اﻟﻌﺪد / ٣١ :اﻟﺴﻨﺔ اﻟﺴﺎﺑﻌﺔ ) /ﻳﻮﻟﻴﻮ -أﻏﺴﻄﺲ( ٢٠١٢ ﻣﺠﻠﺔ ﻋﻠﻤﻴﺔ ﻓﻜﺮﻳﺔ ﺛﻘﺎﻓﻴﺔ ﺗﺼﺪر ﻛﻞ ﺷﻬﺮﻳﻦ ﻣﻦ إﺳﻄﻨﺒﻮل
w w w. h i r a m a g a z i n e . c o m
الدنيا واإلنسان في طريق عصية على السير تمضي.. تنوء بك األثقال.. تلهث وراء طول أمل قاتل.. ويحك من ساذج مهوس باألحالم.. هائ ٍم بتسويل الشيطان... ***
المجتمع المثالي
سلطة الكلمة وقوتها
السراج النبوي ينير درب البشرية الحائرة
االفتتاحية اإلنسان المثالي
العدد31: السنة السابعة (يوليو -أغسطس) 2012
وفارس اإلدراك بطل البصيرة تنشد اإلنسان المثاليَ ، من خالل رؤية كونية توحيدية ُ َ َّ ال���ذي تص���دق عليه حقيق���ة أنه ُخلق في "أحس���ن تقويم" .من خالل ه���ذه الرؤية وذلكم "اإلنس���ان" من ش���تى جوانبه وفي أبرز المنظ���ور ،تعال���ج مجلة حراء في عددها الجديد، َ أبع���اده؛ الماديةِ ،والروحيةِ ،واالجتماعيةِ ،والبياني���ةِ ،والعمرانيةِ ،واإليمانيةِ ،والحضاري ِة أساسا ،و"المجتمع المثالي" مرصعا بمعاني "اإلنسان وغيرها ...ولذا جاء المقال الرئيس َّ ً ِّ المؤس���س على حقيقة "جمال اإلس���الم تباعا؛ هذا المجتمع ،وذلك اإلنس���ان، المثالي" ً َّ الذاتي وجاذبيته األصيلة" وعلى "ن َفس القرآن الذهبي الذي يبعث الحياة في النفوس". ش���رح وم���ن خ���الل س���ؤال مثي���ر للفض���ول" :لم���اذا ال تهض���م المع���دة نفس���ها؟!" َّ "الش���هاوي" إح���دى بدائ���ع صن���ع اهلل ف���ي اإلنس���ان ،كذلك فع���ل "الخراط" ف���ي تحليله ل�"أس���رار الجلد البش���ري" .وعن اإلنس���ان في س���لَّم الكون والكائنات ،ناقش عبد اإلله عم���د الكون" وعمدت���هَّ ...أما عن ب���ن مصب���اح قضية بالغ���ة األهمية ،وهي َّ أن "اإلنس���ان َ ال عالق���ة اإلنس���ان بم���ا يحيطه من مخلوقات مس���خرة ل���ه ،فنقرأ إلبراهيم أب���ي عيانة مقا ً َّ وبينات هي س���ر من أسرار بعنوان "اإلنس���ان والنبات" .ولإلنس���ان كالم وكلمات ،وبيان ِّ ���ان َعل ََّم ُه إل ْن َس َ ���ر َ آن َخل ََق ا ِ ﴿الر ْح َم ُ ���ن َعل ََّم ا ْل ُق ْ خلق���ه وخلقت���ه ،عنها ق���ال تعالىَّ : وقوتها". ال َْب َي َ ان﴾(الرحمن ،)4-1:وفي هذا النس���ق كتب "محمد جكيب" عن "سلطة الكلمة ّ أوجها ناصع��� ًة من كرامة وم���ا دام الوق���ف ،والعم���ران ،ومظاه���ر الحضارة األخ���رى ً اإلنس���ان ،فق���د كتب "نعم���ان ترك أوغل���و" عن "الوق���ف العثماني ..حض���ارة واقتصاد"، والعصراني عن "الوقف في التكافل االجتماعي" ،كما أبرز "بركات" مس���ار البحث عن هوية العمارة اإلسالمية. ويب���رز مقال الش���يخ عل���ي جمعة في تناول���ه ل�"المنهاج النبوي والقضاي���ا االجتماعية الكب���رى" ،ولق���د أجم���ل فيه أس���س ه���ذا المنهج في نقاط س���تة ه���ي :االهتم���ام بالعلم، والعمل ،والتوازن ،والعدل ،ومراعاة األعراف ،والتدرج في التشريع. ولق���د كان لح���راء حضور حيوي في ملتقيات عدي���دة كان من بينها المؤتمر العالمي بعنوان "الس���راج النبوي ،ينير درب البش���رية الحائرة" ،باالش���تراك مع مجلة "يني أوميد" أزيد من ستين دولة، بمدينة "غازي عنتب" شرق تركيا؛ ولقد عرف هذا الحدث مشاركة َ المعا ...وكذل���ك المتلقى الدولي عن "النور الخالد" منتدى بح���ق ف���كان ٍّ ً جامعا ،وحد ًثا ً ً في جاكرتا ،بالتنسيق مع "كرسي األستاذ فتح اهلل كولن" في الجامعة اإلسالمية الوطنية؛ وق���د ُعقد بمناس���بة ترجمة كتاب "الن���ور الخالد ،محمد مفخرة اإلنس���انية" إلى اللغة مشهودا. ويوما بارزا، األندونيسية ،فكان حد ًثا ً ً ً ول���م يغ���ب الش���عر عن هذا الع���دد ،ويبقى الرج���اء قمي ًنا أن يلتحم الش���عور الصادق صالحا ،وحضارة أصيلة نافع���ة ...ويومها فقط يمكننا أن عم���ال بالفه���م الح���اذق ،ليثمرا ً ً المطمئن الغ���ور، نودِع "إنس���ان الجس���د" القصي���ر النظر ،ونصافح "إنس���ان الغاية" البعيد ّ ِّ َ القلب على الدوام ...الذي نذر نفسه لإلنسانية يخدمها بمعرفته وعرفانه ...هذا اإلنسان الذي ينهض بشجاعة خارقة ،وعزيمة صادقة ،إلزالة الظلم من كل أنحاء األرض.
المحتويات المجتمع المثالي /فتح اهلل كولن (املقال الرئيس) لماذا ال تهضم المعدة نفسها؟ /صالح عبد الستار الشهاوي (علوم) اِ ْهزْم نفسك /حراء (ألوان وظالل) اإلنسان ع َمد الكون /د .عبد اإلله بن مصباح (قضايا فكرية) الوقف العثماني ..حضارة واقتصاد /نعمان ترك أوغلو (تاريخ وحضارة) المنهاج النبوي والقضايا االجتماعية الكبرى /أ.د .علي مجعة (دراسات إسالمية) أسرار الجلد البشري /د .حذيفة أمحد اخلراط (علوم) ماء الحياة /حراء (ألوان وظالل) بحثًا عن "العمارة الهوية" /أ.د .بركات حممد مراد (ثقافة وفن) االستيعابية الفكرية للكينونة البشرية في رسائل النور /أديب إبراهيم الدباغ (قضايا فكرية)
ولكنُّ .. كلنا في الهم ُ شوق /د .حممد باباعمي (أنشطة ثقافية) اإلنسان والنبات /د .إبراهيم عبد الباقى أبوعيانة (علوم) تجليات الصبح /مرام البار (أدب) سلطة الكلمة وقوتها / 1-د .حممد جكيب (أدب) صالة الروح /أ.د .عبد العزيز املقاحل (شعر) أثر الوقف في التكافل االجتماعي /حممد أمحد املعصراين (ثقافة وفن) من تضاريس الجالل /صاحل الزهراين (شعر) حول مفهوم الحضارة /أ.د .حسن األمراين (ثقافة وفن ) مؤتمر السراج النبوي ينير درب البشرية الحائرة /صابر عبد الفتاح املشريف (أنشطة ثقافية) السلطان سليم ..الخادم األمين /نور الدين صواش (حمطات علمية وحضارية)
2 5 7 8 13 16 21 24 25 29 32 37 41 42 46 48 52 53 56 62
المقال الرئيس فتح اهلل كولن
المجتمع المثالي
إن المجتم���ع المثال���ي ه���و ال���ذي يتكون من
وآيات أخرى في المعنى نفس���ه ..هو المدرِ ك يم﴾(التي���ن)4: َت ْق ِو ٍ ٌ
وجزيئا ُتها المتخبط���ة التي ّ تتش���كل أجزاؤه���ا ُ
وس���واه في أروع الص���ور المعنوية ،فكان بدي���ع الصنع ،متفرد ّ
مثاليي���نّ .أم���ا تل���ك األك���وام الهائم���ة أف���راد ّ وصدة م���ن المس���اوئ واآلث���ام ،فهي حش���ود فارغ���ة عقيم���ة ُم َ
أبوابها أمام كافة ألوان الخير والفضيلة والجمال. ُ
اإلنس���ان المثال���ي ،أو اإلنس���ان الكام���ل –كم���ا عب���ر عن���ه
القدم���اء -ه���و المتح ّلي بصف���ات مالئكية ..هو بط���ل البصيرة وف���ارس اإلدراك ..ه���و المنتب���ه إل���ى الحقيق���ة الكب���رى الت���ي ���ن عب���رت عنه���ا اآلية الكريمةَ ﴿ :ل َق ْد َخ َل ْق َنا ا ِ ���ان ِفي َأ ْح َس ِ إل ْن َس َ السنة السابعة -العدد (2012 )31
2
يقين���ا أن الب���اري ق���د خلق���ه في أجم���ل األش���كال المادية، ً
يم﴾ ب���كل ما يعنيه ص���دق عليه حقيق���ة ﴿ َأ ْح َس ِ الهيئ���ةَ ،ت ُ ���ن َت ْق ِو ٍ
التعبي���ر ..وه���و كذلك العارف بكنه اآلية الش���ريفة التي تقول: او ِ ات َوا َ َ ض َوا ْل ِجب ِ ال َف َأ َب ْي َن َأ ْن أل ْر ِ الس َم َ َ ﴿ ِإ َّنا َع َر ْض َنا األ َما َن َة َع َلى َّ الخبير ���ان﴾(األحزاب،)72: َي ْح ِم ْل َن َها َو َأ ْش��� َف ْق َن ِم ْن َها َو َح َم َل َها ا ِ إل ْن َس ُ ُ المرش���ح الوحيد بمضامينه���ا العميقة الواس���عة ..إن���ه يعلم أنه َّ بي���ن جمي���ع الكائنات -المرئية منه���ا والمعروفة -للعروج إلى
تاما أنه آف���اق ال نهائي��� ٍة ،وهو ٍ وعي���ا ًّ واع ً
مجه���ز بِطاق���ات و ُق���درات مفتوح���ة إلى ّ ومس���توعب س���بل استثمار الالمحدود، ٌ "المواه���ب األول���ى" الت���ي منحه���ا إي���اه
الفاطر جل وعال.
الوعي وتلكم أجل ،إنه إنسان ذلكم ِ
البصيرة.
تمكنه من اس���تثمار ولهذا ،فإنه بقدر ّ
مواهب���ه األولى التي وهبها له الباري
منة من���ه وفضالً ،وبق���در كدحه إلمضاء ّ
حيات���ه تح���ت أن���وار الوح���ي وألالء ِ وجه���ده ف���ي توفي���ة اإلرادة اإللهام���ات،
به���ا ،وال تح���زن بانقط���اع العطاي���ا وال
الإن�ص��ان املث��ايل ،متوا�ص��لُ الغو���ص والتقلي��ب يف اأعماق احل��وادث والأ�ص��ياء بحثً��ا عن ف��رغ كل احل��ق واحلقيق��ة ..قد ّ وقته ووظّف كل طاقته لتحقيق �صعادة الأمة ،مو ِليًا عناية خا�صة باملواقع التي يراها اأ�ص�� ّد حيوية واأكرث جدوى للأجيال القادمة، حي مو ِق ًفا نف�صه عليها قائلِ " :لتَ َ الأجيالُ القادمة".
حقه���ا ،وبق���در براعت���ه ف���ي تنمي���ة تلك
تي���أس منه���ا ..فالعط���اء والحرم���ان ف���ي يغت���ر بعضه���م نظره���ا س���يان ..إذ بينم���ا ّ
حرم منه فيتحس���ر بالعط���اء فيطغ���ى ،أو ُي َ يائسا ويشقى ،تجد تلك الروح الواصلة ً الورود في قلب قد عرفت كيف َتستنبت َ
الس���كر م���ن جوف الف���الة ،وتس���تخرج ّ أرباحا متنامية حتى في القصب ،وتحقق ً مواسم الكساد والخسران.
اإلنس���ان أج���ل ،حت���ى ل���و أصاب���ت َ أش���د ِ وفت���كا، الم َح���ن قس���وة المثال���ي ً ُّ ّ وعتوا، أكبر الدوامات رهبة ًّ وأحدقت به ُ ممر طويل فلسوف يرى نفسه سائرا في ّ ً
ِ ونجاحه في المواهب وتفتيقها مثل حبة أنبتت س���بع س���نابل،
من االمتحانات ،ينتهي به إلى ألوان ش���تى من التوفيق المؤكد
يمكنه سلوك الصراط الهادي إلى ذروة "اإلنسان الكامل".
أصع���ب لحظاته -بنس���مات م���ن األنس والس���كينة القادمة من
تمكنه من ذلك كله إطالقه���ا نح���و األبدي الالمتناهي ..بق���در ّ الدوامة بألف س���ؤال اإلنس���ان المثال���ي يموج عق ُله م���وج ّ َ
ويغذ وس���ؤال ،ويواص���ل التنقيب ع���ن الحقيقة َبن َه���م عجيب، ّ
يفك شفرة ألف لغز ولغز؛ فتراه متو ّقد الذهن السير ُق ُد ًما لكي ّ متو ّثب البحث عن أجوبة لألسئلة الكونية الكبرى" :ما الحياة، وما الموت ،وما حقيقة الكون ،وما عالقته باإلنسان ،وما معنى
العبودية هلل ،وماذا تعني الطاعة له ،وما اإلثم ،وما الثواب ،وما ِ لم به؟" ..في الوقت لم باإلنسان ،ولماذا ُت ّ حقيقة الم َحن التي ُت ّ ش���يد من بوارق الحكمة التي ال ذاته تراه مش���تعل الفؤاد ..قد ّ
والف���وز المبي���ن ،ولس���وف يح���س -ف���ي أس���وء خطوب���ه وعند الح ُج���ب تط���وف ف���ي أرجاء روحه بِر ّق���ة ونعومة ،فيركع وراء ُ
منكسرا وقد امتألت نفسه بمشاعر خاضعا بين يدي اهلل تعالى ً ً الحمد والعرفان ،وفاضت بأحاسيس الشكر واالمتنان.
حد لها ،وطمأنينة ال غاية اإلنس���ان المثالي ،يمتلك ثقة ال ّ
شك بعناية القدرة المطلقة، بعدها ،ألنه يؤمن إيما ًنا ال يخالجه ّ ويوق���ن ب���أن اهلل قادر على كل ش���يء ،وأن حكمه نافذ في كل
المتجذر في أعمق وإن ذلكم اإليمان الصافي الرقراق ّ ش���يءّ .
ورؤيته وعقيد ُته التي أكس���بت تص���و ُره أعم���اق قلب���ه ،وكذلك ُ ّ
تك���ف عن الوميض في س���ماء وجدانه ،ومن نس���مات اإللهام ّ
عال���م روحه أبعادا جدي���دة تتجاوز جميع مقاييس العقل ..كلُّ ً
ش���امخة ..ثم س���ما حت���ى بلغ قمة تلك الص���روح ..فأبصر كنه
مكن في تلك اللحظة من أن ُينصت إلى ذاته كل شعور .فلو َت ّ ّ ال َت َخا ُفوا بأ ُذن تعي تلك األعماق ،فلس���وف يسمع همسات ( َأ َّ
صروحا نورانية الت���ي ال تنقطع عن تجلياتها في أرجاء روحه، ً األش���ياء ،واكتش���ف ملكوتها ،وأدرك ما ُطوي منها وراء ستار
كل إحساس ،وتتفوق على ذلك يرقى به إلى قمة تس���مو على ّ
الحب المنظ���ور ..فاتجه إلى المصدر الحقيقي للروح ،يغمره ّ ���زر االنبهار ..ثم وته���زه الهيبة نتيج���ة تقلبه بين ّ ّ وج ْ مد الحيرة َ ذاب ف���ي نش���وة من الس���كينة ال توص���ف ،ولذة م���ن الطمأنينة
ِ ِ َ ِ ون)(فصلت،)30: َو َ وع ُد َ ���م ُت َ ���روا بِا ْل َج َّن���ة ا َّلتي ُك ْن ُت ْ ال َت ْح َز ُن���وا َوأ ْبش ُ ون)(النحل،)32: (س َ ���م َت ْع َم ُل َ أو َ ���ال ٌم َع َل ْي ُك ُم ْاد ُخ ُل���وا ا ْل َج َّن َة ب َِما ُك ْن ُت ْ أكرم بها من متعة ،ويغوص في نشوة ولس���وف َيسبح في متعة ِ
روحا قد وصلت تلك القمة الس���امقة َليس���توي لديها وإن ً
وألن اإلنس���ان المثالي يؤمن بال���دار اآلخرة من كل ه���ذا، ّ قلبه ،فسوف يمضي ِسني عمره وينظم شؤون حياته وفق تلك
تسمو على كل تعبير.
والحرمان ،فال تفرح باأللط���اف المتعاقبة وال تزهو اإلحس���ان ُ ُ
ما بعدها نشوة.
3
السنة السابعة -العدد (2012 )31
الدار ..وس���يبذل قصارى جهده الجتن���اب كل ُجرم أو مظلمة
أو فساد ..ويظل في جهاد مستمر مع نفسه دون كلل أو ملل، أبدا ..بل ومن ثم فلن يسقط في براثن العبثية ومتاهة اإلباحية ً
ستبقى عيناه متعلقتين بجمال السفوح الزاخرة بتجليات الخليل الس���رمدي والولي األبدي ..ويظل عقله في نش���وة غامرة وقد
وع���ى معنى األبدية والخلود ..ويغ���دو قلبه روضة من رياض الجن���ان ،تبتس���م فيها األلوان الزاهية ،وترف���رف فوقها األرواح الطاه���رة غادي���ة رائحة ..إذ يدرك ح���ق اإلدراك أنه ما جاء إلى
سائحا ،يشاهد الجمال ،ويتأمل مسافرا هذا العالم العجيب إال ً ً
مبهورا. مشدوها الكمال ،ويتجول في أرجائه المترامية ً ً
ووظف كل طاقته لتحقيق سعادة األمة ،مو ِل ًيا عناية خاصة وقته ّ
أشد حيوية وأكثر جدوى لألجيال القادمة، بالمواقع التي يراها ّ األجيال القادمة" ..ثم يمضي مو ِق ًفا نفس���ه عليها قائالِ " :ل َتحي ُ َ وقد أدى واجبه -ال يلتفت إلى الوراء وال يلوي على شيء.إن���ه يس���عى ليل نهار ابتغ���اء مرضاة الحق تعال���ى من ّق ًبا عن
الص���دق الخال���ص .ف���ال الرغبة ف���ي االس���تمتاع الم���ادي تثنيه تعكر صفاء تألق الروح بالكرام���ات الخارقة ّ ع���ن وجهته ،وال ُ
نظرت���ه ..فه���و يؤم���ن أن العبودي���ة هلل أعظم قيمة ف���ي الوجود. وف���ي ض���وء ه���ذا الميزان يرى أبس���ط ِ أعظم من���ه مرتبة العب���اد َ وأس���مى منزل���ة ،وبالتال���ي ُينزله���م منزل���ة التاج م���ن الرؤوس.
ملذاته وبينم���ا يقضي "إنس���ان الجس���د" كل حياته خل���ف ّ
وإذا م���ا لفحه ه���ؤالء بنيران م���ن الغلظة والخش���ونة واإلنكار
طمأنينة ،فإن "إنس���ان الغاية" س���عيد النفس مطمئن الفؤاد على
مث���ال أعلى في أواره���ا .وهك���ذا يقدم ً ص���دره إل���ى أن َيخم���د ُ
أسيرا لرغباته النفسانية دون أن يبلغ ما ينشده من الجس���مانيةً ، الدوام ..فهو بطل الروح والمعنى ..الذي نذر نفس���ه لإلنسانية يخدمه���ا بمعرفت���ه وعرفان���ه ..وال���ذي نهض بش���جاعة خارقة
وعزيمة صادقة إلزالة الظلم من كل أنحاء األرض ..فهو -إذا
اقتض���ى الح���ال -ال يد له عل���ى َمن ضربه ،وال لس���ان له على عرف له َمن ش���تمه ،بل يبس���ط جناح عفوه حتى على من لم َي ِ
صنيع���ه ..وهو -إذا َج ّد ِ الص ّوال في يقدر إليه ق���دره أو ّ الج ّدّ - َ َ الجوال ف���ي مواقع المقارعة والنزال ببس���الة ميادي���ن الرجال، ّ
وبترا، منقطعة النظير ..ولو أن السيوف نالت من أطرافه َق ً طعا ً وفتكا ..ولو أن الجراح أثخنته من طعنا ً والرماح ّ دكت جسده ً
الع َلم قمة رأسه حتى أخمص قدميه ،وصبغت مالبسه بصبغة َ وتكس���رت رماحه في يديه ،وباتت س���يوفه ال تقطع.. األحمر، ّ مقتحما أجل ،حتى في تلك اللحظة ،فإنه سوف يهمز جواده، ً
ال قلوب حص ًادا للرؤوس ومزلز ً طعا ًنا للصدورّ ، به الصفوفّ ،
الظ َلمة بزئير كزئير األسود المزمجرة. َّ
يقينا أن كل ش���يء ما خال اهلل إن بط���ل ال���روح ه���ذا ،يؤمن ً
زائل ،لذلك ال ينحني أمام أحد ،وال يركع إزاء أي شيء ،وال ويسخر كل ما لديه يقيم كل ما يملكه، ّ يغره ُّ أي إغراء مادي؛ بل ّ ّ
بمشاعر رجال اآلخرة وتصورات لرفع كلمة اإلسالم ،مشحو ًنا ِ متواص���ل الغ���وص والتقليب ف���ي أعماق أبن���اء الخل���ود .فه���و ُ
فرغ كل الح���وادث واألش���ياء بح ًثا ع���ن الحق والحقيقة ..ق���د ّ السنة السابعة -العدد (2012 )31
4
لفح تل���ك الني���ران ويحتويها في وع���دم التقب���ل ،فإن���ه يمت���ص َ المنهج والس���لوك ،ويع ّلم ه���ؤالء الذين ال علم لهم باألصول أدب درء الس���يئة بالحس���نة .أج���ل ،ف���ي عالمه وال األس���لوب َ
ت���ر ُد الصواع���ق والب���وارق عل���ى قلب الداف���ئ الناع���م الرقي���ق ِ
العيون ن���ور ،فتولد م���ن جديد وتنمو ف���ي قلب النور لتض���يء َ والقل���وب بوه���ج النور ..وفي عالمه المبته���ج باألنوار تتحول َ
أل���وان ش���تى من الني���ران النمرودي���ة المتعاقبة إلى برد وس���الم
وأنس���ا. ف���ي كل حي���ن ،لتنف���ح النفوس الخش���نة المتمردة ر ّقة ً
يبدو أننا -وال سيما البعض منا -لم نفلح في السمو إلى هذا ّ
المرتقى من االس���تواء والنضج بعد ..وألننا كذلك ،ال نحسن
والحقد بالحقد، العنف بالعنف، فنواجه دفع الس���ئية بالحسنة، َ َ ُ والخشون َة بالخشونة ِ نفسها؛ بل ونقع في خطأ كبير عندما نظن
أف���كارا ،ونخلط بي���ن عواطفنا الذاتي���ة وكفاحنا الذي أهواءن���ا ً نتكبد خسائر فادحة في أغلب نكابده باس���م اإلسالم ،ولذلك ّ
كنا سائرين في مواطن الكسب ومواسم الربح. األحيان بعد أن ّ الحقيقة أنه لوال جمال اإلسالم الذاتي وجاذبيته األصيلة،
تعذر س القرآن الذهبي الذي يبعث الحيا َة في النفوسَ ..ل ّ ولوال ن َف ُ ّ م���ع أدائنا الناقص الرديء ،وتمثيلنا الواهي المتداعي ،أن َتب ُلغ هذه األمان ُة المقدس ُة وتلك الدعو ُة النبيل ُة إلى ما بلغته اليوم. (*) الترجمة عن التركية :نوزاد صواش.
علوم
صالح عبد الستار الشهاوي*
لماذا ال تهضم المعدة نفسها؟ يتك���ون جس���م أو ج���دار المع���دة م���ن طبقتين
مرة كل عشرين ثانية ،وهو ما نسميه "التمعج".
طبقات من األلياف العضلية (خارجية طولية،
ف���ي ثنيات طويل���ة عندما تخل���و المعدة ،ولكنه ينبس���ط عندما
مكون���ة م���ن ث���الث رئيس���تين :طبق���ة عضلي���ة َّ ووس���طى دائرية ،وداخلي���ة مائلة) .ووظيف���ة عضالت المعدة؛
ال غليظ طحن الطعام وخلطه بعصارة المعدة حتى يصبح سائ ً الق���وام ه���و "الكيموس" ،ثم دفعه نحو األمع���اء الدقيقة بفضل
موجات من التقلص ،تسري في المعدة من أعالها إلى أدناها
أم���ا الطبق���ة األخرى ،فهي الغش���اء المخاطي الذي يتجمع
تمتلئ وتكس���و الغش���اء طبقة من المخاط ،لها أهمية كبيرة في حماية جدار المعدة ،وتنتشر بالغشاء المخاطي المبطن لجدار المعدة ( )35مليون غدة معدية ،وهي المعروفة ب�"الليزوسوم"
( ،)Lysosomesوه���ي عبارة ع���ن تركيب خلوي ( )Organelleيفرز
5
السنة السابعة -العدد (2012 )31
أنزيم���ات لتكس���ير وتفكيك الم���واد الغريبة ف���ي داخل الخلية ،لماذا ال تهضم المعدة نفسها؟ يوميا. حي���ث يقوم بإفراز العصارة المعدية بواقع ثالث لترات ًّ
فلم ال تهضم المع���دة م���ن لحم ...والمع���دة تهضم اللح���مَ ...
( ،)Pepsinوأنزي���م الرينين ،وحم���ض الهيدركلوريك ،باإلضافة
المع���دة لها غش���اء مخاطي يق���وم بوقاية بطان���ة المعدة من
هضما يعمل أنزيم الببسين على هضم البروتينات -فقط- ً
باقي عضيات الخلية من تأثير هذه األنزيمات ،ألن األنزيمات
ه���ذه العصارة المعدي���ة تتكون من خميرة أو أنزيم "الببس���ين"
المعدة نفسها؟!
إلى العامل الداخلي المنشأ الالزم المتصاص فيتامين (ب.)12
حمض الكلور وأنزيم "الببسين" ،ولكن ال يوجد غشاء يحمي
جزئيا على هيئة ببتونات ،وبعد ذلك تعمل أنزيمات األمعاء على ًّ
الهاضمة موجودة فقط داخل هذه العضيات :الليزوسوم وهي
إتمام الهضم .والببسين يفرز في المعدة على شكل غير فعال، حتى إذا وصل إلى تجويف المعدة ،حوله حمض الهيدركلوريك
إلى الش���كل الفع���ال ،وذل���ك للحيلولة دون قيام ه���ذا األنزيم
بهض���م البروتين���ات في الخالي���ا التي تفرزه وهي الليزوس���وم.
وظيفة المعدة
وظيفة المعدة األساسية هي هضم المواد الغذائية التي نتناولها وخاصة المواد البروتينية ،أي تكس���يرها إلى جزيئات صغيرة،
حيث تق���وم جدران المعدة القوية بالضغط على الطعام ألربع ساعات يتحول بعدها الطعام إلى شبه سائل.
ومعنى الهضم ،أن يتم تكسير كل األجزاء الكبيرة إلى أبسط
صورها ،إما ليتم امتصاصها مباشرة إلى الدم ،أو أن يقام عليها عمليات أخرى ليتم هضمها إلى أبسط ما يمكن أن يمتص بالدم. فإن لم يتم ذلك التكسير بصورة جيدة ،وجدنا المشكالت
الصحية الكبيرة؛ كسوء التغذية واألنيميا ،وعدم هضم البروتين
تق���وم بابتالع األجس���ام الغريبة المراد هضمه���ا إلى داخلها ثم
تق���وم بهضمه���ا ،وبذل���ك تبق���ى األنزيم���ات معزولة ع���ن باقي أج���زاء الخلية؛ وذلك عام���ة أحد طرق موت الخاليا المريضة
أو الخاليا التي انتهى عمرها عن طريق انفجار هذه العضيات،
وتسرب األنزيمات إلى باقي أجزاء الخلية وتحللها ،ثم موت الخلية (.)Apoptosis
ولم���اذا ال تقوم ه���ذه األنزيمات بهضم الليزوس���وم وباقي
التراكيب الخلوية ( )Organelleالموجودة داخل المعدة؟
إن االنحن���اءات في ج���دار المعدة الداخل���ي والتعرجات،
موج���ودة في القناة الهضمية ،ويختلف عمقها من مكان آلخر حس���ب الوظيفة للمكان التي توجد فيه .نراها في المعدة تكاد
هضم ،أي البد أن يكون تكون معدومة ،وهذا ألن الطعام هنا ُي َ
تماما تماما لج���ودة العملي���ة واختالط الطع���ام ً الوع���اء أمل���س ً جيدا. بالعصارة المعدية ليتم هضمه ً
جدا ،وفيها معادلة لألحماض والمعدة فيها تعاريج بسيطة ًّ
واالنتفاخ���ات ،وغي���ره م���ن أم���راض الجه���از الهضم���ي الت���ي
والقلوي���ات ( )PHالت���ي تدخل الجس���م ،معنى ه���ذا أن المعدة
ه���ي التخزي���ن ،والخل���ط ،واإلف���راز ،والتخلص م���ن البكتريا؛
ال ،وال تهضم نفس���ها من عصارتها الذاتية لتحم���ي جدارها أو ً
بالعصارة المعدية.
ج���دا من المخاط الخ���ارج .كما أن المعدة بها غش���اء س���ميك ًّ
كثي���را م���ا تؤرق الناس كله���م .وللمعدة أرب���ع وظائف أخرى، ً
ج���دا لتحميها م���ن األحم���اض والقلويات؛ به���ا آلي���ة خطي���رة ًّ
إذ تعتص���ر جدران المع���دة الطعام وتطحن���ه ،وتعجنه وتخلطه
الت���ي تفرزها ،ومن األحم���اض والقلويات التي ت���رد إليها من
والمع���دة دوره���ا حي���وي لي���س فق���ط ف���ي ه���ذه الص���ورة،
( ،)Mucusه���ذا المخاط يعمل كع���ازل بين ما هو داخل المعدة
هيدروجيني���ة" ،بمعن���ى أن تنظ���م المع���دة الرق���م الهيدروجيني
���مك في الجدار الداخلي هذا الغش���اء متصل متساوي ُّ الس ْ
أيض���ا ألنها تعادل المواد التي تدخ���ل إليها معادلة "أس وإنم���ا ً
وخاليا المعدة.
بم���ا يناس���ب الحامضية التي يك���ون عليها الدم .ألن���ه لو ابتلع
للمع���دة ،إال م���ن بع���ض المناط���ق الت���ي ُتخ���رج منه���ا المعدة
الص���ورة؟ فهو خط���ر على جميع الخاليا واألنس���جة األخرى.
وع���ادة ما يك���ون مركز هذه القن���وات للداخل ف���ي التجاويف
قلويا ،كيف يسير إلى تيار الدم بهذه شيئا اإلنس���ان ً حامضيا أو ًّ ًّ
عصارتها المعدية ،سنجد عندها أن الغشاء المخاطي خفيف،
ل���ذا ف���دور المعدة ،معادلة ه���ذه الحامضية إلى أن تصل لنفس
جدا لسطح المعدة الداخلي. البسيطة ًّ
درجة حامضية الدم ،هذه المعادلة هي ما يطلق عليها "."PH السنة السابعة -العدد (2012 )31
6
أم���ا هذا المخاط فتفرزه خاليا متخصصة اس���مها "الخاليا
جدا من المخاطي���ة" ( )Goblet Cellsالت���ي تف���رز كمية كبي���رة ًّ
يومي���ا ،وهي منتش���رة بكثرة في الج���دار الداخلي المخ���اط ًّ للمعدة لتجدد تلك الطبقة العازلة للمعدة.
يرج���ع ذل���ك إل���ى أن اهلل قد بطّ ن ج���دار المعدة من
الداخل ببطانة عجيبة معجزة ،تتجدد خالياها بسرعة مذهلة تص���ل إلى نص���ف مليون خلية ف���ي الدقيق���ة ،بحيث تتجدد
ف���ي فت���رة تتراوح بين يوم إلى ثالث���ة أيام .وهي بذلك تفوق الس���رعة التي تعم���ل بها العص���ارة المعدية بم���ا تحتويه من حم���ض الهيدروكلوري���ك واألنزيم���ات الهاضم���ة األخرى
دائما، إلذاب���ة تلك البطان���ة ،كما أن هذه الخالي���ا المتجددة ً تعم���ل عل���ى تكوين حاجز س���ميك تفصل به غش���اء المعدة وجدرانه���ا الداخلي���ة ع���ن الحمض واألنزيم���ات الهاضمة،
وهذا ما ُيطلق عليه "الحاجز الميكانيكي".
في الوقت الذي تتدفق فيه العصارة المعدية إلى تجويف
المع���دة لتختل���ط بالطع���ام ،ف���إن بطان���ة المعدة تق���وم بإفراز
المخ���اط وهو قلوي التأثير ،إذ يلتصق هذا المخاط بغش���اء المعدة وكأنه مرهم أو كريم ،ويقوم بمعادلة الحمض ويمنع
تأثيره .والمخاط بذلك يعمل كحاجز كيميائي يحمي غشاء المعدة وجدرانها من التآكل أو الهضم.
خالي���ا المع���دة قلوي���ة التأثي���ر ،وهي بذلك غير مناس���بة
لنش���اط وعمل أنزيم الببس���ين ،كما أن الغش���اء الذي يغ ّلف الخالي���ا المبطن���ة للمع���دة ل���ه خاصي���ة عجيب���ة ،حي���ث ال
يس���مح هذا الغش���اء بنف���اذ أنزي���م الببس���ين وكذلك حمض
الهيدروكلوريك.
تحت���وي خاليا بطانة المعدة عل���ى مضادات لألنزيمات
الهاضمة ،وتقوم هذه الخاليا بااللتصاق مع بعضها التصا ًقا
وثي ًقا ،بحيث ال تسمح بالنفاذ ألي مادة هاضمة من تجويف المعدة إلى جدران المعدة الداخلية.
إذن ،كلما توغلنا في أسرار خلق اهلل وعايناه كلما شعرنا
﴿و َما بم���دى جهلنا وضآلة علمنا ...وص���دق اهلل حين قالَ : ���ن ُأو ِت ُيت ْم ِم َن ا ْل ِع ْل ِم ِإ َّ ال َق ِلي ً اركَ ا ُ هلل َأ ْح َس ُ ال﴾(اإلس���راءَ ﴿ ،)85:ف َت َب َ ين﴾(المؤمنون.)14: ا ْل َخا ِل ِق َ (*) باحث في التراث العربي واإلسالمي /مصر.
7
السنة السابعة -العدد (2012 )31
ِا ْهزمْ نفسك اِتّ ِق ْد إيمانًا،
اشتعل، ولهبًا ْ مصباحا، ودع روحك ْ ً في كل األماكن تضيء!... قاوم نفسك واهزمها، ْ وانتصر عليها، وكن كما اإليمان يريد... ***
قضايا فكرية
د .عبد اإلله بن مصباح*
اإلنسان عمد الكون تشييد المبنى من المعلوم في كل بناء أن يسبق َ
الحلل وكمال التناس���ق تتناغ���م ألحانه���ا بين جم���ال التألق في ُ
أن يك���ون مبن���اه كان اإلنس���ان ف���ي ل���ب معناه
ل���ه األلح���ان ،إنما هو اإلنس���ان الم���وكل إليه خالف���ة األرض.
تحدي���د المعنى .كذلك هو ش���أن الكون ،قبل ُ
وسر المغزى من ترتيب ُنظمه؛ َ عين القصد من تصميم ُنسقهَّ ،
ف���ي العِ ل���ل ،دالة لك على أن الذي تزينت له األكوان وترنمت فالكون ،هذا البناء الرائع ذو النس���ق الكامل حول األرض ،ال
تحديد المعنى الذي من أجله تشييد مبنى الكون بحيث س���بق ُ َ
يمك���ن أن ُيتص���ور بهذه الروعة في الجمال وهذا التناس���ق في
متأم���ال منظومة الكون بين أس���طُ ر وقف���ت ُصم���م نظام���ه .فإذا ً َ
مس���تحضرا في صلب موضوعه ال���ذي من أجله ُخلق ،إذ كان ً
أقيم وهو اإلنسان ،الذي على مقاسه ُف ّصل بنيانه وعلى طباعه
وأبح���ر معناها ،فس���تجدها تش���دو لك بمعزوف���ة رائعة مبناه���ا ُ السنة السابعة -العدد (2012 )31
8
الكم���ال ،إال لمعنى دقيق وقصد عميق غاي ُته اإلنس���ان الكامل
منذ اللحظة األولى لبنائه.
