املﺸﻜﻠﺔ ﰲ اﻟﺤﻜﻢ ﻋﲆ ﺟﻤﻠﺔ ﻛﻬﺬه ،ﻓﺎﻟﺤﺠﺞ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﺤﺪث ﻋﻦ ﺻﺪﻗﻬﺎ ﺗﺪور ﰲ داﺋﺮة ﻣﻔﺮﻏﺔ .ﻓﺈن ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺠﻤﻠﺔ ً ﺧﺎﻃﺌﺔ ً ﺻﺎدﻗﺎ ﻓﻬﺬا ﻳﻌﻨﻲ أن ﻣﺜﻼ ﻓﻘﺪ أﺻﺎب املﺘﺤﺪث ﻷﻧﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻗﺎل ،أﻣﺎ إذا ﻛﺎن اﻟﺠﻤﻠﺔ ﺧﺎﻃﺌﺔ ﻷﻧﻪ ﺣﻜﻢ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑﻌﺪم اﻟﺼﺪق ،وﻫﺬا ﻳﺴﺘﺘﺒﻊ أﻧﻪ إذا ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺠﻤﻠﺔ ﺧﺎﻃﺌﺔ ﻓﻬﺬا ﻳﻌﻨﻲ أﻧﻬﺎ ﺻﺤﻴﺤﺔ وإذا ﻛﺎﻧﺖ ﺻﺤﻴﺤﺔ ﻓﻬﺬا ﻳﻌﻨﻲ أﻧﻬﺎ ﺧﺎﻃﺌﺔ .إن اﻟﺴﺨﺮﻳﺔ ﻣﻦ 192
ﺷﻬﻴﺪ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ :ﺳﻘﺮاط واﻟﺴﻘﺮاﻃﻴﺎت
ﻫﺬا اﻟﻠﻐﺰ أﺳﻬﻞ ﻣﻦ ﺣَ ﱢﻠ ِﻪ إذ ﻳﻘﺪر ﻋﲆ اﻟﻮﻗﻮف ﰲ وﺟﻪ أي ﺣﻞ ﻣﻘﱰح؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻗﺪ ﻳﺸﻔﻖ املﺮء ﻋﲆ اﻟﺸﺎﻋﺮ ﻓﻴﻠﻴﺘﺎس اﻟﻜﻮﳼ اﻟﺬي ﻳﻘﺎل إﻧﻪ اﻧﺸﻐﻞ ﺑﻬﺬا اﻟﻠﻐﺰ ﺑﺸﺪة ﺣﺘﻰ ﺳﺎء ً ﻧﺤﻴﻔﺎ ﺟﺪٍّا ﺣﺘﻰ إﻧﻪ وﺿﻊ ً ﺛﻘﻼ ﻣﻦ اﻟﺮﺻﺎص ﰲ ﺣﺬاﺋﻪ ﻛﻲ ﻻ ﻳﻜﻮن ﰲ ﺣﺎﻟﻪ ﻓﺄﺻﺒﺢ ﻣَ ﻬَ ﺐﱢ اﻟﺮﻳﺢ .وﻗﺪ ﻛﺎﻧﺖ املﺮﺛﻴﺔ ﻋﲆ ﺷﺎﻫﺪ ﻗﱪه ﻛﻤﺎ ﻳﲇ: ﻏﺮﻳﺐ أﻧﺎ ﻓﻴﻠﻴﺘﺎس اﻟﻜﻮﳼ، ذاك »اﻟﻜﺎذب« ﻫﻮ ﻣﻦ ﻗﴣ ﻋﲇ، وﺳﺒﺐ ﱄ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﻴﺎﱄ اﻟﻜﺌﻴﺒﺔ. ﻣﻦ اﻟﺼﻌﺐ اﻻﻋﺘﻘﺎد ﺑﺄن ﻫﺬا اﻟﻠﻐﺰ ﻋﻤﻴﻖ ،وﻟﻜﻦ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك ﻣﺤﺎوﻻت ﻟﻔﻬﻤﻪ ﻓﻬﻤً ﺎ ً ﻋﻤﻴﻘﺎ .ﻟﻘﺪ أﻓﺮز ﻟﻐﺰ »اﻟﻜﺎذب« ﻗﺪ ًرا ﻛﺒريًا ﻣﻦ اﻟﺒﺤﺚ ﰲ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ واملﻌﻨﻰ اﻟﻠﻐﻮي ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﻋﻠﻤﺎء املﻨﻄﻖ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴني واﻟﻠﻐﻮﻳني اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺘﻌﺎﻣﻠﻮن ﻣﻊ اﻟ ِﺒﻨﻴﺔ اﻟﺸﻜﻠﻴﺔ ﻟﻠﻐﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ ،وﻟﻜﻦ ﻳﺒﺪو أن ذﻟﻚ ﻟﻢ ﻳ َُﺴﺒﱢﺐْ أﻳﱠﺔ ﺧﺴﺎﺋﺮ أﺧﺮى .وﻛﺎﻧﺖ إﺣﺪى اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ اﻟﺜﺎﻧﻮﻳﺔ ﻟﻼﻫﺘﻤﺎم ﺑﻨﻮع اﻟﺠﻤﻞ ذات »املﺮﺟﻌﻴﺔ اﻟﺬاﺗﻴﺔ« املﻮﺟﻮدة ﰲ ﻫﺬا اﻟﻠﻐﺰ — اﻟﺠﻤﻠﺔ املﺘﻨﺎﻗﻀﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﺤﺪث ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻬﺎ — ﻫﻲ ﻧﻈﺮﻳﺔ ﺟﻮدل ،وﻫﻲ إﺣﺪى أﻫﻢ ﻧﺘﺎﺋﺞ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮل إن ﻫﻨﺎك ﺣﺪودًا ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻟﻠﱪاﻫني اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ. ﻟﻘﺪ ﺣﻮﱠل ﺗﻼﻣﻴﺬ إﻗﻠﻴﺪس وأﺗﺒﺎﻋﻪ ﻣﻴﺠﺎرا إﱃ ﻧﺴﺨﺔ ﺣﻴﺔ ﻣﻦ »ﻣﺼﻨﻊ املﻨﻄﻖ« املﺒﺎ َﻟﻎ ﻓﻴﻪ ﺑﺸﻜﻞ ﻫﺰﱄ ،واملﺬﻛﻮر ﰲ ﻣﴪﺣﻴﺔ أرﺳﻄﻮﻓﺎن ﻋﻦ ﺳﻘﺮاط .وﺣﻘﻴﻘﺔ أن ﻋﻤﻠﻬﻢ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ً »ﺟﺪاﻻ« ﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﺠﺪال — وﻗﺪ ﻛﺎن ﺑﻌﻀﻪ ﻛﺬﻟﻚ ﺑﻼ ﺷﻚ — ﻟﻠﻤﺘﺸ ﱢﻜﻜني ﻟﻢ ﻳَ ُﻜ ْﻦ إﻻ ﺗﻌﻴﺪ إﱃ اﻷذﻫﺎن ﻛﻴﻒ اﺳﺘﻘﺒﻞ ﺑﻌﺾ ﻣﻮاﻃﻨﻲ أﺛﻴﻨﺎ ذَ ِوي اﻟﻘﺪرات اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ اﻷﻗﻞ ﻣﺤﺎورات ﺳﻘﺮاط املﺘﻮاﺻﻠﺔ ﻋﻦ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ .وﻛﺎن أﺣﺪ اﻷﺳﺒﺎب وراء اﻋﺘﻘﺎد إﻗﻠﻴﺪس أﻧﻬﺎ ﻣﻬﻤﺘﻪ ً ﻓﻴﻠﺴﻮﻓﺎ أن ﻳﺴﺘﻤ ﱠﺮ ﰲ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﺣﺴﻦ اﻟﺨﻠﻖ وأن ﻳﺸﱰك ﰲ ﻃﺮح اﻷﺳﺌﻠﺔ ﺑﻮﺻﻔﻪ املﻨﻄﻘﻴﺔ املﺒﻬﻤﺔ؛ ﻫﻮ إﻋﺠﺎﺑﻪ ﺑﺮأي ﺳﻘﺮاط اﻟﻘﺎﺋﻞ إن املﻌﺮﻓﺔ ﻫﻲ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ .ورﺑﻤﺎ ﻟﻢ ﻳﺘﻨﺎول ﺳﻘﺮاط ﻧﻔﺴﻪ املﻨﻄﻖ وﻟﻜﻦ إﻗﻠﻴﺪس ﺷﻌﺮ أن ﻫﺬا إﺣﺪى وﺳﺎﺋﻞ اﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ اﻟﺤﻜﻤﺔ وﺑﺨﺎﺻﺔ إذا ﻓﻬﻢ املﺮء ﻋﻤﻠﻴﺔ املﺠﺎدﻟﺔ؛ ﻓﻤﻦ املﻔﱰض أن ﻳﺴﺎﻋﺪ ذﻟﻚ ﰲ ﻣﺘﺎﺑﻌﺔ اﻻﺳﺘﺠﻮاﺑﺎت اﻟﺴﻘﺮاﻃﻴﺔ اﻟﻔﻌﱠ ﺎﻟﺔ. ﻟﻘﺪ اﺟﺘﻤﻌﺖ املﺪارس اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ اﻧﺤﺪرت ﻣﻦ ﺳﻘﺮاط ﻋﲆ ﻓﻜﺮة أن اﻟﺤﻜﻤﺔ ﺗﺆدي إﱃ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ وأن اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ﺗﺆدي إﱃ اﻟﺴﻌﺎدة .وﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أﻧﻬﻢ اﺧﺘﻠﻔﻮا ﰲ ﺗﻔﺴري 193
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻣﺎ ﺗﻌﻨﻴﻪ اﻟﺴﻌﺎدة )ﻓﻜﺎﻧﺖ اﻻﻧﻐﻤﺎس ﰲ املﺘﻌﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻘﻮرﻳﻨﻴني ،واﻻﻧﻀﺒﺎط اﻟﺰاﻫﺪ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻜﻠﺒﻴني( ،وﻟﻜﻨﻬﻢ اﺗﻔﻘﻮا ﻋﲆ أن اﻟﺘﻔﻜري اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ ﻧﻮﻋً ﺎ ﻣﺎ ﻫﻮ اﻟﻄﺮﻳﻖ إﻟﻴﻬﺎ ،وأن اﻻﺷﺘﻐﺎل ﺑﻪ ﻳﺆدﱢي إﱃ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺼﺎﻟﺤﺔ .وﻗﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﺟُ ﱡﻞ اﻵراء اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ﻟﻬﺆﻻء اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ذات ﻃﺎﺑﻊ ﻳﺆﻣﻦ ﺑﺎﻟﻔﺮدﻳﺔ ﻧﺴﺒﻴٍّﺎ )ﺷﺪﻳﺪ اﻟﻔﺮدﻳﺔ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ دﻳﻮﺟني( ،وﻳﻤﻜﻦ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﻛﻴﻒ أدت ﺣﻴﺎة ﺳﻘﺮاط ﻏري املﻌﺘﺎدة إﱃ ﻫﺬا .وﻟﻜﻦ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ اﻟﻜﻠﺒﻴني ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﻛﺎن ﻫﻨﺎك اﺧﺘﻼف واﺿﺢ ﻣﻊ ﺳﻘﺮاط ﺣﻮل رواﺑﻂ اﻻﻟﺘﺰام اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ واﻹﺧﻼص ﻟﻘِ ﻴَﻢ املﺪﻳﻨﺔ .ﻟﻘﺪ ُ اﻟﺘﻨﺎﻗﺾ ﺑني اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻔﺎﺿﻠﺔ وﺑني ﺣﻴﺎة املﺪﻳﻨﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻮﻟﺪ اﻟﻔﺮد أو أﻛﺪ اﻟﻜﻠﺒﻴﻮن ﻋﲆ ﻳﻌﻴﺶ ﻓﻴﻬﺎ .وﻗﺪ ﻓﻌﻞ ﺳﻘﺮاط ذﻟﻚ ً أﻳﻀﺎ ﻣﻦ ﻣﻨﻈﻮر ﱠ ﻣﻌني ﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳﻔﻌﻞ ذﻟﻚ ﻣﻦ ﻣﻨﻈﻮر آﺧﺮ؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻳَﻘﺒﻞ ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ أن اﻟﻔﺮد ﻳﺠﺐ ﻋﻠﻴﻪ أن ﻳﺘﺒﻊ ﺿﻤريه وﻟﻴﺲ ﻣﺎ ﺗﻤﻠﻴﻪ ﻋﻠﻴﻪ املﺪﻳﻨﺔ ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻳﺘﻌﺎرض ﻣﺎ ﺗﻔﺮﺿﻪ املﺪﻳﻨﺔ ﻣﻊ اﻟﻌﺪل ،وﻟﻜﻨﻪ ﺳﻌﻰ إﱃ ﺗﺤﺴني اﻟﺤﻴﺎة ﰲ املﺪﻳﻨﺔ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ ﻫﺠﺮﻫﺎ ﺑﺎﻟﻜﻠﻴﺔ؛ ﻓﺤﺚ أﻫﻞ أﺛﻴﻨﺎ ﻋﲆ أن ﻳﻌﻴﺸﻮا ﻣﻌً ﺎ ﰲ ﻇﻞ اﻟﻌﺪل وأن ﻳﺤﺴﻨﻮا ﻗﻮاﻧﻴﻨﻬﻢ وﺳﻠﻮﻛﻴﺎﺗﻬﻢ ﻋﻨﺪ اﻟﴬورة ،ﻻ أن ﻳﺘﺨ ﱠﻠﻮْا ﻋﻦ ﻣﴩوع اﻟﺤﻀﺎرة ﺑﻜﺎﻣﻠﻪ وﻳﻔﻘﺪوا اﺣﱰاﻣﻬﻢ ﻟﻠﻘﺎﻧﻮن. ﻟﻘﺪ أوﺿﺢ ﺳﻘﺮاط أﻧﻪ رﻏﻢ وﺟﻮب ﻋﺼﻴﺎن اﻟﻘﻮاﻧني إذا ﻛﺎﻧﺖ ﻇﺎملﺔ ،ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺠﺐ اﻟﺨﻀﻮع ﻟﻠﻌﻘﺎب ﻋﻨﺪ اﻟﻮﻗﻮع ﺗﺤﺖ ﻃﺎﺋﻠﺘﻬﺎ ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻓﻌﻠﻪ ﺑﺎﻟﻀﺒﻂ ﻋﻨﺪﻣﺎ أُدِ َ ﻳﻦ رﻏﻢ أن ﺑﻌﺾ أﺻﺪﻗﺎﺋﻪ ﻗﺪ ﱠ وﻓﺮوا ﻟﻪ ﻓﺮﺻﺔ ﻟﻠﻬﺮوب ﻣﻦ اﻟﺴﺠﻦ وﻣﻐﺎدرة أﺛﻴﻨﺎ ﻗﺒﻞ إﻋﺪاﻣﻪ .وﻗﺪ ﺗﻨﺎوﻟﺖ إﺣﺪى ﻣﺤﺎورات أﻓﻼﻃﻮن اﻷوﱃ وﺗُﺪﻋﻰ »اﻟﻜﺮﻳﺘﻮ« ﻫﺬه اﻟﺤﺎدﺛﺔ وﻋﺮﺿﺖ أﺳﺒﺎب رﻓﺾ ﺳﻘﺮاط اﻟﻬﺮب .وإﺿﺎﻓﺔ إﱃ إﺣﺴﺎﺳﻪ ﺑﺎﻻﻟﺘﺰام اﻷﺧﻼﻗﻲ ﺗﺠﺎه اﻟﺴﻠﻄﺔ اﻟﴩﻋﻴﺔ ﰲ املﺪﻳﻨﺔ وﺗﺠﺎه اﻹﺟﺮاءات اﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻴﺔ اﻟﺴﻠﻴﻤﺔ؛ ﻓﻘﺪ أﺣﺐ ﺳﻘﺮاط أﺛﻴﻨﺎ وﻟﻢ ﻳﺮﻏﺐ ﰲ اﻟﻌﻴﺶ ﱢ وﺗﻮﺿﺢ ﺑﻌﺾ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ ﻧﻘﻠﻬﺎ أﻓﻼﻃﻮن ﻋﲆ ﻟﺴﺎﻧﻪ ﰲ ﻣﺤﺎوراﺗﻪ أن ﺑﻤﻜﺎن آﺧﺮ. ﺳﻘﺮاط ﻛﺎﻧﺖ ﻟﺪﻳﻪ ﺷﻜﻮك ﰲ اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ ﺻﻮرة ﻣﻦ ﺻﻮر اﻟﺤﻜﻢ ،وﻫﻮ ﻣﺎ أدى إﱃ وﺻﻔﻪ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﺑﻌَ ُﺪ ﱢو اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ .وﻟﻜﻦ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه ﺷﻜﻮك أﻓﻼﻃﻮن ،ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻛﻤﺎ ﺷﻚ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﰲ ﻛﻞ أﺷﻜﺎل اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ اﻟﺘﻲ ﻣَ ﱠﺮ ﺑﻬﺎ .ﻟﻘﺪ أﻇﻬﺮ ﺳﻘﺮاط ﻛﻞ ﻣﻈﺎﻫﺮ اﻟﻮﻻء واﻟﻄﺎﻋﺔ ﻟﺪﺳﺘﻮر أﺛﻴﻨﺎ ،وﻟﻄﺎملﺎ أﺷﺎد ﺑﺎملﺪﻳﻨﺔ وﺑﻤﺆﺳﺴﺎﺗﻬﺎ ،وﻳﺒﺪو أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻐﺎدرﻫﺎ َﻗ ﱡ ﻂ إﻻ أﺛﻨﺎء اﻟﺨﺪﻣﺔ اﻟﻌﺴﻜﺮﻳﺔ .أﻣﺎ ﺑﺨﺼﻮص ﻣﺎ إذا ﻛﺎن ﻣﺆﻳﺪًا ﻟﻄﺮﻳﻘﺘﻬﺎ ﰲ اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ ﻓﻘﺪ أﻛﺪ ﺳﻘﺮاط ﻋﲆ ذﻟﻚ ﺣني رﻓﺾ اﻟﻬﺮب ﻣﻨﻬﺎ .ﻟﻘﺪ ﻛﺎن ﺛﻤﺔ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺪول اﻷﺧﺮى ﻏري اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﻳﻤﻜﻨﻪ اﻟﻬﺠﺮة إﻟﻴﻬﺎ .ورﺑﻤﺎ ﻛﺎن ﻣﻦ املﺤﺮج ﻟﺨﺼﻮﻣﻪ ﰲ ذﻟﻚ 194
ﺷﻬﻴﺪ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ :ﺳﻘﺮاط واﻟﺴﻘﺮاﻃﻴﺎت
اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬﻳﻦ َودﱡوا أن ﻳُﺒﻌﺪوه ﺑﻮﺻﻔﻪ ﻋَ ُﺪوٍّا ﻟﻠﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ أﻧﻪ ﺧﺎﻃﺮ ﺑﺤﻴﺎﺗﻪ ﰲ ﻇﻞ ﺣُ ﻜﻢ اﻟﻄﻐﺎة املﻌﺎدﻳﻦ ﻟﻠﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ ﺑﺮﻓﻀﻪ اﻻﺷﱰاك ﰲ اﻟﻘﺒﺾ ﻋﲆ رﺟﻞ ﺑﺮيء. ً دﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ ﻣﻤﱠ ﺎ ﻳﺘﺤﻤﻠﻪ أﻫﻞ أﺛﻴﻨﺎ .وﻗﺪ ﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﺠﺎﻧﺐ ﰲ ﻛﺎن ﺳﻘﺮاط أﻛﺜﺮ ﱢ ﻟﺒﻌﺾ ﻣﻦ ﻣﻘﻠﺪﻳﻪ .وﻣﻦ املﻤﻜﻦ اﻟﻘﻮل ﺷﺨﺼﻴﺘﻪ وﰲ ﺗﺪرﻳﺴﻪ اﻟﺴﺒﺐ ﰲ اﻟﻔﺮدﻳﺔ املﻔﺮﻃﺔ ٍ إن ﻣﻮﻗﻔﻪ ﺗﺠﺎه اﻟﺪﻳﻦ واﻷﺧﻼق ﻣﻮﻗﻒ دﻳﻤﻘﺮاﻃﻲ ﻣﺘﺸﺪد؛ ﻓﻼ ﳾء ﻣ َُﺴ ﱠﻠﻢ ﺑﻪ ﺧﺎﺻﺔ إن ﻟﻢ ٌ ﺗﻌﺘﱪ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻓﻮق املﻨﻄﻖ اﻷﺧﻼﻗﻲ ﻟﻠﻨﺎس ،ﺳﻮاء أﻛﺎﻧﺖ ﺳﻠﻄﺔ اﻓﱰاﺿﻴﺔ ﺗﻔﺮﺿﻪ ﺳﻠﻄﺔ ﻣﺎ ِ ﰲ ﺻﻮرة زﻳﻮس أو ﻃﺎﻏﻴﺔ ﻣﻦ ﻃﻐﺎة اﻟﺒﴩ .وﻋﲆ ﻛﻞ إﻧﺴﺎن أن ﻳﻌﺮف ﺑﻨﻔﺴﻪ اﻟﺼﻮاب ﻣﻦ اﻟﺨﻄﺄ واﻟﺼﺎﻟﺢ ﻣﻦ اﻟﻄﺎﻟﺢ ،وﻻ ﻣﺤﻴﺺ ﻷي إﻧﺴﺎن ﻣﻦ اﺧﺘﺒﺎر ﻧﻔﺴﻪ وﺣﻴﺎﺗﻪ .وﻳﺠﺐ ً ﻋﺎدﻻ ﺑﻘﻮاﻧ َ ني ﻋﺎدﻟﺔ أن ﺗﻜﻮن اﻟﻨﺘﻴﺠﺔ املﺜﺎﻟﻴﺔ ملﺜﻞ ﻫﺬه املﻨﺎﻗﺸﺎت ﺑني املﻮاﻃﻨني ﻣﺠﺘﻤﻌً ﺎ ﱠ ﻳﺘﻮﺻﻞ اﻹﻧﺴﺎن إﻟﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺧﻼل اﻻﺧﺘﺒﺎر اﻟﺠﻤﺎﻋﻲ ﻟﻠﻨﻔﺲ .وﰲ ﺣُ ﻠﻢ ﺳﻘﺮاط اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻲ ُ اﻟﺘﻮاﻓﻖ اﻟﺠﻤﺎﻋﻲ ،ﻟﻴﺲ ﰲ ﻛﻞ ﳾء ﺑﺎﻟﻄﺒﻊ ،وﻟﻜﻦ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﰲ ﺗﺆدﱢي اﻟﻘﻨﺎﻋﺔ اﻟﻔﺮدﻳﺔ إﱃ اﻟﺨﻄﻮط اﻟﻌﺮﻳﻀﺔ ﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﻌﻴﺶ اﻟﺴﻠﻴﻢ. ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺳﻘﺮاط ﺳﻴﺎﺳﻴٍّﺎ؛ ﻓﻘﺪ رأى أﻧﻪ ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻪ أداء دوره إﻻ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﻣﺠﺎدﻟﺔ اﻷﻓﺮاد ﻓﺮدًا ﻓﺮدًا أو ﰲ ﺟﻤﺎﻋﺎت ﺻﻐرية ،وﻋﻦ ذﻟﻚ ﻳﻘﻮل» :أﻋﺮف ﻛﻴﻒ أﺻﻨﻊ ﺷﺎﻫﺪًا واﺣﺪًا ﻋﲆ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻣﺎ أﻗﻮل ،وﻫﻮ اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺬي أُﺟﺎدﻟﻪ ،أﻣﺎ اﻵﺧﺮون ﻓﺄﺗﺠﺎﻫﻠﻬﻢ .ﻛﻤﺎ أﻋﺮف ﻛﻴﻒ أﺣﺼﻞ ﻋﲆ ﺗﺄﻳﻴﺪ رﺟﻞ واﺣﺪ وﻟﻜﻦ ﰲ اﻟﺠﻤﺎﻋﺔ ﻻ أدﺧﻞ ﺣﺘﻰ ﰲ املﻨﺎﻗﺸﺔ «.وﻋﲆ ﻣَ ﱢﺮ اﻟﻌﺼﻮر أﺧﺬ ﺗﺄﻳﻴﺪ ﺳﻘﺮاط ﻳﺘﺰاﻳﺪ ﻧﺘﻴﺠﺔ اﺣﺘﻔﺎظ ﻣﺤﺎورات أﻓﻼﻃﻮن ﺑﻤﺠﺎدﻻﺗﻪ أو ﻮل ﻧﺠﻢ أﺛﻴﻨﺎ ووﻻﺋﻢ اﻟﻌﺸﺎء ﻓﻴﻬﺎ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺨﺎﻣﺲ ﻗﺒﻞ املﻴﻼد .وﺛﻤﺔ ﺑﻤﺜﺎل ﻟﻬﺎ ﺑﻌﺪ أ ُ ُﻓ ِ ٍ ﳾء واﺣﺪ ﻗﺎﻟﻪ ﺳﻘﺮاط ﻟﻠﻘﻀﺎة ﰲ ﻣﺤﺎﻛﻤﺘﻪ ﻳﻨﺪر أن ﻧﺠﺪ ﰲ وﻗﺘﻨﺎ اﻟﺤﺎﴐ ﻣﻦ ﻳﺨﺘﻠﻒ ﻣﻌﻪ وﻫﻮ» :إذا ﺣﻜﻤﺘﻢ ﻋَ َﲇ ﱠ ﺑﺎملﻮت ﻓﻠﻦ ﺗﺠﺪوا ﻣﻦ ﻳﺤﻞ ﻣﺤﲇ ﺑﺴﻬﻮﻟﺔ«.
195
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺤﺎدي ﻋﴩ
ﲨﻬﻮرﻳﺔ اﳌﻨﻄﻖ :أﻓﻼﻃﻮن
ﻳﺤﺎول أﻓﻼﻃﻮن ﰲ ﻣﻨﺘﺼﻒ راﺋﻌﺘﻪ »اﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ« وﺿﻊ ﺗﻌﺮﻳﻒ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ ﺑﴩح أﺻﻞ ً ﻛﻠﻤﺔ »ﻓﻴﻠﻮﺳﻮﻓﻴﺎ« اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻨﻲ »ﺣﺐ اﻟﺤﻜﻤﺔ« ،ﱠ ﺗﻌﺮﻳﻔﺎ ﻛﻬﺬا ﻳﺸﻮﺑﻪ اﻟﻐﻤﻮض .ﻟﺬا ﻛﺎن ﻟﻜﻦ ﻣﻄﺮوح ﻋﻠﻴﻪ ﻫﻮ اﻟﺪﻓﻊ ﺑﺄن اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف ﻫﻮ ذﻟﻚ اﻟﺸﺨﺺ اﻟﺬي ﻳﺤﺐ ﺻﻨﻮف أول ﺗﻌﺪﻳﻞ ٍ اﻟﺤﻜﻤﺔ ﻛ ﱠﻠﻬﺎ ﻻ ﺑﻌﻀﻬﺎ .ﻓﻬﻮ »ﻻ ﻳﺠﺪ ﻏﻀﺎﺿﺔ ﰲ اﻻ ﱢ ﻃﻼع ﻋﲆ ﻛﻞ املﻌﺎرف وﻳﺘﺼﺪى ﻗﺪر ﻏري ٍ ﻛﺎف ﻣﻦ اﻟﺪﻗﺔ؛ ﻷﻧﻪ ملﻬﻤﺘﻪ ﺑﴪور وﻻ ﻳَﻤَ ﱡﻠﻬَ ﺎ «.ﻟﻜﻦ ﻫﺬا اﻟﺘﻌﺮﻳﻒ ﻻ ﻳﺰال ﻋﲆ ٍ ﻳﺸﻤﻞ أوﻟﺌﻚ اﻟﺬﻳﻦ ﻻ ﻳ ِ ُﺤﺴﻨﻮن ﺗﻤﻴﻴﺰ اﻷﺷﻴﺎء »وﻳﺮﻏﺒﻮن ﻓﻘﻂ ﰲ ﺧﻮض ﺗﺠﺎرب ﺟﺪﻳﺪة«. وﻳﺸﻤﻞ ﻫﺬا اﻟﺘﻌﺮﻳﻒ — ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل — ﻣَ ْﻦ »ﻳﺘﻜﺎﻟﺒﻮن ﻋﲆ اﺣﺘﻔﺎﻻت دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس وﻻ ﻳﻔﻮﺗﻮن أﺣﺪﻫﺎ ﺳﻮاء أﻛﺎﻧﺖ ﰲ اﻟﺤﴬ أو ﰲ اﻟﺮﻳﻒ .ﻓﻬﻞ ﻋﻠﻴﻨﺎ إذن أن ﻧ َ ِﺼ َ ﻒ ﻫﺆﻻء وأﻣﺜﺎﻟﻬﻢ وﻛﻞ املﻬﺘﻤﱢ ني ﺑﺎﻟﻔﻨﻮن اﻟﺪﻧﻴﺎ ﺑﺄﻧﻬﻢ ﻓﻼﺳﻔﺔ؟« وﻫﻨﺎ ﺗ ُﺮد ﺷﺨﺼﻴﺔ ﺳﻘﺮاط — اﻟﺘﻲ ﺗﻨﻄﻖ ﺑﻠﺴﺎن أﻓﻼﻃﻮن ﰲ ﺗﻠﻚ املﺤﺎورة — ﺑﺎﻟﻨﻔﻲ .ورﻏﻢ أن ﻣﺤﺒﻲ اﻟﻔﻨﻮن اﻟﺒﴫﻳﺔ ﱠ واﻟﺴﻤْ ﻌﻴﺔ ﻳُﺸﺎﺑﻬﻮن اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﰲ ﺑﻌﺾ اﻷوﺟﻪ؛ ﻓﺎﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﻮن ﻫﻢ ﻣَ ﻦ »اﻓﺘﺘﻨﻮا ﺑﻤﺸﻬﺪ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﰲ ذاﺗﻬﺎ «.وﻫﺬا ﻳﻌﻨﻲ أﻧﻬﻢ ﻻ ﻳﻬﺘﻤﻮن ﺑﺎﻷﺷﻴﺎء اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ واﻟﺠﻤﻴﻠﺔ ﻓﺤﺴﺐ ،ﺑﻞ ﺑﺎﻟﺤﻘﻴﻘﺔ واﻟﺠﻤﺎل ﰲ ذاﺗﻬﻤﺎ .وﻟﺘﻮﺿﻴﺢ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﻳ َُﻘ ﱢﺪ ُم أﻓﻼﻃﻮن ﴍﺣً ﺎ ﻟﻨﻈﺮﻳﺘﻪ ﻋﻦ ا ُملﺜُﻞ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮدﻧﺎ إﱃ ﻟُﺐﱢ اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ. ﴪﻫﻢ اﻟﻨﻐﻤﺎت واﻷﻟﻮان واﻷﺷﻜﺎل اﻟﺠﻤﻴﻠﺔ إن ﻣﺤﺒﻲ اﻟﻔﻨﻮن اﻟﺒﴫﻳﺔ واﻟﺴﻤﻌﻴﺔ »ﺗَ ُ ﱡ ﱠ وﻟﻜﻦ ﻓﻜﺮﻫﻢ ﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ اﻻﺳﺘﻤﺘﺎع ﺑﺎﻟﺠﻤﺎل ذاﺗﻪ «.وأﻣﺜﺎل وﻛﻞ ﺻﻨﻮف اﻹﺑﺪاع اﻟﻔﻨﻲ، ﻫﺆﻻء — ﺷﺄﻧﻬﻢ ﰲ ذﻟﻚ ﺷﺄن اﻟﺴﻮاد اﻷﻋﻈﻢ ﻣﻦ اﻟﻨﺎس — »ﻳﺆﻣﻨﻮن ﺑﺎﻷﺷﻴﺎء اﻟﺠﻤﻴﻠﺔ وﻟﻜﻦ ﻻ ﻳﺆﻣﻨﻮن ﺑﺎﻟﺠﻤﺎل ﰲ ﺣَ ﱢﺪ ذاﺗﻪ ،وﻻ ﻳﻤﻜﻨﻬﻢ َﻓﻬﻢ ﻣﻦ ﻳﺤﺎول إرﺷﺎدﻫﻢ إﱃ ﻣﻌﺮﻓﺘﻪ«. وﻳﻘﻮل أﻓﻼﻃﻮن إن ﻏري اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻳﻌﻴﺸﻮن ﰲ ﺣﺎﻟﺔ أﺷﺒﻪ ﺑﺎﻟﺤﻠﻢ ﻷﻧﻬﻢ ﻳﺨﻠﻄﻮن ﺑني اﻷﺷﺒﺎح املﺘﺤﺮﻛﺔ )أي اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺠﻤﻴﻠﺔ( وﺑني اﻟﻮاﻗﻊ )وﻫﻮ اﻟﺠﻤﺎل ﻋﻴﻨﻪ( .واﻟﻔﻼﺳﻔﺔ
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﻮن ﻫﻢ ﻣﻦ أﻓﺎﻗﻮا ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﺤﻠﻢ؛ ﻓﻬﻢ ﻳﺪرﻛﻮن أن ﺛﻤﺔ ﻋﺎ ًملﺎ ﻣﺜﺎﻟﻴٍّﺎ ﻗﻮاﻣﻪ ا ُملﺜ ُ ُﻞ ﺗﺄﺗﻲ ﻣﻨﻪ اﻟﻨﺴﺦ ﻏري املﺜﺎﻟﻴﺔ أو اﻟﺼﻮر ﻏري اﻷﺻﻴﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻤﺜﻞ أﻣﺎﻣﻨﺎ ﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ املﺎدي وآراﺋﻨﺎ اﻟﺬاﺗﻴﺔ ،ووﻇﻴﻔﺔ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ أن ﻳﺴﺘﻌﻤﻞ اﻟﺒﺤﺚ اﻟﻌﻘﲇ َ ﻟﻔﻬﻢ ﻫﺬه اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ اﻟﺴﺎﻣﻴﺔ واﻟﱰﻛﻴﺰ ﻋﲆ املﻬﻢ ﻣﻨﻬﺎ. وأﻳﻨﻤﺎ ﺻﺎدﻓﺖ ﻣﺼﻄﻠﺢ »اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ« ،ﻓﻐﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﻳﺸﺎر إﱃ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺼﻮرة ﻋﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﺴﺎﻣﻴﺔ ﻟﻠﻮﺟﻮد املﺎدي .ﻓﻌﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ،ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺤﺎول ﻋﻠﻤﺎء اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ﰲ زﻣﻨﻨﺎ اﻟﺮاﻫﻦ وﺻﻒ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ )ﻣﺜﻞ اﻷﻋﺪاد( أو ﺑﻴﺎن اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ، ﻓﻬﻢ ﻳﺴﺘﻌﻴﻨﻮن ﺑﺄﻓﻜﺎر أﻓﻼﻃﻮن؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻛﺘﺐ روﺟﺮ ﺑﻨﺮوز ﻳﻘﻮل: ُﺪرك اﻟﻌﻘﻞ ﻓﻜﺮة رﻳﺎﺿﻴﺔ ﻣﺎ؛ ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺘﱠﺼﻞ ﺑﻌﺎﻟﻢ املﻔﺎﻫﻴﻢ أﺗﺼﻮر أﻧﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳ ِ ً اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ ﻟﺪى أﻓﻼﻃﻮن) .وﻟﻨﺘﺬﻛﺮ أﻧﻪ ﻃﺒﻘﺎ ﻟﻠﻤﻨﻈﻮر اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻲ ،ﻓﺈن اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ ﻗﺎﺋﻤﺔ ﺑﺬاﺗﻬﺎ ،وﻣﻮﺟﻮدة ﰲ ﻋﺎﻟﻢ أﻓﻼﻃﻮﻧﻲ ﻣﺜﺎﱄ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﻮﺻﻮل ً ﺣﻘﻴﻘﺔ رﻳﺎﺿﻴﺔ ﻣﺎ؛ ﻓﺈن إﻟﻴﻪ إﻻ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﻌﻘﻞ( .وﻋﻨﺪﻣﺎ »ﻳﺪرك« أﺣﺪﻫﻢ ً اﺗﺼﺎﻻ ﻣﺒﺎﴍًا. وﻋﻴﻪ ﻳﺪﺧﻞ ﻋﺎﻟﻢ اﻷﻓﻜﺎر وﻳﺘﺼﻞ ﺑﻪ وﺑﻤﺎ أن ﺑﻨﺮوز ﻳﺆﻣﻦ أن اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ ﺗﻮﺟﺪ ﰲ ﻋﺎﻟﻢ أﻓﻼﻃﻮﻧﻲ ،وأن اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ﻫﻲ أﺳﺎس ﻛﻞ املﻌﺮﻓﺔ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ؛ ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺮى أن »ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺨﺎرﺟﻲ اﻟﻔﻌﲇ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ َﻓﻬﻤُﻬﺎ إﻻ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ … ﻋﺎﻟﻢ أﻓﻼﻃﻮن املﺜﺎﱄ اﻟﺬي »ﻳﻤﻜﻦ اﻟﻮﺻﻮل إﻟﻴﻪ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﻌﻘﻞ««. ً ﻣﺒﺎﻟﻐﺔ ﻋﻈﻴﻤﺔ ﰲ ذﻟﻚ ،وﻟﻜﻦ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ وﻳﺮى ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴني املﻌﺎﴏﻳﻦ أن ﺛﻤﺔ ﻧﻔﺴﻪ ﻳﺪرك اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻨﻬﻢ أن ﺑﻌﺾ أوﺟﻪ اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ ﺗﺘﻤﺘﻊ ﺑﻘﺴﻂ ﻣﻦ اﻷﻫﻤﻴﺔ ﻋﻨﺪ ﴍح ﻣﻌﺮﻓﺘﻨﺎ ﺑﺎﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت .وﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﺘﻔﻜري املﻌﺎﴏ ﺗﺤﻈﻰ اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ َ ﺑﻘﺒُﻮل واﺳﻊ ﻋﻨﺪ ً ﻣﻘﺎرﻧﺔ ﺑﻤﺎ ﺳﻮاﻫﺎ ﻣﻦ ﻣﺠﺎﻻت .ﻓﺎﻹﻳﻤﺎن ﺑﺎﻟﻮﺟﻮد املﺠ ﱠﺮد ﻟﻠﺮﻗﻢ ﺗﻄﺒﻴﻘﻬﺎ ﻋﲆ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ﺳﺘﺔ ﰲ »ﻋﺎﻟﻢ أﻓﻼﻃﻮﻧﻲ ﻣﺜﺎﱄ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﻮﺻﻮل إﻟﻴﻪ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﻌﻘﻞ« ﻳﺨﺘﻠﻒ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻋﻦ اﻹﻳﻤﺎن ﺑﺎﻟﻮﺟﻮد املﺠ ﱠﺮد ﻟﻠﺠﻤﺎل اﻟﺴﻤﺎوي .ﻓﺈن اﺗﺒﻌﻨﺎ ﻣﺎ ﻗﺎﻟﻪ أﻓﻼﻃﻮن وﺳ ﱠﻠﻤﻨﺎ ﺑﻮﺟﻮد ﻣﺜﺎل ﻟﻠﺮﻗﻢ ﺳﺘﺔ وﻣﺜﺎل ﻟﻠﻤﺜﻠﺚ ﻣﺘﺴﺎوي اﻷﺿﻼع ،ﻳﺼﺒﺢ ﻣﻦ اﻟﻐﺮﻳﺐ أن ﻧﺘﺼﻮر ً أﻳﻀﺎ ٍ وﺟﻮد ﻣﺜﺎل ﻟﻠﺠﻤﺎل وﻣﺜﺎل ﻟﻠﻌﺪل ،وﻣﺜﺎل ﻟﻠﻄﺎوﻟﺔ ،وآﺧﺮ ﻟﻠﻜﺮﳼ ،ورﺑﻤﺎ ﻣﺜﺎل ﻟﺨﻨﺎزﻳﺮ ﻏﻴﻨﻴﺎ ً ﺳﺆال ﻣﺎ ،ﻓﻤﺎ ﻫﻮ ذاك أﻳﻀﺎ .وإن ﻛﺎﻧﺖ ﻧﻈﺮﻳﺔ املﺜﻞ اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ ﻫﺬه ﻫﻲ اﻹﺟﺎﺑﺔ ﻋﻦ ٍ اﻟﺴﺆال ﻳﺎ ﺗﺮى؟ 198
ﺟﻤﻬﻮرﻳﺔ املﻨﻄﻖ :أﻓﻼﻃﻮن
ﻟﻘﺪ ﻧﺸﺄت ﻫﺬه اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﻟﺘﻠﺒﻴﺔ ﻋﺪد ﻣﻦ اﻟﺤﺎﺟﺎت ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻫﻨﺎك ﺳﺆال ﻣﺤﺪﱠد ﺗﺴﻌﻰ ﻟﻺﺟﺎﺑﺔ ﻋﻨﻪ .وﻳﺒﺪو أﻧﻬﺎ ﺧﻀﻌﺖ ﻟﻠﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺘﻐﻴريات َ ﻃﻮال ﻣﺸﻮار أﻓﻼﻃﻮن اﻟﻔﻜﺮي ،وﻳﻌﺘﻘﺪ اﻟﺒﻌﺾ أﻧﻪ ﱠ ُوﺟﻬﺖ ﺗﺨﲆ ﻋﻨﻬﺎ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ .وﺗﻨﺎﻗﺶ أﻋﻤﺎﻟﻪ اﻷﺧرية ﻣﺎ و ِ ﺑﻪ ﻫﺬه اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﻣﻦ اﻋﱰاﺿﺎت ،رﻏﻢ أﻧﻪ ﻣﻦ ﻏري اﻟﻮاﺿﺢ ﻣﺪى ﻗﺪرة أﻓﻼﻃﻮن ﻋﲆ اﻟ ﱠﺮ ﱢد ﻋﲆ ﺗﻠﻚ اﻻﻋﱰاﺿﺎت ،وﻟﻜﻦ اﻟﻔﻜﺮة اﻟﺮﺋﻴﺴﺔ ﺛﺎﺑﺘﺔ إﱃ ﺣَ ﱟﺪ ﻛﺒري .وﻟﻘﺪ ﺗﻄﺮﻗﻨﺎ ﻟﺒﻌﺾ اﻷﻣﻮر اﻟﺘﻲ ﻗﺎدﺗﻪ إﱃ وﺿﻊ ﺗﻠﻚ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﻣﻦ ﺧﻼل ﺗﻨﺎوُﻟﻨﺎ ﻟﻠﻤﻔﻜﺮﻳﻦ اﻟﺴﺎﺑﻘني ﻋﻠﻴﻪ ،وﻣﻦ ﱡ اﻟﺘﻮﺻﻞ إﱃ ﺧﻼل ﻣﺎ رأﻳﻨﺎه ﻣﻦ اﻫﺘﻤﺎم أﻓﻼﻃﻮن ﺑﺎﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت .وﻟﻌﻞ رﻏﺒﺔ أﻓﻼﻃﻮن ﰲ ﻣﺴﺘﻮًى ﻋﻤﻴﻖ ﻣﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﺮاﺳﺨﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ إدرا ُﻛﻬﺎ ﺑﺎﻟﺘﻔﻜري اﻟﻌﻘﲇ ﺗﻌﻜِﺲ اﻧﺠﺬاﺑﻪ ً ﻓﻀﻼ ﻋﻦ أﺷﻴﺎءَ أﺧﺮى — ﻷﻓﻜﺎر ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس؛ إذ أﻣﺪﺗﻪ ﻫﺬه اﻷﻓﻜﺎر ﺑﺈﻃﺎر ﻣﻨﺎﺳﺐ — ِ ﺣﻘﻴﻘﺔ ملﻌﺘﻘﺪاﺗﻪ اﻷورﻓﻴﺔ واﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﺔ ﺣﻮل ﺗﻄﻬري اﻟﺮوح ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺘﺄﻣﱡ ﻞ اﻟﻌﻘﲇ ﰲ ﻣﺎ وراء اﻟﻌﺎﻟﻢ املﺎدي اﻷدﻧﻰ ﻗﻴﻤﺔ .ﻓﻤﻦ ﺧﻼل أﻓﻜﺎر ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ — أو ﻣﻤﱠ ﺎ ذﻛﺮه ﺻﺪﻳﻘﻪ ﱡ اﻟﺘﻐريات املﺴﺘﻤﺮة ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻗﺮاﻃﻴﻠﻮس ﻋﻦ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ — أﺗﺎه اﻟﺒﺎﻋﺚ ﻋﲆ اﻟﺘﻔﻜري ﺑﺄن املﺎدي ﺗﺸﻜﻞ ﻋﻘﺒﺔ ﰲ ﻃﺮﻳﻖ املﻌﺮﻓﺔ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺠﺎوزﻫﺎ إﻻ ﺑﺎﻻﻋﺘﻤﺎد ﻋﲆ ﳾء ﺛﺎﺑﺖ ﻋﲆ ﻏﺮار ا ُملﺜ ُ ِﻞ .وﻳﺮى أﻓﻼﻃﻮن أن ﺑﺪون ا ُملﺜ ُ ِﻞ ﺳﻴﻜﻮن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻋﲆ درﺟﺔ ﻣﻦ اﻟﻔﻮﴇ ﻳﺼﻌﺐ ﻣﻌﻬﺎ ﻓﻬﻤﻪ .ﻛﻤﺎ اﺳﺘﻘﻰ أﻓﻼﻃﻮن ﺑﻌﺾ أﻓﻜﺎره ﻣﻦ ﺳﻘﺮاط وﺑﺤﺜﻪ ﻋﻦ ﺗﻌﺮﻳﻔﺎت َ ﺣﻘﺎﺋﻖ ﻣﺠﺮدة ﻋﻦ اﻷﺧﻼق ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻟﻠﻔﻼﺳﻔﺔ أن ﻟﻠﻤﻔﺎﻫﻴﻢ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ،ﺣﻴﺚ ﻗﺎل إن ﺛﻤﺔ ﱡ اﻟﺘﻮﺻﻞ إﻟﻴﻬﺎ وإﻣﺎﻃﺔ اﻟﻠﺜﺎم ﻋﻨﻬﺎ؛ ﻓﻘﺪ ﺟﻌﻞ أﻓﻼﻃﻮن ﺳﻘﺮاط ﻳﻨﻄﻖ ﺑﺄن ﻳﺠﺘﻬﺪوا ﰲ »اﻷﺷﻴﺎء ﻻ ﺗﺘﻔﺎوت ﺑﺘﻔﺎوُت اﻷﺷﺨﺎص« ﺑﻞ ﻳﺠﺐ أن ﻳﻜﻮن ﻟﻬﺎ »ﺟﻮﻫﺮﻫﺎ املﻨﺎﺳﺐ اﻟﺜﺎﺑﺖ؛ ﻓﻬﻲ ﻻ ﺗﺮﺗﺒﻂ ِﺑﻨَﺎ وﻻ ﺗﺄﺛري ﻟﻨﺎ ﻋﻠﻴﻬﺎ ،وﻻ ﺗﺘﻐري ﺗﺒﻌً ﺎ ﻟﺨﻴﺎﻟﻨﺎ وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻣﺴﺘﻘﻠﺔ «.وﺑﻌﺒﺎرة أﺧﺮى :ﻓﺈن ﺗﻠﻚ ا ُملﺜ ُ َﻞ ﺗﻀﻊ ﻣﻌﺎﻳري ﺛﺎﺑﺘﺔ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ وﺗﺒني ﺧﻄﺄ »ﻧﺴﺒﻴﺔ« اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني ﻣﻦ ﺟﻬﺔ أﺧﺮى. وﻳﺘﺤﺪث أﻓﻼﻃﻮن ﺑﻠﻐﺔ ﺗﺬﻛﺮﻧﺎ ﺑﺒﺎرﻣﻨﻴﺪس ﰲ ﻓﻘﺮة ﻣﻦ ﻣﺤﺎورﺗﻪ »املﺄدﺑﺔ« اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻋﲆ اﻷرﺟﺢ أُوﱃ ﻣﺤﺎوراﺗﻪ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻨﺎول ا ُملﺜ ُ َﻞ .وﺗﺄﺗﻲ املﺤﺎورة ﰲ ﺳﻴﺎق ﻣﻨﺎﻗﺸﺔ ﺗﺠﺮي ﺑﻌﺪ اﻟﻌﺸﺎء ﺑني ﻋﺪد ﻣﻦ اﻷﺻﺪﻗﺎء ﺑﻤﻦ ﻓﻴﻬﻢ ﺳﻘﺮاط ﻳﺘﺒﺎدﻟﻮن ﺧﻼﻟﻬﺎ اﻷدوار ﰲ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﺐ .وﻛﺎن ﻟُﺐﱡ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻫﻮ ﻣﺎ ﻗﺎﻟﻪ ﺳﻘﺮاط ﻋﻦ اﻟﺤﺐ ،وﻣﺎ ذﻛﺮ أﻧﻪ ﺳﻤﻌﻪ ﻣﻦ ﻛﺎﻫﻨﺔ ﺗﺪﻋﻰ دﻳﻮﺗﻴﻤﺎ ،اﻟﺘﻲ ﻳﻘﻮل إﻧﻬﺎ ﻋ ﱠﻠﻤﺘﻪ ﻛﻞ ﳾء ﻳﻌﺮﻓﻪ ﻋﻦ اﻟﺤﺐ .ﺣﺎوﻟﺖ دﻳﻮﺗﻴﻤﺎ أن ﺗﺒني أن اﻟﺴﻌﻲ إﱃ اﻟﺤﺐ ﻳﺠﺐ أن ﻳﻜﻮن ﻋﲆ ﻋﺪة ﻣﺮاﺣ َﻞ ،ﻳﻤﻜﻦ اﻋﺘﺒﺎر أن ﻛﻞ ﻣﺮﺣﻠﺔ ﻣﻨﻬﺎ ﺗﺆدي ﻟﺘﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﺗﻠﻴﻬﺎ ﺣﺘﻰ ﻧ َ ِﺼ َﻞ إﱃ ﻣﺮﺣﻠﺔ ﺗﺬوﱡق اﻟﺠﻤﺎل ذاﺗﻪ. 199
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻳﺒﺪأ اﻷﻣﺮ )ﻛﻤﺎ ﻳﻨﻘﻞ ﺳﻘﺮاط ﻋﻨﻬﺎ( ﺑﺎﻹﻋﺠﺎب ﺑﺠﺴﺪ ﺷﺨﺺ ﺑﻌﻴﻨﻪ .وﻧﻈ ًﺮا ملﻮاﻃﻦ اﻟﺘﺸﺎﺑُﻪ ﺑني ﻫﺬا اﻟﺠﺴﺪ وأﺟﺴﺎد املﺘﱠﺼﻔني ﺑﺎﻟﺠﻤﺎل ﻋﻤﻮﻣً ﺎ ،ﻳﺠﺐ ﻋﲆ ا ُملﺤِ ﺐﱢ أن »ﻳﺠﻌﻞ ﻣﻦ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﺤﺒٍّﺎ ﻟﻜﻞ ﺟﺴﺪ ﺟﻤﻴﻞ ،وأن ﻳﻀﺒﻂ ﻋﺎﻃﻔﺘﻪ ﺗﺠﺎه ذاك اﻟﺠﺴﺪ ،وأن ﻳﻌﺘﱪه ﻏري ذي أﻫﻤﻴﺔ «.أﻣﺎ املﺮﺣﻠﺔ اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ ﻓﻬﻲ إدراك أن »ﺟﻤﺎل اﻟﺠﺴﺪ ﻻ ﻳُﻘﺎ َرن ﺑﺠﻤﺎل اﻟﺮوح« ﺑﺤﻴﺚ ﻳﺒﺪأ ا ُملﺤِ ﺐﱡ ﺑﺎﻟﺘﻌ ﱡﻠﻖ ﺑﺎﻷرواح أو اﻟﺸﺨﺼﻴﺎت اﻟﺠﻤﻴﻠﺔ ﺣﺘﻰ وإن ﺳﻜﻨﺖ أﺟﺴﺎدًا ﻗﺒﻴﺤﺔ .وﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﺤﺐ اﻟﻌﻔﻴﻒ — اﻟﺬي ﻳُ ْ ﻄ َﻠ ُﻖ ﻋﻠﻴﻪ أﺣﻴﺎﻧًﺎ »اﻟﺤﺐ اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻲ« ﰲ زﻣﺎﻧﻨﺎ — »ﺳﻴﺤﻔﺰ ﰲ ﻗﻠﺐ ا ُملﺤِ ﺐﱢ املﻴﻞ إﱃ ﻧﻮع ﻣﻦ اﻟﺨﻄﺎب ﻳﺴﻌﻰ ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻪ ﻟﺨﻠﻖ ﻃﺒﻴﻌﺔ ﻧﺒﻴﻠﺔ .وﻣﻦ ﻫﻨﺎ ﻳﺘﺠﻪ إﱃ اﻟﺘﺄﻣﱡ ﻞ ﰲ ﺟﻤﺎل اﻟﻘﻮاﻧني واملﺆﺳﺴﺎت «.وﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﻳﺠﺐ أن ﻳﺮﻛﺰ املﺤﺐ ﻋﲆ اﻟﻌﻠﻮم ﺑﻬﺪف اﻟﻮﺻﻮل إﱃ ﻣﻌﺮﻓﺔ »اﻟﺠﻤﺎل اﻟﻜﺎﻣﻦ ﰲ ﺟﻤﻴﻊ أﻧﻮاع املﻌﺮﻓﺔ «.وﺧﻼل ﻓﱰة وﺟﻴﺰة ﺳﻴﺒﺪأ ﰲ َﻓﻬﻢ ﺻﻮرة ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس اﻟﻜﺎﻣﻠﺔ ﻋﻦ اﻟﺠﻤﺎل ذاﺗﻪ ﺣﻴﺚ ﻳﻘﻮل: َ واﻵن ﻳﺎ ﺳﻘﺮاط ﻳُ ْﻠﻬَ ُﻢ ا ُملﺤِ ﺐﱡ رؤﻳﺔ ُروح اﻟﺠﻤﺎل ذاﺗﻪ اﻟﺬي ﻃﺎملﺎ اﺷﺘﺎق إﻟﻴﻪ .إﻧﻪ ﺟﻤﺎل ﴎﻣﺪي ﻻ ﻳﺄﺗﻲ وﻻ ﻳﺬﻫﺐ وﻻ ﻳﺘﻔﺘﺢ وﻻ ﻳﺬﺑُﻞ؛ ﻷﻧﻪ ﺛﺎﺑﺖ ﻟﻜﻞ ﺷﺨﺺ ﰲ ﻛﻞ زﻣﺎن وﰲ ﻛﻞ ﻣﻜﺎن وﻣﻦ ﻛﻞ ﻃﺮﻳﻖ ،وﻫﻮ ﻳﺘﺠﲆ ﻟﻜﻞ املﺘﻴﻤني ﻋﲆ ﺣَ ﱟﺪ ﺳﻮاء ﺑﺎﻟﺼﻮرة ذاﺗﻬﺎ. ُ وﻟﻦ ﻳﺘﺨﺬ ﻫﺬا اﻟﺠﻤﺎل ﺻﻮرة اﻟﻮﺟﻪ أو اﻷﻳﺪي أو أي ﳾء ﻣﺎدي ﻳَﺪﺧﻞ َ ﻣﻌﺎرف أو ﻣﺎ دون ذﻟﻚ ﻣﻦ أﺷﻴﺎء اﻟﻠﺤﻢ ﻓﻴﻪ ،وﻟﻦ ﻳﻜﻮن ﰲ ﻫﻴﺌﺔ ﻛﻠﻤﺎت أو ِﻴﺎن آﺧﺮ ﻣﺜﻞ اﻟﻜﺎﺋﻦ اﻟﺤﻲ أو اﻷرض أو اﻟﺴﻤﻮات أو أي ﳾء ﺗُﻮﺟَ ُﺪ داﺧﻞ ﻛ ٍ ﺧﻼ ﻣﺎ ﺗﻤﺘﻊ ﺑﺼﻔﺔ اﻟﻮﺣﺪاﻧﻴﺔ اﻷﺑﺪﻳﺔ؛ ﺣﻴﺚ ﻳﺴﺘﻘﻲ ﻣﻨﻪ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺟﻤﻴﻞ، وﻣﻬﻤﺎ زادت ﺗﻠﻚ اﻷﺷﻴﺎء أو ﻧﻘﺼﺖ ﻓﻠﻦ ﻳﺘﻐري ذﻟﻚ املﺜﺎل أو ﻳﺘﺄﺛﺮ ﺑﻞ ﺳﻴﺒﻘﻰ ُﻛ ٍّﻼ ﻻ ﻳﺘﺠﺰأ. ﻟﻄﺎملﺎ اﺳﺘﻌﺎن اﻷدب اﻟﻐﺮﺑﻲ ﺑﺘﺼﻮر دﻳﻮﺗﻴﻤﺎ ﻋﻦ ﺗﺴﺎﻣﻲ املﺤﺐ إﱃ اﻟﺠﻤﺎل؛ ﻓﻘﺪ اﺳﺘﻌﺎره اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﺮوﺣﺎﻧﻴﻮن واﻟﻜﺘﺎب املﺴﻴﺤﻴﻮن اﻷواﺋﻞ ﻣﺜﻞ أورﻳﺠﻦ واﻟﻘﺪﻳﺲ أوﺟﺴﺘني وﻋﺪد ﻻ ﻳُﺤﴡ ﻣﻦ ﺷﻌﺮاء اﻟﺤﺐ .وﻟﻌﻞ ﻣﺎ اﺗﱠﺼﻒ ﺑﻪ ﻣﺜﺎل اﻟﺠﻤﺎل ﻣﻦ أﺑﺪﻳﺔ وﴎﻣﺪﻳﺔ ﻻ ﺗﺘﻐري ﱡ ﺑﺘﻐري اﻟﺰﻣﺎن أو املﻜﺎن ﻳﺒني أن ُﻣﺜ ُ َﻞ أﻓﻼﻃﻮن ﻣﻤﺎﺛِﻠﺔ ﻟﻔﻜﺮة اﻟﻮاﺣﺪ ﻟﺪى ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس، وﻟﻜﻨﻬﺎ ُو ِﻟﺪ ْ َت ﻣﻦ ﺟﺪﻳﺪ وﺗﻀﺎﻋﻔﺖ واﻗﱰﻧﺖ ﺑﺎﻟﻌﺎﻟﻢ املﺎدي .وﺑﻴﻨﻤﺎ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻫﻨﺎك ﺑﺎﻟﻄﺒﻊ إﻻ »واﺣﺪ« أوﺣﺪ ﻟﺪى ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ،ﻛﺎن ﻟﺪى أﻓﻼﻃﻮن ُﻣﺜ ُ ٌﻞ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻟﻜﻞ ﻣﺼﻄﻠﺢ أو 200
ﺟﻤﻬﻮرﻳﺔ املﻨﻄﻖ :أﻓﻼﻃﻮن
ﻣﻔﻬﻮم ﻋﺎ ﱟم وﻟﻴﺲ »اﻟﺠﻤﺎل« وﺣﺪه .وﺑﻴﻨﻤﺎ ﻛﺎن اﻟﻌﺎﻟﻢ املﺎدي املﺘﻐري ﻣﺠﺮد وﻫﻢ ﻛﻤﺎ اﻋﺘﱪه ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ،ﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻷﻓﻼﻃﻮن ﺣﻘﻴﻘﻴٍّﺎ رﻏﻢ دوﻧﻴﺘﻪ ﻣﻦ ﺟﻮاﻧﺐَ ﻋﺪة. ﻳﺤﻤﻞ اﻟﻌﺎﻟﻢ املﺎدي دﻻﺋﻞ ﻋﲆ ا ُملﺜ ُ ِﻞ اﻟﺴﺎﻣﻴﺔ ،وﻛﻞ ﳾء ﰲ ﻫﺬا اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻳﺸﺒﻪ »املﺜﺎل« اﻟﺬي ﻳﺤﺎﻛﻴﻪ؛ ﻓﺎﻟﺮﺟﻞ اﻟﺼﺎﻟﺢ ً ﻣﺜﻼ »ﻳﺸﺒﻪ« ﻣﺜﺎل اﻟﺨري وﻣﺜﺎل اﻟﺮﺟﻞ .وإن ﻫﺬه اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑني اﻷﺷﻴﺎء املﺎدﻳﺔ وا ُملﺜ ُ ِﻞ ﻛﻤﺎ ﻳﺮى أﻓﻼﻃﻮن ﻫﻲ ﻣﺎ ﻳﻤﻨﻊ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻣﻦ أن ﻳﻜﻮن ﺧﻠﻴ ً ﻄﺎ ﻓﻮﺿﻮﻳٍّﺎ ،ﺑﻞ ﻳﺠﻌﻠﻪ ﺗﺮﻛﻴﺒًﺎ ﻣﻔﻬﻮﻣً ﺎ .وﻫﺬا ﻳﺬﻛﺮﻧﺎ ﺑﺎﻟﻨﻬﺮ ﰲ ﻣﻘﻮﻟﺔ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ اﻟﺸﻬرية: إذا ﻛﺎن اﻟﻨﻬﺮ ﻣﺘﻐريًا دوﻣً ﺎ ﻓﻜﻴﻒ ﻧﺘﺤﺪث ﻋﻦ ﻧﻬﺮ واﺣﺪ ﺑﻌﻴﻨﻪ ،وﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ ﻣﻌﺮﻓﺔ أي ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻋﻨﻪ؟ وﻟﻮ أن ﻛﻞ ﳾء ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ املﺎدي ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﻣﺘﻐرية ﻛﻤﺎ ادﻋﻰ أﻓﻼﻃﻮن ﻓﻜﻴﻒ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ اﻟﺘﻌﺮف ﻋﲆ ﻣﺎﻫﻴﺔ اﻷﺷﻴﺎء؟ ﻟﻘﺪ ﺗﻌﺮض أﻓﻼﻃﻮن ﻟﺼﺪﻣﺔ ﺷﺪﻳﺪة ﻣﻦ أﻣﻮاج ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ اﻟﺒﺎردة املﻀﻄﺮﺑﺔَ ، ﻓﻔ ﱠﺮ إﱃ ﺷﻮاﻃﺊ »ا ُملﺜ ُ ِﻞ« اﻵﻣﻨﺔ املﺴﺘﻘﺮة؛ ﻓﻘﺪ رأى أن املﻌﺮﻓﺔ اﻷﺻﻴﻠﺔ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺤﺼﻮل ﻋﻠﻴﻬﺎ إﻻ ﻣﻤﱠ ﺎ ﻫﻮ ﺛﺎﺑﺖ ﺣﺘﻰ ﻳﺘﺴﻨﻰ ﻟﻨﺎ دراﺳﺘﻪ، وا ُملﺜُﻞ ﻫﻲ اﻟﴚء اﻟﻮﺣﻴﺪ اﻟﺬي ﻳﺘﺼﻒ ﺑﻬﺬا اﻟﺜﺒﺎت. وﻳﺰود اﻹدراك واملﻨﻄﻖ اﻟﺴﻠﻴﻢ أﺻﺤﺎﺑﻬﻤﺎ ﺑﻤﺤﺾ »آراء« ﻗﺪ ﺗﻜﻮن ﺧﺎﻃﺌﺔ؛ ذﻟﻚ أن املﺮء ﻳﺠﺐ أن ﻳﻨﻈﺮ إﱃ ا ُملﺜُﻞ ً أﻳﻀﺎ ﰲ ﺑﺤﺜﻪ ﻋﻦ املﻌﺮﻓﺔ اﻷﺻﻴﻠﺔ املﺆ ﱠﻛﺪة .وﻟﻜﻦ ﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻺﻧﺴﺎن اﻟﻘﻴﺎم ﺑﺬﻟﻚ؟ إن ذﻟﻚ ﻳﻜﻮن ﺑﺎﻻﺳﺘﻌﺎﻧﺔ ِﺑﻤَ َﻠ َﻜ ِﺔ اﻟﻌﻘﻞ اﻟﺘﻲ ﺗﻜﻤﻞ ﻣﺎ ﺗﻌﺮﺿﻪ اﻟﺤﻮاس .وﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﻓﺈن ذﻟﻚ أﻣ ٌﺮ ﻻ ﻳﺸﻮﺑﻪ ﻏﻤﻮض ﻛﻤﺎ ﻗﺪ ﺗﻮﺣﻲ اﻟﺼﻮرة اﻟ ﱡﺮوﺣﺎﻧﻴﺔ ﻟﺪﻳﻮﺗﻴﻤﺎ؛ ﻓﻜﻞ اﻟﺒﴩ ﻳﻤﻜﻨﻬﻢ اﻟﻘﻴﺎم ﺑﺬﻟﻚ ﺑﺪرﺟﺎت ﻣﺘﻔﺎوﺗﺔ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌ ﱠﻠﻖ ﺑﺒﻌﺾ ا ُملﺜ ُ ِﻞ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ،ﻓﺄي رﺟﻞ ﰲ اﻟﺸﺎرع أو ﻋﲆ ﺿﻔﺔ ﻧﻬﺮ ﻗﺪ ﻳﻤﺘﻠﻚ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﺟﻴﺪة ﻋﻦ ً وﺻﻔﺎ ﻋﺎﻣٍّ ﺎ ملﺎ اﻷﻧﻬﺎر ﻟﺪرﺟﺔ أﻧﻪ ﻗﺪ ﻳﺼﻴﺐ ﰲ ﺑﻴﺎن ﻣﺎﻫﻴﺔ اﻟﻨﻬﺮ؛ أي إن ِﺑﻮ ُْﺳﻌِ ِﻪ أن ﻳﻘﺪم ﺗﺸﱰك ﻓﻴﻪ اﻷﻧﻬﺎر ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ،وﻫﻮ ﺑﺬﻟﻚ ﻟﺪﻳﻪ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﺑﻤﺜﺎل اﻟﻨﻬﺮ .وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﺈن اﻟﻜﺜري ﻣﻦ ا ُملﺜ ُ ِﻞ اﻷﺧﺮى ﺗﺒﺪو أﻛﺜﺮ ﺗﻌﻘﻴﺪًا وﺻﻌﻮﺑﺔ َﻛ ُﻤﺜ ُ ِﻞ اﻟﻌﺪاﻟﺔ واﻟﺨري واﻟﺠﻤﺎل .وﻳﺘﻄﻠﺐ إﻳﺠﺎد ﺻﺤﻴﺢ ﻟﻬﺎ أن ﺗﻌﻤﻞ ﻣَ َﻠ َﻜ ُﺔ اﻟﻌﻘﻞ ﺑﻼ ﱡ ﺗﻮﻗﻒ؛ ﻓﺎملﻌﺮﻓﺔ اﻟﺴﻠﻴﻤﺔ ﺑﻬﺬه ا ُملﺜ ُ ِﻞ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ وﺻﻒ ٍ اﻟﺤﺼﻮل ﻋﻠﻴﻬﺎ إﻻ ﺑﺎﻟﺤِ ﺠَ ﺎج؛ أي اﻟﺠﺪال اﻟﺘﻌﺎوﻧﻲ املﻨﻄﻘﻲ ﻟﺘﻨﺎوُل اﻷﻓﻜﺎر وﻣﺎ ﺗﻌﻠﻤﻪ اﻹﻧﺴﺎن ﺑﺎملﻼﺣﻈﺔ .وﻗﺪ وﺻﻒ أﻓﻼﻃﻮن ﻋﻤﻠﻴﺔ اﻟﺤِ ﺠَ ﺎج ذات ﻣﺮة ﺑﺄﻧﻬﺎ ﺗﺠﺮي »ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗُ َﻘﺎ َر ُن اﻟﺘﻌﺮﻳﻔﺎت واملﺸﺎﻫﺪات واﻻﻧﻄﺒﺎﻋﺎت اﻟﺤِ ﱢﺴﻴﱠﺔ ﺑﺒﻌﻀﻬﺎ وﻳﻔﺤﺼﻬﺎ اﻟﻘﺎﺋﻤﻮن ﻋﲆ ﺗﻮﻇﻴﻒ ِﺻﻴ َِﻎ اﻟﺴﺆال واﻟﺠﻮاب دون ﻣﻨﺎﻓﺴﺔ ﻳﺤﺮﻛﻬﺎ اﻟﺤﻘﺪ؛ ﻓﺤﻴﻨﺌ ٍﺬ ﻳﻨﺸﺄ اﻟﻔﻬﻢ «.وﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﺎن ﺳﻘﺮاط ﻳﺼﺎرع ﻣﻦ أﺟﻞ ﺻﻴﺎﻏﺔ اﻟﺘﻌﺮﻳﻔﺎت ﻛﺎن ﺑﺎﻟﺘﺒﻌﻴﺔ ،ﻛﻤﺎ ﻗﺎل ﻷﻓﻼﻃﻮن ،ﻳﺒﺤﺚ 201
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻋﻦ ﻣﺜﺎل ملﺎ ﻳﺤﺎول ﺗﻌﺮﻳﻔﻪ) .وﻛﻤﺎ رأﻳﻨﺎ ﰲ اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎﺑﻖ اﻋﺘﻘﺪ أﻓﻼﻃﻮن أن اﻟﻨﺎس ﻳﻌﺮﻓﻮن ا ُملﺜ ُ َﻞ ﻗﺒﻞ ﻣﻮﻟﺪﻫﻢ ،وﻟﻜﻦ ﻷﻧﻬﻢ ﻳَﻨ ْ َﺴﻮ َْن ﻛﻞ ﳾء ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﻮﻟﺪون ﻳﺠﺐ اﺳﺘﺨﺮاج ﻣﻌﺮﻓﺘﻬﻢ ﻣﺮة أﺧﺮى ﺑﺎﺳﺘﺨﺪام وﺳﺎﺋﻞ ﺳﻘﺮاط اﻟﺤﺠﺎﺟﻴﺔ(. وملﻌﺮﻓﺔ ﻛﻴﻒ ﻳُﻤﻴﻂ اﻟﺤِ ﺠَ ﺎجُ اﻟﻠﺜﺎم ﻋﻦ ا ُملﺜ ُ ِﻞ ،ﻧﺘﻨﺎول أﺣﺪ اﺧﺘﺒﺎرات ﺳﻘﺮاط ﱡ ﻟﻠﺘﻮﺻﻞ ملﻌﺮﻓﺔ ﻣﺜﺎل اﻟﻌﺪاﻟﺔ ،اﻟﺘﻲ ﺗﺘﺠﺎوز ﰲ ﻟﻐﺔ أﻓﻼﻃﻮن اﻟﻨﻤﻮذﺟﻴﺔ اﻟﺘﻲ أﺟﺮاﻫﺎ املﻔﺎﻫﻴﻢ اﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻴﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ،ﺣﻴﺚ ﺗﻌﻨﻲ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻪ »ﻓﻌﻞ اﻟﴚء اﻟﺼﺤﻴﺢ« .وﻳﺘﻨﺎول ﺳﻘﺮاط ﻓﻜﺮة ﻣﻔﺎدﻫﺎ أن رد اﻷﻣﺎﻧﺔ إﱃ أﻫﻠﻬﺎ ﻧﻤﻮذج ﻟﻠﻌﺪاﻟﺔ ،وﻫﺬا ﻣﺜﺎل ﻣﺒﺎﴍ .وﻟﻜﻦ ﻳﺘﺴﺎءل ﺳﻘﺮاط :ﻣﺎذا إذا اﺳﺘﻮدﻋﻚ أﺣﺪﻫﻢ ﺳﻼﺣً ﺎ وﺗﻤ ﱠﻠﻜﻪ اﻟﻐﻀﺐ ﰲ وﻗﺖ ﻻﺣﻖ ،ﻫﻞ ﺗﻌﻴﺪه إﻟﻴﻪ؟ ﻻ؛ ﻷﻧﻪ ﻣﻦ املﺤﺘﻤﻞ أن ﻳﻔﻘﺪ ﺻﻮاﺑﻪ وﻳﺆذي اﻵﺧﺮﻳﻦ .وﻟﺬﻟﻚ ﻳﻜﻮن رد اﻷﻣﺎﻧﺎت إﱃ أﻫﻠﻬﺎ ً ﻓﻌﻼ ﺳﻠﻴﻤً ﺎ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﻜﻮن ﻏري ذﻟﻚ ﰲ أﺣﻴﺎن أﺧﺮى .وﻫﺬا اﻟﺘﻨﻮﱡع ﻫﻮ ﻣﺜﺎل ﻋﲆ اﻟﺘﻘ ﱡﻠﺐ اﻟﺬي ﺗﺤﺪﱠث ﻋﻨﻪ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺠﻌﻞ اﻹﺷﺎرة إﱃ ا ُملﺜ ُ ِﻞ اﻟﺜﺎﺑﺘﺔ ﴐورﻳٍّﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻷﻓﻼﻃﻮن .ﻓﻼ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺘﻐري ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﻌﺪاﻟﺔ ﻣﻦ ﻟﺤﻈﺔ ﻷﺧﺮى ﺑﻬﺬا ً ﺷﻜﻼ ﻣﻦ أﺷﻜﺎل اﻟﻌﺪاﻟﺔ .ﻟﺬﻟﻚ اﻟﺸﻜﻞ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن »رد اﻷﻣﺎﻧﺎت إﱃ أﻫﻠﻬﺎ« ﱠ ﻳﺘﻌني ﻋﲆ ﺳﻘﺮاط أن ﻳﺴﺘﻤﺮ ﰲ اﻟﺒﺤﺚ ﺣﺘﻰ ﻳﺼﻞ إﱃ اﻟﴚء اﻟﺼﺤﻴﺢ ﻋﲆ اﻟﺪوام ،وﻻ ﺗﻘﺘﴫ ﺻﺤﺘﻪ ﻋﲆ ﺣﺎﻻت دون أﺧﺮى ،وﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﻌﺜﺮ ﻋﻠﻴﻪ ﺳﻴﻜﻮن ﻫﺬا ﻫﻮ املﺜﺎل اﻟﺜﺎﺑﺖ ﻟﻠﻌﺪاﻟﺔ. ﻫﺬا املﻘﺘﻄﻒ ﻣﻦ إﺣﺪى املﺠﺎدﻻت اﻟﺘﻲ ﺟﺎءت ﰲ ﻛﺘﺎب »اﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ« ﻫﻮ ﻧﻤﻮذج ملﻨﺎﻗﺸﺔ ﻣﻄﻮﱠﻟﺔ ﺑﺸﺄن اﻟﻌﺪاﻟﺔ .ﻓﻌﻨﺪﻣﺎ ﻧﺮى ﺗﻄﺒﻴﻖ ﻧﻈﺮﻳﺔ ا ُملﺜ ُ ِﻞ ﺑﻬﺬا اﻟﺸﻜﻞ ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺗﻔﻘﺪ ﻛﺜريًا ﻣﻦ ﺗﺄﺛرياﺗﻬﺎ اﻟ ﱡﺮوﺣﻴﺔ .وﻻ ﻳﺘﻄﻠﺐ إدراك أﺣﺪ ا ُملﺜ ُ ِﻞ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻣﺠﺮد اﻟﺒﺤﺚ ﰲ ﻣﻔﻬﻮم ﺑﻌﻴﻨﻪ .وﻫﺬا ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﻣﺎ ﻳﺌﻮل اﻷﻣﺮ إﻟﻴﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺒﺤﺚ أﻓﻼﻃﻮن ﰲ ﻫﺬا املﺜﺎل ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻨﻪ. وﺳﻨﻘﺪم ﺑﺎﺧﺘﺼﺎر ﺑﻴﺎﻧًﺎ ﺑﺎملﻨﺎﻗﺸﺎت واﻻﺳﺘﻨﺘﺎﺟﺎت املﺤﻮرﻳﺔ اﻟﻮاردة ﰲ ﻛﺘﺎب »اﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ« .ﻓﻘﺪ اﺳﺘﺨﺪم أﻓﻼﻃﻮن ﻫﺬه املﺤﺎورة ﻟﻴﺆﻛﺪ ﻋﲆ أﻓﻜﺎر ﺳﻘﺮاط ﺣﻮل ﻣﺎ ﻳﻨﻌﻢ ﺑﻪ اﻟﺸﺨﺺ اﻟﻌﺎدل ﻣﻦ ﺳﻌﺎدة ،وﻣﺎ ﻳﺤﻞ ﺑﺎﻟﻈﺎﻟﻢ ﻣﻦ ﺷﻘﺎء .وﺗﻬﺪف املﺤﺎورة إﱃ َﺳ ﱢﺪ ﺑﻌﺾ اﻟﻔﺠﻮات ﰲ املﻮﺿﻮﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﻃﺮﺣﻬﺎ ﺳﻘﺮاط ﻧﻔﺴﻪ ،وأن ﺗﺮﺳﻢ ﺻﻮرة ﻟﻌﻠﻢ اﻟﻨﻔﺲ اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ وﻟﻠﻤﺪﻳﻨﺔ اﻟﻔﺎﺿﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﺗُﻌَ ﱡﺪ أﺷﻬﺮ إﺑﺪاﻋﺎت أﻓﻼﻃﻮن )رﻏﻢ أﻧﻪ ﻣﺎ ﻣﻦ أﺣﺪ ﰲ زﻣﻨﻨﺎ ﻫﺬا ﻳﺮﻏﺐ ﰲ اﻟﻌﻴﺶ ﻓﻴﻬﺎ( .وﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﺳﻨﺘﻨﺎول ﻣُﺤﺎ َو َرة أﻓﻼﻃﻮن »ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس« اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻀﻤﻦ ﻧﻈﺮﻳﺘﻪ ﻋﻦ ﻋﻠﻢ اﻟﻜﻮﻧﻴﺎت .وﻗﺪ ﻇﻠﺖ ﻫﺬه املﺤﺎورة ﻋﻤﻠﻴٍّﺎ 202
ﺟﻤﻬﻮرﻳﺔ املﻨﻄﻖ :أﻓﻼﻃﻮن
ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ ﻧ َ ﱟ ﺺ ﻣﻘﺪﱠس ﰲ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻟﻌﺪة ﻗﺮون .وﺗﻘﺪم ﻛﻠﺘﺎ املﺤﺎورﺗني »اﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ« و»ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس« ﺣﻠﻮل أﻓﻼﻃﻮن ﻟﻠﻤﺸﻜﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﻋﺮﺿﻬﺎ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﻮن ﺣﻮل اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑني اﻹﻧﺴﺎن ﺑﻘﻮاﻧﻴﻨﻪ وﺗﻘﺎﻟﻴﺪه اﻟﺘﻲ ﺗﺒﺪو ﺗﻌﺴﻔﻴﺔ وﻣﺴﺘ ِﺒﺪة ﻣﻦ ﺟﻬﺔ ،وﺑني ﻋﺎﻟﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺜﺎﺑﺘﺔ واملﺠ ﱠﺮدة ﻣﻦ ﺟﻬﺔ أﺧﺮى .وﻟﻜﻦ ﺣَ ِﺮيﱞ ﺑﻨﺎ ﰲ اﻟﺒﺪاﻳﺔ أن ﻧﻠﻘﻲ ﻧﻈﺮة ﴎﻳﻌﺔ ﻋﲆ ﺣﻴﺎة أﻓﻼﻃﻮن ﻟﻨﺴﺘﻨﺘﺞ ﺑﻌﺾ اﻷﺷﻴﺎء ﻋﻦ ﻃﺒﻴﻌﺘﻪ وﺷﺨﺼﻴﺘﻪ.
أﻓﻼﻃﻮن.
اﻧﺤﺪر أﻓﻼﻃﻮن ﻣﻦ ﻋﺎﺋﻠﺔ ﺛﺮﻳﺔ ﻣﱰاﺑﻄﺔ ،ﻳﺼﻞ ﻧﺴﺐ واﻟﺪه إﱃ آﺧﺮ ﻣﻠﻮك أﺛﻴﻨﺎ ،وﻫﻮ ﻗﺪ ﺑﻠﻎ ﺑﺬﻟﻚ أﻗﴡ درﺟﺎت اﻟﻨﱡﺒﻞ )إﻻ إذا ﻛﺎن ذﻟﻚ املﻠﻚ ﺗﺤﺪﻳﺪًا ﻏري ﻣﻮﺟﻮد ﻣﻦ اﻷﺳﺎس(. وﻧﻈ ًﺮا ﻟﻜﻮﻧﻪ ﺗﻠﻤﻴﺬًا ﻧﺠﻴﺒًﺎ ﻳﻨﺘﻤﻲ إﱃ وﺳﻂ ﻛﻬﺬا؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻣﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ أن ﻳﻌ ﱢﻠﻖ آﻣﺎﻟﻪ ﱠ املﺘﻮﻗﻊ ﻋﲆ اﻟﻌﻤﻞ ﺑﺎﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ،وﻟﻜﻦ ﴎﻋﺎن ﻣﺎ ﺧﺎب أَﻣَ ﻠُﻪُ ،ﻟﻴﺲ ﻷﻧﻪ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻋﲆ املﺴﺘﻮى ﺑﻞ ﻷن اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻛﺬﻟﻚ .وﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﺘﺐ ﻋﻦ اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ً ﻻﺣﻘﺎ ﺑﻌﺪﻣﺎ اﻫﺘﺰ ﻷﻓﻜﺎر ﺳﻘﺮاط املﺜﺎﻟﻴﺔ ،ﻳﻘﻮل أﻓﻼﻃﻮن إﻧﻪ »اﻧﺴﺤﺐ ﰲ اﺷﻤﺌﺰاز ﻣﻦ ﻣﻔﺎﺳﺪ ذﻟﻚ اﻟﺰﻣﺎن «.وﺑﻌﺪ 203
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻋﺪة أﻋﻮام ﻣﻦ ذﻟﻚ اﻻﻧﻔﺼﺎل املﺒ ﱢﻜﺮ ﺑﻴﻨﻪ وﺑني اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ،ﺳﻨﺤﺖ ﻟﻪ ﻓﺮﺻﺔ ﻟﻴﻄﺒﱢﻖ أﻓﻜﺎره ً ﻃﻮﻳﻼ .وﻗﺪ اﻋﺘﱪ أﻓﻼﻃﻮن اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﰲ إﻣﱪاﻃﻮرﻳﺔ ﺳرياﻗﻮﺳﺎ ،ﻟﻜﻦ اﻟﻔﺮﺻﺔ ﻟﻢ ﺗَ ُﺪ ْم ﻧﻔﺴﻪ ﻣﺤﻈﻮ ً ﻇﺎ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌ ُﺪ ﻟﺘَﻤَ ﱡﻜﻨ ِِﻪ ﻣﻦ اﻟﻨﺠﺎة ﻣﻦ ﻫﺬه املﺮﺣﻠﺔ املﺄﺳﺎوﻳﺔ اﻟﻬﺰﻟﻴﺔ ﻣﻦ ﺣﻴﺎﺗﻪ. ورﺑﻤﺎ وﺟﺪ ﻋﺰاءه اﻟﻮﺣﻴﺪ ﰲ أن اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﻗﺪ أﻧﺸﺄﻫﺎ ﰲ أﺛﻴﻨﺎ ﻗﺒﻞ أﻋﻮام واﻟﺘﻲ ﺗﻔ ﱠﺮغ ﻟﻬﺎ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ اﺳﺘﻤﺮت ﺣﻮاﱄ ٩٠٠ﻋﺎم. وﻛﺎﻧﺖ ﻓﺮﺻﺔ أﻓﻼﻃﻮن اﻷوﱃ ﻟﺪﺧﻮل ﻣﺠﺎل اﻟﻌﻤﻞ اﻟﺴﻴﺎﳼ ﰲ زﻣﻦ اﻟﻄﻐﺎة اﻟﺜﻼﺛني اﻟﺬﻳﻦ ﺗَ َﻮ ﱠﻟﻮْا ﻣﻘﺎﻟﻴﺪ اﻟﺤﻜﻢ ﻟﻔﱰة ﻗﺼرية ﺑﻌﺪ ﻫﺰﻳﻤﺔ أﺛﻴﻨﺎ ﰲ اﻟﺤﺮب اﻟﺒﻠﻮﺑﻮﻧﻴﺰﻳﺔ ﺣﻴﺚ ﻛﺎن اﺛﻨﺎن ﻣﻦ أﻗﺎرﺑﻪ أﻋﻀﺎء ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ اﻟﺒﻐﻴﻀﺔ ،وﻋﺮﺿﺎ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﻌﻤﻞ ﻣﻌﻬﻤﺎ .وﻗﺪ ﻛﺎن أﻓﻼﻃﻮن َ ﻃﻤﻮﺣً ﺎ وﻛﺎن ﻻ ﻳﺰال ﰲ اﻟﻌﴩﻳﻨﻴﺎت ﻣﻦ ﻋﻤﺮه وﻟﻜﻨﻪ أدرك ﺑﻮﺿﻮح ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻟ ﱡ ﻄﻐﺎة ورﻓﺾ اﻟﻌﺮض .ورأى أﻓﻼﻃﻮن أن ﺧﻄﻴﺌﺘﻬﻢ اﻟﻜﱪى ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺤﺎوﻟﺘﻬﻢ إﴍاك ﺳﻘﺮاط »أﻋﺪل أﻫﻞ زﻣﺎﻧﻪ« ﰲ أﻋﻤﺎﻟﻬﻢ .وﻳﺒﺪو أن اﻷﻣﻮر ﺗﺤﺴﻨﺖ ﰲ أﺛﻴﻨﺎ ﻟﺒﻌﺾ اﻟﻮﻗﺖ ﺑﻌﺪ ﻋﻮدة اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ؛ ﻣﻤﺎ ﺟﻌﻞ أﻓﻼﻃﻮن ﻳﻌﺘﻘﺪ ﰲ اﻟﺒﺪاﻳﺔ أن وﻗﺘﻪ ﻗﺪ ﺣﺎن ،وﻟﻜﻦ ﺗﻤ ﱠﻠ َﻜﻪ اﻟﻔﺰع ﺣني ﺗﺴﺒﺐ »ﺑﻌﺾ ﻣﻦ ﻛﺎﻧﻮا ﰲ اﻟﺴﻠﻄﺔ« ﰲ ﻣﺤﺎﻛﻤﺔ ﺳﻘﺮاط وإﻋﺪاﻣﻪ، ﻓﻜﺎن ﻫﺬا ً درﺳﺎ ﻗﺎﺳﻴًﺎ ملﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺤﺪث ﰲ ﻇﻞ اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ؛ ﻣﻤﺎ أﺣﺪث أﺛ ًﺮا ﺳﻠﺒﻴٍّﺎ ﰲ اﻵراء اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﻷﻓﻼﻃﻮن ﻟﻢ ﻳﺘﺤﺮر ﻣﻨﻪ ﻗﻂ. ﻟﻘﺪ ﺗﺤﻄﻤﺖ آﻣﺎﻟﻪ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻌﺎﻣﺔ ﰲ أﺛﻴﻨﺎ و َﻛ ﱠﻞ ﻣﻦ اﻧﺘﻈﺎر اﻟﻠﺤﻈﺔ املﻨﺎﺳﺒﺔ ﻟﺘﻜﻮﻳﻦ ﺣﻜﻮﻣﺔ أﻓﻀﻞ ،وﻋﻦ ذﻟﻚ ﻳﻘﻮل: أدرﻛﺖ أﺧريًا أن أﻧﻈﻤﺔ اﻟﺤﻜﻢ ﰲ ﻛﻞ اﻟﺪول دون اﺳﺘﺜﻨﺎء ﺳﻴﺌﺔ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﺄﻧﺎ ُﺠﱪ ﻋﲆ اﻟﻘﻮل إن اﻟﺠﻨﺲ اﻟﺒﴩي ﻟﻦ ﻳﻌﻴﺶ أﻳﺎﻣً ﺎ أﻓﻀﻞ إﱃ أن ﱠ ﻣ َ ﻳﺘﻮﱃ اﻟﺴﻠﻄﺔ ً اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﻣﻦ ﻳﺘﺒﻌﻮن اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ٍّ وﺻﺪﻗﺎ ،أو ﺣني ﺗﺤﻴﻞ اﻟﻌﻨﺎﻳﺔ اﻹﻟﻬﻴﺔ ﻣَ ْﻦ ﺣﻘﺎ ﺑﻴﺪﻫﻢ اﻟﺴﻠﻄﺔ اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ إﱃ ﻓﻼﺳﻔﺔ ﺣﻘﻴﻘﻴني. ً ﻛﺎن أﻓﻼﻃﻮن ﰲ اﻟﺜﺎﻣﻨﺔ واﻟﻌﴩﻳﻦ ﻣﻦ ﻋﻤﺮه ﺣني أُﻋْ ِﺪ َم ﺳﻘﺮاط »اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف ٍّ وﺻﺪﻗﺎ« ﺣﻘﺎ ﻋﺎم ٣٩٩ﻗﺒﻞ املﻴﻼد ،وارﺗﺤﻞ إﱃ أﻣﺎﻛﻦ ﻋﺪﻳﺪة ﰲ اﻷﻋﻮام اﻟﻘﻠﻴﻠﺔ اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ ،وﻛﺎن ﻣﻌﻈﻢ ﻫﺬه اﻟﺮﺣﻼت ﻟﺰﻳﺎرة اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ واﻟﺮﻳﺎﺿﻴني اﻵﺧﺮﻳﻦ .ﰲ اﻟﺒﺪاﻳﺔ رﺣﻞ إﱃ ﻣﻴﺠﺎرا ﻟﻴﺒﻘﻰ ﻣﻊ إﻗﻠﻴﺪس ،وﻫﻮ أﺣﺪ أﺗﺒﺎع ﺳﻘﺮاط وﺷﺎرك أﻓﻼﻃﻮن اﻫﺘﻤﺎﻣﻪ ﺑﺒﺎرﻣﻨﻴﺪس ،ﺑﻞ رﺑﻤﺎ ﻳﻜﻮن ﻫﻮ ﻣﻦ ﻏﺮس ﻓﻴﻪ ذاك اﻻﻫﺘﻤﺎم .وﻛﺎن ﻓﻼﺳﻔﺔ ﻣﻴﺠﺎرا ﻛﻤﺎ رأﻳﻨﺎ ﰲ اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎﺑﻖ 204
ﺟﻤﻬﻮرﻳﺔ املﻨﻄﻖ :أﻓﻼﻃﻮن
ﻣﻬﺘﻤﱢ ني ﺑﺎﻟﻎ اﻻﻫﺘﻤﺎم ﺑﺎﻟﺨري وﻣﺎﻫﻴﺘﻪ .وﻋﲆ اﻟﻨﻘﻴﺾ ﻛﺎن اﻟﻜﺜري ﻣﻤﻦ ﻗﺎﺑﻠﻬﻢ أﻓﻼﻃﻮن ﰲ رﺣﻼﺗﻪ اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ إﱃ إﻳﻄﺎﻟﻴﺎ وﺻﻘﻠﻴﺔ ﻣﻬﺘﻤﱢ ني ﰲ اﻷﺳﺎس ﺑﻘﻀﺎء وﻗﺖ ﻣﻤﺘﻊ ﺣﻴﺚ ﻳﻘﻮل: ﻮﺻ ُ ُ وﺟﺪت ﻧﻔﴘ أﺧﺘﻠﻒ ﺑﺸﺪة ﻣﻊ ﻧﻤﻂ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺘﻲ ﺗُ َ ﻒ »ﺑﺎﻟﺴﻌﻴﺪة«؛ ﻓﻬﻲ ﻣﺠﺮد ﺣﻴﺎة ﻣﻠﻴﺌﺔ ﺑﺎﻟﻮﻻﺋﻢ اﻹﻳﻄﺎﻟﻴﺔ واﻟﺴرياﻗﻮﺳﻴﺔ ،ﻳﻘﻮم ﻓﻴﻬﺎ ﻛﻞ ﺷﺨﺺ ﺑﻤﻞء ﺑﻄﻨﻪ ﻣﺮﺗني ﻛﻞ ﻳﻮم وﻻ ﻳﺮﻗﺪ ﰲ ﻓﺮاﺷﻪ وﺣﻴﺪًا أﺑﺪًا ،وﻳﻨﻐﻤﺲ ﰲ ﻛﻞ املﻤﺎرﺳﺎت اﻟﺤِ ﱢﺴﻴﱠﺔ املﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﺄﺳﻠﻮب اﻟﺤﻴﺎة ﻫﺬا .وﰲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺒﻴﺌﺔ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻷي إﻧﺴﺎن ﺗَ َﺮﺑﱠﻰ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻻﻧﻐﻤﺎس ﰲ املﻠﺬات أن ﻳﺼري ﺣﻜﻴﻤً ﺎ. رأى أﻓﻼﻃﻮن أﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﻣﻦ املﺼﺎدﻓﺔ أن ﺗﻜﻮن اﻟﺪول اﻟﺘﻲ ﻳﺤﻜﻤﻬﺎ أﻣﺜﺎل ﻫﺆﻻء ً دوﻻ ﻏري ﻣﻨﺘﺠﺔ ،ﺳﻴﺌﺔ اﻹدارة ،وﻣﻨﻌﺪﻣﺔ اﻻﺳﺘﻘﺮار ﻓﻘﺎل» :ﻣﻦ املﺆ ﱠﻛﺪ أن ﺗﺘﻌﺎﻗﺐ ﻋﲆ ﺗﻠﻚ املﺪن أﻧﻈﻤﺔ ﺣﻜﻢ ﻣﺜﻞ اﻟﻄﻐﻴﺎن وﺣﻜﻢ اﻷﻗﻠﻴﺔ واﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ واﺣﺪًا ﺗﻠﻮ اﻵﺧﺮ «.أﻣﺎ ﻣﺎ ﴎه ﰲ إﻳﻄﺎﻟﻴﺎ ﻓﻜﺎﻧﺖ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﺿﻤﺖ اﻟﺤﻜﻤﺎء وﻋﻠﻤﺎء اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت اﻟﺬﻳﻦ َ ﻋﻘﺪ ﻣﻌﻬﻢ ﺻﺪاﻗﺎت داﺋﻤﺔ وأﻟﻬﻤﻮه ﻓﻠﺴﻔﻴٍّﺎ وﻣﻦ ﺑﻴﻨﻬﻢ أرﺧﻴﺘﺎس اﻟﺘﺎراﻧﺘﻮﻣﻲ رﺟﻞ اﻟﺪوﻟﺔ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف وﻋﺎﻟِﻢ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت اﻟﺬي اﺟﺘﻤﻌﺖ ﻓﻴﻪ ﻗِ ﻴَ ُﻢ اﻟﺼﺪاﻗﺔ واﻹﻟﻬﺎم ﻣﻌً ﺎ .وﻣﻦ املﺮﺟﱠ ﺢ أن اﻻﺗﺼﺎل ﺑﻬﺆﻻء اﻟﺮﺟﺎل ﻫﻮ اﻟﺴﺒﺐ ﰲ رﺣﻠﺔ أﻓﻼﻃﻮن إﱃ إﻳﻄﺎﻟﻴﺎ. ﻋﻘﺪ أﻓﻼﻃﻮن ﺻﺪاﻗﺔ أﺧﺮى ﻟﻬﺎ ﻗﻴﻤﺘﻬﺎ ﰲ ﺳرياﻗﻮﺳﺎ أﺛﻨﺎء ﺟﻮﻟﺘﻪ اﻷوﱃ ،رﻏﻢ أﻧﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﺳﻼﺣً ﺎ ذا ﺣﺪﻳﻦ؛ ﻓﻘﺪ آﻣﻦ دﻳﻮن وﻫﻮ أﺣﺪ أﻗﺎرب اﻟﻄﺎﻏﻴﺔ دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس اﻷول »ﺑﺤُ ﱢﺮﻳﱠﺔ أﻫﻞ ﺳرياﻗﻮﺳﺎ ﰲ ﻇﻞ أﻓﻀﻞ اﻟﻨﻈﻢ اﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻴﺔ« ،وﻋﲆ ذﻟﻚ »ﻗﺪم ﻟﻪ أﻓﻼﻃﻮن أﻓﻜﺎره املﺜﺎﻟﻴﺔ ﻋﻦ اﻟﺠﻨﺲ اﻟﺒﴩي« ووﺟﺪ ﰲ دﻳﻮن ﻣﺘﻠﻘﻴًﺎ ﻧﻬﻤً ﺎ ﻟﻬﺎ .وﺑﻤﺠﺮد أن أﻧﺎر أﻓﻼﻃﻮن ﺑﺼرية دﻳﻮن »ﻋﻘﺪ اﻷﺧري اﻟﻌﺰم ﻋﲆ ﻗﻀﺎء ﺑﻘﻴﱠﺔ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺨﺘﻠﻒ ﻋﻦ ﻣﻌﻈﻢ اﻹﻏﺮﻳﻖ ﰲ إﻳﻄﺎﻟﻴﺎ وﺻﻘﻠﻴﺔ ﻣﺘﻤﺴ ًﻜﺎ ﺑﺎﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ املﺘﻌﺔ أو اﻟﺮﻓﺎﻫﻴﺔ «.وﻟﻌﻞ ذﻟﻚ اﻟﺘﺤﻤﱡ ﺲ ﻷﻓﻜﺎره ﻫﻮ ﻣﺎ دﻓﻊ أﻓﻼﻃﻮن ﻟﻠﻌﻮدة ﺑﻌﺪ ﻋﺪة أﻋﻮام إﱃ ﺳرياﻗﻮﺳﺎ أﺛﻨﺎء ﺣﻜﻢ دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس اﻟﺜﺎﻧﻲ وﻟﻜﻦ ﺑﻨﺘﺎﺋﺞَ ﻣﺆﺳﻔﺔ. ﻟﻘﺪ ﻛﺎن دﻳﻮن ﻛﺎﻟﺴﻤﻜﺔ اﻟﺘﻲ ﺧﺮﺟﺖ ﻣﻦ املﺎء ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﺤﺎﺷﻴﺔ اﻟﻔﺎﺳﺪة املﺘﻨﺎزﻋﺔ اﻟﺘﻲ أﺣﺎﻃﺖ ﺑﺪﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس اﻷول اﻟﺬي ﻗ ﱠﺮب إﻟﻴﻪ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف ا ُملﺤِ ﺐﱠ ﻟﻠﻤﺘﻌﺔ »أرﺳﻄﻴﺒﻮس«، اﻟﺬي ﺗﺘﻠﻤﺬ ﻋﲆ ﻳﺪ ﺳﻘﺮاط ،وﻳﺎ ﻟﻬﺎ ﻣﻦ ﻣﻔﺎرﻗﺔ ﻋﺠﻴﺒﺔ! وﻗﺪ وﺻﻒ ﺑﻠﻮﺗﺎرخ اﻟﻮﺿﻊ ﻫﻨﺎك ﺑﺄﻧﻪ »ﻧﻈﺎم ﻳﻌﺘﱪ املﺘﻌﺔ واﻹﻓﺮاط ﻓﻴﻬﺎ ﻫﻤﺎ اﻟﺨري اﻷﺳﻤﻰ «.وﻫﺬا ﻫﻮ اﻟﴚء اﻟﺬي ﻟﻢ ﻳﺴﺘﻄﻊ أﻓﻼﻃﻮن ﺗﺤﻤﻠﻪ .وﻗﺪ اﻧﺘﻬﺖ زﻳﺎرة أﻓﻼﻃﻮن اﻷوﱃ ﻟﺴرياﻗﻮﺳﺎ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﺳﻴﺌﺔ ﻧﻮﻋً ﺎ 205
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻣﺎ .وﻗﺪ ﺟﺎء ﰲ إﺣﺪى اﻟﺮواﻳﺎت أن دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس اﻷول ﻗﺪ ﻋﺮﺿﻪ ﰲ ﺳﻮق اﻟﺮﻗﻴﻖ ،وﻗﺎم ﺑﻌﺾ اﻷﺻﺪﻗﺎء ﺑﺈﻧﻘﺎذه ﻣﻨﻪ. ﻋﻨﺪﻣﺎ اﻧﺘﻬﺖ ﻫﺬه املﺮﺣﻠﺔ ﻣﻦ رﺣﻼت أﻓﻼﻃﻮن ﻋﺎد إﱃ أﺛﻴﻨﺎ وأﺳﺲ ﻣﺎ ﻳُﻌْ َﺮفُ ﺑﺎﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ ،وﻛﺎن ﻫﺬا ﻋﺎم ٣٨٧ﻗﺒﻞ املﻴﻼد وأﻓﻼﻃﻮن ﰲ اﻷرﺑﻌني ﻣﻦ ﻋﻤﺮه .اﺷﱰى أﻓﻼﻃﻮن ً أرﺿﺎ ﻋﲆ ﺑﻌﺪ ﻣﻴﻞ ﻣﻦ أﺳﻮار املﺪﻳﻨﺔ إﱃ ﺟﻮار ﺑﺴﺘﺎن ﻣﻘﺪس ﻛﺎن ﻳﺘﻌﺒﱠﺪ ﻓﻴﻪ اﻟﺒﻄﻞ أﻛﺎدﻳﻤﻮس ،وأﻧﺸﺄ ﻣﺆﺳﺴﺔ ﺟﺎﻣﻌﻴﺔ ﺑﻬﺎ ﻣﻔ ﱢﻜﺮون ﻳﻌﻤﻠﻮن ﺑﺎﻟﺠﻬﻮد اﻟﺬاﺗﻴﺔ .وﻟﻜﻦ ً وﻃﺒﻘﺎ ﻟﻠﻘﺎﻧﻮن ﻣﻦ اﻟﺼﻌﺐ ﺗﻜﻮﻳﻦ ﺻﻮرة ﻋﻦ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ داﺧﻞ أﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ أﻓﻼﻃﻮن. ﱡ ﺗﺨﺘﺺ ﺑﺄﺣﺪ املﻌﺒﻮدات ،وﻗﺪ اﺧﺘﺎر أﻓﻼﻃﻮن َرﺑ َﱠﺔ اﻟﻔﻨﻮن وَﺟَ ﺐَ ﺗﺴﺠﻴﻠُﻬﺎ ﻛﻤﺆﺳﺴﺔ دﻳﻨﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ ﻣﺴﺌﻮﻟﺔ ﻋﻦ ﻛﻞ اﻷﻧﺸﻄﺔ اﻟﻔﻜﺮﻳﺔ وﻟﻴﺲ اﻟﻔﻨﻮن ﻓﺤﺴﺐ. وﻛﺎﻧﺖ ﺑﻌﺾ أﻧﺸﻄﺔ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ ﺗﺤﺎﻛﻲ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻘﻴﻤﻬﺎ اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت اﻟﺘﺎﺑﻌﺔ ملﺬﻫﺐ ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس اﻟﺘﻲ رآﻫﺎ أﻓﻼﻃﻮن ﰲ إﻳﻄﺎﻟﻴﺎ .وﻧ ُ ﱢ ﻈﻤَ ْﺖ وﻻﺋ ُﻢ ﻋَ ﺸﺎء ﺷﻬﺮﻳﺔ ﰲ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ رﺑﻤﺎ ﺗُﺸ ِﺒﻪ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﺗُﻌِ ﺪ َﱡﻫﺎ اﻟﺠﺎﻣﻌﺎت اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﰲ ﻋﴫﻧﺎ اﻟﺤﺎﴐ ﰲ ﺑﻌﺾ املﻨﺎﺳﺒﺎت. ورﺑﻤﺎ ﻋُ ﻘِ ﺪ ْ َت ﺑﻌﺾ اﻟﺪورات اﻟﺘﻌﻠﻴﻤﻴﺔ ﻟﻠﻌﺎﻣﺔ .وﻗﺪ ﺗﺤﺪﱠث أرﺳﻄﻮ وآﺧﺮون ﻋﻦ ﻣﺤﺎﴐة ﻷﻓﻼﻃﻮن أﻟﻘﺎﻫﺎ رﺑﻤﺎ ﰲ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ ﺑﻌﻨﻮان »اﻟﺨري« ﻟﻜﻨﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﻨﺠﺢَ . وﺑﻐ ﱢﺾ اﻟﻨﻈﺮ ﻋﻤﱠ ﺎ ﻛﺎن ﻳﺘﻮﻗﻌﻪ اﻟﺤﻀﻮر ﻣﻦ ﺗﻠﻚ املﺤﺎﴐة ،ﻓﻘﺪ ﺷﻌﺮوا ﺑﺎﻟﺤرية واﻟﻀﻴﻖ ﺑﺴﺒﺐ اﺿﻄﺮارﻫﻢ إﱃ اﻻﺳﺘﻤﺎع إﱃ ﻗﺪر ﻛﺒري ﻣﻦ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت املﺒﻬﻤﺔ. ﻛﺎن ﺟُ ﱡﻞ اﻟﺨﺪﻣﺔ اﻟﺘﻌﻠﻴﻤﻴﺔ ﻟﻸﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ ﻣﻮﺟﻬً ﺎ ﻧﺤﻮ اﻟﺼﻔﻮة ﻣﻦ اﻷﺛﺮﻳﺎء اﻟﺬﻳﻦ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺘﻮﻗﻮن إﱃ اﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ ﻣﺴﺘﻮﻳﺎت ﻋﺎﻟﻴﺔ ﻣﻦ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ .وﻗﺪ ﻛﺎن ﻧﻄﺎق املﻮاد اﻟﺘﻲ ﺗُ َﺪ ﱠر ُس وﺗُﻨ َ َﺎﻗ ُﺶ أﻛﱪ وأوﺳﻊ ﻣﻤﱠ ﺎ ﻧﻌُ ﺪه اﻵن ﴐورﻳٍّﺎ ﻟﺘﺤﻘﻴﻖ أﺣﺪ اﻷﻫﺪاف اﻟﺮﺋﻴﺴﺔ ﻟﻸﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ وﻫﻮ ﺗﺨﺮﻳﺞ رﺟﺎل دوﻟﺔ ﺣﻜﻤﺎء .وﰲ ﻋﻬﺪ أﻓﻼﻃﻮن ﻗﺎﻣﺖ أرﺑﻊ ﻣﺪن ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﺑﺎﺳﺘﺪﻋﺎء ﺧﱪاءَ ﻣﻦ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ ﻟﺼﻴﺎﻏﺔ ﻗﻮاﻧﻴﻨﻬﺎ وﻛﺘﺎﺑﺔ دﺳﺎﺗريﻫﺎ اﻟﺠﺪﻳﺪة .وﻛﺎن ﻣﻦ ً ﺷﺎﻣﻼ ﻟﺘﺄدﻳﺘﻪ ﻋﲆ أﻛﻤﻞ أﻗﻮى ﻣﻌﺘﻘﺪات أﻓﻼﻃﻮن أن ﻫﺬا اﻟﺪور ﻳﺤﺘﺎج إﱃ ﻣﻦ ﺗَ َﻠ ﱠﻘﻮْا ﺗﺪرﻳﺒًﺎ وﺟﻪ .وﺑﻨﺎءً ﻋﲆ ذﻟﻚ أﺗﺎﺣﺖ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ اﻟﺪراﺳﺔ ﰲ ﺟﻤﻴﻊ ﻣﺠﺎﻻت اﻟﻌﻠﻢ ﻣﻦ اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺎ واﻟﺘﺼﻨﻴﻒ اﻟﻨﺒﺎﺗﻲ واﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻟﺴﻴﺎﳼ إﱃ أﻛﺜﺮ املﺬاﻫﺐ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﺗﺠ ﱡﺮدًا اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻨﺎول ا ُملﺜ ُ ِﻞ اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ ،وﻻ ﺷﻚ أن أﻓﻼﻃﻮن ﻗﺪ ﻗﺎم ﺑﺎﻟﺘﺪرﻳﺲ ﺑﻨﻔﺴﻪ ﰲ ﻣﺠﺎل ا ُملﺜُﻞ .وأﺻﺒﺤﺖ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ ﻣﺮﻛ ًﺰا ﻣﺸﻬﻮ ًرا ﻟﻠﺒﺤﺚ ﰲ ﻋِ ْﻠﻤَ ِﻲ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت واﻟﻔﻠﻚ ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﺨﺼﻮص. وﻗﺪ ارﺗﺒﻂ ﺑﺎﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ اﺳﻤَ ﺎ اﺛﻨني ﻣﻦ أﻫﻢ ﻋﻠﻤﺎء اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ﻗﺒﻞ إﻗﻠﻴﺪس وﻫﻤﺎ ﻫﺮﻗﻞ اﻟﺒﻨﻄﻲ وأودوﻛﺴﻮس اﻟﻜﻨﻴﺪوﳼ ،وﻫﻨﺎك ً أﻳﻀﺎ ﻇﻬﺮ اﻫﺘﻤﺎم أرﺳﻄﻮ — اﻟﺬي اﻟﺘﺤﻖ ﺑﻬﺎ ﰲ اﻟﺴﺎﺑﻌﺔ ﻋﴩة ﻣﻦ ﻋﻤﺮه — ﺑﻌﻠﻢ اﻷﺣﻴﺎء. 206
ﺟﻤﻬﻮرﻳﺔ املﻨﻄﻖ :أﻓﻼﻃﻮن
ﻟﻘﺪ رأى أﻓﻼﻃﻮن أن ﻫﻨﺎك ﺑﻌﺾ املﻮاﻫﺐ اﻟﻔﻄﺮﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺘﻄﻠﺒﻬﺎ اﻟﺴﻌﻲ ﻟﻠﺘﻌ ﱡﻠﻢ، وأ ﱠﻛﺪ ﻋﲆ أن ﻣَ ْﻦ ﻳﺒﺤﺚ ﻋﻦ اﻟﺤﻜﻤﺔ ﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﻳﺪرك »ﻋﺪد املﻮاد اﻟﺘﻲ ﺗَ ِﺠﺐُ دراﺳﺘﻬﺎ وﻗﺪر اﻟﻌﻤﻞ اﻟﺸﺎق اﻟﺬي ﺗﺘﻄﻠﺒﻪ وﴐورة ﺗﺒﻨﱢﻲ ﻧﻈﺎم ﻣﻌﻴﴚ ﻣﻨﻈﻢ ﻣﻦ أﺟﻞ ﻫﺬه اﻟﻐﺎﻳﺔ«. ورﺑﻤﺎ ﺧﻀﻊ ﺑﻌﺾ ﺗﻼﻣﻴﺬ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ ﻟﻬﺬا اﻟﻨﻈﺎم ﺑﻤﺤﺾ إرادﺗﻬﻢ ملﺠ ﱠﺮد أﻧﻬﻢ ﺗﻄﻠﻌﻮا ﻟﻠﺤﻜﻢ وأرادوا أن ﻳﺼﻠﻮا إﻟﻴﻪ ﺑﺎﻟﻄﺮﻳﻖ اﻟﺴﻠﻴﻢ ،وﻟﻜﻨﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﺸﻜﻠﻮا ﻛﺜﺮة؛ ﻓﻠﻴﺲ ﻣﻦ املﻤﻜﻦ أن ﻛﻞ اﻟﺒﺎﺣﺜني اﻟﺬﻳﻦ ﺗﺨﺮﺟﻮا ﰲ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ ﻛﺎﻧﻮا ﻣﻦ اﻟﺴﺎﺳﺔ اﻟﻄﻤﻮﺣني أو املﺤﺒَﻄني. وﻣﻦ املﺆ ﱠﻛﺪ أن ﻣﻔﻬﻮم أﻓﻼﻃﻮن ﻋﻦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ ﺣﺐ اﻟﺤﻜﻤﺔ ﺑﺄﻧﻘﻰ ﺻﻮره ﻗﺪ ﺟﺬب ﺑﻌﺾ اﻟﻨﺎس إﱃ ذﻟﻚ اﻟﺤﺐ ﰲ ﺣَ ﱢﺪ ذاﺗﻪ ،ﻛﻤﺎ اﻧﺠﺬب أﻓﻼﻃﻮن ﻧﻔﺴﻪ ﻟﻠﺤﻴﺎة اﻟﻔﻜﺮﻳﺔ ﺑﺬاﺗﻬﺎ وﻟﻴﺲ ملﺠﺮد أﻧﻬﺎ ﺗﺤﻀري ﻟﻠﺤﻴﺎة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ،وﻟﻜﻦ أﺳﻠﻮب اﻟﺤﻴﺎة اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ ﻛﺎن ﻳﺰﻋﺠﻪ ،ﺣﻴﺚ ﻳﻘﻮل» :ﻛﻨﺖ أﺧﴙ أن أ َ ِﺟ َﺪ ﻧﻔﴘ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻣﺠﺮد ﻛﻠﻤﺎت؛ أي أن أﻛﻮن ً رﺟﻼ ﻟﻢ ﻳﺸﱰك ﺑﺈرادﺗﻪ ﻗﻂ ﰲ أي ﻋﻤﻞ أو ﻣﻬﻤﺔ ﻓﻌﻠﻴﺔ«. وﰲ ﻋﺎم ٣٦٧ﻗﺒﻞ املﻴﻼد ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺧﻠﻒ دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس اﻟﺜﺎﻧﻲ أﺑﺎه ﰲ ﺣﻜﻢ ﺳرياﻗﻮﺳﺎ ﺟﺎءﺗﻪ ﻫﺬه املﻬﻤﺔ املﺎدﻳﺔ ﻣﻦ ﺗﻠﻘﺎء ﻧﻔﺴﻬﺎ؛ ﻓﻘﺪ أﻗﻨﻊ دﻳﻮن املﻠﻚ اﻟﺠﺪﻳﺪ اﻟﺬي ﻛﺎن ﰲ اﻟﺜﻼﺛني ﻣﻦ ﻋﻤﺮه أن ﻳﺮﺳﻞ ﰲ ﻃﻠﺐ أﻓﻼﻃﻮن ﻟﻴﻌﻠﻤﻪ وﻳﻘﺪم ﻟﻪ املﺸﻮرة .وﻛﺎن ً ﺧﻮﻓﺎ ﻣﻨﻪ أن ﻳﺤﻴﻚ ﻟﻪ املﺆاﻣﺮات دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس اﻷب ﻗﺪ أﺑﻘﻰ اﺑﻨﻪ ﰲ ﻋﺰﻟﺔ وﺑﻼ ﺗﻌﻠﻴﻢ ً وﻳﻨﻘﻠﺐ ﻋﻠﻴﻪ؛ إذ ﻛﺎن ﻳﻨﻈﺮ إﱃ وﱄ ﻋﻬﺪه ﺑﻮﺻﻔﻪ ﺧﻄ ًﺮا ﻣﺤﺘﻤﻼ .واﻵن أراد دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس اﻻﺑﻦ أن ﻳﱰك ﺑﺼﻤﺘﻪ وأن ﻳﻜﺴﺐ ﺑﻌﺾ اﻻﺣﱰام ،وﻫﻮ ﻣﺎ رآه دﻳﻮن ﻓﺮﺻﺔ ﻟﻠﻘﻀﺎء ﻋﲆ اﻟﻄﻐﻴﺎن ﰲ ﺳرياﻗﻮﺳﺎ .وﺑﺪاﻓﻊ ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻄﻤﻮح وﻣﻦ ﺻﺪاﻗﺘﻪ ﻟﺪﻳﻮن ﻗﺮر أﻓﻼﻃﻮن أن »ﻳﻬﺠﺮ أﻧﺸﻄﺘﻪ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ ملﺤﺎوﻟﺔ إﺻﻼح ﻧﻈﺎم ﻃﺎﻏﻴﺔ ،وﻫﻮ ﻧﻈﺎم اﻟﺤﻜﻢ اﻟﺬي ﻳﺒﺪو ﻏري ﻣﺘﻮاﻓﻖ ﻣﻊ ﻣﺎ ﻳﺆﻣﻦ ﺑﻪ وﻏري ﻣﺘﺴﻖ ﻣﻊ ﺷﺨﺼﻴﺘﻪ«. ﻟﻘﺪ ﻛﺎن إﺻﻼح أﴎة دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس اﻟﺤﺎﻛﻤﺔ ﺗﺤﺪﻳًﺎ ﻟﻢ ﻳﻨﺠﺢ ﻓﻴﻪ أﻓﻼﻃﻮن .رﺑﻤﺎ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻣﺴﺘﺒﺪٍّا ﻛﻤﺎ ﻛﺎن واﻟﺪه ،وﻟﻜﻨﻪ ً أﻳﻀﺎ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺗﻠﻤﻴﺬًا ﻣﺜﺎﻟﻴٍّﺎ؛ ﺣﻴﺚ ﺟﺎء ﰲ إﺣﺪى اﻟﺮواﻳﺎت أن »املﻠﻚ اﻟﺼﻐري ﻇﻞ ﻳﺤﺘﴘ اﻟﺨﻤﺮ ملﺪة ﺗﺴﻌني ﻳﻮﻣً ﺎ ﻣﺘﺘﺎﻟﻴﺔ دون اﻧﻘﻄﺎع … وﰲ ﺗﻠﻚ املﺪة ﻟﻢ ﺗﺴﻤﺢ ﺣﺎﺷﻴﺘﻪ ﻷﺣﺪ ﻣﻦ رﻋﺎﻳﺎه ﺑﺎﻟﺪﺧﻮل ﻋﻠﻴﻪ وﻻ ﻟﻸﻣﻮر ذات اﻷﻫﻤﻴﺔ ﺑﺎﻟﻮﺻﻮل إﻟﻴﻪ ،ﺑﻞ ﻫﻴﻤﻦ ﱡ اﻟﺴﻜﺮ واﻟﻬَ ْﺰل واملﻮﺳﻴﻘﻰ واﻟﺮﻗﺺ واملﺠﻮن ﻋﲆ ﺑﻼﻃﻪ «.وﻗﺪ ﺣﺎول أﻓﻼﻃﻮن ودﻳﻮن ﺑﺮﻓﻖ وﻟﻄﻒ أن ﻳُ ْﺮ ِﺷﺪَا املﻠﻚ إﱃ اﻟﻄﺮﻳﻖ اﻟﺼﺤﻴﺢ وﻟﻜﻦ ﺗﺄﺛريﻫﻤﺎ ﻟﻢ ﻳ َِﺰ ِد اﻷﻣﺮ إﻻ ﺳﻮءًا؛ ذﻟﻚ أﻧﻪ أﺛﺎر اﻟﻐرية واﻟﺸﻚ ﺑني ﺧﺼﻮم دﻳﻮن اﻟﺴﻴﺎﺳﻴني اﻟﺬﻳﻦ ﱠ ﻓﻀﻠﻮا أﻳﺎم اﻟﻔﺴﺎد املﺎﺿﻴﺔ .وﺑﻌﺪ وﺻﻮل أﻓﻼﻃﻮن ﺑﺄرﺑﻌﺔ أﺷﻬﺮ 207
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻓﻘﻂ ﻧُﻔِ َﻲ دﻳﻮن إﱃ ﺧﺎرج املﺪﻳﻨﺔ ﻷن اﻟﺤﺮس اﻟﻘﺪﻳﻢ أﻗﻨﻊ املﻠﻚ ﺑﺄن دﻳﻮن ﻳﺤﻴﻚ ﻣﺆاﻣﺮة ﻟﻼﻧﻘﻼب ﻋﻠﻴﻪ .وﺗﺤﻤﻞ أﻓﻼﻃﻮن اﻟﻮﺿﻊ ﻟﺤﻮاﱄ ﺛﻤﺎﻧﻴﺔ ﻋﴩ ﺷﻬ ًﺮا أﺧﺮى ﺛﻢ ﻋﺎد إﱃ أﺛﻴﻨﺎ. واﻟﻌﺠﺐ ﻛﻞ اﻟﻌﺠﺐ أن أﻓﻼﻃﻮن ﻗﺪ ﻋﺎد ﻣﺮة أﺧﺮى إﱃ ﺳرياﻗﻮﺳﺎ ﺑﻌﺪ ﺣﻮاﱄ ً أرﺑﻌﺔ أﻋﻮام ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻗﺪ ﻳﻜﻮن ً ﻣﺨﺘﻠﻔﺎ ﻫﺬه املﺮة أو ﻫﻜﺬا دﻟﻴﻼ ﻋﲆ ﺗﻔﺎؤﻟﻪ .ﻛﺎن اﻷﻣﺮ أوﻫﻤﻪ اﻟﺒﻌﺾ؛ ﻓﻘﺪ ﻧﻀﺞ دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس ﺑﻤﺎ ﻳﻜﻔﻲ ﺑﺤﻴﺚ اﺗﺒﻊ أﻛﺜﺮ رﻏﺒﺎﺗﻪ ﺟﺪﻳﺔ وﻫﻲ اﻟ ﱡﺮﻗِﻲ ﺑﻨﻔﺴﻪ وإﻣﱪاﻃﻮرﻳﺘﻪ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ دراﺳﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ .وﺑﺼﻮر ٍة ﻣﺎ ﻧﺠﺢ املﻠﻚ ﰲ إﻗﻨﺎع أرﺧﻴﺘﺎس اﻟﺘﺎراﻧﺘﻮﻣﻲ وﺑﻌﺾ املﻔﻜﺮﻳﻦ اﻵﺧﺮﻳﻦ اﻟﺬﻳﻦ ﻋﻠﻢ أن أﻓﻼﻃﻮن ﻳُﻜ ﱡِﻦ ﻟﻬﻢ اﺣﱰاﻣً ﺎ ﻟﻴﺸﻬﺪوا ﻋﲆ ﺣﺴﻦ ﻧﻮاﻳﺎه .ورﺑﻤﺎ ﺻﺪﱠﻗﻮا ﻫﺬه اﻟﻘﺼﺔ ورﺑﻤﺎ ﺻﺪﻗﻬﺎ دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس ﻧﻔﺴﻪ، وﻟﻜﻦ ﺑﺪا ﺑﻌﺪ ﻓﻮات اﻷوان أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳ ُِﺮ ْد إﻻ ﺗﺰﻳني ﺑﻼﻃﻪ ﺑﺒﻌﺾ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ املﺸﻬﻮرﻳﻦ. وأﺛﻨﺎء اﻟﺘﻤﺎﺳﻪ ﻣﻮاﻓﻘﺔ أﻓﻼﻃﻮن وﻋﺪ دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس أن ﻳﻌﻴﺪ دﻳﻮن ﺛﺎﻧﻴﺔ وأن ﻳﺤﺴﻦ ﻣﻌﺎﻣﻠﺘﻪ .وﻛﺎن أﻓﻼﻃﻮن ﻳﺨﴙ أن ﻳَﻤَ ﱠﺲ دﻳﻮن وأﺻﺪﻗﺎءه اﻵﺧﺮﻳﻦ املﺰﻳ ُﺪ ﻣﻦ اﻷذى إن رﻓﺾ اﻟﺪﻋﻮة ،ﻓﻘ ﱠﺮر ﻗﺒﻮﻟﻬﺎ .وﻟﻜﻦ ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ ﻛﺎن اﻟﻮﺿﻊ أﺳﻮأ ﻣﻦ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﺠﻮاﻧﺐ ﻫﺬه ً ﻛﺴﻮﻻ أو املﺮة؛ ﻓﻘﺪ وﺟﺪ أﻓﻼﻃﻮن دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس ﺗﻠﻤﻴﺬًا ﺳﻴﺌًﺎ ﻣﺮة أﺧﺮى ،ﻓﻜﺎن ﻏﺒﻴٍّﺎ أو ﻛﻠﻴﻬﻤﺎ .ﻟﻘﺪ ﻇﻦ دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس أﻧﻪ ﺗﻌ ﱠﻠﻢ ﻛﻞ ﳾء ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﻣﻦ ﻓﻼﺳﻔﺔ اﻟﺪرﺟﺔ اﻟﺜﺎﻟﺜﺔ ﰲ ﺑﻼﻃﻪ ،وﻫﺬا ﺗﺤﺪﻳﺪًا ﻫﻮ ﻣﺎ أزﻋﺞ أﻓﻼﻃﻮن .وﻧﻜﺚ اﻟﻄﺎﻏﻴﺔ ﻛﻞ وﻋﻮده ﺑﺨﺼﻮص دﻳﻮن، ﺑﻞ ﴎق ﻛﻞ ﻣﻤﺘﻠﻜﺎﺗﻪ ووﺟﺪ أﻓﻼﻃﻮن ﻧﻔﺴﻪ ﺳﺠﻴﻨًﺎ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ؛ ﻓﻬﺮب ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﺎ إﱃ أﺛﻴﻨﺎ ﺣﻴﺚ أﻛﺎدﻳﻤﻴﺘﻪ وﻟﻢ ﻳﻜ ﱢﺮر ذﻟﻚ اﻟﺨﻄﺄ ﺑﻌﺪﻫﺎ. ﻣﻦ اﻟﺴﻬﻞ اﻻﻓﱰاض أن املﺪﻳﻨﺔ اﻟﻔﺎﺿﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺪﱠث ﻋﻨﻬﺎ أﻓﻼﻃﻮن ﰲ »اﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ« ﻛﺎﻧﺖ ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ اﻷﺳﺎس ملﺎ ﺣﺎول أﻓﻼﻃﻮن أن ﱢ ﻳﺤﻘﻘﻪ ﰲ ﺳرياﻗﻮﺳﺎ .وﰲ اﻟﻮاﻗﻊ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺮﺑﻂ ﺑني »اﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ« وﺧﻄﻂ أﻓﻼﻃﻮن اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ .وﻗﺪ ﻗﻴﻞ إن املﺪﻳﻨﺔ اﻟﻔﺎﺿﻠﺔ املﺬﻛﻮرة ﰲ »اﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ« ﻳﺤﻜﻤﻬﺎ »املﻠﻮك اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ« وﻛﺎن ﻣﻦ املﻔﱰض أن ﻳﺼﺒﺢ دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس ﺣﺎﻛﻤً ﺎ أﻓﻀﻞ ﺑﺘﻌ ﱡﻠﻢ ﺑﻌﺾ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ .وﻟﻘﺪ ُﻛﺘِﺐَ ﻛﺘﺎب »اﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ« ﻗﺒﻞ ﻣﺤﺎوﻟﺔ أﻓﻼﻃﻮن ً أﺳﺎﺳﺎ ﻷﻳﱠﺔ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ .ﻓﻤﻦ ﺟﺎﻧﺐ ﻻ إﺻﻼح دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس ،وﻟﻜﻦ ذﻟﻚ اﻟﻜﺘﺎب ﻻ ﻳُﻌَ ﱡﺪ ﻳﺸري ﻣﺼﻄﻠﺢ »املﻠﻚ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف« ﰲ »اﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ« — ﻛﻤﺎ ﻳُﻌْ ﺘَ َﻘ ُﺪ أﺣﻴﺎﻧًﺎ — إﱃ ﻣﺠﺮد ﻣﻠﻚ ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺎ ﰲ ﺳﺪﱠة اﻟﺤﻜﻢ .أﻣﺎ ﻳﻌﺮف ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﻦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ،أو ﻓﻴﻠﺴﻮف ﻣﺤﱰف وﺟﺪ ﻧﻔﺴﻪ ٍ اﻟﻮﺻﻒ اﻷدق ملﺎ ﻗﺼﺪه أﻓﻼﻃﻮن ﺑﺬﻟﻚ املﺼﻄﻠﺢ ﻓﻬﻮ رﺟﻞ ﺣﻜﻴﻢ وﻗﺪﻳﺮ ﻳﺘﻤﻴﺰ ﺑﺎﻟﺘﻮازن واﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ،ورﺟﻞ ﻋﺴﻜﺮي درس اﻟﻌﻠﻮم ملﺪة ﻃﻮﻳﻠﺔ وﻟﺪﻳﻪ ﺧﱪة ﻋﻤﻠﻴﺔ ﻛﺒرية ﰲ اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ 208
ﺟﻤﻬﻮرﻳﺔ املﻨﻄﻖ :أﻓﻼﻃﻮن
ً ﻣﺘﻔﺎﺋﻼ ﺑﺸﻜﻞ زاﺋﺪ ﰲ ﺑﻌﺾ اﻷﺣﻴﺎن ،ﻓﺈن أﻓﻼﻃﻮن ﻟﻢ ﻳﻜﻦ واﻹدارة .ورﻏﻢ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻘﺪر ﻣﻦ اﻟﺤُ ﻤﻖ ﺑﺤﻴﺚ ﻳﻌﺘﻘﺪ أن أي ﻣﻠﻚ ﺣﻘﻴﻘﻲ ﻗﺪ ﻳﺘﺤﻘﻖ ﻓﻴﻪ ﻫﺬا اﻟﻮﺻﻒ وﺧﺎﺻﺔ دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس اﻟﺜﺎﻧﻲ املﺮاوغ. وﻗﺪ ذﻛﺮت ﺷﺨﺼﻴﺔ ﺳﻘﺮاط ﰲ ﻛﺘﺎب »اﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ« اﻟﻬﺪف اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﻣﻦ ﻣﺪﻳﻨﺔ أﻓﻼﻃﻮن اﻟﻔﺎﺿﻠﺔ ﺣﻴﺚ ﻳﻘﻮل» :ﻟﻴﺲ ﻣﻦ املﻬﻢ ﻣﺎ إذا ﻛﺎﻧﺖ املﺪﻳﻨﺔ ﻣﻮﺟﻮدة اﻵن أو ﻟﻦ ﺗﺮى اﻟﻮﺟﻮد أﺑﺪًا «.ﻓﺎملﺪﻳﻨﺔ املﺜﺎﻟﻴﺔ ﻫﻲ ﻣﺎدة ﻟﻠﺘﺄﻣﱡ ﻞ واملﻨﺎﻗﺸﺔ .وﺑﺎﻟﻨﻈﺮ إﱃ املﻨﺎﻗﺸﺔ اﻟﻮاردة ﰲ ﻛﺘﺎب »اﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ« ﻋﻨﻬﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻺﻧﺴﺎن أن ﻳﺘﻌ ﱠﻠﻢ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻟﻌﺪاﻟﺔ وﻛﻴﻔﻴﺔ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺴﻠﻴﻤﺔ، وﺳﻴﺘﻌ ﱠﻠﻢ ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﺨﺼﻮص اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﺎدى ﺑﻬﺎ ﺳﻘﺮاط ،وﻫﻲ أﻧﻪ ﻣﻦ ﻣﺼﻠﺤﺔ اﻹﻧﺴﺎن أن ﻳﺘﺤﲆ ﺑﺎﻟﻌﺪل؛ وﺑﻬﺬا ﺳﻴﻌﻴﺶ ﰲ ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ ﰲ ﻋﻘﻠﻪ ،ﺣﻴﺚ ﻳﻘﻮل: »ورﺑﻤﺎ ﻫﻨﺎك ﻧﻤﻮذج ﻟﻬﺎ ﰲ اﻟﺴﻤﺎء ملﻦ أراد أن ﻳَﺬﱠ ﱠﻛ َﺮ وأراد أن ﻳﻜﻮن ﻣﻮاﻃﻨًﺎ ﻓﻴﻬﺎ«. وﻳﺒﺪأ اﻟﺠﺪل اﻷﺳﺎﳼ ﰲ املﺤﺎورة ﺑﻤﻮاﺟﻬﺔ ﻣﻊ رﺟﻞ ﻣﺸﺎﻛﺲ ﻓﺎﺳ ٍﺪ أﺧﻼﻗﻴٍّﺎ ﻳُﺪﻋﻰ ﺛﺮاﺳﻴﻤﺎﺧﻮس .وﻳﺘﺤﺪث ﺛﺮاﺳﻴﻤﺎﺧﻮس ﻋﻦ املﺼﻠﺤﺔ اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ املﺠﺮدة ﻣﺮ ﱢددًا ﺑﻌﺾ أﻓﻜﺎر اﻟﻜﻠﺒﻴني اﻟﺘﻲ ﻧﺎﻗﺸﻬﺎ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﻮن ﻣﺜﻞ أﻧﺘﻴﻔﻮن ،ﻓﻴﻘﻮل إن اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ﻫﻲ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﻘﻮاﻋﺪ ﻳﻔﺮﺿﻬﺎ اﻟﻘﻮي ﻋﲆ اﻟﻀﻌﻴﻒ ،ﻓﺈن اﺳﺘﻄﻌﺖ أن ﺗُﻔﻠِﺖ ﻣﻦ ﻋﻘﺎب اﻟﺨﺮوج ﻋﲆ اﻟﻘﺎﻧﻮن ،ﻓﻼ ﺑﺄس ﻣﻦ ﺧﺮق اﻟﻘﺎﻧﻮن .واﻷﻓﻀﻞ ﻣﻦ ﻛﻞ ذﻟﻚ أن ﺗﻀﻊ اﻟﻘﻮاﻋﺪ ﺑﻨﻔﺴﻚ وﺗُ ِﻠﺰم اﻵﺧﺮﻳﻦ ﺑﺎﺗﱢﺒﺎﻋﻬﺎَ .ﺳ ﱢﻢ ﻫﺬا »ﻇﻠﻤً ﺎ« إن ﺷﺌﺖ وﻟﻜﻦ »ﻋﻠﻴﻚ أن ﺗﻨﻈﺮ إﱃ اﻷﻣﻮر — أﻳﻬﺎ املﻐﻔﻞ ﺳﻘﺮاط — ﺑﻬﺬه اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ؛ ﻓﺎﻟﻌﺎدل داﺋﻤً ﺎ ﻻ ﻳﺤﻈﻰ ﺑﺄﻳﺔ أﻓﻀﻠﻴﺔ ﻋﲆ اﻟﻈﺎﻟﻢ «.وﺑﺼﻴﻐﺔ أﺧﺮى ﻓﺈن اﻟﻌﺪاﻟﺔ واﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ﻻ ﺗُﺠﺪﻳﺎن ،وﺳﻘﺮاط أﺣﻤﻖ ﻻﻋﺘﻘﺎده اﻟﻌﻜﺲ. وﻳﺤﺎول ﺳﻘﺮاط أن ﻳﺰﻋﺰع ﻓﻜﺮة ﺛﺮاﺳﻴﻤﺎﺧﻮس ﻋﻦ اﻷﺧﻼق وﻟﻜﻨﻪ ﻳﻔﺸﻞ ﰲ اﻟﺘﺨ ﱡﻠﺺ ﻣﻨﻬﺎ .وﻳﻈﻬﺮ ﺛﺮاﺳﻴﻤﺎﺧﻮس ﺑﺼﻮرة اﻟﻄﺎﻟﺢ اﻟﻜﺮﻳﻪ ﰲ ﻣﻮﺿﻊ آﺧﺮ .وﰲ ﺳﺒﻴﻞ إﺟﺮاء ﻣﺠﺎدﻟﺔ ﺟﻴﺪة ﻳﻐري ﺟﻠﻮﻛﻮن وأدﻳﻤﺎﻧﺘﻮس — وﻫﻤﺎ ﺻﺪﻳﻘﺎن ﻟﺴﻘﺮاط — ﻣﻮﺿﻮع ً رﻏﺒﺔ ﻣﻨﻬﻤﺎ ﰲ أن ﻳﻌﺮﻓﺎ ﻣﺎ إذا ﻛﺎن ﺑﺈﻣﻜﺎن ﺳﻘﺮاط أن ﻳُﻌﻄﻲ املﻨﺎﻗﺸﺔ إﱃ ﻓﺴﺎد اﻷﺧﻼق؛ ﺟﻮاﺑًﺎ أَﺗَ ﱠﻢ وﻳَﺤُ ﱠﻞ ﺗﻠﻚ املﺴﺄﻟﺔ أم ﻻ .وأﺛﻨﺎء َﻟﻌِ ِﺒ ِﻪ دور ﻣﺤﺎﻣﻲ اﻟﺸﻴﻄﺎن ﻳﺘﺤﺪﱠث ﺟﻠﻮﻛﻮن ﻋﻦ راﻋﻲ ﻏﻨﻢ أﺳﻄﻮري ﻳُﺪﻋﻰ ﺟﻴﺠﻴﺲ ﻋَ ﺜ َ َﺮ ﻋﲆ ﺧﺎﺗﻢ ﻳُﻤَ ﱢﻜﻨ ُ ُﻪ ﻣﻦ إﺧﻔﺎء ﻧﻔﺴﻪ .وﻳﻘﻮل ﺟﻠﻮﻛﻮن إﻧﻪ ﺑﻬﺬا اﻟﺨﺎﺗﻢ: ﻳﺒﺪو أﻧﻪ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ أيﱡ رﺟﻞ ﺑﻬﺬا اﻟﺴﻠﻮك اﻟﺼﺎرم؛ ﺑﺤﻴﺚ ﻳﺤﺎﻓﻆ ﻋﲆ اﻟﻌﺪاﻟﺔ وﻳﻜﻒ ﻳﺪﻳﻪ ﻋﻦ ﻣﻤﺘﻠﻜﺎت اﻵﺧﺮﻳﻦ ،رﻏﻢ أﻧﻪ ﻗﺪ ﻳﺘﺤﺼﻞ — ﺑﻤﻮﺟﺐ ﻣﺎ ﻳﺘﻤﺘﻊ 209
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﺑﻪ ﻣﻦ ﺣﺼﺎﻧﺔ — ﻋﲆ ﻣﺎ ﻳﺮﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺴﻮق ،وﻳﻨﺘﻬﻚ ﺣﺮﻣﺔ اﻟﺒﻴﻮت ،وﻳﻤﺎرس اﻟﻔﺎﺣﺸﺔ ﻣﻊ ﻣﻦ أراد ،وﻳﺬﺑﺢ ﻣﻦ أراد وﻳﻔﻠﺖ ﻣﻦ اﻟﻌﻘﺎب ،وﻳﺮﺗﻜﺐ أﺷﻴﺎء أﺧﺮى ﻣﻌﺘﱪًا ﻧﻔﺴﻪ ِﻧﺪٍّا ﻟﻠﺮب ﻣﻦ دون اﻟﻨﺎس .وﻳﻤﻜﻦ اﻟﻘﻮل إن ﻫﺬا دﻟﻴﻞ ﻛﺒري ﻋﲆ أﻧﻪ ﻣﺎ ﻣﻦ أﺣﺪ ﻳﺴﻠﻚ ﻣﺴﻠﻚ اﻟﻌﺪل ﺑﻤﺤﺾ إرادﺗﻪ وﻟﻜﻦ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻗﻴﻮد؛ ذﻟﻚ أن ﻣَ ْﻦ ﻳﻤﻠﻚ رﺧﺼﺔ وﻳﺮﻓﺾ أن ﻳﺮﺗﻜﺐ أﻳﱠﺔ ﺟﺮﻳﻤﺔ ﻓﺈﻧﻪ ﺣَ ِﺮيﱞ ﺑﺎﻟﺸﻔﻘﺔ ﺷﺪﻳﺪ اﻟﺤﻤﺎﻗﺔ. وﻳﻀﻴﻒ أدﻳﻤﺎﻧﺘﻮس أﻧﻪ ﰲ َر ﱢد ِه ﻋﲆ ﻫﺬه اﻷﻓﻜﺎر ﻻ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻟﺴﻘﺮاط أن ﻳﺪاﻓﻊ ﻋﻦ اﻟﻌﺪاﻟﺔ ﺑﻤﺠﺮد ﺑﻴﺎن أﻧﻬﺎ ﺗﺆدي إﱃ ﻧﻴﻞ ﺻﺎﺣﺒﻬﺎ اﻟﴩف واﺣﱰام اﻵﺧﺮﻳﻦ؛ ﻓﻠﻦ ﻳﺆدي ﻫﺬا إﻻ إﱃ ً ﻋﺎدﻻ إﺛﺒﺎت أن ﻣﻦ ﻣﺼﻠﺤﺔ املﺘﱠﺼﻒ ﺑﺎﻟﻌﺪل أن ﻳﺸﺘﻬﺮ ﺑني اﻟﻨﺎس ﺑﺎﻟﻌﺪل ﻻ أن ﻳﻜﻮن ً ﻓﻌﻼ .وإن ﻛﺎن اﻻﺷﺘﻬﺎر ﺑﺎﻟﻌﺪل ﺑني اﻟﻨﺎس ﻫﻮ املﻜﺴﺐ اﻟﻮﺣﻴﺪ اﻟﺬي ﻳﺤﻘﻘﻪ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎدل؛ ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻺﻧﺴﺎن أن ﻳﻜﻮن ﴍﻳ ًﺮا ﻣﺎ دام ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻳﺤﻔﻆ ﻣﺎء وﺟﻬﻪ .وﻟﺬﻟﻚ ﻳﻄﻠﺐ أدﻳﻤﺎﻧﺘﻮس ﻣﻦ ﺳﻘﺮاط أن ﻳﻮﺿﺢ »ﻣﺎ اﻟﺬي ﻳﻘﺪﻣﻪ اﻟﻌﺪل واﻟﻈﻠﻢ ﺑﻄﺒﻴﻌﺘﻴﻬﻤﺎ ﻷﺻﺤﺎﺑﻬﻤﺎ … ﻟﻴﻜﻮن اﻷول ً رﺟﻼ ﺻﺎﻟﺤً ﺎ واﻵﺧﺮ ﻃﺎﻟﺤً ﺎ«. ﻫﺬه ﻣﻬﻤﺔ ﺷﺎﻗﺔ ،وﻳﺘﻌﻬﺪﻫﺎ ﺳﻘﺮاط ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻏري ﻣﺒﺎﴍة ،ﻓﻴﺤﻮل ﺗﺮﻛﻴﺰه ﻣﻦ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎدل أو اﻟ ﱡﺮوح اﻟﻌﺎدﻟﺔ إﱃ املﺪﻳﻨﺔ اﻟﻌﺎدﻟﺔ .وﻳﺮى أﻧﻪ ﻣﻦ اﻷﻓﻀﻞ اﻟﻨﻈﺮ ً أوﻻ إﱃ املﺪﻳﻨﺔ ﻛﻜﻞ؛ ﺣﻴﺚ ﻳ َْﺴﻬُ ُﻞ َﻓﻬْ ُﻢ اﻟﻌﺪاﻟﺔ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺴﻴﺎق اﻷﻛﱪ .وﺑﻌﺪ ﺗﻌﺮﻳﻔﻪ ﻣﻔﻬﻮم املﺪﻳﻨﺔ اﻟﻌﺎدﻟﺔ ﺑﻤﺤﺎوﻟﺔ ﺗﻘﺪﻳﻢ ﺻﻮرة ﻟﻠﻤﺪﻳﻨﺔ املﺜﺎﻟﻴﺔ ،ﻳﴩع ﺳﻘﺮاط ﰲ اﻟ ﱠﺮ ﱢد ﻋﲆ ﻣﺴﺄﻟﺔ اﻟﻌﺪاﻟﺔ اﻟﻔﺮدﻳﺔ .ﻓﺈذا اﺗﱠﻔﻖ اﻷﻣﺮان ﺑﺤﻴﺚ ﻳﻜﻮن اﻟﺮﺟﻞ اﻟﻌﺎدل واملﺪﻳﻨﺔ اﻟﻌﺎدﻟﺔ ﻣﺘﺸﺎﺑﻬني ﻓﺴﻴﺘﺄﻛﺪ ﺳﻘﺮاط أﻧﻪ وﺟﺪ اﻟﻌﺪاﻟﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ .وﻫﻮ ﻳَﺜ ُِﻖ ﺗﻤﺎم اﻟﺜﻘﺔ أﻧﻪ إن وﺟﺪﻫﺎ ﻓﺴﻴﺘﻀﺢ ﻛﻴﻒ أن اﻟﺮﺟﻞ اﻟﻌﺎدل ﻫﻮ اﻷﺳﻌﺪ وﺳﻴﺘﻀﺢ ﺳﺒﺐ ذﻟﻚ ،وﺳﻴﻜﻮن ﻗﺪ َر ﱠد ﻋﲆ ﺛﺮاﺳﻴﻤﺎﺧﻮس وأﻣﺜﺎﻟﻪ. ﻒ ﺣﺎل املﺪﻳﻨﺔ اﻟﻔﺎﺿﻠﺔ ً ﻋﻠﻴﻨﺎ إذن أن ﻧ َ ِﺼ َ أوﻻ .ﻳﻘﻮل ﺳﻘﺮاط )أو رﺑﻤﺎ أﻓﻼﻃﻮن( إﻧﻬﺎ ُ وﺗﺤﻘﻴﻖ ﴍط ﺗﺤﺘﺎج إﱃ ﻧﻮع ﻣﻦ اﻟﺤﺮس املﺠﻨﱠﺪﻳﻦ ﻟﺤﻤﺎﻳﺘﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﺤﺮوب اﻷﻫﻠﻴﺔ واﻟﻐﺰاة. اﻷﻣﻦ ﻫﻮ أول ﴍط ﻟﻘﻴﺎم أﻳﱠﺔ دوﻟﺔ ﻣﺰدﻫﺮة ،وﺳﻴﻜﻮن ﻫﺆﻻء اﻟﺤﺮاس ﺧﱪاء ﻣﺘﻔﺮﻏني ﰲ أﻣﻮر اﻟﺪﻓﺎع واﻟﻘﺎﻧﻮن واﻟﻨﻈﺎم؛ ﺣﻴﺚ إن أﻓﻀﻞ املﺪن ﻫﻲ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﺪﱢر اﻟﺘﺨﺼﺺ. وﺳﻴﺆدي ﻛﻞ املﻮاﻃﻨني اﻟﻌﻤﻞ اﻟﺬي ﻳﺘﻤﺘﻌﻮن ﺑﺎﻷﻫﻠﻴﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻟﻪ ِﺑ َﻐ ﱢﺾ اﻟﻨﻈﺮ ﻋﻦ املﻮﻟﺪ ﱠ ﻛﺎملﺆﻫﻠني ﻣﻦ اﻟﺮﺟﺎل .وﻗﺪ واﻟﻨ ﱠ َﺴﺐ ،ﻛﻤﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻤﺮأة أن ﺗﺼﻞ إﱃ أﻋﲆ املﺮاﺗﺐ ﺑﺴﻬﻮﻟﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه ﻓﻜﺮة ﺛﻮرﻳﺔ آﻧﺬاك؛ ﻓﻔﻲ أﺛﻴﻨﺎ ﰲ زﻣﻦ أﻓﻼﻃﻮن ﻛﺎن ﻳُﻨ ْ َ ﻈ ُﺮ ﻟﻠﻨﺴﺎء ﻛﻤﺮﺑﱢﻴَﺎت 210
ﺟﻤﻬﻮرﻳﺔ املﻨﻄﻖ :أﻓﻼﻃﻮن
وﻣﺪﻳﺮات ﻣﻨﺰل ﻏري ﻣﺘﻌ ﱢﻠﻤﺎت ﻳﺨﻀﻌﻦ ﻋﻤﻠﻴٍّﺎ ملﻠﻜﻴﺔ آﺑﺎﺋﻬﻢ أو أزواﺟﻬﻢ .ﻟﻢ ﻳﻜﻦ أﻓﻼﻃﻮن َ ﺑﺎملﻌﺘﻘﺪ اﻟﺴﺎﺋﺪ آﻧﺬاك اﻟﺬي ﻣﻨﺎﴏًا ﻣﺴﺘﻨريًا ﻟﺤﻘﻮق املﺮأة ﺑﺎملﻌﺎﻳري اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ؛ ﺣﻴﺚ آﻣﻦ ﻳﻘﻮل إن املﺮأة ﻋﺎﻣﺔ أﺳﻮأ ﻣﻦ اﻟﺮﺟﻞ ﰲ ﻛﻞ ﳾء ،وﻟﻜﻨﻪ ﻳﻘﻮل ﰲ »اﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ« إن املﺮأة ﻳﺠﺐ أن ﺗﺤﺼﻞ ﻋﲆ اﻟﻔﺮص ﻧﻔﺴﻬﺎ اﻟﺘﻲ ﻳﺤﺼﻞ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻟﺮﺟﻞ ،وإن أﻳﻤﺎ اﻣﺮأة أﺛﺒﺘﺖ ﻛﻔﺎءﺗﻬﺎ ﻓﻴﺠﺐ أن ﻳ ُْﺴﻤَ ﺢَ ﻟﻬﺎ ﺑﺎﻟﱰﻗﻲ ﰲ ﻣﺮاﺗﺐ املﺠﺘﻤﻊ. وﻳﻨﻘﺴﻢ املﺠﺘﻤﻊ ﰲ املﺪﻳﻨﺔ املﺜﺎﻟﻴﺔ إﱃ ﺛﻼث ﻃﺒﻘﺎت :ﻳﺄﺗﻲ املﻨﺘﺠﻮن )ﻣﺜﻞ اﻟﺤﺮﻓﻴني واﻟﻔﻼﺣني واﻟﺘﺠﺎر( ﰲ اﻟﻄﺒﻘﺔ اﻷدﻧﻰ ،ﻳﻠﻴﻬﻢ اﻟﺤﺮاس ،ﺛﻢ اﻟﺤﻜﺎم اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺠﺮي اﺧﺘﻴﺎرﻫﻢ ﻣﻦ ﺑني أﻓﻀﻞ اﻟﺤﺮاس .وإن أﻇﻬﺮ اﺑﻦ أﺣﺪ املﻨﺘﺠني أو اﺑﻨﺘﻪ اﻟﻜﻔﺎءة املﻄﻠﻮﺑﺔ ﻳﻨﺘﻘﻞ إﱃ ﻃﺒﻘﺔ اﻟﺤﺮاس ،وﺑﺎملِ ﺜﻞ إن ﻟﻢ ﻳﻜﻦ اﺑﻦ أﺣﺪ اﻟﺤﺮاس ﺑﺎﻟﻜﻔﺎءة املﻄﻠﻮﺑﺔ ﻓﺈﻧﻪ ﻳُﻜ ﱠﻠﻒ ﺑﺎﻷﻋﻤﺎل اﻟﺪﻧﻴﺎ .وﺣﻴﺚ إن اﻟﺤﺮاس واﻟﺤﻜﺎم ﺳﻴﻜﻮن ﻟﻬﻢ ﻗﺪر ﻛﺒري ﻣﻦ اﻟﺴﻠﻄﺔ ﻋﲆ اﻟﺠﻤﻴﻊ ﻓﻤﻦ اﻟﴬوري أن ﻳﺘﺠ ﱠﺮدوا ﻣﻦ اﻷﻧﺎﻧﻴﺔ ،وأن ﻳﺴﺪوا اﻟﻨﻔﻊ ﻟﻠﻐري ﺑﺸﻜﻞ ﻻ اﻟﺘﺒﺎس ﻓﻴﻪ .وﻳﺮﺟﻊ اﻟﺴﺒﺐ ﻓﻴﻤﺎ آل إﻟﻴﻪ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻷﺧﺮى ﻣﻦ ﻧﻬﺎﻳﺎت ﻏري ﺳﻌﻴﺪة إﱃ ﻋﺪم ﺗﺤﲇ اﻟﺤﻜﺎم ﺑﺎﻟﻔﻀﻴﻠﺔ .وﻳﺤﻤﻞ ﺳﻘﺮاط ﻋﲆ ﻋﺎﺗﻘﻪ ﻣﻬﻤﺔ ﺗﺤﺪﻳﺪ ﻧﻮﻋﻴﺔ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﱠ ﻳﺘﻌني ﻋﻠﻴﻬﻢ أن ﻳﻌﻴﺸﻮا ﻓﻴﻬﺎ؛ اﻟﺬي ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻟﻠﺤﺮاس أن ﻳﺤﺼﻠﻮا ﻋﻠﻴﻪ ،واﻟﺒﻴﺌﺔ اﻟﺘﻲ ﺣﻴﺚ ﻳﻌﻴﺸﻮن ﺣﻴﺎة ﺟﻤﺎﻋﻴﺔ ﻻ ﻳَﺤِ ﱡﻖ ﻟﻬﻢ ﻓﻴﻬﺎ اﻻﺳﺘﺌﺜﺎر ﺑﴚء ،ﺣﺘﻰ أزواﺟﻬﻢ وأﻃﻔﺎﻟﻬﻢ ﺳﻴﻜﻮﻧﻮن ﻣﻠﻜﻴﺔ ﻋﺎﻣﺔ .وﻳُﺤْ َ ﻈ ُﺮ ﻋﻠﻴﻬﻢ َﻟﻤﺲ اﻟﺬﻫﺐ أو اﻟﻔﻀﺔ ﻧﺎﻫﻴﻚ ﻋﻦ اﻣﺘﻼﻛﻬﻤﺎ. وﺳﺘﻀﻤﻦ ﻫﺬه اﻹﺟﺮاءات ﱠأﻻ ﻳﺴﺘﺨﺪم أيﱞ ﻣﻨﻬﻢ ﻧﻔﻮذه ﰲ ﺗﺤﻘﻴﻖ اﻟﺜﺮاء ﻟﻨﻔﺴﻪ أو ﺗﻘﺪﻳﻢ أﻳﺔ ﻣﺼﻠﺤﺔ ﺷﺨﺼﻴﺔ ﻋﲆ ﻣﺼﺎﻟﺢ املﺠﺘﻤﻊ ﺑﺸﻜﻞ ﻋﺎم. وﻣﻦ اﻟﴬوري أن ﺗُﺒْﻨَﻰ ﺷﺨﺼﻴﺎﺗﻬﻢ وﻫﻴﺌﺎﺗﻬﻢ اﻟﺒﺪﻧﻴﺔ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﺻﺤﻴﺤﺔ ،وﻟﻦ ﻳَﻨ ْ َ ﺼﺐﱠ اﻻﻫﺘﻤﺎم اﻟﺪﻗﻴﻖ ﻋﲆ ﻧﻈﺎم اﻟﺘﻐﺬﻳﺔ واﻟﺘﺪرﻳﺐ ﻓﺤﺴﺐ ،ﺑﻞ ﻋﲆ املﻮاد اﻟﺘﻲ ﻳﺪرﺳﻮﻧﻬﺎ واﻟﻘﺼﺺ اﻟﺘﻲ ﺗُﺮوَى ﻟﻬﻢ واملﻮﺳﻴﻘﻰ اﻟﺘﻲ ﻳﺴﺘﻤﻌﻮن إﻟﻴﻬﺎ .ﻟﻘﺪ اﻋﺘﻘﺪ اﻹﻏﺮﻳﻖ أن ﻟﻠﻤﻮﺳﻴﻘﻰ ﺗﺤﺪﻳﺪًا ﻛﺒريَ اﻷﺛﺮ ﻋﲆ اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ واملﺠﺘﻤﻊ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻳﺠﺐ ﻣﺘﺎﺑﻌﺘﻬﺎ ﺑﺎﻫﺘﻤﺎم ﺑﺎﻟﻎ .وﻳﺸﺪد ﺳﻘﺮاط ﻋﲆ وﺟﻮب »اﻟﺤﺬر ﻣﻦ … ﺗﻐﻴري ﻧﻮع املﻮﺳﻴﻘﻰ ﻷن ﺗﻐﻴري أﻧﻮاع املﻮﺳﻴﻘﻰ ﻻ ﻳﺤﺪث إﻻ ﺑﺘﻐﻴري اﻟﺘﻘﺎﻟﻴﺪ اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ واﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ) «.ﻳﺒﺪو أن ﺑﻌﺾ اﻟﺴﻮداوﻳني ﻣﻦ املﺤﺎﻓﻈني املﻌﺎﴏﻳﻦ ﻣﺜﻞ آﻻن ﺑﻠﻮم ﰲ ﻛﺘﺎﺑﻪ »اﻧﻐﻼق اﻟﻌﻘﻞ اﻷﻣﺮﻳﻜﻲ« ﻗﺪ َرأَوْا ﰲ ﻇﻬﻮر ﻣﻮﺳﻴﻘﻰ اﻟﺮوك ﰲ ﺧﻤﺴﻴﻨﻴﺎت اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ ً دﻟﻴﻼ واﺿﺤً ﺎ ﻋﲆ ﺻﺤﺔ ذﻟﻚ( .وﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻘﺼﺺ اﻟﺘﻲ ﺳﻴﺴﺘﻤﻊ إﻟﻴﻬﺎ اﻟﺤﺮاس اﻟﺼﻐﺎر ،ﻓﻤﻦ اﻟﴬوري أن ﺗﺘﻨﺎول اﻷﺑﻄﺎل اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻤﺜﱢﻠﻮن ﻗﺪوة ﺣﺴﻨﺔ .وﻗﺪ ذﻫﺐ ﺳﻘﺮاط إﱃ أﺑﻌ َﺪ ﻣﻦ ذﻟﻚ ﺑﺘﺤﺪﻳﺪه 211
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﺑﺤﻮر اﻟﺸﻌﺮ اﻷﻛﺜﺮ إﻟﻬﺎﻣً ﺎ .وﺑﺸﻜﻞ ﻋﺎ ﱟم ﻓﻘﺪ ُ ﺻﻤﱢ َﻢ املﻨﻬﺞ اﻟﺘﻌﻠﻴﻤﻲ ﺑﺤﻴﺚ ﻳﺰرع اﻟﻮﺳﻄﻴﺔ واﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ﺑﺈﺧﻀﺎع اﻟﺤﺮاس املﺴﺘﻘﺒﻠﻴني اﻟﺼﻐﺎر ﻷﻛﺜﺮ املﻮا ﱢد ُر ِﻗﻴٍّﺎ. وﻳﺠﺐ ﻋﲆ ﻛﻞ اﻟﺤﺮﻓﻴني ﻣﻦ اﻟﺸﻌﺮاء وﺣﺘﻰ ﻣﺼﻤﱢ ﻤﻲ اﻷﺛﺎث املﻨﺰﱄ اﻟﺬﻳﻦ ﺳريى ﻫﺆﻻء اﻟﺼﻐﺎر ﻣﻨﺘﺠﺎﺗﻬﻢ أن ﻳﺨﻀﻌﻮا ﻟﻘﻮاﻋﺪ ﺻﺎرﻣﺔ .ﻓﻼ ﻳﺴﻤﺢ ﻟﻬﻢ: ﺑﺈﻇﻬﺎر اﻟﺮﻏﺒﺎت اﻟﴩﻳﺮة وﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﻮﺻﻒ ﺑﺎﻟﻔﺠﻮر واﻟﺘﻌﺼﺐ واﻟﺮذﻳﻠﺔ ﺳﻮاء ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺨﺺ اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﺤﻴﺔ أو املﺒﺎﻧﻲ أو أي ﻣﻨﺘﺞ آﺧﺮ؛ ﺣﺘﻰ ﻻ ﻳﻨﺸﺄ ﺣﺮاﺳﻨﺎ ﺑني رﻣﻮز اﻟﴩ ﻛﻤﻦ ﻳﱰﻋﺮع ﰲ ﻣﺮاﻋﻲ اﻷﻋﺸﺎب اﻟﺴﺎﻣﺔ .ﻓﻠﻴﺲ ﻟﻬﻢ أن ﻳﻘ َﺮﺑُﻮا ﺗﻠﻚ اﻟﴩور ﻓﻴﱰاﻛﻢ … ﰲ أرواﺣﻬﻢ َﻗ ْﺪ ٌر ﻛﺒري ﻣﻦ اﻟﺮذاﺋﻞ وﻫﻢ ﻻ ﻳﻌﻠﻤﻮن. وﻟﻜﻦ ﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﺒﺤﺚ ﻋﻦ اﻟﺤﺮﻓﻴني اﻟﺬﻳﻦ ﻣ ﱠﻜﻨﺘﻬﻢ ﻫِ ﺒَﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻣﻦ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ اﻟﺠﻤﺎل واﻟﻔﻀﻴﻠﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﻴ ْﱠني؛ ﺣﺘﻰ ﻳﻨﺸﺄ ﺷﺒﺎﺑﻨﺎ ﰲ ﺑﻴﺌﺔ ﺻﺤﻴﺔ وﻳﺴﺘﻔﻴﺪوا ﻣﻦ ﻛﻞ ﻣﺎ ﺣﻮﻟﻬﻢ ،ﺣﻴﺚ ﻳﻔﻮح أﺛﺮ اﻟﺠﻤﺎل وﻳﻨﻄﺒﻊ ﻋﲆ اﻟﻌني أو اﻷذن ﻣﺜﻞ اﻟﻨﺴﻴﻢ اﻟﻨﻘﻲ اﻟﺬي ﻳﺤﻔﻆ اﻟﺼﺤﺔ ،ﻓﻨﺮﺷﺪﻫﻢ ﻣﻨﺬ ﻧﻌﻮﻣﺔ أﻇﻔﺎرﻫﻢ إﱃ اﻟﺘﺸﺎﺑﻪ وإﱃ اﻟﺼﺪاﻗﺔ وإﱃ اﻟﺘﻨﺎﻏﻢ ﻣﻊ املﻨﻄﻖ اﻟﺴﻠﻴﻢ. إن ﻫﺬا اﻻﻫﺘﻤﺎم اﻟﺼﺎرم واﻟﺮاﻗﻲ ﺑﺎﻟﺘﻔﺎﺻﻴﻞ اﻟﱰﺑﻮﻳﺔ ﻫﻮ ﺑﻼ ﺷﻚ إﻓﺮاط ﻻ ﻣﻌﻨﻰ ﻟﻪ ﰲ أي ﻧﻈﺎم ﺗﻌﻠﻴﻤﻲ ﺣﻘﻴﻘﻲ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻳﻮﺿﺢ أن أﻓﻼﻃﻮن ﻟﻢ ﻳﺮﺗﻜِﺐ اﻟﺨﻄﺄ اﻟﺬي وﻗﻊ ُ ﺗﺠﺎﻫﻠُﻪ دور اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﻓﻴﻪ ﺳﻘﺮاط ووﺟﱠ ﻪ ﺑﺴﺒﺒﻪ أرﺳﻄﻮ وآﺧﺮون اﻟﻠﻮم إﻟﻴﻪ ،أﻻ وﻫﻮ ﰲ ﺗﺤﺪﻳﺪ اﻟﺴﻠﻮك اﻷﺧﻼﻗﻲ؛ ﻓﺎﻟﺤﺮاس املﺬﻛﻮرون ﰲ »اﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ« ﻳﺘﺼﻔﻮن ﺑﺎﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ً ﻋﺎﻣﺔ ﻷن ﻛﻞ ﳾء ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻬﻢ اﻷُوﱃ ُ ﺻﻤﱢ َﻢ ﻟﻴﺸﻜﻞ ﺷﺨﺼﻴﺎﺗﻬﻢ واﻟﻌﻘﻼﻧﻴﺔ وﻛﺮم اﻷﺧﻼق ﺑﻐﻴﺔ ﺗﺤﻘﻴﻖ ذﻟﻚ اﻟﻬﺪف. وﻟﻨﺘﺼﻮر ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻳﺤﻜﻤﻬﺎ ﻫﺆﻻء اﻟﻘﺪﻳﺴﻮن ،ﻫﻞ ﺳﺘﺴﻮدﻫﺎ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ واﻟﺸﺠﺎﻋﺔ واﻟﺤﻜﻤﺔ واﻟﻮﺳﻄﻴﺔ واﻟﻌﺪاﻟﺔ ﻛﻤﺎ ﻳﺠﺐ أن ﺗﻜﻮن املﺪﻳﻨﺔ املﺜﺎﻟﻴﺔ؟ ﻳﺠﻴﺐ ﺳﻘﺮاط ﻋﻦ ﻫﺬا ﱡ اﺻﻄﻔﻮا وﺗﺪرﺑﻮا ﻋﲆ اﻟﺴﺆال ﺑﺎﻹﻳﺠﺎب؛ ﻓﺎﻟﺸﺠﺎﻋﺔ ﺳﺘﺴﻮد ﺑﻔﻀﻞ ﻫﺆﻻء اﻟﺤﺮاس اﻟﺬﻳﻦ اﻟﺘﻔﻮق اﻟﻌﺴﻜﺮي ،وﺳﺘﺴﻮد ﻓﻴﻬﺎ اﻟﻮﺳﻄﻴﺔ أو ﺿﺒﻂ اﻟﻨﻔﺲ ﻷﻧﻬﺎ ﺳﺘﺨﻀﻊ ﻟﻠﺘﻨﻈﻴﻢ، ﻓﻜﻤﺎ ﻳﻘﻮل ﺳﻘﺮاط َﺳﺘُﺤْ ِﻜ ُﻢ »اﻟﺮﻏﺒﺎت اﻟﺴﺎﻣﻴﺔ واﻟﺤﻜﻤﺔ اﻟﻨﺎﺷﺌﺔ املﻐﺮوﺳﺔ ﰲ اﻷﻗﻠﻴﺔ اﻟﺮاﻗﻴﺔ« ﻗﺒﻀﺘﻬﺎ ﻋﲆ رﻏﺒﺎت »اﻟﺠﻤﻮع واﻟﺮﻋﺎع« ﻛﻲ ﺗﺴﻴﻄﺮ ﻋﻠﻴﻬﺎ ،وﺳﺘﺴﻮد اﻟﺤﻜﻤﺔ ﺑﻔﻀﻞ ﺣﻜﺎﻣﻬﺎ اﻟﺬﻳﻦ ﻳُﺨﺘﺎ ُرون ﻣﻦ ﺑني أﻓﻀﻞ اﻟﺤﺮاس وﻳﺤﺼﻠﻮن ﻋﲆ أﻋﲆ ﻣﺴﺘﻮﻳﺎت اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﻟﺘﻌﺰﻳﺰ ﻣﻠﻜﺎﺗﻬﻢ اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ .أﻣﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻌﺪاﻟﺔ ﻓﻴﺒﺪو ﰲ ﻫﺬه املﺮﺣﻠﺔ ﻣﻦ املﻨﺎﻗﺸﺔ 212
ﺟﻤﻬﻮرﻳﺔ املﻨﻄﻖ :أﻓﻼﻃﻮن
أن ﺳﻘﺮاط ﻳﺆﻣﻦ أن اﻷﺳﺎس ﻳَ ْﻜ ُﻤ ُﻦ ﰲ أن ﻳﺘﻔﺮغ ﻛﻞ ﻣﻮاﻃﻦ إﱃ ﻧﻤﻂ اﻟﻌﻤﻞ واﻟﺤﻴﺎة اﻟﺬي ﻳﻨﺎﺳﺒﻪ؛ ﻓﻬﺬا ﺳﻴﺆدي إﱃ ﻣﺠﺘﻤﻊ ﻣﺘﻨﺎﻏﻢ وﻣﺘﻜﺎﻓﺊ وﺳﻌﻴﺪ ،ﻣﻤﱠ ﺎ ﺳﻴﺆدي ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ إﱃ ﻣﺠﺘﻤﻊ ﻋﺎدل. ﱢ ﺗﺠﺴﺪ ﺟﻤﻴﻊ وﻫﻜﺬا ﻳﻘﻮل ﺳﻘﺮاط إن املﺪﻳﻨﺔ املﻔﱰﺿﺔ ﰲ »اﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ« ﺳﻮف ُ اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ ،وﻗﺪ أوﺣﺖ ﻓﻜﺮة املﺪﻳﻨﺔ اﻟﻌﺎدﻟﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻌﻤﻞ ﻛﻞ ﻋﻨﴫ ﻓﻴﻬﺎ ﺑﺘﻨﺎﻏﻢ ﻣﻊ اﻷﺟﺰاء اﻷﺧﺮى — ﻣﺜﻞ اﻹﻧﺴﺎن املﺘﱠﺰن اﻟﺴﻌﻴﺪ — ﻟﺴﻘﺮاط ﺑﺈﻣﻜﺎﻧﻴﺔ ﺗﻮﺳﻴﻊ املﻘﺎرﻧﺔ ﺑني املﺪﻳﻨﺔ واﻟﺮوح واﺳﺘﺨﺪام ذﻟﻚ ﰲ دﻋﻢ ﺻﻮرﺗﻪ ﻋﻦ اﻟﻌﺪاﻟﺔ .وﻛﻤﺎ ﺗﻨﻘﺴﻢ املﺪﻳﻨﺔ ﻟﺪﻳﻪ إﱃ ﺛﻼث ﻃﺒﻘﺎت )املﻨﺘﺠني أو اﻟﺤﺮﻓﻴني أو اﻟﺤﺮاس واﻟﺤﻜﺎم( ،أﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻋﺘﺒﺎر أن اﻟﻨﻔﺲ اﻟﺒﴩﻳﺔ ﺗﻨﻘﺴﻢ إﱃ ﺛﻼﺛﺔ ﻣﻜﻮﻧﺎت؟ ﻳﻌﺘﻘﺪ ﺳﻘﺮاط أن اﻟﺮوح ﺗﺘﻜﻮن ﻣﻦ ﺛﻼﺛﺔ أﺟﺰاء ﻫﻲ :اﻟﻨﻔﺲ اﻟﺸﻬﻮاﻧﻴﺔ واﻟﻨﻔﺲ اﻟﻐﺎﺿﺒﺔ واﻟﻨﻔﺲ اﻟﻌﺎﻗﻠﺔ ،وﻫﻲ ﺗﻮازي أﻧﻮاع اﻟﺮﻏﺒﺎت .ﻓﺎﻟﻨﻔﺲ اﻟﺸﻬﻮاﻧﻴﺔ ﺗﺤﺮﻛﻬﺎ اﻟﻐﺮاﺋﺰ اﻟﺪﻧﻴﺎ ﻧﺤﻮ اﻟﻄﻌﺎم واﻟﺠﻨﺲ واملﺎل .أﻣﺎ اﻟﻨﻔﺲ اﻟﻐﺎﺿﺒﺔ ﻓﺘﺴﻌﻰ ﻧﺤﻮ اﻟﴩف )ﻛﺎﻟﴩف اﻟﻌﺴﻜﺮي( .أﻣﺎ اﻟﻨﻔﺲ اﻟﻌﺎﻗﻠﺔ ﻓﺘﺤ ﱢﺮﻛﻬﺎ اﻟﺮﻏﺒﺔ ﰲ املﻌﺮﻓﺔ .وﻟﻴﺲ ﻣﻦ اﻟﻐﺮﻳﺐ أن ﺗﺘﻤﺎﳽ أﻧﻮاع اﻟﺮﻏﺒﺎت اﻟﺜﻼﺛﺔ ﺑﺪﻗﺔ ﻣﻊ ﻃﺒﻘﺎت املﺠﺘﻤﻊ اﻟﺜﻼث؛ ﻓﺎﻟﺤﻜﺎم ﻳﺤﻜﻤﻬﻢ اﻟﻌﻘﻞ واﻟﺤﺮاس ﺗﺤ ُﻜﻤﻬﻢ اﻟﺮﻏﺒﺔ ﰲ اﻟﴩف واملﺠﺪ، أﻣﺎ اﻟﺒﻘﻴﺔ ﻣﻦ اﻟﺤﻤﻘﻰ واﻟﻔﻘﺮاء ﻓﺘﺤﻜﻤﻬﻢ ﺷﻬﻮاﺗﻬﻢ اﻷوﻟﻴﺔ .وﻛﻤﺎ أن اﻹﻧﺴﺎن املﺘﻮازن ﻻ ﻳﺪع ﺑﻄﻨﻪ أو ﻓﺮﺟﻪ ﻳﺘﺤﻜﻢ ﰲ ﻋﻘﻠﻪ ،ﻓﺎﻟﺪوﻟﺔ اﻟﻘﻮﻳﺔ ﻳﺪﻳﺮﻫﺎ أوﻟﺌﻚ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺴﻴﻄﺮ ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻟﻌﻘﻞ وﻋﻨﺪﻫﺎ ﻳﺼﺒﺢ ﻛﻞ ﳾء ﻣﻨﻀﺒ ً ﻄﺎ. وﺑﻌﺪ أن ﻋﻘﺪ ﺳﻘﺮاط ﻫﺬه املﻘﺎرﻧﺔ وﻏريﻫﺎ ﺑني ﻣﺎ ﻳﻨﻔﻊ املﺪﻳﻨﺔ وﻣﺎ ﻳﻨﻔﻊ اﻟﻔﺮد، ﺗﺘﺤﻮل املﻨﺎﻗﺸﺔ إﱃ اﻹﺟﺎﺑﺔ ﻋﻦ اﻟﺘﺴﺎؤل املﺮﺗﺒﻂ ﺑﻜﻴﻔﻴﺔ ﺑﻨﺎء ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻛﺎﻟﺘﻲ وﺻﻔﻬﺎ ﻋﲆ أرض اﻟﻮاﻗﻊ) .وﻳ ُْﺴﺘَ ْﻜﻤَ ُﻞ اﻟﺪﻓﺎع ﻋﻦ اﻟﻌﺪاﻟﺔ ً ﻻﺣﻘﺎ ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺗﺴﺘﻤﺮ ﻣﻨﺎﻗﺸﺔ املﺪﻳﻨﺔ اﻟﻔﺎﺿﻠﺔ وﺣﻜﺎﻣﻬﺎ(. وﻟﻘﺪ وﻗﻊ ﺟﻠﻮﻛﻮن وأدﻳﻤﺎﻧﺘﻮس ﻋﲆ ﻋﻨﺎﴏَ ﺑﻌﻴﺪة ﻛﻞ اﻟﺒُﻌﺪ ﻋﻦ اﻟﻮاﻗﻌﻴﺔ ﰲ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﺳﻘﺮاط اﻟﺨﻴﺎﻟﻴﺔ ،أﻻ وﻫﻲ املﺴﺎواة ﰲ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﺑني اﻟﺮﺟﻞ واملﺮأة ،واﻟﻔﺮص اﻟﺘﻲ ﺗُﺘَﺎحُ ﻟ ُﻜ ﱟﻞ ﻣﻨﻬﻤﺎ .وﻗﺪ ﻧَﺠَ ﺢَ ﺳﻘﺮاط ﰲ إﻗﻨﺎﻋﻬﻤﺎ أﻧﻪ ﻣﻦ املﻤﻜﻦ ﺟﺪٍّا ﺗﻨﻔﻴﺬ ذﻟﻚ .ﻛﻤﺎ ﻧﺠﺢ ﰲ إﻗﻨﺎﻋﻬﻤﺎ ﺑﺎﻻﺗﻔﺎق ﻣﻌﻪ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺠﺰﺋﻴﺔ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ،ﺣﻴﺚ ﻗﺎل إن ﺗﴩﻳﻌﻪ املﻘﱰح ﻟﻠﻤﺪﻳﻨﺔ »ﻟﻴﺲ ﺧﻴﺎﻟﻴٍّﺎ أو ﻏري ﻗﺎﺑﻞ ﻟﻠﺘﻄﺒﻴﻖ ﻷن اﻟﻘﺎﻧﻮن املﻘﱰح ﻳﺘﻤﺎﳽ ﻣﻊ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ،ﺑﻞ إن ﻣﺎ ً ﺗﻌﺎرﺿﺎ ﻣﻊ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ «.وﻟﻜﻦ ﻫﺬا اﻟﻨﻘﺎش ﺣﻮل املﺮأة دوﻧﻪ ﻣﻤﱠ ﺎ ﻫﻮ ﺳﺎﺋﺪ اﻵن ﻳُﻌَ ﱡﺪ … أﻓﴣ إﱃ اﻗﱰاح آﺧﺮ ﺑﺨﺼﻮص اﻟﺠﻨﺴني ﺳﺒﱠﺐ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ املﺸﻜﻼت؛ ﻣﻤﺎ ﻳﺠﻌﻞ ﻣﻦ 213
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
اﻟﺼﻌﺐ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ ملﺪﻳﻨﺔ ﺳﻘﺮاط أن ﺗﺮى اﻟﻨﻮر .ﻛﺎن ﻣﻦ ﺷﺄن ﻫﺬا اﻻﻗﱰاح أن ﻳ َُﻘﺎﺑَ َﻞ ﺑﺎﻹداﻧﺔ ﰲ ﻋﴫﻧﺎ ﻫﺬا ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﺑﻨﻔﺲ ﺣﺮارة ﺗﺮﺣﻴﺒﻨﺎ ﺑﺎملﺴﺎواة ﺑني اﻟﺮﺟﻞ واملﺮأة .ﻛﺎن ﻣﴩوﻋﻪ املﻘﱰح ﺳﻴُﻠﻐﻲ اﻟﺰواج اﻟﺘﻘﻠﻴﺪي ﺑني اﻟﺤﺮاس وﺗﺮﺑﻴﺔ اﻷﻃﻔﺎل ،ﻟﻴﺲ ﻫﺬا وﺣﺴﺐ ﺑﻞ ﺳﺘﻜﻮن ﻫﻨﺎك ﻣﺤﺎوﻻت ﻟﻠﺘﺤ ﱡﻜﻢ ﰲ ﺗﻨﺎﺳﻠﻬﻢ ﺑﺤﻴﺚ ﻻ ﻳﻤﺎرس اﻷﻓﻀﻞ ﻣﻦ ﺑﻴﻨﻬﻢ اﻟﺠﻨﺲ إﻻ ﻣﻊ اﻷﻓﻀﻞ ﻣﻦ أﻣﺜﺎﻟﻪ ،وأي ذرﻳﺔ ردﻳﺌﺔ ﺳﻴﻜﻮن ﻣﺼريﻫﺎ اﻟﻘﺘﻞ، واﻟﻬﺪف ﻣﻦ ذﻟﻚ ﻛﻠﻪ ﻫﻮ إﻋﺪاد أﻓﻀﻞ اﻟﺤﺮاس ﻟﻠﻤﺴﺘﻘﺒﻞ. وﻟﺘﻤﻜني ﻫﺬا اﻟﺘﻨﺎﺳﻞ اﻻﻧﺘﻘﺎﺋﻲ ﻣﻦ اﻻﺳﺘﻤﺮار ﺑﺴﻼﺳﺔ ﺳﻴﺘﺎح ﻟﻠﺤﻜﺎم أن ﻳُﺨﻔﻮا ﻣﺎ ﻳﺤﺪث ﻋﻦ ﺑﻘﻴﺔ اﻟﺤﺮاس ﻟﻠﺤﻔﺎظ ﻋﲆ ﻧﻘﺎﺋﻬﻢ ،وﺳﻴﻘﻴﻢ اﻟﺤﻜﺎم اﺣﺘﻔﺎﻻت ﺗﺘﻀﻤﻦ »ﻣﺮاﺳﻢ أﺷﺒﻪ ﺑﻘﺮﻋﺔ ﻣﺤ َﻜﻤﺔ اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ … ﺗُﻌَ ﱡﺪ ﻟﺠﻌﻞ اﻟﻄﺒﻘﺎت اﻟﺪﻧﻴﺎ ﻣﻦ اﻟﻨﺎس ﰲ ﻛﻞ ﻗﻄﺎع ﻣﻦ ﻗﻄﺎﻋﺎت املﺠﺘﻤﻊ ﻳُﻠﻘﻮن ﺑﺎﻟﻼﺋﻤﺔ ﻋﲆ اﻟﺼﺪﻓﺔ وﻟﻴﺲ ﻋﲆ اﻟﺤﻜﺎم« ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﻤﺎ اﺧﺘﺎره ﻟﻬﻢ اﻟﺤﻆ ﻣﻦ ﴍﻛﺎء أو ﴍﻳﻜﺎت ﰲ اﻟﺘﻨﺎﺳﻞ .وﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﻀﻊ ﻛﻞ اﻣﺮأة ﺣﻤﻠﻬﺎ ،ﺗﺆﺧﺬ ﱠ »ﺣﻀﺎﻧﺎت ﺧﺎﺻﺔ ﻟﻴﻌﻴﺸﻮا ﻓﺮادى ﰲ أﺣﺪ رﺑﻮع املﺪﻳﻨﺔ ،أﻣﺎ »ذرﻳﺔ اﻟﻄﺒﻘﺔ اﻟﺮاﻗﻴﺔ« إﱃ ﴎا ﺣﺘﻰ ﻻ ذرﻳﺔ اﻟﻄﺒﻘﺔ اﻟﺪﻧﻴﺎ وأي ﻣﻤﻦ ﻳﻮ َﻟﺪون ﺑﻌﻴﻮب ﺧﻠﻘﻴﺔ ﻳﺠﺮي اﻟﺘﺨ ﱡﻠﺺ ﻣﻨﻬﻢ ٍّ ﻳﻌﻠﻢ أﺣﺪ ﻣﺎ ﺣﺎق ﺑﻬﻢ«. وﻻ ﻳﺸﻌﺮ ﺳﻘﺮاط ﺑﺎﻟﺮﺿﺎ ﻋﻦ ﻫﺬا اﻟﻠﺠﻮء إﱃ اﻟﻜﺬب ،وﻳﺪﻋﻮ ﻻﻋﺘﺒﺎره ﻧﻮﻋً ﺎ ﻣﻦ اﻟﻌﻼج ،ﺣﻴﺚ ﻳﺠﺐ ﺗﺤﻤﻞ اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ اﻟﺴﻴﺌﺔ ﻟﻬﺬا اﻟﺨﺪاع ﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﺼﺎﻟﺢ اﻟﻌﺎم .وﻳﻌﱰف ﺳﻘﺮاط أﻧﻪ ﻳﻌﺘﱪ ﻫﺬه املﺴﺄﻟﺔ »أﻣ ًﺮا ﻣﻘﺰ ًزا« .وﺣﺘﻰ ﻧﻔﻬﻢ ﻛﻴﻒ راق ﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﺳﻘﺮاط — اﻟﺘﻲ ﻗﺪﻣﻬﺎ أﻓﻼﻃﻮن — ﻫﺬا املﴩوع املﺮوﱢع ﻳﺠﺐ ﻣﻼﺣﻈﺔ أﻣﺮﻳﻦ؛ أوﻟﻬﻤﺎ :أن اﻟﺤﺮاس اﻟﺬﻳﻦ ﺳﻴﻌﻴﺸﻮن اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻔﻀﲆ ،واﻷﻃﻔﺎل اﻟﺬﻳﻦ ﺳﺘﺨﺘﻄﻔﻬﻢ اﻟﺪوﻟﺔ ﺑﻬﺬه اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﻫﻢ ﻣَ ْﻦ ﺳﻴﺨﻮﻟﻮن ﺳﻠﻄﺎت وﻣﺴﺌﻮﻟﻴﺎت ﻏري ﺗﻘﻠﻴﺪﻳﺔ .ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﻧﻈ ًﺮا ﻟﻠﺴﻠﻄﺔ اﻟﺘﻲ ﺳﺘﻜﻮن ﰲ ُ ﻓﺮﺿﻬﺎ ﻋﲆ اﻟﻌﺎﻣﺔ ،ﻟﻦ ﻳﻜﻮن ﻫﻨﺎك ﻣﺤﺎﻛﻢ ﻣﺴﺘﻘﻠﺔ ﺣﻮزة ﻫﺆﻻء اﻟﺤﺮاس واﻟﺘﻲ ﻳﺠﺐ ﻳﺤﺘﻜﻢ إﻟﻴﻬﺎ اﻟﻨﺎس ﰲ ﻣﻈﺎملﻬﻢ ،وﻗﺪ ﺑﺪا ﻣﻦ اﻟﺤﻜﻤﺔ أن ﺗﺘﺨﺬ ﻛﻞ اﻟﺨﻄﻮات املﻤﻜﻨﺔ ﻟﻀﻤﺎن ﻛﻔﺎءة ﻫﺆﻻء اﻟﺤﺮاس ﻟﻠﻤﻬﻤﺔ املﻮﻛﻠﺔ إﻟﻴﻬﻢ؛ ﻓﺎﻟﻬﺪف ﻣﻦ ﺧﻄﺔ اﻟﺘﻨﺎﺳﻞ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻫﻮ اﻟﻬﺪف املﻌ َﻠﻦ ﻓﻘﻂ وﻫﻮ إﺧﺮاج »أﺑﻨﺎء ﻣﻦ ﻧﺴﻞ اﻵﺑﺎء اﻟﻨﺎﻓﻌني ﻟﻠﺪوﻟﺔ ﻟﻴﻜﻮﻧﻮا أﻛﺜﺮ ﻧﻔﻌً ﺎ«. واﻷﻣﺮ اﻵﺧﺮ ﻫﻮ أن اﻟﺤﻜﺎم اﻟﺬﻳﻦ ﻳُﺨﺘﺎرون ﻣﻦ ﺑني اﻟﺤﺮاس واملﺴﻤﻮح ﻟﻬﻢ ﺑﺎﻟﻜﺬِب ﺣﺘﻰ ﻳﺘﻤ ﱠﻜﻨﻮا ﻣﻦ ﺗﻨﻈﻴﻢ اﻟﺘﻨﺎﺳﻞ اﻻﻧﺘﻘﺎﺋﻲ اﻟﺒﻐﻴﺾ ﻳﺨﺘﻠﻔﻮن ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻋﻦ أي ﺣﻜﺎم ﺣﻘﻴﻘﻴني ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ ﺗﺼﻮﱡرﻫﻢ؛ ﻓﻬﻢ ﻳﺸﺒﻬﻮن اﻵﻟﻬﺔ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ .وﻳﺴﺘﺒﻌﺪ أﻓﻼﻃﻮن ﻓﻜﺮة أﻧﻬﻢ ﻗﺪ ﻳﺴﻴﺌﻮن ﴎا اﺳﺘﺨﺪام ﻧﻔﻮذﻫﻢ أو ﻳﻨﺤﺮﻓﻮن ﻋﻦ وﻇﻴﻔﺘﻬﻢ .أﻣﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻘﺘﻞ اﻷﻃﻔﺎل املﺸﻮﱠﻫني ٍّ ﻓﻬﺬا ﻻ ﻳﺒﺪو أﻧﻪ ﻗﺪ أﺛﺎر ﰲ ﻋﻬﺪ أﻓﻼﻃﻮن أي ﺟﺪل ﻳُﺬ َﻛﺮ. 214
ﺟﻤﻬﻮرﻳﺔ املﻨﻄﻖ :أﻓﻼﻃﻮن
وﻋﻨﺪ اﺣﺘﺪام املﻨﺎﻗﺸﺔ ﺣﻮل إﻣﻜﺎﻧﻴﺔ ﺗﻄﺒﻴﻖ ﺗﻠﻚ اﻟﺨﻄﺔ ﻛﻜ ﱟﻞ ﻳﺘﻤﻠﺺ ﺳﻘﺮاط ﻣﻦ ذﻟﻚ اﻟﺠﺪال ،ﺣﻴﺚ ﻳﺬﻛﺮ رﻓﺎﻗﻪ أن »ﻫﺪﻓﻨﺎ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺑﻴﺎن إﻣﻜﺎﻧﻴﺔ ﺗﺤﻘﻴﻖ ﻫﺬه اﻷﻓﻜﺎر املﺜﺎﻟﻴﺔ« ﺑﻜﻞ ﺗﻔﺎﺻﻴﻠﻬﺎ .وﻳﺴﺄل» :ﻫﻞ ﺗﻌﺘﻘﺪ أﻧﻪ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﺮﺳﺎم ﺑﺎرع أﺑﺪع ﺻﻮرة ﻹﻧﺴﺎن ﰲ ﻏﺎﻳﺔ اﻟﺠﻤﺎل دوﻧﻤﺎ ﺣﺬف ﻷيﱟ ﻣﻦ اﻟﺘﻔﺎﺻﻴﻞ اﻟﻼزﻣﺔ ﻟﺘﺼﻞ ﻫﺬه اﻟﺼﻮرة إﱃ ﺣ ﱢﺪ اﻟﻜﻤﺎل أن ﻳﺜﺒﺖ أن ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﺮﺟﻞ ﻗﺪ ﻳﻮﺟﺪ ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ؟« ﻓﺴﻘﺮاط ﻣﺴﺘﻌ ﱞﺪ ﻹﺛﺒﺎت أن أﻫﻢ اﻟﺘﻔﺎﺻﻴﻞ ﰲ ﻣﺪﻳﻨﺘﻪ اﻟﻔﺎﺿﻠﺔ ﻣﺮﻏﻮﺑﺔ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ،وﻟﻜﻦ اﻟﻬﺪف اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﻫﻮ رﺳﻢ ﺻﻮرة ﺗﺴﺘﺜري اﻟﻔﻜﺮ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻨﺎس أن ﻳﺨﺘﺎروا ﻣﻨﻬﺎ اﻷﺟﺰاء اﻟﺘﻲ ﻳﺮوﻧﻬﺎ ﻧﺎﻓﻌﺔ؛ ﻓﻬﻮ ﻻ ﻳﺤﺎول أن ﻳﺸﻌﻞ ﴍارة ﺛﻮرة .وﻹرﺿﺎء ﻓﻀﻮل ﻣﺴﺘﻤﻌﻴﻪ ﻓﺈن ﺳﻘﺮاط ﻣﺴﺘﻌ ﱞﺪ ﻟﻺﻓﺼﺎح ﻋﻤﱠ ﺎ ﻳﺮاه ﻣﺠﺮد »ﺗﻐﻴري ﺑﺴﻴﻂ ﻟﺘﺤﻮﻳﻞ أﻳﺔ دوﻟﺔ إﱃ ﻧﻈﺎم اﻟﺤﻜﻢ ذاك« ،ﻓﻴﻘﻮل إﻧﻪ ﻟﻜﻲ ﺗﺼﺒﺢ املﺪﻳﻨﺔ املﺜﺎﻟﻴﺔ واﻗﻌً ﺎ ﻓﻠﻴﺲ إﻻ أن ﻳﺼﺒﺢ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻣﻠﻮ ًﻛﺎ أو أن »ﻳﺴﻌﻰ ﻣَ ْﻦ ﻧُﻄﻠِﻖ ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻵن ﻣﻠﻮﻛﻨﺎ وﺣﻜﺎﻣﻨﺎ إﱃ ﺗﻌ ﱡﻠﻢ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﱟ ﺑﺤﻖ وﻋﲆ ﻧﺤﻮ ٍ ﻛﺎف «.وﻳﺒﺪو ﻫﺬا »اﻟﺘﻐﻴري اﻟﺒﺴﻴﻂ« ﰲ اﻷوﺿﺎع اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ ﺗﻐﻴريًا ﺟﺬرﻳٍّﺎ ،وﻟﻜﻦ ﻟﻮ أﺗﻴﺤﺖ ﻟﺴﻘﺮاط اﻟﻔﺮﺻﺔ ﻟﺒﻨﺎء ﻣﺪﻳﻨﺘﻪ اﻟﻔﺎﺿﻠﺔ ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ ﺑﺘﻨﻔﻴﺬ أﻣﻨﻴﺔ واﺣﺪة ﻟﻪ ﻟﻜﺎن ﻫﺬا اﻟﺘﻐﻴري ﻫﻮ اﻷﻗﺮب ﻟﺘﺤﻘﻴﻖ ذﻟﻚ. ﻟﻘﺪ ﺗﺠﻨﺐ ﺳﻘﺮاط ﻋﺮض ﻓﻜﺮة املﻠﻮك اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻗﺒﻞ ذﻟﻚ ﺧﺸﻴﺔ اﻟﺘﻌ ﱡﺮض ﻟﻠﺴﺨﺮﻳﺔ؛ ﻓﻬﻮ ﻳﻘﻮل إﻧﻪ ﻣﺪرك ﺗﻤﺎﻣً ﺎ أن ﻣﻌﻈﻢ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﻴني إﻣﺎ أﻧﻬﻢ ﻻ ﻳﺘﺤ ﱠﻠﻮْن ﺑﺎﻟﻔﻀﻴﻠﺔ أو أﻧﻬﻢ ﺑﻼ ﻓﺎﺋﺪة ﻋﲆ اﻹﻃﻼق ،وﺳﻴﻜﻮن ﻣﻦ اﻟﺴﺨﻒ اﻟﺘﻔﻜريُ ﰲ ﺗﻮﻟﻴﺘﻬﻢ ﻣﺴﺌﻮﻟﻴﺔ أي ﳾء .وﻟﻜﻦ ﺗﺼﻮﱡره ﻟﻠﻤﻠﻚ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف ﻳﺨﺘﻠﻒ ﻋﻦ ﻫﺬه اﻟﺸﺨﺼﻴﺎت ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ،وﺳﻴﻜﻮن ً ﺿﻤﺎﻧﺔ ﺑﺄن أﻓﻀﻞ اﻟﻨﺎس ﻫﻢ ﻣَ ْﻦ ﻳﺒﻠﻐﻮن ﻫﺬه اﻟﺘﺪرﻳﺐ واﻻﻧﺘﻘﺎء اﻟﴬورﻳﺎن ﻹﻋﺪاد اﻟﻔﺮد املﺮﺗﺒﺔ ،وﺳﻴﻮﺿﺢ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﻪ »اﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ« ﻣﺎ ﻳﺪور ﰲ ذﻫﻨﻪ ﺑﺸﺄن ﻫﺬا املﻮﺿﻮع؛ ﻓﺒﻌﺪ ﺗﻠﻘﻲ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ اﻹﻏﺮﻳﻘﻲ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪي ﰲ املﻮﺳﻴﻘﻰ واﻟﺸﻌﺮ وﻣﺒﺎدئ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت واﻟﻠﻴﺎﻗﺔ اﻟﺒﺪﻧﻴﺔ ،ﻳﺘﻠﻘﻰ اﻟﺘﻼﻣﻴﺬ اﻷﻓﻀﻞ ﺗﺪرﻳﺒًﺎ ﻋﺴﻜﺮﻳٍّﺎ ملﺪة ﻋﺎﻣني أو ﺛﻼﺛﺔ ﺑﴩط أن ﻳﺘﺤ ﱠﻠﻮْا ﺑﺎﻟﻔﻀﻴﻠﺔ واﻟﺮزاﻧﺔ واملﻬﺎرة اﻻﺳﺘﺜﻨﺎﺋﻴﺔ .وﻳﺘﺎﺑﻊ املﺘﻔﻮﻗﻮن ﻣﻦ ﺑﻴﻨﻬﻢ ﺗﻌﻠﻴﻤﻬﻢ ﻟﻴﻘﴤ ﻛ ﱞﻞ ﻣﻨﻬﻢ ﻣﺪة ﻻ ﺗﻘﻞ ﻋﻦ ﻋﴩة أﻋﻮام ﰲ دراﺳﺔ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﺘﻲ ﺷﻤﻠﺖ — وﻗﺘﻬﺎ ﺑﺸﻜﻞ أﺳﺎﳼ — اﻟﻬﻨﺪﺳﺔ واﻟﺤﺴﺎب واﻟﻔﻠﻚ واﻟﺘﻮاﻓﻘﻴﺎت .ﺛﻢ ﻳﺘﻠﻘﻰ أﻓﻀﻞ ﻫﺆﻻء ﺗﺪرﻳﺒًﺎ ملﺪة ﺧﻤﺴﺔ أﻋﻮام ﻋﲆ اﻟﺤِ ﺠﺎج أو اﻟﺠﺪل اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ ،وﻫﺬه ﻣﺮﺣﻠﺔ دﻗﻴﻘﺔ ﺟﺪٍّا ﻷن ﻗﺪرات اﻟﺘﻠﻤﻴﺬ اﻟﺠﺪﻟﻴﺔ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻨﺤﺮف إﱃ املﺮاوﻏﺔ ﻏري اﻟﻬﺎدﻓﺔ أو املﻀ ﱢﻠﻠﺔ .وﻟﻬﺬا اﻟﺴﺒﺐ ﺗﺤﺮص ﺧﻄﺔ أﻓﻼﻃﻮن اﻟﺘﻌﻠﻴﻤﻴﺔ اﻟﺼﺎرﻣﺔ ﻋﲆ أن ﻳﺘﻌﻠﻢ اﻟﺘﻠﻤﻴﺬ ً أوﻻ أﺷﻴﺎءَ أﺧﺮى ﻛﺜرية .وﺑﻌﺪ 215
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ذﻟﻚ ﻳﺘﻠﻘﻰ اﻟﺬﻳﻦ ﺗﺠﺎوزوا ﻫﺬه املﺮﺣﻠﺔ ﺗﺪرﻳﺒًﺎ ﻋﻤﻠﻴٍّﺎ ﰲ اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ واﻹدارة ملﺪة ﺧﻤﺴﺔ ﻋﴩ ﻋﺎﻣً ﺎ .وﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻳﻜﻮن املﺘﺪرﺑﻮن ﻗﺪ وﺻﻠﻮا إﱃ ِﺳ ﱢﻦ اﻟﺨﻤﺴني وأﺻﺒﺤﻮا أﺧريًا ﻣﺴﺘﻌﺪﱢﻳﻦ ﻹدارة اﻷﻣﻮر ﻃﺎ ًملﺎ ﺛﺒﺖ أﻧﻬﻢ »اﻷﻓﻀﻞ ﰲ ﻛﻞ ا َملﻬﺎم وﺟﻤﻴﻊ ﺻﻮر املﻌﺮﻓﺔ وﻻ ﻳﺘﻔﻮق ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻵﺧﺮون ﰲ اﻟﺨﱪة أو اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ «.وﻫﺆﻻء اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺘﻔﻮﱠﻗﻮن ﰲ ﺑﺮﻧﺎﻣﺞ املﻠﻚ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف ﺳﻴﻘﻀﻮن ﻣﻌﻈﻢ ﺣﻴﺎﺗﻬﻢ ﰲ اﻟﺒﺤﺚ ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ وﺗﻄﺒﻴﻘﻬﺎ ﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﰲ اﻟﺤﻜﻢ. وﻳﻘﻮل ﺳﻘﺮاط إﻧﻪ ﺑﺘﻮﻟﻴﺔ ﻫﺆﻻء ﻣﻘﺎﻟﻴﺪ اﻷﻣﻮر ﺳﺘﺘﺤﻮل املﺪﻳﻨﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺘﺤﺪث ﻋﻨﻬﺎ إﱃ واﻗﻊ .ﻓﺴﻴﻜﻮﻧﻮن ﰲ ﻣﻮﻗﻊ ﻳﺴﻤﺢ ﻟﻬﻢ ﺑﺮؤﻳﺔ ﻣﺎ ﻫﻮ أﻓﻀﻞ ﻟﻺﻧﺴﺎن ً ﻓﻌﻼ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﺗﻄﺒﻴﻘﻪ .ورﻏﻢ أن ﻫﺆﻻء اﻟﻨﺎس — ﻛﻤﺎ رأﻳﻨﺎ — ﺳﻴﻜﻮﻧﻮن أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻣﺠﺮد ﻓﻼﺳﻔﺔ ﺑﺎملﻌﻨﻰ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪي ﻓﺈن ﺳﻘﺮاط ﻳﺆ ﱢﻛﺪ ﻋﲆ ﻣﻮاﻫﺒﻬﻢ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ .ﻓﻬﺬه املﻮاﻫﺐ ﻫﻲ آﺧﺮ ﻣﺎ ﻳ ﱠ ُﺘﻮﻗﻊ أن ﻳﺤﺘﺎﺟﻪ أي ﺣﺎﻛﻢ ﺻﺎﻟﺢ ،وﻟﻜﻦ أﻓﻼﻃﻮن ﻳﺮى أﻧﻬﺎ ﺟﻮﻫﺮﻳﺔ؛ ﻟﺬا ﻳﺤﺎول أن ﻳﻮﺿﺢ ﺑﺸﻜﻞ أﻛﱪ ﻣﺎ املﻘﺼﻮد ﺑﺎملﻌﺮﻓﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ وﻣﺎ أﻫﻤﻴﺘﻬﺎ وﻣﺎ أﺛﺮﻫﺎ ﻋﲆ ﺣﻜﻢ اﻟﺒﴩ .وﻫﺬا ﻣﺎ أدى إﱃ ﺗﻌﺮﻳﻒ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ املﻘﱰَح اﻟﺬي ﻛﺎن ﰲ ﺑﺪاﻳﺔ ﻫﺬا اﻟﻔﺼﻞ وإﱃ ﺗﻮﻇﻴﻒ أﻓﻼﻃﻮن ﻟﻘﺼﺔ ﺳﺠﻨﺎء اﻟﻜﻬﻒ اﻟﺮﻣﺰﻳﺔ اﻟﺸﻬرية. ﻓﺎﻟﻔﻴﻠﺴﻮف املﺜﺎﱄ — ﰲ ﻧﻈﺮ أﻓﻼﻃﻮن — ﻫﻮ ﻣﻦ ﻳﺘﺠﺎوز اﻷﻣﻮر اﻟﺪﻧﻴﻮﻳﺔ ﻟريى اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ املﺠ ﱠﺮدة وﻏري املﺘﻐرية ﻟﻸﺷﻴﺎء؛ أي ا ُملﺜُﻞ .وأﻣﺜﺎل ﻫﺆﻻء ﻣﻦ ﻣﺤﺒﱢﻲ املﻌﺮﻓﺔ ﺑﺤَ ﱟﻖ َ ً ﱠ ﻣﻌﺎرف؛ ﻷن ﺟﻤﻴﻊ اﻟﻔﻮاﺋﺪ ﺗﻮﺻﻠﻮا إﻟﻴﻪ ﻣﻦ رﺟﺎﻻ ﺻﺎﻟﺤني ﺑﻘﺪر ﻣﺎ ﻻ ﻳﺼﺒﺤﻮن إﻻ اﻟﻨﺎﺗﺠﺔ ﻋﻦ املﻌﺮﻓﺔ ﺗﱰاﻛﻢ ﰲ »ﻋﻘﻞ ﻣﻌﺘﺎد ﻋﲆ اﻟﺘﻔﻜري ﰲ اﻟﻌﻈﻤﺔ واﻟﺰﻣﻦ واﻟﻮﺟﻮد «.ﻓﻌﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل »ﻟﻴﺲ ﻷي ﻧﻔﺲ وﺿﻴﻌﺔ ﻣﺘﻌﺼﺒﺔ ﻧﺼﻴﺐ ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ«؛ ﻷن اﻟﻌﻘﻞ اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ أﺳﻤﻰ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﻨﻮاﻗﺺ .وﻋﻼوة ﻋﲆ أن اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ ﺗﺸﱰط اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ وﺗﺸﺠﻊ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑﻄﺒﻴﻌﺘﻬﺎ ﻓﻬﻲ ﺗﺆدﱢي إﱃ اﻟﺨري ﻛﺬﻟﻚ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ أﺧﺮى أﻛﺜﺮ ﺗﺠ ﱡﺮدًا .ﻓﺎﻟﺜﺎﺑﺖ أن اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻳﺘﻌﻠﻤﻮن »اﻟﺠﻬﺎد ﰲ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺑﻜﻞ ﺻﻮرﻫﺎ «.وإذا أﻛﻤﻠﻮا رﺣﻠﺘﻬﻢ املﻘﺪﺳﺔ ،ﻓﺠﺰاؤﻫﻢ رؤﻳﺔ ﻗﻤﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻷﺳﻤﻰ ﻣﻦ املﺜﻞ وﻫﻲ ﺻﻮرة اﻟﺨري أو اﻟﺠﻤﺎل ذاﺗﻪ. ﺑﻞ إن ﺳﻘﺮاط ذاﺗﻪ ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻪ ﺗﺤﺪﻳﺪ ﻣﺎ ﻫﻲ ﺗﻠﻚ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺑﺎﻟﻀﺒﻂ وﻟﻜﻦ ﻳﻤﻜﻨﻪ ذﻛﺮ ﺑﻌﺾ ﻣﻌﺎملﻬﺎ .ﻟﻘﺪ ﻛﺎن ﻣﻔﻬﻮم »اﻟﺨري« ﰲ ﻟﻐﺔ ذﻟﻚ اﻟﻌﴫ ﻣﺮﺗﺒ ً ﻄﺎ ﺑﻤﺪى ﺗﻮاﻓﻖ اﻟﻌﻤﻞ ﻣﻊ اﻟﻮﻇﻴﻔﺔ أو اﻟﻐﺮض أو اﻟﻬﺪف ﻣﻨﻪ .وﺑﺸﻜﻞ ﻋﺎ ﱟم ﻓﺈن اﻟﴚء ﻳُﻌَ ﱡﺪ ﺻﺎﻟﺤً ﺎ إن أدى دوره املﻨﺎﺳﺐ أو ﺣﻘﻖ اﻟﻬﺪف املﻨﺸﻮد أو ﺑﻠﻎ ﺣَ ﱠﺪ اﻟﻜﻤﺎل )أي وﺻﻞ إﱃ أﻗﺼﺎه( .وﻣﻦ ﻣﻨﻈﻮر أﻓﻼﻃﻮن ،ﻳﺠﺐ أن ﺗﻜﻮن ﻫﻨﺎك ﺻﻮرة ﺗﻘﺎﺑﻞ اﻟﻔﻜﺮة اﻟﻜﻠﻴﺔ ﻟﻠﻤﻼءﻣﺔ ،وﻫﺬه اﻟﺼﻮرة 216
ﺟﻤﻬﻮرﻳﺔ املﻨﻄﻖ :أﻓﻼﻃﻮن
ﻫﻲ ﺟﻮﻫﺮ »اﻟﺨري« .وﺑﻨﺎءً ﻋﻠﻴﻪ ﺳﻴﻌﺮف ﻣَ ﻦ رأى ﻫﺬه اﻟﺼﻮرة ﻛﻞ ﻣﺎ ﻫﻮ ﻧﺎﻓﻊ ٍّ ﺣﻘﺎ، ﺑﻤﻌﻨﻰ أن ﻣﻦ ﻳﺮى ﻫﺬه اﻟﺼﻮرة ﺳﻴﻤﻴﺰ اﻟﺼﺎﻟﺢ ﻣﻦ اﻟﺨﺒﻴﺚ .وﺑﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﺎل ﺳﻴﻜﻮن املﻠﻮك اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﺬﻳﻦ ﺗﺤﺪﱠث ﻋﻨﻬﻢ ﺳﻘﺮاط ﻧﻤﻮذﺟً ﺎ ملﻦ ﺑﻠﻐﻮا ﺗﻠﻚ املﺮﺗﺒﺔ .ﻓﺪراﺳﺘﻬﻢ — ﱢ ﻣﺘﺨﺼﺼني ﰲ املﺜﻞ؛ ﺣﻴﺚ ﺗﻌﺘﺎد أذﻫﺎﻧﻬﻢ ﻋﲆ ﺗﻤﻴﻴﺰ وﺑﺨﺎﺻﺔ ﰲ اﻟﺤﺠﺎج — ﺳﺘﺠﻌﻠﻬﻢ املﺜﻞ اﻷﻛﺜﺮ أﻫﻤﻴﺔ» .وﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳَ َﺮو َْن ﻣﺜﺎل اﻟﺨري ذاﺗﻪ ﻓﺴﻴﺘﺒﻌﻮﻧﻪ ﺑﻮﺻﻔﻪ اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻟﺴﻠﻴﻢ ﻟﻠﺪوﻟﺔ«. وﻳﺘﻄﻠﻊ ﺟﻠﻮﻛﻮن وأدﻳﻤﺎﻧﺘﻮس ﺑﺸﻜﻞ ﻣﻨﻄﻘﻲ ملﺰﻳﺪ ﻣﻦ املﻼﺣﻈﺎت ﻋﻦ ﻫﺬه اﻟﺼﻮرة اﻟﺘﻨﻮﻳﺮﻳﺔ ،ﻓﻴﻀﻐﻄﻮن ﻋﲆ ﺳﻘﺮاط ﻟﻴﺬﻛﺮ املﺰﻳﺪ ﻣﻦ ﺧﺼﺎﺋﺼﻬﺎ .وﻟﻜﻦ أﻓﻀﻞ ﻣﺎ وﺿﻌﻪ ﺑني أﻳﺪﻳﻬﻢ — ﻟﺴﻮء اﻟﺤﻆ — ﻛﺎن ﻣﻘﺎرﻧﺔ ﻏﺎﻣﻀﺔ .ﻓﻘﺪ ﻗﺎل إن ﺻﻮرة »اﻟﺨري« ﺷﺄﻧﻬﺎ ﺷﺄن اﻟﺸﻤﺲ ،ﻓﺄﻫﻤﻴﺔ اﻟﺸﻤﺲ ﻟﺤﺎﺳﺔ اﻟﺒﴫ ﺗﻤﺎﺛﻞ أﻫﻤﻴﺔ ﺻﻮرة »اﻟﺨري« َمل َﻠﻜﺔ اﻟﻌﻘﻞ. ﺑﻤﻌﻨﻰ أﻧﻪ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺗﻨري اﻟﺸﻤﺲ اﻷﺷﻴﺎء وﺗﺠﻌﻠﻬﺎ ﻣﺮﺋﻴﺔ ﻓﺼﻮرة »اﻟﺨري« ﺗﺠﻌﻠﻬﺎ ﻣﻔﻬﻮﻣﺔ. ﻫﻨﺎك ﻋﺪة أﺳﺌﻠﺔ ﺗﻄﺮح ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺑﺨﺼﻮص ﻣﻘﺎرﻧﺔ أﻓﻼﻃﻮن ﺑني اﻟﺸﻤﺲ واﻟﺨري، ً ﻣﻤﺎﺛﻼ ﻹدراﻛﻨﺎ وﻟﻜﻦ اﻷﻫﻢ اﻵن ﰲ ﻫﺬا اﻟﺘﺸﺒﻴﻪ ﻫﻮ أﻧﻪ ﻳﺠﻌﻞ ﻣﻦ إدراك اﻟﻨﻤﻮذج اﻷﻓﻀﻞ اﻟﺤﴘ ﻟﴚء ﻣﺎدي .وﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ دراﺳﺘﻬﻢ ﻟﻠﺤِ ﺠﺎج — اﻟﺒﺤﺚ ،اﻟﺠﺪال ،اﻟﺘﺴﺎؤل ،اﻟﺘﻌﺮﻳﻒ — ﺳريى املﻠﻮك اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ »ﻧﻤﻮذج اﻟﺨري« ﻣﺒﺎﴍة ،ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻳﺮى ﺑﻘﻴﺔ اﻟﺒﴩ اﻷﻗﻞ ﺷﺄﻧًﺎ اﻟﺸﻤﺲ ﻣﺒﺎﴍة .ﻓﻬﺬه اﻟﺼﻮرة — ﻛﺎﻟﺸﻤﺲ — ﻣﻮﺟﻮدة ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺴﺘﻘﻞ ﻋﻨﺎ وﻋﻦ آراﺋﻨﺎ .ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﻣﺎ ﻫﻮ ذاﺗﻲ أو ﻗﺎﺑﻞ ﻟﻠﺨﻄﺄ ﰲ أﻓﻜﺎر املﻠﻮك اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﺑﺸﺄن اﻟﻨﻤﻮذج اﻷﻓﻀﻞ ملﺪﻳﻨﺘﻬﻢ؛ ﻓﻬﻢ ﻳﺮون اﻟﺼﻮاب وﻻ ﳾء ﻏريه .وﺑﺎﻟﻄﺒﻊ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ أﺣﺪ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻘﺪر ﻣﻦ اﻟﺤﻜﻤﺔ ورﺑﻤﺎ ﻟﻦ ﻳﺘﻮاﺟﺪ ﻫﺬا اﻟﻨﻤﻮذج أﺑﺪًا ،ﻟﻜﻦ ﻣﻔﻬﻮم ﻧﻤﻮذج »اﻟﺨري« اﻟﺬي ﻳﺸﺒﻪ اﻟﺸﻤﺲ ﻳﻘﺪم ﻟﻨﺎ ﺻﻮرة ﺗﺤﻔﺰﻧﺎ ﻋﲆ اﻟﺘﻄﻠﻊ إﻟﻴﻬﺎ. وﻳﻘﺪم ﺳﻘﺮاط ﻗﺼﺔ أﺧﺮى ﰲ ﻫﺬا ﱠ اﻟﺼﺪَدِ ﻣﻦ أﺟﻞ ﻋﻘﺪ ﻣﻘﺎرﻧﺔ ﺑني املﻌﺮﻓﺔ ﻟﺪى أوﻟﺌﻚ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ َ املﻔﱰَﺿني وﺑني آراء ﻋﺎﻣﺔ اﻟﻨﺎس )ﺟﺪﻳﺮ ﺑﺎﻟﺬﻛﺮ أن ﺳﻘﺮاط اﻋﺘﱪ ﻧﻔﺴﻪ واﺣﺪًا ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻣﺔ( .وﺗﺘﻨﺎول ﻫﺬه اﻟﻘﺼﺔ — واﺳﻤﻬﺎ ﺳﺠﻨﺎء اﻟﻜﻬﻒ — ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﺴﺠﻨﺎء ﰲ ﻏﺮﻓﺔ ﺗﺤﺖ اﻷرض ﻣﻘﻴﱠﺪﻳﻦ ﺑﺈﺣﻜﺎم ﺑﺤﻴﺚ ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻬﻢ إﻻ اﻟﻨﻈﺮ إﱃ ﺻﺨﺮة ﺻﻤﺎءَ أﻣﺎﻣﻬﻢ ،وﺑﻌﻴﺪًا — ﻣﻦ ﺧﻠﻔﻬﻢ — ﺗﻠﻮح أﻟﺴﻨﺔ ﻧريان ﺗﻤﺜﻞ ﻣﺼﺪر اﻟﻀﻮء اﻟﻮﺣﻴﺪ ﰲ اﻟﻜﻬﻒ ،وﻳﻤﺮ أﻣﺎم ﺗﻠﻚ اﻟﻨريان اﻟﻨﺎس ﺣﺎﻣﻠني أﺷﻴﺎءَ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻏري ﻣﺮﺋﻴﺔ ،وﻫﻮ اﻷﻣﺮ اﻟﺬي ﻳُﻠﻘﻲ ﺑﻈﻼل ﻣﻀﻄﺮﺑﺔ ﻋﲆ اﻟﺠﺪار أﻣﺎم اﻟﺴﺠﻨﺎء .وﻗﺪ ﻇﻞ ﻫﺆﻻء اﻟﺴﺠﻨﺎء ﻣﻜﺒﱠﻠني ﺑﺎﻟﻘﻴﻮد ﰲ ﻫﺬا اﻟﻮﺿﻊ ﻃﻮال ﺣﻴﺎﺗﻬﻢ ،وﻛﻞ ﻣﺎ رأوه ﻣﺠﺮد ﻇﻼل ،ﻓﻠﻢ ﻳَ َﺮوْا َﻗ ﱡ ﻂ ﺷﻴﺌًﺎ ﺣﻘﻴﻘﻴٍّﺎ ﺑﻞ ﻟﻢ 217
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻳﺘﺼﻮروا وﺟﻮده .ﻳﻘﻮل ﺳﻘﺮاط إن ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ املﺤﺰﻧﺔ ﻫﻲ ﺣﺎل اﻟﺒﴩ أﺟﻤﻌني ،وﺗﻤﺜﻞ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ ﻏري املﺮﺋﻴﺔ ﰲ ﻫﺬه اﻟﻘﺼﺔ ا ُملﺜُﻞ اﻟﺘﻲ ﻻ ﻧﺮى ﻣﻨﻬﺎ إﻻ ﻇﻼﻟﻬﺎ وﻧﻌﺘﱪﻫﺎ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ .وﻧﺤﻦ ﻗﺪ ﺗﻌ ﱠﻮدْﻧﺎ ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﺤﺎل ﻟﺪرﺟﺔ أﻧﻨﺎ إن ﺗﺤﺮرﻧﺎ ﻣﻦ ﻗﻴﻮدﻧﺎ ﻟﻦ ﻧﺪرك ﰲ ﺧﺮج ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﺒﺪاﻳﺔ ﻣﺎ ﺣﺪث .وﻳﻔﱰض ﺳﻘﺮاط أن أﺣﺪ اﻟﺴﺠﻨﺎء ﻗﺪ ﺗﺤ ﱠﺮر ﻣﻦ أﻏﻼﻟﻪ وأ ُ ِ املﻜﺎن ،ﻋﻨﺪﺋ ٍﺬ ﺳﻴﺆذﻳﻪ اﻟﻀﻮء املﺘﻮﻫﺞ وﻳﺮﻏﺐ ﰲ ﺑﺎدئ اﻷﻣﺮ ﰲ اﻟﻌﻮدة إﱃ اﻟﻀﻮء اﻟﺨﺎﻓﺖ اﻟﺬي أَﻟ َِﻔﻪ ،وﺳﻮف ﻳﻜﻮن اﻟﻀﻮء ﺑﺎﻫ ًﺮا ﻓﻼ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﺗﻤﻴﻴﺰ اﻷﺷﻴﺎء .وﻳﻘﻮل ﺳﻘﺮاط» :وإذا ﺳﺌﻞ ذﻟﻚ اﻟﺸﺨﺺ ﻋﻦ اﻷﺷﻴﺎء املﺎرة أﻣﺎﻣﻪ ،أﻻ ﺗﻌﺘﻘﺪ أﻧﻪ ﺳﻴﺸﻌﺮ ﺑﺤَ رية وﻳﻌﺘﻘﺪ أن ﻣﺎ ً ﻗﻴﺎﺳﺎ ﺑﻤﺎ ﻳﺮاه اﻵن؟« واﻷﻣﺮ ﻧﻔﺴﻪ ﻳﴪي ﻋﲆ اﻟﺒﴩ ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ؛ رآه ﰲ اﻟﺴﺎﺑﻖ ﺣﻘﻴﻘﻲ ﺣﻴﺚ ﻳﺮﻳﻬﻢ ﻧﻤﻮذج ﺳﻘﺮاط اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻲ املﺜﻞ وﻟﻜﻦ أﻋﻴﻨﻬﻢ ﺗﻄﺮف ﰲ ارﺗﺒﺎك. ﺳﻴﻜﻮن ﻋﲆ اﻟﺴﺠني املﺤ ﱠﺮر أن ﻳﻌﺘﺎد اﻟﺒﻴﺌﺔ املﺤﻴﻄﺔ ﺑﺎﻟﺘﺪرﻳﺞ .ﰲ اﻟﺒﺪاﻳﺔ ،ﺳﻴﺘﻤﻜﻦ ﻣﻦ ﺗﻤﻴﻴﺰ اﻟﻈﻼل اﻟﻨﺎﺗﺠﺔ ﻋﻦ اﻟﺸﻤﺲ ﺛﻢ اﻻﻧﻌﻜﺎﺳﺎت ﻋﲆ ﺳﻄﺢ املﻴﺎه ،وﺑﻌﺪﻫﺎ ﻳﺒﺪأ ﰲ ﺗﻤﻴﻴﺰ اﻷﺟﺴﺎم ﱡ اﻟﺼﻠﺒﺔ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ .وﰲ اﻟﻠﻴﻞ ﻳُﺤﺪﱢق ﰲ اﻷﻧﻮار اﻟﺨﺎﻓﺘﺔ ﻟﻠﻨﺠﻮم واﻟﻘﻤﺮ .وﻗﺪ ﻳﺼﺒﺢ ﻧﻈﺮه ﺑﻌﺪﻫﺎ ﻗﻮﻳٍّﺎ ﻓﻴﺘﻤﻜﻦ ﻣﻦ اﻟﻨﻈﺮ إﱃ اﻟﺸﻤﺲ ،وﺳﻴﻤﻜﻨﻪ ذﻟﻚ ﻣﻦ ﻓﻬﻢ اﻟﻨﻈﺎم اﻟﻜﲇ ﻟﻸﺷﻴﺎء» :ﻋﻨﺪ ﺗﻠﻚ اﻟﻨﻘﻄﺔ ﺳﻴﺴﺘﻨﺘﺞ أن اﻟﺸﻤﺲ … ﻫﻲ اﻟﺴﺒﺐ ﰲ ﺗﻨ ﱡﻮع ﻓﺼﻮل اﻟﺴﻨﺔ وأﻧﻬﺎ ﺗﴩف ﻋﲆ ﻛﻞ اﻷﺷﻴﺎء ﰲ ﻣﺠﺎل اﻟﺮؤﻳﺔ «.وﻗﺘﻬﺎ ﺳﻴﺪرك أن ﻣﺎ ً ﺳﺎﺑﻘﺎ ﰲ اﻟﻜﻬﻒ ﻣﺠﺮد ﻇﻼل ،وﺳﻴﺸﻌﺮ ﺑﺎﻷﺳﻒ ﻋﲆ رﻓﺎﻗﻪ اﻟﺴﺎﺑﻘني ﰲ اﻋﺘﺎد ﻋﲆ رؤﻳﺘﻪ اﻟﻜﻬﻒ »وﻋﲆ ﻣﺎ ﻓﺎﺗﻪ ﻣﻦ اﻟﺤﻜﻤﺔ ﻫﻨﺎك«. وﻣﺎذا ﺳﻴﺤﺪث إن ﻋﺎد إﱃ اﻟﻜﻬﻒ راﻏﺒًﺎ ﰲ ﺗﺤﺮﻳﺮ زﻣﻼﺋﻪ؟ ﻣﺮة أﺧﺮى ﺳﻴﻌﺎﻧﻲ ﰲ اﻟﺒﺪاﻳﺔ ﻛﺜريًا .ﻓﻬﻮ ﻟﻢ ﻳﻌﺪ ﻣﻌﺘﺎدًا ﻋﲆ رؤﻳﺔ اﻟﻈﻼم وﻟﻦ ﻳﺘﻤﻜﻦ ﻣﻦ رؤﻳﺔ ﻇﻼل اﻟﻜﻬﻒ اﻟﺒﺎﻫﺘﺔ .وﻣﻦ ﺷﺄن ﻇﻬﻮره داﺧﻞ اﻟﻜﻬﻒ: أن ﻳﺜري َ ﺿﺤِ َﻚ رﻓﺎﻗﻪ وﺳﺨﺮﻳﺘﻬﻢ ،وﻗﺪ ﻳﻘﺎل إﻧﻪ ﻋﺎد ﻣﻦ رﺣﻠﺘﻪ ﺑﺎﻷﻋﲆ وﻗﺪ ﻓﻘﺪ ﺑﴫه وإﻧﻪ ﻻ ﻗﻴﻤﺔ ملﺠﺮد ﻣﺤﺎوﻟﺔ اﻟﺼﻌﻮد ،وإن ﺳﻨﺤﺖ اﻟﻔﺮﺻﺔ ﻟﺮﻓﺎﻗﻪ ﻟﻠﻨﱠﻴ ِْﻞ ﻣﻨﻪ وﻗﺘﻠﻪ ﺑﻌﺪ أن ﺣﺎول ﺗﺤﺮﻳﺮﻫﻢ واﻟﺼﻌﻮد ﺑﻬﻢ ﻟﻸﻋﲆ أﻟﻦ ﻳﻘﺘﻠﻮه؟ وﻟﻜﻦ ﻗﺪ ﺗﺒﺪو ﻓﻜﺮة ﻗﺘﻠﻪ ﻣﺘﻄ ﱢﺮﻓﺔ وﻏري ﻣﻌﻘﻮﻟﺔ ﺣﺘﻰ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﺴﺠﻨﺎء املﻀ ﱠﻠﻠني اﻟﺬﻳﻦ ﻻ ﻳﻌﻠﻤﻮن ﺷﻴﺌًﺎ ﻋﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ .وﻟﻜﻦ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﺗﺬ ﱡﻛﺮ أن ﺷﻴﺌًﺎ ﻛﻬﺬا ﻗﺪ ﺣﺪث ﺗﺎرﻳﺨﻴٍّﺎ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﻟﺴﻘﺮاط ﻧﻔﺴﻪ ﻛﻤﺎ ﻳﺮى أﻓﻼﻃﻮن .ﻓﻘﺪ ﺣﺎول ﺳﻘﺮاط أن ﻳﺒﺚ اﻟﺘﻨﻮﻳﺮ ﰲ ﻧﻔﻮس أﺻﺤﺎب اﻟﻜﻬﻒ ﰲ أﺛﻴﻨﺎ ﻓﻘﺘﻠﻮه .إن ﺻﻮرة اﻟﺮﺟﻞ اﻟﻌﺎﺋﺪ اﻟﺬي ﻳﺮﻳﺪ أن ﻳﺮﺷﺪ ذوﻳﻪ إﱃ 218
ﺟﻤﻬﻮرﻳﺔ املﻨﻄﻖ :أﻓﻼﻃﻮن
اﻟﻨﻮر وﻟﻜﻨﻪ ﻳﻘﺎﺑَﻞ ﺑﺎﻟﻌﺪاء وﻋﺪم اﻟﺘﻔﻬﻢ ﻫﻲ ﻛﻨﺎﻳﺔ ﻋﻦ اﻻﺣﺘﻘﺎر اﻟﺬي ﻳُﺴﺘﻘﺒﻞ ﺑﻪ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻣﻦ ﻋﺎد ﻣﻦ رﺣﻠﺔ ﰲ دروب املﻌﺮﻓﺔ: أﻻ ﺗﻌﺘﻘﺪ أﻧﻪ ﻣﻦ اﻟﻐﺮﻳﺐ أن ﻳﻘﺎﺑَﻞ ﻣﻦ ﻋﺎد ﻣﻦ اﻟﺘﺄﻣﻼت اﻟﺴﺎﻣﻴﺔ إﱃ اﻟﺸﻘﺎء اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ ﺑﺎﻟﺴﺨﺮﻳﺔ واﻻزدراء ،وأن ﻳﺮﻏﻢ — ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻣﺎ زاﻟﺖ ﻋﻴﻨﺎه ﺗﻄﺮف ﰲ اﻟﻈﻼم ﻗﺒﻞ أن ﻳﻌﺘﺎد ﻋﻠﻴﻪ ﺑﺸﻜﻞ ٍ ﻛﺎف — ﻋﲆ ﻣﻮاﺟﻬﺔ ﻇﻼل اﻟﻌﺪاﻟﺔ ﰲ املﺤﻜﻤﺔ أو ﻏريﻫﺎ وﻣﺠﺎدﻟﺔ ﻋﻘﻮل ﻟﻢ ﺗَ َﺮ اﻟﻌﺪاﻟﺔ ذاﺗﻬﺎ ﻗﻂ؟ ً إﻃﻼﻗﺎ. ﻟﻴﺲ ﻫﺬا ﺑﻐﺮﻳﺐ إن ﻣﺼري اﻟﺴﺠني اﻟﻌﺎﺋﺪ ﰲ ﻫﺬه اﻟﻘﺼﺔ اﻟﺮﻣﺰﻳﺔ اﻟﻮاردة ﰲ »اﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ« ﻫﻮ ﺗﺨﻠﻴﺪ ﺑﺴﻴﻂ ﻟﺬﻛﺮى ﺳﻘﺮاط اﻟﺬي وﻗﻊ ﺣﺪﻳﺜﻪ ﻋﻦ اﻟﻌﺪاﻟﺔ ﻋﲆ آذان ُ ﺻﻢﱟ. إن ﻋﲆ اﻟﺴﺠﻨﺎء املﺤ ﱠﺮرﻳﻦ ﻣﻦ اﻷﻏﻼل أن ﻳﻌﻮدوا داﺋﻤً ﺎ إﱃ ﻛﻬﻒ اﻟﺒﴩﻳﺔ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻳﺴﺘﻤﺮ اﻟﺠﺪل ﰲ »اﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ« ﺣﻮل ﻫﺬه اﻟﻨﻘﻄﺔ .ﻓﻜﻤﺎ أن »ﻏري املﺘﻌﻠﻤني وﻏري اﻟﺨﱪاء ﺑﺎﻟﺤﻘﻴﻘﺔ« ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﻮﺛﻮق ﺑﻬﻢ ﰲ ﺣﻜﻢ اﻵﺧﺮﻳﻦ؛ ﻓﺈن ﻣﻦ وﺻﻠﻮا إﱃ »املﻌﺮﻓﺔ اﻟﺘﻲ ﱢ ﻧﴩﻫﺎ وﺗﻄﺒﻴﻘﻬﺎ .ﻓﺒﻌﺪ ﻗﻠﻨﺎ إﻧﻬﺎ اﻷﺳﻤﻰ« ﻻ ﻳﻨﺒﻐﻲ اﻟﺴﻤﺎحُ ﻟﻬﻢ ﺑﺎﻟﺘﺨﲇ ﻋﻦ ﻣﺴﺌﻮﻟﻴﺔ ِ وﺻﻮﻟﻬﻢ إﱃ اﻟﻘﻤﻢ املﺮﻣﻮﻗﺔ اﻟﺘﻲ ﻣ ﱠﻜﻨَﺘْﻬُ ﻢ ﻣﻦ رؤﻳﺔ اﻷﺻﻮب واﻷﻓﻀﻞ ،ﻳﺠﺐ ﱠأﻻ ﻳُﺴﻤﺢ ﻟﻠﻤﻠﻮك اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﺑﺄن »ﻳﻤﻜﺜﻮا ﻓﻴﻬﺎ راﻓﻀني اﻟﻨﺰول ﻣﺮة أﺧﺮى إﱃ املﻘﻴﱠﺪﻳﻦ ﰲ اﻷﻏﻼل وﻣﺸﺎرﻛﺘﻬﻢ ﻛﺪﺣﻬﻢ «.ﻗﺪ ﻳﺒﺪو ﻣﻦ اﻟﻘﺴﻮة إﻋﺎدة املﻠﻮك اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ إﱃ اﻟﻈﻼم ﺑﻌﺪ أن أﺑﴫوا ﻧﻮر املﻌﺮﻓﺔ ،وﻟﻜﻦ »اﻟﻘﺎﻧﻮن ﻻ ﻳﺮﻣﻲ إﱃ اﺳﺘﺌﺜﺎر ﻃﺒﻘﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ ﰲ اﻟﺪوﻟﺔ ﺑﺎﻟﺴﻌﺎدة، ﺑﻞ ﻳﺤﺎول ﺗﻌﻤﻴﻢ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ﻋﲆ املﺪﻳﻨﺔ ﻛﻜﻞ«: ﻳﺠﺐ أن ﺗﴩﻋﻮا إذن — ﻛ ﱞﻞ ﰲ ﻣﻮﻗﻌﻪ — ﰲ ﺗﻮﻃني اﻵﺧﺮﻳﻦ وﺗﻮﻃني اﻟﻨﻔﺲ ﻋﲆ ﺗﺄﻣﱡ ﻞ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﻐﺎﻣﻀﺔ اﻟﺒﻌﻴﺪة .ﻓﺈن ﺗﻬﻴﺌﺔ اﻟﻨﻔﺲ ﻟﺬﻟﻚ ﺗﺴﺎﻋﺪ ﻋﲆ اﻟﺘﻤﻴﻴﺰ اﻟﺴﻠﻴﻢ ﻟﻸﺷﻴﺎء دون َﻟﺒﺲ ﻷﻧﻜﻢ ﻗﺪ رأﻳﺘﻢ ﺣﻘﺎﺋﻖ اﻟﺠﻤﺎل واﻟﻌﺪل واﻟﺨري، وﺑﺬﻟﻚ ﺗُﺤ َﻜﻢ ﻣﺪﻳﻨﺘﻨﺎ ﺑﻌﻘﻮل ﻳﻘﻈﺔ ،وﺑﺂﻟﻴﺎت ﻟﻴﺴﺖ ﻛﺒﻘﻴﺔ املﺪن اﻟﺘﻲ ﻳﺴ ُﻜﻨﻬﺎ وﻳﺤﻜﻤﻬﺎ ﰲ ﻇﻠﻤﺔ داﻣﺴﺔ رﺟﺎ ٌل ﻳﺘﻨﺎﻓﺴﻮن ﻋﲆ املﻨﺎﺻﺐ وﻛﺄﻧﻬﺎ ﻏﻨﻴﻤﺔ ﻋﻈﻴﻤﺔ، ﺑﻴﻨﻤﺎ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ أن املﺪﻳﻨﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ ﻳﺘﻤﺴﻚ ﺣﻜﺎﻣُﻬﺎ ﺑﺎملﻨﺎﺻﺐ ﺗُﺪار ﺣﺘﻤً ﺎ أﻓﻀﻞ إدارة وﺗﻜﻮن أﺑﻌﺪ ﻣﺎ ﺗﻜﻮن ﻋﻦ اﻟﺸﻘﺎق. ﱢ واملﱰﻓﻌني ﻋﻦ املﻨﺎﺻﺐ — وﻟﻜﻦ ﻛﻴﻒ ﻟﺘﻠﻚ املﺪﻳﻨﺔ اﻟﻔﻀﲆ — ﺑﻘﺎدﺗﻬﺎ اﻟﺤﻜﻤﺎء أن ﺗﺨﺘﻠﻒ ﻋﻦ ﺟﻤﻴﻊ اﻷﻧﻈﻤﺔ اﻷﺧﺮى اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ؟ ﻫﻨﺎك أﻧﻈﻤﺔ ﺣﻜﻢ ﻛﺜرية ﻋﲆ ﻣﺴﺘﻮى 219
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
اﻟﻌﺎﻟﻢ؛ ﻓﻬﻨﺎك اﻟﻨﻈﺎم اﻟﻜﺮﻳﺘﻲ أو اﻹﺳﺒﺎرﻃﻲ اﻟﺬي ﻳﻬﻴﻤﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﻌﺴﻜﺮﻳﻮن ،وﻫﻨﺎك ﺣﻜﻢ اﻷﻗﻠﻴﺔ؛ أي ﺣﻜﻢ اﻟﺼﻔﻮة ﻣﻦ اﻷﻏﻨﻴﺎء ،وﻫﻨﺎك اﻟﻨﻈﺎم اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻲ اﻟﺬي ﺗﺤﻜﻤﻪ اﻟﺠﻤﺎﻫري، وأﺧريًا ﻳﺄﺗﻲ اﻟﻄﻐﻴﺎن »وﻫﻮ اﻟﻨﻈﺎم اﻟﺮاﺑﻊ واﻷﺧري ،وﻫﻮ ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ ﻋﻠﺔ ﺗﺼﻴﺐ اﻷﻣﻢ «.ﻫﺬه ﻫﻲ اﻷﻧﻈﻤﺔ اﻷرﺑﻌﺔ اﻟﺮﺋﻴﺴﺔ وﻟﻜﻦ ﻫﻨﺎك ً أﻳﻀﺎ »اﻟﻮﻻﻳﺎت املﻮرﺛﺔ واملﻤﺎﻟﻚ املﺒﻴﻌﺔ« وﻏريﻫﺎ ﻣﻦ اﻷﻧﻈﻤﺔ اﻟﻮﺳﻴﻄﺔ .وﻳﻘﻮل ﺳﻘﺮاط إن أﻧﻈﻤﺔ اﻟﺤﻜﻢ ﺗﺘﻌﺪد ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ ﻛﻤﺎ ﺗﺘﻌﺪد أﻧﻮاع ً اﻧﻌﻜﺎﺳﺎ ﻟﻠﺸﺨﺼﻴﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ اﻟﺒﴩ ،وﻫﻮ ﻳﻌﺘﻘِ ﺪ أن اﻟﺪول املﺨﺘﻠﻔﺔ ﺗﺸ ﱢﻜﻞ ﺑﺼﻮرة ﻣﺎ ﻟﺤﻜﺎﻣﻬﺎ .وﺑﻌﺪ أن ذﻛﺮ ﺳﻘﺮاط اﻟﻜﺜري ﻋﻦ اﻟﺤﻜﺎم اﻟﻌﺎرﻓني ﺑﺎﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﰲ ﻣﺪﻳﻨﺘﻪ اﻟﻔﺎﺿﻠﺔ، ﻓﻬﻮ ﻣﻬﻴﱠﺄ ٌ اﻵن ﻟﻠﻌﻮدة إﱃ ﻣﻬﻤﺘﻪ اﻟﺮﺋﻴﺴﺔ وﻫﻲ :ﺗﺤﻠﻴﻞ أﻧﻈﻤﺔ اﻟﺤﻜﻢ واﻟﻨﻔﺴﻴﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻤﺎﳽ ﻣﻌﻬﺎ ﻟﻴﻜﺘﺸﻒ املﺰﻳﺪ ﻋﻦ اﻟﻌﺪاﻟﺔ وﻛﻴﻔﻴﺔ ﺗﺤﻘﻴﻘﻬﺎ ﻟﻠﺴﻌﺎدة. ﻳﺮﺗﱢﺐ ﺳﻘﺮاط اﻷﻧﻮاع اﻷرﺑﻌﺔ اﻟﺮﺋﻴﺴﺔ ﻟﻠﺤﻜﻮﻣﺎت — ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ ﻧﻤﻮذﺟﻪ املﺜﺎﱄ — ﰲ ﺗﺴﻠﺴﻞ َﻫ َﺮﻣ ﱟِﻲ ﻣﻦ ﺧﻤﺲ ﻣﺮاﺗﺐ ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻌﻨﻲ أن ﺣﻜﻢ املﻠﻮك اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻳﻤﺜﱢﻞ أﻋﲆ املﺮاﺗﺐ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﺄﺗﻲ اﻟﻄﻐﻴﺎن ﰲ أدﻧﺎﻫﺎ .ﻛﻤﺎ ﻳﺘﺒني ﻟﻨﺎ أن أﻓﻼﻃﻮن ﻗﺪ وﺿﻊ اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ ﰲ املﺮﺗﺒﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﱡ اﻟﺴﻮء ﺑﻌﺪ اﻟﻄﻐﻴﺎن .ﻓﺎﻟﺪﻳﻜﺘﺎﺗﻮرﻳﺔ اﻟﻌﺴﻜﺮﻳﺔ أو ﺣﻜﻢ اﻷﻗﻠﻴﺔ ﻣﻦ َ اﻷﺛﺮﻳﺎء أﻓﻀﻞ ﻣﻦ ﺣﻜﻢ اﻟﺮﻋﺎع .وﻟﻜﻦ ﻗﺒﻞ إﻃﻼق أﻳﱠ ِﺔ أﺣﻜﺎم ﺣﻮل ﻏﺮاﺑﺔ اﻵراء اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﻷﻓﻼﻃﻮن ،ﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﻧﺪرك أن اﻷﻣﻮر ﻟﻴﺴﺖ ﻛﻤﺎ ﺗﺒﺪو ﰲ ﻇﺎﻫﺮﻫﺎ ،ﺣﻴﺚ ﻧﻤﻴﻞ ﻟﻼﻋﺘﻘﺎد ﺑﺄن اﻟﺤﻜﻢ اﻟﻌﺴﻜﺮي أو ﺣﻜﻢ اﻟﺼﻔﻮة ﻫﻤﺎ ﻣﻦ أﺷﻜﺎل اﻟﺤﻜﻢ اﻟﻄﻐﻴﺎﻧﻲ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬي ﻳﺼﻒ ﻓﻴﻪ أﻓﻼﻃﻮن اﻟﻄﻐﻴﺎن أﻧﻪ أﺳﻮأ ﻣﻦ ﻛﻠﻴﻬﻤﺎ .ﻓﺄي ﻣﻦ ﻫﺬه املﺼﻄﻠﺤﺎت اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﻻ ﻳﺘﻔﻖ ﻣﻊ املﻌﻨﻰ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﺑﺼﻮرة ﻛﺎﻣﻠﺔ — وﺑﺨﺎﺻﺔ اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ — رﻏﻢ أن ﻫﻨﺎك اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﺘﺸﺎﺑُﻪ ﺑني دﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ اﻷﻧﻈﻤﺔ اﻟﻠﻴﱪاﻟﻴﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ودﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ أﻓﻼﻃﻮن ،وﻫﻮ ﱠ ﻳﺘﻮﱃ ﻣﺎ ﻳﺠﻌﻞ ﺗﻨﺎ ُو َﻟﻪ ﻟﻬﺎ ﻣﺸﻮ ًﱢﻗﺎ .ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻸرﺳﺘﻘﺮاﻃﻴﺔ ،ﻓﻬﻲ ﺗﻌﻨﻲ ﰲ ﻟﻐﺔ أﻓﻼﻃﻮن أن ﻣﻘﺎﻟﻴﺪ اﻟﺤﻜﻢ أﻓﻀ ُﻞ اﻟﻨﺎس وأﻋﺪﻟﻬﻢ؛ ﻓﺎﻷﻣﺮ إذن ﻻ ﻋﻼﻗﺔ ﻟﻪ ﺑﺎﻧﺤﺪار املﺮء ﻣﻦ ﻧﺴﻞ أﺟﺪاد ﻛﺎن ﻟﻬﻢ ﺣﻆ ﻣﻦ اﻟﺜﺮاء أو ﺣﻈﻮة ﻟﺪى املﻠﻮك ،ﻓﻬﺬا ﻫﻮ املﻌﻨﻰ اﻟﺪارج ﻟﻸرﺳﺘﻘﺮاﻃﻴﺔ ﰲ أﻳﺎﻣﻨﺎ ﻫﺬه. إن املﻠﻮك اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ — أي اﻷرﺳﺘﻘﺮاﻃﻴﻮن اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﻮن — ﻫﻢ رﺟﺎل ﻳﺤﻜﻤﻬﻢ اﻟﻌﻘﻞ؛ ﻟﺬا ﻓﺎﻟﺪوﻟﺔ اﻷرﺳﺘﻘﺮاﻃﻴﺔ ﻫﻲ ﺗﻠﻚ اﻟﺪوﻟﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺨﻀﻊ ﻷﻛﺜﺮ املﺒﺎدئ ﺣﻜﻤﺔ .وﻳﺄﺗﻲ ﻧﻈﺎم اﻟﺤﻜﻢ اﻟﻌﺴﻜﺮي ﰲ املﺮﺗﺒﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﻷﻓﻀﻠﻴﺔ )وﻳﻄﻠﻖ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺘﻴﻤﻮﻗﺮاﻃﻴﺔ(: وﺗﺘﺤﻜﻢ ﰲ اﻟﺘﻴﻤﻮﻗﺮاﻃﻴني اﻟﻌﺎﻃﻔﺔ اﻟﻨﺒﻴﻠﺔ — أي اﻟﺮﻏﺒﺔ ﰲ ﻧﻴﻞ اﻟﴩف — وﻟﻜﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﻌﺎﻃﻔﺔ ﻟﻴﺴﺖ ﰲ ﻣﺜﻞ ُﺳ ُﻤ ﱢﻮ اﻟﻌﻘﻞ؛ ﻟﺬا ﻓﺎﻟﺪوﻟﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺤﻜﻤﻮﻧﻬﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﰲ ﻣﺜﻞ ﻣﻨﺰﻟﺔ دوﻟﺔ 220
ﺟﻤﻬﻮرﻳﺔ املﻨﻄﻖ :أﻓﻼﻃﻮن
اﻷرﺳﺘﻘﺮاﻃﻴﺔ .وﻳﺄﺗﻲ ﰲ املﺮﺗﺒﺔ اﻟﺜﺎﻟﺜﺔ ﺣﻜﻢ اﻟﺼﻔﻮة ﺣﻴﺚ ﻳﺘﺤﻜﻢ ﰲ اﻟﺼﻔﻮة اﻟﺤﺎﻛﻤﺔ ﻣﻦ اﻷﺛﺮﻳﺎء ﻋﺎﻃﻔﺔ دﻧﻴﺌﺔ ﻫﻲ اﻟﻄﻤﻊ ﰲ اﻟﺜﺮوة ،وﻟﻜﻦ ﻟﺪﻳﻬﻢ ﺑﻌﺾ اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ .وﻫﻢ ﻣﻘﺘﺼﺪون وﻣﻨﻀﺒﻄﻮن — إﱃ ﺣَ ﱟﺪ ﻣﺎ — ﺑﺪاﻓﻊ ادﱢﺧﺎر اﻷﻣﻮال .وﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﻘﻮل ﺑﻜﻔﺎءة ﻧﻈﺎم ﻛﻬﺬا، وﻟﻜﻨﻪ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ أﻓﻀﻞ ً ﻗﻠﻴﻼ ﻣﻤﱠ ﺎ ﻳﻠﻴﻪ — اﻟﻨﻈﺎم اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻲ — اﻟﺬي ﻳﻌﻮزه اﻻﻧﻀﺒﺎط ﻋﲆ املﺴﺘﻮى اﻟﻌﻤﲇ؛ ﺣﻴﺚ ﺗﺤﻜﻤﻬﻢ اﻟﺸﻬﻮات اﻟ ﱡﺪﻧْﻴﺎ ﻛﺎﻟﻄﻌﺎم واﻟﴩاب واﻟﺠﻨﺲ واﻹﺷﺒﺎع اﻟﻔﻮري ﻟﻠﻐﺮاﺋﺰ .ﻓﺎﻟﺪوﻟﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺪﻳﺮﻫﺎ ﻫﺆﻻء اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﻮن ﻣﺎ ﻫﻲ إﻻ ِﻛﻴَﺎن ﻓﻮﺿﻮي وﻏري ﻣﻨﻀ ِﺒﻂ .أﻣﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻄﻐﺎة ﻓﻬﻢ ﰲ أدﻧﻰ اﻟﻬﺮم ،ﺣﻴﺚ ﻻ ﻳُﻈﻬﺮون أي اﻟﺘﺰام ﺑﺎﻟﻘﺎﻧﻮن. وﻫﻢ ﻗﺪ ﺟﺎوزوا رذاﺋﻞ اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴني ﺑﺈﻗﺪاﻣﻬﻢ ﻋﲆ ﻓﻌﻞ ﻣﺎ ﻳﺤﻠﻮ ﻟﻬﻢ أﻳٍّﺎ ﻛﺎن ،ﻛﻤﺎ أﻧﻬﻢ ﻣﻮ َﻟﻌﻮن ﺑﺎﻟﻘﺘﻞ ﺑﺼﻔﺔ ﺧﺎﺻﺔ .وﻳﺒﺪو ﺟﻠﻴٍّﺎ أن اﻟﺪوﻟﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺤﻜﻤﻬﺎ اﻟﻄﻐﺎة ﻫﻲ اﻷﺳﻮأ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق )ﺣﺘﻰ وإن ﻛﻨﺖ ﻣﻨﻬﻢ ﻛﻤﺎ ﺳﻨﺮى(. ﻳﴩح ﺳﻘﺮاط ﻛﻴﻒ ﻳﴩع ﻛ ﱞﻞ ﻣﻦ أﻧﻈﻤﺔ اﻟﺤﻜﻢ اﻷرﺑﻌﺔ اﻷوﱃ ﰲ اﻟﺘﺪﻧﱢﻲ ﺣﺘﻰ ﻳﺘﺤﻮل ريه اﻟﺬاﺗﻴﺔ .ﻓﺤﺘﻰ اﻟﻨﻈﺎم اﻷرﺳﺘﻘﺮاﻃﻲ ﺳﻴﻨﻬﺎر إﱃ اﻟﺬي ﻳﻠﻴﻪ .ﻓﻜﻞ ﻧﻈﺎم ﺑﻪ ﻋﻮاﻣﻞ ﺗﺪﻣ ِ ﻋﺎﺟﻼ أو ً ً آﺟﻼ — ﺑﺨﺮق ﻗﻮاﻋﺪ ﻋﻤﻠﻴﺔ اﻟﺘﻜﺎﺛﺮ — رﺑﻤﺎ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ .ﻓﺴﻮف ﻳﻘﻮم اﻟﻘﺎدة — دون ﻗﺼﺪ — ﻓﻴﺰﻳﺪ ﻋﺪد اﻟﻘﺎدة ﻏري اﻷ ْﻛ َﻔﺎء؛ ﻣﻤﺎ ﺳﻴﺨﻠﻒ ﻣﺸﻜﻼت ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺤﺎول اﻟﻘﺎدة ُ اﻟﺘﻨﺎﻏﻢ املﺜﺎﱄ .وﺳﻴﻘﻮم أﻧﺸﻄﻬﻢ ﰲ اﻷﻛﻔﺎء أن ﻳﺘﻮاﻓﻘﻮا ﻣﻌﻬﻢ ﺑﺤﻴﺚ ﺗﻨﺤﺮف املﺪﻳﻨﺔ ﻋﻦ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ — ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺴﻌﻲ اﻟﺪءوب واﻟﺘﻄ ﱡﻠﻊ إﱃ ﻧَﻴ ِْﻞ اﻟﴩف — ﺑﺈزاﺣﺔ أﻫﻞ اﻟﻔﻀﻞ ﻋﺎﺟﻼ أو ً ً آﺟﻼ، واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻣﻦ املﺴﺌﻮﻟﻴﺔ .وﺳﺘﻘﻊ اﻟﺪوﻟﺔ اﻟﻌﺴﻜﺮﻳﺔ اﻟﻨﺎﺷﺌﺔ ﰲ ﺣﺮب أﻫﻠﻴﺔ رﺑﻤﺎ ﺣني ﻳﻨﺘﻬﻲ ﻗﺎدﺗﻬﺎ ﻣﻦ ﻏﺰو ﺟﻤﻴﻊ اﻟﺪول اﻷﺧﺮى .وﺳﻴﻄﻤﻊ ﻣﻦ ﻳﺘﻄﻠﻊ إﱃ اﻟﴩف ﰲ زﻳﺎدة أﻣﻼﻛﻪ؛ ﻣﻤﱠ ﺎ ﻳﻐﺬي أﺻﻮل ﺣﻜﻢ اﻟﺼﻔﻮة ﻣﻦ اﻷﺛﺮﻳﺎء ﺣﻴﺚ »ﻳﺘﺤﻮﻟﻮن ﻣﻦ ﻣﺤﺒني ﻟﻠﻤﺠﺪ واﻟﴩف إﱃ ﻣﺤﺒني ﻟﻠﻤﺎل ،وﻳﻌﺠﺒﻮن ﺑﺎﻷﺛﺮﻳﺎء وﻳﻮﻟﻮﻧﻬﻢ املﻨﺎﺻﺐ وﻳﺤﺘﻘﺮون اﻟﻔﻘﺮاء «.وﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أن اﻟﺜﺮوة ﻟﻴﺴﺖ ً دﻟﻴﻼ ﺣﻘﻴﻘﻴٍّﺎ ﻋﲆ اﻟﻜﻔﺎءة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ» .ﻓﺈذا ﻛﺎن ني ً رﺑﺎن اﻟﺴﻔﻴﻨﺔ ﻳُﻌَ ﱠ ُ وﻓﻘﺎ ﻟﺪرﺟﺔ ﺛﺮاﺋﻪ ،وﻻ ﻳُﺴﻤﺢ ﻟﻠﻔﻘري ﺑﺘﻮﱄ املﻼﺣﺔ ﺣﺘﻰ وإن ﻛﺎن رﺑﺎﻧًﺎ أﻓﻀﻞ … ﻓﺴﺘﻜﻮن اﻟﻨﺘﻴﺠﺔ رﺣﻠﺔ ﻣﺄﺳﺎوﻳﺔ «.وﺳﻴﻜﻮن ﺳﻘﻮط ﺣﻜﻢ ﻫﺆﻻء اﻷﺛﺮﻳﺎء ﻣﺮﻫﻮﻧًﺎ ﺑﺎﻟﴫاع ﺑني اﻟﻔﻘﺮاء واﻷﻏﻨﻴﺎء؛ أي ﴏاع ﻃﺒﻘﻲ .وﺳﻴﻌﻢ اﻟﺴﺨﻂ ﺑني اﻟﻨﺎس ﰲ ﻇﻞ ﻇﺮوف ﻋﺼﻴﺒﺔ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﺠﺸﻊ ﻃﺎ ِﻟ ِﺒﻲ املﺎل ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺆدﱢي إﱃ ﱢ ﺗﻔﴚ اﻟﺤﻘﺪ ﰲ ﻧﻔﻮس اﻟﻔﻘﺮاء ،ﻓﻴﻨﺪﻓﻌﻮن ﻟﻠﺜﻮرة وﺗﺄﺳﻴﺲ ﻧﻈﺎم دﻳﻤﻘﺮاﻃﻲ .وﻫﻜﺬا ﻳﻜﻮن ﺣﺐ املﺎل ﻗﺪ أﺗﻰ ﻋﲆ ﺣﻜﻢ اﻷﻏﻨﻴﺎء ﻣﻦ اﻟﺪاﺧﻞ ،ﻛﻤﺎ ﺳﺘﺆدي اﻟﺮﻏﺒﺔ اﻟﻌﺎرﻣﺔ ﰲ اﻟﺤﺮﻳﺔ إﱃ إﺳﻘﺎط اﻟﻨﻈﺎم اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻲ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪُ. 221
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
وﻻ ﺷﻚ أن ﺟﻤﻮع اﻟﻔﻘﺮاء ﺳﻴﺤﺘﻔﻠﻮن ﺑﺎﻧﺘﺼﺎر اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺣﺮرﺗﻬﻢ ﻣﻦ اﻷﻗ ﱢﻠﻴﱠﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﺣﻜﻤﺘﻬﻢ ﻣﻦ ﻗﺒ ُﻞ وﺳﻴﻌﺪون ذﻟﻚ اﻧﺘﺼﺎ ًرا ﻟﻠﺤﺮﻳﺔ .وﻟﻜﻦ ﺳﻘﺮاط ﻳﻘﻮل إن اﻷﻣﺮ ﻻ ﻳُﻌَ ﱡﺪ ﻧﴫًا ﻟﻠﺤﺮﻳﺔ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق .ﻓﺎﻟﺮﻏﺒﺎت اﻟﺘﻲ أُﻃﻠﻖ ﻟﻬﺎ اﻟﻌِ ﻨﺎن دون ﺿﺎﺑﻂ ﰲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬا املﺠﺘﻤﻊ ﺳﻮف ﺗﺆدﱢي ﺣﺘﻤً ﺎ إﱃ اﻟﻌﺒﻮدﻳﺔ املﻄﻠﻘﺔ ﻻ اﻟﺤﺮﻳﺔ املﻄﻠﻘﺔ. ﻓﻬﻜﺬا ﺗﺒﺪأ اﻷﻣﻮر» :ﺳﺘﺴﻴﻄﺮ اﻟﺤﺮﻳﺔ ﺑﻤﺨﺘﻠﻒ أﺷﻜﺎﻟﻬﺎ — ﻻ ﺳﻴﻤﺎ ﺣﺮﻳﺔ اﻟﺘﻌﺒري — ﻋﲆ املﺪﻳﻨﺔ اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ« و»ﺳﻴﻌﻤﻞ اﻟﺠﻤﻴﻊ ﻋﲆ ﻗﻀﺎء ﺣﻴﺎﺗﻪ ﻛﻴﻔﻤﺎ ﺷﺎء «.ﻓﺎملﺸﻬﺪ ﰲ ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ أﺷﺒﻪ »ﺑﺎﻟﺜﻮب املﻄ ﱠﺮز ﺑﺠﻤﻴﻊ اﻷﻟﻮان ،ﺣﻴﺚ ﺳﺘﺒﺪو أﺟﻤﻞ املﺪن ﰲ ﻇﻞ ﻫﺬا اﻟﺘﻨﻮع واﻻﺧﺘﻼف ﺑني اﻟﺸﺨﺼﻴﺎت «.وﻟﻦ ﻳﻜﻮن ﻫﻨﺎك — ﺑﻼ ﺷﻚ — ﻣﻜﺎن ﻟﻠﺤﻜﺎم اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﰲ ﻫﺬا اﻟﻨﺴﻴﺞ املﺨﺘﻠﻂ: إن ﺳﻤﺎﺣﺔ اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ وازدراءﻫﺎ ﻟﻘﺮاراﺗﻨﺎ املﻘﺪﺳﺔ اﻟﺘﻲ ﺻﺪرت ﻋﻨﺪ ﺗﺄﺳﻴﺲ ﻣﺪﻳﻨﺘﻨﺎ … ﺗﺪوس ﺑﺄﻗﺪاﻣﻬﺎ ﻛﻞ ﻫﺬه ا ُملﺜُﻞ ،ﻏري ﻋﺎﺑﺌﺔ ﺑﺎملﻤﺎرﺳﺎت وأﺳﺎﻟﻴﺐ اﻟﻌﻴﺶ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﺒﻨﺎﻫﺎ اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ،وﻟﻜﻦ ﺗﺤﻔﻞ ﺑﺎﻹﻧﺴﺎن ﻓﻘﻂ إن أﻋﺮب ﻋﻦ ﺣُ ﺒﱢ ِﻪ ﻟﻠﺸﻌﺐ! ً دﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ ﻣﻦ اﻷﻧﻈﻤﺔ اﻟﺘﻲ إن اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺘﺤﺪث ﻋﻨﻬﺎ ﺳﻘﺮاط ﻫﻲ ﺷﻜﻞ أﻛﺜﺮ ﻧﻌﺮﻓﻬﺎ؛ ﻓﻬﻲ اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ املﻄﻠﻘﺔ .وﻻ ﺗﻮزع ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺴﻠﻄﺔ ﺑﺎﻻﻧﺘﺨﺎﺑﺎت — اﻟﺘﻲ ﺗﻌﺪ اﻟﻴﻮم ﺟﻮﻫﺮ اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ — ﺑﻞ ﺑﺎﻻﻗﱰاع اﻟﻌﺸﻮاﺋﻲ .ﻗﺪ ﻳﺒﺪو ﻫﺬا اﻟﻜﻼم ﻣﺒﺎ َﻟ ًﻐﺎ ﻓﻴﻪ وﻟﻜﻨﻪ ﻳﻘﺎرب واﻗﻊ اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ ﰲ زﻣﻦ أﻓﻼﻃﻮن .ﻓﻜﺜري ﻣﻦ ﺷﺌﻮن اﻟﺪوﻟﺔ واﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ املﺤﺎﻛﻤﺎت ﻛﺎﻧﺖ ﰲ ﻳﺪ وُﻻة أﻣﻮر وﻗﻀﺎة ﻳُﺨﺘﺎرون ﺑﻌﺸﻮاﺋﻴﺔ ملﺪة ﻋﺎم واﺣﺪ .وﻛﺎﻧﺖ اﻟﻘﺮارات اﻷﻫﻢ ﺗُﺘﱠ َﺨﺬُ ﻣﻦ ﺧﻼل ﺗﺼﻮﻳﺖ ﻳﺠﺮي ﺑني ﻣﻦ ﻳﺘﺼﺎدف وﺟﻮدُﻫﻢ ﰲ اﻻﺟﺘﻤﺎع ذي اﻟﺼﻠﺔ .ﻛﺎن ﻫﻨﺎك ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﺿﻤﺎﻧﺎت دُﺳﺘﻮرﻳﺔ ﻣﻦ املﻔﱰض أﻧﻬﺎ ﺗﻜﻔﻞ ﻛﻔﺎءة اﻟﺤﻜﻢ ﰲ أﺛﻴﻨﺎ )ﻓﺎﻟﻘﻀﺎة — ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل — ﻋﻠﻴﻬﻢ اﺟﺘﻴﺎز اﺧﺘﺒﺎر ﺑﺴﻴﻂ وﻳﻤﻜﻦ اﻟﺘﺼﻮﻳﺖ ﻋﲆ ﻋﺰﻟﻬﻢ( .وﻟﻜﻦ أﻓﻼﻃﻮن ﻳﺮى أن اﻟﻀﻌﻒ املﺘﺄﺻﻞ ﰲ ﻫﺬا اﻟﻨﻈﺎم ﻳﺘﻀﺢ ﺑﺸﻜﻞ أﻓﻀﻞ ﻋﻨﺪ ﺗﺼﻮر ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺆدي إﻟﻴﻪ ﺣﻜﻢ اﻟﺸﻌﺐ. وﻟﻔﻬﻢ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ ﻳﻘﱰح ﺳﻘﺮاط أن ﻧﺘﺄﻣﻞ ﺷﺨﺼﻴﺔ ﻣﻦ ﻳﻌﺘﻨﻘﻮن اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ اﻟﻨﻤﻮذﺟﻴﺔ؛ ﻓﻬﺬا ﺳﻴﻮﺿﺢ املﺤﺎﺳﻦ واملﺴﺎوئ املﻘﱰﻧﺔ ﺑﺎﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ .وﻛﻤﺎ أن اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ املﻄﻠﻘﺔ ﺗﻘﺒﻞ أي ﳾء وأي ﺷﺨﺺ ،ﻓﺈن اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ ﻋﺸﻮاﺋﻴﺔ ﻛﺬﻟﻚ: 222
ﺟﻤﻬﻮرﻳﺔ املﻨﻄﻖ :أﻓﻼﻃﻮن
ﺳﺘﻀﻊ ﻣﻠﺬﱠاﺗﻬﺎ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ﻋﲆ ﻗﺪم املﺴﺎواة وﺗﻌﻤﻞ ﻋﲆ إﺷﺒﺎﻋﻬﺎ … وﺗُ ﱢ ﺴﺨﺮ ُروﺣﻬﺎ ﻹﺷﺒﺎع ﺗﻠﻚ اﻟﺮﻏﺒﺎت واﺣﺪة ﺗﻠﻮ اﻷﺧﺮى ،ﻓﻼ ﱠ ﺗﱰﻓﻊ ﻋﻦ أيﱟ ﻣﻨﻬﺎ ﺑﻞ ﺗﺘﻤﺴﻚ ﺑﻬﺎ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ … وﻻ ﺗﻘﺒﻞ ﻫﺬه اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ أو ﺗﺴﻤﺢ ﺑﺄن ﺗﺨﱰﻗﻬﺎ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ،ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻳﺨﱪﻫﺎ أﺣﺪﻫﻢ أن ﺑﻌﺾ املﻠﺬﱠات ﻳﻨﺒﻊ ﻣﻦ رﻏﺒﺎت ﺳﺎﻣﻴﺔ ﺻﺎﻟﺤﺔ واﻟﺒﻌﺾ اﻵﺧﺮ ﻳﻨﺒﻊ ﻣﻦ أﺧﺮى دﻧﻴﺌﺔ ،وأن اﻟﻮاﺟﺐ ﻫﻮ إﺷﺒﺎع ﺑﻌﺾ اﻟﺮﻏﺒﺎت وﻛﺒﺢ اﻷﺧﺮى. ﻓﻤﻦ ﻳﺆﻣﻨﻮن ﺑﺎﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ ﻳﺮﻓﻀﻮن ﻫﺬا اﻟﻮﻋﻆ وﻳﺆﻛﺪون ﻋﲆ ﺗﺴﺎوي ﻛﻞ اﻟﺮﻏﺒﺎت. إن اﻟﺸﺨﺺ املﺆﻣﻦ ﺑﺎﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ — ﻣﺜﻞ اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ ذاﺗﻬﺎ — ﻳﺆﻣﻦ »ﺑﺎملﺴﺎواة ﺑﻼ ﺗﻤﻴﻴﺰ ﺑني اﻷﺷﻴﺎء املﺘﻜﺎﻓﺌﺔ وﻏري املﺘﻜﺎﻓﺌﺔ ﻋﲆ ﺣَ ﱟﺪ ﺳﻮاء «.ﻓﺘﺒﺪو ﻛﻞ اﻷﺷﻴﺎء ﰲ ﻧﻈﺮه ﻣﺘﺴﺎوﻳﺔ ﰲ اﻟﻘﻴﻤﺔ ،وﻳﺘﺤﻮﱠل ﺗﻔﺘﱡﺤﻪ اﻟﻌﻘﲇ إﱃ ﻓﺮاغ ذﻫﻨﻲ .وﰲ ﻇﻞ اﻓﺘﺘﺎﻧِﻪ ﺑﺸﻌﺎرات اﻟﺤﺮﻳﺔ واملﺴﺎواة ،ﻳﺴﻴﻄﺮ اﻟﻌﺸﻖ اﻷﻋﻤﻰ ﻟﻜﻞ رﻏﺒﺔ ﻋﺎﺑﺮة ﻋﲆ أﻧﺼﺎر اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ: ﻓﻴﻨﻐﻤﺲ ذﻟﻚ اﻟﺸﺨﺺ املﺆﻣﻦ ﺑﺎﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ ﻛﻞ ﻳﻮم ﰲ ﻧﺰوة آﻧﻴﱠﺔ ،ﻓﺘﺠﺪه ﻳﺤﺘﴘ اﻟﻨﺒﻴﺬ وﻳﺘﻤﺎﻳﻞ ﻣﻊ ﻧﻐﻤﺎت اﻟﻨﺎي ﺛﻢ ﻳﻌﻮد ﻟﴩب املﺎء واﻟﺘﻬﺎم اﻟﻄﻌﺎم. وأﺣﻴﺎﻧًﺎ ﺗﺠﺪه ﻧﺸ ً ﻄﺎ ،وأﺣﻴﺎﻧًﺎ أﺧﺮى ﻳﺘﻜﺎﺳﻞ وﻳﺘﺠﺎﻫﻞ ﻛﻞ ﳾء .ﻳﻨﺸﻐﻞ ﰲ ﺑﻌﺾ اﻷﺣﺎﻳني ﺑﺎﻟﻔﻠﺴﻔﺔ .وﻛﺜريًا ﻣﺎ ﻳﺘﺪﺧﻞ ﰲ اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ،ﺛﻢ ﻳﺨﺮج ﺑﺄي رأي ﻳﺨﻄﺮ ﺑﺒﺎﻟﻪ وﻳﻔﻌﻞ ﻣﺎ ﺗﺮاءى ﻟﻪ .ﻓﺈن أﺑﻬﺮه اﻟﻌﺴﻜﺮﻳﻮن اﻧﺪﻓﻊ ﻟﻬﻢ ،وإن أﻏﻮاه أﻫﻞ املﺎل ﺗﺤﻮل إﻟﻴﻬﻢ ،وﻻ ﺿﺒﻂ أو رﺑﻂ ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻪ .وﻟﻜﻨﻪ ﻳﺰﻋﻢ أن ﺣﻴﺎﺗﻪ ﺗﻠﻚ ﻫﻲ ﺣﻴﺎة املﺘﻌﺔ واﻟﺤﺮﻳﺔ واﻟﺴﻌﺎدة وﻳﺘﻤﺴﻚ ﺑﻬﺎ ﺣﺘﻰ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ. وﻫﻜﺬا ﻳُﺼ ِﺒﺢ اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻲ ﻋﺒﺪًا ﻟﺮﻏﺒﺎﺗﻪ ،ﻟﻜﻦ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻗﺪ ﺗﻜﻮن أدﻧﻰ ﻣﻤﱠ ﺎ ﻳﺘﺼﻮر؛ ﻷن اﻓﺘﺘﺎﻧﻪ ﺑﺎﻟﺤﺮﻳﺔ ﺳﻴﺘﻀﺨﻢ .ﻓﺈذا ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺤﺮﻳﺔ — ﰲ ﻧﻈﺮه — ﺧريًا ﻛﻠﻬﺎ ،ﻓﺈن اﻹﺟﺒﺎر ﴍ ﻛﻠﻪ؛ ﻋﻨﺪﺋ ٍﺬ ﻳﺼﺒﺢ املﻮاﻃﻨﻮن »ﺷﺪﻳﺪي اﻟﺤﺴﺎﺳﻴﺔ واﻟﺴﺨﻂ إزاء أي ﻣﻠﻤﺢ ﻣﻦ ﻣﻼﻣﺢ ً إﻃﻼﻗﺎ« ﺣﻴﺚ: اﻻﺳﺘﻌﺒﺎد ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻟﻦ ﻳﺘﺤﻤﻠﻮه ﻳﺤﺎول اﻷبُ ﺑﺎﺳﺘﻤﺮار أن ﻳﺠﺎري أﺑﻨﺎءه ﻣﻊ أﺑﻨﺎﺋﻪ … وﻳﻬﺎب املﻌﻠﻢ اﻟﺘﻼﻣﻴﺬ وﻳﺘﻤ ﱠﻠﻘﻬﻢ ،وﻟﻜﻦ اﻟﺘﻼﻣﻴﺬ — ﰲ املﻘﺎﺑﻞ — ﻻ ﻳﻌﺒَﺌُﻮن ﺑﺎملﻌﻠﻢ … وﻳﺤﺎول اﻟﻜﺒﺎر اﻟﺘﺄﻗﻠُﻢ ﻣﻊ اﻟﺼﻐﺎر وﻳﻘ ﱢﻠﺪوﻧﻬﻢ ﰲ املﺰاح واﻟﻠﻄﻒ ً ﺧﻮﻓﺎ ﻣﻦ ﱡ ﺗﺮﺳﺦ اﻋﺘﻘﺎد ﻟﺪى اﻟﺼﻐﺎر ﺑﺄن اﻟﻜﺒﺎر ﻣﻨﻔﺮون أو ﻣﺴﺘﺒﺪون. 223
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
