Towards a Critical Regionalism: Six Points for an Architecture of Resistance/ Arabic Translation

Page 1

‫‪Towards a Critical* Regionalism:‬‬ ‫‪Six Points for an Architecture of Resistance‬‬ ‫‪KENNETH FRAMPTON‬‬

‫نحو عمارة حساسة لإلقليم‪:‬‬ ‫ست نقاط لعمارة مقاومة‬ ‫كينيث فرامتون‬

‫ترجمة‪ :‬م‪ .‬جنى أحمد‬

‫* إن كلمة ‪ critical‬تعني الحساسة‪-‬الحرجة‪-‬النقدية؛ ويُقصد بها عدة معاني‪ ،‬أحدها التصميم‬ ‫الناقد لسلبيات العمارة الحديثة مما يؤدي إلى خلق عمارة أكثر حساسية وارتباطا ً باإلقليم‪.‬‬ ‫ب‬


‫تقدم اإلنسان لكنها بذات الوقت تش ّكل نوعا ً من‬ ‫على الرغم من أن ظاهرة العالمية هي دلي ُل ِ‬ ‫الدمار الخفي‪ ،‬ليس فقط للثقافات التقليدية التي يمكن استدراك الخطأ فيها‪ ،‬بل أيضا ً تلك‬ ‫الثقافات التي سوف أسميها اآلن نواة إبداع الثقافات العظيمة‪ ،‬تلك النواة التي على أساسها‬ ‫نفسّر الحياة؛ والتي سأدعوها النواة األخالقية واألسطورية للجنس البشري‪ .‬من هنا يبدأ الصراع‬ ‫صنعت الحضارات‬ ‫بإحساسنا أن حضارة العالم الواحد‬ ‫تستنزف وتن ِهك الموارد الثقافية التي َ‬ ‫ِ‬ ‫العظيمة في الماضي‪ ،‬إذ يبرز هذا التهديد أمام أعيننا من ضمن آثار مقلقة أخرى‪ ،‬ويعبّر عن‬ ‫حضارة عاديّة دون المستوى وهي تماثل بسخافتها ما دعوته لتّوي حضارة ً بمستوى ابتدائي‪.‬‬ ‫يجد المرء في كل مكان في هذا العالم نفس الفيلم الرديء ونفس اآلالت النقدية ونفس فظاعات‬ ‫البالستيك واأللمنيوم ونفس التحريف اللغوي في اإلعالم‪ ،‬الخ‪ .‬يبدو وكأن البشرية توقفت عند‬ ‫مستوى ما دون الثقافة باقترابها كلها من ثقافة االستهالك‪ .‬هكذا نصل إلى المشكلة األساسية‬ ‫تواجه الدول النامية في محاولة صعودها إلى عتبة التطور والحداثة‪ ،‬فهل من الضروري‬ ‫التي‬ ‫ِ‬ ‫التخلص من الحضارة القديمة التي كانت سببا ً في وجود األمة؟‪ ...‬هنا تكمن المفارقة‪ :‬من‬ ‫جهة‪ ،‬على الدول أن تجعل حضارتها متجذرة في ماضيها وتصيغ روحا ً وطنية وتعيد إثبات‬ ‫روحانيتها وثقافتها أمام شخصية المستعمر‪ ،‬ومن جهة أخرى‪ ،‬وكشرط للمشاركة في الحضارة‬ ‫الحديثة‪ ،‬عليها المشاركة أيضا ً في العقالنية على الصعيد العلمي والتقني والسياسي‪ ،‬وهو‬ ‫أمر يتطلب في كثير من األحيان التخلي التام عن الماضي بر ّمته‪ .‬في الحقيقة ال تستطيع‬ ‫أية ثقاف ٍة أن تحتمل وتستوعب صدمة الحداثة‪ .‬المعضلة هي‪ :‬كيف نكون حداثيين ونعود‬ ‫إلى المصادر؛ وكيف نحيي حضارة ً قديمة من سباتها مع المشاركة في الحضارة العالمية‪.‬م‬ ‫بول ريكور‪ ،‬التاريخ والحقيقة‬

‫‪1‬‬


‫‪ -1‬الثقافة والحضارة‬

‫البناء الحديث اآلن مشرو ٌ‬ ‫ط عالميا ً بالتكنولوجيا المثلى لدرجة أن احتمالية خلق شكل‬ ‫حضري مميزا ً بات محدودا ً للغاية‪ ،‬فالضوابط التي يفرضها توزع وسائل النقل ولعبة‬ ‫تقلب أسعار األراضي تحدّ من مجال التصميم الحضري بحيث يقتصر التدخل فقط‬ ‫على التالعب بالعناصر التي حددتها شروط اإلنتاج‪ ،‬أو اإلخفاء السطحي الذي يتطلبه‬ ‫النمو الحديث لتسهيل التسويق والحفاظ على الرقابة االجتماعية‪ .‬في يومنا هذا‪ ،‬تخضع‬ ‫ممارسة ال ِعمارة من جهة لمفهو ُم “التكنولوجيا المتطورة” في اإلنتاج‪ ،‬ومن جهة‬ ‫أخرى لمفهوم “الواجهات التعويضية” التي تخفي حقائق النظام العالمي القاسية‪.‬‬ ‫منذ عشرين عاما ً كان ال يزال التفاعل الجدلي بين الحضارة والثقافة يتيح إمكانية الحفاظ‬ ‫على شيء من ضبطٍ عام لشك ِل وأهمي ِة النسيج الحضري‪ ،‬بيْد ّ‬ ‫حوال‬ ‫أن العقدين الماضيين ّ‬ ‫جذريا ً مراكز العواصم في العالم المتطور‪ .‬وبالتدريج أصبح النسيج المدني للقرن التاسع‬ ‫عشر‪- -‬الذي كان ضروريا ً في فترة الستينات‪ -‬متراكبا ً من عالقت َ ْي تكاف ٍل في التطور‬ ‫الهائل لألبنية العالية والطرق السريعة‪ ،‬فاألبنية العالية صارت بذاتها وسيلة أساسية‬ ‫إلظهار ازدياد قيمة األراضي التي أوجدتها الطرق السريعة‪ .‬من حوالي عشرين سنة كان‬ ‫مجرد‬ ‫نمط وسط المدينة عبارة عن مزيج من أبنية سكنية للصناعة والخدمات لكنه صار‬ ‫ّ‬ ‫تخطيطٍ لمساحا ٍ‬ ‫ت مكتبية مفتوحة كجزء من صورة المدينة‪ :‬وفي هذا نصر للحضارة‬ ‫العالمية على الثقافات المحلية بحيث اآلن يبدو المأزق‪ ،‬الذي طرحه كورير “كيف تصبح‬ ‫مروعة من الحداثة‪ ،‬بينما أرضية النواة‬ ‫حداثيا ً مع العودة إلى أصولك”‪ ،‬محاطا ً باندفاعة‬ ‫ّ‬ ‫األخالقية‪-‬األسطورية للمجتمع‪ ،‬التي قد تتجذّر‪ ،‬أصبحت متآكلة بسبب التنمية الجشعة‪.‬‬ ‫منذ بداية التنوير كانت الحضارة بشكل أساسي معنيّة بإعمال العقل بينما توجهت‬ ‫الثقافة إلى تفاصيل التعبير من أجل إدراك الوجود وتطوير واقع الثقافة الجمعي‬ ‫متورطة بشكل متزايد بسلسلة غير منتهية بقيد‬ ‫النفسي واالجتماعي‪ .‬الحضارة اليوم‬ ‫ّ‬ ‫من “وسيلة وغاية”‪ ،‬حيث قالت الفيلسوفة آنا أرندت‪“ :‬إن عبارة ‘لكي’ صارت تعني‬ ‫‘ألجل غاي ِة كذا’؛ المرافق الخدمية التي أُسّست ألجل معنى باتت تولد الالمعنى‪”.‬‬

