Towards a Critical* Regionalism: Six Points for an Architecture of Resistance KENNETH FRAMPTON
نحو عمارة حساسة لإلقليم: ست نقاط لعمارة مقاومة كينيث فرامتون
ترجمة :م .جنى أحمد
* إن كلمة criticalتعني الحساسة-الحرجة-النقدية؛ ويُقصد بها عدة معاني ،أحدها التصميم الناقد لسلبيات العمارة الحديثة مما يؤدي إلى خلق عمارة أكثر حساسية وارتباطا ً باإلقليم. ب
تقدم اإلنسان لكنها بذات الوقت تش ّكل نوعا ً من على الرغم من أن ظاهرة العالمية هي دلي ُل ِ الدمار الخفي ،ليس فقط للثقافات التقليدية التي يمكن استدراك الخطأ فيها ،بل أيضا ً تلك الثقافات التي سوف أسميها اآلن نواة إبداع الثقافات العظيمة ،تلك النواة التي على أساسها نفسّر الحياة؛ والتي سأدعوها النواة األخالقية واألسطورية للجنس البشري .من هنا يبدأ الصراع صنعت الحضارات بإحساسنا أن حضارة العالم الواحد تستنزف وتن ِهك الموارد الثقافية التي َ ِ العظيمة في الماضي ،إذ يبرز هذا التهديد أمام أعيننا من ضمن آثار مقلقة أخرى ،ويعبّر عن حضارة عاديّة دون المستوى وهي تماثل بسخافتها ما دعوته لتّوي حضارة ً بمستوى ابتدائي. يجد المرء في كل مكان في هذا العالم نفس الفيلم الرديء ونفس اآلالت النقدية ونفس فظاعات البالستيك واأللمنيوم ونفس التحريف اللغوي في اإلعالم ،الخ .يبدو وكأن البشرية توقفت عند مستوى ما دون الثقافة باقترابها كلها من ثقافة االستهالك .هكذا نصل إلى المشكلة األساسية تواجه الدول النامية في محاولة صعودها إلى عتبة التطور والحداثة ،فهل من الضروري التي ِ التخلص من الحضارة القديمة التي كانت سببا ً في وجود األمة؟ ...هنا تكمن المفارقة :من جهة ،على الدول أن تجعل حضارتها متجذرة في ماضيها وتصيغ روحا ً وطنية وتعيد إثبات روحانيتها وثقافتها أمام شخصية المستعمر ،ومن جهة أخرى ،وكشرط للمشاركة في الحضارة الحديثة ،عليها المشاركة أيضا ً في العقالنية على الصعيد العلمي والتقني والسياسي ،وهو أمر يتطلب في كثير من األحيان التخلي التام عن الماضي بر ّمته .في الحقيقة ال تستطيع أية ثقاف ٍة أن تحتمل وتستوعب صدمة الحداثة .المعضلة هي :كيف نكون حداثيين ونعود إلى المصادر؛ وكيف نحيي حضارة ً قديمة من سباتها مع المشاركة في الحضارة العالمية.م بول ريكور ،التاريخ والحقيقة
1
-1الثقافة والحضارة
البناء الحديث اآلن مشرو ٌ ط عالميا ً بالتكنولوجيا المثلى لدرجة أن احتمالية خلق شكل حضري مميزا ً بات محدودا ً للغاية ،فالضوابط التي يفرضها توزع وسائل النقل ولعبة تقلب أسعار األراضي تحدّ من مجال التصميم الحضري بحيث يقتصر التدخل فقط على التالعب بالعناصر التي حددتها شروط اإلنتاج ،أو اإلخفاء السطحي الذي يتطلبه النمو الحديث لتسهيل التسويق والحفاظ على الرقابة االجتماعية .في يومنا هذا ،تخضع ممارسة ال ِعمارة من جهة لمفهو ُم “التكنولوجيا المتطورة” في اإلنتاج ،ومن جهة أخرى لمفهوم “الواجهات التعويضية” التي تخفي حقائق النظام العالمي القاسية. منذ عشرين عاما ً كان ال يزال التفاعل الجدلي بين الحضارة والثقافة يتيح إمكانية الحفاظ على شيء من ضبطٍ عام لشك ِل وأهمي ِة النسيج الحضري ،بيْد ّ حوال أن العقدين الماضيين ّ جذريا ً مراكز العواصم في العالم المتطور .وبالتدريج أصبح النسيج المدني للقرن التاسع عشر- -الذي كان ضروريا ً في فترة الستينات -متراكبا ً من عالقت َ ْي تكاف ٍل في التطور الهائل لألبنية العالية والطرق السريعة ،فاألبنية العالية صارت بذاتها وسيلة أساسية إلظهار ازدياد قيمة األراضي التي أوجدتها الطرق السريعة .من حوالي عشرين سنة كان مجرد نمط وسط المدينة عبارة عن مزيج من أبنية سكنية للصناعة والخدمات لكنه صار ّ تخطيطٍ لمساحا ٍ ت مكتبية مفتوحة كجزء من صورة المدينة :وفي هذا نصر للحضارة العالمية على الثقافات المحلية بحيث اآلن يبدو المأزق ،الذي طرحه كورير “كيف تصبح مروعة من الحداثة ،بينما أرضية النواة حداثيا ً مع العودة إلى أصولك” ،محاطا ً باندفاعة ّ األخالقية-األسطورية للمجتمع ،التي قد تتجذّر ،أصبحت متآكلة بسبب التنمية الجشعة. منذ بداية التنوير كانت الحضارة بشكل أساسي معنيّة بإعمال العقل بينما توجهت الثقافة إلى تفاصيل التعبير من أجل إدراك الوجود وتطوير واقع الثقافة الجمعي متورطة بشكل متزايد بسلسلة غير منتهية بقيد النفسي واالجتماعي .الحضارة اليوم ّ من “وسيلة وغاية” ،حيث قالت الفيلسوفة آنا أرندت“ :إن عبارة ‘لكي’ صارت تعني ‘ألجل غاي ِة كذا’؛ المرافق الخدمية التي أُسّست ألجل معنى باتت تولد الالمعنى”.