وﻳﻘﻮل ﺳﻘﺮاط ﻣﺎزﺣً ﺎ إن ُروح اﻟﺘﺤﺮر واﻻﺳﺘﻘﻼل ﺳﺘﺘﻔﴙ إﱃ أن ﺗﺼﻴﺐ اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت. ﻓﺤﺘﻰ »اﻟﺨﻴﻮل واﻟﺤﻤري ﺳﺘﻤﴤ ﰲ ﺳﺒﻴﻠﻬﺎ ﺑﻜﻞ ﺣﺮﻳﺔ وﺗﺰﻳﺢ ﻣﻦ ﻃﺮﻳﻘﻬﺎ ﻣﻦ ﻟﻢ ﻳ ِ ُﻔﺴﺢ ﻟﻬﺎ «.وﻫﻨﺎ ﻳﻘﻮل ﺟﻠﻮﻛﻮن إن ﻫﺬا ﻣﺎ ﻳﻠﺤﻈﻪ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺬﻫﺐ إﱃ اﻟﺮﻳﻒ. وﻫﻨﺎ ﻳﺠﺪر اﻟﻘﻮل إن ﺣﺪﻳﺚ ﺳﻘﺮاط ﻋﻦ اﻟﺤﻤري ﻟﻢ ﻳﻌُ ﺪ ﻣﺰﺣﺔ .ﻓﺎﻟﺪﻓﺎع ﻋﻦ ﺣﻘﻮق اﻟﺤﻴﻮان ﻗﺪ ﺷﺎع ﰲ اﻟﺒﻠﺪان اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ ،رﻏﻢ أن اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت ﻧﻔﺴﻬﺎ — ﰲ ﺧﻴﺎل ﺳﻘﺮاط — ﻻ ﺗﺴﻌﻰ ﺑﻔﺎﻋﻠﻴﺔ إﱃ ﺗﻠﻚ اﻟﺤﻘﻮق )ﻳﻘﻮل أﺣﺪ املﻌﺎﴏﻳﻦ — ﻣﻦ ﻣﻨﺎﴏي ﺣﻘﻮق اﻟﺤﻴﻮان — ﺣﻮل املﻈﺎﻟﻢ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻌﺮض ﻟﻬﺎ اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت ﰲ زﻣﻨﻨﺎ اﻟﺮاﻫﻦ :إن ﺟﻤﺎﻋﺔ اﻟﺤﻴﻮان اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻌﺮض ﻟﻼﺳﺘﻐﻼل ﻻ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ ﺗﻨﻈﻴﻢ اﺣﺘﺠﺎج ﺿﺪ املﻌﺎﻣﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻠﻘﺎﻫﺎ( .وإﻧﻪ ملﻦ املﺜري اﻛﺘﺸﺎف أﺻﺪاء ﻣﻌﺎﴏة ملﻼﻣﺢ املﺠﺘﻤﻊ اﻟﻠﻴﱪاﱄ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺪﱠث ﻋﻨﻬﺎ ﺳﻘﺮاط، ﺳﻮاء ﰲ ﺳﻴﺎدة أﻧﻤﺎط ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻣﻦ اﻟﺴﻠﻮك ﻟﻔﱰات زﻣﻨﻴﺔ وﺟﻴﺰة ،أو ﰲ اﻟﺤﺴﺎﺳﻴﺔ املﻔﺮﻃﺔ املﻘﱰﻧﺔ ﺑﺎﻟﺨﻄﺎﺑﺎت اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ املﺘﺰﻧﺔ ،أو اﻟﺴﺨﻂ »ﻋﻨﺪ أﺑﺴﻂ ﺗﻠﻤﻴﺢ ﻟﻼﺳﺘﻌﺒﺎد« .وﻟﻜﻦ ﺑﺨﺼﻮص ﻣﺎ ﺗﻨﺒﱠﺄ ﺑﻪ أﻓﻼﻃﻮن ﻣﻦ رﻓﺾ ملﻈﺎﻫﺮ اﻟﺤﻴﺎة املﻌﺎﴏة املﺬﻛﻮرة ً آﻧﻔﺎ ،ﻓﻔﻲ ﻫﺬا ﻗﻮل آﺧﺮ. ﻫﻨﺎك ﺟﺰء ﰲ ﻧﺒﻮءة أﻓﻼﻃﻮن ﻳﺄﻣﻞ اﻟﺠﻤﻴﻊ أن ﻳﻜﻮن ﻣﺨﻄﺌًﺎ ،وﻫﻮ أن اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ ﺗﺆدﱢي إﱃ اﻟﻔﻮﴇ املﺪﻣﱢ ﺮة .ﻳﻘﻮل ﺳﻘﺮاط إن ﻫﺬا ﻣﺎ ﺳﻴﺤﺪث ﻣﻨﻄﻘﻴٍّﺎ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻷن اﻟﺮﻏﺒﺔ ﰲ اﻟﺤﺮﻳﺔ ﺑﻜﻞ ﺻﻮرﻫﺎ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ إﺷﺒﺎﻋﻬﺎ داﺋﻤً ﺎ ﰲ إﻃﺎر اﻟﻘﺎﻧﻮن )وﻗﺪ ﻳﺼﻠﺢ ً ﻣﺜﺎﻻ ﻋﴫﻳٍّﺎ ﻋﲆ ذﻟﻚ ﻣﺎ ﻳﺬﻫﺐ إﻟﻴﻪ ﺑﻌﺾ املﺘﻄﺮﻓني ﻣﻤﱠ ﻦ ﻻ ﻳﻤﺎﻧﻌﻮن املﺨﺎﻃﺮة ﺑﺎﻟﺤﻴﺎة اﻟﺒﴩﻳﺔ ﻣﻦ أﺟﻞ ﺣﺮﻳﺔ ﻓﱤان املﻌﺎﻣﻞ( .ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل إن اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ املﺆﻣﻨﺔ ﺑﺎﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ »ﻟﻦ ﺗﻠﺘﻔﺖ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ إﱃ اﻟﻘﻮاﻧني املﻜﺘﻮﺑﺔ واﻷﻋﺮاف ﻏري املﻜﺘﻮﺑﺔ؛ ﺣﻴﺚ إﻧﻪ ﻣﻦ اﻟﻮارد ﱠأﻻ ﺗﺨﻀﻊ ﻟﺴﻠﻄﺎن ﺗﻠﻚ اﻟﻘﻮاﻧني ﰲ ﻣﺨﺘﻠﻒ املﻮاﻗﻒ «.إن ﻋﺪم اﺣﱰام اﻟﻘﺎﻧﻮن — إﱃ ﺟﺎﻧﺐ ﺑﻌﺾ اﻟﺨﺼﺎﺋﺺ اﻷﺧﺮى ﻟﻠﺤﻴﺎة اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ — ﻫﻮ ﻣﺎ ﺳﻴﺴﻤﺢ ﻟﻠﻄﻐﻴﺎن ﺑﺎﻟﻮﺻﻮل إﱃ اﻟﺴﻠﻄﺔ .ﺣﻴﺚ ﻳﺮى ﺳﻘﺮاط أن اﻻﻧﺘﻬﺎزﻳني اﻟﻔﺎﺳﺪﻳﻦ ﻣﻦ أﻋﻀﺎء املﺠﺘﻤﻊ ﺳﻴﻘﻮﻣﻮن ﺑﺘﺴ ﱡﻠﻖ املﺸﻬﺪ وﻳ َُﺸ ﱡﻘ َ ﻮن ﻃﺮﻳﻘﻬُ ﻢ إﱃ ﻣﻮاﻗﻊ اﻟﻨﻔﻮذ؛ ﻓﻼ ﳾء ﻳﻤﻨﻌﻬﻢ ﻣﻦ ذﻟﻚ ﰲ ﻇﻞ دﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ ﻣﻜﻔﻮﻟﺔ ﻟﻠﺠﻤﻴﻊ .ﺛﻢ ﻳﻠﺒ َُﺴﻮن ﻋﺒﺎءة ﺧﺎدﻣﻲ اﻷﻣﺔ املﺨﻠِﺼني ﻛﻲ ﻳﺼﺎدروا أﻣﻮال اﻷﺛﺮﻳﺎء وﻳﺤﺘﻔﻈﻮا ﺑﻘﺴﻂ ﻣﻨﻬﺎ ﻷﻧﻔﺴﻬﻢ .ﻋﻨﺪﺋ ٍﺬ ﻳﻌﺎرض اﻷﺛﺮﻳﺎء ﻫﺬه املﺼﺎدرات وﻳﺤﺎوﻟﻮن ﻣﻮاﺟﻬﺘﻬﺎ ،وﻟﻜﻨﻬﻢ ﻳُﺘﱠﻬَ ﻤ َ ُﻮن ﺑﻤﺤﺎوﻟﺔ ﻗﻠﺐ ﻧﻈﺎم اﻟﺤﻜﻢ .ﻋﻨﺪﺋ ٍﺬ ﻳﻈﻬﺮ ﻗﺎﺋﺪ ذو ﺷﺨﺼﻴﺔ ﻣﺆﺛﱢﺮة ﺑﻮﺻﻔﻪ اﻟﺪر َع اﻟﻮاﻗﻴﺔ ﻟﻌﺎﻣﺔ اﻟﺸﻌﺐ ﺿﺪ اﻷﻏﻨﻴﺎء املﺘﺂﻣﺮﻳﻦ ،ﺛﻢ ﺗﺘﺴﺎرع وﺗري ُة اﻷﺣﺪاث .وﻫﻨﺎ ﻳﺘﻘﺪم ﻫﺬا )اﻟﺤﺎرس( »ﺑﺎﻟﻌﺮﻳﻀﺔ اﻟﺸﻬرية ﻟﻠﻄﻐﻴﺎن اﻟﺘﻲ ﻳﻄﻠﺐ ﻓﻴﻬﺎ 224
ﺟﻤﻬﻮرﻳﺔ املﻨﻄﻖ :أﻓﻼﻃﻮن
ﻣﻦ اﻟﺠﻤﺎﻫري إﻣﺪاده ﺑﺎﻟﻐﻄﺎء اﻟﻼزم ﻟﺘﺄﻣني املﺪﻳﻨﺔ دﻓﺎﻋً ﺎ ﻋﻦ اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ «.ﺛﻢ ﺗﺘﻠﻮث ﻳﺪاه — ﺑﻤﻌﺎوﻧﺔ ﺟﻴﺸﻪ — ﺑﺪﻣﺎء ﻣﻦ أﻋﻠﻨﻬﻢ أﻋﺪاءً ﻟﻠﺪوﻟﺔ .وﻫﻨﺎ ﻳﺼﺒﺢ اﻟﺘﺤﻮل اﻟﺨﻄري إﱃ اﻟﺤﻜﻢ اﻟﻄﻐﻴﺎﻧﻲ اﻟﺴﻔﺎح ﺣﺘﻤﻴٍّﺎ .وﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ »ﺳﻴﺨﻀﻊ ﻣﻦ ﻳﻘﺎوﻣﻮن اﻻﺳﺘﺴﻼم … إﱃ ﻗﻴﻮد اﻟﻄﻐﻴﺎن واﻟﻌﺒﻮدﻳﺔ«. وﻳُﻔﺮد أﻓﻼﻃﻮن ﻣﺴﺎﺣﺔ ﻟﻠﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﺷﺨﺼﻴﺔ اﻟﻄﺎﻏﻴﺔ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ أي ﺷﺨﺼﻴﺔ أﺧﺮى .ﻓﺎﻟﻄﺎﻏﻴﺔ ﻳﻌﻴﺶ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺘﻲ ﻧﻌﺘﻬﺎ ﺛﺮاﺳﻴﻤﺎﺧﻮس ﺑﺎﻟﺤﻴﺎة املﻔﻀﻠﺔ إﺑﺎن ﺣﺮﺑﻪ ﻋﲆ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ .ﻓﻤﺎ ﻧﻮع اﻟﺴﻌﺎدة اﻟﺘﻲ ﻳُﺤِ ﱡﺴﻬﺎ ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻹﻧﺴﺎن؟ ﻳﻘﻮل ﺳﻘﺮاط إن ﺣﻴﺎﺗﻪ اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ ﻛﺎﺑﻮس ﺑﺎملﻌﻨﻰ اﻟﺤﺮﰲ .وﻓﻴﻤﺎ ﻳﻌﺪ ﺗﻨﺒ ًﺆا ﺑﻨﻈﺮﻳﺔ ﻓﺮوﻳﺪ ،ﻳﺘﺤﺪث ﺳﻘﺮاط ﻋﻦ ﻧﻮع ﻣﻦ اﻟﺮﻏﺒﺎت املﻜﺒﻮﺗﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺜﻮر ً ﻟﻴﻼ ﰲ ﻧﻔﺲ اﻟﻄﺎﻏﻴﺔ» .ﺗﺒني أﺣﻼﻣﻨﺎ أن ﻫﻨﺎك ﻧﻮﻋً ﺎ ٍ ﺧﻄريًا ووﺣﺸﻴٍّﺎ ﻣﻦ اﻟﺮﻏﺒﺎت ﺑﺪاﺧﻞ ﻛﻞ ﻓﺮد ،وﻫﻮ ﻧﻮع ﻻ ﻳﺨﻀﻊ ﻷي ﻗﺎﻧﻮن«: ﻣﻌﺘﺪﻻ أو ﻣﻨﻀﺒ ً ً ﻄﺎ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻣﺜﻠﻨﺎ. ﺗﻨﺘﺎب ﻫﺬه اﻟﺮﻏﺒﺎت اﻟﺠﻤﻴﻊ ﺣﺘﻰ ﻣَ ﻦ ﻳﺒﺪو ﻫﺬه اﻟﺮﻏﺒﺎت ﺗﻨﺸﻂ أﺛﻨﺎء اﻟﻨﻮم ﻋﻨﺪﻣﺎ ُ ﺗﻐﻔﻞ اﻟﺮوح — أي اﻟﺠﺰء اﻟﻌﺎﻗﻞ املﻌﺘﺪل اﻟﺬي ﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﻳﺴﻴﻄﺮ ﻋﻠﻴﻨﺎ — وﻟﻜﻦ اﻟﺠﺰء اﻟﻮﺣﴚ اﻟﱪﺑﺮي — اﻟﺬي ﻳﻐﺬﻳﻪ اﻟﻄﻌﺎم واﻟﺨﻤﺮ — ﻳﻨﻬﺾ ﻣﻘﺎوﻣً ﺎ اﻟﻨﻮ َم وﻳﺴﻌﻰ ﻹﺷﺒﺎع ﻏﺮاﺋﺰه اﻟﺨﺎﺻﺔ … وﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ﺳﻴُﻘﺪِم ﻋﲆ ﻓﻌﻞ أي ﳾء ﺑﻌﺪ أن ﺗﺤﺮر ﻣﻦ أي ﺷﻌﻮر ﺑﺎﻟﺨﺠﻞ، ﺑﻞ ﻣﻦ اﻟﻌﻘﻞ ﺑ ُﺮﻣﱠ ﺘﻪ .ﻓﻼ ﻳﺘﻮاﻧﻰ ﻋﻦ ﻣﻤﺎرﺳﺔ اﻟﺮذﻳﻠﺔ ﻣﻊ أ ﱟم ﻳﺘﺨﻴﻠﻬﺎ أو أي ﺷﺨﺺ آﺧﺮ ﺳﻮاء أﻛﺎن ﻣﻦ اﻟﺒﴩ أو اﻵﻟﻬﺔ أو اﻟﺒﻬﺎﺋﻢ ،ﻓﻬﻮ ﻣﺴﺘﻌﺪ ﻷي ﻋﻤﻞ ﻗﺬر. وﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﺴﻴﻄﺮ اﻹﻧﺴﺎن املﺘﱠﺰن ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﺮﻏﺒﺎت ﰲ ﻣﻌﻈﻢ اﻷﺣﻴﺎن ،ﻳﻘﻊ اﻟﻄﺎﻏﻴﺔ ﺗﺤﺖ ٍّ ﺗﺄﺛريﻫﺎ ً ﻣﺨﺘﻼ ﺗﻤﻠﺆه اﻟﺮﻏﺒﺔ اﻟﻌﺎرﻣﺔ إﻣﺎ ﺑﺴﺒﺐ ﻃﺒﻴﻌﺘﻪ ﻟﻴﻼ وﻧﻬﺎ ًرا؛ »ﻓﻴﺼري ﺳ ﱢﻜريًا اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ أو ﻇﺮوف ﺣﻴﺎﺗﻪ أو ﻛﻠﺘﻴﻬﻤﺎ «.ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮده ﺣﺐ املﺎل إﱃ اﻟﺠﺮﻳﻤﺔ ،وﻳﺤﺎط َ ﻳﺨﺸﻮْن ﺳﻠﻄﺘﻪ .وﻳﺨﺎﻟﻂ اﻟﻨﺎس ﻓﻘﻂ ﻟﻴﺤﺼﻞ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻳﺮﻳﺪ ﻣﻨﻬﻢ؛ ﺑﺎملﺪاﻫِ ﻨِني اﻟﺬﻳﻦ ﻓﺎﻟﺼﺪاﻗﺔ إﺣﺪى املﺘﻊ اﻟﺘﻲ ﻟﻦ ﻳﺪرﻛﻬﺎ .ﻛﻤﺎ ﻟﻦ ﻳﺪرك اﻟﺴﻜﻴﻨﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ أو اﻟﺤﺮﻳﺔ ﻷﻧﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺘﻌﺜﺮ ﺳﻴﻨﻘﻠﺐ ﻋﻠﻴﻪ أﺻﺪﻗﺎؤه اﻟﺰاﺋﻔﻮن .وﻣﺜﻞ املﺪﻳﻨﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺤﻜﻤﻬﺎ ،ﺗﻤﺘﻠﺊ روح اﻟﻄﺎﻏﻴﺔ »ﺑﺎﻟﻌﺒﻮدﻳﺔ ﺣﻴﺚ ﺗﺨﻀﻊ اﻷﺟﺰاء اﻟﺪﻧﻴﺎ ﻣﻦ ﻧﻔﺴﻪ ﻟﺴﻴﺎدة ﺟﺰء ﺻﻐري ﻫﻮ اﻷﻛﺜﺮ ﺟﻨﻮﻧًﺎ وﴍٍّا «.وﻳﺴﺘﻤﺮ ﺳﻘﺮاط ﰲ ﻃﺮح اﻟﺘﺸﺒﻴﻬﺎت املﻔﻌﻤﺔ ﺑﺎﻹﻳﺤﺎءات واﻷﻣﺜﻠﺔ املﻘﺒﻮﻟﺔ ﻋﲆ ﻧﻄﺎق واﺳﻊ؛ ﻓﻴﺼﻮر ُروح اﻟﻄﺎﻏﻴﺔ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﺑﺎﻟﴬورة ﻓﻘرية ﺧﺎﺋﻔﺔ ﻣﻀﻄﺮﺑﺔ ﺑﺎﺋﺴﺔ .ﺣﻴﺚ ﻳﻘﻮل ﺳﻘﺮاط: 225
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
إن اﻟﻄﺎﻏﻴﺔ ﺑﻌﻴﺪ ﻋﻦ ﺗﺤﻘﻴﻖ أدﻧﻰ إﺷﺒﺎع ﻟﺮﻏﺒﺎﺗﻪ؛ ﻓﻬﻮ ﻓﻘري ﺑﺤَ ﱟﻖ ﻷﻧﻪ ﰲ ﺣﺎﺟﺔ ﻣﺴﺘﻤ ﱠﺮة ملﻌﻈﻢ اﻟ ﱠﻠﺬﱠات .وذﻟﻚ ﻳﺘﱠ ِﻀﺢ ﻣﻦ ﻣﺮاﻗﺒﺔ ُروح اﻟﻄﺎﻏﻴﺔ ﻣﻦ ﺟﻮاﻧﺒﻬﺎ ﻛﺎﻓﺔ .و َ ﻃﻮَال ﺣﻴﺎﺗﻪ ﺳﻴﻤﻠﺆه اﻟ ﱡﺮﻋﺐ واﻻﺿﻄﺮاب واﻷﻟﻢُ ،ﻣﺎ دام ﺣﺎﻟُﻪ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻳﺸﺒﻪ ﺣﺎل املﺪﻳﻨﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺤﻜﻤﻬﺎ. إن ﻣﺸﻜﻠﺔ اﻟﻄﺎﻏﻴﺔ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﱠ أن »ﻓﺴﺎدَه ﰲ ﺻﻤﻴﻢ روﺣﻪ«؛ ﻓﻬﻮ ﻳﺨﻀﻊ ﻟﺤﻜﻢ ً ﺗﻌﻴﺴﺎ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ .أﻣﺎ اﻟﻔﺌﺔ اﻷﺳﻌﺪ ﻣﻦ اﻟﺒﴩ ﻓﻬﻢ ﻋﲆ أﺳﻮأ ﺟﺰء ﻣﻦ ﻧﻔﺴﻪ ،وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻳﺼﺒﺢ اﻟﻨﻘﻴﺾ ﻣﻦ ذﻟﻚ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ؛ ﺣﻴﺚ ﻳﺤﻜﻤﻬﻢ اﻟﺠﺰء اﻷﻓﻀﻞ ﰲ أﻧﻔﺴﻬﻢ وﻫﻮ اﻟﻌﻘﻞ .وﻫﻜﺬا ﻧ َ ِﺼ ُﻞ إﱃ املﻔﻬﻮم اﻟﻜﺎﻣﻞ ﻟﻠﻌﺪاﻟﺔ أو اﻟﺼﻮاب وﻫﻮ اﻹﺟﺎﺑﺔ ﻋﻦ اﻟﺘﺴﺎؤﻻت املﻄﺮوﺣﺔ ﺣﻮل اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺴﻠﻴﻤﺔ .ﻓﺒﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻸﻓﺮاد ﻳﻜﻤُﻦ اﻟﺤﻞ ﰲ ﺗﻨﺎﻏﻢ أﺟﺰاء اﻟﺮوح؛ أي أﻧﻮاع اﻟﺮﻏﺒﺎت. ﻓﺎﻟﺤﺮص ﻋﲆ إﺧﻀﺎع اﻟﺮﻏﺒﺔ ﰲ اﻟﴩف واملﺎل واﻟﺠﻨﺲ وﻏريﻫﺎ ﻟﺴﻴﻄﺮة اﻟﻌﻘﻞ ﻳﻤﻨَﺢُ اﻹﻧﺴﺎن ﺣﻴﺎ ًة ﺳﻌﻴﺪة وﺳﻠﻴﻤﺔ )ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ملﻦ ﺗﺘﻮاﻓﺮ ﻟﺪﻳﻪ ﴍوط اﻟﺴﻌﺎدة( .وﻋﲆ ﺻﻌﻴﺪ املﺪن ،ﺗﻜﻤُﻦ اﻟﻌﺪاﻟﺔ واﻟﺴﻌﺎدة ﰲ اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ املﺘﻨﺎﻏﻢ ﺑني ﻗﻄﺎﻋﺎت املﺠﺘﻤﻊ اﻟﺬي ﻳﺤﻜﻤﻪ اﻟﻌﻘﻞ ً أﻳﻀﺎ — وﺗﺘﻤﺜﻞ ﺗﻠﻚ اﻟﻘﻄﺎﻋﺎت ﰲ ﻃﺎﻟﺒﻲ املﺎل وﻃﺎﻟﺒﻲ اﻟﴩف وﻃﺎﻟﺒﻲ املﻌﺮﻓﺔ وﻏريﻫﻢ — وﻫﻲ ﻗﻄﺎﻋﺎت ﺗﻘﺎﺑﻞ ﺑﺪورﻫﺎ أﺟﺰاء اﻟﺮوح .وﻳﻤﻜﻨﻨﺎ اﻵن أن ﻧﻘﻊ ﻋﲆ اﻟﻌﻴﺐ ﰲ ﻓﺴﺎد ﺛﺮاﺳﻴﻤﺎﺧﻮس اﻷﺧﻼﻗﻲ وﻋﺪم اﻟﺘﺰاﻣﻪ ﺑﺎﻟﻘﻮاﻧني ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻧﻨﻈﺮ ﻟﻸﻣﺮ ﺑ ُﺮﻣﱠ ﺘﻪ. ﻓﻨﺤﻦ ﻧﺮى ﻣﺎ ﻳﺆدي إﻟﻴﻪ ﺳﻠﻮ ُﻛﻪ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ وﻛﻴﻒ أن أﺳﻠﻮب ﺣﻴﺎﺗﻪ أو ﻧﻈﺎم اﻟﺤﻜﻢ اﻟﺬي ً ﺗﺤﻘﻴﻘﺎ ﻟﻠﺴﻌﺎدة .ﻟﺬا ﻳﺤﻘﻖ ﺳﻘﺮاط ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻳﺪاﻓﻊ ﻋﻨﻪ ﺑﻌﻴﺪ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻋﻦ أن ﻳﻜﻮن اﻷﻛﺜﺮ اﻧﺘﺼﺎ ًرا ﻟﻢ ﻳﺤﺎﻟ ِْﻔﻪ ﰲ ﺑﺪاﻳﺔ »اﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ« ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺣﺎول اﻟﺮد ﻋﲆ أﻓﻜﺎر ﺛﺮاﺳﻴﻤﺎﺧﻮس ﻣﺒﺎﴍة. وﻟﻜﻲ ﻳ َِﺼ َﻞ ﺑﻔﻜﺮﺗﻪ اﻟﺮﺋﻴﺴﺔ إﱃ ذﻟﻚ اﻻﻧﺘﺼﺎر ،ﻳﻀﻴﻒ ﺳﻘﺮاط ﻧﻘﻄﺘني أﺧﺮﻳني ﰲ ﺻﺎﻟﺢ أﻃﺮوﺣﺘﻪ؛ ً أوﻻ :ﻣﺎذا ﻳﻘﺎل ﻟﻄﺎﻟﺐ املﺎل أو ﻃﺎﻟﺐ اﻟﴩف أو ﺣﺘﻰ اﻟﻄﺎﻏﻴﺔ اﻟﻔﺎﺳﺪ املﻨﻐﻤﺲ ﰲ املﻠﺬﱠات اﻟﺬي ﻳﻨﻜﺮ وﺟﻮد أي ﺣﻴﺎة أﻓﻀﻞ ﻣﻦ ﺣﻴﺎﺗﻪ؟ ﺳﻴﴫ أرﺑﺎب ﻛﻞ ﻟﺬة ﻋﲆ أﻧﻬﺎ اﻷﻛﺜﺮ إﺷﺒﺎﻋً ﺎ ﻟﺮﻏﺒﺎﺗﻬﻢ .وﻫﻨﺎ ﻳﻮﺿﺢ ﺳﻘﺮاط أن اﻟﻮﺣﻴﺪ اﻟﺬي ﻳُﻤ ِﻜﻨُﻪ اﻟﺤﻜﻢ ﻋﲆ املﺘﻊ املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻫﻮ ﻣﻦ ﺟ ﱠﺮﺑﻬﺎ ﻛﻠﻬﺎ .وﻫﺬا اﻟﺸﺨﺺ — ً وﻓﻘﺎ ﻟﺴﻘﺮاط — ﻫﻮ املﻠﻚ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف اﻟﺬي ﺧﺎض ﻛﻞ ﻫﺬه اﻷﻣﻮر ﻟﻴﺼﻞ إﱃ ﻣﺎ وﺻﻞ إﻟﻴﻪ؛ ﻓﺴﻴﺘﺬﻛﺮ ً ﻣﺜﻼ ﻣﻦ ﻃﻔﻮﻟﺘﻪ ُ ﺳﺘﺼﻘﻠﻬﺎ ﻣ َﻠﻜﺔ اﻟﻌﻘﻞ .وﺳﺘﻤﻨﺤﻪ اﻟﺨﻀﻮع ﻟﻠﺮﻏﺒﺎت اﻟﺪﻧﻴﺎ .ﻛﻤﺎ أن ﺗﺠﺮﺑﺘﻪ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة دراﺳﺔ اﻟﺤِ ﺠﺎج أﻓﻀﻞ ﻣﻮﺿﻊ ﻟﺘﻘﻴﻴﻢ اﻟﱪاﻫني .ﻟﺬا ﻓﻌﻨﺪﻣﺎ ﻳﺨﱪﻧﺎ املﻠﻚ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف أن املﺘﻊ اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ ﻫﻲ اﻟﻔﻀﲆ ،ﻓﻌﻠﻴﻨﺎ أن ﻧ ُ َﺴ ﱢﻠ َﻢ ﺑﺬﻟﻚ. 226
ﺟﻤﻬﻮرﻳﺔ املﻨﻄﻖ :أﻓﻼﻃﻮن
أﻣﺎ اﻟﻨﻘﻄﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻓﻬﻲ ﻣﺴﺄﻟﺔ ﻳﺆﺳﺲ ﺑﻬﺎ ﺳﻘﺮاط ﺣﺠﺘﻪ .ﻓﺎملﺘﻊ املﺴﺘﻤَ ﺪة ﻣﻦ اﻷﻣﻮر اﻟﺪﻧﻴﺎ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺤﻘﻖ اﻹﺷﺒﺎع ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻷﻧﻬﺎ ﻏري ﺛﺎﺑﺘﺔ ﰲ ﺟﻮﻫﺮﻫﺎ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﻬﻲ وﻫﻤﻴﺔ .ﻓﻬﻲ »ﻣﺘﻊ ﻣﻤﺰوﺟﺔ ﺑﺎﻷﻟﻢ ،وﻫﻲ ﻣﺠﺮد ﺻﻮر ﻏري أﺻﻴﻠﺔ وﻇﻼل ﻟﻠﻤﺘﻊ اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ«: إن ﻣﻦ ﺗﻨﻘﺼﻬﻢ اﻟﺨﱪة ﺑﺎﻟﻌﻘﻞ واﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ،ﻣﻦ ﻳﻨﺸﻐﻠﻮن ﺑﺎﻟﻮﻻﺋﻢ وﻏريﻫﺎ ﻻ ﻳﺘﺬوﱠﻗﻮن أﺑﺪًا أي ﻣﺘﻌﺔ ﺛﺎﺑﺘﺔ أو ﻧﻘﻴﺔ .ﻓﻬﻢ ﻳﺤﻨﻮن رءوﺳﻬﻢ ﻛﺎﻷﻧﻌﺎم وﻳﻨﻜﺒﱡﻮن ﻋﲆ ﻣﻮاﺋﺪ اﻟﻄﻌﺎم وﻳﺴﻤﻨﻮن وﻳﺰﻧﻮن .وﻟﻜﻲ ﻳﺘﻔﻮﻗﻮا ﻋﲆ اﻵﺧﺮﻳﻦ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻷﺷﻴﺎء ﻓﺈﻧﻬﻢ ﻳﻨﺎﻃﺤﻮﻧﻬﻢ وﻳﺮﻛﻠﻮﻧﻬﻢ ﻓﻴﻘﺘﻠﻮن ﺑﻌﻀﻬﻢ اﻟﺒﻌﺾ ﻷن رﻏﺒﺎﺗﻬﻢ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ إﺷﺒﺎﻋﻬﺎ؛ ﻓﺎﻷﻣﺮ أﺷﺒﻪ ﺑﻤَ ﻞءِ وﻋﺎء ﻣﺜﻘﻮب. وﻟﻜﻦ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺬي ﻳﺤﻜﻤﻪ اﻟﻌﻘﻞ ﻳﺤﺼﻞ ﻋﲆ وﺟﺒﺔ أﻛﺜﺮ إﺷﺒﺎﻋً ﺎ؛ ﻷن رﻏﺒﺘﻪ ﰲ املﻌﺮﻓﺔ ُ ﺗﺄﺧﺬُه إﱃ ﻣﺠﺎل أﻫﻢ وأﻗﻴﻢ .وﺑﺎﻟﻌﻮدة إﱃ ﻣﺜﺎل اﻟﻜﻬﻒ ،ﻓﻘﺪ وﺟﺪ ﻫﺬا اﻹﻧﺴﺎن ﻃﺮﻳﻘﻪ إﱃ اﻟﻨﻮر ﺣﺘﻰ رأى ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻷﺷﻴﺎء؛ ﻟﺬا ﻓﻬﻮ ﻳﻌﺮف ﺣﻖ املﻌﺮﻓﺔ ﻣﺎ ﻳﻌﻮد ﻋﻠﻴﻪ ﺑﺎﻟﻨﻔﻊ، ﻓﺎﻹﻧﺴﺎن ﻟﻴﺲ ﻛﺎﻟﺒﻬﺎﺋﻢ ،ﺣﻴﺚ إن ﻟﺪﻳﻪ ﺟﺎﻧﺒًﺎ أﺳﻤﻰ ﻳﺤﻘﻖ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺠﻠﺐ ﺑﺪورﻫﺎ اﻟﺴﻌﺎدة اﻟﺪاﺋﻤﺔ. ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﻳﻘﻮم أﻓﻼﻃﻮن ﺑﺈدﺧﺎل ﺳﻘﺮاط ﰲ رﺣﻠﺔ ﺧﻴﺎﻟﻴﺔ ﻣﻊ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ﻳﺴﻌﻰ ﻓﻴﻬﺎ ﺑﻐﺮاﺑﺔ إﱃ إﺛﺒﺎت أن املﻠﻚ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف أﺳﻌﺪ ﻣﻦ اﻟﻄﺎﻏﻴﺔ ﺑﺴﺒﻌﻤﺎﺋﺔ وﺗﺴﻊ وﻋﴩﻳﻦ ﻣﺮة. وﻳﻔﻀﻞ ﻋﺪم اﻟﺘﻌ ﱡﺮض ﺑﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﻘﻮل ﻟﻬﺬه اﻟﻔﺮﺿﻴﺔ )ﺣﻴﺚ إن اﻟﺤﺴﺎب اﻟﺮﻳﺎﴈ ﰲ ﺣَ ﱢﺪ ذاﺗﻪ ﻏري دﻗﻴﻖ ،ﻓﻤﻦ املﻔﱰض أن ﺗﻜﻮن ﻧﺘﻴﺠﺔ ﺗﻠﻚ اﻟﺤﺴﺎﺑﺎت اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ ﻫﻲ أن املﻠﻚ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف ﻳﻔﻮق ﰲ ﺳﻌﺎدﺗﻪ اﻟﻄﺎﻏﻴﺔ ﺑﺎﺛﻨﺘﻲ ﻋﴩة ﻣﺮ ًة وﻧﺼﻒ( .وﺗﺨﺘﺘﻢ »اﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ« ﺑﻬﺒﻮط ﰲ وﺗرية اﻷﺣﺪاث ﻳﺘﻤﺜﻞ ﰲ ﻣﻨﺎﻗﺸﺔ ملﺼري اﻟ ﱡﺮوح اﻟﺒﴩﻳﺔ ،ﻋﻼوة ﻋﲆ اﻟﺘﺤﻮل إﱃ ﻣﻮﻗﻒ ﻋﺪاﺋﻲ ﻏﺮﻳﺐ ﺗﺠﺎه ﺑﻌﺾ أﻧﻮاع اﻟﺸﻌﺮ .وﻋﻨﺪ ﻫﺬه املﺮﺣﻠﺔ ﻳﻜﻮن اﻟﺠﺰء املﻬﻢ ﰲ »اﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ« ﻗﺪ اﻧﺘﻬﻰ. إن ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﺴﺘﻔﻴﺪه ﻣﻦ ﻗﺮاءة »اﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ« ﻫﻮ اﻛﺘﺸﺎف املﺪﻳﻨﺔ اﻻﺳﺘﺜﻨﺎﺋﻴﺔ وﻣﻠﻮﻛﻬﺎ ً وﺳﻴﻠﺔ ﻟﻨﻘﻞ ﻓﻜﺮﺗﻪ .وﻳﻘﻮل ﺑﻌﺾ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ املﺜﺎﻟﻴني .وﻳﺴﺘﺨﺪم أﻓﻼﻃﻮن ﻫﺎﺗني اﻟﻨﻘﻄﺘني ﻧﻘﺎد اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ — اﻟﺬﻳﻦ ﻛﺘﺒﻮا ﰲ ﺿﻮء ﻣﺎ ﻋﺎﴏوه ﻣﻦ ﻓﺎﺷﻴﺔ ﻫﺘﻠﺮ وﺷﻴﻮﻋﻴﺔ ﺳﺘﺎﻟني — إن دوﻟﺔ أﻓﻼﻃﻮن ﺗﺘﱠ ِﺴﻢ ﺑﺎﻟﺸﻤﻮﻟﻴﺔ اﻟﺒﻐﻴﻀﺔ؛ ﻓﻬﻲ اﻷُوﱃ ﻣﻦ ﻧﻮﻋﻬﺎ اﻟﻔﺎﺳﺪ. 227
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
وﻟﻜﻦ أﻓﻼﻃﻮن ﻳﺴﺘﺤﻖ ﺗﻘﻴﻴﻤً ﺎ أﻓﻀﻞ ﻣﻦ ذﻟﻚً . ﻳﺠﺐ اﻷﺧﺬ ﰲ اﻻﻋﺘﺒﺎر أن ﻫﺪﻓﻪ أوﻻ ِ ً ﺗﻮﻇﻴﻔﺎ ﻟﻠﻤﻘﺎرﻧﺔ ﺑني املﺪﻳﻨﺔ اﻷﺳﺎﳼ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ وﺿﻊ ﺗﺼﻮﱡر ﻟﺪوﻟﺔ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق ،ﺑﻞ ﻛﺎن واﻟﺮوح ﻣﻦ أﺟﻞ ﺗﻜﻮﻳﻦ ﺻﻮرة ﻣﺘﻜﺎﻣﻠﺔ ﻋﻦ اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑني اﻟﻌﺪاﻟﺔ واﻟﺴﻌﺎدة .ﻓﺘﺤﻠﻴﻠﻪ ﻟﻠﻄﻐﻴﺎن ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﻛﺎن ﺑﻬﺪف إﻟﻘﺎء اﻟﻀﻮء ﻋﲆ ﻧﻔﺴﻴﺔ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻔﺎﺳﺪ ،ﻛﻤﺎ أن املﻠﻮك اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻫﻢ ﻧﻤﺎذج ﻣﺜﺎﻟﻴﺔ ﺗﻨﺎﻗﺾ ﻧﻔﺴﻴﺔ اﻟﻄﺎﻏﻴﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ .إن اﻟﺪرس اﻟﺤﺎﴐ داﺋﻤً ﺎ ﰲ أُﻃﺮوﺣﺘﻪ ﻫﻮ أن اﻟﻌﺪاﻟﺔ واﻟﺴﻌﺎدة ﰲ أﻓﻀﻞ ﺻﻮرﻫﻤﺎ ﻣﻮﺟﻮدﺗﺎن ﻣﻌً ﺎ ﰲ ﻣﻤﻠﻜﺔ اﻟﻌﻘﻞ، ﺑﺸﻜﻞ أو ﺑﺂﺧﺮ .وﻣﻊ اﻗﱰاب اﻟﻜﺘﺎب أﻣﺎ ﻣﺎ دون ذﻟﻚ ﰲ اﻟﻜﺘﺎب ﻓﻬﻮ ذو ﻗﻴﻤﺔ ﻫﺎﻣﺸﻴﺔ ٍ ً ﴏاﺣﺔ أن أﻓﻀﻞ ﺣﺎل ﻫﻮ أن ﻳﺨﻀﻊ اﻟﺠﻤﻴﻊ ﻟﺤﻜﻢ اﻟﻌﻘﻞ ﻣﻦ ﺧﺎﺗﻤﺘﻪ ،ﻳﻌﻠﻦ ﺳﻘﺮاط »اﻟﻨﺎﺑﻊ ﻣﻦ اﻟﻨﻔﺲ ﻻ املﻔﺮوض ﻣﻦ ﻗﺒﻞ اﻟﻐري «.وﺑﻌﺒﺎرة أﺧﺮى ،ﻓﺎﻟﻨﻈﺎم املﺪﻧﻲ ﻟﻠﻤﺪﻳﻨﺔ اﻟﻔﺎﺿﻠﺔ ﺑﺤﻜﺎﻣﻬﺎ املﻨﻀﺒﻄني املﺪ ﱠرﺑني ﺑﻌﻨﺎﻳﺔ ﻫﻮ ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ ﺛﺎﻧﻲ أﻓﻀﻞ ﺧﻴﺎر ،وﻫﻮ ﻳُﻨﻔﺬ ﻓﻘﻂ ﺣﺎل ﻓﺸﻞ اﻟﻨﺎس ﰲ اﻟﺴﻴﻄﺮة ﻋﲆ ﻧﻔﻮﺳﻬﻢ ﺑﺸﻜﻞ ﺳﻠﻴﻢ .وﻣﻦ املﻬﻢ اﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻋﲆ أن »املﺪﻳﻨﺔ اﻟﻔﺎﺿﻠﺔ« اﻟﻮاردة ﰲ »اﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ« ﻟﻴﺴﺖ ﺑﺎﻟﻨﻤﻮذج املﺜﺎﱄ ﻷﻓﻼﻃﻮن ﻋﲆ اﻹﻃﻼق. ﻓﻬﻮ ﻳﻘﻮل إن ﻣﺎ ﻳﺤﺚ ﻋﻠﻴﻪ ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ ﻻ ﻳﺰﻳﺪ ﻋﻤﱠ ﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻨﺘﻬﺠﻪ أَبٌ ﺣﻜﻴﻢ ﰲ ﺗﺮﺑﻴﺔ أﺑﻨﺎﺋﻪ: إﻧﻨﺎ ﻻ ﻧﻤﻨﺢ اﻟﺤﺮﻳﺔ ﻟﻸﻃﻔﺎل إﻻ ﺑﻌﺪ زرع ﻗِ ﻴَ ٍﻢ ﻓﻴﻬﻢ — ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻣﺜﻞ وﺿﻊ اﻟﺪﺳﺘﻮر ﰲ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻣﺎ — ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ رﺑﻂ أﻓﻀﻞ ﻣﺎ ﻓﻴﻬﻢ ﺑﺄﻓﻀﻞ ﻣﺎ ﻓﻴﻨﺎ ﺣﺘﻰ ﻧﻤﺪﻫﻢ ﺑﺤﺎرس وﺣﺎﻛﻢ ﺑﺪاﺧﻠﻬﻢ ﻟﻴﺤﻞ ﻣﺤ ﱠﻠﻨﺎ ،وﻋﻨﺪﻫﺎ ﻓﻘﻂ ﻧﻤﻨﺤﻬﻢ اﻟﺤﺮﻳﺔ. ﰲ ﺿﻮء ﻣﺒﺎدﺋﻪ ،ﻓﺈن ﻣﻦ املﻔﱰض أن ﻳﺸﻌﺮ أﻓﻼﻃﻮن — ﻟﻮ ﻛﺎن ﺑﻴﻨﻨﺎ اﻟﻴﻮم — ﺑﺎﻟﺮﺿﺎ اﻟﻜﺎﻣﻞ ﻋﻦ اﻟﱰﺗﻴﺒﺎت اﻟﺪﱡﺳﺘﻮرﻳﺔ ﻟﻠﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ — أي ﺗﺤﺮﻳﺮ اﻟﺸﻌﺐ — ﺑﴩط أن ﺗ ُﻜﻮن ﺗﻠﻚ اﻟﱰﺗﻴﺒﺎت ﻗﺎدرة ﻋﲆ ﺗﺤﻘﻴﻖ اﻟﻌﺪاﻟﺔ واﻟﺴﻌﺎدة. وﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أن ﻣﻮﻗﻒ أﻓﻼﻃﻮن ﻣﻦ اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ ﰲ ﻋﴫه ﻳﺨﺘﻠﻒ ﻋﻦ املﻮﻗﻒ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻲ اﻷﺻﲇ ﻟﺴﻘﺮاط .ورﻏﻢ أن ﺳﻘﺮاط ﻟﻢ ﻳﺘﻜﺒﱠﺪ ﻋﻨﺎء ﺗﻘﻴﻴﻢ أﻧﻮاع اﻟﺪﺳﺎﺗري املﺨﺘﻠﻔﺔ ً ﻣﺨﻠﺼﺎ ﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ أﺛﻴﻨﺎ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ رأى أﻓﻼﻃﻮن ﻣﻦ ﺑﺸﻜﻞ ﴏﻳﺢ؛ ﻓﻘﺪ ﻋﻠﻤﻨﺎ أﻧﻪ ﻛﺎن ﺧﻼل ﺷﺨﺼﻴﺔ ﺳﻘﺮاط — اﻟﺘﻲ ﺗُﻌَ ﱡﺪ ﻟﺴﺎن ﺣﺎﻟﻪ — ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ ﻣﺠﺮد ﻓﻮﴇ ﻏري ﻫﺎدﻓﺔ وﺑﺬور ﻟﻄﻐﻴﺎن ﰲ ﻏﺎﻳﺔ اﻟﺴﻮء .وﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻔﻜﺮ املﻌﺎﴏ ﻓﻘﺪ أﺧﻄﺄ أﻓﻼﻃﻮن ﰲ ﺗﺼﻮﱡره ﻟﻠﺤﺮﻳﺔ اﻟﺪﺳﺘﻮرﻳﺔ .ﻓﺤﺘﻰ إن ﻟﻢ ﻳﻜﻦ أﻓﻼﻃﻮن ﻳﺪاﻓﻊ ﻋﻦ أي ﻧﻈﺎم ﺳﻴﺎﳼ ﻣﺤﺪﱠد ،وﺣﺘﻰ إن ﻛﺎﻧﺖ املﺪﻳﻨﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺘﺤﺪﱠث ﻋﻨﻬﺎ ﺛﺎﻧﻲ أﻓﻀﻞ ﺧﻴﺎر ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﻟﻴﻪ وﺣﺴﺐ، 228
ﺟﻤﻬﻮرﻳﺔ املﻨﻄﻖ :أﻓﻼﻃﻮن
ﻓﻤﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻘﺪر ﻣﺨﺎﻃﺮ ﻣﻨﺢ إﺣﺪى اﻟﻨ ﱡ َﺨﺐ ذﻟﻚ اﻟﻘﺪر اﻟﻜﺒري ﻣﻦ اﻟﺴﻠﻄﺎت. ﻛﻤﺎ ﻳﺒﺪو أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳ َُﻘﺪﱢر ﻓﻜﺮة أن اﻟﻨﺎس ﻗﺪ ﻳﺮﻏﺒﻮن ﰲ اﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ اﻟﺴﻌﺎدة ﺑﺄﻧﻔﺴﻬﻢ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ ﺗﻮﺟﻴﻬﻬﻢ إﻟﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺧﻼل »ﺣﺮاس« ﻳﺮﻋﻮﻧﻬﻢ ،ﺷﺄﻧﻬﻢ ﰲ ذﻟﻚ ﺷﺄن اﻟﺒﺎﻟﻐني اﻟﺬﻳﻦ ﻻ َ ﻳﺮﺿﻮْن ﺑﺄن ﻳﻌﺎﻣﻠﻮا ﻛﺄﻃﻔﺎل .ﺑﺎﺧﺘﺼﺎر ،ﻳﺒﺪو أن أﻓﻼﻃﻮن ﻟﻢ ﻳﻨﺘﺒﻪ إﱃ ﻗﻴﻢ اﻻﺧﺘﻼف واﻟﻔﺮدﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺜﻤﻨﻬﺎ اﻟﻨ ﱡ ُ ﻈﻢ اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ املﻌﺎﴏة. ُ ﺗﺠﺎﻫﻞ ﻫﺬه اﻟﺘﻌﺪدﻳﺔ ﺑﻞ ﻳﻬﺪف ﺗﻨﺎوﻟﻪ ﻟﻠﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ وﻻ ﻳﻘِﻒ اﻷﻣﺮ ﺑﺄﻓﻼﻃﻮن ﻋﻨﺪ إﱃ اﻟﺤﻜﻢ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺒﺎﴍ ﻣﻦ ﺧﻼل ﺗﺼﻮﻳﺮﻫﺎ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﺑﻼ ﻧﻈﺎم أو ﺗﻤﻴﻴﺰ ،وأﻧﻬﺎ ُﻣ ْﺮﺿﻴﺔ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻟﺸﻜﻠﻴﺔ ﻓﻘﻂ .ﻓﺈذا ﺗﺮﻛﺖ اﻟﺤﺮﻳﺔ ﻟﻠﻨﺎس ﻛﻲ ﻳﺴﻌﻮا ﺧﻠﻒ أي ﻫﺪف َف اﺧﺘﻴﺎ ُرﻫﻢ ﻟﻪ ﻓﺴﻴﻨﺘﻬﻲ ﺑﻬﻢ اﻷﻣﺮ ﻋﺒﻴﺪًا ﻟﻜﻞ ﻧﺰوة ﻋﺎﺑﺮةَ . ﺗَﺼﺎد َ وﺑﻐ ﱢﺾ اﻟﻨﻈﺮ ﻋﻦ ﻛﻮﻧﻬﻢ ﻣﺘﺤ ﱢﻜﻤني ﰲ ﻣﺼﺎﺋﺮﻫﻢ ﻣﻦ ﻋﺪﻣﻪ ،ﻓﺴﻮف ﻳﻘﻌﻮن — ﺣﺴﺐ اﻋﺘﻘﺎده — ﺗﺤﺖ رﺣﻤﺔ ﺟﻤﻴﻊ أﻧﻮاع اﻟﺘﺄﺛريات ﻏري املﻼﺋﻤﺔ واﻷﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺎت املﻀ ﱢﻠﻠﺔ .وﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﺤﺮاس اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺘﺤﺪث ﻋﻨﻬﻢ ،ﻳﺬﻛﺮ أﻓﻼﻃﻮن ﻣﻨﺘﻘﺪﻳﻪ أن ﺗﺪرﻳﺒﻬﻢ ﺳﻴﺠﻌﻠﻬﻢ »ﺧﱪاء ﻣﺤﻨﱠﻜِني ﰲ اﻟﺤﺮﻳﺔ املﺪﻧﻴﺔ« .ﻟﺬا ﻓﻼ داﻋﻲ ﻟﻠﻘﻠﻖ ﻣﻦ اﺣﺘﻤﺎل إﺳﺎءة اﺳﺘﺨﺪاﻣﻬﻢ اﻟﻨﻔﻮذ .ﻛﻤﺎ ﻳﺮد ﻋﲆ ﻛﺎف ﻣﻦ اﻟﺤﻜﻤﺔ واﻟﺜﻘﺔ ﻟﻠﻘﻴﺎم ﺑﻬﺬا اﻟﺪور ً اﻻﺗﻬﺎم ﺑﺄﻧﻪ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ أﻧﺎس ﻋﲆ ﻗﺪر ٍ ﻗﺎﺋﻼ إﻧﻪ ﻳﻌﻠﻢ ذﻟﻚ ﺟﻴﺪًا وإﻧﻪ ﻗﺪ أوﺿﺢ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ أن ﻫﺬه اﻟﻄﺒﻘﺔ اﻷرﺳﺘﻘﺮاﻃﻴﺔ اﻟﺤﻜﻴﻤﺔ ﻫﻲ ﻋُ ﺮﺿﺔ ﻋﺎﺟﻼ أو ً ً آﺟﻼ .وﻣﻦ ﺧﻼل ﻟﻔﺖ اﻧﺘﺒﺎﻫﻨﺎ إﱃ أﻧﻬﺎ ﻣﺠﺮد ﻧﻈﺮﻳﺎت ﻋﻦ ﺑﻌﺾ املﺜﻞ ﻟﻼﻧﻬﻴﺎر ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أﻓﻼﻃﻮن أن ﻳُﻔﻠِﺖ ﻣﻦ ﺑﻌﺾ اﻻﺗﻬﺎﻣﺎت اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ املﻮﺟﱠ ﻬﺔ إﻟﻴﻪ ،ﻋﲆ اﻷﻗﻞ إﱃ ﺣني. ﱠ وﻟﻜﻦ ا ُملﺜ ُ َﻞ ذاﺗﻬﺎ ﻣﺤ ﱡﻞ ﺷﻚ .ﻓﻌﻨﺪﻣﺎ ﻳﻌﻠﻦ أﻓﻼﻃﻮن أن »اﻟﻮﺣﺪة ﻫﻲ أﻋﻈﻢ ﻧﻌﻤﺔ ﺗﻨﻌﻢ ﺑﻬﺎ اﻟﺪوﻟﺔ« ،ﻳﺼﺒﺢ ﻣﻦ اﻟﺼﻌﺐ اﻟﺘﻐﺎﴈ ﻋﻦ اﻟﺪﻓﻊ ﺑﺄﻧﻪ ﻗﺪ ﺑﺎ َﻟﻎ ﰲ إﺑﺮاز اﻟﺠﺎﻧﺐ اﻟﺠَ ﻴﱢ ِﺪ وﺿﺤﱠ ﻰ ﺑﺎﻟﺘﻌﺪﱡدﻳﺔ ﰲ ﻣﻘﺎﺑﻞ اﻟﻨﻈﺎم .وﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل أرﺳﻄﻮ» :ﺳﻴﺼﻞ اﻷﻣﺮ إﱃ ﻣﺪًى ٌ َ دوﻟﺔ أﺳﻮأ ﺑﻜﺜري؛ ﻓﺎﻷﻣﺮ ﻳﺸﺒﻪ ﺧﻠﻒ ﺷﺨﺺ ﺑﻌﻴﻨﻪ ﺗﻨﺸﺄ ﻋﻨﺪه ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﺬﻟﻚ اﻟﺘﻮﺣﱡ ﺪ اﺧﺘﺰال اﻟﺘﻨﺎﻏﻢ ﰲ اﻟﺘﻮﺣﺪ ،واﺧﺘﺰال اﻹﻳﻘﺎع ﰲ وﺣﺪة إﻳﻘﺎﻋﻴﺔ واﺣﺪة «.ﻓﺎﻻﻋﺘﻤﺎد ﻋﲆ املﻠﻮك اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻟﻀﺒﻂ اﻹﻳﻘﺎع اﻟﻌﺎم — ﻣﻬﻤﺎ ﺑﻠﻐﺖ درﺟﺔ إﺗﻘﺎﻧﻬﻢ — ﻗﺪ ﻳﺸﻜﻞ ﺧﻄ ًﺮا ً ﺣﻜﻤﺔ ﻣﻦ ﻋﲆ املﺪﻳﻨﺔ .وﻛﻤﺎ ﻳﻮﺿﺢ أرﺳﻄﻮ ،ﻓﺈﻧﻪ ﺣﺘﻰ وإن ﻛﺎن املﻠﻮك اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ أﻛﺜﺮ اﻟﺠﻤﺎﻫري ،ﻓﻘﺪ ﻳﺼﺒﺢ اﻟﺸﻌﺐ »ﻋﻨﺪ ﺗﻮاﻓﻘﻪ ﺧريًا ﻣﻦ اﻟﻘﻠﺔ اﻟﺼﺎﻟﺤﺔ إذا ﻧﻈﺮﻧﺎ ﻟﻸﻣﺮ ﰲ ﻣﺠﻤﻠﻪ وﻟﻴﺲ ﻋﲆ املﺴﺘﻮى اﻟﻔﺮدي ،ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻣﺜﻠﻤﺎ أن اﻟﻮﻟﻴﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺸﱰك ﻓﻴﻬﺎ ﻋﺪة أﺷﺨﺎص ﺧري ﻣﻦ اﻟﻌﺸﺎء اﻟﺬي ﻳﻘﺪﻣﻪ ﻓﺮد واﺣﺪ «.وﻗﺪ ﻳﻘﻊ املﻮاﻃﻨﻮن ﰲ ﻛﺒﻮة )رﻏﻢ اﺗﺤﺎد ﺧﻄﺎﻫﻢ( ﻛﺎن ﻣﻦ املﻤﻜﻦ ﺗﻔﺎدﻳﻬﺎ إن أُﺧِ ﺬَ ْت ﻣﺸﻮرﺗﻬﻢ ﺑﻌني اﻻﻋﺘﺒﺎر ﺑني اﻟﺤني 229
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
واﻵﺧﺮ .أﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن اﺧﺘﻼف رؤﻳﺔ املﻠﻮك اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ — ﺑﻮﺻﻔﻬﻢ ﻣﺼﻤﻤني ﻟﻠﻤﺪﻳﻨﺔ — ﻋﻦ رؤﻳﺔ أﻫﻠﻬﺎ ﻫﻮ ﻋني املﺸﻜﻠﺔ؟ ﻳﻮﺿﺢ أرﺳﻄﻮ أن »ﻫﻨﺎك ﺑﻌﺾ اﻟﻔﻨﻮن اﻟﺘﻲ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺤﻜﻢ ﻋﲆ ﻣﻨﺘﺠﺎﺗﻬﺎ ﺑﺸﻜﻞ ﻓﺮدي أو ﻣﻦ ﻗِ ﺒ َِﻞ اﻟﻔﻨﺎﻧني أﻧﻔﺴﻬﻢ … ﻓﺴﺎﻛﻦ اﻟﺒﻴﺖ ﻳﺤﻜﻢ ﻋﻠﻴﻪ ﺑﺸﻜﻞ أﻓﻀﻞ ﻣﻦ ﺑﺎﻧﻴﻪ «.ورﺑﻤﺎ ﻳﻜﻮن ﻓﻦ اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﻣﻦ ﺿﻤﻦ ﻫﺬه اﻟﻔﻨﻮن. ﻗﺪ ﻳَ ُﺮ ﱡد أﻓﻼﻃﻮن ﻣﺮة أﺧﺮى ﺑﺎﻟﺪﻓﻊ ﺑﺄﻧﻨﺎ ﻧﺘﺼﻮر أن املﻠﻮك اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ املﻔﱰَﺿني ﻗﺪ وﺻﻠﻮا إﱃ ﺣَ ﱢﺪ املﺜﺎﻟﻴﺔ ﰲ ﺣﻜﻤﺘﻬﻢ وﺻﻼﺣﻬﻢ؛ ﻟﺬا ﻳﻨﺘﻔﻲ اﻟﻨﻘﺪ املﻮﺟﱠ ﻪ إﻟﻴﻬﻢ .وﻟﻜﻦ ﻫﻞ اﻟﺨري ا ُملﻄ َﻠﻖ واﻟﺤﻜﻤﺔ اﻟﻜﺎﻣﻠﺔ ﻣﻔﻬﻮﻣﺎن ﺣﻘﻴﻘﻴﱠﺎن؟ ﻳﺮﺟﻊ ﺟﺰء ﻣﻦ املﺸﻜﻠﺔ إﱃ ﺗﺼﻮﱡر ﺎﱄ اﻟﺸﻤﺲ واﻟﻜﻬﻒ ،ﺑﻤﺎ ﻳﻮﺣﻲ ﺑﺄن أﻓﻼﻃﻮن وﺟﻮ َد ﻧﻤﻮذج »ﻟﻠﺨري« وإﱃ اﺳﺘﺨﺪاﻣﻪ ِﻣﺜ َ َ ِ ﻫﺬا اﻟﻨﻤﻮذج ﻳﺘﻴﺢ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻟﻠﻤﻠﻚ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف أن ﻳﺮى اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ واﺿﺤﺔ ﻛﻀﻮء اﻟﻨﻬﺎر. رﺑﻤﺎ ﻳﻜﻮن ﺗﺸﺒﻴﻪ اﻟﺨري ﺑﺎﻟﺸﻤﺲ ﰲ ﻏري ﻣﺤﻠﻪ ،ورﺑﻤﺎ ﻳﻜﻮن ﻣﻦ ﻏري املﻤﻜﻦ إدراك اﻟﺨري ﺑﻤﺠﺮد اﺗﺨﺎذ املﻮﻗﻊ اﻟﺼﺤﻴﺢ ﻣﻨﻪ .ﻣﺎذا إذا ﻟﻢ ﺗ ُﻜﻦ ﻫﻨﺎك ﺣﻘﻴﻘﺔ واﺣﺪة ﺷﺎﻣﻠﺔ ﺑﺸﺄن ﻣﺎ ﻫﻮ أﻓﻀﻞ ﻟﻺﻧﺴﺎن؟ وﺣﺘﻰ إن ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻮﺟﻮدة ،ﻛﻴﻒ ﻟﻨﺎ أن ﻧﺘﺄﻛﺪ ﻣﻦ وﺻﻮل أي ﺷﺨﺺ أو ﴍﻳﺤﺔ ﻣﻦ اﻟﻨﺎس إﻟﻴﻬﺎ؟ إن أيﱠ ﺷﻜﻮك ﺣﻮل ﻫﺬه اﻟﺘﺴﺎؤﻻت ﺳﻴﺆدي ﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ إﱃ ﺗﺸﻜﻴﻚ ﰲ إﻣﻜﺎﻧﻴﺔ اﻋﺘﺒﺎر ﻣﺪﻳﻨﺔ أﻓﻼﻃﻮن ﺛﺎﻧﻲ أﻓﻀﻞ ﺧﻴﺎر .ﻓﻬﻲ ﺗُﻌﻄﻲ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﺴﻠﻄﺎت إﱃ ﻗﻠﺔ ﻣﻦ اﻟﻨﺎس اﻟﺬﻳﻦ ﻗﺪ ﻻ ﻳﺘﻤ ﱠﻜﻨﻮن ﻣﻦ إدراك اﻷﻓﻀﻞ ﺑﺎﻟﺸﻜﻞ اﻟﺬي ﻳﻈﻨﻪ أﻓﻼﻃﻮن .رﺑﻤﺎ ﺗﻮﺟﺪ اﻟﺤﻜﻤﺔ وﻟﻜﻦ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ﺣﻜﻤﺔ ﻣﻄﻠﻘﺔ ،ورﺑﻤﺎ ﻳﻮﺟﺪ اﻟﺨري وﻟﻜﻦ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ »ﻧﻤﻮذج ﻣﺤﺪﱠد ﻟﻠﺨري«. ﻣﻦ ﺣﺴﻦ ﺣَ ﱢ ﻈﻨَﺎ وأﻓﻼﻃﻮن أن اﻟﻜﺜري ﻣﻦ ﺧﻮاﻃﺮه وأﻓﻜﺎره ﻋﻦ اﻟﻌﺪاﻟﺔ واﻟﺴﻌﺎدة ﻳﺘﺠﺎوز ﻫﺬه اﻟﺘﺸ ﱡﻜﻚ .وﻣﻊ ذﻟﻚ ﺗَ َ ﻈ ﱡﻞ ﺷﻮارع ﻣﺪﻳﻨﺘﻪ ﰲ »اﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ« ﻣﻬﺠﻮرة وﻣﻈﻠﻤﺔ؛ ﻷن ﺻﻴﻐﺔ »اﻟﺨري« اﻟﺘﻲ ﻳﺘﺤﺪث ﻋﻨﻬﺎ ﻗﺪ ﺗﻼﺷﺖ ﻟﻸﺑﺪ ﻣﻦ ﻣﻨﻈﻮرﻧﺎ. ﻳﻌﺮض ﻟﻬﺎ ﰲ »اﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ« ﻫﻮ أن ﴏاع إن أﺣﺪ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ ﺣﺎول أﻓﻼﻃﻮن أن ِ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني ﺑني اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ واملﺼﻠﺤﺔ اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﻫﻮ و َْﻫ ٌﻢ ﰲ ﺣﻘﻴﻘﺘﻪ .ﻓﻬﻮ ﻣﺒﻨﻲ ﻋﲆ ﺻﻮرة ﺑُﺪاﺋﻴﺔ وﻏري ﻣﻜﺘﻤﻠﺔ ﻋﻦ املﺼﻠﺤﺔ اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ؛ ﻓﻘﺪ ﺑﺎت واﺿﺤً ﺎ أن روح اﻹﻧﺴﺎن ﻗﺪ ُ ﻃ ِﺒﻌَ ْﺖ ﻋﲆ ﻗﻀﺎء أﺳﻌﺪ أوﻗﺎﺗﻬﺎ ﺣني ﻳﺤﻜﻤﻬﺎ اﻟﻌﻘﻞ واﻟﻔﻀﺎﺋﻞ اﻷﺧﺮى .ﻓﺎﻟﻨﻈﺮ إﱃ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻔﺎﺿﻠﺔ ﻣﻦ ﻣﻨﻈﻮر ﺳﻠﻴﻢ ﻳُﺜﺒﺖ أﻧﻬﺎ ﺗﺤﻘﻖ ﺻﺎﻟﺢ اﻹﻧﺴﺎن .ﻟﺬا ﻳﻤﻜﻦ اﻟﻘﻮل إن اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ذاﺗﻬﺎ ﺗﺆﻳﱢﺪ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ واﻟﻌﻘﻞ ﻷﻧﻬﺎ ﺗﻌﺎﻗﺐ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻔﺎﺳﺪ واﻟﻼﻋﻘﻼﻧﻲ ﺑﺎﻟﺘﻌﺎﺳﺔ واﻟﺸﻘﺎء .وﻗﺪ ورد ﰲ ﻣﺤﺎورة »ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس« — اﻟﺘﻲ أﻧﺘﻘﻞ إﻟﻴﻬﺎ اﻵن — ﻗﺼﺔ ذات ﺻﻠﺔ 230
ﺟﻤﻬﻮرﻳﺔ املﻨﻄﻖ :أﻓﻼﻃﻮن
وﻟﻜﻦ ﻋﲆ ﻣﺴﺘﻮًى أﻛﱪ .ﻓﻬﻲ ﺗﺼﻮر ﻋﺎﻟﻢ اﻟﺠﻤﺎد اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ﺳﻌﻴﺪًا ﰲ ﻇﻞ ﺣﻜﻢ اﻟﻌﻘﻞ ﻷﻧﻪ ُ ﺻ ِﻨ َﻊ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﻛﺎﺋﻦ ﻋﺎﻗﻞ )»اﻟﺼﺎﻧﻊ اﻷﻛﱪ« أو اﻟﺮب( ،ﺣﻴﺚ ﺗﻈﻬﺮ ﻋﻠﻴﻪ ﻋﻼﻣﺎت ﺗﺼﻤﻴﻤﻪ ً ﻛﺎﻣﻼ ﺑﻜﻞ ﻫﺬه اﻟﻌﻼﻣﺎت ،ﻣﻦ املﻨﻄﻘﻲ .وﻗﺪ ﺣﺎول أﻓﻼﻃﻮن أن ﻳﻀﻊ ﺑني أﻳﺪﻳﻨﺎ ﺑﻴﺎﻧًﺎ ﺣﺮﻛﺔ اﻟﻨﺠﻮم إﱃ ﺣﺮﻛﺔ اﻷﻣﻌﺎء. ﻃﻮال اﻟﻘﺮون اﻻﺛﻨﻲ ﻋﴩ اﻷوﱃ ﰲ اﻟﻌﻬﺪ املﺴﻴﺤﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺤﺎورة »ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس« ﻫﻲ اﻷﺳﺎس اﻟﺬي ﻗﺎم ﻋﻠﻴﻪ ﺟُ ﱡﻞ ﻣﺎ ُﻛﺘِﺐَ ﰲ ﻋﻠﻢ اﻟﻜﻮﻧﻴﺎت ﰲ اﻟﻐﺮب .ﻓﻔﻲ اﻟﻘﺮن اﻟﺨﺎﻣﺲ املﻴﻼدي وﻣﺎ ﺑﻌﺪه ﻛﺎﻧﺖ اﻟﱰﺟﻤﺎت اﻟﻼﺗﻴﻨﻴﺔ ﻟﺘﻠﻚ املﺤﺎورة ﻫﻲ املﺼﺪر املﻨﻬﺠﻲ اﻟﻮﺣﻴﺪ املﺘﺎح ﻟﴩح اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺣﺘﻰ ﺗﺮﺟﻤﺖ أﻋﻤﺎل أرﺳﻄﻮ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ — إﺿﺎﻓﺔ إﱃ أﻋﻤﺎل أﺧﺮى — ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻋﴩ .وﺗﻌﻮد اﻟﺸﻬﺮة اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻤﺘﻊ ﺑﻬﺎ املﺤﺎورة إﱃ أن َربﱠ »ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس« ﺑﻤﻌﺰل ﻋﻦ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻔﺴريه ﻋﲆ أﻧﻪ اﻟﺮب ﰲ ِﺳﻔﺮ اﻟﺘﻜﻮﻳﻦ .وﺑﻘﺮاءة أﻋﻤﺎل أﻓﻼﻃﻮن ِ اﻹﺷﺎرات اﻹﻧﺠﻴﻠﻴﺔ ﻧﺮى أﻧﻬﺎ ﺗﺤﺘﺎج إﱃ ﻗﺪر ﻛﺒري ﻣﻦ اﻟﺘﻔﺴري اﻟﺘﺨﻴﱡﲇ ،وﻫﺬا ﻣﺎ أﺗﻰ ﺑﻪ املﺴﻴﺤﻴﻮن .وﻳﺨﺘﻠﻒ اﻟﺮب ﻋﻨﺪ أﻓﻼﻃﻮن ﻋﻦ اﻟﺮب ﰲ اﻹﻧﺠﻴﻞ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﲇ :ﻻ ﻳُﻌﺘَ َﱪ اﻟﺮب ﻋﻨﺪ أﻓﻼﻃﻮن أﻫﻢ ﳾء ﰲ اﻟﻜﻮن )ﺑﻞ املﺜﻞ اﻟﺘﻲ ﻳﺴﺘﻤﺪ اﻟ ﱠﺮبﱡ ﺗﻌﺎﻟﻴﻤﻪ ﻣﻨﻬﺎ( ،وﻫﻮ ﻟﻴﺲ اﻟﺮب اﻟﻮﺣﻴﺪ وﻟﻜﻦ ﻟﺪﻳﻪ ﻣﺴﺎﻋﺪون ﻋﺪة ،ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﻣﻄ َﻠﻖ اﻟﻘﺪرة ﺑﻞ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺘﻌﺎون ﻣﻊ َ اﻟﻜﻮن ﻣﻦ اﻟﻌﺪم وﻟﻜﻨﻪ اﺳﺘﺨﺪم اﻟﻘﻮى املﺨﺘﻠﻔﺔ ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ .وﻟﻢ ﻳﺨﻠﻖ اﻟﺼﺎﻧﻊ اﻷﻛﱪ ﻣﻮا ﱠد ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻮﺟﻮدة ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ،وﻫﻮ ﻻ ﻳﻬﺘﻢ ﺑﺎﻹﻧﺴﺎن ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﺧﺎص وﻟﻜﻨﻪ ﻛﻠﻒ ﻣﺴﺎﻋﺪﻳﻪ ﺑﻤﻬﻤﺔ ﺻﻨﻌﻪ ﻛﻲ ﻳﺒﻘﻴَﻪ ﻋﲆ ﻣﺴﺎﻓﺔ ﻻ ﻳﺘﺨﻄﺎﻫﺎ. وﺑﺎﻟﻨﻈﺮ إﱃ ﻫﺬا ،ﻻ ﻳﺴﻊ املﺮء إﻻ أن ﻳﺘﺴﺎءل ﻋﻦ اﻟﺴﺒﺐ ﰲ ﺗﻨﺼري املﺴﻴﺤﻴني ﰲ اﻟﻘﺮون اﻟﻮﺳﻄﻰ ﻷﻓﻼﻃﻮن ﺑﻌﺪ وﻓﺎﺗﻪ .وﻟﻜﻦ ﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أن اﻟﺴﻄﻮ ﻋﲆ اﻟﻮﺻﻒ اﻟﻌﻠﻤﻲ اﻟﻮﺣﻴﺪ املﻔﺼﻞ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ إﻏﺮاء ﻻ ﻳﻘﺎوم ،ﻫﺬا ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ أﺷﻴﺎء أﺧﺮى ﰲ »ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس« ﺗﺮوق ﻣﻌﺘﻨﻘﻲ اﻟﺪﻳﻦ املﺴﻴﺤﻲ .وﰲ إﺷﺎرة إﱃ »اﻟﺼﺎﻧﻊ اﻷﻛﱪ« ﻳﻘﻮل أﻓﻼﻃﻮن» :إن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻫﻮ أﻓﻀﻞ ﻣﺎ ﺧﻠﻘﻪ ذﻟﻚ اﻟﺼﺎﻧﻊ اﻷﻛﱪ «.وﺗﺆﻛﺪ ﻣﺤﺎورة »ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس« ﻋﲆ أن ﺗﻨﻈﻴﻢ اﻟﻜﻮن ٍ ﻫﺪف ﻣﺎ أﺳﻤﻰ وأﻛﺜﺮ ﺣﻜﻤﺔ .وﻛﻞ اﻟﺘﻔﺴريات واﻟﺘﺨﻄﻴﻂ ا ُملﺤ َﻜﻢ اﻟﺬي ﻳﺒﺪو ﻋﻠﻴﻪ ﻳﺪل ﻋﲆ اﻟﻮاردة ﰲ املﺤﺎورة ﺗﺸري إﱃ ﻣﻔﻬﻮم اﻟﻬﺪف اﻷﺳﻤﻰ؛ ﻟﺬا ﻓﻘﺪ ﺗﻮاﻓﻘﺖ أﻓﻜﺎر ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس ﻣﻊ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﻼﻫﻮﺗﻴﺔ ﺑﺸﻜﻞ أﻓﻀﻞ ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻵﱄ اﻟﺬي ﺗﺤﺪﱠث ﻋﻨﻪ دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ وأﺑﻴﻘﻮر وﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس .وﺗﺤﺎﻛﻲ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﻨﻤﻮذﺟﻴﺔ اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ ﰲ ﻋﻠﻢ اﻟﻼﻫﻮت ﻣﻦ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻣﻦ ﻋﴩ ﻣﺤﺎورة »ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس« ﰲ اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ اﻟﺘﻲ ﺗﺴﺘﻨﺒﻄﻬﺎ ﻣﻦ ﺣﺮﻛﺔ اﻟﻜﻮاﻛﺐ وﻣﺴﺎرات املﺬﻧﱠﺒﺎت، وﻗﺪ وﺿﻌﻬﺎ إﺳﺤﺎق ﻧﻴﻮﺗﻦ ﻛﻤﺎ ﻳﲇ: 231
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺼﻮﱡر أن اﻷﺳﺒﺎب اﻵﻟﻴﺔ وﺣﺪَﻫﺎ ﻗﺪ ﺗﺆدي إﱃ ﻫﺬا اﻟﻜﻢ اﻟﻜﺒري ﻣﻦ اﻟﺤﺮﻛﺎت املﻨﺘﻈﻤﺔ … ﻓﻬﺬا اﻟﻨﻈﺎم اﻟﺒﺪﻳﻊ اﻟﺬي ﻳﺤﺘﻮي اﻟﺸﻤﺲ واﻟﻜﻮاﻛﺐ ﻛﺎﺋﻦ ﺑﺎرع ﻗﻮي. واملﺬﻧﱠﺒﺎت ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻨﺸﺄ إﻻ ﺑﻮاﺳﻄﺔ ﺗﻮﺟﻴﻪ وﺳﻴﺎدة ٍ ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ ﻟﻘﺪ أﻏﻔﻞ ﻧﻴﻮﺗﻦ — ﺑﺴﺒﺐ إﻳﻤﺎﻧﻪ — ﻗﻮاﻧني اﻟﺤﺮﻛﺔ اﻟﺘﻲ اﻛﺘﺸﻔﻬﺎ .وﻫﺬه اﻟﻘﻮاﻧني ﱢ ﺗﻔﴪ ﺑﺪﻗﺔ ﻛﻴﻒ »ﺗﺘﺴﺒﺐ اﻟﻌﻮاﻣﻞ اﻵﻟﻴﺔ وﺣﺪﻫﺎ ﰲ ﻫﺬا اﻟﻜﻢ اﻟﻜﺒري ﻣﻦ اﻟﺤﺮﻛﺎت ً املﻨﺘﻈﻤﺔ «.وﻗﺪ اﺳﺘﻮﻋﺐ إﻳﻤﺎﻧﻮﻳﻞ ﻛﺎﻧﻂ ) — (١٨٠٤–١٧٢٤اﻟﺬي ﻳُﻌَ ﱡﺪ ﻓﻴﻠﺴﻮﻓﺎ وﻟﻜﻨﻪ ﻣﻦ أﻛﺜﺮ ﻣَ ﻦ ﻛﺎﻧﻮا ﻋﲆ دراﻳﺔ ﺑﺎﻟﻔﻴﺰﻳﺎء اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ واﻟﻔﻠﻚ ﰲ ﻋﴫه — ﻫﺬه اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻧﻴﻮﺗﻦ ﻧﻔﺴﻪ .وﻗﺪ رﺻﺪ ﻛﺎﻧﻂ ﺛﻼﺛﺔ ﻋﻴﻮب ﰲ ﺗﻠﻚ املﺤﺎوﻻت ﻻﺳﺘﺨﺮاج ﻣﻌﺠﺰة ﻣﺴﻴﺤﻴﺔ ﻣﻦ اﻟﻘﻮاﻧني اﻟﻔﻠﻜﻴﺔ؛ ً أوﻻ :ﻳﺮﺟﻊ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﺘﻨﺎﻏﻢ اﻟﻈﺎﻫﺮ ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺑﺎﻟﴬورة ً ﻣﻌﺮﺿﺎ إﱃ ﻗﻮاﻧني املﺎدة؛ ﻟﺬا ﻓﺈن أي ﻛﺎﺋﻦ ﻳﻀﻄﻠﻊ ﺑﺪور »اﻹرﺷﺎد واﻟﺴﻴﺎدة« ﺳﻴﻜﻮن داﺋﻤً ﺎ ْ ﻷن ﻳﺘﺤﻮل دوره إﱃ دور اﻋﺘﺒﺎﻃﻲ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬي ﻳﺠﺮي ﻓﻴﻪ َﻓﻬﻢ ﻣﺰﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﻘﻮاﻧني .ﺛﺎﻧﻴًﺎ :ﻗﺪ ﻳﻌﺮﻗﻞ اﻟﻨﻈﺮ إﱃ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﰲ ﺿﻮء أﻫﺪاف اﻟﻜﺎﺋﻦ اﻟﺒﺎرع ﻣﻦ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﱡ اﻟﺘﻮﻗﻒ ﻋﻦ ﻃﺮح اﻷﺳﺌﻠﺔ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﻈﻦ أﻧﻪ اﻛﺘﺸﻒ اﻟﺒﺤﺚ اﻟﻌﻠﻤﻲ ﻷن اﻟﺒﺎﺣﺚ ﺳﻴﻤﻴﻞ إﱃ اﻟﺤﻜﻤﺔ اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ وراء ﳾءٍ ﻣﺎ .وأﺧريًا ﻗﺪ ﺗﺸري ﺗﻠﻚ املﻨﺎﻗﺸﺎت اﻟﺘﻲ ﻋﲆ ﻏِ ﺮار ﻣﺎ ﺗﻨﺎوﻟﻪ ﻧﻴﻮﺗﻦ أو أﻓﻼﻃﻮن إﱃ ﺧِ ﻴﺎر واﺣﺪ ﻻ ﻏري؛ ﻓﻬﻲ ﻗﺪ ﺗﺪل ﻋﲆ وﺟﻮد ﺻﺎﻧﻊ رﺋﻴﺲ ﻧ ﱠ ﻈﻢ اﻷﻣﻮر ﻗﺒﻞ اﻟﻮﺟﻮد ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻻ ِ ﺗﺼﻞ إﱃ اﻟﺨﺎﻟﻖ اﻷول اﻟﺬي و َرد ﰲ ِﺳﻔﺮ اﻟﺘﻜﻮﻳﻦ .وﻗﺪ وﺟﱠ ﻪ ٍ اﻧﺘﻘﺎدات ﻣﻤﺎﺛﻠﺔ »ﻟﻼﻫﻮت اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ دﻳﻔﻴﺪ ﻫﻴﻮم ) ١٧٧٦–١٧١١ﻣﻴﻼدﻳﺔ( اﻟﻔﻴﺰﻳﺎﺋﻲ« — ﻛﻤﺎ ﻳﺴﻤﻴﻪ ﻛﺎﻧﻂ — ﰲ ﻧﻔﺲ اﻟﺤﻘﺒﺔ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ. ﻟﻢ ﺗ ُﻜﻦ ﻫﺬه اﻻﻧﺘﻘﺎدات ِﻟﺘُﻤﺜ ﱢ َﻞ أﻳﺔ ﻣﺸﻜﻼت ﻷﻓﻼﻃﻮن اﻟﺬي ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ُ ﻫﺪﻓﻪ اﻷﺳﺎﳼ ﰲ ﻣﺤﺎورة »ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس« دﻳﻨﻴٍّﺎ ﺑﺎملﻌﻨﻰ اﻟﺤﺪﻳﺚ .ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻫﺪﻓﻪ ﺗﺤﺴني اﻟﺘﻔﺴريات اﻟﺒُﺪاﺋﻴﺔ ﻷﺻﺤﺎب املﺬﻫﺐ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ اﻷواﺋﻞ ،وﻟﻴﺲ ﺗﻤﻬﻴﺪ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﻟﻠﻤﺴﻴﺤﻴني ﻣﻦ ﺑﻌﺪه .ﻟﻘﺪ ﻛﺎن ﻔﺮط ﻳﺸﻌﺮ أن أﺳﻼﻓﻪ ﻣﻦ ﻃﺎﻟﻴﺲ وﺣﺘﻰ دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﻗﺪ ارﺗﻜﺒﻮا أﺧﻄﺎء ﺑﱰﻛﻴﺰﻫﻢ ا ُمل ِ ﻋﲆ ﻣﺴﺄﻟﺔ ﻣﺎﻫﻴﺔ املﺎدة اﻟﺘﻲ ُﺧﻠ َِﻘ ْﺖ ﻣﻨﻬﺎ اﻷﺷﻴﺎء .ﻓﺒﻴﻨﻤﺎ ر ﱠﻛﺰ ﻫﺆﻻء ﻋﲆ اﻟﻌﻨﺎﴏ واﻟﺬﱠ ﱠرات ً ﻣﺨﺘﻠﻔﺎ أﻛﺜﺮ أﻫﻤﻴﺔ .ﻟﻘﺪ ﻛﺎن ﻟﺪى أﺗﺒﺎع ﻣﺬﻫﺐ ﰲ ﺑﺤﺜﻬﻢ ﻋﻦ اﻷﺳﺒﺎب ،ﻓﻘﺪ أﻏﻔﻠﻮا ﺳﺒﺒًﺎ َ ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ﻋﻠ ٌﻢ ﻣﺤﺪود ﺑﻬﺬا اﻟﺴﺒﺐ اﻟﺨﻔِ ﱢﻲ ﺧﻼل ﺣﺪﻳﺜﻬﻢ ﻋﻦ اﻟﻘﻮاﻧني اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ،وﻗﺪ أﻟﻘﻰ أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس ﻧﻈﺮ ًة ﴎﻳﻌﺔ ﻋﻠﻴﻪ ﰲ ﺣﺪﻳﺜﻪ اﻟﻌﺎﺑﺮ ﻋﻦ اﻟﻌﻘﻞ أو اﻟﻔﻬﻢ أو املﻨﻄﻖ؛ »ﻧﻴﻮس« ﺑﺎﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ .ﻛﺎن أﻓﻼﻃﻮن ﻗﺪ ﺣﺪد ﻣﻼﻣﺢ ُﺧﻄﺘﻪ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة ﰲ ﺣﺪﻳﺚ ﻟﻪ ﻋﲆ ﻟﺴﺎن ﺳﻘﺮاط ﻋﻦ أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس .وﻛﺎن ﻣﺤﻮر اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻫﻮ اﺳﺘﺨﺪام 232
ﺟﻤﻬﻮرﻳﺔ املﻨﻄﻖ :أﻓﻼﻃﻮن
ﺧﻄﺔ ﻣﻨﻄﻘﻴﺔ أو ﻧﻤﻮذج ﻋﻘﲇ ﺗﺘﻀﺢ ﰲ ﺿﻮﺋﻪ وﻇﺎﺋﻒ اﻷﺷﻴﺎء .وﻳﻮﺿﺢ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﻣﺜﺎل اﻹﻧﺴﺎن؛ ﻓﺒﻴﻨﻤﺎ ﺗﺆدي اﻟﻔﺴﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺎ واملﻴﻜﺎﻧﻴﻜﺎ ﻧﺼﻒ املﻬﻤﺔ — ﰲ أﺣﺴﻦ اﻷﺣﻮال — ﻋﻨﺪ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﺗﻔﺴري أﻓﻌﺎل اﻹﻧﺴﺎن؛ ﻓﺈن اﻟﺘﻔﺴري اﻟﺠﻴﺪ ﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﻳﻀﻊ ﰲ اﻟﺤِ ﺴﺒﺎن أﻫﺪاف املﺮء ﻣﻦ أﻓﻌﺎﻟﻪ؛ أي اﻟﻐﺮض اﻟﺬي ﻛﺎن ﻳﺤﺎول ﺗﺤﻘﻴﻘﻪ .وﻳﻨﻄﺒﻖ اﻷﻣﺮ ذاﺗﻪ ﻋﲆ اﻟﺠﻤﺎد ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻋﺠﺰ أﺻﺤﺎب املﺬﻫﺐ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ﻋﻦ إدراﻛﻪ. ﻟﻘﺪ رأﻳﻨﺎ أن ﻓﻜﺮ أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس — اﻟﺬي َﻗ ﱠﻠﻤَ ﺎ وﻇﻒ ﻣﻔﻬﻮﻣﻪ ﻋﻦ اﻟﻌﻘﻞ ﰲ اﻟﺴﻴﺎﻗﺎت اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ — ﺗﻤﻴﱠﺰ ﺑﻤﻌﺎداة اﻟﺨﺮاﻓﺎت .ﻓﺤﻴﻨﻤﺎ ﻋُ ِﺮ َ ض ﻋﻠﻴﻪ رأس ﺣﻴﻮان ﻣﺸﻮﱠه رﻓﺾ اﻻﻋﱰاف ﺑﺄي ﺳﺒﺐ ﺧﺎرق وراء ذﻟﻚ ،ﺑﻞ اﻛﺘﻔﻰ ﺑﺘﻔﺴري اﻷﻣﺮ ﺑﺄﻧﻪ ﻣﺠﺮد ﺗﺄﺛري ﻓﺴﻴﻮﻟﻮﺟﻲ .واﻟﺴﺆال اﻟﺬي ﻗﺪ ﻳُﺜﺎر ﻫﻨﺎ :أﻟﻢ ﻳﺮﺟﻊ أﻓﻼﻃﻮن إذن إﱃ ﺧﺮاﻓﺎت اﻟﻼﻫﻮت وﻣﺆﻟﻔﻲ اﻷﺳﺎﻃري ﰲ ﺑﺤﺜﻪ ﻋﻦ اﻟﻬﺪف واﻟﺤﻜﻤﺔ اﻹﻟﻬﻴﺔ ﺧﻠﻒ اﻟﺤﻮادث اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ؟ ﻻ، ﻟﻴﺲ ﺻﺤﻴﺤً ﺎ ،ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ اﻷﻫﺪاف اﻟﺘﻲ أراد أﻓﻼﻃﻮن ﻋﺮﺿﻬﺎ ﻋﲆ اﻟﻨﻘﻴﺾ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻣﻤﱠ ﺎ ﺗَﺤَ ﺪ َ ﱠث ﻋﻨﻪ ﻣﺆﻟﻔﻮ اﻷﺳﺎﻃري .ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺸﻜﻠﺔ اﻟﺘﻔﺴريات اﻟﺰاﺋﻔﺔ ﰲ اﻟﻼﻫﻮت ﻫﻲ أن اﻵﻟﻬﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺪﺛﺖ ﻋﻨﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺘﻘ ﱢﻠﺒﺔ املﺰاج .ﻛﺎن ﺑﻮﺳﻴﺪون ﻳ َُﺴﺒﱢﺐُ اﻟﺰﻻزل ﻷﻧﻪ ﺷﻌﺮ ﺑﺮﻏﺒﺔ ﰲ ذﻟﻚ ،ﻓﻜﺎن ﻣﻦ املﺴﺘﺤﻴﻞ اﻟﺘﻨﺒﺆ ﺑﺘﻠﻚ اﻟﺤﻮادث أو وﺿﻌﻬﺎ ﰲ إﻃﺎر ﻋﺎم .ﻟﺬا ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ً ﻣﺴﺘﺤﻴﻼ .وﻟﻜﻦ اﻷﻫﺪاف اﻟﺘﻲ وﺟﺪﻫﺎ أﻓﻼﻃﻮن ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ أﻛﺜﺮ ﻣﻨﻄﻘﻴﺔ ﻣﻦ ﻧﺰوات اﻟﻌﻠﻢ ﺑﻮﺳﻴﺪون ،وﻗﺪ ﻛﺎن اﻟﻬﺪف ﻣﻦ اﻟﺒﺤﺚ ﻋﻨﻬﺎ ﻫﻮ وﺿﻊ ﻧﻤﻮذج ﻋﺎم ﺑﻐﻴﺔ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ ﻋِ ﻠﻢ ﺣﻘﻴﻘﻲ ،ﺣﻴﺚ ﻟﻢ ﻳﺘﻨﺎول أﻓﻼﻃﻮن ﻓﻦ اﻟﺘﻔﺴري املﻨﻄﻘﻲ ﻣﻦ ﺧﻼل اﺳﺘﺤﻀﺎر اﻵﻟﻬﺔ ﻟﺘﻔﺴري اﻷﺣﺪاث اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ. ﻟﻘﺪ ﺣﺎول أﻓﻼﻃﻮن ﺗﻔﺴري ﻧﻈﺮﻳﺘﻪ اﻟﺠﺪﻳﺪة ﻣﺴﺘﺨﺪﻣً ﺎ ﻟﻐﺔ اﻷﺳﺎﻃري ،وﻟﻜﻦ ﻟﻴﺲ واﺿﺤً ﺎ ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ ﻗﺒﻮﻟﻪ ﻣﻨﻬﺎ ﺣﺮﻓﻴٍّﺎ .ﻟﻘﺪ وﺻﻒ اﻟﺮاوي اﻟﺮﺋﻴﺲ ﰲ ﻣﺤﺎورة »ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس« ﻛﺒري اﻟﺼﺎﻧﻌني ﺑﺄﻧﻪ ﻳﺴﺘﺨﺪم إﻧﺎءً ﻟﺘﺤﻀري ﻣﺎ ﻳﺸﺒﻪ ُروح اﻟﻌﺎ َﻟﻢ ،ﺛﻢ ﴎت ﻫﺬه اﻟﺮوح ﰲ ﻛﻞ ﻣﻜﺎن .وﻟﻜﻦ ﺑﺎﺳﺘﺨﺪاﻣﻪ ﻓﻜﺮة اﻟﺮوح واﻹﻧﺎء ،ﻳﺘﻀﺢ أن أﻓﻼﻃﻮن ﻟﻢ ﻳﻘﺼﺪ اﻟﺘﺴﻠﻴﻢ ﺑﺒﻌﺾ ﻫﺬه اﻟﺘﻔﺎﺻﻴﻞ اﻷﺳﻄﻮرﻳﺔ .ﻟﻘﺪ أﺛري َﻛ ِﺜريٌ ﻣﻦ اﻟﺠﺪل ﺣﻮل ﻣﺎ إذا ﻛﺎن رب أﻓﻼﻃﻮن أو اﻟﺼﺎﻧﻊ اﻷﻛﱪ ﻣﻘﺼﻮدًا ﺑﻤﻌﻨﺎه اﻟﺤﺮﰲ ،أم أﻧﻪ ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ ﻗﻴﺎس ﺑني ﻋﻤﻞ اﻹﻧﺴﺎن وﻋﻤﻞ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ .أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻳﺒﺪو اﻟﺮب اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻲ ﻣﺠﺮدًا ﻣﻦ اﻟﻬُ ِﻮﻳﱠ ِﺔ — ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻛﻨﻤﻮذج »اﻟﺨري« — وﻟﻴﺲ ﻛﺎﺋﻨًﺎ ﻟﻪ ذاﺗﻪ املﻤﻴﺰة .وﺣﺘﻰ ﺗﻼﻣﻴﺬ أﻓﻼﻃﻮن ﻟﻢ ﻳﺘﻤ ﱠﻜﻨﻮا ﻣﻦ اﻟﻔﺼﻞ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺠﺪل؛ ﻟﺬﻟﻚ ﻟﻴﺲ ﻫﻨﺎك أﻣﻞ ﰲ ﺣﺴﻤﻪ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﺒﺎﴍة اﻵن .وﻟﻜﻦ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ ﺗﺴﻮﻳﺔ املﺴﺄﻟﺔ — إﱃ ً اﺧﺘﻼﻓﺎ ﺑني أﻓﻜﺎر اﻹﻏﺮﻳﻖ ﻋﻦ اﻟﻌﻘﻼﻧﻴﺔ واﻟﻌﻘﻞ واﻟﻬﺪف ﺣَ ﱟﺪ ﻣﺎ — ﺑﺄن ﻧﺬﻛﺮ أن ﻫﻨﺎك واﻟﻼﻫﻮت ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ وأﻓﻜﺎرﻧﺎ ﻋﻦ ﺗﻠﻚ اﻷﺷﻴﺎء ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ أﺧﺮى. 233
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺮﺳﺎﻟﺔ املﻘﺼﻮدة ﰲ ﻣﺤﺎورة »ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس« ﻫﻲ أن املﻨﻄﻖ ﻫﻮ ﺳﻴﺪ ﻋﺎﻟﻢ أﻓﻼﻃﻮن .وﻟﻜﻦ ﻣﺎ اﻟﺬي ﻛﺎن ﻳﻘﺼﺪه أﻓﻼﻃﻮن ﺑﺎملﻨﻄﻖ؟ ﻣﻦ املﻔﻴﺪ اﻟﺮﺟﻮع إﱃ ﻣﺎ ﻗﺎﻟﻪ ﻋﻦ املﻨﻄﻖ اﻟﺒَﴩي ﰲ »اﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ« وﻏريﻫﺎ .ﻟﻢ ﺗَﻌْ ِﻦ اﻟﻌﻘﻼﻧﻴﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻷﻓﻼﻃﻮن اﻟﺴﻜﻮن ً واﻟﺤﺮص واﻟﺬﻛﺎء ﻓﻘﻂ .ﻓﺎملﻨﻄﻖ اﻹﻏﺮﻳﻘﻲ ِ ﺧﺎﻣﻼ .وﻗﺪ وُﺿﻊ ﻟﻪ ﺗﻌﺮﻳﻒ ﻧﺸﻂ وﻟﻴﺲ ﻣﻼﺋﻢ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻫﻮ »ذﻟﻚ اﻟﴚء اﻟﺬي ﻳُﻤَ ﱢﻜ ُﻦ اﻹﻧﺴﺎن ﻣﻦ اﻟﻌﻴﺶ ﻟﻬﺪف ﻣﺎ «.ﻓﻬﻮ ﻣﺎ ﻳُﻤَ ﱢﻜﻨ ُﻪُ ﻣﻦ ﺗﺤﺪﻳﺪ اﻷﻫﺪاف املﻨﺎﺳﺒﺔ وﺗﻜﺮﻳﺲ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﻟﺘﺤﻘﻴﻘﻬﺎ ،ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﻻ ﻳﻜﻤُﻦ ﰲ ﻏﻴﺎب اﻟﺮﻏﺒﺎت أو ﻛﺒﺘﻬﺎ ،ﺑﻞ ﻫﻮ امل َﻠﻜﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺮوض ﺗﻠﻚ اﻟﺮﻏﺒﺎت ﺑﺤﻴﺚ ﺗﻌﻤﻞ ﻣﻌً ﺎ ﺑﺄﻓﻀﻞ ﺻﻮرة ﻣﻤﻜﻨﺔ وﺗﻀﻊ أﻣﺎﻣﻬﺎ ﺣﺎﻓﺰ »اﻟﺨري« .ﻟﺬا ورد ﰲ »اﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ« أن اﻹﻧﺴﺎن اﻷﺳﻌﺪ ﻫﻮ ﻣﻦ ﻳﺤﻜﻤﻪ اﻟﻌﻘﻞ ،ﺑﻤﻌﻨﻰ أﻧﻪ ﻳﻨﻈﻢ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﰲ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﻬﺪف اﻟﺬي ﻳﻨﻔﻌﻪ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ وﻻ ﻳﺴﻤﺢ ﻷي ﺨﺮﺟﻪ ﻋﻦ ﻫﺬا املﺴﺎر .وﻛﺬﻟﻚ ﻳﺴﻮد اﻟﻌﻘﻞ املﺠﺘﻤﻊ ﺣﻴﻨﻤﺎ ﺷﻬﻮات ﻣﺘﻬﻮرة ﻣﻨﺤﺮﻓﺔ ﺑﺄن ﺗُ ِ ﻳﺪار ﻣﻦ ﻗِ ﺒ َِﻞ اﻷﻓﺮاد اﻷﻓﻀﻞ ﺗﻨﻈﻴﻤً ﺎ .وﻟﻜﻦ ﻛﻴﻒ ملﻔﻬﻮم املﻨﻄﻖ املﻮﺟﱠ ﻪ اﻟﻨﺸﻂ ﻫﺬا أن ﻳﻈﻬﺮ ﰲ اﻟﺠﻤﺎد؟ ﰲ ﻋﴫ املﻌﻠﻮﻣﺎت ﱠ ﻋﱪ ﺑﻌﺾ اﻟﻔﻴﺰﻳﺎﺋﻴني املﻌﺎﴏﻳﻦ ﻋﻦ اﻟﻜﻮن ﻛﻤﺎ ﻟﻮ ً ﻋﻤﻼﻗﺎ ﻳﻘﻮم ﺑﻤﻌﺎﻟﺠﺔ اﻟﺒﻴﺎﻧﺎت )أي اﻷﺣﺪاث( ﺗﺒﻌً ﺎ ﻟﻸواﻣﺮ اﻟﻮاردة ﰲ ﻧﻈﺎم ﻛﺎن ﺣﺎﺳﺒًﺎ ﺗﺸﻐﻴﻠﻪ )أي ﻗﻮاﻧني اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ( .وﰲ ﻋﴫ اﻵﻻت — ﺑﺪءًا ﻣﻦ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻣﻦ ﻋﴩ — ﻛﺎﻧﺖ ﺣﻮادث اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ َ ﺗﻮﺻﻒ ﰲ ﺳﻴﺎق آﱄ ﻛﺎﻟﺘﺎﱄ :إن إﺑﺪاع اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻳﻜﻤُﻦ ﰲ اﻟﺘﱠﻜﺮار اﻟﺪﻗﻴﻖ ﻟﺤﺮﻛﺎﺗﻬﺎ وﰲ ﺣﺴﻦ اﻟﺘﻨﺎﻏﻢ ﺑني أﺟﺰاﺋﻬﺎ .وﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﻮن ﺻﺎﻧﻌﻲ آﻻت وﻟﻢ ﻳﺘﺪاوﻟﻮا املﻌﻠﻮﻣﺎت ﺑﻞ ﻛﺎﻧﻮا ﺣﺮﻓﻴني .وﻗﺪ ﻛﺎن اﻹﺑﺪاع ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻬﻢ ﻳﺒﺪو ﺟﻠﻴٍّﺎ ﻋﻨﺪ ﺻﻨﻊ ﳾء ﻣﺎ ﻣﻦ املﻮاد اﻷوﻟﻴﺔ: إن اﻟﺤﺮﻓﻴني ﻻ ﻳﻘﻮﻣﻮن ﺑﺎﻧﺘﻘﺎء املﻮاد اﻷوﻟﻴﺔ ﺛﻢ اﺳﺘﺨﺪاﻣﻬﺎ ﻋﺒﺜًﺎ ،وإﻧﻤﺎ ﻜﺴﺐ ﻣﻨﺘﺠﺎﺗﻬﻢ ﺻﻮرة ﻣﻌﻴﻨﺔ .ﻓﻠﻮ ﻧﻈﺮت ً ﻳﺴﺘﻐﻠﻮﻧﻬﺎ ﺑﺎﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﺗُ ِ ﻣﺜﻼ … إﱃ املﺼﻮر واﻟﺒَﻨﱠﺎء وﺻﺎﻧﻊ اﻟﺴﻔﻦ وﻏريﻫﻢ ﻣﻦ اﻟﺤﺮﻓﻴني … ﻟﺮأﻳﺖ ﻛﻴﻒ ﻳﻮ ﱢ ﻇﻒ ﻛ ﱞﻞ ﻣﻨﻬﻢ ﻛﻞ ﻋﻨﴫ ﰲ ﻧﺴﻖ ﻣﻌني وﻳﻮﻓﻘﻪ ﻟﻴﺘﻨﺎﻏﻢ ﻣﻊ ﻏريه؛ ﺣﺘﻰ ﻳﺠﻤﻊ املﻜﻮﻧﺎت ﰲ ﻣﻨﺘﺞ ﻣﻨﻈﻢ وﻣﺤﻜﻢ. وﻟﻜﻲ ﻳﺼﺒﺢ اﻟﴚء ﻣﻨﻈﻤً ﺎ وﻣﺤﻜﻤً ﺎ — ﺑﻤﺎ ﻳﺠﺴﺪ املﻨﻄﻖ ﰲ اﻟﻌﻤﻞ — ﻳﺠﺐ أن ﺗﻨﻈﻢ ﻣﻜﻮﻧﺎﺗﻪ و ً َﻓﻘﺎ ﻟﻨﺴﻖ أو ﻧﻤﻮذج واﺿﺢ .إن ﺟﻮﻫﺮ املﻨﻄﻖ اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻲ — ﺳﻮاء و ُِﺟ َﺪ ﰲ اﻹﻧﺴﺎن أو اﻟﺴﻔﻦ أو املﺪن أو اﻟﻜﻮن ﻛﻜﻞ — ﻳﻜﻤﻦ ﰲ اﺳﺘﻐﻼل اﻟﻮﺳﺎﺋﻞ ﺑﺤﺮﻓﻴﺔ ﻟﺘﺤﻘﻴﻖ اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ .ﻓﺎﻷﺷﻴﺎء اﻟﺠﺎﻣﺪة ﻳﻤﻜﻦ اﻟﻘﻮل إﻧﻬﺎ ﻣﻨﺘﻈﻤﺔ ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ وﺳﺎﺋﻞ أ ُ ِ ﺣﺴﻦ 234
ﺟﻤﻬﻮرﻳﺔ املﻨﻄﻖ :أﻓﻼﻃﻮن
اﺳﺘﻐﻼﻟُﻬﺎ ،وﻫﺬا ﻫﻮ ﺟﻮﻫﺮ ﻣﺎ ﻳﻘﺼﺪه أﻓﻼﻃﻮن ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻳﺘﺤﺪﱠث ﻋﻦ اﻟﻬﺪف املﻨﻄﻘﻲ ﰲ ﱠ ﻳﺘﺠﲆ ﰲ ﻧﻮﻋﻪ .وﻫﺬا ﻫﻮ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ .ﻓﺎﻟﻬﺪف املﻨﻄﻘﻲ ﻳﺘﺴﻢ ﺑﺘﻨﺎﻏﻢ أﺟﺰاﺋﻪ ﻣﻌً ﺎ ﻛﻤﺎ املﻨﻄﻖ واﻟﻬﺪف ﻣﻦ ﻣﻨﻈﻮر اﻟﺤﺮﰲ. وﻟﻜﻦ ﻣﺎ ﻫﻲ وﻇﻴﻔﺔ اﻟﺮب ﰲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺼﻮرة؟ ﻳﻈﻬﺮ اﻟﺮب ﰲ اﻹﻧﺠﻴﻞ ﺑﻮﺻﻔﻪ ﺻﺎﺣﺐ ا ُملﺜُﻞ اﻷوﱃ — أو اﻟﻨﻤﺎذج اﻟﺘﻲ ﺗﺘﺒﻊ — اﻟﺬي ﻳﴩع ﰲ ﺑﻨﺎء اﻟﻌﺎﻟﻢ .وﻟﻜﻦ ﻫﺬه اﻟﻮﻇﻴﻔﺔ ﻟﻴﺴﺖ ﻣﻮﺟﻮدة ﰲ ﻋﺎﻟﻢ أﻓﻼﻃﻮن .ﻓﺎ ُملﺜُﻞ أو اﻟﻨﻤﺎذج اﻷوﱃ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ً ﺳﺎﺑﻘﺎ ﰲ املﻨﺎﻗﺸﺔ اﻟﺘﻲ ﻋﺮﺿﻬﺎ ﺑني ﺳﻘﺮاط وﻳﻮﺛﻴﻔﺮو أن ﻣﻮﺟﻮدة ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ .وﻗﺪ رأﻳﻨﺎ اﻟﻘﻴﻢ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ — وﻟﻴﺲ ﻣﺎ ﻳﺨﺘﺎره اﻟﺮب — ﻫﻲ أﻫﻢ ا ُملﺜُﻞ اﻟﺘﻲ ﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﻳﻘﻮم ﻋﻠﻴﻬﺎ ً ﻣﻘﺪﺳﺎ ﻫﻮ ﻣﻘﺪﱠس ﻷن اﻵﻟﻬﺔ أﺣ ﱠﻠﺘﻪ أم اﻟﻌﺎﻟﻢ .وﺑﻄﺮﺣﻪ اﻟﺴﺆال املﺤﻮري» :ﻫﻞ ﻣﺎ ﻳُﻌَ ﱡﺪ أﻧﻬﺎ أﺣ ﱠﻠﺘﻪ ﻷﻧﻪ ﻣﻘﺪس ﺑﺎﻷﺳﺎس؟« ﻳﺒني أﻓﻼﻃﻮن أن اﻟﺮب ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻪ ذو ﺻﻼﺣﻴﺎت ﻣﺤﺪودة ،ﻓﻜﻞ ﳾء ﻳﺠﺐ اﻟﻔﺼﻞ ﻓﻴﻪ ﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻨﻪ .وﻳﻨﻄﺒﻖ ﻧﻔﺲ اﻷﻣﺮ ﻋﲆ ﻛﻞ اﻟﺼﻮر ،ﻣﻦ ﺻﻮرة »اﻟﺪودة« إﱃ ﺻﻮرة »اﻟﺨري« .ﻓﻠﻜﻞ ﳾء و ْ َﺿ ٌﻊ ﻣﺜﺎﱄ — ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺴﺘﻘﻞ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﺣﺘﻰ ﻗﺒﻞ وﺟﻮد اﻟﺮب — ﻳُﻤَ ﱢﻜﻨ ُ ُﻪ ﻣﻦ أداء وﻇﻴﻔﺘﻪ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ .ووﻇﻴﻔﺔ اﻟﺮب ﻋﻨﺪ أﻓﻼﻃﻮن ﺷﻜﻠﻴﺔ ً ﺣﻴﺚ ﻳﺠﻤﻊ املﺎدة واملﺜﻞ ً ﺳﺎﺑﻘﺎ .وﻣﻊ وﻓﻘﺎ ﻟﻠﺘﻌﻠﻴﻤﺎت اﻟﻮاردة ﰲ اﻟﻨﻤﺎذج اﻷوﱠﻟﻴﺔ املﻮﺟﻮدة ذﻟﻚ ﻓﺘﻠﻚ وﻇﻴﻔﺔ ﺣﻴﻮﻳﺔ إن اﻓﱰﺿﺖ أن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺑﺪوﻧﻬﺎ ﻗﺪ ﻻ ﻳﺘﻄﻮر أﺑﺪًا و ً َﻓﻘﺎ ﻟﺘﻠﻚ ا ُملﺜُﻞ ،ﻟﻜﻦ املﻌﻀﻠﺔ أن آﻟﻬﺔ أﺧﺮى ﻗﺪ ﻳُﻌﺮﺿﻮن ﻋﻦ اﻷﻣﺮ إن ﻟﻢ ﻳﺘﺪﺧﻠﻮا ﻟﻔﺮض ﺻﻮرﻫﻢ وأﻓﻜﺎرﻫﻢ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﻋﻨﺪ اﻟﺘﻄﺒﻴﻖ. ﻟﻘﺪ اﺗﱠﻔﻖ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻹﻏﺮﻳﻖ اﻟﻘﺪاﻣﻰ — أﻳٍّﺎ ﻛﺎﻧﺖ آراؤﻫﻢ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ — ﻋﲆ ﺗﺼﻮﱡر ﻣﺸﱰك ﺑﺸﺄن اﻟﻼﻫﻮت ﻳﺘﱠﺼﻞ ﺑﻤﻔﻬﻮم أﻓﻼﻃﻮن ﻋﻦ اﻟﺮب وﺑﺨﺎﺻﺔ ﻣﺪى اﻟﺤَ ْﺮﻓﻴﺔ واﻷﺻﻮﻟﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ ﰲ ﻇﻠﻬﺎ َﻓﻬﻢ ﺗﻔﺴري أﻓﻌﺎﻟﻪ اﻟﻮاردة ﰲ ﻣﺤﺎورة »ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس« ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ ﻗﺼﺔ إﻧﺠﻴﻠﻴﺔ .ﻟﻘﺪ ﺗﻘﺒﱠﻞ اﻹﻏﺮﻳﻖ ﻓﻜﺮة اﻟﻼﻫﻮت — ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ ٍّ ﻣﺴﺘﻘﻼ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻋﻦ اﻟﺼﻔﺎت املﻮﺟﻮدة ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ — أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻓﻜﺮة اﻟﺮب ﺑﻮﺻﻔﻪ ﻛﺎﺋﻨًﺎ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ .وﻟﻘﺪ ﻋ َﺮﻓﻨﺎ أن اﻷﺷﻴﺎء ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻮﺻﻒ ﺑﺎملﻘﺪﺳﺔ ﺑﻨﺎءً ﻋﲆ دواﻣﻬﺎ ُ وﻗ ﱠﻮﺗِﻬَ ﺎ ُ وﺳ ُﻤﻮﱢﻫﺎ ﻋﻤﺎ ﻫﻮ ﺑﴩي ﺑﺎﻷﺳﺎس .وﻛﺎﻧﺖ ﻛﻠﻤﺔ »ﻣﻘﺪس« ﺑني اﻹﻏﺮﻳﻖ ﺗُﺴﺘﺨﺪم ﺑﺸﻜﻞ أﺳﺎﳼ ﻟﻠﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻷﺷﻴﺎء ،أﻣﺎ ﻓﻜﺮة وﺟﻮد ﻛﺎﺋﻦ ﻣﻘﺪس ﻣﻨﻔﺼﻞ ﻓﺘﻨﺒُﻊ ﻣﻦ ﻫﺬا اﻻﺳﺘﺨﺪام ،وﻟﻴﺲ اﻟﻌﻜﺲ .وﻫﻨﺎ ﻳﻮﺿﺢ أﺣﺪ ﱢ املﻌﻘﺒني ﻋﲆ أﻓﻼﻃﻮن ً ﻗﺎﺋﻼ: ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻳﻘﻮل ﻣﺴﻴﺤﻲ إن اﻟﺮب ﻣﺤﺒﺔ أو إﻧﻪ اﻟﺨري ﻓﻬﻮ ﻳﺆﻛﺪ — أو ﻳُﺴ ﱢﻠﻢ — ً أوﻻ ﺑﻮﺟﻮد ﻛﺎﺋﻦ ﻏﺎﻣﺾ وﻫﻮ اﻟﺮب ،ﺛﻢ ﻳﻄﻠﻖ ﺣﻜﻤً ﺎ ﻧﻮﻋﻴٍّﺎ ﺑﺸﺄﻧﻪ؛ ﻓﻬﻮ ﻳﺨﱪﻧﺎ 235
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﺷﻴﺌًﺎ ﻋﻦ اﻟﺮب .أﻣﺎ اﻹﻏﺮﻳﻖ ﻓﺎﻷﻣﺮ ﻋﻨﺪﻫﻢ ﻣﻌﻜﻮس .ﻓﻬﻢ ﻳﻘﻮﻟﻮن إن املﺤﺒﺔ إﻟﻪ أو إن اﻟﺠﻤﺎل إﻟﻪ وﻻ ﻳﻔﱰﺿﻮن وﺟﻮد أي ﻛﻴﺎن ﻏﺎﻣﺾ ،ﺑﻞ ﻳﺬﻛﺮون ﺷﻴﺌًﺎ ﻋﻦ املﺤﺒﺔ واﻟﺠﻤﺎل اﻟﻠﺬَﻳْﻦ ﻻ ﻳُﻨﻜِﺮ ﺣﻘﻴﻘﺔ وﺟﻮدﻫﻤﺎ أﺣﺪ .ﻓﺎﻟﴚء اﻟﺬي ﻳﺘﺤﺪث ﻋﻨﻪ وﻳﺼﺪر ﺣﻜﻤً ﺎ ﺑﺸﺄﻧﻪ ﻣﻮﺟﻮد ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺬي ﻧﻌﺮﻓﻪ. ﻳﺮى أﻓﻼﻃﻮن أن املﻠﺤﺪ — ﻣﻦ ﻳﻨﻜﺮ وﺟﻮد اﻹﻟﻪ — ﻫﻮ إﻧﺴﺎن ﻗﺪ أﺧﻄﺄ ﰲ اﻋﺘﻘﺎده ﺑﻌﺪم وﺟﻮد ﻧﻈﺎم أو ﻫﺪف ﰲ اﻟﻜﻮن أﻋﻈﻢ ﻣﻦ اﻹﻧﺴﺎن ﻧﻔﺴﻪ .ﻓﺎﻟﺼﺎﻧﻊ اﻷﻛﱪ أو اﻟﺮب اﻷﻗﺪم ﻋﻨﺪ أﻓﻼﻃﻮن ﻗﺪ ﻳﻜﻮن ﻫﻮ ﻧﻔﺴﻪ ﰲ ﺟﻤﺎﻟﻪ وﻛﻔﺎءﺗﻪ اﻟﻮﻇﻴﻔﻴﺔ ﺗﺠﺴﻴﺪ ﻟﻬﺬا اﻟﻨﻈﺎم أو ً ﺧﺎﻟﻘﺎ ﺧﺎرج إﻃﺎره. ذﻟﻚ اﻟﻬﺪف ،وﻟﻜﻦ أﻳٍّﺎ ﻣﺎ ﻳﻜﻮن ﻓﻬﻮ ﳾء ﻣﻮﺟﻮد ﰲ اﻟﻜﻮن وﻟﻴﺲ ﻳﺮث ﻫﺬا اﻟﺮب املﺎدة اﻟﺘﻲ ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻬﺎ ،ﻋﻠﻴﻪ أن ﻳﺨﻀﻊ ﻟﻠ ُﻤﺜُﻞ اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ؛ أي ﻟﻘِ ﻴَﻢ ﻓﻜﻤﺎ ِ اﻟﻨﻈﺎم واﻟﺠﻤﺎل واﻟﺨري .وﻫﺬه ﻫﻲ اﻷﴎار املﻘﺪﱠﺳﺔ ﻟﻠﺪﻳﺎﻧﺔ اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ .وﺑﺈﺛﺒﺎت ﻫﺬه اﻟﻨﻘﻄﺔ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﻨﺘﻘﻞ إﱃ اﻷﺳﺎﻃري املﺆﺛﱢﺮة اﻟﺘﻲ وردت ﰲ »ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس« ﻟﻨﺮى أن اﻷﻣﺮ ﻻ ﻳﺨﺘﻠﻒ ﻛﺜريًا ﻋﻦ أﺻﻮل ﻓﻠﺴﻔﺔ أﻓﻼﻃﻮن ،ﺳﻮاءٌ أَﻋْ ﺘَ َﻘ َﺪ ﺣﺮﻓﻴٍّﺎ ﰲ وﺟﻮد ﻫﺬا اﻟﺼﺎﻧﻊ اﻷﻛﱪ أم ﻻ. ﻟﻘﺪ ﻛﺘﺒﺖ ﻣﺤﺎورة »ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس« ﻟﺘﻜﻮن ﰲ ﻣﺴﺘﻬَ ﻞ ﻣﻠﺤﻖ ﻳﻀﻢ ﺛﻼﺛﺔ أﺟﺰاء ﺗﻜﻤﻞ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﻮاردة ً ﺳﻠﻔﺎ ﰲ »اﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ« .ﻛﺎن ﻣﻦ املﻔﱰض أن ﺗﺘﻤﻢ ﺗﻠﻚ اﻟﺜﻼﺛﻴﺔ ﻣﻨﺎﻗﺸﺔ املﺪﻳﻨﺔ اﻟﻔﺎﺿﻠﺔ ﰲ »اﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ« ﺑﻌﺮض ﻗﺼﺔ ﺣﻮل ﻛﻴﻔﻴﺔ ﺗﺤﻘﻴﻖ ﻫﺬه املﺪﻳﻨﺔ ،وﻛﻴﻒ أﻧﻬﺎ ﺳﺘﻨﺠﺢ ﰲ ﻣﻌﺎﻣﻼﺗﻬﺎ ﻣﻊ املﺪن اﻷﺧﺮى .وﺗﺘﻨﺎول اﻟﻘﺼﺔ ﺗﺤﺪﻳﺪًا ﻣﻌﺮﻛﺔ ﻟﻠﻌﻤﺎﻟﻘﺔ ﰲ املﺎﴈ اﻟﺴﺤﻴﻖ ﻣﻊ إﻣﱪاﻃﻮرﻳﺔ ﺗُﺪﻋﻰ أﻃﻼﻧﺘﻴﺲ ُﻫ ِﺰﻣَ ْﺖ ﰲ اﻟﺤﺮب وﻏﺮﻗﺖ ﰲ اﻟﺒﺤﺮ .وﻗﺪ ﻛﺎن اﺑﺘﻜﺎر أﻓﻼﻃﻮن ملﺪﻳﻨﺔ أﻃﻼﻧﺘﻴﺲ ذا ﺻﺪًى ﻗﻮي ﻟﺪرﺟﺔ أن اﻟﺒﺎﺣﺜني واملﻬﺎوﻳﺲ أﺧﺬوا ﻳﺒﺤﺜﻮن ﻋﻨﻬﺎ ﻣﻨﺬ ذﻟﻚ اﻟﺤني .وﻗﺪ ﺣﻮﱠﻟﻬﺎ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻨﻬﻢ ﺑﺸﻜﻞ ﻏﺮﻳﺐ إﱃ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻓﺎﺿﻠﺔ ﺑﻴﻨﻤﺎ ِ ﻳﺼﻔﻬﺎ أﻓﻼﻃﻮن ﺑﺄﻧﻬﺎ إﻣﱪاﻃﻮرﻳﺔ ﴍﻳﺮة ﻣﻦ املﺴﺘﺒﺪﱢﻳﻦ اﻟﻄﻐﺎة .وﻟﻜﻦ اﻟﺜﻼﺛﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻗﻴﺪ اﻟﺘﺨﻄﻴﻂ ﻟﻢ ﺗﺨ ُﺮج إﱃ اﻟﻨﻮر .وﻣﻌﻈﻢ ﻣﺎ ﻧﺠﺪه ﰲ ﻣﺤﺎورة »ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس« ﻫﻮ وﺻﻒ ﻣﻔﺼﻞ ﻷﻗﺪم اﻟﻌﺼﻮر ﰲ اﻟﺘﺎرﻳﺦ .وﻫﺬا اﻟﻮﺻﻒ ﻣﻘﺪﱠم ﰲ ﺻﻮرة ﺳﻠﺴﻠﺔ ﻣﻦ املﻨﺎﺟﺎت اﻟﻔﺮدﻳﺔ اﻟﻄﻮﻳﻠﺔ ﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﺗُﺪﻋﻰ ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس ﻣﻦ ﻟﻮﻛﺮي )ﰲ إﻳﻄﺎﻟﻴﺎ( ،ﺷﺒﱠﻬﻬﺎ ﻛﺜريون ﺑﺼﺎﺣﺐ املﺬﻫﺐ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮري أرﺧﻴﺘﺎس اﻟﺘﺎراﻧﺘﻮﻣﻲ. ﻳﺆﻛﺪ ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس ﰲ ﻣﻘﺪﻣﺔ ﻣﺤﺎﴐاﺗﻪ أﻧﻪ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﻣﺆ ﱠﻛﺪة ﺑﺎملﺴﺎﺋﻞ اﻟﺘﻲ ﺳﻴﻨﺎﻗﺸﻬﺎ ﻓﻴﻘﻮل» :ﻣﻦ اﻟﻜﺎﰲ أن ﻧﱪﻫﻦ ﻋﲆ ﻛﻞ اﻻﺣﺘﻤﺎﻻت ﻛﻐريﻫﺎ ﻷﻧﻨﺎ ﻣﺠﺮد ﺑﴩ ﻓﺎﻧِني، وﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﺘﻘﺒﻞ اﻟﺮواﻳﺔ املﺤﺘﻤﻠﺔ دون ﻃﺮح ﻣﺰﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺘﺴﺎؤﻻت «.وﻳﻨﺸﻐﻞ ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس 236
ﺟﻤﻬﻮرﻳﺔ املﻨﻄﻖ :أﻓﻼﻃﻮن
ﺑﺘﻘﺪﻳﻢ رﺻﺪ ﻣﺤﺪﱠد ودﻗﻴﻖ ﻟﻠﻜﻮن .ﻓﺎﻟﺮب — أو اﻟﺼﺎﻧﻊ اﻷﻛﱪ — ﻗﺪ ﺻﻨﻊ اﻟﻌﺎﻟﻢ املﺤ َﻜﻢ ﻷﻧﻪ ﻛﺎن ﻣﺎﻫ ًﺮا ﻓﺄراد أن ﻳﻜﻮن ﻛﻞ ﳾء ﺟﻴﺪًا ﻗﺪر اﻹﻣﻜﺎن ً أﻳﻀﺎ .وﻳﻔﻬﻢ ﺿﻤﻨًﺎ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻫﻨﺎك ﻋﺎﻟﻢ ﺑُﺪاﺋﻲ ﻗﺒﻞ ذﻟﻚ وﻟﻜﻨﻪ ﻛﺎن ﻧﻤﻮذﺟً ﺎ ردﻳﺌًﺎ .وﺣﻴﺚ إن ﻃﺒﻴﻌﺔ ﻫﺬا اﻟﺮب ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻦ ﻣﻨﻈﻮر ﻓﻴﺜﺎﻏﻮري ﺑﺤﺖ؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن اﻷﺳﺎس اﻟﺬي اﻋﺘﻤﺪ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺼﺎﻧﻊ اﻷﻛﱪ ﰲ ﺧﻠﻖ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻛﺘﺎﺑًﺎ ﰲ اﻟﻬﻨﺪﺳﺔ ﻳﺒﺪو أن ﺣﻮاﺷﻴﻪ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻌﺞ ﺑﻤﻼﺣﻈﺎت ﻹﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ودﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ. ﻛﺎن اﻟﻬﺪف اﻟﺮﺋﻴﺲ ﻫﻮ ﺿﻤﺎن اﻻﻧﺘﻈﺎم؛ ﻷن اﻻﻧﺘﻈﺎم أﻣﺮ ﺟﻴﺪ وﻣﻨﻄﻘﻲ .ﻟﻘﺪ ﻋﻠِﻢ ِ ِ ﻣﺘﻨﺎﻇﺮة ﻣﻨﺘﻈﻤﺔ ﰲ ﻋﻠﻢ اﻟﻬﻨﺪﺳﺔ؛ أي ﺧﻤﺴﺔ أﺷﻜﺎل أﻓﻼﻃﻮن أن ﻫﻨﺎك ﺧﻤﺴﺔ أﺟﺴﺎم ﻳﻤﻜﻦ ﺑﻨﺎؤﻫﺎ ﻣﻦ أﺷﻜﺎل ﻣﺴ ﱠ ﻄﺤﺔ ﻣﺘﻤﺎﺛﻠﺔ ،وﻫﻲ :رﺑﺎﻋﻲ اﻷﺳﻄﺢ املﻨﺘﻈﻢ )ﻫﺮم ﻣﻜﻮن ﻣﻦ أرﺑﻌﺔ ﻣﺜﻠﺜﺎت ﻣﺘﺴﺎوﻳﺔ اﻷﺿﻼع( واملﻜﻌﺐ )ﻣﻜﻮن ﻣﻦ ﺳﺘﺔ ﻣﺮﺑﻌﺎت( واملﺠﺴﻢ اﻟﺜﻤﺎﻧﻲ املﻨﺘﻈﻢ )ﺛﻤﺎﻧﻴﺔ ﻣﺜﻠﺜﺎت ﻣﺘﺴﺎوﻳﺔ اﻷﺿﻼع( واملﺠﺴﻢ اﻟﻌﴩوﻧﻲ )ﻋﴩون ﻣﺜﻠﺜًﺎ ﻣﺘﺴﺎوي اﻷﺿﻼع( واملﺠﺴﻢ اﻻﺛﻨﺎ ﻋﴩي اﻷوﺟﻪ اﻟﺬي ﻳﺸﺒﻪ ﻛﺮة اﻟﻘﺪم )اﺛﻨﺎ ﻋﴩ ﻣﻀﻠﻌً ﺎ ﺧﻤﺎﺳﻴٍّﺎ(. ﻫﺬه اﻟﻨﻤﺎذج املﺜﺎﻟﻴﺔ املﻨﺘﻈﻤﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺟﻴﺪة إﱃ درﺟﺔ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻣﻌﻬﺎ إﻏﻔﺎﻟﻬﺎ؛ ﻟﺬا اﺳﺘﺨﺪم اﻟﺮب ﻫﺬه املﺠﺴﻤﺎت اﻟﻬﻨﺪﺳﻴﺔ ﻗﻮاﻟﺐَ ﻟﺠﻤﻴﻊ أﺷﻜﺎل املﺎدة .ﻓﺎﺳﺘﻌﻤﻠﺖ اﻷرﺑﻌﺔ اﻷوﱃ ﻣﻨﻬﺎ ﻟﺼﻨﻊ ﻋﻨﺎﴏ إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ اﻷوﱠﻟﻴﺔ :اﻟﻨﺎر واﻟﱰاب واﻟﻬﻮاء واملﺎء ﻋﲆ اﻟﱰﺗﻴﺐ .ﻓﺎﻟﱰاب ً ﻣﺜﻼ ﻛﺎن ﻣﻜﻌﺒًﺎ ﻷن املﻜﻌﱠ ﺐ أﻛﺜﺮ املﺠﺴﻤﺎت املﻨﺘﻈﻤﺔ اﺳﺘﻘﺮا ًرا ،ﺣﻴﺚ اﺣﺘﺎج اﻟﺮب إﱃ ﻗﺎﻋﺪة ﺛﺎﺑﺘﺔ ﻳﻌﺘﻤﺪ ﻋﻠﻴﻬﺎ .أﻣﺎ اﻟﺠﺴﻢ اﻟﺨﺎﻣﺲ ﻓﻘﺪ رﺑﻂ ﺑﺎﻟﻜﻮن ﻛﻠﻪ ﻷن املﺠﺴﻢ اﻻﺛﻨﺎ ﻋﴩي اﻷوﺟﻪ ﻛﺎن أﻗﺮب اﻟﺨﻤﺴﺔ إﱃ اﻟﻜﺮة )وﻫﻲ اﻟﺠﺴﻢ اﻷﻗﺮب إﱃ اﻟﺘﻤﺎم واﻻﻧﺘﻈﺎم(. ﻛﺎن ﻛﻮﻛﺐ اﻷرض ﻋﺎ َﻟﻤً ﺎ ﻏري ﻣﺘﺤﺮك ﰲ ﻣﺮﻛﺰ اﻟﻜﻮن ﻳﺪور ﺣﻮﻟﻪ اﻟﺸﻤﺲ واﻟﻘﻤﺮ ُ وﺗﺪﺧﻞ ﺣﺮﻛﺘﻬﻢ ﰲ ﻛﺮة أﻛﱪ ﺗﺪور ً أﻳﻀﺎ واﻟﻜﻮاﻛﺐ اﻷﺧﺮى ﺑﴪﻋﺎت وﻣﻴﻮل ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ، وﺗﺸﻜﻞ اﻟﺤَ ﱠﺪ اﻟﺨﺎرﺟﻲ ﻟﻠﻜﻮن ﺣﻴﺚ ﺗﺒﺪو اﻟﻨﺠﻮم ﻛﺠﻮاﻫ َﺮ ﰲ ﻗﺒﺔ .وﻳﺒﺪو أن أﻓﻼﻃﻮن ﻗﺪ أدرك — رﺑﻤﺎ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﻳﻮدﻳﻜﺴﻮس زﻣﻴﻠﻪ ﰲ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ — أن اﻟﺸﺬوذ املﻠﺤﻮظ ﰲ ﺣﺮﻛﺔ اﻟﻜﻮاﻛﺐ ﻳﻤﻜﻦ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ املﺒﺪأ ﺗﻔﺴريُه ﰲ إﻃﺎر اﻵﺛﺎر املﺮ ﱠﻛﺒﺔ ﻟﻠﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺤﺮﻛﺎت املﻨﺘﻈﻤﺔ. أﺳﺎﺳﺎ ﻟﻠﻤﺨ ﱠ ً ﻄﻂ اﻟﻔﻠﻜﻲ. وﻳُﻌﺘَ َﱪ اﻟﺪوران املﻨﺘﻈﻢ اﻟﺤﺮﻛﺔ اﻷﻓﻀﻞ واﻷﺗﻢ؛ ﻟﺬا اﺧﺘري ﻟﻴﻜﻮن ِ املﻨﺘﻈﻤﺔ اﻟﻌﻈﻴﻤﺔ ﺗُﻌﻄﻲ اﻟﻨﺎس ﻓﻜﺮﺗﻬﻢ ﻋﻦ وﻳﻘﻮل ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس إن رؤﻳﺔ ﻫﺬه اﻟﺤﺮﻛﺎت اﻟﺰﻣﻦ )ﺻﻮرة ﻣﺘﺤﺮﻛﺔ ﻟﻸﺑﺪﻳﺔ( وﻋﻦ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ،وﻗﺪ ﻳﻜﻮن ﻫﺬا ﻫﻮ اﻟﺴﺒﺐ ﰲ ُ ﺻﻨﻊ اﻟﺮب ﻟﻬﺎ. إن ﻛﻞ اﻟﺤﻮادث اﻟﺪﻧﻴﻮﻳﺔ ﺗﻜﻤُﻦ ﰲ اﻟﺘﻔﺎﻋﻞ ﺑني اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻷرﺑﻌﺔ ،وﻛﻞ املﻮاد ﰲ ً ﺑﻌﻀﺎ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺗﱰ ﱠﻛﺐ ﻣﻨﻬﺎ ﻛﻤﺎ ﻗﺎل إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ .وﻋﲆ املﺴﺘﻮى اﻷدﻧﻰ اﻗﺘﺒﺲ أﻓﻼﻃﻮن 237
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻣﻤﱠ ﺎ ﻋﻨﺪ أﺻﺤﺎب املﺬﻫﺐ اﻟﺬﱠ ﱢري ورﺻﺪ ﺧﺼﺎﺋﺺ ﻛﻞ ﻋﻨﴫ وﻣﺎدة ﰲ ﺿﻮء أﺷﻜﺎل اﻟﺠﺴﻴﻤﺎت املﻜﻮﱢﻧﺔ ﻟﻬﺎ .ﻟﺬﻟﻚ ﻓﺎﻟﻨﺎر ﻣﺆ ِﻟﻤﺔ ﻋﻨﺪ اﻟﻠﻤﺲ ﺑﺴﺒﺐ اﻟﺮءوس اﻟﺤﺎدة ﰲ ُرﺑﺎﻋﻲ اﻷﺳﻄﺢ املﻨﺘﻈﻢ املﻜﻮﱢن ﻟﻬﺎ .وﻟﻜﻦ ﺟﺴﻴﻤﺎت أﻓﻼﻃﻮن أﻗﺮب إﱃ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ﻣﻦ ذَ ﱠرات ِ املﻨﺘﻈﻤﺔ ﻋﲆ ﻋﻜﺲ دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ؛ ﻷن اﻷﺧرية ﺟﺎءت ﰲ ﺻﻮرة ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻷﺷﻜﺎل ﻏري أﺷﻜﺎل أﻓﻼﻃﻮن اﻟﺨﻤﺴﺔ املﻨﺘﻈﻤﺔ .وﻳﻮﺟﺪ اﺧﺘﻼف آﺧﺮ ﻳﻜﻤُﻦ ﰲ أن ﺟﺴﻴﻤﺎت أﻓﻼﻃﻮن ﱡ اﻟﺘﻐريات ﻟﻴﺴﺖ أوﱠﻟﻴﱠﺔ وﻏري ﻗﺎﺑﻠﺔ ﻟﻼﻧﻘﺴﺎم؛ ﻓﻬﻲ ﺑﺪورﻫﺎ ﺗﺘﻜﻮن ﻣﻦ ﻣﺜﻠﺜﺎت ،ﺣﻴﺚ ﺗﻌﺰى ﰲ اﻟﻌﻨﺎﴏ إﱃ إﻋﺎدة اﻟﺪﻣﺞ ﺑني ﻫﺬه اﻟﻘﻄﻊ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﺔ .وﻳﺒﺪو أن املﺜﻠﺜﺎت ذاﺗﻬﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﺑﺪورﻫﺎ أن ﺗﺘﺤﻠﻞ إﱃ أرﻗﺎم ﻋﲆ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس. إن ﻫﺬا اﻟﺨﻴﺎل اﻟﺮﻳﺎﴈ اﻟﻐﺮﻳﺐ ﻳُﺒ ﱢ ُ َني اﻻﺧﺘﻼف اﻟﺠﻮﻫﺮي ﺑني ﻓﻜﺮة دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ وﻓﻜﺮة أﻓﻼﻃﻮن ،ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺨﺺ ﺑﻨﻴﺔ املﺎدة .ﻓﺎﻟﻮﺣﺪات اﻟﺒﻨﺎﺋﻴﺔ ﰲ ﻧﻈﺎم أﻓﻼﻃﻮن ﻻ ﺗﻮ ﱠ ﻇﻒ ﺑﺎملﻌﻨﻰ اﻟﺤﺮﰲ ﻟﻬﺎ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق؛ ﻓﻬﻲ ﻟﻴﺴﺖ ﻣﺠﺴﻤﺎت وﻟﻜﻨﻬﺎ أﺷﻜﺎل رﻳﺎﺿﻴﺔ ﻣﺜﺎﻟﻴﺔ .وﻫﺬا ﻳﻌﻜﺲ أن وﻇﻴﻔﺔ اﻟﺮب ﻋﻨﺪ أﻓﻼﻃﻮن ﻟﻴﺴﺖ ﺧﻠﻖ ﻣﺎدة ﺟﺪﻳﺪة ﻣﻦ اﻟﻌﺪم — ﻓﻼ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﺼﺎﻧﻊ أن ﻳﻔﻌﻞ ذﻟﻚ — ﺑﻞ وﻇﻴﻔﺘﻪ ﺗﻄﺒﻴﻖ املﺜﺎل وﺗﻨﻔﻴﺬه ﺑﺸﻜﻞ ﻋﻘﻼﻧﻲ ً ﺷﻜﻼ ﻣﻨﺎﺳﺐ .ﻓﻬﻮ ﻳﺴﺘﺨﺪم ﻣﻮا ﱠد أوﻟﻴﺔ ﺑﻼ ﺷﻜﻞ )وﻏري واﺿﺤﺔ املﻌﺎﻟﻢ( وﻳُﻜﺴﺒﻬﺎ رﻳﺎﺿﻴٍّﺎ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﺎ ﻟﺘﺼﺒﺢ أﺷﻴﺎءَ ﱠ ِ املﻨﺘﻈﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﻣﻌﻘﺪة وﻣﻨﺘﻈﻤﺔ .ﻓﺎملﺜﻠﺜﺎت واﻷﺟﺴﺎم ﺗَﺤَ ﺪ َ ﱠث ﻋﻨﻬﺎ ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس ﻟﻴﺴﺖ ﻣﻮا ﱠد اﻟﺒﻨﺎء اﻟﺘﻲ ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻬﺎ اﻟﺮب وﻟﻜﻨﻬﺎ اﻟﻨﻤﺎذج اﻟﺘﻲ ﺗﺘﺼﻮرﻫﺎ ﺧﻄﻄﻪ املﻌﻤﺎرﻳﺔ. إن ﻋﻤﻞ اﻟﺮب ﻣﻦ ﻫﺬا املﻨﻈﻮر ﻋﺴري ﻟﻠﻐﺎﻳﺔ ،وﺣﺘﻰ ﺑﻌﺪ ﺧﻠﻘﻪ ﻟﻠﻌﻨﺎﴏ ،ﻓﻬﻮ ﻻ ﻳﻘﺪر ﻋﲆ اﻟﺨﻠﻂ ﺑﻴﻨﻬﺎ ﺣﺴﺐ إرادﺗﻪ؛ ﻓﻬﻮ ﻟﻴﺲ ﻣﻄﻠﻖ اﻟﻘﺪرة ،وﻋﻠﻴﻪ أن ﻳﻮاﺟﻪ ﻗﻮاﻧني اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺜﺎﺑﺘﺔ واﻟﺨﺼﺎﺋﺺ اﻟﺠﻮﻫﺮﻳﺔ ﻟﻸﺷﻴﺎء .ﻓﻴﻤﻜﻨﻪ ً ﻣﺜﻼ أن ﻳﺨﻠُﻖ اﻟﻬﻮاء وﻟﻜﻨﻪ ﻻ ﻳﻘﺪر ﻋﲆ ﺟﻌﻠﻪ ﻳﺬﻳﺐ اﻟﱰاب .ﻳﺼﻒ ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس اﻟﺮب — ﻣﺠﺴﺪًا ﻟﻠﻤﻨﻄﻖ ﰲ اﻟﺤﻮادث — ﺑﺄن ﻋﻠﻴﻪ ﺗﺮوﻳﺾ اﻟﻘﻮى اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ واﻟﻘﻮاﻧني اﻟﺜﺎﺑﺘﺔ ،واملﻮازﻧﺔ ﺑﻴﻨﻬﺎ .وﻳﺸﺎر إﱃ ﻫﺬا اﻟﺠﺰء املﺘﻤ ﱢﺮد ﻣﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ »ﺑﺎﻟﴬورة« )أو أﻧﺎﻧﻜﻲ( وﻫﻲ اﻟﻜﻠﻤﺔ اﻟﺘﻲ اﺳﺘﺨﺪﻣﻬﺎ دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﻟﻴﻌﻨﻲ اﻟﺤﺘﻤﻴﺔ اﻵﻟﻴﺔ ﻟﻸﺳﺒﺎب اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻤﻞ ﺑﻼ ﻫﺪف .ﻟﻘﺪ أ َ َﻗ ﱠﺮ ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس ﺑﻮﺟﻮد ﻫﺬه اﻷﺳﺒﺎب وﻟﻜﻨﻪ اﻋﺘﻘﺪ أن ﻫﺬا ﻟﻴﺲ ﻛﻞ ﳾء» :ﻓﺎﻟﻌﻘﻞ — أي اﻟﻘﻮة اﻟﺤﺎﻛﻤﺔ — ﻳﺮوض اﻟﴬورة ﻟﻴﺼﻞ اﻟﺠﺰء اﻷﻛﱪ ﻣﻦ املﺨﻠﻮﻗﺎت إﱃ ﺣَ ﱢﺪ اﻟﻜﻤﺎل ،وﻫﻜﺬا ﻓﻘﺪ ﺧﻠﻖ ﻫﺬا اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ إﺧﻀﺎع اﻟﴬورة ﻟﺴﻴﻄﺮة اﻟﻌﻘﻞ «.وﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﻨﺠﺎح اﻟﻌﻘﻞ ﰲ ﺗﺮوﻳﺾ اﻟﴬورة، ﻓﻬﻲ ﺗﺴﺘﺠﻴﺐ — ﺣﻴﻨﻤﺎ ﺗﻜﻮن املﺮوﻧﺔ ﻣﻤﻜﻨﺔ — وﺗﻌﻤﻞ ﺑﺸﻜﻞ ﻳﺤﻘﻖ اﻟﻨﻔﻊ. 238
ﺟﻤﻬﻮرﻳﺔ املﻨﻄﻖ :أﻓﻼﻃﻮن
إن اﻟﺼﺎﻧﻊ اﻷﻛﱪ ﻟﻴﺲ اﻟﻜﺎﺋﻦ املﻘﺪﱠس اﻟﻮﺣﻴﺪ ﰲ اﻟﻜﻮن ،ﻓﺎﻷﺟﺮام اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ ﺗُﻌَ ﱡﺪ ﻣﻘﺪﱠﺳﺔ ﻷﻧﻬﺎ ﻗﺎﺋﻤﺔ ﺑﺬاﺗﻬﺎ ﻻ ﺗﻤﻮت .وﻫﻨﺎك ً أﻳﻀﺎ اﻵﻟﻬﺔ املﺴﺎﻋﺪة اﻟﺘﻲ ﺧﻠﻘﻬﺎ ﻫﺬا اﻟﺼﺎﻧﻊ وﻳﻄﻠﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس — ﺑﻐري ﺟﺪﻳﺔ وﺑﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﺸﻚ — أﺳﻤﺎء زﻳﻮس وﻛﺮوﻧﻮس وﻫريا وﻏريﻫﺎ .وﺗﻨﺤﴪ وﻇﻴﻔﺘﻬﻢ ﰲ أﺧﺬ ﺑﻌﺾ اﻟﺠﺮﻋﺎت املﺨﻔﻔﺔ ﻣﻦ »روح اﻟﻌﺎﻟﻢ« )اﻟﺘﻲ ﺑﺜﱠﻬﺎ اﻟﺼﺎﻧﻊ اﻷﻛﱪ ﻟﻴﻤﻜﻦ اﻷﺟﺮام اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ ﻣﻦ اﻟﺤﺮﻛﺔ وﺻﺒﻎ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺑﺎملﻨﻄﻖ( وﺧﻠﻖ اﻟﻨﺎس ﻣﻨﻬﺎ ،وذﻟﻚ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﻣﺰج اﻟﺠﻮﻫﺮ اﻟﺴﻤﺎوي ﺑﺎﻷﺟﺴﺎم املﺎدﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺸ ﱢﻜﻠﻮﻧﻬﺎ و ً َﻓﻘﺎ ملﻮاﺻﻔﺎت اﻟﺼﺎﻧﻊ اﻷﻛﱪ .وﻳﺨﱪ اﻟﺼﺎﻧﻊ اﻷﻛﱪ وزراءه ﻣﻦ اﻵﻟﻬﺔ أﻧﻪ ﻳﻔﻀﻞ ﱠأﻻ ﻳﻘﻮم ﺑﻤﻬﻤﺔ اﻟﺨﻠﻖ ﺑﻨﻔﺴﻪ: إن ﺧﻠﻘﺘُﻬﻢ وأﻋﻄﻴﺘُﻬﻢ اﻟﺤﻴﺎة ﺑﻴﺪي ﻓﺴﻴﻜﻮﻧﻮن ﻋﲆ ﻗﺪَم املﺴﺎواة ﻣﻊ اﻵﻟﻬﺔ. وﻟﻜﻦ ﻛﻲ ﻳﻜﻮن ﻣﺼريُﻫﻢ اﻟﻔﻨﺎء ﻋﻠﻴﻜﻢ أن ﺗﺘﺤﻮﻟﻮا — ُﻛ ﱞﻞ ﺣﺴﺐ ﻃﺒﻴﻌﺘﻪ — إﱃ ﻫﻴﺌﺔ اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت وأن ﺗُﺤﺎ ُﻛﻮا ﻗﺪرﺗﻲ اﻟﺘﻲ ﻇﻬﺮت ﰲ ﺧﻠﻘﻲ ﻟﻜﻢ .أﻣﺎ اﻟﺠﺰء ﱡ ﻳﺴﺘﺤﻖ اﻟﺨﻠﻮد واﻟﻘﺪﺳﻴﺔ — وﻳﻜﻮن ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ ﻣﺮﺷﺪ ﻟﻬﺆﻻء اﻟﺮاﻏﺒني ﰲ اﻟﺬي أﻏﺮﺳﻪ ﺑﻨﻔﴘ ،وﺑﻌﺪ أن أﺑﺪأ ﺧﻠﻖ ذﻟﻚ اﻟﺠﺰء اﺗﺒﺎع اﻟﻌﺪاﻟﺔ واﺗﺒﺎﻋﻜﻢ — ﻓﺴﻮف ِ املﺨﻠﺪ ،ﺳﺄﻛﻠﻔﻜﻢ ﺑﺎﺳﺘﻜﻤﺎﻟﻪ .ﻋﻨﺪﺋ ٍﺬ ﻋﻠﻴﻜﻢ أن ﺗﻤﺰﺟﻮا اﻟﺨﺎﻟﺪ ﻣﻊ اﻟﻔﺎﻧﻲ ﻛﻲ ﺗﻘﻮﻣﻮا ﺑﺨﻠﻖ اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﺤﻴﺔ ورزﻗﻬﺎ وإﻧﺸﺎﺋﻬﺎ ﺛﻢ ﻗﺒﻀﻬﺎ إﻟﻴﻜﻢ ﺑﻌﺪ املﻮت. ﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ﻳﻜﻮن ﻫﻨﺎك ﺛﻼﺛﺔ »أﻧﻮاع« ﻟﻬﺬه اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﺤﻴﺔ :اﻟﺮﺟﺎل واﻟﻨﺴﺎء ُ اﻟﺘﻨﺎﺳﺦ .وﻳﻜﻮن اﻟﺠﻴﻞ اﻷول ﻛﻠﻪ ﻣﻦ اﻟﺮﺟﺎل، واﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت .وﻳﺪور ﻛﻞ ﻧﻮع ﰲ ﻋﺠﻠﺔ ﱢ وﻫﺆﻻء اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻌﻴﺸﻮن ﺣﻴﺎة ﺗﺸﻮﺑﻬﺎ اﻟﻀﻌَ ﺔ اﻟﺮوﺣﻴﺔ ﻣﻘﺎرﻧﺔ ﺑﺄﻗﺮاﻧﻬﻢ ﻳﻌﻮدون ﻟﻴﺼﺒﺤﻮا ً وﺣﻮﺷﺎ أو أﺳﻤﺎ ًﻛﺎ )ﰲ أﺳﻮأ اﻷﺣﻮال( .وﺑﻬﺬا ﻳﺤﻈﻰ اﻟﺠﺎﻧﺐ ذا اﻟﺼﺒﻐﺔ ﻧﺴﺎءً أو ﻃﻴﻮ ًرا أو اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ اﻷﻗﻞ ﻣﻦ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮري ﺑﺪور ﻫﻮ اﻵﺧﺮ. ً رﺟﺎﻻ ﰲ اﻟﺠﻴﻞ اﻷول وﻟﻜﻞ دورة ﰲ ﻋﺠﻠﺔ اﻟﺘﻨﺎﺳﺦ ﺳﺒﺒُﻬﺎ ،ﻓﻬﺆﻻء اﻟﺬﻳﻦ ﻛﺎﻧﻮا »وﻛﺎﻧﻮا ﺟﺒﻨﺎءَ أو ﻋﺎﺷﻮا ﺣﻴﺎة ﻓﺎﺳﺪة ،ﻣﻦ املﻨﻄﻘﻲ اﻓﱰاض أﻧﻬﻢ ﻗﺪ ﺗﺤﻮﻟﻮا إﱃ ﻃﺒﻴﻌﺔ املﺮأة ﰲ اﻟﺠﻴﻞ اﻟﺜﺎﻧﻲ «.ﻫﻜﺬا ﻳﻔﴪ اﻟﺘﻨﺎﺳﺦ »اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ« املﻔﱰﺿﺔ أن اﻟﻨﺴﺎء أﻗﻞ ﺷﺠﺎﻋﺔ واﺳﺘﻘﺎﻣﺔ ﻣﻦ اﻟﺮﺟﺎل .وﻫﻨﺎك ﺗﻔﺴري ﻣﺸﺎﺑﻪ ﻟﻮﺟﻮد اﻟﻄﻴﻮر ،ﺣﻴﺚ »ﺧﻠﻘﺖ ﻣﻦ أﺻﻞ رﺟﺎل ُﺳﺬﱠج ﺗﺨﻴﻠﻮا ﺑﺒﺴﺎﻃﺘﻬﻢ — رﻏﻢ أرواﺣﻬﻢ اﻟﻮﺛﺎﺑﺔ — أن أﻗﻮى اﻟﺪﻻﺋﻞ ﻧﺘﻮﺻﻞ إﻟﻴﻬﺎ ﺑﺤﺎﺳﺔ اﻟﺒﴫ؛ ﺣﺘﻰ ﻧﻤﺎ ﻟﻬﻢ رﻳﺶ «.وﺑﻌﺒﺎرة أﺧﺮى ،ﻓﺎﻟﻄﻴﻮر ﻛﺎﻧﻮا ً أﻧﺎﺳﺎ ﻟﻢ ﻳﺘﻔﻬﱠ ﻤﻮا اﻹدراك املﻨﻄﻘﻲ واﻋﺘﻘﺪوا أن أﻓﻀﻞ ﻃﺮﻳﻘﺔ َ ﻟﻔﻬﻢ اﻷﺷﻴﺎء ﻫﻲ اﻟﺼﻌﻮد ﻟﻠﻨﻈﺮ إﻟﻴﻬﺎ .ﻟﺬا 239
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻓﻘﺪ أ ُ ِ رﺳﻞ ﻫﺆﻻء ﻟﻠﺘﺤﻠﻴﻖ ﰲ اﻟﻔﻀﺎء ﺑﺤﻴﺚ ﻳﻘﱰﺑﻮن ﻣﺎدﻳٍّﺎ ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺨﺎﻟﺪ وﻟﻜﻨﻬﻢ ﰲ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻷﻣﺮ ﺑﻌﻴﺪون ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻋﻦ ﻓﻬﻤﻪ .أﻣﺎ اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت ﻓﻈﻬﺮت ﻷن ﻫﻨﺎك ﺑﻌﺾ اﻟﻨﺎس ً إﻃﻼﻗﺎ ﰲ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﺴﻤﻮات« ﻛﺎﻧﻮا أﺑﻌﺪ ﻣﺎ ﻳﻜﻮﻧﻮن ﻋﻦ املﻌﺮﻓﺔ ،ﻟﺪرﺟﺔ أﻧﻬﻢ »ﻟﻢ ﻳﻔ ﱢﻜﺮوا و»ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﻬﺬا أﺻﺒﺤﺖ أﻃﺮاﻓﻬﻢ اﻷﻣﺎﻣﻴﺔ ورءوﺳﻬﻢ ﻣﺮﺗﻜﺰة ﻋﲆ اﻷرض ﺣﻴﺚ ﺗﺠﺬﺑﻬﻢ إﻟﻴﻬﺎ ﻣﻴﻮﻟﻬﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ «.وﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻸﺳﻤﺎك ﻳﻘﻮل ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس: ﻟﻘﺪ ُﺧﻠِﻘﺖ ﻣﻦ اﻟﻨﺎس اﻷﻛﺜﺮ ﺣُ ً ً وﺟﻬﻼ اﻟﺬﻳﻦ رأى املﺤﻮﱢﻟﻮن )اﻵﻟﻬﺔ ﻤﻘﺎ املﺴﺎﻋﺪون( أﻧﻬﻢ ﻻ ﻳﺴﺘﺤﻘﻮن ﱡ ﺗﻨﻔﺲ اﻟﻬﻮاء اﻟﻨﻘﻲ ﻷن ﻟﺪﻳﻬﻢ أرواﺣً ﺎ ﻟﻮﱠﺛﺘﻬﺎ ً ﻓﺒﺪﻻ ﻣﻦ إﻋﻄﺎﺋﻬﻢ ﺑﻴﺌﺔ اﻟﻬﻮاء اﻟﻨﻘﻴﺔَ ،ﺧ َﻠﻘﻮا ﻟﻬﻢ اﻟﺒﺤﺮ اﻟﻌﻤﻴﻖ ﺟﻤﻴﻊ اﻵﺛﺎم، ا ُملﻮﺣِ ﻞ … وﻫﻜﺬا ﻧﺸﺄت اﻷﺳﻤﺎك واملﺤﺎر واﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت اﻟﺒﺤﺮﻳﺔ اﻷﺧﺮى اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻴﺶ ﰲ أﺑﻌﺪ اﻷﻣﺎﻛﻦ ﻋﻘﺎﺑًﺎ ﻋﲆ ﺟﻬﻠﻬﻢ وﺣﻤﻘﻬﻢ. ﺗﺄﺗﻲ ﻣﻼﺣﻈﺎت ﻋﻠﻢ اﻟﺤﻴﻮان اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ﻫﺬه ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ املﺤﺎورة ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﻔﺮغ ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس ﻣﻦ ﺣﺪﻳﺜﻪ )ﻳﻼﺣﻆ أن ﻣﺎ ﻗﺎﻟﻪ ﻋﻦ املﺮأة ﻻ ﻳﺘﻤﺎﳽ ﻣﻊ املﺴﺎواة اﻟﺘﻲ ﻣﻨﺤﺘﻬﺎ إﻳﺎﻫﺎ املﻨﺎﻗﺸﺎت ً ﺗﻔﺼﻴﻼ اﻷﻛﺜﺮ ِﺟﺪﻳﺔ اﻟﻮاردة ﰲ اﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ( .وﻳﺴﺒﻖ ﻫﺬه اﻟﻘﺼﺔ اﻟﺨﻴﺎﻟﻴﺔ ﺗﻔﺴري أﻛﺜﺮ ﻟﻨﻔﺴﻴﺔ اﻹﻧﺴﺎن ووﻇﺎﺋﻒ اﻷﻋﻀﺎء ﻟﺪﻳﻪ ﺣﻴﺚ اﺳﺘﻌﺮض أﻓﻼﻃﻮن آﺧﺮ اﻛﺘﺸﺎﻓﺎت ﻣﺪارس ً اﻟﻄﺐ ﰲ ﻋﴫه وأﺷﻬﺮ املﻼﺣﻈﺎت واﻻﺳﺘﻨﺘﺎﺟﺎت اﻟﺘﻲ ﱠ ﻣﻀﻴﻔﺎ إﻟﻴﻬﺎ ﻧﻈﺮﺗﻪ ﺗﻮﺻﻠﺖ إﻟﻴﻬﺎ، اﻟﻌﻘﻼﻧﻴﺔ ﻟﻸﺷﻴﺎء .ﻳﻮﺿﺢ أﻓﻼﻃﻮن أوﺟُ ﻪ اﻻﺳﺘﻔﺎدة ﻣﻦ ﻛﻞ ﻋﻀﻮ ﰲ ﺟﺴﻢ اﻹﻧﺴﺎن .ﻓﻌﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ،ﻳﻘﻮل ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس ﰲ ﻣﻌﺮض ﺗﻨﺎوُﻟﻪ ﻟﻠﻌﻈﺎم واﻟﻨﺨﺎع واﻷوﺗﺎر واﻟﻠﺤﻢ» :إن ﺛ َ ﱠﻢ ً رﻗﻴﻘﺎ ﻣﻦ اﻟﻠﺤﻢ ﻳﻐﻄﻲ ﺟﺴﻢ اﻹﻧﺴﺎن .ﻓﻘﺪ اﻗﺘﴣ اﻟﻌﻘﻞ ذﻟﻚ ﺣﺘﻰ ﻻ ﻳﻌﻴﻖ ﺣﺮﻛﺔ ﻏﻄﺎءً اﻟﺠﺴﻢ واﻧﺜﻨﺎءهً «. أﻳﻀﺎ ﻣﻦ ﺑني ﻣﺎ ﺗﻨﺎوﻟﻪ ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس ﺑﺎﻟﺬﱢﻛﺮ ﺗﻔﺎﺻﻴﻞ ﺣﺮﻛﺔ اﻷﻣﻌﺎء وﻣﺎ ﺗُﺤﺪِﺛﻪ أﻋﻀﺎؤﻫﺎ ووﻇﺎﺋﻔﻬﺎ ﻣﻦ ُ ﺗﻨﺎﻏﻢ ﺑني اﻟﺘﻔﻜري واﻻﻧﻔﻌﺎﻻت واﻟﺸﻬﻴﺔ .ﻓﺎﻷﻣﻌﺎء اﻟﺪﻗﻴﻘﺔ ﺗﻌﻤﻞ ﻋﲆ اﻻﺣﺘﻔﺎظ ﺑﺎﻟﻄﻌﺎم ملﺪة ﻣﻌﻘﻮﻟﺔ ﻣﻦ اﻟﺰﻣﻦ ﺣﺘﻰ ﻻ ﻳﺄﻛﻞ اﻹﻧﺴﺎن ﻋﲆ اﻟﺪوام دون اﻧﻘﻄﺎع؛ »ﻓﺎﻟﴩاﻫﺔ ﺗُﻮﻗِﻊ اﻟﻌﺪاوة ﺑﻴﻨﻪ وﺑني اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ واﻟﺤﻀﺎرة«. ﻋﲆ ُﺧ َ ﻄﻰ ﻧﻈريه دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ،ﻳﴩح أﻓﻼﻃﻮن اﻷﺣﺎﺳﻴﺲ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﰲ ﺿﻮء املﺬﻫﺐ اﻟﺬﱠ ﱢري .ﻓﻌﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ،ﻳﺄﺗﻲ اﻟﺸﻌﻮر ﺑﺎﻟﱪد ﻧﺘﻴﺠﺔ ملﺤﺎوﻟﺔ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﺟﺴﻴﻤﺎت اﻟﺮﻃﻮﺑﺔ املﺤ ﱢﻠﻘﺔ ﰲ اﻟﻬﻮاء اﻟﻮﺻﻮل إﱃ ﺟﺴﻴﻤﺎت اﻟﺮﻃﻮﺑﺔ داﺧﻞ ﺟﺴﻢ اﻹﻧﺴﺎن ﻣﺴﺒﱢﺒﺔ ﺑﺬﻟﻚ اﻹﺣﺴﺎس ﺑﺎﻟﺮﻋﺸﺔ .وﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل ﰲ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﺮواﻳﺎت املﻤﺎﺛﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﴎدﻫﺎ أﺳﻼف أﻓﻼﻃﻮن ،ﺗﺘﺸﻜﻞ اﻟﻌﻼﻗﺔ اﻟﻜﺎﻣﻠﺔ ﺑني اﻟﻈﻮاﻫﺮ اﻟﻨﻔﺴﻴﺔ واﻟﺠﺴﺪﻳﺔ ﰲ ﺻﻮرة ﻣﻔﻬﻮم ﻣﺎدي 240
ﺟﻤﻬﻮرﻳﺔ املﻨﻄﻖ :أﻓﻼﻃﻮن
ﺑُﺪاﺋﻲ ﻳﺘﻨﺎول اﻟﺮوح واﻟﻌﻘﻞ؛ ﻓﺎﻟﺮوح ﻫﻲ ﻣﺎدة ﻣﻌﻴﻨﺔ ﺗﺘﺤﺮك ﰲ ﻓﻠﻚ اﻟﺠﺴﻢ .ﺻﺤﻴﺢٌ أن اﻟ ﱡﺮوح ﻏري ﻣﺮﺋﻴﺔ وأﻧﻬﺎ أﻧﻘﻰ ﻣﻦ اﻟﺠﺴﻢ ﻛﻠﻪ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﺗﺘﻤﺘﻊ ﺑﺒﻌﺾ اﻟﺨﺼﺎﺋﺺ املﺎدﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺪل ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﺜﻞ »ﺧﺮوج اﻟﺒﺨﺎر« .وﻫﻨﺎ ﻳﺸﺎر إﱃ اﻟﻌﻴﻮب اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ واﻷﺣﺎﺳﻴﺲ ﻏري ﱠ اﻟﺴﺎ ﱠرة ﰲ ﺿﻮء املﺒﺪأ املﺎدي )وﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﺗﻬﺪف إﱃ إﻳﺠﺎد ﺑﻌﺾ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﰲ ﻧﻈﺮﻳﺔ ﺳﻘﺮاط ﻏري اﻟﻘﺎﺑﻠﺔ ﻟﻠﺘﺼﺪﻳﻖ اﻟﺘﻲ ﺗﺸري إﱃ أﻧﻪ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ إﻧﺴﺎن ﻳﻔﻌﻞ اﻟﺨﻄﺄ ﻋﻦ ﻋﻤﺪ(: ﻻ ﻳﻮﺟﺪ إﻧﺴﺎن ﻃﺎﻟﺢ ﺑﻤﺤﺾ إرادﺗﻪ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻳﺼﺒﺢ ﻛﺬﻟﻚ ﺑﺴﺒﺐ ﻋﻠﺔ ﰲ ﺟﺴﺪه وﺳﻮء ﺗﻌﻠﻴﻤﻪ … ﺣﻴﺚ ﺗﻌﺎﻧﻲ اﻟﺮوح ﻣﻦ ﴍ اﻟﺠﺴﺪ .وﺗﺘﺠﻤﻊ اﻷﺣﻤﺎض واﻟﺴﻮاﺋﻞ اﻟ ﱠﻠ ِﺰﺟﺔ واﻷﺧﻼط اﻷﺧﺮى ﰲ اﻟﺠﺴﻢ وﻻ ﺗَ ِﺠ ُﺪ ﻣﺨﺮﺟً ﺎ أو ﻣﻬﺮﺑًﺎ إﻻ أن ﺗﻜﻮن ﻣﻜﺒﻮﺗﺔ داﺧﻠﻪ وأن ﺗﻤﺘﺰج أﺑﺨﺮﺗﻬﺎ ﻣﻊ اﻟ ﱡﺮوح اﻟﺘﻲ ﺗﴪي ﰲ اﻟﺠﺴﻢ ،ﻫﻨﺎ ﺗﻨﺸﺄ ﻛﻞ أﻧﻮاع اﻷﻣﺮاض … ﻣﺴﺒﱢﺒﺔ ﻋﺪدًا ﻻ ﺣﴫ ﻟﻪ ﻣﻦ ﺳﻮء اﻟﻄﺒﺎع واﻟﻜﺂﺑﺔ واﻟﺘﻬﻮر واﻟﺠﺒﻦ وﻛﺬﻟﻚ اﻟﻨﺴﻴﺎن واﻟﻐﺒﺎء. ﺗﻌﺪ ﻧﻈﺮﻳﺔ »اﻷﺧﻼط ﺷﺒﻪ اﻟﺴﺎﺋﻠﺔ« ﻫﺬه — ﻛﻤﺎ ﻧﴩﻫﺎ أﻓﻼﻃﻮن — واﺣﺪة ﻣﻦ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﻌﺪﻳﺪة ﰲ ﻓﻜﺮ ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس اﻟﺘﻲ ﺣﻔﺮت ﻧﻘﺸﻬﺎ ﰲ وﻋﻲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﰲ ٍ وﻗﺖ ﻛﺎن اﻟﺤﻮار ﻓﻴﻪ ﻫﻮ ﻣﺼﺪر اﻟﺘﻌ ﱡﻠﻢ اﻷﺳﺎﳼ .إن اﻟﺘﺄﺛري واﺳﻊ اﻟﻨﻄﺎق اﻟﺬي أﺣﺪﺛﺘﻪ ﻣﺤﺎورة ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس ﻗﺪ ﺿﻴﱠﻖ اﻟﺨﻨﺎق ﻋﲆ ﺳﻤﻌﺔ أﻓﻼﻃﻮن ﺣﻴﻨﻤﺎ ﺟﺎء اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬي ﻣُﺤِ ﻴ َْﺖ ﻓﻴﻪ ﺻﻮرة اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻘﺪﻳﻢ واﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ﻣﻦ أذﻫﺎن اﻟﻨﺎس .ﻓﺄﻳٍّﺎ ﻛﺎﻧﺖ املﻌﺘﻘﺪات اﻟﺘﻲ آﻣﻦ ﺑﻬﺎ اﻟﻨﺎس ،ﻓﺈن ﺳﺒﺒﻬﺎ ﻫﻮ أﻓﻼﻃﻮن .وﻟﺬا ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻳُﺨﻄﺊ اﻟﻨﺎس ،ﻳﺘﺤﻤﻞ أﻓﻼﻃﻮن اﻟﺨﻄﺄ وﺣﺪه .ﻛﺘﺐ ﺟﻮرج ﺳﺎرﺗﻮن أﺣﺪ ﻣﺆرﺧﻲ اﻟﻌﻠﻮم املﻌﺎﴏﻳﻦ ً ﻗﺎﺋﻼ» :إن ﺗﺄﺛري ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس ﻛﺎن ﻋﻈﻴﻤً ﺎ وﺿﺎ ٍّرا ﰲ آن واﺣﺪ« وإﻧﻪ ﻳﻈﻞ إﱃ ﻳﻮﻣﻨﺎ ﻫﺬا — ﻛﺎن ذﻟﻚ ﻋﺎم — ١٩٥٢ »ﻣﺼﺪ ًرا ﻟﻠﻐﻤﻮض واﻟﺨﺮاﻓﺔ «.وﻳﻘﺼﺪ ﻫﺬا اﻟﻜﺎﺗﺐ ﻣﻦ ﻟﻔﻆ »اﻟﺨﺮاﻓﺔ« ﻋﻠﻢ اﻟﺘﻨﺠﻴﻢ اﻟﺬي اﻛﺘﺴﺐ ﺷﻌﺒﻴﺘﻪ ﺑﺴﺒﺐ أﻓﻼﻃﻮن؛ اﻷﻣﺮ اﻟﺬي ﻳﻠﻮﻣﻪ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﻜﺎﺗﺐ ﻛﻞ اﻟﻠﻮم .ﻫﻨﺎك ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻗﺪر ﻛﺒري ﻣﻤﱠ ﺎ ﻗﺪ ﻳُﻌﺘﱪ ﻫﺮاءً ﺧﻴﺎﻟﻴٍّﺎ ﰲ ﻣﺤﺎورة ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس ،وﻟﻜﻦ ﻻ دﻫﺸﺔ ﰲ ذﻟﻚ ﻷﻧﻪ ُﻛﺘِﺐَ ﻣﻨﺬ ﺣﻮاﱄ ٢٤٠٠ﺳﻨﺔ .إن ﻣﺤﺎورة ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس ﺣﻮا ٌر أدﺑﻲ ﻣﻜﺘﻮبٌ ﻣﻌﻈﻤُﻪ ﺑﻠﻐﺔ اﻷﺳﺎﻃري ،وﻳﻤﻜﻦ ﻗﺒﻮل اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺘﻔﺴريات ﻟﻪ ،ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﻳﺤﺘﻮي ﻋﲆ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺜﺎﻧﻮﻳﺔ املﺜرية ﻟﻠﺠﺪل اﻟﺘﻲ ﺗﺘﺤﺮك ﺑﻜﺜﺎﻓﺔ ﰲ ﻓﻠﻚ املﻮﺿﻮع اﻟﺮﺋﻴﺲ ،واﻟﺘﻲ ﻗﺪ ﺗُﺸﺘﱢﺖ اﻻﻧﺘﺒﺎه ﻋﻨﻪ وﺗﺼﻞ ﺑﻔﻬﻢ اﻟﻘﺎرئ إﱃ ﻃﺮق ﻣﺴﺪودة ،وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻳﻤﻜﻦ رد اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ أوﺟﻪ اﻟﻘﺼﻮر ﰲ ﻣﺤﺎورة ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس إﱃ إﴏار أﻓﻼﻃﻮن ﻋﲆ إﻳﺠﺎد اﻟﻬﺪف ﻣﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ 241
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
وﻧﻈﺎﻣﻬﺎ ووﻇﻴﻔﺘﻬﺎ .وﻗﺪ ﺟﺎءت ﰲ وﻗﺖ ﻻﺣﻖ ﻧﺴﺨﺔ أرﺳﻄﻮ ﻣﻦ ﻫﺬا املﴩوع ﻣﺤﺴﻨﺔ وﺧﺎﻟﻴﺔ ﻣﻦ اﻟﺮﻣﻮز اﻷﺳﻄﻮرﻳﺔ إﱃ ﺣَ ﱟﺪ ﻣﺎ ﻟﺘﺼﺤﻴﺢ ﻣﺴﺎر ﻛﻞ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺧﺎﻃﺊ ﰲ ﻣﺮﺣﻠﺔ ﻣﺎ ﻗﺒﻞ اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ. ً ﻣﺴﺌﻮﻻ ﻋﻨﻬﺎ؟ اﻟﴚء اﻟﺬي وﻫﻨﺎ ﻳﱪُز ﺳﺆال :ﻣﺎ َﻛ ﱡﻢ املﻀﺎر اﻟﺘﻲ ﻳُﻌَ ﱡﺪ اﻟﺼﺎﻧﻊ اﻷﻛﱪ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳُﻘﺎل ﰲ ﺻﺎﻟﺤﻪ — أو ﺑﺎﻷﺣﺮى ﰲ ﺻﺎﻟﺢ ﻣﻔﻬﻮم اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺬي ﻳﻤﺜﻠﻪ — ﻫﻮ ﺳﻌﻴﻪ اﻟﺪءوب ﻧﺤﻮ اﻛﺘﺸﺎف ﺗﻔﺎﺻﻴﻞ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺪﻗﻴﻘﺔ واملﱰاﻣﻴﺔ .وﻟﻴﺲ ﻣﻦ ﻣﺤﺾ اﻟﺼﺪﻓﺔ أن ﻳﻜﻮن أرﺳﻄﻮ ،اﻟﺬي ﺣﺎول إﻳﺠﺎد اﻟﻐﺎﻳﺔ ﻣﻦ وﺟﻮد اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺤﻲ )ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﻛﻮن ﻫﺬه اﻟﻐﺎﻳﺔ ﻏري ﺳﻤﺎوﻳﺔ( ،أﻛﺜﺮ املﺤﻘﻘني اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴني ﻧﺠﺎﺣً ﺎ ﰲ ﻋﴫه .ﻟﻘﺪ أﻃﻠﻖ ﻋﻠﻴﻪ »داروﻳﻦ« ﻟﻘﺐ »أﺑﻮ ﻋﻠﻢ اﻷﺣﻴﺎء« وﻗﺎرﻧﻪ ﺑﻐريه ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻤﺎء ً ﻗﺎﺋﻼ» :إن ﻟﻴﻨﻴﻮس وﻛﻮﻓﻴﻴﻪ ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ إﻟﻬني ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﱄ … وﻟﻜﻨﻬﻤﺎ ﻣﺠﺮد ﺗﻼﻣﺬة ﻣﻘﺎرﻧﺔ ﺑﺄرﺳﻄﻮ «.ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﻣﻦ اﻟﺼﻌﺐ ﺗﺼﺪﻳﻖ أن أرﺳﻄﻮ ﻛﺎن ﻟﻴﺘﺤﻤﱠ ﻞ ﻋﻨﺎء اﺳﺘﻜﺸﺎف أﻣﻌﺎء ﺑﻌﺾ اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت — ً ﻣﺜﻼ — ﻟﻮ ﻟﻢ ﻳﻌﺘﻘﺪ أن ﻫﻨﺎك آﻟﻴﺎت ﱠ ﻣﻌﻘﺪة وﻫﺎدﻓﺔ ﺗﻘِ ﻒ ﺧﻠﻒ ﻋﻤﻠﻬﺎ .وﻋﲆ اﻟﻨﻘﻴﺾ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻧﺠﺪ ﻣﻮﻗﻒ اﻟﺬﻳﻦ أﴏﱡ وا ﻋﲆ أن اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺗﺴري ﻣﻨﺪﻓﻌﺔ دون ﺑﺼرية أو ﻏﺎﻳﺔ .ﻛﺜريًا ﻣﺎ ﻫﺎﺟﻢ ﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس )ﺣﻮاﱄ ٥٥–٩٩ق.م( ﻣﻦ ﻳﻌﺘﻨﻘﻮن آراء ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس اﻋﺘﻘﺎدًا ﻣﻨﻬﻢ أﻧﻪ ﻳﺠﺐ ﻓﻬﻢ اﻟﻈﻮاﻫﺮ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻫﺪﻓﻬﺎ وﻏﺎﻳﺘﻬﺎ ،ﺣﻴﺚ ﻗﺎل: ﻫﻨﺎك ﺧﻄﺄ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺼﺪد ﻧ َ َﻮ ﱡد ﻟﻮ ﺗﺘﻔﺎداه … ﻻ ﺗﻔﱰض أن ﻧﻮر اﻟﻌﻴﻨني — أي اﻟﺒﴫ — ﻣﺨﻠﻮق ﻹدراك ﻣﺎ ﻳُﻌﺮض أﻣﺎﻣﻨﺎ ،أو أن ﻧﻬﺎﻳﺎت اﻟﺴﺎﻗني واﻟﻔﺨِ ﺬﻳﻦ ﻣﺘﺼﻠﺔ ﺑﺒﻌﻀﻬﺎ اﻟﺒﻌﺾ وﻣﺮﺗﻜﺰة ﻋﲆ أﺳﺎس اﻟﻘﺪﻣني ﺣﺘﻰ ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻧﺨﻄﻮ ﺑﻬﻤﺎ إﱃ اﻷﻣﺎم ﻓﻘﻂ ،أو أن اﻟﺴﺎﻋﺪﻳﻦ املﺜﺒﺘني ﺑﻘﻮة ﰲ اﻟﺬراﻋني واﻟﻴﺪﻳﻦ املﺜﺒﺘﺘني ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﺴﺎﻋﺪﻳﻦ ﻣﺼﻨﻮﻋﺎن ﻟﻘﻀﺎء ﻣﺎ ﻫﻮ ﴐوري ﻣﻦ ﺣﻮاﺋﺞ اﻟﺪﻧﻴﺎ ﻓﻘﻂ. إن ﻫﺬه اﻟﺘﻔﺴريات وﻣﺎ ﻳﺸﺎﺑﻬﻬﺎ ﻣﺒﻨﻴﺔ ﻋﲆ أﺳﺲ ﻣﻨﻄﻘﻴﺔ ﻣﻐﻠﻮﻃﺔ. رﺑﻤﺎ ﻳﻜﻮن ﻫﺬا اﻟﺘﻮﻗﻊ ﻟﻄﺮق اﻟﺘﻔﻜري اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﺻﺤﻴﺤً ﺎ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ،وﻟﻜﻦ اﻟﺠﺪﻳﺮ ﺑﺎﻟﺬﻛﺮ أن ﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس ﻟﻢ ﻳَ َﺮ أي ﴐورة ﻻﺳﺘﻜﺸﺎف ﻣﺰﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﺣﻮل اﻟﻌﻴﻨني واﻟﺴﺎﻗني واﻟﻔﺨِ ﺬﻳﻦ واﻟﺴﺎﻋﺪﻳﻦ .ﻓﺈذا ﻛﻨﺖ ﻣﺜﻞ أرﺳﻄﻮ ﺗﺆﻣﻦ ﺑﻤﺎ آﻣﻦ ﺑﻪ أﻓﻼﻃﻮن أن اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻳﺠﺐ أن ﺗﺘﺠ ﱠﺰأ إﱃ أﺟﺰاءٍ ﺻﻐرية ملﻌﺮﻓﺔ اﻟﻐﺎﻳﺔ ﻣﻨﻬﺎ ،ﻓﺴﻴﻜﻮن ﻟﺪﻳﻚ اﻟﺤﺎﻓﺰ ً ً ﻣﻔﺼﻼ ﺑﻬﺪف اﻟﻮﺻﻮل إﱃ اﻟﻐﺎﻳﺔ ﻣﻦ وﻇﺎﺋﻔﻬﺎ ﻓﺤﺼﺎ اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ ﻟﻔﺤﺺ ﻫﺬه اﻷﺟﺰاء املﻌﻘﺪة .وإذا ﻛﻨﺖ ﻣﺜﻞ ﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس ﺗﺒﻐﻲ ﰲ املﻘﺎم اﻷول دﺣﺾ أﻳﺔ ﺧﺮاﻓﺎت وأﻓﻜﺎر 242
ﺟﻤﻬﻮرﻳﺔ املﻨﻄﻖ :أﻓﻼﻃﻮن
ﻻﻫﻮﺗﻴﺔ؛ ﻓﻠﻴﺲ ﻫﻨﺎك ﺟﺪوى ﻣﻦ ﺗﺤﻤﱡ ﻞ ﻣﺸﻘﺔ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺒﺤﺚ؛ إذ إﻧﻚ ﺳﺘﺠﺪ ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺘﻪ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻫﺎﺋﻠﺔ ﻣﻦ اﻟﻈﻮاﻫﺮ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﱠ املﻌﻘﺪة اﻟﺘﻲ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻔﺴريﻫﺎ .وﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬي ﻟﻢ ﱠ املﻌﻘﺪة )ﻣﺜﻞ ﻧﻈﺮﻳﺔ داروﻳﻦ( ﺗ ُﻜﻦ ﻓﻴﻪ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻟﺠﺪﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﴩح ﻋﻤﻠﻴﺎت اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻗﺎﺋﻤﺔ ،وﺟﺪت ﻓﺮﺿﻴﺔ »اﻟﺼﺎﻧﻊ اﻷﻛﱪ« ﺳﻮاء أَﺗﱡﺨِ ﺬَ ْت ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﺣﺮﰲ أو ﻣﺠﺎزي ً أرﺿﺎ ﺧﺼﺒﺔ ﻟﺘﺸﺠﻴﻊ اﻟﺒﺤﺚ اﻟﻌﻠﻤﻲ. ﻇﻞ اﻟﻮﺿﻊ ﻋﲆ ﻫﻮ ﻋﻠﻴﻪ — إﱃ ﺣَ ﱟﺪ ﻣﺎ — ﺧﻼل اﻟﻌﺼﻮر املﺴﻴﺤﻴﺔ؛ ﺣﻴﺚ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺒﺤﻮث اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴﺔ ﺗﻌﻤﻞ ﻋﲆ إﺛﺒﺎت — وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﺗﻤﺠﻴﺪ — ﻣﺎ ﺟﺎءت ﺑﻪ اﻟﻜﺘﺐ اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ. ﻓﻌﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ،ﺳﺎﻫﻢ اﻛﺘﺸﺎف وﻳﻠﻴﺎم ﻫﺎرﰲ ﻟﻠﺪورة اﻟﺪﻣﻮﻳﺔ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ ﰲ ﺗﺄﻛﻴﺪ ﻓﺮﺿﻴﺔ اﻟﺘﺼﻤﻴﻢ اﻹﻟﻬﻲ اﻟﺬﻛﻲ ﻟﺠﺴﻢ اﻹﻧﺴﺎن .ﻛﻤﺎ ذﻛﺮ روﺑﺮت ﺑﻮﻳﻞ اﻟﻜﻴﻤﻴﺎﺋﻲ اﻟﻌﻈﻴﻢ أﻧﻪ ﺳﺄل ﻫﺎرﰲ ﻋﻤﺎ دﻓﻌﻪ ﻟﺘﻘﺪﻳﻢ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة اﻻﺳﺘﺜﻨﺎﺋﻴﺔ: أﺟﺎﺑﻨﻲ أﻧﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻻﺣﻆ أن اﻟﺼﻤﺎﻣﺎت اﻟﻮرﻳﺪﻳﺔ … ﰲ ﻣﻌﻈﻢ أﺟﺰاء اﻟﺠﺴﻢ ﺧﺼﻮﺻﺎ ﻟﺘﺴﻤﺢ ﺑﺤﺮﻳﺔ ﻣﺮور اﻟﺪم ﻧﺤﻮ اﻟﻘﻠﺐ وﺗﻤﻨﻊ ﱡ ُ ً ﺗﺪﻓﻘﻪ ﰲ ﺻﻤﱢ ﻤَ ْﺖ ﻮﺟﺪ ﻫﺬا اﻟ َﻜ ﱠﻢ اﻻﺗﺠﺎه اﻟﻌﻜﴘ ،ﻛﺎن ﻫﺬا ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ دﻋﻮة ﻟﻴﺘﺼﻮر أن اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻟﻢ ﺗُ ِ ﻣﻦ ﱢ اﻟﺼﻤَ ﺎﻣﺎت دوﻧﻤﺎ ﻗﺼﺪ أو ﻏﺎﻳﺔ ،وﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻫﻨﺎك ﻏﺎﻳﺔ أﻧﺴﺐ ﻣﻦ »اﻟﺪورة اﻟﺪﻣﻮﻳﺔ«. َ ﺻﺪ ََق ﺣﺪس ﻫﺎرﰲ؛ ﻓﻘﺪ ﻧﺠﺤﺖ ﻓﻜﺮة اﻟﺼﺎﻧﻊ اﻷﻛﱪ وﺗﺼﻤﻴﻤﺎﺗﻪ اﻟﻌﻘﻼﻧﻴﺔ وﻛﺎﻧﺖ ﻟﻬﺎ ُ اﺳﺘﺨﺪاﻣﺎﺗﻬﺎ ،ﺣﺘﻰ ﻟﻮ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻟﻬﺬا اﻟﺼﺎﻧﻊ وﺟﻮد. ﻛﻤﺎ أﻟﻬﻤﺖ ﻣﺤﺎورة »ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس« ﺑﻌﺾ اﻟﻔﻴﺰﻳﺎﺋﻴني ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ ،ﻟﻴﺲ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﻔﻜﺮة اﻟﺘﺼﻤﻴﻢ أو اﻟﻐﺎﻳﺔ وﺣﺴﺐ ،ﺑﻞ ﰲ ﺟﻌﻠﻬﺎ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ﰲ ﻣﺮﻛﺰ اﻟﻜﻮن. ﻗﺎل ﻓريﻧﺮ ﻫﺎﻳﺰﻧﱪج )١٩٧٦–١٩٠١م( إن ﻧﻈﺮﻳﺔ اﻟﺠﺴﻴﻤﺎت اﻟﻬﻨﺪﺳﻴﺔ اﻟﺘﻲ وﺿﻌﻬﺎ ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس ﻟﻌﺒﺖ دو ًرا ﻣﻬﻤٍّ ﺎ ﰲ ﺗﻄﻮﻳﺮه ﻷﻓﻜﺎر ﻧﻈﺮﻳﺔ اﻟﻜﻢ ،ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ وﺣﺪه اﻟﺬي وﻗﻊ ﻋﲆ أوﺟﻪ ﺗﺸﺎﺑﻪ ﺑني ﻧﻈﺮﻳﺔ أﻓﻼﻃﻮن ﻟﻠﺤﺴﺎب اﻟﺮﻳﺎﴈ ﻟﻠﻤﺎدة وﻧﻈﺮﻳﺔ ﻣﻴﻜﺎﻧﻴﻜﺎ اﻟ َﻜ ﱢﻢ اﻟﺤﺎﻟﻴﺔ .ﻛﻤﺎ أﺿﺎف اﻟﺴري ﻛﺎرل ﺑﻮﺑﺮ )١٩٩٤–١٩٠٢م( أن أﻋﻈﻢ إﻧﺠﺎزات أﻓﻼﻃﻮن اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﺗﺘﻤﺜﻞ ﰲ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﻬﻨﺪﺳﻴﺔ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ اﻟﺘﻲ ﻳﻌﺘﱪﻫﺎ اﻟﻘﺎﻋﺪة اﻟﻌﺎﻣﺔ اﻟﺘﻲ ﻗﺎﻣﺖ ﻋﻠﻴﻬﺎ أﻋﻤﺎل ﻛﻮﺑﺮﻧﻴﻜﻮس وﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ وﻛﺒﻠﺮ وﻧﻴﻮﺗﻦ وﻣﺎﻛﺴﻮﻳﻞ وأﻳﻨﺸﺘﺎﻳﻦ .رﺑﻤﺎ ﻧﻜﻮن ﻗﺪ أﻃﻠﻨﺎ اﻟﺒﺤﺚ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺼﺪد؛ ذﻟﻚ ﻷن اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻗﺪ أوﺟﺰوا اﻟﺒﺤﺚ ﻓﻴﻪ أﻛﺜﺮ ﻣﻤﺎ ﻳﻨﺒﻐﻲ. ﻟﻘﺪ اﻋﺘﻤﺪ ﻛﺜريون ﻋﲆ ﺑﻌﺾ اﻟﺤﻜﻢ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ املﺘﻮارﺛﺔ ﻋﻦ أﻓﻼﻃﻮن — اﻟﺘﻲ ﺗﺒﺪو ﻏري 243
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻣﺒﻨﻴﺔ ﻋﲆ ﻗﺮاءة أﻋﻤﺎﻟﻪ — ﰲ دﻓﻌﻬﻢ ﺑﺄن أﻓﻼﻃﻮن رﻓﺾ ﻗﻀﻴﺔ املﻌﺮﻓﺔ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﻟﻠﻜﻮن ً ﻗﻴﺎﺳﺎ ﺑﻤﻌﺮﻓﺔ اﻷﺷﻜﺎل اﻟﺜﺎﺑﺘﺔ .اﻋﺘﻘﺪ أﻓﻼﻃﻮن أن اﻷﺷﻜﺎل ﻫﻲ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ ﻗﻀﻴﺔ ﺛﺎﻧﻮﻳﺔ أﻫﻢ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت ﻋﲆ اﻹﻃﻼق — ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ ﻣﺮﻛﺰ ﻛﻮﻧﻪ اﻟﻌﻘﲇ — ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻣﺜﻠﻤﺎ رأى ﻧﻴﻮﺗﻦ ً ﻻﺣﻘﺎ أن اﻟ ﱠﺮبﱠ ﻫﻮ اﻷﻫﻢ ﰲ ﻧﻈﺮﺗﻪ ﻟﻠﻜﻮن .وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻟﻢ ﻳ َِﺮ ْد أن ذو اﻟﺼﺒﻐﺔ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ أﺣﺪﻫﻤﺎ ﻗﺪ أﻫﻤﻞ ﻗﻀﻴﺔ اﻟﻌﻠﻢ .وﺗﺆﻛﺪ ﻣﺤﺎورة »ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس« ﻋﲆ أن »اﻹﻧﺴﺎن ﻳﻤﻜﻨﻪ أﺣﻴﺎﻧًﺎ أن ﻳﻀﻊ ﺗﺄﻣﻼﺗﻪ ﺣﻮل اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺨﺎﻟﺪة ﺟﺎﻧﺒًﺎ وأن ﻳﺤﺎول اﻹﺑﺪاع ﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﻨﻈﺮ ﰲ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ ﰲ ﻋﴫه … ﻋﻨﺪﺋ ٍﺬ ﺳﻴﺠﺪ ﻣﺘﻌﺔ ﻟﻦ ﻳﻨﺪم ﻋﻠﻴﻬﺎ … وﺗﺴﻠﻴﺔ ﻫﺎدﺋﺔ ﺗﺘﺨﻠﻠﻬﺎ اﻟﺤﻜﻤﺔ «.ﻛﻤﺎ أن أﻓﻼﻃﻮن ﻛﺎن ﺳﻴﺠﺪ ﰲ ﻧﻔﺴﻪ ﺣﺮﺟً ﺎ ﻣﻦ ﻛﺘﺎﺑﺔ »ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس« إذا ً ﺳﺎﺑﻘﺎ ﺣﻮل آراﺋﻪ ﻓﻴﻬﺎ. ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻗﺪ اﺗﻔﻖ ﺑﻴﻨﻪ وﺑني ﻧﻔﺴﻪ وﺑﺘﺴﻠﻴﻂ اﻟﻀﻮء ﻋﲆ ﻣﺎ ﻳﺒﺪو أﻧﻬﺎ اﻻﺳﺘﻨﺘﺎﺟﺎت اﻟﺮﺋﻴﺴﺔ اﻟﺘﻲ ﺧﺮج ﺑﻬﺎ أﻓﻼﻃﻮن ﻣﻦ أﻫﻢ ﻣﺤﺎوراﺗﻪ )اﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ وﻃﻴﻤﺎﻳﻮس( ،ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﺘﻌﺮف ﻋﲆ اﻟﻘﻨﺎﻋﺎت اﻷﻛﺜﺮ ً ﻋﻤﻘﺎ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻟﺪى أﻓﻼﻃﻮن .وﻟﻜﻨﻨﺎ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ ذاﺗﻪ ﻗﺪ ﻧﺮﺗﻜﺐ ﺧﻄﺄ ﻃﻤﺲ اﻟﺠﺰء اﻟﺴﻘﺮاﻃﻲ ﰲ ﺷﺨﺼﻴﺔ أﻓﻼﻃﻮن اﻟﺘﻲ ﻃﺎملﺎ ﺟﻌﻠﺖ ﻟﻪ ﻣﻜﺎﻧﺔ ﺧﺎﺻﺔ دون ﺑﻘﻴﺔ املﻔﻜﺮﻳﻦ .ﻓﻌﲆ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﻣﻌ ﱢﻠ ِﻤﻪ ﺳﻘﺮاط ،اﻋﺘﻘﺪ أﻓﻼﻃﻮن أن اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﺗﻈﻬﺮ ﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﺘﺤﺎور ﻓﻘﻂ؛ ﻓﺎﻟﻈﺎﻫﺮ أﻣﺎﻣﻨﺎ أن ﻛﻞ أﻋﻤﺎﻟﻪ ﻛﺎﻧﺖ ﰲ ﺻﻮرة ﻣﺤﺎورات ﻓﻴﻤﺎ ﻋﺪا ﻋﻤﻠني اﺛﻨني — ﻣﻦ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﻣﺤﺎورة »ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس« — ﺟﺎءَا ﰲ ﺻﻮرة ﻣﻨﺎﻗﺸﺎت اﺳﺘﻜﺸﺎﻓﻴﺔ ﰲ اﻷﺳﺎس .ﻛﻤﺎ ﻋﻤﻞ أﻓﻼﻃﻮن ﻋﻨﺪ اﺗﺒﺎﻋﻪ ﻟﻠﻨﻬﺞ اﻟﺴﻘﺮاﻃﻲ ﻋﲆ ﱠأﻻ ﻳﺤﻂ ﻣﻦ ﺷﺄن اﻟﻘﺎﻧﻮن ﱠ وأﻻ ﻳﻜﻮن دوﺟﻤﺎﺋﻴٍّﺎ. ِ ﻳﺴﺘﻄ ْﻊ أﺣﻴﺎﻧًﺎ أن ﻳُﺠَ ﻨﱢﺐَ ﻧﻔﺴﻪ اﻟﻨﻘﺪ .ﻟﻘﺪ ﻛﺎن ﻟﺪﻳﻪ اﻟﻜﺜري وﻣﻊ ذﻟﻚ ،ﻓﺈﻧﻪ ﻟﻢ ﻟﻴﻘﻮﻟﻪ ﻻ ﺳﻴﱠﻤﺎ ﻟﻔﻼﺳﻔﺔ املﺬﻫﺐ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ،ﺑﺪءًا ﻣﻦ ﻃﺎﻟﻴﺲ إﱃ دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ اﻟﺬﻳﻦ ﻇﻨﻮا أن اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺗﻔﺘﻘﺮ إﱃ املﻨﻄﻖ أو أﻧﻪ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﻏﺮض ﻣﻨﻬﺎ ،ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ أرﺑﺎب املﻨﻬﺞ اﻟﻨﺴﺒﻲ واﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني .ﻓﻤﻦ وﺟﻬﺔ ﻧﻈﺮ أﻓﻼﻃﻮن ،ﺗﺴﺒﺒﺖ أﺧﻄﺎء اﻟﺴﺎﺑﻘني ﰲ أﺧﻄﺎء اﻟﻼﺣﻘني .ﻛﺎن ذﻟﻚ ﺑﺴﺒﺐ ﻋﺪم إدراك ﺧﺼﻮﻣﻪ املﺘﻌﺪﱢدﻳﻦ أن اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺗﺘﺒﻊ — إﱃ ﺣَ ﱟﺪ ﻣﺎ — ً ﻧﺴﻘﺎ ﻣﻨﻄﻘﻴٍّﺎ ،ﺣﻴﺚ دﻓﻌﻮا ﺑﻮﺟﻮد ﺗﻌﺎ ُرض ﺑني اﻟﻘﺎﻧﻮن أو اﻷﺧﻼق ﻣﻦ ﺟﻬﺔ، واﻟﻄﺒﻴﻌﺔ املﻮﺿﻮﻋﻴﺔ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ أﺧﺮى ،ﻛﻤﺎ ﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ أﺷﻴﺎءَ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﺗﻤﺎم اﻻﺧﺘﻼف .وﻳﺮى أﻓﻼﻃﻮن أﻧﻬﺎ ﰲ اﻷﺳﺎس ﻣﺘﺸﺎﺑﻬﺔ ﻷﻧﻬﺎ ﺗﻨﺘﺞ ﻋﻦ إﻋﻤﺎل املﻨﻄﻖ .وﻛﻤﺎ ورد ﰲ آﺧﺮ أﻋﻤﺎل أﻓﻼﻃﻮن »اﻟﻘﻮاﻧني«؛ ﻓﺈن اﻟﻘﺎﻧﻮن واﻷﺧﻼق ﻣﺠﺎﻻن »ﻃﺒﻴﻌﻴﱠﺎن« أو ﺑﺘﻌﺒري أدق :ﻻ ﻳﻘﻼن 244
ﺟﻤﻬﻮرﻳﺔ املﻨﻄﻖ :أﻓﻼﻃﻮن
ﻋﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﰲ ﺣﻘﻴﻘﺔ وﺟﻮدﻫﻤﺎ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﻤﺎ ﻧﺘﺎﺟً ﺎ »ﻟﻠﻌﻘﻞ« .وﻳﻘﺼﺪ ﺑ »اﻟﻌﻘﻞ« ﻫﻨﺎ ﻋﻘﻞ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ وﻟﻴﺲ اﻟﻌﻘﻞ اﻟﺒﴩي ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ .وﺗﻬﺪف ﻣﺤﺎورة »ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس« إﱃ إﻇﻬﺎر أن اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻫﻲ ﻣﻦ إﻧﺘﺎج اﻟﻌﻘﻞ )أو ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﻫﻜﺬا ﺗﺒﺪو ﻟﻨﺎ( ﻣﺎ داﻣﺖ ﺗُﱪز اﻟﺘﻜﻴﻴﻒ اﻟﻌﻘﲇ ﻷﻫﺪاﻓﻬﺎ ووﻇﺎﺋﻔﻬﺎ .وﻣﻦ املﻔﱰض أن ﻳﺒني ﻛﺘﺎب »اﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ« أن رﻓﺎﻫﻴﺔ اﻹﻧﺴﺎن ﺗﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ ﻣﺪى اﻛﺘﺸﺎﻓﻪ واﺗﺒﺎﻋﻪ اﻟﻄﺮﻳﻖ اﻟﺬي رﺳﻤَ ﻪ اﻟﺒﻨﻴﺎن اﻟﻌﻘﲇ ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ ﻣﻦ أﺟﻞ ﺗﺤﻘﻴﻖ ﱢ وﻳﻮﺿﺢ ﻣﴩوع أﻓﻼﻃﻮن ﺑﺎﻷﻣﺜﻠﺔ أن ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻻﻛﺘﺸﺎف ﻳﻤﻜﻦ أﻗﴡ درﺟﺎت ﻣﺼﻠﺤﺘﻪ. أن ﻳﻜﻮن ﰲ وﺳﻊ اﻹﻧﺴﺎن إذا ﺳﺎر ﻋﲆ ﺧﻄﻰ ﺳﻘﺮاط ﻣﺘﺒﻌً ﺎ اﻷﺳﺌﻠﺔ اﻟﺼﺤﻴﺤﺔ ﺑﺎﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ا ُملﺜ ْ َﲆ. ﻋﻘﺐ وﻓﺎة أﻓﻼﻃﻮن ،ﺗﺒﺎﻳﻨﺖ آراء رواد أﻛﺎدﻳﻤﻴﺘﻪ ﺑني ﻗﻄﺒﻲ ﺷﺨﺼﻴﺘﻪ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ. ﻓﺘﺎرة ﻳﺪاﻓﻊ رواد ﻫﺬه اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ ﻋﻤﱠ ﺎ اﻋﺘﱪوه ﺗﻌﺎﻟﻴﻤﻪ اﻹﻳﺠﺎﺑﻴﺔ ﻗﺒﻞ أن ﻳﴩﻋﻮا ﰲ ﺗﻄﻮﻳﺮﻫﺎ ،وﺗﺎرة أﺧﺮى ﻳﺘﺒﻌﻮن اﻟﺠﺎﻧﺐ اﻟﺴﻘﺮاﻃﻲ ﻣﻦ ﺗﻔﻜريه اﻟﺬي ﻳﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ اﻟﺘﺠﺮﻳﺐ وﻃﺮح اﻷﺳﺌﻠﺔ؛ وذﻟﻚ ﺧﻼل ﻣﺎ ﻳﺴﻤﻰ ﺑﺎملﺮاﺣﻞ »اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ« ﻟﻸﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ ﺗﺤﺖ ﻗﻴﺎدة أرﻛﺴﻴﻼوس )ﺣﻮاﱄ ٢٤٣–٣١٨ق.م( ،وﻛﺎرﻧﻴﺎدس )ﺣﻮاﱄ ١٢٩–٢١٩ق.م( .وﻗﺒﻞ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ ،ﻛﺎن أرﺳﻄﻮ — أﻓﻀﻞ ﺗﻼﻣﻴﺬ أﻓﻼﻃﻮن — ﻗﺪ أﺳﺲ ﻣﺬﻫﺒﻪ اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ اﻟﺨﺎص اﻟﺬي ﺗﺠﺎوز ﰲ آﻓﺎﻗﻪ ﺟﻤﻴﻊ أﻋﻤﺎل أﺳﺘﺎذه أﻓﻼﻃﻮن.
245
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻋﴩ
اﳌﻌﻠﻢ اﻷول :أرﺳﻄﻮ
ﻟﻮ ﻛﺎن أرﺳﻄﻮ ﺷﺨﺼﻴﺔ ﺧﺮاﻓﻴﺔ ﻟﻜﺎﻧﺖ ﻣﺤﺎوﻟﺔ اﺧﱰاﻋﻪ ﻋﺒﺜًﺎ ،وﻣﺎ ﻛﺎن أﺣﺪ ﻟﻴﺼﺪق ﺑﻮﺟﻮد ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﺮﺟﻞ .وﺣﺘﻰ ﻣﻊ اﻟﻮﺿﻊ ﰲ اﻻﻋﺘﺒﺎر اﻷﻋﻤﺎل املﻔﻘﻮدة ﻟﻠﻌﻠﻤﺎء املﻮﺳﻮﻋﻴني اﻟﻘﺪﻣﺎء ﻛﺪﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ وﺑﻌﺾ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني؛ ﻓﻼ ﻳﻌﺘﻘﺪ أﺣﺪ أن ﻫﺆﻻء املﻔﻜﺮﻳﻦ ﺣﺘﻰ ﻟﻮ ﺑﺬﻟﻮا ﻣﺎ ﰲ وﺳﻌﻬﻢ ﻟﻴﺆ ﱢﻟﻔﻮا ﻛﻞ اﻟﻜﺘﺐ اﻟﺘﻲ ﺗُﻌْ َﺰى إﻟﻴﻬﻢ ﻛﺎن ﻣﻦ املﻤﻜﻦ أن ﻳﺤﻘﻘﻮا اﻟﻜﺜري .وﻟﻜﻦ اﻷﻣﺮ ﻳﺨﺘﻠﻒ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻷرﺳﻄﻮ ،ﻓﻤﺎ ﱠ ﺗﺒﻘﻰ ﻣﻦ ﻣﺆﻟﻔﺎﺗﻪ ﻳﻨﺎﻫﺰ ﻣﺠﻤﻮ ُع ﻛﻠﻤﺎﺗﻪ املﻠﻴﻮن وﻧﺼﻒ املﻠﻴﻮن ﻛﻠﻤﺔ ،ﺑﻞ ﻫﻨﺎك ﻣﺎ ﻳﺤﻤﻞ ﻋﲆ اﻻﻋﺘﻘﺎد أن ﻫﺬا ﻻ ﻳﺰﻳﺪ ﻋﲆ ُرﺑﻊ ﻣﺎ ﱠت ﻟﻠﻨﴩ ُﻓﻘِ ﺪ ْ ﻛﺘﺒﻪ ،ﻓﻜﺜري ﻣﻦ ُﻛﺘُ ِﺒ ِﻪ اﻟﺘﻲ أُﻋِ ﺪ ْ َت ،ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﺑﻌﺾ املﺤﺎورات اﻟﺘﻲ ُﻛ ِﺘﺒ َْﺖ ﻋﲆ ﺷﺎﻛﻠﺔ ﻣﺤﺎورات أﻓﻼﻃﻮن ،وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﺈن ﻣﺎ ﺗﺮ َﻛﻪ ﻟﻨﺎ اﻟﻴﻮم ﺟﺪﻳ ٌﺮ ﺑﺄن ﻳﻀﻌﻪ ﰲ ﻣﻜﺎﻧﺔ ﻻ ﻳﻨﺎزﻋﻪ ﻓﻴﻬﺎ أﺣﺪ؛ إذ إن أﻳﺔ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻟﻠﺘﻌﺒري ﻋﻦ ﺟﻠﻴﻞ أﺛﺮه ﻟﻦ ﺗﻀﺎﻫﻲ ﻗﺪره. واﻷﻋﻤﺎل اﻟﺘﻲ وﺻﻠﺘﻨﺎ ﻫﻲ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﺮﺳﺎﺋﻞ اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻬﺎ ﰲ ﻣﻌﻬﺪ أﺑﺤﺎث ﻗﺎم ﺑﺈﻧﺸﺎﺋﻪ ﰲ أﺛﻴﻨﺎ ﻋﺎم ٣٣٥ﻗﺒﻞ املﻴﻼد ﻳُﻌْ َﺮ ُ ف ﺑﺎﻟﻠﻴﺴﻴﻮم ،وﺗﻀﻢ ﻫﺬه اﻟﺮﺳﺎﺋﻞ ﻛﺘﺒًﺎ ﺗﺘﻨﺎول ﻋﻠﻮم اﻷﺧﻼق واﻟﺴﻴﺎﺳﺔ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ واﻟﺨﻄﺎﺑﺔ واﻟﺸﻌﺮ واﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻟﺪﺳﺘﻮري واﻟﻼﻫﻮت واﻟﺤﻴﻮان واﻷرﺻﺎد اﻟﺠﻮﻳﺔ واﻟﻔﻠﻚ واﻟﻔﻴﺰﻳﺎء واﻟﻜﻴﻤﻴﺎء واﻟﺒﺤﺚ اﻟﻌﻠﻤﻲ واﻟﺘﴩﻳﺢ وأﺳﺲ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت واﻟﻠﻐﺔ واملﻨﻄﻖ اﻟﺼﻮري وأﺳﺎﻟﻴﺐ اﻻﺳﺘﻨﺘﺎج واﻷﻏﺎﻟﻴﻂ وﻣﻮﺿﻮﻋﺎت أﺧﺮى ﻳ َْﺴﻬُ ُﻞ وﺻﻔﻬﺎ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪُ .وﺛﻤﺔ أﻋﻤﺎل أﺧﺮى ﻻ ﻳُﻌْ َﺮ ُ ف ﻣﺆﻟﻔﻮﻫﺎ اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﻮن ﺗﺒﺤﺚ ﰲ »اﻻﻗﺘﺼﺎد« )وﻫﻮ اﻟﺘﺪﺑري املﻨﺰﱄ ﰲ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻷﻣﺮ( واملﻴﻜﺎﻧﻴﻜﺎ وﻣﺠﺎﻻت أﺧﺮى .ﻛﻤﺎ ﺗﺤﺘﻮي رﺳﺎﺋﻞ أرﺳﻄﻮ ﻋﲆ أول ﻣﻌﺎﻟﺠﺔ ﻣﻨﻬﺠﻴﺔ ملﺎ ﻧﻄﻠﻖ ﻋﻠﻴﻪ اﻵن ﻋﻠﻮم اﻻﺟﺘﻤﺎع واﻟﺴﻴﺎﺳﺔ املﻘﺎرﻧﺔ وﻋﻠﻢ اﻟﻨﻔﺲ واﻟﻨﻘﺪ اﻷدﺑﻲ .وﻣﺎ زاﻟﺖ ﻛﺘﺒﻪ ﰲ اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ واﻟﺸﻌﺮ — ﻋﻼوة ﻋﲆ ﱠ وﻟﻜﻦ ﺛﻤﺔ إﻧﺠﺎزﻳﻦ ﻣﻦ إﻧﺠﺎزاﺗﻪ ﻳﺴﻤﻮان ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ املﺠﺮدة — ﺗُ ْﺪ َر ُس ﺣﺘﻰ اﻟﻴﻮم،
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ً أﺻﺎﻟﺔ وﻗﻮة ،وﻫﻤﺎ :املﻨﻄﻖ اﻟﺼﻮري اﻟﺬي اﺑﺘﻜﺮه أرﺳﻄﻮ ﻋﲆ ﺟﻤﻴﻊ إﻧﺠﺎزاﺗﻪ اﻷﺧﺮى ﻣﻦ ﻻ ﳾء ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ،وﻋﻠﻢ اﻷﺣﻴﺎء اﻟﺬي ﻋُ ﱠﺪ أﻛﺜ َﺮ اﻟﺒﺎﺣﺜني ﻓﻴﻪ ﺗﺄﺛريًا ﺣﺘﻰ ﻣﺠﻲء داروﻳﻦ. ﻛﺎن واﻟﺪ أرﺳﻄﻮ ﻃﺒﻴﺒًﺎ ،وﻛﺎﻧﺖ اﻷﺣﻴﺎء ﻫﻲ أول ﻣﺎ اﻧﺸﻐﻞ ﺑﻪ أرﺳﻄﻮُ ، وﺧﻤ َ ُﺲ ﻣﺎ وﺻﻠﻨﺎ ﻣﻦ أﻋﻤﺎل أرﺳﻄﻮ ﻳﺘﻨﺎول ﺑﺎﻟﻮﺻﻒ اﻟﺨﺼﺎﺋﺺ اﻟﻔﺴﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ واﻟﺴﻠﻮﻛﻴﺔ ملﺎ ﻳﻘﺎرب ٥٤٠ﻧﻮﻋً ﺎ ﻣﻦ أﻧﻮاع اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت ،ﻣﻌﺘﻤﺪًا ﰲ ذﻟﻚ ﻋﲆ ﻋﻤﻠﻴﺎت اﻟﺘﴩﻳﺢ اﻟﺘﻲ ﻗﺎم ﺑﻬﺎ وﻣﻼﺣﻈﺎﺗﻪ وﺗﺤﻠﻴﻼﺗﻪ اﻟﺨﺎﺻﺔ ،واﻟﺘﻘﺎرﻳﺮ اﻟﺘﻲ ﻗﺪﻣﻬﺎ اﻵﺧﺮون .وﻣﺎ أﺷﺪ اﻟﺤﺮج اﻟﺬي وﻗﻊ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﺟﺎءوا ﺑﻌﺪه ﻣﻦ ﻋﻠﻤﺎء اﻟﺤﻴﻮان ﺑﺴﺒﺐ ﻣﺎ أﺧﺬوه ﻣﻦ وﻗﺖ ﻃﻮﻳﻞ ﻟﻴﻀﻴﻔﻮا إﱃ دراﺳﺎت أرﺳﻄﻮ اﻟﺪﻗﻴﻘﺔ ا ُملﺤْ َﻜﻤَ ِﺔ ،إﻻ أﻧﻬﻢ ﻛﺎﻧﻮا ﻳ ُ ُﺨﻔﻮن ﻣﺎ وﻗﻌﻮا ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﺣﺮج ﺑﺘﺴﻠﻴﻂ ﻋﺪﺳﺔ اﻟﻨﻘﺪ ﻋﲆ اﻷﺧﻄﺎء اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﻟﺰاﻣً ﺎ أن ﺗﺘﺨﻠﻞ أﻋﻤﺎﻟﻪ .وﻗﺪ ﻇﻠﺖ ﺑﻌﺾ آراﺋﻪ ﻋﻦ ﻛﻴﻔﻴﺔ إﺗﻤﺎم ﻋﻤﻠﻴﺔ اﻟﻬﻀﻢ ﰲ اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت املﺠﱰة وﻋﻦ اﻷﺟﻬﺰة اﻟﺘﻨﺎﺳﻠﻴﺔ ﰲ اﻟﺜﺪﻳﻴﺎت دون ﺗﻐﻴري ﺣﺘﻰ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎدس ﻋﴩ ،وﻇﻠﺖ ﺑﻌﺾ آراﺋﻪ ﺣﻮل اﻟﻘﻠﺐ واﻷوﻋﻴﺔ اﻟﺪﻣﻮﻳﺔ ﺗُ ْﻘﺒَ ُﻞ دون ﻧﻘﺎش ﺣﺘﻰ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻣﻦ ﻋﴩ ،ﻛﻤﺎ أن وﺻﻔﻪ ﻟﻌﺎدات اﻷﺧﻄﺒﻮط وﺣُ ﺒ ِﱠﺎر اﻟﺒﺤﺮ ﻟﻢ ﻳﻄﺮأ ﻋﻠﻴﻪ ﺗﻌﺪﻳﻞ ﻛﺬﻟﻚ ﺣﺘﻰ وﻗﺖ ﻣﺘﺄﺧﺮ. وﻛﻐريه ﻣﻦ أﻋﺎﻇﻢ اﻟﻌﻠﻤﺎء ﻛﺎن أرﺳﻄﻮ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻳُﺠﺎﻧِﺐ اﻟﺼﻮاب ﺑﺴﺒﺐ ﺑﻌﺾ اﻟﺘﻌﻤﻴﻤﺎت املﺘﴪﻋﺔ؛ ﻓﻘﺪ رأى ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل أن ﺣﴩات اﻟﻨﺤﻞ اﻟﻌﺎﻣﻞ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻜﻮن إﻧﺎﺛًﺎ ﻷﻧﻬﺎ ﺗﻘﺪر ﻋﲆ اﻟﻮﺧﺰ ،و»ﻟﻴﺲ ﻣﻦ ﺷﺄن اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ أن ﺗﺠﻬﺰ اﻹﻧﺎث ﻟﻠﺤﺮب«، ﺑﻞ ﻗﺎل إن ﻋﺪد أﺳﻨﺎن اﻟﺮﺟﺎل ﻳﺰﻳﺪ ﺑﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﺎل ﻋﻦ ﻋﺪد أﺳﻨﺎن اﻟﻨﺴﺎء ،وﻫﻮ ﻣﺎ دﻓﻊ اﻟﺒﻌﺾ إﱃ اﻟﺘﺴﺎؤل ملﺎذا ﻟﻢ ﻳﻜﻠﻒ أرﺳﻄﻮ ﻧﻔﺴﻪ ﻋﻨﺎء اﻟﻨﻈﺮ ﰲ َﻓ ِﻢ زوﺟﺘﻪ ﻟﻴﺘﺄﻛﺪ ﻣﻦ ﺻﺤﺔ رأﻳﻪ .وﻟﻜﻦ ﻳﺒﺪو أن ﴍذﻣﺔ ﻗﻠﻴﻠني ﻣﻦ اﻟﺒﺎﻟﻐني ﻫﻢ اﻟﺬﻳﻦ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺴﺘﻄﻴﻌﻮن اﻻﺣﺘﻔﺎظ ﺑﺄﺳﻨﺎﻧﻬﻢ ﻛﺎﻣﻠﺔ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻌﻬﺪ ،وﻳﺒﺪو أن أرﺳﻄﻮ ﺟﺎﻧَﺒﻪ اﻟﺼﻮاب ﻛﺬﻟﻚ ﰲ ﻣﻼﺣﻈﺎﺗﻪ ﻋﻦ اﻟﺒﻘﺮ واﻟﺜريان واﻷﻳﺎﺋﻞ واﻟﻈﺒﺎء اﻟﺘﻲ ﻳﻤﺘﻠﻚ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺬﻛﻮر أﺳﻠﺤﺔ أﻛﺜﺮ ﻓﺎﻋﻠﻴﺔ .وﺑﺸﻜﻞ ﻋﺎ ﱟم ﻧﺠﺪ أن ﻧﺠﺎﺣﺎت أرﺳﻄﻮ ﺗﻔﻮق إﺧﻔﺎﻗﺎﺗﻪ ﺑﻜﺜري .وﻳﻌﺮض ﻛﺘﺎب ً اﻛﺘﺸﺎﻓﺎ ﻣﻦ أﻫﻢ اﻛﺘﺸﺎﻓﺎت أرﺳﻄﻮ ﰲ ﻫﺬا اﻟﻌﻠﻢ ﻳﺆرخ ﻟﻌﻠﻢ اﻷﺟﻨﺔ ﻗﺎﺋﻤﺔ ﺑﺄرﺑﻌﺔ ﻋﴩ ً اﻛﺘﺸﺎﻓﺎ ﺻﺤﻴﺤً ﺎ ﻣﻘﺎﺑﻞ ﺛﻼﺛﺔ اﻛﺘﺸﺎﻓﺎت ﺛﺒﺖ ﺧﻄﺆﻫﺎ .ﻫﺬا ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ ﻣﻨﻬﺎ أﺣﺪ ﻋﴩ َ َ أن ﺛَﻤﱠ َﺔ ﻣﺴﺄﻟﺘني ﰲ ﻋﻠﻢ اﻷﺣﻴﺎء ﻛﺎن ﻳُﻌْ ﺘﻘ ُﺪ ﺧﻄﺄ أرﺳﻄﻮ ﺑﺸﺄﻧﻬﻤﺎ ﻋﲆ ﻣﺪى ﻗﺮون ﻃﻮﻳﻠﺔ )وﻫﺎﺗﺎن املﺴﺄﻟﺘﺎن ﺗﺘﻌﻠﻘﺎن ﺑﺄﺳﻤﺎك ﻛﻠﺐ اﻟﺒﺤﺮ وأﺣﺪ أﻧﻮاع ﺳﻤﻚ اﻟﺤُ ﺒﱠﺎر وﺑﻌﺾ اﻷﻧﻮاع اﻷﺧﺮى( ،ﺑﻴﺪ أﻧﻪ ﺗﺄﻛﺪت ً ﻻﺣﻘﺎ ﺻﺤﺔ آراﺋﻪ ﺑﺸﺄﻧﻬﻤﺎ. ً اﺧﺘﻼﻓﺎ ﻛﺒريًا ﻋﻦ ﻋﻠﻢ اﻟﺤﻴﻮان ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﺳﺘﺨﺪام ﻣﻨﻬﺞ وﻳﺨﺘﻠﻒ املﻨﻄﻖ اﻟﺼﻮري اﻻﺳﺘﻘﺼﺎء ،ﻓﻜﻢ ﻣﻦ أﻧﺎس ﻳﺴﺘﻤﺘﻌﻮن ﺑﻤﺸﺎﻫﺪة اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت وﻣﻼﺣﻈﺘﻬﺎ ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻻ ﻳﺠﺪون 248
املﻌﻠﻢ اﻷول :أرﺳﻄﻮ
ﰲ أﻧﻔﺴﻬﻢ أيﱠ ﻣﻴﻞ ﻟﻠﻤﻨﻄﻖ اﻟﺼﻮري إذا ﻣﺎ ُﻗ ﱢﺪ َر ﻟﻬﻢ اﻻ ﱢ ﻃﻼع ﻋﻠﻴﻪ ،ﻓﺎملﻨﻄﻖ ﻻ ﻳﻨﻄﻮي ﻋﲆ أيﱟ ﻣﻦ اﻷوﺻﺎف اﻟﺪﻗﻴﻘﺔ ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎن أرﺳﻄﻮ ﻣﻮﻟﻌً ﺎ ﺑﻬﺎ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻳﻨﻄﻮي ﻋﲆ اﻟﺘﺼﻨﻴﻒ اﻟﺼﺎرم اﻟﺬي اﺳﺘﺨﺪﻣﻪ ﰲ ﻋﻠﻢ اﻷﺣﻴﺎء .وﻗﺪ وﻇﻒ أرﺳﻄﻮ ﻫﺬه املﻬﺎرة ً ﺗﻮﻇﻴﻔﺎ ﺟﻴﺪًا ﰲ ﺗﺼﻨﻴﻒ اﻷﻧﻮاع املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ اﻻﺳﺘﺪﻻﻻت املﻨﻄﻘﻴﺔ وﺗﻤﺤﻴﺼﻬﺎ ،واﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﻳﻔﻜﺮ أﺣﺪ ﰲ اﺳﺘﺨﺪاﻣﻬﺎ ﻣﻦ ﻗﺒ ُﻞ .وﻗﺪ ﻛﺎن ﻷﺑﺤﺎث أرﺳﻄﻮ املﻨﻄﻘﻴﺔ ﻛﻞ اﻟﻔﻀﻞ ﰲ ﺗﻄﻮﻳﺮ أﺟﻬﺰة اﻟﺤﺎﺳﻮب اﻟﺮﻗﻤﻴﺔ وﻟﻐﺎﺗﻪ ،ﺑﻌﺪ ﻃﺮﻳﻖ ﻃﻮﻳﻞ ﻗﻄﻌﺘﻪ ﰲ دروب ﺗﺎرﻳﺦ ﻋﻠﻢ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت املﺘﻌﺮج ﻣَ ﱠﺮ ْت ﻓﻴﻬﺎ ﺑﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﻠﺤﻈﺎت اﻟﻔﺎرﻗﺔ واﻷﺷﺨﺎص ذوي اﻷﻃﻮار اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ ،ﻛﺎملﺘﺼﻮف املﻌﺘﻮه اﻟﺬي أﺗﻰ ﻣﻦ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻣﺎﻳﻮرﻛﺎ ،واﻟﺬي ﺻﻤﻢ آﻟﺔ ﻹﺟﺒﺎر اﻟﻜﺎﻓﺮﻳﻦ ﻋﲆ اﻹﻳﻤﺎن ﺑﻌﺪ أن ِ ﻓﺸﻠﺖ اﻟﺤﻤﻼت اﻟﺼﻠﻴﺒﻴﺔ ﰲ ﺗﺤﻘﻴﻖ ﻣﺮاﻣﻴﻬﺎ ،إﺿﺎﻓﺔ إﱃ اﻟﻠﻌﺒﺔ اﻟﻠﻮﺣﻴﺔ املﻤﻠﺔ اﻟﺘﻲ اﺧﱰﻋﻬﺎ ﻟﻮﻳﺲ ﻛﺎرول .وﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﺘﺐ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺟﻮن ﻫريﺷﻴﻞ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ أن »املﻼﺣﻈﺎت اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗُﺠﺪي ﻋﲆ اﻹﻃﻼق ﻫﻲ داﺋﻤً ﺎ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ اﻧﺒﺜﻘﺖ ﻣﻨﻬﺎ ﻣﻌﻈﻢ اﻟﺘﻄﺒﻴﻘﺎت اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ «.ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﺪرك ﻋﻨﺪﻫﺎ ﺑﺎﻟﺘﺤﺪﻳﺪ ﻣﺎ ﻗﺪ ﻳﻜﻮن أﻫﻢ ﻫﺬه اﻟﺘﻄﺒﻴﻘﺎت اﻟﺘﻲ ﺳﻴﺘﺒني ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ أﻧﻬﺎ ﺗﻄﺒﻴﻘﺎت املﻨﻄﻖ اﻟﺼﻮري .ﻻ ﻳﺨﻔﻰ ﻋﲆ أﺣﺪﻧﺎ ﻣﺎ ﻫﻲ اﻟﺤﻮاﺳﻴﺐ، أﻣﺎ اﻟﺘﻌﺮﻳﻒ اﻟﺪﻗﻴﻖ ﻟﻠﻤﻨﻄﻖ ﻓﺴﻴﺄﺗﻲ ﴍﺣﻪ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ. ﻗﺪ ﻳﻜﻮن أرﺳﻄﻮ ﻣﺼﺪر إﻋﺠﺎب ﻟﻨﺎ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻛﺎن ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻤﺘﻌﻠﻤني ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ املﺘﺄﺧﺮة ﻳﻤﺜﻞ املﺎء اﻟﺬي ﻳﴩﺑﻮﻧﻪ واﻟﻬﻮاء اﻟﺬي ﻳﺴﺘﻨﺸﻘﻮﻧﻪ؛ ﻓﻘﺪ ﻇﻞ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ املﺪﻧﻲ اﻟﻌﺎﱄ ﻋﲆ ﻣﺪار ﻗﺮون ﻳﻘﻮم ﻋﲆ اﻟﻨﻬﻞ ﻣﻦ رﺳﺎﺋﻞ أرﺳﻄﻮ واﻟﺘﻌﻠﻴﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ .وﻋﻨﺪﻣﺎ اﺳﺘﺨﺪم داﻧﺘﻲ )١٣٢١–١٢٦٥م( ﻋﺒﺎرة »املﻌﻠﻢ اﻷول« ﰲ »اﻟﻜﻮﻣﻴﺪﻳﺎ اﻹﻟﻬﻴﺔ« ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺛﻤﺔ ﺣﺎﺟﺔ ﻟﻺﺷﺎرة إﱃ أرﺳﻄﻮ ﺑﺎﻻﺳﻢ .وﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﺑﺄﻛﺜﺮ ﻣﻦ ٣٠٠ﻋﺎم ﻛﺘﺐ دﻳﻜﺎرت ً آﺳﻔﺎ» :ﻛﻢ ﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﺮﺟﻞ ﻣﺤﻈﻮ ً ﻇﺎ! ﻓﻜﻞ ﻣﺎ ﻛﺘﺒﻪ ﺳﻮاء أﻣﻌﻦ ﻓﻴﻪ ﻓﻜﺮه أم ﻟﻢ ﻳُﻤﻌﻨﻪ ﻳﻨﻈﺮ إﻟﻴﻪ اﻟﻨﺎس اﻟﻴﻮم وﻛﺄﻧﻪ وﺣﻲ ﻧﺰل ﻣﻦ اﻟﺴﻤﺎء «.وﻻ ﻳﺰال أﺛﺮ أرﺳﻄﻮ ﺑﺎﻗﻴًﺎ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ ﻟﻴﺲ ﺑﻤﺎ ﱠ ﺗﺒﻘﻰ ﻣﻦ ﻣﻔﺎﻫﻴﻤﻪ وﻟﻜﻦ ﺑﻤﺎ َﺧ ﱠﻠ َﻔﻪ ﻣﻦ آﺛﺎر ﰲ ﻟﻐﺘﻨﺎ وﻣﻦ ﻣﻔﺎﻫﻴﻢ ﰲ ﻓﻜﺮﻧﺎ؛ ﻓﺎملﻔﺎﻫﻴﻢ اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل أﺧﺬﻧﺎﻫﺎ ﻋﻨﻪ ﻣﻦ ﺧﻼل ﺗﺮﺟﻤﺘﻬﺎ ﻋﻦ اﻟﻼﺗﻴﻨﻴﺔ ﰲ اﻟﻐﺎﻟﺐ :اﻟﻘﻮة واﻟﺪﻳﻨﺎﻣﻴﻜﺎ واﻟﻄﺎﻗﺔ واملﺎدة واﻟﻜﻴﻔﻴﺔ واﻟﺠﻮﻫﺮ واﻟﻔﺌﺔ. وﻟﻴﺴﺖ ﻫﺬه املﻔﺎﻫﻴﻢ وﻏريﻫﺎ اﻟﻜﺜري إﻻ أﺻﺪاء ملﺎ ﻛﺎن ﻳﺪور ﰲ أروﻗﺔ ﺟﺎﻣﻌﺎت اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ،واﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﰲ ﺣَ ﱢﺪ ذاﺗﻬﺎ أﺻﺪاء ﻷﻓﻜﺎر أرﺳﻄﻮ .وﻳﻤﻜﻦ اﻟﺘﻌﺮف ﻋﲆ ﻣﺪى ﺗﺄﺛري أﻓﻜﺎره ﻋﲆ ﻗﺎﻋﺎت اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ املﺪرﺳﻴﺔ ِﺷﺒﻪ ا ُملﻌﺘِﻤﺔ ﺑﻤﻌﺮﻓﺔ أن اﻟﻨﻘﺪ اﻷﺳﺎﳼ ً ﻫﻤﺴﺎ ﰲ ﻣﺆﺧﺮة ﻓﺼﻮل اﻟﺪراﺳﺔ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻌﺎﻟﻴﻤﻪ املﻮﺟﱠ ﻪ ﻟﻪ ﻟﻌﺪة ﻗﺮون ﻛﺎن ﻳﻘﻊ 249
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
وآراؤه ﻳﺘﻐﻨﱠﻰ ﺑﻬﺎ املﺤﺎﴐون ﻋﻨﺪ اﻟﺴﺒﻮرات .وﰲ ﻋﺎم ١٦٤١ﻛﺘﺐ دﻳﻜﺎرت إﱃ أﺣﺪ ﴎا ﺑﻌﺪ أن أرﺳﻞ إﻟﻴﻪ ﺟﺰءًا ﻣﻦ ﺟﺪﻳﺪ أﻋﻤﺎﻟﻪ ً ﻗﺎﺋﻼ: أﺻﺪﻗﺎﺋﻪ ٍّ دﻋﻨﻲ ُأﻗﻞ ﻟﻚ إن ﻫﺬه اﻟﺘﺄﻣﱡ ﻼت اﻟﺴﺘﺔ ﺗﺤﺘﻮي ﻋﲆ ﻛﻞ أﺳﺲ اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء اﻟﺘﻲ وﺿﻌﺘﻬﺎ ،وﻟﻜﻦ أرﺟﻮك ﻻ ﺗﺨﱪ أﺣﺪًا ﺑﺬﻟﻚ؛ ﻓﺈن ﻫﺬا ﻣﻦ ﺷﺄﻧﻪ أن ﻳﺆ ﱢﻟﺐ ﻋَ َﲇ ﱠ أﻧﺼﺎر أرﺳﻄﻮ ﻓﻼ ﻳﻘﺒﻠﻮﻧﻬﺎ؛ ﻓﻜﲇ أﻣﻞ أن ﻳﻌﺘﺎد اﻟﻘﺮاء ﺗﺪرﻳﺠﻴٍّﺎ ﻋﲆ آراﺋﻲ وﻣﺒﺎدﺋﻲ وﻳﺪرﻛﻮا ﻣﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺣﻘﺎﺋﻖ ﻗﺒﻞ أن ﻳﻼﺣﻈﻮا أﻧﻬﺎ ﺗﻘﻮض ﻣﺒﺎدئ أرﺳﻄﻮ. ﻛﺎﻧﺖ ردة اﻟﻔﻌﻞ اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﻋﲆ أرﺳﻄﻮ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ ﻗﺎﺳﻴﺔ ،وﺷﺎﺑﺘﻬﺎ املﻐﺎﻻة ﰲ ﺑﻌﺾ اﻷﺣﻴﺎن .وﻗﺪ ﻛﺘﺐ اﻟﺸﺎﻋﺮ ﺟﻮن دراﻳﺪن اﻟﺬي ﻛﺎن ﻳﺨﻮض ﰲ اﻟﻌﻠﻢ أﺣﻴﺎﻧًﺎ اﻷﺑﻴﺎت اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ ﰲ اﻟﻌﺎم اﻟﺬي اﻧْﺘُﺨِ ﺐَ ﻓﻴﻪ ﻋﻀﻮًا ﺑﺎﻟﺠﻤﻌﻴﺔ املﻠﻜﻴﺔ ،وﻫﻲ ﻣﻦ أوﱃ املﺆﺳﺴﺎت اﻷوروﺑﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻋﻤﻠﺖ ﻋﲆ اﻟﺘﺨ ﱡﻠﺺ ﻣﻦ اﻟﻔﻜﺮ املﺪرﳼ اﻷرﺳﻄﻲ وﻧﴩ املﻌﺮﻓﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة ﻓﻴﻘﻮل: ﻟﻢ ﻧﻌﻬﺪ ﻃﻐﻴﺎﻧًﺎ ﻃﺎل ﻛﻬﺬا، ﻃﻐﻴﺎن ﺧﺎن ﻓﻴﻪ اﻵﺑﺎء، ﻋﻘﻮﻟﻬﻢ اﻟﺤﺮة ﻟﺼﺎﻟﺢ ﻫﺬا اﻹﺳﺘﺎﻏريي )أرﺳﻄﻮ(، وﺟﻌﻠﻮا ﻣﻦ ﺷﻌﻠﺘﻪ ﻧﻮ ًرا ﻟﻬﻢ. ﻛﺎﻧﺖ ﻛﻴﻤﻴﺎء أرﺳﻄﻮ وﻓﻴﺰﻳﺎؤه وآراؤه ﰲ ﻋﻠﻢ اﻟﻜﻮﻧﻴﺎت أول ﻣﺎ ﺳﻘﻂ ﺳﻘﻮ ً ﻃﺎ ﻣﺪ ﱢوﻳًﺎ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ ﻋﲆ ﻳﺪ ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ وﺑﻮﻳﻞ وﻏريﻫﻤﺎ؛ ﻓﺂراء أرﺳﻄﻮ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ — ﺑﺎﺳﺘﺜﻨﺎء ﻋﻠﻢ اﻷﺣﻴﺎء — ﻗﺪ ﻧ ُ ِﺒﺬَ ْت ﻻ ﻷﻧﻬﺎ أﺧﻄﺄت ﰲ ﺑﻌﺾ اﻟﺠﺰﺋﻴﺎت ،وﻟﻜﻦ ﻷﻧﻬﺎ ﺿ ﱠﻠﺖ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺼﻮاب ،وﻫﺬا ﺻﺤﻴﺢ .وﻟﻜﻦ ﻗﺪ ًرا ﻛﺒريًا ﻣﻦ اﻟﺬﱠ ﱢم اﻟﺬي ﻧﺎﻟﻪ أرﺳﻄﻮ ﻛﺎن ﻳُﺤَ ﻤﱢ ﻠُ ُﻪ ﻧﺠﺪه ﰲ ﻫﺠﻮم ﻓﺮاﻧﺴﻴﺲ ﺑﻴﻜﻮن ﺑﻐري ﺣَ ﱟﻖ ﺧﻄﺎﻳﺎ أﺗﺒﺎﻋﻪ اﻟﻀﻌﻔﺎء اﻟﺨﺎﻧﻌني .وﻫﺬا ﻣﺎ ِ )١٦٢٦–١٥٦١م( أﺣﺪ أﺑﺮز اﻟﺸﺨﺼﻴﺎت ﰲ اﻟﺠﻤﻌﻴﺔ املﻠﻜﻴﺔ وأﺣﺪ ﻣَ ْﻦ ﻣﺜﻠﺖ ﻛﺘﺎﺑﺘﻬﻢ ﻧﻘﻄﺔ اﻧﻄﻼق ﻟﻠﺜﺎﺋﺮﻳﻦ ﰲ ﻣﺠﺎل اﻟﻌﻠﻢ. ﻻ ﻳﺰال ﺑﻴﻜﻮن ﻳ َ ُﻮﺻﻒ ﺑﺄﻧﻪ أﺣﺪ أﻧﺒﻴﺎء اﻟﺜﻮرة اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أﻧﻪ ﻛﺜريًا ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻳَﻌِ ﻲ ﺟﻴﺪًا ﻣﺎ ﻳﺘﺤﺪث ﻋﻨﻪ ،ﺑﻞ ﻛﺎﻧﺖ ﻟﺪﻳﻪ ﻗﺪرة ﻻﻓﺘﺔ ﻋﲆ أن ﻳﻐﻔﻞ ﻋﻤﺎ ﻳﺤﺪث ﻣﻦ أﻣﻮر ﻣﻬﻤﺔ .ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺑﻴﻜﻮن ِﻟﻴُﻼﺣ َ ﻆ أي اﻛﺘﺸﺎف ﻋﻠﻤﻲ ﻣﻬﻢ ﺣﺘﻰ ﻟﻮ ﺣﺪث أﻣﺎم ﻋﻴﻨﻴﻪ ﻛﺘﻔﺎﺣﺔ ﻧﻴﻮﺗﻦ اﻟﺸﻬرية .إﺿﺎﻓﺔ إﱃ ذﻟﻚ ﻏﺾ ﺑﻴﻜﻮن ﻃﺮﻓﻪ ﻋﻦ إﻧﺠﺎزات ﻃﺒﻴﺒﻪ 250
املﻌﻠﻢ اﻷول :أرﺳﻄﻮ
وﻳﻠﻴﺎم ﻫﺎرﰲ اﻟﺬي اﻛﺘﺸﻒ اﻟﺪورة اﻟﺪﻣﻮﻳﺔ ،وﻧﺒﺬ ﻧﻈﺮﻳﺔ املﻐﻨﺎﻃﻴﺴﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻗﺪﻣﻬﺎ ﺷﺨﺺ ﻣﻌﺮوف ﻟﺪﻳﻪ ﻫﻮ وﻳﻠﻴﺎم ﺟﻴﻠﱪت ً ﻗﺎﺋﻼ إﻧﻬﺎ ﻣﺤﺾ ﻋﺒﺚ ﻻ ﻓﺎﺋﺪة ﺗُ ْﺮﺟَ ﻰ ﻣﻨﻪ ،ﻛﻤﺎ ﺗﺠﺎﻫﻞ ً ﻓﻀﻼ ﻋﻦ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﺘﻤﻜﻦ ﻛﺬﻟﻚ ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ وﻛﺒﻠﺮ ﻷﻧﻪ ﻟﻢ ﻳُﻮ ﱠَﻓ ْﻖ ﰲ َﻓﻬﻢ ﻧﻈﺮﻳﺎﺗﻬﻤﺎ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ، ﻣﻦ ﻓﻬﻢ ﻛﻮﺑﺮﻧﻴﻜﻮس .وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﻘﺪ ﻟﻌِ ﺐ دو ًرا ﻛﺒريًا ﺑﺼﻔﺘﻪ دﻋﺎﺋﻴٍّﺎ ﰲ اﻻﻧﻘﻼب ﻋﲆ ﻛ ﱟﻞ ﻣﻦ أرﺳﻄﻮ واﻟﻔﻼﺳﻔﺔ املﺪرﺳﻴني. وﻗﺪ وﺟﱠ ﻪ ﺑﻴﻜﻮن ﻧﻘﺪﻳﻦ أﺳﺎﺳﻴني ﻷرﺳﻄﻮ :أوﻟﻬﻤﺎ أن ﻓﻴﺰﻳﺎء أرﺳﻄﻮ أﺻﺎﺑﻬﺎ ﻛﺜري ٍّ ﻣﺤﻘﺎ ﰲ ذﻟﻚ )رﻏﻢ ﻣﻦ املﻔﺎﻫﻴﻢ اﻟﺨﺒﻴﺜﺔ اﻟﺨﺎﻃﺌﺔ واﻟﻨﻈﺮﻳﺎت املﺸﻮﱠﻫﺔ ،وﻗﺪ ﻛﺎن ﺑﻴﻜﻮن ُ اﻟﺘﺠﺎﻫﻞ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳُﻜ ﱢﻠﻒ ﻧﻔﺴﻪ ﻋﻨﺎءَ ﺗﻔﻨﻴﺪ أيﱟ ﻣﻨﻬﺎ ﺑﻨﻔﺴﻪ( ،واﻵﺧﺮ أن أرﺳﻄﻮ ﻛﺎن داﺋﻢ ﻟﻠﺤﻘﺎﺋﻖ واﻻزدراء ﻟﻔﻜﺮة املﻼﺣﻈﺔ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻻﻟﺘﺰاﻣﻪ اﻷﻋﻤﻰ ﺑﺎﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻟﺘﻲ وﺿﻌﻬﺎ ﺑﻨﻔﺴﻪ. ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه ﻫﻲ أﺷﺪ اﻻﻧﺘﻘﺎدات اﻟﺘﻲ وﺟﻬﻬﺎ ﺑﻴﻜﻮن ﻷرﺳﻄﻮ وﻟﻜﻨﻬﺎ ﺗُﺠﺎﰲ اﻟﺼﻮاب ﺗﻤﺎﻣً ﺎ رﻏﻢ أﻧﻬﺎ ﺗﱰدد ﻋﲆ أﻟﺴﻨﺔ ﻫﺆﻻء اﻟﺬﻳﻦ ﻟﻢ ﻳﻌﺒَﺌُﻮا ﺑﻘﺮاءة ﻣﺎ ﻗﺎﻟﻪ أرﺳﻄﻮ ﻗﺒﻞ ﺗﺮدﻳﺪﻫﺎ. وﻫﺎ ﻫﻮ أرﺳﻄﻮ ﻧﻔﺴﻪ ﺑﻌﺪ أن اﻧﺘﻬﻰ إﱃ ﻧﺘﻴﺠﺘﻪ اﻟﺨﺎﻃﺌﺔ ﺑﺨﺼﻮص ﺣﴩات اﻟﻨﺤﻞ اﻟﻌﺎﻣﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﺳﺒﻘﺖ اﻹﺷﺎرة إﻟﻴﻬﺎ ،ﻳﻘﻮل: ﺗﺒﺪو ﻫﺬه ﻫﻲ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﺗﻜﺎﺛُﺮ اﻟﻨﺤﻞ اﻋﺘﻤﺎدًا ﻋﲆ اﻟﺤﻜﻢ اﻟﻨﻈﺮي ،وﻣﺎ ﻳُﻌْ ﺘَ َﻘ ُﺪ أﻧﻬﺎ ﺣﻘﺎﺋﻖ ﻣﺘﻌﺎ َرف ﻋﻠﻴﻬﺎ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺸﺄن وﻟﻜﻦ ﻟﻢ ﻳﺆﻣﻦ اﻟﻨﺎس ﺑﻬﺎ ﺣﻖ اﻹﻳﻤﺎن، وإذا ﻛﺎن اﻷﻣﺮ ﻛﺬﻟﻚ ﻓﻴﺠﺐ أن ﻧﻤﻨﺢ املﺼﺪاﻗﻴﺔ إﱃ املﻼﺣﻈﺔ ﻻ إﱃ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت. وﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﻤﻨﺢ املﺼﺪاﻗﻴﺔ إﱃ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﻣﻮاﻓﻘﺘﻬﺎ ﻟﻠﺤﻘﺎﺋﻖ اﻟﻨﺎﺗﺠﺔ ﻋﻦ املﻼﺣﻈﺔ. وﺑﺼﻔﺔ ﻋﺎﻣﺔ ﻧﺠﺪ أرﺳﻄﻮ ﻗﺪ ﻛﺘﺐ ﰲ ﻣﻮﺿﻊ آﺧﺮ ﻳﻘﻮل» :ﻳﺠﺐ أن ﻧﺘﺤﻘﻖ ﻣﻤﺎ ً ﺳﺎﺑﻘﺎ ﺛﻢ ﻧﺨﺘﱪ ﺻﺤﺘﻪ ﺑﻤﻘﺎرﻧﺘﻪ ﺑﺤﻘﺎﺋﻖ اﻟﺤﻴﺎة ،ﻓﺈذا ﻣﺎ وﺟﺪﻧﺎه ﻳﺘﻔﻖ ﻣﻌﻬﺎ ﻗﻠﻨﺎه ﻓﻌﻠﻴﻨﺎ إذن أن ﻧﻘﺒﻠﻪ ،وإذا ﻣﺎ ﺗﻌﺎرض ﻣﻌﻬﺎ ﻓﻼ ﻣَ َﻔ ﱠﺮ ﻣﻦ اﻟﺘﺴﻠﻴﻢ ﺑﺄﻧﻪ ﻣﺤﺾ ﺣﺪﻳﺚ ﻧﻈﺮي «.وﻟﻴﺴﺖ ﻫﺬه ﻣﺠﺮد ﻋﺒﺎرة ﺗﻮﺿﺢ ﻧﻴﺘﻪ ﺑﻞ إﻧﻬﺎ ﺗﺸري ﺑﺪﻗﺔ إﱃ املﻨﻬﺞ اﻟﺬي اﺗﺒﻌﻪ ﱠ واﻟﺤﻖ ﻧﻘﻮل إن أرﺳﻄﻮ أرﺳﻄﻮ ﰲ أﻋﻤﺎﻟﻪ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﺰال ﻣﻮﺟﻮدة ﺣﺘﻰ اﻟﻴﻮم. ﻛﺎن ﻳﺤﺮﻛﻪ اﻟﻔﻀﻮل املﺘﻔﺘﺢ ﻧﻔﺴﻪ اﻟﺬي ﻛﺎن ﻳﺤﺮك أﻋﻀﺎء اﻟﺠﻤﻌﻴﺔ املﻠﻜﻴﺔ؛ وﻟﻜﻦ ﻷﻧﻬﻢ اﻋﺘﱪوا أﻧﻔﺴﻬﻢ أﺻﺤﺎب ﻓﻜﺮ ﺛﻮري ﻓﻘﺪ ﺣﺎوﻟﻮا أن ﻳﻘﻨﻌﻮا أﻧﻔﺴﻬﻢ ﺑﻐري ذﻟﻚ .وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﺎ ﻳﺤﺘﺎج إﱃ ﺗﻌﺪﻳﻞ ﻫﻮ املﻨﺎﻫﺞ اﻟﺘﻲ اﺗﺒﻌﻬﺎ أرﺳﻄﻮ ﺑﻞ اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ اﻟﺘﻲ ﱠ ﺗﻮﺻﻞ إﻟﻴﻬﺎ واﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﻳﺘﻤ ﱠﻜﻦ ﻣﻦ ﺗﻌﺪﻳﻠﻬﺎ ﻧﻈ ًﺮا ﻟﻮﻓﺎﺗﻪ ﻣﻨﺬ أﻟﻔﻲ ﻋﺎم .وﻟﻴﺲ ﺧﻄﺄَه أن ﺗﺘﺤﻮل أﻓﻜﺎره وﻇﻨﻮﻧﻪ إﱃ ﻋﻘﺎﺋﺪ ﻳﺘﺒﻌﻬﺎ أﺗﺒﺎﻋﻪ وﻣَ ْﻦ ﺟﺎءوا ﺑﻌﺪه. 251
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
وﻗﺪ أﺣﺴﻦ ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ َﻓﻬﻢ ذﻟﻚ أﻓﻀﻞ ﻣﻦ ﺑﻴﻜﻮن؛ ﺣﻴﺚ أﻗﺮ أن أرﺳﻄﻮ »ﻟﻢ ﻳﻌﱰف ﺑﺎﻟﺘﺠﺮﺑﺔ ﺿﻤﻦ ﻃﺮق اﻟﻮﺻﻮل إﱃ ﻧﺘﺎﺋﺞ املﺴﺎﺋﻞ اﻟﻔﻴﺰﻳﺎﺋﻴﺔ ﻓﺤﺴﺐ ،ﺑﻞ ﻗﺪﻣﻬﺎ ﻋﲆ ً ﻏريﻫﺎ «.وﻟﻨﺄﺧﺬ ً ﺗﻘﻮﻳﻀﺎ ﻟﻠﺼﻮرة ﻣﺜﻼ ﻣﺴﺄﻟﺔ اﻟﺒﻘﻊ اﻟﺸﻤﺴﻴﺔ ،وﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﻛﺎن اﻛﺘﺸﺎﻓﻬﺎ اﻟﺘﻲ رﺳﻤﻬﺎ أرﺳﻄﻮ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ )ﺗﻠﻚ اﻟﺼﻮرة اﻟﺘﻲ ﻇﻠﺖ ﻣﺤﻞ إﺟﻼل ﻗﺒﻞ ﻣﺠﻲء ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ ﻷﻛﺜﺮ ﻣﻦ أﻟﻒ ﻋﺎم( .وﻗﺪ ﻗﺎل أرﺳﻄﻮ» :ﻋﲆ ﻣﺪار اﻟﻌﺼﻮر اﻟﺘﻲ ﺧﻠﺖ ﺣﺘﻰ آﺧﺮ ﻳﻮم َﺳﺠﱠ َﻠﺘْ ُﻪ ﺻﺤﺎﺋﻔﻨﺎ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ ،ﻳﺒﺪو أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻄﺮأ أي ﺗﻐﻴري ﻋﲆ اﻟﺴﻤﺎء اﻟﻌﻠﻴﺎ «.وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻌﻨﻲ أن ﺷﻴﺌًﺎ ﻟﻢ ﻳﺤﺪث ﺑﺘﺎﺗًﺎ ﻟﻠﻨﺠﻮم .وﻗﺪ اﺳﺘﻨﺘﺞ أرﺳﻄﻮ ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ املﻄﺎف أن اﻟﺸﻜﻞ اﻟﻮﺣﻴﺪ ﻟﻠﺘﻐﻴري اﻟﺬي ﻳﻤﻜﻦ ﻣﻼﺣﻈﺘﻪ ﺧﺎرج اﻟﻐﻼف اﻟﺠﻮي ﻟﻸرض ﻫﻮ اﻟﺤﺮﻛﺔ اﻟﺪاﺋﺮﻳﺔ امل ﱠ ﻄ ِﺮدة ،وأن ﻫﺬا ﻣﺎ ﻳﻔﴪ اﻟﺘﺒﺎﻳﻦ اﻟﺠﺬري ﺑني ﻋﺎﻟﻢ اﻷرض املﻀﻄﺮب وﻋﺎﻟﻢ اﻟﺴﻤﺎء اﻟﺼﺎﰲ اﻟﻬﺎدئ .وﻗﺪ ﺗﻮاﻓﻘﺖ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ِ ﺑﺸ ﱠﺪ ٍة ﻣﻊ اﻷﻏﺮاض اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ؛ ﺣﻴﺚ إن ﻫﺬا اﻟﺘﻘﺴﻢ ﺑني اﻟﺴﻤﺎء واﻷرض ﻳﺘﱠﺴﻖ ﻣﻊ ﻣﺎ ﺟﺎء ﺑﻪ اﻟﻜﺘﺎب املﻘﺪﱠس .وﻟﻜﻦ ِ ﻣﻨﺘﻈﻤﺔ اﻟﺸﻜﻞ ﺗُﺪﻧﱢﺲ ﺳﻄﺢ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻧﻈﺮ ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ ﻣﻦ ﻣﻨﻈﺎره ورأى ﺑﻘﻌً ﺎ ﺷﻤﺴﻴﺔ ﻏري اﻟﺸﻤﺲ؛ أدرك ﺣﻴﻨﻬﺎ أن اﻟﺴﻤﺎء ﻟﻴﺴﺖ ﺑﻬﺬه اﻟﺼﻮرة ﻣﻦ اﻟﻬﺪوء ،وأﻧﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﻌﺪ ﺛﺎﺑﺘﺔ ﺑﺄي ﺣﺎل ﻣﻦ اﻷﺣﻮال .ﻛﻤﺎ أدرك أن ﻓﻜﺮة أرﺳﻄﻮ ﺣﻮل اﻷرض واﻟﺴﻤﺎء ﻛﺎﻧﺖ ﺳﺘﺘﻐري ﻟﻮ أﻧﻪ َ »ﺿﻤﱠ َﻦ ﻧﻈﺮﻳﺘﻪ اﻟﺪﻟﻴﻞ اﻟﺤﴘ اﻟﺠﺪﻳﺪ« وﻟﻜﺎن ﻋﲆ اﻟﻘﺴﺎوﺳﺔ املﺘﻔﻠﺴﻔني ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ أن ﻳﺒﺤﺜﻮا ﻋﻦ ﻧﻈﺮﻳﺎت أﺧﺮى ﻳﻌﻠﻘﻮن ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺧﻴﺎﻻﺗﻬﻢ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ .ﺑﺎﻟﻄﺒﻊ ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ اﻟﻘﻄﻊ ﺑﺄن أرﺳﻄﻮ ﻛﺎن ﺳﻴﻐري رأﻳﻪ إذا رأى ﻣﺎ رآه ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ ،وﻟﻜﻦ ﻣﺎ ﻣﻦ ﺳﺒﺐ ﻣﻨﻄﻘﻲ ﻳﺪﻋﻮﻧﺎ ﻟﻼﻋﺘﻘﺎد ﺑﺄﻧﻪ ﻛﺎن ﺳريﻓﺾ ذﻟﻚ. ﻧﺠﺪ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻫﻨﺎك ﻓﺎرق ﺟﻮﻫﺮي ﺛﻮري ﺑني ﻣﻨﻬﺞ أرﺳﻄﻮ ﰲ ورﻏﻢ ذﻟﻚ ﻓﺈﻧﻨﺎ ِ املﻌﺮﻓﺔ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ واملﻨﻬﺞ اﻟﺬي ﺗﺒﻨﱠﺎه ﺑﻴﻜﻮن ،وﻫﻮ ﻳﺘﻤﺜﻞ ﰲ ﻣﻮﻗﻒ اﻟﺮﺟُ ﻠني ﻣﻦ اﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ. أﻣﺎ أرﺳﻄﻮ ﻓﻠﻢ ﺗﻜﻦ ﻟﺪﻳﻪ أدﻧﻰ ﻓﻜﺮة ﻋﻦ ﻫﺬا اﻷﻣﺮ ،ﺣﻴﺚ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻏﺎﻳﺔ ﻣﺮﻏﻮﺑًﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﰲ ﺣَ ﱢﺪ ذاﺗﻬﺎ وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻬﺎ ﺷﺄن ﺑﺎﺧﱰاع اﻷدوات ﱢ املﻮﻓﺮة ﻟﻠﺠﻬﺪ .وأﻣﺎ ﺑﻴﻜﻮن ﻓﻜﺎن رﺳﻮل املﺠﺘﻤﻊ اﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻲ ،ورﻏﻢ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﻨﺨﺮ ً ﻃﺎ ﰲ اﻟﻌﻠﻢ ﺗﻤﺎم اﻻﻧﺨﺮاط إﻻ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﻈﻦ ﺑﺸﻜﻞ ﻣﻦ اﻷﺷﻜﺎل أن اﻟﻌﻠﻢ ﻫﻮ ﺳﺒﻴﻠﻪ ﻟﻠﻮﺻﻮل إﱃ ﻣﺮاده؛ ﻓﺎﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻷم ﻳﺠﺐ أن ﺗﺨﻀﻊ ﻟﻺﻧﺴﺎن وﺗﻠﺒﻲ اﺣﺘﻴﺎﺟﺎﺗﻪ .وﰲ ﺳﺒﻴﻞ ﺗﺤﻘﻴﻖ ﻫﺬه اﻟﻐﺎﻳﺔ وﺗﻨﻔﻴﺬ ﻫﺬا املﴩوع اﻟﺠﺪﻳﺪ أﻛﺪ ﺑﻴﻜﻮن ﻋﲆ ﴐورة إﺟﺮاء املﺰﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺘﺠﺎرب واﻟﻘﻴﺎم ﺑﺎملﺰﻳﺪ ﻣﻦ املﻼﺣﻈﺎت املﻨﻬﺠﻴﺔ إﱃ ﺟﺎﻧﺐ ﺗﻌﺰﻳﺰ اﻟﺘﻌﺎون اﻟﻌﻠﻤﻲ .وﻟﻢ ﻳﻜﻦ أي ﻣﻦ ﻫﺬه اﻷﺷﻴﺎء ﺟﺪﻳﺪًا ﰲ ﺣَ ﱢﺪ ذاﺗﻪ إﻻ أن ﺟﻬﻮده ﰲ ﻫﺬا املﻀﻤﺎر ﻣﺜﻠﺖ ﻣﺴﺎ ًرا إﺻﻼﺣﻴٍّﺎ ﰲ ﺗﻘﺎﻟﻴﺪ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ. 252
املﻌﻠﻢ اﻷول :أرﺳﻄﻮ
ﻓﻜﺮ ﺑﻴﻜﻮن ﻣﻠﻴٍّﺎ ﰲ اﻟﻄﺮق اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻨﻪ ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻬﺎ إﺑﺮاز ﺑﻴﺎﻧﺎت املﺴﺎﺋﻞ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴﺔ وﺗﻘﻴﻴﻤﻬﺎ ،وﻟﻜﻦ ﻟﺴﻮء ﺣﻈﻪ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻳُﺠﻴﺪ ﻫﺬا اﻷﻣﺮ ﺑﻨﻔﺴﻪ ،ﺑﻴﺪ أن ﻣﺒﺎدﺋﻪ ﻛﺎﻧﺖ ﺻﺤﻴﺤﺔ؛ إذ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺤﻘﻖ اﻟﻨﺠﺎح أﻳﻨﻤﺎ ذﻫﺒﺖ .آﻣﻦ ﺑﻴﻜﻮن أﻧﻪ ﺑﻄﺮﺣﻪ ﻟﻬﺬه اﻷﻓﻜﺎر ﻳﻘﺪﱢم أﺳﻠﻮﺑًﺎ ﺟﺪﻳﺪًا ﻳﻤﻜﻦ ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻪ اﺳﺘﺒﺪال ﻣﺒﺎدئ املﻨﻬﺞ اﻟﻌﻠﻤﻲ اﻟﺬي َ داﻓﻊ ﻋﻨﻪ أرﺳﻄﻮ .ﻛﻤﺎ آﻣﻦ ﺑﻴﻜﻮن — ﻛﻜﺜري ﻣﻦ اﻷﺟﻴﺎل اﻟﺘﻲ ﺳﺒﻘﺘﻪ — أن أرﺳﻄﻮ ﻳﻨﻈﺮ إﱃ اﻟﻌﻠﻢ ﻋﲆ أﻧﻪ ﻣﺤﺾ اﺧﺘﻼق ملﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ املﺒﺎدئ اﻟﻌﺎﻣﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﱠﺴﻢ ﰲ ﻇﺎﻫﺮﻫﺎ ﺑﺎﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ،ﺛﻢ اﻟﺤﺼﻮل ﻣﻨﻬﺎ ﻋﲆ أﻛﱪ ﻗﺪر ﻣﻦ اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ دون اﻟﺤﺎﺟﺔ إﱃ اﻟﺮﺟﻮع إﱃ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ .واﻧﺘﴩت ﻫﺬه اﻟﺸﺎﺋﻌﺔ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬي ﻛﺎﻧﺖ ﻓﻴﻪ أﻋﻤﺎل أرﺳﻄﻮ املﻮﺟﻮدة ﺣﻴﻨﺬاك ﻻ ﺗﺘﻌﺪﱠى ﺑﻀﻌﺔ أﺟﺰاء ﻣﻦ رﺳﺎﺋﻠﻪ ﰲ املﻨﻄﻖ ،ﻛﻤﺎ أﻧﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ َ اﻟﻔﻬﻢ اﻟﺨﺎﻃﺊ ﻟﻬﺬه اﻟﺮﺳﺎﺋﻞ ،ﻓﻤﺎ ﻛﺎن ﻳُﻌْ َﺰى ﻷرﺳﻄﻮ ﻣﻦ آراءٍ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻫﻮ ﻣﺎ ﻗﺎﻟﻪ ﺣﻘﻴﻘﺔ. وﻳﻨﻄﺒﻖ ﻫﺬا ﻋﲆ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ املﻮﺿﻮﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﻛﺘﺐ أرﺳﻄﻮ ﻋﻨﻬﺎ وﻻ ﻳﺰال ﺻﺤﻴﺤً ﺎ ﺣﺘﻰ اﻵن .ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ،ﻳﻌﺘﻘﺪ ﻛﺜري ﻣﻦ دارﳼ املﴪح أن أرﺳﻄﻮ ﻳﺸﱰط ﰲ املﴪﺣﻴﺔ ﺮاﻋﻲ ﻣﺎ ﻳُﺴﻤﱠ ﻰ ﺑ »اﻟﻮﺣﺪات اﻟﺜﻼث« وﻫﻲ وﺣﺪة املﻜﺎن واﻟﺰﻣﺎن املﺄﺳﺎوﻳﺔ اﻟﺠﻴﺪة أن ﺗُ َ ً ً رﺋﻴﺴﺎ واﺣﺪًا ﻳﻘﻊ ﰲ إﺟﻤﺎﻻ أن اﻟﻌﻤﻞ ﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﻳﺼﻮﱢر ﺣﺪﺛًﺎ واﻟﺤﺪث )وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻌﻨﻲ ً ﻣﻜﺎن واﺣﺪ وﻻ ﻳﺴﺘﻐﺮق وﻗﺘﺎ أﻃﻮل ﻣﻦ وﻗﺖ اﻟﻌﺮض املﴪﺣﻲ ﻧﻔﺴﻪ( .وﻗﺪ وﺿﻊ ﻫﺬه ً ﺗﻌﻠﻴﻘﺎ ﻋﲆ أرﺳﻄﻮ .أﻣﺎ أرﺳﻄﻮ اﻟﻘﻮاﻋﺪ أﺣ ُﺪ اﻟﻨ ﱡ ﱠﻘﺎد اﻹﻳﻄﺎﻟﻴني ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ ﻧﻔﺴﻪ ﻓﻠﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻟِﻴﻌ َﻠ َﻢ ﻋﻦ ﻫﺬه اﻟﻘﻮاﻋﺪ ﺷﻴﺌًﺎ ،ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻟﻴﻌﻠﻢ اﻟﻜﺜري ﻋﻦ ﻗﻮاﻋﺪ اﻟﻔﻠﻚ واﻟﻔﻴﺰﻳﺎء اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ اﻟﺘﻲ ُﻓ ِﺮ َ ﺿ ْﺖ ﻋﻠﻴﻪ .ووﻓﻖ أﺣﺪ اﻷدﻟﺔ املﻮﺿﻮﻋﺔ ﻟﻠﻌﺎﻣﺔ ﻋﻦ اﻟﻌﻠﻮم ﴎهِ؛ أي إن ﻓﺈن أرﺳﻄﻮ ﻛﺎن ﻳﻌﺘﻘﺪ أن اﻟﺠﻨﺲ اﻟﺒﴩي ﻫﻮ اﻟﻬﺪف ﻣﻦ وﺟﻮد اﻟﻜﻮن ﺑﺄ َ ْ ِ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻫﻮ ﻣﻮﺟﻮد ﰲ اﻟﻜﻮن ﻗﺪ و ُِﺟ َﺪ ﻟﺨﺪﻣﺔ اﻹﻧﺴﺎن وﻣﻦ أﺟﻠﻪ ،وﻫﺬا ﺧﻴﺎل ﻣﺤﺾ ﻻ ﱡ ﻳﻤﺖ ﻟﻠﺤﻘﻴﻘﺔ ﺑﺼﻠﺔ وﻟﻜﻨﻪ اﻟﻌﺮف اﻟﺸﺎﺋﻊ آﻧﺬاك .وﻳﺆﻛﺪ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻌﻠﻢ أن أرﺳﻄﻮ ﱠ ﻓﴪ ﴎﻋﺔ ﺳﻘﻮط اﻷﺷﻴﺎء ﺑﻘﻮﻟﻪ إن اﻟﺠﺴﻢ اﻟﻬﺎﺑﻂ ﻷﺳﻔﻞ »ﻳﺘﺤﺮك ﺳﻌﻴﺪًا ﻣﴪو ًرا ﻛﻞ دﻗﻴﻘﺔ ﻷﻧﻪ وﺟﺪ ﻧﻔﺴﻪ ﻳﻘﱰب ﻣﻦ ﻫﺪﻓﻪ «.وﺛَﻤﱠ َﺔ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻷﻣﻮر اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ ﻋﻨﺪ أرﺳﻄﻮ ،وﻟﻜﻦ ﻫﺬا ﻟﻴﺲ واﺣﺪًا ﻣﻨﻬﺎ؛ إذ إﻧﻪ ﻗﺪم ﺗﻔﺴريًا ﻣﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻴٍّﺎ ملﺴﺄﻟﺔ اﻟﺘﺴﺎرع وﻟﻜﻨﻪ ﻏري ﺻﺤﻴﺢ. واﻟﺨﻼﺻﺔ أن اﻟﺘﺸﻮﻳﻬﺎت واﻷوﺻﺎف اﻟﺴﻴﺌﺔ اﻟﺘﻲ ﻗﺪ ﺗُ ْ ﻄ َﻠ ُﻖ ﻋﲆ أرﺳﻄﻮ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻄﻮل وﺗﻄﻮل. ً ً ﺷﺨﺼﺎ ﻣﺎ ﺧﻄﺄ ﺑﺸﻜﻞ داﺋﻢ؛ ﻓﺈن ذﻟﻚ ﻋﺎدة ﻳﺮﺟﻊ إﱃ ﺧﻠﻞ إذا ﻛﺎن اﻟﺠﻤﻴﻊ ﻳﻔﻬﻤﻮن ﰲ ﻫﺬا اﻟﺸﺨﺺ .وﻗﺪ ﻳُﻌْ َﺰى ذﻟﻚ إﱃ ﺗﺸﻮﱡش ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ أو ﺗﻨﺎﻗﻀﻬﺎ أو ﺿﻌﻒ ﺻﻴﺎﻏﺘﻬﺎ أو 253
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
إﱃ ﻛﻞ ذﻟﻚ .وﻻ ﺗﺨﻠﻮ رﺳﺎﺋﻞ أرﺳﻄﻮ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻣﻦ أيﱟ ﻣﻦ ﻫﺬه املﺜﺎﻟﺐ ،وﻟﻜﻦ ﻋﺬره اﻷوﺟﻪ ً ﻃﻮﻳﻼ ﻳﻜﻤُﻦ ﰲ أن ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻣُﻌَ ﱠﺪ ًة ﻟﻠﻨﴩ ﻟﻌﺎدة اﻟﺘﻔﺴريات اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ اﻟﺘﻲ اﺳﺘﻤﺮت وأن ﺗﺮﺟﻤﺎﺗﻬﺎ )اﻟﺘﻲ ﻋﺎدة ﻣﺎ ﺗُﻨ ْ َﻘ ُﻞ ﻋﻦ ﺗﺮاﺟﻢ ﻋﺮﺑﻴﺔ أو ﻟﻐﺎت أﺧﺮى( ﺗﺘﺎﺑﻊ ﻇﻬﻮرﻫﺎ ﰲ أﺷﻜﺎل ﻣﻠﺘﺒﺴﺔ .وﻛﺎن ﻣﻦ اﻟﺼﻌﺐ ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻷﺣﻴﺎن أن ﺗﻔﻬﻢ ﺑﻌﺾ اﻷﺟﺰاء دون وﺿﻌﻬﺎ ﰲ اﻟﺴﻴﺎق اﻟﻌﺎم .ﺑَﻴْ َﺪ أن ﻫﺬا ﻻ ﻳُﺴ ﱢﻮغ ﻛﺬﻟﻚ ﻣﺎ ﻳﻘﻮﻟﻪ اﻟﻨﺎس ﺣﺘﻰ اﻟﻴﻮم ﻣﻦ ﻛﻼم ﻏﺮﻳﺐ ﻋﻦ أرﺳﻄﻮ .وﻋﲆ أﻳﺔ ﺣﺎل ﻓﻬﺬه ﻋﺎﻗﺒﺔ اﻟﺸﻬﺮة اﻟﻬﺎﺋﻠﺔ واﻟﺘﺄﺛري اﻟﺒﺎﻟﻎ اﻟﻠﺬﻳﻦ ﻳﺤﺪﱠان ﻣﻦ اﻻﻫﺘﻤﺎم ﺑﻘﺮاءة ﻣﺎ ﺗﻜﺘﺒﻪ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ.
أرﺳﻄﻮ.