‫‪2‬‬


‫‪ -2‬صعود وأفول األفكار التجريبية الطليعيةت‬ ‫يرتبط ظهور األفكار التجريبية الطليعية بتحديث ك ٍّل من المجتمع وال ِعمارة‪ ،‬وعلى مدار‬ ‫القرن والنصف الماضيين لعبت األفكار الثقافية الطليعية أدوارا ً مختلفة‪ ،‬ففي بعض األحيان‬ ‫كانت تساعد على تسهيل عملية التحديث وبالتالي كانت إلى حد ما شكالً تقدميا ً ليبرالياً‪ ،‬وفي‬ ‫ْ‬ ‫عارضت الثقافة البرجوازية بضراوة‪ .‬لعبت ال ِعمارة ذات األفكار التجريبية‬ ‫بعض األحيان‬ ‫ً‬ ‫الطليعية دورا ً إيجابيا فيما يتعلق بالمسار التقدمي لعصر التنوير‪ ،‬مثال على هذا هو الدور‬ ‫الذي لعبته الكالسيكية الجديدة‪ :‬فقد كانت من منتصف القرن الثامن عشر فصاعدا ً بمثابة‬ ‫رمز وأداة لنشر عالمية الحضارة‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬ففي منتصف القرن التاسع عشر اتخذت‬ ‫هذه الطليعية التاريخية موقفا ً معاديا ً لشكل العملية الصناعية والكالسيكية الجديدة‪ ،‬وكان‬ ‫ّ‬ ‫منظم من جانب “ التراث” ضد عملية التحديث‪ ،‬حيث اتخذ إحياء‬ ‫هذا هو أول رد فعل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫والح َرف موقفا سلبيا قاطعا تجاه مذهب المنفعة وتقسيم‬ ‫العمارة القوطية وحركات الفنون‬ ‫ِ‬ ‫العمل وعلى الرغم من هذا االنتقاد استمر التحديث بال توقف‪ .‬خالل النصف األخير من‬ ‫القرن التاسع عشر أبعد الفن البرجوازي نفسه تدريجيا ً عن قسوة حقيقة االستعمار واستغالله‬ ‫للتقنيات القديمة‪ .‬وهكذا في نهاية القرن وجدَ الفن الجديد الطليعي ملجأ ً تعويضيا ً له في‬ ‫مقولة “الفن للفن”‪ ،‬متراجعا ً نحو متنفس وشفاء في عوالم األحالم الهرمسية في دراما فاغنر‬ ‫الموسيقية‪ ،‬ومع ذلك فقد ظهرت الطليعية التقدمية بكامل قوتها مع ظهور المستقبلية بعد وقت‬ ‫قصير من نهاية القرن‪ .‬أدّى هذا االنتقاد الواضح للنظام إلى ظهور تلك التشكيالت الثقافية األولية‬ ‫في العشرينيات من القرن الماضي‪ :‬النقائية والتشكيلية الجديدة والبنائية‪ .‬كانت هذه الحركات‬ ‫هي الفرصة األخيرة التي استطاعت عبرها الطليعية الراديكالية أن تتماهى كليّةً مع عملية‬ ‫التحديث‪ .‬في أعقاب الحرب العالمية األولى مباشرة ‪“-‬حرب إنهاء جميع الحروب”‪ -‬بدا أن‬ ‫انتصار العلم والطب والصناعة مؤكدا ً للوعد التحرري لمشروع التحديث‪ .‬ولكن في الثالثينيات‬ ‫عمل (التخلف السائد وانعدام األمن بشكل كبير بين الجماهير المتحضرة‬ ‫من القرن الماضي ِ‬ ‫حديثاً‪ ،‬واالضطرابات الناجمة عن الحرب والثورة والركود االقتصادي‪ ،‬والحاجة المفاجئة‬ ‫والحاسمة لتحقيق االستقرار النفسي واالجتماعي في مواجهة األزمات السياسية واالقتصادية‬ ‫العالمية‪ ،‬وإفراز حالة من تغليب رأسمالية المحتكرين والدولة) على انفصال هذه الرأسمالية‬ ‫بالكامل عن الدوافع التحررية للتحديث الثقافي ألول مرة في التاريخ الحديث‪ .‬ال يمكن للدولة‬ ‫االستعانة بالحضارة العالمية أو ثقافة العالم للحفاظ على “خرافة الدولة”‪ ،‬حيث يتبع رد فعل ما‬ ‫رد فعل آخر‪ ،‬كما حدث مع المؤسسين الطليعيين التاريخيين أثناء الحرب األهلية اإلسبانية‪ .‬ب‬ ‫أحد ردود األفعال هو إعادة تأكيد علم الجمال حسب الكانطية الجديدة (إحياء لفلسفة‬ ‫كانط) كبديل للمشروع الحداثي التحرري الثقافي‪ .‬وقد نجم عن إرباك السياسة والثقافة‬ ‫الستالينية أن اليساريين السابقين أنصار التحديث االجتماعي والثقافي نصحوا بانسحاب‬ ‫استراتيجي من المشروع الشامل الذي يهدف لتحويل الواقع القائم‪ .‬يرتكز هذا التنصل‬ ‫على أن استمرار الصراع بين االشتراكية والرأسمالية (مع ما ينجم عنه من سياسة‬ ‫التالعب الثقافي بالجماهير) ال يم ّكن العالم الحديث من إمكانية تطوير ثقافة هامشية‬ ‫تحررية طليعية تستطيع أن تقطع الصلة (أو تفكر بذلك) بتاريخ القمع البرجوازي‪.‬ل‬

