اﻟﻌﺪد / ٣٢ :اﻟﺴﻨﺔ اﻟﺜﺎﻣﻨﺔ ) /ﺳﺒﺘﻤﱪ -أﻛﺘﻮﺑﺮ( ٢٠١٢ ﻣﺠﻠﺔ ﻋﻠﻤﻴﺔ ﻓﻜﺮﻳﺔ ﺛﻘﺎﻓﻴﺔ ﺗﺼﺪر ﻛﻞ ﺷﻬﺮﻳﻦ ﻣﻦ إﺳﻄﻨﺒﻮل
w w w. h i r a m a g a z i n e . c o m
األرض والحمائم األرض نحو السالم تسير، وجبال الجليد القديمة واح ًدا تلو اآلخر تذوب، واألحداث تحمل إلينا بشارات األمل، والحمائم ترفرف سعادة أال ترى! ***
النفوس النافعة أو مجتمع الضمير
كيف يصوغ اإلسالم اإلنسان؟
دور المجتمعات المحلية في نهضة األمة
االفتتاحية الفطرة المدمرة
في مقاله لهذا العدد من "حراء" يشير األستاذ "فتح اهلل كولن" إلى خاصية "اإلثنينية"
في طبيعة "النفس البش���رية" ،فقد فطرت هذا النفس على الجمع بين الش���يء ونقيضه، بي���ن الخي���ر ونقيضه ،والحق ونقيضه ،والعدل ونقيض���ه ،والجمال ونقيضه ...والصراع
بين هذه األضداد قائم ودائر ،وقد يفضي في خاتمة الصراع إلى انتصار أحد النقيضين على اآلخر ،ولما كانت "الفطرة" لها في س���حيق الروح مكانة عظيمة ،تؤثر فيها وتتأثر
فأي اس���تالب أو طمس أو مس���خ أو تخري���ب للفطرة، به���ا ،تعطيه���ا وتأخ���ذ منه���ا ،لذا ُّ
يؤث���ر ف���ي الروح ،ويضعف قدرتها على إحداث التغيير المطلوب في الفرد والمجتمع.
العدد32: السنة الثامنة (سبتمبر -أكتوبر) 2012
فانجذاب األرواح إلى معس���كر الخير أو معس���كر الشر ،هو نتيجة ما يؤول إليه الصراع ش���را فش���ر ،وهذا هو الذي يميز ال���روح الطيبة عن خيرا فخير وإن ًّ بي���ن األض���داد ،فإن ً الروح الخبيثة.
ومس���ألة أخ���رى ه���ي األعظ���م م���ن كل المس���ائل ،أال وهي م���آل كل م���ن الروحين
ومصيرهم���ا األخ���روي .فالفطرة إذن إما أن تكون عامل بناء وإعمار في الدنيا وس���عادة في اآلخرة ،أو تكون عامل تدمير وتخريب في الدنيا وشقاء في اآلخرة.
أما مقال "رحلة في مقامات الوصال" للدكتور "الحس���ن الغش���تول" فهو قطعة أدبية
وفنية رائعة ،يتحدث من خاللها عن رحلته إلى األماكن المقدس���ة في "مكة المكرمة" جيشان فكري وروحي يدل على عمق و"المدينة المنورة" ،ويقف عند غار "حراء" في َ ه���ذا الم���كان المبارك في ذاكرته الدينية ،وعمق ما يس���تثيره من ذكريات حبيبة عن نبي
"الغار" .
والدكت���ور "عم���ار جي���دل" يتحفن���ا بمق���ال قيم ع���ن المفك���ر الداعية محمد البش���ير
اإلبراهيمي ،وعن فقه بعث الفاعلية الفكرية والروحية في كتابات هذا المفكر العمالق.
وعن ابن زهر ،أحد أعالم رجال الطب في الحضارة اإلسالمية وعن أبحاثه القيمة
ودراساته في علم األورام ،سبقه في ذلك نجده في قلم الدكتور "بركات محمد مراد". وعن مرض "االكتئاب" مرض العصر وطرق التعافي منه ،تحدثنا "سعاد الواليتي" عن خبرتها بهذا الخصوص في مقالها الطبي "إضاءات للتعافي من االكتئاب".
والدكت���ور "محمد جكيب" يحدثنا في مقاله القيم عن س���لطة الكلمة وقوتها ،وعن
األدب ف���ي ظ���ل البيان ،فيب���دع أيما إبداع فيق���ول" :إن مادة األدب ه���ي اللغة بكلماتها وآفاقه���ا الداللي���ة وصوره���ا الفنية البالغي���ة ،لكن الغذاء الذي يغذيه���ا يقطف من عالم
المشاعر والوجدان واألحاسيس ومن كل جميل".
ون���ود التنويه بمقال الدكتور حام���د إبراهيم الموصلي "التنمية الذاتية" وعالقة ذلك
كله بنهضة األمة ،فالجهد الذاتي ،أحد أهم أسباب النهوض لألفراد واألمم ،ألن تثوير الطاقات الذاتية األصيلة هو القاعدة األساس في أي استنهاض أو نهضة.
السنة الثامنة -العدد (2012 )32
B
المحتويات النفوس النافعة أو مجتمع الضمير /فتح اهلل كولن (املقال الرئيس) رحلة في مقامات الوصال /د .احلسن الغشتول (أدب) التنمية الذاتية ودور المجتمعات المحلية في نهضة األمة /أ.د .حامد إبراهيم املوصلي (تربية) اليد الكاشفة /حراء (ألوان وظالل) زخات الثلج /د .حممد باباعمي (أدب) أولى ّ العلم واألخالق وأثرهما في بناء اإلنسان عند النورسي /أ.د .حممد الروكي (قضايا فكرية) وانج /حراء (ألوان وظالل) ّ توجه ُ كيف يصوغ اإلسالم اإلنسان؟ /أ.د .الشاهد البوشيخي (قضايا فكرية) سلطة الكلمة وقوتها / 2-د .حممد جكيب (أدب) لغة القرآن الكريم مفتاح العلوم التجريبية /أ.د .إدريس اخلرشاف (قضايا فكرية) أطول مطاردة القتناص جسيم في تاريخ الفيزياء /حممد هاشم البشري (علوم) مستويات الحوار الحضاري مع اآلخر /د .مرمي آيت أمحد (ثقافة وفن) األخالق ودورها في نهضة األمة /د .خالد عمارة (قضايا فكرية) لد آدب (شعر) الناي في مقام التجلي /أ ّدي و َّ الرمان في الحفاظ على حياة اإلنسان /د .سعيد كامل بالل (علوم) إلى اهلل من جديد /حراء (ألوان وظالل) إضاءات للتعافي من االكتئاب /سعاد الوالييت (علم النفس) ابن زهر ..الطبيب اإلكلينكي ورائد علم األورام /أ.د .بركات حممد مراد (تاريخ وحضارة ) أسس بعث الفعالية في فقه محمد البشير اإلبراهيمي /أ.د .عمار جيدل (قضايا فكرية) الكنغر ..والدة قبل النمو /أ.د .عرفان يلماز (علوم) تنبيهات رمضانية لدى الدولة العثمانية /نور الدين صواش (حمطات علمية وحضارية)
2 5 9 11 12 14 18 19 24 28 32 35 39 43 44 46 47 50 54 58 62
المقال الرئيس فتح اهلل كولن
النفوس النافعة أو مجتمع الضمير
عندما ُخلق اإلنس���ان و ُأرس���ل إلى هذا العالم، ُوضع���ت ف���ي ِجب ّلت���ه ب���ذور الخي���ر والش���ر،
أصحابها وممثليها ،سيبقى إلى أن يرث اهلل األرض ومن عليها.
والنمو والتطور في س���فوح ماهيته البذور قابلي َة التوس���ع تلك ُ ّ
متاه���ات األناني���ة المظلم���ة ،مع جهل ف���ادح بالطري���ق الهادي
ومنحت والجم���ال والقب���ح ،والنفع والض���ر؛ ُ
اإلنس���انية .ومن���ذ تلك اللحظ���ة َتداخل -في كينونة اإلنس���ان-
جنبا إل���ى جنب ،وبزغ اللي���ل والنهار ،وظه���ر ُ ُ الفحم والماس ً
ال���دوام .ويبدو أن الصراع بين هذه المتناقضات ،والتدافع بين أرواح���ا حائ���رة تتخبط في أج���ل ،إنن���ا ن���رى -في ناحي���ة- ً
أرواحا وإش���ارات الطريق ،بينما نجد في -الناحي���ة األخرى- ً مش���رقة ُتعانق الخلود الماورائي في كل لحظة ،وقد حس���مت
ص���ارع الحق���د والنف���ور م���ع الح���ب الن���ور عق���ب الظ���الم؛ و َت َ
أمره���ا لإلبح���ار في رحلة أبدي���ة ال نهاية له���ا ،أو بعبارة أصح
وس��� ّلطت النمطي��� ُة والش���كلي ُة مصايده���ا للقض���اء عل���ى روح
وبينما نرى الفئة األولى ترتعد خو ًفا في عالم من الكوابيس
والتآل���ف ،ودخل���ت الحري���ة ف���ي ع���راك ال ينتهي مع األس���ر،
اإلخالص واالنطالق والعشق ،وكافح الحق ضد الباطل على السنة الثامنة -العدد (2012 )32
2
عزمت على أن تعيش المعراج في عالمها الداخلي.
يب���دأ بفوضى وينتهي بفوضى أخرى ،نج���د الفئة الثانية تعيش
العال���م كله مقاب���ل مصلحة ذاتية صغيرة ،كم���ا ال يترددون في
في عالم مشرق من اإليمان بالماوراء األخروي في كل لحظة م���ن لحظ���ات حياتها ،متقلبة بي���ن قصور ِ الجن���ان التي امتدت
انتهاك حقوق مئات اآلالف من األبرياء مقابل منفعة خسيسة.
وبينم���ا نالحظ الفئة األولى يائس���ة أس���يرة َمهِ يض َة الجناح،
وقاعدت���ه ،يقض���ون حياتهم كلها في س���جن مؤبد من المطامع
أطرا ُفها مترامية حتى التحمت بأطراف قلوب هؤالء السعداء. ج���راء س���وء قراءتها للحياة تتج���رع ألوانً���ا م���ن العذاب المرير ّ
واألحداث ،وفساد تفكيرها ،وعطب تقييمها ،وبالتالي حرمانها من االس���تمتاع بطع���م الحي���اة؛ ُتطالعنا الفئة الثاني���ة مبحر ًة في
نورا بفضل جمال رؤيتها وحس���ن تفكيرها ،ومن عال���م يتألأل ً ثم فهي منطلقة محلقة نحو عوالم زاهية جديدة في كل حين،
ناهل ٌة من معين سعادة غامرة ال توصف.
إن هؤالء األنانيين الذين يحس���بون أنفس���هم دعامة العالم
والرغب���ات ،وال يفلحون -ولو مرة واحدة -في رؤية األش���ياء
ال. وقراءة الحوادث وفق جوهرها ،بل ال يرغبون في ذلك أص ً
���م ُعمي بال قلب وال إحس���اس ...فما يحس���ون به أو إنه���م ُص ٌّ ٌ يسمعونه خداع وضالل ال غير ،وما يرونه أو يحدسونه ُفتات أوه���ام وأضغ���اث أحالم ،وما ُيبدونه م���ن رأي أو يطلقونه من أحكام َه َذيان كهذيان المخمورين.
أج���ل ،إن أبن���اء المجموع���ة األول���ى قد خي���م الظالم على
وضعتهم في ميزان التقييم الذاتي، والحقيق���ة أن هؤالء لو َ
لذل���ك فق���دوا جدارته���م وأهليتهم ف���ي نفع المجتم���ع وإفادة
والخب���رات ،وبالتالي عديمي الفائدة للمجتمع الذي يعيش���ون
عالمهم الداخلي ،وأحاط بهم التش���اؤم القاتم من كل جانب، شيئا أو أن تنفعها مواهبهم أبنائه .وهيهات لألمة أن تفيد منهم ً
دفعا، بع���د ذل���ك؛ بل إن ه���ؤالء لو ُدفع���وا إلفادة مجتمعاته���م ً
فق���راء القدرات فس���وف تجده���م عديمي المواه���ب واللياقة، َ في���ه .فه���م َيظهرون في قلب الواقع فج���أة عندما تكون القضية
إش���باع الرغبات الش���خصية واالس���تمتاع الذات���ي .أما إذا ه���ي َ تعلق األمر بإس���داء المعروف إلى اآلخرين ،والس���عي لصالح
أنانيا ُته���م عائ ًق���ا حيالهم ،ولس���وف يتعثرون فس���وف تنتص���ب ّ ِ بشباك الهوى فينهزمون أمام "أنفسهم" ويفشلون في تجاوزها،
المجتم���ع ،ودرء المفاس���د عنه ،وجلب المناف���ع له ،فلن تجد
وال ش���ك أن انتظار انبثاق المروءة أو اإلنس���انية من قلوب
س���ر االنبعاث أم���ا المجموع���ة الثاني���ة الطيبة ،فق���د َعرفت ّ
وفهمهم الح���ب منهم طائ���ل م���ن ورائه ،ناهي���ك عن أن تتوقع َّ َ
فتحا بعد فت���ح ،وأقبلت على فحقق���ت ف���ي عوالمه���ا الداخلية ً
وال يمكنهم أن يحققوا المنشود منهم أو المأمول فيهم البتة.
أمر ال ه���ؤالء البؤس���اء بع���د أن امتألت بأل���وان من المطام���عٌ ،
لآلخري���ن ،فذل���ك ضرب من ض���روب المس���تحيالت .وحتى ل���و ب���دا هؤالء وكأنه���م يحبون اآلخري���ن ،فبقليل م���ن التركيز تكتشف أنهم غير مخلصين وال صادقين في ذلك.
وإن معرف���ة تل���ك النف���وس المظلمة البعي���دة كل البعد عن
أثرا مهما بحثت عنهم. لهم ً
والوج���ود والبقاء ،وانطلقت في أعماقه���ا الذاتية بعزيمة نادرة
تأس���يس رواب���ط م���ن الح���ب والعاطفة مع كل ش���يء ومع كل
أح���د .إن ه���ؤالء الطيبي���ن الذين يتمتع���ون بق���درات عالية في جدا لمجتمعاتهم ،ال ذواته���م ،مفيدون ح ًّقا لآلخرين ،نافعون ًّ
أبدا .ففي ظل راية اإلرادة التي ّثبتوها يمكن االس���تغناء عنهم ً ف���ي ذروة ذواته���م يناضل���ون من أج���ل الفضيلة عل���ى الدوام،
واالطالع واكتش���اف هويتها، الوضوح والش���فافية والشجاعة، َ َ متعذرا .إذ عل���ى حقيقتها ،في منتهى الصعوبة ،بل يكاد يكون ً
وين ّقب���ون ع���ن التج���رد واإلخ���الص واإليث���ار والتضحية دون
اإلنس���انية في الوقت الذي يمارسون فيه أشنع المظالم وأفظع
الفك���ر ،وعقولهم التي بلغت حد الصفاء ،كأنهم ظالل ألنوار
إن هؤالء من الحنكة والمهارة بحيث ُيجيدون إظهار المشاعر
االعتداءات ،كما يحس���نون الترائي باللين والرفق أثناء ظلمهم الصارخ وتجاوزاتهم الواضح���ة .هؤالء عندما يمتلكون القوة ويعنفون أش���د ما يكون العنف. يفتكون أش���د ما يكون الفتكُ ،
وعندم���ا يعتريه���م الخوف على أنفس���هم أو ي���رون أنهم فقدوا
س���فالتهم جلية وتظهر دناء ُتهم ّبينة ،فال الس���ند والظهير ،تبدو ُ بأس���ا يج���دون ً حرجا في أنفس���هم م���ن لثم األيدي ،وال يرون ً
م���ن تقبيل األقدام .إن هؤالء األش���قياء ال يترددون في إحراق
انقط���اع .إن ه���ؤالء القدس���يين ،بأرواحه���م الت���ي نضجت بنار
األنبياء ،يمرون على كافة المواقع التي سبقهم إليها األنبياء من قب���ل ،فيبلغون مرتبة القرب من المالئك���ة ،ويتوحدون معهم، ُ
ويطوفون خالل صفوفهم.
وجدي���ر بالذكر أن األنبياء عليهم الصالة والس���الم ينزلون
في نقطة الوس���ط وموقع القلب بين آالف الطوابير من كتائب أهل الحظوة والسعادة الذين يمتدون صفو ًفا متعاقبة بين يدي
الحق س���بحانه ...فنقطة الوس���ط تبدأ بهم وتنتهي بهم ،وتليهم
3
السنة الثامنة -العدد (2012 )32
مباش���رة رايات هؤالء القدس���يين ترفرف في السماء- ...نفدي
وينعمون بأجنحة المناجاة والضراعة َفيسعدون بلذة الوصالَ ،
يلحن أوام���ر األنبياء ّ وينزلها إل���ى أرض الواقع .ومن ثم ما أن ّ
من ديار األنس بدالل أكرم به من دالل .كم من مرة يجيشون
أصح���اب تل���ك الراي���ات المرفرف���ة بأرواحنا -فه���م من يمثل َ
بق���رب الحبيب الباري وصحب���ة الخليل المتعالي ،ثم يعودون
يهب من اصطف خلفهم من ق���ادة القلب قصيدة الحياة ،حتى ّ
بأطي���اف جدي���دة من مش���اعر العش���ق والوجد ،ويحس���ون في
ببث رسائل الخير والجمال والمعقول، أن يبدأ س���ادة الوس���ط ّ
أيما لذة ونشوة ما بعدها من نشوة. ِ دوما، كر الحق تعالى في أنفاسهم ً هؤالء السعداء ،يتردد ذ ُ وتم���وج الحقيق���ة ف���ي أفكارهم ،وتلتم���ع بش���ارة الخلود على
بأرق األصوات وأعذب النغمات .وما القدس���يين ليترنموا بها ّ وإيقاد مشاعل الحقيقة في كل مكان ،حتى ينطلق من اصطف
وراءه���م م���ن النورانيي���ن ليحوم���وا ح���ول تلك المش���اعل إلى شرع أبطال القلب بنفخ الروح واالنبعاث فيمن األبد .وما أن َي َ قائما ووضع الصور على حولهم -مثل إس���رافيل وقد انتصب ً
ش���فتيه -حتى يسعى من اصطف خلفهم من السعداء ليسربلوا
الروح بالجسد ،ويمثلوا تلك الروح في كل ساحة من ساحات َ الحياة في أعلى مستوى من النموذجية والمثالية.
إن األصوات التي تتردد في ديار لم تصلها أصوات هؤالء
الس���عداء بعد ،ما هي إال حشرجات؛ والعبارات التي تقال ،ما
هي إال هذيان يشبه هذيان المجانين .فالعمي الذين لم يبلغوا ُ كتب س���عاد َة رؤية تلك القامات السامقات، والص ّم الذين لم ُي َ ُّ س���كب السكينة والطمأنينة في حظ س���ماع أنفاسهم التي َت ُ لهم ّ القلوب ،س���وف يخلطون بين تغري���د العندليب ونعيق الغراب أبدا. طوال حياتهم ،ولن يتمكنوا من التمييز بينهما ً
الس���عداء الحقيقة الكبرى من���ذ البداية، لق���د َعرف ه���ؤالء ُ
فأحن���وا هاماته���م له���ا ،وطأط���ؤوا رؤوس���هم أمامه���ا ...آمنوا ومعبودا ،ووضع���وا جباههم على عتبة بابه س���بحانه. ب���اهلل ربًّ���ا ً
تحيي وإن الس���عداء الذي���ن ُيحن���ون هاماته���م أمام باب���ه تعالى ّ
ال���ذ َرى التي بلغتها أقدامه���م ،وتتجول رؤوس���هم أقدامهم في ّ ُ َ ُ وإن الحلقة الناش���ئة في السجود من اتصال الرأس رؤوس���همّ . ُ
مكنهم من التحليق المستمر في حاالت من الصعود بالقدم َل ُت ّ توج بمعراج جديد (عرش���يات) والنزول (فرش���يات) ،تنتهي و ُت َّ
ش���امخا، ف���ي كل م���رة )1(.أما إذا رفع حص���ان إلهامهم قائمتيه ً
اج���ا ،فس���وف تجده���م ق���د قف���زوا إل���ى م���ا وراء وتوث���ب ّ وه ً الس���ماوات َبن َفس واح���د ،وجالوا في ربوع الجنان ،وس���ابقوا المالئك���ة ،وأخذوا ف���ي الحوم والتطواف ح���ول من ال يمكن
إدراكه -سبحانه -بِحيرة وانبهار ال نظير لهما.
ومن يدري كم من مرة في اليوم يتخذ هؤالء من الش���مس
ألعابا ُك���ر ًة ،ومن نجم آخر َم ِ ضر ًبا ّ فيقدمون ألهل الس���ماوات ً
وعروضا عجيب���ة مبهرة .كم من م���رة يح ّلقون س���حرية ش���تى، ً السنة الثامنة -العدد (2012 )32
4
أرواحهم بحظوة اكتش���اف الوجود الحقيقي ،فيغرقون في لذة
ألس���نتهم ،وتت���ألأل الس���عادة األبدية ف���ي آفاقهم .إنه���م عقدوا
الع���زم على إعم���ار األرض وبنائها ،ولكن دون أن يخطر على أبدا .التجرد س���جيتهم، ب���ال أحدهم االس���تمتاع بلذائ���ذ الدنيا ً
واإلخالص ديدنهم ،واحتساب األجر عند اهلل ُخلقهم األصيل. ُ
شكورا ،وال يرغبون فهم ال ينتظرون مقابل أعمالهم جزاء وال ً سجل بطوالتهم قاطبة. في أن ُت َ مآثرهم أو أن ُت َّ ذكر ُ
إنه لمن المؤس���ف ح ًّقا أن أصحاب هذه األرواح السامية،
الذي���ن يمتلئ���ون بالفضيل���ة ويفيض���ون بالخي���ر عل���ى اآلخرين دوما ،و ُأهينوا من َقبل امتالء األق���داح وفيضانهاُ -َ اضطهدوا ً بع���ض المخدوعي���ن باس���تمرار ،وت���م التضييق عل���ى حرياتهم وعلى حقهم في ممارس���ة حياة كريمة ش���ريفة ،مع محاوالت
شنيعة للتهميش واإلقصاء خارج المجتمع والواقع. ُش ّق قلبي يا حبيبي،
وانظر إلى ما فيه من جراح،
إن بين قومنا من يمكر بنا، سيئا... مكرا ً ً
***
أه ،طويلة هي هذه الطريق، قصية َمفاوِ زها، كثيرة منازلهاّ ، ال معابر فيها وال جسور،
عميقة المياه سحيقة الوديان( ...يونس َأ ْم َره)
األرواح تش���ع باألن���وار ،والضمائر تتألق ولك���ن م���ا دامت ُ
ومزيدا من المرابطة فصبرا بالحرية ،والصدور تخفق باإليمان، ً ً
والمثابرة!
(*) الترجمة عن التركية :هيئة تحرير المجلة.
الهوامش
الحق الخلق إلى الحق تعالى ،والفرش���ية :الس���ير من ( )1العرش���ية :العروج من َ ّ الخلق بعد بلوغ ذروة المعراج. تعالى إلى َ
أدب
د .الحسن الغشتول*
"نظ���رت ف���إذا كل ش���يء م���ن حول���ي صامت ُ صم���ت الرهب���ة ،س���اكن س���كون الج���الل ،ال نأم���ة وال ح���س وال حركة ،وال ش���يء يش���غل اإلنس���ان عن التفكير في الس���ماء والكعبة تبدو من بعيد وسط ه���ذا اإلط���ار الصخري ...فم���ن كان في الغار ،كأن���ه في الدنيا وم���ا هو ف���ي الدنيا ،ي���رى الكعبة وحدها فيتص���ل منها بكل ما هو س���ماوي طاهر ،ويخفى عليه كل شيء غيرها فينفصل من
كل م���ا هو أرضي ملوث .وقالت ل���ي النفس :بماذا كان يفكر وحيدا في هذا الغار؟ فقلت محمد وهو يقضي األيام والليالي ً أن���ا أع���رف ويحك بم���اذا كان يفك���ر محمد؟ أنا أس���مو بعقلي األرضي المثقل بالش���هوات والمطامع إلى جو محمد؟ أتطمع الزواحف أن تزاحم العقبان في أكباد السماوات؟ مفك���را ،وانطل���ق ذهن���ي يرت���اد جنب���ات خاش���عا وقع���دت ً ً محم���دا وهو في ه���ذا المرقب الماض���ي الحبي���ب يتص���ور ً
5
السنة الثامنة -العدد (2012 )32
نش���وء حض���ارة مدعومة بالوح���ي .عادة
مف���ردا حين جاءه البريد وحيدا العال���ي، ً ً م���ن فوق الس���بع الطباق برس���الة من اهلل ما يقرن علم���اء النفس واألدب حاالت عندما ي�س��ع نور حممد ر�سول ()1 وقال له﴿ :ا ْق َر ْأ﴾". انف���الت الذاكرة ،عبر نثي���ر الموجودات اهلل يف النفو���س؛ في�س��ر اخت���رت ه���ذا المث���ال ف���ي وص���ف في أزمنة الحكي بمفهوم التداعي ،لكن احلك��ي خيا ًال نقيًّ��ا ،وحقيقة الرحالي���ن لألماك���ن الش���ريفة والعظيمة أي ن���وع م���ن التداع���ي هذا ال���ذي يمأل التي يم���رون بها ويس���تطلعون أحوالها، جوان���ح المرء س���عادة ،ويغ���وص به في ال ت��درك اإال يف ح��ال انعتاق ألق���ف عل���ى الف���ارق الكبي���ر بي���ن س���حر المكان؟ ب���ل أي نوع من التداعي العق��ل م��ن اأدران امل��ادة مشاهدتين إحداهما ال تتعدى األشكال ه���ذا ال���ذي تعجز في���ه لغ���ة مروضة عن واأو�ساره��ا ...تنف�س��ل عن والعوارض المنظور إليها ،وأخراهما ال االحتفاظ بمسافة بينها وبين موضوعها؟ اإيهابه��ا الب�سي��ط ،اإذ غالبًا ما تنحصر مهمتها في حدود مرقب دوني، تعج���ز ،فال يكون لها بد من أن تس���ترفد تتك�سف ه��ذه اللغة عن نقاء حي���ث ي���كل البص���ر وتعج���ز الح���واس ينب���وع قوته���ا من معين خ���ارق وأصيل. م�سدره؛ املحبة واالإميان. عن اس���تبصار معالم الطريق ،فال سبيل ذل���ك ه���و الن���ور المحمدي ال���ذي يعيد لصاحب هذه المشاهدة إال أن يتبع سنة للغة وهجها وخلودها. االرتقاء. يش���ع النور في نف���س الرحالين وهم نفس���ا تواقة إلى الس���فر ،يس���يرون وف���ق تواقي���ع يلتح���م فيها الزم���ن ،ماضي���ه وحاضره ق���د يحم���ل الرحال���ة بين أطوائ���ه ً وساعية إلى الترفل في كل زينة ظاهرة وغير مكترثة بما يسمو ومس���تقبله .يواصل���ون رحلتهم من مكة المكرم���ة إلى المدينة قناعا يرس���م دراما المنورة ،وتحضر لديهم ش���جون وتغمرهم أحالم عظيمة ،ثم به���ا إل���ى مق���ام التدبر .ربم���ا يكون حراك���ه ً رهيب���ة ،أو فصاما ينم عن تش���ظ داخل���ي يكبح جماحه ،حيث يتذكرون وصايا ما فتئوا يدونونها في مخطوطاتهم: ً هاربا من نفس���ه لغاية غير معلومة، "للزائ���ر إذا توج���ه للمدينة المش���رفة ،أن يكث���ر في طريقه ال يس���عده س���وى أن يظل ً باعتبار أن السفر في غير طاعة الحق ْ إن هو إال شكل من السم م���ن الص���الة عل���ى النبي ،ف���إذا وق���ع بصره عل���ى جدرانها نفسيا مهد ًئا. عالجا القاتل أو اإلدمان الذي يخاله الواهم كب���ر ثال ًثا ثم يقول :اللهم فإن هذا حرم رس���ولك ً ًّ وأش���جارها ّ ال من أشكال أي ش���ك ً لكن قد يكون الس���فر خال ًفا لذلكْ ، مأمنا من ونبي���ك المخت���ار ،فاجعله بفضل���ك وقاية من الن���ارً ، ()2 االرتقاء والتس���امي من أجل االقت���راب من الحق ذاته .والذي العذاب وسوء الحساب ،يا عزيز يا جبار". يح���رك الرحالة في ه���ذه الحالة ،هو روح أصيل���ة تحتكم إلى ويس���طع الن���ور المحمدي أكث���ر كلما اقتربنا م���ع الرحالين موازين دينية وخلقية مخصوصة. إلى المدينة. إن ما يميز الرحالة المسلم في هذا المقام عن غيره ،هو محدثة بالحقائق وتبدو الشعاب والجبال الكالحة الترابية ِّ أن س���يره س���ير اعتباري؛ فالخطوة التي يخطوها ّ تذكره بعظمة الت���ي ل���م يخمدها الق���در .وكل خط���و عبر المعال���م التاريخية الخال���ق .وبم���ا أن للم���كان ً نوعا من الجاذبي���ة التي تحضر في يذكر ببهاء نبي اإلنس���انية جمع���اء .فهذه قرية بدر وتلك مقبرة النفوس حسب هيئات وصور مختلفة ،فإن المكان الذي يحمل القلي���ب ...وجه���ان متناقض���ان للتاري���خ ...غال���ب ومغلوب! قداس���ته يك���ون له األث���ر البليغ .فما بالك ل���و كان هذا المكان الطي���ش البش���ري مغلوب ال محال���ة .ما فت���ئ الراحلون يرون موط���ن رس���ول اهلل ،لو كانت تل���ك األرض موطئ قدميه؟! بشارات النصر في بدر ،وما فتئ كالم يرن في اآلذان ...يوقظ
أسرار المكان
نصغي إلى المكان في هذه الحال وهو يقص قصته ...فالطريق إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة يجتذب اإلحساس كله .ال واصطالحيا ،يصف لفظيا نجد في طريق ه���ذه الرحلة معاد ً ًّ ال ًّ ظاهرة التموج األسلوبي والرونق التركيبي الذي يلخص تاريخ السنة الثامنة -العدد (2012 )32
6
القلوب الغلف :يا أهل القليب ...يا أهل القليب.