االنكماش بفعل مباشر منه سبحانه ،كما الكون نسيج متجانس ِ ���ك ﴿و ُي ْمس ُ ف���إذا اس���تقريت مجم���ل المش���اهدات ورد ذل���ك في قول���ه تعالىَ : عمد ال�صماوات اإن الإن�ص��ان َ ���ع َع َل���ى ا َ ال ِبإ ِْذ ِن ِه ض ِإ َّ أل ْر ِ مس���تحضرا هذه الفلكي���ة لعلماء الفضاء ���م َاء َأ ْن َت َق َ الس َ َّ ً معنى ل العامل إن ا و أر���ص، ل وا اس َلر ُء ٌ ِ يم﴾(الحج.)65: إ َِّن ا َ المعان���ي ،فس���تجدها ُتجلّي ل���ك الكون هلل ب َّ وف َرح ٌ ِالن ِ َ إن ا و إن�صان، ل ا وجود بدون له ولذل���ك ف���اهلل لما وصف لن���ا ظاهرة متجانس���ا" ( )Cosmic Webف���ي "نس���يجا ً ً الإن�ص��ان كان املق�ص��ود م��ن التوس���ع ،نس���ب المهمة إلى ذات���ه العلية "توس���ع" ( )Expansionغي���ر مح���دود، وأنه يتوالها س���بحانه بفعل مباشر صادر خل��ق ال�صم��اوات والأر�ص، يجري ف���ي جميع "االتجاهات الكونية" عن قوته الخفية .وأكد لنا سبحانه ذلك، ( )Isotropyوكأن األرض في وسطه .هذا ف��اإذا انق�ص��ى اأجل��ه خ��رت من خ���الل صيغ���ة التوكيد الت���ي جاءت التوس���ع الكوني ال���ذي انطلق مع حادثة أر���ص ل ا عل��ى ال�صم��اوات ﴿و ِإ َّن���ا َلم ِ ون﴾ للداللة ���ع َ فتق الرت���ق التي رفعت الس���ماوات عن به���ا اآلي���ة َ وس ُ ُ إىل ا العمارة وانتقلت بزوال��ه، مضادا عل���ى قوة في الفع���ل ،تقابل فعالً ًّ األرض ،المشار إليها في القرآن الكريم الآخرة من اأجله. تمثل���ه تلك القوة الجاذبة التي تعمل في ين َك َف ُروا بق���ول اهلل تعالىَ ﴿ :أ َول َْم َي َر الَّذِ َ االتج���اه المعاكس على تجميع األجرام ات َوا َ َ او ِ ض َكا َن َت���ا َر ْت ًق���ا أل ْر َ ���م َ الس َ أ َّن َّ في الك���ون ،الذي من خ���الل خصائصه اه َما﴾(األنبي���اء ،)30:والمعب���ر عنه���ا َف َف َت ْق َن ُ شديدا إلى االنقباض. ا نزوع يبدي الفيزيائية ً ً ف���ي العلوم الفلكي���ة بكلم���ة ( )Big Bangأو "االنفجار العظيم"، ولع���ل ذل���ك م���ا خلص���ت إلي���ه نتائ���ج أح���دث أبح���اث هو س���ارٍ في الكون بس���رعة تنافر بين المج���رات ،تزداد بنفس النس���بة التي ت���زداد بها المس���افة الفاصلة بينها كم���ا تقر بذلك علم���اء الفض���اء م���ن مجموعتي���ن مختلفتين للبح���ث العلمي؛ نظري���ة "هاب���ل" )1(.وعلي���ه فبم���ا أن س���رعة ه���ذا التوس���ع تبقى مجموع���ة " ،"Supernova Cosmology Projectومجموع���ة متصاعدة بتصاعد المس���افات الفاصلة بين المجرات ،دون أن
ُتم���د بأية ق���وة محركة رغم وج���ود عامل التج���اذب الحاصل بي���ن المج���رات ،اللهم إال تلك الق���وة األولية الناتجة عن وقع
االنفجار الذي تولد عنه فتق الرتق ،فذلك يعني أن هذا التوسع
الساري في الكون هو قائم بقوة قادر ،كما دلت عليه اآلية في ون﴾(الذاريات)47: اها ِب َأ ْيدٍ َو ِإ َّنا ل َُموسِ ُع َ الس َم َاء َب َن ْي َن َ قوله تعالىَ : ﴿و َّ
التي توحي بأن اهلل هو الذي يتولى مهمة التوسيع بفاعلية منه،
يبثها سبحانه في الكون ليظل في انتشار مستمر .وال ينبغي أن ُيفهم التوسع على أنه نتيجة عفوية لفارق الكثافة بين األجرام وم���ادة الك���ون ،تنجم عنه قوى نابذة ت���ؤدي إلى تنافر األجرام
وتباعده���ا ف���ي الكون ،كش���أن بالونات ه���واء موضوعة داخل جسم مادي أكثر كثافة كالماء مثالً؛ فهي البد أن تتصاعد إلى
أعلى وتتنافر في اتجاهات مختلفة ،فهذا ال يمكن أن يحصل ف���ي الكون ،ألن عام���ل الجاذبية بين األج���رام يلعب من جهة
دورا مضا ًّدا. أخرى ً
إذن ،هناك قوة تتولى توس���يع الكون في نس���ق التناغم بين
مكوناته ،ولوالها ألطبقت السماوات على األرض والنقبض الكل على اإلنس���ان .وتلك هي قوة اهلل التي تحفظ الكون من
()2 تبين لهما من " ."High-Z Supernova Teamهاتان المجموعتان َّ خالل المش���اهدات الفضائية وقائع مذهلة؛ اكتش���ف الباحثون من خاللها مجرات بعيدة تتباعد عن مجرتنا بس���رعات تفوق بكثي���ر م���ا ينبغي له���ا أن تكون عليه .مما يعني -كما فس���روه- أن س���رعة التوس���ع في الكون تتصاعد كما ل���و أن قوة غامضة س���موها "الطاقة الظلم���اء" تعارض قوة الجاذبي���ة بين األجرام ّ الت���ي تعمل من جهته���ا على تجميع الكون وانكماش���ه .وهذا جعلهم يندهشون ،واضطرهم إلى اإلقرار بضرورة وجود قوة خارق���ة ف���ي عالم آخر يقابل هذا الذي نحن فيه ،هي التي تمد عالمنا بالطاقة وتتولى تدبير نظمه كما جاء في تقاريرهم.
الس ْبح والفاعلية الذاتية َّ
م���ن جهة أخ���رى ،إذا رجعنا إل���ى ما تنطوي علي���ه حقيقة هذا التوسع الكوني ،من خالل وقوفنا على حركة األجرام السماوية في نس���ق هذا التوس���ع المعبر عنها في كتاب اهلل بعملية السبح ﴿كلٌّ فِي َفل ٍ ون﴾(األنبياء،)33: ال���واردة في قوله تعالىُ : َك َي ْس َ���ب ُح َ فس���نجد أن ظاه���رة التوس���ع الكون���ي -حتى تنضبط في نس���ق منس���جم -كان الب���د له���ا أن تقت���رن بتناغم الفاعلي���ات الذاتية المبذولة من مختلف األجسام السماوية.
9
السنة السابعة -العدد (2012 )31
فف���ي االصط���الح اللغ���وي واالس���تعمال القرآن���ي لكلم���ة
"س���بح" ،نج���د أن هذه الكلم���ة تعني كما ق���ال القرطبي رحمه
َ���ك فِي َا َّلن َهارِ َس ْ���ب ًحا اهلل( )3ف���ي تفس���ير ق���ول اهلل تعال���ىِ ﴿ :إ َّن ل َ طَ ِويالً﴾(المزم���ل" :)7:الج���ري وال���دوران ومنه الس���ابح في الماء
لتقلبه بيديه ورجليه ،وفرس س���ابح أي :شديد الجري" .وهذا
يفيد ضرورة وجود عامل تأثيري لقوة ذاتية في الجسم حتى تتم
موضحا في الشكل التالي: ً
أ مجرة 1
ج
ب مجرة 2
عملية السبح .فإذن ،هي حركة ناتجة عن طاقة محركة من داخل
الجسم ،كما يحصل ذلك عند الطيور السابحة في جو السماء، أو الحيتان السابحة في عرض البحار ،التي إذا رأيتها انسجمت
س���بح جماعي فلحص���ول تناغم تواصل���ي بينها. ف���ي لوح���ات ٍ
قائما بين الجسم السابح إال أن دور الكثافة يبقى مع ذلك ً
والمادة التي يس���بح فيها ،بحيث ال يتس���نى ألي جس���م مادي أن يتنق���ل بحرك���ة ذاتي���ة في���ه ،إال إذا كان في وس���ط مادي أقل
كثاف���ة من كثافته .وكلما ازدادت كثافة المادة التي يس���بح فيها
ال إال وصعب���ت عليه الحركة .وبذلك ج���اء التعبير القرآنيَ ﴿ : الن َهارِ َو ُكلٌّ س َي ْن َب ِغي َل َها َأ ْن ُت ْدرِ كَ ا ْل َق َم َر َو َ َّ ال ال َّل ْي ُل َساب ُِق َّ الش ْم ُ ِف���ي َف َل ٍ ال على تناغ���م حركة األجرام ون﴾(يس )40:دا ًّ ���ك َي ْس َ���ب ُح َ الس���ماوية في نس���ق الس���بح العام المنضبط بفع���ل الفارق بين كثاف���ة مادة األج���رام وكثافة مادة الكون من جه���ة ،وبين كثافة
كل ج���رم مع الجرم ال���ذي يحوم حوله من جهة أخرى ...مما يجعل القمر يدور حول األرض ،واألرض بقمرها تدور حول الش���مس ،والشمس بكواكبها في فلك المجرة ،وكل مجموعة تنضبط في فلكها داخل منظومة الكون الفسيح.
إذن ،ه���ذه الفاعلية الذاتي���ة التي أودعها اهلل تعالى في كيان
األجس���ام الس���ماوية لتظل س���ابحة في الفضاء إلى مدة أجلها،
ه���ذا الش���كل ُيجلي لن���ا حقيقة ه���ذا التجان���س؛ بحيث إذا الكون ،وترى منها كنت في المجرة ( ،)1فإنك ستراها تتوسط َ َ متمي���زا بخصائصه الموحدة. المس���توى الذي يحمل نقطة "أ" ً أيضا تتوس���ط الكون، ث���م إذا كن���ت في المجرة ( ،)2فس���تراها ً َ متميزا كذلك وت���رى منها المس���توى ال���ذي يحمل نقط���ة "ب" ً بخصائص���ه الموحدة .فإذا تداخلت نطُ ق المجرتين ( )1و(،)2 تجانس���ت الخصائ���ص الممي���زة ل���كل واحدة منهم���ا بمقتضى التوحد الحاصل في نقطة التقاطع "ج" وف ًقا للمعادلة التالية: أ = ج و ج = ب ← أ = ب. فهذا الش���كل إذن ،يظهر لن���ا حقيقة التجانس الحاصل بين المجرات بمقتض���ى التداخل القائم بين نطقها .فإذا كانت كل مج���رة لها من الخصائص ما يميزه���ا عن غيرها ،فإن التداخل بي���ن نطقها س���يلغي هذا التماي���ز في الخصائ���ص ويحدث لها يوح���د فيما بينها .وه���ذا ما يضفي عل���ى الكون صفة تجانس���ا ّ ً قويا ألثر الفاعلية الخفية وقعا ًّ التوحد التي تحمل في دالالتها ً الت���ي لواله���ا ما ترتبت نظمه في هذا التماس���ك العجيب ،وما تشكل بنيانه في هذا التجانس البديع.
تضف���ي عليها من االنتظام واالنس���جام ما ال يمكن التعبير عنه السماء وحبك نسيجها
﴿ما َت َرى إال بم���ا جاء به الوصف القرآن���ي في قول اهلل تعالىَ : او ٍت﴾(الملك .)3:ولعل هذا ما وصلت ِف���ي خل الر ْح َم ِن ِم ْن َت َف ُ َ ْ قِ َّ إلي���ه أح���دث البحوث العلمية ألش���هر عالم فل���ك أمريكي هو "س���تيفن واينب���رغ" ،الحاص���ل على جائ���زة نوب���ل( )4الذي رفع الس���تار ع���ن حقيقة لم تكن معروفة م���ن ذي قبل ،وهي ظاهرة
التجان���س الحاص���ل ف���ي الك���ون .فأظهر من خ���الل أبحاثه أن
األجسام السماوية تخضع لظاهرة بديعة من التجانس ،تتداخل فيها المجرات فيما بينها محيطة باألرض من جميع الجهات.
وه���ذا يفي���د أن الخصائ���ص الممي���زة لكل مجرة س���تتوحد في انس���جام تام م���ع خصائص المجرات األخ���رى ،كما ّبين ذلك السنة السابعة -العدد (2012 )31
10
ه���ذا التجان���س الحاص���ل بي���ن المج���رات والذي يش���كل بناء الس���ماء ،إذا أخذن���اه من بع���د نظرية "كوبرني���ك" التي نجد لها ال ف���ي التص���ورات الفلكي���ة ل�"اب���ن طفي���ل" ،والت���ي تبين أص���و ً فلكي���ا أن األرض تتوس���ط الك���ون ،بحي���ث م���ن أي���ة جهة من ًّ نظ���رت إل���ى الكون رأيت���ه محيطًا بك ،فس���نجده يعبر األرض َ عن تماس���ك رائع لنس���يج الكون حول محيط األرض ،كشأن خيوط العنكبوت المحبوكة حول دائرة مركزية .وهذا التش���بيه ال في لنسيج الكون بنسيج العنكبوت الذي أصبح اليوم متداو ً التقارير العلمية لعلماء الفضاء ،بما يش���اهدونه من مراصدهم الفلكي���ة .ليس بغري���ب إذن ما أخذناه من بعده الش���كلي ،فقد
جاء في تفسير القرطبي لقول اهلل تعالى: ���م َما فِي ���و الَّ���ذِ ي َخل َ تعال���ىُ : ﴿ه َ َ���ق لَكُ ْ ا َ ﴿والس���ما ِء َذ ِ ات ا ْل ُح ُب ِك﴾(الذاري���ات )7:أن ���ما ِء أل ْر ِ ض َجمِ ًيعا ُث َّم ْ الس َ اس��� َت َوى ِإلَى َّ َ َّ َ ذو الرائع البناء ه��ذا فالكون، ���م َو ٍ تر "ألم ك": "الحب تفسير في قال عكرمة ات َو ُه َو ِبكُ ِّل َش ْي ٍء س ع ب س ن اه و س ف َ َ َّ ُ َّ َ ْ َ َ َ ُ الن�ص��ق الكامل حول الأر�ص، إلى النساج إذا نسج الثوب فأجاد نسجه، ِيم﴾(البق���رة ،)29:مم���ا يعن���ي أن خل���ق َعل ٌ ل ميكن اأن يُت�صور بهذه الروعة يق���ال منه :حبك الثوب يحبكه حبكً ا أي ال في الس���ماوات واألرض يبقى مش���مو ً أجاد نس���جه" .وفي الجاللين" :الحبك" تدبي���ر اهلل المن���زه عن الزم���ان والمكان، يف اجلم��ال وه��ذا التنا�صق يف ه���ي الط���رق .ولعل ف���ي التعبي���ر الدقيق بخاصي���ة المصاحب���ة الزمني���ة الت���ي تدل الكمال ،اإل ملعنى دقيق وق�صد لقوله تعالى ﴿ذ ِ َات ال ُْح ُب ِك﴾ ،إشارة إلى عل���ى وح���دة المنش���أ وآني���ة التكوي���ن. عمي��ق غايتُه الإن�ص��ان الكامل أن الس���ماء هي الت���ي تتولى مهمة حبك وه���و ما وق���ف عليه المفكر اإلس���المي كان إذ ا ل��ق، خ أجله ا من ال��ذي ُ تمام���ا كم���ا تق���وم العنكبوت الفرنسي "موريس بوكاي" )5(،حيث قال نس���يجهاً ، مو�صوعه �صلب يف ا م�صتح�رض ً بنس���ج خيوطه���ا م���ن جهده���ا الذات���ي. في ش���أن التحديد الزمني لمراحل خلق لبنائه. أوىل ل ا اللحظة منذ وه���و داللة أخ���رى على تل���ك الفاعلية الس���ماوات واألرض" :المذك���ور (يعني الذاتية لألجسام السماوية في بناء نسيج في القرآن) هو مجموعتان من الظواهر، الكون كم���ا تقر بذل���ك التقارير العلمية جزء منها أرضي واآلخر س���ماوي .وقد لعلم���اء الفلك ،تل���ك التقارير التي باتت اليوم أكثر اس���تعما ً ال ح���دث كالهما ف���ي اتصال مع اآلخ���ر ،وبالتال���ي فذكر هاتين من أي وقت مضى لمصطلحات القرآن الكونية مثل؛ "نس���يج المجموعتين م���ن الظواهر ،يعني أن األرض كانت بالضرورة الكون" ( ،)Cosmic Webو"بناءه" ( ،)Cosmic Buildingو"توسعه" موج���ودة قب���ل أن تمد ،وعليه فقد كانت موجودة حين بنى اهلل ( ،)Expansionو"تزيينه بالمصابيح" ( ،)Beads on a Stringو"حبكه" الس���ماوات .وينت���ج من هذا فكرة المصاحب���ة الزمنية لنمو كل ( ،)Filamentsوما إلى ذلك من المصطلحات التي تؤكد الس���بق من السماوات واألرض بشكل تتداخل فيه الظاهرتان". العلمي للقرآن الكريم ودقة تعبيره البالغي. من ناحية أخرى ،ومما يزيد مشهد وحدة بنيان السماوات
وحدة المنشأ وآنية التكوين
إذا تتبعت هذه "الحبك" في الكون إلى مركز النسيج ،وصلت إل���ى مجال الس���ماء الدني���ا وه���ي المحيطة مباش���رة باألرض، فوجدته���ا زين���ت لإلنس���ان بالمصابيح .ف���إذا أتممت المس���ير ف���ي اتج���اه المركز ،ولجت نطاق ما بين الس���ماوات واألرض او ِ ات َوا َ ض أل ْر ِ ���م َ الموص���وف عند اهلل بقوله تعالىَ : الس َ ﴿ر ُّب َّ َو َم���ا َب ْي َن ُه َما﴾(مري���م ،)65:فتبي���ن ل���ك المغ���زى من اإلش���ارة إلى البينية في التلميح إلى مركزية األرض من الس���ماوات الس���بع المحيط���ة به���ا ...تلك البيني���ة التي تحمل ف���ي طياتها دالالت قوي���ة عل���ى وح���دة المنش���أ ،ال يس���طع ضوؤه���ا إال من خالل إطاللنا على البعد الزمني لنمو كل من الس���ماوات واألرض. فقد جاء في كتاب اهلل ما يشير إلى تقديم خلق السماوات على َ اها خل���ق األرض ،كقوله َ ﴿ :أ َأ ْن ُت ْم َأ َش ُّ ���م ُاء َب َن َ الس َ ���د َخ ْل ًقا أ ِم َّ
اها ���و َاها َو َأ ْغ َط َ ش َل ْي َل َها َو َأ ْخ َر َج ُض َح َ َر َف َع َس ْ ���م َك َها َف َس َّ َوا َ أيضا اها﴾(النازعات ،)30-27:كما جاء فيه ً أل ْر َ ض َب ْع َد َذ ِل َك َد َح َ م���ا يفي���د تقديم خل���ق األرض عل���ى خلق الس���ماوات ،كقوله
وضوح���ا ،م���ا ج���اء ب���ه كتاب اهلل من وص���ف لتوحد واألرض ً أقط���ار الس���ماوات واألرض في اإلش���ارة ال���واردة في قول اهلل ���ذوا ���ن َوا ِ اس َ���ت َط ْع ُت ْم َأ ْن َت ْن ُف ُ إل ْن ِ ���ر ا ْل ِج ِّ تعال���ىَ : ���س إ ِِن ْ ﴿ي���ا َم ْع َش َ او ِ ات َوا َ ِم ْ َ ال ���ذوا َ ال َت ْن ُف ُ ض َفا ْن ُف ُ ون ِإ َّ أل ْر ِ ���ذ َ ���م َ الس َ ���ن أ ْق َط���ارِ َّ بِس��� ْل َط ٍ موحدا ان﴾(الرحمن)33:؛ فكون كلمة "أقطار" ورد ذكرها ً ُ بي���ن الس���ماوات واألرض ،يعن���ي أن الس���ماوات واألرض شكلت -وما تزال -وحدة متكاملة ،ألن القطر في االصطالح مرورا الهندس���ي ،يعني الخط الواصل بين طرفي ش���كل معين ً بمرك���زه ...فإذا تصورنا األقط���ار كخطوط تمر بمركز األرض لتس���تقيم ف���ي جمي���ع االتجاه���ات الس���ماوية المتعام���دة م���ع سطحها ،فسيبدو لنا عالم السماوات واألرض كشكل متكامل تحي���ط فيه الس���ماوات ب���األرض حول مركز كائ���ن في نواتها. وذلك ما يحمل اإلشارة إلى توسط األرض لعالم السماوات، ووجود اإلنسان في قلب هذا البناء.
اإلنسان هو المقصود
وهنا يبدو لنا مضمون قرار األرض من مفهوم التوس���ع القائم
11
السنة السابعة -العدد (2012 )31
عمد الس���ماوات خل���ص في���ه -رحم���ه اهلل -إلى "أن اإلنس���ان َ واألرض ،وأن العال���م ال معنى له بدون وجود اإلنس���ان ،وأن
اإلنس���ان كان المقص���ود من خل���ق الس���ماوات واألرض ،فإذا انقضى أجله خرت الس���ماوات على األرض بزواله ،وانتقلت العمارة إلى اآلخرة من أجله". العمد الذي من أجله خلق اهلل السموات إال أن هذا اإلنسان َ
واألرض ،والذي من أجله يمسك سبحانه السماء أن تقع على األرض لي���س أي إنس���ان ،وإنم���ا ذاك الذي نجد اإلش���ارة إليه واردة ف���ي قول رس���ول اهلل " :ال تقوم الس���اعة وفي األرض م���ن يق���ول اهلل اهلل" (رواه مس���لم) ،أي ذاك اإلنس���ان الخليفة الذي م���ن أجله يؤخر اهلل قيام الس���اعة .ألن���ه إذا كان القرآن خاطب
هلل في البناء السماوي المتعامد معها الوارد في قوله تعالى﴿ :ا ُ ا َّل ِذي َج َع َل َل ُكم ا َ الس َ���م َاء ب َِن ًاء﴾(غافر .)64:فالكل أل ْر َ ُ ض َق َر ًارا َو َّ يش���كل وحدة متماس���كة بي���ن كتلتين ال ينبغ���ي ألي منهما أن هلل ُي ْم ِس ُك تزول عن األخرى ،كما جاء في قوله سبحانه﴿ :إ َِّن ا َ او ِ ات َوا َ ال َو َل ِئ ْن َزا َل َتا إ ِْن َأ ْم َس َك ُه َما ِم ْن َأ َح ٍد ض َأ ْن َت ُزو َ أل ْر َ الس َم َ َّ ���ن َب ْع ِد ِه﴾(فاط���ر )41:ف���ي إش���ارة إلى أن الس���ماوات -وإن ورد ِم ْ ذكرها بصيغة الجمع -فهي ال تش���كل في س���ياق اآلية س���وى كتلة واحدة تقابل كتلة األرض في تماثل شامل .كما يقر بذلك فع���ل "زال" ال���ذي جاء بصيغ���ة المثنى "ت���زوال -زالتا" وليس بصيغة الجمع ،للداللة على تطابق كتلتين كانتا ملتصقتين عند او ِ ات َوا َ َ ض َكا َن َت���ا َر ْت ًقا﴾ ففصل أل ْر َ ���م َ الس َ ب���دء التكوي���ن﴿ :أ َّن َّ اه َما﴾ بظاهرة التوس���ع التي انطلقت بحادثة اهلل بينهم���ا ﴿ َف َف َت ْق َن ُ فت���ق "الرت���ق" ،لتظل س���ارية ف���ي جمي���ع االتجاه���ات الكونية المتعام���دة مع األرض ،مما يوحي بأن األرض كانت في قلب البن���اء الكون���ي من���ذ اللحظة األول���ى ،وأن اإلنس���ان الذي من مس���تحضرا في صلب أجل���ه خلق���ت ،كان قب���ل أن يوجد فيها ً موضوعها ،وكأنه كان عين القصد من كل ذلك. وه���ذا ما خت���م به عالم الفيزياء الفلكية األمريكي "س���تيفن قائ���ال" :من كتاب���ه "الث���الث دقائ���ق األول���ى للكون" ً واينب���رغ" َ المس���تحيل أال يعتقد اإلنس���ان بوجود عالقة خاصة بينه وبين الكون ،أو أن يعتقد بأن الحياة إنما هي إفاضة لسلسلة حوادث راجع���ة إلى الدقائ���ق الثالثة األولى للكون ،بل من المؤكد أننا كنا مس���تحضرين من���ذ البداية" .وهو ما س���بقه إليه "ابن عربي" منذ أزيد من ( )900س���نة ف���ي كتابه "نقش الفصوص"( )6الذي السنة السابعة -العدد (2012 )31
12
هلل ا َّل ِ ���ذي َر َف َع عمد في ق���ول اهلل تعال���ى﴿ :ا ُ برف���ع الس���ماء ب���ال َ ات ب َِغي ِر َعم ٍ او ِ ���د َت َر ْو َن َها﴾(الرعد ،)2:فإن���ه بالمقابل يخبرنا ���م َ ْ َ الس َ َّ ِ َ َ ال ض ِإ َّ ���م َاء أ ْن َت َق َع َع َلى األ ْر ِ في قوله س���بحانهَ : الس َ ﴿و ُي ْمس ُك َّ ���اس َل���ر ُء ٌ ِ يم﴾(الح���ج )65:أن ذلك الرفع ِبإ ِْذ ِن��� ِه إ َِّن ا َ هلل ب َّ وف َرح ٌ ِالن ِ َ الذي تواله سبحانه بقوته وحفظ به العباد برأفته ورحمته ،إنما
هو من أجل ذلك اإلنس���ان الذي بصفاء فطرته ونقاء س���ريرته، قائما بحق بقي منس���جما مع نظام الك���ون ،متكام ً ال مع كمالهً ، ً الخالف���ة .فإذا انعدم الكمال من اإلنس���ان اخت���ل كمال الكون
النعدام المناس���بة ،فقامت الس���اعة التي كما جاء في الحديث: "ال تقوم الساعة إال على شرار الخلق" (رواه مسلم). (*) كلية العلوم ،جامعة ابن طفيل /المغرب.
الهوامش Hubble )1936(: The realm of the Nebulae, Yale University
()1
Press Sciences et Vie H.S. n°:221, Dec. 2002, Paris, p:37. ()3
()2
الجامع ألحكام القرآن ،للقرطبي ،دار الشعب ،القاهرة. Weinberg S. )1978(: Les Trois Premières Minutes de
()4
l’univers. Ed. Seuil, n°:144, p:211. ()5
دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة ،لموريس بوكاي ،دار
()6
نقد النصوص للشيخ بدر الدين عبد الرحمن بن أحمد الجامي (ت 898ه�)
المعارف ،1978بيروت.
في شرج نقش الفصوص ،للشيخ األكبر محيي الدين ابن عربي الحاتمي
(ت 638ه�) ،دار الكتب العلمية ،2005بيروت.
تاريخ وحضارة
نعمان ترك أوغلو*
الوقف العثماني حضارة واقتصاد
ُأسست األوقاف في التاريخ اإلسالمي ،من أجل تقديم الخدمات المختلفة إلى اإلنسان واألحياء األخرى من الحيوانات .وكانت مؤسسات األوقاف -بال شك -واحد ًة من العناصر المؤثرة التي اس���تطاعت االرتق���اء بأنماط العي���ش وتأمين الحاجات االجتماعية للناس الذين يعيش���ون في ظل الدولة العثمانية حتى في مناطقها النائية. الو ْق ِ ف لدى الدولة العثمانية ،نجد أنه مزيج من الش���رقي الممتد من حضارة األيغور وإذا ما تأملنا في مفهوم َ إلى السالجقة ،والغربي الممتد من اإلمبراطورية الرومانية إلى اإلمبراطورية البيزنطية .فقد ورثت الدولة العثمانية هذا الميراث الممتزج الديناميكي ،وطورته وصبغته بقيمها وثقافتها الدينية. هام���ا في تطوي���ر الحياة االقتصادي���ة واالجتماعية ل���دى الدولة دورا ًّ لق���د لعب���ت ه���ذه المؤسس���ات القانونيةً ، ٍ مؤسس���اتية قانونية ،للرعاي���ة االجتماعية فعاليات الو ْقف���ي على العثماني���ة والبل���دان اإلس���المية كافة .يق���وم النظام َ ّ
13
السنة السابعة -العدد (2012 )31
التي تضمن اس���مترارية المجتمع .وبهذا المعنى ،فإن فعاليات األوق���اف الت���ي نش���طت ف���ي الدول���ة الس���لجوقية والعثماني���ة، كبي���را بتأثي���ر الحق���وق واألح���كام اإلس���المية. نم���وا نم���ت ًّ ً ويعتبر "أورخان غازي" ثاني سالطين الدولة العثمانية ،هو أول َمن أسس نظام األوقاف التي نمت بشكل منسجم بالنمو االقتصادي والسياسي للدولة .وعندما أمر أورخان غازي ببناء أول مدرس���ة عثماني���ة ف���ي إزنيك ،أوقف لها م���ن األموال غير المنقولة (العقارات) لتسد حاجاتها من المصاريف والنفقات. أوق���اف أخرى قامت ألغ���راض مختلفة ،كتقديم واقت���دت بها ٌ األم���وال لليتامى ،ولألرام���ل ،وللغارمي���ن المدينين ،وكتوزيع الخض���ار والفاهك���ة للمواطني���ن ،وكرعاي���ة الكب���ار العاجزي���ن والحمالي���ن ،وكتأمي���ن إرض���اع األطف���ال، كق���واد الق���وارب ّ ّ ���دلَ األوان���ي والصحاف ب وتأمي���ن لل���زواج، البن���ات وتجهي���ز َ َ الخدم لكي ال يتعرضوا للعقاب من أس���يادهم، التي يكس���رها َ وكإطعام الطيور ،وش���راء األلعاب لألطفال ،وتأمين حاجيات المس���افرين ،واإلنف���اق عل���ى طلبة العلم وتأمي���ن اإلقامة لهم، وتأمي���ن العمل للعاطلين ،وكذل���ك التدريب المهني ،ومؤازرة المفلس���ين والمدينين ،وتزويج الش���باب ،وحماية الحيوانات، وتأمي���ن نظاف���ة الطرق���ات ...باإلضاف���ة إل���ى تأس���يس أوق���اف س���بل تمويلي���ة لش���ق قن���وات المي���اه ،وإنش���اء القناط���ر ،وبناء ُ المي���اه ،وحف���ر اآلبار ،وبناء الم���دارس والخانات والحمامات وبتموي���ل م���ن والجوام���ع والط���رق واألرصف���ة والجس���ور... ٍ األوق���اف قام���ت المش���افي بتقدي���م خدماته���ا للمحتاجي���ن، وتقاض���ى األطب���اء أجورهم منه���ا ،ويجري في هذه المش���افي تميي���ز ف���ي ل���ون أو ع���رق أو دين، ع���الج المرض���ى م���ن غي���ر ٍ ويج���ري كذل���ك تأمين األطباء ،كم���ا يتم تقديم ال���دواء مجا ًنا يوميا في إن ل���زم األم���ر ،وتقديم وجبة أو وجبتين م���ن الطعام ًّ العم���ارات ألبناء الس���بيل والمس���افرين والفقراء والمس���اكين.
مؤسسة األوقاف واالقتصاد العثماني
النظ���ام االقتصادي ف���ي الدولة العثمانية -إل���ى جانب اإلقطاع ال���ذي ورثته من الدول اإلس���المية المتالحقة -كان يقوم على مؤسسات الفتوة واآلخية التي تعتمد على العدالة في أساسها. كان االقتصاد العثماني يعتمد بنس���ة كبيرة على الزراعة ،األمر ال���ذي أكس���ب أنظم���ة األراض���ي مكان���ة متمي���زة ضم���ن البنى االقتصادي���ة العثمانية .ونظام األراضي ه���ذا ،كان يتمثل بنظام التيم���ار؛ وهو نظام يتم من خالله اس���تخدام األراضي من قبل السنة السابعة -العدد (2012 )31
14
الرعايا مقابل الوفاء ببعض االلتزامات كتوريد ُع ْشر المحصول لصاح���ب التيمار ،ودفع الضرائب المقررة .كما كان أصحاب التيم���ار بالمقاب���ل ،ملزمي���ن بتقدي���م الجنود إل���ى الجيش أثناء الحرب ،وذلك بما يتناسب مع حجم محصول تيمارهم .ظل قائما كوس���يلة اقتصادية للقوة العس���كرية العثمانية ،إذ التيم���ار ً ل���م تقم الدولة بجم���ع الموارد الزراعية ف���ي مركز واحد ،إنما أعطتها لس���باهية التيمار (الفرس���ان) لتتمكن من تأمين جنودها أثن���اء الح���رب من جانب ،وم���ن تأمين موارده���ا الزراعية أثناء حركيا ديناميكيا نظام���ا الس���لم من جانب آخ���ر ،وهذا و ّفر لها ً ًّ ًّ ِّ
بال شك. في القرن الس���ادس عش���ر ،كانت نس���بة %20من األراضي تدخ���ل ضم���ن نظ���ام األوقاف ل���دى الدول���ة العثماني���ة ،وكان حوال���ي %15م���ن موارد الدخل لألوقاف تتكون من األس���هم المقبوضة من واردات الدولة .ففي هذه الحقبة ،كانت واردات األوقاف تش���كل %12من بين ال���واردات العامة .وقد ازدادت ه���ذه النس���بة فيم���ا بعد لتبل���غ ،%20مع األخذ بعي���ن االعتبار، أن واردات أراض���ي األوق���اف فقط هي الداخلة في حس���ابات النس���ب الس���ابقة .هذا وقد وصلت نس���بة رجال الدولة الذين قام���وا بتأس���يس األوق���اف في القرن التاس���ع عش���ر إلى ،%42 ونس���بة %16من العلم���اء ،و %9من أصحاب الطرق الصوفية، و %2م���ن أصحاب الح���رف والصناعات ،و %11من أصحاب مختلفي المهن ،و %18من النساء. ونظ���ام التموي���ل الذي تق���وم عليه األوقاف آن���ذاك ،يملك مهما في خدمات الثقافة والتعليم والصحة والبنية التحتية دورا ًّ ً وأش���غال المراف���ق العام���ة والخدم���ات الديني���ة واالجتماعية، ع���الو ًة عل���ى المس���اهمة ف���ي تأمي���ن التموي���ل والبني���ة التحتية الالزم���ة للضم���ان االجتماع���ي ،والعمل الخي���ري في مختلف الميادين .ففي تركيا اليوم -مثالً -يبلغ اإلنفاق اإلجمالي على الصح���ة ،والتعليم ،والضمان االجتماعي ،والفعاليات الدينية، والخدمات العامة )100( ،مليار ليرة تركية! وهذا الرقم الذي يع���د عب ًئا ثقيال ً على ميزانية الدولة في عصرنا ،كانت األوقاف ّ تقوم بحمله لوحدها في العهد العثماني.
األوقاف والخدمات العامة
مهم���ا ف���ي اإلعمار واإلس���كان دورا ًّ كان���ت األوق���اف تلع���ب ً إب���ان العهد العثمان���ي .فالخدمات العامة الت���ي تتلقاها المدن، ومؤسس���ات الرعاي���ة االجتماعي���ة ،والخدم���ات التعليمي���ة،
والديني���ة ،وكل الحاج���ات االجتماعي���ة ،كان���ت تلب���ى من قبل
الخانات التجارية الوقفية ،واألس���واق لكافة األمتعة والس���لع؛
لقد تم دعم األوقاف عن طريق مصدرين أساسيين :األول
العدي���دة عل���ى الط���رق بي���ن الم���دن والمناطق لتح���ط القوافل
مؤسسات األوقاف.
الو ْقف ِّية القائمة على مصادر الدولة ،وهي على هو المؤسسات َ األغل���ب أوق���اف يقوم بتأسيس���ها رجال الدولة وعلى رأس���هم الس���لطان وأبناء آل عثمان .والميزة األساس���ية لهذه األوقاف، تكم���ن في تحويل جزء من األموال المخصصة للبيروقراطيين
فية الخاصة. م���ن قب���ل الدولة ،واس���تخدامها في األنش���طة َ الو ْق َّ
ونرى أن تشكيل المؤسسات الوقفية التي تستمر في عطاءاتها ح���ول س���د االحتياجات الديني���ة والعلمية والصحي���ة والثقافية
تقليدا م ّت ًبعا بين رجاالت الدولة .والمصدر للم���دن ،أصبحت ً الثان���ي لنظام األوقاف ،يش���مل أوق���اف المواطني���ن العثمانيين
األخي���ار ،الذي���ن يبتغون مرض���اة اهلل ،ويس���عون وراء األعمال
الصالح���ة التي تفيد الش���عب والمجتمع .وه���ذه األوقاف وإن دورا كان���ت صغي���رة الحجم من حي���ث التمويل ،فإنه���ا لعبت ً
كبيرا لصالح الحياة االجتماعية واالقتصادية. ً
من أقمش���ة ومجوهرات وأس���لحة ...وشيدت القصور الوقفية ش���ر التجاري���ة وقواف���ل المس���افرين رحالها ،وتس���تريح وتأمن َّ األش���قياء وقط���اع الط���رق ...ع���الو ًة عل���ى أن ه���ذه األوقاف، ساهمت في تطور الفنون الجميلة كالخط والتذهيب والزخرفة
واألبرو (فن الرس���م على الم���اء) وتجليد الكتب ،حيث كانت س���ببا آلثار فنية عالية المس���توى .كما أن لألوقاف أهمية كبيرة ً
أيض���ا ،في مج���ال اللغة والثقافة والتاري���خ والقانون وحتى في ً
الفولوكلور.
باختص���ار ،لم تترك األوقاف ل���دى الدولة العثمانية ،ميدا ًنا
أرضا من األراضي العثمانية ،إال من الميادين االجتماعية ،وال ً
ودخلته���ا وقدم���ت الخدمات ألهلها .وبفض���ل هذه األوقاف، اس���تمرت خدم���ات التعلي���م ،والصح���ة ،والخدم���ات الدينية،
والثقافي���ة ،م���ن غير خل���ل أو تقصير ،حتى في فت���رات المِ َحن واألزمات الداخلية والخارجية للدولة.
وعلي���ه فإن ه���ذا النوع من نظ���ام األوق���اف الخيرية ،الذي
ومما يجدر ذكره ،أن األوقاف التي تقدم الخدمات الثقافية
مهم���ا في تمويل الخدمات ،وس���اهم في نم���و المدن العثمانية ًّ
وتمول من قبل تؤس���س و ُت���دار ه���ي بإدارتها وتمويلها ،كانت َّ َّ
عنص���را مس���تمرا ف���ي العه���د العثمان���ي ،ش���كّ ل تط���ورا أب���دى ً ًّ ً
مهمة كبيرة في ارتفاع وازدهارها .ومن ثم أدت هذه األوقاف ّ مس���توى المعيش���ة ومن ثم الحياة االقتصادية واالجتماعية في
كافة أرجاء األراضي العثمانية.
إذن ،تمتع���ت األوق���اف بمكانة رفيع���ة مرموقة لدى الدولة
أساس���يا من حضارته���ا .إذ أقامت جزءا العثماني���ة ،وأصبحت ً ًّ
واالجتماعي���ة للمجتم���ع الي���وم ،والت���ي تتبناه���ا ال���دول وتقوم جدا ،أن أش���خاص عاديين في العهد العثمان���ي! ومن الصعب ًّ نجد اليوم دولة من الدول ،يقوم أفرادها باستقالل ذاتي بتمويل
الخدم���ات العام���ة ،كما كان���ت الحال في الدول���ة العثمانية. (*) كاتب وباحث تركي .الترجمة عن التركية :مصطفى حمزة.