ُوﻟِ َﺪ »املﻌﻠﻢ اﻷول« — اﻟﺬي ﻛﺎن ﻛﺜريًا ﻣﺎ ﻛﺎن ﻳ َُﺴﻤﱠ ﻰ ﺑ »اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف« ﰲ أواﺧﺮ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ — ﰲ ﻣﻜﺎن ﺧﺎﻣﻞ ﺑﻤﺪﻳﻨﺔ ﺳﺘﺎﺟريا املﻐﻤﻮرة اﻟﻮاﻗﻌﺔ ﺷﻤﺎل اﻟﻴﻮﻧﺎن ﻋﺎم ٣٨٤ ق.م ،وﻛﺎن واﻟﺪه ﻃﺒﻴﺒًﺎ ﺑﺎﻟﺒﻼط املﻠﻜﻲ ﻟﻠﻤﻠﻚ أﻳﻤﻨﺘﺎس اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻣﻠﻚ ﻣﻘﺪوﻧﻴﺎ .وﻟﻮ ﻟﻢ ﻳ َُﻘ ﱠﺪ ْر ﻟﻮاﻟﺪ أرﺳﻄﻮ أن ﻳﻔﺎرق اﻟﺤﻴﺎة ﰲ ِﺳ ﱟﻦ ﺻﻐرية ﻻﺳﺘﺄﻧﻒ أرﺳﻄﻮ ﻣﺰاوﻟﺔ ﻣﻬﻨﺔ اﻟﻌﺎﺋﻠﺔ 254
املﻌﻠﻢ اﻷول :أرﺳﻄﻮ
ﱡ ﻟﺘﻐري اﻟﻈﺮوف اﻧﺘﻘﻞ أرﺳﻄﻮ إﱃ أﺛﻴﻨﺎ وﻫﻮ ﰲ وأﺻﺒﺢ ﻫﻮ ﻧﻔﺴﻪ ﻃﺒﻴﺒًﺎ ،وﻟﻜﻦ ﻧﻈ ًﺮا ﻇ ﱠﻞ ﺑﻬﺎ َ اﻟﺴﺎﺑﻌﺔ ﻋﴩة ﻟﻴﻠﺘﺤﻖ ﺑﺄﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ أﻓﻼﻃﻮن اﻟﺘﻲ َ ﻃﻮال اﻟﻌﴩﻳﻦ ﻋﺎﻣً ﺎ اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ. ً ﻣﺘﺤﻤﺴﺎ ﻷﻓﻼﻃﻮن؛ ﻓﻘﺪ ﺧﺎﻟﻔﻪ ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ آراﺋﻪ ورﻏﻢ أﻧﻪ ﻳﺒﺪو ﻣﻦ اﻟﻮﻫﻠﺔ اﻷوﱃ ﺗﺎﺑﻌً ﺎ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪُ .وﻳُﺰﻋَ ﻢ أﻧﻪ ﻗﺎل» :أﻓﻼﻃﻮن ﻣﻦ املﻘﺮﺑني إﱄ ﱠ وﻟﻜﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ أﻗﺮب «.وﻟﻌ ﱠﻞ رﻏﺒﺔ أﻓﻼﻃﻮن ﰲ أن ﻳ َ َﺨﻠﻔﻪ ﻃﺎﻟﺐ أﻛﺜﺮ ﺗﻤﺴ ًﻜﺎ ﺑﺂراﺋﻪ ﻣﻦ أرﺳﻄﻮ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺴﺒﺐ ﰲ ﺗﺠﺎوز اﻷﺧري ﻋﻨﺪﻣﺎ اﺣﺘﺎﺟﺖ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ ﻟﺮﺋﻴﺲ ﻳ ُ َﺨﻠﻒ أﻓﻼﻃﻮن ﺑﻌﺪ وﻓﺎﺗﻪ ﻋﺎم ٣٤٧ق.م ﻟﺘَﺌُﻮل ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ إﱃ ﺳﺒﻮﺳﻴﺒﻮس اﺑﻦ أﺧﻲ أﻓﻼﻃﻮن .وﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﻏﺎدر أرﺳﻄﻮ أﺛﻴﻨﺎ وﻣﻜﺚ ﺑﻌﻴﺪًا ﻻﺛﻨﻲ ﻋﴩَ ﻋﺎﻣً ﺎ .ﺛﻢ ﱠ ﻳﴪت ﻟﻪ رواﺑﻄﻪ اﻷﴎﻳﺔ اﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ وﻇﻴﻔﺔ املﻌﻠﻢ اﻟﺨﺎص ﻟﻺﺳﻜﻨﺪر اﻷﻛﱪ ﻋﺎم ٣٤٣ق.م ،وﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ اﻹﺳﻜﻨﺪر ﺣﻴﻨﻬﺎ ﻋﻈﻴﻤً ﺎ ﺑﻞ ﻛﺎن ﺻﺒﻴٍّﺎ ﰲ اﻟﺜﺎﻟﺜﺔ ﻋﴩة ﻣﻦ ﻋﻤﺮه .وﻗﺪ أﻧﺠﺰ أرﺳﻄﻮ ﻣﻌﻈﻢ ﻣﻼﺣﻈﺎﺗﻪ املﻴﺪاﻧﻴﺔ ﰲ ﻋﻠﻢ اﻷﺣﻴﺎء ﺧﻼل ﻫﺬه اﻟﻔﱰة ﻣﻦ ﱠ اﻟﱰﺣﺎل .وﻳﻘﺎل إﻧﻪ ﺑﻌﺪ ﺗﻨﺼﻴﺐ اﻹﺳﻜﻨﺪر ﻣﻠ ًﻜﺎ اﺳﺘﺨﺪم ﻧﻔﻮذه ﰲ ﻣﺴﺎﻋﺪة ﻣﻌﻠﻤﻪ أرﺳﻄﻮ ﰲ اﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ ﻋﻴﱢﻨﺎت ﻟﻠﻜﺎﺋﻨﺎت املﻮﺟﻮدة ،ﻓﻴﻘﻮل» :ﻟﻘﺪ أُﻋْ ِﻄﻴ َِﺖ اﻷواﻣﺮ ﻟﺒﻀﻌﺔ آﻻف ﻣﻦ اﻟﺮﺟﺎل ﺑﺂﺳﻴﺎ اﻟﺼﻐﺮى واﻟﻴﻮﻧﺎن ﻟﻀﻤﺎن إ ْ ﻃﻼع … )أرﺳﻄﻮ( ﻋﲆ أي ﻛﺎﺋﻦ ﺟﺪﻳﺪ ﻳُﻮ َﻟ ُﺪ ﰲ أﻳﺔ ﻣﻨﻄﻘﺔ «.وﰲ ﻋﺎم ٣٣٥ق.م — أي ﺑﻌﺪ ﱢ ﺗﻮﱄ اﻹﺳﻜﻨﺪر ﻣﻘﺎﻟﻴﺪ اﻟﺤﻜﻢ ﺑﻌﺎم واﺣﺪ — آبَ أرﺳﻄﻮ إﱃ أﺛﻴﻨﺎ وأﻧﺸﺄ ﻣﻌﻬﺪ اﻟﻠﻴﺴﻴﻮم ﺑﻴﻨﻤﺎ ﴍع ﺗﻠﻤﻴﺬه اﻟﺴﺎﺑﻖ ﰲ ﻓﺘﻮﺣﺎﺗﻪ .وﻇﻞ ﺑﻌﺪﻫﺎ أرﺳﻄﻮ ملﺪة ﺛﻼﺛني ﻋﺎﻣً ﺎ ﻣﻘﻴﻤً ﺎ ﺑﺄﺛﻴﻨﺎ ﻳﺰاول اﻟﺘﺪرﻳﺲ واﻹﴍاف ﻋﲆ اﻷﺑﺤﺎث وﻳﻜﺘﺐ رﺳﺎﺋﻠﻪ. وﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﻮﰲ اﻹﺳﻜﻨﺪر ﻋﺎم ٣٢٣ق.م وﻗﻊ ﺗﻤﺮد ﰲ أﺛﻴﻨﺎ ﺿﺪ ﺣﻜﻮﻣﺔ ﻣﻘﺪوﻧﻴﺎ ﺣﻴﺚ ﻛﺎﻧﺖ أﺛﻴﻨﺎ ﻣﺜﻠﻬﺎ ﻣﺜﻞ ﺑﺎﻗﻲ املﺪن اﻷﺧﺮى َ ﺗﺮﺿﺦ ﻟﻠﺤﻜﻢ املﻘﺪوﻧﻲ ﺧﻼل ﻋﴫ اﻹﺳﻜﻨﺪر ُ ﺗﻬﻤﺔ اﻟﺨﻴﺎﻧﺔ ﻓﻐﺎدر اﻷﻛﱪ .وﻟُ ﱢﻔ َﻘ ْﺖ ﻷرﺳﻄﻮ اﻟﺬي ﻛﺎن ﻋﲆ ﻋﻼﻗﺔ ﻃﻴﺒﺔ ﺑﺎﻟﻨﻈﺎم املﻘﺪوﻧﻲ أﺛﻴﻨﺎ ﻗﺒﻞ أن ﻳُﺤَ ﺎ َﻛﻢَ .وﻳﻘﺎل إن أرﺳﻄﻮ ﻟﻢ ﻳﺸﺄ أن »ﻳُﻠﻮ َ ﱢث أﻫ ُﻞ أﺛﻴﻨﺎ أﻧﻔﺴﻬﻢ ﻣﺮة أﺧﺮى ﺑﺪﻣﺎء اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ« ﺑﻌﺪ ﻣﺎ ﺣﺪث ﻟﺴﻘﺮاط .وﻗﺪ ﺗﻮﰲ ﺑﻌﺪﻫﺎ ﺑﻌﺎم ﰲ ﻣﻨﻔﺎه. ً ﻗﻠﻴﻼ ،ﺑﻴﺪ أن أﺳﻠﻮﺑَﻪ املﻨﻬﺠﻲ ﻳﺒﻘﻰ ﻋﴫﻳٍّﺎ ﻻ ﻳﺴﻬﻞ اﻟﻴﻮم ﻗﺮاءة أﻋﻤﺎل أرﺳﻄﻮ إﻻ ﺑﺼﻮرة ﺗﺒﻌﺚ ﻋﲆ اﻻﻧﺪﻫﺎش ﻋﻨﺪ ﻣﻘﺎرﻧﺘﻪ ﺑﻜﺘﺎﺑﺎت أيﱟ ﻣﻦ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻹﻏﺮﻳﻖ اﻷواﺋﻞ؛ ﻓﻬﻮ ﻳﺒﺪو ﰲ ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ ﻛﻤﺎ ﻟﻮ ﻛﺎن أﺳﺘﺎذًا ﺟﺎﻣﻌﻴٍّﺎ ﻣﻦ ﻋﴫﻧﺎ ﻫﺬا .وﻟﻴﺲ ﻫﺬا ﻣﻦ ﻗﺒﻴﻞ املﺼﺎدﻓﺔ؛ ﻓﺎﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﻮن ﰲ ﻋﴫﻧﺎ ﻫﺬا ﻳﻨﺤﺪرون ﻣﻦ ﺳﻠﺴﻠﺔ ﻃﻮﻳﻠﺔ ﻣﻦ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴني اﻟﺬﻳﻦ َ واﻗﺘﻔﻮْا أﺛﺮه ،وآﻳﺔ ذﻟﻚ أﻧﱠﻪ ﻳﺒﺪأ ﻋﺎدة ﺑﺘﻌﺮﻳﻒ ﻣﻮﺿﻮع دراﺳﺘﻪ وﻳﺤﺪد ﺳﺎروا ﻋﲆ درﺑﻪ 255
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
َ اﻷﺳﺌﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﺳﻴﻌﻤﻞ ﻋﲆ ﺣَ ﱢﻠﻬَ ﺎ ﺛﻢ ﻳﻌﻤﺪ إﱃ اﻹﺟﺎﺑﺎت اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻋﲆ ﻫﺬه اﻷﺳﺌﻠﺔ ﺑﺪﻗﺔ املﻌﺎرﺿﺔ ﻟﻬﺎ وﻳﺤﺪﱢد اﻟﻔﻮارق ﺣﺘﻰ ﻳُﺰﻳﻞ وﻳﻌﻤﻞ ﻋﲆ ﺗﻔﻜﻴﻜﻬﺎ وﺗﺒﺴﻴﻄﻬﺎ ،وﻳﺰن اﻷﻗﻮال ِ اﻟﻐﻤﻮض واﻟﻠﺒﺲ ﻋﻦ اﻷﻣﻮر ،ﺛﻢ ﻳﺪﱄ ﺑﺪﻟﻮه ﰲ املﺴﺎﺋﻞ اﻟﺘﻲ َ ﺗﺒﻘﻰ دون ﺣﻠﻮل أو إﺟﺎﺑﺎت، وﻳﻀﻊ ﻟﻬﺎ ﺑﻌﺾ اﻹﺟﺎﺑﺎت واﻟﺘﻔﺴريات ﻣﻦ ﻋﻨﺪه ،وﻳﻮﺿﺢ ﺣﺪود ﻛﻞ ﻣﺴﺄﻟﺔ وﻳﺮﺑﻄﻬﺎ ﺑﺒﻌﺾ ﺗﻔﺴرياﺗﻪ ملﺴﺎﺋﻞ أﺧﺮى ،ﺛﻢ ﻳﻠﺨﺼﻬﺎ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ .وﻗﺪ ﻳﻜﻮن ﻣﻦ اﻟﺼﻌﺐ ﻣﺘﺎﺑﻌﺔ املﻮﺿﻮﻋﺎت واملﺴﺎﺋﻞ اﻟﺘﻲ ﺗﻌﺞ ﺑﻬﺎ ﺻﻔﺤﺎت ﻛﺘﺒﻪ ،وﻟﻜﻦ ﻣﺎ ﻳﻬﻮن اﻷﻣﺮ ﻫﻮ أن اﻟﻘﺎرئ داﺋﻤً ﺎ ﻣﺎ ﻳﻜﻮن ﻋﲆ دراﻳﺔ ﺑﻤﺎ ﻳﺴﻌﻰ إﻟﻴﻪ أرﺳﻄﻮ. ﺑﻨﻔﺲ ﻳﻤﻠﺆﻫﺎ اﻟﺘﻔﺎؤل ﰲ أن ﻳﺤﻮز املﻌﺮﻓﺔ ﻛﺎن أرﺳﻄﻮ ﻳﺨﻮض دروب املﻌﺮﻓﺔ ﻛﻠﻬﺎ ٍ وﻳﺠﻨﻲ ﺛﻤﺎرﻫﺎ ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﺪﻳﻪ ﻣﻦ اﻟﻮﻗﺖ ﻣﺎ ﻳﻀﻴﱢﻌﻪ ﻣﻊ ﻣَ ْﻦ ﻳﻘﺮون ﺑﺄﻧﻬﻢ ﻣﻦ أﺗﺒﺎع ﻣﺬﻫﺐ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ ،اﻟﺬﻳﻦ ﻗﺎﻟﻮا إن املﺮء ﻳﺠﺐ أن ﻳُﺤﺠﻢ ﻋﻦ إﺻﺪار اﻷﺣﻜﺎم ﻷن اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ أﻣﺮ ﻻ ﺳﺒﻴﻞ ﻟﻠﻮﺻﻮل إﻟﻴﻪ ،ﻓﻘﺎل» :ﻛﻞ اﻟﻨﺎس ﻳﺘﻮﻗﻮن ﻟﻠﻤﻌﺮﻓﺔ ﺑﻄﺒﻴﻌﺘﻬﻢ «.وﻟﻢ ﻳﺮاوده اﻟﺸﻚ ﰲ أن ﻳﺄﺗﻲ اﻟﻴﻮم اﻟﺬي ﺗﺘﺤﻘﻖ ﻓﻴﻪ ﻫﺬه اﻟﻐﺎﻳﺔ وﺗُ َﻠﺒﱠﻰ ﻫﺬه اﻟﺮﻏﺒﺔ ،وﻛﺎن ﻳﺆﻣﻦ أن اﻟﻨﺎس »ﻳﻨﺰﻋﻮن ﺑﻔﻄﺮﺗﻬﻢ ملﻌﺮﻓﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ وﻋﺎد ًة ﻣﺎ ﻳﺼﻠﻮن إﻟﻴﻬﺎ«. ورﻏﻢ ﻫﺬا ﻓﺈن أرﺳﻄﻮ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ راﺿﻴًﺎ ﻋﻦ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﺑﺤﺚ ﺑﻬﺎ أﺳﻼﻓﻪ ﻣﻦ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻋﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ،ﻓﻌﺎدة ﻣﺎ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻄﺮﺣﻮن أﺳﺌﻠﺔ ﺧﺎﻃﺌﺔ وﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﺎ ﻛﺎن ﻟﻬﻢ أن ﻳﺸﻐﻠﻮا أﻧﻔﺴﻬﻢ ﺑﻬﺎ .وﻳﺮى أرﺳﻄﻮ أن ﺛﻤﺔ أرﺑﻌﺔ أﻣﻮر رﺋﻴﺴﺔ ﻳﺠﺐ ﻋﲆ املﺮء أن َ ﻳﺸﻐﻞ ﺑﻬﺎ ﻧﻔﺴﻪ ﺣﻴﺎل أي ﳾء وأن ﺗﺒﻘﻰ ﻣﻤﻴﺰة؛ أوﻟﻬﺎ :ﻣﺎ املﺎدة اﻟﺘﻲ ﻳ ْ ُﺼﻨ َ ُﻊ ﻣﻨﻬﺎ اﻟﴚء؟ وﺛﺎﻧﻴﻬﺎ :ﻣﺎ ﺻﻮرة اﻟﴚء )أي ﺗﺮﻛﻴﺒﻪ(؟ وﺛﺎﻟﺜﻬﺎ :ﻣﺎ اﻟﻐﺮض ﻣﻨﻪ؟ وأﺧريًا :ﻣﺎ اﻟﺬي أﺧﺮﺟﻪ ﻟﻠﺤﻴﺎة أو أدﱠى إﱃ ﺗﻐﻴريه؟ وﻻ ﻳﺘﻮاﻓﻖ ﻣﻊ اﻟﻔﻜﺮة املﻌﺎﴏة ﻋﻦ »اﻟﻌﻠﺔ« إﻻ ً ﻣﺠﺘﻤﻌﺔ ﺑ »ﻋﻠﻞ أرﺳﻄﻮ اﻷرﺑﻊ« وﻫﻲ اﻟﺴﺆال اﻷﺧري ،إﻻ أﻧﻪ ﻳُﺸﺎر إﱃ اﻷﺳﺌﻠﺔ اﻷرﺑﻌﺔ اﻟﻌﻠﻞ املﺎدﻳﺔ واﻟﺼﻮرﻳﺔ واﻟﻐﺎﺋﻴﺔ واﻟﻔﺎﻋﻠﺔ ﻋﲆ اﻟﺘﻮاﱄ .وﻟﺘﻮﺿﻴﺢ ﻫﺬه اﻟﻌﻠﻞ اﻷرﺑﻊ ﻧﴬب ً ﻣﺜﺎﻻ ﺑﺎملﻨﺰل؛ ﻓﻌﻠﺘﻪ املﺎدﻳﺔ ﻫﻲ أﺷﻴﺎء ﻣﺜﻞ ﻗﻮاﻟﺐ اﻟﻄﻮب واﻷﺳﻤﻨﺖ واﻷﺧﺸﺎب واﻟﺤﺠﺎرة، ً ﺷﺎﻣﻼ ﻣﻌﻴﻨًﺎ ،وﻋﻠﺘﻪ وﻋﻠﺘﻪ اﻟﺼﻮرﻳﺔ ﻫﻲ ﻛﻴﻔﻴﺔ ﺗﺮﺗﻴﺐ ﻫﺬه املﻜﻮﻧﺎت ﻟﺘﻨﺎﺳﺐ ﺗﺼﻤﻴﻤً ﺎ اﻟﻐﺎﺋﻴﺔ )أو اﻟﻐﺮض( ﻫﻲ ﺗﻮﻓري ﻣﺄوًى ﻟﻠﻨﺎس ،وﻋﻠﺘﻪ اﻟﻔﺎﻋﻠﺔ ﻫﻲ ﻋﺎﻣﻞ اﻟﺒﻨﺎء .وﻳﻤﻜﻦ ﺗﻄﺒﻴﻖ ﻫﺬا املﺨﻄﻂ اﻟﺮﺑﺎﻋﻲ ﻋﲆ اﻟﻈﻮاﻫﺮ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﱠ ﻛﺎﻓ ًﺔ وﻻ ﻳﻘﺘﴫ ﻋﲆ املﺼﻨﻮﻋﺎت اﻟﻴﺪوﻳﺔ ﻓﺤﺴﺐ. َ وﻳﺮى أرﺳﻄﻮ أن اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻷواﺋﻞ ﻗﺪ أ ْو َﻟﻮْا ﺟُ ﱠﻞ اﻫﺘﻤﺎﻣﻬﻢ ﻟﻠﻌِ َﻠﻞ املﺎدﻳﺔ دون ﻏريﻫﺎ، ﻓﻜﻠﻤﺎ ﺣﺎوﻟﻮا ﺗﻔﺴري ﻇﺎﻫﺮ ٍة ﻣﺎ ﻳﺬﻛﺮون ﺑﺒﺴﺎﻃﺔ ﻣﺎدﺗﻬﻢ املﻔﻀﻠﺔ ﻛﺎملﺎء أو اﻟﻬﻮاء أو اﻟﻨﺎر 256
املﻌﻠﻢ اﻷول :أرﺳﻄﻮ
ﱠ ﻳﺘﻌني ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻓﻌﻠﻪ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ؛ وﻟﻬﺬا ﻟﻢ ﻳُﺤَ ﱢ ﺼﻠُﻮا اﻟﻜﺜري. أو ﻏري ذﻟﻚ ،ﺛﻢ ﻻ ﻳﻌﺮﻓﻮن ﻣﺎ وﻳﺮﺟﻊ اﻟﺴﺒﺐ وراء ﻓﻘﺮ اﻟﺘﻔﺴريات اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﰲ ﻣﺴﺄﻟﺘﻲ اﻟﻌﻘﻞ واﻟﻨﻔﺲ إﱃ أن اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻷواﺋﻞ ﺷﻐﻠﻮا أﻧﻔﺴﻬﻢ ﺑﺎﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ املﺎدة اﻟﺘﻲ ُ ﺻﻨِﻌَ ﺎ ﻣﻨﻬﺎ. ﻧﺠﺪ أن اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني ﻟﻢ ﻳُﻮﻟُﻮا املﺎدة اﻫﺘﻤﺎﻣً ﺎ ﻛﺒريًا ،وﻗﺪ وﻋﲆ اﻟﻌﻜﺲ ﻣﻦ ذﻟﻚ ِ ﱠ ً ﺧﺼﻮﺻﺎ إﱃ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﻛﻴﻔﻴﺔ اﺳﺘﺨﺪام ﺗﻮﺻﻠﻮا ﻹﺟﺎﺑﺎت ﺗﺨﺺ ﻣﺴﺄﻟﺔ اﻟﺸﻜﻞ ،ﻓﺘﻮﺻﻠﻮا اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ ﰲ ﺗﻔﺴري ﺑﻨﻴﺔ اﻷﺷﻴﺎء وﺗﻜﻮﻳﻨﻬﺎ ،ﻣﺘﺠﺎﻫﻠني ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻌﻠﻞ املﺎدﻳﺔ .وﻫﺬا ﻳﻔﴪ َو َﻟﻌﻬﻢ اﻟﺸﺪﻳﺪ ﺑﺘﻔﺴري ﺟﻤﻴﻊ اﻟﻈﻮاﻫﺮ واﻷﺷﻴﺎء ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﻣﺤﺾ أرﻗﺎم .وإن ﻛﺎن ﻣﺠﻬﻮدﻫﻢ ﻫﺬا أﻣﺮ ﻳُﺬْ َﻛ ُﺮ َﻓﻴ ُْﺸ َﻜ ُﺮ إﻻ أﻧﻪ ﻳﺒﺪو أﻧﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﺪرﻛﻮا أﻫﻤﻴﺔ اﻛﺘﺸﺎف املﺎدة اﻟﺘﻲ ُ ﺻﻨِﻌَ ْﺖ ﻣﻨﻬﺎ اﻷﺷﻴﺎء )أي اﻛﺘﺸﺎف اﻟﻌﻠﻞ املﺎدﻳﺔ( .وﻫﺬا ﻳﺒني ﻟﻨﺎ أﻫﻤﻴﺔ اﻷﺧﺬ ﺑﺎﻟﻌِ ﻠﻞ اﻷرﺑﻊ وﻋﺪم اﻻﺳﺘﻐﺮاق املﻔﺮط ﰲ واﺣﺪة دون ﻏريﻫﺎ. وﻛﻤﺎ ﻗﺎل أرﺳﻄﻮ ،ﻣﻦ أﻫﻢ املﺂﺧﺬ ﻋﲆ ﻓﻜﺮ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻷواﺋﻞ — ﻻ ﺳﻴﻤﺎ دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ — إﻏﻔﺎﻟﻬﻢ أﻫﻤﻴﺔ اﻟﻌﻠﻞ اﻟﻐﺎﺋﻴﺔ أو اﻷﻏﺮاض .ﻓﻘﺪ أﺟﺎب دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﻋﲆ ﺟﻤﻴﻊ اﻷﺳﺌﻠﺔ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺎﻟﻌِ َﻠ ِﻞ املﺎدﻳﺔ واﻟﺼﻮرﻳﺔ واﻟﻔﺎﻋﻠﺔ ﺑﺎﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ذَ ﱠر ٍ ات ﻣﺘﻐﺎﻳﺮة اﻟﺸﻜﻞ ﺗﺘﺤ ﱠﺮك ﰲ اﻟﻔﺮاغِ .ﻣ ﱠﻢ ﺗﺘﻜﻮن اﻷﺷﻴﺎء؟ ﻣﻦ اﻟﺬﱠ ﱠرات .ﻛﻴﻒ ﺗﻜﺘﺴﺐ ﺻﻮرﻫﺎ؟ ﻟﻴﺲ ﻫﻨﺎك ﻏري اﻟﺬﱠ ﱠرات. ﻣﺎ اﻟﺬي ﻳﺠﻌﻠﻬﺎ ﺗﺘﺤﺮك أو ﺗﺘﻐري؟ ذرات أﺧﺮى .وﻗﺪ رﻓﺾ دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ أﻳﺔ ﻏﺎﻳﺎت ،وﻫﺬا ﺧﻄﺄ ﻛﺒري ﻣﻦ وﺟﻬﺔ ﻧﻈﺮ أرﺳﻄﻮ؛ إذ إن ﺗﺠﺎﻫﻞ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ اﻟﻐﺎﻳﺔ أو اﻟﻌﻠﺔ ﻣﻦ وﺟﻮد ﳾءٍ ﻣﺎ ووﻇﻴﻔﺘﻪ ﻳﻌﻨﻲ اﻹﺧﻔﺎق ﰲ ﺗﻔﺴري ﻛﺜري ﻣﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﻪ .وﻫﻨﺎ ﻧﺪرك ﺣِ ﺪﱠة ﺷﻌﻮر ﻋﺎﻟﻢ أﺣﻴﺎء ﻣﺜﻞ أرﺳﻄﻮ ﺑﻬﺬا اﻟﻨﻘﺺ .وإﻻ ﻓﻜﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻌﻠﻴﻞ وﺟﻮد أﺟﺰاء اﻟﻨﺒﺎﺗﺎت وأﻋﻀﺎء اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت إﻻ ﺑﺒﻴﺎن اﻟﻮﻇﺎﺋﻒ اﻟﺘﻲ ﺗﺆدﻳﻬﺎ. ُ ﺑﺘﺠﺎﻫﻞ اﻟﻌﻠﻞ اﻟﻐﺎﺋﻴﺔ؛ ﻓﻘﺪ رأﻳﻨﺎ ﻛﻴﻒ أﻣﺎ أﻓﻼﻃﻮن ﻓﻠﻢ ﻳﺮﺗﻜﺐ ﺧﻄﺄ دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﻳﺆ ﱢﻛﺪ ﻋﲆ أﻫﻤﻴﺔ اﻟﺪور اﻟﺬي ﻳﻠﻌﺒﻪ اﻟﻐﺮض ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻟﻠﺪرﺟﺔ اﻟﺘﻲ ﺟﻌﻠﺘﻪ ﻳﻘﻮل إن ﺻﺎﻧﻌً ﺎ ﻣﺎﻫ ًﺮا ﻳﻨﻈﻢ اﻟﻈﻮاﻫﺮ ﺟﻤﻴﻌﻬﺎ .وﻟﻜﻦ أرﺳﻄﻮ ﻳﺮى أﻧﻪ ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ اﻷﻫﻤﻴﺔ اﻟﻜﺒرية اﻟﺘﻲ أَوْﻻﻫﺎ أﻓﻼﻃﻮن ﻟﻠﻌِ َﻠﻞ اﻟﻐﺎﺋﻴﺔ ﻓﻘﺪ ﺗﺨﺒﱠﻂ ﻋﻨﺪ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ اﻟﻌﻠﻞ اﻟﺼﻮرﻳﺔ؛ ﻓﻘﺪ اﻧﺒﺜﻘﺖ ﻧﻈﺮﻳﺔ أﻓﻼﻃﻮن اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺎ ُملﺜ ُ ِﻞ ﻣﻦ ﺗﺸﻮﱡش ﰲ ﻣﻌﺮﻓﺔ ُﻛﻨ ْ ِﻪ اﻟﺼﻮرة ،ﻓﻜﻤﺎ رأﻳﻨﺎ ﻳﻌﺘﻘﺪ أﻓﻼﻃﻮن أن ﺻﻮرة ﳾء ﻣﺎ )ﻛﺼﻮرة ﻣﻨﻀﺪة ً ﻣﺜﻼ أو ﳾء ﺟﻤﻴﻞ( ﻫﻲ ﻛﻴﺎن ﻏري ﻣﺎدي ﻻ ﻳﺮﺗﺒﻂ ﺣﺘﻤً ﺎ ﺑﻤﻨﻀﺪة ﻣﻌﻴﻨﺔ أو ﳾء ﺟﻤﻴﻞ ﻣﺤﺪد ،ﻓﺤﻘﻴﻘﺔ أن اﻟﴪﻳﺮ ً ﻣﺜﻼ ﻳﺘﻜﻮﱠن ﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ املﻮاد ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻔﺴريُﻫﺎ ﻋﲆ أن ﻫﺬا اﻟﴪﻳﺮ ﻧﺴﺨﺔ ﻏري ﻣﺜﺎﻟﻴﺔ ﻣﻦ ﺷﻜﻞ اﻟﴪﻳﺮ .وﻳﻨﻄﺒﻖ اﻷﻣﺮ ﻧﻔﺴﻪ ﻋﲆ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺠﻤﻴﻠﺔ ،ﻓﺄﻓﻼﻃﻮن ﻳُﴫﱢ ح ﻋﲆ ﻟﺴﺎن 257
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ً ﺟﻤﻴﻼ ﻷﻧﻪ ﻳﻘﺘﺴﻢ ﺟﺰءًا ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﺠﻤﺎل املﻄﻠﻖ ﻻ »ﺳﻘﺮاط« أن اﻟﴚء اﻟﺠﻤﻴﻞ »ﻳﺒﺪو ﻟﴚء آﺧﺮ «.أﻣﺎ أرﺳﻄﻮ ﻓﻘﺪ ﺣﺎل ﺗﻔﻜريه اﻟﻮاﻗﻌﻲ دون اﻗﺘﻨﺎﻋﻪ ﺑﻬﺬا اﻟﻜﻼم ،ﺣﻴﺚ ﻛﺘﺐ ﻳﻘﻮل إن اﻟﺘﺴﻠﻴﻢ ﺑﻮﺟﻮد ﻫﺬه ا ُملﺜ ُ ِﻞ أو اﻷﺷﻴﺎء املﻄﻠﻘﺔ »ﺣﺪﻳﺚ ﻣﺠﺮد ﻻ ﻓﺎﺋﺪة ﻣﻨﻪ«؛ إذ ﻻ ﻳﻔﴪ ﻛﻞ ﳾء .وﻟﻬﺬا اﻟﺴﺒﺐ وﻷﺳﺒﺎب أﺧﺮى رﻓﺾ أرﺳﻄﻮ اﻟﻘﻮل إﻧﻪ ﻻ ﻳﺠﺐ اﻟﻨﻈﺮ إﱃ ﺷﻜﻞ ﳾء ﻣﺎ ﻋﲆ أﻧﻪ ﳾء ﻣﻨﻔﺼﻞ ﻳﺘﱠﺤﺪ ﻣﻌﻪ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﺎ؛ ذﻟﻚ أن اﻟﺸﻜﻞ ﻣﺎ ﻫﻮ إﻻ ﺳﻤﺔ ٍّ ﻣﺴﺘﻘﻼ ﰲ ﺣَ ﱢﺪ ذاﺗﻪ. ﻣﻦ ﺳﻤﺎت ﻫﺬا اﻟﴚء أو ﻣﻈﻬﺮ ﻣﻦ ﻣﻈﺎﻫﺮه وﻟﻴﺲ ﺷﻴﺌًﺎ وﻗﺪ اﺳﺘﻐﻞ أرﺳﻄﻮ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺎﻟﺸﻜﻞ ﻟﻴﻘﺪم ﻧﻈﺮﻳﺔ ﺟﺪﻳﺪة ﺗﺘﺤﺪث ﻋﻦ ﻋﻼﻗﺔ اﻟﺠﺴﺪ ﺑﺎﻟ ﱡﺮوح؛ ﻓﻬﻮ ﻟﻢ ﻳﺆﻣ ِْﻦ ﺑﺄن اﻟﺮوح ﻃﻴﻒ ﻳﺴﻜﻦ اﻟﺠﺴﺪ ﻣﺆﻗﺘًﺎ ﻛﻤﺎ ً ﻣﻌﺮوﻓﺎ ﰲ اﻟﻌﻘﻴﺪة اﻷورﻓﻴﺔ اﻟﺘﻲ اﻋﺘﻨﻘﻬﺎ أﻓﻼﻃﻮن ،ﺑﻞ اﻋﺘﻘﺪ أن ﺗﺮﺗﻴﺐ اﻟﺨﺼﺎﺋﺺ ﻛﺎن اﻟﺠﺴﺪﻳﺔ ﻫﻮ املﺴﺌﻮل ﻋﻦ ﺣﻴﺎة اﻹﻧﺴﺎن وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺴﺎﻋﺪه ﻋﲆ اﻟﻔﻬﻢ واﻹدراك؛ أي إﻧﻪ ﻟﻦ ﺗﻜﻮن ﻟﻚ ُروح ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻟﻚ ﺟﺴﺪ ﻣﻨ ﱠ ﻈﻢ ﻳﻌﻤﻞ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﺧﺎﺻﺔ .ﻓﻤﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ ﻧﺮى أن أرﺳﻄﻮ ﻛﺎن ﻳﺆﻣِﻦ ﺑﺎملﺎدﻳﺔ ﻷﻧﱠﻪ أﻧﻜﺮ أن ﻣﺎ ﻳﻤﻨﺢ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺤﻴﺎة وﻳﺠﻌﻠﻪ ﺑﴩًا ﻫﻮ وﺟﻮد أيﱢ ﳾء ﻏري املﺎدة؛ ﻓﺎملﺎدة ﻫﻲ املﺴﺌﻮﻟﺔ ﻋﻦ اﻟﺤﻴﺎة وﻻ ﳾء ﺳﻮاﻫﺎ .وﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ ﻧﺠﺪ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﺨ ُ ﻄﺮ ﺑﺒﺎل أرﺳﻄﻮ أن ﺗﻜﻮن اﻹﺟﺎﺑﺔ ﻋﲆ اﻟﺴﺆال »ﻣﺎ ﻫﻲ اﻟﺮوح؟« أﺧﺮى ِ ﻫﻲ ﺑﺒﺴﺎﻃﺔ »ﻛﺘﻠﺔ ﻣﻦ اﻟﻠﺤﻢ« ،ﻓﻠﻮ ﻓﻌﻞ ذﻟﻚ ﻟﻜﺮر اﻟﺨﻄﺄ اﻟﺬي وﻗﻊ ﻓﻴﻪ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻷواﺋﻞ ﻛﻄﺎﻟﻴﺲ ً ﻣﺜﻼ اﻟﺬي ﻟﻢ ﻳﻔﺮق ﺑني اﻟﺸﻜﻞ واملﺎدة .وﻳﻘﻊ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ اﻣﺘﻼك اﻹﻧﺴﺎن ُروﺣً ﺎ ﰲ ﻧﻄﺎق اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ اﻟﺸﻜﻞ؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﺈن اﻟﺴﺆال ﻋﻦ املﺎدة اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻜﻮن ﻣﻨﻬﺎ اﻟﺮوح ٍ ﻣﺴﺄﻟﺔ ﻣﺎ ﻳﺤﻴﺪ ﺑﻨﺎ ﻋﻦ ﺟﺎدة اﻟﺼﻮاب .وﺑﺎملﺜﻞ ﻳﻘﻮل أرﺳﻄﻮ» :ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﺪع اﻟﺘﻔﻜري ﰲ إذا ﻛﺎن اﻟﺠﺴﺪ واﻟﺮوح ﻛﻴﺎﻧًﺎ واﺣﺪًا أو ﻟﻢ ﻳﻜﻮﻧﺎ؛ ﻷن ذﻟﻚ ﻳﺸﺒﻪ اﻟﺘﺴﺎؤل ﻋﻤﱠ ﺎ إذا ﻛﺎﻧﺖ ﻗﻄﻌﺔ اﻟﺸﻤﻊ وﺷﻜﻠﻬﺎ ﺷﻴﺌًﺎ واﺣﺪًا أم ﻻ«. ﺑﻴﺪ أﻧﻨﺎ ﻧﻌﺜﺮ ﻋﲆ أﺛﺮ ﻷﻓﻜﺎر أﻓﻼﻃﻮن ﺑني ﻃﻴﺎت ﻓﻜﺮ أرﺳﻄﻮ ﰲ ﻣﺴﺄﻟﺔ اﻟ ﱡﺮوح، ﻓﺄﻓﻼﻃﻮن ﻛﺎن ﻳﻈﻦ أن اﻟﻨﺎس ﻳﺤﻤﻠﻮن ً ﻗﺒﺴﺎ إﻟﻬﻴٍّﺎ ﺑﺪاﺧﻠﻬﻢ و ُِﺟ َﺪ ﻓﻴﻬﻢ ﻗﺒﻞ أن ﻳُﻮ َﻟﺪُوا وﺳﻴﺒﻘﻰ ﺑﻌﺪ َﻓﻨﺎﺋﻬﻢ .وﻳﺮﺗﺒﻂ ﻫﺬا َ اﻟﻘﺒ َُﺲ )أو اﻟﺮوح( ﺑﺸﻜﻞ ﻣﻦ اﻷﺷﻜﺎل ﺑﻤ َﻠﻜﺔ اﻟﺘﻔﻜري اﻟﺘﻲ رأﻳﻨﺎ ﻛﻴﻒ ﺗﺘﺤﻜﻢ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﺎ ﰲ ﺳري اﻟﻜﻮن ﻛﻠﻪ وﰲ ﺣﻴﺎة اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺴﻌﻴﺪ ﺻﺎﺣﺐ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ .وﻗﺪ ﻗﺎل أرﺳﻄﻮ ً أﻳﻀﺎ إن اﻟﻌﻘﻞ ﻫﻮ أﻓﻀﻞ ﻣﺎ ﻳﻤﻴﺰﻧﺎ، ﻓﻘﺪ أ َ َﻗ ﱠﺮ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ أن اﺳﺘﺨﺪام ﻣ َﻠﻜﺔ اﻟﻌﻘﻞ ﻳﻤﻬﺪ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﻟﻠﺴﻌﺎدة اﻟﻘﺼﻮى. ﺣﺪﻳﺚ ﻻ ﻏﺒﺎر ﻋﻠﻴﻪ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻗﺎل ً ٌ أﻳﻀﺎ إن اﻟﻌﻘﻞ ﻫﻮ اﻟﺠﺰء اﻟﺨﺎﻟﺪ ﻣﻦ اﻟ ﱡﺮوح .ﻓﻜﻴﻒ وﻫﺬا ﻟﻨﺎ أن ﻧﻘﻨﻊ ﺑﻬﺬا؟ وﺑﻤﺎ أن أرﺳﻄﻮ ﻳﻌﺘﻘﺪ أن اﻟ ﱡﺮوح ﻟﻴﺴﺖ إﻻ ﺷﻜﻞ اﻟﺠﺴﺪ ﻓﺈن ﻫﺬا 258
املﻌﻠﻢ اﻷول :أرﺳﻄﻮ
ﻳﻘﺘﴤ اﻟﻘﻮل إﻧﻬﺎ ﻟﻢ ﺗ ُﻜﻦ ﻣﻮﺟﻮدة ﻗﺒﻞ اﻟﺠﺴﺪ وﻟﻦ ﺗﻮﺟﺪ ﺑﻌﺪه؛ ﻓﺎﻟ ﱡﺮوح ﻻ ﺑﺪ وأن ﺗﻔﻨﻰ ﺑﻔﻨﺎء اﻟﺠﺴﺪ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻛﻤﺎ ﻳﻀﻴﻊ اﻟﺸﻜﻞ املﺮﺳﻮم ﻋﲆ ﻗﻄﻌﺔ اﻟﺸﻤﻊ ﺑﺬوﺑﺎن ﻣﺎدﺗﻬﺎ ،وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈن ﺧﻠﻮد اﻟﻌﻘﻞ ﻣﻬﻤﺎ ﺑﻠﻎ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺑﺤﺎل ﻣﻦ اﻷﺣﻮال أن ﻳﻔﴤ إﱃ ﺧﻠﻮد اﻟﺸﺨﺺ. وﻧﺤﻦ ﻻ ﻧﻌﺮف ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﻴﻘني اﻟﺴﺒﺐ اﻟﺬي دﻓﻊ أرﺳﻄﻮ إﱃ اﻻﻋﺘﻘﺎد ُ ﺑﺨﻠُﻮد اﻟﻌﻘﻞ .وﻻ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﱢ ﻧﻔﴪ ذﻟﻚ إﻻ ﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﻘﻮل إﻧﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻓﻜﺮة أﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ ﻛﺎﻣﻨﺔ ﻓﻴﻪ. وﻟﻴﺴﺖ ﻫﺬه ﺳﻮى واﺣﺪة ﻣﻦ ﻧﻘﺎط ﻛﺜرية ﺗﻈﻬﺮ ﻓﻴﻬﺎ أﺻﺪاء ﻋﻘﻴﺪة املﻌﻠﻢ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﺎت ني أﺣﺪﻫﻤﺎ ﺗﻠﻤﻴﺬه؛ ﻓﺮﻏﻢ رﻓﺾ أرﺳﻄﻮ ﻟﻔﻜﺮة أﻓﻼﻃﻮن اﻟﻘﺎﺋﻠﺔ إن اﻟﻮاﻗﻊ ﻣﻘﺴﻢ إﱃ ﻋﺎ َﻟﻤَ ْ ِ دﻧ ﱞِﻲ ﺗﻤﻠﺆه اﻷﺷﻴﺎء املﺎدﻳﺔ اﻟﻌﺎدﻳﺔ ،واﻵﺧﺮ ﻋﻠﻮي ﺗﻌﻤﺮه ا ُملﺜ ُ ُﻞ املﺠﺮدة ﻓﻼ ﻧﺰال ﻧﺮى ﰲ ً اﻧﻌﻜﺎﺳﺎ ﻟﻬﺬه اﻟﻔﻜﺮة اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ؛ ﻓﺈن ﺳﻤﺎء أرﺳﻄﻮ ﺗﻈﻬﺮ ﻛﺘﺎﺑﺎت أرﺳﻄﻮ وﻛﺄﻧﻬﺎ أﺛﺮ ﻣﻦ ﺳﻤﺎء ﻋﺎﻟﻢ ا ُملﺜ ُ ِﻞ اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻲ اﻟﺬي ﻻ ﻧﺮاه ،ﻓﻌﻨﺪﻣﺎ ﻳﺘﺤﺪث أرﺳﻄﻮ ﻋﻦ »اﻻﻫﺘﻤﺎم اﻷﺳﻤﻰ ﺑﺎﻷﻣﻮر اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻣﻮﺿﻮع اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻌﻠﻴﺎ« ﻓﻘﺪ ﻧﻌﺘﻘﺪ ﻟﻠﻮﻫﻠﺔ اﻷوﱃ أﻧﻪ ﻳﺘﺤﺪث ﻋﻦ ﻋﻠﻢ اﻟﻔﻠﻚ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﺗﺒﺪو وﻛﺄﻧﻬﺎ ﺗﺮاﻧﻴﻢ أﻓﻼﻃﻮن اﻟﺘﻲ ﻳﻤﺪح ﻓﻴﻬﺎ ﻋﺎﻟﻢ ُﻣﺜُﻠ ِِﻪ اﻟﺬي ﻣﻦ املﻔﱰض أن ﻳﺪرﺳﻪ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﺘﺎﺑﻌﻮن ﻟﻪ. وﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﺗﺴﺘﻬﻞ أﺷﻬﺮ اﻟﻜﺘﺐ املﻌﺎﴏة اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻨﺎول دراﺳﺔ اﻟﻔﻀﺎء ﺣﺪﻳﺜﻬﺎ ﺑﻤﻨﺎﻗﺸﺔ ﻈ ِﻬ ُﺮ ُﻛﺘﱠﺎﺑُﻬَ ﺎ اﻟﺨﺸﻮ َع أﻣﺎم ﻋِ َ اﻷﺟﺮام اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ .وﻋﺎدة ﻣﺎ ﻳُ ْ ﻈ ِﻢ اﻟﻜﻮن ﺣﺎل ﻣﻘﺎرﻧﺘﻪ ﺑﻤﺎ ﻳﺤﻴﻂ ﺑﻨﺎ ﻣﻦ ﺑﻴﺌﺔ ﻣﺘﻮاﺿﻌﺔ .أﻣﺎ أرﺳﻄﻮ ﻓﻠﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻋِ َ ﻈ ُﻢ اﻟﻜﻮن واﺗﺴﺎﻋﻪ ﻫﻮ اﻟﺴﺒﺐ وراء إﺛﺎرة دﻫﺸﺘﻪ ﺑﻞ ﻛﻤﺎﻟﻪ وإﺣﻜﺎﻣﻪ؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻳﻌﺘﱪ اﻟﻔﻠﻚ أﺳﻤﻰ ﻣﻦ أن ﻳﻜﻮن ﻓﺮﻋً ﺎ ﻣﻦ ﻓﺮوع اﻟﻌﻠﻢ؛ ذﻟﻚ أن اﻷﺟﺮام اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ )ﻓﻴﻤﺎ ﻋﺪا ﻛﻮﻛﺐ اﻷرض واﻟﺸﻬﺐ واملﺬﻧﱠﺒﺎت( ﻣﻨﺘﻈﻤﺔ اﻟﺤﺮﻛﺔ وﺗﺘﺴﻢ ﺑﺎﻟﻜﻤﺎل واﻟﺜﺒﺎت واﻷزﻟﻴﺔ ،وﻫﻲ ﺑﺬﻟﻚ ﺗﺤﻈﻰ ﺑﻘﺪر ﻣﻦ اﻟﻘﺪاﺳﺔ اﻹﻟﻬﻴﺔ .وﻫﺬا ﻣﺎ ﺟﻌﻠﻬﺎ ﻻ ﺗُﺸﺒﻪ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻊ دراﺳﺘﻬﺎ ﰲ ﻧﻄﺎق ﻓﺮوع اﻟﻌﻠﻢ اﻷﺧﺮى اﻟﺘﻲ ﺗﻘِ ﻞ أﻫﻤﻴﺔ ﻋﻨﻬﺎ ﻛﻌﻠﻢ اﻷﺣﻴﺎء واملﻴﻜﺎﻧﻴﻜﺎ اﻷرﺿﻴﺔ .ﻓﺎﻷﺷﻴﺎء اﻟﺜﺎﺑﺘﺔ املﺴﺘﻘﺮة اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﺘﻐري ﻛﺎﻧﺖ ﰲ ﻣﺮﺗﺒﺔ أﻋﲆ ﻋﲆ ﻣﻘﻴﺎس اﻟﻜﻤﺎل اﻟﻜﻮﻧﻲ .وﻛﺎن اﻟﺘﻔﻜري ﻣﻦ ﻣﻨﻄﻠﻖ ﻫﺬا اﻟﻨﻄﺎق ﺗﻔﻜريًا أرﺳﻄﻴٍّﺎ ﺑﺤﺘًﺎ ﺣﻴﺚ ﻛﺎن أرﺳﻄﻮ ﻳﺼﺐ ﺟُ ﱠﻞ اﻫﺘﻤﺎﻣﻪ وﺗﺮﻛﻴﺰه ﻋﲆ اﻛﺘﺸﺎف اﻟﻄﺒﻘﺎت ،ﻓﺈذا ﻣﺎ ﺗُ ِﺮ َك ﺑﻤﻔﺮده ﻣﻊ ﺑﻌﺾ اﻷﺣﺠﺎر اﻟﻔﻜﺮﻳﺔ ً ﻣﺜﻼ ﻗﺎم ﻋﻘﻠُﻪ املﻮﻟﻊ ﻳﺠﺪ ﺣﺠ ًﺮا ﻳﺘﻤﻴﺰ ﻋﻦ ﺑﺎﻗﻲ ﺑﺎﻟﺘﺼﻨﻴﻒ ﺑﻮﺿﻊ ﻫﺬه اﻷﺣﺠﺎر ﰲ ﺷﻜﻞ ﻫﺮم ،وﻛﺎن ﰲ اﻷﺧري ِ اﻷﺣﺠﺎر ﻟﻴﻀﻌﻪ ﻋﲆ ﻗﻤﺔ اﻟﻬﺮم .وﻳﻘﻊ اﻹﻧﺴﺎن ﻋﲆ ﻗﻤﺔ ﻫﺮم اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﺤﻴﺔ اﻟﻔﺎﻧﻴﺔ، وﻳﻘﻊ اﻟﻌﻘﻞ ﻋﲆ ﻗﻤﺔ ﻫﺮم ﱢ اﻟﺴﻤﺎت اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ ،وﺗﻘﻊ اﻷﺟﺮام اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ اﻟﺜﺎﺑﺘﺔ ﻋﲆ ﻗِ ﻤﱠ ِﺔ ﻫﺮم اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء. 259
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
وﺑﺬﻟﻚ ﻧﺮى أن أرﺳﻄﻮ ﻛﺎن ﻳﻌﺘﱪ أن اﻟﴚء إذا ﻛﺎن ﺛﺎﺑﺘًﺎ وأزﻟﻴٍّﺎ ﻛﺎن ﰲ ﻣﻜﺎﻧﺔ أﻋﲆ ﻣﻦ ﻏريه ،ﺷﺄﻧُﻪ ﰲ ذﻟﻚ ﺷﺄن ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس وأﻓﻼﻃﻮن .أﻣﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺘﻌ ﱠﻠﻖ اﻷﻣﺮ ﺑﻤﻌﺮﻓﺔ ً اﺧﺘﻼﻓﺎ ﻛﻠﻴٍّﺎ وﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻋﲆ اﻷﺷﻴﺎء اﻷرﺿﻴﺔ اﻟﻔﺎﻧﻴﺔ ﻛﺎن أرﺳﻄﻮ ﻳﺨﺘﻠﻒ ﻣﻊ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس اﺗﻔﺎق ﻣﻊ أﻓﻼﻃﻮن ً أﻳﻀﺎ ،ﻓﺒﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻗﺎل إﻧﻪ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻷﺷﻴﺎء ﻣﻦ اﻷﺳﺎس؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﺛﻤﺔ ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﻣﻌﺮﻓﺘﻪ ﻋﻨﻬﺎ ،ورأى أن ﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﻮﺟﺪ ﰲ اﻟﻜﻮن ﻫﻮ اﻟﻮاﺣﺪ ﻳﺘﻐري .ورﻏﻢ أن أﻓﻼﻃﻮن ﻟﻢ ﻳ َِﺸ ﱠ اﻟﺬي ﻻ ﱠ ﻂ ﻛﻤﺎ ﻓﻌﻞ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻳﺮى أن ﻣﻌﺮﻓﺔ ا ُملﺜ ُ ِﻞ اﻟﺜﺎﺑﺘﺔ ﺗﻔﻮق أﻧﻮاع املﻌﺮﻓﺔ اﻷﺧﺮى .وﻟﻢ ﻳﺨﺘﻠﻒ أرﺳﻄﻮ ﻣﻊ أﻓﻼﻃﻮن ﻣﻦ ﺣﻴﺚ املﺒﺪأ ﰲ أن دراﺳﺔ اﻷﺷﻴﺎء اﻷرﺿﻴﺔ ﻟﻴﺴﺖ ﻋﲆ اﻟﻘﺪر ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻦ اﻟﺴﻤﻮ ،وﻟﻜﻦ ﻫﺬا ﻣﻦ ﺣﻴﺚ املﺒﺪأ ﻓﺤﺴﺐ .وﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ أن املﻌﺮﻓﺔ »اﻟﺴﺎﻣﻴﺔ« ﻋﻨﺪ أرﺳﻄﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺘﻌﻠﻖ ﺑﻌﻠﻢ اﻟﻔﻠﻚ ﻻ ﺑﺎ ُملﺜ ُ ِﻞ املﺠ ﱠﺮدة ﻓﻘﺪ أدرك ﻛﺬﻟﻚ أﻧﻪ رﻏﻢ أن ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﺘﻐري ﻗﺪ ﺗﻜﻮن ﻣﺤﺒﱠﺬة ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ،ﻓﻤﻦ اﻟﺼﻌﺐ أن ﺗُ ْﻜﺘَ َﺴﺐَ ﻫﺬه املﻌﺮﻓﺔ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻋﻤﻠﻴﺔ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻛﺎن ﻋﲆ املﺮء أن ﻳﺮﴇ ﺑﻤﻌﺮﻓﺔ اﻷﺷﻴﺎء اﻷرﺿﻴﺔ وأن ﻳﻨﻈﺮ ﻟﻠﺠﺎﻧﺐ املﴩق ﻣﻨﻬﺎ وﻫﻮ: أن ﺑﻌﺾ املﻮاد اﻟﺘﻲ ﺗﺸﻜﻠﺖ ﺑﻔﻌﻞ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻟﻢ ﺗﻨﺸﺄ ﻣﻦ اﻟﻌﺪم ،وﻻ ﺗﻔﻨﻰ، وﺗﺘﻤﺘﻊ ﺑﺎﻟﺨﻠﻮد اﻷﺑﺪي ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺑﻌﺾ املﻮاد اﻷﺧﺮى ﺗﴪي ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻗﻮاﻧني اﻟﻨﺸﻮء ﱡ ﺑﺎﻟﺴ ُﻤ ﱢﻮ واﻟﻘﺪاﺳﺔ ،وﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻣﻌﺮﻓﺔ واﻟﻔﻨﺎء .وﻳﺘﻤﺘﻊ اﻟﻨﻮع اﻷول ﻣﻦ املﻮا ﱢد اﻟﻜﺜري ﻋﻨﻪ .ﻛﻤﺎ أن اﻟﺪﻻﺋﻞ اﻟﺘﻲ ﻗﺪ ﺗﺴﺎﻋﺪ ﻋﲆ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﳾءٍ ﻋﻨﻪ ﺗﻘﻊ ﰲ ﻧﻄﺎق ﻛﺎف .أﻣﺎ ﻓﻴﻤﺎ ُ اﻟﺤﺲ واﻟﺸﻌﻮر وﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻏري ٍ ﻳﺨﺺ اﻟﻨﺒﺎﺗﺎت واﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت اﻟﻔﺎﻧﻴﺔ ﻓﻠﺪﻳﻨﺎ ﻗﺪر واﻓﺮ ﻣﻦ املﻌﻠﻮﻣﺎت ﻋﻨﻬﺎ؛ ﻓﻬﻲ ﺗﻌﻴﺶ ﻣﺜﻠﻨﺎ ﰲ ﻋﺎملﻬﺎ اﻟﺨﺎص ،وﻳﻤﻜﻦ ﺟﻤﻊ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ املﻌﻠﻮﻣﺎت ﻋﻦ أﻧﻮاﻋﻬﺎ املﺨﺘﻠﻔﺔ إذا ﻛﺎﻧﺖ ﻟﺪﻳﻨﺎ اﻟﺮﻏﺒﺔ واﻟﻌﺰم … ﻓﻤﻌﺮﻓﺘﻨﺎ ﺑﺎملﺨﻠﻮﻗﺎت اﻷرﺿﻴﺔ ﺗﺘﺴﻢ ﺑﺎﻟﻴﻘني وﻛﻤﺎل املﻌﺮﻓﺔ. وﻗﺪ ﺳﻌﻰ أرﺳﻄﻮ وﺗﻼﻣﻴﺬه ﰲ ﻣﻌﻬﺪ اﻟﻠﻴﺴﻴﻮم ﺑﻜﻞ ﺟﻬﺪﻫﻢ ﻻﺳﺘﻐﻼل ﻫﺬه اﻟﻔﺮﺻﺔ؛ ﺑﺠﻤﻊ املﻌﻠﻮﻣﺎت اﻟﻜﺜرية املﺘﻮﻓﺮة ﻋﻦ املﺨﻠﻮﻗﺎت اﻷرﺿﻴﺔ وﺗﺼﻨﻴﻔﻬﺎ وﻣﺤﺎوﻟﺔ ﴍﺣﻬﺎ، ﻟﻴﺲ ﰲ ﻣﺠﺎل اﻷﺣﻴﺎء ﻓﺤﺴﺐ ﺑﻞ ﰲ ﻛﻞ ﻣﻀﻤﺎر ﻛﺎن ﻣﻦ املﻤﻜﻦ ﻓﻴﻪ إﺷﺒﺎع »اﻟﺮﻏﺒﺔ ً وﻓﻀﻼ ﻋﻦ ﻧﺸﺎﻃﻬﻢ اﻟﻌﻠﻤﻲ ﻗﺎﻣﻮا ﺑﺘﺠﻤﻴﻊ ﺗﻔﺎﺻﻴﻞ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻟﻠﻤﻌﺮﻓﺔ ﻟﺪى اﻹﻧﺴﺎن«. ١٥٨دﺳﺘﻮ ًرا ﺳﻴﺎﺳﻴٍّﺎ وﻗﺎﻣﻮا ﺑﻌﻤﻞ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺐ ﻋﻦ ﻋﺎدات اﻟﱪﺑﺮ وﻣﻌﺘﻘﺪاﺗﻬﻢ وﺗﺠﻤﻴﻊ اﻟﺘﻘﺎوﻳﻢ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ )اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻦ ﻃﺮق ﺗﺴﺠﻴﻞ اﻟﺘﺎرﻳﺦ املﻬﻤﺔ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻌﴫ( ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ ُﻛﺘُ ٍﺐ ﰲ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ وﺳﺠﻼت اﻟﻌﺮوض املﴪﺣﻴﺔ واملﻮﺳﻴﻘﻴﺔ .وﻗﺪ اﺷﺘﻬﺮ 260
املﻌﻠﻢ اﻷول :أرﺳﻄﻮ
أرﺳﻄﻮ ﻛﺬﻟﻚ ﺑﺠﻤﻊ اﻟﻜﺘﺐ ،ﻓﻴﺒﺪو أن ﻣﻌﻬﺪ اﻟﻠﻴﺴﻴﻮم ﻛﺎن ﻳﺤﺘﻮي ﻋﲆ ﻣﺨﻄﻄﺎت ﺗﴩﻳﺤﻴﺔ ﻟﺠﺴﻢ اﻹﻧﺴﺎن وﺧﺮاﺋﻂ ورﺑﻤﺎ ﻋﻴﻨﺎت ﺑﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﺷﻜﻠﺖ ﺟﺰءًا ﻣﻦ ﻣﻜﺘﺒﺘﻪ. َ ﱢ اﻟﻔﺮق اﻟﺠﻮﻫﺮي وﻳﻮﺿﺢ ﻣﺪح أرﺳﻄﻮ ملﺠﺎل دراﺳﺘﻪ املﻔﻀﻞ وﻫﻮ ﻋﻠﻢ اﻟﺤﻴﻮان ﺑﻴﻨﻪ وﺑني أﻓﻼﻃﻮن؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن أﻓﻼﻃﻮن ﻳﺮى اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺪﻧﻴﻮي ﻣﻦ ﺣﻮﻟﻪ ﺑﻌني اﻟﺘﺸﺎؤم ﺑﺤﻴﺚ ﻻ ﻳﺤﻮي ﻛﻞ ﳾء ﺣﻮﻟﻪ ﺑني ﱠ دﻓﺘﻴﻪ املﻌﺎﻳريَ اﻟﺘﻲ ﺣﺪدﺗﻬﺎ ا ُملﺜ ُ ُﻞ اﻟﻌﻠﻴﺎ .وﻛﺎﻧﺖ ﻣﻬﻤﺔ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف أن ﻳُﻘﻨﻊ اﻟﻨﺎس ﺑﻬﺬه اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ املﺤ ِﺒﻄﺔ وﺑﺎﻟﺴﻤﻮ ﻓﻮق ﻫﺬا اﻟﻌﺎﻟﻢ وﻟﻮ ﰲ ً ﻋﻘﻮﻟﻬﻢ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ،وأن ﻳﺤﺒﺒﻬﻢ ﰲ ا ُملﺜ ُ ِﻞ ً ﻣﺘﻔﺎﺋﻼ ،ﻓﺒﻴﻨﻤﺎ ﺑﺪﻻ ﻣﻨﻪ .أﻣﺎ أرﺳﻄﻮ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻛﺎن أﻓﻼﻃﻮن ﻳﺤﺎول اﻟﻬﺮوب ﻣﻦ اﻟﻜﻬﻒ املﻈﻠﻢ اﻟﺬي ﺗﻘﺒﻊ ﻓﻴﻪ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ املﺎدﻳﺔ ﺑﺤﺜًﺎ ﻋﻦ ﻋﺎﻟﻢ أرﻗﻰ وأﺳﻤﻰ ،ﻛﺎن أرﺳﻄﻮ ﻳﺮى أن ﻫﺬا اﻟﻜﻬﻒ ﻟﻴﺲ ﺑﻬﺬا اﻟﺴﻮء إذا ﻣﺎ أﺿﺎءﺗﻪ املﺼﺎﺑﻴﺢ ،وﺧﺎﺻﺔ إذا ﻣﺎ ﴍﻋﺖ ﰲ ﺗﴩﻳﺢ اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت داﺧﻠﻪ .ﻓﺎﻟﺠﻤﺎل اﻟﺬي ﻛﺎن ﻳﺮوﻣُﻪ أﻓﻼﻃﻮن ﰲ ا ُملﺜ ُ ِﻞ ﻏري اﻟﻮاﻗﻌﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ وﺟﻮد ﻟﻬﺎ ﰲ ﻋﺎملﻨﺎ ﻛﺎن أرﺳﻄﻮ ﻳﺮاه ﰲ ﻛﻞ ﳾء ﺣﻮﻟﻪ. وﻟﺬﻟﻚ ﻛﺎن أﺻﻐﺮ اﻷﺷﻴﺎء واﻟﻜﺎﺋﻨﺎت ﰲ ﻧﻈﺮ أرﺳﻄﻮ ﻳﺴﺘﺤﻖ اﻟﺪراﺳﺔ؛ ذﻟﻚ أن »ﻛﻞ ﳾء ﻓﻴﻬﺎ ﺳﻴﻜﺸﻒ ﻟﻨﺎ ﻋﻦ ﺟﺎﻧﺐ راﺋﻊ ﻣﻦ ﺟﻮاﻧﺐ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ «.وﻣﺎ أﺛﺎر أرﺳﻄﻮ ﻫﻮ أن »ﻏﻴﺎب اﻟﻌﺸﻮاﺋﻴﺔ و َﻛﻮْن ﻛﻞ ﳾء ﻳﻘﻮد إﱃ ﻏﺎﻳﺔ ﻳﺸﻴﻊ ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺷﻴﻮﻋً ﺎ ِﺟﺪ ﻛﺒري «.وﻛﺎن أرﺳﻄﻮ ﻳﻘﺼﺪ ﺑ » َﻛﻮْن ﻛﻞ ﳾء ﻳﻘﻮد إﱃ ﻏﺎﻳﺔ« أن ﻛﻞ ﳾء ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻣُﻌَ ﱞﺪ ﻟﻠﻌﻤﻞ ﻟﺘﺤﻘﻴﻖ ﻏﺎﻳﺔ ﻣﺤﺪدة ،وﻫﺬه اﻟﻨﻘﻄﺔ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻔﺴريﻫﺎ ﰲ ﺿﻮء ﻧﻈﺮﻳﺘﻪ ﻋﻦ »اﻟﻌﻠﻞ اﻟﻐﺎﺋﻴﺔ« .ﻓﺄﺟﺰاء اﻟﻌني ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﺗﺘﻜﺎﺗﻒ وﺗﺘﱠﺤﺪ ﻟﺘﻨﺘﺞ ﻟﻨﺎ اﻟﺮؤﻳﺔ ،وﺑﺬﻟﻚ ﺗﻜﻮن اﻟﺮؤﻳﺔ ﻫﻲ اﻟﻌﻠﺔ اﻟﻐﺎﺋﻴﺔ أو اﻟﻐﺮض ﻣﻦ اﻟﻌني؛ إذ ﺗﻘﻮم أﺟﺰاؤﻫﺎ ﺑﻌﻤﻠﻬﺎ ﻣﻦ أﺟﻞ ﺗﺤﻘﻴﻖ اﻟﺮؤﻳﺔ ،وﻫﺬا ﻫﻮ املﺪﺧﻞ ﻟﻔﻬﻢ ﻫﺬه اﻷﺟﺰاء وﻣﻌﺮﻓﺘﻬﺎ ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل أرﺳﻄﻮ .ﻓﺎﻷﺳﻮد ﻟﺪﻳﻬﺎ أﻧﻴﺎب ﺣﺎدة ِﻟﺘُﺠْ ِﻬ َﺰ ﻄ َﻊ ﻟﺤﻤﻬﺎ ،وﺟﺬور اﻟﻨﺒﺎﺗﺎت ﺗﻤﺘﺪ ﻷﺳﻔﻞ وﻟﻴﺲ َ ﻋﲆ ﻓﺮﻳﺴﺘﻬﺎ وﺗُ َﻘ ﱢ ﻷﻋﲆ ﺑﺤﺜًﺎ ﻋﻦ اﻟ ﱡﺮﻃﻮﺑﺔ وﻫﻜﺬا .وﻗﺪ أﻗﺮ أرﺳﻄﻮ أﻧﻪ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ وﺻﻒ ﻛﻞ ﻣﺎ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ﺑﻬﺬه اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ؛ ﻓﺒﻌﺾ اﻷﺷﻴﺎء ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ﻟﻐﺮض ﺑﻌﻴﻨﻪ وإﻧﻤﺎ و ُِﺟﺪ ْ َت ﻋﲆ ﺣﺎﻟﺘﻬﺎ ﺗﻠﻚ ﺑﺎﻟﺼﺪﻓﺔ دون أي ﺳﺒﺐ. وﻟﻜﻦ ﻣﺎ أﺛﺎر دﻫﺸﺔ أرﺳﻄﻮ ﻫﻮ أن ﻣﻌﻈﻢ اﻷﺷﻴﺎء ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻟﻢ ﻳُﻮ َﻟ ْﺪ ﻣﻦ رﺣﻢ اﻟﺼﺪﻓﺔ ،وﻟﻜﻨﻪ ﺗﻨﺒﱠﺄ ﺑﺎﻻﻋﱰاض ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﰲ اﻟﺘﻔﻜري ،ﻓﺮﺑﻤﺎ ا ْﻛﺘُ ِﺸ َﻔ ْﺖ ﻋﺠﺎﺋﺐ ﻋﻠﻢ اﻷﺣﻴﺎء ﺑﺎﻟﺼﺪﻓﺔ ،ورﺑﻤﺎ ﻛﺎن ﻇﻬﻮر اﻟﻐﺮض ﻣﺠﺮد وﻫﻢ ،وﰲ ذﻟﻚ ﻳﻘﻮل: 261
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ملﺎذا ﻻ ﺗﻌﻤﻞ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻓﺤﺴﺐ ﺑﺎﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ اﻟﺘﻲ ﺗﻤﻄﺮ ﺑﻬﺎ اﻟﺴﻤﺎء دون ﻏﺮض أو ﺳﺒﺐ ودون أن ﻳﻜﻮن ذﻟﻚ ﻫﻮ اﻷﻓﻀﻞ؟ ﻓﺎﻵﻟﻬﺔ ﻻ ﺗُﻨ ْ ِﺰ ُل املﻄﺮ ﻣﻦ اﻟﺴﻤﺎء ﻣﻦ أﺟﻞ إﻧﺒﺎت اﻟﺬﱡ َرة ﰲ اﻷرض ،وإﻧﻤﺎ ﻳﻬﻄﻞ املﻄﺮ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﴬورة ﻣﻌﻴﻨﺔ؛ ﻓﺎﻟﺒﺨﺎر اﻟﺬي ﻳﺮﺗﻔﻊ ﻷﻋﲆ ﻳﱪُد وﺑﻤﺠﺮد ﺑﺮودﺗﻪ ﻳﺘﺤﻮل إﱃ ﻣﺎء ﺛﻢ ﻳﺴﻘﻂ ﻣﺮة أﺧﺮى ﻋﲆ اﻷرض .أﻣﺎ ﻧﻤﻮ اﻟﺬﱡ َرة ﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ﻓﻬﻮ ﻣﺤﺾ ﺻﺪﻓﺔ. إذن ملﺎذا ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﻨﻈﺮ ﻣﻦ املﻨﻄﻠﻖ ﻧﻔﺴﻪ ﻟﺒﺎﻗﻲ أﺟﺰاء اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ؟ ملﺎذا ﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﻌﺘﻘﺪ أن أﺳﻨﺎﻧﻨﺎ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﺑﺮزت ﻟﴬورة ﻣﺎ؟ وملﺎذا ﻻ ﻧﻘﻮل إﻧﻪ ﻣﻦ ﻗﺒﻴﻞ اﻟﺼﺪﻓﺔ املﺤﻀﺔ أن ﺻﺎرت أﺳﻨﺎﻧﻨﺎ اﻷﻣﺎﻣﻴﺔ ً ﻣﺜﻼ ﺣﺎ ﱠد ًة وﻣﻨﺎﺳﺒﺔ ﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﺘﻘﻄﻴﻊ ،وﴐوﺳﻨﺎ ﻛﺒرية وﻣﻼﺋﻤﺔ ﻣﻦ أﺟﻞ ﻣﻀﻎ اﻟﻄﻌﺎم؟ ً واﺻﻔﺎ إﻳﺎه ﺑﺄﻧﻪ ﺑﻌﻴﺪ اﻻﺣﺘﻤﺎل ﺑﺪرﺟﺔ ﻛﺒرية ،وﰲ وﻟﻜﻦ أرﺳﻄﻮ رﻓﺾ ﻫﺬا اﻟﺘﻔﺴري اﻟﺒﺪﻳﻞ ْ ٍ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ذﻟﻚ ﻳﻘﻮل» :ﻷن اﻷﺳﻨﺎن وﺟﻤﻴﻊ اﻷﺷﻴﺎء اﻷﺧﺮى املﻮﺟﻮدة ﺑﺎﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻗﺪ و ُِﺟﺪَت ﻣﺎ ،وﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻜﻮن ﻫﺬه اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﻫﻲ ﻧﺘﺎج اﻟﺼﺪﻓﺔ أو اﻟﺘﻠﻘﺎﺋﻴﺔ «.وﻗﺪ ﻳﺤﺪث ﻣﺼﺎدﻓﺔ ﺑﺴﻤَ ٍ أن ﺗُﻮ َﻟ َﺪ ﺑﻌﺾ املﺨﻠﻮﻗﺎت ِ ﺎت أﻓﻀﻞ ﻻ ﺗﺘﻮاﻓﺮ ﻟﻐريﻫﺎ ،وﻟﻜﻦ ﻟﻴﺲ إﱃ ﻫﺬا املﺪى وﻻ ﺑﻬﺬا اﻻﻧﺘﻈﺎم اﻟﺜﺎﺑﺖ اﻟﺬي ﻻ ﻳﺘﻐري .وﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺼﺪﻓﺔ ﻫﻲ املﺴﺌﻮﻟﺔ ﻋﻦ وﺟﻮد اﻷﺳﻨﺎن ﻣُﺤْ َﻜﻤَ ِﺔ ﱡ اﻟﺼﻨﻊ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﻟﻜﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك أﺳﻨﺎن ﻛﺜرية أﺧﺮى ﺳﻴﺌﺔ اﻟﺼﻨﻊ وﻻ ﺣﺎﺟﺔ ﻟﻬﺎ .وإذا ﻧﻈﺮ اﻹﻧﺴﺎن ﺣﻮﻟﻪ ﻓﻠﻦ ﻳﺠﺪ ً ﻣﺜﺎﻻ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﺘﻨﻮﱡع اﻟﻌﺸﻮاﺋﻲ. وﻗﺪ ﻛﺎن أرﺳﻄﻮ ٍّ ﻣﺤﻘﺎ ﻓﻴﻤﺎ ذﻫﺐ إﻟﻴﻪ؛ إذ ﻟﻴﺲ ﻣﻦ ﻗﺒﻴﻞ اﻟﺼﺪﻓﺔ أن ﺗﻮﺟﺪ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻘﺪر ﻣﻦ اﻹﺣﻜﺎم ،ﻓﻌﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﻳﻌﺘﱪ ﺗﻤﻜني اﻷﺳﻨﺎن اﻟﺤﺎدة اﻷﺳﻮد ﻣﻦ اﻟﺼﻴﺪ واﻷﻛﻞ ﺟﺰءًا ﻣﻦ ﺳﺒﺐ وﺟﻮدﻫﺎ .وﻫﺬا ﻫﻮ ﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﺮﻣﻲ إﻟﻴﻪ أرﺳﻄﻮ؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻋﲆ ﻳﻘني ﻣﻦ أن ﻣﺒﺪأ اﻟﻨﻔﻊ ﻳﻠﻌﺐ دو ًرا ﻛﺒريًا ﰲ اﻟﺘﻔﺴريات اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ رﻏﻢ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳُﺪرك اﻟﺴﺒﺐ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ وراء ﻫﺬا املﺒﺪأ؛ ﻷﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﻌﺮف ﺷﻴﺌًﺎ ﻋﻦ ﻧﻈﺮﻳﺔ اﻻﻧﺘﺨﺎب اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ﻟﺪاروﻳﻦ .ﻓﻔﻲ ﻣﺜﺎل اﻷﺳﻮد ﻧﺠﺪ أن أرﺳﻄﻮ ﻗﺪ ﻓﺎﺗﻪ ﻣﻌﺮﻓﺔ أن اﻷُﺳﻮد ذات اﻷﺳﻨﺎن اﻟﺤﺎدة ﺳﺘﺤﻈﻰ ﺑﺤﻴﺎة أﻓﻀﻞ ﻋﲆ ﺣﺴﺎب ﺳﺎﺋﺮ اﻷﺳﻮد اﻷﺧﺮى وﺳﺘﻨﺘﴩ ﺑﺸﻜﻞ أﻛﱪ ﻣﻨﻬﺎ؛ ذﻟﻚ أن اﻷﺳﻮد اﻟﺘﻲ ﺳﺘﺄﺗﻲ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌ ُﺪ ﺳﺘﻜﻮن ﻫﻲ ﺳﻠﻴﻠﺔ اﻷﺳﻮد اﻷوﻓﺮ ﺣ ٍّ ﻈﺎ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﺳﻴﻜﻮن ﻟﻬﺎ أﺳﻨﺎن ﻛﺄﺳﻨﺎﻧﻬﺎ .وﺑﻮﺿﻊ ﻫﺬه اﻟﺘﻔﺎﺻﻴﻞ املﻬﻤﺔ اﻟﺘﻲ ذﻛﺮﻫﺎ داروﻳﻦ ٍ ﻫﺪف ﺑﻌﻴﻨﻪ ﺗﺴﺎﻋﺪ ﰲ اﻟﺤﺴﺒﺎن ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﺪرك أن ﻫﺬه اﻷﺳﻨﺎن اﻟﺘﻲ ﺗُ ْﺴﺘَ ْﺨ َﺪ ُم ﻟﺘﺤﻘﻴﻖ ﻋﲆ ﺗﻔﺴري وﺟﻮد اﻷﺳﻮد اﻟﻴﻮ َم ﺑﻤﺜﻞ ﻫﺬه اﻷﺳﻨﺎن .وﺑﻬﺬا ﻧﺮى أن أرﺳﻄﻮ ﻛﺎن ﻳﺴري ﰲ ﱢ ﻣﺘﻌﴪة. اﻟﻄﺮﻳﻖ اﻟﺼﺤﻴﺢ وﻟﻜﻦ ﺑﺨﻄﻮات 262
املﻌﻠﻢ اﻷول :أرﺳﻄﻮ
وﻻ ﺗﻐﻨﻴﻨﺎ ﺗﻔﺎﺻﻴﻞ داروﻳﻦ ﻋﻦ اﻟﻌﻠﻞ اﻟﻐﺎﺋﻴﺔ ﻟﺪى أرﺳﻄﻮ ،ﺑﻞ ﻋﲆ اﻟﻌﻜﺲ ﻓﺎﻵﻟﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻤﻞ و ً َﻓﻘﺎ ﻟﻬﺎ ﻧﻈﺮﻳﺔ اﻻﻧﺘﺨﺎب اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ﺗﻮﺿﺢ ﻛﻴﻒ ﺗﻨﻄﻮي اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻋﲆ اﻟﻌﻠﻞ اﻟﻐﺎﺋﻴﺔ ﻻ أن ﺗﺴﺘﻐﻨﻲ ﻋﻨﻬﺎ .وﻗﺪ ﻃﻤﺴﺖ ﻫﺬه اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻻﺳﺘﺨﺪاﻣﺎت اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ واﺳﺘﺨﺪاﻣﺎت ﻣَ ْﻦ ﻳﺴﻌَ ﻮْن ﻹﻋﺎﻗﺔ ﺗﺤﻘﻴﻖ أي ﺗﻘﺪﱡم ملﺼﻄﻠﺢ أرﺳﻄﻮ اﻟﻌﻠﻤﺎﻧﻲ واﻟﺒﺴﻴﻂ ﻟﻠﻌﻠﻞ اﻟﻐﺎﺋﻴﺔ .وﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺗﻮﺿﺢ ﻧﻈﺮﻳﺔ اﻻﻧﺘﺨﺎب اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ أﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﻣﻦ املﻬﻢ أو واع ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﴬوري أن ﻳﻌﺘﻘﺪ اﻟﻨﺎس ﰲ وﺟﻮد إﻟﻪ أو وﺟﻮد آﻟﻴﺔ ﻣﺒﻬﻤﺔ أو ﻋﻘﻞ ٍ اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻟﻨﺘﻤﻜﻦ ﻣﻦ ﺗﻔﺴري ﻛﻴﻔﻴﺔ ﻋﻤﻠﻬﺎ .وﻟﻢ ﺗﺘﻀﻤﻦ اﻟﻌﻠﻞ اﻟﻐﺎﺋﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺪﱠث ﻋﻨﻬﺎ أرﺳﻄﻮ أﻳٍّﺎ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻷﻣﻮر؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻗﺎم اﻟﻼﺣﻘﻮن ﻣﻦ رﺟﺎل اﻟﻼﻫﻮت ﻣﻦ أﺗﺒﺎع أرﺳﻄﻮ ﺑﺎﺳﺘﺤﻀﺎر ﻫﺬه اﻷﺷﻴﺎء ﻣﺴﺘﻌﻴﻨني ﰲ ذﻟﻚ ﺑﻔﻜﺮ أﻓﻼﻃﻮن ،وإن ﻛﺎن ﻟﻬﺬا ﺣﺪﻳﺚ آﺧﺮ. وﻗﺪ ﺑﺬل أرﺳﻄﻮ ﻣﺎ ﰲ وُﺳﻌﻪ ﻟﺘﻮﺿﻴﺢ أﻧﻪ ﺣني ﻗﺎل إن اﻟﺨﺼﺎﺋﺺ اﻟﻮﻇﻴﻔﻴﺔ ﻟﻠﻨﺒﺎﺗﺎت أو اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت »ﺗﺨﺪم« ً ً ﻏﺮﺿﺎ ﻣﺤﺪدًا ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﻌﻨﻲ ﺑﺬﻟﻚ وﺟﻮد ﺗﺨﻄﻴﻂ ﻫﺪﻓﺎ ﺑﻌﻴﻨﻪ أو واع ﻻ ﻋﲆ ﻣﺴﺘﻮى اﻟﻜﺎﺋﻦ ﻧﻔﺴﻪ وﻻ ﻋﲆ ﻣﺴﺘﻮى اﻹﻟﻪ أو اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ املﺘﺠﺴﺪة .أﻣﺎ ﺑﻴﻜﻮن ٍ وﻛﺜريون آﺧﺮون ﻓﻘﺪ ﻗﺎﻟﻮا إن اﻟﻌﻠﻞ اﻟﻐﺎﺋﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻗﺎل ﺑﻬﺎ أرﺳﻄﻮ ﻟﻴﺴﺖ إﻻ أﻛﻮاﻣً ﺎ ﻣﻦ ﻗﻤﺎﻣﺔ ﻳﺠﺐ اﻟﺘﺨﻠﺺ ﻣﻨﻬﺎ ﻗﺒﻞ أن ﻳﺸﻖ أيﱞ ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻨﺎﺿﺠﺔ ﻃﺮﻳﻘﻪ .وﻗﺪ ﻳﺼﺢ ﻫﺬا ُ ﺑﻌﺾ أﺗﺒﺎﻋﻪ، اﻟﻜﻼم إذا ﻣﺎ ﻗﺼﺪﻧﺎ ﺑﻪ ﺑﻌﺾ اﻟﻌﻠﻞ اﻟﻐﺎﺋﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﺴﺒﻬﺎ إﱃ أرﺳﻄﻮ ُزو ًرا وﻫﻲ ﻣﺰاﻋﻢ ﻻ ﺷﺄن ﻷرﺳﻄﻮ ﻧﻔﺴﻪ ﺑﻬﺎ. وﻟﻜﻲ ﻧﺪرك ﻣﺎ ﻛﺎن أرﺳﻄﻮ ﻳﻌﻨﻴﻪ ﺑﺎﻟﻌﻠﻞ اﻟﻐﺎﺋﻴﺔ ،ﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﺪرك ﻧﻄﺎﻗﻬﺎ اﻟﺬي ﺣﺪده ﻟﻬﺎ؛ ﻓﻘﺪ ﻗﺎل إن ﺗﻔﺴري اﻷﻣﻮر ﻋﲆ أﺳﺎس اﻟﻐﺮض ﻣﻨﻬﺎ ﻻ ﻳﺘﺨﺬ إﻻ ﺛﻼﺛﺔ أﺷﻜﺎل :أوﻟﻬﺎ اﻷﻓﻌﺎل اﻟﺬﻛﻴﺔ ﻟﻠﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﺤﻴﺔ ْ ﻛﺄن ﻳﻄﺎرد ﺣﻴﻮان ﻓﺮﻳﺴﺘﻪ ﻟﻴﺄﻛﻠﻬﺎ ،أو أن ﻳﻤﴚ اﻹﻧﺴﺎن ﻟﻌﻤﻞ ﺑﻌﺾ اﻟﺘﻤﺮﻳﻨﺎت؛ ﻓﺎﻟﺤﻴﻮان ﻛﺎن ﻳﺴﻌﻰ ﻟﻠﺤﺼﻮل ﻋﲆ اﻟﻄﻌﺎم واﻹﻧﺴﺎن ﻛﺎن ﻳﺴﻌﻰ وراء اﻟﻬﻮاء ،وﻫﺬه أﺳﺒﺎب ﻣﺎ أَﺗَﻮْا ﻣﻦ أﻓﻌﺎل .وﻻ ﺧﻼف ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ »اﻷﻏﺮاض« أو »اﻟﻌﻠﻞ اﻟﻐﺎﺋﻴﺔ« وﻻ ﻋﲆ اﻟﻨﻮع اﻟﺜﺎﻧﻲ اﻟﺬي ﻳﺸﻤﻞ املﺼﻨﻮﻋﺎت ﻛﺎﻟﺒﻴﺖ .وﻳﺮﺟﻊ اﻟﺴﺒﺐ ﰲ ﺣﺪﻳﺜﻨﺎ ﻋﻦ اﻟﻌﻠﻞ اﻟﻐﺎﺋﻴﺔ أو اﻟﻐﺮض ﰲ ﴍح اﻟﺪاﻓﻊ وراء ﺑﻨﺎء ﺳﻘﻒ ﻟﻠﺒﻴﺖ إﱃ أن اﻟﺸﺨﺺ اﻟﺬي ﺑﻨﺎه ﻛﺎن ﻳﻘﺼﺪ ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﻦ وراء ذﻟﻚ ،ﻣَ ﺜَﻠُ ُﻪ ﻛﻤَ ﺜَﻞ اﻟﺤﻴﻮان املﻔﱰس أو ﻣﻦ ﻳﻌﺘﻨﻲ ﺑﺼﺤﺘﻪ؛ إذ إن ﻟﻜ ﱟﻞ ﻣﻨﻬﻢ ﺧﻄﺔ ملﺎ ﻳﻔﻌﻞ وﻏﺮض ﻣﻨﻪ ،ﻓﺮﺑﻤﺎ ﺑﻨﻰ اﻟﺒﻴﺖ ﺑﻬﺬه اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﻟﻴﻘﻴﻪ ﻣﻦ املﻄﺮ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ،وﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ اﻟﻘﻮل إن »اﻟﻐﺎﻳﺔ« ﻣﻦ ﺑﻨﺎء اﻟﺴﻘﻒ ﻫﻲ ﺣﻤﺎﻳﺔ ﱡ اﻟﺴ ﱠﻜﺎن ﻣﻦ املﻄﺮ ،وﻫﺬه ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻻ ﻟﺒﺲ ﻓﻴﻬﺎ .أﻣﺎ اﻟﻨﻮع اﻟﺜﺎﻟﺚ ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻞ اﻟﻐﺎﺋﻴﺔ ﻓﻬﻮ ذﻟﻚ اﻟﺬي ﺗﻌﺞ ﺑﻪ ﻛﺘﺎﺑﺎت أرﺳﻄﻮ ﰲ ﻋﻠﻢ اﻷﺣﻴﺎء وﻳﺸﻤﻞ ﺗﻔﺴري 263
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﺑﻌﺾ ﺧﺼﺎﺋﺺ اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﺤﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮم ﺑﺒﻌﺾ اﻟﻮﻇﺎﺋﻒ املﻔﻴﺪة ﻟﻬﺬه اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت ،ﻣﺜﻞ ﱠ املﻌﻘﺪ املﻮﺟﻮد ﺑﺎﻟﻌني أو ﺷﻜﻞ اﻷﺳﻨﺎن أو اﻟﻨﻈﺎم اﻟﻐﺬاﺋﻲ ﺑﺎﻟﻨﺒﺎﺗﺎت .وﻛﻤﺎ أﻛﺪ اﻟﻨﻈﺎم أرﺳﻄﻮ ﻳﻜﻤُﻦ اﻟﻔﺎرق اﻟﻜﺒري ﺑني ﻫﺬا اﻟﻨﻮع واﻟﻨﻮﻋني اﻟﺴﺎﺑﻘني ﻣﻦ اﻟﻌِ َﻠﻞ ﰲ أﻧﻪ ﻻ ﻳﻨﻄﻮي ﻋﲆ أيﱢ ﻧﺸﺎط ﻋﻘﲇ؛ أي ﻟﻴﺲ ﺛﻤﺔ ﻫﺪف ﻣﺤﺪﱠد ﻳﺒﺘﻐﻴﻪ اﻟﻜﺎﺋﻦ اﻟﺤﻲ .ورﻏﻢ ﻫﺬا ﻓﺈن اﻟﻌﻴﻮن واﻷﺳﻨﺎن واﻟﺠﺬور ﺗﺆدي وﻇﻴﻔﺔ ﰲ اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺟﺰء ﻣﻨﻬﺎ ،ﺣﺘﻰ وإن ﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﻬﺪف ﻻ ﻳﻤﺜﻞ ﺟﺰءًا ﻣﻦ ﺧﻄﺔ واﻋﻴﺔ ،وﻻ ﻳﻤﻜﻨﻚ َﻓﻬﻢ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻤﻞ ﺑﻬﺎ ﻣﺎ ﻟﻢ ﺗﻔﻬﻢ اﻟﻮﻇﻴﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺆدﻳﻬﺎ .وﻫﺬا ﻣﺎ أدرﻛﻪ أرﺳﻄﻮ ﻓﺠﻌﻞ ﻳﺘﺤﺪﱠث ﻋﻦ اﻟﻌﻠﻞ اﻟﻐﺎﺋﻴﺔ ﰲ ﱠ ﻳﺘﻮﺻﻞ إﱃ ﺳﺒﺐ وﺟﻮد أﺟﺰاء اﻟﻌني وﺳﺒﺐ ﻋﻤﻠﻬﺎ »ﻣﻦ ﺗﻔﺴرياﺗﻪ اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ،ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﻟﻢ أﺟﻞ ﺗﺤﻘﻴﻖ اﻟﺮؤﻳﺔ«. وﻻ ﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﻳ ُِﻀ ﱠﻠﻨَﺎ ﻣﺼﻄﻠﺢ اﻟﻌﻠﻞ »اﻟﻐﺎﺋﻴﺔ« وﻳﻘﻮدﻧﺎ إﱃ اﻻﻋﺘﻘﺎد أن أرﺳﻄﻮ ﻗﺼﺪ اﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ ﻣﻄﻠﻘﺔ ﺑﺄي ﺣﺎل ﻣﻦ اﻷﺣﻮال ،ﺣﻴﺚ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه اﻟﻌﻠﻞ ﺗﻤﺜﻞ ﻟﻪ أﺟﻤﻞ ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ إدراﻛﻪ ﻣﻦ ﻋﻠﻞ ،إﻻ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳَ ُﻜﻦ ﻟﻴﻌﺘﻘﺪ أﻧﻪ ﺑﻤﺠﺮد اﻟﺘﻮﺻﻞ إﱃ اﻟﻌﻠﺔ اﻟﻐﺎﺋﻴﺔ ﻟﻈﺎﻫﺮ ٍة ﻣﺎ ﻳﺼري ﻛﻞ ﳾء آﺧ َﺮ ﺑﻼ ﻗﻴﻤﺔ .ﻓﻼ ﻳﺰال ﺛﻤﺔ أﺷﻴﺎء أﺧﺮى ﻗﻴﺪ اﻻﺳﺘﻘﺼﺎء ﻣﺜﻞ »اﻟﻌﻠﻞ« ﺑﺎملﻌﻨﻰ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻟﻠﻜﻠﻤﺔ؛ أي اﻟﻈﺮوف اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ اﻟﺘﻲ أدت إﱃ ﻧﺸﺄﺗﻬﺎ .وﻟﻢ ﻳﻜﻦ أرﺳﻄﻮ ﻳﺴﻌﻰ ﻹﻟﻐﺎء ﻫﺬه اﻟﻌﻠﻞ »اﻟﻔﺎﻋﻠﺔ« ﻟﻴﺴﺘﺒﺪل ﺑﻬﺎ اﻟﻌﻠﻞ اﻟﻐﺎﺋﻴﺔ ،ﻛﻤﺎ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻋﻠﻠﻪ اﻟﻐﺎﺋﻴﺔ ﺗﻮﺿﺢ اﻟﻨﻈﺎم اﻟﻌﺎم اﻟﺬي ﻳﺴري اﻟﻜﻮن ً ﻣﻄﻠﻘﺔ ﺑﻤﻌﻨﻰ أﻧﻬﺎ ﱢ وﻓﻘﺎ ﻟﻪ ،ﻓﻜﺜري ﻣﻦ املﻔﻜﺮﻳﻦ اﻟﻼﺣﻘني ﻗﺪ اﻋﺘﻘﺪوا أن اﻟﺮب ﺧﻠﻖ اﻟﻜﻮن ﻣﻦ أﺟﻞ اﻹﻧﺴﺎن وﻧﻔﻌﻪ ،وأﻧﻪ دﺑﺮ أﻣﻮر اﻟﻜﻮن ﺑﻤﺎ ﻳﺤﻘﻖ ﻣﺼﻠﺤﺔ املﺨﻠﻮﻗﺎت اﻷﺛرية ﻟﺪﻳﻪ؛ ﻓﻘﺪ ﺧﻠﻖ اﻟﺮب ﺑﻌﺾ أﻧﻮاع اﻟﻨﺒﺎﺗﺎت واﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﻟﻜﻲ ﻳﺄﻛﻠﻬﺎ اﻹﻧﺴﺎن )وﻗﺪ ﻗﺎل أﺣﺪ رﺟﺎل اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ ﻋﺎم ١٨٣٦إن اﻟﺮب ﻗﺪ وﺿﻊ اﻟﻔﺤﻢ ﰲ اﻷرض ﻟﻴُﺤﺮﻗﻪ اﻹﻧﺴﺎن ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ( .وﻟﻜﻦ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻷﻓﻜﺎر ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻣﺄﻟﻮﻓﺔ ﻟﺪى أرﺳﻄﻮ؛ إذ ﻟﻢ ﻳَ َﺮ أي راﺑﻂ ﺑني اﻷﻧﻮاع املﺨﺘﻠﻔﺔ ﰲ اﻟﻜﻮن، إﺿﺎﻓﺔ إﱃ أن اﻟﺮب ﻟﺪى أرﺳﻄﻮ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻴﻌﺒﺄ ﺑﺎﻹﻧﺴﺎن وﻻ ﻟﻴﻠﻘﻲ ﻟﻪ ً ﺑﺎﻻ ﻛﻤﺎ ﺳﻨﺮى. ٍ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻗﺪ ﺗﻠﺘﻤﺲ ﻟﻬﺎ ُﺴﻬﺐ أرﺳﻄﻮ ﰲ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﻫﺬه اﻷﻓﻜﺎر اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ وﻧﺎد ًرا ﻣﺎ ﻳ ِ اﻷﻋﺬار وﺗﺆﻳﺪ ﺻﺤﺘﻬﺎ إﱃ ﺣَ ﱟﺪ ﻣﺎ ،ﻓﺄﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻳﺘﺤﺪث ﻋﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻛﻤﺎ ﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺨﻠﻮﻗﺎً ذﻛﻴٍّﺎ ﻗﺎم ﺑﺘﺼﻤﻴﻢ اﻵﻟﻴﺎت املﺬﻫﻠﺔ ﻟﻌﻠﻢ اﻷﺣﻴﺎء ،وﻟﻜﻦ اﻟﺴﻴﺎق اﻟﻌﺎم ﻟﻸﻓﻜﺎر ﻳﺒني ﻟﻨﺎ أﻧﻪ ﴪ ْت ﻫﺬه اﻷﻓﻜﺎر ﻛﺎن ﻳﺴﺘﺨﺪم املﺠﺎز ﻛﻤﺎ ﻳﻔﻌﻞ ﺑﻌﺾ ﻋﻠﻤﺎء اﻷﺣﻴﺎء ﻫﺬه اﻷﻳﺎم .وﻟﻮ ُﻓ ﱢ َ ً ﻣﺼﺎدﻓﺔ ذات ﻣﺮة ﺣﺮﻓﻴٍّﺎ ملﺎ ﺗﻮاﻓﻘﺖ ﻣﻊ ﻣﺠﻤﻞ أﻓﻜﺎره ﺑﺎملﺮة .ﺑﻴﺪ أن أرﺳﻄﻮ ﻗﺪ أ َ َﻗ ﱠﺮ َت ﻣﻦ أﺟﻞ« اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت وأن اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت و ُِﺟﺪ ْ أن اﻟﻨﺒﺎﺗﺎت »و ُِﺟﺪ ْ َت ﻣﻦ أﺟﻞ اﻹﻧﺴﺎن ،وﻟﻜﻦ 264
املﻌﻠﻢ اﻷول :أرﺳﻄﻮ
اﻟﺴﻴﺎق اﻟﻌﺎم ﻳﻮﺿﺢ ﻣﺮة أﺧﺮى أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻘﺼﺪ ﺳﻮى أن ﻧﻮﻋً ﺎ ﻣﺎ ﻣﻦ اﻷﺣﻴﺎء ﻗﺪ ﻳﺴﺘﻐِ ﻞ ﻧﻮﻋً ﺎ آﺧﺮ ﺑﺎﺗﺨﺎذه ﻃﻌﺎﻣً ﺎ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل. وﻣﺤﺼﻠﺔ ذﻟﻚ أﻧﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ رﻓﺾ املﻔﻜﺮون أﺻﺤﺎب اﻟﺜﻮرة اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ اﻟﻜﻮن اﻟﺬي ﺗﻔﴪه اﻷﻏﺮاض واﻟﺬي ﻗﺎل ﺑﻪ ﺳﻠﻔﻬﻢ ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ؛ ﻓﺈﻧﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﺘﺨﻠﺼﻮا ﺑﺬﻟﻚ ﻣﻦ أرﺳﻄﻮ وأﻓﻜﺎره ،ﺑﻞ ﻋﲆ اﻟﻌﻜﺲ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺮﺟﻌﻮن إﻟﻴﻬﻤﺎ ،ﻓﻌﻨﺪﻣﺎ ﻗﺎل دﻳﻜﺎرت» :إﻧﻨﻰ أرى أن اﻟﺒﺤﺚ املﺄﻟﻮف ﻋﻦ ﻋﻠﻞ ﻏﺎﺋﻴﺔ ﰲ ﻣﺠﺎل اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء ﻫﻮ أﻣﺮ ﻻ ﻃﺎﺋﻞ ﻣﻨﻪ «.ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﻌﺎرض أرﺳﻄﻮ وأﻓﻜﺎره رﻏﻢ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﻈﻦ ذﻟﻚ .وﰲ ﻋﻠﻢ اﻷﺣﻴﺎء ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ً ﺣﺪﻳﺚ أرﺳﻄﻮ ﺑﺄن ﺑﻌﺾ اﻷﺷﻴﺎء ﻗﺪ و ُِﺟﺪ ْ ﻏﻤﻮﺿﺎ ﻣﻦ اﻗﺘﻨﺎﻋﻪ َت »ﻣﻦ أﺟﻞ« ﻏريﻫﺎ أﻛﺜﺮ ﺑﺄن اﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ وﻇﺎﺋﻒ اﻷﺷﻴﺎء وﺗﻨﻈﻴﻤﻬﺎ ﻳﺤﻤﻞ ﻣﺘﻌﺔ أﻛﱪ ﻣﻦ اﻟﺒﺤﺚ اﻟﺠﺎف ﰲ املﺎدة اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻜﻮن ﻣﻨﻬﺎ ،واﻟﺬي ﻛﺎن اﻟﺸﻐﻞ اﻟﺸﺎﻏﻞ ﻟﻌﻠﻤﺎء اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻷواﺋﻞ. ﻣﺎ إن ﻧﻨﻘﻲ أرﺳﻄﻮ وأﻓﻜﺎره ﻣﻤﱠ ﺎ ﻋﻠﻖ ﺑﻬﻤﺎ ﻣﻦ ﺷﻮاﺋﺐ »املﺬﻫﺐ اﻷرﺳﻄﻲ« ﰲ ً ﺿﺌﻴﻼ ﺟﺪٍّا ﻣﻦ أﻓﻜﺎره ﺣﻮل اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ )ﺑﻞ وﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﺑﻘﻠﻴﻞ( ﻧﺮى أن ﻗﺪ ًرا ﻏﺎﺋﻴﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻻ ﻳﺘﻮاﻓﻖ إﻻ ﻣﻊ ﻃﺮق اﻟﺘﻔﻜري اﻟﻌﻠﻤﻲ املﻌﺎﴏة ﻓﻴﻤﺎ ﻋﺪا أﻣ ًﺮا واﺣﺪًا ﻓﻘﻂ، وﻫﻮ أﻣﺮ ﺷﺪﻳﺪ اﻷﻫﻤﻴﺔ إﻻ أن ﻏﺮاﺑﺘﻪ ﺗﺘﻌﻠﻖ ﺑﻔﻜﺮة أرﺳﻄﻮ ﺣﻮل اﻷﺣﻴﺎء واﻟﺠﻤﺎدات أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﺗﻌ ﱡﻠﻘﻬﺎ ﺑﻔﻜﺮة اﻟﻐﺎﻳﺎت واﻷﻏﺮاض؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن أرﺳﻄﻮ ﻳﻌﺘﻘﺪ أن ﺣﺮﻛﺔ ﺑﻌﺾ اﻷﺟﺮام ﴪ ﰲ إﻃﺎر ﻧﻈﺮﻳﺔ اﻟﻐﺎﺋﻴﺔ؛ أي اﻟﺮﻏﺒﺔ ﰲ اﻟﺘﻘ ﱡﺮب ﻟﻠﺮب، اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗُ َﻔ ﱠ َ وﻋﻦ ذﻟﻚ ﻳﻘﻮل داﻧﺘﻲ ﰲ اﻷﺳ ُ ﻄﺮ اﻷﺧرية ﻣﻦ »اﻟﻜﻮﻣﻴﺪﻳﺎ اﻹﻟﻬﻴﺔ« :إن »اﻟﺤﺐ ﻫﻮ اﻟﺬي ﻳ َُﺴ ﱢريُ اﻟﺸﻤﺲ واﻟﻨﺠﻮم اﻷﺧﺮى «.وﻳﺒﺪو ﻫﺬا أﻣ ًﺮا ﻣﻀﺤ ًﻜﺎ ﻋﲆ ﺧﻼف ﻣﺎ أراد داﻧﺘﻲَ ،ﻓﺄَﻧﱠﻰ ﻟﻠﺤﺐ أن ﻳﺤﺮك ﻧﺠﻤً ﺎ! وﺗﺒﺪو ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﻟﻠﻮﻫﻠﺔ اﻷوﱃ وﻛﺄﻧﻬﺎ ﺗﻄﻴﺢ ﺑﻜﻞ ﻣﺎ ذﻛﺮه أرﺳﻄﻮ ﻣﻦ أﺷﻴﺎءَ ﻣﺤﺴﻮﺳﺔ ﻋﻦ اﻟﻌﻠﻞ اﻟﻐﺎﺋﻴﺔ ،ﻛﻤﺎ أﻧﻬﺎ ﺗﻌ ﱢﺰز اﻟﻨﻈﺮة اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ ﻷرﺳﻄﻮ ﻋﲆ ﴪ ﻓﻴﻬﺎ ﺳﻠﻮك اﻷﺟﺴﺎم اﻟﻔﻴﺰﻳﺎﺋﻴﺔ اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ أﻧﻪ ﺷﺨﺺ ﻳﺘﺒﻨﱠﻰ رؤﻳﺔ ﻏﺎﻣﻀﺔ ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ ﻳ َُﻔ ﱠ ُ ﱠ ﻛﺴﻘﻮط ﺣﺠﺮ ً واﻟﺤﻖ ﻧﻘﻮل إن ﻣﺎ ﻛﺘﺒﻪ أرﺳﻄﻮ ﻣﺜﻼ ﰲ إﻃﺎر رﻏﺒﺔ ﻫﺬا اﻟﴚء وأﻫﺪاﻓﻪ. ﻋﻦ ﺣﺮﻛﺔ اﻷﺟﺮام اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ ﻳُﻌَ ﱡﺪ ﻣﻦ أﻛﱪ اﻷﺳﺒﺎب اﻟﺘﻲ أدت إﱃ ﺷﻴﻮع ﻫﺬا اﻟﺘﻔﺴري. وﻳﻘﺪم ﻫﺬا اﻟﺘﻔﺴري ﺻﻮرة ﻣﻐﻠﻮﻃﺔ ﻋﲆ أﻳﺔ ﺣﺎل ،ﻓﺎﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﺠﻠﻴﺔ ﻫﻲ أن أرﺳﻄﻮ ﻛﺎن ﻳﻌﺎﻣﻞ اﻟﻨﺠﻮم واﻟﻜﻮاﻛﺐ ﻣﻌﺎﻣﻠﺔ اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت ﻻ ﻣﻌﺎﻣﻠﺔ اﻷﺣﺠﺎر؛ ﻓﻬﻲ ﰲ ﻧﻈﺮه ﺗﺘﻤﺘﻊ ﺑﺎﻟﺤﻴﺎة ﻋﲆ ﺧﻼف اﻷﺣﺠﺎر ،وﻣﺎ داﻣﺖ ﺗﺘﻤﺘﻊ ﺑﺎﻟﺤﻴﺎة ﻓﺈن ﻟﻬﺎ ﻧﺼﻴﺒًﺎ ﻣﻦ اﻟﻨﺸﺎط اﻟﻌﻘﲇ. وﺑﻨﺎءً ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة )وإن ﻛﺎﻧﺖ ﻏﺮﻳﺒﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻨﺎ ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺗﺒﻘﻰ أﻗ ﱠﻞ ﻏﺮاﺑﺔ إذا ﻛﺎﻧﺖ ﻓﻜﺮة اﻷﻟﻮﻫﻴﺔ ﻟﺪﻳﻚ ﺗﺸﻤَ ﻞ اﻟﻨﺠﻮم ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ ﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل ﻣﻊ ﻗﺪﻣﺎء اﻹﻏﺮﻳﻖ( 265
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻓﻠﻴﺲ ﻏﺮﻳﺒًﺎ أن ﻳﻘﻮل إن اﻟﻨﺠﻮم واﻟﻜﻮاﻛﺐ ﺗﺤ ﱢﺮﻛﻬﺎ اﻟﻨﻮازع واﻟﺮﻏﺒﺎت ،ﻓﺎﻟﺤﺐ اﻟﺬي ﻳﺤﺮك اﻟﻨﺠﻮم ﻳﺸﺒﻪ اﻟﺸﻬﻮة اﻟﺘﻲ ﺗﺤ ﱢﺮك اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت ﻧﺤﻮ ﻓﺮاﺋﺴﻬﺎ ،ﻓﺤﺮﻛﺎت اﻟﻨﺠﻮم ﺗﺘﺄﺛﺮ ﺑﺤﺒﻬﺎ ﻟﻠﺮب ﻛﻤﺎ ﺗﺘﺄﺛﺮ ﺣﺮﻛﺎت اﻟﻨﺎس ﺑﻤﻦ ﻳﺤﺒﻮن ﻣﻦ أﻗﺮاﻧﻬﻢ ﻣﻦ اﻟﺒﴩ .وﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ اﻻﻧﺘﻘﺎدات اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻮﺟﻴﻬﻬﺎ إﱃ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﻓﺈن ﻣﺎ ﻳﻘﻮﻟﻪ أرﺳﻄﻮ ﻋﻦ اﻷﺟﺮام اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ ﻳﺘﱠﻔﻖ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﻣﻊ ﺑﺎﻗﻲ ﺗﻔﺴرياﺗﻪ املﺤﻜﻤﺔ ﻟﻠﻌﻠﻞ اﻟﻐﺎﺋﻴﺔ. إﻻ أﻧﻨﺎ ﻗﺪ ﻧﺘﺴﺎءل ﻋﻤﺎ دﻓﻊ أرﺳﻄﻮ إﱃ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﺣﻴﺎة اﻟﺤﺐ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﻴﺎﻫﺎ اﻟﻨﺠﻮم. وﻫﻨﺎ ﻧﺠﺪ أن أرﺳﻄﻮ ﻛﺜريًا ﻣﺎ ﻳﺬﻛﺮ أن اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ املﺘﻌﻠﻘﺔ ﺑﺎملﺴﺎﺋﻞ اﻟﻔﻠﻜﻴﺔ ﻋﺎد ًة ﻣﺎ ﺗﻜﻮن ﻏري ﻣﺆ ﱠﻛﺪة ،وﻫﻮ اﻟﺠﺎﻧﺐ املﺆﻗﺖ ﻓﻴﻬﺎ .وﻟﻌﻞ ﻣﺎ دﻓﻌﻪ إﱃ اﻋﺘﻨﺎق ﻫﺬه اﻷﻓﻜﺎر ﺣﻮل اﻟﺮب واﻟﺤﺐ واﻟﻨﺠﻮم ﻫﻮ ﺑﺎﻗﻲ آراﺋﻪ اﻟﻔﻴﺰﻳﺎﺋﻴﺔ ﻻ ﺳﻴﻤﺎ ﻣﺎ اﻋﺘﱪه آراءً ﻗﻮﻳﺔ ﻋﻦ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﺮﻛﺔ واﻟﺘﻐري .وﻗﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﻓﻜﺮة اﻟﺤﺐ اﻟﺬي ﻳﺤﺮك اﻟﻨﺠﻮم ﻣﺤﺾ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﻢ ﻳﺪرك ﻛﻴﻒ ﻳﺘﻔﺎداﻫﺎ ﺑﻌﺪ أن ﺣﴫ ﻧﻔﺴﻪ ﰲ زاوﻳﺔ ﺿﻴﻘﺔ. وﻳﺮﺟﻊ اﻟﺴﺒﺐ ﰲ ﺟﺰء ﻣﻦ ذﻟﻚ إﱃ أن أرﺳﻄﻮ ﻫﻮ ﻣَ ْﻦ أراد أن ﻳﺤﴫ ﻧﻔﺴﻪ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﺰاوﻳﺔ؛ ﺣﻴﺚ رأى أن اﻟﻔﻜﺮة اﻟﻐﺎﻣﻀﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮل ﺑﻮﺟﻮد َربﱟ ﻳﺴﺎﻫﻢ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﻘﻮم ﺑﻪ اﻟﻜﻮن ﻣﻦ ﻧﺸﺎﻃﺎت أو ﻳﺘﺪﺧﻞ ﰲ ﻃﺒﻴﻌﺘﻪ ،ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻌﺘﻘﺪًا واﺳﻊ اﻻﻧﺘﺸﺎر اﻋﺘﱪه اﻟﻨﺎس آﻧﺬاك أﺣﺪ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ املﻘﺒﻮﻟﺔ ،وﻛﺎن ﻋﲆ اﻟﻌﻠﻤﺎء اﻟﺤﻘﻴﻘﻴني ﺗﻔﺴريه ،وﻛﺬﻟﻚ ﻓﺈن اﻻﻋﺘﻘﺎد اﻟﺴﺎﺋﺪ آﻧﺬاك ﺑﺄن اﻟﺴﻤﺎء ﻋﲆ ﻗﻴﺪ اﻟﺤﻴﺎة ﻛﺎن ﻻ ﻳﻘﺒﻞ اﻟﺸﻚ .وﻗﺪ ﻛﺎن ﴐﺑًﺎ ﻣﻦ املﺴﺘﺤﻴﻞ أن ﻧﺼﺪق أن اﻟﺠﻤﻴﻊ ﻛﺎﻧﻮا ﻣﺨﻄﺌني ﺑﺨﺼﻮص ﻫﺬه اﻷﻓﻜﺎر .ﻓﺈذا ذﻫﺒﺖ أﻓﻀﻞ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت ً أﻣﺮ ﻣﺎ وﻛﺎن اﻹﻟﻪ اﻟﺬي ﱠ ﻣﺮﺗﺒﺔ ﺗﻮﺻﻠﻮا إﻟﻴﻪ أدﻧﻰ اﻟﻔﻴﺰﻳﺎﺋﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻨﻪ اﻟﺘﻮﺻﻞ إﻟﻴﻬﺎ إﱃ ٍ ﻛﺎﻟﻜﺎﺋﻨﺎت ذات املﺮاﺗﺐ اﻟﻌُ َﲆ — وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺘﻮاﻓﻖ ﻣﻊ أﻓﻜﺎر أرﺳﻄﻮ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ — إذن ﻟﻜﺎن ﻣﻦ اﻷﻓﻀﻞ أن ﻳﺄﺧﺬ ﺑﺎﻵراء ﻛﻠﻬﺎ .إﻻ أن ﺛَﻤﱠ ﺔ ﻗﺴ ً ﻄﺎ ﻣﻦ أﻓﻜﺎره اﻟﻔﻴﺰﻳﺎﺋﻴﺔ أﺻﺎﺑﻬﺎ َﻗ ْﺪ ٌر ﻣﻦ اﻟﺘﺸﻮﱡه ﺑﺴﺒﺐ ﻣﺤﺎوﻻت أرﺳﻄﻮ ﻟﺘﻮﺳﻴﻊ ﻫﺬه اﻷﻓﻜﺎر ﻟﺘﺼﻞ إﱃ اﻻﺳﺘﻨﺘﺎﺟﺎت اﻟﻼﻫﻮﺗﻴﺔ ا ُمل َﻘ ﱠﺪ َر ِة ً ﻧﺠﺪ أن اﻟﺼﻮرة ﺳﻠﻔﺎ ،وﻟﻜﻦ ﻫﺬا ﻻ ﻳﴪي ﻋﲆ ﻛﺜري ﻣﻦ أﻓﻜﺎره .وﺑﺼﻔﺔ ﻋﺎﻣﺔ ِ اﻟﺘﻲ رﺳﻤﻬﺎ أرﺳﻄﻮ ﻋﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺗﺘﻼءم أﺟﺰاؤﻫﺎ ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺤ َﻜﻢ ودﻗﻴﻖ؛ ﻣﻤﺎ ﻳﻔﴪ ﴎ ذﻳﻮﻋﻬﺎ واﻧﺘﺸﺎرﻫﺎ ﺑﻬﺬه اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ .وﺳﻨﻌﺮض اﻵن ﻟﻠﻨﻘﺎط اﻟﻌﺎﻣﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻤﺜﻞ إﻃﺎر ﺻﻮرﺗﻪ ً وﺻﻮﻻ إﱃ املﺤﻄﺔ اﻟﺮوﻣﺎﻧﺴﻴﺔ اﻷﺧرية ﰲ أﻓﻜﺎره ﺣﻮل اﻟﺴﻤﺎء. ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء ﰲ ﻣﻔﻬﻮم أرﺳﻄﻮ ﻫﻲ دراﺳﺔ اﻟﺘﻐري ،وﻛﺎﻧﺖ ﻣﻬﻤﺘﻬﺎ اﻟﺮﺋﻴﺴﺔ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ ﱡ اﻟﺘﻐري ﻣﻦ اﻷﺳﺎس ﻃﺮﻳﻖ وﺳﻂ ﺑني أﻓﻜﺎر ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس اﻟﺴﺎذﺟﺔ اﻟﺘﻲ أﻧﻜﺮ ﻓﻴﻬﺎ ﺣﺪوث 266
املﻌﻠﻢ اﻷول :أرﺳﻄﻮ
وأﻓﻜﺎر ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ اﻟﺬي رأى أن ﻟﻴﺲ ﻫﻨﺎك ﺳﻮى اﻟﺘﻐري .وﻟﻠﻮﺻﻮل إﱃ ﺗﻔﺴري وﺳﻂ ﺑني ﻫﺬﻳﻦ اﻟﺮأﻳني املﺘﻄﺮﻓني ﻋﺎد أرﺳﻄﻮ إﱃ ﺟﺬور اﻟﻘﻀﻴﺔ ﻟﻴﻨﻈﺮ ﰲ ُﻛﻨ ْ ِﻪ »اﻟﺘﻐري« وﻳﺒﺤﺚ ﰲ ﻣﺎﻫﻴﺘﻪ ،وﺗﻮﺻﻞ إﱃ أﻧﻪ ﻳﻨﻄﻮي ﻋﲆ ﺛﻼﺛﺔ أﻣﻮر وﻫﻲ :اﻟﴚء اﻟﺬي ﻳﺘﻐري ،واﻟﺤﺎﻟﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺘﻐري إﻟﻴﻬﺎ ،واﻟﺤﺎﻟﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺘﻐري ﻣﻨﻬﺎ .وﻟﻨﴬب ً ﻣﺜﺎﻻ ﺑﺈﻧﺎء ﻣﻦ املﺎء اﻟﺒﺎرد ﻳﺘﻌﺮض ﱡ واﻟﺘﻐري ﻫﻮ ﺗﺤﻮل املﺎء ﻟﻠﺤﺮارة؛ ﻓﻠﺪﻳﻨﺎ إﻧﺎء املﺎء وﻟﺪﻳﻨﺎ ﺣﺎﻟﺔ اﻟﱪودة وﺣﺎﻟﺔ اﻟﺤﺮارة، ﱡ اﻟﺘﻐري ﻻ ﻳﺤﺪث دوﻣً ﺎ ﻋﲆ ﺷﺎﻛﻠﺔ ﻫﺬا املﺜﺎل؛ ﻓﻘﺪ ﻻ ﻣﻦ اﻟﺤﺎﻟﺔ اﻷوﱃ إﱃ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ .إﻻ أن اﻟﺘﻐري ﻋﲆ اﻟﺨﺼﺎﺋﺺ املﻠﻤﻮﺳﺔ ﻛﺎﻟﱪودة واﻟﺤﺮارة ،ﻓﺒﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ ﱡ ﱡ ﺗﻐري ﺗﺤﺘﻮي ﺣﺎﻻت اﻟﺨﺼﺎﺋﺺ ﺛﻤﺔ ﱡ ﺗﻐريات ﰲ املﻜﺎن )أي اﻟﺤﺮﻛﺔ( واﻟﺤﺠﻢ )أي اﻟﻨﻤﻮ أو اﻟﻨﻘﺼﺎن( واملﺎدة ﱡ اﻟﺘﻐري ﻧﺠﺪ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺜﻼﺛﺔ )أي اﻟﻨﺸﻮء واﻟﻔﻨﺎء أو املﻴﻼد واملﻮت( .وﰲ ﻧﻮع ﻣﻦ أﻧﻮاع املﺬﻛﻮرة ً ﱡ اﻟﺘﻐري وﺑﻌﺪه. آﻧﻔﺎ وﻫﻲ وﺟﻮد اﻟﴚء اﻟﺬي ﻳﺘﻐري واﻟﺤﺎﻻت اﻟﺘﻲ ﻳﻮﺟﺪ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻗﺒﻞ وﻗﺪ اﺳﺘﻔﺎد أرﺳﻄﻮ ﻣﻦ ذﻟﻚ ﻛﺜريًا ﰲ ﺗﻄﻮﻳﺮ أﻓﻜﺎره ﺑﺎﻟﺒﻨﺎء ﻋﲆ أﻓﻜﺎر ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ. ﱡ اﻟﺘﻐري ﰲ ﻛﻞ ﻣﻜﺎن ،وﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳ َُﻘ ْﻞ ﻟﻘﺪ أﺳﻬﺐ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ وأﻃﻨﺐ ﰲ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﺣﺪوث ﻣﻦ اﻟﻜﻼم َ اﻟﺘﻐري إﻻ ً ﱡ ﻗﻠﻴﻼ )ﻛﻤﺎ رأﻳﻨﺎ ﰲ ﻣﺜﺎل إﻧﺎء املﺎء املﺬﻛﻮر اﻟﻘﻴﱢ ِﻢ ﻋﻦ ﺳﺒﺐ ﻫﺬا ً ﱡ اﻟﺘﻐري ﻳﺸﺒﻪ ﰲ ﻏﺮاﺑﺘﻪ اﺧﺘﻔﺎء ﻗﻄﺔ آﻧﻔﺎ( .وﻫﺬا اﻟﺘﺠﺎﻫﻞ ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﻷﺳﺒﺎب ﺷﻴﺸﺎﻳﺮ اﻟﺘﻲ ذﻛﺮﻫﺎ ﻟﻮﻳﺲ ﻛﺎرول واﻟﺘﻲ ﺗﺮﻛﺖ اﺑﺘﺴﺎﻣﺘﻬﺎ ﺣﺎﴐة ﺑﻌﺪ اﺧﺘﻔﺎء وﺟﻬﻬﺎ ﱡ ﱡ اﻟﺘﻐري وﺟﻮد اﻟﺘﺒﺴﻢ دون وﺟﻮد وﺟﻪ ﻳﺘﺒﺴﻢ .وﺑﺎملِ ﺜﻞ ﻳﻘﺘﴤ ﺑﻮﻗﺖ ﻃﻮﻳﻞ ،وﻻ ﻳﻤﻜﻦ ٍ ﱢ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﺎ ﺧﻼل ﻋﻤﻠﻴﺔ اﻟﺘﻐري ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻌﻨﻲ ﻣﺘﻐري ،وﻳﻈﻞ ﻫﺬا اﻟﴚء املﺘﻐري ﺛﺎﺑﺘًﺎ ﳾء ﺷﻜﻼ ﻣﻦ أﺷﻜﺎل اﻟﺜﺒﺎت؛ ﻓﻌﻨﺪ ﺗﻐري درﺟﺔ ﺣﺮارة إﻧﺎء املﺎء ﻓﺈﻧﻪ ﻳَ َ ً ﻈ ﱡﻞ أن اﻟﺘﻐري ﻳﺘﻀﻤﻦ رﻏﻢ ذﻟﻚ إﻧﺎءَ ﻣﺎءٍ .وﻳﺴﺘﺪﻋﻲ ذﻟﻚ أن اﻟﺘﻐري املﺴﺘﻤﺮ — أي اﻟﻐﻴﺎب اﻟﺘﺎم — ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن أﺳﺎس اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺑﺎﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻗﺎل ﺑﻬﺎ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ؛ ﻷن ﻫﺬا ﺑﺒﺴﺎﻃﺔ ﻳﻌﻨﻲ وﺟﻮد اﺑﺘﺴﺎﻣﺔ اﻟﻘﻄﺔ دون وﺟﻮد اﻟﻘﻄﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ. ﱡ اﻟﺘﻐري ﻋﲆ ﻓﻜﺮة اﻟﺜﺒﺎت ﻓﺤﺴﺐ ،ﺑﻞ ﻋﲆ ﻣﻔﻬﻮم اﻻﺣﺘﻤﺎﻟﻴﺔ ﻛﺬﻟﻚ؛ ذﻟﻚ وﻻ ﻳﻨﻄﻮي ﱡ اﻟﺘﻐري ،ﻓﺎﻟﺒﺬرة ﻗﺪ ﺗﺘﺤﻮل إﱃ ﻧﺒﺎت وﻟﻴﺲ إﱃ ﺗﻤﺜﺎل ،وﻫﻲ ﰲ ﻫﺬه أن ﻫﻨﺎك ﺣﺪودًا ﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ً ً اﻟﺤﺎﻟﺔ ﻧﺒﺎت ﻣﺤﺘﻤﻞ وﻟﻴﺴﺖ ﺗﻤﺜﺎﻻ ﻣﺤﺘﻤﻼ .وﺑﺸﻜﻞ ﻋﺎ ﱟم ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﺘﻐري املﺎدة ﻣﻦ ﺣﺎﻟﺔ إﱃ أﺧﺮى ﻓﺈن ﻫﺬا ﻳﻌﻨﻲ أن اﻟﺤﺎﻟﺔ املﺤﺘﻤﻠﺔ أﺻﺒﺤﺖ ﺣﺎﻟﺔ ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ .وﻫﺬه اﻷﻓﻜﺎر املﺘﻌﺎرف ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺣﺎﻟﻴٍّﺎ واﻟﺘﻲ ﺗﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎﻻﺣﺘﻤﺎﻟﻴﺔ واﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻫﻲ ﻣﻦ ﺑﻨﺎت أﻓﻜﺎر أرﺳﻄﻮ ،وﻗﺪ ﺷ ﱠﻜﻠﺖ ﺳﺒﺐ اﻷﺳﺎس اﻟﺬي اﻋﺘﻤﺪ ﻋﻠﻴﻪ ﰲ اﻟﺮد ﻋﲆ أﻓﻜﺎر ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس .ﻟﻘﺪ اﻋﺘﻘﺪ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس ﻟﻐري ٍ ﱡ »اﻟﺘﻐري« أن املﻮﺟﻮد ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺄﺗﻲ ﻣﻦ اﻟﻌﺪم وأن ﻫﺬه اﻻﺳﺘﺤﺎﻟﺔ ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﻣﻔﻬﻮم 267
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
)اﻟﺬي ﻛﺎن ﻣﺪﻋﺎة ﻟﻠﺴﺨﺮﻳﺔ آﻧﺬاك( ﻳﻨﻄﻮي ﻋﻠﻴﻬﺎ ،وﻟﻜﻦ أرﺳﻄﻮ اﻋﺘﻘﺪ أن اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ اﻟﻮﺟﻮد واﻟﻌﺪم أﻣﺮ ﻳﻜﺘﻨﻔﻪ اﻟﻐﻤﻮض واﻹﺑﻬﺎم .وﻣﺎ ﻳﻨﻄﻮي ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺘﻐري ﻫﻮ ﺗﺤﻮﱡل ﻣﻦ ٍ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ واﺿﺤﺔ اﻻﺣﺘﻤﺎﻟﻴﺔ إﱃ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ .وﻣﻦ ﺧﻼل ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﻓﻘﻂ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﻔﻬﻢ ودون أﻳﺔ إﺷﻜﺎﻟﻴﺎت أن اﻷﻣﺮ ﻛﺎن ﺗﺤﻮ ًﱡﻻ ﻣﻦ اﻟﻌﺪم إﱃ اﻟﻮﺟﻮد؛ ﻓﺎملﺎء )ﰲ املﺜﺎل اﻟﺴﺎﺑﻖ( ﻛﺎن ﻣﻦ املﺤﺘﻤﻞ أن ﻳﻜﻮن ﺳﺎﺧﻨًﺎ ﺛﻢ ﺗﺤﻮل إﱃ اﻟﺤﺎﻟﺔ اﻟﺴﺎﺧﻨﺔ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ،واﻟﺒﺬرة ﻛﺎن ﻣﻦ املﺤﺘﻤﻞ أن ﺗﻜﻮن ﺷﺠﺮة ﺛﻢ ﺗﺤﻮﻟﺖ إﱃ ﺷﺠﺮة ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ .وﺑﻬﺬا ﻓﻠﻴﺲ ﺛﻤﺔ ﻏﻤﻮض ﻳﻨﺎﰲ املﻨﻄﻖ ﰲ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة. ﱡ اﻟﺘﻐري وأﻛﺴﺒﻪ اﺣﱰاﻣً ﺎ ﻋﲆ املﺴﺘﻮى اﻟﻔﻜﺮي أﺧﺬ وﺑﻌﺪ أن أوﺿﺢ أرﺳﻄﻮ ﻣﻔﻬﻮم ﻳﻨﻈﺮ إﱃ اﻟﻌﻮاﻣﻞ املﺎدﻳﺔ اﻟﺪاﺧﻠﺔ ﰲ ُ ﺻﻠﺐ اﻟﻘﻀﻴﺔ ﻋﻦ ﻛﺜﺐ .ﻓﻤﺎ ﻫﻲ اﻷﺷﻴﺎء املﺎدﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﱡ اﻟﺘﻐري؟ وﻟﻢ ﺗﻘﻨﻌﻪ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺸﺄن ذرات دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ وﻟﻴﻮﻛﻴﺒﻮس؛ ﻷن املﺎدة ﻳﺼﻴﺒﻬﺎ ﻟﺪﻳﻬﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻗﺎﺑﻠﺔ ﻟﻼﻧﻘﺴﺎم إﱃ ﻣﺎ ﻻ ﻧﻬﺎﻳﺔ )أو ﻛﺬﻟﻚ ﻗﺎل أرﺳﻄﻮ( ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻌﻨﻲ أﻧﻪ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ﺗﻠﻚ اﻟﺠﺰﺋﻴﺎت املﻄﻠﻘﺔ .أﻣﺎ ذرات أﻓﻼﻃﻮن اﻟﻬﻨﺪﺳﻴﺔ ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ أﺳﻮأ ﻣﻦ ذﻟﻚ؛ ﻓﻬﻲ أﺷﻴﺎء ﻣﺠﺮدة ﻻ ﺗﺘﺼﻒ ﺑﺎملﺎدﻳﺔ وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻬﺎ أن ﺗﻘﺒﻊ ﺗﺤﺖ ﻣﻈﻠﺔ ﻫﺬا اﻟﺠﺎﻧﺐ ﻣﻦ ﻋﻠﻢ اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء ،ﻓﻤﺠﺎﻟﻬﺎ ﻫﻮ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت اﻟﺒﺤﺘﺔ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻗﺮر أرﺳﻄﻮ اﻟﻌﻮدة إﱃ »اﻷﺿﺪاد« اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺪﱠث ﻋﻨﻬﺎ أﻫﻞ ﻣﻠﻄﻴﺔ ﻛﺎﻟﺴﺎﺧﻦ واﻟﺒﺎرد واﻟﺮﻃﺐ واﻟﺠﺎف ،وﻫﺬه ﻋﲆ ﻣﺎ ﻳﺒﺪو ﻫﻲ اﻟﺨﺼﺎﺋﺺ اﻟﺘﻲ ﺗﺪﺧﻞ ﰲ ﺟﻤﻴﻊ ﻋﻤﻠﻴﺎت اﻟﺘﻐري اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺪث ﻋﲆ اﻷرض وﰲ اﻟﺠﻮ ،وﻫﻲ أﺷﻴﺎء ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺘﻌﺎﻃﻰ اﻹﻧﺴﺎن ﻣﻌﻬﺎ. ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺜﻨﺎﺋﻴﺎت اﻷرﺑﻊ ﻟﻬﺬه اﻟﺨﺼﺎﺋﺺ ﺗﺠﺴﻴﺪًا ﻟﻠﻌﻨﺎﴏ اﻷرﺑﻌﺔ ﻟﺪى إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ: اﻟﻨﺎر )اﻟﺴﺎﺧﻦ واﻟﺠﺎف( ،واملﺎء )اﻟﺒﺎرد واﻟﺮﻃﺐ( ،واﻟﱰاب )اﻟﺒﺎرد واﻟﺠﺎف( ،واﻟﻬﻮاء )اﻟﺴﺎﺧﻦ واﻟﺮﻃﺐ( .ﻳﺮى إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ أن ﺟﻤﻴﻊ اﻷﺷﻴﺎء املﻌﺮوﻓﺔ ﰲ ﻋﺎملﻨﺎ ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﺤﻴﺔ ﺗﺘﻜﻮﱠن ﻣﻦ ﻣﺰﻳﺞ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻷرﺑﻌﺔ وأن ﻛﻞ ﳾء ﻳﻌﻤﻞ ﺗﺒﻌً ﺎ ﻟﺨﺼﺎﺋﺺ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﻐﺎﻟﺒﺔ ﻋﲆ ﺗﻜﻮﻳﻨِﻪ .وﻋﲆ ﻋﻜﺲ ﻋﻨﺎﴏ إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﻳﺘﻤﻴﺰ ﻛﻞ ﻋﻨﴫ ﻣﻦ ﻋﻨﺎﴏ أرﺳﻄﻮ ﺑﺎﻟﻘﺪرة ﻋﲆ اﻟﺘﺤﻮﱡل إﱃ أيﱟ ﻣﻦ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻷﺧﺮى ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﺨﻠﻂ ً ﻓﻤﺜﻼ ﻋﻨﺪ ﺗﺠﻔﻴﻒ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺮﻃﺒﺔ ﺗﱪُد اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺴﺎﺧﻨﺔ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ اﻷرﺑﻌﺔ؛ وﻫﻜﺬا .وﻛﺎن ﻫﺬا ﻫﻮ أﺣﺪ اﻷﺳﺒﺎب اﻟﺘﻲ ﺳﺎﻋﺪت ﻋﲆ ازدﻫﺎر ﻋﻠﻢ اﻟﻜﻴﻤﻴﺎء ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ،ﺣﻴﺚ ﻟﻢ ﻳﺬﻛﺮ أرﺳﻄﻮ ﺷﻴﺌًﺎ ﻳﺴﺘﺒﻌﺪ اﺣﺘﻤﺎل ﺗﺤﻮﱡل املﻌﺎدن اﻟﺨﺴﻴﺴﺔ إﱃ ذﻫﺐ إذا ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻈﺮوف ﻣﻮاﺗﻴﺔ ،إﻻ أن أرﺳﻄﻮ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻳﺮوم ﻣﻦ دراﺳﺔ اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء ﺗﺤﻘﻴﻖ اﻟﺜﺮاء واﻟﻐِ ﻨَﻰ ،ﺑﻞ أراد ﺗﻔﺴري ﻃﺮﻳﻘﺔ ﻋﻤﻞ اﻟﻈﻮاﻫﺮ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ وﺣﺴﺐ .وﻛﺎﻧﺖ ﺣﺮارة اﻟﺸﻤﺲ 268
املﻌﻠﻢ اﻷول :أرﺳﻄﻮ
ﱡ اﻟﺘﻐري اﻟﺘﻲ ﺗﺼﻴﺐ اﻟﺘﺤﻮﱡﻻت املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻟﻠﻌﻨﺎﴏ ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻣَ ﺜ ﱠ َﻞ ﻫﻲ املﺤ ﱢﺮك اﻟﺮﺋﻴﺲ ﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﱡ اﻟﺘﻐري اﻟﺬي ﺻﻬﺮ ﻛﻞ ﳾء آﺧﺮ ﰲ أﺗﻮن وأﺣﺪث اﻟﺘﻔﺎﻋﻞ ﺑني اﻷﺿﺪاد أُوﱃ اﻟﺤﺒﺎت ﰲ ﻋﻘﺪ اﻷرﺑﻌﺔ. وﻛﺎن ﻟﻠﻘﻴﺎس دور ﺿﺌﻴﻞ ﰲ ﻫﺬا اﻟﻨﻈﺎم اﻟﻔﻴﺰﻳﺎﺋﻲ ،وﻫﻮ اﻟﺴﺒﺐ اﻟﺮﺋﻴﺲ وراء وﺻﻮﻟﻪ إﱃ ﻃﺮﻳﻖ ﻣﺴﺪود .ﻓﺎﺳﺘﺨﺪام أرﺳﻄﻮ ﻟﻌﻨﺎﴏه اﻷرﺑﻌﺔ ﰲ ﺗﻔﺴري اﻷﺷﻴﺎء ﻛﺎن ﻳﺆﺗﻲ ﺛﻤﺎ ًرا ﻃﻴﺒﺔ ﰲ ﺑﻌﺾ اﻷﺣﻴﺎن ،وﻟﻜﻨﻪ ﻛﺎن داﺋﻤً ﺎ ﻣﺎ ِ ﻳﺼﻞ ﺑﻪ إﱃ ﻃﺮﻳﻖ ﻣﺴﺪود. وﻗﺪ ﺗﻨﺎول ا ُمل ْ ﻄ َﻠ َﻘ ِ ﺎت ﰲ املﻘﺎم اﻷول ﻣﺜﻞ) :اﻟﺤﺮارة واﻟﱪودة( و)اﻻرﺗﻔﺎع واﻻﻧﺨﻔﺎض( ﱡ وﺗﻤﺴﻜﻪ و)اﻟﺜﻘﻞ واﻟﺨﻔﺔ( وﻫﻜﺬا ﰲ ﺣني أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻬﺘﻢ ﺑﺎملﻮاد اﻟﻘﺎﺑﻠﺔ ﻟﻠﻘﻴﺎس ﺑﺎﻟﺪرﺟﺎت، ﺎت ﺟﻌﻞ ﻣﻦ املﺴﺘﺤﻴﻞ أن ﺗﺨﺮج ﻣﻔﺎﻫﻴﻤﻪ ﺣﻮل اﻟﺨﺼﺎﺋﺺ اﻟﻔﻴﺰﻳﺎﺋﻴﺔ دﻗﻴﻘﺔً ﺑﻬﺬه ا ُمل ْ ﻄ َﻠ َﻘ ِ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ .وﺗﺼﻞ ﻛﺘﺐ أرﺳﻄﻮ ﰲ اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء إﱃ أَو ِْج ﻋﻈﻤﺘﻬﺎ وﻋﻄﺎﺋﻬﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﺘﻨﺎول ﻣﻔﺎﻫﻴﻢ اﻟﺰﻣﺎن واملﻜﺎن واﻟﺤﺮﻛﺔ واﻷزﻟﻴﺔ ،واﻟﺘﻲ ﺗُ َﻘ ﱢﺪ ُم ﺑﻌﺾ اﻟﺤﻠﻮل ملﻔﺎرﻗﺎت زﻳﻨﻮن .وﻗﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه املﺠﺎﻻت اﻷﻛﺜﺮ ﺗﺠ ﱡﺮدًا ﻟﻠﺘﻨﺎول واملﻌﺎﻟﺠﺔ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ ﺑﺸﻜﻞ ﺟﺰﺋﻲ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ،ﻓﻤﺎ ذﻛﺮه أرﺳﻄﻮ ﰲ ﺗﻔﺴري اﻟﺪﻳﻨﺎﻣﻴﻜﺎ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﻳ َُﻘ ﱢﺪ ُم أول اﻟﻘﻮاﻧني اﻟ َﻜﻤﱢ ﻴﱠﺔ اﻟﺘﻲ ﺣﺎوﻟﺖ اﻟﺮﺑﻂ ﺑني اﻟﻌﻮاﻣﻞ اﻟﺘﻲ ﺗَﺤْ ُﻜ ُﻢ ﴎﻋﺔ اﻷﺷﻴﺎء املﺘﺤﺮﻛﺔ ،وﻟﻜﻦ اﺗﱠ َﻀﺢَ ﺧﻄﺄ ﻫﺬه اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ ﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﻣﻌﺮوف ،وﻫﺬا ﻳﻌﻮد ﰲ اﻷﻏﻠﺐ إﱃ اﻋﺘﻤﺎد أرﺳﻄﻮ اﻟﻜﺒري ﻋﲆ املﻌﻠﻮﻣﺎت اﻟﺘﻲ ﺗَﺤَ ﱠ ﺼ َﻞ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﻦ املﻼﺣﻈﺔ اﻟﺒﺪﻫﻴﺔ دون أن ﻳﻠﺠﺄ ﻟﻠﻤﻌﺎﺟﻠﺔ املﺜﺎﻟﻴﺔ ﺑﺸﻜﻞ ٍ ﻛﺎف ،ﻛﻤﺎ ﻓﻌﻞ ﻧﻴﻮﺗﻦ ووﺟﺪ ﻓﻴﻬﺎ ﺿﺎﻟﺘﻪ )ﻣﺜﻞ اﻟﺤﺮﻛﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ ﻳﺘﻮﻟﺪ ﻋﻨﻬﺎ اﻻﺣﺘﻜﺎك ﰲ اﻟﻔﺮاغ اﻟﺘﺎم(. وﻳﺮﺟﻊ ﻓﺸﻞ أرﺳﻄﻮ ﰲ ﺗﺤﻘﻴﻖ ﻃﻔﺮة ﺧﻴﺎﻟﻴﺔ أو ﺣﺘﻰ أي إﻧﺠﺎز ﻋﲆ ﺷﺎﻛﻠﺔ ﻣﺎ ﱠ ﺣﻘﻘﻪ ﻧﻴﻮﺗﻦ وﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ ﰲ املﻴﻜﺎﻧﻴﻜﺎ ﺑﺸﻜﻞ ﻛﺒري إﱃ رﻏﺒﺘﻪ ﰲ ﻣﻼزﻣﺔ ﺟﺎﻧﺐ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ املﻌﺮوﻓﺔ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ َﻏ ﱢﺾ اﻟﻄﺮف ﻋﻨﻬﺎ ﻛﻤﺎ ﻓﻌﻞ ﻧ ُ ﱠﻘﺎ ُد اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ .ﻓﻠﻢ ﻳﺪرك أرﺳﻄﻮ ﻋﲆ ً ﻧﻈﺮﻳﺔ ﻛﺎﻣﻠﺔ ﻋﻦ اﻟﺤﺮﻛﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺘﻄﻠﺐ ﻣﻨﻪ ﺑﺸﻜﻞ إﻳﺠﺎﺑﻲ أن ﻳﺘﺨﲆ ﻋﻦ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل أن ﺑﻌﺾ اﻟﺒﺪﻫﻴﺎت اﻟﺘﻲ رﺑﻤﺎ ﺗﻜﻮن ﻣُﻀ ﱢﻠﻠﺔ ﺣﺘﻰ ﻳﺘﻤﻜﻦ ﻣﻦ ﺻﻴﺎﻏﺔ ﻗﻮاﻧني دﻗﻴﻘﺔ وﻣﺤﻜﻤﺔ. ﻛﻤﺎ أن ﻋﺰوﻓﻪ ﻋﻦ اﻟﻘﻴﺎم ﺑﺘﺠﺎربَ ﻣﻌﻘﺪة ﰲ ﻣﺠﺎل اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء ﻳﺮﺟﻊ ً أﻳﻀﺎ إﱃ رﻏﺒﺘﻪ ﰲ اﻟﺜﻘﺔ ﱠ ﺗﻮﺻﻞ إﻟﻴﻪ ﻣﻦ ﻧﻈﺮﻳﺎت )وﻫﻮ ﻣﺎ ﻗﺪ ﻳﺒﺪو ﻏﺮﻳﺒًﺎ ﰲ اﻟﻈﻮاﻫﺮ ﻻ إﱃ ﻛﺴﻠﻪ أو اﻟﺮﺿﺎ ﺑﻤﺎ ﱡ اﻟﺘﻮﺻﻞ ﻋﲆ آذاﻧﻨﺎ ﻫﺬه اﻷﻳﺎم( ،ﻓﻜﺎن أرﺳﻄﻮ ﻳﻌﺘﱪ وﻇﻴﻔﺔ »اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ« ﻫﻲ ﴍاكٍ إﱃ ﻣﺎ ﺗﻔﻌﻠﻪ اﻷﺷﻴﺎء ﺑﺸﻜﻞ ﻃﺒﻴﻌﻲ؛ إذ ﻳﺮى أن اﻟﺘﺪﺧﻞ ﰲ ﻋﻤﻞ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺑﻮﺿﻊ ِ َ ﻟﻬﺎ ﻛﻤﺎ ﻳﻔﻌﻞ اﻟﻌﻠﻤﺎء املﻌﺎﴏون إﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﺗﺤﺎﻳﻞ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻳﺆدي إﱃ اﺧﺘﻼط ﻋﻨﺎﴏﻫﺎ ،وﻫﻲ 269
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
أﻣﻮر ﻣﻦ ﺷﺄﻧﻬﺎ أن ﺗﺆدﱢي إﱃ ﺗﻐﻴري ﺻﻮرة اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻻ إﱃ ﻛﺸﻒ اﻟﻨﻘﺎب ﻋﻨﻬﺎ؛ ﻓﺎﻟﺘﴩﻳﺢ ﰲ ﻋﻠﻢ اﻷﺣﻴﺎء ﳾء ﻗﺎﺋﻢ ﺑﺬاﺗﻪ وﻟﻜﻦ اﻟﺘﺠﺎرب املﺼ َ ﻄﻨَﻌﺔ ﻻ ﺗﺆدي إﻻ إﱃ ﺗﺸﻮﻳﻪ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺴري ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻧﻮاﻣﻴﺲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ. وﻫﻨﺎ ﻧ َ ِﺠ ُﺪ أن ﻣﻌﺎﻟﺠﺔ أرﺳﻄﻮ ملﺴﺄﻟﺔ اﻟﺤﺮﻛﺔ ﺗُﻌَ ﱡﺪ ً ﻣﺜﺎﻻ ﺟَ ﻴﱢﺪًا ملﺬﻫﺒﻪ اﻟﺴﻠﺒﻲ واﻫﺘﻤﺎﻣﻪ اﻟﺒﺎﻟﻎ ﺑﻜﻞ ﻣﺎ ﻫﻮ ﻃﺒﻴﻌﻲ؛ ﻓﻌﻨﺪﻣﺎ ﺗﺄﻣﱠ َﻞ أرﺳﻄﻮ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻣﻦ ﺣﻮﻟﻪ ﺑﺪا ﻟﻪ أن ﺛﻤﺔ ﻧﻮﻋني ﻣﻦ اﻟﺤﺮﻛﺔ :ﺣﺮﻛﺔ ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ وﺣﺮﻛﺔ ﻗﴪﻳﺔ .وﻟﻜﻞ ﻋﻨﴫ ﻃﺮﻳﻘﺘﻪ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﰲ اﻟﺤﺮﻛﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ واﻟﺘﻲ ﺗُﻌْ َﺮ ُ ف ﺑﺎﻻﺗﺠﺎه اﻟﺬي ﻳﺴﻠﻜﻪ ﺣﺎل ﺗﺤ ﱡﺮ ِره وإﻃﻼق اﻟﻌِ ﻨﺎن ﻟﻪ؛ ﻓﺎﻟﱰاب واملﺎء ﻳﺘﺤ ﱠﺮﻛﺎن ﺑﺸﻜﻞ ﻃﺒﻴﻌﻲ ﻧﺤﻮ ﻣﺮﻛﺰ اﻟﻜﻮن اﻟﺬي ﻳﻘﻊ ﰲ ﻣﻨﺘﺼﻒ ﻛﻮﻛﺒﻨﺎ ،أﻣﺎ اﻟﻬﻮاء ﴪ ﺳﻘﻮط اﻟﺘﻔﺎﺣﺔ واﻟﻨﺎر ﻓﻴﻤﻴﻼن ﺑﻄﺒﻴﻌﺘﻴﻬﻤﺎ إﱃ اﻟﺤﺮﻛﺔ ﰲ اﻻﺗﺠﺎه املﻌﺎﻛﺲ ،وﻫﺬا ﻣﺎ ﻳ َُﻔ ﱢ ُ اﻟﺠﺬع ا ُملﻤﺴﻚ ﺑﻬﺎ ،ﰲ ﺣني أن )اﻟﺘﻲ ﻳﻐﻠﺐ اﻟﱰاب ﻋﲆ ﻣﻜﻮﱢﻧﺎﺗﻬﺎ( إﱃ اﻷﺳﻔﻞ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﻨﻜﴪ ِ أﻟﺴﻨﺔ اﻟﻨﺎر ﺗﺘﺠﻪ إﱃ اﻷﻋﲆ ﺑﴪﻋﺔ .وﻳﻔﴪ ذﻟﻚ ً أﻳﻀﺎ ﺧﺎﺻﻴﺘﻲ اﻟﺜﻘﻞ واﻟﺨﻔﺔ؛ ﻓﺎﻷﺷﻴﺎء اﻟﺜﻘﻴﻠﺔ ﻫﻲ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﻳﻐﻠﺐ اﻟﱰاب واملﺎء ﻋﲆ ﺗﻜﻮﻳﻨﻬﺎ؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﻬﻲ ﺗﻨﺰع إﱃ اﻟﺤﺮﻛﺔ ﻧﺤﻮ اﻷﺳﻔﻞ ،أﻣﺎ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺨﻔﻴﻔﺔ ﻓﺘﻤﻴﻞ إﱃ اﻟﺤﺮﻛﺔ ﻧﺤﻮ اﻷﻋﲆ ﻧﻈ ًﺮا ﻟﺘﻜﻮﻳﻨﻬﺎ املﺨﺘﻠﻒ. وﻛﺬﻟﻚ ﻳﻔﴪ ﻧﺰوع اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺜﻘﻴﻠﺔ إﱃ اﻟﺘﺤ ﱡﺮك ﻧﺤﻮ ﻣﺮﻛﺰ اﻷرض ملﺎذا ﺗﺒﺪو اﻷرض ﻛﺮوﻳﺔ ﻻ ﻣﺴﻄﺤﺔ .وﻗﺪ ﻛﺎن أرﺳﻄﻮ ﻳﺪرك أن اﻷرض ﻛﺮوﻳﺔ اﻟﺸﻜﻞ ،واﺳﺘﻨﺘﺞ ذﻟﻚ ﻣﻦ ﻋﺪة ﻣﻼﺣﻈﺎت ﻣﻨﻬﺎ ً ﻣﺜﻼ أن اﻷرض ﺗﻈﻠﻞ اﻟﻘﻤﺮ ﺑﻈﻞ ُﻣﻨْﺤَ ٍﻦ .وﻗﺪ ﻗﺪﻣﺖ ﻧﻈﺮﻳﺔ اﻟﺤﺮﻛﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﺗﻔﺴريًا ﻗﻮﻳٍّﺎ ﻟﺘﻠﻚ اﻟﻈﺎﻫﺮة ،ﻓﺒﻤﺎ أن املﺎدة اﻟﺜﻘﻴﻠﺔ ﻗﺪ ﺗﺠﻤﱠ ﻌﺖ ﻣﻦ ﺟﻤﻴﻊ اﻷﻣﺎﻛﻦ ﰲ ﻫﺬه اﻟﻨﻘﻄﺔ دون ﻏريﻫﺎ )ﻷﻧﻬﺎ ﻣﺮﻛﺰ اﻟﻜﻮن( ﻓﺈن ﻫﺬه املﺎدة ﻗﺪ ﺗﻜﺘﻠﺖ ﺣﻮل املﺮﻛﺰ ﻟﻴﻨﺰع ﻣﻦ ﻛﻞ اﺗﱢﺠَ ﺎ ٍه ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺘﺴﺎو ﺣﺘﻰ ﻛﻮﱠﻧﺖ اﻟﺸﻜﻞ اﻟ ُﻜ َﺮ ِويﱠ ِ ٍ اﻟﺤﺎﱄ ﱠ ،أﻣﺎ املﺎء ﻓﻠﻢ ﻳَ ُﻜ ْﻦ ِ ﻟﻠﻬﺒﻮط ﻷﺳﻔﻞ ﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل ﻣﻊ اﻟﱰاب ،وﻛﺬﻟﻚ اﻟﻬﻮاء ﻟﻢ ﻳَ ُﻜ ْﻦ ﻟﻴﺘﺤﺮك ﻷﻋﲆ ﺑﺸﺪة ﻣﺜﻞ اﻟﻨﺎر؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﻘﺪ ﺗَﺠَ ﻤﱠ َﻊ املﺎء ﻋﲆ ﺳﻄﺢ اﻷرض )ﻣﻜ ﱢﻮﻧًﺎ املﺤﻴﻄﺎت( وﺗﺤﺮك اﻟﻬﻮاء ﻧﺤﻮ اﻟﻐﻼف اﻟﺠﻮي اﻟﺴﻔﲇ وﺗﺤﺮﻛﺖ اﻟﻨﺎر ﻷﻋﲆ .وﺑﻬﺬه اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﺳﺘﻘﺮ ﻛﻞ ﳾء ﰲ ﻣﻜﺎﻧﻪ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ. ﻻ ﻳﻌﻨﻲ ﻫﺬا أن ﻛﻞ ﳾء َ ﻇ ﱠﻞ ﰲ ﻣﻜﺎﻧﻪ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ داﺋﻤً ﺎ ،أو أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﺘﺤﺮك إﱃ ﻫﺬا ﱠ وﻣﻌﻘﺪ وﻳﻌﺞ ﺑﺎﻷﻣﻮر واﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ ﻣﻦ ﺷﺄﻧﻬﺎ أن املﻜﺎن ﻗﻂ؛ ذﻟﻚ أن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻣﺰدﺣ ٌﻢ ً ﺗﺘﺪﺧﻞ ﰲ اﻟﺤﺮﻛﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻟﻸﺷﻴﺎء .وﻗﺪ ﺗﺪﻋﻢ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺜﻘﻴﻠﺔ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺑﻌﻀﺎ ﻓﻴَﺤُ ﻮل ً ﺣﺎﻣﻼ ذﻟﻚ دون ﺗﺤ ﱡﺮﻛﻬﺎ ﻧﺤﻮ ﻣﺮﻛﺰ اﻷرض ،أو ﻗﺪ ﻳﺮﺗﻔﻊ ﺑﻌﺾ اﻟﻬﻮاء ﺑﻌﺪ ﺗﺴﺨﻴﻨﻪ ﻣﻌﻪ ﺑﻌﺾ أوراق اﻷﺷﺠﺎر ﻟﺒﻌﺾ اﻟﻮﻗﺖ؛ وﺑﺬﻟﻚ ﻓﻬﻮ ﻳﻘﺎوم رﻏﺒﺘﻬﺎ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﰲ اﻟﺴﻘﻮط 270
املﻌﻠﻢ اﻷول :أرﺳﻄﻮ
ﺑﺈﺟﺒﺎرﻫﺎ ﻋﲆ اﻟﺤﺮﻛﺔ ﰲ اﺗﺠﺎه ﻣﻌﺎﻛﺲ .وﻣﻦ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ ﻗﺪ ﺗﺘﺪﺧﻞ ﰲ ﻋﻤﻞ اﻟﺤﺮﻛﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻛﺬﻟﻚ اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﺤﻴﺔ ﻛﺎﻹﻧﺴﺎن ً ﻣﺜﻼ؛ ﻓﻘﺪ ﻳﻠﺘﻘﻂ أﺣﺪﻧﺎ ﺗﻔﺎﺣﺔ وﻳُﻠﻘﻲ ﺑﻬﺎ إﱃ ً ً ﺣﺮﻛﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ .وﺑﺎﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ِ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﻷﺣﺪﻧﺎ أن ﻓﺎرﺿﺎ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻷﻋﲆ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﻳ ِ ُﺨﻤ َﺪ أﻟﺴﻨﺔ اﻟﻠﻬﺐ اﻟﺘﻲ ﺗَﻨْﺪَﻓِ ُﻊ ﺑﻄﺒﻴﻌﺘﻬﺎ إﱃ اﻷﻋﲆ .وﻻ ﻣﻔﺮ ﻣﻦ أن اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﺤﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺨﻀﻊ ﻟﻠﺤﺮﻛﺎت اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ واﻟﻘﴪﻳﺔ ﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل ﻣﻊ اﻷﺟﺴﺎم املﺎدﻳﺔ ﱠ ﻛﺎﻓﺔ ،وﻟﻜﻦ ﻛﺜريًا ﻣﻨﻬﺎ ﻟﺪﻳﻬﺎ اﻟﻘﺪرة ﻋﲆ ﺗﺤﺮﻳﻚ ﻧﻔﺴﻬﺎ ،وﻫﺬه اﻟﻘﺪرة ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺗُﻤﻴﱢ ُﺰ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺤﻴﻮاﻧﻴﺔ ﻋﻦ ﻏريﻫﺎ؛ ﻓﻌﻼﻣﺎت وﺟﻮد اﻟﺤﻴﺎة ﻛﻤﺎ ﻳﺮاﻫﺎ أرﺳﻄﻮ ﻫﻲ اﻟﺘﻐﺬﻳﺔ واﻟﺘﻜﺎﺛُﺮ واﻹﺣﺴﺎس واﻟﻘﺪرة ﻋﲆ اﻟﺤﺮﻛﺔ واﻟﺘﻨﻘﻞ واﻟﺮﻏﺒﺔ واﻟﻘﺪرة ﻋﲆ اﻟﺘﺨﻴﱡﻞ واﻟﻌﻘﻞ .وﻛﻠﻤﺎ زادت ﺣﺼﻴﻠﺔ اﻟﻜﺎﺋﻦ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﺨﺼﺎﺋﺺ أو اﻟﺼﻔﺎت ارﺗﻔﻌﺖ ﻣﻜﺎﻧَﺘُﻪ ﰲ ُﺳ ﱠﻠ ِﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ .وﻻ ﻳﺠﻤﻊ ﺑني ﺟُ ﱢﻞ ﻫﺬه اﻟﺼﻔﺎت إﻻ اﻹﻧﺴﺎن ،وﻫﺬا ﻣﺎ ﻳﺠﻌﻞ ﺣﻴﺎﺗﻪ َ أرﻗﻰ أﺳﺎﻟﻴﺐ اﻟﺤﻴﺎة ﻋﲆ ﺳﻄﺢ اﻷرض .وﺗﺴﺘﻄﻴﻊ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻠﻮ اﻟﻨﺒﺎﺗﺎت ﰲ املﻜﺎﻧﺔ ﺗﺤﺮﻳﻚ ﻧﻔﺴﻬﺎ ،وﻫﺬه اﻟﺤﺮﻛﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺄﺗﻲ ﺑﻬﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻔﺴريﻫﺎ ﰲ إﻃﺎر ﻧﻈﺮﻳﺔ اﻟﻌِ َﻠ ِﻞ اﻟﻐﺎﺋﻴﺔ؛ ﻓﻬﻲ ﺗﺤﺪث داﺋﻤً ﺎ »ﻣﻦ أﺟﻞ« ﳾءٍ ﻣﺎ ،ﻓﺎﻟﻜﺎﺋﻨﺎت ﺗﺘﺤﺮك ﻣﻦ أﺟﻞ ﺗﻠﺒﻴﺔ اﺣﺘﻴﺎﺟﺎﺗﻬﺎ وإﺷﺒﺎع رﻏﺒﺎﺗﻬﺎ ﺑﺪاﻓﻊ ً وأﻳﻀﺎ ﺑﺪاﻓﻊ ﻣﻦ اﻟﺨﻴﺎل واﻟﻔﻜﺮ )إذا ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺘﻤﺘﻊ ﺑﻬﻤﺎ( ﻛﻲ ﺗﻬﺘﺪي إﱃ ﻣﻦ اﻹﺣﺴﺎس اﻟﻄﺮﻳﻖ .وﺑﺸﻜﻞ ﻋﺎ ﱟم ﻻ ﻳﺘﺤﺮك ﳾء إﻻ ﺑﺴﺒﺐ ﳾء آﺧﺮ؛ ﻓﺄﺷﻜﺎل اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻌﻠﻴﺎ ﺗﺤﺮﻛﻬﺎ رﻏﺒﺎﺗﻬﺎ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺑﺎﻗﻲ اﻷﺷﻴﺎء ﺗﺪﻓﻊ ﺣﺮﻛﺘﻬﺎ أﺷﻴﺎء ﺧﺎرﺟﻴﺔ. وﻗﺪ ﻳﺘﻮﻫﻢ اﻟﻘﺎرئ ﻟﻠﻮﻫﻠﺔ اﻷوﱃ أن ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﺗﻬﺪي أرﺳﻄﻮ إﱃ ﻃﺮﻳﻖ اﻟ ﱠﺮبﱢ ، ﻓﺈذا ﻛﺎﻧﺖ ﻛﻞ اﻟﺠﻤﺎدات ﺗﺤﺮﻛﻬﺎ ﻗﻮًى ﺧﺎرﺟﻴﺔ أﻓﻼ ﻳﺴﺘﻠﺰم ﻫﺬا أن ﻳﻜﻮن ﺛﻤﺔ ﻋِ ﱠﻠ ٌﺔ أوﱃ اﺳﺘﻬﻠﺖ ﻛﻞ ذﻟﻚ؟ وﻟﻜﻦ ﻛﺎن ﻷرﺳﻄﻮ رأي آﺧﺮ؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻳﻌﺘﻘﺪ ﰲ أزﻟﻴﺔ اﻟﻜﻮن وﻟﺬﻟﻚ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻫﻨﺎك أي ﳾء أَو ِﱠﱄ .ﻛﺎن ﻫﺬا ﻫﻮ أﺣﺪ ﺟﻮاﻧﺐ ﻓﻜﺮ أرﺳﻄﻮ اﻟﺬي أﺛﺎر ﺣﻔﻴﻈﺔ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ املﺴﻴﺤﻴني واﻟﻴﻬﻮد واملﺴﻠﻤني ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن أرﺳﻄﻮ ﻳﻌﺘﻘﺪ ﰲ وﺟﻮد َربﱟ ﺿﻌﻴﻒ ﻻ ﻳﺘﻤﺘﻊ ﺑﺼﻔﺎت اﻷﻟﻮﻫﻴﺔ؛ ﻓﻠﻴﺲ ﻫﻮ ﻣَ ْﻦ ﺧﻠﻖ اﻟﻌﺎﻟﻢ أو ﺑﺪأ ﻣﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﺣﺮﻛﺎت .وﻗﺪ ﺣﺎول ﻓﺮﻳﻖ ﻣﻦ ﻓﻼﺳﻔﺔ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ — ﻋﲆ رأﺳﻬﻢ ﺗﻮﻣﺎس اﻷﻛﻮﻳﻨﻲ )١٢٧٥–١٢٢٥م( اﻟﺬي أﺻﺒﺤﺖ آراؤه ﻛﺎﺛﻮﻟﻴﻜﻴﺔ ﺧﺎﻟﺼﺔ — أن ﻳُﺜﻨﻮا أرﺳﻄﻮ ﻋﻦ ﻫﺬا اﻻﻋﺘﻘﺎد وﻳُﺜ ِﺒﺘﻮا وﺟﻮد اﻟﺮب اﻟﺬي ﻫﻮ اﻟﻌﻠﺔ اﻷوﱃ واﻟﺬي ﺧﻠﻖ ﻛﻞ ﳾء وﺣَ ﺒَﺎ ُه اﻟﺤﺮﻛﺔ، وﻟﻜﻦ اﻟ ﱡ ﻄ ُﺮ َق اﻟﺘﻲ ﺳﻠﻜﻬﺎ أرﺳﻄﻮ إﱃ اﻟ ﱠﺮبﱢ ﻟﻴﺴﺖ ﻣﺒﺎﴍة ﺑﺎملﺮة .وﻟﻨﺘﻤﻜﻦ ﻣﻦ اﻟﻮﻗﻮف ﻋﲆ أﺑﺴﻂ ﻫﺬه اﻟﻄﺮق ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻟﻨﺎ ﻣﻌﺎﻳﻨﺔ اﻟﻨﺼﻒ اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻣﻦ اﻟﺼﻮرة اﻟﺘﻲ رﺳﻤﻬﺎ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ وﻫﻮ اﻟﺠﺰء اﻟﺬي ﻳﺘﻌ ﱠﻠﻖ ﺑﺎﻟﺴﻤﻮات ،وﺑﺎﻷﺧﺺ ﻧﻮع ﺣﺮﻛﺘﻬﺎ. 271
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ً ﺳﺎﺑﻘﺎ ﺗﻌﺠﱠ ﺐ أرﺳﻄﻮ ﻣﻦ أن أﺣﺪًا ﻗﺒﻠﻪ ﻟﻢ ﻳﻠﺘﻔِ ْﺖ إﱃ ﺣﺪوث أي ﱡ ﺗﻐري وﻛﻤﺎ أﴍﻧﺎ ﻳُﺬْ َﻛ ُﺮ ﰲ اﻟﺴﻤﺎء؛ ﻓﻠﻢ ﻳﻠﺤﻈﻮا إﻻ أﻧﻮا ًرا ﻻ ﻳُ َﺮى آﺧ ُﺮﻫﺎ وأﺟﺴﺎﻣً ﺎ ﺑﻌﻴﺪة .وﻗﺪ ﻛﺎن ﺑﻤﻘﺪور املﺮء أن ﻳﺪرك ﺑﻨﻔﺴﻪ أن اﻟﺴﻤﺎء ﺗﺘﻤﻴﺰ ﺑﺤﺮﻛﺔ داﺋﺮﻳﺔ ﻣﻮﺣﺪة ،أو ﻫﻜﺬا اﻋﺘﻘﺪ أرﺳﻄﻮ. ً ﺳﻤﺔ ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ وﻗﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه ﺣﻘﻴﻘﺔ ﺑﺎرزة ﺗﺤﺘﺎج ﻟﺘﻔﺴري؛ ﻷن اﻟﺪوران املﻮﺣﱠ ﺪ ﻟﻢ ﻳَﺒْ ُﺪ ﻷيﱟ ﻣﻦ املﻮﺟﻮدات ﻋﲆ اﻷرض؛ ﻓﺎﻟﻌﻨﺎﴏ اﻷرﺿﻴﺔ وﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﺘﻜﻮن ﻣﻨﻬﺎ ﺗﺴري ﰲ ﺧﻄﻮط ٌ ْ ُﺠﱪُﻫﺎ ﻋﲆ اﻻرﺗﺪاد أو اﻟﺘﺤ ﱡﺮك ﰲ اﺗﺠﺎه ﻣﻌﺎﻛﺲ؛ ﻳﻌﱰض ﻃﺮﻳﻘﻬﺎ ﻣﺴﺘﻘﻴﻤﺔ ﻣﺎ ﻟﻢ ﻋﺎﺋﻖ ﻳ ِ وﻟﺬﻟﻚ رأى أرﺳﻄﻮ أن ﻫﺬا ﻳﻘﺘﴤ وﺟﻮد ﻧﻮع ﺧﺎﻣﺲ ﻣﻦ املﺎدة )أو »اﻟﺠﻮﻫﺮ« ﻛﻤﺎ ُﺳﻤﱢ ﻲ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪُ( ﻳﺘﺤﺮك ﺑﺸﻜﻞ ﻃﺒﻴﻌﻲ ﰲ ﺣﺮﻛﺔ داﺋﺮﻳﺔ ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻔﴪ اﺧﺘﻼف اﻟﺤﺮﻛﺔ ﺑني اﻷﺟﺮام اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ واﻷﺷﻴﺎء اﻷرﺿﻴﺔ؛ ذﻟﻚ أﻧﻬﺎ ﻣﺼﻨﻮﻋﺔ ﻣﻦ ﻧﻮع ﻣﺨﺘﻠﻒ ﻣﻦ املﺎدة .وﻛﺎن أرﺳﻄﻮ ﻳُﻄﻠِﻖ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻋﲆ ﻫﺬه املﺎدة اﺳﻢ »اﻷﺛري« وﻫﻮ ﻣﺼﻄﻠﺢ ﻛﺎن ﻳُ ْ ﻄ َﻠ ُﻖ ﻋﲆ املﺎدة اﻟﻨﺎرﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻜﻮﱠﻧﺖ ﻣﻨﻬﺎ اﻟﻨﺠﻮم واﻟﻜﻮاﻛﺐ ﻛﻤﺎ ﻛﺎن اﻻﻋﺘﻘﺎد اﻟﺴﺎﺋﺪ ﻗﺪﻳﻤً ﺎ. وداﺋﻤً ﺎ ﻣﺎ ﺗُ ِﻄ ﱡﻞ ﻓﻜﺮة اﻟﺮب ﺑﺮأﺳﻬﺎ ﻻ ﺳﻴﱠﻤﺎ ﻋﻨﺪ اﻟﺘﻔﻜري ﰲ اﻟﴪ اﻟﻜﺎﻣﻦ وراء ﺣﺮﻛﺔ ﱢ وﺗﻮﺿﺢ اﻟﻔﺮﺿﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮل ﺑﻮﺟﻮد املﺎدة اﻟﺨﺎﻣﺴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﺤ ﱠﺮك ﻫﺬه اﻷﺟﺮام اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ. ﺑﺸﻜﻞ داﺋﺮي َﺳﺒَﺐَ ﺗﺤ ﱡﺮﻛﻬﺎ ﺑﻬﺬا اﻟﺸﻜﻞ اﻟﺪاﺋﺮي ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ اﻟﺘﺤ ﱡﺮك ﰲ ﺧﻄﻮط ﻣﺴﺘﻘﻴﻤﺔ، وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻻ ﺗُﺒ ﱢ ُ َني ﱠ اﻟﺴﺒَﺐَ وراء ﺣﺮﻛﺔ ﻫﺬه اﻷﺟﺮام وﻋﺪم ﺳﻜﻮﻧﻬﺎ .وﺣﺘﻰ إن ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه اﻷﺟﺮام أزﻟﻴ َﱠﺔ اﻟﺤﺮﻛﺔ ﻛﻤﺎ اﻋﺘﻘﺪ أرﺳﻄﻮ؛ ﻓﻼ ﻳُﻐﻨِﻴﻨَﺎ ذﻟﻚ ﻋﻦ اﻟﻨﻈﺮ ﰲ اﻷﺳﺒﺎب اﻟﺘﻲ ﺗﺆدﱢي إﱃ ﺣﺮﻛﺘﻬﺎ .وﻗﺪ رأى أرﺳﻄﻮ أن اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ وﺟﻮد أﻳﺔ ﻗﻮة ﻣﺎدﻳﺔ ﻋﺎدﻳﺔ ﺗﺪﻓﻌﻬﺎ ﻟﻠﺤﺮﻛﺔ ﻫﻮ ﴐب ﻣﻦ املﺴﺘﺤﻴﻞ؛ ﻓﻬﺬا اﻟﴚء ﻟﻴﺲ ﻟﺪﻳﻪ ﻣﻦ اﻟﻘﻮة ﻣﺎ ﻳُﻤَ ﱢﻜﻨ ُ ُﻪ ﻣﻦ اﻟﺤﻔﺎظ ﻋﲆ اﻟﺤﺮﻛﺔ إﱃ اﻷﺑﺪ .ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ ذﻟﻚ ﻛﺎن أرﺳﻄﻮ ﻳﺮى أن ﺛَﻤﱠ َﺔ ﻣﺸﻜﻠﺔ أﻛﱪ ﻣﻦ ﻛﻞ ذﻟﻚ؛ ﻓﺄﻳٍّﺎ ﻣﺎ ﻛﺎن اﻟﴚء اﻟﺬي ﻳﺤﺮك اﻷﺟﺮام اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ ﻓﻼ ﺑﺪ وأن ﻳﻜﻮن ﺳﺎﻛﻨًﺎ وإﻻ ﻟﻜﺎن ً ﻣﺴﺌﻮﻻ ﺑﺪوره ﻋﻦ ﺣﺮﻛﺔ ﻫﺬا اﻟﴚء .وﻟﻦ ﻧ َ ِﺼ َﻞ إﱃ ﻋﻠﻴﻨﺎ اﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﳾء آﺧﺮ ﻳﻜﻮن أﺻﻞ املﻮﺿﻮع أﺑﺪًا؛ ﻓﺤﺮﻛﺔ اﻷرض ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﻌﺰوَﻫﺎ إﱃ ﺗﺄﺛري ﺣﺮﻛﺔ اﻷﺟﺮام اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ )ﻣﻦ ﺧﻼل ﺣﺮارة اﻟﺸﻤﺲ اﻟﺘﻲ ﺻﻬﺮت اﻷﺷﻴﺎء وﺧﻠﻄﺘﻬﺎ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل( وﻟﻜﻦ ﻻ ﺑﺪ ﻣﻦ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ اﻟﺤﻠﻘﺔ اﻷﺧرية ﰲ ﻫﺬه اﻟﺴﻠﺴﻠﺔ .وﻳﺴﺘﺘﺒﻊ ذﻟﻚ أن ﻣﺎ ﻳُﺤَ ﱢﺮ ُك اﻟﺴﻤﻮات ﻻ ﻳﺘﺤﺮك؛ أي إﻧﻪ ﻣُﺤَ ﱢﺮ ٌك ﻻ ﻳﺘﺤﺮك .ﺛﻢ ﴍع أرﺳﻄﻮ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﰲ اﻟﺒﺤﺚ ﰲ ﻃﺒﻴﻌﺔ ﻋﻤﻞ ﻫﺬا اﻟﴚء. وﻫﻨﺎ ﺗﺘﺒﺎدر إﱃ اﻷذﻫﺎن ﻓﻜﺮة ﺗَﺤَ ﱡﺮكِ اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت ﺑﺪاﻓﻊ أﻫﺪاﻓﻬﺎ وﻏﺎﻳﺎﺗﻬﺎ ،ﻓﺈذا رأى أﺳﺪ ﺣﻤﺎ ًرا وﺣﺸﻴٍّﺎ وأراد أن ﻳﻠﺘﻬﻤﻪ ﻓﺈن اﻟﺤﻤﺎر اﻟﻮﺣﴚ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ﻳُﻌَ ﱡﺪ دَاﻓِ َﻊ ﺣﺮﻛﺔ 272
املﻌﻠﻢ اﻷول :أرﺳﻄﻮ
اﻷﺳﺪ وﻟﻮ ﻟﻢ ﻳﺘﺤﺮك )وﰲ اﻟﻮاﻗﻊ ﻓﺈن اﻷﺳﺪ ﻳﻔﻀﻞ أن ﻳﻘﺒﻊ اﻟﺤﻤﺎر اﻟﻮﺣﴚ ﰲ ﻣﻜﺎﻧﻪ دون ﺣﺮاك(؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﺈن اﻟﴚء املﺮﻏﻮب ﻓﻴﻪ ﻫﻨﺎ ﻳﻘﻮم ﺑﺪور املﺤ ﱢﺮك اﻟﺬي ﻻ ﻳﺘﺤﺮك، وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻮﺿﺢ ﻛﻴﻒ ﻟﻨﺎ أن ﻧﺤﻞ ﻣﺸﻜﻠﺔ اﻷﺟﺮام اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ .ﻓﺈذا ﻛﺎن ﻟﻬﺬه اﻷﺟﺮام رﻏﺒﺎت أو ﳾء ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻘﺒﻴﻞ إذن ﻓﺎﻟﴚء املﺮﻏﻮب ﻓﻴﻪ ﻳﻜﻮن اﻟﺪاﻓﻊ ﻟﺤﺮﻛﺘﻬﺎ ،ﻛﻤﺎ أن ﻫﺬه اﻟﺮﻏﺒﺎت ﺳﺘﻜﻮن ﻋﻠﺔ ﻏﺎﺋﻴﺔ ﺑﺎملﻌﻨﻰ اﻟﺬي ﺣﺪﱠده ﻟﻬﺎ أرﺳﻄﻮ وﻟﻴﺴﺖ ﻋﻠﺔ ﻓﺎﻋﻠﺔ ،وﺳﺘﻜﻮن ً ﺳﺎﻛﻨﺔ ﰲ ﻧﻔﺴﻬﺎ .وﻫﺬا ﻳﻔﴪ ﻫﻲ اﻟﻬﺪف ﻣﻦ اﻟﺤﺮﻛﺔ ﻻ اﻟﺪاﻓﻊ اﻟﺬي ﺑﺪأﻫﺎ ،وﻗﺪ ﺗﻜﻮن ﻟﻨﺎ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣُﺤْ َﻜﻤَ ٍﺔ ﻛﻴﻒ ﻟﴚء أن ﻳ َُﺴﺒﱢﺐَ اﻟﺤﺮﻛﺔ اﻷزﻟﻴﺔ ﻟﻸﺟﺮام اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ دون إﺛﺎرة ﺳﻠﺴﻠﺔ ﻃﻮﻳﻠﺔ ﻣﻦ اﻷﺳﺌﻠﺔ ﻋﻤﱠ ﺎ ﻳﺤﺮك املﺤﺮك .وﻗﺪ ﻳﺴﺎﻋﺪ ﻫﺬا ﻛﺬﻟﻚ ﰲ اﻟﻮﻗﻮف ﻋﲆ ٌ ﻛﺎﺋﻨﺎت ﺣﻴﺔ .ﻟﻘﺪ اﻧﺘﻬﻰ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺒﺬور اﻷوﱃ ﻟﻔﻜﺮة أن اﻷﺟﺮام اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ ﺑﺄرﺳﻄﻮ إﱃ أن أي ﻣﺤﺮك ﺳﻤﺎوي ﻻ ﻳﺘﺤﺮك ﻳﺠﺐ أن ﻳﻜﻮن ﺑﺴﻴ ً ﻄﺎ ﻻ ﻳﺘﻐري إذا ﻛﺎن ﻳﺮﻳﺪ ﻳﺠﺐ أن ﻳﺘﻤﺘﻊ أن ﻳﺆدﱢي وﻇﻴﻔﺘﻪ ﻋﲆ أﺗ ﱢﻢ وﺟﻪ .ﻛﻤﺎ ﻗﺪم أرﺳﻄﻮ ﺑﺮاﻫني ﻗﻮﻳﺔ ﺗُ ﱢﺒني ﻛﻴﻒ ِ ﻫﺬا املﺤﺮك ﺑﺎﻷزﻟﻴﺔ ﱠ وأﻻ ﻳﻜﻮن ﻟﻪ ﺷﻜﻞ أو ﺣﺠﻢ ﻣﻌﻴﻨﺎن .وﻷن اﻟﺴﻤﻮات ﺗﺘﱠﺴﻢ ﺑﺎﻟﻜﻤﺎل واﻹﺣﻜﺎم؛ ﻓﺈن ﻧﻮع اﻟﺮﻏﺒﺔ اﻟﺬي ﻳﻤﻜﻦ اﻟﻌﺜﻮر ﻋﻠﻴﻪ ﺳﻴﻜﻮن رﻏﺒﺔ ﻓﻜﺮﻳﺔ ﻣﻔﻌﻤﺔ ﺑﺎﻟﺤﺐ وﻻ ﻳﺸﺒﻪ رﻏﺒﺔ اﻷﺳﺪ ﰲ اﻟﺘﻬﺎم اﻟﺤﻤﺎر اﻟﻮﺣﴚ .وﺑﺼﻔﺔ ﻋﺎﻣﺔ ﻧ َ ِﺠ ُﺪ أن املﺤ ﱢﺮك اﻟﺬي ﻻ ﻳﺘﺤﺮك اﻟﺬي ﺗﺤﺪﱠث ﻋﻨﻪ أرﺳﻄﻮ ﻳُﺸ ِﺒ ُﻪ ﻓﻜﺮة اﻟ ﱠﺮبﱢ ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻷﻣﻮر. ﻛﺎن أرﺳﻄﻮ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻳ َُﻐ ﱢريُ رأﻳﻪ ﺑﺨﺼﻮص ﺑﻌﺾ اﻟﺘﻔﺎﺻﻴﻞ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﻬﺬه املﺴﺄﻟﺔ، ﻓﻴﻘﻮل أﺣﻴﺎﻧًﺎ إن اﻟﻨﺠﻮم واﻟﻜﻮاﻛﺐ ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﺮﻏﺐ ﰲ املﺤﺮك اﻟﺬي ﻻ ﻳﺘﺤﺮك ،ﺛﻢ ﻧﺠﺪه ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻳﺨﻠﺺ إﱃ أن اﻟﺮﻏﺒﺔ ﻻ ﺗﻨﺒﻊ ﻣﻦ اﻟﻨﺠﻮم وإﻧﻤﺎ ﻣﻦ »اﻟﺴﻤﺎء اﻟﺨﺎرﺟﻴﺔ«؛ أي اﻟﻔﻠﻚ اﻟﺸﻔﺎف اﻟﻌﻤﻼق اﻟﺬي ﺗﻜﻤُﻦ ﻓﻴﻪ أﺑﻌﺪ اﻟﻨﺠﻮم ،ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﻌﺘﻘﺪ ﺳﺎﺋﺮ اﻟ ﱡﺮوﱠاد ﻣﻦ اﻟﻔﻠﻜﻴني اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴني .وﻗﺪ ﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﻔﻠﻚ ﻳﺪور ﻷن رﻏﺒﺘﻪ ﺗُﺤ ﱢﺮﻛﻪ ﻧﺤﻮ املﺤﺮك اﻟﺬي ﻻ ً ﱠ املﺮﺻﻊ ﺑﺎﻟﻨﺠﻮم ﺑﺸﻜﻞ ِآﱄ ﱟ إﱃ ﺣﺎﻣﻼ اﻟﻨﺠﻮم ﺣﻮﻟﻪ .ﺛﻢ ﺗﻨﺘﻘﻞ ﺣﺮﻛﺔ ﻫﺬا اﻟﻔﻠﻚ ﻳﺘﺤﺮك ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﻜﻮاﻛﺐ ﻣﺘﱠﺤِ ﺪة املﺮﻛﺰ ﺑﺪاﺧﻠﻪ واﻟﺘﻲ ﺗﺤﻤﻞ ﺟﻤﻴﻊ اﻷﺟﺮام اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ اﻷﺧﺮى )وﻟﻜ ﱢﻞ ﻛﻮﻛﺐ ﻓﻠﻜﻪ إﱃ ﺟﺎﻧﺐ ﺑﻌﺾ اﻷﻓﻼك املﺘﻮﺳﻄﺔ( .ﻓﺎملﻨﻈﻮﻣﺔ ُﻛ ﱡﻠﻬَ ﺎ ﺗﻌﻤَ ﻞ ﻛﺎﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻤﻸ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻷﻧﻬﺎ ﺣﻴﺔ ﺗﺤ ﱢﺮﻛﻬﺎ رﻏﺒﺔ ﺗَ ْﺴﺘَﻌِ ُﺮ داﺧﻠﻬﺎ؛ وﻣﻦ ﻫﻨﺎ ﺗﺄﺗﻲ ﻓﻜﺮة »اﻟﺤﺐ اﻟﺬي ﻳﺤﺮك اﻟﻨﺠﻮم« .وﻋﻨﺪﻣﺎ أراد أرﺳﻄﻮ أن ﻳﻄﻮﱢر ﺑﻌﺾ اﻟﻨ ﱢ َﻘﺎط اﻟﺼﻐﺮى ﰲ اﻟﻔﻜﺮة اﻟﺘﻲ ﻃﺮﺣﻬﺎ ،اﻗﱰح وﺟﻮد ﻋَ ﺪَدٍ ﻛﺒري ﻣﻦ املﺤ ﱢﺮﻛﺎت اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﺘﺤﺮك ﻟﻜﻲ ﻳﺠﺪ ﺗﻔﺴريًا ﻟﻠﺤﺮﻛﺔ اﻟﻔﻠﻜﻴﺔ املﻠﺤﻮﻇﺔ ،ﺑﻴ َﺪ أن ﻫﺬا ﻛﺎن أﺑﻌ َﺪ ﻣﺎ ﻳﻜﻮن ﻋﻦ اﻟﻴﻘني .وأﻣﺎ ﻣﺎ ﻛﺎن ﻣﺘﺄﻛﺪًا ﻣﻨﻪ إﱃ ﺣَ ﱟﺪ ﻛﺒري ﻓﻬﻮ أن ﺣﺮﻛﺔ اﻟﺴﻤﺎء اﻟﺨﺎرﺟﻴﺔ ﺗﺘﻄ ﱠﻠﺐ ﻣﺤﺮ ًﻛﺎ ﻻ ﻳﺘﺤﺮك ﻳﻜﻮن أﻋﲆ 273
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
َ املﻌﺘﻘﺪ اﻟﻘﺪﻳﻢ ﰲ وﺟﻮد ﻣﻘﺎﻣً ﺎ ،وأن اﻟﴚء اﻟﻔﻠﻜﻲ اﻟﻐﺎﻣﺾ املﺮﻏﻮب ﻓﻴﻪ ﻳﻔﴪ ﻟﻨﺎ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻛﺒري ﻟﻶﻟﻬﺔ. ُ ﻣﺎذا ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﻀﻴﻒ ﻋﻦ ﻫﺬا اﻟﺮب؟ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ أرﺳﻄﻮ ﻣﻬﺘﻤٍّ ﺎ ﺑﺎﻵﻟﻬﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺸ ِﺒﻪ اﻟﻌﻤﺎﻟﻘﺔ ﻣﻦ اﻟ ﱢﺮﺟﺎل ﺑﻤﺎ ﺗﺤﻤﻠﻪ ﻧ ُ ُﻔ ُ ﻮﺳﻬﻢ ﻣﻦ رﻏﺒﺎت ﰲ املﺨﻠﻮﻗﺎت اﻷﻗﻞ َﺷﺄﻧًﺎ واﻫﺘﻤﺎﻣﻬﻢ ﺑﻬﺎ .وﻻ رﻳﺐ أ َ ﱠن ﻫﺬه اﻵﻟﻬﺔ ﻻ ﺗﺆدﱢي أي ﻋﻤﻞ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻛﻤﺎ ﺗﺰﻋﻢ اﻟﺘﻔﺴريات اﻟﺨﺮاﻓﻴﺔ )وﻛﻤﺎ ﺗﺰﻋﻢ ﻛﺬﻟﻚ اﻟﻴﻬﻮدﻳﺔ واﻹﺳﻼم واملﺴﻴﺤﻴﺔ( .ﻓﻌﻘﻠﻴﺔ أرﺳﻄﻮ اﻟﻬﺎدﺋﺔ واملﻨﻄﻘﻴﺔ ﺟ ﱠﺮدت ﻛﻞ ﻫﺬه اﻷﻓﻜﺎر اﻹﻟﻬﻴﺔ ﻣﻦ اﻟﺼﻔﺎت اﻟﺒﴩﻳﺔ ،ﻓﻜﻤﺎ ﻳﻘﻮل: ﻧﺤﻦ ﻧﻔﱰض أن اﻵﻟﻬﺔ أﺳﻤﻰ ﻣﻦ املﺨﻠﻮﻗﺎت ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ﺗَﺤﻴﺎ ﺣﻴﺎ ًة ﻣﺒﺎرﻛﺔ ﻫﺎﻧﺌﺔ، وﻟﻜﻦ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺷﻜﻞ اﻟﻌﻤﻞ اﻟﺬي ﻧﻮ ﱢﻛﻠﻪ إﻟﻴﻬﻢ؟ أﻫﻮ إﻗﺎﻣﺔ اﻟﻌﺪل؟ أﻟﻦ ﺗﺒﺪو اﻵﻟﻬﺔ ﰲ ﻣﻮﻗﻒ ﺳﻴﺊ إذا وﻗﻌﺖ اﻟﻌﻬﻮد وأﻋﺎدت اﻟﻮداﺋﻊ؟ أم أن ﻋﻤﻠﻬﻢ ﻳﺘﻤﺜﱠﻞ ﰲ اﻟﺸﺠﺎﻋﺔ واﻹﻗﺪام ﻋﲆ اﻗﺘﺤﺎم املﺨﺎﻃﺮ واﻷﻫﻮال ﺑﺪاﻓﻊ ﻣﻦ اﻟﻨﺒﻞ أو ﻏريه؟ أم أن ﻋﻤﻠﻬﻢ ﻳﺘﻤﺜﱠﻞ ﰲ ﺗﴫﻳﻒ اﻟﺤﺮﻳﺔ؟ وملﻦ ﺳﻴَﻬَ ﺒُﻮﻧﻬﺎ؟ ﺳﻴﻜﻮن اﻷﻣﺮ ﻏﺮﻳﺒًﺎ ً أﻣﻮاﻻ أو ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻘﺒﻴﻞ … وإذا اﺳﺘﻌﺮﺿﻨﺎ ﻫﺬه اﻷﻣﻮر إذا اﻣﺘﻠﻜﻮا ﻛﻠﻬﺎ ﻓﺴﻨﺠﺪ أن ﻇﺮوف ﻣﺎ ﻳﻘﻮﻣﻮن ﺑﻪ ﻣﻦ أﻋﻤﺎل إﻧﻤﺎ ﻫﻲ ﻇﺮوف وﺿﻴﻌﺔ ﻻ ﺗﻠﻴﻖ ﺑﻬﻢ ،ورﻏﻢ ذﻟﻚ ﻓﺈن اﻟﺠﻤﻴﻊ ﻳﻌﺘﻘِ ﺪ ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻬﻢ وﺑﺎﻟﺘﺎﱄ ﰲ ﻧﺸﺎﻃﻬﻢ ،وﻻ ﻳ ََﺴﻌُ ﻨَﺎ أن ﻧﺰﻋُ َﻢ أﻧﻬﻢ ﻧﺎﺋﻤﻮن ﻣﺜﻞ إﻧﺪﻳﻤﻴﻮن .وﺑﻌﺪ ﻫﺬا ﻟﻨﺎ أن ﻧﺴﺄل :إذا ﻛﺎﻧﺖ اﻵﻟﻬﺔ ﻗﺪ أﺧﺬت اﻟﻌﻤﻞ واﻟﺘﻜﺎﺛُﺮ ﻣﻦ اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﺤﻴﺔ ﻓﻤﺎذا ﱠ ﺗﺒﻘﻰ ﻟﻬﺎ ﻏري اﻟﺘﺄﻣﻞ واﻟﺘﻔﻜري؟ ﻳﺘﻜﻮن ﻧﺸﺎط اﻹﻟﻪ اﻟﺬي ﻳﺤﺮك اﻟﺴﻤﺎء اﻟﺨﺎرﺟﻴﺔ ﻣﻦ ﺧﻼل إﻟﻬﺎﻣﻬﺎ ﺑﺎﻟﺤﺐ ﻣﻦ اﻟﺘﺄﻣﱡ ﻞ اﻟﻔﻜﺮي ﰲ املﻘﺎم اﻷول ،وﻫﻮ اﻟﻨﺸﺎط اﻷﻧﻘﻰ ﻟﻠﻌﻘﻞ واﻟﺬي ﻳُﻌَ ﱡﺪ أﻓﻀﻞ ﳾء ﰲ اﻟﻮﺟﻮد. واﻹﻟﻪ ﻻ ﻳﻔ ﱢﻜﺮ إﻻ ﰲ ذاﺗﻪ ،ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺛﻤﺔ ﳾء آﺧﺮ ﻳﺴﺘﺤﻖ اﻟﺘﻔﻜري ﻓﻴﻪ إذا ﻛﻨﺖ إﻟﻬً ﺎ. وﻫﺬا اﻟﴫح اﻟﻌﻈﻴﻢ اﻟﺬي ﻳﻘﻮم ﻋﲆ ﺧﻠﻴﻂ ﻣﻦ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﻔﻴﺰﻳﺎﺋﻴﺔ واﻟﻼﻫﻮﺗﻴﺔ ﻳﻤﺜﻞ ﻟﻠﻌﻘﻮل اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ أﻣ ًﺮا ﻋﺒﺜﻴٍّﺎ أﻳﻤﺎ ﻋﺒﺚ .وﻟﻜﻦ أرﺳﻄﻮ ﺳﻴﻌﻮد إﱃ اﻹﻃﺮاء ﺑﻼ رﻳﺐ ،ﻓﻠﻮ ﱠ ﺗﻮﺻﻠﻨﺎ إﻟﻴﻪ ﰲ اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ وﻋﻠﻢ اﻟﻔﻠﻚ ملﺎ اﻗﺘﻨﻊ أﺑﺪًا اﻓﱰﺿﻨﺎ اﻗﺘﻨﺎع أرﺳﻄﻮ ﺑﻤﺎ ﻛﺎﺋﻦ ﻗﺎم ذات ﺻﺒﺎح ﺑﺈﻟﻪ اﻹﻧﺠﻴﻞ أو اﻟﻘﺮآن ،ﻓﻤﺎ ﻛﺎن ﻟﻴُﻀﻴﻊ ﻟﺤﻈﺔ ﰲ اﻟﺘﻔﻜري ﰲ وﺟﻮد ٍ ﺑﺨﻠﻖ اﻟﻜﻮن ﻣﻦ اﻟﻌﺪم ،ﺛﻢ ﻃﻔﻖ ﻳﺤﺪد اﻟﺜﻮاب واﻟﻌﻘﺎب ُ ﻟﺴ ﱠﻜﺎن اﻟﻜﻮن اﻟﺒﺎﺋﺴني؛ إذ ﻫﻮ ﻳﺮى أن آﻟﻬﺔ اﻷﺳﺎﻃري اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺳﻮى ﺧﻴﺎل ﺻﺒﻴﺎﻧﻲ ،وﻣﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻓﻜﺮة ﺟﻤﻊ اﻵﻟﻬﺔ ِث ً ﰲ إﻟﻪ واﺣﺪ ووﺿﻊ ﺟﻤﻴﻊ ﺻﻔﺎﺗﻬﻢ ﰲ ﺷﺨﺼﻪ ِﻟﺘُﺤْ ﺪ َ ﻓﺎرﻗﺎ ﻛﺒريًا ﻟﺪﻳﻪ. 274
املﻌﻠﻢ اﻷول :أرﺳﻄﻮ
وﻻ ﻳﺘﻄﻠﺐ اﻷﻣﺮ أن ﻳﻜﻮن املﺮء ﻣﺘﻌﺼﺒًﺎ ﻷﺣﺪ اﻵﻟﻬﺔ ﺣﺘﻰ ﻳﻜﺘﺸﻒ اﻟﻔﺠﻮات اﻟﻮاﺳﻌﺔ ﱢ املﺤﻔﺰة اﻟﺘﻲ ﻋﺎﺑﺖ ﻓﻜﺮة أرﺳﻄﻮ ﺣﻮل املﺤ ﱢﺮك اﻟﺬي ﻻ ﻳﺘﺤﺮك؛ ﻓﺎﻟﺘﺸﺒﻴﻪ ﺑني اﻟﺮﻏﺒﺎت ﻟﻠﺤﻴﻮاﻧﺎت واﻹﻧﺴﺎن ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ واﻷﺟﺮام اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ آﺧﺮ ﺗﺒﺪو ﻏري ﻣﻘﻨﻌﺔ ﺑﺎملﺮة. واﻷﺳﻮأ ﻣﻦ ذﻟﻚ أﻧﻬﺎ ﻻ ﺗﺴﺘﺘﺒﻊ أن ﻣﺎ ﺗﺮﻏﺐ ﻓﻴﻪ اﻷﺟﺮام اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ ﻟﻴﺲ ﻣﻮﺟﻮدًا ﻣﻦ اﻷﺳﺎس ،ﻓﻘﺪ ﻳﻈﻦ اﻷﺳﺪ وﺟﻮد ﺣﻤﺎر وﺣﴚ ﰲ أﺟﻤﺔ ﺑﺎﻟﻘﺮب ﻣﻨﻪ ﻓﻴﻘﻔﺰ ﻋﻠﻴﻪ ﺛﻢ ﻳﻜﺘﺸﻒ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻫﻨﺎك أي ﳾء ،وﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ﻳُﻌَ ﱡﺪ اﻟﺤﻤﺎ ُر اﻟﻮﺣﴚ ا ُملﺘَﻮ ﱠَﻫﻢ ﻫﻮ اﻟﻌﻠﺔ اﻟﻐﺎﺋﻴﺔ ﻟﺤﺮﻛﺔ اﻷﺳﺪ ،ﻓﺎﻷﺳﺪ ﻗﻔﺰ »ﻣﻦ أﺟﻞ« اﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ اﻟﺤﻤﺎر اﻟﻮﺣﴚ اﻟﺬي ﻇﻦ وﺟﻮده، إذن ﻓﺎﻟﺤﻤﺎر اﻟﻮﺣﴚ ﻫﻮ ﻏﺎﻳﺔ ﻫﺬه اﻟﺤﺮﻛﺔ وﻫﺪﻓﻬﺎ رﻏﻢ ﻋﺪم وﺟﻮده ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ .وﻟﺮﺑﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ اﻷﺟﺮام اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ ﻗﺪ ُﺧﺪِﻋَ ْﺖ ﻫﻲ اﻷﺧﺮى ﺑﺎﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ؛ إذ رﺑﻤﺎ ﺗﺘﺤﺮك ﻫﺬه اﻷﺟﺮام ﺑﺪاﻓﻊ اﻟﺤﺐ ﻟﻠﻤﺤ ﱢﺮك اﻟﺬي ﻻ ﻳﺘﺤﺮك واﻟﺬي ﻗﺪ ﻳﻜﻮن ﻣﺤﺾ ﺧﻴﺎل ،وﺑﻬﺬا ﺗﺴﻘﻂ ﺣﺠﺔ أرﺳﻄﻮ ﰲ وﺟﻮد اﻹﻟﻪ ﻷﻧﻪ ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻪ أن ﻳﺘﺠﺎﻫﻞ ﻫﺬا اﻻﺣﺘﻤﺎل. وﻗﺪ ﻛﺎن ﻷرﺳﻄﻮ ﻏري ﺳﺒﺐ ﺟﻌﻠﻪ ﻳﺆﻣﻦ ﺑﻮﺟﻮد املﺤ ﱢﺮك اﻟﺬي ﻻ ﻳﺘﺤﺮك ﺑﺎﻟﺸﻜﻞ وﻣﻦ ﺛﻢ ﻗﺪ ﻻ ﻳﻜﻮن ﻟﻠﻨﻘﺪ اﻟﺴﺎﺑﻖ أﺛﺮ ﻋﻠﻴﻪ .وﻟﺘﻮﺿﻴﺢ ذﻟﻚ دَﻋُ ﻮﻧﺎ ﻧﻨﻈ ْﺮ ﰲ املﺜﺎل اﻵﺗﻲ :ﻟﻴﺲ ﻟﻠﺰﻣﻦ ﺑﺪاﻳﺔ وﻻ ﻧﻬﺎﻳﺔ؛ ﻷن ﻫﺬا ﻳﻌﻨﻲ وﺟﻮد زﻣﻦ ﻗﺒﻠﻪ وآﺧﺮ ﺑﻌﺪه ،وﻫﺬا ﺑﺎﻟﻄﺒﻊ ﻫﺮاء ﻻ ﱡ اﻟﺘﻐري أﺑﺪﻳٍّﺎ ﻫﻮ ﻓﺎﺋﺪة ﻣﻨﻪ؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﺈن اﻟﺰﻣﻦ ﻻ ﺑﺪ وأن ﻳﻜﻮن أﺑﺪﻳٍّﺎ ،وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻳﺼﺒﺢ اﻟﺘﻐري ،وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ً ً ﱡ أﻳﻀﺎ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺤﺪﻳﺚ أﻳﻀﺎ ﻷن اﻟﺰﻣﻦ ﺑﺒﺴﺎﻃﺔ ﻫﻮ إﺣﺪى ﻃﺮق ﻗﻴﺎس ﱡ اﻟﺘﻐري .وﻳﺪﱠﻋﻲ أرﺳﻄﻮ أﻧﻪ إذا اﻓﱰﺿﻨﺎ ﻋﻦ ﻓﱰة ﻣﻦ اﻟﻮﻗﺖ ﻻ ﻳﺤﺪث ﺑﻬﺎ أي ﻧﻮع ﻣﻦ ﱡ اﻟﺘﻐري واﺳﺘﻤﺮاره .وﰲ ﻫﺬا اﻟﺼﺪد ﺻﺤﺔ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﻓﻼ ﺑﺪ ﻣﻦ وﺟﻮد ﳾءٍ ﻳﻀﻤﻦ دوام ﻗﺪم أرﺳﻄﻮ أﺳﺒﺎﺑًﺎ ﻟﻼﻋﺘﻘﺎد أﻧﻪ ﻻ ﻳﻀﻤﻦ ذﻟﻚ ﺳﻮى ﻛﻴﺎن ﻏري ﻣﺎدي ﻳﺘﻤﺘﱠﻊ ﺑﺎﻷزﻟﻴﺔ واﻟﻜﻤﺎل املﻄﻠﻖ ،وأن ﻫﺬا اﻟﻜﻴﺎن ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻨﺸﻐﻞ ﻃﻮال أزﻟﻴﺘﻪ ﺑﺴﻮى اﻟﺘﺄﻣﻞ اﻟﻔﻜﺮي؛ ً ﻃﺮﻳﻘﺎ آﺧﺮ ﻧﺤﻮ اﻹﻟﻪ .إن اﻷﺳﺌﻠﺔ اﻟﺘﻲ أﺛﺎرﻫﺎ ﺣَ ِﺮيﱞ ﺑﻬﺎ وﺑﻬﺬا ﻧﺠﺪ أن أرﺳﻄﻮ ﻗﺪ َﺷ ﱠﻖ أن ﺗُ َ ﻮﺿ َﻊ ﻣﻮﺿﻊ اﻟﺘﺸﻜﻴﻚ ﰲ ﻛﻞ ﺗﻔﺎﺻﻴﻠﻬﺎ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻣﺮﺗﱠﺒﺔ وﻣﻨﻈﻤﺔ ،وﻗﺪ ﺑﻨﺎﻫﺎ ﻋﲆ آراﺋﻪ اﻷﺧﺮى اﻟﺘﻲ أوردﻫﺎ ﰲ َ ﱢ وﻣﺤﺼﻠﺔ ذﻟﻚ ﻫﻮ ﻃﻴﱠﺎت ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ وﺻﺎﻏﻬﺎ ﻛﻠﻬﺎ ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺘﻨﺎﻏﻢ. ً ً وأﺟﻴﺎﻻ ﺗﺘﻮﻗﻒ ﻋﻨﺪﻫﺎ أﺟﻴﺎﻻ رﺳﻢ ﺻﻮرة ﻛﺎﻣﻠﺔ املﻌﺎ ِﻟ ِﻢ وﻣُﺤْ َﻜﻤَ ِﺔ اﻟﺘﻔﺎﺻﻴﻞ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ ﺟﻌﻠﺖ ﺑﺎﻟﺘﺄﻣﻞ واﻟﺘﺪﺑﺮ. ﱡ واﻟﺘﻐري ،واملﺤﺮك وﻳﻤﻜﻦ اﻟﻌﺜﻮر ﻋﲆ ﻣﻌﻈﻢ ﻣﻨﺎﻗﺸﺎت أرﺳﻄﻮ املﺠ ﱠﺮدة ﻟﻠﺤﺮﻛﺔ واﻟﺰﻣﻦ اﻟﺬي ﻻ ﻳﺘﺤﺮك ﰲ رﺳﺎﺋﻠﻪ اﻟﻔﻴﺰﻳﺎﺋﻴﺔ واﻟﻔﻠﻜﻴﺔ ورﺳﺎﺋﻠﻪ ﰲ ﻋﻠﻢ اﻷﺣﻴﺎء .وﻗﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه 275
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
اﻷﻓﻜﺎر ﺟﺰءًا ﺟﻮﻫﺮﻳٍّﺎ ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻢ ﺑﺼﻔﺔ ﻋﺎﻣﺔ؛ ﻓﻘﺪ ﺑﺮزت ﺑﺸﻜﻞ ﻃﺒﻴﻌﻲ ﰲ ﻣﺤﺎوﻻﺗﻪ َ ﻟﻔﻬﻢ ً اﻟﻌﺎﻟﻢ َ ﻣﺠﺎﻻ ﻣﻦ ﻣﺠﺎﻻت اﻟﻌﻠﻮم. ﺳﻴﺎق آﺧﺮ ﻻ ﻳُﻌَ ﱡﺪ اﻟﻴﻮم وﺳﱪ أﻏﻮاره ،إﻻ أﻧﻬﺎ اﻣﺘﺪﱠت إﱃ ٍ وﻗﺪ اﻛﺘﻤﻞ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ ﺣﺠﺞ أرﺳﻄﻮ ﻋﻦ ﻫﺬه املﻮﺿﻮﻋﺎت ﰲ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ رﺳﺎﺋﻞ ﺳﻤﱠ ﺎﻫﺎ ﱢ املﺤﻘﻘني اﻟﻼﺣﻘني »املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﺎ« أو »ﻣﺎ وراء اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ« ،وﻛﺎن ﻫﺬا املﺼﻄﻠﺢ ﻳﺸري أﺣﺪ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ إﱃ أن ﻫﺬه اﻟﻜﺘﺐ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﻤﻞ اﺳﻢ »ﻣﺎ وراء« ﺗﺄﺗﻲ ﺑﻌﺪ ﻛﺘﺐ »اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ«؛ ً ٍّ ﺧﺎﺻﺎ ﺑﻪ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪُ؛ ﻃﺮﻳﻘﺎ أي ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺤﺾ ﻣﺼﻄﻠﺢ ﻣﻜﺘﺒﻲ .ﺑﻴﺪ أن ﻫﺬا املﺼﻄﻠﺢ ﺳﻠﻚ ﻓﻔﻲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ أﺻﺒﺢ ﻋﻠﻢ »ﻣﺎ وراء اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ« ﻳﺸري إﱃ ﻓﺮع ﻣﻦ املﻌﺮﻓﺔ ﻳﺨﺘﻠﻒ ً اﺧﺘﻼﻓﺎ ِﺟﺬرﻳٍّﺎ ﻋﻦ »اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ« )أي اﻟﻌﻠﻢ( ،ﻓﻜﺎﻧﺖ ﺻﻔﺔ »ﻣﺎ وراء اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ« ﺗﻌﻨﻲ »ﻣﺎ ﻳﺘﺠﺎوز اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ« .وﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﺒﻌﺾ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ املﺘﺄﺧﺮﻳﻦ اﻟﺬﻳﻦ ﻛﺎن ﻳﺴﺎورﻫﻢ اﻟﺸﻚ ﰲ اﺣﺘﻤﺎﻟﻴﺔ ﻫﺬا اﻟﺘﺠﺎوز — ﻻ ﺳﻴﻤﺎ دﻳﻔﻴﺪ ﻫﻴﻮم ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻣﻦ ﻋﴩ وﻓﻼﺳﻔﺔ املﻨﻄﻖ اﻟﻮﺿﻌﻲ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ — اﻛﺘﺴﺐ ﻣﺼﻄﻠﺢ »ﻣﺎ وراء اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ« ﺳﻤﻌﺔ ﺳﻴﺌﺔ ﺑﺸﻜﻞ ﻣﻦ اﻷﺷﻜﺎل ،ﻓﻜﺎن ﻳُﻨ ْ َ ﻈ ُﺮ إﱃ اﻟﺸﺨﺺ اﻟﺬي ﻳﻬﺘﻢ ﺑﻤﺎ وراء اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻋﲆ أﻧﻪ ﺷﺨﺺ ﻳﺠﻴﺪ ﺣﻴﺎﻛﺔ اﻷﻟﻐﺎز اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﺔ املﺒﻬَ ﻤﺔ؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻋﻤﻠﻪ ﻣﺤﺾ ﻋﺒﺚ ﻓﻜﺮي ﻻ ﻳُﻔﴤ إﱃ أﻳﺔ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﻌﺪم اﻋﺘﻤﺎده ﻋﲆ اﻷدﻟﺔ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴﺔ أو املﻌﺮﻓﺔ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ .وﺗُ ْﺴﺘَ ْﺨ َﺪ ُم ﺻﻔﺔ »ﻣﺎ ً ﻣﺮادﻓﺎ ﻟﻜﻠﻤﺔ »ﺧﺮاﰲ«. وراء اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ« ﰲ اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺎﱄ وﻟﻨﺘﻤﻜﻦ ﻣﻦ َﻓﻬﻢ ﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﺪور ِﺑ َﺨ َﻠ ِﺪ أرﺳﻄﻮ ﻋﻨﺪ اﺳﺘﺨﺪاﻣﻪ ﻟﻬﺬا املﺼﻄﻠﺢ؛ ﻓﻤﻦ اﻷﻓﻀﻞ أن ﻧﺘﺠﺎﻫﻞ املﻌﺎﻧﻲ اﻟﺘﻲ ذﻛﺮﻧﺎﻫﺎ ً آﻧﻔﺎ ﻟﻬﺬا املﺼﻄﻠﺢ .إن اﻟﻜﺘﺐ اﻷرﺑﻌﺔ ﻋﴩ اﻟﺘﻲ ﺟُ ِﻤﻌَ ْﺖ ﺗﺤﺖ ﻋﻨﻮان »ﻣﺎ وراء اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ« ﺗﺤﺘﻮي ﻋﲆ ﻣﻮﺿﻮﻋﺎت ﻛﺜرية دون ﺗﺮﺗﻴﺐ ﻣﻌني؛ ً ﻃﻮﻳﻼ ﻋﲆ ﺗﻔﺴريات أﻓﻼﻃﻮن اﻟ ﱡﺮوﺣﻴﺔ اﻟﺰاﺋﻔﺔ ﻟﻠﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ﻳﻘﻮل ﻓﻬﻲ ﺗﺘﻀﻤﻦ ﻫﺠﻮﻣً ﺎ ﻓﻴﻬﺎ أرﺳﻄﻮ إن اﻷرﻗﺎم واﻟﻨﻘﺎط واملﺜﻠﺜﺎت وﻣﺎ إﱃ ذﻟﻚ ﻳﺠﺐ أن ﻧﻨﻈﺮ إﻟﻴﻬﺎ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ أﺷﻴﺎءُ ﻣﺠ ﱠﺮدة ﰲ اﻟﻌﻘﻞ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ ﻛﻮﻧﻬﺎ أﺷﻴﺎءَ ﻏﺎﻣﻀﺔ ﺗﻮﺟﺪ ﺑﺬاﺗﻬﺎ .ﻛﻤﺎ ﺗﺘﻀﻤﻦ ﻫﺬه اﻟﻜﺘﺐ ﻣﻌﺠﻤً ﺎ ﻳﻮﺿﺢ ﻓﻴﻪ أرﺳﻄﻮ املﻌﺎﻧﻲ املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻟﺜﻼﺛني ﻣﺼﻄﻠﺤً ﺎ ﻣﻦ املﺼﻄﻠﺤﺎت اﻟﺮﺋﻴﺴﺔ املﺴﺘﺨﺪﻣﺔ ﰲ ﺗﺤﻠﻴﻼﺗﻪ وﺗﺤﻘﻴﻘﺎﺗﻪ ﻣﺜﻞ» :املﺎدة« و»اﻟﺮﻏﺒﺔ« و»اﻟﺨﺎﺻﻴﺔ« و»اﻟﻀﺪ« و»اﻟﻜﻞ« و»املﺴﺘﺤﻴﻞ« و»اﻟﺰاﺋﻒ« ،ﻛﻤﺎ ﻳﺘﻨﺎول ﺑﺎﻟﴩح ﰲ أﺟﺰاء أﺧﺮى ﻣﻦ ﻛﺘﺎب »ﻣﺎ وراء اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ« ﻣﺬﻫﺒﻪ ﻋﻦ اﻟﻌﻠﻞ اﻷرﺑﻊ وﻳﺮﺑﻄﻬﺎ ﺑﺄﻓﻜﺎر املﻔﻜﺮﻳﻦ اﻷواﺋﻞ ﺣﻴﺚ ﺣﺎول ﺗﻄﻮﻳﺮ أﻓﻜﺎره ﺣﻮل اﻟﻔﺮق ﺑني اﻟﺼﻮرة واملﺎدة ،إﺿﺎﻓﺔ إﱃ ﺣﺪﻳﺜﻪ ﻋﻦ ﻣﺒﺎدئ اﻟﺘﺼﻨﻴﻒ واﻟﺘﻌﺮﻳﻒ ،وﻣﻨﺎﻗﺸﺔ ﻣﻔﺎﻫﻴﻢ اﻟﻮﺣﺪة واﻟﺘﻨﻮﱡع ،ﻛﻤﺎ ﻋﻤﻞ ﻋﲆ إﻳﻀﺎح ﺑﻌﺾ اﻟﺘﻔﺎﺻﻴﻞ ً ﻓﻀﻼ ﻋﻦ اﻧﺘﻘﺎده ملﺬﻫﺐ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ واﻟﻨﺴﺒﻴﺔ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ ﰲ ﻋﻠﻢ اﻟﻔﻠﻚ ،وﺗﺤﺪﱠث ﻋﻦ اﻹﻟﻪ، 276
املﻌﻠﻢ اﻷول :أرﺳﻄﻮ
ﺿﻤﻦ أﺷﻴﺎءَ أﺧﺮى ،ﻛﻤﺎ ﻧﺎﻗﺶ ﺑﻌﺾ املﺒﺎدئ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﰲ ﻋﻠﻢ املﻨﻄﻖ ﻛﺎملﺒﺪأ اﻟﻘﺎﺋﻞ إﻧﻪ »ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻜﻮن ﻋﺒﺎر ٌة ﻣﺎ ﺻﺤﻴﺤﺔ وﺧﺎﻃﺌﺔ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ«. وﻳﺒﺪو أن ﻫﺬه املﻮﺿﻮﻋﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻻ ﺗﻤﺖ ﻟﺒﻌﻀﻬﺎ ﺑﺼﻠﺔ ،وﻟﻜﻦ ﻛﺎن ﺛﻤﺔ راﺑﻂ ﺑﻴﻨﻬﺎ ﺳﺎﻋﺪ ﻋﲆ ﺗﺠﻤﻴﻊ ﻣﻌﻈﻤﻬﺎ ﰲ ﻋﻘﻞ أرﺳﻄﻮ؛ ﻓﻔﻲ ﻣﻮﺿﻌني ﻣﻦ ﻛﺘﺎﺑﻪ »ﻣﺎ وراء ﻧﺠﺪه ﻳﺘﺤﺪﱠث ﻋﻤﱠ ﺎ ﻳﺴﻤﻴﻪ »اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷوﱃ« ،وﻳﺒﺪو أﻧﻪ ﻗﺼﺪ ﺑﻬﺎ أَﻋَ ﱠﻢ املﺒﺎدئ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ« ِ واﻟﻌﻠﻞ واملﻔﺎﻫﻴﻢ اﻟﻌﺎﻣﺔ؛ ﻓﻬﻲ ﺗﻨﺎﻗﺶ املﺴﺎﺋﻞ واملﻮﺿﻮﻋﺎت اﻟﻌﺎﻣﺔ اﻟﺘﻲ ُ ﺗﺪﺧﻞ ﰲ ﺟﻤﻴﻊ املﺠﺎﻻت ﻣﻦ ﻋﻠﻢ اﻟﺤﺴﺎب وﺣﺘﻰ ﻋﻠﻢ اﻟﺤﻴﻮان ﰲ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻟﻠﻮﺻﻮل إﱃ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ اﻟﺘﻲ »ﺗﺤﻤﻞ اﻟﺨري ﻟﻜﻞ املﻮﺟﻮدات« .ﻛﻤﺎ ﻧﺠﺪ أن ﻣﺎ ذﻛﺮه أرﺳﻄﻮ ﺣﻮل اﺳﺘﻘﺼﺎء اﻟﻌﻠﻞ اﻷرﺑﻊ وﻣﻔﺎﻫﻴﻢ اﻟﺼﻮرة واملﺎدة واﻻﺣﺘﻤﺎﻟﻴﺔ وﻏريﻫﺎ ﺗﺘﱠﺴﻢ ﻛﻠﻬﺎ ﺑﺎﻟﻌﻤﻮﻣﻴﺔ ﻟﺪرﺟﺔ ﺗﺠﻌﻠُﻨﺎ ﻈ ﱠﻠﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷوﱃ إذا ُ ﻧﻀﻌﻬﺎ ﺗﺤﺖ ﻣ َ ﻃﺒ َﱢﻘ ْﺖ ﻋﲆ ﻧﻄﺎق واﺳﻊ .واﻟﺤﺎل ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻊ ﻣﺒﺎدئ املﻨﻄﻖ اﻟﺮﺋﻴﺴﺔ .ﺑﻴﺪ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﺘﱠ ِﻀﺢ ملﺎذا َ ﻳﻮﺿﻊ اﻟﻔﻠﻚ واﻟﻼﻫﻮت ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل أرﺳﻄﻮ ﰲ ﺳﻠﺔ ً ﻛﻤﺎﻻ واﺣﺪة .وﻳﻤﻜﻨﻨﺎ اﻟﻘﻮل إن ﻛﻠﻴﻬﻤﺎ ﻳﺘﻨﺎول اﻷﻣﻮر اﻟﻌﻠﻮﻳﺔ أو ﺑﺎﻷﺣﺮى أﻛﺜﺮ اﻷﻣﻮر ً ﻣﺴﺌﻮﻟﺔ ﻣﺴﺌﻮﻟﻴﺔ ﺗﺎﻣﱠ ﺔ ﻋﻤﱠ ﺎ ﻳﺠﺮي ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻷرﴈ .وﺗﻘﻮل ﻓﻜﺮﺗﻪ اﻟﺮﺋﻴﺴﺔ ﻋﻦ واﻟﺘﻲ ﺗﻌﺪ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷوﱃ إﻧﻬﺎ ﺗﺘﻨﺎول ﻧﻮع املﻌﺮﻓﺔ املﻄﻠﻮب ﻟﻠﺤﺼﻮل ﻋﲆ اﻟﺤﻜﻤﺔ؛ أي ﻣﺎ ﻳﺘﻮق ا ُملﺤِ ﺐﱡ ﺨﱪ ﻫﺬا املﺨﻠﺺ ﻟﻠﻤﻌﺮﻓﺔ إﱃ اﻟﺤﺼﻮل ﻋﻠﻴﻪ ،وﻫﻮ ﻳﻔﴪ ذﻟﻚ ﻋﲆ أن اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷوﱃ ﺗُ ِ املﺤﺐ ﺑﺎﻷﺷﻴﺎء اﻷﻛﺜﺮ أﻫﻤﻴﺔ )ﻣﺜﻞ اﻹﻟﻪ واﻷﺷﻴﺎء اﻷﺧﺮى اﻷزﻟﻴﺔ ﻏري املﺘﻐرية( وﺑﺎﻟﺤﻘﺎﺋﻖ واملﻔﺎﻫﻴﻢ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺘﻞ أﻋﲆ ﻣﻨﺎزل اﻷﻫﻤﻴﺔ )أي اﻷﻋﻢ(. ً ﻋﻤﻮﻣﻴﺔ ﻫﻮ ﻣﻔﻬﻮم اﻟﻜﻴﻨﻮﻧﺔ أو اﻟﻮﺟﻮد؛ ﺣﻴﺚ إﻧﻪ اﻟﴚء اﻟﻮﺣﻴﺪ وأﻛﺜﺮ املﻔﺎﻫﻴﻢ اﻟﺬي ﺗﺘﻤﺘﻊ ﺑﻪ ﺟﻤﻴﻊ اﻷﺷﻴﺎء .وﻗﺪ ﻳﻈﻦ املﺮء ﻟﻠﻮﻫﻠﺔ اﻷوﱃ أن اﻟﻜﻴﻨﻮﻧﺔ ﻣﻔﻬﻮم ﻋﺎم ﺟﺪٍّا ﱠ ﺗﻮﺻﻞ إﱃ ﺑﻌﺾ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﺑﺸﺄﻧﻪ .ﺑﻌﺪ ﻳﺴﺘﺤﻴﻞ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻨﻪ أو وﺻﻔﻪ ،وﻟﻜﻦ أرﺳﻄﻮ ﺗﻮﺿﻴﺢ اﻟ ﱡ ﻄ ُﺮق اﻟﻜﺜرية اﻟﺘﻲ ﻳُﻤﻜِﻦ ﻟﻠﻤﺮء ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻬﺎ أن ﻳ َِﺼ َ ﻒ ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﺎ أو أن ﻳﻘﻮل ﻓﻘﻂ ﺑﻮﺟﻮده ،ﺣﺎول أرﺳﻄﻮ اﻛﺘﺸﺎف ﻣﺎ إذا ﻛﺎن ﺛﻤﺔ ﻧﻮع أﺳﺎﳼ ﻟﻠﻮﺟﻮد ﻳﻌﺘﻤﺪ ﻋﻠﻴﻪ وﺟﻮد ﺑﺎﻗﻲ اﻷﺷﻴﺎء واملﻮﺟﻮدات .وﻳﻘﻮل أرﺳﻄﻮ إن ﺛﻤﺔ وﺟﻮدًا ﻟﺠﻤﻴﻊ اﻷﺷﻴﺎء املﺎدﻳﺔ ﻣﺜﻞ اﻷﺷﺠﺎر واﻟﺼﺨﻮر واﻟﻨﺒﺎﺗﺎت واﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت ،وﻳﻌﺘﻘﺪ أن ﺟﻤﻴﻊ أﻧﻮاع اﻟﻮﺟﻮد اﻷﺧﺮى ﺗُﻌَ ﱡﺪ وﺟﻮدًا ﺗﻄﻔﻠﻴٍّﺎ ﻋﲆ ﻫﺬه اﻷﺷﻴﺎء املﺎدﻳﺔ ،ﻓﻌﻨﺪ اﻟﺤﺪﻳﺚ ً ﻣﺜﻼ ﻋﻦ ﳾء ﻛﺒري أو أﺣﻤﺮ أو ﺟﻤﻴﻞ ﻓﺈن ﺻﻔﺎت اﻟﺠﻤﺎل أو اﻻﺣﻤﺮار أو اﻟﺤﺠﻢ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ادﱢﻋﺎء وﺟﻮدﻫﺎ إﻻ إذا ﻛﺎن ﻫﻨﺎك ﳾء ﻣﻌني ﻳﺤﻤﻞ ﻫﺬه اﻟﺼﻔﺎت؛ ﻓﻼ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻬﺬه اﻟﺼﻔﺎت أن ﺗﺴﺒﺢ ﺑﻤﻔﺮدﻫﺎ ً ً ﺻﺎرﺧﺎ ﻣﻊ ﻧﻈﺮﻳﺔ ا ُملﺜ ُ ِﻞ ﻟﺪى أﻓﻼﻃﻮن اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺎﻗﻀﺎ أو ﺑﺬاﺗﻬﺎ .وﺗﺘﻨﺎﻗﺾ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة 277
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﱠان أﻛﺜﺮ واﻗﻌﻴﺔ ﻣﻦ أي ﳾء أﺣﻤﺮ أو ﺟﻤﻴﻞ .ﻓﻔﻲ ﻋﺎﻟﻢ ﺗﻘﻮل ﺑﺄن اﻻﺣﻤﺮار واﻟﺠﻤﺎل ﻳُﻌَ ﺪ ِ أﻓﻼﻃﻮن ﻳﻌﺘﱪ وﺟﻮد ا ُملﺜُﻞ ﻫﻮ اﻟﻮﺟﻮد اﻷوﱠﱄ واﻷﺳﺎﳼ ﻟﻸﺷﻴﺎء ،ﻛﻤﺎ أن ﻋﺎﻟﻢ اﻷﺷﻴﺎء ﱡ ً ً ﻧﺎﻗﺼﺎ ﻟﻬﺬه اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ .أﻣﺎ اﻧﻌﻜﺎﺳﺎ اﻟﺘﻐري اﻟﺪاﺋﻢ واملﻀﻄﺮب ﺗﻤﺜﻞ املﺎدﻳﺔ ﻫﻮ ﺣﺎﻟﺔ ﻣﻦ املﻀﻄﺮب أرﺳﻄﻮ ﻓﻴﻌﺘﻘﺪ أن ﻫﺬا ﻳﺸﺒﻪ وﺿﻊ اﻟﻌﺮﺑﺔ أﻣﺎم اﻟﺤﺼﺎن وأن ﻫﺬا اﻟﺤﺪﻳﺚ ِ ً ﻋﻤﻮﻣﻴﺔ وﻣﻦ ﺛ ﱠﻢ ﻓﻬﻮ ﻳﻌﻮق اﻟﻔﻬﻢ اﻟﺼﺤﻴﺢ ﻟﻮﺟﻮد اﻷﺷﻴﺎء ،وﻫﻮ أﺣﺪ أﻛﺜﺮ املﻮﺿﻮﻋﺎت ﻣﻮﺿﻮع ﻣﻄﻠﻮب ﰲ اﻟﺴﻌﻲ وراء اﻟﺤﻜﻤﺔ. وﻳﻌ ﱡﺪ ﻧﻘﺪ أرﺳﻄﻮ ﻟﺘﻔﺴري أﻓﻼﻃﻮن ﻟﻠﺮﻣﻮز اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ ﺟﺰءًا ﻣﻦ ﺑﺤﺜﻪ اﻟﻌﺎم ﰲ أﻧﻮاع اﻟﻮﺟﻮد ،وﻛﺬﻟﻚ ﻧﻈﺮﻳﺘﺎ اﻟﻨﺴﺒﻴﺔ واﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ اﻟﻠﺘﺎن ﻳﻌﺪﻫﻤﺎ ردﺗﻲ ﻓﻌﻞ ﻣﺘﻄﺮﻓﺘني واﻧﻬﺰاﻣﻴﺘني ﰲ ﻣﻮاﺟﻬﺔ ﻣﺴﺄﻟﺔ ﺗﺤﺪﻳﺪ أﻧﻮاع املﻮﺟﻮدات ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ .وﻟﻜﻦ ﻻ ﻓﺎﺋﺪة ﺗُﺮﺟَ ﻰ ﻣﻦ رﺑﻂ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻗﺎﻟﻪ أرﺳﻄﻮ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﻪ »ﻣﺎ وراء اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ« وﺟﻤﻌﻪ ﰲ ﻣﴩوع واﺣﺪ واﺿﺢ املﻌﺎﻟﻢ؛ ﻓﻤﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ اﻋﺘﻘﺪ أرﺳﻄﻮ أن اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷوﱃ ﻋﻠﻢ ﻳﺘﻤﻴﺰ ﻋﻦ ﺑﺎﻗﻲ اﻟﻌﻠﻮم ﺑﺎﻧﺸﻐﺎﻟﻪ ﺑﺎﻟﺒﺤﺚ ﰲ اﻷﻣﻮر اﻟﻌﺎﻣﺔ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﺛﻤﺔ ﺗﺪاﺧﻞ ﻛﺒري ﺑني أﺟﺰاء اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷوﱃ واﻷﺟﺰاء اﻟﻌﺎﻣﺔ واﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﻣﻦ ﻓﺮوع اﻟﺒﺤﺚ املﺘﺨﺼﺼﺔ ﻛﺎﻟﻔﻴﺰﻳﺎء ،وﻟﺬﻟﻚ ﻧﺠﺪ أﻧﻪ ﻳﺘﺤﺪث ﻋﻦ املﺤﺮك اﻟﺬي ﻻ ﻳﺘﺤﺮك ﰲ ﻛﺘﺎﺑﻴﻪ »اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء« و»ﻣﺎ وراء اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ«. وﺑﻤﺎ أن ﻣﺎ ﻳﻌﻨﻴﻪ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ املﺘﺄﺧﺮون ﺑ »ﻣﺎ وراء اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ« ﻳﺨﺘﻠﻒ ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻋﻤﱠ ﺎ ﻛﺎن أرﺳﻄﻮ ﻳﻌﻨﻴﻪ ﺑ »اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷوﱃ« ﻓﺤَ ِﺮيﱞ ﺑﻨﺎ أن ﻧﺆﻛﺪ ﻋﲆ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻌﺘﻘﺪ أن اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷوﱃ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺘﻀﻤﻦ أﻳﺔ آﻟﻴﺎت ﺧﺎﺻﺔ ﻟﻠﺒﺼرية اﻟﻌﻘﻼﻧﻴﺔ .وﻗﺪ رأى آﺧﺮون ﻣﻦ املﻬﺘﻤﱢ ني ﺑﻌﻠﻢ ﻣﺎ وراء اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ أن ﻫﺬا املﻮﺿﻮع ﻳﺘﺠﺎوز ﻃﺮق اﻟﺒﺤﺚ اﻟﻌﻠﻤﻲ ﻟﻠﱪﻫﻨﺔ ﻋﲆ ﺑﻌﺾ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻋﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﻌﻘﻞ املﺤﺾ واﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﺗ ُﻜﻦ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻜﺎدﺣﺔ ﻟﺘﺘﻮﺻﻞ ً ﺧﺎرﻗﺎ ﻻ ﻳﻀﺎرﻋﻪ ﻏريه ﻣﻦ إﻟﻴﻬﺎ؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﺈن املﻬﺘﻢ ﺑﻌﻠﻢ ﻣﺎ وراء اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻳُﻌَ ﱡﺪ ﻋﺎ ًملﺎ أﻗﺮاﻧﻪ .وﻟﻜﻦ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ أرﺳﻄﻮ ﻟﻴﺴﻠﻚ ﻫﺬه اﻟﻄﺮﻳﻖ؛ إذ ﻛﺎن ﻳﺮى أن ﻣَ ْﻦ ﻳﺪرس اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ٍ ﻣﻨﺰﻟﺔ أﻋﲆ ﻣﻦ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف اﻟﺒﺎﺣﺚ ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ«؛ ذﻟﻚ أن »اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻣﺤﺾ ﻧﻮع اﻷوﱃ »ﰲ ﻣﻦ أﻧﻮاع اﻟﻮﺟﻮد« أي ﻟﻜﻮن اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷوﱃ ﻣﻬﺘﻤﺔ ﺑﺎﻟﺒﺤﺚ ﰲ ﺟﻤﻴﻊ أﻧﻮاع اﻟﻮﺟﻮد )ﺑﻤﺎ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻮﺟﻮد اﻟﺮﻳﺎﴈ واﻟﻮﺟﻮد اﻹﻟﻬﻲ( وﻟﻴﺴﺖ ﻣﻘﺼﻮرة ﻋﲆ اﻟﺒﺤﺚ ﰲ اﻟﻮﺟﻮد اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ. وﻟﻜﻦ ﻫﺬا ﻳﻌﻨﻲ أن اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷوﱃ ﻫﻲ اﻷﺧﺮى ﺗُﻌَ ﱡﺪ ﻋﻠﻤً ﺎ ﺗﻘﻠﻴﺪﻳٍّﺎ ﺷﺪﻳﺪ اﻟﻌﻤﻮﻣﻴﺔ واﻟﺘﻨﻮع وﻟﻜﻦ ﻳﺴﺘﺤﻖ أن ﻳﺒﺬل اﻟﺒﺎﺣﺚ ﻓﻴﻪ ﻛﻞ ﺟﻬﺪ. وﻣﻦ ﻣﺠﺎﻻت اﻟﺒﺤﺚ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﺪاﺧﻞ داﺋﻤً ﺎ ﻣﻊ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷوﱃ أو ﻣﺎ وراء اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻋﻠﻢ ُ ﺗﻌﺮﻳﻔﻪ ﺑﺄﻧﻪ ﻋﻠﻢ اﻻﺳﺘﺪﻻل واﻟﱪﻫﺎن .وﻗﺪ ﻛﺎن ﻷرﺳﻄﻮ أﺳﺒﺎبٌ وﺟﻴﻬﺔ املﻨﻄﻖ اﻟﺬي ﻳﻤﻜﻦ 278
املﻌﻠﻢ اﻷول :أرﺳﻄﻮ
ﻛﻲ ﻳﺨﻮض ﰲ ﻫﺬه اﻷﻣﻮر ﺧﻼل ﺑﺤﺜﻪ ﰲ املﺴﺎﺋﻞ اﻟﻌﺎﻣﺔ واملﺠﺮدة ،ﻓﺈذا ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ً ﺷﻤﻮﻻ؛ ﻓﻬﻮ أداة ﻳﻤﻜﻦ اﻷوﱃ ﻫﻲ أﺷﺪ اﻟﻌﻠﻮم ﻋﻤﻮﻣﻴﺔ ﻓﺈن ﻋﻠﻢ املﻨﻄﻖ ﻫﻮ أﻛﺜﺮ اﻟﻌﻠﻮم اﺳﺘﺨﺪاﻣﻬﺎ ﻋﻨﺪ اﻟﺒﺤﺚ ﰲ ﻛﺎﻓﺔ اﻟﻌﻠﻮم إﱃ ﺟﺎﻧﺐ ﻛﻮﻧﻪ ﺳﺎﺣ ًﺮا وﻓﺎﺗﻨًﺎ ﰲ ﺣَ ﱢﺪ ذاﺗﻪ .وﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل أرﺳﻄﻮ ﻓﺈن اﻟﺒﺎﺣﺚ ﻋﻦ اﻟﺤﻜﻤﺔ »ﻳﺠﺐ أن ﻳﺒﺤﺚ ﻛﺬﻟﻚ ﰲ ﻣﺒﺎدئ اﻻﺳﺘﺪﻻل« .وﻗﺪ ﻛﺎن أرﺳﻄﻮ ﻫﻮ أول ﻣﻦ ﻗﺎم ﺑﺬﻟﻚ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﻨﻬﺠﻴﺔ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﻬﻮ ﻳُﻌَ ﱡﺪ ﻣﺒﺘﻜﺮ ﻋﻠﻢ املﻨﻄﻖ. وﻳُﻌ ﱢﺮف أرﺳﻄﻮ اﻻﺳﺘﺪﻻل ﻋﲆ أﻧﻪ ﺣﺪﻳﺚ »ﺗُﺬ َﻛﺮ ﻓﻴﻪ ﺑﻌﺾ اﻷﻣﻮر ،وﺗﱪز ﺑﺎﻟﴬورة أﻣﻮر أﺧﺮى ﻏري اﻷﻣﻮر املﺬﻛﻮرة «.وﻟﻜﻲ ﻧﻨﻔﺬ إﱃ ﻟُﺐﱢ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة وﻧﻮﺿﺤﻬﺎ دَﻋُ ﻮﻧَﺎ ﻧﺘﺒﻊ ﺳﻠﺴﻠﺔ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ: ﺟﻤﻴﻊ اﻟﺴﻨﺎﻛﺮ ﺑﻨﺎﻛﺮ. ﺟﻤﻴﻊ اﻟﺒﻨﺎﻛﺮ ﺣﻨﺎﻛﺮ. إذن: ﺟﻤﻴﻊ اﻟﺴﻨﺎﻛﺮ ﺣﻨﺎﻛﺮ. ً ﺳﻴﺎﻗﺎ إن ﻛﻞ ﻫﺬه اﻟﻜﻠﻤﺎت ﻋﺪا »ﺟﻤﻴﻊ« و»إذن« ﻻ ﻣﻌﻨﻰ ﻟﻬﺎ ،إﻻ أن أﻳٍّﺎ ِﻣﻨﱠﺎ ﻗﺪ ﻳ َِﺠ ُﺪ ﻟﻬﺎ ﺗﻜﻮن ﻓﻴﻪ ﺻﺤﻴﺤﺔ ،ﻓﺎﻟﻨﺘﻴﺠﺔ ﺗﻨﺒﻊ ﻣﻨﻄﻘﻴٍّﺎ ﻣﻦ املﻘﺪﱢﻣﺎت ،ﻓﺈذا ﻛﺎﻧﺖ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﺴﻨﺎﻛﺮ ﺑﻨﺎﻛﺮ وﻛﺎﻧﺖ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﺒﻨﺎﻛﺮ ﺣﻨﺎﻛﺮ ﻓﺈﻧﻪ »ﻣﻦ اﻟﴬوري« ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﺬﻟﻚ أن ﺗﻜﻮن ﺟﻤﻴﻊ اﻟﺴﻨﺎﻛﺮ ﺣﻨﺎﻛﺮ .وﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ أي ﻣﻌﻨﻰ ﻟﻠﺴﻨﺎﻛﺮ أو اﻟﺒﻨﺎﻛﺮ أو اﻟﺤﻨﺎﻛﺮ ،إﻻ أﻧﻪ ﻻ ﻋﻼﻗﺔ ﻟﻬﺬا ﺑﻤﺴﺄﻟﺔ اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ واملﻘﺪﻣﺎت ،ﻓﻬﺬه اﻟﻜﻠﻤﺎت اﻟﺘﻲ ﻻ ﻣﻌﻨﻰ ﻟﻬﺎ ﰲ ﻫﺬا اﻻﺳﺘﺪﻻل ﺗُ ْﺴ ِﻠ ُﻤﻨَﺎ إﱃ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻣﻬﻤﺔ ﻣﻔﺎدﻫﺎ أن ﺻﺤﺔ ﻣﺴﺄﻟﺔ اﺳﺘﺪﻻﻟﻴﺔ ﻣﻨﻄﻘﻴﺔ أو ﺧﻄﺄﻫﺎ )أي ﺳﻮاء أﻛﺎن اﻻﺳﺘﻨﺘﺎج ﻳﻨﺒﻊ ﻣﻦ املﻘﺪﻣﺎت أم ﻻ( ﻻ ﻳﻌﺘﻤﺪان ﻋﲆ ﺻﺤﺔ املﻘﺪﻣﺎت أو ﺧﻄﺌﻬﺎ .وﻗﺪ ﻛﺎن أرﺳﻄﻮ أول ﻣﻦ ﻋُ ﻨ َِﻲ ﺑﺎﻟﺒﺤﺚ ﻋﻤﺎ ﺗﻌﺘﻤﺪ ﻋﻠﻴﻪ املﺴﺎﺋﻞ اﻻﺳﺘﺪﻻﻟﻴﺔ وﺑﺘﻘﺪﻳﻢ اﻹﺟﺎﺑﺔ اﻟﺼﺤﻴﺤﺔ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﺴﺆال. ﻟﻘﺪ رأى أرﺳﻄﻮ أن ﺻﺤﺔ ﺣُ ﺠﱠ ٍﺔ ﻛﻬﺬه اﻟﺤُ ﺠﺔ ﺗﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ ﻧﻮع ﻣﻦ أﻧﻮاع اﻟﺒﻨﺎء اﻟﺬي َ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻮﺿﻴﺤُ ﻪ ﺑﺘﺠﺎﻫﻞ اﻟﺘﻔﺎﺻﻴﻞ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﻤﻮﺿﻮع اﻟﺤﺠﺔ؛ وﻟﻬﺬا َﻓ ْﻠﻨُﻨَﺢﱢ ﺟﺎﻧﺒًﺎ ﱠ وﺳﻴﺘﺒﻘﻰ ﻟﻚ ﻫﻴﻜﻞ ﻳ َُﺴﻤﱠ ﻰ اﻟﺒﻨﺎء املﻨﻄﻘﻲ ﻛﺎﻟﺘﺎﱄ: ﻋﻦ اﻟﺴﻨﺎﻛﺮ واﻟﺤﻨﺎﻛﺮ ﻛﻞ )أ( ﻫﻮ )ب(. وﻛﻞ )ب( ﻫﻮ )ج(. 279
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
إذن: ﻛﻞ )أ( ﻫﻮ )ج(. ﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ﻻ ﻳﻬﻤﻨﺎ ﻣﺎ ﻳﺮﻣﺰ إﻟﻴﻪ ﻛ ﱞﻞ ﻣﻦ )أ( و)ب( و)ج( أو أﻳﺔ ﻣﺼﻄﻠﺤﺎت أﺧﺮى ﻧﺴﺘﺒﺪﻟﻬﺎ ﺑﻬﺎ ،ﻓﺴﺘﻜﻮن اﻟﻨﺘﻴﺠﺔ اﺳﺘﻨﺘﺎﺟً ﺎ ﺻﺤﻴﺤً ﺎ؛ أي إﻧﻪ إذا ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻜﻠﻤﺎت اﻟﺘﻲ َﺳﺘُ ْﺴﺘَﺒْ َﺪ ُل ﺑﻬﺎ اﻷﺣﺮف )أ( و)ب( و)ج( ﺗﺠﻌﻞ اﻟﻌﺒﺎرﺗني اﻷوﻟﻴني ﺻﺤﻴﺤﺘني ﻓﺈن اﻟﻌﺒﺎرة اﻟﺜﺎﻟﺜﺔ ﺳﺘﻜﻮن ﺻﺤﻴﺤﺔ ﺑﺸﻜﻞ ﺗﻠﻘﺎﺋﻲ ،واملﺜﺎل اﻟﺬي ﴐﺑﻨﺎه ﻋﻦ اﻟﺴﻨﺎﻛﺮ واﻟﺒﻨﺎﻛﺮ ﻳﺘﺒﻊ ﻫﺬا اﻟﺒﻨﺎء وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﺈﻧﻪ ﺻﺤﻴﺢ. وﻻ رﻳﺐ أن ﺛﻤﺔ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻷﻧﻤﺎط ﻏري اﻟﺼﺤﻴﺤﺔ ﻟﻠﺤﺠﺞ ،ﻓﻜﻤﺎ ﻳﻘﻮل أرﺳﻄﻮ: »ﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أن ﺑﻌﺾ اﻻﺳﺘﺪﻻﻻت أﺻﻠﻴﺔ وﺑﻌﻀﻬﺎ ﻏري ذﻟﻚ .وﻫﺬا ﻳﺤﺪث ﻣﻊ اﻟﺤﺠﺞ ﻛﻤﺎ ﻳﺤﺪث ﻣﻊ ﻏريﻫﺎ ﻣﻦ اﻷﻣﻮر ﺑﺴﺒﺐ اﻟﺘﺸﺎﺑُﻪ ﺑني اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ واﻟﺰاﺋﻒ «.وﻟﻨﴬب ً ﻣﺜﺎﻻ ﻋﲆ ﺣﺠﺔ زاﺋﻔﺔ ﻛﻤﺎ ﻳﲇ: ﻟﻴﺴﺖ اﻟﺜﻌﺎﺑني ﺧﻨﺎزﻳ َﺮ. اﻟﺨﻨﺎزﻳﺮ ﻻ ﺗﻄري. إذن: اﻟﺜﻌﺎﺑني ﻻ ﺗﻄري. ﺟﻤﻴﻊ ﻫﺬه اﻟﻌﺒﺎرات ﺻﺤﻴﺤﺔ ،ﻓﻼ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ اﻟﺜﻌﺎﺑني وﻻ اﻟﺨﻨﺎزﻳﺮ اﻟﻄريان ،وﻟﻴﺴﺖ اﻟﺜﻌﺎﺑني ﺧﻨﺎزﻳﺮ ،ورﻏﻢ ذﻟﻚ ﻓﺈن اﻟﺤﺠﺔ ﺑﺎﻃﻠﺔ ،وﻳﻤﻜﻦ ﻟﺒﻨﺎء أرﺳﻄﻮ املﻨﻄﻘﻲ أن ﻳﱪﻫﻦ ﻋﲆ ذﻟﻚ وﻳﻔﴪه .وﻫﺬه اﻟﺤﺠﺔ ﺗﺘﺒﻊ اﻟﺒﻨﺎء اﻟﺘﺎﱄ: )أ( ﻟﻴﺲ )ب(. )ب( ﻟﻴﺲ )ج(. إذن: )أ( ﻟﻴﺲ )ج(. ﻧﺠﺪ أﻣﺜﻠﺔ ﻋﲆ اﻟﺤﺮوف )أ( و)ب( و)ج(؛ ﻟﻮ ﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﺸﻜﻞ ﺻﺤﻴﺤً ﺎ ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺴﺘﺤﻴﻞ أن ِ ُ إﺛﺒﺎت ذﻟﻚ .ﻓﻠﻨﺮﻣﺰ ﺑﺤﻴﺚ ﺗﺼري املﻘﺪﻣﺎت ﺻﺤﻴﺤﺔ واﻟﻨﺘﺎﺋﺞ ﺧﺎﻃﺌﺔ ،إﻻ أﻧﻪ ﻣﻦ املﻤﻜﻦ ﻟﻠﻄﻴﻮر ﺑﺎﻟﺤﺮف )أ( واﻟﺨﻨﺎزﻳﺮ ﺑﺎﻟﺤﺮف )ب( واﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ اﻟﻄريان ﺑﺎﻟﺤﺮف )ج( ،وﻫﺬا ﻋﲆ اﻟﻨﺤﻮ اﻟﺘﺎﱄ: 280
املﻌﻠﻢ اﻷول :أرﺳﻄﻮ
اﻟﻄﻴﻮر ﻟﻴﺴﺖ ﺧﻨﺎزﻳﺮ. اﻟﺨﻨﺎزﻳﺮ ﻻ ﺗﻄري. إذن: اﻟﻄﻴﻮر ﻻ ﺗﻄري. وﻫﺬا ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻏري ﺻﺤﻴﺢ وﺑﺎﻃﻞ؛ ﻷﻧﻪ وﺿﻊ ﺣﻘﻴﻘﺘني وﻧﺘﺞ ﻋﻨﻬﻤﺎ ﻧﺘﻴﺠﺔ زاﺋﻔﺔ ،ﻓﻠﻢ ﺗﻜﻦ اﻟﻄﻴﻮر ﻳﻮﻣً ﺎ ﺧﻨﺎزﻳﺮ وﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﺨﻨﺎزﻳﺮ أﺑﺪًا أن ﺗﻄري وﻟﻜﻦ اﻟﻄﻴﻮر ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ اﻟﻄريان؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﺈن ﺷﻜﻞ اﻟﺒﻨﺎء املﻨﻄﻘﻲ »ﺟﻤﻴﻊ )أ( ﻫﻮ )ب( وﺟﻤﻴﻊ )ب( ﻫﻮ )ج( إذن ﻓﺈن ﺟﻤﻴﻊ )أ( ﻫﻮ )ج(« ﻫﻮ ﺷﻜﻞ ﺻﺤﻴﺢ ،أﻣﺎ اﻟﺒﻨﺎء املﻨﻄﻘﻲ »)أ( ﻟﻴﺲ )ب( و)ب( ﺷﻜﻼ ً ً ً وﺑﺎﻃﻼ ،واملﺜﺎل اﻟﺴﺎﺑﻖ ﻋﻦ زاﺋﻔﺎ ﻟﻴﺲ )ج( إذن )أ( ﻟﻴﺲ )ج(« ﻓﻼ ﺑﺪ أن ﻳﻜﻮن اﻟﻄﻴﻮر ﻳﺜﺒﺖ ﺻﺤﺔ ذﻟﻚ. وﻗﺪ أﺻﺒﺢ ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﺳﺘﺨﺪام اﻟﺮﻣﻮز اﻟﻌﺎﻣﺔ ﻣﺜﻞ )أ( و)ب( و)ج( أﻣ ًﺮا ﻣﻌﺘﺎدًا ﻻ ﺳﻴﻤﺎ ﰲ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت وﻛﺬﻟﻚ ﰲ اﻷﻏﻨﻴﺔ اﻟﻘﺎﺋﻠﺔ: اﻧﻈﺮ ﻛﻴﻒ ﺗﻮ ﱢزع اﻷﻗﺪار اﻟﻌﻄﺎﻳﺎ. ﻷن )أ( ﺳﻌﻴﺪ و)ب( ﻟﻴﺲ ﻛﺬﻟﻚ. وﻟﺬﻟﻚ ﻓﺈن )ب( ﻳﺴﺘﺤﻖ رﺧﺎء أﻛﺜﺮ ﻣﻦ )أ(. وﻛﻤﺎ أن ﺑﻤﻘﺪور املﺮء أن ﻳﺼﻮغ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ اﻟﻌﺎﻣﺔ ﺑﺎﺳﺘﺨﺪام اﻟﺮﻣﻮز اﻟﺘﻲ ﺗﺮﻣﺰ إﱃ اﻷرﻗﺎم وﻟﻴﺲ ﺑﺎﺳﺘﺨﺪام رﻗﻢ ﻣﺤﺪد )ﻛﻤﺎ ﻧﻘﻮل ﰲ س +ص = ص +س( ﻓﻘﺪ اﺳﺘﻄﺎع أرﺳﻄﻮ أن ﻳﺼﻮغ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ اﻟﻌﺎﻣﺔ ﻋﻦ املﻨﻄﻖ ﺑﺎﺳﺘﺨﺪام اﻟﺮﻣﻮز اﻟﺘﻲ ﺗﺮﻣﺰ ﻟﻠﻤﺼﻄﻠﺤﺎت وﻟﻴﺲ ملﺼﻄﻠﺢ ﺑﻌﻴﻨﻪ ﻣﺜﻞ اﻟﺤﺮوف )أ( و)ب( و)ج( .وﻳﺒﺪو أن أرﺳﻄﻮ ﱢ »املﺘﻐري« ﻛﻤﺎ ﻳُﺴﻤﱠ ﻰ اﻵن ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﰲ ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻻﺳﺘﺨﺪام. ﻫﻮ ﻣَ ْﻦ اﺑﺘﻜﺮ ﻣﻔﻬﻮم وﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أن ﻋﻠﻤﺎء اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ﻟﻢ ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻮا ﻫﺬا املﻔﻬﻮم ﺣﺘﻰ وﻗﺘﻪ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ اﻷرﻗﺎم، رﻏﻢ أﻧﻬﻢ اﺳﺘﺨﺪﻣﻮا اﻟﺤﺮوف ﻟﻺﺷﺎرة إﱃ ﺧﻄﻮط اﻷﺷﻜﺎل اﻟﻬﻨﺪﺳﻴﺔ ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻛﺎن ﺑﺬرة ﻓﻜﺮة أرﺳﻄﻮ اﻟﺮاﺋﻌﺔ. وﺗﺪور اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ املﻨﻄﻘﻴﺔ اﻟﻌﺎﻣﺔ اﻟﺘﻲ اﻋﺘﻤﺪ ﻋﻠﻴﻬﺎ أرﺳﻄﻮ ﺣﻮل أﻧﻮاع اﻟﺠﻤﻞ اﻷرﺑﻌﺔ اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ» :ﻛﻞ )أ( ﻫﻮ )ب(« و»ﻛﻞ )أ( ﻟﻴﺲ )ب(« و»ﺑﻌﺾ )أ( ﻫﻮ )ب(« و»ﺑﻌﺾ )أ( ﻟﻴﺲ )ب(« .وﻗﺪ ﻗﺎل أرﺳﻄﻮ إن ﻛﻞ ﻋﺒﺎرة ﻳﻤﻜﻦ اﺧﺘﺼﺎ ُرﻫﺎ ﰲ ﺟﻤﻠﺔ ﻣﻦ ﻣﺼﻄﻠﺤني 281
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻫﻤﺎ) :املﻮﺿﻮع )أ( واملﺤﻤﻮل )ب(( وﻳﺠﺐ ﻛﺬﻟﻚ أن ﺗﻜﻮن إﻣﺎ ﻣﻮﺟﺒﺔ أو ﺳﺎﻟﺒﺔ وأن ﺗﻜﻮن إﻣﱠ ﺎ ﺧﺎﺻﺔ أو ﻋﺎﻣﺔ ﻟﻜﻲ ﺗُﻤَ ﱢﻜﻨﻨَﺎ ﻣﻦ اﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ أﺣﺪ ﻫﺬه اﻻﺣﺘﻤﺎﻻت اﻷرﺑﻌﺔ. وﻗﺪ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ اﻟﻌﺎﻣﺔ اﻷوﱃ اﻟﺘﻲ ﺗَﻮ ﱠ َﺻ َﻞ إﻟﻴﻬﺎ أرﺳﻄﻮ ﻋﻦ ﻫﺬه اﻷﻧﻮاع ﻣﻦ اﻟﻌﺒﺎرات ﺗﺪور ﺣﻮل ﺗﺒﺪﻳﻞ أﻣﺎﻛﻦ املﻮﺿﻮع واملﺤﻤﻮل )أ( و)ب( ،وﻗﺪ أﺷﺎر إﱃ أﻧﻪ ﻣﻦ املﻤﻜﻦ أن ﺗُﺒَ ﱠﺪ َل ﻋﲆ اﻟﻨﺤﻮ اﻟﺘﺎﱄ» :ﻟﻴﺲ )أ( ﻫﻮ )ب(« و»ﺑﻌﺾ )أ( ﻫﻮ )ب(« وﻟﻜﻦ ﻟﻴﺲ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ »ﻛﻞ )أ( ﻫﻮ )ب(« أو »ﺑﻌﺾ )أ( ﻟﻴﺲ )ب(« ،ﻓﻌﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل إذا ﻛﺎن )أ( ﻟﻴﺲ )ب( ﻓﺈن ﻫﺬا ﻳﻌﻨﻲ أن )ب( ﻟﻴﺲ )أ( )أي إذا ﻟﻢ ﻳﻜﻦ اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﻮن ﺟﺪﻳﺮﻳﻦ ﺑﺎﻟﺜﻘﺔ؛ ﻓﻜﻞ ﺟﺪﻳﺮ ﺑﺎﻟﺜﻘﺔ ﻟﻴﺲ ﺳﻴﺎﺳﻴٍّﺎ ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ( .وﻛﺬﻟﻚ إذا ﻛﺎن ﺑﻌﺾ )أ( ﻫﻮ )ب( ﻓﺈن ﺑﻌﺾ )ب( ﻫﻮ )أ( )أي إذا ﻛﺎن ﺑﻌﺾ املﺤﺎﻣني َﻛ َﺴﺎﱃ ﻓﺈن ﺑﻌﺾ اﻟﻜﺴﺎﱃ ﻣﺤﺎﻣﻮن( .أﻣﺎ إذا ﻛﺎن ﻛﻞ )أ( ﻫﻮ )ب( ﻓﻠﻴﺲ ﻛﻞ )ب( ﻫﻮ )أ( )ﻓﻜﻞ اﻟﻘﻄﻂ ﺣﻴﻮاﻧﺎت ،وﻟﻜﻦ ﻟﻴﺴﺖ ﻛﻞ اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت ﻗﻄ ً ﻄﺎ( .وإذا ﻛﺎن ﺑﻌﺾ )أ( ﻟﻴﺲ )ب( ﻓﻼ ﻳﻌﻨﻲ ﻫﺬا أن ﺑﻌﺾ )ب( ﻟﻴﺲ )أ( )ﻓﺒﻌﺾ اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت ﻟﻴﺴﺖ ﻗﻄ ً ﻄﺎ ،وﻟﻜﻦ ﻫﺬا ﻻ ﻳﻌﻨﻲ أن ﺑﻌﺾ اﻟﻘﻄﻂ ﻟﻴﺴﺖ ﺣﻴﻮاﻧﺎت(. ً وﺗﺸﻮﻳﻘﺎ ﻫﻲ وﻳﺒﺪو أن أرﺳﻄﻮ ﻗﺪ اﻓﱰض أن أﻛﺜﺮ أﺷﻜﺎل اﻻﺳﺘﻨﺒﺎط إﺛﺎر ًة وﻣﺘﻌﺔ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳُﻌﱪ ﻋﻨﻬﺎ ﰲ ﺻﻮرة ﺣﺠﺞ ﻛﻤﺎ ﰲ أﻣﺜﻠﺔ اﻟﺴﻨﺎﻛﺮ واﻟﺨﻨﺎزﻳﺮ واﻟﻄﻴﻮر؛ ذﻟﻚ أﻧﻬﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺮﺗﻴﺒﻬﺎ ﰲ ﺷﻜﻞ ﻋﺒﺎرات ﺛﻼﺛﻴﺔ ﺗﺘﻜﻮن ﻣﻦ ﻣﻘﺪﻣﺘني وﻧﺘﻴﺠﺔ واﺣﺪة، وﺗﻨﺘﻤﻲ ﻛﻞ ﻋﺒﺎرة ﻣﻨﻬﺎ ﻷﺣﺪ اﻷﻧﻮاع اﻷرﺑﻌﺔ اﻟﺘﻲ ذﻛﺮﻫﺎ )ﻛﻞ )أ( ﻫﻮ )ب( وﻛﻞ )أ( ﻟﻴﺲ )ب( وﺑﻌﺾ )أ( ﻫﻮ )ب( وﺑﻌﺾ )أ( ﻟﻴﺲ )ب(( .وﻗﺪ أﺻﺒﺤﺖ اﻟﺤﺠﺞ اﻟﺘﻲ ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻘﺒﻴﻞ ﻳُ ْ ﻄ َﻠ ُﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﺳﻢ أﺷﻜﺎل اﻟﻘﻴﺎس .و ِﺑﻨﺎءً ﻋﲆ ﺗﺼﻨﻴﻒ أرﺳﻄﻮ ﻟﻬﺬه اﻷﺷﻜﺎل ﻛﺎن ﻫﻨﺎك ١٩٢ﺻﻮرة ﻣﺘﻔ ﱢﺮﻋﺔ ﻋﻦ اﻷﺷﻜﺎل اﻷرﺑﻌﺔ ﻣﻨﻬﺎ ١٤ﻓﻘﻂ ﺻﺤﻴﺤﺔ .واﺳﺘﻄﺎع أرﺳﻄﻮ ﺑﺎﺳﺘﺨﺪام ﻫﺬا اﻟﺘﺼﻨﻴﻒ ﻟﻸﺷﻜﺎل اﻷرﺑﻌﺔ وﺿ َﻊ ﺑﻌﺾ اﻟﻘﻮاﻋﺪ اﻟﻌﺎﻣﺔ ﻟﻠﻘﻴﺎس املﻨﻄﻘﻲ ،وﻛﺎﻧﺖ اﺛﻨﺘﺎن ﻣﻦ أﺑﺴﻂ ﻫﺬه اﻟﻘﻮاﻋﺪ ﻫﻤﺎ أن ﻟﻜﻞ ﻗﻴﺎس ﺻﺤﻴﺢ ﻣﻘﺪﻣﺔ واﺣﺪة ﻣﻮﺟﺒﺔ )أي »ﻛﻞ )أ( ﻫﻮ )ب(« أو »ﺑﻌﺾ )أ( ﻫﻮ )ب(«( ،واﻷﺧﺮى ﻫﻲ أن ﻟﻜﻞ ﻗﻴﺎس ﺻﺤﻴﺢ ﻣﻘﺪﻣﺔ ﻛﻠﻴﺔ واﺣﺪة ﻋﲆ اﻷﻗﻞ )أي »ﻛﻞ )أ( ﻫﻮ )ب(« أو »ﻛﻞ )أ( ﻟﻴﺲ )ب(«(. وﻳﻘﻮل أرﺳﻄﻮ إن أرﺑﻌﺔ ﻣﻦ أﺷﻜﺎل اﻟﻘﻴﺎس اﻟﺘﻲ ﺗَﻮ ﱠ َﺻ َﻞ إﻟﻴﻬﺎ »ﻣﺜﺎﻟﻴﺔ« أو »ﻛﺎﻣﻠﺔ« ً ﺑﻤﻌﻨﻰ أن ﺻﺤﺘﻬﺎ ِ ﻃﺮﻗﺎ ﻋﺪة وﺻﺪﻗﻬﺎ ﻳﻈﻬﺮان ﻟﻠﻌﻴﺎن ﻣﻦ اﻟﻮﻫﻠﺔ اﻷوﱃ .وﻗﺪ اﺳﺘﺨﺪم ﻟﺮﺑﻂ ﻛ ﱟﻞ ﻣﻦ اﻷﺷﻜﺎل اﻟﻌﴩة اﻷﺧﺮى اﻟﺼﺤﻴﺤﺔ ﻟﻠﻘﻴﺎس املﻨﻄﻘﻲ ﺑﻮاﺣﺪ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻷﻧﻮاع اﻷرﺑﻌﺔ .وﻧﻈ ًﺮا ﻷن اﻷﺷﻜﺎل اﻷرﺑﻌﺔ املﺜﺎﻟﻴﺔ ﺻﺤﻴﺤﺔ ﻓﻘﺪ ﺑﺮﻫﻦ أرﺳﻄﻮ ﻋﲆ أن اﻷﺷﻜﺎل اﻟﻌﴩة اﻷﺧﺮى ﻳﺠﺐ أن ﺗﻜﻮن ﺻﺤﻴﺤﺔ ً أﻳﻀﺎ. 282
املﻌﻠﻢ اﻷول :أرﺳﻄﻮ
وﻣﻦ ﺧﻼل اﺷﺘﻘﺎق ﺟﻤﻴﻊ اﻷﺷﻜﺎل اﻟﺼﺤﻴﺤﺔ ﻟﻠﻘﻴﺎس املﻨﻄﻘﻲ ﻣﻦ اﻷﺷﻜﺎل اﻷرﺑﻌﺔ املﺜﺎﻟﻴﺔ )وﺗﻮﺿﻴﺢ أن ﻫﺬه اﻷﺷﻜﺎل اﻷرﺑﻌﺔ ﻫﻲ ﺑﺪورﻫﺎ أﻣﺜﻠﺔ ملﺒﺪأ ﻋﺎم وﺣﻴﺪ ﻟﻦ ﻧﺘﻄﺮق إﻟﻴﻪ( ﺑﻨﻰ أرﺳﻄﻮ ﻧﻈﺎﻣً ﺎ ﻣﻨﻄﻘﻴٍّﺎ ﻣﺒﻬ ًﺮا ﺗﺎه ﺑﻪ ﻓﺨ ًﺮا ﻋﲆ ﺧﻼف ﻣﺎ ﻋﻬﺪﻧﺎه ﻣﻨﻪ .ﻓﺤﺘﻰ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ ﻛﺎن ﺟُ ﱡﻞ املﻬﺘﻤني ﺑﺎﻟﺒﺤﺚ ﰲ ﻫﺬا املﺠﺎل ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ﻳﻌﺘﻘﺪون أن ﻫﺬا اﻟﻨﻈﺎم ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻄﻮﻳ ُﺮه ﺑﺸﻜﻞ ﻛﺒري ،وﻟﻢ ﱠ ﻳﺘﺒﻖ إﻻ أن ﻳﺘﻌﻠﻤﻮه ﺑﺪﻗﺔ .وﻗﺪ ﻛﺎن اﻟﻄﻼب ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ﻳﺘﻌﻠﻤﻮن ﻣﻨﻈﻮﻣﺎت ﺷﻌﺮﻳﺔ ﻃﺮﻳﻔﺔ ﺗﺴﺎﻋﺪﻫﻢ ﻋﲆ ﻫﻀﻢ ﻓﻜﺮة اﻟﻘﻴﺎس اﻟﻌﺒﻘﺮﻳﺔ ﻟﺪى أرﺳﻄﻮ اﻟﺘﻲ ﺑﺪت وﻛﺄﻧﻬﺎ وﺣﻲ ﻧﺰل ﻣﻦ اﻟﺴﻤﺎء ،وذﻟﻚ ﻋﲆ اﻟﻨﺤﻮ اﻟﺘﺎﱄ: Barbara celarent darii ferio baralipton. ;Celantes dabitis fapesmo frisesomorum Cesare campestres festino baroco; darapti. Felapton disamis datisi bocardo ferison.
وﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه املﻘﻄﻮﻋﺎت اﻟﺸﻌﺮﻳﺔ اﻟﺮﺑﺎﻋﻴﺔ ،اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻜﻮن ﻣﻦ أﺳﻤﺎء أﺷﻜﺎل اﻟﻘﻴﺎس ،ﺗﻀﻢ رﺳﺎﺋﻞ ﻣﻀﻤَ ﺮة ﺗﺨﱪ اﻟﻄﻼب ﺑﺎﻟﺼﺤﻴﺢ ﻣﻨﻬﺎ وﺑﻜﻴﻔﻴﺔ رﺑﻂ ﻛ ﱟﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﺑﺄﺣﺪ اﻷﺷﻜﺎل اﻷرﺑﻌﺔ املﺜﺎﻟﻴﺔ ﻟﻠﻘﻴﺎس. واﺳﺘﻐﺮق اﻛﺘﺸﺎف أن املﻨﻄﻖ ﻳﻨﻄﻮي ﻋﲆ ﻣﺎ ﻫﻮ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ أﺷﻜﺎل املﻨﻄﻖ اﻷرﺳﻄﻲ ﺑﺮﻫﺔ ﻃﻮﻳﻠﺔ ﻣﻦ اﻟﺰﻣﻦ .ﻓﻜﺘﺐ ﻛﺎﻧﻂ ﰲ ﻋﺎم ١٧٨٧م ﻳﻘﻮل إن أﺷﻜﺎل املﻨﻄﻖ اﻷرﺳﻄﻲ ً ﻣﺘﻜﺎﻣﻼ ﻻ ﻧﻘﺺ ﻓﻴﻪ وﻻ ﻋﻴﺐ وﻻ ﺧﻠﻞ «.وﺑﺎملﺜﻞ ﻛﺘﺐ أﺣﺪ اﻷﺳﺎﻗﻔﺔ املﺜﺎﻟﻴﺔ »ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺬﻫﺒًﺎ ً ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ ٍّ واﺻﻔﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﻨﻄﻖ أرﺳﻄﻮ ﺑﺄﻧﻪ »اﻟﺸﻜﻞ اﻟﺬي ﻳﻤﻜﻦ ﻧﺼﺎ ﰲ املﻨﻄﻖ أن ﺗُ ْﺨﺘَ َﺰل ﻓﻴﻪ ﺟﻤﻴﻊ أﺷﻜﺎل اﻻﺳﺘﺪﻻل اﻟﺼﺤﻴﺤﺔ« ،وﻛﺬﻟﻚ ﻛﺘﺐ ﺟﻮن ﺳﺘﻴﻮارت ِﻣﻞ ﰲ ﻋﺎم ١٨٤٣م ﻳﻘﻮل إن أﺷﻜﺎل اﻟﻘﻴﺎس اﻷرﺳﻄﻲ املﺜﺎﻟﻴﺔ ﻫﻲ »اﻷﻧﻮاع اﻟﺠﺎﻣﻌﺔ ﻟﺠﻤﻴﻊ أﺷﻜﺎل اﻻﺳﺘﻨﺒﺎط اﻟﺼﺤﻴﺢ «.وﻟﻜﻦ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻗﺎل أوﺟﺴﺖ دو ﻣﻮرﺟﺎن — وﻫﻮ أﺣﺪ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ وﻋﻠﻤﺎء اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت اﻹﻧﺠﻠﻴﺰ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ — إن ﻣﻨﻄﻖ أرﺳﻄﻮ )ﺑﻐﺾ اﻟﻨﻈﺮ ﻋﻦ ادﱢﻋﺎء ﻛﻮﻧ ِِﻪ ﺟﺎﻣﻌً ﺎ( ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻪ أن ﻳﱪﻫﻦ ﻋﲆ أن رأس اﻟﺤﺼﺎن ﻫﻮ رأس ﺣﻴﻮان؛ أي ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻪ اﻟﺘﺪﻟﻴﻞ ﻋﲆ ﺻﺤﺔ اﺳﺘﻨﺘﺎﺟﺎت ﻣﺜﻞ »اﻟﺨﻴﻮل ﺣﻴﻮاﻧﺎت إذن إن رأس اﻟﺤﺼﺎن ﻫﻮ رأس ﺣﻴﻮان« ﻷن ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻻﺳﺘﻨﺒﺎط ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻌﱪ ﻋﻨﻪ أﺷﻜﺎل اﻟﻘﻴﺎس اﻷرﺳﻄﻲ. وﺑﺼﻔﺔ ﻋﺎﻣﱠ ﺔ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ اﻟﻘﻮل إﻧﱠﻪ ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن أﺷﻜﺎل اﻟﻘﻴﺎس اﻷرﺳﻄﻲ ﻣﻨﺎﺳﺒﺔ ﰲ ﻣُﺠﻤﻠِﻬﺎ ﻟﻠﺘﻌﺎﻣُﻞ ﻣﻊ اﻻﺳﺘﻨﺒﺎﻃﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻨﻄﻮي ﻋﲆ ﻧﻮع اﻟﻌﺒﺎرات املﻔﻀﻞ ﻟﺪﻳﻪ ﻣﺜﻞ »ﻛﻞ 283
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
)أ( ﻫﻮ )ب(« و»ﺑﻌﺾ )أ( ﻫﻮ )ب(« وﻣﺎ إﱃ ذﻟﻚ؛ ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺗﺒﻘﻰ ﻏري ﻗﺎﺑﻠﺔ ﻟﻠﺘﻄﺒﻴﻖ ﻋﲆ ﻛﺜري ﻣﻦ أﺷﻜﺎل اﻻﺳﺘﻨﺒﺎط اﻷﺧﺮى ،ﻓﻌﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﺳﺘﺨﺪاﻣﻬﺎ ﻣﻊ اﻟﻌﺒﺎرات املﺮﻛﺒﺔ ﻣﺜﻞ» :إذا ﺿﻌﻔﺖ اﻟﻄﺎﻗﺔ ﻓﺴﺘﺘﻮﻗﻒ اﻟﺴﺎﻋﺔ« ،وﻫﻲ ﺑﺬﻟﻚ ﻻ ﺗﻐﻄﻲ ﺑﻌﺾ اﻻﺳﺘﻨﺒﺎﻃﺎت ﻣﺜﻞ: إذا ﺿﻌﻔﺖ اﻟﻄﺎﻗﺔ ﻓﺴﺘﺘﻮﻗﻒ اﻟﺴﺎﻋﺔ. اﻟﺴﺎﻋﺔ ﻟﻢ ﺗﺘﻮﻗﻒ. إذن: اﻟﻄﺎﻗﺔ ﻟﻢ ﺗﻀﻌﻒ. وﺗُ َﺴﻤﱠ ﻰ دراﺳﺔ اﻻﺳﺘﻨﺒﺎﻃﺎت ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﺑﺎملﻨﻄﻖ اﻻﻓﱰاﴈ ﻷﻧﻪ ﻳﺴﺘﺨﺪم ﻛﺜريًا ﻣﻦ ﱢ املﺘﻐريات ﻟﻴﺸري إﱃ اﻓﱰاﺿﺎت ﻛﻠﻴﺔ ﻣﺜﻞ »ﺿﻌﻔﺖ اﻟﻄﺎﻗﺔ« ،ﰲ ﺣني أن املﻨﻄﻖ اﻷرﺳﻄﻲ ﻻ ﻳﺴﺘﺨﺪم إﻻ )أ( و)ب( ﻟﻴﺸري إﱃ ﻣﺼﻄﻠﺤﺎت املﻮﺿﻮع واملﺤﻤﻮل ﻣﺜﻞ »اﻟﻄﻴﻮر« و»اﻟﺬﺑﺎب« .وﰲ املﻨﻄﻖ اﻻﻓﱰاﴈ ﻳﻤﻜﻦ اﺳﺘﺨﺪام اﻟﺮﻣﺰ )أ( ﻟﻺﺷﺎرة إﱃ »ﺿﻌﻔﺖ اﻟﻄﺎﻗﺔ« واﻟﺮﻣﺰ )ب( ﻟﻺﺷﺎرة إﱃ »ﺳﺘﺘﻮﻗﻒ اﻟﺴﺎﻋﺔ« وﻣﻦ ﺛﻢ ﻳﻤﻜﻦ ﻋﺮض اﻟﺸﻜﻞ املﻨﻄﻘﻲ ﻟﻬﺬا اﻟﻘﻴﺎس ﻋﲆ اﻟﻨﺤﻮ اﻟﺘﺎﱄ »إذا ﺗﺮﺗﺐ )أ( ﻋﲆ )ب( وﻛﺎن )ب( ﻏري ﻣﻮﺟﻮد إذن ﻓ )أ( ﻟﻴﺲ ﻣﻮﺟﻮدًا ﻛﺬﻟﻚ«. وﺑﻌﺪ ﻋﴫ أرﺳﻄﻮ ﺑﻔﱰة ﻗﺼرية ﻗﺎم ﺑﻌﺾ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﺬﻳﻦ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻨﺘﻤﻮن إﱃ املﺪرﺳﺔ املﻌﺮوﻓﺔ ﺑﺎﻟﺮواﻗﻴﺔ ﺑﺪراﺳﺔ ﻫﺬه اﻻﺳﺘﻨﺒﺎﻃﺎت ﻓﻮﺿﻌﻮا ﻧﻈﺎﻣً ﺎ ﻣﻨﻄﻘﻴٍّﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺘﻨﺎول ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻻﺳﺘﻨﺒﺎﻃﺎت إﱃ ﺣَ ﱟﺪ ﻣﻌني .وﺑﻤﺎ أن اﻟﺮواﻗﻴني ﻛﺎن ﻳُﻨ ْ َ ﻈ ُﺮ إﻟﻴﻬﻢ داﺋﻤً ﺎ ﻋﲆ أﻧﻬﻢ ﻣﻌﺎرﺿﻮن ﻷرﺳﻄﻮ ،وﺑﻤﺎ أن أرﺳﻄﻮ ﻗﺪ ذاع ﺻﻴﺘُﻪ ﺑني اﻟﻨﺎس ﻋﲆ أﻧﻪ رﺟﻞ ﺣﻜﻴﻢ ُ ﺗﺠﺎﻫﻠِﻪ .واﻟﺤﻖ أن ﻓﺈن ﺛﻤﺔ اﻋﺘﻘﺎدًا ذاع ﺑﺄن ﻣﻨﻄﻖ اﻟﺮواﻗﻴني ﻏري ﺻﺤﻴﺢ؛ ﻣﻤﱠ ﺎ ﺗﺴﺒﺐ ﰲ ﻫﺬﻳﻦ املﺬﻫﺒني ﻻ ﻳﺘﻌﺎرﺿﺎن ﻣﻊ ﺑﻌﻀﻬﻤﺎ أﺑﺪًا ﺑﻞ ﻳُﻜﻤﻼن ﺑﻌﻀﻬﻤﺎ؛ ﺣﻴﺚ أدرك ﻋﻠﻤﺎء املﻨﻄﻖ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌ ُﺪ ﺣﺎﺟﺔ املﻨﻄﻖ اﻷرﺳﻄﻲ إﱃ ﺗﺪﻋﻴﻤﻪ ﺑﺎملﻨﻄﻖ اﻟﺮواﻗﻲ اﻻﻓﱰاﴈ واﻟﻌﻜﺲ ﺻﺤﻴﺢ. ﺑﻴﺪ أن املﻨﻄﻖ اﻷرﺳﻄﻲ ﻳﺤﺘﺎج ﻛﺬﻟﻚ إﱃ ﺗﻮﺳﻴﻊ داﺋﺮﺗﻪ ﻛﻲ ﻳﺘﻮاﻛﺐ ﻣﻊ اﻟﻌﺒﺎرات اﻟﺘﻲ ﺗُ ْﺴﺘَ ْﺨ َﺪ ُم ﻓﻴﻬﺎ املﺼﻄﻠﺤﺎت »ذات اﻟﺼﻠﺔ« ﻛﻤﺎ ﺗُ َﺴﻤﱠ ﻰ واﻟﺘﻲ ﺗﻌﱪ ﻋﻦ اﻟﻌﻼﻗﺎت ﺑني و»ﻣﺴﺎو ﻟ« و»ﻫﻮ واﻟﺪ ﻓﻼن«؛ ذﻟﻚ أن أﺷﻜﺎل اﻟﻘﻴﺎس ﺷﻴﺌني أو أﻛﺜﺮ ﻣﺜﻞ »أﻃﻮل ﻣﻦ« ٍ اﻷرﺳﻄﻲ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻻرﺗﻜﺎن إﻟﻴﻬﺎ ﻣﻊ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﻌﺒﺎرات) .وﻳﻨﺪرج ﻣﺜﺎل أوﺟﺴﺖ دو 284
املﻌﻠﻢ اﻷول :أرﺳﻄﻮ
ﻣﻮرﺟﺎن ﻋﻦ رأس اﻟﺤﺼﺎن ﺗﺤﺖ ﻫﺬه اﻟﻔﺌﺔ ﻷﻧﻪ ﻳﺤﺘﻮي ﻋﲆ اﻟﻌﻼﻗﺔ رأس ﻛﺬا( .وﻛﺎن أﺣﺪ اﻟﺬﻳﻦ أدرﻛﻮا اﻟﺤﺎﺟﺔ إﱃ ﻣﻨﻄﻖ ﻳﺘﻌﺎﻣﻞ ﻣﻊ اﻟﻌﻼﻗﺎت ﻫﻮ ﺟﺎﻟني اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف واﻟﻄﺒﻴﺐ ﱡ اﻟﺘﻮﺻﻞ إﱃ ﺑﺪاﻳﺎت ﻫﺬا اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻲ اﻟﺬي ﻋﺎش ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻧﻲ املﻴﻼدي وﺣَ ِﻈ َﻲ ﺑﴩف اﻟﻨﻈﺎم ،وﻟﻜﻦ ﻣﻌﻈﻢ أﻋﻤﺎﻟﻪ ﰲ املﻨﻄﻖ ﻗﺪ ﺿﺎﻋﺖ إﺛﺮ اﻹﻫﻤﺎل ،ﺷﺄﻧﻪ ﺷﺄن ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﺮواﻗﻴني ،رﺑﻤﺎ ﻷن أﺣﺪًا ﻟﻢ ﻳﻌﺮف ﻛﻴﻒ ﻳﻮﻓﻖ ﺑﻴﻨﻬﺎ وﺑني املﻨﻄﻖ اﻷرﺳﻄﻲ .وﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺘﻌﻘﻴﺪات ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻌﻨﻲ ﺷﻴﺌًﺎ واﺣﺪًا ﻓﺤﺴﺐُ وﻫﻮ اﻟﺤﺎﺟﺔ ﻻﺳﺘﻈﻬﺎر املﺰﻳﺪ ﻣﻦ املﻨﻈﻮﻣﺎت اﻟﺸﻌﺮﻳﺔ .وﺣﺘﻰ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ ﻟﻢ ﻳﺪرك ﺳﻮى ﻗﻠﻴﻠني أن ﻋﻠﻤﺎء املﻨﻄﻖ ﻛﺎن ﻋﻠﻴﻬﻢ أن ﻳُﻮﻟُﻮا اﻫﺘﻤﺎﻣً ﺎ أﻛﱪ ﻟﻠﺮواﻗﻴني وﺟﺎﻟني واﻫﺘﻤﺎﻣً ﺎ أﻗﻞ ﻷرﺳﻄﻮ. ﻛﺎن اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﻣﻌﺎﻟﻢ املﻨﻄﻖ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻗﺪ ﺗﻨﺒﱠﺄ ﺑﻪ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف ﻻﻳﺒﻨﺘﺲ )–١٦٤٦ ١٧١٦م( ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ واﻟﺬي ﻟﻢ ﺗﻨﺘﴩ أﻋﻤﺎﻟﻪ ﰲ املﻨﻄﻖ إﻻ ﺑﻌﺪ وﻓﺎﺗﻪ ﺑﻔﱰة ﻃﻮﻳﻠﺔ ،ﻛﻤﺎ ﻟﻢ ﻳُﻌْ ﺘَ ﱠﺪ ﺑﻬﺎ إﻻ ﺑﻌﺪ وﻗﺖ ﻃﻮﻳﻞ .وﻛﺎن ﻻﻳﺒﻨﺘﺲ ﻣﻦ أواﺋﻞ ﻣَ ﻦ وﻗﻔﻮا ﻋﲆ املﻐﺰى اﻟﻜﺎﻣﻞ ﻣﻦ وراء اﺳﺘﺨﺪام أرﺳﻄﻮ ﻟﻠﻤﺘﻐريات ،ﻓﻘﺪ رأى أن ﰲ اﺳﺘﺨﺪام أرﺳﻄﻮ ﻟﻠﻤﻘﺪﱢﻣﺎت اﻟﻘﻴﺎﺳﻴﺔ »ﻧﻮﻋً ﺎ ﻣﻦ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت اﻟﻌﺎﻣﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ ﻳَﻌﺮف أﻫﻤﻴﺘﻬﺎ إﻻ اﻟﻘﻠﻴﻞ« .وﻗﺪ أدرك ﻻﻳﺒﻨﺘﺲ ﻛﺬﻟﻚ أن أﺷﻜﺎل اﻟﻘﻴﺎس اﻷرﺳﻄﻲ ﻻ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ اﻟﺘﻌﺒريَ ﻋﻦ ﺟﻤﻴﻊ أﻧﻮاع اﻻﺳﺘﻨﺒﺎط ،وﻟﻜﻨﻪ ﻛﺎن ﻳﻌﺘﻘﺪ أن ﻧﻈﺎﻣً ﺎ ﻣﻨﻄﻘﻴٍّﺎ أﺷﻤﻞ وأﻋﻢ ﻣﻦ ﻧﻈﺎم أرﺳﻄﻮ ﻳﻤﻜﻨﻪ ً ﺳﺒﻴﻼ ﻟﻼﺳﺘﻌﺎﻧﺔ اﻟﻘﻴﺎم ﺑﻬﺬا اﻟﻌﻤﻞ إذا ﺑُﻨ َِﻲ ﻋﲆ ﻣﻨﻄﻖ أرﺳﻄﻮ ﻻ ﺳﻴﻤﺎ إذا وﺟﺪت ﺑﺄﺳﺎﻟﻴﺐ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت .وﻣﻨﺬ أن ﺑﻠﻎ اﻟﺘﺎﺳﻌﺔ ﻋﴩة ﻣﻦ ﻋﻤﺮه ﺣَ َﻠ َﻢ ﻻﻳﺒﻨﺘﺲ أن ﺗﻜﻮن ﻫﻨﺎك ﻟﻐﺔ ﻛﻠﻴﺔ ﺷﺎﻣﻠﺔ ﺗﺆﺳﺲ ﻟﻘﻮاﻧني اﻻﺳﺘﻨﺒﺎط ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻳﻘﻮل: إن اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﻮﺣﻴﺪة ﻟﺘﺼﺤﻴﺢ اﺳﺘﺪﻻﻻﺗﻨﺎ ﻫﻲ أن ﻧﺠﻌﻠﻬﺎ ﻣﻠﻤﻮﺳﺔ ﻣﺜﻞ اﻻﺳﺘﺪﻻﻻت اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ ﺣﺘﻰ ﻧﺘﻤ ﱠﻜﻦ ﻣﻦ اﻛﺘﺸﺎف أﺧﻄﺎﺋﻨﺎ ﰲ ملﺢ اﻟﺒﴫ ،وإذا ٍ ﻣﺴﺄﻟﺔ ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ ﺑﻜﻞ ﺑﺴﺎﻃﺔ أن ﺣﺪث ﺧﻼف ﺑني ﺑﻌﺾ اﻷﺷﺨﺎص ﺑﺨﺼﻮص ُ ﴪ اﻟﻜﻼم ﻧﺤﺘﻜﻢ إﱃ اﻟﺤﺴﺎب ﻟﻨﺮى ﻣَ ﻦ ﻋﲆ ﺻﻮاب ﻣﻤﱠ ﻦ ﻫﻮ ﻣﺨﻄﺊ .وإذا ﻓ ﱢ َ و ً َﻓﻘﺎ ﻟﻄﺮﻳﻘﺔ أراﻫﺎ ﻣﻤﻜﻨﺔ ،واﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﻳﺘﻮﺻﻞ إﻟﻴﻬﺎ أوﻟﺌﻚ اﻟﺬﻳﻦ أﺳﺴﻮا اﻟﻠﻐﺎت، ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﺼﻞ إﱃ اﻟﻨﺘﻴﺠﺔ املﺒﺘﻐﺎة ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﻜﻠﻤﺎت ﻧﻔﺴﻬﺎ .وﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ ﻓﺜﻤﺔ ﻃﺮﻳﻖ آﺧﺮ وَﻋْ ٌﺮ ﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﺴﻠﻜﻪ وﻫﻮ أن ﻧﺴﺘﺨﺪم رﻣﻮ ًزا ﻳﻤﻜﻦ ﻣﻦ ﺧﻼﻟِﻬﺎ أن ﻧﺼﺤﺢ أﻓﻜﺎرﻧﺎ وأن ﻧﻀﻴﻒ إﻟﻴﻬﺎ ﺑﺮاﻫني رﻗﻤﻴﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻛﻤﺎ ﻳﻔﻌﻞ ﻋﻠﻤﺎء اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت. 285
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﺗﻔﺎؤﻻ ﻣﻔﺮ ً ً ﻃﺎ ﺑﺄن اﺳﺘﺨﺪام ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﺤﺴﺎب ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺤﻞ ﺟﻤﻴﻊ وﻗﺪ ﺗﻔﺎءَل ﻻﻳﺒﻨﺘﺲ املﺸﻜﻼت اﻟﻔﻜﺮﻳﺔ .وﰲ ﻫﺬا ﻣﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ املﺒﺎﻟﻐﺔ؛ ﻷن ﻛﺜريًا ﻣﻦ اﻟﺨﻼﻓﺎت ﻻ ﺗﺪور ﺣﻮل ﻣﺴﺎﺋﻞ ﻣﻨﻄﻘﻴﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ وﻟﻜﻦ ﺣﻮل ﺑﻌﺾ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ،ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﻣﻦ املﻤﻜﻦ إﺛﺒﺎت اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ املﻨﻄﻘﻴﺔ ﱠ ﻛﺎﻓﺔ ﺑﺎﺳﺘﺨﺪام اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ﺑﺎﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ارﺗﺂﻫﺎ ﻻﻳﺒﻨﺘﺲ .وﻟﻜﻦ رﻏﻢ ذﻟﻚ ﻓﺈن رﻏﺒﺘﻪ ﰲ إﻧﺸﺎء »ﻟﻐﺔ ﺗﻠﻌﺐ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺮﻣﻮز واﻷﺣﺮف اﻟﺪور اﻟﺬي ﺗﻠﻌﺒﻪ اﻟﺮﻣﻮز اﻟﺤﺴﺎﺑﻴﺔ ﰲ اﻷﻋﺪاد ورﻣﻮز اﻟﺠﱪ ﻟﻠﻜﻤﻴﺎت ﺑﺸﻜﻞ ﻋﺎم« ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺆذِﻧﺔ ﺑﻤﺎ ﺣﺪث ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ. وﻗﺪ ﻧﺸﺄت ﻓﻜﺮة ﻻﻳﺒﻨﺘﺲ ﻋﻦ اﻟﻠﻐﺔ اﻟﺤﺴﺎﺑﻴﺔ ﺟﺰﺋﻴٍّﺎ ﻣﻦ املﴩوع ﺑﺎﻟﻎ اﻟﻐﺮاﺑﺔ ً ﺷﺨﺼﺎ ﺧﻠﻴﻌً ﺎ ﻳﻌﻤﻞ ﰲ اﻟﺒﻼط املﻠﻜﻲ ﻗﺒﻞ ﻟﺮاﻣﻮن ﻟﻮل ) ،(١٣١٥–١٢٣٢وﻗﺪ ﻛﺎن ﻟﻮل أن ﻳﺼﺒﺢ راﻫﺒًﺎ ﺑﻌﺪ ﻗﺼﺔ ﺣﺐ ﻏري ﻣﻮﻓﻘﺔ .وﻛﺎن ﻟﻮل ﻳﻌﺘﻘﺪ أن املﺴﻠﻤني — وﻛﺬﻟﻚ ﻛﻞ ﻣَ ْﻦ ﻳﺸﻚ ﰲ املﺴﻴﺤﻴﺔ ﻣﻦ أﺗﺒﺎع ﺗﻮﻣﺎس — ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺮوا ﺣﻘﻴﻘﺔ املﺴﻴﺤﻴﺔ إذا ﻗﺪروا اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ املﺨﺘﻠﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﺘﻠﻜﻬﺎ املﺴﻴﺢ اﻹﻟﻪ ﺣﻖ ﺗﻘﺪﻳﺮﻫﺎ .وﻗﺪ اﺑﺘﻜﺮ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻷﺟﻬﺰة املﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻴﺔ واملﺨﻄﻄﺎت ﻟﻌﺮض اﻟﺮﻣﻮز اﻟﺘﻲ ﺗﺸري إﱃ ﺻﻔﺎت اﻹﻟﻪ ﻣﺜﻞ »اﻟﺨريﻳﺔ« و»اﻷزﻟﻴﺔ« و»اﻟﻌﻈﻤﺔ« .وﻳﻤﻜﻦ ملﺠﺮد اﻟﺘﺄﻣﱡ ﻞ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺼﻔﺎت أن ﻳﺄﺗﻲ ﺑﺎﻟﻀﺎﻟﺔ وﻳﺤﻘﻖ املﺮاد؛ ﻓﺈﺑﺮة املﻨﻄﻖ ﰲ وﺳﻂ ﻫﺬه اﻟﻜﻮﻣﺔ ﻣﻦ اﻟﻌَ ﺘَﻪ ﺗﺘﻤﺜﻞ ﰲ أن اﻟﺘﻼﻋﺐ ﺑﺎﻟﺮﻣﻮز ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻠﻌﺐ دو ًرا ﰲ ﻋﻤﻠﻴﺔ اﻻﺳﺘﺪﻻل أو ﻳﺠﺴﺪﻫﺎ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ .وﻗﺪ دﻓﻌﺖ اﻟﻔﻜﺮة ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻻﻳﺒﻨﺘﺲ إﱃ اﻟﺘﻔﻜري ﰲ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﻳﻤﻜﻦ ﺑﻬﺎ اﺧﺘﺰال املﻨﻄﻖ ﰲ ﻋﻤﻠﻴﺔ آﻟﻴﺔ ﺑﺤﺘﺔ؛ وﻣﻦ ﺛ ﱠﻢ اﺳﺘﺨﺪاﻣﻪ ﻟﻠﻮﺻﻮل إﱃ ﻧﺘﺎﺋﺞ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻔﻨﻴﺪﻫﺎ ﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل ﰲ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت. ﱪ ﻋﻦ ﻓﻜﺮة أن اﻻﺳﺘﺪﻻل ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺸﺒﻪ ﻛﺎن ﺗﻮﻣﺎس ﻫﻮﺑﺰ ) (١٦٧٩–١٥٨٨ﻗﺪ ﻋَ ﱠ َ اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ اﻟﺤﺴﺎﺑﻴﺔ ﺑﻘﻮﻟﻪ: ﻋﻨﺪﻣﺎ أﺗﺤﺪث ﻋﻦ اﻻﺳﺘﺪﻻل ﻓﺈﻧﻨﻲ أﻋﻨﻲ ﺑﺬﻟﻚ اﻟﺤﺴﺎب ،وﻟﻜﻲ ﺗﻘﻮم ﺑﻌﻤﻠﻴﺔ ﺣﺴﺎﺑﻴﺔ اﻵن ﻓﺈﻣﺎ أن ﺗﺠﻤﻊ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ أ ُ ِﺿ َ ﻴﻔ ْﺖ إﱃ ﺑﻌﻀﻬﺎ أو أن ﺗﻌﺮف ﻗﻴﻤﺔ املﺘﺒﻘﻲ إذا ﻃﺮﺣﺖ ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﻦ ﳾء آﺧﺮ ،ﻓﺠﻤﻴﻊ أﻧﻮاع اﻻﺳﺘﺪﻻل ﺗﻨﺪرج ﺗﺤﺖ ﻫﺎﺗني اﻟﻌﻤﻠﻴﺘني اﻟﻌﻘﻠﻴﺘني أﻻ وﻫﻤﺎ اﻟﺠﻤﻊ واﻟﻄﺮح. وﻟﻢ ﺗ ُﻜﻦ ﻟﺪى ﻫﻮﺑﺰ املﻌﺮﻓﺔ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ اﻟﻜﺎﻓﻴﺔ وﻻ اﻟﺮﻏﺒﺔ ﰲ ﺗﻄﻮﻳﺮ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة .أﻣﺎ ﻻﻳﺒﻨﺘﺲ ﻓﻜﺎن ﻳﻤﺘﻠﻚ ﻛﻠﺘﺎ املﻴﺰﺗني وﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﱢ ﻳﺤﻘﻖ إﻧﺠﺎ ًزا ﻛﺒريًا ﰲ ﻫﺬا املﺠﺎل ،ﻓﻮﺿﻊ ﺑﻌﺾ اﻟﺘﺸﺒﻴﻬﺎت ﺑني اﻟﺼﻴﻎ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ واﻟﻌﺒﺎرات اﻟﻌﺎدﻳﺔ ،وﺟﺮب ﺑﻌﺾ املﻔﺎﻫﻴﻢ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ وﻗﺪم ﺑﻌﺾ ا ُمل َﺴ ﱠﻠﻤَ ِ ﺎت اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻬﺎ اﺳﺘﻨﺘﺎج ﻧﻈﺎم ﻣﻨﻄﻘﻲ ﻛﺎﻣﻞ ﺑﺎﻟﺸﻜﻞ اﻟﺬي 286
املﻌﻠﻢ اﻷول :أرﺳﻄﻮ
ﻋﻠﻴﻪ ﺑﺮاﻫني إﻗﻠﻴﺪس اﻟﻬﻨﺪﺳﻴﺔ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳﺴﺘﻜﻤﻞ ﻣﴩوﻋﻪ ﻫﺬا ﻛﺸﺄﻧﻪ ﰲ ﻣﺸﺎرﻳﻌﻪ اﻷﺧﺮى ،ﻓﺎﻧﺘﻘﻠﺖ املﻬﻤﺔ إﱃ اﺛﻨني ﻣﻦ ﻋﻠﻤﺎء اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت اﻹﻧﺠﻠﻴﺰ وﻫﻤﺎ ﺟﻮرج ﺑﻮل )١٨٦٤–١٨١٥م( وأوﺟﺴﺖ دو ﻣﻮرﺟﺎن )١٨٧٦–١٨٠٦م( اﻟﻠﺬان ﻛ ﱠﺮ َﺳﺎ ﺟﻬﺪًا أﻛﺜﺮ ﻟﻬﺎ ،ﻓﺄرﳻ ﺑﻮل أﺳﺲ ﻋﻠﻢ ﺟﱪ اﻟﻔﺌﺎت واﻟﺬي ﻳﻤﻜﻦ اﺳﺘﺨﺪاﻣﻪ ﰲ اﻟﺘﻌﺒري ﻋﻦ أﺷﻜﺎل اﻟﻘﻴﺎس ﻟﺪى أرﺳﻄﻮ ،وﻛﺬﻟﻚ أرﳻ أﺳﺲ ﻋﻠﻢ اﻟﺠﱪ ﻟﻠﻤﻨﻄﻖ اﻻﻓﱰاﴈ ،أﻣﺎ أوﺟﺴﺖ دو ﻣﻮرﺟﺎن ﻓﻘﺪ وﺿﻊ ﻋﻠﻢ ﺟ ٍﱪ أوﱠﻟﻴٍّﺎ ﻟﻠﻌﻼﻗﺎت .وﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ أﺻﺒﺢ ﻣﻦ املﻤﻜﻦ إﺛﺒﺎت أن رأس اﻟﺤﺼﺎن ﻫﻮ رأس ﺣﻴﻮان. وﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ وﺿﻌﺖ اﻟﻠﻤﺴﺎت اﻟﻨﻬﺎﺋﻴﺔ ﻟﻠﻤﻨﻄﻖ اﻷﺳﺎﳼ ﻋﲆ ﻳﺪ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف اﻷﻣﺮﻳﻜﻲ ﺷﺎرل ﺳﺎﻧﺪرز ﺑريس )١٩١٤–١٨٣٩م( وﻋﺎﻟﻢ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت اﻷملﺎﻧﻲ ﺟﻮﺗﻠﻮب ﻓﺮﻳﺪج )١٩٢٥–١٨٤٨م( .وﻗﺪ ﻧ ُ ِﺴﺐَ ﻛﻞ اﻟﻔﻀﻞ ﻟﻔﺮﻳﺪج ﺑﻌﺪ ﻣﻮﺗﻪ ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن ً ﻗﺎﺑﻠﺔ ﻟﻼﺳﺘﺨﺪام ﺣﻴﺚ ﺑ ﱠ َ َني ﻣَ ْﻦ أﺗﻰ ﺑﻌﺪه ﻣﻦ املﻔ ﱢﻜﺮﻳﻦ أن أﻋﻤﺎﻟﻪ ﻣﻼﺣﻈﺎﺗﻪ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻟﻢ ﺗﻌﻠﺐ إﻻ دو ًرا ﺻﻐريًا ﰲ ﺗﻄﻮﻳﺮ ﻋﻠﻢ املﻨﻄﻖ ﻋﲆ ﻋﻜﺲ ﻣﺎ ادﱠﻋﻰ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ ﻛﺘﺐ اﻟﺘﺎرﻳﺦ .وﺑني ﻋﺎﻣﻲ ١٩١٠و ١٩١٣ﻧﴩ ﺑﺮﺗﺮاﻧﺪ راﺳﻞ وﻣﻌ ﱢﻠﻤﻪ اﻟﺴﺎﺑﻖ أﻟﻔﺮﻳﺪ ﻧﻮرث واﻳﺘﻬﻴﺪ ﻛﺘﺎﺑﻬﻤﺎ »ﻣﺒﺎدئ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت« اﻟﺬي ﺟﻤﻊ ﻣﺎ َﺳﻴُﻌْ َﺮ ُ ف ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌ ُﺪ ﺑﺎملﻨﻄﻖ اﻟﺮﻳﺎﴈ. وﻣﻨﺬ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ ﺑﺪأ اﻟﺒﺤﺚ ﰲ املﻨﻄﻖ واﻟﺒﺤﺚ ﰲ اﻟﺤﺴﺎب ﻳﺘﻀﺎﻓﺮان ﻛﻤﺎ ﺣﺪث ﰲ ﻋﻘﻞ ﻻﻳﺒﻨﺘﺲ .وﰲ ﻋﴩﻳﻨﻴﺎت اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ اﺑﺘﻜﺮت اﻹﺟﺮاءات اﻵﻟﻴﺔ — أي ﺗﻠﻚ اﻹﺟﺮاءات اﻟﺘﻲ ﺗﺠﺮي ﻣﻦ ﺧﻼل آﻟﺔ — ﻣﻦ أﺟﻞ اﺧﺘﺒﺎر ﻣﺪى ﺑﺮوز اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ املﺬﻛﻮرة ﰲ ﻛﺘﺎب »ﻣﺒﺎدئ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت« ﻣﻦ ا ُمل َﺴ ﱠﻠﻤَ ِ ﺎت اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﻬﺎ .وﻗﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه ﺧﻄﻮة رﺋﻴﺴﺔ ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻖ إﱃ اﺑﺘﻜﺎر ﻟﻐﺎت اﻟﺤﺎﺳﺐ اﻵﱄ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺛﻤﺮة اﻟﺤﺴﺎﺑﺎت املﻨﻄﻘﻴﺔ .وﰲ ﻋﺎم ﱠ ﺗﻮﺻﻞ اﻟﺒﺎﺣﺜﻮن إﱃ أن ﺗﺼﻤﻴﻤﺎت ﻣﻔﺎﺗﻴﺢ اﻟﺘﺤﻮﻳﻞ ﰲ اﻟﺪواﺋﺮ اﻟﻜﻬﺮﺑﻴﺔ ﻳﻤﻜﻦ ١٩٣٨م اﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ ﻣﺘﻮاﻓﻘﺔ ﻣﻊ ﺻﻴﻎ املﻨﻄﻖ اﻻﻓﱰاﴈ ﺣﻴﺚ ﺗﺮﻣﺰ املﻔﺎﺗﻴﺢ »ﺗﺸﻐﻴﻞ« و»إﻏﻼق« إﱃ »ﺣﻘﻴﻘﻲ« و»ﻣﺰﻳﻒ« ﻋﲆ اﻟﺘﻮاﱄ) ،ﻛﻤﺎ ﻓﻌﻞ ﺑﻮل ﰲ ﻋﻠﻢ اﻟﺠﱪ اﻟﺬي ﻳﺒﺤﺚ ﰲ اﻻﻓﱰاﺿﺎت ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻋَ ﺎ َد َل »ﺣﻘﻴﻘﻲ« و»ﻣﺰﻳﻒ« ﺑﺎﻟﺮﻣﻮز ) (1و) .((0وﰲ ﻋﴫﻧﺎ اﻟﺤﺎﱄ ﻳﻘﻮم ﻋﻠﻤﺎء اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت اﻟﺒﺤﺘﺔ ﺑﺪراﺳﺔ ﺑﻌﺾ اﻷﺟﺰاء املﺘﻨﻮﻋﺔ ﻣﻦ ﻋﻠﻢ املﻨﻄﻖ اﻟﺮﻳﺎﴈ واﻷﻧﻈﻤﺔ ﱡ ﻮرﻳﱠﺔ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﻘﻮم ﻋﻠﻤﺎء اﻟﺤﺎﺳﺐ اﻵﱄ ﺑﺪراﺳﺔ أﺟﺰاء أﺧﺮى .أﻣﺎ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻓﻴﺘﺠﻮﻟﻮن اﻟﺼ ِ ﺑﻌﺸﻮاﺋﻴﺔ ﰲ ﺟﻤﻴﻊ املﺠﺎﻻت. ﻟﻘﺪ ﺑﺪأ اﻷﻣﺮ ﻛﻠﻪ ﺑﻤﻘﺪﻣﺎت أرﺳﻄﻮ ،وﻟﻜﻦ ﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أن ﺛﻤﺔ ﺷﻴﺌًﺎ ﻛﺜريًا ﻗﺪ ﺣﺪث ﻗﺒﻞ أن ﺗﺨﺮج اﻟﺤﺴﺎﺑﺎت اﻟﺸﺎﻣﻠﺔ ﻟﻠﻤﻨﻄﻖ اﻟﺤﺪﻳﺚ وﻟﻐﺎت اﻟﺤﺎﺳﺐ ﻟﻠﺤﻴﺎة .ورﺑﻤﺎ ﻛﺎن 287
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
اﻟﺴﺒﺐ اﻟﺮﺋﻴﺲ اﻟﺬي ﺟﻌﻞ ﻣﻨﻄﻖ أرﺳﻄﻮ ﻣﺤﺪود اﻟﻨﻄﺎق ﺟﺪٍّا ﻳﻜﻤﻦ ﻓﻴﻤﺎ دﻓﻌﻪ إﱃ ﻫﺬا املﺠﺎل ﻣﻨﺬ اﻟﺒﺪاﻳﺔ ،ﻓﻤﻌﻈﻢ ﻣﺎ أﺣﺮزه املﻨﻄﻖ ﻣﻦ ﺗﻘﺪﱡم وإﻧﺠﺎزات ﺣﺘﻰ اﻟﻴﻮم ﻛﺎن ﻋﲆ ﻳَ ِﺪ ﻣَ ْﻦ ﻛﺎﻧﻮا ﻣﻬﺘﻤﱢ ني ﺑﺘﻮﺿﻴﺢ اﻟﱪاﻫني اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ أو ﺗﺤﻮﻳﻞ ﻛﻞ اﻻﺳﺘﻨﺘﺎﺟﺎت املﻨﻄﻘﻴﺔ إﱃ ﻧﻮع ﻣﻦ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت أو ﻛﻠﻴﻬﻤﺎ .أﻣﺎ أﻫﺪاف أرﺳﻄﻮ ﻓﻜﺎﻧﺖ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ،ﻓﻴﺒﺪو أن اﻫﺘﻤﺎﻣﻪ ﺑﺎﻻﺳﺘﻨﺒﺎط املﻨﻄﻘﻲ ﻟﻢ ﻳﺘﺄﺛﺮ ﻛﺜريًا ﺑﺄي اﻫﺘﻤﺎم ﺑﺎﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ،وﻻ ﺑﺮﻏﺒﺔ ﰲ دراﺳﺔ أﻧﻮاع اﻻﺳﺘﺪﻻل املﺨﺘﻠﻔﺔ وإﻧﻤﺎ ﺑﻮﻟﻌﻪ ﺑﻨﻮع اﻟﺤﺠﺞ اﻟﺘﻲ اﺳﺘﺨﺪﻣﻬﺎ ﺳﻘﺮاط ،ﻓﻴﺒﺪو أن أﺷﻜﺎل اﻟﻘﻴﺎس ﻟﺪى أرﺳﻄﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻨﺎﺳﺐ ﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﻄﺮﺣﻪ ﺳﻘﺮاط ﻣﻦ أﺳﺌﻠﺔ وﻛﺄﻧﻬﺎ ﺛَﻮْبٌ ﻋﲆ ﻣﻘﺎس ﺻﺎﺣﺒﻪ ،أﻣﺎ املﺸﻜﻠﺔ ﻓﺘﻜﻤُﻦ ﰲ أﻧﻬﺎ ﻻ ﺗﺼﻠﺢ ﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻷﻣﻮر اﻷﺧﺮى. وداﺋﻤً ﺎ ﻣﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻨﺘﻬﻲ ﺗﺤﻘﻴﻘﺎت ﺳﻘﺮاط ﰲ ﻣﺤﺎورات أﻓﻼﻃﻮن ﺑﺎﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻤﱠ ﺎ إذا ﻛﺎﻧﺖ ﻓﺌﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻣﻦ اﻷﺷﻴﺎء ﻟﻬﺎ ﺧﺎﺻﻴﺔ أو ﻣﻴﺰة ﺧﺎﺻﺔ ﺑﻬﺎ أم ﻻ ،ﻓﻬﻞ ﻛﺎﻧﺖ ﺟﻤﻴﻊ أﻣﺜﻠﺔ اﻟﻌﺪل أﻣﺜﻠﺔ ﻹﻋﺎدة ﻣﺎ ﺟﺮى اﻣﺘﻼ ُﻛﻪ؟ وﻫﻞ ﻛﺎﻧﺖ ﻛﻞ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺒﻬﺎ اﻵﻟﻬﺔ ﻣﻘﺪﺳﺔ؟ وﺧﻼل املﻨﺎﻗﺸﺎت ﻛﺎن ﺳﻘﺮاط ﻳﺴﺄل داﺋﻤً ﺎ ﻋﻦ ﺗﻌﺮﻳﻒ ﻳﻀﻢ ﻛﻞ اﻷﻣﺜﻠﺔ املﺸﱰﻛﺔ ﻟﻠﻌﺪل ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ،ﻓﺈذا ﻣﺎ ﺣﺎول ﺿﺤﻴﺘﻪ أن ﻳﻔﻠﺖ ﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﺑﻌﺾ اﻷﻣﺜﻠﺔ اﻟﺼﺤﻴﺤﺔ ﻋﻦ اﻟﻌﺪل ،ﻛﺎن ﺳﻘﺮاط ﻳﻌﱰض ﻣﺆﻛﺪًا ﻋﲆ أﻧﻪ ﻣﻬﺘﻢ ﺑﻤﺎﻫﻴﺔ اﻟﻌﺪل وﻛﻨﻬﻪ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻛﺎن ﻳﺤﺘﺎج إﱃ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﻣﺎ ﻳﻨﻄﺒﻖ ﻋﲆ اﻟﻌﺪل ﰲ »ﺟﻤﻴﻊ« ﺻﻮره .وﻗﺪ ﺣﺎﻟﻔﻪ اﻟﺤﻆ ﱡ اﻟﺘﻮﺻﻞ إﱃ اﺗﻔﺎق ﺣﻮل اﻓﱰاض ﻣﻌني ﻳﺘﺨﺬ اﻟﺸﻜﻞ اﻟﺘﺎﱄ» :ﺟﻤﻴﻊ أﻓﻌﺎل اﻟﻌﺪل أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﰲ ﻫﻲ ﻛﺬا وﻛﺬا« واﻟﺬي ﺑﻨﺎءً ﻋﻠﻴﻪ ﻳﺨﺮج ﺑﻨﺘﺎﺋﺞَ ﻣﻨﻄﻘﻴﺔ وﻳﻌﻴﺪ اﻟﻨﻈﺮ ﰲ اﻻﺳﺘﺜﻨﺎءات وﻳﻘﻮم ﺑﺼﻴﺎﻏﺔ ﻣﺒﺎدئ ﻋﺎﻣﺔ ﺟﺪﻳﺪة .وﻳﺒﺪو أن أرﺳﻄﻮ ﻗﺪ راﻋﺘﻪ ﻓﻜﺮة اﻧﻄﻮاء ﻫﺬه املﻨﺎﻗﺸﺎت ﻋﲆ ﻋﺒﺎرات ﻋﻦ ﻛﻞ املﻘﺪﻣﺎت أو ﺑﻌﻀﻬﺎ أو أيﱟ ﻣﻨﻬﺎ ،وﻋﻤﺎ إذا ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه املﻘﺪﻣﺎت ﻣﺘﻮاﻓﻘﺔ أم ﻻ .وﻗﺪ ﻳﻜﻮن ذﻟﻚ ﻫﻮ اﻟﺴﺒﺐ وراء ﻋﺪم اﻛﱰاﺛﻪ ﺑﺎﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﻫﺬه اﻷﻣﻮر ﰲ أﻋﻤﺎﻟﻪ ﺑﻌﺪﻣﺎ ﺣﻘﻖ إﻧﺠﺎ ًزا راﺋﻌً ﺎ ﺑﺘﺤﻠﻴﻞ ﻫﺬه اﻟﻌﺒﺎرات. وﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ اﻟﺘﺤﻘﻴﻖ ﰲ اﻟﻘﻴﺎس اﻷرﺳﻄﻲ ﺑﻤﻘﺪﻣﺘﻴﻪ )أ( و)ب( إﻻ ﺟﺰءًا ﻣﻦ ﻛﺘﺎﺑﺎت أرﺳﻄﻮ ﰲ املﻨﻄﻖ ،ورﻏﻢ أﻧﻪ اﻟﺠﺰء اﻷﺻﲇ ﰲ ﻫﺬه اﻟﻜﺘﺎﺑﺎت ،ﻓﻬﻨﺎك أﺷﻴﺎء أﺧﺮى ﻟﻬﺎ ﺑﺎﻟﻎ اﻷﺛﺮ ﻋﲆ ﻫﺬا املﻨﻄﻖ ،ﻣﻨﻬﺎ ﻣﺎ ﻫﻮ ﻣﻔﻴﺪ وﻣﻨﻬﺎ دون ذﻟﻚ .وﻗﺪ د ُِر َﺳ ْﺖ ﻫﺬه اﻟﻜﺘﺎﺑﺎت ﺑﺤﻤﺎس ﺑﺎﻟﻎ ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ،رﺑﻤﺎ ﻷﻧﻬﺎ أُوﱃ أﻋﻤﺎل أرﺳﻄﻮ اﻟﺘﻲ ﺗُ َﱰْﺟَ ُﻢ إﱃ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ .وإﺣﺪى رﺳﺎﺋﻠﻪ ﺗﺴﻤﱠ ﻰ »املﻮﺿﻮﻋﺎت« ﻫﻲ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﻛﺘﻴﺐ ﻣﻦ اﻟﻨﺼﺎﺋﺢ ﺗُ ْﺴﺘَ ْﺨ َﺪ ُم ﰲ املﻨﺎﻗﺸﺎت اﻟﺘﻨﺎﻓﺴﻴﺔ ،اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻦ اﻟﺮﻳﺎﺿﺎت املﻔﻀﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﺣَ ِﻈﻴ َْﺖ ﺑﺸﻌﺒﻴﺔ ﺟﺎرﻓﺔ ﰲ ﻋﴫ أرﺳﻄﻮ .وﺗﺤﺘﻮي ﻫﺬه اﻟﺮﺳﺎﻟﺔ ﻋﲆ ﻣﻠﺤﻖ ﻳﻀﻢ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﺘﻨﻮﱢﻋﺔ ﻣﻦ 288
املﻌﻠﻢ اﻷول :أرﺳﻄﻮ
املﻐﺎﻟﻄﺎت ،وﻳﻮﺿﺢ ﻟﻠﻤﺮء ﻛﻴﻒ ﻳﻜﺘﺸﻔﻬﺎ ﻗﺒﻞ أن ﻳﺴﻘﻂ ﻓﻴﻬﺎ .وﻗﺪ ﻗﺎل أرﺳﻄﻮ إن اﻟﺘﺪرﻳﺐ اﻟﺬي ﻳﻘﺪﱢﻣﻪ ﻛﺘﺎب »املﻮﺿﻮﻋﺎت« ﻣﻔﻴﺪ ﻷﻫﺪاف ﺟﺎدﱠة ﻣﺜﻞ اﻟﺒﺤﺚ اﻟﻌﻠﻤﻲ؛ ﻷﻧﻪ ﻳ َُﺴﻬﱢ ُﻞ اﻟﺘﻤﻴﻴﺰ ﺑني اﻟﻐﺚ واﻟﺴﻤني ﻣﻦ اﻻﺳﺘﺪﻻﻻت ،ﻛﻤﺎ ﻳﺤﺘﻮي ﻋﲆ ﻗﺪر ﻣﻦ اﻟﺘﺤﻠﻴﻞ ﱠ املﻌﻘﺪ ،وﻟﻜﻦ أرﺳﻄﻮ ﻳﻌﻄﻲ ﻛﺬﻟﻚ ﺑﻌﺾ املﻼﺣﻈﺎت ﻏري املﻬﺬﱠﺑﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ اﺳﺘﺨﺪاﻣﻬﺎ ﱢ ﺑﺎﻟﺘﺤﲇ ﺑﺎﻟﺼﱪ ،واﻟﺘﺤﺪث ﺑﴪﻋﺔ، ﻟﻬﺰﻳﻤﺔ اﻟﺨﺼﻢ واﻟﺘﻐ ﱡﻠﺐ ﻋﻠﻴﻪ ،ﻣﺜﻞ ﻧﺼﻴﺤﺔ املﺘﺤﺎور وﺑﺬل ﻗﺼﺎرى اﻟﺠﻬﺪ ﻟﺠﻌﻞ اﻟﺨﺼﻢ ﻳﻔﻘﺪ أﻋﺼﺎﺑﻪ .أﻣﺎ اﻟﻌﻘﻞ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻓﻼ ﻳﺮى أدﻧﻰ ﻋﻼﻗﺔ ﻟﻬﺬه اﻟﻨﺼﺎﺋﺢ ﺑﺎملﻨﻄﻖ .وﺛﻤﺔ رﺳﺎﻟﺘﺎن أﺧﺮﻳﺎن ﺗﻨﺎﻗﺸﺎن ﺑﻌﺾ اﻷﻣﻮر اﻟﺘﻤﻬﻴﺪﻳﺔ ﻟﺪراﺳﺔ املﻨﻄﻖ :إﺣﺪاﻫﻤﺎ ﺗﺘﻨﺎول اﻷﻧﻮاع املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻟﻼﻓﱰاﺿﺎت وﻋﻼﻗﺘﻬﺎ ﺑﺒﻌﻀﻬﺎ وﺑﻌﺾ املﺸﻜﻼت املﺘﻌﻠﻘﺔ ﺑﺎﻟﺤﻘﻴﻘﺔ واملﻌﻨﻰ ،واﻷﺧﺮى ﺗﺘﻨﺎول اﻷﻧﻮاع املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻟﻠﻤﺼﻄﻠﺤﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻜﻮﱠن ﻣﻨﻬﺎ اﻻﻓﱰاﺿﺎت. ﺗﻨﺎوﻟﺖ إﺣﺪى اﻟﺮﺳﺎﺋﻞ املﻨﻄﻘﻴﺔ اﻷﺧﺮى »أﺷﻜﺎل اﻟﻘﻴﺎس اﻟﻌﻠﻤﻲ« ،وﻛﺎن ﻳُﻨ ْ َ ﻈ ُﺮ إﻟﻴﻬﺎ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ إﻧﺠﻴﻞ املﻨﻬﺞ اﻟﻌﻠﻤﻲ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺜري دﻫﺸﺔ اﻟﻘﺎرئ إذا ﻣﺎ ﻗﺮأ وﺻﺎﻳﺎﻫﺎ ﻟﻠﻤﺮة اﻷوﱃ؛ ﻓﻤﻨﺎﻗﺸﺔ أرﺳﻄﻮ ﻟ »املﺒﺎدئ اﻷوﱃ« اﻟﺘﻲ ﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﺗﺒﺪأ ﻣﻨﻬﺎ ﻛﻞ اﻟﱪاﻫني اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﻳﺒﺪو أﻧﻬﺎ ِﺻ َ ﻴﻐ ْﺖ ﻋﲆ ﺷﺎﻛﻠﺔ اﻟﱪاﻫني اﻟﻬﻨﺪﺳﻴﺔ؛ ﺣﻴﺚ ﺗُﺸﺘﻖ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت ﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﺘﻌﺮﻳﻔﺎت اﻷوﱠﻟﻴﺔ واملﻌﻄﻴﺎت اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ وا ُمل َﺴ ﱠﻠﻤَ ِ ﺎت اﻟﻴﻘﻴﻨﻴﺔ. وﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﺮى أن ﻛﻞ اﻟﻌﻠﻮم ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗُ ْﺨﺘَ َﺰ َل ﰲ ﺻﻮرة اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت اﻟﺒﺤﺘﺔ؛ ﻷﻧﻪ ﻗﺎل إن املﻌﺮﻓﺔ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ اﻷﺻﻠﻴﺔ ﺗﺘﻜﻮن ﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ »اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ اﻟﴬورﻳﺔ« )اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﻘﺒﻞ اﻟﺨﻄﺄ( ،وإن ﻫﺬه اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﻛﻠﻬﺎ ﺗﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎﻷﺷﻴﺎء اﻟﺨﺎﻟﺪة ﻏري املﺘﻐرية .ﻳﺒﺪو ﻫﺬا ﻟﻠﻮﻫﻠﺔ اﻷوﱃ ﻣﺒﻬﻤً ﺎ؛ إذ ﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺘﺴﻖ ﻫﺬا ﻣﻊ أﺑﺤﺎث أرﺳﻄﻮ اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ؟ ﻓﻠﻴﺲ ﻫﻨﺎك ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﳾء ﺧﺎﻟﺪ ﰲ أﺳﻤﺎك ﻛﻠﺐ اﻟﺒﺤﺮ ،وﻟﻜﻦ ﻳﺒﺪو أن أرﺳﻄﻮ ﻛﺎن ً ﺣﺮﻳﺼﺎ ﻋﲆ اﻛﺘﺸﺎف اﻟﻜﺜري ﻋﻨﻬﺎ .وﻟﻨﺎ أن ﻧﺘﺴﺎءل :أﻟﻴﺲ ﻫﺬا ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻢ؟ ﻳﺒﺪو ﻫﻨﺎ أن أرﺳﻄﻮ ﻗﺪ ﺛﺎر ﻋﲆ اﻧﺘﻘﺎداﺗﻪ ﻷﻓﻼﻃﻮن وﻋﺎد ﻟﻠﻨﻈﺮة اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮل إن املﻌﺮﻓﺔ ﻋﻦ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺜﺎﺑﺘﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﺘﻐري واﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﻨﺘﻤﻲ إﱃ ﻋﺎﻟﻢ اﻷرض ﻫﻲ اﻟﻨﻮع اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ اﻟﻮﺣﻴﺪ ﻣﻦ املﻌﺮﻓﺔ. ﱠ املﻔﺼﻠﺔ ﻟﻨﺘﺄﻛﺪ ﻣﻤﱠ ﺎ ﻛﺎن ﻳﻌﻨﻴﻪ ﺑﻤﻼﺣﻈﺎﺗﻪ وﻟﻢ ﻳ َُﻘ ﱢﺪ ْم أرﺳﻄﻮ ﻣﺎ ﻳﻜﻔﻲ ﻣﻦ اﻷﻣﺜﻠﺔ ﻋﻦ املﺒﺎدئ اﻷوﱃ واﻟﱪاﻫني اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ،وﻟﻜﻦ ﻳﺒﺪو أﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﺘﺤﺪﱠث ﻋﻦ ﳾء ﻣﺜﺎﱄ ﻳﺠﺐ أن ﻳﺴﻌﻰ إﻟﻴﻪ ﻛﻞ ﻓﺮع ﻣﻦ ﻓﺮوع املﻌﺮﻓﺔ .ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻬﻨﺪﺳﺔ ﻫﻲ أﻛﺜﺮ اﻟﻌﻠﻮم ﺗﻄﻮ ًرا آﻧﺬاك؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻳﺒﺪو أن أرﺳﻄﻮ اﻓﱰض أن ﺑﺎﻗﻲ ﻓﺮوع املﻌﺮﻓﺔ ﺳﺘﺴﻌﻰ إﱃ أن ﺗﻜﻮن ﻣﺜﻞ 289
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