هنا نادى الرس���ول " :يا أبا جهل بن هش���ام! يا أمية بن
خلف! يا عتبة بن ربيعة! يا شيبة بن ربيعة! أليس قد وجدتم ما وجدت ما وعدني ربي ح ًّقا" .فسمع وعد ربكم ح ًّقا؟ فإني قد ُ
عمر قول النبي فقال :يا رسول اهلل ،كيف يسمعوا وأنى أن
يجيبوا وقد جيفوا؟ قال" :والذي نفس���ي بي���ده م���ا أنتم بأس���مع لم���ا أق���ول منهم. العب���دري -عالي الس���مك مبيض مدور الطري��ق اإىل مك��ة املكرم��ة ولكنهم ال يقدرون أن يجيبوا"( .رواه مسلم) بالس���قائف عجي���ب المنظ���ر ...وأم���ا واملدين��ة املن��ورة يجت��ذب نور محمد يشع في النفوس؛ فيصير الروض���ة الش���ريفة فتوج���د داخل���ه وهي االإح�سا���س كله ...ال جند يف نقي���ا ،وحقيق���ة ال تدرك الحك���ي خي���ا ً "معمول���ة بالرخام األبيض من األس���اس ال ًّ إال ف���ي ح���ال انعت���اق العقل م���ن أدران طري��ق ه��ذه الرحل��ة معاد ًال إلى سقف المس���جد بأتقن ما يكون من ()5 المادة وأوضارها ...تنفصل عن إيهابها الصنعة وأعجبه". لفظيًّ��ا وا�سطالحيًّ��ا ي�س��ف غالبا ما تتكش���ف هذه اللغة وم���ن أل���وان تلك المحب���ة اندماج البس���يط ،إذ ً ظاه��رة التم��وج االأ�سلوب��ي عن نقاء مصدره؛ المحبة واإليمان. اندماج���ا الرائ���ي ف���ي عال���م موصوفات���ه ً والرون��ق الرتكيب��ي ال��ذي صور الرحالون مشاعرهم وعكسوا كلي���ا ،فكأني بالرحال���ة يعبر هنا ّ روحي���ا ًّ ًّ ح�سارة ن�سوء تاريخ يلخ���س في مدوناتهم ما كان يعتريهم من أحوال ع���ن حنين���ه األبدي الس���تعادة الش���عور مدعومة بالوحي. أدبيا بالصف���اء المطلق؛ فما س���عى بين الصفا نح���و خير األن���ام ،وتركوا لن���ا ً زادا ًّ يغم���ره اإلحس���اس الص���ادق .كل ذلك والم���روة ،وما صعد جب���ل الرحمة ،وما نطالع���ه أثن���اء تصفحن���ا للرح���الت التي قام في الروضة أو مر ببدر ورأى العدوة كتبها المس���لمون من كل األصقاع بلغات مختلفة عن المدينة الدنيا والعدوة القصوى ،إال شعر كأنه يعود إلى تاريخ السمو المنورة ،وعن المس���جد النبوي وروض���ات البقيع ،نجد ذلك اإلنساني ،تاريخ السيرة النبوية .ووفق هذه الموازين الروحية، في اآلداب اإلنسانية المختلفة ...لغة هؤالء لغة كونية وفطرية يس���تعيد م���ا أنجزه الدين في عقول الن���اس وأبصارهم لما غير ه���ي حبهم هلل وتعلقهم برس���وله الكري���م .كان ذلك خلي ًقا بأن الدنيا من حال إلى حال. ينس���يهم متاع���ب الرحل���ة ومصاعبه���ا ،مثلم���ا نلف���ي في حكي فه���ذه مك���ة ل���م تك���ن س���وى قري���ة صغي���رة متواري���ة بي���ن رحالة مش���فوع بنبض عقيدته الخالد وبمضاء فكره المس���تنير .األخش���بين ،ولم ت���در بها رومه ،ولم تحفل بها القس���طنطينية، يقول الشيخ الندوي: فلم���ا دوى فيه���ا صوت محمد ينادي ال إله إال اهلل وال رب "وتحمل���ت متاعب الس���فر إل���ى المدينة ،وأن���ا أتمثل ذلك س���واه ،ال كس���رى وال قيص���ر ،وال ال���الت وال الع���زى ،وأنها ن���ورا وس���كينة .وصلنا إلى خابت وخسرت األصنام كلها أصنام الحجارة وأصنام القبور، الراك���ب األول ال���ذي مأل الفضاء ً المدين���ة المن���ورة ،وصلي���ت ركعتين في مس���جد الرس���ول وأصنام اللحم والدم ،وأن الفضل بالتقوى والعاقبة للمتقين... وحم���دت اهلل عل���ى ذل���ك ،ثم وقف���ت وأن���ا ُم ْث َق ٌ ���ل بالمنن :ال وقعت معجزة المعجزات ،كبرت هذه القرية حتى أكلت مدن ()3 أستطيع أن أكافئها ،وال أستطيع أن أقضي حقها". الباط���ل ،ثم كبرت حت���ى ولدت مدن الخير والحق ،ثم كبرت والمس���جد النبوي -كما ج���اء في رحلة
مراتب المحبة
وم���ن أعلى مرات���ب المحبة ،محب���ة الرس���ول ،محبة تزدان بتوقي���ر عظي���م ،توقي���ر للم���كان ولذك���رى م���ن عاش ف���ي هذا المكان .وذاك ما تجلوه أوصاف أمكنة مثل البقيع والمس���جد النب���وي والروض���ة الش���ريفة ،وغيرها من المواضع المقدس���ة، حي���ث تمتزج فيها ذائقة الجم���ال بالحاجة إلى التعظيم .البقيع كم���ا تحك���ي الرحل���ة الحجازية -له عن���د المس���لمين مكانةعظيم���ة ويق���ال له بقي���ع الغردق ،ألنه كان يكث���ر فيه هذا النوع من الش���جر ،وبه دفن نحو عش���رة آالف من الصحابة رضوان ()4 اهلل عليه���م وكثي���ر م���ن آل بيت النب���وة صل���وات اهلل عليهم.
حتى صارت أم األرض كلها.
()6
وجها آخر من هذا الحب الخالد ،النابع من فيض ولنتأمل ً
الن���ور ف���ي غار حراء ،من خ���الل وصف بديع لحرك���ة نورانية له���ذا القاصد المس���تنير ،ال���ذي ال وجهة لرحلت���ه غير الوجهة
التي س���لكها خير البشر أجمعين .كان أحد الناس يطأ الصخر وطء متعسف جبار ،فما كان إال أن تدحرجت حجارة بقدميه،
فما كان من القاصد إال أن صرخ ،ويحك فهذي الصخور قد س���معت أول كلمة من حديث الس���ماء ف���ي أذن األرض ،ولو
اس���تطعت لمش���يت على الرأس ال" .فما أجرؤ تقديس���ا وإجال ً ً
يوما على محمد ، أن أط���أ بقدمي الجب���ل الذي ضم ذراعيه ً
7
السنة الثامنة -العدد (2012 )32
ِاس ِم َر ِّب َك ا َّل ِذي َخ َل َق﴾". وسمعت أذناه جبريل يقول له﴿ :ا ْق َر ْأ ب ْ
()7
هذه المحبة ثمرة مضافة ينالها نزيل هذا المكان ،لذا يهون
في سبيلها كل عناء .يقول:
"كنا قد بلغنا القمة بعدما تقطعت أنفاس���نا ونش���فت روحنا
وبلغ���ت أرواحن���ا التراق���ي ،ونظرن���ا ف���إذا نح���ن كالمعل���ق في السحاب ،وإذا الدنيا كلها أسفل منا ،أما الغار فكان تحتنا في
م���كان ال يمك���ن أن يصل إلي���ه إال من تدلى ،ثم يمر من ش���ق ف���ي الجبل حتى يبل���غ فرجة في الصخر كأنها وكر نس���ر ...ما
أحس���ب طولها يع���دو المترين ،وال يبلغ عرضه���ا المتر ،وكان
ه���ذا هو غ���ار حراء ...إننا ل���م نصل إلى القم���ة ونحن جماعة ونح���ن نصعد عل���ى درج منحوتة ،حتى أش���رفنا على الموت،
فكيف كان الرس���ول وحده ،وكي���ف عرف مكان هذا الغار
إال أن يك���ون قد ارتاد هذه الجبال كلها أو بلغ أعاليها ،وكيف كان يقيم وحده الليالي ذوات العدد ،وما حوله إال هذه الجبال
السود وهذه الوحشة الصامتة المرعبة؟".
()8
كامنا في كل الرحالت اإلسالمية حبا ً ويبقى حب الرسول ًّ
حتى وإن لم تكن وص ًفا للبقاع المقدس���ة .فش���خصية الرسول هي الش���خصية التي يتداعى للدفاع عنها الرحالة المس���لم، خصوص���ا في تواريخ دقيق���ة ومفصلية في تاريخ األمة .وذلك ً
شأن الرحالة الموريسكي "أفوقاي الحجري" ،الذي نكتشف في
صفوة القول
تل���ك إذن بع���ض المالمح التي يس���تطيع القارئ م���ن خاللها، أن يس���تبين حقيق���ة الطاق���ة الفنية الخارق���ة ،الت���ي تبعثها محبة
الرس���ول األعظ���م ف���ي نف���وس الرحالي���ن ف���ي أزمن���ة لقائه���م والتحامه���م باألمكنة الت���ي تذكرهم بضيائه وعظمته .وتلك
حقيق���ة تتع���دى نطاق الخي���ال واألدب بمعناهما المباش���ر ،أو
الوصف الجغرافي بمعناه العلمي الدقيق ،إلى رحابة المجتمع والحض���ارة والعم���ران ،حي���ث تبقى حلق���ات النم���و الجمالي والبن���اء الحض���اري موش���وجة وموصول���ة ،وتغ���دو ركائ���ب
المس���تقبل ورحلة األجيال المتالحق���ة في طريق الحق ،ظافرة
بانس���يابية رفيع���ة ومالك���ة لجوه���ر روحي أصيل وأخ���اذ يمثل
مكمن قوتها وبهائها على مدى األحقاب. (*) كلية العلوم اإلسالمية ،جامعة الجزائر /الجزائر.
الهوامش ()1
1400ه�1980/م. ( )2أنس الس���اري والس���ارب م���ن أقطار المغارب إلى منته���ى اآلمال والمآرب س���يد األعاجم واألعارب ،ألبي عبد اهلل القيس���ي المعروف بابن مليح (_ بعد ،)1040تحقيق محمد الفاس���ي ،سلس���لة الرحالت -5-حجازية،2/
شخصيته أثناء مجادالته ومناظراته للنصارى واليهود في كتابه
قويا للرس���ول األعظم ،وذلك حبا ًّ "مختصر رحلة الش���هاب"ًّ ، الحب هو ما يس���تصحب إش���ارته إلى كتاب وجد في غار من
ص ،90:فاس 1388ه�1968/م. ( )3الجزي���رة العربي���ة ف���ي أدب الرحل���ة األردي ،لس���مير عب���د الحمي���د ن���وح، منش���ورات جامع���ة اإلم���ام محم���د بن س���عود اإلس���المية ،سلس���لة آداب
"خن���دق الجنة" وهو موضع يوجد قرب غرناطة .ففي الكتاب
الش���عوب اإلس���المية -5-اإلدارة العام���ة للثقاف���ة والنش���ر ،ص،573:
حكمة تقول س���يأتي في الوجود من بعد عيسى " ،نور من
اهلل اس���مه الماحي ...خاتم المرس���لين ...وخات���م الدين ونور
األنبياء ،ال نور لهم دونه وال ألحد من العالمين .فالذين آمنوا به يسعدون حق السعادة ،وينورون حق التنوير المبين من اهلل".
()9
ال، يتبدى الحجري في عرضه األدبي لرحلته شخصا مؤه ً ً
ليتب���وأ بفض���ل إيمانه وتصديقه للرس���الة النبوية ،مق���ام الفاعل حقيقيا من حالة إل���ى حالة أخرى ،أي من ال ال���ذي ينج���ز انتقا ً ًّ حال���ة المغل���وب على أم���ره إلى حال���ة المنتصر .فه���ذا الرجل
منتصرا في كل محاوراته ومناظراته ...وهو بحق فاعل يخرج ً إجرائي يح ِّقق للسرد وظيفته الجوهرية فيخدم فكرة االتصال، ويصب���و نحو تحقيق التناغم مع الذات في ظل س���ياق حكائي
وحواري تروم الرحلة فيه تشويق القارئ واستمالته. السنة الثامنة -العدد (2012 )32
8
نفح���ات الح���رم ،لعل���ي الطنط���اوي ،دار الفك���ر ،ص ،21:دمش���ق
الرياض 1419ه�1999/م. ( )4الرحلة الحجازية ،لمحمد لبيب البتنوني ،ط ،2مطبعة الجمالية ،ص،257: مصر 1329ه�. ( )5الرحل���ة المغربي���ة ،ألبي عبد اهلل العبدري ،تحقيق محمد الفاس���ي ،سلس���لة الرح���الت -4-حجازي���ة ،1/ص ،205:جامعة محم���د الخامس ،الرباط 1960م. ()6
نفح���ات الح���رم ،لعل���ي الطنط���اوي ،دار الفك���ر ،ص ،15:دمش���ق 1400ه�1980/م.
()7
نفح���ات الح���رم ،لعل���ي الطنط���اوي ،دار الفك���ر ،ص ،20:دمش���ق 1400ه�1980/م.
()8
نفح���ات الح���رم ،لعل���ي الطنط���اوي ،دار الفك���ر ،ص ،21:دمش���ق 1400ه�1980/م.
( )9ناصر الدين على القوم الكافرين ،ص.31:
تربية
أ.د .حامد إبراهيم الموصلي*
التنمية الذاتية
ودور المجتمعات المحلية في نهضة األمة ���د ﴿و َج َ عندم���ا بل���غ ذو القرني���ن بي���ن الس���دين َ ���ون ���ن ُدو ِنهِ َم���ا َق ْو ًم���ا َ ال َي َ ون َي ْف َق ُه َ ���ك ُاد َ ِم ْ ال﴾(الكه���ف ،)93:لق���د عرض���وا علي���ه صفق���ة َق ْو ً ون ِف���ي ﴿ َقا ُل���وا َي���ا َذا ا ْل َق ْر َن ْي ِ ���د َ ���وج ُم ْف ِس ُ ���وج َو َم ْأ ُج َ ���ن إ َِّن َي ْأ ُج َ ا َ ���ك َخ ْر ًجا َع َل���ى َأ ْن َت ْج َع َل َب ْي َن َن���ا َو َب ْي َن ُه ْم ���ل َل َ أل ْر ِ ���ل َن ْج َع ُ ض َف َه ْ ���دا﴾(الكهف ،)94:عرضوا عليه صفق���ة للقيام بعمل معين لقاء َس ًّ
أجر دون أي مش���اركة منهم .فما كان جوابه عليهم؟ لقد نحى ﴿ما جانب���ا وقرر أن ينطل���ق من ُم ْك َن ِت��� ِه هوَ : موض���وع الصفق���ة ً
َم َّك ِّني ِفي ِه َر ِّبي َخ ْي ٌر﴾(الكهف ،)95:أي مما يستطيعه هو كفرد مع نس���بة الفضل فيما يس���تطيعه إلى اهلل كما لو كان يستشرف المشيئة اإللهية كي يعمل في ظلها. المه���م هن���ا ،كيف تعام���ل ذو القرنين مع ه���ؤالء الذين ال
9
السنة الثامنة -العدد (2012 )32
نفوس���هم ،وم���ن االعتماد على النس���يج
ال؟ أبس���ط ما يمكن ي���كادون يفقهون قو ً أمي���ون أو جهالء االجتماعي الحض���اري الحي للمجتمع التنمي��ة الذاتي��ة ه��ي ا�ستعادة أن يق���ال عنه���م ،إنهم ّ أو عديم���وا الق���درة على الفهم .لقد قال المحل���ي ،وم���ن النظ���رة إل���ى المجتم���ع النا���س للمب��ادرة وح َّقه��م يف له���مَ ﴿ :ف َأ ِع ُينو ِني ِب ُق َّو ٍة﴾(الكه���ف ،)95:أي ق���ادرا على حيا المحل���ي باعتب���اره ً ً كائنا ًّ االختيار؛ اختيا ِر اأهداف احلياة جانبا- ال لمقوم���ات الفع���ل والحرك���ة ،وحام��� ً أن���ه -بع���د تنحيته الصفقة معه���م ً ومعن��ى التق��دم وم�سمون��ه، اس���تنفر قوتهم وجعل إعانتهم له شر ًطا ذاتيا وذي هوي���ة متفردة ،ومالمح نم���وه ًّ وحقهم يف امل�ساركة يف التنمية ���م َو َب ْي َن ُه ْم خاصا وتميزه عن لعمل���ه معه���مَ ﴿ :أ ْج َع ْ طابعا ًّ ���ل َب ْي َن ُك ْ وقس���مات تهبه ً أو ا املجتمع م�ستقب��ل بناء ويف َر ْد ًما﴾(الكه���ف ،)95:ث���م عاد وطلب منهم غيره من المجتمعات المحلية. هي الذاتي��ة والتنمي��ة أم��ة. ال ا إحض���ار خ���ام محل���ي لديه���م﴿ :آ ُتو ِني وعلى مس���توى الف���رد تنطلق التنمية متكني اأبناء املجتمعات املحلية ُز َبر ا ْل َح ِد ِ يد﴾(الكهف ،)96:ثم طلب منهم الذاتي���ة م���ن النظر ل���كل إنس���ان باعتباره َ تنظيميًّ��ا وعلميًّ��ا وتكنولوجيًّا ���ال المس���اعدة ف���ي صه���ر الحدي���دَ ﴿ :ق َ معج���زة ف���ي ذات���ه ،وأن لدي���ه إمكان���ات ارا﴾(الكهف،)96: كي يكونوا منتجني ومبدعني. كامنة للفعل واإلبداع تميزه عن غيره من ا ْن ُف ُخوا َح َّت���ى ِإ َذا َج َع َل ُه َن ً خاما آخر وهو النحاس بني البش���ر .وتتيح التنمية الذاتية -على ثم عاد فطل���ب ً ���ر ْغ َع َل ْي��� ِه ِق ْط ًرا﴾(الكهف،)96: ﴿آ ُتو ِن���ي ُأ ْف ِ أيضا -الفرص���ة للتفاعل مس���توى الف���رد ً ليصنع سبيكة من الحديد والنحاس ،أي إن ذا القرنين استطاع النفس���ي/االجتماعي ف���ي ح���دود طاق���ة الف���رد عل���ى التواصل أن يطل���ق طاقاته���م وقدراتهم الكامنة الت���ي لم تكن ظاهرة في والتفاعل والعمل والمش���اركة اإليجابية في مجتمعه المحلي، ���ون َق ْو ً البداي���ةَ ﴿ : ال َي َ ون َي ْف َق ُه َ ���ك ُاد َ ال﴾(الكه���ف .)93:وه���ذا ه���و وكذل���ك ف���ي حدود قدرته على أن ي���رى ويلمس ويدرك ناتج جوه���ر التنمية الذاتي���ة؛ إط���الق الطاقات واس���تخدام الموارد تفاعل���ه وعمله ،أي إن دائ���رة النية والعمل ورؤية ناتج العمل، المتاحة محليا ،إليجاد حل مناس���ب لمش���كلة أو ٍّ تحد واجها تنغلق على مس���توى المجتمع المحلي ،فيستطيع الفرد بالتالي ًّ المجتمع المحلي. أن يصحح رؤيته ويعدل مسار عمله ويعيد االختيار ،فيدخل في
التنمية الذاتية
هي عملية التحول المس���تمرة للمجتم���ع المحلي ،التي تؤدي إل���ى إط���الق الطاق���ات الكامنة في���ه ،والتي تنم���ي قدراته على التج���دد الذات���ي والنهض���ة ،والت���ي تمكن���ه بالتالي م���ن التعبير ع���ن هويته وقيمه الحضارية الممي���زة ،والتنمية الذاتية قد تبدأ بعوامل مس���اعدة من خارج المجتمع المحلي ،أو تكون نابعة بالكامل من داخله .هي دعوة لمشاركة عامة الناس في التنمية، وإط���الق طاقاته���م الخالق���ة وقدراتهم على التفكي���ر والخيال والتع���اون والعمل ،مما يفتح المجال لإلبداع المحلي في كل المج���االت الفعالي���ة اإلنس���انية والنهوض الحض���اري في كل مكان .هي دعوة لتخطيط يبدأ بإعطاء دور رئيس���ي لمش���اركة عامة الناس وتوظيف طاقاتهم الخالقة في التنمية ،مما يمكن أن يفض���ي إل���ى نم���وذج جدي���د للتحديث؛ قائم عل���ى اإلبداع المحلي واالعتماد على الذات. وتنطل���ق التنمي���ة الذاتية م���ن النظرة المتعاطف���ة والمنصفة للن���اس ،والثق���ة فيه���م والره���ان عل���ى كل ما ه���و إيجابي في السنة الثامنة -العدد (2012 )32
10
ال لتغيير النفس. دائرة تفاعل جديدة وهكذا ،أال يعد ذلك مجا ً وم���ن زاوية التدخل كعامل مس���اعد ،تعن���ي التنمية الذاتية
الس���عي إلزال���ة عمي القل���وب والعق���ول واألبصار ،والس���عي
للخ���روج بالناس من حالة الغيبوبة والعجز والس���لبية وانتظار الحل���ول الجاه���زة ،إل���ى المش���اركة الفعالة في صن���ع واقعهم واس���تعادة دورهم كفاعلين ومعاصرين في س���ياق مجتمعاتهم
المحلية .كما تعني التنمية الذاتية السعي لصناعة المناخ الذي يس���اعد وييس���ر على كل إنسان اكتشاف أو إعادة اكتشاف ذاته
ف���ي س���ياقات واقعية متزايدة االتس���اع ،تبدأ م���ن أصغر وحدة اجتماعي���ة ينتمي إليها فالمجتم���ع المحلي فالقومي فاإلقليمي
فالعالم أجمع.
ويب���دأ تفعيل التنمي���ة الذاتية بفهم الس���ياق العام للمجتمع
قيما إيجابية المحلي وما يحوزه من إمكانات ذاتية ،سواء كانت ً دافع���ة للعمل واإلبداع ،أو ش���بكات عالقات اجتماعية فاعلة،
أو أش���كال من التنظيم الجماعي المحلي ،أو معارف واس���عة يحوزها الناس عن المحيط الحيوي وعن الموارد المحلية ،أو
التراث التقني (المعارف والمهارات والقدرات التقنية) والذي
ه���و حصيلة تفاعل أبناء المجتمع المحل���ي مع البيئة المحيطة عب���ر آالف الس���نين م���ن أج���ل إش���باع حاجاته���م األساس���ية،
كم���ا تض���م اإلمكان���ات الذاتية الخام���ات والم���وارد المحلية. وتعن���ي التنمي���ة الذاتي���ة االعت���راف بالتن���وع ف���ي الظ���روف
األيكولوجي���ة ،والخب���رات التاريخي���ة ،والبن���ى االجتماعي���ة
ال في اكتش���اف الميزات النسبية والتنافسية واالس���تفادة منه؛ أو ً الت���ي يتمي���ز به���ا كل مجتم���ع محل���ي كمنطل���ق إلقامة أنش���طة وثاني���ا ف���ي إث���راء التجرب���ة التنموي���ة عل���ى اقتصادي���ة ناجح���ةً .
المستوى القومي واإلقليمي والعالمي.
كذل���ك تعن���ي التنمية الذاتي���ة ،إنصاف العدي���د من عناصر
الطاب���ع المحل���ي ف���ي المس���كن والملب���س واألث���اث والمأكل واألنش���طة االقتصادي���ة ...إل���خ .وال يعن���ي ذل���ك تجميد هذه العناص���ر عل���ى صورتها الراهن���ة ،فالعديد من عناص���ر الطابع المحل���ي يمك���ن أن تحم���ل صفت���ي الثب���ات والتغي���ر في نفس
ال -فكرة ،لكن هناك بدائل عديدة الوق���ت .فالبناء بالطي���ن -مث ً
م���ن الم���واد (الطي���ن والطف���الت ...إل���خ) والتقني���ات وكذلك التصميمات .األهم هو اكتش���اف الشفرة والتعبيرية الحضارية الكامن���ة خلف الطاب���ع المحلي ،مما يعط���ي اتجاهات متميزة للتفكي���ر والخي���ال واإلب���داع المرتك���ز عل���ى خصائ���ص البيئة
المحلية والخصوصية الحضارية للمجتمعات المحلية.
اليد الكاشفة أحالمنا، تافه ٌة ُ هابطة آمالُنا... إليها نركض الهثين، وحولها ندور متعبين... أيتها اليد اآلتية من وراء الغيب! الستار، ْاكشفي ّ واط ِو الحجاب، وعظم َة اآلمال أرينا، وإلى ُس ُم ِّو األحالم ادفعينا، وإلى عظمة اإلنسان ْارفعينا... ***
ما الذي تعنيه التنمية الذاتية بأعم وأوسع معانيها؟ إنها تعني
استعادة الناس -عموم الناس -للمبادرة وحقهم في االختيار؛ اختي���ار أه���داف الحي���اة ومعن���ى التق���دم ومضمون���ه وحقه���م
ف���ي المش���اركة في التنمية وف���ي بناء مس���تقبل المجتمع/األمة.
كذل���ك تعني التنمية الذاتية تمكين أبن���اء المجتمعات المحلية وتكنولوجيا كي يكونوا منتجين ومبدعين ،كما وعلميا تنظيميا ًّ ًّ ًّ تعن���ي التنمي���ة الذاتية التخل���ي عن صيغة "التحدي���ث" الجاهزة والمرتبطة بالتلقي الس���لبي ،لثمرات إبداع وعمل اآلخرين في
صورة س���لع وأس���اليب جاهزة للحياة واالس���تهالك واإلنتاج،
مما يؤدي إلى خمود القدرات اإلبداعية الذاتية.
(*) رئيس الجمعية المصرية للتنمية الذاتية للمجتمعات المحلية /مصر.
11
السنة الثامنة -العدد (2012 )32
أدب
د .محمد باباعمي*
أولى زخات الثلج تعظني وتبكيني
"ش ْمليش���ا" ،عبر نافذت���ي ...من بعيد يغمز ف���ي مكتب���ي ،أعالي جبال َ لي "البوس���فور" بعيون الزردية ،و ِمن فوقه جس���ر العبور من أوروبا ٍ جديد ،يتزحزح فيه المحور مس���تقبل للعا َلم أمل إلى آس���يا ،يرس���م َ ٍ بشر من كل جنس ولون ،يحملون من الغرب إلى الش���رق ،وفوق الجس���ر ٌ ناس ...بل ٌ آماله���م وآالمه���م ،أحالمه���م وأفكارهم ،وال يرى بعضهم من بعض س���وى المظاهر ﴿ي ْع َلم َخا ِئ َن َة ا َ أل ْع ُي ِن َو َما ُت ْخ ِفي واألش���كالَّ ،أما "الس���رائر" فتبقى غامضة إال على من َ ُ ور﴾(غافر.)19: ُّ الص ُد ُ السنة الثامنة -العدد (2012 )32
12
القدس ،أو هي الصدفة آثرتنا على العا َلمين ...بل هو التطور،
مش���هد المش���هد البعيد فج���أ ًة ودون س���ابق إن���ذار ،يكس���ر ٌ َ قري���ب ،وكم م���ن بعيد أخفى على العبد نعم���ة القريب ...إنها
كل أولئك أنعم وسلس���لة األسباب المادية ،والفهم العلميُّ ...
فتالمس أغصان الش���جر ،وتدغدغ أنوف البشر ،وتحكي قصة
واحد أحد ،فرد صمد ،ال نراه وال نعرفه؟!
زخ���ات ثل���ج ناع���م هفه���اف ،تتنزل ف���ي صمت من الس���ماء، َّ
تفرق بين سعيد "البياض الذي يقهر السواد" ،وهي في ذلك ال ّ لكن كل واحد من هؤالء على وش���قي وال بين فقير وغنيَّ ...
اختالف مصدره ومورده ،يس���تقبلها حس���ب س���عة قلبه ،ووفق ٍ مترف نظر إليها نظر ًة ش���زراء بلهاء إنش���اره وقبضه ...فكم من حانقة ،وكم من معدم بس���ط كفيه إلى الس���ماء ،والتقط واحدة
ش���اكرا، حامدا مرضيا، راضيا م���ن "حبات الخير" فأودعها فاه ً ًّ ً ً
منع ًما" ...كأنما حيزت له الدينا بحذافيرها". ً سعيدا َّ
وقلبك قلبكُ ، زخات الثلج تقول :أخي ،أختي ،الدنيا هي ُ
مر ًحا ورحابة، ه���و الدنيا ،فإن يك ً واس���عا ً رحبا ص َّفق الك���ون َ
حرجا عبس الوجود ضي ًقا ً وإن يك هذا القلب -وا حس���رتاهّ -
وقطب حاجبيه حس���ر ًة وأس��� ًفا! فانظر ماذا ترى ،وارس���م على َّ
وأي لون تشاء. أي شكل تريد َّ لوحة الزمن َّ ِ يضمخون العالم باألحمر الفاقع، بعض الناس ما أشقاهمّ ، يس���ودونه عنوة ويحاربون البياض بشراسة ،وآخرون وآخرون ّ
طعما ،فهم أح���الف "الاللون" ال ي���رون لم���ا حولهم لو ًن���ا وال ً
وأحالس "الالمعنى" ...وآخرون ...وآخرون.
وردا َّأم���ا ٌ بع���ض م���ن عب���اد اهلل ،فتجدهم يفرش���ون القف���ر ً
عطرا وعنبرا ،وتأبى ش���فاههم وصف وزه���راُ ، ً ويعبِقون الدنيا ً ً قابل ش���ي ٍء بالس���لب ،إذ كلُّ شيء -سوى الش���ر -في مذهبهم ٌ
للقب���ول ،وكلُّ أم���ر س���وى الفس���اد والقب���ح أه���ل ألن يلتف���ت وخالئف األنبياء ،ورواد رس���ل الس���ماء، إن هؤالء هم ُ إليهَّ ... ُ
حباته النورانية من الس���ماء األصفياء ...فهم الثلج الذي تتناثر َّ
رحمة من رب الثلج ورب السماء. خط أول���ى كلماتي المرتعش���ة في آ ٍه ،م���ا إن انتهي���ت م���ن ّ
بياضا وصف أولى الزخات المتساقطة حتى افترشت األرض ً ناصع���ا ،وه���ا هي ذي النباتات والحيوانات والحش���رات ته ِّلل ً وتستبشر ،فتعلنه حفل زفاف لهذا العام السعيد ،تعلنه بالحمد والش���كر واالعتراف بالنعمة للمنع���م الحميدَّ ...أما الكثرة من
فل���م الحاج���ة إذن لإليمان برب علين���ا ه���ذا الخير العمي���مَ ... زخة واحدة ال أكثر، فتحت النافذة والتقطت بيدي اليمنى َّ ُ ُ والتف���ت إلى الضيف ِة، ل���ت في إغالقها حت���ى ال أزكم، ُ عج ُ ث���م َّ
ربكَ ،م���ن خالقك ،من ذا وس���ألتها بص���وت ه���ادئ رفيقَ :من ُّ وم���ن الذي اعتنى ب���ك فهبطت من ال���ذي ألق���اك من الس���ماءَ ،
تتهشم عظامك ،ومن أمرك بسقي المسافات الشامخة دون أن َّ
نبتة أو دودة أو طفلة ...أو حتى ملحد جاحد كفار؟
س���كتت بره���ة وأزاحت النقاب عن وجهه���ا الصبوح ،وما
درت أنه���ا قتلتني بعينيها الحوراوي���ن الكحالوين النجالوين، والمجمل بخان وحنين ،قالت: وبخدها المب َّلل بدمع سخين، ّ َّ
أهذا سؤال يسأله عاقل؟ قلت :أنا ِمن أبي إبراهيم تع َّلمت الس���ؤال ،ألم يس���أل ربه:
���ف ُت ْحيِ���ي ا ْل َم ْو َتى﴾(البق���رة ،)260:أفل���م يجب���ه ﴿ر ِّب َأرِ ِن���ي َك ْي َ َ ِ ﴿ب َلى س���بحانهَ ﴿ :أ َو َل ْم ُت ْؤم ْن﴾(البقرة ،)260:أل���م يقل بعد ذلكَ : َو َل ِك ْن ِل َي ْط َم ِئ َّن َق ْلبِي﴾(البقرة.)260: "ليطمئن "ليطمئ���ن قلب���ي"، "ليطمئ���ن قلب���ي"، كذل���ك أن���ا: َّ َّ َّ قلبي"...