‫‪3‬‬


‫)اقترابا ً من مبدأ الفن للفن‪ُ ،‬‬ ‫ط ّور هذا الموقف ألول مرة (كنموذج للعمل عليه في مقالة)‪.‬ت‬ ‫”‪ “Avant Garde and Kitsch‬لكليمنت غرينبرغ عام ‪ .1939‬يختتم هذا المقال بكلمات‬ ‫غامضة إلى حد ما‪“ :‬اليوم نتطلع إلى االشتراكية ألنها ببساطة تحافظ‬ ‫على كل ثقافة حية موجودة”‪ .‬أعاد غرينبرغ صياغة هذا الموقف تحديدا ً‬ ‫ابمصطلحات شكلية في مقالته “اللوحة الحداثية” في عام ‪ ،1965‬حيث كتب‪:‬ي‬ ‫ل‬ ‫س<بَدَ ْ‬ ‫ت الفنون بعد أن أنكر التنوير جميع مهامها الجدية وكأنها ترفيهٌ ال أكثر‪ ،‬وبدا الترفيه كأنه‬ ‫دواء مثل الدِّين‪ .‬ال يمكن للفنون أن تنقذ نفسها من هذا االنحدار في المستوى إال بإظهار أن خبراتها‬ ‫لها قيمة في ذاتها‪ ،‬وال يمكن الحصول على هذه الخبرات من أي نوع آخر من األنشطة‪>.‬ب‬ ‫على الرغم من هذا الموقف الفكري الدفاعي إال أن الفنون استمرت في االنجذاب ليس‬ ‫بالضرورة نحو الترفيه لكن بالتأكيد نحو التسليع‪ ،‬وصارت مجرد تقنية أو تصويرية‬ ‫سينماية مثلما صنّف تشارلز جينكس عمارة مابعد الحداثة‪ .‬نجد في حالة التصويرية‬ ‫السينمائية أن معماريي مابعد الحداثة يغذّون المجتمع واإلعالم مجانيا ً بالصور المهدّئة‬ ‫بدالً من تقديمهم دعوة إبداعية للنظام كما يزعمون بعد أن ثبُت إفالس المشروع الحداثي‬ ‫التحرري‪ .‬في هذا الصدد كتب أندرياس هيسينيز قائالً‪“ :‬ولهذا فإن طليعية مابعد الحداثة‬ ‫في أمريكا ليست فقط نهاية اللعبة الطليعية‪ ،‬بل تمثل أيضا ً تهشيم وتراجع ثقافة اآلخر‪ ”.‬م‬ ‫على الرغم من ذلك يمكن القول بأنه لم يعد ممكنا ً تعريف الحداثة بشكل تبسيطي على أنها‬ ‫تحررية في حد ذاتها‪ ،‬والسبب في ذلك يرجع‪ ،‬من جهة إلى هيمنة صناعة اإلعالم على‬ ‫الثقافة الجماهيرية (وعلى رأس ذلك التلفاز الذي زادت قدرته على اإلقناع ألف مرة من‬ ‫‪ 1945‬وحتى ‪ ،1975‬كما يذ ّكرنا جيري ماندر)‪ ،‬ومن جهة أخرى إلى ّ‬ ‫أن مسار الحداثة قد‬ ‫ً‬ ‫أوصلنا إلى عتبة الحرب النووية وإبادة الجنس البشري بأكمله‪ ،‬وكذلك أيضا لم يعد بإمكان‬ ‫الطليعية أن تستمر كلحظة تحررية ألن العقالنية الداخلية إلعمال العقل تجاوزت طوباوية‬ ‫األولي‪ .‬ربما كان أفضل َمن صاغ هذه “الخاتمة” هو هربرت ماركوز عندما كتب‪:‬ا‬ ‫الوعد ّ‬ ‫ي<االستنتاج النظري التكنولوجي هو استنتاج نظري سياسي بقدر ما ينطوي تحول الطبيعة‬ ‫على تحول اإلنسان وكذلك بقدر قضية “إبداعات اإلنسان” مع إعادة إدخالها في المجتمع‪ .‬قد‬ ‫يصر على أن آلية الكون التقني “على هذا النحو” ال تبالي بالغايات السياسية‪-‬‬ ‫يظل المرء‬ ‫ّ‬ ‫يمكن أن تحدث ثورة في المجتمع أو تؤخره‪ ..‬ومع ذلك‪ ،‬عندما تأخذ التقنيات شكالً عالميا ً‬ ‫تصور تاريخا ً كامالً‪“ -‬عالَماً”‪ >.‬ذ‬ ‫لإلنتاج المادي فإنها تضع حدّا ً لثقافة بأكملها؛ فهي‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫ا‬

‫‪4‬‬


‫‪ -3‬العمارة الحساسة لإلقليم وثقافة العالم‬

‫موقف الطليعية المتاخرة‪ ،‬أي أن‬ ‫ال يمكن لل ِعمارة اليوم أن تستمر كممارسة هامة إال إذا أخذت‬ ‫َ‬ ‫ي الذي يعود إلى‬ ‫ي غير الواقع ّ‬ ‫تنأى بنفسها عن ك ٍّل من خرافة التقدم التنويري‪ ،‬ومن الدافعٍ الرجع ّ‬ ‫فنان ينتمي إلى الطليعية‬ ‫كل‬ ‫األشكال المعمارية الماضية في فترة ما قبل الصناعة‪ .‬يجب على‬ ‫ٍ‬ ‫المتأخرة أن يُبعد نفسه عن التحسين األقصى للتكنولوجيا المتطورة‪ ،‬وعن النزعة الدائمة‬ ‫لالنطفاء حنينا ً نحو الماضي والزخرفة المن ّمقة‪ .‬في اعتقادي أن فنان الطليعية المتأخرة هو فقط‬ ‫َم ْن يملك القدرة على رعاية ثقاف ٍة ذات هوية‪ ،‬ويسترشد بتعقّل في الوقت ذاته بالتقنية العالمية‬ ‫فمن الضروري تأهيل مصطلح الطليعية المتأخرة من أجل تخفيف نطاق نقدها كسياسة محافظة‬ ‫شعبوية أو إقليمية عاطفية‪ ،‬والتي غالبا ً ما تُلحق بها‪ .‬من أجل تأسيس الطليعية المتأخرة كاستراتيجية‬ ‫متجذّرة ونقدية‪ ،‬من المفيد أن نستخدم مصطلح ال ِعمارة الحساسة لإلقليم كما صاغها أليكس‬ ‫تزونيس وليليان ليفيفر في “الشبكة والمسار” (‪)1981‬؛ فهما يحذّران في هذا المقال من غموض‬ ‫اإلصالح المناطقي الذي بات يظهر بشكل واضح منذ الربع األخير من القرن التاسع عشر‪:‬ل‬ ‫سيطرت اإلقليمية على العمارة في جميع البلدان تقريبا ً خالل القرنين ونصف الماضيين‪ .‬من خالل التعريف العام‬ ‫والمجردة‪ .‬لكن‬ ‫يمكننا القول إن اإلقليمية تدعم الخصائص المعمارية الفردية والمحلية مقابل الخصائص العالمية‬ ‫ّ‬ ‫باإلضافة إلى ذلك تحمل العمارة اإلقليمية سمة الغموض‪ ،‬فمن جهة ارتبطت بحركات اإلصالح والتحرير‪ ،‬ومن‬ ‫جهة أخرى أثبتت أنها أداة قوية للقمع والتعصب الوطني‪ .‬من المؤكد أن العمارة الحساسة لإلقليم محدودة‪ .‬إن انتفاض‬ ‫الحركة الشعبية ‪-‬وهي شكل أكثر تطورا ً من النزعة اإلقليمية‪ -‬قد أبرز هذه النقاط الضعيفة إذ ال يمكن لعمارة جديدة‬ ‫أن تنشأ دون وجود نوع جديد من العالقات بين المصمم والمستخدم ومن دون أنواع جديدة من البرامج‪ ...‬وعلى‬ ‫الرغم من هذه المحدودية فإن العِمارة الحساسة لإلقليم هي جسر يجب أن تمر عليه أي عمارة إنسانية إلى المستقبل‪.‬‬