اﻟﻬﻨﺪﺳﺔُ ،ﻣ َﻜ ﱠﻮﻧَﺔ ﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﻣﻨﻈﻮﻣﺔ ﰲ ﺳﻠﺴﻠﺔ ﻣﻦ اﻻﺳﺘﻨﺒﺎﻃﺎت ،ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻤﺮء ﻓﻴﻬﺎ أن ﻳﺮى ﻛﻴﻒ أن اﻟﻨﺘﻴﺠﺔ اﻟﺘﻲ ﻳ ﱠ ُﺘﻮﺻﻞ إﻟﻴﻬﺎ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ إﻻ أن ﺗﻜﻮن ﺻﺤﻴﺤﺔ ﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل ﰲ اﻟﻬﻨﺪﺳﺔ .أﻣﺎ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺨﺺ ﺳﻤﻜﺔ ﻛﻠﺐ اﻟﺒﺤﺮ واﻟﺨﻠﻮد ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﻓﻜﺮة أرﺳﻄﻮ ﺗﻘﻮل إن اﻟﻌﻠﻢ املﺘﻘﺪم ﻳﺠﺐ أن ﻳﻜﻮن ﻣﻬﺘﻤٍّ ﺎ ﰲ املﻘﺎم اﻷول ﺑﻜﻞ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺻﺤﻴﺢ ﺑﺼﻔﺔ ﻋﺎﻣﺔ ﻋﻦ ﻛﻞ أﻧﻮاع اﻷﺷﻴﺎء ،واﻟﺬي ً وﻓﻘﺎ ﻟﻬﺬا املﻌﻨﻰ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺘﻌﺎﻣﻞ ﻣﻊ َ ﱡ اﻟﺘﻐري ﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل ﰲ اﻟﻬﻨﺪﺳﺔ ﻛﺬﻟﻚ .ﻓﺄﻓﺮاد اﻷﺑﻘﺎر ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ ﺣﻘﺎﺋﻖ ﺧﺎﻟﺪة ﻻ ﺗﻘﺒﻞ املﺜﺎل ﻻ ﺗُﻌَ ﱡﺪ ﻣﻦ املﺠﱰات ﻋﻨﺪ ﻣﻮﺗﻬﺎ وﻟﻜﻦ ﺗﺒﻘﻰ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﺧﺎﻟﺪة )ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل أرﺳﻄﻮ( أن ﺟﻨﺲ اﻷﺑﻘﺎر ﺑﺼﻔﺔ ﻋﺎﻣﺔ ﻣﻦ املﺠﱰات .وﺑﺎملﺜﻞ ﻗﺪ ﺗﻤﻮت زﻫﺮة اﻷﻗﺤﻮان وﻟﻜﻦ ﺗﺴﺘﻤﺮ ﻓﺼﻴﻠﺔ املﺠﱰات ﰲ ﻣﻀﻐﻬﺎ؛ وﺑﺬﻟﻚ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻌﻠﻤﺎء اﻟﺤﻴﻮان أن ﻳﺘﺄﻛﺪوا ﻣﻦ أن »ﻧﻈﺮﻳﺎﺗﻬﻢ« ﺳﺘﻈﻞ ﺻﺤﻴﺤﺔ ﻟﻸﺑﺪ ﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل ﻣﻊ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻟﻬﻨﺪﺳﻴﺔ. إن ﺗﻔﺴري أرﺳﻄﻮ ﻟﻠﻌﻠﻢ ﺑﻮﺻﻔﻪ ﻣﺘﻮاﻟﻴﺔ ﻫﻨﺪﺳﻴﺔ ﻣﻦ أﺷﻜﺎل اﻟﻘﻴﺎس ﻳﺪﻋﻮﻧﺎ إﱃ ﺳﺆال ﻣﺜري ﺣﻮل ﻛﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻔﺎؤل؛ ﺣﻴﺚ إﻧﻪ ﻳﻔﱰض أن ﻛﺎﻓﺔ املﻌﻠﻮﻣﺎت ﻗﺪ ﺟُ ﻤﻌﺖ ﰲ ٍ ﺗﻨﻈﻴﻤﻬﺎ وﺗﺮﺗﻴﺒﻬﺎ ﰲ ﺷﻜﻞ ﻣﺒﺎدئ وﺗﻌﺮﻳﻔﺎت وﻧﻈﺮﻳﺎت وﻫﻜﺬا ،وﻛﻠﻬﺎ ﺗﺴري ﻧﺤﻮ ﻫﺬا ُ ﺗﻄﺒﻴﻘﻪ ﻋﲆ أيﱟ ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﺴﺆال .وﻳﺒﺪو أن أرﺳﻄﻮ ﻛﺎن ﻋﲆ وﻋﻲ ﺑﺄن ﺗﻔﺴريه ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﻔﻌﻠﻴﺔ )ﻋﺪا اﻟﻬﻨﺪﺳﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ(؛ ﻷﻧﻪ ﻟﻢ ﻳَﺠْ ِﺮ اﺳﺘﻜﻤﺎل ﻣﺎ ﻳﻜﻔﻲ ﻣﻦ اﻟﺒﺤﻮث ﻟﺬﻟﻚ ،وﻫﺬا ﻣﺎ ﻳﻔﴪ إﺣﺠﺎﻣﻪ ﻋﻦ ﺗﺮﺟﻤﺔ أﻋﻤﺎﻟﻪ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﰲ أﺷﻜﺎل اﻟﻘﻴﺎس ﻓﻴﻤﺎ ﻋﺪا ﺑﻌﺾ اﻟﻌﻴﱢﻨﺎت اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺄﺗﻲ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﺘﻔﺴري .وأﻣﺎ ﻋﻦ ﺟﻤﻊ املﻌﻠﻮﻣﺎت اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﰲ املﻘﺎم اﻷول ً ﻧﺼﻴﺤﺔ أﻓﻀﻞ ﻣﻦ ﻗﻮﻟﻪ» :اذﻫﺐ واﻛﺘﺸﻔﻬﺎ ﺑﻨﻔﺴﻚ «.ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻫﺬا ﻓﻼ ﻳﺮى أرﺳﻄﻮ أﻣ ًﺮا ﻳﺘﻮﻗﻒ ﻋﲆ ﺑﺼرية اﻟﺒﺎﺣﺚ املﺘﻤ ﱢﺮس وﻣﺎ ﻳﺒﺬﻟﻪ ﻣﻦ ﺟﻬﺪ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺴﺒﻴﻞ ،وﻟﻴﺲ ﻋﲆ اﻟﱪاﻋﺔ املﺠ ﱠﺮدة ﻟِﻌَ ﺎ ِﻟ ِﻢ املﻨﻄﻖ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻟﻢ ﻳُﻘﺪﱢم أرﺳﻄﻮ ﺗﻔﺴريًا ﻳﺘﺒﻊ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﻋﻠﻤﻴﺔ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺑﺎملﺮة ،ﺑﻞ ﻛﺎن اﻷﻣﺮ ﻳﺸﺒﻪ ﻛﺘﺎﺑًﺎ ﻳُﺤْ َﻔ ُ ﻆ ﻟِﻤَ ْﻦ ﻳﻌﺮف ﻛﻞ ﳾء .وﰲ اﻟﻘﺮون اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ ﻋﺎﻧﺖ أﻓﻜﺎر أرﺳﻄﻮ ﻣﻦ ﺳﻮء اﻻﺳﺘﺨﺪام ﻋﲆ ﻳَ ِﺪ أُﻧَﺎس اﻧﻜﺒﱡﻮا ﻋﲆ رﺳﺎﺋﻠﻪ ﰲ املﻨﻄﻖ وأﻫﻤﻠﻮا )أو ﻟﻢ ﻳﻌﺮﻓﻮا ﺷﻴﺌًﺎ ﻋﻦ( رﺳﺎﺋﻠﻪ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ؛ ﺣﻴﺚ أراد ﻣﻔﻜﺮو اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ آﻧﺬاك أن ﻳﺘﺠﺎوزوا اﻟﺒﺤﺚ وﻳﺮ ﱢﻛﺰوا ﻋﲆ أﺷﻜﺎل اﻟﻘﻴﺎس اﻷرﺳﻄﻲ .وﻫﺬا اﻟﺨﻠﻂ اﻟﺬي ﻻ ﻓﺎﺋﺪة ﻣﻨﻪ ﺑني اﻟﺘﻌﺮﻳﻔﺎت واﻻﺳﺘﻨﺒﺎﻃﺎت ﻫﻮ اﻟﺬي ﺗﺴﺒﱠﺐَ ﰲ إﻟﺼﺎق ُﺳﻤﻌﺔ ﺳﻴﺌﺔ ﺑﺎملﻨﻬﺞ اﻟﻌﻠﻤﻲ »اﻷرﺳﻄﻲ« ،ﻻ ﺳﻴﻤﺎ ﻋﻨﺪ ﻣﻘﺎرﻧﺘﻪ ﺑﻨﻈريه ﻟﺪى ﻓﺮاﻧﺴﻴﺲ ﺑﻴﻜﻮن. َ وﺑﻬﺬا ﻧ َ ِﺠ ُﺪ أن اﻟﺠﺰأﻳﻦ اﻷﺳﺎﺳﻴني ﻣﻦ ﻣﻨﻄﻖ أرﺳﻄﻮ ﻗﺪ أﺣﺪﺛﺎ ﺑﻌﺾ املﺸﻜﻼت ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌ ُﺪ ﺑﺸﻜﻞ ﻏري ﻣﻘﺼﻮد .وﻗﺪ ﻋَ ﻤﱠ َﺮ ْت ﻧﻈﺮﻳﺔ أرﺳﻄﻮ اﻟﻌﺎﻣﺔ ﺣﻮل اﻟﻘﻴﺎس وآﺗﺖ أ ُ ُﻛ َﻠﻬَ ﺎ ﰲ 290
املﻌﻠﻢ اﻷول :أرﺳﻄﻮ
اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ وﻛﺒﺤﺖ ﺗﻄﻮر املﻨﻄﻖ اﻻﺳﺘﻨﺒﺎﻃﻲ؛ ذﻟﻚ أن ﻣﻌﺠﺒﻴﻪ ﺗﺄﺛﺮوا ﺑﺄﻧﻪ ﻣَ ﻦ وﺿﻊ ﺣﺠﺮ اﻷﺳﺎس ﻟﻬﺬا اﻟﻌﻠﻢ ﺣﺘﻰ ﻇﻨﻮا أﻧﻪ ﻫﻮ ﺻﺎﺣﺐ اﻟﻜﻠﻤﺔ اﻷﺧرية ﻓﻴﻪ .وأﻣﺎ ﻋﻦ ﻧﻈﺮﻳﺘﻪ ﺣﻮل اﻟﱪﻫﺎن اﻟﻌﻠﻤﻲ أو أﺷﻜﺎل اﻟﻘﻴﺎس اﻟﻌﻠﻤﻲ ﻓﻘﺪ أدﱠت إﱃ اﻟﺘﻘﻠﻴﻞ ﻣﻦ ﻣﻜﺎﻧﺔ اﻟﺪور اﻟﺬي ً ﺑﻌﻀﺎ ﻣﻦ ﻣﻌﺠﺒﻲ أرﺳﻄﻮ أﺧﺬوا ﺑﺤﺜَﻪ اﻟﺘﺠﺮﻳﺪي اﻟﺬي ﻳﻠﻌﺒﻪ اﻟﺒﺤﺚ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻲ؛ ﻷن ً ﺗﻨﺎول ﻓﻴﻪ اﻟﺸﻜﻞ املﺜﺎﱄ اﻟﺬي ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺒﺪو ﻋﻠﻴﻪ اﻟﻌِ ﻠﻢ ﺣﺠﺔ ﻟﻬﺠﺮ اﻟﻌﻤﻞ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻲ ﻗﺒﻞ اﻷوان. ﻗﺪ ﻛﺘﺐ أرﺳﻄﻮ ذات ﻣﺮة ﻳﻘﻮل» :إﻧﻬﺎ ﺳﻤﺔ اﻹﻧﺴﺎن املﺘﻌ ﱢﻠﻢ أن ﻳﺒﺤﺚ ﻋﻦ اﻟﺪﻗﺔ ﰲ ﻛﻞ ﳾء ﻛﻤﺎ ﺗﺒﺪو ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ «.ﻓﻘﺪ ﺗﻜﻮن اﻟﺪﻗﺔ ً ﻫﺪﻓﺎ ﰲ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل وﻟﻜﻦ ﰲ اﻟﻌﻠﻮم اﻷﺧﺮى ﻗﺪ ﻳﻜﻮن ﻣﻦ اﻟﺴﺬاﺟﺔ أن ﺗﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﳾء آﺧﺮ ﻏري اﻟﺨﻄﻮط اﻟﻌﺮﻳﻀﺔ. أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻣﺎ ﻛﺎن أرﺳﻄﻮ ﻳﻨﴗ ﻧﺼﻴﺤﺘﻪ ،وﻟﻜﻦ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ اﻷﻣﺮ ﺑﺎملﻮﺿﻮﻋﺎت اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ واﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﻧ َ ِﺠ ُﺪ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻋﲆ وَﻋْ ٍﻲ ﺟَ ﻴﱢ ٍﺪ ﺑﺄﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺛَﻤﱠ َﺔ ﻣﺒﺎدئ دﻗﻴﻘﺔ ،وﰲ ذﻟﻚ ﻳﻘﻮل: ﻳ َِﺠﺐُ ﺗﻘﺪﻳﻢ اﻟﺘﻔﺴري اﻟﺸﺎﻣﻞ ﻟﻜﻞ ﻣﺎ ﻳﺘﻌ ﱠﻠﻖ ﺑﺎﻟﺴﻠﻮﻛﻴﺎت ﰲ إﻃﺎر ﻋﺎ ﱟم وﻟﻴﺲ ﺑﺪﻗﺔ … ﻓﺎﻷﻣﻮر اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎﻟﺴﻠﻮك وﻣﺎ ﻳﺤﻤﻞ ﻟﻨﺎ اﻟﺨري ﻟﻴﺴﺖ ﺛﺎﺑﺘﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻛﺘﻠﻚ اﻷﻣﻮر اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻌ ﱠﻠﻖ ﺑﺎﻟﺼﺤﺔ .وﺑﻤﺎ أن ﻫﺬه ﻫﻲ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﺘﻔﺴري اﻟﺸﺎﻣﻞ ﻓﺈن ﺗﻔﺴري ﺑﻌﺾ اﻟﺤﺎﻻت اﻟﺨﺎﺻﺔ ُ ﺗﻨﻘﺼﻪ اﻟﺪﻗﺔ … وﻳﺠﺐ ﻋﲆ اﻷﻓﺮاد اﻟﻔﺎﻋﻠني ﰲ ﻛﻞ ﺣﺎﻟﺔ أن ﻳﻀﻌﻮا ﰲ اﻻﻋﺘﺒﺎر ﻣﺎ ﻳﻨﺎﺳﺐ املﻮﻗﻒ ﻛﻤﺎ ﻳﺤﺪث ﰲ اﻟﻄﺐ أو املﻼﺣﺔ. إن اﻟﺤﻴﺎة ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﺘﻌﻘﻴﺪ ﻣﺎ ﻳﺠﻌﻠﻨﺎ ﻧﻌﺠﺰ ﻋﻦ اﻟﻌﻴﺶ ﻓﻴﻬﺎ ﺑﻘﺎﺋﻤﺔ ﻣﻦ اﻷواﻣﺮ واﻟﻨﻮاﻫﻲ وﺣﺴﺐ ،ﻓﺈذا ﺣﺎوﻟﺖ أن ﺗﻀﻊ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻛﺎﻣﻠﺔ ﻣﻦ اﻟﻘﻮاﻋﺪ اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻴﺶ ً وﻓﻘﺎ ﻟﻬﺎ ﻓﺴﺘﻜﻮن ﻫﺬه اﻟﻘﻮاﻋﺪ ﻋﲆ درﺟﺔ ﻣﻦ اﻟﺘﻌﻘﻴﺪ ﺗﻤﺤﻮ أﻳﱠﺔ ﻓﺎﺋﺪة ﻋﻤﻠﻴﺔ ﻣﻨﻬﺎ .ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺗﻮﺟﺪ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﻘﻮاﻋﺪ اﻟﺜﺎﺑﺘﺔ واﻟﴪﻳﻌﺔ ﻣﺜﻞ »ﻻ ﺗﻘﺘﻞ« و»ﻻ ﺗﴪق« ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻻ ﺗﻐﻄﻲ إﻻ اﻷﺳﺌﻠﺔ اﻟﺴﻬﻠﺔ ،وﻫﻲ ﺻﺤﻴﺤﺔ ﺑﺘﻌﺮﻳﻔﻬﺎ) .ﻓﻼ ﻳُﻌَ ﱡﺪ ً ﻗﺘﻼ إﻻ اﻟﻘﺘﻞ ﺑﻈﻠﻢ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﺈن ﻋﺒﺎرة »ﻻ ﺗﺮﺗﻜﺐ ﺟﺮﻳﻤﺔ اﻟﻘﺘﻞ« ﻻ ﺗﻌﻨﻲ ﺳﻮى ﻻ ﺗﺮﺗﻜﺐ ﻇﻠﻤً ﺎ( .وﻣﺎ ﻳﺤﺘﺎﺟﻪ اﻹﻧﺴﺎن ﻟﻴﻔ ﱢﺮق ﺑني اﻟﺨري واﻟﴩ ﰲ ﻋﺎﻟﻢ ﻣﺘﺪاﺧﻞ ﻫﻮ اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ واﻟﺨﱪة وﺣﻜﻢ ﻣﺘﻮازن ﻣﻦ اﻟﺸﺨﺺ اﻟﺬي ﺗﺪور ﺣﻮﻟﻪ اﻷﺣﺪاث .وﻗﺪ ﻳﺴﺎﻋﺪﻧﺎ ذﻟﻚ ﻋﲆ اﺗﺨﺎذ اﻟﻘﺮارات املﻨﺎﺳﺒﺔ ﰲ املﻮاﻗﻒ اﻟﺼﻌﺒﺔ وﻋﲆ ﺗﺤﺪﻳﺪ أﻫﺪاﻓﻨﺎ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة. 291
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ً اﺧﺘﻼﻓﺎ ﻛﺒريًا ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻘﺔ أﻓﻼﻃﻮن املﻔﻀﻠﺔ ﰲ وﻳﺨﺘﻠﻒ ﻫﺬا املﺬﻫﺐ اﻟﻌﻤﲇ واملﺮن اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ اﻷﺧﻼق .ﻓﺈذا ﻛﺎن اﻷﻣﺮ ﻛﻤﺎ ﻳﻌﺘﻘﺪ أرﺳﻄﻮ ﻻ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺼﻴﺎﻏﺔ ﻗﻮاﻋﺪ ﻋﺎﻣﱠ ﺔ؛ ﻓﺈن اﻷﺧﻼق ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻜﻮن ﻗﻀﻴﺔ ﻓﻜﺮﻳﺔ ﻛﻤﺎ ﻳﺮى أﻓﻼﻃﻮن ،ﻓﻘﺪ ﻗﺎل أﻓﻼﻃﻮن إن ﻃﺒﻴﻌﺔ »اﻟﴚء َ اﻟﺨ ﱢري« ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻤﻴﻴ ُﺰﻫﺎ ﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﺘﺄﻣﱡ ﻞ املﺤﺾ ﰲ اﻟﺼﻔﺎت املﺸﱰﻛﺔ ﺑني ﺟﻤﻴﻊ أﻓﻌﺎل اﻟﺨري .وﺑﻌﺪ ﺣﻴﺎة ﻣﺪﻳﺪة ﻣﻦ اﻟﺪراﺳﺔ اﻟﺠﺎدة واﻻﺳﺘﻌﺪاد اﻟﺸﺪﻳﺪ اﺳﺘﻄﺎع املﻠﻮك اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻣﻦ أﺗﺒﺎع أﻓﻼﻃﻮن اﻗﺘﺒﺎس ﺟﺰء ﻣﻦ املﺜﺎل اﻷﻋﲆ ﻟﻠﴚء َ ري ،وﻗﺪﻣﻮا اﻟﺨ ﱢ ِ إﺟﺎﺑﺎت ﻋﲆ ﻛﻞ اﻷﺳﺌﻠﺔ ﻋﻦ أي اﻷﺷﻴﺎء ﱢ ﺧرية وأﻳﻬﺎ ﻏري ذﻟﻚ ،ﺛﻢ ﻗﺎﻣﻮا َ ﺑﺴ ﱢﻦ اﻟﻘﻮاﻧني ﻟﻠﺠﻤﻴﻊ .واﻧﺘﻬﻰ اﻷﻣﺮ ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﺤﺎل وﻟﻢ ﺗَﻌُ ْﺪ ﺛﻤﺔ ﻣﺸﻜﻼت ﺗﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎﻷﺧﻼق .وﻛﻤﺎ رأﻳﻨﺎ ﻟﻢ ﻳﺘﻮﻗﻊ أﻓﻼﻃﻮن ﺣﺪوث أيﱟ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻷﻣﻮر ،وﻟﻜﻦ اﻟﺪرس املﺴﺘﻔﺎد ﻣﻦ اﻟﻘﺼﺔ ﻛﺎن واﺿﺤً ﺎ وﺿﻮح اﻟﺸﻤﺲ ﰲ َﻛ ِﺒ ِﺪ اﻟﺴﻤﺎء أﻻ وﻫﻮ :ﺗﻤﺴﻚ ﺑﺎملﺜﺎل اﻷﻋﲆ ﻟﻠﴚء َ ري — أو اﻟﺨ ﱢ ِ اﻟﺨري ذاﺗﻪ ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﺴﻤﻴﻪ — واﻟﺒﺎﻗﻲ ﺗﻔﺎﺻﻴﻞ ﻣﺤﻀﺔ. ﻟﻢ ﻳَ ُﺮ ْق ﻫﺬا اﻷﻣﺮ ﻷرﺳﻄﻮ ،ﻓﻠﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻳﻔﻬﻢ ﻋﻼﻗﺔ املﺜﺎل اﻷﻋﲆ ﻟﻠﴚء َ ري ﺑﺄي ﳾء اﻟﺨ ﱢ ِ آﺧﺮ ،ﻓﻤﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ ﺗﻔﱰض اﻟﺼﻮرة اﻟﺘﻲ رﺳﻤﻬﺎ أﻓﻼﻃﻮن أن اﻟﺨري ﻫﻮ ﳾء واﺣﺪ؛ ﻓﺎﻟﺮﺟﻞ اﻟﺼﺎﻟﺢ واملﻨﺰل اﻟﺼﺎﻟﺢ واﻟﺪﺟﺎﺟﺔ اﻟﺼﺎﻟﺤﺔ ﻛﻠﻬﺎ ﺗﺠﺘﻤﻊ ﰲ ﻋﻼﻗﺔ واﺣﺪة ﻣﻊ ﻫﺬا املﺜﺎل اﻷﻋﲆ .وﻗﺪ اﻋﱰض أرﺳﻄﻮ ً ﻗﺎﺋﻼ إن ﻫﺬا ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن ﺻﺤﻴﺤً ﺎ؛ ﻷن ﻫﻨﺎك اﻟﻌﺪﻳﺪ ري ٌة )أو ﻏري ذﻟﻚ( وﻫﻲ ﺗﺨﺘﻠﻒ ﻣﻦ املﻌﺎﻧﻲ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻘﺎل ﻋﻦ اﻷﺷﻴﺎء ﻓﻴﻬﺎ إﻧﻬﺎ َﺧ ﱢ َ ﺑﺸﺪة ﺗﺒﻌً ﺎ ﻟﻸﻣﺮ اﻟﺬي ﻳﺘﺤﺪث اﻹﻧﺴﺎن ﻋﻨﻪ ،ﻓﻜﻴﻒ ﻳﻜﻮن ﻫﻨﺎك ﻓﺎﺋﺪة ﻣﻦ »اﻟﺨري ﻧﻔﺴﻪ« إذا ﻛﺎﻧﺖ ﻓﻜﺮة اﻟﺨري ﺗﻨﻄﺒﻖ ﻋﲆ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻷﺷﻴﺎء؟ وﻋﲆ أﻳﱠﺔ ﺣﺎل ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻣﻦ املﺮﻳﺐ أن أﺣﺪًا ﻟﻢ ﻳﺤﺎول اﺳﺘﻐﻼل ﻫﺬا املﻌﻴﺎر أو املﻘﻴﺎس اﻟﻌﺎم ﻟﻠﺨري .ﻓﺈذا أراد اﻹﻧﺴﺎن أن ﻳﺼﺒﺢ ﻃﺒﻴﺒًﺎ ﻧﺎﺟﺤً ﺎ ﻓﻌﻠﻴﻪ أن ﻳﺪ ُرس اﻟﻄﺐ ،وإذا أراد أن ﻳﺼﺒﺢ ﻧﺠﺎ ًرا ﻧﺎﺟﺤً ﺎ ﻓﻌﻠﻴﻪ أن ﻳﻌﺮف ﻋﻦ اﻷﺧﺸﺎب واﻷدوات؛ وﺑﻬﺬا ﻧﺠﺪ أن املﺜﺎل اﻷﻋﲆ ﻟﻠﴚء َ ري ﻻ ﻋﻼﻗﺔ ﻟﻪ اﻟﺨ ﱢ ِ ُ ﺗﻄﺒﻴﻖ اﻷﻣﺮ ﻧﻔﺴﻪ ﻋﲆ ﻃﺮﻳﻘﺔ اﻟﻌﻴﺶ واﻟﺤﻴﺎة ،ﻓﺈذا أردت أن ﺗﻌﺮف ﺑﺎﻷﻣﺮ .وﻳﻤﻜﻨﻨﺎ ﻛﻴﻒ ﺗﺘﻔﻮﱠق ﰲ ﻫﺬا املﺠﺎل ﻓﺈن ﻣﺎ ﻳﺠﺐ أن ﺗﻬﺘﻢ ﺑﻪ ﻫﻮ ﺗﻔﺎﺻﻴﻞ اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ واﻟﻈﺮوف املﻤﻴﺰة ﻟﻠﺤﻴﺎة اﻟﺒﴩﻳﺔ. وﻫﺬا ﻫﻮ ﻣﺎ ﻛﺎن أرﺳﻄﻮ ﻳﺤﺎول أن ﻳﻔﻌﻠﻪ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ ﻋﻦ اﻷﺧﻼق .وﺑﻤﺎ أن ﻃﺮﻳﻘﺘﻪ ﻛﺎﻧﺖ — ﻛﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﰲ ﺳﺎﺋﺮ أﺑﺤﺎﺛﻪ — ﺗﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ ﺗﻔﺴري اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﻛﻤﺎ ﺗﺒﺪو ﺑﺸﻜﻞ ﻋﺎم، واﻟﺒﻨﺎء ﻋﲆ اﻵراء املﻘﺒﻮﻟﺔ واملﺘﻌﺎ َرف ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑﺸﺄن ﻫﺬه اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ وﺗﻨﻘﻴﺤﻬﺎ؛ ﻓﻠﻴﺲ ﻣﻦ اﻟﻌﺠﺐ أن ﻧﻜﺘﺸﻒ أﻧﻪ ﻛﺎن ﺻﺎﺣﺐ ﺛﻮرة ﰲ اﻷﺧﻼق ﻻ ﺗﻘﻞ ﻋﻦ ﺳﻘﺮاط وأﻓﻼﻃﻮن .ﻓﻜﻤﺎ 292
املﻌﻠﻢ اﻷول :أرﺳﻄﻮ
رأﻳﻨﺎ ﻟﻢ ﻳَﻬْ ﺘَ ِﺪ ﺳﻘﺮاط ﰲ اﻷﺳﺎس ﺑﺎﻷﺧﻼق اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ ،ﺑﻞ ﺑﻀﻤري ﻳﺨﱪه رﻏﻢ ﻛﻞ ﳾء أن َﴬ ،ﻛﻤﺎ أن اﻟﺤﺎﺟﺔ إﱃ اﻟﺤﻔﺎظ ﻋﲆ ﻧﻘﺎء ُروﺣﻪ وﺗﻘﻮﻳﺘﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻳﺘﺠﻨﺐ ﻓﻌﻞ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻗﺪ ﻳ ُ ﱡ ﺗﻌﻨﻲ أن ﻳﻌﻴﺶ ﻋِ َ ﻴﺸ َﺔ اﻟﻘﺪﻳﺲ ﱠ وأﻻ ﻳﺮد اﻟﺼﺎع ﺑﺎﻟﺼﺎع .أﻣﺎ ﻟﺪى أﻓﻼﻃﻮن ﻓﺈن ﻣﻄﺎﻟﺐ اﻟﻀﻤري ا ْرﺗَﺪ ْ َت ﻟﺒﺎس اﻟﻌﻘﻞ ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ ﻣﻄﺎﻟﺐَ ﻟﻠﺒﺤﺚ ﻋﻦ »اﻟﺨري ﻧﻔﺴﻪ« ،وﻗﺪ ﻇﻠﺖ ُﻣﺜُﻠُ ُﻪ ﻣﺠ ﱠﺮد ًة وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻇﻠﺖ ﻋﲆ ﻏري اﻟﻌﺎدة ﺗﻀﻊ ﻣﻌﺎﻳري رﻓﻴﻌﺔ وﻟﻮ ﻋﲆ املﺴﺘﻮى اﻟﻨﻈﺮي ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ،ﻛﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺑﻌﺾ اﻹﺻﻼﺣﺎت اﻟﺘﻲ ﻧﺎدى ﺑﻬﺎ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﻪ »اﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ« — ﻣﺜﻞ ﻣﺴﺎواة املﺮأة وﻧﻈﺎم اﻹﻓﻘﺎر اﻹﺟﺒﺎري ﻟﻠﻘﻴﺎدات اﻟﺤﺎﻛﻤﺔ — ﺗﺤﻤﻞ ﻣﻦ اﻹﺑﺪاع واﻻﺑﺘﻜﺎر ﻣﺎ أذﻫﻞ اﻟﺠﻤﻴﻊ. ﻟﻢ ﺗَ ُﻜ ْﻦ آراء أرﺳﻄﻮ ﻋﻦ اﻟﻘِ ﻴَﻢ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ اﻟﺘﻲ اﻣﺘﺪﺣﻬﺎ املﺘﻌﻠﻤﻮن واملﺜﻘﻔﻮن ﻣﻦ أﺑﻨﺎء ً اﺧﺘﻼﻓﺎ ﻛﺒريًا ،إﻻ أن ﻫﺬا ﻟﻢ ﻳﺠﻌﻞ ﻓﻠﺴﻔﺘﻪ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ﺑﺎﻋﺜﺔ ﻋﲆ املﻠﻞ ﻣﻦ ﻋﴫه ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﺣﻴﺚ ﻛﻮﻧُﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﻘﺪم ﺟﺪﻳﺪًا؛ ﻷن اﻷﻣﺮ ﻳﺨﺘﻠﻒ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﻜﻮن ﻗﺎد ًرا ﻋﲆ ﺗﻔﺴري ﻫﺬه اﻟﻘﻴﻢ واﻻﺳﺘﻔﺎدة ﻣﻨﻬﺎ .ﻟﻘﺪ ذﻫﺐ أرﺳﻄﻮ ﺑﻌﻴﺪًا ﰲ ﻣﺤﺎوﻟﺘﻪ ﻟﺘﱪﻳﺮ ﻧﻈﺎم اﻟﻌﺒﻮدﻳﺔ اﻟﺬي ﻛﺎن املﻔ ﱢﻜﺮون اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﻮن اﻵﺧﺮون ﻳﻘﺒﻠﻮﻧﻪ ﻋﲆ أﻧﻪ ﻣﺠﺮد ﺣﻘﻴﻘﺔ ﺣﺘﻤﻴﺔ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة ،ﻓﻤﺮوا ﻋﻠﻴﻪ ُﻣ ُﺮور اﻟﻜﺮام .أﻣﺎ أرﺳﻄﻮ ﻓﻜﺎن ﻳَﻌِ ُ ﻆ ﺑﻤﺎ ﻳﻤﺎرﺳﻪ اﻵﺧﺮون وﻻ ﻳﺘﻜﻠﻤﻮن ﻋﻨﻪ ،وﻫﻮ ﻈﺎ وﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻟﻔﻜﺮﻳﺔ ً ﻣﺎ ﻳُﻌَ ﱡﺪ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ﺳﻠﻮ ًﻛﺎ ﻣﺤﺎﻓ ً ﻋﻤﻼ ﻓﻴﻪ ﻗﺪر ﻣﻦ املﻐﺎﻣﺮة .وﺑﺼﻔﺔ ﻋﺎﻣﺔ إذا ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ﻟﺪى أﻓﻼﻃﻮن وﺳﻘﺮاط ﻳﻤﻜﻦ اﻟﻨﻈﺮ إﻟﻴﻬﺎ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻟﻮﺿﻊ ﺑﻌﺾ اﻟﻘﻮاﻧني ﻷﺣﺪ اﻷﻧﺪﻳﺔ؛ ﻓﺈن أرﺳﻄﻮ ﻛﺎن ﻣﻬﺘﻤٍّ ﺎ ﺑﺈﻟﻘﺎء اﻟﻀﻮء ﻋﲆ اﻟﺪﺳﺘﻮر اﻟﺬي ﻳﺴري اﻟﻨﺎدي و ً َﻓﻘﺎ ﻟﻪ ،وأن ﻳﺒﺤﺚ ﻋﻦ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ا ُملﺜﲆ اﻟﺘﻲ ﺗﺠﻌﻞ أﻋﻀﺎءه ﻳﺘﴫﻓﻮن ﻋﲆ أﺳﺎﺳﻪ .وﻻ ﻳﻌﻨﻲ ﻫﺬا أﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﻘﺒَﻞ ﻛﻞ اﻟﻘﻴﻢ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ دون ﺗﻔﻜري؛ ﻓﻘﺪ اﻋﱰف أن »اﻟﻌﺎدات اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻫﻲ ﻋﺎدات ﺳﺎذَﺟﺔ وﻫﻤﺠﻴﺔ إﱃ ﺣَ ﱟﺪ ﻛﺒري … ﻛﻤﺎ أن ﻣﺎ ﱠ ﺗﺒﻘﻰ ﻣﻦ اﻟﻘﻮاﻧني اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻟﻴﺲ إﻻ ﻋﺒﺜًﺎ ﻻ ﻓﺎﺋﺪة ﻣﻨﻪ «.وﻗﺎل أرﺳﻄﻮ ً أﻳﻀﺎ إن اﻟﻘﻮاﻧني اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ »ﻳﺠﺐ ﱠأﻻ ﺗﺒﻘﻰ داﺋﻤً ﺎ ﺑﻌﻴﺪة ﻋﻦ ﻣﻌﺎول اﻟﺘﻐﻴري واﻟﺘﺒﺪﻳﻞ «.ﻓﻬﻮ ﻳﺮى أن ﺣﺪوث اﻟﺘﻐﻴري ﻳﺠﺐ أن ﻳﻜﻮن ﺑﺤﺮص ﺷﺪﻳﺪ؛ ﻷن »اﻟﻌﺠﻠﺔ ﰲ اﻟﺘﻐﻴري ﻣﻦ اﻟﻘﺪﻳﻢ إﱃ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﺗُﻀﻌﻒ ﻗﻮة اﻟﻘﺎﻧﻮن«. وﻗﺪ ﻛﺎن ﺳﺆال أرﺳﻄﻮ اﻷول ﺣﻮل اﻷﺧﻼق وﻓﻦ اﻟﻌﻴﺶ ﻫﻮ» :ﻣﺎ »اﻟﴚء َ اﻟﺨ ﱢريُ« ﻟﻺﻧﺴﺎن؟« ﻻ ﻳﻌﻨﻲ ﻫﺬا »ﻣﺎ اﻟﺬي ﻳﺠﻌﻞ اﻹﻧﺴﺎن أﻓﻀﻞ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ؟« أو »ﻛﻴﻒ ﻳﺠﺐ ﻋﲆ اﻟﻨﺎس أن ﻳﺘﴫﻓﻮا إذا ﺗﻌﺎرﺿﺖ ﻣﺼﺎﻟﺤﻬﻢ ﻣﻊ ﻣﺼﺎﻟﺢ اﻵﺧﺮﻳﻦ؟« ﻓﺤﺴﺐُ ، ﺑﻞ ﻛﺎن اﻟﺴﺆال ﻳﺘﱠﺴﻊ ﻷﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻫﺬا وﻻ ﻳﻘﺘﴫ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻧﺴﻤﻴﻪ اﻟﺴﻠﻮك اﻷﺧﻼﻗﻲ ،ﻓﻌﻨﺪﻣﺎ 293
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻳﺘﺤﺪث ﻋﻦ »اﻟﴚء َ ري« ﻟﻺﻧﺴﺎن ﻓﻬﻮ ﻳﺴﺄل» :ﻣﺎ اﻟﻬﺪف ﻣﻦ اﻟﺤﻴﺎة اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ؟« و»ﻣﺎ اﻟﺨ ﱢ ِ اﻟﺬي ﻳﺠﻌﻠﻬﺎ ﺗﺘﺴﻢ ﺑﺎﻟﻜﻤﺎل؟« ﻳﻘﻮل أرﺳﻄﻮ إﻧﻪ ﻣﻦ اﻟﺒﺪَﻫﻲ أن ﺗﻜﻮن اﻹﺟﺎﺑﺔ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﺴﺆال ﻫﻲ eudaimoniaوﻫﻲ ﻛﻠﻤﺔ ﻳﻮﻧﺎﻧﻴﺔ ﺗُ َﱰْﺟَ ُﻢ داﺋﻤً ﺎ ﻟ »اﻟﺴﻌﺎدة« ،وﻟﻜﻦ ﻫﺬه اﻟﱰﺟﻤﺔ ﺗﺠﻌﻞ اﻹﺟﺎﺑﺔ ﻏري ﻣﻘﻨﻌﺔ ﻟﻠﻤﻔﻜﺮﻳﻦ واﻟﻔﻼﺳﻔﺔ املﻌﺎﴏﻳﻦ ،ﻓﻤﻦ املﺆﻛﺪ أن اﻟﺤﻴﺎة ﻻ ﺗﻘﺘﴫ ﻋﲆ اﻟﺸﻌﻮر ﺑﺎﻟﺮاﺣﺔ .وﰲ اﻟﻮاﻗﻊ ﻻ ﻳ ُْﻘ َ ﺼ ُﺪ ﺑﻜﻠﻤﺔ » eudaimoniaاﻟﺴﻌﺎدة« إﻻ ﺑﻤﻌﻨﺎﻫﺎ اﻟﻮاﺳﻊ ﰲ اﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﺗﺘﻀﻤﻦ اﻟﻨﺠﺎح واﻟﻌﻴﺶ اﻟﻜﺮﻳﻢ واﻟﺜﺮوة اﻟﻜﺒرية ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ اﻟﺮﺿﺎ وراﺣﺔ اﻟﺒﺎل .وﻛﺎن ﻣﻦ املﻤﻜﻦ أن ﺗﻀﻢ ﻗﻮاﺋﻢ أﻓﻀﻞ ﻛﺘﺐ اﻻﻋﺘﻤﺎد ﻋﲆ اﻟﻨﻔﺲ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ املﺒﻴﻌﺎت آﻧﺬاك ﻛﺘﺒًﺎ ﺗﺤﻤﻞ اﻟﻌﻨﺎوﻳﻦ اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ» :اﻟﺴﻌﺎدة ﻟﻠﺠﻤﻴﻊ: ﻛﻴﻒ ﺗﺤﻘﻖ اﻟﻨﺠﺎح وﺗﻜﻮن ﻣﺤﻂ اﻹﻋﺠﺎب وﺗﻜﻮن ﻛﻤﻦ أﻧﻌﻢ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺮب«؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻟﻢ ﻳﺠﺪ أرﺳﻄﻮ ﻏﻀﺎﺿﺔ ﰲ أن ﻳﺘﻔﻖ اﻟﻨﺎس ﻋﲆ أن اﻟﺴﻌﺎدة ﻫﻲ اﻟﻬﺪف املﻨﺸﻮد ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﺤﻴﺎة. وﺗﺒﻘﻰ املﻬﻤﺔ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﰲ رأي أرﺳﻄﻮ ﻫﻲ ﺗﺤﺪﻳﺪ ﻣﺎ ﺳﻴﻮﺻﻠﻨﺎ إﻟﻴﻪ ﻫﺬا اﻟﺒﺤﺚ ﺑﺪﻗﺔ. ﻳﺮى أرﺳﻄﻮ أن دﻫﻤﺎء اﻟﻨﺎس ﻳﻌﺘﻘﺪون أن ﻫﺪف اﻟﺤﻴﺎة ﻫﻮ املﺘﻌﺔ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻳَﻌُ ﱡﺪ ﻫﺬا ﻧﻮﻋً ﺎ ﺣﻘريًا ﻣﻦ أﻧﻮاع اﻟﻮﺟﻮد ﻻ ﻳﻠﻴﻖ إﻻ ﺑﺎﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت؛ ﻓﺎﻟﻨﺎس »ذوو اﻟﺬوق اﻟﺮﻓﻴﻊ واملﺰاج اﻟﻨﺸﻴﻂ« ﻳﻌﺮﻓﻮن ﻫﺪف اﻟﺤﻴﺎة ﻋﲆ أﻧﻪ اﻟﴩف واﻟﺴﻤﻌﺔ اﻟﺤﺴﻨﺔ ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻺﻧﺴﺎن أن ﻳﺤﺼﻞ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ وﻇﻴﻔﺔ ﺟﻴﺪة ﰲ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻌﺎﻣﺔ .ﻟﻜﻦ ﻷﺳﺒﺎب ﻋﺪة ﺗﻌﺪ ﻫﺬه ً أﻳﻀﺎ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﺳﻄﺤﻴﺔ ﰲ اﻟﺘﻌﺎﻣُﻞ ﻣﻊ اﻟﺤﻴﺎة .إن ﻫﺬا اﻟﴩف ﻻ ﻳﻌﻜﺲ إﻻ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﺗﻔﻜري اﻵﺧﺮﻳﻦ ،ﻓﻬﻞ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻌﺘﻤﺪ ﺳﻌﺎدة املﺮء ﻋﲆ اﻟﺴﻠﻮﻛﻴﺎت املﺘﻘ ﱢﻠﺒﺔ ﻟﻶﺧﺮﻳﻦ؟ وإﱃ ﺟﺎﻧﺐ ﻫﺬا ﻳَ َﻮ ﱡد اﻟﻨﺎس داﺋﻤً ﺎ أن ﻳُ َﻜ ﱠﺮ ُﻣﻮُا ﻟﻴﺲ ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻣﺔ ﻓﺤﺴﺐُ وإﻧﻤﺎ ً أﻳﻀﺎ ﻣﻦ أﺻﺤﺎب اﻟﺤﻜﻢ اﻟﺤﺼﻴﻒ؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﺈﻧﻪ ﻣﻦ ﻏري املﻨﻄﻘﻲ أن ﻳﻬﺘﻢ املﺮء ﺑﺎﺣﺘﻔﺎء اﻟﻨﺎس ﺑﻪ وﺗﻜﺮﻳﻤﻬﻢ ﻟﻪ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ اﻫﺘﻤﺎﻣﻪ ﺑﺎﻟﻔﻀﺎﺋﻞ ﻧﻔﺴﻬﺎ اﻟﺘﻲ ﻣﻦ املﻔﱰض أﻧﻪ ﻳﻌﺮﻓﻬﺎ ،ﻓﺎﻟﻨﺎس ﻳﻌﺠﺒﻮن ﺑﺒﻌﻀﻬﻢ ﻷﻧﻬﻢ أﻫﻞ ﻟﻬﺬا اﻹﻋﺠﺎب ﻻ ﻷﻧﻬﻢ ﻣﻌﺠﺒﻮن؛ وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈن اﻟﴩف واﻻﺣﺘﻔﺎء ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮﻧﺎ ﻫﻤﺎ أﻫﺪاف اﻟﺤﻴﺎة. وﻳﺆدي ﻫﺬا إﱃ اﻟﻘﻮل إن ﻫﺪف اﻟﺤﻴﺎة ﻗﺪ ﻳﺘﻤﺜﱠﻞ ﰲ اﻟﺘﻤﺘﻊ ﺑﺠﻤﻴﻊ اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ )أو »أﻧﻮاع اﻟﺘﻤﻴﺰ« اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻨﻲ ﻟﺪى اﻹﻏﺮﻳﻖ املﻌﻨﻰ ذاﺗﻪ( ﺳﻮاء أﻛﺎﻧﺖ ﻓﻴﻬﺎ اﺣﺘﻔﺎء اﻟﻌﺎﻣﺔ أﻳﻀﺎ؛ ً ﺑﺎملﺮء أم ﻻ .وﻟﻜﻦ ﻫﺬا ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن ﺻﺤﻴﺤً ﺎ ً أوﻻ :ﻷن ﻫﺬا ﺳﻠﻮك ﺳﻠﺒﻲ، ﻓﺄرﺳﻄﻮ ﻛﺎن ﻳﺮى اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﻣﻴﻮل أو ﻗﺪرات ،وﻗﺪ ﻳﻜﻮن ﻟﻠﻤﺮء ﻛﺜري ﻣﻦ ﻫﺬه ﱠف املﺮء ً املﻴﻮل واﻟﻘﺪرات دون اﻻﺳﺘﻔﺎدة ﻣﻨﻬﺎ ﰲ ﳾء .وﺛﺎﻧﻴًﺎ :ﻷﻧﻪ ﺣﺘﻰ ﻟﻮ ﺗَ َﴫ َ وﻓﻘﺎ ﻟﻠﻔﻀﻴﻠﺔ وﺑﺪت ﻣﻨﻪ ﺟﻤﻴﻊ أﺷﻜﺎل اﻟﺘﻤﻴﱡﺰ واﻟ ﱡﺮﻗِﻲ ﻓﻘﺪ ﻻ ﻳﻜﻮن ﻫﺬا ﻛﺎﻓﻴًﺎ؛ ﻷن املﺮء ﻗﺪ 294
املﻌﻠﻢ اﻷول :أرﺳﻄﻮ
ﻳﻌﺎﻧﻲ ﻣﻦ ﻣﺼﺎﺋﺐَ ﻋﺪة ﻣﺜﻞ املﺮض أو اﻟﻔﻘﺮ أو ﻓﻘﺪان اﻷﺻﺪﻗﺎء واﻷﻫﻞ ،وﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺒﺎﺋﺲ »ﻟﻦ ﻳﺪﻋﻮه أﺣﺪ إﻧﺴﺎﻧًﺎ ﺳﻌﻴﺪًا« ،ﻓﻬﺬه اﻟﻈﺮوف اﻟﺘﻲ ﺗُﺨﻔﻴﻬﺎ اﻟﺤﻴﺎة ﺗﺬﻫﺐ ﺑﺰﻫﺮة اﻟﺴﻌﺎدة .وﴎﻋﺎن ﻣﺎ ﺗﺨﻠﺺ أرﺳﻄﻮ ﻣﻦ ﻓﻜﺮة أن اﻟﺜﺮوة ﻗﺪ ﺗﻜﻮن ﻣﻔﺘﺎح اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ،ﻓﺎملﺎل ﻳُﺒْﺘَ َﻐﻰ ملﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺤﻘﻘﻪ وﺣﺴﺐُ ،ﻓﻬﻮ وﺳﻴﻠﺔ ﻟﻐﺎﻳﺔ ﻣﺎ. وﻟﺘﺤﻘﻴﻖ ﻣﺰﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺘﻘﺪﱡم ﰲ ﻫﺬا اﻟﺸﺄن ﻳﻘﱰح أرﺳﻄﻮ أن ﻳُﻤﻌﻦ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻨﻈﺮ ﰲ ﺷﺨﺼﻴﺘﻪ ،ﻓﻬﻮ ﻳﺮى أن ﻫﺬا َﺳﻴُ ْ ﻄ ِﻠ ُﻊ اﻹﻧﺴﺎن ﻋﲆ »وﻇﻴﻔﺘﻪ«؛ وﺑﻨﺎءً ﻋﻠﻴﻪ ﺳﻨﺘﻤﻜﻦ ﻣﻦ ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ا ُملﺜﲆ اﻟﺘﻲ ﻳﺠﺐ أن ﻳﺆدي اﻹﻧﺴﺎن ﺑﻬﺎ ﻫﺬه اﻟﻮﻇﻴﻔﺔ ﻓﻴﻘﻮل: ﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل ﻣﻊ ﻋﺎزف اﻟﻨﺎي واﻟﻨﱠﺤﱠ ﺎت وأي ﻓﻨﺎن ،ﺑﻞ وﻛﻞ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ ﻟﻬﺎ وﻇﻴﻔﺔ أو ﻧﺸﺎ ٌ ط ﻣﺎ ،ﻳﻈﻦ اﻟﻨﺎس أن اﻟﺨري ﻳﻜﻤُﻦ ﰲ اﻟﻮﻇﻴﻔﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ؛ وﺑﺎملﺜﻞ ﻳُ َ ﻈﻦ أن ﺛﻤﺔ ﺧريًا ﰲ اﻹﻧﺴﺎن إذا ﻛﺎﻧﺖ ﻟﻪ وﻇﻴﻔﺔ .ﻓﻬﻞ ﻟﻠﻨﺠﺎر أو اﻟﺪﺑﺎغ وﻇﻴﻔﺔ ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻟﻴﺲ ﻟﻺﻧﺴﺎن أﻳﺔ وﻇﺎﺋﻒ؟ ﻫﻞ ﺟُ ِﺒ َﻞ اﻹﻧﺴﺎن ﺑﺪون وﻇﻴﻔﺔ؟ وﺑﻤﺎ أن ﻟﻠﻌني واﻟﻴﺪ واﻟﻘﺪم وﺳﺎﺋﺮ اﻷﻋﻀﺎء وﻇﺎﺋﻒ ﺗُ َﺆدﱢﻳﻬَ ﺎ ﻓﻬﻞ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ اﻟﻘﻮل إن ﻟﻺﻧﺴﺎن وﻇﻴﻔﺔ ﺗﺨﺘﻠﻒ ﻋﻦ ﻛﻞ ذﻟﻚ؟ وﻛﻤﺎ رأﻳﻨﺎ ﰲ أﺑﺤﺎث أرﺳﻄﻮ اﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻓﺈن اﻟﺴﺆال ﻋﻦ وﻇﻴﻔﺔ اﻟﻜﺎﺋﻦ اﻟﺤﻲ )أو أﺣﺪ أﺟﺰاء اﻟﻜﺎﺋﻦ اﻟﺤﻲ( ﻫﻮ ﺳﺆال ﻋﻦ ﻃﺒﻴﻌﺔ ﻋﻤﻠﻪ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ .إن وﻇﻴﻔﺔ اﻟﻌني ﻫﻲ اﻟﺮؤﻳﺔ، وﻟﺬﻟﻚ ﻓﺈن اﻟﺨري اﻟﺬي ﺗﻨﺎﻟﻪ اﻟﻌني ﻫﻮ اﻟﺮؤﻳﺔ اﻟﺠﻴﺪة .وﻟﻨﻨﻈﺮ إﱃ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﻘﻮم ﺑﻪ اﻹﻧﺴﺎن ﺑﺸﻜﻞ ﻃﺒﻴﻌﻲ ،ﻓﻬﻮ ﻳﺄﻛﻞ وﻳﺘﻨﻔﺲ وﻳﺪرك وﻳﻨﺎم وﻳﺘﺤﺮك وﻳﻔﻜﺮ وﻣﺎ إﱃ ذﻟﻚ ،وﻟﻜﻦ ﻣﻌﻈﻢ ﻫﺬه اﻷﻣﻮر ﻳﺸﱰك ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻊ ﻛﺜري ﻣﻦ املﺨﻠﻮﻗﺎت اﻷﺧﺮى؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﻬﻲ ﻻ ﺗُﻌَ ﱡﺪ ﻣﻦ اﻟﻮﻇﺎﺋﻒ املﻤﻴﺰة ﻟﻺﻧﺴﺎن .وﻳﻘﻮل أرﺳﻄﻮ إن ﻣﺎ ﱠ ﻳﺘﺒﻘﻰ ﻟﻨﺎ ﺑﻌﺪ أن ﻧﻨﺤﻲ ﻛﻞ ﻫﺬه اﻟﻨﺸﺎﻃﺎت املﺸﱰﻛﺔ ﺟﺎﻧﺒًﺎ ﻫﻮ اﻟﻌﻘﻞ أو اﻟﺬﻛﺎء؛ ﻓﺈن اﻟﻌﻘﻞ أو اﻟﺬﻛﺎء ﻫﻮ اﻟﺬي ﻳﻤﻴﺰ اﻹﻧﺴﺎن ﻋﻦ ﺳﺎﺋﺮ املﺨﻠﻮﻗﺎت اﻷﺧﺮى ،وﺑﺬﻟﻚ ﻧﻌﺜﺮ ﻋﲆ وﻇﻴﻔﺔ اﻹﻧﺴﺎن وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻋﲆ ﻣﻔﺘﺎح اﻟﺴﻌﺎدة. ﻳﻤﻴﻞ اﻹﻧﺴﺎن ﺑﻄﺒﻴﻌﺘﻪ ﻟﻮﺿﻊ اﻟﺨﻄﻂ ،وﺗﻜﻮن ﻟﺪﻳﻪ دواﻓﻊ ﻣﻌﻴﻨﺔ وﻳﻘﻮم ﺑﺤﺴﺎب اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ ،وﻳﺴﻌﻰ إﱃ اﻛﺘﺸﺎف اﻷﺷﻴﺎء وﻣﻌﺮﻓﺘﻬﺎ ،ﻛﻤﺎ ﻳﺆدي ﺣﺮﻛﺎت إرادﻳﺔ وﻳﻔﻜﺮ ﰲ ﻛﻞ ﳾء ﻣﻦ ﺣﻮﻟﻪ وﻳﺪرﺳﻪ .وﺗﻌﺘﻤﺪ ﻛﻞ ﻫﺬه اﻟﻨﺸﺎﻃﺎت ﻋﲆ اﻟﺬﻛﺎء .وﻫﺬا ﻳﻘﻮدﻧﺎ إﱃ اﻟﻘﻮل إن ﻣﺼﻠﺤﺔ اﻹﻧﺴﺎن و»ﺧريه« ﻳﺘﻀﻤﱠ ﻦ إﺗﻘﺎن ﻋﻤﻞ ﻛﻞ ﻫﺬه اﻷﺷﻴﺎء ،أو »ﺑﻤﺎ ﻳﺘﻔﻖ ﻣﻊ )اﻟﺼﻮرة املﻨﺎﺳﺒﺔ ﻣﻦ( اﻟﺘﻤﻴﱡﺰ« ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻌﻨﻲ أن ﻧﺸﺎط اﻹﻧﺴﺎن ﱢ اﻟﺨري اﻟﺴﻌﻴﺪ وﺳﻠﻮﻛﻪ 295
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻳَﻌْ ِﺮ َ ﺎن اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ املﻨﺎﺳﺒﺔ ﻟﻜﻞ ﻧﻮع ﻣﻦ أﻧﻮاع اﻟﺘﴫﻓﺎت اﻟﺬﻛﻴﺔ واﻟﺘﻔﻜري اﻟﻌﻘﻼﻧﻲ؛ ﻓﻼ ﺿ ِ ﻳﺠﺐ ﻋﻠﻴﻪ أن ﻳﺘﴫف ﺑﻬﺬه اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ملﺮة أو ﻣﺮﺗني ،ﺑﻞ ﻃﻮال ﺣﻴﺎﺗﻪ ﻛﻠﻬﺎ؛ ذﻟﻚ أن »ﻣﻤﺎرﺳﺔ ﻋﻤﻞ ﻣﺎ ﻣﺮة واﺣﺪة أو ﻣﺮﺗني ﻻ ﻳﻜﻔﻲ ،ﻛﻤﺎ أن اﻟﻮﻗﺖ اﻟﻘﺼري ﻻ ﻳﺠﻌﻞ اﻹﻧﺴﺎن ﺳﻌﻴﺪًا ُﻣﻨَﻌﱠ ﻤً ﺎ «.وﻗﺪ رأﻳﻨﺎ أن اﻟﺤﻆ اﻟﻌﺎﺛﺮ ﻗﺪ ﻳﺆدﱢي إﱃ ذﺑﻮل زﻫﺮة اﻟﺴﻌﺎدة؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓ ِﻠ َﻜ ْﻲ ﻧﻘﻮل إن إﻧﺴﺎﻧًﺎ ﻳﺤﻴﺎ ﻋﲆ أﻛﻤﻞ ٍ وﺟﻪ؛ ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺤﺘﺎج إﱃ ﻗﺪر واﻓﺮ ﻣﻦ اﻟﺤﻆ وأن ﻳﻜﻮن »ﻟﺪﻳﻪ ﻣﺎ ﻳﻜﻔﻲ ﻣﻦ اﻟﻌﻮاﻣﻞ اﻟﺨﺎرﺟﻴﺔ« واﻟﺘﻲ ﻳﻌﺘﱪ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻛﺎﻟﺼﺤﺔ ﴐورﻳٍّﺎ ﻟﻠﺴﻼﻣﺔ واﻟﺮﻓﺎﻫﻴﺔ ،وﺑﻌﻀﻬﺎ اﻵﺧﺮ ﻣﺜﻞ اﻟﺜﺮوة ﻳﺴﺎﻋﺪ ﻋﲆ اﻟﻘﻴﺎم ﺑﺎﻷﻣﻮر اﻟﻨﺒﻴﻠﺔ. وﺗﺒﻘﻰ اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ أﻣ ًﺮا أﺳﺎﺳﻴٍّﺎ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻳﺠﺐ أن ﻳﺘﻨﺎوﻟﻬﺎ املﺮء ﺑﻤﺰﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﻌﻨﺎﻳﺔ. َوﻳ َُﻘ ﱢﺴ ُﻢ أرﺳﻄﻮ أﺷﻜﺎل اﻟﺘﻤﻴﱡﺰ اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ إﱃ ﻣﺠﻤﻮﻋﺘني ﻫﻤﺎ :ﻓﻀﺎﺋﻞ اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ )أى اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ( ،واﻟﻔﻀﺎﺋﻞ اﻟﻔﻜﺮﻳﺔ .وﻛﻼ اﻟﻨﻮﻋني ﻣﺮﺗﺒﻄﺎن ﺑﺎﻟﻌﻘﻞ .وﺗﻌﺘﱪ اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ ﻣﻦ ﻗﺒﻴﻞ املﻬﺎرة ﰲ اﻟﺘﺨﻄﻴﻂ واﻟﺒﺼرية اﻟﻔﻜﺮﻳﺔ ﺗﺠﺴﻴﺪًا ﻟﻠﻌﻘﻞ ﻧﻔﺴﻪ ،أﻣﺎ اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ﻣﺜﻞ اﻟﺸﺠﺎﻋﺔ واﻟﻜﺮم ﻓﻴﻘﺎل إﻧﻬﺎ »ﺗﺴﺘﻤﻊ« ﻟﻠﻌﻘﻞ أو ﺗﻬﺘﺪي ﺑﻪ. وﺑﻴﻨﻤﺎ ﺗﺴﺘﺨﺪم اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ ﰲ ﺗﺼﻤﻴﻢ اﻟﺨﻄﻂ ﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻦ اﻟﻌﺎﻃﻔﺔ وﺣﺴﺎب اﻟﻌﻮاﻗﺐ وﺗﻘﺪﻳﺮ اﻟﻈﺮوف ،ﺗﺠﺬب اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ اﻹﻧﺴﺎن إﱃ اﻟﺘﴫﱡف ﺑﺸﻜﻞ ﻣﻌني َﻓﺘُ َﻮ ﱢﻟ ُﺪ ﻋﻨﺪه رﻏﺒﺔ ﰲ ﻋﻤﻞ أﻣﻮر ﻣﻌﻴﻨﺔ؛ وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈن ﻧﻮﻋَ ﻲ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ﻳﻌﻤﻼن ﺟﻨﺒًﺎ إﱃ ﺟﻨﺐ ﻹﻧﺘﺎج اﻟﻔﻌﻞ اﻟﺼﺤﻴﺢ. وﻳﻘﻮل أرﺳﻄﻮ إن اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ ﻟﻴﺴﺖ ﻓﻄﺮﻳﺔ وﻻ ﻏري ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ؛ ﻓﻬﻲ ﺣﺎﻻت ﻋﻘﻠﻴﺔ ﻣُﻜﺘَ َﺴﺒﺔ ﻳﻔﺮﺿﻬﺎ اﻻﺳﺘﺨﺪام املﺘﻜﺮر ،ﻓﻠﻜﻲ ﺗﻜﻮن ﻟﻺﻧﺴﺎن ﺷﺨﺼﻴﺔ ﻛﺮﻳﻤﺔ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ،ﻳﺠﺐ أن ﻳﺘﴫف ﺑﻜﺮم ﻣﺘﻰ ﺳﻨﺤﺖ اﻟﻔﺮﺻﺔ ،وﻛﻠﻤﺎ اﻧﺘﻬﺰ اﻹﻧﺴﺎن ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﻔﺮص أﺻﺒﺤﺖ ﻃﺒﺎﻋُ ﻪ ﺗﺘﱠﺼﻒ ﺑﺎملﺰﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﻜﺮم .وﻳﴪي اﻷﻣﺮ ﻧﻔﺴﻪ ﻋﲆ اﻟﺮذاﺋﻞ ً أﻳﻀﺎ؛ ﻓﺎﻹﻧﺴﺎن اﻟﺒﺨﻴﻞ ﻫﻮ اﻟﺬي ﻳﺨﺘﺎر داﺋﻤً ﺎ أن ﻳﺘﴫف ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ ،وﻛﻠﻤﺎ اﺳﺘﻤ ﱠﺮ ﰲ اﻟﺘﴫف ﺑﻬﺬه اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ازداد ﺑُﺨﻠُﻪ .وﻷن اﻟﺮذاﺋﻞ ﺑﺬﻟﻚ ﺗُﻌﺘَﱪ ﻧﺘﺎﺟً ﺎ ﻻﺧﺘﻴﺎرات املﺎﴈ، ﻳﺮى أرﺳﻄﻮ أن ﻛﻞ إﻧﺴﺎن ﻣﺴﺌﻮل أﺧﻼﻗﻴٍّﺎ ﻋﻦ رذاﺋﻠﻪ ،وﻫﻮ ﻳﻌﱰف أﻧﻪ ﺑﻤﺠﺮد اﻟﺘﻌﻮﱡد ﻋﲆ ُﴫ ﻋﲆ أن اﻟﻨﺎس ﻣﺴﺌﻮﻟﻮن ﻋﺎد ٍة ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻓﻤﻦ اﻟﺼﻌﺐ اﻟﺨﻼص ﻣﻨﻬﺎ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻳ ِ ﱡ ﻋﻦ اﻟﻌﺎدات اﻟﺘﻲ اﻛﺘﺴﺒﻮﻫﺎ ﺑﺄﻧﻔﺴﻬﻢ. إذا ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ واﻟﺮذﻳﻠﺔ ﻫﻲ ﻧﺰﻋﺎت ﻣﻜﺘَﺴﺒﺔ ﻳﻤﻴﻞ ﻓﻴﻬﺎ اﻹﻧﺴﺎن إﱃ اﻟﺘﴫف ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ ،ﻓﻤﺎ اﻟﺬي ﻳﻔﺮق ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ إذن؟ ﻳﻘﻮل أرﺳﻄﻮ إن ﻫﺬا ﻳَﻜﻤُﻦ ﰲ أﻧﻪ ﰲ ﻣﻨﺤً ﻰ ﻣﻦ ﻣﻨﺎﺣﻲ اﻟﺤﻴﺎة ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳ َِﻀ ﱠﻞ اﻹﻧﺴﺎن ﺑﻄﺮﻳﻘﺘني ﻣﺨﺘﻠﻔﺘني ،ﻓﺈﻣﺎ أﻻ ﻳﻔﻌﻞ اﻹﻧﺴﺎن 296
املﻌﻠﻢ اﻷول :أرﺳﻄﻮ
أو ﻳﺸﻌﺮ إﻻ ﺑﺎﻟﻘﻠﻴﻞ ،وإﻣﺎ أن ﻳﻔﻌﻞ اﻹﻧﺴﺎن أو ﻳﺸﻌﺮ ﺑﺎﻟﻜﺜري؛ ﻓﺎﻟﺮذاﺋﻞ »إﻣﺎ أن ﺗﺰﻳﺪ ﻋﻦ املﻘﺪار اﻟﺼﺤﻴﺢ ﻣﻦ املﺸﺎﻋﺮ واﻷﻓﻌﺎل أو ﺗﻨﻘﺺ«؛ وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈن ﻛﻞ ﻓﻀﻴﻠﺔ ﺗﺘﻀﻤﻦ اﻟﺴري ﰲ ﻃﺮﻳﻖ وﺳﻂ ﺑني رذﻳﻠﺘني ﺗﻘِ ﻔﺎن ﻋﲆ أﺣﺪ ﺟﺎﻧﺒﻲ ﻫﺬا اﻟﻄﺮﻳﻖ .وﻟﻨﺄﺧﺬ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل اﻟﻈﺮوف اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻄﻠﺐ اﻟﺜﻘﺔ واﻟﺸﺠﺎﻋﺔ؛ ﻓﻌﲆ أﺣﺪ ﺟﺎﻧﺒﻲ ﻓﻀﻴﻠﺔ اﻟﺸﺠﺎﻋﺔ ﻳﻘﻒ اﻟﺘﻬﻮر وﻋﲆ اﻟﺠﺎﻧﺐ اﻵﺧﺮ ﻳﻘﻒ اﻟﺠﺒﻦ ،وﻋﲆ أﺣﺪ ﺟﺎﻧﺒﻲ اﻟﺘﻮاﺿﻊ ﻧﺠﺪ اﻟﻮﻗﺎﺣﺔ وﻋﲆ ﻧﺠﺪ اﻟﺨﺠﻞ ،وﻫﻜﺬا اﻷﻣﺮ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺨﺺ ﺟﻤﻴﻊ ﻓﻀﺎﺋﻞ اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ .وﺑﺼﻔﺔ اﻟﺠﺎﻧﺐ اﻵﺧﺮ ِ ﻋﺎﻣﺔ ﻳﻘﻮل أرﺳﻄﻮ: ﻳﺘﻌﻠﻖ اﻟﺘﻤﻴﱡﺰ اﻷﺧﻼﻗﻲ ﺑﺎﻟﻌﻮاﻃﻒ واﻷﻓﻌﺎل ،وﰲ ﻫﺬه اﻷﻣﻮر ﻟﺪﻳﻨﺎ درﺟﺎت ﻣﻦ اﻹﻓﺮاط واﻟﻨﻘﺺ واﻻﻋﺘﺪال .ﻓﻨﺠﺪ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل أن ﻣﺸﺎﻋﺮ ﻣﺜﻞ اﻟﺨﻮف واﻟﺜﻘﺔ واﻟﺸﻬﻴﺔ واﻟﻐﻀﺐ واﻟﺸﻔﻘﺔ واملﺘﻌﺔ واﻷﻟﻢ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻨﺘﺎب اﻹﻧﺴﺎن ﺑﻘﺪر ﻛﺒري أو ﻗﻠﻴﻞ ،وﰲ ﻛﻠﺘﺎ اﻟﺤﺎﻟﺘني ﻓﻬﺬا أﻣﺮ ﻏري ﺟﻴﺪ ،وﻟﻜﻦ أن ﻧﺸﻌﺮ ﺑﻬﺬه املﺸﺎﻋﺮ ﰲ اﻷوﻗﺎت املﻨﺎﺳﺒﺔ ﺗﺠﺎه اﻷﺷﻴﺎء املﻨﺎﺳﺒﺔ وﺑﺎﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺼﺤﻴﺤﺔ ﻓﻬﺬا ﻫﻮ اﻟﻄﺮﻳﻖ اﻟﻮﺳﻂ املﻌﺘﺪل واﻷﻓﻀﻞ ،وﻫﺬا إﺣﺪى ﺳﻤﺎت اﻟﺘﻤﻴﺰ .وﻛﺬﻟﻚ اﻷﻣﺮ ﻣﻊ اﻷﻓﻌﺎل ،ﻓﻠﺪﻳﻨﺎ ﻓﻴﻬﺎ درﺟﺎت ﻣﻦ اﻹﻓﺮاط واﻟﻨﻘﺺ واﻻﻋﺘﺪال … ﻓﺎﻹﻓﺮاط ﺷﻜﻞ ﻣﻦ أﺷﻜﺎل اﻟﻔﺸﻞ وﻛﺬﻟﻚ اﻟﻨﻘﺺ ،أﻣﺎ اﻻﻋﺘﺪال ﻓﻬﻮ ﺣَ ِﺮيﱞ ﺑﺎملﺪح واﻟﺜﻨﺎء ً ﺷﻜﻼ ﻣﻦ أﺷﻜﺎل اﻟﻨﺠﺎح. وﻳﻌﺘﱪ وﻻ ﻳﻤﺘﺪح أرﺳﻄﻮ ﻫﻨﺎ اﻟﺘﻮﺳﻂ ﻓﺤﺴﺐُ ،ﻓﻠﻴﺲ ﻫﺬا املﻘﺼﻮد ﺑﺎﻟﻮﻗﻮف ﻋﲆ »اﻻﻋﺘﺪال«؛ ﻓﺒﻌﺾ املﻮاﻗﻒ ﺗﺘﻄﻠﺐ ﻣﻦ اﻹﻧﺴﺎن أﻗﴡ درﺟﺎت اﻟﺘﴫﱡف واﻟﻌﺎﻃﻔﺔ ،ﻓﺈذا ﺗﻌﺮض اﻹﻧﺴﺎن ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﻟﺴﻠﻮك ﺷﺪﻳﺪ اﻷﻧﺎﻧﻴﺔ ﺑﺸﻜﻞ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ اﻟﻼﻣﺒﺎﻻة ﻣﺎ ﻳﺜري اﻟﺤﻨﻖ واﻟﻐﻀﺐ ،ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻋﻠﻴﻪ أن ﻳﻌﱪ ﻋﻦ ﻏﻀﺒﻪ اﻟﺸﺪﻳﺪ إزاء ﻫﺬا اﻟﺴﻠﻮك ،ﻓﻼ ﻳﺸﺠﺒﻪ ﺑﺮﻓﻖ وﻟني ،ﻓﻘﺪ ﻳﻌﺎﻧﻲ اﻹﻧﺴﺎن ﻣﻦ اﻹﻓﺮاط ﰲ اﻻﻋﺘﺪال .واملﻘﺼﻮد ﺑﺎﻻﻋﺘﺪال ﻫﻨﺎ ﻫﻮ أن ﺗﻜﻮن ً ﻣﺒﺎﻟﻐﺎ ﻓﻴﻪ ﻋﺎﻃﻔﺔ اﻹﻧﺴﺎن أو ﺗﴫﱡﻓﻪ ﻣﻨﺎﺳﺒًﺎ ﻟﻠﻤﻮﻗﻒ وﻋﲆ ﻣﺴﺘﻮى اﻟﺤﺪث ،ﻓﻼ ﻳﻜﻮن وﻻ دون اﻟﺤﺪث؛ ذﻟﻚ أن اﻟﺘﻌﺮف ﻋﲆ ُﻛ ِﻨﻪ »اﻻﻋﺘﺪال« ﻳﺘﻮﻗﻒ ﻋﲆ اﻟﻈﺮوف اﻟﻮاﻗﻌﻴﺔ ،ﺣﻴﺚ ﻳﻘﻮل أرﺳﻄﻮ إن اﻷﺧﻼق ﻻ ﺗﻘﺘﴫ ﻋﲆ ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﻘﻮاﻋﺪ واملﺒﺎدئ اﻟﻌﺎﻣﺔ ﻓﺤﺴﺐ؛ ﻓﺎﻟﻔﻀﻴﻠﺔ اﻟﻔﻜﺮﻳﺔ ﻟﻠﺤﻜﻤﺔ اﻟﻮاﻗﻌﻴﺔ ﻳﺠﺐ ﺗﻄﺒﻴﻘﻬﺎ ﻋﲆ اﻟﻔﻮر ﻟﻠﻮﻗﻮف ﻋﲆ املﺴﺎر »املﻌﺘﺪل«. وﻳﻘﻮل أرﺳﻄﻮ إن أﺳﻠﻮب اﻟﻨﻈﺮ ﰲ ﻗﻀﺎﻳﺎ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ واﻟﺮذﻳﻠﺔ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺘﺴﻊ ﻟﻴﺸﻤﻞ اﻷﻣﻮر املﺘﻌﻠﻘﺔ ﺑﺎﻟﺸﺠﺎﻋﺔ واﻟﺰﻫﺪ واملﺎل واﻟﴩف واﻟﻮد واﻟﻐﻀﺐ واﻟﻔﺨﺮ واﻟﺼﺪق 297
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
واﻟﺤﻴﺎء وﻏري ذﻟﻚ اﻟﻜﺜري ،ﺑﻞ ﻳﺸﻤﻞ ذﻟﻚ ً أﻳﻀﺎ املﺰاح واﻟﻔﻜﺎﻫﺔ؛ ﻓﺎﻹﻧﺴﺎن اﻟﺬي ﻳﺘﻤﺘﻊ ً ﻃﺮﻳﻘﺎ وﺳ ً ﻄﺎ ﺑني اﻟﻬﺰل املﺎﺟﻦ واﻟﻔﻈﺎﻇﺔ اﻟﺠﺎﻓﺔ ﺑﻔﻀﻴﻠﺔ اﻟﻔﻜﺎﻫﺔ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻳﺸﻖ ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل أرﺳﻄﻮ .وﻟﻜﻦ ﻟﻢ ﻳﺘﻤﻜﻦ أرﺳﻄﻮ ﻣﻦ ﺗﻄﺒﻴﻖ ﻫﺬا اﻷﺳﻠﻮب ﻋﻨﺪ ﺗﻨﺎ ُو ِﻟﻪ ﻟﻘﻀﻴﺔ اﻟﻌﺪل اﻟﺬي ﻳﻘﺴﻤﻪ إﱃ ﻋﺪل ﺗﻮزﻳﻌﻲ )ﺗﻮزﻳﻊ أﻋﻤﺎل اﻟﺨري واﻟﴩف( واﻟﻌﺪل اﻹﺻﻼﺣﻲ )ﺗﺼﺤﻴﺢ اﻷﺧﻄﺎء( واﻟﻌﺪل اﻟﺘﺒﺎدﱄ )اﻟﺘﺒﺎدل اﻟﻌﺎدل( .وﺗﺘﺸﺎﺑﻚ ﻣﺤﺎوﻟﺘﻪ َ ﻟﻀ ﱢﻢ ﻛﻞ ﻫﺬه اﻷﺷﻴﺎء ﰲ ﺣُ ﺰﻣﺔ واﺣﺪة وﺗﺘﻌﻘﺪ ﺑﺎﻋﱰاﻓﻪ ﻫﻮ .وﻣﻊ ﻫﺬا ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻟﺘﺤﻠﻴﻼﺗﻪ ﻟﻠﻤﻔﺎﻫﻴﻢ اﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻴﺔ واﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﺧﻼل ﻣﻨﺎﻗﺸﺘﻪ ﻟﻘﻀﻴﺔ اﻟﻌﺪل ﻛﺒري اﻷﺛﺮ ﺣﺘﻰ ﺻﺎرت ﺗﺒﺪو اﻟﻴﻮم ﻣﻦ اﻟﺒﺪﻫﻴﺎت .وﻳﺸري أﺣﺪ ﺷﺎرﺣﻲ أرﺳﻄﻮ املﻌﺎﴏﻳﻦ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺴﻴﺎق إﱃ أﻋﻤﺎل أرﺳﻄﻮ ً ﻗﺎﺋﻼ» :إﻧﻬﺎ ﺗﻌﺞ ﺑﺎﻟﺘﻔﺎﻫﺎت ﻛﻤﺎ ﺗﻌﺞ ﻣﴪﺣﻴﺔ ﻫﺎﻣﻠﺖ ﻟﺸﻜﺴﺒري ﺑﺎﻻﻗﺘﺒﺎﺳﺎت«. وﻟﺘﻠﺨﻴﺺ املﺴﺄﻟﺔ ﺣﺘﻰ اﻵن ﻧﻘﻮل إن اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﺗﺘﻄﻠﺐ ﺣﺪٍّا أدﻧﻰ ﻣﻦ اﻟﺮاﺣﺔ املﺎدﻳﺔ وﺣ ٍّ ﻈﺎ ﺳﻌﻴﺪًا ،وﻟﻜﻦ ﻳﺒﻘﻰ اﻷﻣﺮ اﻷﺳﺎﳼ ﻫﻮ أن ﻧﻘﻮم ﺑﻜﻞ ﻣﺎ ﻳﻮﺻﻒ ﺑﺎﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﱢ املﺤﻔﺰات اﻟﺼﺤﻴﺤﺔ؛ ﻓﻤﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺤﻴﺎة ﺗﺠﻠﺐ أﻓﻀﻞ أﻧﻮاع املﺘﻌﺔ ﻣﻦ ﻣﻨﻈﻮر ﺑﺪاﻓﻊ ﻣﻦ اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺤﻜﻴﻢ .وﺗﺄﺧﺬ اﻟﻘﻀﻴﺔ ﻣُﻨﺤﻨًﻰ ﺟﺪﻳﺪًا ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻧﺪرك أن ﻧﺸﺎ ً ﻃﺎ ﻣﺎ ﻟﻪ ﻗﻴﻤﺔ أﻛﱪ ﱠ املﺨﺼﺺ ملﺜﻞ ﻫﺬا ﻣﻤﱠ ﺎ ﺳﻮاه؛ وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈن أﻓﻀﻞ ﺷﻜﻞ ﻣﻦ أﺷﻜﺎل اﻟﺤﻴﺎة ﺳﻴﻜﻮن ﻫﻮ اﻟﻨﺸﺎط .وﻳﻮﺿﺢ أرﺳﻄﻮ أن ﻫﺬا اﻟﻨﺸﺎط ﻳﺘﻤﺜﱠﻞ ﰲ اﻟﺘﺄﻣﱡ ﻞ اﻟﻌﻘﲇ أو اﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ِﻟﺬَاﺗِﻬَ ﺎ .ﻫﺬا أﻣﺮ ﻳﻨﻄﺒﻖ ﻋﲆ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ واﻟﻌﻠﻤﺎء ،وﻫﻮ ﻳﺸﺒﻪ ﻗﻮل اﻟﺨﺒﱠﺎز إن أﻓﻀﻞ اﻟﺤﻴﻮات ﻫﻲ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﻳﻘﻀﻴﻬﺎ ﰲ َﺧﺒ ِْﺰ ُ اﻟﺨﺒ ِْﺰ .وﻫﺬا ﻳﺠﻌﻠﻨﺎ ﻧﺘﺴﺎءل ﻣﺎ إذا ﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﻨﺸﺎط اﻟﻌﻘﲇ ﻳﺘﻨﺎﺳﺐ ً ﻓﻌﻼ ﻣﻊ أرﺳﻄﻮ وﻣﻨﻬﺠﻪ اﻟﻮاﻗﻌﻲ ﰲ اﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﻛﻴﻔﻴﺔ اﻟﺤﻴﺎة .وﻳﺒﺪو أن ﻇﻼل أﻓﻼﻃﻮن — وﻛﺬﻟﻚ ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس واﻷورﻓﻴﺔ — ﺗُ َﺨﻴﱢ ُﻢ ﻋﲆ ﻓﻜﺮ أرﺳﻄﻮ ﰲ ﻫﺬه اﻟﻨﻘﻄﺔ. وﻳﺆﻣﻦ أرﺳﻄﻮ أن »اﻟﺤﻴﺎة ﺳريًا ﻋﲆ ﻣﻨﻬﺎج اﻟﻌﻘﻞ ﻫﻲ أﻓﻀﻞ اﻟﺤﻴﻮات وأﻛﺜﺮﻫﺎ ﴎو ًرا ﻋﲆ اﻹﻃﻼق؛ ﻷن اﻟﻌﻘﻞ ﻫﻮ اﻟﺬي ﻳﻤﻴﺰ اﻹﻧﺴﺎن أﻛﺜﺮ ﻣﻦ أي ﳾء آﺧﺮ«؛ ﻓﻘﺪ أﺛﺒﺖ ً ﻓﻌﻼ أن اﻟﺬﻛﺎء أو اﻟﻌﻘﻞ ﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻤﻴﺰ اﻹﻧﺴﺎن ﻋﻦ ﺳﺎﺋﺮ املﺨﻠﻮﻗﺎت .وﻳﺴﻮق أرﺳﻄﻮ ﻛﺜريًا ﻣﻦ اﻟﺤﺠﺞ ﻟﻴﻮﺿﺢ أن اﻟﻘﺪرة ﻋﲆ اﻻﻧﺸﻐﺎل ﺑﺎﻟﺒﺤﺚ اﻟﺨﺎﻟﺺ ﻋﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻫﻮ »أﻓﻀﻞ ﻣﺎ ﻳﻤﻴﺰ اﻹﻧﺴﺎن« ،ﻓﻤﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ ﻫﻮ اﻟﻨﺸﺎط اﻟﻮﺣﻴﺪ اﻟﺬي ﻧﺸﱰك ﻓﻴﻪ ﻣﻊ اﻵﻟﻬﺔ ،ﻓﻜﻤﺎ رأﻳﻨﺎ ﻋﻨﺪ ﻣﻨﺎﻗﺸﺔ ﻣﺎ ﻳﻔﻌﻠﻪ املﺤ ﱢﺮك اﻟﺬي ﻻ ﻳﺘﺤﺮك ﰲ وﻗﺘﻪ ﻓﺈن اﻟﺘﺄﻣﻞ ﻫﻮ اﻟﻨﺸﺎط اﻟﻮﺣﻴﺪ املﻼﺋﻢ ﻟﻶﻟﻬﺔ .ﻛﻤﺎ أن ﺛﻤﺔ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻻﻋﺘﺒﺎرات اﻷﺧﺮى اﻟﺘﻲ ﺗﺠﻌﻞ اﻟﺘﺄﻣﻞ ﻫﻮ اﻟﻐﺎﻳﺔ اﻟﻘﺼﻮى ﻣﻦ اﻟﺤﻴﺎة ﺑﻤﺎ ﻳﻘﺪم ﻣﻦ ﻣﺘﻌﺔ ﻻ ﺗﺬﺑُﻞ ،ﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل ﻣﻊ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ املﺘﻊ اﻷﺧﺮى؛ إذ ﻳﻤﻜﻦ اﻻﺳﺘﻤﺘﺎع ﺑﻪ ﺑﺎﺳﺘﻤﺮار ،ﻓﻜﻤﺎ ﻳﻘﻮل إن ﻫﺬه املﺘﻊ »راﺋﻌﺔ ﺑﻔﻀﻞ ﻧﻘﺎﺋﻬﺎ 298
املﻌﻠﻢ اﻷول :أرﺳﻄﻮ
واﺳﺘﻤﺮارﻳﺘﻬﺎ« .ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ ذﻟﻚ ﺗﺘﻤﻴﱠﺰ ﺣﻴﺎة اﻟﺘﺄﻣﱡ ﻞ ﺑﺘﺤﻘﻴﻖ اﻻﻛﺘﻔﺎء اﻟﺬاﺗﻲ ﻟﺼﺎﺣﺒﻬﺎ، وﻫﻲ ﺳﻤﺔ ﻣﻦ ﺳﻤﺎت اﻟﺤﻴﺎة ُ اﻟﻔ ْﻀ َﲆ ﻓﻼ ﻳﺤﺘﺎج اﻹﻧﺴﺎن إﱃ اﻻﻋﺘﻤﺎد ﻋﲆ أي ﳾء أو أي ﺷﺨﺺ ﻟﻴﺤﻮزﻫﺎ ،ﻓﻬﻲ اﻟﻨﺸﺎط اﻟﻮﺣﻴﺪ اﻟﺬي ﻳﺤﺒﻪ اﻟﻨﺎس ﻟﺬاﺗﻪ ،ﰲ ﺣني أن ﻛﺎﻓﺔ اﻷﻣﻮر اﻷﺧﺮى ﻳﺆدﻳﻬﺎ اﻹﻧﺴﺎن ﺳﻌﻴًﺎ ﻟﻜﺴﺐ ﳾء آﺧﺮ ﺑﺨﻼف املﺘﻊ اﻟﺘﻲ ﻳﺠﻠﺒﻬﺎ اﻟﻨﺸﺎط ﻧﻔﺴﻪ )أو ﻫﻜﺬا ادﱠﻋَ ﻰ أرﺳﻄﻮ( .وأﺧريًا ﻳﻨﺪرج اﻟﺘﺄﻣﱡ ﻞ ﺿﻤﻦ ﻗﺎﺋﻤﺔ ﻧﺸﺎﻃﺎت اﻟﻔﺮاغ ،وﻫﻮ أﺣﺪ اﻟﺴﻤَ ﺎت اﻷﺧﺮى ﻟﻠﺤﻴﺎة ُ ﱢ اﻟﻔﻀﲆ ﻣﻦ وﺟﻬﺔ ﻧﻈﺮ أرﺳﻄﻮ. ﺳﻨﻌﻤﺪ اﻵن إﱃ ﻣﻨﺎﻗﺸﺔ ﻣﺎ ﻛﺎن أرﺳﻄﻮ ﻳﻌﻨﻴﻪ ﺑ »اﻟﺘﺄﻣﻞ اﻟﻌﻘﲇ« .ﻻ ﻳﺘﻀﺢ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ اﻹﻧﺴﺎن ﻣﺎ إذا ﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﺘﺄﻣﱡ ﻞ ﻳﺸﺘﻤﻞ ﻋﲆ أﺑﺤﺎث ﻋﻠﻤﻴﺔ ِ ﻧﺸﻄﺔ ﻣﻦ اﻟﻨﻮع اﻟﺬي ﺑﺮع ﻓﻴﻪ أرﺳﻄﻮ ،أم أﻧﻬﺎ ﺗﻘﺘﴫ ﻋﲆ اﻟﺘﺄﻣﱡ ﻼت ﻏري اﻟﻔﻌﺎﻟﺔ )ﻛﻤﺎ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ اﻟﺮب اﻟﺬي ﻟﻴﺲ ﺑﺤﺎﺟﺔ إﱃ إﻣﻌﺎن اﻟﻨﻈﺮ ﰲ أي ﳾء( .وﻋﲆ أﻳﺔ ﺣﺎل ﻳﺒﺪو ﻫﺬا اﻟﺘﺄﻣﻞ أﻗﺮب ﻣﺎ ﻳﻜﻮن إﱃ اﻟﺒﺤﺚ اﻟﺨﺎﻟﺺ ﻋﻦ املﻌﺮﻓﺔ اﻟﺬي اﻣﺘﺪﺣﻪ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﻮن ﻋﲆ أﻧﻪ أﻓﻀﻞ اﻟ ﱡ ﻄ ُﺮق ﻟﻠﺨﻼص .واﻟﺘﺄﻣﱡ ﻞ اﻟﻌﻘﲇ ﻟﺪى اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني وأﻓﻼﻃﻮن وﻛﺬﻟﻚ أرﺳﻄﻮ ﻫﻮ َ اﻟﻘﺒَﺲ اﻹﻟﻬﻲ ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺬي ﻳﻔﺘﺢ ﻧﺎﻓﺬة ﻋﲆ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺨﺎﻟﺪة ،وإن ُﻛﻨﱠﺎ ﻻ ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ أرﺳﻄﻮ إﻻ أن ﻧﻨﻈﺮ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﻨﺎﻓﺬة دون أن ﻧﻔﻜﺮ ﰲ اﻟﻘﻔﺰ ﻣﻨﻬﺎ ،ﻷﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﺛﻤﺔ ﺧﻠﻮد ﺑﴩي. وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈن املﺪح اﻟﺬي أَو َْﻻ ُه أرﺳﻄﻮ ﻟﻠﺘﺄﻣﱡ ﻞ اﻟﻌﻘﲇ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻓﺘﺤً ﺎ ﺟﺪﻳﺪًا ﰲ اﻷﺧﻼق اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ ،إﻻ أن ﻣﺎ ﻗﺎﻟﻪ أرﺳﻄﻮ وﻏريه ﻣﻦ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺼﺪد ﻳﺒﻘﻰ ﻏﺮﻳﺒًﺎ ﺑﻌﺾ اﻟﴚء؛ ﻓﺎﻷﺧﻼق اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ ﻟﻬﺎ ﺧﻠﻔﻴﺘﻬﺎ ﰲ اﻷدب اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻲ ،ﻻ ﺳﻴﻤﺎ ﰲ ﻣﴪﺣﻴﺎت ﺳﻮﻓﻮﻛﻠﻴﺲ اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺔ وﻣﻼﺣﻢ ﻫﻮﻣريوس اﻟﺘﻲ ﻻ ﻳﺠﻬﻠﻬﺎ ﺟﺎﻫﻞ .وﻗﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﺣﻴﺎة ﻫﺆﻻء اﻷﺑﻄﺎل اﻟﺬﻳﻦ ﺗﺤﺪﱠﺛﺖ ﻋﻨﻬﻢ ﻫﺬه اﻟﻘﺼﺺ ﻫﻲ اﻟﺒﺬرة اﻟﺘﻲ ﻧﻤﺎ ﻣﻨﻬﺎ اﻟﻔﻜﺮ اﻹﻏﺮﻳﻘﻲ ﻋﻦ »ﺧري« اﻹﻧﺴﺎن .وﻣﻦ ﻫﺬه اﻷﻋﻤﺎل أدرﻛﻨﺎ أن اﻟﺤﻜﻤﺔ اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ وﻏريﻫﺎ ﻣﻦ اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ اﻷﺧﺮى املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻫﻲ ﻛﻠﻬﺎ ﻋﻨﺎﴏ ﺗﺪﺧﻞ ﰲ ﺑﻨﻴﺔ اﻟﺤﻴﺎة املﺜﺎﻟﻴﺔ ،إﻻ أن ﻫﺬه اﻟﻌﻨﺎﴏ ﻟﻢ ﺗﻀﻤﻦ ﺗﺤﻘﻴﻖ اﻟﺴﻌﺎدة؛ ﻷن اﻷﻣﻮر ﻗﺪ ﺗﺴري ﻋﲆ ﻏري ﻣﺎ ﻳﺮام )وداﺋﻤً ﺎ ﻣﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺴري ﻋﲆ ﻏري ﻣﺎ ﻳﺮام ﰲ املﴪﺣﻴﺎت اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺔ( .وﰲ ﻣﺪﺣﻬﻢ ﻟﻔﻀﻴﻠﺔ اﻟﺘﺄﻣﻞ اﻟﻌﻘﲇ اﺑﺘﻌﺪ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻛﺜريًا ﻋﻦ اﻷودﻳﺴﺔ واﻹﻟﻴﺎذة؛ ﻓﺄودﻳﺴﻴﻮس ﻳﻤﻠﻚ ﻗﺪ ًرا واﻓ ًﺮا ﻣﻦ اﻟﺤﻜﻤﺔ اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻗﺎل ﻋﻨﻬﺎ أرﺳﻄﻮ إﻧﻬﺎ ﻗﻮام اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ،ﰲ ﺣني أن اﻟﺘﺄﻣﻞ اﻟﻌﻘﲇ ﻟﻢ ﻳﺸﻐﻠﻪ ﻛﺜريًا؛ ﻓﻬﻮ ﻟﻢ ﻳﻔﻘﺄ اﻟﻌني اﻟﻮﺣﻴﺪة اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ ﻟﻠﺴﻴﻜﻠﻮب اﻟﻌﻤﻼق ﻛﻲ ﻳ َُﴩﱢﺣَ ﻬَ ﺎ أو ﻳﺼﻮغ أﺷﻜﺎل اﻟﻘﻴﺎس ﻋﻦ ﻛﻴﻔﻴﺔ ﻋﻤﻞ أﺟﺰاﺋﻬﺎ .ﻛﺎﻧﺖ أﻋﻤﺎل ﻫﻮﻣريوس ﺳﺘﺨﺘﻠﻒ ﻛﺜريًا إذا اﺳﺘﻐﺮق أﺑﻄﺎﻟﻪ اﻟﻮﻗﺖ ﰲ اﻟﺘﻔﻜري واﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ املﻌﺮﻓﺔ ،ﻓﻤﻦ املﺤﺘﻤﻞ أﻧﻬﻢ ﻛﺎﻧﻮا ﺳﻴﻤﻀﻮن وﻗﺘًﺎ أﻃﻮل ﰲ اﻟﺘﺄﻣﻞ 299
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
اﻟﻌﺎﺑﺲ ،ﻛﻤﺎ ﻓﻌﻞ أﺧﻴﻞ .وﻣﻦ اﻟﺼﻌﺐ ﻛﺬﻟﻚ أن ﻧﺮى ﻛﻴﻒ ﻣﻦ املﻔﱰَض أن ﻳﺘﻨﺎﺳﺐ اﻟﺘﺄﻣﱡ ﻞ اﻟﻌﻘﲇ ﻣﻊ ﺣﻴﺎة اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ ﻛﻤﺎ ﻳﺼﻔﻬﺎ أرﺳﻄﻮ ،ﻧﺎﻫﻴﻚ ﻋﻦ اﻟﺼﻮرة اﻟﺘﻲ رﺳﻤﻬﺎ ﻫﻮﻣريوس ﰲ أﻋﻤﺎﻟﻪ .وإذا ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ اﻟﺮﻓﻴﻌﺔ ﻫﻲ أﻗﴡ أﻣﺎﻧﻲ اﻹﻧﺴﺎن ﻓﺄﻳﻦ ﻳﺄﺗﻲ ً ﺳﺎﺑﻘﺎ ﻣﻦ ﻧﻌﻢ دﻧﻴﻮﻳﺔ وﺣﺴﻦ ﺣﻆ وﻓﻀﺎﺋﻞ دﻧﻴﻮﻳﺔ ﻣﺜﻞ اﻟﺸﺠﺎﻋﺔ ﻣﺎ ﺗﺤﺪﱠث ﻋﻨﻪ أرﺳﻄﻮ واﻟﻔﻄﻨﺔ وﻏريﻫﻤﺎ؟ ﻓﻜﻤﺎ رأﻳﻨﺎ ،ﻟﻢ ﺗﻌﺒﺄ آﻟﻬﺔ أرﺳﻄﻮ ﺑﻤﺜﻞ ﻫﺬه اﻷﻣﻮر اﻟﺪﻧﻴﻮﻳﺔ اﻟﺘﺎﻓﻬﺔ ﻣﺜﻞ اﻟﻌﺪل ،ﻓﻠﻤﺎذا إذن ﻋﲆ اﻹﻧﺴﺎن أن ﻳﻌﺒﺄ ﺑﻬﺎ؟ ﺛﻤﺔ ﺗﻨﺎﻗﺾ ﻫﻨﺎ ،وإن ﻛﺎن أرﺳﻄﻮ ﻻ ﻳﺮاه ﻋﻴﺒًﺎ ﰲ ﻧﻈﺮﻳﺘﻪ ﻋﻦ اﻟﺤﻴﺎة اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﺑﻘﺪر ً ﺗﻨﺎﻗﻀﺎ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺘﺨﻠﺺ ﻣﻨﻪ ﰲ اﻟﺤﺎﻟﺔ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ؛ ذﻟﻚ أن ﻟﻺﻧﺴﺎن ﻃﺒﻴﻌﺔ ﻣﺎ ﻳﺮاه ﻣﺮﻛﺒﺔ ﻛﻤﺎ ﻗﺎل اﻷورﻓﻴﻮن واﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﻮن وأﻓﻼﻃﻮن .ﻓﻤﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ ﻳﻌﺘﱪ اﻹﻧﺴﺎن ﺣﻴﻮاﻧًﺎ ﻓﺎﻧﻴًﺎ ﻳﻌﻴﺶ وﺳﻂ أﻗﺮاﻧﻪ ﻣﻦ ﺑﻨﻲ ﺟﻠﺪﺗﻪ ،وﺑﺎﻟﺘﺎﱄ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻤﺎرﺳﺔ اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ إذا أراد أن ﻳﺤﻴﺎ ﺣﻴﺎة ﺳﻌﻴﺪة ،وﺳﻴﺤﺘﺎج ﺑﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﺎل إﱃ ﴐورﻳﺎت اﻟﺤﻴﺎة واﻟﺤﻆ اﻟﺤﺴﻦ ﻟﻼﺳﺘﻤﺘﺎع ﺑﻬﺎ .وﻣﻦ ﺟﻬﺔ أﺧﺮى ﻧ َ ِﺠ ُﺪ أن ﻟﻺﻧﺴﺎن ﺻﻔﺔ ﻻ ﺗُﻤَ ﻴﱢ ُﺰ ُه ﻋﻦ اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت ﻓﺤﺴﺐ، ﺑﻞ ﺗﻤﻨﺤﻪ ﻧﺼﻴﺒًﺎ ﻣﻤﱠ ﺎ ﻳﺘﻌني أن ﺗﻨﻄﻮي ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺤﻴﺎة اﻹﻟﻬﻴﺔ؛ وﺑﻨﺎءً ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ »ﻻ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻟﻨﺎ أن ﻧﺘﺒﻊ ﻧﺼﺎﺋﺢ ﻣﻦ ﻳَﺤُ ﺜﱡﻨَﺎ ﻣﻦ ﺑﻨﻲ اﻟﺒﴩ ﻋﲆ اﻟﺘﻔﻜري ﰲ اﻷﻣﻮر اﻟﺒﴩﻳﺔ وﻣﻦ أﻫﻞ اﻟﻔﻨﺎء واﻟﺰوال ﻋﲆ اﻟﺘﻔﻜري ﰲ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﻔﺎﻧﻴﺔ ،ﺑﻞ ﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﺠﻌﻞ أﻧﻔﺴﻨﺎ ﺧﺎﻟﺪﻳﻦ ﻗﺪر املﺴﺘﻄﺎع وأن ﻧﺒﺬل ُﻗﺼﺎرى ﺟﻬﺪﻧﺎ ﻟﻜﻲ ﻧﺤﻴﺎ ﻋﲆ أﻓﻀﻞ ﻣﺎ ﻓﻴﻨﺎ« ،ﻓﺎﻟﺤﻴﺎة اﻟﻔﺎﺿﻠﺔ إﻧﻤﺎ ﻫﻲ ﻋﻤﻞ ﻣﺘﻮازن ﺗُ َﺮاﻋَ ﻰ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻄﺎﻟﺐ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ واملﻄﺎﻟﺐ اﻹﻟﻬﻴﺔ ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ آﺧﺮ. وﻗﺪ اﻋﱰف أرﺳﻄﻮ أن اﻟﻮﺟﻮد إن ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻓﻴﻪ إﻻ اﻟﺘﺄﻣﱡ ﻞ اﻟﺨﺎﻟﺺ »ﻟﺸﻖ ﻋﲆ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻮﺻﻮل إﻟﻴﻪ ﻻ ﺑﺴﺒﺐ ﻃﺒﻴﻌﺘﻪ اﻟﺒﴩﻳﺔ وﻟﻜﻦ ﺑﺴﺒﺐ ﳾء إﻟﻬﻲ داﺧﻠﻪ« ،ﻓﺎﻹﻧﺴﺎن ﻳ ُْﻀ َ ﻄ ﱡﺮ اﻟﻘﺒﻮل ﺑﺴﻌﺎدة »ﺛﺎﻧﻮﻳﺔ« ﰲ اﻟﺤﻴﺎة ً ﻏﺎﻟﺒًﺎ إﱃ َ ﻃﺒﻘﺎ ﻟﻔﻀﺎﺋﻞ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ اﻟﺘﻲ »ﺗُﻼﺋِﻢ ﺣﺎﻟﺘﻨﺎ اﻟﺒﴩﻳﺔ« .ﻛﻤﺎ أن ﻓﻜﺮة أن اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺘﺄﻣﻠﻴﺔ ﻫﻲ أرﻗﻰ ﺻﻮر اﻟﺴﻌﺎدة وأﻗﻮاﻫﺎ ﺗﺼﺐ ﺟُ ﱠﻞ ﺗﺮﻛﻴﺰﻫﺎ ﻋﲆ ﻓﻜﺮة اﻟﻜﻤﺎل ﻟﺪى اﻹﻧﺴﺎن .وﻻ رﻳﺐ أن اﻹﻧﺴﺎن ﻗﺪ ﻻ ﻳﻨﺎل ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺤﻴﺎة املﺜﺎﻟﻴﺔ ﻳﻮﻣً ﺎ ،ﺑﻞ وﻗﺪ ﻳﻔﺸﻞ ﰲ ﺗﺤﻘﻴﻖ اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ اﻟﺪﻧﻴﻮﻳﺔ »اﻟﺜﺎﻧﻮﻳﺔ« ،وﻟﻜﻦ إذا ﻛﺎن اﻹﻧﺴﺎن ﻳﻌﻠﻢ ﻣﺎ ﻳﺤﺎول أن ﻳﻔﻌﻞ »ﻓﻤﻦ ا ُملﺤﺘَﻤَ ﻞ أن ﻳﺼﻴﺐ ﻫﺪﻓﻪ ﻛﺮاﻣﻲ اﻟﺴﻬﺎم اﻟﺬي ﻳﺼﻮب ﻋﲆ ﻋﻼﻣﺔ ﻣﺤﺪدة«. ﻗﺪ ﺗﺒﺪو ﻫﺬه ﻧﻬﺎﻳﺔ أﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ ﻣﺨﻴﺒﺔ ﻟﻶﻣﺎل ،ﻓﻼ رﻳﺐ أن ﺗﺤﺪﻳﺪ اﻹﻧﺴﺎن ً ﻫﺪﻓﺎ ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻪ أﻣﺮ ﻣﻔﻴﺪ وﻧﺎﻓﻊ ،وﻟﻜﻦ آﻣﺎﻟﻨﺎ ﻛﺎﻧﺖ أﺑﻌﺪ ﻣﻦ ذﻟﻚ؛ ﻓﻤﻦ املﻔﱰض أن أرﺳﻄﻮ ﻛﺎن 300
املﻌﻠﻢ اﻷول :أرﺳﻄﻮ
أﻛﺜﺮ املﻔﻜﺮﻳﻦ اﻫﺘﻤﺎﻣً ﺎ ﺑﺎﻟﺠﻮاﻧﺐ اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﺣﻴﺚ ﻗﺎل ﴏاﺣﺔ» :إﻧﻨﺎ ﻻ ﻧﺒﺤﺚ ﰲ اﻟﺘﻤﻴﱡﺰ أﻧﺎﺳﺎ ﺻﺎﻟﺤني «.وﺑﺎﻟﺒﺤﺚ اﻟﺪﻗﻴﻖ ﱠ ﻟﻜﻲ ﻧﺪرك ﻣﺎﻫﻴﺘﻪ ،ﺑﻞ ﻟﻴﻨﻌﻜﺲ ﻋﻠﻴﻨﺎ وﻧﺼﺒﺢ ً ﻳﺘﺒني ﻟﻨﺎ أن ﻣﻨﻬﺞ أرﺳﻄﻮ ﰲ املﺎدة ﻋﻤﲇ ﻣﻦ اﻟﺪرﺟﺔ اﻷوﱃ؛ ﻷﻧﻪ ﻳﺠﻴﺐ ﻋﲆ ﺳﺆال» :ﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ أن أﺻﺒﺢ إﻧﺴﺎﻧًﺎ ﺻﺎﻟﺤً ﺎ؟« ﺑﺎﻹﺟﺎﺑﺔ اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ» :إذا ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻗﺪ ﺗﺮﺑﻴﺖ ﻋﲆ أن ﺗﻜﻮن إﻧﺴﺎﻧًﺎ ﺻﺎﻟﺤً ﺎ ﻳﺘﻌني ﻋﲆ اﻟﺪوﻟﺔ أن ﺗﺠﱪك ﻋﲆ ذﻟﻚ «.وﻳﺮى أرﺳﻄﻮ أن اﻷﺧﻼق ﺗﻤﻬﺪ ﻟﻠﺴﻴﺎﺳﺔ وأن اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﺤﻘﻖ اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ ﺑﻬﺎ؛ ﻓﺎﻷﺧﻼق ﺗﻬﺘﻢ ﺑﺪراﺳﺔ أﺷﻜﺎل اﻟﺘﻤﻴﱡﺰ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﺤﲆ ﺑﻬﺎ ﺷﺨﺼﻴﺎت أﻋﻈﻢ اﻟﻨﺎس وﺳﻠﻮﻛﻴﺎﺗﻬﻢ ،وﺑﺬﻟﻚ ﺗﻮﺿﺢ اﻟﻬﺪف ﻣﻦ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺘﻲ ﺗﺴﺘﺤﻖ اﻟﺪراﺳﺔ .أﻣﺎ اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﻓﺘَﻬْ ﺘَ ﱡﻢ ﺑﺪراﺳﺔ اﻟﻘﻮاﻧني واﻟﺪﺳﺎﺗري اﻟﺘﻲ ﻣﻦ ﺷﺄﻧﻬﺎ أن ﺗﺸﺠﻊ اﻟﺘﻤﻴﺰ وﺗﺴﺎﻋﺪ ﻋﲆ ازدﻫﺎره؛ وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺎﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﻫﻲ »اﻟﻔﻦ اﻟﺮﺋﻴﺲ« اﻟﺬي ﻳﻨﺘﺞ اﻟﺴﻌﺎدة واﻟﺨري ﻋﲆ ﻧﻄﺎق واﺳﻊ .وﻟﻢ ﻳﻜﻦ أرﺳﻄﻮ ﻣﻮﻫﻮﻣً ﺎ ﺑﻘﻮة اﻟﺠﺪال اﻟﻌﻘﻼﻧﻲ املﺤﺾ ،ﻓﺎﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ﻛﻤﺎ ﻳﺤﺎول أن ﻳﻮﺿﺤﻬﺎ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ ﻋﻦ اﻷﺧﻼق ﻫﻲ ﻣﺴﺄﻟﺔ ﺗﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ،واﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﺗﺘﻜﻮن ﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﻌﺎدات؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻳﻘﻮل» :ﻟﻴﺲ ﻫﻴﻨًﺎ أن ﻳﻜﺘﺴﺐ اﻹﻧﺴﺎن ﻋﺎدات ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻨﺬ ﻧﻌﻮﻣﺔ أﻇﻔﺎره؛ ﻓﺬﻟﻚ ﻳﺼﻨﻊ ً ﻓﺎرﻗﺎ ﻛﺒريًا ،ﺑﻞ إن ﺷﺌﺖ ُ ﻓﻘﻞ ﻳﺼﻨﻊ ﻛﻞ اﻟﻔﺎرق «.وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈن وﻇﻴﻔﺔ املﴩﻋني ﻫﻲ »أن ﻳﺠﻌﻠﻮا املﻮاﻃﻨني ﺻﺎﻟﺤني ﺑﺘﻜﻮﻳﻦ اﻟﻌﺎدات ﻓﻴﻬﻢ« ،ﻓﺜﻤﺔ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﺻﻐرية وﻣﺨﺘﺎرة ﻣﻦ املﻮاﻃﻨني ﺳﺘﺼﻞ إﱃ »ﺗﺼﻮر ﻋﻦ اﻷﻣﻮر اﻟﻨﺒﻴﻠﺔ واﻟﺴﺎرة« رﺑﻤﺎ ﻣﻦ ﺧﻼل ﻗﺮاءة ﻣﺎ ﻗﺎﻟﻪ أرﺳﻄﻮ ﻋﻦ اﻷﺧﻼق، وﺳﻴﺘﴫﻓﻮن ﻋﲆ أﺳﺎﺳﻬﺎ .وﻟﻜﻦ ﺑﺼﻔﺔ ﻋﺎﻣﺔ ﻓ »إن اﻟﻘﻮاﻧني ﻫﻲ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ا ُملﺜﲆ ﻟﺘﺤﻘﻴﻖ اﻟﺼﻼح«. ﻟﺴﻨﺎ ﻫﻨﺎ ﺑﺼﺪد اﺳﺘﻌﺮاض ﻛﺘﺎﺑﺎت أرﺳﻄﻮ اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻨﺎﻗﺶ ﻓﻴﻬﺎ ﺑﻌﺾ اﻟﻘﻮاﻧني وأﺷﻜﺎل املﺠﺘﻤﻊ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻬﺎ ﺗﺤﻘﻴﻖ ﻫﺬا اﻟﻬﺪف) ،ﻓﻔﻲ ﻣﻨﺎﻗﺸﺘﻪ ﻟﻸﻣﻮر اﻟﺪﺳﺘﻮرﻳﺔ ﻛﺎن ﻳﻜﺮس ﻛﻞ ﻫﺠﻮﻣﻪ ﻋﲆ اﻟﺸﻴﻮﻋﻴﺔ ﺛﻢ ﻳﻨﺘﻬﻲ ﺑﻪ اﻷﻣﺮ إﱃ ﺗﺄﻳﻴﺪ ً وﺑﺪﻻ ﻣﻦ ذﻟﻚ ﺳﻴﺴﻠﻂ اﻟﺠﺰء اﺿﻄﺮاري ﻟﻨﻈﺎم ﻳﺴﻤﺢ ﺑﻤﻘﺪار ﻣﺤﺪود ﻣﻦ اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ(. اﻷﺧري ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻔﺼﻞ اﻟﻀﻮءَ ﻋﲆ آراء أرﺳﻄﻮ ﰲ اﻟﺸﻌﺮ ،وﻟﻜﻦ ﺑﺎﺧﺘﺼﺎر ،ﺣﻴﺚ ﻳﺘﻀﺢ أن اﻟﺸﻌﺮ ً أﻳﻀﺎ ﻳﻠﻌﺐ دو ًرا ﰲ ﺟﻌﻠﻨﺎ ً أﻧﺎﺳﺎ ﺻﺎﻟﺤني وﻟﻮ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻏري ﻣﺒﺎﴍة. ُ اﻟﻨﺎس اﻟﻴﻮم ﻋﻦ أﻳﻬﻤﺎ أﻗﺮب ﺷﺒﻬً ﺎ ﻟﻠﻌﻠﻢ :اﻟﺘﺎرﻳﺦ أم اﻟﺸﻌﺮ؛ ﻷﺟﺎب ﻣﻌﻈﻤﻬﻢ: ﻟﻮ ُﺳ ِﺌ َﻞ »اﻟﺘﺎرﻳﺦ« ،ﻓﺎﻟﺘﺎرﻳﺦ ﺑﺸﻜﻞ ﻋﺎ ﱟم ﻳُﻌَ ﱡﺪ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻋﲆ ﻋﻜﺲ اﻟﺸﻌﺮ .أﻣﺎ أرﺳﻄﻮ ﻓﻤﺎ ﻛﺎن إﻻ ﻟﻴﺠﻴﺐ ﺑﺄن اﻟﺸﻌﺮ ﻫﻮ اﻷﻗﺮب ﺷﺒﻬً ﺎ ﻟﻠﻌﻠﻢ ،وأن ﻫﺬا ﺑﺎﻟﻀﺒﻂ ﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺠﻌﻞ ﻟﻠﺸﻌﺮ ﻣﻐ ًﺰى 301
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
أﺧﻼﻗﻴٍّﺎ أﻋﲆ ﻣﻦ اﻟﺘﺎرﻳﺦ .وﻻ ﺗﺴﺘﻌﴢ ﻫﺬه املﻔﺎرﻗﺔ ﻋﲆ اﻟﻔﻬﻢ إذا ﻣﺎ ﺗﺬﻛﺮﻧﺎ ﻣﺎ ﻗﺎﻟﻪ أرﺳﻄﻮ ﺑﺸﺄن اﻟﻌﻠﻢ وﻣﺎ ﻗﺎﻟﻪ ﺑﺸﺄن اﻷﺧﻼق. ﻛﻤﺎ رأﻳﻨﺎ ﻳﻌﺘﻘﺪ أرﺳﻄﻮ أن ﻋﻼﻣﺔ اﻟﻌﻠﻢ املﺘﻄﻮر ﻫﻮ أﻧﻪ ﻳﺘﻨﺎول اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ اﻟﻌﺎﻣﺔ واﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻋﻦ اﻷﺷﻴﺎء ،ﻣﺜﻞ أن اﻷﺑﻘﺎر ﺗﻨﺘﻤﻲ ﻛﻠﻬﺎ ﻟﻠﻤﺠﱰات ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل .وﻣﻦ أﻓﻀﻞ ﻃﺮﻗﻪ ﻟﻠﺘﻌﺒري ﻋﻦ ﻫﺬه اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻫﻮ ﻗﻮﻟﻪ إن اﻟﻌﻠﻢ ﻳﻬﺘﻢ »ﺑﻤﺎ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﴚء ﻃﻮال اﻟﻮﻗﺖ … أو ﰲ ﻏﺎﻟﺐ اﻷﺣﻮال «.ﻓﻼ ﺷﺄن ﻟﻠﻌﻠﻢ ﺑﺎﻷﺣﺪاث اﻟﻌﺎﺑﺮة أو اﻟﺘﻔﺎﺻﻴﻞ اﻟﺜﺎﻧﻮﻳﺔ واﻷﻣﻮر اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ اﻟﻄﺎرﺋﺔ )وﻫﻮ أﺣﺪ ﻋﻴﻮب اﻟﻌﻠﻢ اﻷرﺳﻄﻲ ،وﻟﻜﻦ ﻟﻬﺬا ﺣﺪﻳﺚ آﺧﺮ( .أﻣﺎ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﻛﻤﺎ ﻳﺮاه أرﺳﻄﻮ ﻓﻬﻮ ﻋﲆ اﻟﻨﻘﻴﺾ ﻣﻦ ﻫﺬا؛ إذ ﻳﻌﺞ ﺑﺎﻷﺣﺪاث اﻟﻌﺎﺑﺮة ﻏري اﻟﴬورﻳﺔ وﻻ ﻳﻬﺘﻢ ﺑﺎﻟﺒﺤﺚ ﰲ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ اﻟﻌﺎﻣﺔ ،وﻟﺬﻟﻚ ﻓﻼ ﺷﺄن ﻟﻪ ﺑﺎﻟﻌﻠﻢ ،ﻓﺎﻟﺘﺎرﻳﺦ ﻳﺘﻌﺎﻣَ ﻞ ﻣﻊ أﺷﻴﺎء ﻣﻌﻴﻨﺔ ﺗﺤﺪُث ﻟﻠﺘﻮ .أﻣﺎ اﻟﺸﻌﺮ اﻟﺠﻴﺪ ﻛﺄﻋﻤﺎل ﻫﻮﻣريوس أو ﻣﴪﺣﻴﺎت ﺳﻮﻓﻮﻛﻠﻴﺲ اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺔ ﻓﺘﻌﺎﻟﺞ اﻟﺘﻔﺎﺻﻴﻞ واملﻼﺑﺴﺎت ﻏري ذات اﻟﺼﻠﺔ؛ ﺑﻐﻴﺔ اﻟﱰﻛﻴﺰ ﻋﲆ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ اﻟﻌﺎﻣﺔ اﻟﺸﺎﻣﻠﺔ ﻋﻦ اﻟﺤﻴﺎة واﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺒﴩﻳﺔ ،ﻓﺎﻟﺸﻌﺮ اﻟﺠﻴﺪ )اﻟﺬي ﻳﺸﻤﻞ اﻟﺪراﻣﺎ اﻟﺠﻴﺪة( ﻳﻠﻔﺖ ﻧﻈﺮﻧﺎ إﱃ اﻟﺨﺼﺎﺋﺺ اﻟﺠﻮﻫﺮﻳﺔ ﻟﻸﻧﻮاع املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﺒﴩ ﻣﻦ ﺧﻼل ﺗﺤﺪﻳﺪ ﺳﻠﻮك أﺑﻄﺎل ﻫﺬه اﻷﻋﻤﺎل وﺧﺼﻮﻣﻬﻢ وﻣﺎ ﻧﺘﻮﻗﻊ أن ﻧﺠﺪه ﰲ ﻫﺆﻻء »داﺋﻤً ﺎ أو ﰲ أﻏﻠﺐ اﻷﺣﻴﺎن« .وﺑﻬﺬا ﻧﺮى أن »اﻟﺸﻌﺮ ﳾء ذو ﻃﺒﻴﻌﺔ ﻓﻠﺴﻔﻴﺔ أﻛﱪ ﻣﻦ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ،وﺟﺪﻳﺮ ﺑﺎﻻﻫﺘﻤﺎم أﻛﺜﺮ ﻣﻨﻪ؛ ﻷﻧﻪ ﰲ َ ﺣﻘﺎﺋﻖ ﻣﻌﻴﻨﺔ .وأﻋﻨﻲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬي ﻳﻬﺘﻢ اﻟﺸﻌﺮ ﻓﻴﻪ ﺑﺎﻟﺤﻘﺎﺋﻖ اﻟﻌﺎﻣﺔ ﻳﺮﻛﺰ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﻋﲆ ﺑﺎﻟﺤﻘﺎﺋﻖ اﻟﻌﺎﻣﺔ ﻫﻨﺎ ﻣﺎ ﻗﺪ ﻳﻔﻌﻠﻪ أو ﻻ ﺑﺪ أن ﻳﻔﻌﻠﻪ ﺷﺨﺺ ﻣﺎ ﰲ ﻣﻮﻗﻒ ﻣﺎ«. وﻻ ﺗﺘﻨﺎﺳﺐ ﻓﻜﺮة أن اﻟﺸﻌﺮ ﻳﺼﺐ اﻫﺘﻤﺎﻣﻪ ﻋﲆ اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﻣﻊ ﻛﺜري ﻣﻤﱠ ﺎ ﻧﺴﻤﻴﻪ ﺷﻌ ًﺮا ،إﻻ أﻧﻬﺎ ﺗﻼﺋﻢ ﻣﺎ ﺻﻨﱠﻔﻪ أرﺳﻄﻮ ﻋﲆ أﻧﻪ اﻟﻨﻮع اﻷﻓﻀﻞ ﻣﻦ اﻟﺸﻌﺮ ﻣﺜﻞ اﻹﻟﻴﺎذة واﻷودﻳﺴﺔ .وﺗُﻌْ ﻨَﻰ اﻷﺧﻼق ﻛﺬﻟﻚ ﺑﺎﻟﺸﺨﺼﻴﺎت واﻷﻓﻌﺎل ،وﺑﻤﺎ أن اﻟﺸﻌﺮ ﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺤﺮك ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻷﺷﻴﺎء أو ﻳﺤﺎﻛﻴﻬﺎ؛ ﻓﻼ ﻣﺤﻴﺺ ﻣﻦ أن ﻳﻜﻮن ﻟﻪ ﻣﻐ ًﺰى أﺧﻼﻗﻲ .وﺑﺎﺳﺘﺤﻀﺎر َ ﻣﻮاﻗﻒ ﻣﻌﻴﻨﺔ ﺗﺠﺎﻫﻬﺎ، أﻧﻮاع ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻣﻦ اﻟﺸﺨﺼﻴﺎت واﻷﻓﻌﺎل ،وﺣﺜﻨﺎ ﺑﻤﻬﺎرة ﻋﲆ ﺗﺒﻨﱢﻲ ٍ ﻳﻘﻮم اﻟﺸﺎﻋﺮ اﻟﺒﺎرع ﺑﺘﻘﻮﻳﺔ اﻟﺤﺎﻻت املﺰاﺟﻴﺔ املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻟﺪﻳﻨﺎ ﺑﻮﺿﻌﻨﺎ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺸﺒﻪ آﻟﺔ ﻟﻠﺘﺪرﻳﺐ اﻟﻌﻘﲇ .وﺑﻬﺬا ﻧﺨﻠﺺ إﱃ أن اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ »ﺗﻨﻄﻮي ﻋﲆ اﻟﻔﺮح واﻟﺤﺐ واﻟﻜﺮه ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﺻﺤﻴﺤﺔ «.وﰲ ﺳﻌﻴﻨﺎ ﻧﺤﻮ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻧﻬﺘﻢ ﺑ »اﻛﺘﺴﺎب … اﻟﻘﺪرة ﻋﲆ ﺗﻜﻮﻳﻦ اﻷﺣﻜﺎم اﻟﺼﺤﻴﺤﺔ وﻋﲆ اﻟﻔﺮح ﺑﺎﻟﺤﺎﻻت املﺰاﺟﻴﺔ اﻟﺠﻴﺪة واﻟﺴﻠﻮﻛﻴﺎت اﻟﻨﺒﻴﻠﺔ وزﻳﺎدة ﻫﺬه اﻟﻘﺪرة« .وﻗﺪ ﻳﺴﺎﻋﺪ اﻟﺸﻌﺮ ﻋﲆ ﺗﻘﻮﻳﺔ ﺟﻤﻴﻊ ﻫﺬه اﻷﺷﻴﺎء؛ ﻷن »اﻟﺸﻌﻮر ﺑﺎملﺘﻌﺔ أو اﻷﻟﻢ ﺑﺴﺒﺐ اﻟﺘﻤﺜﻴﻼت اﻟﺸﻌﺮﻳﺔ ﻻ ﻳﺨﺘﻠﻒ ﻛﺜريًا ﻋﻤﺎ ﻳﺤﺪث ﻣﻊ اﻟﻮاﻗﻊ«. 302
املﻌﻠﻢ اﻷول :أرﺳﻄﻮ
وﻗﺪ اﺳﺘﻤﺮ أرﺳﻄﻮ ﺛﺎﺑﺘًﺎ ﻋﲆ ﻣﻮﻗﻔﻪ ﰲ ﻋﺪم اﻋﺘﺒﺎر اﻟﺸﻌﺮ ﺑﺸﻜﻞ ﻋﺎم أداة ﻟﻠﺘﻄﻮﻳﺮ اﻟﺬاﺗﻲ ،وﻋﺪم اﻋﺘﺒﺎر املﴪح ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﺨﺼﻮص ﻣﻨﱪًا ﻳﻠﻘﻲ اﻟﻮاﻋﻆ ﻣﻦ ﻋﻠﻴﻪ ﺧﻄﺒﻪ؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن اﻟﻐﺮض ﻣﻦ اﻟﺸﻌﺮ وﺟﻤﻴﻊ اﻟﻔﻨﻮن اﻟﺠﻤﻴﻠﺔ ﻫﻮ ﺗﺤﻘﻴﻖ املﺘﻌﺔ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ املﺤﺎﻛﺎة ﺑﻜﺎﻓﺔ أﻧﻮاﻋﻬﺎ وأﺷﻜﺎﻟﻬﺎ ﺣﺘﻰ ﻟﻮ ﻛﺎن ﻳﻨﻄﻮي ﻋﲆ ﺟﺎﻧﺐ أﺧﻼﻗﻲ .ﻓﻤﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ أن ﻳﺤﺎﻛﻲ اﻹﻧﺴﺎن اﻷﺷﻴﺎء ،وأن ﻳﺠﺪ ﻧﺼﻴﺒًﺎ ﻣﻦ املﺘﻌﺔ ﰲ ﻧﺘﺎج ﻣﺤﺎﻛﺎﺗﻪ .وﻟﻢ ﻳﻨ ِﺒﺬ أرﺳﻄﻮ ﻫﺬه املﺘﻊ وا َمل َﻠﺬﱠات ﻛﻤﺎ ﻧﺒﺬﻫﺎ أﻓﻼﻃﻮن ﰲ ﻛﺘﺎﺑﻪ »اﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ«؛ إذ ﻳﺮى أﻓﻼﻃﻮن أن ﻣﻌﻈﻢ ً وﺿﻌﻴﻔﺎ ﺑﺘﺸﺠﻴﻌﻪ ﻋﲆ ارﺗﻜﺎب ﻛﻞ اﻷﺧﻄﺎء واﻗﱰاف ﻛﻞ اﻟﺸﻌﺮ ﻳﺠﻌﻞ اﻹﻧﺴﺎن ﻋﺎﻃﻔﻴٍّﺎ اﻟﺬﻧﻮب واﻵﺛﺎم اﻟﺘﻲ ﻳﺠﺐ أن ﺗﻜﻮن ﻣﺤﻈﻮرة .وﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ »اﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ« ﺟﻌﻞ أﻓﻼﻃﻮن ﴫ ُ ف اﻷذﻫﺎن ﻋﻦ ﺷﺨﺼﻴﺔ ﺳﻘﺮاط ﺗﻌﱰض ﻋﲆ املﺤﺎﻛﺎة اﻟﻔﻨﻴﺔ ﺑﺎﻟﻜﺎﻣﻞ ﺑﺰﻋﻢ أﻧﻬﺎ ﺗَ ْ ِ اﻷﺷﻴﺎء املﻬﻤﺔ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة ،أﻻ وﻫﻲ ا ُملﺜ ُ ُﻞ اﻟﻌﻠﻴﺎ .وإذا ﻛﺎﻧﺖ اﻷﺷﻴﺎء املﺎدﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻈﻨﻬﺎ اﻹﻧﺴﺎن ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ ﻫﻲ ﻣﺠﺮد ﻇﻼل ﺗﱰاﻗﺺ ﻋﲆ ﺟﺪران أﺣﺪ اﻟﻜﻬﻮف؛ ﻓﺈن اﻟﺼﻮر اﻟﺘﻲ ﻧﺠﺪﻫﺎ ﰲ اﻟﻔﻨﻮن ﺗﻨﺄى ﻋﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ أﻛﺜﺮ وأﻛﺜﺮ .ﻓﺎﻟﺼﻮر واﻟﻘﺼﺎﺋﺪ ﺗﺤﺎﻛﻲ اﻷﺷﻴﺎء املﺎدﻳﺔ ،واﻷﺷﻴﺎء املﺎدﻳﺔ ﺑﺪورﻫﺎ ﺗﺤﺎﻛﻲ ا ُملﺜ ُ َﻞ؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﺈن اﻟﺸﻌﺮ واﻟﺪراﻣﺎ واملﻮﺳﻴﻘﻰ واﻟﻔﻨﻮن اﻟﺒﴫﻳﺔ ﻫﻲ ﻣﺤﺎﻛﺎة املﺤﺎﻛﺎة؛ أي ﻇﻼل اﻟﻈﻼل ،ﻓﺎﻟﻔﻦ ﻫﻮ ﻛﻬﻒ داﺧﻞ ﻛﻬﻒ. وﻳﺒﺪو أن أﻓﻼﻃﻮن ﻟﻢ ﻳﻔﻜﺮ ﰲ ﻣﺪى ﺳﻮء ﻓﻜﺮة اﻟﻜﻬﻒ داﺧﻞ اﻟﻜﻬﻒ؛ ﻓﺄﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻛﺎن ﻳﻘﻮل إن اﻟﺮﻗﺎﺑﺔ ﻋﲆ اﻟﺸﻌﺮ أﻣ ٌﺮ ﴐوري ،وإن اﻷﺷﻜﺎل اﻟﺸﻌﺮﻳﺔ اﻟﻼﺋﻘﺔ ﻗﺪ ﻳ ُْﺴﻤَ ﺢُ ﺑﻤﻨﺎﻗﺸﺘﻬﺎ ﻋﲆ املﻸ )وﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﻳﺆﺧﺬ ﻫﺬا ﻋﲆ أﻧﻪ وﺟﻬﺔ ﻧﻈﺮه اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ( ،وﰲ أﺣﻴﺎن أﺧﺮى ﻛﺎن ﻳﻘﻮل إﻧﻬﺎ ﻳﺠﺐ أن ﺗُﺤَ ﱠﺮ َم ﺑﺎﻟﻜﻠﻴﺔ ﻋﺪا »اﻟﱰاﻧﻴﻢ اﻟﺘﻲ ﺗُﻐﻨﱠﻰ ﻟﻶﻟﻬﺔ وﻣﺪاﺋﺢ اﻟﺼﺎﻟﺤني «.ﻛﺎن رأي أﻓﻼﻃﻮن ﻣﺘﺸﺪدًا ﻟﻠﻐﺎﻳﺔ .ﻟﻘﺪ واﻓﻖ أرﺳﻄﻮ ﻋﲆ ﻓﻜﺮة ﻣﻨﻊ اﻷﻃﻔﺎل ﻣﻦ ﺑﻌﺾ أﺷﻜﺎل اﻟﺸﻌﺮ ،أﻣﺎ أﻓﻼﻃﻮن ﻓﻘﺪ أراد أن ﻳﻌﺎﻣﻞ اﻟﺠﻤﻴﻊ ﻛﺎﻷﻃﻔﺎل ﺣﺘﻰ ﰲ ﻟﺤﻈﺎت اﻋﺘﺪاﻟﻪ. وﺑﻴﻨﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻧﺼﻴﺤﺔ أﻓﻼﻃﻮن اﻟﺮﺋﻴﺴﺔ ﻟﻠﺸﻌﺮاء ﻫﻲ أن ﻳﺨﺘﻔﻮا ﻣﻦ اﻟﻮﺟﻮد أو أن ﻳﻨﺘﻘﻮا ﻣﻮﺿﻮﻋﺎت آﻣﻨﺔ؛ ﻓﺈن رﺳﺎﻟﺔ أرﺳﻄﻮ ﰲ ﻫﺬا املﻮﺿﻮع ﻛﺎن ﻟﻬﺎ ﻫﺪف ﻋﻤﲇ أﻛﺜﺮ ً إﻳﺠﺎﺑﻴﺔ ﻳﺮﻣﻲ إﱃ ﺗﻔﺴري ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﺸﻌﺮ اﻟﺠﻴﺪ. وﻗﺪ َﺳﻌَ ﻰ أرﺳﻄﻮ ﺑﺎﻋﺘﻤﺎده ﻋﲆ ﻣﻌﺮﻓﺘﻪ اﻟﻮاﺳﻌﺔ ﺑﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﻘﺼﺎﺋﺪ واملﴪﺣﻴﺎت ﻓﻀﺎﺋﻞ ﻫﺬه اﻟﻘﺼﺎﺋﺪ واملﴪﺣﻴﺎت وﺗﻔﺴري اﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﻘﻖ ﺑﻬﺎ آﺛﺎرﻫﺎ إﱃ ﺗﺤﻠﻴﻞ ِ املﻤﺘﻌﺔ واﻟﺮاﻗﻴﺔ؛ اﻷﻣﺮ اﻟﺬي اﻧﺘﻬﻰ ﺑﻪ إﱃ وﺿﻊ ﺗﻌﺮﻳﻔﻪ املﺸﻬﻮر ﻋﻦ املﴪﺣﻴﺔ اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺔ، ِ ﺗﻜﺘﻤﻞ واﻟﺘﻲ ﺗﺤﻤﻞ ﻋﻨﻮان وﻫﻮ املﻮﺿﻮع اﻷﻛﺜﺮ أﻫﻤﻴﺔ اﻟﺬي ﺗَﻨَﺎ َو َﻟ ُﻪ ﰲ رﺳﺎﻟﺘﻪ اﻟﺘﻲ ﻟﻢ »اﻟﺸﺎﻋﺮﻳﺔ« ،وﰲ ذﻟﻚ ﻳﻘﻮل أرﺳﻄﻮ: 303
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
إن املﴪﺣﻴﺔ اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺔ ﻫﻲ ﻣﺤﺎﻛﺎة ﻟﻔﻌﻞ ﺟﺎ ﱟد ﻟﻪ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻷﻫﻤﻴﺔ ،وﻳﺘﺴﻢ ﺑﺎﻟﻜﻤﺎل اﻟﺬاﺗﻲ ﺑﺠﺎﻧﺐ ﻛﻮﻧﻪ ﺟﺬﱠاﺑًﺎ ﺣﻴﺚ ﻳ ُْﺴﺘَ ْﺨ َﺪ ُم ﻛﻞ ﻧﻮع ﻣﻦ أدوات اﻟﺰﻳﻨﺔ املﺴﺘﺨﺪﻣﺔ ﰲ ﻟﻐﺘﻪ ﻋﲆ ﺣِ ﺪَة ﰲ أﺟﺰاء اﻟﻌﻤﻞ ﺑﺸﻜﻞ دراﻣﻲ ﻻ ﴎدي ﺣﻜﺎﺋﻲ، ٍ أﺣﺪاث ﺗﺒﻌﺚ ﻋﲆ اﻟﺸﻔﻘﺔ واﻟﺨﻮف؛ اﻷﻣﺮ اﻟﺬي وﻳﺠﺮي ﻫﺬا ﺑﺎﻟﺘﻮازي ﻣﻊ وﺟﻮد ﻳﺆدي إﱃ ﺗﻄﻬري ﺗﻠﻚ املﺸﺎﻋﺮ. )ﺛَﻤﱠ َﺔ ﺟﺪل واﺳﻊ ﻣﻨﺬ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ ﺣﻮل ﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﻌﻨﻴﻪ ﺑﻜﻠﻤﺔ »ﺗﻄﻬري املﺸﺎﻋﺮ« ،وﺳﻨﻌﻮد ﻟﺬﻟﻚ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪُ ،وﻟﻜﻦ ﻧﻜﺘﻔﻲ اﻵن ﺑﺎﻹﺷﺎرة إﱃ أﻧﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻌﻨﻲ ﰲ اﻟﺴﻴﺎﻗﺎت اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ »اﻟﺘﻄﻬري« أو »ﺗﻨﻘﻴﺔ اﻟﻨﻔﺲ«(. إذن ﻣﺎ ﻫﻮ اﻟﺸﻜﻞ اﻟﺬي ﻳﺠﺐ أن ﻳﻜﻮن ﻋﻠﻴﻪ ﻫﺬا اﻟﻨﻮع اﻟﺪراﻣﻲ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ً ﻓﺎﺿﻼ ،وإﻻ ﻓﻠﻦ اﻟﺸﺨﺼﻴﺎت واﻟﺤﺒﻜﺔ؟ إن اﻟﺒﻄﻞ اﻟﺮﺋﻴﺲ ﻳﺠﺐ أن ﻳﻜﻮن إﻧﺴﺎﻧًﺎ ﻳﺘﻌﺎﻃﻒ ﻣﻌﻪ اﻟﺠﻤﻬﻮر ﻓﻴﻤﺎ ﻳﻤﺮ ﺑﻪ ﻣﻦ ِﻣﺤَ ٍﻦ .ﻛﻤﺎ ﻳﺠﺐ أن ﻳﻜﻮن إﻧﺴﺎﻧًﺎ ﻣﺘﻤﻴ ًﺰا؛ ﻷن اﻟﺴﻘﻮط ﻣﻦ اﻷﻋﲆ وﻣﻦ املﻜﺎﻧﺔ اﻟﺮﻓﻴﻌﺔ ﻟﻪ ﺗﺄﺛريه اﻷﻛﱪ ﰲ إﺛﺎرة اﻟﺸﻔﻘﺔ ﰲ اﻟﻨﻔﻮس .وﻷن ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ﻣﻦ اﻟﺨﻮف اﻟﺬي ﻳﺜري اﻟﺸﻔﻘﺔ ﺗَﺼ ُﺪ ُر ﻋﻦ إﻧﺴﺎن »ﻣﺜﻠﻨﺎ«؛ ﻓﺈن اﻟﺒﻄﻞ ﻳﺠﺐ أن ﻳﻜﻮن ﻋﲆ درﺟﺔ ﻣﻦ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ﻛﺘﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﻳﻌﺘﻘﺪ اﻟﺠﻤﻬﻮر أﻧﱠﻪ ﻋﻠﻴﻬﺎ .وﺛَﻤﱠ َﺔ ﺳﺒﺐ آﺧﺮ ً وراء ﱠأﻻ ﻳﻜﻮن ﺑﻄﻞ املﴪﺣﻴﺔ اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺔ ً ﻓﺎﺿﻼ إﱃ أﻋﲆ اﻟﺪرﺟﺎت ،وﻫﻮ أﻧﻪ ﻟﻮ ﺑﻠﻎ رﺟﻼ أﻗﴡ درﺟﺎت اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ﻓﺈن اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻏري اﻟﺴﻌﻴﺪة ﺳﺘﺒﻌﺚ اﻟﻀﻴﻖ ﰲ ﻧﻔﻮس اﻟﺠﻤﻬﻮر، وﻟﻴﺲ ذﻟﻚ ﻣﻦ اﻟﻌﺪل ﰲ ﳾء ،ﻓﻴﺠﺐ أن ﻳﻜﻮن ﺑﻪ ﻋﻴﺐٌ ﻣﺎ أو أن ﻳﺮﺗﻜﺐ ﺧﻄﺄ ً ﻣﺎ ﻛﺄن ﻳﻨﺪﻓﻊ ﺑﺘﻬﻮﱡر ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﻟﺘﻜﻮن ﻫﺬه ﻫﻲ ﺑﺪاﻳﺔ ﺳﻘﻮﻃﻪ ،وإﻻ ﻷﺻﺒﺢ ﻣﺎ ﻳﺼﻴﺒﻪ ﻣﺤﺾ ﺣ ﱟ ﻋﺎﺛﺮ ﻻ دﺧﻞ ﻟﻪ ﻓﻴﻪ ،وﻷﺻﺒﺢ ذﻟﻚ ﻣﻮﺿﻮﻋً ﺎ ﻻ ﻳﻨﺎﺳﺐ ﻣﴪﺣﻴﺔ ﺟﺎدة .وﻛﻤﺎ ﻆ ٍ ﻧﺮى ﻓﺎﻟﺸﺎﻋﺮ اﻟﱰاﺟﻴﺪي ﻳﺠﺐ أن ﻳﺮاﻋﻲ اﻟﺪﻗﺔ اﻟﺸﺪﻳﺪة ﻛﻤﻦ ﻳﻤﴚ ﻋﲆ اﻟﺤﺒﻞ ﻟﺘﺨ ُﺮج ً واﻗﻌﻴﺔ ،وأن املﴪﺣﻴﺔ ﻋﲆ اﻟﻨﺤﻮ املﻄﻠﻮب .ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ ذﻟﻚ ﻳﺠﺐ أن ﺗﻜﻮن اﻟﺸﺨﺼﻴﺎت ﺗُﺼﻮﱠر ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﺘﻨﺎﺳﻘﺔ ﺣﺘﻰ ﻟﻮ ﻛﺎن اﻟﺘﻨﺎﻗﺾ ﺟﺰءًا ﻣﻦ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﺸﺨﺼﻴﺎت ،وﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ﻳﺠﺐ أن ﺗﻜﻮن اﻟﺸﺨﺼﻴﺎت »ﻏري ﻣﺘﻨﺎﺳﻘﺔ ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺘﻨﺎﺳﻖ«. أﻣﺎ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺨﺺ ﺣﺒﻜﺔ املﴪﺣﻴﺔ اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺔ اﻟﺠﻴﺪة؛ ﻓﺈن اﻟﺸﻔﻘﺔ واﻟﺨﻮف ﻳﺠﺐ أن ﻳُﺜﺎ َرا ﻻ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ املﺆﺛﺮات املﴪﺣﻴﺔ ﻛﻤﻨﺎﻇﺮ اﻟﺪم ﻓﺤﺴﺐ ،ﺑﻞ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﻘﺼﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ؛ ﻓﻔﻲ املﴪﺣﻴﺔ اﻟﺠﻴﺪة ﻳﻜﻮن ﺗﻮﺿﻴﺢ اﻷﺣﺪاث ﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺤﻘﻖ اﻟﻐﺎﻳﺔ ﻣﻨﻬﺎ .واﻟﻮﺳﻴﻠﺘﺎن اﻟﻠﺘﺎن ﺗﻌﺘﻤﺪ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ اﻟﺤﺒﻜﺔ ﻟﻠﻌﺐ ﻋﲆ ﻣﺸﺎﻋﺮ اﻟﺠﻤﻬﻮر ﻫﻤﺎ »اﻻﻧﻘﻼب« و»اﻹدراك«، واﻻﻧﻘﻼب ﻳﺤﺪُث ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺆدي ﺣﺪَث ﻣﺎ إﱃ ﻋﻜﺲ ﻣﺎ ﻛﺎن ﻣ َ ُﺨ ﱠ ﻄ ً ﻄﺎ ﻟﻪ أو ُﻣﺘَﻮ ﱠَﻗﻌً ﺎ ﻣﻨﻪ ،ﻛﻤﺎ 304
املﻌﻠﻢ اﻷول :أرﺳﻄﻮ
ﰲ ﻣﴪﺣﻴﺔ »أودﻳﺐ« ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺣﻤﻞ اﻟﺮﺳﻮل أﻧﺒﺎء ﻛﺎن ﻳَ ُ ﻈ ﱡﻦ أﻧﻬﺎ ﺳﺎرة وﻟﻜﻦ ﺗﺒني ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ دﻻﻻت ﻣﺮﻋﺒﺔ .وﻗﺪ ﻛﺎن ﺣﺎدث اﻟﺮﺳﻮل ﰲ ﻫﺬه املﴪﺣﻴﺔ ً ٍ ﻣﺜﺎﻻ ﻋﲆ ﻧﻮع »اﻹدراك« أن ﻟﻬﺎ اﻟﺬي ﺗﻌﺘﻤﺪ ﻋﻠﻴﻪ ﺣﺒﻜﺔ اﻟﻌﻤﻞ اﻟﱰاﺟﻴﺪي؛ ذﻟﻚ أن ﻫﺬا اﻟﺤﺎدث ﻗﺪ ﻛﺸﻒ اﻟﻨﻘﺎب ﻋﻦ ﻧ َ َﺴ ِﺐ أودﻳﺐ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻤﺜﻞ اﻟﻔﺎﺟﻌﺔ اﻟﺮﺋﻴﺴﺔ ﰲ املﴪﺣﻴﺔ .وﻳﻔﻀﻞ أرﺳﻄﻮ أن ﻳﺤﺪث اﻻﻧﻘﻼب واﻹدراك ﻣﻌً ﺎ ﻛﻤﺎ ﻳﺒني ﻫﺬا املﺜﺎل .وﻳﺒﻘﻰ اﻟﴚءُ اﻷﻫﻢ ﻫﻮ ﺗﻮاﱄ اﻷﺣﺪاث ُ ً ﺗﺼﺪﻳﻘﻬﺎ ،ﻓﻼ ﻳﻜﻮن ﻫﻨﺎك أﻣﺮ ﻏﺎﻣﺾ ﺣﻮل ﺗﺴﻠﺴﻼ ﻣﻨﻄﻘﻴٍّﺎ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻳُﻤﻜِﻦ وﺗﺴﻠﺴﻠﻬﺎ ﻣﺎ ﻳﺤﺪث ﻛﻤﺎ ﻳﻤﺰق اﻟﺨﻮف واﻟﺮﻋﺐ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﺼﺎب ﺑﻬﻤﺎ. ﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أن اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺎ اﻷرﺳﻄﻴﺔ ﻟﻴﺴﺖ ﻣﺤﺾ ﻣﴪﺣﻴﺔ أﺧﻼﻗﻴﺔ ﻳَﻠﻘﻰ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺸﺨﺺ اﻟﴩﻳﺮ اﻟﻘﺼﺎص اﻟﻌﺎدل .وإذا ﻛﺎن اﻟﻜﺎﺗﺐ ﻗﺪ أدﱠى وﻇﻴﻔﺘﻪ ﻋﲆ أﺗﻢ وﺟﻪ ﻓﺈن اﻟﺠﻤﻬﻮر ﻻ ﻳﱰك املﴪح ﻣﴪو ًرا ﺑﺎﻟﺠﺰاء اﻟﻌﺎدل اﻟﺬي ﱠ ﺗﻠﻘﺘﻪ اﻟﺸﺨﺼﻴﺎت ،وإﻧﻤﺎ ﻳﻐﺎدر ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﻣﻦ اﻟﺘﺄﻣﻞ واﻟﺴﻜﻮن اﻟﻌﻘﲇ .وﻟﻜﻦ ِﻟ َﻢ ﻳﺤﺪث ﻫﺬا؟ ﻟﻘﺪ ﻛﺎن ﻟﺪى أرﺳﻄﻮ املﺰﻳﺪ ﻟﻴﻘﻮﻟﻪ ﻋﻦ اﻟﺸﻌﺮ ،وﻟﻜﻦ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻫﻨﺎك أﻓﻀﻞ ﻣﻤﺎ ﻟﻢ ﻳ َُﻘ ْﻠ ُﻪ ﻋﻦ ﺣﺎﻟﺔ ﺗﻄﻬري املﺸﺎﻋﺮ اﻟﺘﻲ ﺗُﺤْ ِﺪﺛُﻬَ ﺎ املﴪﺣﻴﺔ ،ﻓﻜﻴﻒ ﻟﻨﺎ أن ﻧﺤﺼﻞ ﻋﲆ املﺘﻌﺔ ﰲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه املﺤﺎﻛﺎة اﻟﺘﻲ ﺗﺒﻌﺚ ﻓﻴﻨﺎ اﻟﺨﻮف واﻟﺸﻔﻘﺔ إذا ﻛﺎن ﻻ ﻳﺠﺪر ﺑﻨﺎ اﻟﺸﻌﻮر ﺑﺄيﱟ ﻣﻨﻬﻤﺎ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻮاﻗﻌﻴﺔ؟ وﻗﺪ أﺛﺎر أﻓﻼﻃﻮن ﻫﺬا اﻟﺴﺆال ﻣﻦ ﻗﺒ ُﻞ دون ﺗﻘﺪﻳﻢ إﺟﺎﺑﺔ ﻟﻪ .وﻣﻦ املﻔﱰض أن ﻧﻈﺮﻳﺔ أرﺳﻄﻮ ﺣﻮل »ﺗﻄﻬري املﺸﺎﻋﺮ« ﻛﺎﻧﺖ ﺳﺘﻨﻄﻮي ﻋﲆ إﺟﺎﺑﺘﻪ ﻋﻦ ﻫﺬا اﻟﺴﺆال ،وﻟﻜﻦ ﻳﺒﺪو أن ﺟُ ﱠﻞ ﻣﻌﺎﻟﺠﺘﻪ ﻟﻬﺬه اﻟﻘﻀﻴﺔ ﻗﺪ ُﻓﻘِ ﺪ ْ َت أو ﻟﻢ ﺗُ ْﻜﺘَﺐُ ﻣﻦ اﻷﺳﺎس .وﻟﻜﻦ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ رﻏﻢ ذﻟﻚ أن ﻧﺨﻤﻦ ﺑﻌﺾ اﻷﻣﻮر ﻋﲆ أﺳﺎس ﻣﺴﺘﻨري ﺑﻬﺬا اﻟﺸﺄن. ﺗﻘﻮل أﺑﺴﻂ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت إن ﻣﺎ ﺗُ َﻘ ﱢﺪ ُﻣ ُﻪ املﴪﺣﻴﺔ اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺔ ﻫﻮ ﺗﻄﻬري ﺑﻤﻌﻨﻰ ﻃﺒﻲ زاﺋﻒ؛ ﻓﻬﻲ ﺗُ ْﺨ ِﺮجُ ﻣﺸﺎﻋﺮ اﻟﺸﻔﻘﺔ واﻟﺨﻮف ﰲ ﻓﺮاغ ﻣﺸﺒﻊ ،وﻟﻜﻦ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﻏري اﻟﻨﺎﺿﺠﺔ ﻟﻢ ﺗَ ُﻜ ْﻦ ﻟﺘُﻘﻨﻊ أرﺳﻄﻮ؛ ﻷﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻌﺘﻘﺪ أن اﻟﺘﺨﻠﺺ ﻣﻦ اﻟﺸﻔﻘﺔ واﻟﺨﻮف أﻣﺮ ﻣﺮﻏﻮب ﻓﻴﻪ ،ﻓﻬﻮ ﻳﺮى أﻧﻪ ﻣﻦ اﻟﺼﺤﻴﺢ أن ﻳﺸﻌﺮ اﻹﻧﺴﺎن ﺑﻬﺬه اﻷﻣﻮر ﰲ ﻣﻨﺎﺳﺒﺎت ﻣﻌﻴﻨﺔ ،وأن اﻟﺸﺨﺺ املﺴﺘﻘﻴﻢ ﻳﺸﻌﺮ ﺑﻬﺎ ﰲ املﻨﺎﺳﺒﺎت اﻟﺼﺤﻴﺤﺔ وﰲ اﻷوﻗﺎت اﻟﺼﺤﻴﺤﺔ؛ ﻓﺎملﺸﺎﻋﺮ ﺗﺤﺘﺎج ﻟﻠﺘﻬﺬﻳﺐ وﻟﻴﺲ ﻟﻠﻄﺮد .ورﺑﻤﺎ ﻳﺴﺘﻔﻴﺪ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﴍح أﻓﻀﻞ ملﺼﻄﻠﺢ »ﺗﻄﻬري املﺸﺎﻋﺮ« ﻣﻦ ﻣﺼﻄﻠﺢ اﻟﺘﻄﻬري وﻫﻮ أﺣﺪ املﻌﺎﻧﻲ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ اﻷﺧﺮى املﻮﺟﻮدة ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ .ﻓﺒﻤﺎ أن املﴪﺣﻴﺔ اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺔ ﻣ َ ُﺼﻤﱠ ﻤَ ٌﺔ ﻟﺘﺠﻌﻞ اﻹﻧﺴﺎن ﻳﺘﺬوﱠق ﻃﻌﻢ اﻟﺸﻔﻘﺔ ٍ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﺎ ﰲ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﻈﺮوف ا ُملﺤْ َﻜﻤَ ﺔ؛ ﻓﺒﺈﻣﻜﺎﻧﻨﺎ أن ﻧﻌﺘﱪ ﻫﺬه اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ واﻟﺨﻮف ﻣﺤﻄﺔ ﺗﻨﻘﻴﺔ ﺗﻨﻘﻲ ردود أﻓﻌﺎﻟﻨﺎ اﻟﻌﺎﻃﻔﻴﺔ ،ﻣﻦ ﺧﻼل إﻋﻄﺎﺋﻨﺎ ﺻﻮرة ﻣﺸﻮﻗﺔ ﻟﻠﻤﻤﺎرﺳﺔ 305
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺗﻮﺟﻴﻪ ﻫﺬه املﺸﺎﻋﺮ ﻧﺤﻮ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺻﺤﻴﺢ .وﻗﺪ ﻗﺎل أﺣﺪ ﺷﺎرﺣﻲ أرﺳﻄﻮ إن ﻣﺎ ﺗﺜريه ﻣﴪﺣﻴﺔ أودﻳﺐ ﻣﻦ ﺧﻮف وﺷﻔﻘﺔ: ﻗﺪ ﻳﻘﻮد إﻧﺴﺎﻧًﺎ ﺟﺒﺎﻧًﺎ إﱃ إدراك أن ﻣﺨﺎوﻓﻪ ُﻣﺒَﺎ َﻟ ٌﻎ ﻓﻴﻬﺎ ،وأن ﻣﺸﻜﻼﺗﻪ ﻟﻴﺴﺖ ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﺪرﺟﺔ ﻣﻦ اﻟﺮﻋﺐ واﻟﺘﺨﻮﻳﻒ .وﻗﺪ ﺗﺜري املﴪﺣﻴﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﰲ رﺟﻞ ﻗﻮي واﺛﻖ ﻣﻦ ﻧﻔﺴﻪ ﻳﺘﴫف ﺑﻜِﱪ وﻏﺮور ﻣﻊ اﻵﺧﺮﻳﻦ ﻓﻜﺮ َة أن أﻗﻮى ﺣﻜﺎم ِ ﻟﺸﻔﻘﺔ ﻣَ ْﻦ ﻫﻢ أﺿﻌﻒ ﻣﻨﻪ وﻣﺴﺎﻋﺪﺗﻬﻢ. اﻷرض ﻗﺪ ﻳﺤﺘﺎج ذات ﻳﻮم و ِﺑ َﻐ ﱢﺾ اﻟﻨﻈﺮ ﻋﻦ ﺷﺨﺼﻴﺎت اﻟﺠﻤﻬﻮر وﻇﺮوﻓﻬﻢ اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ،ﺳﻴﺘﻌﺮﺿﻮن ﻟ »ﺗﻄﻬري« ﺗﺮﺑﻮي ،وﺳﻴﺸﻌﺮون ﺑﻤﺘﻌﺔ ﺧﺎﺻﺔ إزاء ذﻟﻚ؛ ﻷﻧﻪ — ﻛﻤﺎ ﻳﺮى أرﺳﻄﻮ — أﻣﺮ ﻣﻤﺘﻊ ﺑﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﺎل أن ﺗﺸﺎﻫﺪ »ﻣﺸﺎﻫﺪ املﺤﺎﻛﺎة« ﺧﺎﺻﺔ إذا ﻛﺎن ﻟﻺﻧﺴﺎن أن ﻳﺘﻌﻠﻢ ﻣﻨﻬﺎ. ورﻏﻢ أن املﴪﺣﻴﺔ اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺔ اﻷرﺳﻄﻴﺔ ﻟﻴﺴﺖ ﻧﻮﻋً ﺎ ﺑﺴﻴ ً ﻄﺎ ﻣﻦ املﴪﺣﻴﺎت اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ،ﻓﻼ ﻳﻌﻨﻲ ﻫﺬا أﻧﻬﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﻣﴪﺣﻴﺔ أﺧﻼﻗﻴﺔ إﱃ ﺣَ ﱟﺪ ﻣﺎ. وﺗﺒﻘﻰ اﻵﺛﺎر اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ واﻟﻌﺎﻃﻔﻴﺔ ﻟﻸدب وﺷﻜﻞ اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﻟﻐ ًﺰا ﻣﺤريًا ﻳﺒﻌﺚ ﻋﲆ اﻟﺤﺰن؛ ﻷﻧﻨﺎ ﻻ ﻧﻤﻠﻚ ﺳﻮى ﺗﺨﻤني ﻣﺎ اﻋﺘﻘﺪه أرﺳﻄﻮ ﺑﺸﺄﻧﻬﺎ .ﻓﻠﻮ أ َ ﱠﻟ َ ﻒ أرﺳﻄﻮ ﻛﺘﺎﺑًﺎ ﻋﻦ اﻟﺴﻤﻚ اﻟﺬﻫﺒﻲ وﻓﻘﺪه ملﻸﺗﻨﺎ اﻟﺜﻘﺔ أﻧﻨﺎ ﻟﻢ ﻧﻔﻘِ ﺪ اﻟﻜﺜري ،أﻣﺎ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﺗﻨﺎوﻟﻪ ﻵﺛﺎر اﻟﺸﻌﺮ ﻓﻤﻦ اﻟﺼﻌﺐ أن ﻧﻜﻮن ﻋﲆ اﻟﻘﺪر ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻦ اﻟﻴﻘني. وﺛَﻤﱠ َﺔ ﺟﺰءٌ آﺧﺮ ﻣﻔﻘﻮد ﻣﻦ رﺳﺎﻟﺘﻪ ﺣﻮل اﻟﺸﻌﺮﻳﺔ — وﻫﻮ ﺟﺰء ﻧﻌﺘﻘﺪ ﺑﺸﻜﻞ ﺷﺒﻪ ﻳﻘﻴﻨﻲ أﻧﻪ ﻗﺪ َﻛﺘَﺒَ ُﻪ — وﻫﻮ ﻣﻌﺎﻟﺠﺘﻪ ﻟﻔﻦ اﻟﻜﻮﻣﻴﺪﻳﺎ؛ ﻓﻬﻨﺎك ﺑﻌﺾ املﺤﺎوﻻت ﻹﻋﺎدة ﺑﻨﺎﺋﻬﺎ ﺗﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ ﻣﺼﺎدر ﺛﺎﻧﻮﻳﺔ ُﻛ ِﺘﺒ َْﺖ ﰲ وﻗﺖ ﻣﺒﻜﺮ ،ﻛﻤﺎ ﻳُﻠﻘﻲ أﻣﱪﺗﻮ إﻳﻜﻮ اﻟﻀﻮء ﻋﲆ ﻫﺬا املﻮﺿﻮع ﰲ رواﻳﺘﻪ املﺜرية »اﺳﻢ اﻟﺰﻫﺮة«؛ ﺣﻴﺚ ﻳﺤﻜﻲ ﻫﺬا اﻟﻌﻤﻞ أن ﻛﺘﺎب أرﺳﻄﻮ املﻔﻘﻮد ﻋُ ِﺜ َﺮ ﻋﻠﻴﻪ ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ﻋﲆ ﻳﺪ راﻫﺐ ﺑﻨﺪﻛﺘﻲ ،وﺟﺪ أن ﻣﺤﺘﻮﻳﺎﺗﻪ ﺗﻨﻄﻮي ﻋﲆ ﻣﻌﺎن ﻣﺮوﱢﻋﺔ ﻋﻦ املﺴﻴﺤﻴﺔ؛ ﻟﺪرﺟﺔ أﻧﻪ ﻛ ﱠﺮس ﺣﻴﺎﺗﻪ اﻟﺒﺎﺋﺴﺔ ﻟﺤﻤﺎﻳﺔ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻣﻦ وﺻﻮل ٍ ُ أﻓﻜﺎر ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب إﻟﻴﻪ) .وﻷن ﻫﺬا اﻟﺮاﻫﺐ ﻛﺎن ﻳﻌﻤﻞ أﻣني ﻣﻜﺘﺒﺔ ﻓﻠﻢ ﺗﻜﻦ ﻧﻔﺴﻪ ﻟﺘﻄﺎوﻋﻪ ﻋﲆ اﻟﺘﺨ ﱡﻠﺺ ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺎب ﺣﺘﻰ اﻟﻠﺤﻈﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺤﻞ ﻓﻴﻬﺎ ﻋﻘﺪة اﻟﺪراﻣﺎ(. وﻗﺒﻞ ﺗﺪﻣري ﺟﺰء ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺎب وﺣﺮق ﺟﺰء آﺧﺮ ُﻗ ِﺮئ َ ﺟﺰء ﻣﻨﻪ ﻋﲆ املﻸ .وﰲ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﺳﺨﻴﻔﺔ ﻟﻘﻠﺐ ﻣﺎ ﻗﺎﻟﻪ أرﺳﻄﻮ ﻋﻦ اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺎ؛ ﻓﺈن ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب ﻳﺒني ﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻜﻮﻣﻴﺪﻳﺎ »أن ﺗُﻄﻬﱢ ﺮ ﻫﺬه املﺸﺎﻋﺮ ﺑﺈﺣﺪاث املﺘﻌﺔ ﺑﻤﺎ ﻫﻮ ﺳﺎﺧﺮ «.ﺛﻢ ﻳﴩع ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب ﰲ ﺗﻮﺿﻴﺢ ﻛﻴﻒ أﺻﺒﺤﺖ ﻫﺬه اﻟﺼﻮرة املﻄﺎﺑﻘﺔ ﻟﻠﱰاﺟﻴﺪﻳﺎ ﺗﺜري اﻟﻀﺤﻚ ﻣﻦ ﺧﻼل: 306
املﻌﻠﻢ اﻷول :أرﺳﻄﻮ
ﻣﻘﺎرﻧﺔ اﻷﺣﺴﻦ ﺑﺎﻷﺳﻮأ واﻟﻌﻜﺲ ،وذﻟﻚ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ إﺛﺎرة اﻟﺪﻫﺸﺔ ﻣﻦ ﺧﻼل ﻣﻮاﻗﻒ اﻟﺨﺪاع ،واملﻮاﻗﻒ املﺴﺘﺤﻴﻠﺔ ،واﻧﺘﻬﺎك ﻗﻮاﻧني اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ،وﻣﺎ ﻟﻴﺲ ﻟﻪ ﻋﻼﻗﺔ ﺑﺎﻷﻣﻮر ﻣﺤﻞ اﻟﻨﻘﺎش ،وﻣﺎ ﻫﻮ ﻏري ﻣﻨﻄﻘﻲ ،وﺗﺸﻮﻳﻪ اﻟﺸﺨﺼﻴﺎت، واﺳﺘﺨﺪام املﴪﺣﻴﺎت اﻹﻳﻤﺎﻧﻴﺔ اﻟﻜﻮﻣﻴﺪﻳﺔ اﻟﻌﺎﻣﻴﺔ ،واﻟﺘﻨﺎﻓﺮ ،واﺧﺘﻴﺎر اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﺴﺘﺤﻖ أدﻧﻰ اﻫﺘﻤﺎم. وﺛﻤﺔ ﺷﺒﻪ ﻛﺒري ﺑني اﻻﻋﱰاﺿﺎت اﻟﺘﻲ أوردﻫﺎ اﻟﻜﺎﻫﻦ وﻣﺎ ﻗﺎﻟﻪ أﻓﻼﻃﻮن ﰲ »اﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ« ﺣني ﻗﺎل إن اﻟﻀﺤﻚ ﻋﲆ املﴪﺣﻴﺎت اﻟﻜﻮﻣﻴﺪﻳﺔ ﻳﺠﻌﻠﻨﺎ ﻣﻦ اﻟﺴﺎﺧﺮﻳﻦ أﺻﺤﺎب اﻟﻌﻘﻮل اﻟﺘﺎﻓﻬﺔ وﻏري ذوي ﻗﻴﻤﺔ ،إﻻ أن اﻟﺮاﻫﺐ ﺗﺨﻄﻰ ذﻟﻚ ﻓﺎﻋﺘﻘﺪ أن اﻟﺘﺤﻠﻴﻞ ً ﻣﺜﺎﻻ ﺳﻴﺌًﺎ، اﻟﺠﺎ ﱠد ﻟﻠﻤﴪﺣﻴﺔ اﻟﻜﻮﻣﻴﺪﻳﺔ ﻛﺬﻟﻚ اﻟﺬي ﰲ ﻋﻤﻠﻪ اﻷدﺑﻲ املﺰﻋﻮم ﺳﻴﻜﻮن وﺳﺘﻜﻮن ﻟﻪ ﻋﻮاﻗﺐ اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ وﺧﻴﻤﺔ ،وﰲ ذﻟﻚ ﻳﻘﻮل: ً ﺷﺨﺼﺎ ﻣﺎ … رﻓﻊ ﺳﻼح اﻟﻜﻮﻣﻴﺪﻳﺎ ﰲ املﻮﻗﻒ اﻟﺬي ﻳﺤﺘﺎج إﱃ إذا اﻓﱰﺿﻨﺎ أن ً ً وﻧﺒﻴﻼ وﺣ ٍّﺮا ﻣﻘﺒﻮﻻ ﺳﻼح ﺟﺎ ﱟد … وإذا اﻓﱰﺿﻨﺎ أن ﻓﻦ اﻟﺴﺨﺮﻳﺔ أﺻﺒﺢ ﻳﻮﻣً ﺎ ً ﺷﺨﺼﺎ ﻣﺎ ﺟﺎء ذات ﻳﻮم ﻳﻘﻮل )وﺳﻤﻌﻪ اﻵﺧﺮون(: ﻣﺘﺤﺮ ًرا … وإذا اﻓﱰﺿﻨﺎ أن »أﻧﺎ أﺳﺨﺮ ﻣﻦ ﺗﻨﺎﺳﺦ اﻷرواح «.ﻓﻠﻦ ﻳﻜﻮن ﻟﺪﻳﻨﺎ ﻣﺎ ﻧﺤﺎرب ﺑﻪ ﻫﺬا اﻟﻜﻔﺮ … وﻗﺪ ﺑﺮر ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب ﻓﻜﺮة أن اﻟﺤﻜﻤﺔ ﺗﻜﻤﻦ ﰲ اﻟﺒﺴﺎﻃﺔ. وﻟﻜﻦ ملﺎذا اﻋﺘﻘﺪ ﻫﺬا اﻟﻜﺎﻫﻦ أن ﻛﺘﺎﺑًﺎ واﺣﺪًا ﺳﻴﻜﻮن ﻟﻪ ﻛﻞ ﻫﺬا اﻟﺘﺄﺛري اﻟﻜﺒري؟ ﻛﺘﺎب َﻛﺘَﺒَ ُﻪ ﻫﺬا اﻟﺮﺟﻞ ﺟﺰءًا اﻹﺟﺎﺑﺔ ﻫﻲ ﻷن ﻛﺎﺗﺒﻪ ﻫﻮ »اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف«؛ إذ ﻫﺪم ﻛﻞ ٍ ﺗﻌﻠﻴﻤﻴٍّﺎ ﺗَ َﺮا َﻛ َﻢ ﰲ املﺴﻴﺤﻴﺔ ﻋﲆ ﻣَ ﱢﺮ اﻟﻘﺮون .ﻟﻘﺪ ﻗﺎل ﻛﻬﻨﺔ )اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ( ﻛﻞ ﳾء ﻳﺠﺐ ﻣﻌﺮﻓﺘﻪ ﻋﻦ ﻗﻮة اﻟﻜﻠﻤﺔ … وﻟﻜﻦ ﺗﺤﻮل ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ اﻟﻠﻐﺰ اﻹﻟﻬﻲ ﻟﻠﻜﻠﻤﺔ إﱃ ﻣﺤﺎﻛﺎة ﺑﴩﻳﺔ ﻟﻠﻔﺌﺎت وأﺷﻜﺎل اﻟﻘﻴﺎسِ . ﻓﺴﻔﺮ اﻟﺘﻜﻮﻳﻦ ﻳﺮوي ﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﺠﺐ ﻣﻌﺮﻓﺘﻪ ﻋﻦ ﺗﻜﻮﻳﻦ اﻟﻜﻮن وﻛﺎن ﻛﺎﻓﻴًﺎ ﻹﻋﺎدة اﻛﺘﺸﺎف ﻛﺘﺎب »اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء« اﻟﺬي أ َ ﱠﻟ َﻔ ُﻪ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف ﻹﻋﺎدة َﻓﻬﻢ اﻟﻜﻮن ﰲ إﻃﺎر اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ املﻮاد املﻌﺘﻤﺔ واﻟﻄﻴﻨﻴﺔ … ﻗﺒﻞ ذﻟﻚُ ،ﻛﻨﱠﺎ ﻧﻨﻈﺮ إﱃ اﻟﺴﻤﺎء ﺑﻌني اﻹﺟﻼل واﻟﻮﻗﺎر وﻧﻨﻈﺮ ﺷﺰ ًرا إﱃ اﻟﻄني، أﻣﺎ اﻵن ﻓﻨﻨﻈﺮ إﱃ اﻷرض … ﻓﻜﻞ ﻛﻠﻤﺔ ﻗﺎﻟﻬﺎ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف ،واﻟﺬي ﻳﻘﺴﻢ ﺑﻪ اﻵن اﻟﻘﺴﺎوﺳﺔ واﻷﻧﺒﻴﺎء ،ﻗﻠﺒﺖ ﺻﻮرة اﻟﻌﺎﻟﻢ. 307
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﱢ وﻣﺘﺤﻔﻆ ﻣﻤﻦ ﻋﺎﺷﻮا ﰲ أواﺧﺮ ﻗﺪ ﻳﻜﻮن ﻫﺬا ﻣﻦ وﺟﻬﺔ ﻧﻈﺮ ﺷﺨﺺ ﻣﺴﻴﺤﻲ ﺿﻴﻖ اﻷﻓﻖ ً ﺗﻠﺨﻴﺼﺎ ﺟﻴﺪًا ﻟﺒﻌﺾ آﺛﺎر أرﺳﻄﻮ ﻋﲆ اﻟﻔﻜﺮ اﻟﻐﺮﺑﻲ .وﺑﻌﺪ إﻋﺎدة اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ً ُ اﻛﺘﺸﺎف أﻋﻤﺎﻟﻪ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻋﴩ ،وﻗﺒﻞ أن ﺗﺠﺪ املﺴﻴﺤﻴﺔ ﻃ ُﺮﻗﺎ ﻻﺳﺘﻴﻌﺎﺑﻬﺎ وﻓﻬﻤﻬﺎ ني ﱠ ﺟﻴﺪًا ﻛﺎن ﻳُﻨ ْ َ اﻟﺸ ﱢﻚ وأﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗُﺤَ ﱠﺮمُ .ﻟﻘﺪ داﻓﻊ أرﺳﻄﻮ ﻋﻦ املﻨﻄﻖ ﻈ ُﺮ إﻟﻴﻬﺎ ﺑﻌَ ْ ِ َان اﻹﻳﻤﺎن اﻷﻋﻤﻰ؛ ﻓﻘﺪ داﻓﻊ ﻋﻦ دراﺳﺔ اﻷﺷﻴﺎء اﻷرﺿﻴﺔ اﻟﺘﻲ واﻟﻌﻘﻼﻧﻴﺔ اﻟﻠﺬَﻳ ِْﻦ ﻛﺎﻧﺎ ﻳُﻬَ ﱢﺪد ِ ﺗُﺸﺘﱢﺖ ذﻫﻦ اﻹﻧﺴﺎن ﻋﻦ اﻟﺘﻔﻜري ﰲ اﻟﺴﻤﺎء واﻟﺘﻔ ﱡﻜﺮ ﻓﻴﻬﺎ .وﻳﺴﺘﺄﻧﻒ اﻟﺮاﻫﺐ ﺣﺪﻳﺜﻪ ً ﻗﺎﺋﻼ: »ﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳﻨﺠﺢ ﰲ اﻹﻃﺎﺣﺔ ﺑﺼﻮرة اﻟﺮب ،ﻓﻠﻮ أﺻﺒﺢ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب … ﻣﺘﺎﺣً ﺎ ﻟﻠﺘﻔﺴري اﻟﻌﺎم ﻟ ُﻜﻨﱠﺎ ﻗﺪ ﺗﺨﻄﻴﻨﺎ اﻟﺤﺎﺟﺰ اﻷﺧري «.وﻫﺬا ﻳﻌﻨﻲ أﻧﻪ إذا أَو َْﱃ املﻔﻜﺮون ﻛﺜريًا ﻣﻦ اﻻﻫﺘﻤﺎم ﻟﻬﺬا اﻟﻌﻤﻞ ﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل ﻣﻊ ﺳﺎﺋﺮ أﻋﻤﺎل أرﺳﻄﻮ إذن ﻟﻌَ ﻤﱠ ﺖ اﻟﻔﻮﴇ واﻻﺳﺘﻬﺘﺎر اﻟﻌﺎﻟ َﻢ ﺑﺄﴎه ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻻ ﻳﺘﻔﻖ ﻣﻊ ﻓﻜﺮة إﻟﻪ املﺴﻴﺤﻴﺔ .ﻻ رﻳﺐ أن ﻫﺬا ﻣﺤﺾ ﺧﻴﺎل .وﻳﺼﻌﺐ أن ﻳﺘﻘﺒﻞ املﺮء أن ﻳﻜﻮن ﻟﻌﻤﻞ واﺣﺪ ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻷﺛﺮ اﻟﻌﻈﻴﻢ إﻻ ﻟﻮ ﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﻌﻤﻞ ﻣﻦ أﻋﻤﺎل أرﺳﻄﻮ ذاﺗﻪ.
308
اﳉﺰء اﻟﺜﺎﻟﺚ
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻟﺚ ﻋﴩ
اﻟ ﱡ اﻟﺴ ِﻜﻴﻨﺔ :اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ ﻄﺮق اﻟﺜﻼث إﱃ ﱠ واﻟﺮواﻗﻴﺔ واﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ
ﺗُﻮ ﱢُﰲ َ أرﺳﻄﻮ ﺑﻌﺪ ﻋﺎم واﺣﺪ ﻣﻦ وﻓﺎة ﺗﻠﻤﻴﺬه اﻹﺳﻜﻨﺪر اﻷﻛﱪ .وﺑﺤﺴﺐ اﻻﻋﺘﻘﺎد اﻟﺴﺎﺋﺪ َ ﺑﺪاﻳﺔ ﻓﺼﻞ ﺟﺪﻳﺪ ﰲ اﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻟﻘﺪﻳﻢ وﻫﻮ »اﻟﻌﴫ ﻓﺈن وﻓﺎة اﻹﺳﻜﻨﺪر ﻋﺎم ٣٢٣ق.م ﺗُﻌَ ﱡﺪ ُﴤ ﻧﺤﻮ ﺛﻼﺛﻤﺎﺋﺔ ﻋﺎم ﻣﻦ ﺑﺰوغ ﻫﺬا اﻟﻌﴫ ﺟﺎءت ﻧﻬﺎﻳﺘﻪ ﺑﻮﻓﺎة اﻟﻬﻴﻠﻴﻨﻲ« .وﺑﻌﺪ ﻣ ِ ﱢ ﻛﻠﻴﻮﺑﺎﺗﺮاَ ، وﺿ ﱢﻢ ﻣﴫ إﱃ اﻹﻣﱪاﻃﻮرﻳﺔ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻗﺎﻣﺖ ﺑﻌﺪ أﻓﻮل اﻹﻣﱪاﻃﻮرﻳﺔ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ .وﺗﺘﻤﺜﻞ إﻧﺠﺎزات اﻹﺳﻜﻨﺪر ﰲ أﻧﻪ اﺳﺘﻄﺎع أن ﻳﺼﻞ ﺑﺎﻟﺤﻀﺎرة اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ إﱃ أﻗﺎﻟﻴﻢ ﻧﺎﺋﻴﺔ — ﻣﺜﻞ ﻣﴫ ﺟﻨﻮﺑًﺎ واﻟﻬﻨﺪ ً ﴍﻗﺎ — ﺧﻼل ﻓﱰة ﻋﻨﻔﻮان ﻗﻮاﻣﻬﺎ ﻋﴩة أﻋﻮام. وﺗﻮﰲ اﻹﺳﻜﻨﺪر اﻷﻛﱪ ﺑﻌﺪ أن أﻗﺎم إﻣﱪاﻃﻮرﻳﺔ ﻣﱰاﻣﻴﺔ اﻷﻃﺮاف ﺧﻼل ﻓﱰة وﺟﻴﺰة ﺟﺪٍّا؛ ﺑﺤﻴﺚ ﻛﺎن ﻣﻦ اﻟﺼﻌﺐ اﻟﺤﻔﺎظ ﻋﲆ وﺣﺪة ﺗﻠﻚ اﻹﻣﱪاﻃﻮرﻳﺔ ،ﺧﺎﺻﺔ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﱰك ﺧﻠﻴﻔﺔ ﻟﻪ ﰲ اﻟﺤﻜﻢ .وﺑﺬﻟﻚ ﺗﻤ ﱠﺰﻗﺖ اﻹﻣﱪاﻃﻮرﻳﺔ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ ﺣﺪﻳﺜﺔ اﻟﺘﻜﻮﻳﻦ إﱃ ﻣﻤﺎﻟ َﻚ ﻣﺘﻔﺮﻗﺔ اﺳﺘﺄﺛﺮ ﺑﻬﺎ اﻟﻘﺎد ُة اﻟﻌﺴﻜﺮﻳﻮن ﰲ زﻣﻦ اﻹﺳﻜﻨﺪر )وﻛﺎﻧﺖ ﻛﻠﻴﻮﺑﺎﺗﺮا ﻫﻲ آﺧﺮ ﺣﻜﺎم ﺗﻠﻚ اﻟﺴﻼﻟﺔ اﻟﺘﻲ ﺑﺪأت ﺑﺒﻄﻠﻴﻤﻮس أﺣﺪ رﺟﺎل اﻹﺳﻜﻨﺪر( .وﻧﻈ ًﺮا ﻟﻼﻧﺘﺸﺎر اﻟﻀﺌﻴﻞ ﻟﻠﺜﻘﺎﻓﺔ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ ﻋﲆ ﺗﻠﻚ اﻟﺮﻗﻌﺔ اﻟﺸﺎﺳﻌﺔ ﻣﻦ اﻷرض ،ﻓﻘﺪ اﻧﺼﻬﺮت — دون َﺷ ﱟﻚ — ﻣﻊ أﻓﻜﺎر ودﻳﺎﻧﺎت أﺟﻨﺒﻴﺔ .ﻓﻘﺪ ﺻﺎر اﻟﻌﺎ َﻟﻢ اﻟﺬي ﻫﻴﻤﻦ ﻋﻠﻴﻪ اﻹﺳﻜﻨﺪر ﻫﻴﻠﻴﻨﺴﺘﻴٍّﺎ وﻟﻴﺲ ﻫﻴﻠﻴﻨﻴٍّﺎ؛ أي إﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﻮﻧﺎﻧﻴٍّﺎ ِﴏ ًﻓﺎ .ﻓﻠﻢ ﺗﻌُ ﺪ أﺛﻴﻨﺎ ﻣﺮﻛﺰ اﻟﺨﺮﻳﻄﺔ اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ؛ إذ ﻧﺎﻓﺴﺘﻬﺎ ﻣﺮاﻛﺰ ﺛﻘﺎﻓﻴﺔ أﺧﺮى ﻛﺎﻹﺳﻜﻨﺪرﻳﺔ ﰲ ﻣﴫ وأﻧﻄﺎﻛﻴﺔ ﺑﺴﻮرﻳﺎ وﻣﺪﻳﻨﺔ ﺑريﺟﺎﻣﻮن ﺑﺂﺳﻴﺎ اﻟﺼﻐﺮى ُﻨﺎزع ﺣﺘﻰ ﺛﻢ ﻣﺪﻳﻨﺔ رودس اﻟﻮاﻗﻌﺔ ﴍﻗﻲ ﺑﺤﺮ إﻳﺠﺔ .ﻇ ﱠﻠﺖ أﺛﻴﻨﺎ ﻋﺎﺻﻤﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ دون ﻣ ِ ﱡ اﻟﺘﻐريات؛ ﻧﻈ ًﺮا ﻟﺘﺰاﻳﺪ اﻹﻗﺒﺎل اﻟﻌﺼﻮر املﺴﻴﺤﻴﺔ ،إﻻ أن اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ذاﺗﻬﺎ ﻃﺮأت ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑﻌﺾ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﻦ أﺑﻨﺎء اﻟﺤﻀﺎرات املﺨﺘﻠﻔﺔ؛ ﻣﻤﱠ ﺎ اﺳﺘﻠﺰم ﻣﻦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ أن ﺗُ َﻠﺒﱢﻲ ﺣﺎﺟﺎﺗﻬﻢ .وﺑﺬﻟﻚ
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ً ﺧﺼﻮﺻﺎ ﻛﻤﺎ ﰲ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﻓﺈن اﻟﻌﴫ اﻟﻬﻴﻠﻴﻨﺴﺘﻲ ﻗﺪ أدى إﱃ ﺑﺰوغ ﻋﻬﺪ ﺟﺪﻳﺪ ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻋﻤﻮﻣً ﺎ. ﻧُﻈﺮ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻷﻳﺎم ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ ﺳﺒﻴ َﻞ اﻟﺮﺷﺎد ﰲ اﻟﺤﻴﺎة وﻣﺼﺪ ًرا ﻟﻠﺮاﺣﺔ واﻟﺴﻠﻮى ،ﺣﻴﺚ ﻳﻘﻮل أﺑﻴﻘﻮر: إن اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﺸﻔﻲ آﻻم اﻟﺒﴩﻳﺔ ﻫﻲ ﻣﺤﺾ ﻫﺒﺎء .ﻓﺎﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ ً ﻣﺮﻳﻀﺎ وﻻ ﻳﺸﻔﻲ ﺗﱪئ اﻟ ﱡﺮوح ﻣﻦ ﻣﻌﺎﻧﺎﺗﻬﺎ ،ﻻ ﺗﺨﺘﻠﻒ ﻋﻦ ﻃﺐ ﻻ ﻳﺪاوي ً ﻋﻠﻴﻼ. ﻫﻜﺬا ﺗﺤﺪﱠث أﺑﻴﻘﻮر )٢٧١–٣٤١ق.م( أﺣﺪ أﺷﻬﺮ ﻓﻼﺳﻔﺔ اﻟﻌﴫ اﻟﻬﻴﻠﻴﻨﺴﺘﻲ اﻟﺤﺪﻳﺚ. وﻗﺪ ﻛﺎن ﺧﻄﺎﺑﻪ ﰲ ﻫﺬه اﻟﻌﺒﺎرة ﺗﺤﺪﻳﺪًا ﱢ ﻣﻌﱪًا ﻋﻦ ﻓﻼﺳﻔﺔ اﻟﻌﴫ ﺟﻤﻴﻌﻬﻢ .ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك َ ﻣﺪارس ﻓﻜﺮﻳﺔ ﺳﺎﺋﺪة وﻗﺘﺬاك ﻫﻲ :اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ واﻟﺮواﻗﻴﺔ واﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ .وﻟﻠﺘﻔﺮﻳﻖ ﺑني ﺛﻼث ﻫﺬه املﺪارس ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﻌﻤﻮم ﻳﻤﻜﻦ اﻟﻘﻮل إن اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳني إذا اﺗﱠﺨﺬوا ﻣﺴﻠ ًﻜﺎ أو رأﻳًﺎ ﻣﻌﻴﻨًﺎ ،اﺗﺨﺬ اﻟﺮواﻗﻴﻮن ﺿﺪه .أﻣﺎ ﻋﻦ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴني ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺮﻓﻀﻮن اﺗﱢﺒَﺎع أيﱟ ﻣﻦ املﻨﻬﺠني .ورﻏﻢ ﻫﺬا ،ﻇﻞ ﻫﻨﺎك ﻣﺎ ﻳﺘﱠﻔِ ُﻘﻮن ﺣﻮﻟﻪ ،وﻫﻮ اﻋﺘﻘﺎدﻫﻢ أن اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﱞ ﻓﻦ ﻏﺮﺿﻪ ﺗﺤﻘﻴﻖ اﻟﺸﻔﺎء اﻟ ﱡﺮوﺣﻲ وﻟﻴﺲ ﻣﺤﺾ ﻣﻠﻬﺎة ﻳﻘﴤ ﺑﻬﺎ اﻟﺤﺎذﻗﻮن أوﻗﺎت اﻟﻔﺮاغ. اﻛﺘﺴﺐ اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﻮن واﻟﺮواﻗﻴﻮن ﺷﻌﺒﻴﺔ ﻟﻢ ﺗَﺤْ َ ﻆ ﺑﻬﺎ ﻣﺬاﻫﺐ أﻓﻼﻃﻮن وأرﺳﻄﻮ ﱠ اﻟﺠﺎﻓﺔ .واﺳﺘﻤﺮت املﺪارس اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ واﻷرﺳﻄﻴﺔ ﺧﻼل اﻟﻌﴫ اﻟﻬﻴﻠﻴﻨﺴﺘﻲ ﰲ اﻟﺒﺤﺚ أو اﻟﺘﺪرﻳﺲ ﻟﺼﻔﻮة املﺠﺘﻤﻊ ،وﻛﺎن ﻟﺪﻳﻬﻢ ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻣﺎ ﻳﻌني اﻟﻨﺎس ﻋﲆ ﺣﻴﺎﺗﻬﻢ ،ﻟﻜﻨﻬﻢ ﻟﻢ َﴪو ُه ﻟﻠﻌﻮام؛ ﺑﺤﻴﺚ ﻳَﺴﻬُ ﻞ َﻓﻬﻤﻪ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﺗﻄﺒﻴﻘﻪ .ﻋﲆ اﻟﻨﻘﻴﺾ ،ﻛﺎن ﻓﻼﺳﻔﺔ اﻟﺤﻘﺒﺔ ﻳُﻴ ﱢ ُ ً اﻟﻬﻴﻠﻴﻨﺴﺘﻴﺔ اﻟﺠُ ﺪُد ﻗﺪ ﻧﺎﻟﻮا ﻗﺴﻄﺎ واﻓ ًﺮا ﻣﻦ اﻟﺸﻌﺒﻴﺔ ،وﻫﻮ ﻣﺎ دﻓﻊ ﺑﻌﺾ اﻟﻨﻘﺎد إﱃ وﺻﻒ ﺗﻌﺎﻟﻴﻤﻬﻢ ﺑﺎﻟﺒﺴﺎﻃﺔ ا ُملﻌِ ﻴﻨﺔ ﻋﲆ اﻟﻔﻬﻢ .وﻗﺪ ﻛﺘﺐ ﺷﻴﴩون — وﻫﻮ ﺧﻄﻴﺐ ورﺟﻞ دوﻟﺔ روﻣﺎﻧﻲ ﻛﺎن ﻳﻤﻴﻞ إﱃ ﻣﺪرﺳﺔ أﻓﻼﻃﻮن ذات اﻟﻄﺎﺑﻊ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻲ — ً ﻗﺎﺋﻼ إن ﻛﻮن اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ »ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﺪرﺟﺔ ﻣﻦ اﻟﻴُﴪ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻌﻮام« ﻳُﺜﺒﺖ ﻣﺪى ﺗﻔﺎﻫﺘﻬﺎ وﻋﺪم ﻣﻨﻄﻘﻴﺘﻬﺎ .إﻻ أن ﻛﺜريًا ﻣﻦ أﻫﻞ أﺛﻴﻨﺎ ﻟﻢ ﻳﻨﻈﺮوا إﻟﻴﻬﺎ ﻫﻜﺬا .ﻓﻘﺪ ﻧﺎل ﻫﺆﻻء اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﺗﻠﻚ اﻟﺸﻬﺮة ﻟﻘﺪرﺗﻬﻢ ﻋﲆ ﺗﻔﺴري اﻟﺤﻴﺎة ﺗﻔﺴريًا ﺟﻠﻴٍّﺎ ﻣﻤﺎ ﺟﺬب اﻟﻌﺎﻣﺔ إﻟﻴﻬﻢ ،ﻛﻤﺎ ﻳﻈﻬﺮ ﰲ ﻣﺮاﺳﻢ ﺗﺸﻴﻴﻊ ﺟﺜﺎﻣﻴﻨﻬﻢ. وﺗَﺪﻳﻦ ﻫﺬه املﺪارس اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﻟﺴﻘﺮاط أﻛﺜﺮ ﻣﻤﱠ ﺎ ﺗﺪﻳﻦ ﻷﻓﻼﻃﻮن وأرﺳﻄﻮ. ﻓﺴﻘﺮاط ﻫﻮ ﻣﻦ أﺷﺎر إﱃ أﻫﻤﻴﺔ اﻟﺘﻄﺒﻴﻖ اﻟﻌﻤﲇ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ ،ﺣﻴﺚ ﻛﺎن ﻳﺮى أن اﻟﻬﺪف ﻣﻦ 312
اﻟ ﱡ ﻄﺮق اﻟﺜﻼث إﱃ ﱠ اﻟﺴﻜِﻴﻨﺔ :اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ واﻟﺮواﻗﻴﺔ واﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻫﻮ ﺗﻐﻴري أوﻟﻮﻳﺎت اﻟﻔﺮد ﰲ اﻟﺤﻴﺎة وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﺗﻐﻴري ﺣﻴﺎﺗﻪ ذاﺗﻬﺎ .ﻓﻌﻤﻠﺖ املﺪارس اﻟﻬﻴﻠﻴﻨﺴﺘﻴﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﻋﲆ ﺗﺤﻘﻴﻖ ﻫﺬا اﻟﻮﻋﺪ اﻟﺴﻘﺮاﻃﻲ وﺗﻄﺒﻴﻘﻪ .وزﻋﻤﻮا أن ﺑﺈﻣﻜﺎﻧﻬﻢ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ ﺣﺎﻟﺔ اﻟﺼﻔﺎء اﻟﺬﻫﻨﻲ واﻟﺴﻜﻴﻨﺔ اﻟﻨﻔﺴﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻟﺪى ﺳﻘﺮاط ﻧﻔﺴﻪ. ﻟﻜﻨﻬﻢ ﻋﺪﱠﻟﻮا ﰲ أﻓﻜﺎر ﺳﻘﺮاط ﻟﺘﻼﺋﻢ اﻟﺒﺤﺚ ﰲ أﻋﻤﺎق اﻟﻨﻔﺲ .ﻓﺮﻏﻢ أن ﺳﻘﺮاط ﻛﺎن ﱠ ﻳﺘﺤﲆ ﺑﺎﻟﻬﺪوء ﰲ وﻗﺖ اﻟﺸﺪة ،ﻓﻠﻢ ﻳﺪ ِﱠع ﻳﻮﻣً ﺎ أن ﻫﺬه اﻟﺴﻜﻴﻨﺔ ﻫﻲ اﻟﻬﺪف ﻣﻦ اﻟﺤﻴﺎة. أﻣﺎ اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﻮن واﻟﺮواﻗﻴﻮن واﻟﺸﻜﻮﻛﻴﻮن ﻓﻜﺎن ﺣﺪﻳﺜﻬﻢ ﻳﺴﻌﻰ إﱃ إﺛﺒﺎت أن اﻟﻮﺻﻮل إﱃ ﺣﺎﻟﺔ اﻟﺴﻜﻴﻨﺔ واﻟﺼﻔﺎء ﻫﻮ اﻟﻬﺪف ﻣﻦ اﻟﺤﻴﺎة .وﻛﺎﻧﻮا ﻳُﺜﻨﻮن أﺷﺪ اﻟﺜﻨﺎء ﻋﲆ ﺣﺎﻟﺔ اﻟﺴﻜﻴﻨﺔ اﻟﺘﻲ ﺗُﺤ ﱢﺮر اﻹﻧﺴﺎن ﻣﻦ اﻻﺿﻄﺮاب واﻟﻘﻠﻖ ،وﻳَ َﺮو َْن أن ﻫﺬه ﻫﻲ اﻟﺤﺎﻟﺔ املﺜﺎﻟﻴﺔ ً ﺳﺎﺑﻘﺎ إن اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺼﺎﻟﺢ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن اﻟﺘﻲ ﻳﺠﺐ أن ﺗﻜﻮن اﻟﻌﻘﻮل ﻋﻠﻴﻬﺎ .ﻗﺎل ﺳﻘﺮاط ﻳﻠﺤﻖ ﺑﻪ اﻷذى؛ ﻷن اﻷذى اﻟﻮﺣﻴﺪ اﻟﺬي ﻳ َ ُﺆﺧﺬ ﰲ اﻻﻋﺘﺒﺎر ﻫﻮ ذﻟﻚ اﻟﺬي ﻳﺼﻴﺐ ﺑﻪ املﺮء ﻧﻔﺴﻪ ﺑﺘﺤﻮﱡﻟﻪ إﱃ ﺷﺨﺺ ﻃﺎﻟﺢ .إﻻ أن ﻓﻼﺳﻔﺔ اﻟﻌﴫ اﻟﻬﻴﻠﻴﻨﺴﺘﻲ ﻋﺪﱠﻟﻮا ﻣﻦ اﻟﻔﻜﺮة ﺑﻌﺾ اﻟﴚء ﻗﺎﺋﻠني إن اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺤﻜﻴﻢ ﻻ ﻳﺠﻌﻞ ﻧﻔﺴﻪ ﻋُ ﺮﺿﺔ ﻟﻼﺿﻄﺮاب؛ ﻷن ﻣﻔﺘﺎح اﻟﺤﻜﻤﺔ ﻫﻮ ﺗﺠﺎﻫﻞ اﻷﻣﻮر اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﺴﺘﺤﻖ اﻻﻛﱰاث. أﴍﻧﺎ ً ً آﻧﻔﺎ إﱃ أﻧﻪ ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﻛﻮن ﺳﻘﺮاط رﺟﻼ ﺻﺎﺣﺐ رﺳﺎﻟﺔ ،إﻻ أن ﻫﻨﺎك ً ﻣﺠﺎﻻ ﻟﻠﺠﺪل ﺑﺸﺄن ﻣﻀﻤﻮن ﻫﺬه اﻟﺮﺳﺎﻟﺔ )اﻧﻈﺮ اﻟﻔﺼﻞ اﻟﻌﺎﴍ( .ﻓﻘﺪ اﺳﺘﻘﻰ ﻛ ﱞﻞ ﻣﻦ أرﺳﻄﻴﺒﻮس وأﻧﺘﻴﺴﺘﻨﻴﺲ ﻓﻠﺴﻔﺘﻴﻬﻤﺎ ﺑﺸﻜﻞ واﺿﺢ ﻣﻦ ﻛﻼم ﻣﻌﻠﻤﻬﻤﺎ ﺳﻘﺮاط وﺣﻴﺎﺗﻪ. ﻛﺎن أرﺳﻄﻴﺒﻮس — ﻋﺎﺷﻖ اﻟﻠﺬة — راﺋﺪًا ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ ،ﰲ ﺣني ﻛﺎن أﻧﺘﻴﺴﺘﻨﻴﺲ — ذﻟﻚ اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺰاﻫﺪ املﺘﻘﺸﻒ — راﺋﺪًا ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺮواﻗﻴﺔ .وﻟﺬا ﻓﻜﻠﺘﺎ املﺪرﺳﺘني ﺗﺪﺧﻼن ﰲ إﻃﺎر اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺴﻘﺮاﻃﻴﺔ ﺑﺸﻜﻞ أو ﺑﺂﺧﺮ .وﻳﻨﻄﺒﻖ اﻷﻣﺮ ذاﺗﻪ ﻋﲆ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴني؛ ﺣﻴﺚ ﻛﺎن ﺳﻘﺮاط ﻳﺮدﱢد داﺋﻤً ﺎ أﻧﻪ ﻻ ﻳﻌﺮف ﺷﻴﺌًﺎ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق .ورﻏﻢ أﻧﻪ ﻳﺴﺘﺨﺪم ﻫﺬه اﻟﻌﺒﺎرة ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺠﺎز ﻓﻘﺪ ﺣﻤﻞ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﻮن اﻟﻌﺒﺎرة ﻋﲆ ﻣﻌﻨﺎﻫﺎ اﻟﺤﺮﰲ .وﻛﺎن ﺳﻘﺮاط ﻳَﻄﺮحُ ﻛﻞ ﻣﺴﺄﻟﺔ أﺧﻼﻗﻴﺔ ﺗﻌﱰﺿﻪ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة ﻋﲆ ﻃﺎوﻟﺔ اﻟﺒﺤﺚ ،وﻗﺪ ﺳﻠﻚ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﻮن ﻣﺴﻠﻜﻪ، وﻟﻜﻨﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﻘِﻔﻮا ﰲ ﺑﺤﺜﻬﻢ ﻋﻨﺪ ﺣﺪ ﻣﺴﺎﺋﻞ اﻷﺧﻼق ﻓﻘﻂ. ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه املﺪارس اﻟﻬﻴﻠﻴﻨﺴﺘﻴﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة ﺗﻌﻤﻞ ﻋﲆ ﻧﻄﺎق أوﺳﻊ ﻣﻦ ﻣﺪرﺳﺔ ﺳﻘﺮاط، ً اﻧﻌﻜﺎﺳﺎ ﻟﻼﻫﺘﻤﺎﻣﺎت املﺤﺪودة ﻟﻔﻠﺴﻔﺔ وﻟﻜﻦ اﻷوﻟﻮﻳﺎت املﺤﺪودة اﻟﺘﻲ ﺷﻐﻠﺘﻬﻢ ﻛﺎﻧﺖ ﺳﻘﺮاط .ﻓﺴﻘﺮاط ﻟﻢ ﻳَ ُﻚ ﻳﻌﺒﺄ ﺑﺎملﺴﺎﺋﻞ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ .ﻛﻤﺎ ﻟﻢ ﻳﻬﺘﻢ ﺑﻘﻀﺎﻳﺎ املﻨﻄﻖ أو املﻌﺮﻓﺔ أو اﻟﻌﻘﻞ أو أيﱟ ﻣﻦ املﺴﺎﺋﻞ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗُ َ ﻨﺎﻗﺶ وﺗُﺪ ﱠرس ﰲ املﺪارس اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ واﻷرﺳﻄﻴﺔ .ﻓﺎﻟﻘﻀﻴﺔ اﻷﻫﻢ اﻟﺘﻲ ﺷﻐﻠﺖ ﺳﻘﺮاط ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ا ُملﺜﲆ ﻟﻠﺤﻴﺎة .ورﻏﻢ 313
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
اﻫﺘﻤﺎم اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳني واﻟﺮواﻗﻴني واﻟﺸﻜﻮﻛﻴني ﺑﻜﻞ اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﻓﺘﺤﻘﻴﻖ اﻟﺴﻌﺎدة ﰲ اﻟﺤﻴﺎة ﻛﺎن ﻫﻮ ﻫﺪﻓﻬﻢ ﻣﻦ دراﺳﺔ ﻫﺬه اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ واﻟﺒﺤﺚ ﻓﻴﻬﺎ .وﺑﺬﻟﻚ اﺣﺘ ﱠﻠﺖ ﻗﻀﺎﻳﺎ ﻣﻜﺎﻧﺔ ﺛﺎﻧﻮﻳﺔ ﻣﻘﺎ َر ً ً ﻧﺔ ﺑﺎﻟﻘﻀﺎﻳﺎ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ﻛﻤﺎ ﻛﺎن اﻟﺤﺎل ﻟﺪى ﺳﻘﺮاط .ﻓﺮﻏﻢ أن اﻟﺤﻜﻤﺔ اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳني واﻟﺮواﻗﻴني ﻃﺮﺣﻮا ﻧﻈﺮﻳﺎت ﺣﻮل أﻣﻮر ﺷﺘﻰ ،ورﻏﻢ أن اﻟﺸﻜﻮﻛﻴني ﻗﺪ ﺗﻜﻠﻤﻮا ﰲ ﻛﻞ ﻣﺴﺄﻟﺔ ﺗَﻌِ ﱡﻦ ﻟﻬﻢ ،ﻓﺈﻧﻬﻢ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ﻣﺸﱰﻛﻮن ﰲ وﺟﻮد دواﻓﻊ ﻣُﻀﻤَ ﺮة ﺧﻠﻒ أﺑﺤﺎﺛﻬﻢ ﺗﻬﺪف إﱃ املﻌﺎﻟﺠﺔ اﻟ ﱡﺮوﺣﻴﺔ ﻟﻠﺒﴩ. اﻋﺘﻘﺪ اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﻮن أن اﻟﻘﻀﻴﺔ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻟﻠﺒﺤﺚ ﺗﺘﻤﺜﻞ ﰲ اﻟﻘﻀﺎء ﻋﲆ ﻛﻞ اﻻﻋﺘﻘﺎدات اﻟﺨﺎﻃﺌﺔ .ﻓﻈﻨﻮا أن اﻟﺨﻮف اﻟﻼﻋﻘﻼﻧﻲ ﻣﻦ أﻫﻢ اﻟﻌﻘﺒﺎت ﰲ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺴﻌﺎدة ،وأن اﻟﻌﻼج اﻷﻧﺠﻊ ﻟﻬﺬا اﻟﺨﻮف ﻳﻜﻤُﻦ ﰲ ﻗﺪر ﻣﻌﻘﻮل ﻣﻦ اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء وﺑﻌﺾ اﻟﺘﺪرﻳﺒﺎت املﻨﻄﻘﻴﺔ .ﻓﺮأوا أن ﻓﻜﺮﺗﻬﻢ — ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل — اﻟﺘﻲ ﺗﺰﻋﻢ أن اﻟﻌﻘﻞ ﻳﺘﻜﻮﱠن ﻣﻦ ذَ ﱠرات ﺗﺘﻨﺎﺛﺮ ﻣﻊ ﺧﺮوج اﻟ ﱡﺮوح ﻣﻦ اﻟﺠﺴﺪ ﺗﺴﺎﻋﺪ ﻋﲆ اﻟﺘﺨﻠﺺ ﻣﻦ اﻟﺨﻮف ﻣﻦ املﻮت؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ اﻻﺳﺘﻤﺘﺎع ﺑﺎﻟﺤﻴﺎة .أﻣﺎ اﻟﺮواﻗﻴﻮن ﻓﻘﺎﻟﻮا إن اﻟﻘﻀﻴﺔ ﻛﻠﻬﺎ ﺗﺘﻠﺨﺺ ﰲ ﻣﺴﺎﻋﺪة اﻹﻧﺴﺎن ﻋﲆ اﻟﺤﻴﺎة »ﰲ وﻓﺎق ﻣﻊ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ« ،وﻫﻨﺎ ﻳﻜﻤُﻦ ﻣﻔﺘﺎح اﻟﺴﻌﺎدة ﰲ ﻧﻈﺮﻫﻢ .وﻣﻦ املﺴﺘﺤﻴﻞ أن ﻳﺤﻴﺎ اﻹﻧﺴﺎن ﺣﻴﺎة ﻛﻬﺬه دون أن ﻳﻔﻬﻢ ﺣﻘﺎﺋﻖ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ .ﻓﻌﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ،ﻳﺆﻣﻦ اﻟﺮواﻗﻴﻮن أن اﻷﻣﻮر ﻛﻠﻬﺎ ﺗﺨﻀﻊ ﻟﻠﻘﺪَر ،وأن اﻟﺘﺴﻠﻴﻢ ﺑﻬﺬه اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻣﻦ ﺷﺄﻧﻪ أن ﻳُﻔﴤ إﱃ ﺳﻠﻮك اﻟﺮﺿﺎ واﻟﺘﺴﻠﻴﻢ .وﻟﺬا ﻛﺎن ﻋﻠﻴﻬﻢ أن ﻳﺨﻮﺿﻮا ﰲ ﻣﺴﺎﺋ َﻞ ﻋﻠﻤﻴﺔ ﻣﺘﻨﻮﻋﺔ ﻹﺛﺒﺎت أن ﻛﻞ ﳾء ﺧﺎﺿﻊ ﻟﻠﻘﺪر .أﻣﺎ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﻮن ،ﻓﻘﺪ رأَوْا أن اﻟﻐﺮض ﻣﻦ اﻟﺒﺤﺚ ﻫﻮ اﻟﺘﻮﻗﻒ ﻋﻦ إﺻﺪار أﺣﻜﺎم ﺑﺸﺄن اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ املﺨﺘﻠﻔﺔ؛ وذﻟﻚ ﻟﺘﺠﻨﺐ اﻟﻘﻠﻖ ﺑﺸﺄﻧﻬﺎ .وﰲ ﺳﺒﻴﻞ ذﻟﻚ ﻗﺎﻟﻮا إﻧﻪ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﺸﺨﺺ اﻟﻮاﺣﺪ أن ﻳﺘﱠﺨﺬ ﻃﺮﰲ اﻟﺠﺪال ﺣﻮل ﻣﺴﺄﻟﺔ ﻣﺎ .وﺑﻤﺎ أن ذﻟﻚ ﻟﻴﺲ ﺑﺎﻷﻣﺮ ﱢ اﻟﻬني ﻛﺸﺄن ﻏريﻫﻢ. ﻓﻘﺪ اﻧﻬﻤﻚ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﻮن ﰲ ﺑﺤﺚ املﺴﺎﺋﻞ اﻟﻔﻜﺮﻳﺔ واﻟﺨﻮض ﻓﻴﻬﺎ ﺷﺄﻧﻬﻢ ِ ﻓﺄﺳﻔﺮ ﻫﺬا ﻋﻦ ﻟﺠﻮء املﺪارس اﻟﺜﻼث إﱃ اﻟﺒﺤﺚ ﰲ اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء وﰲ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ املﺴﺎﺋﻞ اﻷﺧﺮى اﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﻳﻬﺘﻢ ﺑﻬﺎ ﺳﻘﺮاط ،ﻟﻜﻦ داﻓﻌﻬﻢ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻛﺎن ﺗﺤﻘﻴﻖ اﻟﺴﻌﺎدة واﻟﺴﻜﻴﻨﺔ. إﻻ أن ﺳﻌﻴَﻬﻢ ﻟﻠﻮﺻﻮل إﱃ اﻟﺴﻌﺎدة ﻛﺎن ﻟﻪ أﺛﺮ ﻋﲆ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﺗﻨﺎوﻟﻬﻢ ﻟﻠﻤﺴﺎﺋﻞ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ؛ ﻓﻘﺪ اﻫﺘﻢ اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﻮن واﻟﺮواﻗﻴﻮن ﺑﺎﻷﻣﻮر اﻟﺘﻲ ﺗُﺴ ﱢﻠﻂ اﻟﻀﻮء ﻋﲆ اﻹﻧﺴﺎن وﻣﻮﻗﻌﻪ ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ،وﻗﺪ وﺟﺪوا ﺳﻌﺎدة ﻏﺎﻣﺮة ﰲ اﻟﺒﺤﺚ ﰲ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﻜﻮن اﻟﻌﺎﻣﺔ أو ﰲ ﻣﺴﺎﺋﻞ َ اﻟﻘﺪَر واﻷﺳﺒﺎب اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻟﻢ ﻳﻨﺸﻐِ ﻠﻮا ﺑﺎﻟﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﺤﻴﺔ وﺳﻠﻮﻛﻬﺎ ﻛﻤﺎ ﻓﻌﻞ أرﺳﻄﻮ .ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ رؤﻳﺘُﻬﻢ أن ﻋﻠﻢ اﻟﺤﻴﻮان ﻏري ذي ﻗﻴﻤﺔ ﻓﻠﺴﻔﻴﺔ .وﻗﺪ ﻛﺎﻧﺖ دواﻓﻌﻬﻢ املﻀﻤَ ﺮة ﺧﻠﻒ أﺑﺤﺎﺛﻬﻢ ﺗﻈﻬﺮ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﺑﺸﻜﻞ َﻓﺞﱟ .وﻛﺜريًا ﻣﺎ ﻛﺎن اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﻮن ﻳﴪﻋﻮن إﱃ ﻗﺒﻮل أي 314
اﻟ ﱡ ﻄﺮق اﻟﺜﻼث إﱃ ﱠ اﻟﺴﻜِﻴﻨﺔ :اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ واﻟﺮواﻗﻴﺔ واﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ
ﺗﻔﺴري ﻗﺪﻳﻢ ﺑﺸﺄن ﻇﺎﻫﺮ ٍة ﻣﺎ ﻣﺎ دام ﻫﺬا اﻟﺘﻔﺴري ﻳﺤﻮل دون اﻟﻮﻗﻮع ﰲ داﺋﺮة اﻟﻘﻠﻖ. وﻗﺪ ﺑﺎﻟﻎ اﻟﺮواﻗﻴﻮن ﰲ اﻻﻫﺘﻤﺎم ﺑﺎﻟﺘﻨﺠﻴﻢ ﻻﻋﺘﻘﺎدﻫﻢ أﻧﻪ ﻳﺆ ﱢﻛﺪ إﻳﻤﺎﻧﻬﻢ ﺑﺎﻟﻘﺪر .وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻷيﱟ ﻣﻦ ﻫﺬه املﺪارس ﺑﻮﺟﻪ ﻋﺎم اﻟﻔﻀﻮل اﻟﻌﻘﲇ اﻟﺬي ﺗﻤﺘﻊ ﺑﻪ أرﺳﻄﻮ أو رﻏﺒﺘﻪ ﰲ ﺟﻤﻊ املﻌﻠﻮﻣﺎت اﻟﺪﻗﻴﻘﺔ .ورﻏﻢ أن ﺑﻌﺾ ﺗﻼﻣﻴﺬ أرﺳﻄﻮ اﺗﺒﻌﻮا ﻃﺮﻳﻘﻪ ﰲ اﻟﺒﺤﺚ اﻟﻌﻤﻴﻖ واملﺘﻔﺘﺢ؛ ﻓﺈﻧﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﻤﺜﻠﻮا ﺳﻮى ﺣﺎﻻت اﺳﺘﺜﻨﺎﺋﻴﺔ ﺑني ﻓﻼﺳﻔﺔ أﺛﻴﻨﺎ ﰲ اﻟﻌﴫ اﻟﻬﻴﻠﻴﻨﺴﺘﻲ، ﻛﻤﺎ أن إﺳﻬﺎﻣﺎﺗﻬﻢ ﻛﺎﻧﺖ ﺿﻴﺌﻠﺔ إذا ﻣﺎ ﻗﻮرﻧﺖ ﺑﺈﺳﻬﺎﻣﺎت ﻏريﻫﻢ .وﻟﻢ ﺗَﺤْ َ ﻆ املﺪارس ٍ ﺑﻤﻜﺎن آﺧﺮ ﺑﻤﻜﺎﻧﺔ ﰲ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻌﻠﻢ ﺣﻴﺚ ﻛﺎن اﻻﻫﺘﻤﺎم ﺑﺄﻣﻮر اﻟﻌﻠﻢ ﻳﺠﺮي اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﺑﺄﺛﻴﻨﺎ ٍ ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ. ً ُ َ َ ﻛﺎﻧﺖ املﻤﺎﻟﻚ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ املﻘﺘﻄﻌﺔ ﻣﻦ إﻣﱪاﻃﻮرﻳﺔ اﻹﺳﻜﻨﺪر أﻛﱪَ ﻣﺴﺎﺣﺔ وأﻛﺜﺮ ﺛﺮاءً ﻣﻦ املﺪن اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻣﺜﻞ ﻣﺪﻳﻨﺘﻲ أﺛﻴﻨﺎ وإﺳﱪﻃﺔ ،وﻛﺎن ﺑﺈﻣﻜﺎن ﻫﺬه املﺪن ﺗﻮﻓري دﻋ ٍﻢ ﻣﺎﱄ ﻟﻠﻌﻠﻮم واﻟﻔﻨﻮن ﻣﻦ اﻟﺨﺰاﻧﺔ املﻠﻜﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺟﺎدت ﺑﺎﻷﻣﻮال ﰲ ﺳﺒﻴﻞ ذﻟﻚ .وﻛﺎن املﻠﻮك ﻳﺘﻨﺎﻓﺴﻮن ﻋﲆ ﺟﺬب ﻛﻞ اﻟﺒﺎرﻋني ﰲ ﻣﺨﺘﻠِﻒ ﻣﺠﺎﻻت املﻌﺮﻓﺔ ﻣﺎ اﺳﺘﻄﺎﻋﻮا إﱃ ذﻟﻚ ً ٍ ﴍف وﻣﻜﺎﻧﺔ .ﻓﻔﻲ ﻣﴫ ﻗﺎم اﻟﺒﻄﺎملﺔ )اﻟﺬﻳﻦ ﺳﺒﻴﻼ؛ ﻧﻈ ًﺮا ملﺎ ﻳﻌﻮد ﺑﻪ ذﻟﻚ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻣﻦ ﺗﻘ ﱠﻠﺪوا اﻟﺤﻜﻢ ﻣﻨﺬ وﻓﺎة اﻹﺳﻜﻨﺪر ﺣﺘﻰ اﻧﻀﻤﺎم ﻣﴫ ﻟﻠﺪوﻟﺔ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴﺔ ﻋﺎم ٣٠ق.م( ﺑﺠﻤﻊ ﻛﻮﻛﺒﺔ ﻣﻦ املﻔ ﱢﻜﺮﻳﻦ وأﻫﻞ اﻟﻌﻠﻢ ﻟﻠﻌﻤﻞ ﰲ ﻣﻌﻬ ٍﺪ ﻟﻠﺒﺤﻮث أُﻗِ ﻴ َﻢ ﺑﺎﻹﺳﻜﻨﺪرﻳﺔ .ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻣﻮا ﺑﺠﻤﻊ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ املﺨﻄﻮﻃﺎت اﻟﻨﺎدرة ﻹﻟﺤﺎﻗﻬﺎ ﺑﻤﻜﺘﺒﺔ اﻹﺳﻜﻨﺪرﻳﺔ ،وأﻏﺪﻗﻮا املِ ﻨَﺢ ً )ﻓﻤﺜﻼ ﻛﺎﻧﻮا واﻷﻣﻮال ﻋﲆ ﻫﺆﻻء اﻟﻌﻠﻤﺎء ﺑﺠﺎﻧﺐ ﺗﻘﺪﻳﻢ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ املﺴﺎﻋﺪات اﻷﺧﺮى ﻳﺰودون اﻷﻃﺒﺎء ﺑﺠُ ﺜَﺚ املﺴﺠﻮﻧني اﻟﺬﻳﻦ َﻗ َﻀﻮْا ﻧﺤﺒﻬﻢ ﻛﻲ ﻳﻘﻮﻣﻮا ﺑﺘﴩﻳﺤﻬﺎ وﻓﺤﺼﻬﺎ(. وﻗﺪ أﺛﻤﺮت ﻣﺜﻞ ﻫﺬه املِ ﻨَﺢ ﻧﻔﻌً ﺎ ﻓﻨ َ ِﺠ ُﺪ أن إﻗﻠﻴﺪس وأرﺷﻤﻴﺪس — اﻟﻠﺬﻳﻦ ﻛﺎﻧﺎ ﻣﻦ ﻓﻄﺎﺣﻞ ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻟﺚ ﻗﺒﻞ املﻴﻼد ﺑﻞ واﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻲ اﻟﻘﺪﻳﻢ ﺑﺄﴎه — زاو ََﻻ ﻧﺸﺎﻃﻬﻤﺎ اﻟﻌﻠﻤﻲ ﺑﺎﻹﺳﻜﻨﺪرﻳﺔ. ﱠ ﺗﺤﻘ َﻘﺖ اﻹﻧﺠﺎزات اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﰲ اﻟﻌﴫ اﻟﻬﻴﻠﻴﻨﺴﺘﻲ ﰲ ﻣﺠﺎﻻت اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت واﻟﻔﻠﻚ واﻟﻄﺐ )وﻛﺬﻟﻚ ﰲ اﻟﻬﻨﺪﺳﺔ ﺑَﺪءًا ﺑﺎملﺠﺎﻧﻴﻖ املﺴﺘﺨﺪَﻣﺔ ﰲ اﻟﺤﺮوب واﻧﺘﻬﺎءً ﺑﺎملﺤﺮﻛﺎت اﻟﺒﺨﺎرﻳﺔ اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ( ﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻦ أﺛﻴﻨﺎ وﻋﻦ ﻓﻼﺳﻔﺘﻬﺎ ،وﻛﺎن أﺳﻠﻮب اﻟﺘﻨﻈري اﻟﺬي اﺗﺒﻌﻪ اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﻮن واﻟﺮواﻗﻴﻮن ﰲ ﺑﺤﺜﻬﻢ ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻳُﺸ ِﺒﻪ ﻛﺜريًا ﻛﺘﺎﺑﺎت ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻌﻠﻢ ﰲ ﻋﴫﻧﺎ اﻟﺤﺪﻳﺚ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻛﻮﻧﻪ أﺑﺤﺎﺛًﺎ ﺗﺘﺒﻊ اﻟﻮﺳﺎﺋﻞ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ .وﺗﻨﺎول اﻟﻜﺜريون ﻣﻦ ﻓﻼﺳﻔﺔ اﻟﻌﴫ اﻟﻬﻴﻠﻴﻨﺴﺘﻲ ﻣﻮﺿﻮ َع اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺑﻨﻈﺮة ﻋﺎﻣﺔ ﻻ ﺗﻬﺘﻢ ﺑﺎﻟﺘﻔﺎﺻﻴﻞ وﻻ ﺗُﺪ ﱢَﻗ ُﻖ ﻓﻴﻬﺎ .وﻟﺬا ﻛﺎن ﻳُﻨﻈﺮ إﱃ ﻫﺬه املﺮﺣﻠﺔ ﻣﻦ اﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻟﻐﺮﺑﻲ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﻣﺮﺣﻠﺔ اﻧﻔﺼﺎل اﻟﻌﻠﻢ ﻋﻦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ؛ 315
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
وﺑﺬﻟﻚ ﻳﻨﺘﻬﻲ ﻣﴩوع اﻟﺒﺤﺚ املﺸﱰك ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ اﻟﺬي اﺳﺘﻬ ﱠﻠﻪ ﻃﺎﻟﻴﺲ وأﻧﺎﻛﺴﻴﻤﺎﻧﺪر ﻗﺒﻞ ﺛﻼﺛﺔ ﻗﺮون ﻣﻦ ذﻟﻚ اﻟﺤني. وﻟﻜﻦ ﻫﺬا اﻻﻧﻔﺼﺎل املﻔﺎﺟﺊ ﺑني اﻟﻌﻠﻢ واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻳُﻌﻄﻲ ﺻﻮرة ﰲ ﻏﺎﻳﺔ اﻟﺘﺒﺴﻴﻂ ﻋﻦ ﺷﻜﻞ اﻟﻌَ َﻼﻗﺔ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ .وإﻧﻨﺎ ﻟﻨﺘﺴﺎءَل ﻋﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﺤﻈﺔ اﻟﻔﺎرﻗﺔ — إن وﺟﺪت — اﻟﺘﻲ ﺳﺎر ﻓﻴﻬﺎ ﻛﻞ ﻓﺮع ﻣﻨﻬﻤﺎ ﰲ ﻃﺮﻳﻖ ﺑﻌﻴ ٍﺪ ﻋﻦ اﻵﺧﺮ .وﻫﻨﺎ ،ﻧﺠﺪ أﻧﻔﺴﻨﺎ َ ﺑﺼﺪَدِ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻹﺟﺎﺑﺎت املﺘﻨﺎﻗﻀﺔ ،ﻓﺒﻴﻨﻤﺎ ﻳﺪﱠﻋﻲ اﻟﺒﻌﺾ ﺣﺪوث اﻻﻧﻔﺼﺎل ﰲ اﻟﻌﴫ اﻟﻬﻴﻠﻴﻨﺴﺘﻲ، ﻳﺸري آﺧﺮون إﱃ وﻗﻮﻋﻪ ﰲ زﻣﻦ ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎدس ﻗﺒﻞ املﻴﻼد .وﻳﺠﺰم آﺧﺮون ﺑﺄﻧﻪ ﻛﺎن ﰲ ﺑﺪاﻳﺎت اﻟﻘﺮن اﻟﺨﺎﻣﺲ ﻗﺒﻞ املﻴﻼد اﻟﺬي ﻋﺎش ﻓﻴﻪ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس .وﻫﻨﺎك ﻣﻦ َ ﺑﺤﻮاﱄ ْ ﺧﻤﺴني ﻋﺎﻣً ﺎ .وﻳﻈﻦ آﺧﺮون أن اﻻﻧﻔﺼﺎل ﺑني ﻳَ ُﺮ ﱡد ُه إﱃ ﻋﻬﺪ ﺳﻘﺮاط ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ اﻟﻌﻠﻢ واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻟﻢ ﻳﺤﺪث إﻻ ﰲ ﻋﴫ ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ أواﺋﻞ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ ،ﺑﻞ وﻳﺬﻫﺐ أﺣﺪ اﻟﻜﺘﺎب إﱃ أن ﻫﺬا اﻻﻧﻔﺼﺎل ﻟﻢ ﻳﺤﺪث ﺑﺸﻜﻞ ﻧﻬﺎﺋﻲ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ ﻛﺎﻧﻂ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻣﻦ ﻋﴩ .وﻳﻘﻮل آﺧﺮ إن ذﻟﻚ اﻻﻧﻔﺼﺎل ﻗﺪ وﻗﻊ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ. ﻧﺨﻠُﺺ ﻣﻤﱠ ﺎ ﺳﺒﻖ إﱃ أﻧﻪ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﰲ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﺤﻈﺔ اﻟﺴﺤﺮﻳﺔ اﻟﻔﺎرﻗﺔ ﻋﲆ ﺨﱪﻧﺎ ﻋﻦ ﻣﺮاﺣﻞ ﺗﻄﻮﱡر اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻔﻜﺮﻳﺔ ﺑﺼﻔﺔ اﻹﻃﻼق .ﻟﻜﻦ اﻹﺟﺎﺑﺎت ﺳﺎﺑﻘﺔ اﻟﺬﻛﺮ ﺗُ ِ ﻋﺎﻣﺔ .وﻟﻨﺒﺪأ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﺑﻔﻴﺜﺎﻏﻮرس اﻟﺬي — ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ اﻟﺠﻮاﻧﺐ اﻟﻌﺪﻳﺪة اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻬﺎ ﺗﻨﺎوُل ﻓﻜﺮه — ﻛﺎن ﻳﻘﺪﱢم ﻧﻔﺴﻪ ﻋﲆ أﻧﻪ ﺣﻜﻴﻢ ﺻﻮﰲ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﺗﻔﺴري ﻣﻌﻨَﻰ اﻟﺤﻴﺎة واملﻮت إﱃ ﻣﺮﻳﺪﻳﻪ ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻻ ﻳﻤﺖ ﻟﻠﻌﻠﻢ ﺑﺼﻠﺔ .وﺑﻬﺬا ﻳﺘﻤﺜﻞ أﻣﺎﻣﻨﺎ ﻧﻤﻮذج ﻣﻦ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎدس ﻗﺒﻞ املﻴﻼد ﻟﻔﻴﻠﺴﻮف ﻛﺎن ﻳَ َﻮ ﱡد أن ﻳﻜﻮن أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻣﺤﺾ ﻋﺎﻟﻢ. وﻫﻨﺎك ﻧﻤﻮذج آﺧﺮ ﻣﺨﺘﻠﻒ وأﻋﻤﻖ أﺛ ًﺮا ﻫﻮ ﻟﻠﻔﻴﻠﺴﻮف ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس اﻹﻳﲇ وﺗﻠﻤﻴﺬه زﻳﻨﻮن؛ ﻓﻘﺪ َ ﺳﺒﻘﺎ ﻛﺜريًا ﻣﻦ ﻓﻼﺳﻔﺔ اﻟﻌﻠﻢ إﱃ ﻧﻘﺪ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ املﺼﻄﻠﺤﺎت اﻟﺘﻲ اﺳﺘﺨﺪﻣﻬﺎ ﻋﻠﻤﺎء ﱡ واﻟﺘﻐري. ﺳﺎﺑﻘﻮن دون ﺗﺤﻠﻴﻞ ودراﺳﺔ ،وﻧﺬﻛﺮ ﻣﻨﻬﺎ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﻣﺼﻄﻠﺤﻲ اﻟﺤﺮﻛﺔ وﺑﺬﻟﻚ ﻳﻜﻮن اﻹﻳﻠﻴﻮن ﻗﺪ ﺗﻨﺎوﻟﻮا ﺟﺎﻧﺒًﺎ آﺧﺮ ﻣﻦ اﻟﺘﻔﻜري اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ ﻳﺨﺘﻠﻒ ﻋﻦ اﻟﻨﺸﺎط اﻟﻌﻠﻤﻲ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪي ،أﻻ وﻫﻮ اﻟﺘﻔﻜري املﺠﺮد ﰲ املﻔﺎﻫﻴﻢ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ .أﻣﺎ ﺳﻘﺮاط ﻓﻴﺤﺴﺐ ﻟﻪ أﻧﻪ ﻧﺰل ﺑﺎﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻣﻦ ﺑﺤﺚ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﺴﻤﺎء إﱃ ﺑﺤﺚ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﺒﴩ؛ ﺣﻴﺚ اﺷﺘﻐﻞ ﺑﺎﻟﻨﻈﺮ ﰲ اﻷﺧﻼق واﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ ﻋﻠﻢ اﻟﻔﻠﻚ .وﻟﻜﻦ ﻫﺬا اﻟﺘﺤﻮﱡل اﻟﻜﺒري اﻟﺬي ﻗﺎم ﺑﻪ ﺳﻘﺮاط ﻟﻢ ً ﻃﻮﻳﻼ؛ ﻓﻜﻤﺎ رأﻳﻨﺎ ،ﻗﺎم ﻓﻼﺳﻔﺔ آﺧﺮون ﺑﺎﻟﺮﺟﻮع ﺑﺎﻟﻔﻠﺴﻔﺔ إﱃ ﻣﺒﺎﺣﺚ اﻟﺴﻤﺎء. ﻳَﺪُم وﻗﺪ ﺷﻬﺪ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ ﺗﻐﻴريات ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺎول ﺑﻬﺎ اﻟﺒﺎﺣﺜﻮن ﻋﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ أﻋﻤﺎﻟﻬﻢ؛ ﻓﺎﻟﻌﻠﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ازداد اﻋﺘﻤﺎدًا ﻋﲆ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت واﻟﺘﺠﺮﻳﺐ واملﻼﺣﻈﺔ 316
اﻟ ﱡ ﻄﺮق اﻟﺜﻼث إﱃ ﱠ اﻟﺴﻜِﻴﻨﺔ :اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ واﻟﺮواﻗﻴﺔ واﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ
ﱡ اﻟﺘﺨﺼﺺ اﻟﺘﻲ ﺑﺪأت ﰲ اﻟﻌﴫ اﻟﻬﻴﻠﻴﻨﺴﺘﻲ ،وﻟﻜﻦ ﻫﺬا ﻟﻢ املﻨﻬﺠﻴﺔ ،وازدادت ﻣﺠﺎﻻت ُﺪرك ﻳﺆ ﱢد إﱃ ﺣﺪوث ﴏاع أو اﻧﻔﺼﺎل ﺑني اﻟﻌﻠﻢ واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ؛ ﻓﻔﻲ ﻫﺬا اﻟﻮﻗﺖ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ أﺣﺪ ﻟﻴ ِ ﱡ اﻟﺘﻐريات اﻟﻬﺎﺋﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺤﺪُث ﻣﻌﻨﻰ ﺣﺪوث ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻻﻧﻔﺼﺎل .وﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﰲ ﻫﺬا اﻟﻮﻗﺖ ﻓﺈن »اﻟﻌﻠﻢ« ﺑﺎﻋﺘﺒﺎره اﻟﺒﺤﺚ املﻨﻬﺠﻲ ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻛﺎن ﻻ ﻳﺰال ﻓﺮﻋً ﺎ ﻣﻦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ،وﻛﺎن ﻳﺴﻤﻰ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ )ﻓﻜﻠﻤﺔ »ﻋﻠﻢ« ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻌﻨﻲ ﻓﻘﻂ »املﻌﺮﻓﺔ« أو املﻬﺎرة( .وﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻜﻮن اﻟﺘﻄﻮرات اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ واﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺣﺪﺛﺖ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻊ ﱢ املﺘﺄﺧﺮة ﻋﻠﻴﻬﺎ، ﻋﴩ ﻫﻲ اﻟﺪاﻓﻊ وراء ﺣﺪوث ﴏاع ﺑني اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷرﺳﻄﻴﺔ واﻟﻔﻠﺴﻔﺎت وﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﺪﻋﻲ أن ﻫﺬا اﻟﴫاع ﻛﺎن ﺑني اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﰲ ﺣَ ﱢﺪ ذاﺗﻬﺎ واﻟﻌﻠﻢ ﰲ ذاﺗﻪ. وﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧ َ َﻘ َﻊ ﻋﲆ ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﴫاع ﺑني اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ واﻟﻌﻠﻢ ﻛﺬﻟﻚ ﰲ أﻋﻤﺎل ﻛﺎﻧﻂ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻣﻦ ﻋﴩ ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن ﺑﻌﺾ اﻟﻘﺮاءات اﻟﺴﻄﺤﻴﺔ ﻷﻋﻤﺎﻟﻪ ادﱠﻋَ ﺖ ﻋﻜﺲ ذﻟﻚ .ﻻ ﺷﻚ أن ﻛﺎﻧﻂ ﻗﺪ ﻓ ﱠﺮق ﺑني املﻌﺮﻓﺔ اﻟﺘﻲ ﺗُﻜﺘَﺴﺐ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ )أي ﻣﻦ ﺧﻼل املﻼﺣﻈﺔ واﻟﺘﺠﺮﻳﺐ( واملﻌﺮﻓﺔ اﻟﺘﻲ ﺗُﻜﺘَﺴﺐ ﻣﻦ اﻟﺘﻔﻜري املﺠ ﱠﺮد اﻟﺬي ﺳﻤﱠ ﺎه »اﻟﻌﻘﻞ ُﴫحْ َﻗ ﱡ ﻂ ﺑﺄن اﻟﻌﻠﻢ ﻣﻬﺘ ﱞﻢ ﺑﺎﻟﻨﻮع اﻷول واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻣﺨﺘﺼﺔ ﺑﺎﻟﻨﻮع املﺤﺾ« .وﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳ َ ﱢ اﻟﺜﺎﻧﻲ ،ﺑﻞ ﻛﺎن ﻛﺎﻧﻂ ﻳﺮى أن أﻋﻤﺎل ﻧﻴﻮﺗﻦ ﺗُﻌَ ﱡﺪ ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ ﺗﺰاوج ﺑني اﻟﻌﻠﻢ واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ .وﻟﻌﻞ ﱡ اﻟﺘﺨﺼﺺ ﻳﺸﺎﺑﻪ ﻣﺎ ﰲ ﻋﴫﻧﺎ اﻟﱰا ُﻛﻢ اﻟﻜﺒري ﻟﻠﻤﻌﺮﻓﺔ ﻫﻮ اﻟﺬي دﻓﻊ إﱃ وﺟﻮد ﻧﻮع ﻣﻦ اﻟﺤﺎﱄ .ﻓﻔﻲ ﻋﺎم ١٨٤٠م ﺻﺎغ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف واملﺆرخ وﻳﻠﻴﺎم وﻳﻮﻳﻞ ﻣﺼﻄﻠﺢ »اﻟﻌﺎﻟِﻢ« ﻟﻴﻤﻴﺰ ﺑني ﻫﺆﻻء اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻨﺘﺠﻮن املﺎدة اﻟﺨﺎم ﻟﻠﺒﺤﺚ ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ،وﻫﺆﻻء اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻨﻈﺮون ﻟﻸﻣﻮر ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ وﻳﺨﺮﺟﻮن ﺑﺎﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻟﻌﺎﻣﺔ .إﻻ أن دﻣﺞ املﺠﺎﻟني ﻣﻌً ﺎ ﻻ ﻳﺰال أﻣ ًﺮا ﻣﻤﻜﻨًﺎ؛ ﻓﺤﺘﻰ ﻳﻮﻣﻨﺎ ﻫﺬا ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺘﺎم ﺑني اﻟﻌﻠﻢ واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻣﻦ ﺧﻼل ﺗﻌﺮﻳﻒ ﻛﺬاك اﻟﺬي وﺿﻌﻪ وﻳﻮﻳﻞ؛ ﻓﻼ ﻳﺰال اﻟﻐﻤﻮض ﻳﻜﺘﻨﻒ ﺑﻌﺾ اﻟﺤﺪود اﻟﻔﺎﺻﻠﺔ ﺑني اﻟﻌﻠﻢ واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ. ﱡ ﻟﻠﺘﺨﺼﺺ ،وإن ﻟﻢ ﻳﻤﺜﻞ ﻟﻘﺪ وﺿﻊ اﻟﻌﴫ اﻟﻬﻴﻠﻴﻨﺴﺘﻲ ﰲ ﻣُﺠﻤﻠِﻪ ﺣﺠﺮ اﻷﺳﺎس ﻧﻘﻄﺔ ﺗﺤﻮﱡل ﺗِﺠَ ﺎ َه اﻻﻧﻔﺼﺎل ﺑني اﻟﻌﻠﻢ واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ .ﻓﺮﻏﻢ أن اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺗﺼﺪرت املﺸﻬﺪ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ ﺑﺘﻘﺪﻳﻤﻬﺎ ﻋﻼﺟً ﺎ ﻏري ﻋﻠﻤﻲ ﻟﻠ ﱡﺮوح ،ورﻏﻢ أن ﻛﺜﺮ ًة ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻮم ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ ﻛﺎﻧﺖ ﺗَ َﻀ ُﻊ ﻟﻨﻔﺴﻬﺎ اﻟﺨﻄﻮط اﻟﻌﺮﻳﻀﺔ ﻟﻠﺒﺤﺚ ،ﻓﻤﻦ اﻟﺨﻄﺄ اﻟﻘﻮل إن اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ واﻟﻌﻠﻢ ﻗﺪ اﻧﻔﺼﻼ ﻛﺎﻧﻔﺼﺎل اﻷﻣﻴﺒﺎ ﺑﺼﻮرة ﺗﺎﻣﺔ وأﺑﺪﻳﺔ ﰲ ﻫﺬه اﻟﻠﺤﻈﺔ ﻣﻦ اﻟﺘﺎرﻳﺦ .ﺻﺤﻴﺢ أن اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ أﺿﺤﺖ ذات ﻃﺎﺑﻊ ﺷﺨﴢ وﺗﺄﻣﱡ ﲇ ﺑﺸﻜﻞ أﻛﱪ ،وأﺻﺒﺤﺖ ﺑﻌﺾ اﻟﻌﻠﻮم أﺷﺒﻪ ﺑﺎﻟﻮﻇﺎﺋﻒ ﻛﺎﻣﻠﺔ اﻟﺪوام ،وﻟﻜﻦ ﻫﺬا اﻟﻮﺿﻊ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﺟﺪﻳﺪًا أو داﺋﻤً ﺎ ،ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻫﻨﺎك ﻣﺘﺨﺼﺼﻮن ﻗﺒﻞ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ ،ﻛﻤﺎ ﺳﻴﻈﻬﺮ ﻣﻔﻜﺮون ﻣﻮﺳﻮﻋﻴﻮن ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ. 317
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
وإذا ﻟﻢ ﺗ ُﻜﻦ املﺪارس اﻟﻬﻴﻠﻴﻨﺴﺘﻴﺔ ﻗﺪ أﺣﺪﺛﺖ ﺛﻮرة ﻛﱪى ،ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻟﻬﺎ ﺗﺄﺛري ﻋﻤﻴﻖ ﱪ ﻣﺬاﻫﺒﻬﺎ؛ ﻓﻘﺪ اﺳﺘﻄﺎﻋﺖ ﻣﻦ ﺧﻼل ﺗﻘﺪﻳﻤﻬﺎ ﻟﻔﻠﺴﻔﺎت ﺷﺎﻣﻠﺔ ﻋﲆ اﻟﻔِ ﻜﺮ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ ﻋَ ْ َ ً ﺑﻌﻀﺎ أن ﺗﺆﺛﱢﺮ وﻣﻨﺘﴩة اﻧﺘﺸﺎ ًرا واﺳﻌً ﺎ ،وﻣﻦ ﺧﻼل اﻧﻘﺴﺎﻣﻬﺎ إﱃ ﻓِ َﺮ ٍق ﻳﺠﺎدل ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻋﲆ رؤﻳﺔ اﻟﺤﻀﺎرات اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ .ﻓﻌﻨﺪﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﻜﺘﺐ ﻣﺸﺎﻫري اﻟﻌﴫ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻲ ﻣﺜﻞ ﺷﻴﴩون أو ﺑﻠﻮﺗﺎرخ ﻋﻦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ،ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻌﻈﻢ ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻬﻤﺎ ﺗﺘﻨﺎول اﻟﴫاﻋﺎت اﻟﻔﻜﺮﻳﺔ ﰲ أﺛﻴﻨﺎ اﻟﻬﻴﻠﻴﻨﺴﺘﻴﺔ .وﻗﺎﻣﺖ اﻹﻣﱪاﻃﻮرﻳﺔ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴﺔ ﺑﻨﴩ اﻟﻔﻠﺴﻔﺎت اﻟﻬﻴﻠﻴﻨﺴﺘﻴﺔ )ﻣﻦ ﺧﻼل ﻛﺘﺎﺑﺎت ﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس وﺳﻴﻨﻴﻜﺎ وﻣﺎرﻛﻮس أورﻳﻠﻴﻮس ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل( ﺣﺘﻰ أﺻﺒﺤﺖ ﻣﻦ أﻛﺜﺮ اﻟﻔﻠﺴﻔﺎت اﻟﺘﻲ ﻳُﻘ ِﺒﻞ اﻟﻘ ﱠﺮاء ﻋﻠﻴﻬﺎ ﰲ اﻷدب اﻷوروﺑﻲ. وﻗﺪ ﻇ ﱠﻠﺖ اﻷﺧﻼق اﻟﺮواﻗﻴﺔ ﻟﻔﱰة ﻣﻦ اﻟﺰﻣﻦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺴﺎﺋﺪة واملﻌﱰَف ﺑﻬﺎ رﺳﻤﻴٍّﺎ ﺑﺸﻜﻞ أو ﺑﺂﺧﺮ ﻟﺪى اﻟﻄﺒﻘﺎت اﻟﻌُ ﻠﻴﺎ ﰲ اﻹﻣﱪاﻃﻮرﻳﺔ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴﺔ ،وﻛﺎن ﻟﻠﺮواﻗﻴﺔ ﻛﺬﻟﻚ ﺻﺪًى ﰲ املﺴﻴﺤﻴﺔ .وﻟﻜﻦ اﻷﻫﻢ ﻣﻦ ذﻟﻚ أن ﻧﺬ ُﻛﺮ أﻧﻪ ﻣﻦ ﻗﺒﻴﻞ املﺒﺎﻟﻐﺔ أن ﻧﺪﱠﻋﻲ أن اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﰲ اﻟﻌﻠﻢ واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺑﺪأ ﻣﻊ إﻋﺎدة اﻛﺘﺸﺎف أﻓﻜﺎر املﺪارس اﻟﻬﻴﻠﻴﻨﺴﺘﻴﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ )اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ واﻟﺮواﻗﻴﺔ(؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺎت اﻟﺘﻲ ﻇﻬﺮت ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ ُملﻨَﺎﻫﻀﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷرﺳﻄﻴﺔ ﺟﺬو ٌر ﰲ اﻟﻔﻜﺮ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻲ اﻟﻘﺪﻳﻢ .ﻓﻘﺪ أُدﺧِ ﻠﺖ ﺗﻌﺪﻳﻼت ﻋﲆ اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء ﺑﻔﻀﻞ إﻋﺎدة اﻛﺘﺸﺎف أﻓﻜﺎر أﺑﻴﻘﻮر ﺣﻮل اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺬﱠ ﱢرﻳﱠﺔ ﰲ ﺑﺪاﻳﺎت ﻫﺬا اﻟﻘﺮن — ﺣﻴﺚ ﻛﺎن ﻳﺮى أن اﻟﻜﻮن ﻻﻧﻬﺎﺋﻲ وﻳﺴري ﺑﺸﻜﻞ ﻣﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻲ ﻳﺘﻤﺜﱠﻞ ﰲ ﺗﻔﺎﻋﻞ اﻟﺬﱠ ﱠرات اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ واملﻼﺣﻈﺔ .وﻗﺪ — وﻛﺬﻟﻚ ﺑﻔﻀﻞ ﺗﻨﺎ ُوﻟِﻪ ﻟﻠﻤﻌﺮﻓﺔ ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ ﺗﺠﺮﻳﺒﻲ ﻳﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ ِ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه ﻫﻲ ﻣﻘﻮﻣﺎت اﻟﺜﻮرة اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ اﻟﺘﻲ أﻃﺎﺣﺖ ﺑﺎﻟﺘﺼﻮﱡرات اﻷرﺳﻄﻴﺔ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ .ﻫﺬا ً ﺗﺎرﻳﺨﺎ ملﻴﻼد اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ اﻟﺘﺄﺛري املﺘﺰاﻳﺪ ﻟﻠﺸﻜﻮﻛﻴﺔ؛ ﻓﻠﻮ أردﻧﺎ أن ﻧُﺤَ ﱢﺪ َد ﴩ ﻧَ ﱞ ﺺ ﻣﻦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ اﻟﻼﺗﻴﻨﻴﺔ؛ ﻣﺎ ﻟﻜﺎن أﻗﺮب إﱃ ﻋﺎم ١٥٦٢م ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻧ ُ ِ َ أدﱠى إﱃ إﺣﻴﺎء اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺑﻌﺪ ﺧﻤﻮد أداﻣﻪ املﺬﻫﺐ املﺪرﳼ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻃﻴﻠﺔ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ. وﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﺑﺨﻤﺴﺔ وﺳﺘني ﻋﺎﻣً ﺎ ،ﺑﺪأ دﻳﻜﺎرت ﰲ ﺗﻄﺒﻴﻖ »اﻟﺸﻚ املﻨﻬﺠﻲ« اﻟﺬي ﺗﻌ ﱠﻠﻤﻪ ﻣﻦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ .وأﺧﺬت اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻣﻨﺬ ذﻟﻚ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﺗﺘﺸﻜﻞ وﺗُﺼﺎغ ﻣﻦ اﻷﺳﺌﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺜريﻫﺎ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﻮن ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﺳﻨﺘﻨﺎوﻟﻪ ﺑﺎﻟﺘﻔﺼﻴﻞ ﰲ اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺘﺎﱄ ،وﻟﻜﻨﻨﺎ ﻧﺮﺳﻢ ً أوﻻ اﻟﺨﻄﻮط اﻟﻌﺮﻳﻀﺔ ﻟﻠﻤﺪارس اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ اﻟﻬﻴﻠﻴﻨﺴﺘﻴﺔ اﻟﺜﻼث اﻟﺘﻲ ﻇﻬﺮت ﰲ أﺛﻴﻨﺎ ﻋﻘﺐ وﻓﺎة أرﺳﻄﻮ.
318
اﻟ ﱡ ﻄﺮق اﻟﺜﻼث إﱃ ﱠ اﻟﺴﻜِﻴﻨﺔ :اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ واﻟﺮواﻗﻴﺔ واﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ
ﺧﺮج أﺑﻴﻘﻮر )٢٧١–٣٤١ق.م( ﻣﺜﻞ ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس اﻟﺬي ﺳﺒﻘﻪ ﺑﻘﺮﻧني ﻣﻦ اﻟﺰﻣﺎن ﻣﻦ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﺳﺎﻣﻮس وﻫﻲ ﺟﺰﻳﺮة أﻳﻮﻧﻴﺔ ﻋﲆ اﻟﺴﺎﺣﻞ اﻟﻮاﻗﻊ ﺟﻨﻮب ﻏﺮ ِﺑ ﱢﻲ آﺳﻴﺎ ﱡ اﻟﺼﻐﺮى .وﻛﻤﺎ ﻓﻌﻞ ً ﻣﺠﻠﺴﺎ اﻧﺸﻐﻞ روادُه ﺑﺎﻟﻘﻴﻞ واﻟﻘﺎل .وﻗﺪ ﻗﺎم أﺣﺪ اﻷﻋﻀﺎء اﻟﺴﺎﺑﻘني ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ﻓﻘﺪ أﻧﺸﺄ ﻣﻤﱠ ﻦ ﺗﻤﺮدوا ﻋﲆ اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ ﺑﻨﴩ ﻗﺼﺘﻪ ﻋﻦ أﺑﻴﻘﻮر ﺗﺤﺖ ﻋﻨﻮان »ﻟﻴﺎﱄ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺳﻴﱢﺌﺔ اﻟﺴﻤﻌﺔ« .وزﻋﻢ أن أﺑﻴﻘﻮر ﻛﺎن ﻳﺘﻘﻴﱠﺄ ﻣﺮﺗني ﰲ اﻟﻴﻮم اﻟﻮاﺣﺪ ﻣﻦ ﻓﺮط اﻷﻛﻞ .وﻛﺘﺐ ﻛﺬﻟﻚ أن ﺻﺪاﻗﺎت أﺑﻴﻘﻮر ﻣﻦ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﻗﻠﻴﻠﺔ وأن ﻣﻌﺮﻓﺘﻪ ﺑﺎﻟﺤﻴﺎة اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ ﺿﺌﻴﻠﺔ وﺳﻄﺤﻴﺔ ،ﻛﻤﺎ زﻋﻢ أن ﺣﺎﻟﺘﻪ اﻟﺼﺤﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺳﻴﺌﺔ ﻟﺪرﺟﺔ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﺴﺘﻄﻊ أن ﻳﻘﻮم ﻣﻦ َ ﻳﱰددن ُﻛﺮﺳﻴﱢﻪ ملﺪة أرﺑﻌﺔ أﻋﻮام ،وأﻧﻪ رﻏﻢ ذﻟﻚ ﻛﺎﻧﺖ ﻟﻪ ﻋﻼﻗﺎت ﻣﻊ أرﺑﻊ ﺳﻴﺪات ُﻛ ﱠﻦ ﻋﲆ املﺠﻠﺲ و ُﻛ ﱠﻦ ﻳُﻌﺮﻓﻦ ﺑﺄﺳﻤﺎﺋﻬﻦ املﺴﺘﻌﺎرة »ﻫﻴﺪﻳﺎ« )اﻟﻔﻄرية اﻟﺤﻠﻮة( ،و»إﻳﺮوﺷﻦ« )اﻟﺤﺒﻮﺑﺔ( ،و»ﻧﻴﻜﻴﺪﻳﻮن« )اﻟﻨﴫ اﻟﺼﻐري( ،و»ﻣﺎﻣﺎرﻳﻮن« )ذات اﻟﺜﺪي اﻟﻜﺒري(.
أﺑﻴﻘﻮر.
319
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻻزﻣﺖ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻷﻗﺎوﻳﻞ اﻟﺨﺒﻴﺜﺔ أﺑﻴﻘﻮر ﻣﻨﺬ ذﻟﻚ اﻟﺤني — وﻣﻦ ﺑﻌﺪه ﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس ) ٩٩ق.م–٥٥ق.م( وﻫﻮ أﻫﻢ أﺗﺒﺎﻋﻪ .ﻛﺎن اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﻮن ﻳﻠﻘﺒﻮن أﺑﻴﻘﻮر ﺑ »اﻟﺨﻨﺰﻳﺮ« .وزﻋﻢ أن اﺣﺘﴗ اﻟﻘﺪﻳﺲ ﺟريوم ) (٤٢٠–٣٤٠ﺑﻼ دﻟﻴﻞ أن ﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس ﻗﺪ أﺻﺎﺑﻪ اﻟﺠﻨﻮن ﺑَﻌْ َﺪ ِ ﴍاب اﻟﺤﺐ ﺛﻢ ﻛﺘﺐ ﻗﺼﻴﺪﺗﻪ اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ اﻟﻌﻈﻴﻤﺔ ﰲ ﻟﺤﻈﺎت ﻣﻦ اﻟﻨﺸﻮة ﻗﺒﻞ أن ﻳﻨﺘﺤﺮ. وﻗﺎل ﻛﺬﻟﻚ اﻷﺳﻘﻒ ﺟﻮن اﻟﺴﺎﻟﺰﺑﻮري ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻋﴩ إن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻣﲇء ﺑﺄﻣﺜﺎل أﺑﻴﻘﻮر ﻟﺴﺒﺐ ﺑﺴﻴﻂ ،وﻫﻮ أن ﻣﻦ ﺑني ﻫﺬه اﻷﻋﺪاد اﻟﻜﺒرية ﻣﻦ اﻟﺮﺟﺎل ﻗﻠﺔ ﻗﻠﻴﻠﺔ ﻫﻢ ﻣﻦ ﻟﻴﺴﻮا ﻋﺒﻴﺪًا ﻟﻠﺸﻬﻮة .ﻫﺬا وﻗﺪ أﺻﺒﺢ اﺳﻢ أﺑﻴﻘﻮر ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ املﻄﺎف ﻣﻘﱰﻧًﺎ ﺑﺎﻹﻓﺮاط ﰲ ﺗﻨﺎوُل اﻟﻄﻌﺎم ،ﻛﻤﺎ ﻧﺮى ﰲ اﻷﺑﻴﺎت اﻟﻔﻜﺎﻫﻴﺔ اﻟﱪﻳﻄﺎﻧﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺘﺒﻬﺎ ﺳﻴﺪﻧﻲ ﺳﻤﻴﺚ ):(١٨٤٥–١٧٧١ ﺳﻴﻘﻮل اﻷﺑﻴﻘﻮري ﰲ ﻫﺪوءٍ وﻗﺪ ﺷﺒﻊ: ﻻ ﻳﻘﻮى اﻟﻘﺪر ﻋﲆ إﻳﺬاﺋﻲ ،ﻓﻠﻘﺪ ﺣﺼﻠﺖ ﻋﲆ ُﻛ ﱢﻞ ﻏﺬاﺋﻲ. وﻟﻜﻦ ﻟﻴﺴﺖ ﻫﺬه ﻫﻲ ﺣﻘﻴﻘﺔ أﺑﻴﻘﻮر ورﻓﺎﻗﻪ .ﻓﻔﻲ اﻟﻮاﻗﻊ ﻛﺎن املﺠﻠﺲ اﻟﺬي أﻧﺸﺄه ً ﻣﻜﺮﺳﺎ ﻟﻠﺤﻴﺎة أﺑﻴﻘﻮر ﺑﻌﺪ وﺻﻮﻟﻪ إﱃ أﺛﻴﻨﺎ ﰲ ﻣﻨﺰل ﺑﻪ ﺣﺪﻳﻘﺔ ﺑﺠﻮار أﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ أﻓﻼﻃﻮن اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ .ﺣﻴﺚ ﻛﺎن ﻳ َُﺸ ﱢﺪ ُد ﻓﻴﻪ أﺑﻴﻘﻮر ﻋﲆ ﺗﺠﻨﱡﺐ اﻹﴎاف ﰲ اﻟﻄﻌﺎم ،وﻛﺎن ﻳﺸﺠُ ﺐ ﻛﻞ ﻣﻈﺎﻫﺮ اﻻﻧﻐﻤﺎس ﰲ اﻟ ﱠﻠﺬﱠات ،أﻣﺎ ﻣﺎ ﻗﻴﻞ ﻋﻨﻪ ﻓﻴﻤﺎ ﻳ َُﺨ ﱡ ﺺ اﻟﺠﻨﺲ ﻓﻤﻦ ذا اﻟﺬي ﻳﻌﻠﻢ ﻳﻘﻴﻨًﺎ ﻣﺎ وﻗﻊ ﺑني أﺑﻴﻘﻮر وﻓﻄريﺗﻪ اﻟﺤﻠﻮة ﰲ اﻟﺤﺪﻳﻘﺔ؟ وﻻ ﺑﺪ أن ﻧﺬ ﱢﻛﺮ أن ﻣﺬﻫﺒﻪ ﻛﺎن ﻋﲆ ﻋﻜﺲ ﻣﺎ ﻳﱰدد ﻋﻨﻪ ،ﺣﻴﺚ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳُﺤَ ﺒﱢﺬُ اﻟﺠﻨﺲ ،ﻓﻜﻤﺎ ﻳﻘﻮل» :إن اﻟﺠﻨﺲ ﻻ ﻳﺠﻠﺐ أﻳﺔ ﻓﻀﺎﺋﻞ ﻟﻺﻧﺴﺎن ،وﻟﻺﻧﺴﺎن أن ﻳﺴﻌﺪ إذا ﻟﻢ ﻳﺘﺴﺒﺐ ﻟﻪ اﻟﺠﻨﺲ ﰲ أي أذى «.وﻗﺪ واﻓﻘﻪ ﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس ﰲ ﻫﺬا ﻛﻤﺎ ﺳﻨﺮى ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ ،وﻟﻌﻞ ﺷﺠﺒﻪ اﻟﻌﻨﻴﻒ ﻟﻠﺤﺐ اﻟﻘﺎﺋﻢ ﻋﲆ اﻟﺠﻨﺲ ﻫﻮ ﻣﺎ أدﱠى إﱃ ذﻳﻮع ﻓﻜﺮة أﻧﻪ ﺗﻨﺎول ﺟﺮﻋﺔ ﻣﻦ ﴍاب اﻟﺤﺐ وﺻﻠﺖ ﺑﻪ إﱃ ﺣَ ﱢﺪ اﻟﺠﻨﻮن. وﻫﻜﺬا ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﺪرك ﺑﺴﻬﻮﻟﺔ ﻣﺼﺪر اﻟﺸﺎﺋﻌﺎت اﻟﺘﻲ ردﱠدﻫﺎ ﻋﻠﻤﺎء اﻷﺧﻼق ورﺟﺎل اﻟﺪﻳﻦ املﺴﻴﺤﻲ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪُ ،ﻓﻘﺪ ﻗﺎل أﺑﻴﻘﻮر إن ﻋﲆ اﻹﻧﺴﺎن أن ﻳﺘﻨﺎول اﻟﻄﻌﺎم ً أوﻻ ﻟﻴﺤﻴﺎ ﺣﻴﺎ ًة ﺳﻌﻴﺪة ،وﻣﻦ اﻟﺴﻬﻞ اﻧﺘﺰا ُع ﻫﺬا اﻟﻜﻼم ﻣﻦ ﺳﻴﺎﻗﻪ ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﺣﺪث ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ .أﻣﺎ ﻋﻦ ً ﻣﺘﻮاﻓﻘﺎ ﻣﻊ اﻟﻼﻫﻮت ،ﻓﺂﻟﻬﺘﻪ ﻛﺎﻧﺖ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﻣﺘﻨﺎﻓِ َﺮة اﻟﺪﻳﻦ ،ﻓﻠﻢ ﻳ ُﻜﻦ أﺑﻴﻘﻮر ات .ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﺤﺘﻘﺮ ﺟﻤﻴﻊ املﻌﺘﻘﺪات اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺳﺎد ْ ﻣﻦ اﻟﺬﱠ ﱠر ِ َت ﻋﴫه ،وﻛﺎن ﻫﺬا اﻷﻣﺮ ﰲ ﺣَ ﱢﺪ ذاﺗﻪ ﺳﺒﺒًﺎ ﻟﻠﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ املﺸﻜﻼت ،وﻋﻼوة ﻋﲆ ذﻟﻚ ،ﻛﺎﻧﺖ ﻓﻠﺴﻔﺘﻪ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة ﺗﺮﺗﻜﺰ ﻋﲆ ﻣﺒﺪأ اﻟ ﱠﻠﺬﱠة وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺒﺪو ﻣﻨﺎﻓﻴًﺎ ﻟﻠﻔﻀﻴﻠﺔ. 320
اﻟ ﱡ ﻄﺮق اﻟﺜﻼث إﱃ ﱠ اﻟﺴﻜِﻴﻨﺔ :اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ واﻟﺮواﻗﻴﺔ واﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ
ورﺑﻤﺎ ﻛﺎن ﺻﺤﻴﺤً ﺎ ﻣﺎ ذُ ِﻛ َﺮ ﰲ أﺣﺪ ﻛﺘﺐ ﺗﺎرﻳﺦ اﻷﺧﻼق اﻷوروﺑﻴﺔ أن »اﻟﺨﻄﻴﺌﺔ ﻧﺠﺪ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴﺔ اﺳﺘﱰت ﺧﻠﻒ اﺳﻢ أﺑﻴﻘﻮر« ،وﻟﻜﻦ إذا ﻧﻈﺮﻧﺎ ﻋﻦ ﻛﺜﺐ ملﺎ ﻗﺎﻟﻪ ﺑﺸﺄن اﻟﻠﺬة ِ ﻣﺎ ﻗﺪ ﻳﺬﻫﻞ ﻫﺆﻻء اﻟﺬﻳﻦ ﻟﻢ ﻳﻌﺮﻓﻮا ﻋﻦ أﺑﻴﻘﻮر إﻻ اﻟﺸﺎﺋﻌﺎت ،ﻓﻬﻮ ﻳﻘﻮل: ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻧﻘﻮل إن اﻟﻠﺬة ﻫﻲ املﻘﺼﺪ )ﺑﻤﻌﻨﻰ :اﻟﻬﺪف ﻣﻦ اﻟﺤﻴﺎة( ،ﻓﻨﺤﻦ ﻻ ﻧﻌﻨﻲ ﺑﺬﻟﻚ ﻟﺬة املﻨﻐﻤﺴني ﰲ اﻟﺸﻬﻮات أو ﻣﻦ ﻳﻘﻀﻮن أوﻗﺎﺗًﺎ ﰲ املﺘﻌﺔ ﻛﻤﺎ ً ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﺠﻬﻠﻬﻢ ورﻓﻀﻬﻢ َﻓﻬﻢ ﻣﺎ ﻧﻘﻮل ،ﺑﻞ اﻟﻠﺬة ﻫﻲ اﻟﺘﺤ ﱡﺮر ﻳﺪﱠﻋﻲ اﻟﺒﻌﺾ ﻣﻦ أﻟﻢ اﻟﺠﺴﺪ وﻗﻠﻖ اﻟﺮوح .ﻓﻤﺎ ﻳَﻬَ ﺐُ اﻟﺤﻴﺎة ﺳﻌﺎدﺗﻬﺎ ﻟﻴﺲ اﻻﻧﻐﻤﺎس ﰲ اﻟﴩاب واﻟﺤﻔﻼت ،وﻻ إﻗﺎﻣﺔ اﻟﻌﻼﻗﺎت اﻟﺠﻨﺴﻴﺔ ﺑني اﻟﺮﺟﺎل واﻟﻨﺴﺎء ،وﻻ اﻟﺘﻠﺬذ ﺑﺎﻷﺳﻤﺎك واملﺄﻛﻮﻻت ﻏﺎﻟﻴﺔ اﻟﺜﻤﻦ … وإﻧﻤﺎ اﻟﻌﺘﻖ ﻣﻦ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺘﻲ ﺗﺴﺒﺐ اﺿﻄﺮاب اﻟﺮوح. إن دﻓﺎع أﺑﻴﻘﻮر ﻋﻦ اﻟ ﱠﻠﺬﱠة ﻛﺎن أﻛﺜﺮ ﻧﻀﺠً ﺎ ﻣﻦ اﻟﺤﺐ ا ُملﱰَف اﻟﺬي ﺗﻨﺎوﻟﻪ ﺣﺪﻳﺚ أرﺳﻄﻴﺒﻮس اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ ﻋﲆ ﻣﺄدﺑﺔ دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس اﻷول .ﻓﻌﲆ ﺧﻼف أرﺳﻄﻴﺒﻮس ﻟﻢ ﻳﻨﴫف أﺑﻴﻘﻮر إﱃ اﻟﺘﻠ ﱡﺬذ ﺑﺎملﺘﻊ اﻵﻧﻴﺔ ،وإﻧﻤﺎ ﻛﺎن ﻣﻬﺘﻤٍّ ﺎ ﺑﺨﻠﻖ ﺗﻮازن ﻳﺤﻘﻖ اﻟﺮﺿﺎ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة واﻟﺨﻼص ﻣﻦ ﻣﺼﺎﻋﺒﻬﺎ ﺑﺼﻮرة ﻋﺎﻣﺔ؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻋﲆ ﻋﻠﻢ ﺑﻤﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺴﺒﺒﻪ اﻻﻧﻐﻤﺎس ﰲ اﻟ ﱠﻠ ﱠﺬات اﻵﻧﻴﺔ ﻣﻦ ﺧﺴﺎرة ﻓﺎدﺣﺔ ملﺘﻊ أﻋﻈﻢ ﻋﲆ املﺪى اﻟﺒﻌﻴﺪ. ﻛﻤﺎ أن أﺑﻴﻘﻮر ﻧﻈﺮ إﱃ اﻟﻠﺬة ﻧﻈﺮة ﺳﻠﺒﻴﺔ ﻋﻨﺪﻣﺎ رأى أﻧﻬﺎ ﺗَﻌﻨِﻲ ﻓﻘﻂ ﻏﻴﺎب اﻷﻟﻢ. ﻓﺎﻷﻟﻢ ﻟﻴﺲ ﻓﻘﻂ أن ﻳﺪﻫﺲ أﺣﺪﻫﻢ ﻗﺪﻣﻚ ،ﻛﻤﺎ أن اﻟﻠﺬة ﻟﻴﺴﺖ ﰲ أن ﺗﻨﺎل ﻗﺒﻠﺔ ﻣﻦ »اﻟﻔﻄرية اﻟﺤﻠﻮة« ،ﻓﺄﺑﻴﻘﻮر ﻳﺮى أﻧﻨﺎ إذا أﻣﻌﻨﱠﺎ اﻟﻨﻈﺮ ﰲ اﻟﻘﻀﻴﺔ أدرﻛﻨﺎ أن اﻟ ﱠﻠﺬﱠة واﻷﻟﻢ ﻳﺘﻘﺎذﻓﺎن اﻹﻧﺴﺎن ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﻋﲆ اﻟﺪوام؛ ﻓﺈﻣﱠ ﺎ أن ﻳﻨﻌﻢ املﺮء ﺑﺎﻟﴪور ﺟ ﱠﺮاء ﳾء ﻣﺎ ﻓﻴﺘﺬوق ﻓﻴﻪ اﻟﻠﺬة ،وإﻣﺎ أن ﻳﺴﻘﻂ ﰲ ﺑﺮاﺛﻦ اﻟﺠﺰع واﻟﻘﻨﻮط ﻓﻴﻄﻤﻊ أن ﻳﺤﻮز ﺷﻴﺌًﺎ آﺧﺮ أو ﻳﺮﻏﺐ ﰲ املﺰﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﴚء ﻧﻔﺴﻪ؛ أي ﻳﺸﻌﺮ ﺑﺤﺎﻟﺔ ﻣﻦ اﻷﻟﻢ ﺑﺴﺒﺐ ﺷﻌﻮر اﻟﺤﺮﻣﺎن ﻧﺠﺪ أن اﻷﻟﻢ ﻳﻜﻤُﻦ ﰲ ﻧﻮاﺣﻲ اﻟﺤﻴﺎة ﻛﺎﻓﺔ ﻻ ِﺳﻴﱠﻤَ ﺎ إذا ﻣﺎ ﺣﺮص اﻟﺬي اﻧﺘﺎﺑﻪ .وﺑﺬﻟﻚ ِ ُ اﻹﻧﺴﺎن ﻋﲆ ﺗﻮﻓري ﺣﻴﺎة ﻗﻮاﻣﻬﺎ اﻟﺴﻌﺎدة أو ﻏريﻫﺎ ﻣﻦ املﺸﺎﻋﺮ اﻟﺘﻲ ﺗﺪﺧِ ﻞ املﺘﻌﺔ ﻋﲆ اﻹﻧﺴﺎن .ﻓﺎﻷﻟﻢ ﻻ َ ﺗﺠﺮﺑﺔ ﻋﺎﻃﻔﻴﺔ ﻳﻘﻊ ﻓﻘﻂ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﺑﻌﺾ اﻻﺿﻄﺮاﺑﺎت ﰲ املﻌِ ﺪة أو ﻧﺘﻴﺠﺔ ِ ﻓﺎﺷﻠﺔ ،وإﻧﻤﺎ ﻳﻨﺸﺄ ﻋﻦ اﻟﺮﻏﺒﺔ اﻟﺠﺎﻣﺤﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺘﺎب اﻹﻧﺴﺎن وﺗﺠﻌﻠﻪ ﻳﻠﻬَ ﺚ وراء ﻛﻞ ﻣﺎ ﱡ ﻳﻌﻦ ﻟﻪ ﻣﻦ ﺷﻬﻮات؛ وﻟﻬﺬا ﻓﺈن اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮم ﻋﲆ اﻟ ﱠﻠﺬﱠة اﻟﺨﺎﻟﺼﺔ ﻣﻦ ﻣﻨﻐﺼﺎت املﺘﻊ اﻟﺤﺴﻴﺔ ﻫﻲ ﺣﻴﺎة ﻫﺎدﺋﺔ ﻫﺎﻧﺌﺔ .إﻧﻬﺎ ﺣﻴﺎة ﺗﺨﻠﻮ ﻣﻦ ﻣﺠﺎﻟﺐ اﻷﻟﻢ أو ﺑﻮاﻋﺚ اﻟﻜﺪر ،أو 321
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻫﻲ — ﻛﻤﺎ أﺟﻤَ َﻞ أﺑﻴﻘﻮر — ﺣﻴﺎة ﺧﺎﻟﻴﺔ ﻣﻦ »اﻷﻟﻢ اﻟﺠﺴﺪي أو اﻟﻘﻠﻖ اﻟ ﱡﺮوﺣﻲ« ،وﻫﺬه ﻫﻲ اﻟﻐﺎﻳﺔ اﻟﻘﺼﻮى ﻟ ﱠﻠﺬﱠة ﰲ ﻧﻈﺮ أﺑﻴﻘﻮر. وﺑﻤﺎ أن أﺑﻴﻘﻮر اﻧﺸﻐﻞ ﰲ املﻘﺎم اﻷول ﺑﺎﻟﺘﺨ ﱡﻠﺺ ﻣﻦ أﺷﻜﺎل اﻟﺤﺰن واﻟﻬﻢ ﻛﺎﻓﺔ ،ﻓﻠﻢ ﻳﻜﻦ دﻓﺎﻋﻪ ﻋﻦ ﻣﺒﺪأ »اﻟﻠﺬة« ﻫﻮ ﻣﺎ ﻣَ ﺜ ﱠ َﻞ ﺗﻬﺪﻳﺪًا ملﻔﻬﻮم اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪي اﻟﺬي َ ﻧﻘﻊ ﻋﻠﻴﻪ ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺸﺠﻊ ﻋﲆ اﻹﺷﺒﺎع اﻟﺬاﺗﻲ .ﻛﺎن أﺑﻴﻘﻮر ﻳﺮى أن ﺳﻌﻲ املﺮء ﻟﻠﺘﺨ ﱡﻠﺺ ﻣﻦ اﻷﻟﻢ واﻟﻘﻠﻖ واﻟﺨﻮف ﻳُﻬَ ﻴﱢﺊ ُ ﻟﻪ ﺣﻴﺎة ﻓﺎﺿﻠﺔ؛ ﻷﻧﻚ إذا ﻧﻈﺮت ﰲ اﻟﻄﺮق اﻟﺘﻲ ﻗﺪ ﺗُﻜ ﱢﺪ ُر ﻋﻠﻴﻚ ﺣﻴﺎﺗﻚ ﻓﺴﺘﻌﺮف ﺣﻴﻨﻬﺎ أﻧﻪ »ﻣﻦ املﺤﺎل أن ﺗﻨﻌﻢ ﺑﺎﻟﺴﻌﺎدة واملﺘﻌﺔ دون أن ﺗﺤﻴﺎ ﺣﻴﺎة ﻗﻮاﻣﻬﺎ اﻟﺤﻜﻤﺔ واﻟﻌﺪل واﻟﴩف ،وﻟﻦ ﺗﺘﻤﻜﻦ ﻣﻦ ذﻟﻚ ﻣﺎ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻫﺬه اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ اﻟﺜﻼث )اﻟﺤﻜﻤﺔ واﻟﻌﺪل واﻟﴩف( ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﺎﻟﻠﺬة؛ ﻓﻬﺬا ﻣﻦ ذاك«. وﻟﺬﻟﻚ ﻓﺈذا أردت أن ﺗﺤﻴﺎ و ً َﻓﻘﺎ ملﺒﺪأ اﻟ ﱠﻠﺬﱠة اﻟﺬي ﻳﻨﺎدي ﺑﻪ أﺑﻴﻘﻮر ﻓﻌﻠﻴﻚ أﻻ ﺗﺄﺗﻲ ﺑﺄي ﻇﻠﻢ؛ ﻷن »اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻌﺎدﻟﺔ ﻫﻲ أﻛﺜﺮ اﻟﺤﻴﻮات ﺧﻠﻮٍّا ﻣﻦ اﻟﻜﺪر «.أﻣﺎ ﺣﻴﺎة اﻟﻈﻠﻢ ﻓﻬﻲ ﺗﻌﺞ ﺑﺄﺳﺒﺎب اﻟﺘﻮﺗﺮ واﻟﻘﻠﻖ .وﻫﺬا ﻳﺬﻛﺮﻧﺎ ﺑﻤﺎ ﻗﺎﻟﻪ أﻓﻼﻃﻮن ﰲ »اﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ« ﻋﻨﺪﻣﺎ ﱠ ﺑني أن ﺣﻴﺎة اﻟﻄﻐﺎة ﺗﺨﻠﻮ ﻣﻦ اﻟﺴﻌﺎدة .ﻋﻼوة ﻋﲆ ذﻟﻚ ،ﻓﺈن اﻟﺸﺨﺺ اﻟﺤﻜﻴﻢ اﻟﺬي ﻳﺘﺒﻊ أﺑﻴﻘﻮر ﱢ اﻟﺘﺤﲇ ﺑﻘﻴﻤﺔ اﻟﺼﺪاﻗﺔ اﻟﺘﻲ أﺛﻨﻰ ﻋﻠﻴﻬﺎ أﺑﻴﻘﻮر ﻣﺮا ًرا وﺗَﻜﺮا ًرا ﰲ ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ. ﻳﺤﺮص ﻋﲆ ﺣﻴﺚ ذﻛﺮ أﻧﻬﺎ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ اﻟﺨﺎﻟﺪة اﻟﺘﻲ ﺗﻤﻨﺢ املﺮء ﻣﺘﻌً ﺎ داﺋﻤﺔ ﱢ ﺗﺨﻔﻒ ﻣﻦ وﻃﺄة اﻵﻻم اﻟﺘﻲ ﺗﺤﻤﻠﻬﺎ اﻟﺤﻴﺎة .وﺑﺸﻜﻞ ﻋﺎم ،ﻓﺈن املﺠﺘﻤﻊ اﻷﺑﻴﻘﻮري ﻣﺠﺘﻤﻊ ﺗﻐﻤُﺮه ا َمل َﻮ ﱠد ُة وﻳﻘﻮم ﻋﲆ اﻟﻜﺮم اﻟﻔﻄﺮي وﺣﺐ اﻟﺨري؛ ﻓﻘﺪ ﻧ َ ﱠ ﺺ أﺣﺪ ﺗﻌﺎﻟﻴﻤﻪ ﻋﲆ »أن ﻧﻔﻊ اﻵﺧﺮﻳﻦ ﻳﺤﻘﻖ َﻟﺬﱠ ًة أﻛﱪ ﻣﻦ ﻧﻴﻞ اﻟﻬﺒﺎت«. إن وﺻﻒ أﺑﻴﻘﻮر ﻟﻠﻔﻀﻴﻠﺔ ﺑﺄﻧﻬﺎ ﻃﺮﻳﻖ إﱃ اﻟﺤﻜﻤﺔ ﻳﺠﻨﻲ املﺮء ﻣﻨﻪ ﻣﻨﺎﻓﻊ ﻫﺎﺋﻠﺔ ﻗﺪ ﻳﺠﻌﻞ اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ ﺗﺒﺪو ﻛﺄﻧﻬﺎ ﻓﻠﺴﻔﺔ ﻣﺘﻤﺮﻛﺰة ﺣﻮل ﻧﻔﺴﻬﺎ .وﻟﻨﺎ أن ﻧﻌﱰف أﻧﻬﺎ ﻛﺬﻟﻚ ﻷﻧﻬﺎ ﺗُﺮ ﱢﻛﺰ ﻋﲆ رﻏﺒﺔ اﻟﻔﺮد ﰲ اﺗﱢﺒَﺎع اﻟ ﱠﻠﺬﱠة واﻟﺘﺨﻠﺺ ﻣﻦ اﻷﻟﻢ ،وإن ﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﱰﻛﻴﺰ ﻋﲆ رﻏﺒﺔ اﻟﻔﺮد ﱢ ﴎ اﻟﺴﻌﺎدة اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ، ﻳﻮﺿﺢ ﺑﺒﺴﺎﻃﺔ أن أﺑﻴﻘﻮر ﻛﺎن ﻳﺴﻌﻰ إﱃ اﻛﺘﺸﺎف ِ ﱢ ﻓﻠﻢ ﻳ ُﻜﻦ املﺠﺘﻤﻊ أو اﻟﺤﻴﺎة اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺑﺼﻔﺔ ﻋﺎﻣﺔ ﻣَ ﺤَ ﱠ ﻂ اﻫﺘﻤﺎﻣﻪ .وﻗﺪ ذﻛﺮ أن ﻋﺪم اﻫﺘﻤﺎﻣﻪ ﺑﺎملﺠﺘﻤﻊ ﻳﺮﺟﻊ ﻟﺮؤﻳﺘﻪ أن إﺻﻼح ﻛﻞ ﻓﺮد ً وﻓﻘﺎ ﻟﻠﻤﺬﻫﺐ اﻷﺑﻴﻘﻮري ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ إرﺷﺎده إﱃ ﻣﻜﺎﻣﻦ اﻟﺮﺿﺎ واﻟﻬﺪوء اﻟﺪاﺋﻢ ،ﺳﻴﺆدي ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ إﱃ ﺻﻼح املﺠﺘﻤﻊ ﻛﻜﻞ، ﻓﻜﻤﺎ ﻳﻘﻮل» :إن اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻬﺎدئ ﻻ ﻳُﺴﺒﱢﺐ ﺗﻮﺗ ًﺮا أو إزﻋﺎﺟً ﺎ ﻟﻐريه «.وﺑﺬﻟﻚ ﻳﺼﺒﺢ اﻹﻧﺴﺎن وﻧﺠﺪ أﻧﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺑﺪأ اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﻮن ﰲ اﻻﻫﺘﻤﺎم ﺑﺎﻟﺸﺌﻮن املﺠﺘﻤﻌﻴﺔ اﻟﺴﻌﻴﺪ ﻣﻮاﻃﻨًﺎ ﺻﺎﻟﺤً ﺎِ . 322
اﻟ ﱡ ﻄﺮق اﻟﺜﻼث إﱃ ﱠ اﻟﺴﻜِﻴﻨﺔ :اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ واﻟﺮواﻗﻴﺔ واﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ
واﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻴﺔ ﺗﻼﺷﺖ ﻋﻨﻬﻢ ﻫﺬه اﻟﻨﻈﺮة املﺘﻤﺮﻛﺰة ﺣﻮل اﻟﺬات ،وﻛﺎن ﺗﻨﺎوﻟﻬﻢ ﻟﻬﺬه اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ ﰲ إﻃﺎر ﺗﺤﻘﻴﻖ اﻟﻠﺬة واﻟﺮﻓﺎﻫﺔ ﻟﻠﻤﺠﺘﻤﻊ ﺑﺄﴎه. ﻻ ﺟﺪال أن ﺗﻌﺎﻣﻞ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ ﻣﻊ اﻟﺸﺌﻮن املﺠﺘﻤﻌﻴﺔ ﺑﻬﺬا اﻟﺸﻜﻞ ﻫﻮ اﻷﺳﺎس اﻟﺬي ﺧﺮﺟﺖ ﻣﻨﻪ ﻧﻈﺮﻳﺔ »اﻟﻨﻔﻌﻴﺔ« ﻟﺪى ﻛ ﱟﻞ ﻣﻦ ﺟريﻣﻲ ﺑﻨﺜﺎم )(١٨٣٢–١٧٤٨ وﺟﻮن ﺳﺘﻴﻮارت ِﻣﻞ )(١٨٧٣–١٨٠٦؛ ﻓﺒﻨﺜﺎم ﻳﺴﺘﻬﻞ رﺳﺎﻟﺘﻪ اﻟﺘﻲ ﺗﺪور ﺣﻮل اﻷﺧﻼق واﻟﺘﴩﻳﻊ ﺑﺬﻛﺮ املﻘﻮﻟﺔ اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ» :إن اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻗﺪ وﺿﻌﺖ اﻹﻧﺴﺎن ﺗﺤﺖ ﺣﻜﻢ ﺳﻴﺪﻳﻦ ﻣﺘﺴﻠﻄني ﻫﻤﺎ »اﻷﻟﻢ« و»اﻟﻠﺬة« «.وﻣﺒﺪأ املﻨﻔﻌﺔ اﻟﺬي ﺻﺎﻏﻪ ﺑﻨﺜﺎم ﻣﻦ ﻓﻜﺮة »ﺗﺤﻘﻴﻖ أﻛﱪ ﻗﺪر ﻣﻦ ﻗﺪر ﻣﻦ اﻟﺴﻌﺎدة ﻷﻛﱪ ﻋﺪد ﻣﻤﻜﻦ ﻣﻦ اﻟﺒﴩ« ﻳﻘﻮد اﻟﻔﺮد إﱃ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﺗﺤﻘﻴﻖ أﻛﱪ ٍ ﻗﺪر ﻣﻦ اﻷﻟﻢ .وﻫﺬا املﺒﺪأ ﻣﻦ ﺷﺄﻧﻪ أن ﻳﻘﻮد اﻟﺸﺨﺺ اﻟﻨﻔﻌﻲ إﱃ ﺣﺴﺎب ﻧﺘﺎﺋﺞ اﻟ ﱠﻠﺬﱠة وأﻗﻞ ٍ أﻓﻌﺎﻟﻪ ﻗﺒﻞ اﻟﴩوع ﰲ أي ﻋﻤﻞ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺗﺤﺪث أﺑﻴﻘﻮر ﻣﻦ ﻗﺒ ُﻞ ﻋﻦ ﺣﺴﺎب ﻣﺰاﻳﺎ اﻷﻓﻌﺎل ﻣﺴﺎوﺋِﻬﺎ .وﻳﺠﺐ ﻫﻨﺎ أن ﻧﺸري إﱃ أن اﻻﺧﺘﻼﻓﺎت اﻟﺮﺋﻴﺴﺔ ﺑني أﺑﻴﻘﻮر وأﺻﺤﺎب وﻣﺮاﺟﻌﺔ ِ املﺬﻫﺐ اﻟﻨﻔﻌﻲ ﻫﻲ اﺧﺘﻼﻓﺎت ﰲ اﻟﺪاﻓﻊ وﻣﻮاﻃﻦ اﻻﻫﺘﻤﺎم .وﻟﻌﻠﻬﺎ ﺗﻜﻤُﻦ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﲇ؛ ً أوﻻ: اﻫﺘﻢ اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﻮن ﺑﺎﻟﺘﺨﻠﺺ ﻣﻦ اﻟﺨﻮف واﻟﻘﻠﻖ ﰲ املﻘﺎم اﻷول ،ﰲ ﺣني أن أﺻﺤﺎب املﺬﻫﺐ اﻟﻨﻔﻌﻲ أ َ ْو َﻟﻮُا اﻫﺘﻤﺎﻣﻬﻢ ﺑﺎﻟﺨﻄﻮات واﻷﺳﺎﻟﻴﺐ اﻟﺘﻲ ﺗﺴﺎﻋﺪ ﻋﲆ ﺗﺤﻘﻴﻖ اﻟﺮﻓﺎﻫﺔ .ﺛﺎﻧﻴًﺎ :ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬي اﻧﴫف ﻓﻴﻪ أﺻﺤﺎب املﺬﻫﺐ اﻟﻨﻔﻌﻲ إﱃ ا ُملﴩﱢﻋني واﻟﺴﻴﺎﺳﻴني ،ﻛﺎن أﺑﻴﻘﻮر ﻳﺤﺬر أﺗﺒﺎﻋﻪ ﻣﻦ اﻻﻧﺨﺮاط ﰲ اﻟﺸﺄن اﻟﻌﺎم ،ﺣﻴﺚ ﻗﺎل» :ﻳﺠﺐ أن ﻧُﺤ ﱢﺮر أﻧﻔﺴﻨﺎ ﻣﻦ ﻗﻴﻮد اﻟﻌﻤﻞ اﻟﺮوﺗﻴﻨﻲ وأﻏﻼل اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ «.وﺑﻬﺬا ﻧﺮى أﻧﻪ ﻛﺎن ﻣﻦ املﻤﻜﻦ ﻟﻸﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ أن ﺗﻀﻊ ﻧﻈﺎﻣً ﺎ ﺟﻴﺪًا ﻹدارة اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻟﻮﻻ اﻧﴫاف أﺑﻴﻘﻮر ورﻓﺎﻗﻪ إﱃ اﻫﺘﻤﺎﻣﺎت أﻗﻞ إﺛﺎرة ﻟﻠﻘﻠﻖ. ﻛﺎن أﺑﻴﻘﻮر ﻳﻬﺘﻢ ﺑﻤﻘﺎوﻣﺔ اﻷﻓﻜﺎر واملﻌﺘﻘﺪات اﻟﺨﺎﻃﺌﺔ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ اﻟﺪﺧﻮل ﰲ ﺗﻨﺎﻓﺲ ً ﻣﻤﺎرﺳﺎ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻘﻮل ﻋﻨﻬﺎ إﻧﻬﺎ »ﻧﺸﺎط ﻳﻘﻮد ﻣﻦ ﻣﻊ أرﺑﺎب اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ،ﺣﻴﺚ ﻛﺎن ﺧﻼل اﻟﺤﻮارات واملﻨﺎﻗﺸﺎت إﱃ ﺗﺤﻘﻴﻖ اﻟﺴﻌﺎدة «.واﻟﺨﻄﻮة اﻷوﱃ ﻋﲆ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺴﻌﺎدة ﺗﺘﻤﺜﱠﻞ ﰲ ﺗﻮﻓري اﻻﺣﺘﻴﺎﺟﺎت اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻛﺎﻟﺘﺤﺮر ﻣﻦ اﻟﺠﻮع ً ﻣﺜﻼ .ورﻏﻢ أن »اﻟﺤﻮارات واملﻨﺎﻗﺸﺎت« ﰲ ﺣَ ﱢﺪ ذاﺗﻬﺎ ﻻ ﺗُﻐﻨﻲ ﻣﻦ ﺟﻮع ،ﻳﺮى أﺑﻴﻘﻮر أﻧﻬﺎ ﺗﻈﻞ ﻧﺎﻓﻌﺔ رﻏﻢ ذﻟﻚ، ﺣﻴﺚ ﻳﻘﻨﻌﻨﺎ ﺑﺄﻧﻨﺎ ﻟﺴﻨَﺎ ﰲ ﺣﺎﺟﺔ ﻟﻠﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﻄﻌﺎم .وملﺰﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺘﻮﺿﻴﺢ ،ﻳﺮى أﺑﻴﻘﻮر أن ﻣﻌﻈﻢ املﺸﻜﻼت اﻟﺘﻲ ﺗﻮاﺟﻬﻨﺎ ﻻ ﺗﻨﺒﻊ ﻣﻦ أﺣﻮاﻟﻨﺎ اﻟﻔﻌﻠﻴﺔ أو اﻟﻮاﻗﻌﻴﺔ ،وإﻧﻤﺎ ﻣﻦ ﻣﻌﺘﻘﺪاﺗﻨﺎ اﻟﺨﺎﻃﺌﺔ ﻋﻨﻬﺎ .ﻓﻜﻤﺎ ﻳﻘﻮل» :إن املﻌﺪة ﻟﻴﺴﺖ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﻣﻦ اﻟﻨﻬﻢ ،وإﻧﻤﺎ ﺗﻜﻤﻦ املﺸﻜﻠﺔ ﰲ اﻋﺘﻘﺎدﻧﺎ اﻟﺨﺎﻃﺊ أﻧﻬﺎ ﺗﺤﺘﺎج إﱃ اﻻﻣﺘﻼء داﺋﻤً ﺎ «.ﻛﻤﺎ ﻳﺮى أﻧﻨﺎ ﻻ ﻧﻜﺎﻓﺢ ﻓﻘﻂ ﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ أﻣﻮر وأﺷﻴﺎء ﻻ ﻧﺤﺘﺎﺟﻬﺎ وﻻ ﻧﺮﻏﺐ ﻓﻴﻬﺎ ،وإﻧﻤﺎ ﻧﺤﻦ ﻧﺨﺎف داﺋﻤً ﺎ 323
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻣﻦ أﺷﻴﺎء ﻟﻴﺴﺖ ﻣﻮﺟﻮدة ،وﻧﻘﻠﻖ ﻣﻦ أﻣﻮر ﻟﻦ ﺗﺤﺪث؛ ﻓﻨﺤﻦ ﻣﺘﻮﺗﱢﺮون ﺑﻔﻌﻞ اﻟﺨﺮاﻓﺎت ﻷﻧﻨﺎ ﻻ ﻧﻌﻠﻢ ﺷﻴﺌًﺎ ﻋﻦ ﻛﻴﻔﻴﺔ ﻋﻤﻞ اﻟﻜﻮن ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺠﻌﻠﻨﺎ ﻣ َ ُﺜﻘﻠﻮن ﺑﻔﻜﺮة اﻟﻘﺪَر وﻓﻜﺮة املﻮت ﻷﻧﻨﺎ ﻟﻢ ﻧﺪرك ﻣﻌﻨﻰ اﻟﺤﻴﺎة ،ﻓﻤﺜﻞ ﻫﺬه اﻷﻓﻜﺎر واﻟﻬﻤﻮم ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﻄﻴﺢ ﺑﺴﻌﺎدﺗﻨﺎ. واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ ﻧﻮﻋً ﺎ ﻣﻦ املﻌﺮﻓﺔ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ،ﺗُﻌَ ﱡﺪ ﺧري ﻣﺠﻴﺐ ﻋﲆ ﻣﺜﻞ »ﻫﺬه املﺨﺎوف اﻟﺘﻲ ﺗﺜريﻫﺎ اﻟﻈﻮاﻫﺮ اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ واملﻮت واﻟﻘﻠﻖ«. ﻛﺎن اﻟﺘﺨﻠﺺ ﻣﻦ ﻣﺨﺎوف املﻮت ﻣﻦ اﻷﻣﻮر اﻟﺘﻲ ِ ﻋﻤﻞ ﻋﻠﻴﻬﺎ أﺑﻴﻘﻮر ورﻓﺎﻗﻪ .ﻓﻘﺎل إن اﻟﻘﺼﺺ اﻟﺘﻲ ﺗﺪو ُر ﺣﻮل اﻷرواح اﻟﴩﻳﺮة ﻟﻠﻤﻮﺗﻰ ﺗﺒﻌﺚ ﻋﲆ اﻟﺨﻮف واﻟﺮﻋﺐ ﻷن اﻟﻌﻘﻞ أو اﻟ ﱡﺮوح أﺷﻴﺎء ﻣﺎدﻳﺔ ﻻ ﺗﺒﻘﻰ ﺑﻌﺪ وﻓﺎة اﻟﺠﺴﺪ .ﻛﺎن ﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس ﻗﺪ ذﻫﺐ إﱃ أن »اﻟﻌﻘﻞ واﻟﺮوح ﻛﻴﺎﻧﺎن ﻣﺎدﻳﺎن«؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﻼ ﺑﺪ أن ﻳﺼﻴﺒﻬﻤﺎ ﻣﺎ ﻳﺼﻴﺐ اﻟﺠﺴﺪ ﻷن »اﻟﻌﻘﻞ ﺎن اﻷﻃﺮاف ،وﻳُﻮ ِﻗ َ ﺎن اﻟﺠﺴﺪ ﻣﻦ اﻟﻨﻮم ،وﻳﻐريان ﺗﻌﺒريات وﺟﻪ اﻹﻧﺴﺎن ﻈ ِ واﻟ ﱡﺮوح ﻳُﺤَ ﱢﺮ َﻛ ِ ﻛﻤﺎ ﻳ َُﺴ ﱢري َِان ﺟﻤﻴﻊ ﻧﺸﺎﻃﺎت اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺘﻲ ﺗﻨﻄﻮي ﺑﺸﻜﻞ أو ﺑﺂﺧﺮ ﻋﲆ ﺣﺎﺳﺔ اﻟﻠﻤﺲ، واﻟﻠﻤﺲ ﻳﺘﻀﻤﻦ اﻹﺣﺴﺎس ﺑﺎملﺎدة .وﻣﺎ دام اﻷﻣﺮ ﻛﺬﻟﻚ ﻓﻜﻴﻒ ﻟﻨﺎ أن ﻧُﻨﻜﺮ ﻃﺒﻴﻌﺘﻬﻤﺎ املﺎدﻳﺔ؟« وﻟﻌﻞ ﻣﺎ ﻳﺠﺐ اﻹملﺎم ﺑﻪ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺠﺰﺋﻴﺔ ﻫﻮ رؤﻳﺔ دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﻟﻠﺤﻴﺎة ﻋﲆ ً ﻓﻮﻓﻘﺎ ﻟﻬﺬه اﻟﺮؤﻳﺔ ﻳﺆدﱢي اﻧﺘﻈﺎم اﻟﺬﱠ ﱠرات ﰲ ﺷﻜﻞ أﻧﻬﺎ ﺗﻤﺜﻴﻞ ﻟﻠﺘﻔﺎﻋﻞ املﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻲ ﻟﻠﺬﱠ ﱠرات. ﻣﻌني إﱃ وﺟﻮد ﻛﺎﺋﻦ ﺣﻲ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ اﻟﺘﻔﻜري واﻹﺣﺴﺎس واﻟﺘﺤﺮك وﻏري ذﻟﻚ ﻣﻦ أﻓﻌﺎل. وﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺘﻔ ﱠﻜﻚ ﻫﺬا اﻻﻧﺘﻈﺎم وﻳﺤﺪث املﻮت ﻟﻦ ﻳﺒﻘﻰ ﻫﻨﺎك ﺗﻔﻜري أو ﺷﻌﻮر؛ وﻋﻠﻴﻪ ﻓﺈن ﺑﺘﺠﺮﺑﺔ املﻮت وﻣﻨﺎزﻋﺔ آﻻم ﺣﺎﻟﺔ املﻮت ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺘﻤﺜﻞ ﻓﻴﻬﺎ املﺘﻌﺔ أو اﻷﻟﻢ .ﻓﺎملﺮور ِ اﻻﺣﺘﻀﺎر ﻗﺪ ﻻ ﻳﻨﻄﻮي ﻋﲆ أي ﻗﺴﻂ ﻣﻦ اﻟ ﱠﻠﺬﱠة ،وﻟﻜﻦ ﺣﺎﻟﺔ املﻮت ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﻛﺬﻟﻚ؛ »ﻓﻤﺎ دﻣﻨﺎ ﻧﺤﻦ ﻣﻮﺟﻮدﻳﻦ وأﺣﻴﺎء ﻓﺎملﻮت ﻏﺎﺋﺐ ،ﻓﺈذا ﺣﴬ املﻮت ﻏﺒﻨﺎ ﻧﺤﻦ«. ﱠ املﺘﻮﰱ ﻻ ﻳﺨﺘﻠﻒ ﺣﺎﻟُﻪ ﺑﻌﺪ املﻮت ﻋﻦ ﺣﺎﻟﻪ ﻛﺎن ﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس ﻗﺪ أﺷﺎر إﱃ أن اﻹﻧﺴﺎن ﻗﺒﻞ املﻴﻼد .وﻟﻸﺑﻴﻘﻮرﻳني ﻛﺜريٌ ﻣﻦ املﻼﺣﻈﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺆ ﱢﻛﺪ ﻫﺬا اﻷﻣﺮ» :إن اﻟﻔﻬﻢ اﻟﺼﺤﻴﺢ ﻟﻠﻤﻮت ﻋﲆ أﻧﻪ ﺑﻼ ﻣﻌﻨًﻰ ﻳﺠﻌﻠﻨﺎ ﻧﺴﺘﻤﺘﻊ ﺑﻔﻜﺮة اﻟﺨﻠﻮد ،وﻫﺬا ﻻ ﻳﺤﺪث ﺑﺈﺿﺎﻓﺔ وﻗﺖ ﻻﻧﻬﺎﺋﻲ ﻟﻠﺤﻴﺎة ،وإﻧﻤﺎ ﻣﻦ ﺧﻼل ﺗﺤﺮﻳﺮﻧﺎ ﻣﻦ رﻏﺒﺔ اﻟﺨﻠﻮد ﻧﻔﺴﻬﺎ «.وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈن اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺤﻜﻴﻢ ﻻ ﻳﺤﺘﻘﺮ اﻟﺤﻴﺎة وﻻ ﻳﻬﺎب املﻮت ،وﻟﻜﻦ ﻛﻤﺎ أن ﻫﺬا اﻟﺤﻜﻴﻢ ﻳﺨﺘﺎر ﻧﻮع اﻟﻄﻌﺎم ﻗﺪر ﻣﻦ اﻟﻠﺬة وﻻ ﻳﻨﺸﻐﻞ ﺑﺎﺧﺘﻴﺎر اﻟ َﻜﻤﱢ ﻴﱠﺔ اﻟﻜﱪى ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻄﻌﺎم؛ اﻟﺬي ﻳُﺪﺧﻞ ﻋﻠﻴﻪ أﻛﱪ ٍ ﻓﺈﻧﻪ ﻛﺬﻟﻚ ﻳﺠﺪ اﻟﺴﻌﺎدة ﰲ أﻓﻀﻞ اﻷوﻗﺎت ﻻ أﻃﻮﻟﻬﺎ .وﻋﻨﺪ اﻟﺘﻔﻜري ﰲ اﻷﻣﺮ ﺳﻨﺪرك أﻧﻨﺎ ﻟﺴﻨﺎ ﰲ ﺣﺎﺟﺔ إﱃ ﺣﻴﺎة أﺑﺪﻳﺔ ﻟﻨﺤﻈﻰ ﺑﺤﻴﺎة ﻛﺎﻣﻠﺔ .إن اﻟﺘﻔﻜري ﰲ املﻮت واﻟﺮﻏﺒﺔ ﰲ اﻟﺨﻠﻮد ﻫﻲ اﻷﻣﻮر اﻟﺘﻲ ﺗُﺬﻫِ ﺐ وﻗﺘﻨﺎ ُﺳﺪًى .وﻛﺬﻟﻚ اﻟﺤﺎ ُل ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﺨﻮف ﻣﻦ اﻟﺨﺮاﻓﺎت 324
اﻟ ﱡ ﻄﺮق اﻟﺜﻼث إﱃ ﱠ اﻟﺴﻜِﻴﻨﺔ :اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ واﻟﺮواﻗﻴﺔ واﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ
اﻟﺘﻲ ﻋﺎﻟﺠﺘﻬﺎ ﻧﻈﺮﻳﺔ دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ اﻟﺬﱠ ﱢرﻳﱠﺔ ،ﻓﺘﺘﻠﺨﺺ رؤﻳﺘﻪ ﰲ أن اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻌﻠﻮي ﺑﻌﺠﺎﺋﺒﻪ ﻫﻮ ﻣﺎدة ﺑﺤﺚ ﰲ اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺬﱠ ﱢري وﻻ ﻋﻼﻗﺔ ﻟﻬﺎ ﺑﻄﻘﻮس ﺧﺮاﻓﻴﺔ ﻛﺤﺮق اﻟﺪﺟﺎج أو اﻟﺒﻜﺎء ﺗﴬﱡ ﻋً ﺎ ﻟﻠﺴﻤﺎء ﺑﻬﺎ .ﻓﺎﻟﻜﻮن ﻻ ﺗﺘﺤﻜﻢ ﻓﻴﻪ اﻵﻟﻬﺔ وإﻧﻤﺎ اﻟﺬﱠ ﱠرات ،واﻟﺬﱠ ﱠرات ﻻ ﺗﺤﺘﺎج إﱃ ﻣﻦ ﻳﺘﴬع ﻟﻬﺎ ﺑﺎﻟﺼﻠﻮات أو ﻣﻦ ﻳﺘﻘ ﱠﺮب إﻟﻴﻬﺎ ﺑﺎﻷﺿﺎﺣﻲ ،ﺑﻞ إن اﻵﻟﻬﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻻ ﺗُﻠﻘﻲ ً ﺑﺎﻻ ﻟﻬﺬه املﻤﺎرﺳﺎت؛ ﻓﻬﻲ ﻣﻨﻬﻤﻜﺔ ﰲ ﺣﻴﺎ ٍة ﻣﻦ اﻟﺴﻜﻴﻨﺔ واﻟﻬﺪوء .أﻣﺎ اﻻﺳﺘﻤﺎع إﱃ ﱡ ﺗﻮﺳﻼت ﱡ اﻟﺘﺪﺧﻞ ﰲ إدارة اﻟﻌﺎﻟﻢ وﺗﴫﻳﻒ ﺷﺌﻮﻧِﻪ ﺑﺈﺣﺪاث َرﻋْ ٍﺪ ﻫﻨﺎ أو ﺑﺮق ﻫﻨﺎك ،ﻓﻬﻮ اﻟﺒﴩ أو آﺧﺮ ﳾء ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺸﻐﻞ اﻵﻟﻬﺔ. ورﻏﻢ أن أﺑﻴﻘﻮر ﻳﺘﺤﺪﱠث ﻋﻦ اﻵﻟﻬﺔ ﻓﺈن ﺷﻜﻞ اﻋﺘﻘﺎده ﻓﻴﻬﺎ أﻣ ٌﺮ ﻳﻜﺘﻨﻔﻪ اﻟﻐﻤﻮض؛ إذ ﻻ ﺷﻚ أﻧﻪ ﻗﺪ رﻓﺾ اﻷﻗﺎوﻳﻞ اﻟﺘﻲ ﺗﺬﻫﺐ إﱃ أن اﻵﻟﻬﺔ ﺗﺘﺪﺧﻞ ﰲ اﻟﺸﺌﻮن اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ، وﻛﺬﻟﻚ ﻗﺼﺔ اﻟﺨﻠﻖ اﻟﺘﻲ وردت ﰲ ﻣﺤﺎورة أﻓﻼﻃﻮن »ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس« .وﻗﺪ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﱡ ﻟﺘﺪﺧﻞ اﻵﻟﻬﺔ ﰲ ﻋﻤﻞ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ،وﻫﻮ داع اﻟﺬﱠ ﱢرﻳﱠﺔ ﺗﻔﺘﺨﺮ أﻧﻬﺎ ﺗُﺜﺒﺖ ﻋﺪم وﺟﻮد ٍ اﻟﻔﺨﺮ اﻟﺬي ﺗﻜﺒﱠﺪ ﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس ﻛﺜريًا ﻣﻦ اﻟﻌﻨﺎء ﻛﻲ ﻳُﻌَ ﱢﻠ َﻞ ﻟﻪ ﻣﻦ ﺧﻼل ﻧﻈﺮﻳﺎﺗﻪ اﻟﺘﻲ ﺗُﻨﻌﺖ ﺑﺎﻟﻌﺒﻘﺮﻳﺔ أﺣﻴﺎﻧًﺎ وﺑﺎﻟﻐﺮاﺑﺔ أﺣﻴﺎﻧًﺎ أﺧﺮى ،وﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﻧﺎﻗﺸﺖ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ واﻷﻣﻮر ﺑﺪءًا ﺑﺎملﻐﻨﺎﻃﻴﺲ واﻧﺘﻬﺎءً ﺑﺎﻟﺤﻠﻴﺐ .وﺗﺒﻨﻰ اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﻮن ﻟﺘﻔﺴري اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ املﺤﻜﻢ ﻟﻠﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﺤﻴﺔ رأﻳًﺎ ﻳُﺸﺒﻪ ﻧﻈﺮﻳﺔ اﻻﻧﺘﺨﺎب اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ﻟﺪى داروﻳﻦ ،ﺣﻴﺚ أﺧﺬﻫﺎ اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﻮن ﻋﻦ إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ .ﻓﺎﻵﻟﻬﺔ اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺣﺘﻰ ﺑﺤﺎﺟﺔ إﱃ اﻻﺣﺘﻔﺎظ ﺑﺎﻟﺴﻤﺎء ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﻣﻦ اﻟﺤﺮﻛﺔ اﻟﴪﻣﺪﻳﺔ ﻛﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻷرﺳﻄﻲ .ورﻏﻢ ذﻟﻚ ﻓﺈن أﺑﻴﻘﻮر ذﻫﺐ إﱃ ﻣﺎ ذﻫﺐ إﻟﻴﻪ أرﺳﻄﻮ ﻣﻦ أن اﻻﻋﺘﻘﺎد ﰲ وﺟﻮد اﻵﻟﻬﺔ أﻣﺮ ﻣﻨﺘﴩ ﺑﺪرﺟﺔ واﺳﻌﺔ وﻛﺒرية ﻳﺴﺘﺤﻴﻞ ﻣﻌﻬﺎ أن ﻳﻜﻮن ﻣﺨﻄﺌًﺎ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ،وإن ﻛﺎن ﻻ ﻳﺘﱠﺼﻒ ﻛﺬﻟﻚ ﺑﺎﻟﺼﺤﺔ واﻟﻜﻤﺎل اﻟﺘﺎﻣﱠ ْني. وﻳﺒﺪو أن آﻟﻬﺔ أﺑﻴﻘﻮر ﻟﻴﺴﺖ ﺳﻮى ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﺧﻴﺎﻟﻴﺔ ﻣﻦ اﻟﺬﱠ ﱠرات؛ ﻓﻬﻲ ﻟﻴﺴﺖ أﺟﺴﺎﻣً ﺎ ﺻﻠﺒﺔ ﻣﺜﻠﻨﺎ وإﻧﻤﺎ ﺗﺸﺒﻪ ﻛﺜريًا اﻟﺘﻴﺎرات اﻟﺬﱠ ﱢرﻳﱠﺔ اﻟﺘﻲ ﺗَﺤﺪ َ ُ ﱠث ﻋﻨﻬﺎ أﺑﻴﻘﻮر وﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس ﻣﺜﻼ ﻓﺈن ﻣﺎ ﻳﺤﺪث — وﻓﻘﺎً ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺣﺎو ََﻻ ﺗﻔﺴري اﻹدراك واﻟﺨﻴﺎل؛ ﻓﻌﻨﺪﻣﺎ ﻧﻨﻈﺮ إﱃ ﺷﺠﺮة ً ﻟﻨﻈﺮﻳﺘﻬﻤﺎ — ﻫﻮ أن اﻟﺸﺠﺮة ﺗُﻄﻠِﻖ ً ﻫﺎﻟﺔ ﻣﻦ اﻟﺬﱠ ﱠرات اﻟﺘﻲ ﺗﺘﺨﺬ ﺷﻜﻞ اﻟﺸﺠﺮة ﻗﺒﻞ أن ﺗﺪﺧﻞ إﱃ أﻋﻴﻨﻨﺎ؛ وﺑﻬﺬا ﻓﺈن ﻛﻞ ﳾء ﺣﻮﻟﻨﺎ ﻳﻄﻠﻖ ﻃﺒﻘﺎت رﻗﻴﻘﺔ ﻣﻦ اﻟﺬﱠ ﱠرات ﺗُﺸﺒﻪ اﻟﺪ َ ﱡﺧﺎن املﻨﺒﻌﺚ ﻣﻦ ﻛﺘﻠﺔ ﺧﺸﺒﻴﺔ ﻣﺤﱰﻗﺔ ،وﻣﻦ ﺧﻼل ﻫﺬه اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﺗﺤﺪُث اﻟﺮؤﻳﺔ .وﺗﺨﺘﻠﻂ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻫﺬه اﻷﻏﺸﻴﺔ اﻟﺮﻗﻴﻘﺔ ﺑﺎﻟﺮﻳﺎح — »ﻓﻬﻲ رﻗﻴﻘﺔ وﻧﺎﻋﻤﺔ ﺑﺤﻴﺚ ﻳﺴﻬﻞ اﺧﺘﻼﻃﻬﺎ ﺑﺎﻟﻬﻮاء ً ﻣﺴﺌﻮﻻ ﻋﻦ ﺣﺪوث ﻋﻨﺪ ﻣﺼﺎدﻓﺘﻪ« — وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻨﺘﺞ ﻋﻨﻪ ﺗﺠﻤﱡ ﻊ ﻫﺠني ﻣﻦ اﻟﺬﱠ ﱠرات ﻳﻜﻮن اﻟﻬﻠﻮﺳﺔ ﻋﻨﺪ دﺧﻮﻟﻪ إﱃ ﻋﻘﻮﻟﻨﺎ ،أو ﻳﺠﻌﻠﻨﺎ ﻧﺮى ﻛﺎﺋﻨﺎت ﺧﺮاﻓﻴﺔ ﻛﺎﻟﻘﻨﻄﻮر واﻟﺤﺼﺎن 325
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
وﺣﻴﺪ اﻟﻘﺮن .ﻛﻤﺎ ﻳﺮﺟﻊ ﺣﺪوث اﻷﺣﻼم ووﺟﻮد اﻟﺨﻴﺎل ً أﻳﻀﺎ إﱃ وﺟﻮد أﴎاب ﻣﻦ اﻟﺬﱠ ﱠرات ﺗﺪﺧﻞ إﱃ اﻟﺮأس؛ ﻓﺮؤﻳﺔ ﺷﺒﺢ أو ﻛﺎﺑﻮس ﺗﺤﺪُث ﻧﺘﻴﺠﺔ دﺧﻮل ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﻣﻦ ذَ ﱠر ٍ ات ﺣُ ﱠﺮ ِة اﻟﺤﺮﻛﺔ ﻣﻦ اﻟﻬﻮاء إﱃ اﻟﺮأس ،واﺧﺘﻼﻃﻬﺎ ﺑﻪ اﺧﺘﻼ ً ﻃﺎ ﻗﻮﻳٍّﺎ .وﻓﻜﺮة اﻵﻟﻬﺔ ﻛﺬﻟﻚ ﻛﻤﺎ ﻳﺮاﻫﺎ أﺑﻴﻘﻮر ﻣﺎ ﻫﻲ إﻻ ﴐب ﻣﻦ اﻷﺣﻼم اﻟﺮﻗﻴﻘﺔ ا ُمل َ ﺮﻫ َﻔﺔ .ﻓﺄﻓﻜﺎر اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻲ اﻟﻘﺪﻳﻢ ﻋﻦ اﻵﻟﻬﺔ ﻫﻲ أﻓﻜﺎ ٌر ﻣﺜﺎﻟﻴﺔ ﺗُﺼﻮﱢر اﻵﻟﻬﺔ ﻋﲆ ﺻﻮر ﺷﺒﻴﻬﺔ ﺑﺎﻹﻧﺴﺎن ،ﻓﺘﺘﺪﻓﻖ ﻫﺬه اﻟﺼﻮر ﻣﻦ اﻟﺨﺎرج إﱃ اﻟﺪاﺧﻞ ﻟﺘﻤﺘﺰج ﺑﺒﻌﺾ أﻓﻜﺎر اﻟﻜﻤﺎل املﻮﺟﻮدة ﺑﺎﻟﻨﻔﺲ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ .ﻓﺼﻮرة اﻵﻟﻬﺔ ﻟﺪى اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻲ اﻟﻘﺪﻳﻢ ﺗُﺸ ِﺒﻪ اﻟﺒﴩ ﻟﺪرﺟﺔ ﻛﺒرية؛ ﻷﻧﻪ ﻫﻜﺬا ﻛﺎن ﻳﺘﺼﻮرﻫﺎ. ﻓﻜﺎن ﻳﺘﺼﻮر اﻵﻟﻬﺔ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﻣﻦ اﻟﺴﻜﻴﻨﺔ واﻟﻬﺪوء اﻟﺘﱠﺎﻣﱠ ْني ﻷن ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ — ﰲ ﻧﻈﺮ أﺑﻴﻘﻮر — ﻫﻲ اﻟﺘﻲ َ ﻇ ﱠﻦ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻲ أﻧﻬﺎ ﺻﻮرة اﻟﺤﻴﺎة ا ُملﺜﲆ ،ﺑﻴﺪ أن ﻫﺬا اﻟﺤﺪﻳﺚ ً ﺳﺆاﻻ ﻣﺤﻮرﻳٍّﺎ وﻫﻮ :ﻫﻞ ﻫﺬه اﻵﻟﻬﺔ ﻣﻮﺟﻮدة ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ أم أﻧﻬﺎ ﻣﺤﺾ ﻣﻦ ﺷﺄﻧﻪ أن ﻳﺜري ﺻﻮر ﺗﻘﺒﻊ ﰲ دﻫﺎﻟﻴﺰ اﻟﺨﻴﺎل؟ ً أﻣﺎ إﺟﺎﺑﺔ أﺑﻴﻘﻮر ﻓﻜﺎﻧﺖ ﻣﺜرية ﻟﻠﺪﻫﺸﺔ ﺣﻴﺚ رأى أﻧﻬﺎ ﺗﺘﻀﻤﻦ ﻛ َِﻼ اﻷﻣﺮﻳﻦ ،ﻓﺄﺑﻴﻘﻮر ﻛﺎن ﻳﺮى أن ﺟﻤﻴﻊ اﻷﻓﻜﺎر واﻟﺼﻮر املﻨﻄﺒﻌﺔ ﰲ اﻟﺬﻫﻦ ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ؛ أي إن ﻛﻞ ﻣﺎ ﺗﺴﺘﻘﺒﻠﻪ ﱡ ﺣﻮاﺳﻨﺎ ﻻ ﺑﺪ ﻟﻪ ﻣﻦ أﺳﺎس ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ ،ﻓﻼ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻜﻮن ﻫﺬه اﻷﻓﻜﺎر ﺧﺎﻃﺌﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ .وﻣﻦ ﺛَﻢﱠ ،ﻓﻤﺎ ﺗﺨﱪﻧﺎ ﺑﻪ ﺣﻮاﺳﻨﺎ ﻣﻦ وﺟﻮد آﻟﻬﺔ — ﻳﺮى أﺑﻴﻘﻮر أﻧﻬﺎ ﺗﻮﺟﺪ ﰲ أﺣﻼﻣﻨﺎ ورؤاﻧﺎ — ﻻ ﺑﺪ أن ﻳﻜﻮن ﻣﻮﺟﻮدًا ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ .وﻟﻜﻦ رﻏﻢ ذﻟﻚ ﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﺘﻌﺎﻣﻞ ﻣﻊ ﻫﺬه اﻷﻓﻜﺎر ﺑﺸﻜﻞ ﻣﻦ اﻟﺤﺮص؛ ﻷﻧﻪ ﻣﻦ اﻟﺴﻬﻞ أن ﺗُ ﱠ ﻔﴪ اﻟﺮﺳﺎﺋﻞ اﻟﺘﻲ ﺗﺮﺳﻠﻬﺎ ﻟﻨﺎ اﻟﺤﻮاس ﺑﺸﻜﻞ ﺧﺎﻃﺊ .وﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن ﺟﻤﻴﻊ أﻓﻜﺎرﻧﺎ ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ؛ »ﻓﺈن آراءﻧﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﻛﺬﻟﻚ ،ﺣﻴﺚ إﻧﻬﺎ أﺣﻜﺎم ﻧﺼﺪرﻫﺎ ً وﻓﻘﺎ ﻷﻓﻜﺎرﻧﺎ واﻧﻄﺒﺎﻋﺎﺗﻨﺎ .وﻫﺬه اﻷﺣﻜﺎم ﻗﺪ ﺗﺼﻴﺐ وﻗﺪ ﺗﺨﻄﺊ اﻋﺘﻤﺎدًا ﻋﲆ ﻣﺎ ﻧﻀﻴﻔﻪ إﱃ أﻓﻜﺎرﻧﺎ أو ﻣﺎ ﻧﻘﺘﻄﻌﻪ ﻣﻨﻬﺎ «.ﻓﻌﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ،ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺮاودﻧﺎ ﺣُ ﻠﻢ ﻋﻦ اﻟﺤﺼﺎن وﺣﻴﺪ اﻟﻘﺮن ﻻ ﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﻧﺘﻌﺠﱠ ﻞ اﻷﻣﺮ وﻧُﻄﻠِﻖ ﺣﻜﻤً ﺎ ﺑﻮﺟﻮد ﻛﺎﺋﻦ ﻣﺎدي ﻳﺘﺠﻮل ﰲ اﻟﺠﻮار وﻟﻪ ﻗﺮن ﺑﺎرز ﻣﻦ ﺟﺒﻬﺘﻪ اﻟﺘﻲ ﺗﺸﺒﻪ ﺟﺒﻬﺔ اﻟﻔﺮس؛ ﻓﻬﻨﺎ ﻳﻜﻮن ﺣﻜﻤﻨﺎ أو رأﻳﻨﺎ ﻗﺪ ﺑُﻨﻲ ﻋﲆ ﻏري دﻟﻴﻞ .ﻓﺮﺑﻤﺎ اﺳﺘﻘﺒﻠﺖ ﺣﻮاﺳﻨﺎ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﻣﻦ اﻟﺬﱠ ﱠرات ﻋﲆ ﺷﻜﻞ اﻟﺤﺼﺎن وﺣﻴﺪ اﻟﻘﺮن ،ﺛﻢ ﱠ ﺗﺪﻓﻘﺖ ﻫﺬه اﻟﺬﱠ ﱠرات إﱃ داﺧﻞ رءوﺳﻨﺎ .وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﺈﻧﻪ ﺑﺎﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ إﻣﺪاد ﺣﻮاﺳﻨﺎ ﻟﻨﺎ ﺑﺼﻮر و ُر ًؤى ﺣﻮل اﻵﻟﻬﺔ )ﻛﻤﺎ ﻳﺮى أﺑﻴﻘﻮر( ﻓﻬﺬا ﻻ ﻳﻌﻨﻲ أﻧﻬﺎ ﻛﺎﺋﻨﺎت ﻣﺎدﻳﺔ ﺗﺘﺠﻮﱠل ﰲ اﻟﻜﻮن وﺗُﺤﺪِث اﻟﺮﻋﺪ واﻟﺼﻮاﻋﻖ .ﻓﺎﻵﻟﻬﺔ ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ ﺑﺎﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻜﻮﱠن ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺟﻤﻴﻊ ﺻﻮرﻧﺎ اﻟﺤﺴﻴﺔ؛ أي إﻧﻬﺎ ﻣﺤﺾ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﺬﱠ ﱠرات اﻟﺘﻲ ﺗﺪﺧﻞ ﻋﻘﻮﻟﻨﺎ؛ 326
اﻟ ﱡ ﻄﺮق اﻟﺜﻼث إﱃ ﱠ اﻟﺴﻜِﻴﻨﺔ :اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ واﻟﺮواﻗﻴﺔ واﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ
ﻓﻬﻲ ﺻﻮر ذَ ﱢرﻳﱠﺔ ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻟﻴﺴﺖ أﺟﺴﺎدًا ﻣﺎدﻳﺔ ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ؛ وﻟﻬﺬا اﻟﺴﺒﺐ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن آن واﺣﺪ. ﻧﺼﻒ اﻵﻟﻬﺔ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﻣﻮﺟﻮدة ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ وﻧﺴﺞ ﻣﻦ ﺧﻴﺎل ﰲ ٍ وﻟﻜﻦ إذا ﻛﺎﻧﺖ اﻵﻟﻬﺔ ﻣﻮﺟﻮدة ً ﻓﻌﻼ ﺑﻨﻔﺲ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻮﺟﺪ ﺑﻬﺎ اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﺨﺮاﻓﻴﺔ ﻓﻠﻤﺎذا ﻟﻢ ﻳﺨﺘﴫ أﺑﻴﻘﻮر اﻟﻄﺮﻳﻖ وﻳﻌﱰف أﻧﻪ ﻣُﻠﺤﺪ؟ ﻓﻠﻮ أﻗﺎم ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ املﺠﺎﻧني ﻣﻌﺒﺪًا ﻟﺒﻌﺾ اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﺨﺮاﻓﻴﺔ ﻛﺎﻟﺤﺼﺎن وﺣﻴﺪ اﻟﻘﺮن ً ﻣﺜﻼ ،ﻟﻢ ﻳﻜﻦ أﺑﻴﻘﻮر ﻟﻴﺬﻫﺐ ﻟﻠﺼﻼة ﻓﻴﻪ ،ﻓﻠﻤﺎذا اﻋﱰف أﺑﻴﻘﻮر إذن ﺑﺎﻵﻟﻬﺔ وﻟﻮ ِﺷﻔﺎﻫﻴٍّﺎ؟ ﻳﺮﺟﻊ ذﻟﻚ — ﺿﻤﻦ أﻣﻮر أﺧﺮى — إﱃ أن ﻣﻦ ﻳُﻨﻜِﺮ وﺟﻮد اﻵﻟﻬﺔ ﰲ أﺛﻴﻨﺎ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻟﺚ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟِﻴﻨﻌﻢ ﺑﻌِ ﻴﺸﺔ ﻫﺎدﺋﺔ .ﻛﻤﺎ أن اﻵﻟﻬﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺗُﻌَ ﱡﺪ وﺳﻴﻠﺔ ﻧﺎﻓﻌﺔ ﻟﺒﻴﺎن ﻣﻔﺎﻫﻴﻢ أﺑﻴﻘﻮر ،ﻓﺎﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ اﻵﻟﻬﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﻴﺎ ﺣﻴﺎة اﻟﺴﻜﻴﻨﺔ واﻟﺴﻼم ﻛﺎن ﻣﻦ أﻧﺠﻊ اﻷﺳﺎﻟﻴﺐ ﻟﻠﺘﻌﺒري ﻋﻦ ﻣﻌﺘﻘﺪاﺗﻪ ﺣﻮل اﻟﺤﻴﺎة. ﴎا ﺑﺸﺄن اﻵﻟﻬﺔ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻟﺪﻳﻪ ﻣﻦ اﻟﻮﻗﺖ رﺑﻤﺎ ﻛﺎن اﻟﺸﻚ ﻳﺨﺎﻟﺞ أﺑﻴﻘﻮر ٍّ ً ﻣﺎ ﻳﻀﻴﻌﻪ ﰲ ﻣﺬﻫﺐ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ اﻟﺬي ﻛﺎن آﺧﺬا ﰲ اﻻﻧﺘﺸﺎر ﺑني ﺟﻤﻮع اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ آﻧﺬاك. ﺨﱪُه اﻟﺤﻮاس ﻛﺎن ﻳُﻌَ ﱡﺪ ردٍّا ﻋﲆ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ .وﻫﺬه املﺴﺄﻟﺔ وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺎﻋﺘﻘﺎده ﰲ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻣﺎ ﺗُ ِ ﺗﺮﺟﻊ إﱃ ﻋﻬﺪ دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ اﻟﺬي ﻗﺎل إن اﻟﺤﻮاس ﺗُ ِ ﻌﻄﻴﻨَﺎ اﻟﺘﻲ ﺣﺎول أﺑﻴﻘﻮر ﻣﻌﺎﻟﺠﺘﻬﺎ ِ ﺻﻮر ًة ﻣُﻀ ﱢﻠﻠﺔ ﻋﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻷﻧﻬﺎ ﺗُﺼﻮﱢر ﻟﻨﺎ اﻷﺷﻴﺎء ﺣُ ﻠﻮ ًة أو ُﻣ ﱠﺮ ًة أو ﺳﺎﺧﻨﺔ أو ﺑﺎردة أو ﻏري ذﻟﻚ ﻣﻦ اﻟﺼﻔﺎت ،ﰲ ﺣني أﻧﻪ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﺳﻮى ذﱠ ﱠرات وﻓﺮاغ .ﻛﺎن دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﻳﺮى أن ﺑﻌﺾ اﻟﺨﺼﺎﺋﺺ ﻣﺜﻞ املﺬاق واﻟﻠﻮن ﺗﻨﺸﺄ ﰲ اﻟﻌﻘﻞ ،ﻓﻬﻲ ﻣﺠﺮد اﻧﻄﺒﺎﻋﺎت ﺗﺘﻜﻮن ﰲ ﻋﻘﻮﻟﻨﺎ ﺗﺄﺛ ﱡ ًﺮا ﺑﺘﺠﻤﱡ ﻊ اﻟ ﱠﺬ ﱠرات .ورﻏﻢ أن دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﻟﻢ ﻳﺘﻄ ﱠﺮق إﱃ اﻟﻨﺘﻴﺠﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻮﺻﻞ إﻟﻴﻬﺎ ،وﻓﺤﻮاﻫﺎ أﻧﻨﺎ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﻳﻘني ﺛﺎﺑﺖ ﻧﺘﻌﺮف ﻣﻦ ﺧﻼﻟِﻪ ﻋﲆ اﻟﻌﺎﻟﻢ ،ﻓﻘﺪ ﻗﺎم ﻓﻼﺳﻔﺔ آﺧﺮون ﺑﺈﻋﻼن ﻫﺬه اﻟﻨﺘﻴﺠﺔ وﺗﺒﻨﱠﻮْﻫﺎ؛ ﻣﻤﱠ ﺎ دﻓﻊ أﺑﻴﻘﻮر إﱃ اﻟﺘﺼﺪي ﻟﻬﺬا اﻟﻬﺮاء. ﻗﺎل أﺑﻴﻘﻮر إن املﺮء ﻟﻮ ﺷﻚ ﰲ ﻛﻞ ﻣﺎ ﺗُﻤﻠﻴﻪ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺤﻮاس ﻓﺴﻴﻜﻮن أﺷﺒﻪ ﺑﻤﻦ ﻳﺮﻛﺐ ﻗﺎرﺑًﺎ دون ِﻣﺠﺪاف ،أو ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل» :إذا ﺷﻜﻜﺖ ﰲ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﺤﻮاس ﻓﻠﻦ ﻳﺒﻘﻰ ﻟﺪﻳﻚ ﻣﻌﻴﺎر ﺗﻌﺮف ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻪ ِﺻ َ ً ﺷﺨﺼﺎ ﻳﺮى ﺪق اﻟﺤﻮاس أو ﻛﺬﺑﻬﺎ «.ﻓﻠﻨﻔﱰض ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل أن ِ َ ﺑﺮﺟً ﺎ ﻋﲆ ﻣﺮﻣﻰ اﻟﺒﴫ ﻳﺒﺪو داﺋﺮﻳٍّﺎ ،وﻟﻜﻦ ﻛﻠﻤﺎ اﻗﱰب ﺗﺒ ﱠ َ َني ﻟﻪ أن ُ اﻟﱪج ﻋﲆ ﺷﻜﻞ ﻣﺮﺑﱠﻊ، ﻓﻌﺮف أن ﺷﻜﻠﻪ اﻟﺪاﺋﺮي اﻟﻈﺎﻫﺮ ﻛﺎن ﻣﺤﺾ ﺧﺪاع ﺑﴫي ،ﻓﻬﻞ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﻘﻮل إن اﻟﺤﻮاس ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺧﺪﻋﺘﻪ؟ ﻳﺮى أﺑﻴﻘﻮر أن ﻫﺬا ﻟﻴﺲ ﺻﺤﻴﺤً ﺎ؛ ﻷﻧﻪ رﻏﻢ أن اﻟﺤﻮاس ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺟﻌﻠﺘﻪ ﰲ ﺑﺪاﻳﺔ اﻷﻣﺮ ﻳﻈﻦ أن ﺷﻜﻞ اﻟﱪج داﺋﺮي ،ﻓﻬﻲ ً أﻳﻀﺎ اﻟﺘﻲ ﺟﻌﻠﺘﻪ ﻳﺪرك ﺮب .واﻧﺘﻬﻰ إﱃ أن ﺗﻨﺤﻴﺔ اﻟﺤﻮاس ﺟﺎﻧﺒًﺎ دون أﻧﻪ ﻋﲆ ﺷﻜﻞ ﻣﺮﺑﻊ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻧﻈ َﺮ إﻟﻴﻪ ﻋﻦ ُﻗ ٍ 327