وس���بحت واس���تغفرت ث���م قالت :نع���م ،صدقت، تنهدت َّ َّ
إن���ه اهلل رب���ي ورب���ك ورب كل ش���يء ،فس���بحانه وه���و القائل: ات َو َح َّب ا ْل َح ِص ِ ﴿و َن َّز ْل َنا ِم َن السما ِء َم ًاء ُمبار ًكا َف َأ ْنب ْت َنا ِب ِه َج َّن ٍ يد َ َ َ َّ َ َ اس��� َق ٍ ���ل َب ِ يد رِ ْز ًق���ا ِل ْل ِع َبا ِد َو َأ ْح َي ْي َنا ِب ِه الن ْخ َ ات َل َها َط ْل ٌع َن ِض ٌ َو َّ وج﴾(ق.)11-9: َب ْل َد ًة َم ْي ًتا َك َذ ِل َك ا ْل ُخ ُر ُ
التف���ت إلى يدي قل���ت بأعل���ى صوتي "س���بحان اهلل" ...ثم ُ ولكنها تركت كلمة فألفيتها مب َّلل���ة وقد ذابت الثلجة المع ِّلمة، َّ باكيا: محفورة على راحة يدي ،فقرأ ُتها مشف ًقا منهاً ،
واتل قول ميت���ا" ،ولكن واص���ل ُ أخ���ي ،ال تقف ف���ي "بلد ًة ً وج﴾. الحق موقناَ : ِّ مؤمنا ً ً ﴿ك َذ ِل َك ا ْل ُخ ُر ُ الله���م نجنا يوم الحش���ر ،وي���وم البعث ،وي���وم الخروج...
البشر -المستعدون لحفل الكريسماس -فهم غافلون سادرون ِ المنع���م ،عائم���ون غرقون ف���ي محيطات النع���م وبحارها ع���ن
آمين.
هب���ة الطبيعة المعطاء ،أو هي ش���راك ٌة بين األب واالبن وروح
(*) مدير معهد المناهج ،الجزائر العاصمة /الجزائر.
ي���ردد :هي هكذا ج���اءت ،وهي من ووديانه���ا ولس���ان حاله���م ِّ
13
السنة الثامنة -العدد (2012 )32
قضايا فكرية
أ.د .محمد الروكي*
العلم واألخالق وأثرهما في بناء اإلنسان عند النورسي إن القارئ لرس���ائل النور ،الدارس لنصوصها،
وإ ًذا فالعل���م ال���ذي ال يثمر هذه األخالق ،وال يفضي إليها
قرآن���ي المص���در والغاي���ة ،قرآن���ي المضم���ون
علما. جدوى منه وال نفع فيه ،وليس هو الذي يستحق أن يسمى ً
المتأمل في س���طورها ،يجد ال محالة أن فكره والمنه���ج ،وم���ن ث���م ف���إن العلم الذي تح���دث عنه ودع���ا إليه وحث الناس عليه ،وأودع مادته في رسائله ،هو العلم القرآني ّ وين���ور العق���ول ،ويزيل األقفال الربان���ي الذي يفت���ح البصائر، ّ يع���رف ب���اهلل ،ويهدي ع���ن القل���وب ...ه���و العل���م ال���ذي ّ
إلي���ه ويوص���ل إلي���ه ...ه���و العلم النافع الراش���د الذي يس���تقيم
ب���ه اإلنس���ان ويحمله عل���ى الص���الح واإلص���الح ،ويك ّفه عن
العصي���ان والفس���اد والطغيان ...هو العلم ال���ذي يقود صاحبه
إلى الفضائل ويحمله على التحلي باألخالق العالية ويوجهها ويرش���دها ويحافظ عليه���ا ،فهو قرينها وملزومه���ا؛ إذ ال يحل ّ قلب���ا إال ش���رحه ألخ���الق اإلس���الم العل���م القرآن���ي الربان���ي ً
ال إال أش���بعه بالقيم العالية والمبادئ ومكارم���ه ،وال يدخل عق ً السامية ،وحرك صاحبهما إلى العمل الرشيد والفكر السديد. َّ السنة الثامنة -العدد (2012 )32
14
ويحم���ل صاحبه عليه���ا ،هو في نظر النورس���ي ال قيمة له وال والمتتبع لكالم النورس���ي في فق���ه عالقة العلم باألخالق،
يجد أنها قائمة -في فكره -على أساس التأثر بخصائص العلم القرآني الرباني ،وهي خصائص تميزه عما سواه ،بعضها يحلي
بالفضائ���ل والكماالت ،وبعضها يخلي من الرذائل والنقائص، وبهذه التحلية والتخلية يتم بناء اإلنس���ان على النحو األكمل،
وتس���تقيم صياغت���ه على الوجه األجمل .فينش���أ ع���ن هذا البناء وه���ذه الصياغ���ة مقام ثالث بي���ن مقامي التحلي���ة والتخلية ،هو م���ا يمك���ن أن نس���ميه ب�"مق���ام التجلي���ة" ،وه���و مق���ام تظهر فيه
عل���ى اإلنس���ان الس���الك الواصل آث���ار نع���م اهلل ،وتتألأل حوله مصابي���ح الب���ركات الرحماني���ة ،وتتجلى فيه أن���وار الفيوضات
عش���را من هذه الرباني���ة الصمداني���ة .ونس���تعرض -فيما يأتي- ً
الخصائ���ص في ضوء رس���ائل النور وفكر النورس���ي ،الخمس
األول���ى منه���ا في التحلية ،والخمس األخ���رى في التخلية ،مع -3الدعوة إلى العبادة كثي���ر م���ن االختصار واإلجم���ال ،ألن القصد هو إب���راز عالقة
العبادة بمفهومها الواس���ع عند النورس���ي ،هي إظهار اإلنس���ان
-1الدعوة إلى اإليمان
عن عبوديته المش���ربة بالمحب���ة والطاعة واإلخالص .والعبادة
العلم باألخالق من خالل هذه الخصائص.
إظهارا يعبر عج���زه وافتقاره إلى ربه جل وعال في كل ش���يء، ً
العلم القرآني الرباني يدعو بطبيعته إلى اإليمان ،ويصقل فكر
به���ذا المعنى داخلة في س���احة العلم ،ألن غايته الكبرى -كما
صاحب���ه ويعرفه باهلل ،فينبع م���ن هذه المعرفة إيمان صادق يش���ع نوره في القلب ،ويس���ري تياره إلى العقل ...واإلنس���ان ّ ف���ي نظر النورس���ي مهيأ -بما أودع���ه الخالق فيه من خصائص
ومقومات -لتلقي هذا العلم ،واالنخراط في سلكه ،واالندراج في مجرته ،واالس���تجابة إلى ما يدع���و إليه من اإليمان ...فهو يق���رر أن العل���ة الكبرى لمجيء اإلنس���ان إلى ه���ذا العالم هي
المعرف باهلل تعالى ،المش���عر بالعجز واالفتقار إليه جل العلم ِّ
تق���دم -هي الوصول بالمتعلم إلى معرفة اهلل تعالى التي تدفعه
إل���ى عبادت���ه وطاعت���ه ،ألن معرف���ة المعب���ود على ما ه���و عليه م���ن الكم���ال المطلق توج���ب محبته ،ومحبت���ه توجب طاعته، داع إلى وطاع���ة المعب���ود ه���ي ثمرة العب���ادة ،فل���زم أن العل���م ٍ
وجالب لها ،وأنها من مشموالته ،وال سيما وهي وقود العبادة ٌ اإليمان وأبرز مظاهر العمل وأشرف صوره ،وقد سبق أن من
خصائص العلم ،دعوته إلى اإليمان والعمل.
وعال ...ثم يع ّلل ذلك بأن كل ش���يء في هذا اإلنس���ان "موجه -4الدعوة إلى حفظ الفطرة ّ إل���ى العل���م ومتعل���ق بالمعرف���ة حس���ب الماهية واالس���تعداد،
راسخا إال الفطرة قرينة اإليمان والعبادة ،ألن اإليمان ال يكون ً
فأس���اس كل العل���وم الحقيقي���ة ومعدنها ونوره���ا وروحها هو س هذا األس���اس ه���و اإليمان باهلل معرف���ة اهلل تعال���ى ،كما أن ُأ ّ
صفاء الفطرة ونقائها .وإ ًذا فكل من رسوخ اإليمان وإخالص
-2الدعوة إلى العمل
يدع���و إلى اإليمان والعبادة -وهما ال يس���تقران إال مع الفطرة
جل وعال".
المقص���ود بالعم���ل هنا ،العم���ل بمقتضيات اإليم���ان .فكما أن
العلم القرآني يدعو اإلنسان إلى أن يؤمن بربه ويعتقد الكمال أيضا يدعوه إلى العمل المطل���ق في ذاته وصفاته وأفعاله ،فإنه ً المصدق���ة لم���ا انعقد علي���ه القلب الصال���ح وفع���ل الج���وارح ّ
عند ذوي الفطر الس���ليمة ،والعبادة ال تخلص هلل تعالى إال مع
العب���ادة منوط بصفاء الفطرة .ولم���ا كان العلم القرآني الرباني السليمة -فإن من خصائص هذا العلم ،الالزمة عن ذلك دعوته إلى حفظ الفطرة وبقائها صافية نقية .ومن هنا يقرر النورس���ي أن العلم بحقائق الش���ريعة ،يحافظ على موازنة قوانين الفطرة
وروابط االجتماعيات.
والعق���ل م���ن حقائق اإليمان وقيمه ،ويس���تفيض النورس���ي في -5الدعوة إلى مكارم األخالق الحدي���ث عن اإليم���ان والعمل وعمق العالق���ة بينهما ،وأنهما
الش���ريعة اإلس���المية كلها م���كارم وفضائل ،والتحل���ي بها إنما
يدعو إليها العلم القرآني الرباني.
الم���كارم والفضائ���ل ،وتطبيقها مأت���اه؛ العلم به���ا ،وفي غياب
ج���زآن متكامالن يكونان بثنائيتهما صورة واحدة ذات ش���قين والعم���ل الناجح ه���و الصالح المطب���وع بطابع اإلخالص،
الموص���ول إلي���ه بالتضحية والف���داء مع نكران ال���ذات والنجاة
من الرياء.
يكون بتطبيق هذه الش���ريعة التي هي بمنزلة الشجرة وثمراتها؛ العل���م بها يمتنع تطبيقها على الوجه الصحيح المرضي ،وعند
ذلك تحل الرذائل محل الفضائل ،والنقائص محل الكماالت، والش���قاوة محل الس���عادة ...يقول النورس���ي وهو يقرر ذلك:
وأعلى مراتب العمل ما تجاوز مصلحة الفرد إلى مصلحة
"أجل ،إنه ال سعادة ألمة اإلسالم إال بتحقيق حقائق اإلسالم،
الحي���اة االجتماعي���ة ،والس���ير به فيها نح���و مقاومة االختالف،
تعي���ش حياة اجتماعية فاضلة إال بتطبيق الش���ريعة اإلس���المية،
الجماعة ،لذا فقد ألح النورسي على وجوب رعاية العمل في
ال ﴿و َ ومناص���رة الوح���دة واالتفاق في ظل قانون آي���ة األنفالَ : يح ُك ْم﴾(األنف���ال ،)46:وآية المائدة: َت َن َ از ُعوا َف َت ْف َش��� ُلوا َو َت ْذ َه َ ���ب رِ ُ الت ْق َوى﴾(المائدة.)2: او ُنوا َع َلى ا ْلب ِِّر َو َّ ﴿و َت َع َ َ
وإال ف���ال ،وال يمك���ن أن ت���ذوق األمة الس���عادة ف���ي الدنيا ،أو قطعا وال أمان مطل ًقا؛ إذ تتغلب عندئذ األخالق وإال فال عدالة ً
الفاسدة والصفات الذميمة ،ويبقى األمر معل ًقا بيدي الكاذبين
والمرائين".
15
السنة الثامنة -العدد (2012 )32
ه���ذه بعض خصائ���ص العلم الرباني ف���ي ش���قها القائ���م عل���ى التحلي���ة ،دعوة إلى اإليم���ان والعمل والعب���ادة والفطرة وم���كارم األخ���الق .وعالق���ة العل���م باألخ���الق م���ن موق���ع ه���ذا الش���ق ،هي عالق���ة الحفظ الوج���ودي لألخالق ،أما ش���قها الثاني القائم على التخلية ،فعالقة العلم فيه بها هي عالقة الحفظ العدمي. ونس���تعرض ه���ا هن���ا خم���س خصائص أخرى من هذا الش���ق متوالية ومتسلسلة مع الخمس السابقة.
-6الحماية من الضاللة
ال �سع��ادة الأم��ة االإ�س��الم اإال بتحقي��ق حقائ��ق االإ�س��الم واإال فال ،وال ميك��ن اأن ت��ذوق االأمة ال�سع��ادة يف الدني��ا ،اأو تعي���س حياة اجتماعية فا�سلة اإال بتطبيق ال�رشيع��ة االإ�سالمي��ة ،واإال ف��ال عدالة قط ًعا وال اأم��ان مطلقًا؛ اإذ تتغلب عندئذ االأخالق الفا�سدة وال�سفات الذميمة ،ويبقى االأمر معلقًا بيدي الكاذبني واملرائني.
من خصائ���ص العلم الربان���ي أنه يحمي صاحبه من الضاللة ،سواء كانت ناشئة عن جهل أو عن علم. والحماية منها تكون قبلية وبعدية ،فالقبلية هي وقاية اإلنس���ان م���ن الوقوع فيها وإبع���اده عن دائرتها ،والبعدية هي إنقاذه منها إذا وقع في مستنقعها. ويق���رر النورس���ي في هذا الص���دد أن اإلنقاذ م���ن الضاللة الناش���ئة ع���ن جهل ،أيس���ر وأهون من الناش���ئة ع���ن علم؛ ألن غارق في هواه ،ال يكاد يرى معجب بنفس���ه، الواقع في الثانية ٌ ٌ حقيقة أمره من سوء ما هو فيه من الوهم .يقول النورسي" :فيا جيدا أن الضاللة إن كانت ناجمة من الجهل أخ���ي ،إنك تعلم ً فإزالتها يسير وسهل ،ولكن إن كانت ناشئة من العلم فإزالتها نادرا فيما مضى عس���ير ومعضل .وقد كان هذا القس���م األخير ً واحدا يضل باس���م م���ن الزم���ان ،وربم���ا ال تجد من األلف إال ً العلم .وإذا ما ُوجد ضا ّلون من هذا النوع ربما يسترشد منهم واح���د من األلف ،ذل���ك ألن أمثال هؤالء يعجبون بأنفس���هم، فمع أنهم يجهلون يعتقدون أنهم يعلمون". وق���د نفى النورس���ي العلم ع���ن الواقعين ف���ي الضاللة عن عل���م .فعلمهم ه���ذا إنما هو في وهمهم ،ولو كان عندهم علم حقيق���ي م���ا وقعوا في الضالل���ة ،ألن العلم يحم���ي منها ،فلزم أن م���ا معه���م مما يتوهم���ون أنه علم ،ليس بعل���م .وهذا الذي يقرر النورس���ي هنا ،هو مس���تمد من القرآن ومقتبس من نوره، ﴿وإ َِّن َك ِثيرا َلي ِضل َ َ ِ ���م ب َِغ ْي ِر ِع ْل ٍم فق���د ق���ال ربن���ا َ : ُّ���ون ِبأ ْه َوائهِ ْ ً ُ ين﴾(األنع���ام)119:؛ فقد صرحت اآلية إ َِّن َر َّب َ ���ك ُه َو َأ ْع َل ُم بِا ْل ُم ْع َت ِد َ بنف���ي العل���م عن الواقعين ف���ي الضاللة والموقعي���ن فيها ،وأن السنة الثامنة -العدد (2012 )32
16
مس���تندهم ف���ي ذلك إنما ه���و أهواؤهم،
ويس���تفاد م���ن اآلي���ة ع���ن طري���ق مفهوم
المخالفة ،أن المتحص���ن بالعلم الرباني محمي من الضاللة.
-7الحماية من الفساد
الفساد نتيجة الضالل ،وكما أن الضالل واإلض���الل س���ببه الجه���ل ول���و توه���م الض���ال أنه عل���ى علم ،فكذلك الفس���اد
واإلفس���اد س���ببه الجهل ولو كان باس���م معا ه���و العلم العل���م ،والحام���ي منهم���ا ً القرآني الرباني ،فمعه ال مجال للفس���اد
واإلفساد.
كثيرا ما يقرنه والحديث عن الفس���اد ً
النورسي بالحديث عن الضالل ،لما بينهما من عالقة التالزم. وفي كل منهما يتحدث النورسي عن الناشئ عن جهل ،والناشئ
عن علم ،وأن األول أهون من الثاني وأيسر في رفعه وإزالته.
-8الحماية من المعاصي
الحدي���ث ع���ن المعاص���ي كالحدي���ث ع���ن الفس���اد والضالل، معا من مش���موالت ألن المعصي���ة ض���رب من الفس���اد ،وهما ً
الض���الل .والعل���م الربان���ي يحمي م���ن ذلك كله حماي���ة قبلية
بالوقاي���ة ،وبعدية بالعالج .فال س���بيل إلى وجود المعاصي إذا متحصنا برشادته وهداه .ويستدل متسلحا بالعلم، كان اإلنسان ً ً
النورس���ي على ذلك بأدلة كثيرة من النقل والعقل والمشاهدة؛ ألحدثنكم حدي ًثا نجتزئ من ذلك بحديث أنس الذي قال: ّ
ال يحدثكم به أحد بعدي ،س���معت رس���ول اهلل يقول" :من أشراط الساعة أن يقل العلم ويظهر الزنا" (رواه البخاري).
فواضح من الحديث أن الزنا -وهو المعاصي -إنما يظهر
ويفشو إذا قل العلم وفشا الجهل ،وهذا يدل عن طريق مفهوم
المخالفة أن العلم يحمي من هذه المعاصي.
-9الحماية من البدع
البدع هي ما ُأحدث في الدين مما ليس منه من أمور العبادات،
وهي ضاللة كما سماها النبي " :كل بدعة ضاللة" (رواه النسائي)،
واس���تدل النورس���ي على بطالنها ،وأنها مردودة على صاحبها بأدل���ة منها قوله تعالى﴿ :ا ْل َي ْو َم َأ ْك َم ْل ُت َل ُك ْم ِد َين ُك ْم﴾(المائدة.)3 : ففي القرآن كفاية ،وما لم يفصل فيه فالس���نة ش���ارحة له ومبينة
مفصلة بما فيه الش���فاء والغناء؛ "إن ش���عاع السنة المطهرة لهو
والشهود ،وجميع أهل الذوق والكشف من العلماء المدققين
فال داعي للبحث عن نور في خارجها".
وذخي���رة تلك الرحلة الطويلة المظلم���ة ونورها وبراقها ،ليس
اإلكسير النافذ ،فالسنة المطهرة كافية ووافية لمن يبتغي النور،
-10الحماية من االستكبار
م���ن آث���ار الجه���ل االس���تكبار ،وم���ن االس���تكبار األناني���ة التي
تح���دث عنه���ا النورس���ي في مواض���ع كثيرة من رس���ائل النور، وبين أن التخلص منها ومن آفاتها وأضرارها ،ال يتم إال بحب ّ
الجماعة والذوبان في بوتقتها ،وال يرتقي لهذه الدرجة إال َمن نصيبا من العلم. ُأوتي ً جاء في "ملحق قس���طموني" ما نصه" :فينبغي للقريبين من دائرة رس���ائل النور من أرباب العلم وأهل الطريقة وأصحاب
المشارب الصوفية االنضمام إلى تيار النور ،ليمدوه بما لديهم من رأس���مال س���ابق ،والس���عي لتوس���يع دائرته ،وحث طالبه، وبث الش���وق في نفوسهم ،وإذابة األنانية وإلقائها كقطعة ثلج
ف���ي حوض الم���اء السلس���بيل للجماعة ،ليغن���م ذلك الحوض
واألولي���اء الصالحي���ن ،متفقون عل���ى أن زاد طري���ق أبد اآلباد
إال امتثال أوامر القرآن الكريم واجتناب نواهيه".
األث���ر الثان���ي هو التكم���ل واالكتم���ال .واألث���ر الثالث هو
غالبا ما يرادف النورسي بين هذين األثرين ،ويتحدث الترقيً :
عنهما في نفس واحد .والتكمل هو بذل ما فيه كلفة لنيل درجة الكم���ال ،واالكتمال هو نتيج���ة التكمل ومطاوعه .والترقي هو
بذل الكلفة لالرتقاء في درجات الكمال ،فهذان أثران من آثار العل���م القرآني الرباني في عالقته باألخ���الق ،وهما لبنتان من لبنات بناء اإلنس���ان الس���وي .وقد تحدث عنهما النورس���ي في
مواضع من رسائله ،وبين أن التكمل واالكتمال يكون بالتعلم، وأن الترقي يكون بكس���ب العلم والمعرفة ،وأن اإلنسان يتميز
بهما عما سواه من المخلوقات السفلية ،وأنهما محطته األولى للسير إلى األمام والعروج إلى المقامات العليا.
األث���ر الراب���ع هو النظر البعيد .واألث���ر الخامس هو التأني.
جديدا ويس���لك طري ًقا نهجا الكوث���ري ً ً كام���ال ،وإال فمن يفتح ً
واألثر السادس هو الحكمة :هذه اآلثار الثالثة كلها من نتائج
نوعا من يش���عر ،ويتضرر هو بنفس���ه ً أيضا ،بل قد يكون عمله ً
اإلنس���ان األرق���ى ،وهي متالزمة متكاملة يأخ���ذ بعضها بحجز
أثر عالقة العلم باألخالق في بناء اإلنسان
األفعال والتصرفات بعواقبها وخواتمها .والتأني ضد العجلة،
آخر ،يضر هذه الجادة القرآنية المستقيمة القويمة من دون أن
العون للزندقة دون شعور منه".
العالق���ة التالزمي���ة بين العل���م واألخالق ،وكله���ا أدوات لبناء
بع���ض .فالنظ���ر البعي���د معن���اه :اعتبار م���آالت األم���ور ،ووزن
سبق في المبحث األول ،الحديث عن عالقة العلم باألخالق،
محكوما باألناة والتؤدة ال ينبغي أن يكون فاتخ���اذ القرارات مث ً ً
يتكام���ل فيها ما يتجه في وظيفته نح���و التحلية ،وما يتجه نحو
وضع الشيء في موضعه المناسب ،وكل من هذه القيم العالية
تفس���ره خصائص العلم الرباني ،التي ووجه هذه العالقة الذي ّ
وط���ول النظ���ر وعمق التفكي���ر حتى ال يقع الخل���ل .والحكمة
أيضا- التخلي���ة .ونري���د ها هنا أن نبين -بش���يء من اإلجم���ال ً
والمعاني الس���امية هي محطات في تكوين اإلنس���ان الراش���د.
فردا وأسرة اإلنس���ان ،وتعود عليه بإحكام بنائه وإتقان صياغته ً
متماسكة تكاد ال تتجزأ في كالمه ورسائله.
م���ا ينش���أ عن ذلك ،وينبن���ي عليه من اآلثار الت���ي تنعكس على ومجتمع���ا ،ف���ي فكره وقلب���ه وروحه وس���ائر مقومات���ه المادية ً والمعنوية .وهذه اآلثار كثيرة االنبثاث في رسائل النور ،راسية أصوال لما سواها في فكر النورسي ،نجتزئ منها بعشرة ُتعتبر ً ولبنات أساسية في بناء اإلنسان.
وكثيرا ما يتحدث عنها النورس���ي في نس���ق واحد ،ألنها ثالثية ً األث���ر الس���ابع هو الق���وة .واألث���ر الثامن هو الع���زة .واألثر
أيضا من آثار عالقة العلم التاسع هو التوفيق :هذه الثالثة هي ً
قويا باألخالق ،وهي محطات مهمة في بناء اإلنسان وتخريجه ًّ عزيزا موف ًقا ...والقوة في ميزان التربية اإلسالمية ال تنفك عن ً
األث���ر األول ه���و اكتس���اب زاد الطري���ق :إن األث���ر األول
األمانة ،وال يقارنها بطش وال إهانة .والعزة ال تنفك عن العدل
باألخ���الق ،ه���ي دفع���ه إلى اكتس���اب زاد الطري���ق إلى اهلل جل
ونظرا لتالزم هذه الثالثية وتكاملها ،فإن بديع الزمان النورسي ً
واللبنة األولى من لبنات بناء اإلنسان الناشئ عن عالقة العلم
وع���ال ،واالس���تعداد للقائه والع���رض عليه .فمن اكتس���ب زاد
الطريق س���ار ،ومن س���ار وصل" .إن جمي���ع أهل االختصاص
والح���ق وال يصاحبه���ا غ���رور .والتوفيق ال ينفك عن الش���كر. كثيرا ما يتحدث عنها في سياق واحد عاط ًفا بعضها على بعض. ً
األث���ر العاش���ر هو الص���الح واالس���تقامة :وهذا أث���ر اآلثار
17
السنة الثامنة -العدد (2012 )32
وتاجه���ا .فه���و غاية التقلب في مدارج التربي���ة والبناء ،ومنتهى
س���لوك التزكي���ة واالرتق���اء ،وال يص���ل إل���ى ه���ذا المق���ام إال الصالح���ون األتقي���اء ،الذي���ن تذوق���وا ح���الوة التربي���ة النبوي���ة
وهديه الراش���د ،فانخرطوا في سلك مدرس���ته الربانية ،ونهلوا من ينابيعها الصافية .يقول النورس���ي رحمه اهلل" :إن األصفياء
واألولياء الصالحين الذين بلغوا من الكمال ما بلغوا ،إنما كان بتربيته السامية ،وبهدي شريعته الحقة ،فهو مرشدهم وسيدهم،
لذا فهو جامع لس���ر كرامتهم وتحقيقاتهم العلمية وإجماعهم،
إنما تمثل ركيزة لصدق أستاذتهم الطاهر وصواب دعوته".
وبعد ،فهذه قطوف من روض رسائل النور لبيان عالقة العلم
باألخالق في فكر النورسي وأثر هذه العالقة في بناء اإلنسان. وإن الحاجة ماسة في واقعنا المعاصر إلى فقه هذه العالقة
وترس���م خط���ى منهج رس���ائل النور ومدرس���تها في وآثاره���ا، ّ تنزي���ل قيمه���ا ومضامينها على الحياة ...كما أن الحاجة ماس���ة إل���ى إحي���اء العلم القرآن���ي الرباني ،وب ّثه في العق���ول والبيوت
والمجتمع���ات ،لنعي���د البناء ،ونصحح الس���ير ...وفي رس���ائل النور مادة خصبة صالحة لذلك.
يق���ول بديع الزمان النورس���ي في لهجت���ه الصادقة األمينة:
"اجعل���وا بيوتكم مدرس���ة نورية مصغ���رة ،وموضع تلقي العلم
والعرفان ،كي يتربى األوالد الذين هم ثمار تطبيق هذه الس���نة
على اإليمان ،فيكونون لكم شفعاء يوم القيامة وأبناء بررة في هذه الدنيا".
يا ي ًدا ُس ُد َف الظالم تَ ُش ُّق! الح ِّق، َي ارفعي راي َة َ تَت َعال ْ القمة ارُكزي ساريتها... وعلى َّ فإذا رأتها الدنيا، غّيت َرت اتجاهها، وحولَت مسيرها، ّ وبها الْتَح َقت... وكما عاشق ُة الشمس، حول الشمس تدور، هكذا اإلنسان حول الراية سيدور، وفي ِّ ظلها ِ يستظ ُّل... ***
(*) جامعة محمد الخامس -الرباط /المغرب.
المراجع
( )1الكلمات ،لبديع الزمان س���عيد النورسي ،ترجمة :إحسان قاسم الصالحي، دار النيل للطباعة والنشر ،القاهرة.
( )2المكتوبات ،لبديع الزمان سعيد النورسي ،ترجمة :إحسان قاسم الصالحي، دار النيل للطباعة والنشر ،القاهرة.
( )3اللمعات ،لبديع الزمان س���عيد النورس���ي ،ترجمة :إحسان قاسم الصالحي، دار النيل للطباعة والنشر ،القاهرة.
( )4الشعاعات ،لبديع الزمان سعيد النورسي ،ترجمة :إحسان قاسم الصالحي، دار النيل للطباعة والنشر ،القاهرة.
( )5المالحق ،لبديع الزمان س���عيد النورسي ،ترجمة :إحسان قاسم الصالحي، دار النيل للطباعة والنشر ،القاهرة.
( )6صيق���ل اإلس���الم ،لبديع الزمان س���عيد النورس���ي ،ترجمة :إحس���ان قاس���م الصالحي ،دار النيل للطباعة والنشر ،القاهرة. السنة الثامنة -العدد (2012 )32
ُ وانج توجه ّ
18
قضايا فكرية
أ.د .الشاهد البوشيخي*
كيف يصوغ اإلسالم اإلنسان؟ صياغة اإلسالم لإلنسان صياغة متميزة تنطلق
م���ن األصل الكري���م المفضل ال���ذي فيه روح ﴿و َن َف ْخ ُت ِفي ِه ِم ْن ر ِ وحي﴾(الحجر،)29: من اهللَ : ُ ولذلك إذا التحم اإلنسان بأصل الروح النازل من عند اهلل ، ﴿و َك َذ ِل َك َأ ْو َح ْي َنا َف َع َل العجب العجاب في الدنيا .روح القرآنَ : ان ���اب َو َ ال ا ِ ِإ َل ْي َ يم ُ وح���ا ِم ْن َأ ْم ِر َن���ا َما ُك ْن َت َت ْدرِ ي َما ا ْل ِك َت ُ ���ك ُر ً إل َ ِ ���اء ِم ْن ِع َبا ِد َنا﴾(الش���ورى،)52: ورا َن ْه ِدي ِب ِه َم ْن َن َش ُ َو َلك ْن َج َع ْل َن ُاه ُن ً ه���ذه الصياغة لها أهداف كبرى تس���عى لتحقيقه���ا ،تنطلق من األصل المكرم ،ثم تحول بينه وبين أن يتدنى وأن يتدسى كما
يم ُث َّم ق���ال اهلل تعال���ىَ ﴿ :ل َق ْد َخ َل ْق َنا ا ِ ���ان ِفي َأ ْح َس ِ ���ن َت ْق ِو ٍ إل ْن َس َ الصا ِل َح ِ ات ين ِإ َّ ال ا َّل ِذ َ َر َد ْد َن ُاه َأ ْس��� َف َل َس���ا ِف ِل َ آم ُن���وا َو َع ِم ُلوا َّ ين َ َف َل ُه���م َأ ْج���ر َغي���ر َم ْم ُن ٍ ون﴾(التي���ن)6-4:؛ ال ي���درك هذا االنس���فال ْ ٌ ْ ُ المؤمنين وال يردون إلى أسفل سافلين.
وانطال ًق���ا م���ن هذا األس���اس ومن أس���اس الخل���ق ،يمكن
حصر هذه الصياغة في ثالث أهداف كبرى وهي:
تحرير اإلنسان من عبودية غير اهلل
تحري���ر اإلنس���ان من عبودي���ة العباد وم���ن عبودي���ة الطاغوت.