2
-2صعود وأفول األفكار التجريبية الطليعيةت يرتبط ظهور األفكار التجريبية الطليعية بتحديث ك ٍّل من المجتمع وال ِعمارة ،وعلى مدار القرن والنصف الماضيين لعبت األفكار الثقافية الطليعية أدوارا ً مختلفة ،ففي بعض األحيان كانت تساعد على تسهيل عملية التحديث وبالتالي كانت إلى حد ما شكالً تقدميا ً ليبرالياً ،وفي ْ عارضت الثقافة البرجوازية بضراوة .لعبت ال ِعمارة ذات األفكار التجريبية بعض األحيان ً الطليعية دورا ً إيجابيا فيما يتعلق بالمسار التقدمي لعصر التنوير ،مثال على هذا هو الدور الذي لعبته الكالسيكية الجديدة :فقد كانت من منتصف القرن الثامن عشر فصاعدا ً بمثابة رمز وأداة لنشر عالمية الحضارة ،ومع ذلك ،ففي منتصف القرن التاسع عشر اتخذت هذه الطليعية التاريخية موقفا ً معاديا ً لشكل العملية الصناعية والكالسيكية الجديدة ،وكان ّ منظم من جانب “ التراث” ضد عملية التحديث ،حيث اتخذ إحياء هذا هو أول رد فعل ً ً ً والح َرف موقفا سلبيا قاطعا تجاه مذهب المنفعة وتقسيم العمارة القوطية وحركات الفنون ِ العمل وعلى الرغم من هذا االنتقاد استمر التحديث بال توقف .خالل النصف األخير من القرن التاسع عشر أبعد الفن البرجوازي نفسه تدريجيا ً عن قسوة حقيقة االستعمار واستغالله للتقنيات القديمة .وهكذا في نهاية القرن وجدَ الفن الجديد الطليعي ملجأ ً تعويضيا ً له في مقولة “الفن للفن” ،متراجعا ً نحو متنفس وشفاء في عوالم األحالم الهرمسية في دراما فاغنر الموسيقية ،ومع ذلك فقد ظهرت الطليعية التقدمية بكامل قوتها مع ظهور المستقبلية بعد وقت قصير من نهاية القرن .أدّى هذا االنتقاد الواضح للنظام إلى ظهور تلك التشكيالت الثقافية األولية في العشرينيات من القرن الماضي :النقائية والتشكيلية الجديدة والبنائية .كانت هذه الحركات هي الفرصة األخيرة التي استطاعت عبرها الطليعية الراديكالية أن تتماهى كليّةً مع عملية التحديث .في أعقاب الحرب العالمية األولى مباشرة “-حرب إنهاء جميع الحروب” -بدا أن انتصار العلم والطب والصناعة مؤكدا ً للوعد التحرري لمشروع التحديث .ولكن في الثالثينيات عمل (التخلف السائد وانعدام األمن بشكل كبير بين الجماهير المتحضرة من القرن الماضي ِ حديثاً ،واالضطرابات الناجمة عن الحرب والثورة والركود االقتصادي ،والحاجة المفاجئة والحاسمة لتحقيق االستقرار النفسي واالجتماعي في مواجهة األزمات السياسية واالقتصادية العالمية ،وإفراز حالة من تغليب رأسمالية المحتكرين والدولة) على انفصال هذه الرأسمالية بالكامل عن الدوافع التحررية للتحديث الثقافي ألول مرة في التاريخ الحديث .ال يمكن للدولة االستعانة بالحضارة العالمية أو ثقافة العالم للحفاظ على “خرافة الدولة” ،حيث يتبع رد فعل ما رد فعل آخر ،كما حدث مع المؤسسين الطليعيين التاريخيين أثناء الحرب األهلية اإلسبانية .ب أحد ردود األفعال هو إعادة تأكيد علم الجمال حسب الكانطية الجديدة (إحياء لفلسفة كانط) كبديل للمشروع الحداثي التحرري الثقافي .وقد نجم عن إرباك السياسة والثقافة الستالينية أن اليساريين السابقين أنصار التحديث االجتماعي والثقافي نصحوا بانسحاب استراتيجي من المشروع الشامل الذي يهدف لتحويل الواقع القائم .يرتكز هذا التنصل على أن استمرار الصراع بين االشتراكية والرأسمالية (مع ما ينجم عنه من سياسة التالعب الثقافي بالجماهير) ال يم ّكن العالم الحديث من إمكانية تطوير ثقافة هامشية تحررية طليعية تستطيع أن تقطع الصلة (أو تفكر بذلك) بتاريخ القمع البرجوازي.ل
3
)اقترابا ً من مبدأ الفن للفنُ ، ط ّور هذا الموقف ألول مرة (كنموذج للعمل عليه في مقالة).ت ” “Avant Garde and Kitschلكليمنت غرينبرغ عام .1939يختتم هذا المقال بكلمات غامضة إلى حد ما“ :اليوم نتطلع إلى االشتراكية ألنها ببساطة تحافظ على كل ثقافة حية موجودة” .أعاد غرينبرغ صياغة هذا الموقف تحديدا ً ابمصطلحات شكلية في مقالته “اللوحة الحداثية” في عام ،1965حيث كتب:ي ل س<بَدَ ْ ت الفنون بعد أن أنكر التنوير جميع مهامها الجدية وكأنها ترفيهٌ ال أكثر ،وبدا الترفيه كأنه دواء مثل الدِّين .