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﱡ اﻟﺘﻮﺻﻞ إﱃ ﺑﺪﻳﻞ ،وﻃﺎ َﻟﻤَ ﺎ أﻧﻨﺎ ﻧﻔﺘﻘﺪ اﻟﺒﺪﻳﻞ ﻓﻠﻴﺲ اﻻﻋﺘﻤﺎد ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻧﻬﺎﺋﻴٍّﺎ ﺗﻌﻨﻲ ﴐورة أﻣﺎﻣﻨﺎ — ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل أﺑﻴﻘﻮر — ﺳﻮى اﻻﻋﺘﻤﺎد ﻋﲆ اﻟﺤﻮاس ﰲ ﱢ ﺗﻠﻘﻲ املﻌﺮﻓﺔ رﻏﻢ ﻛﻞ ﳾء. ﱠ وﻳﺘﻠﺨﺺ اﻟﺤﻞ ﻟﺪﻳﻪ ﰲ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﻃﺒﻴﻌﺔ ﻋﻤﻞ اﻟﺤﻮاس وﺣﺪود ﻗﺪرﺗﻬﺎ؛ ﻓﻬﻲ ﺗﻌﻤﻞ ٍ داع ﺑﺒﺴﺎﻃﺔ ﻣﻦ ﺧﻼل ِ ﺗﺨﺰﻳﻦ اﻷﺷﻜﺎل اﻟﺬﱠ ﱢرﻳﱠﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺴﺘﻘﺒﻠﻬﺎ ،وﻫﻲ وﻇﻴﻔﺔ ﻟﻴﺲ ﻫﻨﺎك ٍ إﱃ اﻟﺘﺸﻜﻴﻚ ﰲ ﻗﻴﺎم اﻟﺤﻮاس ﺑﻬﺎ ﻋﲆ اﻟﻮﺟﻪ اﻷﻛﻤﻞ .وﻟﻜﻦ ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أﻧﻪ ﻳُﻤﻜِﻦ اﻟﺜﻘﺔ ﻓﻴﻤﺎ ﺗﺴﺘﻘﺒﻠﻪ اﻟﺤﻮاس ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ ﻣﺼﺪ ًرا ﻟﻠﻤﻌﻠﻮﻣﺎت ﻋﻦ ﻣﻮﺟﺎت اﻟﺬﱠ ﱠرات اﻟﺘﻲ ﺗُﺆﺛ ﱢ ُﺮ ﻋﲆ ﻣﺮاﻛﺰ اﻹﺣﺴﺎس ﰲ اﻟﺠﺴﻢ ،ﻓﻼ ﻳﻤﻜﻦ اﻻﻋﺘﻤﺎد ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ ﻣﺼﺪ ًرا ﻟﻠﻤﻌﻠﻮﻣﺎت ﻋﻦ اﻷﺟﺴﺎم ﱡ اﻟﺼﻠﺒﺔ أو املﺎدﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮم ﺑﺒ ﱢَﺚ ﻫﺬه اﻟﺬﱠ ﱠرات ،وﻳﺮﺟﻊ ذﻟﻚ إﱃ أن اﻷﺷﻜﺎل اﻟﺘﻲ ﺗﺘﺨﺬﻫﺎ اﻟﺬﱠ ﱠرات ﻛﻤﺎ رأﻳﻨﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺤﺪُث ﻟﻬﺎ ﺗﺸﻮه ﺧﻼل ﻋﻤﻠﻴﺔ اﻻﻧﺘﻘﺎل أو ﺣﺎل دﺧﻮﻟﻬﺎ إﱃ اﻟﻌﻘﻞ .وﻗﺪ ﺗﻨﺎول ﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس ﻣﺜﺎل اﻟﱪج ﺑﺎﻟﺪراﺳﺔ وﻗﺎل إن ﻣﻮﺟﺎت اﻟﺬﱠ ﱠرات املﺮﺗﱠﺒﺔ واملﻨﻈﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺨﺮج ﻣﻦ اﻷﺟﺴﺎم ﺗﺘﺸﻮه ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﻨﺘﻘﻞ ملﺴﺎﻓﺎت ﻃﻮﻳﻠﺔ ﻋﱪ اﻟﻬﻮاء ﺣﺘﻰ ﺗﺼﻞ إﱃ أﻋﻴﻨﻨﺎ ،وﻫﻲ ﺗﺘﺒﻠﻮر ﻋﲆ ﺷﻜﻞ داﺋﺮة ﻋﻨﺪ اﻷﻃﺮاف ﺧﻼل اﻧﺘﻘﺎﻟﻬﺎ ،وﻫﺬا ﻫﻮ ﺳﺒﺐ ﻇﻬﻮر اﻟﱪج ﻣﺴﺘﺪﻳ ًﺮا ﰲ املﺜﺎل اﻟﺴﺎﺑﻖ ،وﺑﺎﻟﻨﻈﺮ إﱃ اﻟﱪج ﻋﻦ ﻗﺮب ﻓﺈن اﻟﺬﱠ ﱠرات ﺗﻨﺘﻘﻞ ﻋﱪ ﻣﺴﺎﻓﺔ ﻗﺼرية ﺑﺎﻟﺸﻜﻞ اﻟﺬي ﻳَﺤُ ﻮ ُل دون ﺣﺪوث ﺗﺸﻮﱡه ﻟﻬﺎ .وﻗﺎل أﺑﻴﻘﻮر إن ﺑﻌﺾ اﻻﻧﻄﺒﺎﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻜﻮﱠن ﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﺤﻮاس ﺗﻜﻮن أﻛﺜﺮ وﺿﻮﺣً ﺎ وﺗﻤﻴﱡ ًﺰا ﻋﻦ ﻏريﻫﺎ .وﺗﻠﻚ ﻫﻲ اﻻﻧﻄﺒﺎﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ اﻻﻋﺘﻤﺎد ﻋﻠﻴﻬﺎ ،أﻣﺎ أﺣﻼﻣﻨﺎ ورؤﻳﺘﻨﺎ املﺘﺬﺑﺬِﺑﺔ اﻟﻀﺒﺎﺑﻴﺔ ﺣﻮل اﻵﻟﻬﺔ واﻷﺷﻴﺎء اﻟﺒﻌﻴﺪة ﻓﻼ ﻳﻤﻜﻦ اﻻﻋﺘﻤﺎ ُد ﻋﻠﻴﻬﺎ أو اﻟﻮﺛﻮق ﰲ اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ اﻟﺘﻲ ﺗﺨﱪﻫﺎ ﺑﺸﺄن ﱢ ٍ ﻳﻮﺿﺢ اﻧﻄﺒﺎﻋﺎت أﺧﺮى ﻳﻤﻜﻦ اﻻﻋﺘﻤﺎد ﻋﻠﻴﻬﺎ .وﻟﻢ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺨﺎرﺟﻲ ،ﰲ ﺣني أن ﻫﻨﺎك َ املﻘﻴﺎس اﻟﺬي ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻪ ﻳُﻤﻜِﻦ اﻻﻋﺘﻤﺎد ﻋﲆ اﻧﻄﺒﺎع ﻣﻌني ﻣﻦ ﻋﺪﻣﻪ ،وﻟﻜﻨﻪ أﺑﻴﻘﻮر ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﺗ َﺮك ﻟﻨﺎ ﺑﻌﺾ اﻟﻘﻮاﻋﺪ اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ املﺴﺎﻋِ ﺪة اﻟﺘﻲ ﱠ ﺑني ﰲ أﺣﺪﻫﺎ أﻧﻪ ﻛﻠﻤﺎ ﺣﺪث اﻻﻗﱰاب ﻣﻦ اﻟﴚء زادت إﻣﻜﺎﻧﻴﺔ اﻻﻋﺘﻤﺎد ﻋﲆ اﻻﻧﻄﺒﺎﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﻧﺴﺘﻘﺒﻠﻬﺎ ﻣﻨﻪ. وﻳﺮى أﺑﻴﻘﻮر أن اﻟﺘﻌﺎﻣﻞ اﻟﺤﺮﻳﺺ ﻣﻊ اﻻﻧﻄﺒﺎﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﻧﻜﻮﱢﻧﻬﺎ ﻳُﻤ ﱢﻜﻨﻨﺎ ﻣﻦ ﺗﻔﺎدي اﻟﺘﻔﺴري اﻟﺨﺎﻃﺊ ﻟﻬﺎ؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﺗﺠﻨﱡﺐ ﺗﻜﻮﻳﻦ آراء أو اﻋﺘﻘﺎدات ﺧﺎﻃﺌﺔ ﻋﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ .وﻗﺪ ارﺗﻜﺐ أﺑﻴﻘﻮر ﻧﻔﺴﻪ ﺧﻄﺄ ً ﻛﺒريًا ﻋﻨﺪﻣﺎ اﻋﺘﻨﻖ إﺣﺪى ﻫﺬه اﻻﻋﺘﻘﺎدات .ﻓﻘﺪ ﻗﺎل إن ﻃﻮل ﻳﺠﺪ ﻣﱪ ًرا ﻟﻠﺪﻓﻊ ﻗﻄﺮ اﻟﺸﻤﺲ ﻳ َُﻘ ﱠﺪ ُر ﺑﻘﺪم واﺣﺪ؛ ﻷن اﻟﺸﻤﺲ ﺗﺒﺪو ﻟﻪ ﻫﻜﺬا ،وﻷﻧﻪ ﻟﻢ ِ ﺑﺒُﻌﺪﻫﺎ اﻟﺒﺎﻟﻎ اﻟﺬي ﻳﺤُ ﻮل دون اﻟﺤﻜﻢ ﻋﻠﻴﻬﺎ ،وﻫﺬا ﻻ ﻳُﻌَ ﱡﺪ ﻋﻮا ًرا ﰲ ﻣﺒﺎدﺋﻪ وﻗﻮاﻋﺪه ذاﺗﻬﺎ، وإﻧﻤﺎ اﻟﺨﻄﺄ ﻳﻜﻤﻦ ﰲ ﻛﻴﻔﻴﺔ ﺗﻄﺒﻴﻘﻪ ﻟﻬﺬه املﺒﺎدئ وﺗﻠﻚ اﻟﻘﻮاﻋﺪ .ﻓﺨﻄﺄ أﺑﻴﻘﻮر ﺑﺸﺄن اﻟﺸﻤﺲ ﻻ ﻳﻌﻨﻲ أن اﻟﺤﻮاس داﺋﻤً ﺎ ﻣﺎ ﺗﺮﺗﻜﺐ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻷﺧﻄﺎء ،ﻓﻬﻮ ﻳﺮى أن ﻣﺼﺪر 328
اﻟ ﱡ ﻄﺮق اﻟﺜﻼث إﱃ ﱠ اﻟﺴﻜِﻴﻨﺔ :اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ واﻟﺮواﻗﻴﺔ واﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ
اﻟﺨﻄﺄ داﺋﻤً ﺎ ﻫﻮ اﻟﻨﺎس ﻻ اﻟﺤﻮاس ،ﺣﻴﺚ ﻳﻘﻮل ﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس» :ﻻ ﺗُﻠﺼﻖ ﻫﺬه اﻟﺘﻬﻤﺔ ﺑﺎﻟﻌني ،ﻓﺎﻟﻌﻘﻞ ﻫﻮ املﺨﻄﺊ«. وﻫﺬه املﻼﺣﻈﺔ ﺗُﻠﻘِ ﻲ اﻟﻀﻮء ﻋﲆ املﻨﻬﺞ اﻟﺬي ﺗﺴﺘﻨﺪ إﻟﻴﻪ ﻓﻠﺴﻔﺔ أﺑﻴﻘﻮر ،ﻓﺎﻟﻌﻘﻞ داﺋﻤً ﺎ ﻫﻮ ﻣﺤﻞ اﻟﺨﻄﺄ؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﺈن اﻟﻌﻘﻞ ﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺤﺘﺎج إﱃ ﻋﻼج ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ أو ﺑﺄﺧﺮى، ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻛﻤﺎ ﺗﻨﺒﻊ ﺗﻌﺎﺳﺘﻨﺎ ﻣﻦ املﻌﺘﻘﺪات واﻵراء اﻟﺨﺎﻃﺌﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﻜﻮﱢﻧﻬﺎ ﻋﻦ اﻷﺷﻴﺎء ﻻ ﻣﻦ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻷﺷﻴﺎء ﻧﻔﺴﻬﺎ .وﺑﻬﺬا ﻓﺈن اﻟﻼﺋﻤﺔ ﺗﻘﻊ ﻋﲆ ﺗﻔﺴرياﺗﻨﺎ اﻟﺨﺎﻃﺌﺔ ﻻ ﻋﲆ ﻣﺎ ﺗﻨﻘﻠﻪ ﻟﻨﺎ اﻟﺤﻮاس املﺠ ﱠﺮدة .وﰲ ﻛﻠﺘﺎ اﻟﺤﺎﻟﺘني ﻟﻴﺴﺖ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻫﻲ ﻣﺼﺪر ﻣﺸﻜﻼﺗﻨﺎ؛ ﻷن اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﰲ اﻷﺻﻞ ﻫﻲ ﻣﺼﺪر ﻛﻞ ﺧري ،ﺑﻞ إن اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺗﺮﺷﺪﻧﺎ إﱃ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﻌﻴﺶ ﺑﻬﺎ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ وﺿﻌﻨﺎ ﺗﺤﺖ إﻣﺮة ﺳﻴﺪﻳﻦ ﻋﻈﻴﻤني ﻫﻤﺎ اﻟﻠﺬة واﻷﻟﻢ — وﻫﻮ ﻣﺎ ﻗﺎﻟﻪ ﺑﻨﺜﺎم ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌ ُﺪ — إذ ﻏﺮﺳﺖ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻓﻴﻨﺎ ﻏﺮﻳﺰة اﺗﱢﺒَﺎع أﺣﺪ اﻟﺴﻴﺪﻳﻦ وﺗﺠﻨﱡﺐ اﻵﺧﺮ ،وﻣﻦ ﺧﻼل اﺗﺒﺎع ﻫﺬا اﻟﻨﻬﺞ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ﺳﻨﺤﻴﺎ ﰲ ازدﻫﺎر وﺳﻌﺎدة .وﺑﻤﺎ أﻧﻨﺎ ﻻ ﻧﻌﺮف دوﻣً ﺎ ﻛﻴﻒ ﻧﺘﺒﻊ ﻫﺬه اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ملﺎ ﻧﻌﺎﻧﻴﻪ ﻣﻦ ﺗﻠﻮﱡث ﰲ اﻷﻓﻜﺎر ،ﻓﻌﻠﻴﻨﺎ إذن اﺗﺒﺎع اﻟﻌﻼج اﻷﺑﻴﻘﻮري ﻟﻜﻲ ﻧﺒﺘﻌﺪ ﻋﻦ ﻣﺼﺎدر اﻟﺨﻮف واﻟﻘﻠﻖ واﻟﻜﺮب. وإذا ﻛﺎن اﻷﺧﺬ ﺑﻌﻼج أﺑﻴﻘﻮر ﻫﻮ ﻣﺴﺄﻟﺔ ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﻌﻠﻢ اﻟﺬﱠ ﱠرات املﺘﺠ ﱢﺮد ﻣﻦ اﻻﻋﺘﺒﺎرات اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﺗﻔﺴريات ﻣﻄﻤﺌﻨﺔ ﺣﻮل املﻮت واﻷﺣﻼم واﻟﻜﻮارث؛ ﻓﻤﻦ املﻤﻜﻦ ﺣني وآﺧﺮ ،وﻟﻨﺄﺧﺬ ﺗﻨﺎوﻟﻪ ﻟﻘﻀﻴﺔ اﻟﺠﻨﺲ ً ﻣﺜﺎﻻ ﻋﲆ ﻫﺬا. ﻛﺬﻟﻚ أن ﻧﺮ َﻛﻦ إﱃ اﺳﺘﺸﺎرﺗﻪ ﺑني ٍ ﻓﻘﺪ ﺣﺎول ﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس أن ﻳﺸﺨﺺ وﻳ َُﻘ ﱢﺪ َم ﻋﻼﺟً ﺎ ملﺎ أﺳﻤﺎه ﺑﻤﺮض اﻟﻌﺎﻃﻔﺔ اﻟﺠﻨﺴﻴﺔ. وﻛﺎن ﻳَﻌُ ﱡﺪ ﻫﺬا املﺮض أﻣ ًﺮا ﰲ ﻏﺎﻳﺔ اﻟﺴﻮء ﻷﻧﻪ ﻳﻨﺎﻗﺾ ﻣﺒﺪأ اﻟﺴﻜﻴﻨﺔ اﻷﺑﻴﻘﻮري .إن ﻫﺬه اﻟﻌﺎﻃﻔﺔ اﻟﺠﻨﺴﻴﺔ — ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل — »ﺗﺘﻘﺎذﻓﻬﺎ رﻳﺎح اﻟﻮﻫﻢ ﺣﺘﻰ ﰲ أﻛﺜﺮ ﻟﺤﻈﺎﺗﻬﺎ إﻣﺘﺎﻋً ﺎ«. ً وﻳﻜﺘﺐ ً اﺷﺘﻌﺎﻻ ﺑﺠﻮاﻧﺤﻚ؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻳﺰﻳﺪك أﻳﻀﺎ» :إن ﺗﺸﺒﺜﻚ ﺑﺎﻟﻌﺎﻃﻔﺔ اﻟﺠﻨﺴﻴﺔ ﻳﺰﻳﺪﻫﺎ أ ًملﺎ ،وإن اﻟﺠﺮح ﻟﻴﺘﻔﺎﻗﻢ وﻳﺰداد ً ﻋﻤﻘﺎ ﻣﻊ ﻣﺮور اﻷﻳﺎم«. وﻳﺮى ﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس أن اﻟﻌﺎﻃﻔﺔ اﻟﺠﻨﺴﻴﺔ ﺗﺘﺒ ﱠﺪ ُل ﺣﺰﻧًﺎ وﻛﺪ ًرا ﻷﻧﻬﺎ ﺗُﻌَ ﱡﺪ ﺗﺸﻮﻳﻬً ﺎ ﻟﻠﺪواﻓﻊ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻋﱪ رﻏﺒﺎت ﻏري واﻗﻌﻴﺔ وﻣﻌﺘﻘﺪات ﺧﺎﻃﺌﺔ .ﻓﻬﻲ ﻣﺴﺌﻮﻟﺔ ﻋﻦ وﺟﻮد رﻏﺒﺎت ﻋﺎرﻣﺔ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ إﺷﺒﺎﻋﻬﺎ ﻷﻧﻬﺎ أﺧﺬت ﴍﻳﻌﺘﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﻮﻫﻢ واﻟﺨﻴﺎل ،ﺣﻴﺚ ﻳﺮﻏﺐ ا ُملﺤِ ﺒﱡﻮن ﰲ اﻟﺘﻮﺣﱡ ﺪ ﻣﻌً ﺎ )وﻳﻌﺘﻘﺪون أن ﺑﺈﻣﻜﺎﻧﻬﻢ ﺗﺤﻘﻴﻖ ذﻟﻚ( وﻫﻮ أﻣﺮ ﻣﺴﺘﺤﻴﻞ ﻗﻄﻌً ﺎ، وﻋﻦ ﻫﺬا ﻳﻘﻮل: إن اﻷﺟﺴﺎد ﻟﺘﺘﻌﺎﻧَﻖ ،واﻟﺸﻔﺎه ﻟﺘﻠﺘ ِﺌﻢُ ،ﺛﻢ ﺗﻨﺪﻓﻊ اﻷﻧﻔﺎس اﻟﺤﺎ ﱠرة ﻣﻦ اﻟﺤﻠﻮق، ٍ ٍ ﻃﺮف أن ﻳﻨﺘﺰع ﻣﻦ ﻣﺤﺒﻮﺑﻪ ﺟﺰءًا ،وﻻ ﻫﺪف أو ﻏﺎﻳ ٍﺔ ،ﻓﻼ ﻳﻤﻜﻦ ﻷي دون 329
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻳﻤﻜﻦ ﻛﺬﻟﻚ أن ﻳﺪﺧﻞ إﱃ ﺟﺴﺪ اﻵﺧﺮ ﻓﻴﺬوب ﺑﺪاﺧﻠﻪ ،ورﻏﻢ اﻟﺘﺼﺎق اﻟﺠﺴﺪﻳﻦ ﺑﺒﻌﻀﻬﻤﺎ ﻓﺈﻧﻬﻤﺎ ﻳَ ُ ﺎن أن ﻫﺬه ﻫﻲ اﻟﻐﺎﻳﺔ وا ُملﻨﺘَﻬَ ﻰ .وﺣﺎل اﻧﻘﻀﺎء اﻟﺸﻬﻮة، ﻈﻨ ﱠ ِ ﺗﺰول ﺣﺎﻟﺔ اﻟﺴﻌﺎر ،اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﻠﺒﺚ أن ﺗﺘﺠﺪد ﻣﺮة أﺧﺮى. وﻳﻤﻴﻞ اﻹﻧﺴﺎن املﻐﺮم إﱃ ﻋﺪم إدراك ﺻﻔﺎت ﻣﺤﺒﻮﺑﺘﻪ اﻟﺠﺴﺪﻳﺔ واﻟﻌﻘﻠﻴﺔ ،ﻓﻴﺘﻐﻨﱠﻰ ﻛﺜريًا ﺑﺼﻔﺎﺗﻬﺎ اﻟﺤﻤﻴﺪة وﻳﻐﺾ اﻟﻄﺮف ﻋﻦ ﻋﻴﻮﺑﻬﺎ) ،ﻛﺎن ﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس ﻳﺸري داﺋﻤً ﺎ ﻟﻠﻤُﺤﺐ ﻋﲆ أﻧﻪ ذَ َﻛﺮ أﻣﺎ املﺤﺒﻮﺑﺔ ﻓﺘﻜﻮن داﺋﻤً ﺎ أﻧﺜﻰ( .وﻫﺬا ﻻ ﻳﺘﺴﺒﺐ ﻓﻘﻂ ﰲ اﻻﺿﻄﺮاب واﻹﺣﺒﺎط واﻟﻘﻠﻖ واﻟﺸﻚ اﻟﺬي ﺗﺨﺎﻟﻄﻪ َ اﻟﻐ ْرية ،وﻟﻜﻦ ﻳﺆدي ً أﻳﻀﺎ إﱃ ﺗﺪﻫﻮُر اﻟﺼﺤﺔ وإﻫﻤﺎل اﻷﻋﻤﺎل اﻟﻮاﺟﺐ أداؤﻫﺎ ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ ﺿﻴﺎع املﺎل واﻟﻮﻗﺖ وﺗﺸﻮﻳﻪ اﻟﺴﻤﻌﺔ. واﻟﺤﺮﻣﺎن ﰲ رأﻳﻪ ﻫﻮ اﻟﺤ ﱡﻞ اﻷﻣﺜﻞ ملﺸﻜﻠﺔ اﻟﻌﺎﻃﻔﺔ اﻟﺠﻨﺴﻴﺔ .وﻫﻨﺎ ﻳﺨﱪ ﺑﴬورة ﱠ ﻐﻮﻳَﻪ اﻹﻏﺮاءات .وإذا وﻗﻊ املﺮء أن ﻳﺘﻮﺧﻰ املﺮءُ اﻟﺤﺬر ﻟﻈﻬﻮر اﻟﻌﻼﻣﺎت اﻷوﱃ ﻗﺒﻞ أن ﺗُ ِ ً ﺼﺢ ﻳﻤﻜﻦ إﺳﺪاؤه ﻟﻪ ﻫﻮ أن ﻳﻨﻈﺮ إﱃ ﻋﻴﻮب ﺣﺒﻴﺒﺘﻪ ﻓﺮﻳﺴﺔ ﻟﻬﺬه اﻟﻌﺎﻃﻔﺔ ﻓﺈن أﻓﻀﻞ ﻧ ُ ٍ وﻳُﻮﻟِﻴﻬﺎ اﻟﻨﺼﻴﺐ اﻷوﻓﺮ ﻣﻦ ﺗﺮﻛﻴﺰه .ﻓﺈذا ﻛﺎن ﻳﺮى ﰲ ﻣﺤﺒﻮﺑﺘﻪ » ُروﺣً ﺎ« ﻓﻠﻴﻨﻈﺮ إﻟﻴﻬﺎ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻣﺤﺾ »ﻗﺰم ﺑﻬﻠﻮاﻧﻲ« ،أو إذا ﻛﺎن ﻳﺮاﻫﺎ »رﻗﻴﻘﺔ« ﻓﻠﺮﺑﻤﺎ ﺗﻜﻮن »إﻧﺴﺎﻧًﺎ ﺷﺒﻪ ﻣﻴﺖ ﻣﺼﺎﺑًﺎ ﺑﺎﻟﺴﻌﺎل« ،وإذا ﻛﺎن ﻳﻤﻴﻞ إﱃ وﺻﻔﻬﺎ ﺑﺄﻧﻬﺎ »ﺗﺬﻳﺐ اﻟﻘﻠﺐ ﺑﺄﻟﻖ ﻳﺸﺒﻪ أﻟﻖ اﻟﺠﻮاﻫﺮ« ﻓﺈﻧﻬﺎ ﻗﺪ ﺗﻜﻮن ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ »اﻣﺮأة ﺳﻠﻴﻄﺔ اﻟﻠﺴﺎن ِ ﻋﺼﻴﱠﺔ ﻋﲆ ٍ ُ اﻟﱰوﻳﺾ« .وﻳﻨﺼﺤﻪ أن ﻳﻀﻊ ﺟﻤﻴﻊ ﻫﺬه اﻷﺷﻴﺎء داﺋﻤً ﺎ ﻧﺼﺐ ﻋﻴﻨﻴﻪ .ﻓﺈذا ﻛﺎﻧﺖ املﺤﺒﻮﺑﺔ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﻧﻤﻮذﺟً ﺎ ﻃﻴﺒًﺎ وﺗﺴﺘﺤﻖ املﺪح واﻟﺜﻨﺎء ،ﻓﻴﺠﺐ أن ﻳﺘﺬﻛﺮ ً أﻳﻀﺎ أن ﻫﻨﺎك اﻟﻜﺜري ﻣﻤﻦ ُﻫ ﱠﻦ ﻋﲆ ﺷﺎﻛﻠﺘﻬﺎ ،وأﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﺤﻴﺎ ﺑﺸﻜﻞ ﻃﺒﻴﻌﻲ ﻗﺒﻞ أن ﻳﺼﺎدﻓﻬﺎ ،وأﺧريًا ﻳﻨﺼﺤﻪ أﻻ ﻳﻨﴗ »أﻧﻬﺎ ﻻ ﺗﺨﺘﻠﻒ ﰲ ﺗﻜﻮﻳﻨﻬﺎ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ﻋﻦ أيﱟ ﻣﻦ ﺑﻨﺎت ﺟﻨﺴﻬﺎ ،وأﻧﻬﺎ ﺗﺴﺘﺨﺪم اﻟﻌﻄﻮر واﻟﺒﺨﻮر ذا اﻟﺮاﺋﺤﺔ املﺰﻋﺠﺔ ،وأن ﺧﺎدﻣﺎﺗﻬﺎ ﻳﺤﺎوﻟﻦ اﻟﺒﻘﺎء ﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻨﻬﺎ وﻳﺴﺨﺮن ﻣﻨﻬﺎ ﰲ ﻏﻴﺎﺑﻬﺎ«. وﻫﺬه ﻫﻲ ﻧﺼﻴﺤﺔ ﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس ﻟﻠﻤﺤﺐ ،ﻓﻼ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻌﺎﻃﻔﺔ ﺑﻌﺪﻫﺎ أن ﺗﻨﺠﻮ ﻣﻦ ﻫﺬه املﺼﺎﺋﺪ .وﻣﻦ اﻟﻨﺼﺎﺋﺢ املﻬﻤﺔ ﻛﺬﻟﻚ اﻟﺘﻲ ﻳﻘﺪﻣﻬﺎ ﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس» :اﻧﺜﺮ ﺑﺬور اﻟﺤﺐ ﻋﲆ أﺷﻴﺎء أﺧﺮى «.وﺻﻮرة ﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس ﻟﻴﺴﺖ ﻣﺠﺎزﻳﺔ ﻓﻬﻮ ﻳﺮى أن املﺸﻜﻠﺔ ﺗﻜﻤُﻦ ﰲ وﺟﻮد ﻓﺎﺋﺾ ﻣﻦ ﺑﺬور اﻟﺤﺐ ﰲ أﻋﻀﺎء اﻟﺘﻨﺎﺳﻞ ،وﻫﺬا اﻟﻔﺎﺋﺾ ﻳﺠﺐ اﻟﺘﺨ ﱡﻠﺺ ﻣﻨﻪ ،وﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ﻓﺈن املﻮﻣﺲ ﻗﺪ ﺗﻜﻮن اﻟﺴﺒﻴﻞ اﻷﻣﺜﻞ ﻹﻓﺮاغ ﻫﺬه اﻟﺸﺤﻨﺔ اﻟﻔﺎﺋﻀﺔ .وﻟﻜﻨﻪ ﻳﻮﺿﺢ أﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﻣﻦ املﻤﻜﻦ ﻧﺜﺮ ﺑﺬور اﻟﺤﺐ ﻋﲆ أي ﳾء؛ ﻷن اﻷﻋﻀﺎء ﻻ ﺗﺜﺎر إﻻ ﺑﺮؤﻳﺔ أﺷﻜﺎل ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻣﻦ اﻟﻨﺎس ﻛﺎﻟﻮﺟﻮه اﻟﻔﺎﺗﻨﺔ أو َ اﻟﻘ َﺴﻤﺎت اﻟﺠﻤﻴﻠﺔ ،ﻓﻼ ﻳﻠﻔﺖ ﳾء اﻧﺘﺒﺎﻫﻨﺎ ﺳﻮى 330
اﻟ ﱡ ﻄﺮق اﻟﺜﻼث إﱃ ﱠ اﻟﺴﻜِﻴﻨﺔ :اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ واﻟﺮواﻗﻴﺔ واﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ
ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻷﺷﻴﺎء ،وﻣﺎ ﻳﺤﺪث ﻫﻮ أن ﱡ اﻟﺴﺤُ ﺐ اﻟﺬﱠ ﱢرﻳﱠﺔ اﻟﺘﻲ ﺗُﻜﻮﱢن ﻫﺬه اﻷﺷﻜﺎل واﻟﺼﻮر ﺗﺘﺴﻠﻞ إﱃ أﺟﺴﺎدﻧﺎ ﰲ اﻷﺣﻼم .وﻛﻤﺎ ﻳﺤﺪث ﻋﺎد ًة ﻣﻊ اﻷﺣﻼم ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻧﻈﻦ أﻧﻬﺎ ﺻﻮر ﻷﻧﺎس ﺣﻘﻴﻘﻴني؛ وذﻟﻚ ﻷن ُ اﻟﻘﻮَى اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﻤﻴﻨﺎ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﻬﻮاﺟﺲ ﺗﻜﻮن ﻗﺪ ﺧﻤﺪت ﺑﻔﻌﻞ اﻟﻨﻮم .وﻟﻜﻦ ﻳﺘﻀﺢ أن اﻟﺮﻏﺒﺔ اﻟﺠﻨﺴﻴﺔ ﻟﻴﺴﺖ ﻣﺤﺾ ﻣﻄﺎردة ﻷﺷﺒﺎح ﺧﻴﺎﻟﻴﺔ ﰲ اﻷﺣﻼم ﻓﺤﺴﺐ ،ﻓﺤﻘﻴﻘﺔ ﻛﻮن ﻫﺬه اﻟﺸﻬﻮات اﻟﻐﺮاﻣﻴﺔ ﺗﺸﺘﻌﻞ ﺑﻔﻌﻞ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﺨﺘﻠﻄﺔ ﻣﻦ اﻟﺼﻮر اﻟﺒﴩﻳﺔ ﺳﻮاء ﰲ اﻟﻨﻮم أو ﰲ اﻟﻴﻘﻈﺔ ﱢ ﺗﻔﴪ ﻟﻨﺎ ﻋﺪم ﻗﺎﺑﻠﻴﺔ ﻫﺬه اﻟﺸﻬﻮات املﻐﻮﻳﺔ ﻟﻺﺷﺒﺎع وﺗﺴﺒﺒﻬﺎ ﰲ ﻣﺸﻜﻼت ﺟﻤﺔ ،وﻛﻤﺎ ﻗﺎل: إن اﻟﻄﻌﺎم واﻟﺴﻮاﺋﻞ ﺗﺪﺧﻞ إﱃ أﺟﺴﺎدﻧﺎ ﺣﻴﺚ ﺗﻤﻸ اﻟﺠﺰء املﺨﺼﺺ ﻟﻬﺎ؛ وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈن اﻟﺤﺎﺟﺔ إﱃ اﻟﻠﺤﻢ واﻟﺴﻮاﺋﻞ ﻳﻤﻜﻦ إﺷﺒﺎﻋﻬﺎ ﺑﺴﻬﻮﻟﺔ ،وﻟﻜﻦ اﻟﻮﺟﻪ اﻟﺠﻤﻴﻞ أو َ اﻟﻘ َﺴﻤﺎت اﻟﻔﺎﺗﻨﺔ ﻻ ﻳﻤﻨﺢ اﻟﺠﺴﺪ ﺷﻴﺌًﺎ ﻳُﺴﺘﻤﺘﻊ ﺑﻪ ﺳﻮى ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﺻﻮر ﻻ ﻗﻴﻤﺔ ﻟﻬﺎ ﻋﺎدة ﻣﺎ ﺗﺬﻫﺐ ﻫﺒﺎءً. وﺑﻤﺎ أن اﻹﻧﺴﺎن ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻪ أن ﻳﻠﺘﻬﻢ ﺣﺒﻴﺒﺘﻪ ﻛﺎﻟﺘﻬﺎﻣﻪ اﻟﻄﻌﺎم؛ ﻓﺈن ﻣﺤﺎوﻟﺔ إﺷﺒﺎع ﻋﺎﻃﻔﺘﻪ ﻣﺤﻜﻮم ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑﺎﻹﺧﻔﺎق. ﻗﺪ ﻧﻨﺘﻬﻲ ﺑﻌﺪ ﻫﺬا اﻟﺤﺪﻳﺚ إﱃ اﻟﻘﻮل إن ﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس — وﻟﻴﺲ املﺤﺐ — ﻫﻮ ﻣَ ﻦ ﺑﺤﺎﺟﺔ إﱃ اﻟﻌﻼج ،ﻓﺒﻌﺾ ﻗﺼﺺ اﻟﺤﺐ ﺗﻨﺘﻬﻲ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﺳﻌﻴﺪة ،ﻛﻤﺎ أن ﻛﺜريًا ﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﻘﺼﺺ ﻳﻜﻮن ﻧﻤﺎذجَ راﺋﻌﺔ ﻟﻌﻼﻗﺎت اﻟﺤﺐ ﰲ ﺑﺪاﻳﺎﺗﻬﺎ وﰲ ﻣﻨﺘﺼﻒ أﺣﺪاﺛﻬﺎ .وﻗﺪ ﻳﺮد ﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس ً ﻗﺎﺋﻼ إﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻘﺼﺪ ﻣﻬﺎﺟﻤﺔ ﺟﻤﻴﻊ ﺻﻮر اﻟﻌﻼﻗﺎت اﻟﻮدﻳﺔ ﺑني اﻷﺣِ ﺒﺔ وإﻧﻤﺎ اﻟﻌﺎﻃﻔﺔ اﻟﺘﻲ ِ ﺗﺼﻞ إﱃ ﺣَ ﱢﺪ اﻟﺠﻨﻮن ﻓﺤﺴﺐ ،أو إداﻧﺔ »ﻓﻴﻨﻮس« ﻛﻤﺎ ﻳﺤﻠﻮ ﻟﻪ ﺗﺴﻤﻴﺘُﻬﺎ؛ ﻧﺠﺪ أﻧﻪ ﻻ ﻳﺒﺪو ﻣﺨﻄﺌًﺎ ﻓﻬﻮ ﻻ ﻳﺴﻌﻰ إﻻ ﻟﻌﻼج ﺣﺎﻻت اﻟﺤﺐ املﺒﺎ َﻟﻎ ﻓﻴﻬﺎ .وﻟﻜﻦ ﻣﻊ ذﻟﻚ ِ ﺣﺬره ﻣﻦ اﻟﻌَ َﻼﻗﺎت اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ،ﺣﻴﺚ إﻧﻪ ﻳ َُﻔ ﱢﻀ ُﻞ اﻟﻬﺪوء ﱠ واﻟﺴﻜِﻴﻨَﺔ واﻻﺳﺘﻘﺮار ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﰲ ِ َ ﻋﲆ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻋﺪاﻫﺎ ،ﻓﻼ ﺗﻮﺟﺪ أﻳﱠﺔ إﺷﺎرة ﻟﺪﻳﻪ ﺗﺆ ﱢﻛﺪ أن ﻟﺤﻈﺔ ﻣﻦ اﻟﻬﺪوء ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳُﻀﺤﱠ ﻰ ﺑﻬﺎ ﰲ ﺳﺒﻴﻞ أي ﳾء آﺧﺮ ﰲ اﻟﻮﺟﻮد .وﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ اﻟﺸﻌﺎر اﻟﻘﺎﺋﻞ» :ﻳﻔﻮز ﺑﺎﻟﻠﺬات ﻛﻞ ﻣﻐﺎﻣﺮ«. ﻣﻦ اﻟﺸﻌﺎرات اﻟﺘﻲ ﺗﺮوق ﻟﻪ ﻫﻮ وﻏريه ﻣﻦ اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳني .وﻗﺪ وﺻﻒ أﻓﻼﻃﻮن ذات ﻣَ ﱠﺮ ٍة ﱠ أن َﻫﺠْ ﺮ اﻟﺤﺐ وﻧﺒﺬه ﻳُﻌَ ﱡﺪ ﰲ ذاﺗﻪ ﻣﻦ أﴎار اﻟﺤُ ﺐﱢ اﻟﺘﻲ ﺗُ َﺴﺒﱢﺐُ اﻟﻬُ ﻴﺎم ﺑﻪ ،ﻓﻘﺪ ﻳﻜﻮن اﻟﺤﺐﱡ ﴐﺑًﺎ ﻣﻦ اﻟﺠﻨﻮن املﺮﻏﻮب .وﻋﲆ اﻟﻌﻜﺲ ﻣﻦ أﻓﻼﻃﻮن ،ﻳﺮى أﺑﻴﻘﻮر وﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس أن اﻷﻣﺮ اﻟﺬي ﺳﻴﻨﺘﻬﻲ ﺑﺎﻟﺪﻣﻮع ﻻ ﻳﺴﺘﺤﻖ ﺣﺘﻰ اﻟﻮﻗﻮف ﻋﲆ ﻋﺘﺒﺎﺗﻪ. ﺗﻄﻠﺐ اﻷﻣﺮ إدﺧﺎل ﺗﻐﻴري أو أﻛﺜﺮ ﻋﲆ ﻧﻈﺮﻳﺎت دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺎﻟﺬﱠ ﱠرات ﻛﻲ ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻬﺎ أﺑﻴﻘﻮر وﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس ﰲ ﺗﻔﺴري اﻟﻌﺎﻟﻢ ملﺮﺿﺎﻫﻢ املﺼﺎﺑني ﺑﺎﻟﺤرية واﻻﺿﻄﺮاب. 331
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
وﻣﻦ أﻫﻢ إﺿﺎﻓﺎت أﺑﻴﻘﻮر ﰲ ﻫﺬا اﻟﺼﺪد ﻓﻜﺮة »اﻻﻧﺤﺮاف« ،وﻛﺎن ﻳﻌﻨﻲ ﺑﻬﺎ اﻧﺤﺮاف اﻟﺬﱠ ﱠرات ﰲ ﻣﺴﺎرات وﻃﺮق ﺟﺎﻧﺒﻴﺔ ،وﻫﺬا ﻣﻦ ﺷﺄﻧِﻪ أن ﻳﺤُ ﱠﻞ اﺛﻨني ﻣﻦ ﺗﻌﻘﻴﺪات اﻟﺼﻮرة اﻟﺘﻲ رﺳﻤﻬﺎ دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ .املﺴﺄﻟﺔ اﻷوﱃ ﺗﺘﻌ ﱠﻠﻖ ﻣﺒﺎﴍ ًة ﺑﺎﻟﻔﻴﺰﻳﺎء ،أﻣﺎ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻓﻠﻬﺎ ﺗﺄﺛريات ﻣﻬﻤﺔ وﻣﺒﺎﴍة ً أﻳﻀﺎ ﻋﲆ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺒﴩﻳﺔ .واملﺴﺄﻟﺔ اﻷوﱃ ﻫﻲ ﻓﻜﺮة ﺗﺼﺎدم اﻟﺬﱠ ﱠرات ،ﻓﻘﺪ ﻗﺎل أﺑﻴﻘﻮر إن ذَ ﱠرات دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺴﻘﻂ ﰲ اﻟﻔﺮاغ ﺑﺎﻟﴪﻋﺔ ٍّ ﺧﺎﺻﺎ ﻧﻔﺴﻬﺎ ،وﻛﺜريًا ﻣﺎ ﺗﺴﻠﻚ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﻷﺳﻔﻞ ﻣﺒﺎﴍة ،وﺧﻼل ﻫﺬا ﺗﺘﺨﺬ ﻛ ﱡﻞ ذَ ﱠرة ﻣﺴﺎ ًرا ﺑﻬﺎ ،وﻟﻜﻦ اﻟﺴﺆال ﻫﻮ ﻛﻴﻒ إذن ﻟﻬﺬه اﻟﺬﱠ ﱠرات أن ﺗﺼﻄﺪم ﺑﺒﻌﻀﻬﺎ اﻟﺒﻌﺾ ﺛ ُ ﱠﻢ ﺗﻠﺘﺤﻢ ﻟﺘﻜﻮﱢن اﻷﺟﺴﺎم املﺎدﻳﺔ اﻟﻌﺎدﻳﺔ؟ وﻫﻨﺎ ﻧﺠﺪ ﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس ﻳﺠﻴﺐ» :إن ﻋﺪم وﺟﻮد اﻧﺤﺮاﻓﺎت ﻣﻦ وﻗﺖ ﻵﺧﺮ ﻳﻌﻨﻲ ﻋﺪم وﻗﻮع ﺗﺼﺎدُم؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻳﻨﻌﺪم ﺗﺄﺛري أي ذ ﱠرة ﻋﲆ أﺧﺮى «.وﻗﺎل أﺑﻴﻘﻮر إﻧﻪ ﻻ ﻣَ َﻔ ﱠﺮ ﻣﻦ وﺟﻮد ﻗﺴﻂ ﻣﻦ اﻟﻌﺸﻮاﺋﻴﺔ ﰲ ﻋﻤﻞ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻣﻦ ﺧﻼل ﻗﻔﺰات ﺗﻀﻊ ذَ ﱠرة ﰲ ﻃﺮﻳﻖ أﺧﺮى .وﻗﺪ ﻋ ﱠﻠﻖ ﺷﻴﴩون ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ً ﻗﺎﺋﻼ» :إﻧﻬﺎ ﻣﺤﺾ وﻫﻢ ﻃﻔﻮﱄ «.وﻟﻜﻨﻬﺎ رﻏﻢ ذﻟﻚ ﺗﺸﺒﻪ ﻓﻜﺮة اﻟﻼﺣﺘﻤﻴﺔ أو ﻓﻜﺮة اﻟﻌﺸﻮاﺋﻴﺔ املﻮﺟﻮدة ﰲ اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء اﻟ َﻜﻤﱢ ﻴﱠﺔ .أﻣﺎ املﺴﺄﻟﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ اﻟﺘﻲ وَﺟَ َﺪ ﻟﻬﺎ ٍّ ﺣﻼ ﻣﻦ ﺧﻼل ﻓﻜﺮة »اﻻﻧﺤﺮاف« ﻓﺈﻧﻬﺎ ﻣﺴﺄﻟﺔ ﱡ ﺗﺴﺘﺤﺚ اﻟﻔﻀﻮل ،وﻗﺪ ﻛﺎن أﺑﻴﻘﻮر أوﱠل ﻣﻦ أﺛﺎرﻫﺎ ﻟﺘُﺼ ِﺒﺢ ﻣﻦ ﺑﻌﺪه ﻣﻦ أﻛﺜﺮ املﺴﺎﺋﻞ املﺤﻮرﻳﺔ ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ. إﻧﻬﺎ ﻣﺴﺄﻟﺔ اﻹرادة اﻟﺤُ ﱠﺮة ﰲ ﻣﻮاﺟﻬﺔ اﻟﺤﺘﻤﻴﺔ .ﻓﺈذا ﻛﺎﻧﺖ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﻈﻮاﻫﺮ واﻷﺣﺪاث ً ﻧﺘﻴﺠﺔ ﺣﺘﻤﻴﺔ وآﻟﻴﺔ ﻟﺤﺮﻛﺔ اﻟﺬﱠ ﱠرات ،ﻓﻜﻴﻒ ﻳﺘﺴﻨﻰ ﻷي ﺷﺨﺺ أن ﻳَﺪﱠﻋِ ﻲ اﻟﺤﺮﻳﺔ؟ ﺑﻞ ﺗُﻤَ ﺜ ﱢ ُﻞ وﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﺪﱠﻋﻲ أن ﻛﻞ إﻧﺴﺎن ﻣﺴﺌﻮل أﺧﻼﻗﻴٍّﺎ ﻋﻦ أﻓﻌﺎﻟﻪ؟ ﻓﺈذا ﺳ ﱠﻠﻤﻨﺎ ﺑﻬﺬه اﻟﻔﻜﺮة ً ﻧﺎﺑﻌﺔ ﻣﻦ إرادﺗﻪ ﺑﺄي ﺣﺎل ﻣﻦ اﻷﺣﻮال ،وإﻧﻤﺎ ﻣﺤﺾ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻓﻠﻦ ﺗﻜﻮن ﺣﺮﻛﺔ ﻛﻞ إﻧﺴﺎن ﺣﺘﻤﻴﺔ ﻟﺤﺮﻛﺔ اﻟﺬﱠ ﱠرات املﻮﺟﻮدة ﺑﺠﺴﺪه .وﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه ﻣﻦ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺘﻲ أﺛﺎرت ﺣﻔﻴﻈﺔ أﺑﻴﻘﻮر ،وإن ﻛﺎن اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﻮن ﻗﺪ وﻗﻔﻮا ﰲ وﺟﻪ اﻟﺘﻨﺠﻴﻢ ﻗﺎﺋﻠني إﻧﻪ ﻣﺤﺾ ﻫﺮاء ﻻ ﻃﺎﺋﻞ ﻣﻨﻪ؛ ﻓﺈن ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻵن اﻟﺘﺴﻠﻴﻢ ﺑﺄن اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺬﱠ ﱢرﻳﱠﺔ ﺟﻌﻠﺖ املﺴﺘﻘﺒﻞ ﻳُﻤﻜِﻦ ﺑﺴﻄﻪ وﻋﺮﺿﻪ ﻛﻮرق اﻟﻠﻌﺐ .وﻫﻜﺬا ﺑﻌﺪ أن ﺣﺎول أﺑﻴﻘﻮر أن ﻳُﻘﺪﱢم ﺻﻮرﺗﻪ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮم ﻋﲆ املﻨﻬﺞ اﻟﻌﻠﻤﻲ وﻛﺄﻧﻬﺎ ﺗﺮﻳﺎق ﻟﻠﺒﴩﻳﺔ ﻳُﺜﺒﺖ ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻪ أن ﺣﻴﺎة اﻟﺒﴩ ﻟﻴﺴﺖ ﰲ ﻳﺪ اﻵﻟﻬﺔ أو ﺗﺨﻀﻊ ﻟﺴﻄﻮة اﻟﻘﺪر؛ ﻓﺈﻧﻪ ﻗﺪ وﺟﺪ أن اﻟﺬﱠ ﱠرات ﻣﺜﻞ اﻟﻘﺪَر ﻻ ﺗﺨﺘﻠﻒ ﻋﻨﻪ ﰲ ﳾء ،ﺑﻞ إن أﺑﻴﻘﻮر ﻳﻘﺮر أن ذَ ﱠرات دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ أﺳﻮأ ﻣﻦ ﻓﻜﺮة اﻟﻘﺪر ﻧﻔﺴﻬﺎ؛ إذ ﻳﻘﻮل: ﻣﻦ اﻷﻓﻀﻞ أن ﻧﻜﻮن أﴎى ﻟﻔﻜﺮة اﻵﻟﻬﺔ ﰲ ﻋﻠﻢ اﻷﺳﺎﻃري ﻋﻦ أن ﻧﻜﻮن ﻋﺒﻴﺪًا ﻟﻔﻜﺮة »اﻟﻘﺪر« ﻋﻨﺪ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴني؛ ﻓﺎﻷوﱃ ﺗﺴﻤﺢ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ُ ﺑﻔﺴﺤﺔ ﻣﻦ 332
اﻟ ﱡ ﻄﺮق اﻟﺜﻼث إﱃ ﱠ اﻟﺴﻜِﻴﻨﺔ :اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ واﻟﺮواﻗﻴﺔ واﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ
اﻷﻣﻞ ﻋﱪ اﻟﺘﻘ ﱡﺮب ﻟﻶﻟﻬﺔ ﺑﺎﻟﻌﺒﺎدة ،ﰲ ﺣني أن اﻷﺧﺮى ﺗﻨﻄﻮي ﻋﲆ ﴐورة ﻻ ﺳﺒﻴﻞ ﻟﻠﻔﻜﺎك ﻣﻨﻬﺎ. وﻳﻀﻊ ﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس اﻟﻔﻜﺮة ذاﺗﻬﺎ ﰲ إﻃﺎر اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ اﻟﻘﺪر ﻓﻴﻘﻮل: إذا اﻓﱰﺿﻨﺎ أن ﻃﺒﻴﻌﺔ ﺳري اﻟﺤﺮﻛﺔ ﺗﻘﻮم ﻋﲆ اﻟﱰاﺑﻂ؛ ﻓﺈن اﻟﺤﺮﻛﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة ﺳﺘﻜﻮن ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﻠﺤﺮﻛﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ً ﺣﺘﻤﻲ ،وﻣﺎ داﻣﺖ اﻟﺬﱠ ﱠرات ﻻ وﻓﻘﺎ ﻟﱰﺗﻴﺐ ﱟ ً ﻣﻄﻠﻘﺎ ﻟﻜﻲ ﺗﻨﺸﺄ ﺣﺮﻛﺔ ﺟﺪﻳﺪة ﺗﻜﴪ رواﺑﻂ اﻟﻘﺪر واﻟﺴﻠﺴﻠﺔ اﻷﺑﺪﻳﺔ ﺗﻨﺤﺮف اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ ﻋﲆ اﻟﺴﺒﺐ واﻟﻨﺘﻴﺠﺔ؛ ﻓﻤﺎ ﻫﻮ إذن ﻣﺼﺪر ﺣﺮﻳﺔ اﻹرادة اﻟﺘﻲ ﺗﻤﺘﻠﻜﻬﺎ ﻛﺎﻓﺔ اﻷﺷﻴﺎء ﻋﲆ ﺳﻄﺢ اﻷرض؟ وﻣﺎ ﻫﻮ ﻣﺼﺪر اﻹرادة اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺘﺰع ﻣﻦ ﺑﺮاﺛﻦ اﻟﻘﺪر واﻟﺘﻲ ﻧﺴﻠﻚ ﺧﻼﻟﻬﺎ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﻧﺤﻮ املﺘﻊ واملﻠﺬﱠات ،أو ﻧﻨﺄى ﻋﻦ ذاك اﻟﻄﺮﻳﻖ دون ﺗﻘﻴﱡ ٍﺪ ﺑﺰﻣﺎن أو ﻣﻜﺎن ﻋﺪا ﻣﺎ ﺗﻤﻠﻴﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻗﻠﻮﺑﻨﺎ؟ إذا ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺬﱠ ﱠرات ﺗﻨﺤﺮف أﺣﻴﺎﻧًﺎ دون اﻟﻘﺪرة ﻋﲆ اﻟﺘﻨﺒﱡﺆ ﺑﺤﺮﻛﺘﻬﺎ ،ﻋﲆ ﺣَ ﱢﺪ زﻋﻢ أﺑﻴﻘﻮر وﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس؛ إذن ﻓﺈن »رواﺑﻂ اﻟﻘﺪر« ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗُﺤَ ﱠﻞ ،و»اﻟﺘﺴﻠﺴﻞ اﻷﺑﺪي ﻟﻠﺴﺒﺐ واﻟﻨﺘﻴﺠﺔ« ﻟﻦ ﻳُﺼﺒﺢ داﺋﻤً ﺎ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻨﺤﻮ ﺣﻴﺚ ﻳﻤﻜﻦ اﻋﱰاض ﺳريه .وﻫﻨﺎ ﻧﺠﺪ أن أﺑﻴﻘﻮر َ ﻇ ﱠﻦ أن ﻓﻜﺮة »اﻧﺤﺮاف« اﻟﺬﱠ ﱠرات اﻟﺘﻲ ﻗﺪﱠﻣﻬﺎ ﻳﻤﻜﻨﻬﺎ أن ﺗُﺠﻨﱢﺒَﻨﺎ ﻓﻜﺮة اﻟﺤﺘﻤﻴﺔ ﻏري اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻮﺟﺪ ﰲ ﻧﻈﺮﻳﺔ دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ .وﻗﺪ ذﻛﺮ ﺑﻌﺾ ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء اﻟ َﻜﻤﱢ ﻴﱠﺔ ﻗﺪر ﻣﻦ اﻟﺤﺮﻳﺔ ﰲ اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء اﻟ َﻜﻤﱢ ﻴﱠﺔ ،ﻓﻜﺘﺐ اﻟﺴري آرﺛﺮ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ ﻓﻜﺮة وﺟﻮد ٍ إدﻧﺠﺘﻮن ﻋﺎم ١٩٢٨م ﻋﲆ إﺛﺮ اﻛﺘﺸﺎف ﻧﻈﺮﻳﺔ اﻟﻼﺣﺘﻤﻴﺔ ً ﻗﺎﺋﻼ» :وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈن اﻟﻌﻠﻢ ﻳﱰاﺟﻊ ﻋﻦ اﻋﱰاﺿﻪ ﻋﲆ ﻓﻜﺮة ﺣﺮﻳﺔ اﻹرادة«. إن ﻓﻜﺮة ﻛﻮن اﻟﻌﺸﻮاﺋﻴﺔ ﻫﻲ ﴎ وﺟﻮد ﺣﺮﻳﺔ اﻹرادة ﺗﺒﺪو ﻓﻜﺮة ﻣﻐﺮﻳﺔ ٍّ ﺣﻘﺎ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻣﺤرية ﰲ ذات اﻟﻮﻗﺖ؛ ﺣﻴﺚ ﻳﻄﺎﻟﻌﻨﺎ ﺳﺆال :ﻣﺎذا ﻳﻌﻨﻲ أﺑﻴﻘﻮر وﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس ٍّ ﺣﻘﺎ ﺑﻬﺬا اﻟﺤﺪﻳﺚ؟ ﻫﻞ ﻳﻌﻨﻲ ﺣﺪﻳﺜﻬﻤﺎ أن اﻷﻓﻌﺎل اﻟﺘﻲ ﺗُﺤﺪﺛﻬﺎ اﻹرادة اﻟﺤﺮة ﻣﺎ ﻫﻲ إﻻ اﻧﺤﺮاﻓﺎت ﻟﻠﺬﱠ ﱠرات ﻋﻦ ﻣﺴﺎرﻫﺎ ﰲ املﺦ؟ وإذا ﻛﺎن اﻷﻣﺮ ﻛﺬﻟﻚ ﻓﺈن ﻫﺬا ﻳﻌﻨﻲ أن اﻹﻧﺴﺎن ﺣﺮ اﻹرادة وﻟﻜﻦ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺘﻨﺒﺆ ﺑﺴﻠﻮﻛﻴﺎﺗﻪ أو أﻓﻌﺎﻟﻪ .وﻟﻜﻦ ﻫﺬا أﻣﺮ ﻳﺠﺎﻧﺐ ﱠ اﻟﺼﻮاب؛ ﻷن ﻓﻜﺮة ً ﻣﻄﻠﻘﺎ ﻣﻊ أﻓﻜﺎر ﻣﺜﻞ اﻻﺳﺘﻘﻼل واملﺴﺌﻮﻟﻴﺔ اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ،ﻓﻜﻤﺎ ﻳﻮﺿﺢ اﻟﻌﺸﻮاﺋﻴﺔ ﻻ ﺗﺴﺘﻮي اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف اﻹﻧﺠﻠﻴﺰي اﻟﺤﺪﻳﺚ أﻟﻔﺮﻳﺪ ﺟﻮل آﻳﺮ ):(١٩٨٩–١٩١٠
333
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
إذا ﻛﺎن ﺳﻠﻮك اﻹﻧﺴﺎن وﺗﴫﱡﻓﻪ ﻣﻦ ﻗﺒﻴﻞ اﻟﺼﺪﻓﺔ ،ﻓﺈن ﻫﺬا ﻳﻌﻨﻲ أﻧﻪ ﺣُ ﱞﺮ ﻣﺴﺌﻮل ،ﺣﻴﺚ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺘﻨﺒﱡﺆ ﺑﺄﻓﻌﺎﻟﻪ؛ وﻣﻦ ﺛ ﱠﻢ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻋﺘﺒﺎره ﺑَﻴْ َﺪ أﻧﻪ ﻏري ٍ ً ﻣﺴﺌﻮﻻ أﺧﻼﻗﻴٍّﺎ ،وإﻧﻤﺎ ﻳُﻌَ ﱡﺪ ﻣﺠﻨﻮﻧًﺎ. إذا ﻛﺎن أﺑﻴﻘﻮر ﻳﻌﺘﻘﺪ أن اﻷﻓﻌﺎل اﻟﺤﺮة ﺗﻨﺘﺞ ﻋﻦ اﻧﺤﺮاﻓﺎت اﻟﺬﱠ ﱠرات ﰲ اﻟﺠﺴﺪ وأن ﻫﺬا ﻫﻮ ري ٍة واﺿﻄﺮاب ﻛﺒريﻳﻦ ﻣﺎ ﻳﻌﻄﻲ اﻹﻧﺴﺎن ﺗﺤ ﱡﻜﻤً ﺎ ﰲ أﻓﻌﺎﻟﻪ ،ﻓﻼ ﺑﺪ إذن أﻧﻪ ﻛﺎن واﻗﻌً ﺎ ﰲ ﺣَ ْ َ ﺑﺸﺄن ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة .وﻟﻜﻦ رﺑﻤﺎ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻫﺬا ﻣﺎ ﻋﻨﺎه أﺑﻴﻘﻮر ،ﻓﺮﺑﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﻌﻨﻲ أن وﺟﻮد ﻗﻔﺰات ﻋﺸﻮاﺋﻴﺔ ﰲ ﺣﺮﻛﺔ اﻟﺬﱠ ﱠرات ﻳُﺒ ﱢ ُ َني أن اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺗﺴﻤﺢ ﺑﻮﺟﻮد ﻣﺴﺎﺣﺔ ﻣﻦ اﻹﻣﻜﺎﻧﺎت املﺘﺎﺣﺔ ،وأﻧﻬﺎ ﻻ ﺗﺤﺪد ﻛﻞ ﳾء ﺑﺪﻗﺔ وﴏاﻣﺔ ،ﻓﺈذا ﻛﺎﻧﺖ ﻟﻠﺬﱠ ﱠرة اﻟﺤﺮﻳﺔ ﰲ اﻟﺘﺤ ﱡﺮك ﰲ اﻻﺗﺠﺎﻫﺎت ﻛﺎﻓﺔ ،ﻓﻠﺮﺑﻤﺎ ﻟﻨﺎ ﻧﺤﻦ ً أﻳﻀﺎ ﺣﺮﻳﺔ اﻟﺘﺤﻜﻢ ﰲ أﺟﺴﺎدﻧﺎ؛ وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﺻﺤﻴﺤً ﺎ أن ُﻛ ﱠﻞ أﻓﻌﺎﻟﻨﺎ ﻧﺎﺗﺠﺔ ﻋﻦ ﻗﺎﻧﻮن اﻟﺴﺒﺐ واﻟﻨﺘﻴﺠﺔ .وإذا ﻛﺎن ﻫﺬا ﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺮﻣﻲ إﻟﻴﻪ أﺑﻴﻘﻮر ً ﻓﻌﻼ؛ ﻓﻬﺬا ﻳَ ُﺪ ﱡل ﻋﲆ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻳﺨﻠﻂ ﺑني ﻓﻜﺮﺗَﻲ اﻟﻌﺸﻮاﺋﻴﺔ واﻟﺤﺮﻳﺔ ،إﻻ أﻧﻨﺎ ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ ادﱢﻋَ ﺎء أن إﺟﺎﺑﺘﻪ ﻋﻦ ﻣﺴﺄﻟﺔ ﺣﺮﻳﺔ اﻹرادة ﺷﺎﻓﻴﺔ ﻛﺎﻓﻴﺔ ،ﻓﻠﻢ ﻳﺒﺬُل أدﻧﻰ ﺟﻬ ٍﺪ ﰲ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﺗﻮﺿﻴﺢ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻷﻓﻌﺎل اﻟﺤﺮة .وﺗﺒﻘﻰ ﻓﻜﺮﺗﻪ ﰲ ﻫﺬا املﻘﺎم ﻣﺒﻬَ ﻤَ ًﺔ وﻏﺎﻣﻀﺔ وﻻ ﻧﻌﺮف ﻛﻴﻒ ﻟﻬﺎ أن ﺗﺘﱠ ِﺴ َﻖ ﻣﻊ ﺻﻮرة اﻟﻌﺎﻟﻢ ﰲ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺬﱠ ﱢرﻳﱠﺔ .وﻟﻜﻦ ﻋﲆ ﻛﻞ ﺣﺎل ،رﺑﻤﺎ ﻛﺎن ﺗﺼﻮرﻧﺎ أن أﺑﻴﻘﻮر ﻗﺪ ﺣﻞ ﻣﺸﻜﻠﺔ ﺣﺮﻳﺔ اﻹرادة ﻳﻨﻄﻮي ﻋﲆ َﻗﺪ ٍْر ﻣﻦ املﺒﺎﻟﻐﺔ؛ ﺣﻴﺚ إﻧﻪ ﻧﺠﺢ ﻓﻘﻂ ﰲ ﺗﺴﻠﻴﻂ اﻟﻀﻮء ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﻘﻀﻴﺔ. وﻟﻌﻠﻪ ﻗﺪ ﺗﻨﺎول ﻫﺬه املﺴﺄﻟﺔ ﰲ ﻛﺘﺎب ﻣﻦ ﻛﺘﺒﻪ اﻟﺘﻲ ﺗﻠﻔﺖ وﺿﺎﻋﺖ .ﻓ ُﻜﺘُﺐ أﺑﻴﻘﻮر اﻟﺮﺋﻴﺴﺔ ﺿﺎﻋﺖ — ﺷﺄﻧﻬﺎ ﰲ ذﻟﻚ ﺷﺄن ﻛﺜري ﻣﻦ املﺆﻟﻔﺎت اﻟﻬﻴﻠﻴﻨﺴﺘﻴﺔ — دون أن ﺗﺼﻞ إﱃ اﻷﺟﻴﺎل اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﺪر ﻫﺬه املﺆﻟﻔﺎت وﺗُ ِﺠ ﱡﻠﻬَ ﺎ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ أﺻﺤﺎﺑﻬﺎ ﺣﻴﻨﺌﺬٍ .أﻣﺎ ﻣﺎ ﺑني ﺑﺸﻜﻞ ﺷﻤﻮﱄ؛ »ﺣﻴﺚ إن اﻟﺮؤﻳﺔ اﻟﻌﺎﻣﺔ اﻟﺸﺎﻣﻠﺔ أﻳﺪﻳﻨﺎ ﻣﻦ ﻛﺘﺒﻪ ﻓﻬﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻨﺎول املﺴﺎﺋﻞ ٍ ﻣﻄﻠﻮﺑﺔ دوﻣً ﺎ ،أﻣﺎ اﻟﺘﻔﺎﺻﻴﻞ ﻓﺎﻟﺤﺎﺟﺔ إﻟﻴﻬﺎ ﻧﺎدرة« .ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ ﺑﻌﺾ اﻟﻜﺘﺐ اﻟﺘﻲ ً ﻣﻘﺎرﻧﺔ ﺗﺠﻤﻊ ﻣﻘﻮﻻﺗﻪ املﺘﻔﺮﻗﺔ .وﻫﺬا ﻳﺠﻌﻞ ﻣﻦ اﻟﺼﻌﺐ ﺗﻘﻴﻴﻢ ﻣﴩوﻋﻪ وﻋﻤﻠﻪ اﻟﻔﻜﺮي ﺑﺄﻋﻤﺎل أﻓﻼﻃﻮن وأرﺳﻄﻮ .وﻟﻜﻦ ﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أن ﻃﺮﻳﻘﺔ ﺗﻔﻜريه وأﺳﻠﻮﺑﻪ ﻳﺨﺘﻠﻔﺎن إﱃ ﺣَ ﱟﺪ ﻛﺒري ﻋﻨﻬﻤﺎ ،ﻓﻠﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻣﻬﺘﻤٍّ ﺎ ﺑﺎملﺼﻄﻠﺤﺎت اﻟﺘﻘﻨﻴﺔ وﻻ اﻟﱪاﻫني املﻌﻘﺪة وﻻ اﺳﺘﺨﻼص اﻻﺳﺘﻨﺘﺎﺟﺎت ﻣﻨﻬﺎ وﻻ اﻟﺘﻌﺮﻳﻔﺎت املﻠﺘﻮﻳﺔ ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﻌريﻫﺎ اﻫﺘﻤﺎﻣﻪ ،وﻫﺬا ﻟﻴﺲ ﻓﻘﻂ ﻋﲆ ﻣﺴﺘﻮى أﻋﻤﺎﻟﻪ اﻟﺸﻬرية ﺑﻞ ﰲ أﻋﻤﺎﻟﻪ ﻛﺎﻓﺔ ،ﻓﻜﺎن ﻳﻈﻦ أن ﻫﺬه اﻷﻣﻮر ﻣﻦ ﺷﺄﻧﻬﺎ أن ﺗﺸﺘﺖ اﻟﻌﻘﻞ ﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻦ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ اﻟﺬي ﻳﻤﻜﻦ اﻛﺘﺸﺎﻓﻪ ﺑﺎﻟﺤﻮاس وﺗﻔﺴريه ﺑﻌﻠﻢ اﻟﺬﱠ ﱠرات. 334
اﻟ ﱡ ﻄﺮق اﻟﺜﻼث إﱃ ﱠ اﻟﺴﻜِﻴﻨﺔ :اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ واﻟﺮواﻗﻴﺔ واﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ
وﻟﻢ ﻳﻜﻦ أﺑﻴﻘﻮر ﻣﻬﺘﻤٍّ ﺎ ﺑﻤﺎ ﺷﻐﻞ ُﻛ ٍّﻼ ﻣﻦ أﻓﻼﻃﻮن وأرﺳﻄﻮ ،ﺑﻞ ﻟﻢ ﻳُ َﻜ ﱢﻠ ْ ﻒ ﻧﻔﺴﻪ ﻋﻨﺎء ﱠ اﻟﺸﺎﻗﺔ ﺗﻔﻨﻴﺪ ﻛﻼﻣﻬﻤﺎ .ﻓﻔﻲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬي ﻛﺎن ﻋﲆ املﺮء ﻓﻴﻪ أن ﻳﺴﻌﻰ إﱃ اﻟﻌﻠﻢ واﻟﺪراﺳﺔ ﰲ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ اﻟﺤﻜﻤﺔ واﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻨﻄﻮي ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ ﻓﻠﺴﻔﺔ أﻓﻼﻃﻮن وأرﺳﻄﻮ؛ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻓﻠﺴﻔﺔ أﺑﻴﻘﻮر ﺗﺤﺘﺎج إﱃ ﺳﺎﺑﻖ ﻣﻌﺮﻓﺔ أو ﻋﻠﻢ ﻟﻺملﺎم ﺑﻬﺎ .وﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ،إن ﺗﻌﻠﻴﻤً ﺎ ﻓﻠﺴﻔﻴٍّﺎ ﻋﲆ ﻃﺮﻳﻘﺔ أﻓﻼﻃﻮن وأرﺳﻄﻮ ﻳُﻌَ ﱡﺪ ً ﻋﺎﺋﻘﺎ أﻣﺎم اﻟﻜﺜريﻳﻦ؛ ﻓﺎﻷﺳﻠﻮب اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ اﻟﺬي ﻳﻘﻮم ﻋﲆ اﻹﻃﻨﺎب ﻗﺪ ﻳُﻀﻞ اﻹﻧﺴﺎن وﻳ َُﺸﺘﱢ ُﺖ ﺗﻔﻜريه» :ﻳﺠﺐ أن ﻧﻀﻊ أﻳﺪﻳﻨﺎ ﻋﲆ املﻌﺎﻧﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﺸري إﻟﻴﻬﺎ اﻟﻜﻠﻤﺎت؛ وﺑﺬﻟﻚ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﺴﺘﺨﺪﻣﻬﺎ ﻣﺮﺟﻌً ﺎ ﻧﻌﻮد إﻟﻴﻪ ﻟﻠﺤﻜﻢ ﻋﲆ أﻣﻮر اﻟﺮأي واﻟﺘﺴﺎؤﻻت املﺴﺒﱢﺒﺔ ﻟﻠﺤرية «.إن اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف ﺑﺤﺎﺟﺔ إﱃ ﺗﺜﺒﻴﺖ أﻗﺪاﻣﻪ ﺑﻘ ﱠﻮ ٍة ﰲ اﻷرض؛ ﺣﺘﻰ ﻻ ﺗﻐﻤﺮه ﻣﻮﺟﺎت اﻟﻜﻠﻤﺎت وﺗﻘﺬﻓﻪ ﺑﻌﻴﺪًا ﻓﻴﻐﺮق ﰲ دواﻣﺔ ﻣﻦ اﻟﺠﺪل اﻟﻌﻘﻴﻢ. ﻛﺎن أﺑﻴﻘﻮر ﻋﲆ ﺣَ ﱢﺪ ﻗﻮل أﺣﺪ اﻟﺸﺎرﺣني املﺤﺪﺛني ﻳﻬﺪف إﱃ »املﺤﺎﻓﻈﺔ ﻋﲆ اﻟﻔﻜﺮ ﻗﺮﻳﺒًﺎ ﻣﻦ اﻟﻮاﻗﻊ وﻣﺮﺗﺒ ً ﻄﺎ ﺑﻪ ﻗﺪر اﻻﺳﺘﻄﺎﻋﺔ «.وﻫﻮ ﻣﺎ ﺗﺸري إﻟﻴﻪ ﻛﻠﻤﺎت أﺑﻴﻘﻮر» :إن ﺟﻤﻴﻊ أﻓﻜﺎرﻧﺎ ﻣﺴﺘﻤﺪﱠة ﻣﻦ اﻟﺘﺼﻮرات ،ﺳﻮاء ﻣﻦ ﺧﻼل اﻻﺗﺼﺎل املﺒﺎﴍ ﺑﻬﺎ أو ﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﻘﻴﺎس ﻋﻠﻴﻬﺎ أو اﻟﺘﺸﺎﺑُﻪ ﻣﻌﻬﺎ أو ﺗﺮﻛﻴﺒﻬﺎ ﻣﻊ ﺑﻌﻀﻬﺎ ،ﻣﻊ ﻣﺴﺎﻋﺪة ﺑﺴﻴﻄﺔ ﻣﻦ اﻟﻌﻘﻞ «.وإن اﻟﻌﻘﻞ وأﻓﻜﺎره ﻣﺎ ﻫﻲ إﻻ أﺷﻴﺎء ﻣﺎدﻳﺔ ،ﻓﻬﻲ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﺬﱠ ﱠرات ﻣﺜﻞ أي ﳾء آﺧﺮ ،وﻫﻲ ﱡ ﺑﺘﺪﻓﻖ اﻟﺬﱠ ﱠرات ﻣﻦ ﻣﺮاﻛﺰ اﻟﺤﺲ؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﺈن أي وﺟﻪ ﻟﺼﺤﺔ أﻓﻜﺎرﻧﺎ ﺗﺘﺄﺛﺮ ﰲ اﻷﺳﺎس ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ ﻣﺼﺪ ًرا ﻣﻦ ﻣﺼﺎدر املﻌﺮﻓﺔ ﻻ ﺑﺪ أن ﻳﻨﺒﻊ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ،ﻓﺨﱪﺗﻨﺎ وﺗﺠﺎرﺑﻨﺎ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة ﻫﻲ »اﻷﻣﻮر اﻟﺘﻲ ﺗﺸري إﻟﻴﻬﺎ اﻟﻜﻠﻤﺎت« .وﻟﺬﻟﻚ ﻓﺈن ﺟُ ﱠﻞ ﺣﺪﻳﺜﻨﺎ وﺗﻨﻈريﻧﺎ ﻻ ﺑُ ﱠﺪ أن ﻳﻮﺿﻊ ﻣﻮﺿﻊ اﻻﺧﺘﺒﺎر ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ. وﻫﺬا ﻫﻮ ﻓﺤﻮى ﻧﻈﺮﻳﺔ »اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴﺔ« اﻟﺘﻲ ﺗﻄﻮرت ﰲ ﻋﺪة أﺷﻜﺎل ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ ،ﻣﻊ اﻹﺷﺎرة إﱃ أن اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳني ﻟﻢ ﻳ َْﺴﻌَ ﻮْا ﻳﻮﻣً ﺎ إﱃ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ ﻧﻈﺮﻳﺔ ﺣﻮل املﻌﺮﻓﺔ أو اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء ،وﻛﺎن إرﺛﻬﻢ اﻷﺳﺎﳼ ﻳﺘﻤﺜﱠﻞ ﰲ ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺘﻲ وﺻﻒ ﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس ﻃﺒﻴﻌﺘﻬﺎ وﻣﺰاﻳﺎﻫﺎ ﺑﺤﻔﺎوة ﺑﻌﺪ وﻓﺎة أﺑﻴﻘﻮر ورﻓﺎق ﺣﺪﻳﻘﺘﻪ ﺑﻤﺎﺋﺘﻲ ﻋﺎم: إﻧﻪ ﻷﻣﺮ ﻃﻴﺐ أن ﺗﻘﻒ ﻋﲆ اﻟﻴﺎﺑﺴﺔ وأﻧﺖ ﺗﺸﺎﻫﺪ ً رﺟﻼ ﻣﺎ ﻳُﺠﺎ ِﺑ ُﻪ اﻷﻣﻮاج اﻟﻌﺎﺗﻴﺔ ﺑﻌﺪﻣﺎ أﺛﺎرﺗﻬﺎ اﻟﺮﻳﺢ .وﻻ ﻳﻌﻨﻲ ﻫﺬا أﻧﻚ إﻧﺴﺎن ﺳﺎدي ﺗﺴﻌَ ﺪ ﺑﻌﺬاب اﻵﺧﺮﻳﻦ، ﱢ واملﺸﺎق اﻟﺘﻲ ﻳﺘﻜﺒﺪﻫﺎ وإﻧﻤﺎ ﻳﺠﻌﻠﻚ ﻫﺬا املﻮﻗﻒ ﺗﺪرك ﻗﻴﻤﺔ اﻷﻣﺎن ﻣﻦ املﺼﺎﻋﺐ ﻏريك .وﻛﺬﻟﻚ اﻷﻣﺮ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﺸﺎﻫﺪ املﻌﺎرك اﻟﻄﺎﺣﻨﺔ ﺗﺪور رﺣﺎﻫﺎ ﰲ اﻟﺴﻬﻮل ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺗﻤ ُﻜﺚ أﻧﺖ ﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻨﻬﺎ دون اﺷﱰاك ﻓﻴﻬﺎ .وﻟﻜﻦ ﻫﺬه اﻷﻣﻮر ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ﻻ ﺗﻀﺎﻫﻲ اﻟﺴﻌﺎدة اﻟﺘﻲ ﺗﻨﻌَ ﻢ ﺑﻬﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﻜﻮن أﻧﺖ ﺳﻴﺪ إﺣﺪى ﺗﻠﻚ اﻟﺒﻘﺎع 335
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻣﺤﺼ ً ﱠ ﻨﺔ ﺑﺘﻌﺎﻟﻴﻢ اﻟﺤﻜﻤﺎء؛ اﻟﻬﺎدﺋﺔ املﻄﻤﺌﻨﱠﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻒ ﺷﺎﻣﺨﺔ ﻋﺎﻟﻴﺔ ﻋﻤﱠ ﺎ ﺣﻮﻟﻬﺎ ﻓﻤﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻳﻤﻜﻨﻚ أن ﺗﻨﻈﺮ إﱃ اﻟﻨﺎس ﻣﻦ ﺗﺤﺘﻚ ﻳﻬﻴﻤﻮن ﻋﲆ وﺟﻮﻫﻬﻢ ﺑﻼ ﻫﺪف أو ﻏﺎﻳﺔ ﺑﺤﺜًﺎ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﻟﻠﺤﻴﺎة ،وﻫﻢ ﻳﺘﻨﺎﻓﺴﻮن ﻗﺪر ﻃﺎﻗﺘﻬﻢ ﻣﺤﺎوﻟني اﻟﺘﻐﻠﺐ ﺑﻌﻀﻬﻢ ﻋﲆ ﺑﻌﺾ وارﺗﻘﺎء اﻟﺴﻠﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ،ﻓﻴﺒﺬﻟﻮن ﻗﺼﺎرى ﺟﻬﻮدﻫﻢ ً ﻟﻴﻼ وﻧﻬﺎ ًرا وﻳﻜﺪﱡون ﻣﻦ أﺟﻞ ﺗﺮا ُﻛ ِﻢ ﺛﺮواﺗﻬﻢ وﺗﻌﺰﻳﺰ ﺳﻠﻄﺎﻧﻬﻢ .ﻓﻴﺎ ﻟﺒﺆس ﻋﻘﻮل ﻫﺆﻻء اﻟﺮﺟﺎل! وﻳﺎ َﻟﻌَ ﻤَ ﻰ ﻗﻠﻮﺑﻬﻢ! وﻳﺎ ﻟﻪ ﻣﻦ ﻇﻼم داﻣﺲ! وﻛﻢ ﻣﻦ أﻫﻮال وﻣﺨﺎﻃﺮ ﻧﻬﺪر ﰲ ﺳﺒﻴﻠﻬﺎ ﺣﻴﺎﺗﻨﺎ اﻟﻘﺼرية ﻫﺬه! أﻻ ﺗﺮى أن اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻻ ﺗﻬﺪف ﻟﴚء ﺳﻮى ﺗﺨﻠﻴﺺ اﻟﺠﺴﺪ ﻣﻦ اﻷﻟﻢ وﺗﺤﻘﻴﻖ راﺣﺔ اﻟﻌﻘﻞ ﺑﻌﺪ إزاﻟﺔ اﻟﻘﻠﻖ واﻟﺨﻮف ﻣﻨﻪ؟ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﺎﻟﺠﺴﺪ ﻻ ﻳﺤﺘﺎج ِﺳﻮَى ﻣﺎ ﻳﺪﻓﻊ ﻋﻨﻪ اﻷﻟﻢ وﻳﺠﻠﺐ ﻟﻪ ﻣﺘﻌً ﺎ ﺟَ ﻤﱠ ﺔ. واﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺗﺴﻌﻰ ﻟﻸﻣﺮ ذاﺗﻪ ،ﻓﻬﻞ ﻫﻨﺎك ﻣﺎ ﻫﻮ أﻛﺜﺮ إﻣﺘﺎﻋً ﺎ ﻣﻦ ﺗﻤﺎﺛﻴ َﻞ ذﻫﺒﻴﺔ ﻟﺸﺒﺎب ﰲ ﻣﺪاﺧِ ِﻞ اﻷروﻗﺔ ﻳﺤﻤﻠﻮن ﻣﺸﺎﻋﻞ اﻟﻨﺎر ﰲ أﻳﺪﻳﻬﻢ ﻟﻴُﻀﻴﺌﻮا ﻣﺄدﺑﺎت اﻟﻠﻴﻞ ،أو ﻣﻨﺰل ﻳﱪق ﺑﺎﻟﻔﻀﺔ وﻳﺘﻸﻷ ﺑﺎﻟﺬﻫﺐ ،أو ﺳﻘﻒ ذﻫﺒﻲ ﻣﻘﻮس ﻳﻌﻜﺲ ﺻﻮت اﻟﻌﻮد ،أو رﺟﺎل ﻳﻔﱰﺷﻮن اﻟﻌﺸﺐ اﻷﺧﴬ ﻋﲆ ﺿﻔﺔ إﺣﺪى اﻟﺒﺤريات ﰲ ﻇﻞ ﺷﺠﺮة ﺳﺎﻣﻘﺔ ﻟﻴُﻨﻌﺸﻮا أﺟﺴﺎدﻫﻢ ﺑﺎﻟ ﱠﻠﺬﱠة واﻟﺴﻌﺎدة دون ﻛﻠﻔﺔ ،وﺗﻜﺘﻤﻞ اﻟﺴﻌﺎدة إذا اﺑﺘﺴﻢ ﻟﻬﻢ اﻟﻄﻘﺲ وﺗﻨﺎﺛﺮت ﺣﻮﻟﻬﻢ اﻷزﻫﺎر ﻋﲆ اﻟﺒﺴﺎط اﻷﺧﴬ. ﻟﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ ﻋﻘﻴﺪة ﺷﺨﺼﻴﺔ واﺳﺘﻤﺮت ﻛﺬﻟﻚ ﺣﺘﻰ ﺑﻌﺪ وﻓﺎة املﻌ ﱢﻠﻢ ﻧﻔﺴﻪ .وﻛﺎن ً اﺣﺘﻔﺎﻻ ﰲ اﻟﻌﴩﻳﻦ ﻣﻦ ﻛﻞ ﺷﻬﺮ ﻹﺣﻴﺎء ذﻛﺮاه ﰲ املﻨﺰل واﻟﺤﺪﻳﻘﺔ أﺗﺒﺎع أﺑﻴﻘﻮر ﻳﻘﻴﻤﻮن اﻟﺘﻲ ﺗﺮﻛﻬﺎ ﻟﺨﻠﻴﻔﺘﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗُﻮ ﱢُﰲ َ ﻋﺎم ٢٧١ق.م .ﻓﻜﺎﻧﻮا ﻳﺘﻠﻮن ﺑﻌﺾ ﻛﺘﺒﻪ اﻟﺘﻲ ﻳﺤﻔﻈﻮﻧﻬﺎ ﻋﻦ ﻇﻬﺮ ﻗﻠﺐ ،ﻛﻤﺎ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻔﻌﻠﻮن ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﺎن ﻣﻌﻠﻤﻬﻢ اﻟﻌﻈﻴﻢ ﺣﻴٍّﺎ ﻳُﺮزق .وﻗﺪ ﻋﻤﻠﻮا ﻋﲆ ً إﺟﻼﻻ وﺗﻘﺪﻳ ًﺮا ﻟﻪ ﻣﻦ ﻧﴩ ﻋﻘﻴﺪﺗﻪ واﺗﺒﻌﻮا َﺳﻤْ ﺘَ ُﻪ ﰲ اﻟﻌﻴﺶ واﻟﺤﻴﺎة .وﻟﻢ ﻳﻜﻦ أﺣ ٌﺪ أﻋﻈ َﻢ ﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس اﻟﺬي ﻛﺘﺐ ﻳﺨﺎﻃﺒﻪ ﺑﻌﺪ ﻗﺮﻧني ﻣﻦ وﻓﺎﺗﻪ ً ﻗﺎﺋﻼ» :أﻧﺖ ﻳﺎ أول ﻣﻦ ﺧﺮج ﻣﻦ ﻗﺒﺴﺎ ﻳ ُِﺸ ﱡﻊ ﺿﻮءًا ﱠ ً ﺣﺎﻣﻼ ً وﺿﺎﺣً ﺎ ﻳﻜﺸﻒ ﻋﻦ ﻣﻠﺬﱠات اﻟﺤﻴﺎة وﻳﺰﻳﺢ ﻋﻨﻬﺎ ﺟﻮف اﻟﻈﻼم اﻟﻈﻼم ،أﻧﺖ ﻣﺮﺷﺪي ،ﻳﺎ ﻓﺨﺮ اﻹﻏﺮﻳﻖ وﻣﺠﺪﻫﻢ ،وإﻧﻲ أﺳري ً واﺛﻘﺎ ﻣﻬﺘﺪﻳًﺎ ﺑﺨﻄﺎك وأﺛﺮك«. أﻣﺎ اﻟﺮواﻗﻴﺔ ﻓﻠﻢ ﺗﻜﻦ ﺗﺘﻤﺤﻮر ﺣﻮل رﺟﻞ واﺣﺪ؛ إذ ﻣﺮت اﻟﺮواﻗﻴﺔ ﺑﺜﻼث ﻣﺮاﺣﻞ ﺧﻼل اﻟﺨﻤﺴﻤﺎﺋﺔ ﻋﺎم اﻟﺘﻲ ﺗﻄﻮرت ﺧﻼﻟﻬﺎ ،وﻟﻢ ﻳﺘﺰﻋﻢ أﻳٍّﺎ ﻣﻨﻬﺎ رﺟﻞ واﺣﺪ ﻣﻨﻔﺮدًا .وﻳﺴﺘﻤﺪ اﻟﺮواﻗﻴﻮن اﻷواﺋﻞ اﺳﻤﻬﻢ ﻣﻦ »اﻟﺮواق« اﻟﻮاﻗﻊ ﰲ ﺳﺎﺣﺔ اﻟﺴﻮق ،ﺣﻴﺚ ﻛﺎن ﻣﻌﻠﻤﻬﻢ 336
اﻟ ﱡ ﻄﺮق اﻟﺜﻼث إﱃ ﱠ اﻟﺴﻜِﻴﻨﺔ :اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ واﻟﺮواﻗﻴﺔ واﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ
وﻣﺆﺳﺲ اﻟﺠﻤﺎﻋﺔ اﻟﺮﺳﻤﻲ زﻳﻨﻮن )ﺣﻮاﱄ ٢٦٢–٣٣٣ق.م( املﻮﻟﻮد ﰲ ﻣﺪﻳﻨﺔ »ﺳﻴﺘﻴﻢ« ﻳﺠﺘﻤﻊ ﺑﻬﻢ ،إﻻ أن ﻛﺮﻳﺴﻴﺒﻮس )ﺣﻮاﱄ ٢٠٧–٢٨٠ق.م( — وﻫﻮ ﻓﻴﻠﺴﻮف ﻋﺒﻘﺮي ﺗﺨﺼﺺ ﰲ املﻨﻄﻖ واﻟﻔﻴﺰﻳﺎء — ﻛﺎن ﻟﻪ ﺗﺄﺛري ﻋﲆ املﺮﺣﻠﺔ اﻷوﱃ ﻣﻦ اﻟﺮواﻗﻴﺔ ﻻ ﻳﻘﻞ ﻋﻦ ﺗﺄﺛري زﻳﻨﻮن ،ﻓﻜﻤﺎ ﺗﻘﻮل إﺣﺪى اﻟﻌﺒﺎرات اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ» :ﻟﻮﻻ ﻛﺮﻳﺴﻴﺒﻮس ملﺎ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺮواﻗﻴﺔ«. ﻛﺘﺐ ﻟﻢ ﻳﻨﺞُ ﻣﻨﻬﺎ ﻛﺘﺎب واﺣﺪ ،وإﻧﻤﺎ ﻋُ ﺜﺮ ﻋﲆ وﻳُﻌﺘﻘﺪ أن ﻛﺮﻳﺴﻴﺒﻮس ﻛﺘﺐ ﺣﻮاﱄ ٍ ٧٠٥ ﻗﻄﻊ ﻣﺘﻔ ﱢﺮﻗﺎت ﻣﻦ أﻗﻮاﻟﻪ ﰲ أﺣﺸﺎء ﺑﻌﺾ اﻟﻜﺘﺐ اﻷﺧﺮى .أﻣﺎ أﻓﻀﻞ اﻟﻜﺘﺎﺑﺎت اﻟﺮواﻗﻴﺔ ﻓﻬﻲ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﻛﺘﺒﻬﺎ ﺛﻼﺛﺔ ُﻛﺘﱠﺎب روﻣﺎن :ﺳﻴﻨﻴﻜﺎ وإﺑﻴﻜﺘﻴﺘﻮس وﻣﺎرﻛﻮس أورﻳﻠﻴﻮس، وﺗﻘﺪم ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻬﻢ ﰲ املﻘﺎم اﻷول ﺗﻌﺎﻟﻴ َﻢ أﺧﻼﻗﻴﺔ وﺳﻠﻮى ﻟﻠﻨﻔﻮس ،وﻫﻢ ﻳﻤﺜﻠﻮن اﻟﺮواﻗﻴني املﺘﻘﺎﻋﺪﻳﻦ ﻛﻤﺎ ﻧﻘﻮل ﰲ ﻫﺬه اﻷﻳﺎم .ﻛﺎن ﻣﺎرﻛﻮس إﻣﱪاﻃﻮ ًرا ﺳﻤﺤً ﺎ ﺣﻜﻢ ﺧﻼل اﻟﻘﺮن ً ﻣﺤﻔﻼ ﻟﻠﻨﺰاﻋﺎت واﻟﴫاﻋﺎت ﺣﺘﻰ أﺻﺒﺢ ﻳﺮى أن اﻟﺤﻴﺎة ﻣﺜرية اﻟﺜﺎﻧﻲ املﻴﻼدي ،وﻛﺎن ﻋﻬﺪه ﻟﻠﻐﺜﻴﺎن .أﻣﺎ إﺑﻴﻜﺘﻴﺘﻮس ) (١٢٠–٥٠ﻓﻜﺎن ﰲ ﺳﺎﺑﻖ ﻋﻬﺪه ﻋﺒﺪًا ،وﻛﺎن ﻣﻬﺘﻤٍّ ﺎ ﺑﺎﻟﺘﻔﻜري ﰲ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﺮﻳﺔ واﻷﻣﻮر ﻏري اﻟﻘﺎﺑﻠﺔ ﻟﻼﺳﺘﻌﺒﺎد ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻣﺜﻞ أﻓﻜﺎر اﻹﻧﺴﺎن .أﻣﺎ ﺳﻴﻨﻴﻜﺎ ً ﻣﻮﻇﻔﺎ ﺣﻜﻮﻣﻴٍّﺎ وﺧﻄﻴﺒًﺎ وﻛﺎﺗﺒًﺎ ﻣﴪﺣﻴٍّﺎ ،ﻧُﻔِ َﻲ إﱃ ﻛﻮرﺳﻴﻜﺎ ﺑﻌﺪ أن )٤ق.م–٦٥م( ﻓﻜﺎن اﺗﱡ ِﻬ َﻢ — زو ًرا ﻋﲆ ﻣﺎ ﻳﺒﺪو — ﺑﺎﻟﺰﻧﺎ ﻣﻊ أﺧﺖ اﻹﻣﱪاﻃﻮر ،ﺛﻢ دُﻋﻲ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌ ُﺪ ﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﻧريون ً ﻻﺣﻘﺎ ﺑﺎﻻﻧﺘﺤﺎر ،واﺷﺘﻬﺮ ﺑﺎﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺼﻔﺎت اﻟﺮواﻗﻴﺔ .ﺛﻢ ﻳﺄﺗﻲ اﻟﺼﻐري اﻟﺬي أﻣﺮه اﻟﺮواق اﻷوﺳﻂ — وﻫﻮ ﻣﺮﺣﻠﺔ وﺳﻴﻄﺔ ﺑني اﻟﺮواق اﻷول ﻟﺰﻳﻨﻮن وﻛﺮﻳﺴﻴﺒﻮس واﻟﺮواﻗﻴني املﺘﺄﺧﺮﻳﻦ ﻣﻦ اﻹﻣﱪاﻃﻮرﻳﺔ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴﺔ — اﻟﺨﺎص ﺑﻜ ﱟﻞ ﻣﻦ ﺑﺎﻧﻴﺘﻴﻮس وﺑﻮﺳﻴﺪوﻧﻴﻮس، املﻔﻜ َﺮﻳْﻦ املﺒﺪﻋَ ْني اﻟﻠﺬَﻳْﻦ ﻗﺪﱠﻣَ ﺎ اﻟﺮواﻗﻴﺔ إﱃ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻲ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻗﺒﻞ املﻴﻼد. ﻛﺎن ﻋﲆ ﻣﻦ ﻳﺘﺒﻊ اﻟﺮواﻗﻴﺔ أﺛﻨﺎء اﻟﻌﴫ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻲ أن ﻳﺴﻠُﻚ إﺣﺪى ﻫﺬه اﻟﻄﺮق اﻟﺜﻼث ،وإن ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻄﺮق ﻛﻠﻬﺎ ﺗﺆدي إﱃ ﻣﻜﺎن واﺣﺪ؛ ﻟﻮﺟﻮد ﺳﻤﺎت ﻋﺎﻣﺔ ﻣﺸﱰﻛﺔ ﺗﺠﻤﻊ ﺑﻴﻨﻬﺎ .ﺗﺘﻜﻮن ﻫﺬه اﻟﺴﻤﺎت ﻣﻦ ﻣﺰﻳﺞ ﻣﻦ أﻓﻜﺎر زﻳﻨﻮن اﻟﺘﻲ ﻛ ﱠﻮﻧَﻬﺎ ﺧﻼل رﺣﻠﺘﻪ اﻟﻔﻜﺮﻳﺔ ﻋﱪ املﺪارس اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ اﻷﺛﻴﻨﻴﺔ .وﻛﺎن اﻟﻜﻠﺒﻴﻮن ﻣﻦ أﺑﺮز ﻣﻌ ﱢﻠﻤﻴﻪ ،ﺣﻴﺚ ﻗﺎﻟﻮا إن اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ﻫﻲ اﻟﴚء اﻟﻮﺣﻴﺪ اﻟﺠﺪﻳﺮ ﺑﺎﻻﻫﺘﻤﺎم ،وﻛﺎﻧﻮا ﻳﻌﻨﻮن ﺑﺬﻟﻚ أن اﻟﻘﻴﻢ اﻟﺘﻲ ﻳﻘﻮم ﻋﻠﻴﻬﺎ املﺠﺘﻤﻊ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪي أﻣﻮر ﻏري ذات ﺟﺪوى ،وأﻧﻪ ﻳﺠﺐ أن ﻳُﻌﺎ َد اﻟﻨﻈﺮ ﰲ أﻫﻤﻴﺘﻬﺎ وإﻧﺰاﻟﻬﺎ ﻣﻨﺰﻟﺔ ﺛﺎﻧﻮﻳﺔ .وﻗﺪ اﻋﺘﻨﻖ زﻳﻨﻮن ﻫﺬه اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻻﻧﻄﻮاﺋﻴﺔ اﻻﻧﻌﺰاﻟﻴﺔ ﻟﻠﺤﻴﺎة اﻟﺘﻲ أ َ َﺧﺬَ َﻫﺎ ﻣﻦ اﻟﻜﻠﺒﻴني ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﺟﻌﻞ ﻓﻠﺴﻔﺘﻪ ﺗﺒﺪو ﱠ ﺟﺎﻓ ًﺔ وﻋﺴرية ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻄﺒﻘﺎت اﻟﻌﻠﻴﺎ ﰲ اﻹﻣﱪاﻃﻮرﻳﺔ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴﺔ )ﻟﻢ ﻳﻬﺘﻢ أﻫﻞ اﻟﺴﻠﻄﺔ واﻟﻨﻔﻮذ داﺧﻞ اﻹﻣﱪاﻃﻮرﻳﺔ ﻛﺜريًا ﺑﺎﻷﺳﻠﻮب ﻏري اﻟﺘﻘﻠﻴﺪي َ اﻟﻔﺞﱢ اﻟﺬي ﺗﺒﻨﱠﺎه اﻟﻜﻠﺒﻴﻮن ﻣﺜﻞ دﻳﻮﺟني ﰲ ﺣﻮﺿﻪ اﻟﺸﻬري ،وﻛﺬﻟﻚ 337
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻟﻢ ﻳﻨﺠﺬﺑﻮا إﱃ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺜﻮرﻳﺔ اﻷﺧﺮى اﻟﺘﻲ ﺗﺄﺛ ﱠ َﺮت ﺑﺎﻟﻔﻜﺮ اﻟﻜﻠﺒﻲ ﰲ اﻷﻋﻤﺎل اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ً ﻗﻴﺎﺳﺎ اﻷوﱃ ﻟﻠﺮواﻗﻴني ،ورﺳﻤﺖ ﻫﺬه اﻟﻜﺘﺐ اﻟﻄﻮﺑﺎوﻳﺔ — ا ُملﻌَ ﻨ ْ َﻮﻧَﺔ ﻋﺎدة »اﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ« ﻋﲆ ﺟﻤﻬﻮرﻳﺔ أﻓﻼﻃﻮن — ﺻﻮرة ﻟﻌﺎﻟﻢ ﻳﺤﻈﺮ ﻓﻴﻪ دﺧﻮل املﺒﺎﻧﻲ اﻟﻌﺎﻣﺔ ،ﰲ ﺣني ﻳﺠﻮز ﻓﻴﻪ ِﺳ َﻔﺎحُ ذوي اﻟﻘﺮﺑﻰ وأﻛﻞ ﻟﺤﻮم اﻟﺒﴩ وإﻧﺘﺎج ﻣﻼﺑﺲ ﻣﻮﺣﺪة ﻟﻠﺠﻨﺴني(. وﻳﺪﻳﻦ زﻳﻨﻮن ﺑﻜﺜري ﻣﻦ ﻋﻠﻤﻪ ﻟﻸﻓﻼﻃﻮﻧﻴني ﻛﻤﺎ ﻳﺪﻳﻦ ﻟﻠﻜﻠﺒﻴني .وﻳﺒﺪو أﻧﻪ أُﻋْ ِﺠﺐَ ﺑﻔﻜﺮ أﻓﻼﻃﻮن وﻗﺼﺘﻪ ﻋﻦ ﻛﻴﻔﻴﺔ اﻟﺨﻠﻖ اﻟﺘﻲ ذﻛﺮﻫﺎ أﻓﻼﻃﻮن ﰲ ﻣﺤﺎورة »ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس«، واﻟﺘﻲ ﺗﺤﻜﻲ أن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻗﺪ ﺗﻜﻮ َﱠن ُ وﺻﻤﱢ َﻢ ﺑﻔﻌﻞ ﻋﺒﻘﺮﻳﺔ َﺧ ﱢريَة .ﻓﻮﺟﺪ زﻳﻨﻮن ﰲ ﻫﺬه اﻟﻘﺼﺔ ﻣﺎ ﻳ َُﺨ ﱢﻔ ُ ﱢ املﺸﺎق واﻟﺼﱪ ﻒ ﻣﻦ ﻣﺼﺎﻋﺐ اﻟﺤﻴﺎة وﻣﺘﺎﻋﺒﻬﺎ؛ ﺣﻴﺚ ﺟﻌﻠﺖ ﻣﻦ املﻤﻜﻦ اﺣﺘﻤﺎل ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﺎ دام ﻛﻞ ﳾء ﻣﺼﻤﻤً ﺎ ﻟﻴﺴري اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻟﻸﻓﻀﻞ ،ﺣﺘﻰ وإن ﺑﺪا ﻋﲆ اﻟﺴﻄﺢ ﺧﻼف ذﻟﻚ .وﻳﺮى اﻟﺮواﻗﻴﻮن — ﻛﻤﺎ ﻳﺮى ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ — أن أﺣﺪ أﻫﻢ أﺳﺒﺎب اﻟﺴﻌﺎدة ﻳﻜﻤُﻦ ﰲ ﺗﻌ ﱡﻠﻢ ﻛﻴﻔﻴﺔ اﻟﻌﻴﺶ ﰲ ﻇﻞ اﻟﻈﺮوف املﺨﺘﻠﻔﺔ واﻟﺘﻜﻴﱡﻒ ﻣﻌﻬﺎ ،ﻣﺎ داﻣﺖ اﻟﺤﻴﺎة ﰲ ِﻇ ﱢﻠﻬَ ﺎ أﻣﺮ ﻋﲆ أﻣ ًﺮا ﻻ ﻣَ َﻔ ﱠﺮ ﻣﻨﻪ ،أو ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل أﺣﺪ اﻟﺮواﻗﻴني اﻟﻼﺣﻘني» :ﻻ ﺗﺘﻮﻗﻊ أن ﻳﺤﺪث ُﻛ ﱡﻞ ٍ ﻫﻮاك ،وﻟﻴﻜﻦ ﻫﻮاك ﻣﻊ اﻷﻣﺮ ﻛﻴﻔﻤﺎ ﻳﺤﺪث ،وﺳﺎﻋﺘﻬﺎ ﺳﺘﻨﻌﻢ ﺑﺤﻴﺎة ﻫﺎدﺋﺔ«. وﻫﺬا اﻟﺘﱠﻮ ُْق إﱃ اﻟﻬﺪوء ﻳﺬﻛﺮﻧﺎ ﺑﻔﻜﺮة اﻟﺴﻜﻴﻨﺔ ﻟﺪى اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳني؛ ﺣﻴﺚ ﻧﺮى ﺗﺄﻛﻴﺪ اﻟﻜﺎﺗﺐ ﻧﻔﺴﻪ ﻋﲆ أن املﺸﻜﻼت اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ ﻣﺤﻠﻬﺎ اﻟﻌﻘﻞ: اﻷﺷﻴﺎء ﰲ ﺣ ﱢﺪ ذاﺗﻬﺎ ﻻ ﺗُ َﺴﺒﱢﺐُ اﻟﻜﺮب ﻟﻺﻧﺴﺎن ،وإﻧﻤﺎ آراؤه ﻓﻴﻬﺎ؛ ﻓﻠﻴﺲ املﻮت ً ﻣﺨﻴﻔﺎ ،ﻓﺴﻘﺮاط ﻧﻔﺴﻪ ﻟﻢ ﻳﻌﺘﻘﺪ ﰲ ذﻟﻚ ،وإﻧﻤﺎ ﻣَ ْﻜﻤَ ُﻦ املﺸﻜﻠﺔ ﰲ اﻋﺘﻘﺎدﻧﺎ أﻣ ًﺮا أن املﻮت ﻛﺬﻟﻚ؛ وﻟﺬﻟﻚ إذا ﻣﺎ أﺻﺎﺑﻨﺎ اﻟﻌﺠﺰ أو اﻟﻘﻠﻖ أو اﻟﺤﺰن ،ﻓﻼ ﻳﺠﺐ أن ﻧﻠﻘﻲ ﺑﺎﻟﻼﺋﻤﺔ ﻋﲆ أَيﱢ ﳾء أو ﺷﺨﺺ ﺳﻮى أﻧﻔﺴﻨﺎ؛ أي إن ﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﻠﻮم اﻋﺘﻘﺎداﺗﻨﺎ. ً ﻣﺨﺘﻠﻔﺎ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻋﻦ ﺗﻌﺎﻣﻞ أﺑﻴﻘﻮر، وﻟﻜﻦ اﻟﺘﻌﺎﻣﻞ اﻟﺮواﻗﻲ ﻣﻊ اﻷﺣﻜﺎم اﻟﺨﺎﻃﺌﺔ ﻛﺎن ﺳﻮاء ﻣﻦ ﺣﻴﺚ املﺎدة أو اﻷﺳﻠﻮب ،ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﺧﻼل اﻷﻳﺎم اﻷوﱃ ﻟﻠﺮواﻗﻴﺔ .وﻋﲆ ﺧﻼف اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ ﻛﺎن ﻟﻠﺮواﻗﻴﺔ ﺟﺎﻧﺐ أﻛﺎدﻳﻤﻲ؛ ﻓﻘﺪ درس زﻳﻨﻮن ﰲ أﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ أﻓﻼﻃﻮن واﻗﺘﺒﺲ ﻣﻦ ﻃﺮﻳﻘﺘﻬﺎ .وﻛﺎن اﻟﺮواﻗﻴﻮن ﻣﺴﺌﻮﻟني ﻋﻦ ﺷﻴﻮع اﺳﺘﺨﺪام املﺼﻄﻠﺤﺎت اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ،ﰲ ﺣني أن أﺑﻴﻘﻮر ﻛﺎن ﻳﻔﻀﻞ اﺳﺘﺨﺪام اﻟﻜﻠﻤﺎت املﺄﻟﻮﻓﺔ اﻟﻌﺎدﻳﺔ؛ ﺣﺘﻰ ﻻ ﻳﻘﻊ املﺮء ﰲ دواﻣﺔ ﻣﻦ املﺼﻄﻠﺤﺎت املﺘﺨﺼﺼﺔ .وﻛﺎن ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﺮواﻗﻴني اﻷواﺋﻞ ﻳﻬﺘﻤﱡ ﻮن ﺑﺎﻷﺳﺌﻠﺔ اﻟﻔﻨﻴﺔ ﻟﻠﻤﻨﻄﻖ ،اﻟﺘﻲ اﻧﴫف ﻋﻨﻬﺎ اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﻮن )وإن اﺷﺘﻐﻠﻮا ﻟﻔﱰة ﺑﺎﻷﺳﺌﻠﺔ املﺠ ﱠﺮدة اﻟﺘﻲ 338
اﻟ ﱡ ﻄﺮق اﻟﺜﻼث إﱃ ﱠ اﻟﺴﻜِﻴﻨﺔ :اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ واﻟﺮواﻗﻴﺔ واﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ
ﺗﺪور ﺣﻮل اﻟﻠﻐﺔ( ،ﻓﻨﺠﺪ أن ٣٠٠ﻛﺘﺎب ﻣﻦ ﻛﺘﺐ ﻛﺮﻳﺴﻴﺒﻮس ﺗﻨﺎﻗﺶ ﻣﺴﺎﺋﻞ ﰲ املﻨﻄﻖ. وﻫﺬا املﻮﺿﻮع ﻛﺎن ذا أﻫﻤﻴﺔ ﻟﺪى اﻟﺮواﻗﻴني ﻧﻈ ًﺮا ﻟﻠﺪور اﻟﺬي ﻟﻌِ ﺒﻪ ﰲ إﻧﺘﺎج املﻌﺮﻓﺔ، ﻓﺎملﻨﻄﻖ ﻳﺴﺎﻋﺪك ﻋﲆ اﺳﺘﺨﺮاج اﺳﺘﺪﻻﻻت ﻣﻦ أﻣﻮر ﺗﺪرﻛﻬﺎ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ؛ وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈﻧﻪ ﻳَﻬﺪﻳﻚ ً ﻣﺘﻌﺔ ﰲ املﻨﻄﻖ ﻟﺬاﺗﻪ ،ﻓﻜﺘﺐ ﻃﺎﺋﻔﺔ ﻛﺒرية إﱃ اﻷﺣﻜﺎم اﻟﺴﺪﻳﺪة ،وﻗﺪ وﺟﺪ ﻛﺮﻳﺴﻴﺒﻮس ﻣﻦ اﻷﻟﻐﺎز واﻷﺣﺎﺟﻲ ،ﻣﺜﻞ ذﻟﻚ اﻟﻠﻐﺰ اﻟﺬي ﻳﺤﻜﻲ ﻋﻦ رﺟﻞ ﻳﻘﻮل» :إن ﺣﺪﻳﺜﻲ اﻵن ﻫﻮ ﻣﺤﺾ زﻳﻒ«. وﻓﻀﻼ ﻋﻦ اﺧﺘﻼﻓﺎت اﻷﺳﻠﻮب واملﻨﻬﺞ؛ ﻓﺈن ﻗﺴ ً ً ﻄﺎ ﻛﺒريًا ﻣﻦ اﻻﺧﺘﻼف ﺑني اﻟﺮواﻗﻴﺔ واﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ ﻳﺮﺟﻊ إﱃ آراﺋﻬﻢ املﺘﻌﺎرﺿﺔ ﺑﺸﺄن اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ .ﻓﻌﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ اﺗﻔﺎق اﻟﺮواﻗﻴني ﻣﻊ اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳني ﻋﲆ أن اﻟﻨﺎس ﻻ ﻳﺪرﻛﻮن ُﻛﻨ ْ َﻪ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺬي ﻳﻌﻴﺸﻮن ﻓﻴﻪ ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳُﻮﻗِﻌُ ﻬُ ﻢ ﰲ ﺑﺮاﺛﻦ اﻟﻘﻠﻖ واﻻﺿﻄﺮاب ﺑﺸﺄن اﻟﻄﺮق اﻟﺘﻲ ﻳﺴﺘﻄﻴﻌﻮن ﺑﻬﺎ اﻟﻌَ ﻴ َْﺶ وﻳﺴﻠﻜﻮن ﺑﻬﺎ ﰲ ً ﺟﻬﻼ ﺑﻬﺬه اﻷﻣﻮر ،إن اﻟﺤﻴﺎة ،ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻌﺘﻘﺪون أن اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳني ﻻ ﻳَ ِﻘ ﱡﻠﻮن ﻋﻦ ﻏريﻫﻢ ً أﻣﺮ ﻟﻢ ﻳﻜﻮﻧﻮا ﻫﻢ أﻛﺜﺮ اﻟﻨﺎس ﺟﻬﻼ ﺑﻬﺎ .وﻳﺮى اﻟﺮواﻗﻴﻮن أن اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳني ﻗﺪ أﺻﺎﺑﻮا ﰲ ٍ واﺣﺪ ﻓﻘﻂ ،ﻫﻮ أن اﻷﺷﻴﺎء ﻛﻠﻬﺎ ﻣﺎدﻳﺔ؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﻮن واﻟﺮواﻗﻴﻮن ﻣﻦ املﺆﻣﻨني ﺑﺎملﺎدﻳﺔ ﻋﲆ ﻋﻜﺲ أﻓﻼﻃﻮن وأرﺳﻄﻮ ،ﻓﻬﻢ ﻳﺮون أﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﻫﻨﺎك ﻋﺎملﺎن — ﻛﻤﺎ اﻋﺘﻘﺪ أﻓﻼﻃﻮن — ﻳﺘﻜﻮن أﺣﺪﻫﻤﺎ ﻣﻦ اﻷﺷﻴﺎء املﺎدﻳﺔ واﻵﺧﺮ ﻣﻦ اﻧﻌﻜﺎﺳﺎﺗﻬﺎ املﺜﺎﻟﻴﺔ أو اﻷرواح، ﻓﻴﻌﺘﻘﺪ اﻟﺮواﻗﻴﻮن أن ا ُملﺜُﻞ اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ ﻣﺤﺾ ﻣﺼﻄﻠﺤﺎت ﻋﻘﻠﻴﺔ .وﺑﻤﺎ أن اﻟﻌﻘﻞ ﻣﺎدة ﰲ اﻷﺳﺎس ﻓﺈن ﻫﺬه اﻷﻓﻜﺎر ﻣﺎدﻳﺔ ﻫﻲ اﻷﺧﺮى .أﻣﺎ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺨﺺ اﻟﺮوح ﻓﺈن أﻓﻼﻃﻮن ﻗﺪ أﺧﻄﺄ — ﰲ ﻧﻈﺮﻫﻢ — ﺣني اﻋﺘﻘﺪ أﻧﻬﺎ ﺗﺘﻜﻮن ﻣﻦ ﳾء ﻏري ﻣﺎدي ،ﻛﻤﺎ أن أرﺳﻄﻮ أﺧﻄﺄ ﰲ ﻧﻈﺮ اﻟﺮواﻗﻴني ﻛﺬﻟﻚ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻧﻔﻰ أن ﺗﻜﻮن اﻟ ﱡﺮوح ﻣﺼﻨﻮﻋﺔ ﻣﻦ أي ﳾء ﻋﲆ اﻹﻃﻼق؛ ﻓﺎﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﻮن واﻟﺮواﻗﻴﻮن ﻳَ ُ ﻈﻨﱡﻮن أن اﻟ ﱡﺮوح ﻣﺼﻨﻮﻋﺔ ﻣﻦ املﺎدة اﻟﺘﻲ ُﺧﻠِﻖ ﻣﻨﻬﺎ ﺳﺎﺋﺮ اﻷﺷﻴﺎء .وﻓﻴﻤﺎ ﻋﺪا ذﻟﻚ ﺗﺘﻨﺎﻗﺾ املﺪرﺳﺘﺎن اﻟﻬﻴﻠﻴﻨﺴﺘﻴﺘﺎن ﻓﻴﻤﺎ ﻋﺪا ذﻟﻚ ﻣﻦ ﻣﺴﺎﺋﻞ وﻗﻀﺎﻳﺎ. ﻗﺎل اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﻮن إن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻫﻮ ﻧﺘﺎج ﻋﺸﻮاﺋﻲ ﻟﻘﻮًى ﻏري ﻣﻨﺘﻈﻤﺔ ،أﻣﺎ اﻟﺮواﻗﻴﻮن ﻓﺮأوا أن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻣﺼﻤﱠ ﻢ ﺑﻨﻈﺎم دﻗﻴﻖ ﻳﺮاﻋﻲ أدق اﻟﺘﻔﺎﺻﻴﻞ .وﻛﺬﻟﻚ ﻇﻦ اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﻮن أن آﻟﻴﺔ اﻟﻌﻤﻞ ﰲ اﻟﻜﻮن ﻻ ﺗﺮاﻋﻲ ً ﻫﺪﻓﺎ ﻣﺤﺪدًا وإﻧﻤﺎ ﺗﻌﻤﻞ ﺑﻌﺸﻮاﺋﻴﺔ ،وأن اﻵﻟﻬﺔ ﰲ راﺣﺔ أﺑﺪﻳﺔ، أﻣﺎ اﻟﺮواﻗﻴﻮن ﻓﻘﺪ اﻋﺘﻘﺪوا ﰲ أن رﺑٍّﺎ ﱢ ﺧريًا ﻳﺤﻴﻂ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺑﺮﻋﺎﻳﺘﻪ ،ﻓﻴﻤﺎ زﻋﻢ اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﻮن ﺳﻠﻔﺎ؛ ﻓﻬﻲ ﺗﻌﻤﻞ و ً أن ﻋﻤﻞ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻟﻴﺲ ﻣﺤﺪدًا ً َﻓﻘﺎ ﻟﻼﻧﺤﺮاﻓﺎت اﻟﻌﺸﻮاﺋﻴﺔ ﻟﻠﺬﱠ ﱠرات، أﻣﺎ اﻟﺮواﻗﻴﻮن ﻓﺄ ﱠﻛﺪُوا أن ﺟﻤﻴﻊ اﻷﺷﻴﺎء ﺗﺴري ﺗَﺒَﻌً ﺎ ﻟﻠﻘﺪر ﻋﲆ ﻫﻴﺌﺔ ﺳﻼﺳﻞ ﻣﺘﺘﺎﻟﻴﺔ ﻣﻦ 339
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
اﻷﺳﺒﺎب واﻟﻨﺘﺎﺋﺞ ،وأن ﻫﺬه اﻟﻌﻤﻠﻴﺎت ﺳﺘﺴﺘﻤﺮ دوﻣً ﺎ ﰲ ﺣﻠﻘﺔ ﻛﻮﻧﻴﺔ ﻣﻦ اﻟﺘﻜﻮﱡن واﻟﻀﻤﻮر. وذﻫﺐ اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﻮن إﱃ أن ﻛﻞ ﻓﺮد ﺣﺮ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﰲ أﻓﻌﺎﻟﻪ وﺳﻠﻮﻛﻪ ،أﻣﺎ اﻟﺮواﻗﻴﻮن ﻓﻨﻔﻮا ﺗﻠﻚ اﻟﺤﺮﻳﺔ ﻹﻳﻤﺎﻧﻬﻢ ﺑﻔﻜﺮة اﻟﻘﺪر )وﻟﻜﻨﻬﻢ ﻣﻊ ذﻟﻚ ﻗﺎﻟﻮا إن ﻛﻞ ﻓﺮد ﻣﺴﺌﻮل أﺧﻼﻗﻴٍّﺎ ﻋﻦ َ ﺗﴫﱡﻓﺎﺗﻪ( .ﻛﻤﺎ َ ﻇ ﱠﻦ اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﻮن أن اﻟﻮاﻗﻊ ﻳﺘﻜﻮن ﻣﻦ ذَ ﱠر ٍ ات ﺗﻠﺘﺤﻢ ﺑﺒﻌﻀﻬﺎ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺼﺪﻓﺔ ﰲ اﻟﻔﺮاغ ﻟﺘﻜﻮﻳﻦ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻧﺮاه ،أﻣﺎ اﻟﺮواﻗﻴﻮن ﻓﺠَ َﺰﻣُﻮا ﺑﺄن املﺎدة ﺗﻨﺼﻬﺮ ﺑﻔﻌﻞ ﻧﺎر ﺗﻘﻮم ﺑﺘﺸﻜﻴﻠﻬﺎ وﺗﺼﻤﻴﻤﻬﺎ وﺗﻮﺟﻴﻬﻬﺎ ﻟﺘﻜﻮﻳﻦ أﺷﻜﺎل ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ،وأن اﻟﺬﱠ ﱠرات ﺣﺮارة ٍ ﻟﻴﺲ ﻟﻬﺎ ﻋﻼﻗﺔ ﺑﻬﺬا اﻷﻣﺮ. وﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل ﰲ ﻗﻀﻴﺔ اﻷﺧﻼق ،ﻧﺠﺪ أن آراء اﻟﺮواﻗﻴني ﰲ اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء واﻟﻔﻠﻚ ﻣﺴﺘﻘﺎة ﻣﻦ ﺧﻠﻴﻂ ﻣﻦ املﺼﺎدر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ؛ ﻓﻘﺪ اﺳﺘﺒﺪﻟﻮا اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻷرﺑﻌﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻣﻦ ﺗﺮاب وﻣﺎء وﻫﻮاء وﻧﺎر ﺑﻔﻜﺮة اﻟﺬﱠ ﱠرات ،وﻛﺎﻧﺖ ﻗﺼﺼﻬﻢ اﻟﺴﻄﺤﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺪور ﺣﻮل اﻟﻈﻮاﻫﺮ اﻟﻔﻠﻜﻴﺔ واﻟﻄﻘﺲ واملﻮﺿﻮﻋﺎت اﻷﺧﺮى — اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﻣﻦ ﺷﺄﻧﻬﺎ ﺟﺬب اﻟﻔﻀﻮل اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻲ — ً ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺳﺎﺋﺪة ﻟﺪى ﻓﻼﺳﻔﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻷواﺋﻞ ﻗﺒﻞ ذﻟﻚ ﺑﻘﺮﻧني ﻣﻦ اﻟﺰﻣﺎن .وﻳﺒﺪو ﻛﺬﻟﻚ أن اﻟﺮواﻗﻴني ﻗﺪ اﻋﺘﻤﺪوا ﻛﺜريًا ﻋﲆ ﺻﻮرة ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ اﻟﺘﻲ رﺳﻤﻬﺎ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻳﻀﻊ اﻟﻨﺎر ﰲ ﻣﻜﺎﻧﺔ ﺗﻌﻠﻮ ﺑﻘﻴﺔ اﻟﻌﻨﺎﴏ .وﻗﺪ رأى اﻟﺮواﻗﻴﻮن أن ﻫﻮاءﻫﺎ اﻟﺴﺎﺧﻦ )اﻟﺬي ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺴﻤﻮﻧﻪ »ﻧﻴﻮﻣﺎ«( ﻟﻪ أﻫﻤﻴﺔ ﻛﱪى .ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺘﺤﺪﺛﻮن ﻋﻦ ﻫﺬا اﻟﻬﻮاء وﻋﻦ اﻹﻟﻪ وﻋﻦ املﺒﺪأ املﻨ ﱢ ﻈﻢ ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ ،ﻛﻤﺎ ﻟﻮ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺘﺤﺪﺛﻮن ﻋﻦ ﳾء واﺣﺪ ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺬﻛﺮﻧﺎ ﺑﻔﻜﺮة ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ اﻟﻐﺎﻣﻀﺔ ﺣﻮل ﻋﻘﻞ ﻋﲆ ﺷﻜﻞ اﻟﻨﺎر أو روح ﺗﺒ ﱡُﺚ اﻟﺤﻴﺎ َة ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ .ﻛﺎن ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻳﺒﺪو ﻳﻌﺘﻘﺪ أن اﻟﻜﻮن ﻳُﺪﻣﱠ ﺮ ﺛﻢ ﻳُﺒﻨَﻰ ﺑﺸﻜﻞ داﺋﻢ ،ﺣﻴﺚ ﻳَﻠﻘﻰ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻣﺼريه ﻣﻦ اﻟﺪﻣﺎر ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﻧﺎر ﻛﻮﻧﻴﺔ ﻗﺒﻞ أن ﻳﺒﺪأ ﰲ اﻟﺘﻜﻮﱡن ﻣﻦ ﺟﺪﻳﺪ. وﺳﻮاء أﻛﺎن ﻫﺬا اﻋﺘﻘﺎده ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ أم أن ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﻗﺪ ﻧُﺴﺒﺖ إﻟﻴﻪ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪُ ،ﻓﻘﺪ رﺣﺐ اﻟﺮواﻗﻴﻮن ﺑﺎﻟﻔﻜﺮة ﺑﻜﻞ ﺗﺄﻛﻴﺪ .وﺑﻤﺎ أﻧﻬﻢ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻌﺘﻘﺪون ﰲ ﺳري اﻟﻜﻮن و ً َﻓﻘﺎ ﻟﻠﻌﻨﺎﻳﺔ اﻹﻟﻬﻴﺔ ﻓﺈن ﻫﺬا ﻳﻌﻨﻲ أن ﻛﻞ دورة ﻣﻦ دورات ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻣﻦ املﻔﱰض أن ﺗﻜﻮن ﻣﺘﺴﺎوﻳﺔ ،ﻷﻧﻪ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﺳﻮى ﻃﺮﻳﻘﺔ واﺣﺪة ﺗﻌﻤﻞ ﺑﻬﺎ اﻷﺷﻴﺎء؛ ﻟﺬا ﻓﺈن اﻟﻌﻨﺎﻳﺔ اﻹﻟﻬﻴﺔ ﺳﺘﺴﻠﻚ ﻧﻔﺲ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﰲ ﻛﻞ ﻣﺮة ،وﻣﺎ ﻣﻦ ﺟﺪوى وراء ﻣﺤﺎوﻟﺔ اﻟﻌﺒﺚ ﺑﺎﻟﻄﺮﻳﻘﺔ املﺜﲆ ﻟﻌﻤﻞ اﻷﺷﻴﺎء. وﻟﻌﻞ اﻟﺠﺪﻳﺪ ﰲ ﻓﻴﺰﻳﺎء اﻟﺮواﻗﻴني ﻫﻮ اﺳﺘﺨﺪاﻣﻬﻢ ﻟﻔﻜﺮة اﻻﺧﺘﻼط اﻟﺘﺎم أو اﻟﺘﺪاﺧﻞ؛ ﻣﻦ أﺟﻞ ﴍح اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺪﺧﻞ ﺑﻬﺎ اﻟﻬﻮاء اﻟﺴﺎﺧﻦ إﱃ أﺷﻜﺎل املﺎدة ﻓﻴﺘﺨﻠﻠﻬﺎ ﻟﻴﺒُﺚ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺤﻴﺎة .وﻟﻔﻬﻢ ﻫﺬه اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﻨﻈﺮ إﱃ اﻻﺧﺘﻼف ﺑني ﻧﻮﻋني ﻣﻦ املﺮﻛﺒﺎت 340
اﻟ ﱡ ﻄﺮق اﻟﺜﻼث إﱃ ﱠ اﻟﺴﻜِﻴﻨﺔ :اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ واﻟﺮواﻗﻴﺔ واﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ
املﺎدﻳﺔ :ﰲ اﻟﻨﻮع اﻷول ﺗﻠﺘﺼﻖ ﺑﻌﺾ اﻷﺟﺰاء اﻟﺼﻐرية ﺑﺎﻟﺒﻌﺾ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺗﻠﺘﺼﻖ اﻟﺤﺠﺎرة ﺑﺒﻌﻀﻬﺎ ﻋﻨﺪ ﺑﻨﺎء املﻨﺎزل ،واﻟﻨﻮع اﻟﺜﺎﻧﻲ ﺗﺨﺘﻠﻂ ﻓﻴﻪ املﻮاد ﻣﻌً ﺎ ﻛﺎﻣﺘﺰاج املﺎء ﺑﺎﻟﺨﻤﺮ. وﻳﻌﺘﻘﺪ اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﻮن وﻏريﻫﻢ ﻣﻦ اﻟﺬﱠ ﱢرﻳﱢني أن اﻷﺷﻴﺎء اﻟﻌﺎدﻳﺔ ﻛﺎﻷﺷﺠﺎر واﻟﻨﺎس واملﻨﺎزل ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﺗﺸ ﱠﻜﻠﺖ ﺑﺎﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻷوﱃ ،ﻓﺎﻟﺬﱠ ﱠرات اﻟﺪاﺧﻠﺔ ﰲ ﺗﻜﻮﻳﻦ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻷﺷﻴﺎء ﰲ اﻋﺘﻘﺎدﻫﻢ ﺗﻠﺘﺤِ ﻢ وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻻ ﺗﺘﺪاﺧﻞ أو ﺗﺨﺘﻠﻂ .أﻣﺎ اﻟﺮواﻗﻴﻮن ﻓﻜﺎﻧﻮا ﻳَ َﺮو َْن أن اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻔﻴﺰﻳﻘﻲ ﻣﺎ ﻫﻮ إﻻ ﺧﻠﻴﻂ ﻣُﺤ َﻜﻢ اﻟﺨﻠﻂ ﺗﺘﺪاﺧﻞ ﻓﻴﻪ اﻟﻌﻨﺎﴏ ،ﻓﻜﺎﻧﻮا ﻳﻌﺘﻘﺪون أن املﻮاد ُ ً ﻣﺘﺠﺎﻧﺴﺎ ،وﺑﻨﻔﺲ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﻳﺘﺨ ﱠﻠﻞ اﻟﻬﻮاء واﻟﺘﺪاﺧﻞ ﻟﺘﻨﺘﺞ ُﻛ ٍّﻼ املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻳﻤﻜﻨﻬﺎ اﻻﺧﺘﻼط اﻟﺴﺎﺧﻦ املﻮاد اﻷﺧﺮى وﻳﻤﺘﺰج ﺑﻬﺎ ،ﻟﻴﺼﺒﺢ اﻟﻌﺎﻟﻢ وﺟﻮدًا ﻣﺮ ﱠﻛﺒًﺎ ﻣﻦ أﺷﻜﺎل املﺎدة املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻳﻮﺟﺪ ﻓﻴﻪ ﻫﺬا اﻟﻬﻮاء اﻟﺴﺎﺧﻦ ﰲ ﻛﻞ ﻣﻜﺎن. أﻣﺎ ﻋﻦ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺸﻜﻞ ﺑﻬﺎ ﻫﺬا اﻟﻬﻮاء اﻟﺴﺎﺧﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ وﻳﺘﺤﻜﻢ ﰲ ﺳريه ،ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻻ ﻧﻘﻊ إﻻ ﻋﲆ ﺣﺠﺞ وﺗﻔﺴريات ﻣﻀﻄﺮﺑﺔ .ﻓﻠﻢ ﻳﺮﻏﺐ اﻟﺮواﻗﻴﻮن ﰲ اﻻﺳﺘﻐﺮاق ﰲ اﻟﺘﻔﺎﺻﻴﻞ، إﻻ أن ﺑﻌﺾ أﻓﻜﺎرﻫﻢ اﺳﺘﺤﺜﱠﺖ ﺑﻌﺾ ﻣﺆرﺧﻲ اﻟﻌﻠﻢ إﱃ اﻟﺒﺤﺚ ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ اﺳﺘﻄﺎﻋﻮا ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻬﺎ اﻟﺘﻨﺒﱡﺆ ﺑﺒﻌﺾ اﻻﻛﺘﺸﺎﻓﺎت اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ .ﻓﻘﺪ ﻗِ ﻴ َﻞ إن ﺗﻤﻮﱡﺟﺎت اﻟﻄﺎﻗﺔ اﻟﺘﻲ ﻳُﺤﺪِﺛﻬﺎ اﻟﻬﻮاء اﻟﺴﺎﺧﻦ املﻨﺘﴩ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻔﻴﺰﻳﻘﻲ ﺗُﺸ ِﺒﻪ »ﻣﺠﺎﻻت اﻟﻘﻮة« اﻟﻔﻴﺰﻳﺎﺋﻴﺔ املﻜﺘَ َﺸﻔﺔ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ ،ﻛﻤﺎ أن اﺧﺘﻼط اﻟﻬﻮاء اﻟﺴﺎﺧﻦ اﻟﻨﺸﻂ ﺑﺎملﺎدة اﻟﺴﺎﻟﺒﺔ ﻳُﺬَ ﱢﻛ ُﺮﻧَﺎ ﺑﻔﻜﺮة ﺗﻮا ُزن اﻟﻄﺎﻗﺔ واملﺎدة املﻮﺟﻮدة ﰲ ﻧﻈﺮﻳﺎت أﻳﻨﺸﺘﺎﻳﻦ ،ﺑﻞ إن ﺑﻌﺾ اﻟﻌﻠﻤﺎء اﻟﺬﻳﻦ ﺟﺎءوا ً أوﺻﺎﻓﺎ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ ﻟﻮ رآﻫﺎ اﻟﺮواﻗﻴﻮن ﻟﺼﺪﱠﻗﻮا ﻋﻠﻴﻬﺎ: ﻣﻦ ﺑﻌﺪ أﻳﻨﺸﺘﺎﻳﻦ ﻗﺪﱠﻣﻮا إن وَﺣﺪة اﻟﻄﺎﻗﺔ ﻣﻮﺟﻮدة ﺗﺤﺖ ﺟﻤﻴﻊ أﺷﻜﺎل املﺎدة وﺗﺠﻠﻴﺎﺗﻬﺎ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة ﻛﻤﺎ ﺗﻘﻮل ﻧﻈﺮﻳﺔ أﻳﻨﺸﺘﺎﻳﻦ .وﻟﻜﻦ ﻫﺬه اﻟﻮﺣﺪة ﻻ ﺗﺘﺸ ﱠﻜﻞ ﻓﻘﻂ ﻟﺘﻈﻬﺮ ﰲ أﺷﻜﺎل ﻫﺎﺋﻠﺔ اﻟﺘﻨﻮع ﻣﻦ املﻮﺟﻮدات ،ﺑﻞ ﻳﻤﻜﻨﻬﺎ أن ﺗُﻨﺘِﺞ أﻧﻤﺎ ً ﻃﺎ ﻣﻦ اﻟﺤﻴﺎة أﻛﺜﺮ ﺗﻌﻘﻴﺪًا ،ﺑﺪءًا ُ ﺑﻔ ﱠﻘﺎﻋَ ِﺔ اﻟﻐﺎز املﻮﺟﻮدة ﰲ اﻟﺒﻼزﻣﺎ اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ واﻧﺘﻬﺎءً ﺑﱰﻛﻴﺐ املﺦ اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ املﺘﻨﺎﻫﻲ اﻟﺘﻌﻘﻴﺪ. ﺷﻬﺪت أﻋﻈﻢ ﻟﺤﻈﺎﺗﻬﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ وﻛﻤﺎ ﺣﺪث ﰲ ﻓﻴﺰﻳﺎء أرﺳﻄﻮ ﻓﺈن ﻓﻴﺰﻳﺎء اﻟﺮواﻗﻴني ِ ﴍﻋﺖ ﰲ اﻟﺒﺤﺚ ﰲ ﻣﺼﻄﻠﺤﺎت املﻜﺎن واﻟﺰﻣﺎن واﻷﺑﺪﻳﺔ أو اﻟﻼﻧﻬﺎﺋﻴﺔ ،وﻟﻜﻦ ﻫﺬه املﺴﺎﺋﻞ ﺷﺒﻪ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ ﻳﺠﺐ ﱠأﻻ ﺗَ َ ﺸﻐ َﻠﻨﺎ ﻋﻦ اﻫﺘﻤﺎﻣﻨﺎ اﻟﺮﺋﻴﺲ ،أﻻ وﻫﻮ ﻧﻈﺮة اﻟﺮواﻗﻴني اﻟﻜﻠﻴﺔ ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ وﺗﺄﺛريﻫﺎ ﻋﲆ ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﺤﻴﺎة ﻟﺪﻳﻬﻢ ،ﻣﺎ داﻣﺖ ﺗﻠﻚ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺗﺤﺘﻞ اﻟﻘﺪر اﻷﻛﱪ ﻣﻦ إرﺛﻬﻢ اﻟﺜﻘﺎﰲ. 341
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
إن أﻫﻢ ﻣﺎ ﻳُﻤَ ﻴﱢ ُﺰ اﻟﺮواﻗﻴﺔ ﻫﻮ ﺳﻠﻮك اﻟﺘﺴﻠﻴﻢ واﻹذﻋﺎن اﻟﺬي ﻳُﻤﻜِﻦ َﻓﻬﻤُﻪ وإدراﻛﻪ إذا ﻛﺎن اﻟﻜﻮن ﻳﺴري ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ً وﻓﻘﺎ ﻟﻠﺮؤﻳﺔ اﻟﺮواﻗﻴﺔ .ﻓﺈذا ﻛﺎن اﻟﻘﺪر ﻳﺤﻜﻢ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺑﺤﻴﺚ ﻻ ﻳﺼﺒﺢ ﰲ ﻣﻘﺪورﻧﺎ أن ﻧ ُ ﱢ ﻐري ﻓﻴﻪ أو ﻧُﺒﺪﱢل ،ﻓﻤﻦ اﻷﻓﻀﻞ أن ﻧﻜﻮن واﻗﻌﻴني وﻻ ﻧﺘﻨﺒﺄ إﻻ ﺑﺤﺪوث ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﺣﺪوﺛُﻪ ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل أﺑﻴﻘﻮر» :أن ﺗﺘﻤﻨﻰ ﺣﺪوث اﻟﴚء ﻋﲆ اﻟﻮﺟﻪ اﻟﺬي ﻳﺤﺪث ﺑﻪ ً ﻓﻌﻼ «.ﻓﻼ داﻋﻲ أﺑﺪًا أن ﻳﺸﻐﻞ اﻹﻧﺴﺎ ُن َ ﻧﻔﺴﻪ ﺑﺘﻐﻴري أﻣﻮر ﻟﻦ ﺗﺘﻐري ،ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﻻ داﻋﻲ إﱃ اﻟﺘﻌ ﱡﻠﻖ ﺑﺄﺷﻴﺎء ﻻ ﻣَ َﻔ ﱠﺮ ﻣﻦ زواﻟﻬﺎ .وﻳﻨﺒﻐﻲ أﻻ ﻧﺘﻌﻠﻖ ﺑﴚء ﻫﻮ رﻫﻴﻨﺔ ﻟﻸﻗﺪار؛ ﻓﺄي ﳾء ﻣﻦ ﺷﺄﻧﻪ أن ﻳﺴﺒﺐ ﻟﻺﻧﺴﺎن اﻟﺤﺰن ﻳﺠﺐ اﻟﺘﺨﲇ ﻋﻨﻪ راﺿﻴًﺎ ﻗﺒﻞ أن ﻳﻨﺘﺰﻋﻪ ﱢ ﱢ اﻟﺘﺨﲇ ﻋﻦ اﻟﴚء ﻫﻮ ﻋﺪم اﻻﻛﱰاث ﺑﻪ؛ وﻳﺼريه ﻫﺒﺎءً .واملﻘﺼﻮد ﻣﻦ اﻟﻘﺪر ﻣﻨﻪ رﻏﻤً ﺎ ﻋﻨﻪ ﻓﻼ ﻳﻨﺎل ﻫﺬا اﻟﴚء ﺣ ٍّ ﻈﺎ ﻣﻦ رﻋﺎﻳﺔ اﻹﻧﺴﺎن واﻫﺘﻤﺎﻣﻪ: ﻻ ُ ﺗﻘﻞ ﻋﻦ ﳾء أﺑﺪًا» :ﻟﻘﺪ ﻓﻘﺪت ﻫﺬا اﻟﴚء« ،ﺑﻞ ﻗﻞ» :ﻟﻘﺪ أﻋﺪﺗُﻪ ﻣﻜﺎﻧﻪ «.ﻓﺈذا ﻣﺎ ﻣﺎت وﻟﺪك ﻓﻘﺪ ﻋﺎد إﱃ ﻣﻜﺎﻧﻪ ،وإذا ﻣﺎﺗﺖ زوﺟﻚ ﻓﻘﺪ ﻋﺎدت إﱃ ﻣﻜﺎﻧﻬﺎ ،وﻻ ُ ﺗﻘﻞ» :ﻟﻘﺪ ﺧﴪت ﻣﺰرﻋﺘﻲ «.ﺑﻞ ﻗﻞ إﻧﻬﺎ ﻋﺎدت إﱃ ﻣﻜﺎﻧﻬﺎ .وﻻ ﺗﻘﻞ» :إن ﻣﻦ أﺧﺬ ﻣﻤﺘﻠﻜﺎﺗﻲ وﻏﺪٌ «.ﻓﺄﻧﺖ ﻻ ﻳﻬﻤﻚ ﻣﻦ اﻣﺘﻠﻚ اﻟﴚء ﻣﺎ دام ﻣَ ﻦ أﻋﻄﺎك إﻳﺎه ٌ أﻣﺎﻧﺔ ﺑني ﻳﺪﻳﻚ ،ﺑﺎﻟﻀﺒﻂ ﻓﻠﺘﻌﺘﻦ ﺑﻪ ﻛﺄﻧﻪ ﻗﺪ اﺳﱰدﱠه .ﻓﻤﺎ دام ﻗﺪ ﻣﻨﺤﻚ ﺷﻴﺌًﺎ ِ ﻛﺤﺎل املﺴﺎﻓﺮ ﻣﻊ اﻟﻨ ﱡ ُﺰل. إن أﻓﻀﻞ اﻟﻄﺮق اﻟﺘﻲ ﺗﺴﺎﻋﺪك ﻋﲆ ﺗﻘﺒﱡﻞ ﻓﻜﺮة اﻟﻘﺪَر ﻫﻮ أن ﺗﺴﺎﻓﺮ ﺑﺤﻤﻮﻟﺔ ﺧﻔﻴﻔﺔ، ﻓﺎﻋﺘﱪ أﻧﻚ ﻗﺪ ﻓﻘﺪت ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ ﻣﻦ املﻤﻜﻦ أن ﺗﻔﻘﺪﻫﺎ ،ﻋﻨﺪﺋ ٍﺬ ﺳﺘﺠﺪ ﻧﻔﺴﻚ ﰲ ﻣﺄﻣﻦ ﻣﻦ ﴏوف اﻟﺪﻫﺮ .ﻟﻘﺪ ﻓ ﱠﺮق إﺑﻴﻜﺘﻴﺘﻮس ﺑني اﻷﺷﻴﺎء اﻟﻮاﻗﻌﺔ ﰲ ﻧﻄﺎق ﻗﺪرﺗﻨﺎ — أﻻ وﻫﻲ أﻓﻜﺎرﻧﺎ ورﻏﺒﺎﺗﻨﺎ — واﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ ﻟﻴﺲ ﻟﻨﺎ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺳﻠﻄﺎن ﻣﺜﻞ اﻟﺤﻮادث اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻌﺮض ﻟﻬﺎ أﺟﺴﺎدُﻧﺎ أو ﻋﺎﺋﻠﺘﻨﺎ وأﻫﻠﻮﻧﺎ أو ﻣﻤﺘﻠﻜﺎﺗﻨﺎ أو ﺳﻤﻌﺘﻨﺎ أو ﺛﺮواﺗﻨﺎ .وﻗﺎل إﻧﻚ ﻟﻮ ﻛﺒﺤﺖ ﻣﺸﺎﻋﺮك أو أﻋﺪت ﺗﻮﺟﻴﻬﻬﺎ ﺑﺤﻴﺚ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ اﻟﱰﻛﻴﺰ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻳﻘﻊ ﰲ ﻧﻄﺎق ﻗﺪرﺗﻚ ﻓﻌﻞ ﻣﺎ أو ﴏﻓﻚ ﻋﻦ ﻓﻌﻞ آﺧﺮ، وﺗﺠﺎﻫﻞ ﻣﺎ ﻋﺪا ذﻟﻚ؛ »ﻓﻠﻦ ﻳﺘﻤﻜﻦ أﺣﺪ ﻣﻦ إﻛﺮاﻫﻚ ﻋﲆ ٍ وﻟﻦ ﻳﻠﺤﻖ ﺑﻚ أي ﴐر«. ً »اﻧﺴﺤﺐ إﱃ داﺧﻞ ﻧﻔﺴﻚ «.ﻫﻜﺬا ﻳﻘﻮل ﻣﺎرﻛﻮس أورﻳﻠﻴﻮس اﻟﺬي ﻗﴣ ﻗﺴﻄﺎ ﻛﺒريًا ﻣﻦ ﻋﻤﺮه إﻣﱪاﻃﻮ ًرا ﻳُﺒﻌِ ﺪ اﻟﻐﺰاة ﻋﻦ ﻣﻤﻠﻜﺘﻪ ،وﻳﺒﺪو أﻧﻪ ﻗﺪ رأى ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺳﻼﺣً ﺎ ﻟﻠﺪﻓﺎع ﻋﻦ اﻟﻨﻔﺲ .ﻛﻤﺎ ﺷﺠﱠ ﻊ ﺳﻴﻨﻴﻜﺎ ﻋﲆ ﺗﻨﻔﻴﺬ اﻧﺴﺤﺎب ﺗﻜﺘﻴﻜﻲ إﱃ ﻣﻮاﻗﻊ أﻛﺜﺮ أﻣﻨًﺎ ﰲ اﻟﻨﻔﺲ: »إن اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺴﻌﻴﺪ ﻟﻴﺲ ذاك اﻟﺬي ﻳﺤﺴﺒُﻪ اﻟﻌﺎﻣﺔ ﺳﻌﻴﺪًا؛ أي ﻟﻴﺲ ذاك اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺬي ﺗﻜﺘﻆ 342
اﻟ ﱡ ﻄﺮق اﻟﺜﻼث إﱃ ﱠ اﻟﺴﻜِﻴﻨﺔ :اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ واﻟﺮواﻗﻴﺔ واﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ
ﺧﺰاﺋﻨﻪ ﺑﺎﻷﻣﻮال ،وﻟﻜﻨﻪ ﻫﺬا اﻟﺬي ﻓﺎﺿﺖ ُ ﻧﻔﺴ ُﻪ ﺛﺮاءً «.وﻫﺬا ﻳﺬﻛﺮﻧﺎ ﺑﺤﺪﻳﺚ ﺳﻘﺮاط اﻟﺬي ً ﻛﺎن ﻳﺮى أن ﺳﻌﺎدة اﻟ ﱡﺮوح ورﺧﺎءﻫﺎ أﻫﻢ ﻣﺎ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة ﻗﺎﻃﺒﺔ .واﻟﺴﻌﺎدة اﻟﺮوﺣﻴﺔ ﺗﻌﻨﻲ اﻟﺴﻌﺎدة اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ؛ ﻓﺎﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ﻫﻲ اﻟﴚء اﻟﻮﺣﻴﺪ اﻟﺬي ﻳُ َﺰ ﱢﻛﻲ اﻟﻨﻔﺲ ،واﻟﺨﻄﻴﺌﺔ ﻫﻲ اﻟﴚء ً اﻟﻮﺣﻴﺪ اﻟﺬي ﻳُﻠﺤﻖ ﺑﻬﺎ اﻷذى .وﻗﺪ اﻋﺘﻘﺪ ﺑﻌﺾ اﻟﻜﻠﺒﻴني أن ﻫﺬا ﻳﻌﻨﻲ ً ﻛﺎﻣﻼ ﻟﻠﺤﻴﺎة رﻓﻀﺎ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ ،ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺴﺨﺮﻳﺔ ﻣﻦ ﻫﺆﻻء اﻟﺬﻳﻦ ﻻ ﻳَ َﺮو َْن ﻣﻌﻨﻰ ﻟﻠﺤﻴﺎة ،وﻛﺎن اﻟﺮواﻗﻴﻮن ﻳﺘﱠﻔﻘﻮن ﻣﻊ اﻟﻜﻠﺒﻴني ﰲ رؤﻳﺘﻬﻢ ﻟﻸﺷﻴﺎء اﻟﻈﺎﻫﺮﻳﺔ ،ﻓﻴﻜﺘﺐ ﺳﻴﻨﻴﻜﺎ» :إﻧﻨﻲ أﻧﻜﺮ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ أن ﺗﻜﻮن اﻟﺜﺮوة أﻣ ًﺮا ﺻﺎﻟﺤً ﺎ أو ﻃﻴﺒًﺎ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﻛﺬﻟﻚ ﻷﺻﻠﺤﺖ أﺣﻮال اﻟﻨﺎس .وﺑﻤﺎ أن ﱠ وﻟﻜﻦ اﻟﺜﺮوة ﻗﺪ ﺗﻜﻮن أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﰲ أﻳﺪي أراذل اﻟﺒﴩ؛ ﻓﻼ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﻌﺘﱪﻫﺎ ﺷﻴﺌًﺎ ﺻﺎﻟﺤً ﺎ«. ً ً ً ً ﻣﻘﺎرﻧﺔ ﺑﺎﻟﻜﻠﺒﻴني .ﻛﻤﺎ ﺣﻈﻲ وﺣﻜﻤﺔ ﺗﺠﺎه اﻷﺧﻼق ﺟﺪﻳﺔ ﻣﻮﻗﻔﺎ أﻛﺜﺮ اﻟﺮواﻗﻴني أﺧﺬوا ﻣﻮﻗﻔﻬﻢ َ ﺒﻮل ﺷﻌﺒﻲ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻣﻮﻗﻒ ﺳﻘﺮاط .وﻟﻢ ﺗﻜﻦ اﻟﺴﺨﺮﻳﺔ ﻣﻦ اﻟﺬﻳﻦ ﻟﻢ ﻳﺘﻤ ﱠﻜﻨﻮا ﺑﻘ ٍ ً ﺑﺎﻟﻴﺔ ،وأﺧﺬ ﻣﻦ ﻣﻌﺮﻓﺔ أﻫﻤﻴﺔ ﻧﻘﺎء اﻟﺮوح ﻛﺎﻓﻴﺔ ﻣﺜ َﻠﻤﺎ ﻓﻌﻞ دﻳﻮﺟني ﻋﻨﺪﻣﺎ ارﺗﺪى ﺛﻴﺎﺑًﺎ ﻳﴫخ ﻣﻦ داﺧﻞ ﺣﻮﺿﻪ .ﻛﻤﺎ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻛﺎﻓﻴًﺎ إﻗﻨﺎع رﺟﻞ أو رﺟﻠني ﺑﻬﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﻔﻌﻞ ﺳﻘﺮاط .ﺑﻞ رأى اﻟﺮواﻗﻴﻮن أﻧﻪ ﻳﻨﺒﻐﻲ اﻗﺘﺤﺎم اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻌﺎﻣﺔ ﻟﻨﴩ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ودﺣﺮ اﻟﺮذﻳﻠﺔ. أﻣﱠ ﺎ اﻟﻨﻔﺲ اﻟﺘﻲ ﻗﺎل ﻣﺎرﻛﻮس إن ﻋﲆ املﺮء اﻻﻧﺴﺤﺎبَ إﱃ داﺧﻠﻬﺎ ﻓﻬﻲ ﻧﻔﺲ »ﻋﻘﻼﻧﻴﺔ ذات ﻗﻮة وﺳﻠﻄﺎن«؛ ﻓﻬﻲ ﺗﺸﺒﻪ اﻟﻌﻘﻞ اﻟﻜﻮﻧﻲ اﻟﺬي ﻳ َُﺴ ﱢريُ اﻟﻌﺎ َﻟﻢ وﻳُﻨ ﱢ ﻈﻤﻪ ،وﻫﻲ ﺗُﻌَ ﱡﺪ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺟﺰءًا ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻌﻘﻞ اﻟﺸﺎﻣﻞ .ﻓﺎﻟ ﱡﺮوح ﻫﻲ اﻟﺤﺼﻦ اﻷﻣﺎﻣﻲ ﻹﻣﱪاﻃﻮرﻳﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ، ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻛﻤﺎ ﻳﺘﺤ ﱠﻜﻢ اﻟﻬﻮاء اﻟﺴﺎﺧﻦ ﰲ ﺗﺴ ِﻴري اﻟﻜﻮن ﻋﲆ اﻟﻮﺟﻪ اﻷﻛﻤﻞ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻳﺠﺐ ﻋﲆ اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺤﻜﻴﻢ اﻟﻔﺎﺿﻞ أن ﺗُﻮَﺟﱢ ﻬَ ُﻪ ُروﺣُ ﻪ اﻟﻌﺎﻗﻠﺔ ،ﻓﺈذا اﺳﺘﻤﻊ إﻟﻴﻬﺎ وﻟﻢ ﻳﻨﺤﺮف ﻋﻦ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﺑﻔﻌﻞ اﻟﻌﻮاﻃﻒ اﻟﺠﺎﻧﺤﺔ ،ﻓﺈن ﻫﺬا ﻳﺘﱠﻔﻖ ﻣﻊ اﻟﻮﺻﻴﺔ اﻷوﱃ ﻣﻦ وﺻﺎﻳﺎ اﻷﺧﻼق اﻟﺮواﻗﻴﺔ ،وﻫﻲ اﻟﺤﻴﺎة ﰲ اﻧﺴﺠﺎم ﻣﻊ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ .وﺑﺬﻟﻚ ﻳﻌﺮف َد ْو َر ُه ﰲ ُﺧ ﱠ ﻄ ِﺔ ﻋﻤﻞ اﻟﻜﻮن وﻛﻴﻒ ﻳﺆدﱢﻳﻪ ﻋﲆ اﻟﻮﺟﻪ اﻷﻛﻤﻞ؛ ﻓﺎﻹﻧﺴﺎن اﻟﺬي اﺳﺘﻄﺎع أن ﻳﻨﺴﺠﻢ ﻣﻊ ﻧﻮازل اﻟﻘﺪر، ً ﺧﻔﻴﻔﺎ دون ﻣﺘﺎع ،واﻗﺘﴫت اﻫﺘﻤﺎﻣﺎﺗُﻪ ﻋﲆ أﻣﻮر اﻟ ﱡﺮوح واﻟﻔﻀﻴﻠﺔ، وﺧﺎض رﺣﻠﺔ اﻟﺤﻴﺎة ُ وأدى دَو َر ُه وواﺟﺒﻪ ﰲ ﺧ ﱠ ً وﺑﻄﻼ ﻳﻔﺘﺨِ ﺮ ﺑﻪ اﻟﺒﴩ ﻄ ِﺔ اﻟﻌﺎﻟﻢ؛ ﻳﺴﺘﺤﻖ أن ﻳُﺼ ِﺒﺢ ﻧﻤﻮذﺟً ﺎ أﺟﻤﻌﻮن. وﻗﺪ ﺗﺮك اﻟﺮواﻗﻴﻮن ﻣﻦ ﺧﻠﻔﻬﻢ إرﺛًﺎ ﺿﺨﻤً ﺎ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌ ﱠﻠﻖ ﺑﺎﻟﺘﻨﺎوُل اﻟﺴﻠﻴﻢ ملﺴﺄﻟﺔ املﻮت ،ﺷﺄﻧﻬﻢ ﰲ ذﻟﻚ ﺷﺄن اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳني .وﻟﻜﻦ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬي ﻗﺎل ﻓﻴﻪ اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﻮن ُ ﺗﺠﺎﻫﻠُﻪ ﺣني ﻗﺎﻟﻮا» :إن املﻮت ﻻ ﻳﻌﻨﻴﻨﺎ وﻻ ﻧُﻠﻘِ ﻲ ﻟﻪ إن املﻮﻗﻒ اﻷﻣﺜﻞ ﻣﻦ املﻮت ﻫﻮ 343
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ً ﺑﺎﻻ «.ﻓﺈن اﻟﺮواﻗﻴني وﺟﺪوا أن املﻮت ﺗﺬﻛِﺮة ﻟﻺﻧﺴﺎن ﺑﺎﻟﻘﺪَر وﺑﺎﻧﻌﺪام ﻗﻴﻤﺔ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻫﻮ دﻧﻴﻮي .ﻓﺮأى ﻣﺎرﻛﻴﻮس أن ﻗﴫ اﻟﺤﻴﺎة ﻣﻦ اﻷﻣﻮر اﻟﺘﻲ ﺗﻤﻨﺤﻨﺎ ﱡ اﻟﺴ ْﻠﻮان ،ﺣﻴﺚ ﻗﺎل» :ﻻ ﺗﺤﺰن؛ ﻓﻜ ﱡﻞ أﻣﺮ ﻳﻤﴤ و ً َﻓﻘﺎ ﻟﺴﻨﺔ اﻟﻜﻮن ،وﻋﻤﱠ ﺎ ﻗﺮﻳﺐ ﺳﺘﺼري ﻋﺪﻣً ﺎ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﺣﺎل ﻫﺎدرﻳﺎن وأﻏﺴﻄﺲ «.وﺟﺪﻳ ٌﺮ ﺑﺎﻟﺬﻛﺮ أن اﻟﺮواﻗﻴني ﻳﺮون أﻧﻪ ﺣني ﺗﺴﺘﺤﻴﻞ اﻟﺤﻴﺎ ُة و َْﻓﻖ ورث اﻟﺮواﻗﻴﻮن ﻣﻦ ﻣﺒﺎدئ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ اﻟﺮواﻗﻴﺔ ،ﻓﺈن املﻮت ﻳُﺼﺒﺢ داﺋﻤً ﺎ ﺧِ ﻴﺎ ًرا ﻣﺘﺎﺣً ﺎ .ﻓﻘﺪ ِ أﺳﺎﺗﺬﺗﻬﻢ اﻟﻜﻠﺒﻴني اﻻﻧﺸﻐﺎل ﺑﻔﻜﺮة اﻻﻧﺘﺤﺎر؛ ﻓﺎﻟﻜﻠﺒﻴﻮن ﻗﺎﻟﻮا إن اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺬي ﻻ ﻳﻘﺪر ﻋﲆ ﺣﻴﺎة ﻋﺎﻗﻠﺔ رﺷﻴﺪة ،ﻟﻪ أن ﻳﻠﺠﺄ ﻟﻠﻤﻮت ﺑﻮﺻﻔﻪ ﻣﻼذًا ﻧﻬﺎﺋﻴٍّﺎ ،وﺑﻬﺬه اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﻓﺈن اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ﻻ ﺗﻘﻊ إﻻ ﰲ أﺣﺪ ﻫﺬﻳﻦ اﻻﺧﺘﻴﺎرﻳﻦ .وﻳﺒﺪو أن ﺑﻌﺾ ﻣﻌﺎﴏﻳﻬﻢ ﺣني أﺧﺬوا ﻣﻨﻬﻢ اﻟﻔﻜﺮة َﻏ َﻠﻮْا ﻓﻴﻬﺎ ُﻏﻠُﻮٍّا ﻛﺒريًا؛ ﻓﻘﺪ ﻗﺎل ﺑﻌﺾ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻣﻦ ﻣﺪرﺳﺔ ﻗﺮﻳﺒﺔ ﻣﻦ اﻟﻔﻜﺮ اﻟﺮواﻗﻲ إن ﺛﻤﺔ ﻃﺮﻳﻘﺔ واﺣﺪة ﻻ ﺧﻼف ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻟﺘﺠﻨﱡﺐ ﻣﺼﺎﻋﺐ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺘﻲ ﻻ ﻣَ َﻔ ﱠﺮ ﻣﻨﻬﺎ، أﻻ وﻫﻲ اﻻﻧﺘﺤﺎر دون ﺗﺮدﱡد .وﻛﺎن ﻫﻨﺎك ﻓﻴﻠﺴﻮف ﻳُﺪﻋَ ﻰ ﻫﻴﺠﻴﺴﻴﺎس ﻟُ ﱢﻘﺐَ ﺑ »ﺧﻄﻴﺐ املﻮت« ﻟﺘﺄﻳﻴﺪه اﻟﺸﺪﻳﺪ ﻟﻬﺬه اﻟﻔﻜﺮة ،وﺣُ ﱢﺮﻣﺖ ﻣﺤﺎﴐاﺗُﻪ ﺑﻌﺪ ﺗَ َﻔ ﱢﴚ ﻇﺎﻫﺮة اﻻﻧﺘﺤﺎر ﺑني اﻟﻨﺎس .ﻟﻢ ﻳﺬﻫﺐ أﺣ ٌﺪ ﻣﻦ اﻟﺮواﻗﻴني إﱃ ﻫﺬا اﻟﺤَ ﺪﱢ ،وإن ﻛﺎن ﺳﻴﻨﻴﻜﺎ ﻗﺪ اﻧﺸﻐﻞ ﺑﻬﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﻛﺜريًا ،ﻓﻘﺎل إﻧﻬﺎ ﺗﺄﻛﻴﺪ ﻋﲆ ﺣﺮﻳﺔ اﻹﻧﺴﺎن .ﻓﻜﺎن ﻳﺘﺴﺎءل ﻋﻦ اﻟﻄﺮﻳﻖ ا ُملﻔﴤ إﱃ ً وﻻﺣﻘﺎ ﺗﻮﺻﻞ إﱃ إﺟﺎﺑﺔ ﻣﻔﺎدﻫﺎ ﱠ أن ﻗﻄﻊ أي ﻋﺮق ﰲ ﺟﺴﺪك ﻫﻮ اﻟﻄﺮﻳﻖ إﻟﻴﻬﺎ. اﻟﺤﺮﻳﺔ، ﻟﻢ ﻳﺼﻌﺐ ﻋﲆ ﺳﻴﻨﻴﻜﺎ أن ﻳﺠﺪ اﻷﺳﺒﺎب اﻟﺘﻲ ﺗﻤﻨﻌﻪ ﻣﻦ اﻹﻗﺪام ﻋﲆ اﻻﻧﺘﺤﺎر — ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ — وﻫﻮ ﻣﺎ ﺟﻌﻞ ﻓﻜﺮه ﻻ ﻳﺘﻨﺎﻏﻢ ﻣﻊ ﻓﻜﺮ اﻟﺮواﻗﻴﺔ ﺑﺸﻜﻞ ﻋﺎمﱟ .وﻋﲆ ﻣﺎ اﺿ ُ ﻳﺒﺪو أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻠﺠﺄ إﻟﻴﻪ إﻻ ﺑﻌﺪ أن ْ ﻄ ﱠﺮ إﱃ ذﻟﻚ ،وﻟﻜﻦ ﻳﺒﺪو أﻧﻪ آﺛ َ َﺮ اﻟﻬﺮوب ﻣﻦ ﺳﺎﺣﺔ ً اﺗﺴﺎﻗﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻺﻧﺴﺎن اﻟﺮواﻗﻲ؛ ﻓﻘﺪ اﻟﻘﺘﺎل ﺑﺒﺴﺎﻃﺔ .أﻣﺎ ﺳﻠﻮك إﺑﻴﻜﺘﻴﺘﻮس ﻓﻜﺎن أﻛﺜﺮ ﻗﺎل إﻧﻪ ﻣﺎ دام اﻹﻧﺴﺎن ﻻ ﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﻳﻨﺸﻐﻞ ﺑﻤﺎ ﻳ ُِﺼﻴﺐُ ﺟﺴﺪه ﻓﺈن ﺳﺎﺋﺮ أﺷﻜﺎل املﻌﺎﻧﺎة ﻐﺮي ﺑﻪ، اﻟﺘﻲ ﻳﺴﺒﺒﻬﺎ اﻟﺠﺴﺪ ﻻ ﺗُﻤَ ﺜ ﱢ ُﻞ ﻣﱪ ًرا ﻟﻼﻧﺘﺤﺎر ،وإن وُﺟﺪت ﺑﻌﺾ اﻟﻈﺮوف اﻟﺘﻲ ﺗُ ِ ﻓﻼ ﻳﻤﻜﻦ — ﰲ رأﻳﻪ — أن ﻳُﻘ ِﺪ َم اﻹﻧﺴﺎن ﻋﲆ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه ُ ﺑﺄﻣﺮ ﻣﻦ اﻟﺨﻄﻮة اﻟﺨﻄرية إﻻ ٍ اﻹﻟﻪ .وﻟﻜﻦ ﻳﺒﺪو أن إﺑﻴﻜﺘﻴﺘﻮس ﻛﺎن ﻳﻨﴗ ﻫﺬا اﻟﻜﻼم أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻓريى أن املﻮت ﻫﻮ اﻟﺴﺒﻴﻞ ﻟﻠﺨﻼص ﻣﻦ املﺸﻜﻼت اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ املﱰاﻛﻤﺔ .وﻗﺪ ﺷﺒﱠﻪ ذات ﻣﺮة اﻻﻧﺘﺤﺎر ﺑﺄﻧﻪ ﻟﻴﺲ ِﺳﻮَى ﺧﺮوج ﻣﻦ ﻏﺮﻓﺔ ﻣﺨﺘﻨﻘﺔ ﺑﺎﻟﺪﺧﺎن .وﻫﻨﺎك ﻗﺼﺔ ﻗﺪﻳﻤﺔ ﺗﺬﻛﺮ ﱠ أن زﻳﻨﻮن — وﻫﻮ راﺋﺪ املﺬﻫﺐ اﻟﺮواﻗﻲ — أﺗﻰ ﻋﲆ ذﻛﺮ ﻓﻜﺮة اﻻﻧﺘﺤﺎر ،ﻓﻴﻘﺎل إﻧﻪ ﻗﺪ ﺗﻌﺜﱠﺮ ﻳﻮﻣً ﺎ ﻣﺎ واﻧﻜﴪ إﺻﺒﻊ ﻗﺪﻣﻪ ﻓﺎﻧﺘﺤﺮ ﻟﻬﺬا اﻟﺴﺒﺐ ﻋﲆ اﻟﻔﻮر. 344
اﻟ ﱡ ﻄﺮق اﻟﺜﻼث إﱃ ﱠ اﻟﺴﻜِﻴﻨﺔ :اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ واﻟﺮواﻗﻴﺔ واﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ
رﺑﻤﺎ أ ُ ﱢﻟﻔﺖ ﻫﺬه اﻟﻘﺼﺔ ﻟﻠﺘﻬ ﱡﻜﻢ ﻋﲆ آراء اﻟﺮواﻗﻴﺔ .أﻣﺎ اﻟﺴﺒﺐ اﻟﺮﺋﻴﺲ اﻟﺬي ﺟﻌﻞ اﻟﺮواﻗﻴني ﻣﻬﺘﻤني ﺑﻘﻀﻴﺔ اﻻﻧﺘﺤﺎر ﻫﻮ ﻛﻮﻧﻬﺎ ﺗُﻌَ ﱡﺪ رﻣ ًﺰا ﻗﻮﻳٍّﺎ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﻲ اﺳﺘﻄﺎﻋﺖ ﴪﻓﺔ ،ﻓﺎﻹﻧﺴﺎن اﻟﺮواﻗﻲ ﻛﺎن ﻳﺰﻋﻢ أﻧﻪ ﻻ ﻳﺮى أن ﺗﻌﻠﻮ ﻓﻮق أﺳﺎﻟﻴﺐ املﺠﺘﻤﻊ اﻷﻧﺎﻧﻴﺔ ا ُمل ِ أﻫﻤﻴﺔ ﺗُﺬﻛﺮ ﻟﻠﻤﻔﺎﺿﻠﺔ ﺑني اﻟﺤﻴﺎة واملﻮت إذا ﻣﺎ ﻗﻮرﻧﺖ ﺑﺎملﻔﺎﺿﻠﺔ ﺑني اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ واﻟﺮذﻳﻠﺔ. ﻓﻮﺟﻮد اﻟﺮﻏﺒﺔ ﰲ اﻻﻧﺘﺤﺎر ﻳُﺒ ﱢ ُ َني أن ﻟﻠﻤﺮء ُﻣﺜ ُ ًﻼ ﻋُ ْﻠﻴَﺎ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺘﻀﺤﻴﺔ ﺑﻬﺎ ﺗﺤﺖ أي ﻇﺮف، وأن املﺮء ﻋﲆ اﺳﺘﻌﺪاد داﺋﻢ ﻟﻄﺎﻋﺔ اﻹﻟﻪ أو »اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﻜﻮﻧﻴﺔ« ،ﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ اﻷواﻣﺮ .وإذا ﻛﺎﻧﺖ ﻗﺼﺔ زﻳﻨﻮن ﺻﺤﻴﺤﺔ ﻓﻠﻨﺎ أن ﻧﻌﺘﻘﺪ أﻧﻪ ﱠ ﻇﻦ أن ﺗﻌﺜﱡﺮه ﻫﺬا ﻳُﻌَ ﱡﺪ ﻋﻼﻣﺔ ﻋﲆ أﻧﻪ ﻗﺪ ﺣﺎن أﺟﻠﻪ. وﻫﻨﺎك اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﻘﺼﺺ واﻟﺤﻜﺎﻳﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺪور ﺣﻮل ﻓﻜﺮة اﻻﻧﺘﺤﺎر ﰲ اﻷدب اﻟﺮواﻗﻲ املﺘﺄﺧﺮ ،وﻣﻦ إﺣﺪى ﻗﺼﺺ اﻟﺒﻄﻮﻟﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻋﻨﺪ اﻟﺮواﻗﻴني ﻗﺼﺔ ﻛﺎﺗﻮ اﻷﺻﻐﺮ )٤٦–٩٥ق.م( ﻛﻤﺎ وﺻﻔﻬﺎ ﺑﻠﻮﺗﺎرخ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﻪ اﻟﺸﻬري »ﺣﻴﻮات« .أﻗﺪم ﻛﺎﺗﻮ — اﻟﺬي ﻛﺎن ُﻮﺻ ُ ﻣﻦ أﻛﱪ ﺧﺼﻮم ﻗﻴﴫ وﻛﺎن ﻳ َ ﻒ ﺑﺄﻧﻪ رﺟﻞ ﻳَﺤﻈﻰ ﺑﺎﻟﻨﺰاﻫﺔ املﻄﻠﻘﺔ — ﻋﲆ اﻻﻧﺘﺤﺎر ﻣ َُﻔ ﱢﻀ ًﻼ إﻳﺎه ﻋﲆ اﻟﺨﻀﻮع ﻟﺤﺎﻛﻢ ﻣﺴﺘﺒﺪ ،ﺑﻌﺪﻣﺎ رأى رﺟﻮح ﻛ ﱠِﻔﺘِﻪ ﻋﻠﻴﻪ .وﰲ اﻟﻠﻴﻠﺔ اﻷﺧرية ﻛﻤﺎ ﻳﺮوي ﺑﻠﻮﺗﺎرخ ﻗﺎم ﻛﺎﺗﻮ ﺑﺎﻟﺪﻓﺎع ﻋﻦ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺮواﻗﻴﺔ أﺛﻨﺎء ﻋﺸﺎﺋﻪ ،ﺛﻢ ذﻫﺐ إﱃ ﻏﺮﻓﺘﻪ وﻗﺮأ ﰲ ﻣﺤﺎورة أﻓﻼﻃﻮن »ﻓﻴﺪون« — اﻟﺘﻲ ﻳﺬﻫﺐ ﻓﻴﻬﺎ ﺳﻘﺮاط إﱃ أن اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﻫﻮ اﻟﺬي ﻳﻘﴤ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﻛﻠﻬﺎ اﺳﺘﻌﺪادًا ﻟﻠﻤﻮت — ﺛﻢ ﻗﺎم ﺑﻌﺪﻫﺎ ً ﻗﺪﻳﺴﺎ رواﻗﻴٍّﺎ .وﺑﻌﺪ أن أﺻﺒﺤﺖ اﻟﺮواﻗﻴﺔ ﻣﺬﻫﺒًﺎ ﺑﻘﺘﻞ ﻧﻔﺴﻪ ،ﻓﺄﺻﺒﺢ ﻣﻨﺬ ذﻟﻚ اﻟﺤني ً ﻋﺘﻴﻘﺎ ﺧﻼل اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻟﺚ املﻴﻼدي ،ﻛﺎن ﻳﻨﻈﺮ إﱃ ﻛﺎﺗﻮ ﻋﲆ أﻧﻪ ﻧﻤﻮذج ﻟﻠﺸﺨﺼﻴﺔ ﻓﻠﺴﻔﻴٍّﺎ َ اﻟﺼﺎﻟﺤﺔ اﻷ ِﺑﻴﱠﺔ ،ﻛﻤﺎ أﺻﺒﺢ رﻣ ًﺰا ﻟﻠﻮاﺟﺐ واﻹﺣﺴﺎن واﻟﺼﱪ ،وأﺛﺒﺘﺖ رﺑﺎﻃﺔ ﺟﺄﺷﻪ أن إﺧﻼص اﻟﺮواﻗﻲ إﱃ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ﻫﻮ أﻣﺮ ﻣﻤﻜﻦ؛ ﻓﻘﺪ وﺿﻌﺖ اﻟﺮواﻗﻴﺔ املﺒﺎدئ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ اﻟﺮﻓﻴﻌﺔ ،أﻣﺎ ﻛﺎﺗﻮ ﻓﻘﺪ ﺑﺮﻫﻦ ﻋﲆ أﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﻣﻦ اﻟﻌﺴري اﻟﻮﺻﻮل إﱃ ﻫﺬه املﺒﺎدئ واﻟﺘﺤﲇ ﺑﻬﺎ. ري ِة ملﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ُ ٌ ﺗﻨﺎﻗﺾ .ﻓﺈذا إﻻ أن اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ اﻷﺧﻼق ﻟﺪى اﻟﺮواﻗﻴني ﺑﺎﻋﺚ ﻋﲆ اﻟﺤَ ْ َ ﻛﺎن ﻛﻞ ﳾء ﻳﻌﻤﻞ وَﻓﻖ اﻟﻘﺪر ﻓﻤﺎ اﻟﻔﺎﺋﺪة ﻣﻦ إﺳﺪاء اﻟﻨﱡﺼﺢ أو ﻣﺤﺎوﻟﺔ إﺻﻼح اﻟﻨﻔﺲ أو اﻻﻗﺘﺪاء ﺑﻨﻤﻮذج ﺻﺎﻟﺢ؟ ﻓﻠﻴﺲ ﺑﻤﻘﺪور اﻹﻧﺴﺎن أن ﻳُﺒﺪﱢل ﻣﻦ ﻧﻔﺴﻪ أو ﻣﻦ أي ﳾء ﻣﻦ ﺣﻮﻟﻪ ،وإذا ﻛﺎﻧﺖ اﻷﺷﻴﺎء ﻛﻠﻬﺎ ﺗﻌﻤﻞ ً وﻓﻘﺎ ﻟﺴﻠﺴﻠﺔ ﻣﻦ اﻷﺳﺒﺎب واﻟﻨﺘﺎﺋﺞ ،وإذا ﻛﺎن اﻟﻌﻘﻞ ﻧﻔﺴﻪ ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﺎدﻳٍّﺎ ﻛﻤﺎ ﻳﺮى اﻟﺮواﻗﻴﻮن؛ ﻓﻜﻴﻒ إذن ﻷﻓﻜﺎرﻧﺎ وﻣﺸﺎﻋﺮﻧﺎ أن ﺗﺘﺤﺮر ﻣﻦ أﻏﻼل ﻫﺬه اﻟﺤﺘﻤﻴﺔ؟ ﻻ ﺷﻚ أن اﻟﺮواﻗﻴني ﻛﺎﻧﻮا ﻣﺘﻨﺎﻗﻀني ﺣني ﻗﺎﻟﻮا إن ﺑﻌﺾ اﻷﺷﻴﺎء 345
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﺗﻘﻊ ﺗﺤﺖ ﺗﴫﻓﻨﺎ وﺳﻴﻄﺮﺗﻨﺎ ،وﺑﻌﻀﻬﺎ اﻵﺧﺮ ﻟﻴﺲ ﻛﺬﻟﻚ ،ﻓﺈذا ﺻﺪق ﻗﻮﻟﻬﻢ ﻋﻦ اﻟﻘﺪر، ﻓﻠﻢ ﻳَﻌُ ْﺪ ﻫﻨﺎك ﻣﺎ ﻳﻘﻊ ﺗﺤﺖ ﺗﴫﻓﻨﺎ. وﻗﺪ اﺳﺘﻐﻞ ﺑﻌﺾ ﻣﻌﺎرﴈ اﻟﺮواﻗﻴﺔ ﻫﺬه اﻟﻨﻘﻄﺔ وﺣﺎوﻟﻮا أن ﻳﻨﺼﺒﻮا ﻟﻠﺮواﻗﻴﺔ املﺸﺎﻧﻖ .ﻓﻘﺎﻟﻮا إﻧﻪ و ً َﻓﻘﺎ ﻟﺮؤﻳﺔ اﻟﺮواﻗﻴني ﻓﺈن ﻓﻜﺮة اﻟﻘﺪَر ﺗﻌﻨﻲ أن اﻹﻧﺴﺎن ﻏري ﻣَ ﻠُﻮ ٍم ﻋﲆ أﻓﻌﺎل اﻟﴩ اﻟﺘﻲ ﻳﺮﺗﻜﺒﻬﺎ ،وإﻧﻪ: ﻣﻦ َ املﻔﱰَض أن ﺗﻘﻊ اﻟﻼﺋﻤﺔ ﻋﲆ ﴐورة ﺣﺘﻤﻴﺔ ﻧﺎﺑﻌﺔ ﻣﻦ اﻟﻘﺪَر ﺗﺘﺤﻜﻢ ﰲ ﻛﻞ ﳾء ،وﻣﻦ ﺧﻼل ﻫﺬه اﻟﴬورة ﻳﺤﺪُث ﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻟﻪ أن ﻳﺤﺪث ،وﻋﲆ ﻫﺬا اﻷﺳﺎس ﻓﺈن اﻟﻌﻘﻮﺑﺎت اﻟﺘﻲ ﻳُﻮﻗِﻌُ ﻬﺎ اﻟﻘﺎﻧﻮن ﻋﲆ املﺠﺮﻣني ﻟﻴﺴﺖ ﻋﺎدﻟﺔ، ﻣﺎ دام اﻟﻨﺎس ﻻ ﻳُﻘﺪِﻣﻮن ﻋﲆ ارﺗﻜﺎب اﻟﴩور ﺑﻤﺤﺾ إرادﺗﻬﻢ ،ﻟﻜﻦ اﻟﻘﺪر ﻳﺤﻤﻠﻬﻢ ﻋﲆ ذﻟﻚ. وﻟﻜﻦ اﻟﺮواﻗﻴني رﻓﻀﻮا ﻫﺬا اﻟﺘﺤﻠﻴﻞ دون أدﻧﻰ َﺷ ﱟﻚ .ﻓﻘﺪ أﻛﺪوا ﻋﲆ أﻫﻤﻴﺔ وﺟﻮد ﻣﺴﺌﻮﻟﻴﺔ واﻗﻌﺔ ﻋﲆ اﻟﻨﺎس ﻓﻴﻤﺎ ﻳ َُﺨ ﱡ ﺺ أﻓﻌﺎ َﻟﻬﻢ وﺳﻠﻮﻛﻬﻢ ،ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻛﻤﺎ ﻗﺎل اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﻮن. ﻓﺈذا ﻟﻢ ﻳﻜﻮﻧﻮا ﻣﺴﺌﻮﻟني ﻓﻼ داﻋﻲ إذن ﻷن ﺗُﻘﺪﱠم إﻟﻴﻬﻢ اﻟﻨﺼﺎﺋﺢ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ أو اﻟﻌﻼج اﻟ ﱡﺮوﺣﻲ .وﻗﺪ أﻧﻜﺮ اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﻮن ﺑﺒﺴﺎﻃﺔ ﻓﻜﺮة اﻟﻘﺪر ﻣﺴﺘﻌﻴﻀني ﻋﻨﻬﺎ ﺑﻔﻜﺮة اﻻﻧﺤﺮاف اﻟﻌﺸﻮاﺋﻲ ﻟﻠﺬﱠ ﱠرات ﻟﻜﴪ ﺳﻠﺴﻠﺔ اﻷﺳﺒﺎب واﻟﻨﺘﺎﺋﺞ ،ﻓﺮﻓﻀﻮا ﻓﻜﺮة ﺣﺪوث اﻟﴚء ﻟﺤﺘﻤﻴﺔ ﺣﺪوﺛﻪ ،أﻣﺎ اﻟﺮواﻗﻴﻮن ﻓﻘﺪ ﺷﺪدوا ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﺤﺘﻤﻴﺔ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﻘﺪ ﺣﺎوﻟﻮا اﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﻣَ ﺨ َﺮج ﺼﻬﻢ ﻣﻦ املﺸﻜﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺴﺘﺪﻋﻴﻬﺎ ﻓﻜﺮة َ ﻳُﺨ ﱢﻠ ُ اﻟﻘﺪَر .وﻫﻨﺎ ﻧﺠﺪ أن ﺟﺰءًا ﻣﻦ إﺟﺎﺑﺘﻬﻢ ﻋﻦ ﻫﺬا اﻟﺘﺴﺎؤل ﻳﺄﺗﻲ ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺨﺘ َﺰ ٍل ﰲ ﻗﺼﺔ أﺧﺮى ﺻﻐرية ﻋﻦ زﻳﻨﻮن ،وﺗﻘﻮل اﻟﻘﺼﺔ إن زﻳﻨﻮن ﻛﺎن ﻳَﺠﻠِﺪ ﻋﺒﺪًا ﺑﺘﻬﻤﺔ اﻟﴪﻗﺔ ،ﻓﻘﺎل ﻟﻪ اﻟﻌﺒﺪ» :إﻧﻤﺎ اﻟﻘﺪَر ﻫﻮ اﻟﺬي ﺟﻌﻠﻨﻲ أﴎق «.ﻓﺮد ﻋﻠﻴﻪ زﻳﻨﻮن» :وإﻧﻤﺎ اﻟﻘﺪر ﻫﻮ ﻣﻦ ﺟﻌﻠﻚ ﺗُﺠ َﻠﺪ «.واملﻐﺰى أن وﺟﻮد اﻟﻘﺪر ﻟﻴﺲ ﻣﻦ ﺷﺄﻧﻪ ﺗﻐﻴري ﻛﻞ أﻧﻤﺎط اﻟﺴﻠﻮك ،ﻓﻴﻤﻜﻨﻚ أن ﺗﺴﺘﻤﺮ ﰲ اﻟﻌﻘﺎب وإﻟﻘﺎء املﻮاﻋﻆ و َﻟﻮْم اﻵﺧﺮﻳﻦ وﻣﺪﺣﻬﻢ ﺑﺸﻜﻞ ﻃﺒﻴﻌﻲ ،وﻛﻞ ﻣﺎ ﰲ اﻷﻣﺮ أﻧﻪ ﻋﲆ اﻹﻧﺴﺎن أن ﻳﻌﱰف أن ﻛﻞ ﳾء ﻳﺤﺪث ﰲ اﻟﻮﺟﻮد — ﺑﻤﺎ ﰲ ذﻟﻚ أﻓﻌﺎﻟﻪ — إﻧﻤﺎ ﻳﻘﻊ ﺗﺤﺖ إﻣﺮة اﻟﻘﺪر .وﺑﻬﺬا ﻓﻘﺪ ﻛﺎن َﻗ َﺪ ُر ﻛﺎﺗﻮ ً أن ﻳﺼﺒﺢ ً ﻃﺎﻏﻴﺔ .أﻣﺎ زﻳﻨﻮن وﻛﺮﻳﺴﻴﺒﻮس وإﺑﻴﻜﺘﻴﺘﻮس ﺑﻄﻼ ،أﻣﺎ ﻗﻴﴫ ﻓﻘﺪره أن ﺻﺎر واﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﺮواﻗﻴﻮن اﻵﺧﺮون ُ ﻓﻘ ﱢﺪ َر ﻟﻬﻢ أن ﻳﺒﺤﺜﻮا ﰲ ﻣﺴﺎﺋﻞ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ واﻟﻮاﺟﺐ واﻟﻌﻘﻞ وﻣﺎ إﱃ ذﻟﻚ. وﻟﻜﻦ ﺣﻜﺎﻳﺔ ﺟَ ْﻠ ِﺪ ذﻟﻚ اﻟﻌﺒﺪ ﻻ ﺗُﻌﻄﻲ ﺳﻮى ﺻﻮرة ﻫﺰﻟﻴﺔ ﻹﺟﺎﺑﺔ اﻟﺮواﻗﻴني ﻋﻦ ﻣﺴﺄﻟﺔ اﻟﻘﺪَر .وأدرك ﻛﺮﻳﺴﻴﺒﻮس أﻧﻪ ﻣﻦ أﺟﻞ إﺣﺮاز أي ﺗﻘﺪﱡم ﰲ ﻫﺬه املﺴﺄﻟﺔ ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺠﺐ 346
اﻟ ﱡ ﻄﺮق اﻟﺜﻼث إﱃ ﱠ اﻟﺴﻜِﻴﻨﺔ :اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ واﻟﺮواﻗﻴﺔ واﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ
واﻟﻐﺮض اﻟﺬي و ُِﺟ َﺪ ﻣﻦ أﺟﻠﻪ .ﻓﻜﺎن ﻋﲆ املﺮء أن ﻳﻨﻈﺮ ﺑﺸﻜﻞ أَد ﱠَق إﱃ ﻃﺒﻴﻌﺔ ﻋﻤﻞ اﻟﻘﺪَر ِ ﻳﺮى أن ﻓﻜﺮة اﻟﻘﺪَر ﺗﻌﻨﻲ أن ﻛﻞ ﳾء ﻳﺤﺪث ﻣﺎ ﻫﻮ إﻻ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﺴﻠﺴﻠﺔ ﻣﻦ املﻘﺪﻣﺎت. ﻌﻞ ﻣﻌﻨﻰ اﻟﻘﺪر ،ﻓﺈن ﻛﺜريًا ﻣﻦ اﻟﻬﺠﻮم ﻋﲆ اﻟﺮواﻗﻴﺔ ﻳﻤﻜﻦ وأﺷﺎر أﻧﻪ ﻟﻮ ﻛﺎن ﻫﺬا ﺑﺎﻟﻔِ ِ دﻓﻌُ ﻪ وﺗﻨﺤﻴﺘﻪ ﺟﺎﻧﺒًﺎ .ﻓﻌﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﻛﺎن ﻛﺜري ﻣﻦ ﺧﻠﻔﺎء أﻓﻼﻃﻮن ﰲ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ ﻳﺴﺨﺮون ﻣﻦ اﻟﺮواﻗﻴﺔ ﻧﺎﻋِ ﺘِني إﻳﺎﻫﺎ ﺑﺎﺳﻢ »اﻟﺠﺪل اﻟﺨﺎﻣﻞ«؛ وذﻟﻚ ﻷﻧﻬﻢ َ ﻇﻨﱡﻮا أﻧﻪ ﻣﺎ دام ﻫﻨﺎك ﻣﺎ ﻳ َُﺴﻤﱠ ﻰ َ ﺑﺎﻟﻘﺪَر ﻓﻠﻴﺲ ﻣﻦ املﻌﻘﻮل إذن أن ﻧﺤﺎول اﻟﻘﻴﺎم ﺑﺄي ﳾء .واﺳﺘﻤﺮ ً اﻟﺠﺪال ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﺸﺎﻛﻠﺔ ،ﻓﴬﺑﻮا ً ﻣﺮﻳﻀﺎ إﻣﺎ ﻣﺜﺎﻻ ذ َﻛﺮوا ﻓﻴﻪ أن ﻗﺪَر اﻹﻧﺴﺎن إذا ﻛﺎن أن ﻳُﺸﻔﻰ أو ﱠأﻻ ﻳُﺸﻔﻰ دون أن ﺗﻜﻮن ﻟﻪ ﺣﻴﻠﺔ ﰲ ذﻟﻚ .ﻓﺈذا ﻛﺎن ﻗﺪَره أن ﻳ َ ُﺸﻔﻰ ﻓﻠﻴﺲ ﻣﻦ اﻟﴬوري اﺳﺘﺪﻋﺎء اﻟﻄﺒﻴﺐ ،وإذا ﻛﺎن ﻣُﻘ ﱠﺪ ًرا ﻟﻪ أﻻ ﻳ َ ُﺸﻔﻰ ﻓﺎﺳﺘﺪﻋﺎء اﻟﻄﺒﻴﺐ ﺳﻴﻜﻮن ﴐﺑًﺎ ﻣﻦ اﻟﻌﺒﺚ .وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﻔﻲ ﻛﻠﺘﺎ اﻟﺤﺎﻟﺘني ﻟﻴﺴﺖ ﻫﻨﺎك ﴐورة ﺗﺴﺘﺪﻋﻲ أن ﻳﺤﺼﻞ داع ﻟﺤﺬر اﻟﺠﻨﺪي ﺧﻼل اﻹﻧﺴﺎن ﻋﲆ رﻋﺎﻳﺔ ﻃﺒﻴﺔ .وﻫﺬا ﻳﺸﺒﻪ اﻟﻔﻜﺮة اﻟﻘﺎﺋﻠﺔ إﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﻣﻦ ٍ اﻟﺤﺮب ،ﻓﺈﻣﺎ ُﻛﺘﺐ ﻋﻠﻴﻪ املﻮت أو ﻟﻢ ﻳُﻜﺘﺐ ،ﻓﻼ ﻳﻤﻨﻊ ﺣﺬ ٌر ﻣﻦ ﻗﺪ ٍَر. وﻗﺪ وﺿﻊ ﻛﺮﻳﺴﻴﺒﻮس ﻳﺪَه ﻋﲆ ﻣﻮﺿﻊ اﻟﺨﻄﺄ ﰲ ﻫﺬه اﻟﻘﻀﻴﺔ املﻨﻄﻘﻴﺔ .ﻓﻘﺎل إﻧﻪ ﻻ ﺷﻚ أن ﻟﻺﻧﺴﺎن أﺣﺪ ﻣﺼريﻳﻦ :إﻣﺎ ﺷﻔﺎء أو ﺳﻘﻢ .وﻟﻜﻨﻪ أﺷﺎر إﱃ أن اﻟﺮﻋﺎﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﻳُﻘﺪﱢﻣﻬﺎ اﻟﻄﺒﻴﺐ ﻗﺪ ﺗﻜﻮن ﺳﺒﺒًﺎ ﰲ ﺗﺤﻘﻴﻖ اﻟﺸﻔﺎء؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﻼ ﻳﺼﺢ أن ﻧﺪﱠﻋِ ﻲ أن اﻻﺳﺘﻌﺎﻧﺔ ﺑﺎﻟﻄﺒﻴﺐ ﻟﻦ ﺗُﻐﻨِﻲ ﻋﻦ اﻹﻧﺴﺎن ﺷﻴﺌًﺎ .وﻣﻜﻤﻦ اﻟﺨﺪﻋﺔ ﰲ ذﻟﻚ »اﻟﺠﺪل اﻟﺨﺎﻣﻞ« ﻫﻮ أﻧﻪ ُ ﻳﻐ ﱡﺾ اﻟﻄﺮف ﻋﻦ أن أﻓﻌﺎل اﻟﺒﴩ — ﺷﺄﻧﻬﺎ ﺷﺄن ﺳﺎﺋﺮ اﻷﺣﺪاث اﻷﺧﺮى اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻊ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ — ﻗﺪ ﺗﻜﻮن ﻟﻬﺎ ﺗﺄﺛريات ﻣﻦ ﺷﺄﻧﻬﺎ ﺻﻴﺎﻏﺔ املﺴﺘﻘﺒﻞ .ﻓﺎﻹﻧﺴﺎن ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺴﺘﺪﻋﻲ اﻟﻄﺒﻴﺐ ﻻ ﻳﻌﺮف إذا ﻣﺎ ﻛﺎن ﺳﻴﱪَأ ﻣﻦ ﻣﺮﺿﻪ أم ﺳﻴﻤﻮت ،وﻟﻜﻨﻪ رﻏﻢ ذﻟﻚ ﻳﺪرك أن أﻓﻌﺎﻟﻪ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗُﺮﺟﱢ ﺢ ﻛﻔﺔ أﺣﺪ اﻻﺣﺘﻤﺎﻟني .وﻫﺬه اﻷﻓﻌﺎل ﻗﺪ ﺗﻜﻮن ﻣُﻘﺪﱠر ًة ً ﺳﻠﻔﺎ ﺑﺸﻜﻞ ﻣﻦ اﻷﺷﻜﺎل؛ وﺑﺬﻟﻚ ﻻ ﻳُﻤﻜِﻦ أن ﻧﺪﱠﻋﻲ أن أﻓﻌﺎل اﻟﺒﴩ ﻻ ﺗﺆﺛﱢﺮ وﻻ ﺗﺄﺗﻲ ﺑﺠﺪﻳﺪ. وﻛﺬﻟﻚ ﻳُﻤ ِﻜﻨُﻨﺎ اﻟ ﱠﺮ ﱡد ﻋﲆ ﻓﻜﺮة ﻋﺪم ﺟﺪوى اﺳﺘﺪﻋﺎء اﻟﻄﺒﻴﺐ ﺑﺎﻟﻘﻮل إن ﻫﻨﺎك أﻫﻤﻴﺔ ﻟﻼﺳﺘﻌﺎﻧﺔ ﺑﺎﻟﻄﺒﻴﺐ ﻷن ﻫﺬا ﻳﺰﻳﺪ ﻣﻦ ﻧﺴﺒﺔ اﻟﺸﻔﺎء .ﻛﻤﺎ أن ﻫﻨﺎك أﻫﻤﻴﺔ ﻟﻌﻘﺎب اﻟﻨﺎس؛ ُﺤﺠﻤﻮن ﻋﻦ ﻓﻌﻞ اﻟﴩ ﰲ املﺴﺘﻘﺒﻞ ،ﻛﻤﺎ أن ﻫﻨﺎك أﻫﻤﻴﺔ ﻷن ﻫﺬا ﻣﻦ ﺷﺄﻧﻪ أن ﻳﺠﻌﻠﻬﻢ ﻳ ِ ﻹﺳﺪاء اﻟﻨﱡﺼﺢ وﺗﻘﺪﻳﻢ اﻟﻌﻼج؛ ﻷن ﻫﺬا ﻳﺴﺎﻋﺪ اﻟﻨﺎس ﻋﲆ ﺗﺤﻘﻴﻖ اﻟﺴﻌﺎدة .ﺑَﻴْ َﺪ أن املﺴﺄﻟﺔ ﻻ ﺗُﺤَ ﱡﻞ ﺑﻬﺬه اﻟﺒﺴﺎﻃﺔ ،ﻓﻠﻮ ﻛﺎﻧﺖ أﻓﻌﺎﻟﻨﺎ ﺳﺘُ ﱢ ﻐري ﻣﻦ ﻣَ ﺠ َﺮﻳَﺎت اﻷﻣﻮر ﻓﺈﻧﻪ ﻻ ﻳﺰال ﻣﻦ ً ﻣﺴﺌﻮﻻ ﻋﻦ أﻓﻌﺎﱄ اﻟﺼﻌﺐ ﺗﺼﻮﱡر ﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﻜﻮن ﻣﺴﺌﻮﻟني ﻋﻨﻬﺎ .ﻓﻜﻴﻒ أﻛﻮن وأﻓﻜﺎري ﻣﺎ داﻣﺖ ﻫﻲ ﻣﺤﺾ ﻧﺘﺎﺋﺞ ﻷﺳﺒﺎب ﺳﺎﺑﻘﺔ؟ وﻟﻜﻦ ﻛﺮﻳﺴﻴﺒﻮس ﻗﺎل إن ﺑﺤﺚ 347
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻫﺬه املﺴﺄﻟﺔ ﻳﺘﻄﻠﺐ ﻣﺰﻳﺪًا ﻣﻦ اﻟﺪﻗﺔ؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻳﻌﺘﻘﺪ ﻛﻐريه ﻣﻦ اﻟﺮواﻗﻴني أﻧﻨﺎ أﺣﺮار ﱠ ﱠ وﻣﺴريون ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ أﺧﺮى ،ﻓﻘﺒﻞ ﺗﻔﻜريﻧﺎ ﺑﺄﻣﺮ أو إﻗﺪاﻣﻨﺎ ﻋﲆ ﻓﻌﻞ، وﻣﺨريون ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ ﱠ ُ ﻳﺘﻮﻗﻒ ﻣﺎ ﻧﻔﻜﺮ ﻓﻴﻪ أو ﻧﻨﻔﺬه ﻋﲆ ﻣﺴﺒﱢﺒﺎت ﺳﺎﺑﻘﺔ؛ وﻟﻬﺬا ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻟﺴﻨﺎ أﺣﺮا ًرا .وﻋﲆ اﻟﺠﺎﻧﺐ اﻵﺧﺮ ﻧ َ ِﺠ ُﺪ أن ﺑﻌﺾ ﻫﺬه اﻷﺳﺒﺎب ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺸﺨﺼﻴﺎﺗﻨﺎ ،وﻣﻦ ﻫﺬا املﻨﻄﻠﻖ ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻣﺴﺌﻮﻟﻮن ﻋﻦ أﻓﻜﺎرﻧﺎ وأﻓﻌﺎﻟﻨﺎ. وﻗﺪ ﴍح ﻛﺮﻳﺴﻴﺒﻮس ﻣﻘﺼﺪه ﺑﻤﺜﺎل ﺑﺴﻴﻂ .ﻓﻘﺪ ﻗﺎل :ﺧﺬ أﺳﻄﻮاﻧﺔ وادﻓﻌﻬﺎ إﱃ أﺳﻔﻞ ﻣﻨﺤﺪر .ملﺎذا ﺗﺴﺘﻤﺮ ﰲ اﻟﺪوران؟ إن ﺳﺒﺐ دوراﻧﻬﺎ ﻳﻌﻮد ﺟﺰﺋﻴٍّﺎ إﱃ دﻓﻌﻚ ﻟﻬﺎ؛ ً ﱠ وﻟﻜﻦ ﻫﻨﺎك ﺳﺒﺒًﺎ آﺧﺮ وراء دوراﻧﻬﺎ ﻳﺘﻤﺜﱠﻞ ﰲ ﻛﻮﻧﻬﺎ اﺳﺘﺠﺎﺑﺔ ﻟﻬﺬه اﻟﺪﻓﻌﺔ، ﻓﻬﻲ ﺗﺪور ً ً أﺳﻄﻮاﻧﻴﺔ اﻟﺸﻜﻞ وﻟﻴﺴﺖ ﻣﻜﻌﱠ ﺒﺔ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ،ﻓﻠﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻜﻌﱠ ﺒﺔ ملﺎ ﻛﺎﻧﺖ دﻓﻌﺘﻚ اﻟﻴﺴرية ﻛﺎﻓﻴﺔ ﻟﺪوراﻧﻬﺎ إﱃ أﺳﻔﻞ املﻨﺤﺪر؛ ﻷن ﺷﻜﻠﻬﺎ ﺳﻴَﺤُ ﻮل دون دوراﻧﻬﺎ ،وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈن ﺟﺰءًا ﻣﻦ ﺳﺒﺐ دوراﻧﻬﺎ ﻳﻘﻊ ﰲ ﻃﺒﻴﻌﺔ ﺗﻜﻮﻳﻨﻬﺎ؛ ﻓﻬﻲ ﺗﺪور ﻟﻜﻮﻧِﻬَ ﺎ أﺳﻄﻮاﻧﺔ وﻟﻴﺲ ملﺠﺮد اﻟﺪﻓﻊ ،اﻷﻣﺮ ﻧﻔﺴﻪ ﻳﻨﻄ ِﺒﻖ ﻋﲆ أﻓﻌﺎﻟﻨﺎ وأﻓﻜﺎرﻧﺎ ،ﺣﻴﺚ إن ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻳُﻌَ ﱡﺪ ﺟﺰءًا ﻣﻦ ﻃﺒﻴﻌﺘﻨﺎ، وﻳﻤﻜﻦ ﺗﻔﺴريﻫﺎ ﰲ إﻃﺎر ﺷﺨﺼﻴﺘﻨﺎ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ،ﻛﻤﺎ أن ﺳﻠﻮك اﻷﺳﻄﻮاﻧﺔ ﻳﻤﻜﻦ ﻋﺰوه إﱃ ﺷﻜﻠﻬﺎ؛ وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈن ﺣﻴﺎﺗﻨﺎ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻔﺴريُﻫﺎ ﻓﻘﻂ ﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﻘﻮى اﻟﺨﺎرﺟﻴﺔ. وﺑﺬﻟﻚ اﺳﺘﻄﺎع ﻛﺮﻳﺴﻴﺒﻮس أن ﻳ ُ َﺼ ﱠﺪ ﺟﺎﻧﺒًﺎ ﻣﻦ ﻫﺠﻮم ﺧﺼﻮﻣﻪ ،ورﻏﻢ ذﻟﻚ ﻧﺘﺴﺎءل ً ﻃﺎﻏﻴﺔ ﻋﻦ ﻣﺪى ﻧﺠﺎﺣﻪ ﰲ ﺗﺤﺮﻳﺮ املﺴﺌﻮﻟﻴﺔ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ﻣﻦ ِﺷﺒَﺎك اﻟﻘﺪَر .ﻓﻘﻴﴫ ﻗﺪ ﻳﻜﻮن ﺑﺴﺒﺐ ﺷﺨﺼﻴﺘﻪ ،وﻟﻜﻦ اﻟﺮواﻗﻴني ﻳﺮون أن اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﻣﻦ ﻓﻌﻞ اﻟﻘﺪر ،ﻓﻜﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ إذن ً ﻣﺴﺌﻮﻻ ﻋﻦ ﺷﺨﺼﻴﺘﻪ أو ﻋﻦ ﺗﴫﱡﻓﺎﺗﻪ؟ ﻧﺨﻠﺺ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ إﱃ أن أن ﻧﻘﻮل إن ﻗﻴﴫ ﻛﺎن ﻣﺤﺎوﻟﺔ اﻟﺮواﻗﻴني اﻟﺠﻤﻊ ﺑني اﻹﻳﻤﺎن ﺑﺎﻟﻘﺪر واملﺴﺌﻮﻟﻴﺔ اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﻟﻴﺴﺖ ﻣُﻘﻨِﻌَ ﺔ ﺑﺸﻜﻞ ﺗﺎمﱟ .ﻓﻼ ﻳﺰال ﻫﻨﺎك ﺗﻨﺎﻗﺾ ﺑني اﻟﻔﻜﺮﺗني .وﻟﻜﻦ ﻟﻺﻧﺼﺎف ﻳﻨﺒﻐﻲ ﱠأﻻ ﻧُﻐﻔِ ﻞ ﺣﻘﻴﻘﺔ أن اﻟﺮواﻗﻴني ﻟﻢ ﻳﻜﻮﻧﻮا اﻟﻮﺣﻴﺪﻳﻦ اﻟﺬﻳﻦ وﻗﻌﻮا ﰲ ﺗﻨﺎﻗﺾ ﻛﻬﺬا .ﻓﻔﻲ ﻣﴪﺣﻴﺔ أﺳﺨﻴﻠﻮس املﺴﻴﻄﺮ ﻋﲆ ﻗﻮى اﻟﻄﺒﻴﻌﺔِ ، ِ وﺗﺼ ُﻔﻪ اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺔ »أﺟﺎﻣﻤﻨﻮن« ﺗﺘﺤﺪﱠث اﻟﺠﻮﻗﺔ ﻋﻦ زﻳﻮس ﺑﺄﻧﻪ »ﻓﺎﻋﻞ ﻛﻞ أﻣﺮ وﻣﺼﺪر ﻛﻞ ﳾء« ،وﺗﺴﺄل اﻟﺠﻮﻗﺔ ﻋﻦ ﻣﻘﺘﻞ أﺟﺎﻣﻤﻨﻮن» :ﻫﻞ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺤﺪث ﻫﺬا دون إرادة زﻳﻮس اﻟﻌﻠﻴﺎ؟« وﻟﻜﻦ ﺣﺘﻰ ﺑﻌﺪ ﻋﺰو اﻟﻔﻌﻞ إﱃ ﻣﺸﻴﺌﺔ زﻳﻮس — ﻓﻘﺪ اﺳﺘﺨﺪم اﻟﺮواﻗﻴﻮن اﺳﻢ زﻳﻮس ﻛﺜريًا ﻟﻺﺷﺎرة إﱃ اﻟﻘﺪر — أداﻧﺖ اﻟﺠﻮﻗﺔ ﻛﺬﻟﻚ ﻛﻠﻴﺘﻤﻨﺴﱰا ملﺴﺌﻮﻟﻴﺘﻬﺎ ﻋﻦ اﻹﻗﺪام ﻋﲆ ﻗﺘﻞ أﺟﺎﻣﻤﻨﻮن؛ ﻓﻠﻘﺪ أﻧﺸﺪوا ﻗﺎﺋﻠني» :ﻣﻦ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻐﻔﺮ ﻟﻚِ إراﻗﺔ ﻫﺬه اﻟﺪﻣﺎء؟« وﻫﻨﺎ ﻧﺮى أﻧﻪ ﻟﻮ ﻛﺎن زﻳﻮس )اﻟﻘﺪَر( ﻫﻮ املﺴﺌﻮل ﻋﻦ ﻗﺘﻞ أﺟﺎﻣﻤﻨﻮن ﻓﻼ ﻣﻌﻨﻰ ﻹداﻧﺔ ﻛﻠﻴﺘﻤﻨﺴﱰا ،وﻟﻜﻦ ﺑﺎﻟﻨﻈﺮ ﰲ ﺣﻘﺎﺋﻖ اﻟﻘﻀﻴﺔ ﻧ َ ِﺠ ُﺪ أﻧﻪ ﻻ ﻣﻔﺮ ﻣﻦ إداﻧﺘﻬﺎ ﻟﺘﻮ ﱡرﻃﻬﺎ ﰲ اﻟﻘﺘﻞ» .ﻓﻴﺎ ﻟﻪ ﻣﻦ ﻟﻐﺰ ﻣﺜري ﻟﻠﺸﻔﻘﺔ!« ﻛﻤﺎ ﺗﻘﻮل اﻟﺠﻮﻗﺔ. 348
اﻟ ﱡ ﻄﺮق اﻟﺜﻼث إﱃ ﱠ اﻟﺴﻜِﻴﻨﺔ :اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ واﻟﺮواﻗﻴﺔ واﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ
وﻣﻤﱠ ﺎ ﺟﻌﻞ اﻟﺮواﻗﻴني ﻳﺆﻣﻨﻮن ﺑﻔﻜﺮة اﻟﻘﺪر إﻳﻤﺎﻧُﻬﻢ ﺑﻔﻜﺮة اﻟﻌﻨﺎﻳﺔ اﻹﻟﻬﻴﺔ .وﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ إن ﻛﻠﺘﺎ اﻟﻔﻜﺮﺗني ﺗﻨﺒﻌﺎن ﻣﻦ ﻣﺤﻴﻂ واﺣﺪ ،وﻫﻮ أن اﻟﻌﻘﻞ املﺪﺑﱢﺮ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ ﻳﺘﱠﺼﻒ ﺑﺎﻟﺤﻜﻤﺔ وﻳﺮﻋﻰ داﺋﻤً ﺎ ﻣﺼﻠﺤﺔ اﻹﻧﺴﺎن ،ﻓﻜﻞ ﳾء ﻣﺨﻠﻮق ﻋﲆ اﻟﻮﺟﻪ اﻷﻛﻤﻞ .وﻳﻮﺿﺢ اﻟﺮواﻗﻴﻮن أﻧﻪ ﺣﺘﻰ إن ﺑﺪا اﻷﻣﺮ ﺧﻼف ذﻟﻚ ﻇﺎﻫﺮﻳٍّﺎ ﻓﺈن اﻟﻔﻬﻢ اﻟﻌﻤﻴﻖ ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ ﻳﻘﻮدﻧﺎ إﱃ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻛﻞ ﳾء .ﻟﻘﺪ ﻗﺎل ﺳﻴﻨﻴﻜﺎ إن املِ ﺤَ ﻦ ﻣﺎ ﻫﻲ إﻻ اﺧﺘﺒﺎرات .ﻓﺎملِ ﺤَ ﻦ ﺗﺤﻤﻞ ﰲ ﺑﺎﻃﻨﻬﺎ ِﻣﻨَﺤً ﺎ .واملِ ﺤَ ﻦ واﻟﺸﺪاﺋﺪ ﺗﺴﺎﻋﺪﻧﺎ ﻋﲆ ﺗﻨﻤﻴﺔ ﻗﺪراﺗﻨﺎ ﻋﲆ اﻟﺘﺤﻤﱡ ﻞ واﻟﺼﱪ وﺗُﺴﺎﻋﺪﻧﺎ ﻛﺬﻟﻚ ﻋﲆ ﺗﻨﻤﻴﺔ اﻟﻔﻀﺎﺋﻞ اﻟﺮواﻗﻴﺔ ،وﻋﻦ ﻫﺬا ﻳﻘﻮل: ملﺎذا ﻳﺼﻴﺐ اﻟ ﱠﺮبﱡ ﺧِ ﻴﺎر اﻟﻨﺎس ﺑﺎملﺮض أو ﺑﺎﻷﳻ أو ﺑﺄيﱟ ﻣﻦ املﺼﺎﺋﺐ اﻷﺧﺮى؟ اﻹﺟﺎﺑﺔ ﺗﻜﻤﻦ ﰲ أن ﻫﺬا ﻳﺸﺒﻪ ﺗﻜﻠﻴﻒ أﺷﺠﻊ اﻟﺮﺟﺎل ﺑﺎملﻬﺎ ﱢم اﻟﺨﻄرية واﻟﺸﺎﻗﺔ ﰲ اﻟﺠﻴﺶ .وﻋﲆ ﻧﻔﺲ اﻟﺸﺎﻛﻠﺔ ﻓﺈن اﻟﺸﺠﻌﺎن إذا ﻣﺎ ﺗﻌ ﱠﺮﺿﻮا ملﺤﻨﺔ ﻛﺘﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﺗُﺒﻜﻲ اﻟﺠﺒﻨﺎء ﻳﻘﻮﻟﻮن» :ﻟﻘﺪ ﺣﺒﺎﻧﺎ اﻟﺮب أﺳﻠﺤﺔ ﻣﻦ َﻟ ُﺪﻧ ْ ُﻪ ﻛﻲ ﻳﺨﺘﱪ ﻗﻮة ﺗﺤﻤﻞ اﻟﺒﴩ« … ﻓﺎﻵﻟﻬﺔ ﻳﺘﻌﺎﻣﻠﻮن ﻣﻊ اﻟﺮﺟﺎل اﻟﺼﺎﻟﺤني ﺗﻌﺎﻣُﻞ اﻷﺳﺎﺗﺬة ﻣﻊ ﺗﻼﻣﻴﺬﻫﻢ ،ﻓﻬﻢ ﻳﻜﻠﻔﻮن ﻫﺆﻻء اﻟﺬﻳﻦ ﺗﻨﻌﻘﺪ ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻵﻣﺎل ﺑﻤﺰﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﻮاﺟﺒﺎت واملﻬﺎم. وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈن ﺟﻤﻴﻊ ﻣﺎ ﻳﻨﺰل ﺑﺎﻹﻧﺴﺎن ﻣﻦ ﻣﺼﺎﺋﺐَ ﻫﻮ ﻣﺤﺾ ﻓﺮص ﺟﻴﺪة ﻟﺘﻄﻮﻳﺮ اﻟﺬات. ﻗﺎل ﻛﺮﻳﺴﻴﺒﻮس إن اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ﻣﺜﻞ اﻟﻔﱤان أو ﺣﴩات اﻟﻔﺮاش اﻟﺘﻲ ﻗﺪ ﺗُﺰﻋﺞ ً ﻣﺜﺎﻻ ﻋﲆ ذﻟﻚ؛ ﻓﺎﻟﻔﱤان ﺗﺠﻌﻞ اﻹﻧﺴﺎن ﻳﺤﺎﻓﻆ ﻋﲆ اﻟﻨﻈﺎﻓﺔ ،وﺣﴩات اﻹﻧﺴﺎن ﺗُﻌَ ﱡﺪ اﻟﻔﺮاش ﺗﻤﻨﻌﻨﺎ ﻣﻦ اﻟﻨﻮم ﺑﺎﻟﻘﺪر اﻟﺰاﺋﺪ ﻋﻦ اﻟﺤﺎﺟﺔ .وﻛﺎن ﻳﻌﺘﻘﺪ أن ﻫﺬه اﻟﺤﴩات ﻗﺪ َت ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﻌﻨﺎﻳﺔ اﻹﻟﻬﻴﺔ ﻟﺘﺤﻘﻴﻖ ﻫﺬه اﻟﻔﻮاﺋﺪ اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ .وﻳﺮى اﻟﺮواﻗﻴﻮن ﱠ و ُِﺟﺪ ْ أن ﺟﻤﻴﻊ اﻷﺷﻴﺎء ُ ريه ،ﻓﻘﺪ ﻗﺎل ﻛﺮﻳﺴﻴﺒﻮس إن اﻟﺨﻨﺎزﻳﺮ ﻗﺪ ﺻﻤﱢ ﻤَ ْﺖ ﰲ اﻷﺻﻞ ملﺼﻠﺤﺔ اﻹﻧﺴﺎن وﺧ ِ ُﺧﻠ َِﻘ ْﺖ َوﻟُﻮ َد ًة ﻣﻦ أﺟﻞ إﻣﺪادﻧﺎ ﺑﺎﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﻮﺟﺒﺎت اﻟﺸﻬﻴﺔ .وإن ﻫﺬا اﻟ ﱠ ﻄﺮح ﻟﻨﻤﻮذج دﻗﻴﻖ ملﻨﻬﺞ اﻟﺘﻔﻜري اﻟﺬي ﻳﻀﻊ اﻹﻧﺴﺎن ﰲ ﻣﺮﻛﺰ اﻟﻜﻮن ،وﻫﻮ اﻟﻔﻜﺮة املﻨﺴﻮﺑﺔ ُزو ًرا ﻷرﺳﻄﻮ. ﱠ ﺗﺘﺪﺧﻞ ﰲ ﺟﻤﻴﻊ آﻟﻴﺎت ﻛﺎن اﻟﺮواﻗﻴﻮن — ﻻ اﻷرﺳﻄﻴﻮن — ﻫﻢ ﻣﻦ َرأَوْا أن اﻟﻌﻨﺎﻳﺔ اﻹﻟﻬﻴﺔ اﻟﺤﻴﺎة ،وﻗﺪ اﺳﺘﺨﺪﻣﻮا اﻟﻔﻜﺮ َة املﺘﻌ ﱢﻠﻘﺔ ﺑﻮﺟﻮد ﻧﻈﺎم ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ ً دﻟﻴﻼ ﻋﲆ وﺟﻮد اﻹﻟﻪ. ً أﻳﻀﺎ ﻟﻢ ﻳ َﺮ اﻟﺮواﻗﻴﻮن اﻟﻌﺎﻟﻢ ِﻛﻴَﺎﻧًﺎ ﺳﻴﺌًﺎ ﻋﲆ أي ﺣﺎل؛ ﻷﻧﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﻌﺘﻘﺪوا ﰲ وﺟﻮد ﺣﻴﺎة آﺧﺮة ﻳﺼﻠﺢ ﻓﻴﻬﺎ ﻛ ﱡﻞ ﻣﺎ ﻓﺴﺪ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة اﻷوﱃ ،ﻓﺎﻟﻌﻨﺎﻳﺔ ﻣﻮﺟﻮدة ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﻫﻨﺎ ﰲ ﱠ ﺗﺘﻜﻔﻞ ﺑﺈﺻﻼح ﻛﺎﻓﺔ ﺷﺌﻮﻧﻨﺎ وﺗَﻬﺪﻳﻨﺎ إﱃ اﻟﺨري ،وﺑﺬﻟﻚ ﻓﻼ ﺣﺎﺟﺔ ﻟﻮﺟﻮد اﻟﺪﻧﻴﺎ ،وﻫﻲ 349
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﺣﺴﺎب ﰲ اﻟﺴﻤﺎء ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ .واﻟﻌﻨﺎﻳﺔ اﻹﻟﻬﻴﺔ ﻻ ﺗﺮﻋﻰ ﻣﺼﺎﻟﺢ اﻟﻨﺎس وﺣﺴﺐُ وﻟﻜﻨﻬﺎ ٍ ﺳﺨﻴﺔ وﻛﺮﻳﻤﺔ ﻛﺬﻟﻚ ﺗﺠﺎه اﻟﺼﺎﻟﺤني ﻣﻦ اﻟﻨﺎس ﺣﺘﻰ وﻫﻢ ﻋﲆ ﻗﻴﺪ اﻟﺤﻴﺎة. وﻟﻌﻞ ﻫﺬه ﻣﻦ أﻛﱪ اﻻﺧﺘﻼﻓﺎت ﺑني املﺴﻴﺤﻴﺔ اﻷوﱃ واﻟﻼﻫﻮت اﻟﺮواﻗﻲ .ﻓﺎملﺴﻴﺤﻴﻮن ﻻ ﻳﻘﺒﻠﻮن ﻓﻜﺮة ﱡ ﺗﺤﻘﻖ اﻟﻌﺪاﻟﺔ ﻋﲆ اﻷرض؛ ﻓﻬﻢ ﻳﻌﺘﻘﺪون ﻛﻐريﻫﻢ أن اﻷﺧﻴﺎر ﻗﺪ ﻳﻌﺎﻧﻮن اﻟﺒﺆس أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻘﻠﺐ اﻷرذﻟﻮن ﰲ اﻟﻨﻌﻴﻢ ،وﻟﻜﻦ اﻟﺮواﻗﻴني ﻳﻌﺘﻘﺪون أن اﻟ ﱠﺮبﱠ أو اﻟﻌﻨﺎﻳﺔ اﻹﻟﻬﻴﺔ َ ﻳﺤﻔﻆ أﺻﺤﺎب اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ﻣﻦ اﻷﻣﻮر اﻷﻋﻈﻢ ﺧﻄ ًﺮا ،ﻓﻴﻘﻮﻟﻮن: إن اﻟﺮب ﻳﺤﻤﻴﻬﻢ ﻣﻦ ﺟﻤﻴﻊ أﻧﻮاع اﻟﴩور ﻣﺜﻞ اﻟﺨﻄﻴﺌﺔ واﻟﺠﺮﻳﻤﺔ واﻟﺘﻀﻠﻴﻞ واﻟﻄﻤﻊ واﻟﺸﻬﻮة اﻟﻌﻤﻴﺎء واﻟﺠﺸﻊ واﻹﴐار ﺑﺎﻟﻐري .وإﻧﻪ ﻳﺤﻘﻖ ﻟﻺﻧﺴﺎن اﻟﺤﻤﺎﻳﺔ واﻟﺨﻼص .وﻫﻨﺎ ﻳﺜﺎر ﺗﺴﺎؤل :ﻫﻞ ﻳﻄﻠﺐ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺼﺎﻟﺢ ﻣﻦ اﻹﻟﻪ أن ﻳﺤﻤﻲ أﻣﺘﻌﺘﻪ ﻟﻪ ً أﻳﻀﺎ؟ ﻻ ،ﺑﻞ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺼﺎﻟﺢ ﻳﻨﻮب ﻋﻦ اﻹﻟﻪ ﰲ أداء ﻫﺬه املﻬﻤﺔ. إن أﺳﻮأ ﳾء ﻗﺪ ﻳﺤﺪث ﻟﻺﻧﺴﺎن ﻋﲆ اﻹﻃﻼق ﻫﻮ اﻹﻗﺪام ﻋﲆ اﻟﴩور اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻨﺎﰱ ﻣﻊ ﺳﻠﻮك اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺼﺎﻟﺢ .ﻓﺎﻹﻧﺴﺎن اﻟﺼﺎﻟﺢ ﻻ ﻳَﻠﺤﻖ ﺑﻪ اﻷذى ﻛﻤﺎ ﻗﺎل ﺳﻘﺮاط .ورﺑﻤﺎ ﺗُﻨﺘﺰع ﻣﻨﻪ ﺑﻌﺾ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﺎﻓﻬﺔ اﻟﺘﻲ ﻟﻦ ﻳﻌريﻫﺎ اﻫﺘﻤﺎﻣً ﺎ ﻧﻈ ًﺮا ﻟﺼﻼح ﻓﻄﺮﺗﻪ .وﻣﻦ ﺧﻼل ﻫﺬا اﻟﺘﻔﺴري ﻓﺈن اﻟﺮواﻗﻴﺔ ﺗﻜﻔﻞ ﺣﻴﺎة ﺳﻌﻴﺪة ﻟﻺﻧﺴﺎن اﻟﺼﺎﻟﺢ .وﻟﻜﻦ املﺴﻴﺤﻴني ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻟﻴﻘﻨﻌﻬﻢ ﻫﺬا اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ وﺟﻮد ِﻣﻨ َ ٍﺢ ﻋﺎدﻟﺔ ﻋﲆ اﻷرض؛ ﻟﺬا ﺣﺒﱠﺬوا أﻓﻜﺎ ًرا أﻛﺜﺮ ﻗﺪﻣً ﺎ ﻛﺘﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﺗﻮﺟﺪ ﰲ اﻟﺪﻳﺎﻧﺎت اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ اﻟﻐﺎﻣﻀﺔ ،واﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮل إن اﻟﺪار اﻵﺧﺮة ﻫﻲ دار اﻟﺜﻮاب واﻟﻌﻘﺎب اﻟﺘﻲ ﻳﺘﺤﻘﻖ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﻌﺪل ﻋﲆ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﺨﻠﻖ. وﻟﻜﻦ أوﺟُ ﻪ اﻟﺸﺒﻪ ﺑني اﻟﺮواﻗﻴﺔ واملﺴﻴﺤﻴﺔ ﺗﻠﻔِ ﺖ اﻻﻧﺘﺒﺎه ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺗﻔﻌﻞ أوﺟﻪ اﻻﺧﺘﻼف. ﻓﺒﻌﺪ اﺳﺘﺜﻨﺎء ﻓﻜﺮة اﻟﺒﻌﺚ ﺑﻌﺪ املﻮت ﻟﻠﺤﺴﺎب ،ﻧﺮى أن اﻟﺮواﻗﻴني اﺳﺘﺨﺪﻣﻮا ﺟﻤﻴﻊ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺘﻲ ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻬﺎ املﺴﻴﺤﻴﻮن ﰲ ﺗﻔﺴري اﻷﻟﻢ واملﻌﺎﻧﺎة ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺬي ﻳﺤﻜﻤﻪ إﻟ ٌﻪ ﻣُﻄ َﻠ ُﻖ اﻟﻘﻮة .وﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ إن ﻛﺜريًا ﻣﻦ املﺒﺎدئ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ﻟﺪى اﻟﺮواﻗﻴني ﻳﺸﺒﻪ إﱃ ﺣَ ﱟﺪ ﻛﺒري ﻣﺒﺎدئ اﻷﺧﻼق املﺴﻴﺤﻴﺔ؛ ﺣﺘﻰ إن إﺣﺪى أﺳﺎﻃري اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ﺗﻘﻮل إﻧﻬﻤﺎ ﻗﺪ ﺻﺎرا ﺷﻴﺌًﺎ واﺣﺪًا. ً ﻗﺎﺑﻠﻴﺔ ملﺒﺎدئ اﻟﺪﻳﻦ املﺴﻴﺤﻲ ً ﻗﻴﺎﺳﺎ ﺑﺄي ﻣﺬﻫﺐ ﻓﻠﺴﻔﻲ ﻟﻘﺪ ﻛﺎن اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺮواﻗﻲ أﻛﺜﺮ آﺧﺮ .ﺻﺤﻴﺢ أن اﻟﺮواﻗﻴني ﻟﻢ ﻳﻌﺘﻘﺪوا أن اﻟﺮب ﻗﺪ ﺧﻠﻖ اﻟﻜﻮن ﻣﻦ اﻟﻌﺪم — ﻓﻬﺬه ﻣﺴﺄﻟﺔ ﺑﺎل أﺣﺪ ﻣﻦ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴني اﻟﻘﺪﻣﺎء ،ﺣﻴﺚ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺆﻣﻨﻮن ﺑﺄزﻟﻴﺔ اﻟﻜﻮن — وأن ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺗَ ِﺮ ُد ﻋﲆ ِ 350
اﻟ ﱡ ﻄﺮق اﻟﺜﻼث إﱃ ﱠ اﻟﺴﻜِﻴﻨﺔ :اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ واﻟﺮواﻗﻴﺔ واﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ
اﻵﻟﻬﺔ ﻟﻴﺴﻮا ﺳﻮى ﺟﺰء ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻜﻮن ،ﻛﻤﺎ أن اﻟﺘﻔﻜري املﺎدي اﻟﺮواﻗﻲ ﻻ ﻳﺴﻤﺢ ﺑﻔﻜﺮة وﺟﻮد أرواح ﺧﺎﻟﺪة .وﻟﻜﻨﻬﻢ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺮون أن اﻟﻜﻮن ﻣﻨﻈﻢ وﻣﺤﻜﻢ اﻟﺼﻨﻊ وﻳﻌﻤﻞ ً وﻓﻘﺎ ﻟﻌﻨﺎﻳﺔ إﻟﻬﻴﺔ ﺗﺮﻋَ ﻰ اﻹﻧﺴﺎن ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﺨﺼﻮص وﺗﺸﺠﻊ ﻋﲆ اﻟﺘﺤﲇ ﺑﺎﻷﺧﻼق اﻟﻘﻮﻳﻤﺔ. ري ﻣﻦ اﻟﻘﻮاﻋﺪ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ املﻤﻴﺰة ﰲ املﺴﻴﺤﻴﺔ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﺎت اﻟﺮواﻗﻴني وﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﻘﻊ ﻋﲆ ﻛﺜ ٍ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ،ﻓﻜﺎﻧﻮا ﻳﻘﻮﻟﻮن إن اﻟﺜﺮوة واملﻜﺎﻧﺔ واﻟﺴﻠﻄﺔ — ﺑﻞ وﺟﻤﻴﻊ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ ﻣﻦ ﺷﺄﻧﻬﺎ أن ﺗﻔﺮق ﺑني اﻟﺒﴩ — ﻻ ﻗﻴﻤﺔ ﻟﻬﺎ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق .ﻓﺠﻤﻴﻊ اﻟﻨﺎس ﺳﻮاﺳﻴﺔ أﻣﺎم اﻟﺮﻋﺎﻳﺔ اﻹﻟﻬﻴﺔ ،وﻻ ﻓﻀﻞ ﻷﺣﺪ ﻋﲆ اﻵﺧﺮ إﻻ ﺑﺎﻟﻔﻀﻴﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ ﻳُﻤﻜِﻦ ﻟﻠﺠﻤﻴﻊ اﻟﺘﺤﲇ ﺑﻬﺎ. وﻣﻦ ﻫﻨﺎ ﻛﺎن اﻟﺮواﻗﻴﻮن ﻳﺆﻣﻨﻮن ﺑﻔﻜﺮة اﻷﺧﻮة اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺘﺐ ﺳﻴﻨﻴﻜﺎ ً ﻗﺎﺋﻼ» :ﺟﻌﻠﺘﻨﺎ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻣﱰاﺑﻄني ﺑﺨﻠﻘﻨﺎ ﻣﻦ ﻣﺎدة واﺣﺪة وملﺼري واﺣﺪ ،وﻗﺪ ﻏﺮﺳﺖ ﻓﻴﻨﺎ ﻣﺸﺎﻋﺮ ﺣﺐ ﺗﺠﺎه ﺑﻌﻀﻨﺎ اﻟﺒﻌﺾ «.وﻫﺬا اﻟﺤﺐ ﻫﻮ أﺳﺎس اﻷﺧﻼق .وﻳﻘﻮل إﺑﻴﻜﺘﻴﺘﻮس إﻧﻪ ﻻ ﻳﺠﺐ أن ﺗﻌﺘﱪ ﻣﺼﺎﻟﺤﻚ ﻣﻨﻔﺼﻠﺔ ﻋﻦ ﻣﺼﺎﻟﺢ اﻵﺧﺮﻳﻦ. ﻟﻢ ﻳﻬﺘﻢ اﻟﻨﻈﺎم اﻟﺮواﻗﻲ ﻓﻘﻂ ﺑﺎﻹﻳﺜﺎر واﻟﺒﺬل ﻣﻦ أﺟﻞ اﻵﺧﺮﻳﻦ ،ﺑﻞ ﻗﺎم ﻋﲆ ﻓﻜﺮة زﻳﻒ اﻟﺤﻴﺎة وﻛﺬﺑﻬﺎ ،وﺷﺪﱠد ﻋﲆ أﻫﻤﻴﺔ دور اﻟﻀﻤري ﰲ إرﺷﺎد اﻟﻔﺮد .وأﻛﺪ إﺑﻴﻜﺘﻴﺘﻮس ﻛﺬﻟﻚ ﻋﲆ أﻫﻤﻴﺔ ﻧﻘﺎء اﻟﻘﻠﺐ؛ ﻓﻌﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل :إن ﻣﺮت ﻣﻦ ﺑني ﻳﺪﻳﻚ اﻣﺮأة ﻓﺎﺗﻨﺔ، ﻓﻴﻨﺒﻐﻲ ﱠأﻻ ﺗﺪع ﻟﻨﻔﺴﻚ املﺠﺎل ﻛﻲ ﺗﺤﺪﺛﻚ ﻗﺎﺋﻠﺔ» :ﻳﺎ ﻟﺤﻆ زوﺟﻬﺎ!« وﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﺗﺘﻨﺎﻏﻢ ﻣﻊ ﺗﺮاث املﻔﻜﺮﻳﻦ املﺴﻴﺤﻴني اﻷواﺋﻞ ﺷﺄﻧﻬﺎ ﺷﺄن اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺮواﻗﻴﺔ اﻷﺧﺮى، ﻛﻔﻜﺮة ﻛﺒﺖ اﻟﻌﻮاﻃﻒ اﻟﺠﺎﻣﺤﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺸﺘﺖ اﻹﻧﺴﺎن ﻋﻦ ﺣﻴﺎﺗﻪ اﻟﻬﺎدﺋﺔ. ً وﻗﺪ ﺷﺠﱠ ﻊ اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﻮن ﻛﺬﻟﻚ ﻓﻜﺮة اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻬﺎدﺋﺔ واﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ﻛﻤﺎ رأﻳﻨﺎ ﺳﻠﻔﺎ .وﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ،ﻛﺎن ﺟﻤﻴﻊ املﻔ ﱢﻜﺮﻳﻦ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴني ﻳﺴﻌَ ﻮْن ﺧﻠﻒ ﻫﺬه اﻟﻐﺎﻳﺔ )إﱃ اﻟﺪرﺟﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺠﻌﻠﻨﺎ ﻧﺘﺴﺎءَل إن ﻛﺎن أيﱞ ﻣﻨﻬﻢ ﻗﺪ ﻋﺎش ﻫﺬه اﻟﺤﻴﺎة ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ!( وﻟﻜﻦ رﻏﻢ أن اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻗﺪ أوﺣَ ْﺖ ﺑﻔﻜﺮة اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻬﺎدﺋﺔ ﺗﻠﻚ إﱃ اﻟﺮواﻗﻴني واﻷﺑﻴﻘﻮرﻳني ﻋﲆ ﺣَ ﱟﺪ ﺳﻮاء ،ﻓﺜﻤﺔ اﺧﺘﻼف ﺑني ﻣﻔﻬﻮم اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻟﺪى ﻛ ﱟﻞ ﻣﻦ اﻟﺮواﻗﻴني واﻷﺑﻴﻘﻮرﻳني .ﻓﺎﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺮواﻗﻴﺔ أو اﻟﺮب أو اﻟﻌﻨﺎﻳﺔ اﻹﻟﻬﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﻋﻘﻞ ﻳﺪﻳﺮ اﻟﻜﻮن ﻟﻐﺎﻳﺔ ﻣﺎ ،أﻣﺎ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻟﺪى اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳني ﻓﻜﺎﻧﺖ ﻛﺮﻳﻤﺔ ﺳﺨﻴﺔ ﻻ ﺗﻤﺎﻧﻊ ﰲ وﺟﻮد ﻗﻠﻴﻞ ﻣﻦ املﺘﻌﺔ ﴍﻳﻄﺔ ﻋﺪم اﻹﴎاف ﻓﻴﻬﺎ؛ ﺣﺘﻰ ﻻ ﻳﺤﻮل ذﻟﻚ دون ﻧﻴﻞ املﻠﺬﱠات اﻷﻛﺜﺮ رﻗﻴٍّﺎ واملﺘﻊ ﻃﻮﻳﻠﺔ اﻷﻣﺪ. وﻗﺪ ﻗﻴﻞ إن ُﻛ ٍّﻼ ﻣﻦ اﻟﺮواﻗﻴﺔ واﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ ﻳُﻼﺋﻢ ﻧﻮﻋني ﻣﺨﺘﻠﻔني ﻣﻦ اﻟﺸﺨﺼﻴﺎت: ﻓﻬﻨﺎك ﰲ ﻋﺎملﻨﺎ أوﻟﺌﻚ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺘﱠﺼﻔﻮن ﺑﺎﻟﺤﺰم واﻻﺳﺘﻘﺎﻣﺔ وﺿﺒﻂ اﻟﻨﻔﺲ واﻟﺸﺠﺎﻋﺔ ،اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺪﻓﻌﻬﻢ داﺋﻤً ﺎ اﻟﺸﻌﻮر ﺑﺎﻟﻮاﺟﺐ ﻓﻴﻘﺪﻣﻮن اﻟﺘﻀﺤﻴﺎت ،وﻻ 351
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻳﺘﺴﺎﻣﺤﻮن ﻣﻊ ﺿﻌﻒ اﻟﻨﻔﻮس ،وﻳﺘﻌﺎﻣﻠﻮن أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﺑﻘﺴﻮة ﻣﻊ املﺤﻴﻄني ﺑﻬﻢ، وﻳﺼﻌﺪون ﺟﺒﺎل اﻟﺒﻄﻮﻟﺔ اﻟﺸﺎﻫﻘﺔ ﺣﻴﺚ ﺗﺨﻀﻊ ﻟﻬﻢ اﻟﺮﻳﺎح ،وﻫﻢ ﻋﲆ اﺳﺘﻌﺪاد ﻟﱰك اﻟﺤﻴﺎة أﻛﺜﺮ ﻣﻦ اﺳﺘﻌﺪادﻫﻢ ﻟﻠﺘﺨﲇ ﻋﻦ اﻟﻘﻀﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺆﻣﻨﻮن ﺑﺼﺤﺘﻬﺎ. وﻋﲆ اﻟﺠﺎﻧﺐ اﻵﺧﺮ ،ﻫﻨﺎك داﺋﻤً ﺎ رﺟﺎل ﻳﺘﱠ ِﺴﻤﻮن ﺑﺎﻟﻮداﻋﺔ واﻋﺘﺪال املِ ﺰاج واﻟﻠﻄﻒ واﻟ ﱢ ﻄﻴﺒﺔ واﻟﻠني ،وﻳﺘﺤ ﱠﻠﻮْن ﺑﻤﺸﺎﻋﺮ اﻟﺼﺪاﻗﺔ اﻟﺤﺎرة .ﻓﻬﻢ ﻳﺘﺴﺎﻣﺤﻮن املﴪات ،وﻳﻤﻘﺘﻮن ﻣﻊ أﻋﺪاﺋﻬﻢ ﻛﻤﺎ أﻧﻬﻢ ﻋﲆ اﺳﺘﻌﺪاد داﺋﻢ ملﺸﺎرﻛﺔ اﻟﻐري ﰲ ﱠ اﻟﺤﻤﺎﺳﺔ واﻟﺘﺼﻮﱡف وأوﻫﺎم اﻟﻴﻮﺗﻮﺑﻴﺎ واﻟﺨﺮاﻓﺎت .وﺗﻔﺘﻘﺮ ﺷﺨﺼﻴﺎﺗﻬﻢ إﱃ اﻟﻌﻤﻖ وﺗُﻌﻮزﻫﻢ ﺧِ َ ﻳﺤﺮﺻﻮن ﺼﺎ ُل اﻟﺘﻀﺤﻴﺔ ﻣﻦ أﺟﻞ اﻵﺧﺮﻳﻦ .وﻟﻜﻨﻬﻢ ﻣﻊ ذﻟﻚ ِ ﻋﲆ إﺳﻌﺎد اﻵﺧﺮﻳﻦ ﻟﺘُﺼﺒﺢ اﻟﺤﻴﺎة أﻛﺜﺮ راﺣﺔ واﻧﺴﺠﺎﻣً ﺎ؛ ﻓﺎﻟﻨﻮع اﻷول ﻣﻦ اﻟﺮﺟﺎل رواﻗﻴﻮن ﺑﺎﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ،أﻣﺎ اﻟﻨﻮع اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻓﻬﻢ أﺑﻴﻘﻮرﻳﻮن. ﻫﺬه اﻷﻧﻤﺎط اﻟﺘﻲ و ُِﺿﻌَ ْﺖ أوﺻﺎﻓﻬﺎ ﰲ اﻟﻌﴫ اﻟﻔﻴﻜﺘﻮري ﺗﺠﻌﻞ ﻣﺤﺎوﻟﺔ اﻟﺘﻌ ﱡﺮف ﻋﲆ اﻟﺸﺨﺼﻴﺎت اﻟﺮواﻗﻴﺔ واﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ ﰲ ﻣﺤﻴﻂ ﺻﺪاﻗﺎت املﺮء ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ ﻟﻌﺒﺔ ﻣﺴﻠﻴﺔ .وﻫﺬه اﻟﺘﻮﺻﻴﻔﺎت ﺗﻠﻘﻲ اﻟﻀﻮء ﻋﲆ ﺟﺎﻧﺐ ﻣﻦ اﻟ ﱡﺮوح اﻟﺴﺎﺋﺪة ﰲ ﻫﺎﺗني اﻟﻔﻠﺴﻔﺘني ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﺗﻮﺻﻴﻔﺎت ﻣﻨﻤﱠ ﻘﺔ وﻧﻤﻄﻴﺔ ﺟﺪٍّا ﻟﺪرﺟﺔ ﻻ ﺗﻌﻄﻴﻨﺎ ﻓﻜﺮة ﻋﻦ ﺷﺨﺼﻴﺎت املﻔﻜﺮﻳﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﻴني اﻟﺬﻳﻦ ﻋﺎﺷﻮا ﻣﻨﺬ ٢٠٠٠ﻋﺎ ٍم؛ ﻓﻌﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﻻ ﺷﻚ أن ﻛﺒﺎر اﻟﺮواﻗﻴني ﻛﺎﻧﻮا ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻣﻦ ذوي اﻟﺸﺨﺼﻴﺎت اﻟﻄﻴﺒﺔ اﻟﺘﻲ ﺗُ َﻀﺤﱢ ﻲ ﻣﻦ أﺟﻞ اﻵﺧﺮﻳﻦ ،إﻻ أن ﺳﻴﻨﻴﻜﺎ اﻟﺬي ﺟﻤﻊ ﺛﺮو ًة ﻃﺎﺋﻠﺔ ﺗﺤﺖ رﻋﺎﻳﺔ ﻧريون ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻛﺬﻟﻚ؛ ﻓﻘﺪ ﻃﺎﻟﺐ ﻓﺠﺄة أﻋﻴﺎن اﻟﱪﻳﻄﺎﻧﻴني ﺑ َﺮ ﱢد َ ﻣﺒﺎﻟﻎ ﻃﺎﺋﻠﺔ ﻛﺎﻧﻮا ﻗﺪ اﻗﱰﺿﻮﻫﺎ )ﺑﻌﺪ أن ﻛﺎن ﻗﺪ ﺿﻐﻂ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻟﻘﺒﻮﻟﻬﺎ( ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻛﺎن أﺣﺪ أﺳﺒﺎب ﺛﻮرة املﻠﻜﺔ ﺑﻮدﻳﻜﺎ وﺗﻤ ﱡﺮدﻫﺎ اﻟﺸﻬري ﻋﲆ اﻟﺮوﻣﺎن ﻋﺎم ٦٠م .ﻓﻘﺪ داﻓﻊ ﺳﻴﻨﻴﻜﺎ ﰲ واﻗﻊ اﻷﻣﺮ ﻋﻦ اﻟﻨﻈﺮة اﻟﺮواﻗﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﺮى ﰲ اﻷﻏﻨﻴﺎء — ﺑﺎملﻌﻨﻰ اﻟﺪﻗﻴﻖ ﻟﻠﻜﻠﻤﺔ — ً ﺣﺮﻳﺼﺎ ﺻﻼﺣً ﺎ أو ﻓﻀﻴﻠﺔ ﺗُﺬﻛﺮ ﻷن اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ وﺣﺪﻫﺎ ﻫﻲ اﻟﻘﻴﻤﺔ اﻟﻌُ ﻈﻤﻰ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻛﺎن ﻋﲆ ﺗﻮﺿﻴﺢ أﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﺛﻤﺔ ﺳﺒﺐ ﻟﺸﻌﻮر اﻹﻧﺴﺎن ﺑﺎﻻﺳﺘﻴﺎء ﻣﻦ ﻛﻮﻧﻪ ﺛﺮﻳٍّﺎ — ﻋﲆ ﻏﺮار ﻛﺮوﻳﺴﻮس — ﻣﺎ دام ﻳﺪرك أن اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ﻫﻲ اﻟﻘﻴﻤﺔ اﻷﺳﻤﻰ ،ﺣﻴﺚ ﻳﻘﻮل ﺳﻴﻨﻴﻜﺎ ﺑﻜﻞ ً وأﻣﻮاﻻ ﻃﺎﺋﻠﺔ ،وﻟﻦ أﺷﻌﺮ أﻧﻨﻲ ازددت ﻣﻌﺸﺎ ًرا ﻣﻦ ﻓﺨﺮ» :ﺿﻊ ﺑني ﻳﺪيﱠ ﺛﺮوة ﺿﺨﻤﺔ اﻟﺴﻌﺎدة «.وﻟﻜﻨﻪ ﻳﻨﺼﺢ ﻛﺬﻟﻚ ﺑﻌﺪم اﻟﺘﻌﺠﱡ ﻞ ﰲ إﺻﺪار ﻫﺬا اﻟﺤﻜﻢ؛ وﻻ ﻳُﻔﻬﻢ ﻣﻦ ﺣﺪﻳﺜﻪ أن ﻋﲆ اﻹﻧﺴﺎن أن ﻳﺘﺨﲆ ﻋﻦ ﺛﺮوﺗﻪ ،إذ ﻣﺎ اﻟﺬي ﻗﺪ ﻳﺪﻓﻌﻪ ﻟﻬﺬا؟ واﻟﺴﺆال اﻟﺬي ﻳﻄﺮح ﻧﻔﺴﻪ ﻫﻮ ملﺎذا إذن ﻋﲆ ﺳﻴﻨﻴﻜﺎ أن ﻳﻨﺒﺬ اﻟﻐﻨﻰ إذا ﻛﺎن ﺑﺎﺳﺘﻄﺎﻋﺔ اﻹﻧﺴﺎن أن ﻳﻜﻮن ً ﻓﺎﺿﻼ ﺳﻮاء أﻛﺎن ﻏﻨﻴٍّﺎ أم ﻓﻘريًا؟ 352
اﻟ ﱡ ﻄﺮق اﻟﺜﻼث إﱃ ﱠ اﻟﺴﻜِﻴﻨﺔ :اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ واﻟﺮواﻗﻴﺔ واﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ
ﻣﺜﺎﻻ أﻛﺜﺮ ً ً ﻧﺒﻼ ﻋﲆ ذﻟﻚ ﻛﺎن ﻣﺎرﻛﻮس أورﻳﻠﻴﻮس — إذا ﻣﺎ ﻗﻮرن ﺑﺴﻴﻨﻴﻜﺎ — اﻟﺠﺎﻧﺐ اﻟﻄﻴﺐ واملﺘﺴﺎﻣﺢ اﻟﺬي ﺗﺘﺼﻒ ﺑﻪ اﻟﺮواﻗﻴﺔ ،ﺑﻞ إﻧﻪ ﻛﺎن ﰲ ﺑﻌﺾ اﻟﺠﻮاﻧﺐ ً أﻳﻀﺎ ً ﺷﺨﺼﺎ ﻧﻤﻮذﺟً ﺎ ﻃﻴﺒًﺎ ﻟﻠﺸﺨﺼﻴﺔ اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ ﺑﺸﻜﻞ ﻳﻔﻮق اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳني أﻧﻔﺴﻬﻢ؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ودودًا ﻃﻴﺒًﺎ ﻣﺘﺴﺎﻣﺤً ﺎ )ﻻ ﺳﻴﻤﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻜﻮﻧﻪ إﻣﱪاﻃﻮ ًرا( ﰲ ﺣني أن أﺑﻴﻘﻮر ﻧﻔﺴﻪ ﻟﻢ ً ً ﻟﻄﻴﻔﺎ ﺷﺨﺼﺎ ﻳﻜﻦ ﻳُﻤﺜﱢﻞ ﻧﻤﻂ اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ ﺗﻤﺎم اﻟﺘﻤﺜﻴﻞ .ﻓﺮﺑﻤﺎ ﻛﺎن أﺑﻴﻘﻮر و َ ﻃﻴﱢﻌً ﺎ ﺑني ﺗﻼﻣﻴﺬه وأﺻﺪﻗﺎﺋﻪ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻛﺎن ﴎﻳﻊ اﻟﻐﻀﺐ ﻣﻊ ﺧﺼﻮﻣﻪ ﻣﻦ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ، وﻛﺎﻧﺖ اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ املﺮﺣﺔ اﻟﻬﺎدﺋﺔ ﺗﻔﺎرﻗﻪ ﻋﻨﺪ ﺗﻨﺎول اﻷﻣﻮر اﻟﺠﺎدة؛ ﻓﻜﺎن ﻳَﻌُ ﱡﺪ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻵﺧﺮﻳﻦ ﺧﺼﻮﻣً ﺎ ﻟﻪ ،ﺑﻞ ﻛﺎن ً ﺟﻠﻔﺎ ﻏﻠﻴ ً ﻈﺎ ﺗﺠﺎه ﻫﺆﻻء اﻟﺬﻳﻦ ﺗﻌ ﱠﻠﻢ ﻣﻨﻬﻢ اﻟﻜﺜري ﻋﲆ ﻏﺮار دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ. وإذا وﺟﺪ اﻟﺮواﻗﻴﻮن واﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﻮن ﺻﻌﻮﺑﺔ ﰲ اﻟﻌﻴﺶ ً وﻓﻘﺎ ﻟﻔﻠﺴﻔﺎﺗﻬﻢ ،ﻓﻼ ﺑﺪ أن اﻟﺸﻜﻮﻛﻴني رأَوُا اﺳﺘﺤﺎﻟﺔ اﻻﻟﺘﺰام ﺑﻔﻠﺴﻔﺘﻬﻢ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ .ﻓﻜﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻺﻧﺴﺎن أن ﻳ َُﺸ ﱠﻚ ُﺤﺠﻢ ﻋﻦ إﺻﺪار ﰲ ﻛﻞ أﻣﺮ وﻳَﺪﱠﻋِ ﻲ أﻧﻪ ﺣﺎﺋﺮ وﻣﺮﺗﺒﻚ ﺑﺸﺄن ﻛﻞ ﳾء؟ وﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳ ِ اﻷﺣﻜﺎم ﻋﲆ ﺟﻤﻴﻊ املﺴﺎﺋﻞ وأن ﻳﻌﻴﺶ ﻣﺘﺨﻠﻴًﺎ ﻋﻦ ﻛﺎﻓﺔ املﻌﺘﻘﺪات؟ ﺑﻞ ملﺎذا ﻗﺪ ﻳﺮﻏﺐ أي إﻧﺴﺎن ﰲ ﻫﺬا؟ ﻇﻬﺮت املﺪرﺳﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ ﻋﲆ ﻳَ ِﺪ ﺑريو اﻹﻳﲇ اﻟﺬي ﻳﺴﺒﻖ ﻣﻮﻟﺪه ﻣﻮﻟﺪ أﺑﻴﻘﻮر ﺑﻌﴩﻳﻦ ﻋﺎﻣً ﺎ ،ﻣﻊ أن وﻓﺎﺗﻪ ﺗﺘﺰاﻣﻦ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ﻣﻊ وﻓﺎة أﺑﻴﻘﻮر )ﺣﻮاﱄ ﻋﺎم ٢٧٠ق.م( .وﻣﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ أن ﻳ َِﺼ َﻞ إﻟﻴﻨﺎ اﻟﻘﻠﻴ ُﻞ ﻋﻦ إﻧﺴﺎن ﻳَﺪﱠﻋِ ﻲ ﻋﺪم ﻣﻌﺮﻓﺔ ﳾء ،ﻓﻠﻢ ﻳُﺪوﱢن اﻟﻜﺘﺎﺑﺎت واﻟﻨﺼﻮص اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ ﺳﻮى ﺳﻴﻜﺴﺘﻮس إﻣﺒريﻳﻜﻮس اﻟﺬي ﻋﺎش إﺑﺎن اﻟﻘﺮﻧني اﻟﺜﺎﻧﻲ واﻟﺜﺎﻟﺚ املﻴﻼدﻳني ﺑﻌﺪ ٥٠٠ﻋﺎم ﻣﻦ وﻓﺎة ﺑريو؛ أي ﺑﻌﺪ اﻧﺘﻬﺎء اﻟﺤﻘﺒﺔ اﻟﻬﻴﻠﻴﻨﺴﺘﻴﺔ .وﻟﻜﻦ ﺣﺎﻓﻈﺖ اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ رﻏﻢ ﻣﺮور ﻫﺬه اﻟﻔﱰة اﻟﻄﻮﻳﻠﺔ ﻋﲆ روﻧﻘﻬﺎ اﻟﻬﻴﻠﻴﻨﺴﺘﻲ. وﻛﺎﻧﺖ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ ﻓﻠﺴﻔﺔ ﺣﻴﺎة ﺗﻬﺪف ﻟﻠﻮﺻﻮل إﱃ ﺣﺎﻟﺔ اﻟﺘﺤ ﱡﺮر ﻣﻦ اﻟﺤﺰن ،ﻣﻦ ﺧﻼل إرﺷﺎد اﻟﻨﺎس إﱃ ﻣﺎ ﻳﺠﺐ ﻋﺪم اﻻﻛﱰاث ﺑﻪ ،وﻳﻘﺎل إن اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ اﺣﺘﻔﻈﺖ ﺑﺘﺄﺛري ﺑريو ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺣﺘﻰ ﰲ أﻃﻮارﻫﺎ املﺘﺄﺧﺮة واﻷﻛﺜﺮ ﻧﻀﺠً ﺎ. أﻣﺎ ﺑريو ﻧﻔﺴﻪ ﻓﻠﻢ ﻳﻜﺘﺐ ﺷﻴﺌًﺎ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻛﺎن ذا ﺗﺄﺛري ﻛﺒري ﻋﲆ ﻣﻌﺎﴏﻳﻪ ﰲ أﺛﻴﻨﺎ. وﻳﺸﻬﺪ ﻋﲆ ذﻟﻚ ﻣﺎ ﻳُﺮوى ﰲ اﻟﺤﻜﺎﻳﺎت املﻌﻬﻮدة اﻟﺘﻲ ﺗﻐﻴﺐ ﻋﻨﻬﺎ املﻮﺿﻮﻋﻴﺔ واملﻌﻘﻮﻟﻴﺔ؛ ﺣﻴﺚ رﻛﺰت ﻫﺬه اﻟﺤﻜﺎﻳﺎت ﺑﺸﻜﻞ ﻛﺒري ﻋﲆ ﺗﻄ ﱡﺮﻓﻪ املﺰﻋﻮم ﰲ ﺣﺐ اﻟﻌﺰﻟﺔ واﻻﻧﺰواء: »ﻛﺎن داﺋﻤً ﺎ ﰲ ﻧﻔﺲ اﻟﺤﺎﻟﺔ اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ؛ ﻟﺪرﺟﺔ أﻧﻪ إذا ﺗﺮﻛﻪ ﺷﺨﺺ ﰲ ﻣﻨﺘﺼﻒ ﺣﻮاره 353
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﺑريو.
ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺴﺘﻜﻤﻞ اﻟﺤﻮار ﻣﻊ ﻧﻔﺴﻪ «.وإذا وﻗﻊ ﺻﺪﻳﻖ ﰲ ﺣﻔﺮة ﻣﺎ ،ﻛﺎن ﺑريو ﻳﻤﺮ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﺮور اﻟﻜﺮام دون أن ﻳﻠﺘﻔﺖ إﻟﻴﻪ أو ﻳﻌريه أدﻧﻰ اﻫﺘﻤﺎم .وﻧﻈ ًﺮا ﻷن ﻫﺬا اﻟﺼﺪﻳﻖ ﻳﺘﺒﻊ ﻣﺬﻫﺐ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ ﻧﻔﺴﻪ ،ﻓﻜﺎن ﻳﺜﻨﻲ ﻋﲆ ﺳﻠﻮك ﺑريو اﻟﺬي ﻟﻢ ﻳُﻌ ﱢﻜﺮ اﻟﺤﺎدث ﺻﻔﻮ ﻣﺰاﺟﻪ. وﺗﺤﻜﻲ ﻗﺼﺔ أﺧﺮى أن ﺑريو ﺗﺠﺎﻫﻞ ﺟﻤﻴﻊ املﺨﺎﻃﺮ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﱰدﱠد ﰲ وﻗﺘﻪ ﻷﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﺸﻚ ﰲ ﺧﻄﻮرﺗﻬﺎ» ،ﻛﺎن ﻻ ﻳﺘﺠﻨﺐ ﺷﻴﺌًﺎ وﻻ ﻳﺄﺧﺬ ﺣﺬره ﻣﻦ أي أﻣﺮ ،وﻛﺎن ﻳﻮاﺟﻪ ﻛﻞ أﻣﺮ ﻛﻴﻔﻤﺎ ﺟﺎءه وأﻳٍّﺎ ﻛﺎن ،ﺳﻮاء أﻛﺎن ﻋﺮﺑﺎت ﺗﴪي ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻖ أو ﻣﻨﺤﺪرات أو ﻛﻼﺑًﺎ ﺗﻤﺮ ﺑﻪ«. وﻟﻜﻦ ﻟﺤﺴﻦ ﺣﻈﻪ ﻛﺎن داﺋﻤً ﺎ ﰲ ﺻﺤﺒﺔ أﺻﺪﻗﺎﺋﻪ اﻟﺬﻳﻦ ﻟﻢ ﻳﻜﻮﻧﻮا ﻋﲆ ﻧﻔﺲ اﻟﺪرﺟﺔ ﻣﻦ ﻋﺪم اﻻﻛﱰاث؛ وﺑﺬﻟﻚ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻌﺘﻨﻮن ﺑﻪ ﻓﻴﺠﺬﺑﻮﻧﻪ ﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻦ اﻟﻌﺮﺑﺎت واملﺮﻛﺒﺎت اﻟﻘﺎدﻣﺔ ﺗﺠﺎﻫﻪ .وﻻ ﺷﻚ أن ﻣﻬﻤﺘﻬﻢ ﻛﺎﻧﺖ ﺻﻌﺒﺔ؛ ﻷﻧﻪ ﻛﺎن »ﻛﺜري … اﻟﺨﺮوج ﻣﻦ ﺑﻴﺘﻪ دون إﺧﺒﺎر ً وﻣﺘﺠﻮﻻ ﻣﻊ أي ﺷﺨﺺ ﻳﺼﺎدﻓﻪ ﰲ ﻃﺮﻳﻘﻪ«. أﺣﺪ ،ﻫﺎﺋﻤً ﺎ ﻋﲆ وﺟﻬﻪ دون ﻫﺪف، ﻗﺎم أﺣﺪ املﺪاﻓﻌني ﻋﻨﻪ ﺑﻌﺪ ﻣﺮور ﻗﺮﻧني ﻋﲆ وﻓﺎﺗﻪ ﺑﻨﻔﻲ ﻛﻞ ﻫﺬه اﻟﻘﺼﺺ ،وﻗﺎل إﻧﻪ ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن ﺑريو ﻗﺪ ﻣﺎرس اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻋﲆ أﺳﺎس اﻟﺸﻚ ﰲ ﻛﻞ ﳾء ،ﻓﺈﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻤﺎرس 354
اﻟ ﱡ ﻄﺮق اﻟﺜﻼث إﱃ ﱠ اﻟﺴﻜِﻴﻨﺔ :اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ واﻟﺮواﻗﻴﺔ واﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ
ﻋﺪم اﻻﻛﱰاث ﰲ ﺗﻔﺎﺻﻴﻞ ﺣﻴﺎﺗﻪ اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ .وﻣﻦ املﺆﻛﺪ أن ﻫﺬه ﻫﻲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ؛ ﻓﺮﺑﻤﺎ ﻛﺎن ﺑريو ﺷﺪﻳﺪ اﻟﻬﺪوء ﻣﺎ ﺟﻌﻞ أﺑﻴﻘﻮر ﻳُﺜﻨﻲ ﻋﲆ ﻫﺪوﺋﻪ وﺳﻜﻴﻨﺘﻪ ،ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﺜري اﻹﻋﺠﺎب ﻟﻘﺪرﺗﻪ »ﻋﲆ ﺗﻔﻨﻴﺪ ﻛﻞ اﻟﺤﺠﺞ واﻷﺳﺎﻟﻴﺐ اﻹﻗﻨﺎﻋﻴﺔ« .ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺑريو أﺣﻤﻖ ﻛﻤﺎ ﺗﺮﺳﻤﻪ ﻫﺬه اﻟﻘﺼﺺ ،ﻓﻘﺪ ﻋﺎش ﺣﺘﻰ ﻗﺎرب ﻋﻤ ُﺮه اﻟﺘﺴﻌني وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳُﻠﻘﻲ ﺑﻈﻼل اﻟﺸﻚ ﻋﲆ اﻟﻘﺼﺺ اﻟﺘﻲ ُر ِوﻳ َْﺖ ﻋﻦ ﺗﻬﻮﱡره .إﻻ أﻧﻨﺎ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﻠﻮم أﺣﺎدﻳﺚ اﻟﺴﺨﺮﻳﺔ واﻟﺘﻬ ﱡﻜﻢ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ املﺤري ٍّ ً ﱢ ﺣﻘﺎ ﻫﻮ أن اﻟﻘﺼﺺ اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺎوﻟﺖ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﺑﺸﻜﻞ اﺗﱠ َﺴﻢ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻣﻨﻄﻘﻴﺔ ﻟﻔﻠﺴﻔﺘﻪ .أﻣﺎ ﺑﺎﻟﺠ ﱢﺪﻳﱠﺔ ﺗﺤﻜﻲ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﺤﺚ اﻟﻨﺎس ﻋﲆ ﻋﺪم اﻻﻟﺘﺰام ﺑﺮأي واﺣﺪ أو اﻟﺜﺒﺎت ﻋﻠﻴﻪ ،وﻛﺎن ِ ﻳﺤﺬرﻫﻢ ﻣﻦ ﻓﻜﺮة ادﱢﻋﺎء ﻣﻌﺮﻓﺔ أي ﳾء .وﻗﺪ ﻋﺮض ﻟﻮﻗﻴﺎن ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻧﻲ املﻴﻼدي ﰲ ﻛﺘﺎﺑﻪ اﻟﺴﺎﺧﺮ »ﺑﻴﻊ اﻟﺤﻴﻮات« ﻓﻜﺮ َة ﺑﻴﻊ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﰲ اﻟﺴﻮق ،ووﺿﻊ ﺳﻌ ًﺮا ً ﺿﺌﻴﻼ ﻟﺪﻳﻮﺟني اﻟﻜﻠﺒﻲ ﻛﺴﻌﺮ ﺣﻴﻮان ﻣﻨﺰﱄ ،وأﻣﺎ ﻋﻦ ﻫﺮﻗﻠﻴﻄﺲ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف اﻟﻐﺎﻣﺾ ﻓﻘﺎل إﻧﻪ ﻻ ﻳُﺒﺎع أﺑﺪًا ﺣﺘﻰ ﺑﺄﺑﺨﺲ اﻷﺳﻌﺎر ،أﻣﺎ ﺑريو ﻓﻘﺪ ﺻﻮﱠره وﻫﻮ ﻳﺸﻚ ﰲ أﻣﺮ ﺑﻴﻌﻪ ً ﻣﺤﻤﻮﻻ ﻋﲆ ﻇﻬﺮ ﺷﺎرﻳﻪ. رﻏﻢ أﻧﻪ ﻛﺎن ﺑﺪت اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ املﺘﻄ ﱢﺮﻓﺔ ﻓﻜﺮ ًة ﻏﺎﻳﺔ ﰲ اﻟﻐﺮاﺑﺔ؛ ﻟﺪرﺟﺔ ﺟﻌﻠﺖ اﻟﺒﻌﺾ ﻳﻈﻦ أﻧﻬﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﻳﻮﻧﺎﻧﻴﺔ اﻷﺻﻞ .ﻓﻼ ﺷﻚ أن ﺑريو ﺻﺎﺣَ ﺐَ اﻹﺳﻜﻨﺪر اﻷﻛﱪ ﰲ رﺣﻼﺗﻪ إﱃ اﻟﴩق ﺣﺘﻰ وﺻﻞ اﻟﻬﻨﺪ اﻟﺘﻲ ﻳﻘﺎل إﻧﻪ ﻗﺪ اﻛﺘﺴﺐ ﻗﺪ ًرا ﻣﻦ ﺷﻜﻮﻛﻴﺔ ﻣﻦ ﻛﺎن ﻳﻄﻠﻖ ﻋﻠﻴﻬﻢ »اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﻌﺮاة« اﻟﺬﻳﻦ ﻗﺎﺑﻠﻬﻢ ﻫﻨﺎﻟﻚ .وﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻧ َ ِﺠ ُﺪ أن ﺛَﻤﱠ َﺔ ﺧﻴ ً ﻄﺎ ﻳﺠﻤﻊ ﺑني ﻋﻴﺶ ﻫﺆﻻء اﻟﻬﻨﻮد وﻧﻤﻂ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺬي ﻳُﺰ ﱢﻛﻴﻪ ﺑريو .واﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﻌُ ﺮاة ﻫﻢ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻧﻤﻂ ِ ﻣﻦ اﻟﺤﻜﻤﺎء اﻟﺰاﻫﺪﻳﻦ ،ﻳﺘﺒﻌﻮن دﻳﺎﻧﺔ »ﺟني« — وﻫﻲ ﻓﺮع ﻣﻦ اﻟﻬﻨﺪوﺳﻴﺔ اﺧﺘﻠﻄﺖ ﺑﻪ ﺑﻌﺾ اﻟﻬﺮﻃﻘﺎت — وﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ ﺗَﻌُ ﱡﺪ اﻟﻄﻌﺎم واملﻼﺑﺲ ﻣﻦ ﻣﻌﻮﱢﻗﺎت اﻟﺘﻔﻜري اﻟﺴﻠﻴﻢ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻌﻴﺸﻮن ﰲ اﻟﻐﺎﺑﺎت داﺋﻤً ﺎ ﻓﺮا ًرا ﻣﻦ اﻟﻄﻌﺎم واملﻼﺑﺲ ،وﻟﻢ ﻳَ َﺮوْا ﻴﺶ )ورﺑﻤﺎ ﻟﻬﺬا اﻟﺴﺒﺐ ﻏﻀﺎﺿﺔ ﰲ أن ﺗﺘﻨﺎﻗﺾ أﻗﻮال ا َملﺮءِ ﻋﻨﺪ وﺻﻔﻪ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ اﻟﻴﻮﻣﻲ ا َملﻌِ ِ َﺧ َﻔ َﺖ ﺗﺄﺛريﻫﻢ ﻋﲆ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻬﻨﺪﻳﺔ ﺑﺸﺪة(؛ وذﻟﻚ ﻻﻋﺘﻘﺎدﻫﻢ أن اﻟﻌﺒﺎرات اﻟﻌﺎﺑﺮة اﻟﺘﻲ ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻬﺎ اﻟﻨﺎس ﺗﺤﺘﻤﻞ ﱢ اﻟﺼﺤﱠ َﺔ ﰲ ﺑﻌﺾ اﻟﺤﺎﻻت واﻟﻜﺬب ﰲ ﺣﺎﻻت أﺧﺮى .ﻛﻤﺎ َرأَوْا ﺑﻤﻜﺎن ﺗﻘﻠﻴﺺ اﻷﺛﺮ اﻟﺬي ﺗﻠﻌﺒﻪ اﻟﺤﻮاس ﻋﲆ اﻟ ﱡﺮوح ،وﻗﺎﻟﻮا إﻧﻪ ﻻ ﻳﻨﺒﻐﻲ أﻧﻪ ﻣﻦ اﻷﻫﻤﻴﺔ ٍ ﻟﻺﻧﺴﺎن أن ﻳﻌﺒﺄ ﺑﻤﺸﺎﻋﺮ اﻟﺠﻮع أو اﻷﻟﻢ ،وﻋﻠﻴﻪ ﻛﺬﻟﻚ أﻻ ﻳُﻌَ ﱢﻮ َل ﻋﲆ ﻛﺜري ﻣﻤﱠ ﺎ ﻳﺴﻤﻊ أو ﻳﺮى .وﻛﺎﻧﻮا ﻳﺮون أن اﻟﻘﺪﻳﺲ املﺜﺎﱄ ﻫﻮ ذﻟﻚ اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺬي ُ ﻳﺄﺧﺬُ ﻋﲆ ﻋﺎﺗﻘﻪ ﻫﺬه املﻬﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻳﺼﻞ ﺑﻬﺎ إﱃ أﻋﲆ درﺟﺎت اﻹﺗﻘﺎن ،ﻓﻴﺤﻘﻖ اﻟﺴﻜﻴﻨﺔ واﻟﺼﻔﺎء واﻟﻄﻤﺄﻧﻴﻨﺔ. 355
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
وﻋﻨﺪ اﻟﻨﻈﺮ إﱃ ﺑﻌﺾ ﺗﻌﺎﻟﻴﻢ ﺑريو ﻧﺠﺪ أﻧﻬﺎ ﺗﺒﺪو ﺷﺒﻴﻬﺔ ﺑﺬﻟﻚ إﱃ ﺣَ ﱟﺪ ﺑﻌﻴﺪ: ﱢ ﺣﻮاﺳﻨَﺎ أو اﻻﻋﺘﻤﺎد ﻋﲆ آراﺋﻨﺎ ﰲ اﻟﺘﻔﺮﻳﻖ ﺑني اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻻ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻟﻨﺎ اﻟﻮﺛﻮق ﰲ واﻟﻜﺬب ،ﻓﻼ ﻳﻤﻜﻨﻬﻤﺎ أن ﻳﺮﺷﺪاﻧﺎ إﱃ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ،ﺑﻞ ﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﺘﺠﺮد ﻣﻦ اﻵراء وﻧﺘﺤﺮر ﻣﻦ اﻻﻧﺤﻴﺎز وأﻻ ﻧﺴﺘﻘﺮ ﻋﲆ أﻣﺮ واﺣﺪ ﺑﺨﺼﻮص ﳾءٍ ﻣﺎ ،ﺳﻮاء ﺑﺎﻹﺛﺒﺎت أو اﻟﻨﻔﻲ ،وﺳﻴﻤﺘﻨﻊ ﻛ ﱡﻞ ﻣﻦ ﻳﺄﺧﺬ ﺑﻬﺬه اﻟﻨﺼﻴﺤﺔ وﻳﻠﺘﺰم ﺑﻬﺎ ﻋﻦ اﻟﻜﻼ ِم ﺑﺼﻔﺔ داﺋﻤﺔ؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﺳﻴﺘﺤﺮر ﻣﻦ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﺠﻠﺐ ﻟﻪ اﻻﻧﺰﻋﺎج أو اﻟﴬر. ورﻏﻢ أن ﻓﻼﺳﻔﺔ اﻟﻬﻨﺪ اﻟﻌﺮاة »ﺗﺤﺮروا ﻣﻦ اﻵراء واﻻﻧﺤﻴﺎز« ﰲ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ املﻮﺿﻮﻋﺎت، ﻓﺈﻧﻬﻢ ﻛﺎﻧﻮا ﺟﺎﻣﺪي اﻟﻔﻜﺮ ﻣﺘﻌﺼﺒني ﺑﺸﺄن املﺴﺎﺋﻞ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ واﻟﻜﻮﻧﻴﺔ ،ﻟﻠﺪرﺟﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﺠﻌﻠﻬﻢ ﻳﺪﺧﻠﻮن ﰲ ﻋﺪاد اﻟﺸﻜﻮﻛﻴني ﻋﲆ اﻟﻨﺤﻮ اﻟﺬي ﻳﺘﻔﻖ ﻣﻊ اﻟﺪﻻﻟﺔ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ ﻟﻠﻜﻠﻤﺔ. ﻓﻘﺪ ادﱠﻋَ ﻮْا ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻷﻣﻮر ﻛﺎن ﻣﻨﻬﺎ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﻫﺠﺮة اﻟﺮوح ﺑﻌﺪ املﻮت، وﻣﻨﻬﺎ أن اﻟﻜﻮن أزﱄ وﻏري ﻣﺨﻠﻮق ،وأن ﻛﻞ اﻷﺷﻴﺎء ﺗﺤﻴَﺎ ﺣﺎﻣﻠﺔ ً ﻗﺒﺴﺎ إﻟﻬﻴٍّﺎ ﺑﺪاﺧﻠﻬﺎ، وﻏريﻫﺎ ﻣﻦ اﻷﻣﻮر اﻟﺘﻲ ﻳﴫ اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﻋﲆ ﺗﻘﺒﱡﻞ ﺟﻤﻴﻊ اﻵراء ﺑﺸﺄﻧﻬﺎ. وﻟﻴﺲ ﻋﲆ املﺮءِ اﻟﺬﱠ َﻫﺎبُ إﱃ اﻟﻬﻨﺪ ﻛﻲ ﻳﺘﺘﺒﻊ آراء اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ؛ ﻓﻜﺎن ﻟﺪى اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﻓﻼﺳﻔﺔ اﻟﻴﻮﻧﺎن ﻣﻴﻮل ﺷﻜﻮﻛﻴﺔ ﻋﺪﻳﺪة ﺗﻤﺜﱠﻠﺖ ﰲ إﺧﻀﺎﻋﻬﻢ ﻛﻞ املﻌﺘﻘﺪات اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ اﻟﺸﺎﺋﻌﺔ ﻟﺴﻠﻄﺎن اﻟﺒﺤﺚ .ﻓﻔﻲ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎدس ﻗﺒﻞ املﻴﻼد ،ﻗﺎل زﻳﻨﻮﻓﺎن» :ﻻ ﻳﺪرك أﺣﺪٌ ،وﻟﻦ ﻳﺪرك َ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺑﺸﺄن اﻵﻟﻬﺔ أو ﺑﺸﺄن ﻣﺎ أﻗﻮل ،ﺣﺘﻰ ﻟﻮ ﺗﺒني ﻟﻪ ﺻﺤﺔ ﻣﺎ ﻳﻘﻮل؛ أﺣ ٌﺪ أﺑﺪًا، ﻓﻠﻴﺲ ﻟﻪ أن ﻳﺪرك ذﻟﻚ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﻴﻘني ،ﻓﺎﻷﻣﺮ ﻻ ﻳﻌﺪو ﻛﻮﻧﻪ ﻣﺠﺮد رأي«. وﻗﺪ ﻻﺣﻆ زﻳﻨﻮﻓﺎن أن اﻟﺸﻌﻮب املﺨﺘﻠﻔﺔ ﺗﺼﻒ اﻵﻟﻬﺔ ً وﻓﻘﺎ ﻟﺮؤﻳﺘﻬﺎ وﺧﻴﺎﻟﻬﺎ» ،ﻳﻈﻦ أﻫﻞ إﺛﻴﻮﺑﻴﺎ أن آﻟﻬﺘﻬﻢ ﻟﻬﺎ أﻧﻮف ﻓﻄﺴﺎء وﺑﴩة ﺳﻮداء ،وأﻣﺎ أﻫﻞ ﺗﺮاﻗﻴﺎ ﻓﻴﻈﻨﻮن أن آﻟﻬﺘﻬﻢ ﻟﻬﺎ ﻋﻴﻮن زرﻗﺎء وﺷﻌﻮر ﺣﻤﺮاء «.وﻣﺎ ﻫﺬه ﺳﻮى ﺗﺬﻛﺮة ﺑﻌﺪم ﻋﺼﻤﺔ املﻌﺘﻘﺪات اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺆﻣﻦ ﺑﻬﺎ اﻟﻨﺎس؛ إذ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺑﺎﻟﺒﺪﻳﻬﺔ أن ﺗﺼﺢ ﻣﻌﺘﻘﺪات أﻫﻞ إﺛﻴﻮﺑﻴﺎ وأﻫﻞ ﺗﺮاﻗﻴﺎ ﰲ ﻧﻔﺲ اﻟﻮﻗﺖ .وﻗﺪ ﻣﻬﱠ ﺪ ﻛ ﱞﻞ ﻣﻦ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس وزﻳﻨﻮن املﺠﺎل ﻟﻈﻬﻮر اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ؛ ﻓﻘﺪ ﻗﺎل ﻛ ﱞﻞ ﻣﻨﻬﻤﺎ إن املﻌﺘﻘﺪات اﻟﻌﺎدﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﻳُﺆﻣِﻦ ﺑﻬﺎ اﻟﻨﺎس ﺑﺸﺄن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻏري ﺻﺤﻴﺤﺔ، ﻓﺮﻏﻢ أن اﻟﺠﻤﻴﻊ ﻛﺎن ﻳ ُ ﱡ واﻟﺘﻐري ﻓﺈن ﺷﻴﺌًﺎ ﻟﻢ ﻳﺘﻐري وﻇﻞ ﻈﻦ أن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻣﲇء ﺑﺎﻟﺤﺮﻛﺔ ﻛﻞ ﳾء ﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﻋﲆ ﺣﺎﻟﻪ .وﻗﺪ دﻓﻌﺖ ﻫﺬه اﻟﻌﻘﻴﺪة اﻟﺮاﺳﺨﺔ ﺑﺘﻴﻤﻮن اﻟﻔﻴﻠﻴﺎﳼ — وﻫﻮ ﻣﻦ أﺷﺪ املﺆﻣﻨني ﺑﺸﻜﻮﻛﻴﺔ ﺑريو — إﱃ ﻣﺪﻳﺢ أﻫﻞ إﻳﻠﻴﺎ؛ ﻷﻧﻬﻢ ﻛﺸﻔﻮا اﻟﻐِ ﻄﺎء ﻋﻦ زﻳﻒ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﻈﻮاﻫﺮ اﻟﺘﻲ ﻧﻘﺎﺑﻠﻬﺎ ﰲ ﻋﺎملﻨﺎ) .وﻗﺪ َ ﺻﺐﱠ ﺗﻴﻤﻮن ﺟﺎم ﻧﻘﺪِه ﻋﲆ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﺬﻳﻦ 356
اﻟ ﱡ ﻄﺮق اﻟﺜﻼث إﱃ ﱠ اﻟﺴﻜِﻴﻨﺔ :اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ واﻟﺮواﻗﻴﺔ واﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ
ﻟﻢ ﺗﺘﻮاﻓﻖ رؤﻳﺘﻬﻢ واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ ﺑﻌﺪﻣﺎ ﻧﻌﺘﻬﻢ ﺑﺎﻟﺜﺮﺛﺮة واﻟﻬﺬر ،وﻗﺎل إن ﻣﺆﺳﺲ اﻟﺮواﻗﻴﺔ اﻟﺬي ﻟﻢ ﻳﱰُك ﻣﺬﻫﺒًﺎ ﻣﻦ املﺬاﻫﺐ إﻻ واﻋﺘﻨﻘﻪ ﻛﺎن أﻗﻞ ذﻛﺎءً ﻣﻦ آﻟﺔ اﻟﺒﺎﻧﺠﻮ(. وﻟﻠﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني دور ﻛﺬﻟﻚ ﰲ اﻟﺘﻤﻬﻴﺪ ﻟﻈﻬﻮر اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ ﻣﻦ ﺧﻼل ﻫﺪﻣﻬﻢ ﻟﻸﺳﺲ اﻟﺘﻲ اﻧﺒﻨﺖ ﻋﻠﻴﻬﺎ آراء اﻟﻌﻮا ﱢم ﻣﻦ اﻟﻨﺎس .ﺣﻴﺚ اﺷﺘﻬﺮ ﻋﻨﻬﻢ ﺗﺒﻨﱢﻴﻬﻢ ﻟﻨﻈﺮة ﻧﺴﺒﻴﺔ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺨﺺ ﻣﺴﺎﺋﻞ اﻷﺧﻼق واﻟﺴﻴﺎﺳﺔ؛ ﻓريون أن ﻟﻜﻞ ﻣﺠﺘﻤﻊ ﻗﻴﻤَ ﻪ اﻟﺨﺎﺻﺔ وأﻧﻪ ﻣﻦ اﻟﺴﺬاﺟﺔ ﺑﻤﻜﺎن أن ﻳ ُ ﻣﺠﺘﻤﻊ ﻣﺎ ﻫﻲ اﻟﺼﺤﻴﺤﺔ وﻣﺎ ﻋﺪاﻫﺎ ﺧﻄﺄ .وﻗﺪ ﺛﺎر ﻈ ﱠﻦ ﺷﺨﺺ أن ﻗﻴﻢ ٍ ٍ ﺑﻌﺾ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني — ﻣﻦ أﻣﺜﺎل ﺑﺮوﺗﺎﺟﻮراس — ﻋﲆ اﻟﻜﻢ اﻟﻬﺎﺋﻞ ﻣﻦ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻟﺘﻲ دارت ﺣﻮل رؤﻳﺔ اﻟﻌﺎﻟﻢ واﻷﺧﻼق ،ﺣﻴﺚ ﻋﺎرﺿﻮا ﺗﻠﻚ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت ﻣﺆ ﱢﻛﺪِﻳﻦ أن ﻣﻌﺘﻘﺪات ﻛﻞ ﺷﺨﺺ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻜﻮن ﺻﺤﻴﺤﺔ وﻣﻨﺎﺳﺒﺔ إﻻ ﻟﻨﻔﺴﻪ ﻓﺤﺴﺐ ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻌﻨﻲ أن املﻌﺮﻓﺔ َ ﺣﻘﺎﺋﻖ واﻗﻌﻴﺔ ﺗﺤﺪد ُﻛﻨ َﻪ اﻷﺷﻴﺎء؛ املﺠ ﱠﺮدة أﻣﺮ ﻣﺴﺘﺤﻴﻞ ،ﻓﻠﻴﺲ ﺑﺎﻟﻮﺳﻊ اﻻﺳﺘﻘﺮار ﻋﲆ ﻷن ﻛﻞ اﻋﺘﻘﺎد ﻗﺪﻳﻢ ﻻ ﻳﺨﺘﻠﻒ ﻛﺜريًا ﻋﻦ ﻏريهَ . وﻧﻔﻰ زﻳﻨﻴﺎدس اﻟﻜﻮرﻳﻨﺜﻲ )اﻟﺬي ﻋﺎش إﺑﺎن ﻋﴫ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس( وﺟﻮد أي ﳾء ﺣﻘﻴﻘﻲ .وﺗﺒﺪو ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﻋﲆ ﻧﻘﻴﺾ ﻓﻜﺮة ﺑﺮوﺗﺎﺟﻮراس ،وإن ﻛﺎن أﺛﺮ اﻟﻔﻜﺮﺗني ﻣﺘﺴﺎوﻳًﺎ إﱃ ﺣَ ﱟﺪ ﺑﻌﻴﺪ؛ ﻓﺴﻮاء أﻛﺎﻧﺖ ﺟﻤﻴﻊ اﻵراء واملﻌﺘﻘﺪات ﺟَ ﻴﱢ َﺪ ًة ﻋﲆ ﺣَ ﱢﺪ ﻗﻮل ﺑﺮوﺗﺎﺟﻮراس أم أﻧﻬﺎ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ﺳﻴﺌﺔ ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل زﻳﻨﻴﺎدس؛ ﻓﻼ ﻳﻮﺟﺪ ﻣﻌﻴﺎر ﺛﺎﺑﺖ ﻳﺆﻛﺪ ﺻﺤﺔ ﻫﺬه أو ﺧﻄﺄ ﺗﻠﻚ .وﺗﻘﻮل ﺑﻌﺾ املﺼﺎدر إن ﺳﻘﺮاط اﻧﺘﻬﻰ إﱃ ﻧﻈﺮة ﺷﻜﻮﻛﻴﺔ ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ املﻄﺎف ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌ ﱠﻠﻖ ﺑﺎﻷﻣﻮر واملﺴﺎﺋﻞ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ، ﻳﺠﺪ ﻣﺎ ﻳﱪﱢر ﻟﻪ ﺗﻔﻀﻴﻞ آراء إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ ﻋﲆ آراء أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس إذا ﻣﺎ ﻧﺤﱠ ﻴْﻨﺎ ﺣﻴﺚ ﻟﻢ ِ ﻛﻞ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻨﺎول اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء واﻟﻔﻠﻚ واﻷﺣﻴﺎء ﺟﺎﻧﺒًﺎ ،ﺛﻢ أﻋﻠﻦ ﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﻣﺸﻬﻮر ﻋﻨﻪ أﻧﻪ ﺑﺸﺄن املﺴﺎﺋﻞ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ اﻟﺘﻲ راﻗﺖ ﻟﻪ .وﻟﻘﺪ رأﻳﻨﺎ أﻧﻪ ﻳﺠﺐ أﻻ ﻻ ﻳﻌﺮف أي ﳾء ﺣﺘﻰ ِ ﻧﺠﺪ ﻋﲆ ﺟﺎﻧﺐ آﺧﺮ أن ﻃﺮﻳﻘﺔ ﻳﺤﻤﻞ ﻫﺬا اﻻﻋﱰاف ﻋﲆ ﻣﻌﻨﺎه اﻟﻈﺎﻫﺮي ،وﻟﻜﻦ رﻏﻢ ذﻟﻚ ِ ﺳﻘﺮاط ﰲ اﻟﺒﺤﺚ وﻣﻨﻬﺠﻪ ﰲ اﻟﺴﺆال ﻛﺎن ﻟﻬﻤﺎ ﺗﺄﺛري واﺿﺢ ﻋﲆ ﻣﻨﺎﻫﺞ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴني اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴني ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ. ﻛﺎﻧﺖ آراء دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﻛﺬﻟﻚ ﻣﻦ املﻨﺎﺑﻊ اﻟﺘﻲ وردﻫﺎ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﻮن ﻛﻤﺎ رأﻳﻨﺎ؛ ﻓﻘﺪ واﻓﻖ دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﻋﲆ آراء ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس وزﻳﻨﻮن اﻹﻳﲇ اﻟﺘﻲ ﺗﺸري إﱃ أن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻟﻴﺲ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ أﺑﺪًا ﻋﲆ اﻟﺸﺎﻛﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺘﺒﺪﱠى ﻋﻠﻴﻬﺎ ،وأﻛﺪ ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﺨﺼﻮص أن اﻷﻟﻮان واﻟﺮواﺋﺢ واﻟﻄﻌﻮم اﻟﺘﻲ ﻧﺪرﻛﻬﺎ ﻻ ﺗﻌﻜﺲ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻷﺷﻴﺎء ﰲ ﺟﻮﻫﺮﻫﺎ وإﻧﻤﺎ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﱢ ﺣﻮاﺳﻨَﺎ ،ﻓﻌﻨﺪﻣﺎ ﻧﻘﻮل إن اﻟﺴﻤﺎء زرﻗﺎء اﻟﺘﻲ ﺗﺆﺛﱢﺮ ﺑﻬﺎ اﻟﺬﱠ ﱠرات اﻟﺪاﺧﻠﺔ ﰲ ﺗﻜﻮﻳﻨﻬﺎ ﻋﲆ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ،ﻻ ﻳُﻌَ ﱡﺪ ذﻟﻚ ﺟﺰءًا ﻣﻦ املﻌﺮﻓﺔ وإﻧﻤﺎ ﺗﻘﻠﻴﺪ ﻣﻘﺒﻮل ﻓﺤﺴﺐ .وﻫﺬا اﻟﺒَﻮْن 357
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
اﻟﺸﺎﺳﻊ ﺑني املﻈﻬﺮ واﻟﺠﻮﻫﺮ ﻫﻮ ﻣﺎ اﺳﺘﻐﻠﻪ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﻮن ﻟﺘﻘﻮﻳﺾ أﺳﺎس أي ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻟﻠﻤﻌﺮﻓﺔ ،ﻓﺈذا ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺤﻮاس ﻻ ﻳُﻌ ﱠﻮ ُل ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻓﻌﻼم ﻳﻜﻮن اﻻﻋﺘﻤﺎد إذن؟ ﻣﻦ اﻟﺠَ ِﲇ ﱢ أن ﻫﺬا اﻟﺴﺆال ﻟﻢ ﻳﺸﻐﻞ ﺑﺎ َل دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ْ وإن ﻛﺎن ﻣﻦ اﻷَوْﱃ أن ﻳﺸﻐﻠﻪ ﻗﺒﻞ أي ﳾء ،ﻓﻜﻴﻒ ﻟﻪ أن ﻳﺘﺤﻘﻖ ﻣﻦ ﺻﺤﺔ ﻧﻈﺮﻳﺘﻪ اﻟﺬﱠ ﱢرﻳﱠﺔ؟ وﻣﺎ اﻟﺪﻟﻴﻞ اﻟﻘﺎﻃﻊ اﻟﺬي ﻳﺘﺠﺎوز ﺑﻨﺎ ﺳﺎﺣﺔ اﻟﺸﻚ واﻟﺮأي إﱃ أرض املﻌﺮﻓﺔ واﻟﻴﻘني؟ واﻹﺟﺎﺑﺔ ﻟﺪى ﺑريو وأﺗﺒﺎﻋﻪ أﻧﻪ »ﻣﺎ ﻣﻦ دﻟﻴﻞ ﻗﺎﻃﻊ«؛ َ ﻣﻨﺎص ﻣﻨﻪ. وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﺎﻟﺒﻘﺎء ﰲ ﺳﺎﺣﺔ اﻟﺸﻚ واﻟﺮأي أﻣﺮ ﻻ ﻓﻌﻞ ﻣﺎ ﻳﺘﻌﺎرض ﻣﻊ آراﺋﻪ دون وﻋﻲ ،ﻓﺈذا ﻛﺎﻧﺖ وﻟﻜﻦ ﻳﺒﺪو أن ﺑريو ﻗﺪ أﻗﺪم ﻋﲆ ٍ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ ﺗَ َﻀ ُﻊ ﺟﻤﻴﻊ اﻷﺷﻴﺎء واﻟﻈﻮاﻫﺮ ﻗﻴﺪ اﻟﺒﺤﺚ؛ ﻓﻬﻨﺎك ﺑﻌﺾ اﻷﻣﻮر اﻟﺘﻲ ﻗﺎﻟﻬﺎ ﺑريو ﻻ ﺗﺒﺪو ﻣﺘﱠﺴﻘﺔ ﻣﻊ ﻫﺬا اﻟﺮأي .ﻓﻜﻤﺎ ﻳﻘﻮل اﻟﺒﻌﺾ ﻟﻘﺪ ﱠ ﺑني ﺑريو أﻧﻪ »ﻻ ﳾء ﻗﻴﱢﻢ وﻻ ﳾء ﻣﻨﺤﻂ وﻻ ﻋﺎدل وﻻ ﻇﺎﻟﻢ ،وﻣﺎ ﻣﻦ ﳾء ﻣﻮﺟﻮد ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ .ﻓﺴﻠﻮك اﻹﻧﺴﺎن وﺗﴫﱡﻓﺎﺗﻪ ﻳﻌﺘﻤﺪان ﻋﲆ اﻟﻌﺎدة واﻟﺘﻘﺎﻟﻴﺪ ،ﻓﺎﻟﺤﻜﻢ ﻋﲆ اﻷﺷﻴﺎء ﻣﺴﺘﺤﻴﻞ «.وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻌﻨﻲ أﻧﻪ ﻻ ﺳﺒﻴﻞ إﱃ املﻌﺮﻓﺔ ،وﻟﻜﻦ اﻹﺷﻜﺎﻟﻴﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ ﻫﻲ أن اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ ﺗﻌﻨﻲ ﻋﺪم اﻹﻳﻤﺎن ﺑﺄي أﻣﺮ ﺑﻤﺎ ﻟﺸﻜﻮﻛﻲ أن ﻳﺪﱠﻋﻲ أن اﻟﻌﺎدات ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻘﻮل إﻧﻪ ﻳﺴﺘﺤﻴﻞ اﻟﺤﻜﻢ ﻋﲆ اﻷﺷﻴﺎء .ﻓﻜﻴﻒ إذن ﱟ واﻟﺘﻘﺎﻟﻴﺪ ﻫﻲ أﺳﺎس ﻛﻞ ﳾء؟ أﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻣﻦ اﻷﺟﺪر ﺑﻪ أن ﻳﻘﻮل إن اﻟﻌﺎدات واﻟﺘﻘﺎﻟﻴﺪ »ﻗﺪ« ﺗﻜﻮن اﻷﺳﺎس اﻟﺬي ﺗﻨﺒﻨﻲ ﻋﻠﻴﻪ اﻷﻣﻮر ﻛﻠﻬﺎ؟ وأن ﻳﺴﺘﺤﻴﻞ »ﺑﺤَ ﱢﺪ ﻣﻌﺮﻓﺘﻪ« اﻟﺤﻜﻢ ﻧﺠﺪ أن ﺻﺪﻳﻖ ﺑريو اﻟﺬي ﻳُﺪﻋﻰ أﻧﺎﻛﺴﺎرﺧﻮس )اﻟﺬي ﻋﲆ اﻷﺷﻴﺎء؟ وﻋﲆ ﻧﻔﺲ اﻟﺸﺎﻛﻠﺔ ِ ﺗﺮﻛﻪ ﰲ اﻟﺤﻔﺮة املﺬﻛﻮرة ﰲ اﻟﻘﺼﺔ ً آﻧﻔﺎ( ﻗﺎل إن ﺟﻤﻴﻊ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ ﻳﺮاﻫﺎ ﺗﺒﺪو ﻛﻠﻮﺣﺎت ﻣﺮﺳﻮﻣﺔ؛ أي إﻧﻬﺎ أوﻫﺎم ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻌﻨﻲ أﻧﻬﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﻓﻘﻂ ﻣﺤﺾ أﺷﻴﺎء ﻳﺴﺘﺤﻴﻞ اﻟﺘﺄﻛﺪ أﺳﺎﺳﺎ ،وﻫﺬا ً ً أﻳﻀﺎ ﻣﻤﱠ ﺎ ﻻ ﻳﺘﻔﻖ ﻣﻊ ﻣﺒﺎدئ ﻣﻦ ﺣﻘﻴﻘﺘﻬﺎ ،ﺑﻞ إﻧﻬﺎ ﺑﺎﻟﻘﻄﻊ ﻟﻴﺴﺖ ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ .ﻓﺄﻧﱠﻰ ﻟﻪ أن ﻳﻌﻠﻢ أن اﻷﺷﻴﺎء ﻣﺜﻞ اﻟﻠﻮﺣﺎت املﺮﺳﻮﻣﺔ؟ أوَﻟﻴﺲ ﻣﻦ ﺷﺄن اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ ﱠأﻻ ﻳﻘﻄﻊ ﺑﺼﺤﺔ ﻫﺬا اﻷﻣﺮ ً أﻳﻀﺎ وأن اﻷﺷﻴﺎء ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺘﺄ ﱡﻛﺪ ﻣﻦ ﻛﻮﻧﻬﺎ ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ أو زاﺋﻔﺔ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ أو ﺑﺄﺧﺮى؟ وﻫﺬا ﻣﺎ ﻗﺎل ﺑﻪ ﺑﻌﺾ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴني املﺘﺄﺧﺮﻳﻦ ﻣﻦ أﻣﺜﺎل ﺳﻴﻜﺴﺘﻮس إﻣﺒريﻳﻜﻮس ﺣﻴﺚ ً واﺗﺴﺎﻗﺎ .ﻓﻘﺎل ﺳﻴﻜﺴﺘﻮس ﺣﺎول ﻫﺆﻻء اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﻮن اﻻﻟﺘﺰام ﺑﻤﻨﻬﺞ ﺷﻜﻮﻛﻲ أﻛﺜﺮ ﺗﻔﺘﺤً ﺎ إن وﻇﻴﻔﺔ اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ ﻫﻲ ﺟﻌﻞ اﻟﻨﺎس ﻳﻤﺘﻨﻌﻮن ﻋﻦ إﺻﺪار اﻷﺣﻜﺎم وﻳﻌﻴﺸﻮن »ﺑﻼ آراء«. ﺑﺄﻣﺮ ﻣﺎ وذﻟﻚ ﻳﺘﺄﺗﱠﻰ ﻣﻦ ﺧﻼل ﻣﻘﺎرﻧﺔ ﺟﻤﻴﻊ اﻷﺳﺒﺎب اﻟﺘﻲ ﻗﺪ ﺗﺤﻤﻞ إﻧﺴﺎﻧًﺎ ﻋﲆ اﻹﻳﻤﺎن ٍ واﻷﺳﺒﺎب اﻷﺧﺮى اﻟﺘﻲ ﻗﺪ ﺗﺤﻤﻠﻪ ﻋﲆ اﻟﻌﺪول ﻋﻨﻪ؛ وﻣﻦ ﻫﻨﺎ ِ ﻳﺼﻞ ﺑﻪ اﻟﺒﺤﺚ إﱃ ﻃﺮﻳﻖ ﻣﺴﺪود .ﻓﺎﻟﺸﻜﻮﻛﻲ ﻻ ﻳ َُﻘ ﱢﺪ ُم أي ﻧﻈﺮﻳﺔ وﻻ رأي ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ — ﺣﺘﻰ إن ﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﺮأي ﻳﻘﻮل 358
اﻟ ﱡ ﻄﺮق اﻟﺜﻼث إﱃ ﱠ اﻟﺴﻜِﻴﻨﺔ :اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ واﻟﺮواﻗﻴﺔ واﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ
ﺑﺎﺳﺘﺤﺎﻟﺔ اﻟﺤﻜﻢ ﻋﲆ اﻷﺷﻴﺎء — وإﻧﻤﺎ ﻋﻤﻠﻪ ﻫﻮ اﻟﺘﻮﺻﻞ إﱃ ﻋﻼج ﻟﺠﻤﻴﻊ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت وﺗﻔﻜﻴﻜﻬﺎ ،ﻓﻜﻤﺎ ﻳﻘﻮل» :اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﻮن أﻧﺎس ﻳﻤﻠﺆﻫﻢ ﺣﺐ اﻟﺒﴩ وﻳﺘﻤﻨﱠﻮ َْن ﻣﻌﺎﻟﺠﺔ ﺧﺪاع اﻟﺪوﺟﻤﺎﺋﻴني ﺟﺎﻣﺪي اﻟﻔﻜﺮ )وﻳﻘﺼﺪ ﺑﻬﺆﻻء ﻛﻞ ﻣﻦ ﻳﻌﺘﻨﻖ ﻓﻜﺮة أو رأﻳًﺎ ﺑﺸﻜﻞ ﻗﺎﻃﻊ( ﱡ اﻟﺘﻮﻗﻒ وﺗﻬﻮرﻫﻢ ،واﻟﺤﻮار ﻫﻮ ﺳﺒﻴﻠﻬﻢ؛ ﻓﻬﻢ ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻮﻧﻪ ﻣﺎ وﺳﻌﺘﻬﻢ اﻟﻄﺎﻗﺔ «.وﻓﻜﺮة ﻋﻦ إﺻﺪار اﻷﺣﻜﺎم ﺑﺎﻟﺸﻜﻞ اﻟﺬي ﻳﺠﻌﻞ اﻟﻨﺎس أﻛﺜﺮ اﺳﺘﻘﺮا ًرا وﺳﻌﺎد ًة ﺗﺄﺗﻲ ﻣﻦ ﺑريو، وﻟﻜﻦ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻬﺎ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ ﻫﺬه اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺨﺎﻟﻴﺔ ﻣﻦ أﻳﺔ اﻋﺘﻘﺎدات واﻟﻘﺎﺋﻤﺔ ﻋﲆ ﺗﻔﻨﻴﺪ ﻛﻞ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻟﻈﺎﻫﺮة ﻋﲆ اﻟﺴﺎﺣﺔ ﺑﺎﺳﺘﺨﺪام اﻻﻋﱰاﺿﺎت واﻟﺤﺠﺞ املﻀﺎدة؛ ﺗﺪﻳﻦ ﺑﺸﻄﺮ ﻣﻦ ﻓﻠﺴﻔﺘﻬﺎ إﱃ أﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ أﻓﻼﻃﻮن. ﺗﺮأﱠس ﻓﻴﻠﺴﻮف ﻳُﺪﻋَ ﻰ أرﻛﺴﻴﻼوس )ﺣﻮاﱄ ٢٤٠–٣١٥ق.م( أﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ أﻓﻼﻃﻮن ﻗﺒﻞ وﻓﺎة ﺑريو ﺑﻔﱰة وﺟﻴﺰة؛ ﺣﻴﺚ اﺑﺘﺪأ ﻣﺎ ﻳﻌﺮف ﺑﺎملﺮﺣﻠﺔ »اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ« ﰲ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ .وﻗﺪ ﺳﺒﻖ ﻟﻪ أن درس ﰲ ﻟﻴﺴﻴﻮم أرﺳﻄﻮ ،ﺣﻴﺚ ﺗﻘﻮل اﻷﺳﻄﻮرة إﻧﻪ ﺗﺮك اﻟﻠﻴﺴﻴﻮم إﱃ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ؛ ﻷﻧﻪ أَﺣَ ﺐﱠ أﺣﺪ رﺟﺎﻟﻬﺎ اﻟﻜﺒﺎر .وﻗﺪ ﻋﻜﻒ ﻛﻞ ﻣﻦ ﺳﺒﻘﻪ إﱃ رﺋﺎﺳﺔ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ ﻃﻴﻠﺔ ٧٥ﻋﺎﻣً ﺎ ﺑﻌﺪ وﻓﺎة أﻓﻼﻃﻮن ﻋﲆ دراﺳﺔ ﻛﻞ ﻣﺬاﻫﺐ أﻓﻼﻃﻮن واﻋﺘﻨﺎﻗﻬﺎ ،ﻣﺜﻞ ﻗﺼﺔ اﻟﺨﻠﻖ ﰲ ﻣﺤﺎورة »ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس« وﻧﻈﺮﻳﺔ املﺜﻞ .وﻟﻜﻦ ﻫﺬا املﻨﻬﺞ ﻟﻢ ﻳ ُﺮق أرﻛﺴﻴﻼوس؛ ﻓﻘﺪ رأى أن أﻓﻀﻞ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﻳﻤﻜﻦ ﺑﻬﺎ اﻹﺧﻼص ملﺬﻫﺐ أﻓﻼﻃﻮن ﻫﻲ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻻﻧﻜﺒﺎب ﻋﲆ ﻣﻨﻬﺞ ﺳﻘﺮاط؛ أي ﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﺒﺤﺚ واﻻﺳﺘﻘﺼﺎء .وﻗﺪ أَﺣَ ﺐﱠ أن ﻳﻔﻌﻞ ﻛﻤﺎ ﻓﻌﻞ ﺳﻘﺮاط ﻣﻦ اﻟﺠﺪال اﻟﺸﺪﻳﺪ ﻣﻊ اﻟﻨﺎس ﺣﺘﻰ ﻳﺠﻌﻠﻬﻢ ﻳﻨﻄﻘﻮن ﺑﻤﺘﻌﺎرض اﻟﻘﻮل ،وﻋﲆ ﻫﺬا املﻨﻬﺞ ﺳﺎرت اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ ملﺎﺋﺘﻲ ﻋﺎ ٍم ﻣﻦ ﺑﻌﺪُ .وﻗﺪ أﺿﺎف ﻫﺬا ﺑُﻌﺪًا ﻓﻜﺮﻳٍّﺎ أﻛﺜﺮ ً ﻋﻤﻘﺎ ﻟﻠﺸﻜﻮﻛﻴﺔ، رﻏﻢ أن ﺳﻘﺮاط ﻛﺎن ﻟﻴُﺪِﻳﻦ ﺟﺎﻧﺒًﺎ ﻛﺒريًا ﻣﻦ ﻫﺬا املﻨﻬﺞ ﻋﲆ أﻧﻪ ﻫﺮاء ﻻ ﻃﺎﺋﻞ ﻣﻨﻪ. ﺧﺼﺺ أرﻛﺴﻴﻼوس ﺟﺎﻧﺒًﺎ ﻛﺒريًا ﻣﻦ ﺑﺤﺜﻪ واﺳﺘﻘﺼﺎﺋﻪ ﻟﺪراﺳﺔ ﻣﻨﻬﺞ اﻟﺮواﻗﻴني، ﻻ ﺳﻴﻤﺎ ﻓﻴﻤﺎ اﻋﺘﻘﺪوه ﺑﺸﺄن املﻌﺮﻓﺔ واﻹدراك .وﻛﺎن زﻳﻨﻮن ﻋﲆ رأس اﻟﺮواﻗﻴني اﻟﺬﻳﻦ ﺑﺤﺚ أرﻛﺴﻴﻼوس ﰲ ﻣﻨﺎﻫﺠﻬﻢ )زﻳﻨﻮن اﻟﺮواﻗﻲ وﻟﻴﺲ زﻳﻨﻮن ﺗﻠﻤﻴﺬ ﺑﺎرﻣﻨﻴﺪس( .ﻳﺮى ﺑﻤﻜﺎن ﻻ ﺗﻘﻮم ﻣﻌﻪ اﻟﺤﺎﺟﺔ زﻳﻨﻮن أن ﺑﻌﺾ اﻷﻓﻜﺎر وا ُملﺪ َرﻛﺎت ﻣﻦ اﻟﻮﺿﻮح واﻟﺠﻼء ٍ ﻟﻠﺘﺪﻟﻴﻞ واﻹﺛﺒﺎت؛ ﻓﻬﻲ ﺑﺪَﻫﻴﺔ ﺣﻴﺚ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻤﺮء اﻻﻋﺘﻤﺎد ﻋﻠﻴﻬﺎ ﰲ ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻣﻦ ﺣﻮﻟﻪ، وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈن اﺗﱢﺒَﺎع ﻫﺬه اﻷﻓﻜﺎر واﻻﻧﻄﺒﺎﻋﺎت وﻋﺪم اﻟﴩود ﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻨﻬﺎ ﻳُﻤَ ﱢﻜﻦ اﻹﻧﺴﺎن ﻣﻦ ﺑﻘﺪر واﻓﺮ ﻣﻦ املﻌﺮﻓﺔ اﻟﺼﺤﻴﺤﺔ .وﻟﻜﻦ أرﻛﺴﻴﻼوس ﴎﻋﺎن ﻣﺎ رﻓﺾ ﻓﻜﺮة أن ﻳﺤﻈﻰ ٍ اﻧﻄﺒﺎع ﻳﺄﺗﻴﻨﺎ ﻣﻦ ﳾءٍ ﻣﺎ ﻻ ﻳﻘﻞ ﺻﺤﺔ أو ً زﻳﻔﺎ ﻋﻦ ﻏريه«. اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺒﺪَﻫِ ﻴﺔ ،ﻓﻘﺎل» :إن أي ٍ أي إﻧﻨﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﻘﺘﻨﻊ ﺑﺎﻟﻮﻫﻢ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻧ ُ َﺴ ﱢﻠﻢ ﺑﺎﻷﻣﺮ اﻟﺼﺤﻴﺢ )وﻫﺬه ﻫﻲ اﻟﻨﻘﻄﺔ اﻟﺘﻲ 359
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ُﺪرك اﻟﻔﺎرق ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﰲ ﺪرك اﻷوﻫﺎم ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﺣﻘﻴﻘﺔ( .وﻟﺬﻟﻚ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻤﺮء أن ﻳ ِ ﺗﺠﻌﻠﻨﺎ ﻧ ُ ِ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ .ﻓﺘﻔﺎﺣﺔ ﻣﺼﻨﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﺸﻤﻊ اﻷﺣﻤﺮ ﻗﺪ ﺗﺒﺪو ﻣﺜﻞ اﻟﺘﻔﺎﺣﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ دون أدﻧﻰ ﻓﺮق ،وﺑﺬﻟﻚ ﺳﻴﻜﻮن ﻟﻬﺎ ﻧﻔﺲ اﻷﺛﺮ واﻻﻧﻄﺒﺎع ﻋﲆ اﻟﻌﻘﻞ .وﻣﻦ ﻫﻨﺎ ﻟﻨﺎ أن ﻧﺴﺄل ﻛﻴﻒ ﻟﻨﺎ أن ﻧﺴﻠﻢ ﺑﺼﺤﺔ اﻷﻣﻮر »اﻟﺒﺪَﻫِ ﻴﺔ«؟ اﺷﺘﻬﺮت ﻫﺬه اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ ﻋﲆ ﺗﻔﻜﻴﻚ املﺬاﻫﺐ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﰲ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ .وﻟﻢ ﻳﻤﺾ ﻛﺜريٌ ﻣﻦ اﻟﻮﻗﺖ ﺣﺘﻰ ﺧﻀﻌﺖ ﻛﻞ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت ﻟﻠﻔﺤﺺ؛ وﻣﻦ ﺛ ﱠﻢ ﻇﻬﺮ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ ِ املﺸﻜﻼت ﰲ ﻫﺬه اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت ،وﺑﺮزت ﻣﺘﻨﺎﻗﻀﺎت ﻋﺪﻳﺪة أدﱠت إﱃ ﻋﺪة اﺳﺘﻨﺘﺎﺟﺎت ﻏري ﻣ ِ ُﺮﺿﻴَﺔ .وﻋﻤﻞ اﻟﺮواﻗﻴﻮن وﻏريﻫﻢ ﻣﻦ ﺿﺤﺎﻳﺎ ﻫﺬا اﻟﻬﺠﻮم ﻋﲆ اﻟﺘﻌﺪﻳﻞ ﰲ ﻧﻈﺮﻳﺎﺗﻬﻢ، ﻓﻠﻢ ﻳﻠﺒَﺚ أﺻﺤﺎب اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ ﺣﺘﻰ أﻋﺎدوا اﻟ َﻜ ﱠﺮة ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻟﻴﻄﻴﺤﻮا ﺑﻬﻢ ﻣﺠﺪدًاُ . وﻫﺪﻣﺖ ﻧﻈﺮﻳﺔ اﻟﺮواﻗﻴني اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺎﻟﻘﺪَر ﻣﻦ ﺟﻤﻴﻊ زواﻳﺎﻫﺎ ،وﻧﻌﻨﻲ ﺑﻬﺎ »اﻟﺤﻮار اﻟﺨﺎﻣﻞ« اﻟﺬي ﻛﺎن ﻳﺸري إﱃ أن اﻹﻳﻤﺎن ﺑﺎﻟﻘﺪَر ﻳﻌﻨﻲ أﻧﻪ ﻻ ﺟﺪوى ﻣﻦ ﻗﻴﺎم اﻹﻧﺴﺎن ﺑﺄي ﻋﻤﻞ .وﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﺮأي ﻧﺘﺎﺟً ﺎ ﻟﻬﺬه اﻟﻔﱰة ﻣﻦ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺒﻨﱠﺘﻬﺎ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ ﻳﻮﻣﺌﺬٍ .ﻇﻦ اﻟﺮواﻗﻴﻮن ﱠ وﻟﻜﻦ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﱢني َردﱡوا ﻛﻤﺎ رأﻳﻨﺎ أن ﻟﺪﻳﻬﻢ ﻣﺎ ﻳﻘﻮﻟﻮﻧﻪ ﺑﺨﺼﻮص ﻫﺬا »اﻟﺤﻮار اﻟﺨﺎﻣﻞ«، ﻋﲆ ﺣﺠﺘﻬﻢ؛ وﻫﻜﺬا اﺳﺘﻤﺮ اﻟﺠﺪال ﺑﻴﻨﻬﻢ ِﺳ ً ﺠﺎﻻ .وﻋﻤﻞ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﻮن ﻛﺬﻟﻚ ﻋﲆ اﻟﺮد ﻋﲆ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺤﺠﺞ اﻟﺘﻲ ﺳﺎﻗﻬﺎ اﻟﺮواﻗﻴﻮن ﻟﻠﺘﺪﻟﻴﻞ ﻋﲆ ﺳري اﻟﻌﺎﻟﻢ ً وﻓﻘﺎ ﻟﻠﻌﻨﺎﻳﺔ اﻹﻟﻬﻴﺔ؛ ﻓﻌﻨﺪﻣﺎ ادﱠﻋَ ﻰ اﻟﺮواﻗﻴﻮن أن ﻇﻮاﻫﺮ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ واﻟﻌﺎﻟﻢ ﻟﻴﺲ ﻟﻬﺎ أن ﺗﻜﻮن إﻻ ﺑﺤﻜﻢ إﻟﻬﻲ ،ﻗﺎم اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﻮن ﺑﻤﻌﺎرﺿﺘﻬﻢ زاﻋﻤني أن ﻗﻮى اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻗﺪ ﺗﻜﻮن ﻣﺴﺌﻮﻟﺔ ﻋﻦ ﻫﺬه اﻟﻈﻮاﻫﺮ. وزﻋﻢ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﻮن ﻛﺬﻟﻚ أن اﻟﺮواﻗﻴني ﻋﻨﺪ ﺣﺪﻳﺜﻬﻢ ﻋﻦ ﻋﻘﻼﻧﻴﺔ اﻟﻜﻮن ﻟﻢ ﻳ ُﻜ ْﻦ ﻟﺪﻳﻬﻢ أدﻧﻰ ﻓﻜﺮة ﻋﻤﱠ ﺎ ﻳﺘﺤ ﱠﺪﺛ ُ َ ﻮن ﻋﻨﻪ ،وﻫﺬا ﺻﺤﻴﺢ إﱃ ﺣَ ﱟﺪ ﻛﺒري .ﻛﻤﺎ ﻗﴣ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﻮن أﻣﺪًا ً ﻃﻮﻳﻼ ﻳﻔﻨﱢﺪون آراء اﻟﺮواﻗﻴني ﰲ اﻟﻔﻠﻚ واملﻌﺎرف اﻹﻟﻬﻴﺔ اﻷﺧﺮى ،وﻗﺪ اﺳﺘﺨﺪﻣﻮا ﺣُ ﺠَ ﺠً ﺎ ﻗﻮﻳﺔ ﻻ ﻳﺰال اﻟﺒﻌﺾ ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻬﺎ ﺣﺘﻰ اﻵن ،واﺳﺘﻌﺎن ﺑﻬﺎ اﻟﻘﺪﻳﺲ أوﺟﺴﺘني ﻣﻦ ﻗﺒ ُﻞ، وإن ﻛﺎن ﻟﻬﺬه اﻟﺤﺠﺞ ﺗﺄﺛري ﺑﺴﻴﻂ ﻋﲆ ﻣﻌﺘﻘﺪات اﻟﻌﺎﻣﺔ. ورﻏﻢ أن أرﻛﺴﻴﻼوس ﻛﺎن ﻳﺸﻦ ﻫﺠﻮﻣﻪ ﻋﲆ آراء اﻟﺮواﻗﻴني ﻓﻠﻢ ﻳ َْﺴ َﻊ إﱃ ﺗﺪﺷني َ ﻣﻌﺘﻘﺪ ﻳﺘﻤﻴﺰ ﺑﻪ .ﻓﺠُ ﱡﻞ ﻣﺎ ﻳﻔﻌﻠﻪ ﻫﻮ اﻟﺘﺪﻟﻴﻞ ﻋﲆ أن اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻻ ﺗﻜﻤُﻦ ﻧﻈﺮﻳﺔ ﺧﺎﺻﺔ ﺑﻪ أو ﰲ أي ﺟﺎﻧﺐ ﻣﻦ اﻟﺠﻮاﻧﺐ ،ﺑﻞ إﻧﻪ أﺣﺠﻢ ﻋﻦ ادﱢﻋَ ﺎء أﻧﻪ ﺑﺎﻹﻣﻜﺎن ﻣﻌﺮﻓﺔ أي ﳾء ،ﻓﻜﺎن ﻳَ َﺮى داﺋﻤً ﺎ أن أي أﻣﺮ ﻳُﻤﻜﻦ أن ﻳﺘﻀﻤﱠ ﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﰲ أي زاوﻳﺔ ﻣﻦ زواﻳﺎه .وﻳﻘﻮل ﺑﻌﺾ اﻟﻨﻘﺎد إﻧﻪ ﻛﺎن ﺑﺒﺴﺎﻃﺔ ﻳﺴﻌﻰ إﱃ اﺳﺘﻌﺮاض ﻗﻮاه اﻟﺤﻮارﻳﺔ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﻌﻤﺪ إﱃ ﺗﻔﻨﻴﺪ أﻗﻮال اﻵﺧﺮﻳﻦ؛ ﻓﻘﺪ ﻗﻴﻞ» :ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻪ ﻣﺜﻴﻞ ﰲ اﻹﻗﻨﺎع ،وﻫﺬا ﻣﺎ ﺟﺬب ﻛﺜريًا ﻣﻦ اﻟﺘﻼﻣﻴﺬ إﱃ ﻫﺬه 360
اﻟ ﱡ ﻄﺮق اﻟﺜﻼث إﱃ ﱠ اﻟﺴﻜِﻴﻨﺔ :اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ واﻟﺮواﻗﻴﺔ واﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ
املﺪرﺳﺔ رﻏﻢ أﻧﻬﻢ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺘﻔﺎ َدوْن داﺋﻤً ﺎ ﺗﻬﻜﻤﻪ اﻟﻼذع «.وﻣﻦ اﻷوراق اﻟﻘﻠﻴﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﺑ ِﻘﻴَﺖ ً ﻣﴪﻓﺎ وﻛﺎﻧﺖ ﻟﻪ ﻋﻼﻗﺎت اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻋﺪﻳﺪة، ﻣﻦ ﺣﻴﺎﺗﻪ اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ ﻣﻌﺮﻓﺔ أﻧﻪ ﻛﺎن ً ﻣﺘﻌﻄﺸﺎ ﻟﻠﺸﻬﺮة دوﻣً ﺎ .وﻟﻜﻦ ﻟﻴﺲ ﻫﻨﺎك ﺳﺒﺐ ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﻋﲆ ﻋﻼﻗﺎت ﻣﻊ املﻮﻣﺴﺎت ،وﻛﺎن ﻳﺠﻌﻠﻨﺎ ﻧﺪﱠﻋِ ﻲ أن ﻫﺬه اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ اﻟﻼﻣﻌﺔ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺷﻜﻮﻛﻴﺔ ﻣﺨﻠﺼﺔ ،ﺑﻞ إن ﻫﻨﺎك اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻷﺳﺒﺎب اﻟﺘﻲ ﺗﺪﻋﻮﻧﺎ إﱃ اﻟﺤﻜﻢ ﻋﻠﻴﻪ ﺑﺎﻹﺧﻼص ﰲ ﺷﻜﻮﻛﻴﱠﺘﻪ؛ وذﻟﻚ ﻷﻧﻪ ﺣﺎول اﻟﺘﺪﻟﻴﻞ ﻋﲆ إﻣﻜﺎﻧﻴﺔ أن ﻳﺤﻴﺎ اﻹﻧﺴﺎن دون أن ﻳﺴﺒﺐ أﻳﺔ ﻣﺸﻜﻼت ﰲ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ. ُ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻣﻨﺬ ﻋﻬﺪ أرﺳﻄﻮ إﱃ دﻳﻔﻴﺪ ﻫﻴﻮم ﻋﲆ أن اﻹﻏﺮاق ﰲ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ وﻗﺪ أﺟﻤﻊ ﻳﺠﻌﻞ اﻟﺤﻴﺎة ﻣﺴﺘﺤﻴﻠﺔ .ﻓﻘﺪ ﻛﺘﺐ ﻫﻴﻮم ﻋﺎم :١٧٤٨ إن ﻣﺘﺒﻊ ﻣﻨﻬﺞ ﺑريو … ﻻ ﺑﺪ ﻟﻪ ﻣﻦ اﻻﻋﱰاف — إذا ُﻗ ﱢﺪ َر ﻟﻪ اﻻﻋﱰاف ﺑﺄي ﳾء — ﺑﺄن اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺒﴩﻳﺔ ﻻ ﺑﺪ ﻟﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﻬﻼك ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﺴﻮد ﻓﻴﻬﺎ ﻛﻞ ﻣﺒﺎدﺋﻪ، ﻓﺴﻮف ﺗﺘﻮﻗﻒ ﻛﻞ ﻣﻈﺎﻫﺮ اﻟﺤﻴﺎة وﻳﻨﻌﺪم اﻟﺤﺪﻳﺚ ،وﺳﻴﻤﻜﺚ اﻟﻨﺎس ﰲ ُﺳﺒ ٍ َﺎت ﻋﻤﻴﻖ ،ﺣﺘﻰ ﺗﻘﻮم ﴐورات اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺑﻮﺿﻊ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻟﻬﺬه املﺄﺳﺎة اﻟﻮﺟﻮدﻳﺔ. رأى ﻫﻴﻮم أن أﺗﺒﺎع ﺑريو ﻻ ﻳﺄﻛﻠﻮن وﻻ ﻳﴩﺑﻮن وﻻ ﻳﺤﻔﻈﻮن أﻧﻔﺴﻬﻢ ﻣﻦ اﻷﺧﻄﺎر؛ ﻷﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﺑﻮﺳﻊ أﺣﺪﻫﻢ أن ﻳﻌﻠﻢ ﻛﻴﻔﻴﺔ اﻟﻘﻴﺎم ﺑﻬﺬه اﻷﻣﻮر ،ﻫﻞ ﻳﺠﺐ ﻋﻠﻴﻪ أن ﻳﻀﻊ اﻟﺨﺒﺰ ِ ﻓﻴﻘﻀﻤﻪ؟ ﻓﻌﺎﻣﺔ اﻟﺒﴩ ﻫﻢ ﻣﻦ ﻳﻌﺘﻘﺪون أن اﻟﺨﺒﺰ ﰲ ﻓﻤﻪ أم ﻋﻠﻴﻪ أن ﻳَﻨ ْ َﻜﺐﱠ ﻋﲆ اﻟﺤﺠﺮ ﻫﻮ اﻟﺬي ﻳﻤﺪ اﻟﺠﺴﺪ ﺑﺎﻟﻐﺬاء ،أﻣﺎ اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ ﻓﻴُﻔﱰض أﻧﻪ ﻻ ﻳُ ِﻘ ﱡﺮ ﺑﺘﻠﻚ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ .ﻫﻞ ﻋﻠﻴﻪ أن ﻳﺘﻨﺤﱠ ﻰ ﺟﺎﻧﺒًﺎ إذا رأى ً ﻓﺮﺳﺎ ﻗﺎدﻣً ﺎ ﻧﺤﻮه أم ﻳُﻠﻘِ ﻲ ﻧﻔﺴﻪ ﺗﺤﺖ ﺳﻨﺎﺑﻜﻪ؟ ﻓﺎﻟﺸﻜﻮﻛﻲ ﻳﺠﺐ أن ﻳُﺤﺠﻢ ﻋﻦ إﺻﺪار أﻳﺔ آراء ﺑﺸﺄن ﻫﺬه اﻷﻣﻮر وﻋﻠﻴﻪ أن ﻳﺘﺤﻤﻞ اﻟﻌﻮاﻗﺐ .وﻗﺪ ً ﺳﺆاﻻ ﻣﺸﺎﺑﻬً ﺎ» :ملﺎذا ﻻ ﻳُﻘﺪِم إﻧﺴﺎ ٌن ﻳُﺤﺠﻢ ﻋﻦ إﺻﺪار اﻷﺣﻜﺎم َﺳﺄل أﺣ ُﺪ اﻟﻜﺘﺎب ﻗﺪﻳًﻤﺎ ﻋﲆ اﻟﺪﻓﻊ ﺑﻨﻔﺴﻪ ﻣﻦ ﻓﻮق ﺣﺎﻓﺔ اﻟﺠﺒﻞ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ إﻟﻘﺎء ﻧﻔﺴﻪ ﰲ ﺣﻮض؟ أو ملﺎذا ﻻ ﻳﺴري ﻧﺎﺣﻴﺔ اﻟﺤﺎﺋﻂ إذا أراد أن ﻳﺨﺮج ﻣﻦ ﺑﻴﺘﻪ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ اﻟﺘﻮﺟﻪ ﻧﺎﺣﻴﺔ اﻟﺒﺎب؟« أﻣﺎ أرﻛﺴﻴﻼوس وﻣَ ﻦ ﻋﲆ ﺷﺎﻛﻠﺘﻪ ﻣﻦ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻓﻜﺎﻧﺖ ﻟﺪﻳﻬﻢ ردود ﻋﲆ ﻫﺬه اﻷﺳﺌﻠﺔ. ﻓﺎﻟﺤﻮض ﻫﻮ املﻜﺎن اﻟﺬي ﻳﺒﺪو ﻣﻼﺋﻤً ﺎ ﻟﺸﺨﺺ ﻳَ َﻮ ﱡد أن ﻳﻨﻈﻒ ﺟﺴﺪه ،وﻫﺬا ﻳﻔﴪ ملﺎذا ﻳﺘﻮﺟﻪ ﺷﻜﻮﻛﻲ إﱃ اﻟﺤﻤﺎم إذا أراد اﻟﻨﻈﺎﻓﺔ ،وإذا ﻛﺎن اﻟﺠﺒﻞ ﻳﺒﺪو ﻛﻤﺎ ﻳﺒﺪو اﻟﺤﻮض ﻓﺴﻴﺬﻫﺐ اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ إﻟﻴﻪ دون ﺗﺮدﱡد ،وﺑﻤﺎ أﻧﻪ ﻻ ﻳﺒﺪو ﻛﺬﻟﻚ ﻓﺈن اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ ﻻ ﻳﺘﻮﺟﱠ ﻪ إﻟﻴﻪ. وﻛﺬﻟﻚ ﻓﺎﻟﺒﺎب ﻳﺒﺪو ﻫﻮ َ املﻨﻔﺬ اﻷﻧﺴﺐ ﻟﻠﺨﺮوج ﻣﻦ املﻨﺰل ،واﻟﺨﺒﺰ ﻳﺒﺪو أﻧﻪ ﻳ َُﻐﺬﱢي اﻟﺠﺴﺪ، وﻛﺬﻟﻚ ﻓﺈن ﻓﻜﺮة اﻟﺪﻫﺲ ﺗﺤﺖ ﺳﻨﺎﺑﻚ اﻟﺨﻴﻞ ﻻ ﺗﺒﺪو ﺟﻴﺪة .ﻓﺄرﻛﺴﻴﻼوس ﻳﺮى أﻧﻪ ﻋﲆ 361
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ُﺤﺠﻢ ﻋﻦ اﻟﻘﻄﻊ ﺑﺤﻘﻴﻘﺔ اﻷﺷﻴﺎء ﻓﺈن ﻟﻪ َﻗ ْﺪ ٌر ﻣﻦ اﻟﺤﺮﻳﺔ ﻳُﻤَ ﱢﻜﻨ ُ ُﻪ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ ﻳ ِ ﻣﻦ اﻻﻋﱰاف ﺑﺄﻧﻬﺎ »ﺗﻈﻬﺮ« ﻋﲆ ﻧﺤﻮ أو آﺧﺮ .وﻛﻤﺎ ﻗﺎل ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس ذات ﻳﻮم» :ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻨﻲ اﻟﺘﺄ ﱡﻛﺪ ﻣﻦ ﺣﻼوة ﻣﺬاق اﻟﻌﺴﻞ ،وﻟﻜﻨﻨﻲ أواﻓﻖ ﻋﲆ أﻧﻪ ﻳﺒﺪو ﻛﺬﻟﻚ «.ﻓﺎﻟﺸﻜﻮﻛﻲ ﺗﺒﺪو ﻟﻪ اﻷﺷﻴﺎء ﻛﻤﺎ ﺗﺒﺪو ﻷي إﻧﺴﺎن؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﻬﻮ ﻳﺘﴫف ﻛﻐريه ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﰲ أﻣﻮر اﻟﺤﻴﺎة اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ .ﻓﻬﻮ ﻳﺘﺒﻊ ﻏﺮﻳﺰﺗﻪ وﻳﺴﻠﻚ و ً َﻓﻘﺎ ﻟﻠﻌﺎدات وﻳﺘﴫف ﰲ اﻟﻐﺎﻟﺐ ﺑﺸﻜﻞ ﻣﻌﻘﻮل، وﻟﻜﻨﻪ ﻻ ﻳﺘﺒﻨﱠﻰ أﻳﱠﺔ آراء ﻋﻦ اﻟﺤﻴﺎة أو ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﻌﺎﻟﻢ ،أو ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل ﺳﻴﻜﺴﺘﻮس ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪُ» :ﻳﺘﺒﻊ اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ اﻟﻘﻮاﻧني واﻟﻌﺎدات واملﺸﺎﻋﺮ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ« وﻟﻜﻨﻪ ﻳﻌﻴﺶ »ﺑﻼ آراء أو أﺣﻜﺎم«؛ وﻟﺬﻟﻚ إذا ﺳﺄﻟﺘﻪ ﻋﻤﺎ إذا ﻛﺎن اﻟﺨﺒﺰ ﺑﺎﻟﻘﻄﻊ ﻳ َُﻐﺬﱢي اﻟﺠﺴﺪ ﻓﺈﻧﻪ ﻟﻦ ﻳﺠﻴﺒﻚ؛ ﻷﻧﻪ ُﺤﺠﻢ ﻋﻦ ﺗﻜﻮﻳﻦ رأي ﻋﻦ ﻫﺬا اﻷﻣﺮ ،وﻟﻜﻨﻚ رﻏﻢ ذﻟﻚ ﺳﺘﺠﺪه داﺋﻤً ﺎ ﻳﺠﻠﺲ إﱃ ﻣﻮاﺋﺪ ﻳ ِ اﻟﻄﻌﺎم. ُﺤﺠﻢ ﻋﻦ اﻟﺤﻜﻢ ﻋﲆ ﻛﻮن اﻟﺨﺒﺰ ﻣﻐﺬﻳًﺎ ﻟﻠﺠﺴﺪ وﻛﺬﻟﻚ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﺴﺄل ﻛﻴﻒ ﻹﻧﺴﺎن ﻳ ِ أم ﻻ ،ﻣﺎ دام ﻳﻀﻌﻪ داﺋﻤً ﺎ ﰲ َﻓ ِﻤﻪ؟ وﻟﻜﻨﻨﺎ ﺳﻨﺆﺟﻞ اﻹﺟﺎﺑﺔ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﺴﺆال إﱃ ﻣﻮﺿﻊ ﻻﺣﻖ .ﺣﺘﻰ اﻵن رأﻳﻨﺎ ﻛﻴﻒ ﺣﺎول أرﻛﺴﻴﻼوس ﴍح ﻃﺒﻴﻌﺔ ﺣﻴﺎة اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ وﺳﻠﻮﻛﻪ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﺤﻴﺎة .وﻗﺪ ذﻫﺐ ﻛﺎرﻧﻴﺎدس )ﺣﻮاﱄ ١٩٢–٢١٩ق.م( أﺣﺪ رؤﺳﺎء اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ ﺑﻌﻴﺪًا ﰲ ﻣﺤﺎوﻟﺘﻪ ﴍح ﺣﻴﺎة اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ إﻻ أن آراءه ﻛﺎﻧﺖ أﺧﻒ وﻃﺄ ًة ﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ اﻋﺘﻨﻘﻬﺎ ُﺤﺠﻢ اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ ﻋﻦ إﺻﺪار اﻷﺣﻜﺎم ﺑريو .ﻓﺮأى أﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﻣﻦ اﻟﴬوري وﻻ ﻣﻦ املﻤﻜﻦ أن ﻳ ِ ﻋﲆ اﻷﻣﻮر ﻛﺎﻓﺔ؛ ﻓﺮﻏﻢ أن اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ ﻻ ﻳُﻤﻜِﻨﻪ اﻟﺘﺴﻠﻴﻢ ﺑﺼﺤﺔ أﻣﺮ أو رأي ﻓﻤﻦ املﺴﻤﻮح ﻟﻪ — ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل ﻛﺎرﻧﻴﺎدس — أن ﻳُﺒﺪِي رأﻳًﺎ ﺣﻮل ﻣﺎ ﻳﺒﺪو ﰲ ﺑﻌﺾ اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ أو ﻳﻌﱰف ﺑﺼﺤﺔ ﺑﻌﺾ اﻷﺷﻴﺎء ﻇﺎﻫﺮﻳٍّﺎ. ﻛﺎﻧﺖ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ ﺗﻨﺤﻮ ﻧﺤﻮًا ﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻦ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ ﺧﻼل ﻫﺬه اﻟﻔﱰة ،أو ﻫﻜﺬا ﺑﺪا اﻷﻣﺮ ﰲ ُ أﻋني أﺗﺒﺎع ﺑريو ،واﺳﺘﻤﺮ ﻛﺎرﻧﻴﺎدس ﰲ اﻟﺘﴫﱡف ﻛﺎﻟﺸﻜﻮﻛﻴني ﻇﺎﻫﺮﻳٍّﺎ ،ﻓﻜﺎن ﻳﺘﺤﺎور وﻳﺠﺎدل ﰲ ﻛﻞ اﻷﻣﻮر واﻟﻘﻀﺎﻳﺎ ،وﻛﺎن ﻳﻨﺠﺢ ﰲ ﺗﻔﻨﻴﺪ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﺤﺠﺞ اﻟﺘﻲ ﻳﺘﺴﻠﺢ ﺑﻬﺎ اﺳﺘﻤﺮاره ﰲ ﻣﻤﺎرﺳﺔ ﺑﻌﺾ ﺷﻌﺎﺋﺮ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﻓﻘﺪ ﱠ ﺗﺨﲆ ﻋﻦ اﻵﺧﺮون .وﻟﻜﻦ رﻏﻢ ِ اﻹﻳﻤﺎن ﺑﻬﺎ ،ﻛﻤﺎ ﻓﻌﻞ ﻓﻴﻠﻮ اﻟﻼرﻳﴘ )ﺣﻮاﱄ ٨٣–١٦٠ق.م( أﺣﺪ ﻗﺎدة اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ ،ﻓﻴﻘﺎل إﻧﻪ أ ﱠﻛﺪ ﻋﲆ ﺻﺤﺔ ﻋﺪة أﻣﻮر وﺻﺪﱠﻗﻬﺎ ،ﻛﻤﺎ أﺑﺪى اﻫﺘﻤﺎﻣً ﺎ ﺑﺒﻌﺾ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت واملﺬاﻫﺐ، وﻫﻮ ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻴَﺼﺪُر ﻣﻦ أﺣﺪ أﺗﺒﺎع ﺑريو املﺨﻠﺼني. وﻗﺪ ﻛﺎن أﻧﻴﺴﻴﺪﻳﻤﻮس أﺣﺪ ﻫﺆﻻء اﻷﺗﺒﺎع املﺨﻠﺼني؛ ﻓﻘﺪ اﻧﻔﺼﻞ ﻋﻦ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ ﰲ ً اﺗﺠﺎﻫﺎ أﻛﺜﺮ اﻟﺘﺰاﻣً ﺎ ﺑﺎﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ .وﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻟﺤﺮﻛﺔ إﺣﻴﺎء اﻟﻘﺮن اﻷول ﻗﺒﻞ املﻴﻼد ﻟﻴُ َﺆ ﱢﺳ َﺲ 362
اﻟ ﱡ ﻄﺮق اﻟﺜﻼث إﱃ ﱠ اﻟﺴﻜِﻴﻨﺔ :اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ واﻟﺮواﻗﻴﺔ واﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ
ﻛﺎرﻧﻴﺎدس.