اإلنس���ان إال الذي خ َلق هذا عب���د ه���ذا ُ ولك���ن اهلل أراد أال َي ُ
19
السنة الثامنة -العدد (2012 )32
اإلنس���ان ،وبغير ذلك لن يس���تقيم أمره .إن تحرير اإلنسان من َ
عبودية غير اهلل ،وتعبيده هلل وحده ،هو األساس الذي نزل
ب���ه جمي���ع ما نزل من الكتاب قبل ،وجاء به جميع من جاء من هلل ���د َب َع ْث َنا ِف���ي ُك ِّل ُأ َّم ٍة َر ُس���و ً ال أ َِن ُا ْع ُب ُدوا ا َ ﴿و َل َق ْ الرس���ل قب���لَ : وت﴾(النحل ،)36:والطاغوت هو كل ما عبد من اج َت ِن ُب���وا َّ الط ُ اغ َ َو ْ دون اهلل . المك���رم جاءت لتحقق هذه الصياغة اإلس���المية لإلنس���ان ّ
هذا الهدف األول عبر تاريخها الطويل ،من أول رس���الة حتى آخ���ر رس���الة .وكل تلك الرس���االت هي رس���االت إس���المية،
وإنم���ا ش���اع االصط���الح األخي���ر ال���ذي ه���و اإلس���الم ،عنوا ًنا
للرس���الة الخاتمة باعتبارها كم���ال الدين وتمام النعمة﴿ :ا ْل َي ْو َم ���ت َل ُك ِ يت َل ُك ُم ���ت َع َل ْي ُك ْم ِن ْع َم ِت���ي َو َر ِض ُ ���م َو َأ ْت َم ْم ُ َأ ْك َم ْل ُ ���م د َين ُك ْ ْ ���ال َم ِد ًينا﴾(المائدة ،)3:ولم يكن تمام النعمة على أمة محمد ا ِ إل ْس َ
فق���ط ،وإنم���ا كان على جميع األمم الس���ابقة والالحقة .إن اله���دف واض���ح في اآلي���ة الكريمة ،بل جعلته أس���اس الخلق:
���د ِ ���ن َوا ِ ي���د ِم ْن ُه ْم ���س ِإ َّ ال ِل َي ْع ُب ُ ون َما ُأرِ ُ ﴿و َم���ا َخ َل ْق ُ ���ت ا ْل ِج َّ َ إل ْن َ ِ ي���د َأ ْن ُي ْطع ُم ِ ون﴾(الذاري���ات)57-56:؛ خلقهم اهلل ���ن رِ ْز ٍق َو َم���ا ُأرِ ُ ِم ْ ليعب���دوه وح���ده .وإن ظهر في اآلي���ة الكريمة أنه���ا غاية ،فهي
أيض���ا لس���عادة هذا اإلنس���ان ف���ي الدنيا: ف���ي الحقيق���ة وس���يلة ً ين ِم ْن َق ْب ِل ُك ْم اس ْاع ُب ُ ﴿ي���ا َأ ُّي َها َّ ���دوا َر َّب ُك ُم ا َّل ِذي َخ َل َق ُك ْم َوا َّل ِذ َ َ الن ُ ون ا َّل ِذي َج َع َل َل ُكم ا َ ���م َاء ب َِن ًاء ض ِف َر ً َل َع َّل ُك ْم َت َّت ُق َ أل ْر َ الس َ ُ اش���ا َو َّ ���ز َل ِمن الس ِ ���اء َف َأ ْخر َج ِب ِه ِم َن ال َّثم���ر ِ ال ات رِ ْز ًقا َل ُك ْم َف َ َو َأ ْن َ ���ماء َم ً َ َّ َ َ َ َ َت ْج َع ُلوا ِ ِ ون﴾(البقرة .)22-21:فكل من التقوى هلل َأ ْن َد ًادا َو َأ ْن ُت ْم َت ْع َل ُم َ والعبادة وممارسة شعائر اهلل تؤدي إلى الفالحُ ﴿ :أو َل ِئ َك َع َلى ُ ِ ُه ً ِ ون﴾(لقمان .)5:الفالح في ���م ا ْل ُم ْف ِل ُح َ ���دى م ْن َر ِّبهِ ْم َوأو َلئ َك ُه ُ الدني���ا واآلخ���رة هو الهدف من تل���ك العبادة ،أي إس���عاد هذا اإلنس���ان ،وإال ف���اهلل ليس بحاج���ة إلى هذا اإلنس���ان وإلى الت ْق َوى وم َه���ا َو َ عبادت���هَ ﴿ :ل ْن َي َن َ ال ا َ ال ِد َم ُ اؤ َها َو َل ِك ْن َي َنا ُل ُه َّ هلل ُل ُح ُ هلل ا ْل َغ ِن ُّي َو َأ ْن ُت ُم ا ْل ُف َق َر ُاء﴾(محمد.)38: ﴿وا ُ ِم ْن ُك ْم﴾(الحجَ ،)37:
هداية اإلنسان
ين﴾(الفاتحة .)7-6:نزلت الرس���االت من أجل هذه الهداية، َّ الضا ِّل َ
���ه ُر وم���ن أجلها جاء ه���ذا الدين ،ومن أجلها نزل القرآنَ : ﴿ش ْ ���ان ا َّل ِ ���ذي ُأ ْن ِ ِ ِ اس﴾(البق���رة،)185: ���دى ِل َّلن ِ ���ر ُ َر َم َض َ آن ُه ً ���ز َل في���ه ا ْل ُق ْ ين﴾(البقرة)2-1:؛ اب َ ال َر ْي َب ِفي��� ِه ُه ًدى ِل ْل ُم َّت ِق َ ﴿ال���م َذ ِل َك ا ْل ِك َت ُ
فه���و ه���دى للن���اس وللمومني���ن والمتقين ،إنه مح���ض هدى: آن َي ْه ِدي ِل َّل ِتي ِهي َأ ْق َو ُم﴾(اإلس���راء .)9:إن اإلنس���ان ﴿إ َِّن َه َذا ا ْل ُق ْر َ َ غيبا ال يدري ما ه���و مقبل عليه؛ إنه في يواج���ه ف���ي كل لحظة ً كل لحظة محاط من أمامه وخلفه وفوقه بمخلوقات ال يعرف عنه���ا ش���ي ًئا ،لذلك يحت���اج إلى منهج يأخذ بي���ده ليعرف كيف
يدبر أمر نفسه وأمر من يحيط به ،ويعرف كيف يدبر أمر جميع ورا ���ن َك َ ما اس���تخلف عليهَ ﴿ :أ َو َم ْ ان َم ْي ًتا َف َأ ْح َي ْي َن ُ ���اه َو َج َع ْل َنا َل ُه ُن ً َي ْم ِش���ي ِب ِه﴾(األنعام ،)122:ومن ش���أن النور أن يكش���ف لإلنس���ان الطري���ق ،وإن الق���رآن واإلس���الم وه���ذه الرس���االت كلها نور: ���ن ا ِ هلل ُنور﴾(المائ���دةَ ﴿ ،)15:فآ ِم ُنوا بِا ِ هلل َو َر ُس���و ِل ِه ﴿ َق ْ ���م ِم َ ٌ ���د َج َاء ُك ْ َوال ُّنورِ ا َّل ِذي َأ ْن َز ْل َنا﴾(التغابن .)8:فمهمة النور أن يكش���ف األشياء على حقائقها ،ويسهل لإلنسان أن يبصر الصراط المستقيم. قد يعطيك اإلنس���ان معلومات كثي���رة ،ولكن تنقضي تلك
المعلومات؛ قد يأتيك ظرف يواجهك فيه أمر ال تجد معلومة
ترش���دك إل���ى م���ا ينبغي في ذل���ك األم���ر ...ولك���ن إذا أعطاك منهجا للس���ير وطريقة للس���لوك وتدبي���ر األمر، ه���ذا اإلنس���ان ً
فإن���ك تس���تطيع مواجهة كل جديد ،وتس���تطيع -ب���إذن اهلل -إذا
تدبرت الهدى النازل من عند اهلل ،أن تفتي نفسك والناس في الن���وازل الطارئ���ة لم���ا يعرض ولم يكن له حكم س���ابق ،إن لم ممكنا بالنس���بة للفرد ،فهو ممكن بالنسبة للجماعة. يكن ذلك ً
وه���ذه الصياغة ليس���ت لألف���راد فقط ،بل هي للجميع حس���ب
الصور التطبيقية التي مرت بها؛ بالنسبة آلدم كانت صورة فردي���ة ،ولكن بالنس���بة لألم���م الالحقة كان���ت صياغات لألمم
تخاطب نفسها .وها نحن نرى األمة الخاتمة أمة رسول اهلل َ ﴿ك ْن ُت ْم َخ ْي َر ُأ َّم ٍة جمل���ة في صورة أمة ،وصيغت صياغة عام���ةُ : اس﴾(آل عمران )110:بالبناء للمجهول ،أي مخرجها ُأ ْخ ِر َج ْت ِل َّلن ِ
هو اهلل .فيستطيع اإلنسان بواسطة هاته النقطة المنهجية أن
هداية اإلنسان هي نتيجة حتمية للهدف األول ،إذ الهداية فيها
منهجيا خير من الذي توجيها يواج���ه ما يجد ،والذي يعطي���ك ً ًّ
ه���ي التي نعني ،وه���ي التي يطلبها المؤم���ن كل يوم ،بل أجبر ِ يم الص َر َ على طلبها كل يوم سبعة عشر مرةِ ﴿ :ا ْه ِد َنا ِّ اط ا ْل ُم ْس َتق َ ِ اط ا َّل ِذ َ َ ال ���وب َع َل ْيهِ ْم َو َ ���ر َ ���م َغ ْي ِر ا ْل َم ْغ ُض ِ ي���ن أ ْن َع ْم َت َع َل ْيهِ ْ ص َ
أساس���ا -عبارة عن صراط،أن تواجه ما يطرأ ويجد .فالدين ً
هداي���ة اإلرش���اد والداللة وهذه س���ابقة ،ولكن هداي���ة التوفيق
السنة الثامنة -العدد (2012 )32
20
يعطي���ك معلومات كثيرة تنقضي في ظرف معين وال تس���تطيع وع���ن طري���ق ،وعن منهج ،وعن ه���دى ...ولذلك كان الهدف
األول من هاته الصياغة أن تحصل هاته الهداية لإلنسان.
إقامة القسط
يدخ���ل ه���ذا اله���دف ضمن اله���دف الكبي���ر الذي ه���و إخراج الناس من الظلمات إلى النور ،أي إقامة القسطَ ﴿ :ل َق ْد َأ ْر َس ْل َنا ُر ُس��� َل َنا بِا ْلب ِي َن ِ اس ي���ز َ اب َوا ْل ِم َ وم َّ ات َو َأ ْن َز ْل َن���ا َم َع ُه ُم ا ْل ِك َت َ ان ِل َي ُق َ الن ُ َّ بِا ْل ِقس ِ ���ط﴾(الحديد)25:؛ قضية القس���ط في التصور اإلس���المي أو ْ ف���ي الصياغة اإلس���المية ،قضية جوهرية تظهر ف���ي الفرد وفي الجماعة وفي األمة وفي النوع اإلنساني ،ألنه لم يطالب بهاته الصياغة أن يقسط إلى نفسه أو إلى أهله فقط ،أو إلى المسلمين آم ُنوا فق���ط ،بل ُأم���ر أن يكون ً ﴿يا َأ ُّي َه���ا ا َّل ِذ َ ين َ قواما بالقس���طَ : ين بِا ْل ِقس ِط ُش َه َد َاء ِ ِ هلل َو َل ْو َع َلى َأ ْن ُف ِس ُك ْم َأوِ ا ْل َوا ِل َد ْي ِن ُكو ُنوا َق َّوا ِم َ ْ َوا َ ���ال َت َّتب ُِعوا هلل َأ ْو َلى بِهِ َما َف َ ���ن َغ ِن ًّي���ا َأ ْو َف ِق ًيرا َف���ا ُ أل ْق َرب َ ِي���ن إ ِْن َي ُك ْ ﴿و َأ ْن َز ْل َنا ا ْل َه َوى َأ ْن َت ْع ِد ُلوا﴾(النس���اء .)135:فاهلل أمر بالقس���طَ : الن���اس بِا ْل ِقس ِ ���ط﴾(الحديد،)25: ي���ز َ ���اب َوا ْل ِم َ ���م ا ْل ِك َت َ ان ِل َي ُق َ وم َّ ُ َم َع ُه ُ ْ ومجتمع القس���ط ،ودنيا القس���ط ،وأمة القس���ط ،هي التي أريد ال زمن رس���ول اهلل . م���ن القرآن أن يصوغها وقد صاغها فع ً وبأث���ر ذلك القس���ط ال���ذي كان ،وبأثر ذلك القس���ط الذي أقيم بي���ن الناس ،أمِ���ن تحت ظله اليه���ودي والنصراني ،والضعيف والقوي ،واليتيم والعاجز والمحروم ...كلٌّ وصله حقه بالعدل وبالقسطاس المستقيم. وم���ن أوائل ما اهتم به ه���ذا الدين ،إكرام هؤالء الضعاف، واعتب���ر أن م���ن ل���م يهتم به���ؤالء الضعاف ،ه���و متخلق بخلق ���ت ا َّل ِ ���ذ ُب ���ذي ُي َك ِّ الكف���ار وبخل���ق المكذبي���ن بالدي���نَ ﴿ :أ َر َأ ْي َ
ِ ام يم َو َ ي���ن َف َذ ِل َ ِالد ِ ال َي ُح ُّ ���ض َع َلى َط َع ِ ���ك ا َّل ِذي َي ُ ب ِّ ���د ُّع ا ْل َيت َ ال ُت ْك ِر ُم َ ِ ا ْل ِمس ِ ال ﴿ك َّال َب���ل َ ي���م َو َ ���ك ِ ين﴾(الماعونَ ،)3-1: ���ون ا ْل َيت َ ْ ين﴾(الفجر ...)18-17:هاته الطبقات ام ا ْل ِم ْس ِك ِ اض َ ون َع َلى َط َع ِ َت َح ُّ الضعيف���ة م���ن الن���اس ،حقه���ا مكف���ول عل���ى وجه���ه الصحيح الكامل في مجتمع القس���ط .وفي خواتم س���ورة المزمل يقول ﴿ع ِل���م أ َْن س���ي ُك ُ ِ ون ون َي ْض ِر ُب َ ���ر َ ���م َم ْر َضى َو َ ون م ْن ُك ْ اهلل َ َ : َ َ آخ ُ ���ون ِم ْن َف ْض ِل ا ِ ِف���ي ا َ ِيل أل ْر ِ ون ِفي َس���ب ِ ون ُي َقا ِت ُل َ آخ ُر َ ض َي ْب َت ُغ َ هلل َو َ ا ِ هلل﴾(المزم���ل .)20:مجتمع القس���ط هنا ُصنف إلى أصناف ثالثة: صن���ف منتج يق���وم بعملية اإلنت���اج واإلدارة والتس���يير بجميع ٌ أش���كالها وألوانه���ا ،وه���ذا القس���م هو ال���ذي يغذي القس���مين اآلخرين ويقوم بش���ؤونهما؛ قس���م يقاتل في سبيل اهلل ويحمل ل���واء هاته الدع���وة إلى من لم تبلغه ،ويبذل نفس���ه وماله -عن طواعي���ة واختي���ار ورضى كامل -إلبالغ دي���ن اهلل وإيصال رحمة اهلل إلى عباده .وقس���م هم هؤالء المرضى بجميع أنواع
األم���راض المزمنة والمؤقت���ة ،كالفقر أو آفة من اآلفات ...كل ذل���ك حقه مكفول وس���ط هذا المجتمع ،أي مجتمع القس���ط. إنه لم يصغ اإلنسان على القسط فقط في دائرة المسلمين ،بل ���ق َأ ْن َز ْل َن ُاه ﴿وبِا ْل َح ِّ أري���د منه وأريد له أن يقوم بالقس���ط مطل ًقاَ : َوبِا ْل َح ِّق َن َز َل﴾(اإلسراء.)105: ه���ذه األهداف الثالث���ة للصياغ���ة اإلس���المية ،كلها تدخل ضمن هدف كبير يعبر عنه القرآن بعبارة جامعة يدخل ضمنها ه���ذا وغي���ر هذا ،هي عب���ارة "إخراج الناس م���ن الظلمات إلى
ِ ِ هلل ِين َي ْه ِدي ِب ِه ا ُ الن���ور"َ ﴿ :ق ْ ���اب ُمب ٌ ور َو ِك َت ٌ ���د َج َاء ُك ْم م َن اهلل ُن ٌ ���ن الظُّ ُلم ِ ات ِإ َلى َم ِ الس َ ���ال ِم َو ُي ْخ ِر ُج ُه ْم ِم َ َ ���ن َّات َب َع رِ ْض َوا َن ُه ُس ُ ���ب َل َّ ال ُّنورِ ِبإ ِْذ ِن ِه﴾(المائدة.)16-15: ف���ي مقول���ة ربعي ب���ن عامر المش���هورة" :جئن���ا لنخرج الن���اس م���ن عبادة العب���اد إلى عب���ادة رب العب���اد"؛ فهذه ظلمة الش���رك وظلم���ة الكف���ر ،وه���ي الظلم���ة وه���ي الظل���م األكبر: ِ يم﴾(لقمان ،)13:هي الظلم الظالم والظلمة ﴿إ َِّن ِّ الش ْركَ َل ُظ ْل ٌم َعظ ٌ الظالمة .والظلمة الثانية" :ونخرج الناس من جور األديان إلى عدل اإلسالم"؛ وهذا هدف القسط .والواقع أنه ال يوجد دين ن���زل من عند اهلل غير اإلس���الم .ف���ال يوجد في دين اهلل محرم���ا بين عباده: ج���ور ،فاهلل حرم الظلم على نفس���ه وجعله ً محرما فال "إن���ي حرم���ت الظل���م على نفس���ي وجعلت���ه بينك���م ً تظالموا" (رواه مس���لم) .والظلمة الثالثة التي أش���ار إليها ربعي بن عامر " :ومن ضيق الدنيا إلى س���عة اآلخرة" ح ًّقا إنها ظلمة الجهل .إن الرؤية الكونية للمسلم البسيط ،أعظم من رؤية أي ���ن ِذ ْك ِر َنا َو َل ْم كاف���ر على اإلط���القَ ﴿ :ف َأ ْع ِر ْ ض َع ْن َم ْن َت َو َّلى َع ْ الد ْن َيا َذ ِل َك َم ْب َل ُغ ُه ْم ِم َن ا ْل ِع ْل ِم﴾(النجم.)30-29: ُي ِ ���ر ْد ِإ َّ ال ا ْل َح َيا َة ُّ رحبا ،ألن���ه يعلم بإيمانه باهلل فالمس���لم ي���رى في الدنيا أف ًقا ً أن اهلل ي���راه وإن ل���م يك���ن هو ي���راه ،ويعلم أن هات���ه الدنيا إنما ه���ي مقدم���ة صغيرة لعالم ال نهاية له .فهذا األفق الكبير البعيد ِ لم خاص ال سبيل للكافر إليه ،كما أن المسلم بإيمانه المدى ع ٌ عالما بكائنات أخرى ينضبط بإيمانه بالمالئك���ة يصير ً أيضاً -���ان َو َن ْع َل ُم َما ���د َخ َل ْق َنا ا ِ إل ْن َس َ ﴿و َل َق ْ به���ا ،ولها تأثير في س���لوكهَ :
���ل ا ْلورِ ِ َ يد إ ِْذ ُت َو ْس ِ س بِ��� ِه َن ْف ُس ُ ���ر ُب ِإ َل ْي ِه ِم ْ ���و ُ ���ن َح ْب ِ َ ���ه َو َن ْح ُن أ ْق َ َي َت َل َّقى ا ْل ُم َت َل ِّقي ِ ���م ِ يد َما َي ْل ِف ُظ ِم ْن ان َع ِن ا ْل َي ِم ِ ين َو َع ِن ِّ ال َق ِع ٌ الش َ َ ِ ِ ِ يد﴾(ق)18-16:؛ فهو جاهز مس���تعد كل ت ع يب ق ر ه ��� ���و ٍل ِإ َّ ال َل َد ْي َ ٌ َ ٌ َق ْ االس���تعداد ،إنه ي���رى ما ال ُيرى ،ويحس بما ال ُي َحس بس���بب تاريخيا ،له صلة امت���دادا ممتدا أيض���ا إيمان���ه فقط ،يرى نفس���ه ً ًّ ً ًّ
21
السنة الثامنة -العدد (2012 )32
بجمي���ع األنبي���اء عليه���م الصالة والس���الم ،وهو خات���م لألمم جدا ،إذا وصل السابقة ...فرؤيته للتاريخ كذلك بعيدة وعميقة ًّ الناس في رؤيتهم إلى القرد ،فإنه يصل إلى آدم ،بل حتى ال ِئ َك ِة ﴿وإ ِْذ َق َ ال َر ُّب َك ِل ْل َم َ حي���ن كان آدم مجرد خب���ر وتصميمَ : ِإ ِّني َج ِ اع ٌل ِفي ا َ ض َخ ِلي َف ًة﴾(البقرة ،)30:فآدم ُوجد فكرة أل ْر ِ جسدا. وتصميما ووظيف ًة قبل أن يوجد ً ً إن المس���لم بمحض علمه وإيمانه ،يصير أوسع أف ًقا وأبعد نظ���را م���ن جميع العلماء الملحدين ،ألن علم الملحد هو علم ً قاص���ر عل���ى المحسوس���ات ،بينم���ا علم المؤم���ن يتعدى ذلك ويتضمن���ه ويج���ب أن يتضمن���ه .وذلك الذي يح���س هو العلم وهو الغيب ،والغيب هو األساس في الشهادة ،فمن غاب عنه الغي���ب فه���و الجاهل الحقُ ﴿ :ق ْل َأ َف َغي���ر ا ِ هلل َت ْأ ُم ُرو ِّني َأ ْع ُب ُد َأ ُّي َها ْ َ ا ْل َج ِ ون﴾(الزم���ر)64:؛ وه���ذا اإلخراج من الظلمات إلى النور، اه ُل َ هو من أهداف هذه الصياغة.
جبرا ،فقد تكون بوس���ائل متعددة؛ والحيلولة ال تكون بمنعهم ً ومنه���ا أال يق���وم التعليم على تعليم الق���رآن كما كان أول مرة، فلي���س لدينا ش���يء نح���رص عليه نحن الذين ي���راد أن يصاغوا
أيضا ...الذين صيغوا على أساس اإلسالم وأريد وأن يصوغوا ً منه���م أن يصيغ���وا الناس كذل���ك ،ألنها أم���ة أخرجت للناس، كيف يمكنهم القيام بهاته الوظيفة بدون أن يعلموا القرآن! إن القرآن هو المعلومة األولى واألس���اس ،قبل أي قراءة ب�"اس���م اهلل" ال توج���د ق���راءة أخرى ،لذا يجب على هذا األمر أن ينزل
منزله ،وأن يوضع في المكان الالئق به.
إذن ،أول نقطة في الوسائل هي التعليم .إن الرسالة النازلة
م���ن عن���د اهلل ،إذا لم ُن َعلم المقصود به���ا ولم نعلم الكيفية التطبيقية لها وهو تعليم الكتاب والحكمة ،فسوف تبقى المهمة ناقصة؛ والحكمة كما شرحها العلماء هنا بجانب الكتاب ،هي
الس���نة وهي الكيفية التي نفذ بها رس���ول اهلل ذلك الكتاب،
وسائل الصياغة اإلسالمية
أ -الت ت ت تتالوة والتعليم :أما وس���ائل هاته الصياغ���ة فهي كثيرة في أساسا -في كتاب اهلل ،القرآن المبارك ،ألن هذا الدين هو ً وكتاب اهلل ما فرط فيه من شيء ،إذ تطرق لكل شيء ...وكل ما فردا في كتاب اهلل هو وس���يلة لصياغة اإلنسان في اإلسالم ً مجتمعا أو دولة .ولكن ننظر فقط في الوسائل التي أو جماعة، ً نصا حين أمر رس���ول اهلل ليقوم بهذه الصياغة، ن���ص عليه���ا ًّ فذك���ر لن���ا م���ن تل���ك الوس���ائل الكب���رى دع���وة إبراهي���م : ِك َو ُي َع ِل ُّم ُه ُم ِيه ْم َر ُس���و ً ال ِم ْن ُه ْم َي ْتلُ���و َعل َْي ِه ْم َآيات َ ﴿ر َّب َنا َو ْاب َع ْث ف ِ َ ���اب َوال ِْحكْ َم َة َو ُي َز ِّك ِيه ْم﴾(البقرة .)129:فالتالوة والتعليم هي الْكِ َت َ الوسيلة األولى ،ألن هذا الحق النازل من عند اهلل ،والذي ه���و بمثابة رس���الة من رب الملك خال���ق المخلوقات إلى هذا اإلنسان بالتحديد من جهة كونه خليفة ،فعليه عهد وميثاق أن يس���ير فيما اس���تخلف عليه وفق ميثاق الخالفة وعهد الخالفة: ���ه َد ُه ْم ﴿وإ ِْذ َأ َخ َ ���ذ َر ُّب َك ِم ْن َب ِني َ آد َم ِم ْن ُظ ُهورِ ِه ْم ُذرِّ َّي َت ُه ْم َو َأ ْش َ َ ِ َ َ ِ ك ب ِر ب ���ت س ل أ م ���ه س ف ن أ ى ���م َقا ُلوا َب َلى﴾(األع���راف ،)172:ثم بعد ِ ُ َ ُ َع َل ْ ْ ْ ُ َّ ْ ال َخ ْو ٌف َع َل ْيهِ ْم اي َف َ آدمَ ﴿ :فإ َِّما َي ْأ ِت َي َّن ُك ْم ِم ِّني ُه ًدى َف َم ْن َتب َِع ُه َد َ ون﴾(البق���رة)38:؛ ذلك عهد اهلل إلى أبناء آدم ،فمن َو َ ���م َي ْح َز ُن َ ال ُه ْ ص���ار وف���ق العهد وطبقه ،فال خوف عليه���م وال هم يحزنون. ٍ رسول يبلغها وذلك العهد بمثابة رسالة نزلت من عند اهلل على إلى أبناء آدم .إذا لم نعلم مضمون الرسالة فهل يمكن أن نطبق الرس���الة؟ ال يمك���ن ،إنه���ا لجريمة كبرى أن يح���ال بين الناس السنة الثامنة -العدد (2012 )32
وبي���ن فه���م القرآن ،وتالوة القرآن ومعرف���ة المقصود بالقرآن،
22
أو ينبغ���ي أن ينفذ ذلك الكتاب ،كل ذلك يجب تعليمه .وهذا الكتاب بطبيعته ،ال يفضي بسره إلى الذي ألقاه في خزانة رأسه،
إنما يلقي بسره لمن آمن به واتبع هداه ،أما الذي لم يتبع هداه آم ُنوا فال س���بيل له إلى االس���تفادة من القرآنُ ﴿ :ق ْل ُه َو ِل َّل ِذ َ ين َ ال ُي ْؤ ِم ُن َ ِ ِ ���ر َو ُه َو َع َل ْيهِ ْم ي���ن َ ُه ً ���دى َو ِش��� َف ٌاء َوا َّل ِذ َ ون في آ َذانهِ ْم َو ْق ٌ َع ًمى﴾(فصل���ت ،)44:و"لي���س اإليمان بالتمن���ي ،ولكن ما وقر في آمنوا وعمل���وا ،آمنوا القل���ب وصدق���ه العم���ل" (رواه الديلم���ي)َ ...
بم���ا ن���زل على محمد ثم عملوا كم���ا عمل محمد .وهكذا،
بمجرد أن يس���لم المس���لم أمام رسول اهلل فإنه يقرئه القرآن "من ويعلمه المراد به وكيفية تنفيذ ما فيه ،أي يفقهه في الدينَ :
خيرا يفقهه في الدي���ن" (رواه البخاري)؛ هذا التفقيه هو ي���رد اهلل به ً
الوس���يلة األس���اس ،والتعليم هو الذي عل���ى عاتقه هذا األمر.
وم���ن بع���د ذلك يأت���ي ما يس���مى اليوم ب�"اإلع���الم" بجميع
وس���ائله ،ويس���مى ب�"الوس���ائل العام���ة" م���ن جمعي���ات تنش���ر الخي���ر وتعلم���ه للن���اس ،والصح���ف والتلفزي���ون واإلذاع���ات والمحاض���رات و الن���دوات ...ه���ي وس���ائل لتعلي���م وتعمي���م الخي���ر .وكل الكائنات -كما جاء ف���ي الحديث -تدعو لمع ِّلم
الخي���ر ،ألن بتعليم الن���اس الخير ُيرح���م الناس .وهذا الن���اس َ
الهدى ش���بهه رس���ول اهلل بالغيث" :مثل ما بعثني اهلل به من
أرض أرضا ،ف���كان منها ٌ اله���دى والعل���م كمثل غيث أص���اب ً طيبة -وعند مس���لم نقية -قبلت الماء ،فأنبتت العش���ب الكثير"
﴿و ُه َو ا َّل ِذي ُي َن ِّز ُل ا ْل َغ ْي َث ِم ْن َب ْع ِد َما َق َن ُطوا َو َي ْن ُش ُر (رواه البخاري)َ ، َر ْح َم َت ُه﴾(الش���ورى .)28:بم���اء القرآن تنش���ر الرحم���ة في القلوب والج���وارح والمعام���الت وف���ي كل مج���ال ،وتص���ل إل���ى بقية ين﴾(األنبياء.)107: ﴿و َم���ا َأ ْر َس��� ْل َناكَ ِإ َّ ال َر ْح َم��� ًة ِل ْل َعا َل ِم َ العالمي���نَ :
الفطرة" :كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه محافظا على إسالمه، أو يمجس���انه" (رواه مس���لم)؛ أبواه يجعالنه ً ألن اإلس���الم ه���و الفطرة األصلِ ﴿ :ف ْط���ر َة ا ِ اس هلل ا َّل ِتي َف َط َر َّ الن َ َ يل ِل َخ ْلقِ ا ِ ين ا ْل َق ِّي ُم﴾(الروم .)30:فالتزكية َع َل ْي َها َ ال َت ْب ِد َ هلل َذ ِل َك ِّ الد ُ ه���ي المحافظ���ة عل���ى ذلك األص���ل وتنمية له في ص���ورة هذا الخريج من مدرس���ة اإلسالم ،فيها جانب إرادي ،وأصلها من ال َف ْض ُل ا ِ هلل َع َل ْي ُك ْم َو َر ْح َم ُت ُه َما َز َكا ِم ْن ُك ْم ِم ْن ���و َ فض���ل اهللَ : ﴿و َل ْ ���اء﴾(النور ،)21:و ُنس���بت للبش���ر َأ َح ٍد َأ َب ًدا َو َل ِك َّن ا َ هلل ُي َز ِّكي َم ْن َي َش ُ
علم ،ذهب للممارس���ة ،وعند الممارس���ة هناك جانب باطن ال
اها﴾(الش���مس.)10-7: اب َم ْن َد َّس َ َق ْد َأ ْف َل َح َم ْن َز َّك َ اها َو َق ْد َخ َ فالتزكية وسيلة من وسائل رسول اهلل ينبغي الحرص عليها، يوما عن يوم. وورثة األنبياء هم العلماء الذين لألسف يقلون ً العالم الوارث ،هو العالم العامل بميراث رس���ول اهلل ،وهو روحا في المزكى والمتعلم ،وهو الذي ال���ذي يمكن أن ينف���خ ً ال قد تأثر وتنور بسراج النبوة يمكن أن يؤثر وينير ،ألنه هو أو ً ِ ِ َ ���را ﴿ي���ا َأ ُّي َها َّ وبكت���اب اهلل َ : النب ُِّي ِإ َّنا أ ْر َس��� ْل َناكَ َش���اه ًدا َو ُم َب ّش ً
ون���زل رحم���ة ،وبالرحمة نبتدئه "بس���م غاي���ة الق���رآن الرحمةَ ،
اهلل الرحم���ن الرحيم" ،فنزوله رحمة م���ن اهلل الرحمن الرحيم، والقص���د من���ه أن يرحم به اهلل ،ولذلك يجب الدفع في هذا ِ مجال التفقيه والتعليم. المجال، بت -التزكية والتطهير :وهي تابعة لألولى ،ألن اإلنس���ان إذا
ُي���رى يؤث���ر فيما ُيرى" :أال وإن في الجس���د مضغة إذا صلحت صلح الجس���د كله ،وإذا فس���دت فس���د الجس���د كله ،أال وهي
القل���ب" (رواه البخ���اري) ،واهتم���ام اإلس���الم بصالح ه���ذا القلب اهتم���ام كبي���ر ،وحرص���ه عل���ى أن يس���لم القل���ب م���ن المرض
ح���رص كبير .ولذلك يتتبع كل المؤثرات على هذا القلب من
المعاص���ي الخارجية؛ فيمن���ع العين أن تنظر إلى غير ما يرضي الرجل اهلل ،ويمنع الس���مع أن يتقبل غير م���ا يرضي اهلل ،ويمنع ِّ
أن تذه���ب إلى غير ما يرض���ي اهلل ،ويمنع اليد أن تفعل غير ما
يرض���ي اهلل ،ويمن���ع كل م���ا يحيط بالعبد من م���ال ...كل ذلك يمن���ع م���ا ال يرض���ي اهلل ،ألن أثره في القل���ب ،فتنكث فيه بكل
سيئة نكثة سوداء ،ومن ثم يتكون الران على القلب حتى يصل
األمر إلى أن يطبع على القلب ،والعكس بالعكس .فالحواس س���بل لإلتي���ان بالنور ،أي بنور الحس���نات إلى القل���ب ،فيزداد
أبدا. القلب ً بعد ً بياضا حتى يصل إلى درجة ال تعود فتنة تضره ُ
اإلس���الم في صياغته لإلنسان ،يحرص على أن يسلم هذا ﴿هلل ما ِفي السماو ِ ات َو َما ِفي ا َ أل ْر ِ ض َوإ ِْن ُت ْب ُدوا َما ِفي َّ َ َ القلبَ ِ ِ : وه ُي َح ِ اهلل﴾(البقرة ،)284:بسبب خاطر َأ ْن ُف ِس ُ اس ْ���ب ُك ْم ِب ِه ُ ���ك ْم َأ ْو ُت ْخ ُف ُ الس���وء تنبت النباتات ،فمن القلب يبتدئ نبات السيئة ويبتدئ نبات الحس���نة ،ولذلك كان الجزاء والث���واب العظيم على من
تش���جيعا لهذا اإلنس���ان على فعل نوى حس���نة وإن لم يفعلها، ً
ال ،والتطهير يتجه إليه الحسنات .التزكية تكون لهذا القلب أو ً ب���كل المطهرات من كتاب اهلل ،من صيام وقيام وصدقة...