ال يمكن للفنون أن تنقذ نفسها من هذا االنحدار في المستوى إال بإظهار أن خبراتها لها قيمة في ذاتها ،وال يمكن الحصول على هذه الخبرات من أي نوع آخر من األنشطة>.ب على الرغم من هذا الموقف الفكري الدفاعي إال أن الفنون استمرت في االنجذاب ليس بالضرورة نحو الترفيه لكن بالتأكيد نحو التسليع ،وصارت مجرد تقنية أو تصويرية سينماية مثلما صنّف تشارلز جينكس عمارة مابعد الحداثة .نجد في حالة التصويرية السينمائية أن معماريي مابعد الحداثة يغذّون المجتمع واإلعالم مجانيا ً بالصور المهدّئة بدالً من تقديمهم دعوة إبداعية للنظام كما يزعمون بعد أن ثبُت إفالس المشروع الحداثي التحرري .في هذا الصدد كتب أندرياس هيسينيز قائالً“ :ولهذا فإن طليعية مابعد الحداثة في أمريكا ليست فقط نهاية اللعبة الطليعية ،بل تمثل أيضا ً تهشيم وتراجع ثقافة اآلخر ”.م على الرغم من ذلك يمكن القول بأنه لم يعد ممكنا ً تعريف الحداثة بشكل تبسيطي على أنها تحررية في حد ذاتها ،والسبب في ذلك يرجع ،من جهة إلى هيمنة صناعة اإلعالم على الثقافة الجماهيرية (وعلى رأس ذلك التلفاز الذي زادت قدرته على اإلقناع ألف مرة من 1945وحتى ،1975كما يذ ّكرنا جيري ماندر) ،ومن جهة أخرى إلى ّ أن مسار الحداثة قد ً أوصلنا إلى عتبة الحرب النووية وإبادة الجنس البشري بأكمله ،وكذلك أيضا لم يعد بإمكان الطليعية أن تستمر كلحظة تحررية ألن العقالنية الداخلية إلعمال العقل تجاوزت طوباوية األولي .ربما كان أفضل َمن صاغ هذه “الخاتمة” هو هربرت ماركوز عندما كتب:ا الوعد ّ ي<االستنتاج النظري التكنولوجي هو استنتاج نظري سياسي بقدر ما ينطوي تحول الطبيعة على تحول اإلنسان وكذلك بقدر قضية “إبداعات اإلنسان” مع إعادة إدخالها في المجتمع .قد يصر على أن آلية الكون التقني “على هذا النحو” ال تبالي بالغايات السياسية- يظل المرء ّ يمكن أن تحدث ثورة في المجتمع أو تؤخره ..ومع ذلك ،عندما تأخذ التقنيات شكالً عالميا ً تصور تاريخا ً كامالً“ -عالَماً” >.ذ لإلنتاج المادي فإنها تضع حدّا ً لثقافة بأكملها؛ فهي ّ ال ا
4
-3العمارة الحساسة لإلقليم وثقافة العالم
موقف الطليعية المتاخرة ،أي أن ال يمكن لل ِعمارة اليوم أن تستمر كممارسة هامة إال إذا أخذت َ ي الذي يعود إلى ي غير الواقع ّ تنأى بنفسها عن ك ٍّل من خرافة التقدم التنويري ،ومن الدافعٍ الرجع ّ فنان ينتمي إلى الطليعية كل األشكال المعمارية الماضية في فترة ما قبل الصناعة .يجب على ٍ المتأخرة أن يُبعد نفسه عن التحسين األقصى للتكنولوجيا المتطورة ،وعن النزعة الدائمة لالنطفاء حنينا ً نحو الماضي والزخرفة المن ّمقة .في اعتقادي أن فنان الطليعية المتأخرة هو فقط َم ْن يملك القدرة على رعاية ثقاف ٍة ذات هوية ،ويسترشد بتعقّل في الوقت ذاته بالتقنية العالمية فمن الضروري تأهيل مصطلح الطليعية المتأخرة من أجل تخفيف نطاق نقدها كسياسة محافظة شعبوية أو إقليمية عاطفية ،والتي غالبا ً ما تُلحق بها .من أجل تأسيس الطليعية المتأخرة كاستراتيجية متجذّرة ونقدية ،من المفيد أن نستخدم مصطلح ال ِعمارة الحساسة لإلقليم كما صاغها أليكس تزونيس وليليان ليفيفر في “الشبكة والمسار” ()1981؛ فهما يحذّران في هذا المقال من غموض اإلصالح المناطقي الذي بات يظهر بشكل واضح منذ الربع األخير من القرن التاسع عشر:ل سيطرت اإلقليمية على العمارة في جميع البلدان تقريبا ً خالل القرنين ونصف الماضيين .من خالل التعريف العام والمجردة .لكن يمكننا القول إن اإلقليمية تدعم الخصائص المعمارية الفردية والمحلية مقابل الخصائص العالمية ّ باإلضافة إلى ذلك تحمل العمارة اإلقليمية سمة الغموض ،فمن جهة ارتبطت بحركات اإلصالح والتحرير ،ومن جهة أخرى أثبتت أنها أداة قوية للقمع والتعصب الوطني .من المؤكد أن العمارة الحساسة لإلقليم محدودة .إن انتفاض الحركة الشعبية -وهي شكل أكثر تطورا ً من النزعة اإلقليمية -قد أبرز هذه النقاط الضعيفة إذ ال يمكن لعمارة جديدة أن تنشأ دون وجود نوع جديد من العالقات بين المصمم والمستخدم ومن دون أنواع جديدة من البرامج ...وعلى الرغم من هذه المحدودية فإن العِمارة الحساسة لإلقليم هي جسر يجب أن تمر عليه أي عمارة إنسانية إلى المستقبل.