‫تتمثل االستراتيجية األساسية للعمارة الحساسة لإلقليم بعمل وسيط بين تأثير الحضارة العالمية مع‬ ‫عناصر مستمدة بشكل غير مباشر من خصائص مكان معين‪ .‬مما سبق‪ ،‬ال ِعمارة الحساسة لإلقليم تعتمد‬ ‫الحفاظ على مستوى عا ٍل من الوعي الذاتي النقدي‪ ،‬وقد تجد إلهامها اآلسر في أشياء مثل مدى ونوعية‬ ‫ي مستمد من نمط هيكل غريب‪ ،‬أو في تضاريس موقع معين‪ .‬ل‬ ‫الضوء المحلي‪ ،‬أو في جمال إنشائ ّ‬ ‫لكن كما اقترحتُ سابقا ً فإنه من الضروري التمييز بين ال ِعمارة الحساسة لإلقليم والمحاوالت‬ ‫الساذجة التي تعمل على إحياء أشكال محلية مفقودة‪ .‬تختلف الشعبوية عن العمارة‬ ‫تحرض على نقد الواقع بل‬ ‫الحساسة لإلقليم بأن داللتها صريحة ونفعية‪ ،‬وهذه الداللة ال‬ ‫ّ‬ ‫على التجريب المباشر عبر توفير المعلومات‪ .‬إن نهج الشعبوية هو الوصول بأقل كلفة‬ ‫مادية إلى مستوى إرضاء محدد مسبقا ً من الناحية السلوكية‪ .‬في هذا الصدد‪ ،‬ليس صدفة‬ ‫أبدا ً االقتراب القوي للشعبوية من أساليب اإلقناع والتصويرية اإلعالنية‪ ،‬فإذا لم ينتبه المرء‬ ‫لهذا فسيعتقد بأن التوجهات الغوغائية للشعبوية هي طاقة المقاومة في الممارسة النقدية‪.‬ا‬ ‫يمكن إثبات أن العمارة الحساسة لإلقليم بوصفها استراتيجية ثقافية هي حامل للثقافة‬ ‫العالمية بقدر ما هي وسيلة للحضارة العالمية‪ .‬إنه تضليل كبير أن نتصور أن ثقافتنا‬ ‫العالمية الموروثة تعني أننا جميعا ً ورثة للحضارة العالمية ومع ذلك‪ ،‬فنحن مبدئيا ً‬ ‫نخضع لتأثير االثنين‪ ،‬ولهذا ليس لدينا خيار سوى أن ندرك اليوم عالقتهما التفاعلية‪.‬‬ ‫في هذا الصدد‪ ،‬تتوقف ممارسة العمارة الحساسة لإلقليم على عملية األخذ بكليهما‪.‬ا‬ ‫‪5‬‬


‫في المقام األول‪ ،‬عليها “تفكيك” الطيف العام للثقافة العالمية التي ترثُها حكماً‪ .‬وفي المقام‬ ‫الثاني‪ ،‬عليها أن تكون تجسيدا ً نقديا ً للحضارة العالمية من خالل اصطناعات متناقضة ‪ .‬إن‬ ‫تفكيك ثقافة العالم يحتّم على المرء االبتعاد عن االنتقائية التي سادت في نهاية القرن والتي‬ ‫استخدمت أشكاالً غريبة وغرائبية من أجل إحياء التعبيرية في مجتمع منهك‪( .‬اليسع المرء‬ ‫إال أن يتذكر جماليات “الشكل‪-‬القوة” لدى هنري فان دي فيلدي أو “المنحنيات‪ -‬أرابيسك”‬ ‫فرض قيو ٍد على كمال‬ ‫لدى فيكتور هورتا)‪ .‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬يتضمن إدخال التقنية الشاملة‬ ‫َ‬ ‫التكنولوجيا الصناعية ومابعد الصناعية‪ .‬يبدو أن ريكور قد ألمح إلى الحاجة في المستقبل‬ ‫إلعادة صياغة المبادئ والعناصر المست َمدّة من أصول متنوعة ونُظم فكرية متباينة جداً‪ ،‬قال‪:‬ل‬ ‫م<ال يمكن ألحد أن يتنبأ بما ستؤول إليه حضارتنا إذا تالقت بشكل حقيقي مع حضارات مختلفة‬ ‫بدون صدمة الغزو والهيمنة‪ .‬لكن علينا أن نعترف بأن هذا اللقاء لم يحدث بعد على مستوى حوار‬ ‫حقيقي‪ ،‬ولهذا السبب ال نزال في فترة ركود وفراغ ولم يعد بإمكاننا خاللها إطالقا ً أن نتابع ممارستنا‬ ‫الغوغائية على ّ‬ ‫أن هناك حقيقة واحدة فقط النستطيع التغلب على الشكوك التي تعتريها‪>.‬بب‬ ‫أعرب المعماري الهولندي ألدو فان إيك عن مشاعر موازية ومك ِ ّملة لهذا السياق حينما‬ ‫عرف الحضارة الغربية الحضارات‬ ‫كتب في ذلك الوقت وبمحض المصادفة‪“ :‬عادة َ ما ت ُ ِ ّ‬ ‫األخرى استنادا ً إلى فرضية التفوق أي أن الحضارة التي ال تشبهها فهي منحرفة أو أقل‬ ‫تطور أو بدائية‪ ،‬أو في أحسن األحوال ذات غرابة مثيرة مع االحتفاظ بمسافة أمان‪”.‬ل‬ ‫وضّح المهندس المعماري في كالفورنيا هاملتون هارويل هاريس عندما كتب‬ ‫منذ ما يقرب ثالثين عاما ً أن العمارة الحساسة لإلقليم ال يمكن أن تعتمد هكذا‬ ‫ببساطة فقط على األشكال الموجودة لألصليين في منطقة معينة‪ ،‬حيث قال‪:‬ب‬ ‫في مواجهة العمارة اإلقليمية المق ِيّدة‪ ،‬يوجد نوع آخر وهو العمارة اإلقليمية التحريرية التي‬ ‫تظهر في المنطقة التي تقوم بتعديالت تتوافق بشكل خاص مع الفكر الناشئ في زمنها‪ .‬نحن‬ ‫تطور منطقة ما أفكارا ً وقد‬ ‫ي” وذلك فقط ألنه لم يظهر في مكان آخر‪ .‬قد ّ ِ‬ ‫نسمي هذا “إقليم ٌّ‬ ‫تتقبل أفكارا ً أخرى‪ ،‬ويكون الخيال والذكاء ضروري لكل من التطوير أو التقبّل‪ .‬في كاليفورنيا‬ ‫في أواخر العشرينيات والثالثينيات من القرن الماضي التقت األفكار الحداثية األوروبية‬ ‫بإقليمية صارمة ومقيِّدة قاومت الحداثة في البداية ثم استسلمت‪ ،‬إذ قبلت نيو إنغالند الحداثة‬ ‫األوروبية بكلّيتها والسبب هو ّ‬ ‫أن طابعها اإلقليمي كان عبارة عن مجموعة من المقيّدات‪.‬ب‬ ‫يمكن أن تشرح لنا كنيسة باجسفيرد لجورن أوتزن بتفصيل مدى تحقيق تآلف‬ ‫واعي بين الحضارة العالمية والثقافة العالمية‪ُ .‬‬ ‫شيّدت الكنيسة بالقرب من كوبنهاغن‬ ‫في عام ‪ ،1976‬وهذا العمل يستمد معناه مباشرة من عالقة تجمع من جهة بين‬ ‫عقالنية األسلوب المتعارف عليه‪ ،‬ومن جهة أخرى العقالنية تُمي ُّز هذا الشكل‪.‬ر‬ ‫وتكونه أوالً من وحدات الخرسانة المصبوبة‬ ‫بقدر تنظيم هذا المبنى حول شبكة منتظمة‬ ‫ّ‬ ‫في المكان‪ ،‬وثانيا ً من جدران بيتونية مسبقة الصنع‪ ،‬بإمكاننا اعتباره حقا ً حصيلة‬ ‫حضارة عالمية‪ .‬إن نظام البناء هذا الذي تشتمل مراحله على استخدام بيتون مصبوب‬ ‫في الموقع وبيتون مسبق الصب قد جرى تطبيقه بالفعل مرات ال تحصى في جميع‬ ‫أنحاء العالم المتقدم‪ .‬ومع ذلك فإن عالمية هذه الطريقة المثمرة ‪-‬والتي تشمل هنا على‬ ‫ألواح مزججة في السطح‪ -‬تتوسط بشكل حاد بين النموذج المثالي للقشرة الخارجية‬ ‫واألقل مثالية للسقف المصنع من الخرسانة المسلحة الممتد على طول صحن الكنيسة‪.‬ب‬ ‫‪6‬‬