15
السنة السابعة -العدد (2012 )31
دراسات إسالمية أ.د .علي جمعة*
المنهاج النبوي
والقضايا االجتماعية الكبرى إن الروابط اإلنس���انية ركن أساس���ي من أركان أي مجتمع بشري .فاالجتماع اإلنساني كالبناء بحاج���ة إل���ى ما يربط وحدات���ه بعضها ببعض، واح���دا .وه���ذه الروابط التي يس���تدعيها جس���ما ويجع���ل منها ً ً االجتماع اإلنس���اني ،هي روابط أدبية بين أفراده في نواح عدة تجمع بينهم وتس���ير بهم نحو غرض واحد ،وبهذا فقط يصلح المجتمع للحياة المشتركة. وقد تطورت هذه الروابط من البساطة التي وجدت عليها ف���ي المجتم���ع اإلنس���ان البدائ���ي ،حتى اس���تقرت ف���ي المدينة وتش���عبا ،وتط���ورت رواب���ط تعقي���دا الحديث���ة فص���ارت أكث���ر ً ً المجتم���ع إل���ى عالقات متداخلة احتاجت إل���ى علوم جديدة، وعملي���ات اجتماعية واقتصادية ،زادت من التعقيد والتش���عب
في المجتمع اإلنساني. وف���ي خض���م هذا كل���ه ،ظه���رت مش���كالت اجتماعية كان لها أكبر األثر في حياة اإلنس���ان ،كمش���كلة األمية ،ومشكالت األس���رة عام���ة ،والعالقة بين الرجل والمرأة خاصة ،ومش���كلة التربية والقيم ،وكذا سوء توزيع الثورة وغيرها من المشكالت التي تمثل القضايا االجتماعية الكبرى. هذه بع���ض القضايا الكبرى التي تمس مجتمعاتنا ،بما لها من تبعات جس���يمة تجعل له���ا أولوية في اهتماماتنا ...وحيث جوابا لكل إن اإلس���الم نس���ق مفتوح ودين واس���ع ،فقد وضع ً سؤال وفي كل عصر وكل شأن من شؤون األمة .وقد وصف بصيرا بزمانه، النب���ي المؤمن فقال" :وعلى العاقل أن يكون ً ال على شأنه ،حافظً ا للسانه ،ومن حسب كالمه من عمله، مقب ً
ق���ل كالمه إال فيم���ا يعنيه" (رواه اب���ن حبان)، يس���تخلف في األرض ،وينهض برس���الة وه���ي قاع���دة في الس���عي الب���د أن نعيها ش���اكرا -من حقيقيا إدراكا اهلل ،وي���درك ً ًّ ً النب��وي، املنه��اج يف أم��ل ا املت ونعي كيف نعمل بها. واقع علمه وفهمه -أن الخالق س���بحانه، يج��د اأن النب��ي ق��د و�صع والمتأمل في المنه���اج النبوي ،يجد ق���د س���خر ل���ه ه���ذا الك���ون ف���ي أرض���ه أن النب���ي قد وضع األس���س الجامعة الأ�ص���ص اجلامع��ة التي ت�صلح وس���مائه وكواكب���ه وأجرام���ه وشمس���ه الت���ي تصلح في القض���اء على األمراض وقم���ره ومائه وهوائ���ه ...لحكمة عميقة يف الق�ص��اء عل��ى الأمرا���ص المجتمعي���ة المختلف���ة ،ومعالج���ة ه���ذه حيا عن جالله س���امية تعبر تعبي���را ناط ًقا ًّ ً املجتمعية املختلف��ة ،ومعاجلة القضاي���ا ،وجعل العالم كل���ه أمة واحدة س���بحانه وجمال���ه وأفضال���ه ...وتدف���ع العامل وجع��ل الق�صاي��ا، ه��ذه في ظل أرقى األصول االجتماعية. وتقديرا أن يكون وفهم���ا اآلدم���ي عرفا ًنا ً ً كل��ه اأمة واح��دة يف ظل اأرقى حول الروابط اإلنسانية جديرا بهذا االستخالف ،بالعلم والفهم فهذا المنهج ّ ً م���ن القي���ام عل���ى المصال���ح المادي���ة الأ�صول الجتماعية. والحكم���ة ،والنش���اط والس���عي لعم���ار واالعتب���ارات العصبي���ة ،إل���ى رواب���ط األرض ال لخرابه���ا ،وإلث���راء الحي���اة ال مستمدة من المبادئ اإلنسانية واألصول ���و ا َّل ِذي إلفقاره���ا ،يق���ول تعال���ىَ : ﴿و ُه َ العام���ة ،التي تتف���رع عنها قوانين ضابط���ة لتصرفات الناس في ض َدر َج ٍ ���ف ا َ ات أل ْر ِ ���م َخ َ ال ِئ َ ���و َق َب ْع ٍ َ ض َو َر َف َع َب ْع َض ُك ْم َف ْ َج َع َل ُك ْ معامالتهم. ِ ور ���م إ َِّن َر َّب َك َس ِ يع ا ْل ِع َق ِ ���م ِف���ي َم���ا آ َت ُ ���اب َو ِإ َّن ُ ���ر ُ ���ه َل َغ ُف ٌ اك ْ ل َي ْب ُل َو ُك ْ فالمس���لم الح���ق ،يش���عر بم���دى جم���ال وكم���ال الرواب���ط ِ يم﴾(األنعام.)165: َرح ٌ اإلس���المية مع أف���راد مجتمعه ،وتتمتع روح���ه بالقيام بواجباته إن العل���م المن���دوب إلي���ه في س���نة اله���ادي البش���ير لم االجتماعية ،وتجده يدافع عن وشائج ارتباطه بهذا المجتمع ...يقتص���ر عل���ى مجال دون مج���ال ،فقد حض المس���لم على أن طلبا للدنيا وال رغبة طلب���ا للعلم ًّأي���ا كان ،يقول علي���ه الصالة فهو ال يقوم بهذه االرتباطات المجتمعية ً يض���رب ف���ي اآلفاق ً في الذكر ،بل يقوم بها ً مدفوعا بطلبه أكمل الغايات االجتماعية والسالم للمسلمين" :العلم خزائن ومفتاحها السؤال ،فاسألوا والوص���ول ألرفع الكماالت الوجودية .وهذا االجتماع هو ما يرحمكم اهلل ،فإنه يؤجر فيه أربعة :السائل والمعلم والمستمع عبر عنه النبي بقوله" :ترى المؤمنين في تراحمهم ّ وتوادِهم والمجي���ب له���م" (حلية األولي���اء ،)192/3:وق���ال " :من خرج في وتعاطفه���م ،كمثل الجس���د إذا اش���تكى عضو تداعى له س���ائر طلب العلم ،فهو في سبيل اهلل حتى يرجع" (رواه الترمذي). جسده بالسهر والحمى" (رواه البخاري). -2العمل :من أسس عالج القضايا االجتماعية كما يظهر
أسس المنهاج النبوي في عالج المشكالت
لق���د ق���ام المنهاج النبوي على أس���س عدة في ع���الج القضايا االجتماعية الكبرى .وهذه األسس هي: -1االهتمام بالعلم :وال غرو فقد كانت "القراءة" أول ما نزل م���ن الق���رآن الكريم ،وفاض الكتاب الحكي���م بآيات عدة تبين وبين مكان���ة ومنزلة العلم والتعلم في ش���ريعة اإلس���المّ ... أن المس���لم ال يرتف���ع بفضيلة كما يرتفع بفضيل���ة العلم فقال: ين ُأو ُتوا ا ْل ِع ْلم َدر َج ٍ هلل ات َوا ُ ���ع ا ُ ﴿ي ْر َف ِ آم ُنوا ِم ْن ُك ْم َوا َّل ِذ َ هلل ا َّل ِذ َ ين َ َ َ َ ب خ ون ل م ع ت ا هلل ُ ِير﴾(المجادلة ،)11:وقال تعالىِ ﴿ :إ َّن َما َي ْخ َش���ى ا َ َ ب َِم َ ْ َ َ ٌ ور﴾(فاطر.)28: ِم ْن ِع َبا ِد ِه ا ْل ُع َل َم ُاء إ َِّن ا َ هلل َع ِز ٌ يز َغ ُف ٌ والعلم الذي ندب إليه الرس���ول وحث على النهل منه هو كل علم؛ قوامه التفكير والتأمل بالعقل لالهتداء إلى آيات جديرا بأن الك���ون إل���ى خالقه .هو العلم الذي يجع���ل اآلدمي ً
في المنهج النبوي ،هو العمل .فلم يقتصر المنهج النبوي على الحث على العلم فقط ،بل قرر أنه ال علم بال عمل ،وال نجاح لغاي���ة االس���تخالف ف���ي األرض وحكمته إال ب���ه ،وال مقياس وك���ده وبذل���ه إلخف���اق اآلدم���ي أو فالح���ه إال بعمل���ه وس���عيه ّ مدفوعا بالعقل والفهم والعلم. محوطً ا ً ولذل���ك ح���ض على العمل بم���ا نعلم ،ورب���ى أصحابه على تزكية أرواحهم وبناء ش���خصياتهم ،وتحمل مسؤولياتهم الدينية والدنيوية ،وأرش���دهم إلى الطريق التي تساعدهم على تحقي���ق ذلك .ولم يكتف بالحث عل���ى العبادات الظاهرة، ب���ل رب���ى أصحاب���ه -كذلك -على م���كارم األخالق بأس���اليب متنوع���ة ...وكان الرس���ول يع���رض األخ���الق م���ع العب���ادة والعقائ���د في وقت واح���د ،ألن العالقة بين األخالق والعقيدة واضحة في كتاب اهلل تعالى.
17
السنة السابعة -العدد (2012 )31
وألن العم���ل من لوازم تعمير الدني���ا واآلخرة ،وذلك ألنه م���ن ل���وازم الحي���اة وبقاء الن���وع ومقتض���ى الفط���رة ،وضع خاصا للعمل فربطه بالنية ،فصالحه بصالحها وفس���اده نظام���ا ًّ ً بفس���ادها ،فقال" :إنم���ا األعمال بالنيات ،وإنم���ا لكل امرئ ما ن���وى" (رواه البخ���اري) .وتحقي ًق���ا لمبدأ تكافؤ الف���رص الذي يعد صورة من العدالة االجتماعية ،جعل النبي العمل ح ًّقا للفرد واجب���ا عل���ى الدولة توفيره ،فال يج���وز للدولة أن تتقاعس عن ً أداء ه���ذا الواجب االجتماع���ي الخطير حتى ال تتعطل طاقات األف���راد ونش���اطاتهم ،وتح���رم األمة من جهوده���م ومواهبهم. ولقد كان النبي يعين من ال عمل له بتأمين العمل ،كما قرر أن���ه ال امتياز ألحد في نوع معين من العمل بالنظر لغناه أو ثراء أسرته أو نفوذها ،إنما فرص العمل يجب أن تكون مهيأة للجميع كل على حس���ب كفاءت���ه وقدرته وموهبته ...ومن هنا وجب على الدولة أن تختار للقيام بوظائفها األصلح واألكفأ، ال وفي ق���ال " :من ولي من أمر المس���لمين ش���ي ًئا فولَّ���ى رج ً األم���ة من ه���و أصلح للمس���لمين منه ،فقد خان اهلل ورس���وله" (رواه البيهق���ي) .ولذل���ك كان البد من التزام مبدأ التخصص ،لتتم الكفاءة واإلتقان فيما تقتضيه كل وظيفة بحسب طبيعتها. -3الت � � ��وازن :ويتمث���ل في أمور ع���دة ،منها المس���اواة بين األف���راد ال التس���اوي .فالش���رع اإلس���المي إذ يقول بالمس���اواة بي���ن الرج���ل والم���رأة مثالً ف���ي الحق���وق والواجب���ات ،فإنه ال يق���ول بالتس���اوي بينهما في الصفات ِ الخلقي���ة والفطرة الربانية والوظائ���ف التكليفي���ة ...فه���ذا ال يق���ول به عاق���ل .وعلى هذا فإن الدعوة إلى التس���اوي بينهما ،نوع من أنواع الظلم ،والزج ب���كل منهما ف���ي طريق مظلم ال يتفق مع الفط���رة التي فطر اهلل ال منهما ش���ط ًطا ال يطيقه ،أما ما يتفق الناس عليها ،ويكلف ك ًّ والتوازن الذي أسسه المنهج النبوي فهو المساواة. أبدا القضاء على االختالف فالمساواة في اإلسالم ،ال تعني ً أو التمايز بين الناس ،إذ االختالف سنة كونية من سنن اهلل في خلق���ه ،وه���و حقيقة واقعة ف���ي الخلق ،وال يمك���ن محوها أو التغافل عنها ،ولكن المساواة تعني العدالة ،والعدالة تكون في عدم التفرقة بين اإلنس���ان فيما يخرج عن فعله واختياره ،ولذا يجب أن تطبق مفاهيم المساواة اإلنسانية في إطار من احترام االخت���الف والتمايز بين الناس ،وع���دم االعتداء على هويتهم الذاتية أو محاولة مسحها أو محوها. جميعا ،وجعله وقد قرر المساواة كمبدأ عام بين الناس ً مهيم ًن���ا تس���ري روح���ه كدعامة لجميع ما س���نه وقض���ى به من السنة السابعة -العدد (2012 )31
18
ال ونس���اء .وكان من نظم وأحكام تضبط عالقات األفراد رجا ً تقديره لقيمة اإلنس���ان المش���تركة بين الجمي���ع ،تكريم الجنس البشري بنوعيه دون تمييز بين رجل وامرأة. وفي حديث رسول اهلل أنه قال" :إن أنسابكم هذه ليست ف الصاع لم تملؤوه، بسِ باب على أحد ،وإنما أنتم ول َُد آدم ،طَ ُّ حس ُب ليس ألحد على أحد فضل إال بالدين أو ٍ عمل صالحْ ، ال جبا ًنا" (رواه اإلمام أحمد). الرجل أن يكون فاحشا بذِ ًّيا ،بخي ً ً والمس���اواة بي���ن الناس ال معن���ى لها إذا ل���م تعززها عدالة اقتصادي���ة واجتماعي���ة تضم���ن ل���كل فرد حق���ه إزاء م���ا يقدمه أحدا أو يبخس���ه حقه... لمجتمع���ه ،وتكف���ل أال يس���تغل أح���د ً ٌ فالتف���اوت الفاح���ش في الدخ���ول والثروات ،ال���ذي نراه اليوم منتش���را في كل الدول اإلس���المية ينافي جوهر اإلس���الم ،ألن ً محتما على مش���اعر األخوة التي يريد اإلس���الم بثها قضاء فيه ً بين المسلمين. إن عدالة التوزيع للثروة بين المواطنين ،من شأنها أن توفر لكل فرد مستوى من المعيشة تهيئه ألن يحيا حياة تليق بكرامة اإلنس���ان ،ويتوج���ب على النخبة م���ن علماء األم���ة بعد ذلك، أن تعم���ل على تأمين العمل لمن يبحث عن���ه ،وإثابة العاملين باألجر الع���ادل ،والتفكير في آليات لتفعيل النظام االقتصادي اإلس���المي الذي تمثل الزكاة والصدق���ات والوقوف فيه ،رك ًنا ركي ًن���ا إلع���ادة توزيع الدخل على الفقراء الذين ال يس���تطيعون ضربا في األرض ،أو يعانون من معوقات عقلية أو جسمية ،أو ً يرزحون تحت وطأة ظروف خارجة عن إرادتهم. -4الع � � ��دل :وهو قضية عظمى عليها ق���ام الملك ،وخلق إس���المي رفيع حث عليه اهلل في الكتاب العزيز ،وفي س���نة النبي الكريم صلوات اهلل عليه وس���المه ،يقول س���بحانه﴿ :إ َِّن إل ْحس ِ هلل َي ْأ ُم���ر بِا ْل َع ْ ِ ���ان﴾(النحل ،)90:ونه���ى النب���ي عن ا َ ���دل َوا ِ َ ُ الظل���م في أكثر من حديث منه���ا قوله " :الظلم ظلمات يوم القيام���ة" (رواه البخ���اري) ،وفيم���ا يرويه نبينا ع���ن رب العزة أنه الظلم على نفس���ي وجعل ُته بينكم مت حر ُ َ ق���ال" :يا عبادي إني َّ محر ًما فال َتظال َُموا" (رواه مسلم). َّ وم���ن مظاهر تم���ام العدل بين الناس ،إعط���اء كل ذي حق حقه ،ووضع الشيء المناسب والشخص المناسب في المكان المناسب ،ومثال ذلك أن وجود نخبة من الناس تتصدر لحل المشكالت ،ورسم طريق الخروج من األزمات من قوانين اهلل بارزا في الكتاب وس���ننه الثابت���ة في كونه .ومفهوم النخبة ن���راه ً والسنة ،ومرتبطًا بتاريخ البشر وواقعهم ،بل هو واضح في سنة
ف���ي تبليغه���م حدي���ث رس���ول اهلل فضل س���بحانه اهلل تعال���ى في كونه .فقد ّ لطلبة العلم على أن يس���تفتحوا بحديث وفض���ل بع���ض األزم���ان عل���ى بع���ضّ ، اإن ر�صول اهلل مل يكلف النا�ص الرحمة المسلس���ل باألولية" :الراحمون وفض���ل بع���ض األماك���ن عل���ى بع���ضّ ، بالدي��ن كله مرة واحدة ،بل بداأ يرحمهم الرحمان ،ارحموا أهل األرض وفضل بعض األش���خاص على بع���ضّ ، معهم وت��درج فاملهم، أه��م ل با يرحمك���م َمن في الس���ماء" (رواه أب���و داود)، بعض األحوال عل���ى بعض ،وجعل من ُ يف تف�صي��ل العقائ��د والأحكام س���ببا لدفع الناس وتعارفهم هذا التباين وورد ع���ن رس���ول اهلل أحاديث كثيرة ً طوال ف��رة البعثة عل��ى اأ�صا�ص وحراكهم عبر حركة التاريخ ،قال تعالى: تحث المس���لمين عل���ى التخلق بالرحمة ترتي��ب الأولوي��ات ،فاعتم��د ِ ون َر ْح َم َة َر ِّب َك َن ْح ُن َق َس ْم َنا فيم���ا بينه���م وم���ع جميع الخل���ق ...وقد ���م َ ﴿ َأ ُه ْم َي ْقس ُ عل��ى تثبي��ت العقي��دة اأولً ،ثم الد ْن َيا َو َر َف ْع َنا ح���ذر رس���ول اهلل أمته ،ب���أن ترك هذه يش َ���ت ُه ْم ِفي ا ْل َح َيا ِة ُّ َب ْي َن ُه ْم َم ِع َ ���ض َدر َج ٍ ���ذ الصف���ة الحمي���دة ق���د يس���توجب غضب ���ات ِل َي َّت ِخ َ ت��درج معه��م اإىل بي��ان القي��م ���و َق َب ْع ٍ َ ���م َف ْ َب ْع َض ُه ْ ���خ ِر ًّيا َو َر ْح َم ُة َر ِّب َك َخ ْي ٌر اهلل ي���وم القيامة حيث قال" :ال يرحم اهلل َب ْع ُض ُه ْم َب ْع ًضا ُس ْ الديني��ة والأح��كام العامة التي ون﴾(الزخرف ،)32:وقال تعالى: من ال يرحم الن���اس" (رواه البخاري) ،وقال ِم َّما َي ْج َم ُع َ نزل��ت على الأنبي��اء ال�صابقني. ِ الص���ادق " :ال ُتن����زع الرحم���ة إال من ين ���ع ا ُ ﴿ي ْر َف ِ ���م َوا َّل ِذ َ هلل ا َّل ِذ َ ي���ن َ َ آم ُن���وا م ْن ُك ْ ِ ٍ ُ شقي" (رواه أبو داود). ون ���م َد َر َجات َوا ُ هلل ب َِم���ا َت ْع َم ُل َ أو ُت���وا ا ْلع ْل َ ِ ���ل َف َّض ْل َنا َب ْع َض ُه ْم َع َلى -6مراعاة األعراف الس � � ��ائدة في المجتمع :يقول ﴿ : الر ُس ُ ِير﴾(المجادلة ،)11:ويقول﴿ :ت ْل َك ُّ َخب ٌ ُخ ِ ���ذ ا ْل َع ْف َ ْ آم ُنوا َأ ِط ُيعوا ���ر بِا ْل ُع ْر ِف﴾(األع���راف ،)199:فكل ما ش���هدت به َب ْع ٍ ﴿يا َأ ُّي َها ا َّل ِذ َ ي���ن َ ض﴾(البق���رة ،)253:وق���ال تعالىَ : ���و َوأ ُم ْ ���ول َو ُأو ِلي ا َ أل ْم ِر ِم ْن ُك ْم﴾(النساء .)59:فجعل اهلل الع���ادة والع���رف مما ل���م يتصادم م���ع ثوابت اإلس���الم ،قضي هلل َو َأ ِط ُيعوا الر ُس َ ا َ َّ رؤوس���ا ،وجعل ذلك طب ًق���ا لكفاءاته���م ،ورغبتهم في ب���ه لظاه���ر هذه اآلي���ة إال أن تكون هناك بينة تمن���ع من هذا... للن���اس ً اإلصالح دون اإلفس���اد ،ونعى على ذلك التصور الذي يكون وقد ورد في الخبر أن "ما رآه المس���لمون حس��� ًنا فهو عند اهلل حس���ن" ،والمعن���ى :أن كل م���ا رآه المس���لمون بعقوله���م م���ن فيه جميع الناس في تساوٍ مطلق. وبينا ،العادات وغيرها مستحس ًنا ،فهو حسن عند اهلل يقبله ويعتد به، وعدم التساوي ال يعني ً أبدا عدم المساواة كما سبق َّ ولك���ن وجود النخب���ة والصفوة ي���ؤدي إلى حل المش���كالت ،ووج���ه األخذ العتب���ار العرف من هذا الخب���ر ،أنه إذا كان كل جميعا ما رآه المسلمون مستحس ًنا قد ُحكم بحسنه عند اهلل واعتباره، وإلى األمن واالس���تقرار بين الناس .وعلى المس���لمين ً أن يحافظ���وا عل���ى هذه النخب���ة ويدافعوا عنه���ا ويعينوها على فكذلك إذا كان العرف مما استحسن المسلمون في المجتمع محكوما باعتباره. تحقي���ق الدور الذي كلف���ت به ...وهذا ال يعني أن هذه النخبة كان ً -7التدرج في التش� � � �ريع :فلم يكن يحمل الناس على ف���وق القان���ون ،ولكن عند توجي���ه االتهامات ،يج���ب أن تبنى عل���ى حقائ���ق ثابتة ،وليس عل���ى أحداث مختلف���ة أو خياالت األحكام جملة واحدة ،إنما كان مبدؤه التدرج ...فهو القائل: مريضة .فوجود هؤالء الحكماء والمحافظة عليهم ،بل وإقالة وبشروا وال تن ّفروا" (رواه البخاري) .وقد كان تعسروا ّ "يسروا وال ّ ّ عثرته���م إذا عثروا ،أمر واجب عل���ى الناس أساسيين: محورين جميعا ،وهو مثال التدرج في عهد النبوة يعتمد على ً َ َّ للعدل بوضع الش���خص المناسب في المكان المناسب ،الذي األول :بيان األحكام الش���رعية بالتدرج حس���ب نزولها من يمث���ل أساس���ا من أس���س المنه���ج النب���وي في ع���الج القضايا السماء ،وتفسيرها وبيانها من رسول اهلل حتى تكامل الدين ً االجتماعية. وتم بناؤه .وقد انتهى هذا الجانب بانقطاع الوحي ،ولكنه يبقى -5الرحمة واستعمال الرفق ال العنف :فالرحمة من األخالق وأساس���ا أم���ام العلماء في االجتهاد في المس���تجدات نموذجا ً ً التي مدحها اهلل ورسوله في الكتاب والسنة ،وهي من األخالق والوقائع الجديدة. الثاني :ه���و التطبيق العملي لألحكام الش���رعية التي كانت الت���ي يترت���ب عليها كثير من الخير ف���ي الحياة الدنيا بمجاالتها أيضا. المختلف���ة ،كم���ا يترت���ب عليه���ا كثير م���ن الثواب ف���ي اآلخرة .تن�زل و ُتفسر و ُتبين ،وكان هذا التطبيق بالتدريج ً وألن هذه األمة هي أمة الرحمة والهداية ،دأب المحدثون وقد ورد في الس���نة الشريفة أحاديث كثيرة تصرح بالتدرج
19
السنة السابعة -العدد (2012 )31
ف���ي التش���ريع ،م���ن أش���هرها حديث إرس���ال معاذ إل���ى اليمن؛ فقد أرش���د رس���ول اهلل مع���اذًا إلى منهج الت���درج في التنفيذ قدم على قوم أه���ل كتاب ،فليكن والتطبي���ق بقول���ه له" :إن���ك َت َ أول م���ا تدعوه���م إليه عب���ادة اهلل ،فإذا عرف���وا اهلل فأخبرهم أن اهلل ف���رض عليهم خمس صل���وات في يومهم وليلتهم ،فإذا فعلوا فأخبرهم أن اهلل قد فرض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم وتوق كرائم فت���رد عل���ى فقرائهم ،ف���إذا أطاعوا بها فخذ منه���م ّ أمواله���م" (رواه مس���لم) ،فرس���م أمام���ه اله���دف األول ف���ي تقدير اإليمان الصحيح بالشهادتين وترسيخ أصوله في النفوس ،فإن تحق���ق ذلك انتق���ل إلى تكليفهم بركن اإلس���الم وعموده وهو الصالة ،فإن تحقق ذلك كلفهم بالفريضة المتعلقة بأموالهم. إن رس���ول اهلل لم يكلف الناس بالدين كله مرة واحدة، س���واء ف���ي العقي���دة أو في الش���ريعة ،بل ب���دأ باأله���م فالمهم، وت���درج معهم في تفصيل العقائ���د واألحكام طوال فترة البعثة على أس���اس ترتيب األولوي���ات ،فاعتمد عل���ى تثبيت العقيدة أوالً ،ث���م تدرج معهم إلى بيان القي���م الدينية واألحكام العامة التي نزلت على األنبياء السابقين ،ثم تدرج معهم إلى التكليف باألوام���ر النواه���ي ،وقدم ف���ي كل ذل���ك الضروريات الخمس وهي المحافظة على النفس والعقل والدين والنسل والمال. -8مراعاة الحال :س���واء حال اإلنس���ان وح���ال الجماعة وحال األمة ،بل حال العالم أجمع ،فقد راعى أحوال الناس ف���ي تطبيق األحكام الش���رعية واألمور السياس���ية واالقتصادية واالجتماعي���ة ،وكان تعامل���ه م���ع الف���رد مخال ًف���ا لتعامل���ه م���ع الجماع���ة من حيث كونهم جماع���ة ،أو األمة كذلك أو جميع ال مع الجميع .ومن أكثر دالئل األمم ،فلم يكن التعامل متماث ً مراعات���ه لألح���وال ما ورد ف���ي عدم هدمه الكعب���ة ،وإعادة قريش���ا لما بنتها اقتصرت بها، بنائها على أس���اس إبراهيم؛ فإن ً يق���ول للس���يدة عائش���ة رض���ي اهلل عنها" :يا عائش���ة لوال أن قومك حديثو عهد بش���رك ،لهدمت الكعبة ،فألزقتها باألرض، وجعلت لها بابين" (رواه مسلم). إن الجمود على رأي واحد ،وحكم واحد ،وموقف واحد وإن تغي���رت األح���وال ،لم يكن من منهجه .وقد رأينا النبي دفاعا يمنع الصحابة في مكة من أن يحملوا السالح ليقاتلوا ً عن أنفسهم وهم يأتون إليه بين مضروب ومشجوج ،ويأمرهم بالصبر وكف اليد ،حتى إذا هاجر إلى المدينة وأصبح لهم دار ودولة ،أذِن اهلل أن يقاتلوا. وروى اإلم���ام أحمد أن النبي س���ئل عن ال ُقبلة للصائم، السنة السابعة -العدد (2012 )31
20
ال آخر ع���ن ال ُقبلة أثن���اء الصيام... فرخص لس���ائل ونهى س���ائ ً
قبل، وبالبحث تبين أن أحد السائلين كان ً شيخا فرخص له أن ُي ّ
شابا فنهاه عن التقبيل .وقد كانت إجابات النبي وكان اآلخر ًّ تختلف من شخص آلخر عن السؤال الواحد ،ألنه كان يراعي أح���وال الس���ائلين ،فيعطي اإلجابة لكل منه���م بما يالئم حاله.
إن س���عة الش���ريعة ومرونتها في مراعاة مستجدات األمور،
أص���ال م���ن أصول وصل���ت إل���ى إقام���ة الح���دود الت���ي تعتب���ر ً
التش���ريع .فلق���د علّمنا رس���ول اهلل أن نراع���ي األحوال التي تنش���أ ،والظروف التي تس���تجد مما يس���تدعي تغيير الحكم إذا اجتهاديا ،أو تأخير تنفيذه ،أو إس���قاط أثره عن صاحبه إذا كان ًّ قطعي���ا .وم���ن ذلك ما ورد ع���ن النبي أنه نهى أن تقطع كان ًّ األي���دي في الغ���زو كما روى أبو داود ،وهو حد من حدود اهلل
تعال���ى .وق���د نه���ى عن إقامة الح���د في هذه الحالة ،خش���ية أن يترت���ب علي���ه ما هو أبغض من تعطيل���ه أو تأخيره ،وهو لحوق
غضبا .وها هو ال يعاقب المنافقين صاحب���ه باألعداء حمية أو ً رغ���م م���ا بلغه عنهم ،ويقول ل�"عمر" لما أراد أن يقتل عبد محمدا يقتل "دعه ،ال يتحدث الناس أن ً اهلل بن أبي بن سلولْ :
أصحاب���ه" (رواه البخ���اري) .وف���ي هذا أعظم دليل على س���عة هذا المنهج النبوي ومراعاته لألحوال والظروف والمستجدات.
وم���ع هذه المرونة وتلك الس���عة ،فإن هن���اك مجموعة من
الضوابط يجب أن تكون معلومة ،حتى ال يتم اس���تغالل األمر فيم���ا لي���س له .ومن تل���ك الضوابط ،أن مراع���اة الحال يهدف إل���ى إبق���اء األمور تحت حكم الش���ريعة وإن تغي���رت صورتها خروجا على الش���ريعة واس���تحدا ًثا الظاهري���ة ،وال يعني بحال ً
ألح���كام جدي���دة ،ومنه���ا أن أهل العل���م عندما قال���وا بمراعاة األح���وال والعوائد ونحوها ،إنم���ا ذكروا ذلك لرفع الظلم عن العباد بإلزامهم بما لم يلزمهم به الشرع ،ومنها أن الذي يحدد
تغي���ر األح���وال واألعراف هم أه���ل العلم والمعرفة بالش���رع، وليس أهل الهوى والجهل.
لق���د قام النب���ي من خالل هذه األس���س وذلك المنهاج
الش���ريف ،بمعالجة الرواب���ط االجتماعية القائم���ة ،فأبقى على
وشيد روابط اجتماعية الصالح منها وقاوم الفاسد ،حتى أرسى ّ أسسها على أرقى نظام وأنفع منهاج يصلح لكل زمان ومكان.
(*) مفتي الديار المصرية.
علوم
د .حذيفة أحمد الخراط*
أسرار الجلد البشري ���روا ب َِآيا ِت َن���ا يق���ول اهلل تعال���ى﴿ :إ َِّن ا َّل ِذ َ ي���ن َك َف ُ ِ ود ُه ْم ���ارا ُك َّل َما َن ِض َج ْ ���ت ُج ُل ُ ���و َف ُن ْصليهِ ْم َن ً َس ْ هلل اب إ َِّن ا َ اه ْم ُج ُل ً َب َّد ْل َن ُ ���ودا َغ ْي َر َها ِل َي ُذو ُقوا ا ْل َع َذ َ ِ يما﴾(النساء.)56: َك َ ان َع ِز ًيزا َحك ً م���اذا عن تخصيص جلد اإلنس���ان في هذه اآلية دون غيره من أعضاء الجس���م؟ وما الذي قصده تعال���ى من كلمة " َن ِض َج ْت"؟ ولم���اذا تتبدل الجلود حينها بجلود غيرها؟ ولماذا كان التبديل خاصا بالجلود؟ ًّ يتك���ون جلد جس���م اإلنس���ان م���ن طبقتي���ن هما "البش���رة" ( )Epidermisو"األدم���ة" ( .)Dermisوتنقس���م البش���رة -وه���ي
الجزء الس���طحي الظاهر من الجل���د -فتتفرع إلى أربع طبقات تت���وزع خاللها خالي���ا الجلد حتى تتمكن م���ن القيام بوظائفها وتقس���م طبق���ة األدمة -وهي طبقة الفس���يولوجية المنوطة بها. ّ الجل���د األخ���رى الت���ي تل���ي البش���رة -إل���ى طبقتي���ن دقيقتي���ن، ول���كل منهم���ا خالياها الخاصة ،وتضم بي���ن ثناياها الكثير من والعرقية. األعصاب والشعيرات الدموية والغدد الدهنية َ وللجل���د البش���ري وظائف هام���ة ،تجعله من أه���م أعضاء الجسم الالزمة الستمرار الحياة بصورة طبيعية ال يعتريها داء أو سقم .فاإلنسان ال يحيا من غير جلد ،و َف ْقد جزء كبير منه ألي حاجزا س���بب كان ،قد يهدد حياة المريض ،وذلك ألنه يعمل ً
21
السنة السابعة -العدد (2012 )31
جسم صاحبه من دخول الجراثيم واألحياء المجهرية منيعا يقي ً َ الض���ارة ،الت���ي يمك���ن لها غزو الجس���م في حال ع���دم تغليف الجل���د ل���ه ،وبالتالي إصابت���ه بالكثير من األم���راض االلتهابية. تبخر س���وائل الجسم ،وبذلك ويمنع الجلد كذلك ،عملية ّ تتم المحافظة على رطوبته ضمن حدودها الطبيعية .ويس���اهم أيض���ا في تنظيم درجة ح���رارة الجس���م ،إذ يعمل على الجل���د ً ضب���ط درجة الحرارة عن���د حدودها الطبيعي���ة ،وبذلك يتمكن الجسم من القيام بتفاعالته الحيوية بشكل مضبوط.
أسباب الحروق الجلدية وتصنيفها
تحي���ط بن���ا الكثير من مص���ادر الطاقة والح���رارة ،التي تتفاوت بن���اء على قوة ش���دتها بي���ن خفيف ومتوس���ط وش���ديد ،وذلك ً المصدر ومقدار ما ينبعث عنه من طاقة. وتض���م مس���ببات الح���روق الجلدي���ة التع���رض للس���وائل عد للطهي والمش���روبات الس���اخنة وزيت الم ّ المغلي���ة ،كالماء ُ قلي الطعام ،وحروق النار ( ،)Flame Burnوالحروق الكهربائية التي تنتج عن التعرض للطاقة ذات الجهد المرتفع ،والحروق الكيميائية التي تسببها بعض األحماض أو المواد القاعدية. اعتمادا على سماكة ويتم تصنيف الحروق ًّأيا كان س���ببها، ً الج���زء المح���روق م���ن الجل���د ،وم���دى تأث���ر طبقتيه (البش���رة واألدمة) ،وهنا تظهر لدينا العديد من درجات اإلصابة: -1حروق س � � ��طحية :تصيب طبقة البش���رة فقط ،وتتماثل علميا للشفاء بسرعة في حال تقديم العالج المناسب ،وتعرف ًّ بحروق الدرجة األولى. -2ح � � ��روق عميقة :ويتخط���ى تأثيرها طبقة البش���رة ليصل إل���ى طبقة األدمة ،وهي ذات خطورة أكبر من س���ابقتها ،وفيها ق���د يتأثر ج���زء صغير فقط م���ن األدمة ،وهنا يكتس���ب الحرق صفة الدرجة الثانية. -3حروق أخرى أش � � ��د عمقًا :تتأثر طبقت���ا الجلد بالكامل ويعرف الحرق حينها بحرق الدرجة الثالثة، (البشرة واألدمة)ُ ، وقد تصل اإلصابة إلى ما دون األدمة من األنسجة كالعضالت أو العظ���ام ،وه���ي أخط���ر اإلصاب���ات على اإلط���الق ،وتعرف بحروق الدرجة الرابعة.