أﻓﻜﺎر ﺑريو اﻟﺘﻲ ﻗﺎدﻫﺎ ﺻﺪًى واﺳﻊ أو ﺗﺄﺛري ﻛﺒري ،ﺑﻞ ﻟﻢ ﺗﺆﺛﱢﺮ ﻋﲆ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺑﴚء ذي ﺧﻄﺮ ،ﻓﻜﺘﺐ ﺷﻴﴩون ﺑﻌﺪ ﻋﻘﺪﻳﻦ ﻣﻦ اﻟﺰﻣﺎن ﻋﻦ أﻓﻮل ﻧﺠﻢ ﺑريو ،ﺛُﻢ ﺟﺎء ﺳﻴﻨﻴﻜﺎ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﺑﻘﺮن ﻣﻦ اﻟﺰﻣﺎن ﻟﻴﺆ ﱢﻛ َﺪ ﻋﲆ اﻧﻘﺮاﺿﻬﺎ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ .وﻟﻜﻨﻬﻤﺎ ﻛﺎﻧﺎ ﻣﺨﻄﺌَ ْني ﰲ ﻫﺬا ً ﺣﺮﻛﺔ ﻣﻨﺘﴩة ﻋﲆ ﻣﺴﺘﻮى ﺷﻌﺒﻲ واﺳﻊ ،ﻓﻘﺪ ﺗﻄﻮﱠرت اﻟﺸﺄن؛ ﻓﺮﻏﻢ أن اﻟﺒريوﻧﻴﺔ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺑﻌﺪ ﻋﻬﺪ أﻧﻴﺴﻴﺪﻳﻤﻮس ،ﺑﻞ وﺻﻠﺖ إﱃ ذروﺗﻬﺎ اﻟﻔﻜﺮﻳﺔ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﺎت ﺳﻴﻜﺴﺘﻮس إﻣﺒريﻳﻜﻮس املﻮﻟﻮد ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ﰲ ﻣﻨﺘﺼﻒ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻧﻲ املﻴﻼدي اﻟﺬي ﻛﺎﻧﺖ ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ ﻣﻦ أﻛﱪ اﻟﺬﺧﺎﺋﺮ اﻟﺘﻲ أﺛﱠﺮت ﻋﲆ اﻟﻔﻜﺮ اﻷوروﺑﻲ اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ وﺷ ﱠﻜ َﻠﺘﻪ ﻣﻨﺬ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ إﱃ ﻳﻮﻣﻨﺎ ﻫﺬا. ﻓﻴُﻤ ِﻜﻦ وﺻﻒ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ املﻮاﻗﻒ اﻟﻔﻜﺮﻳﺔ ﻃﻴﻠﺔ اﻟﻘﺮون اﻷرﺑﻌﺔ املﻨﴫﻣﺔ ﺑﺄﻧﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺻﺪًى ﻟﻬﺬه اﻵراء ،ﺳﻮاء ﺑﻤﺤﺎوﻟﺔ اﻟ ﱠﺮ ﱢد ﻋﻠﻴﻬﺎ أو ﺑﺎﻻﺗﻔﺎق ﻣﻌﻬﺎ .وﻟﻜﻦ ﺳﻴﻜﺴﺘﻮس ﻟﻢ ﻳﺪ ِﱠع أﺻﻮﻟﻴﺔ آراﺋﻪ اﻟﺘﻲ اﻋﺘﻘﺪﻫﺎ ،ﻓﻜﺜري ﻣﻦ آراﺋﻪ اﺳﺘﻘﺎﻫﺎ ﻣﻦ أﻧﻴﺴﻴﺪﻳﻤﻮس وﺷﺨﺺ آﺧﺮ ﻏري ﻣﻌﺮوف ﺑﺎملﺮة ﻳﺪﻋﻰ أﺟﺮﻳﺒﺎ ،وﻟﻜﻦ ﻟﻢ ﺗﺼﻞ إﻟﻴﻨﺎ آراء ﻫﺬﻳﻦ اﻟﺮﺟﻠني ﻛﻤﺎ وﺻﻠﺖ ﻛﺘﺎﺑﺎت
363
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﺳﻴﻜﺴﺘﻮس .وﺑﻤﺎ أن أرﻛﺴﻴﻼوس وﺑريو ﻟﻢ ﻳُ َﻜ ﱢﻠ َﻔﺎ ﻧﻔﺴﻴﻬﻤﺎ ﻋﻨﺎءَ ﻛﺘﺎﺑﺔ أيﱟ ﻣﻦ أﻓﻜﺎرﻫﻤﺎ، ﻓﺈن ﺳﻴﻜﺴﺘﻮس ﻫﻮ اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ اﻟﻮﺣﻴﺪ اﻟﺬي واﺗﺘﻪ اﻟﻔﺮﺻﺔ ﻟﻠﺘﻌﺒري ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻪ. ﺷﻬﺪ اﻟﻘﺮن اﻷول ﺑﻌﺪ املﻴﻼد ﺗﺴﻤﻴﺔ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴني ﺑﻬﺬا اﻻﺳﻢ ،ﻓﻜﺎﻧﻮا ﰲ ِ َ اﻟﺴﺎﺑﻖ ﻳُﺪْﻋَ ﻮْن اﻟﺒريوﻧﻴني أو أﺗﺒﺎع ﺑريو ،وﻟﻜﻦ اﺑﺘﺪاءً ﻣﻦ زﻣﻦ أﺟﺮﻳﺒﺎ أﻃﻠﻘﻮا ﻋﲆ أﻧﻔﺴﻬﻢ اﺳﻢ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴني .وﺗﺮﺟﻤﺔ اﻟﻜﻠﻤﺔ ﻣﻦ اﻟﻼﺗﻴﻨﻴﺔ ﺗﻌﻨﻲ »اﻟﺒﺎﺣﺜني« أو »املﺴﺘﻘﺼني« .ﻋ ﱠﺮف ﺳﻴﻜﺴﺘﻮس اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺒريوﻧﻴﺔ اﻟﺘﻲ أﺣﻴﺎﻫﺎ ﰲ إﻃﺎر ﺛﻼث ﻧﻘﺎط ﺗﺘﺒﺪﱠى ﻟﺪى اﻟﺒﺤﺚ ﰲ أي ﻣﻮﺿﻮع :ﻓﺈﻣﺎ أن ﻳﻈﻦ اﻟﺒﺎﺣﺚ أﻧﻪ ﻋﺜﺮ ﻋﲆ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ،أو أﻧﻪ ﻻ ﺳﺒﻴﻞ ﻟﻠﻮﺻﻮل إﱃ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ،أو اﻻﻛﺘﻔﺎء ﺑﺎﻟﺒﺤﺚ ﻋﻨﻬﺎ .واﻟﺸﻜﻮﻛﻴﻮن ﻫﻢ ﻫﺆﻻء اﻟﻘﻮم املﻨﻬﻤﻜﻮن ﰲ ٍ ﺑﺤﺚ داﺋﻢ ﻋﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ دون اﻻﻫﺘﺪاء إﻟﻴﻬﺎ ،أﻣﺎ أرﺳﻄﻮ وأﺑﻴﻘﻮر واﻟﺮواﻗﻴﻮن ﻓﻬﻢ ﻧﻤﺎذج ُ ﻟﻬﺆﻻء اﻟﺬﻳﻦ ادﱠﻋَ ﻮُا اﻟﻌﺜﻮر ﻋﲆ إﺟﺎﺑﺎت ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﻟﺒﻌﺾ اﻟﻈﻮاﻫﺮِ ، وﻳﺼﻔﻬﻢ ﺳﻴﻜﺴﺘﻮس ﺑ »اﻟﺪوﺟﻤﺎﺋﻴني« ،أﻣﺎ ﺑريو ﻓﻜﺎن ً ﻣﺜﺎﻻ راﺋﻌً ﺎ ﻋﲆ ﻣﻘﺎوﻣﺔ إﻏﺮاء اﻟﺪوﺟﻤﺎﺋﻴني ﰲ اﻹﺟﺎﺑﺔ ﻋﻦ أي أﺳﺌﻠﺔ. ُﺤﺠﻤﻮن ﻋﻦ اﻟﺘﺴﻠﻴﻢ ﺑﺒﻌﺾ اﻹﺟﺎﺑﺎت؟ وﻟﻜﻦ ملﺎذا ﻳﻠﺠﺄ اﻟﻨﺎس إﱃ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ وﻳ ِ ﻳﺠﻴﺐ ﺳﻴﻜﺴﺘﻮس ً ﻳﺮﺟﻊ إﱃ اﻟﻘﺪْر اﻟﻬﺎﺋﻞ ﻣﻦ اﻟﻄﻤﺄﻧﻴﻨﺔ واﻻﺳﺘﻘﺮار اﻟﺬي ﻗﺎﺋﻼ إن اﻟﺴﺒﺐ ِ ً ﱢ ﻣﺼﺎدﻓﺔ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﺎن اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﻮن ﻳﻮﻓﺮه اﻹﺣﺠﺎم ﻋﻦ اﻟﺘﺴﻠﻴﻢ ﺑﺎﻹﺟﺎﺑﺎت ،وﻫﻮ ﻣﺎ وﻗﻊ اﻷواﺋﻞ )ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل ﺳﻴﻜﺴﺘﻮس( ﻳﺴﻌَ ﻮْن إﱃ اﻟﻌﺜﻮر ﻋﲆ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻷﺷﻴﺎء ،ﻓﻠﻤﺎ ﻋﺠﺰوا ﻋﻦ اﻟﻮﺻﻮل إﻟﻴﻬﺎ ﱠ ﺗﻮﻗ ُﻔﻮا ﻋﻦ ﺗﺒﻨﱢﻲ اﻵراء اﻟﻘﺎﻃﻌﺔ أو إﺻﺪار اﻷﺣﻜﺎم ،ﻓﺸﻌﺮوا ﺑﻌﺪﻫﺎ أﻧﻬﻢ ﱡ ﻳَﺤْ َ اﻟﺘﻮﻗﻒ ﻋﻦ ﺑﻘﺪر واﻓﺮ ﻣﻦ اﻟﻄﻤﺄﻧﻴﻨﺔ؛ وﺑﺬﻟﻚ وﺟﺪوا أن اﻟﻄﻤﺄﻧﻴﻨﺔ ﺗﻜﻤﻦ ﰲ ﻈﻮ َْن ٍ إﺻﺪار اﻷﺣﻜﺎم وﻟﻴﺲ ﰲ اﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ .وﻗﺪ ﴍح ﺳﻴﻜﺴﺘﻮس ﻫﺬه اﻟﻨﻘﻄﺔ ﻣﻦ ﺧﻼل ﻗﺼﺔ ﺗﺪور ﺣﻮل رﺳﺎم ﻳُﺪﻋَ ﻰ أﺑﻴﻠﻴﺲ ﻛﺎن ﻳﺮﺳﻢ ﺣﺼﺎﻧًﺎ وأراد رﺳﻢ رﻏﻮة ﺗﺨﺮج ﻣﻦ ﻓﻤﻪ ،ﻓﺠ ﱠﺮب ﺟﻤﻴﻊ اﻷﺳﺎﻟﻴﺐ واﻷدوات ﺣﺘﻰ ﻛﺎد ﻳﻔﻘﺪ أﻋﺼﺎﺑﻪ ،ﻓﺎﻟﺘﻘﻂ ﻣﻦ اﻷرض إﺳﻔﻨﺠﺔ ﻛﺎن ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻬﺎ ﰲ ﻣﺴﺢ ﻓﺮﺷﺎﺗﻪ ،وأﻟﻘﻰ ﺑﻬﺎ ﺗﺠﺎه اﻟﻠﻮﺣﺔ ،ﻓﺼﻨﻌﺖ اﻹﺳﻔﻨﺠﺔ اﻟﺘﻲ أﻟﻘﺎﻫﺎ اﻷﺛ َﺮ اﻟﺬي أراده ﺗﺤﺪﻳﺪًا ﰲ اﻟﻠﻮﺣﺔ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣُﺬﻫِ ٍﻞ .وﻛﺬﻟﻚ ﻫﻮ اﻷﻣﺮ ﻣﻊ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴني ،ﻓﺈﻧﻬﻢ داﺋﻤً ﺎ ﻳ ُُﻠﻘﻮن اﻹﺳﻔﻨﺠﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺆﺗﻲ ﺛﻤﺎرﻫﺎ داﺋﻤً ﺎ؛ »ﻓﻌﻨﺪﻣﺎ ﻳﺘﻮﻗﻔﻮن ﻋﻦ ﺗﺒﻨﻲ اﻵراء ﺗﺨﻴﻢ ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻟﻄﻤﺄﻧﻴﻨﺔ ﺑﻔﻌﻞ اﻟﺼﺪﻓﺔ«. ﺗﻜﺒﱠﺪ ﺳﻴﻜﺴﺘﻮس اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﻌَ ﻨَﺎء ﰲ ﴍح ﻓﺎﺋﺪة اﻹﺣﺠﺎم ﻋﻦ ﺗﺒﻨﱢﻲ اﻵراء ،ﻓﻮﺿﺢ أن اﻟﺨﻄﻮة اﻷوﱃ ﺗﻜﻤُﻦ ﰲ اﻟﺘﺴﻠﻴﻢ ﺑﺄن ﺟﻤﻴﻊ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴني ﻻ ﻳﺘﺒﻨﱠﻮ َْن أﻳﺔ ﻧﻈﺮﻳﺎت ﻓﻠﺴﻔﻴﺔ، ﺣﺘﻰ ﺗﻠﻚ اﻷﻗﻮال اﻟﺘﻲ ﻣﻦ َﻗ ِﺒﻴﻞ» :ﻻ ﳾء ﻳُﻤﻜِﻦ ﻣﻌﺮﻓﺘﻪ« ،أو اﻟﻘﻮل إن »ﻛﻞ ﳾء ﻧﺴﺒﻲ«. 364
اﻟ ﱡ ﻄﺮق اﻟﺜﻼث إﱃ ﱠ اﻟﺴﻜِﻴﻨﺔ :اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ واﻟﺮواﻗﻴﺔ واﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ
َ وﺟﺪت ﺷﻜﻮﻛﻴٍّﺎ ﻳﻨﺎدي ﺑﺄن »ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺤﻜﻢ ﻋﲆ ﳾءٍ ﻣﺎ« ،أو ﻳﻘﻮل »ﻟﻜﻞ ﻧﻈﺮﻳﺔ ﻓﺈذا أﻣﺮ ﻣﺎ ،ﺗﻮﺟﺪ ﻧﻈﺮﻳﺔ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻋﲆ ﻧﻔﺲ اﻟﺪرﺟﺔ ﻣﻦ اﻟﺼﺤﺔ ﺗﺒﺤﺚ ﰲ اﻷﻣﺮ ﺗﺪور ﺣﻮل ٍ ﻧﻔﺴﻪ« ،ﻓﻼ ﻳﻌﱪ ذﻟﻚ إﻻ ﻋﻦ ﻋﺪم اﻗﺘﻨﺎﻋﻪ ﺑﺄيﱟ ﻣﻦ اﻵراء املﺘﺪاوﻟﺔ ﺣﻮل اﻷﻣﺮ ﻣﺤﻞ اﻟﻨﻘﺎش. وﻫﺬا ﻳﻘﻮدﻧﺎ إﱃ أﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﺑﺎﻹﻣﻜﺎن وﺻﻒ اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ ﺑﺎﻟﺪوﺟﻤﺎﺋﻴﺔ؛ ﻓﻼ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺤﺮﺟﻪ ﺑﺴﺆال ﻣﺜﻞ» :أﻧﱠﻰ ﻟﻚ أن ﺗﻌﺮف اﺳﺘﺤﺎﻟﺔ ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ؟« أو »ﻛﻴﻒ ﻟﻚ ﺑﻤﻌﺮﻓﺔ أن ﻫﻨﺎك داﺋﻤً ﺎ ﺑﺪاﺋﻞ ﻋﺪﻳﺪة وآراء ﺑﺪﻳﻠﺔ؟« ﻷﻧﻪ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻻ ﻳﺪﱠﻋِ ﻲ ذﻟﻚ ،ﻓﺮﺑﻤﺎ ﻳ ﱠ ُﺘﻮﺻﻞ إﱃ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ ﻳﻮﻣً ﺎ ﻣﺎ ،ورﺑﻤﺎ ﻳﺄﺗﻲ ﻳﻮم ﻳﺘﻮﺻﻞ ﻓﻴﻪ ﺷﺨﺺ ﻣﺎ إﱃ ﻧﻈﺮﻳﺔ ﺗﺒﺪو ﻣﻘﻨﻌﺔ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻏريﻫﺎ ،إﻻ أن اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ ﻻ ﻳﻌﺘﻘﺪ وﺻﻮل ﻫﺬا اﻟﻴﻮم ﺑﻌﺪ. ٍ ِ ﻣﻌﺎرﺿﺔ ،ﻓﻬﻮ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻻ ﻧﻈﺮ وﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﻌﺎرض اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ أﺣﺪ َُﻫﻢ ﺑﻌﺮض وﺟﻬﺔ ٍ ﻳﺘﺒﻨﱠﻰ وﺟﻬﺔ اﻟﻨﻈﺮ اﻷﺧﺮى ،ﻓﻜﻞ ﻣﺎ ﻳﻘﻮم ﺑﻪ ﻫﻮ ﻋﺮض اﻟﺒﺪاﺋﻞ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﺠﺪال ،ﻓﻌﻨﺪﻣﺎ ُﺤﺎول إﺛﺒﺎت ﻳﺴﺘﺸﻬﺪ ﺳﻴﻜﺴﺘﻮس ﺑﺎﻟﻌﻘﺎﺋﺪ اﻟﻌﺪﻳﺪة املﻮﺟﻮدة ﻟﺪى ﻣﺨﺘﻠﻒ اﻷﻣﻢ ،ﻓﻬﻮ ﻻ ﻳ ِ ﺻﺤﺔ ﻫﺬه اﻟﻌﻘﺎﺋﺪ أو إﺛﺒﺎت ﺧﻄﺄ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴني ،وإﻧﻤﺎ ﻳﺴﻌﻰ إﱃ زﻋﺰﻋﺔ إﻳﻤﺎن اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴني ﻟﻴﺠﻌﻠﻬﻢ أﻛﺜﺮ اﺳﺘﻌﺪادًا َ ﻟﻘﺒُﻮل آراء اﻵﺧﺮﻳﻦ .وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻔﴪ ﻋﺪم ﻧﺠﺎح ﻫﺠﻮم أﺑﻴﻘﻮر ﻋﲆ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ ،ﻓﻘﺪ ﻗﺎل أﺑﻴﻘﻮر وﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس إن اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ اﻟﺬي ﻳﻤﺎرس اﻟﺸﻚ ﰲ ﺟﻤﻴﻊ اﻷﻣﻮر ﻟﻦ ﺗﻜﻮن ﻟﺪﻳﻪ أرﺿﻴﺔ ﺛﺎﺑﺘﺔ ﻳ ِﻘﻒ ﻋﻠﻴﻬﺎ؛ أي ﻟﻴﺲ ﻟﺪﻳﻪ ﻣﻌﺎﻳري ﻳﻘﻴﺲ ﺑﻬﺎ ﺻﺤﺔ اﻷﻣﻮر وﺑﺬﻟﻚ ﻓﻼ ﺟﺪوى ﻣﻦ ادﱢﻋﺎﺋِﻪ زﻳﻒ املﻌﺘﻘﺪات اﻷﺧﺮى .أﻣﺎ اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ اﻟﺤﻖ ﻓﻬﻮ اﻟﺬي ﻻ ﻳﺴﻌﻰ إﱃ ﺗﻜﺬﻳﺐ املﻌﺘﻘﺪات واﻵراء اﻷﺧﺮى ،ﻓﻬﻮ ﻳﺤﺎول أن ﻳﺠﻌﻠﻨﺎ ﻧﺘﺴﺎءل ﺑﺸﺄﻧﻬﺎ ﻓﺤﺴﺐ ،ﻋﲆ أﺳﺎس أن ﻫﺬا ﺳﻴﺠﻨﺒﻨﺎ اﻟﻮﻗﻮع ﰲ َﴍَك اﻟﺪوﺟﻤﺎﺋﻴﺔ؛ وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺎﻟﺸﻜﻮﻛﻲ ﻻ ﻳﺤﺘﺎج إﱃ أرﺿﻴﺔ ﻳﻘﻒ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑﻞ ﻳﺮﻳﺪ أن ﻳُﻮﻗِﻒ اﻷﺣﻜﺎم واﻵراء ﻣﻦ اﻟﺬﻳﻮع واﻻﻧﺘﺸﺎر وﺣﺴﺐ. وﻗﺪ ﺣﺎول ﺳﻴﻜﺴﺘﻮس ﻛﺬﻟﻚ إﻳﻀﺎح ﻛﻴﻔﻴﺔ اﻧﺴﺠﺎم ﻫﺬا اﻟﺘﺤﻠﻴﻖ اﻟﻔﻜﺮي ﻣﻊ اﻟﺤﻴﺎة ﱡ اﻟﺘﻮﻗﻒ ﻋﻦ ﺗﺒﻨﱢﻲ اﻵراء واﻷﺣﻜﺎم ﻟﻦ ﻳﻨﻄﺒﻖ ﻋﲆ ﻛﻞ ﺻﻐرية وﻛﺒرية اﻟﻌﺎدﻳﺔ؛ ﻓﻘﺎل إن ﻫﺬا ﰲ اﻟﺤﻴﺎة ،وإﻧﻤﺎ ﻋﲆ اﻷﻣﻮر اﻟﺘﻲ ﻳﻜﺜُﺮ اﻟﺨﻼف ﺣﻮﻟﻬﺎ .ﻛﻤﺎ ﻳﺮى ﺳﻴﻜﺴﺘﻮس ﴐورة ﺗﺮك اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ ﻟﻜﻞ اﻷﻣﻮر اﻟﺘﻲ ﻳﺘﺠﺎدل اﻟﻨﺎس ﺑﺸﺄﻧﻬﺎ أو املﻮﺿﻮﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺘﺎج إﱃ اﻟﺒﺤﺚ واﻟﺘﻔﻜري ﻋﲆ ﺣﺎﻟﻬﺎ ﻗﻴﺪ اﻟﺒﺤﺚ .إﻻ أن ﻓﻜﺮة ﻋﺪم إﺻﺪار أﺣﻜﺎم ﻋﲆ اﻷﻣﻮر أو اﻟﻘﻄﻊ ﺑﺼﺤﺔ أﺣﺪﻫﺎ دون ﻏريه ﻻ ﺗﻌﻨﻲ ﻧﺒﺬ اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ ﻟﻠﺘﻌﺒري ﻋﻦ اﻷﺷﻴﺎء ﻛﻤﺎ ﺗﻈﻬﺮ ﻟﻪ ،ﻓﻴﻤﻜﻦ أن ﻳﻘﻮل ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل إﻧﻪ »ﻳﺸﻌﺮ« ﺑﺎﻟﺤﺮ أو اﻟﱪد )أو ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل ﺗﻴﻤﻮن: اﻟﻌﺴﻞ »ﻳﺒﺪو« ﺣُ ﻠ َﻮ املﺬاق( ،وﻟﻪ أن ﻳﻘﻮل ﻛﺬﻟﻚ إن اﻟﺨﺒﺰ »ﻳﺒﺪو« ﻣﻐﺬﻳًﺎ ﻟﻠﺠﺴﺪ ،أو أن 365
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻳﻘﻮل إن اﻟﻄﻘﺲ »ﻳﺒﺪو« وﻛﺄﻧﻪ ﻳﻮﺷﻚ أن ﻳﺴﻮء .ﻓﻔﻜﺮة ﻋﺪم اﻟﻘﻄﻊ ﺑﺼﺤﺔ دﻟﻴﻞ ﻣﺎ أو اﻋﺘﻨﺎق رأي ﻣﺎ ﻻ ﺗُﺜﻨﻲ اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ ﻋﻦ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ أﻣﻮر ﺑﺴﻴﻄﺔ وﺗﺎﻓﻬﺔ ﻛﺘﻠﻚ؛ ﻷن ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻷﺣﺎدﻳﺚ ﻋﻦ اﻟﻄﻘﺲ أو ﺗﻐﺬﻳﺔ اﻟﺨﺒﺰ ﻟﻠﺠﺴﺪ ﻻ ﺗُﻌ ﱡﺪ ﻣﻦ ﻗﺒﻴﻞ اﻋﺘﻨﺎق اﻵراء: ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻧﻘﻮل إن اﻟﺸﻜﻮﻛﻴني ﻻ ﻳﺘﺒﻨﱠﻮْن آراءً ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻻ ﻧﻌﻨﻲ ﺑﺬﻟﻚ … أﻧﻬﻢ ﻳﺮﻓﻀﻮن ﻛﻞ اﻷﻣﻮر وﻳﻨﺒﺬون ﻛﻞ ﳾء ،ﻓﺎﻟﺸﻜﻮﻛﻴﻮن ﻳُﺬﻋِ ﻨﻮن ﻟﻠﻤﺸﺎﻋﺮ اﻟﺘﻲ ﺗﺴﺘﻘﺒﻠﻬﺎ أﻋﻀﺎء ﺣِ ﱢﺴ ِﻬﻢ ﻣﻦ ﻣﺨﺘﻠﻒ اﻟﻈﻮاﻫﺮ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﺈﻧﻬﻢ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺸﻌﺮون ﺑﺎﻟﱪد أو اﻟﺤﺮ ﻟﻦ ﻳﻘﻮﻟﻮا» :أﻋﺘﻘﺪ أﻧﻨﻲ ﻻ أﺷﻌﺮ ﺑﺎﻟﺤﺮارة أو اﻟﱪودة «.وإﻧﻤﺎ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﻮن ﻫﻢ ﻣﻦ ﻳﺮﻓﻀﻮن ﺗﺒﻨﱢﻲ آراء ﺑﺨﺼﻮص املﺴﺎﺋﻞ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﺒﺪو واﺿﺤﺔ وﺟﻠﻴﺔ. واﻟﻌﻠﻮم ﻻ ﺗﺒﺤﺚ ﰲ اﻷﻣﻮر اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﻣﺜﻞ ﺷﻌﻮر اﻟﻔﺮد ﺑﺎﻟﺤﺮارة أو اﻟﱪودة ،ﻓﻬﺬه اﻷﻣﻮر ٍّ ﻣﺤﻼ ﻟﻨﺰاع أو ﺧﻼف ،وﻻ ﻳﻌﱰﻳﻬﺎ ﻏﻤﻮض وﻻ اﻟﺘﺒﺎس ﻳﺠﻌﻞ اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ ﻳﻠﻘﻲ ﻟﻬﺎ ﻟﻴﺴﺖ ً ﺑﺎﻻ .ﻳﻘﻮل ﺳﻴﻜﺴﺘﻮس إن اﻟﺸﻜﻮﻛﻴني ﻳﺴريون ﺧﻠﻒ املﻈﺎﻫﺮ اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ اﻟﻌﺎدﻳﺔ ﻛﻤﺎ ﻳﺴري اﻟﻄﻔﻞ اﻟﺼﻐري ﺧﻠﻒ و َِﺻﻴﱢﻪ ،واﻟﻮﴆ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ﻫﻮ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺘﻲ ﺗَ ُﻤ ﱡﺪﻧَﺎ ﺑﺒﻌﺾ اﻷﻓﻜﺎر واﻟﺨﱪات واﻟﺪواﻓﻊ؛ ﻓﻠﻺﻧﺴﺎن ﻣﻦ اﻟﻐﺮاﺋﺰ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻣﺎ ﻳﺪﻓﻌﻪ إﱃ ﱡ اﻟﺴﺒُﻞ اﻟﺘﻲ ﺗﻤﻜﻨﻪ ﻣﻦ إﺷﺒﺎع ﻫﺬه اﻟﻐﺮاﺋﺰ ،ﻓﺎﻟﺠﻮع ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل ﺳﻴﻜﺴﺘﻮس ﻳﻘﻮدﻧﺎ إﱃ اﻟﻄﻌﺎم؛ وﻟﻬﺬا اﻟﺴﺒﺐ ﻳﺘﻨﺎول اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ اﻟﻄﻌﺎم ﻛﺄي إﻧﺴﺎن ،ﻓﺎﻹﻗﺪام ﻋﲆ ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﺴﻠﻮك ﻳُﻌَ ﱡﺪ ﻣﻦ ﻗﺒﻴﻞ اﻻﺳﺘﺠﺎﺑﺔ اﻵﻟﻴﺔ ﻟﻠﻤﻈﺎﻫﺮ ،وﻟﻴﺲ ﻟﻠﺮأي أو اﻟﺤﻜﻢ دور ﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ ،ﻓﻬﺬا اﻟﺴﻠﻮك ﻳُﺸ ِﺒﻪ ٍ اﻛﱰاث ﺑﺄﺳﺒﺎب أﺧﺮى ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻌﻨﻲ أﻧﻪ إﻗﺪام اﻟﺒﻘﺮة ﻋﲆ ﺗﻨﺎوُل اﻟﻌﺸﺐ دون ﺗﻔﻜري أو ُﺤﺠﻢ ﻋﻦ اﻹدﻻء ﺑﻬﺎ. ﰲ ﻫﺬه اﻷﺣﻮال ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ﻣﺴﺎﺣﺔ ﻟﻶراء ﻟﻴ ِ وﻛﻤﺎ ﻳﻜﻮن اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ ﻋﲆ اﺳﺘﻌﺪاد إﱃ اﻟﺴري ﺧﻠﻒ املﻈﺎﻫﺮ ﻓﻴﻘﻮل إن اﻟﺨﺒﺰ ﻳﻐﺬي اﻟﺠﺴﺪ ،ﻓﻬﻮ ﻛﺬﻟﻚ ﻳﺮى أن اﻟﺴري ﻋﲆ املﻨﺤﺪرات أو ﰲ وﺳﻂ اﻟﻄﺮﻳﻖ أﻓﻜﺎر ﻻ ﺻﺤﺔ ﻟﻬﺎ ،وﻛﻤﺎ ﻗﺎل أرﻛﺴﻴﻼوس ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﺪاﻓﻊ ﻋﻦ ﺑريو ،ﻓﺈن اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ ﻻ ﺗَﺤُ ﻮل دون أن ﻳﺤﻴﺎ اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ ﺣﻴﺎ ًة آﻣﻨﺔ ﺧﺎﻟﻴﺔ ﻣﻦ اﻹﺻﺎﺑﺎت ،ﺑﻞ إن اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ ﻳﻌﻴﺶ ﺣﻴﺎة ﺗﻘﻠﻴﺪﻳﺔ ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ وﻓﻖ اﻟﻘﻮاﻧني اﻟﺘﻲ ﻳﺴري ﻋﻠﻴﻬﺎ املﺠﺘﻤﻊ ،ﻛﻲ ﻻ ﻳ َُﺴﺒﱢﺐَ ً ﻗﻠﻘﺎ أو اﺿﻄﺮاﺑًﺎ .وﻻ ﺷﻚ أن اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ ﻳ ُْﻀ َ ﻄ ﱡﺮ إﱃ اﻟﺘﺼﺪي ﻷي ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻳﻘﻮم ﺑﻬﺎ ﻣﻦ ﻻ ﻳﺘﺤﲆ ﺑﺎﻟﻘﺪر اﻟﻜﺎﰲ ﻣﻦ اﻟﺤﻜﻤﺔ ،ﻓﻴﺤﺎول اﻟﺪﻓﺎع ﻋﻦ اﻟﺘﻔﺴري اﻟﻌﻘﲇ ﻟﻬﺬه اﻟﻘﻮاﻧني أو ﺣﺘﻰ ﺗﻔﻨﻴﺪﻫﺎ أو ﻣﻌﺎرﺿﺘﻬﺎ، ﻓﻜﺎن اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ ﻟﻴﺘﺼﺪى ﺑﺎﻟﺮد ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﺸﺨﺺ أﻳٍّﺎ ﻛﺎن ﻣﻮﻗﻔﻪ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﻘﻮاﻧني؛ ﻟﻴﱪﻫﻦ 366
اﻟ ﱡ ﻄﺮق اﻟﺜﻼث إﱃ ﱠ اﻟﺴﻜِﻴﻨﺔ :اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ واﻟﺮواﻗﻴﺔ واﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ
أن املﺮء ﻋﻠﻴﻪ أن ﻳﺘﻮﻗﻒ ﻋﻦ إﺻﺪار اﻷﺣﻜﺎم أو ﺗﺒﻨﱢﻲ اﻵراء ﺑﺨﺼﻮص ﺻﺤﺔ أي ﻧﻮع ﻣﻦ اﻟﻘﻮاﻧني؛ ﻷن ﻫﻨﺎك داﺋﻤً ﺎ ﻣﺎ ﻳﻌﻀﺪ آراء اﻟﻄﺮﻓني ،وﻣﻦ اﻷﻓﻀﻞ أﻻ ﻳﺨﺘﻠﻖ املﺮء ﻫﺬه اﻟﻨﺰاﻋﺎت ﻣﻦ اﻷﺳﺎس ﻟﻴﻌﻴﺶ ﰲ وﻓﺎق ﻣﻊ ﻣﻈﺎﻫﺮ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ دون أن ﻳُ َﻜ ﱢﺪ َر ﻓﻜﺮه ﺑﻬﺎ .وﻟﻴﺲ اﻟﺪﻳﻦ ﻋﻦ ذﻟﻚ ﺑﺒﻌﻴﺪ ،ﺣﻴﺚ ﻳﻘﻮل ﺳﻴﻜﺴﺘﻮس» :ﻟﻦ ﻳﺮﻓﺾ اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ — ﻣﻦ ﻣﻨﻄﻠﻖ اﻟﺘﻮاﻓﻖ ﻣﻊ ﻋﺎداﺗﻪ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ واﻷﻓﻜﺎر اﻟﻌﺎﻣﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺘﺒﻌﻬﺎ اﻟﺠﻤﻴﻊ — ﻓﻜﺮة وﺟﻮد اﻵﻟﻬﺔ ﻣﺎ داﻣﺖ اﻟﻘﻮاﻧني اﻟﻌﺎﻣﺔ ﺗﻌﺘﻘﺪ ﰲ وﺟﻮدﻫﺎ ،وﻟﻜﻦ إذا دﺧﻞ ﰲ ﻧﻘﺎش ﻓﻠﺴﻔﻲ ﺑﺸﺄن وﺟﻮدﻫﺎ ﻓﺈﻧﻪ ﻟﻦ ﻳﺘﴪع ﰲ اﻟﺤﻜﻢ «.ﻓﺎﻷدﻟﺔ اﻟﺪوﺟﻤﺎﺋﻴﺔ واﻟﺘﺄﻣﱡ ﻼت اﻟﻼﻫﻮﺗﻴﺔ ﻻ ﻣﻔﺮ ﻣﻦ ﻣﻨﺎﻗﺸﺘﻬﺎ .واﻟﺸﻜﻮﻛﻴﻮن رﻏﻢ ذﻟﻚ ﺳﻴ َُﻘ ﱢﺪ ُر َ ون ﻣﺴﺄﻟﺔ اﻟﻄﺎﻋﺔ واﻟﻮﻻء اﻟﺘﻲ ﻳَ َﺮو َْن أﻧﻬﺎ أﻣ ٌﺮ ﱢ املﺘﺤﴬ ﻣﻦ ﻣﻨﻄﻠﻖ ﻛﻮﻧﻬﺎ ﻓﻜﺮة ﺷﺎﺋﻌﺔ ﰲ املﺠﺘﻤﻊ. ﻃﺒﻴﻌﻲ ﻟﻺﻧﺴﺎن ﱞ وﻻ ﻳﻤﺘﺪ ﺗﺴﻠﻴﻢ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴني ﺑ »املﺸﺎﻫﺪات اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ« إﱃ اﻟﻌﺎدات واﻟﺘﻘﺎﻟﻴﺪ وأﻣﻮر اﻟﻮﻻء واﻟﻄﺎﻋﺔ ﻓﻘﻂ أو »اﻷﻣﻮر املﻌﺘﻤﺪة ﻋﲆ املﺸﺎﻋﺮ اﻟﺴﻠﺒﻴﺔ واﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﻘﻊ ﻋﲆ ﻃﺎوﻟﺔ اﻟﺒﺤﺚ« ،وإﻧﻤﺎ ﻳﻤﺘﺪ ﻛﺬﻟﻚ إﱃ ﺑﻌﺾ أﺷﻜﺎل اﻟﺨﱪة ﰲ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﺘﻄﺒﻴﻘﻴﺔ ،ﻓريى ﺳﻴﻜﺴﺘﻮس أن ﻋﲆ اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ اﻻﻋﺘﻤﺎد إﱃ ﺣَ ﱟﺪ ﻣﺎ ﻋﲆ ﺑﻌﺾ ﻧﺘﺎﺋﺞ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﺘﻄﺒﻴﻘﻴﺔ، ﺑﴩط أن ﺗﻜﻮن ﻫﺬ اﻟﻌﻠﻮم ﻣﻬﺘﻤﱠ ًﺔ ﺑﺠﻤﻊ املﻌﻠﻮﻣﺎت واﻟﺒﻴﺎﻧﺎت دون أن ﺗﺘﻀﻤﻦ أي ﻧﻮع ﻣﻦ اﻟﺘﻨﻈري اﻟﺪوﺟﻤﺎﺋﻲ .ﻓﺒﻴﻨﻤﺎ َ ﺗﻘﻊ اﻟﺘﺄﻣﱡ ﻼت املﺠ ﱠﺮدة اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﺴﺘﻨﺪ إﱃ أدﻟﺔ ﰲ ُ ُ ﺑﻌﺾ ﻳﺪرس ﻣﺠﺎل ﻋﻠﻢ اﻟﺘﻨﺠﻴﻢ ﰲ داﺋﺮة اﻟﺸﻚ ﻟﺪى اﻟﺸﻜﻮﻛﻴني ،ﻻ ﻳَ ْﻠﻘﻰ اﻟﻔﻠ ُﻚ اﻟﺬي ً اﻋﱰاﺿﺎ ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴني؛ »ﻷﻧﻪ ﻳﺘﻀﻤﱠ ﻦ ﺟﻤﻌً ﺎ اﻟﺒﺎﺣﺜني املﻬﺮة ﺳﻤﺎءَ ُه وأﻓﻼ َﻛﻪ ﻟﻠﻤﻌﻠﻮﻣﺎت ﻋﻦ ﻇﺎﻫﺮ ٍة ﻣﺎ ﻛﻤﺎ ﻳﺤﺪث ﰲ اﻟﺰراﻋﺔ واملﻼﺣﺔ ﺣﻴﺚ ﻳﻤﻜﻦ — ﻋﱪ ﺟﻤﻊ املﻌﻠﻮﻣﺎت — اﻟﺘﻨﺒﺆ ﺑﺎﻟﻔﻴﻀﺎﻧﺎت واﻟﺰﻻزل واﻟﻌﻮاﺻﻒ واﻟﻄﺎﻋﻮن« ،وﻛﺬﻟﻚ ﻓﺈن اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ ﻗﺪ ﻳﺴﺘﺨﺪم اﻟﻬﻨﺪﺳﺔ واﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ﻟﻠﻘﻴﺎس واﻟﺤﺴﺎب )ﻣﺜﻞ ﻧﻈﺮﻳﺔ أﻓﻼﻃﻮن اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮل إن اﻟﺨﻂ املﺴﺘﻘﻴﻢ ﻳﺘﻜﻮﱠن ﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﻨﻘﺎط( ،أو اﻷﻓﻜﺎر اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﺔ املﺘﻌﻠﻘﺔ ﺑﺄﻫﻤﻴﺔ اﻷرﻗﺎم. ﻛﺎن ﺳﻴﻜﺴﺘﻮس ﻃﺒﻴﺒًﺎ ﻣﺘﻤ ﱢﺮ ًﺳﺎ ﰲ اﻟﻄﺐ ﺷﺄﻧﻪ ﺷﺄن ﻛﺒﺎر اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴني، وﻛﺎن ﻣﻦ أﻧﺼﺎر ﻣﺎ ﻳ َُﺴﻤﱠ ﻰ ﺑﺎملﻨﻬﺞ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻲ ﰲ اﻟﻄﺐ ،اﻟﺬي ﻳُﻌَ ﱡﺪ ً ﻣﺜﺎﻻ ﺟﻴﺪًا ﻋﲆ ﻧﻮع املﻌﺮﻓﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎن اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﻮن ﻋﲆ اﺳﺘﻌﺪاد َ ﻓﻌﻞ ﻋﲆ املﺄزق ﻟﻘﺒُﻮﻟﻪ .ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴﺔ رد ٍ اﻟﺬي أﻟ ﱠﻢ ﺑﻌﺎﻟﻢ اﻟﻄﺐ؛ ﻓﺤني ﻗﺎل اﻟﻄﺒﻴﺐ اﻟﻜﺒري أﺑﻘﺮاط إن ﻣﻤﺎرﺳﺔ اﻟﻄﺐ ﻳﺠﺐ أن ﴩحُ ﺗﻜﻮﻳﻦ اﻟﺠﺴﺪ وأﺳﺒﺎب اﻷﻣﺮاض اﻟﺘﻲ ﺗﺼﻴﺒﻪ ،ورﻏﻢ ﻣﺎ ﰲ ﻫﺬه ﺗﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ ﻧﻈﺮﻳﺔ ﺗُ َ ﱢ املﺘﻀﺎرﺑَﺔ ﰲ اﻟﻄﺐ. اﻟﻨﺼﻴﺤﺔ ﻣﻦ ﺣﻜﻤﺔ ،ﻓﴪﻋﺎن ﻣﺎ ﻇﻬﺮ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ ِ 367
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
وﰲ اﻟﻨﺼﻒ اﻷول ﻣﻦ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻟﺚ املﻴﻼدي ﴐب ﻓﺮﻳﻖ ﻣﻦ ِ اﻷﻃﺒﱠﺎء ﺻﻔﺤً ﺎ ﻋﻦ ﻫﺬه ﱢ ﻣﻮﺿﺤِ ني أﻧﻬﻢ ﻟﻴﺴﻮا ﰲ ﺣﺎﺟﺔ إﱃ أيﱟ ﻣﻨﻬﺎ ،وﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﻔﺮﻳﻖ ﻣﻦ اﻷﻃﺒﺎء اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴني .ﻛﺎن اﻟﻄﺐ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻲ اﻟﺠﻴﺪ ﻳﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ اﻟﺨﱪة ﰲ املﻘﺎم اﻷول ،ﻓﻌﲆ اﻟﻄﺒﻴﺐ أن ﻳﻼﺣﻆ أﻧﻮاع اﻟﺪواء اﻟﺘﻲ أﺛﺒﺘﺖ ﺟﺪار ًة ﰲ ﻋﻼج أﻋﺮاض ﻣﺮض ﻣﺎ ﰲ املﺎﴈ ،ﻓﻴﻌﺘﻤﺪ أﻣﺮ آﺧﺮ؛ وﺑﺬﻟﻚ ﻓﻼ ﺣﺎﺟﺔ إﱃ اﻻﻧﺸﻐﺎل ﻋﲆ ﻧﺘﺎﺋﺞ ﻫﺬه اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ دون اﻻﻋﺘﺪاد ﺑﺄي ٍ ﺑﺎﻟﻨﻈﺮﻳﺎت املﻌﻘﺪة اﻟﺘﻲ وﺿﻌﻬﺎ اﻷﻃﺒﺎء اﻟﺪوﺟﻤﺎﺋﻴﻮن )املﻌﺮوﻓﻮن ﻛﺬﻟﻚ ﺑﺎﻟﻌﻘﻼﻧﻴني( اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻀﻤﻦ ﻣﺰاﻋﻤﻬﻢ ﻋﻦ اﻟﺘﻮازن ﺑني »اﻷﺧﻼط« اﻷرﺑﻌﺔ ﺑﺎﻟﺠﺴﺪ وﻫﻲ :اﻟﺪم واﻟﺒﻠﻐﻢ واﻟﺼﻔﺮاء واﻟﺴﻮداء ،أو ﺣﺪﻳﺜﻬﻢ ﻋﻦ ﺣﺮﻛﺔ ذَ ﱠرات ﻏري ﻣﺮﺋﻴﺔ ﺧﻼل ﺛﻐﺮات ﻏري ﻣﺮﺋﻴﺔ ﻛﺬﻟﻚ ﺑﺎﻟﺠﻠﺪ ،وﻛﺬﻟﻚ ﻟﻴﺲ ﻋﲆ اﻟﻄﺒﻴﺐ أن ﻳﺒﺤﺚ ﻋﻦ اﻷﺳﺒﺎب َ اﻟﺨﻔِ ﻴﱠﺔ ﻟﻠﻤﺮض ﻋﻨﺪ اﻟﺘﺸﺨﻴﺺ، ﻓﻌﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل إذا ﺣﺪث أن أﺻﻴﺐ إﻧﺴﺎن ﺑﻤﺮض داء اﻟﻜﻠﺐ ،وﻛﺎﻧﺖ أﻋﺮاض ﻫﺬا املﺮض ﺗﻈﻬﺮ داﺋﻤً ﺎ ﻋﻘﺐ ﻋﻀﺔ ﻛﻠﺐ ﻣﺴﻌﻮر ،ﻓﻠﻴﺴﺖ ﻫﻨﺎك ﺣﺎﺟﺔ ﻟﺘﺸﺨﻴﺺ املﺮض ﻣﺎ داﻣﺖ ﻟﺪﻳﻨﺎ ﺗﺠﺮﺑﺔ ﺳﺎﺑﻘﺔ ﺗﻘﻮل إن ﻫﺬه اﻷﻋﺮاض ﻻ ﺗﻈﻬﺮ إﻻ ﻣﻊ ﻫﺬا املﺮض ،واﻋﺘﻤﺎدًا ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﻳﻤﻜﻦ اﺳﺘﺨﺪام أيﱟ ﻣﻦ أﺳﺎﻟﻴﺐ اﻟﻌﻼج اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ. ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك ﻣﺪرﺳﺔ أﺧﺮى ﺗﻌﺎرض اﻵراء اﻟﺪوﺟﻤﺎﺋﻴﺔ وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻘﺒﻞ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت ﺑﺼﺪر رﺣﺐ ،وﺗﺮى اﻟﻌﺜﻮر ﻋﲆ اﻷﺳﺒﺎب اﻟﺨﻔﻴﺔ أﻣ ًﺮا ﻣﻤﻜﻨًﺎ .وﻗﺪ ﺗﻮاﻓﻖ اﻷﻃﺒﺎء اﻟﺬي ﻋُ ِﺮ ُﻓﻮا ٍ ﺑ »املﻨﻬﺠﻴني« ﻣﻊ ِ ﻣﺮﻳﺾ ﻣﺎ، اﻷﻃﺒﱠﺎء اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴني ﻋﲆ أن اﻟﺨﱪة اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ﺗﻜﻔﻲ ﻟﻌﻼج ٍ وﻟﻜﻨﻬﻢ اﻋﺘﻘﺪوا أن ﺑﻤﻘﺪور اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺜﻮر ﻋﲆ اﻷﺳﺒﺎب ﻏري اﻟﻮاﺿﺤﺔ املﺴﺒﱢﺒﺔ ﻟﻸﻣﺮاض ذات ﻳﻮ ٍم .وأﺷﺎر ﺳﻴﻜﺴﺘﻮس إﱃ أن املﺪرﺳﺔ املﻨﻬﺠﻴﺔ ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﱠ وﻓﺮت ﻣﺎدة ﻋﻠﻤﻴﺔ ﺟَ ﻴﱢﺪَة ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻄﺒﻴﺔ اﻟﺘﻲ اﻋﺘﻤﺪﻫﺎ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﻮن) ،ورﺑﻤﺎ ﻛﺎن ﻣﻦ اﻷﻓﻀﻞ أن ﻳُﺴﻤﱠ ﻰ ﺳﻴﻜﺴﺘﻮس املﻨﻬﺠﻲ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ ﺳﻴﻜﺴﺘﻮس اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻲ( .ﻓﻔﻲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬي ﻛﺎن اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴﻮن ﻳﻌﺎرﺿﻮن ﺑﺸﺪة ﻓﻜﺮة أن ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻷﺳﺒﺎب اﻟﺨﻔﻴﺔ أو اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻟﺨﻔﻴﺔ ﺗﺴﺎﻋﺪ ﰲ اﻟﻌﻼج ،أﺣﺠﻢ املﻨﻬﺠﻴﻮن ﻋﻦ إﺻﺪار ﺣﻜﻢ ﻣﻌني. وﻗﺪ ﻳﺪﻋﻮﻧﺎ ﻫﺬا إﱃ اﻟﺘﺴﺎؤل ﺑﺨﺼﻮص ﻣﺘﻰ ﻳﻤﻜﻦ ﻷﺣﺪ اﻷﻃﺒﺎء املﻨﻬﺠﻴني أو ُ اﻟﺘﻔﺮﻳﻖ ﺑني اﻷﺳﺒﺎب اﻟﻐﺎﻣﻀﺔ واﻷﺧﺮى اﻟﻮاﺿﺤﺔ؟ ﻓﻜﺎن ﻋﲆ اﻟﻔﺮﻳﻘني أن اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴني ﻳُﺤَ ﱢﺪدَا دور اﻟﻌﻮاﻣﻞ اﻟﺪاﺧﻠﺔ ﰲ ﻣﺠﺎل اﻟﺒﺤﺚ ،ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ أن ﻳﻮﺿﺤﺎ اﻷﺳﺎس اﻟﺬي اﻟﺘﻔﺮﻗﺔ ﺑني املﻼﺣﻈﺔ املﻘﺒﻮﻟﺔ ﻟﻠﻈﻮاﻫﺮ واﻟﺒﺤﺚ ﻏري املﻘﺒﻮل ﰲ اﻷﻣﻮر املﺒﻬﻤﺔ، ﺗﻘﻮم ﻋﻠﻴﻪ ِ ً ﻓﻼ ﺷﻚ ﱠ ﻏﺎﻣﻀﺎ ﻵﺧﺮ ،ﻓﻤﺎ ﻳُﻤﻜِﻦ أن ﻳﺪرﻛﻪ أﺣﺪ أن ﻣﺎ ﻗﺪ ﻳﺒﺪو ﺟﻠﻴٍّﺎ ﻟﺸﺨﺺ ﻣﺎ ﻗﺪ ﻳﻜﻮن اﻟﺨﱪاء ﺑﴪﻋﺔ ﻓﺎﺋﻘﺔ ﻗﺪ ﻳﺴﺘﺪﻋﻲ ﻣﻦ ﻏريه إﻃﺎﻟﺔ اﻟﺘﺪﺑﱡﺮ واﻟﺘﻔﻜري؛ وﺑﺬﻟﻚ ﱠ ﻓﺈن اﻟﺤَ ﱠﺪ اﻟﺬي 368
اﻟ ﱡ ﻄﺮق اﻟﺜﻼث إﱃ ﱠ اﻟﺴﻜِﻴﻨﺔ :اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ واﻟﺮواﻗﻴﺔ واﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ
ﺗﻨﺘﻬﻲ ﻋﻨﺪه ﺣﻘﺎﺋﻖ اﻟﺨﱪات اﻟﻮاﺿﺤﺔ ﻟﺘﺒﺪأ ﻋﻨﺪه اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻟﻘﺎﺑﻠﺔ ﻟﻠﺒﺤﺚ ﻟﻴﺲ واﺿﺤً ﺎ. وﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻷﻟﻐﺎز ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺘﺴﺒﱠﺐ ﰲ ﻣﺸﻜﻠﺔ ﻟﻠﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ ﺑ ُﺮﻣﱠ ﺘِﻬَ ﺎ؛ ﻷن اﻟﺸﻜﻮﻛﻴني ﻳﻌﺘﻤﺪون داﺋﻤً ﺎ ﻋﲆ اﻟﺘﻔﺮﻳﻖ ﺑني اﻟﺨﱪة اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ )أو »املﻈﺎﻫﺮ«( وﺑني املﺴﺎﺋﻞ اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ ُﺤﺠﻤﻮن ﻋﻦ إﺻﺪار اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ،وﻻ َﺷ ﱠﻚ أن اﻟﺸﻜﻮﻛﻴني ﰲ ﺣﺎﺟﺔ ﻟﻠﺘﻔﺮﻳﻖ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ؛ ﻷﻧﻬﻢ ﻳ ِ َ ﻣﻌﺘﻘﺪًا دﻳﻨﻴٍّﺎ ﻣﻨﺘﴩًا إﱃ ﺣَ ﱟﺪ ﻛﺒري اﻷﺣﻜﺎم ﻋﻦ اﻷﺧرية ﻓﻘﻂ .وﻟﻨﺄﺧﺬ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﰲ أﺣﺪ املﺠﺘﻤﻌﺎت ،وﻟﻨﻔﱰض أن ﺑﻌﺾ اﻟﻨﺎس ﻳُﺴ ﱢﻠﻤُﻮن ﺑﺼﺤﺔ ﻫﺬا املﻌﺘﻘﺪ ﰲ ﺣني أن ﱡ اﻟﺘﻮﻗﻒ آﺧﺮﻳﻦ ﻳﺘﺠﺎدﻟﻮن ﰲ أﻣﺮه ،ﻣﺎذا ﻋﲆ اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ أن ﻳﻔﻌﻞ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ؟ ﻫﻞ ﻋﻠﻴﻪ ﻋﻦ ﺗﺒﻨﱢﻲ رأيﱟ ﻣﺎ ﺑﺨﺼﻮص ﻫﺬه املﺴﺄﻟﺔ أم ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴري ﺧﻠﻒ رأي اﻟﻌﺎﻣﺔ اﻟﺒﺴﻄﺎء؟ وﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻨﻪ ﺗﺤﺪﻳﺪ ﻣﺎ إذا ﻛﺎن ﻫﺬا املﻌﺘﻘﺪ ﻳﻤﺖ إﱃ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﻌﻘﻞ ﺑﺼﻠﺔ ﺗﻜﻔﻲ ﻟﻠﺸﻚ ﻓﻴﻪ؟ ﻳﺒﺪو أن اﻟﺸﻜﻮﻛﻴني ﻟﻢ ﻳﺘﺼ ﱠﺪوْا ﻟﻬﺬه املﺸﻜﻠﺔ ،ورﺑﻤﺎ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻫﻨﺎك ﺣﺎﺟﺔ ﺗﺪﻋﻮﻫﻢ ﻟﻬﺬا .ﺗﺬﻛﺮ أن اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ ﻇﻬﺮت ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ ﻋﻼﺟً ﺎ ﻟﻠﺘﻬﻮر واﻟﻘﻠﻖ اﻟﻔﻜﺮي واﻟﻌﻘﲇ ،وﻟﺬﻟﻚ ﻓﺈن اﻹﺟﺎﺑﺔ ﻋﻦ ﻫﺬا اﻟﺴﺆال ﻳﺠﺐ أن ﺗﻜﻮن ﻋﻤﻠﻴﺔ؛ ﻓﺎﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ ﺗﻨﻄﺒﻖ ﻋﲆ ﻛﻞ ﻣﻦ ﻳﺤﺘﺎج اﻟﻌﻼج ،ﻓﺈذا ﺗَﺒ ﱠ َ ﻷﻣﺮ ﻣﺎ ﻳﻘﻠﻖ ﺳﻜﻴﻨﺘﻬﻢ َني ﻟﻠﺸﻜﻮﻛﻲ أن اﻟﻨﺎس أﺻﺒﺤﻮا ﻣﺘﻌﺼﺒني ٍ ﺧﻼل ﺗﻔﻨﻴﺪ ﻫﺬا املﻌﺘﻘﺪ ،وﻛﺬﻟﻚ إذا وَﺟَ َﺪ وﻃﻤﺄﻧﻴﻨﺘﻬﻢ ،ﻓﺈﻧﻪ ﺳﻴﺴﻌﻰ إﱃ ﻋﻼﺟﻬﻢ ﻣﻦ ِ ﱡ ﻧﻔﺴﻪ ً واﻟﺘﻮﻗﻒ ﻋﻦ ﻗﻠﻘﺎ ﺑﺸﺄن أﻣﺮ ﻣﺎ ﻓﺈﻧﻪ ﺳﻴﺴﺘﺨﺪم أدواﺗﻪ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ ﻟﻌﻼج ﻧﻔﺴﻪ ﱡ اﻟﺘﻮﻗﻒ ﻋﻦ اﻟﺸﺠﺎر ﺑﺨﺼﻮص أﺳﺒﺎب ﺗﺒﻨﻲ ﻫﺬا املﻮﻗﻒ ،وإذا ﻛﺎن اﻷﻃﺒﺎء ﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻌﻮن أﻣﺮ ﻣﺎ ،ﻓﺈن اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ ﺳﻴﺤﺎول إﻗﻨﺎﻋﻬﻢ ﺑﺎﻟﻌﺪول ﻋﻦ اﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ اﻷﻣﻮر اﻟﺨﻔﻴﺔ واﻻﻛﺘﻔﺎء ﺑﺎﻟﻈﺎﻫﺮ ﻣﻨﻬﺎ؛ ﻷن اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﻫﺬه اﻷﻣﻮر ﻳﻘﻮد إﱃ ﻧﺰاع ﻻ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻟﻪ .وﺑﺼﻔﺔ ﻋﺎﻣﺔ ﻓﺈﻧﻪ ﺳﻴﺤﺪد اﻷﻣﺮ اﻟﺬي ﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﻳُﻠﻘِ ﻲ ﻋﻠﻴﻪ ﻇﻼل اﻟﺸﻚ ﺑﺎﻟﺒﺤﺚ ﻋﻤﱠ ﺎ ﻳﺴﺒﺐ اﻟﻘﻠﻖ أو اﻻﺿﻄﺮاب ،ورﺑﻤﺎ ﻳﺒﺪأ ﺑﺄﺳﻮأ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻻت اﻟﺘﻲ ﻳﺄﺗﻲ ﻋﲆ رأﺳﻬﺎ ﻧﺰاع اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ واﻟﻌﻠﻤﺎء اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺴﻌَ ﻮْن إﱃ إﻟﻘﺎء اﻟﻀﻮء ﻋﲆ اﻷﺟﺰاء اﻟﻐﺎﻣﻀﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻜﻤﻦ ﺧﻠﻒ اﻟﻈﻮاﻫﺮ اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ، ﻋﻼج؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﺈن ﻋﻘﺎﺋﺪﻫﻢ ﺳﺘﻜﻮن ﻣﺤﻞ ﻛﺘﺎﺑﺎت اﻟﺸﻜﻮﻛﻴني، وﻫﺬا ﺑﻼ ﺷﻚ أﻣﺮ ﻳﺤﺘﺎج إﱃ ٍ أﻣﺎ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺨﺺ املﻌﺘﻘﺪات اﻟﻌﺎﻣﺔ ﻣﺜﻞ املﺴﺎﺋﻞ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﻓﻠﻦ ﻳﺘﻨﺎوﻟﻮﻫﺎ إﻻ إذا ﺳﺒﺒﺖ ﻧﺰاﻋً ﺎ. ﻗﺎل ﺳﻴﻜﺴﺘﻮس إن اﻟﺤﺠﺞ اﻟﺘﻲ ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻬﺎ اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ ﻫﻲ ﻛﺎﻟﻌﻼج اﻟﺬي ﻳﻄﻬﺮ اﻟﺒﺪن؛ ﻓﻬﻲ ﺗﺨﺮج ﺟﻤﻴﻊ اﻻﺿﻄﺮاﺑﺎت اﻟﻔﻜﺮﻳﺔ ﻣﻦ ﺗﻜﻮﻳﻦ اﻹﻧﺴﺎن .ﻓﻌﻼج اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ ﻳُﺸ ِﺒﻪ اﻟﻌﻼج اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ملﺎ ﻟﻪ ﻣﻦ ﻓﻌﺎﻟﻴﺔ ﻣﺘﻔﺎوﺗﺔ ﺣﻴﺚ »ﻳﺴﺘﺨﺪم اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﻮن ﺣﺠﺠً ﺎ ﻗﻮﻳﺔ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ ﻋﻼج ﻣﻦ أ ُ ِﺻﻴﺐَ ﺑﻐﺮور دوﺟﻤﺎﺋﻲ ،وﻛﺬﻟﻚ املﺼﺎﺑﻮن ﺑﺎﻟﺘﻬﻮر اﻟﺸﺪﻳﺪ، وﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻮن ﺣﺠﺠً ﺎ أﻗﻞ ﻗﻮة ﰲ ﻋﻼج املﺼﺎب ﺑﻐﺮور ﺳﻄﺤﻲ ﻧﻈ ًﺮا ﻟﺴﻬﻮﻟﺔ ﻋﻼﺟﻪ«. 369
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ُ ﺗﻮاﻓ ُﺮﻫﺎ ﰲ املﻌﺎﻟﺞ أﻳٍّﺎ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺤﺎﻟﺔ اﻟﺘﻲ ﺑني ﻳﺪﻳﻪ املﻘﺪر ُة ﻋﲆ وﻣﻦ املﻬﺎرات اﻟﻮاﺟﺐ ﺻﻴﺎﻏﺔ اﻻﻋﱰاﺿﺎت ،ﺑﻤﻌﻨﻰ أﻧﻪ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻟﻪ أن ﻳﻜﻮن ﻣﺎﻫ ًﺮا ﰲ ﻋﺮض ﻣﺨﺘﻠﻒ اﻷﻓﻜﺎر واملﻌﺘﻘﺪات واﻟﺴﻠﻮﻛﻴﺎت واﻟﻘﻴﻢ وﺗﻮﺿﻴﺤﻬﺎ ﺑﻜﻞ ﺗﻨﻮﻋﺎﺗﻬﺎ واﺧﺘﻼﻓﺎﺗﻬﺎ ،ﺑﺎﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺴﺎﻋﺪ ﻋﲆ ﺗﻮﺳﻴﻊ آﻓﺎق اﻟﻌﻘﻞ ﻛﺜريًا ﺣﺘﻰ ﻳﺘﻮﻗﻒ ﻋﻦ إﻃﻼق اﻷﺣﻜﺎم. وﻛﺜريٌ ﻣﻦ ﻫﺬه »اﻻﻋﱰاﺿﺎت« ﻳﺠﺐ أن ﻳﺮاﻋﻲ اﻟﻈﺮوف اﻟﺨﺎرﺟﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺪث ﻓﻴﻬﺎ ً ﻓﻀﻼ ﻋﻦ ﻣﺮاﻋﺎة ﻋﻤﻠﻴﺔ اﻹدراك ،ﺑﺠﺎﻧﺐ ﻣﺮاﻋﺎة اﻟﺤﺎﻟﺔ اﻟﻔﺴﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ واﻟﻌﻘﻠﻴﺔ ﻟﻠﻤﺴﺘﻘ ِﺒﻞ، اﻟﺤﺎﻟﺔ اﻟﺠﺴﺪﻳﺔ ﻟﻪ .وﻗﺪ ﺷﺪﱠد آﺧﺮون ﻋﲆ أﻫﻤﻴﺔ اﻟﺪور اﻟﺬي ﺗﻠﻌﺒﻪ اﻟﺘﻨﺸﺌﺔ واﻟﺒﻴﺌﺔ ﰲ ﺗﻜﻮﻳﻦ آراء اﻟﻨﺎس واﺧﺘﻼف أذواﻗﻬﻢ ،واﻫﺘﻢ آﺧﺮون ﺑﺎﻷﺳﺎﻃري واﻟﻘﻮاﻧني اﻟﺴﺎﺋﺪة ﰲ ﺑﻌﺾ اﻷﻣﺎﻛﻦ ،وﻟﻜﻦ اﻟﻬﺪف ﻛﺎن واﺣﺪًا ﻣﻦ ﻛﻞ ﻫﺬا؛ ﻓﺎﻟﻔﻜﺮة ﻣﻦ ﻋﺮض ﻛﻞ ﻫﺬا اﻻﺧﺘﻼف ﻫﻲ اﻟﺘﺪﻟﻴﻞ ﻋﲆ أن ﻣﺎ ﻳﻌﺘﻘﺪه اﻟﻨﺎس أو ﻳﺸﻌﺮون ﺑﻪ — أي ﻣﺎ ﻳﺒﺪو ﻟﻬﻢ ﺣﻘﻴﻘﻴٍّﺎ أو ﺟﻴﺪًا أو ﻣﺮﻏﻮﺑًﺎ ﻓﻴﻪ — ﻳﺨﺘﻠﻒ ﺑﺎﺧﺘﻼف اﻟﻈﺮوف؛ أي ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل ﺳﻴﻜﺴﺘﻮس» :ﻻ ﺷﻚ أﻧﻪ ﻣﻦ اﻟﺴﻬﻞ أن ﻧﻘﻮل ﻛﻴﻒ ﻳﺒﺪو أﻣ ٌﺮ ﻣﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﺸﺨﺺ ﻣﺎ ،وﻟﻜﻦ ﻟﻴﺲ ﻣﻦ املﻤﻜﻦ اﻟﻘﻄﻊ ﺑﺈﻣﻜﺎﻧﻴﺔ ﻣﻌﺮﻓﺘﻪ ﰲ ﺟﻮﻫﺮه«. ً اﺧﺘﻼﻓﺎ ﻛﺒريًا ،وأﻧﻬﺎ ﺗﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ وﺑﻌﺪ أن ﻳﻮﺿﺢ اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ أن املﻈﺎﻫﺮ ﺗﺨﺘﻠﻒ اﻟﻈﺮوف املﺨﺘﻠِﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺒﻊ ﻣﻨﻬﺎ؛ ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺸﻜﻚ ﰲ اﻷﺳﺒﺎب اﻟﻌﻘﻼﻧﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺠﻌﻞ أﺣﺪ اﻟﺪوﺟﻤﺎﺋﻴني ﻳﻘﻄﻊ ﺑﺼﺤﺔ أﺣﺪ املﻈﺎﻫﺮ وﻳﻀﻌﻪ ﰲ ﻣﺮﺗﺒﺔ أﻋﲆ ﻣﻦ ﻏريه ،أو ﻳﺪﱠﻋﻲ أن ً ﺣﻘﻴﻘﺔ .ﺣﻴﺚ ﻳﺘﺴﺎءل اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ ﻋﻦ اﻟﺴﺒﺐ اﻟﺬي ﻳﺪﻓﻊ ﻫﺬه املﻈﺎﻫﺮ ﺗُﻌَ ﱢﱪُ ﻋﻦ اﻟﻜﻮن اﻟﺪوﺟﻤﺎﺋﻲ إﱃ اﻟﻘﻮل إن املﻌﺘﻘﺪات اﻟﺘﻲ ﻳﺮاﻫﺎ ﻣﻦ وﺟﻬﺔ ﻧﻈﺮه ووﻓﻖ ﻇﺮوﻓﻪ ﻫﻲ اﻟﺼﺤﻴﺤﺔ دوﻣً ﺎ؟ وأﻳٍّﺎ ﻛﺎﻧﺖ إﺟﺎﺑﺔ اﻟﺪوﺟﻤﺎﺋﻲ ﻋﲆ ﻫﺬه اﻷﺳﺌﻠﺔ ﻓﺈن اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ داﺋﻤً ﺎ ﻋﲆ اﺳﺘﻌﺪاد ﺑﺤﺠﺞ ﻣﻀﺎدة .وﻟﻨﻔﱰض أن ﻫﺬا اﻟﺪوﺟﻤﺎﺋﻲ ﺣﺎول أن ﻳﻌﻀﺪ ﻣﻮﻗﻔﻪ ﺑﺸﺄن ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻷﺷﻴﺎء ﻋﱪ اﻻﺳﺘﺸﻬﺎد ﺑﺮأي آﺧﺮ ﻋﲆ أﻧﻪ دﻟﻴﻞ ﻋﲆ ﺻﺤﺔ رأﻳﻪ؛ ﻓﺈن اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ ﺳﻴﺴﻌﻰ إﱃ ﺗﻌﺠﻴﺰ ﻫﺬا اﻟﺪوﺟﻤﺎﺋﻲ ﺑﺄن ﻳﻄﻠﺐ ﻣﻨﻪ إﺛﺒﺎت ﺻﺤﺔ ﻫﺬا اﻟﺪﻟﻴﻞ ،ﻟﻴﺴري اﻟﺠﺪال ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﺸﺎﻛﻠﺔ .ﻓﺎﻟﺸﻜﻮﻛﻲ ﻳﺮى أن ﻫﺬه اﻟﺴﻠﺴﻠﺔ ﻣﻦ اﻟﺘﱪﻳﺮات ﻻ ﺑﺪ ﻟﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ ﻧﻘﻄﺔ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻳﻌﺠﺰ ﺑﻌﺪﻫﺎ اﻟﺪوﺟﻤﺎﺋﻲ ﻋﻦ اﻟﺘﱪﻳﺮ َ وﺳﻮ ِْق اﻷدﻟﺔ ،ﻓﻌﻨﺪﻣﺎ ﻳﺤﺎول اﻟﺪوﺟﻤﺎﺋﻲ أن ﻳﺴﺘﻘﺮ ﻋﲆ رأي أﺧري؛ ﻓﺈن اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ ﺳﻴﺜﺒﺖ أﻧﻪ ﻻ ﻳﺴﺘﻨﺪ إﻻ إﱃ ﺣﺠﺔ واﻫﻴﺔ ،ﺑﻞ وﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺜﺒﺖ اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ أن اﻟﺪوﺟﻤﺎﺋﻲ ﻛﺎن ﻋﲆ ﺧﻄﺄ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻃﺮح اﻟﺴﺆال ﻟﻠﻤﺮة اﻷوﱃ .وﺑﻬﺬا ﻧﺮى أن اﻟﺤﻮار ﻳﺴري ﰲ داﺋﺮة ﻣﻐﻠﻘﺔ) ،وﻗﺪ ﻫﺎﺟﻢ أﺣﺪ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻛﺮﻳﺴﻴﺒﻮس ﻻﺳﺘﺸﻬﺎده ﺑﺎﻟﻜﻬﺎﻧﺔ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﺗﺪل ﻋﲆ وﺟﻮد اﻟﻘﺪر وأن وﺟﻮد اﻟﻘﺪر ﻳُﻌَ ﱡﺪ ً دﻟﻴﻼ ﻋﲆ اﻟﻜﻬﺎﻧﺔ(. 370
اﻟ ﱡ ﻄﺮق اﻟﺜﻼث إﱃ ﱠ اﻟﺴﻜِﻴﻨﺔ :اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ واﻟﺮواﻗﻴﺔ واﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ
ﻻ ﺗﺨﻠﻮ ﺟﻌﺒﺔ اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ ﻣﻦ اﻟﺤﺠﺞ اﻟﺘﻲ ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻬﺎ ﻟﻌﻼج ﺧﺼﻤﻪ ﻟﻴﺠﻌﻠﻪ ﻳﺘﻮﻗﻒ ﻋﻦ إﺻﺪار اﻷﺣﻜﺎم ،ﻓﺈذا ﻓﺸﻠﺖ ﺟﻤﻴﻊ ﻫﺬه اﻟﺤﺠﺞ ﻓﺈن اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ ﻳﺴﺘﻌني ﺑﺤﻘﻴﻘﺔ أن ُﺠﻤﻌﻮا ﻛﻠﻬﻢ ﻋﲆ رأي واﺣﺪ؛ ً اﻟﺒﴩ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳ ِ أﻣﻼ ﰲ أن ﺗﺨﻔﻒ ﻫﺬه املﺤﺎوﻟﺔ ﻣﻦ ُ أﻣﺮ ﺗﴪع ﺧﺼﻤﻪ اﻟﺪوﺟﻤﺎﺋﻲ .ﻓﻜﻤﺎ ﻳﻘﻮل ﺳﻴﻜﺴﺘﻮس ﺣﺘﻰ إذا واﻓﻖ ﱡ اﻟﻨﺎس ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ﻋﲆ ٍ ﻣﺎ ﻓﻘﺪ ﻳﻜﻮن ﻫﻨﺎك ﻋﺮق ﻣﺎ أو ﺟﻨﺲ ﻏﺮﻳﺐ ﻳﺮى اﻷﻣﻮر ﻣﻦ ﻣﻨﻈﻮر ﻣﻐﺎﻳﺮ؛ ﻓﺄﻧﱠﻰ ﻟﻪ أن ﻳﻘﻨﻌﻬﻢ أﻧﻪ ﻋﲆ ﺻﻮاب وأﻧﻬﻢ ﻋﲆ ﺧﻄﺄ .واﻟﻨﺎس ﻻ ﻳﺨﺘﻠﻔﻮن ﻓﻘﻂ ﰲ آراﺋﻬﻢ اﻟﺴﺒﺒﻴﺔ وﻣﻼﺣﻈﺎﺗﻬﻢ ،ﻓﺎﻟﺨﱪاء أﻧﻔﺴﻬﻢ ﻳﻈﻠﻮن ﰲ ﺧﻼف ﺣﺘﻰ ﺑﻌﺪ ﺑَﺬْ ِل اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﺠﻬﺪ ،وﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل أﺣﺪ دارﳼ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ: إن ﻫﺆﻻء اﻟﺬﻳﻦ ﻳ ُِﺠﻴﺪ َ ُون اﺻﻄﻴﺎد اﻟﺠﻮﻫﺮ ﱢ اﻟﺒني ﰲ اﻷﺷﻴﺎء ﻳﻨﻘﺴﻤﻮن إﱃ ﻛﺘﺎﺋﺐ وﻓﺼﺎﺋﻞ ،وﻳﻀﻌﻮن ﻗﻮاﻋﺪ ﻻ ﺗﺘﻌﺎرض ﻓﻘﻂ ﻣﻊ رؤﻳﺔ ﺷﺨﺺ ﻣﺎ ﺣﻮل ﻧﻘﻄﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ ﺑﻞ ﻣﻊ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﻨﻘﺎط ،ﺻﻐريﻫﺎ وﻛﺒريﻫﺎ ،اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻊ ﰲ ﻧﻄﺎق أﺑﺤﺎﺛﻬﻢ. ﻓﻔﻲ آﻻف املﻮﺿﻮﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻌﺞ ﺑﻬﺎ ﻓﺮوع املﻌﺮﻓﺔ ﻛﺎﻓﺔ ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﻌﻠﻮم »ﻳﻮﺟﺪ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺘﺴﺎؤﻻت ،وﻟﻜﻦ ﺣﺘﻰ ﻫﺬه اﻟﻠﺤﻈﺔ ﻟﻢ ﻳُﺘﻮﺻﻞ إﱃ اﺗﻔﺎق ﺑﺸﺄن أيﱟ ﻣﻨﻬﺎ« ،وإذا ﻛﺎن اﻟﺨﱪاء ﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻌﻮن اﻟﻨﻔﺎذ إﱃ ﺑﺎﻃﻦ اﻷﺷﻴﺎء ﻓﻜﻴﻒ ﻳﻜﻮن اﻷﻣﺮ ﻣﻊ اﻟﻌﺎﻣﺔ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﱡ اﻟﺘﻮﻗﻒ ﻋﻦ ﺗﺒﻨﻲ اﻵراء أو إﺻﺪار اﻷﺣﻜﺎم. ﻓﺎﻷﻓﻀﻞ ﻫﻮ وﻣﻦ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ اﻟﻮاﺿﺤﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻀﺪ ﺟﺎﻧﺐ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴني ﰲ ادﱢﻋَ ﺎﺋ ِِﻬﻢ أن اﻟﺪوﺟﻤﺎﺋﻴني ﻻ ﻳﻌﻠﻤﻮن ﺷﻴﺌًﺎ؛ أﻧﻬﻢ ﻛﺎﻧﻮا ﻣُﺤِ ﱢﻘ َ ني ﰲ ﻫﺬا اﻟﺸﺄن .ﻓﻤﻦ ﺧﻼل املﻌﺎﻳري اﻟﺘﻲ ﻧﺘﺒﻨﺎﻫﺎ اﻵن ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ اﻟﺤﻜﻢ ﻋﲆ ﺧﻄﺄ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ )ﻋﺪا ﻧﻈﺮﻳﺎت اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت( ،وﻫﺆﻻء اﻟﺬﻳﻦ َ ﻇﻨﱡﻮا أﻧﻬﻢ ﻳﻌﺮﻓﻮن اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻷﺷﻴﺎء ﻟﻢ ﻳﻜﻮﻧﻮا ﻫﻜﺬا ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﻛﻤﺎ ﻗﺎل اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﻮن. ورﻏﻢ ذﻟﻚ ﺳﻴﻘﺎل إن اﻟﻮﺿﻊ ﻣﺨﺘﻠﻒ اﻟﻴﻮم؛ ﻓﺮﺑﻤﺎ ﻛﺎن اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﻮن ﻣﺨﻄﺌني ﺑﺸﺄن ﺟﻤﻴﻊ اﻷﻣﻮر ،ﰲ ﺣني أن اﻹﻧﺴﺎن املﻌﺎﴏ ﻳﺤﻈﻰ ﺑﻘﺪر واﻓﺮ ﻣﻦ املﻌﺮﻓﺔ ،وإذا ﻛﺎن ﻟﻠﺸﻜﻮﻛﻴني ﻣﻮﻗﻒ ﻣﺎ ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻓﻼ ﺑﺪ أن ﻫﺬا املﻮﻗﻒ ﻗﺪ ﺿﻌﻒ ﻫﺬه اﻷﻳﺎم. وﺳﻮاءٌ ﺗﻮﺻﻠﻨﺎ إﱃ ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ املﺘﻌﻠﻘﺔ ﺑﻘﻀﻴﺔ ﻓﻠﺴﻔﻴﺔ ﺗﺎرﻳﺨﻴﺔ أم ﻻ ،ﻓﺈن اﻟﺠﺪل واﻟﺤﺪﻳﺚ ﺑﺸﺄﻧﻬﺎ ﻟﻦ ﻳﻨﻘﻄﻊ ﻣﺎ داﻣﺖ اﻟﺤﻴﺎة .ورﻏﻢ ذﻟﻚ ﻓﻤﻦ اﻟﺠﺪﻳﺮ ﺑﺎملﻼﺣﻈﺔ أن ﻧﻮع اﻟﺨﻼف اﻟﻨﺎﺷﺐ ﺑني اﻟﺨﱪاء ﻣﻦ ﺳﺎﻟﻒ اﻟﺰﻣﺎن ﻻ ﻳﺰال ً ﻋﺎﻟﻘﺎ ﻣﻌﻨﺎ ﺣﺘﻰ ﻳﻮﻣﻨﺎ ﻫﺬا. ﻓﺎﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻷﻣﻮر اﻟﺘﻲ أﺛﺎرت ﻓﻀﻮل اﻟﻘﺪﻣﺎء ﱠ وﺣريﺗﻬﻢ ﻟﻢ ِ ﻧﺼﻞ ﻓﻴﻪ إﱃ ﻧﺘﺎﺋﺞ ﺣﺎﺳﻤﺔ، 371
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
وإن ﱠ ﺗﻐري ﺷﻜﻞ اﻟﺨﻼف ﺣﻮﻟﻪ ﺑﻌﺾ اﻟﴚء .ﻓﺎﻟﻔﻴﺰﻳﺎﺋﻴﻮن رﺑﻤﺎ ﻻ ﻳﺨﺘﻠﻔﻮن ﻫﺬه اﻷﻳﺎم ﺑﺸﺄن ﻋﺪد اﻟﻌﻨﺎﴏ أو ﻓﻜﺮة وﺟﻮد اﻟﻌﺪم ﺑﻘﺪر اﻟﺨﻼف ﺑﺸﺄن ﻧﻈﺮﻳﺔ اﻷﻛﻮان املﺘﻮازﻳﺔ أو ﻧﻈﺮﻳﺔ اﻟﺜﻘﻮب اﻟﺪودﻳﺔ ﰲ اﻟﺰﻣﻜﺎن وﺷﻜﻞ اﻟﻜﻮن اﻟﻘﺪﻳﻢ ،وﻛﻠﻬﺎ أﻣﻮر ﻟﻢ ﻳﺘﻮﺻﻞ ﻓﻴﻬﺎ أﺣﺪ ﻟﻨﺘﺎﺋﺞ ﺣﺎﺳﻤﺔ ﺑﺸﺄﻧﻬﺎ ﺑﻌﺪُ .وﺑﺎﻻﻧﺘﻘﺎل ﻣﻦ اﻟﻄﺐ إﱃ اﻟﻔﻠﻚ ﻧﻘﺎﺑﻞ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ٍ ﺧﻄﻮات ﻣﻦ اﻷﺳﺌﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺘﻈﺮ إﺟﺎﺑﺎت .ﻳﺆﻣﻦ ﺧﱪاء اﻟﻌﴫ اﻟﺤﺎﱄ أﻧﻬﻢ ﺑﺎﺗﻮا ﻋﲆ ﺑﻌﺪ ﺳﱪ أﻏﻮار اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ،وﻟﻜﻦ ﻫﺬا دأب اﻟﺨﱪاء واﻟﻌﻠﻤﺎء ودﻳﺪﻧﻬﻢ .وﻻ ﻳﻘﺘﴫ اﻷﻣﺮ ﻋﲆ املﻮﺿﻮﻋﺎت اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﻓﺤﺴﺐ ،ﻓﻘﺪ اﺳﺘﺨﺪم ﺳﻴﻜﺴﺘﻮس ﻋﺪﺗﻪ ﻣﻦ ﺣﺠﺠﻪ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ ﺿﺪ ﻋﻠﻮم اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺎت اﻟﺘﻲ ﻇﻬﺮت ﰲ ﻋﴫه )ﺿﺪ ﻧﻈﺮﻳﺎت املﻮﺳﻴﻘﻰ واﻟﻠﻐﺔ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل(، وﻟﻜﻦ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻟﺪﻳﻪ املﻘﺪرة ﻋﲆ ﺻﻴﺎﻏﺔ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻻﻋﱰاﺿﺎت ﻋﲆ اﻟﻌﻠﻮم اﻷﺣﺪث ﻣﺜﻞ اﻻﻗﺘﺼﺎد وﻋﻠﻢ اﻟﻨﻔﺲ واﻻﺟﺘﻤﺎع. وﺳﻮاء أﻛﺎﻧﺖ ﺣﺠﺞ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴني ذات ﺗﺄﺛري ﻓﻌﱠ ﺎل ﰲ اﻟﺘﺼﺪي ﻟﻠﺪوﺟﻤﺎﺋﻴني املﻌﺎﴏﻳﻦ أم ﻻ ،ﻓﺈن ﻫﻨﺎك اﻟﻜﺜري ﻣﻦ ﻋﻼﻣﺎت اﻻﺳﺘﻔﻬﺎم ﺣﻮل اﻟﺸﻜﻮﻛﻴني اﻟﻘﺪﻣﺎء وأﺳﺎﻟﻴﺒﻬﻢ ،ﻣﻨﻬﺎ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل :ﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺆدﱢي اﻟﺪﺧﻮل ﰲ ِﺟﺪال ﻣﺴﺘﻤﺮ ﻣﻊ اﻟﻨﺎس إﱃ إﺣﺪاث اﻟﻬﺪوء واﻟﺴﻜﻴﻨﺔ؟ ﻓﺈذا ﻛﺎن اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ ﻳﻘﺪر اﻟﺴﻜﻴﻨﺔ ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل داﺋﻤً ﺎ ﻓﻠﻤﺎذا ﻳﻘﴤ وﻗﺘًﺎ ً ﻃﻮﻳﻼ ﰲ اﻟﻨﻘﺎش واﻟﺠﺪال؟ ﻛﻤﺎ أن ﺛﻤﺔ أﻣ ًﺮا ﻳﺪﻋﻮﻧﺎ ﻟﻠﺘﺸ ﱡﻜﻚ ﰲ ﺻﺪق دﻋﻮى اﻟﺒﺤﺚ واﻻﺳﺘﻘﺼﺎء إذا ﻛﺎن اﻟﺒﺎﺣﺚ ﻳﺮﻓﺾ ﺟﻤﻴﻊ اﻵراء .ﻓﻘﺪ ﻛﺘﺐ ﺑﻴري ﺑﺎﻳﻞ ﰲ »اﻟﻘﺎﻣﻮس اﻟﺘﺎرﻳﺨﻲ اﻟﻨﻘﺪي ) «(١٦٩٧ﻣﺒﻴﻨًﺎ» :أن )ﺑريو( ﺑﺤﺚ ِﻃﻴﻠﺔ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﻋﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻛﺎن داﺋﻤً ﺎ ﻳﺼﻮغ اﻷﻣﻮر ﺑﺸﻜﻞ ﻳﺠﻌﻠﻪ ﻳﺒﺪو وﻛﺄﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻌﺜُﺮ ﻋﲆ ﳾء وﻟﻢ ﻳﻬﺘ ِﺪ إﱃ ﺑ ﱟﺮ«. وﻗﺪ ﻳﺠﻴﺐ أﺣﺪ أﺗﺒﺎع ﺑريو ً ﻗﺎﺋﻼ إن اﻟﻘﻠﻖ واﻻﺿﻄﺮاب اﻟﺬي ﻳُﺤﺪﺛﻪ اﻻﻧﺸﻐﺎل ﺑﺎﻟﺒﺤﺚ ﱡ اﻟﺘﻮﻗﻒ ﻋﻦ إﺻﺪار اﻷﺣﻜﺎم ﻋﻦ ﺟﻮﻫﺮ ﺟﻤﻴﻊ اﻷﺷﻴﺎء ﻻ ﻳُﻌﺎدِ ل اﻟﻄﻤﺄﻧﻴﻨﺔ اﻟﻨﺎﺗﺠﺔ ﻋﻦ وﺗﺒﻨﱢﻲ اﻵراء .وﻳﺒﺪو أن اﻟﺸﻜﻮﻛﻴني وﺟﺪوا ﱠ أن َﻟﺬﱠ َة اﻻﺣﺘﻔﺎظ ﺑﻌﻘﻞ ﻣﺘﻔﺘﱢﺢ ﺗﺠﺎه اﻷﻣﻮر ﻛﺎﻓﺔ ﺗﻔﻮق ﺳﻌﺎدة اﻟﻌﺜﻮر ﻋﲆ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ .وﻳﺮى ﺳﻴﻜﺴﺘﻮس أن ﺛﻤﺔ أﺧﻄﺎ ًرا ﺗﻜﻤﻦ ﰲ اﻻﻋﺘﻘﺎد ﱡ اﻟﺘﻮﺻﻞ إﱃ ﺣﻘﺎﺋﻖ اﻷﺷﻴﺎء؛ ﻓﻬﺬا ﻳﺠﻌﻞ املﺮء ﻳﺪرك اﻷﻣﻮر اﻟﺼﺎﻟﺤﺔ ﻣﻦ اﻟﻔﺎﺳﺪة، ﰲ وﻫﻲ ﺣﺎﻟﺔ ﺗﺠﻌﻠﻪ ﰲ ﻗﻠﻖ أﺑﺪي .ﻓﺎﻹﻧﺴﺎن اﻟﺬي ﻻ ﻳﻌﺮف اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻳﻈﻞ ﺳﺎﻋﻴًﺎ وراءﻫﺎ، وإذا ﻋﺜﺮ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻓﺈﻧﻪ ﻟﻦ ﻳﻜﻮن ﻣﻄﻤﺌﻨٍّﺎ ،ﻓﻌﻨﺪﻣﺎ ﻳﺼﻞ اﻟﻨﺎس إﱃ ﻣﺎ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺴﻌﻮن إﻟﻴﻪ »ﻓﺈﻧﻬﻢ ﻳﺴﻌﺪون ﺑﺬﻟﻚ أﻳﻤﺎ ﺳﻌﺎدة ،ﻓﻴﺒﺬﻟﻮن ﻗﺼﺎرى ﺟﻬﺪﻫﻢ ﺧﺸﻴﺔ ﻓﻘﺪان ﻣﺎ ﻳﺮوﻧﻪ ﺧريًا وﺻﻼﺣً ﺎ« .واﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ ﻫﻲ اﻟﺤﻞ اﻟﻮﺣﻴﺪ ﻟﻠﺨﻼص ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﺪواﻣﺔ ،ﻓﺎﻟﻨﺎس اﻟﺬﻳﻦ 372
اﻟ ﱡ ﻄﺮق اﻟﺜﻼث إﱃ ﱠ اﻟﺴﻜِﻴﻨﺔ :اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ واﻟﺮواﻗﻴﺔ واﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ
ﻳﺘﻤﺘﻌﻮن ﺑﺎﻟﺤﻜﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺠﻌﻠﻬﻢ ﻳُﺤﺠﻤﻮن ﻋﻦ إﺻﺪار اﻷﺣﻜﺎم ﺑﺸﺄن ﺻﺤﺔ اﻷﺷﻴﺎء أو زﻳﻔﻬﺎ »ﻻ ﺗﺠﺪﻫﻢ ﻣﻨﺸﻐﻠني ﺑﺸﺪة ﺑﻬﺬه اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﻬﻢ ﻳﻨﻌﻤﻮن ﺑﺎﻟﺴﻜﻴﻨﺔ«. وﻗﺪ اﻋﱰف ﺳﻴﻜﺴﺘﻮس ﺑﺄن املﻨﻬﺞ اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺨﻠﺺ اﻟﺤﻴﺎة ﻣﻦ ﻛﺎﻓﺔ أﺷﻜﺎل املﺤﻦ وأﻟﻮان اﻟﺸﺪاﺋﺪ ،ﻓﺒﻤﺎ أن اﻟﺸﻜﻮﻛﻴني ﺑﴩٌ ﻓﺈﻧﻬﻢ ﺳﻴﻜﻮﻧﻮن ﻋُ ﺮﺿﺔ ﻟﴫوف اﻟﺪﻫﺮ» ،ﻧﺤﻦ ﻧﻮاﻓﻖ ﻋﲆ أﻧﻬﻢ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻳﺮﺗﻌﺪون وﻳﻌﻄﺸﻮن وﻳﻨﺘﺎﺑﻬﻢ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ املﺸﺎﻋﺮ املﺸﺎﺑﻬﺔ ﻟﺬﻟﻚ« .ورﻏﻢ ذﻟﻚ ﻧﺠﺪ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴني ﻳﻘﻠﻠﻮن ﻣﻦ ﺣﺠﻢ املِ ﺤَ ﻦ اﻟﺘﻲ ﺗﺼﻴﺒﻬﻢ ﺑﺄن ﻳُﻨَﺤﱡ ﻮا ﺟﺎﻧﺒًﺎ ﺟﻤﻴﻊ اﻵراء اﻟﺘﻲ ﻗﺪ ﺗﺠﻌﻠﻬﻢ أﺳﻮأ ً ﺣﺎﻻ ﻣﻤﺎ ُﻫ ْﻢ ﻋﻠﻴﻪ. ﱢ اﻟﺘﺨﲇ ﻛﺬﻟﻚ ﻋﻦ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻵراء اﻟﺘﻲ ﺗﺠﻌﻞ وﻟﻜﻦ ﻟﺴﻮء اﻟﺤﻆ ،ﻋﲆ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴني اﻟﺤﻴﺎة ﺳﻌﻴﺪة ،ﻓﺒﺠﺎﻧﺐ اﻹﺣﺠﺎم ﻋﻦ اﻟﺤﻜﻢ ﻋﲆ اﻷﺷﻴﺎء ﺑﺎﻟﺴﻮء ﻓﺈﻧﻬﻢ ﻻ ﻳﺤﻜﻤﻮن ﻋﻠﻴﻬﺎ ﱢ ﺑﺎﻟﺨري ً اﻟﺘﺨﲇ ﻋﻦ أﻳﻀﺎ ،وﻳﺒﺪو ﻫﺬا ﺛﻤﻨًﺎ ﻏﺎﻟﻴًﺎ ﻟﻠﻐﺎﻳﺔ ﰲ ﻣﻘﺎﺑﻞ اﻟﻄﻤﺄﻧﻴﻨﺔ؛ ﻷﻧﻪ ﻳﻌﻨﻲ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ ﻣﺘﻊ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ .ﻓﻠﻦ ﻳﻜﻮن ﻫﻨﺎك ﻣﺠﺎل ﻛﻲ ﻳﺴﻌ َﺪ إﻧﺴﺎن ﺑﺤﺼﻮﻟﻪ ﻋﲆ ﺗﺮﻗﻴﺔ ﰲ وﻇﻴﻔﺘﻪ؛ ﻓﺄﻧﱠﻰ ﻟﻪ أن ﻳﻌﺮف أن ﻫﺬه اﻟﱰﻗﻴﺔ ﺗﺤﻤﻞ ﻟﻪ ﺧريًا؟ ﺳﻴﻘﻮل اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ ﱡ اﻟﺘﻮﻗﻒ ﻋﻦ اﻟﺤﻜﻢ ﻋﲆ اﻟﻘﻀﻴﺔ ﺑ ُﺮﻣﱠ ﺘِﻬﺎ وﻣﻦ ﺛﻢ ﻳﻀﺤﻲ اﻹﻧﺴﺎن ﺑﺴﻌﺎدﺗﻪ إﻧﻪ ﻣﻦ اﻷﻓﻀﻞ ﱠ اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺸﺄ ﻋﻦ اﻟﺘﻔﻜري ﰲ أﻧﻪ ﺗﻤﻜﻦ أﺧريًا ﻣﻦ ﺗﺤﻘﻴﻖ ﺣﻠﻤﻪ .ﻓﺎﻟﺸﻜﻮﻛﻲ ﻳﻘﻮل إﻧﻪ ﺣﺘﻰ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ اﻟﺘﺄ ﱡﻛﺪ ﻣﻦ ﺣﺠﻢ اﻟﺨري اﻟﺬي ﺗﺤﻤﻠﻪ ﻫﺬه اﻟﻮﻇﻴﻔﺔ ﻓﺈن ذﻟﻚ ﺳﻴﺪﻓﻊ املﺮء إﱃ اﻟﻘﻠﻖ ً ﺧﻮﻓﺎ ﻋﲆ ﻓﻘﺪﻫﺎ .وﻟﻜﻦ ﻫﺬا رأي ﻓﻴﻪ ﻧﻮع ﻣﻦ املﻐﺎﻻة ،واﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﻨﺎس ﺳﻴﻌﱰﺿﻮن ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة؛ ﻷﻧﻪ ﻣﻦ املﺴﺘﺤﻴﻞ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﻛﺒﴩ ﺗَﺒَﻨﱢﻲ ﻣﻮﻗﻒ ﻣﻨﻌﺰل ﻋﻦ آﻻم اﻟﺤﻴﺎة وﻣﺘﻌﻬﺎ. ورﺑﻤﺎ ﻫﺬه ﻫﻲ اﻟﻨﻘﻄﺔ اﻟﺮﺋﻴﺴﺔ ﰲ املﻮﺿﻮع .وﻣﻦ اﻟﺠﺪﻳﺮ ﺑﺎﻟﺬﻛﺮ أﻧﻪ ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺎت اﻟﻬﻴﻠﻴﻨﺴﺘﻴﺔ ﻛﺎن ﻳﺴﻌﻰ ﻟﺴﺪ ﺣﺎﺟﺎت اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺒﺴﻴﻂ ،ﻓﺈن ﺟﺎﻧﺒًﺎ ﻛﺒريًا ﻣﻦ اﻷﻣﻮر اﻟﺘﻲ ﺣﺎوﻟﻮا أن ﻳﻮﺻﻠﻮﻫﺎ ﻟﻪ ﻛﺎن أﻓﻜﺎ ًرا ﻣﻠﻬﻤﺔ وﻣﺜﺎﻟﻴﺔ .ﻓﻠﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﻦ املﻔﱰض أن ﺗُ َ ﻜﺘﺴﺐ اﻟﺤﻜﻤﺔ ﺑﺴﻬﻮﻟﺔ وﻳﴪ ،ﻓﻠﻜﻲ ﻳﺤﻴﺎ اﻹﻧﺴﺎن ﺣﻴﺎة اﻟﺤﻜﻤﺎء ﻛﺎن ﱠ املﺸﻘﺔ واﻟﻌﻨﺎء .أﻣﺎ اﻷﻓﻜﺎر املﺜﺎﻟﻴﺔ ﻓﻠﻢ ﺗُﺠﻌﻞ ﻛﻲ ﻻ ﺑﺪ أن ﻳﺘﻜﺒﺪ ﰲ ﺳﺒﻴﻞ ذﻟﻚ أﻟﻮاﻧًﺎ ﻣﻦ ﺗُ َ ﻄﺒ َﱠﻖ ﻛﻤﺎ ﻫﻲ ﺑﻞ ﻧﺘﺨﻔﻒ ﻣﻨﻬﺎ ﺑﻌﺾ اﻟﴚء ،وﻗﺪ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ إﺣﺪاﻫﺎ .وﻋﻨﺪﻣﺎ رﺟﻊ اﻟﻨﺎس إﱃ آراء اﻟﺸﻜﻮﻛﻴني اﻟﻘﺪﻣﺎء ﺑﻌﺪ أﻋﻮام ﻣﺆ ﱠﻟ َﻔ ٍﺔ ﻣﻦ اﻹﻫﻤﺎل ،ﻛﺎن اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ واﻟﻌﻠﻤﺎء ﻳﻨﺘﻘﻮن ﻣﻨﻬﺎ ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻨﻬﻢ ﻣﻦ ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﺒريوﻧﻴﺔ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬي َﻏ ﱡﻀﻮا اﻟﻄﺮف ﻓﻴﻪ ﻋﻦ أﺟﺰاء أﺧﺮى ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ .وﻗﺪ ﻛﺎﻧﻮا ﺑﺤﺎﺟﺔ إﱃ وراﺛﺔ ﺧﺼﺎل اﻟﺘﻔﺘﱡﺢ اﻟﺬﻫﻨﻲ واﻟﺘﺴﺎﻣُﺢ واﻻﺣﱰاس اﻟﻔﻜﺮي ﻣﻦ اﻻﻧﺴﻴﺎق ﺧﻠﻒ أي ﻓﻜﺮة ،وﻛﺬﻟﻚ ﺗﺮﺣﻴﺐ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴني ﺑﺎﻻﻋﺘﻤﺎد ﻋﲆ اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ ،وﻣﻘﺎوﻣﺘﻬﻢ اﻟﺼﺤﻴﺔ ﻟﻠﺘﻌﺼﺐ .ﰲ ﺣني أﻧﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﻬﺘﻤﻮا ﻛﺜريًا ﺑﺎﻟﻔﻜﺮ اﻟﺒريوﻧﻲ 373
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
اﻟﺬي »ﻳﺆﺛِﺮ اﻟﺤﻴﺎة دون اﻋﺘﻨﺎق آراء« .وﺳﻨﺮى ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺘﺎﱄ ﻛﻴﻒ ﻧﻀﺞ ﻫﺬا املرياث اﻟﺸﻜﻮﻛﻲ ،وﻟﻜﻦ ﻻ ﺑﺪ ً أوﻻ ﻣﻦ إﻟﻘﺎء اﻟﻀﻮء ﻋﲆ ﻣﺎ ﺣﺪث ﻗﺒﻞ ذﻟﻚ.
374
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺮاﺑﻊ ﻋﴩ
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
ﰲ ﻋﺎم ٥٢٩م — أي ﺑﻌﺪ وﻓﺎة ﺳﻴﻜﺴﺘﻮس إﻣﺒريﻳﻜﻮس ﺑﺤﻮاﱄ ﺛﻼﺛﺔ ﻗﺮون — وﺟﺪ ً ﺳﺒﻴﻼ ﴎﻳﻌً ﺎ ﻟﻮﺿﻊ ﺣَ ﱟﺪ ﻟﻠﴫاﻋﺎت اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ .وﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻫﺬا أﺣﺪ اﻷﺑﺎﻃﺮة املﺴﻴﺤﻴني اﻷﻣﺮ ﺑﺠﺪﻳﺪ ،ﻓﻘﺪ ﺣﺎول ﺳﻴﻜﺴﺘﻮس وﺑﻌﺾ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴني اﻵﺧﺮﻳﻦ أن ﻳﺴﺘﺪرﺟﻮا ﱢ املﺘﻌﺼ ِﺒني ملﺬاﻫﺐ ﻣﻌﻴﻨﺔ إﱃ ﺻﻤﺖ ﻫﺎدئ وﻟﻜﻦ ﻣﻌﻈﻤﻬﻢ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺘﺸﻜﻜﻮن اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﺑﺪرﺟﺔ ﻛﺒرية ﰲ ﻣﺬﻫﺐ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ إﱃ درﺟﺔ ﻣﻨﻌﺘﻬﻢ ﻣﻦ اﻻﻟﺘﺰام ﺑﺬﻟﻚ .ﻟﻜﻦ اﻹﻣﱪاﻃﻮر ﺟﺴﺘﻨﻴﺎن ﺟَ ﱠﺮبَ أﺳﻠﻮﺑًﺎ ﻣﺒﺎﴍً ا ﺑﺸﻜﻞ أﻛﱪ ،ﻓﺄﻏﻠﻖ املﺪارس اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﰲ أﺛﻴﻨﺎ ،إذ ﻳﺒﺪو أﻧﻪ أراد ﻣﻨﻊ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻏري املﺴﻴﺤﻴﺔ ﰲ ﺟﻤﻴﻊ أرﺟﺎء اﻹﻣﱪاﻃﻮرﻳﺔ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴﺔ .ﻟﻘﺪ ﻛﺎن ﻫﺪﻓﻪ اﻷول ﻫﻮ اﻟﺘﺨ ﱡﻠﺺ ﻣﻦ اﻟﻮﺛﻨﻴﺔ — ﻓﻘﺪ ﻗﻴﻞ إﻧﻪ أﺟﱪ ﺳﺒﻌني ً ﴫ ﰲ آﺳﻴﺎ أﻟﻔﺎ ﻋﲆ اﻟﺘﱠﻨ َ ﱡ ِ اﻟﺼﻐﺮى وﺣﺪﻫﺎ — رﻏﻢ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﺮﻏﺐ ً أﻳﻀﺎ ﰲ ﺳﺤﻖ أﺛﻴﻨﺎ ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ اﻟﺨﺼﻢ اﻟﻔﻜﺮي ﻟﺠﺎﻣﻌﺘﻪ اﻹﻣﱪاﻃﻮرﻳﺔ ﰲ اﻟﻘﺴﻄﻨﻄﻴﻨﻴﺔَ . وﺑﻐ ﱢﺾ اﻟﻨﻈﺮ ﻋﻤﱠ ﺎ دﻓﻊ ﺟﺴﺘﻨﻴﺎن ﻹﻏﻼق املﺪارس اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ أﻳﺎم اﻟﺘﺴﺎؤﻻت اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ املﻨﻔﺘﺤﺔ ﻣﻌﺪودة ﻋﲆ ﻛﻞ ﺣﺎل .ﻟﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻘﻴﻮد اﻟ ﱡﺮوﺣﻴﺔ واﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﻋﲆ اﻟﻔﻜﺮ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻲ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻲ ﺗﺰداد ﻗﻮة ﻟﻔﱰة ﻟﻴﺴﺖ ﺑﺎﻟﻘﻠﻴﻠﺔ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻛﺘﺐ ﺑﺮوﻛﻠﻴﻮس — أﺷﻬﺮ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻹﻏﺮﻳﻖ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻖ — ﰲ إﺣﺪى ﺗﺮاﻧﻴﻤﻪ ﻟﻸوﺛﺎن ﻳﻘﻮل» :ﻓﺪﻋﻨﻲ أﺣﻂ رﺣﺎﱄ أﻳﻬﺎ اﻟﴩﻳﺪ ﰲ ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع«. وﻗﺪ ﺑﺪأت ﻋﻼﻣﺎت اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ ﺗﺨﺒﻮ ﺣﺘﻰ ﺑني املﻔﻜﺮﻳﻦ ﻏري املﺴﻴﺤﻴني .ﻓﺎﻟﺼﺒﻐﺔ اﻟﻌﻘﻼﻧﻴﺔ اﻟﺘﻲ اﺗﱠ َ ﺼﻒ ﺑﻬﺎ ﻃﺎﻟﻴﺲ وأﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس ودﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ املﺘﺄﺻﻠﺔ اﻟﺘﻲ اﺗﱠ َ ﱢ ﺼﻒ ﺑﻬﺎ ﺳﻘﺮاط واﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴﻮن واﻟﺸﻜﻮﻛﻴﻮن، وأﺑﻴﻘﻮر ،وﻋﺎدة اﻟﺘﺴﺎؤل وﺣﺐ أﻓﻼﻃﻮن ﻟﻠﺠﺪال املﻨﻄﻘﻲ ،وﻓﻀﻮل أرﺳﻄﻮ اﻟﻌﻘﲇ واﺳﻊ اﻟﻨﻄﺎق ،ﻛﻞ ﻫﺬه اﻟﺼﻔﺎت ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺨﺘﻔﻲ أو ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﺗﺘﻐري .ﻟﻘﺪ اﻫﺘﻢ ﺑﺮوﻛﻠﻴﻮس ﺑﺎﻟﺴﺤﺮ واﻟﻌﺮاﻓﺔ ﻗﺪر اﻫﺘﻤﺎﻣﻪ
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﺑﺎﻟﻬﻨﺪﺳﺔ وﺑﺄﻓﻼﻃﻮن ،وﻛﺎن ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﺠﺎﻧﺐ ﻧﻤﻮذﺟً ﺎ ﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻋﴫه .وﻛﺎﻧﺖ اﻷﺳﺎﻟﻴﺐ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻗﺪ اﺳﺘُﻬ ِﻠ َﻜﺖ ﻗﺒ َﻞ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﺟﺴﺘﻨﻴﺎن اﻟﻘﻮﻳﺔ ﻟﻠﻘﻀﺎء ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑﻮﻗﺖ ﻃﻮﻳﻞ. وﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ إﻏﻼق املﺪارس اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﰲ أﺛﻴﻨﺎ ﻋﺎم ٥٢٩م أﻣ ًﺮا ﺧﻄريًا ﰲ ﺣ ﱢﺪ ذاﺗﻪ ،ﻓﻘﺪ َ أﻟﺤﻘﺎ ﴐ ًرا أﻛﱪ ﺑﺎﻟﺤﻴﺎة اﻟﻔﻜﺮﻳﺔ؛ أوﻟﻬﻤﺎ :ﺗﻘﺴﻴﻢ اﻹﻣﱪاﻃﻮرﻳﺔ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴﺔ ﺳﺒﻘﻪ ﺣﺪﺛﺎن إﱃ اﻟﻐﺮب اﻟﻼﺗﻴﻨﻲ واﻟﴩق اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻲ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺮاﺑﻊ ﺣﻴﺚ ﻓﺼﻞ ﴎﻳﻌً ﺎ ﺑني اﻷوروﺑﻴني وﺑني ﺗﺮاﺛﻬﻢ اﻹﻏﺮﻳﻘﻲ ،وﺛﺎﻧﻴﻬﻤﺎ :ﺗﺪﻣري اﻹﻣﱪاﻃﻮرﻳﺔ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ وﺣﻀﺎرﺗﻬﺎ ﻋﲆ ﻳﺪ اﻟﱪﺑﺮ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺨﺎﻣﺲ .وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻳُﻌَ ﱡﺪ ﻋﺎم ٥٢٩م ﻋﻼﻣﺔ ﻓﺎرﻗﺔ ﰲ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ؛ ﻓﻤﻨﺬ ذﻟﻚ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﻇﻠﺖ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﰲ اﻟﻐﺮب ﺑﺸﻜﻞ أو ﺑﺂﺧﺮ أﺳرية ﻟﻠﺪﻳﺎﻧﺔ املﺴﻴﺤﻴﺔ ﻗﺮاﺑﺔ أﻟﻒ ﻋﺎم. وإذا ﻧﻈﺮﻧﺎ إﱃ اﻷﻣﺮ ﺑﻌني اﻟﻔﻜﺮ اﻟﺤﺪﻳﺚ ،ﻓﻤﻦ املﻐﺮي أن ﻧﻨﻈﺮ إﱃ ذﻟﻚ اﻟﻔﺎﺻﻞ اﻟﺰﻣﻨﻲ اﻟﻄﻮﻳﻞ وﻛﺄﻧﻪ ﻳﺸﺒﻪ ﺣﻜﺎﻳﺔ اﻟﺠﻤﻴﻠﺔ اﻟﻨﺎﺋﻤﺔ .ﻓﺒﻌﺪ أن اﻟﺘﻘﺖ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺑﺎﻟﻌﻘﻴﺪة املﺴﻴﺤﻴﺔ ﻏﺮﻗﺖ ﰲ ُﺳﺒﺎت ﻋﻤﻴﻖ ﻗﺮاﺑﺔ أﻟﻒ ﻋﺎم ﺣﺘﻰ أﻳﻘﻈﻬﺎ دﻳﻜﺎرت .وﻗﺪ آﻣﻦ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ املﻔﻜﺮﻳﻦ ﰲ زﻣﻦ دﻳﻜﺎرت ﺑﺬﻟﻚ ً أﻳﻀﺎ ،رﻏﻢ أﻧﻬﻢ ﻧﺰﻋﻮا إﱃ إرﺟﺎع ﺗﺪﻫﻮر اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ إﱃ ﺗﺄﺛري أرﺳﻄﻮ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻟﺬي ﺑﻠﻎ ﻣﺎ ﺑﻠﻐﺘﻪ اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ )وﻟﻢ ﻳﻨﺴﺒﻮا ﻟﺪﻳﻜﺎرت ﺑﻌ ُﺪ أﻧﻪ ﻫﻮ ﻣﻦ أﺣﻴﺎﻫﺎ( .وﰲ ﻋﺎم ١٦٥١م ﻛﺘﺐ ﺗﻮﻣﺎس ﻫﻮﺑﺰ أن اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﰲ ﺟﺎﻣﻌﺎت اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ »ﻟﻢ ﺗﻜﻦ إﻻ ﺧﺎدﻣﺔ ﻟﻠﺪﻳﺎﻧﺔ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴﺔ ،وﺑﻤﺎ أن ﻧﻔﻮذ أرﺳﻄﻮ ﻛﺎن ﻫﻮ اﻟﺴﺎﺋﺪ ﻓﻴﻬﺎ ﻟﻢ ﺗ ُﻜﻦ اﻟﺪراﺳﺔ ﻓﻴﻬﺎ دراﺳﺔ ﻟﻌﻠﻢ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺑﺸﻜﻞ ﺳﻠﻴﻢ )إذ ﻟﻢ ﺗﻌﺘﻤﺪ ﻃﺒﻴﻌﺔ ﻫﺬه اﻟﺪراﺳﺔ ﻋﲆ املﺆ ﱢﻟﻔني( ﺑﻞ ﻛﺎﻧﺖ دراﺳﺔ ﻷرﺳﻄﻮ «.وﺑﺎملﺜﻞ ﺗﺤﺪﱠث ﻓﺮاﻧﺴﻴﺲ ﺑﻴﻜﻮن ﰲ ﻋﺎم ١٦٠٥م ﻋﻦ »ﻧﻮع اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ املﺘﺪﻧﻲ« ﻓﻘﺎل: ﻟﻘﺪ ﺳﺎد ﺑﺸﻜﻞ ﻛﺒري ﰲ أوﺳﺎط أﺳﺎﺗﺬ ٍة رﻏﻢ اﺗﺼﺎﻓﻬﻢ ﺑﺎﻟﺬﻛﺎء اﻟﺤﺎد ،ووﻓﺮة وﻗﺖ اﻟﻔﺮاغ ﻟﺪﻳﻬﻢ ،وﻋﺪم ﺗﻨﻮع ﻗﺮاءاﺗﻬﻢ ،واﻗﺘﺼﺎر ﻣﻌﺮﻓﺘﻬﻢ واﻃﻼﻋﻬﻢ ﻋﲆ اﻟﻘﻠﻴﻞ ﻣﻦ املﺆﻟﻔني )وﻋﲆ رأﺳﻬﻢ أرﺳﻄﻮ ﺣﺎﻛﻤﻬﻢ املﻄﻠﻖ( ﻷن ﺷﺨﻮﺻﻬﻢ اﻧﻌﺰﻟﺖ ﰲ اﻷدﻳﺮة واﻟﻜﻠﻴﺎت ،وﺑﻤﻌﺮﻓﺘﻬﻢ اﻟﻘﻠﻴﻞ ﻋﻦ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﺳﻮاء ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ أو ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﺰﻣﻦ؛ ﻓﻘﺪ ﻧﺴﺠﻮا ﻟﻨﺎ ﻣﻦ ﻣﺎدة ﻏري وﻓرية ،وﺑﺎﺳﺘﺜﺎرة ً ﻃﻮﻳﻼ ﻫﺬه اﻟﺸﺒﻜﺎت اﻟﻐﺰﻳﺮة ﻣﻦ املﻌﺮﻓﺔ املﻮﺟﻮدة ﰲ ﻛﺘﺒﻬﻢ ،وﻫﻲ ﻋﻘﻮﻟﻬﻢ ﺷﺒﻜﺎت ﻣﻌﺮﻓﻴﺔ ﺗﺜري اﻹﻋﺠﺎب ﰲ ﻋﻤﻠﻬﺎ وﰲ ﺟﻤﺎل ﺧﻴﻮﻃﻬﺎ وﻟﻜﻦ ﺑﻼ ﻣﻀﻤﻮن أو ﻓﺎﺋﺪة. وﺑﻌﺪ ﻇﻬﻮر ﺑﻴﻜﻮن ﺑﻘﺮﻧني ﻣﻦ اﻟﺰﻣﺎن — ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬي أﺻﺒﺢ ﻳ َ ُﻨﺴﺐ ﻓﻴﻪ اﻟﻔﻀﻞ ﻟﺪﻳﻜﺎرت ﰲ إزاﻟﺔ ﻫﺬه اﻟﺸﺒﻜﺎت اﻟﻌﻨﻜﺒﻮﺗﻴﺔ — أدان ﻫﻴﺠﻞ ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ،وﻟﻢ 376
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
ﻳُ ِﺪﻧْﻬَ ﺎ ﺑﻤﺎ ﻗﺎﻟﻪ ﺑﻞ ﺑﻤﺎ ﻟﻢ ُ ﻳﻘ ْﻠﻪ .ﻓﻤﻦ ﺑني ٍ أﻟﻒ وﺛﻼﺛﻤﺎﺋﺔ ﺻﻔﺤﺔ َر َ ﺻ َﺪ ﻓﻴﻬﺎ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ رﺻﺪًا زﻣﻨﻴٍّﺎ ﺧﺼﺺ ﻣﺎﺋﺔ وﻋﴩﻳﻦ ﺻﻔﺤﺔ ﻓﻘﻂ ﻟﻠﺤﻘﺒﺔ اﻟﻮﺳﻄﻰ اﻟﺘﻲ اﺳﺘﻤﺮت أﻟﻒ ﻋﺎم ،وأﻓﺮد ﺛﻤﺎﻧﻤﺎﺋﺔ ﺻﻔﺤﺔ ﻟﻠﻔﻜﺮ اﻟﻘﺪﻳﻢ اﻟﺬي اﻣﺘﺪ ﻋﱪ أﻟﻒ وﻣﺎﺋﺘﻲ ﻋﺎم ،وأرﺑﻌﻤﺎﺋﺔ ﺻﻔﺤﺔ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ اﻟﺘﻲ اﺳﺘﻤﺮت ملﺎﺋﺘﻲ ﻋﺎم. وﻟﻦ ﻳﺨﺘﻠﻒ ﻏﺎﻟﺒﻴﺔ اﻟﻘﺮاء املﻌﺎﴏﻳﻦ ﻣﻊ ﺗﺼﻨﻴﻒ ﻫﻴﺠﻞ ﻛﺜريًا؛ ﻓﺎﻟﻨﺘﺎج اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ ﻟﻠﺤﻘﺒﺘني اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ واملﻌﺎﴏة ﺑﺸﻜﻞ ﻋﺎم ﻟﻴﺲ أﻛﺜﺮ إﺑﺪاﻋً ﺎ ﻓﺤﺴﺐ ،ﺑﻞ أﺳﻬﻞ ﻓﻬﻤً ﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻘﺎرئ املﻌﺎﴏ ﻣﻦ اﻟﺘﻌﻠﻴﻘﺎت املﻄﻮﻟﺔ واملﻤﺎرﺳﺎت اﻟﺠﺪﻟﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻟﻔﻈﺘﻬﺎ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ .وﰲ ﻇﻞ ِﺿﻴﻖ اﻟﻮﻗﺖ واملﺴﺎﺣﺔ ﻓﻤﻦ اﻷﻓﻀﻞ أن ﻧﱰك ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ﺗﺘﻴﻪ ﰲ ﻏﺎﺑﺘﻬﺎ املﻈﻠﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻐﻄﻴﻬﺎ اﻷﺷﻮاك. داع ْ اﻟﺠ ﱢﺪ ﺑﺨﺼﻮص اﻟﺴﺒﺐ ﰲ ﻷن ﻧﺄﺧﺬ ﻛﻼم ﻫﻮﺑﺰ أو ﺑﻴﻜﻮن ﻋﲆ ﻣﺤﻤﻞ ِ وﻟﻴﺲ ﻫﻨﺎك ٍ اﺧﺘﻼف ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ﺑﺼﻮرة ﻏري ﻣﺤﻤﻮدة ،ﻓﻠﻢ ﻳ ُﻜﻦ اﻟﺴﺒﺐ ﻫﻴﻤﻨﺔ أرﺳﻄﻮ أو ﻫﻴﻤﻨﺔ اﻟﺪﻳﻦ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻓﺤﺴﺐ ،ﻛﻤﺎ أن اﻟﻘﻮل إن أﻓﻀﻞ ﻋﻘﻮل اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ﰲ اﻟﻐﺮب ﻟﻢ ﺗُﻨﺘِﺞ ﺷﻴﺌًﺎ ﻟﻪ »ﻣﻀﻤﻮن أو ﻓﺎﺋﺪة« ﻫﻮ ﻗﻮل ﻣﺒﺎﻟﻎ ﻓﻴﻪ. ﺻﺤﻴﺢ أن اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ﻛﺎﻧﺖ ﺧﺎدﻣﺔ ﱠ ﻟﻼﻫﻮت املﺴﻴﺤﻲ ،وﻟﻜﻦ ﻣﻦ املﺆ ﱠﻛﺪ أن ﻓﻼﺳﻔﺔ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ أﻧﻔﺴﻬﻢ اﻟﺬﻳﻦ ﻛﺎﻧﻮا ﺟﻤﻴﻌً ﺎ رﺟﺎل دﻳﻦ وﻛﺎن ﱠ ﻳﺘﻜﺴﺐ ﻣﻦ ﺗﺪرﻳﺲ اﻟﻼﻫﻮت ﻟﻢ ﻳﻌﺎرﺿﻮا ﻫﺬا اﻟﻮﺻﻒ ،وﻟﻜﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﺨﺎدﻣﺔ ﻣﻌﻈﻤﻬﻢ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺘﺤﺼﻞ ﻋﲆ ﻋﻄﻼت أﺣﻴﺎﻧًﺎ .وﻗﺪ ﺟﺮت اﻟﻌﺎدة ﻋﲆ دراﺳﺔ ﻓﺮوع ﻋﺪﻳﺪة ﻣﻦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ دون اﻟﻨﻈﺮ إﱃ ﺣﺼﺔ اﻟﻼﻫﻮت ﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﺪراﺳﺎت .ﻫﺬا ﺑﺨﻼف أن اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ املﻮﺿﻮﻋﺎت اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﻗﺪ أﻓﴣ ﺑﻄﺒﻴﻌﺘﻪ إﱃ ﻣﻮﺿﻮﻋﺎت ﻓﻠﺴﻔﻴﺔ .ﻓﻘﻀﻴﺔ اﻟ ﱡﺮوح ً ﻣﺜﻼ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺘﺤﻮل ﴎﻳﻌً ﺎ إﱃ دراﺳﺔ ﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻛﺘﺴﺎب اﻟﻌﻘﻞ ملﻌﺮﻓﺘﻪ ﻋﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ املﺎدي وﻛﻴﻔﻴﺔ ارﺗﺒﺎط اﻟﻌﻘﻞ ﺑﺎﻟﺠﺴﺪ .وﺑﺎملِ ﺜﻞ ﻗﺪ ﺗﺘﺤﻮل ﻣﻨﺎﻗﺸﺔ ﻣﻮﺿﻮع اﻟﺨﻄﻴﺌﺔ إﱃ ﻣﻌﺎﻟﺠﺔ ملﺴﺄﻟﺔ اﻹرادة اﻟﺤﺮة، ﻛﻤﺎ ﻳﻤﻜﻦ ملﺴﺄﻟﺔ اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺴﺎﺑﻖ ﻟﻠﺮب أن ﺗُﻔﴤ إﱃ دراﺳﺔ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﺰﻣﻦ .واﻟﺤﻖ ﻧﻘﻮل إن اﻟﻜﺜري ﻣﻦ ﻋﻘﺎﺋﺪ اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ املﺴﻴﺤﻴﺔ ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ﻛﺎن ﰲ أَﻣَ ﱢﺲ اﻟﺤﺎﺟﺔ ﻟﻠﻤﻌﺎﻟﺠﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻋﲆ املﺴﻴﺤﻴني أن ﻳﺆﻣﻨﻮا ً ﻣﺜﻼ أن ﻗﻄﻌﺔ ﻣﻦ اﻟﺮﻗﺎق ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺘﺤﻮل إﱃ ﻗﻄﻌﺔ ﻣﻦ اﻟﻠﺤﻢ ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻻ ﺗﺰال ﺗﺒﺪو ﻛﻘﻄﻌﺔ ﻣﻦ رﻗﺎق ،وأن اﻟﺮب ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن ﺛﻼﺛﺔ أﺷﺨﺎص ﰲ وﻗﺖ واﺣﺪ .وﻟﺬﻟﻚ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت ﱠ املﻌﻘﺪة ﺑﺨﺼﻮص املﺎدة واﻟﺼﻮرة وﺟﻮﻫﺮ اﻷﺷﻴﺎء — واﻟﺘﻲ ﺗُ َﻘ ﱢﺪ ُم ﺗﻔﺴريًا ﻟﻬﺬه اﻷﻟﻐﺎز — ﺗﻠﻘﻰ ﺗﺮﺣﻴﺒًﺎ ﻛﺒريًا. ﻟﻘﺪ ﻛﺎن ﻟﺘﺰاوج اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺑﺎﻟﺪﻳﻦ اﻟﺬي ﺳﻴﻄﺮ ﻋﲆ ﺟﻮاﻧﺐ ﻛﺜرية ﻣﻦ اﻟﺤﻴﺎة ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ﻣﻤﻴﺰات ﻋﺪة ،ﻓﺮﻏﻢ أن ذﻟﻚ ﻓﺮض ﻗﻴﻮدًا ﻋﲆ دراﺳﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻧﺮاﻫﺎ 377
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
راع ِ واﺳﻊ اﻟﻨﻔﻮذ .وﻷن اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻬﺘﻤﺔ اﻵن ﻏري ﻣﻘﺒﻮﻟﺔ ،ﻓﻘﺪ ﺟﻌﻠﻬﺎ ﻣﺤ َﻞ اﻫﺘﻤﺎ ِم ٍ ﱢ اﻟﱰﻗﻲ ﰲ ﻣﻨﺎﺻﺒﻬﺎ أو ﺣﺘﻰ اﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ ﺗﻌﻠﻴﻢ ﻣﻨﺎﺳﺐ ﺑﺎﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻛﺎن ﻋﲆ ﻛﻞ ﻣَ ﻦ أراد أن ﻳﻬﺘﻢ ﺑﺎﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ً أﻳﻀﺎ .وﻋﲆ ﻋﻜﺲ اﻟﺤﺎل اﻟﻴﻮم ﻛﺎن ﻛﻞ املﺘﻌ ﱢﻠﻤني ﻳﺪرﺳﻮن اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻋﻤﻠﻴٍّﺎ ﺑﻘﺪر ﻣﺎ ﺗﺤﺖ اﺳﻢ اﻟﻼﻫﻮت أو اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ أو املﻨﻄﻖ ﻋﲆ اﻷﻏﻠﺐ .وﻛﺎن اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ — رﻏﻢ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻣﻦ املﻤﻜﻦ أن ﻳﺤﻤﻠﻮا أﻟﻘﺎﺑًﺎ أﺧﺮى ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻟﺮﺳﻤﻴﺔ ﻋﲆ ً رﺟﺎﻻ ﻣﻦ اﻷﻫﻤﻴﺔ ﺑﻤﻜﺎن .اﻟﻴﻮم ،ﻗﺪ ﻳﻄﻤﺢ أﺣﺪ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ املﺸﻬﻮرﻳﻦ ﰲ ﻣﺎ ﻳﺒﺪو — ﺗﻘﺪﻳﻢ اﻟﻨﱡﺼﺢ ﻹﺣﺪى اﻟﻠﺠﺎن اﻟﺤﻜﻮﻣﻴﺔ ﺑﺨﺼﻮص ﻣﺴﺄﻟﺔ ﺻﻐرية ﻧﺴﺒﻴٍّﺎ ،أﻣﺎ ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﺘﺴﺐ ﻧﻔﻮذًا ﻛﺒريًا ﺑﺄن ﻳﺘﻮﱃ ﻣﻨﺼﺐ ﻛﺎردﻳﻨﺎل أو ﻣﻄﺮان أو ﺣﺘﻰ اﻟﺒﺎﺑﺎ. وﻛﺎن ﻳﻤﻜﻦ ً أﻳﻀﺎ أن ﻳُﺴﺠَ َﻦ أو ﻳُﻌ َﺰ َل أو أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ذﻟﻚ إذا وﺻﻞ إﱃ اﺳﺘﻨﺘﺎﺟﺎت ﺧﺎﻃﺌﺔ .وﻟﻜﻦ اﻹداﻧﺎت واﻟﺘﺤﺮﻳﻢ اﻟﻠﺬﻳﻦ ﺣ ﱠﺪدَا ﻣﺴﺎر اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﺄﺧﺬﻫﻤﺎ ﻋﲆ ﻋﻮاﻫﻨﻬﻤﺎ ،ﻓﻬﻤﺎ ﻳُﺒَﻴﱢﻨَﺎن أن اﻟﻔﻜﺮ املﺴﺘﻘﻞ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺘﺨ ﱡﻠﺺ ﻣﻨﻪ ﺑﺴﻬﻮﻟﺔ ،وإﻻ َﻓ ِﻠ َﻢ ﻛﺎن ﻋﲆ اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ أن ﺗﺤﺎول ﺑﺎﺳﺘﻤﺮار اﻟﺘﺨﻠﺺ ﻣﻨﻪ؟ ﻓﻘﺪ ﻓﻌﻠﺖ ﺠﻦ ﻣﻦ وراﺋﻪ إﻻ اﻟﻘﻠﻴﻞ ﰲ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﺤﻮﻟﺖ اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ ﻛﻞ ﻣﺎ ﺑﻮﺳﻌﻬﺎ وﻟﻢ ﺗَ ِ اﻷﻓﻜﺎر ﻏري اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ ﻣﻦ ﻗﻄﺮات إﱃ ﺳﻴﻞ ﻣﻦ اﻷﻓﻜﺎر .وﺣﺘﻰ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ ﰲ ﱡ اﻟﺘﻐري اﻟﻔﻜﺮي وﻟﻴﺲ ﺗﻐﻴري أَو ِْج ﻗﻮﺗﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﺘﻤﻜﻦ اﻷﺣﻜﺎم اﻟ َﻜﻨ َ ِﺴﻴﱠﺔ إﻻ ﻣﻦ إﺑﻄﺎء وﺗرية ﻣﺴﺎره .ﻓﻔﻲ ﻋﺎم ١٢١٠م ُﻣ ِﻨ َﻊ اﻟﻄﻼب ﰲ ﺟﺎﻣﻌﺔ ﺑﺎرﻳﺲ ﻣﻦ دراﺳﺔ أﻋﻤﺎل أرﺳﻄﻮ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﲆ املﺴﺘﻮى اﻟﺨﺎص ،وﻛﺎﻧﺖ اﻟﻌﻘﻮﺑﺔ اﻟﺤﺮﻣﺎن اﻟ َﻜﻨ َ ِﴘ ،وﺑﻌﺪ ﻋﻘﻮد ﻗﻠﻴﻠﺔ أﺻﺒﺤﺖ دراﺳﺘﻬﺎ إﻟﺰاﻣﻴﺔ. وﻟﻢ ﺗ ُﻜﻦ ﻗﺒﻀﺔ اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ ﻋﲆ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ﺑﺸﺪة ﻣﺜﻴﻠﺘﻬﺎ اﻟﺘﻲ ﻓﺮﺿﺘﻬﺎ املﺎرﻛﺴﻴﺔ واﻟﻠﻴﻨﻴﻨﻴﺔ ﰲ أوروﺑﺎ اﻟﴩﻗﻴﺔ ﻗﺒﻞ اﻧﻬﻴﺎر اﻟﺸﻴﻮﻋﻴﺔ .وﺛَﻤﱠ َﺔ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﻔﺮوق ﺑني اﻟﺤﺎﻟﺘني ،رﺑﻤﺎ أﻫﻤﻬﺎ أن اﻷﻧﻈﻤﺔ اﻟﻔﻜﺮﻳﺔ اﻟﺒﺪﻳﻠﺔ ﻟﻢ ﺗُﻤﻨَﻊ ﰲ أوﺳﺎط اﻟﻄﻠﺒﺔ واملﻌﻠﻤني ﰲ ﺑﺪاﻳﺔ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ﻛﻤﺎ ُﻣﻨِﻌَ ﺖ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﰲ ﻇﻞ اﻟﺸﻴﻮﻋﻴﺔ .وﻟﻢ ﺗُﻤﻨَﻊ ﻫﺬه اﻷﻧﻈﻤﺔ ﻷﻧﻬﺎ ﻟﻢ ﺗ ُﻜﻦ ﻣﻮﺟﻮدة ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﰲ أﻳﺔ ﺻﻮرة ﻗﺎﺑﻠﺔ ﻟﻠﺘﻄﺒﻴﻖ .وﻟﻨﻔﱰض ﻟﻮﻫﻠﺔ ﱠ أن أﺣﺪ املﻔﻜﺮﻳﻦ اﻟﺨﻴﺎﻟﻴني ﰲ أواﺋﻞ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻋﴩ ﻗﺪ ﺗﺤ ﱠﺮر ﻓﺠﺄة ﻣﻦ ﻗﻴﻮد املﺠﺘﻤﻊ واﻟﻨﻈﺎم اﻟﺘﻌﻠﻴﻤﻲ اﻟﻠﺬﻳﻦ ﺗﺤﻜﻤﻬﻤﺎ اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ .وﻟﻨﻔﱰض ً أﻳﻀﺎ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﻤﻠﻚ اﻟﻮﻗﺖ واملﺎل اﻟﻼزﻣَ ْني ﻟﻠﺒﺤﺚ ﰲ أي ﻣﻮﺿﻮع ﻳﺮﻳﺪه ،وﻳﻤﻜﻨﻪ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ أﺣﺪث اﻷﻋﻤﺎل املﻜﺘﻮﺑﺔ ﺑﻠﻐﺔ ﻳﻔﻬﻤﻬﺎ ،وﻟﺪﻳﻪ ﻣﻦ اﻟﺰﻣﻼء اﻟﺒﺎرﻋني املﺘﺤﺮرﻳﻦ ﺑﺎﻟﻘﺪر ﻧﻔﺴﻪ ﻣَ ﻦ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ اﻟﺘﺤﺪﱡث إﻟﻴﻪ. 378
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
ﻓﻜﻴﻒ ﻛﺎن ﺳﻴﺴﺘﻐﻞ ﻫﺬه اﻟﺤﺮﻳﺔ؟ وﻣﺎ ﻫﻲ ﻗِ ﺒﻠﺘﻪ اﻟﺘﻲ ﻳﺘﻠﻤﺲ ﻓﻴﻬﺎ اﻹﻟﻬﺎم واﻷﻓﻜﺎر؟ ﻟﻴﺲ ﻫﻨﺎك ﺳﻮى أﻋﻤﺎل ﻗﺪﻣﺎء اﻹﻏﺮﻳﻖ وﺗﻌﻠﻴﻘﺎت اﻟﻌﺮب ﻋﻠﻴﻬﺎ .وﻫﺬا ﻫﻮ ﻣﺎ ﻓﻌﻠﻪ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ املﻔﻜﺮون اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﻮن ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻟﺚ ﻋﴩ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﴍﻋﻮا ﺑﻌﺪ وﻗﺖ ﻃﻮﻳﻞ ﰲ اﺳﺘﻌﺎدة ﺗﺮاﺛﻬﻢ اﻹﻏﺮﻳﻘﻲ وﺗﺮﺟﻤﺘﻪ .ﻓﻬﻞ ﻋﺮﻗﻠﺖ اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ إذن ﻣﺎ ﺗ ِﺒﻊ ذﻟﻚ ﻣﻦ ﻓﻬﻢ وﺗﻄﻮﱡر ملﺎ ﺟﺮى اﻛﺘﺸﺎﻓﻪ؟ ﺑﻞ ﻋﲆ اﻟﻌﻜﺲ رﺑﻤﺎ ﻛﺎن ﻣﻔﻜﺮو اﻟﻐﺮب ﺳﻴﺘﺒﺎﻃﺌﻮن ﰲ ﺗﻌﺪﻳﻞ اﻟﱰاث ً ﻛﺎﻣﻼ ﻣﺎ ﻟﻢ ﺗﺠﱪﻫﻢ ﻣﻄﺎﻟﺐ املﺴﻴﺤﻴﺔ ﻋﲆ دراﺳﺘﻪ ﺑﻌني ﻧﻘﺪﻳﺔ ﻟﻠﻐﺎﻳﺔ. اﻟﻘﺪﻳﻢ وﺗﺤﻮﻳﻠﻪ وﻟﻨﺄﺧﺬ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﻣﺎ ﺣﺪث ﻋﺎم ١٢٧٧م ﻋﻨﺪﻣﺎ أدان أﺳﻘﻒ ﺑﺎرﻳﺲ ٢١٩ﻣﺆ ﱠﻟ ًﻔﺎ ﻣﺴﺘﻤَ ﺪٍّا ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺎﺑﺎت اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ واﻟﻌﺮﺑﻴﺔ املﻜﺘَ َﺸﻔﺔ ﺣﺪﻳﺜًﺎ أو ﻣﺪﻋﻮﻣً ﺎ ﺑﻬﺎ ﻋﲆ اﻷرﺟﺢ. وﻛﻤﺎ ﺳﻨﺮى ً ﻻﺣﻘﺎ ،ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ اﻟﺘﺄﺛري ﺑﻌﻴﺪ املﺪى ﻟﻬﺬه اﻹداﻧﺎت )اﻟﺘﻲ ﴎﻋﺎن ﻣﺎ وﻗﻊ ﻣﺜﻠﻬﺎ ﰲ ﺑﺮﻳﻄﺎﻧﻴﺎ( ﻟﺘﻘﻴﺪ املﻔﻜﺮﻳﻦ ﺑﺎﻟﻜﻨﻴﺴﺔ ،ﺑﻞ ﺟﻌﻠﺘﻬﻢ ﻳﻔﻜﺮون ﺑﺄﺳﺎﻟﻴﺐ ﺟﺪﻳﺪة. وﻟﺬﻟﻚ ﻟﻴﺲ ﺛَﻤﱠ ﺔ ﻣﺎ ﻳﺪﻋﻮ ﻟﻼﻋﺘﻘﺎد ﺑﺄن اﻟﺒُﻌﺪ ﻋﻦ املﺴﻴﺤﻴﺔ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻋﴩ ﻣﺜﻼً ﻛﺎن ﺳﻴُﺤﺪِث ﺗﻄ ﱡﻮ ًرا ِﺟﺬرﻳٍّﺎ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻔﻜﺮﻳﺔ ﰲ اﻟﻐﺮب اﻟﻼﺗﻴﻨﻲ .واﻟﺤﻘﻴﻘﺔ أن اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ُﺰرﻳﺔ ﰲ أواﺋﻞ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ﺑﺪرﺟﺔ ﺟﻌﻠﺖ اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ املﺴﺘﺒﺪة ﻗﺪ وﺻﻞ إﱃ ﺣﺎﻟﺔ ﻣ ِ أدﻧﻰ ﻣﺸﻜﻼت املﻔﻜﺮﻳﻦ ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ .ﻓﺒﺤﻠﻮل ﻋﺎم ١٠٠٠م ﻛﺎﻧﺖ ﻋﻠﻮم اﻟﻄﺐ واﻟﻔﻴﺰﻳﺎء واﻟﻔﻠﻚ واﻷﺣﻴﺎء وﺟﻤﻴﻊ ﻓﺮوع املﻌﺮﻓﺔ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﺑﺎﺳﺘﺜﻨﺎء اﻟﻼﻫﻮت ﻗﺪ اﻧﻬﺎرت ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ .وﺣﺘﻰ اﻟﻘﻠﻴﻠﻮن ﻣﻤﱠ ﻦ ﺣﺼﻠﻮا ﻋﲆ ﻗﺪر ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺬﻳﻦ َﻓ ﱡﺮوا إﱃ اﻷدﻳﺮة ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻌﺮﻓﺘﻬﻢ أدﻧﻰ ﺑﺸﻜﻞ ﻣﻠﺤﻮظ ﻣﻦ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﻣَ ﻦ ﻋﺎش ِﻣﻦ اﻹﻏﺮﻳﻖ ﻗﺒﻞ ﺛﻤﺎﻧﻴﺔ ً ﻣﻌﺮوﻓﺎ إﻻ ﻟﺤَ ﻔﻨﺔ ﻣﻦ ﻗﺮون .وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﻌﻈﻢ اﻷدب اﻟﻘﺪﻳﻢ — ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻪ اﻷدب اﻟﺮوﻣﺎﻧﻲ — اﻟﺮﻫﺒﺎن ،وﻛﺎﻧﺖ املﻼﺣﻈﺎت اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ اﻟﻘﻠﻴﻠﺔ املﻮﺟﻮدة ﻣﻌﻈﻤﻬﺎ ﺷﺪﻳﺪ اﻟﺘﻔﺎﻫﺔ ،وﻛﺎﻧﺖ اﻟﻨﴫاﻧﻴﺔ ﺑﺎﺧﺘﺼﺎر ﻏﺎرﻗﺔ ﰲ اﻟﺠﻬﻞ )ﺑﻴﻨﻤﺎ ﱠ ﺣﻘﻖ اﻟﻌﺮب ﺗﻘﺪﻣً ﺎ ﻛﺒريًا ﰲ اﻟﻄﺐ واﻟﻌﻠﻮم واﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻣﻨﺬ أن ﺑﺪءوا ﰲ ﺗﺮﺟﻤﺔ اﻷﻋﻤﺎل اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ إﱃ اﻟﴪﻳﺎﻧﻴﺔ واﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻣﻦ(. ﻟﻢ ﻳَﺨﺘَ ِﻒ اﻟﱰاث اﻹﻏﺮﻳﻘﻲ ﺑﺴﺒﺐ ﻗﻤﻌﻪ ،ﺑﻞ ﻷﻧﻪ ﺗُ ِﺮ َك ﻟﻴﺬﻫﺐ أدراج اﻟﺮﻳﺎح .ورﺑﻤﺎ ﺗﻮ ﱠرﻃﺖ املﺴﻴﺤﻴﺔ ﰲ ﺑﻌﺾ ﻫﺬا اﻹﻫﻤﺎل .ﻓﻌﲆ ﻛﻞ ﺣﺎل اﻋﺘﻘﺪ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ املﺴﻴﺤﻴني اﻷواﺋﻞ ذوي اﻟﺘﺄﺛري اﻟﻜﺒري أن اﻟﴚء اﻟﻮﺣﻴﺪ ا ُمل ِﻬﻤﺔ ﻣﻌﺮﻓﺘﻪ ﻋﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻫﻮ أن اﻟﺮب ﺧﺎﻟﻘﻪ، وأن أﻳﺔ ﺗﻔﺎﺻﻴﻞ أﺧﺮى ﻟﻢ ﺗ ُﻜﻦ ﴐورﻳﺔ .وﻗﺪ أدان اﻟﻘﺪﻳﺲ أوﺟﺴﺘني »ﺷﻬﻮة اﻟﻌﻴﻮن« و»اﻹدراك ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﻠﺤﻢ ،وﺣﺐ اﻻﺳﺘﻄﻼع ﻏري املﺠﺪي اﻟﺬي ﺗﺰﻳﻨﻪ ﻧﺴﺒﺘﻪ ﻟﻠﻤﻌﺮﻓﺔ ﱪ ﺗﴩﻳﺢ ﺟﺴﻢ اﻹﻧﺴﺎن ﺑﻐﺮض ﻣﻌﺮﻓﺔ ﺗﺮﻛﻴﺒﻪ ً ﻓﺴﻘﺎ ﻳﺨﺎﻟﻒ ﺗﻌﺎﻟﻴﻢ اﻟﺪﻳﻦ؛ واﻟﻌﻠﻮم «.واﻋﺘُ ِ َ 379
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻟﺬﻟﻚ ﺗﻮﻗﻒ اﻟﺒﺤﺚ اﻟﻄﺒﻲ اﻟﺠﺎدﱡ .وﻗﺪ اﻋﺘﱪ ﺑﻌﺾ اﻟﺒﺎﺑﺎوات اﻷﻛﺜﺮ اﻧﻔﺘﺎﺣً ﺎ أن ﻗﺪﻣﺎء اﻹﻏﺮﻳﻖ ﻫﻢ أﺑﻨﺎء اﻟﺮب ﻟﺬا ﻋﻠﻴﻨﺎ اﻻﺳﺘﻤﺎع ﻟﻬﻢ ،وﻟﻜﻦ اﻷﺻﻮات اﻷﻛﺜﺮ ﺗﺄﺛريًا ﻗﺎﻟﺖ إن اﻹﻏﺮﻳﻖ ﺟﺎءوا ﰲ ﻣﺮﺣﻠﺔ ﻣﺒﻜﺮة ﺟﺪٍّا ﻓﻠﻢ ﻳﻌﺮﻓﻮا اﻷﺷﻴﺎء املﻬﻤﺔ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة؛ ﻟﺬا ﻛﺎن ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺠﺎﻫﻞ »ﻣﻌﺮﻓﺘﻬﻢ« .وﻟﻢ ﺗﻜﻦ اﻷﻣﻮر ﻟﺘﺘﺤﺴﻦ ﰲ ﻇﻞ ﻫﺬه اﻟﻈﺮوف وﻻ ﰲ ﻇﻞ ﺳﻘﻮط اﻹﻣﱪاﻃﻮرﻳﺔ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴﺔ واﻧﺪﺛﺎر اﻟﺤﻴﺎة املﺘﺤﴬة واملﺪارس ﺑﺎﻟﺘﺒﻌﻴﺔ ﰲ ذروة اﻟﻌﺼﻮر املﻈﻠﻤﺔ ﰲ أوروﺑﺎ )ﻣﻦ ﻋﺎم ٤٥٠م إﱃ ٧٥٠م ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ( .ﻫﺬا ﺑﺨﻼف ﺿﻌﻒ اﻫﺘﻤﺎم اﻟﺮوﻣﺎن ﻧﻮﻋً ﺎ ﻣﺎ ﺑﺎﻟﱰاث اﻹﻏﺮﻳﻘﻲ ﻗﺒﻞ ﺗﺤﻮﱡل اﻹﻣﱪاﻃﻮرﻳﺔ إﱃ املﺴﻴﺤﻴﺔ ﺑﻮﻗﺖ ﻃﻮﻳﻞ ،وﻛﺬﻟﻚ ﺻﺎر ﺣﺎل اﻹﻏﺮﻳﻖ أﻧﻔﺴﻬﻢ ﺑﺤﻠﻮل اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻟﺚ املﻴﻼدي. وإذا ﻟﻢ ﺗ ُﻜﻦ اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ ﻗﺪ أﴐﱠ ت ﺑﺎﻟﺤﻴﺎة اﻟﻔﻜﺮﻳﺔ َ ﺑﺎﻟﻘﺪْر ﻧﻔﺴﻪ اﻟﺬي ُ ﺻﻮﱢرت ﺑﻪ ﰲ ﺑﻌﺾ اﻷﺣﻴﺎن ،ﻓﻤﺎذا ﻋﻦ ﻣﻨﺒﻊ اﻟﴩ اﻟﻮارد ﰲ ﺗﻠﻤﻴﺤﺎت ﻫﻮﺑﺰ» :أرﺳﻄﻮ«؟ ﻓﻬﻴﻤﻨﺔ ﻓﻜﺮ أرﺳﻄﻮ ﻋﲆ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ﻟﻬﺎ ﴍط ﻟﻢ ﻳﺘﺤﻘﻖ؛ ﻓﺠﻤﻴﻊ أﻋﻤﺎﻟﻪ ﻟﻢ ﺗ ُﻜﻦ ﻣﻌﺮوﻓﺔ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﰲ ﻣﻌﻈﻢ ﺗﻠﻚ اﻟﺤﻘﺒﺔ .وﺑﺎﺳﺘﺜﻨﺎء رﺳﺎﻟﺘني ﺻﻐريﺗني ﻋﻦ املﻨﻄﻖ ﻟﻢ ﺗﻨﺘﴩ أﻋﻤﺎل أرﺳﻄﻮ ﺣﺘﻰ اﻟﻘﺮون اﻟﺜﻼﺛﺔ اﻷﺧرية ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ) .(١٤٥٠–١١٥٠وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﺠﺰء اﻷﺧري ﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﺤﻘﺒﺔ ﻫﻮ ﻣﺎ ﺷﻬﺪ ﻣﻌﻈﻢ اﻟﺤﺮاك اﻟﻔﻜﺮي ،ﻓﻤﻌﻈﻢ ﱠ املﻌﻘﺪة ﻗﺪ ُﻛ ِﺘﺒَﺖ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﺤﻘﺒﺔ إﺛْﺮ ﺗﺮﺟﻤﺔ أﻋﻤﺎل املﺆﻟﻔني املﺆ ﱠﻟﻔﺎت اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ واﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ اﻹﻏﺮﻳﻖ واﻟﻌﺮب اﻟﺘﻲ ﺑﺪأت ﻣﻦ ﻣﻨﺘﺼﻒ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻋﴩ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ .وﰲ اﻟﻮاﻗﻊ اﻧﺤﴫ أﺷﻬﺮ ﻓﻼﺳﻔﺔ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ﻣﻦ أﻟﱪت اﻟﻜﺒري إﱃ وﻳﻠﻴﺎم اﻷوﻛﺎﻣﻲ ﰲ ﻣﺪة زﻣﻨﻴﺔ ﻗﺼرية اﻣﺘﺪت ملﺎﺋﺔ وﺧﻤﺴني ﻋﺎﻣً ﺎ .وﻗﺪ ﺗﻄﻮرت ﺻﻮرة اﻟﻌﺎﻟﻢ ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ﻛﻤﺎ ﻧﻌﺮﻓﻬﺎ — ﻋﺎﻟﻢ داﻧﺘﻲ وﺗﺸﻮﴎ — ﻟﺘﺄﺧﺬ ﺷﻜﻠﻬﺎ اﻟﻨﻬﺎﺋﻲ ﺑني ﻋﺎﻣﻲ ١٢٠٠و .١٣٥٠وﰲ ﻫﺬه املﺮﺣﻠﺔ ﻛﺎن ﺗﺄﺛري أرﺳﻄﻮ ﻗﻮﻳٍّﺎ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ. ﻟﻘﺪ ﱠ وﻓﺮ ﻣﺎ ﻗﺪﻣﻪ أرﺳﻄﻮ ﻣﻦ ﻣﻔﺎﻫﻴ َﻢ وﻣﺼﻄﻠﺤﺎت ﺑﻌﺪ ﺗﺮﺟﻤﺘﻬﺎ إﱃ اﻟﻼﺗﻴﻨﻴﺔ ِ اﻷدوات اﻟﻼزﻣﺔ ﻟﻠﺘﺒﺎدل اﻟﻌﻠﻤﻲ .ﻓﺈذا ﻛﺘﺐ أرﺳﻄﻮ ﻋﻦ أي ﻣﻮﺿﻮع — وﻋﺎدة ﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﻜﺘﺐ — ﻛﺎﻧﺖ ﻧﻈﺮﻳﺎﺗﻪ ﻧﻘﻄﺔ اﻟﺒﺪاﻳﺔ ﻷﻳﺔ ﻣﻨﺎﻗﺸﺔ ﻋﻤﻴﻘﺔ ﻟﻬﺬا املﻮﺿﻮع .وداﺋﻤً ﺎ ﻣﺎ ﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﻌﴫ ﻳﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﺳﻠﻄﺔ إرﺷﺎدﻳﺔ ﺗُ ِﻨريُ ﻟﻪ اﻟﻄﺮﻳﻖ .وﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﺸﺌﻮن اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ أﺣﺪ ﻟﻴﻨﺎزع أرﺳﻄﻮ اﻟﺨﺒري ﰲ ﻋﻤﻠﻪ .وﻛﺎن أﺣﺪ أﺳﺒﺎب ذﻟﻚ أن اﻟﺠﺎﻣﻌﺎت ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻟﺚ ﻋﴩ ﻛﺎﻧﺖ ﰲ ﺣﺎﺟﺔ ملﺎ ﻳﻤﻸ ﻣﻨﺎﻫﺠﻬﺎ ،وﻛﺎﻧﺖ ﻣﻘﺎﻻت أرﺳﻄﻮ ﻣﻨﺎﺳﺒﺔ ﻟﺬﻟﻚ اﻟﻐﺮض. وﻛﺎن اﻟﺘﻌﻠﻴﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ أﺣﺪ اﻷﺷﻜﺎل اﻟﺮﺋﻴﺴﺔ ﻟﻠﻨﺸﺎط اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ ﰲ اﻟﺠﺎﻣﻌﺎت .وﻗﺪ ﻛﺘﺐ أﻟﱪت اﻟﻜﺒري ﺣﻮاﱄ ٨٠٠٠ﺻﻔﺤﺔ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﺘﻌﻠﻴﻘﺎت. 380
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
وﻟﻜﻦ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ أﻟﱪت ﻟﻴ َِﺠ َﺪ اﻟﻜﺜريَ ﻟﻴﻘﻮﻟﻪ ﻟﻮ اﺗﱠ َﻔ َﻖ داﺋﻤً ﺎ ﻣﻊ أرﺳﻄﻮ .ﻓﺎﻟﻌﻘﻴﺪة املﺴﻴﺤﻴﺔ ﺟﻌﻠﺖ اﻻﺗﻔﺎق اﻟﺘﺎم ﴐﺑًﺎ ﻣﻦ املﺴﺘﺤﻴﻞ .ﻟﻘﺪ ﻗﺎل أرﺳﻄﻮ ﱠ إن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻛﺎن ﻣﻮﺟﻮدًا ﻋﲆ اﻟﺪوام ،وﻟﻜﻦ املﺴﻴﺤﻴني ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻌﺮﻓﻮن أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﻮﺟﻮدًا .وﻗﺪ ﻗﺎل أرﺳﻄﻮ إن اﻟ ﱡﺮوح ﻻ ﺗﺒﻘﻰ ﺑﻌﺪ املﻮت ،وﻟﻜﻦ املﺴﻴﺤﻴني ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻌﺮﻓﻮن أﻧﻬﺎ ﺗﺒﻘﻰ .وﻣﺎ ﻗﺎﻟﻪ أرﺳﻄﻮ ً ﻣﺴﺘﺤﻴﻼ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ املﻨﻄﻘﻴﺔ ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻟﻢ ﻋﻦ املﺎدة ﺗَ َﻀﻤﱠ َﻦ أن اﻟﻘﺮﺑﺎن املﻘﺪس ﻛﺎن أﻣ ًﺮا ً ﻣﻘﺒﻮﻻ .وﻟﻢ ﻳﻜﻦ َربﱡ أرﺳﻄﻮ ﻣﻬﺘﻤٍّ ﺎ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﺑﻤﺎ ﻳﻔﻌﻠﻪ اﻹﻧﺴﺎن ،وﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أن ﻫﺬا ﻳ ُﻜﻦ ﻛﺎن ﻣﺸﻜﻠﺔ ﰲ ﺣ ﱢﺪ ذاﺗﻪ. وﺟ ﱢﺪﻳﱠﺔ ،ﻓﻘﺒﻞ ﻛﻞ ﳾء ﻛﺎن داﺋﻤً ﺎ ﻣﺎ ﻛﺎﻧﺖ أﻓﻜﺎر أرﺳﻄﻮ ﻳﺘﻠﻘﺎﻫﺎ اﻟﺠﻤﻬﻮر ﺑﺤﺬر ِ ﻳﺠﺐ ﺗﻮﻓﻴﻘﻬﺎ ﻣﻊ ﺗﻌﺎﻟﻴﻢ اﻹﻳﻤﺎن ،وﻟﻢ ﻳَﻌْ ِﻦ ﻫﺬا ﺣﺬف ﺑﻌﺾ اﻟﻔﻘﺮات املﺴﻴﺌﺔ ﻓﺤﺴﺐ ﺑﻞ اﻟﺘﻮﻓﻴﻖ ﺑني ﻣﺒﺎدئ املﺴﻴﺤﻴﺔ واملﺒﺎدئ اﻷرﺳﻄﻴﺔ .وﻛﺎن اﻟﻌﻤﻞ املﺘﻮﱢج ﻟﻬﺬا اﻟﺘﻮﻓﻴﻖ ﻫﻮ ُ اﻟﻘﺪﻳﺲ ﺗﻮﻣﺎس اﻷﻛﻮﻳﻨﻲ )–١٢٢٥ »اﻟﺨﻼﺻﺔ اﻟﻼﻫﻮﺗﻴﺔ« اﻟﺬي أ ﱠﻟﻔﻪ أﻓﻀﻞ ﺗﻼﻣﻴﺬ أﻟﱪت .(١٢٧٤ﻛﻤﺎ وﺟﺐ ﻣﻘﺎرﻧﺔ أﻓﻜﺎر أرﺳﻄﻮ ﺑﺎﻹﺳﻬﺎﻣﺎت اﻟﺠﻠﻴﻠﺔ اﻷﺧﺮى ﻋﲆ ﻗِ ﱠﻠﺘِﻬَ ﺎ ﻣﺜﻞ اﻹﺳﻬﺎﻣﺎت اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ) .وﻟﻢ ﺗﻜﻦ أﻋﻤﺎل أﻓﻼﻃﻮن ﺑﺎﺳﺘﺜﻨﺎء ﻗﺼﺔ اﻟﺨﻠﻖ ﰲ ﻣﺤﺎورة ﱠ وﻟﻜﻦ ﻫﻨﺎك أﻓﻜﺎ ًرا »ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس« ﻣﻌﺮوﻓﺔ ﻋﲆ ﻧﻄﺎق واﺳﻊ ﺣﺘﻰ اﻟﻘﺮن اﻟﺨﺎﻣﺲ ﻋﴩ، ً ً أﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ وردت ﻋﻦ ﻣﺆﻟﻔني ﻣﺮﻣﻮﻗني ﻣﻨﻬﻢ اﻟﻘﺪﻳﺲ أوﺟﺴﺘني( .إﺿﺎﻓﺔ ﻣﺘﻨﻮﻋﺔ اﻋﺘُ ِﱪَت ً ﻣﺼﺤﻮﺑﺔ ﺑﺘﻌﻠﻴﻘﺎت ﺿﺨﻤﺔ وﻣﺜرية أﻟﻔﻬﺎ إﱃ ذﻟﻚ وﺻﻠﺖ ﻣﻘﺎﻻت أرﺳﻄﻮ إﱃ اﻟﻐﺮب اﻟﺒﺎﺣﺜﻮن اﻟﻌﺮب .وﺑﺎﻟﻜﺎد ﴍَ ع أﺳﺎﺗﺬة اﻟﺠﺎﻣﻌﺔ املﺴﻴﺤﻴﻮن ﰲ ﺗﻌ ﱡﻠﻢ ﻛﻞ ﻫﺬه اﻟﺤﻜﻤﺔ وﻧﻘﻠﻬﺎ دون أن ﻳﻜﻮن ﻟﻬﻢ رأﻳﻬﻢ اﻟﺨﺎص؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻟﻢ ﺗُﺴﺘَﻘﺒَﻞ أﻓﻜﺎر أرﺳﻄﻮ وﺗُ َﻘﺪﱠم ﻛﻤﺎ ﻫﻲ ﺑﺄي ﺷﻜﻞ .ﻓﻌﻨﺪﻣﺎ ﻳﺘﱠﻔﻖ ﻣﻌﻪ ﻣﻔﻜﺮو اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ﻓﻬﻢ ﻻ ﻳﺮدﱢدون آراءه ﻓﺤﺴﺐ ﺑﻞ ﻳﺆﻛﺪون أﻧﻬﻢ وﺻﻠﻮا إﱃ اﻻﺳﺘﻨﺘﺎﺟﺎت ﻧﻔﺴﻬﺎ. وﻟﻜﻦ ﺣﺘﻰ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﻌﺎرﺿﻮن أرﺳﻄﻮ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻔﻌﻠﻮن ذﻟﻚ ﻋﲆ ﻃﺮﻳﻘﺘﻪ .وﻫﺬا ﻣﺎ اﻧﺘﻘﺪه ﻧﻘﺎد ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ املﺘﺨﺼﺼﻮن ﰲ ﻋﻠﻢ اﻟﻼﻫﻮت ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ .ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺤﻤﻴﻞ أرﺳﻄﻮ ﻧﻔﺴﻪ املﺴﺌﻮﻟﻴﺔ ﻋﻦ اﻧﻘﻄﺎﻋﻪ ﻋﻦ ﺳﺎﺣﺔ اﻟﻌﻠﻢ ﺑﻌﺪ وﻓﺎﺗﻪ ﺑﺴﺘﺔ ﻋﴩ ﻗﺮﻧًﺎ، وﻟﻜﻦ املﺸﻜﻠﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﰲ ﺗﻌﺎﻣُﻞ أﺗﺒﺎﻋﻪ ﰲ أواﺧﺮ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ﻣﻊ ﻣﻨﻬﺠﻪ اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ وﻛﺄﻧﻪ ﺣﻲ ﻳﺘﺤﺪﱠث إﻟﻴﻬﻢ .رﺑﻤﺎ أﺿﻔﻰ ﻫﺆﻻء اﻷﺗﺒﺎع املﺘﺄﺧﺮون ِﺻﺒﻐﺔ ﻣﺴﻴﺤﻴﺔ وﻟﻜﻨﻬﻢ ً ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﰲ ﺑﻌﺾ اﻷﺣﻴﺎن وﻟﻜﻨﻬﻢ ﻇﻠﻮا ﻳﺘﺤﺪﺛﻮن ﺑﻠﻐﺔ أرﺳﻄﻮ .ورﺑﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻧﻈﺮﺗﻬﻢ ﻇﻠﻮا ﻳﻌﻴﺸﻮن ﰲ ﻋﺎﻟﻢ أرﺳﻄﻮ .وﺣﺘﻰ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺷ ﱠﻜﻜﻮا ﰲ اﺳﺘﻨﺘﺎﺟﺎﺗﻪ ﻛﺎﻧﻮا أﴎى ﻣﻔﺎﻫﻴﻤﻪ وﺗﺼﻨﻴﻔﺎﺗﻪ وﻣﻨﺎﻫﺠﻪ. 381
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ أرﺳﻄﻮ ﻟريﻏﺐ ﰲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﺘﺄﺛري ﺑﻌﺪ وﻓﺎﺗﻪ؛ ﻓﻘﺪ اﻋﺘﱪ ﻧﻈﺮﻳﺎﺗﻪ ﻛﻤﺎ رأﻳﻨﺎ ﺗﻔﺴريات ﻣﺆﻗﺘﺔ ﺗﺴﺘﺤﻖ اﻟﺒﻘﺎء ﻣﺎ داﻣﺖ ﺗﻮاﻓﻖ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ اﻟﺘﻲ أﺛﺒﺘﺘﻬﺎ اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ .وﻗﺪ ﺣﺮﻛﺘﻪ ﻫﻮ ﻧﻔﺴﻪ روح اﻟﺘﺴﺎؤل اﻟﺤﺮ ،ﻓﻠﻢ ﻳﻜﻦ ﻫﻮ ﻣﻦ ﺳﻤﺢ ملﺠﻤﻮﻋﺔ املﻔﺎﻫﻴﻢ اﻟﺠﺪﻳﺪة واملﺘﺤﺮرة أن ﺗﺼﺒﺢ ﺳﺠﻨًﺎ ﻟﻠﻌﻘﻞ .وﻫﺬا ﻳﻘﺮﺑﻨﺎ ﻣﻦ املﺸﻜﻠﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ ﻟﻠﺘﻌﻠﻴﻢ ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ،ﻓﻘﺪ ﻛﺎن أﺳﺎﺗﺬة اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ﻫﻢ ﻣﻦ ﺳﻤﺤﻮا ﻷﻧﻔﺴﻬﻢ ﺑﺄن ﺗﺴﺘﻌﺒﺪﻫﻢ اﻟﻜﺘﺐ .وﻟﻢ ﺗﻜﻤُﻦ املﺸﻜﻠﺔ ﰲ ﻛﺘﺐ أرﺳﻄﻮ أو ﰲ اﻟﻜﺘﺐ املﻘﺪﱠﺳﺔ ﺑﻞ ﰲ ﻣﻮﻗﻔﻬﻢ ﺗﺠﺎه ً ﻓﺒﺪﻻ ﻣﻦ اﺧﺘﺒﺎر اﻷﻓﻜﺎر ﰲ ِﻇ ﱢﻞ املﻌﺎرف اﻟﺠﺪﻳﺪة ،ﻧﺰﻋﻮا إﱃ اﺧﺘﺒﺎرﻫﺎ ﰲ اﻟﻜﺘﺐ ﻋﺎﻣﺔ، ﺿﻮء اﻟﻜﺘﺐ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ. ﱢ وﻳﺸﺒﻪ ﻫﺬا اﻟﻮﺿﻊ املﺘﺤﻔﻆ اﻟﺤﺎل ﰲ اﻟﻘﺮون اﻟﺨﻮاﱄ ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﻴﻨﻤﺎ ﺗﻘﻠﺼﺖ اﻟﺮﻏﺒﺔ ﰲ اﻛﺘﺴﺎب املﻌﺮﻓﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة وﺗﺤﻘﻴﻖ َ اﻟﻔﻬﻢ ،إﱃ اﻻﻫﺘﻤﺎم ﺑﺤﻔﻆ املﻌﺮﻓﺔ املﻜﺘﺴﺒﺔ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ وﻧﻘﻠﻬﺎ ﻓﺤﺴﺐ .ورﺑﻤﺎ ﺗﺰاﻳﺪ ﻫﺬا اﻻﻫﺘﻤﺎم ﰲ ﺑﺪاﻳﺔ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ﺑﺴﺒﺐ ﻗِ ﱠﻠ ِﺔ املﺎدة املﺘﺒﻘﻴﺔ ﻟﻠﻨﻘﻞ .وﻗﺪ وﺻﻒ أﺣﺪ اﻟﻨﻘﺎد اﻷدﺑﻴني املﻔﻜﺮ ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ﺑﺄﻧﻪ: رﺟﻞ ﻣﺘﻌﻠﻢ َ ً ﻫﺎﺋﻼ ﻣﻦ ﻛﺘﺒﻪ ِ وﻧﴘ ﻛﻴﻒ ﻳﻘﺮأ ﻛﻞ ﻛﺘﺒﻪ اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ … ﻓﻘﺪ ﻗﺪ ًرا وﻟﻨﴬب ً ﻣﺜﺎﻻ ﻋﲆ ذﻟﻚ ﻓﻴﻪ ﻗﺪر ﻣﻦ املﺒﺎﻟﻐﺔ ﻻ اﻟﻜﺬب ﺑﺮﻛﺎب ﺳﻔﻴﻨﺔ ﻣﻨﻜﻮﺑﺔ ِ ﻣﻌﺘﻤﺪﻳﻦ ﰲ ذﻟﻚ ﻋﲆ ﴍﻋﻮا ﰲ اﻟﻌﻤﻞ ﻋﲆ ﺑﻨﺎء ﺣﻀﺎرة ﻋﲆ ﺟﺰﻳﺮة ﻏري ﻣﺄﻫﻮﻟﺔ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻏﺮﻳﺒﺔ ﻣﻤﱠ ﺎ ﺗﺒﻘﻰ ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺐ اﻟﺘﻲ ﺗَﺼﺎدف وﺟﻮدﻫﺎ ﻋﲆ ﻣﺘﻦ ﺳﻔﻴﻨﺘﻬﻢ. ﱡ اﻟﺘﻤﺴﻚ وﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻔﺴري اﻟﺴﺒﺐ اﻷﺻﲇ ﰲ ﻏﺮق اﻟﺴﻔﻴﻨﺔ وﰲ ﻫﺬه اﻟﺮﻏﺒﺔ املﺘﱠﻘِ ﺪة ﰲ ﺑﺎﻟﺤﻄﺎم اﻷدﺑﻲ ﰲ ﻫﺬا املﻮﺿﻊ .وﻟﻜﻦ ﺗﺠﺪر اﻹﺷﺎرة إﱃ أﻧﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺄﺧﺬ إﺧﺮاج ﻛﻞ ﻧﺴﺨﺔ ً ﻣﺤﻔﻮﻓﺎ ﺑﺎملﺨﺎﻃﺮ ،وﻛﺎن ﻣﻦ ﻛﻞ ﻛﺘﺎب وﻗﺘًﺎ أﻃﻮل ﻣﻦ ﻗﺮاءﺗﻬﺎ ،ﻓﺒﻘﺎء أي ﻧﺺ ﻛﺎن أﻣ ًﺮا ﻳﺤﻈﻰ ﺑﺤﻔﺎوة ﺑﺸﻜﻞ أﻛﱪ ﻣﻤﱠ ﺎ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ ﺗﺼﻮره. ﻟﻴﺲ ﻣﻦ اﻟﺼﻌﺐ أن ﻧﺮى ﻛﻴﻒ ﻳﺆدي اﻟﻬﻮَس ﺑﺎﻟﻨﺼﻮص وﻣﺼﺎدر اﻟﺴﻠﻄﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﱠ ٍ وﻣﻌﻘﺪ ﻓﻜﺮﻳٍّﺎ .وﻣﺎ إن اﻧﺤﺮاف إﱃ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻫﻮ ﻣُﺠﺪِب إﱃ ﺻﻮرة ﻣﻦ املﻌﺮﻓﺔ ﺗﺘﺠﻪ ﺑﻼ ﻳﻔﺤﺺ ﻋﺎﺷﻖ اﻟﻜﺘﺐ املﻨﻜﻮب اﻟﱰاث اﻟﺬي ورﺛﻪ ﺣﺘﻰ ﻳﺪرك أن ﻫﺬا اﻟﱰاث ﻻ ﻳﻘﻮل اﻟﴚء ﻧﻔﺴﻪ .وإﺿﺎﻓﺔ إﱃ ﻣﺸﻜﻠﺔ ﺗﻮﻓﻴﻖ ﻧﺼﻮص اﻟﻜﺘﺎب املﻘﺪس ﻣﻊ ﺑﻘﺎﻳﺎ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ اﻟﻮﺛﻨﻲ ،ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك ﻣﺸﻜﻠﺔ اﻟﺘﻮﻓﻴﻖ ﺑني ﺑﺎﺑﺎوات اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ وﺑﻌﻀﻬﻢ ،وﻓﻴﻤﺎ ﺑني ﻧﺼﻮص اﻟﻜﺘﺎب املﻘﺪس ذاﺗﻬﺎ ،وﺑني املﻌ ﱢﻠﻘني ﺑﻌﻀﻬﻢ اﻟﺒﻌﺾ ،وﻛﺎن ﻫﺬا ً ﻋﻤﻼ ﻻ ﻳﻨﺘﻬﻲ .وﻛﺎن ﻣﻦ اﻷﻓﻀﻞ ﻣﺤﺎوﻟﺔ 382
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
ﱡ اﻟﺘﻮﺻﻞ إﱃ ﺗﺮﻛﻴﺒﺔ إﻇﻬﺎر اﻟﺘﻮاﻓﻖ ﺑني اﻟﺠﻬﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﺘﻰ أﻣﻜﻦ ذﻟﻚ .وﻣﺘﻰ اﺳﺘﺤﺎل ﻣﺘﻨﺎﻏﻤﺔ ﺑني ﻫﺬه اﻟﺠﻬﺎت ﻓﻘﺪ ﻳﻔﻴﺪ اﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ وﺳﻄﻲ أو أرض ﻣﺸﱰﻛﺔ .وإذا ﻛﺎن ﻣﺴﺘﺤﻴﻼ ً ً أﻳﻀﺎ ﻓﻌﲆ املﺮء أن ﻳﻘﺒﻞ اﻷﻣﺮ ﺑ ُﺮﻣﱠ ﺘﻪ ﻣﻘﺪ ًرا اﻹﻳﺠﺎﺑﻴﺎت واﻟﺴﻠﺒﻴﺎت وﻳ َُﻐ ﱢﻠﺐَ ﻫﺬا ﺑﺎملﻨﻄﻖ أﺣﺪ اﻟﻄﺮﻓني .وﻟﺤﺴﻦ اﻟﺤﻆ — أو رﺑﻤﺎ ﻟﺴﻮء اﻟﺤﻆ إن ﻟﻢ ﺗﺘﻔﻖ ﻣﻌﻪ ﻓﻴﻤﺎ ُ ﻣﺴﺘﻜﺸﻔﻨﺎ ﰲ اﻟﺤﻔﺎظ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻫﻮ املﻨﻄﻖ اﻟﻘﺪﻳﻢ .ﻟﻘﺪ ﻳﻔﻌﻠﻪ — ﻓﺈن أﺣﺪ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ ﻧﺠﺢ ﻗﺪﱠم ﻫﺬا اﻟﻨﻈﺎم ﻧﻈﺮﻳﺔ ﻛﺎﻣﻠﺔ ﻋﻦ اﻟﺘﺤﻠﻴﻞ واﻟﺤِ ﺠَ ﺎج ﺑﺪءًا ﻣﻦ وﺿﻊ ﻧﻈﺎم ﻓﻨﻲ ﻟﻠﺘﻌﺮﻳﻒ واﻟﺘﺼﻨﻴﻒ وﺣﺘﻰ دراﺳﺔ ﻣﺸﻜﻼت اﻟﺤِ ﺠﺎج .وﻋﲆ ﻋﻜﺲ املﻨﻄﻖ املﻌﺎﴏ ،ﻟﻢ ﻳﻘﺘﴫ ﻋﲆ ﻣﺒﺎدئ اﻻﺳﺘﻨﺘﺎج اﻟﺴﻠﻴﻢ رﻏﻢ أﻧﻪ ﺗﻨﺎوﻟﻬﺎ ﻫﻲ اﻷﺧﺮى .وﺑﺬﻟﻚ ﻧﺮى أن املﻨﻄﻖ ﺑﻬﺬا املﻌﻨﻰ اﻟﻮاﺳﻊ ﻛﺎن أﺣﺪ أرﻛﺎن اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ،و ُ ﻃﺒ َﱢﻘﺖ أدواﺗﻪ ﺑﺎﺻﻄﻨﺎع ﻣﺘﺰاﻳﺪ ﰲ ﻣﻌﺎﻟﺠﺔ اﻟﻨﺼﻮص وﺗﻨﻘﻴﺤﻬﺎ. أﺳﻠﻮب ﺟﺪﻳﺪ وﰲ اﻟﺠﺎﻣﻌﺎت ﺗَﺤَ ﱠﻮ َل اﻟﻌﻤ ُﻞ ﻋﲆ اﻟﺘﻮﻓﻴﻖ ﺑني اﻟﺴﻠﻄﺎت املﺨﺘﻠِﻔﺔ إﱃ ٍ ﻟﻠﺘﻌﻠﻴﻢ واﻟﺘﻌ ﱡﻠﻢ .وﻗﺪ أﻋﺪ ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻼﻫﻮت ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻋﴩ ً آﻟﻴﺔ ﺗُﺪﻋﻰ quaestioأو ﺎب ﻣﻌﺮوﻓني ﺣﻮل ﻗﻀﻴ ٍﺔ ﻣﺎ ﺑﺒﻌﻀﻬﺎ وﺗﺨﻀﻊ »اﻟﺘﺴﺎؤل« وﻓﻴﻬﺎ ﺗُ َﻘﺎ َرن اﻵراء املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻟ ُﻜﺘﱠ ٍ ﻟﻠﺘﺤﻠﻴﻞ .وﻳﺒﺪو أن ﻫﺬه اﻵﻟﻴﺔ ﻗﺪ ﻇﻬﺮت ﰲ ﺻﻮرة ﺗﻤﺮﻳﻦ ﻛﺘﺎﺑﻲ ،ﻳﻌﺮض اﻟﻘﻀﻴﺔ املﺘﻨﺎوﻟﺔ ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ ﺑﻌﺾ اﻷدﻟﺔ املﺨﺘﴫة املﺆﻳﺪة واملﻌﺎرﺿﺔ ملﺨﺘﻠﻒ اﻷﺟﻮﺑﺔ املﺤﺘﻤﻠﺔ وﺗﻌﻠﻴﻘﺎت ﻋﲆ ﻫﺬه اﻷدﻟﺔ ،وﺑﻌﺪﻫﺎ ﻳﻘﺪم اﻟﺤﻞ .ﻛﻤﺎ أن ﻫﺬه اﻵﻟﻴﺔ ﻗﺪﱠﻣﺖ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌ ُﺪ إﻃﺎ ًرا ﻟﻠﻤﺠﺎدﻻت اﻟﺸﻔﻮﻳﺔ أو »املﻨﺎﻇﺮات« اﻟﺘﻲ ﺷ ﱠﻜﻠﺖ ﺟﺰءًا ﻛﺒريًا ﻣﻦ دراﺳﺔ ﻃﻼب اﻟﺠﺎﻣﻌﺔ .وﻗﺪ ﻛﺎﻧﺖ ً ري ﱡ ﺑﺘﻐري اﻷزﻣﻨﺔ واملﻮاﻗﻒ .ﻓﻔﻲ ﻫﺬه املﺴﺎﺑﻘﺎت ﺗﺴري وﻓﻖ ﻧﻈﺎم ﻣﺤﺪﱠد ﻣﺴﺒﻘﺎ رﻏﻢ أﻧﻪ ﺗَ َﻐ ﱠ َ ﻛﻠﻴﺔ اﻟﻼﻫﻮت ﰲ ﺑﺎرﻳﺲ ﰲ ﻣﻨﺘﺼﻒ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻟﺚ ﻋﴩ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ،ﻛﺎن اﻟﺤﺪث اﻟﺬي ﻳﺴﺘﻤﺮ ملﺪة ﻳﻮﻣني ﻳﺠﺮي ﻛﻤﺎ ﻳﲇ :ﰲ اﻟﻴﻮم اﻷول ﻳﺆدي اﻟﻄﻼب املﺨﺘﺎرون إﻣﺎ ﻌﺎرض أو ا ُملﺪﱠﻋﻰ ﻋﻠﻴﻪ ،ﺣﻴﺚ ﻳﺠﻴﺒﻮن ﺑﺎﻹﻳﺠﺎب أو اﻟﺴﻠﺐ ﻋﲆ أﻃﺮوﺣﺎت ﺑﺴﻴﻄﺔ دَور ا ُمل ِ َ ي اﻟﺴﺆال املﻄﺮوح، ﻳﺨﺘﺎرﻫﺎ املﻌﻠﻢ ،وﻳُﺴﺘَﻌَ ﺎن ﰲ ذﻟﻚ ﺑﺄﻗﻮال اﻟﺴﻠﻄﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻋﻦ ﺟُ ﺰأ ِ ﻓﻴﻘﺪم املﻌﺎرض اﻟﱪاﻫني ﻋﲆ ﺑﻄﻼن اﻷﻃﺮوﺣﺔ وﻳﺮد ا ُملﺪﱠﻋَ ﻰ ﻋﻠﻴﻪ ﺑﱪاﻫ َ ني ﻣﻀﺎدة وﻳﺘﺪﺧﻞ آن ﻵﺧﺮ .وﰲ اﻟﻴﻮم اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻳﻠﺨﺺ املﻌﻠﻢ اﻟﻘﻀﻴﺔ وﻳُﻘﺪﱢم ﻟﻬﺎ اﻟﺤﻞ ﺑﺘﻘﺪﻳﻢ إﺟﺎﺑﺘﻪ املﻌﻠﻢ ﻣﻦ ٍ وﺑﻴﺎن ﻛﻴﻒ ﺗﻮﺻﻞ إﻟﻴﻬﺎ .وﰲ املﻨﺎﺳﺒﺎت اﻟﺨﺎﺻﺔ ﻣﺜﻞ ﻋﻴﺪ اﻟﻔﺼﺢ وﻋﻴﺪ املﻴﻼد ﻳﺴﻤﺢ ﻟﻠﻄﻼب ﺑﺎﺧﺘﻴﺎر املﻮﺿﻮﻋﺎت ﺑﺄﻧﻔﺴﻬﻢ .وﻛﺎﻧﺖ ﺗُﻌْ َﻘ ُﺪ ﻛﺬﻟﻚ ﻣﻨﺎﻇﺮات ﻟﻠﻄﻠﺒﺔ اﻷﺻﻐﺮ ﺳﻨٍّﺎ اﻟﺬﻳﻦ ﻟﻢ ِ ﻳﺼﻠﻮا ﺑﻌ ُﺪ ﻟﺪراﺳﺔ املﻮاد اﻷﺻﻌﺐ ﻣﺜﻞ اﻟﻼﻫﻮت ،وﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه املﻨﺎﻇﺮات ﺗﺪور ﺣﻮل أﺳﺌﻠﺔ ﺑﺨﺼﻮص اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ أو ﺑﺨﺼﻮص املﻨﻄﻖ ﺑﺸﻜﻞ أﻛﱪ ،وورد أﻧﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ 383
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ً وﻃﺒﻘﺎ ﻟﺒﻌﺾ املﺼﺎدر ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ اﻟﺼﻔري واﻟﺮﺷﻖ ﺑﺎﻟﺤﺠﺎرة ﺗﺨ ُﺮج ﻋﻦ اﻟﺴﻴﻄﺮة أﺣﻴﺎﻧًﺎ. أﻣﻮ ًرا ﻏري ﻣﺄﻟﻮﻓﺔ ﰲ ﻫﺬه املﻨﺎﺳﺒﺎت .وﺗﻈﻬﺮ ﺑﻘﺎﻳﺎ ﻫﺬه اﻷﻧﻮاع املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ املﻨﺎﻇﺮات ﰲ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻷﻋﻤﺎل اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﺤﻘﺒﺔ ،ﻛﺎن ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺳﺠﻼت ﻣﻨﺸﻮرة ﺗﺮﺻﺪ ﺗﻠﻚ املﺴﺎﺑﻘﺎت اﻟﻔﻌﻠﻴﺔ وﺑﻌﻀﻬﺎ اﻵﺧﺮ ﻣﺜﻞ اﻟﺨﻼﺻﺔ اﻟﻼﻫﻮﺗﻴﺔ ﻟﺘﻮﻣﺎس اﻷﻛﻮﻳﻨﻲ ﻛﺘﺒًﺎ ﻣﺪرﺳﻴﺔ ﺗﺘﺒﻊ آﻟﻴﺔ »اﻟﺘﺴﺎؤل« ﺑﺼﻮر ٍة ﻣﺎ ،ﺑﺤﻴﺚ ﺗﻨﺘﻘﻞ ﻣﻦ اﻹﺟﺎﺑﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ إﱃ اﻟﺪﻟﻴﻞ املﻀﺎد اﻟﺮاﺑﻊ إﱃ اﻟﺴﺆال اﻟﺜﺎﻟﺚ وﻫﻜﺬا .وﻗﺪ ﻳﺮى اﻟﻘﺎرئ املﻌﺎﴏ أن ﻫﺬا اﻷﺳﻠﻮب ﰲ املﻌﺎﻟﺠﺔ ﻣ َ ُﺼﻤﱠ ﻢ ﺑﺤﻴﺚ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﺳﺘﻴﻌﺎﺑﻪ ،وﻟﻜﻨﻪ و ُِﺿ َﻊ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻟﻴﻜﻮن ﻣُﻌِ ﻴﻨًﺎ .ﻟﻘﺪ َﺷ ﱠﻜ َﻠﺖ ﻇﺮوف اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ اﻟﺠﺎﻣﻌﻲ ﻫﺬا اﻷﺳﻠﻮب وﻋﺰزﺗﻪ؛ ﻓﻔﻲ ﻇﻞ ﻓﺮص اﻟﻄﺎﻟﺐ املﺤﺪودة ﻟﻼ ﱢ ﻃﻼع ﻋﲆ اﻟﻜﺘﺐ ﺑﻤﻔﺮده وﺗﺪوﻳﻦ املﻼﺣﻈﺎت ﻛﺎن ﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﻳﺘﺠﺮع املﺎدة اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﰲ ﺻﻮرة ﻛﺘﻞ ﺳﻬﻠﺔ اﻟﺘﺬﻛﺮ .ﻛﻤﺎ ﻛﺎن اﻟﺘﻘﺪﱡم اﻟﺬي ﻳﺤﺮزه اﻟﻄﺎﻟﺐ ﻳ َُﻘ ُ ﺎس ﻋﺎﻣﱠ ًﺔ ﺑﺄداﺋﻪ ﰲ املﻨﺎﻇﺮات املﺒﺎﴍة؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻛﺎن اﻟﻄﺎﻟﺐ ﻳﺴﺠﻞ أﻫﻢ اﻻﻗﺘﺒﺎﺳﺎت واﻟﺤﺠﺞ املﱰاﻛﻤﺔ وﻣﻨﺎورات اﻟﺤﺠﺎج اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﰲ ذاﻛﺮﺗﻪ .وﻗﺪ ﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﺘﻘﺴﻴﻢ واﻟﺘﺼﻨﻴﻒ اﻟﺼﺎرم ﻟﻠﻤﺎدة اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ أدا ًة ﻣﻔﻴﺪة ﺻﺒﱠﺖ ﺟُ ﱠﻞ ﺗﺮﻛﻴﺰﻫﺎ ﻋﲆ اﻟﻨﺺ ً ﻟﺘﻘﻮﻳﺔ اﻟﺬاﻛﺮة .وﻗﺪ ﺗﺒﻨﱠﺖ املﺤﺎﴐات اﻟﺘﻲ َ ﺑﺪﻻ ﻣﻦ املﻮﺿﻮع ﻧﻤﻮذﺟً ﺎ ﻣﻨﻈﻤً ﺎ ﻳَﺴﻬُ ُﻞ ﻣﻌﻪ ﺗﺬﻛﺮ اﻟﺴﺆال واﻟﺤﺠﺔ املﻀﺎدة واﻟﺤﻞ. و ِﺑ َﻐ ﱢﺾ اﻟﻨﻈﺮ ﻋﻦ اﻟﺒﺪاﻳﺎت اﻟﺪﻗﻴﻘﺔ واملﻤﻴﺰات اﻷﺻﻠﻴﺔ ﻟﻬﺬا اﻷﺳﻠﻮب اﻟﺘﻌﻠﻴﻤﻲ، ﻓﻘﺪ ﺳﻴﻄﺮت ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺮداءة اﻟﺘﻌﺒريﻳﺔ .وﻗﺪ ازداد اﻻﻫﺘﻤﺎم ﺑﺎﻟﻘﺪرة ﻋﲆ »ﺗﻤﻴﻴﺰ« ﻓﺮﺿﻴﺎت اﻟﺤﺠﺔ؛ أي إﺛﺒﺎت اﻟﺘﺒﺎﺳﻬﺎ ،وأﻧﻪ ﻳﻤﻜﻦ اﻹﻗﺮار ﺑﺼﺤﺘﻬﺎ ﻣﻦ أﺣﺪ اﻟﺠﻮاﻧﺐ دون اﻵﺧﺮ. ﻣﻌﺎن ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ اﻷﻃﺮوﺣﺔ اﻟﻮاﺣﺪة ﻣﻬﺎر ًة ﻳُﺤﺘَ َﻔﻰ ﺑﻬﺎ .وﻗﺪ ﺳﻴﻄﺮ وأﺻﺒﺢ اﺳﺘﺨﺮاج ٍ اﻟﻘﻴﺎس اﻷرﺳﻄﻲ اﻟﺬي ﻳﺘﻜﻮﱠن ﻣﻦ ﺛﻼث ﺧﻄﻮات ﻋﲆ دراﺳﺔ املﻨﻄﻖ ،ﻓﻮﻇﻒ املﻔﻜﺮون اﻟﻌﺒﺎﻗﺮة ﻋﺒﻘﺮﻳﺘﻬﻢ ﺑﺸﻜﻞ ﻛﺒري ﰲ ﻓﺮض اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ املﻬﻤﺔ ﻋﲆ ﻗﻮاﻟﺐ ﻫﺬا اﻟﻘﻴﺎس املﻨﻄﻘﻲ اﻟﺬي ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻣﻨﺎﺳﺒًﺎ ﻟﻬﻢ .وﺑﻤﺮور اﻟﻮﻗﺖ أﺻﺒﺤﺖ املﻨﺎﻇﺮات اﻟﺸﻔﻬﻴﺔ وأدﺑُﻬﺎ أﻗ ﱠﻞ ﺣﻴﻮﻳﺔ وأﻛﺜﺮ ﺟﻤﻮدًا .وﰲ ﺑﺪاﻳﺔ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎدس ﻋﴩ زال ﺷﻐﻒ اﻧﺘﻈﺎر اﻹﺟﺎﺑﺔ »اﻟﺼﺤﻴﺤﺔ« ﰲ املﻨﺎﻇﺮات وﺣﻞ ﻣﺤﻠﻪ ﻧﻤﻮذج آﺧﺮ ﺗُ َﻘ ﱠﺪ ُم ﻓﻴﻪ اﻹﺟﺎﺑﺔ ﰲ ﺑﺪاﻳﺔ املﻨﺎﻇﺮة ،وﻟﻜﻦ ﻛﺎن ﻳﺠﺐ اﻻﺳﺘﻤﺮار ﰲ ﺗﻘﺪﻳﻢ اﻟﺤﺠﺞ واﻷدﻟﺔ اﻟﺪاﻋﻤﺔ واملﻨﺎﻫﻀﺔ .وﻳﺒني ﻫﺬا اﻟﻨﻈﺎم املﻘﻠﻮب ﻣَ ﻴْ َﻞ ﺗﻠﻚ املﻨﺎﻇﺮات ﻷن ﺗﻜﻮن ﻣﻤﺎرﺳﺔ ﻟﻠﻤﻬﺎرات املﻨﻄﻘﻴﺔ ﻟﺬاﺗﻬﺎ .وﻛﺎن ﻣﻦ اﻟﺼﻌﺐ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻣﻘﺎوﻣﺔ إﻏﺮاء ﺗﻨﺎوُل ﻧﻘﻄﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ ،ﻟﻴﺲ ﻷﻧﻬﺎ ﻣﺸﻮﱢﻗﺔ ﰲ ﺣ ﱢﺪ ذاﺗﻬﺎ ،وﻟﻜﻦ ﻷن أﺣﺪ املﺘﻨﺎﻇﺮﻳﻦ ﻟﺪﻳﻪ إﺟﺎﺑﺔ ذﻛﻴﺔ ﻟﻬﺎ. ﺛﻤﺔ ﻓﻜﺮة ﺷﺎﺋﻌﺔ ﻣﻐﻠﻮﻃﺔ ﺗﻘﻮل إن اﻷﺳﻠﻮب اﻟﻌﻠﻤﻲ ﻟﺪراﺳﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻗﺪ اﻧﺪﺛﺮ ﰲ أواﺧﺮ اﻟﻘﺮن اﻟﺮاﺑﻊ ﻋﴩ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ .ﻛﺜريًا ﻣﺎ ﻳﺪﻓﻊ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻟﺬﻟﻚ اﻻﻋﺘﻘﺎد ،وﻟﻜﻦ 384
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﺣﺘﻔﻈﺖ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺑﺤﻴﻮﻳﺘﻬﺎ ﰲ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺠﺎﻣﻌﺎت ﺣﺘﻰ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ .وﻣﺎ ﺣﺪث ﻫﻮ أن اﻟﺠﺎﻣﻌﺎت وﻣﻨﺎﻫﺠﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﻌُ ﺪ ﺗﺮوق ﻟﻠﻤﺆ ﱢرﺧني اﻟﻼﺣﻘني .وﺑﻌﺪ ﻇﻬﻮر اﻟﻜﺘﺐ املﻄﺒﻮﻋﺔ ﻣﻦ ﻣﻨﺘﺼﻒ اﻟﻘﺮن اﻟﺨﺎﻣﺲ ﻋﴩ وﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﻌﻮاﻣﻞ أﺧﺮى ﻛﺬﻟﻚ، ﱠ املﺆﺳﺴﺎت اﻟﺘﻌﻠﻴﻤﻴﺔ .وﰲ اﻟﻌﻠﻮم واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻋﲆ اﺑﺘﻌﺪت اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﻛﺜريًا ﻋﻦ ﻗﻴﻮد وﺟﻪ اﻟﺨﺼﻮص ِ ﻋﻤﻞ ﻣﻌﻈﻢ املﺒﺘﻜِﺮﻳﻦ ﺧﺎرج اﻟﻨﻄﺎق اﻷﻛﺎدﻳﻤﻲ ،وﺗﺤﻮﱠﻟﺖ اﻷﻧﻈﺎر إﻟﻴﻬﻢ. ِ ﻣﺮﺣﻠﺔ ﻣﺎ ﺑﻌﺪ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ وﺣﺘﻰ ﻛﺎﻧﻂ اﻟﺬي وﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻷيﱟ ﻣﻦ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﻜﺒﺎر ﰲ ﺗُﻮ ﱢُﰲ َ ﻋﺎم ١٨٠٤ﻋَ ﻼﻗﺔ ﺑﺄﻳﱠﺔ ﺟﺎﻣﻌﺔ )ﻣﻊ أن ﻟﻮك َد ﱠر َس اﻟﻄﺐ ﰲ ﺟﺎﻣﻌﺔ أﻛﺴﻔﻮرد ﻟﺒﻌﺾ اﻟﻮﻗﺖ(. ﻟﻘﺪ ﻛ ﱠﺮس ﻓﻼﺳﻔﺔ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ أﻧﻔﺴﻬﻢ ﻟﻜﺸﻒ اﻟﻨﻘﺎب ﻋﻦ اﻟﺠﻮاﻧﺐ اﻟﻐﺎﻣﻀﺔ ﻣﻦ اﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ؛ إذ ﻛﺎن ﻣﻮت اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻣُﺤْ ﺪ ًِﻗﺎ ﻣﻨﺬ وﻗﺖ ﻃﻮﻳﻞ .ورﻏﻢ أن ﻣﺬﻫﺒﻬﻢ ﺎق وأ ُ ُﻓ َﻘﻬﻢ اﻟﻀﻴﻖ واﻫﺘﻤﺎﻣﺎﺗﻬﻢ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﻗﺪ أﻋﺎﻗﺖ اﻧﺠﺬاب ُ ﱠ اﻟﺸ ﱠ اﻟﻘ ﱠﺮاء اﻟﻼﺣﻘني ﻟﻬﻢ ،ﻓﻼ ﻳﻨﺒﻐﻲ اﻟﻘﻮل إن أﻋﻤﺎﻟﻬﻢ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﻟﻢ ﺗ ُﻜﻦ إﻻ ﺗﺼﻴﱡﺪًا ﻫﺎﻣﺸﻴٍّﺎ ﻟﻸﺧﻄﺎء .واﻟﴚء اﻟﻮﺣﻴﺪ اﻟﺬي ِ ﺳﻤﻌَ ﻪ اﻟﺠﻤﻴﻊ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ﻋﻦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ﻫﻮ أن ﻣﻤﺎرﺳﻴﻬﺎ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺠﺎدﻟﻮن ﰲ أﻣﻮر ﺗﺎﻓﻬﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ،ﻛﺎﻟﺴﺆال ﻋﻦ ﻋﺪد املﻼﺋﻜﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﺗﺮﻗﺺ ﻋﲆ ﺳﻦ إﺑﺮة .وﺗﺤﺘﺎج ﻫﺬه اﻟﻘﺼﺔ ﻟﻨﻈﺮة أﻛﺜﺮ ﺗﻔﺤﱡ ً ﺼﺎ وﺗﻌﻤﱡ ًﻘﺎ ﻷن اﻟﻌِ ﱪة اﻟﻮاردة ﻓﻴﻬﺎ ﻫﻲ ﱠ املﺘﻮﻗﻊ. ﻋﻜﺲ ﻗﺪ ﺗﻜﻮن اﻟﺤﻜﺎﻳﺎت اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺎملﺤﺎوﻻت اﻟﺠﺎدة ﻟﺘﺤﺪﻳﺪ ﻋﺪد املﻼﺋﻜﺔ اﻟﺮاﻗﺼﺔ ﻟﻄﻴﻔﺔ، وﻟﻜﻦ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻜﻮن ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ .ﻓﻠﻢ ﻳ ُﻜﻦ اﻟﻠﻐﺰ ﺻﻌﺒًﺎ ﻟﻴﺸﻐﻞ اﻟﻔﻜﺮ ﻟﻮﻗﺖ ﻃﻮﻳﻞ ،وﻟﻜﻦ ﰲ ِﻇ ﱢﻞ اﻻﻋﺘﻘﺎد ﺑﺄن املﻼﺋﻜﺔ ﻟﻢ ﺗ ُﻜﻦ ﻟﻬﺎ أﺟﺴﺎم ،ﻓﺈﺟﺎﺑﺔ اﻟﺴﺆال ﻋﻦ ﻋﺪد املﻼﺋﻜﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ اﻟﺮﻗﺺ ﻋﲆ ﺳﻦ اﻹﺑﺮة ﻫﻲ »ﻻ أﺣﺪ« ،ﻓﺄﻧﱠﻰ ﻟﻬﺎ أن ﺗﺮﻗﺺ إن ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻬﺎ ﺟﺴﺪ. ﺑﺠ ﱢﺪﻳﱠﺔ .وﻣﻊ وﻟﺬﻟﻚ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻏﺮﻳﺒًﺎ ﻋﺪم وﺟﻮد دﻟﻴﻞ ﻋﲆ أن أﺣﺪًا ﻗﺪ ﺑﺤﺚ ﰲ ﻫﺬه اﻟﻘﻀﻴﺔ ِ ﺟﺮﻳَﺖ ﺑﻌﺾ ﻣﺴﺎﺑﻘﺎت املﻨﻄﻖ ﰲ اﻟﺠﺎﻣﻌﺎت ﻟﻠﱰﻓﻴﻪ ﻓﺤﺴﺐ .وﺗﺸﺒﻪ ﻫﺬه املﺴﺎﺑﻘﺎت ذﻟﻚ أ ُ ِ املﻨﺎﻇﺮات اﻟﺘﻲ ﺗُﺠ َﺮى ﺑني اﻟﻄﻠﺒﺔ ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻛﻞ ﻓﺼﻞ دراﳼ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺤﺎﱄ» :ﺗﻌﺘﻘﺪ إﺣﺪى ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﻄﻠﺒﺔ أن املﻠﻮك ﻳﻔﻀﻠﻮن اﻟﻜﺮﻧﺐ« ،وﻟﻴﺲ ﻣﻦ املﺴﺘﺒﻌَ ﺪ أن ﺗﻜﻮن ً ﻧﺎﺗﺠﺔ ﻋﻦ ﻣﻮﻗﻒ ﻓﻜﺎﻫﻲ ﻣﻤﺎﺛﻞ ،وﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ اﻟﺤﻜﺎﻳﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺑﺨﺼﻮص املﻼﺋﻜﺔ ﺳﻴﻜﻮن املﻨﺘﻘِ ﺪون — ﻻ ﻓﻼﺳﻔﺔ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ — ﻫﻢ ﻣَ ﻦ اﻓﺘﻘﺪوا ُروح اﻟﺪﻋﺎﺑﺔ .وﻟﻜﻦ ً ﻧﻘﺎﺷﺎ ﻣﻦ املﺮﺟﱠ ﺢ أن اﻟﺤﻜﺎﻳﺔ ﺑﺪأت ﰲ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ ﰲ ﺻﻮرة رﺳﻮم ﺳﺎﺧﺮة ﺗﻌﺮض ﺣﻮل اﻟﺴﻤﺎء واملﻼﺋﻜﺔ وﻗﺪ ُر ِﺳﻤَ ﺖ ﺑﺮﻳﺸﺔ ﺟﻮن دوﻧﺰ ﺳﻜﻮﺗﺲ )ﺣﻮاﱄ (١٣٠٨–١٢٦٦ 385
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
وﻫﻮ أﺣﺪ أ َ َﻫ ﱢﻢ ﻓﻼﺳﻔﺔ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ .وإن ﻛﺎن ﻫﺬا ﺻﺤﻴﺤً ﺎ ﻓﻤﺎ زاﻟﺖ اﻟﺪﻋﺎﺑﺔ ﺗﺘﺤﺪث ﻋﻦ ﻣﻔ ﱢﻜﺮ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ — ﻛﺎﺋﻨًﺎ ﻣﻦ ﻛﺎن — اﻟﺬي وﺿﻊ ﻫﺬه اﻟﺤﻜﺎﻳﺔ؛ ذﻟﻚ أن ﻫﺬه اﻟﻘﻀﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺎوﻟﻬﺎ ﺳﻜﻮﺗﺲ ﺷﺒﻴﻬﺔ ﰲ ﺟﻮﻫﺮﻫﺎ ﺑﺎﻟﻘﻀﻴﺔ اﻟﺘﻲ أﻗﻠﻘﺖ ﻧﻴﻮﺗﻦ ﺑﻌﺪﻫﺎ، وﻇ ﱠﻠﺖ ﻗﻀﻴﺔ ﻣﺜرية ﻟﻼﻫﺘﻤﺎم ﰲ أﺳﺎﺳﻴﺎت اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء. ﺗُﻌﺮف ﻫﺬه اﻟﻘﻀﻴﺔ ﺑﻘﻀﻴﺔ اﻟﻔﻌﻞ ﻋﻦ ﺑُﻌﺪ .ﻓﻜﻴﻒ ﻟﺠﺴ ٍﻢ ﻣﺎ أن ﻳﺆﺛﱢﺮ ﻋﲆ ﳾء دون وﺟﻮد ﺗﻼﻣُﺲ ﻣﺎدي ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ؟ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻧﻴﻮﺗﻦ ﺳﻌﻴﺪًا ﺑﺄن ُﻗﻮَى اﻟﺠﺎذﺑﻴﺔ اﻟﺘﻲ اﻓﱰﺿﻬﺎ اﻧ َ ﻄﻮَت ﻋﲆ ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﻔﻌﻞ اﻟﻼﻣﱰاﺑﻂ؛ ﻓﻘﺪ ﺑﺪَا أن اﻷرض ﺗﺆﺛﱢﺮ ﻋﲆ ﺗﻔﺎﺣﺘﻪ اﻟﺸﻬرية دون وﺟﻮد وﺳﻴﻠﺔ اﺗﺼﺎل ﺑﻴﻨﻴﺔ .وﺑﺎملِ ﺜﻞ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺳﻜﻮﺗﺲ ﺳﻌﻴﺪًا ﺑﺸﺄن أن املﻼﺋﻜﺔ اﻟﺘﻲ ﺷﺎع اﻻﻋﺘﻘﺎد ﺑﺄﻧﻬﺎ ﺗﺘﺴﺒﺐ ﰲ ﺣﻮادث ﻣﺎدﻳﺔ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺄﻣﺮﻫﺎ اﻟﺮب ،ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻬﺎ أﺟﺴﺎم وﻟﻢ اﻟﺘﻮاﺻ َﻞ ﻣﻊ أي ﳾء ،ﻓﻜﻴﻒ ﻟﻬﺎ إذن أن ﺗُ ﱢ ُ ﻨﻔﺬ ﻣﺎ أﻣﺮﻫﺎ ﺑﻪ رﺑﻬﺎ؟ وﻟﺤﻞ ﺗﺴﺘﻄﻊ ﻟﺬﻟﻚ ﻫﺬه املﺸﻜﻠﺔ ﻛﺎن ﻋﲆ ﺳﻜﻮﺗﺲ أن ﻳُﻌﻴﺪ اﻟﻨﻈﺮ ﻓﻴﻤﺎ ﻗﺎﻟﻪ أرﺳﻄﻮ ﻋﻦ ﻣﻔﻬﻮم املﻜﺎن ،ﻓﻜﺎن اﻟﺤﻞ اﻟﺬي ﻗﺪﻣﻪ ﻫﻮ أن املﻼﺋﻜﺔ ﻳﻤﻜﻨﻬﺎ أن ﺗﺘﱠﺨﺬ ﻣﻮﻗﻌً ﺎ ﰲ اﻟﻔﻀﺎء دون أن ﻳﻜﻮن ﻟﻬﺎ ﺷﻜﻞ أو ﺣﺠﻢ ،ﻓﻜﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل ﻣﻊ اﻟﻨﻘﺎط ﰲ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت )رﻏﻢ أن ﺳﻜﻮﺗﺲ ﻟﻢ ﻳ َُﻘﻞ ذﻟﻚ( ﻳﻤﻜﻦ وﺿﻊ إﺣﺪاﺛﻴﺎت ﻟﻠﻤﻼﺋﻜﺔ؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻤﻼﺋﻜﺔ أن ﺗﻜﻮن »ﺣﺎﴐة« أو ﻗﺮﻳﺒﺔ ﱢ املﺤرية ﻟﻠﻔﻌﻞ ﻋﻦ ﺑُﻌﺪ ،أو ﻫﻜﺬا ﻇﻦ ﻣﻦ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ ﺗﺆﺛﱢﺮ ﻓﻴﻬﺎ ،وﺑﺬﻟﻚ ﻧﺘﻔﺎدى اﻟﻈﺎﻫﺮة ﺳﻜﻮﺗﺲ. ﺛﻤﺔ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﻐﺎﻣﻀﺔ ﰲ ﺗﻔﺴري ﺳﻜﻮﺗﺲ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻣﻊ ذﻟﻚ ﻛﺎن ﻳﺤﺎول ﺣﻞ ﻟُﻐﺰ ﻛﺒري آﻧﺬاك .وإن ﻛﺎن ﻫﻨﺎك ﻣﺎ ﻫﻮ ﺳﺨﻴﻒ ﰲ ﺗﻔﺴريه ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ املﺎدﻳﺔ ﻟﻠﻤﻼﺋﻜﺔ؛ ﻓﺎﻟﺨﻄﺄ ﻳﻜﻤُﻦ ﰲ اﻹﻳﻤﺎن ﺑﺎملﻼﺋﻜﺔ وﻟﻴﺲ ﰲ ﻣﻨﻄﻘﻪ ﺑﺨﺼﻮﺻﻬﺎ. وﻋﻨﺪ اﻻﻧﻐﻤﺎس ﰲ ﻛﺘﺎﺑﺎت اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ﻣﻦ املﻤﻜﻦ أن ﻧﺮى ذﻛﺎءً ﻛﺒريًا ورﻏﺒﺔ ﰲ اﻟﺘﻌ ﱡﻠﻢ واﻟﻔﻬﻢ .وﻛﻠﻤﺎ أﻣﻌﻨﱠﺎ اﻟﻨﻈﺮ وﺟﺪﻧﺎ ﻣﺰﻳﺪًا ﻣﻦ اﻷدﻟﺔ ﻋﲆ ذﻛﺎءٍ ﺣﺎ ﱟد ﻳﺘﺨ ﱠ ﻄﻰ ﻇﺮوﻓﻪ املﺤﻴﻄﺔ .ﻋﻼوة ﻋﲆ ذﻟﻚ ،ﰲ ﻇﻞ ﻋﺪم ﻃﺒﺎﻋﺔ ﻣﻌﻈﻢ ﻣﺨﻄﻮﻃﺎت اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ﺑﺨﻼف املﱰﺟَ ﻤﺔ ﻣﻦ اﻟﻼﺗﻴﻨﻴﺔ ،ﻣﻦ املﺮﺟﺢ ُ ﺗﻮاﻓﺮ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﺒﺎﺣﺜني اﻟﺬﻳﻦ ﻳُﻌﻠِﻨﻮن ﺑﺤﻤﺎس ﻋﻦ اﻛﺘﺸﺎﻓﻬﻢ ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﻔﻴﺪًا وﺳﻂ ﻫﺬا اﻟﺤﻄﺎم .وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﺈن ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﺘﻤﺤﻴﺺ ﻳﺠﺐ أن ﻳُﻜﻤﻠﻪ رؤﻳﺔ ﻣﻦ ﻣﻨﻈﻮر أوﺳﻊ .وإذا ﻧﻈﺮﻧﺎ إﱃ ﺗﺮاث اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ وﺗﺮاث اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ﰲ ﺿﻮء ﻣﺎ ﺳﺒﻖ وﺗﻼ ٍّ ﻛﻼ ﻣﻨﻬﻤﺎ ،ﻓﻠﻦ ﺗﻜﻮن املﻘﺎرﻧﺔ ﺑني ﻣﺎ ﺟﺎء ً أوﻻ وﻣﺎ ﺟﺎء ﺛﺎﻧﻴًﺎ ﻣﺪﻋﺎة ﻟﻠﴪور. 386
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
ﺳريﺻﺪ ﺑﺎﻗﻲ ﻫﺬا اﻟﻔﺼﻞ أﺟﺰاء ﻗﺼﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ واﻟﻌﻠﻢ ﻣﻨﺬ اﻧﺪﺛﺎر اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻘﺪﻳﻢ ﺣﺘﻰ ﻣﻮﻟﺪ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺠﺪﻳﺪ ،وﺳﻨَﻘِ ﻒ ﻋﻨﺪ ﺑﻌﺾ اﻟﺸﺨﺼﻴﺎت وﻧﻘﺎط اﻟﺘﺤﻮﱡل .وﻟﻴﺲ املﻘﺼﻮد رﺳﻢ ﺻﻮرة ﻛﺎﻣﻠﺔ ﻋﻦ ﻫﺬه اﻟﻘﺼﺔ أو ذﻛﺮ اﻟﺠﻤﻴﻊ. ﻟﻨﺮﺟﻊ إﱃ زﻣﻦ ﺳﻴﻜﺴﺘﻮس إﻣﺒريﻳﻜﻮس آﺧﺮ ﻣَ ﻦ ذﻛﺮﻧﺎﻫﻢ ﻣﻦ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﰲ اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎﺑﻖ ،واﻟﺬي ﻟﻢ ﻳﻌﺮف ﻟﻠﺴﻌﺎدة ﻃﻌﻤً ﺎ ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻪ .ﰲ ﺑﺪاﻳﺔ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻟﺚ املﻴﻼدي ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﺎن ﺳﻴﻜﺴﺘﻮس ﻳﻜﺘﺐ دﻓﺎﻋﻪ ﻋﻦ ﻣﺬﻫﺐ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ ﻟﺒريو ﺗﺤﻮﱠل املﺸﻬﺪ اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ إﱃ ﻛﺎﺑﻮس ﻟﻠﻤﺘﺸﻜﻜني؛ إذ ﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﻌﴫ ﻋﴫ ﻣﺆﻣﻨني ﻻ ﻣﺘﺸﻜﻜني ،وﻧﺠﺢ اﻟﻨﺎس ﰲ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ أﻗﻮى ﻣﺮاﺗﺐ اﻹﻳﻤﺎن .وﺑﻴﻨﻤﺎ ﺣﺎول ﺳﻴﻜﺴﺘﻮس وﺣَ ﻔﻨﺔ ﻣﻦ املﺘﺄﺧﺮﻳﻦ ﻣﻘﺎرﻧﺔ ﻋﻘﺎﺋﺪ أﻓﻼﻃﻮن وأرﺳﻄﻮ وأﺗﺒﺎع املﺬﻫﺐ اﻷرﺳﻄﻲ ﺑﺒﻌﻀﻬﺎ؛ َﻓ ﱠﻀ َﻞ ﻣﻌﻈﻢ املﻔﻜﺮﻳﻦ ﻣﺤﺎوﻟﺔ اﻟﺠﻤﻊ ﺑﻴﻨﻬﺎ وﺗَ َﻘﺒﱡﻠِﻬﺎ دﻓﻌﺔ واﺣﺪة .وﺗَ َﻀﻤﱠ َﻦ اﻷﻣﺮ اﻟﺪﻳﺎﻧ َ َﺔ املﺴﻴﺤﻴﺔ واﻟ ﱡﺮوﺣﺎﻧﻴﺎت اﻟﻮﺛﻨﻴﺔ وﻫﺮاء اﻟﺘﻨﺠﻴﻢ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮري وﺧﻠﻴ ً وﺳﺤﺮ ﺗﺤﻀري اﻷرواح ُ ﻄﺎ ﻣﻦ اﻟﺪﻳﺎﻧﺎت اﻟﴩﻗﻴﺔ. ُ اﻟﺘﻨﺎﻓﺲ ﺑني اﻻﺗﺠﺎﻫﺎت إذا ﺗﻤﻴﺰ اﻟﻘﺮﻧﺎن اﻷول واﻟﺜﺎﻧﻲ ﺑﻌﺪ وﻓﺎة أرﺳﻄﻮ ﺑ ُﺮوح اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ املﺨﺘﻠﻔﺔ؛ ﻓﺈن املﻔ ﱢﻜﺮﻳﻦ ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺗﻤﻴﱠﺰوا ﺑ ُﺮوح اﻟﺘﺼﺎﻟﺢ .وﻻ ﻳﻌﻨﻲ ﻫﺬا أن اﻟﺠﻤﻴﻊ ﻛﺎﻧﻮا ﻣﺘﻔﻘني أو أن اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻣﺘﻨﻌﻮا ﻋﻦ َﺳﺐﱢ ﺑﻌﻀﻬﻢ ً ﺑﻌﻀﺎ ،وﻟﻜﻦ ﺧرية اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻣﻦ ﺑﻌﺪ اﻟﻘﺮن اﻷول ﻗﺒﻞ املﻴﻼد ﻛﺎﻧﻮا ﻻ ﻳﺰاﻟﻮن ﻳﻬﺘﻤﱡ ﻮن ﺑﺘﺒﺠﻴﻞ ﻓﻼﺳﻔﺔ املﺎﴈ اﻟﻌِ َ ﻈﺎم أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻣﻮاﺟﻬﺔ ﻣﻌﺎﴏﻳﻬﻢ .وﻛﺎن اﻟﻘﻠﻴﻞ ﻣﻦ ﻓﻼﺳﻔﺔ اﻟﺮوﻣﺎن املﻌﺮوﻓني ﻗﺪ ﺑﻤﺬﻫﺐ ﻓﻠﺴﻔﻲ واﺣﺪ ،ﻓﺘﺒﻨﱠﻰ ﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ وﺗﺒﻨﱠﻰ ﺳﻴﻨﻴﻜﺎ وإﺑﻴﻜﺘﻴﺘﻮس اﻛﺘَ َﻔﻮْا ٍ وﻣﺎرﻛﻮس أورﻳﻠﻴﻮس اﻟﺮواﻗﻴﺔ .وﺑﺎﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﱡ ﺗﻤﺴﻚ ﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس ﺑﻜﺘﺎﺑﺎت أﺑﻴﻘﻮر ﻓﻘﺪ أﻣﻄﺮ أﺗﺒﺎع اﻟﺮواﻗﻴني اﻟﺮوﻣﺎن اﻷﻓﻜﺎر اﻷﺻﻠﻴﺔ ﻟﻠﺮواﻗﻴني اﻹﻏﺮﻳﻖ ﺑﺈﺿﺎﻓﺎت ﻣﻦ ﻣﺼﺎدر أﺧﺮى. وﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﺘﻮﺟﱡ ﻪ اﻻﻧﺘﻘﺎﺋﻲ ِﺳﻤَ ًﺔ أﺳﺎﺳﻴﺔ ﻟﻬﺬا اﻟﻌﴫ .وﻛﺎن اﻟﺘﻮﺟﱡ ﻪ اﻟﺮﺋﻴﺲ وﺧﺎﺻﺔ ﺑني اﻹﻏﺮﻳﻖ ﻳَﻨ ْ َ ﺼﺐﱡ ﰲ ﻧﻈﺮﻳﺔ ﻋﻦ اﻟﺤﻜﻤﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺎوﻟﺖ إﺛﺒﺎت ﻣﺪى اﻟﺘﺸﺎﺑُﻪ ﺑني اﻟﻔﻠﺴﻔﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ .وأﻋﻠﻦ أﻧﻄﻴﻮﺧﻮس اﻷﺳﻜﺎﻟﻮﻧﻲ اﻟﺬي ﺷﻐﻞ ﻣﻨﺼﺐ رﺋﻴﺲ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ ﰲ أﺛﻴﻨﺎ ﻣﻦ ﻋﺎم ٨٦ق.م إﱃ ٦٨ق.م أن املﺬاﻫﺐ اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻲ واﻷرﺳﻄﻲ واﻟﺮواﻗﻲ ﻣﺘﻤﺎﺛﻠﺔ ﰲ ﻣﻀﻤﻮﻧﻬﺎ .وﻛﺎن ﺷﻴﴩون اﻟﺨﻄﻴﺐ اﻟﺬي ﺣﴬ ﻣﺤﺎﴐة أﻧﻄﻴﻮﺧﻮس ﺑﺎﺣﺜًﺎ آﺧﺮ ﺑﺪت ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ وﻛﺄﻧﻬﺎ ﻛﺘﺎﺑﺎت ﻓﻴﻠﺴﻮف أﻓﻼﻃﻮﻧﻲ ﻳﻌﻤﻞ ﺑﺎﻟﻘﻄﻌﺔ ،وأﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻣﺜﻞ ﻛﺘﺎﺑﺎت ﻓﻴﻠﺴﻮف رواﻗﻲ ﻗﺪ َ ﺿ ﱠﻞ ﺳﺒﻴﻠﻪ .وﻣﻤﺎ ﻳﺰﻳﺪ اﻷﻣﺮ ﺑﻌﺜًﺎ ﻋﲆ اﻟﺤرية أﻧﻪ ﻗﺪ وﺻﻒ ﻧﻔﺴﻪ ﺑﺎملﺘﺸﻜﻚ. 387
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
وﻋﺎدت اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﺔ ﻟﻠﻈﻬﻮر ﻣﻦ ﺟﺪﻳﺪ ﰲ زﻣﻦ ﺷﻴﴩون ،وﺣﺎول أﺗﺒﺎﻋﻬﺎ إﺛﺒﺎت أن أﻓﻼﻃﻮن اﺳﺘﻘﻰ ﻛﻞ أﻓﻜﺎره اﻟﺠﻴﺪة ﻣﻦ ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس .وادﱠﻋﻰ ﻫﺆﻻء اﻷﺗﺒﺎع املﺠﺪﱢدون ً أﻳﻀﺎ أن أرﺳﻄﻮ ﺟﺎء ﺑﻜﻞ أﻓﻜﺎره ﻣﻦ أﻓﻼﻃﻮنِ ، ﺟﺎﻣﻌني ﺑﺬﻟﻚ ﻗﺪ ًرا ﻛﺒريًا ﻣﻦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﰲ ﻣﺬﻫﺐ واﺣﺪ .وﻛﺎن ﺛﻤﺔ ﻣﴩوع آﺧﺮ أﻛﺜﺮ ﻃﻤﻮﺣً ﺎ ﻟﻠﺘﻮﻓﻴﻖ ﺑني املﺬاﻫﺐ ﻟﺼﺎﺣﺒﻪ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف اﻟﻴﻬﻮدي ﻓﻴﻠﻮ اﻟﺴﻜﻨﺪري )ﺣﻮاﱄ ٢٥ق.م–٤٥م( .وﺷﺠﻌﺖ ﴍوﺣﻪ اﻟﻀﺨﻤﺔ واملﺘﻀﺎرﺑﺔ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻟﻠﺴﺒﻌﻮﻧﻴﺔ )ﺗﺮﺟﻤﺔ إﻏﺮﻳﻘﻴﺔ ﻟﻠﻌﻬﺪ اﻟﻘﺪﻳﻢ واﻟﻜﺘﺐ املﻨﺤﻮﻟﺔ( ﻋﲆ املﺰاوﺟﺔ ﺑني اﻟﻜﺘﺐ املﻘﺪﺳﺔ واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ اﻟﺘﻲ أﺿﺎف إﻟﻴﻬﺎ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌ ُﺪ ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻌﻘﻴﺪة اﻟﻴﻬﻮد واملﺴﻴﺤﻴﻮن واملﺴﻠﻤﻮن .وﺑﺤﻠﻮل اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻧﻲ املﻴﻼدي ﻛﺎن ﻗﺪ ﺟﺮى اﻟﺠﻤﻊ ﺑني أﻓﻜﺎر ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس وأﻓﻼﻃﻮن وأرﺳﻄﻮ واﻟﺮواﻗﻴني وﻏريﻫﻢ ﰲ ﻓﺴﻴﻔﺴﺎء أﺑﻬﺮت اﻟﻮﺛﻨﻴني واملﺴﻴﺤﻴني ﻋﲆ اﻟﺴﻮاء. ُ ﱢ وﻗﺪ ﺟﻤﻊ أﺣﺪ اﻟﻜﺘﺐ املﺪرﺳﻴﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ملﻌﻠﻢ وﺛﻨﻲ ﻳُﺪﻋَ ﻰ أﻟﺴﻴﻨﻮس ﻛﺜريًا ﻣﻦ ﻫﺬه اﻷﻓﻜﺎر ،وﻗﺪ ﻗﺎل ﻓﻴﻪ إن اﻟﻜﻮن ﺧﻠﻘﻪ ﺻﺎﻧﻊ أﻛﱪ ﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﻮﺳﺎﺋﻞ اﻟﻮاردة ﰲ ﻣﺤﺎورة أﻓﻼﻃﻮن »ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس« .وﻗﺎل ً أﻳﻀﺎ» :ﻟﻘﺪ ﺻﻤﻤﻪ اﻟﺮب ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻧﻈﺮ إﱃ ﻓﻜﺮ ٍة ﻣﺎ ﻋﻦ اﻟﻜﻮن ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻲ ﻧﻤﻮذﺟﻪ وﻛﺎن ﻫﻮ ﻧﺴﺨﺔ ﻟﻬﺎ «.ورﻏﻢ أن أرﺳﻄﻮ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻟﺪﻳﻪ ﻣﻦ اﻟﻮﻗﺖ ﻣﺎ ﻳﻜﻔﻲ ﻟﻘﺼﺔ ﺧﻠﻖ ﻛﻬﺬه ،ﻓﻘﺪ اﺳﺘﻌﺎن أﻟﺴﻴﻨﻮس ﺑﻤﻔﻬﻮﻣﻪ ﻋﻦ ا ُملﺤَ ﱢﺮك اﻟﺬي ﻻ ﻳﺘﺤﺮك ﰲ ﺗﻔﺴري اﻟﺤﺮﻛﺔ املﺘﻮاﺻﻠﺔ ﰲ اﻟﺴﻤﺎء ﻓﻘﺎل» :دون أن ﻳﺘﺤﺮك ﺑﺬاﺗﻪ ﻳﴫف اﻟﺮب اﻟﻌﲇ اﻟﻜﻮن ﻛﻤﺎ … ﻳﺜري اﻟﴚء املﺮﻏﻮب ﻓﻴﻪ اﻟﺮﻏﺒﺔ ﰲ اﻟﻨﻔﻮس دون أن ﻳﺘﺤﺮك ﺑﻨﻔﺴﻪ «.وﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل ﻋﻨﺪ أرﺳﻄﻮ ﻗﺎل أﻟﺴﻴﻨﻮس إن ﻫﺬا اﻟﺮب ﻳﺠﺐ أن »ﻳﺘﺄﻣﻞ ﻧﻔﺴﻪ وأﻓﻜﺎره إﱃ أﺑﺪ ﺑﻤﻜﺎن ﺑﺤﻴﺚ ﻳﺸﻐﻠﻪ ﻋﻨﻪ .ﻓﻤﺎ ﻫﻲ إذن اﻵﺑﺪﻳﻦ«؛ ذﻟﻚ أن ﻻ ﳾء ﺳﻮى ذﻟﻚ ﻣﻦ اﻟﻌﻈﻤﺔ ٍ ﻫﺬه اﻷﻓﻜﺎر ﺑﺎﻟﺘﺤﺪﻳﺪ؟ ﻟﻢ ﻳﺴﺘﻄﻊ أرﺳﻄﻮ أن ﻳﺠﻴﺐ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﺴﺆال وﻟﻜﻦ أﻟﺴﻴﻨﻮس ﻋَ ﱠﺮ َﻓﻬﺎ ﺑﺎﻟﺼﻮر اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ املﺜﺎﻟﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻧﻤﻮذﺟً ﺎ ﻟﺨﻠﻖ اﻟﻌﺎﻟﻢ .وﺑﻴﻨﻤﺎ اﻋﺘﱪ أﻓﻼﻃﻮن اﻟﺼﻮر ﻗِ ﻴَﻤً ﺎ ﻣﺴﺘﻘﻠﺔ ﻗﺎﺋﻤﺔ ﺑﺬاﺗﻬﺎ ُﻫ ِﺮ َع أﻟﺴﻴﻨﻮس ﻋﲆ آﺛﺎر اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف ﻓﻴﻠﻮ ﰲ ﻗﻮﻟﻪ إن اﻷﻓﻜﺎر ﰲ ﻋﻘﻞ اﻟﺮب .وﻗﺪ ﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﺘﻌﺪﻳﻞ ﻣﻨﺎﺳﺒًﺎ ﻟﻠﻤﺴﻴﺤﻴني واملﺴﻠﻤني واﻟﻴﻬﻮد؛ ﻷﻧﻪ اﺳﺘﺒﻌﺪ ﻓﻜﺮة أﻓﻼﻃﻮن ﻋﻦ أن اﻟﺼﻮر أﻋﻈﻢ ﻣﻦ اﻟﺮب .وﰲ ﻇﻞ ﻫﺬه املﻮاءﻣﺎت اﻟﻐﻨﻴﺔ واﻻﻗﺘﺒﺎﺳﺎت ﻣﻦ اﻷﻋﻤﺎل اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ اﺳﺘﻌﻤﻞ أﻟﺴﻴﻨﻮس ﻣﻔﻬﻮم اﻟﺮواﻗﻴني ﻋﻦ »اﻟﻌﻨﺎﻳﺔ اﻹﻟﻬﻴﺔ اﻟﺒﺎﻫﺮة« اﻟﺘﻲ ﺗُﻮَﺟﱢ ُﻪ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺑﻤﺎ ﱢ ﻳﺤﻘﻖ أﻋﻈﻢ ﻓﺎﺋﺪة ﻟﻺﻧﺴﺎن .وذﻫﺐ ﻫﺬا إﱃ ﺟﻌﻞ اﻟ ﱠﺮبﱢ أﻛﺜﺮ اﺷﱰا ًﻛﺎ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻣﻦ ذﻟﻚ اﻟﺮب ا ُملﺤَ ﱢﺮك اﻟﺬي ﻻ ﻳﺘﺤﺮك اﻟﺬي اﻗﺘﴫ ﻋﲆ اﻟﺘﺄﻣﻞ ﻋﻨﺪ أرﺳﻄﻮ. 388
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
وﻗﺪ ﻗﺎل أﻟﺴﻴﻨﻮس إﻧﻪ ﻟﺘﻜﻮﻳﻦ ﺻﻮرة واﺿﺤﺔ ﻋﻦ اﻟﺮب ﻳﺠﺐ اﻟﺘﺴﺎﻣﻲ ﻋﻘﻠﻴٍّﺎ ﺑﺎﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ذﻛ َﺮﺗْﻬﺎ اﻟﻜﺎﻫﻨﺔ دﻳﻮﺗﻴﻤﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﺤﺪﱠﺛﺖ ﻋﲆ ﻟﺴﺎن ﺳﻘﺮاط ﰲ ﻣﺤﺎورة أﻓﻼﻃﻮن »املﺄدﺑﺔ« )اﻧﻈﺮ اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺤﺎدي ﻋﴩ( .وﰲ رواﻳﺔ أﻟﺴﻴﻨﻮس ﺟﺎء ﻣﺎ ﻳﲇ: ﻳﺘﺄﻣﱠ ﻞ املﺮء ً أوﻻ ﺟﻤﺎل اﻟﺠﺴﺪ ،ﺛﻢ ﻳﻨﺘﻘﻞ إﱃ ﺟﻤﺎل اﻟ ﱡﺮوح ،ﺛﻢ إﱃ اﻟﺠﻤﺎل املﻮﺟﻮد ﰲ اﻟﻌﺎدات واﻟﻘﻮاﻧني ،ﺛﻢ إﱃ ﺑﺤﺮ اﻟﺠﻤﺎل اﻟﻮاﺳﻊ ،وﺑﻌﺪﻫﺎ ﻳﺪرك املﺮء اﻟﺨري املﺠ ﱠﺮد ﻧﻔﺴﻪ؛ إذ ﺗﻈﻬﺮ ﻏﺎﻳﺔ اﻟﺤﺐ واﻟﺮﻏﺒﺔ ﻛﺎﻟﻀﻮء اﻟﺴﺎﻃﻊ ﻋﲆ اﻟ ﱡﺮوح ﰲ ﺻﻌﻮدﻫﺎ .وﻳﻀﺎف إﱃ ﻫﺬا ﻣﻔﻬﻮم اﻟﺮب ﻟﻌﻈﻤﺘﻪ املﻄﻠﻘﺔ. ً وﺻﻮﻻ إﱃ »روح اﻟﺠﻤﺎل املﻄﻠﻖ«، ﻟﻘﺪ ﺑﻠﻐﺖ دﻳﻮﺗﻴﻤﺎ اﻟ ﱡﺬروة وارﺗﻘﺖ »ﺳﻠﻢ اﻟﺴﻤﺎء« وﻟﻜﻦ ﻧﺠﺢ أﻟﺴﻴﻨﻮس ﻫﻨﺎ ﰲ أن ﻳﺘﺠﺎوز ذﻟﻚ ﺑﺪرﺟﺘني؛ ﻓﻬﻮ ﻳﻘﻔﺰ ﻣﻦ ﺻﻮرة اﻟﺠﻤﺎل اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ ﻣﺒﺎﴍة إﱃ ﺻﻮرة اﻟﺨري ،وﻫﻲ اﻟﺼﻮرة اﻷﺳﻤﻰ ﻟﺪى أﻓﻼﻃﻮن ،واﻟﺘﻲ ﺷﺒﻬﻬﺎ ﰲ »اﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ« ﺑﺎﻟﺸﻤﺲ اﻟﺘﻲ ﺗﺴﻄﻊ ﻋﲆ ﻛﻞ ﳾء ،ﺛﻢ ﻳﻘﻔﺰ أﻟﺴﻴﻨﻮس ﻣﻦ ﺻﻮرة اﻟﺨري ﱠان ﺷﻴﺌًﺎ واﺣﺪًا ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻧﻲ املﻴﻼدي، إﱃ اﻟﺮب .وﰲ اﻟﻮاﻗﻊ ﻛﺎن اﻟﺮب وﺻﻮرة اﻟﺨري ﻳُﻌَ ﺪ ِ ُﴫا ﻋﲆ أﻧﻬﻤﺎ ﺷﻴﺌﺎن ﻣﺨﺘﻠﻔﺎن ﺗﻤﺎﻣً ﺎ؛ إذ اﻋﺘﱪ اﻟﺮب ﻗﺒﻞ رﻏﻢ أن أﻓﻼﻃﻮن ﻧﻔﺴﻪ ﻛﺎن ﻣ ِ ٍّ ﺧﻤﺴﻤﺎﺋﺔ ﻋﺎم ُروﺣً ﺎ ﻻ ﺻﻮرة ﻣُﺠ ﱠﺮدة .وﻛﺎﻧﺖ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺗﻬﺘﻢ ﺑﺎﻟﺼﻮر ﺑﻴﻨﻤﺎ اﺧﺘﺺ اﻟﺪﻳﻦ ﺑﺎﻷرواح واﻵﻟﻬﺔ ،أﻣﺎ اﻵن ﻓﻘﺪ اﻣﺘﺰﺟﺖ املﻮﺿﻮﻋﺎت اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ واﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﺑﺒﻌﻀﻬﺎ ،ﻓﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﻮﻣً ﺎ ﻣﺠﺮدات ﻓﻠﺴﻔﻴﺔ ﺗﺤﻮﱠل إﱃ آﻟﻬﺔ ﻣﺤﺪدة وﻣﺎ ﻳﺨﺼﻬﺎ ﻣﻦ أﻓﻜﺎر ﻣﻘﺪﺳﺔ. ﻟﻘﺪ اﻗﺘﻔﻰ ﻗﻠﻴﻞ ﻣﻦ ﻣﻔ ﱢﻜﺮي اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻧﻲ املﻴﻼدي أﺛﺮ اﻟﺮواﻗﻴني ﰲ وﺻﻒ اﻟﺮب ً ﻣﺨﺎﻟﻔﺎ ﻟﻠﻌُ ﺮف آﻧﺬاك؛ إذ ﻛﺎن اﻟﻮﺿﻊ اﻟﺴﺎﺋﺪ ﺑﺎﻟﻨﺎر اﻟﺘﻲ ﺗﺘﺨﻠﻞ اﻟﻜﻮن ،وﻟﻜﻦ ﻫﺬا ﻛﺎن َ ﰲ ﻫﺬا اﻟﻮﻗﺖ ﻣُﻌﺎدِ ﻳًﺎ ﻟﻠﻤﺎدﻳﺔ ،وﺑَﺪ ْ َت ﻓﻜﺮة اﻟﺮب اﻟﻨﺎري ﺷﺪﻳﺪة املﺎدﻳﺔ .وﻛﺎن ﻣَ ﻦ ﺗَﺄﺛ ﱠ َﺮ ﺑﺎﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﺔ ﻳﺸري إﱃ اﻟﺮب ﺑ »اﻟﻮاﺣﺪ«؛ ﻷﻧﻪ ﻟﻮ ﻛﺎن ﻣﻌﺪودًا ﻓﺬﻟﻚ ﻫﻮ أﻓﻀﻞ اﻷرﻗﺎم ﻟﻪ. وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻫﺆﻻء املﺘﺄﺧﺮون ﻣﻦ أﺗﺒﺎع ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ﻣﻮﺣﱢ ﺪﻳﻦ ،ﻓﻘﺪ اﻋﺘﻘﺪوا أن ﻫﻨﺎك آﻟﻬﺔ أ َ ْدﻧَﻰ ﻣﺮﺗﺒﺔ ﻛﺎن ﻟﻜ ﱟﻞ ﻣﻨﻬﻢ رﻗﻤﻪ اﻟﺨﺎص ،وﻫﻮ ﻣﺎ اﻗﺘﺒﺴﻮه ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﻦ اﻷﺳﺎﻃري .وﻳﺒﺪو أن ﻧﻮﻣﻴﻨﻴﻮس اﻷوﺑﺎﻣﻲ — وﻫﻮ أﺣﺪ أﺗﺒﺎع املﺬﻫﺐ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮري ﻣﻤﱠ ﻦ ﻋﺎﴏ أﻟﺴﻴﻨﻮس — ﻛﺎن ﻳﻌﺘﻘﺪ ﺑﻮﺟﻮد إﻟﻬني رﺋﻴﺴني ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ،ﻓﻜﺎن ﻫﻨﺎك اﻹﻟﻪ اﻟﺼﻐري اﻟﺬي ﻗﺎم ﺑﺒﻨﺎء اﻟﻌﺎﻟﻢ ،وﻧﻈريه اﻟﻜﺒري اﻟﺬي ﻟﻢ ﻳ ُِﺮد أن ﻳﻠﻮث ﻳﺪﻳﻪ ﺑﻤﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﻌﻤﻞ .وﻗﺪ ﺗﻤ ﱠﻜﻦ ﻧﻮﻣﻴﻨﻴﻮس ﻣﻦ اﻗﺘﺒﺎس ﺑﻌﺾ ﻣﻦ اﻟﻨﺼﻮص اﻟﻴﻬﻮدﻳﺔ واملﴫﻳﺔ واﻟﻔﺎرﺳﻴﺔ واﻟﻬﻨﺪﻳﺔ املﻘﺪﺳﺔ دﻋﻤً ﺎ ﻷﻓﻜﺎره اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﺔ واﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ .وﺗﺴﺎءل ذات ﻣﺮة ﻣَ ﻦ ﻳﻜﻮن أﻓﻼﻃﻮن إن ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻣﻮﳻ اﻹﻏﺮﻳﻘﻲ؟ 389
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻟﻘﺪ اﺣﺘﻠﺖ ﺻﻮرة أﻓﻼﻃﻮن ﻣﻜﺎﻧﺔ ﺧﺎﺻﺔ ﺑني ﻫﺬه املﺼﻨﱠﻔﺎت ﻣﻦ اﻟﺤﻜﻤﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ، ﻛﻤﺎ ﺳﻴﻄﺮت ﻋﲆ ﻣﺸﻬﺪ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻔﻜﺮﻳﺔ املﺘﻔﻜﻚ ﺑﺎﻟﻜﺎﻣﻞ .ﺑﺎﻟﻄﺒﻊ ﻗﺪﱠم أﻟﺴﻴﻨﻮس ﻛﺘﺎﺑﻪ ً »ﻣﻠﺨﺼﺎ ﻟﺘﻌﺎﻟﻴﻢ أﻓﻼﻃﻮن اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ« رﻏﻢ ﻣﺎ ﻳﺤﻮﻳﻪ ﺑني دﻓﺘﻴﻪ ﻣﻦ اﻗﺘﺒﺎﺳﺎت ﺑﻮﺻﻔﻪ واﺿﺤﺔ ﻣﻦ ﻋﺪة ﻣﺼﺎدر أﺧﺮى .وﰲ اﻟﻮاﻗﻊ اﻋﺘﱪ ﻛﻞ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻹﻏﺮﻳﻖ أﻧﻔﺴﻬﻢ ﺑﺪءًا ﻣﻦ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻟﺚ املﻴﻼدي ﻓﺼﺎﻋﺪًا أﻓﻼﻃﻮﻧﻴني ﺑﺸﻜﻞ أو ﺑﺂﺧﺮ؛ ﻓﻘﺪ ﻃﻐﺖ ﻓﻜﺮة أﻓﻼﻃﻮن اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮل إن اﻟﻌﺎﻟﻢ املﺎدي ﻛﺎن ﻣﺤﺾ ﻇﻞ ﻟﺤﻘﻴﻘﺔ أﺳﻤﻰ ﻋﲆ ﻛﻞ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻟﺒﺪﻳﻠﺔ ﺗﺪرﻳﺠﻴٍّﺎ .أﻣﺎ آراء أرﺳﻄﻮ اﻟﻮاﻗﻌﻴﺔ واﻟﻨﺰﻋﺔ املﺎدﻳﺔ املﺘﺸﺪدة ﻟﻠﺮواﻗﻴني اﻷواﺋﻞ وﻷﺑﻴﻘﻮر، ﺗﺠﺪ ﺻﺪًى ﻟﻬﺎ ﰲ ﺣﻀﺎرة ﺳﻴﻄﺮت اﻟﻐﻴﺒﻴﺎت ﻋﲆ اﻫﺘﻤﺎﻣﺎﺗﻬﺎ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ واﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ. ﻓﻠﻢ ِ وﰲ ﺣﻴﺎة أﻟﺴﻴﻨﻮس )ﻋﲆ اﻷرﺟﺢ ﰲ ﻋﺎم ُ (١٢٠ﺷﻴﱢﺪ ﻧ ُ ُ ﺼﺐٌ ﻳﻌﱪ ﻋﻦ اﻟﺘﺄﺛري املﱰاﺟﻊ ملﺬﻫﺐ أﺑﻴﻘﻮر املﺎدي ﰲ ﻣﺪﻳﻨﺔ أوﻧﻮاﻧﺪا ﺑﺠﻨﻮب ﻏﺮب ﺗﺮﻛﻴﺎ .وﻗﺪ ﺟﻌﻠﺖ اﻟﻨﻘﻮش املﺤﻔﻮرة ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻫﺬه اﻟﻮﺛﻴﻘﺔ أﻏﺮب وﺛﻴﻘﺔ ﰲ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ .وﺑﺎملﺜﻞ أﻧﺸﺄ ﻣﻮاﻃﻦ ﻣﻌﺮوف ﻳُﺪﻋﻰ دﻳﻮﺟني ٍّ ﺻﻔﺎ ﻣﻦ اﻷﻋﻤﺪة ﺑﻄﻮل ١٠٠ﻳﺎردة ﺣﻔﺮ ﻋﻠﻴﻬﺎ رﺳﺎﻟﺔ ﻣﻦ ﺣﻮاﱄ ٢٥٠٠٠ﻛﻠﻤﺔ ﰲ ﻣﺪح أﺑﻴﻘﻮر واﻟﺪﻓﺎع ﻋﻨﻪ .وﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻣﻦ املﻘﺼﻮد أن ﺗﻜﻮن ﻫﺬه اﻷﻋﻤﺪة ﴐﻳﺤً ﺎ ﺗﺬﻛﺎرﻳٍّﺎ ﻛﺒريًا ،وﻟﻜﻨﻪ ﺻﺎر ﻛﺬﻟﻚ .وﻇﻬﺮ أﺗﺒﺎع ﻣﻌﺪودون ﻷﺑﻴﻘﻮر ﻋﲆ ﻣﺪار اﻟﻘﺮون اﻟﻘﻠﻴﻠﺔ اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ، وﻟﻜﻨﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﺨﺮﺟﻮا إﱃ اﻟﻨﻮر إﻻ ﻟﻴﻜﻮﻧﻮا ً ﻫﺪﻓﺎ ﻟﻬﺠﻮم املﺴﻴﺤﻴﺔ؛ إذ ﻗﺎم أﻫﻞ أوﻧﻮاﻧﺪا ﺑﻬﺪم اﻟﴬﻳﺢ ﰲ وﻗﺖ ﻣﺎ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻟﺚ واﺳﺘﺨﺪﻣﻮا أﺣﺠﺎره ﰲ ﺑﻨﺎء ﻣﻨﺎزﻟﻬﻢ .وﺗﻢ اﺳﺘﺨﺮاج ﻣﺎ ﻳﻘﺮب ﻣﻦ رﺑﻊ اﻟﺮﺳﺎﻟﺔ وإﻋﺎدة ﺗﺠﻤﻴﻌﻪ ،وﺗﻀﻤﻦ ﻫﺬا اﻟﺠﺰء ﻧﺒﻮءة ﺑﻌﻬﺪ ذﻫﺒﻲ ﻗﺎدم ﻳﺠﻠﺒﻪ اﻋﺘﻨﺎق ﻣﺬﻫﺐ أﺑﻴﻘﻮر .وﻗﺪ ﺳﺎﻋﺪت إﻋﺎدة إﻧﺘﺎج ﻧﻈﺮﻳﺎت أﺑﻴﻘﻮر اﻟﻔﻴﺰﻳﺎﺋﻴﺔ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ ﻋﲆ اﻟﱰوﻳﺞ ﻟﻬﺎ ﰲ ﻇﻞ اﻟﺜﻮرة اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ،وﻟﻜﻦ دﻳﻮﺟني ﻛﺎن ﻳﺄﻣﻞ أن ﻟﻮ ﺣﺪث ﻫﺬا ﰲ وﻗﺖ ﻣﺒﻜﺮ ﻋﻦ ﻫﺬا. وﺗﺘﺤﺪﱠث ﺗﻠﻚ اﻟﻨﻘﻮش ﻋﻦ »اﻟﺨﻼص« اﻟﺬي ﻗﺪ ﺗﺄﺗﻲ ﺑﻪ اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ .وﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﰲ اﺧﺘﻴﺎره ﻟﻬﺬا املﺼﻄﻠﺢ اﻗﺘﺒﺲ دﻳﻮﺟني روح ﻋﴫه .وﻛﺎﻧﺖ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ آﻧﺬاك ﻳﺮاﻫﺎ ً ﻃﺮﻳﻘﺔ ﻟﻠﺨﻼص اﻟ ﱡﺮوﺣﻲ ﻻ وﺻﻔﺔ ﻟﻠﺴﻼم اﻟﻨﻔﴘ أو اﻟﻨﺸﺎط اﻟﻔﻜﺮي .وﻗﺪ ﻋَ ﱠﺮ َﻓﺖ اﻟﻨﺎس ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺎﺑﺎت اﻟﺮوﺣﻴﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺑﺄﻧﻬﺎ اﻻﺷﺘﻐﺎل ﺑ »ﺗﻌ ﱡﻠﻢ ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻹﻟﻪ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ِ املﻌﺎﴏة ﻣﺜﻞ اﻷدرﻳﺔ ﻋﲆ اﻟﺘﺄﻣﱡ ﻞ املﻨﺘﻈﻢ واﻟﺘﻔ ﱡﺮغ اﻟﻮرع «.وﻗﺪ رﻛﺰت اﻟﺤﺮﻛﺎت اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺪﻧﻴﺎ واﻟﺨﺎدﻋﺔ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ املﺎدي ،وﻋﲆ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﻄﺮق ﻏري اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ ﻟﻠﺒﺤﺚ ﻋﻤﺎ ﻫﻮ أﻓﻀﻞ. أﺿﻒ إﱃ ﻣﺎ ﺳﺒﻖ أن دﻳﻮﺟني اﻋﺘﱪ ﻓﻠﺴﻔﺔ أﺑﻴﻘﻮر ً ِ دﻟﻴﻼ ﻋﲆ أن اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﺗﻌﻮد ﺑﻌﻈﻴﻢ اﻟﻔﺎﺋﺪة ﻋﲆ اﻟﺒﴩﻳﺔ ،إﻻ أن ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﻟﻢ ﺗَ ْﻠ َﻖ ﺗﺠﺎ ُوﺑًﺎ وﻻ َﻗ ً ﺒﻮﻻ ﻋﲆ 390
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
ً ﻗﻠﻴﻼ .ﻓﻘﺪ اﻹﻃﻼق؛ إذ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﺛﻤﺔ أي اﻫﺘﻤﺎم ﺑﺎﻟﻌﻠﻢ ﺑني ﻣﻔ ﱢﻜﺮي اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻧﻲ إﻻ أﺷﺎد أﻟﺴﻴﻨﻮس وزﻣﻼؤه »اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﻮن« ﺑﻌﻠﻮم اﻟﺤﺴﺎب واﻟﻬﻨﺪﺳﺔ واﻟﻔﻠﻚ ﺳريًا ﻋﲆ ﻧﻬﺞ أﻓﻼﻃﻮن ،وﻟﻜﻦ ﻳﺒﺪو أن ﺟﻬﺪﻫﻢ ﻗﺪ ذﻫﺐ أدراج اﻟﺮﻳﺎح .أﻣﺎ املﺴﻴﺤﻴﻮن ﻛﻤﺎ رأﻳﻨﺎ ﻓﻜﺎن ﻟﺪﻳﻬﻢ ﻣﺎ ﻳ َ َﺸﻐﻠُﻬﻢ وﻛﺎﻧﻮا ﻋﲆ ﻛﻞ ﺣﺎل ﻳﺸﻜﻜﻮن ﰲ اﻟﻌﻠﻮم اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ .وﻛﺎن اﻟﻄﺒﻴﺐ اﻟﻌﻈﻴﻢ ﺟﺎﻟني اﻟﱪﺟﺎﻣﻮﻣﻲ ) (١٩٩–١٢٩وﻣﻌﺎﴏه ﺑﻄﻠﻴﻤﻮس اﻟﺴﻜﻨﺪري ﻣﻦ أﻛﱪ ﻋﻠﻤﺎء اﻟﺤﻀﺎرة اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻛﻠﻬﺎ وأوﺳﻌﻬﻢ ﺗﺄﺛريًا ،وﻟﻜﻨﻬﻤﺎ ﻛﺎﻧﺎ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﺴﻠﺴﻠﺔ ،ﻓﻠﻢ ﻳﻈﻬﺮ ﻣﻦ ﻳَﺨﻠُﻔﻬُ ﻤﺎ ملﺪة ﻃﻮﻳﻠﺔ .ﻛﺎن ﺑﻄﻠﻴﻤﻮس أﺷﺪ ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻔﻠﻚ ﺗﺄﺛريًا ﺣﺘﻰ اﻟﺜﻮرة اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ، ﺣﻴﺚ ﻇﻠﺖ رواﻳﺘﻪ ﻟﻨﻈﺮﻳﺔ أرﺳﻄﻮ ﻋﻦ أن اﻷرض ﻣﺮﻛﺰ اﻟﻜﻮن ﺧﺎرج ﻧﻄﺎق املﻨﺎﻗﺸﺔ ٍ ﻷﻟﻒ وﻣﺎﺋﺘﻲ ﻋﺎم .أﻣﺎ ﻛﺘﺎﺑﺎت ﺟﺎﻟني املﺒﻨﻴﺔ ﻋﲆ ﺗﴩﻳﺢ اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت ﻓﻜﺎﻧﺖ ﻓﻌﻠﻴٍّﺎ ﻣﺼﺪر ﻛﻞ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻄﺒﻴﺔ ﺣﺘﻰ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻋﺎﻟِﻤً ﺎ ﻣﻮﺳﻮﻋﻴٍّﺎ ﻋﲆ اﻟﻄﺮاز اﻟﻘﺪﻳﻢ، أﺿﺎف اﻟﻜﺜري إﱃ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ وﺑﺨﺎﺻﺔ املﻨﻄﻖ وﻣﺤﺎوﻻﺗﻪ اﻟﺮد ﻋﲆ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ .وﻟﻜﻦ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﺑﻄﻠﻴﻤﻮس وﺟﺎﻟني ﻟﻴﺘﻤﻜﻨﺎ ﻣﻦ ﺗﺮك ﻫﺬا اﻷﺛﺮ ﻃﻮﻳﻞ اﻷﻣﺪ إن ﻟﻢ ﻳﻜﻮﻧﺎ آﺧﺮ ﺟﻨﺴﻬﻤﺎ املﻨﺪﺛﺮ ،ﺣﻴﺚ ﻻﺣﻆ ﺟﺎﻟني أن ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﻨﺎس ﺑﺎﻟﻌﺎﻟﻢ املﺎدي أﻗﻞ ﺑﻜﺜري ﻣﻦ ﻣﻌﺮﻓﺘﻬﻤﺎ ﺑﻪ، رﺑﻤﺎ ﻷﻧﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﻌﻮدوا ﻣﻬﺘﻤﱢ ني ﺑﻪ. ﻟﻢ ﺗﺰدﻫِ ﺮ اﻟﻌﻠﻮم اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ ﻟﻌﺪة أﺳﺒﺎب ﰲ ﻇﻞ اﻟﺤﻜﻢ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻲ؛ ﻓﺎﻟﻄﺒﻘﺎت اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴﺔ اﻟﺤﺎﻛﻤﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺸﻌﺮ ﺑﺨﻠﻴﻂ ﻏﺮﻳﺐ ﻣﻦ اﻻزدراء واﻹﺟﻼل ﺗﺠﺎه ﻣﺎ ﱠ ﺣﻘﻘﻪ رﻋﻴﱠﺘُﻬﻢ َ وﺧ َﺪﻣُﻬﻢ اﻹﻏﺮﻳﻖ ﻣﻦ إﻧﺠﺎزات .ﻓﻤﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ ،ﻟﻢ ﻳﺴﺘﻄﻊ أي ﻣﺘﻌﻠ ٍﻢ ﻣﻦ اﻟﺮوﻣﺎن أن ﻳﻨﻜﺮ ﺗﻔﻮﱡق اﻹﻏﺮﻳﻖ ﰲ اﻟﻔﻨﻮن واﻟﻌﻠﻮم ،ﻓ ِﺒ َﻐ ﱢﺾ اﻟﻨﻈﺮ ﻋﻦ أي ﳾء آﺧﺮ ﻛﺎن أدب اﻹﻏﺮﻳﻖ أﻛﺜﺮ اﺗﺴﺎﻋً ﺎ وﺗﻌﻘﻴﺪًا ﻣﻦ أدب اﻟﺮوﻣﺎن ،ﻛﻤﺎ ﻛﺎن املﻌﻠﻤﻮن اﻹﻏﺮﻳﻖ ﻫﻢ اﻷﻓﻀﻞ ملﻦ ﻳُﻄﻴﻖ أﺟ َﺮﻫﻢ، وﻛﺎﻧﺖ اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻫﻲ املﺴﺘﺨﺪَﻣﺔ ﰲ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ اﻟﺮاﻗﻲ .ورﻏﻢ أن اﻹﻣﱪاﻃﻮر ﻣﺎرﻛﻮس أورﻳﻠﻴﻮس ﻛﺎن ﻳُﺠﺮي أﻋﻤﺎﻟﻪ اﻹدارﻳﺔ ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ اﻟﻼﺗﻴﻨﻴﺔ ﺑﺸﻜﻞ ﻃﺒﻴﻌﻲ ،ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ً أﻳﻀﺎ ﻣﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ وﻗﺘﻬﺎ أن ﻳﻜﺘﺐ ﺗﺄﻣﻼﺗﻪ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﺑﺎﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ .وﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ أﺧﺮى ﻓﺮﺿﺖ اﻟﻜﱪﻳﺎء اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴﺔ أن ﺗﻈﻞ ﺛﻘﺎﻓﺔ اﻟﻌِ ﺮق املﻬﺰوم ﰲ ﻣﺤﻠﻬﺎ ،ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﻟﻠﺮوﻣﺎن ﻣﻮاﻫﺒﻬﻢ اﻟﺨﺎﺻﺔ اﻟﺘﻲ اﺳﺘﺤﻘﺖ أن ﺗﺘﻘﺪﱠم ﻋﲆ ﻣﺎ ﺳﻮاﻫﺎ .وﻗﺪ ﻛﺎﻧﺖ اﻻﻫﺘﻤﺎﻣﺎت واملﻬﺎرات ً ﻋﻤﻠﻴﺔ أﻛﺜﺮ ﻣﻨﻬﺎ ﻧﻈﺮﻳﺔ ،ﻓﻤﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أﻧﻬﻢ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻔﻀﻠﻮن ﺷﻖ اﻟﻘﻨﻮات ﻋﲆ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴﺔ اﻟﺪﺧﻮل ﰲ ﻣﻨﺎﻗﺸﺎت .وﻗﺪ ﺟﻌﻠﺖ إﻧﺠﺎزاﺗﻬﻢ اﻻﻋﱰاض ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﺴﻠﻮك ﺻﻌﺒًﺎ .ﻓﻨﻈﺎم اﻟﴫف اﻟﺮوﻣﺎﻧﻲ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل أﻧﻘﺬ ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ أرواﺣً ﺎ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ أﻧﻘﺬﺗﻬﺎ ﻋﻠﻮم اﻟﻄﺐ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ اﻟﻌﻈﻴﻤﺔ. 391
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻟﻢ ﺗﺘﺠﺎﻫﻞ اﻟﻄﺒﻘﺎت املﺘﻌ ﱢﻠﻤﺔ اﻟﺘﻘﺎﻟﻴﺪ اﻟﻔﻜﺮﻳﺔ اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ ﺑ ُﺮﻣﱠ ﺘِﻬﺎ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻛﺬﻟﻚ ﻟﻢ َ ﻓﻠﺴﻔﺔ ﺗﻘﻠﻴﺪ وﻣﺤﺎﻛﺎة وﻛﺬﻟﻚ ﺗﺘﻤﺴﻚ ﺑﻬﺎ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ،ﻓﻜﺎﻧﺖ اﻟﻨﺘﻴﺠﺔ أن ﻛﺎﻧﺖ ﻓﻠﺴﻔﺘﻬﻢ ﻋﻠﻮﻣﻬﻢ ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻌﻨﻲ ﻋﺪم وﺟﻮد ﻋﻠﻮم ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق .ﻟﻘﺪ وﺿﻊ اﻟﺮوﻣﺎن ﻣﻮﺳﻮﻋﺎت وﻣﺼﻨﻔﺎت ﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﻣﻬﻤﺔ وﻗﺮءوا ﻣﺜﻠﻬﺎ ،وﻟﻜﻦ ﻋﲆ املﺴﺘﻮى اﻟﻌﺎم ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻟﺪﻳﻬﻢ دواﻓﻊ اﻹﻏﺮﻳﻖ ﻟﻠﻤﻼﺣﻈﺔ واﻟﻔﻬﻢ واﻟﺘﻨﻈري واﻻﺳﺘﻨﺘﺎج واﻟﺤﻔﺎظ ﻋﲆ ُروح اﻟﺘﺴﺎؤل؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻧﻮا ﻣ َ ُﺼﻨﱢﻔِ ني ﻣﺠﺘﻬﺪﻳﻦ ﻻ ﻣﻔﻜﺮﻳﻦ ﻣﺒﺪﻋني .وﰲ ﻛﺘﺎﺑﻪ »اﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ« ﺗﺒﺎﻫﻰ ﺑﻠﻴﻨﻲ اﻟﻜﺒري ) (٧٩–٢٣ﺑﺄﻧﻪ ﺟﻤﻊ »ﺣﻮاﱄ ٢٠٠٠٠ﺣﻘﻴﻘﺔ ﺗﺴﺘﺤﻖ اﻟﺘﺴﺠﻴﻞ ملﺎﺋﺔ ﻣﺆﻟﻒ أﺟﺮى ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺑﺤﺜﻪ« ،وأﺿﺎف ً ﻗﺎﺋﻼ» :ﻻ أﺷﻚ أن اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﻗﺪ ﻓﺎﺗﻨﻲ «.وﻣﻦ اﻻﺧﺘﻼﻓﺎت اﻟﻌﺪﻳﺪة ﺑني ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﺠﻤﻊ وﺑني دراﺳﺎت أرﺳﻄﻮ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻴﺨﻄﺮ ﺑﺒﺎل أرﺳﻄﻮ أن ﻳﺤﴢ ﻋﺪد اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﰲ ﺟﻌﺒﺘﻪ. ﺿﻤﱠ َﻦ ﻛﺘﺎﺑﻪ ﺑﻌﺾ املﻌﺎرف َ أﻳﻀﺎ إﻧﻪ َ ﻗﺎل ﺑﻠﻴﻨﻲ ً اﻟﻘﻴﱢﻤَ ﺔ اﻟﺘﻲ اﺳﺘﻘﺎﻫﺎ ﻣﻦ ﺗﺠﺎرﺑﻪ اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ،ﻓﻴﻘﻮل ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل» :إﻟﻴﻜﻢ ﻫﺬه اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ املﺬﻫﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﻣﻦ اﻟﺴﻬﻞ اﺧﺘﺒﺎرﻫﺎ :ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻳﻨﺪم املﺮء ﻋﲆ ﴐﺑﺔ ﴐﺑﻬﺎ ﻓﻴﺒﺼﻖ ﰲ راﺣﺔ اﻟﻴﺪ اﻟﺒﺎﻃﺸﺔ؛ ﻓﺈن اﻟﺸﺨﺺ املﴬوب ﻳﻘﻞ ﺳﺨﻄﻪ «.وﻟﻢ ﻳَ َﺮ ﺑﻠﻴﻨﻲ أي ﻓﺮق ﺑني اﻟﻌﻠﻢ ورواﻳﺔ اﻟﺤﻜﺎﻳﺎت؛ ﻓﻬﻮ ﻳﺮوي ﻗﺼﺔ ﻟﺆﻟﺆة ﻛﻠﻴﻮﺑﺎﺗﺮا اﻟﺬاﺋﺒﺔ ،وﻳﺘﺤﺪث ﻋﻦ اﻟﻘﺪرات اﻟﻌﺠﻴﺒﺔ ﻟﻠﺪﻻﻓني ،وﻳﺼﻒ ﻛﻴﻒ رأى اﻣﺮأ ًة ﺗﺘﺤﻮل إﱃ رﺟﻞ ﰲ ﻟﻴﻠﺔ زﻓﺎﻓﻬﺎ .وﻛﺬﻟﻚ ﺛﻤﺔ ﻗﺪر ﻛﺒري ﻣﻦ املﻼﺣﻈﺎت واﻟﺘﺼﻨﻴﻔﺎت اﻟﻮاﻗﻌﻴﺔ ﻧﺴﺒﻴٍّﺎ ﰲ اﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺎ وﻋﻠﻮم اﻟﺤﻴﻮان واﻟﻨﺒﺎت واﻟﻄﺐ واﻷﺣﻴﺎء ،وﻟﻜﻨﻪ ﻳُﺒﻘِﻲ ﻋﲆ ﺑﻌﺾ اﻷﻣﻮر اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ ﻓﻴﻘﻮل ً ﻣﺜﻼ» :ﺗﺘﻔﻖ املﺼﺎدر املﺪروﺳﺔ ﺑﻌﻨﺎﻳﺔ ﻋﲆ أﻧﻪ أﺛﻨﺎء ﻋﻤﻞ ﻣﺎرﻛﻮس ﻟﻴﺒﻴﺪوس وﻛﻮﻳﻨﺘﻮس ﻛﺎﺗﻴﻮﻟﻮس ﻗﻨﺼﻠني ،ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻫﻨﺎك ﻣﻨﺰل ﰲ روﻣﺎ ﺧري ﻣﻦ ﻣﻨﺰل ﻟﻴﺒﻴﺪوس ﻧﻔﺴﻪ ،ﻟﻜﻦ ﺑﻌﺪ ﺧﻤﺴﺔ وﺛﻼﺛني ﻋﺎﻣً ﺎ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻫﺬا املﻨﺰل ﺿﻤﻦ أﻓﻀﻞ ﻣﺎﺋﺔ ﻣﻨﺰل«. وﺗﻮﺿﺢ ﻣﺤﺘﻮﻳﺎت ﻣﻮﺳﻮﻋﺔ ﻛﺘﺒﻬﺎ أوﻟﻮس ﺟﻴﻠﻴﻮس ) (١٨٠–١٣٠ﻗﺒﻞ ﻗﺮن ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ﻛﻴﻒ أن ﻣﺬﻫﺐ اﻟﺮوﻣﺎن ﰲ املﻌﺮﻓﺔ اﺗﺠﻪ ﻧﺤﻮ اﻟﻬﺎوﻳﺔ وزاد اﺿﻄﺮاﺑًﺎ وﺗﻘﻠﺒًﺎ .وﻫﺬه ﻋﻴﻨﺔ ﻧﻤﻮذﺟﻴﺔ ﻣﻦ رءوس ﻓﺼﻮل أوﻟﻮس ﺟﻴﻠﻴﻮس: ملﺎذا أدﺧﻞ أﺟﺪادﻧﺎ ﺣﺮف اﻟﻬﺎء اﻟﺤﻠﻘﻲ ﰲ ﺑﻌﺾ اﻷﻓﻌﺎل واﻷﺳﻤﺎء؟ ﻟﻴﺲ ﻣﺆﻛﺪًا أي اﻵﻟﻬﺔ ﻳﺠﺐ ﺗﻘﺪﻳﻢ اﻟﻘﺮﺑﺎن ﻟﻪ ﻋﻨﺪ وﻗﻮع زﻟﺰال. ﰲ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﻈﻮاﻫﺮ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻟﻮﺣﻈﺖ ﻗﻮة وﻓﺎﻋﻠﻴﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻟﻠﺮﻗﻢ ﺳﺒﻌﺔ. 392
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
ﻗﺎل ﻛﺒﺎر اﻟﻌﻠﻤﺎء إن أﻓﻼﻃﻮن اﺑﺘﺎع ﺛﻼﺛﺔ ﻛﺘﺐ ﻣﻦ ﻓﻴﻠﻮﻻوس اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮري وإن أرﺳﻄﻮ اﺑﺘﺎع ﺑﻌﺾ اﻟﻜﺘﺐ ﻣﻦ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف ﺳﺒﻮﺳﻴﺒﻮس ﺑﺄﺳﻌﺎر ﺧﻴﺎﻟﻴﺔ. ف ﻋﻦ ﻃﺎﺋﺮ اﻟﺤﺠﻞ ﻣﺎ ﺳﺠﱠ ﻠﻪ ﺛﻴﻮﻓﺮاﺳﺘﻮس ،وأﻏﺮب ﻣﺎ ﻋُ ِﺮ َ أﻏﺮب ﻣﺎ ﻋُ ِﺮ َ ف ﻋﻦ اﻷرﻧﺐ اﻟﱪي ﻣﺎ دوﱠﻧﻪ ﺗﻴﻮﺑﻮﻣﺒﻮس. ﺑﻌﺾ املﻼﺣﻈﺎت املﻔﻴﺪة واملﺸﻮﻗﺔ ﰲ ﻓﺮع ﻋﻠﻢ اﻟﻬﻨﺪﺳﺔ املﺴﻤﻰ ﺑﺎﺳﻢ »اﻟﺒﴫﻳﺎت« وﰲ ﻓﺮع آﺧﺮ ﺑﺎﺳﻢ »اﻟﺘﻨﺎﻏﻢ« وﰲ ﻓﺮع ﺛﺎﻟﺚ ﺑﺎﺳﻢ »اﻟﻘﻴﺎس«. ﻣﺨﻄﺊ ﻣﻦ ﻳﻈﻦ أﻧﻪ ﻋﻨﺪ اﻟﻜﺸﻒ ﻋﻦ اﻟﺤُ ﻤﱠ ﻰ ﻳُﻔﺤَ ُ ﺺ ﻧﺒﺾ اﻷوردة وﻟﻴﺲ اﻟﴩاﻳني. أﻇﺮف ردود أﻧﻄﻮﻧﻴﻮس ﻳﻮﻟﻴﺎﻧﻮس ﻋﲆ ﺑﻌﺾ اﻹﻏﺮﻳﻘﻴني ﰲ ﻣﺄدﺑﺔ. وﺗﺤﻈﻰ ﻫﺬه املﻮﺳﻮﻋﺔ اﻵن ﺑﺄﻫﻤﻴﺔ أﻛﱪ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ ِ ﺣﻈﻴﺖ ﺑﻬﺎ وﻗﺖ ﻛﺘﺎﺑﺘﻬﺎ ،ﻓﻬﻲ ﻣﺼﺪر ﻟﺠﻤﻴﻊ أﻧﻮاع املﻌﻠﻮﻣﺎت واﻟﻘﺼﺺ اﻟﻌﺘﻴﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ﰲ ﺳﻮاﻫﺎ ﺑﺪءًا ﻣﻦ ﺑﻌﺾ أﻓﻜﺎر اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف اﻟﺮواﻗﻲ املﺘﻘﺪم ﻛﺮﻳﺴﻴﺒﻮس ﻋﻦ اﻟﻘﺪر إﱃ اﻟﺤﻜﺎﻳﺔ املﺸﻬﻮرة ﺣﺎﻟﻴٍّﺎ ﻋﻦ ﱠ وﻟﻜﻦ اﻟﴚء اﻷﻛﺜﺮ دﻻﻟﺔ ﻋﲆ اﻷرﺟﺢ ﻣﻤﱠ ﺎ ﺗُﺒَﻴﱢﻨُﻪ املﻮﺳﻮﻋﺔ ﻋﻦ أﻧﺪروﻛﻠﻴﺲ واﻷﺳﺪ ا ُملﺴﺎﻟِﻢ. اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻘﺪﻳﻢ ﻫﻮ ﻛﻴﻒ أن اﻟﻮاﻗﻊ اﻟﻌﻠﻤﻲ أﺻﺒﺢ ٍّ ﻫﺸﺎ ﻳﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ املﺼﺎدﻓﺔ واﻟﻨﻘﻞ. وﺣﺘﻰ املﺆ ﱠﻟﻔﺎت اﻟﻘﻠﻴﻠﺔ املﺘﺨﺼﺼﺔ ﰲ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت واﻟﻄﺐ واﻟﻔﻠﻚ اﻟﺘﻲ وﺿﻌﻬﺎ ﻣﻔﻜﺮو اﻹﻏﺮﻳﻖ ﺑَﺪءًا ﻣﻦ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻟﺚ ﻓﺼﺎﻋﺪًا ،ﻛﺎﻧﺖ ﰲ أﻏﻠﺒﻬﺎ ﺗﺼﻨﻴﻔﺎت وﴍوﺣً ﺎ ﻷﻋﻤﺎل ﺳﺎﺑﻘﺔ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ اﻟﺮﺳﺎﺋﻞ اﻷﺻﻠﻴﺔ .وﻛﺬﻟﻚ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻌﻈﻢ اﻟ ِﻜﺘَﺎﺑﺎت اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ اﻟﺒﺤﺘﺔ ﻋﲆ ﻣﺪار اﻟﻘﺮون اﻟﺜﻼﺛﺔ اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ ﰲ ﺷﻜﻞ ﴍوح .وﻇﻬﺮ ﰲ ﺑﻌﺾ ﻫﺬه اﻷﻋﻤﺎل ﻓﻜ ٌﺮ ﻗﻮيﱞ وﺟﺪﻳﺪٌ، وﻟﻜﻦ ﺗﻘﺪﻳﻤﻬﺎ ﰲ ﺻﻮرة ﺗﻌﻠﻴﻘﺎت ﻋﲆ ﻧﺼﻮص ذات ﻣﻜﺎﻧﺔ ﻫﻮ ﺣﻘﻴﻘﺔ ذات دﻻﻟﺔ ،ﻓﻔﻲ ﻣﻌﻈﻢ اﻷﺣﻮال ﺑﺪا أن اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ واﻟﻌﻠﻢ ﻳﻔﻘﺪان اﻟﺸﺠﺎﻋﺔ. ﻛﺎن أﻛﱪ ﻓﻼﺳﻔﺔ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻟﺚ وأﻗﻮاﻫﻢ ﺗﺄﺛريًا اﺳﺘﺜﻨﺎءً ﻟﻬﺬه اﻟﻘﺎﻋﺪة وﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻳﻜﺘﺐ ﻣﺤﺾ ﴍوح ،إﻻ أن ﻣﻌﻈﻢ ﺗﻌﻠﻴﻤﻪ اﻟﺸﻔﻮي ﻛﺎن ﻳﺮﺗﻜﺰ ﺣﻮﻟﻬﺎ ،ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﺗﺄﺛﱠﺮ ﺣﺘﻤً ﺎ ﺑﺠﻤﻴﻊ اﻻﺗﺠﺎﻫﺎت اﻟﻔﻜﺮﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﻻﺣﻈﻨﺎﻫﺎ .إﻧﻪ أﻓﻠﻮﻃني ) (٢٧٠–٢٠٥املﻌ ﱢﻠﻢ اﻟﻮﺛﻨﻲ اﻟﺬي ﺗﻠﻘﻰ اﻟﻌﻠﻮم ﰲ اﻹﺳﻜﻨﺪرﻳﺔ و َد ﱠر َس ﰲ روﻣﺎ .اﺻﻄﺒﻐﺖ ﻓﻠﺴﻔﺔ أﻓﻠﻮﻃني ﺑﺼﺒﻐﺔ ﻏﻴﺒﻴﺔ وﺑﻨﺰﻋﺔ دﻳﻨﻴﺔ ﻋﻤﻴﻘﺔ ﻟﻢ ﺗﺘﺄﺛﺮ َﻗ ﱡ ﻂ ﺑﺎﻟﻔﻀﻮل اﻟﻌﻠﻤﻲ .وﺟﺮﻳًﺎ ﻋﲆ اﻟﻌﺎدة وﻗﺘﻬﺎ ﻓﻘﺪ ﺣﺎول اﻟﺠﻤﻊ ﺑني أﻓﻜﺎر املﻔﻜﺮﻳﻦ اﻷواﺋﻞ ﻣﻊ وﺿﻊ أﻓﻼﻃﻮن ﻓﻮق اﻟﺠﻤﻴﻊ .ودﺷﻨﺖ أﻓﻜﺎر أﻓﻠﻮﻃني ذات اﻟﻨﺰﻋﺔ اﻟ ﱡﺮوﺣﻴﺔ املﺮﺣﻠﺔ اﻷﺧرية ﻣﻦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ ﰲ ﻇﻞ ﺳﻘﻮﻃﻬﺎ 393
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻣﻦ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﻌﻘﻞ واملﻨﻄﻖ إﱃ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﻘﻮى اﻟﺨﻔﻴﺔ واﻟﺪﻳﻦ .وﻗﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه اﻷﻓﻜﺎر ﻣﺜﺎﻟﻴﺔ ﻟﻠﻘﺪﻳﺲ أوﺟﺴﺘني ) (٤٣٠–٣٥٤اﻟﺬي ﻗﺎل إﻧﻬﺎ ﺿﻤﱠ ﺖ ﻛﻞ ﳾء ذي أﻫﻤﻴﺔ ﰲ اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ املﺴﻴﺤﻴﺔ ﺑﺎﺳﺘﺜﻨﺎء ﺷﻜﻞ املﺴﻴﺢ ﻧﻔﺴﻪ ،ﺑﻞ إن ﺷﺌﺖ ﻓﻘﻞ إن ﻋﻠﻢ اﻟﻼﻫﻮت املﺴﻴﺤﻲ ﺗﺒﻨﱠﻰ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ أﻓﻜﺎر أﻓﻠﻮﻃني ،وﻳﺮﺟﻊ اﻟﻔﻀﻞ ﰲ ﺟﺰء ﻣﻦ ذﻟﻚ ﻟﺠﻬﻮد اﻟﻘﺪﻳﺲ أوﺟﺴﺘني. ﻳﻘﻮل ﺗﻠﻤﻴﺬ أﻓﻠﻮﻃني وﻛﺎﺗﺐ ﺳريﺗﻪ ﻓﺮﻓﺮﻳﻮس ) (٣٠٥–٢٣٢إن أﻓﻠﻮﻃني »ﻛﺎن ﻳﺸﻌﺮ ﺑﺎﻟﺨﺰي ﻣﻦ وﺟﻮده اﻟﺠﺴﺪي« ،ﻓﻘﺪ رأى أﻓﻠﻮﻃني أن اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺪﻧﻴﻮﻳﺔ ﻧﻮع ﻣﻦ ﱠ ً املﺼﻔﺪﻳﻦ ﰲ ﻛﻬﻒ أﻓﻼﻃﻮن ا ُملﻈﻠِﻢ .وﻟﺘﺄﺛﱡﺮه ﻣﺮﺗﺒﺔ ،ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻛﺎﻟﺴﺠﻨﺎء اﻟﻮﺟﻮد اﻷدﻧﻰ ُ اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت ﺑﺤﺪﻳﺚ أﻓﻼﻃﻮن ﻋﻦ اﻷرواح ﻏري املﺎدﻳﺔ وﻋﻦ اﻟﺼﻮر املﺜﺎﻟﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻜﺴﻬﺎ اﻷرﺿﻴﺔ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﺑﺎﻫﺖ ،ﺣَ ﱠﺚ أﻓﻠﻮﻃني ﺗﻼﻣﻴﺬه ﻋﲆ اﻟﱰﻛﻴﺰ ﻋﲆ ﻋﺎﻟﻢ ُروﺣﻲ أﺳﻤﻰ .وﻛﺎن ﻣﺎ ﺣﺎول ﺗﺤﻘﻴﻘﻪ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ أي أﻓﻼﻃﻮﻧﻲ آﺧﺮ ﻫﻮ اﻟﻮﻗﻮف ﻋﲆ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑني اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ اﻷدﻧﻰ واﻷﺳﻤﻰ ،ﻓﻠﻢ ﻳُﻘﺪم أﻓﻼﻃﻮن ﻧﻔﺴﻪ ﻣﺎ ﻳﺰﻳﺪ ﻋﲆ ﺗﻠﻤﻴﺢ ﺑﻮﺟﻮد ﻋﺎﻟﻢ أﺳﻤﻰ ،أﻣﺎ أﻓﻠﻮﻃني ﻓﻘﺪ ﺣﺎول أن ﻳﺮﺳﻢ ﺧﺮﻳﻄﺔ ﺗﻮﺿﺢ ﻧﻘﻄﺔ اﻟﺘﻘﺎء اﻟﻌَ ﺎ َﻟﻤَ ْنيَ ،ﻓﺄُﻋِ ﻴﺪ إﺣﻴﺎء اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﻨﺎﺗﺠﺔ ﺑﻤﺎ ﻗﺪﱠﻣﺘﻪ ﻣﻦ ﺗﻮﺻﻴﻔﺎت ﺷﻌﺮﻳﺔ ﻟﻠﺘﺴﻠﺴﻼت اﻟﻬﺮﻣﻴﺔ ا ُملﺒﻬَ ﻤﺔ ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺘﻘﻄﻊ ﰲ اﻟﻔﻜﺮ اﻷوروﺑﻲ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪُ .وﻣﻨﺬ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ أﻃﻠﻖ املﺆرﺧﻮن ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﺳﻢ »اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة« ﻟﺒﻴﺎن أﻧﻬﺎ ﺗﺠﺎوزت ﻛﻞ ﻣﺎ اﻛﺘُ ِﺸ َ ﻒ ﻋﻦ أﻓﻼﻃﻮن. ﻟﻘﺪ ﻋﻠِﻢ أﻓﻠﻮﻃني أﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﺤﺎول وﺻﻒ ﻣﺎ ﻻ ﻳﻮﺻﻒ ،وﻛﺎن ﻫﺪف ﻓﻠﺴﻔﺘﻪ اﻻﺗﺤﺎد ﺣني ﻵﺧﺮ .ورﻏﻢ أﻧﻪ ﺗﻤ ﱠﻜﻦ ﻣﻦ ﺑﻤﺎ ﻳﺸﺒﻪ اﻟﺮب اﻟﻮاﺣﺪ ،وﻫﻮ ﻣﺎ ادﱠﻋﻰ ﺣﺼﻮﻟﻪ ﻣﻌﻪ ﻣﻦ ٍ وﺻﻒ ﺣﺎﻻت اﻻﺗﺤﺎد اﻟﻌﺎﺑﺮة ،ﻓﺈن ﻃﺒﻴﻌﺘﻬﺎ ﺗﺒني أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻟﺪﻳﻪ اﻟﻜﺜري ﻟﻴﻘﻮﻟﻪ ﻋﻨﻬﺎ. ﻟﻘﺪ رأى أن ﻫﺬا اﻟﻮاﺣﺪ ﻳﺘﺠﺎوز ﻗﺪرات اﻟﻌﻘﻞ اﻹدراﻛﻴﺔ ،وﻛﺎن أﺳﻤﻰ ﻣﻤﱠ ﺎ ﺳﻮاه ﺑﺤﻴﺚ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﻣﻔﻬﻮم ﻳﻨﻄ ِﺒﻖ ﻋﻠﻴﻪ .ﻓﻤﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ أ َ َﻗ ﱠﺮ أﻓﻠﻮﻃني أن اﻹﺷﺎرة إﱃ ﻫﺬا اﻟﺮب ﺑ »اﻟﻮاﺣﺪ« أﻣﺮ ﻣﻀ ﱢﻠﻞ؛ إذ إن ﻫﺬا ﻳﺜري اﻟﺘﺴﺎؤل» :واﺣﺪ ﻣﻦ أي ﳾء؟« ﻓﺎﻟﻮاﺣﺪ )أو أﻳٍّﺎ ﻣﺎ ﻛﺎن( ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن ﻛﺎﺋﻨًﺎ ﻷﻧﻪ »ﻳﺘﺠﺎوز اﻟﻮﺟﻮد« ﻋﲆ ﺣﺪ وﺻﻒ أﻓﻼﻃﻮن .وﻗﺪ ﻛﺘﺐ أﻓﻠﻮﻃني أﻧﻪ »ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺠﺰم ﺑﺄيﱟ ﻣﻤﱠ ﺎ ﻟﻪ ،ﻻ اﻟﻮﺟﻮد وﻻ اﻟﺬات وﻻ اﻟﺤﻴﺎة ،ﻷﻧﻪ ﻳﺴﻤﻮ ﻓﻮق ﻛﻞ ﻫﺬا«. إن اﻟﻮاﺣﺪ ﻳﺴﻤﻮ ﻓﻮق ﻛﻞ ﳾء ﻷﻧﻪ أﺻﻞ ﻛﻞ ﳾء وﻣﺼﺪره .وﻛﺎﻧﺖ إﺣﺪى ﺻﻮر ﱠ املﻔﻀﻠﺔ ﻻﺳﺘﺤﻀﺎر اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗُ َ ﻮﺻﻒ واﻟﺘﻲ ﺟﺎء ﻛﻞ ﳾء ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﻮاﺣﺪ أﻓﻠﻮﻃني ﻫﻲ »اﻻﻧﺒﺜﺎق« ،ﻓﺎﻟﻮﺟﻮد ﻳﻨﺒﻌﺚ ﻣﻦ اﻟﻮاﺣﺪ ﻛﻤﺎ ﻳﻨﺒﻌﺚ اﻟﻀﻮء ﻣﻦ اﻟﺸﻤﺲ ،وﻟﻜﻦ ﻫﺬه اﻟﺼﻮرة ﻣﻌﻴﺒﺔ ﻷﻧﻬﺎ ﻻ ﺗﻌﱪ ﻋﻦ ﻓﻜﺮة أﻓﻠﻮﻃني ﻋﻦ اﻟﺘﺴﻠﺴﻞ اﻟﻬﺮﻣﻲ ﻟﻠﺤﻘﺎﺋﻖ .ورﺑﻤﺎ ﻣﻦ 394
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
اﻷﻓﻀﻞ أن ﻧﺴﺘﺨﺪم ﺻﻮرة اﻟﻨﺎﻓﻮرة املﻨﺪﻓﻌﺔ ﺣﻴﺚ ﻳﻨﺪﻓﻊ ﻛﻞ ﳾء ﻣﻦ ﻗﻤﺔ ﻋﺎﻟﻴﺔ — أي اﻟﻮاﺣﺪ — إﱃ ﻣﺎ دوﻧﻬﺎ ﻣﻦ ﻃﺒﻘﺎت .وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻻ ﻳﺠﺐ اﻟﻨﻈﺮ إﱃ ﻫﺬا اﻟﻔﻴﺾ اﻟﻘﺎدم ﻣﻦ اﻟﻮاﺣﺪ ﺑﻮﺻﻔﻪ ﺣﺪﺛًﺎ ﻣﺎدﻳٍّﺎ .وﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻫﻮ ﻟﻴﺲ ﺣﺪﺛًﺎ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق ﻷﻧﻪ ﺧﺎرج ﺣﺪود اﻟﺰﻣﺎن ،ﻓﻤﺎ ﻳﺤﺎول أﻓﻠﻮﻃني وﺻﻔﻪ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﻤﺎ وراء اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻛﻠﻬﺎ؛ ﻓﻬﻮ ﻻ ﻳﺼﻒ ﻇﺎﻫﺮة ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻔﺴريﻫﺎ ﰲ ﺿﻮء اﻟﺴﺒﺐ واﻟﻨﺘﻴﺠﺔ. وﺗﺘﻜﻮﱠن ﻫﺬه اﻟﻨﺎﻓﻮرة املﺠﺎزﻳﺔ ﻋﻨﺪ أﻓﻠﻮﻃني ﻣﻦ ﺛﻼث ﻃﺒﻘﺎت »ﻳﻔﻴﺾ« ﻛ ﱞﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺎ ﻟﺘُ َﺨ ﱢﻠ َ ﻒ ﻣﺎ دوﻧﻬﺎ ،وﺗﺤﺖ ﻳﻨﺒﻮع اﻟﻮاﺣﺪ ﻫﻨﺎك ﻃﺒﻘﺔ اﻟﻌﻘﻞ ،وﺗﻠﻴﻬﺎ ﻃﺒﻘﺔ اﻟ ﱡﺮوح. ً ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺎ ،ﻓﺎﻟﻌﻘﻞ ﻋﻘﻮﻻ ﺣﻴﺔ ﻧﺠﺪ اﻟﺼﻮر اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ املﺜﺎﻟﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗُﻌَ ﱡﺪ ٍ ﰲ ﻃﺒﻘﺔ اﻟﻌﻘﻞ ِ ﻓﻴﺾ اﻟﻮاﺣﺪ واﻟ ﱡﺮوح ﻓﻴﺾ اﻟﻌﻘﻞ .وﻳﻤﻜﻦ ﺗﻘﺴﻴﻢ اﻟﺮوح ذاﺗﻬﺎ ﻟﻌﺪة ﻃﺒﻘﺎت ﺛﺎﻧﻮﻳﺔ ُﺨﺮﺟَ ﺔ ﻟﻨﺎ اﻟﻌﺎﻟﻢ املﺮﺋﻲ .أﻣﺎ املﺎدة ﻋﲆ اﻷرض ﻓﻬﻲ أدﻧﻰ ﻣﺎ ﰲ املﺮﺗﺒﺔ ﺗﻔﻴﺾ أدﻧﺎﻫﺎ ﻣ ِ اﻟﺪﻧﻴﺎ ،ﻓﻬﻲ اﻷﺑﻌﺪ ﻋﻦ »اﻟﻮاﺣﺪ« ،اﻟﺬي ﻳﺴﻤﻴﻪ أﻓﻠﻮﻃني »اﻟﺨري« ،وﻫﺬا ﻳﻌﻨﻲ أﻧﻬﺎ ﴍﻳﺮة. وﻳﺤﻤﻞ ﻣﻔﻬﻮم اﻟﴩ ﻟﺪى أﻓﻠﻮﻃني دﻻﻟﺔ ﺳﻠﺒﻴﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ،وﻳﺸري إﱃ أﺑﻌﺪ ﻣﺴﺎﻓﺔ ﻣﻤﻜﻨﺔ ﻋﻦ اﻟﻮاﺣﺪ أو اﻟﺨري. وﻟﻠﺤﻘﻴﻘﺔ ﻋﻨﺪ أﻓﻠﻮﻃني درﺟﺎت ،ﻛﻤﺎ ﻟﻠﺨري درﺟﺎت .ﻓﻬﻨﺎك أﺷﻴﺎء ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻏريﻫﺎ ،وﻛﻠﻤﺎ زاد ﻗﺮﺑﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﻮاﺣﺪ ﻛﺎﻧﺖ إﱃ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ أﻗﺮب .وﻻ ﻳﻘﺼﺪ أﻓﻠﻮﻃني ﺑﻬﺬا اﻟﺘﻌﺒري اﻟﻐﺮﻳﺐ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل أن اﻟﺨﻴﻮل »ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ أﻛﺜﺮ« ﻣﻦ اﻟﺤﺼﺎن وﺣﻴﺪ اﻟﻘﺮن؛ ﻷن اﻟﺨﻴﻮل ﻣﻮﺟﻮدة ﺑﻴﻨﻤﺎ اﻟﺤﺼﺎن وﺣﻴﺪ اﻟﻘﺮن ﻣﻨﻌﺪم ،وإﻧﻤﺎ ﻳﻘﺼﺪ أن ﻫﻨﺎك ﻋﺪة درﺟﺎت ﻟﻠﺤﻘﻴﻘﺔ ﺣﺘﻰ ﺑني املﻮﺟﻮدات .ﻓﺤﺘﻰ إن ﻛﺎن اﻟﺤﺼﺎن وﺣﻴﺪ اﻟﻘﺮن ﻣﻮﺟﻮدًا ً ﻓﻌﻼ ﻓﺴﻴﻌﺘﱪه أﻓﻠﻮﻃني ﰲ أدﻧﻰ درﺟﺎت ﺳﻠﻢ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ؛ ﻷن اﻟﺤﺼﺎن وﺣﻴﺪ اﻟﻘﺮن ﻟﻦ ﻳﺘﻌﺪى ﻛﻮﻧﻪ ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﺎدﻳٍّﺎ ،وﻫﺬه اﻟﺪرﺟﺔ اﻷﺧرية ﻟﻢ ﺗَﺤ َ ﻆ ﻣﻦ اﻫﺘﻤﺎم أﻓﻠﻮﻃني ﺑﺎﻟﻜﺜري .وﺗُﻌَ ﱡﺪ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﻧﻮﻋً ﺎ ﻣﻦ ﻣﺬﻫﺐ اﻟﻜﻤﺎل ﰲ أﻛﺜﺮ ﺻﻮره ﺗﺸﺪدًا؛ إذ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻋﺘﺒﺎر أي ﳾءٍ ﺣﻘﻴﻘﻴٍّﺎ ً ً ﻣﻜﺘﻤﻼ ﻣﻦ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﻨﻮاﺣﻲ ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻻ ﻳﺘﻮاﻓﺮ ﰲ أيﱟ ﻣﻦ ﻛﺎﻣﻼ ﺑﺸﻜﻞ ﻛﺎﻣﻞ إﻻ إذا ﻛﺎن ً ً ً ﻏﻨﻲ ﻛﺎﻣﻼ اﻷﺷﻴﺎء املﺎدﻳﺔ .وﻳﺮى أﻓﻠﻮﻃني أن ﻟﻴﺲ ﻛﻤﺎﻻ ﻣﻄﻠﻘﺎ إﻻ اﻟﻮاﺣﺪ ،ﻓﻴﻘﻮل» :ﻫﻮ ﱞ ﰲ ﺳﻤﻮه ،ﻗﺎﺋﻢ ﺑﺬاﺗﻪ ،أﻛﱪ ﻣﻦ ﻛﻞ ﳾء ،ﻻ ﻳﺸﻮﺑﻪ ﻧﻘﺺ أو اﺣﺘﻴﺎج «.وﻟﺬﻟﻚ ﻓﻬﻮ اﻟﺤﻖ املﻄﻠﻖ .أﻣﺎ اﻟﻌﻘﻞ ﻓﻬﻮ أﻗﻞ ﰲ ﺣﻘﻴﻘﺘﻪ ﻣﻦ اﻟﻮاﺣﺪ ،وﻛﺬﻟﻚ اﻟ ﱡﺮوح ،أﻣﺎ ﻧﺤﻦ ﻓﻠﺴﻨﺎ ﰲ ﻛﺎﻣﻞ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق. وﻟﻜﻦ ﻻ داﻋﻲ ﻷن ﻳُﺤﺰﻧﻨﺎ ﻫﺬا ،ﻓﻠﺴﻨﺎ ﰲ ﻗﺎع ﺑﺤﺮ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ؛ ﻓﺒﻔﻀﻞ اﻷرواح اﻟﺘﻲ ﰲ أﺑﺪاﻧﻨﺎ وﻗﻮة اﻟﻌﻘﻞ ﻓﻴﻨﺎ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﺴﻤﻮ إﱃ ﻣﺮﺗﺒﺔ اﻟﻮاﺣﺪ ﰲ ﺑﻌﺾ اﻟﻈﺮوف .وﻟﻴﺴﺖ 395