ترشيدا للسلوك ،وقد كان أصحاب رسول اهلل ثم تكون التزكية ً
يك ّلفون باألعمال وتصدر منهم األقوال في مجالس رسول قر م���ا يقر وينفي ما ينفي، اهلل وعل���ى س���معه وعلى بصره ُفي ّ
الخير؛ أصل وإنم���ا ذلك من أجل تزكيتهم لتنمية ذلك األصل ّ
ور َها َو َت ْق َو َاها ﴿و َن ْف ٍ في قوله َ : س َو َما َس َّو َاها َف َأ ْل َه َم َها ُف ُج َ
َو َن ِذيرا َو َد ِاعيا ِإ َلى ا ِ اجا ُم ِن ًيرا﴾(األحزاب.)46-45: هلل ِبإ ِْذ ِن ِه َو ِس َر ً ً ً جت -الحك ت ت تتم بين الناس بما أران ت ت تتا اهلل :وهي وس���يلة ثالثة وهدف من عظيمة فعلها رس���ول اهلل وطلب اهلل منه فعلها، ٌ األهداف ال سبيل إلى تحقيقه بغيرها هو المشار إليه في قوله اس ب َِما الن ِ ���ن َّ ���اب بِا ْل َح ِّق ِل َت ْح ُك َم َب ْي َ ِ ﴿ :إ َّن���ا َأ ْن َز ْل َن���ا ِإ َل ْي َك ا ْل ِك َت َ هلل﴾(النس���اء .)105:ه���ذا الحكم بي���ن الناس بما أرانا اهلل في َأ َراكَ ا ُ
كتابه وسنة نبيه هو السبيل الوحيد إلقامة القسط. هذه األهداف وهذه الوس���ائل ،إذا مورست فإنها تكفل لنا خريجين من طراز خاص من مدرس���ة الصياغة اإلس���المية... وقد أش���ار حديث جبريل إلى ثالثة مس���تويات من هؤالء الخريجي���ن :مس���توى المس���لم ،ومس���توى المؤمن ،ومس���توى المحس���ن ،والدين اشتمل على كل هذا؛ على اإلسالم ،وعلى اإليم���ان ،وعل���ى اإلحس���ان ،وما ذك���ر في الحديث ه���و عبارة ع���ن وس���ائل إلنتاج هذه النوعي���ات ...إلنتاج المس���لم نحتاج إلى ممارس���ة أركان اإلس���الم على وجهه���ا الصحيح ،وإلنتاج المؤم���ن نحت���اج إل���ى ممارس���ة أركان اإليم���ان عل���ى وجهه���ا الصحيح ،وإلنتاج المحس���ن نحتاج إلى أن نعبد اهلل كأننا نراه فإن لم نكن نراه فإنه يرانا. (*)
األمين العام لمؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع) /المغرب.
23
السنة الثامنة -العدد (2012 )32
أدب
د .محمد جكيب*
سلطة الكلمة وقوتها 2- األدب في ظل البيان
األدب نشاط إنساني يولد مع اإلنسان ،ولكي
فه���ؤالء متأك���دون أن أرواحهم إذا لم تتش���رب روح البيان
االسترشاد بالبيان الذي خطت معالم خريطته
أفعاله���م وال أقواله���م ف���ي مقام���ات االكتمال ،وس���تظل بعيدة
خالدا ،يتوجب عليه مؤثرا يك���ون جمي ً ً ال ًّ قويا ً
مفصلة في الكون والوجود ،وأنزلت مرتكزاته على محمد
في القرآن الكريم .وبعبارة أخرى ،إن األدب ال يستحق صفة األدبية إال في ظل "البيان" ،وذلك باقتران دقة الوسيلة واألداة
والكلم���ة( )1ف���ي إطاره���ا العام بالبي���ان في مس���تواه الثاني ،ألن
الكلمة إذا لم تتطلع إلى أن تكون في مس���توى البيان الحقيقي وتجتهد ألجل ذلك ،فس���تكون مجرد زيف ال يلبث بريقها أن يبهت ويعتريه الصدأ.
السنة الثامنة -العدد (2012 )32
24
فإن حركيتهم ستظل مفتقرة إلى النضج واالنسجام ،ولن ترقى ع���ن التناغ���م واالنتظام في دائرة البي���ان الكلي حيث يأخذ كل
عنص���ر مكانه في جو م���ن التوازن والتناس���ق .وبعبارة أخرى، إذا افتق���رت األفع���ال واألق���وال لروح البيان فل���ن تجد مكانها الطبيعي والمنطقي ضمن سلسلة البيان الكلي ،بل إن وجودها
بق���رب العناصر األخرى التي حصلت مش���روعية الدخول في
ورما عنصرا دائ���رة البي���ان ،يصي���ر ً مزعج���ا وحالة مرضي���ة ،بل ً ً خبي ًثا يتوجب بتره.
إن مظاهر التفاعل مع البيان تتعدد ،وس���بل محاكاته تتنوع
نشوة االكتمال هذه ،هي مكونات األدب الذي يدور في دائرة
يحدد العالقة ،ويبني المنهج ويرسم الجادة وفنون القول على
هو البحث المس���تمر من أجل الوصول إلى مالمس���ة حقيقته.
عاما إطارا ًّ بحس���ب مس���تويات التفاعل مع هذا البيان باعتباره ً وج���ه الخصوص ،التي توظ���ف الكلمة بمفهومها اللغوي أهم المجاالت التي تحتاج إلى اس���تحضار مفه���وم البيان ،بل هي
مباش���را حاج ًة إلى ارتباطا أهم المكونات المرتبطة باإلنس���ان ً ً التفاعل مع البيان واستحضاره.
البي���ان المطل���ق .وبعب���ارة أخرى ،إنه البحث ع���ن الكمال ،بل مناسبا فلكل أديب نموذج فردوسي مفقود يبحث عنه بما يراه ً لذل���ك ،ولذل���ك كان األدب الرفي���ع على مر العص���ور ،معاناة
عسيرا. ومخاضا مريرا أليمة ً ً ً وعذابا ً
على هذا المنهج صار فحول الكلمة من أمتنا عبر مختلف
ينقس���م األدب إلى قس���مين كبيرين يعكس���ان تلك العالقة
العص���ور واألزمن���ة ،بع���د أن اخت���ط كل فحل لنفس���ه في دائرة
الخير مع قوى الش���يطان؛ ففي الوقت الذي تس���عى فيها قوى
ال في بحثهما ومعان���اة تختم إبداعه ...فالحالج وابن عربي مث ً
األزلية التي يتصارع فيها الخير مع الش���ر ،أو تتنازع فيها قوى الخي���ر إل���ى رب���ط صل���ة الف���ن واألدب بالبي���ان وحقائق���ه ،تعم���ل األخرى على
إفساد العالقة األولى.
لق���د ض���ل الصنف األخي���ر الطريق،
وتوقفت بوصلته منذ خلق اهلل آدم ، وأمره المالئكة بالسجود آلدم فسجدوا إال إبليس أبى واستكبر فطرد من رحمة اهلل ،وأنظ���ره اهلل إل���ى ي���وم يبعث���ون...
ولذل���ك يجلس الش���يطان لإلنس���ان في طري���ق العودة إلى الم���كان الذي ُأخرج من���ه عندما خالف آدم وزوجه حواء ْأم َر اهلل وأكال م���ن الش���جرة المحرمة .ومنذ ذل���ك الحي���ن يعي���ش اإلنس���ان فص���ول
وأسلوبا يطبع مخاض نصه، خاصا يميزه، هذا المنهج س���بي ً ال ًّ ً ع���ن الحقيق���ة أدركا بآدميتهما اس���تحالة
الف��ن واالأدب ملزم��ان باالرتق��اء ب��ذوق االإن�س��ان ليتفاع��ل مع البي��ان االإلهي، االأم��ر الذي ينعك���س اإيجابًا على روح��ه وعلى كيانه كله في��درك دوره احلقيق��ي يف الوجود ،ويدرك اأن لوجوده وظيف��ة يتحت��م معرفته��ا واأداوؤها بروح جمالية.
معرك���ة ال تنته���ي م���ن أجل الع���ودة إلى ه���ذا الف���ردوس ،والف���ن واألدب ف���ي
اإلمس���اك ب���كل خي���وط البي���ان المطلق،
لكنهم���ا أصرا -كما أصر غيرهما -على البق���اء في دائ���رة المعاناة ...ف���كل مقام
يصلونه ،يمثل بداية السير إلى مقام آخر لتب���دأ الرحل���ة من جدي���د .فأما الحالج
فق���د حل���ق ول���م ين���زل ،وأما اب���ن عربي هائم���ا في فظ���ل قلب���ه متعل ًق���ا بالس���ماء ً
المظاه���ر البيانية التي تجود بها ،وظلت روحه مشرئبة هائمة في الملكوت ،لكن
على عل���و منخفض ،ولم يتق���دم مخافة االحتراق.
ولذل���ك ف���األدب في أص���ل وجوده
رحل���ة بح���ث طويلة ،ولألس���تاذ فتح اهلل كول���ن رأي ف���ي هذا الب���اب مضمونه أن
األصل نوع من التغني بهذا الفردوس .لكن الش���يطان ال يمل
األدب مهم���ا بل���غ من الق���وة الفنية والعم���ق الجمالي والقدرة
ال���ذي ينير طريق العودة .وبضاعة من جندوا لهذه المهمة هي
نس���بيا ،ألن هذا ال يس���تنر بن���ور مملكت���ه ،يعتب���ر جمال���ه جم���ا ً ًّ
م���ن إفس���اد اتس���اق كل نغم���ة وكل ما يقرب م���ن البيان الكلي
البضاعة السائدة في هذا الزمن الصعب ،وهي تدعي امتالكها
شفرة الوصول إلى السعادة ،ولعمري إنه مجرد وهم ليس غير. سبل االرتقاء في مقامات الوصول عديدة ،ومنها االرتباط
بالروح والوجدان والجوارح بأمنية العودة إلى فردوس مفقود، من خالل لحن جميل متوازن ،أو نص اختمر طويال في رحم
َو ّالدة حت���ى اكتمل���ت معالمه واجتمعت محاس���نه ،ليولد بعد مخاض والدة طبيعية ،وليس والدة قيصرية.
المخ���اض العس���ير وس���هر الليالي الط���وال ومعاناة تحقيق
مؤسس���ا على الخط���اب اإللهي ولم عل���ى التأثي���ر ،إذا لم يكن ً الجم���ال يفتق���ر إلى المعن���ى الحقيقي للجمال ،ب���ل هو مجرد إحساس موهوم.
إن التجرب���ة األدبي���ة بهذا المفهوم محض���ن تجارب كثيرة،
ولي���س بمقدور أحد االدعاء بأنه نس���يج وحده باس���تثناء البيان
القرآني .فكل تجربة من هذا المنظور ،هي في الحقيقة ملتقى تلتق���ي فيه تجارب الماض���ي بخصوصيات الحاض���ر؛ فتجربة
الي���وم تمتاز ع���ن تجربة الماضي بما تحمل���ه من خصوصيات
الحاض���ر ،لكنه���ا تحم���ل خصوصي���ات الماض���ي كذل���ك وال
25
السنة الثامنة -العدد (2012 )32
يمكنها التجرد ع���ن ذلك وال التنكر له، بمعن���ى أن التجرب���ة األدبي���ة ال تكتم���ل معالمها المركزي���ة إال في ظل الخطاب اإلله���ي وعندما تك���ون بوتقة يلتقي فيها ث���راء الماض���ي وتجارب���ه بخصوصيات الحاض���ر ومتطلبات العصر ،لكن برؤية تتطلع إلى المستقبل أفضل من الحاضر ومن الماضي نفسه.
األدب في ظل األدبية
ارتباط���ا بمفهوم هي المج���االت األكثر ً
اإن االأدب مهم��ا بل��غ م��ن القوة الفني��ة والعمق اجلمايل والق��درة على التاأث��ر ،اإذا مل ؤ�س�س��ا على اخلطاب يكن مو ً االإله��ي ومل ي�ست��ر بن��ور مملكت��ه ،يعترب جمال��ه جما ًال ن�سبيًّا ،الأن هذا اجلمال يفتقر اإىل املعن��ى احلقيقي للجمال، بل هو جمرد اإح�سا�س موهوم.
إن م���ادة األدب ه���ي اللغ���ة بكلماته���ا وآفاقه���ا الداللي���ة وصوره���ا الفني���ة البالغي���ة ،لكنه���ا الغ���ذاء ال���ذي يغذيه���ا يقطف م���ن عال���م المش���اعر والوجدان واألحاس���يس ومن كل جميل ،ولكونها متقلبا مركبا كائنا كذلك ،فهي تظل مرتبطة باإلنس���ان باعتباره ً ً ً بي���ن الغموض والوضوح .وهذا هو م���ا يجعل األدب أبعد ما يك���ون عن صرامة العلم )2(.لكن مع ذلك يمكن تفريع األدب إلى فرعين: الف���رع األول هو فرع "األدبية" ،أي ما يصنع أدبية األدب، كثيرا عن اللغة التي وما يجعل من األدب ً جنسا لغويًّا يختلف ً توظ���ف في الخطاب الع���ادي ،وال مناص لألدبية من الموهبة إلى جانب العناصر األخرى .فالموهبة هي الطاقة التي تشحن أدبي���ا ،وهي منح���ة إلهية ال اللغ���ة وتفعله���ا لتوج���د منها ً ش���يئا ًّ تمن���ح لل���كل وإال تحول األدب إلى ش���يء مبت���ذل ال يختلف عن ال���كالم العادي ،وتق���وم المعرفة بتقنيات الكتابة وس���بلها ونظرياته���ا ومناهجها وأجناس���ها وأنواعه���ا األدبية ،بمهمة مد الموهبة باألشكال التي تستوعب اللغة المشحونة ب�"األدبية". إن األدب الرفي���ع ال تصنع���ه التقنية بق���در ما يصنعه عنصر الموهب���ة والم َلك���ة الت���ي تحس���ن توظي���ف التقني���ات فتخت���ار المناسب من األجناس ،ولهذا تجد الشاعر والقاص والروائي وغي���ر ذل���ك ...كل واحد يعب���ر بالجنس األدب���ي القريب منه، والجنس الذي تبدو تقنياته في متناوله ،لكن القاسم المشترك هو التواصل المعنوي مع القلوب والعقول واألرواح بحسب منطلقات األديب ،وهنا تكمن وظيفة األدبية. وأم���ا الف���رع الثاني فيهتم بما يحيط بأحوال اإلبداع األدبي وتأريخا ،وه���ذه المجاالت ونق���دا وتنظي���را وتحلي���ال دراس���ة ً ً ً ً السنة الثامنة -العدد (2012 )32
26
"عل���م األدب" ،وس���يلعب ه���ذا المجال
أساس���يا في تقريب دورا في المس���تقبلً ، ًّ
المكونات السامية لألدب في ظل البيان ومعطيات���ه عندم���ا تمي���ل اإلنس���انية كلها
إلى العل���م وحقائقه .وفي هذه المرحلة إلحاحا ستصبح الحاجة إلى البيان أكثر ً
من قبل ،ألن من ش���أن حقائق العلم أن تبين حقائق الوجود وتجلي عناصره.
بعب���ارة أخ���رى ،إن الواق���ع العلم���ي
س���ينتهي إل���ى االنس���جام الكام���ل م���ع
الخط���اب القرآن���ي وم���ع البي���ان الكلي، تعبي���را واألدب نفس���ه س���ينتهي ليك���ون ً
عن هذه الحقيقة ،أي أن يش���رح ويقرب
البيان إلى كل العقول واألفهام ،وسيخاطبهم بأسلوبه ويوظف كل التقنيات التي تفتح القلوب واألرواح بأسلوب خاص.
يؤك���د األس���تاذ فتح اهلل كولن أن س���لطة الكلم���ة ضرورية
النتقال األفكار من ذهن إلى آخر ومن قلب إلى آخر ،والذين يحس���نون استعمال هذه الواسطة من أرباب الفكر ،يستطيعون جم���ع األنص���ار لألف���كار الت���ي يري���دون زرعه���ا ف���ي القلوب
واألرواح ،فيصل���ون بأفكاره���م إل���ى الخل���ود .وأم���ا الذين ال يحسنون ذلك ،وال يستطيعونه فسيقضون أعمارهم في معاناة
أثرا .ولما كان فكرية ،ويرحلون عن الدنيا دون أن يتركوا فيها ً العنصر األساسي في األدب هو المعنى ،فقد وجب أن تكون
الكلم���ات المذكورة قليلة لكن غني���ة بالمعاني .وهي موجودة
ف���ي ال���كالم العميق عند المفكرين م���ن ذوي القلوب الملهمة المحيط���ة بالوج���ود ،والذين تتس���ع قلوبه���م للوجود كله ،من ذوي الخيال الواس���ع الذين نجحوا في أن يروا الدنيا واآلخرة
وفكرا وجهي���ن لحقيقة واحدة ،والذين يملك���ون إيما ًنا عمي ًقا ً قويا. تركيبيا ًّ ًّ
()3
وم���ن أجل فه���م دقيق لنظري���ة الفن المس���تظلة بظل البيان
الكل���ي ،يتوج���ب رب���ط الفن بصف���ة عام���ة واألدب على وجه الخص���وص ،بمقص���د ووظيف���ة ت���روم إيجاد إنس���ان بمميزات تؤهل���ه إلدراك أبع���اد البيان في أفق إعم���ار األرض والوجود،
ومحاصرة أعداء اإلنسان؛ "الجهل" و"الفقر" و"التفرقة".
فالف���ن واألدب ملزم���ان باالرتقاء بذوق اإلنس���ان ليتفاعل
إيجابا على روحه وعلى مع البيان اإللهي ،األمر الذي ينعكس ً كيانه كله فيدرك دوره الحقيقي في الوجود ،ويدرك أن لوجوده
وظيفة يتحت���م معرفتها وأداؤها بروح جمالية .وبعبارة أخرى، إن يدرك اإلنسان محله من البيان ،فيتفاعل معه التفاعل الالزم
له ،بل إن العلم الذي س���تنتهي إليه اإلنس���انية هو العلم بموقع
الذات/الذوات في تفاعلها مع الوجود.
ل���م ت���درك حقيقة البيان الكلي ،والت���ي حجب غباؤها وضالل روحه���ا عنه���ا إدراك ه���ذه الحقيقة ،يس���تحيل عليه���ا أن تكون ال عليه تعالى )5(.وعلى هذا القلم أن يدرك بأن مرشدا إليه ودا ًّ ً العال���م ف���ي حاجة إليه ،وأن الزمان قد دار دورته ،وأن األرض س���يرثها الصالحون .وإذا لم يكن القلم في داخل الدائرة ،فإن
وأما محاصرة األدب للفقر فتلمس في توسيع أفق اإلنسان
ال س���يحتل المكان وتعش���ش فيه قوى الش���ر ،لذلك فرا ًغ���ا قات ً
اتس���اعه وامت���داده ،ومن ش���أن ذلك فتح اآلف���اق والدخول في
ش���به األقالم الت���ي أطالت الكالم دون فائدة ،والنور لم تنش���ر
وفت���ح روح���ه وقلب���ه عل���ى العالم الفس���يح وعل���ى الوجود في دائرة اإلبداع بالتذوق أو باإلبداع واالنطالق ،وترك المس���كنة
والدروش���ة )4(.وبعبارة أخرى ،إن ترك المسكنة يعني أن يكون اإلنس���ان عالي الهمة كالنس���ر ،يرتاد أعالي الجبال وال يرضى بس���فوحها ويقب���ل الخن���وع .والف���ن بصفة عام���ة واألدب على
الخصوص وبمختلف أجناسه يصنع هذا النوع اإلنساني.
وأم���ا دور األدب ف���ي محارب���ة التفرق���ة ،فتظه���ر من خالل
اس���تمداد األدب مش���روعية وج���وده م���ن البي���ان حت���ى يصي���ر
المنطل���ق ال���ذي تنطلق منه كل الرؤى واألف���كار والتصورات،
وتحتكم إليه في كل ما يعرض لها أثناء المس���ير ،وإذا استطاع ش���د األلب���اب -كم���ا ه���و ح���ال البي���ان المطل���ق -ف���إن توحيد نظ���ر الجموع وتم���ازج األفئدة حت���ى تصير كف���ؤاد واحد ،هو
المصي���ر األكيد .ومن ش���أن ذل���ك جعل المواق���ف تلتقي عند
الكليات وتتوحد حول األساس���يات ،وليس في ذلك أي إلغاء
على الفن بصفة عامة وعلى األدب بصفة خاصة ،أن يس���كت والخي���ر لم تبلغ والعالم لم تضئ ،وإس���كاتها ال يكون إال بأن
تنتشر األقالم المتوضئة في كل مكان ،وفي كل قلب ،وفي كل ح���دب وصوب ،وفي األرض والجو كل���ه ...فإذا تكلم القلم الصالح ،خنس���ت األق���الم الجوفاء وانكت���م ضجيجها وغلب النور الظالم ،وزدانت األرض والسماء بنور ربها.
()6
(*) جامعة شعيب الدكالي ،كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية -الجديدة /المغرب.
الهوامش ( )1نعن���ي بالكلم���ة هنا ،كل نظ���ام ترميزي يوظف للتعبي���ر والتواصل كاأللوان واإليقاعات الموسيقية وغيرها. ( )2بعض النظريات األدبية تقول ب�"علم األدب" ،متأثرة في ذلك بما تحقق في مج���ال العلم الطبيعي من إنجازات ،وبغض النظر عما تطرحه هذه الرؤية
للخصوصي���ات الفردية وال الجماعية ،ألن هذه الخصوصيات
مصدر من مصادر إثراء التجربة.
إن م���راد البي���ان الكل���ي ه���و أن يك���ون الن���اس عل���ى إيقاع
واحد ووفق نبرة واحدة ،وال ش���ك في أن س���بل الوصول إلى ذل���ك متع���ددة ومتنوعة ،لك���ن الفن بصفة عام���ة واألدب على الخص���وص وبمختلف أجناس���ه ومختلف أنواع���ه الموجودة، وحتى تلك التي ستظهر في المستقبل ،تستطيع توحيد األرواح
على إيقاع واحد.
إن م���ن تعلق���ت أرواحه���م وقلوبه���م وأفئدته���م بالبي���ان،
تنتظرهم مهم���ة كبيرة وعظيمة ...فالذين اختاروا األدب ألداء
ال مهمته���م ،يتوج���ب على أقالمه���م أن تصنع من الكالم س���بي ً ينش���ر الخير والبش���ائر في كل العوالم المعنوي���ة والمادية دون
تمييز بينهما ،ألن المهمة واحدة والغاية واحدة ،وألن المرمى هو أس���مى مرمى يمكن لإلنس���ان أداؤه .فاأليادي الجافة التي
من إشكاالت معرفية ،فإن القضية تحتاج إلى تأمل خاص. ( )3انظر تفصيل هذه الرؤية في كتاب األستاذ البيان .Speech
( )4ترك الدروشة بالمفهوم السلبي ال بالمفهوم اإليجابي ،التي تعني الخضوع هلل تعالى. ()5
مس���تلهم من نص األس���تاذ فتح اهلل كولن في مؤلفه "ألوان وظالل في مرايا "تض���ر ُع قل���م" يق���ول :تكلم يا قل���م ،واصرخ يا م���داد" ،يا من الوج���دان": ُّ بالقل���م أقم���ت! أعوذ بك أن تلمس���ني يد جافة ،ويس���تخدمني عقل غبي! وروح ضال ...وهبني -يا رب -إلى من إليك يكتب ،وعليك يدل".
( )6مس���تلهم من نص األس���تاذ فتح اهلل كولن في مؤلفه "ألوان وظالل في مرايا الوج���دان"" :لس���ان نور" يق���ول :ما أكثر ما قالوا فما أن���اروا ...وما أكثر ما تكلم���وا فما أض���اؤوا ...ثم صمت���وا ،وما عاد عندهم م���ا يقولون ...تكلم أن���ت ،فال���دور دورك ...فق���د أظ���ل زمانك ،وأقبل���ت أيام���ك ...الوجدان إليك يهفوا ،والروح إليك يرنو ،فتكلم وأضئ ،واألنوار فأشعل ...بالنور لسانك مغموس ،إذا تكلم ،أضاءت الدنيا ،وأشرق العالم ،وتولى الظالم، وصلح اإلنسان.
27
السنة الثامنة -العدد (2012 )32
قضايا فكرية
أ.د .إدريس الخرشاف*
لغة القرآن الكريم مفتاح العلوم التجريبية
إذا تصفحنا صفحات تاريخ أمتنا اإلس���المية،
وفك���را ،إذ كان له لش���عارات أخ���رى -منب���ع الحضارات لغ��� ًة ً
نذكر منها على سبيل المثال ،الحركة العقالنية
حض���اري .كل ه���ذا التحول كان بفض���ل اهلل تعالى ،ثم بفضل
ال بالمنجزات واألعمال الجليلة، وجدناه حاف ً
التي حدثت داخل فضاء المجتمع المس���لم بعدما تعرف على
الكونين المقروء والمشاهد ،فحدث على إثرها تحول معرفي
اعتمد في أساليبه وآفاقه المعرفية على تدبر قول اهلل ﴿ :إ َِّن الن َهارِ َآل َي ٍ او ِ ات َوا َ ِف���ي َخ ْلقِ ات أل ْر ِ اخ ِت َ ض َو ْ ال ِف ال َّل ْي ِل َو َّ ���م َ الس َ َّ ُ ألو ِلي ا َ اب﴾(آل عمران.)190: أل ْل َب ِ ه���ذا الش���عار ه���و ال���ذي اعتب���ره المس���لمون -باإلضاف���ة السنة الثامنة -العدد (2012 )32
28
الفضل في تحويل الس���احة العربية الجرداء إلى منطقة إش���عاع توفر شرطين رئيسين:
أولهم���ا :مرونة لغ���ة الخطاب ،والمتمثل ف���ي اللغة العربية
أهلها التي كانت ُتعتبر لغة المختبر ولغة الشارع واألقوام ،مما َّ َ
لتك���ون لغة قوية ومتطورة تتميز بمس���ايرتها للركب اإلنس���اني ومتطلبات الحياة المجتمعية.
ثانيهم���ا :احت���واء اللغ���ة العربي���ة كل المب���ادئ والقيم التي
ترتب���ط به���ا العالق���ات اإلنس���انية ،فانصبت جهود المس���لمين
بين أفراد األسرة األوروبية واألسرة المسلمة العلمية.
عل���ى الق���راءة والتدبر ،والنق���ل والترجمة ،والبح���ث والتنقيب صناعة المصطلح
والترش���يح ،واالحتف���اظ بما هو صالح ونب���ذ كل ما هو خارج
عن المنظومة اإلسالمية ،واإلبداع والكتابة.
فكانت المحصلة ،ظهور نخبة من علماء المسلمين عملوا
على تحريك عجلة التاريخ العلمي بأفكارهم ،استطاعوا في مدة زمنية صغيرة تحويل الرقعة الجغرافية التي كانوا يعيشون فيها،
من مس���احة رملية ال تعرف س���وى حرب العشائر ووأد البنات وضيق األفق ،إلى منطقة إشعاع حضاري ما تزال أيامنا الحالية
تشهد بصماتهم الفكرية وتعترف بابتكاراتهم األصيلة والرصينة. باإلضافة لما تقدم ،إذا كان علم الرياضيات يعتبر بمثابة علم
الدقة ،فإن عصرنا الذي نقتحمه ،يظهر لنا أن هذا العلم أصبح
بحاج���ة إلعادة النظ���ر في كثير من المصطلحات المس���تخدمة
فيه ،على س���بيل المثال مصطلح الالنهاية ،والنقطة ،وغيرهما. وليس هنا من يذلل لنا الصعوبات المطروحة سوى القرآن
الكري���م ،الذي نجده يح���دد المفاهيم ويجعل المادة المعالجة
إذا قمنا بقراءة سريعة للمصطلحات المتداولة بين الناس ،فإننا
نالحظ اس���تخدام بعضهم لمصطلحات ق���د ال تنتمي لفضائها جهودا كبيرة من أجل الحقيقي .من أجل ذلك بذل المسلمون ً إخ���راج المصطلح بدون ش���وائب إغريقية أو س���ريانية كما هو
ال ،حيث اس���تعمل "الكن���دي" ألفا ًظا الح���ال عند "الكندي" مث ً اس���تبدلت بلفظة "جس���م" ،و"طينة" التي مثل لفظة "جرم" التي ُ اس���تبدلت بلفظة "مادة" .أما المصطلح العلمي عند "الفارابي" ُ
مكنت���ه إمكانياته العلمية المتمثلة في معرفته (ت950م) ،فلقد ّ بكثي���ر من اللغ���ات ،من القي���ام بمقارنة بين اللغ���ات والعلوم، ووضع تصنيفات لها في مؤلفاته ،نذكر منها على سبيل المثال
كت���اب" :إحص���اء العل���وم" ،حي���ث قام بتقس���يم عل���م األلفاظ إل���ى علم األلفاظ البس���يطة ووضع قوانين له���ا ،وعلم األلفاظ
المركبة ،وعلم الكتابة ،وعلم تصحيح القراءة.
أكثر تناس��� ًقا وتجانس���ا مع الفكر البش���ري ،ألن اللغة المتداولة المصطلح القرآني ً ف���ي الق���رآن الكريم ه���ي اللغة نفس���ها التي ُولد بها اإلنس���ان،
ونجده يجعل اإلنسان يتأقلم بسهولة مع المصطلحات العلمية المتداولة.
حركة الترجمة وقضية المصطلح
يقدم لنا المصطلح القرآني جملة من المعارف المتراكمة التي تدل على مدى الدقة في استخدام اللفظ ،ويضع لهذه األلفاظ
فكريا يتعدى مجال تخصص اللفظ في اتجاها بنيات لتصب���ح ً ًّ الزمان والمكان.