وقفة مع حال أهل النار في اآلية الكريمة
إن���ه لمش���هد عظيم ذاك الذي تصوره اآلي���ة الكريمة ،وهو يبدأ شخص له الفكر والخيال ،وقد أبدع السياق وي َ وال يكاد ينتهيَ ، في رسمه بصورة دقيقة. تتحدث هذه اآلية عن الحال التي س���يؤول إليها أهل النار السنة السابعة -العدد (2012 )31
22
���و َف ممن كفر بآيات اهلل ،وقد ورد في النص قول الحقَ : ﴿س ْ ِيه ْم﴾ ،وكلمة "س���وف" تعني حدوث فعل في المس���تقبل، ُن ْصل ِ مفر وال ملجأ وال منجى ،فالحادثة مؤك���د محت���م البد منه وال ّ وسيس���تحق الوع���د والوعيد ،وس���وف َيص�لى ال ش���ك واقعةُ ، الكافرون نار جهنم ال محالة. الصل����ي ف���ي اللغ���ة :اإليقاد بالن���ار واالبت���الء بها، وأص���ل ّ النار: ليت الش���اة :أي ش���ويتها .قال الخليلَ :صلِي وص ُ َ الكافر َ ُ نضجون في نار ُيصلَون حرها ،وقال الطبري :سوف ُي َ أي قاسى ّ ش���وون فيها ،وفس���ر الحافظ ابن كثي���ر الصلي بالنار فيها ،أي ُي َ ال يحيط بجميع أج���رام الكافر وأجزائه، بدخوله���ا دخ���و ً ال كام ً فهي عن يمينه وشماله ،ومن فوقه وتحته ،وأمامه وخلفه ،فال يكاد ُيرى لها ُب ّد ،وال منها مهرب أو مفر. "ك�ل�ّما" ،وهي لفظ يدل ث���م وردت في اآلية الكريمة كلمة ُ على استمرار حدوث الفعل ،وتكرار المعنى في دورة ال انتهاء أيض���ا على عدم توقف الح���دث عند حد معين، له���ا ...وتدل ً بمعن���ى أن فع���ل الصلْ���ي بالن���ار واالحت���راق بها مس���تمر دائم، وتأثير النار ال ينقطع عن الجلد ،والعقوبة مستمرة والنكال ال ينفك ،ويحتاج لفظ "كلما" كما يقول أهل اللغة ،إلى جمل َتين جليا ،أنه تترت���ب إحداهما على األخرى ،وف���ي مثالنا هنا نرى ًّ جلدا آخر غير محترق ،فترتب كلما نضج الجلد الس���ابق ُب ّدل ً تبديل الجلود على نضجها. ُ وهكذا يس���تمر ش���ريط طويل وحلق���ات متعاقبة من عملية االحت���راق ،الت���ي يتلوه���ا نض���ج وتبديل دون أن يقف مس���رح معين���ة أو زمن ما ،فتغ���دو العملية األح���داث ه���ذا عند مرحلة ّ إذن ،ذات بداية ال نهاية لها. ث���م تأت���ي الكلم���ة التالية ف���ي س���ياق اآلية الكريم���ة ،وهي ابن منظور في لس���ان العرب مادة " َن ِضج"، " َن ِضج���ت" ،ويورد ُ شواء ،إذا ُأدرِ ك َش ّي�ه. اللحم وعنها يقولَ :ن ِضج ً ُ وعل���ى كل حال ،فالمعنى ظاهر ّبين ال غبار عليه ،واللفظ فزعا ،فهو ص���ورة للحالة التي يكون عليها الجلد ج���اء عني ًفا ُم ً المحروق ،بعد فترة من بداية احتراقه إلى أن يبلغ نهاية عملية الش���ي .فم���ن المع���روف أن عملية النضج ال تحدث بس���رعة، ّ بل يس���بقها م���رور وقت ليس بالقصير ،من التعرض المس���تمر والمباشر إلى ألسنة النار. عذابا كهذا ال يقف خالل عملية الشواء ،بل إن وبالطبع فإن ً األلم يبدأ من لحظة تالمس النار مع الجلد ويستمر دون كلل أو بدءا من الدرجة ملل ...ويزيد هذا األلم تدريجيا ليتدرج الحرق ً ًّ
مرورا بالثانية فالثالثة ...وهكذا تستمر عملية الحرق، األولى، ً تدريجيا ،ويفقد الجلد قوامه وتتخرب خاليا الجلد وأنس���جته ًّ وتماس���كه ،ويزول بريقه ولمعانه ،وتضيع معالمه التش���ريحية، إلى أن يصل األمر بالجلد إلى مرحلة الشواء التام والنضج... وهن���ا يك���ون الجل���د قد تس���اقطت خالي���اه ،وأخذت أنس���جته تتآكل تحت التأثير المس���تمر لفعل النار المحرقة ،حتى تذوب تماما ،ولم يبق في الجلد بعد اآلن رمق من حياة أو إحساس. ً تباع���ا ويعقب ذل���ك مرحلة ه���ذه قصتن���ا أح���داث تتوال���ى ً جدي���دة ،وهي خطوة عجيبة خارقة للطبيعة ،تحدث بقدرة اهلل وإرادت���ه الت���ي ال يق���ف أمامها ش���يء ،فيأتي األم���ر اإللهي هنا بتبديل جلود أهل النار. وهنا يتبادر إلى األذهان س���ؤال :لم���اذا ورد اللفظ القرآني "بدلناهم" ،ولم يق���ل "أبدلناهم"؟ وهل هناك من فارق في هن���ا ّ المعنى والمضمون بين اللفظين؟ "بدلناهم" في الحقيقة ،إن هناك بو ًنا شاس���عا بين الكلمتين ّ ً و"أبدلناه���م" ،وتعلي���ق أه���ل اللغة في ه���ذا الموضوع ،يضيف إعجازيا جديدي���ن ...فالتبديل وضرب���ا بيانيا ًّ ً إل���ى قائمتنا لو ًن���ا ًّ جعل نفس الش���يء "بدلناهم" الواردة في اآلية- ُ وهو مصدر ّمكان شيء آخر ،ومنه تغيير الصورة إلى صورة أخرى مع بقاء الجوهرة بعينها. أم���ا اإلبدال فه���و مصدر للفع���ل "أبدلناهم" ،ول���م يرد في آيتنا تلك ،فهو تنحية للجوهر ،واستئناف جوهر آخر مختلف تماما مكان شيء آخر. تماما ،أي وضع شيء مختلف ً ً وم���ا يخصن���ا هنا ،ه���و العملي���ة العجيبة التي يح���دث فيها أن تتكاث���ر خالي���ا الجلد وأنس���جته من جديد ،مم���ا يؤدي إلى ظه���ور جلد آخر غير الذي س���بق له أن احت���رق حتى نضج... إال أن الجلد الجديد هذا ،ش���بيه بسابقه ،مكتمل التركيب ،تام
المعال���م والوظيف���ة ،يح���وي كل مكونات الجلد الس���ليم ،في اهم" تعني اإلتيان بشيء جديد قد يكون مختل ًفا "أب َدل َن ُ حين أن ْ ع���ن الجل���د ،واهلل تعال���ى يري���د الجلد نفس���ه بجمي���ع عناصره وخصائص���ه الس���ابقة الت���ي كان الخ�ل���ق األول عليه���ا .وهكذا تستمر هذه العملية من العذاب الدائم الذي ال انقطاع له. مص���و ًرا ذلك المش���هد ويخت���م اهلل تعال���ى قول���ه الكري���م، ّ اب﴾ ،وهي تعليل لقوله الرهيب بجملة شرطيةِ ﴿ :ل َي ُذو ُقوا ا ْل َع َذ َ اه ْم﴾ .وهنا يظهر إعج���از بياني جديد؛ فقد ثبت ﴿ب َّد ْل َن ُ تعال���ى َ علمي���ا أن جل���د اإلنس���ان الطبيعي يضم في س���طحه الكثير من ًّ نهايات األعصاب الحس���ية ،وهي نق���اط الحس التي يبدأ منها صدور الش���عور ،ف ُتترجم ش���عور الجسم باأللم والحرارة ،ألن تع���رض هذه األعصاب الجلدية إلى مصدر األلم أو الحرارة، ّ ال يؤدي إلى إرسال إشارات سريعة إلى األلياف العصبية وصو ً إل���ى الدماغ والجهاز العصبي في جس���م اإلنس���ان ،وهناك يتم إدراكه���ا واس���تبانة دالئله���ا ،مم���ا يعطي ش���عور النف���س باأللم واإلحس���اس به ،وذلك بحس���ب عادة خل���ق اهلل تعالى وفطرته التي فطر الناس عليها. وف���ي ح���ال إصاب���ة األعص���اب بم���رض م���ا ،أو اضطراب وظيفي كما في حال احتراق أعصاب الجلد ،فإن هذه الوظيفة تتعطل ،فيتوقف س���اعي البريد الذي يحمل الرس���ائل ،وتنقطع ويفقد حينها وس���يلة االتص���ال بين الجل���د والجهاز العصب���يُ ، تماما. الشعور باأللم تدريجيا إلى أن يختفي ً ًّ إذن ،فلوال عملية تبديل الجلد ،التي س���يخضع لها معذبو أه���ل النار ،ولوال األعصاب الجديدة التي س���تظهر ،ل َفقد أهل النار الش���عور باأللم حينم���ا تنضج جلودهم أول مرة ،ولغدت عملية التعذيب قصيرة وذات نهاية س���تأتي وإن طال انتظارها، إال أن ق���درة اهلل تعال���ى وإرادته ،أبت إال أن يتبدل الجلد بجلد
23
السنة السابعة -العدد (2012 )31
غي���ره يرج���ع كنظي���ره الس���ابق ،بغية أن ي���دوم على أه���ل النار
تذوقه���م للمزي���د م���ن األذى والعذاب اللذي���ن ال يقفان لحظة ّ واحدة وال ينقطعان.
ويظهر لدينا اآلن سؤال جديد :لماذا قال تعالىِ ﴿ :ل َي ُذو ُقوا
اب﴾؟ وعل���ى م���ن يع���ود الضمي���ر هنا؟ نجي���ب عن ذلك ا ْل َع َ ���ذ َ فنق���ول :إن اله���دف المقص���ود هنا من عملي���ة التعذيب بالنار،
هو تعذيب النفس والبدن وإيالم روح صاحب الجسد ،وليس المطل���ب ه���و تعذيب الجلد نفس���ه .ولو أري���د تعذيب الجلود �ذقن العذاب" .وفي ذلك ورد عن الزمخش���ري ذاته���ا لقيل "ل َِ�ي َ جلود لم م���كان الجلود ف���ي الكش���اف" :فإن قيل كيف ُت َ�عذب َ ٌ
موجه للجملة الحساس���ة وهي التي تع���ص اهلل؟ ُ قلت :العذاب ّ َع َص ْت ال الجلد ،وهذا يعني أن طاقة العذاب ومطارقه موجهة
نحو صاحب الجلد ونفسه التي يحملها بين جنباته".
وثمة س���ؤال آخ���ر يثيره هنا أه���ل اللغة :لم���اذا جاء النص
اب﴾ وليس "ليتذوقوا العذاب"؟ وهل من فرق ﴿ ِل َي ُذو ُق���وا ا ْل َع َذ َ
بين الذوق والتذوق؟
نع���م ،هن���اك فرق كبير بي���ن اللفظين ،واختي���ار الذوق جاء
مصورا للحالة التي س���يكون عليها العذاب ف���ي مكانه الدقيق، ً يفصل أهل اللغ���ة الكالم ،فذاق الطعام؛ ف���ي النار .وعن ذلك ّ أي خبر طعمه ،بينما تذوقه تعني شعر بطعمه شي ًئا بعد شيء.
وإن أردن���ا قي���اس ذل���ك عل���ى موضوعن���ا ف���ي ظ���ل اآلي���ة
الكريم���ة ،نرى أن أهل النار س���يذوقون عذابها ،وهذا يعني أن
ش���عورهم بمذاق الع���ذاب ال يقف بره���ة وال ينفك ...فطعمه إذن دائم مس���تمر متواصل ،ولو قيل إنهم سيتذوقون العذاب، متدرج���ا ،وقد تتخلل���ه فترات من ل���كان حينه���ا طع���م العذاب ً
قاطعا حين نفيا ً الراح���ة و الهدوء ،وهذا ما نفت���ه اآلية الكريمة ً
اختارت أسلوب ذوق العذاب.
ختام���ا ،فإن اآليات الت���ي تناقش مثل هذه الحقائق العلمية ً
أقره القرآن المثبتة كثيرة ،ولم يحدث أن أثبت العلم خالف ما ّ الكري���م ف���ي خب���ر من تلكم األخب���ار ،بل جاء العل���م الحديث ش���اهدا عل���ى ص���دق الرواي���ة القرآني���ة ،ليرش���د كل ذي عق���ل ً وحكمة على أن هذا الكالم إنما هو من عند اهلل ،ولو أنه كان
كثيرا. من عند غير اهلل لوجدوا فيه اختال ًفا ً
(*) اختصاصي جراحة التجميل بالمدينة المنورة /المملكة العربية السعودية. السنة السابعة -العدد (2012 )31
24
ماء الحياة أرواحنا، َصحارى ُ لهب أكبا ُدنا، ٌ ات قلوبُنا... جمر ٌ هيا يا رجال! افْتحوا األقفال، وجودوا بالرواء، تتفجر، واجعلوا السدود بالمياه ّ وتطفح وتتدفق، والصحارى تسقي، واللهب تطفئ، والجمرات في القلب تُ ِّبرد... ***
ثقافة وفن
أ.د .بركات محمد مراد*
ﴎك ،ﻓﺎﳌﺴﺘﻬني ﺑﺎﻟﴪ ﻛﺎﳌﺴﺘﻬني ﻛام ﺗﻐﺎر ﻋﲆ ﻋﺮﺿﻚ ﻛﺬﻟﻚ ﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﺗﻐﺎر ﻋﲆ ﱢ ﺑﺎﻟﻌﺮض ،وﻛام ﻟﻠﻌﺮض ﺣﺮﻣﺔ ﻓﻠﻠﴪ ﺣﺮﻣﺔ ،ﻓﺈﻓﺸﺎؤك ﻟﻠﴪ ﻋﺎ ٌر ﻳﻠﺤﻖ ﺑﻚ ﺣﺘﻰ اﳌﻮت ،ﻛﺎﻟﻌﺎر اﻟﺬي ﻳﻠﺤﻖ َمبﻦْ ﻳﻔ ﱢﺮط ﺑﻌﺮﺿﻪ. )اﳌﻮازﻳﻦ( ***
ً بحثا عن "العمارة الهوية" ه���ل هوية العمارة اإلس���المية ،تب���دو في قوام
الزخرفية على بناء حديث مستوح من العمارة الحديثة.
وانحن���اءات وشراش���يف وأدراج وأعم���دة،
إل���ى االتج���اه نح���و العمارة الهوي���ة من حيث ه���ي كتل وفراغ
العم���ارة بوصفها س���طوح وفراغات وخطوط أم ف���ي الزخ���ارف الالصقة على جدرانه���ا وواجهاتها مما نراه ال -في قصور غرناطة؟ -مث ً
بيد أن المعمار الكبير "حسن فتحي"( )2دعا منذ الستينات،
بدءا بالعمارة الريفية التي ينشئها الفالحون الفقراء .والتصميم ً المعماري ليس هو العمارة الداخلية ،ولكن الفعاليتين تتفاوتان
لق���د اتج���ه أكث���ر المعماريين -وه���ذا ما الحظه بح���ق الباحث
وتتداخ���الن إلنش���اء العمارة ،س���واء كانت عم���ارة بورجوازية
العربي���ة م���ن خالل الزخ���ارف المتمثل���ة بالرقش والفسيفس���اء
والس���ؤال الثاني يتعلق بمفهوم الهوية المعمارية وعالقتها
عفي���ف البهنس���ي( -)1نح���و الظاه���ر الزخرف���ي ،ف���رأوا العمارة جدا هي والمقرنصات واألفاريز والخطوط الجميلة ...وكثيرة ًّ المنش���آت الحديث���ة التي ادعت األصالة بإضاف���ة هذه العناصر
مدنية أو كانت ريفية.
باألس���اليب والط���راز؛ فكيف تحافظ الهوية عل���ى وحدتها في
نطاق أش���كال مختلفة باختالف الم���كان والزمان ،وباختالف
25
السنة السابعة -العدد (2012 )31
السلطة السياسية واالجتماعية والدينية؟
ويس���هل الجواب على هذا الس���ؤال إذا اعتبرنا العمارة لغة
مجس���دة تحمل دالالت روحية ومادية ،وتقوم بوظيفة إنسانية اجتماعية بأس���اليب مختلفة ،ش���أنها في ذلك ش���أن اللغة التي
تحمل دالالت مماثلة ،وتقوم بوظيفة إنسانية حضارية.
هوية العمارة هي هوية األمة
تتجل���ى هوية األمة ،من خالل وح���دة اللغة والثقافة والعقائد،
وتعكس هويتها على العمارة والفنون والتراث .وتستمر هوية العم���ارة باس���تمرار هوي���ة األمة ،وتتط���ور بتطويره���ا ،وتنهض
بنهوضه���ا ،وتتف���كك بتفككها .ولذلك ف���إن البحث عن هوية العم���ارة هو بحث عن هوية األم���ة ،وبالمقابل فإن فن العمارة
يكشف عن هوية األمة التي أفرزت هذا الفن أو ذاك.
وألن هوي���ة األم���ة ال تتمث���ل بفصائ���ل الدم ب���ل بمعطيات
الحضارة ،فإن قراءة تاريخ العمارة يجب أن يبدأ بقراءة تاريخ
حضارة األمة ،ألن بناء العمارة هو جزء من كيان األمة .وبهذا المعنى فإن هوية العمارة تعني انتماء هذه العمارة إلى حضارة
معينة خلفتها أمة معينة.
وم���ن هنا يؤكد الباحث عفيف البهنس���ي عل���ى االعتراف؛
أن قطيع���ة طويل���ة األم���د حدث���ت بي���ن ثقافتن���ا وبي���ن تاريخن���ا
فرصا الحض���اري ،أورثت جهال ً بالت���راث ً ورفضا له ،وحققت ً لتس���رب الثقافات الوافدة والدخيلة التي غيرت ش���كل الثقافة
الح��ديث���ة وعبث���ت بجوهرها ،وهكذا أصبح���ت عمارتنا غريبة عن���ا ،وأصبحن���ا غرب���اء ف���ي مدنن���ا التي تج���ردت ع���ن هويتها
األصلي���ة ،وأصبحن���ا ف���ي بيئة هجين���ة غيرت م���ن عاداتنا ومن
أذواقنا وثقافتنا.
ويتساءل الباحث؛ إذا كان التاريخ صيرورة ،وإذا كان البد
انفتاحا ل���كل قديم حدي���ث ،وإذا كان العصر الذي نعيش أكثر ً
عل���ى ثقافات العال���م ،وأصبحت التقنيات الحديثة وأس���اليب
جزءا من عولمة الثقافة ،فكيف نستطيع تحقيق الفن والعمارة ً انتماء حضاري قومي في العمارة الحديثة؟
الهوية بين األصالة والمعاصرة
مشتركا بين األصالة والمعاصرة في العمارة خاصة ،هو ً إن عامالً المقياس اإلنس���اني .فإذا استطاعت المعاصرة -كما األصالة-
أن تحافظ على هذا المقياس ،فإن التآخي بينهما يصبح ممك ًنا،
ويتجلى المقياس اإلنس���اني في تمث���ل القيم الروحية والقومية السنة السابعة -العدد (2012 )31
26
انتهاكا والمادي���ة ف���ي العم���ارة المعاص���رة .فالمعاصرة ليس���ت ً للهوية ،وإال فإن التعددية التي هي طابع اإلبداع ،تنسحب من دوليا كي���ان العمارة العالمية لتصبح عمارة واحدة تمثل ً إقليما ًّ واح���دا .إذن ،بتعدد الهويات المعمارية نس���تطيع الحديث عن ً عم���ارة عالمية ،أما فرض هوية مح���ددة على عمارات العالم، عالميا. فإن���ه ينفي العالمي���ة ويبقي على عمارة واح���دة مهيمنة ًّ ال إن المس���لمين تمكنوا في فن العم���ارة ،الذي غطى مجا ً واس���عا امتد من إس���بانيا (األندلس) إلى بالد البنغال، جغرافيا ً ًّ تاريخيا بدأ في نهاية القرن السابع للميالد ال مجا غطى والذي ً ًّ حتى أوائل القرن التاسع عشر ،أصبح مدرسة عالمية في البناء تتضم���ن م���دارس وطرز فرعية كثيرة يتوفر على دراس���تها كثير من الباحثين في الشرق والغرب على السواء. وق���د أصبح���ت هناك حق���ب معمارية تاريخي���ة وفنية؛ مثل العمارة األموية ،والعمارة العباسية ،والعمارة المغربية ،والعمارة األندلس���ية ،والعم���ارة العثماني���ة ...تحم���ل كل منه���ا بصمات خاصة بتلك الحقب التاريخية التي اس���تغرقتها ،وتحمل طابع المكان والظروف الجغرافية والثقافية التي س���ادت فيها .ومن كثيرا م���ن الطرز لمختلف العمائر هن���ا ال يك���ون ً غريبا أن نجد ً اإلس���المية -س���واء كانت مس���اجد أو قالع أو قص���ور أو مدن إس���المية كامل���ة -تعبر عن خصائص فني���ة وجمالية وتاريخية، مثل الطراز األموي ،أو العباسي ،أو الفاطمي ،أو السلجوقي، أو المملوك���ي ،أو المغرب���ي األندلس���ي ،أو الترك���ي العثماني.
الفن اإلسالمي الموحد في روحه
هذا االنتشار الواسع لرقعة الفن اإلسالمي في كل بقاع العالم اإلس���المي ،وكما تبدى في العمارة اإلس���المية الضخمة ألول وهلةَ ،ألكبر دليل على عبقرية اإلنس���ان المس���لم وسمو روحه (العبقرية والسمو اللتان استمدهما من روح اإلسالم) ،فسرت في كل إنشاءاته وصبغت كل أعماله .كان في أول نشأته يرتكز عل���ى العناص���ر المعماري���ة والزخرفي���ة التي تتف���ق وروحانيته، بعضا في س���ائر البالد فخرج���ت منجزات���ه تكاد تش���به بعضه���ا ً اإلس���المية ،مع ش���يء من التباين اليسير الذي تحمله كل بيئة، وتخت���ص به مواهب أهلها الموروثة إنش���اء وعم���ارة وزخرفة وخبرة وتقاليد. وعل���ى الرغم من تأثر ه���ذا الفن بفنون الب���الد التي فتحها المس���لمون وخاصة الساساني منها والبيزنطي ،فإنه قد استبعد منه���ا الجوان���ب األس������طورية وفن���ون المح���اكاة الش���كلية أو
الخاص���ة ،ثم عالج فنونها التجريدية بما يتفق مع تعاليم الدين
حي���ث يجعل م���ن الكعبة األصل الذي انبن���ت عليه كل تقاليد
الفن اإلس���المي بقس���ماته عن الفنون التي تأث���ر بها وعن باقي
النموذج األول للفن اإلس���المي ،إذ تعبر عن خميرة هذا الفن
اإلسالمي وروحه وفلسفته ،وطبيعة الرقعة العربية .وبهذا تميز الفنون الدينية.
العمارة في اإلسالم .فالكعبة من حيث الشكل والصفات هي على مس���تويات الرم���ز الداخل���ي والش���عائري والوثيقة الصلة
معماريا نظاما ًّ إن المسلمين في عصور انتشارهم ،استنبطوا ً
بالش���كل .فه���ي حلق���ة االتص���ال بالنس���بة للديانات الس���ماوية
التي تكون في مجموعها الطراز اإلسالمي الموحد في روحه
وع���ن طري���ق الكعب���ة -بصفته���ا النقط���ة الت���ي يتج���ه إليها
متكام���ال؛ من التش���كيالت والتراكي���ب المعماري���ة والزخرفية ً
األخرى ،التي تنبثق منها كما تنبثق الفروع من أصل الشجرة.
جماليا لدى تعبي���را وطابع���ه .فجاءت تلك العمارة اإلس���المية ًّ ً
المؤمن���ون في الصالة ،والمركز ال���ذي يرمز إلى اتحاد اإلرادة
وأيضا نحو ارتباطه العضوي بكل والتاريخ ،بل واألمة نفسها، ً
الربانية -يربط المؤلف بأس���تاذية فذة بين كل مساجد اإلسالم
مستشرقون منصفون
وكأنه���ا بن���اء واح���د ،وإن لم يك���ن إدراك وحدت���ه الكلية على
اإلنسان من رؤية فريدة ومتميزة تجاه الواقع والمساحة والزمن
هذه العوامل.
من هنا ال نعدم أن نجد مستشر ًقا منص ًفا مثل "جاستون فييت"
يق���ول" :إذا كان معي���ار األصالة في أي طراز من طرز المعمار
هو أس���لوب الف���راغ ،فإن تصمي���م الجامع ه���و النموذج الذي ال له يعبر بوضوح عن جوهر عقيدة اإلس���الم ،بصفته دي ًنا أصي ً
شخصيته المتميزة".
وكذل���ك نجد المستش���رق "بوركهارت" ال���ذي يحدثنا عن
الرمزية في العمارة اإلسالمية في مؤلفه عن "الفن اإلسالمي"،
اإلنس���انية والكونية ،والقلب الذي يعبر عن الوعي بالوحدانية والكعب���ة ،ويجع���ل العم���ارة اإلس���المية ف���ي كل أنح���اء العالم
مس���توى المنظور فإنها تكون ممكنة على المس���توى الروحي، أي من منظور التأمل العقالني الصحيح.
فالجامع ليس فيه مركز مقدس كالكنيس���ة والمعبد ،وذلك
أن المحراب يقتصر دوره على تحديد اتجاه القبلة ،والس���احة ف���ي المس���جد تحي���ط بالحرم المك���ي .وهك���ذا تحولت بعض
عرضا في كنائس الش���ام إلى مس���اجد ،جعل امتدادها الطولي ً ش���عورا اتج���اه القبل���ة ،وبذلك أصبحت أعمدة األروقة تعطي ً
27
السنة السابعة -العدد (2012 )31
صورا والنق���ود ،ولم ينس���وا أن يعمل���وا ً
بالراحة ،وهو ما يتفق مع فكرة السكون ولي���س الحركة .وهي حالة التوازن التي توضيحي���ة ألن���واع الصناع���ات القائم���ة تتجل��ى هوية الأم��ة من خلل تعب���ر عنه���ا العم���ارة اإلس���المية في كل بمصر وقتئذاك. وحدة اللغة والثقافة والعقائد، أش���كالها ،بس���بب اتجاهها نحو المركز ونتج عن هذه األبحاث كتاب وصف وتعك�ص هويته��ا على العمارة األرض���ي ،وه���ذا م���ا يظه���ر ف���ي جام���ع مصر في تس���ع مجلدات ،وعشر أخرى والفن��ون وال��راث .وت�صتمر ()3 دمشق بشكل جلي. للرس���وم والص���ور التوضيحية ،وأطلس هوية العم��ارة با�صتمرار هوية وجدي���ر بالذك���ر أن مطال���ع الق���رن للخرائ���ط الجغرافية ،وه���ذا الكتاب في الأم��ة ،وتتط��ور بتطويره��ا، التاسع عشر الميالدي ،قد شهدت يقظة مجموعه هو القاع���دة الحقيقية والمنبع وتنه�ص بنهو�صه��ا ،وتتفكك األوساط األوربية إلى أهمية اآلثار الفنية الحقيق���ي لمعرف���ة اآلث���ار اإلس���المية. بتفككها .لذلك ف��اإن البحث اإلس���المية ،وال سيما اآلثار المعمارية. وف���ي أواس���ط الق���رن التاس���ع عش���ر عن هوية العمارة هو بحث عن وكانت إس���بانيا أول الب���الد التي أثارت المي���الدي ،ظه���رت دراس���ات تفصيلية ه���ذه اليقظ���ة ،ف���أدى ذل���ك إل���ى إنت���اج هوية الأمة. ف���ي العمائ���ر والمخلف���ات اإلس���المية مؤلف���ات ضخم���ة في مجل���دات كثيرة. التي كش���فت عنها جه���ود القوامين على وأول رائد في هذا الميدان "جيمس اآلثار اإلس���المية ،وهي دراس���ات قام على معظمها مهندسون كافانا ميرفي" بكتابه الذي عنونه ب�"اآلثار اإلسالمية في إسبانيا"، ومعماري���ون ورس���امون ،مث���ل جهود "باس���كال كوس���ت" في وهو كتاب يتميز حماس���ة لكل ش���يء إس���المي ،ال بتصويراته كتابه "الهندس���ة المعمارية اإلس���المية" ،وأعقب كوست كتابه الجميلة للمباني اإلس���المية وزخارفها وكتاباتها فحس���ب ،بل ب�ع�ناي�ت����ه بص�ف�ح����ة الع�ن�وان ،ح���يث س����ج�ل الم�ؤل��ف الس�����نة هذا ،بسلس���لة من الدراسات في الهندسة المعمارية اإليرانية، الهجري���ة (1228ه����) إل���ى جانب الس���نة الميالدي���ة (1813م) باالشتراك مع المصور "فالندان". ثم امتدت هذه الجهود إلى اآلثار اإلس���المية في مصر في التي تم فيها طبع الكتاب ،ثم أتى من بعده كثير من اإلس���بان، مثل "دوالبورد" و"جي���رو دابرانجي" و"جول جوري" و"أوين مؤلف���ات "بورجوان" ( ،)1892-1873وكذلك "يريس دافن" جونس" وغيرهم ...وحوالي ذلك الوقت ،كانت فئة أخرى من ( ،)1877وه���ي مؤلفات ال تقتصر على العمارة فحس���ب ،بل ال عن دراس���ة تفصيلية المؤلفين الذين امتدت بحوثهم إلى اآلثار اإلس���المية بجزيرة تش���مل مختلف الفن���ون الصغرى ،فض ً صقلي���ة ،وذلك عن طري���ق بحوثهم في اآلث���ار الصقلية عامة .دقيقة لألش���كال الهندس���ية ف���ي الزخرفة المعماري���ة .وال تزال ()4 السبب الذي أثار هذا الدراسات قائمة تحاول التعمق في فهم آثار العمائر اإلسالمية ويرجع المستشرق "إتنجهاوزن"؛ ُ االهتمام الجديد باآلثار اإلس���المية إل���ى الحركة الرومانتيكية (أي االبتداعي���ة) بم���ا أثارت���ه من االهتم���ام بمعرف���ة المدنيات السابقة البعيدة عن زمنها ومحيطها.
وفلس���فة بنائها ،سواء من قبل المستش���رقين أو من قبل علماء
وفناني العالم اإلسالمي.
يقظة أوروبا إلى فنون الشرق
(*) رئيس قسم الفلسفة واالجتماع ،كلية التربية ،جامعة عين شمس /مصر.
ثم���ة دافع آخ���ر ليقظة األوس���اط العلمية األوربية إلى دراس���ة الشرق وفنونه وآثاره ،وهو دافع التوسع االستعماري والسياسة واضحا في إحضار العسكرية في العصور الحديثة .تجلى هذا ً نابلي���ون -في حملته على مصر -جماع���ة من العلماء ،لبحث ال .إذ أعد أولئ���ك العلماء ش���ؤون الب���الد المصري���ة بح ًثا ش���ام ً رسومات تخطيطية للمدن والمباني والعمائر األثرية ،ورسموا مناظ���ر معماري���ة للش���وارع والح���ارات والمس���اجد والنقوش السنة السابعة -العدد (2012 )31
28
الهوامش ()1
م���ا بع���د الحداث���ة والتراث ف���ي العم���ارة العربية اإلس���المية عال���م الفكر،
()2
انظ���ر إل���ى الكتاب ال���ذي صدر في لن���دن بعن���وان " ،"Hassan Fathyكتبه
()3
الفن اإلسالمي ،لبوركهارت.
للدكتور عفيف البهنسي ،ج ،27:العدد ،2:أكتوبر .1998
.Richards, J. M., Ismail Serageldin, Darl Rastorfer ()4
الفنون واآلثار اإلس���المية ،ل�"إتنجه���اوزن" ،ترجمة محمد مصطفى زيادة،
ص ،75-74:األنجلو المصرية ،عام 1953م.
قضايا فكرية
أديب إبراهيم الدباغ*
االستيعابية الفكرية للكينونة البشرية في رسائل النور
بي���ن رج���ال الفك���ر الدين���ي المعاص���ر ،يبق���ى
فس���نرى االنتظ���ام حتى في غير المنتظم -كم���ا يقول -وبعض
االس���تيعابي واالس���تقصائي للكينونة البش���رية
وإش���ارات قوة ف���ي جوان���ب كل ضعف وضعي���ف ،وبصيص
ش���دا لالنتب���اه بفكره "النورس���ي" م���ن أكثرهم ًّ
بأبعاده���ا المختلف���ة ،واستش���رافاتها عل���ى العوال���م الورائي���ة و"الماورائية" على حد س���واء .فقد بلغ نزوعه االس���تيعابي من
العمق والسعة ،إلى الحد الذي لم يعد يجد معه في التناقضات
واألض���داد في الفك���ر والحياة ،معضلة تواج���ه الفكر اإليماني
لدى المؤمنين .فما من س���لب -كما ي���رى -إال وينطوي على ش���يء م���ن اإليجاب .فإذا م���ا تعودنا النظر بعمق في األش���ياء،
الخي���ر في تالفيف كل ش���ر ،وبعض الح���ق في ثنايا كل باطل،
نور في أطباق الظالم ،وحتى تلك المذاهب الدينية المش���تطة
ف���ي ابتعادها عن س���واء الدين ،ال تخل���و هي األخرى من جزء أو أج���زاء م���ن الحق ،وبهذا الجزء أو األجزاء يش���يع المذهب ويلقى القبول لدى بعض الناس.
كثي���را م���ا يلف���ت انتباهن���ا إل���ى المعجز الخ���ارق في وإن���ه ً
إعجازيت���ه ف���ي البديهي الغ���ارق في بداهته ،وإل���ى غير العادي
29
السنة السابعة -العدد (2012 )31
هذه الكينونة من صراعات مأساوية بين
ف���ي الع���ادي نفس���ه ،وغي���ر المألوف في
عين المألوف ...ففكره ّنزاع إلى التجرد من خارجية األش���ياء ،وإلى انتزاع قشرة
البداهة عن البداهات ،واستكناه الكينونة البش���رية مجردة من الفضوليات العالقة
بها والدخول إليها من أبوابها المش���رعة الفكرية والوجدانية والحدس���ية ،وحتى الخيالي���ة وكل لطائفه���ا األخرى .ففكره
استيعابي اس���تقصائي ،يستوعب النفس مشي ًدا البش���رية ويس���تقصي كل جوانبها ّ صروح���ه التخاطبي���ة معه���ا في رس���ائله
عل���ى أس���س م���ن مصداقي���ة المعرف���ة
الكينونة الب�رضية اإذا ما ت�صا َّمت وجمعت اأجزاءها على نف�صهاَّ ، ووازنت بني متطلبات كل جزء منها� ،صارت وح��دة واحدة، ل للتوازن وغدت ج��زءا مماث�� ً ً الكامن يف الوجود ،ووجدت مكانه��ا يف الإيق��اع ال�رضمدي بني الطاق��ة املنطلق��ة من روح الع��امل ،والطاق��ة املنطلق��ة من روح الإن�صان.
تضام���ت فالكينون���ة البش���رية إذا م���ا َّ
وجمعت أجزاءها ووازنت على نفسها، َّ
بي���ن متطلب���ات كل ج���زء منه���ا ،صارت
ال وح���دة واح���دة ،وغ���دت ج���زءا مماث ً ً للت���وازن الكامن ف���ي الوجود ،ووجدت مكانها في اإليقاع الس���رمدي بين الطاقة
المنطلق���ة م���ن روح العال���م ،والطاق���ة
المنطلق���ة م���ن روح اإلنس���ان ،فتتح���ول عندئ���ذ ذات اإلنس���ان إل���ى عالَ���م م���ن
اإلش���عاع ،يض���يء كل جان���ب معتم من الفكر والحياة.
بحاجات جوانب ه���ذه النفس ،وإعطاء كل ذي حاجة منها حاجته التي يريد.
القيومية الروحية وغيرها من القيوميات.
ففي مقدمة كت���اب "المثنوي العربي
فرس���ائل الن���ور هي نتاج ه���ذه المعرفة بالكينونة البش���رية،
الن���وري" يلم���ح "النورس���ي" إلى أس���س فهمه لعالَم اإلنس���ان
تش���دها إل���ى األرض ،وتحصينها م���ن جواذب األثق���ال الت���ي ّ
الباع���ث للحياة ف���ي موات األفكار .فما من إبداع إنس���اني إال
حي���ث جعل���ت م���ن أعظ���م أهدافها تحري���ر ه���ذه الكينونة من
الش���تات في شعاب العالم واستنهاض جميع قواها ولطائفها، ثم تكريسها لخدمة الهدف األكبر الذي خلق اإلنسان من أجله وه���و العبودي���ة الخالصة هلل تعالى .فإذا م���ا مات صاحب هذه خارجا الكينون���ة ماتت كينونت���ه كلها معه ولم يبق منها ش���يء ً
عنها متعل ًقا بس���بب من أس���باب الدنيا كما ورد في األثر :فقد أثن���ى جملة م���ن الصحابة -في حضرة الرس���ول -على
مزيجا من العق���ل المفكر والروح الداخل���ي ،م���ن حيث كون���ه ً
وه���و نتاج توافق���ي بين العقل والروح ،فال���روح هي محاريب العقول تتطهر فيها وتتص ّفى ،ثم تتس���امى إلى جوهر األش���ياء
وحقائ���ق المعان���ي ولب���اب األف���كار .وبهذا الفهم اس���تطاع أن يحيط باألبعاد اإليمانية التي أش���ار إليها القرآن وس���عى لتربية
العقول واألفهام بمضامينها.
يعرف اإلنسان لقد رأى "النورسي" أن من واجبه الديني أن ِّ
رجل من الصحابة كان قد مات ،فقال عليه الصالة والس���الم:
ال بنفس���ه كما هي ،وأال يحج���ب عنه هذه المعرفة ليكون مؤه ً لقب���ول حي���اة "ما فوق الح���واس" التي يراد للمؤم���ن أن يتأهل
"لي���س كلكم إذا مات يموت كل���ه" .أي -واهلل أعلم -أنه ليس
ذهني���ة منبثقة من رؤى روحية عميقة اإلدراك واس���عة اآلفاق،
"رح���م اهلل فال ًن���ا فقد مات كله" ،فقال الصحابة :يا رس���ول اهلل أليس أحدنا إذا مات يموت كله؟! قال عليه الصالة والس���الم: كل أحد يموت بكينونته كلها دون أن يتبقى منها شيء خارج
لقبولها .وقد سعى جهده لنقله من الحالة الذهنية النمطية إلى تعرف عليها ليجرب أش���كا ً ال جديدة من الوجود لم يس���بق أن َّ
من قبل.
هذه الكينونة في مكان ما من الدنيا .ومصداق ذلك قوله تعالى ال ِتي َو ُنس ِ اي على لس���ان إبراهي���م ُ ﴿ :ق ْل إ َِّن َص َ ���كي َو َم ْح َي َ ُ َو َمما ِتي ِ ِ ين﴾(األنعام.)162: هلل َر ِّب ا ْل َعا َل ِم َ َ فنس���يان الطبيع���ة الروحي���ة للكينون���ة البش���رية عن���د بعض
المس���لم ،وذلك بإنقاذه من االنكس���ارات النفس���ية التي خلفها
الصحي���ح ،فينتابه���م عندئ���ذ ش���عور بحراجة الحياة اإلنس���انية
الحاف���ل بك���م هائل من اإلنجازات في ش���تى العلوم والفنون،
المفكري���ن إنم���ا هو عس���ر عقل���ي يح���ول بينهم وبي���ن التفكير وامتالئه���ا بالمخاط���ر ،التي قد ت���ودي ببعضهم إل���ى االنتحار
العقل���ي قب���ل أن يس���عفهم الح���ظ لي���روا ما يجري ف���ي أعماق السنة السابعة -العدد (2012 )31
30
وال نكون مغالين إذا قلنا :إن "النورس���ي" أوشك أن يصل
إل���ى نهاي���ة اإلص���الح في الحي���اة العقلي���ة والروحية لإلنس���ان فيه تضاعف شعوره باالنهزام الحضاري أمام تحديات العصر حتى خش���ي أن يك���ون العالم الي���وم غير قادر على اس���تيعاب متطلبات المس���لم الروحية ،واستس���اغة أش���واقه "الماورائية"،
محاصرا من قبل حشود هائلة من ماديات لكونه ً األرض ...فهو اليوم عائم في بحران من الرعب
الكابوس���ي ال���ذي يضي���ق عليه الخناق ،ويش���ده
أكثر فأكثر نحو المركز الميداني التعبوي لجنود األرض ،الذي���ن ال يزالون يدقون األس���افين بين
جاد اإلنس���ان ورب���ه ...فب���ات يحي���ا دون انتم���اء ّ إل���ى عالمه الذي يعيش���ه ،أو العالم اآلخر الذي ُي ْد َف ُع إليه دون رغبة منه .فاألعمال التي ينجزها،
ينجزها كما تنجز اآللة الخرساء الصماء أعمالها ِ بحرفي���ة مهنية من وراء ذهن متعب كليل وقلب هزي���ل فات���ر ،حتى لن���كاد نقط���ع بغي���اب الروح
الق فيما يأتيه من أفعال ،ولو لم يكن ش���يء الخ َّ
م���ا يعمل عمل الروح في اس���تنهاض ق���واه الفكرية ،لعقم ولم ِ يأت بشيء جديد على هذه األرض.