تتمثل االستراتيجية األساسية للعمارة الحساسة لإلقليم بعمل وسيط بين تأثير الحضارة العالمية مع عناصر مستمدة بشكل غير مباشر من خصائص مكان معين .مما سبق ،ال ِعمارة الحساسة لإلقليم تعتمد الحفاظ على مستوى عا ٍل من الوعي الذاتي النقدي ،وقد تجد إلهامها اآلسر في أشياء مثل مدى ونوعية ي مستمد من نمط هيكل غريب ،أو في تضاريس موقع معين .ل الضوء المحلي ،أو في جمال إنشائ ّ لكن كما اقترحتُ سابقا ً فإنه من الضروري التمييز بين ال ِعمارة الحساسة لإلقليم والمحاوالت الساذجة التي تعمل على إحياء أشكال محلية مفقودة .تختلف الشعبوية عن العمارة تحرض على نقد الواقع بل الحساسة لإلقليم بأن داللتها صريحة ونفعية ،وهذه الداللة ال ّ على التجريب المباشر عبر توفير المعلومات .إن نهج الشعبوية هو الوصول بأقل كلفة مادية إلى مستوى إرضاء محدد مسبقا ً من الناحية السلوكية .في هذا الصدد ،ليس صدفة أبدا ً االقتراب القوي للشعبوية من أساليب اإلقناع والتصويرية اإلعالنية ،فإذا لم ينتبه المرء لهذا فسيعتقد بأن التوجهات الغوغائية للشعبوية هي طاقة المقاومة في الممارسة النقدية.ا يمكن إثبات أن العمارة الحساسة لإلقليم بوصفها استراتيجية ثقافية هي حامل للثقافة العالمية بقدر ما هي وسيلة للحضارة العالمية .إنه تضليل كبير أن نتصور أن ثقافتنا العالمية الموروثة تعني أننا جميعا ً ورثة للحضارة العالمية ومع ذلك ،فنحن مبدئيا ً نخضع لتأثير االثنين ،ولهذا ليس لدينا خيار سوى أن ندرك اليوم عالقتهما التفاعلية. في هذا الصدد ،تتوقف ممارسة العمارة الحساسة لإلقليم على عملية األخذ بكليهما.ا 5
في المقام األول ،عليها “تفكيك” الطيف العام للثقافة العالمية التي ترثُها حكماً .وفي المقام الثاني ،عليها أن تكون تجسيدا ً نقديا ً للحضارة العالمية من خالل اصطناعات متناقضة .إن تفكيك ثقافة العالم يحتّم على المرء االبتعاد عن االنتقائية التي سادت في نهاية القرن والتي استخدمت أشكاالً غريبة وغرائبية من أجل إحياء التعبيرية في مجتمع منهك( .اليسع المرء إال أن يتذكر جماليات “الشكل-القوة” لدى هنري فان دي فيلدي أو “المنحنيات -أرابيسك” فرض قيو ٍد على كمال لدى فيكتور هورتا) .ومن ناحية أخرى ،يتضمن إدخال التقنية الشاملة َ التكنولوجيا الصناعية ومابعد الصناعية .يبدو أن ريكور قد ألمح إلى الحاجة في المستقبل إلعادة صياغة المبادئ والعناصر المست َمدّة من أصول متنوعة ونُظم فكرية متباينة جداً ،قال:ل م<ال يمكن ألحد أن يتنبأ بما ستؤول إليه حضارتنا إذا تالقت بشكل حقيقي مع حضارات مختلفة بدون صدمة الغزو والهيمنة .لكن علينا أن نعترف بأن هذا اللقاء لم يحدث بعد على مستوى حوار حقيقي ،ولهذا السبب ال نزال في فترة ركود وفراغ ولم يعد بإمكاننا خاللها إطالقا ً أن نتابع ممارستنا الغوغائية على ّ أن هناك حقيقة واحدة فقط النستطيع التغلب على الشكوك التي تعتريها>.بب أعرب المعماري الهولندي ألدو فان إيك عن مشاعر موازية ومك ِ ّملة لهذا السياق حينما عرف الحضارة الغربية الحضارات كتب في ذلك الوقت وبمحض المصادفة“ :عادة َ ما ت ُ ِ ّ األخرى استنادا ً إلى فرضية التفوق أي أن الحضارة التي ال تشبهها فهي منحرفة أو أقل تطور أو بدائية ،أو في أحسن األحوال ذات غرابة مثيرة مع االحتفاظ بمسافة أمان”.ل وضّح المهندس المعماري في كالفورنيا هاملتون هارويل هاريس عندما كتب منذ ما يقرب ثالثين عاما ً أن العمارة الحساسة لإلقليم ال يمكن أن تعتمد هكذا ببساطة فقط على األشكال الموجودة لألصليين في منطقة معينة ،حيث قال:ب في مواجهة العمارة اإلقليمية المق ِيّدة ،يوجد نوع آخر وهو العمارة اإلقليمية التحريرية التي تظهر في المنطقة التي تقوم بتعديالت تتوافق بشكل خاص مع الفكر الناشئ في زمنها .نحن تطور منطقة ما أفكارا ً وقد ي” وذلك فقط ألنه لم يظهر في مكان آخر .قد ّ ِ نسمي هذا “إقليم ٌّ تتقبل أفكارا ً أخرى ،ويكون الخيال والذكاء ضروري لكل من التطوير أو التقبّل .