‫ب‬

‫من الواضح أنها طريقة غير اقتصادية نسبيا ً للبناء‪ ،‬حيث اختير وعولج أوالً لقدرته الترابطية‬ ‫المباشرة ‪-‬أي أن السقف يدل على الفضاء المقدس‪ -‬وثانيا ً لصلته المتقاطعة مع ثقافات متعددة‪.‬‬ ‫في حين أن صحن الكنيسة ذو الخرسانة المسلحة يحتفظ منذ وقت طويل بمكانة راسخة داخل‬ ‫الشريعة الكنسية التكتونية للعمارة الحديثة الغربية‪ ،‬لكن نجد المقطع المشغول عليه والمعتمد في‬ ‫هذا المثال ليس مألوفاً‪ ،‬والسابقة الوحيدة لمثل هذا الشكل في السياق المقدس موجودة في الشرق‬ ‫وليس في الغرب‪ ،‬وهي سقف المعبد الصيني البوذي‪ ،‬الذي است َشهد به أوتزن في مقالته الرئيسية‬ ‫“المنصات والهضاب” لعام ‪ .1963‬على الرغم من أن صحن كنيسة “باجسفيرد” الرئيسي يدل‬ ‫بشكل تلقائي على طبيعتها الدينية‪ ،‬لكن يحدث ذلك بطريقة تُستبعد فيها أية قراءة غربية أو شرقية‬ ‫في الفضاء العام والمقدس‪ .‬القصد من هذا التعبير بالطبع هو علمنة الشكل المقدس عن طريق‬ ‫استبعاد الدالالت الدينية المعتادة ومعها ردود األفعال العلمانية عليها‪ .‬يمكن القول إن هذه طريقة‬ ‫أكثر مالءمة لتقديس الكنيسة في عصر شديد العلمانية‪ ،‬حيث عادة ً ما تتحول أي إشارة رمزية‬ ‫للكنسية إلى ذوق سيء‪ .‬وللمفارقة‪ ،‬فإن الالقدسية في باجسفيرد تجدّد بناء قاعدةٍ للروحانية‪،‬‬ ‫وهذا برأيي أرضية إلعادة تأكيد اإلقليمية على األقل لشك ٍل من أشكال الروحانية الجماعية‪.‬ت‬