عندما نش���طت الحركة الفكرية أثناء المس���يرة اإلسالمية ،أدى في ميدان الفيزياء ذل���ك إلى ظه���ور حركة الترجمة أيام المنص���ور (775م) .ولم
تمض س���تون س���نة (835م) حتى كان المأمون قد أنهى س���ائر ِ الترتيب���ات لبناء دار الحكم���ة ،فحدثت طفرة علمية لم يعهدها
كثير من نفائس الكتب العلمية. التاريخ من قبل ،حيث ُترجمت ٌ وهن���ا البد م���ن التذكير بأن "صقلي���ة" ب�"إيطاليا" ،و"قرطبة"
و"غرناط���ة" ب�"األندلس" ،كانت بمثابة ملتقى طرق الدارس���ين الذين يريدون تعلم العلوم اإلسالمية المتطورة في شتى فروع
أساس���يا ف���ي ظهور اللغ���ة العربية دورا المعرف���ة ،حي���ث لعبت���ا ً ًّ
-1الفت ت ت تتق :يعتبر أحد أهم المصطلح���ات العلمية في العصر الحديث ،التي ُتس���تعمل في مدارس التفكير التطبيقي في علم حاليا حول وضعي���ة الكون األصلية الفل���ك ،إذ ي���دور النقاش ًّ دوم���ا على صورته وديناميت���ه .فهن���اك من ق���ال بأن الكون كان ً
الحالية (فكرة ثبات الكون) ،أما بعض علماء "الفيزياء الفلكية"
( )Astrophysiqueالحديث���ة ،فق���د ذك���روا أن الك���ون كان في يوم
م���ن األيام نقطة مادية وحيدة ذات كثاف���ة كبيرة ودرجة حرارة
عالي���ة ،وفي لحظة م���ن اللحظات انفجر الك���ون فأطلقوا عليه
اسم "االنفجار العظيم" (.)Big Bang
كوس���يلة التخاط���ب ف���ي البل���دان األوروبية وحتى ف���ي البالط "البابوي" ،ألنها لغة ِم ْط َواعة. ولما وصل المس���لمون إلى ما وصلوا إليه من تقدم ورفعة
له داللة واضحة المعالم .والس���بب ف���ي ذلك يرجع للوضعية
والتفكير العلمي ،كانت لغة القرآن هي لغة التخاطب والتفكير
عن الظاهرة الكونية بأنها تم ّثل حادثة انفجار وقعت في الكون
في الهندس���ة والطب ،والرياضيات وعلم الفلك ،والموسيقى
أما القرآن الكريم ،فيس���تخدم لفظ���ة "الفتق" وهو مصطلح
يعبر اإلنسان التي تلي المصطلح "الحدث"؛ ففي الوقت الذي ّ
29
السنة الثامنة -العدد (2012 )32
حس���ب تعبير علم���اء الفيزياء الفلكية-يعبر عنها بمصطلح نجد القرآن الكريم ّ المصطلحين، "الفت���ق" ،وإذا قارن���ا بي���ن َ ف���إن الف���رق بينهم���ا يكم���ن ف���ي أن المصطلح األول (المصطلح اإلنس���اني) يعب���ر ع���ن االنفج���ار ،وه���ذا معن���اه أن ّ النتيجة ستكون الدمار والخراب. أما المصطلح الثاني وهو المصطلح يعب���ر عن حادثة القرآن���ي "الفت���ق" ،فإنه ّ س���تظهر عل���ى إثره���ا الحي���اة والوجود، تماما حقيقة ما حدث عقب وهذا يوافق ً االنفتاق -أي بعد بداية الكون مباشرة- كم���ا نصت عليه اآلية الكريم���ةَ ﴿ :أ َو َل ْم او ِ ات َوا َ َ ض أل ْر َ َي َر ا َّل ِذ َ الس َم َ ين َك َف ُروا أ َّن َّ اه َما﴾(األنبياء.)30: َكا َن َتا َر ْت ًقا َف َف َت ْق َن ُ
القراآن الكرمي يحدد املفاهي��م ،ويجعل املادة وجتان�سا املعاجلة اأك��ر تنا�سقً��ا ً م��ع الفكر الب���رشي ،الأن اللغة املتداول��ة يف الق��راآن الك��رمي ه��ي اللغة نف�سها الت��ي ُولد بها االإن�سان ،وجنده يجعل االإن�سان يتاأقلم ب�سهولة مع امل�سطلحات العلمية املتداولة.
-2الرتق :وهي اللفظ���ة العلمية التي تدل على االجتماع
وااللتحام بدل مصطلح "النقطة المادية" التي يستعملها علماء الفيزياء. -3الطي :لقد حقق علماء الفيزياء الكونية في الس���نوات
العشر األخيرة ،قفزة نوعية في موضوع دراسة وجود المجال الزمن���ي للك���ون الذي نعيش���ه ،وقد أثار هذا ،اهتم���ام الباحثين رغم تنوع مشاربهم الفكرية والمجتمعية. فف���ي الوقت الذي يطل���ق فيه علماء الفيزي���اء الكونية على وضعي���ة الكون في نهاية حيات���ه مصطلح "االنكماش األعظم" ( ،)Big Crunchف���إن الق���رآن الكريم يس���تخدم مصطلح "الطي"
���ي ���وي الس���ماء كط ���و َم َن ْط ِ مصدا ًق���ا لق���ول رب العالمي���نَ : ﴿ي ْ َّ َ َ َ َ ِّ ِ الس ِ ���دا َع َل ْي َنا ِإ َّنا ُك َّنا ���ج ِّل ِل ْل ُك ُت ِ يد ُه َو ْع ً ���ب َك َما َب َد ْأ َنا َأ َّو َل َخ ْلقٍ ُن ِع ُ ّ َف ِ ين﴾(األنبياء.)104: اع ِل َ مصطلحا يقابل -4التكوير :في الوقت الذي ال نجد فيه ً
يعبر ع���ن وضعية نهاي���ة عم���ر الش���مس ،فإن الق���رآن الكري���م ّ الش���مس ف���ي مرحلتها النهائي���ة ،بلغة بس���يطة التركي���ب ،قوية س الداللة ،سهلة الفهم ،حيث يقول تبارك وتعالىِ ﴿ :إ َذا َّ الش ْم ُ ُك ِّو َر ْت﴾(التكوير.)1:
-5م ت ت تترج :إذا كان علم���اء الفيزياء يس���تخدمون مصطلح
"االخت���الط" في فيزياء الس���وائل للداللة على اتحاد س���ائلين، السنة الثامنة -العدد (2012 )32
30
مصطلحا فإن الق���رآن الكريم يس���تخدم ً علمي���ا بس���يط التركي���ب ه���و مصطل���ح ًّ ���رج" ،مصدا ًق���ا لق���ول رب العالمين: َ "م َ
���ن َي ْل َت ِقي ِ ان َب ْي َن ُه َما َب ْر َز ٌخ ﴿م َر َج ا ْل َب ْح َر ْي ِ َ َ ِ ِ ال َي ْبغ َيان﴾(الرحم���ن ،)20-19:ألن البحرين َ ال يطغ���ى أحدهما عل���ى اآلخر ويذهب عذب���ا بخصائص���ه ،ب���ل يبق���ى الع���ذب ً ملحا بالرغم من تالقيهما. والملح ً -6الف ت ت تتروج الكوني ت ت تتة :عل���ى الرغم م���ن الجهود المبذولة م���ن طرف علماء الفيزي���اء الفلكي���ة لمعرف���ة م���ا ي���دور في العال���م الكون���ي ،فإن العقل البش���ري ما ي���زال يدرس ظواهر فلكية عديدة ،نذكر أخي���را ب�"الثقب اصطلح علي���ه منه���ا م���ا ُ ً األس���ود" حسب التعبير اإلنس���اني .ومن أجل استيعاب ذلك، ومعرف���ة المصطلح داخل اإلط���ار العلمي العقالني الصحيح، كان الب���د م���ن ق���راءة المصطل���ح م���ن المنظوري���ن اإلنس���اني والقرآني. فحس���ب علماء الفيزي���اء ،نذكر منهم الباح���ث اإلنجليزي " "Richard Whaitال���ذي توص���ل ف���ي س���نة 1989م إل���ى فك���رة مفادها ،أن الثقب األسود يأتي نتيجة فقدان الكتلة ،وأن هناك نجوم���ا منهارة بالغة الكثافة تق���وم بابتالع ما يقترب منها .وإن ً كن���ا ال نش���اطره ال���رأي ،فإن هذا االعتقاد ب���دأ يتبدد في اآلونة علميا أن األجس���ام التي األخي���رة (1998-1997م) ،إذ ثب���ت ًّ تقت���رب م���ن الثقب األس���ود ال تنفلت منه ولو كانت س���رعتها تساوي سرعة الضوء 300000كم/ث. معنى ذلك أن قوة الجاذبية عند حافة الفروج الكونية تكون ج���دا ،مما س���يولد للجس���م الذي جذبه الثقب األس���ود كبي���رة ًّ س���رعة تف���وق بكثير س���رعة الضوء .فهو من جه���ة ُيبتلع كيفما كانت س���رعته ،ومن جهة أخرى فإن الجس���م ُيبتلع -وهذا أمر كبر حجمه. مهم -مهما ُ األم���ر ال���ذي ال يعك���س فكرة نجم ما تح���ول بعد انقضاء يدعيه بعض علماء الفيزياء حياته إلى ثقب أس���ود -حس���ب ما ّ جس���ما يكبره صغيرا ال يمكن أن يبتلع جس���ما الكوني���ة -ألن ً ً ً آالف المرات.
تبني المصطلح القرآني "الفروج"، لذلك نرى من األنسب ّ أي األب���واب الكوني���ة أو المنطق���ة الت���ي تفص���ل بي���ن فضائين مختلف���ي التكوين ،كم���ا ينص على ذلك كتابن���ا العزيز ،حيث َ اها الس َما ِء َف ْو َق ُه ْم َك ْي َ ف َب َن ْي َن َ يقول رب العزة﴿ :أ َف َل ْم َي ْن ُظ ُروا ِإ َلى َّ وج﴾(ق.)6: اها َو َما َل َها ِم ْن ُف ُر ٍ َو َز َّي َّن َ أم���ا امتص���اص النج���م ع���ن طريق "الثق���ب األس���ود" ،فإن عبر عنه بالمصطل���ح "هوى" مصدا ًقا لقوله الق���رآن الكريم قد ّ الن ْج ِم ِإ َذا َه َوى﴾(النجم ،)1:معنى ذلك أن النجم ينطفئ ﴿و َّ َ : خاضعا للقوى الخارجية. نوره ،ويصبح بالتالي ً
في ميدان الرياضيات
كثيرا –1اآلفاق :إذا تتبعنا أنش���طة اإلنس���ان العملية ،نجد أن ً م���ن المفاهي���م التي بناها ف���ي العقود الماضية ،ق���د ُأعيد النظر فيها أو التفكير فيها .ومن بين القضايا التي نريد وضعها تحت المجه���ر -على س���بيل المثال -م���ا ُيصطلح علي���ه ب�"الالنهاية" ( ،)Infiniالذي يعتمد عليه علماء الرياضيات في أغلب األحيان حينما يريدون دراس���ة قضايا مثل؛ معرفة نهاية سلس���لة حينما يأخذ المتحول فيها قيمة كبيرة .أو متوالية رياضية ،أو دالة ،أو ما ش���ابه ذل���ك حينما يؤول المتغير فيها إل���ى قيمة تجعل قيمة جدا. المتوالية أو الدالة كبيرة ًّ أما القرآن الكريم ،فإنه ينقلنا من عالم التفكير الفلسفي إلى مجال التطبيق العملي ،كما أنه يربي عقلنا على التفكير العلمي، ويدفعن���ا الس���تعمال المصطل���ح المناس���ب والقاب���ل للتطبيق. ف���ي ه���ذا المج���ال نس���تخدم مصطل���ح "اآلف���اق" ،ويكون مفتوحا م���ن الجهة اليمن���ى كما يقول المج���ال الزمن���ي وقتئ���ذ ً آه بِا ُ ِين﴾(التكوي���ر .)23:ويعمم ذلك أل ُفقِ ا ْل ُمب ِ ﴿و َل َق ْ ���د َر ُ س���بحانهَ : ���ن ِريهِ ْم َآيا ِت َنا ِفي اآل َف ِ اق َو ِفي َأ ْن ُف ِسهِ ْم َح َّتى َي َت َب َّي َن ﴿س ُ بقوله َ : َل ُه ْم َأ َّن ُه ا ْل َح ُّق﴾(فصلت.)53: وعلى س���بيل المثال؛ إذا أخذن���ا مجموعة األعداد الطبيعية ( ،)...5 ,4 ,3 ,2 ,1 ,0فإن���ه ال يوج���د ع���دد طبيع���ي يمكنن���ا اعتب���اره أكبر عدد ممكن في مجموعة األعداد المذكورة ،كما أن���ه ال يوجد ع���دد ُينهي مجموعة األع���داد الطبيعية المذكورة غالبا نصطل���ح عليه بالع���دد الالنهائ���ي -فيمكننا القولآن ًف���ا ً عندئ���ذ؛ إن أف���ق مجموعة األع���داد غير موج���ود ،أو نقول إن مجموعة األعداد الطبيعية تمتد إلى األفق. -2المكممتان "أين ما-أينما" الوجودية :يمكن قراءة ذلك
ف���ي القرآن الكريم واس���تخدامه كمكممتين رياضيتين مصدا ًقا هلل َو ِ لقول رب العالمينَ ﴿ :ف َأ ْي َنما ُتولُّوا َف َثم َو ْج ُه ا ِ ���ع هلل إ َِّن ا َ اس ٌ َ َ َّ ِ يم﴾(البقرة .)115:و"أينما" اس���م ش���رط جازم في محل نصب َعل ٌ ظرف مكان متعلق بما بعده .ومعنى ذلك من الناحية الرياضية ويعبر أنه مهما تكن وجهة اإلنس���ان الزمكانية فإنه س���يجد اهللّ . القرآن الكريم عن ذلك وفق العالقة الممثلة في س���ورة البقرة تحل مكان "مهما يكن" ،وكذلك لفظة " َث َّم" آية " :115أينما" ّ تحل مكان "يوجد". ّ -3مجموعة المستقر :عندما نستعمل التعبير اإلنساني في لغة الرياضيات ،فإن المصطلح يجب أن يكون ش���فاف الطرح وي���ؤدي المعن���ى .لذلك نأخ���ذ مصطلح "مجموع���ة الوصول" ونبدله بالمصطلح القرآني الممثل بمجموعة المستقر مصدا ًقا لقول رب العالمينِ ﴿ :ل ُك ِّل َن َب ٍإ ُم ْس َت َق ٌّر﴾(األنعام.)67: -4يس ت ت تتتوي :نعل���م أن مصطل���ح التس���اوي ال يمك���ن اس���تخدامه ف���ي ش���تى المج���االت ،لذل���ك كان م���ن األنس���ب اس���تعمال المصطل���ح القرآني ال���ذي يعكس النظ���رة الحقيقية العلمي���ة للمصطل���ح ،ويتعل���ق األم���ر بمصطل���ح "يس���توي" اب مصدا ًق���ا لقوله تعالىَ ﴿ : اب َّ الن���ارِ َو َأ ْص َح ُ ال َي ْس َ���ت ِوي َأ ْص َح ُ ا ْل َج َّن ِة﴾(الحشر.)20: -5االنتماء :يمكن اس���تخدام حرف الج���ر "من" للداللة ���ال َل ٍة ِم ْن ﴿و َل َق ْد َخ َل ْق َنا ا ِ ���ان ِم ْن ُس َ إل ْن َس َ عل���ى االنتم���اء الكل���يَ : ين﴾(المؤمنون.)12: ِط ٍ
-6االختي ت ت تتار :وهو المصطلح "أو" الذي يدل على حرف ���م ِم ْن َب ْع ِد َذ ِل َك عط���ف للتخيير أو للتنويعُ ﴿ :ث َّم َق َس ْ ���ت ُق ُل ُ وب ُك ْ ِ ار ِة َأ ْو َأ َش ُّد َق ْس َو ًة﴾(البقرة.)74: َفهِ َي َكا ْلح َج َ المعبر عنه ف���ي الرياضيات بمصطلح -7العط ت ت تتف :وه���و ّ لبس���ا ف���ي المعنى ،لذلك "التقاط���ع" ،وه���ذا التعبير قد ُيحدث ً نصطل���ح علي���ه في تعبيرنا الرياضي بالعط���ف بالواو "و"ُ ﴿ :ق ْل الص َم ُد َل ْم َي ِل ْد َو َل ْم ُيو َل ْد﴾(اإلخالص.)3-1: ُه َو ا ُ هلل َأ َح ٌد ا ُ هلل َّ ه���ذا ويمك���ن للباحثين اس���تخراج كثير م���ن المصطلحات تمكنهم من إثب���ات أصالة القرآن المرتبط���ة بقضاي���ا إعجازيةّ ، الكريم وسنة نبيه المصطفى وإعجازهما الخالد في الزمان والمكان. (*) كلية العلوم ،جامعة محمد الخامس -الرباط /المغرب.
31
السنة الثامنة -العدد (2012 )32
علوم
محمد هاشم البشير*
أطول مطاردة القتناص جسيم في تاريخ الفيزياء
اكتش���ف الفيزيائي���ون حتى اآلن 12لبنة من لبنات بن���اء المادة ،واآلن بعد عام���ا م���ن البحث ربما توصلوا إلى اكتش���اف اللبن���ة التي أفلتت منهم ً 50 طيلة هذه الس���نوات أو ما يس���مى "بوزون هيغز" في ختام العام 2011م. فقد تناقلت الصحف خبر اكتش���اف جس���يم بعد معلومات جمعت من تجربتين ،أدت إلى اكتشاف البوزون الجديد الذي صدمتني فيه تسميته ب�"الجسيم الرب"!
السنة الثامنة -العدد (2012 )32
32
من هنا بدأت القصة
تبدأ قصة "جس���يم هيغز" منذ العام ،1964حيث اس���تحوذت فكرة الجسيم المفقود على عقل الشاب "بيتر هيغز" خرج منها بحيل���ة رياضية بس���يطة وبالغة األهمية في نف���س الوقت .ومن دون حيلة "هيغز" كانت المعادالت في فيزياء الجسيمات مملة
حصرا من دون كتلة. عامرا بالجس���يمات ورتيب���ة ،تصف كو ًنا ً ً ولكن من دون كتلة ال تنشأ نجوم وال كواكب ،وال وجود للبشر
ف���ي عالم كهذا .وبحيلة "هيغز" توفرت للعلماء أداة يصلحون به���ا معادالتهم ،وبها تمكنوا من صياغ���ة "النموذج المعياري" للمادة ،الذي يمثل النظرة الش���املة لفيزياء اليوم .وكل ما على
العلماء أن يفعلوه ،هو أن يثبتوا وجود جس���يم "هيغز" ،فأنفقوا أكث���ر من 3مليارات يورو للبحث عن جس���يم .البد أن يكون ف���ي هذا الجس���يم ما يس���تحق عناء البحث عن���ه واإلنفاق عليه
كثيرا من العلماء يرون أن نصف النتائج "مطبوخة". برغ���م أن ً
محاوالت جسر الهوة بين العملي والنظري
تذهب النظرية إلى أن جسيمات "هيغز" ُتصنع كل دقيقة ،ولكن الغالبي���ة الس���احقة منه���ا ُتف َقد ب���ال رجعة في وابل الجس���يمات
المتصادم���ة .وال يتحلل إال واحد من كل ألف جس���يم "هيغز" إلى "أش���عة غام���ا" ذات طاقة عالية ،ويأم���ل العلماء بأن تكون هذه هي اللحظات النادرة التي يرصدون فيها وجود الجسيم.
ولك���ن عدد مث���ل هذه المناس���بات التي م���رت عليهم ،صغير، بحي���ث ال يقتن���ع الفيزيائي���ون بأنه���م عل���ى ص���واب .ولكنه���م م���ع ذلك متش���جعون بحقيق���ة أن التجربتين الرئيس���تين اللتين
أجراهم���ا العلم���اء ف���ي مختب���ر المنظم���ة األوروبي���ة لألبحاث
ف���ي ع���ام أو عامين .عكف عل���ى تحقيق هذه المهم���ة الجبارة ما يزيد على العش���رة آالف عالم من مختلف االختصاصات،
وبميزاني���ة كلية وصلت إلى 6ملي���ارات يورو ،وضعت تحت تصرفه���م من أج���ل إطالق تخصص علمي ما يزال في المهد، هو فيزياء الجسيمات الالمتناهية في الصغر.
حي���ث تعتب���ر فيزي���اء الجزئي���ات بمثاب���ة س���باق المائ���ة متر
بالنس���بة للعلم ،فهي تجذب األضواء وتس���تقطب االهتمامات والمنافسة الشديدة ،لكن تقدمها بطيء على صعيد اإلنجازات والتطبيق���ات العملي���ة .وهي تق���وم على فيزي���اء النصف األول
م���ن القرن العش���رين ،التي طرح���ت من األس���ئلة النظرية أكثر مختبريا، مم���ا قدمت من اإلجاب���ات الناجعة والمقنعة والمثبتة ًّ حتى أن هناك هوة عميقة صارت تفصل بين الحقلين النظري
والمخب���ري ال يمك���ن جس���رها .فل���م يتمك���ن العلم���اء س���وى
التع���رف على %5فقط من المادة في الكون ،والبد من العثور على المفتاح السحري المتمثل ب�"بوزونات هيغز" وإال سينهار
الص���رح العلمي للفيزياء المعاص���رة ...فقبل اقتحام المجهول للبح���ث ع���ن النس���بة المجهولة للمك���ون الكون���ي وهي %95 ال الس���يطرة التام���ة والكامل���ة على الخمس���ة تقريب���ا ،ينبغ���ي أو ً ً
حاليا وشرحها وتفسيرهاًّ ...أيا كان ،تمكن بالمائة المتكش���فة ًّ العلم���اء من رص���د "بوزن" يعادل نح���و 125ذرة هيدروجين.
ومن الجهة األخرى ،لم يكن هناك دليل ملموس على اكتشاف جدا، الجسيم ،بل مؤشرات إلى وجوده ،لكنها مؤشرات شيقة ًّ
كم���ا دأب مدي���ر المنظمة األوروبية لألبح���اث النووية "رولف هوير" على القول المرة تلو األخرى.
النووية ،س���جلتا إش���ارات متماثلة .ويتفق فريقا العلماء اللذان إشكالية معرفة أم إشكالية منهج؟ أجريا التجربتين المنفصلتين ،على أن المس���ألة يجب أن ُتحل
قلي���ال من العل���م يؤدي كم���ا ق���ال الش���يخ "الش���عراوي" ف����"إن ً
33
السنة الثامنة -العدد (2012 )32
قليال من كثي���را من العلم ي���ؤدي إلى اإليم���ان، إل���ى اإللح���اد، ً ً كثيرا من الفلس���فة ي���ؤدي إلى الفلس���فة ي���ؤدي إل���ى اإللح���ادً ، ���ه ْد ُت ُه ْم ﴿ما َأ ْش َ اإليم���ان" ،من ه���ذا المنطلق فإن اهلل يقولَ : او ِ ات َوا َ ال َخ ْل َق َأ ْن ُف ِس���هِ ْم َو َما ُك ْن ُت ُم َّت ِخ َذ ض َو َ أل ْر ِ ���م َ الس َ َخ ْل َق َّ ي���ن َع ُض ًدا﴾(الكهف .)51:فعملية الخل���ق بأبعادها الثالثة؛ ا ْل ُم ِض ِّل َ خلق الكون ،وخلق الحياة ،وخلق اإلنس���ان ،هي عملية غيبية منفردا إل���ى تصور ال يمك���ن لإلنس���ان أن يص���ل فيه���ا بجه���ده ً صحي���ح .والخل���ق ه���ي عملية غيبي���ة ،وهدى ما أخب���ر به ربنا جدا. ف���ي القرآن العظي���م ،واآليات في هذا الص���دد كثيرة ًّ وكل تصور يخلو من وحي الس���ماء فه���و تصور قاصر وباطل وغي���ر كام���ل .وقضي���ة الخلق هي قضي���ة يحتار فيها اإلنس���ان، ويحت���اج فيه���ا إلى هداية ربانية حتى يصل إلى تصور صحيح. وقضية خلق الكون وخلق الحياة وخلق اإلنسان ،هي من أكثر القضاي���ا الت���ي أرهقت العلماء ،لذلك فاإلنس���ان إذا انطلق في ال البح���ث في هذه القضية ب���دون هداية ربانية ،فقد يضل ضال ً بعيدا. ً إن اإلش���كالية ف���ي البح���ث ع���ن جس���يم "هيغ���ز" ليس���ت إش���اكلية معرفة بقدر ما هي إش���كالية منهج .فس���ؤال "كيف"، ف ال يطاب���ق س���ؤال س���يدنا إبراهي���م لربه َ ﴿ :أرِ ِن���ي َك ْي َ ُت ْحيِ���ي ا ْل َم ْو َتى﴾(البقرة )260:بقدر ما هو محاولة لمعرفة الخلق، وهذا نبأ به "س���تيفن هوكنج" عندما قال ب�"أن الكون ال يحتاج إل���ى خالق ،فس���ؤال ال�"كيف" هنا هو س���ؤال ف���ي المنهج ،أي ���مها منهج البحث عن بدء الخلق ،أي ما الخطوات التي ّ نترس ُ لنصل إلى هذه الحقيقة؟" .ولكن كيف لنا أن نتحقق من صحة ال أداة موثوقة لتقرير أس���س المعرفة المنه���ج وكفاءته ،وأنه فع ً اليقيني���ة ،وق���د يس���تتبع ه���ذا بأس���ئلة ع���ن دور العق���ل وطبيعته وإمكانيات���ه في االش���تغال عل���ى هذه المح���اور ،أو عن حدود السنة الثامنة -العدد (2012 )32
34
تفد إلى العقل من الحس المطلق والنسبي في المعطيات التي ُ
الخارجي ،أو من باطنه كمعطيات فطرية أولية على قول وهو القول الحق .وهذا يعني وجود مطلقيات وثوابت مغروزة في جدا ،وأن إطالق النسبية هو بذاته الفكر ،وأنها محددة وقليلة ًّ
أيضا أن المطلق جزء من تكوين العقل زعم مطلق ،مما يعني ً البشري حتى وإن كابر.
الخطورة واالنحراف
الخط���ورة الماثلة اآلن هو أننا أصبحنا نتخذ "المنهج العملي"
كقائد "معصوم" للعقل البشري ،ولكن وبما أن المنهج العملي معن���ي بالم���ادة والماث���ل والمحس���وس؛ فه���و إذن مقصور في
إثباتات���ه عل���ى ذلك ،وال يصح أن يتجاوز هذا اإلطار المحدد، ألنه يعتمد على أدوات بحثية ،لها طبيعة معينة تفقد مصداقيتها
الح���ظ هنا أن العلمي���ة أو جدواه���ا إن ج���اوزت ه���ذا اإلطار. ْ يقرر اإلط���ار ،وهذا التحديد قبل���ي ،يعني ليس الفك���ر ه���و من ُ
ومجرد تصورنا لذلك س���يجعلنا من منتجات المنهج العلمي، ُ بديهي���ا -مدركين بأن المنه���ج العلمي ال يعدو أن يكون آليةًّ معرفة في نطاق معين هو "المادة" ،وال يملك مقومات المحدد
النهائ���ي للحقائ���ق جملة ،أي أنن���ا يمكن أن نكتش���ف "بوزون هيغ���ز" ونثبت وج���وده ،ولكن لن يعطين���ا الحقيقة الكاملة عن
الخل���ق .لذل���ك؛ المنه���ج العلم���ي ،أح���د أدوات العقل وليس تأم���ل ...هل يس���تطيع وحي���دا للمعرف���ة أو الحقيق���ة، مص���درا ْ ً ً ش���يئا في مباحث القي���م؟ وأظن أنك المنه���ج العلم���ي أن يقرر ً
تدري ما أهمية القيم في حياة اإلنسان بما هو إنسان ،وكل هذا دون أن نشكك في صدقية المنهج العلمي؟
(*) رئيس جمعية الفيزياء بجامعة وادي النيل /السودان.
ثقافة وفن
د .مريم آيت أحمد*
مستويات الحوار الحضاري مع اآلخر الح���وار مب���دأ راق ال ي���كاد يرفض���ه عقل س���ليم ،وه���و خطوة أولى نح���و التعرف على الذات وإزالة س���وء الفهم داخل الدائرة الواحدة (الذين يش���تركون في ثقافة وحض���ارة واح���دة) ،وه���و المدخل "اإلنس���اني" لالقت���راب من الدوائ���ر الخارجية
ومقنعا ،ال يت���م -عادة -في ومؤث���را مثمرا ً ً (خ���ارج الحض���ارة الواح���دة) ...وحت���ى يكون الح���وار ً
يق���در كل منهم اآلخر ،تكون ظ���روف غير طبيعية .وكأي نش���اط إنس���اني إذا ح���دث بين متكافئين ّ ل���ه ثمرات���ه وفوائده .وبالعكس إذا تم في ظروف "طارئة" وبي���ن غالب ومغلوب ،فإن نتائجه -في
35
السنة الثامنة -العدد (2012 )32
الغالب -ال تكتس���ب صفة االس���تمرار حتى وإن خففت بعض
وألن ه���ذا الح���وار -بطبيعت���ه -ه���و حوار بين ش���باب مختص يض���م مجموع���ات متع���ددة م���ن االختصاصات؛ فيها ش���باب مختص في علم العقائد والش���رائع واألديان ،وأطر متخصصة في التاريخ والفقه وأنظمة الحكم ،وباحثون في علم االجتماع والسياسة واالقتصاد والعمران. فموائ���د الح���وار م���ع اآلخ���ر تقتض���ي -حت���ى نخ���رج م���ن نف���ق التعمي���م -توزيع االختصاص���ات ،وتخصي���ص الندوات والمؤتم���رات ،وحلق���ات النق���اش ل���كل مح���ور عل���ى ح���دة، قادرا عل���ى ضبط الحوار في إطاره حتى يصبح الش���باب فع ً ال ً وموقع���ه .وبذل���ك يس���تطيع أه���ل االختصاص مم���ن أهلناهم للمنافس���ة الحضارية العالمية ،أن يتحدثوا لغة مشتركة يفهمها جيدا شباب الثقافات والحضارات المراد الحوار معها. ً
التع���اون ،وثمرات حس���ن المعاش���رة ،والذوق ال���ذي ال يحقر
الحوار اإلنساني
مواطن االحتقان واأللم أو ساعدت على تجاوز ما يهدد أحد
األط���راف .والحوار ل���ه مس���تويات مختلفة باخت���الف قضاياه
وموقع المتحاورين.
حوار التعايش
فهن���اك ح���وار التعايش بين الناس حول موض���وع التعايش بين أف���راد األم���ة الواح���دة أو بي���ن أفرادها وبين أف���راد الحضارات األخرى .وهذا المس���توى من الحوارات ،هدفه إزالة الحواجز
الت���ي تعي���ق التواص���ل ،وتولد الجف���وة والكراهية بي���ن األفراد العاديي���ن ،ومس���رحه وموضوعه ،المش���اعر اإلنس���انية والحياة عاليا من الثقافة ومعرفة اآلخر اليومية .وهو ال يتطلب مستوى ً بقدر ما يحتاج إلى اس���تحضار األخوة اإلنسانية ،وفوائد روح
اآلخرين أو يس���خر من ثقافتهم أو يقوم بما يجرح مشاعرهم. وه���ذا المس���توى من الح���وار فط���ري يتجلى في حي���اة الناس اليومي���ة وعالقاته���م اإلنس���انية ،إذ يدخ���ل ف���ي إطاره الش���اب
المزارع ،والصانع ،والعامل البس���يط ...وهؤالء الشباب ينبغي أن ال يس���تثنوا من فهم أدبيات حوار التعايش كما فهمها جيل
سلفنا الصالح وطبقوها بالتعايش والتراحم مع أهل الذمة كما
وأصل عايش���هم رس���ولنا الكريم صلوات اهلل وس���المه علي���هّ ، ل���ه بمعاه���دة وفد نج���ران وصحيف���ة المدينة المن���ورة .وأكمل
عم���ر بن الخطاب منهج المدرس���ة النبوي���ة بتتويج تاريخنا اإلسالمي بالعهدة العمرية ،ببنودها اإلنسانية الراقية في مراعاة حقوق وواجبات أهل الكتاب.