في كاليفورنيا في أواخر العشرينيات والثالثينيات من القرن الماضي التقت األفكار الحداثية األوروبية بإقليمية صارمة ومقيِّدة قاومت الحداثة في البداية ثم استسلمت ،إذ قبلت نيو إنغالند الحداثة األوروبية بكلّيتها والسبب هو ّ أن طابعها اإلقليمي كان عبارة عن مجموعة من المقيّدات.ب يمكن أن تشرح لنا كنيسة باجسفيرد لجورن أوتزن بتفصيل مدى تحقيق تآلف واعي بين الحضارة العالمية والثقافة العالميةُ . شيّدت الكنيسة بالقرب من كوبنهاغن في عام ،1976وهذا العمل يستمد معناه مباشرة من عالقة تجمع من جهة بين عقالنية األسلوب المتعارف عليه ،ومن جهة أخرى العقالنية تُمي ُّز هذا الشكل.ر وتكونه أوالً من وحدات الخرسانة المصبوبة بقدر تنظيم هذا المبنى حول شبكة منتظمة ّ في المكان ،وثانيا ً من جدران بيتونية مسبقة الصنع ،بإمكاننا اعتباره حقا ً حصيلة حضارة عالمية .إن نظام البناء هذا الذي تشتمل مراحله على استخدام بيتون مصبوب في الموقع وبيتون مسبق الصب قد جرى تطبيقه بالفعل مرات ال تحصى في جميع أنحاء العالم المتقدم .ومع ذلك فإن عالمية هذه الطريقة المثمرة -والتي تشمل هنا على ألواح مزججة في السطح -تتوسط بشكل حاد بين النموذج المثالي للقشرة الخارجية واألقل مثالية للسقف المصنع من الخرسانة المسلحة الممتد على طول صحن الكنيسة.ب 6
ب
من الواضح أنها طريقة غير اقتصادية نسبيا ً للبناء ،حيث اختير وعولج أوالً لقدرته الترابطية المباشرة -أي أن السقف يدل على الفضاء المقدس -وثانيا ً لصلته المتقاطعة مع ثقافات متعددة. في حين أن صحن الكنيسة ذو الخرسانة المسلحة يحتفظ منذ وقت طويل بمكانة راسخة داخل الشريعة الكنسية التكتونية للعمارة الحديثة الغربية ،لكن نجد المقطع المشغول عليه والمعتمد في هذا المثال ليس مألوفاً ،والسابقة الوحيدة لمثل هذا الشكل في السياق المقدس موجودة في الشرق وليس في الغرب ،وهي سقف المعبد الصيني البوذي ،الذي است َشهد به أوتزن في مقالته الرئيسية “المنصات والهضاب” لعام .1963على الرغم من أن صحن كنيسة “باجسفيرد” الرئيسي يدل بشكل تلقائي على طبيعتها الدينية ،لكن يحدث ذلك بطريقة تُستبعد فيها أية قراءة غربية أو شرقية في الفضاء العام والمقدس .القصد من هذا التعبير بالطبع هو علمنة الشكل المقدس عن طريق استبعاد الدالالت الدينية المعتادة ومعها ردود األفعال العلمانية عليها .يمكن القول إن هذه طريقة أكثر مالءمة لتقديس الكنيسة في عصر شديد العلمانية ،حيث عادة ً ما تتحول أي إشارة رمزية للكنسية إلى ذوق سيء .وللمفارقة ،فإن الالقدسية في باجسفيرد تجدّد بناء قاعدةٍ للروحانية، وهذا برأيي أرضية إلعادة تأكيد اإلقليمية على األقل لشك ٍل من أشكال الروحانية الجماعية.ت
7
-4مقاومة الشكل-المكان ي جان غوتمان للمدن الكبيرة في عام 1961تابع انتشاره في جميع تعريف الجغراف ّ أنحاء العالم المتقدم لدرجة أننا لم نعد قادرين أن نحافظ على أشكال حضرية محددة باستثناء المدن التي بُنيت قبل نهاية القرن.ؤلقد شهد الربع األخير من القرن تدهور مايسمى التصميم الحضري إلى موضوع نظري اليرتبط خطابه كثيرا ً بالحقائق العملية للتطور الحديث ،وحاليا ً دخل حتى االختصاص اإلداري الفائق للتخطيط الحضري في أزمة .إن المصير النهائي للخطة التي أُعلن عنها رسميا ً إلعادة بناء روتردام بعد الحرب العالمية الثانية له داللة في هذا الصدد ،ألن وضعها المتغير مؤخرا ً يشهد على االتجاه الحالي لحصر كل المخططات في تخصيص استخدام األراضي ولوجستيات التوزيع.ب حتى وقت قريب نسبياً ،كان يُدقّق المخطط الرئيسي لروتردام ويُحدّث كل عشر سنوات في ضوء المباني التي بنيت في األثناء ،ومع ذلك في عام 1975وبشكل ف هذا اإلجراء الثقافي الحضري التدريجي لصالح نشر خطة بنية غير متوقع توقّ َ ً تحتية غير مادية ُوضعت على نطاق إقليمي .تهتم مثل هذه الخطة حصريا بالتصور اللوجيستي للتغيرات في استخدام األراضي وبالزيادة في أنظمة التوزيع الحالية.