‫‪7‬‬


‫‪ -4‬مقاومة الشكل‪-‬المكان‬ ‫ي جان غوتمان للمدن الكبيرة في عام ‪ 1961‬تابع انتشاره في جميع‬ ‫تعريف الجغراف ّ‬ ‫أنحاء العالم المتقدم لدرجة أننا لم نعد قادرين أن نحافظ على أشكال حضرية محددة‬ ‫باستثناء المدن التي بُنيت قبل نهاية القرن‪.‬ؤلقد شهد الربع األخير من القرن تدهور‬ ‫مايسمى التصميم الحضري إلى موضوع نظري اليرتبط خطابه كثيرا ً بالحقائق العملية‬ ‫للتطور الحديث‪ ،‬وحاليا ً دخل حتى االختصاص اإلداري الفائق للتخطيط الحضري في‬ ‫أزمة‪ .‬إن المصير النهائي للخطة التي أُعلن عنها رسميا ً إلعادة بناء روتردام بعد الحرب‬ ‫العالمية الثانية له داللة في هذا الصدد‪ ،‬ألن وضعها المتغير مؤخرا ً يشهد على االتجاه‬ ‫الحالي لحصر كل المخططات في تخصيص استخدام األراضي ولوجستيات التوزيع‪.‬ب‬ ‫حتى وقت قريب نسبياً‪ ،‬كان يُدقّق المخطط الرئيسي لروتردام ويُحدّث كل عشر‬ ‫سنوات في ضوء المباني التي بنيت في األثناء‪ ،‬ومع ذلك في عام ‪ 1975‬وبشكل‬ ‫ف هذا اإلجراء الثقافي الحضري التدريجي لصالح نشر خطة بنية‬ ‫غير متوقع توقّ َ‬ ‫ً‬ ‫تحتية غير مادية ُوضعت على نطاق إقليمي‪ .‬تهتم مثل هذه الخطة حصريا بالتصور‬ ‫اللوجيستي للتغيرات في استخدام األراضي وبالزيادة في أنظمة التوزيع الحالية‪.‬ب‬ ‫يزودنا مارتن هايدغر في مقاله عام ‪“ 1954‬البناء والمسكن والتفكير” بوجهة نظر‬ ‫نقدية حول ظاهرة الالمكان العالمي وهي ضد المفهوم الالتيني أو باألحرى المفهوم‬ ‫التجريدي القديم للفراغ باعتباره ليس أكثر من مكونات مكانية أو أعداد صحيحة‬ ‫مقسمة بالتساوي ومستمرة ال نهاية لها ‪-‬مايصفه الفراغ واالمتداد‪ -‬كما يعارض‬ ‫‪.Raum‬‬ ‫ل‬ ‫هايدجر الكلمة األلمانية للفراغ (أو باألحرى المكان)‪ ،‬وهو مصطلح راوم‬ ‫يجادل هايدجر بأن الجوهر الظاهري لمثل هكذا فراغ‪/‬مكان يعتمد على الطبيعة‬ ‫تعرف بوضوح حدودها‪ ،‬ألنه كما يقول “الحدود ليست هي التي يتوقف‬ ‫المادية والتي ِ‬ ‫عرفها اإلغريق”‪.‬يب‬ ‫عندها شيء ما‪ ،‬لكن هي التي يبتدئ وجود شيء منها‪ ،‬كما ّ‬ ‫بعيدا ً عن تأكيد أن العقل التجريدي الغربي له أصوله في الثقافة القديمة للبحر األبيض‬ ‫المتوسط‪ ،‬فإن هايدجر يوضّح أن المباني األلمانية مشتقة ومرتبطة بشكل وثيق باألشكال‬ ‫القديمة للوجود والزراعة والمسكن‪ ،‬ويستمر في توضيح أن حالة “المسكن” وبالتالي‬ ‫“الوجود” يمكن أن تحدث فقط في مجا ٍل محدد بوضوح‪ .‬على الرغم من أننا قد نظل‬ ‫مفهوم على هذه الدرجة من‬ ‫متشككين فيما يتعلق بميزة ترسيخ الممارسة النقدية في‬ ‫ٍ‬ ‫الميتافيزيقية (ماورائية) مثل الوجود‪ ،‬فإننا عندما نواجه الالمكان في بيئتنا الحديثة‬ ‫نطرح مع هايدغر الشرط المسبق المطلق لمجال محدود من أجل إنشاء عمارة مقا ِومة‪.‬ل‬ ‫المعرف فقط هو الذي سيسمح لنموذج البناء بالوقوف ضد عملية التدفق الالنهائي‬ ‫هذا الحد‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫للمدن العمالقة‪ ،‬وبالتالي سيكون قادرا على التحمل بالمعنى التأسيسي‪ .‬إن الشكل‪-‬‬ ‫ي أيضا ً لما وصفته هانا أرندت “فضاء المظهر‬ ‫المكان المحدِّد في وضعه العام ضرور ٌ‬ ‫ً‬ ‫اإلنساني”‪ ،‬إذ إن تطور القوة الشرعية كان دائما يعتمد على وجود “المدن” وعلى وحدات‬ ‫مماثلة من المؤسسات واألشكال المادية‪ .‬في حين أن الحياة السياسية للمدن اليونانية لم‬ ‫تنبع مباشرة من الوجود المادي والتمثيل لدولة المدينة فقد برزت الخصائص التقسيمية‬ ‫للكثافة الحضرية على عكس المدن الكبرى‪ .‬هكذا كتبت أرندت في “حالة اإلنسان”‪:‬ر‬ ‫‪8‬‬


‫العامل المادي الوحيد الذي ال غنى عنه في توليد القوة هو عيش الناس مع‬ ‫بعضهم‪ .‬تكون احتماالت العمل موجودة دائما ً فقط حيث يعيش الرجال بالقرب من‬ ‫بعضهم البعض وتظل القوة معهم وبالتالي أساس المدن؛ وتكون المدن نموذجا ً‬ ‫لكل التنظيمات السياسية الغربية وهو الشرط األساسي األكثر أهمية للسلطة‪.‬ل‬ ‫الشيء أكثر يمكن إزالته من جوهر الوالية‪-‬المدينة السياسي من مبررات المخططين‬ ‫الحضريين اإليجابيين مثل ميلفن ويبر‪ ،‬الذين لديهم مفاهيم أيديولوجية مثل (مجتمع‬ ‫بدون تشابه) و(الالمكان الحضري) وهي بال معنى دون إشعارات مبدعة تفسّر وجود‬ ‫حقيقة عامة في الموتوبيا الحديثة‪ .‬عبّر عن التحيز لمثل هذه األيدولوجيات بوضوح‬ ‫كتاب روبرت فنتوري “التعقيد والتناقض في العمارة” ‪ ،1966‬حيث يؤكد المؤلف‬ ‫أن األمريكيين ال يحتاجون إلى ساحات عامة فهم في المنزل يشاهدون التلفاز‪ .‬تؤ ّكد مثل‬ ‫هذه المواقف الرجعية عجز الجماهير المتحضرة الفاقدة بشكل متناقض هدف تحضّرها‪.‬ل‬ ‫بينما تنسب استراتيجية الحساسية اإلقليمية لنفسها ‪-‬على النحو المبين أعاله‪-‬‬ ‫المحافظة على الكثافة والصدى التعبيري في العمارة المقاومة (أي الكثافة الثقافية‬ ‫التي يمكن أن يقال في ظل ظروف اليوم أنها تحررية في حد ذاتها ألنها تفتح للمستخدِم‬ ‫التجارب المتعددة)‪ ،‬إذ يُعتبر توفير الشكل‪-‬المكان ضروريا ً بنفس الدرجة للممارسة‬ ‫النقدية‪ ،‬ألن البنية المقا ِومة بالمعنى التأسيسي تعتمد على مجال محدد بوضوح‪ .‬ل‬ ‫ضر(منطقة في المدينة محاطة بالشوارع‬ ‫لعل المثال األعم لهذا الشكل الحضري هو ال َمحْ َ‬ ‫وعادة ما تحتوي على العديد من المباني)‪ ،‬وعلى الرغم من استحضار أنماط أخرى ذات‬ ‫صلة‪ ،‬مثل األروقة والفناء الداخلي والفراغ األمامي والمتاهة‪ ،‬تبقى هذه األنماط في كثير‬ ‫من الحاالت اليوم مجرد أدوات الستيعاب الفضاء العام ( مثل التفكير في الهياكل الضخمة‬ ‫الحديثة في اإلسكان والفنادق ومراكز التسوق وما إلى ذلك)‪ ،‬واليمكن للمرء حتى في هذه‬ ‫األمثلة أن يقلل بشكل كامل من العوامل السياسية الكامنة والمقا ِومة إلمكانيات الشكل‪-‬المكان‪.‬ن‬