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ً رﺣﻠﺔ ﻣﺎدﻳﺔ ﺑﺎﻟﻄﺒﻊ؛ ﻷﻧﻪ ﻣﻦ املﻔﱰض أن ﻻ ﳾء ﻣﺎديﱠ ﰲ ﻧﺎﻓﻮرة أﻓﻠﻮﻃني ﻫﺬه اﻟﺮﺣﻠﺔ وﻣﺴﺘﻮﻳﺎت اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ املﻨﺪﻓﻌﺔ ﻣﻨﻬﺎ ،ﻓﺎﻟﺮﺣﻠﺔ ﻧﻘﻮم ﺑﻬﺎ ﺑﻌﻘﻮﻟﻨﺎ .وﺣﻴﺚ ﻧﺪرك ﻣﺪى اﻋﺘﻤﺎد ﻛ ﱟﻞ ﻣﻦ ﻣﺴﺘﻮﻳﺎت اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻋﲆ اﻟﺬي ﻳﻠﻴﻪ ،ﻓﻨﺤﻦ ﻧﺴﻤﻮ إﱃ ﻫﺬه اﻟﻄﺒﻘﺎت اﻟﻌﲆ ورﺑﻤﺎ ﻧﺼﻞ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ إﱃ ﻣﺮﺗﺒﺔ اﻟﻮاﺣﺪ .إن ﻓﻜﺮة اﻟﺼﻌﻮد اﻟﻌﻘﲇ ﻫﺬه اﻟﺘﻲ ﺗﺄﺧﺬﻧﺎ ﻓﻴﻤﺎ وراء أﺟﺴﺎدﻧﺎ ﻗﺪ ﺗُﺸ ِﺒﻪ ﺣﺪﻳﺚ اﻟﻜﺎﻫﻨﺔ دﻳﻮﺗﻴﻤﺎ ﻋﻦ اﻟﺼﻌﻮد اﻟﺘﺄﻣﱡ ﲇ ﻣﻦ ﺧﻼل ﺻﻮر اﻟﺠﻤﺎل اﻟﺘﻲ ﺗﺰداد ﺗﺠﺮدًا إﱃ »اﻟﺠﻤﺎل املﻄﻠﻖ«) ،أو »اﻟﺠﻤﺎل اﻟﺬي ﻳﻔﻮق اﻟﺠﻤﺎل« ،وﻫﻮ اﻟﻮﺻﻒ اﻟﺬي أﻃﻠﻘﻪ أﻓﻠﻮﻃني ﻋﲆ اﻟﻮاﺣﺪ أﺣﻴﺎﻧًﺎ( .ﻓﺈذا ﺣﻘﻘﻨﺎ ﻫﺪﻓﻨﺎ ورأﻳﻨﺎ ملﺤﺔ ﻣﻦ اﻟﻮاﺣﺪ ﻓﺈن: اﻟ ﱡﺮوح ﺗَ ﱠ ﻄ ِﻠ ُﻊ ﻋﲆ ﻣﺼﺪر اﻟﺤﻴﺎة وﻣﺼﺪر اﻟﻌﻘﻞ وﺑﺪاﻳﺔ اﻟﻮﺟﻮد وﻣﻨﺒﻊ اﻟﺨري وأﺻﻞ اﻟﺮوح. وﻳﻜﺘﻤﻞ وﺟﻮدﻧﺎ ﻫﻨﺎك ،ﻓﻬﺬا ﻫﻮ اﻟﻨﻌﻴﻢ … وﻫﺬا ﻫﻮ ﺳﻼم اﻟﺮوح ﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻦ اﻟﴩ ،وﻫﺬا ﻫﻮ املﻼذ ﺣﻴﺚ ﻻ ﺧﻄﻴﺌﺔ. إن رﺣﻠﺘﻨﺎ إﱃ اﻟﻮاﺣﺪ ﻫﻲ رﺣﻠﺔ ﻋﻮدة ﻛﺎملﺴﺎﻓﺮ ﻳﻌﻮد إﱃ ﻣﻮﻃﻨﻪ وﻣﺄواه .ﻓﻬﻲ ﻟﻴﺴﺖ رﺣﻠﺔ ﻧﺰور ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺼﺪر وﺟﻮدﻧﺎ ﻓﺤﺴﺐ ،ﺑﻞ ﻫﻲ رﺣﻠﺔ ﺗﺘﻀﻤﻦ اﻛﺘﺸﺎف أﻧﻔﺴﻨﺎ اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ. وﻳﻘﻮل أﻓﻠﻮﻃني إﻧﻪ »ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﺼﻌﺪ اﻟﺮوح ﻣﺮة أﺧﺮى ﻓﻬﻲ ﻻ ﺗﺬﻫﺐ إﱃ ﻣﺎ ﻫﻮ ﻏﺮﻳﺐ ﻋﻨﻬﺎ ﺑﻞ إﱃ ذاﺗﻬﺎ املﻄﻠﻘﺔ «.ذﻟﻚ أن ﻫﻨﺎك ﺗﺸﺎﺑﻬً ﺎ ﺑني أﺳﻤﻰ اﻷﺟﺰاء ﰲ أرواﺣﻨﺎ وأﻋﲆ درﺟﺎت اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ .وﻗﺪ اﻋﺘﱪ أﻓﻠﻮﻃني أن درﺟﺎت اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﻌﻠﻴﺎ درﺟﺎت ﻋﻘﻠﻴﺔ وﻟﻴﺴﺖ ﻣﺎدﻳﺔ، ﻛﻤﺎ اﻋﺘﻘﺪ أن اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺗﻨﺒُﻊ ﻣﻦ اﻟﻮاﺣﺪ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺗﻨﺒﻊ اﻷﻓﻜﺎر ﻣﻦ اﻟﻌﻘﻞ .أي إﻧﻪ اﻋﺘﻘﺪ أن ﺨﺮج ﻟﻨﺎ اﻟﻌﺎﻟﻢ؛ وﺑﺬﻟﻚ ﻓﻨﺤﻦ ﻗﺪرﺗﻨﺎ ﻋﲆ اﻟﺘﻔﻜري ﺗﻌﻜﺲ ﻋﻤﻠﻴﺔ »اﻟﻔﻴﺾ« اﻟﻐﺎﻣﻀﺔ اﻟﺘﻲ ﺗُ ِ ﻧﺸﺒﻪ اﻹﻟﻪ اﻟﻮاﺣﺪ .وﻳُﺬَ ﱢﻛ ُﺮﻧَﺎ ﻫﺬا ﺑﺎﻟﻔﻜﺮة اﻷورﻓﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮل إن اﻟﺮوح داﺧﻠﻨﺎ إﻧﻤﺎ ﻫﻲ اﻧﻌﻜﺎس ﺑﺎﻫﺖ ﻟﻸﻟﻮﻫﻴﺔ ﻻ ﻳﺰال ﻓﻴﻪ ﺑﻌﺾ اﻟﺤﻴﺎة ،ﻛﻤﺎ ﻳُﺬَ ﱢﻛ ُﺮﻧَﺎ ﺑﺮأي أرﺳﻄﻮ أن ﻧﺸﺎط اﻟﺠﺰء اﻟﻌﺎﻗﻞ ﻣﻦ اﻟ ﱡﺮوح ﻫﻮ ﻧﻔﺴﻪ ﻧﺸﺎط اﻟﺮب. وﺛﻤﺔ ﺷﻴﺌﺎن ﴐورﻳﺎن ﻟﻠ ﱡﺮﻗ ﱢِﻲ إﱃ ﻣﺮﺗﺒﺔ اﻟﻮاﺣﺪ ،وﻫﻤﺎ اﻻﺟﺘﻬﺎد اﻟﻌﻘﲇ وﻓﻀﺎﺋﻞ اﻷﺧﻼق .وﻳﺮى أﻓﻠﻮﻃني أن ﻫﺬﻳﻦ اﻷﻣﺮﻳﻦ ﺻﻮرﺗﺎن ﻣﻦ اﻟﺠﻬﺎد ﰲ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﺼﻌﻮد ﻣﻦ اﻟﺸﻮاﻏﻞ اﻟﺪﻧﻴﻮﻳﺔ إﱃ اﻻﻫﺘﻤﺎﻣﺎت اﻹﻟﻬﻴﺔ أو اﻟﺴﺎﻣﻴﺔ .وﻟﻜﻦ ﻟﻴﺲ واﺿﺤً ﺎ إﱃ أي ﻣﺪًى ﻳ َ ُﻔﱰ َُض ﺑﺎملﺮء أن ﻳﺰﻫﺪ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺪﻧﻴﺎ .وﻗﺪ ﱠ ﺗﺨﲆ ﻋﻀﻮ ﰲ اﻟﱪملﺎن اﻟﺮوﻣﺎﻧﻲ ﻋﻦ اﺷﺘﻐﺎﻟﻪ ﺑﺎﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺣﻴﻨﻤﺎ ﺳﻤﻊ ﻣﺎ ﻗﺎﻟﻪ أﻓﻠﻮﻃني .وﻟﻜﻦ أﻓﻠﻮﻃني ﺑﺎﻟﻄﺒﻊ ﻟﻢ ﻳَ َﺮ أﻧﻪ ﻋﲆ اﻹﻧﺴﺎن أن ﻳﻜﺮه اﻟﻌﺎﻟﻢ أو ﻳﺘﺠﺎﻫﻞ ﻣﻦ ﻳﻌﻴﺶ ﻓﻴﻪ ،ﺑﻞ ﻳﺠﺐ ﻋﻠﻴﻪ أن ﻳﺠﺎﻫﺪ ﻟريى 396
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
اﻟﺠﻤﺎل ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ املﺮﺋﻲ؛ ﻷن ﻫﺬا اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻛﻤﺎ ﻗﺎل أﻓﻠﻮﻃني ﻟﻴﺲ إﻻ ﻣﺮآة ﻟﻠﻮاﺣﺪ ،ﻓﻴﺠﺐ اﻟﺘﺤﲇ ﺑﺎﻷﺧﻼق اﻟﺤﻤﻴﺪة ﻣﻊ اﻟﺠﻤﻴﻊ؛ ﻷن ﻛﻞ ُروح ﺗﺘﺒﻊ اﻟﺮب .وﻻ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻟﻠﻨﺎس اﻻﻋﺘﻘﺎد أﻧﻬﻢ ﺳﻴﺘﻤ ﱠﻜﻨﻮن ﻣﻦ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ اﻟﻮاﺣﺪ ﻣﻦ دون ﻓﻀﺎﺋﻞ اﻷﺧﻼق .وﻗﺪ ﻋﺎرض أﻓﻠﻮﻃني ﻓﻜﺮة أن ُﺳ ُﻤ ﱠﻮ اﻟﺮوح وارﺗﻘﺎءﻫﺎ إﱃ ﻣﺮﺗﺒﺔ اﻟﻮاﺣﺪ ﻻ ﻳﻌﺘﻤﺪ إﻻ ﻋﲆ ﻣﻌﺮﻓﺔ أﴎار اﻟﻌﺎﻟﻢ، ﻓﻬﺬا وﺣﺪه ﻻ ﻳﻜﻔﻲ ﻷن اﻟﻮاﺣﺪ ﻫﻮ اﻟﺨري ﻛﺬﻟﻚ ،وﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻻﺗﺤﺎد ﻣﻊ اﻟﺨري دون أن ﻳﺘﺤﲆ املﺮء ﻧﻔﺴﻪ ﺑﺎﻟﺨري. وﻛﺄﻳﺔ ﻓﻠﺴﻔﺔ ﺗﺮﻛﺰ ﻋﲆ اﻟﺴﻠﻮك اﻷﺧﻼﻗﻲ واﻟﻐﻴﺒﻴﺎت ﻳﺴري ﻓﻜﺮ أﻓﻠﻮﻃني ﰲ اﺗﺠﺎﻫني آن واﺣﺪ .ﻓﻤﺎ ﻫﻮ ﻧﻄﺎق اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻔﺎﺿﻠﺔ اﻟﻘﻮﻳﻤﺔ وﻣﺎ ﻫﻮ ﻣﺪاﻫﺎ إن ﻋﺎش ﻣﺘﻀﺎ ﱠدﻳْﻦ ﰲ ٍ اﻹﻧﺴﺎن »وﻫﻮ ﻳﺸﻌﺮ ﺑﺎﻟﺨﺰي ﻣﻦ وﺟﻮده اﻟﺠﺴﺪي«؟ أﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺑﺎﺳﺘﻄﺎﻋﺔ ﺗﻠﻤﻴﺬ أﻓﻠﻮﻃني اﻟﺴﺎﺑﻖ ذﻛﺮه أن ﻳﻘﺪم املﺰﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺨري ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ إن ﺑﻘﻲ ﰲ ﻣﻨﺼﺒﻪ ﻋﻀﻮًا ﰲ اﻟﱪملﺎن؟ وﺛﻤﺔ ﻧﻘﻄﺔ ﺗﻌﺎرض أﺧﺮى ﻋﻨﺪ أﻓﻠﻮﻃني ﺗﻜﻤﻦ ﰲ اﻟﺠﺎذﺑﻴﺔ املﺘﻌﺎرﺿﺔ ﻟﻠﺘﺼﻮف واملﻨﻄﻖ؛ ﻓﻬﻮ آن واﺣﺪ ،ﻓﺄﻓﻠﻮﻃني ﻋﺎدة ﻣﺎ ﻳﺤﺎول إﺛﺒﺎت آراﺋﻪ وﻳﻌﺘﻤﺪ ﰲ ذﻟﻚ ﻋﲆ ﻣﺘﺼﻮف وﻋﻘﻼﻧﻲ ﰲ ٍ ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﺗﻀﻌﻪ ﰲ داﺋﺮة أﺳﻼﻓﻪ ﻣﻦ أﺗﺒﺎع املﺬﻫﺐ اﻟﻌﻘﲇ .وﻗﺪ ﻳﻌﱪ أﻓﻠﻮﻃني ﻋﻦ ﺣﺠﺠﻪ وﺑﺮاﻫﻴﻨﻪ ﺑﺸﻜﻞ رديء )ﺣﺘﻰ إن ﺗﻠﻤﻴﺬه املﺘﻔﺎﻧﻲ ﻓﺮﻓﺮﻳﻮس أﻗﺮ ﺑﺄﻧﻪ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻛﺎﺗﺒًﺎ ﻣﺘﻤﻜﻨًﺎ( ،وﻗﺪ ﺗُﻌﺎد وﺗﺘﻜﺮر ﺑﺸﻜﻞ ﻻ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻟﻪ )ﻓﺤﺘﻰ ﻫﻴﺠﻞ اﻛﺘﺸﻒ أن ﻗﺮاءﺗﻬﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻜﻮن ﻣﺮﻫِ ﻘﺔ( ،ﻛﻤﺎ أﻧﻬﺎ ﻻ ﺗُﻘﻨِﻊ اﻟﻜﺜريﻳﻦ ﰲ ﻳﻮﻣﻨﺎ ﻫﺬا .وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﻔﻲ داﺧﻞ ﻧﺜﺮ أﻓﻠﻮﻃني املﺘﺸﺎﺑﻚ ﺛَﻤﱠ ﺔ ﳾء ﻣﻨﻄﻘﻲ ﻳﺠﺎﻫﺪ ﻟﻴﺘﺤﺮر ﻣﻦ أَﴎه وﻳﻔﻚ ﻗﻴﺪه، ﻓﻬﻮ ً ﻣﺜﻼ ﻻ ﻳﻜﺘﻔﻲ ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻋﲆ أن املﺎدة ﻏري ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ ،ﺑﻞ ﻳﺤﺎول ﺑﻴﺎن أن ﻫﺬا ﻳُﺴﺘَﻨﺘَﺞ ﻣﻦ ﻣﻌﺮﻓﺔ أﻧﻨﺎ ﻧﻨﺨﺪع ﺑﺴﻬﻮﻟﺔ ﰲ ﺧﺼﺎﺋﺼﻬﺎ وﻣﻦ ﺑﻌﺾ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ اﻷﺧﺮى .وﻗﺪ ﻻ ﻳﻜﻮن ُﻈﻬﺮ اﻟﺠﺎﻧﺐ اﻟﻌﻘﻼﻧﻲ ﻟﺪى أﻓﻠﻮﻃني .وﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ ﻫﺬا اﻻﺳﺘﻨﺘﺎج ﻣُﻘﻨِﻌً ﺎ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ،وﻟﻜﻨﻪ ﻳ ِ أﺧﺮى ﻳُ ِﻘ ﱡﺮ أﻓﻠﻮﻃني أﻧﻪ ﻳﺤﺎول أﺧﺬﻧﺎ إﱃ ﻣﺎ وراء اﻟﻌﻘﻞ واملﻨﻄﻖ ﻓﻴﻘﻮل» :ﻋﻨﺪﺋ ٍﺬ ﻳﺄﺧﺬﻧﺎ اﻟﻄﺮﻳﻖ إﱃ ﻣﺎ وراء املﻌﺮﻓﺔ«. ﻗﺎل أرﺳﻄﻮ ذات ﻣﺮة إن ﻛﻞ إﻧﺴﺎن ﻟﺪﻳﻪ رﻏﺒﺔ ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ ﻟﻠﻤﻌﺮﻓﺔ .أﻣﺎ أﻓﻠﻮﻃني ﻓﻜﺎن ﱢ ﻟﻠﺘﺨﲇ ﻋﻦ أﺳﺎﻟﻴﺐ أرﺳﻄﻮ اﻟﺮزﻳﻨﺔ ﻳﺼﺒﻮ إﱃ ﳾء أﻛﺜﺮ ﻣﻦ املﻌﺮﻓﺔ ،وﻛﺎن ﻋﲆ اﺳﺘﻌﺪاد ﰲ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﴚء .وﻗﺒﻞ أن ﻳﺴﺘﻘﺮ ﰲ روﻣﺎ ﻟﻴﺸﺘﻐِ ﻞ ﺑﺎﻟﺘﺪرﻳﺲ اﺷﱰك أﻓﻠﻮﻃني ﰲ ﺣﻤﻠﺔ ﻋﺴﻜﺮﻳﺔ إﱃ اﻟﴩقً ، أﻣﻼ ﰲ اﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ املﻌﺮﻓﺔ ﻣﻦ ﺣﻜﻤﺎء ﻓﺎرس واﻟﻬﻨﺪ .وﻟﺴﻮء اﻟﺤﻆ أُﻟﻐِ ﻴَﺖ اﻟﺤﻤﻠﺔ ﻗﺒﻞ أن ﺗﻘﻄﻊ ﻣﺴﺎﻓﺔ ﻛﺒرية ،ﻟﻜﻦ أﻓﻠﻮﻃني ﻧﺠﺢ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﺎ أن ﻳﺮﺳﻮ ﻋﲆ ﺷﻮاﻃﺊ اﻟﺼﻮﻓﻴﺔ اﻟﴩﻗﻴﺔ ﻋﲆ أﻳﺔ ﺣﺎل .وﻗﺎل أﻓﻠﻮﻃني إﻧﻪ ﻣﻦ 397
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
أﺟﻞ اﻻﺗﺤﺎد ﻣﻊ اﻟﻮاﺣﺪ ﻳﺠﺐ اﻟﺘﺨﲇ ﻋﻦ »اﻟﱪﻫﺎن … واﻟﺪﻟﻴﻞ … وﻋﻤﻠﻴﺔ اﻻﺳﺘﻨﺘﺎج اﻟﺘﻲ ﺗﺨﻀﻊ ﻟﺘﻘﺎﻟﻴﺪ اﻟﻌﻘﻞ« ،وأﺿﺎف أن »ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ املﻨﻄﻖ ﻻ ﻳُ َﺮ ﱡد ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ ﺧﻼل ﻣﺎ ﻧﺮاه ﻣﻨﺎﺳﺒًﺎ ﻣﻦ أﻓﻌﺎل؛ ﻓﻠﻴﺲ اﻟﻌﻘﻞ ﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺮى ﺑﻞ ﻣﺎ ﻫﻮ أﻋﻈﻢ ﻣﻦ اﻟﻌﻘﻞ «.وﺗﺤﺬو ﻛﺘﺎﺑﺎت املﺘﺄﻣﱢ ﻠني املﺴﻴﺤﻴني ﻣﺜﻞ ﻣﺎﻳﺴﱰ إﻳﻜﺎرت ) (١٣٢٧–١٢٦٠واﻟﻘﺪﻳﺲ ﻳﻮﺣﻨﺎ )–١٥٤٢ (١٥٩١وﻛﺘﺎﺑﺎت ﺑﻌﺾ املﺘﺼﻮﻓني املﺴﻠﻤني واﻟﺮﻫﺒﺎن اﻟﻴﻬﻮد ﺣﺬو أﻓﻠﻮﻃني .ﻟﻘﺪ َ ﺗﺎق أﻓﻠﻮﻃني ﻣﺜﻠﻬﻢ ﻟﻠﺴﻤﺎء وﺗﻄﻠﻊ إﱃ »زﻣﻦ اﻟﺮؤﻳﺎ ﻏري املﻨﻘﻄﻌﺔ؛ اﻟﺮوح ﻏري املﻘﻴﺪة ﺑﻘﻴﻮد اﻟﺠﺴﺪ« ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺘﻤﻜﻦ ﻣﻦ اﻟﻬﺮب ﻣﻦ اﻟﺤﻴﺎة وﻃﺮق اﻟﺘﻔﻜري اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ .ﻓﺎﻟﺘﻔﻜري اﻟﻌﻘﻼﻧﻲ ﻟﻪ ﻣﺂرﺑﻪ ،وﻟﻜﻨﻪ وﺳﻴﻠﺔ وﻟﻴﺲ ﻏﺎﻳﺔ. وﻷن ﻓﻠﺴﻔﺔ أﻓﻠﻮﻃني ﺗﻠﻮﱠﻧﺖ ﺑﺮﻏﺒﺔ ﻣﺤﻤﻮﻣﺔ ﰲ وﺻﻒ ﻣﺎ ﻻ ﻳﻮﺻﻒ واﻟﻮﺻﻮل إﱃ ﻣﺎ ﻳﺴﺘﺤﻴﻞ اﻟﻮﺻﻮل إﻟﻴﻪ؛ ﻓﻬﻲ ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ ﻓﻠﺴﻔﺔ دﻳﻨﻴﺔ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻷﺧﺮى ﺑﻌﻴﺪة ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻋﻦ أيﱢ دﻳﻦ .ﻟﻢ ﻳﻬﺘﻢ أﻓﻠﻮﻃني ﺑﺎﻟﻄﻘﻮس اﻟﺴﺤﺮﻳﺔ أو أﻳﺔ وﺳﻴﻠﺔ ﺗﻘﻠﻴﺪﻳﺔ أﺧﺮى ﻟﻠﺘﴬع ﻟﻶﻟﻬﺔ أو اﺳﱰﺿﺎﺋﻬﺎ .وﻛﺎن ﻳﺤﱰم املﻌﺘﻘﺪات واملﻤﺎرﺳﺎت اﻟﻮﺛﻨﻴﺔ ،وآﻣﻦ ﻋﲆ اﻷرﺟﺢ ﺑﻔﺎﻋﻠﻴﺔ ﺑﻌﺾ اﻟﺘﻌﺎوﻳﺬ اﻟﺴﺤﺮﻳﺔ ،وﻟﻜﻨﻪ رأى أن ﻛﻞ ﻫﺬا ﻻ ﻳَﻤ ﱡ ُﺖ ﻟﻠﻮاﺣﺪ ﺑﺼﻠﺔ. ً ﻃﺮﻗﺎ ﻣﺨﺘﴫة وﻗﺪ اﻋﺘﻘﺪ ﻛﺬﻟﻚ أن اﻻﺳﺘﻌﺎﻧﺔ ﺑﺎﻟﻌﺒﺎدة أو اﻟﺴﺤﺮ أو اﻟﺼﻠﻮات ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ ﻟﻔﻬﻢ اﻟﻮاﺣﺪ إﻧﻤﺎ ﻫﻲ ﻃﺮق ﻣﻀﻠﻠﺔ ﻻ ﻃﺎﺋﻞ ﻣﻨﻬﺎ ،ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻬﺘﻢ ﺣﺘﻰ ﺑﺬﻛﺮ املﺴﻴﺤﻴﺔ. رﺑﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻓﻠﺴﻔﺔ أﻓﻠﻮﻃني ذات ﻧﺰﻋﺔ دﻳﻨﻴﺔ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻏري ﻋﺎدﻳﺔ ،وﻟﻜﻦ ﻣﻦ اﻟﺼﺤﻴﺢ ً أﻳﻀﺎ أن دﻳﻨﻪ ﻛﺎن ذا ﻧﺰﻋﺔ ﻋﻘﻠﻴﺔ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻏري ﻋﺎدﻳﺔ ﻛﺬﻟﻚ. وﻻ ﻳﻨﻄﺒﻖ اﻷﻣﺮ ﻧﻔﺴﻪ ﻋﲆ ﺗﻼﻣﻴﺬ أﻓﻠﻮﻃني وأﺗﺒﺎﻋﻪ ،ﻓﺒﻤﺠﺮد رﺣﻴﻞ أﻓﻠﻮﻃني ﻧﻔﺴﻪ ﴎﻋﺎن ﻣﺎ اﺳﺘﺴﻠﻤﻮا ﻟﺒﻌﺾ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗَﻤ ﱡ ُﺖ إﱃ اﻟﻌﻘﻞ ﺑﺼﻠﺔ ﰲ ِﻇ ﱢﻞ ﺗﻄﻠﻌﻬﻢ ﻟﻨﻈﺮة إﱃ اﻟﻮاﺣﺪ ،ﻓﻠﻢ ﻳﺘﻤﻜﻦ ﻓﺮﻓﺮﻳﻮس ﻣﻦ ﻣﻘﺎوﻣﺔ ﻓﻜﺮة أن املﻤﺎرﺳﺎت واﻟﺘﻌﺎوﻳﺬ اﻟﺴﺤﺮﻳﺔ ﻗﺪ ً ﺿﻌﻴﻔﺎ أﻣﺎم اﻟﻜﻬﻨﺔ رﻏﻢ ﺗُﻤﺜﱢﻞ ﺧﻄﻮات أوﻟﻴﺔ ﻣﻔﻴﺪة ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻖ إﱃ اﻟﻌﻮاﻟﻢ اﻷﺳﻤﻰ؛ إذ ﻛﺎن ﻋﻠﻤﻪ أﻧﻪ ﺑﻮﺻﻔﻪ أﺣﺪ أﺗﺒﺎع ﻣﺬﻫﺐ أﻓﻠﻮﻃني ﻛﺎن ﻋﻠﻴﻪ أﻻ ﻳﻠﺘﻔِ ﺖ إﻟﻴﻬﻢ ﻛﺜريًا .وﰲ ﻛﺘﺎﺑﻪ ﻳﺠﺪ ﻣﻜﺎﻧًﺎ ﰲ ﻣﺨﻄﻂ أﻓﻠﻮﻃني »اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻣﻦ ﻣﻨﻈﻮر اﻟﻜﻬﻨﺔ« ﺗﻤ ﱠﻜﻦ ﻓﺮﻓﺮﻳﻮس ﻣﻦ أن ِ ﻟﻸﺷﻴﺎء ﻟﺠﻤﻴﻊ آﻟﻬﺔ ﺟﺒﻞ أوملﺒﻮس ﺑﺠﺎﻧﺐ أرواح اﻷﺑﻄﺎل املﻘﺪﱠﺳني وﻧﺼﻒ املﻘﺪﺳني ﻣﺜﻞ أورﻓﻴﻮس وﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس .ﻛﻤﺎ وﺻﻒ ﻓﺮﻓﺮﻳﻮس املﺴﻴﺢ ﺑﺎملﻌﻠﻢ اﻟ ﱡﺮوﺣﺎﻧﻲ املﺴﺘﻨري، ً ً ﻣﻘﺎﻻ ﻳﻬﺎﺟﻢ ﻓﻴﻪ ﻣﻌﺎرﺿﺎ ﺷﺪﻳﺪًا ﻟﻠﻤﻌﺘﻘﺪات اﻟﺮﺋﻴﺴﺔ ﻟﻠﻤﺴﻴﺤﻴﺔ وﻛﺘﺐ رﻏﻢ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﺪﻳﻦ اﻟﺠﺪﻳﺪ .وﻗﺪ رأى ﰲ ﻣﺬﻫﺒﻪ أن اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ املﺴﻴﺤﻴﺔ ارﺗﻜﺒﺖ ﺧﻄﺄ ﻣﻜﺎﻧﻴٍّﺎ ﺑﻮﺿﻊ املﺴﻴﺢ ﻋﻴﴗ ﻣﻮﺿﻊ اﻟﻮاﺣﺪ .وﺑﻮﺻﻔﻪ أﺣﺪ أﺗﺒﺎع ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس دﻋﺎ ﻓﺮﻓﺮﻳﻮس إﱃ اﻟﻄﻌﺎم 398
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
اﻟﻨﺒﺎﺗﻲ ﻷﻧﻪ ﻃﻌﺎم رﺧﻴﺺ وﺳﻬﻞ اﻟﺘﺤﻀري؛ وﺑﺬﻟﻚ ﻳﺸﻜﻞ ﻣﺼﺪر إﻟﻬﺎء أﻗﻞ ﻋﻦ اﻷﻣﻮر اﻟ ﱡﺮوﺣﻴﺔ .واﻗﱰح ﰲ ﺑﻌﺾ اﻷﺣﻴﺎن أن اﻷﻓﻀﻞ ﻋﺪم ﺗﻨﺎوُل اﻟﻄﻌﺎم ً أﺻﻼ .وﻛﻐريه ﻣﻦ أﺗﺒﺎع ﻣﺬﻫﺐ ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس آﻧﺬاك اﻫﺘﻢ ﻓﺮﻓﺮﻳﻮس ﺑﺎﻟﻘﻮى اﻟﺮوﺣﻴﺔ ﻟﻸرﻗﺎم وﻛﺘﺐ ﻋﺪة رﺳﺎﺋﻞ ً أﻋﻤﺎﻻ أﻛﺜﺮ ﺗﻘﻠﻴﺪﻳﺔ ﺗﻀﻤﻨﺖ ﴍوﺣً ﺎ ﻟﻬﻮﻣريوس وأﻓﻼﻃﻮن ﻋﻦ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳﺔ) .ﻛﻤﺎ أن ﻟﻪ وﺑﻄﻠﻴﻤﻮس وﻣﻘﺪﻣﺔ ﻟﺠﺰء ﻣﻦ املﻨﻄﻖ اﻷرﺳﻄﻲ ،وﺳﺘﺘﻀﺢ أﻫﻤﻴﺔ ﻫﺬا اﻟﻌﻤﻞ اﻷﺧري ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪُ(. وﻗﺪ زاد إﻣﺒﻠﻴﻜﻮس — وﻫﻮ أﺣﺪ ﺗﻼﻣﻴﺬ ﻓﺮﻓﺮﻳﻮس وﻛﺎن ﻗﺪ أﻧﺸﺄ ﻣﺪرﺳﺔ ﰲ ﺳﻮرﻳﺔ ُ ٍ ﻣﺨﺎﻟﻔﺔ ﺗﺪاﺧﻞ ﺗﻘﺎﻟﻴﺪ أﻓﻠﻮﻃني ﻣﻊ اﻟﺴﺤﺮ واﻟﺨﺮاﻓﺔ .وﰲ وﺗُﻮ ﱢُﰲ َ ﻋﺎم ٣٣٠م ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ — ﻣﻦ ﻟ ُﺮوح ﻣﺬﻫﺐ أﻓﻠﻮﻃني اﻟﻌﻘﲇ ﰲ ﺟﻮﻫﺮه رأى إﻣﺒﻠﻴﻜﻮس أن ﺟﺰءًا ﻣﻬﻤٍّ ﺎ ﻣﻦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻳﻜﻤﻦ ﻳﺠﺐ ﺣﺘﻰ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻓﻬﻤﻬﺎ ،ﻓﺎﻻﺗﺤﺎد ﻣﻊ اﻟﻮاﺣﺪ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺤﻘﻴﻘﻪ ﰲ أداء اﻟﻄﻘﻮس اﻟﺘﻲ ﻻ ِ ﺑﻼ ﻣﺠﻬﻮد ،وﰲ ذﻟﻚ ﻳﻘﻮل: وذﻟﻚ ﻣﻦ ﺧﻼل ﻓﻌﺎﻟﻴﺔ »املﻤﺎرﺳﺎت« اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﻮﺻﻒ واﻟﺘﻲ ﺗُ َﺆدﱠى ﺑﺸﻜﻞ ﺳﻠﻴﻢ، ﻣﻤﺎرﺳﺎت ﺗﺘﺠﺎوز ﺣﺪود اﻟﻔﻬﻢ ،وﻣﻦ ﺧﻼل ﻓﻌﺎﻟﻴﺔ اﻟﺮﻣﻮز اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﻮﺻﻒ واﻟﺘﻲ ﻻ ﻳﻔﻬﻤﻬﺎ إﻻ اﻵﻟﻬﺔ .وﺑﺪون ﺑﺬل أي ﻣﺠﻬﻮد ﻋﻘﲇ ﻳُﺬ َﻛﺮ ﺗﺆدي اﻟﻄﻘﻮس املﻬﻤﺔ ﻣﻦ ﺗﻠﻘﺎء ﻧﻔﺴﻬﺎ. وﻗﺪ ﻛﺎن إﻣﺒﻠﻴﻜﻮس ﻣﻬﺘﻤٍّ ﺎ ﺑﺸﺪة ﺑﻤﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺎﺑﺎت اﻟﺮوﺣﻴﺔ ﻋُ ِﺮ َﻓﺖ ﺑﺎﺳﻢ »اﻟﻜﻬﻨﺔ اﻟﻜﻠﺪاﻧﻴﻮن« ،وﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه اﻟﻜﺘﺎﺑﺎت ﺗﺘﻜﻮﱠن ﻣﻦ ﺑﻌﺾ اﻟﻨﺼﻮص املﻘﺪﺳﺔ ﺑﺠﺎﻧﺐ ﴍوح ﻣﺜرية ﻣﻜﺘﻮﺑﺔ ﺑﺘﻔﻌﻴﻠﺔ ﺳﺪاﺳﻴﺔ .وﻗﺪ ُﻛ ِﺘﺒَﺖ ﻫﺬه اﻟﻜﺘﺎﺑﺎت ﻋﲆ ﻳَ ِﺪ رﺟﻞ ﻳُﺪﻋَ ﻰ ﻳﻮﻟﻴﺎﻧﻮس ﻋﺎش ﺟﺰءًا ﻣﻦ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﰲ ِﻇ ﱢﻞ ﺣﻜﻢ اﻹﻣﱪاﻃﻮر ﻣﺎرﻛﻮس أورﻳﻠﻴﻮس ﰲ اﻟﻨﺼﻒ اﻷﺧري ﻣﻦ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻧﻲ .وﻗﺪ أﺻﺒﺤﺖ ﻫﺬه اﻟﻜﺘﺎﺑﺎت ﻧﻮﻋً ﺎ ﻣﻦ اﻹرﺷﺎدات ﻟﻠﺘﴬﱡ ع إﱃ اﻵﻟﻬﺔ ،وﻫﻮ ﻃﻘﺲ ﻳ َُﺴﻤﱠ ﻰ »اﻟﺜﻴﻮرﺟﻲ« ﻋَ ﱠﺮ َﻓﻪ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ أﺣﺪ أﺗﺒﺎع ﻣﺬﻫﺐ إﻣﺒﻠﻴﻜﻮس ﺑﺄﻧﻪ »ﻗﻮة ﺗﺘﺠﺎوز اﻟﺤﻜﻤﺔ اﻟﺒﴩﻳﺔ وﺗﻀﻢ ﻛﻞ اﻣﺘﻴﺎزات اﻷﻟﻮﻫﻴﺔ وﻗﺪرات اﻻﺳﺘﻬﻼل واﻟﺒﺪء ا ُمل َ ﻄﻬﱢ َﺮة «.وﻳﺒﺪو أن ﻳﻮﻟﻴﺎﻧﻮس ﻛﺎن ﻳﻌﺮف ﺑﻌﺾ اﻟﺘﻌﺎوﻳﺬ ﻻﺳﺘﺤﻀﺎر أﺷﺒﺎح ﻟﻺﻟﻪ ﻛﺮوﻧﻮس واﻟﺼﻮاﻋﻖ واﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ ﺧﱪات ﻣﻦ ﺧﺎرج اﻟﻨﻔﺲ .وﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أن ﻫﺬه اﻷﺷﻴﺎء ﻣﺘﻮا َرﺛﺔ ﰲ ﻋﺎﺋﻠﺘﻪ ﻷن واﻟﺪه اﺳﺘﺤﴬ ﺷﺒﺢ أﻓﻼﻃﻮن ذات ﻣﺮة. ﺷﺄن ﻋﻈﻴ ٍﻢ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻳﺆدي »اﻟﻄﻘﻮس اﻟﺘﻲ ﻻ ﻛﺎن إﻣﺒﻠﻴﻜﻮس ﻛﺬﻟﻚ ﺑﺎﺣﺜًﺎ ذا ٍ َ ﺗﻮﺻﻒ« .وﺑﺠﺎﻧﺐ ﴍﺣﻪ ﻟ »اﻟﻜﻬﻨﺔ اﻟﻜﻠﺪاﻧﻴﻮن« ﻓﻘﺪ ﻛﺘﺐ ﴍوﺣً ﺎ ﻟﻠﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﻣﺤﺎورات 399
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
أﻓﻼﻃﻮن ورﺳﺎﺋﻞ أرﺳﻄﻮ و»ﻣﻘﺪﻣﺔ ﻋﻠﻢ اﻟﺤﺴﺎب« ﻟﻨﻴﻜﻮﻣﺎﺧﻮس )وﻫﻮ أﺣﺪ اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني، وﻗﺪ ﻇﻞ ﻛﺘﺎﺑﻪ اﻟﻌﻤﻞ اﻟﺮﺋﻴﺲ ﰲ ﻫﺬا املﻮﺿﻮع ﻷﻟﻒ ﻋﺎ ٍم( .ﻛﻤﺎ ﻛﺘﺐ إﻣﺒﻠﻴﻜﻮس رﺳﺎﺋﻞ ً رﻳﺎﺿﻴﺔ ﻋﻦ ﻋﻠﻢ اﻟﺼﻮت واﻟﻔﻠﻚ .وﻗﺪ أﻋﻠﻦ ﻋﻦ رﻏﺒﺘﻪ ﰲ »أن ُ ﻳﻤﺨﺮ ﻋﺒﺎب ﻛﻞ ﻣﺎ ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺑﺴﻴﻒ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت «.ورﻏﻢ أﻧﻪ ﻋﲆ اﻷرﺟﺢ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺳﺒﺒًﺎ ﰲ أﻳﺔ إﻧﺠﺎزات ﺑﻨﻔﺴﻪ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻹﻳﻤﺎن اﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮري ﺑﺄﻫﻤﻴﺔ اﻷرﻗﺎم ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ إﻟﻬﺎم ﻟﻌﻠﻤﺎء ﻣﺜﻞ ﻛﺒﻠﺮ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎدس ﻋﴩ. وﻳﺬﻛﺮﻧﺎ ﻫﺬا املﺰﻳﺞ ﺑني اﻟﺴﺎﺣﺮ واﻟﻌﺎﻟِﻢ اﻟﺒﺪاﺋﻲ اﻟﺬي ﻧﺮاه ﰲ إﻣﺒﻠﻴﻜﻮس ﺑﺎﻟﺮﻣﻮز ً ﻓﻀﻼ ﻋﻦ ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس ﻧﻔﺴﻪ .وﻗﺪ ﺗﺤﺪﱠث ﺑﻌﺾ ذات اﻷﻋﻤﺎل اﻟﺒﺎﻫﺮة ﻣﺜﻞ إﻣﺒﻴﺪوﻛﻠﻴﺲ أﺗﺒﺎع أﻓﻼﻃﻮن املﺘﺄﺧﺮﻳﻦ ﻋﻦ إﻣﺒﻠﻴﻜﻮس ﺑﻮﺻﻔﻪ إﻟﻬً ﺎ ،ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻗﺪﱠس ﺑﻌﺾ أﺗﺒﺎع ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس أﺳﺘﺎذﻫﻢ .وﻟﻜﻦ اﻷﻫﻤﻴﺔ اﻟﻜﱪى ﻹﻣﺒﻠﻴﻜﻮس ﰲ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺗﻜﻤُﻦ ﰲ ﻛﻮﻧﻪ ﻋﺎﻟِﻢ ﻻﻫﻮت ﱠ اﻟﺠﺎﻓﺔ ﻻ إﻟﻬً ﺎ .وﻗﺪ ﺣﺎول إﻣﺒﻠﻴﻜﻮس ﻛﻤﺎ ﺣﺎول ﻓﺮﻓﺮﻳﻮس ﻣﻦ ﻗﺒﻠﻪ أن ﻳﺤﻮل املﻔﺎﻫﻴﻢ ﰲ ﻧﻈﺎم أﻓﻠﻮﻃني إﱃ آﻟﻬﺔ ﺣﻴﺔ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﻣﻄﺎﺑﻘﺔ اﻟﻘِ ﻴَﻢ املﺠ ﱠﺮدَة ﻣﺜﻞ اﻟﻌﻘﻞ واﻟ ﱡﺮوح ٍ ﻻﻫﻮت ﻓﻠﺴﻔﻲ ﺑﺎﻵﻟﻬﺔ ﻣﻦ اﻟﺒﺎﻧﺘﻴﻮن اﻹﻏﺮﻳﻘﻲ واملﴫي .وﻗﺪ ﺳﺎﻋﺪ ﺑﺬﻟﻚ ﻋﲆ وﺿﻊ ﻟﻠﻮﺛﻨﻴﺔ ﻛﺎن ﻟﻪ ﻛﺒري اﻷﺛﺮ ﰲ ﺗﻄﻮر اﻟﻔﻜﺮ املﺴﻴﺤﻲ .وﻗﺪ ﻧﺘﺞ ﻋﻦ ﻫﺬا املﴩوع أﻋﻤﺎل ﺑﺮوﻛﻠﻴﻮس ) (٤٨٥–٤١٠اﻟﺬي َرأ َ َس ﻣﺪرﺳﺔ أﻓﻠﻮﻃني اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﰲ أﺛﻴﻨﺎ ،اﻟﺘﻲ ﺗﻌﺪ أﺛ ًﺮا ﺑﺎﻗﻴًﺎ ﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ أﻓﻼﻃﻮن. ﻛﺎن ﻛﺘﺎب »أرﻛﺎن اﻟﻼﻫﻮت« ﻟﱪوﻛﻠﻴﻮس آﺧﺮ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻟﺘﻮﺿﻴﺢ اﻟﻨﻈﺎم »اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻲ« اﻟﺬي ﺗﺮﻋﺮع ﺑﻌﺪ وﻓﺎﺗﻪ .وﻳﻨﺒﻊ املﻨﻬﺞ اﻟﺬي اﺗﱠﺒَﻌﻪ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب ﻏري اﻟﺘﻘﻠﻴﺪي ﻣﻦ ﻫﻨﺪﺳﺔ إﻗﻠﻴﺪس ،ﺣﻴﺚ ﻳﺒﺪأ إﻗﻠﻴﺪس ﺑﺒﻌﺾ اﻻﻓﱰاﺿﺎت واﻟﺘﻌﺮﻳﻔﺎت ﻋﻦ اﻟﺨﻄﻮط واملﺴﺘﻮﻳﺎت واﻟﺰواﻳﺎ وﻏريﻫﺎ ،ﺛﻢ ﻳﺴﺘﻨﺒﻂ ﺑﻌﺪﻫﺎ ﺳﻠﺴﻠﺔ ﻣﻦ اﻟﻔﺮﺿﻴﺎت ﺣﻮﻟﻬﺎ. ً اﻓﱰاﺿﺎ ﺑﺨﺼﻮص اﻟﺒﻨﺎء وﺑﺄﺳﻠﻮب ﻣﺸﺎﺑﻪ ﻳﻬﺪف ﻛﺘﺎب »أرﻛﺎن اﻟﻼﻫﻮت« ﻟﺘﻮﺿﻴﺢ ٢١١ اﻟﻬﺮﻣﻲ ﻟﻠﺤﻘﻴﻘﺔ وﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﺰﻣﻦ واﻟ ﱡﺮوح واﻟﻮﺟﻮد واﻟﻮاﺣﺪ وﺟﻤﻴﻊ أﻧﻮاع اﻵﻟﻬﺔ اﻟﺜﺎﻧﻮﻳﺔ. ً أﺳﺎﺳﺎ ملﺪرﺳﺔ اﻟﻬﻨﺪﺳﺔ ،أﻣﺎ ﻛﺘﺎب »أرﻛﺎن اﻟﻼﻫﻮت« وﻻ ﻳﺰال ﻋﻤﻞ إﻗﻠﻴﺪس )ﺑﻌﺪ ﺗﻨﻘﻴﺤﻪ( ﻟﱪوﻛﻠﻴﻮس ﻓﻴﺒﺪو اﻵن ﻋﺒﺜًﺎ ﻻ ﻃﺎﺋﻞ ﻣﻨﻪ؛ ذﻟﻚ أن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻪ ﺣﺪﻳﻘﺔ ﺣﻴﻮان ﴎﻳﺔ ﺗﺘﻘﺎﺑﻞ ﻓﻴﻬﺎ اﻵﻟﻬﺔ اﻟﻮﺛﻨﻴﺔ ﻣﻊ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ املﻔﺎﻫﻴﻢ املﺠ ﱠﺮدة ﺻﻌﺒﺔ اﻹدراك .وﰲ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻟﺘﻨﺰﻳﻪ اﻟﻮاﺣﺪ املﻘﺪﱠس واملﺘﺼﻒ ﺑﺎﻟﻜﻤﺎل ﻋﻦ دﻧﺲ املﻮﺟﻮدات اﻷدﻧﻰ أﺿﺎف ﺑﺮوﻛﻠﻴﻮس ﻋﺪة ﻣﺴﺘﻮﻳﺎت ﺑﻴﻨﻴﺔ ﺟﺪﻳﺪة ﻟﻠﺤﻘﻴﻘﺔ ﻟﺼﻮرة ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻌﻘﺪة ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻪ اﻟﻜﻔﺎﻳﺔ .وﻗﺪ ﺟُ ِﻤ َﻊ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﺑﺘﻜﺎراﺗﻪ ﰲ ﺛﻼﺛﻴﺎت ،وﻫﻮ ﻣﺎ أﻋﻄﻰ املﺴﻴﺤﻴني اﻧﻄﺒﺎﻋً ﺎ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﺘﺤﺪث ً ﻓﻌﻼ ﻋﻦ اﻟﺜﺎﻟﻮث املﻘﺪس. 400
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
ورﻏﻢ أن اﻟﺼﻮرة اﻟﻬﺮﻣﻴﺔ اﻟﺘﻲ رﺳﻤﻬﺎ ﺑﺮوﻛﻠﻴﻮس ﻋﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺗﻌﻮد إﱃ أﻓﻠﻮﻃني ،ﻛﺎن ﻣﺬﻫﺒﻪ ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻳﺪﻳﻦ ﺑﻘﺪر أﻛﱪ ﻹﻣﺒﻠﻴﻜﻮس واﻟﻄﻘﻮس اﻟﻮاردة ﰲ »اﻟﻜﻬﻨﺔ اﻟﻜﻠﺪاﻧﻴﻮن«. وﻗﺪ اﺳﺘﺒﺪﻟﺖ رؤى أﻓﻠﻮﻃني اﻟ ﱡﺮوﺣﻴﺔ اﻟﺴﻠﺒﻴﺔ ﻟﻠﻮاﺣﺪ ﺑﻤﺤﺎوﻟﺔ إﻳﺠﺎﺑﻴﺔ ﻻﺳﺘﻐﻼل اﻟﺮواﺑﻂ اﻟﺨﻔﻴﺔ ﺑني ﻣﺴﺘﻮﻳﺎت اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ وﻛﻞ ﻣﺎ ﻓﻴﻬﺎ .ﺑﺎﺧﺘﺼﺎر ﻛﺎن ﺑﺮوﻛﻠﻴﻮس ﺳﺎﺣ ًﺮا ،وﻛﺎن ﻳﺆﻣﻦ ﺑﺠﻤﻴﻊ أﻧﻮاع اﻟﻄﻘﻮس اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻀﻤﱠ ﻦ اﺳﺘﺨﺪام اﻷﻋﺸﺎب واﻷﺣﺠﺎر واﻟﺘﻌﺎوﻳﺬ ﻻﺳﺘﺤﻀﺎر اﻵﻟﻬﺔ ،ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﺆﻣﻦ ﺑﺎﻟﺘﻨﺎﻧني وﻋﺮاﺋﺲ اﻟﺒﺤﺮ ،وﺑﺄن أوﺛﺎن اﻵﻟﻬﺔ ﻗﺪ ﺗﺘﺤﺮك ﻋﻨﺪ ﻗﻮل اﻟﻜﻠﻤﺎت املﻨﺎﺳﺒﺔ. ﻟﻘﺪ ﱠ ﺗﻐريت املﻴﻮل اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ اﻷوﱃ ﰲ أﺛﻴﻨﺎ ﻛﺜريًا ﻣﻨﺬ اﻟﻌﺼﻮر اﻷوﱃ .ﻓﺄﻳﻦ ﻛﺎن َ َ ً ورﺛﺔ أﻧﺎﻛﺴﺎﺟﻮراس وﺑﺮﻳﻜﻠﻴﺲ اﻟﻠﺬﻳْﻦ ﺣﺎرﺑﺎ املﻌﺘﻘﺪات اﻟﺨﺮاﻓﻴﺔ وﺑﺤَ ﺜﺎ ﺑﺪﻻ ﻣﻨﻬﺎ ﻋﻦ اﻟﺘﻔﺴريات اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻟﻠﻤﻌﺠﺰات اﻹﻟﻬﻴﺔ؟ وأﻳﻦ ﻛﺎن ورﺛﺔ ﺑﺮوﺗﺎﺟﻮراس اﻟﺬي ﻗﺎل إﻧﻪ ﻟﻢ ً ﻏﻤﻮﺿﺎ ﻣﻦ أن ﻳﻔﻬﻤﻬﺎ اﻹﻧﺴﺎن؟ وأﻳﻦ ﻳﻌﺮف ﺷﻴﺌًﺎ ﻋﻦ اﻵﻟﻬﺔ ﻷن ﻫﺬه اﻷﻣﻮر ﻛﺎﻧﺖ أﺷﺪ ﻛﺎن ورﺛﺔ ﺳﻘﺮاط اﻟﺬي ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻴﺘﺤﺪث إﱃ ﺗﻤﺜﺎل إﻻ إذا ﻛﺎن ﺷﺎرد اﻟﺬﻫﻦ؟ ﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ ﻧﻮع آﺧﺮ .رﺑﻤﺎ ﻛﺎن ﻳَﻨ ْ ِﻈ ُﻢ أروع اﻷﺑﻴﺎت ﰲ ﴍح أن ﺑﺮوﻛﻠﻴﻮس ﻛﺎن ﻣﺼﺎﺑًﺎ ﺑﺠﻨﻮن ﻣﻦ ٍ أﻋﻤﺎل أﻓﻼﻃﻮن وأرﺳﻄﻮ ،ورﺑﻤﺎ ﻛﺎن ﻣﺠﺘﻬﺪًا ﰲ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﻓﺮوع املﻌﺮﻓﺔ؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺘﺐ ﻣﺆﻟﻔﺎت ﰲ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت واﻟﻔﻠﻚ واﻟﻄﺒﻴﻌﺔ واﻟﻨﻘﺪ اﻷدﺑﻲ ،وﻟﻜﻦ اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺬي ﻛﺎن أﺷﺪ رﻏﺒﺔ ﰲ ﺗﻌﻠﻤﻪ ﻫﻮ اﻟﺨﻼص .ﻟﻘﺪ ﻛﺎن ﻫﺪﻓﻪ اﻷﺳﻤﻰ ﻫﻮ ﺑﻨﺎء ﺟﴪ ﺑني اﻵﻟﻬﺔ اﻟﻨﺎﻇﺮة إﱃ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﱠ ﺗﺘﺤﻘﻖ ﺑﺸﻜﻞ أﻓﻀﻞ ﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﺴﺤﺮ واﻟﺪﻳﻦ. واﻷرواح اﻟﻨﺎﻇﺮة ﻣﻨﻪ ،وﻫﻲ ﻣﻬﻤﺔ ﻛﺎﻧﺖ وﻟﻢ ﺗَﺘَﻌَ ﱠﺪ وﻇﻴﻔﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺣﻴﻨﺌ ٍﺬ ﺗﻔﺴري اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ اﻟ ﱡﺮوﺣﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗَﻮ ﱠ َﺻ َﻞ اﻟﻨﺎس إﻟﻴﻬﺎ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ وﺳﺎﺋﻞ أﺧﺮى. وﻗﺪ ﺗﻌﺎﻣﻞ ﺑﺮوﻛﻠﻴﻮس ﻣﻊ اﻟﻔﺮﺿﻴﺎت اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻟﻨﻈﺮﻳﺘﻪ ﰲ اﻟﻼﻫﻮت ﻛﻤﺎ ﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﻣ َُﺴ ﱠﻠﻤَ ٍ ﺎت ﻻ ﺗﻘﺒﻞ املﻨﺎﻗﺸﺔ ،ﻣَ ﺜَﻠُﻬَ ﺎ ﻛﻤَ ﺜ َ ِﻞ ﻣ َُﺴ ﱠﻠﻤَ ﺎت ﻧﻈﺮﻳﺔ إﻗﻠﻴﺪس .وﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻫﺬا ﺑﺴﺒﺐ أﻧﻬﺎ ﺑﺪَﻫﻴﺔ ﻣﺜﻞ ﻣُﺴ ﱠﻠﻤﺎت إﻗﻠﻴﺪس اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮل إن »اﻟﻜﻞ أﻛﱪ ﻣﻦ اﻟﺠﺰء« ﺑﻞ ﻷﻧﻬﺎ ﺟﺎءت ﺑﺈﻳﻌﺎز ﻣﻦ اﻟﺴﻠﻄﺔ املﻘﺪﺳﺔ أي ﺳﻠﻄﺔ أﻓﻼﻃﻮن وأﻓﻠﻮﻃني و»اﻟﻜﻬﻨﺔ اﻟﻜﻠﺪاﻧﻴﻮن« .ﻟﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ أﻋﻤﺎل ﺑﺮوﻛﻠﻴﻮس اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﻣﺤﺎوﻻت ﻟﴩح ﻣﺎ ﺟﺎء ﰲ اﻟﻨﺼﻮص املﻘﺪﺳﺔ ،وﰲ ذﻟﻚ ﻗﺎل أﺣﺪ اﻟﺸﺎرﺣني املﻌﺎﴏﻳﻦ إن ﻧﻈﺎم ﺑﺮوﻛﻠﻴﻮس »ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ِﻟﻴُﻮ َﻟﺪ ﻟﻮ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻫﻨﺎك دِ ﻳﻦ ﻳﻔﴪه «.وﻻﺳﺘﻜﻤﺎل اﻻﺳﺘﻨﺘﺎﺟﺎت اﻟﺒﺤﺘﺔ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﻪ »أرﻛﺎن اﻟﻼﻫﻮت« ﻛﺘﺐ ﺑﺮوﻛﻠﻴﻮس ً أﻳﻀﺎ ﺗﺮاﻧﻴﻢ ﺗﺸﺒﻪ اﻟﺼﻠﻮات ﺗﻠﺨﺺ ﻣﺎ ﺟﺎء ﻓﻴﻬﺎ ﰲ ﺻﻮرة أﻛﺜﺮ ﺷﻌﺒﻴﺔ ﺣﻴﺚ اﻟﺘﺰم ﺑﺎﻟﺸﻌﺎﺋﺮ واﻟﺼﻠﻮات اﻟﻮﺛﻨﻴﺔ ﰲ وﻗﺖ داﻧﺖ ﻓﻴﻪ اﻹﻣﱪاﻃﻮرﻳﺔ ﺑﺎملﺴﻴﺤﻴﺔ ،وﻫﻮ ﻣﺎ أوﻗﻌﻪ ﰲ املﺸﻜﻼت ﻋﺪة ﻣﺮات. 401
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻟﻘﺪ ﺣَ ﱠﻮ َل إﻣﺒﻠﻴﻜﻮس وﺑﺮوﻛﻠﻴﻮس ﻓﻠﺴﻔﺔ أﻓﻠﻮﻃني إﱃ ﻋﻘﻴﺪة وﺛﻨﻴﺔ ﻛﻤﺎ ﺣَ ﱠﻮ َﻟﻬَ ﺎ ﻓﺮﻓﺮﻳﻮس ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ،ﻓﺘﺤﻮﻟﺖ ﻫﺬه اﻟﻌﻘﻴﺪة ﺑﺎﻟﺘﺒﻌﻴﺔ إﱃ ﻋﻘﻴﺪة ﻣﺴﻴﺤﻴﺔ .وﻗﺪ ﻟﻌﺒﺖ ﺗﻌﺎﻟﻴﻢ ﺑﺮوﻛﻠﻴﻮس دو ًرا ﻣﻬﻤٍّ ﺎ ﰲ ﺗﻄﻮر اﻟﻔﻜﺮ املﺴﻴﺤﻲ ﺑﺴﺒﺐ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺗﺰوﻳﺮ ﺟﺮﻳﺌﺔ ﺑﺎﻟﺪرﺟﺔ اﻷوﱃ .ﻓﻘﺪ ﻛﺘﺐ ﻛﺎﺗﺐ ﻣﺴﻴﺤﻲ ﻣﺠﻬﻮل اﻟﻬﻮﻳﺔ ﻛﺎن ﻋﲆ ﻋﻠﻢ ﺑﺄﻋﻤﺎل ﺑﺮوﻛﻠﻴﻮس ورﺑﻤﺎ ﻛﺎن أﺣﺪ ﺗﻼﻣﻴﺬه ﺑﻀﻌﺔ ﻛﺘﺐ ادﱠﻋَ ﻰ أﻧﻬﺎ ﻟﺪﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس املﺰﻳﻒ وﻫﻮ رﺟﻞ ذُ ِﻛ َﺮ ﰲ اﻹﻧﺠﻴﻞ أﻧﻪ ﱠ ﺗﻨﴫ ﻋﲆ ﻳﺪ اﻟﻘﺪﻳﺲ ﺑﻮﻟﺲ .وﻗﺪ أﻛﺴﺐ ﻫﺬا اﻻدﱢﻋَ ﺎء ﻫﺬه اﻟﻜﺘﺐ وزﻧًﺎ ﻛﺒريًا ﻟﻜﻨﻪ ﻏري ً ﴍﻋﻲ .وﻛﺎﻧﺖ ﺗﻠﻚ ﻋﻘﻴﺪة ﻳﻌﻮد أﺻﻠﻬﺎ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻳﺒﺪو إﱃ املﺴﻴﺢ ﻧﻔﺴﻪ .وﺑﻌﺪ ﺗﺮﺟﻤﺔ ﻫﺬه اﻷﻋﻤﺎل ﻣﻦ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ إﱃ اﻟﻼﺗﻴﻨﻴﺔ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﲆ ﻳﺪ ﻳﻮﻫﺎﻧﺰ ﺳﻜﻮﺗﺲ إرﻳﺠﻴﺎ ،وﻫﻮ ﻋﺎﻟﻢ أﻳﺮﻟﻨﺪي ﻛﺎن ﻣﻦ ﺑني اﻟﻘﻼﺋﻞ ﰲ اﻟﻐﺮب اﻟﻼﺗﻴﻨﻲ اﻟﺬﻳﻦ ﻟﻢ ﻳﺰاﻟﻮا ﻳﻌﺮﻓﻮن اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ، وﻗﺪ ﻛﺘﺐ ﻋﻦ ﻫﺬه اﻷﻋﻤﺎل أﻏﻠﺐ ﻣَ ﻦ ﻛﺎﻧﺖ ﻟﻬﻢ ﻋﻼﻗﺔ ﺑﺎﻟﻼﻫﻮت ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ .وﻗﺪ اﻫﺘﻢ اﻟﻘﺪﻳﺲ ﺗﻮﻣﺎس اﻷﻛﻮﻳﻨﻲ ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﺘﺤﺪﻳﺪ ﺑﻬﺬه اﻷﻋﻤﺎل اﻫﺘﻤﺎﻣً ﺎ ﺷﺪﻳﺪًا .وﺗﻌﻮد ً أﺳﺎﺳﺎ إﱃ »دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس املﺮاﺗﺐ اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ اﻟﻬﺮﻣﻴﺔ اﻟﻮاردة ﰲ أﺷﻌﺎر داﻧﺘﻲ وﻣﻴﻠﺘﻮن املﺰﻳﻒ« اﻟﺬي اﻧﻜﺸﻒ ﺗﺰوﻳ ُﺮه أﺧريًا ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ ،وﻛﺬﻟﻚ ﺣﺎل اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺮﺋﻴﺴﺔ ﰲ اﻟﻼﻫﻮت املﺴﻴﺤﻲ. ﻟﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﻋﻘﻴﺪة ﺑﺮوﻛﻠﻴﻮس اﻟﻮﺛﻨﻴﺔ ﺗﻨﻘﺼﻬﺎ ﺑﻌﺾ اﻟﺘﻐﻴريات ﻗﺒﻞ أن ﻳﻤﻜﻦ اﺳﺘﺨﺪاﻣﻬﺎ ﰲ املﺴﻴﺤﻴﺔ .ورﻏﻢ ذﻟﻚ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ اﻋﱰاﻓﻬﺎ ﺑﺂﻟﻬﺔ ﻋﺪﻳﺪة — ﺑﻞ إن ﺷﺌﺖ ﻓﻘﻞ ﺑﺠﻤﻴﻊ اﻵﻟﻬﺔ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ — ﻣﺸﻜﻠﺔ ﻛﺒرية؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻣﻦ اﻟﺴﻬﻞ اﻋﺘﺒﺎر أن اﻟﻮاﺣﺪ ﻫﻮ ُ ﻓﺎﻟﺘﺴﻠﺴﻞ اﻟﻬﺮﻣﻲ اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻲ اﻟﺠﺪﻳﺪ اﻹﻟﻪ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ،وﻟﻜﻦ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك ﻣﺼﺎﻋﺐ أﺧﺮى. ﻟﻠﻮاﺣﺪ واﻟﻌﻘﻞ واﻟ ﱡﺮوح ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﻳﺒﺪو أﻧﻪ ﺧﺼﺺ ﺟﺰءًا ﻛﺒريًا ﻣﻦ اﻟﻌﻤﻞ ﻟﻠﻌﻘﻞ واﻟ ﱡﺮوح .وﺗﺒﺪو ﻓﻜﺮة أن ﻛﻞ ﻣﺴﺘﻮًى ﺑَﻴﻨ ﱟِﻲ ﻟﻠﺤﻘﻴﻘﺔ »ﻳﻔﻴﺾ« ﻟﻴﻨﺘﺞ املﺴﺘﻮى اﻟﺬي ﻳﻠﻴﻪ ً ﻣﺘﻌﺎرﺿﺔ ﻣﻊ املﻌﺘﻘﺪ املﺴﻴﺤﻲ ﺑﺄن اﻟﺮب )أي اﻟﻮاﺣﺪ( ﻗﺪ ﺧﻠﻖ ﻛﻞ اﻷﺷﻴﺎء ﺑﻨﻔﺴﻪ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻳﻌﻄﻲ دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس املﺰﻳﻒ اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﺒﻴﻨﻴﺔ أدوا ًرا أﻗﻞ أﻫﻤﻴﺔ؛ ﻓﺎﻵﻟﻬﺔ اﻟﺜﺎﻧﻮﻳﺔ ﰲ اﻟﻌﻘﻴﺪة اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل أﺻﺒﺤﺖ اﻵن ﻣﻼﺋﻜﺔ ﺑﻘﺪرات ﻣﺤﺪودة ﺑﺸﻜﻞ أﻛﱪ، ﻛﻤﺎ أﻧﻬﻢ ُﺧﻠ ُِﻘﻮا ﻋﲆ ﻳﺪ اﻟﺮب ﻣﺒﺎﴍة وﻻ ﻳﻘﺪرون ﻋﲆ ﺧﻠﻖ أي ﳾء ﺑﺄﻧﻔﺴﻬﻢ .وﻗﺪ واءم دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس املﺰﻳﻒ اﻟﺒﻨﺎء اﻟﻬﺮﻣﻲ اﻟﺜﻼﺛﻲ ﻟﱪوﻛﻠﻴﻮس ﻟﺘﺤﺪﻳﺪ ﺗﺮﺗﻴﺐ املﺮاﺗﺐ اﻟﺘﻲ ﺗَ ِﲇ ﻣﺮﺗﺒﺔ اﻟﺮب ،وﺗﺘﻜﻮن ﻛﻞ ﻣﺮﺗﺒﺔ ﻣﻨﻬﺎ ﻣﻦ ِ ﺛﻼث ﻣﺠﻤﻮﻋﺎت ﺛﻼﺛﻴﺔ .وﻗﺪ ﻛﺎن ﻫﻨﺎك ﺗﺮﺗﻴﺐ ﰲ اﻟﺴﻤﺎء وآﺧﺮ ﻋﲆ اﻷرض .وﺗﻀﻤﻦ اﻟﺘﺴﻠﺴﻞ اﻟﻬﺮﻣﻲ اﻟﺴﻤﺎوي ﺳرياﻓﻴﻢ وﺗﺸريوﺑﻴﻢ وﺛﺮوﻧﺰ وﻣﻨﻄﻖ اﻟﻨﻔﻮذ واﻟﻘﻮى واﻟﺴﻠﻄﺎت واﻹﻣﺎرات وﻛﺒﺎر املﻼﺋﻜﺔ واملﻼﺋﻜﺔ ،أﻣﺎ اﻟﻬﺮم اﻷرﴈ اﻟﺬي ﻳﱰأﺳﻪ املﺴﻴﺢ ﻓﻴﺸﻤﻞ ﻣﻨﺎﺻﺐ اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ. 402
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
ﻟﻘﺪ أدﻫﺶ ﻣﺎ ﻗﺎﻟﻪ دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس املﺰﻳﻒ ﻋﻦ ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﺮب ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻼﻫﻮت املﺘﺄﺧﺮﻳﻦ ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﺨﺼﻮص؛ إذ ﻗﺪم ٍّ ﺣﻼ ﻣﻌﻘﺪًا ملﺸﻜﻠﺔ وﺻﻒ ﻛﺎﺋﻦ ﻣﻦ املﻔﱰض أﻧﻪ ﻳﺘﺠﺎوز ﺣﺪود َ َ »اﻟﺨ ﱢري« اﻟﻔﻬﻢ واﻹدراك .وﻗﺪ أ ﱠﻛﺪت اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ اﻟﻮﺛﻨﻴﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة أن ﺻﻔﺎت ﻣﺜﻞ و»اﻟﺤﻜﻴﻢ« ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﺳﺘﺨﺪاﻣُﻬﺎ ﻟﻮﺻﻒ اﻟﻮاﺣﺪ اﻟﺬي ﻻ ﻳﻮﺻﻒ ﺑﻞ ﻟﻮﺻﻒ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻷدﻧﻰ ﻣﻨﻪ ﰲ اﻟﺘﺴﻠﺴﻞ اﻟﻬﺮﻣﻲ ﻟﻠﺤﻘﻴﻘﺔ ﻓﻘﻂ .وﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أن ﻫﺬا ﻟﻢ ﻳﺘﻮاﻓﻖ ﻣﻊ اﻟﻌﻘﻴﺪة املﺴﻴﺤﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮل إن اﻟﺮب ﻧﻔﺴﻪ َﺧ ﱢريٌ وﺣﻜﻴﻢ .وﻛﺎن رد دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس املﺰﻳﻒ أﻧﻪ ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن اﻟﺮب ﻻ ﻳﻤﻜﻦ وﺻﻔﻪ َ ﺑﺎﻟﺨ ﱢري أو اﻟﺤﻜﻴﻢ ﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل ﻣﻊ اﻟﺒﴩ، ً اﻧﻄﻼﻗﺎ ﻣﻦ أﻧﻪ ﻫﻮ ﺧﺎﻟﻖ ﻫﺬه ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻤﻜﻦ إﻃﻼق وﺻﻒ ﺧﺎص ﻣﻦ اﻟﺤﻜﻤﺔ واﻟﺨري ﻋﻠﻴﻪ؛ ً وﻃﺒﻘﺎ ﻟﻬﺬه اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﻓﺄﻳﺔ ﺻﻔﺔ إﻳﺠﺎﺑﻴﺔ ﺗﺘﺠﺴﺪ ﰲ اﻟﺨﻠﻖ ﺑﺄي ﺷﻜﻞ اﻟﺼﻔﺎت ﰲ اﻟﺒﴩ. ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻨﻄﺒﻖ ﻋﲆ اﻟﺨﺎﻟﻖ ﻧﻔﺴﻪ )ﴍﻳﻄﺔ أن ﺗﺘﻔﻖ ﻣﻊ ﻃﺒﻴﻌﺘﻪ ﻏري املﺎدﻳﺔ ،ﻓﻼ ﻳﻤﻜﻦ وﺻﻔﻪ ﺑﺎﻟﺒﺪاﻧﺔ أو أن ﻧﻘﻮل إن ﻋﻴﻨﻪ زرﻗﺎء ً ﻣﺜﻼ( .وﺑﺎﻟﻄﺒﻊ ﺳﻴﻜﻮن ﺧري اﻟﺒﴩ وﺣﻜﻤﺘﻬﻢ ﻧﺎﻗﺼني ﻣﻌﻴﺒني ﻣﺎ داﻣﺖ اﻟﺴﻤﻮات واﻷرض ،وﻧﺤﻦ ﻻ ﻧﻌﺮف إﻻ ﻫﺬه اﻟﺼﻮر اﻟﻨﺎﻗﺼﺔ اﻟﺘﻲ ﺗُﻌﻄﻲ ﻣﻌﻨًﻰ ﻟﻠﻤﺼﻄﻠﺤﺎت َ »ﺧ ﱢري« و»ﺣﻜﻴﻢ« اﻟﺘﻲ ﻧﺴﺘﺨﺪﻣﻬﺎ .وﻟﺬﻟﻚ ﻟﻠﺪﻻﻟﺔ ﻋﲆ أن ﻛﺮم اﻟﺮب وﺣﻜﻤﺘﻪ أﻛﱪ ﻣﻦ ﻧﻈريﻳﻬﻤﺎ ﻟﺪى اﻟﺒﴩ ﻳﻘﱰح دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس املﺰﻳﻒ أن ﻧ َ ِﺼ َ ﻒ اﻟﺮب ﺑ »اﻟﺤﻜﻤﺔ املﻄﻠﻘﺔ« و»اﻟﺨري املﻄﻠﻖ« وﻫﻜﺬا. وﺑﺘﺒﻨﱢﻴﻪ ﻓﻜﺮة وﺿﻌﻬﺎ ﺑﺮوﻛﻠﻴﻮس ﰲ اﻷﺳﺎس َﻓ ﱠﺮ َق دﻳﻮﺟني املﺰﻳﻒ ﺑني اﻟﻄﺮق اﻹﻳﺠﺎﺑﻴﺔ واﻟﺴﻠﺒﻴﺔ ملﻌﺮﻓﺔ اﻟﺮب .ﻓﺎﻟﻄﺮﻳﻘﺔ املﺬﻛﻮرة أﻋﻼه واﻟﺘﻲ ﺗﻘﴤ ﺑﺎﻻﻧﻄﻼق ﻣﻦ اﻟﻘﻴﻢ املﻌﺮوﻓﺔ ﰲ اﻟﺨﻠﻖ وإﺛﺒﺎت اﻟﺼﻮر اﻟﻜﺎﻣﻠﺔ ﻣﻨﻬﺎ ﻟﻠﺮب ﻫﻲ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻹﻳﺠﺎﺑﻴﺔ ﻟﺘﻜﻮﻳﻦ ﺻﻮرة ﻋﻨﻪ .وﻟﻬﺬه اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ أﻏﺮاﺿﻬﺎ ،وﻟﻜﻦ ﺛَﻤﱠ ﺔ ﻃﺮﻳﻘﺔ أﺧﺮى وﻫﻲ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺴﻠﺒﻴﺔ )ﻛﻤﺎ ﺳﻤﱠ ﺎﻫﺎ ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻼﻫﻮت اﻟﻼﺗﻴﻨﻴﻮن ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪُ( واﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻘﺮب اﻹﻧﺴﺎن ﻣﻦ اﻟﺮب ﺑﺪرﺟﺔ أﻛﱪ .وﻫﻲ ﺗﻌﻨﻲ اﺳﺘﺒﻌﺎد ﻛﻞ املﻔﺎﻫﻴﻢ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ ﻣﻦ ﻓﻜﺮﺗﻨﺎ ﻋﻦ اﻟﺮب ،ﻓﻠﻨﺴﺘﺒﻌﺪ ً ﻣﺜﻼ ﻓﻜﺮة املﺤﺪودﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻨﻄﺒﻖ ﻋﲆ ﻛﻞ املﺨﻠﻮﻗﺎت ﻓﻴﺘﺒﻘﻰ اﻧﻌﺪاﻣﻬﺎ أو اﻟﻼﻣﺤﺪودﻳﺔ واﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ ﻋﻨﺪﻫﺎ أن ﻧﻨﺴﺒﻬﺎ إﱃ اﻟﺮب .ﻓﺼﺤﻴﺢ أﻧﻨﺎ ﻻ ﻧﺪرك ٍّ ﺣﻘﺎ ﻣﻌﻨﻰ اﻟﻼﻣﺤﺪودﻳﺔ، وﻟﻜﻨﻨﺎ ﻧﻌﺮف ﻋﻜﺴﻬﺎ ﺗﻤﺎم املﻌﺮﻓﺔ ،ﻓﻨﺤﻦ ﻣﺤﺎﻃﻮن ﺑﺼﻮر املﺤﺪودﻳﺔ ﻛﺎﻟﻔﻨﺎء واﻟﻨﻘﺺ وﻋﺪم اﻟﻜﻤﺎل .وﻧﺤﻦ ﺑﺬﻟﻚ ﻧﺘﻌﻠﻢ ﺷﻴﺌًﺎ ﻋﻦ اﻟﺮب ﻣﻦ ﺧﻼل ﻣﻌﺮﻓﺔ أن ﻻ ﺻﻔﺔ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﺼﻔﺎت ﺗﻨﻄﺒﻖ ﻋﻠﻴﻪ .وﻳﻘﻮل دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس املﺰﻳﻒ إﻧﻪ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﺮب ﺑﺸﻜﻞ أﻓﻀﻞ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ »ﻧﻔﻲ ﻛﻞ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﻜﺎﺋﻨﺔ أﻣﺎﻣﻨﺎ أو اﺳﺘﺒﻌﺎدﻫﺎ« ،واﻟﻬﺪف ﻣﻦ ذﻟﻚ ﻫﻮ أن ﻧﻨﻐﻤﺲ ﰲ »ﻇﻼم ﻛﺎﻣﻞ« ﻧﺘﺠﺮد ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﻃﺮق ﺗﻔﻜريﻧﺎ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ وﻧﺤﺎول أن ﻧﺘﺠﺎوزﻫﺎ إﱃ 403
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻣﺎ وراءﻫﺎ .وﺳﻴﺠﻌﻠﻨﺎ ﻫﺬا اﻟﺤﺮﻣﺎن اﻟﻔﻜﺮي ﰲ ﺣﺎﻟﺔ أﻧﺴﺐ ﻻﺳﺘﻘﺒﺎل اﻟﻨﻮر اﻟ ﱡﺮوﺣﻲ ﻋﻦ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﺮب .وﺗﺘﻨﺎول »ﺳﺤﺎﺑﺔ املﻌﺮﻓﺔ« — وﻫﻲ إﺣﺪى اﻟﺮواﺋﻊ اﻷدﺑﻴﺔ ﻋﻦ اﻟ ﱡﺮوﺣﺎﻧﻴﺎت املﺴﻴﺤﻴﺔ ﻇﻬﺮت ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺮاﺑﻊ ﻋﴩ وﻻ ﻳُﻌ َﺮ ُ ف ﻟﻬﺎ ﻣﺆﻟﻒ ﺣﺘﻰ اﻵن — وﻏريﻫﺎ ﻣﻦ اﻷﻋﻤﺎل املﺸﺎﺑﻬﺔ ﻫﺬه اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺴﻠﺒﻴﺔ ﻟﻠﻮﺻﻮل إﱃ ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﺮب. ﺑﺎﻟﻌﻮدة إﱃ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻹﻳﺠﺎﺑﻴﺔ ﻟﻠﻤﻌﺮﻓﺔ واﻟﺘﻲ ﻳ َ ُﻮﺻﻒ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺮب ﺑ »اﻟﺨري املﻄﻠﻖ« و»اﻟﺤﻜﻤﺔ املﻄﻠﻘﺔ« وﻏريﻫﻤﺎ ،ﻗﺪ ﻳﺘﺴﺎءل ﻣﺘﺴﺎ ِﺋ ٌﻞ ﻋﻦ ﻛﻴﻔﻴﺔ ﺗﺠﻨﱡﺐ دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس املﺰﻳﻒ وﺻﻔﻪ ﺑ »اﻟﴩ املﻄﻠﻖ« ﻛﺬﻟﻚ .ﻓﺈن ﻛﺎن اﻟﺮب ﻳﺘﺼﻒ ﺑﺎﻟﺨري املﻄﻠﻖ ﻷﻧﻪ ﺧﻠﻖ اﻷﺧﻴﺎرَ ،ﻓ ِﻠ َﻢ ﻻ ﻳﺘﺼﻒ ﺑﺎﻟﴩ املﻄﻠﻖ ﻷﻧﻪ ﺧﻠﻖ اﻷﴍار؟ وﻟﺘﺠﻨﱡﺐ ﻫﺬه املﺸﻜﻠﺔ اﺳﺘﺨﺪم دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس املﺰﻳﻒ ﻓﻜﺮة أﻓﻠﻮﻃني أن »اﻟﴩ« ﻻ ﻳﻌﻨﻲ إﻻ اﻟﺒﻌﺪ ﻋﻦ اﻟﻮاﺣﺪ ،ﻓﻬﻮ ﻟﻴﺲ ﻣﻮﺟﻮدًا ﻛﺼﻔﺔ ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ وإﻧﻤﺎ ﻫﻮ اﻧﻌﺪام اﻟﺨري؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﻤﻦ اﻟﺨﻄﺄ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ أن ﻧﻈﻦ أن اﻟﴩ ﺟﺰء ﺳﺒﺐ ﻟﻮﺻﻒ اﻟﺨﺎﻟﻖ ﺑ »اﻟﴩ املﻄﻠﻖ« .وﻗﺪ اﺗﻔﻖ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﻣﻦ اﻟﺨﻠﻖ؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﻤﺎ ﻣﻦ ٍ املﺴﻴﺤﻴني ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﻣﻊ ﻫﺬا املﺬﻫﺐ ،ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻓﻌﻞ اﻟﻘﺪﻳﺲ أوﺟﺴﺘني وآﺧﺮون ﻣﺜﻠﻪ ﻣﻤﻦ ﺗﺄﺛﺮوا ﺑﺄﻓﻠﻮﻃني ﺣﺘﻰ ﻗﺒﻞ ﻇﻬﻮر دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس املﺰﻳﻒ. ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن ﺗﻨﺎول دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس املﺰﻳﻒ ﻟﻔﻜﺮة اﻟﴩ ﻛﺎن إﺳﻬﺎﻣً ﺎ َ ﻻﻗﻰ ﺗﺮﺣﺎﺑًﺎ ﻛﺒريًا ﰲ اﻟﻼﻫﻮت املﺴﻴﺤﻲ ﻓﻘﺪ ﻧﺤﺎ إﱃ اﻟﻬﺮﻃﻘﺔ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ،ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻳﺤﺎول ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل اﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ واﺣ ٍﺪ ﻻ ﻳﻨﻘﺴﻢ ﻓﻴﻤﺎ وراء اﻟﺜﺎﻟﻮث املﻘﺪﱠس املﻜﻮﱠن ﻣﻦ اﻷب واﻻﺑﻦ واﻟ ﱡﺮوح ُ اﻟﻘﺪُس .وﻗﺪ أﻓﴣ ﻫﺬا اﻟﻌﺒﺚ ﺑﺎﻟﺤﺴﺎﺑﺎت اﻟﻼﻫﻮﺗﻴﺔ إﱃ ﻣﻨﻄﻘﺔ ﺧﻄﺮة؛ إذ إن ﺛﻼﺛﺔ أﺷﺨﺎص ﰲ واﺣﺪ ﻫﻲ اﻟﺜﺎﻟﻮث ،أﻣﺎ ﺛﻼﺛﺔ أﺷﺨﺎص ﺑﺠﺎﻧﺐ اﻟﻮاﺣﺪ ﻓﻬﻲ ﻫﺮﻃﻘﺔ ﻗﻄﻌً ﺎ .ﻟﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﻗﻀﻴﺔ اﻟﺨﻠﻖ اﻹﻟﻬﻲ ﻗﻀﻴﺔ أﺧﺮى ﻗﺎدت ﻓﻴﻬﺎ روح اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس املﺰﻳﻒ إﱃ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﻀﻼل .ﻓﺮﻏﻢ أﻧﻪ ﺟ ﱠﺮد اﻟﻌﻘﻞ واﻟﺮوح ﻣﻦ ﻗﺪرﺗﻴﻬﻤﺎ ﻋﲆ اﻟﺨﻠﻖ وﺟﻌﻠﻬﻤﺎ ﰲ ﻳﺪ اﻟﺮب وﺣﺪه ،ﻓﻠﻢ ﻳﺰل دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس املﺰﻳﻒ ﻳﺠﻌﻞ اﻷﺣﺪاق اﻟﻮاردة ﰲ ﺳﻔﺮ اﻟﺘﻜﻮﻳﻦ ﺗﺒﺪو وﻛﺄﻧﻬﺎ ﻋﻤﻠﻴﺔ »اﻟﻔﻴﺾ« اﻟﺘﻠﻘﺎﺋﻴﺔ ﻟﺪى اﻟﻮاﺣﺪ اﻟﺬي ﻗﺎل ﺑﻪ أﻓﻠﻮﻃني. وﻳﺮى أﻓﻠﻮﻃني أن اﻟﺨﻠﻖ ﻳﺤﺪُث ﻷن ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﻮاﺣﺪ ﺷﺪﻳﺪة اﻟﻌﻈﻤﺔ ﻟﺪرﺟﺔ أﻧﻬﺎ ﺗﺆﺛﱢﺮ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻳﻘﻊ ﺗﺤﺘﻬﺎ ﻣﻦ ﻣﺮاﺗِﺐَ ﰲ ُﺳ ﱠﻠ ِﻢ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ .وﻫﺬا ﻳﺠﻌﻞ اﻷﻣﺮ ﻛﻠﻪ ﻳﺒﺪو ﺷﺪﻳﺪ اﻟﺘﺠ ﱡﺮد وﻻ ﻳﻌﺪو ﻣﺠﺮد ﻗﻄﺮة ﰲ ﺑﺤﺮ ﻋﻤﻴﻖ .أﻣﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻌﻘﻴﺪة املﺴﻴﺤﻴﺔ اﻷرﺛﻮذوﻛﺴﻴﺔ ﻓﺈن اﻟﺨﻠﻖ ﻛﺎن ً ﻋﻤﻼ إرادﻳٍّﺎ ﺗﻄﻮﱡﻋﻴٍّﺎ ﻛﺎن ﻓﻴﻪ اﻟﺮب ﻗﺎد ًرا ﻋﲆ أﻻ ﻳﺨﺘﺎر اﻟﻘﻴﺎم ﺑﻪ ،ﻟﻜﻨﻪ اﺧﺘﺎر ُﻨﺠﺰه ﻟﺤﺴﻦ اﻟﺤﻆ. أن ﻳ ِ ﻛﺎن دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس املﺰﻳﻒ داﺋﻢ اﻻﺗﻔﺎق ﻣﻊ اﻟﻌﻘﻴﺪة املﺴﻴﺤﻴﺔ ﰲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻷﻣﻮر؛ ﻓﻠﻴﺲ ﻫﻨﺎك ﻣﺎ ﻳﺪﻋﻮ ﻟﻠﺸﻚ ﰲ ﺻﺪق إﻳﻤﺎﻧﻪ وﻗﻮﺗﻪ ،وﻟﻜﻦ ﻟﻢ ﻳ َﺰل ﺟﺰء ﻣﻨﻪ ﻳﻌﻴﺶ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ 404
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻲ اﻟﺠﺪﻳﺪ ﺣﻴﺚ و ﱠ ﻇﻒ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻣﻌﺘﻘﺪات اﻟﺪﻳﻦ اﻟﺠﺪﻳﺪ ﻟﺘُﻼﺋﻢ أﻓﻜﺎره اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ رﻏﻢ أﻧﻪ ﻋﲆ اﻷرﺟﺢ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻋﲆ ﻋﻠ ٍﻢ ﺑﺬﻟﻚ ،ﻓﺒﺪون ﺳﻠﻄﺔ ﻋﻤﻠﻪ اﻟﺰاﺋﻔﺔ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻴﻜﻮن ﻟﻪ ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﺘﺄﺛري ﰲ املﺴﻴﺤﻴﺔ ﻛﻤﺎ ﺣﺪث. أﻣﺎ اﻟﻘﺪﻳﺲ أوﺟﺴﺘني ﻓﻌﲆ اﻟﻨﻘﻴﺾ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﰲ ﺣﺎﺟﺔ إﱃ اﺳﻢ ﻣﺴﺘﻌﺎر ﻟﻴﴪب أﻓﻜﺎره إﱃ اﻟﴩﻳﻌﺔ املﺴﻴﺤﻴﺔ ،ﻓﺈﺧﻼﺻﻪ املﻄ َﻠﻖ ﻟﻠﻘﻀﻴﺔ املﺴﻴﺤﻴﺔ ﻳﺘﻀﺢ ﰲ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻛﺘﺒﻪ ً ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ ﺑﻌﺪ ﺗﺤﻮﱡﻟﻪ إﱃ املﺴﻴﺤﻴﺔ ﻋﺎم ٣٨٦م ،ﻓﻜﺘﺐ ﻳﻘﻮل إن اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ »ﻳﻘﻮﻟﻮن أﺷﻴﺎءَ ﻋﺠﺐَ ﺑﺎﻟﻜﺜري ﻓﻴﻤﺎ ﻟﻜﻨﻬﺎ ﰲ ذاﺗﻬﺎ ﻟﻴﺴﺖ ذات ﻗﻴﻤﺔ ﰲ اﻋﺘﻘﺎدي «.ورﻏﻢ أن أوﺟﺴﺘني ﻗﺪ أ ُ ِ اﻋﺘﻘﺪ أﻧﻪ ﻓﻠﺴﻔﺔ أﻓﻼﻃﻮن ﻓﻬﻮ ﻟﻢ ﻳﺤﺎول أن ﻳﻤﺰج ﺑني ﻣﺬﻫﺐ أﻓﻼﻃﻮن واملﺴﻴﺤﻴﺔ ﻛﻤﺎ ﻓﻌﻞ دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس املﺰﻳﻒ ،ﻓﻠﻢ ﻳﻨ ُ ﻈﺮ أوﺟﺴﺘني ملﺬﻫﺐ أﻓﻼﻃﻮن ﻋﲆ أﻧﻪ ﻣﺼﺪر ﻟﻠﺤﻜﻤﺔ ً ﱢ ٍ ﻛﺎﻣﻠﺔ .وﻗﺪ ﺷﻜﺮ ﺟﺰﺋﻴﺔ ﻏري ﻟﻴﻮﻓﻘﻪ ﻣﻌﻪ ،ﺑﻞ اﻋﺘﱪه ﻧﺒﻮء ًة ﻳﻨﺎﻓﺲ اﻟﺪﻳﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ً أﻋﻤﺎﻻ أوﺟﺴﺘني اﻟﻌﻨﺎﻳﺔ اﻹﻟﻬﻴﺔ ﻋﲆ ﻫﺪاﻳﺘﻪ ﻟ »اﻟﻜﺘﺐ اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ« )اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻷﻓﻠﻮﻃني وﻓﺮﻓﺮﻳﻮس( إذ ﻗﺎل إﻧﻬﺎ ﻋ ﱠﻠﻤﺘﻪ »ﻛﻴﻒ ﻳ َُﻔ ﱢﺮ ُق ﺑني ﻣﻦ ﻳﻌﺮﻓﻮن اﻟﻬﺪف ﻟﻜﻦ ﻻ ﻳﻌﺮﻓﻮن اﻟﻄﺮﻳﻖ إﻟﻴﻪ وﺑني ﻣﻦ ﻳﻌﺮﻓﻮن اﻟﺴﺒﻴﻞ املﺆدي إﱃ ﺟﻨﺎت اﻟﻨﻌﻴﻢ«. ﻋﻨﺪﻣﺎ رأى أوﺟﺴﺘني ﺗﻌﺎ ُر ً ﺿﺎ ﺑني أﻓﻼﻃﻮن واﻟﺮب ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﺪﻳﻪ َﺷ ﱞﻚ إﱃ أﻳﻬﻤﺎ ﻳﻜﻮن وﻻؤه .وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﻘﺪ ﻛﺘﺐ» :ﻟﻴﺲ ﻫﻨﺎك ﻣﻦ ﻫﻢ أﻗﺮب إﻟﻴﻨﺎ ﻣﻦ اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴني«. وأوﺿﺢ أﻧﻪ »ﻟﻮ ﻋﺎد ﻫﺆﻻء إﱃ اﻟﺤﻴﺎة ﻣﺮة أﺧﺮى ﻷﺻﺒﺤﻮا ﻣﺴﻴﺤﻴني ﻣﻊ اﺧﺘﻼف ﰲ ﺑﻌﺾ اﻟﻜﻠﻤﺎت واﻟﻌﺒﺎرات «.وﻗﺪ ﻛﺎن ﺗﺼﻨﻴﻒ أوﺟﺴﺘني — وﻫﻮ أﻛﱪ املﻔﻜﺮﻳﻦ املﺴﻴﺤﻴني اﻷواﺋﻞ — ﻷﻓﻼﻃﻮن وﺗﻠﻤﻴﺬه أرﺳﻄﻮ ﻋﲆ أﻧﻬﻤﺎ أﻋﻈﻢ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻹﻏﺮﻳﻖ أﺣﺪ اﻷﺳﺒﺎب ﰲ ﻋﻠﻮ ﻣﻜﺎﻧﺘﻴﻬﻤﺎ ﰲ اﻟﻐﺮب ﻣﻨﺬ ذﻟﻚ اﻟﺤني. ُوﻟِ َﺪ أوﺟﺴﺘني ﰲ ﺷﻤﺎل أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﻋﺎم ٣٥٤م؛ أي ﻗﺒﻞ ﺣﻮاﱄ ﺳﺘني ﻋﺎﻣً ﺎ ﻣﻦ ﻣﻮﻟﺪ وأب وﺛﻨﻲ .وﻗﺪ وﺻﻒ ﻃﺮﻳﻘﻪ املﺘﻘﻠﺐ ﻣﻦ اﻟﻐﺮور إﱃ اﻻﻧﺤﺮاف ﺑﺮوﻛﻠﻴﻮس ،ﻷ ﱟم ﻣﺴﻴﺤﻴﺔ ٍ ً دارﺳﺎ ﻟﻠﺒﻼﻏﺔ وﻣﻌ ﱢﻠﻤً ﺎ ﺛﻢ إﱃ اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ وﻣﻨﻬﺎ إﱃ املﺴﻴﺤﻴﺔ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﻪ »اﻻﻋﱰاﻓﺎت« .وﻟﻜﻮﻧﻪ ﻟﻬﺎ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﻗﺮأ أوﺟﺴﺘني ﺑﻌﺾ اﻟﺘﻔﺴريات اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ ﰲ أﻋﻤﺎل ﺷﻴﴩون اﻟﺬي ﺗﺄﺛﱠﺮ أوﺟﺴﺘني ﻣﺜﻠﻪ ﺑﻤﺬﻫﺐ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ اﻟﺬي َد ﱠرﺳﻪ أرﺳﻴﺴﻴﻼس وﻛﺎرﻧﻴﺎدس اﻟﻠﺬان َ ﻗﺎﻻ إﻧﻪ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻣﻌﺮﻓﺔ أيﱢ ﳾء ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺆ ﱠﻛﺪ .وﺑﻌﺪ اﻋﺘﻨﺎﻗﻪ املﺴﻴﺤﻴﺔ وﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﺄﻛﺪ ﻣﻦ أن اﻟﺮب ﻗﺪ ﻣﻸ ﻋﻘﻠﻪ ﺑﺎﻟﺤﻜﻤﺔ زﻋﻢ أوﺟﺴﺘني أﻧﻪ ﻗﺎدر ﻋﲆ دﺣﺾ ﺣﺠﺞ املﺘﺸﻜﻜني. أﻣﺎ اﻟﺘﺄﺛري اﻷﻛﱪ ﻻﺧﺘﻼﻃﻪ ﺑﺎﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﰲ ﺷﺒﺎﺑﻪ ﻓﻴﺘﻤﺜﻞ ﰲ إﺛﺎرة ﺗﻄ ﱡﻠﻌﺎت ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻟﻴﺘﻤﻜﻦ ﻣﻦ إﺷﺒﺎﻋﻬﺎ ،ﻓﻬﺎ ﻫﻮ ذا ﻳﻘﻮل» :أﻳﺘﻬﺎ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻛﻢ أﺗﻮق إﻟﻴﻚ ﻣﻦ أﻋﻤﺎق ﻓﺆادي!« وﻗﺪ 405
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ً اﺗﺠﺎﻫﺎ ﺑﻌﻴﻨﻪ ﺑﻞ اﺳ َﻊ إﱃ اﻟﺤﻜﻤﺔ ﻋﻤﻞ ﻛﺬﻟﻚ ﺑﻨﺼﻴﺤﺔ ﺷﻴﴩون اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮل» :ﻻ ﺗﺪرس وﺗﻤﺴﻚ ﺑﻬﺎ أﻳﻨﻤﺎ و ُِﺟﺪَت «.ﰲ اﻟﺒﺪاﻳﺔ ﺑﺤﺚ أوﺟﺴﺘني ﻋﻦ اﻟﺤﻜﻤﺔ ﰲ اﻟﻨﺼﻮص املﻘﺪﱠﺳﺔ ً ﻣﻘﺎرﻧﺔ ﺑﺸﻴﴩون ،ﻓﻘﺪ ﻧﻔﺮ ﻏﺮوري اﻟﺰاﺋﻒ ﻣﻦ ﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳﺄﻟﻔﻬﺎ؛ إذ ﺑﺪت ﻟﻪ »ﺑﻼ ﻗﻴﻤﺔ ﻗﻴﻮد اﻹﻧﺠﻴﻞ ﻓﻠﻢ ﻳﺪﺧﻞ إﱃ ﻗﻠﺒﻲ« ،واﺗﱠﺒﻊ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ ذﻟﻚ ﻣﺬﻫﺐ »اﻟﺮﺟﺎل املﻌﺘﺰﻳﻦ ﺑﺤﺪﻳﺜﻬﻢ املﺒﺘﺬل واﻧﺸﻐﺎﻟﻬﻢ ﺑﺎﻟﺪﻧﻴﺎ وﺛﺮﺛﺮﺗﻬﻢ اﻟﺰاﺋﺪة؛ ﻓﻔﻲ أﻓﻮاﻫﻬﻢ ﺗﻜﻤﻦ ﻣﻜﺎﺋﺪ اﻟﺸﻴﻄﺎن «.وﻛﺎن ﻫﺆﻻء ﻣﻦ أﺗﺒﺎع املﺎﻧﻮﻳﺔ ،وﻫﻲ دﻳﺎﻧﺔ اﻋﺘﻨﻘﻬﺎ أوﺟﺴﺘني ﻟﻨﺤﻮ ﻋﻘﺪ ﻣﻦ اﻟﺰﻣﺎن. ﻋﺎش ﻣﺎﻧﻲ — وﻫﻮ ﺣﻜﻴﻢ ﻓﺎرﳼ اﻋﺘﱪ ﻧﻔﺴﻪ رﺳﻮل اﻟﺮب — ﰲ ﺟﻨﻮب ﺑﺎﺑﻞ ﰲ ﻣﻨﺘﺼﻒ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻟﺚ املﻴﻼدي .وﺗﺘﻀﻤﱠ ﻦ دﻳﺎﻧﺘﻪ اﻟﺘﻲ أﻧﺸﺄﻫﺎ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ ﻋﻘﺎﺋﺪ دﻳﺎﻧﺔ اﻟﺰرادﺷﺘﻴﺔ اﻟﻔﺎرﺳﻴﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺪﺛﺖ ﻋﻦ ﻣﻌﺮﻛﺔ أﺑﺪﻳﺔ ﺑني اﻟﺨري واﻟﴩ ،وﻣﻌﺘﻘﺪات ﻣﻦ اﻟﺪﻳﺎﻧﺎت اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ اﻟﻐﺎﻣﻀﺔ ﻣﺜﻞ اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ اﻷورﻓﻴﺔ ﺑﺤﺪﻳﺜﻬﺎ ﻋﻦ اﻟﺘﻄﻬري وﺗﻨﺎﺳﺦ اﻷرواح .وﻛﺎن ﺟﻮﻫﺮ اﻟﻌﻘﻴﺪة املﺎﻧﻮﻳﺔ أن اﻟﺨري واﻟﴩ ﻗﻮﺗﺎن ﻛﺒريﺗﺎن ﰲ ﴏاع ﻣﺘﻜﺎﻓﺊ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ .وﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﻳﻤﻜﻦ اﻋﺘﺒﺎر ﻛﻞ ﳾء ﰲ اﻟﺤﻴﺎة ﺗﺠﺴﻴﺪًا ﻟﻬﺬه املﻌﺮﻛﺔ، ﻓﻌﻮاﻟﻢ اﻟﻨﻮر واﻟ ﱡﺮوح اﻟﺘﻲ ﻳﻤﺜﻠﻬﺎ إﻟﻪ اﻟﺨري ﺗﺸﻦ ﺣﺮﺑًﺎ ﻋﲆ ﻋﻮاﻟﻢ اﻟﻈﻼم واملﺎدة اﻟﺘﻲ ﻳﻤﺜﻠﻬﺎ إﻟﻪ اﻟﴩ .وﻗﺪ ﺧﻠﻖ إﻟﻪ اﻟﴩ اﻷرض ودﻓﻦ أرواﺣﻨﺎ — اﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ أﺷﻌﺔ ﺳﺠﻮن داﺧﻞ أﺟﺴﺎﻣﻨﺎ .وﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻷوﺟﺴﺘني أﺑﺮزت ﻫﺬه اﻟﺼﻮرة وﺟﻮد اﻟﻀﻮء — ﰲ ٍ اﻟﴩ ﺑﺸﻜﻞ أﻓﻀﻞ ﻣﻦ أﻳﺔ ﻧﻈﺮﻳﺔ أﺧﺮى ﺻﺎدﻓﻬﺎ ،ﻓﻘﺪ ﻗﺪﻣﺖ إﺟﺎﺑﺔ ﴏﻳﺤﺔ ﻟﻠُﻐﺰ ﺗَ ْﺮكِ اﻟﺮب ﻟﻠﴩ ﻛﻲ ﻳﻨﺘﴩ ،وﺗﻘﻮل ﻫﺬه اﻹﺟﺎﺑﺔ إن اﻟﺮب ﻻ ﻳﻤﻠﻚ اﻟﻜﺜري ﻟﻴﻔﻌﻠﻪ ﻷﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﺑﺘﻠﻚ اﻟﻘﻮة اﻟﺘﻲ ﻋﺎدة ﻣﺎ ﻳُ َ ﻈﻦ أﻧﻪ ﻋﻠﻴﻬﺎ. وﻟﻢ ﺗﻜﻦ املﺎﻧﻮﻳﺔ ﺑﺄي ﺷﻜﻞ ﻣﻦ اﻷﺷﻜﺎل رﺧﺼﺔ ﻟﻠﻔﺴﻮق ،وﻟﻮ ﺣﺘﻰ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ،ﺑﻞ ﻋﲆ اﻟﻌﻜﺲ ﻛﺎن ﻫﺪﻓﻬﺎ ﺗﻄﻬري اﻟﺮوح ﻣﻦ ﺧﻼل ﺣﻴﺎة زاﻫﺪة وﻃﻌﺎم ﻧﺒﺎﺗﻲ واﻧﻘﻄﺎع ﻋﻦ ﻣﻤﺎرﺳﺔ اﻟﺠﻨﺲ ،ﻓﻜﺎن ﻻ ﺑﺪ ﻣﻦ اﺟﺘﻨﺎب اﻟﺘﻨﺎﺳﻞ ﻷﻧﻪ ﻳﻮﺳﻊ إﻣﱪاﻃﻮرﻳﺔ إﻟﻪ اﻟﴩ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ إﺧﺮاج املﺰﻳﺪ ﻣﻦ اﻷﺟﺴﺎم .وﻛﺎن ﻣﻦ املﻔﱰض أن ﻳُﺬ َﻛﺮ أﺗﺒﺎع ﻣﺎﻧﻲ ﰲ ُزﻣْ َﺮة أﻫﻞ اﻟﺨري واﻟﻨﻮر ﻣﻦ ﺧﻼل ﻗﻤﻊ ﺷﻬﻮاﺗﻬﻢ اﻟﺪﻧﻴﻮﻳﺔ .وﻣﻊ ذﻟﻚ اﻋﺘﱪ أوﺟﺴﺘني َ وﺻﻔﺔ ﻟﻠﺨﻄﻴﺌﺔ ،ﻓﺮﺑﻤﺎ ﺗﻘﺒﱠﻞ ﻫﻮ وأﺻﺪﻗﺎؤه ﻧﺴﺨﺔ ﻣﺮﻧﺔ ﻣﻨﻬﺎ ﻋﲆ ﻏري املﻌﺘﺎد أن املﺎﻧﻮﻳﺔ ﻳﻜﻮن ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺰﻫﺪ واﺟﺒًﺎ ﻋﲆ ﺑﻌﺾ اﻟﻘﺪﻳﺴني ﻣﻦ أﺗﺒﺎﻋﻬﺎ .ورﺑﻤﺎ ﻛﺎن ﺗﺄﻛﻴﺪﻫﺎ ﻋﲆ اﻟﺘﻄﻬري ً ﻣﺠﺎﻻ واﺳﻌً ﺎ ﻻرﺗﻜﺎب اﻟﺨﻄﻴﺌﺔ ﻟﻴﻜﻮن ﻫﻨﺎك ﻣﺎ ﻳُﻄﻬﱠ ﺮ )ﻟﻘﺪ ﻗﺪﻣﺖ املﺎﻧﻮﻳﺔ ﻋﺬ ًرا ﻗﺪ ﺗﺮك ﻣﻨﺎﺳﺒًﺎ ﻟﻠﺨﻄﻴﺌﺔ ﻷﻧﻬﺎ أﺷﺎﻋﺖ أن ﺧﻄﻴﺌﺔ اﻟﺒﴩ ﺗﺤﺪدﻫﺎ اﻟﻨﺠﻮم( .أو رﺑﻤﺎ ﻟﻢ ﺗﻨﺘﴩ املﺎﻧﻮﻳﺔ ﺑﺸﻜﻞ ٍ ﻛﺎف ﻟﺘﻠﻬﻲ أوﺟﺴﺘني ﻋﻦ اﻷﻋﻤﺎل اﻟﺤﻘرية واﻟﺘﺎﻓﻬﺔ .وﻋﲆ أﻳﱠ ِﺔ ﺣﺎل وﺻﻒ ً أوﺟﺴﺘني ﻫﺬه املﺮﺣﻠﺔ ﻣﻦ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﻗﺎﺋﻼ: 406
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
ﻛﻨﺖ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﺗﺨﺒﱡﻂ ﺑني اﻹﻏﺮاء واﻟﻔﺘﻨﺔ وﺑني اﻟﺨﺪاع ،وﻛﺎن ﻟﺪي اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ً ً ﻣﺪرﺳﺎ ﻟﻠﻔﻨﻮن اﻟﺘﻲ ﻳُﺴﻤﱡ ﻮﻧﻬﺎ ﻓﻨﻮﻧًﺎ ﻣﺘﺤﺮر ًة )أي ﻋﻠﻮم ﻓﻌﻼﻧﻴﺔ ﻛﻨﺖ اﻟﺮﻏﺒﺎت، وﴎا ﻛﻨﺖ اﻟﻨﺤﻮ واﻟﺒﻼﻏﺔ واملﻨﻄﻖ واﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت واﻟﻬﻨﺪﺳﺔ واملﻮﺳﻴﻘﻰ واﻟﻔﻠﻚ(ٍّ ، أﻋﺘﻨﻖ دﻳﻨًﺎ ً زاﺋﻔﺎ ﺗﺎﻓﻬً ﺎ ﰲ ﻛﻞ أﻣﻮره .ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ ﻛﻨﺖ أﺳﻌﻰ إﱃ اﻟﺸﻬﺮة وﻣﺠﺪﻫﺎ اﻷﺟﻮف ﺗﻮ ً ﱠاﻗﺎ إﱃ ﺗﺼﻔﻴﻖ اﻟﺠﻤﺎﻫري ،ﺗﻠﻬﻴﻨﻲ اﻟﺤﻤﺎﻗﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﱰدد ﰲ أﻣﺎﻛﻦ ً ﻣﻨﻐﻤﺴﺎ ﰲ اﻟﺸﻬﻮات ﻻ رﻗﻴﺐ ﻋﲇﱠ ،وﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ أﺧﺮى اﻟﱰﻓﻴﻪ اﻟﻌﺎﻣﺔ ،وﻛﻨﺖ ﻛﻨﺖ أﺳﻌﻰ ﻟﺘﻄﻬري ﻧﻔﴘ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﺒﺬاءة. وﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﻐﺮﻗﻪ ﻓﻴﻤﺎ اﻋﺘﱪه ً ﻻﺣﻘﺎ ﺗﺨﺒﱡ ً ﻄﺎ ﰲ املﺎﻧﻮﻳﺔ َﻗ ِﺒ َﻞ أوﺟﺴﺘني أن ﻳ ُِﻨﺰ َل املﺴﻴﺢ ﻣﻨﺰﻟﺔ ً ﻗﺒﻮﻻ ﻓﺎﺗ ًﺮا ،وأدان أن ﻳﻜﻮن اﻟﺮب املﺬﻛﻮر ﰲ اﻟﻌﻬﺪ اﻟﻘﺪﻳﻢ اﻻﺑﻦ ﻹﻟﻪ اﻟﺨري ﰲ املﺎﻧﻮﻳﺔ اﻟﺮب اﻟﴩﻳﺮ ﰲ املﺎﻧﻮﻳﺔ ﻣﺘﺨﻔﻴًﺎ .وﰲ ﺗﻠﻚ اﻷﻳﺎم اﻟﻌﺴرية اﻧﺨﺮط أوﺟﺴﺘني ﰲ ﻋﻠﻢ اﻟﺘﻨﺠﻴﻢ وﻗﺮاءة اﻟﻄﺎﻟﻊ .وﻋﻨﺪﻣﺎ َ آن اﻷوان ﻷوﺟﺴﺘني أن ﻳﺨﺮج ﻋﲆ ﻛﻞ اﻟﺨﺮاﻓﺎت واﻟﺪﻳﻦ املﺰﻳﻒ وَﺟَ َﺪ ﰲ ﺑﻌﺾ ﻧﺼﻮص املﻨﺎﻇﺮات اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻋَ ﺜ َ َﺮ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ ﺧريَ ﻋﻮن ﻟﻪ ،وﺑﺨﺎﺻﺔ اﻟﻨﺼﻮص اﻟﺘﻲ ﺗﺘﺤﺪﱠث ﻋﻦ اﻟﻬﺠﻮم اﻟﺬي ﻛﺎن ﺷﻴﴩون ﻗﺪ ﺷﻨﱠﻪ ﻋﲆ ٍ اﻟﺘﻨﺠﻴﻢ ﻣﻦ ﻗﺒ ُﻞ .وﻟﻜﻦ اﻟﻔﻀﻞ ﻛﻞ اﻟﻔﻀﻞ ﰲ ﺗﺤﺮﻳﺮ ﻋﻘﻞ أوﺟﺴﺘني ﻳﺮﺟﻊ إﱃ اﻟﺮﺳﺎﻟﺔ اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻗﺎدﺗﻪ إﱃ ﻣﺎ ﻫﻮ أﻓﻀﻞ. ﴎ أوﺟﺴﺘني ﺑﺘﺨ ﱡﻠﺼﻪ ﻣﻨﻬﺎ وﻫﻮ ﰲ ﻃﺮﻳﻘﻪ إﱃ اﻟﺘﻌﺎﰲ وﻛﺎن أﻛﺜﺮ املﻌﺘَﻘﺪات اﻟﺘﻲ ُ ﱠ ﻫﻮ املﻌﺘﻘﺪ اﻟﺬي ﻳﻘﻮل إن اﻟﺮب واﻟ ﱡﺮوح ﺷﻴﺌﺎن ﻣﺎ ﱢدﻳﱠﺎن .ﻟﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ املﺎﻧﻮﻳﺔ ﻣﺸﻮﺷﺔ إزاء ﻣﺎ ﻳُﻌَ ﱡﺪ ﻣﺎدﻳٍّﺎ وﻣﺎ ﻻ ﻳُﻌَ ﱡﺪ ﻛﺬﻟﻚ ،ﻓﻤﻦ ﺟﻬﺔ رﻓﻀﺖ اﻷﺷﻜﺎل اﻷﺛﻘﻞ ﻟﻠﻤﺎدة املﺘﻤﺜﻠﺔ ﰲ اﻟﻜﺮة اﻷرﺿﻴﺔ وﺟﺴﻢ اﻹﻧﺴﺎن ،وﻣﻦ ﺟﻬﺔ أﺧﺮى رأت أن اﻟﺮب َ ري واﻟ ﱡﺮوح ﻳﺘﺠﻠﻴﺎن ﰲ اﻟﻨﻮر اﻟﺨ ﱢ َ ُﺨ َ واﻟﻨﺎر ،وﻫﻤﺎ ﻇﺎﻫﺮﺗﺎن ﻣﺎدﻳﺘﺎن ﺑﻼ رﻳﺐ .ﺑﻴﺪ أن املﺎﻧﻮﻳني اﻋﺘﱪوا اﻟ ﱡﺮوحَ ﻧﻮﻋً ﺎ ﻣ َ ﻠﺨ ًﻼ ً ﻣﺨﺘﻠﻔﺎ ﺗﻤﺎم اﻻﺧﺘﻼف ﻋﻨﻬﺎ ،ﺷﺄﻧﻬﻢ ﰲ ذﻟﻚ ﺷﺄن وﺛﺎﻧﻮﻳٍّﺎ ﻣﻦ أﻧﻮاع املﺎدة وﻟﻴﺲ ﺷﻴﺌًﺎ اﻟﺮواﻗﻴني .وﻗﺪ آﻣﻦ ﺑﻌﺾ املﺴﻴﺤﻴني املﺤﺪﺛني اﻟﺬﻳﻦ ﺟﺎءوا ﰲ ﻋﴫ ﻛﺎﻧﺖ ﻋﻘﺎﺋﺪ اﻟﺪﻳﻦ اﻟﺠﺪﻳﺪ ﻓﻴﻪ ﻗﻴﺪ اﻟﺘﻮﻃﻴﺪ ﺑﻤﺜﻞ ﻣﺎ آﻣﻦ ﺑﻪ املﺎﻧﻮﻳﻮن .وﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﻛﺎن ﺗﺮﺗﻠﻴﺎن )ﺣﻮاﱄ — (٢٢٢–١٥٥وﻫﻮ أول ﻋﺎﻟﻢ ﻻﻫﻮت ﻣﺴﻴﺤﻲ ﻳﻜﺘﺐ ﺑﺎﻟﻼﺗﻴﻨﻴﺔ — ﻣﻘﺘﻨﻌً ﺎ ﺑﺎﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺮواﻗﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮل إن اﻟﺮب واﻟ ﱡﺮوح ﻳﺘﻜﻮﻧﺎن ﻣﻦ املﺎدة .وﻣﻦ املﻔﺎرﻗﺔ أن ﺗﺮﺗﻠﻴﺎن ﻧﻔﺴﻪ ﻗﺪ ﻛﺘﺐ إﺣﺪى ﺳﻼﺳﻞ اﻹداﻧﺎت املﻔﺮﻃﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻬﺎﺟﻢ ﺗﻠﻚ اﻻﻗﺘﺒﺎﺳﺎت ﻣﻦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻳﻘﻮل ﻓﻴﻬﺎ: 407
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﻛﻞ املﺤﺎوﻻت ﻹﺧﺮاج دﻳﻦ ﻣﺴﻴﺤﻲ ﻳﺠﻤﻊ ﺑني اﻟﺮواﻗﻴﺔ واﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ واﻟﻜﺘﺎﺑﺎت اﻟﺠﺪﻟﻴﺔ ،ﻓﻨﺤﻦ ﻻ ﻧﺮﻳﺪ أﻳﺔ ﻣﻨﺎﻇﺮات ﻓﻀﻮﻟﻴﺔ ﺑﻌﺪ اﻵن؛ ﻷﻧﻨﺎ ﻧﺘﺒﻊ املﺴﻴﺢ ﻋﻴﴗ ،وﻻ ﻧﺮﻳﺪ ﺗﺤﻘﻴﻘﺎت ﻷﻧﻨﺎ ﻧﻨﻌﻢ ﺑﻨﻌﻤﺔ اﻹﻧﺠﻴﻞ! ﻓﺒﻮﺟﻮد إﻳﻤﺎﻧﻨﺎ ﻻ ﻧﺮﻏﺐ ﰲ ﻣﺰﻳﺪ ﻣﻦ اﻻﻋﺘﻘﺎدات. وﻳﺒﺪو أن ﺗﺮﺗﻠﻴﺎن ﻗﺪ ﻧﴘ ﻣﻦ أﻳﻦ اﺳﺘﻘﻰ ﺑﻌﺾ أﻓﻜﺎره ،إﻻ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻳُ َﺮﺣﱢ ﺐُ ﺑﻨﺴﺐ اﻟﻔﻀﻞ ﻣﺘﻰ ﻛﺎن ﻧﺴﺐ اﻟﻔﻀﻞ واﺟﺒًﺎ .وﻗﺪ أﻗﺮ أن اﻟﻔﻀﻞ ﻛﻞ اﻟﻔﻀﻞ ﻳﺮﺟﻊ إﱃ اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺟﻌﻠﺘﻪ ﻳﺰﻫﺪ ﰲ ﻛﻞ ﻣﻠﺬات اﻟﺤﻴﺎة املﺎدﻳﺔ ﺑﻜﻞ أﺷﻜﺎﻟﻬﺎ. ﻟﻘﺪ أﻗﻨﻌﺘﻪ »ﻣﺆﻟﻔﺎت أﻓﻼﻃﻮن« أن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﰲ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻷﻣﺮ ﻳﺘﻜﻮن ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ ﻣﺎدي وآﺧﺮ روﺣﻲ؛ أي إﻧﻪ ﻻ ﻳﺘﺸﻜﻞ ﻣﻦ اﻟﺨري واﻟﴩ .وﺛﻤﺔ ﻗﻮة واﺣﺪة ﺧﺎرﻗﺔ وﻫﻲ اﻟﺮب اﻟﺬي ﺧﻠﻖ ﻛﻞ ﻣﺎ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻣﻦ أﺷﻴﺎء ﻣﺎدﻳﺔ وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻫﻮ ﺑﺄي ﺣﺎل ﻣﻦ اﻷﺣﻮال ﻣﺎدﻳٍّﺎ. ﱠ ﺗﺘﺠﲆ ﰲ أﻗﻮى ﺻﻮر املﺎدة ،وﻟﻜﻨﻪ ﻛﻤﺎ ﻗﺎل أﻓﻠﻮﻃني ﻫﻮ واﻟﴩ ﻟﻴﺲ ﻗﻮة ﺧﺎرﻗﺔ ﻣﻨﺎﻓﺴﺔ ﻏﻴﺎب ﺧري اﻟﺮب .وﻓﺠﺄة ﺑﺪأ أوﺟﺴﺘني ﻳﻔﻬﻢ ﻛﻞ ﳾء ،وﻗﺪ ﻗﺎل ﰲ ذﻟﻚ: ﰲ ﻃﺮﻳﻘﻬﻢ ملﻌﺮﻓﺔ اﻟﺮب أدرك اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﻮن اﻟﺴﺒﺐ ﰲ ﻧﻈﺎم اﻟﻜﻮن ،وﺗﻌ ﱠﺮﺿﻮا ﻟﻠﻨﻮر اﻟﺬي ﻳَ َﺮو َْن ﺑﻪ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ،وﻋﺎﺷﻮا اﻟﺮﺑﻴﻊ اﻟﺬي ﻓﻴﻪ ﻛﺄس اﻟﺴﻌﺎدة .وﻳﺘﻔﻖ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﺬﻳﻦ ِ ﻳﺤﻤﻠﻮن ذاك املﻔﻬﻮم ﻋﻦ اﻟﺮب ﻋﲆ أﻧﻬﻢ ﰲ ﺗﻨﺎﻏﻢ ﻣﻊ ﻓﻜﺮﺗﻨﺎ ﻋﻨﻪ. ﴍع أوﺟﺴﺘني ﰲ دراﺳﺔ أﻋﻤﺎل أﻓﻠﻮﻃني وﻓﻼﺳﻔﺔ املﺬﻫﺐ اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻲ اﻵﺧﺮﻳﻦ ﰲ أﺛﻨﺎء ﺗﺪرﻳﺴﻪ ﰲ ﻣﻴﻼن وﺣﻀﻮره ﻣﻮاﻋﻆ اﻟﻘﺪﻳﺲ أﻣﱪوز .وﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن ً ﺑﻌﻀﺎ ﻣﻦ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﻳﺤﻤﻠﻬﺎ أوﺟﺴﺘني ﺣﻮل ﻣﺬﻫﺐ أﻓﻼﻃﻮن ﻛﺎن ﻣﺒﻨﻴٍّﺎ ﻋﲆ ﺳﻮء ﻓﻬ ٍﻢ ﻟﻠﻤﺬﻫﺐ؛ ﻓﻘﺪ رأى أن ﻫﻨﺎك أوﺟُ ﻪ ﺗﺸﺎﺑﻪ ﺑﺎرزة ﺑني اﻟﺮب )أو اﻟﻮاﺣﺪ( ﻟﺪى أﻓﻼﻃﻮن وﺑني رب اﻟﻘﺪﻳﺲ أﻣﱪوز؛ ﻓﻜﻼﻫﻤﺎ اﺗﱠﺼﻒ ﺑﺎﻟﺴﻤﻮ واﻟﺨري املﻄﻠﻖ واﻟﺒُﻌﺪ املﻄﻠﻖ ﻋﻦ املﺎدﻳﺔ .وﻛﺎن أوﺟﺴﺘني ﻋﲆ ﻳﻘني أن ﻫﺬا ﻟﻴﺲ ﻣﻦ ﻗﺒﻴﻞ اﻟﺼﺪﻓﺔ ،ﻓﺎﺳﺘﻨﺘﺞ أن أﻓﻼﻃﻮن ﻻ ﺑﺪ وأن ﻳﻜﻮن ﻗﺪ ﺗﻨﺎﻗﻠﺖ إﻟﻴﻪ ﺑﻌﺾ آﻳﺎت اﻟﻌﻬﺪ اﻟﻘﺪﻳﻢ ﺷﻔﺎﻫﺔ .وﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ذﻟﻚ أدرك أن ﻣﺬﻫﺐ أﻓﻼﻃﻮن ﻟﻢ ﻳَﺤِ ﺪ ﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻦ اﻟﺪﻳﻦ املﺴﻴﺤﻲ؛ ﻷﻧﻪ ﻛﻤﺎ ﻗﺎل أوﺟﺴﺘني ﻗﺪ ﺑ ﱠ َ َني اﻟﻐﺎﻳﺔ دون أن ﻳﺮﺳﻢ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﻮﺻﻮل إﻟﻴﻬﺎ. ﻟﻢ ﻳﺘﻌﺮض املﺬﻫﺐ اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻲ ﻟﻠﻤﺴﻴﺢ وﻻ ﻟﺪوره ﰲ ﺧﻼص اﻟﺒﴩﻳﺔ ،وﻟﻢ ﻳﺪرك ﻛﺬﻟﻚ أﻫﻤﻴﺔ اﻹﺣﺴﺎن واﻟﺘﻮاﺿﻊ ،واﻷﻫﻢ ﻣﻦ ذﻟﻚ ﻫﻮ أن ﻫﺬا املﺬﻫﺐ ﻗﺪ اﻓﱰض ﺧﻄﺄ ً أن 408
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
اﻹﻧﺴﺎن ﻳﻤﻜﻨﻪ اﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ أي ﳾء ﺑﻤﺠﻬﻮده اﻟﻔﺮدي دون ﻣﺴﺎﻋﺪة .و ِﺑ َﻐ ﱢﺾ اﻟﻨﻈﺮ ﻋﻦ ﻣﺪى اﻟﺘﺄﻣﻞ اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ أو اﻟﺘﻔ ﱡﻜﺮ اﻟ ﱡﺮوﺣﻲ اﻟﺬي ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻺﻧﺴﺎن أن ﻳﺬوب ﻓﻴﻪ ﻓﺈﻧﻪ ﻋﺠﺰ ﻋﻦ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ اﻟﺮب ﺣﺘﻰ اﺧﺘﺎر اﻟﺮب أن ﻳﻨﺎدﻳﻪ ﻓﻠﺒﱠﻰ .إن اﻟﺨﻄﺄ اﻟﺮﺋﻴﺲ اﻟﺬي وﻗﻊ ﻓﻴﻪ ﺳﺎﺋﺮ أﺻﺤﺎب اﻟﻔﻜﺮ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻲ ﻫﻮ اﻋﺘﻘﺎدﻫﻢ أن اﻹﻧﺴﺎن ﻻ ﻳﺤﺘﺎج إﱃ أﻳﺔ ﻣﺴﺎﻋﺪة ﺧﺎرﺟﻴﺔ ﺣﺘﻰ ﻳﺮى اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ أو ﻳﻔﻌﻞ اﻟﺨري ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﺮى أوﺟﺴﺘني أن اﻟﺮﺳﺎﻟﺔ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺟﺎءت ﺑﻬﺎ املﺴﻴﺤﻴﺔ ﻫﻲ أن اﻹﻧﺴﺎن ﰲ ﺣﺎﺟﺔ ﱠ ﻣﺎﺳﺔ إﱃ املﺴﺎﻋﺪة. وﺑﻌﺪ أن وﺟﺪ أوﺟﺴﺘني ﻧﻔﺴﻪ ﻳﺴﻘﻂ ﰲ ﺑﺮاﺛﻦ اﻟﺮذﻳﻠﺔ واﻹﺛﻢ ﻛﻠﻤﺎ أُو ِﻛ َﻞ إﱃ ﻧﻔﺴﻪ واﺗﱠﺒَ َﻊ ﻫﻮاه؛ ﺗﻮﺻﻞ إﱃ أن ﻫﺬا اﻟﺤﺎل ﻫﻮ ﺣﺎل اﻟﺒﴩ ﻛﺎﻓﺔ ،ﻓﺒﺪون ﻣﺴﺎﻋﺪة اﻟﺮب ﻻ ﻗﻴﻤﺔ ﻟﻺﻧﺴﺎن وﻻ وزن ،وﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﻓﻌﻞ أي ﳾء وﻻ ﻳﻌﺮف أي ﳾء .وﻗﺪ ﱠ ﺧﻔﻒ ﺑﻌﺾ املﻔﻜﺮﻳﻦ املﺴﻴﺤﻴني اﻷواﺧﺮ ﻣﻦ ﺣِ ﱠﺪ ِة ﻫﺬه اﻟﻨﻈﺮة املﺘﻄ ﱢﺮﻓﺔ ﺑﻘﻮﻟﻬﻢ إن اﻹﻧﺴﺎن ﻳﻤﻜﻨﻪ ﱡ اﻟﺘﻮﺻﻞ إﱃ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﺑﻌﺾ اﻷﻣﻮر ﺑﻤﻔﺮده .ﻓﻔﻲ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻟﺚ ﻋﴩ ﺑﺎﻳﻦ اﻟﻘﺪﻳﺲ ﺗﻮﻣﺎس اﻷﻛﻮﻳﻨﻲ ﺑني اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻘﻮة اﻟﺤﺪس اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻟﺪى اﻹﻧﺴﺎن أن ﺗﺘﻮﺻﻞ إﻟﻴﻬﺎ واﻟﺤﻘﺎﺋﻖ اﻟﺘﻲ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻺﻧﺴﺎن ﻣﻌﺮﻓﺘﻬﺎ إﻻ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﻮﺣﻲ اﻹﻟﻬﻲ .أﻣﺎ أوﺟﺴﺘني ﻓﻠﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻟﺪﻳﻪ ﻫﺬا اﻻﺧﺘﻼف ﺑني اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ؛ إذ إن ﺟﻤﻴﻊ املﻌﺎرف ﻛﺎﻧﺖ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﺘﻨﻮﻳﺮ اﻹﻟﻬﻲ ﺑ ﱠَﺚ اﻟﺮب ﻓﻴﻪ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﰲ ﻋﻘﻮل ﻣﺨﻠﻮﻗﺎﺗﻪ. وﻗﺪ ﺑﺤﺚ أوﺟﺴﺘني ﰲ ﻋﻘﻠﻪ ﻋﻤﱠ ﺎ أودﻋﻪ اﻟﺮب ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﺣﻘﺎﺋﻖ .وﻛﺎﻧﺖ أُوﱃ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ٍّ ﺧﺎﺻﺎ ﻣﻦ دروب اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ؛ إذ اﻟﺘﻲ ﺗﻮﺻﻞ إﻟﻴﻬﺎ ﻫﻲ وﺟﻮده ﻫﻮ ﻧﻔﺴﻪ ﺣﻴﺚ ﻛﺎﻧﺖ درﺑًﺎ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻷي ﻣﻨﻄﻖ ﺗﺸﻜﻴﻜﻲ أن ﻳﺠﻌﻠﻪ ﰲ رﻳﺐ ﻣﻨﻬﺎ .وإذا ﻛﺎن ﻣﻦ املﺤﺘﻤﻞ أن ﻳﻨﺨﺪع أوﺟﺴﺘني ﰲ ﻛﻞ اﻷﻣﻮر ﻛﺄن ﻳﻌﺘﻘﺪ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل أﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﻘ ً ﻈﺎ ﰲ ﺣني أﻧﻪ ﻛﺎن ﻳﺤﻠﻢ، ﻓﻤﻦ املﺴﺘﺤﻴﻞ أن ﻳﻨﺨﺪع ﰲ ﺣﻘﻴﻘﺔ وﺟﻮده ﻫﻮ ﻧﻔﺴﻪ .وأﻧﻰ ﻟﻪ أن ﻳﺆﻣﻦ ﺑﻮﺟﻮد ﻧﻔﺴﻪ ﻟﻮ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻫﻮ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻮﺟﻮدًا؟ وﻗﺪ ﻗﺎل أوﺟﺴﺘني ﺑﺼﻮت املﻨﺘﴫ» :إذا ﻛﻨﺖ ﻣﺨﺪوﻋً ﺎ ﻓﺄﻧﺎ ﻣﻮﺟﻮد) «.وﻗﺪ ﻋﱪ دﻳﻜﺎرت ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﻋﻦ اﻟﻔﻜﺮة ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺑﻘﻮﻟﺘﻪ املﺸﻬﻮرة» :أﻧﺎ أﻓﻜﺮ إذن أﻧﺎ ﻣﻮﺟﻮد«( ﻟﻘﺪ ﻗﺎد اﻻﺳﺘﻨﺒﺎ ُ ط أوﺟﺴﺘ َ ني إﱃ أن ﺛﻤﺔ ﻋﺪة أﻣﻮر ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن ﻣﺨﻄﺌًﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺜﻞ ﺣﻘﻴﻘﺔ وﺟﻮد ﻣﺸﺎﻋﺮه ،ﻓﻜﻴﻒ ﻟﻪ أن ﻳُﺨﻄﺊ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﰲ ﺗﺼﻮﱡره ﻟﺤﻘﻴﻘﺔ أﻧﻪ ﻳُﺤِ ﺐﱡ ﺑﻌﺾ اﻷﺷﻴﺎء؟ ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ ذﻟﻚ ﻛﺎن ﻫﻨﺎك ﺑﻌﺾ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ اﻟﺨﺎﻟﺪة املﺘﻌﺎ َرف ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻋﺎملﻴٍّﺎ واﻟﺘﻲ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺸﻚ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺜﻞ اﻟﺤﺴﺎﺑﺎت اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ ﻛﺄن ﺗﻘﻮل إن .٧ = ١ + ٦وﻗﺪ ﺗﺴﺎءل أوﺟﺴﺘني ﻣﻦ أﻳﻦ أﺗﺖ ﻛﻞ ﻫﺬه اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ،واﻧﺘﻬﻰ إﱃ أﻧﻬﺎ ﻟﻢ 409
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ِ ﺗﺄت إﻻ ﻣﻦ ﻋﻨﺪ اﻟﺮب .وﻫﻜﺬا ﺑﻌ َﺪ ﺗﻤﺤﻴﺼﻪ ملﺎ اﺣﺘﻮاه ﻋﻘﻠﻪ وﺟﺪ أوﺟﺴﺘني ﻋﺪة ﺣﻘﺎﺋﻖ ُ ﱢ ﻟﻢ ﺗﺠَ ﻨﺒﻪ ﺷﻚ املﺘﺸﻜﻜني ﻣﻦ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻓﺤﺴﺐ ﺑﻞ أوﺻﻠﺘﻪ إﱃ ﺣﻘﻴﻘﺔ وﺟﻮد اﻟﺮب. وﺣﺎملﺎ ارﺗﴣ أوﺟﺴﺘني ﺑﺄن ﻫﻨﺎك ﺣﻘﺎﺋﻖ أﺧﻄﺄ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﻮن ﰲ اﻟﺸﻚ ﻓﻴﻬﺎ ،اﻧﺘﻬﻰ إﱃ أن اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ ﻟﻢ ﺗ ُﻜﻦ ﻟﺘﺴﺘﺤﻖ ﻣﻨﻪ ﻛﻞ ﻫﺬا اﻟﻘﻠﻖ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق؛ ذﻟﻚ أﻧﻪ اﻓﱰض ﺑﺒﺴﺎﻃﺔ أن اﻟﺮب ﻣ ﱠﻜﻨﻨﺎ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﺎ ﻣﻦ ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﻌﺎﻟﻢ وﻣﺤﺘﻮﻳﺎﺗﻪ .وﻗﺪ ﻛﺘﺐ أوﺟﺴﺘني ً ﻛﺎﻣﻼ ﺣﻮل ﻣﻮﺿﻮع اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ ،ﺑﻴﺪ أن ﻫﺬا اﻟﻌﻤﻞ املﻔ ﱠﻜﻚ ﻟﻢ ﻳﻘﺪم أي إﺛﺒﺎت ﺳﻮى ﻛﺘﺎﺑًﺎ أن أوﺟﺴﺘني ﻗﺪ َﻓ َﻘ َﺪ ﺣﻤﺎﺳﺘﻪ ﻟﺤﺐ اﻻﺳﺘﻄﻼع .ﻛﻤﺎ ﻛﺘﺐ ﰲ ﻋﻤﻞ آﺧﺮ ﻟﻪ أن ا ُمل َﺨ ﱢﻠ ُ ﺺ ﻗﺪ ﺟﺎء اﻵن؛ وﺑﺬﻟﻚ آن اﻷوان ﻟﻜﻞ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ أن ﻳﺘﻮﻗﻔﻮا ﻋﻦ اﻟﺸﻚ .وﻟﻢ ﻳَﻌُ ْﺪ أوﺟﺴﺘني ﻳﻤﻴﻞ ﱡ ﱡ ﺣﻮاﺳﻪ أو ﻣﺎ ﻳﺨﱪه ﺑﻪ اﻟﻨﺎس أو ﻣﺎ ﺗﻤﻠﻴﻪ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ ﻋﲆ اﻟﺘﺤﻘﻖ ﻣﻤﱠ ﺎ ﺗﺨﱪه ﺑﻪ إﱃ وﺟﻪ اﻟﺨﺼﻮص؛ ﻷﻧﻪ ﺗﻮﺻﻞ إﱃ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ. وﻳﻘﻮل أوﺟﺴﺘني ﻋﻦ أﻳﺎم ﺷﻜﻪ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ» :ﻟﻄﺎملﺎ أردت أن أﺗﺄﻛﺪ ﻣﻦ ﺣﻘﻴﻘﺔ أﺷﻴﺎءَ ﻟﻢ أ ُﻛﻦ أراﻫﺎ ﻛﺘﺄ ﱡﻛﺪي ﻣﻦ ﺣﻘﻴﻘﺔ أن «.١٠ = ٣ + ٧وﻟﻜﻦ ﴎﻋﺎن ﻣﺎ ذﻫﺒﺖ ﻫﺬه املﻌﺎﻳري اﻟﻘﺎﺳﻴﺔ اﻟﺴﺎﻣﻴﺔ أدراج اﻟﺮﻳﺎح ﺣﻴﻨﻤﺎ اﻋﺘﻨﻖ أوﺟﺴﺘني املﺴﻴﺤﻴﺔ .ﻟﻘﺪ اﻧﺒﻬﺮ ﺑﻘﻮة ﻣﺎ ﺗﺴﺘﺤﺜﱡﻪ ﻛﻠﻤﺔ اﻟﺮب ﻣﻦ إﻳﻤﺎﻧﻴﺎت ﺣﺘﻰ أﺻﺒﺢ ﻋﲆ اﺳﺘﻌﺪاد أن ﻳﺘﻘﺒﱠﻞ اﻷﻣﻮر ﻛﺎﻓﺔ ﻋﲆ أﺳﺎس اﻹﻳﻤﺎن ﻓﻘﻂ .وﻣﻦ ﻏري املﻌﻘﻮل أن ﺗﺘﻤﺘﻊ ﻣﺒﺎدئ اﻟﻌﻘﻴﺪة املﺴﻴﺤﻴﺔ ﻣﺜﻞ اﻟﺜﺎﻟﻮث واﻟﺨﻄﻴﺌﺔ اﻷﺻﻠﻴﺔ وﺑﻌﺚ املﺴﻴﺢ واﻟﻮﺻﻔﺔ املﺴﻴﺤﻴﺔ ﻟﻠﺨﻼص ،ﺑﻤﺜﻞ ﻣﺎ ﺗﺘﻤﺘﻊ ﺑﻪ ﺣﻘﺎﺋﻖ ﻋﻠﻢ اﻟﺤﺴﺎب اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﻘﺒﻞ اﻟﺸﻚ ،إﻻ أن ﻛﻞ ﻫﺬا ﻟﻢ ﻳﻤﻨﻊ أوﺟﺴﺘني ﻣﻦ اﻹﻳﻤﺎن ﺑﻬﺎ .ورﻏﻢ أن أﻋﻤﺎﻟﻪ ﺗﺆ ﱢﻛﺪ ﻧﻈﺮﺗﻪ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ اﻟﺜﺎﻗﺒﺔ وﻓﻀﻮﻟﻪ اﻟﻔﻜﺮي ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﺷﻐﻠﻪ اﻟﺸﺎﻏﻞ ﻫﻮ اﻟﺪﻳﻦ ﻛﻤﺎ ﻳﺘﺒني ﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻷﻋﻤﺎل .وﻗﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻨﺎﻗﺸﺎﺗﻪ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﺗﻨﺸﺄ ﻋﻦ ﺳﺆال دﻳﻨﻲ أو ﻣﺎ ﺷﺎﺑﻪ ،ﻓﺘﺤﻠﻴﻠﻪ ﻟﻠﺰﻣﻦ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﻗﺪ دﻓﻌﻪ إﻟﻴﻪ اﻟﺘﺴﺎؤل ﺣﻮل ﻣﺎ ﻛﺎن اﻟﺮب ﻳﻔﻌﻠﻪ ﻗﺒﻞ أن ﻳﺨﻠﻖ اﻟﻌﺎﻟﻢ ،وﻛﺬﻟﻚ ﻣﻨﺎﻗﺸﺘﻪ ﻟﻘﻀﻴﺔ اﻹرادة اﻟﺤﺮة ﺗﺪﻓﻌﻪ ﻓﻴﻬﺎ رﻏﺒﺘﻪ ﰲ إﺧﻼء اﻟﺮب ﻣﻦ املﺴﺌﻮﻟﻴﺔ ﻋﻤﱠ ﺎ ﻳﻘﱰﻓﻪ اﻟﺒﴩ ﻣﻦ آﺛﺎم .ﻟﻜﻦ ﻟﻸﺳﻒ ،داﺋﻤً ﺎ ﻣﺎ ﺗﻨﺘﻬﻲ ﻫﺬه املﻨﺎﻗﺸﺎت ﺣﺎملﺎ ﻳﻔ ُﺮغ أوﺟﺴﺘني ﻣﻦ ﻣﻌﺎﻟﺠﺔ اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ اﻟﻼﻫﻮﺗﻴﺔ اﻟﺘﻲ أﺛﺎرﺗﻬﺎ .وﻣﺘﻰ وﺟﺪ أوﺟﺴﺘني ٍّ ﺣﻼ ﻳﻈﻦ أﻧﻪ ﺳﻴﺘﻮاﻓﻖ ﻣﻊ اﻟﻌﻘﻴﺪة املﺴﻴﺤﻴﺔ ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻐﻠﻖ أﺑﻮاب ﺗﻔﻜريه وﻧﻮاﻓﺬ ﻓﻀﻮﻟﻪ ﻟﻴﻨﺘﻘﻞ إﱃ ﻣﻮﺿﻮع آﺧﺮ. ﻟﻘﺪ ﺣﻘﻖ أوﺟﺴﺘني ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﺤﻘﻘﻪ أﺣﺪ ﻣﻦ ﻣﻌﺎﴏﻳﻪ ﺣﻴﺚ ﻗﺪﱠم إﻃﺎ ًرا ﻣﻤﻴ ًﺰا ﻣﻦ اﻟﺪﻳﻦ املﺴﻴﺤﻲ ﻳﺠﻤﻊ ﺑني اﻟﻘﻴﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ واﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ،وﻟﻜﻦ ﺑﻌﺪ اﻋﺘﻨﺎﻗﻪ املﺴﻴﺤﻴﺔ ﱠ ﻳﺘﺤﻘﻖ ﻟﻢ ﻳﺨﺮج أوﺟﺴﺘني أﺑﺪًا ﻋﻦ ﻫﺬا اﻹﻃﺎر اﻟﺬي وﺿﻌﻪ ﻟﻴﺨﺘﱪه ﺑﻤﻮﺿﻮﻋﻴﺔ ،ﻓﻠﻢ 410
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
ﺑﺠ ﱢﺪﻳﱠﺔ ﻣﻦ أﺳﺲ اﻟﺪﻳﻦ املﺴﻴﺤﻲ وﻟﻢ ﻳﺤﺎول ﺗﱪﻳﺮﻫﺎ .وﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻳﺒﻘﻰ ﻫﻨﺎك اﻟﻌﺪﻳﺪ ِ وﺳﺎردِي اﻷﺳﺎﻃري أﻛﺜﺮ ﻣﻤﺎ ﻳﺸﱰك ﻓﻴﻪ ﻣﻊ ﻋﻠﻤﺎء ﻣﻦ اﻟﻘﻮاﺳﻢ املﺸﱰﻛﺔ ﺑني أوﺟﺴﺘني ِ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ )اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴني( اﻟﺬﻳﻦ اﻋﺘﱪﻫﻢ ﻛ ﱞﻞ ﻣﻦ أﻓﻼﻃﻮن وأرﺳﻄﻮ ﺟﺪﻳﺮﻳﻦ ﺑﺘﻮﺟﻴﻪ دﻓﺔ اﻻﻫﺘﻤﺎم إﻟﻴﻬﻢ .وﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ ﺣَ ﱠﺮ َك أوﺟﺴﺘني ﻋﻘﺎرب ﺳﺎﻋﺔ اﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻟﻔﻜﺮي إﱃ اﻟﻮراء ﺣﻴﺚ رﻛﻦ إﱃ إﺣﺪى اﻟﻨﺴﺦ املﺴﻠﻴﺔ ﻣﻦ اﻟﻘﺼﺺ اﻟﺨﺎرﻗﺔ ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺘﻲ ﺳﻌﻰ ﻣﻌﻈﻢ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻷواﺋﻞ إﱃ اﻻﺳﺘﻐﻨﺎء ﻋﻨﻬﺎ أو إﻳﺠﺎد ﺗﻔﺴريات ﻣﻨﻄﻘﻴﺔ ﻟﻬﺎ .وﺑﻬﺬا ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻋﺘﺒﺎر أي ﺷﺨﺺ ﻣﺜﻞ أوﺟﺴﺘني ﻳﺆﻣﻦ ﺑﻌﺪم ﻣﻮاءﻣﺔ اﻟﻌﻘﻞ اﻟﺒﴩي وﺑﺤﺎﺟﺔ اﻹﻧﺴﺎن ا ُملﻠِﺤﱠ ﺔ إﱃ دﻓﻘﺎت اﻹﻳﻤﺎن ﻣﻠﺘﺰﻣً ﺎ ﺑﺎﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺑﻤﻌﻨﺎﻫﺎ اﻹﻏﺮﻳﻘﻲ اﻷﺻﲇ .إﻻ أن ﻫﺬا اﻟﺤﻜﻢ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻴﺰﻋﺠﻪ ﻷﻧﻪ أول ﻣﻦ ﻳﻮاﻓﻖ ﻋﲆ أﻧﻪ ﻣﺴﻴﺤﻲ ﻗﺒﻞ ﻛﻞ ﳾء. وﺑﺤﻠﻮل اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬي ﺗُﻮ ﱢُﰲ َ ﻓﻴﻪ أوﺟﺴﺘني ﻋﺎم ٤٣٠م ﻛﺎن ﻧﺼﻒ ﺳﻜﺎن اﻹﻣﱪاﻃﻮرﻳﺔ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴﺔ ﻗﺪ اﻋﺘﻨﻘﻮا املﺴﻴﺤﻴﺔ ،وﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻫﺬا اﻟﻌﺪد ﻳﺰﻳﺪ ﰲ ﺑﺪاﻳﺔ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻖ ﻋﻦ ﻋﴩة ﰲ املﺎﺋﺔ .وﴎﻋﺎن ﻣﺎ رﺟَ ﺢ ﻣﻴﺰان اﻟﻘﻮة ﻟﺼﺎﻟﺢ املﺴﻴﺤﻴﺔ ﰲ ﺣﻴﺎة أوﺟﺴﺘني ،وﰲ ﻧﻬﺎﻳﺘﻬﺎ رﺑﻤﺎ أﺻﺒﺢ ﺷﻐﻞ املﺴﻴﺤﻴني اﻟﺸﺎﻏﻞ ﻗﻤﻊ آراء اﻟﻨﻘﺎد أﻛﺜﺮ ﻣﻦ اﻟﻘﻤﻊ اﻟﺬي ﻛﺎﻧﻮا ﻫﻢ أﻧﻔﺴﻬﻢ ﻳﺘﻌ ﱠﺮﺿﻮن ﻟﻪ .وﰲ ﻋﺎم ٤٤٨م ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ أﺣﺮق املﺴﻴﺤﻴﻮن ﻋﲆ املﻸ ﻣﺠﺎدﻟﺔ ﻣﻨﺎﻫِ َﻀﺔ ﻟﻠﻤﺴﻴﺤﻴﺔ ﻛﺘﺒﻬﺎ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف ﻓﺮﻓﺮﻳﻮس .ﻛﻤﺎ ﻛﺘﺐ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﻮﺛﻨﻴني ً أﻋﻤﺎﻻ ﻧﻘﺪﻳﺔ ﺗﺘﺤﺪث ﻋﻦ أﻓﻜﺎر ﻣﺴﻴﺤﻴﺔ ،إﻻ أن أﻳٍّﺎ ﻣﻨﻬﺎ ﻟﻢ ﻳﻨﺞُ ﻣﻦ ﻣﺤﺎوﻻت ﺗﻔﻨﻴﺪﻫﺎ ﺑﺈﺣﺮاﻗﻬﺎ .وﻗﺪ ﻟﻌِ ﺒﺖ ﻫﻴﺒﺎﺗﻴﺎ اﻟﺴﻜﻨﺪرﻳﺔ دور اﻟﺸﻬﻴﺪة ﻟﺪى اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﻮﺛﻨﻴني ا ُمل َﺮ َاﻗ ِﺒ َ ني ﰲ ﺗﻠﻚ املﺮﺣﻠﺔ إﺛْﺮ ﺗﻌ ﱡﺮ ِﺿﻬﺎ ﻟﻠﺘﻌﺬﻳﺐ واﻟﻘﺘﻞ ﻋﲆ أﻳﺪي ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﻐﻮﻏﺎء املﺴﻴﺤﻴني ﰲ ﻋﺎم ٤١٥م .ﺑَﻴْ َﺪ أن املﺴﻴﺤﻴني ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ اﺳﺘﻜﺜﺮوا أن ﺗﺬﻫﺐ ﺣﺎدﺛﺔ ﻫﻴﺒﺎﺗﻴﺎ ا ُملﺮ ِﻋﺒَﺔ ﻫﺒﺎءً ﻣﻨﺜﻮ ًرا ﻋﲆ ﺷﺨﺼﻴﺔ وﺛﻨﻴﺔ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﺑ ﱠﺪﻟُﻮا ﻋﻨﺎﴏ ﻫﺬه اﻟﺤﻜﺎﻳﺔ املﺨﺰﻳﺔ ﺑﺄﺳﻄﻮرة اﻟﻘﺪﻳﺴﺔ ﻛﺎﺗﺮﻳﻦ ﱠ ﺸﻬﺪَت ﺑﻌﺪ أن اﻟﺴﻜﻨﺪرﻳﺔ ،ﻓﺰﻋﻤﻮا أن ﻫﺬه اﻟﺴﻴﺪة ﻗﺪ اﺳﺘُ ِ ً ﻓﻴﻠﺴﻮﻓﺎ وﺛﻨﻴٍّﺎ ﻛﺎﻧﻮا ﻗﺪ أ ُ ِ رﺳﻠﻮا إﻟﻴﻬﺎ ﻟﻴَﺼﺪﱡوﻫﺎ ﻋﻦ دﻳﻨﻬﺎ ﰲ ﻧﻮع دﺣﻀﺖ دﻋﻮى ﺧﻤﺴني ﻣﻦ أﻧﻮاع املﺒﺎرزات اﻟﺠﺪﻟﻴﺔ .وﻳﺒﺪو أن ﺣﻜﺎﻳﺔ ﻫﺬه اﻟﺸﻬﻴﺪة ﻋﻤﻞ ﻣﻦ ﻧﺴﻴﺞ اﻟﺨﻴﺎل ﻳﺠﻤﻊ ﺑني ﻗﺼﺔ ﻫﻴﺒﺎﺗﻴﺎ وﻣﺴﻴﺤﻴني ﻏري ﻣﻌﺮوﻓني .وﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻘﺪﻳﺴﺔ ﻛﺎﺗﺮﻳﻦ ﺗُﻌْ َﺮ ُ ف ﺑﺄﻧﻬﺎ اﻟﻘﺪﻳﺴﺔ اﻟﺮاﻋﻴﺔ ﻟﻠﻔﻼﺳﻔﺔ ،وﻟﻜﻦ ﺟُ ﱢﺮد ْ َت ﻫﺬه اﻟﻘﺪﻳﺴﺔ املﺰﻋﻮﻣﺔ ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻠﻘﺐ ﺑﺪﻋﻮى ﻋﺪم وﺟﻮدﻫﺎ ﻣﻦ اﻷﺳﺎس. ﱠ وﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎدس ﻋﴩ ﺑﺪأ ﻧﺼﻒ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻫﺬا اﻟﺨﻠﻂ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻲ ﻳﺘ ِﻀﺢ ﺑﻌﺪ أن ﺑﻄﻠﺖ أﺳﻄﻮرة اﻟﻘﺪﻳﺴﺔ ﻛﺎﺗﺮﻳﻦ .وﰲ اﻟﻮﻗﺖ ذاﺗﻪ ﺑﺪأت أﺳﻄﻮرة ﻫﻴﺒﺎﺗﻴﺎ ﰲ ﺟﺬب املﺰﻳﺪ 411
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻣﻦ ﻣﺆ ﱢﻟﻔِ ﻴﻬﺎ اﻟﺬﻳﻦ َ ﻇ ﱡﻠﻮا ﰲ ﻧﺸﺎط إﱃ ﻳﻮﻣﻨﺎ ﻫﺬا .وﺗﻨﺎﻗﻠﺖ ﻋﴩات املﴪﺣﻴﺎت وﻗﺼﺎﺋﺪ اﻟﺸﻌﺮ واﻟﺮواﻳﺎت أﺳﻄﻮرﺗﻬﺎ اﻟﻌﺎﻃﻔﻴﺔ ،ﻛﻤﺎ ﺣﻤﻠﺖ ﺻﺤﻴﻔﺘﺎن أﻛﺎدﻳﻤﻴﺘﺎن ﺗﺘﱠﺨﺬان ﻣﻦ ً ﺳﺒﻴﻼ ﻟﻬﻤﺎ اﺳﻢ ﻫﻴﺒﺎﺗﻴﺎ .وﻣﻨﺬ أن ﺣَ ِﻈﻴ َْﺖ ﻫﺬه اﻷﺳﻄﻮرة ﺑﻮﺻﻒ ﺗﻔﺼﻴﲇ اﻟﺪﻋﻮة اﻟﻨﺴﺎﺋﻴﺔ ﻋﲆ ﻳﺪ ﻓﻮﻟﺘري وﰲ ﻛﺘﺎب »اﺿﻤﺤﻼل اﻹﻣﱪاﻃﻮرﻳﺔ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴﺔ وﺳﻘﻮﻃﻬﺎ« ﻟﺠﻴﺒﻮن ﻇﻬﺮت َ ﻋﺎملﺔ رﻳﺎﺿﻴﺎت ﻫﻴﺒﺎﺗﻴﺎ ﺑﺼﻮرﺗﻬﺎ اﻟﻌﻠﻤﺎﻧﻴﺔ املﻘﺪﱠﺳﺔ .وﻗﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻴﺒﺎﺗﻴﺎ ﻣﺜﻞ واﻟﺪﻫﺎ ﻣﻌﺮوﻓﺔ وﻓﻴﻠﺴﻮﻓﺔ أﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ راﺋﺪة ﰲ ﻋﴫﻫﺎ ،ﻛﻤﺎ ﺣﺎزت ﰲ اﻹﺳﻜﻨﺪرﻳﺔ ﻋﲆ ﻣﻜﺎﻧﺔ ﻣﻌﻠﻢﱢ وﻣﺜﻞ أﻋﲆ ﰲ اﻻﺳﺘﻘﺎﻣﺔ ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ ﻛﻮﻧﻬﺎ ﻣﺴﺘﺸﺎرة ﺣﻜﻴﻤﺔ ﰲ اﻟﺸﺌﻮن املﺪﻧﻴﺔ ،وﻟﻜﻦ ﻟﺴﻮء ﺣﻈﻬﺎ ﻛﺎن اﻷﺳﻘﻒ املﺤﲇ اﻟﺬي ﻟُ ﱢﻘﺐَ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌ ُﺪ ﺑﺎﻟﻘﺪﻳﺲ ﻛريﻟﺲ ﻳﻜﺮﻫﻬﺎ ،ﻓﻘﺎم رﺟﺎﻟﻪ ﺑﺠَ ﱢﺮﻫﺎ إﱃ إﺣﺪى اﻟﻜﻨﺎﺋﺲ وﺳﻠﺦ ﺟﻠﺪﻫﺎ ﻣﻦ ﺟﺴﻤﻬﺎ ﺛﻢ ﻗ ﱠ ﻄﻌﻮﻫﺎ إ ْرﺑًﺎ إ ْرﺑًﺎ .وﻷﻧﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻣﺴﻴﺤﻴﺔ واﺳﺘﺤﻮذت اﻟﻌﻠﻮم ﻋﲆ ﺟﺎﻧﺐ ﻛﺒري ﻣﻦ اﻫﺘﻤﺎﻣﺎﺗﻬﺎ وﻷﻧﻬﺎ ﻋﺎﺷﺖ ﻋﲆ أﻋﺘﺎب ﻧﻬﺎﻳﺔ ﺣﻀﺎرة ﻗﺪﻳﻤﺔ و ُِﺻ َﻔﺖ ﻫﻴﺒﺎﺗﻴﺎ ﺑﺄﻧﻬﺎ املﺪاﻓﻌﺔ ﻋﻦ اﻟﻌﻠﻢ ﰲ ﻣﻮاﺟﻬﺔ اﻟﺪﻳﻦ، وأﻧﻬﺎ ﺗﻤﺜﻞ املﺎﴈ اﻟﺒﻌﻴﺪ ﻗﺒﻞ املﺴﻴﺤﻴﺔ ،وأﻧﻬﺎ ﺷﻤﻌﺔ اﻻﺳﺘﻘﺼﺎء اﻟﺤﺮ اﻷﺧرية املﻜﺘﻮب ﻟﻬﺎ أن ﺗﻨﻄﻔﺊ ﻗﺒﻞ ﻟﻴﻞ ﻃﻮﻳﻞ ﻣﻦ املﺪرﺳﻴﺔ اﻟﻜﻨﺴﻴﺔ .وﻗﺪ ﻛﺘﺐ ﺑﺮﺗﺮاﻧﺪ راﺳﻞ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﻪ »ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ« ﻋﻦ »اﻹﻋﺪام اﻟﻐﻮﻏﺎﺋﻲ ﻟﻬﻴﺒﺎﺗﻴﺎ ،ﺗﻠﻚ املﺮأة املﺘﻤﻴﺰة اﻟﺘﻲ ﻇﻠﺖ ﻣﺴﺘﻤﺴﻜﺔ ﺑﺎﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ وﻛﺮﺳﺖ ﻣﻮاﻫﺒﻬﺎ ﻟﻌﻠﻢ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ﰲ ﻇﻞ ﻋﴫ ﱡ اﻟﺘﻌﺼﺐ اﻷﻋﻤﻰ … وﺑﻌﺪ ﻫﺬه اﻟﺤﺎدﺛﺔ ﻟﻢ ﻳَﻌُ ْﺪ ﻫﻨﺎك ﻣﻦ ﻳﺴﺒﺐ اﻟﻘﻠﻖ ﻣﻦ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻣﻦ ﰲ اﻹﺳﻜﻨﺪرﻳﺔ«. ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ ﻟﻢ ِ ﻳﻨﺘﻪ أي ﳾء ﺑﻨﻬﺎﻳﺔ ﻫﻴﺒﺎﺗﻴﺎ ،ﻓﻘﺪ اﺳﺘﻤﺮت ﻣﺴرية اﻟﻌﻠﻢ واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﰲ ً ﻛﺎﻣﻼ ﻣﻦ اﻟﺰﻣﺎن ﺑﻌﺪ ﻣﻮﺗﻬﺎ )وﺗﻤﺜﱠﻠﺖ ﻫﺬه املﺴرية ﺗﺤﺪﻳﺪًا ﰲ ﺷﺨﺼﻴﺔ اﻹﺳﻜﻨﺪرﻳﺔ ﻗﺮﻧًﺎ ﻳﻮﺣﻨﺎ اﻟﻨﺤﻮي — املﻌﺮوف ً أﻳﻀﺎ ﺑﺠﻮن ﻓﻴﻠﻮﺑﻮﻧﻮس وﻳﻮﺣﻨﺎ اﻟﺴﻜﻨﺪري — اﻟﺬي ﻧﺤﻦ ﺑﺼﺪد اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻨﻪ ﺑﻌﺪ ﻗﻠﻴﻞ( .وﻻ ﻳﺒﺪو ﻛﺬﻟﻚ أن ﻫﻴﺒﺎﺗﻴﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺷﻬﻴﺪة ﻟﻠﻮﺛﻨﻴﺔ ،ﻓﺮﻏﻢ أﻧﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﺆﻣﻦ ﺑﺎملﺴﻴﺤﻴﺔ إﻳﻤﺎﻧًﺎ ﻗﻮﻳٍّﺎ ﻓﺈﻧﻬﺎ ﻟﻢ ﺗ ُﻜﻦ ﺗﺘﻌﺒﺪ ﰲ املﻌﺎﺑﺪ اﻟﻮﺛﻨﻴﺔ وﻟﻢ ﺗﻨﻀﻢ إﱃ ﻫﺆﻻء اﻟﺬﻳﻦ رﻓﻀﻮا ﺗﻐﻴري دﻳﻨﻬﻢ .وﻗﺪ ﻛﺎن ﺑﻌﺾ ﺗﻼﻣﻴﺬﻫﺎ ﻣﺴﻴﺤﻴني ﺣﺘﻰ إن اﺛﻨني ﻣﻨﻬﻢ ﻗﺪ ﻷﺳﺒﺎب ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ ﺣﻴﺚ إﻧﻬﺎ ﺻﺎرا أﺳﻘﻔني ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ .وﻟﺬﻟﻚ ﻳﺒﺪو أن اﻏﺘﻴﺎل ﻫﻴﺒﺎﺗﻴﺎ ﻛﺎن ٍ ﺗﻮرﻃﺖ ﰲ ﴏاع ﻋﲆ اﻟﺴﻠﻄﺔ ﺑني اﻷﺳﻘﻒ ﻛريﻟﺲ وأورﺳﺘﻴﺲ ﺣﺎﻛﻢ ﻣﺪﻳﻨﺔ اﻹﺳﻜﻨﺪرﻳﺔ اﻟﺬي ﻛﺎﻧﺖ ﻋﲆ ﻋﻼﻗﺔ ﻃﻴﺒﺔ ﺑﻪ .وﻗﺪ ﺧﴚ اﻷﺳﻘﻒ ﻛريﻟﺲ ﻣﻦ أن ﻳ َُﻘﻮﱢي ﺗﺄﻳﻴﺪ ﻫﻴﺒﺎﺗﻴﺎ ﻷورﺳﺘﻴﺲ ﺷﻮﻛﺘَﻪ وﻳﺠﻌﻞ ﻣﻨﻪ َﺧﺼﻤً ﺎ ﻻ ﻳُﻘﻬَ ﺮ ﻓﻌﻤﻞ ﻋﲆ ﻧﴩ اﻟﺸﺎﺋﻌﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻬﻤﻬﺎ ﺑﻤﻤﺎرﺳﺔ اﻟﺴﺤﺮ وإﺛﺎرة اﻟﻘﻼﻗﻞ ،ﻓﻘﺎﻣﺖ ﻋﺼﺎﺑﺔ ﻣﻦ املﺠﺮﻣني — اﻟﺬﻳﻦ و ﱠ ﻇﻔﻬﻢ ﻛريﻟﺲ 412
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
ﻋﲆ اﻷرﺟﺢ — ﺑﺄﺧﺬ زﻣﺎم املﺒﺎدرة وﻗﺮرت إزاﺣﺔ ﻫﻴﺒﺎﺗﻴﺎ ﻋﻦ اﻟﻄﺮﻳﻖ .ﺑﺎﺧﺘﺼﺎر ،ﻟﻘﺪ ﻋﺎﺷﺖ ﻫﻴﺒﺎﺗﻴﺎ ﰲ املﻜﺎن ﻏري املﻨﺎﺳﺐ وﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻏري املﻨﺎﺳﺐ وﻣﻊ اﻟﺼﺤﺒﺔ ﻏري املﻨﺎﺳﺒﺔ. ﻧﺘﺤﻮل اﻵن إﱃ ﻳﻮﺣﻨﺎ اﻟﻨﺤﻮي )ﺣﻮاﱄ (٥٣٠–٤٩٠اﻟﺬي ﻛﺎن أﺑﺮز ﻓﻼﺳﻔﺔ اﻹﺳﻜﻨﺪرﻳﺔ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﱄ وﻟﻪ ﻣﺆ ﱠﻟﻔﺎت ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ،ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﻧﺎﺑﻐﺔ ﻳﺴﺒﻖ ﻋﴫه ﺣﺘﻰ إﻧﻪ ﻛﺜريًا ﻣﺎ ﻳﺠﺮي إﻏﻔﺎل اﺳﻤﻪ ﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﺤﻔﺎظ ﻋﲆ ﺑﺴﺎﻃﺔ اﻟﴪد اﻟﺘﺎرﻳﺨﻲ .ﻟﻘﺪ أﻇﻬﺮ ﻳﻮﺣﻨﺎ اﻟﻨﺤﻮي ﺑﺮاﻋﺔ ﻣﻨﻘﻄﻌﺔ اﻟﻨﻈري ﰲ ﻧﻘﺪه ﻟﺼﻮرة اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺘﻲ رﺳﻤﻬﺎ أرﺳﻄﻮ، ﻛﻤﺎ ﺗﺒﻨﱠﻰ آراء ﰲ ﻋﺪة أﻣﻮر ﻣﻬﻤﺔ ﰲ اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻣﻦ اﻟﺸﺎﺋﻊ أن ﻳﻘﻮل ﺑﻬﺎ أﺣﺪ ﺣﺘﻰ أﻳﺎم ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ ،ﻓﻘﺪ ﻫﺎﺟﻢ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﻧﻈﺮﻳﺔ أرﺳﻄﻮ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮل إن اﻷرض واﻟﺴﻤﻮات ﻋﻮاﻟﻢ ﻣﻨﻔﺼﻠﺔ ﺗﻌﻮزﻫﺎ ﻣﺒﺎدئ ﻓﻴﺰﻳﺎﺋﻴﺔ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﺗﻤﺎم اﻻﺧﺘﻼف ﺣﺘﻰ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻐريﻫﺎ؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﻘﺪ رﻓﺾ ﺗﻔﺴريﻫﺎ .وﻗﺪ رﻓﺾ ﻳﻮﺣﻨﺎ اﻟﻨﺤﻮي ﻓﻜﺮة ﺧﻠﻮد اﻟﻨﺠﻮم وﻋﺪم ﱡ ِ ﻣﻦ اﻷﺳﺎس ﻣﺎ ﻛﺎن َﺳﻴُﻌْ َﺮ ُ ف ﺑﻌﻠﻢ اﻟﻜﻮﻧﻴﺎت املﻌﻴﺎري ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ .ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ ً دﻗﻴﻘﺎ ﻣﺒﻴﻨًﺎ أﻧﻪ ﻻ ﻣﻌﻨﻰ ﻟﻬﺎ ﰲ ذﻟﻚ ﻓﻨﱠﺪ ﻳﻮﺣﻨﺎ اﻟﻨﺤﻮي ﺣﺠﺞ أرﺳﻄﻮ وﺑﺮاﻫﻴﻨﻪ ﺗﻔﻨﻴﺪًا ﺣ ﱢﺪ ذاﺗﻬﺎ وأﻧﻬﺎ ﺗﺘﻨﺎﻗﺾ ﻣﻊ ﺑﻌﺾ ﻣﺎ ﻗﺎﻟﻪ أرﺳﻄﻮ ﰲ ﻏريﻫﺎ .وأﺑﺮز ﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﺘﻤﻴﺰ ﺑﻪ ﻔﺮط ﻋﲆ املﻼﺣﻈﺎت واﻟﺘﺠﺎرب اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﻟﺪﻋﻢ ﻧﻈﺮﻳﺎﺗﻪ ﻳﻮﺣﻨﺎ اﻟﻨﺤﻮي ﻫﻮ اﻋﺘﻤﺎده ا ُمل ِ ً ﻣﺜﺎﻻ ﻋﲆ ذﻟﻚ ﺑﻤﺎ ﻗﺎﻟﻪ ﻳﻮﺣﻨﺎ اﻟﻨﺤﻮي ﰲ ﺗﺄﻛﻴﺪ أرﺳﻄﻮ ﻋﲆ أن اﻟﻔﻴﺰﻳﺎﺋﻴﺔ .وﻟﻨﴬب اﻷﺟﺴﺎم اﻟﻬﺎﺋﻤﺔ ﺗﺴﻘﻂ ﻋﲆ ﺳﻄﺢ اﻷرض ﺑﴪﻋﺎت ﺗﺘﻨﺎﺳﺐ ﺑﺼﻮرة ﻃﺮدﻳﺔ ﻣﻊ وزﻧﻬﺎ؛ أي إن اﻷﺟﺴﺎم اﻟﺜﻘﻴﻠﺔ ﺗﺴﻘﻂ أﴎع ﻣﻦ اﻷﺟﺴﺎم اﻟﺨﻔﻴﻔﺔ ،ﻓﻨﺠﺪه ﻳﺮد ً ﻗﺎﺋﻼ: وﻟﻜﻦ ﻫﺬا ﺧﻄﺄ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ،ووﺟﻬﺔ ﻧﻈﺮﻧﺎ ﺗﺆﻛﺪﻫﺎ املﻼﺣﻈﺔ اﻟﻔﻌﻠﻴﺔ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ اﻟﺠﺪال اﻟﻠﻔﻈﻲ .ﻓﺈذا رﻣﻴﺖ ﺟﺴﻤني ﻳﺰﻳﺪ أﺣﺪﻫﻤﺎ ﰲ اﻟﻮزن ﻋﻦ اﻵﺧﺮ ﺑﻌِ ﱠﺪ ِة أﺿﻌﺎف ﻣﻦ اﻻرﺗﻔﺎع ﻧﻔﺴﻪ ،ﻓﺴﺘﺠﺪ أن ﻧﺴﺒﺔ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬي ﺗﺤﺘﺎﺟﻪ ﴎﻋﺔ اﻟﺤﺮﻛﺔ ﻻ ﺗﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ اﻟﻨﺴﺒﺔ ﺑني اﻟﻮزﻧني ،ﺑﻞ ﻋﲆ ﻓﺮوق اﻟﺘﻮﻗﻴﺖ اﻟﻀﺌﻴﻠﺔ ﺑني ﺳﻘﻮط اﻟﺠﺴﻢ اﻷول وﺳﻘﻮط اﻟﺠﺴﻢ اﻟﺜﺎﻧﻲ. ورﻏﻢ أن ﻧﻈﺮﻳﺔ ﻳﻮﺣﻨﺎ اﻟﻨﺤﻮي ﺣﻮل اﻷﺟﺴﺎم اﻟﺴﺎﻗﻄﺔ ﻟﻢ ﺗ ُﻜﻦ ﺻﺤﻴﺤﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ،ﻓﺎﻟﺘﺠﺮﺑﺔ اﻟﺘﻲ وﺻﻔﻬﺎ ﻓﻴﻬﺎ )اﻟﺘﻲ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﺗﺪﺣﺾ وﺟﻬﺔ ﻧﻈﺮ أرﺳﻄﻮ( ﻗﺪ ذاع ﺻﻴﺘُﻬﺎ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ إﻧﺠﺎ ًزا ﻋﻠﻤﻴٍّﺎ ﻣﺸﻬﻮدًا ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﻜﺮرت ﻫﺬه اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ .وﻳُﻨ ْ َﺴﺐُ اﻟﻔﻀﻞ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ ﰲ وﻗﺘﻨﺎ اﻟﺮاﻫﻦ إﱃ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ اﻟﺬي ﺟﺎء ﺑﻌﺪ ﻳﻮﺣﻨﺎ اﻟﻨﺤﻮي ﺑﺄﻟﻒ ﻋﺎم )واﻟﺬي درس ﻛﻞ أﻋﻤﺎﻟﻪ ﺟﻴﺪًا( .وإذا ﻧﺴﺒﻨﺎ اﻟﻔﻀﻞ إﱃ ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ ﻓﻨﺤﻦ أﻛﺜﺮ ﱠ دﻗ ًﺔ ﻷﻧﻪ 413
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ً ﻓﻴﻠﺴﻮﻓﺎ ﰲ ﺣني أن ﻳﻮﺣﻨﺎ اﻟﻨﺤﻮي ﻛﺎن ﻛﺬﻟﻚ ،وﻳ ُْﻔ َﱰ َُض أن ﻫﺬه اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ ﻫﻲ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ اﻛﺘﺸﺎف »ﻋﻠﻤﻲ« .وﻟﻴﺴﺖ ﻇﺎﻫﺮة »ﻓﻠﺴﻔﻴﺔ«. ﻛﺎن ﻳﻮﺣﻨﺎ اﻟﻨﺤﻮي آﺧﺮ ﺣﺒﺔ ﰲ ﻋﻘﺪ ﺟﻴﻠﻪ ،وﻋﲆ ﺣَ ﱢﺪ ﻣﺎ ﻧﺬﻛﺮ ﻟﻢ ﻳﻤﺎرس أﺣﺪ ﰲ أوروﺑﺎ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ﻣﻦ ﺑﻌﺪه ﻃﺮﻳﻘﺔ ﺗﺤﻠﻴﻠﻪ ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ ﺣﺘﻰ اﻟﻘﺮن اﻟﺮاﺑﻊ ﻋﴩ ﺣﻴﺚ اﻧﺘﻘﻠﺖ روح اﻻﺳﺘﻜﺸﺎف اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ إﱃ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻌﺮﺑﻲ ،واﻧﺘﴩت ﺗﻌﺎﻟﻴﻢ اﻹﻏﺮﻳﻖ اﻟﻄﺒﻴﺔ واﻟﻌﻠﻤﻴﺔ واﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ واﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﰲ اﻷراﴈ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﰲ أواﺳﻂ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻣﻦ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ،وﻇﻠﺖ ﻫﻨﺎك ملﺪة ﺗﱰاوح ﺑني ﺛﻼﺛﻤﺎﺋﺔ وأرﺑﻌﻤﺎﺋﺔ ﻋﺎم ﺣﻴﻨﻤﺎ ﺗُ ْﺮ ِﺟﻤَ ْﺖ اﻷﻋﻤﺎل املﻜﺘﻮﺑﺔ ﺑﺄﻳﺪي اﻟﻌﺮب إﱃ اﻟﻼﺗﻴﻨﻴﺔ .ﻇﻠﺖ ﻟﻠﺤﻀﺎرة اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ اﻟﺮﻳﺎدة ﺑﻜﻞ وﺿﻮح ﰲ ﻛﻞ ﻫﺬه املﺠﺎﻻت ﺣﺘﻰ ﻧﻬﺎﻳﺎت اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻋﴩ ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﺪى اﻟﻐﺮب ﻣﻦ ﻳ َُﻘﺎ َر ُن ﺑﻌﻈﻤﺎء اﻟﺒﺎﺣﺜني املﻮﺳﻮﻋﻴني أﻣﺜﺎل اﻟ ِﻜﻨﺪي )ﺣﻮاﱄ (٨٧٣–٨١٢واﻟﻔﺎراﺑﻲ )ﺣﻮاﱄ (٩٥٠–٨٧٠واﺑﻦ ﺳﻴﻨﺎ )ﺣﻮاﱄ ﱢ املﺘﺨﺼﺼني أو ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ،أو ﺑﺨﺎﺻﺔ ﻋﻠﻤﺎء (١٠٣٧–٩٨٠أو ﺑﺎﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻷﻃﺒﺎء اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت اﻟﺬﻳﻦ ﻛﺎﻧﺖ أﻋﻤﺎﻟﻬﻢ ﺗُﻨْﺘَ َ ﻈ ُﺮ ﰲ اﻟﻐﺮب ﺑﻔﺎرغ اﻟﺼﱪ ِﻟﺘُ َﺪ ﱠر َس ﻓﻮر ﺗﻮاﻓﺮﻫﺎ. وﻗﺪ ﻛﺎن اﻟﺒﺎﺣﺜﻮن اﻟﻌﺮب ﻋﲆ دراﻳﺔ ﺗﺎﻣﱠ ﺔ ﺑﻜﺘﺎﺑﺎت أﺑﻴﻘﻮر وﺟﺎﻟني وإﻗﻠﻴﺪس وﺑﻄﻠﻴﻤﻮس وأرﺷﻤﻴﺪس ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ أﻋﻤﺎل أﻓﻼﻃﻮن وأرﺳﻄﻮ .ﻛﻤﺎ أﻧﻬﻢ ﻗﺪﻣﻮا أﺑﺤﺎﺛًﺎ أﺻﻠﻴﺔ وﻗﺪﻣﻮا ﺿﻤﻦ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻷﺷﻴﺎء اﻷﺧﺮى ﻧﻈﺮﻳﺔ اﻟﺒﴫﻳﺎت املﺘﻄﻮرة ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺤﺎدي ﻋﴩ. ً ﺑﻌﻀﺎ ﻣﻦ اﻷﺳﺒﺎب اﻟﺘﻲ أدﱠت إﱃ ﺳﻘﻮط ُروح اﻟﺒﺤﺚ اﻟﻌﻠﻤﻲ ﻟﺪى اﺳﺘﻌﺮﺿﻨﺎ ﺣﺘﻰ اﻵن اﻟﻐﺮب ﰲ اﻟﻬﺎوﻳﺔ ،أﻣﺎ أﺳﺒﺎب ازدﻫﺎرﻫﺎ ﻟﻔﱰة ﻣﻦ اﻟﺰﻣﺎن ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻌﺮﺑﻲ ﻓﻬﻲ ﻣﻮﺿﻮع ﻃﻮﻳﻞ ﻟﻠﻐﺎﻳﺔ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺣﴫه ﰲ ﻫﺬا اﻟﻌﻤﻞ. رﻏﻢ أن ﻳﻮﺣﻨﺎ اﻟﻨﺤﻮي ﻟﻢ ﻳَﺤْ َ ﻆ ﺑﺎﻻﻫﺘﻤﺎم اﻟﺬي ﻳﻠﻴﻖ ﺑﻪ ﻟﻔﱰة ﻃﻮﻳﻠﺔ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻷﺣﺪ ﻣﻌﺎﴏﻳﻪ ﻛﺒري اﻷﺛﺮ ﻋﲆ ﻣﺴﺎر اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ أﻻ وﻫﻮ ﺑﻮﺋﺜﻴﻮس .ﻛﺎن ﺑﻮﺋﺜﻴﻮس ً ﻓﻴﻠﺴﻮﻓﺎ ورﺟﻞ دﻳﻦ ﻣﺴﻴﺤﻴٍّﺎ ﻣﻦ أﴎة أرﺳﺘﻘﺮاﻃﻴﺔ روﻣﺎﻧﻴﺔ ،وﻗﺪ )ﺣﻮاﱄ (٥٢٤–٤٧٥ ﺷﻐﻞ وﻇﻴﻔﺔ اﻟﻮزﻳﺮ اﻷول ﻟﺪى ﺛﻴﻮدورﻳﻚ ﻣﻠﻚ اﻟﻘﻮط اﻟﴩﻗﻴني وﺣﺎﻛﻢ إﻳﻄﺎﻟﻴﺎ ﰲ اﻟﻔﱰة ﻣﻦ ٤٩٣إﱃ ٥٢٦م .وﻗﺪ أ ُ ِﺻﻴﺐَ ﺑﻮﺋﺜﻴﻮس ﺑﺎﻹﺣﺒﺎط ﻣﻦ ﺟﺮاء اﻻﻧﺤﻄﺎط املﺘﺴﺎرع ﻟﻠﻔﻜﺮ اﻟﻐﺮﺑﻲ وﻣﻦ ﺣﻘﻴﻘﺔ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳَﻌُ ْﺪ ﻳﻘﺪر ﻋﲆ ﻗﺮاءة رواﺋﻊ اﻷﻋﻤﺎل اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ إﻻ اﻟﻘﻠﻴﻞ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻋﻘﺪ اﻟﻌﺰم ﻋﲆ ﺗﺮﺟﻤﺔ ﺟﻤﻴﻊ أﻋﻤﺎل أﻓﻼﻃﻮن وأرﺳﻄﻮ إﱃ اﻟﻼﺗﻴﻨﻴﺔ ﺣﺘﻰ ﻻ ﺗﻀﻴﻊ ﻫﺬه اﻟﺜﺮوة ﻋﲆ اﻷﺟﻴﺎل اﻟﻘﺎدﻣﺔ .وﻟﻜﻦ ﻟﺴﻮء اﻟﺤﻆ أُﻋْ ِﺪ َم ﺑﻮﺋﺜﻴﻮس إﺛﺮ اﺗﻬﺎﻣﻪ ﺑﺎﻟﺨﻴﺎﻧﺔ ﻗﺒﻞ ﺗﻨﻔﻴﺬ ﻫﺬا املﴩوع اﻟ ﱠ ﻄﻤﻮح .وﻛﺎﻧﺖ اﻟﺜﻤﺮة اﻟﻮﺣﻴﺪة اﻟﻨﺎﺟﻴﺔ ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﺤﺎدث ﻫﻲ اﻟﻨﺴﺦ اﻟﻼﺗﻴﻨﻴﺔ ﻣﻦ أﻋﻤﺎل أرﺳﻄﻮ ﰲ املﻨﻄﻖ واﻟﺘﻲ ﻗﺪ ﺗﺴﺎﻋﺪ ﰲ ﺗﻔﺴري ﻇﺎﻫﺮة َ ﺷﻐﻒ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ 414
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
اﻷواﺋﻞ ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ﺑﺎملﻨﻄﻖ اﻟﻘﺪﻳﻢ؛ إذ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﺪﻳﻬﻢ ﻣﺎ ﻳﺪرﺳﻮﻧﻪ إﻻ اﻟﻘﻠﻴﻞ .وﻣﻦ املﺜري أن ﻧﺮى ﻛﻴﻒ أن اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻼﺗﻴﻨﻲ ﺳﻴﻜﻮن ﻣﺴﺘﻨريًا إن ﻟﻢ ﺗﻘﺘﻄﻊ أﻋﻤﺎل ﺑﻮﺋﺜﻴﻮس ﴎﻳﻌً ﺎ ﺑﻬﺬه اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﻘﺎﺳﻴﺔ .وﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ آﺧﺮ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻹداﻧﺘﻪ املﺒﻨﻴﺔ ﻋﲆ اﺗﻬﺎﻣﺎت ﱠ ﻣﻠﻔﻘﺔ ﻋﲆ اﻷرﺟﺢ ﺳﻮى ﻧﺘﻴﺠﺔ ﺳﻌﻴﺪة واﺣﺪة وﻟﻜﻦ ﻟﻴﺲ ﻟﺒﻮﺋﺜﻴﻮس ،ﻓﺒﻴﻨﻤﺎ ﻛﺎن ﺑﻮﺋﺜﻴﻮس ﰲ ﻏﻴﺎﻫﺐ اﻟﺴﺠﻦ ﻣﺤﻜﻮﻣً ﺎ ﻋﻠﻴﻪ ﺑﺎﻹﻋﺪام أ ﱠﻟﻒ ﻛﺘﺎﺑﻪ »ﻋﺰاء اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ« املﺸﺒﻮب ﺑﺎﻟﻌﺎﻃﻔﺔ. ﻛﻤﺎ أن ﻣﻮﺗﻪ اﻟﻮﺷﻴﻚ ﺟﻌﻞ ﻣﻦ ﻋﻘﻠِﻪ ً آﻳﺔ ﰲ اﻟﱰﻛﻴﺰ ،ﻓﺠﺎء ﻫﺬا اﻟﻌﻤﻞ ﰲ أﻋﲆ ﻣﺮاﺗﺐ اﻟﺮوﻋﺔ وﻇﻞ ﻣﻦ أوﺳﻊ اﻟﻜﺘﺐ ﻗﺮاءة ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ .وﻛﺎن ﻣﻦ ﺑني اﻟﺬﻳﻦ ﺗﺮﺟﻤﻮا ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب إﱃ اﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ املﻠﻚ أﻟﻔﺮﻳﺪ اﻟﻌﻈﻴﻢ وﺗﺸﻮﴎ واملﻠﻜﺔ إﻟﻴﺰاﺑﻴﺚ اﻷوﱃ .وﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ً ﺷﻴﺨﺎ ﻋﺠﻮ ًزا ﻻ ﺗﺤﻔﻞ ﺣﻴﺎﺗﻪ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ ﻫﺬا اﻟﻌﻤﻞ ﻟريى اﻟﻨﻮر ﻟﻮ ﻋﺎش ﺑﻮﺋﺜﻴﻮس وﺻﺎر ﺑﻜﺜري ﻣﻦ اﻷﺣﺪاث وﻟﻢ َ ﻳﻘﻊ ﺿﺤﻴﺔ ﻟﻠﺴﻴﺎﺳﺔ ﰲ إﻳﻄﺎﻟﻴﺎ. وﻳﺄﺗﻲ »ﻋﺰاء اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ« ﻋﲆ ﻫﻴﺌﺔ ﻣﺤﺎورة ﺑني ﺑﻮﺋﺜﻴﻮس اﻟﺬي ﻳﺘﺤﺪﱠث ﺑﻠﻐﺔ ﻧﺜﺮﻳﺔ وﺻﺎﺣﺒﺔ اﻟﺠﻼﻟﺔ »اﻟﺴﻴﺪة ﻓﻠﺴﻔﺔ« اﻟﺘﻲ ﺗَ ُﺮ ﱡد ﱢ ﺑﺎﻟﺸﻌﺮ ﰲ أﻏﻠﺐ اﻷوﻗﺎت .وﺗﺠﻴﺐ »اﻟﺴﻴﺪة ﻓﻠﺴﻔﺔ« ﻋﲆ ﺗﺄﻣﱡ ﻼت ﺑﻮﺋﺜﻴﻮس َ اﻟﻘﻨﻮﻃﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺪور ﺣﻮل آﻻم اﻟﺤﻴﺎة وﻇﻠﻤﻬﺎ ﺑﺈﺟﺎﺑﺎت ﺗﺠﻤﻊ ﺑني اﻟﺤﻜﻤﺔ اﻟﺮواﻗﻴﺔ واﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ .وﺗﻘﻮل إن املِ ﺤَ ﻦ ﺑﻮﺟﻪ ﻋﺎم واﻟﺤﻜﺎم اﻷﴍار ً رﺟﻼ ﺳﻮﻳٍّﺎ؛ ﻷن اﻟﻨﻔﺲ اﻟﻄﻴﺒﺔ ﺳﺘﻈﻞ ﺑﻤﻨﺄًى ﻋﻦ ﺑﻮﺟﻪ ﺧﺎص ﻻ ﻳﻤﻠﻜﻮن اﻟﻘﻮة ﻟﻴﺆذوا »اﻟﺜﺮوة اﻟﻔﺎﺳﺪة« ،وﺗﻘﻮل ً أﻳﻀﺎ إن ﻋﺪاﻟﺔ اﻟﺴﻤﺎء ﻗﺪ وﺳﻌﺖ ﻛﻞ ﳾء .وﺗﺒﺘﻌﺪ »اﻟﺴﻴﺪة ﻓﻠﺴﻔﺔ« ﺑﺒﻮﺋﺜﻴﻮس ﻋﻦ اﻟﻄﺮق اﻟﺨﺎﻃﺌﺔ ﻟﻠﺴﻌﺎدة وﺗﺤﺎول أن ﺗﻬﺪﻳﻪ إﱃ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﺮﺷﺎد؛ أي إﱃ اﻟﺮبُ ،ﻣﻨ ْ ِﺸﺪَة اﻷﺑﻴﺎت اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ: ﻫﺐ ﻟﻨﺎ ﻳﺎ أﺑﺎﻧﺎ أن ﺗﺼﻌﺪ ﻋﻘﻮﻟﻨﺎ إﱃ ﻋﺮﺷﻚ اﻷﺟَ ﱢﻞ. وأن ﻧﺮى ﻧﺒﻊ اﻟﺨري اﻟﺤﻖ. واﺟﻌﻞ ﻟﻨﺎ ﻧﻮ ًرا ﻧﻨﻈﺮ إﻟﻴﻚ ﺑﻌﻴﻮن ﻣﺒﴫة. ﺑ ﱢﺪ ْد اﻟﻐﻴﻮم اﻟﺜﻘﺎل ﻟﻬﺬا اﻟﻌﺎﻟﻢ املﺎدي. ﺗَﺠَ ﱠﻞ ﻟﻨﺎ ﰲ ﺑﻬﺎﺋﻚ ﻛﻠﻪ ﻓﺄﻧﺖ اﻟﻌﺪل وأﻧﺖ اﻟﺴﻼم واﻟﺴﻜﻴﻨﺔ ﻟﻠﻌﺎﺑﺪﻳﻦ. رؤﻳﺎ ﺟﻼﻟﻚ ﻫﻲ ﻣﻨﺘﻬﻰ أﻣﺎﻧﻴﻨﺎ. أﻧﺖ ُﻣﺒْ ِﺪﺋُﻨﺎ وﺑﺎرﺋﻨﺎ وﻣﻮﻻﻧﺎ وﻃﺮﻳﻘﻨﺎ وﻏﺎﻳﺘﻨﺎ. َ وﻟﻢ ﻳﺬﻛﺮ اﻟﻜﺘﺎبُ املﺴﻴﺤﻴﺔ ﴏاﺣﺔ ،إﻻ أﻧﻪ ﻧﺠﺢ ﰲ أن ﻳﻌﺎﻟﺞ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻏري ﻣﺒﺎﴍ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ املﺸﻜﻼت اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻀﻞ اﻹﻧﺴﺎن املﺆﻣﻦ .ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ،ﻳﺘﻀﻤﻦ ﻫﺬا 415
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ً إﺟﺎﺑﺔ ﻋﲆ ﺳﺆال ﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن ﻟﻺﻧﺴﺎن أي اﺧﺘﻴﺎر ﺣﻘﻴﻘﻲ ﰲ أﻓﻌﺎﻟﻪ إذا اﻟﻌﻤﻞ ﻛﺎن اﻟﺮب اﻟﻌﻠﻴﻢ ﻗﺪ أﺣﺎط ﻋﻠﻤً ﺎ ﺑﻤﺎ ﺳﻴﻔﻌﻠﻪ ﻗﺒﻞ أن ﻳﻔﻌﻠﻪ؟ وﺗﻨﻄﻠﻖ إﺟﺎﺑﺔ ﺑﻮﺋﺜﻴﻮس ﻣﻦ ﻓﻜﺮة أﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﺛﻤﺔ اﺧﺘﻼف ﺑني املﺎﴈ واﻟﺤﺎﴐ واملﺴﺘﻘﺒﻞ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﺮب ،ﻓﺎﻷزل ﻛﻠﻪ إﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﺣﺎﴐ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻪ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻳﻌﻠﻢ اﻟﺮب ﻣﺎ اﻟﺬي ﺳﺄﻓﻌﻠﻪ ﻓﺈن ذﻟﻚ ﻟﻦ ﻳﻘﻴﺪ ﺣﺮﻳﺘﻲ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق ﻗﺪر ﻣﺎ ﻳُﻘﻴﱢﺪﻫﺎ ﺷﺨﺺ ﻳﺮاﻗﺐ أﻓﻌﺎﱄ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬي أﻧﻔﺬﻫﺎ ﻓﻴﻪ .وﻗﺪ ﺗﺒﻨﱠﻰ ﻫﺬا اﻟﺤﻞ اﻟﻘﺪﻳﺲ ﺗﻮﻣﺎس اﻷﻛﻮﻳﻨﻲ ورﺟﺎل اﻟﺪﻳﻦ اﻟﺬﻳﻦ ﺟﺎءوا ﰲ أواﺧﺮ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ. ُ اﻟﺘﻔﻠﺴﻒ، وﻳﻀﻊ ﻛﺘﺎب ﺑﻮﺋﺜﻴﻮس »ﻋﺰاء اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ« اﻟﺨﻄﻮط اﻟﻌﺮﻳﻀﺔ ﻷﺷﻬﺮ ﻃﺮق وﻳﺒني اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﻧﻮع ﻣﻦ أﻧﻮاع املﺴﻜﻨﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻌﺎﻟﺞ ﺟﺮوح اﻟﺤﻴﺎة ،وأﻧﻬﺎ ﻣﺼﺪر ﻣﻦ ﻣﺼﺎدر اﻟﺤﻜﻤﺔ اﻟﺨﺎﻟﺪة اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻨﻬﺎ ﺗﻮﺿﻴﺢ ﺑﻌﺾ اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ .وﻗﺪ ﺳﺎﻫﻢ ﻫﺬا اﻟﻌﻤﻞ ﰲ ﺗﻮﺻﻴﻞ ﺻﻮرة اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ إﱃ ﺣﻀﺎرة ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺗﻌﻠﻢ أي ﳾء ﻋﻦ ﻛﺘﺎﺑﺎت »ﺧﺎدﻣﻲ أﻓﻼﻃﻮن« ﻛﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻨﺎدﻳﻪ »اﻟﺴﻴﺪة ﻓﻠﺴﻔﺔ« .وﻗﺪ ﻛﺎن ﻟﻌﺪة ﻣﻮﺿﻮﻋﺎت وﺻﻮر ﻣﻦ أدب اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺄﺧﻮذة ﻋﻦ أﻋﻤﺎل أﻓﻼﻃﻮن أو أرﺳﻄﻮ ﺣﻀﻮر ﻗﻮي ﰲ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب. ٍ ِ ﺑﻮﺟﻪ ﻋﺎم، ﻳﻘﺘﴫ ﺗﺄﺛري ﺑﻮﺋﺜﻴﻮس ﺑﺄي ﺣﺎل ﻣﻦ اﻷﺣﻮال ﻋﲆ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ واﻷدب وﻟﻢ ﻓﻘﺪ اﻣﺘ ﱠﺪ ﻫﺬا اﻟﺘﺄﺛري ﻟﻴﺼﻞ إﱃ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ املﺘﺨﺼﺼﺔ واﻟﻼﻫﻮت ﺑﺎﻟﻘﺪر ﻧﻔﺴﻪ اﻟﺬي ﻛﺎن ﻋﻠﻴﻪ ﰲ اﻟﺴﺎﺑﻖ؛ وذﻟﻚ ﺑﻔﻀﻞ اﺑﺘﻜﺎره ﻷﻟﻔﺎظ وﺗﻮﻟﻴﻔﻪ ملﺼﻄﻠﺤﺎت ﻻﺗﻴﻨﻴﺔ ﰲ ﴍﺣﻪ ﻟﺒﻌﺾ املﺒﺎدئ اﻷرﺳﻄﻴﺔ .وﻗﺪ اﻧﺘﴩت ﻟﻐﺘﻪ اﻻﺻﻄﻼﺣﻴﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة ﻛﺎﻟﻨﺎر ﰲ اﻟﻬﺸﻴﻢ ﺣﻴﺚ اﺳﺘﺨﺪﻣﻬﺎ اﻟﺒﺎﺣﺜﻮن ﻣﻦ رﺟﺎل اﻟﺪﻳﻦ ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ وﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌ ُﺪ املﺤﺎﴐون ﰲ أوﱃ اﻟﺠﺎﻣﻌﺎت ،ﺣﻴﺚ اﺳﺘﻌﻤﻠﻮا ﻫﺬه املﺼﻄﻠﺤﺎت اﻟﻔﻨﻴﺔ ﰲ ﺗﺤﻠﻴﻞ ﻣﺒﺪأ اﻟﺜﺎﻟﻮث واملﻮﺿﻮﻋﺎت اﻷﺧﺮى املﻌﻘﺪة .وﻻ ﺷﻚ أﻧﻬﻢ اﺳﺘﺨﺪﻣﻮا ﻫﺬه املﺼﻄﻠﺤﺎت ﺑﻬﺪف ﺗﻮﺿﻴﺢ اﻷﻣﻮر ﰲ ﺣني أﻧﻬﻢ ﰲ ﺑﻌﺾ اﻷﺣﻴﺎن ﻟﻢ ﻳﺤﻘﻘﻮا ﺳﻮى اﻟﻌﻜﺲ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ. ﻟﻘﺪ ﻃ َﺮح ﺑﻮﺋﺜﻴﻮس ً ري ﻣﻦ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻟﻌﺪة أﻳﻀﺎ ﻗﻀﻴﺔ ﻣﻨﻄﻘﻴﺔ ﺷﻐﻠﺖ ﻋﻘﻮل ﻛﺜ ٍ ً ﻻﺣﻘﺎ ،وﻋُ ِﺮ َﻓﺖ ﻫﺬه اﻟﻘﻀﻴﺔ ﺑﺎﺳﻢ اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ اﻟﻜﻠﻴﺔ ،وﻗﺪ ورد ذﻛﺮﻫﺎ أول ﻣﺮة ﰲ ﻗﺮون ﻧﺺ ﻟﻠﻔﻴﻠﺴﻮف ﻓﺮﻓﺮﻳﻮس ﺣﻈﻲ ﺑﺪراﺳﺔ واﺳﻌﺔ ﺑﻌﺪ أن ﺗﺮﺟﻤﻪ ﺑﻮﺋﺜﻴﻮس إﱃ اﻟﻼﺗﻴﻨﻴﺔ. وﺗﺘﻌﻠﻖ ﻫﺬه اﻟﻘﻀﻴﺔ ﺑﺎملﺼﻄﻠﺤﺎت أو املﻔﺎﻫﻴﻢ اﻟﻌﺎﻣﱠ ﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻨﻄﺒﻖ ﻋﲆ اﻟﻌﺪﻳﺪ آن واﺣﺪ ﻣﺜﻞ اﻷﻟﻔﺎظ »أﺣﻤﺮ« و»ﺟﻤﻴﻞ« و»ﻣﺮﺑﻊ« .وﻳﺪور اﻟﺴﺆال املﻄﺮوح ﻣﻦ اﻷﺷﻴﺎء ﰲ ٍ ﰲ ﻫﺬه اﻟﻘﻀﻴﺔ ﺣﻮل ﻣﺎﻫﻴﺔ اﻟﻮﺟﻮد اﻟﺬي ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻜﻮن ﻋﻠﻴﻪ ﻫﺬه اﻟﺼﻔﺎت اﻟﻌﺎﻣﺔ؛ أي 416
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
اﻟﺤﻤﺮة أو اﻟﺠﻤﺎل أو اﻟﱰﺑﻴﻊ .ﻫﻞ ﻫﺬه اﻟﺼﻔﺎت ﻻ ﺗﻮﺟﺪ إﻻ ﰲ اﻟﻌﻘﻞ أو ﰲ اﻟﻠﻐﺔ ،أم أن ﻟﻬﺎ وﺟﻮدًا ﺧﺎرﺟﻴٍّﺎ ﻟﻪ ﻣﻐﺰى ﻣﺜﻞ اﻷﺷﻴﺎء املﺎدﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻨﻄﺒﻖ ﻫﺬه اﻟﺼﻔﺎت ﻋﻠﻴﻬﺎ؟ ﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أن اﻷﺟﺴﺎم املﺮﺑﻌﺔ ﻣﻮﺟﻮدة ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ،وﻟﻜﻦ ﻫﻞ ِﺻ َﻔﺔ اﻟﱰﺑﻴﻊ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻟﻬﺎ وﺟﻮد؟ ﻟﻘﺪ ﻃﺮح ﻓﺮﻓﺮﻳﻮس ﻫﺬا اﻟﺴﺆال ﺟﺎﻧﺒًﺎ ﻧﻈ ًﺮا ﻟﺼﻌﻮﺑﺘﻪ ،إﻻ أن ﺑﻮﺋﺜﻴﻮس ﻧﺎﻗﺸﻪ ﺑﺸﻜﻞ ﻣﻔﺼﻞ واﻋﺘﱪه أﻛﱪ املﺸﻜﻼت اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ أﻣﺎم املﻬﺘﻤﱢ ني ﺑﺎﻷﺳﺌﻠﺔ املﻨﻄﻘﻴﺔ املﺠﺮدة .وﺑﺤﻠﻮل ً ﻣﺨﺘﻠﻔﺎ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺼﺪد. اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻋﴩ ﻛﺎن ﻫﻨﺎك ﻣﺎ ﻳﻘﺪر ﺑﺄﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﺛﻼﺛﺔ ﻋﴩ رأﻳًﺎ وﻗﺪ أﻇﻬﺮ اﻫﺘﻤﺎم ﺑﻮﺋﺜﻴﻮس ﺑﺎملﻨﻄﻖ ﺷﻐﻔﻪ ﺑﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻋﻠﻴﻪ »اﻟﻔﻨﻮن املﺘﺤﺮرة« اﻟﺴﺒﻊ واﻟﺘﻲ أُﻃﻠ َِﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻫﺬا اﻻﺳﻢ ﻷن اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴني اﻋﺘﱪوﻫﺎ أﻧﺴﺐ اﻟﺪراﺳﺎت ﻟﻠﺮﺟﻞ اﻟﺤﺮ .وﻫﺬه اﻟﻔﻨﻮن اﻟﺴﺒﻌﺔ ﻫﻲ اﻟﻨﺤﻮ واﻟﺒﻼﻏﺔ واملﻨﻄﻖ واﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت واﻟﻬﻨﺪﺳﺔ واﻟﻔﻠﻚ واملﻮﺳﻴﻘﻰ. ً ﻣﺠﺎﻻ ﻟﻠﺘﻄﻮﻳﺮ ﰲ ﻣﻌﻈﻢ أﻗﺴﺎم ﻫﺬا املﻨﻬﺞ اﻟﺘﻌﻠﻴﻤﻲ وﻗﺪ رأى ﺑﻮﺋﺜﻴﻮس أن ﻫﻨﺎك اﻟﻨﻤﻮذﺟﻲ .وﻗﺪ ﻛﺎن راﺿﻴًﺎ ﺗﻤﺎم اﻟﺮﺿﺎ ﻋﻤﺎ ﻫﻮ ﻣﺘﺎح ﻣﻦ أﻋﻤﺎل ﻣﻜﺘﻮﺑﺔ ﺑﺎﻟﻼﺗﻴﻨﻴﺔ ﰲ ﻣﺠﺎﻻت اﻟﻨﺤﻮ واﻟﺒﻼﻏﺔ واملﻨﻄﻖ اﻟﺒﺴﻴﻂ ،إﻻ أﻧﻪ اﻗﱰح ﻛﺘﺎﺑﺔ أﻋﻤﺎل ﺟﺪﻳﺪة ﰲ املﺠﺎﻻت اﻷرﺑﻌﺔ اﻷﺧﺮى وﻣﻌﺎﻟﺠﺔ املﻮﺿﻮﻋﺎت املﺘﻘﺪﻣﺔ ﰲ املﻨﻄﻖ ﻣﺜﻞ ﻣﺴﺄﻟﺔ اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ اﻟﻜﻠﻴﺔ ﺑﺸﻜﻞ ً ﻣﻌﺮوﻓﺎ ﻣﺎ إذا ﻛﺎن ﺑﻮﺋﺜﻴﻮس ﻗﺪ أ َ ﱠﻟ َ ﻒ ﰲ اﻟﻬﻨﺪﺳﺔ أو اﻟﻔﻠﻚ ،وإن ﻛﺎن ﻗﺪ أﻓﻀﻞ .وﻟﻴﺲ أ َ ﱠﻟ َ ﻒ ﻓﻴﻬﻤﺎ ﻓﺈن أﻋﻤﺎﻟﻪ ﻟﻢ ﻳُ ْﻜﺘَﺐْ ﻟﻬﺎ اﻟﻨﺠﺎة ،ﰲ ﺣني أن أﻋﻤﺎﻟﻪ ﰲ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت واملﻮﺳﻴﻘﻰ واملﻨﻄﻖ ﻇ ﱠﻠﺖ ﻣﺤﻞ اﻻﺳﺘﻔﺎدة ﻋﲆ ﻧﻄﺎق واﺳﻊ ﻟﻌﺪة ﻗﺮون .وﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﺑﻨﺤﻮ ﺳﺒﻌﺔ ﻗﺮون ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺑﺪأ أول اﻟﻄﻼب اﻟﺠﺎﻣﻌﻴني دراﺳﺎﺗﻬﻢ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻟﺚ ﻋﴩ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻔﻨﻮن املﺘﺤﺮرة ً ﻧﺼﻮﺻﺎ ﻻ ﺗﺰال ﺗﺸﻜﻞ املﺤﺘﻮى اﻷﺳﺎﳼ ملﻨﻬﺠﻬﻢ اﻟﺪراﳼ ،وﻇﻠﺖ ﺑﻌﺾ أﻋﻤﺎل ﺑﻮﺋﺜﻴﻮس ﻣﻘ ﱠﺮرة ﻋﻠﻴﻬﻢ آﻧﺬاك. وﻟﻴﺲ ﻣﻦ اﻟﻐﺮﻳﺐ أن املﻮاد اﻟﺘﻌﻠﻴﻤﻴﺔ ﻟﻢ ﻳﻄﺮأ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺳﻮى ﱡ ﺗﻐري ﻃﻔﻴﻒ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻷﻋﻮام؛ ذﻟﻚ أن اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ اﻟﺘﺠﺎرة اﻟﺮاﺑﺤﺔ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﻌﺼﻮر املﻈﻠﻤﺔ .وﺣﺘﻰ ﺑﻌﺪ اﻟﻌﴫ اﻟﺬي ﺟﺎء ﻓﻴﻪ ﺑﻮﺋﺜﻴﻮس ﺑﻨﺤﻮ ٣٠٠ﻋﺎم ﻇﻞ اﻟﻨﺸﺎط اﻟﺪراﳼ ﻣﻘﺘﴫًا ﻋﲆ اﻷدﻳﺮة ﱠ ﻳﺘﻐري اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻔﻜﺮي واﻧﺤﴫ ﺑﺎﻟﻜﺎﻣﻞ ﰲ املﻮﺿﻮﻋﺎت اﻟﻼﻫﻮﺗﻴﺔ واﻷﻣﻮر اﻟ َﻜﻨَﺴﻴﺔ .وﻟﻢ آﻧﺬاك إﱃ اﻷﻓﻀﻞ إﻻ ﺑﺎﻹﺻﻼﺣﺎت اﻟﺘﻲ أدﺧﻠﻬﺎ ﺷﺎرملﺎن ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻋﴩ ،وﻟﻜﻦ ﻛﺎن ﺛﻤﺔ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺘﻐﻴريات ﻟﻸﺳﻮأ .ﻓﺒﻌﺪ وﻓﺎة ﺑﻮﺋﺜﻴﻮس اﻟﺘﻲ ﺟﺎءت ﰲ اﻟﻌﻘﺪ ﻧﻔﺴﻪ ُ وﺻﻔﻪ اﻟﺬي ﻣﺎت ﻓﻴﻪ ﻳﻮﺣﻨﺎ اﻟﻨﺤﻮي وأُﻏﻠ َِﻘﺖ ﻓﻴﻪ املﺪارس اﻷﺛﻴﻨﻴﺔ ،ﻟﻢ ﻳَﻌُ ْﺪ ﻫﻨﺎك ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﺑﺎﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﰲ أوروﺑﺎ إﱃ أن وﺻﻠﺖ ﺣﻘﺒﺔ ﺷﺎرملﺎن. 417
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﺑﺪأ ﺷﺎرملﺎن ﻓﱰة ﺣﻜﻤﻪ ﺑﺘﻮ ﱢﻟﻴﻪ ﻣﻤﻠﻜﺔ اﻟﻔﺮﻧﺠﺔ واﻧﺘﻬﻰ ﺣﺎﻛﻤً ﺎ ملﻌﻈﻢ أﺟﺰاء ﻓﺮﻧﺴﺎ وﺑﻠﺠﻴﻜﺎ وﻫﻮﻟﻨﺪا وﺳﻮﻳﴪا وإﻳﻄﺎﻟﻴﺎ وﻣﻮاﻗﻊ ﺣﻴﻮﻳﺔ ﰲ أملﺎﻧﻴﺎ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ واﻟﻨﻤﺴﺎ .وﻗﺪ اﺗﱠﺴﻌﺖ إﻣﱪاﻃﻮرﻳﺘﻪ املﺴﻴﺤﻴﺔ ﺣﺘﻰ ﺳﺎوت اﻟﺠﺰء اﻟﻐﺮﺑﻲ ﻣﻦ اﻹﻣﱪاﻃﻮرﻳﺔ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴﺔ، وأراد ملﻦ ﻳﻌﻤﻞ ﻋﲆ إدارة ﺷﺌﻮن ﺑﻼده أن ﻳﻜﻮن ﻣﺘﻌﻠﻤً ﺎ؛ وﻟﺬﻟﻚ أﻧﺸﺄ ﻗﴫًا ﻣﺪرﺳﻴٍّﺎ ﻟﺘﻌﻠﻴﻢ أﻓﺮاد اﻷﴎة املﻠﻜﻴﺔ ورﺟﺎل اﻟﺪﻳﻦ ا ُملﺘَﻮ ﱠَﻗ ِﻊ ﻟﻬﻢ أن ﻳﻜﻮﻧﻮا أﺳﺎﻗﻔﺔ ﰲ املﺴﺘﻘﺒﻞ واملﻮ ﱠ ﻇﻔني اﻟﺤﻜﻮﻣﻴني ،ﺛﻢ أﻗﺎم ﻣﺪارس وأﻟﺤﻘﻬﺎ ﺑﺎﻷدﻳﺮة واﻟﻜﺎﺗﺪراﺋﻴﺎت ﰲ ﺟﻤﻴﻊ أرﺟﺎء اﻟﺒﻼد .وﻗﺪ ﱠ ﺣﻘﻘﺖ ﻫﺬه اﻟﺸﺒﻜﺔ ﻣﻦ املﺪارس اﻟﻜﻨﺴﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗُ َﺪ ﱢر ُس اﻟﻔﻨﻮن املﺘﺤﺮرة اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻧﺠﺎﺣً ﺎ ﰲ ﻧﴩ اﻟﻌﻠﻢ أﻋﻈﻢ ﻣﻤﱠ ﺎ وﺻﻞ إﻟﻴﻪ اﻟﻐﺮب اﻟﻼﺗﻴﻨﻲ ﻣﻨﺬ أﻳﺎم اﻹﻣﱪاﻃﻮرﻳﺔ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴﺔ .وﻗﺪ اﻫﺘﻤﺖ ﻫﺬه املﺪارس ﰲ املﻘﺎم اﻷول ﺑﺮﺟﺎل اﻟﺪﻳﻦ وﻟﻢ ﺗﻘﺪم أﻳﱠﺔ ﻣﻨﺢ دراﺳﻴﺔ أو أﺑﺤﺎث ﻋﻈﻴﻤﺔ إﻻ أﻧﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ اﻟﺒﺪاﻳﺔ ﻧﺤﻮ ﺗﺤﻘﻴﻖ ﻫﺬا اﻟﻬﺪف. وﻣﻦ ﺑني اﻟﺒﺎﺣﺜني اﻟﺬﻳﻦ ﺳﺎﻫﻤﻮا ﰲ ﻫﺬه اﻟﻨﻬﻀﺔ املﺤﺪودة ﰲ اﻟﻘﺮﻧني اﻟﺘﺎﺳﻊ واﻟﻌﺎﴍ ﻛﺎن ﻳﻮﻫﺎﻧﺰ ﺳﻜﻮﺗﺲ إرﻳﺠﻴﺎ — وﻫﻮ ﺑﺎﺣﺚ أﻳﺮﻟﻨﺪي ﻗﺎم ﺑﱰﺟﻤﺔ أﻋﻤﺎل دﻳﻮﻧﻴﺴﻴﻮس ً أﻋﻤﺎﻻ ﻓﻠﺴﻔﻴﺔ ذات وزن .اﻟﺘﺤﻖ إرﻳﺠﻴﺎ ﺑﺎملﺤﻜﻤﺔ اﻟﺘﻲ املﺰﻳﻒ — ﻫﻮ اﻟﻮﺣﻴﺪ اﻟﺬي أﻧﺘﺞ أﻧﺸﺄﻫﺎ املﻠﻚ ﺷﺎرل اﻷﺻﻠﻊ ﺣﻔﻴﺪ املﻠﻚ ﺷﺎرملﺎن واﻟﺬي ﻛﻠﻔﻪ ﺑﱰﺟﻤﺔ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺐ اﻟﻼﻫﻮﺗﻴﺔ املﻜﺘﻮﺑﺔ ﺑﺎﻟﻼﺗﻴﻨﻴﺔ .وﻗﺪ وﺿﻊ إرﻳﺠﻴﺎ ﻧﻈﺮﻳﺔ ﻣﻌﻘﺪة ﻧﺴﺒﻴٍّﺎ ﻋﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺗﻘﻮم ﻋﲆ املﺒﺎدئ املﺴﻴﺤﻴﺔ ﺣﺎول ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺘﻮﻓﻴﻖ ﺑني اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة واﻟﻼﻫﻮت اﻷرﺛﻮذﻛﴘ، ﻛﻤﺎ ﺳﺎﻫﻢ ﰲ ﺗﻄﻮﻳﺮ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﻔﻨﻮن املﺘﺤ ﱢﺮرة .وﻗﺪ ﺑﻠﻐﺖ ﺷﻬﺮﺗﻪ اﻵﻓﺎق ﺑﺎﻋﺘﺒﺎره املﻔ ﱢﻜﺮ اﻟﺮاﺋﺪ ﰲ ﻋﴫه ﺣﻴﺚ اﺑﺘﻜﺮ ﻧﻮﻋً ﺎ ﻣﻦ اﻟﻘﺼﺺ اﻧﺠﺬب إﻟﻴﻪ املﺸﻬﻮرون ﻣﻦ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ. وﻗﺪ ﺟﻠﺒﺖ ﻣﻜﺎﻧﺘﻪ املﺮﻣﻮﻗﺔ ﻋﻠﻴﻪ وﺑﺎل اﻟﺸﺎﺋﻌﺎت واﻷﻗﺎوﻳﻞ ،ﻓﻘﺪ أذﻳﻊ ﻋﻨﻪ أن املﻠﻚ أﻟﻔﺮﻳﺪ اﻟﻌﻈﻴﻢ ﻗﺪ دﻋﺎه إﱃ إﻧﺠﻠﱰا ﺣﻴﺚ ﻣﺎت ﻣﻄﻌﻮﻧًﺎ ﺑﺄﻗﻼم ﺗﻼﻣﻴﺬه. ﺗُﻮ ﱢُﰲ َ إرﻳﺠﻴﺎ ﰲ أواﺧﺮ ﻋﻘﺪ اﻟﺴﺒﻌﻴﻨﻴﺎت ﻣﻦ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ املﻴﻼدي )وﻻ ﻳﻌﻠﻢ أﺣﺪ أﻳﻦ وﻻ ﻛﻴﻒ ﻣﺎت( ،وﰲ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ وﺿﻌﺖ ﺣﺎﻟﺔ اﻟﻔﻮﴇ اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ وﺿﻌﻒ اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ اﻹﺻﻼﺣﺎت اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ اﻟﺘﻲ ِ ﻋﻤﻞ ﺷﺎرملﺎن وﺧﻠﻔﺎؤه ﻣﻦ ﺑﻌﺪه ﻋﲆ إدﺧﺎﻟﻬﺎ ﺗﺤﺖ ﺿﻐﻂ ﻄ َﻞ ﻏﺰاة اﻟﻔﺎﻳﻜﻨﺞ واملﺠﺮﻳﱡﻮن واﻟﺴﻼﺟﻘﺔ اﻟﺤﻴﺎة املﺪﻧﻴﺔ ،وﻋَ ﱠ ﻫﺎﺋﻞ ،ﻓﻤﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ ﻋَ ﱠ ﻄ َﻠ ِﺖ اﻟﻜﻨﺎﺋﺲ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺑﻮﻗﻮﻋﻬﺎ ﻓﺮﻳﺴﺔ ﻟﻠﻔﺴﺎد اﻟﺬي اﺳﺘﴩى ﰲ ﻛﻞ ﺟﺴﺪﻫﺎ ﺣﺘﻰ وﺻﻞ إﱃ اﻟﺒﺎﺑﺎ ،واﻧﺰوت ﻣﺴرية اﻟﻌﻠﻢ إﱃ اﻷدﻳﺮة ﻣﺮة أﺧﺮى .وﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﺎﴍ أﺟﺮى ﺑﻌﺾ اﻟﺒﻨﺪﻛﺘﻴني دراﺳﺎت ﺟﺎدﱠة ﰲ ﻋﻠﻢ املﻨﻄﻖ ودﺧﻠﻮا ﰲ ﻣﻨﺎﻇﺮات ﺑﺨﺼﻮص ﻣﺴﺄﻟﺔ اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ اﻟﻜﻠﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﺑﻮﺋﺜﻴﻮس ﻗﺪ ﻋﺮﺿﻬﺎ ﻣﻦ ﻗﺒ ُﻞ .وﻟﻢ ﺗﺒﺪأ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ 418
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
ﰲ إﺣﺮاز أيﱢ ﺗﻘﺪم ﺣﺘﻰ ﻗﺎﻣﺖ أوروﺑﺎ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺑﺬﻟﻚ ،ﻓﻤﻨﺬ ﺣﻮاﱄ ﻣﻨﺘﺼﻒ اﻟﻘﺮن اﻟﺤﺎدي ﻋﴩ ﺑﺪأت اﻟﺤﻀﺎرة اﻷوروﺑﻴﺔ ﰲ ﺟَ ﻨ ْ ِﻲ ﺛﻤﺎر اﻻﺳﺘﻘﺮار اﻟﺴﻴﺎﳼ واﻟﺘﻨﻤﻴﺔ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﱡ واﻟﺘﺤﴬ اﻟﺬي وﺻﻠﺖ إﻟﻴﻪ اﻟﺸﻌﻮب. واﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ )وﺑﺨﺎﺻﺔ ﰲ ﻣﺠﺎل اﻟﺰراﻋﺔ( وﻗﺪ ازداد ﺗﻌﺪاد اﻟﺴﻜﺎن ﰲ أوروﺑﺎ ﺣﺘﻰ وﺻﻞ ﻋﲆ اﻷرﺟﺢ إﱃ ﱢ اﻟﻀﻌﻒ ﺑﻞ إﱃ أرﺑﻌﺔ أﺿﻌﺎف ﰲ اﻟﻔﱰة ﺑني ﻋﺎﻣﻲ ١٠٠٠و١٢٠٠م .وﻣﻊ ﻧﻤﻮ اﻟﺘﺠﺎرة واﻻﻗﺘﺼﺎد اﻧﺘﻘﻞ ﱡ اﻟﺘﻐريات اﻟﺠﺪﻳﺪة ﰲ َﺧ ْﻠ ٌﻖ ﻛﺜري ﻟﻠﻌﻴﺶ ﰲ املﺪن واملﻨﺎﻃﻖ اﻟﺤﴬﻳﺔ .وﻗﺪ ﺻﺎﺣﺐ ﻫﺬه ﺗَ َﺮ ﱡﻛ ِﺰ اﻟﺜﺮوات زﻳﺎدة اﻟﻄﻠﺐ ﻋﲆ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ واﻟﺘﻮﺟﱡ ﻪ ﻧﺤﻮ اﻟﻨﺸﺎط اﻟﻔﻜﺮي .وﻟﻢ ﻳﺘﻀﺎﻋﻒ ﻋﺪد املﺪارس اﻟ َﻜﻨ َ ِﺴﻴﱠﺔ ﻓﺤﺴﺐ ،ﺑﻞ اﻧﺘﴩت املﺪارس اﻟﻌﻠﻤﺎﻧﻴﺔ ﺧﺎرج اﻟﻨﻈﺎم اﻟ َﻜﻨ َ ِﴘ ﻟﺘُﻘﺪﱢم ﺧﺪﻣﺎت ﺗﻌﻠﻴﻤﻴﺔ ﻟﻜﻞ ﺷﺨﺺ ﻗﺎدر ﻋﲆ ﺗﺤﻤﱡ ﻞ ﻣﴫوﻓﺎﺗﻬﺎ .وﻛﺎﻧﺖ »املﺪارس« ﻣﻜﺎن ﻵﺧﺮ ،ﺣﻴﺚ ﻛﺎن اﻟﺘﻼﻣﻴﺬ ﻳﺼﺎﺣﺒﻮن ﻣﻌﻠﻤﻬﻢ املﻮﻫﻮب ﰲ رﺣﻼﺗﻪ، ﺗﻨﺘﻘﻞ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻣﻦ ٍ ﻛﻤﺎ ﻛﺎن اﻟﺤﺎل ﻣﻊ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴني املﺘﺠﻮﱢﻟني ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺨﺎﻣﺲ ﻗﺒﻞ املﻴﻼد. ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ املﻨﻬﺞ اﻟﺘﻌﻠﻴﻤﻲ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪي ا ُمل َﻜﻮ ِﱠن ﻣﻦ اﻟﻔﻨﻮن املﺘﺤﺮرة واﻟﺘﺪرﻳﺐ ﻋﲆ اﻟﻄﻘﻮس اﻟﻼﻫﻮﺗﻴﺔ أﺻﺒﺢ اﻹﻋﺪاد ملﻬﻨﺔ املﺤﺎﻣﺎة واﻟﻄﺐ ﻣﺘﺎﺣً ﺎ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ .وﻧﻈ ًﺮا ﻟﺤﺎﺟﺔ اﻟﻄﻼب اﻟﺠُ ﺪُد إﱃ دراﺳﺔ ﻣﻮا ﱠد ﺗﻌﻠﻴﻤﻴﺔ ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك ﻣﺤﺎوﻻت ﻋﺎزﻣﺔ ﻻﺳﺘﻌﺎدة اﻟﺘﻤ ﱡﻜﻦ ﻣﻦ اﻟﺮواﺋﻊ اﻟﻼﺗﻴﻨﻴﺔ ﺣﻴﺚ ﺻﺎرت أﻋﻤﺎل املﻮﺳﻮﻋﻴني اﻟﻼﺗﻴﻨﻴني واﻷﺟﺰاء املﱰﺟَ ﻤﺔ ﻣﻦ ﻣﺤﺎورة »ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس« اﻟﺘﻲ ﻛﺘﺒﻬﺎ أﻓﻼﻃﻮن ﻣﺮاﺟﻊ ﰲ ﻋﻠﻢ اﻟﻜﻮﻧﻴﺎت واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ،ﻛﻤﺎ أن ﺑﻌﺾ اﻟﱰﺟﻤﺎت ﻟﻠﻨﺼﻮص اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﰲ ﻣﺠﺎﻻت اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت واﻟﻄﺐ ﻗﺪ اﻧﻀﻤﺖ إﱃ ﻫﺬا املﻨﻬﺞ ﺑﺠﺎﻧﺐ ﺗﺮﺟﻤﺎت ﺑﻮﺋﺜﻴﻮس ﻷﻋﻤﺎل أرﺳﻄﻮ ﰲ املﻨﻄﻖ وﺗﻌﻠﻴﻘﺎﺗﻪ ﻋﻠﻴﻬﺎ وﴍوﺣﻪ ﻟﻬﺎ واﻟﺘﻲ ﺣﻔﻈﻬﺎ اﻟﺪارﺳﻮن ﻋﻦ ﻇﻬﺮ ﻗﻠﺐ .وﻳُﺬْ َﻛ ُﺮ أن أﻫﻢ ﻣﺎ ﻃﺮأ ﻋﲆ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻣﻦ ﺗﻄﻮﻳﺮ ِ ﺟﺎء ﰲ ﺻﻮرة ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﺑﻌﺾ املﻐﺎﻣ ِﺮﻳﻦ ﻣﻦ املﻔﻜﺮﻳﻦ ﺗﻄﺒﻴﻖ اﻟﻮﺳﺎﺋﻞ اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ ﰲ ﻋِ ﻠ ِﻢ املﻨﻄﻖ ﻋﲆ اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ اﻟﺸﺎﺋﻜﺔ ﰲ اﻟﻼﻫﻮت .ﺑَﻴْ َﺪ أن اﻟﺨﻠﻂ ﺑني اﻟﺪﻳﻦ واملﻨﻄﻖ ﻗﺪ ﻳﻜﻮن أﻣ ًﺮا ﻣﺜريًا ﻟﻠﺨﻼف ﺑﻞ ً ﻋﻤﻼ ﺧﻄ ًﺮا ،وﻟﻜﻨﻪ ﻛﺎن ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﻟﻴﺼﺒﺢ أﻣ ًﺮا ﺣﺘﻤﻴٍّﺎ ﻻ ﻣﻔﺮ ﻣﻨﻪ. وﻗﺪ ﺗﻤﺜﱠﻠﺖ أﺷﻬﺮ ﻣﺤﺎوﻻت رﺑﻂ اﻟﺪﻳﻦ ﺑﺎملﻨﻄﻖ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻟﻌﺼﻮر ﻓﻴﻤﺎ ﻳ َُﺴﻤﱠ ﻰ ﺑﺎﻟﺪﻟﻴﻞ »اﻟﻮﺟﻮدي« املﺘﻌﻠﻖ ﺑﻮﺟﻮد اﻟﺮب واﻟﺬي ﻗﺪﻣﻪ اﻟﻘﺪﻳﺲ أﻧﺴﻠﻢ ) ،(١١٠٩–١٠٣٣وﻫﻮ رﺟﻞ ً رﺋﻴﺴﺎ إﻳﻄﺎﱄ اﻧﻀﻢ إﱃ ﻧﻈﺎم اﻟﻘﺪﻳﺲ ﺑﻨﺪﻛﺖ ﰲ ﻣﻘﺎﻃﻌﺔ ﻧﻮرﻣﺎﻧﺪي واﻧﺘﻬﻰ ﺑﻪ املﻄﺎف ﻷﺳﺎﻗﻔﺔ ﻛﺎﻧﱰﺑﺮي .ﻟﻄﺎملﺎ أراد أﻧﺴﻠﻢ أن ﻳﻌﺜﺮ ﻋﲆ »ﺣﺠﺔ واﺣﺪة ﻻ ﺗﺤﺘﺎج إﱃ أي إﺛﺒﺎت ٍ ﺑﺤﺚ ﻃﻮﻳﻞ ﻓﻘ َﺪ أﻧﺴﻠﻢ اﻷﻣﻞ ﰲ آﺧﺮ« ﻳﻤﻜﻨﻬﺎ أن ﺗﺜﺒﺖ وﺟﻮد اﻟﺮب وﻃﺒﻴﻌﺘﻪ .وﺑﻌﺪ اﻟﻌﺜﻮر ﻋﲆ ﺿﺎﻟﺘﻪ ،وﻟﻜﻦ ﺟﺎءَه اﻹﻟﻬﺎم ﻋﲆ ﺣني ﻏﻔﻠﺔ وﻫﻮ ﻳﺘﻠﻮ ﺻﻠﻮاﺗﻪ ﰲ ﺻﺒﻴﺤﺔ أﺣﺪ 419
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
اﻷﻳﺎم .وﻳﻘﻮل أﻧﺴﻠﻢ إﻧﻨﺎ ﻧﺆﻣﻦ أن اﻟﺮب ﻫﻮ »اﻟﻜﺎﺋﻦ اﻟﺬي ﻳﺴﺘﺤﻴﻞ ﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﺘﺼﻮر ﻣﺎ ﻫﻮ أﻋﻈﻢ ﻣﻨﻪ «.وﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﺘﻌﺮﻳﻒ املﺠﺮد ﻇﻦ أﻧﻪ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ اﺳﺘﺤﻀﺎر وﺟﻮد اﻟﺮب .وﻳﻘﻮل أﻧﺴﻠﻢ ﻛﺬﻟﻚ إﻧﻪ ملﺎ ﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﻜﺎﺋﻦ اﻷﻋﻈﻢ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق اﻟﺬي ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ ﺗﺼﻮره ﻣﻮﺟﻮدًا ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﰲ ﻋﻘﻮﻟﻨﺎ ﻓﺈن اﻟﺴﺆال املﺘﺒﻘﻲ ﻫﻮ ﻣﺎ إذا ﻛﺎن اﻟﺮب ﻣﻮﺟﻮدًا ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ أم ﻻ .وﻳُﺠﻴﺐ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﺴﺆال ً ﻗﺎﺋﻼ إن اﻟﺮب ﻣﻮﺟﻮد ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻷﻧﻪ إذا ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ اﻟﺮب ﻣﻮﺟﻮدًا إﻻ ﰲ اﻟﻌﻘﻞ ﻓﺈﻧﻪ ﻟﻦ ﻳﻜﻮن أﻋﻈﻢ ﻛﺎﺋﻦ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺼﻮﱡره ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ املﻄﺎف؛ ذﻟﻚ أﻧﻪ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺼﻮر ﳾء أﻋﻈﻢ ﻣﻨﻪ؛ أي اﻟﺮب املﻮﺟﻮد ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ .وملﺎ ﻛﺎن ﺗﻌﺮﻳﻒ اﻟ ﱠﺮبﱢ ﻫﻮ »اﻟﻜﺎﺋﻦ اﻟﺬي ﻳﺴﺘﺤﻴﻞ ﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﺘﺼﻮر ﻣﺎ ﻫﻮ أﻋﻈﻢ ﻣﻨﻪ« إذن ﻓﺎﻟﺮب ﻣﻮﺟﻮد. اﺳﺘﺘﺒﻊ ﻫﺬا اﻻﺳﺘﻨﺘﺎج املﻨﻄﻘﻲ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻷﺷﻴﺎء اﻷﺧﺮى ،أو ﻫﻜﺬا ﺗﺒني ﻷﻧﺴﻠﻢ، وﻟﻜﻦ املﺮﺣﻠﺔ اﻷوﱃ ﻣﻦ ﺟﺪاﻟﻪ املﻨﻄﻘﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﺴﻌَ ﻰ ﻹﺛﺒﺎت وﺟﻮد اﻟﺮب ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﻟﻔﺘَﺖ اﻧﺘﺒﺎه ﻣَ ﻦ ﺟﺎء ﺑﻌﺪه ﻣﻦ املﻔ ﱢﻜﺮﻳﻦ .وﻗﺪ اﻧﻬﺎر ﻫﺬا اﻹﺛﺒﺎت اﻟﻌﺒﻘﺮي ﺑﻞ املﻀ ﱢﻠﻞ ﺛﻢ أُﻋِ ﻴ َﺪ ﺑﻨﺎؤه ﻋﺪة ﻣﺮات ﻋﲆ ﻣَ ﱢﺮ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ .وﻗﺪ أملﺢ أﺣ ُﺪ املﻌﺎﴏﻳﻦ ﻷﻧﺴﻠﻢ إﱃ أن ﻫﺬا املﻨﻄﻖ ﻳﺘﻀﻤﱠ ﻦ أﻧﻪ ﰲ ﺑﻘﻌﺔ ﻣﺎ ﻣﻦ أﺣﺪ املﺤﻴﻄﺎت ﺗﻘﻊ ﺟﺰﻳﺮة ﻫﻲ أﻋﻈﻢ اﻟﺠﺰر اﻟﺘﻲ ً ﺳﺨﻴﻔﺎ ﺑﺎملﺮة .وﻗﺪ َر ﱠد أﻧﺴﻠﻢ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻨﺎﻗﺪ ،إﻻ أن رده ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ ﺗﺼﻮﱡرﻫﺎ ،اﻷﻣﺮ اﻟﺬي ﻳُﻌَ ﱡﺪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﻘﻨﻌً ﺎ ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻪ اﻟﻜﻔﺎﻳﺔ .وﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻟﺚ ﻋﴩ رﻓﺾ اﻟﻘﺪﻳﺲ ﺗﻮﻣﺎس اﻷﻛﻮﻳﻨﻲ ً ﻃﻮﻳﻼ ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ. اﻟﺪﻟﻴﻞ اﻟﺬي ﻗﺪﱠﻣﻪ أﻧﺴﻠﻢ ،وﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﻟﻢ ﻳُﻨ َ َﺎﻗ ْﺶ ﻫﺬا اﻟﺪﻟﻴﻞ ً ً ﻃﻔﻴﻔﺎ ،وﻛﺬﻟﻚ اﺧﺘﻼﻓﺎ وﻟﻜﻦ ﺑﻌﺪ أرﺑﻌﺔ ﻗﺮون أﺣﻴَﺎ دﻳﻜﺎرت ﻫﺬا اﻟﺪﻟﻴﻞ ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺨﺘﻠﻒ ﻓﻌﻞ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮﻓﺎن ﺳﺒﻴﻨﻮزا وﻻﻳﺒﻨﺘﺲ .ﻟﻘﺪ ﻫﺎﺟﻢ ﻛ ﱞﻞ ﻣﻦ ﻛﺎﻧﻂ وﻫﻴﻮم ﻫﺬا اﻟﺪﻟﻴﻞ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻣﻦ ﻋﴩ ﰲ ﺣني ﺣﺎول ﻫﻴﺠﻞ أن ﻳﻌﻴﺪه ﻣﺮة أﺧﺮى .وﰲ ﺑﺪاﻳﺔ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ دﺣﺾ ﺑﺮﺗﺮاﻧﺪ راﺳﻞ ﻫﺬا اﻟﺪﻟﻴﻞ ،إﻻ أن ذﻟﻚ ﻟﻢ ﻳَﻌْ ِﻦ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻷﻣﺮ؛ ﻓﻘﺪ ِ ﻋﻤﻞ ﻣﻨﺬ ذﻟﻚ اﻟﺤني اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﻨﺎس ﻋﲆ ﺑَﻌﺜِﻪ ﻣﻦ ﺟﺪﻳﺪ ﺑﻤﻦ ﰲ ذﻟﻚ ﻛريت ﺟﻮدل وﻫﻮ أﺣﺪ أﻋﻈﻢ ﻋﻠﻤﺎء اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ ،واﻟﺬي ﻛﺎﻧﺖ آراؤه ﻏﺮﻳﺒﺔ ﺑﻌﺾ اﻟﴚء .وﻗﺪ اﺳﺘﺤﺴﻦ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻼﻫﻮت ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ ﻫﺬا اﻟﺪﻟﻴﻞ. َ ﻟﻢ ﻳُﻘﺪﱢم أﻧﺴﻠﻢ دﻟﻴﻠﻪ اﻟﻮﺟﻮدي ﻟﻴﺤﺎول إﻗﻨﺎع ﻏري املﺆﻣﻨني ﺑﻞ ِﻟﻴُﺜﺒ َﱢﺖ ﻧﻔﺴﻪ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻫﻮ ﻋﻠﻴﻪ ،ﻓﻘﺪ ﻧﻈﻢ ﻫﺬه اﻟﺴﻠﺴﻠﺔ ﻣﻦ اﻟﺤﺠﺞ واﻟﱪاﻫني )اﻟﺘﻲ ﻗﺪﻣﻬﺎ ﰲ ﺻﻮرة ﺻﻠﻮات أو ﺗﺄﻣﱡ ﻼت( ﻷﻧﻪ أراد أن ﻳﺼﻞ إﱃ ﻓﻬﻢ ﻓﻜﺮي أﻋﻤﻖ ﻟﻠﺮب ﻓﻨﺮاه ﻳﺮﺗﻞ» :إﻟﻬﻲ! ﻟﻴﺴﺖ ﻫﻴﺒﺘﻚ ﻫﻲ ﻣﺎ أرﻳﺪ أن أدرﻛﻪ ﻷن ﻋﻘﲇ ﻟﻴﺲ ً أﻫﻼ ﻟﻬﺎ ،وﻟﻜﻨﻨﻲ أرﻏﺐ ﰲ َﻓﻬﻢ ﺑﻌﺾ اﻟﴚء ﻋﻦ ﺣﻘﻴﻘﺘﻚ «.ﻟﻘﺪ اﺳﺘﻌﺎن أﻧﺴﻠﻢ ﺑﺒﻌﺾ اﻷﺳﺎﻟﻴﺐ املﻨﻄﻘﻴﺔ ﻟﻠﺘﻌﺎﻃﻲ ﻣﻊ ﺑﻌﺾ اﻟﺘﺴﺎؤﻻت 420
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﻣﺘﻰ رأى ذﻟﻚ ﻣﺠﺪﻳًﺎ .وﻟﻬﺬا اﻟﺴﺒﺐ ﻛﺎن ﻳُﻄ َﻠﻖ ﻋﻠﻴﻪ ﰲ ﺑﻌﺾ اﻷﺣﻴﺎن ﻟﻘﺐ »أﺑﻮ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ املﺪرﺳﻴﺔ «.وﻟﻜﻦ ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن ﺗﺄﺛري أﻧﺴﻠﻢ اﻧﻌﻜﺲ ﻋﲆ اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑني اﻟﻔﻜﺮ واﻟﻠﻐﺔ واﻟﻮاﻗﻊ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻳﺨﻮض ﰲ ﺗﻠﻚ املﻮﺿﻮﻋﺎت ﻣﺎ داﻣﺖ ﻫﻨﺎك رؤﻳﺔ واﺿﺤﺔ املﻌﺎﴏﻳﻦ ﻟﻪ ﻛﺎن اﻫﺘﻤﺎم ﻟﻠﻤﺴﻴﺤﻴﺔ ﺗﺪﻋﻮ إﱃ اﻟﺨﻮض ﻓﻴﻬﺎ .وﻋﲆ ﻏﺮار ﻣﻌﻈﻢ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ِ ِ أﻧﺴﻠﻢ ﺑﺎملﻮﺿﻮﻋﺎت اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﻟﺬاﺗﻬﺎ ﻣﺤﺪودًا ،وﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻟﻢ ﺗ ُﻜﻦ ﻟﺪﻳﻪ رﻏﺒﺔ ﰲ اﻟﺘﺸﺪﻳﺪ ﻋﲆ أيﱟ ﻣﻦ املﻔﺎﻫﻴﻢ اﻟﻌﻘﺎﺋﺪﻳﺔ ﻟﻼﺳﺘﻔﺎدة ﻣﻨﻬﺎ ﺑﺸﻜﻞ أﻓﻀﻞ .وﻋﲆ ﻋﻜﺲ ﺑﻴﱰ أﺑﻴﻼر ) — (١١٤٢–١٠٧٩وﻫﻮ أوﱠل اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ املﻬﻤﱢ ني ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ورﺟﻞ ﻣﻦ ﻧﻮع ﻣﺨﺘﻠﻒ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ — ﻟﻢ ﻳﺠﻠِﺐ املﻨﻄﻖ ﻋﲆ أﻧﺴﻠﻢ أﻳﺔ ﻣﺘﺎﻋﺐ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق. ﻟﻘﺪ أﻃﻠﻖ أﺑﻴﻼر ﻋﲆ ﺳريﺗﻪ اﻟﺬاﺗﻴﺔ اﺳﻢ »ﺗﺎرﻳﺦ ﻣﺼﺎﺋﺒﻲ« .وﻛﺎن أﺷﻬﺮ ﻫﺬه املﺼﺎﺋﺐ ﻫﻮ ﺣﺎدﺛﺔ إﺧﺼﺎﺋﻪ اﻟﺘﻲ ﺗﻌﺮض ﻟﻬﺎ ﻋﲆ ﻳﺪ اﻷﻗﺎرب اﻟﻐﺎﺿﺒني ملﺤﺒﻮﺑﺘﻪ إﻟﻮاز .وﻗﺪ ذﻛﺮ ٍّ ِ ﻣﺴﺘﻐﻼ ﺷﺠﺎﻋﺘﻪ اﻷدﺑﻴﺔ وارﺗﺒﺎﻃﻪ اﻟﺸﺪﻳﺪ املﺆﺳﻒ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻏري ﻣﺒﺎﴍ ﻫﺬا اﻟﺤﺎدث ﺑﺎملﻨﻄﻖ وﻫﻮ ﻳﺮوي ﺣﻜﺎﻳﺘﻪ ﻓﻴﻘﻮل: ملﺎ ﻛﻨﺖ ﻗﺪ ﱠ ﻓﻀﻠﺖ ارﺗﺪاء درع املﻨﻄﻖ ﺳﻮى ﺑﺎﻗﻲ ﺗﻌﺎﻟﻴﻢ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻓﺈﻧﻨﻲ ﻗﺪ اﺳﺘﻐﻨﻴﺖ ﺑﻪ ﻋﻦ ﻛﻞ اﻟﺪروع اﻷﺧﺮى ،واﺧﱰت ﺧﻮض املﻨﺎﻇﺮات اﻟﻜﻼﻣﻴﺔ ً ﻣﻤﺎرﺳﺎ املﻨﻄﻖ ﻣﱰﻓﻌً ﺎ ﻋﻦ ﻏﻨﺎﺋﻢ اﻟﺤﺮب .ﻟﻘﺪ ﻛﻨﺖ أﺗﺠﻮل ﰲ ﻣﺨﺘﻠﻒ اﻟﺒﻠﺪان أﻳﻨﻤﺎ ﺳﻤﻌﺖ أن اﻟﺴﻌﻲ وراء ﻫﺬا اﻟﻔﻦ ﻛﺎن ﺣﻴٍّﺎ ﺑني اﻟﻨﺎس. وﺑﻌﺪ ﻓﱰة ﻗﺼرية أﺻﺒﺢ أﺑﻴﻼر ﻣﺤﺎﴐً ا ﻧﺎﺟﺤً ﺎ ﰲ ﺑﺎرﻳﺲ ﺣﻴﺚ ﻃﺮأت ﻋﲆ ﻋﻘﻠﻪ ﻓﻜﺮة اﺳﺘﻌﺮﺿﻬﺎ ً ﻗﺎﺋﻼ: داﺋﻤً ﺎ ﻣﺎ ﻳﺪﻓﻊ اﻟﻨﺠﺎح اﻟﺤﻤﻘﻰ إﱃ اﻟﻐﺮور وﺗﺪﻓﻊ اﻟﺮاﺣﺔ ﰲ اﻟﺪﻧﻴﺎ ﻗﻮة اﻟﻌﻘﻞ ً اﺳﺘﺠﺎﺑﺔ ﻟﻺﻏﺮاءات ﻧﺤﻮ اﻟﻀﻌﻒ واﻟﻮﻫﻦ ،وﺗﺠﻌﻞ أﻧﺴﺠﺘﻪ ﺗﺮﺗﺨﻲ ﺑﴪور اﻟﺠﺴﺪﻳﺔ .وﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬي ﺗﺄﻣﱠ ﻠﺖ ﻓﻴﻪ أﻧﻨﻲ ﻛﻨﺖ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف اﻷوﺣﺪ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ وﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻫﻨﺎك ﻣﺎ أﺧﺸﺎه ﻣﻦ اﻵﺧﺮﻳﻦ ،ﺑﺪأت أﻃﻠﻖ اﻟﻌﻨﺎن ﻷﺣﺎﺳﻴﴘ اﻟﺠﻴﺎﺷﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﴪي ﰲ ﻋﺮوﻗﻲ. وﰲ ﻫﺬا اﻟﻮﻗﺖ ﺻﺎدف أﺑﻴﻼر ﻣﺤﺒﻮﺑﺘﻪ إﻟﻮاز وﻫﻲ ﻓﺘﺎة »ذات ﺟﻤﺎل ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻋﺎدﻳٍّﺎ« ﻟﻬﺎ ً ﻣﻦ اﻟﱪاﻋﺔ اﻷدﺑﻴﺔ ﱠ ﻣﺄﻟﻮﻓﺎ ﻋﲆ اﻷﺧﺎذة واﻟﻨﺰﻋﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ اﻟﻔﺮﻳﺪة ﻣﻦ ﻧﻮﻋﻬﺎ ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ اﻟﻨﺴﺎء آﻧﺬاك .وﻳﺼﻒ أﺑﻴﻼر ﻫﺬا اﻟﻠﻘﺎء ً ﻗﺎﺋﻼ: 421
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻓﻬﺎ ﻫﻮ ذا اﺳﻤﻲ ﻋﲆ ﻛﻞ ﻟﺴﺎن ،وأﻣﻠﻚ ﻣﻦ ﻣﺰاﻳﺎ اﻟﺸﺒﺎب وآﻳﺎت اﻟﺠﻤﺎل ﻣﺎ ﻻ أﺧﴙ ﻣﻌﻪ أن ﺗﺮﻓﺾ اﻣﺮأة أﻳٍّﺎ ﻛﺎن ﺷﺄﻧﻬﺎ أن أﺗﻌ ﱠ ﻄﻒ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑﺤﺒﻲ .ﺷﻌﺮت أن ﻫﺬه اﻟﻔﺘﺎة ﺳﺘﻜﻮن أﻗﺮب ﻣﺎ ﻳﻜﻮن إﱄ ﱠ ﻧﻈ ًﺮا ﻟﻌﻠﻤﻲ ﺑﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺤﻤﻠﻪ ﻣﻦ ﻣﻌﺮﻓﺔ أدﺑﻴﺔ وﺗﻌﺘﺰ ﺑﻪ. ُﺆوﻳﻪ ﰲ ﺑﻴﺘﻪ ورﺗﱠﺐ ﻟﻴﻜﻮن ﻣﻌﻠﻤً ﺎ ﻟﻬﺎ .وﻟﻢ ﻳﺼﺪق أﺑﻴﻼر ﺣﺴﻦ أﻗﻨﻊ أﺑﻴﻼر ﻋﻢ اﻟﻔﺘﺎة أن ﻳ ِ ﻃﺎﻟﻌﻪ ﻓﻴﻘﻮل» :ﻟﻘﺪ وﺿﻊ اﺑﻨﺔ أﺧﻴﻪ ﺗﺤﺖ ﺗﴫﱡﰲ .وﻟﻘﺪ ذﻫﻠﺖ ﻣﻦ ﺳﺬاﺟﺔ اﻟﺮﺟﻞ إزاء ﻫﺬا اﻟﻮﺿﻊ ،وﻟﻮ أﻧﻪ ﻋﻬﺪ ﺑﺤﻤَ ﻞ ودﻳﻊ إﱃ ﻋﻨﺎﻳﺔ ذﺋﺐ ﻣﻔﱰس ملﺎ ﻛﻨﺖ أﺷﺪ ﻣﻦ ذﻟﻚ دﻫﺸﺔ ً وذﻫﻮﻻ«. وﻗﺪ أﻓﴣ ﻫﺬا اﻟﻮﺿﻊ إﱃ ﻣﻮﻟِﺪ ﻃﻔﻞ أﺳﻤﻴﺎه أﺳﻄﺮﻻب .وﺗﺮﻫﺒﻨﺖ إﻟﻮاز وﺻﺎرت ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ رﺋﻴﺴﺔ ﻟﺪﻳﺮ ﻣﻦ اﻟﺮاﻫﺒﺎت ﻛﺎن أﺑﻴﻼر ﻗﺪ ﺑﻨﺎه ﰲ أﺣﺪ املﺼﻠﻴﺎت .وﻇﻞ أﺑﻴﻼر َ َ وﺗﺒﺎدﻻ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺮﺳﺎﺋﻞ واﻟﺨﻄﺎﺑﺎت اﻟﺘﻲ ﺑﺴﺒﺒﻬﺎ أﺻﺒﺤﺖ ﻣﺨﻠﺼ ْني ﻟﺒﻌﻀﻬﻤﺎ وإﻟﻮاز ﻗﺼﺘﻬﻤﺎ ﻣﻦ أﺷﻬﺮ ﻗﺼﺺ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ. وﺗﺴﺒﺒﺖ ﻣﻮﻫﺒﺔ أﺑﻴﻼر اﻟﺘﻲ ﻧﻀﺠﺖ ﻗﺒﻞ اﻵوان ﰲ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ املﺸﻜﻼت ﻟﻪ ﻃﻮال ﺣﻴﺎﺗﻪ املﻬﻨﻴﺔ ،ﻓﻘﺪ أﻫﺎن ﻣﻌ ﱢﻠﻤﻪ اﻷول وأذﻟﻪ ﺛﻼث ﻣﺮات ﰲ ﻣﻨﺎﻇﺮات ﺟﻤﻌﺖ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﺣﻮل ﻣﺴﺄﻟﺔ اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ اﻟﻜﻠﻴﺔ .وﻗﺪ ﻛﺎن أﺑﻴﻼر ً ﻣﻴﺎﻻ ﻟﻮﺻﻒ وﺟﻬﺎت ﻧﻈﺮ زﻣﻼﺋﻪ املﺘﻔﻮﻗني َوﻧَﻌْ ﺘِﻬَ ﺎ ﺑ »املﺠﻨﻮﻧﺔ« ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﺘﺸﺎﺟﺮ ﻣﻊ ﻛﻞ ﻣﻦ ﺣﻮﻟﻪ .وﻛﻠﻤﺎ زاد ﻋﺪد اﻟﻄﻼب اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺄﺧﺬﻫﻢ أﺑﻴﻼر ﻣﻤﱠ ﻦ ﻫﻢ أﻛﱪ ﻣﻨﻪ ﺳﻨٍّﺎ أو ﻣﻦ رﺟﺎل اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ اﻟﺒﺎرزﻳﻦ ﺗﻌﺎﻇﻤﺖ ُروح ً رﺋﻴﺴﺎ ﻷﺣﺪ اﻟﺤﺴﺪ ﺿﺪه وﺗﺰاﻳﺪت ﻧﺰﻋﺔ املﻨﺎﻓﺴﺔ ﻟﻪ .وﰲ إﺣﺪى املﻨﺎﺳﺒﺎت اﻧْﺘُﺨِ ﺐَ أﺑﻴﻼر اﻷدﻳﺮة ﺑﻤﻨﻄﻘﺔ ﺑﺮﺑﺮﻳﺔ ﰲ إﻗﻠﻴﻢ ﺑﺮﻳﺘﺎﻧﻲ ،وﻛﺎن رﻫﺒﺎن ﻫﺬا اﻟﺪﻳﺮ ﻳﻜﻴﺪون ﻟﻪ ﻋﲆ اﻟﺪوام ﺣﺘﻰ إﻧﻬﻢ ﺣﺎوﻟﻮا َﺳﻤﱠ ُﻪ ﰲ إﺣﺪى املﺮات .وﻗﺪ وﺟﻪ إﻟﻴﻪ ﻣﺠﻠﺲ اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ اﻟﻨﻘﺪ اﻟﻼذع ﻣﺮﺗني ،وﺗﺂﻣﺮ أﻋﺪاؤه ﻋﻠﻴﻪ ﻟﻴﺠﻌﻠﻮا اﻟﺒﺎﺑﺎ ﻳﺼﺪر ﻋﻠﻴﻪ ﺣﻜﻤً ﺎ ﻳﺪﻳﻨﻪ ﺑﺎﻻﺑﺘﺪاع وﻳُﺤَ ﱢﺮ ُم ﻋﲆ ﺗﺎﺑﻌﻴﻪ دﺧﻮل اﻟﻜﻨﺎﺋﺲ وﻳﺄﻣﺮ ﺑﺤﺮق ﻛﻞ ﻣﺆﻟﻔﺎﺗﻪ )وﻗﺪ أُﺑ ِْﻄ َﻞ ﻫﺬا اﻟﺤﻜﻢ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪُ(. ﻗﺪ ﻧﺘﻌﺎﻃﻒ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻣﻊ ﻣﻀﻄﻬﺪي أﺑﻴﻼر اﻟﺬﻳﻦ ﻋﺎﻧﻮا ﻣﻦ ﻏﻄﺮﺳﺘﻪ وﺗﻌﺠﺮﻓﻪ اﻟﺪاﺋﻤني إﻻ أﻧﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﻜﻮﻧﻮا أﻗﻞ ﻣﻨﻪ ﻋﺠﺮﻓﺔ ،ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻋﺪوﱡه اﻟﻠﺪود اﻟﻘﺪﻳﺲ ﺑريﻧﺎرد اﻟﻜﻠريﻓﻮﻧﻲ واﺣﺪًا ﻣﻦ أﺷﺪ اﻟﻨﺎس ﻗﺴﻮة وأوﺳﻌﻬﻢ إﺛﺎرة ﻟﺴﺨﻂ اﻟﺠﻤﺎﻫري وأﻛﺜﺮﻫﻢ ﻣﻌﺎداة ﻟﻠﺴﺎﻣﻴﺔ ﰲ ﻋﴫه .وﻗﺪ ﻋﺎرض ﺑﺸﺪة اﻟﺼﻮرة املﺤﱰﻣﺔ ﻟﻠﻴﻬﻮد اﻟﺘﻲ ﻇﻬﺮت ﰲ ﻛﺘﺎب أﺑﻴﻼر املﻌﻨﻮن »ﺣﻮار ﺑني ﻓﻴﻠﺴﻮف وﻳﻬﻮدي وﻣﺴﻴﺤﻲ« ﺑﺴﺒﺐ ﻋﺪم ﺗﺴﺎﻣُﺤﻪ وﺿﻴﻖ أﻓﻘﻪ. 422
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
ﻛﺎﻧﺖ أﻓﻀﻞ أﻋﻤﺎل أﺑﻴﻼر ﻣﺨﺼﺼﺔ ﻟﻌﻠﻢ املﻨﻄﻖ ،وﻟﻢ ﺗﺘﻀﻤﱠ ﻦ ﻫﺬه اﻷﻋﻤﺎل ﰲ ﺗﻠﻚ اﻷﻳﺎم دراﺳﺔ ﻃﺮق اﻟﺘﻔﻜري ﻓﺤﺴﺐ ،ﺑﻞ ﺗﻨﺎوﻟﺖ ﻗﻀﺎﻳﺎ اﻟﻠﻐﺔ واملﻌﺎﻧﻲ ﻣﺜﻞ ﻣﺴﺄﻟﺔ اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ اﻟﻜﻠﻴﺔ .وﺣﺘﻰ ﻫﺬه املﻮﺿﻮﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺒﺪو ﻫﺎدﺋﺔ ﻗﺪ أﺛﺎرت ﻣﺠﺎدﻻت ﺣﺎﻣﻴﺔ اﻟﻮﻃﻴﺲ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻷﻳﺎم ﻟﻴﺲ ﻷﻧﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ً أرﺿﺎ ﺧﺼﺒﺔ ﻟﻠﻤﻨﺎﻇﺮات اﻟﻔﻜﺮﻳﺔ ﻓﺤﺴﺐ ،ﺑﻞ ﻷن ﻧﻈﺮﻳﺎت املﻨﻄﻖ ﻗﺪ ﺗﻜﻮن ﻟﻬﺎ ﺗ ِﺒﻌﺎت دﻳﻨﻴﺔ )ﻛﻘﻀﻴﺔ اﻟﺜﺎﻟﻮث ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل( .وﻗﺪ ﺗﺠﺎوز ﻓﻀﻮل أﺑﻴﻼر اﻟﻔﻜﺮي وﺷﺠﺎﻋﺘﻪ اﻷدﺑﻴﺔ ﰲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻷﻣﻮر ﺣﺪود اﻟﻼﻫﻮﺗﻴﺔ وأﺧﺮج ﻟﻨﺎ ً ﻋﻤﻼ ﻣﻦ أﺷﺪ اﻷﻋﻤﺎل ﺗﺄﺛريًا ﺑﻌﻨﻮان »ﻣﻊ وﺿﺪ« ،وﻗﺪ ﺣﻮى ﻫﺬا اﻟﻌﻤﻞ ﺑني ﱠ ً ﺗﻨﺎﻗﻀﺎ دﻓﺘﻴﻪ ١٥٨ ً ً ﻃﺮﻗﺎ ﻟﺘﻘﻴﻴﻢ اﻟﺤﺠﺞ ﺻﺎرﺧﺎ ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺎب املﻘﺪﱠس وﻣﻦ أﻋﻤﺎل ﻛﻬﻨﺔ اﻟﻜﻨﺎﺋﺲ ،ﺛﻢ وﺿﻊ ً وﺻﻮﻻ إﱃ اﻟﻘﻮل اﻟﻔﺼﻞ ﰲ اﻷﺧري .وﻛﺎن اﻟﻬﺪف ﻣﻦ ﺗﻠﻚ املﺴﺘﺨﺪَﻣﺔ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺘﻨﺎﻗﻀﺎت املﻤﺎرﺳﺎت اﻟﺠﺪﻟﻴﺔ أن ﺗﻜﻮن ﻧﻤﻮذﺟً ﺎ ﻟﻺﺟﺮاءات املﺪرﺳﻴﺔ املﺘﺒَﻌﺔ ﰲ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ اﻟﺠﺎﻣﻌﻲ. ﺼ ﱢﻮ ُر ﺑﻌﺾ ﻛﺘﺎﺑﺎت أﺑﻴﻼر اﻷﺧﺮى ﻛﺎﺗﺒﻬﺎ ﻋﲆ أﻧﻪ أول ﻓﻴﻠﺴﻮف أﺧﻼﻗﻲ َ َوﺗُ َ ﺣﴬ ﺑﺠ ﱢﺪﻳﱠﺔ ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ﺣﻴﺚ ﺟﺎوز أﺑﻴﻼر اﻟﻌﺎدات املﺘﻌﺎ َرف ﻋﻠﻴﻬﺎ ﰲ اﻟﻮﻋﻆ اﻟﺪﻳﻨﻲ ِ ﱢ واﻟﺴ َري اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ واملﻨﻄﻮﻳﺔ ﰲ أﻏﻠﺐ اﻷﺣﻴﺎن ﻋﲆ ﺑﻌﺾ اﻻﻗﺘﺒﺎﺳﺎت ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺎب املﻘﺪس املﺘﻮاﺗﺮة ،ﻛﻤﺎ ﺣﺎول ﺗﻄﺒﻴﻖ اﻟﺘﺤﻠﻴﻞ املﻨﻄﻘﻲ ﻋﲆ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﺨري اﻷﺧﻼﻗﻲ .وﻻﻛﺘﺸﺎف ﻣﺎ ﺗﺼﺒﻮ إﻟﻴﻪ اﻟﺨﻄﻴﺌﺔ واﻟﻔﻀﻴﻠﺔ ﺑﺪأ أﺑﻴﻼر ﰲ ﺗﻤﻴﻴﺰ املﻌﺎﻧﻲ املﺨﺘﻠﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻮﺻﻒ أﻣﺮ ﻣﺎ ﻋﲆ أﺳﺎﺳﻬﺎ ﺑﺄﻧﻪ ﺧري أو ﴍ ،ﻓﻬﻨﺎك اﺳﺘﺨﺪاﻣﺎت ﻟﻜﻠﻤﺔ »ﺧري« ﻻ ﻳ ُْﻘ َ ﺼ ُﺪ ﺑﻬﺎ أي ﻣﻌﻨﻰ أﺧﻼﻗﻲ ﻣﺜﻞ ﻋﺒﺎرة »ﺧري ﻳﻮم ﻟﻠﺼﻴﺪ« و»ﺧري ﺳﻜني ﻟﻠﺘﻘﻄﻴﻊ« ،وﺛﻤﺔ اﺳﺘﺨﺪاﻣﺎت أﺧﺮى ﻟﻜﻠﻤﺔ »ﺧري« ﺗﺒﺪو أﺧﻼﻗﻴﺔ وﻟﻜﻦ أﺑﻴﻼر ﻗﺎل إﻧﻬﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﻛﻤﺎ ﺗﺒﺪو ﰲ ﻇﺎﻫﺮﻫﺎ ﻣﺜﻞ ﻋﺒﺎرة» :ﻣﻦ اﻟﺨري أن ﺣﺪث ﻛﺬا وﻛﺬا «.وﻳﺮى أﺑﻴﻼر أﻧﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻧﻘﻮل إﻧﻪ ﻣﻦ اﻟﺨري أن ﺣﺪﺛًﺎ ﻣﻌﻴﻨًﺎ ﻗﺪ وﻗﻊ ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻧﻘﻮل إن ﻫﺬا اﻟﺤﺪث ﻟﻌِ ﺐ دو ًرا ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﰲ اﻟﺨﻄﺔ اﻹﻟﻬﻴﺔ. وﻧﺤﻦ ﻻ ﻧُﺼﺪِر أﺣﻜﺎﻣً ﺎ أﺧﻼﻗﻴﺔ ﻋﻠﻴﻪ ﻷﻧﻨﺎ ﺑﺬﻟﻚ ﻧﺼﺪر أﺣﻜﺎﻣً ﺎ ﻋﲆ اﻟﺮب .وﻧُﺠْ ِﻤ ُﻞ اﻟﻘﻮل ﰲ أن ﻛﻞ ﳾء ﻋﻨﺪ اﻟﺮب اﻟﺤﻜﻴﻢ ﺑﻘﺪر؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﺎﻷﻣﺮ ﻛﻠﻪ ﺧري .وﻳﺴﺘﻨﺘﺞ أﺑﻴﻼر ﻣﻦ ذﻟﻚ أن اﻻﺧﺘﻼف ﺑني اﻟﻔﻌﻞ َ ري واﻟﻔﻌﻞ اﻟﴩﻳﺮ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻤﻦ اﻟﺨ ﱢ ِ ﰲ ﻋﻮاﻗﺐ اﻷﻣﻮر ﻟﻜ ﱟﻞ ﻣﻨﻬﻤﺎ؛ ذﻟﻚ أن ﻛﻞ ﻓﻌﻞ ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ املﻄﺎف ﻓﻴﻪ ﺧري ﻣﻦ وﺟﻬﺔ ﻧﻈﺮ اﻟﺮب اﻟﺒﺼري اﻟﺬي ﻳﺘﺼﻒ ﺑﺎﻟﺨري املﻄﻠﻖ. ً ﻟﻘﺪ اﺳﺘﻨﺘﺞ أﺑﻴﻼر أن اﻟﺨري اﻷﺧﻼﻗﻲ ﻳﺠﺐ أن ﻳﻜﻮن ﺑﺎﻷﺣﺮى ﻣﺘﻌﻠﻘﺎ ﺑﻤﺴﺄﻟﺔ اﻟﻨﻮاﻳﺎ اﻟﺤﺴﻨﺔ؛ ﻓﺎﻟﻨﻮاﻳﺎ ﻫﻲ اﻟﴚء اﻟﻮﺣﻴﺪ اﻟﺬي ﺳﻴﻨﻈﺮ إﻟﻴﻪ اﻟﺮب ﺣﻴﻨﻤﺎ ﻳﻀﻊ اﻟﻨﺎس ﻋﲆ املﻴﺰان ﻳﻮم اﻟﺤﺴﺎب )ورﻏﻢ ذﻟﻚ ﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﻜﻮن ﻋﲆ ﻇﻬﺮ اﻷرض أﺷ ﱠﺪ ﻗﺴﻮة وأﻛﺜﺮ 423
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
اﺳﺘﻌﺪادًا ﰲ أﺣﻜﺎﻣﻨﺎ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ﻣﺎ دُﻣﻨَﺎ ﻻ ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻧ َ ﱠ ﻄ ِﻠ َﻊ ﻋﲆ ﻣﺎ ﰲ ﻗﻠﻮب اﻟﺒﴩ أو أن ﻧﻌﺮف ﻧﻮاﻳﺎﻫﻢ ،ﻛﻤﺎ أﻧﻨﺎ ﻧﺤﺘﺎج إﱃ ﺗﺸﺠﻴﻊ ﺑﻌﺾ اﻟﺴﻠﻮﻛﻴﺎت وردع أﺧﺮى( .وﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎﻟﺴﺆال ﻋﻦ ﻛﻴﻔﻴﺔ ﺗﺤﺪﻳﺪ اﻟﻨﻮاﻳﺎ ﺳﻮاء ﺑﺎﻟﺨري أو ﺑﺎﻟﴩ ﻓﻘﺪ أﺟَ ﺎبَ ﻋﻠﻴﻪ أﺑﻴﻼر إﺟﺎﺑﺔ ﻻﻫﻮﺗﻴﺔ ﺧﺎﻟﺼﺔ ً ﻗﺎﺋﻼ إن اﻻﺧﺘﻼف ﻳﻜﻤﻦ ﰲ اﺗﺒﺎع أواﻣﺮ اﻟﺮب أو ﺑﺎﻷﺣﺮى ﻣﺎ ﻧﺆﻣِﻦ أﻧﻬﺎ أواﻣﺮ اﻟ ﱠﺮبﱢ ؛ ﻓﺎﻟﺮﺟﻞ ﻳﺄﺛَﻢ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺴﺘﻬني ﺑﻤﺎ ﻳﻌﺘﱪه ِ أواﻣ َﺮ اﻟﺮب وﻳﻜﻮن ﻋﺒﺪًا ﺷﻜﻮ ًرا ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳُﻌَ ﱢ ﻈ ُﻢ ﻫﺬه اﻷواﻣﺮ .وﻫﻜﺬا ﻧ َ ِﺠ ُﺪ أن ﻓﻠﺴﻔﺔ أﺑﻴﻼر اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ﻣﺴﺘﻘ ﱠﻠﺔ ﺑﺎﻟﻜﻠﻴﺔ ﻋﻦ دﻳﻨﻪ ،ﻓﻼ ﻳﺴﺘﻌني ﺑﺒﻌﺾ اﻟﻨﺼﻮص اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ إﻻ ً ﻗﻠﻴﻼ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻓﻌﻞ ﻣَ ﻦ ﻫﻮ أﻗﻞ ﻣﻨﻪ ﺷﺄﻧًﺎ ﻣﻦ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﺴﺎﺑﻘني واملﻌﺎﴏﻳﻦ ﻟﻪ .وﻗﺪ اﺳﺘﻐﻞ أﺑﻴﻼر اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ُ اﻟﻔﺮص ﻟﻴﻨﻘﻲ اﻟﻔﻜﺮ اﻷﺧﻼﻗﻲ املﺴﻴﺤﻲ ﻣﻦ ﺧﻼل ﻟﻔﺖ اﻻﻧﺘﺒﺎه إﱃ أن اﻟﺘ ِﺒﻌﺎت اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﺗﺮﺗﻜﺰ ﻋﲆ اﻟﻨﻴﺔ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ املﻔﺘﺎح اﻟﺬي ﻳﺤﺪﱢد ﻣﻌﺎ ِﻟ ِﻢ ارﺗﻜﺎب اﻟﺨﻄﻴﺌﺔ .وﻳﻘﻮل أﺑﻴﻼر ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املِ ﺜَﺎل إن اﻟﻴﻬﻮد اﻟﺬﻳﻦ اﺿﻄﻬﺪوا املﺴﻴﺢ ﻟﻦ ﻳﻜﻮﻧﻮا آﺛﻤني إن ﻛﺎﻧﻮا ﻗﺪ آﻣﻨﻮا أﻧﻬﻢ ﻳُﻨ َ ﱢﻔﺬُ َ ون ﻣﺸﻴﺌَﺔ اﻟ ﱠﺮبﱢ ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻔﻌﻠﻮﻧَﻪ ﻋﲆ اﻷرﺟﺢ .وﻗﺪ ﻛﺎن اﻟﺘﻌﺒريُ ﻋﻦ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻵراء واﻟﻨﻈﺮﻳﺎت وﺑﺨﺎﺻﺔ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻋﴩ ﰲ ﺷﻤﺎل أوروﺑﺎ ﻳُﻌَ ﱡﺪ أﻣ ًﺮا ﺷﺠﺎﻋً ﺎ وﺧﻄريًا ،إﻻ أﻧﻪ ﺧﺮج ﻣﻦ أﺑﻴﻼر ﰲ إﻃﺎر ﻣﻘﺪﱢﻣﺎﺗﻪ املﻨﻄﻘﻴﺔ املﺪروﺳﺔ ﺟﻴﺪًا ﻓﻠﻢ ﻳﱰدد ﰲ ﻗﻮﻟﻪ. وﻗﺪ ﻛﺎن ﺗﺤﻠﻴﻞ أﺑﻴﻼر ﻟﻠﻤﺒﺎدئ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ أﻗ ﱠﻞ ﺗﻌﻘﻴﺪًا ﻣﻦ ﺗﺤﻠﻴﻞ أرﺳﻄﻮ ،وﻟﻜﻦ ً ﻣﺪﻫﺸﺎ ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻪ اﻟﻜﻔﺎﻳﺔ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻷﻳﺎم؛ ﺣﻴﺚ اﻧﺘﻬﺎج ﻣﻨﺎﻫﺞ اﻟﺘﻔﻠﺴﻒ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻳُﻌَ ﱡﺪ إﻧﺠﺎ ًزا إﻧﻨﺎ ﻟﻮ ﻧﻈﺮﻧﺎ إﱃ ﻣﺎ ﺗﺒﻘﻰ ﻣﻦ اﻟﱰاث اﻟﻌﻠﻤﻲ ﻋﲆ ﻗِ ﱠﻠﺘ ِِﻪ ﻟﻮﺟﺪﻧﺎ أن املﻔﻜﺮﻳﻦ ﰲ ﻋﴫ أﺑﻴﻼر ﻛﺎﻧﻮا ﰲ ﻛﻔﺎح ﻣﻦ أﺟﻞ إﻋﺎدة اﻛﺘﺸﺎف ﻣﺎ ﺗﻌ ﱠﻠﻤﻪ اﻵﺧﺮون ﻣﻨﺬ زﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ .وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه املﺮﺣﻠﺔ ِ املﺆﺳﻔﺔ ﰲ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻔﻜﺮ اﻟﻐﺮﺑﻲ ﻋﲆ ﻃﺮﻳﻖ اﻹﺻﻼح ،وﻟﻜﻦ أﺑﻴﻼر ﻣﺎت ً ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﺑﻘﻠﻴﻞ .وﻟﻮ أﻧﻪ ﻋﺎش ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ اﻟﺰﻣﺎن ﺑﻘﺮن واﺣﺪ ﻟﻮﺟﺪ ﻓﻴﻀﺎ ﻏﺎﻣ ًﺮا ﻣﻦ ﻋﻠﻮم اﻟﻘﺪﻣﺎء .وﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬي ﻣﺎت ﻓﻴﻪ أﺑﻴﻼر ﰲ ﻣﻨﺘﺼﻒ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻋﴩ ﺑﺪأت ﺗﻬﺐ ﻋﲆ أوروﺑﺎ اﻟﺸﻤﺎﻟﻴﺔ رﻳﺎح ﺗﺮﺟﻤﺔ اﻷﻋﻤﺎل اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ واﻟﻌﺮﺑﻴﺔ واﻟﻴﻬﻮدﻳﺔ ﰲ ﻋﻠﻮم اﻷﺧﻼق واملﻨﻄﻖ واﻟﻄﺐ واﻟﻔﻠﻚ واﻟﻜﻴﻤﻴﺎء واﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت واﻟﻌﻠﻮم اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ .وﻗﺪ َﻗﻮﱠى ذﻟﻚ ﻣﻌﺎﻳري اﻟﺠﺪال ﰲ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ املﻮﺿﻮﻋﺎت .وﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن اﻟﻐﺮب اﻟﻼﺗﻴﻨﻲ ﻛﺎن ﻣﺘﺄﺧ ًﺮا ﺑﺒﻀﻌﺔ ﱠ ﺗﻮﺻﻞ إﻟﻴﻪ اﻟﻘﺪﻣﺎء ﻣﻦ إﻧﺠﺎزات؛ ﻗﺮون ﻋﻦ املﺮﺣﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻨﻪ ﻓﻴﻬﺎ إﻋﻼن ﻟﺤﺎﻗﻪ ﺑﻤﺎ ﻓﺈﻧﻪ ﻗﺪ ﻛﺎن ُ ﻳﺸ ﱡﻖ ﻃﺮﻳﻘﻪ إﻟﻴﻬﻢ ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ املﻄﺎف. ﻟﻘﺪ اﻧﺘﻌﺸﺖ ﺣﺮﻛﺔ اﻟﱰﺟﻤﺔ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﻌﺪة أﺳﺒﺎب ﻛﺎن ﻣﻦ أﻫﻤﻬﺎ اﺳﺘﻌﺎدة املﺴﻴﺤﻴني ﻟﻸﻧﺪﻟﺲ ﻣﻦ اﻟﻌﺮب ،ﺣﻴﺚ اﺳﺘﻄﺎﻋﻮا أن ﻳ ُِﻄ ﱡﻠﻮا ﺑﺴﻬﻮﻟﺔ ﻋﲆ اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ واﻟﺤﻀﺎرة 424
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻋﻤﻞ املﺴﻠﻤﻮن ﻋﲆ ﺣﻤﺎﻳﺘﻬﺎ وﺣﻔﻈﻬﺎ .وﻗﺪ ﺳﺎﻓﺮ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺒﺎﺣﺜني املﺴﻴﺤﻴني إﱃ إﺳﺒﺎﻧﻴﺎ ﻟﻴﺘﻌﻠﻤﻮا اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ وﻟﻴﺒﺤﺜﻮا ﻋﻦ ﻛﺘﺐ اﻟﻌﻠﻤﺎء اﻟﻌﺮب ﻟﻴﱰﺟﻤﻮﻫﺎ ُ ً أﺻﻮﻻ ﻋﺮﺑﻴﺔ وأﺧﺮى ﺗﺮﺟﻤﺎت ﴎﻳﺎﻧﻴﺔ ﻟﻨﺴﺦ ﺑﻌﺾ ﻫﺬه اﻟﻜﺘﺐ إﱃ اﻟﻼﺗﻴﻨﻴﺔ .وﻗﺪ ﻛﺎن ﻋﺮﺑﻴﺔ ﻣﻦ اﻷﻋﻤﺎل اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ .وﻛﺎن ﺟريارد اﻟﻜﺮﻳﻤﻮﻧﻲ ﻣﻦ ﺑني ﻫﺆﻻء اﻟﻌﻠﻤﺎء اﻟﺬﻳﻦ ﺳﺎﻓﺮوا ﺣﻴﺚ ﺳﺎﻓﺮ إﱃ إﺳﺒﺎﻧﻴﺎ وﺗﺮﺟﻢ ﺳﺒﻌﺔ ﻋﴩ ً ﻋﻤﻼ ﰲ ﻋﻠﻤﻲ اﻟﺤﺴﺎب واﻟﺒﴫﻳﺎت واﺛﻨﻲ ﻋﴩ أو أﻛﺜﺮ ﰲ ﻋﻠﻢ اﻟﻔﻠﻚ وأرﺑﻌﺔ ﻋﴩ ﰲ املﻨﻄﻖ واﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ،ﻛﻤﺎ ﺗﺮﺟﻢ أرﺑﻌً ﺎ وﻋﴩﻳﻦ ً رﺳﺎﻟﺔ ﰲ اﻟﻄﺐ .وﺗُ ْﺮ ِﺟﻤَ ْﺖ ﺑﻌﺾ اﻟﻜﺘﺐ اﻟﺘﻲ أُﺗ َِﻲ ﺑﻬﺎ ﻣﻦ ﺻﻘﻠﻴﺔ واﻟﻘﺴﻄﻨﻄﻴﻨﻴﺔ ﺑﻮﺟﻪ ﻋﺎ ﱟم ﻣﺒﺎﴍة ﻣﻦ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ ﻋﲆ أﻳﺪي ﺑﺎﺣﺜني ﻻﺗﻴﻨﻴني ﻛﺎﻧﻮا ﻻ ﻳﺰاﻟﻮن ﻳ ِ ُﻤﺴﻜﻮن ﺑﻨﺎﺻﻴﺔ اﻟﻠﻐﺔ .وﻗﺪ أدﱠى اﻻزدﻳﺎد امل ﱠ ﻄﺮد ﰲ أﻋﺪاد املﺪارس وأﺣﺠﺎﻣﻬﺎ وإﻧﺸﺎء أول ﺟﺎﻣﻌﺎت ﰲ ﱢ ﻣﺤﻔﺰات اﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﺑﺎرﻳﺲ وأﻛﺴﻔﻮرد ﰲ اﻟﺮﺑﻊ اﻷول ﻣﻦ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻟﺚ ﻋﴩ إﱃ زﻳﺎدة ﻫﺬه املﺆ ﱠﻟﻔﺎت وﺗﺮﺟﻤﺘﻬﺎ وﻧﴩﻫﺎ. ﰲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬي أﺻﺪرت ﻓﻴﻪ ﺟﺎﻣﻌﺔ ﺑﺎرﻳﺲ ﻣﻴﺜﺎﻗﻬﺎ ﻋﺎم ١٢١٠م واﺟﻪ ﻣﻔﻜﺮو اﻟﻐﺮب ً ً ﻓﺒﺪﻻ ﻣﻦ ﺳﻌﻴﻬﻢ ﺟﺎﻫﺪﻳﻦ ﻻﺳﺘﻌﺎدة ﺑﻌﺾ ُﻓﺘﺎت ﻣﺄﻟﻮﻓﺎ ﻟﺪﻳﻬﻢ، ﺗﺤﺪﻳًﺎ ﺟﺪﻳﺪًا ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻏﺎﻣﺮ ﻣﻨﻪ .وﻟﻢ ﻳﻤﺜﻞ ﻣﻌﻈﻢ ﻣﺎ أُﺗِﻴﺢَ ﺣﺪﻳﺜًﺎ ﻣﻦ أﻋﻤﺎل اﻟﻌﻠﻢ أﺻﺒﺤﺖ ﻣﻬﻤﺘﻬﻢ اﺣﺘﻮاء ﻧﻬﺮ ٍ ﻋﻠﻤﻴﺔ ﻣﺜﻞ ﻛﺘﺎب اﻟﻌﻨﺎﴏ ﻹﻗﻠﻴﺪس وﻛﺘﺎب املﺠﺴﻄﻲ ﻟﺒﻄﻠﻴﻤﻮس وﻛﺘﺎب ﻗﺎﻧﻮن اﻟﻄﺐ ﻻﺑﻦ ﺳﻴﻨﺎ وﻛﺘﺎب اﻟﺠﱪ ﻟﻠﺨﻮارزﻣﻲ أﻳﺔ ﻣﺸﻜﻼت ﻋﻘﺎﺋﺪﻳﺔ ،ﰲ ﺣني ﺑﺮز اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﻫﺬه املﺸﻜﻼت ﰲ أﻋﻤﺎل أرﺳﻄﻮ .وﻛﻤﺎ رأﻳﻨﺎ ﻛﺎن ﻷرﺳﻄﻮ ﺑﻌﺾ املﻌﺘﻘﺪات اﻟﺘﻲ ﻣﻦ اﻟﺼﻌﺐ اﻟﺘﻮﻓﻴﻖ ﺑﻴﻨﻬﺎ وﺑني املﺴﻴﺤﻴﺔ .وﻗﺪ أﺛﺎرت ﻛﺘﺎﺑﺎت اﺑﻦ رﺷﺪ ) (١١٩٨–١١٢٦وﻫﻮ أﻋﻈﻢ ﻣﻦ ﴍح أﻋﻤﺎل أرﺳﻄﻮ ﻣﻦ اﻟﻌﺮب ﻣﺸﻜﻼت أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﺳﺎﺑﻘﺘﻬﺎ .وﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﺣﻈﺮ أﺟﺰاء ﻣﻦ أﻋﻤﺎل أرﺳﻄﻮ ﰲ ﺑﻌﺾ اﻷﻣﺎﻛﻦ ﰲ ﺑﺎدئ اﻷﻣﺮ؛ ﻓﺈن ذﻟﻚ ﻗﺪ ﺗﺼﺎﻋﺪ ﺣﺘﻰ وﺻﻞ ً ﻃﻮﻳﻼ؛ ﻓﻘﺪ ﴍع ﻣﻔﻜﺮون أﻣﺜﺎل اﻟﻘﺪﻳﺲ إﱃ ﺣﺪ اﻻﻧﺘﺤﺎر اﻟﻔﻜﺮي ،اﻷﻣﺮ اﻟﺬي ﻟﻢ ﻳﺪُم ﺗﻮﻣﺎس اﻷﻛﻮﻳﻨﻲ ﰲ ﻣﴩوﻋﻪ اﻟﴬوري وإن ﻛﺎن ﻓﻴﻪ ﻣﺎ ﻳﺸﻮﺑﻪ ﻣﻦ ﺗﺨﻮﻳﻒ ورﻋﺐ، ً ﻣﺤﺎوﻻ اﻟﺠﻤﻊ ﺑني اﻟﺪﻳﺎﻧﺔ املﺴﻴﺤﻴﺔ وآﺧﺮ اﻛﺘﺸﺎﻓﺎت ﻋﴫه؛ أي ﻣﺬﻫﺐ أرﺳﻄﻮ .وﻗﺪ ً ﻟﺬاﻋﺔ إﱃ ﻫﺬه املﺠﻬﻮدات اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻤﻴﺰ ﺑﺤﺴﻦ اﻟﻨﻴﺔ وﺷﺪة اﻟﺘﻘﻮى وُﺟﱢ ﻬَ ْﺖ أﺷﺪ اﻻﻧﺘﻘﺎدات ﰲ ﺑﻌﺾ اﻷوﺳﺎط ﰲ ﺑﺪاﻳﺘﻬﺎ اﻷوﱃ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ أَﻳﱠ َﺪ ﻣﺠﻤﻊ ﻟﻴﻮن اﻟﻜﻨَﴘ ﺗﻌﺎﻟﻴﻢ اﻟﻘﺪﻳﺲ ﺗﻮﻣﺎس اﻷﻛﻮﻳﻨﻲ ﻋﺎم ١٢٧٤م .وﻗﺪ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺘﻮﻣﺎوﻳﺔ — وﻫﻮ اﻻﺳﻢ اﻟﺬي اﺷﺘﻬﺮت ﺑﻪ ﻧﻈﺮﻳﺔ ﺗﻮﻣﺎس اﻷﻛﻮﻳﻨﻲ — ﻫﻲ اﻹﻧﺠﺎز اﻟﺬي ﺗﻮﱠج رأس اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ املﺴﻴﺤﻴﺔ واﻋﱰف اﻟﺠﻤﻴﻊ ﺑﻬﺎ ﱠ ﻣﺆﺧ ًﺮا ﻋﻨﺪﻣﺎ أﺻﺒﺤﺖ ﻫﺬه اﻟﻨﺴﺨﺔ املﻌﺪﻟﺔ ﻣﻦ املﺬﻫﺐ اﻷرﺳﻄﻲ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻨﺤﻮ وﻟﻮ 425
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻟﻠﻜﻨﻴﺴﺔ اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴﺔ اﻟﻜﺎﺛﻮﻟﻴﻜﻴﺔ ﺑﺎﻟﺘﻌﻴني اﻟﺒﺎﺑﻮي ﻋﺎم ١٨٧٩م) .وﻛﺎن ﻫﺬا ﻫﻮ اﻟﻌﺎم اﻟﺬي ُوﻟِ َﺪ ﻓﻴﻪ أﻳﻨﺸﺘﺎﻳﻦ؛ ﻓﺎﻟﻜﻨﻴﺴﺔ ﻻ ﺗﺒﺖ ﰲ اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ وﻫﻲ ﰲ ﻋﺠﻠﺔ ﻣﻦ أﻣﺮﻫﺎ(. ﻛﺎن ﻣﻌﻈﻢ ﻣﺎ ﻳ َُﺴﻤﱠ ﻰ ﺣﺎﻟﻴٍّﺎ ﺑﺎﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻳُ َﺪ ﱠر ُس ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ﺗﺤﺖ ﻣﺴﻤﻴﺎت املﻨﻄﻖ أو اﻟﻼﻫﻮت أو »اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ« )أي :اﻟﻌﻠﻮم( .وﻧﻈ ًﺮا ﻟﻘِ ﱠﻠﺔ ُﻓ َﺮص ﻣﻤﺎرﺳﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺧﺎرج اﻟﺤﺼﺎر اﻟﺬي ﻓﺮﺿﺘﻪ املﻨﺎﻫﺞ اﻟﺠﺎﻣﻌﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﺤﻜﻢ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ ،ﻛﺎن أي ﺑﺎﺣﺚ ﻳَﻤِ ﻴ ُﻞ إﱃ ﻓﻠﺴﻔﺔ ُ اﻟﻘﺪَاﻣَ ﻰ أو ﻳﺘﺒﻨﱠﻰ آراء اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﻌﺮب ﰲ ﺑﻌﺾ اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ ﻳﺠﺪ ﻧﻔﺴﻪ ﰲ ﻣﻮﻗﻒ ﻻ ﻳُﺤْ َﺴ ُﺪ ﻋﻠﻴﻪ .وﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ اﻟﺤﻆ ﻟﻴﺤﺎﻟﻒ ﻛﻞ ﺷﺨﺺ وﻳﻔﻮز اﻟﺸﺎﺋﻜﺔ ِ ُ ﺑﺎﻟﺘﻮاﻓﻖ اﻟﺬي ﻗﺎل ﺑﻪ اﻟﻘﺪﻳﺲ ﺗﻮﻣﺎس اﻷﻛﻮﻳﻨﻲ إذا ﻣﺎ ﺣﺎول اﻟﺘﻮﻓﻴﻖ ﺑني اﻟﻌﻘﻞ واﻟﻮﺣﻲ. ً ﴏاﺣﺔ أي ﳾء ﻳﺘﻨﺎﻗﺾ وﻟﻢ ﻳﺴﺘﻄﻊ ذَوُو اﻟﻌﻘﻮل املﺴﺘﻘﻠﺔ ﻣﻦ املﻔ ﱢﻜﺮﻳﻦ أن ﻳُ َﺪ ﱢر ُﺳﻮا ﻣﻊ اﻟﺪﻳﻦ ﻣﺒﺎﴍة؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻠﺠَ ﺌﻮن إﱃ ﻏﺎﻣﺾ اﻷﻣﻮر واﻟﻜﻠﻤﺎت .ﻟﻘﺪ ﻗﺪﻣﻮا ﺣﺠﺠﻬﻢ اﻟﻌﻘﻼﻧﻴﺔ ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻛﺎﻧﻮا ﻳُ َﺆ ﱢﻛﺪ َ ُون ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﴪﻋﺔ أن ﺟﻤﻴﻊ اﻻﺳﺘﻨﺘﺎﺟﺎت ا ُملﺒﺘَﺪَﻋﺔ املﺒﻨﻴﺔ ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﺤﺠﺞ ﻗﺪ دﺣﻀﻬﺎ اﻟﺪﻳﻦ املﺴﻴﺤﻲ ،ﻓﺎﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﱢ ﺗﻮﺿﺢ ﻛﺬا وﻛﺬا ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻻ ﺗﻌﱪ ﺑﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﺎل ﻋﻦ ﻛﻞ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ .ﻫﻜﺬا ﻛﺎن ﻳﺴري اﻟﺠﺪال ﰲ ﺧﻠﻖ اﻟﻜﻮن ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل. وﻳﺒني املﺬﻫﺐ اﻷرﺳﻄﻲ أن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻛﺎن ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻣﻮﺟﻮدًا ﻋﲆ اﻟﺪوام .أﻣﺎ اﻟﺪﻳﻦ املﺴﻴﺤﻲ ﻓﻴﻘﻮل إن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻗﺪ ُﺧﻠ َِﻖ ﻣﻦ اﻟﻌﺪم ﰲ ﻧﻘﻄﺔ ﻣﺤﺪدة ﻣﻦ اﻟﺰﻣﺎن؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻳﺠﺐ أن ﻧﺆﻣِﻦ أن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻗﺪ ُﺧﻠ َِﻖ ﺣﺘﻰ ﻟﻮ اﺳﺘﻄﻌﻨﺎ أن ﻧُﺜﺒﺖ إﺛﺒﺎﺗًﺎ واﺿﺤً ﺎ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳ ُْﺨ َﻠﻖ .وﻛﺎن ﻫﺬا َ املﻌﺘﻘﺪات ﻏري اﻷﺻﻮﻟﻴﺔ ﻋﲆ اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﺘﻘﺪﻳﻢ املﺰدوج ﻳُﻌَ ﱡﺪ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﺣﻴﻠﺔ ﻣﻦ أﺟﻞ إدﺧﺎل املﻨﺎﻫﺞ اﻟﺪراﺳﻴﺔ ،وأﺣﻴﺎﻧًﺎ أﺧﺮى ﻛﺎن ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ ﺗﻌﺒري ﺻﺎدق ﻋﻦ اﻟﺤرية واﻻرﺗﺒﺎك ،وﻟﻜﻦ داﺋﻤً ﺎ ﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﺤﺪث اﻟﻠﺒﺲ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ .وﻗﺪ أداﻧﺖ اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ إداﻧﺔ ﻻ رﺟﻌﺔ ﻓﻴﻬﺎ ﻛﻞ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻹﺛﺒﺎت أن ﻟﻠﺤﻘﻴﻘﺔ وﺟﻬني أﺣﺪﻫﻤﺎ دﻳﻨﻲ واﻵﺧﺮ ﻓﻠﺴﻔﻲ ،ﻓﺎﻟﻌﺎﻟﻢ إﻣﺎ أن ﻳﻜﻮن ﻗﺪ ُﺧﻠ َِﻖ أو ﻟﻢ ﻳ ُْﺨ َﻠ ْﻖ ،وﻻ ﺳﺒﻴﻞ ﻟﺤﻘﻴﻘﺘني ﰲ ﻫﺬا اﻟﺸﺄن أو أي ﺷﺄن آﺧﺮ. وﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻟﺚ ﻋﴩ وَﺟﱠ َﻪ املﺤﺎﻓﻈﻮن ﻣﻦ أﻫﻞ اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ رﺳﺎﻟﺔ ﺗﺤﺬﻳﺮ إﱃ ﻓﻼﺳﻔﺔ املﺬﻫﺐ اﻟﻌﻘﲇ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻘﺘﻔﻮن أﺛﺮ اﻹﻏﺮﻳﻖ .ﻟﻘﺪ ﻗﺎل ﻫﺆﻻء املﺤﺎﻓﻈﻮن إن اﺳﺘﺨﺪام اﻹﻧﺴﺎن َمل َﻠﻜﺔ ﻋﻘﻠﻪ اﻟﻔﻄﺮﻳﺔ أﻣﺮ ﺣﺴﻦ إذا ﺗﻮﺻﻞ إﱃ اﻻﺳﺘﻨﺘﺎﺟﺎت اﻟﺼﺤﻴﺤﺔ .وﰲ ﻋﺎم ١٢٧٧م رﺻﺪ أﺳﻘﻒ ﺑﺎرﻳﺲ ٢١٩اﺳﺘﻨﺘﺎﺟً ﺎ ﻏري ﻣﺴﻤﻮح اﻟﺘﻄ ﱡﺮق إﻟﻴﻬﺎ ً آﻣﻼ أن ﻳﻜﻮن ﰲ ﻫﺬا اﻷﻣﺮ ﺣ ﱞﻞ ﻟﻠﻤﺸﻜﻠﺔ .ﻟﻜﻦ ﻓﻄﺮة اﻟﻌﻘﻞ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ِﻟﺘُ َﻘﻴﱠ َﺪ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺪود املﺼﻄﻨﻌﺔ .وﻗﺪ َر ﱠد ﺑﻌﺾ املﻔﻜﺮﻳﻦ اﻟﺬﻳﻦ ﻟﻢ ﻳَ ْﺮ َ ﴎا ﻋﻦ ﻣﺤﺎوﻻت وﺿﻊ ﻗﻴﻮد ﱡ ﺗﻌﺴﻔﻴﺔ ﻋﲆ ﺗﻔﻜريﻫﻢ ﺿﻮْا ٍّ 426
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
ﺑﺎﻟﺘﻌﺒري ﻋﻦ أﻧﻔﺴﻬﻢ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﺳﺎﺧﺮة .وﺑﻌﺪ ﴍح اﻟﺤﺠﺞ واﻷدِ ﱠﻟ ِﺔ واﻟﱪاﻫني اﻟﺘﻲ ﺗﺜﺒﺖ اﺳﺘﺤﺎﻟﺔ اﻟﺨﻠﻖ املﺬﻛﻮر ﰲ اﻹﻧﺠﻴﻞ أ َ َﻗ ﱠﺮ أﺣﺪ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﻔﺮﻧﺴﻴني ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺮاﺑﻊ ﻋﴩ ﻋﲆ ﻣﻀﺾ ﺑﻮﺟﻮد اﻟﺨﻠﻖ ﰲ املﺎﴈ ،وﻟﻜﻨﻪ ﺣﺎول ﺗﻀﻴﻴﻖ اﻟﻔﺠﻮة املﻨﻄﻘﻴﺔ املﻮﺟﻮدة ﰲ ﻧﻘﺎﺷﻪ ﻓﻜﺘﺐ ﻳﻘﻮلَ : »ﻓ ْﻠﻨ ُ ِﻀ ْ ﻒ أن اﻟﺨﻠﻖ ﻧﺎد ًرا ﻣﺎ ﻳﺤﺪث وأﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﺤﺪث إﻻ ﻣﺮة واﺣﺪة ﻣﻨﺬ زﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ«. ﺗﺠﺎوزت ﻣﺤﺎوﻟﺔ اﻟﺘﻮﻓﻴﻖ اﻟﺼﻌﺒﺔ ﺑني اﻹﻳﻤﺎن واﻟﻌﻘﻞ ﺣﺪ املﺰاح ﺣﻴﺚ ﺳﺎﻫﻤﺖ اﻹداﻧﺎت اﻟﺘﻲ ﺣﺪﺛﺖ ﻋﺎم ١٢٧٧م ﰲ اﻧﻬﻴﺎر اﻟﺼﻮرة اﻟﺘﻲ رﺳﻤﺘﻬﺎ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻷرﺳﻄﻴﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ ﺑﺸﻜﻞ ﻧﻬﺎﺋﻲ وﻣﻮﻟﺪ ﻧﻬﺞ ﺟﺪﻳﺪ أﻗﻞ ﺗﻤﺴ ًﻜﺎ ﺑﺎﻟﻜﺘﺐ ﰲ دراﺳﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ. ﱡ اﻟﺘﻤﺴﻚ ﺑﺎﻟﺘﻌﺎﻟﻴﻢ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ اﻟﺘﻲ وﻗﺪ ﻛﺎن ﻫﺬا اﻷﻣﺮ ﻣُﺤْ ﺪ ًِﻗﺎ ﻣﻨﺬ أَﻣَ ٍﺪ ﺑﻌﻴﺪ ،وﻟﻜﻦ ﻓﻠﺴﻔﺔ اﺣﺘﻮﺗﻬﺎ اﻟﻜﺘﺐ ﻛﺎﻧﺖ ﰲ أوج ﻋﻈﻤﺘﻬﺎ ،وﻟﻢ ﺗُ ْﺨ ِﺮجْ ﺻﻮر ًة ﺟﺪﻳﺪة ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ إﻻ ﺑﻌﺪ ﺛﻼﺛﺔ ﻗﺮون ،وﻗﺪ ﻛﺎن ذﻟﻚ ﻣﻦ ﻗﺒﻴﻞ املﺼﺎدﻓﺔ؛ ﻷن املﻬﺎﺟﻤني ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺴﺘﻬﺪﻓﻮن اﻟﺒﺪع اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ وﺑﻌﺾ اﻷﺟﺰاء ﰲ املﺬﻫﺐ اﻷرﺳﻄﻲ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺆدي إﻟﻴﻬﺎ .وﻣﻊ ذﻟﻚ اﺳﺘﺤﺪث اﻟﺘﻌﺎرض ﺑني اﻹﻳﻤﺎن واﻟﻌﻘﻞ ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻟﺚ ﻋﴩ أﻓﻜﺎ ًرا ﺳﺎﻋﺪت ﻋﲆ ﺗﻘﻮﻳﺾ اﻟﻨﻬﺞ املﺘﺒﻊ ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ﰲ اﻟﻌﻠﻮم واملﻌﺎرف. وﻗﺪ اﻧﺼﺐﱠ ﺟُ ﱡﻞ ﻫﺬه اﻹداﻧﺎت ﻋﲆ »اﺑﻦ رﺷﺪ« اﻟﺬي ﻟُ ﱢﻘﺐَ ﺑﻌﺪ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻋﴩ َ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ املﺼﺪ َر اﻟﻮﺣﻴﺪ ﻟﻠﺤﻘﻴﻘﺔ ﺑﺎﻟﺸﺎرح اﻷﻛﱪ ﻷﻋﻤﺎل أرﺳﻄﻮ .وﻗﺪ ﻋَ ﱠﺪ اﺑﻦ رﺷﺪ ﺑﻤﻌﻨﺎﻫﺎ اﻟﺤﺮﰲ واﻋﺘﱪ اﻟﻼﻫﻮﺗﻴﺔ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻷﻗﻮال املﺠﺎزﻳﺔ .وﻗﺪ اﻋﺘﻤﺪ ﻣﺬﻫﺐ اﺑﻦ رﺷﺪ ﻋﲆ ﺑﺤﺚ ﻛﻞ ﻣﻮﺿﻮع ﰲ ﺿﻮء املﻨﻄﻖ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ — ﻛﻤﺎ ﻓﻌﻞ أرﺳﻄﻮ ﻣﻦ ﻗﺒ ُﻞ — دور ﻟﻠﺮب ﰲ ﻫﺬه اﻟﺼﻮرة .وﻗﺪ اﻫﺘﻢ ﱠ ﺑﺄﻻ ﻳﺒﺪأ ﺑﻐري ﻫﺬا اﻟﱰﺗﻴﺐ وﻋﲆ ﻣﺤﺎوﻟﺔ إﻳﺠﺎد ٍ وﻳﻀﻊ اﻟﺪﻳﻦ ﰲ املﻘﺪﻣﺔ ،ﻓﻴﻘﻮل ﰲ ذﻟﻚ إن ﻣﺎ ﺗﺤﺘﻮﻳﻪ ﻧﺼﻮص اﻟﻮﺣﻲ املﺰﻋﻮﻣﺔ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳ ُْﺴﻤَ ﺢَ ﻟﻬﺎ أن ﺗﻄﻴﺢ ﺑﻤﺎ ﺗﻮﺻﻠﻨﺎ إﻟﻴﻪ ﻣﻦ اﺳﺘﻨﺒﺎﻃﺎت ﺣﻮل اﻟﻌﺎﻟﻢ وﻣﺎ ﺗﺤﻤﱠ ﻠﻨَﺎ ُه ﻣﻦ ﻣﺜﺎﺑﺮة ﰲ ﺳﺒﻴﻞ ذﻟﻚ .ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ ذﻟﻚ ﻳﺸري اﻓﱰاض اﺑﻦ رﺷﺪ اﻟﺴﺎﺑﻊ واﻷرﺑﻌﻮن ﺑﻌﺪ ٌ ﻣﺴﺄﻟﺔ ﻣﺎ ﻗﺪ ﺛﺒﺖ أﻧﻬﺎ ﰲ ﺧﻼف ﻣﻊ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ املﺎﺋﺔ اﻟﺬي أداﻧﻪ اﻷﺳﻘﻒ إﱃ أﻧﻪ إذا ﻛﺎﻧﺖ ﻓﻼ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ اﻟﺮب ﻧﻔﺴﻪ أن ﻳﻐري ﻣﻦ ذﻟﻚ ﺷﻴﺌًﺎ .أﻣﺎ املﺤﺎﻓﻈﻮن املﺴﻴﺤﻴﻮن ﻓﻘﺪ أﴏوا ﻋﲆ أن ﺣﺮﻳﺔ اﻟﺮب ﻟﻴﺴﺖ ﻟﻬﺎ ﺣﺪود .وﻗﺪ ﻛﺎن ﻟﻬﺬا اﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻋﲆ ﺗﻤﺘﻊ اﻟﺮب ﺑﺎﻟﻘﻮة املﻄﻠﻘﺔ ﻋﻮاﻗﺐ ﻋﻈﻴﻤﺔ. ﻳﻘﴤ املﻔﻬﻮم اﻹﻏﺮﻳﻘﻲ اﻟﻘﺪﻳﻢ ﺑﺄن اﻟﺮب ﺟﺰء ﻣﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻳﺨﻀﻊ ﻟﻘﻮاﻧﻴﻨﻬﺎ. وﻳﺰﻳﺪ أﻓﻼﻃﻮن أن اﻟﺼﺎﻧﻊ اﻷﻛﱪ ﻟﻢ ﺗ ُﻜﻦ ﻳﺪاه ﺣﺮﺗني ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ َر ﱠﻛﺐَ اﻟﻌﺎﻟﻢ؛ ﻓﻘﺪ 427
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻛﺎن ﻋﻠﻴﻪ أن ﻳﺴﺘﻌﻤﻞ ﻣﻮا ﱠد ﺛﺎﺑﺘﺔ ﺧﺼﺎﺋﺼﻬﺎ .وﺣﺘﻰ ﻫﺬا اﻟﺮب ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﺑﺎﺳﺘﻄﺎﻋﺘﻪ أن ﻳﺠﻌﻞ اﻟﻨﺎر ﺑﺎردة أو أن ﻳﺨﻠﻖ اﻷﻧﻬﺎر ﻣﻦ اﻟﻬﻮاء .وﻛﺬﻟﻚ ﻛﺎن َربﱡ أرﺳﻄﻮ ﻣﻠﺘﺰﻣً ﺎ ﺑﻤﺒﺎدئ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ،إﻻ أن اﻟﺮب ﰲ اﻹﻧﺠﻴﻞ ﻛﺘﺐ ﻣﺒﺎدئ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺑﻨﻔﺴﻪ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﺈﻧﻪ ﻗﺎدر ﻋﲆ ﻓﻌﻞ أي ﳾء أراده ،ﻓﺈذا أراد أن ﻳﺠﻌﻞ اﻟﺼﺨﻮر أﺧﻒ ﻣﻦ اﻟﻬﻮاء أو أن ﻳﺨﻠﻖ أ َ ِﺟﻨ ﱠ َﺔ اﻟﺪﺟﺎج ﻓﺘﻨﻤﻮ ﰲ أﺣﺸﺎء اﻟﺒﻘﺮ أو أن ﻳﺠﻌﻞ اﻟﻘﻤﺮ ﻣﺮﻛﺰ اﻟﻜﻮن ﻓﻼ َرا ﱠد ﻷﻣﺮه .وﻳﻜﻤُﻦ اﻟﺘﺄﺛري اﻷﺳﺎﳼ ﻟﻬﺬا اﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ا ُملﺮ ِﺑﻚ واملﺘﺤ ﱢﺮر ﻋﲆ ﺣﺮﻳﺔ اﻟﺮب ﰲ أن ﻳﺠﻌﻞ اﻟﻨﺎس ﻳﺘﺴﺎءﻟﻮن ﻋﻦ َﻛ ﱢﻢ اﻟﺼﻮر اﻟﺘﻲ ﻣﻦ ا ُملﺤﺘَﻤَ ﻞ أن ﻳﺮﺳﻤُﻮﻫﺎ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ .وﻗﺪ ﻳﻌﺘﻘﺪ اﻟﺒﻌﺾ ﱠ أن ﻋﲆ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ أن ﺗﺴري ﻋﲆ وﺗرية ﻣﻌﻴﻨﺔ ،ﰲ ﺣني أن اﻟﺮب ﻗﺪ ﻳﻜﻮن ﻟﺪﻳﻪ أﻓﻜﺎر ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ .وﻳﻘﻮل أرﺳﻄﻮ إن ﻛﺬا وﻛﺬا ﻫﻮ أﺑﺴﻂ ﴍح ﻟﻈﺎﻫﺮة ﻣﺎ ،وﻟﻜﻦ ﻣﺎذا ﻟﻮ َﻓ ﱠﻀ َﻞ اﻟﺮب أن ﻳﻔﻌﻞ اﻷﺷﻴﺎء ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﱠ ً ﻣﻨﻄﻘﻴﺔ ﺧﺎﻃﺌﺔ .وﻗﺪ ﺑﺪأ ﺑﻌﺾ املﻔﻜﺮﻳﻦ ﻣﻌﻘﺪة؟ ﻋﻨﺪﺋ ٍﺬ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻜﻮن أﻛﺜﺮ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺮاﺑﻊ ﻋﴩ ﻣﻦ ﺟ ﱠﺮاء ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﰲ اﺳﺘﻜﺸﺎف اﻻﺣﺘﻤﺎﻻت اﻟﺘﻲ رﻓﻀﻬﺎ أرﺳﻄﻮ ﺑﻤﺎ ﰲ ذﻟﻚ اﺣﺘﻤﺎﻟﻴﺔ أن ﺗﻜﻮن اﻟﻨﺠﻮم ﻏري أزﻟﻴﺔ وﻻ ﺗﺘﻐري وأن اﻷرض ﺗﺪور وأﻧﻪ ﻗﺪ ﻳﻜﻮن ﺛﻤﺔ ﻋﻮاﻟﻢ أﺧﺮى ﻛﻌﺎملﻨﺎ. ﻛﺎن ﻣﻦ أﻫﻢ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﺬﻳﻦ ﺗﺄﻣﱠ ﻠﻮا ﻣﺎ ﺗﺘﻀﻤﻨﻪ ﺣﺮﻳﺔ اﻟﺮب وﻳﻠﻴﺎم اﻷوﻛﺎﻣﻲ )–١٢٨٥ (١٣٤٩اﻟﺬي أﻟﻘﻰ ﻣﺤﺎﴐات ﰲ اﻟﻼﻫﻮت ﰲ أﻛﺴﻔﻮرد وﻛﺘﺐ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ املﺆﻟﻔﺎت ﰲ ﻋﻠﻢ املﻨﻄﻖ وﺣُ ِﺮ َم ﻛﻨﺴﻴٍّﺎ ﻋﺎم ١٣٢٦م ﺑﺴﺒﺐ ﻣﺸﻜﻠﺔ ﻣﺘﻌ ﱢﻠﻘﺔ ﺑﺴﻴﺎﺳﺔ اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ .وﻗﺪ ﻗﺎل وﻳﻠﻴﺎم اﻷوﻛﺎﻣﻲ إن اﻟﺮب ﻳﻤﻜﻨﻪ ﻓﻌﻞ أي ﳾء ﻻ ﻳﻨﻄﻮي ﻋﲆ ﺗﻨﺎﻗﺾ )ﻓﻼ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ اﻟﺮب أن ﻳﺨﻠﻖ أﻋﺰبَ ﻣﺘﺰوﺟً ﺎ ﻷن اﻷﻋﺰب ﺑﺤﻜﻢ ﻃﺒﻴﻌﺘﻪ ﻳﺠﺐ ﱠأﻻ ﻳﻜﻮن ﻣﺘﺰوﺟً ﺎ ،وﻟﻜﻦ أوﻛﺎم ﻗﺎل إن اﻟﴬورﻳﺎت اﻟﻠﻔﻈﻴﺔ ﻻ ﺗُﻌَ ﱡﺪ ﻗﻴﻮدًا ﻋﲆ ﻗﺪرات اﻟﺮب( .وﻳﻘﻮل وﻳﻠﻴﺎم اﻷوﻛﺎﻣﻲ إن ذﻟﻚ ﻳﺴﺘﺘﺒﻊ أﻧﻪ ﻣﺎ دام ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﺗﻀﺎرب ﰲ اﻓﱰاض وﺟﻮد ﺷﻴﺌني ﺑﺸﻜﻞ ﻣﻨﻔﺼﻞ ﻓﺎﻟﺮب ﻳﻤﻜﻨﻪ ﻓﺼﻠﻬﻤﺎ ً ﻓﻌﻼ ،ﻓﻴﻤﻜﻦ ﻟﻺﻟﻪ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل أن ﻳﺴﺒﺐ ﺳﺒﺒًﺎ دون ﻧﺘﻴﺠﺘﻪ، وﺑﺎﺳﺘﻄﺎﻋﺘﻪ أن ﻳﺠﻌﻞ اﻟﺸﻤﺲ ﺗُﴩق ﻏﺪًا وﻻ ﺗﻐﺮب أﺑﺪًا؛ ﻷن ﴍوق اﻟﺸﻤﺲ دون ﻏﺮوﺑﻬﺎ ً ﺗﻨﺎﻗﻀﺎ ﰲ املﺼﻄﻠﺤﺎت .وﻗﺪ ﺗﻮﺻﻞ وﻳﻠﻴﺎم اﻷوﻛﺎﻣﻲ ﻣﻦ ﻫﻮ ﻇﺎﻫﺮة ﻏﺮﻳﺒﺔ وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻻ ﺗُﻌَ ﱡﺪ ذﻟﻚ إﱃ أن ﻣﻦ ﺗﺒﻌﺎت ذﻟﻚ أن اﻟﻌﻠﻢ ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻪ إﻻ أن ﻳﺼﻒ ﻣﺎ ﻳﺤﺪث ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ وﻟﻴﺲ ﻣﺎ ﻳﺠﺐ أن ﻳﺤﺪُث ،ﻓﻠﻴﺲ ﺛﻤﺔ ﻣﺎ ﻳﺠﺐ أن ﻳﺤﺪث ﻣﺎ دام اﻟﺮب ﻗﺪ ﻳﺘﺪﺧﻞ ﰲ أي وﻗﺖ. وﻗﺪ ﻗﻮﱠﺿﺖ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة إﺣﺪى رﻛﺎﺋﺰ املﻨﻬﺞ املﺪرﳼ ﰲ اﻟﻌﻠﻢ ،ﺣﻴﺚ ﻛﺎن اﻟﺮأي ا ُملﺠْ ﻤَ ُﻊ ﻋﻠﻴﻪ ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ﰲ اﻟﺤﻘﻞ املﻌﺮﰲ أن اﻟﻌﻠﻢ ﻳﻌﻤﻞ ﻋﲆ اﻛﺘﺸﺎف »ﴐورﻳﺎت اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ« أو »ﺟﻮاﻫﺮ اﻷﻣﻮر«؛ ﻓﺎﻟﺒﺤﺚ اﻟﻌﻠﻤﻲ — ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻤﻌ ﱢﻠﻤني ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻟﺚ 428
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