ب يزودنا مارتن هايدغر في مقاله عام “ 1954البناء والمسكن والتفكير” بوجهة نظر نقدية حول ظاهرة الالمكان العالمي وهي ضد المفهوم الالتيني أو باألحرى المفهوم التجريدي القديم للفراغ باعتباره ليس أكثر من مكونات مكانية أو أعداد صحيحة مقسمة بالتساوي ومستمرة ال نهاية لها -مايصفه الفراغ واالمتداد -كما يعارض .Raum ل هايدجر الكلمة األلمانية للفراغ (أو باألحرى المكان) ،وهو مصطلح راوم يجادل هايدجر بأن الجوهر الظاهري لمثل هكذا فراغ/مكان يعتمد على الطبيعة تعرف بوضوح حدودها ،ألنه كما يقول “الحدود ليست هي التي يتوقف المادية والتي ِ عرفها اإلغريق”.يب عندها شيء ما ،لكن هي التي يبتدئ وجود شيء منها ،كما ّ بعيدا ً عن تأكيد أن العقل التجريدي الغربي له أصوله في الثقافة القديمة للبحر األبيض المتوسط ،فإن هايدجر يوضّح أن المباني األلمانية مشتقة ومرتبطة بشكل وثيق باألشكال القديمة للوجود والزراعة والمسكن ،ويستمر في توضيح أن حالة “المسكن” وبالتالي “الوجود” يمكن أن تحدث فقط في مجا ٍل محدد بوضوح .على الرغم من أننا قد نظل مفهوم على هذه الدرجة من متشككين فيما يتعلق بميزة ترسيخ الممارسة النقدية في ٍ الميتافيزيقية (ماورائية) مثل الوجود ،فإننا عندما نواجه الالمكان في بيئتنا الحديثة نطرح مع هايدغر الشرط المسبق المطلق لمجال محدود من أجل إنشاء عمارة مقا ِومة.ل المعرف فقط هو الذي سيسمح لنموذج البناء بالوقوف ضد عملية التدفق الالنهائي هذا الحد َّ ً للمدن العمالقة ،وبالتالي سيكون قادرا على التحمل بالمعنى التأسيسي .إن الشكل- ي أيضا ً لما وصفته هانا أرندت “فضاء المظهر المكان المحدِّد في وضعه العام ضرور ٌ ً اإلنساني” ،إذ إن تطور القوة الشرعية كان دائما يعتمد على وجود “المدن” وعلى وحدات مماثلة من المؤسسات واألشكال المادية .في حين أن الحياة السياسية للمدن اليونانية لم تنبع مباشرة من الوجود المادي والتمثيل لدولة المدينة فقد برزت الخصائص التقسيمية للكثافة الحضرية على عكس المدن الكبرى .هكذا كتبت أرندت في “حالة اإلنسان”:ر 8
العامل المادي الوحيد الذي ال غنى عنه في توليد القوة هو عيش الناس مع بعضهم .تكون احتماالت العمل موجودة دائما ً فقط حيث يعيش الرجال بالقرب من بعضهم البعض وتظل القوة معهم وبالتالي أساس المدن؛ وتكون المدن نموذجا ً لكل التنظيمات السياسية الغربية وهو الشرط األساسي األكثر أهمية للسلطة.ل الشيء أكثر يمكن إزالته من جوهر الوالية-المدينة السياسي من مبررات المخططين الحضريين اإليجابيين مثل ميلفن ويبر ،الذين لديهم مفاهيم أيديولوجية مثل (مجتمع بدون تشابه) و(الالمكان الحضري) وهي بال معنى دون إشعارات مبدعة تفسّر وجود حقيقة عامة في الموتوبيا الحديثة .عبّر عن التحيز لمثل هذه األيدولوجيات بوضوح كتاب روبرت فنتوري “التعقيد والتناقض في العمارة” ،1966حيث يؤكد المؤلف أن األمريكيين ال يحتاجون إلى ساحات عامة فهم في المنزل يشاهدون التلفاز .تؤ ّكد مثل هذه المواقف الرجعية عجز الجماهير المتحضرة الفاقدة بشكل متناقض هدف تحضّرها.ل بينما تنسب استراتيجية الحساسية اإلقليمية لنفسها -على النحو المبين أعاله- المحافظة على الكثافة والصدى التعبيري في العمارة المقاومة (أي الكثافة الثقافية التي يمكن أن يقال في ظل ظروف اليوم أنها تحررية في حد ذاتها ألنها تفتح للمستخدِم التجارب المتعددة) ،إذ يُعتبر توفير الشكل-المكان ضروريا ً بنفس الدرجة للممارسة النقدية ،ألن البنية المقا ِومة بالمعنى التأسيسي تعتمد على مجال محدد بوضوح .ل ضر(منطقة في المدينة محاطة بالشوارع لعل المثال األعم لهذا الشكل الحضري هو ال َمحْ َ وعادة ما تحتوي على العديد من المباني) ،وعلى الرغم من استحضار أنماط أخرى ذات صلة ،مثل األروقة والفناء الداخلي والفراغ األمامي والمتاهة ،تبقى هذه األنماط في كثير من الحاالت اليوم مجرد أدوات الستيعاب الفضاء العام ( مثل التفكير في الهياكل الضخمة الحديثة في اإلسكان والفنادق ومراكز التسوق وما إلى ذلك) ،واليمكن للمرء حتى في هذه األمثلة أن يقلل بشكل كامل من العوامل السياسية الكامنة والمقا ِومة إلمكانيات الشكل-المكان.ن
9