‫‪9‬‬


‫‪ -5‬الثقافة مقابل الطبيعة‪ :‬التضاريس والسياق والمناخ والضوء‬ ‫والشكل التكتوني‬ ‫تنطوي العمارة الحساسة لإلقليم بالضرورة على عالقة جدلية مباشرة مع الطبيعة أكثر‬ ‫من التراث الرسمي األكثر تجريدية في العمارة الطليعية الحديثة‪ .‬من البديهي أن اتجاه‬ ‫الستخدام أمثل لمعدّات تحريك‬ ‫التحديث في تابوال راسا (البدء من جديد بسجل نظيف) يميل‬ ‫ٍ‬ ‫تظم بها البناء‪ ،‬وهنا‬ ‫التربة نظرا ً ألن المعطيات الثابتة هي أكثر النماذج اقتصاديةً حيث ي ْن ِ‬ ‫يلمس المرء من جديد هذه المقابلة األساسية بين الحضارة العالمية والثقافة األصلية‪ .‬من‬ ‫الواضح أن التجريف للتضاريس ليصبح موقعا ً مسطحا ً هي لفتةٌ تكنوقراطية تطمح إلى‬ ‫فرض شرط الالمكان بشكل مطلق‪ ،‬ويكون تدريج الموقع هو عملية “زراعة” للموقع‪.‬ب‬ ‫من الواضح أن هذا الرؤية والعمل يجعالن المرء يستذكر مرة أخرى تفسيرات هايدجر‪،‬‬ ‫وطريقة المعماري السويسري ماريو بوتا “بناء الموقع”‪ ،‬وفي هذه الحالة تكون ثقافة المنطقة‬ ‫درجةً في شكل العمل واكتماله‪ .‬إن لهذه الكتابات‪ ،‬التي‬ ‫أي تاريخها الجيولوجي والزراعي‪ُ -‬م َ‬‫تنشأ من “تضمين” البناء في داخل الموقع له عدة مستويات من األهمية‪ ،‬فلشكل البناء قدرة‬ ‫على تجسيد قِدَم المكان إلى ماقبل التاريخ وماضيه األثري‪ ،‬وماتاله من زراعة وتحول عبر‬ ‫الزمن‪ .‬من خالل هذه الطبقة في الموقع نجد تعبير خصوصية المكان دون الوقوع بالعاطفية‪.‬ل‬ ‫ما ينطبق على حالة طبوغرافية األرض ينطبق أيضا ً على النسيج الحضري الحالي‪،‬‬ ‫وعلى ما يطرأ على المناخ وتغيرات الضوء المحلي‪ .‬وهكذا يجب أن يكون التعديل‬ ‫والدمج الحساس لهذه العوامل بحكم التعريف تعارض بشكل أساسي االستخدام األمثل‬ ‫للتقنية الشاملة‪ ،‬وربما يكون هذا أكثر وضوحا ً في حالة التحكم في الضوء والمناخ‪ .‬من‬ ‫الواضح أن النافذة العامة هي النقطة األكثر حساسية التي تؤثر فيها هاتان القوتان‬ ‫الطبيعيتان على الغطاء الخارجي للمبنى‪ ،‬حيث تتمتع عملية التزجيج بقدرة فطرية‬ ‫تدمغ العمارة مع طابع المنطقة وبالتالي يكتمل تعبير المكان الذي يقع فيه العمل‪.‬ل‬ ‫إلى وقت حديث كان يٌفضّل االستخدام الحصري للضوء الصناعي في جميع المعارض‬ ‫الفنية ولربما لم تجري معرفة كافية حول تقليص العمل الفني ليصبح سلعة ألن مثل‬ ‫هذه البيئة يجب أن تُظهر العمل في الالمكان‪ .‬هذا ألن طيف الضوء المحلي ال يُسمح له‬ ‫أبدا ً‬ ‫بالتكون على سطحه‪ :‬وهنا نلحظ ّ‬ ‫أن فقدان الهالة ‪-‬التي عزَ اها والتر بنجامين‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫إلى عمليات اإلنتاج الميكانيكي‪ -‬ينبع من تطبيق ثابت نسبيا للتكنولوجيا العالمية‪.‬ل‬ ‫إن العكس من ممارسة “الالمكانية” يكمن في توفير إضاءة كاملة للمعارض الفنية من خالل‬ ‫شاشات مراقبة مفتعلة لتجنب التأثيرات الضارة ألشعة الشمس المباشرة‪ ،‬ولتغير الضوء المسلط‬ ‫على المعرض بتغيير الزمن والفصول والرطوبة‪ ،‬الخ‪ .‬تضمن مثل هذه الظروف ظهور وعي‬ ‫شاعري بالمكان كنوع من التقنية الناجمة عن تفاع ٍل بين الثقافة والطبيعة وبين الفن والضوء‪.‬ب‬

‫‪10‬‬


‫من الواضح أن هذا المبدأ ينطبق على جميع عمليات الفتح ضمن المبنى بغض‬ ‫النظر عن الحجم والموقع‪ .‬ينشأ “انعكاس إقليمي” ثابت للنموذج مباشرة ً من حقيقة‬ ‫أن الفتحة الزجاجية في بعض المناخات تكون متقدمة‪ ،‬بينما في حاالت أخرى‬ ‫تتراجع خلف واجهة البناء (أو محمية من قبل كاسرات للشمس قابلة للتعديل)‪.‬ل‬ ‫إن الطريقة التي توفر بها هذه الفتحات التهويةَ المناسبة تشكل أيضا ً عنصرا ً غير عاطفي‬ ‫يعكس طبيعة الثقافة المحلية‪ .‬من الواضح هنا أن الخصم الرئيسي للثقافة المتجذرة هو مكيّف‬ ‫الهواء واسع االنتشار الذي يستخدم في جميع األوقات واألماكن دون األخذ بعين االعتبار‬ ‫الظروف المناخية المحلية وقدرتها على التعبير عن المكان والتغيرات الموسمية للطقس‪.‬‬ ‫وأينما حدثت فإن النافذة ال ُمعالَجة ونظام تكييف الهواء يدالن على هيمنة التقنية العالمية‪.‬ل‬ ‫على الرغم من األهمية القصوى للتضاريس والضوء فإن المبدأ األساسي لالستقاللية المعمارية‬ ‫يكمن في التكتونية بدالً من السينوغرافيا‪ :‬بمعنى أن هذا االستقالل يتجسد في الصالت‬ ‫الظاهرة في البناء وفي طريقة مقاومة الهيكل للجاذبية‪ .‬من الواضح من خالل هذا الحديث أن‬ ‫الناقل (الجائز) وحامل الحمل (العمود) ال يمكن أن يو َجدا إذا كان الهيكل مخفيا ً وإال فيجب‬ ‫إخفائهما‪ .‬من ناحية أخرى‪ ،‬ال ينبغي الخلط بين التكتونية وبين التقنية البحتة‪ ،‬ألن التكتونية‬ ‫أكثر من مجرد الكشف البسيط عن المجسمات أو التعبير عن الهيكل اإلنشائي‪ ،‬فقد أظهر‬ ‫جوهرها ألول مرة خبير الجماليات األلماني كارل بوتشر في كتابه “التكتونية عند اإلغريق”‬ ‫صها هو المؤرخ المعماري ستانفورد أندرسون عندما كتب‪:‬ؤ‬ ‫‪1852‬؛ وربما أفضل من لخ ّ‬ ‫ب‬ ‫ال يشير مصطلح “التكتونية” فقط إلى كيفية تجسيد مواد البناء‪ ...‬بل يشير باألحرى إلى‬ ‫يطوع الشكل الوظيفي لكي يع ِبّر عن وظيفته‪.‬‬ ‫االرتقاء بالبناء إلى شكل فني‪ ..‬يجب أن‬ ‫َّ‬ ‫أصبح التحدب الطفيف باألعمدة اليونانية بمثابة وسيلة الختبار مفهوم التكتونية‪.‬ء‬ ‫ل‬