ﻋﴩ اﻟﺬﻳﻦ ﺷﻐﻠﺘﻬﻢ ﻗﺮاءة اﻟﻜﺘﺐ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ — ﻳﻮﺿﺢ ﻟﻨﺎ اﻟﺨﺼﺎﺋﺺ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻟﻠﴚء، وﻣﻦ ﺧﻼل ﻣﻌﺮﻓﺔ ﻫﺬه اﻟﺠﻮاﻫﺮ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻺﻧﺴﺎن أن ﻳﺴﺘﻨﺘﺞ اﻟﺴﺒﺐ وراء ﺗﴫﱡﻓﻬﺎ ﺑﻬﺬه اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ؛ ﻓﺠﻮﻫﺮ اﻟﻨﺠﻮم ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﻳﻘﺘﴤ أن ﺗﺪور ﰲ دواﺋﺮ ﺗﺎﻣﱠ ﺔ اﻻﺳﺘﺪارة، وﻫﻜﺬا ﻓﺈن اﻟﻨﺠﻢ ﻻ ﺑﺪ أن ﻳﺪور ﰲ داﺋﺮة ﺗﺎﻣﱠ ﺔ اﻻﺳﺘﺪارة .وﻫﻜﺬا ﻛﺎن اﻟﻌﻠﻢ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ ،وﻟﻜﻦ وﻳﻠﻴﺎم اﻷوﻛﺎﻣﻲ ﻗﺎل إن اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺠﻮاﻫﺮ ﺣﺪﻳﺚ ﻣﻔﺮط ﻷﻧﻪ ﻻ ﻳﻀﻴﻒ أي ﳾء إﱃ َﻓﻬﻤﻨﺎ ﻟﻠﻈﺎﻫﺮة ،ﺑﻞ ﻳﻀﻠﻨﺎ ﺣﻴﺚ ﻳﺠﻌﻠﻨﺎ ﻧﻈﻦ أﻧﻪ ﺑﻤﻘﺪورﻧﺎ إﺛﺒﺎت ﺑﻌﺾ اﻷﻣﻮر اﻟﺘﻲ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ إﺛﺒﺎﺗﻬﺎ .وﻳﺒني وﻳﻠﻴﺎم اﻷوﻛﺎﻣﻲ ً أﻳﻀﺎ أﻧﻪ ﻻ ﺗﺜﺮﻳﺐ ﻋﲆ اﻟﺮب ﻳﺮاع أﻳٍّﺎ ﻣﻦ »ﴐورﻳﺎت اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ« ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺤﺪد ﺷﻜﻞ اﻟﻜﻮن ،إذن ملﺎذا ﻋﻠﻴﻨﺎ أن إن ﻟﻢ ِ ﻧﻬﺘﻢ ﻧﺤﻦ ﺑﻬﺎ؟ وﻫﺬا اﻟﻨﻘﺪ اﻟﻘﺎﳼ ﻏري ﻣﺴﺘﻐﺮب ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ وﻳﻠﻴﺎم اﻷوﻛﺎﻣﻲ؛ ﻓﻘﺪ اﻋﺘﱪ اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء وﻛﺬﻟﻚ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺑﺸﻜﻞ ﻋﺎم ﻣﻠﻴﺌﺔ ﺑﺎﻷﻓﻜﺎر املﺠ ﱠﺮدة اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ اﻻﺳﺘﻐﻨﺎء ﻋﻨﻬﺎ ،ﺑﻞ وﻳﺠﺐ اﻻﺳﺘﻐﻨﺎء ﻋﻨﻬﺎ ،وﻗﺪ ﻛﺎﻧﺖ »ﴐورﻳﺎت اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ« ً ﻣﺜﺎﻻ ﺿﻤﻦ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻷﻣﺜﻠﺔ اﻷﺧﺮى ﻋﲆ املﻔﺎﻫﻴﻢ اﻟﺰاﺋﻔﺔ .وﻟﻜﻲ ﻳﺘﺨ ﱠﻠﺺ ﻣﻦ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻷﻓﻜﺎر اﺳﺘﺨﺪم وﻳﻠﻴﺎم اﻷوﻛﺎﻣﻲ ﻣﺎ ﻳُﻌْ َﺮ ُ ف ﺑ »ﻣﻮس اﻷوﻛﺎﻣﻲ« وﻫﻮ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﻣﺒﺪأ ﻳﻨﺺ ﻋﲆ أن »اﻟﻜﻴﺎﻧﺎت ﻻ ﻳﺠﺐ أن ﺗﺘﻀﺎﻋﻒ ﻓﻮق ﻣﺎ ﻫﻮ ﴐوري «.ﻻ وﺟﻮد ﻟﻬﺬا املﺒﺪأ اﻟﺠﺪﻳﺮ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﺎت وﻳﻠﻴﺎم اﻷوﻛﺎﻣﻲ وإن ﻛﺎن ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻳﻌﻜﺲ ﻣﻨﻬﺠﻪ اﻻﻗﺘﺼﺎدي اﻟﻘﺎﺋﻢ ﺑﺪﻗﺔ ﻣﺘﻨﺎﻫﻴﺔ ،ﻓﻘﺪ ﻗﺎل إن اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت ﻳﺠﺐ أن ﺗﺒﺴﻂ ﻗﺪر اﻹﻣﻜﺎن وأﻻ ﺗﺜري ﻣﻦ اﻷﺳﺌﻠﺔ إﻻ اﻟﻘﻠﻴﻞ .ﻓﻤﻦ اﻟﺴﻬﻞ أن ﺗﻀﻠﻞ اﻟﺘﻘﻠﺒﺎت واﻟﺘﻐريات اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ ﰲ اﻟﻠﻐﺔ اﻹﻧﺴﺎن ﻓﺘﺪﻓﻌﻪ إﱃ اﻻﻋﺘﻘﺎد أن اﻟﻌﺎﻟﻢ أﻛﺜﺮ ﺗﻌﻘﻴﺪًا ﻣﻤﱠ ﺎ ﻫﻮ ﻋﻠﻴﻪ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ .ﻓﻘﺪ أﺧﻔﻖ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﰲ إدراك أن اﻷﺳﻤﺎء املﺠﺮدة ﻻ ﺗﻮﺟﺪ إﻻ »ﻣﻦ أﺟﻞ اﻹﻳﺠﺎز ﰲ اﻟﻜﻼم أو ﻟﺘﻨﻤﻴﻖ اﻟﻠﻐﺔ« وﻻ ﺗﺸري إﱃ أي ﳾء ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻳﺠﺐ أن ﻧﻜﻮن ﻋﲆ اﺳﺘﻌﺪاد داﺋﻢ وأن ﻧﺴﺘﻌﺪ ﻻﺳﺘﺨﺪام املﻮﳻ إذا ﻣﺎ ﻋَ ﱠﻦ ﻣﺼﻄﻠﺢ ﻣﺠﺮد ﻫﻨﺎ أو ﻫﻨﺎك .وﺑﺬﻟﻚ ﻧﺮى ﻛﻴﻒ ﺳﻌﻰ وﻳﻠﻴﺎم اﻷوﻛﺎﻣﻲ إﱃ ﺗﻮﺿﻴﺢ أن ﻛﺜريًا ﻣﻦ املﻔﺎﻫﻴﻢ املﺴﺘﺨﺪﻣﺔ ﰲ اﻟﺤﺠﺞ املﺪرﺳﻴﺔ ﻟﻴﺲ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻣﺤﺾ ﺗﻨﻤﻴﻖ ﻟﻐﻮي ﺑﻞ إﻧﻪ ﻳﻔﺘﻘﺪ ﺣﺘﻰ ﺻﻔﺔ اﻟﺠﺎذﺑﻴﺔ. ورﺑﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﺠﺪر ﺑﻮﻳﻠﻴﺎم اﻷوﻛﺎﻣﻲ اﺳﺘﺨﺪام ﻫﺬا املﻮﳻ ﻋﲆ ﻧﻔﺴﻪ؛ ﻷن ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ ﻟﻴﺴﺖ إﻻ ﺳﻠﺴﻠﺔ ﻣﻦ اﻟﺘﻌﺒريات اﻟﻐﺎﻣﻀﺔ واﻷﺳﺎﻟﻴﺐ ﻏري اﻟﴬورﻳﺔ .وﻳﺘﱠﺴﻢ ﻧﻘﺪه ملﻦ ﺳﺒﻘﻮه ﺑﺎﻟﻘﻮة ﻻ ﺳﻴﻤﺎ ﰲ اﻷﻣﻮر اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ؛ ﻓﻘﺪ ﻗﺎم ﺑﻜﻞ دﻗﺔ ﺑﺪﺣﺾ اﻟﱪاﻫني املﻌﻴﺎرﻳﺔ اﻟﺨﻤﺴﺔ اﻟﺘﻲ ﺻﺎﻏﻬﺎ ﺗﻮﻣﺎس اﻷﻛﻮﻳﻨﻲ ﻹﺛﺒﺎت وﺟﻮد اﻟﺮب ،ﺣﻴﺚ اﻧﺘﻬﻰ إﱃ اﺳﺘﺤﺎﻟﺔ 429
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
وﺟﻮد ﻛﻴﺎن ﻳﺘﻤﺘﻊ ﺑﺎﻟﺨﻠﻮد واﻟﻜﻤﺎل ،ﻓﻮﺟﻮد اﻟﺮب ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳُﻌْ َﺮ َ ف ﺑﺎﻹﻳﻤﺎن وﻳﻤﻜﻦ إﺛﺒﺎﺗﻪ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﻌﻘﻞ .ﻛﻤﺎ ﻫﺎﺟﻢ اﻟﺤﺠﺞ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮل ﺑﺨﻠﻮد اﻟ ﱡﺮوح ﺣﻴﺚ وﺿﺢ أﻧﻪ ﺑﻤﺎ أن اﻟﺮب ﺣُ ﱞﺮ ﰲ أﻓﻌﺎﻟﻪ ﻓﺒﺎﺳﺘﻄﺎﻋﺘﻪ اﺧﺘﻴﺎر أي ﻣﺨﻠﻮق ﻣﻦ ﺧﻠﻘﻪ ﻟﻴﻤﻨﺤﻪ اﻟﺨﻠﻮد، وﻟﻴﺲ ﻣﺠﱪًا ﻋﲆ ﻣﻨﺤﻪ ﻟﻜﻞ ﻣﺴﻴﺤﻲ ﺻﺎﻟﺢ .وﺑﺸﻜﻞ ﻋﺎ ﱟم ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺛﻤﺔ اﻟﻜﺜري ﻣﻤﱠ ﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺜﺒﺘﻪ اﻹﻧﺴﺎن ﻋﻦ ﺷﻜﻞ اﻟﺮب أو أﻓﻌﺎﻟﻪ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﺈن اﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻋﲆ ﺣﺮﻳﺔ اﻟﺮب اﻟﺘﻲ أ ُ ِﺷريَ إﻟﻴﻬﺎ ﰲ إداﻧﺎت ﻋﺎم ١٢٧٧م ﺻﺎر ﻋﲆ ﻳﺪ وﻳﻠﻴﺎم اﻷوﻛﺎﻣﻲ ﻳﺜري اﺣﺘﻤﺎﻻت ﻣﻘﻠﻘﺔ ﻟﻴﺲ ﰲ ﻋﻠﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ وﺣﺪه وإﻧﻤﺎ ﰲ اﻟﻼﻫﻮت ً أﻳﻀﺎ. وﺷﻤﻠﺖ إﻧﺠﺎزات وﻳﻠﻴﺎم اﻷوﻛﺎﻣﻲ ﻛﺬﻟﻚ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻹﻧﺠﺎزات ﰲ ﻋﻠﻢ املﻨﻄﻖ اﻟﺬي ﻳُﻌَ ﱡﺪ أﺣﺪ أﻛﺜﺮ ﻓﺮوع اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ دراﺳﺔ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺮاﺑﻊ ﻋﴩ؛ ﻓﻘﺪ درس ﻫﻮ وﺑﻌﺾ ﺧﻠﻔﺎﺋﻪ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ ﻃﺮق اﻻﺳﺘﺪﻻل اﻟﺘﻲ ﺗﺠﺎﻫﻠﻬﺎ أرﺳﻄﻮ ،ﻛﻤﺎ ﺗﻨﺎول ﺑﺎﻟﺒﺤﺚ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ املﻔﺎرﻗﺎت ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﺟﺪﻳﺪة أﻛﺜﺮ ﺗﻌﻘﻴﺪًا .وﻟﻜﻦ ﻫﺬا اﻟﻌﻤﻞ ﻟﻢ ﻳﱰُك أﺛ ًﺮا ﻛﺒريًا ﻷﻧﻪ ﻣﻊ ﺣﻠﻮل اﻟﻨﺼﻒ اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻘﺮن ﻛﺎن املﻔ ﱢﻜﺮون ﻗﺪ ﺳﺌﻤﻮا اﻟﻨﻘﺎش ﰲ ﻫﺬا املﻮﺿﻮع؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن املﻨﻄﻖ ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ اﻟﻌﻤﻮد اﻟﻔﻘﺮي ﻟﻠﺘﻌﻠﻴﻢ اﻟﻌﺎﱄ ملﺪة ﻃﻮﻳﻠﺔ ،ﺣﺘﻰ رأى املﺼﻠﺤﻮن ﻣﻦ أرﺑﺎب اﻟﻔﻜﺮ أن اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻓﻴﻪ ﻗﺪ ﺑﻠﻎ ﺣﺪ اﻟﻜﻔﺎﻳﺔ .وﺑﺬﻟﻚ ﻻﻗﺖ أﺷﻜﺎل اﻟﻘﻴﺎس اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﻮﻳﻠﻴﺎم اﻷوﻛﺎﻣﻲ اﻟﺒﺎﻟﻎ ﻋﺪدﻫﺎ ١٣٦٨املﺼري ذاﺗﻪ اﻟﺬي ﻻﻗﺘﻪ أﺷﻜﺎل اﻟﻘﻴﺎس اﻷرﺳﻄﻲ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ اﻟﺒﺎﻟﻎ ﻋﺪدﻫﺎ .١٩٢ ورﻏﻢ أن املﻨﻄﻖ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺮاﺑﻊ ﻋﴩ اﺗﻀﺢ أن ﻣﺂﻟﻪ ﻃﺮﻳﻖ ﻣﺴﺪود ﻓﺈن اﻟﻮﺿﻊ ً ﻣﺨﺘﻠﻔﺎ ﻣﻊ ﻋﻠﻮم اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ،ﻓﻘﺪ ﻗﺎم ﺑﻌﺾ املﻔﻜﺮﻳﻦ ﺑﺎﺳﺘﺨﺪام اﻟﻘﻴﺎس واﻟﺤﺴﺎب ﻛﺎن ﰲ ﻣﺴﺎﺋﻞ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ وﻫﻮ ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﺷﺎﺋﻌً ﺎ آﻧﺬاك .وﻗﺪ ﻛﺎن ﻫﺬا ﻣﺬﻫﺒًﺎ ﺟﺪﻳﺪًا ﰲ ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ،وﻫﻮ ﻣﺎ أرﳻ اﻷﺳﺲ اﻟﺘﻲ ﺷﻴﺪ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ أﻓﻜﺎره ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪُ .وﻗﺪ اﺳﺘﻐﻞ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﰲ ﻛﻠﻴﺔ ﻣريﺗﻮن ﺑﺠﺎﻣﻌﺔ أﻛﺴﻔﻮرد ﻋُ ِﺮ ُﻓﻮا ﺑ »ﻣﺤﺎﺳﺒﻲ أﻛﺴﻔﻮرد« أﺣﺪ اﻟﺘﺤﻠﻴﻼت اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ ﻟﻠﺤﺮﻛﺔ ووﺿﻌﻮا ﻣﺼﻄﻠﺢ اﻟﴪﻋﺔ اﻟﺤﺪﻳﺚ .وﻗﺪ ﺑﻤﻜﺎن دﻓﻌﻬﻢ إﱃ اﺳﺘﺨﺪاﻣﻪ ﰲ ﻗﻴﺎس ﻛﺜري ﻣﻦ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ ﻻ ﻛﺎن ﻋﻤﻠﻬﻢ ﻣﻦ اﻟ ﱠﺮوﻋﺔ ٍ ﻳﻤﻜﻦ وزﻧُﻬﺎ أو ﻗﻴﺎﺳﻬﺎ ﻛﺎﻟﺮذﻳﻠﺔ واﻟﻔﻀﻴﻠﺔ )وﻗﺪ أﺻﺒﺢ أﺣﺪﻫﻢ رﺋﻴﺲ أﺳﺎﻗﻔﺔ ﻛﺎﻧﱰﺑﺮي ﻋﻤﻞ آﺧﺮ أﻗﻞ ﻏﺮاﺑﺔ ﻣﻦ وﻟﻜﻦ ﻟﻴﺲ ﺑﺴﺒﺐ ﻫﺬا اﻟﻌﻤﻞ اﻟﺬي أﺧﻄﺄ اﻟﻨﺎس ﻓﻬﻤﻪ( .وﰲ ٍ اﻟﺘﻔﺮﻗﺔ ﻋﻤﻠﻬﻢ اﻷول َﻓ ﱠﺮ َق املﺤﺎﺳﺒﻮن ﺑني ﻣﻔﻬﻮﻣﻲ ﺷﺪة اﻟﺤﺮارة وﻣﻘﺪارﻫﺎ ،ﺳﺎ ِﺑﻘني ﺑﺬﻟﻚ ِ املﻌﺎﴏة ﺑني ﻣﻔﻬﻮﻣَ ﻲ اﻟﺤﺮارة ودرﺟﺎت اﻟﺤﺮارة ،وﻟﻜﻨﻬﻢ ﻣﺎ ﻛﺎﻧﻮا ﻟﻴﺪرﻛﻮا ﻛﻴﻔﻴﺔ ﻗﻴﺎس أيﱟ ﻣﻦ ﻫﺬه اﻷﺷﻴﺎء .ﻟﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﺟﻬﻮدﻫﻢ ﺑﺼﻔﺔ ﻋﺎﻣﱠ ﺔ ﺗﻌﺎﻧﻲ ﻣﻦ اﻻﻫﺘﻤﺎم ﺑﺸﻜﻞ أﻛﱪ 430
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
ﺑﺎﻟﺠﺪال املﻨﻄﻘﻲ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ اﻟﺒﺤﺚ ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ؛ ﻓﻘﺪ ﺗﻨﺎوﻟﻮا املﺸﻜﻼت املﺎدﻳﺔ ﻛﻤﺎ ﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻔﺎرﻗﺎت ﻣﻨﻄﻘﻴﺔ ﻣﺠ ﱠﺮدَة ،ﻛﻤﺎ ﻛﺎﻧﻮا ﻣﻔﺘﻮﻧني ﺑﺎﻷﻟﻐﺎز اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﻋﻦ ﻓﻜﺮة اﻟﻼﻧﻬﺎﺋﻴﺔ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ اﻟﺘﺤﺪﱢﻳﺎت اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﻟﻠﺘﻨﺒﺆ ﺑﺎﻟﻈﻮاﻫﺮ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ واﻟﺘﺤ ﱡﻜﻢ ﻓﻴﻬﺎ .ورﻏﻢ ذﻟﻚ ﻓﺈﻧﻬﻢ ﺳﺎ ُروا ﻋﲆ اﻟﻄﺮﻳﻖ اﻟﺼﺤﻴﺢ ﺑﺨﻄﻮات ﻣﺘﻌﺜﱢﺮة ﺣﺘﻰ ﺣَ ِﺒ َ ﻂ ﻋﻤﻠُﻬﻢ وﺑَﺎ َر ﻣﺴﻌﺎﻫﻢ ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ املﻄﺎف. وﻗﺪ أردف ذﻟﻚ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف واﻷﺳﻘﻒ اﻟﺒﺎرﻳﴘ ﻧﻴﻜﻮﻻس أورﻳﺴﻢ )(١٣٨٢–١٣٢٥ ﺑﺒﺤﻮث ﻣﺸﺎﺑﻬﺔ ﺑﻌﻘﻞ أﻛﺜﺮ ﻓﻬﻤً ﺎ وأﻓﻖ أرﺣﺐ ،ﻓﺎﺑﺘﻜﺮ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﻟﺘﻘﺪﻳﻢ أﻓﻜﺎر املﺤﺎﺳﺒني ﰲ دﻳﺒﺎﺟﺔ ﻫﻨﺪﺳﻴﺔ ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻣَ ﱠﻜﻨ َ ُﻪ ﻣﻦ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ أَدِ ﱠﻟ ٍﺔ ﻋﲆ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ اﻟﻬﺎﻣﺔ ﻋﻦ اﻟﴪﻋﺔ واﻟﻌﺠﻠﺔ )وﻛﺎﻧﺖ اﻟﺮﺳﻮم اﻟﺒﻴﺎﻧﻴﺔ اﻟﺘﻲ وﺿﻌﻬﺎ ﻫﻲ ﺧري ﺳﻠﻒ ملﺎ ﻫﻲ ٍ ﺗﻔﺴريات ﻣﺆﻳﺪة ﻟﻠﺮﺳﺎﺋﻞ اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ املﻌﺎرﺿﺔ ﻟﻠﻤﺬﻫﺐ ﻋﻠﻴﻪ اﻵن( .وﻗﺪ ﻗﺪم أورﻳﺴﻢ ﻛﺬﻟﻚ اﻷرﺳﻄﻲ ﻛﻔﻜﺮة دوران اﻷرض وﻓﻜﺮة وﺟﻮد ﻋﻮاﻟﻢ أﺧﺮى ﻏري ﻋﺎملﻨﺎ ﻫﺬا .وﺑﺬﻟﻚ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ً ﺳﺎﺑﻘﺎ ﻟﻌﴫه ﺑﻄﺮﻳﻘﺘني؛ إﺣﺪاﻫﻤﺎ :أﻧﻪ أَو َْﱃ اﻷﺳﺎﻟﻴﺐ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ اﻟﺘﻔﻜري اﻟﻌﻠﻤﻲ ﻷورﻳﺴﻢ اﻫﺘﻤﺎﻣً ﺎ أﻛﱪ ﻣﻤﱠ ﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﰲ ﻋﻠﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ،واﻷﺧﺮى :أﻧﻪ ﺑﺤﺚ ﰲ ﺑﻌﺾ اﻟﻌﻘﺎﺋﺪ اﻟﺮﺋﻴﺴﺔ ﻟﻠﺼﻮرة اﻟﺘﻲ رﺳﻤﻬﺎ أرﺳﻄﻮ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ ،وﻟﻮ ﻧﻈﺮﻳٍّﺎ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ. وﺑﺬﻟﻚ ﻇ ﱠﻠﺖ أﻓﻜﺎ ُره ﺗﺴﺒﺢ ﰲ اﻟﻔﻀﺎء اﻟﻨﻈﺮي ،ﻓﻤﺎ ﺗﻮﺻﻞ إﻟﻴﻪ أورﻳﺴﻢ ﺑﺸﺄن ﺑﺪاﺋﻞ اﻟﺤﻜﻤﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻗﺪ ﺗﺮاﺟﻊ ﻋﻨﻪ ﰲ آﺧﺮ ﻟﺤﻈﺔ .وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻧﻴﻜﻮﻻس أورﻳﺴﻢ ﻫﻮ وﺣﺪه ﻣﻦ ﻓﻌﻞ ذﻟﻚ؛ ﻓﻘﺪ اﺳﺘﻤﺮ ﻣﻔﻜﺮو اﻟﻘﺮن اﻟﺮاﺑﻊ ﻋﴩ ﺑﺼﻔﺔ ﻋﺎﻣﱠ ﺔ ﰲ اﻻﻋﺘﻘﺎد ﰲ أزﻟﻴﺔ اﻟﻨﺠﻮم وﺛﺒﺎت اﻷرض وﻋﺪم وﺟﻮد ﻋﻮا ِﻟ َﻢ أﺧﺮى ،ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ ﻣﻌﻈﻢ ﻣﺎ ﺗﺒﻘﻰ ﻣﻦ املرياث اﻷرﺳﻄﻲ .وﻗﺪ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻨﻈﺮون ﺑﻌني اﻟﻌﺠﺐ إﱃ اﻹﻣﻜﺎﻧﻴﺎت املﺘﻨﺎﻓﺴﺔ إﻻ أﻧﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﺆﻣِﻨﻮا ﺑﻬﺎ أو ﻳﻌﺘﻨﻘﻮا أﻳٍّﺎ ﻣﻨﻬﺎ .ورﺑﻤﺎ ﻗﺎم أورﻳﺴﻢ ﺑﺘﻔﻨﻴﺪ اﻟﺤُ ﺠﺞ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ اﻟﺘﻲ ْ اﺳﺘُ ْﺨﺪِﻣَ ْﺖ ﻟﻠﺘﺪﻟﻴﻞ ﻋﲆ ﺛﺒﺎت اﻷرض وﻟﻜﻦ اﻧﺘﻬﻰ ﺑﻪ اﻷﻣﺮ إﱃ اﻟﺪﻓﺎع ﻋﻦ اﻟﻨﻈﺮة اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ .وﻟﻜﻲ ﻳﺘﻤ ﱠﻜﻦ ﻣﻦ ً »أﻳﻀﺎ ﺗﺜﺒﺘﺖ ﺗﺤﺪﻳﺪ املﻮﺿﻮع ﻗﺎم ﺑﺎﻻﺳﺘﺸﻬﺎد ﺑﺎملﺰﻣﻮر اﻟﺜﺎﻟﺚ واﻟﺘﺴﻌني اﻟﺬي ﻳﻘﻮل: املﺴﻜﻮﻧﺔ .ﻻ ﺗﺘﺰﻋﺰع«. وﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ اﻟﺪﻳﻦ وﺣﺪه اﻟﺬي ﻣﻨﻊ أورﻳﺴﻢ وﻣَ ْﻦ ﻋﲆ ﺷﺎﻛﻠﺘﻪ؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﺑﺎﺳﺘﻄﺎﻋﺔ املﻔﻜﺮﻳﻦ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺮاﺑﻊ ﻋﴩ اﺳﺘﺨﺪام ﻧﻈﺮﻳﺎت أرﺳﻄﻮ وﻛﺎﻧﻮا ﻳﻤﻴﻠﻮن ﻟﺬﻟﻚ ،وﻟﻜﻦ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﺪﻳﻬﻢ ﻧﻈﺎم ﺑﺪﻳﻞ ﻳﻘﺎرﺑﻬﺎ ﰲ اﻹﺣﻜﺎم .ﻟﻘﺪ ﺗﻨﺎول أرﺳﻄﻮ ﺑﺎﻟﴩح ﺟﻤﻴﻊ اﻷﺷﻴﺎء ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ،ﻓﻠﻢ ﻧﺨﻠﺨﻞ اﻟﺒﻨﺎء املﺘﻨﺎﺳﻖ؟ ﻟﻘﺪ ﻛﺎن ﻋﺒﺜًﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻬﻢ أن ﺗُ ْﺮ َﻓ َﺾ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ دون ﺗﻘﺪﻳﻢ أى ﺑﺪﻳﻞ ﺷﺎﻣﻞ ﻣﻨﺎﺳﺐ ،ﻻ ﺳﻴﻤﺎ أن ﻫﺬه اﻷﻓﻜﺎر ﻧﺎﻟﺖ رﺿﺎ اﻟﺴﻠﻄﺎت اﻟﺘﻌﻠﻴﻤﻴﺔ )أي اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ( ﺑﻞ ورﺑﻤﺎ اﻟﻜﺘﺎب املﻘﺪس ً أﻳﻀﺎ .وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻛﺎن ﻣﻦ املﻘﺒﻮل 431
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
اﻟﺘﻔﻜري ﰲ ﺑﺪاﺋ َﻞ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺮان اﻟﻌﻘﲇ املﺤﺾ ،وﻫﺬا ﺗﺤﺪﻳﺪًا ﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﻔﻌﻠﻪ رﺟﺎل ﻣﺜﻞ ﻧﻴﻜﻮﻻس أورﻳﺴﻢ. وﻗﺪ ﺳﺎﻋﺪت اﻹداﻧﺎت اﻟﺘﻲ وﻗﻌﺖ ﻋﺎم ١٢٧٧م ﻋﲆ ﺗﺤﻔﻴﺰ اﻟﺒﺤﺚ ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ وإﻋﺎﻗﺘﻪ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ؛ ﻷن ﺗﺄﻛﻴﺪﻫﺎ ﻋﲆ ﺣﺮﻳﺔ اﻟﺮب ﻛﺎن ﻟﻪ ﺗﺄﺛريات ﻣﻌﻮﻗﺔ ﰲ ﻣﺠﺎل اﻟﻌﻠﻢ وﺗﺄﺛريات أﺧﺮى ﻣﺤﻔﺰة .ﻓﻤﻦ ﺟﻬﺔ ﻛﺎن ﺑﺎﺳﺘﻄﺎﻋﺔ اﻟﺮب أن ﻳﻔﻌﻞ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﺮﻳﺪ ﺣﺎل ﺗﻨﻈﻴﻤﻪ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ؛ وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈن اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﻮﺣﻴﺪة ملﻌﺮﻓﺔ ﻣﺎ ﻓﻌﻠﻪ ﻫﻲ ﻓﺤﺺ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ،ﻓﻜﺎن ﻫﺬا داﻓﻌً ﺎ ﻟﻠﺒﺤﺚ اﻟﻌﻠﻤﻲ املﺘﻔﺘﱢﺢ وﻣﺤﻔ ًﺰا ﻟﻪ؛ ﻷن ﻫﺬا ﻳﻌﻨﻲ ﺿﻤﻨﻴٍّﺎ أن اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺒﺪو ﺻﺤﻴﺤﺔ ﺑﺤﺎﺟﺔ إﱃ اﻟﺘﺄﻛﻴﺪ .وﻣﻦ ﺟﻬﺔ أﺧﺮى ﻳﻄﺎﻟﻌﻨﺎ ﺳﺆال ﻳﻘﻮل ﻣﺎ دام اﻟﺮب ﻗﺪ ﺻﺎغ اﻷﺷﻴﺎء ﻣﻌﻘﺪة وﻏﺎﻣﻀﺔ ﻓﺄي أﻣﻞ ﻛﺎن ﻣﻮﺟﻮدًا ﰲ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ؟ وﻗﺪ ﺗﺸري ٍ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻣﺜﻞ اﻻﺳﺘﻨﺘﺎج اﻟﻘﺎﺋﻞ ﺑﺪوران اﻷرض ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل، ﺑﻌﺾ اﻷدﻟﺔ إﱃ وﻟﻜﻦ ﻋﲆ أي ﳾء ﻳﱪﻫﻦ ذﻟﻚ؟ ﻟﻘﺪ ﻛﺎن اﻟﺮب ﻗﺎد ًرا ﻋﲆ أن ﻳﺠﻌﻞ اﻷرض ﺛﺎﺑﺘﺔ وأن ﺗﺒﺪو ﻟﻨﺎ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ ذاﺗﻪ ﻣﺘﺤ ﱢﺮﻛﺔ ،ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻳﺘﻤﺘﻊ ﺑﺎﻟﺤﺮﻳﺔ واﻟﻘﺪرة املﻄﻠﻘﺔ ،وﻋﻠﻴﻪ ﻓﻠﻦ ﻳﺆ ﱢﻛﺪ ﻟﻨﺎ أي ﺗﺄﻛﻴﺪ واﺿﺢ أﻧﻨﺎ ﻗﺪ ﻓﻬﻤﻨﺎ ﻃﺮق اﻟﺮب اﻟﻐﺎﻣﻀﺔ؛ وﻟﺬﻟﻚ أﺻﺒﺢ اﻟﻌﻠﻢ ﴐﺑًﺎ ﻣﻦ ﴐوب اﻟﻠﻬﻮ واﻟﻌﺒﺚ ،ﻓﻴﻤﻜﻦ ﻟﻺﻧﺴﺎن أن ﻳﻀﻊ ﻛﺎﻓﺔ أﻧﻮاع اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت ﻣﻮﺿﻊ اﻟﺒﺤﺚ واﻟﺘﻤﺤﻴﺺ ،وﻳﻤﻴﻂ اﻟﻠﺜﺎم ﻋﻦ ﻧﺘﺎﺋﺠﻬﺎ وﻳﻘﺎرﻧﻬﺎ ﺑﻤﺎ ﻳﻼﺣﻈﻪ ،أﻣﺎ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻟﺮب ﻓﻬﻮ ﻗﺼﺔ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ .وﻗﺪ ﺟﻌﻠﺖ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ً أﻧﺎﺳﺎ ﻣﺜﻞ ﻧﻴﻜﻮﻻس أورﻳﺴﻢ ﻳﺮاﺟﻌﻮن أﻧﻔﺴﻬﻢ ﻣﺮا ًرا ﻗﺒﻞ ادﱢﻋﺎء اﻟﻮﺻﻮل إﱃ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻷﺷﻴﺎء. ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻟﺪى رواد اﻟﺜﻮرة اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎدس ﻋﴩ ﻣﺜﻞ ﺗﻠﻚ اﻟﻈﻨﻮن ،ﻓﻌﻨﺪﻣﺎ أﻋﻠﻦ ﻛﻮﺑﺮﻧﻴﻜﻮس ﰲ ﻋﺎم ١٥٤٣م ﻧﻈﺮﻳﺘﻪ ﺣﻮل دوران اﻷرض ﺣﻮل ﻣﺤﻮرﻫﺎ وﺣﻮل اﻟﺸﻤﺲ، ﻛﺎن أﺣﺪ املﻈﺎﻫﺮ اﻟﺜﻮرﻳﺔ ﰲ ﻧﻈﺮﻳﺘﻪ ﻳﻜﻤﻦ ﰲ ادﱢﻋﺎﺋﻪ ﺻﺤﺔ ﻣﺎ ﺗﻮﺻﻞ إﻟﻴﻪ ،ﻓﻘﺪ ﻗﺪم اﻛﺘﺸﺎﻓﻪ اﻟﺠﺪﻳﺪ ﰲ ﻋﻠﻢ اﻟﻔﻠﻚ ﻻ ﻋﲆ أﻧﻪ ﻣﺤﺾ ﺣﺴﺎﺑﺎت ﻛﻮﻛﺒﻴﺔ اﻓﱰاﺿﻴﺔ وإﻧﻤﺎ ﻋﲆ أﻧﻪ وﺻﻒ ﺣﻘﻴﻘﻲ ﻟﺸﻜﻞ اﻟﻨﻈﺎم اﻟﺸﻤﴘ ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﻋﻠﻴﻪ .وﻗﺪ ﺣﺎول ﺑﻌﺾ أﺻﺪﻗﺎﺋﻪ إﺧﻔﺎء ﻫﺬه اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﺼﺎدﻣﺔ ،ﺣﻴﺚ ﺧﺮج ﻛﺘﺎﺑﻪ »ﻋﻦ ﺛﻮرة اﻷﺟﺮام اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ« إﱃ اﻟﻨﻮر أوﱠل ﻣﺮة ﺑﻤﻘﺪﻣﺔ ﻏﺎﻣﻀﺔ ﺗﺤﺎول أن ﺗﻮﺿﺢ أن ﻛﻮﺑﺮﻧﻴﻜﻮس ﻟﻢ ﻳﻘﺼﺪ ﻣﺎ ﻗﺎﻟﻪ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ. ً ﻓﻮﻓﻘﺎ ملﺎ ورد ﰲ ﻫﺬه املﻘﺪﻣﺔ اﻟﺘﻲ أدﺧﻠﻬﺎ أﺣﺪ أﺻﺪﻗﺎء ﻛﻮﺑﺮﻧﻴﻜﻮس املﺘﻌﺼﺒني — واﻟﺬي رأى ﻋﻤﻞ ﺻﺪﻳﻘﻪ اﻟﺬي ﻳﺸﺎرف ﻋﲆ املﻮت ﻋﲆ ﺻﻔﺤﺎت اﻟﺠﺮاﺋﺪ واملﺠﻼت — ﻟﻢ ﻳﻘﺼﺪ ﻛﻮﺑﺮﻧﻴﻜﻮس أن ﻳ َُﻀﻤﱢ َﻦ ﻛﺘﺎﺑﻪ أيﱠ ﳾء ﻋﻦ ﻣﻮاﻗﻊ اﻷﺟﺮام اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ وﺣﺮﻛﺎﺗﻬﺎ اﻟﻔﻌﻠﻴﺔ، 432
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
ً أﺳﺎﺳﺎ ﻣﻔﻴﺪًا إﻧﻤﺎ ﻛﺎن اﻟﻜﺘﺎب ﻳﺤﺎول ﺗﻮﺿﻴﺢ ﻛﻴﻒ ﻳﻘﺪم ﻧﻤﻮذﺟﻪ اﻟﺒﺪﻳﻞ ﻋﻦ اﻟﺴﻤﻮات ﻟﻠﺤﺴﺎﺑﺎت. ﺗﻨﻄﻞ ﻫﺬه املﻘﺪﻣﺔ ﻋﲆ أﺣﺪ؛ ﻓﺄﻓﻜﺎر ﻛﻮﺑﺮﻧﻴﻜﻮس ﻇﻠﺖ ﻣﺘﺪاوَﻟﺔ ﻟﻌﺪة أﻋﻮام وﻟﻢ ِ ﻗﺒﻞ ﻧﴩ ﻛﺘﺎﺑﻪ »ﻋﻦ ﺛﻮرة اﻷﺟﺮام اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ« وﻻﻗﺖ ﻫﺠﻮﻣً ﺎ ﺿﺎرﻳًﺎ ﻣﻦ املﺼﻠﺤني ً اﻧﺤﺮاﻓﺎ ﻋﻦ ﺗﻌﺎﻟﻴﻢ اﻟﻜﺘﺎب املﻘﺪس ،ﻓﻘﺪ ﻧَﻌَ َﺖ ﻣﺎرﺗﻦ ﻟﻮﺛﺮ اﻟﱪوﺗﺴﺘﺎﻧﺘﻴني ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ ) — (١٥٤٦–١٤٨٣اﻟﺬي أﴏ ﻋﲆ اﻟﻘﺮاءة اﻟﺤﺮﻓﻴﺔ ﻟﻠﻜﺘﺎب املﻘﺪس ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ ﻋﻮدة إﱃ املﺴﻴﺤﻴﺔ اﻷﺻﻠﻴﺔ — ﻛﻮﺑﺮﻧﻴﻜﻮس ﺑﺄﻧﻪ ﻣُﻨﺠﱢ ﻢ أﺣﻤﻖ وﻣﻐﺮور .وأﻣﺎ اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ اﻟﻜﺎﺛﻮﻟﻴﻜﻴﺔ ﻓﻜﺎﻧﺖ أﻗﻞ اﻟﺘﺰاﻣً ﺎ ﺑﺎﻷﺻﻮﻟﻴﺔ اﻟﻜﺘﺎﺑﻴﺔ ،وﺑﺬﻟﻚ ﺗﺄﺧﺮت إداﻧﺘﻬﺎ اﻟﺮﺳﻤﻴﺔ .وﻟﻜﻦ ﺑﻨﻬﺎﻳﺔ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎدس ﻋﴩ أدى ﺗﻌﺎ ُ ﻇﻢ اﻟﺘﻬﺪﻳﺪ اﻟﱪوﺗﺴﺘﺎﻧﺘﻲ إﱃ أن أﺻﺒﺢ اﻟﺘﺴﻠﺴﻞ اﻟﻜﺎﺛﻮﻟﻴﻜﻲ أﻛﺜﺮ ً ﺣﺴﺎﺳﻴﺔ ﺗﺠﺎه اﻟﺘﺤﺪﻳﺎت اﻟﺘﻲ واﺟﻬﺖ ﺳﻠﻄﺘﻪ اﻟﻔﻜﺮﻳﺔ ،ﻓﻘﺪ ﻣﺜﻠﺖ أﻓﻜﺎر ﻛﻮﺑﺮﻧﻴﻜﻮس إﺣﺪى ﻫﺬه اﻟﺘﺤﺪﻳﺎت وﻟﺬﻟﻚ ﻟﺰم اﻟﻘﻀﺎء ﻋﻠﻴﻬﺎ .وﻛﺎﻧﺖ اﻟﻨﺘﻴﺠﺔ أن ﺣُ ﱢﺮ َم ﻋﲆ اﻟﻜﺎﺛﻮﻟﻴﻜﻴني ﻗﺮاءة أﻋﻤﺎل ﻛﻮﺑﺮﻧﻴﻜﻮس ﻋﺎم ١٦١٠م )وﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ رﻓﻀﺖ اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ اﻟﻜﺎﺛﻮﻟﻴﻜﻴﺔ ﻃﺒﺎﻋﺔ أيﱟ ﻣﻦ أﻋﻤﺎل ﻛﻮﺑﺮﻧﻴﻜﻮس ﺣﺘﻰ ﻋﺎم ١٨٢٢م ،رﻏﻢ أن ﻫﺬا ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻴَﺤُ ﻮل دون اﻟﻮﺻﻮل ﻷﻓﻜﺎر ﻛﻮﺑﺮﻧﻴﻜﻮس( .وﺑﺤﻠﻮل ﺛﻼﺛﻴﻨﻴﺎت اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ ذﻫﺐ ﻛﺜري ﻣﻦ رﺟﺎل اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺜ ﱢ َﻘﺎت إﱃ أن اﻷرض ﺗﺪور ﺣﻮل اﻟﺸﻤﺲ ،وﻟﻜﻦ ﻫﺬا اﻹﺟﻤﺎع ﻟﻢ ﻳ َِﺰد اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ اﻟﻜﺎﺛﻮﻟﻴﻜﻴﺔ إﻻ إﴏا ًرا ﰲ اﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻋﲆ ﱢ ﺣﻘﻬﺎ ﰲ ﺗﺤﺪﻳﺪ ﻣﺎ ﻳﺠﺐ أن ﻳﺆﻣﻦ ﺑﻪ أﺗﺒﺎﻋﻬﺎ .وﰲ ﻋﺎم ١٦٣٣م أﺟﱪت ﻣﺤﺎﻛﻢ اﻟﺘﻔﺘﻴﺶ ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ ﰲ اﻟﺤﺎدﺛﺔ املﺸﻬﻮرة ﻋﲆ اﻟﺘﺨﲇ ﻋﻦ دﻋﻤﻪ ﻷﻓﻜﺎر ﻛﻮﺑﺮﻧﻴﻜﻮس ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻓﻌﻠﻪ. وﺗﺮﺟﻊ ﻧﺠﺎة أﻓﻜﺎر ﻛﻮﺑﺮﻧﻴﻜﻮس ﻣﻦ إداﻧﺔ اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ اﻟﻜﺎﺛﻮﻟﻴﻜﻴﺔ ﰲ ﺑﺪاﻳﺔ ﻋﻬﺪﻫﺎ ﰲ ً ﻃﻮﻳﻼ ﻟﻴﻔﻬﻤﻬﺎ اﻟﻨﺎس وﻳﺆﻣﻨﻮا ﺑﻬﺎ .وﻣﺎ ﻛﺎن أﺣﺪ أﺳﺒﺎﺑﻬﺎ إﱃ أن ﻣﻌﺎﻧﻴﻬﺎ أﺧﺬت وﻗﺘًﺎ ﺣﺠﻢ املﺸﻜﻼت اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﻣﻦ املﻤﻜﻦ أن ﺗﺘﻮ ﱠﻟﺪ ﺟﺮاء أﻓﻜﺎر ﻛﻮﺑﺮﻧﻴﻜﻮس ﻟﺘﺘﻀﺢ ﻟﻠﻌِ ﻴﺎن ً ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ املﻔﻜﺮﻳﻦ اﻟﺬﻳﻦ ﺗﺤ ﱠﺪﺛُﻮا ﺑﴫاﺣﺔ ووﺿﻮح. إﻻ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﺒﻨﱠﻰ ﻋﻠﻢ اﻟﻔﻠﻚ اﻟﺠﺪﻳﺪ ورﺑﻤﺎ ﻛﺎن أﺳﻮأ اﻷﻣﺜﻠﺔ ﻋﲆ ذﻟﻚ ﻫﻮ ﻣﺎ ﺣﺪث ﻣﻊ ﺟﻮرداﻧﻮ ﺑﺮوﻧﻮ أﺣﺪ اﻟﺮﻫﺒﺎن اﻟﺒﺎرزﻳﻦ ﺑﻤﻜﺎن اﻟﺬي ﺗﻌ ﱠﺮض ﻟﻠﺤﺮق ﻋﲆ اﻟﺨﺎزوق ﻋﺎم ١٦٠٠م .ﻟﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ آراؤه ﻣﻦ اﻟﺸﻨﺎﻋﺔ ٍ ﺣﺮﻣﻪ ﻓﻀﻞ املﻮت ً ﺷﻨﻘﺎ ﻗﺒﻞ إﺷﻌﺎل اﻟﻨريان ﰲ ﺟﺴﺪه .وﺑﺬﻟﻚ إذا ﺧﺎﻟﺞ أي ﺷﺨﺺ اﻟﺸﻚ ﰲ أن اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻟﻔﻠﻜﻴﺔ املﺠ ﱠﺮدة ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻬﺎ أن ﺗﻘﴤ ﻋﲆ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﻓﻤﺎ ﻋﻠﻴﻪ إﻻ أن ﻳﻨﻈﺮ ﰲ اﻟﻬﺮاء اﻟﻐﺎﻣﺾ اﻟﺬي آﻣﻦ ﺑﻪ ﺑﺮوﻧﻮ. وﺑﺬﻟﻚ ﻧﺮى ﻛﻴﻒ َﺷﺐﱠ ﻣﺬﻫﺐ ﻛﻮﺑﺮﻧﻴﻜﻮس ﰲ ﺑﻴﺌﺔ ﻓﺎﺳﺪة ،ﻓﻘﺪ ُﻓﻘِ ﺪ ْ َت أوراق ﻣﺤﺎﻛﻤﺔ ﺑﺮوﻧﻮ؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﻼ ﻳﻌﺮف أي ﺷﺨﺺ اﻟﺒﺪع اﻟﺘﻲ اﺧﺘﺎرﺗﻬﺎ ﻣﺤﻜﻤﺔ اﻟﺘﻔﺘﻴﺶ 433
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ً أﺳﺎﺳﺎ ملﺤﺎﻛﻤﺘﻪ .وﻛﻢ ﰲ أﻋﻤﺎﻟﻪ اﻟﻜﺜرية ﻣﻦ أﻣﺜﻠﺔ ﻋﲆ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ ﻏري اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ، ٍ ﻣﺤﺎﴐات ﰲ اﻟﻼﻫﻮت واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ ﻓﺮع ﻏﺮﻳﺐ ﻣﻦ ﻓﺮوع ﻓﻜﺎن ﻳُﻠﻘﻲ املﻨﻄﻖ وﻓﻦ اﻟﺤﻔﻆ واﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻮم اﻷﺧﺮى ،ﻛﻤﺎ ﻛﺘﺐ رﺳﺎﺋﻞ ﺗﻨﺎوﻟﺖ اﻟﺴﺤﺮ وﺧﻄﺒًﺎ ﻻذﻋﺔ ﺿﺪ أرﺳﻄﻮ وﻧﻘﺪًا ﻟﻠﻜﺘﺎب املﻘﺪس وﻗﺼﺎﺋﺪ ﺗﺘﺤﺪث ﻋﻦ اﻟﻜﻮن ،ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ ﺑﻌﺾ ً ﴏاﺣﺔ ﰲ اﻟﻌﻘﺎﺋﺪ املﺴﻴﺤﻴﺔ ،وﻛﺎن أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻳﻌﻠﻦ املﺤﺎورات اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺷ ﱠﻜﻚ ﻓﻴﻬﺎ ً ﺧﺎﻟﺼﺎ ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﻣﻦ أﺗﺒﺎع ﻟﻮﺛﺮ وأﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻣﻦ أﺗﺒﺎع ﻛﺎﻟﻔﻦ ،وﻟﻜﻦ ﻣﺬﻫﺒﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﺴﻴﺤﻴٍّﺎ ً ﻣﻬﻮوﺳﺎ ﺑﺎﻟﺴﺤﺮ وﻣﻮﻟﻌً ﺎ ﺑﺎﻷﻣﻮر اﻟﺘﻲ ﺗﺪور ﺣﻮل اﻷوﻫﺎم اﻟﻐﺎﻣﻀﺔ ،وﻛﺎن ﻳﺒﺪو ،وﻗﺪ ﻛﺎن ٍّ ﺧﺎﺻﺎ ﺑﺎﻟﺪﱢﻳﺎﻧﺎت املﴫﻳﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ،وﻗﺪ ﻗﺎده اﻫﺘﻤﺎﻣُﻪ ﺑﺎﻟﺪﻳﺎﻧﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻌﺒﺪ ُﻮﱄ اﻫﺘﻤﺎﻣً ﺎ ﻳ ِ اﻟﺸﻤﺲ إﱃ ﺗَﺒَﻨﱢﻲ آراء ﻛﻮﺑﺮﻧﻴﻜﻮس. ﻛﻤﺎ ﺣﻔﺰه ﺣﻤﺎﺳﻪ ﻷﻓﻜﺎر ﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس اﻟﻐﺎﻣﻀﺔ وأﺗﺒﺎع املﺬﻫﺐ اﻟﺬﱠ ﱢري اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴني إﱃ ﴤ ُﻗﺪُﻣً ﺎ ﻟﻴﻀﻊ ﻧﻈﺎم ﻛﻮﺑﺮﻧﻴﻜﻮس اﻟﺸﻤﴘ املﺘﻌﺎ َرف ﻋﻠﻴﻪ ﰲ ﻛﻮن ﻻﻧﻬﺎﺋﻲ ﺣﻴﺚ ﻳﻘﻮل: ا ُمل ِ ﱢ ﺛَﻤﱠ َﺔ … ﻣﺴﺎﺣﺔ ﺿﺨﻤﺔ واﺳﻌﺔ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﻄﻠﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﺳﻢ اﻟﻔﺮاغ ،وﻓﻴﻪ ﻣﺎ ﻻ ﻳﺤﴡ ﻣﻦ اﻟﻌﻮاﻟﻢ املﺸﺎﺑﻬﺔ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ اﻟﺬي ﻧﺤﻴﺎ ﻓﻴﻪ ،وأﻧﺎ أُﻋﻠِﻦ أن ﻫﺬا اﻟﻔﻀﺎء ﻻﻧﻬﺎﺋﻲ؛ ﻓﻼ ﺳﺒﺐ أو ﻋﻴﺐ ﻓﻴﻤﺎ ﺗﻬَ ﺒﻪ ﻟﻨﺎ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻳﺠﻌﻠﻨﺎ ﻧُﻨﻜﺮ وﺟﻮد ﻋﻮاﻟﻢ أﺧﺮى ﺧﻼل اﻟﻔﻀﺎء. ُ ﺑﻌﺾ ﻣﻔﻜﺮي اﻟﻘﺮن اﻟﺮاﺑﻊ ﻋﴩ ﻓﻜﺮ َة وﺟﻮد ﻋﻮاﻟﻢ أﺧﺮى دون وﻛﻤﺎ رأﻳﻨﺎ ﻓﻘﺪ اﺳﺘﻐﻞ ً اﻛﺘﺸﺎﻓﺎ ﻋﻈﻴﻤً ﺎ وأﻧﻪ أن ﻳﺆﻣﻨﻮا ﺑﻬﺎ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ رأى ﺑﺮوﻧﻮ أن ﻋﻠﻢ اﻟﻔﻠﻚ املﲇء ﺑﺎﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﻳُﻤَ ﺜ ﱢ ُﻞ ﻒ اﻟﻨﻘﺎب ﻋﻨﻬﺎ ﰲ ﻋﴫه ،ﻓﻘﺎل إن ﻛﻮﻧًﺎ ﻳﻜﺘ ﱡ أﺣﺪ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ املﺪﻫﺸﺔ اﻟﺘﻲ ُﻛ ِﺸ َ ﻆ ﺑﻤﺜﻞ ﻫﺬه ُ ﻗﻴﺎﺳﻬﺎ أﺑﺪًا .وﻗﺪ ﻛﺘﺐ ﻳﻘﻮل إن اﻟﺮب اﻷﺷﻴﺎء َﻟﻬُ َﻮ أﻛﱪ ﺗَﺠَ ﱟﻞ ﻟﻌﻈﻤﺔ اﻟﺮب اﻟﺘﻲ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻳَ ْ ﺷﻤﺲ واﺣﺪة وإﻧﻤﺎ ﰲ ﺷﻤﻮس ﻛﺜرية وﻟﻴﺲ ﰲ أرض ﻈﻬَ ُﺮ إﺟﻼﻟﻪ وﺗﻌﻈﻴﻤُﻪ »ﻟﻴﺲ ﰲ ٍ واﺣﺪة وإﻧﻤﺎ ﰲ أرﺿني ﻛﺜرية ،ﺑﻞ إن ﺷﺌﺖ ﻓﻘﻞ ﰲ أرﺿني ﻻ ﻋَ ﱠﺪ ﻟﻬﺎ«. وﻟﻜﻦ ﻣﺎ أﺷ ﱠﺪ ﻣﺎ ﺳﺒﺒﺘﻪ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﻣﻦ إزﻋﺎج! ﻓﻘﺪ ﻳﻌﻈﻢ اﻟ َﺮبﱠ َﻛ ْﻮ ٌن ﻓﻴﻪ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﻌﻮاﻟﻢ ،وﻟﻜﻦ ﻣﺎ ﻫﻮ ﻣﻮﺿﻊ اﻹﻧﺴﺎن ﻣﻦ ﻛﻞ ذﻟﻚ؟ ﻓﻠﻢ ﻳَﻌُ ْﺪ ﻣﻮﻃﻦ اﻹﻧﺴﺎن ﻫﻮ ﻣﺮﻛﺰ اﻟﻜﻮن وإﻧﻤﺎ ﺑﻘﻌﺔ ﺿﺌﻴﻠﺔ ﰲ اﻟﻔﺮاغ ،ﻓﻬﻞ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن إذن أﻋﻈﻢ املﻮﺟﻮدات واملﺨﻠﻮﻗﺎت؟ وأﻳﻦ ﺗﻘﻊ اﻟﺴﻤﺎء ﺗﺤﺪﻳﺪًا ﰲ ﻫﺬه اﻟﺼﻮرة اﻟﺠﺪﻳﺪة ﻟﻸﺷﻴﺎء؟ ﻻ ﻳُﻌَ ﱡﺪ ﺑﺮوﻧﻮ واﺣﺪًا ﻣﻦ ﺟﻴﻞ اﻟﻌﻠﻤﺎء اﻟﺠﺪﻳﺪ اﻟﺬي ﻳ َُﻀ ﱡﻢ ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ ،ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻛﺜري اﻻﺳﺘﺸﻬﺎد ﺑﻤﺨﻄﻮﻃﺎت زاﺋﻔﺔ أو ﻗﺼﺎﺻﺎت ﻣﻦ اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ،وﻟﻢ ﻳﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ أي ﻧﻮع ﻣﻦ اﻟﺘﺠﺎرب أو 434
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
اﻟﺤﺴﺎﺑﺎت أو املﻼﺣﻈﺎت ﰲ ﺳﺒﻴﻞ دﻋﻢ ﻧﻈﺮﻳﺎﺗﻪ .وﻟﻜﻦ ﺑﻌﺾ أﻓﻜﺎره ﻛﺎﻧﺖ ﺷﺒﻴﻬﺔ ﺑﺄﻓﻜﺎر ً وﻏﻤﻮﺿﺎ ،ﻓﻠﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﺛَﻤﱠ َﺔ ﺗﺸﺎﺑﻪ ﱪ ﻋﻨﻬﺎ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ أﻛﺜﺮ اﺿﻄﺮاﺑًﺎ ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ وأﺗﺒﺎﻋﻪ ،إﻻ أﻧﻪ ﻋَ ﱠ َ ﻛﺒري ﺑني اﻟﻜﻮن اﻟﺬي وﺻﻔﻪ ﺑﺮوﻧﻮ وﻏريه ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻤﺎء وﺑني اﻟﻜﻮن اﻟﺬي ﻛﺎن اﻹﻧﺴﺎن ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ﻣﺘﺄﻛﺪًا أﻧﻪ ﻳﺤﻴﺎ ﻓﻴﻪ. وﻗﺪ ﺗﺤﺪﱠث اﻟﺸﺎﻋﺮ دَن ﻋﻦ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎدي املﺘﺤري ﺑﺎﻟﻘﺪر ﻧﻔﺴﻪ اﻟﺬي ﺗﺤﺪﱠث ﺑﻪ ﻋﻦ رﺟﺎل اﻟﻼﻫﻮت اﻟﺬﻳﻦ ﻳُﻌِ ﺪ َ ﱡون ﻟﻠﻤﻌﺎرك ،ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﺘﺐ ﻋﻦ اﻟﺸﻜﻮك اﻟﺘﻲ أﻇﻠﺖ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﰲ ﺑﺪاﻳﺎت اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ ﻓﻨﺠﺪه ﻳﻘﻮل: ﺑﻈﻼل اﻟﺸﻚ ﻋﲆ ﻛﻞ ﳾء، … ﺗُﻠﻘِ ﻲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ِ … ُﻓﻘِ ﺪ ْ َت اﻟﺸﻤﺲ وﻛﺬﻟﻚ اﻷرض ،وﻻ ﺣﻴﻠﺔ ﻟﻌﻘﻞ اﻹﻧﺴﺎن، ﻛﻲ ﻳﺮﺷﺪه إﱃ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﺒﺤﺚ ﻋﻨﻬﻤﺎ. وﻳﻌﱰف اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺤﺮ ﴏاﺣﺔ ﺑﺎﻧﻘﻀﺎء ﻋﺎملﻪ، ﺣﻴﺚ ﻳﺒﺤﺚ ﰲ اﻟﻜﻮاﻛﺐ واﻟﺴﻤﺎء. ﻋﻦ أﺟﺮام ﺟﺪﻳﺪة ﻛﺜرية … وﻳﺘﻼﳽ اﻟﺘﻨﺎﻏﻢ ﻟﻴُﻔﺴﺢ ﻟﻠﻔﻮﴇ ﻣﻜﺎﻧًﺎ. ﻻ رﻳﺐ أﻧﻨﺎ ﻟﻢ ﻧﻔﻘﺪ اﻟﺸﻤﺲ وﻻ اﻷرض ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ،ﻓﻘﺪ ﻋُ ِﺜ َﺮ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﺑﻔﻀﻞ ذﻛﺎء ﻛﻮﺑﺮﻧﻴﻜﻮس .وﻛﻤﺎ أﺧﻄﺄ اﻟﻨﺎس ﻓﻬ َﻢ ﺣﺮﻛﺔ اﻟﺸﻤﺲ اﻟﻈﺎﻫﺮة ﻓﻈﻨﱡﻮا أﻧﻬﺎ ﺣﺮﻛﺔ ﱢ املﺘﺤﻔﻈني ﻣﻦ أﻫﻞ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ املﻴﻼدي ﺧﻠﻄﻮا ﺑني ﴍوق اﻟﺸﻤﺲ ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ؛ ﻓﺈن ُ ُ ﴩق ﻋﲆ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺑﺒﺪاﻳﺔ ﺗﺸﻜﻴﻞ ﺻﻮرة ﺟﺪﻳﺪة ﻟﻠﻜﻮن. وﻏﺮوﺑﻬﺎ .ﻓﻜﺎﻧﺖ ﺷﻤﺲ اﻟﺘﻨﺎﻏﻢ ﺗ ِ ﱡ اﻟﺘﻐري اﻟﻌﻨﻴﻒ اﻟﺬي ﻛﺎن ورﺑﻤﺎ ﻳُﻌ َﺰى ﻋﺪم ﻇﻬﻮر ﻫﺬا اﻟﻮﺟﻪ املﴩق ﺑﺠﻼءٍ آﻧﺬاك إﱃ أن ِ ﻳﻌﺼﻒ ﺑﺎﻟﻌﺎﻟﻢ ﺣﻴﻨﺌ ٍﺬ ﺟﻌﻞ ﻣﻦ اﻟﺼﻌﺐ أن ﻳﺪرك ﻛﻞ إﻧﺴﺎن ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻣﺎ ﻳﺤﺪث. أﻣﺎ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬي ُوﻟِ َﺪ ﻓﻴﻪ ﻛﻮﺑﺮﻧﻴﻜﻮس ﰲ اﻟﻨﺼﻒ اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻣﻦ اﻟﻘﺮن اﻟﺨﺎﻣﺲ ﻋﴩ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن َ ﺳﺎﺣﺔ ﻗﺘﺎل ﰲ اﻷروﻗﺔ اﻟﻼﻫﻮﺗﻴﺔ .ﻛﺎن اﻧﺘﺸﺎر أﻛﺜﺮ ﻫﺪوءًا ،ﻓﺎﻟﺪراﺳﺔ اﻟﻌِ ﻠﻤﻴﺔ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺑَﻌْ ُﺪ اﻟ ُﻜﺘُﺐ املﻄﺒﻮﻋﺔ واﻟﺘﻮاﻟُﺪ اﻟﺮﻫﻴﺐ ﻟﻸﻓﻜﺎر اﻟﺬي ﻧﺘَﺞ ﻋﻨﻪ ﻗﺪ ﺑﺪأ ﻟﻠﺘﻮ ،وﻟﻌﻞ اﻟﻨﻘﻄﺔ اﻷﻫﻢ ﴍكِ اﻟﺤﺮوب ﺗﺘﻤﺜﻞ ﰲ أن اﻟﻨﺰاﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺪور ﰲ اﻟﻮﺳﻂ اﻟﺜﻘﺎﰲ ﻟﻢ ﺗ ُﻜﻦ ﻋﻠِﻘﺖ ﰲ َ َ اﻟﺪاﻣﻴﺔ اﻟﺘﻲ دارت َرﺣﺎﻫﺎ ﺑني اﻟﱪوﺗﺴﺘﺎﻧﺖ واﻟﻜﺎﺛﻮﻟﻴﻚ .ورﻏﻢ ذﻟﻚ ﻓﺈن اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﻣﺠﺎﻻت 435
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ً ﺣﺎﻟﺔ ﻣﻦ اﻟﻐﻠﻴﺎن اﻹﺑﺪاﻋﻲ ،ﻓﻘﺪ ﻛﺎن اﻷوروﺑﻴﻮن ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ ﻛﺎن ﻳﺸﻬﺪ ِ ﻣﺸﺎرف َﺳ ِﱪ أﻏﻮار ﻋﻮاﻟﻢ ﺟﺪﻳﺪة ﻟﻢ ﺗ ُﻜﻦ ﻛﻮاﻛﺐَ ﺟﺪﻳﺪة أو ﻛﺸﻮﻓﺎت ﻓﻠﻜﻴﺔ وإﻧﻤﺎ ﻋﲆ ﻗﺎرات ﺟﺪﻳﺪة وﻣﻬﺎرات ﺟﺪﻳﺪة وﻃﺮق ﺟﺪﻳﺪة ﰲ اﻟﺘﻌﺎﻣﻞ ﻣﻊ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ وأﺳﺎﻟﻴﺐ ﺗﻌﻠﻴﻤﻴﺔ ﺟﺪﻳﺪة ،ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ ﻋﻮاﻟﻢ املﺆ ﱢﻟﻔني اﻟﺠُ ﺪُد ،ﺑﻞ ﺑﺎﻷﺣﺮى اﻟﺬﻳﻦ ﻃﻮَﺗﻬﻢ ﻏﻴﺎﻫﺐ اﻟﻨﺴﻴﺎن. وﺑﺪأت اﻟﺤﻴﺎة ﺗﻌﻮد روﻳﺪًا روﻳﺪًا إﱃ دراﺳﺔ اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ ﻣﻊ ﻋﺪد ﻣﻦ اﻟﻠﻐﺎت اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ اﻟﺘﻲ أ ُ ْﻫ ِﻤ َﻠ ْﺖ ﻟﻮﻗﺖ ﻃﻮﻳﻞ ،ﻣﻌﻴﺪة ﺑﺬﻟﻚ ﻓﺘﺢ ﻧﺎﻓﺬة ﻟﻺﻃﻼل ﻋﲆ املﺎﴈ ﻇﻠﺖ ُﻘﺎرب َ َ أﻟﻒ ﻋﺎم .وﻟﻢ ﻳﻘﻒ اﻷﻣﺮ ﻋﻨﺪ ﺣَ ﱢﺪ ﻣﻄﺎﻟﺒﺔ اﻟﺒﺎﺣﺜني ﺑﻨﺼﻮص وﺗﺮﺟﻤﺎت ﻣﻮﺻﺪة ملﺎ ﻳ ِ ﻳﻌﺮﻓﻬﺎ أﺳﻼﻓﻬﻢ ﺟﻴﺪًا ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ )أو اﻟﺘﻲ أﻓﻀﻞ ﻟﻸﻋﻤﺎل اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ِ اﻋﺘﻘﺪوا أﻧﻬﻢ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻌﺮﻓﻮﻧﻬﺎ( ﺑﻞ إﻧﻬﻢ ﻃﺎﻟﺒﻮا ﺑﺎﺳﱰداد أﺟﺰاء ﻣﻦ ﺗﺮاﺛﻬﻢ اﻟﻔﻜﺮي اﻟﺬي ﺗﺠﺎﻫﻠﺘﻪ املﻮﺟﺔ اﻟﻜﺒرية ﻣﻦ اﻟﱰﺟﻤﺎت اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ واﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻋﴩ وأواﺋﻞ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻟﺚ ﻋﴩ .ﻛﺎﻧﺖ ﻫﻨﺎك أوﺑﺔ إﱃ اﻟﻜﺘﺐ اﻷدﺑﻴﺔ واﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ واﻷﺧﻼﻗﻴﺔ واﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ وﻏريﻫﺎ ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺐ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻟﻬﺎ ﻣﻦ اﻻﻫﺘﻤﺎم ﻧﺼﻴﺐ ﰲ املﻨﺎﻫﺞ اﻟﻀﻴﻘﺔ اﻟﺘﻲ ُد ﱢر َﺳﺖ ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ؛ ﻓﻔﻲ إﻳﻄﺎﻟﻴﺎ ﺛﻢ ﰲ ﺷﻤﺎل أوروﺑﺎ أﻛﺪ ﻧﻤﻮذج ﺟﺪﻳﺪ َ واﻟﺨﻄﺎﺑﺔ واﻟﺸﻌﺮ ﻣﻦ اﻟﺘﻤﻴﱡﺰ اﻟﻔﻜﺮي ﻋﲆ أﻫﻤﻴﺔ اﻟﺪراﺳﺎت اﻷدﺑﻴﺔ وﻓِﻘﻪ اﻟﻠﻐﺔ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻲ واﻟﺘﺎرﻳﺦ ،وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈن دراﺳﺔ ﻣﺎ ﻳُﻌْ َﺮ ُ ف اﻟﻴﻮم ﺑﻌﻠﻢ »اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺎت« ﺗﻄﻮﱠرت ﺟﺰﺋﻴٍّﺎ ﻣﻦ أﺟﻞ إﻋﺪاد اﻟﺮﺟﺎل ﻟﻠﻌﻤﻞ ﰲ ﻣﺠﺎﻟﺲ اﻷﻣﺮاء وﻣﻜﺎﺗﺐ ﻣﺤﻔﻮﻇﺎت ا ُملﺪُن واﻟﻮﻻﻳﺎت ،ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ املﻜﺎﺗﺐ اﻟﺒﺎﺑﺎوﻳﺔ .واﻫﺘﻤﺖ ﻫﺬه اﻟﻄﺒﻘﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة ﻣﻦ املﻮ ﱠ ﻇﻔني واﻟﺒﺎﺣﺜني اﻟﻌﻠﻤﺎﻧﻴني ﺑﺘﻄﻮﻳﺮ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﻛﺘﺎﺑﺘﻬﻢ وﺗﻬﺬﻳﺒﻬﺎ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ اﻻﻫﺘﻤﺎم ﺑﺎﻟﺪﺧﻮل ﰲ ﻧﺰاﻋﺎت ﻻﻫﻮﺗﻴﺔ ،وﻛﺎﻧﻮا ﻳﺒﺘﻐﻮن ﻣﻦ ذﻟﻚ أن ﻳﺘﻌ ﱠﻠﻤﻮا ﻛﻴﻔﻴﺔ ﻛﺘﺎﺑﺔ اﻟﺨﻄﺎﺑﺎت واﻟﺮﺳﺎﺋﻞ ا ُملﻘﻨِﻌﺔ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ ﺣَ ﱢﻞ اﻷﻟﻐﺎز املﻨﻄﻘﻴﺔ .وﻗﺪ ﻛﺎن ﻟﻬﺬه اﻟﺘﻄﻮﱡرات اﻟﺘﻲ ﺟﺮت ﺧﺎرج اﻟﺠﺎﻣﻌﺎت ﻛﺒريُ اﻷﺛﺮ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﺪور داﺧﻞ أروﻗﺘﻬﺎ. وﻣﻦ اﻵﺛﺎر اﻟﺘﻲ ﺧ ﱠﻠﻔﺘﻬﺎ ﻫﺬه اﻟﺤﺮﻛﺔ »اﻹﻧﺴﺎﻧﻮﻳﺔ« ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ زﻳﺎدة اﻻﻫﺘﻤﺎم ﺑﺎﻷﺧﻼق واﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ،ﻓﺤَ ِﻈﻴَﺖ رﺳﺎﺋﻞ أرﺳﻄﻮ ﰲ اﻷﺧﻼق وﻛﺘﺎﺑﻪ »ﻓﻦ اﻟﺸﻌﺮ« ﺑﺪراﺳﺔ واﺳﻌﺔ ،ﻛﻤﺎ ذاﻋﺖ ﻛﺬﻟﻚ أﻋﻤﺎل أﻓﻼﻃﻮن ﺑﺄﺳﻠﻮﺑﻬﺎ اﻷدﺑﻲ اﻟﺮﻓﻴﻊ اﻟﺬي ﻻ ﻳ َ ُﻀﺎﻫﻰ. وﻣﻦ اﻵﺛﺎر املﱰﺗﺒﺔ ﻋﲆ املﺬاﻫﺐ اﻹﻧﺴﺎﻧﻮﻳﺔ ﻛﺬﻟﻚ اﻟﻌﺪاء اﻟﴫﻳﺢ ﻟ ﱡﻠﻐﺔ َ اﻟﻔ ﱠ ﻈﺔ واﻷﺳﺎﻟﻴﺐ اﻟﺸﻜﻠﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻨﺘﴩة ﰲ اﻟﺤﺠﺞ املﺪرﺳﻴﺔ .وﻗﺪ ﻋﱪ ﻟﻮرﻧﺰو ﻓﺎﻻ ،وﻫﻮ أﺣﺪ املﻔﻜﺮﻳﻦ اﻹﻳﻄﺎﻟﻴني ،ﻋﻦ إﺣﺒﺎﻃﻪ ﻣﻦ ﻣﻨﻄﻖ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ً ﻗﺎﺋﻼ: 436
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
»ﻟﻴﺲ ﻛﻞ إﻧﺴﺎن ﺣﺠ ًﺮا ،وﺑﻌﺾ اﻟﻨﺎس ﺣﻴﻮاﻧﺎت؛ إذن ﺑﻌﺾ اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت ﻟﻴﺴﺖ ﺣﺠﺎرة «.ﻻ أﺳﺘﻄﻴﻊ أن أﺗﻤﺎﻟﻚ ﻧﻔﴘ ﻋﻦ اﻟﴫاخ :ﻫﻞ ﺳﻤﻌﺘﻢ أﺣﺪًا ﻣﻦ ﻗﺒ ُﻞ ٍ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻛﺘﻠﻚ ﻳﺎ أﻣﺔ املﺠﺎﻧني؟ ﻳﻨﺎﻗﺶ وﻗﺪ اﻫﺘ ﱠﻢ ﻟﻮرﻧﺰو ﻓﺎﻻ وأﺗﺒﺎع املﺬﻫﺐ اﻹﻧﺴﺎﻧﻮي ﺑﺎملﺆﺛﺮﻳﻦ ﻣﻦ أﻫﻞ اﻟﺨﻄﺎﺑﺔ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ اﻟﴩه ﻋﲆ اﻫﺘﻤﺎﻣﻬﻢ ﺑﺄﺷﻜﺎل اﻟﻘﻴﺎس املﺠ ﱠﺮدة واﻻﺻﻄﻨﺎﻋﻴﺔ ﻟﺪى أرﺳﻄﻮ .وزاد اﻹﻗﺒﺎل ﱠ ِ ﺎب اﻟﻼﺗﻴﻨﻴني اﻟﻘﺪﻣﺎء أﻣﺜﺎل ﺷﻴﴩون ﻣﻦ أﺟﻞ اﻛﺘﺴﺎب املﻬﺎرات اﻷﺳﻠﻮﺑﻴﺔ ﻗﺮاءة أﻋﻤﺎل اﻟ ُﻜﺘﱠ ِ اﻟﺘﻲ ﻏﺎﺑﺖ ﻋﻦ اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻼﺗﻴﻨﻴﺔ اﻟﺘﻲ ُﻛ ِﺘﺒ َْﺖ ﺑﻬﺎ اﻟﴩوح املﺪرﺳﻴﺔ ،وﻫﻲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻟﺪى ﺷﻴﴩون ﻣﺎ ﻳﻘﻮﻟﻪ ﻋﻨﻬﺎ إﻻ أﻧﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻗﻠﻴﻠﺔ اﻷﻫﻤﻴﺔ ،ﻣﻬﻤﺎ ﻗﺎل ذﻟﻚ ﺑﺄﺳﻠﻮب ﺟﻤﻴﻞ وﻣﻨﻤﻖ .وﻗﺪ ﻛﺎن أﺗﺒﺎع املﺬﻫﺐ اﻹﻧﺴﺎﻧﻮي ﻳﻨﻈﺮون إﱃ ﺧﻄﺒﻪ ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ ﻧﻤﻮذﺟً ﺎ ٍ ﻟﻜﻴﻔﻴﺔ ﻃﺮح ﻗﻀﻴﺔ ،ﻛﻤﺎ اﻫﺘﻤﻮا ﺑﺄﻋﻤﺎﻟﻪ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ ﻣﺼﺎد َر ﺳﻬﻠﺔ اﻟﻘﺮاءة ِ ﺗﺼﻒ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻬﻴﻠﻴﻨﺴﺘﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﺤﺪﱠث ﻋﻦ ﺣﻴﺎ ٍة ﻣﺎ ﻛﺎن ﻟﻴﻌﺮﻓﻬﺎ املﻌﻠﻤﻮن ﰲ ﺟﺎﻣﻌﺎت اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ أﺑﺪًا. وﻛﺎن إراﺳﻤﻮس اﻟﺮوﺗﺮداﻣﻲ ) (١٥٣٦–١٤٦٩ﻣﻦ أﻫﻢ اﻟﺒﺎﺣﺜني أﺗﺒﺎع املﺬﻫﺐ اﻹﻧﺴﺎﻧﻮي وأﻛﺜﺮﻫﻢ ﺗﺄﺛريًا ،وﻳﺬﻛﺮﻧﺎ ﻧﻘﺪُه ﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﺠﺎﻣﻌﺔ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﻪ »ﰲ ﻣﺪح اﻟﺤﻤﺎﻗﺔ« ﺑﻬﺠﻮم أﻓﻼﻃﻮن ﻋﲆ اﻟﺴﻔﺴﻄﺎﺋﻴني اﻟﺬﻳﻦ اﻧﺸﻐﻠﻮا ﺑﺴﻔﺎﺳﻒ اﻷﻣﻮر ﰲ ﺑﺮﻳﻜﻠني ﺑﺄﺛﻴﻨﺎ. وﻗﺪ ﺟﻌﻞ إراﺳﻤﻮس املﺪرﺳﻴﺔ ﺗﺒﺪو ﺳﺨﻴﻔﺔ وﺣﻘرية .وﻗﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻬﻤﺘﻪ ﺑﺴﻴﻄﺔ وﺳﻬﻠﺔ ً ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ املﻬ ﱢﺮﺟني اﻟﺠﻬﻠﺔ ﰲ إﻗﻨﺎع ﻗﺮاﺋﻪ ﺑﺄن ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻼﻫﻮت آﻧﺬاك ﻟﻢ ﻳﻜﻮﻧﻮا إﻻ اﻟﻔﺎﺳﺪﻳﻦ ﻛﻤﺎ ﻓﻌﻞ ﻓﺮاﻧﺴﻮا راﺑﻠﻴﻪ اﻟﺬي ﺟﻌﻠﻬﻢ أﺿﺤﻮﻛﺔ ﰲ رواﻳﺘﻪ »ﺟﺎرﺟﺎﻧﺘﻮا« ﻋﺎم ٍّ ﻣﺤﻘﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻗﺎل إن ﻛﺜريًا ﻣﻦ ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻼﻫﻮت ﻟﻢ ﻳﻜﻮﻧﻮا ١٥٣٤م .ورﺑﻤﺎ ﻛﺎن إراﺳﻤﻮس ﻳﻔﻬﻤﻮن اﻟﻨﺼﻮص اﻟﺘﻲ زﻋﻤﻮا أﻧﻬﻢ ﻳُ َﺪ ﱢر ُﺳﻮﻧَﻬَ ﺎ .وﻗﺪ أدى املﻮت اﻷﺳﻮد إﱃ ﺗﻘﻠﻴﺺ املﺼﺎدر اﻟﺘﻲ اﺳﺘﻘﺖ ﻣﻨﻬﺎ اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ ﻣﻬﺎراﺗﻬﺎ اﻟﻔﻜﺮﻳﺔ إﱃ ﺣَ ﱟﺪ ﺑﺎﻟﻎ .وﻗﺪ ﻣﻬﱠ ﺪ ﻫﺠﻮم إراﺳﻤﻮس َ اﻟﻄﺮﻳﻖ ﻟﻠﻤُﺼﻠِﺤَ ْني اﻟﱪوﺗﺴﺘﺎﻧﺘﻴ ْﱠني ﻓﻘﺮ ُروﺣﻲ ﻋﲆ اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ املﱰﻓﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗُﻌﺎﻧِﻲ ﻣﻦ ٍ ﻟﻮﺛﺮ وﻛﺎﻟﻔﻦ .وﻗﺪ اﺗﻀﺤﺖ أﻫﻤﻴﺔ املﻬﺎرات اﻷدﺑﻴﺔ ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ ﺳﻼﺣً ﺎ ﻗﻮﻳٍّﺎ ﰲ ﻳﺪ اﻟﺨﺒري اﻹﻧﺴﺎﻧﻮي ﰲ ﻣﺜﻞ ﺗﻠﻚ املﻌﺎرك إذ َﻗ ﱠﺪ َم ﻋﻤﻞ إراﺳﻤﻮس اﻟﺤﺼﻴﻒ ﰲ اﻟﻜﺘﺎب املﻘﺪس واﻟﻜﺘﺎﺑﺎت املﺴﻴﺤﻴﺔ اﻷوﱃ املﺴﺎﻋﺪة ﻟﻪ ﻋﲆ إﻇﻬﺎر إﱃ أي ﻣﺪًى ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ املﻌﺎﴏة ﺑﻌﻴﺪة ﻋﻦ املﺴﻴﺤﻴﺔ اﻷﺻﻠﻴﺔ. وﻗﺪ ﻗﺎم ﻧﻴﻜﻮﻻ ﻣﻜﻴﺎﻓﻴﲇ )) (١٥٢٧–١٤٦٩اﻟﺬي ﻛﺎن ﻣﻌﺎﴏًا ﻹراﺳﻤﻮس( ﺑﺘﻘﻮﻳﺾ ﺳﻠﻄﺔ ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻼﻫﻮت ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣُﻐﺎ ِﻳﺮ ﺣﻴﺚ ﻗﺎم ﺑﺘﻄﻮﻳﺮ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﺟﺪﻳﺪة ﻟﻠﻜﺘﺎﺑﺔ ﻋﻦ 437
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ً ﻓﺒﺪﻻ ﻣﻦ ﺗﻘﺪﻳﻢ ﻣﱪﱢرات ﻻﻫﻮﺗﻴﺔ اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺑﺒﺴﺎﻃﺔ ﺗﺘﺤﺎﳽ اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ. ﻟﻠﻤﺆﺳﺴﺎت واملﻤﺎرﺳﺎت اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ َﻗ ﱠﺪ َم ً ﻃﺮﻗﺎ واﻗﻌﻴﺔ ﺗﱪز ﻛﻴﻔﻴﺔ اﻛﺘﺴﺎب اﻟﻘﻮة وأﺳﺎﻟﻴﺐ ﻣﻤﺎرﺳﺘﻬﺎ .وﻗﺪ اﺷﺘﻬﺮ ﻛﺘﺎﺑﻪ املﺨﺘﴫ »اﻷﻣري« ﺑﺘﺼﻮﻳﺮه ﻟﻠﺤﺎﻛﻢ اﻟﻨﺎﺟﺢ ﻋﲆ أﻧﻪ رﺟﻞ ُﺪرك ﻣﺘﻰ ﻳﺘﻐﺎﴇ ﻋﻦ اﻟﻘﻴﻮد اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ وﻳﴩع ﰲ ﻓﻌﻞ ﻣﺎ ﻳﺮﻳﺪ .أﻣﺎ ﻋﻤﻞ ﻣﻜﻴﺎﻓﻴﲇ ﻳ ِ اﻟﺮﺋﻴﺲ وﻫﻮ »اﻟﺨﻄﺎﺑﺎت« ﻓﻬﻮ أﻗﻞ ﻓﻈﺎﻋﺔ ﻣﻦ ﻛﺘﺎﺑﻪ اﻷول ،وﻳﺘﻤﻴﺰ ﺑﻜﱪ ﺣﺠﻤﻪ ﻋﻨﻪ ﺑﺸﻜﻞ ﻛﺒري ﻳﻔﴪ ﻋﺪم ﺷﻬﺮﺗﻪ وذﻳﻮﻋﻪ .وﺑﺴﺒﺐ ﻛﺘﺎﺑﻪ »اﻷﻣري« اﺷﺘﻬﺮ ﻣﻜﻴﺎﻓﻴﲇ ﺑﻨﴫﺗﻪ ﻟﻔﻜﺮة اﺳﺘﺨﺪام اﻟﻘﺴﻮة .وﺑﺼﻔﺔ ﻋﺎﻣﺔ ﻻ ﺗُﻌَ ﱡﺪ ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻪ ﺳﺎﺧﺮ ًة ﺑﻘﺪر ﻣﺎ ﻫﻲ ﻛﺘﺎﺑﺎت اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ،ﻓﻬﻲ ﺗﻮﺿﺢ ﻛﻴﻔﻴﺔ ﻣﻤﺎرﺳﺔ اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ ،ﻓﻜﺎﻧﺖ اﻟﻨﺘﻴﺠﺔ ﻣﻴﻼد ﻧﻮع ﺟﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺪراﺳﺎت اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺗﻨﺄَى ﻋﻦ املﻨﺎﻫﺞ اﻟﺪراﺳﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺨﻀﻊ ﻟﺴﻠﻄﺎن اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ. ً وﺟﻬﺔ ﺟﺪﻳﺪة ﺣﻴﺚ أﺻﺒﺢ ﻋﻤﻠﻴٍّﺎ ﺑﺼﻮرة وﰲ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ أﺧﺬ اﻟﺒﺤﺚ ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ أﻛﱪ .وﻗﺪ ﻇﻬﺮ ذﻟﻚ ﺟﻠﻴٍّﺎ واﺿﺤً ﺎ ﰲ اﻟﺒﺪاﻳﺔ ﰲ اﻟﺠﺎﻣﻌﺎت اﻹﻳﻄﺎﻟﻴﺔ ﺣﻴﺚ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﺗُ ْﺪ َر ُس ﰲ ﻛﻨﻒ اﻟﻄﺐ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ دراﺳﺘﻬﺎ ﺿﻤﻦ ﻋﻠﻢ اﻟﻼﻫﻮت ،ﻛﻤﺎ ﻛﺎن اﻟﺤﺎل ﰲ ﺑﺎرﻳﺲ وأﻛﺴﻔﻮرد .وﻳﻨﺒﻊ ﻛﺜري ﻣﻦ أﻓﻀﻞ اﻷﻋﻤﺎل اﻟﻄﺒﻴﺔ اﻟﺘﻲ ُﻛ ِﺘﺒ َْﺖ ﰲ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﺘﻘﻠﻴﺪ اﻟ ﱢ ﻄﺒﱢﻲ اﻟﺬي ﻳﺘﱠ ِﺴﻢ ﺑﺎﻟﱪﺟﻤﺎﺗﻴﺔ وروح اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ ﺑﺼﻮرة أﻛﱪ )ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻛﻮﺑﺮﻧﻴﻜﻮسً ، ً ﻣﺘﻤﺮﺳﺎ اﺷﺘﻬﺮ ﻃﻮال ﺣﻴﺎﺗﻪ ﺑﻌﻤﻠﻪ اﻟﻮاﺳﻊ ﰲ ﻣﺠﺎل اﻟﻄﺐ أﻛﺜﺮ ﻣﺜﻼ ،ﻃﺒﻴﺒًﺎ ﻣﻦ اﻟﻔﻠﻚ( .وﻳﻤﻜﻦ رؤﻳﺔ املﺬﻫﺐ اﻟﻌﻤﲇ اﻟﺠﺪﻳﺪ اﻟﺨﺎص ﺑﻌﻠﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﰲ أﻋﻤﺎل رﺳﺎﻣﻲ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ ،ﺣﻴﺚ ﺑﺪءوا ﻳﻬﺘﻤﱡ ﻮن ﺑﻔﻦ املﻼﺣﻈﺔ ﻟﺘﺼري أﻋﻤﺎﻟﻬﻢ أﻗﺮب إﱃ اﻟﻮاﻗﻊ .وﻗﺪ ﺣﻈﻲ ﻟﻴﻮﻧﺎردو داﻓﻴﻨﴚ ) (١٥١٩–١٤٥٢ﺑﻤﻜﺎﻧﺔ ﻛﺒرية ﰲ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻌﻠﻢ واﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻟﻴﺲ ﺑﻔﻀﻞ اﺧﱰاﻋﺎﺗﻪ اﻟﺘﺨﻄﻴﻄﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻨﻮﱠﻋﺖ ﺑني اﻟﻄﺎﺋﺮات املﺮوﺣﻴﺔ واﻟﺒﻨﺎدق ﴎﻳﻌﺔ اﻟﻘﺬف ﻓﺤﺴﺐ ،ﺑﻞ ﺑﻔﻀﻞ ﻧﺼﺎﺋﺤﻪ اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﻳُﺴﺪﻳﻬﺎ ﻟﺘﻼﻣﻴﺬه ﻣﻦ اﻟﻔﻨﺎﻧني ﺑني ﻫﺬه اﻟﺴﻄﻮر ،ﻓﻘﺎل إن ﻋﻠﻴﻬﻢ دراﺳﺔ املﻨﺎخ ﻣﻦ أﺟﻞ املﻨﺎﻇﺮ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ،ودراﺳﺔ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ﻣﻦ أﺟﻞ ﻣﺮاﻋﺎة املﻨﻈﻮر اﻟﺒﴫي اﻟﺬي ا ْﻛﺘُ ِﺸ َﻔ ْﺖ ﻗﻮاﻧﻴﻨﻪ ﱠ ﻣﺆﺧ ًﺮا ﻋﲆ ﻳﺪ املﻌﻤﺎري ﺻﺎﺣﺐ اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ املﻮﺳﻮﻋﻴﺔ ﻟﻴﻮن ﺑﺎﺗﻴﺴﺘﺎ أﻟﺒريﺗﻲ ،ودراﺳﺔ ﻋﻠﻢ اﻷﺣﻴﺎء ﻟﻴﺘﻤﻜﻨﻮا ﻣﻦ رﺳﻢ اﻟﺠﺴﺪ ﺑﺸﻜﻞ ﺻﺤﻴﺢ .ﻛﻤﺎ أ ﱠﻛﺪ داﻓﻴﻨﴚ ﻋﲆ أﻫﻤﻴﺔ ﻣﻼﺣﻈﺔ اﻟﻌﺎﻟﻢ ودراﺳﺘﻪ ﰲ ﺳﻌﻴﻬﻢ اﻟﺒﴩي ٍ ﻟﺘﺤﻘﻴﻖ اﻛﺘﺸﺎف ﻷﻧﻔﺴﻬﻢ ،ﱠ وأﻻ ﻳﻌﻮﻟﻮا ﻋﲆ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ املﺴﺘﻬﻠﻜﺔ .وﻛﻤﺎ ﺣﺚ اﻟﺒﺎﺣﺜﻮن اﻟﺠﺪد ﻣﻦ أﺗﺒﺎع املﺬﻫﺐ اﻹﻧﺴﺎﻧﻮي ﻋﲆ اﻟﻌﻮدة إﱃ اﻟﻨﺼﻮص اﻷﺻﻠﻴﺔ ﻟﻠﺤﺼﻮل ﻋﲆ املﻌﺮﻓﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ دون اﻟﺼﺒﻐﺔ اﻟﺘﻲ اﻛﺘﺴﺒﺘﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ﻓﺈن ﻟﻴﻮﻧﺎردو داﻓﻴﻨﴚ ﻗﺪ ﺣﺚ ﻋﲆ ﳾء آﺧﺮ ً ﻗﺎﺋﻼ: 438
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
إﻧﻪ ﻷﻛﺜﺮ أﻣﺎﻧًﺎ أن ﻧﻠﺠﺄ ﻣﺒﺎﴍة إﱃ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ اﻷﻋﻤﺎل املﻘ ﱠﻠﺪة ﻣﻦ أﺻﻮﻟﻬﺎ، اﻟﺘﻲ أﺻﺎﺑﻬﺎ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﺘﺪﻫﻮر ﻓﻨﻜﺘﺴﺐ ﺑﺬﻟﻚ ﻣﻨﻬﺠً ﺎ ﻓﺎﺳﺪًا ،ﻓﻤَ ْﻦ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ أن ﻳﻨﻬﻞ ﻣﻦ اﻟﻨﺒﻊ ﻟﻴﺲ ﺑﺤﺎﺟﺔ إﱃ ورود اﻟﱪك. وﻗﺪ َﻗ ﱠﺪ َم ﻟﻮﻳﺲ ﻓﻴﻔﻴﺲ ) — (١٥٤٠–١٤٩٢وﻫﻮ أﺣﺪ أﺗﺒﺎع املﺬﻫﺐ اﻹﻧﺴﺎﻧﻮي وأﺣﺪ ﻛﺒﺎر ﻧ ُ ﱠﻘﺎد اﻟﺘﻘﺎﻟﻴﺪ املﺪرﺳﻴﺔ ﰲ ﻣﺠﺎل اﻟﻌﻠﻢ — ﻧﺼﻴﺤﺔ ﻣﺸﺎﺑﻬﺔ وﻟﻜﻨﻪ وﺟﱠ ﻪ ﻫﺬه اﻟﻨﺼﻴﺤﺔ إﱃ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ اﻟﻔﻨﺎﻧني ،ﻓﺸﺪد ﻋﲆ أﻫﻤﻴﺔ ﺗﻌﻮﻳﻞ اﻹﻧﺴﺎن ﻋﲆ ﻣﻼﺣﻈﺎﺗﻪ اﻟﺨﺎﺻﺔ ،وﺑ ﱠ َ َني أن ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺘﻘﺪﱡم ﰲ ﻣﺠﺎل اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻳﺘﻤﺜﻞ ﰲ دراﺳﺔ اﻟﺤِ َﺮ ِ ف اﻟﻴﺪوﻳﺔ واﻷﺳﺎﻟﻴﺐ اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ،وﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻳﻌﻨﻲ أن ﻳُﻠﻘِ ﻲ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ أﻗﻼﻣﻬﻢ وﻳﺘﺤﻮﱠﻟﻮا إﱃ ٍ آﻻت ،وﻟﻜﻨﻪ ﻗﺼﺪ أﻧﻪ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻔﻼﺳﻔﺔ أن ﻳﺘﻌﻠﻤﻮا اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻷﺳﺎﻟﻴﺐ اﻟﺘﻲ ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻬﺎ اﻟﻔﻨﺎﻧﻮن واملﻬﻨﺪﺳﻮن واملﻌﻤﺎرﻳﻮن ُ وﺻﻨﱠﺎ ُع اﻵﻻت اﻟﺬﻳﻦ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻤﺪون اﻟﻔﻠﻜﻴني واملﻮﺳﻴﻘﻴني واملﻼﺣني ﺑﻤﺎ ﻳﺤﺘﺎﺟﻮﻧﻪ ﻣﻦ آﻻت؛ أي أن ﻳﺘﻌﻠﻤﻮا ﻣﻦ رﺟﺎل ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ اﻟﺬﻳﻦ اﻧﺸﻐﻠﻮا ﺑﺎملﻼﺣﻈﺔ واﻟﺘﺴﺠﻴﻞ واﻟﺘﺤﻠﻴﻞ وﻣﻌﺎﻟﺠﺔ اﻟﻈﻮاﻫﺮ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻣﺘﻰ أﻣﻜﻦ ذﻟﻚ .وﻗﺪ ﻗﺎل إن اﻷﺳﺎﻟﻴﺐ اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻬﺎ املﺘﺨﺼﺼﻮن ﰲ املﺠﺎﻻت اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ ﺗﺄﺗﻲ ﺑﻨﺘﺎﺋﺞَ ﻋﻦ ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ أﻛﺜﺮ دِ ﱠﻗ ًﺔ ﻣﻦ اﻷﺳﺎﻟﻴﺐ اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﻳﺴﺘﺨﺪﻣُﻬﺎ اﻟﺒﺎﺣﺜﻮن اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﻮن ﰲ اﻟﺠﺎﻣﻌﺎت. وﻣﻦ اﻟﺤﻘﺎﺋ ِِﻖ املﺪﻫﺸﺔ ﻋﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﰲ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ اﺗﱢﺴﺎ ُع ﻧﻄﺎق دراﺳﺘﻬﺎ ﺧﻼل ﻫﺬا اﻟﻌﴫ .ﻓﻘﺪ ﺷﻬﺪ اﻟﻘﺮن اﻟﺨﺎﻣﺲ ﻋﴩ رﺣﻼت ﺟﺮﻳﺌﺔ ﻟﺴﱪ أﻏﻮار اﻟﻌﺎﻟﻢ ،ﻓﺎﻧﻄﻠﻖ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺮﺣﻼت ﺧﺎﺻﺔ ﻣﻦ إﺳﺒﺎﻧﻴﺎ واﻟﱪﺗﻐﺎل ﻟريﺟﻊ ﻣﺤﻤﱠ ًﻼ ﺑﺄﺧﺒﺎر ﻋﻦ أﻧﻮاع ﻏري ﻣﻌﺮوﻓﺔ وﻣﻨﺎﻇﺮ ﻏري ﻣﺄﻟﻮﻓﺔ ،وﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﺎت اﻷﻗﺪﻣني ﻣﺎ ﻳ ﱢ ُﻔﴪ ﻟﻠﻤﻜﺘﺸﻔني ﻣﺎ ﻳ َﺮوْﻧﻪ ﺑﺄﻋﻴﻨﻬﻢ .وﺑﻌﺪ زﻳﺎرة اﻟﻘﺎرة اﻟﺘﻲ ُﺳﻤﱢ ﻴ َْﺖ ﺑﺎﺳﻤﻪ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌ ُﺪ ﻗﺎل أﻣﺮﻳﺠﻮ ﻓﻴﺴﺒﻮﺗﴚ إن ﻛﺘﺎب »اﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ« — اﻟﺬي ﻛﺘَﺒﻪ ﺑﻠﻴﻨﻲ واﻟﺬي ﻻ ﻳﺰال أﺣﺪ اﻷﻋﻤﺎل املﻌﻴﺎرﻳﺔ ﺣﺘﻰ ﺑﻌﺪ ﻣﺮور ١٤٠٠ﻋﺎم — ﻟﻢ ﻳ َُﻀ ﱠﻢ أﻗﻞ اﻟﻘﻠﻴﻞ ﻣﻦ اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﺘﻲ اﻛﺘﺸﻔﻬﺎ ﺑﺎﻟﻘﺎرة اﻟﺠﺪﻳﺪة؛ ً ﻣﻌﺮوﻓﺎ ﻟﺪى اﻟﻘﺪﻣﺎء وأﺻﺒﺢ وﺑﻬﺬا ﺑﺪأ ﻳﺘﻀﺢ اﻟﺘﻨﻮع اﻟﻬﺎﺋﻞ ﰲ اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت وﻫﻮ »ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ً ﻣﻌﺮوﻓﺎ ﻟﺪﻳﻨﺎ اﻵن«. وﻛﺘﺐ ﻓﻴﺴﺒﻮﺗﴚ ﰲ رﺳﺎﻟﺘﻪ اﻟﺸﻬرية »رﺳﺎﻟﺔ ﻋﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺠﺪﻳﺪ« ﻋﺎم ١٥٠٣م ﻳﻘﻮل: »ﻟﻘﺪ رأﻳﺖ أﺷﻴﺎء ﰲ ﻫﺬا اﻟﺠﺰء ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺗﺘﻀﺎرب ﻣﻊ آراء اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ «.وﻟﻢ ﺗﺴﺤﺮه أﻧﻮاع اﻟﻨﺒﺎﺗﺎت واﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت اﻟﺠﺪﻳﺪة أو اﻟﻈﻮاﻫﺮ اﻟﺠﻮﻳﺔ واﻟﻌﺠﺎﺋﺐ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ اﻷﺧﺮى ﻓﺤﺴﺐ، ﺑﻞ اﻟﻌﺎدات واﻟﺘﻘﺎﻟﻴﺪ اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﻳﻤﺎرﺳﻬﺎ اﻟﺴﻜﺎن اﻷﺻﻠﻴﻮن ،ﻓﺒﺪت اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ 439
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ً اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ً واﺻﻔﺎ ﻛﻴﻒ ﻻ ﻳﺪﻳﻦ ﻫﺆﻻء أﻳﻀﺎ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺠﺪﻳﺪ .وﻛﺘﺐ ﻓﻴﺴﺒﻮﺗﴚ اﻟﻨﺎس ﺑﺪﻳﻦ وﻳﻌﻴﺸﻮن ﺑﻼ ﻗﻴﻮد ﻛﻤﺎ ﺗﻌﻴﺶ اﻟﺤﻴﻮاﻧﺎت؛ ﻓﻬﻢ ﰲ أﻋﲆ ﻣﺮاﺗﺐ اﻟﺴﻌﺎدة ﻏري ﻋﺎ ِﺑﺌِ َ ني ﺑﻤﻔﺎﺗِﻦ اﻟﺤﻀﺎرة وزﺧﺎرﻓﻬﺎ؛ ﻓﻬﻢ أﻗﺮب ﻟ »اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳني« ﻣﻨﻬﻢ إﱃ »اﻟﺮواﻗﻴني« ﻋﲆ ﺣَ ﱢﺪ ﻗﻮل ﻓﻴﺴﺒﻮﺗﴚ ،ﻗﺎﺻﺪًا ﺑﺬﻟﻚ أﻧﻬﻢ ﻛﺎﻧﻮا ﻣﻨﺸﻐﻠني ﺑﺎمل َﻠﺬﱠات وا ُمل ِﻠﻬﻴﺎت ﻋﻦ اﻻﻟﺘﺰام ﺑﺎﻟﻮاﺟﺒﺎت .وﻻ رﻳﺐ أن ﻓﻴﺴﺒﻮﺗﴚ أﺳﺎء ﺗﻔﺴري ﻛﺜري ﻣﻤﱠ ﺎ رآه وﺑﺎﻟﻎ ﰲ وﺻﻔﻪ؛ ﻓﻘﺪ زﻋﻢ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل أن ﻫﺬه اﻷرواح اﻟﺤﺮة ﺗﻌﻴﺶ ﺣﺘﻰ ِﺳ ﱢﻦ ١٥٠ﻋﺎﻣً ﺎ .وﻟﻜﻦ ﺛﻤﺔ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻻ ِﻣﺮاء ﻓﻴﻬﺎ وﻣﺎ ﻇﻬﺮت ﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﺘﻔﺎﺻﻴﻞ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺪﱠﺛﺖ ﻋﻨﻬﺎ اﻛﺘﺸﺎﻓﺎﺗﻪ واﻛﺘﺸﺎﻓﺎت ﻏريه ﻣﻦ املﺴﺘﻜﺸﻔني؛ وﻫﻲ أن ﻣﺎ ﻛﺎن ﻳُﻨ ْ َ ﻈ ُﺮ إﻟﻴﻪ ﰲ أوروﺑﺎ ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ﻋﲆ أﻧﻪ ً ﻛﺎﻣﻼ ﻋﲆ أﻓﻀﻞ اﻻﺣﺘﻤﺎﻻت وﻛﺎن ﺧﺎﻃﺌًﺎ ﻋﲆ أﺳﻮﺋﻬﺎ .وﻣﻦ ﻳﻤﺜﻞ ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻫﻨﺎ ﺑﺮزت أﻫﻤﻴﺔ اﻟﺘﺨﲇ ﻋﻦ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ وﻓﺘﺢ ﺻﻔﺤﺔ ﺟﺪﻳﺪة ﺑﺎﻟﻌﻮدة إﱃ اﻟﻨﺒﻊ اﻟﺼﺎﰲ ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻛﻤﺎ ﻗﺎل ﻟﻴﻮﻧﺎردو داﻓﻴﻨﴚ وﻋﺪم اﻻﻋﺘﻤﺎد ﻋﲆ املﺎء اﻟﺮاﻛﺪ ﰲ اﻟﱪك اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ. وﺑﻬﺬه اﻟ ﱡﺮوح ﻧﻈﺮ ﻛﺜري ﻣﻦ ﻣﻔﻜﺮي اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎدس ﻋﴩ إﱃ رﺟﺎل اﻟﻌﻠﻢ اﻟﻘﺪﻣﺎء ﺑﻌني اﻻﺣﺘﻘﺎر واﻻﻣﺘﻬﺎن ،وﻛﺎن ذﻟﻚ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﺑﺎﻟ ﱡ ﻄ ُﺮق املﴪﺣﻴﺔ .وﻛﺎن ﻓﻴﻠﻴﺒﻮس أورﻳﻮﻟﺲ ﺛﻴﻮﻓﺮاﺳﺘﻮس ﺑﻮﻣﺒﺎﺳﺘﻮس ﻓﻮن ﻫﻮﻧﻴﻢ املﺸﻬﻮر ﺑ »ﺑﺎراﺳﻴﻠﺴﻮس« ) (١٥٤١–١٤٩٣ﻳﺒﺪأ ﻣﺤﺎﴐاﺗﻪ ﰲ اﻟﻄﺐ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﺑﺤﺮق ﻧﺴﺦ ﻣﻦ أﻋﻤﺎل ﺟﺎﻟني واﺑﻦ ﺳﻴﻨﺎ .وﻣﻦ املﻔﱰض أن ﻫﺬه اﻹﺷﺎرة اﻟﺠﺮﻳﺌﺔ ﻗﺪ آﺗﺖ أ ُ ُﻛ َﻠﻬَ ﺎ ،ﻓﻴﻘﺎل إن اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف اﻟﺒﺎرﻳﴘ ﺑﺎﺗﺮوس راﻣﻮس ) (١٥٧٢–١٥١٥أﻳﱠ َﺪ ﻋﻼﻧﻴﺔ اﻟﺮأي اﻟﻘﺎﺋﻞ إن »ﻛﻞ ﻣﺎ ﻗﺎﻟﻪ أرﺳﻄﻮ ﻣﺰﻳﻒ وﻣﺨﺘﻠﻖ «.وإن اﻓﱰﺿﻨﺎ أﻧﻪ ﻟﻢ ُ ﻳﻘﻞ ﻫﺬا ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﻓﺈن ﻛﺜريﻳﻦ ﻏريه ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻌﺘﻘﺪون ﰲ ﺻﺤﺔ ﻫﺬا اﻟﻘﻮل. )وﻗﺪ ُﻗ ِﺒ َﺾ ﻋﲆ راﻣﻮس ُ وﻗ ِﺘ َﻞ ﰲ ﻣﺬﺑﺤﺔ ﻋﻴﺪ اﻟﻘﺪﻳﺲ ﺑﺎرﺗﻮﻟﻮﻣﻴﻮس ﻋﺎم ١٥٧٢م ،وﻫﻮ اﻟﺤﺪث اﻟﺬي ﺻﻮره ﻛﺮﻳﺴﺘﻮﻓﺮ ﻣﺎرﻟﻮ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻏﺮﻳﺒﺔ ﰲ إﺣﺪى ﻣﴪﺣﻴﺎﺗﻪ اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺔ ﺣﻴﺚ ﻗﺎل أﺣﺪ اﻟﺠﻨﻮد ﰲ املﴪﺣﻴﺔ ﻟﺮاﻣﻮس» :ﻫﻞ أﻧﺖ ﻣﻦ ﻫﺰأ ﺑﺄرﺳﻄﻮ؟« ﻓﺄﺟﺎب راﻣﻮس: »ﻧﻌﻢ «.ﻓﺄﻣﺮ ﺑﻘﺘﻠﻪ(. وﻟﻢ ﻳﺨﻀﻊ ﺑﺎراﺳﻴﻠﺴﻮس اﻟﺬي اﺷﺘﻬﺮ ﺑﺤﺮﻗﻪ ﻟﻠﻜﺘﺐ ﻷﻳﺔ ﺳﻠﻄﺔ ﻋﺪا ﺳﻠﻄﺔ اﻟﻜﺘﺎب املﻘﺪﱠس ﻋﲆ ﺣَ ﱢﺪ زﻋﻤﻪ؛ ﻓﻔﻀﻞ اﻻﻋﺘﻤﺎد ﻋﲆ ﺧﱪاﺗﻪ وﺗﺠﺎرﺑﻪ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ اﻻﻋﺘﻤﺎد ﻋﲆ ﺣﻜﻤﺔ اﻷﻗﺪﻣني اﻟﺒﺎﻟﻴﺔ ،وﻟﻜﻨﻪ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻋﺘﻤﺪ ﻛﺜريًا ﻋﲆ ﻣﺼﺎدر ﻗﺪﻳﻤﺔ دون أن ﻳُ ِﻘ ﱠﺮ ﺑﺬﻟﻚ ،وﻟﻢ َ ﻣﺄﻟﻮﻓ ًﺔ آﻧﺬاك .رﺑﻤﺎ أﻧﻜﺮ ﺑﺎراﺳﻴﻠﺴﻮس اﻟﻜﻴﻤﻴﺎء اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ ﺗ ُﻜﻦ ﻫﺬه املﺼﺎدر واﻟﺘﻘﺎﻟﻴﺪ ﺑﻌﻨﺎﴏﻫﺎ اﻷرﺑﻌﺔ واﻟﻄﺐ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻲ ﺑﺄﺧﻼﻃﻪ اﻷرﺑﻌﺔ ،ﻟﻜﻨﻪ اﺳﺘﻘﻰ ﻛﺜريًا ﻣﻦ آراﺋﻪ ﰲ اﻟﻄﺐ 440
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
اﻟﻜﻴﻤﻴﺎﺋﻲ )اﻟﺬي ﻟﻌِ ﺒﺖ ﻓﻴﻪ اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺜﻼﺛﺔ ﱠ اﻟﻀﺎ ﱠرة وﻫﻲ اﻟﺰﺋﺒﻖ واﻟﻜﱪﻳﺖ واملﻠﺢ اﻟﺪور اﻷﺑﺮز( ﻣﻦ اﻟﺨﻴﻤﻴﺎﺋﻴني اﻟﻌﺮب ﻣﻨﺬ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ٨٠٠ﻋﺎم .ﻛﻤﺎ اﻫﺘ ﱠﻢ ﺑﺎراﺳﻴﻠﺴﻮس ﺑﺠﺎﻧﺐ ً ﻓﻀﻼ ﻋﻦ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ املﻮﺿﻮﻋﺎت اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ اﻟﺨﻴﻤﻴﺎء ﺑﻌﻠﻢ اﻟﺘﻨﺠﻴﻢ واﻟﻘﺒﻼﻧﻴﺔ اﻟﻴﻬﻮدﻳﺔ اﻷﺧﺮى .وﻗﺪ ﻛﺎن ﻫﺬا اﻻﻫﺘﻤﺎم اﻻﻧﺘﻘﺎﺋﻲ ﺑﻜﻞ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺧﺎرق ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ أﻣ ًﺮا ﻃﺒﻴﻌﻴٍّﺎ وﻣﺄﻟﻮﻓﺎً ً اﺧﺘﻼﻓﺎ ﻛﺒريًا ﺑني ﻣﺎ ﻧﺴﻤﻴﻪ اﻟﻴﻮم ﰲ ﻫﺬه اﻟﻌﺼﻮر .وﻟﻢ ﻳَ َﺮ ﻛﺜريٌ ﻣﻦ ﻣﻔﻜﺮي ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ اﻟﻌﻠﻢ وﻣﺎ ﻧ ُ َﺴﻤﱢ ﻴ ِﻪ اﻟﺴﺤﺮ ،وﰲ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻷﻣﺮ ﻳﺪﻳﻦ ﺗﻄﻮﱡر ﺑﺪاﻳﺎت اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﺑﺎﻟﻜﺜري إﱃ اﻟﺴﺤﺮ إﺑﺎن ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ. وﻟﻢ ِ ﻳﻨﺘﻪ اﻷﻣﺮ ﺑﺎﻟﺪﱠور اﻟﺬي ﻟﻌِ ﺒﻪ اﻟﺨﻴﻤﻴﺎء واﻟﺘﻨﺠﻴﻢ ﰲ اﻟﺘﻤﻬﻴﺪ ﻟﻈﻬﻮر اﻟﻜﻴﻤﻴﺎء واﻟﻔﻠﻚ ﻣﻦ ﺧﻼل ﺗﻄﻮﻳﺮ اﻷﺳﺎﻟﻴﺐ اﻟﺘﻲ وﺟﺪت ﻃﺮﻳﻘﻬﺎ ﰲ ﻋﻤﻞ ﻋﻠﻤﻲ أﻛﺜﺮ ﺗﻘﺪﱡﻣً ﺎ ،وﻟﻢ ِ ﺗﻨﺘﻪ اﻟﻘﺼﺔ ﺑﺘﺤﻤﱡ ﻞ اﻟﺘﺼﻮﱡف املﺒﻨﻲ ﻋﲆ ﻋﻠﻢ اﻷﻋﺪاد ﻟﺪى ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس وأﺗﺒﺎع اﻟﻘﺒﻼﻧﻴﺔ املﺴﺌﻮﻟﻴﺔ ﻋﻦ إﻟﻬﺎم أﻧﺎس أﻣﺜﺎل ﻛﺒﻠﺮ ﺑﺘﻔﺴري اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺑﻄﺮق رﻳﺎﺿﻴﺔ ،ﺑﻞ اﺷﺘﺪت اﻟﻌَ ﻼﻗﺔ ﺑني اﻟﻌﻠﻢ واﻟﺴﺤﺮ وﺻﺎرت أﻛﺜﺮ ً ﻋﻤﻘﺎ ﻣﻤﱠ ﺎ ﻗﺪ ﺗﺼﻮره ﻫﺬه اﻷﻣﺜﻠﺔ ،ﻓﺎﻟﺴﺤﺮ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﱠ ﻳﺘﻘﴡ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ وﻳﺴﺘﻜﺸﻔﻬﺎ ﻣﻦ ﺑﺎﺣﺜﻲ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ ،ﻓﻜﺎن ﻛﺎن اﻟﺤﺎﻓﺰ اﻟﺮﺋﻴﺲ ملﻦ اﻟﺴﺎﺣﺮ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻷﻳﺎم ﻳﻌﻤَ ﻞ ﻋﲆ اﻟﺘﺤ ﱡﻜﻢ ﰲ اﻟﻘﻮى اﻟﺨﻔﻴﺔ ﰲ اﻷﺷﻴﺎء واﺳﺘﻐﻼﻟﻬﺎ ﰲ ُ ﺻﻨﻊ املﻌﺮﻓﺔ ا ُمل َﺨﺎدِ ﻋَ ﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻨﺘﺞ ﻋﻨﻬﺎ أﺛﺮ ﻋﻤﲇ ،وﻛﺎن ﺗَﻮ ً ﱠاﻗﺎ اﻟﻌﺠﺎﺋﺐ ،ﻓﻜﺎن ﻳﺴﻌﻰ وراء ِ ﻮر ﻋﻠﻴﻬﺎ إﱃ اﻟﺪرﺟﺔ اﻟﺘﻲ ﺟﻌﻠﺘﻪ ﻳﺒﺤﺚ ﰲ اﻷﻣﺎﻛﻦ اﻟﺘﻲ ﻧﻌﺘﱪﻫﺎ اﻟﻴﻮم ﻏري ذات إﱃ اﻟﻌُ ﺜ ُ ِ ﻧﻔﻊ ﻛﺘﺤﻀري اﻷرواح ﻣﻦ ﺧﻼل ﻣﻌﺎﻧﻲ اﻷﻋﺪاد اﻟﺴﺤﺮﻳﺔ ﰲ اﻟﻘﺒﻼﻧﻴﺔ أو ﰲ ﻋﺎﻟﻢ اﻷرواح املﺘﻬﺎﻣﺲ. وﻟﻘﺪ رأﻳﻨﺎ ﻣﻦ ﻗﺒ ُﻞ أن اﻟﻔﺎرق اﻷﻫﻢ ﺑني ﻣﺬﻫﺐ أرﺳﻄﻮ ﺗﺠﺎه املﻌﺮﻓﺔ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ وﻣﺬﻫﺐ رﺟﻞ ﻣﺜﻞ ﻓﺮاﻧﺴﻴﺲ ﺑﻴﻜﻮن — رﺳﻮل اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ — ﻳﻜﻤُﻦ ﰲ ﺗﻌ ﱡﻠﻖ آﻣﺎﻟﻬﻢ ﺑﺎﻟﺘﻄﺒﻴﻖ اﻟﻌﻤﲇ ﻟﻬﺬه املﻌﺮﻓﺔ؛ ﻓﺄرﺳﻄﻮ ﻟﻢ ﺗ ُﻜﻦ ﻟﺪﻳﻪ ﺗﻠﻚ اﻵﻣﺎل ﺑﺎملﺮة ﰲ ﺣني ﻛﺎن ﻓﺮاﻧﺴﻴﺲ ﺑﻴﻜﻮن ﻣﻔﺘﻮﻧًﺎ ﺑﻬﺎ ،ﻓﻘﺪ ﻛﺘﺐ ﻳﻘﻮل» :إن املﻌﺮﻓﺔ واﻟﻘﻮة اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺘني ﺗﻘﻮدان ﻛﻼﻫﻤﺎ إﱃ اﻟﴚء ﻧﻔﺴﻪ ،ﻓﻤﺘﻰ ﻏﺎب اﻟﺴﺒﺐ ﻏﺎﺑﺖ اﻟﻨﺘﻴﺠﺔ «.وﰲ ﻋﴩﻳﻨﻴﺎت اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ أﻳﱠﺪ ﺑﻴﻜﻮن إﻗﺎﻣﺔ ﻧﺎدٍ ﻟﻠﺒﺎﺣﺜني ﻳﻜﻮن ﻫﺪﻓﻪ اﻟﺮﺋﻴﺲ »ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﻌﻠﻞ وإﻟﻘﺎء اﻟﻀﻮء ﻋﲆ اﻟﺤﺮﻛﺔ َ اﻟﺨﻔِ ﻴﱠﺔ ﻟﻸﺷﻴﺎء وﺗﻮﺳﻴﻊ ﺣﺪود املﻤﻠﻜﺔ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ وﺗﻔﻌﻴﻞ ﺟُ ﱢﻞ ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻔﻌﻴﻠﻪ «.وﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﺑﺄرﺑﻌني ﻋﺎﻣً ﺎ أدﱠى اﻗﱰاح ﺑﻴﻜﻮن إﱃ ﺗﺄﺳﻴﺲ اﻟﺠﻤﻌﻴﺔ املﻠﻜﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺿﻤﺖ ﺑني أﻋﻀﺎﺋﻬﺎ روﺑﺮت ﺑﻮﻳﻞ وإﺳﺤﺎق ﻧﻴﻮﺗﻦ ،وﻗﺪ ﻛﺎن أﻋﻀﺎء ﻫﺬه اﻟﺠﻤﻌﻴﺔ ﻫﻢ ورﺛﺔ ﺳﺤﺮة ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ اﻟﺬﻳﻦ أرادوا ﺗﺤﻮﻳﻞ اﻟﺪراﺳﺔ اﻟﺴﻠﺒﻴﺔ ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ إﱃ إدارة إﻳﺠﺎﺑﻴﺔ ﻓﻌﱠ ﺎﻟﺔ ﻟﻘﻮاﻫﺎ. 441
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
وﻗﺪ ﺣَ ﱠﻮ َل أﻋﻀﺎء اﻟﺠﻤﻌﻴﺔ امل َﻠﻜﻴﺔ أﺣﻼم اﻟﺴﺤﺮة إﱃ ﺣﻘﻴﻘﺔ أو ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﺑَﺬَﻟُﻮا ﻛﻞ ﻣﺎ ﰲ وﺳﻌﻬﻢ ﻟﺘﺤﻘﻴﻖ ذﻟﻚ. وﻗﺪ ﻛﺎل ﺑﻴﻜﻮن اﻟﻨﻘﺪ ﻟﺒﻌﺾ اﻟﺴﺤﺮة اﻟﻬﻮاة ﰲ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ ﻟﻜﻦ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺷﻜﻮاه ﻣﻦ ﻋﺪم ﺟﺪوى ﺳﺤﺮﻫﻢ ،ﺑﻞ ﻷﻧﻪ ﻳﺆﺗﻲ أ ُ ُﻛ َﻠﻪ دون أن ﻳﺒﺬﻟﻮا ﻓﻴﻪ أدﻧﻰ ﺟﻬﺪ ،ﻓﻜﺎن ﻳﺮى أﻧﻪ ﻓﻦ ﻛﺴﻮل وﺑﻠﻴﺪ ﻻ ﻧﻀﺞ ﻓﻴﻪ وأﻧﻪ ﰲ ﻛﻞ اﻷﺣﻮال ﻳﺴري ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻖ اﻟﺨﺎﻃﺊ .إﻻ أن ﱡ اﻟﺘﺤﻔﻈﺎت اﻟﺘﻲ ﺳﺠﱠ ﻠﻬﺎ ﺑﻴﻜﻮن ﻋﲆ اﻟﺴﺤﺮ ﻟﻢ ﺗ ُﻜﻦ ﻟﺘَﺤُ ﻮل دون ﺗَﺒَﻨﱢﻴﻪ رؤﻳﺔ ﺳﺤﺮﻳﺔ ﻫﺬه َ ُروﺣﺎﻧﻴﺔ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ ،ﻓﻘﺪ أ َﻗ ﱠﺮ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﺑﻔﻌﺎﻟﻴﺔ اﻟﺘﻌﻮﻳﺬات ﱡ اﻟﺼﻮﻓﻴﺔ ﺣﻴﺚ ﻗﺎل» :ﺛﻤﺔ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻷﺷﻴﺎء … اﻟﺘﻲ ﻟﻬﺎ ﻣﻔﻌﻮﻟُﻬﺎ ﻋﲆ ﺣﻴﺎة اﻟﺒﴩ ﺑﻔﻌﻞ اﻟﺤﺐ أو اﻟﻜﺮاﻫﻴﺔ اﻟﺨﻔﻴﺔ … ﻣﺜﻞ ﻓﻀﺎﺋﻞ اﻷﺣﺠﺎر اﻟﻜﺮﻳﻤﺔ … اﻟﺘﻲ ﺗﻨﻄﻮي ﻋﲆ أرواح ﻣﺮﻫﻔﺔ ﺻﺎﻓﻴﺔ «.وﺑﺸﻜﻞ ﻋﺎ ﱟم أراد ﺑﻴﻜﻮن أن ﻳﺒﻨﻲ ﻋﲆ ﻋﻠﻮم اﻟﺘﻨﺠﻴﻢ واﻟﺴﺤﺮ واﻟﻜﻴﻤﻴﺎء ﻻ أن ﻳﻘﻮض أﺳﺎﺳﻬﺎ وﻳﻬﺪﻣﻬﺎ؛ ﺣﻴﺚ رأى أن ﻫﺬا اﻟﻬﺪف املﻌﺮﰲ ﻟﻬﺬه اﻟﻌﻠﻮم إذا ﻣﺎ اﻗﱰن ﺑﺎﻟﻘﻮة ﻓﺴﻴﻜﻮن وﻫﺪﻓﺎ ﺟﻴﺪًا ﰲ ﺣ ﱢﺪ ذاﺗﻪ) ،وﻛﺬﻟﻚ ﻛﺎن ﻧﻴﻮﺗﻦ اﻟﺬي ﻳُﻌَ ﱡﺪ ً ً وﻓﻘﺎ ملﻌﺎﻳريﻧﺎ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﺻﻴﺪًا ﺛﻤﻴﻨًﺎ ً ﻣﻬﻮوﺳﺎ ﺑﺎﻟﻘﻮى اﻟﺨﻔﻴﺔ ،ﻓﻘﺪ ﻛﺘﺐ ﰲ اﻟﺨﻴﻤﻴﺎء ﻣﺎ ﻳﻘﺎرب املﻠﻴﻮن ﻛﻠﻤﺔ ﰲ ﺛﺮﺛﺮة ﻻ ﻃﺎﺋﻞ ﻣﻦ وراﺋﻬﺎ ،وﻟﻜﻦ ﰲ أواﺧﺮ اﻟﻨﺼﻒ اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻣﻦ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ ﺣﻴﺚ ﻋﺎش ﻧﻴﻮﺗﻦ أوﱃ اﻟﻌﻠﻤﺎء ﻇﻬﻮرﻫﻢ ملﺜﻞ ﻫﺬه املﺴﺎﺋﻞ؛ وﺑﺬﻟﻚ ﻇﻠﺖ ﺛﺮﺛﺮة ﻧﻴﻮﺗﻦ ﺣﺒﻴﺴﺔ ﺟﺪران َﻫﻮ َِﺳ ِﻪ(. وﻗﺪ َﻓ ﱠﺮ َق ﻣﻔ ﱢﻜﺮو ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ ﺟﻴﺪًا ﺑني ﻣﺎ ﻳ َُﺴﻤﱠ ﻰ »اﻟﺴﺤﺮ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ« واﻟﺴﺤﺮ اﻟﺸﻴﻄﺎﻧﻲ؛ ﻓﺎﻷول ﻳﻨﺴﺠﻢ ﻣﻊ املﺴﻴﺤﻴﺔ ،ﻓﻼ ﺑﺄس ﻣﻦ اﻻﺷﺘﻐﺎل ﺑﻪ ،ﺣﺘﻰ إن اﻟﻘﺪﻳﺲ ﺧﺼﺺ إﺣﺪى رﺳﺎﺋﻠﻪ ﻟﻬﺬه املﻤﺎرﺳﺎت ِ ﺗﻮﻣﺎس اﻷﻛﻮﻳﻨﻲ ﱠ ﺗﺼ ُﻔﻬﺎ ﺑﺄﻧﻬﺎ ﺗُﻌَ ﱡﺪ اﺳﺘﺨﺪاﻣً ﺎ ً ﺿﺎ ٍّرا ﻟﻠﺘﻌﻮﻳﺬات اﻟﺴﺤﺮﻳﺔ وﻟﻜﻨﻪ ﻳﺮاﻫﺎ اﺳﺘﺨﺪاﻣً ﺎ ﻓﻌﺎﻻ ﻟﻬﺎ .وﺑﻴﻨﻤﺎ ﻛﺎن اﻟﺴﺤﺮ اﻟﺸﻴﻄﺎﻧﻲ ﻳﺘﻀﻤﱠ ﻦ ﻣﺤﺎوﻻت ﻓﺎوﺳﺘﻴﺔ ﻹﺛﺎرة اﻟﻘﻮى املﺤﺮﻣﺔ واﻻﺗﺼﺎل ﺑﺸﻜﻞ ﻏري ﻣﴩوع ﺑﻌﺎﻟﻢ املﻮﺗﻰ؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن اﻟﺴﺤﺮ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ﻳﺴﻌﻰ إﱃ اﺳﺘﻐﻼل اﻟﻈﻮاﻫﺮ ﻏري املﺮﺋﻴﺔ وﻏري املﻠﻤﻮﺳﺔ واﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ .وﻗﺪ ﻗﻴﻞ ﰲ ذﻟﻚ: إن اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻛﺎﻟﺴﺎﺣﺮ اﻟﺬي ﻳﻨﺼﺐ املﺼﺎﺋﺪ ﰲ ﻛﻞ ﻣﻜﺎن وﻳُﺰوﱢدﻫﺎ ﺑﺄﻧﻮاع ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻣﻦ اﻟﻄﻌﺎم ﻟﻺﻳﻘﺎع ﺑﺄﻧﻮاع ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻣﻦ املﺨﻠﻮﻗﺎت؛ ﻓﺎ ُملﺰارع ﻳﺤﺮث أرﺿﻪ وﻳﻀﻊ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺒﺬور وﻳﻨﺘﻈﺮ ﻫِ ﺒ ًَﺔ ﻣﻦ اﻟﺴﻤﺎء … ﻛﻤﺎ أن اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف املﺘﻤ ﱢﺮس ﰲ اﻷﻣﻮر اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ واﻟﻔﻠﻜﻴﺔ واﻟﺬي اﻋﺘﺪﻧﺎ أن ﻧﺴﻤﻴﻪ ﺳﺎﺣ ًﺮا ﻳﻐﺮس اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ ﰲ اﻷﺷﻴﺎء اﻷرﺿﻴﺔ ﻣﻦ ﺧﻼل ﺗﻌﻮﻳﺬات ﻣﻌﻴﱠﻨﺔ ﺟﺬاﺑﺔ ﺗُ ْﺴﺘَ ْﺨ َﺪ ُم ﰲ وﻗﺘﻬﺎ املﻨﺎﺳﺐ واﻟﺼﺤﻴﺢ. 442
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
ً ﻣﺴﺌﻮﻻ ﻫﺬا ﻣﺎ ﻛﺘﺒﻪ ﻣﺎرﺳﻴﻠﻴﻮ ﻓﻴﺘﺸﻴﻨﻮ ) (١٤٩٩–١٤٣٣وﻫﻮ ﻣﻔ ﱢﻜﺮ ﻣﻦ ﻓﻠﻮرﻧﺴﺎ ﻛﺎن ﻋﻦ اﻟﱰﺟﻤﺎت اﻟﻼﺗﻴﻨﻴﺔ ﻟِﻤَ ﺎ أﺻﺒﺢ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ أﻛﺜﺮ اﻟﻨﺼﻮص اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ ﺗﺄﺛريًا ﰲ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ. وﻗﺪ ﻋُ ِﺮ َﻓ ْﺖ ﻫﺬه اﻟﻨﺼﻮص ﺑﺎﺳﻢ اﻟﻜﺘﺎﺑﺎت »اﻟﻬﺮﻣﺴﻴﺔ« ،وﻫﻲ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺐ وﺿﻌﻬﺎ ُﻛﺘﱠﺎبٌ ﻳﻮﻧﺎﻧﻴﻮن ﻏري ﻣﻌﺮوﻓني ﻓﻴﻤﺎ ﺑني ﻋﺎﻣﻲ ١٠٠و٣٠٠م واﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﻳُﻌْ ﺘَ َﻘ ُﺪ ﰲ ﻋﻬﺪ ﻓﻴﺘﺸﻴﻨﻮ أن ﻛﺎﺗﺒﻬﺎ ﻫﻮ ﻫﺮﻣﺲ اﻟﻬﺮاﻣﺴﺔ ،وﻫﻮ ﻋﺮاف ﺻﻮﰲ ﻣﴫي ﻋﺎش ﺑﻌﺪ ﻋﻬﺪ اﻟﻨﺒﻲ ﻣﻮﳻ ﺑﻔﱰة ﻗﺼرية .وﻗﺪ ﻧﺠﺢ اﻟﺴﺤﺮ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ اﻟﺬي داﻓﻊ ﻋﻨﻪ ﻓﻴﺘﺸﻴﻨﻮ وآﺧﺮون ﰲ أواﺧﺮ اﻟﻘﺮن اﻟﺨﺎﻣﺲ ﻋﴩ ﰲ اﻟﺠﻤﻊ ﺑني اﻟﺘﻘﺎﻟﻴﺪ اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ املﺘﻨﻮﻋﺔ واﻟﺘﻌﺎﻟﻴﻢ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ املﺄﻟﻮﻓﺔ .وﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻛﺎن ﻳﻨﻈﺮ إﱃ اﻹﻳﻤﺎن ﺑﺎﻟﻘﻮى اﻟﺨﻔﻴﺔ واملﺴﻴﺤﻴﺔ ﻋﲆ أن ُﻛ ٍّﻼ ﻣﻨﻬﻤﺎ ﻳﻜﻤﻞ اﻵﺧﺮ ،ﻓﻜﺘﺐ ﺟﻴﻮﻓﺎﻧﻲ ﺑﻴﻜﻮ دﻳﻠﻼ ﻣرياﻧﺪوﻻ — وﻫﻮ أﺣﺪ زﻣﻼء ﻓﻴﺘﺸﻴﻨﻮ ﰲ ﻋﺎم ١٤٨٦م ﺷﺎرﻛﻪ آراءه ﻧﻔﺴﻬﺎ — ﻳﻘﻮل» :ﻟﻴﺲ ﺛﻤﺔ ﻧﻮع ﻣﻦ املﻌﺮﻓﺔ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻬﺒﻨﺎ اﻟﻴﻘني ﺑﺄﻟﻮﻫﻴﺔ املﺴﻴﺢ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ اﻟﺴﺤﺮ واﻟﻘﺒﻼﻧﻴﺔ«. وﺑﺤﻠﻮل ﻣﻨﺘﺼﻒ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎدس ﻋﴩ ﺑﺪأت ﺗﺘﺤﻮل اﻷﻓﻜﺎر اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ ﻋﻦ اﻟﺴﺤﺮ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ — واﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻗﺎﴏة ﰲ اﻟﺴﺎﺑﻖ ﻋﲆ ﻓﺌﺔ ﻗﻠﻴﻠﺔ — إﱃ ﻓﻠﺴﻔﺔ ﺟﺪﻳﺪة ﻣﺘﻜﺎﻣﻠﺔ ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ ،ﻓﻘﺎم رﺟﺎل ﻣﻦ أﻣﺜﺎل ﺑﺎراﺳﻴﻠﺴﻮس وﺑﺮوﻧﻮ ﺑﻮﺻﻒ ﻋﺎﻟﻢ ﻣﺴﺤﻮر ﻣﻦ اﻟﺘﻤﺎﺛُﻼت َ اﻟﺨﻔِ ﻴﱠﺔ واﻟﺘﻌﺎﻃﻒ اﻟ ﱡﺮوﺣﺎﻧﻲ واﻟﺬي ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺘﻌﺎﻃﻲ ﻣﻌﻪ ﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﻮﺻﻔﺎت اﻟﺴﺤﺮﻳﺔ اﻟﺼﺤﻴﺤﺔ ،وﺑﺪا ﻫﺬا ﻋﺎ ًملﺎ ﻣﺜريًا ﻣﻔﻌﻤً ﺎ ﺑﺎﻟﺤﻴﻮﻳﺔ واﻟﻨﺸﺎط أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ذﻟﻚ اﻟﻌﺎﻟﻢ املﺬﻛﻮر ﰲ اﻟﻨﺼﻮص اﻷرﺳﻄﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗُ َﺪ ﱠر ُس ﰲ اﻟﺠﺎﻣﻌﺔ؛ ﻷﻧﻪ ﻛﺎن ﻣﻨﺎﺳﺒًﺎ ﻟﻨﺸﺎﻃﺎت ﻫﺬا اﻟﻌﴫ. وﻫﺬه اﻟﺮؤﻳﺔ اﻟﺴﺤﺮﻳﺔ رأت اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻣﻠﻴﺌﺔ ﺑﺎﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ اﺳﺘﻐﻼﻟﻬﺎ ،وﻫﻮ ﻣﺎ أﻏﺮى رﺟﺎل ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ أرﺑﺎب اﻟﺤﻴﻞ وأﺻﺤﺎب اﻟﻄﻤﻮح .ورﻏﻢ وﺟﻮد ﺑﻌﺾ اﻟﻌﻠﻤﺎء اﻟﺬﻳﻦ ﻟﻢ ٍ ﺣﺎﻻت اﺳﺘﺜﻨﺎﺋﻴﺔ وﻟﻢ ﺗ ُﻜﻦ ﻛﺘﺒﻬﻢ ذاﺋﻌﺔ اﻟﺼﻴﺖ ﻳﻬﺘﻤﱡ ﻮا ﺑﻌﻠﻮم اﻟﺴﺤﺮ واﻟﺘﻨﺠﻴﻢ ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻧﻮا ﻛﺘﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﻛﺘﺒﻬﺎ ﱠ اﻟﺴﺤَ َﺮ ُة وﻣَ ْﻦ ﻋﲆ ﺷﺎﻛﻠﺘﻬﻢ ،ﻓﻔﻲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎدس ﻋﴩ »ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ املﺮء ﻟﻴﻤﻴﺰ ﻣﺘﻰ ﺗﺒﺪأ ﺟﻠﺴﺎت اﻟﻌﻠﻢ وﻣﺘﻰ ﺗﻨﺘﻬﻲ ﺟﻠﺴﺎت اﺳﺘﺤﻀﺎر اﻷرواح« ﻛﻤﺎ ذُ ِﻛ َﺮ ﰲ أﺣﺪ ﻛﺘﺐ اﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻟﺤﺪﻳﺚ. ُ ﺗﻀﺎﻓﺮ اﻟﻌﻠﻢ واﻟﺴﺤﺮ ﰲ ﺣﻮﻣﺔ اﻻرﺗﺒﺎﻛﺎت اﻹﺑﺪاﻋﻴﺔ اﻟﺘﻲ وﻣﻦ أﻓﻀﻞ اﻷﻣﺜﻠﺔ ﻋﲆ ﺷﻬﺪﻫﺎ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ ﻫﻮ ﺟﻮن دي ) ،(١٦٠٨–١٥٢٧اﻟﺬي رﺑﻤﺎ ﻛﺎن اﻟﻨﻤﻮذج اﻟﺬي أوﺣﻰ ﻟﺸﻜﺴﺒري ﺑﺸﺨﺼﻴﺔ ﺑﺮوﺳﺒريو ﰲ ﻣﴪﺣﻴﺔ »اﻟﻌﺎﺻﻔﺔ« .ﻟﻘﺪ ﻛﺎن ﺟﻮن دي أﺣﺪ ﻣﺴﺢ أﻛﱪ ﻋﻠﻤﺎء اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ﰲ إﻧﺠﻠﱰا ﰲ اﻟﻌﴫ اﻹﻟﻴﺰاﺑﻴﺜﻲ ،ﺣﻴﺚ ﻗﺎم ﺑﻌﻤﻞ دراﺳﺎت ٍ ﺟﻐﺮاﻓﻴﺔ وﻫﻴﺪروﺟﺮاﻓﻴﺔ ﻟﻸراﴈ املﻜﺘﺸﻔﺔ ﺣﺪﻳﺜًﺎ ،ﻛﻤﺎ ﻗﺎم ﺑﺈﻧﺠﺎزات ﺗُ ْﺬ َﻛ ُﺮ َﻓﺘُ ْﺸ َﻜ ُﺮ ﰲ 443
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻋﻠﻢ املﺜﻠﺜﺎت واملﻼﺣﺔ وإﺻﻼح اﻟﺘﻘﻮﻳﻢ ،وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﻘﺪ ﻛ ﱠﺮس ﺟﺰءًا ﻛﺒريًا ﻣﻦ وﻗﺘﻪ ملﻨﺎﺟﺎة ً ﻓﻀﻼ ﻋﻦ اﻷدوات املﻼﺋﻜﺔ ﻣﺴﺘﺨﺪﻣً ﺎ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﺼﻠﻮات واﻟﺒﻠﻮرات واملﺮاﻳﺎ واﻷرﻗﺎم اﻟﻐﺎﻣﻀﺔ اﻟﺴﺤﺮﻳﺔ اﻷﺧﺮى .وﻛﺜريًا ﻣﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺤﺎوﻻﺗﻪ ﺗﺤﻘﻖ اﻟﻨﺠﺎح اﻟﺬي ﻛﺎن ﻳ ُ َﻨﺸﺪه ،وﻟﻜﻦ ﻳﺒﺪو أن املﻼﺋﻜﺔ أوﺣَ ْﺖ ﻟﻪ ﺑﺎﻟﻜﺜري ﻣﻦ أﻓﻜﺎر ُﻛﺘُ ِﺒﻪ ﻋﱪ اﺗﺼﺎﻟﻪ اﻟ ﱡﺮوﺣﻲ ﺑﻬﺎ ﻛﻤﺎ ﻳﺰﻋﻢ .واﻟﺤﻖ ﻧﻘﻮل إن ﺟﻮن دي ﻣﺎ ﻛﺎن ﻟﻴﻨﺎل ﻣﺎ ﻧﺎﻟﻪ ﻣﻦ ﺳﻤﻌﺔ ﺑﻮﺻﻔﻪ ﺳﺎﺣ ًﺮا ﻋﻈﻴﻤً ﺎ ﺑﻤﺎ ﺑﺬﻟﻪ ﻣﻦ ﺟﻬﺪ ﻟﻠﺘﻮاﺻﻞ ﻣﻊ ﻋﺎﻟﻢ اﻷرواح وﻻ ﺑﺤﺮﺻﻪ ﻋﲆ اﻟﺪﺧﻮل ﰲ اﻟﺘﻨﺠﻴﻢ واﻟﺨﻴﻤﻴﺎء واﻟﻘﺒﻼﻧﻴﺔ، ﺑﻞ ﺑﺒﻌﺾ املﺆﺛﱢﺮات املﴪﺣﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻗﺪﻣﻬﺎ ﺧﻼل أﺣﺪ اﻟﻌﺮوض املﴪﺣﻴﺔ ﻷﺣﺪ اﻷﻋﻤﺎل اﻟﻬﺰﻟﻴﺔ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ ﰲ ﻛﻠﻴﺔ ﺗﺮﻳﻨﻴﺘﻲ ﰲ ﺟﺎﻣﻌﺔ ﻛﺎﻣﱪﻳﺪج ﻋﺎم ١٥٤٦م ،ﻓﻜﺎﻧﺖ اﻵﻻت اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ )وﻫﻲ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﺧﻨﻔﺴﺎء ﺻﻨﺎﻋﻴﺔ ﺿﺨﻤﺔ ﺗﻄري ﰲ اﻟﺠﻮ( ﺗُﻌَ ﱡﺪ ﻣﻦ اﻟﻈﻮاﻫﺮ »اﻟﺨﺎرﻗﺔ ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ« ﻟﻜﻮﻧﻬﺎ ﻏري ﻣﺄﻟﻮﻓﺔ وأﻛﺜﺮ ﻏﺮاﺑﺔ ﻣﻦ ﺗﻌﻮﻳﺬات ﺣﺴﻦ اﻟﺤﻆ أو اﻟﺤﺪﻳﺚ إﱃ املﻼﺋﻜﺔ. رﺑﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ اﺧﱰاﻋﺎت ﱠ اﻟﺴﺤَ ﺮة واملﻬﻨﺪﺳني ﰲ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ أﻣ ًﺮا ﺟﺪﻳﺪًا ﺑﺎﻷﺳﺎس ﻋﲆ ﻋﻜﺲ ﺣﻤﺎﺳﻬﻢ ﻟﻠﺴﺤﺮ اﻟﺬي ﻛﺎﻧﺖ ﻟﻪ ﺟﺬور ﻗﺪﻳﻤﺔ .ﻓﺒﻴﻨﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻜﺘﺎﺑﺎت اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ أو اﻟﺮوﻣﺎﻧﻴﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻳُﻨ ْ َ ﻈ ُﺮ إﻟﻴﻬﺎ ﺑﻌني اﻻﺣﺘﻘﺎر إذا ﻣﺎ ﺗﻄ ﱠﺮﻗﺖ ﻟﻠﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ اﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ أو اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء ،ﻓﺈن ﺛﻤﺔ ﻣﺠﺎﻻت ﻣﻌﺮﻓﻴﺔ أﺧﺮى ﴐب ﻓﻴﻬﺎ اﻷﻗﺪﻣﻮن ً ﻣﺜﺎﻻ ﻟﻴﻘﺘﻔﻲ َﺧ َﻠ ُﻔﻬُ ْﻢ أﺛﺮﻫﻢ ،وﻗﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﻋﻠﻮم اﻟﺴﺤﺮ واﻟﺘﻨﺠﻴﻢ إﺣﺪى ﻫﺬه املﺠﺎﻻت ﻣﺜﻞ ﻋﻠﻮم اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺎت .ﻛﺎن اﻟﺴﺤﺮة اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﻮن ﰲ اﻟﻘﺮﻧني اﻟﺨﺎﻣﺲ ﻋﴩ واﻟﺴﺎدس ﻋﴩ ﻳﺮﺟﻌﻮن إﱃ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﺘﻲ ﺗﻬﺘﻢ ﺑﻜﻞ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺧﺎرق ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ واﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻨﺘﴩة آﻧﺬاك ،إﺿﺎﻓﺔ إﱃ ﺣﺎﻟﺔ ﺗﻨﻮع أوﺟﻪ اﻟﻮرع اﻟﺘﻲ أﺻﺎﺑﺖ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻲ اﻟﻘﺪﻳﻢ .وﻛﺎن اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﺗﺮﺟﻤﺎت ﻣﺎرﺳﻴﻠﻴﻮ ﻓﻴﺘﺸﻴﻨﻮ ﻳﺤﺘﻮي ﻋﲆ أﻋﻤﺎل ﻟﺒﻌﺾ ﻣَ ْﻦ ﻳﺆﻣﻨﻮن ﺑﺎﻟﻘﻮى اﻟﺨﻔﻴﺔ ﻣﻦ أﺗﺒﺎع اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة ﻣﻦ أﻣﺜﺎل ﻳﺎﻣﺒﻠﻴﻜﻮس وﻓﺮﻓﺮﻳﻮس وﺑﺮﻛﻠﻮس ،وﻛﺬﻟﻚ اﻟﻜﻬﻨﺔ اﻟﻜﻠﺪاﻧﻴﻮن واﻟﺘﻲ أﻟﻬﻤﺖ ﻫﺆﻻء اﻟﺮﺟﺎل ﺑﺒﻌﺾ أوﻫﺎﻣﻬﻢ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﺘﴫ ﻋﻠﻴﻬﻢ .وﻣﻦ ﺑني اﻟﺨﻴﻮط املﺘﺸﻌﱢ ﺒﺔ ﻟﻔﻜﺮ ﻓﻴﺘﺸﻴﻨﻮ ﻛﺎﻧﺖ اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ اﻟﺼﻮﻓﻴﺔ ﻟﺪى أﻓﻠﻮﻃني وأﺗﺒﺎﻋﻪ ﻫﻲ اﻷﺑﺮز ،وﻛﺎﻧﺖ ﻓﻜﺮة ﻓﻴﺘﺸﻴﻨﻮ املﺆﺛﺮة ً ﻃﺮﻳﻘﺎ ﻳﺄﺧﺬك ﺗﺪرﻳﺠﻴٍّﺎ ﻧﺤﻮ ﻋﺎﻟﻢ ُروﺣﺎﻧﻲ ﻃﺎﻫﺮ ﺗﺪﻳﻦ ﻟﻬﺬا ﻋﻦ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪ اﻟﻘﺪﻳﻢ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ أي ﳾء آﺧﺮ. وﻗﺪ ﻋﺎد أﻓﻼﻃﻮن ﻣﺮة أﺧﺮى إﱃ ﺣﻠﻘﺎت اﻟﺒﺤﺚ ﺑﻔﻀﻞ ﻓﻴﺘﺸﻴﻨﻮ اﻟﺬي أﻧﺘﺞ اﻟﱰﺟَ ﻤَ ﺔ اﻷوﱃ اﻟﻜﺎﻣﻠﺔ ﻷﻋﻤﺎﻟﻪ ﰲ اﻟﻐﺮب ﻓﺠﻌﻠﻬﺎ ﰲ ﻣﺘﻨﺎوَل أﻳﺪي ﺟﻤﻴﻊ املﺘﻌ ﱢﻠﻤني وﻟﻴﺲ ﻓﻘﻂ ذﻟﻚ اﻟﻌﺪد اﻟﻘﻠﻴﻞ املﺘﺰاﻳﺪ ﻣﻤﱠ ﻦ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﻌﺮﻓﻮن اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ واﻟﻼﺗﻴﻨﻴﺔ .وﻷن اﺳﻢ أﻓﻼﻃﻮن 444
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
ﻛﺎن ﻳﱰدﱠد داﺋﻤً ﺎ ﻋﲆ أﻟﺴﻨﺔ اﻟﻨﺎس ،ﻓﻤﻦ اﻟﺴﻬﻞ أن ﻧﻨﴗ أن ً ﻗﻠﻴﻼ ﻣﻤﱠ ﺎ ﻗﺎل ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ً ﻣﻌﺮوﻓﺎ ﻗﺒﻞ ذﻟﻚ اﻟﺤني ﺣﺘﻰ أواﺧﺮ اﻟﻘﺮن اﻟﺨﺎﻣﺲ ﻋﴩ ،ﻓﻤﺎ أﻗﻞ اﻷوروﺑﻴني اﻟﺬﻳﻦ ﻟﻢ ﻳﻌﺮﻓﻮا ﻋﻦ أﻓﻼﻃﻮن ﻣﻨﺬ ﺑﺪاﻳﺔ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ إﻻ ﺷﻴﺌًﺎ ﻳﺴريًا! ﻓﻜﺎﻧﻮا ﻋﺎدة ﻣﺎ ﻳﻌﺮﻓﻮن ﻗﺼﺔ اﻟﺨﻠﻖ اﻟﺘﻲ ذُ ِﻛ َﺮ ْت ﰲ ﻣﺤﺎورة »ﻃﻴﻤﺎﻳﻮس« ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ ﺑﻌﺾ اﻟﺸﺎﺋﻌﺎت ﻋﻦ ﻣﺴﺘﻮى أﻋﲆ ﻣﻦ اﻟﻮاﻗﻊ ﻳﺘﻤﻴﱠﺰ ﺑﻜﻮﻧﻪ ﻣﺠﺮدًا ورﻳﺎﺿﻴٍّﺎ ﰲ ﻛﻤﺎﻟﻪ وﻳﻘﺒَﻊ ﻓﻮق اﻟﻌﺎﻟﻢ املﺎدي .أﻣﺎ اﻵن ﻓﻘﺪ ﺻﺎ َرت آراء أﻓﻼﻃﻮن واﺳﻤﻪ ﻳﺠﺮﻳﺎن ﻣﻦ اﺑﻦ آدم ﻣﺠ َﺮى اﻟ ﱠﺪ ِم. وﻟﻘﺪ ﻻﻗﺖ ﻃﺒﻌﺔ ﻓﻴﺘﺸﻴﻨﻮ ﻧﺠﺎﺣً ﺎ ﻛﺒريًا ﺑﻤﺠﺮد ُ ُور َﻫﺎ ﺣﺘﻰ ﺣﻘﻘﺖ أﻋﲆ ﻣﺒﻴﻌﺎت ﺑني ﺻﺪ ِ َت ﻟﺪى ُ اﻟﻜﺘﺐ آﻧﺬاك ،رﻏﻢ أن ﺑﻌﺾ ﴍوﺣﻪ َو ﱠﻟﺪ ْ اﻟﻘ ﱠﺮاء ﺷﻌﻮ ًرا أن ﻓﻠﺴﻔﺔ أﻓﻼﻃﻮن ﺗﺘﱠﺴﻢ ﺑﺎﻟﺘﻨﺎﺳﻖ واﻟﺘﺠﺎﻧﺲ واﻟﻌﻘﺎﺋﺪﻳﺔ أﻛﺜﺮ ﻣﻤﱠ ﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ .وﺑﻤﻌﺎ َوﻧَﺔ أﺣﺪ أﺗﺒﺎﻋﻪ ﻳُﺪﻋَ ﻰ ﻛﻮﺳﻴﻤﻮ دي ﻣﻴﺪﻳﺘﺸﻴﻨﻲ أﻧﺸﺄ ﻓﻴﺘﺸﻴﻨﻮ ﻣﺎ ﻳﺸﺒﻪ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ ﰲ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻓﻠﻮرﻧﺴﺎ ﻋﲆ أﺳﺎس اﻷﺻﻞ اﻷﺛﻴﻨﻲ ﻟﻬﺎ ،إﻻ أن اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﻮﺣﻴﺪة املﻌﺮوﻓﺔ ﻋﻨﻬﺎ ﻫﻲ أن ﻧﺸﺎﻃﺎﺗﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺤﺘﻔﻞ ﺑﺄﻋﻴﺎد ﻣﻴﻼد أﻓﻼﻃﻮن ﻣﻦ ﺧﻼل إﻗﺎﻣﺔ اﻟﻮﻻﺋﻢ. وﻗﺪ رأى ﻓﻴﺘﺸﻴﻨﻮ أن اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ ﺗﻨﻄﻮي ﻋﲆ أﻣﻮر ﺣﺪﺳﻴﺔ ﻣﻬﻤﺔ ﺗﺘﻌ ﱠﻠﻖ ﺑﺎملﺴﻴﺤﻴﺔ ﻛﻤﺎ ﻗﺎل اﻟﻘﺪﻳﺲ أوﺟﺴﺘني ،وﻟﻜﻦ ﻓﻴﺘﺸﻴﻨﻮ ذﻫﺐ إﱃ أﺑﻌﺪ ﻣﻦ ذﻟﻚ ﻓﺮأى أن ﻛﺘﺎﺑﺎت أﻓﻼﻃﻮن ﻻ ﺗﻘِ ﻞ ﰲ ﺳﻠﻄﺘﻬﺎ ﻋﻦ ﺗﻌﺎﻟﻴﻢ اﻟﻜﺘﺎب املﻘﺪس ،ﻓﺎﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻮﺣﻲ ﺑﻬﺎ اﻟﺮب ﻛﺎﻟﻜﺘﺎب املﻘﺪس ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ،واﻷﻣﺮ ﻧﻔﺴﻪ ﻳﻨﻄ ِﺒﻖ ﻋﲆ ﻓﻠﺴﻔﺔ أﻓﻼﻃﻮن أو ﻛﺬﻟﻚ اﻋﺘﻘﺪ ﻓﻴﺘﺸﻴﻨﻮ ،ﻓﺮأى أن ﻣﺎ ﺳﻤﱠ ﺎه أﻓﻼﻃﻮن اﺗﺼﺎل اﻟﻌﻘﻞ ﺑ »اﻟﺨري ﻧﻔﺴﻪ« )أو ﺻﻮرة اﻟﺨري( ﻫﻮ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﺎ ﻳﺴﻤﻴﻪ املﺴﻴﺤﻴﻮن املﻌﺮﻓﺔ ﺑﺎﻟﺮب .وﺑﺰواج اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ ﺑﺎملﺴﻴﺤﻴﺔ رﻓﻊ ﻓﻴﺘﺸﻴﻨﻮ اﻹﻳﻤﺎن إﱃ املﺮاﺗﺐ اﻟﻌُ َﲆ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ وﻫﺒﻂ ﺑﺎﻟﻔﻠﺴﻔﺔ إﱃ اﻷرض .ﻛﺎن أﻓﻼﻃﻮن ﻳﺮى أن اﻻﺗﱢﺤﺎد اﻟ ﱡﺮوﺣﻲ ﻣﻊ ﻓﻜﺮة »اﻟﻮﺟﻮد وراء اﻟﻮﺟﻮد« — وﻫﻲ اﻟﻔﻜﺮة اﻟﺘﻲ ﺗَﺤَ ﺪ َ ﱠث ﻋﻨﻬﺎ أﺗﺒﺎع اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة — ﻳُﻤ ِﻜﻦ ﺗﺤﻘﻴﻘﻪ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻔﺎﻧﻴﺔ إذا ﻣﺎ اﺗﱠﺒَﻊ اﻹﻧﺴﺎن إﻧﺠﻴﻞ اﻟﺤﺐ. وﺑﺎﻟﻄﺒﻊ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﻌﺜﻮر ﻋﲆ ﻫﺬا اﻹﻧﺠﻴﻞ ﰲ اﻟﻜﺘﺎب املﻘﺪس وﻛﺬﻟﻚ ﰲ ﺣﺪﻳﺚ دﻳﻮﺗﻴﻤﺎ ﰲ ﻛﺘﺎب أﻓﻼﻃﻮن »املﺄدﺑﺔ« ﺑﺼﻮرﺗﻪ اﻟﺸﻬرية ﻋﻦ ﺻﻌﻮد اﻟ ﱡﺮوح إﱃ ﻋﺎﻟﻢ ا ُملﺜ ُ ِﻞ اﻟﺴﻤﺎوي .وﻗﺪ ً ﺗﻌﻠﻴﻘﺎ ﻣﺆﺛ ًﺮا ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب ﺳﺎﻋﺪ ﻋﲆ اﻧﺘﺸﺎر ﻓﻜﺮة »اﻟﺤﺐ اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻲ«، ﻛﺘﺐ ﻓﻴﺘﺸﻴﻨﻮ ﻟﺸﺨﺺ ﻣﺎ ﻫﻮ ﻧﻮع ﻣﻦ اﻻﺳﺘﻌﺪاد ﻟﺤُ ﺐﱢ اﻟﺮب ،ﻓﺈذا ﻣﺎ ﻛﺎن ﻫﺬا ﻓﻘﺎل إن اﻟﺤﺐ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ٍ اﻟﺸﻌﻮر ﺑﺎﻟﺤﺐ ﻣﺘﺒﺎد ًَﻻ ﺑني اﻟﻄﺮﻓني وإذا ﻣﺎ ﺗﻌ ﱠﻠﻢ ا ُملﺤِ ﺐﱡ أن ﻳﺴﻤﻮ ﻓﻮق رﻏﺒﺎﺗﻪ املﺎدﻳﺔ ﺷﻜﻞ ﻣﻦ أﺷﻜﺎل اﻹﺧﻼص اﻟﺪﻳﻨﻲ .وﻗﺪ أﺻﺒﺤﺖ ﻓﻜﺮة ِﻟﻴَﻨ ْ ُﻔﺬَ إﱃ اﻟ ﱡﺮوح ﻓﻬﺬا ﻳﺮﺗﻘﻲ إﱃ ٍ ﺎب املﻘﺎﻻت وﻋَ ﻤﱠ َﺮ ْت ﻟﻔﱰات اﻟﺤﺐ اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻲ واﺣﺪة ﻣﻦ اﻷﻓﻜﺎر اﻷﺛرية ﻟﺪى اﻟﺸﻌﺮاء و ُﻛﺘﱠ ِ 445
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
وﻋﺼﻮر ﻃﻮﻳﻠﺔ ﺗﺠﺎوزت ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ اﻟﺬي ُوﻟِﺪ ْ َت ﻓﻴﻪ ﺣﺘﻰ إن ﺑﻌﺾ اﻟﻨﻘﺎد ﺗﺘﺒﱠﻊ أﺛﺮﻫﺎ ﺣﺘﻰ وﺻﻠﻮا إﱃ ﺷﻌﺮاء اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ أﻣﺜﺎل ﻳﻴﺘﺲ ورﻳﻠﻴﻚ وواﻻس ﺳﺘﻴﻔﻨﺰ .أﻣﺎ اﻟﻴﻮم ﻓﻘﺪ أﺻﺒﺢ املﺼﻄﻠﺢ ﻳﺸري ﺿﻤﻨًﺎ إﱃ اﻟﻌﺰوﺑﺔ ﻻ أﻛﺜﺮ. وﻗﺪ ﻇﻞ ﻋَ َﻠ ُﻢ أﻓﻼﻃﻮن ﻳﺮﻓﺮف ﻋﲆ ﺳﺎرﻳﺔ اﻟﻌِ ْﻠ ِﻢ واﻟﺸﻌﺮ ﰲ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ ،ﻓﺒﻴﻨﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻟﺘﻲ ﺗُ َﺪ ﱠر ُس ﰲ اﻟﺠﺎﻣﻌﺎت ﻫﻲ ﻧﻈﺮﻳﺎت أرﺳﻄﻮ وﻣﻦ ﺛﻢ ﻟﻢ ﺗُﻌِ ﺮ اﻫﺘﻤﺎﻣً ﺎ ﻛﺒريًا ملﺴﺄﻟﺔ اﻟ َﻜﻤﱢ ﻴﱠﺎت وﻃﺮق ﻗﻴﺎﺳﻬﺎ ،ﻛﺎﻧﺖ أﻋﻤﺎل ﻛﺜري ﻣﻦ املﻨﺸﻐﻠني ﺑﺎﻟﺪراﺳﺔ اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ واﻟﺒﺎﺣﺜني ﻓﻴﻬﺎ ﻏري املﻨﺘﻤني ﻟﻠﺠﺎﻣﻌﺎت ﺗﺘﻤﻴﺰ ﺑﻨﺰﻋﺔ رﻳﺎﺿﻴﺔ .وﻟﻢ ﻳﺘﺴﺒﺐ ذﻟﻚ ﰲ إﻋﺎدة أﻓﻼﻃﻮن واﻟﻔﻴﺜﺎﻏﻮرﻳني إﱃ املﺸﻬﺪ ﻓﺤﺴﺐ ،ﺑﻞ ﻛﺎن ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﻳﻨﺒﻊ ﻣﻦ ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻬﻢ ﻣﺒﺎﴍة .وﻗﺪ ﻛﺎن اﻟﻔﻨﺎﻧﻮن اﻟﺬﻳﻦ درﺳﻮا ﻗﻮاﻧني املﻨﻈﻮر وأﺻﺤﺎب اﻟﺤِ َﺮف اﻟﺬﻳﻦ اﺷﺘﻐﻠﻮا ﺑﺎﻟﺤﺴﺎب وﺣﺘﻰ اﻟﺴﺤﺮة ﺑﺮﻣﻮزﻫﻢ ذات اﻷرﻗﺎم اﻟﺘﻲ ﻟﻬﺎ دِ َﻻﻻت ُروﺣﻴﺔ ﻳﺴريون ﻋﲆ درب أﻓﻼﻃﻮن ﰲ اﺳﺘﺨﺪام اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ﻹﻣﺎﻃﺔ اﻟ ﱢﻠﺜَﺎم ﻋﻦ أﴎار اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ .وﻛﺜريًا ﻣﺎ ﺣﺎول ﻣَ ْﻦ ﻛﺎﻧﻮا ﻳﺴﻌَ ﻮْن أن ﻳﺼﺒﺤﻮا ﻣﻦ أﻫﻞ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت اﻟﺠﺮي واﻟﺮﻛﺾ ﻗﺒﻞ ﺗﻌ ﱡﻠﻢ املﴚ ،ﻓﻘﺪ ﻗﺎل ﻧﻴﻜﻮﻻس اﻟﻜﻮزي ) — (١٤٦٤–١٤٠١وﻫﻮ ﻣﻦ أﻧﺼﺎر اﺳﺘﺨﺪام اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ﻋﲆ ﻃﺮﻳﻘﺔ أﻓﻼﻃﻮن — إﻧﻪ ﻣﻦ املﻤﻜﻦ ﱡ ﺗﻮﻗﻊ ﺣﺠﻢ املﺤﺼﻮل ﻣﻦ ﺧﻼل وزن املﺎء وﺣَ ﺒﱠﺎت اﻟﺬرة ﰲ ﺷﻬﺮ ﻣﺎرس .وﻟﻜﻦ ﻫﺬا اﻟﺤﻤﺎس املﺘﻌﺜﱢﺮ ﻟﻸرﻗﺎم وﺗﻄﺒﻴﻘﺎﺗﻬﺎ ﻣﻬﺪ اﻟﻄﺮﻳﻖ أﻣﺎم ﻧﺠﺎح اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺬي أﺗﻰ ﺑﻪ ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ ،ﻓﻜﺎن ﻹﻋﺎدة إﺣﻴﺎء اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ أ َ َﺷ ﱡﺪ اﻷﺛﺮ ﻋﲆ ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ وﻛﻮﺑﺮﻧﻴﻜﻮس وﻛﺒﻠﺮ ﺣﻴﺚ ﻗﺎل ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ» :أﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ أﻓﻼﻃﻮن ﻣﺼﻴﺒًﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻗﺎل إن ﺗﻼﻣﻴﺬه ﻳﺠﺐ أن ﻳﻜﻮﻧﻮا ﻋﲆ دراﻳﺔ ﺟﻴﺪة ﺑﺎﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ﰲ املﻘﺎم اﻷول؟« ِ َ وﻣﻦ ﺑني ِﺳﻤَ ﺎت اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ ﰲ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ اﻟﺘﻲ ﺳﺎﻫﻤﺖ ﻗ َﺪ ًرا ﰲ ﺗﻤﻬﻴﺪ املﺠﺎل ﻟﻼﻛﺘﺸﺎﻓﺎت ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ ﻧﻈﺮة اﻹﺟﻼل واﻟﻮﻗﺎر ﻟﻠﺸﻤﺲ ،ﻓﺘﺸﺒﻴﻪ أﻓﻼﻃﻮن ﺑﻄﺮﻳﻖ ﻟﻠﺸﻤﺲ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ »اﻟﺨري ﻧﻔﺴﻪ« ﺟﻌﻞ أﺗﺒﺎع أﻓﻼﻃﻮن ﰲ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ ﻳ َِﺼ ُﻔﻮﻧَﻬَ ﺎ ٍ ﺟﻌﻠﺖ ﻧﻈﺮﻳﺔ ﻛﻮﺑﺮﻧﻴﻜﻮس ﺗﺒﺪو ﺻﺤﻴﺤﺔ إﱃ ﺣَ ﱟﺪ ﻛﺒري ،ﻓﻜﺘﺐ ﻓﻴﺘﺸﻴﻨﻮ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﻳﻘﻮل: ﻈ ِﻬ ُﺮ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﺨري أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﺿﻮء )اﻟﺸﻤﺲ( ،ﻓﺎﻟﻀﻮء ً ﻻ ﳾء ﻳُ ْ أوﻻ ﻫﻮ أﻛﺜﺮ ِ ﻳﻨﺘﴩ أﺳﻬﻞ ﻣﻦ اﻷﺷﻴﺎء املﺤﺴﻮﺳﺔ ملﻌﺎﻧًﺎ ووﺿﻮﺣً ﺎ ،ﺛﺎﻧﻴًﺎ ﻟﻴﺲ ﺛﻤﺔ ﳾء اﻟﻀﻮء وأوﺳﻊ ﻣﻨﻪ وأﴎع ،ﺛﺎﻟﺜًﺎ ﻳﺨﱰق اﻟﻀﻮء ﺟﻤﻴﻊ اﻷﺷﻴﺎء ﺑﻠﻄﻒ وﺳﻼﺳﺔ ﻣﻦ دون ﴐر ﻳُﺴﺒﱢﺒﻪ وﻛﺄﻧﻪ ﻳﻌﺎﻧﻘﻬﺎ ،راﺑﻌً ﺎ ﺗﻌﻤﻞ اﻟﺤﺮارة املﺼﺎﺣﺒﺔ ﻟﻠﻀﻮء 446
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
ﻋﲆ إﻧﻌﺎش ﺟﻤﻴﻊ اﻷﺷﻴﺎء وﺗﻐﺬﻳﺘﻬﺎ ﻓﻬﻲ ا ُمل ِ ﻨﺸﺊ واملﺤﺮك اﻷول ﻟﻸﺷﻴﺎء ،ﻓﻨﻈﺮة ﰲ اﻟﺴﻤﺎء ﺗُ ْ ﻄﻠِﻌُ َﻚ ﻋﲆ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻟﺮب … وﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻟﺪى ﻓﻴﺘﺸﻴﻨﻮ اﻫﺘﻤﺎم ﺑﺘﻄﻮﻳﺮ اﻟﻔﻠﻚ إﱃ ﻋﻠﻢ ﻣﺴﺘﻘ ﱟﻞ ،وﻟﻜﻦ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة اﻟﺘﻲ ﺟﻌﻠﺖ ﻣﻦ اﻟﺸﻤﺲ ﺷﺒﻴﻬً ﺎ ﺑﺎﻟﺮب ﺟﻌﻠﺖ ﻣﻦ اﻟﻼﺋﻖ أن ﺗﻜﻮن اﻟﺸﻤﺲ ﻣﺮﻛﺰ اﻟﻮﺟﻮد ﻛﻠﻪ. واﺳﺘﻌﺎن ﻛﻮﺑﺮﻧﻴﻜﻮس ﻧﻔﺴﻪ ﺑﻬﺬه املﻘﺎرﻧﺔ اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ ﺑني اﻟﺮب واﻟﺸﻤﺲ ﻟﺘﺪﻋﻴﻢ ﻋﻘﻴﺪﺗﻪ اﻟﺜﻮرﻳﺔ ﻓﻘﺎل» :ﺗﺠﻠﺲ اﻟﺸﻤﺲ ﻣﺘﻮﱠﺟﺔ وﺳﻂ ﺟﻤﻴﻊ اﻷﺷﻴﺎء .وﻫﻞ ﺛﻤﺔ ﻣﻮﺿﻊ ﰲ ﻫﺬا املﻌﺒﺪ اﻟﺮاﺋﻊ أﻓﻀﻞ ﻣﻦ ﻫﺬا املﻮﺿﻊ ﻧﻀﻊ ﻓﻴﻪ ﻫﺬا اﻟﻨﺠﻢ اﻟﺴﺎﻃﻊ ﻟﻴﻤﺪ اﻷﺷﻴﺎء ﺟﻤﻴﻌﻬﺎ ﺑﺎﻟﻀﻮء ﻣﺮة واﺣﺪة؟ ﻓﺎﻟﺸﻤﺲ ﺗﺴﺘﻮي ﻋﲆ ﻋﺮﺷﻬﺎ املﻠﻜﻲ ﺑني أﻃﻔﺎﻟﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﻜﻮاﻛﺐ اﻟﺴﻴﺎرة ﺣﻮﻟﻬﺎ «.ﻛﻤﺎ أن ﻳﻮﻫﺎﻧﺰ ﻛﺒﻠﺮ اﻟﺬي ﻃﻮر أﻓﻜﺎر ﻛﻮﺑﺮﻧﻴﻜﻮس ﰲ اﻟﺘﻨﺠﻴﻢ ﻣﻦ ﺧﻼل ﻋﺪة وﺳﺎﺋﻞ ﻣﻦ ﺑﻴﻨﻬﺎ اﻛﺘﺸﺎف أن ﻣﺪارات اﻟﻜﻮاﻛﺐ ﻟﻴﺴﺖ داﺋﺮﻳﺔ ﺑﻞ ﺑﻴﻀﺎوﻳﺔ؛ اﺳﺘﻐﻞ اﻟﻔﻜﺮة اﻟﻘﺎﺋﻠﺔ ﺑﺄن ﻣﺮﻛﺰ اﻟﻜﻮن ﻳُﻌَ ﱡﺪ ﻣﻜﺎﻧًﺎ ﻣﻨﺎﺳﺒًﺎ ﻟﻜﺎﺋﻦ إﻟﻬﻲ. وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﺎ أﺑﻼه ﻓﻴﺘﺸﻴﻨﻮ ﻣﻦ ﺑﻼءٍ ﺣﺴﻦ ﰲ ﺗﺮﺟﻤﺔ أﻋﻤﺎل أﻓﻼﻃﻮن ﻟﻴُﺤَ ﱢﻘ َﻖ اﻷﺛﺮ اﻟﺬي ﺷﻬﺪه ﻫﺬا اﻟﻮﻗﺖ ،ﻓﻔﻲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬي ُوﻟِ َﺪ ﻓﻴﻪ ﺣﻘﻘﻪ ﻟﻮﻻ ﺗﺰاﻣﻦ ﻣﻬﻨﺘﻪ ﻣﻊ ﺗﻄﻮﱡر ﻣﻠﺤﻮظ ِ ﻓﻴﺘﺸﻴﻨﻮ ﻛﺎن ﻋﺪد اﻟﻜﺘﺐ املﻄﺒﻮﻋﺔ ﰲ أوروﺑﺎ ﻻ ﻳﺘﺠﺎوز ﺑﻀﻌﺔ آﻻف وﻛﺎن اﻟﻮﺻﻮل إﻟﻴﻬﺎ ﺻﻌﺒًﺎ ﻧﺴﺒﻴٍّﺎ ،وﻛﺎﻧﺖ اﻟﻜﺘﺐ واملﺠ ﱠﻠﺪات اﻟﻜﺒرية ﺗُﺤْ َﻔ ُ ﻆ ﰲ أرﻓﻔﻬﺎ ﺑﺎﻟﺴﻼﺳﻞ .وﻟﻜﻦ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗُﻮ ﱢُﰲ َ ﻓﻴﺘﺸﻴﻨﻮ ﻋﺎم ١٤٩٩م ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻄﺒﺎﻋﺔ ﻣﻮﺟﻮد ًة ﰲ أوروﺑﺎ ﰲ ﻣﻮاﻗِ َﻊ ﻳﱰاوح ﻋﺪدﻫﺎ ﺑني ٢٠٠و ٣٠٠ﻣﻮﻗﻊ ﺣﺘﻰ وﺻﻞ ﻋﺪد اﻟﻜﺘﺐ ا ُملﺘَﺪَا َو َﻟ ِﺔ إﱃ ١٠ﻣﻼﻳني ﻛﺘﺎب ،ﻓﻜﺎن ﺑﺈﻣﻜﺎن أَﺣَ ِﺪ ﺟﺎﻣﻌﻲ اﻟﻜﺘﺐ أن ﻳﺤﺼﻞ ﻋﲆ ﺣﻮاﱄ أﻟﻒ ﻋﻨﻮان ﻣﺨﺘﻠﻒ .وأﻧﺘﺞ ﺟﻮﺗﻨﱪج إﻧﺠﻴﻠﻪ ٍ ﺑﺤﺮوف ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺤﺮﻳ ُﻜﻬﺎ وﺗﻐﻴري أﻣﺎﻛﻨﻬﺎ ﻋﺎم ١٤٥٤م اﻟﺸﻬري ﻷول ﻣﺮة ﰲ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻄﺒﺎﻋﺔ ﱠ ﱠ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﺎن ﻓﻴﺘﺸﻴﻨﻮ ﻻ ﻳﺰال ﰲ رﻳﻌﺎن ﺷﺒﺎﺑﻪ .وﻟﻢ ﻳﺘﻮﻗﻒ اﻷﺛﺮ اﻟﺬي ﺣﻘﻘﻪ اﺳﺘﺨﺪام ﻫﺬه اﻟﺘﻘﻨﻴﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة ﻋﲆ زﻳﺎدة أﻋﺪاد اﻟﻜﺘﺐ ﻓﺤﺴﺐ ،ﺑﻞ زﻳﺎدة اﻧﺘﺸﺎر اﻟﻘﺮاءة واﻟﻜﺘﺎﺑﺔ ﺑني اﻟﺠﻤﻴﻊ؛ وﺑﻬﺬا اﺳﺘﻄﺎع ﺟﻮﺗﻨﱪج ورﻓﺎﻗﻪ أن ﻳﺤﺮروا اﻟﻜﺘﺎب ﻣﻦ أﻏﻼﻟﻪ. وﰲ ﺑﺪاﻳﺔ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎدس ﻋﴩ ﻟﻢ ﺗ ُﻜﻦ اﻟﺠﻤﺎﻫري اﻟﻘﺎرﺋﺔ ﰲ زﻳﺎدة ﻋﺪدﻳﺔ ﻓﺤﺴﺐ، ﺑﻞ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺘﻤﻴﺰ ﻛﺬﻟﻚ ﺑﺘﻨﻮع ﻗﺮاءاﺗﻬﺎ أﻛﺜﺮ ﻣﻤﱠ ﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ رﻫﻦ ﻣﺎ ﺗﻤﻠﻴﻪ اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ .وﻗﺪ أدﱠى اﺗﺴﺎع اﻵﻓﺎق ﰲ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ إﱃ ﺟﺎﻧﺐ رﻋﺎﻳﺔ رﺟﺎل اﻷﻋﻤﺎل ورﺟﺎل اﻟﺪوﻟﺔ واﻷ ُ َﴎ اﻟﻐﻨﻴﺔ اﻟﺤﺎﻛﻤﺔ إﱃ ﺗﺸﻜﻴﻞ ﻧﺨﺒﺔ ﻣﺜﻘﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻤﺎﻧﻴني. واﻧﺘﴩت ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﺘﻨﻮﱢﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺎﺑﺎت واملﻨﺸﻮرات ﻟﺘﺸﺒﻊ ﻛﻞ اﻷذواق اﻷدﺑﻴﺔ ﺑﺪاﻳﺔ 447
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﻣﻦ اﻷﻋﻤﺎل اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ﻣﺜﻞ ﺧﺮاﻓﺎت إﻳﺴﻮب ﻣﺮو ًرا ﺑﻘﺼﺺ ﺑﻮﻛﺎﺗﺸﻮ اﻹﻏﺮاﺋﻴﺔ واﻧﺘﻬﺎءً ﺑﺎﻟﻄﺒﻌﺎت املﺪرﺳﻴﺔ ﻟﻸﻋﻤﺎل اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ ﰲ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت .أﻣﺎ اﻵداب اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ واﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﻓﻘﺪ ﻇﻠﺖ ﺑﻤﻨﺄًى ﻋﻦ اﻷﺳﺎﻟﻴﺐ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺨﺪم ﻣﺼﺎﻟﺢ اﻟ ﱡﺮﻫﺒﺎن واملﻌ ﱢﻠﻤني ﰲ اﻟﻌﺼﻮر ً وﻃﺮﻗﺎ ﺟﺪﻳﺪة ﻟﺘﻠﺒﻲ اﺣﺘﻴﺎﺟﺎت ﻃﺒﻘﺔ أوﺳﻊ ﻣﻦ ُ اﻟﻮﺳﻄﻰ وأﻧﺸﺄت ﻧﻤﺎذِجَ اﻟﻘ ﱠﺮاء .وﻗﺪ ُﻛﺘِﺐَ اﻟﻜﺜريُ ﻣﻦ اﻷﻋﻤﺎل اﻟﺠﺪﻳﺪة ﺑﺎﻟﻠﻐﺎت اﻟﻌﺎﻣﻴﺔ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ اﻟﻼﺗﻴﻨﻴﺔ ،وﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎدس ﻋﴩ ﻃﻔﻘﺖ اﻟﺮﺳﺎﺋﻞ واملﻘﺎﻻت ﺗﺤﻞ ﻣﺤﻞ اﻷﺳﻠﻮب اﻷﻛﺎدﻳﻤﻲ اﻟﺮﺳﻤﻲ ﻟﻠﴩوح واﻟﺘﻌﻠﻴﻘﺎت .أﻣﺎ اﻷدب اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ املﻌﺎﴏ )ﻛﻜﺘﺎﺑﺎت دﻳﻜﺎرت وﻫﻮﺑﺰ املﻌﺮوﻓﺔ ﻟﺪﻳﻨﺎ اﻟﻴﻮم ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل( ﻓﻠﻢ ﺗ ُﻚ ﺗَﻠﻘﻰ أي اﻫﺘﻤﺎم ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ. وﻗﺪ اﺳﺘﻔﺎد أرﺳﻄﻮ وﺷﺎرﺣﻮه ﻛﺬﻟﻚ ﻣﻦ اﻟﺜﻮرة اﻟﺘﻲ أﺣﺪﺛﻬﺎ ﺟﻮﺗﻨﱪج ،ﻓﺄﻋﻴﺪت ﻃﺒﺎﻋﺔ أﻋﻤﺎل أرﺳﻄﻮ ﺑﻐﺰارة ﰲ ﺑﺪاﻳﺎت اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎدس ﻋﴩ ﺣﺘﻰ وﺻﻠﺖ إﱃ ﻗﺎﻋﺪة أوﺳﻊ ﻣﻦ اﻟﺠﻤﻬﻮر ﻣﺎ ﻛﺎﻧﺖ ِﻟﺘَ ِﺼ َﻞ إﻟﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﻗﺒ ُﻞ ،وﻟﻜﻦ ﻓﺎت اﻷوان ،ﻓﺮﻏﻢ أن اﻷرﺳﻄﻴﺔ ُﻮﱄ ﻛﺎﻧﺖ ﻻ ﺗﺰال ﺗُ َﺪ ﱠر ُس ﺑﺸﻜﻞ ﻛﺒري ﰲ اﻟﺠﺎﻣﻌﺎت واملﻌﺎﻫﺪ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﻓﺈن اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﻗﺪ ﺑﺪأ ﻳ ِ ﻇﻬﺮه ﻟﻬﺎ ،وﻛﺎن اﻟﺪاﻓﻊ اﻟﺮﺋﻴﺲ ملﺎ ﻋُ ِﺮ َ ف ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﺑ »اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ« ﻳﻨﺒﻊ ﺑﺸﻜﻞ ﻛﺒري ﻣﻦ ﻣﺬﻫﺒَﻲ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ واﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ اﻟﻠﺬﻳﻦ ﻛﺎﻧﺎ ﻣﻦ ُﻗﺪاﻣَ ﻰ املﻨﺎﻓﺴني ﻟﻠﻔﻜﺮ اﻷرﺳﻄﻲ وﻫﻤﺎ اﻟﻠﺬان دُﻓِ ﻨَﺎ ﺗﺤﺖ اﻟﱰاب ﻷﻛﺜﺮ ﻣﻦ أﻟﻒ ﻋﺎم ﺣﻴﺚ ﻟﻢ ﻳﻨﺘﺴﺐ ﻷيﱟ ﻣﻦ ﻫﺬﻳﻦ املﺬﻫﺒني ﺳﻮى ﻋﺪدٍ ﺿﺌﻴﻞ ﻣﻦ ﻣﻔ ﱢﻜﺮي اﻟﻘﺮﻧني اﻟﺴﺎدس ﻋﴩ واﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ ،إﻻ أن ﻫﺬه املﺬاﻫﺐ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ ﺑﻌﺪ أن ﺻﺎرت ﻣﺘﺎﺣﺔ ﻋﲆ ﻧﻄﺎق واﺳﻊ ﻫﻲ ﻣﺎ وَﺟﱠ َﻪ ﻫﺆﻻء املﻔﻜﺮﻳﻦ إﱃ وﺟﻬﺎت ﺟﺪﻳﺪة. وﻣﻦ ﺑني اﻷﻋﻤﺎل اﻟﱰاﺛﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺟَ َﺮى إﺣﻴﺎؤﻫﺎ ﰲ أواﺧﺮ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎدس ﻋﴩ وﺗﺮﺟﻤﺘﻬﺎ إﱃ اﻟﻼﺗﻴﻨﻴﺔ ﻛﺘﺎب »ﺣﻴﺎة اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ« ﻟﺪﻳﻮﺟني ﻟريﺗﻴﻮس اﻟﺬي ﻳﺤﻮي ﺑني ﺻﻔﺤﺎﺗﻪ اﻟﺴرية اﻟﺬاﺗﻴﺔ ﻟﻠﺸﻜﻮﻛﻲ اﻷﻛﱪ ﺑريو ،وﺑﻌﺾ اﻟﻜﺘﺐ ﻟﺸﻴﴩون اﻟﺘﻲ داﻓﻌﺖ ﻋﻦ املﻨﻬﺞ اﻟﻮﺳﻄﻲ ﻟﻠﺸﻜﻮﻛﻴﺔ اﻟﺬي ُ ﻃﺒ َﱢﻖ ﻗﺪﻳﻤً ﺎ ﰲ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ اﻷﺛﻴﻨﻴﺔ .وﻣﻦ ﻫﺬه اﻟﻜﺘﺐ ﻋ َﺮف اﻟﻨﺎس ﻋﻦ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﺬﻳﻦ أَﺑَﻮْا ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺒﻬﻢ وﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻳﺜري اﻟﻀﻴﻖ أن ﻳﺘﻘﻴﱠﺪوا ﺑﺄﺳﻠﻮب ﻣﺤﺪد ﰲ ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻬﻢ .وﺑﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﺎل اﺟﺘﺬﺑﺖ ﻫﺬه اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺑﻌﺾ ﱡ اﻟﺴ َﻔﻬَ ﺎء ،ﻓﻔﻲ ﺛﻼﺛﻴﻨﻴﺎت اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎدس ﻋﴩ ﻗﺎم راﺑﻠﻴﻪ ﺑﺮﺳﻢ ﺷﺨﺼﻴﺔ ﺧﻴﺎﻟﻴﺔ ﻟﻔﻴﻠﺴﻮف ﺑريوﻧﻲ ﻳُﺪﻋَ ﻰ ﺗﺮﻳﺠﻮﻻن ﰲ ﻛﺘﺎﺑﻪ »ﺟﺎرﺟﺎﻧﺘﻮا وﺑﺎﻧﺘﺎﺟﺮوﻳﻞ«َ ، ﻓﺼ ﱠﻮ َر ﻋﺠﺰ اﻟﺒﻄﻞ ﻋﻦ اﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ إﺟﺎﺑﺔ ﴏﻳﺤﺔ ِ ﻳﺴﺘﻄﻊ أن ﻳﻌﻠﻢ ﺣﺘﻰ ﻣﺎ إذا ﻛﺎن ﻫﺬا ﻣﻦ ﺗﺮﻳﺠﻮﻻن ﺣﻮل وﺟﻮب زواﺟﻪ ﻣﻦ ﻋﺪﻣﻪ ،ﺑﻞ ﻟﻢ »اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف« ﻳﺤﻴﺎ ﺣﻴﺎة زوﺟﻴﺔ ﺳﻌﻴﺪ ًة أم ﻻ .وﻗﺪ دار اﻟﺤﻮار ﻋﲆ اﻟﻨﺤﻮ اﻟﺘﺎﱄ: 448
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
»ﻫﻞ أﻧﺖ ﻣﺘﺰوج؟« »أﻋﺘﻘﺪ ذﻟﻚ«. »ﻟﻘﺪ ﺳﺒﻖ ﻟﻚ اﻟﺰواج ﻗﺒﻞ ﻫﺬه اﻟﺰﻳﺠﺔ .أﻟﻴﺲ ﻛﺬﻟﻚ؟« »ﻣﺤﺘﻤﻞ«. »ﻫﻞ ﺣﺎﻟﻔﻚ اﻟﺤﻆ ﰲ زﻳﺠﺘﻚ اﻷوﱃ؟« »ﻟﻴﺲ ﺑﺎﻷﻣﺮ املﺤﺎل«. »وﻣﺎ ﻣﺪى ﻧﺠﺎح زﻳﺠﺘﻚ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ؟« »ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻳﺸﺎء ﻗﺪري املﺤﺘﻮم«. »وﻟﻜﻦ ﻗﻞ ﱄ ﺑﴫاﺣﺔ ﻫﻞ ﺗﺴﻌﺪ ﺑﺤﻴﺎﺗﻚ ﻣﻌﻬﺎ؟« »ﻣﺤﺘﻤﻞ«. »ﺑﺎﺳﻢ اﻟﺮب ،إﻧﻲ ﻷﻗﺴﻢ ﺑﺎﻟﻘﺪﻳﺲ ﻛﺮﻳﺴﺘﻮﻓﺮ أن ﻣﻬﻤﺔ اﺳﺘﺨﺮاج رﻳﺢ ﻣﻦ ﺑﻄﻦ ﺣﻤﺎر ﻣﻴﱢﺖ أﺳﻬﻞ ﻣﻦ اﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ إﺟﺎﺑﺔ واﺿﺤﺔ وﻗﺎﻃﻌﺔ ﻣﻨﻚ«. ﻟﻌﻠﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺳﺘﺼﺒﺢ أﻣ ًﺮا ﻓﻜﺎﻫﻴٍّﺎ إذا أﻓﺮط ﻓﻴﻬﺎ ،وﻟﻜﻦ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺑﺪأت ﺗﺜري ﺣﺎﻟﺔ ﻣﻦ اﻟﺘﻌﺎﻃﻒ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎدس ﻋﴩ؛ ﻓﻘﺪ ﺣﻔﻠﺖ ﻫﺬه اﻟﻌﺼﻮر ﺑﺘﺴﺎؤﻻت ﺷﺘﻰ ﺗﻌﻠﻮ أﻫﻤﻴﺘﻬﺎ أﻣﻮ ًرا أﺧﺮى آﻧﺬاك ﻛﺎﻟﺮﻏﺒﺔ ﰲ اﻟﺰواج ،وﻛﺎن اﻹﺣﺠﺎم ﻋﻦ اﺗﱢ َﺨﺎذِ ﻣﻮاﻗﻒ ﺑﺸﺄن ﻫﺬه اﻟﺘﺴﺎؤﻻت ﺑﺪاﻓﻊ ﻣﻦ اﻟﺸﻚ ﻓﻴﻬﺎ ﻳﺒﺪو إﺟﺎﺑﺔ ﻣﻨﺎﺳﺒﺔ ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﺘﺴﺎؤﻻت. وَأ ُ ْﻟﻘِ ﻴ َْﺖ ﻇﻼل اﻟﺸﻚ ﻋﲆ ﻛﺎﻓﺔ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺟﺮاء ﻇﻬﻮر اﻛﺘﺸﺎﻓﺎت ﻋﺪﻳﺪة ﰲ اﻟﺘﻨﺠﻴﻢ واﻟﺠﻐﺮاﻓﻴﺎ واﻟﺘﴩﻳﺢ وﺑﻌﺾ ﻓﺮوع اﻟﻌﻠﻢ اﻷﺧﺮى ِﻟﺘُ َﻮ ﱢﻟ َﺪ ﻫﺬه اﻟﺸﻜﻮك ﻣﺰﻳﺪًا ﻣﻦ اﻟﺸﻜﻮك. وﻣﻊ ﻫﺬا اﻟﻬﺠﻮم اﻟﻌﻨﻴﻒ ﻋﲆ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻛﺎن ﻋﲆ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺬﻛﻲ أن ﻳﺴﺘﻔﴪ ﻋﻦ ﻣﺪى ﺻﺤﺔ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺠﺪﻳﺪة .ﻓﻜﻤﺎ ﻳﻘﻮل اﻟﻜﺎﺗﺐ ﻣﻮﻧﺘني ):(١٥٩٢–١٥٣٣ »أﻟﻴﺲ ﻣﻦ اﻟﺤﻤﺎﻗﺔ أن ﻧﺜﻖ ﰲ آراء املﻔ ﱢﻜﺮﻳﻦ املﻌﺎﴏﻳﻦ ﺑﻌﺪﻣﺎ ﺛﺒﺖ أن ﺑﻄﻠﻴﻤﻮس ﻛﺎن ﻣﺨﻄﺌًﺎ ﰲ آراﺋﻪ؟« وﰲ وﺟﻪ ﺳﻴﻞ ﻣﻦ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت زﻋﻢ ﺑﻌﺾ اﻻﻧﻬﺰاﻣﻴني أﻧﻬﻢ ﻳﺮﻓﻀﻮن ﺟﻤﻴﻊ املﺤﺎوﻻت َ ﻟﻔﻬﻢ اﻟﻌﺎﻟﻢ ،ﺑﻞ ذﻫﺒﺖ إﺣﺪى ُ اﻟﺨﻄﺐ اﻟﻼذﻋﺔ املﻌﺎدﻳﺔ ﻟﻠﻔﻜﺮ واملﻨﺸﻮرة ﰲ ﻋﺎم ١٥٢٦ إﱃ ﺣَ ﱢﺪ اﻟﻘﻮل إن املﻌﺮﻓﺔ »ﻫﻲ اﻟﻄﺎﻋﻮن ذاﺗﻪ اﻟﺬي ﻳﺴﻌﻰ إﱃ ﺗﺪﻣري اﻟﺒﴩ أﺟﻤﻌني ﻓﻘﺪ ﺟﻌﻠﺘﻨﺎ ﻋﺮﺿﺔ ﻟﻠﻮﻗﻮع ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﺨﻄﺎﻳﺎ «.ﻛﻤﺎ اﺳﱰﺳﻞ اﻟﻜﺎﺗﺐ ً ﻗﺎﺋﻼ» :إﻧﻪ ﻣﻦ اﻷﻓﻀﻞ أن ﻳﻜﻮن اﻟﻨﺎس ﺣﻤﻘﻰ ﻻ ﻳﻌﺮﻓﻮن ﺷﻴﺌًﺎ« ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ ﺣﺸﻮ ﻋﻘﻮﻟﻬﻢ ﺑﺎﻷﻓﻜﺎر اﻟﻀﺎرة. ورﻏﻢ أن اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ اﻟﺨﺎﻟﺼﺔ ﻛﺎﻧﺖ رد ﻓﻌﻞ ﻣﻔﻬﻮﻣً ﺎ ﻟﻠﻜﻢ اﻟﻬﺎﺋﻞ ﻣﻦ »املﻌﺮﻓﺔ« اﻟﺘﻲ 449
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ً ﻣﻄﺮوﺣﺔ آﻧﺬاك ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﻓﻠﺴﻔﺔ ﻳﺼﻌُ ﺐ اﻻﻟﺘﺰام ﺑﻬﺎ ،وﻟﻢ ﻳﻠﺘﺰم ﺑﻬﺎ أﺣﺪ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ. ﻛﺎﻧﺖ )ﺣﺘﻰ إن ﻛﺎﺗﺐ ﺗﻠﻚ اﻟﺨﻄﺒﺔ اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ وَﺟَ َﺪ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌ ُﺪ ﺟﻤﻴﻊ أﻧﻮاع اﻟﻌﻘﺎﺋﺪ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺆﻣﻦ ﺑﻬﺎ (.وﻛﺎن ﻣﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ﺣﻴﻨﺌ ٍﺬ ﺗﻮﻇﻴﻒ اﻷﺳﻠﺤﺔ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ ﺑﺼﻮرة ﻣﺤﺪودة ﺟﺪٍّا، املﻌﺮﻓﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻋﻔﻰ ﻓﺎﻟﺤﺠﺞ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺗُﺴﺘﺨﺪم ﻣﻦ أﺟﻞ ِ ﺗﻘﻮﻳﺾ أﺳﺲ اﻻدﻋﺎءات ِ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻟﺰﻣﻦ ،وﻛﺬﻟﻚ اﻻدﱢﻋﺎءات املﻌﺮﻓﻴﺔ ﺟﺎﻣﺤﺔ اﻟﻄﻤﻮح وﻟﻴﺲ ملﻬﺎﺟﻤﺔ اﻟﻨﺸﺎط اﻟﻔﻜﺮي ﺑﺮﻣﺘﻪ. وﻗﺪ ﻗﺎم إراﺳﻤﻮس ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﺑﺎﻻﺳﺘﺸﻬﺎد ﺑﺎﻟﺸﻜﻮﻛﻴني اﻟﻘﺪﻣﺎء ﻟﺘﻘﻮﻳﺾ ادﱢﻋﺎءات ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻼﻫﻮت اﻟﺪوﺟﻤﺎﺋﻴني ،وﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﺪﻓﺎع ﻋﻦ ﻣﻨﻬﺞ أﻛﺜﺮ ﺣﺬ ًرا ﰲ اﻟﺘﻌﺎﻣﻞ ﻣﻊ اﻟﻨﺰاﻋﺎت اﻟﺪاﺋﺮة ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ ،وﻗﺪ ﺣﺬﱠر ً ﻗﺎﺋﻼ» :إن اﻟﺸﺌﻮن اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻣﻌﻘﺪة وﻏﺎﻣﻀﺔ وﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﳾء ﻳﻘﻴﻨﻲ ﺑﺸﺄﻧﻬﺎ ﻛﻤﺎ ﻗﺎل اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﻮن اﻟﺘﺎﺑﻌﻮن ﱄ وﻫﻢ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﻮن اﻟﺬﻳﻦ وﺻﻔﻬﻢ ﺷﻴﴩون «.وﻛﺘﺐ إراﺳﻤﻮس ﻳﻘﻮل» :إن ﻋﻘﻞ اﻹﻧﺴﺎن ﻣ َُﺸ ﱠﻜ ٌﻞ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﻌﻘﺪة ﺣﺘﻰ إﻧﻪ أﻛﺜﺮ ﻋﺮﺿﺔ إﱃ اﻟﺰﻳﻒ ﻣﻨﻪ إﱃ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ «.وﻟﺬﻟﻚ ﻓﺈﻧﻪ ﻣﻦ اﻟﺤﻜﻤﺔ أن ﻳﻌﱰف اﻹﻧﺴﺎن أن ﻟﻴﺲ ﺑﺈﻣﻜﺎﻧﻪ اﻟﺘﻮﺻﻞ إﱃ ﻧﺘﻴﺠﺔ إﻻ ﺑﺄن ﻳﻀﺤﻚ ﻋﲆ ﻧﻔﺴﻪ .وﻗﺪ ﻛﺎن اﻟﺠﺪال اﻟﺬي دار ﺑني ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻼﻫﻮت ﺣﻮل ﺣﺮﻳﺔ اﻹرادة ﰲ اﻹﻧﺴﺎن ﺿﻤﻦ املﺴﺎﺋﻞ املﻄﺮوﺣﺔ، ﱠ ﻣﺆﺧ ًﺮا ﻟﺤﻞ وﺧﺎﻟﺞ اﻟﺸﻚ ﺻﺪر إراﺳﻤﻮس ﺗﺠﺎه ﺑﻌﺾ املﺤﺎوﻻت اﻟﺘﻲ ﻗﺎم ﺑﻬﺎ ﻟﻮﺛﺮ ﱢ املﺘﺄﺻﻠﺔ ﻣﻊ اﻟﻮﺿﻊ ﰲ اﻻﻋﺘﺒﺎر أﻧﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻦ اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ ﺷﺪﻳﺪة اﻟﺘﻌﻘﻴﺪ اﻟﺘﻲ ﻫﺬه املﺸﻜﻠﺔ ﻟﻘﺮون ﻃﻮﻳﻠﺔ ،ﻓﻬﻞ ﻣﻦ املﻤﻜﻦ ٍّ ﺣﻘﺎ أن ﻧﻘﻮل اﺧﺘﻠﻒ ﺑﺸﺄﻧﻬﺎ املﺘﻌﻠﻤﻮن ﻣﻦ ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻼﻫﻮت ٍ إن ﻟﻮﺛﺮ ﻋﺜﺮ ﻋﲆ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻏﺎﺑﺖ ﻋﻤﱠ ﻦ ﺳﺒﻘﻮه َ ﻃﻮال ﻫﺬه املﺪة؟ وﻗﺪ ﻗﺎل إراﺳﻤﻮس ُﺤﺠﻢ ﻋﻦ إﺻﺪار أﺣﻜﺎم إﻧﻪ ﻣﻦ املﻌﻘﻮل أن ﻳﻘﺘﻔﻲ اﻹﻧﺴﺎن أﺛﺮ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴني اﻟﻘﺪﻣﺎء وﻳ ِ ﺑﺨﺼﻮص ﻫﺬه اﻟﻘﻀﻴﺔ ،إﻻ أن ﻫﺬا املﻮﻗﻒ اﻟﺬي اﻛﺘﻨﻔﻪ اﻟﻐﻤﻮض أﺛﺎر ﻏﻀﺐ ﻟﻮﺛﺮ ﻓﺤﺬﱠر إراﺳﻤﻮس ﻣﻦ أن ُروح ُ اﻟﻘﺪ ُِس ﻟﻴﺲ ﺷﻜﻮﻛﻴٍّﺎ وأﻧﻪ ﻟﻦ ﻳﺮﴇ ﻋﻦ ﻫﺬا املﻮﻗﻒ اﻟﻀﻌﻴﻒ ﻳﻮم اﻟﻘﻴﺎﻣﺔ. ﴏ ﻟﻮﺛﺮ ﻋﲆ أن املﺴﻴﺤﻴني ﻻ ﻳُﻤﻜﻦ أن ﻳﻘﺒﻠﻮا اﻟﺮﻓﺎﻫﻴﺔ اﻟﻔﺎﺳﺪة ﻟﻠﺸﻜﻮﻛﻴﺔ ،ﻓﻜﺎن أَ َ ﱠ ً ﻣﻮﻗﻔﺎ ﻣﺤﺎﻳﺪًا ﺣﻴﺎل ذﻟﻚ ،وﰲ ذﻟﻚ ﻋﻠﻴﻬﻢ أن ﻳﻠﺘﺰﻣﻮا ﺑﻤﺴﺌﻮﻟﻴﺎت ﻣﺤﺪﱠدة وأﻻ ﻳﺘﱠﺨِ ﺬوا ﻳﻘﻮل» :ﻟﻴﺲ ﻫﻨﺎك ﳾء ﻳﻤﻴﺰ املﺴﻴﺤﻴني أﻛﺜﺮ ﻣﻦ اﻟﻴﻘني ،ﻓﺈذا ﻣﺎ أ َ َ ﺿﻌْ َﺖ اﻟﻴﻘني ﻓﺄﻧﺖ ﺗﻘﴤ ﻋﲆ املﺴﻴﺤﻴﺔ «.ورﻏﻢ ذﻟﻚ ﻓﺈن ﻣﻦ ﺳﺨﺮﻳﺔ اﻟﻘﺪر أن ﻧﺠﺪ ﻟﻮﺛﺮ ﻧﻔﺴﻪ واملﺼﻠﺤني اﻟﱪوﺗﺴﺘﺎﻧﺘﻴني ﻫﻢ ﻣﻦ أﻃﻠﻘﻮا ﺷﺒﺢ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ ﻣﻦ ﻋﻘﺎﻟﻪ أﻛﺜﺮ ﻣﻤﱠ ﻦ ﻋﺪاﻫﻢ؛ ﻷﻧﻬﻢ ﻫﻢ ﻣَ ْﻦ ﺗﺤﺪﱠوا اﻟﺴﻠﻄﺔ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ وﻋﺎرﺿﻮﻫﺎ ﺑﺸﺪة ﻃﺎرﺣني اﻟﺴﺆال اﻟﺘﺎﱄ» :أﻧﱠﻰ ﻟﻚ أن ﺗﻌﺮف؟«، 450
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
وﻫﻮ اﻟﺴﺆال اﻷﻛﺜﺮ اﺳﺘﺨﺪاﻣً ﺎ ﰲ ﻫﺬا اﻟﻌﴫ .ﻟﻘﺪ رﻓﺾ ﻟﻮﺛﺮ ﻓﻜﺮة أن ﺗﻜﻮن ﺳﻠﻄﺔ اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ ﻋﲆ ﺣﻖ داﺋﻤً ﺎ ﻓﻘﺎل» :إﻧﻨﻲ ﻻ أﺛﻖ ﰲ ﺳﻠﻄﺔ اﻟﺒﺎﺑﺎ أو ﻣﺠﺎﻟﺲ )اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ( اﻟﺘﻲ ﻻ ﻳﺪﻋﻤﻬﺎ أي دﻟﻴﻞ؛ ﻷن ﺣﺠﻢ أﺧﻄﺎﺋﻬﻢ وﺗﻨﺎﻗﻀﻬﻢ ﻣﻊ أﻧﻔﺴﻬﻢ ﻻ ﻳﺨﻔﻰ ﻋﲆ أﺣﺪ«. وإﻧﻤﺎ وﺛﻖ ﻟﻮﺛﺮ ﺑﺎﻟﻀﻤري اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ ﺑﻮﺻﻔﻪ ﺣﻜﻤً ﺎ ﰲ املﺴﺎﺋﻞ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﻓﻘﺎل إن املﺴﻴﺤﻲ املﺨﻠﺺ ﻳﺠﺐ أن ﻳﻨﻈﺮ ﰲ اﻟﻜﺘﺎب املﻘﺪس وﻳﻔﴪه ﰲ ﺿﻮء ﻣﺎ ﻳﻤﻠﻴﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﺿﻤريه وﺧﱪاﺗﻪ وﺗﺠﺎرﺑﻪ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﻟﻜﻲ ﻳ َِﺠ َﺪ ﻣﺎ ﻳﺆﻣﻦ ﺑﻪ ،ﻫﺬا ﻫﻮ ﺟﻮﻫﺮ اﻟﱪوﺗﺴﺘﺎﻧﺘﻴﺔ .وﻟﻜﻦ ً ﺳﺆاﻻ ﻻ ﻣﻔ ﱠﺮ ﻣﻨﻪ ،أﻻ وﻫﻮ :أي ﺿﻤري ﻳﺠﺐ أن ﻳُﺘﱠﺒَ َﻊ ﰲ ﻇﻞ ﻣﺎ ﺗﺤﺪي ﻟﻮﺛﺮ ﻟﻠﻜﻨﻴﺴﺔ أﺛﺎر ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻣﻦ اﺧﺘﻼﻓﺎت ﻋﻨﻴﻔﺔ؟ ﺑﻤﻦ ﺗَﺜ ُِﻖ إذا ﻛﻨﺖ ﻻ ﺗَﺜ ُِﻖ ﰲ اﻟﺒﺎﺑﺎ؟ وﴎﻋﺎن ﻣﺎ ﻗﻠﺐ املﺪاﻓﻌﻮن ﻋﻦ املﻌﺘﻘﺪات اﻟﻜﺎﺛﻮﻟﻴﻜﻴﺔ ﺳﺤﺮ ﻟﻮﺛﺮ ﻋﻠﻴﻪ ،ﻓﺈذا ﻛﺎن ﺑﺈﻣﻜﺎﻧﻪ أن ﻳﻄﺮح أﺳﺌﻠﺔ ﺣﻮل »اﻟﺴﻠﻄﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ دﻋﻢ ﻟﻬﺎ« ﻓﺈن ﺑﺈﻣﻜﺎﻧﻬﻢ أن ﻳﻔﻌﻠﻮا اﻟﴚء ذاﺗﻪ .وﻗﺪ ذﻫﺒﻮا أﻧﻪ ﻻ ﺿري أن ﺗﻬﺎﺟﻢ ﺳﻠﻄﺔ اﻟﺒﺎﺑﺎ وﻣﺠﻠﺴﻪ ورﺟﺎﻟﻪ ،وﻟﻜﻦ إذا ﻛﻨﺖ ﺗﻨﻮي ﻣﺨﺎﻟﻔﺔ اﻟﺘﻘﺎﻟﻴﺪ واﻷﻋﺮاف ﻓﻼ ﺑﺪ ﻣﻦ إﻳﺠﺎد ﺑﺪﻳﻞ ﻟﻬﺎ ،وﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﺒﺪﻳﻞ ﻓﺈﻧﻪ ﻟﻦ ﻳﺴﻠﻢ ﻣﻦ أﺳﺌﻠﺔ ﻣﻤﺎﺛﻠﺔ .ﻓﺈذا ﻛﺎن ﺣﻜﻢ اﻟﺒﺎﺑﺎ ﻳُﻤ ِﻜ ُﻦ اﻟﺘﺸﻜﻴﻚ ﻓﻴﻪ ﻓﺈن ﺣﻜﻤﻚ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺘﺸﻜﻴﻚ ﻓﻴﻪ ﺑﺎملﺜﻞ؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﺈن اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳني وﺟﺪوا أﻧﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳُﺆﺗﻲ اﻟﻬﺠﻮم ﻋﲆ اﻟﺴﻠﻄﺔ أ ُ ُﻛ َﻠﻪ ﻓﺈن ﻫﺬا اﻟﻬﺠﻮم ﻳﻤﻜﻦ اﺳﺘﻐﻼﻟُﻪ ﻟﺪﻋﻢ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ وﺗﺪﻋﻴﻤﻬﺎ .وﻣﻦ ﺧﻼل وﺿﻊ اﻟﻌﺮاﻗﻴﻞ ﰲ وﺟﻪ ﻟﻮﺛﺮ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻘﻮﻳﺾ ادﱢﻋﺎءات اﻟﺨﺎرﺟني ﻋﲆ اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ ﻟﺘﺌﻮب اﻷرواح اﻟﺘﻲ أﺻﺎﺑﺘﻬﺎ اﻟﺤرية إﱃ أﺣﻀﺎن اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ ﺣﻴﺚ ﺗﺸﻌﺮ ﺑﺎﻟﻴﻘني ،ﻓﺎﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺠﻌﻞ اﻟﻨﺎس »ﻳﺸﻌﺮون ﺑﺎﻟﻈﻼم اﻟﺬي ﻳﻌﻴﺸﻮن ﻓﻴﻪ ﻓﻴﻄﻠﺒﻮن اﻟﻌَ ﻮ َْن ﻣﻦ اﻟﺴﻤﺎء وﻳُﺬﻋِ ﻨﻮن ﻟﺴﻠﻄﺔ اﻹﻳﻤﺎن«. ﺑﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﺎل ﻟﻢ ﻳﺴﺘﺴﻠﻢ املﺼﻠﺤﻮن اﻟﱪوﺗﺴﺘﺎﻧﺘﻴﻮن ﺑﻬﺬه اﻟﺴﻬﻮﻟﺔ ،وﻛﺎن َرد ُﱡﻫﻢ أﻧﻪ ﺣﺘﻰ ﻟﻮ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻨﺎ ﺧﻴﺎر ِﺳﻮَى اﻹذﻋﺎن ﻟﻠﺴﻠﻄﺔ ﻓﻜﻴﻒ ﻟﻨﺎ أن ﻧﻌﺮف أن ﺳﻠﻄﺔ ﺪرك ﻣَ ْﻦ ﻫﻮ اﻟﺒﺎﺑﺎ اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ املﻌﺎﴏة ﻫﻲ اﻟﺴﻠﻄﺔ اﻟﺼﺤﻴﺤﺔ ﻟﻠﺨﻀﻮع ﻟﻬﺎ؟ وﻛﻴﻒ ﻟﻨﺎ أن ﻧ ُ ِ اﻷﺻﺢ؟ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻫﻨﺎك اﻟﻜﺜري ﻣﻦ ُﻣﺪﱠﻋِ ﻲ اﻟﺒﺎﺑﺎوﻳﺔ ﰲ املﺎﴈ ،ﺑﻞ إﻧﻪ ﰲ ﻋﺎم ١٤٠٩ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺛَﻤﱠ َﺔ أﻗﻞ ﻣﻦ ﺛﻼﺛﺔ ﻳﺴﻌَ ﻮْن ملﻨﺼﺐ اﻟﺒﺎﺑﺎ ﰲ وﻗﺖ واﺣﺪ .وﺑﻬﺬا ﻧ َ ِﺠ ُﺪ أن ﻛ َِﻼ اﻟﻔﺮﻳﻘني اﻟﱪوﺗﺴﺘﺎﻧﺘﻴني واﻟﻜﺎﺛﻮﻟﻴﻚ اﺳﺘﺨﺪﻣﻮا اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ ﺿﺪ ﺑﻌﻀﻬﻢ اﻟﺒﻌﺾ ،إﻻ أن ﻫﺬا اﻟﴫاع ﻟﻢ ﻳُﺴﻔِ ﺮ ﻋﻦ ﺣﻞ ،ﻓﺒﻤﺠﺮد أن ﺷﻚ ﻟﻮﺛﺮ ﰲ أﺳﺲ املﻌﺮﻓﺔ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺛﻤﺔ إﺟﺎﺑﺔ ﺑﺴﻴﻄﺔ ﻋﲆ اﻟﻠﻐﺰ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺤﻮﻳﻠﻬﺎ ﻟﺪﻋﻢ أيﱟ ﻣﻦ اﻟﻔﺮﻳﻘني. وﻟﻜﻦ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳني ﻛﺎن ﺑﻤﻘﺪورﻫﻢ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ أن ﻳﺰﻋﻤﻮا أﻧﻬﻢ ﻳﺴريون ﻋﲆ ُﺧ َ ﻄﻰ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴني اﻟﻘﺪﻣﺎء أﻛﺜﺮ ﻣﻦ اﻟﱪوﺗﺴﺘﺎﻧﺘﻴني ،ﻓﻘﺪ ﻗﺎل ﻛ ﱞﻞ ﻣﻦ ﺑريو وﺳﻴﻜﺴﺘﻮس إن 451
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
اﻹﻧﺴﺎن ﻳﺠﺐ أن ﻳﺴري و ً َﻓﻘﺎ ﻟﻠﻤﻌﺘﻘﺪات واﻷﻋﺮاف اﻟﺴﺎﺋﺪة ﰲ زﻣﺎﻧﻪ ،ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻧﻮا َ ﻳﺮﺿﻮْن ﺑﺎﻷﻓﻜﺎر املﺤﺎﻓﻈﺔ ﻋﲆ أﺳﺎس أﻧﻪ ﻻ ﺳﺒﻴﻞ إﱃ وُﺟُ ﻮ ِد ﺗﻐﻴري ﻣُﻘﻨ ٍِﻊ ﺗﻤﺎم اﻹﻗﻨﺎع ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻛﺎن ﰲ ﻣﺼﻠﺤﺔ اﻟﻜﺎﺛﻮﻟﻴﻚ ﰲ ﻣﻌﺮﻛﺘﻬﻢ اﻹﻳﻤﺎﻧﻴﺔ؛ إذ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺛﻤﺔ ﺷﻚ ﰲ أن اﻟﺒﺎﺑﺎ — ﺣﺘﻰ وإن ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻫﻮ اﻟﺒﺎﺑﺎ »اﻷﺻﺢ« — ﻫﻮ اﻟﺸﺨﺺ اﻟﺬي ﻳﺤﻈﻰ ﺑﺎﻹﺟﻤﺎع .وﻷن اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺮﴇ ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺎ ﺑﺎﻟﻮﺿﻊ اﻟﺤﺎﱄ؛ ﻛﺎن املﻔﻜﺮون اﻟﻜﺎﺛﻮﻟﻴﻜﻴﻮن ﻫﻢ أﻓﻀﻞ ﻣﻦ اﺳﺘﻐﻞ أﻓﻜﺎرﻫﺎ ﰲ اﻟﺤﺮوب اﻟﻼﻫﻮﺗﻴﺔ اﻟﺘﻲ اﻧﺪﻟﻌﺖ ﺧﻼل اﻟﻘﺮﻧني اﻟﺴﺎدس ﻋﴩ واﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ. وﴎى اﻟﺴﺆال اﻟﺬي ﻻ ﻣﻨﺎص ﻣﻨﻪ وﻻ إﺟﺎﺑﺔ ﻟﻪ» :أﻧﱠﻰ ﻟﻚ أن ﺗﻌﺮف؟« إﱃ ﺧﺎرج ﻣﺠﺎل اﻟﻼﻫﻮت دون ﺟﻮاب .وﻋﻨﺪﻣﺎ ﻧ ُ ِﴩ ْ َت أﻋﻤﺎل ﺳﻴﻜﺴﺘﻮس ﰲ ﺳﺘﻴﻨﻴﺎت اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎدس ﻋﴩ ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ اﻟﻼﺗﻴﻨﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺬﺧرية اﻟﻘﻮﻳﺔ ﻣﻦ اﻟﺤﺠﺞ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ املﺼﻤﻤﺔ ﻹﻇﻬﺎر ﻣﺎ ﰲ اﻟﻌﻘﻞ اﻟﺒﴩي ﻣﻦ ﺿﻌﻒ وﻋﺪم اﻟﺘﻌﻮﻳﻞ ﻋﲆ َ اﻟﻔﻬﻢ واﻹدراك إﱃ ﺟﺎﻧﺐ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﻨﺴﺒﻴﺔ ﻟﻠﻘﻴﻢ واﻷﻓﻜﺎر اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻗﺪ و ُِﺿﻌَ ْﺖ ﺗﺤﺖ ﺗﴫف اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ .وﺑﻌﺪ ذﻟﻚ اﻟﻌﻬﺪ ﺑﻘﻠﻴﻞ ﻟﻔﺘﺖ ﻣﻘﺎﻻت ﻣﻮﻧﺘني )اﻟﺘﻲ ُﻛ ِﺘﺒ َْﺖ ﺑﺎﻟﻔﺮﻧﺴﻴﺔ( ﻧﻈﺮ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﺠﻤﺎﻫري إﱃ ﻫﺬه اﻟﺤﺠﺞ ،ورﻛﺰ ﻋﻤﻞ ﻣﻮﻧﺘني ﻋﲆ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ املﺤﺪودة واملﻨﺤﺎزة ﻟﻠﺨﱪة اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ وﺟﻤﻴﻊ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﻼﻳﻘﻴﻨﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻧ َ َﺴ َﻔ ْﺖ ﺟﻤﻴﻊ املﺤﺎوﻻت اﻟﺴﺎﻋﻴﺔ ﻟﻠﻮﺻﻮل إﱃ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ .وﻗﺪ ﻛﺎن ﺑﻴﻜﻮن ودﻳﻜﺎرت ﻣﻦ ﻫﺆﻻء اﻟﺬﻳﻦ ﻗﺮءوا أﻋﻤﺎﻟﻪ وﻗ ﱠﺮروا ﺧﻮض اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ ﻣﻦ ﺧﻼل وﺿﻊ املﻌﺮﻓﺔ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ً رﺳﻮﺧﺎ. ﻋﲆ ﻗﺪم أﻛﺜﺮ درس ﻓﺮاﻧﺴﻴﺴﻜﻮ ﺳﺎﻧﺸﻴﺰ ) ،(١٦٢٣–١٥٥٢وﻫﻮ أﺣﺪ أﺑﻨﺎء ﻋﻤﻮﻣﺔ ﻣﻮﻧﺘني، اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ واﻟﻄﺐ ﰲ ﺟﺎﻣﻌﺔ ﺗﻮﻟﻮز ،وﻟﻌﺐ دو ًرا ﻛﺒريًا ﰲ ﺗﻘﺪﻳﻢ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ إﱃ ﻣﺠﺎل اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ .وﻋﻨﺪﻣﺎ ﻛﺎن ﻣﻮﻧﺘني ﻻ ﻳﺴﻌﻰ إﻻ إﱃ ﺗﻮﺿﻴﺢ أن اﻹﻧﺴﺎن ﻳﺠﺐ ﻋﻠﻴﻪ ﱠأﻻ ﻳُﺼﺪِر أﺣﻜﺎﻣً ﺎ ﻋﲆ ﺑﻌﺾ اﻷﻣﻮر وأن اﻟﻌﻘﻞ ﻳﺠﺐ أن ﻳﺴﺘﻨﺪ إﱃ اﻹﻳﻤﺎن ،ﻗﺪم ﻓﺮاﻧﺴﻴﺴﻜﻮ ﺳﺎﻧﺸﻴﺰ ً درﺳﺎ أﻛﺜﺮ إﻳﺠﺎﺑﻴﺔ وذا دﻻﻟﺔ أﻋﻈﻢ؛ ﻳﻬﺪف ﻣﻦ وراﺋﻪ إﱃ إﻇﻬﺎر أن ﻫﻨﺎك ﺣﺪودًا واﺿﺤﺔ ً ﻟﻠﻤﻌﺮﻓﺔ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ،وأن ﻃﺒﻴﻌﺔ ﻫﺬه اﻟﺤﺪود ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺘﻄﻠﺐ ﺗﻐﻴريًا ﺷﺎﻣﻼ ﰲ ﻣﻨﻈﻮر اﻟﻌﻠﻢ. وﻗﺪ ﻗﺎل ﻓﺮاﻧﺴﻴﺴﻜﻮ ﺳﺎﻧﺸﻴﺰ ﰲ رﺳﺎﻟﺘﻪ »ملﺎذا ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻣﻌﺮﻓﺔ أي ﳾء؟« ﻋﺎم ١٥٨١ إن أﻓﻀﻞ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺪرك ﺑﻬﺎ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ﺗﻜﻮن ﻣﻦ ﺧﻼل إﺻﺪار ادﱢﻋﺎءات اﻋﺘﻤﺎدًا ﻋﲆ املﻼﺣﻈﺔ واﻟﺘﺠﺮﻳﺐ .وﻗﺪ ﺳﻤﱠ ﻰ ﻫﺬا املﻨﻬﺞ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻲ اﻟﺬي ﻳﻘﻮم ﻋﲆ ﱢ ﺗﻮﺧﻲ اﻟﺤﺬر ﺑﺎﺳﻢ »املﻨﻬﺞ اﻟﻌﻠﻤﻲ« ،وﻫﻮ اﻻﺳﺘﺨﺪام اﻷوﱠل ﻟﻬﺬا املﺼﻄﻠﺢ اﻟﺬي أﺻﺒﺢ ﺷﺎﺋﻌً ﺎ ﻫﺬه اﻷﻳﺎم .وأﺷﺎر إﱃ أن اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺠﻮﻫﺮﻳﺔ ﻟﻸﺷﻴﺎء ﻟﻢ ﺗ ُﻜﻦ ﻣﺘﺎﺣﺔ إﻻ ﻟﻠ ﱠﺮبﱢ وﻟﻢ 452
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
َ ﺣﺪﻳﺚ اﻟﺴﺎﻋﺔ ﰲ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ اﻟﻌﻠﻤﻲ ﰲ ﻣﺨﺘﻠﻒ ﺗ ُﻜﻦ ﻣﺘﺎﺣﺔ ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻷرﺳﻄﻮ اﻟﺬي ﻛﺎن وﻗﺘﺌ ٍﺬ اﻟﺠﺎﻣﻌﺎت. وإذا ﻛﺎﻧﺖ ﺷﻜﻮﻛﻴﺔ ﺳﺎﻧﺸﻴﺰ ﺗﻌﻨﻲ أن املﻌﺮﻓﺔ اﻟﺘﺎﻣﺔ اﻟﻜﺎﻣﻠﺔ َ ﻟﻴﺴ ْﺖ ﺑﺎﻷﻣﺮ املﺘﺎح ً ﻣﴩﻗﺎ ﻛﺬﻟﻚ ،ﻓﺎﻟﻔﻜﺮة اﻟﻘﺎﺋﻠﺔ إن اﻟﺪراﺳﺎت اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﻣﻦ ﺷﺄﻧﻬﺎ ﻟﻺﻧﺴﺎن؛ ﻓﺈن ﻟﻬﺎ وﺟﻬً ﺎ أن ﺗُﻘﺪﱢم ﺗﻔﺴريًا ﻣﺆﻗﺘًﺎ ﻟﻸﺷﻴﺎء ﻳﺴﺎﻋﺪ ﻋﲆ ﻓﻬﻢ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻌﺎدﻳﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺘﻨﺎﺳﺐ ﻣﻊ املﺬﻫﺐ اﻟﻌﻤﲇ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻲ ﺗﺠﺎه اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ،واﻟﺬي اﻣﺘﺪﺣﻪ ﺑﻌﺾ ﻋﻠﻤﺎء ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ واﺗﺒﻌﻪ ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ وآﺧﺮون ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ .وﻗﺪ ﻗﺪﱠم ﻣﺼﻄﻠﺢ »املﻨﻬﺞ اﻟﻌﻠﻤﻲ« ذا اﻟﺼﺒﻐﺔ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ ﻳَ َﺪ اﻟﻌﻮن ﻟﻠﻌﻠﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﺑﻄﺮﻳﻘﺘني :أوﻻﻫﻤﺎ أن اﻟﺤﺠﺞ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ أداة ﺟﻴﺪة ﰲ ﺗﻔﻨﻴﺪ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ وإﻓﺴﺎح املﺠﺎل ﻟﻸﻓﻜﺎر اﻟﺠﺪﻳﺪة ﺣﻴﺚ ﻗﺎم ﺳﺎﻧﺸﻴﺰ ﻧﻔﺴﻪ ﺑﺸﻦ ﻫﺠﻮم ﺑﺸﻜﻞ ﺣﺎ ﱟد ﻋﲆ ﻣﺬﻫﺐ أرﺳﻄﻮ وﻣﺴﺎﺋﻞ اﻟﺴﺤﺮ واﻟﺘﻨﺠﻴﻢ ،واﻷﺧﺮى أن اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ ﺑﺪت ٍ ﻣﺎ ﺗُﺴﺎﻧِﺪ اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ )اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺴﻤﻰ ﰲ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ »اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة«( ﻋﻨﺪ ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ .وﻟﻜﻲ ﻧﻌﺮف ﻛﻴﻒ ﺣﺪث ذﻟﻚ ﻋﻠﻴﻨﺎ ً أوﻻ أن ﻧﻨﻈﺮ ﺑﻌني ﺛﺎﻗﺒﺔ إﱃ اﻟﺼﻮرة اﻟﺘﻲ رﺳﻤﻬﺎ ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ وﻫﻲ ﺻﻮرة اﻟﻌﺎﻟﻢ املﻌﺎﴏ. ﰲ أﻳﺎﻣﻨﺎ ﻫﺬه ﻧَﺘَﺬَ ﱠﻛ ُﺮ ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ داﺋﻤً ﺎ ﺑﻤﺎ ﻗﺎﻟﻪ ﻣﻦ ﺑﺪع ﻓﻠﻜﻴﺔ أدﺧﻠﺘﻪ ﰲ ﴏاﻋﺎت ﻣﻊ ﻣﺤﺎﻛﻢ اﻟﺘﻔﺘﻴﺶ ،وﺑﺎﻟﺘﺤﺪﻳﺪ اﻋﺘﻨﺎﻗﻪ ﻵراء ﻛﻮﺑﺮﻧﻴﻜﻮس اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮل ﺑﺪوران اﻷرض ﺣﻮل اﻟﺸﻤﺲ ،واﻋﺘﻘﺎده ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺨﺎﻟﻒ املﺬﻫﺐ اﻷرﺳﻄﻲ ﰲ أن اﻟﺴﻤﺎء ﺗﺨﻀﻊ ﻟﻠﻘﻮاﻧني اﻟﻔﻴﺰﻳﺎﺋﻴﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ اﻟﺘﻲ ﺗﺨﻀﻊ ﻟﻬﺎ اﻷرض ،وﻫﻲ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ اﻟﺼﺎدﻣﺔ اﻟﺘﻲ أ ﱠﻛﺪﻫﺎ ﻣﻨﻈﺎر ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ ﱢ املﻜﱪ ﱢ املﺘﺤﻔﻈني ﻳﺮﻓﻀﻮن ﻋﲆ املﻸ اﻟﻨ ﱠ َ ﻈﺮ ﰲ ﻫﺬه اﻵﻟﺔ اﻟﺸﻴﻄﺎﻧﻴﺔ .وﻟﻜﻦ واﻟﺘﻲ ﺟﻌﻠﺖ ﺑﻌﺾ ﺛَﻤﱠ َﺔ ﺷﻴﺌًﺎ آﺧﺮ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﺎت ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ ﻛﺎن ﺳﺒﺒًﺎ ﻣﻬﻤٍّ ﺎ ﰲ إداﻧﺘﻪ ،وﻫﻮ دﻋﻤﻪ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺬﱠ ﱢرﻳﱠﺔ ﻟﺪى دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ وأﺑﻴﻘﻮر وﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮل إن اﻟﻜﻮن ﻛﻠﻪ ﻳﻤﻜﻦ َﻓﻬﻤُﻪ ﰲ إﻃﺎر اﻟﺘﻔﺎﻋﻼت املﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻴﺔ اﻟﺤﺎدﺛﺔ ﺑني اﻟﺠﺰﻳﺌﺎت اﻟﺼﻐرية ،وﻫﺬه اﻟﺬﱠ ﱠرات ﻛﺎن ﻳُﻌْ ﺘَ َﻘ ُﺪ أن ﻟﻬﺎ ﺧﺼﺎﺋﺺ ﻳﻤﻜﻦ ُ ﻗﻴﺎﺳﻬﺎ ﻣﺜﻞ اﻟﺤﺠﻢ واملﻮﺿﻊ واﻟﻮزن ،وﻟﻜﻦ ﻟﻴﺲ ﻟﻬﺎ أيﱞ ﻣﻦ اﻟﺨﺼﺎﺋﺺ اﻟﺤﺴﻴﺔ أو »اﻟﺜﺎﻧﻮﻳﺔ« ﻣﺜﻞ اﻟﻠﻮن أو اﻟﻨﺴﻴﺞ أو املﺬاق؛ إذ ﻳﺮى دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ وﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ أن ﻫﺬه اﻟﺼﻔﺎت اﻟﺜﺎﻧﻮﻳﺔ ذاﺗﻴﺔ وﻟﻴﺴﺖ إﻻ ﺗﺄﺛري اﻟﺬﱠ ﱠرات ﻋﲆ أﻋﻀﺎء اﻟﺤﺲ ﻟﺪﻳﻨﺎ .وﺑﻬﺬا ﻓﺈن »اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ« ﻛﺎن ﻣﻦ ﺷﺄﻧﻬﺎ اﻻﻫﺘﻤﺎم ﺑﺎﻟﺠﻮاﻧﺐ املﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻴﺔ واﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ. وﻛﺎن ﻣﻦ رواد ﻫﺬا املﺠﺎل ﻛ ﱞﻞ ﻣﻦ ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ ودﻳﻜﺎرت وﺑﻮﻳﻞ ،وﻛﺬﻟﻚ ﻧﻴﻮﺗﻦ اﻟﺬي ﺳﺎﻋﺪ املﻌﺮﰲ ﺑﺸﻜﻞ أو ﺑﺂﺧﺮ. ﻋﲆ ﺗﻄﻮﻳﺮ ﻫﺬا اﻟﻔﺮع ِ 453
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
ﺑَﻴْ َﺪ أن ﻫﺬا ﻟﻢ ﻳَ ْﻠ َﻖ رﺿﺎ اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ وﻗﺒﻮﻟﻬﺎ ،ﻓﺎﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺬﱠ ﱢرﻳﱠﺔ ﺗﻨﺒﺖ ﰲ أرض ﻳﺤﻴﻂ ﺑﻬﺎ اﻟﺸﻚ ﻣﻦ ﻛﻞ ﺟﺎﻧﺐ ،ﻓﻠﻢ ﻳﻌﱰف دﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ﻛﺜريًا ﺑﺎﻟ ﱠﺮبﱢ اﻟﺬي ﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻟﻪ ﻣﻜﺎن ﺑﺎملﺮة ﰲ ﻋﺎﻟﻢ ﻟﻮﻛﺮﻳﺘﻴﻮس ،ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ اﺷﺘﻬﺎر أﺑﻴﻘﻮر ﺑﻔﺠﻮره واﻧﺤﺮاﻓﻪ ،أﺿﻒ إﱃ ذﻟﻚ ﻣﺎ ﻗﺎﻟﻪ رﺟﺎل اﻟﻼﻫﻮت ﻣﻦ أن اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺬﱠ ﱢرﻳﱠﺔ ﻟﻠﻤﺎدة ﻻ ﺗﺘﻤﺎﳽ ﻣﻊ ﻋﻘﻴﺪة اﻟﻘﺮﺑﺎن املﻘﺪس ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺑﺎﻷﻣﺮ اﻟﻬني. وﺗﻘﻮل ﻫﺬه اﻟﻌﻘﻴﺪة إﻧﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳُﻘﺪﱠس اﻟﺨﺒﺰ واﻟﺨﻤﺮ ﻋﲆ ﻳﺪ اﻟﻘﺲ ﰲ اﻟﻄﻘﻮس املﻨﺎﺳﺒﺔ اﻟﺼﺤﻴﺤﺔ ﻓﺈﻧﻬﻤﺎ »ﻳﺘﻐريان« وﻳﺄﺧﺬان املﺎدة اﻟﺘﻲ ُﺧﻠ َِﻖ ﻣﻨﻬﺎ ﺟﺴﺪ املﺴﻴﺢ و َدﻣُﻪ، ورﻏﻢ أﻧﻬﻤﺎ ﻳﺤﺘﻔﻈﺎن ﺑﻤﻈﻬﺮ اﻟﺨﺒﺰ واﻟﺨﻤﺮ )وذﻟﻚ ً ﻣﺜﻼ ﻣﻦ ﺧﻼل اﻻﺣﺘﻔﺎظ ﺑﻨﺴﻴﺞ ﻫﺬه اﻷﺷﻴﺎء وﻟﻮﻧﻬﺎ وﻣﺬاﻗﻬﺎ وﻫﻲ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ ﺳﻤﱠ ﺎﻫﺎ اﻟﺬﱠ ﱢرﻳﱡﻮن اﻟﺨﺼﺎﺋﺺ اﻟﺬاﺗﻴﺔ »اﻟﺜﺎﻧﻮﻳﺔ«( ﻓﻴُﻌْ ﺘَ َﻘ ُﺪ أﻧﻬﻤﺎ اﻓﺘﻘﺪا اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻟﻠﺨﺒﺰ واﻟﺨﻤﺮ؛ أي إﻧﻬﻤﺎ ﻟﻢ ﻳﻌﻮدَا ﺧﺒ ًﺰا وﺧﻤ ًﺮا ً ﻣﺴﺘﺤﻴﻼ ،ﻓﻬﻢ ﻳﺮون ﻣﻦ وﺟﻬﺔ ﻧﻈﺮﻫﻢ ﺑﺄي ﺣﺎل ﻣﻦ اﻷﺣﻮال ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺮاه اﻟﺬﱠ ﱢرﻳﱡﻮن أﻣ ًﺮا أن ﻣﻈﻬﺮ اﻟﴚء املﺎدي ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻓﺼﻠﻪ ﻋﻦ ﺟﻮﻫﺮه ﺑﻬﺬه اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ،ﻓﺎملﺎدة اﻟﺘﻲ ُ ﺻ ِﻨ َﻊ ﻣﻨﻬﺎ اﻟﺨﺒﺰ — أي ﻃﺒﻴﻌﺘﻪ اﻷﺻﻠﻴﺔ — ﺗﺘﻮﻗﻒ ﻋﲆ ﻧﻮع اﻟﺬﱠ ﱠرات اﻟﺪاﺧﻠﺔ ﰲ ﺗﺮﻛﻴﺒﻬﺎ وﻃﺮﻳﻘﺔ ﺗﻨﻈﻴﻤﻬﺎ ،وﻣﻈﻬﺮﻫﺎ ﻫﻮ ﺑﺒﺴﺎﻃﺔ اﻧﻌﻜﺎس ﺗﺄﺛري ﻫﺬه املﻮا ﱢد ﻋﲆ ﺣﻮاﺳﻨﺎ ،إذن ﻛﻴﻒ ﻟﻠﺨﺒﺰ ﱠ أن ﻳﻐري املﺎدة اﻟﺘﻲ ُ ﻳﺘﻐري ﻇﺎﻫﺮه؟ ﻓﺈذا ﻛﺎن اﻟﺨﺒﺰ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﻳﺤﺘﻮي ﺻ ِﻨ َﻊ ﻣﻨﻬﺎ دون أن ﻋﲆ ذَ ﱠرات ﻣﻦ ﺟﺴﺪ املﺴﻴﺢ ﻓﻴﺠﺐ أن ﺗﺄﺧﺬ ﺷﻜﻞ ﺟﺴﺪ املﺴﻴﺢ ،وإذا ﻛﺎن ﻟﻪ ﺷﻜﻞ اﻟﺨﺒﺰ — وﻫﻮ اﻷﻣﺮ اﻟﻮاﻗﻊ ً ﻟﺴﺒﺐ إﻻ أﻧﻪ ﻳﺘﻜﻮﱠن ﻣﻦ ﺟﺰﻳﺌﺎت اﻟﺨﺒﺰ .وﺑﺬﻟﻚ ﻓﻌﻼ — ﻓﻠﻴﺲ ذﻟﻚ ٍ اﻧﺘﻬﻰ ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻼﻫﻮت إﱃ أﻧﻪ ً وﻓﻘﺎ ﻟﻨﻈﺮﻳﺎت ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ »ﻓﺈن ﺛَﻤﱠ َﺔ أﺟﺰاء ﺟﻮﻫﺮﻳﺔ ﻣﻦ اﻟﺨﺒﺰ أو اﻟﺨﻤﺮ ﰲ اﻟﻘﺮﺑﺎن املﻘﺪس وﻫﻮ اﻟﺨﻄﺄ اﻟﺬي أداﻧﻪ املﺠﻠﺲ املﻘﺪس ،اﻟﺠﻠﺴﺔ ،١٣اﻟﻘﺎﻧﻮن .«٢ وﻟﻢ ﻳ ُﻜﻦ ﻟﻔﻴﺰﻳﺎء ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ اﻟﺬﱠ ﱢرﻳﱠﺔ آﺛﺎر ﻻﻫﻮﺗﻴﺔ ﺳﻴﺌﺔ ﻓﺤﺴﺐ ،ﺑﻞ إﻧﻬﺎ رﻓﻀﺖ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ً اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ ً ﺷﺎﻣﻼ .وﻗﺪ ورﺛﺖ اﻟﻌﻠﻮم ﰲ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ﻧﻤﻮذﺟً ﺎ ﻋﻀﻮﻳٍّﺎ رﻓﻀﺎ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ رﺑﻤﺎ ﻟﻮﻟﻊ أرﺳﻄﻮ ﺑﺎﻷﺣﻴﺎء ،ﻓﺄرﺳﻄﻮ ﻛﺎن ﻳﺮى اﻟﺠﺰء ﻣﻦ ﻣﻨﻈﻮر اﻟﻜﻞ وﻳﺮى اﻟﻜﻞ ﻛﻤﺎ ﻟﻮ ﻛﺎن ﻳﻤﺜﻞ ﻛﺎﺋﻨًﺎ ﺣﻴٍّﺎ ،وﺣﺘﻰ ﺳﻠﻮك اﻷﺟﺴﺎم ﻏري اﻟﺤﻴﺔ ﻛﺎن ﻳﺼﻮره أرﺳﻄﻮ ﻛﻤﺎ ﻟﻮ ﻛﺎن ﺳﻠﻮك ﻣﺨﻠﻮﻗﺎت ﺣﻴﺔ ،ﻓﻌﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل رﻏﻢ أن أرﺳﻄﻮ ﻟﻢ ﻳﻌﺘﻘِ ﺪ أن اﻟﺤﺠﺮ اﻟﺴﺎﻗﻂ »ﻳﺮﻳﺪ« اﻟﻮﺻﻮل إﱃ اﻷرض ﻋﻨﺪ اﻧﺪﻓﺎﻋِ ﻪ ﻧﺤﻮﻫﺎ ،ﻓﻘﺪ وﺻﻒ ﻫﺬه اﻟﺤﺮﻛﺔ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ أوﺑﺔ اﻟﺤﺠﺮ إﱃ »ﻣﻜﺎﻧﻪ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ« أو إﱃ ﺑﻴﺘﻪ ،ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻛﻤﺎ ﻟﻮ ﻛﺎن أرﻧﺒًﺎ ﻳﺮﺟﻊ إﱃ ﺟﺤﺮه .وﻗﺪ ْ اﺳﺘُﺒْ ِﺪ َل ﺑﻬﺬه اﻟﺘﻔﺴريات اﻟﺘﻲ ﺗﺸﺒﻪ ﻋﻠﻢ اﻷﺣﻴﺎء ﺗﻔﺴريات ﻣﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻴﺔ ﺧﺎﻟﺼﺔ؛ وﻣﻦ ﺛﻢ 454
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
وﺻﻒ ﺑﻮﻳﻞ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻋﲆ أﻧﻪ »إﻧﺴﺎن آﱄ ﻛﺒري« وﺷﺒﱠﻬﻪ ﺑﺎﻟﺴﺎﻋﺔ اﻟﻀﺨﻤﺔ ﺳريًا ﻋﲆ ُﺧﻄﻰ ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ واﻟﺬﱠ ﱢرﻳﱢني اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴني. وﻟﻜﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻻ ﻳﺒﺪو ﻋﲆ اﻟﺴﻄﺢ ﻛﻤﺎ ﻟﻮ ﻛﺎن ﺳﺎﻋﺔ ،ﻓﺎﻷﺟﺰاء اﻟﺪاﺧﻠﺔ ﰲ ﺗﻜﻮﻳﻦ ﻫﺬه اﻵﻟﺔ — وﻧﻌﻨﻲ ﺑﻬﺎ اﻟﺠﺰﻳﺌﺎت أو اﻟﺬﱠ ﱠرات اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺤ ﱠﻞ اﻫﺘﻤﺎم ﻋﻠﻢ ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ — ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻣﻼﺣﻈﺘﻬﺎ ﻣﺒﺎﴍة ﻷن ﺣﺠﻤﻬﺎ ﺻﻐري ﺟﺪٍّا ﻟﺪرﺟﺔ ﻳﺴﺘﺤﻴﻞ ﻣﻌﻬﺎ رؤﻳﺘﻬﺎ .وﻗﺪ ﻛﺎن ﻋﻠﻢ ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ ﻳﺘﻌﺎﻣﻞ ﻣﻊ املﺎدة ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﺠ ﱠﺮدة ورﻳﺎﺿﻴﺔ ﺑﺪت ﺑﻌﻴﺪة ﻛﻞ اﻟﺒﻌﺪ ﻋﻦ َ ﻳﺘﺠﺎﻫﻞ ﺑﻌﺾ ﻣﺎ ﺗﺮاه ﻋﻴﻮﻧﻨﺎ أو اﻟﻔﻄﺮة واﻟﺴﻠﻴﻘﺔ؛ وﺑﺬﻟﻚ ﻓﻘﺪ اﺧﺘﺎر ﻋﻠﻢ ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ أن ﺗﺴﻤﻌﻪ آذاﻧﻨﺎ ﻋﻦ اﻷﺷﻴﺎء املﻮﺟﻮدة ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻨﺎ اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺤﺎﻛﻲ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ إﱃ ﺣَ ﱟﺪ ﻛﺒري .ﻛﺎن اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﻮن اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﻮن ﻳﴫون ﻋﲆ أن اﻹدراك اﻟﺤﴘ ﰲ اﻹﻧﺴﺎن أﻣﺮ ذاﺗﻲ ﱡ ﻻ ﻳُﻌَ ﱠﻮ ُل ﻋﻠﻴﻪ ،وﻫﻮ ﻣﺎ َ ﺣﻮاﺳﻨﺎ ﻟﻴﺲ ﺻﺪ َﱠق اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺬﱠ ﱢري اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﲆ ﺻﺤﺘﻪ ،ﻓﻤﺎ ﺗﺪرﻛﻪ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﻜﺎﻣﻠﺔ ﻋﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ؛ وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈن اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺬﱠ ﱢرﻳﱠﺔ ﻟﺪى ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ اﺳﺘﺒﺪﻟﺖ ﺑﻔﻜﺮة ً ﻓﺎرﻗﺎ آﺧﺮ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ اﻟﻔﺎرق اﻟﻜﺒري ﺑني اﻟﺴﻤﺎء واﻷرض اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗُﻤَ ﻴﱢ ُﺰ اﻟﻌﻠﻢ اﻷرﺳﻄﻲ ﻳﺨﺘﻠﻒ ﺗﻤﺎم اﻻﺧﺘﻼف ﻋﻦ ﺳﺎﺑﻘﻪ ﺣﻴﺚ ﻳﻔﺼﻞ ﺑني اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻴﻮﻣﻲ ذي اﻷﻟﻮان واملﺬاﻗﺎت واﻟﺮواﺋﺢ وﺑني اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻬﻨﺪﳼ اﻟﺬي ﻳﺘﻜﻮن ﻣﻦ ﺟﺰﻳﺌﺎت ﻻ ﻳﻤﻜﻦ رؤﻳﺘﻬﺎ واﻟﺬي ﻳﺠﺐ ﻋﲆ اﻟﺒﺎﺣﺜني اﻟﺠﺎدﱢﻳﻦ ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻻﻫﺘﻤﺎم ﺑﻪ. ﻛﺎن ﺗﻔﺴري اﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻊ ﺑﻬﺎ ﺗﻠﻚ اﻟﺼﻮرة ا ُملﺤَ ﱠﺪﺛ َ َﺔ ﻟﻠﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺬﱠ ﱢرﻳﱠﺔ اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ ﰲ ﻗﻠﺐ »املﻨﻬﺞ اﻟﻌﻠﻤﻲ« اﻟﻌﻤﲇ ﻫﻮ اﻟﻌﻤﻞ اﻟﺮﺋﻴﺲ ﻟﺒﻴري ﺟﺎﺳﻨﺪي ) ،(١٦٥٥–١٥٢٩وﻫﻮ أﺳﺘﺎذ ﻓﺮﻧﴘ ﰲ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ وﺑﺎﺣﺚ ﻧﺸﻂ ﰲ ﻣﺠﺎل اﻟﻔﻠﻚ واﻟﺘﴩﻳﺢ وﻓﻴﺰﻳﺎء ً اﻟﺤﺮﻛﺔ .ﻛﺎن ﺑﻴري ﺟﺎﺳﻴﻨﺪي ﻛﺬﻟﻚ ٍّ ﻣﺠﺎﻻ ﻗﺴﺎ ﻛﺎﺛﻮﻟﻴﻜﻴٍّﺎ ﻣﻬﻤﺘﻪ اﻟﺮﺋﻴﺴﺔ ﻫﻲ أن ﻳُﻔﺴﺢ ﻟﻠﺮب وﻟﻸرواح اﻟﺨﺎﻟﺪة ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ املﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻲ ﰲ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺬﱠ ﱢرﻳﱠﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ،ﻓﻘﺪ ﺣﺎول أن ﴫ أرﺳﻄﻮ .وﻟﻢ ﻳﺤﻘﻖ ﺑﻴري ﴫ أﺑﻴﻘﻮر ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻛﻤﺎ ﺣﺎول ﺗﻮﻣﺎس اﻷﻛﻮﻳﻨﻲ أن ﻳُﻨ َ ﱢ َ ﻳُﻨ َ ﱢ َ ﺟﺎﺳﻴﻨﺪي اﻟﺸﻬﺮة اﻟﺘﻲ ﱠ ﺣﻘﻘﻬﺎ ﺗﻮﻣﺎس اﻷﻛﻮﻳﻨﻲ ﻧﻈ ًﺮا ﻟﻠ ﱡ ﻄﻮل املﺒﺎﻟﻎ ﻓﻴﻪ ﰲ أﻋﻤﺎﻟﻪ ،وﻟﻜﻦ ﺑﻔﻀﻞ ﺑﻴري ﺟﺎﺳﻴﻨﺪي ﺗﺒﺪﱠد ﺷﻚ اﻹﻟﺤﺎد اﻟﺬي ﻛﺎن ﻣ ً ُﻠﻘﻰ ﻋﲆ »اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ املﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻴﺔ« ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ ﺣﺘﻰ ﻗ ِﺒﻠﻬﺎ ﻛﻞ رﺟﺎل اﻟﻌﻠﻢ آﻧﺬاك .وﻗﺪ ﻛﺎن ﺑﻴري ﺟﺎﺳﻴﻨﺪي وﺻﺪﻳﻘﻪ ﻣﺎرﻳﻦ ﻣريﺳني ) — (١٦٤٨–١٥٨٨اﻟﺬي ﻛﺎن ً أﻳﻀﺎ ٍّ ﻗﺴﺎ — اﻷﺑﺮز ﻣﻦ ﺑني ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ ﻋﻠﻤﺎء اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت واملﻔ ﱢﻜﺮﻳﻦ اﻟﻄﻠﻴﻌﻴني ﺗﻀﻢ ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ وﻛﺒﻠﺮ ودﻳﻜﺎرت وﻫﻮﺑﺰ ،اﻟﺬﻳﻦ ﻗﺎﻣﻮا ﺑﺘﻄﻮﻳﺮ أﻓﻜﺎر اﻟﻌﻠﻮم املﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻴﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ وﴍﺣﻬﺎ. 455
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
وو ً َﻓﻘﺎ ﻟﻠﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺬﱠ ﱢرﻳﱠﺔ املﻌﺪﱠﻟﺔ ﻟﺪى ﺑﻴري ﺟﺎﺳﻴﻨﺪي ﻓﺈن اﻟﺬﱠ ﱠرات اﻟﺘﻲ ﻳﺘﻜﻮﱠن ﻣﻨﻬﺎ ٌ وﻓﺎﻧﻴﺔ وﻫﻲ ﻣﻦ ﺧﻠﻖ اﻟﺮب ،وﻟﻴﺴﺖ ﻋﺸﻮاﺋﻴﺔ اﻟﺤﺮﻛﺔ ﺑﺸﻜﻞ ﺗﺎ ﱟم ﻛﻤﺎ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻏري ﺧﺎﻟﺪة زﻋﻢ أﺑﻴﻘﻮر ودﻳﻤﻮﻗﺮﻳﻄﺲ ،ﺑﻞ إن اﻟﺮب ﻫﻮ ﻣﻦ اﺑﺘﺪأ ﺣﺮﻛﺘﻬﺎ وﻳﻘﻮم ﺑﺘﻮﺟﻴﻬﻬﺎ ﰲ ﺑﻌﺾ اﻷﺣﻴﺎن .وﻳﻤﻜﻦ ﺗﻔﺴري ﺟﻤﻴﻊ اﻷﺷﻴﺎء املﺎدﻳﺔ ﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﺬﱠ ﱠرات اﻟﺘﻲ ﻳُﺤَ ﱢﺮ ُﻛﻬَ ﺎ اﻟﺮب ،وﺣﺘﻰ اﻟﺘﻔﻜري اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ ﻧﻔﺴﻪ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻔﺴريه ً أﻳﻀﺎ ﰲ ﺿﻮء اﻟﺘﺸﻮ َﱡﻫﺎت املﺎدﻳﺔ اﻟﺤﺎدﺛﺔ ﰲ ﻣﺎدة املﺦ ،أو ﻫﻜﺬا زﻋﻢ ﺑﻴري ﺟﺎﺳﻴﻨﺪي .وﻟﻜﻦ ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﱃ اﻟﻌﺎﻟﻢ املﺎدي ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﺛﻤﺔ ﻋﺎﻟﻢ روﺣﻲ ﻳﻀﻢ اﻟﺮب واﻷرواح اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ اﻟﺨﺎﻟﺪة؛ وﺑﺬﻟﻚ ﻓﺈن ﺑﻴري ﺟﺎﺳﻴﻨﺪي ﻗﺪ ﻧﻘﺢ ﺻﻮرة اﻟﻜﻮن اﻟﺘﻲ رﺳﻤﻬﺎ أﺑﻴﻘﻮر ﻟﻜﻲ ﺗﺘﻮاءم ﺑﺸﻜﻞ أﻛﱪ ﻣﻊ أﻓﻜﺎر اﻟﻜﺘﺎب املﻘﺪس .وﻗﺪ ﺷﻜﻠﺖ ﻫﺬه اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺬﱠ ﱢرﻳﱠﺔ املﺴﻴﺤﻴﺔ اﻹﻃﺎر اﻟﺬي ﺗﺒﻨﱠﺎه ﻛ ﱞﻞ ﻣﻦ ﻧﻴﻮﺗﻦ وﺑﻮﻳﻞ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪُ. وﻟﻢ ﻳﺄﺧﺬ ﺟﺎﺳﻴﻨﺪي ﻣﻦ أﺑﻴﻘﻮر آراءه اﻟﻔﻴﺰﻳﺎﺋﻴﺔ ﻓﺤﺴﺐ ،ﺑﻞ إﻧﻪ ﺗﺒﻨﱠﻰ ﻓﻜﺮﺗﻪ اﻟﻘﺎﺋﻠﺔ إن ﺳﻜﻴﻨﺔ اﻟﺮوح ﻫﻲ اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ املﺜﺎﻟﻴﺔ ،ﻛﻤﺎ ﺣﺎول أن ﻳﺼﺒﻐﻬﺎ ﺑﺼﺒﻐﺔ ﻣﺴﻴﺤﻴﺔ) ،وﻳﺒﺪو أن ﻫﻮﺑﺰ اﻟﺬي ﺗﺄﺛﱠﺮ ﺑﺒﻴري ﺟﺎﺳﻴﻨﺪي ﻛﺜريًا ﻗﺪ اﺳﺘﻤﺪ اﻷﻫﻤﻴﺔ اﻟﻜﱪى اﻟﺘﻲ أَو َْﻻﻫﺎ ﻟﻠﺴﻼم ﻣﻦ أﻓﻜﺎر ﺑﻴري ﺟﺎﺳﻴﻨﺪي اﻷﺑﻴﻘﻮرﻳﺔ( .وﻗﺪ ﻗﺎم ﺑﻴري ﺟﺎﺳﻴﻨﺪي ﺑﻤﺤﺎﻛﺎة اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴﺔ ﻟﺪى أﺑﻴﻘﻮر ﺣﻴﺚ ﻳﻘﻮل» :إن اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ ﻫﻲ املﻴﺰان اﻟﺬي ﺗُﻘﺎس ﺑﻪ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻷﺷﻴﺎء «.ورأى ُﻮﱄ َ اﻫﺘﻤﺎﻣً ﺎ ﻛﺒريًا ﺑﺎملﻼﺣﻈﺔ ﻻ ﺑﺎﻟﻨﻮاﺣﻲ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ،وﻗﺪ أﺑﲆ أن اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﻳﺠﺐ أن ﻳ ِ ﻋﻠﻢ ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺼﺪد ﺑﻼءً أﻓﻀﻞ ﺑﻜﺜري ﻣﻦ ﺑﻼءِ أﺳﻼﻓﻪ اﻷرﺳﻄﻴني .وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﺑﻴري ﺟﺎﺳﻴﻨﺪي ﻳﺆ ِﻣﻦ أن ﻣﺠﺎل املﻌﺮﻓﺔ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻣﺤﺪود ﻟﻠﻐﺎﻳﺔ ،ﻓﺎملﻼﺣﻈﺔ واﻟﺘﺠﺮﺑﺔ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗَ ُﻤﺪﱠاﻧَﺎ ﺑﻜﻞ املﻌﻠﻮﻣﺎت اﻟﺼﺤﻴﺤﺔ ﻋﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ املﺎدي ،وﻟﻜﻦ اﻷﻣﺮ ﻟﻴﺲ ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل ﺗﻤﺎﻣً ﺎ؛ ﻓﻤﺎ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ اﻟﻌﻠﻢ أن ﻳﻤﺪﻧﺎ ﺑﻪ ﻫﻮ ﺑﻌﺾ املﻌﺮﻓﺔ املﺆﻗﺘﺔ ﻋﻦ اﻟﻈﻮاﻫﺮ اﻟﺴﻄﺤﻴﺔ وﻟﻴﺲ ﻋﻦ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻷﺷﻴﺎء وﺟﻮاﻫﺮﻫﺎ ،وﰲ ذﻟﻚ ﻳﻘﻮل» :ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺄﻛﻴﺪ أﻳﺔ آراء ﺗﺆﻛﺪ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻷﺷﻴﺎء ﺑﺎﻻﻋﺘﻤﺎد ﻋﲆ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻓﺤﺴﺐ«. وﻗﺪ ﻋَ ُ ﻈ َﻢ أﻣﺮ ﺷﻜﻮﻛﻴﺔ ﺑريو ﻋﲆ ﺑﻴري ﺟﺎﺳﻴﻨﺪي وﻣريﺳني وﻟﻢ ﻳَﺪ ِْر أيﱞ ﻣﻨﻬﻤﺎ ﻛﻴﻒ ﻳﺠﻴﺐ ﻋﲆ ﻗﻀﺎﻳﺎﻫﺎ ﻣﺒﺎﴍة .وﻋﲆ اﻟﺠﺎﻧﺐ اﻵﺧﺮ ﻛﺎﻧﺎ ﻣﻘﺘﻨﻌني ﺑﺼﺤﺔ ﻋﻠﻢ ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ ،ﻓﻼ ﺷﻚ أﻧﻬﻤﺎ رأﻳﺎﻫﺎ »ﻣﻨﻬﺠً ﺎ ﻋﻠﻤﻴٍّﺎ« ﰲ اﻟﺘﻨﺒﺆ ﺑﺎﻟﻈﻮاﻫﺮ وﻣﻌﺎﻟﺠﺘﻬﺎ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﻓﻘﺪ اﻋﺘﻨﻘﺎ ﻣﺎ ﱠ ﻣﺨﻔ ًﻔﺎ أو ﺑَﻨﱠﺎءً ﻣﻦ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ ﺗُﻌَ ﺎﻣَ ُﻞ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ ً وﻓﻘﺎ ﻟﻪ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﻧﻮع ﻣﻦ ﺳﻤﱠ ﻴﺎه ﻧﻮﻋً ﺎ اﻻﻓﱰاض أو اﻟﻨﻤﻮذج اﻟﺬي ﻳﺆﺗﻲ أﻛﻠﻪ .وﺑﻬﺬا ﻛﺎن اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ أدا ًة ﻣﻔﻴﺪة ﺑﻞ أﻓﻀﻞ اﻷدوات املﺘﻄﻮرة اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺴﺘﻌني ﺑﻬﺎ اﻟﺒﺎﺣﺜﻮن اﻟﻌﻤﻠﻴﻮن ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ﻟﻢ ﺗَﺘَﻌَ ﱠﺪ ذﻟﻚ اﻟﺤﺪ ﺑﺎﻟﴬورة .وﺑﺴﺒﺐ ﺿﻌﻒ اﻟﻌﻘﻞ اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ اﻟﺬي َ ﻛﺸﻔﻪ اﻟﺒﺤﺚ اﻟﺠﺎ ﱡد 456
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
ﻟﺪى اﻟﺸﻜﻮﻛﻴني ﻟﻢ ﻳَﻌُ ْﺪ ﻫﻨﺎك ﻣَ ْﻦ ﻳﺪرك ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﻴﻘني ﻣﺎ إذا ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺬﱠ ﱢرﻳﱠﺔ املﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻴﺔ ﺻﺤﻴﺤﺔ أم ﻻ ﺳﻮى اﻟﺮب. ﻣﻌﺎر َك ﻣﻊ اﻷﺳﺌﻠﺔ اﻟﺘﻲ وﻗﺪ ﺧﺎض ﺟﻤﻴﻊ املﻔﻜﺮﻳﻦ اﻟﻜﺒﺎر ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ ِ أﺛﺎرﻫﺎ اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻣﺜﻞ :ﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺤﻠﻴﻞ اﻟﻨﺸﺎط اﻟﻌﻘﲇ ﰲ إﻃﺎر ﺟﺰﻳﺌﺎت املﺎدة؟ وﻣﺎ ﻫﻮ ﻣﻜﺎن اﻹﻧﺴﺎن واﻟﺮب ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ املﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻲ؟ وﻣﺎ ﻧﻮع املﻌﻠﻮﻣﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻤﺪﻧﺎ ﺑﻬﺎ اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء واﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت؟ وإذا ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺬﱠ ﱢرﻳﱠﺔ ﺻﺤﻴﺤﺔ ﰲ ﻗﻮﻟﻬﺎ إن اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﱢ ﺣﻮاﺳﻨﺎ؟ إدراﻛﺎﺗﻨﺎ اﻟﺤِ ﱢﺴﻴﱠﺔ ذاﺗﻲ ﻓﻤﺎ ﻫﻮ ﺣﺠﻢ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ اﺳﺘﻨﺘﺎﺟﻬﺎ ﻣﻦ ﺧﻼل وﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻺﻧﺴﺎن أن ﻳﻤﻨﻊ املﺬﻫﺐ اﻟﺤﺬِر اﻟﺬي ﻳﺘﻤﻴﱠﺰ ﺑﺎﺗﺒﺎﻋﻪ »ﻣﻨﻬﺠً ﺎ ﻋﻠﻤﻴٍّﺎ« ﻣﻦ اﻟﺮﺳﻮب إﱃ ﻗﺎع اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ املﺘﻄ ﱢﺮﻓﺔ؟ ﻟﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬه اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ ﻫﻲ اﻟﻮﻗﻮد اﻟﺬي أﺷﻌﻞ ﻧﺎر اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻣﻨﺬ ذﻟﻚ اﻟﺤني ،ﻓﺎﺧﺘﻠﻔﺖ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ املﻌﺎﴏة ﻋﻦ ﻧﻈريﺗﻬﺎ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﰲ اﻫﺘﻤﺎﻣﻬﺎ ﺑﺎﻟﻘﻀﺎﻳﺎ اﻟﺘﻲ ﻳﺜريﻫﺎ اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ. ﻛﺎن ﺗﻮﻣﺎس ﻫﻮﺑﺰ ) (١٦٧٩–١٥٨٨ﻫﻮ أول ﻣَ ْﻦ ﺳﻌﻰ إﱃ وﺿﻊ ﻧﻈﺮﻳﺔ ﺷﺎﻣﻠﺔ ﻋﻦ اﻹﻧﺴﺎن واﻟﻜﻮن ﰲ ﺿﻮء اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ ،وﺣﺪﺛﺖ ﻟﻪ ﺻﺤﻮة ﻣﻔﺎﺟﺌﺔ ﰲ أواﺋﻞ اﻷرﺑﻌﻴﻨﻴﺎت ﻣﻦ ﻋﻤﺮه اﻧﺘﻘﻞ ﻋﲆ إﺛﺮﻫﺎ ﻣﻦ دراﺳﺔ اﻷدب إﱃ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت واﻟﻔﻴﺰﻳﺎء وﻣﻨﻬﺎ إﱃ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ٍّ ﺧﺎﺻﺎ ﻓﺎﻧﻀﻢ إﱃ ﺻﺎﺣﺐ ﻋﻤﻠﻪ ﺣﺎﻛﻢ ﻧﻴﻮﻛﺎﺳﻞ ﰲ ُﻮﱄ اﻟﻬﻨﺪﺳﺔ اﻫﺘﻤﺎﻣً ﺎ اﻟﻌﺎﻣﺔ .وﺑﺪأ ﻳ ِ إﺟﺮاء ﺗﺠﺎرب ﰲ ﻣﺠﺎل اﻟﺒﴫﻳﺎت ،ﻛﻤﺎ ﻗﺎم ﺑﺮﺣﻠﺔ ﻃﻮﻳﻠﺔ ﻣﻦ أﺟﻞ زﻳﺎرة ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ .وﻟﺴﻮء اﻟﺤﻆ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺑﺮاﻋﺘُﻪ ﰲ اﻟﻌﻠﻮم ﻋﲆ ﻗﺪر ﺣﻤﺎﺳﻪ ،ﻓﻠﻢ ﻳَ ُﻜ ﱠ ﻒ ﻋﻦ إﺟﺮاء ﻣﺤﺎوﻻت ﻣﻦ أﺟﻞ ﺗﺮﺑﻴﻊ اﻟﺪاﺋﺮة ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﺣﺘﻰ وإن ﱠ ﺗﺒني ﻟﻪ اﺳﺘﺤﺎﻟﺔ ذﻟﻚ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻟﻬﻨﺪﺳﻴﺔ. وﻟﻜﻨﻪ ﺗﺮك ﺑﺼﻤﺘﻪ ﺑﻤﺤﺎوﻟﺔ ﺗﻄﺒﻴﻖ املﻨﻬﺞ املﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻲ واﻟﺮﻳﺎﴈ اﻟﺨﺎص ﺑﺎﻟﻄﺒﻴﻌﺔ واﻟﺬي ﺗﻌﻠﻤﻪ ﻣﻦ ﻛﺒﻠﺮ وﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ ﻋﲆ اﻹﻧﺴﺎن .وﻛﻤﺎ رأﻳﻨﺎ ﻣﻦ ﻗﺒ ُﻞ ﻓﺈن ﻫﻮﺑﺰ ﺻﺎغ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺜﻮرﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮل إن اﻟﺘﻔﻜري ﻫﻮ ﻧﻮع ﻣﻦ أﻧﻮاع اﻟﺤﺴﺎب؛ أي إﻧﻪ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﻣﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻴﺔ ﻣﺜﻞ ﺗﻠﻚ اﻟﻌﻤﻠﻴﺎت اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﻋﻠﻤﺎء اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻳﺤﺎوﻟﻮن وﺻﻔﻬﺎ ﰲ اﻟﻈﺎﻫﺮة اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ .وﻫﻜﺬا اﻋﺘﻨﻖ ﻫﻮﺑﺰ اﻟﺮؤﻳﺔ املﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻴﺔ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ وﻋﻤﱠ ﻤﻬﺎ ﺑﻜﻞ ﺷﻮق ووﻟﻊ ﺣﺘﻰ أُدِ ﻳﻨ َ ْﺖ ﻓﻠﺴﻔﺘﻪ ﺑﺸﺪة ﺑﺎدﱢﻋﺎء أﻧﻬﺎ ﺗﺒﺘﻌﺪ ﻋﻦ اﻟﺪﻳﻦ وﺗﻌﺎﻟﻴﻤﻪ اﺑﺘﻌﺎدًا ﺷﺪﻳﺪًا ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﺣَ ﺪَا ﺑﺒﻌﺾ اﻷﺳﺎﻗﻔﺔ إﱃ اﻋﺘﺒﺎر آراﺋﻪ أﺣﺪ أﺳﺒﺎب اﻟﺤﺮﻳﻖ اﻟﻌﻈﻴﻢ ﰲ ﻟﻨﺪن ﻋﺎم .١٦٦٦ وﰲ اﻟﻜﺘﺎﺑﺎت اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗُ َﺨ ﱢﻠ ُﺪ اﺳﻤﻪ ﺣﺘﻰ ﻫﺬه اﻷﻳﺎم ،ﻻ ﺳﻴﻤﺎ ﻛﺘﺎﺑﻪ »اﻟﻠﻮﻳﺎﺛﺎن« ) ،(١٦٥١ﻗﺪم ﻫﻮﺑﺰ ﻧﻈﺮة ﻟﻠﻤﺠﺘﻤﻊ ﻻ ﻳﻠﻬﻤﻬﺎ اﻟﻌﻠﻢ املﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻲ ﻓﺤﺴﺐ ،ﺑﻞ ﺗﺤﺪي اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ وﻣﻨﺎﻫﻀﺘﻬﺎ ،ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺤﺎﻛﻲ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ املﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻴﺔ ﰲ أﻧﻬﺎ َﻗﺪﱠﻣﺖ ﻋﻠﻢ اﻟﻨﻔﺲ 457
ﺣﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ
اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ ﻋﲆ أﻧﻪ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﺮﻏﺒﺎت وﻣﺸﺎﻋﺮ اﻟﻜﺮاﻫﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺪﻓﻊ اﻹﻧﺴﺎن وﺗُﻮَﺟﱢ ﻬُ ﻪ. وﻗﺪ ﺳﻌﺖ ﻫﺬه اﻟﺮؤﻳﺔ إﱃ إرﺿﺎء اﻟﺸﻜﻮﻛﻴني ﺑﺘﻘﺪﻳﻢ ﻣﺒﺎدئ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﻳﻤﻜﻦ ﺣﺘﻰ ملﻦ ﻳﺸﻚ ﰲ اﻛﺘﺸﺎف اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ أن ﻳﺘﺒﻨﱠﺎﻫﺎ وﻳﻌﻴﺶ ً وﻓﻘﺎ ﻟﻬﺎ .ﻳﺮى ﻫﻮﺑﺰ أن اﻟﺪاﻓﻊ اﻷﺳﺎﳼ ﻟﻠﻨﺸﺎط اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ ﻫﻮ ﺣﻔﻆ اﻟﻨﻔﺲ ،وﺑﻤﺎ أﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﻣﻦ املﻤﻜﻦ أن ﻳﺤﻔﻆ ﻛﻞ إﻧﺴﺎن ﻧﻔﺴﻪ ﰲ ﻣﻌﺰل ﻷن ﻫﺬا ﺳﻴﺠﻌﻞ اﻟﺤﻴﺎة ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل ﻫﻮﺑﺰ» :ﻓﻘرية وﻗﺎﺳﻴﺔ وﻗﺼرية «.ﻓﺈن اﻹﻧﺴﺎن ﻳﺴﻌﻰ إﱃ اﻟﻌﻴﺶ ﰲ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت ﻣﻊ أﻗﺮاﻧﻪ ﻣﻦ اﻟﺒﴩ ،وﻫﺬا ﻣﺎ ﻳُﻌَ ﱢﺮ ُ ﺿ ُﻪ إﱃ ﻣﺨﺎﻃﺮ اﻟﺼﺪام اﻟﻨﺎﺟﻢ ﻋﻦ ﻣﺤﺎوﻟﺔ اﻵﺧﺮﻳﻦ ﺣﻤﺎﻳﺔ أﻧﻔﺴﻬﻢ واﻟﺘﻲ ﻗﺪ ﺗﺘﻌﺎرض ﻣﻊ ﻣﺤﺎوﻻﺗﻪ ﻫﻮ ﻧﻔﺴﻪ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺸﺄن؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺮى أن ﻣﺼﻠﺤﺔ اﻟﺠﻤﻴﻊ ﺗﻘﺘﴤ اﻟﺨﻀﻮع ﻟﺴﻠﻄﺎن ﻣَ ﻠِﻚٍ ﻗﻮي ﺗﻜﻔﻞ ﻳﺠﺐ ﻋﲆ اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ ﻛﺬﻟﻚ ﻗﻮﺗﻪ املﻄﻠﻘﺔ ﺣﻤﺎﻳﺔ ﻛﻞ إﻧﺴﺎن ﻣﻦ أذَى ﺟﺎره .وﻗﺎل ﻫﻮﺑﺰ إﻧﻪ ِ أن ﺗﺘﻠﻘﻰ ﺗﻌﺎﻟﻴﻤﻬﺎ ﻣﻦ املﻠﻚ اﻟﺬي ﻳﻤﻠﻚ ﻣﻦ اﻟﻘﺪرة ﻣﺎ ﻳُﻤَ ﱢﻜﻨ ُ ُﻪ ﻣﻦ ﺣﻞ املﺸﻜﻼت واﻟﻨﺰاﻋﺎت اﻟﻼﻫﻮﺗﻴﺔ ﻣﻦ ﺧﻼل إﺻﺪار ﻣﺮﺳﻮم ﻣﻠﻜﻲ ،وﺑﺬﻟﻚ ﻳﺤﺪد ﻣﺎ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻟﻠﻨﺎس أن ﻳﺆﻣﻨﻮا ﺑﻪ. وﻗﺪ رأى ﻫﻮﺑﺰ ً أﻳﻀﺎ أن اﻟﺮب ذاﺗﻪ ﻋﺒﺎرة ﻋﻦ ﻛِﻴﺎن ﻣﺎدي ﻛﺄي ﳾء آﺧﺮ وإن اﻋﱰف ﻫﻮﺑﺰ رﻏﻢ ذﻟﻚ أﻧﻪ ﻏري ﻣﺮﺋﻲ .ﻛﻤﺎ أ َ َﻗ ﱠﺮ ﻫﻮﺑﺰ أن اﻟﺮب ﻧﻔﺴﻪ ﻛﺎن ﻛﺎﺋﻨﺎ ﻣﺎدﻳٍّﺎ ﻛﺴﺎﺋﺮ اﻷﺷﻴﺎء اﻷﺧﺮى رﻏﻢ أن ﻫﻮﺑﺰ ﻧﻔﺴﻪ أذﻋﻦ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ إﱃ أن اﻟﺮب ﻛﺎن ﻏري ﻣﺮﺋﻲ .وﻻ ﻋﺠﺐ ﻣﻦ أن ﻳﺼﺪع اﻷﺳﺎﻗﻔﺔ ﺑﺬﻟﻚ. ﱠ ﺗﻮﺻﻞ إﻟﻴﻪ ﻣﻦ ﻧﺘﺎﺋﺞ ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ وﻻﻫﻮﺗﻴﺔ ﻏري ﻣﻌﺘﺎدة إﻧﻤﺎ ﻫﻲ ﻟﻘﺪ ﻗﺎل ﻫﻮﺑﺰ إن ﻣﺎ ﻧﺘﺎﺋﺞ ﺣﺘﻤﻴﺔ »ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة« اﻟﺘﻲ ﻧﺸﺄت ﻋﲆ ﻳَ ِﺪ ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ .وﻟﻢ ﻳﺪرك ﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻌﻠﻢ ﻳﻜﻮن ﻣﻮﺿﻮﻋﻪ اﻹﻧﺴﺎن أن ﻳﺘﻄﻮر ﻋﲆ ﳾء آﺧﺮ ﻏري املﺒﺎدئ املﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻴﺔ ﱡ اﻟﺼﻠﺒﺔ ﻛﺘﻠﻚ اﻟﺘﻲ ﺗﻮﺟﺪ ﰲ ﻋﻠﻢ اﻟﺤﺮﻛﺔ .ﻟﻘﺪ أراد أن ﺗﺨﻀﻊ اﻟﺪوﻟﺔ ﻟﻨﻈﺎم ﺣﻜﻢ رﻳﺎﴈ ﺗﻜﻮن ﻓﻴﻪ اﻟﺪﻳﻜﺘﺎﺗﻮرﻳﺔ املﻄﻠﻘﺔ ﻫﻲ اﻟﻀﺎﻣﻦ اﻷﺳﺎﳼ ﻟﻠﺘﻮزﻳﻊ اﻟﺼﺤﻴﺢ ﻟﻠﻮاﺟﺒﺎت واﻷدوار. ﻛﻤﺎ ﺗُﻮ ﱢَﻓ ُﺮ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﺑﻌﺾ اﻟﺤﻠﻮل ﻟﺒﻌﺾ اﻷﻣﻮر ﻏري املﺆ ﱠﻛﺪة اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺄ ُﻛﻞ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ املﻌﺎﴏة وﺗﴩب إذا ﻟﻢ ﺗﻌُ ﺪ ﻫﻨﺎك ﺣﺎﺟﺔ ﻟﻺﺟﺎﺑﺔ ﻋﲆ اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ املﺴﺎﺋﻞ اﻟﺼﻌﺒﺔ ﻣﻦ ﺧﻼل ﺗﻘﺪﻳﻤﻬﺎ إﱃ املﻠﻚ ﻟﻠﺒ ﱢَﺖ ﻓﻴﻬﺎ ﺑﺈﺻﺪار ﻣﺮﺳﻮم ﻳ ُِﻨﻬﻲ اﻟﺨﻼف ﺣﻮﻟﻬﺎ. وﺛﻤﺔ ﺟﻮاﻧﺐ أﺧﺮى ذات أﻫﻤﻴﺔ أﻛﱪ ﰲ ﻓﻠﺴﻔﺔ ﻫﻮﺑﺰ ،ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻫﻮﺑﺰ ﺣﻠﻘﺔ ﰲ ﺳﻠﺴﻠﺔ »اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴني« اﻟﱪﻳﻄﺎﻧﻴني اﻟﺘﻲ ﺗﺒﺪأ ﺑﻮﻳﻠﻴﺎم اﻷوﻛﺎﻣﻲ ﻣﺮو ًرا ﺑﻠﻮك وﻫﻴﻮم وراﺳﻞ إﱃ ﻳﻮﻣﻨﺎ ﻫﺬا ،وﻟﻜﻦ ﻃﻤﻮح ﻫﻮﺑﺰ اﻟﺮﺋﻴﺲ ﻛﺎن ﺗﻘﺪﻳﻢ ﻓﻠﺴﻔﺔ ﻋﺎﻣﺔ ﺗﺤ َ ﻈﻰ ﺑﺎﻟﻘﺒﻮل ﻋﲆ ﻣﺴﺘﻮًى واﺳﻊ وﺗﺘﺴﻖ ﻣﻊ اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻓﺸﻞ ﰲ ﺗﺤﻘﻴﻘﻪ. وﻟﻜﻦ رﻳﻨﻴﻪ دﻳﻜﺎرت ) (١٦٥٠–١٥٩٦ﻛﺎن أﻛﺜﺮ ﻣﻨﻪ ﻧﺠﺎﺣً ﺎ ،ﻓﺈﺟﺎﺑﺎﺗﻪ ﻋﲆ اﻷﺳﺌﻠﺔ اﻟﺘﻲ أﺛﺎرﺗﻬﺎ ﺻﻮرة اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺠﺪﻳﺪة ﺻﺎدﻓﺖ َﻗ ً ﻟﺤني ﻣﻦ ﺒﻮﻻ ﻟﺪى أﺑﻨﺎء ﻋﴫه ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ٍ 458
ﻗﻠﻌﺔ اﻟﻮرع :ﻣﻦ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻋﴫ اﻟﻨﻬﻀﺔ
اﻟﺪﻫﺮ ،ﻛﻤﺎ ﻛﺎن دﻳﻜﺎرت أﻋﻈﻢ ﺷﺄﻧًﺎ ﻣﻦ ﻫﻮﺑﺰ ﺑني املﻔﻜﺮﻳﻦ؛ ﻷن دﻳﻜﺎرت — اﻟﺬي ﻛﺎن ﺑﻌﻴﺪًا ﻛﻞ اﻟﺒﻌﺪ ﻋﻦ ﻛﻮﻧﻪ ﻫﺎوﻳًﺎ ﻏﺮﻳﺐ اﻷﻃﻮار ﻣﺜﻞ ﻫﻮﺑﺰ — ﻛﺎن ﻋﺎ ًملﺎ رﻳﺎﺿﻴٍّﺎ ورﺟﻞ ﺑﻤﻜﺎن وﺿﻌُ ﻪ ﰲ املﺮﺗﺒﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﺑﻌﺪ ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ ،ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﻛﺎن ﻣﺘﻤﺴ ًﻜﺎ ﻋﻠﻢ ﻛﺎن ﻣﻦ اﻷﻫﻤﻴﺔ ٍ ﺑﺪﻳﻨﻪ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻫﻮﺑﺰ وأدار أذﻧًﺎ ﺻﻤﺎء ﻟﻸﻣﻮر اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ املﺸﺘﻌﻠﺔ ﺣﻴﻨﺬاك. ﻟﻘﺪ اﺳﺘﺸﻌﺮ دﻳﻜﺎرت أﻫﻤﻴﺔ اﻟﺴﺆال اﻟﺬي ﻃﺮﺣﻪ ﻣﻮﻧﺘني واﻟﺬي ﻳﻘﻮل :إذا ﻛﺎن اﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻵراء اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻏري ﺻﺤﻴﺢ ﻓﻜﻴﻒ ﻟﻨﺎ أن ﻧﺘﺄﻛﺪ ﺑﺪورﻧﺎ ﻣﻦ ﺻﺤﺔ اﻵراء اﻟﺠﺪﻳﺪة؟ واﻋﺘﻘﺪ دﻳﻜﺎرت ﻣﺜﻞ ﻓﺮاﻧﺴﻴﺲ ﺑﻴﻜﻮن ﻣﻦ ﻗﺒ ُﻞ ﴐور َة اﻟﻘﻴﺎم ﺑﻔﺤﺺ ﺷﺎﻣﻞ ملﺒﺎدئ اﻟﺘﺤﻘﻖ واﻻﺳﺘﻘﺼﺎء اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻟﻴﺘﺄﻛﺪ ﻣﻦ ﺻﺤﺔ ﻃﺮق اﻟﺘﻔﻜري اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ .وﻗﺪ ﻛﺎن إﺳﻬﺎم ﺑﻴﻜﻮن اﻟﺮﺋﻴﺲ — ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻘﻮاﻋﺪ اﻟﺘﻲ أرﺳﺎﻫﺎ ﻟﺠﻤﻊ اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴﺔ وﻓﺤﺼﻬﺎ وﻣﻘﺎرﻧﺘﻬﺎ — ﻳﺘﻤﻴﺰ ﺑﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﺼﺤﺔ وﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳ َُﻘ ﱢﺪ ْم ﻣﺎ ﻓﻴﻪ اﻟﻜﻔﺎﻳﺔ ،ﻓﻤﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ ﻟﻢ ﻳﻌﺎﻟﺞ ﻗﻀﻴﺔ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ املﺘﻄ ﱢﺮﻓﺔ ،ﻓﻜﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻺﻧﺴﺎن أن ﻳﺪاﻓﻊ ﻋﻦ اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ أو ﻋﻦ أي ﳾء آﺧﺮ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق ﰲ وﺟﻪ ﻧﺎﻗﺪ ﻳ َُﺸ ﱢﻜ ُﻚ ﰲ ﻛﻞ ﳾء؟ ﻓﻘﺪ اﻋﺘﻘﺪ دﻳﻜﺎرت أﻧﻪ إذا اﺳﺘﻄﻌﻨﺎ أن ﻧ َ ِﺠ َﺪ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﻧُﺮﴈ ﺑﻬﺎ ﻫﺬا اﻟﺨﺼﻢ ﻳﻤﻜﻦ ﺣﻴﻨﺌ ٍﺬ ﺗﺄﺳﻴﺲ اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ ً ُﺮاود ﻋﲆ أرﺿﻴﺔ ﺛﺎﺑﺘﺔ راﺳﺨﺔ .ﻟﻘﺪ ﻛﺎن ﻧﻈﺎم ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ ﻫﻴﻜﻼ راﺋﻌً ﺎ و ِﺑﻨَﺎءً ﺟﺬاﺑًﺎ ﺣﺘﻰ ﻟﻢ ﻳ ِ دﻳﻜﺎرت أي ﺷﻚ ﰲ ﺻﺤﺘﻪ وﻟﻜﻨﻪ ارﺗﺄى أن » ِﺑﻨَﺎءَ )ﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ( ﻳﻨﻘﺼﻪ اﻷﺳﺎس« ِ وأﻣﻞ أن ﻳﻨﺸﺊ ﻫﻮ أﺳﺎس ﻫﺬا اﻟ ِﺒﻨَﺎءِ. وﻗﺪ ﻛﺘﺐ ﺑﻴﻜﻮن ذات ﻣﺮة أن »املﺮء إذا ﻣﺎ ﺑﺪأ ﺑﺎﻟﻴﻘﻴﻨﻴﺎت ﻓﺴﻴﻨﺘﻬﻲ إﱃ اﻟﺸﻚ، ً ﺳﺒﻴﻼ ﻟﺘﺤﻘﻴﻖ ﻫﺬه وﻟﻜﻨﻪ إذا رﴈ أن ﻳﺒﺪأ ﺑﺎﻟﺸﻚ ﻓﺴﻴﻨﺘﻬﻲ إﱃ اﻟﻴﻘني «.ورﺳﻢ دﻳﻜﺎرت املﻘﻮﻟﺔ — أو ﻫﻜﺬا ﻇﻦ — ﻓﻘﺪ ﺣﺎول ﻣﻦ ﺧﻼل ﻣﻮاﺟﻬﺔ أﻛﺜﺮ أﻧﻮاع اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ ﺗﻄﺮﻓﺎً وﻛﺬﻟﻚ اﺳﺘﻐﻼل ﺑﻌﺾ اﻟﺠﻮاﻧﺐ اﻟﺠﻴﺪة ﻓﻴﻬﺎ ﺗﺸﻴﻴﺪ ِﺑﻨَﺎءِ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﰲ اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻟﻸﺑﺪ. وﻗﺪ ﺣﺎول ﻛﺬﻟﻚ أن ﻳﺒني أن اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻻ ﻳﺘﻌﺎرض ﻣﻊ اﻟﺪﻳﻦ وﻻ ﻳﺼﻄﺪم ﺑﻪ ،ﺑﻞ ﻋﲆ اﻟﻌﻜﺲ ﻳﻌﺘﻤﺪ اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﰲ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻷﻣﺮ ﻋﲆ اﻟﺪﻳﻦ .وﺗﻠﺘَﺤِ ﻢ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﺎت دﻳﻜﺎرت اﻟﻔﺎﺗﻨﺔ ﻋﻨﺎﴏ اﻟﻔﻠﺴﻔﺘني اﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺘني وﻫﻤﺎ ﺷﻜﻮﻛﻴﺔ ﺑريو وﻣﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻴﺔ أﺑﻴﻘﻮر ﻟﺘﻘﺪﻳﻢ ﺗﻮﺿﻴﺢ ﺟﺪﻳﺪ ﻟﻠﺼﻮرة اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ .وﺑﻬﺬا اﺳﺘﻌﺎد اﻟﻔﻜﺮ اﻟﻐﺮﺑﻲ ﻗﻮﺗﻪ وﻋﺎﻓﻴﺘﻪ اﻟﺘﻲ ﻓﻘﺪﻫﺎ ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻋﻨﺪﻣﺎ آوَت اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ إﱃ أﺣﻀﺎن اﻟﺘﻘﻮى واﻟﻮرع.
459