-5الثقافة مقابل الطبيعة :التضاريس والسياق والمناخ والضوء والشكل التكتوني تنطوي العمارة الحساسة لإلقليم بالضرورة على عالقة جدلية مباشرة مع الطبيعة أكثر من التراث الرسمي األكثر تجريدية في العمارة الطليعية الحديثة .من البديهي أن اتجاه الستخدام أمثل لمعدّات تحريك التحديث في تابوال راسا (البدء من جديد بسجل نظيف) يميل ٍ تظم بها البناء ،وهنا التربة نظرا ً ألن المعطيات الثابتة هي أكثر النماذج اقتصاديةً حيث ي ْن ِ يلمس المرء من جديد هذه المقابلة األساسية بين الحضارة العالمية والثقافة األصلية .من الواضح أن التجريف للتضاريس ليصبح موقعا ً مسطحا ً هي لفتةٌ تكنوقراطية تطمح إلى فرض شرط الالمكان بشكل مطلق ،ويكون تدريج الموقع هو عملية “زراعة” للموقع.ب من الواضح أن هذا الرؤية والعمل يجعالن المرء يستذكر مرة أخرى تفسيرات هايدجر، وطريقة المعماري السويسري ماريو بوتا “بناء الموقع” ،وفي هذه الحالة تكون ثقافة المنطقة درجةً في شكل العمل واكتماله .إن لهذه الكتابات ،التي أي تاريخها الجيولوجي والزراعيُ -م َتنشأ من “تضمين” البناء في داخل الموقع له عدة مستويات من األهمية ،فلشكل البناء قدرة على تجسيد قِدَم المكان إلى ماقبل التاريخ وماضيه األثري ،وماتاله من زراعة وتحول عبر الزمن .من خالل هذه الطبقة في الموقع نجد تعبير خصوصية المكان دون الوقوع بالعاطفية.ل ما ينطبق على حالة طبوغرافية األرض ينطبق أيضا ً على النسيج الحضري الحالي، وعلى ما يطرأ على المناخ وتغيرات الضوء المحلي .وهكذا يجب أن يكون التعديل والدمج الحساس لهذه العوامل بحكم التعريف تعارض بشكل أساسي االستخدام األمثل للتقنية الشاملة ،وربما يكون هذا أكثر وضوحا ً في حالة التحكم في الضوء والمناخ .من الواضح أن النافذة العامة هي النقطة األكثر حساسية التي تؤثر فيها هاتان القوتان الطبيعيتان على الغطاء الخارجي للمبنى ،حيث تتمتع عملية التزجيج بقدرة فطرية تدمغ العمارة مع طابع المنطقة وبالتالي يكتمل تعبير المكان الذي يقع فيه العمل.ل إلى وقت حديث كان يٌفضّل االستخدام الحصري للضوء الصناعي في جميع المعارض الفنية ولربما لم تجري معرفة كافية حول تقليص العمل الفني ليصبح سلعة ألن مثل هذه البيئة يجب أن تُظهر العمل في الالمكان .هذا ألن طيف الضوء المحلي ال يُسمح له أبدا ً بالتكون على سطحه :وهنا نلحظ ّ أن فقدان الهالة -التي عزَ اها والتر بنجامين ّ ً إلى عمليات اإلنتاج الميكانيكي -ينبع من تطبيق ثابت نسبيا للتكنولوجيا العالمية.ل إن العكس من ممارسة “الالمكانية” يكمن في توفير إضاءة كاملة للمعارض الفنية من خالل شاشات مراقبة مفتعلة لتجنب التأثيرات الضارة ألشعة الشمس المباشرة ،ولتغير الضوء المسلط على المعرض بتغيير الزمن والفصول والرطوبة ،الخ .تضمن مثل هذه الظروف ظهور وعي شاعري بالمكان كنوع من التقنية الناجمة عن تفاع ٍل بين الثقافة والطبيعة وبين الفن والضوء.ب
10
من الواضح أن هذا المبدأ ينطبق على جميع عمليات الفتح ضمن المبنى بغض النظر عن الحجم والموقع .ينشأ “انعكاس إقليمي” ثابت للنموذج مباشرة ً من حقيقة أن الفتحة الزجاجية في بعض المناخات تكون متقدمة ،بينما في حاالت أخرى تتراجع خلف واجهة البناء (أو محمية من قبل كاسرات للشمس قابلة للتعديل).ل إن الطريقة التي توفر بها هذه الفتحات التهويةَ المناسبة تشكل أيضا ً عنصرا ً غير عاطفي يعكس طبيعة الثقافة المحلية .من الواضح هنا أن الخصم الرئيسي للثقافة المتجذرة هو مكيّف الهواء واسع االنتشار الذي يستخدم في جميع األوقات واألماكن دون األخذ بعين االعتبار الظروف المناخية المحلية وقدرتها على التعبير عن المكان والتغيرات الموسمية للطقس. وأينما حدثت فإن النافذة ال ُمعالَجة ونظام تكييف الهواء يدالن على هيمنة التقنية العالمية.ل على الرغم من األهمية القصوى للتضاريس والضوء فإن المبدأ األساسي لالستقاللية المعمارية يكمن في التكتونية بدالً من السينوغرافيا :بمعنى أن هذا االستقالل يتجسد في الصالت الظاهرة في البناء وفي طريقة مقاومة الهيكل للجاذبية .