إن إط���الق الكينون���ة البش���رية من قيود مراس���يم النمطيات
الفكري���ة والنفس���يه المدونة في دفاتر العال���م ،باعتبارها الهوية الت���ي ُي ْر َج ُع إليها عندم���ا يراد تعريف اإلنس���ان وكتابة الوصفة
الدوائي���ة ألمراضه المس���تعصية أق���ول :إن إنقاذ ه���ذه الكينونة م���ن النظرة الضيق���ة التي ُينظَ ر إلى اإلنس���ان من خاللها ،عمل
من أجل أعمال الدراس���ات الفكرية االستيعابية واالستقصائية
ونبهت إلى ضرورة لرس���ائل النور .فقد أنذرت هذه الرس���ائل ّ
إجراء تغييرات مهمة وجريئة في المفاهيم والمقررات المتعلقة بالخارطة الوجدانية والفكرية لإلنس���ان ،وذلك بإعادة التوازن
الحميم���ي بين عوالم اإلنس���ان ف���ي مختلف لطائف���ه ونزوعاته في الداخل والخارج ،وإعادة االهتمام بالكل اإلنساني الكلي
يعبر النورس���ي. وع���دم االقتصار على الجزء الجزئي منها كما ّ
فرس���ائل النور إنما هي قوة من ق���وى الفكر الواعي ،وقوة من ق���وى اإلدراك الروح���ي العال���ي ،وه���ي نجوم تتألق في س���ماء
ملك���وت عقل اإلنس���ان وروح���ه ،مثيرة بذلك الش���وق والتوق
إل���ى جمالية الحقائق ،وش���اعرية الوجود ،وش���فافية األش���ياء،
وروحانية المكان والزمان ،وعلو اإلنس���ان واستش���رافاته على جالل األزل واألبد.
وتلخيصا فهي -أي رس���ائل الن���ور -طريق إيج���ازا وأكث���ر ً ً
معب���دة لمن يس���عى إلى مس���ايرة الفكر ف���ي تفجرات���ه الذهنية، ومس���ايرة "ال���روح" ف���ي وثبات���ه الالنهائية ،وهي مرجع واس���ع
وخص���ب للنف���س اإلنس���انية عندم���ا ينتابه���ا ش���عور بالضي���اع
واالنكس���ار أمام أعاصير الزمن ،وطغيان األحاس���يس وضمور المش���اعر ،كما أنها تشعرك بقداسة الصنعة اإللهية في العوالم واألك���وان ،وتؤكد على أن اإلنس���ان مخل���وق للبقاء ال للزوال والفن���اء ،وأن ال���ذات الفردي���ة وإن كان���ت صغي���رة في رحاب الوج���ود ،غي���ر أنه���ا تحت���وي عل���ى عوالم أوس���ع وأرحب من عوالم األرض والسماء تحيط بمشيئاتنا وأفكارنا ،وتقودنا إلى شرا فشر. خيرا فخيرْ ، وإن ً مصائرنا إن ً إن "الكينون���ة البش���رية" بكاف���ة أبعاده���ا المش���حونة بالفكر الروحان���ي الذي اعتمده "النورس���ي" في تأليفه لرس���ائل النور، هذا الفكر مرش���ح اليوم أكثر من أي فكر آخر لتأصيل "عقيدة اإليم���ان" والمحافظ���ة على ركائ���زه في بنية النف���س والضمير، وإمداد الذهن بالثقافة اإليمانية التي هي نتاج تجربة ومشاهدة بلغ���ت درجة اليقي���ن الذي ال يقين بعده كم���ا يقول .فهو -أي وجرب... النورس���ي -ال يخدعنا ،ألنه لم يكتب إال ما ش���اهد ّ فقد قرأ كتاب الكون والحياة بألس���نة األرض ،ولمس السماء، وغ���اص ف���ي فجاج الفك���ر ودخائل الضمير ،فأت���ى بالذي أتى عفوا ،بال روية وال اصطناع. ً لقد عاش روح العصر ،وأدرك أنه عصر يصدف عن علوم النظ���ر وتأم���الت العزل���ة ،بل هو عص���ر يقبل بش���دة على علم المزاول���ة والبن���اء ،إن���ه جمع كل ما أمدته ب���ه الحكمة في قلمه وحم���س الروح ،وأثار ثم نثرها في رس���ائله ،فأش���عل النفس، َّ ووس���ع آفاق الخيال ،ورس���خ معالم العق���ل القدير، العاطف���ةّ ، وأمانة الفكر والتفكير.
(*) كاتب وأديب عراقي.
31
السنة السابعة -العدد (2012 )31
أنشطة ثقافية
د .محمد باباعمي*
ولكن..
ُّ ُ شوق كلنا في الهم
ه���ي قصي���دة عصم���اء ألمي���ر الش���عراء أحمد
آن ،و ُتحيي القلوب المحبة آ ًنا بعد آن.
ال، َمحزون على حال عالمنا اإلس���المي إجما ً
ويلهِ ب فينا األشواق: يحرك َّ منا المواجدُ ، الفيحاء ،وهو ّ
اليوم ،بقل���ب َمكلوم ش���وقي ،لكأنه تر ّنم به���ا َ تخصيص���ا ،معانيه���ا ال ت���زال متأللئ��� ًة ال وعل���ى ح���ال دمش���ق ً
فض فوه: تبهت ...قال في مطلعها ال َّ
دمش�ق كف َكف يا أرق سالم من صبا َ"ب َردى" ُّ ***ودمع ال ُي ْ ُ ٌ ِ والق�واف����ي***جالل الر ْز ِء عن وصف َي ِد ُّق ومعذرة الي����راع ُ َّ َنعم ،يموت الرجل فيخ ُلد المعنى د َّفا ًقا ...ويفنى الجس���م فيبقى الروح خ َّفا ًقاَّ ...أما الكلمة الصادقة التي ُبذرت في تربة
الح���ق ،وأينعت ف���ي عالم الخلقَّ ...أما ه���ذه الكلمة ،فأصدق قول رب البيان ،ومع ِّلم القرآن ،جل جالله وتعالى وصف لها ُ
ين بِ���إ ِْذ ِن َر ِّب َها﴾(إبراهي���م)25:؛ إنها ُحكم���هُ ﴿ :ت ْؤ ِت���ي ُأ ُك َل َه���ا ُك َّل ِح ٍ ِلطيبه���ا تعانق عا َلم المالئكة برفقٍ ،فتس���قي العقول ِ كل الفطنة َّ السنة السابعة -العدد (2012 )31
32
ولق���د أب���دع ش���اعرنا ثاني��� ًة حي���ن ق���ال ،ف���ي ذات القصيدة
شرق الهم دار ُ ُ ْ نصحت ونحن مختلفون ً ا***ولكن ،كلُّنا في ّ ٍ مختل���ف و ُن ْط ُ�ق غي�ر ب���الد وي�جمع��نا إذا اخت�لف��ت ٌ ٌ ***بي�ان ُ أت عذرا ،إذا غير أني أس���تميح تجر ُ َ فصيح العرب ش���وقي ً َّ علي���ه؛ ال يدعيه على ِّ ألخطئ���ه ،فذلك مما ال ينبغي لمثل���ي أن ِّ
حاجبه في األفق؛ بدا ألبش���ره ّ مثله ،لكن ِّ أن نصر اهلل تعال���ى َ ُ
()1
فحورت في إنه قاب قوس���ين أو أدنى ،ألجل ذلك تش���ج ُ َّ عت َّ
رائعته معنيين ،وله الفضل ساب ًقا والح ًقا:
أن داللة وتطورت ،فبعد أن كانت "الهم" قد نمت أوالهما ّ َّ ِّ
وقتامتها سلبيتها من سلبية الفرد المسلم يومئذ، س���لبي ًة قاتم ًة: ُ ُ كنا أوان نس���ج القصيدة األمة حينئ���ذ؛ ولقد َّ م���ن قتام���ة حال َّ
()2
���ل إِي َو َر ِّبي﴾(يونسِ ﴿ ،)53:إ َّن ُه ﴿و َي ْس َ���ت ْنب ُِئو َن َك َأ َح ٌّق ُه َو ُق ْ الثغر؛ َ ون﴾(الذاريات.)23: َل َح ٌّق ِم ْث َل َما َأ َّن ُك ْم َت ْن ِط ُق َ أن ال���ذي جمعن���ا الي���وم ونحن نرفرف في س���ماء ثانيهم���ا ّ جل شا ُنه ،و"كتابه الكريم" سما بيا ُنه، الش���رق ،هو "اهلل تعالى" َّ ث���م "رس���وله الحليم" ش���رح اهلل ص���دره ،ووض���ع وزره ،ورفع ذكره ...فلم تجمعنا -إذن -اللغ ُة ،وال النطق ،وال اللسان ،وال غير المختلف" العرق ...إال أن يعني الش���اعر "بالبيان والنطق ِ
ونذهب وكتاب���ه المتي���ن؛ فهن���ا فقط ،نوافق���ه كالم اهلل المبي���ن، َ ُ َ ِ ونردد على إثره: مذهبه، ّ ٍ مختلف و ُن ْط ُق". غير بالد ٌ "ويجمعنا إذا اختلفت ٌ ***بيان ُ ال: سمعت صو ًتا خافتا ،من هنالك ،يهمس في أذني قائ ً ً ُ
اختصارا، ال ،فأين التفصيل؟ وإن يك إن يكن هذا إجما ًً
فأين اإلطناب؟ وإن قصدت اإللغاز ،فأين مفتاح الشفرة ،ورمز األحجية؟
رويدا ال تس���تعجل وال تختزل، صدقت ،لكن قل���تَ :نعم ً َ ُ ﴿و َما َأ ْع َج َل َك لنبيه موس���ى الكلي���مَ : واس���مع قول ربنا العظيم ّ ِ وسى﴾(طه.)83: َع ْن َق ْوم َك َيا ُم َ ِ تنبه إلى جواب الرس���ول ق���ال ُّ الذك���ي الفطن :لكن يا هذاَّ ،
ربه بكرم���ه ورعاه على عين���ه وع َّلمه من المله���م ،وق���د حم���اه ُّ َ
علمه؟
قلت :ماذا تعني؟
نئن تحت كلكل ضعفنا وهواننا ،ونرزح تحت نير االستعمار؛ ُّ يذبِح أبناءنا ،ويس���تحيي نس���اءناَّ ...أما اليوم فيصدق أن نقول: ّ إننا "نرى رفرفة خمائل القضي ِة في كل صوب وناحية منذ اآلن
بوف���اء كوفاء الفج���ر ،وعلى مرغمة كل عائ���ق ،وبفضل الذين
ولونوها ح ّف���زوا الخارط���ة الروحية للوطن بخفق���ات قلوبهمّ ، وس���قوها بدموعه���م ...ولئ���ن ج���از العدي���د من خ���داع الفجر
قريبا الكاذبَّ ، فإن شهادة أصدق الشهود على شروق الشمس ً
()3 تفتح معنى "الهم" هو الفجر الصادق في األفق نفسه" .ولذا َّ ِّ على عا َل ٍم أكثر رحابة وإيجابية وسعة ،ليعني "التو ُّتر الروحي"، َّ األمة"ِ ...من هنا جاز لنا و"الشده َ َّ المعنوي" ،و"األلم من أجل َّ نعدل في البيت ُمنشدين: أن ِّ شوق" الهم ُ ُ "نصحت ونحن مختلفون ً دارا***ولكن ،كلُّنا في ِّ لش���وق ٍ توق لمس���تقبل باس���م إنه متفتح األكمام ،وإنه َل ٌ ٌ لغد ِّ
ق���ال :ليس���ت كلُّ العجل���ة ندام��� ًة ،وإنما العجل���ة إذا كانت ومكرمة .ألم تس���مع جواب ابتغاء رضوان اهلل ،فهي عنده مبرة ُ َّ ِ ﴿و َع ِج ْل ُت ِإ َل ْي َك َر ِّب ل َت ْر َضى﴾(طه.)84: سيدنا موسى الحكيمَ : كذلك أناِ ، ال عجلت إلى س���ماع الخبر، ابتغاء لرضا ربي ،وأم ً ً ال على أمتي ،وتر ُّق ًبا للفجر الجديد والعهد في فرج يحلُّ عاج ً الوليد! فهل يقنعك هذا يا هذا؟
أصب���ت ...ذل���ك المبتدأ إلي���ك الخبر ،وتلك قل���ت :نعم، َ المقدم���ة دون���ك المت���ن ،وه���ذا الش���اطئ فلنغ���ص ف���ي البحر ِّ متوكلين على اهلل محتسبين: ِّ
أن بي���ان ذل���ك أ َّنا س���معنا من أقصى الش���رق ُ منادي���ا ينادي ْ ً توافدوا إلحياء ذكرى "النور الخالد ،مفخرة اإلنس���انية ،محمد يس���ر اهلل تعالى على يد علي���ه أفضل الصالة والس���الم" ...وقد َّ
قبل عبده المنيب( )4تأليف هذا الس���فر الفريد ،ولقد ُترجم من ُ خم���س وثالثين لغ���ة ،وها اليوم يفت���ح اهلل تعالى بترجمته إل���ى ٍ وعددا. مددا ً إلى اللغة األندونيسية ،لغ ِة أكثر البالد اإلسالمية ً
33
السنة السابعة -العدد (2012 )31
شئت َنعم ،من هنالك ،في الطرف الشرقي لمحور "طنجة-جاكارتا" ،أو إن َ لخط "مراكش-ج���اوا"؛( )5من هنال���ك ،من جاوا ،وجاكارت���ا ،وبانودنغ، فق���ل ِّ
كرس���ي "األس���تاذ فتح مأجورا تفضل بها وس���ومطرة ...ج���اءت دعو ٌة كريم ٌةَّ ، ً ُّ اهلل كول���ن" ف���ي "الجامع���ة اإلس���المية الوطنية" ،فاس���تجاب ث َّل ٌة م���ن المث ّقفين
آخر نقطة من جغرافية ال وجهة ِ وأس َر ْوا لي ً والمفكرين ،من المغرب والمشرقْ ،
أ.د .عقيل سراج ،رئیس نهضة العلماء/أندونيسيا.
فيس���ر اهلل له���م أم���ر الس���فر ،ث���م فتح لهم م���ن رحمته ،كي���ف ال وقد الش���رقَّ . اس���تجابوا ألمر ربهم الحكيمُ ﴿ :ق ْل ِس���يروا ِفي ا َ ض ُث َّم ا ْن ُظ ُروا﴾(األنعام،)11: أل ْر ِ ُ ﴿ َف ْام ُشوا ِفي َم َن ِ اكب َِها َو ُك ُلوا ِم ْن رِ ْز ِق ِه﴾(الملك.)15: اس���تقبل الوفد وهنالك ،في جاكارتا ،عاصمة الجزر األندونيس���ية ،هنالك ُ بحفاوة يعجز اللسان عن وصفها؛ بورو ٍد في المطار ،ثم بإقام ٍة في منزل ِ أنعم ب���ه م���ن منزل ،وتوال���ت الزيارات إلى الش���خصيات البارزة ،والوج���وه الطيبة،
والمؤسس���ات البديعة ...في هذه البالد العامرة الطاهرة، الس���خية، والعائالت َّ َّ
التي نزل بها "المهاجرون" من ش���باب "الخدمة" أوائل التس���عينيات من القرن
أ.د .نصر الدين عمر ،نائب وزير شؤون األديان/أندونيسيا.
"المحبة" و"التس���امح" ومعنى "أن تعي���ش لآلخرين"، الماض���ي ،فب���ذروا فيه���ا َّ أن "ما ُنبت مما لم ودفنوا ألجل ذلكم "أنانياتهم" في تراب الخمول ،مو ِقنين َّ نتاجه". يتم ُ ُيد َفن ال ُّ ولقد قال أحد وجوه البلد في كلمة بديعة ُقبيل وجبة عشا ٍء دعانا إليها عن طيب خاطر" :إن فتح اهلل قد أعاد االعتبار إلى األخالق الحميدة ،في منظومة
جل نصوص الش���ارع األوام���ر والقي���م الش���رعية ،هذه ُ األخ���الق التي تش���غل َّ
الحكيم ،ولكنها -لألسف -تكاد تغيب من واقع المسلمين اليوم" ،ثم أردف تذكرنا بأخالق قائ��� ً ال" :ل���م نعرف الخدمة إال من خالل أخالق ش���بابها ،التي ِّ د .فؤاد البنا/اليمن (على اليسار).
أن هؤالء هم الصحابة الصحابة ،عليهم شآبيب الرحمة ،ويليق بنا أن نعترف ّ أحدا". الجدد ،صحاب ُة هذا العصر ،بحول اهلل تعالى ،وال ِّ نزكي على اهلل ً ويذكر التاريخ أن "أهل حضرموت-اليمن" نشروا اإلسالم في هذه الربوع اليافع���ة ،وال ي���زال له���م هنا ذكر وأث���ر ومحمدة ،بل ِ رق ح���ي نابض ،ممن وع ٌ
فيسجل يمن الحكمة والفخر والبطولةَّ ...أما اليوم، أصله من اليمن الس���عيدِ ، ِّ ٍ ٍ جهورٍ أحيوا لحمة الدين من جديد، التاريخ صادقّ ، بصوت ُ أن "أهل الخدمة" َ وأن وأزالوا هواجس ال ُفرقةَّ ، أن "اإلس���الم دين أمن وأمان"ّ ، وذكروا العالمين ّ جميعه في اإلعراض عن���ه .ألم يقل وأن الش���ر الخي���ر ك َّل���ه في اإلقب���ال عليهّ ، َ َ
د .محمد باباعمي/الجزائر.
قريبا -إن لم ننقض عهد الخريت" :رجاؤنا الوطيد المرشد َ المنتظر أن نشهد ً ّ كرة أخرى ...وأن الوفاء مع اهلل تعالى -معاني س���ورة النصر بعظمتها وهيبتها ّ
ظل اإلس���الم ترفرف رايات اإليمان واألمل واألمن فاالطمئنان والحبور ،في ّ ٍ جديد نظام عالمي ���رة أخرى ...وأن تتعرف البش���رية في األرض ك ِّله���ا على ٍ َم ّ تتخيل ،وأن يس���تفيد كلُّ إنس���ان ،بقدر ما تس���ع فطرته وأفق فكره من فوق ما َّ تلك النسائم المنعشة".
()6
ويقينا -مدارس ش���امخة عتي���دة ،بلغت الذروة جود ًة ولقد ش���هدنا -عيا ًنا ً
نوزاد صواش ،المشرف العام على مجلة حراء/تركيا.
السنة السابعة -العدد (2012 )31
34
وفرجا، خرجا ً وإتقا ًنا ،أغلبها من س���خاء أهل البلد الذين آمنوا بدرب العلم َم ً
ورا للطلب���ة وأخرى للطالبات ،مفتوح ًة عل���ى العالم مبنى ،ومتصلة ث���م زرنا ُد ً ال قوله تعالىَ ﴿ :ف ْأ ُووا ِإ َلى دعاء وابتها ً بالسماء معنى ،يصدق أن ُيتلى عند بابها ً ا ْل َك ْه ِ ف َي ْن ُش ْر َل ُك ْم َر ُّب ُك ْم ِم ْن َر ْح َم ِت ِه َو ُي َه ِّي ْئ َل ُك ْم ِم ْن َأ ْم ِر ُك ْم ِمر َف ًقا﴾(الكهف.)16: أي مكانة ،غير أنها ليست لكنز األموال وإن للتجارة والصناعة هنا لمكانة ُّ الر ْء َيا أو في األثاث، الطائلة ،ثم تبذيرها في المالهي واللوثات ،أو إسرافها في ِّ ُ ونفعا للخلق ،وهي لإلنفاق في سبيل وإنما هي للسخاء ًّ سحا ،استجاب ًة للحق ً
د .علي أونسال/تركيا.
والبر ،والبذل في طريق العلم النافع والعمل الصالح ...ألم يقل نبينا المكرم، الخير ِّ َّ المال الصالح للرج���ل الصالح" (رواه البخاري). ف���داه ِّأم���ي وأبي" :يا عمرو ،نعم ُ
ولقد مرت األيام كلمح البصر إلى أن جاء موعد الملتقى ،فجمع المئات َّ من المحبِين ال�مش���وقين ال�مشوفين ،كلُّهم جاء ِّ ليشنف أسماعه بذكر الحبيب َ َ ّ تس���تمر التي البالد هذه في التس���ليم، وأزكى الصالة أفض���ل عليه المصطف���ى ُّ وشهورا. شهورا االحتفاالت فيها بمولد البشير ً ً كانت البداية بوجب ٍة سخي ٍة مع عشاء طيب المذاق ،تح ُّفه المالئكة ،حيث يتع���ارف الناس من مختلف األمصار ،بوجو ٍه مس���فرة وأخرى ضاحكة وثالثة
الشاعرة حاج نينو واريسمان/أندونيسيا.
وجها مستبش���رة ...وإن���ك لن تصادف -في هذا المقام اإليمان���ي المحمديً -
قمطريرا ،وال وجوها عليها غب���رة ترهقها قترة ...وإنما هي الرحمات عبوس���ا ً ً
تن�زل من رب رحيم ودود كريم. حين َّ
طريا، مجود من أهل البلد ٌ كهل ،غير أن صوته ال يزال ًّ َّ غضا ًّ فشنف األسماع ِّ
وظني أن سيدنا الحبيب المصطفي لو سمعه ،لقال له ما قال للصحابي الجليل
مزمارا من مزامير آل داود" أوتيت أبي موسى األشعري عليه رضوان ربي" :لقد َ ً
(رواه مسلم)؛ ولقد اتفق العلماء األفذاذ أن المزمار دالل ٌة على الصوت الحسن. ث���م انب���رت فرق���ة "الن���ور الخال���د" لألناش���يد والمدي���ح بأصواته���ا الناعمة تردد بحنين وأنين ،مدائح وأناش���يد الش���جية المليح���ة الصافية النغ���م ،فقامت ِّ
د .محمد جكيب/المغرب.
عن المجتبى الحبيب ،بلغات أربع ،تتراوح بينها في سالس���ة ،تنس���يك القيود والحدود، وتذكرك أن اللغات جميعها آية من آيات اهلل تعالى ،قبحها من قبح ِّ
محتواها وجمالها من جمال فحواها.
واعتصاراِ ،لش���اعرة طربا وعل���ى القاع���ة َّ تنزل���ت غمام ٌة ،فطارت القل���وب ً ً
وتذر ُتخاطب رس���ول األنام بلس���ان قومها ،فتبكي القلوب الضارعة وتدميها، ُ طرقة ،وهي تنادي بأعلى صوتها" :يا رس���ول اهلل ...يا األفواه فاغرة واآلذان ُم ِ رسول اهلل ...يا رسول اهلل". تتنزل كلمات للترحي���ب، وكان للضي���وف واألعي���ان ٌ ونصائ���ح كالجواهر َّ ُ
عل���ى الجم���وع وضيئ��� ًة ناصح��� ًة ناصع ًة ...وم���ا ذلك إال أنها نبت���ت في أرض
وسقيت بماء العشق ،ونمت تحت سماء الوصل ،ثم أثمرت خيرات الشوقُ ،
وضيئا. نورا وبركات ،وغمرت األرواح ظ ًّ ال ظلي ً ً ال ،وأح َّلت الوجوه ً
وأخي���را ،جاء بيت القصيدَ ،عبرات وعب���ارات في محاضرات وانطباعات ً
35
السنة السابعة -العدد (2012 )31
مصطفى أوزجان ،مستشار مجلة حراء/تركيا.
حول "النور الخالد" ،ولقد زالت جميع أسماء الخالئق وقتها،
و َأ ِ ش���ع ْر قلوبنا بطمأنينة داللتك وهدايتك إلى سواء السبيل...
ض ���ر ْح ل َ َ���ك َص ْد َركَ َو َو َض ْع َن���ا َع ْن َك وِ ْز َركَ الَّ���ذِ ي َأ ْن َق َ َن ْش َ َك ذ ِْك َركَ ﴾(الشرحِ ﴿ ،)4-1:إ َّنا َأ ْعطَ ْي َناكَ الْكَ ْو َث َر ظَ ْه َركَ َو َر َف ْع َنا ل َ ���و ا َ أل ْب َت ُر﴾(الكوثر.)3-1: ���ل ل َِر ِّب َ َف َص ِّ ���ك َوا ْن َح ْر ِإ َّن َش���ا ِن َئ َك ُه َ
وك���م كن���ا نتمن���ى أال نتطاير أش���تا ًتا م���ع الخري���ف ،وأال نكون
وسيل َة حزن يطرأ عليك ...لكن هيهات هيهات".
يقي���ن أن رج���اء األس���تاذ قد تح َّق���ق ،وهو ال���ذي يكره وك ِّل���ي ُ ٌ
(*) مدير معهد المناهج ،الجزائر العاصمة /الجزائر.
فريد هو اس���م س���يد الثقلين محم���د .ولقد اس���م إال واح���د ٌ ٌ ٌ ص���دق اهلل العظي���م القائل وهو يبش���ر نبيه وينذر ش���انئهَ ﴿ :أل َْم
وحتى اس���م "فتح اهلل" قد ذاب في بوتقة الحبيب القريب.
ويتفنن في "تصفير الذات" ،وفي درء األضواء ،ويعشق الظل، َّ
أي المدح والمحمدة ...فيختفي عن األنظار ،وينهى عن نسبة ّ رب ،ال ُترني ربيع عملي، عم���ل ل���ه ،ويبكي لربه ليل نهار" :يا ِّ واد ِخر وانفع به غيري ،وال تجعل ّ حظي من عملي في دنيايَّ ، األجر ليوم ُلقياك ...آمين يا رب العالمين". لي َ
وإذا لم تنادنا من فوق قمم القلوب ،فلم نسمع نحن -بدورنا- فس���نصفر كاألوراق التي الم ْح َيية، ِمن آفاق أرواحنا َ أنفاس���ك ُ ُّ سببا لهبوب أنسام الحزن في أفقك. يلتهمها الخريف ،ونصير ً ()7
الهوامش ()1
()2
ع���اش أحم���د ش���وقي أحلك أي���ام المس���لمين ،وعاي���ن س���قوط الخالفة، ُ���ب االس���تعمار الغربي عل���ى البالد المس���لمة ،وضعف المس���لمين وتكال َ وهوانهم وخورهم حينها ،وذلك ما بين 1932-1868م.
()3
القضية الكبرى لش���عبنا ،لألس���تاذ فتح اهلل كولن ،وهو مقال نشر في كتاب "ونحن نقيم صرح الروح" ،ص.105:
()4
"النور الخالد" ،لألس���تاذ فتح اهلل كولن ،وقد طُ بع طبعة راقية بديعة ،وبيع منه في مولد هذه السنة فقط ،باللغة التركية ،حوالي مليوني نسخة ،إضافة األم ،وبش���تى اللغات التي إلى ماليين النس���خ التي بيعت من ُ قبل ،باللغة ّ علما ب���أن الهدف هو تبلي���غ صوت الرس���ول إلى جميع ترج���م إليه���اً ، سكان العالم بجميع لغات البشر.
()5
مح���ور "طانجا-جاكارت���ا" بتعبي���ر مالك بن نبي ،ومح���ور "مراكش-جاوا" بتعبير فتح اهلل كولن.
()6
دني���ا ف���ي رحم الوالدة ،لألس���تاذ فتح اهلل كولن ،وهو مقال نش���ر في كتاب "ونحن نقيم صرح الروح" ،ص.12:
()7
وخات���م المنبئي���ن عن الغيب ،لألس���تاذ فتح اهلل كولن ،وهو مقال نش���ر في كتاب "ونحن نبني حضارتنا" ،ص.144:
وم���ا أروع المناج���اة الت���ي يتفط���ر عل���ى إثره���ا القل���ب
المح���ب للمصطفى ،وتزول في س���احها الحروف والكلمات ُّ ٍ برهان، معبر ،والش���ده أقوى واألص���وات ،لتترك الصمت أبلغ ّ واله���م أص���دق ٍ بيان ...إنه���ا لمناجاة عاش���ق وله���ان متيم ،لم َّ يوما وال رج���اء له فيها ،وإنم���ا لياله "أمته يخط���ب ي���د "ليل���ى" ً
ودينه" .وهو لذلك يناش���د "سلطان القلوب" بقوله" :يا أيها روح الروح النب���ي المبارك المحلق ف���ي األعالي ً أبدا ...أن���ت ُ
ورس���التك دواء ألدوائن���ا المزمن���ة ،نرج���وك أن تأتينا كرة لن���ا، ُ
تدعن���ا بال روح ...نرج���وك أن تتكلم مرة أخرى، أخ���رى ،فال ْ
فال َت َدع عبيدك في مضض الهموم ...في طريق مس���يرتنا كثير وعظائ���م من نيران الفتن َتغش���ي م���ن المتربصي���ن بن���ا الداوئر، ُ
آفاقن���ا بدخانه���ا ...ونحن نكدح في الس���ير مهما كان ،نس���عى
مرة ،ونكبو أخرى! ..فاجعل معيتك عالمة لنا في طرق سيرنا، السنة السابعة -العدد (2012 )31
36
إش���ارة إلى قصيدة "بدا حاجب األفق" ،لألس���تاذ فتح اهلل كولن ،مطلعها: أوشك السفر على االنتهاء***وبدا حاجب األ ُفق***ذاك الربيع الذي كان مصفرا. اليوم مخضرا بكل أشكاله***أصبح َ ًّ ًّ
علوم
د .إبراهيم عبد الباقى أبوعيانة*
اإلنسان والنبات
س���يظل الق���رآن الكري���م معج���زة اهلل الخالدة،
ض َوإ ِْذ َأ ْن ُت���م َأ ِج َّن��� ٌة ِفي ُب ُط ِ ���ن ا َ َ ون أل ْر ِ ���م إ ِْذ َأ ْن َش��� َأ ُك ْم ِم َ ْ ���م ب ُِك ْ أ ْع َل ُ
معج���زة العل���م والمعرف���ة .وم���ن اإلش���ارات ﴿واهللُ َأ ْنب َتكُ ْم م َِن ا َ ض َن َبا ًتا﴾(نوح،)17: أل ْر ِ القرآنية قوله تعال���ىَ : َ وفي ذلك إشارة ُتلمح إلى درجة التشابه بين اإلنسان والنبات وتوحد النشأة ووحدانية الخالق.
إشارة تستدعي التأمل ،فهي توحي بالوحدة بين أصول الحياة
تح���اج العق���ل وتتح���داه إل���ى األب���د .فالقرآن
والتعبير عن نش���أة اإلنس���ان م���ن األرض باإلنب���ات ،تعبير
عجيب موح ،وهو يكرر في القرآن الكريم بصور شتى كقوله َّ ���ه ِبإ ِْذ ِن َر ِّب��� ِه َوا َّل ِذي َخ ُب َث ت ا ب ن ج ر خ ي ���ب ���د َّ ﴿وا ْل َب َل ُ الط ِّي ُ َ ْ ُ ُ َ َ ُ ُ تعال���ىَ : ﴿ه َو َ ���ر ُج ِإ َّ ال َن ِك ًدا﴾(األع���راف ،)58:وكذل���ك قول���ه تعالىُ : ال َي ْخ ُ
ُأ َّم َها ِت ُك ْم﴾(النجم .)32:واإلش���ارة إلى نش���أة الناس كنشأة النبات
عل���ى وج���ه األرض .وإن نش���أة اإلنس���ان من األرض ،كنش���أة النب���ات من عناصرها األولي���ة يتكون ،وم���ن عناصرها األولية يتغ���ذى وينم���و ،فهو نب���ات من نباتها ،وهب���ه اهلل هذا اللون من الحياة كما وهب النبات ذلك اللون من الحياة .فكالهما نتاج األرض وكالهم���ا يرض���ع من ه���ذه األم ،وبعد الموت يعود ()1
ترابا. كالهما إلى األرض ً
37
السنة السابعة -العدد (2012 )31
العدائي���ة الشرس���ة ،مثل اإلنس���ان! فمنها ما يهاجم ش���قيقة من
ٌ أصل واحد
مكو ًنا إذا فت���ق الجني���ن الب���ذرة وفس���ق عنها -عن���د اإلنب���اتِّ -
متجها معتمدا في غذائه على مدخر أمه البذرة، صغيرا ذيرا ً ً ً ُج ً
حيث يس���تطيل ويش���تد عوده فيثبت فيها ويتغذى إلى األرض ُ
منها ،ش���أنه في ذلك ش���أن الجنين في اإلنسان والحيوان الذي يتغ���ذى م���ن أمه في بطنها ث���م من لبنها حتى فصاله ...وينش���ر
الجذر ش���عيراته في التربة يبتغي من فضل اهلل من ماء وعناصر غذائي���ة ينتقيها بعناي���ة فائ�قة فيما يع���رف ب�"النفاذية االختيارية"
مقتصدا فيما يرغه في���ه ...ثم تأخذ هذه عا ًف���ا عم���ا ال يحتاج���ه ً الم���واد مس���ارها ألعلى لتص���ل إلى كل خالي���ا النبات ،ضاربة
النبات أو يعتدى على بعض الحيوانات أو الحشرات الضعيفة بأس���لحتها الكيماوية؛ فالنبات أول منتِج ومس���تخدِ م لألسلحة
الكيماوي���ة .والغري���ب أن تلك األنواع المفترس���ة تنتج غذاءها
ذاتي���ا كبني جلدتها ،ولك���ن لديها أعضاء تحورت لتمكنها من ًّ اقتناص فرائسها التي تمدها بالنيتروجين الذي تفتقر إليه التربة
التي تقطنها .ويجب أال نترك هذا المقام دون أن نس���وق أمثل ًة لنباتات مفترسة تشترك جميعها في آلية االفتراس ،معتمدة في
جاذبا للضحية برائحته المذاق، ذلك على إفرازها سائ ً ً ال ُحلو َ الذكي���ة ،وما أن تص���ل الضحية إلى الش���ركُ ،يقفل عليها الفخ
وتهوى في بركة من األحماض الكاوية واألنزيمات المحللة،
أعظ���م األمثل���ة لعظيم ق���درة اهلل ،وضآلة قدرات اإلنس���ان الذي يعجز عن ُصنع مثل هذا مهما ُأوتي من علم وتقنية.
فتتحل���ل الضحية و ُتمتص وتمر في عصارة النبات ،هذا برغم
النباتات المفترسة
اختالف األشكال واألسماء فمنها "نبات الديونيا" (،)Dionaea
ال حياة لإلنس���ان والحيوان ب���دون النبات ،فالمملكة الحيوانية
و"الدروسيرا" ( )Droseraو"نبات الجرة" (.)Nepenthes Ventrata
وإن كان اإلنس���ان ال يخل���و م���ن الطفيلي ،فعال���م النبات ُيعج
يقدر أعدادها بنصف مليون نوع -بهذا السمو والنبل والرفعة؟
الدب���ق ذي األوراق الخض���راء ،الت���ي تمكن���ه من ُصن���ع غذائه
ُجبل���ت على التطفل على النبات ،لكن هل كل النباتات -التي
اله���دال" ( )Mistletoeأو بالمتطفلي���ن وال ُفضوليي���ن ،مثل "نبات َّ
كال ،ب���ل إنه���ا تض���م العديد م���ن النبات���ات ذات الممارس���ات
بنفس���ه ،إال أنه يتطفل على النباتات التي يتس���لق عليهاُ ،فيولج ممصات���ه داخ���ل األنابي���ب حامل���ة الغ���ذاء إلى أج���زاء النبات،
فيسلُب منه الماء والغذاء مما ُيلحق به الذبول أو يقضي عليه. وهن���اك الهالوك المتطفل على نباتات العائلة البقولية الذي إذا سبب خسائر فادحة. تمكن منهاّ ،
نبات يَدمع
النبات كاإلنس���ان ُيولد ويموت ويفرح ويحزن ،بل قد ُيصاب
المس���جلة ب���أدق بصدم���ات عصبي���ة! ه���ذا م���ا أكدت���ه النتائ���ج َّ ٍ نباتات ُوضع���ت في َمركبات الفضاء ،حيث األجه���زة على
عان���ت من االضطراب والخ���وف ،وما لبثت أن هبطت عل���ى األرض حت���ى ع���اد إليه���ا اله���دوء واالطمئنان والس���كينه ،وانقش���ع عنها التوت���ر والقلق )2(.وعلى النقي���ض م���ن ذل���ك فهي تتماي���ل راقصة منتش���ية فرح���ا بالماء بع���د العطش .وكم���ا ُيلطف العرق ً درجة حرارة اإلنس���ان ،فالنبات���ات تملك أنظمة تكيي���ف ُتلط���ف م���ن حرارتها بتبخي���ر الماء عن
طري���ق الورقة فيما ُيعرف ب�"النتح" بتقنية معجزة،
حي���ث ُيحاط الثغ���ر بخليتين حارس���تين تتحكمان السنة السابعة -العدد (2012 )31
38
في فتح الثغر وإغالقه حسب حالة الجو وحاجة النبات للماء.
ُسجل استقطاب زائد ،وكلما انتشرت كمية زائدة أليون النترات ِ قويا ،مما ُيؤدي إلى داخل الخلية كلما كان االستقطاب الزائد ًّ
نب���ات القلقاس الهندي الذي َيدمع ف���ي الليلة الواحدة حوالي
ذلك الصوت الذي ُيطلقه الحوت في وسطه المائي .وكما هو
وق���د يزي���د النتح ف���ي بعض النبات���ات فيتجمع بخ���ار الماء في واضحا في جليا ً قط���رات ُيخيل للناظر أنها تبك���ي ،ويبدو هذا ًّ
حمل باألمالح واألحماض الم ّ (100س���م مكعب) ،من الم���اء ُ األمينية وغيرها ...ويتم هذا في قنوات تش���به القنوات الدمعية
في اإلنس���ان .والنبات يتنفس كاإلنس���ان؛ فيتنفس األكسجين،
وينفث ثاني أكسيد الكربون على مدار حياته ،ولم ُتعرف هذه َ
الحقيقة إال في العام (1779م).
النبات معمل متحرك
للنب���ات س���اعته البيولوجي���ة التي تضب���ط إيقاع حيات���ه من نوم
ويقظ���ة ،فتنبهه بموعد ش���روق الش���مس ُليهيئ نفس���ه ويش���مر عن س���اعده ،ليقوم بتش���غيل أكبر المصان���ع الحيوية على وجه
األرضُ ،لينت���ج باليين األطنان من الغ���ذاء فيما يعرف ب�"البناء
س���جل صو ًتا ُيش���به ارتفاع همس���ات الصوت عند الخلية ،مما َّ معل���وم أن النت���رات بقدر نفعها للنبات يك���ون ِج ُّد مضر عندما تزيد الكمية المنتش���رة منها بداخل الخاليا ،مما يجعل الخاليا
ف���ي حال���ة مغايرة ،ويترتب عنه همس���ات أكبر من س���ابقتها، ال ُي َس��� ِّب ُح ب َِح ْم ِد ِه وص���دق الحق عندما قال﴿ :وإِن ِمن ش ���ي ٍء ِإ َّ َ ْ ْ َ ْ ِيح ُهم ِإ َّن ُه َك َ ِ ورا﴾(اإلسراء.)44: َو َل ِك ْن َ ال َت ْف َق ُه َ يما َغ ُف ً ان َحل ً ون َت ْس���ب َ ْ وكما يس���جد اإلنس���ان والنجم وس���ائر المخلوقات هلل ،يسجد ���ج َد ِ ان﴾(الرحمن ،)6:وه���ذا م���ا ���م َو َّ ﴿و َّ ���ج ُر َي ْس ُ الش َ النب���اتَ : الن ْج ُ أكدته القياس���ات المأخ���وذة على أوراق النباتات واألش���جار؛ ()3
عينا على مدار اليوم وكأنها تأخذ فلقد ثبت أنها تأخذ اتجاها ُم ً ً وضع السجود.