الحوار المعرفي
وه���و حوار بي���ن أصح���اب الفكر والعلم���اء .وهذا المس���توى
يتطل���ب منا الي���وم ،وأكثر من أي وقت مضى مع ثورة العولمة
واالنفتاح العالمي ،أن نؤهل كوادر من ش���بابنا للمش���اركة فيه،
م���ن أولوي���ات الح���وار الحض���اري ،دف���ع الح���وار ف���ي اتج���اه معرف���ة "اإلنس���ان" ،فه���ذه المعرف���ة ضروري���ة للوق���وف عل���ى م���دى ج���دوى الحوار ،إذ لو كان اإلنس���ان حلق���ة متطورة من
الس���الحف والدي���دان والق���رود ،وكان���ت الحي���اة قائم���ة على أس���اس تنازع البقاء وصراع المصال���ح المادية ،لقامت العالقة
على أس���اس الح���رب والقتال ال عل���ى الفكر واللس���ان ...أما الح���وار اإلنس���اني ،إنما يقوم بين البش���ر على خلفي���ة اإليمان بالجانب المعنوي الس���امي في اإلنسان وليس الجانب المادي
فق���ط .فنزع���ة "الطي���ن" وحدها ال ت���ؤدي إلى تعايش س���لمي، ب���ل تدف���ع إلى ص���راع مصلحي محم���وم ،والس���الم والتعايش
والتفاه���م والح���وار ،مقوالت تتحقق ف���ي ظل نفخة روح رب
﴿و َل َق ْد العالمي���ن في هذا الموجود البش���ري بالتعبي���ر القرآنيَ : اك ْم ِم ْن اس ِإ َّن���ا َخ َل ْق َن ُ ﴿ي���ا َأ ُّي َها َّ َك َّر ْم َن���ا َب ِني َ آد َم﴾(اإلس���راءَ ،)70: الن ُ ِ ِ ار ُفوا إ َِّن َأ ْك َر َم ُك ْم ِع ْن َد َذ َكرٍ َو ُأ ْن َثى َو َج َع ْل َن ُ اك ْم ُش ُ ���ع ً وبا َو َق َبائ َل ل َت َع َ ا ِ اك ْم﴾(الحجرات.)13: هلل َأ ْت َق ُ
وتمكينه���م م���ن مفاتيح الدخ���ول إل���ى المعرف���ة العميقة بفكر دور الشباب في البناء الحضاري وحضارة اآلخر ،والقدرة على فحص مقوماتها والتعرف على
أسسها ومبادئ منظومتها الفكرية والفلسفية والدينية والسياسية
واالقتصادية .وهذا الشباب المرشح لتأهيله للحوار ،ينبغي أن
متمكنا ح ًّقا من تتوفر فيه ش���روط أولى وأهم ،وهي أن يكون ً
فهم مكونات وأسس حضارته ،ولديه القدرة على استخالص قيمه���ا األصيل���ة الت���ي ال تتأثر بالراهن الظرف���ي من األحداث. السنة الثامنة -العدد (2012 )32
36
من أس���باب تراجع مفاهيم الح���وار الندي المتكافئ مع اآلخر ل���دى ش���بابنا ،عدم وج���ود تخطيط محكم بعي���د المدى ،حتى فغالبا ما ف���ي حالة وج���ود أهداف وطموح���ات لهذا الح���وار، ً تك���ون غير مدروس���ة وال واقعي���ة .وهكذا ،نج���د أن تدخالت عموما بالفوضى واالرتجالية وغياب شباب مجتمعاتنا ،تتميز ً التخطيط المحكم بتأهيل كوادر وأطر ،وإهمال تقويم أهداف
وطموحات الحوار الفعال مع اآلخر.
فالحدي���ث ع���ن الح���وار ،يتطل���ب
مواجه���ة التحدي���ات واألخ���ذ بأس���باب
النج���اح والقوة ،ومن ذلك فهم أس���باب
تراجعن���ا عن ال���دور الحض���اري ألمتنا، وش���روط بناء الش���خصية الس���ليمة عند الش���باب ،وتنمي���ة المه���ارات اإلبداعية
إليج���اد الحل���ول المناس���بة للمش���اكل المطروح���ة،
والتحل���ي
بالجدي���ة
واإليجابية والصرام���ة لمواجهة الواقع، وحس���ن تخطي���ط المش���اريع واإلع���داد
الحدي���ث إذن ال تخص حس���ن اآلداب
اإن ال�سباب املكلف بالتاأهيل يف عملية احل��وار احل�ساري ال ميك��ن تخلي�س��ه من عقدة الدوني��ة واملوؤام��رة باجت��اه االآخر ،اإال اإذا هياأنا له �سعو ًرا متعاليً��ا بال�سخ�سي��ة الدينية واملعرفي��ة واحل�ساري��ة م��ن خالل حميطه الداخلي.
للمستقبل ،والتشبث بالقيم اإلسالمية.
بناء الدور الحضاري المؤهل للحوار
إن بن���اء الدور الحضاري كما عبر عنه "مالك بن نبي" ،يحتاج
اليوم من الشباب حسن توظيف ثالثية مشكالت النهضة وهي مشكلة اإلنسان ،مشكلة التراب ،مشكلة الوقت.
-1اإلنس ت ت تتان :إن المش���روع اإلصالح���ي يب���دأ بتغيي���ر
اإلنسان ،ثم بتعليمه االنخراط في الجماعة ثم بالتنظيم فالنقد
فق���ط ،ب���ل هي ج���زء رئيس���ي م���ن تقنية
العم���ل .ونحن نجد ه���ذه الصلة بصورة
ال رمزي���ة ف���ي مجتمعاتنا حين ن���رى تعط ً ف���ي العمل واإلنجاز بمجرد تعطل تبليغ األفكار بالكالم.
فالمش���كلة مشكلة أفكار في النهاية،
ألننا بها ننظ���م حوارنا في إثبات ذواتنا،
وبه���ا ندف���ع طاقتن���ا ف���ي إرادة العط���اء واإلنج���از .وأهمية األف���كار التي نحاور
به���ا في حياة مجتمع معي���ن ،تتجلى في صورتي���ن؛ فه���ي إم���ا أن تؤث���ر بوصفه���ا
عوام���ل نه���وض بالحي���اة االجتماعي���ة، وإما أن تؤثر عل���ى عكس ذلك بوصفها
ال. عوامل ممرضة تجعل النمو االجتماعي صعبا أو مستحي ً ً
فاإلنس���ان ال���ذي ال يؤم���ن بالتفاع���ل والح���وار ينته���ي من
الوجهة النفسية إلى التشاؤم ،كما ينتهي من الوجهة االجتماعية
إلى تكديس المشكالت.
ومشكلة شبابنا اليوم تتخلص في جوهرها في عدم توجيه
البناء .وتبدأ عملية التطور من اإلنسان ،ألنه المخلوق الوحيد ّ
األف���كار ،ولذل���ك كان علين���ا أن نح���دد المعن���ى الع���ام لفكرة
كميا ال يعطي لبن���اء الحض���ارة .أما المادة ،فإنها تبق���ى ً تجميعا ًّ
فهن���اك ماليي���ن العقول الش���ابة المفكرة في البالد اإلس���المية،
ال في أنفس���نا، يتحق���ق التغير ف���ي محيطنا ،يجب أن يتحقق أو ً
جزء كبير منها في العبث والالفاعلية.
تمهيدا الق���ادر على قيادة حرك���ة البناء وتحقيق قف���زات نوعية ً
التوجيه؛ فالتوجيه هو تجنب اإلسراف في الجهد وفي الوقت.
نوعيا إال بس���المة اس���تخدام اإلنس���ان له ،فلكي كيفي���ا ًّ معن���ى ًّ
صالح���ة ألن ترش���د وتوج���ه للبناء الحض���اري حتى ال يذهب
وإال فإن الش���اب المس���لم لن يس���تطيع الحوار مع نفس���ه وبناء
إن الشباب المكلف بالتأهيل في عملية الحوار الحضاري
داخله الحض���اري الذي يمكنه من الحوار مع اآلخر ،وعندها
ال يمك���ن تخليصه من عق���دة الدونية والمؤامرة باتجاه اآلخر،
أن يع���رف نفس���ه ...أن يع���رف اآلخري���ن وأن ال يتعال���ى
والحضاري���ة من خ���الل محيط���ه الداخلي .فالمحي���ط الثقافي
شروطا ثالثة: يجب على شباب أمتنا أن يحقق بمفرده ً
متعاليا بالش���خصية الديني���ة والمعرفية ش���عورا إال إذا هيأن���ا له ً ً
عليهم وأن ال يتجاهلهم ...ويجب عليه في الشرط الثالث أن
الداخلي الذي يكبر الش���اب في ثناياه ،هو المكون األساس���ي
أجريت عليها كل عمليات التغيير بعد التنقية والتصفية من كل
-2التت ت ت تراب :وهو العنص���ر الثاني الذي يش���كل الحضارة
يعرف اآلخرين بنفس���ه ولكن بالصورة المحببة ،بالصورة التي
إلطاره وعقله الجمعي الثقافي.
رواسب القابلية لالنهزام والتخلف الحضاري ...فالشباب هو
م���ع اإلنس���ان والوقت في فك���ر مالك بن نب���ي .وحيث يتكلم
إن الح���وار هو أبس���ط ص���ورة لتبادل األف���كار ،وهو بذلك
ع���ن التراب من حيث القيمة االجتماعية ،وهي قيمة مس���تمدة
الهدف ،وهو نقطة البدء في التغيير والبناء.
المرحل���ة التمهيدي���ة البس���يطة ل���كل عم���ل مش���ترك .فقواع���د
ع���ن الت���راب ال يبحث في خصائص���ه وطبيعت���ه ،ولكن يتكلم م���ن قوة وتمكي���ن مالكيه .فحينما تكون قيم���ة الوطن مرتفعة،
37
السنة الثامنة -العدد (2012 )32
غاليا ل���دى أبنائه، يك���ون ثم���ن الت���راب ً
وهنا يكمن دور الشباب في رفع المزيد
م���ن قيمة أوطانهم كم���ا ثمنوها األجداد
حفاظا على واآلباء بأرواحهم ودمائهم، ً س���المة أمنن���ا وكرامة حريتن���ا التي نزخر
بعي���دا ع���ن ربقة المس���تعمر. به���ا اليوم ً -3الوقت :وه���و العنص���ر الثالث
ف���ي تكوين الحضارة .إن حظ الش���باب
العربي واإلسالمي من الساعات ،كحظ
نقدر أي ش���عب متحض���ر ،ولك���ن ه���ل ّ قيم���ة الوق���ت؟ هل ينته���ي الوقت عندنا
إل���ى إنج���از أم إل���ى ع���دم؟ هل أحس���نا
احل��وار مب��داأ راق ال ي��كاد يرف�س��ه عق��ل �سلي��م ،وهو خط��وة اأوىل نح��و التع��رف عل��ى ال��ذات ،واإزال��ة �سوء الفهم داخل الدائرة الواحدة (الذي��ن ي�سرتك��ون يف ثقافة وح�س��ارة واح��دة) ،وه��و املدخل "االإن�ساين" لالقرتاب من الدوائر اخلارجية.
ترشيد شبابنا في عملية توظيف العالقة التكاملية بين حس���ن استغاللهم للوقت
وحضاريا ويش���كل اس���تثناء ثقافيا غن���ي ًّ ًّ بتع���دده الثقافي ،فنج���د أن كل دولة من
دول���ه تتضم���ن ثقاف���ات متفرع���ة تنصهر
ف���ي ثقاف���ة وطني���ة موح���دة (الهوي���ة
العربي���ة) ،بي���د أن ذل���ك التن���وع يط���رح ال عمي ًق���ا :هل ه���ذا التع���دد يعيش س���ؤا ً ف���ي حالة صراع ،أم أنه ف���ي حالة هدوء
ت���ام وخض���وع ألدبي���ات الح���وار البناء؟
يبقى المجتمع بشكل عام والشباب
بش���كل خ���اص ،ه���و البوصل���ة ف���ي تحدي���د مدى تالؤم وتناف���ر المفهومين؛
فالش���باب ل���ه دور ري���ادي ب���ارز ف���ي
م���دى تعاطيه مع مس���ألة القي���م وعالقته
باآلخ���ر ،ألن الش���باب ف���ي األول
في خدمة ترابهم لبناء حضارة مجتمعاتهم العربية واإلسالمية؟
واألخي���ر ،ه���و وح���دة متنقل���ة تس���اهم ف���ي التطبي���ع والتلوث
النهض���ة والح���وار الحض���اري ،بتفكي���ك وتحلي���ل مش���كالت
االنفتاح المحافظ عن القيم لتش���كل فض���اء للحوار والتبادل.
أصل لش���روط لقد أمعن مالك بن نبي ،هذا المفكر الذي ّ
متج���اوزا -بوضعه���ا تحت مجه���ر مختبر البن���اء الحض���اري، ً
المقاربة الحضارية -الظواهر السطحية إلى الجذور المتغلغلة
الثقاف���ي إن ه���ي ترك���ت قيمه���ا ،أو تتعام���ل ف���ي إط���ار م���ن وحتى يكون للش���باب دوره كمس���اهم في الحوار الثقافي،
يج���ب أن يأخ���ذ بعي���ن االعتبار م���دى تطلع���ات المجتمعات
ف���ي األعم���اق ،وباح ًثا عن الس���نن والقواني���ن الكفيلة بتحويل
بعي���دا ع���ن تكري���س أش���كال العصبي���ة العربي���ة وغاياته���ا ً والتفرق���ة ...والح���وار الثقاف���ي الداخلي بي���ن مكونات الذات
المطل���ق إلى حال���ة البناء واإلنج���از ،ومن المطالب���ة بالحقوق
وتفكيرا في العوائق الفكرية والنفس���انية والحضارية واآلخ���ر، ً
بالح���وار نجده���ا ف���ي ال���ذات ال عن���د اآلخ���ر .واس���تكمال
المس���بقة والمترتب���ة عب���ر العص���ور وف���ي وظيفته���ا الثقافي���ة.
ش���باب أمتن���ا م���ن حال���ة العجز إل���ى الق���درة والفعالي���ة ،ومن حال���ة مرحلية االنبه���ار والتقليد واالقتباس المتبع باالس���تتباع
مزدوجا للذات ونق���دا فكريا ال ،ألن���ه يتطلب عن���اء ليس س���ه ً ً ًّ ً
ال ،ألن مفاتي���ح ح���ل المش���كالت إل���ى القي���ام بالواج���ب أو ً
المتراكم���ة ف���ي الترس���بات الجيولوجي���ة لكت���ل األح���كام
تفعيل الش���خصية المس���لمة باتجاه الواق���ع ،يتطلب االعتراف
وبناء على ذلك فإنه على الشباب المسلم إعمال الفكر في
سياس���ية ،جغرافية ،عرقية ،تاريخية ...إلخ) من حيث وجوب
الخ���وض في حوار ثقاف���ي حضاري تنموي بن���اء ،وكذا القيام
غوصا في معارف الممارس���ات الغنية بتنويعاته���ا .كما يتطلب ً
في عالقة تؤسس لفضاء التعايش وتركز على القيم األخالقية.
وغربلته���ا وإث���راء أف���ق ال���ذات بم���ا يتوافق مع ه���ذه المعارف
أساس���يا ف���ي نبذ كل أش���كال العصبية العرقية ال باعتب���اره مدخ ً ًّ
بتعدد التش���كيالت داخ���ل عالمنا اإلس���المى (مذهبية ،فكرية،
ال ،والوقوف عند النقاط الس���لبية التي تحول دون نق���د ذاته أو ً
إفضائه���ا إل���ى دالل���ة مقصدية واح���دة ،تنتج بدوره���ا كما من
بنقد اآلخر؛ غايته تحقيق التوافق والتصالح مع الذات واآلخر
اآلخ���ر الغرب���ي ،علوم���ه وفنون���ه وآداب���ه وفلس���فاته ،وفرزه���ا
فال بديل للش���باب المس���لم من أجل التنمية ،إال بحوار ثقافي
وتوجهاته���ا وغاياته���ا ،ويعمل على إنماء قدراته���ا ومهاراتها.
دور جوهري للشباب في الحوار
مهم���ا وهو فضاء موقعا يحت���ل العال���م العربي جيوس���تراتيجيا ًّ ً ًّ السنة الثامنة -العدد (2012 )32
38
والمذهبية والفكرية.
(*) كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية ،جامعة ابن طفيل ب�"القنيطرة" /المغرب.
قضايا فكرية د .خالد عمارة*
ﺷﺠﺎ ًﻋﺎ ﻛﺎن "اﻟﻔﺎﺗﺢ" ﺑﻼ ﻣﺮاء ..ﺑﻄ ًﻼ ﻣﻦ أﺑﻄﺎل اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﻛﺎن ﺑﻼ ﺷﻚ ..وﻟﻜﻦ ﺑﻼ ﺣﻜﻤﺔ مل ﻳﻜﻦ أﺑﺪًا ،وﺑﻼ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﺑﺎﻟﻔﻦ اﻟﻌﺴﻜﺮي مل ﻳﻜﻦ ﻗﻂ ..ﻓﺎﻟﱰﻛﻴﺰ ﻋﲆ ﺷﺠﺎﻋﺘﻪ دون ﺣﻜﻤﺘﻪ ،وﻋﲆ ﺑﺴﺎﻟﺘﻪ دون ﻣﻌﺮﻓﺘﻪ ،ﺧﻄﻞ ﰲ اﻟﺮأي وﻗﺼﻮر ﰲ اﻟﻨﻈﺮ. *** )اﳌﻮازﻳﻦ(
األخالق
ودورها في نهضة األمة المتابع للتاري���خ المكتوب ،يرى أن الحضارة
أو الهند ،وقد يكون تركيا أو البرازيل ،وقد يكون الصومال أو
واحدة وال ش���عب متميز .فقد بدأت الحضارة
دائما الس���ؤال :لماذا تقدم اآلخرون وتخلف العالم ويثور ً
والنهضة ال تس���تقر في مكان وال ترتبط بثقافة في الشرق مع الفراعنة والبابليين على مدى ( )5000عام ،ثم
انتقلت إلى الغرب في الحضارة اليونانية والرومانية ،ثم عادت إلى الش���رق م���ع الحضارة اإلس���المية ،ثم انتقل���ت إلى أقصى غ���رب أوروبا م���ع العصر الحديث .وبالتال���ي فالتوقع بانتقالها
إلى مكان آخر شيء منطقي ،قد يكون هذا المكان هو الصين
مصر ...فمن يدري أين تبدأ الدورة الجديدة وإلى أين تنتهي؟
اإلسالمي في الثالثمائة سنة األخيرة؟ هل بسبب غياب القيادة
والزعيم الملهم؟ بالطبع ال ،فهناك العديد من مشاريع النهضة ومح���اوالت اللح���اق بالعالم المتقدم ،ولكنها فش���لت .ومثال
ه���ذا؛ مش���روع "محمد علي" ف���ي مصر ،والذي فش���ل بمجرد هزيمت���ه العس���كرية أم���ام تحال���ف الغ���رب والدول���ة العثمانية.
39
السنة الثامنة -العدد (2012 )32
بالرغم من أن اليابان -كمش���روع للنهضة -قام في نفس الفترة
اإلسالمي ،نجد الرسول عليه الصالة والسالم قد وضع بدين
عسكرية أشد مرارة وكارثية في الحرب العالمية الثانية ،ولكن
حولها .ومع انتش���ار اإلس���الم انتش���رت اللغ���ة العربية ،فكانت
الزمني���ة م���ع مصر (القرن الثامن عش���ر) ،وتعرضت إلى هزيمة
الفارق اليوم كبير بين مشروع مصر واليابان.
اإلسالم مجموعة من المبادئ واألخالق التي جمعت الشرق الهوية العربية اإلس���المية جامعة لش���عوب شتى ،حتى لمن ال
من الممكن أن نسأل السؤال بصورة مختلفة :كيف نجحت
يدين بدين اإلسالم ولمن ال يتحدث العربية ،فأصبحت بوتقة
التف���كك والقبلي���ة واالس���تعباد واالحتالل إل���ى العالم األول،
ويدخل في صناعتها أعراق ولغات ش���تى من فارس���ي وتركي
حول اإلس���الم شعوب الشرق من الحضارة اإلس���المية؟ كيف ّ ومن���ار للعلم على مدى أكثر م���ن ثمانية قرون؟ بل وربما نجد في هذه الفترات بعض صور الفس���اد السياسي أو الحروب أو
التحدي���ات والكوارث ،ولك���ن المجتمع كان يجمعه وعي ما، وص���ورة ذهني���ة تجعله يمضي في طريقه إلى االتجاه الصحيح برغم المعوقات والمشاكل.
الوعي الجمعي ينبع من هوية مشتركة
إذًا فيمكنن���ا الق���ول ب���أن الس���ر في نهض���ة األم���م وتقدمها ،هو
الوع���ي الجمع���ي الذي يجمعه���ا على هدف واح���د وينبع من
س���ببا هوية مش���تركة .هذا الوعي الذي يجمع األمم ،قد يكون ً س���ببا للنهوض أو االستس���الم، في تقدمها أو تفتتها ،قد يكون ً
حافزا عل���ى التحدي ومواجهة الصعاب ،وقد يكون ق���د يكون ً الس���بب في االستس���الم أمام محنة أو هزيمة .ولصناعة الوعي الجمع���ي لألمم ،نحتاج إلى االتفاق على هوية ومبادئ تجمع يوحد مسارهم .فالجغرافيا وتقارب البشر ،ونحتاج إلى هدف ّ
الس���كن والم���كان وحده ،ال يكفي لعم���ل وعي جماعي ،فمن الممكن أن تس���كن قبائل متناحرة نفس المنطقة ،وكل منها له
هوية مختلفة وهدف مختلف.
إذا أخذن���ا ه���ذا االفت���راض وطبقن���اه عل���ى نهض���ة العال���م السنة الثامنة -العدد (2012 )32
40
تجمع ش���عوب الش���رق على مبادئ مش���تركة وفك���ر متقارب، وماالي���و وأردو ...إل���خ .وأصبح توجه الش���عوب في الش���رق وروحيا ماديا يعض���ده الثق���ة في الق���درة على صنع غد أفض���ل ًّ ًّ
وعقليا ،فانتشر العلم وازدهرت الصناعة والفنون. ًّ
وإذا حاولنا تطبيق نفس االفتراض على شعوب الغرب في
أوروبا وأمريكا ،نجد أن حالة النهضة صاحبها الش���عور بهوية
مش���تركة (يونانية رومانية مس���يحية) تجمع اإلنس���ان األوروبي أم���ام العالم ،وش���عور بالقدرة والقوة ،اس���تمده ف���ي البداية من
االنتصارات المتس���ارعة على الش���عوب األصلية لقارة أمريكا وأس���تراليا ،وتطورت ه���ذه الثقة مع الق���درة المادية إلى عصر االستعمار ،وتطورت الثقة الشديدة والشعور بهوية متفردة إلى حالة مرضية ،ظهرت في أوج حاالتها في النازية والفاشية من عنصرية واضطهاد لألجناس األخرى. إ ًذا َف ِلكي ننهض؛ ال يكفي فقط أن يكون هناك دس���تور أو قانون أو ديمقراطية شكلية ،بل يجب أن يصاحبها وعي جمعي
يتجم���ع الناس حوله ،ويتقدمها ،ويحرص على تفعيل القانون وتطبيق المبادئ للوصول إلى النهضة المادية والعقلية والروحيه.
األخالق هي الصورة الواقعية للوعي الجمعي
هذا الوعي الجمعي في الش���رق ،يجب أن يتضمن هوية عربية
إسالمية ،ولكن هذا وحده ال يكفي ،فالبد معه من أخالقيات تحاف���ظ عل���ى تجانس ه���ذه الهوية ،بل إن األخ���الق يجب أن تك���ون هي المحور األصي���ل لهذا الوعي الجمع���ي .فالمبادئ التي تش���مل ،ال تقتل وال تكذب وال تغش وال تس���رق مبادئ تحاف���ظ على أي كيان إنس���اني وتحميه م���ن الضياع .ولكن إذا
تحول���ت ه���ذه المب���ادئ إل���ى إيجابي���ة ،فيصبح الح���رص على
الص���دق واألمان���ة واإلتق���ان ج���زء م���ن الهوي���ة والثقاف���ة .فهنا
يك���ون صناعة الهوية وليس فقط حمايتها ،وهنا تتحول الهوية المجمع���ة والوعي الجمعي إلى ش���رف ،وتتح���ول المجموعة البشرية المؤمنة بوحدة الوعي الجمعي إلى جسد واحد .وعند ه���ذه المرحل���ة يصب���ح كل عضو ف���ي هذه الجماع���ة ،لديه من الكرام���ة والترف���ع ما يمنعه م���ن أن يأتي الدني���ة أو أن يفعل ما
اإذا اأردن��ا النه�سة االأخالقية لل���رشق ،فعلينا العمل عل��ى اإعادة بن��اء موؤ�س�س��ات التعلي��م ،واالإعالم، واملوؤ�س�سات االأهلية ،واحلكومة الر�سيدة ،ويكون املنب��ع ه��ي هوي��ة احل�س��ارة االإ�سالمي��ة وروحها، واالجتاه نحو نه�س��ة ال�رشق ،وتكون االأخالق هي التطبيق العملي والواقعي يف احلياة اليومية. عيبا والغش يعيب هويته من مفاسد األخالق .فيصبح الكذب ً
أي عضو في هذه الجماعة .في إهان���ة ،ال يرضاها على نفس���ه ّ حين إن الجماعة المتفككة يتحول كل فرد فيها إلى االنتهازية التي تسمح له بأن يفعل أي شيء وكل شيء في سبيل مصلحة عابرة أو مكس���ب ضئيل .فيمكنه أن يكذب أو يس���رق أو يغش أو يخ���ون مقابل أش���ياء تافه���ة أو حتى بدون مقاب���ل ،فيتحول
الك���ذب والغ���ش إل���ى ع���ادة ومرض ال يس���تطيع الش���فاء منه،
ويصبح خيانة الوطن ضرورة للبقاء والحصول على الرزق.
دائما على إن االس���تعمار والطاغية والديكتات���ور ،يحرص ً
هدم ثالثة دعائم في األمم المستضعفة كي يستمر في السيطرة عليه���ا هي؛ األمل واألخ���الق واحترام الذات .حين يهدم هذه
ال���ذي ينبع من هوية مش���تركة تجمع األمم عل���ى الثقة بالنفس وبالقدرة على النهضة ،ومنها ينبع األمل في غد أفضل .ويظهر هذا في الواقع في صورة احترام للنفس والمبادئ واألخالق، وبالتال���ي فاألخ���الق تكون الصورة الواقعي���ة للوعي الجمعي. وقد تميز التراث اإلسالمي بالحرص على استعمال األخالق داخ���ل وخ���ارج المجتم���ع اإلس���المي ،ف���ال تك���ون األخ���الق مقصورة على جنس أو عرق أو لغة أو دين ،ولكن ألن منبعها ه���و دي���ن اإلس���الم ،فقد كان هن���اك الحرص على نب���ذ التفرقة والتميي���ز بي���ن الش���عوب ،س���واء ف���ي المعامل���ة أو الحقوق أو الواجبات ،ومن باب أولى المعاملة األخالقية مع كل البش���ر. وربم���ا يظه���ر هنا الس���ؤال عن :كي���ف يتن���ازل البعض عن األخ���الق ف���ي المجتمعات؟ هل البولي���س المصري كله بدون أخ���الق حي���ن رض���ي بتعذيب المس���جونين في عهد "حس���ني مب���ارك؟" ه���ل الجيوش التي تقتل أهله���ا كلها بال أخالق؟ هل يمكن أن يتنازل اإلنس���ان عن مبادئه لمجرد طاعة األوامر؟ أم إنه شريك في الجريمة ومقتنع بما يفعل؟ أعتق���د أن أفض���ل إجاب���ة عل���ى هذا الس���ؤال ه���ي تجارب "س���تانلي ميلغ���رام" ف���ي جامع���ة "ي���ال" ب�"الوالي���ات المتحدة" والتي نش���رها في س���بعينات القرن العش���رين ،والتي أوضحت أن الكثير من البش���ر لديهم االستعداد للتنازل عن مبادئهم في س���بيل طاعة األوامر ،كي يحافظ على وجوده ضمن المنظومة العامة لمجتمع ما .وهذه الصورة من التنازل عن األخالق في سبيل طاعة األوامر ،وفي سبيل البقاء ضمن منظومة اجتماعية معينة هو شيء خطير .واألخطر أن هؤالء الذين يتنازلون عن دائما ،يجدون من الحجج أخالقهم في سبيل إرضاء ولي األمر ً واألس���باب ما يكف���ي ليجع���ل ضمائرهم مس���تريحة ،وليقنعوا أنفسهم واآلخرين أن ما يفعلون هو دفاع عن الحق والفضيلة. ولكن ما نريدهم؛ هم الفئة الرائدة التي تصنع المجتمعات، وال تنق���اد وراء القطي���ع الت���ي ال تتنازل ع���ن أخالقها من أجل طاعة األوامر ،والتي نصحنا الرسول فقال" :ال تكونوا َّإم َعة أحس���نا ،وإن ظلم���وا ظلمنا ،ولكن تقولون :إن أحس���ن الناس ّ وطنوا أنفسكم ،إن أحسن الناس أن تحسنوا ،وإن أساؤوا فال ِّ تظلم���وا" (رواه الترم���ذي) .ه���ؤالء هم من س���يبنون العصر الجديد لنهضة األمة اإلسالمية واستعادة مجد الشرق.