‫والحرف‬ ‫يبقى مفهوم التكتونية لنا اليوم وسيلة إلمكانية اللّعب بين تركيز المواد‬ ‫ِ‬ ‫اليدوية والجاذبية وذلك ليبدو عنصر واحد تكثيفا ً للهيكل بأكمله‪ ،‬ويمكن‬ ‫الحديث هنا عن عرض شاعري هيكلي بدالً من إعادة عرض لواجهة‪.‬ل‬

‫‪ -6‬المرئي مقابل الملموس(المحسوس)‪:‬ب‬ ‫تشير المرونة الملموسة للمكان‪-‬الشكل وقدرة الجسم على قراءة البيئة بعبارات ال تقتصر على‬ ‫الرؤية بل على استراتيجية محتملة لمقاومة هيمنة التكنولوجيا العالمية‪ .‬إن الرؤية هي عامل‬ ‫ي‬ ‫مهم في قراءة المبنى لكن علينا تذكير أنفسنا بأن الملموسية هي بُعد مهم في إدراك الشكل المبن ّ‬ ‫أيضاً‪ .‬يوجد في اعتبارات المرء مجموعة كاملة من التصورات الحسية المكملة المسجلة على‬ ‫الجسم الخاضع للتغيير مثل‪ :‬شدة الضوء والظالم والحرارة والبرودة والشعور بالرطوبة ورائحة‬ ‫المواد‪ ،‬مع شعور الجسد باالحتواء‪ ،‬ونشاط الجسد مابين السرعة والسكون عند االنتقال‪ ،‬باإلضافة‬ ‫إلى صدى أصوات أقدامنا‪ .‬كان لوتشينو فيسكونتي مدركا ً جيدا ً لهذه العوامل عند إنتاج فيلم‬

‫‪11‬‬


‫‪The Damned‬ألنه أصر على أن تكون مجموعة األرضيات الرئيسية في قصر ألتونا خشبية‬ ‫حقيقية‪ ،‬إذ كان يعتقد أنه من دون أرضية صلبة تحت أقدام الممثلين لن يكونوا قادرين على تمثيل‬ ‫مواقف مناسبة ومقنعة‪ .‬هناك حساسية مماثلة لهذا تظهر في مبنى بلدية ساينتسالو الذي صممه‬ ‫ملموس‬ ‫ألفارو ألتو عام ‪ .1952‬الطريق الرئيسي المؤدي إلى قاعة المجلس في الطابق الثاني‬ ‫ٌ‬ ‫ي‪ ،‬ونجد الدرج مصنوع من الطوب المشوي أي اآلجر وكل عناصر الدرجة‬ ‫بقدر ما هو مرئ ّ‬ ‫(النائمة والقائمة) مصنوعة من الطوب‪ ،‬وبهذا يؤدي احتكاك خطوات الجسد باألرضية اآلجر إلى‬ ‫التحقق من الدفع الحركي للجسم أثناء استخدام الدرج والذي “يُقرأ” بعد فترة وجيزة‪ ،‬على عكس‬ ‫األرضية الخشبية للقاعة التي تؤكد مكانتها المتميزة من خالل الصوت والرائحة والملمس ناهيك‬ ‫عن اهتزازات األرضية السفلية نتيجة الخشب (والميل الملحوظ إلى فقدان توازن الشخص على‬ ‫سطحه المصقول)‪ .‬يوضح هذا المثال أن األهمية التحريرية للملموس تكمن في حقيقة أنه ال يفسَّر‬ ‫إال بالتجربة ذاتها‪ :‬أي ال يمكن اختزالها إلى مجرد معلومات أو تمثيل أو إلى استذكار زائف بدالً‬ ‫من الحضور‪ .‬بهذه الطريقة تسعى العمارة اإلقليمية الحساسة إلى استكمال معاييرنا في التجربة‬ ‫بصرية من خالل قراءة الملموس عبر اإلدراك الحسي‪ .‬وفي محاولتنا لذلك يتحقق التوازن بين‬ ‫األولوية المعطاة للصورة ومقاومة النزعة الغربية لتفسير البيئة برؤية اصطالحية‪ ،‬إذ وفقا ً‬ ‫لتفسيرات الغرب فإن المنظور يعني الرؤية المعقولة أو الرؤية الواضحة‪ ،‬وبالتالي فإنه يفرض‬ ‫قمعا ً للوعي في حواس الشم والسمع والذوق‪ ،‬مما ينجم عنه االبتعاد عن تجربة مباشرة مع البيئة‪ .‬م‬ ‫س ّمى هايدغر هذا القيد المفروض على الذات “فقدان القرب”‪ ،‬وفي محاولة لمواجهة هذا الفقدان يعارض‬ ‫ي‬ ‫الملموس نفسه سينوغرافيا ً ويرخي ال ُح ُجب فوق سطح الواقع‪ .‬إن للملموس قدرة تعود بالمعمار َّ‬ ‫إلى شعرية البناء وإلى إنشاء أعما ٍل تعتمد فيها قيمة كل مكون تكتوني على كثافة موضوعيته‪.‬ل‬ ‫يمتلك ك ٌّل من الملموسية والتكتونية معا ً القدرة على تجاوز المظهر التقني مثلما يملك‬ ‫هجوم ال هوادة فيه من الحداثة العالمية‪.‬ا‬ ‫الشكل‪-‬المكان القدرة على الثبات في وجه‬ ‫ٍ‬

‫‪12‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.