جدا في عملية معجزة التشابه الضوئي" حيث ُتحور بروتين يس���مى " "D1مهم ًّ البن���اء الضوئ���ي .وإذا اش���تدت الح���رارةُ ،تنب���ه النب���ات إلنتاج
الخلي���ة ه���ي الوح���دة التركيبي���ة والوظيفي���ة األساس���ية للحياة،
وق���د َيخلد النبات للنوم ،وأهم أجزاء النبات التي يظهر عليها
بينم���ا ف���ي الكائنات الراقية "عديدة الخالي���ا" فإنه يوجد تجمع
فالفونويدات التي تعمل كس���رابيل تقي النبات ش���ر هذا الحر. نهارا. النوم ،هي األزهار التي تستسلم للنوم لي ً ال أو ً
حيا كامال ً ف���ي الكائنات "وحيدة الخلية"، وتعتب���ر الخلية كائ ًنا ًّ
لع���دد هائل من الخاليا المختلفة ،والتي ُتنظم بكل دقة لتكون
وإن كان الص���وت عن���د اإلنس���ان وس���يلة اتص���ال وتب���ادل
عض���وا ،واألعض���اء تتحد نس���يجا ،واألنس���جة تك���ون بدورها ً ً
وتس���بيحه ليل نهار ...ففي تجربة باهرة عالية التقنية تمت في
وبالرغ���م من تعدد النوات���ج التخصصية والوظيفية للخاليا
لمناجاة الواحد األحد أفكار ،فالصوت عند النبات ما ُخلق إال ُ جامع���ة "باري���س "7بمختب���ر كهروفيزيولوجيا األغش���ية ،ثبت مك���ن الباحثين من أن وج���ود بع���ض المذابات مث���ل النتراتّ ،
مالحظة اس���تقطاب زائد عند الخالي���ا ،وخاص ًة عندما تمتص
الخاليا النباتية أيون النترات أو الكلورور .وهذا االس���تقطاب والمتغي���ر بتغي���ر المذاب���ات ،يم ّث���ل االس���تقطاب الع���ام الزائ���د ُ للخاليا النباتية ،ويمثل الحالة الفس���يولوجية التي تكون عليها
الخاليا .هذا االستقطاب ُيؤكد فرق الجهد بين داخل الخاليا
مكنت م���ن قياس كمي والوس���ط الخارج���ي .هذه العملي���ات ّ وكيفي للوسط الكهربي عند الخاليا والبروتوبالزما ،وكان من بمضخم ِج ُّد دقيق، الضروري ربط ّ كش���اف الذبذب���ات الناتجة ُ لتحوي���ل إش���ارات الذبذبات إل���ى أصوات ُمتزامن���ة مع الجهد المقاس بكشاف الذبذبات. الكهربي ُ
خالصة القولُ ،وجد أنه كلما زاد أيون النترات عند الخلية
حيا ،سواء كان نبا ًتا أو حيوا ًنا أو إنسا ًنا. لتكون كائ ًنا ًّ
ف���ي الكائن���ات المختلف���ة ،إال أن الخالي���ا متش���ابهة إل���ى ح���د
كبي���ر ف���ي احتوائها عل���ى عديد م���ن العضيوات الت���ي تتم فيها التفاعالت الكيماوية ،كذلك تتش���ابه في "األغش���ية البالزمية"
و"األحم���اض النووية" ( ،)DNA&RNAوالتي تعمل كمكونات
أساس���ية في ميكانيكية نقل المعلومات الوراثية ونقل الصفات
م���ن جي���ل آلخر في الكائنات ،س���واء كان إنس���ا ًنا أو حيوا ًنا أو نبا ًت���ا .هذه األحماض النووية جوهرية الوظيفة توجد في جزء
متناه���ي الصغر ،قطره ( 10-5ميكرون) ،منغمس في الس���ائل الخلوي لكل الكائنات يسمى "النواة". والمعج���ز أن
()DNA
أو "الحم���ض الن���ووي الديوكس���ي
ريبوز" ،له تركيب واحد في اإلنسان والكائنات الراقية (Higher
)Organismsومنها بالطبع النبات .ويتكون ( )DNAمن شريطين الس ّلم ،والذي تتكون جوانبه من ملتفين حول بعضهما يش���بها ُ
39
السنة السابعة -العدد (2012 )31
يحصل عليها النبات من الشمس ،إلى طاقة كيمائية مخزنة في
نواتج البناء الضوئي ،وباليين األطنان من المركبات العضوية الت���ي تتغذى عليها الكائنات التي تعيش على س���طح األرض.
أيض���ا ،يقوم على تبادل األكس���جين وهن���ا يوجد معم���ل دقيق ً وثاني أكس���يد الكربون ،وتتجلى هنا معجزة التشابه الكبير بين
التركي���ب الكيمائي لكل من صبغ���ة "الهيم" وصبغة اليخضور؛
فكالهم���ا عب���ارة ع���ن متراك���ب للمرك���ب الحلق���ي المعروف نبات القلقاس الهندي
جزيئات السكر والفوسفات ،أما درجاته فتتكون من مجموعة من القواعد النيتروجينية؛ معنى ذلك أن كل شريط ،يتكون من "النكليوتي���دات" ( ،)Nucleotidesالتي وح���دات متكررة تس���مى ُ
تتك���ون كل منه���ا من جزيء س���كر وجزيء فوس���فات وقاعدة
نيتروجيني���ة .وهن���اك أرب���ع قواع���د نيتروجيني���ة مختلف���ة وهي
"األدني���ن" و"الثيمين" و"الس���يتوزين" و"الجوانين" ،و َتتابع هذه القواعد على "شريط الحمض النووي" ( )DNAهو الذي ُيحدد التعليمات الوراثية لخلق الكائنات الحية المختلفة )4(.وكذلك ف���إن اختالف تتابعه���ا داخل كل نوع ،يخل���ق التباين بين أفراد
النوع الواحد.
ولعل من أبرز مناط التشابه بين اإلنسان والنبات ،هو تركيب
اليخض���ور في النبات واليحمور في اإلنس���ان؛ فالهيموجلوبين الموجود في دم اإلنسان والحيوان ،واليخضور -وهو الصبغة األساس���يه في النبات -من أهم المركبات الحيوية التي تغذي
الحياة على س���طح األرض .يتكون الهيموجلوبين من جزأين، أحدهم���ا يحت���وي عل���ى بروتين خ���اص وبه عنص���ر الكبريت، متح���دا مع الج���زء اآلخر وهو ويس���مى "جلوبي���ن" ،إذ يك���ون ً
باس���م "بروفي���ن" ،وال���ذي يتك���ون من أرب���ع حلق���ات البيرول -حلق���ة خماس���ية غير متجانس���ة تحتوي عل���ى النيتروجين في
أح���د أركانه���ا -متصلة ببعضها في ش���كل حلقة بواس���طة أربع مجموعات من الميثين ،مع بعض الفروق في نوعية المتراكب
تناسب وظيفة كل منهما .فالهيم عبارة عن متراكب حديدوز، إذ يتمرك���ز أيون الحديد الثنائي وس���ط حلقة البورفين ،أما في
ال من الحديد. حالة اليخضور فنجد الماغنسيوم بد ً
()5
والمعجز ،هو ما دعا الكثير من ِ ولعل هذا التشابه العجيب
العلم���اء لالعتقاد أن الكلوروفيل مادة بناء الهيموجلوبين لكل
األكل���ة من البش���ر والحيوان���ات ،حيث ُوج���د أن للكلوروفيل َ
تأثي���رات بنائي���ة للدم ش���بيهة بتأثيرات الحدي���د ،مما يمكنه من عالج األنيميا الحادة .ولما كانت عصارة النبات المحتوية على
الكلوروفيل ،تحتوي على أكس���يجين س���ائل ،مما يسمح لنقاء الذهن ووضوح التفكير ،كما أنه يعمل كمانع طبيعي لألكسدة.
وف���ي النهاي���ة ،إن اهلل وحده ه���و الخالق الب���ارئ المصور،
وإن الكون لم ُيخلق صدفة ،بل ُخلق بيد ُمبدعة ،والكون يعج
بالكثير من آيات اهلل ...وما علينا إال أن نتأمل ونتفكر في بديع خلق اهلل .
صبغ���ة الهي���م الحمراء ،ويوجد الهيموجلوبي���ن في خاليا الدم
الحم���راء ،وعند مروره في الش���عيرات الدموية بالرئة ،يحصل
جدي���دا يس���ري ف���ي ال���دورة مركب���ا عل���ى األكس���جين مكو ًن���ا ً ً يمدها باألكسجين. الدموية ،وعندما يصل إلى أنسجة الجسم ُ
كما يتحد مع ثاني أكسيد الكربون الموجود في هذه األنسجة
(*) باحث في معهد بحوث تكنولوجيا األغذية ،الجيزة /مصر.
الهوامش ( )1في ظالل القرآن ،لسيد قطب ،ج ،6:دار الشروق ،مصر. ()2
اهلل والعلم الحديث ،لعبد الرزاق نوفل ،ط ،3:دار الناشر العربي.1973 ،
( )3همس���ات وأص���وات الخاليا النباتي���ة ،لعبد المجيد بلعاب���د ،مجلة اإلعجاز
جديدا يس���ري إلى الرئتين م���رة أخرى ،ليخلص مركبا مكو ًن���ا ً ً
العلمي ،العدد.19:
إنه معمل متحرك داخل الجهاز الدوري بقدرة اهلل.
سلسلة عالم المعرفة ،العدد ،277:يناير .2002
الجسم من ثاني أكسيد الكربون في عملية الزفير وهكذا ...أي أم���ا اليخضور ،فيقوم بوظيفة تحوي���ل الطاقة الضوئية التي السنة السابعة -العدد (2012 )31
40
( )4هذا هو علم البيولوجيا ،إلرنست ماير ،ترجمة :د .عفيفي محمود عفيفي، ( )5أوجه الشبه بين اإلنسان والنبات ،مجلة عالم الكيمياء ،العدد ،4:ص.56:
أدب
تجليات الصبح تحدث يا صبح واحك ،عسى أن توقظ بضوء حديث���ك الن���ور الهاجع في أرواحن���ا فنصحو.
علّمنا الرحمة أيها الصبح ،علّمنا ،من ش���آبيب
أوليس���ت أنامل شمسك الذهبية قد غزلت الس���حاب ،علّمناَ .. يسبحن في من أنفاس البحر الالهث إكليل ياس���مينات بيضاء ْ
محمالت بإكسير الحياة واألحياء؟ الفضاء، ّ
طهورا، دمع���ا فلتس���قِنا ي���ا صب���ح من أجفانه���ا الصادقة ً ً أال ْ
عس���ى أن نتعلّ���م كيف نس���قي بعضنا البعض! ُبح بأس���رارك يا
صب���ح ،واص���دح بحناجر من ن���ور فلتصدح ..أفم���ا آن األوان
نزعت صمتِ���ك الصاخب فتفق���ه؟ أال َ أن تس���مع اآلذان بالغ���ة ْ الغشاوة عن أعيننا لنبصر الحكمة في عينك؟ أال أعرتنا بؤبؤك س���ر هذه الس���كينة المرس���ومة عل���ى وجهك؟ أيا ً قلي���ال لندرك ّ صبح ّبرد لواعج روحي ولو بقطرة من رحيق أنوارك!
ولجت اآلن بساتين عذراء وأنا ُمتأبطة بذراع ضيائك.. ها ُ
الهوينا والعصافير تتهادى أكتافي ملتصقة بأكتافك ..معا نمشي ْ ي���م أحالمها البيض���اء .اهلل ..ما أرحم ف���وق رأس���ينا ،تغرق في ّ ْ
بدي���ع األرض والس���ماء؛ خل���ق العصافير بهج���ة لألحياء ،فما تس���بح الروح عس���اها تكون األرض بال موس���يقى أو غناء؟ ها ّ
يصوب���ون بنادقهم مذهول���ة ألعظ���م ف ّن���ان ..وإذا بأربع���ة فتيان ّ
دمارا ودخا ًنا. صوب أسراب الجمال ،فيخلفو وراءهم ً
يس���د وا صبح���اه! ما له���م يتكالبون على أكل عصفورة ال ّ لحمه���ا حتى جوع فأرة؟ ب���اهلل عليك يا صبح علّمهم أن التهام
خي���ر لهم من التهام لحمها ،وأن التلذّ ذ برؤية ألوانه���ا وأنغامها ٌ خف���ق جناحيه���ا أعظ���م بكثير من التل���ذذ بعظامه���ا .ولتأذن لي
بعدها يا صبح ،أن أحلم بميالد إنسانية رقيقة.
ها تدب فوق المنعطفات ببطء ،وذا غزالٌ ْ أقبلت س���لحفاة ّ
قمة الجبل بخفقة واحدة يعدو بس���رعة الريح ،والنس���ر قد بلغ ّ من جناحيه .طريق الس���لحفاة ال يشبه طريق الغزال وال طريق
النس���ر ..أسلوب الس���لحفاة مختلف عن أسلوب الغزال وكذا
أسلوب النسر ..جميعهم عباد اهلل وإن لم يفقه بعضهم تسبيح بع���ض ،لكل منه���م مذهبه ومنهجه وطريقت���ه ،لكن أحدهم ال
يوما صراعات طائفية مجنونة. يك ّف���ر اآلخر ،ال وما تصارع���وا ً فعالم يا ُص ْبح أرى البش���ر يتقاتلون ،عاجزين عن التعايش مع
مرام البار*
بعضهم البعض؟ ما دامت غايتي من مذهبي هي الوصول إلى أيضا ،فما شأني إن اهلل ،وما دامت غاية أخي الوصول إلى اهلل ً كنت س���لحفائية الحركة س���لك طري ًقا آخر غير طريقي؟ لربما ُ في حين يملك هو أجنحة قوية. ناش���دتك اهلل ي���ا صب���ح أن تعلّمن���ا أن صدر الدين أوس���ع، الرب واحد ،واختالف األفهام ،وتفاوت األذواق ،وتباين وأن ّ الط���رق ،ال يس���تدعي الع���داء والتناحر والبغض .ث���م لتأذن لي بعدها يا صبح أن أحلم بميالد إنسانية رحيمة. حشرات وطيور وحيوانات تسرح وتمرح في الغابات، ها ٌ تطلب الرزق من بقعة لبقعة ..تسافر ،تهاجر دون أن تحمل جواز سفر وال تأشيرة مرور ،ذاك هو دستور الحياة ..أما في دستور بني اإلنس���ان فمن أين وإلى أين وكم ومتى وكيف؟ واخجلي أزحت من دستورنا المعقد يا صبح أمام دستور األكوان! أفال َ ع ّنا ظالم الجهل بشمس���ك الس���اطعة؟ أليس���ت األرض وحدة نجزئها بالح���دود والتخوم؟ كامل���ة لجمي���ع األحياء؟ فما بالن���ا ّ مما أجبني يا صبح أجب ،بثغرك النوراني فل ُت ِجب ..علّمنا ّ علّمك اهلل ..عس���ى أن تس���تيقظ ش���مس أرواحنا ،وتنهض من س���رير س���باتها .ثم ائ���ذن لي بعدها ي���ا صبح أن أحل���م بميالد إنسانية حكيمة. صماء ،وفي ���ر ٌة من صخور ّ ها ْ الرائي ّ متراصة يحس���بها ّ أس َ جوفه���ا رقصة الحياة ،في تماس���كها مالح���م وعظات ،تتعانق س���واعدها جماع���ات جماع���ات ،تحم���ل بعضها بعض���ا قرو ًنا حب���ذا ي���ا صبح أن طويل���ة دون أن تئ���ن أو تش���كو أو ّ تتذم���را! ّ تزيدن���ا م���ن فقه الحياة حتى نتعظ ونخش���ع أمام عظمة الخالق وجب���روت صنعته ،فنتواضع ونخ ّفف من غلوائنا وغطرس���تنا. ثم لتأذن لي بعدها يا صبح أن أحلم بميالد إنسانية جميلة. أحراك بآذان ُت ْحسِ ���ن فن أيه���ا النور المنبثق من الظالم ،ما ْ اإلصغاء إلى غنائك ،ألنت أبدع قصيدة نظمتها السماء ..خذنا إل���ى ملكوت عليائ���ك ،اهدنا بضيائك ،ارتح���ل بنا فوق مطايا الوهاج ،من أس���رار تآلف أن���واركُ ،ب ْح لن���ا بكل ما في جبينك ّ الكائنات وإخائها وتعاونها ،ثم افرك بش���روق شمس���ك أعيننا، عسى أن نحظى بميالد إنسانية جديدة. (*) أديبة إماراتية.
41
السنة السابعة -العدد (2012 )31
أدب
د .محمد جكيب*
ﴎك ﺛﺎﻟﺜ ًﺔ ،ﻓﺈنْ ﱠ دل ذﻟﻚ ﴎك ﻣﺮة وﻣﺮﺗني ،أﻟﻴﺲ ﻣﻦ اﻟﻐﺒﺎء أن ﺗﻮدﻋﻪ ّ إذا أﻓﴙ أﺣﺪﻫﻢ ﱠ ﻋﲆ ﳾء ﻓﺈمنﺎ ﻳﺪل ﻋﲆ ﻗﴫ ﻧﻈﺮك ،وﻗﻠﺔ إدراﻛﻚ ،أﻣﺎ َﻣﻦ أﻧﻀﺠﺘﻪ اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ ﻓﻼ ﻳﻠﺪغ ﻣﻦ ﺟﺤﺮ ﻣﺮﺗني. )اﳌﻮازﻳﻦ( ***
سلطة الكلمة وقوتها 1- الكلمة( )1سلطة وقوة ...الكلمة فعل ومفعول، أث���ر وتأثي���ر ...الكلم���ة مف���رد عل���ى الحقيقية،
وتحص���ل ناصيت���ه وانكش���فت ل���ه أس���راره ومس���الك تصريفه وصياغته ،فتح القلوب وشد العقول واكتسح األرواح.
لكنها جمع على المجاز لداللتها على متعدد ،الكلمة مفتاح أسرار الوجود
إذ م���ن الكلمة يتك���ون الكالم المفيد الدال على معنى ،الكلمة فعل واس���م وحرف ...فهي حدث وش���يء وسمة هذا الشيء،
وه���ي رابط وواصل ،وبالكلمة نصل ونتواصل ،نفهم الماضي ونعي الحاضر ونبني المستقبل.
عال���م ال���كالم عالم عجي���ب ،مت���ى ُأعطي اإلنس���ان زمامه السنة السابعة -العدد (2012 )31
42
الكلم���ة ق���وة خارقة ،بمفعوله���ا خلق اهلل الوج���ود كله ،بل هو يعي���د -جل وعال -الخل���ق في كل وقت وحين ...ف�"كن" التي خلق بها اهلل تبارك وتعالى كل ش���يء كانت مرة واحدة ،لكنها ما تزال س���ارية المفعول إلى ما ش���اء اهلل ...وبالكلمة والكالم ق���در اهلل تعال���ى على اإلنس���ان التفاع���ل مع الوج���ود ،ومعانقة
موجودة ،لكنها إذا لم تجد الفاعلية التي حقيق���ة الخال���ق ومخلوقات���ه .وكلم���ة تح���رك كيانها من الجذور ،فس���تظل في "اق���رأ" هي أول ما لقنه جبريل بأمر اإن الكلم��ة خملوق من خملوقاته حال���ة م���ن الكم���ون واالنتظ���ار الطويل، اهلل تب���ارك وتعال���ى الرس���ول ؛ ف ِف ْع���ل تعاىل ،بها ترجم قدرته املطلقة، ال يبعث ولذلك اعتب���ر البيان محركا فعا ً الق���راءة "كلمة" ،لكنها كلمة ذات امتداد ً وبها و�صف اأ�صماءه التي جتلى األموات وينفخ الحياة وينشر الدفء. واس���ع في الزمان والمكان وفي الداللة إن ا ف ولذلك الوجود، عل��ى بها ي���درك أه���ل اإلب���داع والبي���ان عل���ى والمدلول .فقد قرأ الرسول بعد هذا ه��و الكلم��ة، حقيق��ة إدراك ا لزوم���ا ،بأنه���م مهم���ا وصل���وا الحقيق���ة عد القراءة األمر كل ش���يء ،واستوعب ُب َ ً اإدراك له��ذه الق��درة املطلقة، ومهم���ا ارتق���وا ف���ي دائ���رة البي���ان ،فه���م ومفهومه���ا؛ لق���د ق���رأ الوج���ود وأدرك َ فلقد �ص��اءت اإرادت��ه تعاىل اأن مجرد دالين يدلون بوسائلهم المحدودة حقيقته واس���توعب داللته كما استوعب تك��ون الكلمة و�صيل��ة اإنطاق عل���ى البي���ان المطلق ويعبرون بوس���ائله كل األنبي���اء والرس���ل ذل���ك قبل���ه ،لكنه املخلوقات ،مبا يف ذلك الذات وأدوات���ه علي���ه ،فه���م يعرفون���ه لغيره���م حص���ل كل م���ا اس���توعبوه ووعت���ه َّ ممن ل���م يفتح اهلل عليهم ب���إدراك بعض املوظفة للكلمة. أرواحه���م الصافي���ة النقي���ة .لك���ن صفاء جوانب���ه .ولهذا كان أه���ل الفن واألدب روح الرسول تتقدم بمسافات عليهم وأرب���اب الكلم���ة ،ملزمين باالسترش���اد جميعا ،ألنها المحضن الذي اختاره اهلل ً تب���ارك وتعلى الس���تقبال بيانه الختامي .وس���يرته أكبر دليل ببي���ان صاحب البي���ان ،وملزمين بالداللة عليه واإلرش���اد إليه، عل���ى أنه اختير اختيارا من أجل تلق���ي هذا البيان ،الذي يمثله أما غيرهم فهم الغاوون وال يتبعهم سوى الغاوين. ً خطابه في القرآن الكريم ،وتشهد عليه تفاصيل الوجود كله .عجز أرباب البيان قال اهلل تبارك وتعالى "كن" فكان الوجود كله ،واكتس���بت
عظيما يجل���ي عظمة من كل المخلوق���ات بفع���ل "ك���ن" بيا ًن���ا ً ���ون﴾ .ولذلك فهذا الوجود خل���ق وعظم���ة من قالُ : ﴿ك ْن َف َيكُ ُ
الجمي���ل الرائ���ع الصنعة الدقي���ق اإلبداع ،يعب���ر ببيانه عن كثير
من أس���ماء اهلل الحس���نى التي تجلى من خاللها على الوجود. فبي���ان الموجودات ومنطقها ،تعبير ع���ن قوة وعظمة المتجلي
يسيرا من البيان بقدرته على الوجود ،بل هو بيان يعكس ً جزءا ً المطلق الذي هو انعكاس أسمائه الحسنى.
"البيان" كما يعرفه األس���تاذ فتح اهلل كولن ،هو روح كتاب
الك���ون ومضمون���ه ولونه وأس���لوبه ،وهو قان���ون المخلوقات المتفاعل���ة ف���ي الك���ون ،وهو كذل���ك ختم الحقيقة اإلس���المية
وس���لطتها .ف�"البي���ان" به���ذا المعن���ى ،منهج يدرك به اإلنس���ان -باعتب���اره أرق���ى مخلوقات اهلل تبارك وتعال���ى -عظمة مصدر
الق���درة المطلقة ،ووس���يلة لمعرفة الخالق والس���ير إليه تعالى. ف���إدراك البي���ان في أصله وحقيقته ،ه���و إدراك الوجود في كل تفاصيل���ه الكلي���ة والدقيق���ة ،وه���و الوعي بمكان اإلنس���ان في
النظام المتوازن الذي صب اهلل فيه الوجود.
والبي���ان كذل���ك قوة كبيرة وس���لطة تؤج���ج القلوب وترفع
مستوى قابليتها وقدرتها على الفعل؛ فقد تكون الهمم حاضرة
كان الع���رب قبل ن���زول الوحي ،أرباب البيان واللغة والش���عر وفنون القول من خطابة وس���جع وغيرها ...وكانت لهم قدرة كبيرة على إدراك جمال البيان ،وتبيين مكامن دقة التعبير وسمو اللفظ ورشاقة العبارة ...ولذلك فإن أول ما بهرهم في القرآن الكريم هو مطلق بيانه ،باإلضافة إلى وضوح الحجة وعقالنية الفك���رة ومنطقه���ا ...وفي لحظ���ة وجيزة أل ُفوا أنفس���هم -وهم أرباب البيان وأهله وأصحاب القول الفصل فيه -عاجزين عن منافسته واإلتيان بمثله .لقد بهرهم القرآن الكريم ببيانه وتفوق بمس���افات ال تحس���ب على بيانهم ،تجاوزهم الق���رآن الكريم وتركه���م خلفه يلهثون ،وتج���اوز الصورة المثالي���ة التي ظلت ال منقوش���ة في ذهنهم عل���ى أنها النم���وذج المثالي ده���را طوي ً ً للقول وقوة العبارة ،فاقتنعت العقول بأن مصدر البيان القرآني ليس من بشر يساويهم في القدرة الذهنية والبيانية ،بل هو من مص���در آخر ،وأدرك أه���ل النفوس الطيبة ب���أن صاحب البيان الذي وجدوه في خطاب القرآن الكريم ،ذو قدرة خارقة على البي���ان ،وأن���ه هو اهلل تبارك وتعال���ى .كان الناس على عمومهم يعرف���ون اهلل لكنهم أش���ركوا مع���ه آلهة توهموه���ا ،وأبطلوا مع م���رور الزمن ربوبيته ،لكن خط���اب القرآن المبين ،فتح قلوب العدي���د منه���م فآمن���وا وأعلن���وا عبوديته���م هلل تب���ارك وتعال���ى
43
السنة السابعة -العدد (2012 )31
وس���لموا بما نزل عل���ى محمد .وأما إصرار البعض عل���ى إنكار حقيقة البيان ودق���ة التم���اس العبارة المناس���بة للمقام اإذا كان البي��ان ه��و روح الظاه���ر ،فلم يك���ن ليغطي على من آمن المناس���ب وترتي���ب اللف���ظ وف���ق حاجة ومنوذجه ولونه الكون كت��اب بمج���رد س���ماع بضع آيات منه أو س���ور الدالل���ة .وإذا كان لكل مق���ام مقال كما املفت��وح ،فاإن تذوق��ه واإدراك منه كما وق���ع مع عمر بن الخطاب ، يق���ال ،فإن البي���ان القرآني ه���و النموذج دقته وعظمة ان�صجامه يحتاج وقص���ة إس���المه مش���هورة تذكرها كتب المثال لهذه الحقيقة التواصلية. اإىل قلوب وا�صعة ت�صتطيع فك السير والمناقب وكتب النقد. ونظرا لعظمة البيان القرآني وجالئه، ً إن رد فع���ل القلوب والعقول الطيبة جميعا تحت لواء التوحيد التف الن���اس ترمي��زه ب��كل جوارحها ،ول ً المتوازنة العادلة الصادقة ،هو االعتراف أفواج���ا ،وعرف ودخل���وا ف���ي اإلس���الم يَ ُف ُّك رموزه �صوى من ت�رضبت ً بأن مص���در البيان القرآني ،ال يمكن أن متأم���ال كبي���را فانطل���ق ال الذه���ن تح���و ً ً ً روحه ال�صفرة الدللية والنظام يص���در ع���ن بش���ر وإن كان ه���ذا البش���ر الخط���اب القرآن���ي وبيانه ،فاس���تخلص التداويل ملكونات هذا البيان. يس���تطيع فهم معانيه وإدراك مراميه ،لقد علم���ا م���ن أج���ل العل���وم وأقدمه���ا ف���ي ً أدرك هؤالء أنه ليس من محمد . تاري���خ حرك���ة اإلبداع اإلس���المي ،وهو كان الع���رب قب���ل ن���زول الق���رآن علم اإلعجاز الذي يهتم بالبيان باعتباره ()2 الكري���م يفس���رون اإلب���داع واألدبية ومنهجا يؤدي إلى معرفة أصل البيان ال من سبل المعرفة، خاص���ا ،فربطوا سبي ً تفس���يرا ًّ ً ً الس���جع بالكهان���ة -والكهنة فئة اجتماعية ادع���ت قدرة خارقة جل وعال. كمعرف���ة المس���تقبل واالتص���ال بعوالم غائب���ة -وقالوا إن لكل سلطة "البيان" وقوته ال حدود لهما ،ألن هذا "البيان" يمد ش���اعر شيطان يوحي إليه الش���عر ويعينه على اإلبداع والتفوق الجم���اد بالحياة ،ويحرك األحياء ويأس���ر الجموع بقوة تأثيره، الفني واألدبي ،وسموا بعض شياطين الشعر هؤالء ،بل ارتبط ويدفعه���م إل���ى أقصى ح���دود طاقتهم كما يقول األس���تاذ فتح أغلب فحول الش���عراء بأس���ماء ش���ياطين بعينهم ذكر "أبو زيد اهلل كول���ن .ولن���ا في التاريخ نم���اذج خطابية حرك���ت الجموع بضعا منهم في "جمهرة أشعار العرب" .فالتفوق في ودفعته���م إل���ى أقصى حدود طاقته���م ...فهذا ط���ارق بن زياد القرشي" ً الق���ول واإلبداع قد ارتبط في ذهن أهل الجزيرة العربية بقوى وق���د عبر من إفريقيا في ش���مال المغرب إل���ى الضفة األخرى جديدا ع���دا ً خارق���ة ،لكنها م���ع نزول القرآن الكريم س���تأخذ ُب ً فاتحا ،فخطب في َمن معه -بعد أن أقدم حيث القارة األوربية ً وه���و االقتن���اع بأن البي���ان الحقيقي هو من اهلل تب���ارك وتعالى ،على حرق السفن التي عبرت المضيق -خطبة سجلها التاريخ وكل البشر عاجزون عن محاكاة البيان اإللهي واإلتيان بمثله .وكتبه���ا النق���د واألدب بمداد الفخ���ر ،باعتبارها خطبة حركت المتمثل���ة ف���ي حس���ن اختي���ار اللف���ظ
مدارات البيان في القرآن الكريم
إن مدار البيان القرآني ال يميل في عمومه عن بس���ط مختلف مقوم���ات العبودية هلل تبارك وتعال���ى ،والداللة على مخلوقاته التي هي بوجه من الوجوه بعض عناصر "البيان" ،وكأن البيان متفرع إلى مظهرين: • مظه���ر ش���هودي تقوم في���ه الموجودات وتناس���قها ببيان الوج���ه األخر للبيان الكلي ،الذي يعتبر الرس���ل الكرام عليهم الس���الم مرش���دين إليه ودالين عليه ،والذي يعتبر الرس���ول جميعا وإمامهم فيه. رائد الرسل ً • ومظه���ر لغوي ت���ؤدي فيه الكلمة مهمة أساس���ية ،ويقوم في���ه إحكام النظ���م بدور حي���وي ،لتتجلى بذلك معال���م البيان السنة السابعة -العدد (2012 )31
44
القلوب وشحنت الهمم.
س���ببا من أس���باب ال ش���ك أن الخطبة وكلماتها قد كانت ً
زرع التوحي���د ف���ي هذه المناطق م���ن أرض اهلل تبارك وتعالى،
���خر البيان ليكون قوة تصنع المستحيل ،وتعرف بالبيان فقد ُس ّ ال���ذي بني الوجود كله على أساس���ه ...فالذي مكّ ن طارق بن زي���اد وه���داه إلى ما هداه إلي���ه ،هو الروح الصادق���ة المتفاعلة
رت من خالله إلى كل القلوب ...وال م���ع البيان الكلي ،إذ َع َب ْ ن���دري م���ن كان يخطب ،أهو ط���ارق بن زي���اد أم هو صاحب
وعبر فعبر بالبي���ان عن البي���انَ ، البي���ان ،أنط���ق ط���ارق بن زي���اد ّ بالبيان إلى القلوب واألرواح؟!
إن الكلمة باعتبارها الوحدة القياس���ية الصغرى التي يقاس
به���ا البي���ان ،ال تحدث تأثيره���ا وال تحقق مفعوله���ا إال عندما
الكائن���ات ،إذ بفض���ل نعمة البي���ان صار هذا اإلنس���ان مخلو ًقا
والبن عربي كالم جميل يش���خص في���ه البعد الروحي للكلمة
وتعال���ى ،وبالبي���ان اس���تطاع هذا اإلنس���ان التعبي���ر واإلفصاح،
توح���د قبلتها جهة البيان المطلق وتس���خر نفس���ها ف���ي دائرته، حين يقول:
يتوجه إليه الخالق ،كما يتوجه هو (أي اإلنسان) إلى اهلل تبارك
وبتعبيره تمكنت الموجودات هي األخرى أن تبين ،وهي التي
"قال الحق للكلمة:
كانت قبل ذلك صامتة.
أنت مربوبي وأنا ربك.
فقب���ل البي���ان الذي ُعلّمه اإلنس���ان كان���ت الكائنات صماء
أعطيتك أسمائي وصفاتي:
بكم���اء جام���دة وال أح���د يس���تطيع معرف���ة كيفي���ة كان���ت تبين،
فمن رآك رآني،
لك���ن المعروف هو أن اإلنس���ان قد اس���تطاع بنعم���ة البيان فهم
ومن أعطاك أعطاني،
وتأوي���ل ونق���ل بيان كل الموجودات األخ���رى ،فكل كائن في
ومن جهلك جهلني،
ه���ذا الوج���ود نموذج يتكلم ،لكن لكل كائن أس���لوب ميزه اهلل
فغاية من هم دونك،
أن يتوصلوا إلى معرفة نفوسهم منك.
وغاية معرفتهم بك،
العلم بوجودك ،ال بكيفيتك".
()3
إن الكلم���ة مخلوق من مخلوقات���ه تعالى ،بها ترجم قدرته
المطلق���ة ،وبها وصف أس���ماءه التي تجلى به���ا على الوجود،
ولذل���ك ف���إن إدراك حقيق���ة الكلم���ة ،ه���و إدراك له���ذه القدرة
المطلق���ة ،فلقد ش���اءت إرادت���ه تعالى أن تكون الكلمة وس���يلة إنط���اق المخلوق���ات ،بم���ا في ذل���ك الذات الموظف���ة للكلمة. بعب���ارة أخ���رى ،فقد خل���ق اهلل الوج���ود كله بكلم���ة ،وبالكلمة تتمكن كل هذه الموجودات من أن تبين بما في ذلك اإلنسان
ال من ذاته ،ولذلك فإن البيان هو روح الكلمة ،باعتبارها س���بي ً سبل االعتراف بالربوبية.
خل���ق اهلل الوجود بعلمه وخط هندس���ته بكلماته ،واختص
اإلنس���ان دون س���ائر المخلوق���ات بنعمة الكالم ونعم���ة البيان
واإلفص���اح عم���ا ف���ي داخله وم���ا يري���ده ،إذ إن أول م���ا علمه
اهلل تب���ارك وتعال���ى لهذا اإلنس���ان بعد صنعه ل���ه ونفخه الروح آد َم ا َ ���م َاء ُك َّل َها ُث َّم ﴿و َع َّل َم َ فيه هو األس���ماء ،يق���ول تعالىَ : أل ْس َ ِ ال ِء إ ِْن ُك ْن ُت ْم ���ما ِء َه ُؤ َ ال ِئ َك ِة َف َق َ ���م َع َل���ى ا ْل َم َ ال َأ ْنب ُِئوني ِب َأ ْس َ َع َر َض ُه ْ فنف���خ ال���روح يمثل االس���تعداد المعنوي ين﴾(البق���رةْ ،)31: َصا ِد ِق َ لتلقي علم األسماء ومعرفتها.
يبين األس���تاذ فتح اهلل كولن ،أن اإلنس���ان خليط من تراب
وم���اء ،وأنه مس���تودع العل���م والمؤتم���ن علي���ه ،ولكونه يملك
ب���ه ،هو كالمه .والكالم وس���يلة تتيح معرف���ة الحقيقة المطلقة التي هي حقيقة الخلق ،إذ يصير كل شيء كآلة موسيقية تؤدي س���يمفونية ترفع الس���تار ع���ن حقيقة المخلوق���ات ومهمتها في نظ���ام البيان الكلي ،فالبيان هو مفت���اح أقفال كل األبواب التي تؤدي إلى كنوز الفكر والمعرفة. وإذا كان البي���ان ه���و روح كت���اب الكون ولون���ه ونموذجه المفتوح كما يقول األس���تاذ فتح اهلل كولن ،فإن تذوقه وإدراك دقته وعظمة انس���جامه ،يحتاج إلى قلوب واس���عة تستطيع فك
ترمي���زه ب���كل جوارحه���ا ،وال َي ُف ُّك رموزه س���وى من تش���ربت
روحه الش���فرة الداللية والنظام التداولي لمكونات هذا البيان. وه���ذه القل���وب هي قلوب أه���ل الهم والهمة وفرس���ان القلب والحركية ،الذين عش���قوا البيان ،والذين يحملون اإلكسير إلى قربا من ربه���ا ،ويزداد يقينها كل القل���وب فت���زداد المؤمنة منها ً ب���أن ل���كل مخلوق في الوجود وظيفة يتعي���ن عليه القيام به ،ال
فرق في ذلك بين المخلوق في حد ذاته ،وبين ما يوفق اهلل هذا المخلوق إلى إنتاجه أو إبداعه. (*) جامعة شعيب الدكالي ،كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية -الجديدة /المغرب.
الهوامش ( )1استلهم هذا المقال من كتاب األستاذ فتح اهلل كولن" :البيان".
( )2ال نقول هنا "البيان" ،ألن البيان مصطلح يدل على الخطاب اإللهي المتمثل
القدرة على البيان ،فقد ربي في سلطنته على األرض ،أي على
في القرآن الكريم وفي جميع مظاهر الوجود الذي خلقته القدرة اإللهية.
الق���درة على الحديث ليس باس���مه فحس���ب ،بل باس���م جميع
المصرية العامة للكتاب :1986السفر الثاني ،ج ،10:ص.194:
الت���راب الذي خلق من���ه ،ولذلك فإن الكائن اإلنس���اني يملك
( )3الفتوح���ات المكي���ة ،تح :د .عثمان يحي���ى ود ،إبراهيم مدكور ،طبعة الهيئة
45
السنة السابعة -العدد (2012 )31
شعر
أ.د .عبد العزيز المقالح*
صالة الروح
السنة السابعة -العدد (2012 )31
�عرا ما أب � � ��وح به لي � � ��س ش � � � ً تش � � ��تكي من لي � � ��ل غربتها فارَق� ْت� � � � ُه وه � � ��ي باكي� � � � ٌة هبطت في الجس � � ��م مرغم ًة ْ مواجعه � � ��ا كلم � � ��ا نام � � ��ت ُ شمس � � ��ا ب � � ��ال ٍ لهب تر ْ كت ً كنت طف � � � ً�ال عندما هطلت ُ �تضأت بها س � � ��كنتني فاس � � � ُ هي من قبلي على ش � � � ٍ �غف ّأرقتن � � ��ي بالحني � � ��ن إل � � ��ى م��� ٍ �ورق حصب � � ��اؤه درر
بل أنين الروح في الجسد ع � � ��ن زم � � � ٍ �ان حال� � � � ٍم َرَغ� � � � ِد ٍ مستوحش نكد في ضحى اللح ِد كهبوط الجسم في َ أيقظته � � ��ا صرخ� � � � ُة الكمد �اء غي � � ��ر متق� � � � ِد وضي � � � ً ف � � ��ي أثي� � � � ٍر طاه� � � � ٍر أب � � ��دي وكفتني ش � � ��ر ذي َح َس� � � � ِد وهي من بعدي على رش� � � � ِد ش � � ��اطئ مخضوض � � ��ر الزبد زاهي � � ��ات ضفت � � ��اه ،ندي.