من الواضح من خالل هذا الحديث أن الناقل (الجائز) وحامل الحمل (العمود) ال يمكن أن يو َجدا إذا كان الهيكل مخفيا ً وإال فيجب إخفائهما .من ناحية أخرى ،ال ينبغي الخلط بين التكتونية وبين التقنية البحتة ،ألن التكتونية أكثر من مجرد الكشف البسيط عن المجسمات أو التعبير عن الهيكل اإلنشائي ،فقد أظهر جوهرها ألول مرة خبير الجماليات األلماني كارل بوتشر في كتابه “التكتونية عند اإلغريق” صها هو المؤرخ المعماري ستانفورد أندرسون عندما كتب:ؤ 1852؛ وربما أفضل من لخ ّ ب ال يشير مصطلح “التكتونية” فقط إلى كيفية تجسيد مواد البناء ...بل يشير باألحرى إلى يطوع الشكل الوظيفي لكي يع ِبّر عن وظيفته. االرتقاء بالبناء إلى شكل فني ..يجب أن َّ أصبح التحدب الطفيف باألعمدة اليونانية بمثابة وسيلة الختبار مفهوم التكتونية.ء ل
والحرف يبقى مفهوم التكتونية لنا اليوم وسيلة إلمكانية اللّعب بين تركيز المواد ِ اليدوية والجاذبية وذلك ليبدو عنصر واحد تكثيفا ً للهيكل بأكمله ،ويمكن الحديث هنا عن عرض شاعري هيكلي بدالً من إعادة عرض لواجهة.ل
-6المرئي مقابل الملموس(المحسوس):ب تشير المرونة الملموسة للمكان-الشكل وقدرة الجسم على قراءة البيئة بعبارات ال تقتصر على الرؤية بل على استراتيجية محتملة لمقاومة هيمنة التكنولوجيا العالمية .إن الرؤية هي عامل ي مهم في قراءة المبنى لكن علينا تذكير أنفسنا بأن الملموسية هي بُعد مهم في إدراك الشكل المبن ّ أيضاً .يوجد في اعتبارات المرء مجموعة كاملة من التصورات الحسية المكملة المسجلة على الجسم الخاضع للتغيير مثل :شدة الضوء والظالم والحرارة والبرودة والشعور بالرطوبة ورائحة المواد ،مع شعور الجسد باالحتواء ،ونشاط الجسد مابين السرعة والسكون عند االنتقال ،باإلضافة إلى صدى أصوات أقدامنا .كان لوتشينو فيسكونتي مدركا ً جيدا ً لهذه العوامل عند إنتاج فيلم
11
The Damnedألنه أصر على أن تكون مجموعة األرضيات الرئيسية في قصر ألتونا خشبية حقيقية ،إذ كان يعتقد أنه من دون أرضية صلبة تحت أقدام الممثلين لن يكونوا قادرين على تمثيل مواقف مناسبة ومقنعة .هناك حساسية مماثلة لهذا تظهر في مبنى بلدية ساينتسالو الذي صممه ملموس ألفارو ألتو عام .1952الطريق الرئيسي المؤدي إلى قاعة المجلس في الطابق الثاني ٌ ي ،ونجد الدرج مصنوع من الطوب المشوي أي اآلجر وكل عناصر الدرجة بقدر ما هو مرئ ّ (النائمة والقائمة) مصنوعة من الطوب ،وبهذا يؤدي احتكاك خطوات الجسد باألرضية اآلجر إلى التحقق من الدفع الحركي للجسم أثناء استخدام الدرج والذي “يُقرأ” بعد فترة وجيزة ،على عكس األرضية الخشبية للقاعة التي تؤكد مكانتها المتميزة من خالل الصوت والرائحة والملمس ناهيك عن اهتزازات األرضية السفلية نتيجة الخشب (والميل الملحوظ إلى فقدان توازن الشخص على سطحه المصقول) .يوضح هذا المثال أن األهمية التحريرية للملموس تكمن في حقيقة أنه ال يفسَّر إال بالتجربة ذاتها :أي ال يمكن اختزالها إلى مجرد معلومات أو تمثيل أو إلى استذكار زائف بدالً من الحضور .بهذه الطريقة تسعى العمارة اإلقليمية الحساسة إلى استكمال معاييرنا في التجربة بصرية من خالل قراءة الملموس عبر اإلدراك الحسي .وفي محاولتنا لذلك يتحقق التوازن بين األولوية المعطاة للصورة ومقاومة النزعة الغربية لتفسير البيئة برؤية اصطالحية ،إذ وفقا ً لتفسيرات الغرب فإن المنظور يعني الرؤية المعقولة أو الرؤية الواضحة ،وبالتالي فإنه يفرض قمعا ً للوعي في حواس الشم والسمع والذوق ،مما ينجم عنه االبتعاد عن تجربة مباشرة مع البيئة .م س ّمى هايدغر هذا القيد المفروض على الذات “فقدان القرب” ،وفي محاولة لمواجهة هذا الفقدان يعارض ي الملموس نفسه سينوغرافيا ً ويرخي ال ُح ُجب فوق سطح الواقع .إن للملموس قدرة تعود بالمعمار َّ إلى شعرية البناء وإلى إنشاء أعما ٍل تعتمد فيها قيمة كل مكون تكتوني على كثافة موضوعيته.ل يمتلك ك ٌّل من الملموسية والتكتونية معا ً القدرة على تجاوز المظهر التقني مثلما يملك هجوم ال هوادة فيه من الحداثة العالمية.ا الشكل-المكان القدرة على الثبات في وجه ٍ
12