يا ابنة النور التي س � � ��كنت �نى أنت م � � ��ن نور اإلله س � � � ً وأنا ي � � ��ا روح ،أن � � � ِ �ت ،فإن في ف � � ��ؤادي ث � � ��ورٌة ودمي، فأفيض � � ��ي من س � � ��ناك على ق � � ��د ملل � � ��ت العم � � ��ر أذرفه زاه� � � � ٌد ال ش � � ��يء يأس� � � �رني
أضلعي واستوطنت كبدي يرتوي من فيضه الصمدي تهجريني ،صار أمس غدي وهم � � ��ا ل � � ��والك ف � � ��ي بدد فيض � � ��ا م � � ��ن البرد لهب � � ��ي ً ف � � ��ي جحي � � ��م غي � � ��ر مبترد غير ح � � ��ب الواحد األحد
46
ه � � ��و ف � � ��ي الس� � � �را ِء نافذتي منجذب، أنا ف � � ��ي ذك� � � �راه ٌ ش � � ��ارٌد ف � � ��ي أف � � ��ق طلعت � � ��ه عاش � � ��ق ل � � ��م تس � � ��بني أبداً حيرت � � ��ي فيم � � ��ا أراه هن � � ��ا مروع� � � � ٍة وخالف � � ��ات ّ طال في ليل النوى سفري
وهو ف � � ��ي الضرا ِء معتمدي س � � ��ارح ،ال توقظو َخلَدي أتق � � � ّ�رى ن � � ��وره بي � � ��دي مقل� � � � ٌة للفات � � ��ن الغ � � ��رد في وج � � ��وه الناس من ُعقد لم تدع في األرض من أحد وهوى من طول� � � � ِه َجلدي.
يا زمان الوص � � ��ل في ٍ وطن تح � � ��ت ع � � ��رش اهلل ،يرفده ك � � ��م ش� � � �ربنا م � � ��ن مناهله يتس � � ��اوى ف � � ��ي ش� � � �ريعته م � � ��ا ال � � ��ذي يبق � � ��ى لعالمنا م � � ��ا ال � � ��ذي يبقى ل � � ��ه ولنا إن تخل � � ��ى ع � � ��ن س � � ��كينته ب � � ��ارئ األك � � ��وان مبدعه � � ��ا هو في س � � ��ري وف � � ��ي علني هو ف � � ��ي حل � � ��ي ومرتحلي هو ف � � ��ي خب � � ��زي وفاكهتي ول � � ��ه أس � � ��لمت ناصيت � � ��ي
س � � ��رمدي الوص � � ��ل واألمد �وت الح � � ��ب بالمدد ملك � � � ُ وارتوى بالن � � ��ور كل صدي �ب الغاب � � ��ات باألس � � ��د أرن � � � ُ م � � ��ن ُمنى ،أو ط � � � ٍ �ارف تلد ً مدى بالهول محتش � � ��د في ً الع � � ��دد وتناس � � ��ى واح� � � � َد َ �اذخ َص ِل � � ��د ف � � ��ي بن � � ��ا ٍء ب � � � ٍ هو في نومي وفي َس� � � � َهدي هو في أهل � � ��ي وفي ولدي هو في قوم � � ��ي وفي بلدي وح َد ُه "س � � ��بحانه" سندي. (*) شاعر يمني.
47
السنة السابعة -العدد (2012 )31
ثقافة وفن
محمد أحمد المعصراني*
َﻣﻦْ ﺗﻌ ّﻮد ﻋﲆ إﻓﺸﺎء أﴎار اﻵﺧﺮﻳﻦ ﻟﻚ ﻻ ﺗﺄﻣﻨﻪ ﻋﲆ ﴎك ،ﻷﻧﻪ ﻛام ﻓﻌﻞ ﺑﺄﴎار اﻵﺧﺮﻳﻦ ﻓﺈﻧﻪ ﺳﻴﻔﻌﻞ ﺑﺄﴎارك. )اﳌﻮازﻳﻦ( ***
أثر الوقف
في التكافل االجتماعي
لألوق���اف أثر كبير في ش���تى مجاالت الحياة،
أول م���ن أجرى الماء إلى "جب���ل عرفات" ليلة الوقوف ،وغرم
واألحاس���يس اإلنس���انية .ومن آثار األوقاف،
الحجاج يتضررون من عدم الماء.
وأث���ر كبي���ر -كذل���ك -ف���ي تنمي���ة المش���اعر
علي���ه جمل���ة كثي���رة ،وعمر بالجب���ل مصانع للم���اء ،حيث كان
ذل���ك األث���ر الجلي���ل الذي ش���مل طبق���ات المجتمع المس���لم
وقف الدور والخانات على أبناء السبيل والفقراء
ف���ي تن���وع األش���ياء الموقوف���ة وتنوع أغ���راض واقفيه���ا .وفيما
فيها ما ش���اؤوا أن يقيموا ،مع إس���باغ النفقات وإجراء األرزاق
أفراده الخي���ر لغيرهم ،ويحتس���بون ما يقفونه متماس���ك يحب ُ
وقد انتش���رت دور الضياف���ات والخانات في أرجاء الدولة
وتقدي���ر للمس���ؤولية الملقاة على عاتقهم تجاه غير المس���تطيع
بيبرس" ب�"القدس" ،ووقف عليه أوقا ًفا للنازلين به من إصالح
الوقف على رعاية األيتام واللقطاء وكفالتهم
الوقف على تزويج األيتام والفقراء والجواري
كله���ا ،أال وهو األثر االجتماعي ال���ذي ظهرت صوره الكثيرة
وذلك تخفي ًفا عليهم من مشقة الطريق ووعثاء السفر ،يقيمون
يأت���ي ،م���ا وقفت عليه من تلك الص���ور التي تدل على مجتمع
عليهم من غذاء وكساء وصالت ما داموا مقيمين بها.
عند اهلل س���بحانه ،وتدل في الوقت نفسه على إحساس رهيف
اإلسالمية ،ومن هذه الخانات ذلك الخان الذي عمره "الظاهر
من المجتمع المسلم.
نِعالهم وأكلهم وغير ذلك ،وبنى به طاحو ًنا وفر ًنا.
رتب "الظاهر بيبرس" (ت 676ه�) أليتام األجناد ما يقوم بهم
وهذه األوقاف (أوقاف التزويج) كانت -كغيرها -منتش���رة في
ملج���أ لألطف���ال األيت���ام -بنين وبن���ات -الذين فق���دوا آباءهم
ف���ي رحلته حين نزل "دمش���ق" فقال" :واألوقاف ب�"دمش���ق" ال
ومفاس���ده ،وزود الملج���أ بكل ما يحتاج���ون إليه من مقومات
ع���ن الح���ج يعطى لمن يحج ع���ن الرجل منه���م كفايته ،ومنها
رغ���م كثرتهم .وأنش���أ "مظفر الدي���ن كوكب���وري" (ت 630ه�)
أرجاء الدولة اإلسالمية .وقد ذكرها "ابن بطوطة" (ت 779ه�)
ومن ال عائل لهم ،فحفظهم بذلك من خطر التشرد وأمهاتهمَ ،
تحص���ر أنواعها ومصارفه���ا لكثرتها ،فمنها أوق���اف للعاجزين
الحي���اة ،كما عين فيه المش���رفات على تربيتهم ،وكان يزورهم
أوقاف على تجهيز البنات إلى أزواجهن وهن اللواتي ال قدرة
للقط���اء ملج���أ زوده بالمرضع���ات ،فكان كل لقي���ط يعثر عليه
وكان الخليف���ة العباس���ي "المس���تنصر ب���اهلل" (ت 640ه����)
بين الحين والحين ،ويزوجهم حين يبلغون سن الزواج .وبنى
ألهلهن على تجهيزهن".
ُيحم���ل إلى هذا الملجأ ،فيس���لَّم إلى إحدى المرضعات لتقوم
يتقص���د الج���واري الالت���ي ق���د بلغ���ن األربعي���ن ،فيش���ترين له
عل���ى إرضاعه وتربيته ...وبهذا العمل اإلنس���اني الجليل حفظ
أرواحا كان مصيرها الهالك والموت. "مظفر الدين" ً
الوقف على أهل الحرمين الشريفين
فيعتقهن ويجهزهن ويزوجهن.
وقد يتقدم الفتى أو الفتاة إلى قيم الوقف ،يطلبان المعونة
لزواجهن فيعطيهما ما هما بحاجة إليه.
وتمدن���ا المصادر التاريخية بنم���اذج كثيرة من مثل هذا الوقف
الوقف على إصالح ذات البين
على سكان الحرمين الشريفين ،بل إنه كان يقطع أمراء العرب
بمدين���ة "مراكش" دار تس���مى "دار الدقة" ،وه���ي ملجأ تذهب
النبيل؛ فقد وقف "نور الدين محمود" (ت 569ه�) وقو ًفا كثيرة
وه���ذا الوق���ف من فرائ���د األوقاف النادرة .فق���د ذكر أنه كانت
اإلقطاع���ات حتى يكفوا عن التع���رض للحجيج ،ووقف وق ًفا
إليه النس���اء الالئي يق���ع نفور بينهن وبي���ن أزواجهن ،فلهن أن
على المجاورين بالحرمين.
يقمن به آكالت شاربات إلى أن يزول ما بينهن وبين أزواجهن
ال وكان "مظف���ر الدي���ن كوكبوري" يقيم في كل س���نة س���بي ً للح���اج ،ويس���ير مع���ه جميع ما تدع���و حاجة المس���افر إليه في
وظاه���ر أن ه���ذه ال���دار موقوفة عل���ى النس���اء الغريبات أو
ينفقها بالحرمين على المحاويج وأرباب الرواتب ،وله ب�"مكة"
منهن هذه الناحية في زوجته فيظلمها ،أو يسيء معاملتها وهو
الطريق ،ويس���ير صحبته أمي ًنا معه خمس���ة أو س���تة آالف دينار
حرس���ها اهلل تعال���ى -آثار جميلة بعضها ٍب���اق إلى اآلن .وهو
من نفور.
الالئ���ي ال أهال���ي له���ن ،وذلك خش���ية أن يس���تغل زوج المرأة يعلم أن ال ملجأ لها وال أهل يأخذون بناصرها.
49
السنة السابعة -العدد (2012 )31
المحس���ن ه���ذه ال���دار ألولئ���ك النس���وة، الواق���ف و َق���ف ُ ُ
خرج من الحمام يعتق نس���مة .والرسول كانت آخر وصاته
إلى أن تنصلح الحال وتعود ربة البيت إلى بيتها وزوجها .فما
روى اب���ن ماجة بس���نده عن أنس ب���ن مالك قال :كانت
ووظ���ف لها نس���اء يقمن فيها عل���ى رعاية النس���وة الغاضبات،
ال���ذي ي���دل عليه هذا الوق���ف اللطيف غير "التفن���ن" في رعاية المحرومين والتماس شوارد السعادة لكل الناس ،فحتى الزوجة
ناصرا. الغاضبة من زوجها وجدت لها في أوقاف المس���لمين ً ال وأوفر حرية فأي���ن المرأة الغربية اليوم؟! أهي أس���عد ح���ا ً
م���ن المرأة المس���لمة في جو اإلس���الم القدي���م والحديث؟ أال تدل "دار الدقة المراكش���ية" هذه على نصرة المجتمع المس���لم
للمرأة حتى آخر المدى.
الوقف على األرامل الفقيرات وإقامة دور لهن
الوصاة باإلماء والعبيد.
عام���ة وصي���ة رس���ول اهلل حي���ن حضرته الوفاة وه���و يغرغر
بنفسه" :الصالة وما ملكت أيمانكم" .فما أوفى العبيد واإلماء حظًّ ا حين تكون الوصاة بهم آخر كالم النبي .
وقف األسبلة
من المنش���آت االجتماعية التي ازدهرت بازدهار األوقاف إلى
حد كبير األس���بلة ،وكان الغرض من الس���بيل تيس���ير الحصول على ماء الش���رب .وقد عني الس���الطين بإنش���اء أس���بلة للناس والحيوان���ات في مختلف المواضع" .وجرت العادة بأن يلحق
الي���د العلي���ا في هذا الوقف ،حي���ث كان "بدر بن وكان لل���والة ُ
الس���بيل بالمس���جد ،وأن يكون فوقه في الغالب مكتب لتعليم
على الفقراء واألرامل.
من المهام الش���اقة ،لذلك أصبح تس���بيل الماء العذب وتسهيل
حس���نويه" (ت 405ه�) يصرف كل أسبوع عشرين ألف درهم
األيتام .وفي العصور الماضية كان الحصول على المياه العذبة
دارا لألرام���ل الفقيرات، وبن���ى "مظف���ر الدين كوكب���وري" ً
الحصول عليه من وجوه البر التي يعني بها الواقفون ،ويقفون
أق���ارب ،حي���ث أع���د ال���دار ب���كل م���ا يحتج���ن إليه م���ن مأكل
أيضا أنش���أ الواقف���ون الصهاريج لملئه���ا بالماء المنقول. ذلك ً
عما يحتجن إليه ،فكان يأمر بتلبية ما ينقصهن واستكماله.
من ريع الوقف المذكور فيه في كلفة نقل ماء عذب من النيل
الالت���ي يتوف���ى عنهن أزواجه���ن ،وليس لهن م���ن يعولهن من
عل���ى اس���تمرار أداء خدماته���ا العقارات المختلف���ة .ومن أجل
ومش���رب وملبس .وكان يتعهدهن بنفس���ه ،فيزورهن ويسألهن
فتن���ص وثيقة وقف "األمير صرغتمش" على أن يصرف الناظر
الوقف على تكفين الموتى
المب���ارك ف���ي كل ي���وم إل���ى المزملة المذكورة ،برس���م ش���رب
كان "بدر بن حس���نويه" ينفق كل ش���هر عشرين ألف درهم في
تكفي���ن الموتى .وكف���ن الملك العادل "أبو بكر بن أيوب" (ت 615ه�) مائة ألف إنسان من الغرباء والفقراء ،وذلك في السنة التالية لس���نة الغ���الء ب�"مصر" .ووقف المل���ك "الظاهر بيبرس"
وق ًفا على تكفين أموات الغرباء ب�"القاهرة" و"مصر" .ولما كان الطاعون ب�"بالد الش���ام" س���نة (749ه�) ،كث���رت الموتى ،وزاد
جدا ،فتضرر الناس وال س���يما الصعاليك ،فإنه ضمان الموتى ًّ جدا ،فرسم نائب السلطنة بإبطال يؤخذ على الميت شيء كثير ًّ
نعوش���ا كثيرة ضمان النعوش والمغس���لين والحمالين ،ووقف ً في أرجاء البلد.
المقيمين بالمدرسة المذكورة والواردين إليها ،من ثمن ِجمال
ينقلون عليها الماء وأجرة عمالين عليها.
وق���د قام بتس���بيل الماء في الس���بيل المزمالتي الذي يؤدي
عمل���ه ف���ي األوق���ات المح���ددة ف���ي األي���ام العادية وفي ش���هر
رمض���ان ،وكانت بعض األس���بلة ال تفت���ح إال بين صالة الظهر والعصر في وقت الحر الشديد .وتمتعت هذه األسبلة بأوقاف
وكثيرا ما اش���ترط الواقفون في المزمالتي لإلنفاق عليها منها، ً
سالما من العاهات شروطً ا جسمية وخلقية خاصة ،كأن يكون ً واألم���راض وبخاص���ة الجذام ،كما اش���ترطوا أن يس���هل على
الن���اس ويعاملهم بالحس���نى والرف���ق ،ليكون أبل���غ في إدخال الراحة على الواردين صدقة دائمة وحسنة مستمرة.
الوقف على عتق الرقاب
وه���ذا الوقف م���ن األهداف االجتماعي���ة الجليلة لألوقاف؛ إذ
الوقف على إخراج من حبسه القاضي من المقلين
ف���ي ظل اإلس���الم ،وقد وقفت أموال كثي���رة ألجل ذلك .ومن
السجناء الفقراء من الحبس .فقد نصت وثيقة "وقف السلطان
ال يخف���ى أثره عل���ى المجتمع كله .ولقد أعتق كثيرون رقيقهم عجائ���ب ه���ذا األمر أن "روح بن زنب���اع" (ت 84ه�) كان كلما السنة السابعة -العدد (2012 )31
50
م���ن وجوه البر والقربات التي تناف���س فيها الواقفون ،تخليص حس���ن" (ت 762ه����) عل���ى ه���ذا اله���دف النبيل ،حت���ى يرجع
المسجونون إلى أهلهم ويتفرغوا إلعالتهم ،وقد سمت الوثيقة هذا الوقف ب�"خالص المسجونين".
الوقف على إفطار الصائمين الفقراء وسحورهم
الخير إلى مثل هذا".
الوقف على من يقرأ القرآن عن الميت عند قبره فقد وقف أحد الملوك -رغبة في الثواب الدائم -أوقا ًفا عظيمة
كان المل���ك "الظاه���ر بيبرس" يرتب ف���ي أول رمضان ب�"مصر" و"القاه���رة" مطاب���خ ألن���واع األطعم���ة ،تف���رق عل���ى الفق���راء والمس���اكين .ولم���ا مل���ك "األش���رف" (ت 635ه�) "دمش���ق"، كان���ت القلعة ال تغلق في ليالي ش���هر رمضان كلها ،وصحون الح���الوات خارج���ة منه���ا إل���ى الجام���ع والخوان���ق والرب���ط والصالحية ،وإلى الصالحين والفقراء والرؤساء وغيرهم.
انتش���ر ه���ذا الوقف في معظم البالد اإلس���المية ،وأم المؤمنين
الوقف على الحج عن الغير
حفصة (ت 45ه�) رضي اهلل عنها ،هي أول من وقف مثل هذا
على من يقرؤون س���بع الق���رآن كل يوم عند قبره .ووقف أحد
ذوي اليس���ار وق ًفا على من ال يحفظ ويقرأ من س���ورة الكوثر إلى الخاتمة عند قبره.
الوقف على إعارة الحلي
حليا بعش���رين أل ًفا ووقفته على نس���اء آل الوقف .فقد ابتاعت ًّ
من أمثلة هذا الوقف أن "بدر بن حسنويه" كان يصرف في كل سنة ألف دينار لعشرين نفس ،يحجون عن والدته وعن عضد الدولة ،ألنه كان السبب في تمليكه.
األغنياء الذين ال ينقصهم شيء مما يحتاجه العرس.
الوقف على حراسة األماكن المخوفة
وقف الضيفان
وه���ذا م���ن فرائ���د األوقاف .فق���د رتب "ن���ور الدي���ن محمود" حرص���ا وخو ًفا عل���ى رعيته، الخف���راء ف���ي األماك���ن المخوف���ة ً وتأمي ًنا لهم على أنفسهم ومتاعهم ،بل وزيادة في حرصه على رعيت���ه وس���المتها ،جع���ل في تل���ك األماكن المخوف���ة الحمام اله���وادي الت���ي تطلعه على األخبار في أس���رع مدة حتى يكون في موقع األحداث -إذا حدث ش���يء -بعد وقوعها مباش���رة، بل إنه ربما أتى -أو أتى بعض رجاالته -في أثنائها. س���م ْت مشاعر القوم وأحاسيس���هم ومسؤولياتهم، وهكذا َ فما أحلى أن نربي مش���اعرنا وأحاسيسنا ومسؤولياتنا ،ونسمو بها حتى نسمو نحن اآلخرين فتسمو الدنيا كلها بنا.
وقف األواني
أيضا من ن���وادر األوقاف وفرائده���ا .يقول "ابن وه���ذا الوقف ً يوما ببعض أزقة "دمش���ق" ،فرأيت بطوطة" في رحلته" :مررت ً صغي���را ق���د س���قطت من ي���ده صحفة م���ن الفخار ممل���وكا ب���ه ً ً الصين���ي -وهم يس���مونها الصح���ن -فتكس���رت واجتمع عليه الناس .فقال له بعضهم :اجمع شقفها واحملها معك لصاحب أوق���اف األواني .فجمعها وذهب الرجل مع���ه إليه ،فأراه إياها فدف���ع ل���ه ما اش���ترى به مثل ذل���ك الصحن .وهذا من أحس���ن األعمال؛ فإن س���يد الغالم البد أن يضربه على كس���ر الصحن أيضا يكس���ر قلبه ويتغير ألجل ذلك ،فكان هذا أو ينهره ،وهو ً خيرا من تس���امت همته في الوق���ف جب���را للقلوب .ج���زى اهلل ً ً
الخطاب .وبهذا الوقف يظهر الفقراء في أعراس���هم في صورة
دارا يقول "محمد كرد علي" (ت 1372ه�) :إن أول من اتخذ ً للضياف���ة "الوليد ب���ن عبد الملك" ،ثم انتش���رت بعد ذلك دور
الضيافة في أرجاء الدولة اإلسالمية ،حتى كانت بعض المدن مألى بدور الضيافة .فقد ذكر "ابن كثير" أن الخليفة العباس���ي "المستنصر باهلل" أنشأ بكل محلة من محال "بغداد" دار ضيافة للفقراء ،ال سيما في شهر رمضان. دارا للضياف���ة في "إربل"، وبن���ى "مظفر الدين كوكب���وري" ً
وفتح أبوابها لكل وافد إلى "إربل" ولكل عابر سبيل يقيم فيها ما شاء له أن يقيم ،يتناول فيها طعامه وشرابه بال مقابل ،حتى كان عصره أبهى عصور مدينة "إربل" وأزهاها .وألحق "مظفر الدين" بال���دار المطابخ إلعداد األطعمة واألش���ربة للضيوف، سنويا تنفق لهذا الغرض .فكان وخصص للدار مائة ألف دينار ًّ
كل واف���د يقيم في الدار ما ش���اء ل���ه أن يقيم ،فكان يجد األمن والطمأنينة على نفس���ه وماله .ول���م يكتف "مظفر الدين" بهذا، وإنما كان يدفع لكل ضيف فقير يعزم على مغادرة "إربل" نفقة لسفره ،كل حسب احتياجاته ،وكان -رحمه اهلل -ينفق كل عام عشرة آالف دينار على السبيل. (*) محقق تراث /مصر.
51
السنة السابعة -العدد (2012 )31
شعر
صالح الزهراني*
من تضاريس الجالل منظر ل � � ��م يَ ْح ُل ل � � ��ي من بعد وجه � � ��ك ُ أيام � � ��ه ط � � ��ال الزم � � � ُ �ان ،فقص � � ��رت ُ آت � � ��ي إلي � � ��ك يل ّفن � � ��ي حب � � � ُ�ل األس � � ��ى فأط � � � ُ �تحيل قصيد ًة �وف حول � � ��ك ،أس � � � ُ قديم� � � � ُه ،وجدي� � � � ُد ُه يُط � � ��وى الزم � � � ُ �ان ُ ف � � ��أرى النب � � � َّ�ي جالل� � � �ةً ،ومهاب� � � � ًة وب � � � ُ �اح نش � � ��ي َد ُه �الل يعل � � � ُ�ن للبط � � � ِ فته � � � ُّ �ش مك� � � � ُة للنش � � ��ي ِد يش � � � ُّ�دها وأظ � � � ُّ�ل أق� � � �رأُ ف � � ��ي ش � � ��موخك لوح� � � � ًة الصبا ش � � ��اخ الزمان ،وأنت ف � � ��ي ُح ِ ُ لل ّ نه � � � ُ�ر البي � � ��اض إل � � ��ى يدي � � ��ك مصبُّ� � � � ُه ِ األحباب وهي مش � � ��وق ٌة �ت خطى تعب � � � ْ تغش � � ��اك م � � ��ن ُح َل � � � ِ�ل الس � � ��وا ِد مهاب ٌة ُّ تحتفه � � ��ا فكأنّ � � ��ك العي � � ��ن الت � � ��ي أثواب ال ُهدى ِق َط ُع ُّ الرخامِ ،الصب � � � ُ�حُ ، �وت الم � � � ِّ �ؤذ ِن والقنادي � � � ُ�ل الت � � ��ي ص��� ُ م � � ��ن مقلتي � � ��ك يه � � � ُّ�ل ُم� � � � ْز ُن عقي � � ��د ٍة �موخ ِّ محل � � � ٌ�ق وعل � � ��ى مآذن � � ��ك الش � � � ُ س � � � ُّ �تظل ف � � ��ي العيني � � ��ن أبه � � ��ى صورة قصروا �ذر ُ بعض من ق � � ��د ّ ويظ � � � ُّ�ل يُ� ْع � � � ُ
كل ُّ الجوهر ض ،وأن � � ��ت الدن � � ��ا َع � � � َ�ر ٌ ُ كل ط � � � ٍ ْص � � � ُ�ر وأم � � ��ام وج ِه � � ��ك ّ �ول يق ُ ومدامع � � ��ي م � � ��ن ُحرقت � � ��ي تتح� � � � ّد ُر ف � � ��ي كل أُ ْف � � � ٍ�ق للروائ� � � � ِع تبح � � � ُ�ر �وح م � � ��ن كل الجه � � � ِ �ات األ ْع ُص ُر فتل � � � ُ وأرى المب � � ��ادئ ُك ّل ي � � ��وم تُ� ْن َص � � � ُ�ر اهللُ م � � ��ن كل الخالئ � � � ِ�ق أكب � � � ُ�ر ُط ْه � � � ُ�ر ال � � ��كال ِم ومس � � ��تواه المبه � � � ُ�ر أبعا ُده � � ��ا مث � � � ُ�ل التُّق � � ��ى ال تُ ْح َص � � � ُ�ر تزه � � ��و ف � � ��ال تبل � � ��ى ،وال تتغيّ � � ��ر بالح� � � �بِّ والش � � ��وق المغ � � � ّ�رر يزخ � � � ُ�ر �ب ركبَه � � ��م ال تفُت� � � � ُ�ر ووقف � � � َ �ت ترق � � � ُ ِ �حر لغ ٌة م � � ��ن النم � � � ِ�ط المحكك تس � � � ُ أهدابُه � � ��ا ،وجب � � � ُ �ال مك� � � � َة ِم ْحج � � � ُ�ر ِ �ام ،المنب � � � ُ�ر �زم ،المق � � � ُ الح ْج � � � ُ�ر ،زم � � � ُ خش � � � َ�ع ْت ُّ أك ُف ُه � � � ُ�م إذا م � � ��ا كبَّ � � ��روا طي � � � ُ�ن القل � � � ِ �وب ب � � ��ه ن � � � ٌّ �دي مث ِم � � � ُ�ر والمج� � � � ُد من أط� � � �ر ِ ظفر اف ثوبِ � � ��ك يُ ُ �اء ِ ِق بالضي � � � ِ ف � � ��ي القل� � � � ِ ب ت � � ��ور ُ وتزه ُر بعضن � � ��ا ال يُ� ْع� � � � َذ ُر يقص � � � ُ�ر ُ ومت � � ��ى ّ (*) شاعر من المملكة العربية السعودية.
السنة السابعة -العدد (2012 )31
52
ثقافة وفن
أ.د .حسن األمراني*
حول مفهوم الحضارة إن كل خطاب ال يحدد مصطلحاته بدقة ،رهين بأن يصاب بالتشويش وعدم الدقة في اإلبالغ.
وم���ا يقع أحيا ًن���ا من اضطراب ف���ي التواصل،
م���رده ف���ي معظم األحي���ان إلى ع���دم الرؤية الموح���دة للداللة ّ
لزام���ا على كل خط���اب يهدف المصطلحي���ة .وم���ن هن���ا صار ً
إلى الوضوح في اإلبالغ وتحقيق الغاية ،أن تتس���م مصطلحاته بتحدي���دات دقيق���ة مصون���ة عن المج���از كما يق���ول المناطقة. وأول م���ا يواجهن���ا -ف���ي مقالن���ا ه���ذا -م���ن مصطلحات،
مصطل���ح الحض���ارة .تجعل المعاجم العربي���ة الحضارة مقابل الب���داوة .فج���اء ف���ي لس���ان الع���رب :الحض���ر :خ���الف البدو،
والحاضر :خالف البادي .وفي الحديث :ال يبيع حاضر لبادٍ،
الحاض���ر :المقيم في الم���دن والقرى ،والبادي المقيم بالبادية. ِ والحضارة بكس���ر الحاء :اإلقامة ف���ي الحضر ،عن "أبي زيد".
وكان "األصمع���ي" يق���ول :الحضارة بالفتح .ق���ال "القطامي": فمن تكن الحضارة أعجبته فأي رجال بادية ترانا.
محص���ورا ف���ي داللت���ه اللغوي���ة ولك���ن اللف���ظ ل���م يب���ق ً األول���ى ،ب���ل أص���اب من التط���ور ما جعل���ه ينتقل م���ن الداللة
اللغوي���ة إل���ى الدالل���ة االصطالحي���ة الواس���عة .وق���د كان "ابن
خل���دون" ،م���ن الذي���ن نقل���وا الكلم���ة م���ن مج���ال إل���ى مجال حي���ن جع���ل الحض���ارة "غاية للب���داوة" .وع���رف الحضارة في
"المقدم���ة" بأنه���ا" :التفن���ن ف���ي الترف، واس���تجادة أحوال���ه ،والكل���ف بالصنائع الحياة وازدهارها. ح�ص��ارة الإن�ص��ان تقت�ص��ي الت���ي تؤن���ق من أصناف���ه وس���ائر فنونه". من هن���ا يرفض "ديورانت" التفس���ير قاع��دة اأ�صا�صي��ة م��ن التحرر وفي خضم التطور الذي شهدته كلمة ال���ذي يخرج البدو وقبائ���ل األدغال من إن�ص��ان ل ل الكام��ل احلقيق��ي الحضارة ،صارت من أشد المصطلحات دائ���رة الحض���ارة ،وي���رى أن "الهمجي" وم��ن الكرام��ة ل��كل فرد يف نظ���را لتباي���ن التعاري���ف الت���ي تعقي���دا، أيضا متمدن بمعن���ى عام من معاني ً ه���و ً ً قدمها العلماء لهذه الكلمة ،س���واء أعند المدني���ة ،ألنه يعن���ي بنقل ت���راث القبيلة املجتمع ،ول حرية يف احلقيقة الع���رب والمس���لمين أم عن���د الغربيين. إلى أبنائه ،وما تراث القبيلة إال مجموعة ول كرام��ة للإن�ص��ان -ممث�� ً ل ال في الغرب لكلمتين ب���ل إننا نجد تداو ً األنظمة والعادات االقتصادية والسياسية يف كل ف��رد من اأف��راده -يف تتقاط���ع دالالتهم���ا أحيانً���ا ،وهات���ان والعقلي���ة والخلقي���ة الت���ي هذبته���ا أثناء جمتمع بع�صه اأرباب ي�رضعون، الكلمت���ان هم���ا "،"Civilisation" "Culture جهاده���ا ،في س���بيل االحتف���اظ بحياتها يطيعون. عبيد وبع�صه في حين تشيع عند العرب كلمات ثالث على هذه األرض. ه���ي "الحضارة" و"المدني���ة" و"الثقافة". -3وذهب فريق من العقالنيين إلى وق���د كان لعلم���اء األنتروبولوجي���ا أن الحضارة مرادفة للعقل نفسه ،إذ هي المعاصري���ن دور ف���ي تداول ه���ذه الكلمة األخي���رة وإعطائها في أحس���ن األحوال ثمرات العقل ،في حين قال آخرون :إن داللة شمولية. الحضارة هي االقتصاد. تس���تنهضه للمض���ي في طريق���ه إلى فهم
وتعري���ف الحضارة عند "وليم هاولز" ،هي كل ما يس���اعد
نظرة الغرب إلى الحضارة
مقياسا لمستوى اإلدراك وعنوا ًنا على وإذا كان مفهوم الحضارة ً معطيات األمم والشعوب ،فإننا نجد جملة من التعاريف منها: -1أول���ى التعاري���ف تجع���ل الحض���ارة مرادف���ة لمصطلح المدني���ة؛ فالحض���ارة مدنية ،والمدنية حض���ارة .ومن هنا ،فإن أولئ���ك المتخلفين ع���ن أنماط الحياة المدنية من بدوٍ أو قبائل م���ن األدغ���ال ،غير متحضري���ن وإن يكن عندهم مس���توى من فكر أو سلوك. وأصح���اب ه���ذا ال���رأي ينظ���رون إل���ى االش���تقاق اللغوي لكلم���ة ""Civilisation؛ فهذه الكلمة مش���تقة من الكلمة الالتينية " ،"Civilisأي المدن���ي أو المواط���ن في المدينة ،ثم اس���تعملت مجازا لتدل على عملية اكتس���اب الصفات المحمودة ،لتتطور ً بع���د ذلك وتصبح معبرة عن حالة الرقي والتقدم لدى األفراد والجماعات .والمدنية أو الحضارة بهذا المعنى ،هي الخروج من الحالة البدائية إلى حالة التمدن. -2وي���روي "ول ديوران���ت" صاحب "قصة الحضارة" ،أن الحضارة نظام اجتماعي يعين اإلنسان على الزيادة في إنتاجه الثقاف���ي ،وهي تبدأ حيث ينتهي االضط���راب والقلق ،ألنه إذا ما أمن اإلنس���ان من الخوف ،تحررت في نفس���ه دوافع التطلع وعوامل اإلبداع واإلنش���اء ،وبعدئذ ال تنفك الحوافز الطبيعية السنة السابعة -العدد (2012 )31
54
اإلنسان على تحقيق إنسانيته.
-4وربط "أرنولد توينبي" الحضارة بالكنيسة الكاثوليكية،
مدعي���ا أن الحض���ارة الغربي���ة ه���ي وحده���ا الت���ي تحافظ على ً
"الشرارة اإللهية الخالقة" ،وهي وحدها القادرة على أن تؤول إل���ى ما آلت إليه س���ابقاتها .وقد حدد معال���م الحضارة بقوله:
"إنها حصيلة عمل اإلنس���ان ف���ي الحقل االجتماعي والثقافي، وه���ي حركة صاعدة ،وليس���ت وقائع ثابتة وجامدة ،إنها رحلة حياتية مستمرة ال تقف عند مينائها.
ويخالف "رجاء كارودي" ما ذهب إليه "توينبي" عن خلود
الحض���ارة الغربي���ة المس���يحية ف���ي كتابه "ح���وار الحضارات"،
ويؤكد أطروحته تلك ويزيدها بيا ًنا في كتابه "وعود اإلسالم". فهو يبدأ بهذه المصادرة = الغرب عرض طارئ.
ال" :وأن���ا أطلق عبارة ويتح���دث عن الحض���ارة الغربية قائ ً
"الش���ر األبي���ض" على هذا الجانب من الدور المش���ؤوم الذي نهض به اإلنسان األبيض في التاريخ.
وإذا تجردن���ا ع���ن الحك���م العرق���ي المس���بق القائ���ل بتميز
اإلنس���ان األبي���ض ،وجدن���ا أن مناب���ع الغ���رب (اإلغريقي���ة والروماني���ة والمس���يحية) إنم���ا ولدت في آس���يا وإفريقية .وأن
عص���ر النهض���ة -وهو ليس حرك���ة ثقافية وحس���ب ،بل والدة
مواكب���ة أنجبت الرأس���مالية واالس���تعمار -قد ه���دم حضارات أس���مى من حضارات الغ���رب ،باعتبار عالقات اإلنس���ان فيها بالطبيعة وبالمجتمع وباإللهي ،بدل أن يكون ذروة اإلنسانية". ولهذا يدع���و "كارودي" إلى "حوار الحض���ارات"؛ إذ بهذا الحوار وحده ،يمكن أن يولد مش���روع كوني يتسق مع اختراع المستقبل ،وذلك ابتغاء أن يخترع الجميع مستقبل الجميع. وقبل "كارودي" قام األلماني "أوزوالد ش���بنكلز" ،بالتبشير بانهي���ار الحض���ارة الغربي���ة ف���ي كتابة "انهي���ار الغ���رب" ،الذي أصدره عقب الحرب العالمية األولى .وأما "ألكسيس كاريل"، فيتح���دث ع���ن الحضارة الغربية المعاصرة في كتابه "اإلنس���ان ال" :إن الحضارة العصرية تجد نفس���ها في ذلك المجهول" قائ ً موق���ف صعب ،ألنه���ا ال تالئمنا ،فقد أنش���ئت دون أي معرفة بطبيعتن���ا الحقيقي���ة ،إذ إنه���ا تولدت في خياالت االكتش���افات العلمية ،وش���هوات الن���اس وأوهامهم ونظرياته���م ورغباتهم، وعلى الرغم من أنها أنشئت بمجهوداتنا ،إال أنها غير صالحة بالنسبة لحجمنا وشكلنا".
نظرة المسلمين المعاصرين إلى الحضارة
وقد اجته���د المس���لمون المعاصرون في االهتم���ام بالحضارة وتقدي���م تعري���ف له���ا ومعالج���ة قضاياها .ومن ه���ؤالء "مالك بن نب���ي" الذي عني بالقضايا الحضارية ومش���كالتها ،وأصدر ف���ي هذا المجال سلس���لة "مش���كالت الحض���ارة" .والحضارة عن���د "مالك بن نبي" تظل مرتبطة بالوحي ،يقول في "ش���روط النهض���ة" :فالحض���ارة ال تظهر في أمة من األمم إال في صورة الوح���ي يهبط من الس���ماء ،ويك���ون للناس ش���رعة ومنهاجًا... فكأنم���ا قدر لإلنس���ان أال تش���رق عليه ش���مس الحض���ارة ،إال حيث يمتد نظره إلى ما وراء حياته األرضية". منتهيا إلى أن اإلسالم وقد سلك "سيد قطب" هذا المنحى، ً هو الحضارة .إذ مفهوم الحضارة عنده مرتبط بالتحرر الكامل لق���وى اإلنس���ان وطاقته ،وذل���ك أمر ال يتحقق إال باإلس���الم. يقول "س���يد قط���ب"" :حين تكون الحاكمي���ة العليا في مجتمع هلل وحده ،متمثلة في س���يادة الش���ريعة اإللهي���ة ،تكون هذه هي وحقيقيا ال الصورة الوحيدة التي يتحرر فيها البش���ر تحررا كام ً ًّ ً من العبودية للبشر ،وتكون هذه هي "الحضارة اإلنسانية" .ألن حضارة اإلنس���ان تقتضي قاعدة أساس���ية م���ن التحرر الحقيقي الكام���ل لإلنس���ان وم���ن الكرامة ل���كل فرد ف���ي المجتمع ،وال ال ف���ي كل فرد حري���ة ف���ي الحقيق���ة وال كرام���ة لإلنس���ان -ممث ً
م���ن أفراده -في مجتمع بعضه أرباب يش���رعون ،وبعضه عبيد يطيع���ون" .ثم يقول" :حين تكون إنس���انية اإلنس���ان هي القيمة
العليا في مجتمع ،وتكون الخصائص اإلنسانية فيه هي موضع متحضرا". التكريم واالعتبار ،يكون هذا المجتمع ً
وم���ن خ���الل ه���ذه المفاهيم والتص���ورات ع���ن الحضارة،
تتضح المعطيات األساس���ية الكامنة وراء هذه التعاريف .فكل يس���عى إليجاد الراب���ط الوثيق بين تصوره ع���ن الكون والحياة
واإلنس���ان ،وبي���ن ما يس���مى "الحقيقة الحضاري���ة" ،ليصل إلى مغلبا عليهما نتيج���ة مؤداها تأكي���د حضارية ،فكره وممارس���ته ً
الطابع الذي يريد.
اصطالحا ،ينبغي كما يقول "محمد علي غير أن الحضارة ً
ضن���اوي"" :إن تحدد بمعزل عن األطر الفكرية طالما ارتضينا
مصطلح���ا ،ومن هن���ا ينبغ���ي التفرقة بين أن تك���ون الحض���ارة ً الحضارة والمبادئ .إن الحضارة ليس���ت المبادئ والمفاهيم،
ولكنه���ا حصيلة تطبي���ق تلك المبادئ والمفاهي���م .إن المبادئ
مس���طورا ،وال وكالما والمفاهي���م إذا ل���م تمارس تغ���دو ترا ًثا ً ً يص���ح تس���ميتها "حض���ارة" حت���ى تترج���م إلى أي واق���ع يحياه
الناس ويسود المجتمع".
ومن هنا في كتابه "مقدمات في فهم الحضارة اإلس���المية"
ق���دم "محم���د عل���ي ضن���اوي" للحض���ارة التعري���ف التال���ي:
"الحضارة هي تفاعل األنشطة اإلنسانية لجماعة ما ،في مكان
أيضا ،ضمن مفاهيم خاصة عن الكون معين ،وفي زمن معين ً والحياة واإلنسان".
اإلنس���ان والزمان والمكان ،والعالقات الموحدة بين هذه
العناص���ر الثالث���ة ه���ي إذن مكون���ات الحضارة .وق���د كان هذا
عرف ه���و المنه���ج الذي اتبعه "أب���و األعلى الم���ودودي" حين ّ الحض���ارة مطل ًق���ا بأنه���ا" :إنما هي نظام متكامل يش���مل كل ما لإلنس���ان من أعمال وآراء وأعمال وأخالق في حياته الفردية
أو العائلية أو االجتماعية أو االقتصادرية الساسية".
وع���رف الحض���ارة اإلس���المية تحدي��� ًدا بأن���ه" :مجموع���ة ّ
المناه���ج والقواني���ن الت���ي قرره���ا اهلل ل���كل ه���ذه الش���ؤون والش���عب المختلفة لحياة اإلنس���ان" ،وهي المعبر عنها بكلمة َ
"دين اإلسالم أو الحضارة اإلسالمية"". (*) رئيس تحرير مجلة "المشكاة" /المغرب.
55
السنة السابعة -العدد (2012 )31
أنشطة ثقافية
صابر عبد الفتاح المشرفي*
مؤتمر
السراج النبوي ينير درب البشرية الحائرة الزمان 6-5 :مايو .2012
وتحديدا المكان :في أقصى الجنوب التركي، ً
ف���ي مدين���ة "غ���ازي عينت���اب"؛ مس���قط رأس
العالم���ة المحدث "ب���در الدين العيني" صاح���ب كتاب "عمدة
الق���اري في ش���رح صحيح البخاري" ،ومنش���أ كثي���ر من علماء
الدين المشاهير.
المضيف :الش���قيقتان "حراء" الغراء ،و"يني أوميد" (األمل
الجدي���د) ،ف���ي ثان���ي لق���اء يجم���ع بينهما ف���ي ه���دي النبي ، والرابع على مستوى المؤتمرات بشكل عام.
الضي � � ��وف :م���ن رب���وع األرض ج���اؤوا ،م���ن كل ح���دب
وص���وب ،وم���ن كل ف���ج قري���ب أو عميق ،من أكثر من س���تين
دولة توافدوا كما يتوافد الحجيج ألداء الشعائر المقدسة ،هذا عن ضيوف الخارج التركي ،وقد بلغ عددهم أكثر من ثالثمائة السنة السابعة -العدد (2012 )31
56
شخصية رسمية ودينية وشعبية معتبرة .أما عن ضيوف الداخل
الترك���ي ،فقد تج���اوزوا األلف ،ما بين رؤس���اء الهيئات الدينية الكبرى ،وأساتذة وعمداء لكليات اإللهيات والعلوم الشرعية، وأئم���ة ووعاظ وزارة األوقاف والش���ؤون الدينية ،وثلة مباركة
م���ن جهابذة وش���يوخ الم���دارس الش���رقية الديني���ة ،إلى جانب شخصيات سياسية متنوعة ،وطلبة وطالبات جامعيين ،وشعب ال عن طواقم محب عاش���ق متيم بالحبي���ب المصطفى ،فض ً إعالمية محلية ودولية عديدة .ومضيف هؤالء وضيفهم األكبر
الحاضر بروحه الغائب بشخصه فضيلة األستاذ العالمة محمد
فتح اهلل كولن حفظه اهلل ورعاه.
الح � � ��دث :مؤتم���ر دول���ي عالم���ي ،وس���ط حضور حاش���د
ومعنويات محلقة بعنوان" :الس���راج النبوي ينير درب البش���رية الحائ���رة" ،اس���تنفر في���ه العلماء األج���الء المدع���وون طاقتهم،
ليناقش���وا أه���م المش���كالت االجتماعي���ة الت���ي تتعرض له���ا اإلنس���انية ،وأبرز
المحاور الحياتية التي تمس حياة المسلم في ضوء الهدي النبوي الشريف.
الفعاليات: مقتطفات من اليوم األول
الق���ت كلمة األس���تاذ "وحيد الدين خ���ان" العالمة الهن���دي والصوفي الداعية مؤثرا في قلوب السامعين والحاضرين، الشهير في الجلسة االفتتاحية ،صدى ً ال س���يما وأنه في الس���ابعة والتس���عين من عمره ...حيث صعد المنصة متوك ًئا على بعض تالمذته ،وبلغ الناس كلمته مش���فوعة بدموعه ونبرات صوته التي تخنقه���ا العبرات .وقد أع���رب في كلمته عن ضرورة استكش���اف االتجاهات الحديث���ة في الس���نة النبوية ،ووجوب االرتكاز على األس���س القرآنية والنبوية عند التصدي لحل مشكالتنا االجتماعية .ثم أشاد بدور تركيا ومكانتها الفريدة بين الشرق والغرب ،باعتبارها نقطة ارتكاز لتنوع الحضارات والثقافات ،مما يجعله���ا األق���در من أي دول���ة أخرى على نقل الرس���الة اإلس���المية بصورتها الحضارية .وبين س���نن الزوائد وس���نن الهدى أش���ار األس���تاذ الدكتور "محمد كورمز" رئيس الشؤون الدينية التركية ،أنه في الوقت الذي نجح فيه المسلمون في كثير من س���نن الزوائد ،فش���لوا في س���نن الهدى ،ومن ثم دعا إلى وجوب مراجع���ة المناهج الدراس���ية في الجامعات والم���دارس .وأكد على أن الهدي النب���وي لم يفتأ يواجه العلل واألمراض االجتماعية ،وذلك بمعالجة أس���بابها م���ن جذورها ،والتص���دي آلثارها ونتائجها ،ومن أهم تلك المش���كالت التي ج���اء اإلس���الم لحلها مش���كلة العنصرية .ثم نح���ى بالالئمة عل���ى من يريدون ال في سنته السنية وهديه فهم اإلس���الم بغير القرآن ،أو بغير الرس���ول ،متمث ً ال بين وبي���ن أن مث���ل هذا الصنيع ،من ش���أنه أن ينش���ئ ج���دارا فاص ً ً المب���اركّ . القرآن والرسول . كما أعرب فضيلة الش���يخ الش���ريف "إبراهيم صالح الحسيني" رئيس هيئة اإلفتاء ورئيس المجلس اإلس���المي بنيجيريا ،عن ش���كره وتقديره النعقاد هذا ال كثيرة ،فليس لها المؤتمر فهو "مؤتمر قد جاء في وقته ،وعليه تعلق األمة آما ً ومظهرا ،ألنه س���لوكا من منقذ س���وى ورثة األنبياء ،الذين يتمثلون رس���ول اهلل ً ً وك ّمل الرج���ال هم من يصطحبون الس���راج المني���ر ،وهو ق���دوة بذاته وأفعالهُ . حال���ه معه���م في الليل والنهار" ،ث���م عبر عن تقديره للمربي الفاضل األس���تاذ ال م���ن الش���باب تربية نموذجي���ة ،لكل من محم���د فت���ح اهلل كول���ن ،لتربيت���ه جي ً أراد أن يعمل بقلب خالص ...وأش���اد س���ماحة األس���تاذ الدكتور "عبد الكريم الحصاون���ة" مفتي المملكة األردنية الهاش���مية ،بتركي���ز المؤتمر على الجانب االجتماعي في الهدي النبوي ،ألنه الجانب األساس الذي ركز عليه اإلسالم في مواضع كثيرة من الكتاب والسنة. وبه���ذا المقط���ع المترجم من قصيدة بعنوان" :وردة المدينة" ،والتي نظمها فضيلة العالمة األس���تاذ محمد فتح اهلل كولن ختم كلمته ،حيث يقول فيها :يا
57
السنة السابعة -العدد (2012 )31
نوزاد صواش ،المشرف العام على مجلة حراء/تركيا.
د .أرجون جابان ،رئيس تحرير مجلة يني أوميد/تركيا.
وحيد الدين خان ،رئيس المركز اإلسالمي ب�"نيو دليهي/الهند.
أ.د .محمد كورمز ،رئيس الشؤون الدينية/تركيا.
إبراهيم صالح الحسيني ،رئيس المجلس اإلسالمي/نيجيريا.
وردة أحالت الصحراء القاحلة إلى جنان ،أشرقي على قلبي بألوانك الساحرة... لتكفكف���ي عيون���ي الدامعة ،يا وردة أحال���ت الصحراء القاحلة آن األوانَ ،
إلى جنان ...والوردة الحمراء في األدبيات الصوفية التركية ترمز إلى الحبيب
محمد .وقد رحب في مطلع كلمته بالس���ادة الحضور ،وأعرب عن أس���فه ال من المجلتين العزيزتين على تنظيم لعدم قدرته على المش���اركة ،كما هنأ ك ًّ هذه المؤتمرات العالمية ،وتمنى لهما دوام التوفيق والنجاح .وفي ثنايا الكلمة
أ.د .علي جمعة ،مفتي الديار المصرية.
بين أن مفخرة اإلنس���انية عليه أفضل الصالة والتسليم" :هو باني اإلنسانية من جديد ،وال يزال ،وسيبقى بانيا لها في كل آن؛ في ِ أمسها ويو ِمها وغدها .وكما ً ٍ وس���لوكيات مفاهيم ضال ًة، واح���دة، وبنفخة واحدة، ب���دل في عصره بحمل���ة َّ َ ِ وانحرافات س���و ِء األخالق واألمزجة المغروسة في الطبائع من غير إنس���انية، آالف السنين ،فسي ِ قدها يقينا وح ًّقا -للجموع المنفلتةسمع صو َته ِ المنفرط ِع ُ ً ُ وسيظهر قوة رسالته". ، ال آج أو ال عاج إن بضوابطه وسيضبطهم اليوم، ً ً ُ وف���ي المحاضرة االفتتاحية لفضيلة األس���تاذ الدكت���ور "علي جمعة" مفتي
الدي���ار المصري���ة ،أوض���ح أن آي���ات الق���رآن الكري���م وأحاديث الس���نة النبوية
أ.د .عبد الكريم الحصاونة ،مفتي المملكة األردنية الهاشمية.
المطهرة ،قد اش���تمال على أكثر من %95في األخالق والعقيدة ،وأن النس���بة الضئيلة الباقية اشتملت على األحكام الشرعية والفقه مع أهمية الشريعة ،وأنه
الحياة بدونها ،مما يبين لنا المنهج الذي ينبغي أن نس���ير عليه ،والمتمثل في قول���ه " :إنم���ا بعثت ألتمم مكارم األخالق" .وأش���ار فضيلته إلى أن تلمس
المنهج النبوي واس���تنباط الحلول التي يسميها العلماء "أمهات األبواب" ،هو الس���بيل القويم في حل المش���كالت االجتماعية ...ومن ثم فعلينا التوجه إلى
ه���ذا المنه���ج النب���وي والبحث ع���ن حلول لمش���كالتنا فيه ...ثم أخ���ذ يتناول أ.د .فتحي حجازي/مصر.
بعض هذه المشكالت وسبل حلولها وفق الهدي النبوي .كما أوضح أن كل
المؤتمرات التي عقدت من أجل البحث عن المشكالت وحلولها ،آلت إلى أن المشكلة الكبرى تكمن في التربية والخلل فيها .وختم كلمته بالدعوة إلى العمل الصحيح واألمل الفسيح ،ألنه باألمل وحده فسوف نتحول إلى ظاهرة
كثيرا من أرضنا الفكرية كل عام. صوتية ،وسوف نخسر ً
"في مدينة الثقافة والحضارة والعلم والعرفان ،أرحب بكم أعزائي عشاق
الحبي���ب المصطف���ى " ...بهذا الوصف الحبيب إل���ى نفوس األتراك ،وبهذا
االعت���زاز العلم���ي والعرفاني بمدينة "غازي عينتاب" ،رحب األس���تاذ الدكتور د .أحمد البوكيلي/المغرب.
"عل���ي ب���ارداك أوغلو" رئي���س هيئة الش���ؤون الدينية الس���ابق ،بضيوفه من كل رب���وع األرض ،ث���م ذكر ف���ي تقدمته للجلس���ة األول���ى التي عنون���ت ب�"عالمية
المنهج النبوي وربانيته" ،أن المؤمن في حاجة ماسة إلى تنزيل القرآن الكريم وه���دي النبي ف���ي قلبه ،ومن ثم تمثله في حياته وواقعه ومس���تقبله ...وأنه
ال حل لمش���كالتنا الحياتية واالجتماعية بدون هذا التنزل والتمثيل .وببالغته المعه���ودة وبيان���ه المؤثر ،عبر فضيلة األس���تاذ الدكتور "فتح���ي حجازي" عن
األج���واء النوراني���ة التي تحف المؤتمر ،ثم بين في كلمته التي عنوانها" :مكانة السنة السابعة -العدد (2012 )31
أ.د .عبد الرزاق قسوم/الجزائر.
58
الرس���ول األس���وة في تنزيل وتمثل حقيقة الوحي" ،أن عالقة الرسول بالوحي عالقة اس���تمداد واس���تمرار ،وأن نور النبي المعنوي المنبعث منه والممتد إلى صحابت���ه ث���م إلى ورثته م���ن الدعاة ،على بصيرة في كل زم���ان ومكان إلى أن
يرث اهلل األرض ومن عليها ،يش���ي بعظيم منزلته التي أش���ار إليها القرآن .وأنه
م َّثل الوحي بين الناس في جميع مناحي الحياة؛ فكان قرآ ًنا يمشي بينهم.
وع���ن دع���وى ش���مولية المنهاج النب���وي وعالميت���ه وربانيته ،وج���د فضيلة
الدكتور "عبدالرزاق قسوم" في هذه الكوكبة ،وتلك الفسيفسائية من الحضور
التي تصنعها وحدة اإلس���الم ،بقيادة المصطفى خير دليل على صدق هذه
أ.د .علي بارداك أوغلو ،رئيس الشؤون الدينية التركية السابق.
الدع���وى .وأش���ار ف���ي عرضه إل���ى أن القيم الت���ي جاء بها محم���د هي قيم عالمية ،ألنه نبي تنطق اإلنسانية على لسانه ،وهو أعظم مصلح ،وكل محاولة
لإلص���الح بدون���ه س���تبوء بالفش���ل .وهذا ما أك���د عليه كثير من كت���اب الغرب ومفكريهم المنصفين ،من أمثال القسيس السويسري "هانس كونج" في كتابه
"إل���ى محمد أيتها اإلنس���انية" .ومن ثم ولكي نب���دأ بتحقيق المنهاج النبوي في
ال ،وإش���اعة الحب في التعامل بعد التربي���ة ،علينا العناية بالقدوة صعودا ونزو ً ً أن نخلّ���ص هذه القيمة العالية من دنس المنفعة والمصلحة ،وتحصين الذات
بالحصانة المحمدية ،وخاصة آفة فقد المناعة األخالقية والوطنية.
أ.د .محمود السرطاوي/األردن.
وعزا األستاذ الدكتور "عثمان كونر" في الجلسة الثانية ،مشكلة الفقر على
المس���توى الفردي في زماننا إلى أس���باب عديدة من أهمها :الكس���ل والتبذير
والبخل .ونفى أن تكون قلة الموارد ،أو النقص في بعض النعم التي أنعم اهلل
ال من عوامل الفقر على المس���توى االجتماعي ،وإنما بها على اإلنس���ان ،عام ً س���وء توزيع ه���ذه الموارد ،والظلم والج���ور في اس���تخدامها ،وغياب العدالة
االجتماعية ،هو الس���بب الرئيس���ي في هذا ...واستش���هد على ذلك بقوله" :إن
م���ا تنفقه بعض الدول على إطعام الحيوان���ات وفي التجميل ،يمكن أن يطعم أساس���ا من أس���س الهدي أفريقي���ا كله���ا" .ثم بين أن العدالة االجتماعية كانت ً النب���وي ،كما أن اإلس���الم ق���د صاغ مجموعة من األوام���ر والنواهي تؤدي في
مجمله���ا إلى نظام اقتصادي عادل ،كتحريم الرب���ا وفرض الزكاة والكفارات، والنه���ي ع���ن اإلس���راف والتبذي���ر والكس���ل ،والحض عل���ى العم���ل واإلنتاج والتدبير ،والصدقات والتبرعات .وحول مش���كلة الجهل أش���ار الدكتور "عبد الحمي���د أب���و س���ليمان" األمين العام لمعهد الفكر اإلس���المي ،إل���ى أن الجهل
إذا حلت مش���كلته حلت كل المش���اكل ،والجهل يقابله العلم الذي يؤدي إلى أيضا .كما رأى العم���ل ،وأي جه���ل ال يقابله علم يؤدي إلى عمل فه���و جهل ً
أن أي تغي���ر ال يس���تند إلى عقي���دة صلبة فهو فقاعة ،وأن أه���م أنواع االقتصاد ف���ي عصرن���ا هو اقتصاد المعرفة ،وذكر بعض تجارب معهد الفكر اإلس���المي
ف���ي ه���ذا الصدد .كما دعا إل���ى وجوب تغيير الخطاب من الش���دة والقهر إلى آم ُنوا َأ َش ُّد ُحبا ِ ِ هلل﴾(البقرة ،)165:ثم اللين والرحمة عم ً ﴿وا َّل ِذ َ ين َ ال بقوله تعالىَ : ًّ خت���م حديث���ه بقوله" :العلم لألخالق والجهل لقلة األخالق" .وختم األس���تاذ
59
السنة السابعة -العدد (2012 )31
الشيخ خليل النحوي/موريتانيا.
"جنيد كوكجة" الجلس���ة واليوم األول كله بحديثه عن مش���كلة العنصري���ة والتفرق .وأش���ار في حديثه عن هذه المش���كلة إلى
النح���وي" ،أن اآلي���ة المدخ���ل في هذا الموض���وع قوله تعالى: ِ إليم َ ِ اج َر ���م ُي ِح ُّب َ ي���ن َت َب َّو ُءوا َّ ﴿وا َّل ِذ َ ون َم ْن َه َ َ ال���د َار َوا ِ َ ان م ْن َق ْبلهِ ْ ِ ِ ِ ِ ون ���م َو َ اج ًة م َّما ُأو ُت���وا َو ُي ْؤث ُر َ ���د َ ال َي ِج ُ ون ف���ي ُص ُدورِ ه ْم َح َ ِإ َل ْيهِ ْ اص ٌة﴾(الحشر.)9: َع َلى َأ ْن ُف ِسهِ ْم َو َل ْو َك َ ان بِهِ ْم َخ َص َ
أن الفرقة حس شيطاني واضح ،قال تعالى على لسان إبليس: ين﴾(األعراف،)12: ﴿ َق َ ال َأ َنا َخ ْي ٌر ِم ْن ُه َخ َل ْق َت ِني ِم ْن َنارٍ َو َخ َل ْق َت ُه ِم ْن ِط ٍ تحول أي مجتمع إلى جنة ،وأن وأوضح أن الوحدة والتوحد ّ تحول أي مجتمع إلى جهنم ،ومن ثم كان الفرقة واالختالف ّ
وه���ذه إش���ارة عظيم���ة من إش���ارات القرآن .كما أش���ار إلى أن
حفاظا الوح���دة والتوحد ونب���ذ الفرقة والتعص���ب والعنصرية، ً
م���ن خل���ق اإليثار ف���ي حياة النب���ي الذي كان���ت حياته كلها
اإلسالم من خالل القرآن الكريم وهدي النبي يلح على قضية على س���المة المجتمع وتماس���كه ،وس���عادة أفراده وهناءتهم.
صورا اإليث���ار قيمة مركبة ،وهو أعلى مراتب اإليمان .ثم عدد ً إعالء لهذه القيمة.
وفي عرض متميز أثرى به الجلسة الرابعة بعنوان" :البشرية
مقتطفات من اليوم الثاني
أك���د األس���تاذ الدكت���ور "عب���د الناصر أب���و البصل" ف���ي عرضه
الشائق المش���فوع بالوس���ائل التكنولوجية الحديثة ،أن األخوة الدينية واإليمانية رابطة وثيقة بين المس���لمين أينما كانوا ،وبها
بطل���ت ث���الث عصبي���ات :النس���ب ،والحلف ،والوط���ن .وأن
نم���وذج المؤاخ���اة في العصر النب���وي قد انبنى عل���ى اإليمان،
وتآلف القلوب ،والعمل الصالح ،والتربية النبوية .كما ّبين أننا في حاجة ماس���ة إل���ى المؤاخاة في هذا العصر ،وأننا نس���تطيع أن نس���تنبط من النموذج النبوي ،بم���ا يتواكب مع روح العصر
ووفق وسائله الحديثة ،وضرب أمثلة متعددة لذلك.
وحول خلق اإليثار في المنهاج النبوي ذكر الش���يخ "خليل
السنة السابعة -العدد (2012 )31
مفتوحا، فاآلية لم تحدد بم نؤثر ومن نؤثر ،وتركت الباب ً
60
الحائ���رة ودور العال���م عل���ى ض���وء الس���راج النبوي" ،تس���اءل الدكت���ور "محمد باباعم���ي"" :هل لدينا الج���رأة أن نتبع العالم
المرش���د المربي؟" وبعد أن اس���تعرض مظاهر حيرة البش���رية،
وتس���اءل ع���ن المخ���رج لها م���ن تلك الحي���رة ،أبان ف���ي ختام عرض���ه عن ال���دور المنوط بالعا ِل���م بقوله" :ولي���س المطلوب يتحدث العال���م أن يص���ف الدواء ،ويكت���ب عن���ه ،وال أن م���ن ِ َّ
النزول آخر ه���و ُ ع���ن الس���راج ويفتخر به ،وإنم���ا عليه واجب ُ
وحقن المري���ض بالجرعات الالزمة من الدواء، إل���ى األرض، ُ وحمل الس���راج إلى المناطق المظلمة؛ من مدرس��� ٍة ،وجامع ٍة، ُ
ٍ ٍ وس���وق ...وغيره���ا .وهذا ما يمكن وبرلم���ان ،ومخبرٍ ،وقنا ٍة،
أن نسميه "تحويل الفكر إلى فعل" ،و"تجسيد العلم بالعمل".
كما ش���اركه التميز كل من األس���تاذ الدكتور "محيط مرت"
والدكتور "رش���يد هايالماز" في عرضيهما المعنونين ب��"مدرسة
أصح���اب الصف���ة ودوره���ا ف���ي البن���اء الحض���اري" ،و"مكان���ة
الصديق���ة عائش���ة ف���ي فهم اله���دي النب���وي" ،وأب���دى الدكتور ّ
الصديقة بالغا في ختام عرض���ه الموضوعي عن تأثرا ً ّ "رش���يد" ً الصديق ،ترقرقت معه دموعه بسبب المحاوالت البغيضة بنت ّ للتقليل من مكانة أم المؤمنين والغض من شأنها.
ثم توالت الجلس���تان الخامس���ة والسادس���ة ،طرحت فيهما
عديد من الموضوعات الهامة أبرزها "س���عادة اإلنس���ان وأمنه وكرامت���ه ف���ي اله���دي النب���وي ،ومالم���ح المجتم���ع المثال���ي
ف���ي المنه���اج النب���وي" الذي عرضه األس���تاذ الدكت���ور "أحمد
البوكيلي" من خالل نموذج خطبة الوداع .باإلضافة إلى توقير
السلف الصالح وعلماء األمة وأئمة المذاهب وتعظيم الشعائر عرضا اإلس���المية .ثم جاءت الجلس���ة الختامية الت���ي عرضت ً
موجزا ألهم ما ورد في المؤتمر بشكل عام. سريعا ً ً
بعض االنطباعات
وحي � � ��د الدين خان :لدي إيمان عميق وقناعة راس���خة وش���عور
بالتف���اؤل بق���درة الحاضرين والمش���اركين وم���ن بينهم تالمذة
األستاذ محمد فتح اهلل كولن ،على أن يفعلوا شي ًئا ما في تبليغ رسالة اإلسالم بصورته الحضارية. أ.د .محمدكورمز :يتداعى إلى ذهني عند رؤية هذه الكوكبة المبارك���ة م���ن العلم���اء األجالء ،اللق���ب الذي أطلق���ه الرحالة الترك���ي الش���هير "أوليا ش���لبي" عل���ى مدينة "غ���ازي عينتاب"؛ "بخ���ارى الصغ���رى" ،لكثرة ما كان بها م���ن علماء في عصره. أ.د .علي جمعة :مجلس علم تحفه المالئكة. أ.د .فتح � � ��ي حجازي :إن س���يدنا أب���ا أي���وب األنصاري قد اس���تقبل النور الخالد مفخرة اإلنس���انية الحبيب محمد في بيت���ه في المدين���ة المنورة ،وهو اليوم يس���تقبل أحباب الحبيب المصطف���ى علماء األمة وورث���ة األنبياء في تركيا ،وذلك فضل اهلل على عباده. أ.د .علي كوسة :هذا الحشد ذكرني برحلة "مالكوم إكس" إل���ى الح���ج ،وكيف غيرت تل���ك الرحلة قناعات���ه الخاطئة عن جنبا الدين اإلسالمي عندما رأى األلوان واألجناس المختلفة ً إلى جنب في هذه الرحلة المباركة دون تمييز أو تفرقة. الش � � ��يخ خليل النحوي :ه���ذه الوجوه القادم���ة من أكثر من ستين دولة ،تقدم تعري ًفا آخر لغار حراء. (*) كاتب وباحث مصري.
61
السنة السابعة -العدد (2012 )31
محطات حضارية نور الدين صواش*
السلطان سليم
الخادم األمين قبل سفره إلى الشرق زار السلطان سليم األول
أصحابه���ا أم ال!؟ فذه���ب اآلغا على الفور وش���رع مع أعوانه
( )1520-1512مس���جد الصحاب���ي الجلي���ل
واح���دا ،ثم بتفتيش األش���جار كذلك واحدا بتفتي���ش الجن���ود ً ً
وجمع ش���مل األمة ...وبعد راجيا النصر ركعتي���ن ث���م دعا ربه َ ً
افتر ثغره عن ابتسامة ،رفع يديه إلى السماء الس���لطان باألمرّ ،
أب���ي أي���وب األنصاري في إس���طنبول ...صلى
ذلك ولّى وجهه نحو منطقة أس���كدار لقيادة الجيش ...تحرك
الجي���ش العثماني في 5يونيو/حزيران 1516من أس���كدار...
كان يم���ر من األراض���ي الغنية بالحدائق والبس���اتين ،والزاخرة
بش���تى أن���واع الفواك���ه والثم���رات ...ولما وص���ل الجيش إلى "ك ْبزة" -التي تبعد عن إس���طنبول بس���تين ( )60كيلومتر منطقة َ تقريبا -وحط رحاله واس���تقر ،هجس في قلب السلطان سليم ً
أمر ...فدعا آغا اإلنكش���اريين على الفور َه ٌّ ���م ووقع في خلده ٌ وأكي���اس الجنود كاف���ة ليتحقق من خ���روج وأم���ره ب���أن يفتش َ َ
أم���ر ه���و :هل جنى الجن���ود فاكهة من هذه البس���اتين دون إذن ٍ السنة السابعة -العدد (2012 )31
62
واحدة واحدة ...ولكنه لم يعثر على شيء قط .وعندما أخبر جيش���ا يبتغي وراح يدع���و ً قائ���ال" :أحمدك الله���م ْ أن وهبتني ً مرضاتك ،ال يأكل الحرام وال يغتصب األموال".
ث���م التف���ت إل���ى آغا اإلنكش���اريين وقال" :يا آغ���ا! لو أني واحدا قام بقطف ثم���رة دون رضى صاحبها، جنديا وج���دت ً ُ ًّ
رت لحظة لما ترددت في العدول عن س���فري هذا ،ولما َّ تأخ ُ ُ أتيت". واحدة بالعودة إلى حيث ُ
ثم أردف قائالً" :يا آغا! إنه من المستحيل أن ُتفتح البالد
بجيش يأكل الحرام ويغتصب أموال الناس".
محطات علمية
فنانة األلوان
الحرباء
كائن يمل���ك موهبة يحاكي بها جميع ألوان الطبيع���ة .إنها ِ الحرباء الت���ي ُتغير لونها وف ًقا للّون الذي تطأه ببضع دقائق! تكتسي اللون األخض���ر إذا كانت بي���ن األوراق الخضراء ،وتكتس���ي اللون الرم���ادي إذا كان���ت بين األحجار الرمادي���ة ...ولكن من أين لهذه الحرباء بهذه األلوان؟ وأين تختزن األصباغ يا ترى؟ تتمتع الحرباء بجلد شفاف ذات طبقات من الخاليا التي تحت���وي عل���ى م���ادة للتلوي���ن ،وإذا تقلصت ه���ذه الخاليا أو تم���ددت َتغير ل���ون جلدها ...وكذلك يتغير لون الحرباء عند انفعاله���ا؛ حيث يؤدي خوفها أو غضبها إلى تخفيف الخاليا م���ن األصب���اغ الكائنة في جلدها الذي يحت���وي على األلوان الكاش���فة بالق���رب م���ن س���طحه ،وعل���ى األل���وان الداكنة في طبقاته الس���فلى ،وهذا الترتيب في الخاليا هو الذي يس���بب تعدد األلوان عند الحرباء. تمكنت الحرباء من التمويه أو وع���ن طريق هذه األل���وان ّ
التخف���ي على أحس���ن وج���ه ،كونها
بطيئ���ة الحرك���ة وال تس���تطيع التحرك بسرعة .وبالتمويه هذا،
استطاعت الحرباء حماية نفسها من
والتقاط فرائس���ها من الحش���رات والهوام بلس���انها األخطار، َ اللزج الذي يبلغ طول جسمها.
أمر آخر يثير العجب في هذا المخلوق ،وهو اس���تقاللية
عيونه���ا عن بعضه���ا البعض ،حي���ث تمتعت الحرب���اء بمدى رؤية 180درجة أفقية ،و 90درجة عمودية ،األمر الذي وفر لها رؤية أمامها وخلفها وفوقها وتحتها في آن واحد!
إن���ه عالم الحي���وان ،العالم المعجز الذي يس���تحق التأمل
والتدبر في كل حين ،أليس كذلك؟. (*) كاتب وباحث تركي.
63
السنة السابعة -العدد (2012 )31
التصور العام
• حراء جملة علمية فكرية ثقافية تعىن بالعلوم الطبيعية واإلنسانية واالجتماعية وحتاور أسرار النفس البشرية وآفاق الكون الشاسعة باملنظور القرآين اإلمياين يف تآلف وتناسب بني العلم واإلميان ،والعقل والقلب ،والفكر والواقع. • جتمع بني األصالة واملعاصرة وتعتمد الوسطية يف فهم اإلسالم وفهم الواقع ،مع البعد عن اإلفراط والتفريط. • تؤمن باالنفتاح على اآلخر ،واحلوار البناء واهلادئ فيما يصب لصاحل اإلنسانية. • تسعى إىل املوازنة بني العلمية يف املضمون واجلمالية يف الشكل وأسلوب العرض ،ومن مث تدعو إىل معاجلة املواد مبهنية عالية مع التبسيط ومراعاة اجلوانب األدبية واجلمالية يف الكتابة.
شروط النشر
• أن يكون النص املرسل جديدا مل يسبق نشره. • أال يزيد حجم النص على 2000كلمة كحد أقصى ،وللمجلة أن تلخص أو ختتصر النصوص اليت تتجاوز احلد املطلوب. • يرجى من الكاتب الذي مل يسبق له النشر يف اجمللة إرسال نبذة خمتصرة عن سريته الذاتية. • ختضع األعمال املعروضة للنشر ملوافقة هيئة التحرير ،وهليئة التحرير أن تطلب من الكاتب إجراء أي تعديل على املادة املقدمة قبل إجازهتا للنشر. • اجمللة غري ملزمة بإعادة النصوص إىل أصحاهبا نشرت أم مل تنشر ،وتلتزم بإبالغ أصحاهبا بقبول النشر ،وال تلتزم بإبداء أسباب عدم النشر. • حتتفظ اجمللة حبقها يف نشر النصوص وفق خطة التحرير وحسب التوقيت الذي تراه مناسبا. النصوص اليت تنشر يف اجمللة تعب عن آر ُ َّاهبا ،وال تعب بالضرورة عن رأي اجمللة. اء كت • رِّ رِّ مجا إىل أي لغة ً • للمجلة حق إعادة نشر النص منفصال أو ضمن جمموعة من البحوث ،بلغته األصلية أو مرت ً أخرى ،دون حاجة إىل استئذان صاحب النص. • جملة حراء ال متانع يف النقل أو االقتباس عنها شريطة ذكر املصدر. يرجى إرسال مجيع املشاركات إىل هيئة حترير اجمللة على العنوان اآليت:
hira@hiramagazine.com YEMEN دار النشر للجامعات الجمهورية اليمنية ،صنعاء ،الخط الدائري الغربي، أمام الجامعة القديمة Phone: +967 1 440144 GSM: +967 711518611 ALGERIA Bois des Cars 1 Villa Nº68 Dely Brahim GSM: +213 770 26 00 27 SUDAN مركز دار النيل ،مكتب اخلرطوم أركويت مربع 48منـزل رقم - 31اخلرطوم -السودان Phone: 0024 999 559 92 26 - 0024 915 522 24 69 hirasudan@hotmail.com JORDAN GSM: +962 776 113862 UNITED ARAB EMIRATES دار الفقيه للنشر والتوزيع ص.ب 6677 .أبو ظبي Phone: +971 266 789920 MAURITANIA Phone: +2223014264
USA Tughra Books 345 Clifton Ave., Clifton, NJ, 07011, USA Phone:+1 732 868 0210 Fax:+1 732 868 0211 SAUDI ARABIA الوطنية للتوزيع Phone: +966 1 4871414 املكتب الرئيسي :شارع التخصصي مع تقاطع شارع األمري سلطان بن عبد العزيز عمارة فيصل السيار ص.ب 68761 :الرياض11537 : اجلوال00966504358213 : saudia@hiramagazine.com abdallahi7@hotmail.com Phone-Fax: +966 1 2815226 MOROCCO الدار البيضاء 70زنقة سجلماسة Société Arabo-Africaine de Distribution, )d'Edition et de Presse (Sapress 70, rue de Sijilmassa, 20300 Casablanca / Morocco Phone: +212 22 24 92 00
جملة علمية فكرية ثقافية تصدر كل شهرين عن: Işık Yayıncılık Ticaret A.Ş İstanbul / Türkiye
صاحب االمتياز
مصطفى طلعت قاطريجي أوغلو
املشرف العام نوزاد صواش
nsavas@hiramagazine.com
رئيس التحرير هانئ رسالن
hraslan@hiramagazine.com
مدير التحرير أجري إشيوك
eisiyok@hiramagazine.com
املخرج الفين
أنكني جفتجي
املركز الرئيس HIRA MAGAZINE Kısıklı Mah. Meltem Sok. No:5 34676 Üsküdar İstanbul / Turkey Phone: +902163186011 Fax: +902164224140 hira@hiramagazine.com
مركز التوزيع 7ش البامكة -احلي السابع -م.نصر/القاهرة تليفون وفاكس+20222631551 : اهلاتف اجلوال +20100780831 : مجهورية مصر العربية
نوع النشر جملة دورية دولية
Yayın Türü Yaygın Süreli
الطباعة رقم اإليداع
1879-1306
لالشرتاك من كل أحناء العامل pr@hiramagazine.com
SYRIA GSM: +963 955 411 990
اﻟﺴﻌﻮدﻳﺔ ١٢ :رﻳﺎل ﺳﻌﻮدي • اﻟﻴﻤﻦ ٣٥٠ :رﻳﺎل ميﻨﻲ • اﳌﻐﺮب ٢٠ :درﻫﻢ • اﻟﺠﺰاﺋﺮ ٢٥٠ :دﻳﻨﺎر اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ اﳌﻤﻠﻜﺔ()29 السنة السابعة• -العدد 64 2012
ً مجانا مجلة حراء على اآلي فون
َ يممت. حراء اآلن في هاتفك الجوال أينما بلمسة واحدة تابع كل نشاطات حراء. بلمسة واحدة ّ شكل أرشيفك الخاص بـ"حراء". بلمسة واحدة اكتشف المزيد عن عالم حراء. دائما إلى األفضل ..ابقوا معنا... حراء ً
www.hiramagazine.com - facebook.com/hiramagazine
twitter.com/hiramagazine - youtube.com/hiramagazine
مركز التوزيع فرع القاهرة 7 :ش البرامكة ،الحي السابع ،مدينة نصر -القاهرة /مصر
تليفون وفاكس +20222631551 :
الهاتف الجوال +20165523088 :
w w w. d a r a l n i l e . c o m
السنة السابعة -العدد (2012 )29
65
ﺗﺮﻛﻴﺎ ٦ :ﻟريات • أوروﺑﺎ ٣,٥ :ﻳﻮرو • أﻣﺮﻳﻜﺎ ٥ :دوﻻر
األلوان ووجه الطفل هكذا كانت أحالم طفولتي، باأللوان زاهية.. المستحيالت فيها ممكنة.. ُ ورياض الورد في نسيج خيالي، (*) تحاكي عهد الورد يا سالي ويهب نسيمي بريئًا مثل براءتي.. ّ ***
(*) عهد الورد هو عصر النبي .
31
السنة السابعة -العدد (2012 )29
66