الدعائم يتحول البش���ر إلى قطيع من الحيوانات ،تتصارع على كيف يتحقق الوعي الجمعي في المجتمعات؟
الفتات وتتنافس في خدمة سيدها .وكما رأينا؛ فالوعي الجمعي
ه���ذا ينقلن���ا بالضرورة إلى الس���ؤال التالي وه���و :كيف نحصل
41
السنة الثامنة -العدد (2012 )32
عل���ى ه���ذا المجتمع صاح���ب الوع���ي الجمعي والق���ادر على
ه���ي الق���وة الوحيدة الجامع���ة التي ال تحتاج إلى اس���تيراد وال
( )80ملي���ون مصري لنحصل على هذه النهضة؟ وهل البد لنا
له���ا ،وتحافظ على اس���تقاللها وتفردها وثقته���ا بالنفس .وألن
النهضة واألخالق؟
فلتطبي���ق األخ���الق ال يمك���ن أن تك���ون القواني���ن كافي���ة ،وال
صناع���ة النهض���ة؟ وهل نحتاج إلى إعادة تربية مليار مس���لم أو
إل���ى تبعي���ة ،وبالتالي فهي ق���وة مجمعة لعناص���ر األمة وملهمة
من الربط بين الهوية الحضارية لألمة اإلسالمية وبين مشروع
كافيا لاللت���زام باألخالق، قوة الهوية المتجانس���ة تك���ون ً دافعا ً
بالنس���بة للس���ؤال األول ،كي نصنع ه���ذا المجتمع؛ نحتاج
يمكن أن يكون وراء كل مواطن ش���رطي يراقب أخالقه .البد
إلى وضوح رؤية للهوية المجمعة التي تجمع حولها الماليين وتقنعه���م بأحقيتهم ف���ي النهضة واالرتفاع إل���ى أعلى المراكز
حاضرا في أربعة بي���ن األم���م .وهذا الوضوح يجب أن يك���ون ً مؤسس���ات؛ اإلع���الم ،التعلي���م ،المؤسس���ات غي���ر الحكومي���ة
الت���ي تتعامل م���ع المجتمع (مثل الجمعي���ات الخيرية واألهلية
واألوق���اف والمؤسس���ات التربوية) ،والحكومة الرش���يدة التي ترعى المش���روع وال تحاربه وال تعطله ،بل تس���اعده (ونقصد بالحكوم���ة الرش���يدة؛ حكوم���ة واعي���ة مس���تقلة الق���رار ،تتبن���ى
مش���روعا للنهضة بعيد المدى) .التناغم بين هذه المؤسس���ات ً سيساعد على تحقيق هذا الوعي الجمعي بصورة أسرع ،ولكن
عدم التناغم ال يعني بالضرورة فشل مشروع الوعي الجمعي،
ولكنه يعني بطء تطوره .فمن الممكن أن نجد مؤسسات أهلية وإعالم تبني في اتجاه ،بينما تكون حكومة غير رش���يدة (سواء
نابع���ا من االقتن���اع واإليمان بها، أن يك���ون التص���رف بأخالق ً ولي���س هناك وس���يلة لهذا أقوى م���ن الوعي الجمع���ي واتحاد
الهوي���ة والهدف .هذه قاع���دة مطلوبة ال اس���تغناء عنها لنهضة فضال ع���ن أن الهوية اإلس���المية تميزت ع���ن الهوية أي أم���ة، ً األوروبية بأنها لم تعتمد العنصرية وسيلة للتأكيد على التميز.
تأكيدا على تفوق جنس على اآلخر، ف���ال نج���د في هذه الهوية ً أو الس���ماح بس���رقة وقتل ش���عوب ،بينما تمنع السرقة أو القتل داخل الش���عب المتفوق ،كما هو الحال في الغرب من الكيل
بمكيالين .فمن غير المقبول في األعراف األوروبية أن تسرق الحكوم���ة م���ال ش���عبها ،ولك���ن مقبول أن تس���رق م���ال األمم
الفقي���رة ف���ي أفريقيا وأمري���كا الالتينية!! ولكن هذا األس���لوب
ال ف���ي كالس���يكيات الحض���ارة غي���ر األخالق���ي ،ال يج���د قب���و ً
ج���اءت باالنتخاب الديمقراطي أو بالديكتاتورية) تهدم ما يتم
اإلسالمية ...وبالتالي فمن السهل الربط بين األخالق والهوية
االتجاهين سيستمر.
فتصب���ح األخ���الق الراعي األساس���ي ألي نهضة في الش���رق.
بناؤه ،ولكن الحركة المجتمعية س���تلعب الدور في تحديد أي
اإلس���المية له���ذه األمة ،بل من الواج���ب أن يكون هذا الربط،
بالنس���بة للنس���بة المئوي���ة المطلوب���ة لبدء عجل���ة التغيير في
ف���إذا أردن���ا النهضة األخالقية للش���رق ،فعلين���ا العمل على
مجتمع ،يحتاج لمش���روع النهضة ونشر األخالق .فهناك نقطة التحول التي تكون عادة تتراوح بين 10إلى 15في المائة من المجتم���ع .هذه النس���بة أثبت���ت الكثير من األبح���اث أنها كافية
ومؤثرة في تحريك دفة السفينة وعجلة القيادة ،فتكون القاطرة الكافي���ة لج���ر باق���ي المجتمع ورائه���ا .وهناك األمثل���ة الكثيرة
لذلك على مر العصور ،وليس هناك أوضح من مثال مدرس���ة النب���وة ف���ي دار "األرقم ابن أبي األرقم" ،الت���ي تربى فيها جيل سببا في الصحابة على يد النبي عليه الصالة والس���الم ،وكانوا ً
هداية الماليين وفي نشر الدعوى ونهضة الشرق.
أما بالنس���بة إلى الس���ؤال الثالث وهو :ه���ل البد من الربط
بي���ن األخ���الق والنهض���ة والهوية اإلس���المية لألم���ة؟ فاإلجابة
ب�"نع���م" ،ألن ه���ذه الهوي���ة ه���ي ما س���تحرك العام���ل والصانع والف���الح والش���رطي ورج���ل القان���ون والعال���م ...إل���خ .ه���ذه السنة الثامنة -العدد (2012 )32
42
إعادة بناء المؤسس���ات األربع :التعليم واإلعالم والمؤسسات األهلي���ة والحكومة الرش���يدة ،ويك���ون المنبع هوي���ة الحضارة
اإلس���المية وروحه���ا ،ويك���ون االتج���اه نح���و نهضة الش���رق، وتك���ون األخ���الق ه���ي التطبيق العمل���ي والواقعي ف���ي الحياة
اليومية لكل من يعيش هذا المشروع. (*)
أستاذ جراحة العظام ،جامعة عين شمس /مصر.
المراجع ()1
مقال الوعي الجمعي ،لألستاذ فتح اهلل كولن .مجلة حراء ،العدد.25 :
( )2الضمير المجتمعي ،إيميل دوركايم. ( )3االنصياع للسلطة ،ستانلي ميلجرام.
()4 جدا للعالم ،جيوفري بالني. تاريخ قصير ًّ
( )5نقطه التحول ،مالكوم جالدويل.
شعر
آدب* ّأدي ولد َّ
الناي في مقام التجلي ي ت ت تتا ناف ت ت ت َتخ النَّ ت ت ت ِ ور إس ت ت ت َتر ُ افيل ُّ تايْ .. والص ُ كنت أف َه ت ت ت ُتم ِف ْع َل النَّ ت ت ت ِ تاي ِفي ختََل ِدي ما ُ
تور َأرا ُه َتم ت ت تتا ِفي ُتك َم ت ت تتا إ ْذ َص ْح َ تص ت ت ت َتح النُّ ت ت ت ُ ُّ تج َّل ت ت تتى لِ ُر ِ ور حت ت ت تتى َ الم ْله ت ت ت ُتم الط ُ وح ت ت تتي ُ
ُر ِ ْح َم ٌة وح النَّ ت ت تتاي َمل َ ور ُ وح ت ت تتكُ ..ر ُ وحي ُ األرَو ِاح يَت ْعزف َها النَّ ت ت ت ُ تاي َم ْج ت ت ت َترى َصت ت ت ت َدى ْ بج ت ت ت ْتو ِف النَّاي َح ْش ت ت ت َتر َج ٌة فالم ْص َمتَ ت ت ت ُ تات َ ُ تث َع ْن ن ت ت ت ٍ تاي يُ َم ْو ِست ت ت تقُت َها الري ت ت ت ُتح تَت ْب َح ت ت ت ُ ِّ س ِّ الري ت ت ت ُتح وال ت ت ت ُّتر ُ وح ِ -في َم ْعنا ُه َم ت ت تتا -نَفتَ ٌ ون نا ِف ِتخت ت ت ت ِه تاي أتفت ت ت ت ُه ُع ت ت تتوٍد ُد َ النُّ ت ت ت ُ ون النَّ ت ت تتاي ِطينَتتُت ت ت ت ُه ونا ِف ت ت ت ُتخ النَّ ت ت تتاي ُد َ خم َرتَت ت ت ت ُه تاي يَ ْش ت ت ت َتر ُب ِس ت ت ت َّتر ال ت ت ت ُّتر ِ النَّ ت ت ت ُ وح ْ
الو ُجوِد َصت ًدى النَّ ت ت ت ُ صر ْ إح َس ت ت ت َ تاس ُ تاي يَت ْع ُ تت انظ ت ت ت ْتر لش ت ت ت تبَّابَ ِة َّ الرا ِع ت ت تتي إذا نُفتِ َخ ت ت ت ْ
ورَه ت ت تتا ِ ُور بنش ت ت تتيج النَّ ت ت تتاي َم ْست ت ت تط ُ زبُ ُ وتح ِري ت ت ت ُتر بَت ْي ت ت ت َتن األنا ِم ت ت ت ِتل تقتِي ت ت ت ٌتر ْ تور والم ْر َس ت ت ت ُ تالت ل َه ت ت تتا ِّ بالري ت ت ت ِتح َمت ْزُم ت ت ت ُ ُ ثور تارج النَّ ت ت تتاي َعت ت ت ت ْز ُف ِّ فختَت ت ت َ الري ت ت ت ِتح َم ْن ُ كالجست ت ت ت ِم باألنف ت ت ت ِ تور تاي والنَّت ت ت ت ُ تاس َم ْع ُم ت ت ت ُ ْ تور وح ِفتيت ت ت ت ِه إنت ت ت ت ُه ُّ ْ إن يَنف ت ت ت ِتخ ال ت ت ت ُّتر َ الص ت ت ت ُ تور ل ت ت ت ْتم يَنف ت ت تتخ ال ت ت ت ُّتر َ وح ِفيت َه ت ت تتا ِطينت ت ت ت ٌة بُت ت ت ت ُ تإن تَتَنت َّف َس ت ت تتها َ تور فتتت ْ فالك ت ت ت ْتو ُن َم ْخ ُم ت ت ت ُ ف ت ت ت ُتك ُّل ق ْل ت ت ت ٍ ور تب َ بصت ت ت ت ْتو ِت النَّ ت ت تتاي َم ْع ُص ُ
تور يَت ْه ُف ت ت تتو القطي ت ت ت ُتع لَ َه ت ت تتا أ ْعنا ُقت ت ت ت ُه ُص ت ت ت ُ
َت تاي يَت ْن ُد ُب َع ْهت ت ت ت َد َّ الرتْ ِق ُم ت ت تتذ ُفتِق ْ النَّ ت ت ت ُ ْترتُ ُه تاي ْ تش ت ت ت ُتكتو َس ت ت ت ِتح َ النَّ ت ت ت ُ تيق الن ت ت تتأي َزف َ الخ ْل ِد التي َس ت ت ت َتح َر ْت َّاي ِم ْن ِست ت ت ت ْتد َرة ُ الن ُ تاي يُت ْع ت ت ت ُ تول تت ت ت ت َ تذك ًارا َلم ْنبِتِت ت ت ت ِه النَّ ت ت ت ُ ونافخ النَّاي يَ ْح ِكي َص ت ت ت ْتو َت ُ "ك ْن" أ َزال ُ
َعنَ ِ ور اص ت ت ت ُتر الك ت ت ت ْتو ِن ُ قلب النَّاي َم ْش ت ت ت ُتط ُ لِذاك َس ت ت ت َّتم ْوُه ف ْه َو َّ الد ْه ت ت ت َترَ -م ْص ُدورتور؟ ِق ْد ًم ت ت تتا أبَانَ ت ت تتا فأيْ ت ت ت َتن ُ الخلت ت ت ت ُد ُ والحت ت ت ت ُ تور َك َم ت ت تتا يَ ِح ت ت ت ُّتن لت ت ت ت َدى ْ الهج ت ت ت َتران َم ْه ُج ُ ألص ت ت ت ِتل َم ُ تور ُك ٌّل َع َل ت ت تتى تَت ْوِقت ت ت ت ِه لِ ْ فط ت ت ت ُ
نفخ ُه ي ت ت تتا نتا ِف ت ت ت َتخ النَّ ت ت تتاي ُع ْجبِي ِحي ت ت ت َتن تَ ُ
تور ْ أن ال يَت ت ت ت ِد َّب ُبع ت ت تتوِد النَّ ت ت تتاي يَ ْخ ُ تض ت ت ت ُ (*) شاعر موريتاني.
43
السنة الثامنة -العدد (2012 )32
علوم
د .سعيد كامل بالل*
الرمان
في الحفاظ على حياة اإلنسان
وش ٍ وش ٍ ﴿و ُه َو الَّذِ ي َأ ْن َش��� َأ َج َّن ٍ رعع ���ات َو َغ ْي َر َم ْع ُر َ ات َم ْع ُر َ ���ات َو َّ الز ْر َ الن ْخ َل َو َّ قال تعالىَ : وا ِ���ن َث َم ِر ِه ِإذَا َأ ْث َم َر َوآ ُت آتوا الر َّم َ الز ْي ُت َ ُم ْخ َت ِل ًفا ُأ ُكل ُُه َو َّ ان ُم َت َش���ا ِب ًها َو َغ ْي َر ُم َت َش���ا ِب ٍه ُكلُوا م ْ ون َو ُّ ِين﴾(األنعام.)141: ال ُت ْس ِر ُفوا ِإ َّن ُه َ َح َّق ُه َي ْو َم َح َصا ِد ِه َو َ ال ُي ِح ُّب ال ُْم ْس ِرف َ في هذا المقال س���نحاول الكش���ف عن إمكانيات فاكهة الرمان ،واس���تعماالتها الوقائية والعالجية على مدى التاريخ اإلنس���اني ،م���ع التركي���ز على اس���تخدامات ه���ذه الفاكهة في الط���ب الحديث ،من خ���الل األبحاث المنش���ورة حدي ًثا في الدوري���ات العالمي���ة ،مما يكش���ف اإلعجاز القرآني في اإلش���ارة إلى ه���ذه الفاكهة واختصاصها بالذك���ر .إن الحضارات القديمة في األرض تكاد ُتجمع على أهمية الرمان وفوائده الطبية العديدة ،وتنظر إليه بعين التقدير واالعتبار. ففي الحضارة اليونانية القديمة ،فإن الرمان كان يمثل الحياة والتكاثر والزواج ،ودخلت حكاياته وفوائده الخارقة في نظرا ألن المحتضر عادة ما يطلب الرمان. كثير من األساطير اليونانية ،كما كان ُيعرف باسم "فاكهة الميت" ً ووجد في الرسوم الموجودة على المعابد المصرية والمصريون القدماء كانوا يعتبرونه ً واحدا من الفواكه المقدسةُ ، هزم في الح���رب .والبابليون اعتبروا أن القديم���ة .وال ُف���رس كان���وا يعتب���رون أن بذور الرمان إذا أكله���ا المقاتل جعلته ال ُي َ بذور الرمان هي العنصر المحفز للبعث والنش���ور .وعند الصينيين القدماء ،فإن الرمان يرمز للحياة األبدية ،ويس���تخدمه الصينيون بشكل كبير في فنون الخزف ،حيث يرمز إلى الخصوبة والوفرة والذرية الصالحة والمستقبل السعيد.
شجرة الرمان
ش���جرة الرمان ش���جرة جذابة متوس���طة الحجم ،يبلغ متوسط ارتفاعها حوالي خمس���ة أمتار وتعيش لسنوات طويلة .تبدأ
السنة الثامنة -العدد (2012 )32
44
اإلنتاج بعد الس���نة األولى إلى 15سنة ،حيث يبدأ اإلنتاج في
والمغ���ص المع���وي ،والتهاب���ات القول���ون ،وعس���ر الهض���م، والطفيليات المعوية ،وعلى األخص الديدان الشريطية. أمراض األجهزة التناسلية :مثل التهابات الجهاز التناسلي، واإلفرازات البيضاء ،وفرط الطمث. أمراض الجلد واألنس ت ت تتجة الرخوةُ :تستخدم القشرة كدهان خارجي في حاالت التهابات الجلد التحسسية ،حب الشباب، والتهابات الثدي. ويس���تخدم الرمان كذلك في أمراض الجهاز العصبي مثل ُ الش���لل ،والصداع ،والهس���تريا .وفي حاالت الشرج الجراحية مثل البواس���ير وسقوط المس���تقيم .وفي أمراض العين واألذن مثل آالم األذن ،وضعف اإلبصار .وفي أمراض الفم واألسنان مثل التهابات اللثة وآالم األسنان.
والعصي���ر ،والبذور الجافة ،وقش���رة الثم���رة ،واللحاء المحيط
الطب الحديث الرمان في ّ
التراجع ،وفي بعض الحاالت التي ُسجلت في جنوب أوروبا عاشت الشجرة ما يزيد على مئتي عام.
وهي شجرة دائمة الخضرة في كثير من المناطق ،ولكن في
بعض األماكن وبعض األنواع منها ،تتس���اقط أوراقها وتتجدد س���نويا .له���ا زهور جذاب���ة ،حم���راء برتقالي���ة ،وأوراق صغيرة ًّ
المع���ة رمحية الش���كل ،كما تتمي���ز ثمارها المعروف���ة بتيجانها
الكأسية ،وتتراوح ألوانها من األصفر إلى األحمر الغامق ،كما
تحت���وي الثمرة على العديد م���ن البذور المحاطة بحويصالت العصير المتعددة األضالع ،والمرصوصة بتداخل عجيب.
الطب الرمان في ّ
تقريبا كل أجزاء النبات ُتستخدم في األغراض الطبية؛ الزهور ً
بالسيقان والجذور.
كما أن الجزء المأكول من الثمرة يحتوي على نسبة %80
م���ن عصي���ر و % 20م���ن ب���ذور .والعصير يحت���وي على %85 م���ن ماء ،و %10من س���كريات ،و %1,5م���ن بكتين ،وحمض األسكوربيك والبوليفينولك فالفينويد.
أما الكيماويات النباتية الموجودة في الرمان فهي:
مهم���ا لنوعي���ن م���ن مركب���ات العصي ت ت تتر :يعتب���ر مص���درا ًّ ً البوليفينولك :أنثوثيانين وهيدروليزابل تاننيس. مهما لأللياف والسكريات والبكتين، البذورُ :تعتبر مصدرا ًّ ً
كما تحتوي على هرمون اإلستروجين.
لح ت ت تتاء الش ت ت تتجرة :يحت���وي عل���ى حم���ض البونيكوتانيك،
وحمض الجاليك -مانايت -بيليتيرين ميثيل ايزوبيليتيرين.
القش ت ت تترة الخارجية للثمرة :تحتوي على معظم الكيماويات
النباتية.
الرمان في الطب التقليدي
اس���تخدم الرم���ان في ُ
الطب التقليدي على
م���دى طويل من الزمان
ف���ي معظ���م حض���ارات
األرض ،وأهم استخداماته:
أمراض الجهاز الهضمي:
اإلس���هال
والدوس���نتاريا،
هناك العديد من األبحاث المنشورة حدي ًثا في الدوريات الطبية العالمية -وعلى األخص في السنوات القليلة الماضية -والتي ت���دل عل���ى األهمية الفائق���ة للرمان في العدي���د من المجاالت الطبية منها: فاعليت ت ت تته كعنصر مضاد لألكس ت ت تتدة :يحت���وي الرم���ان على عناص���ر ذات فاعلي���ة عالي���ة كمض���ادات لألكس���دة التي تعمل عل���ى الحفاظ على صحة الخلية اإلنس���انية وتقاوم األمراض. فالرم���ان يحت���وي عل���ى المئ���ات م���ن المركب���ات المعروف���ة، م���ن بينه���ا مركب���ات "البولي فين���ول" القابلة للذوب���ان )Soluble ،(Polyphenol Compoundsوالت���ي ثب���ت أن له���ا فاعلي���ة عالي���ة ك�"مض���ادات لألكس���دة" مث���ل "حم���ض اإليالجي���ك" )Ellagic (Acidو"حمض الجالي���ك" ) (Gallic Acidو"األنثوثيانين" )An- (thocyaninsو"الكاتيتش���ين" ) (Catechinsو"اإليالجيك تاننيس" ).(Ellagic Tannis عالج وقائي وكيماوي للسرطان :ثبت أن خالص���ة الرم���ان ف���ي الجرعات طبيعي���ا العالجي���ة ،تس���بب مو ًت���ا ًّ ل�"لخالي���ا الس���رطانية" )Apopto- (sisدون أن تؤث���ر عل���ى الخالي���ا استخدم بنجاح في الس���ليمة .وقد ُ ع���الج س���رطان الث���دي ،حي���ث ثبت أن���ه يوقف نمو الخاليا السرطانية ،ويمنع انتشارها،
45
السنة الثامنة -العدد (2012 )32
ويزي���د م���ن معدالت "الم���وت الطبيع���ي" ) (Apoptosisللخاليا
الس���رطانية .كم���ا ثبتت فاعليته العالية ف���ي العالج والوقاية من س���رطان المثانة البولية ،حيث يوقف نمو الخاليا الس���رطانية، كما يتدخل في العوامل الوراثية للخاليا الس���رطانية بما يؤدي
إلى موتها في النهاية.
عالج أمراض القلب واألوعية الدموية :ثبتت فاعليته العالية
كمض���اد لتصل���ب الش���رايين ،وقد تم���ت تجربته عل���ى الفئران
فوجد أن���ه يقلل م���ن نمو الب���ؤر التصلبية؛ واإلنس���ان بنج���احُ ،
وذل���ك آلث���اره المضادة لألكس���دة عل���ى "الليبوبروتين" وآثاره عل���ى "الخاليا الالقم���ة" ) (Macrophagesو"الصفائح الدموية"، واستعادة الوظائف الطبيعية المضطربة للعضلة القلبية.
مض ت ت تتاد للميكروب ت ت تتات ولاللتهابات :ثبت���ت فاعليت���ه العالية
كمض���اد للفيروس���ات ومضاد للبكتيريا وكمض���اد لاللتهابات، ومضاد للعوامل المسببة للتشوهات الوراثية ،كما يقوي جهاز
ويقوي المناع���ة ،ويمن���ع تليف الكبد ،ويحفز التئ���ام الجروحّ ، أيضا يمكن أن يساهم في منع الخاليا األنسجة الرخوة ،وهذا ً السرطانية من االنتشار.
الرمان في شعارات الهيئات الطبية العالمية
"الجمعي���ة الطبي���ة البريطاني���ة" )،(British Medical Association
وث���الث من الكلي���ات الطبي���ة الملكية وه���ي "الكلي���ة الملكية
لألطب���اء"
)(Royal Collage of physicians
ألطب���اء النس���اء والتولي���د"
و"الكلي���ة الملكي���ة
)Royal Collage of Obstetricians and
(Gynaecologistsو"الكلي���ة الملكية
للقاب���الت" )Royal Collage
ضمن الرمان في شعاراتها ،مما يعكس أهميته ُ ،(of Midwivesت ّ الكبرى في الممارس���ة الطبية ،وقناعة هذه المؤسس���ات الطبية
العريقة بفوائده الكبيرة.
ه���ذا االس���تعراض التاريخي إضافة إلى الدراس���ات الطبية
الحديث���ة والموثقة ،تدل على أهمية الرمان ودوره في الحفاظ عل���ى حياة اإلنس���ان ،وع���الج الكثير من األم���راض .ومن هنا
تأت���ي اإلش���ارة القرآني���ة المعجزة له���ذه الفاكه���ة باعتبارها من النع���م واآلي���ات الدال���ة على ق���درة اهلل وعظمت���ه ،حيث إن
ه���ذا القرآن قد نزل على نبي أمي في أمة تفتقد أس���باب العلم ّ والحضارة ،فإن هذا يدل على صحة نسبة هذا القرآن. (*) كلية الطب والعلوم الطبية ،جامعة الطائف /المملكة العربية السعودية. السنة الثامنة -العدد (2012 )32
46
إلى اهلل من جديد أبْجديّ ِ ات ذاتِها َش َرَعت ا ُأل ّم ُة تقرأ، وألِ ْف باء اإليمان من جديد تتعلّم، وأيّ َام اهلل ّ تتذكر... فيا بُوم الظالم، على بصيص الضوء ال تحوم!.. جيل الضوء يقوم، فعلى األبواب ُ وش ُهبه على الثغور ثواقب، ُ وسهامه في قلب الظالم نوافذ... ***
علم النفس
سعاد الواليتي*
ﻗﺒﻞ أن ﺗﻘﺪم ﺣﺎو ْر ذوي اﻟﺨﱪة واﺳﺘﴩﻫﻢ ،واﺳﺘﺄﻧﺲ ﺑﺄﻓﻜﺎرﻫﻢ ..ﺛﻢ أﻗﺪم وﺗﻮﻛﻞ ،ﻓﻜ ْﺮ ،ﻗﺪﱢر، اﺣﺘﻂ ﻷﻛ َرث اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ ﺳﻮ ًءا ..ﻓﺈنْ مل ﺗﻔﻌﻞ ﻓﻼ ﺗﻠﻮﻣﻦﱠ إﻻ ﻧﻔﺴﻚ إذا ﺧﺎب أﻣﻠﻚ وﻋﻈﻤﺖ ﻣﺼﻴﺒﺘﻚ. *** )اﳌﻮازﻳﻦ(
إضاءات للتعافي من االكتئاب مهما بلغت حدة الش���عور باالكتئاب ،فإنه يمكن السيطرة علي���ه م���ع الوق���ت وقلي���ل م���ن الجه���د ،ب���ل والع���الج إن استدعى األمر .وقد تطورت وسائل العالج والتعامل مع
االكتئاب ،س���واء من الناحية الدوائية أو العالج الس���لوكي والتحكم بنمط
التفكي���ر وردود الفع���ل ،عن طريق تمارين ذاتي���ة أثبتت نجاحها في عالج حتى أعتى حاالت االكتئاب.
إن أس���اس فكرة العالج الس���لوكي اإلدراكي ،هو أنن���ا بإمكننا أن نعيد
برمجة أذهاننا ،ونتخلص من األفكار االنهزامية السلبية.
إن الشعور بالكآبة شعور مؤلم يسنتفد طاقة الفرد ،ويسبب له الشعور
بالخور والهبوط واإلحباط ،إال أنه قابل لالنفراج بالبدء بخطوات صغيرة
47
السنة الثامنة -العدد (2012 )32
نح���و التغيير ،والبناء عليها خط���وة بخطوة بثبات وصبر وأمل، واستعانة بالمحيط االجتماعي المساند.
جدا التعافي من االكتئاب يحتاج إلى طاقة ،وهذه يصعب ًّ
إيجاده���ا أثناء هجمة الكآبة ،بل لعل مجرد التفكير ببذل طاقة مجهودا لمن يعانيها .الوضع صعب ،لكنه ليس يعتبر بحد ذاته ً
ال ،وإليك بعض الخطوات أو اإلضاءات التي قد تعين: مستحي ً
-1حاف ت ت تتظ على دائرتك االجتماعية مهما بلغ بك الحال:
حي���ن تضي���ق ب���ك األمور ،ق���د تميل نفس���ك إلى االنط���واء أو
االنع���زال وتجنب الناس ،حاول أن تقاوم هذا الش���عور ،وخذ خطوات -ولو بس���يطة -باتج���اه االختالط مع من ترتاح إليهم عادة ،ومن يبثون في نفسك السعادة والتفاؤل.
ق���د تش���عر بالخج���ل من اكتئاب���ك ،أو بالخ���وف من ظهور
عالمت���ه لم���ن حولك ،أو بانعدام الطاقة للمحادثة والمش���اركة
في أي ش���يء ،لكن م���ن المهم أن تعل���م أن االنعزال يزيد من كآبتك ،ويغرقك في أعماق أفكارك السلبية.
تذك���ر مهما بلغ بك الضي���ق ،البد أن تقاوم إغراء الهروب
واالنطواء؛ قد يمتص االكتئاب طاقتك ،لكن ال تسمح له بأن يوقف حياتك.
يجب علين��ا اأن نعتاد على التعرف عل��ى ذواتنا واإعطائها قدرها من الثقة واالإميان بعي ًدا عن نظرة اأو راأي من حولنا. ولي�س املق�س��ود الغرور بالنف�س ،واإمن��ا الو�سول اإىل قيمة ذاتية ثابتة ال تتاأرجح بتاأرجح راأي االآخرين. المت���وازن المكون م���ن البروتنيات ،والكربوهي���درات المركبة
-2اعتن بنفس ت ت تتك :لك���ي تتغلب عل���ى االكتئ���اب ،فإنك
ال) والفاكهة والخضار ...تجنب السكريات (الخبز األس���مر مث ً
وغي���ر ذات أهمي���ة (قضاء الوقت في الطبيع���ة ،تجنب األخبار
والوجبات الس���ريعة -فلها تأثير س���لبي عل���ى تقلب المزاج...
بحاج���ة ألن تلت���زم ببع���ض الخط���وات الت���ي ق���د تبدو بس���يطة والبرام���ج المحزن���ة ،ني���ل الكفاي���ة م���ن الن���وم ،)...إال أن له���ا
جدا في تبديد ما تشعر به من غم. المفعول الملحوظ ًّ
مكتئبا قد تكون -3مارس الرياض ت ت تتة بانتظام :حين تك���ون ً
الحرك���ة ه���ي آخر ما ت���ود القيام ب���ه ،لكن الرياض���ة أداة فعالة ف���ي مكافح���ة االكتئاب ،بل لقد أثبتت األبحاث أن الممارس���ة
كثيرا ما تحقق نف���س النتائج التي تحققها المنتظم���ة للرياض���ةً ،
األدوية مضادات االكتئاب في رفع مستوى الحيوية ،وخفض ش���عور اإلجهاد لدى الش���خص المكتئب .لم يتوصل العلماء إلى الس���بب وراء هذه الحقيقة ،إال أنهم وجدوا أن الممارسة
المنتظم���ة للرياضة ،تزيد من كمية وفاعلي���ة الناقالت العصبية المحسنة للمزاج ،كما ترفع من نسبة هرمون اإلندورفين الذي
يؤثر على المشاعر اإليجابية ،وتخفف من التوتر ،وتعين على االسترخاء العضلي.
-4اجع ت ت تتل غ ت ت تتذاءك متوازنً ت ت تتا وصحيًّا بقدر اإلم ت ت تتكان :لم
تخط���ئ الحكمة القائلة" :أنت ما تأكل" .واحرص على الغداء السنة الثامنة -العدد (2012 )32
48
والكربوهي���درات المك���ررة -كاإلكث���ار من البطاط���س المقلية وأكث���ر م���ن تناول الموز والرطب واللب���ن ،إذ لها ت�ؤثر في رفع مستوى السيريتونين واستقراره. أكث���ر م���ن األغذي���ة المحتوي���ة عل���ى ده���ون "األومغ���ا ،"3
ألن له���ا األثر الملح���وظ في رفع المعنوي���ات ،وهي متواجدة في األس���ماك الدهنية ،خاصة س���مك الس���المون ،والماكريل،
والسردين ،والمكسرات (خاصة الجوز).
-5تجنب األفكار الس ت ت تتلبية وارفضها :يق���ول األخصائي النفس���ي "ديفيد بيرنز"" :المكتئبون هم أس���اتذة فن الخداع ،إذ أنهم بنظرتهم المتشائمة ،لديهم القدرة على قلب النجاح إلى فشل ،والفشل إلى إخفاق".
كثي���ر مم���ن عنده���م القابلي���ة للكآب���ة ،ه���م من أكث���ر فئات
وإنج���ازا ،إال أنه���م مصاب���ون ب���داء التفكير نجاح���ا المجتم���ع ً ً الس���لبي المتواصل حول أنفسهم ومس���تقبلهم .ورؤيتهم تلك وبائسا. كئيبا ً تشوه نظرتهم للكون حتى يغدو كل شيء حولهم ً إن التوج���ه نح���و التفكي���ر الس���لبي ،ال يعتب���ر م���ن أعراض
الكآب���ة فق���ط بل هو أساس���ها ،إذ بما أن أفكارن���ا ومعارفنا هي
التي تش���كل مزاجنا ف���إن األفكار اإليجابية تترجم نفس���ها إلى مزاج حيوي ومتفائل ،بينما األفكار السلبية المتكررة قد تغرق
صاحبها في بحر من اليأس.
ًّ ِ -7 مستقال عن مدح الناس أو ذمهم :إذا ابن لنفسك كيانًا
اعتمدنا في اس���تقرارنا النفسي على مدح الناس أو ذمهم ،فلن أبدا. نعرف الراحة وال القرار ً
الم���دح والذم وجهان لعملة واح���دة ،كالهما حكم ورأي
ال تتعجل النتيجة ...من س���ار عل���ى الدرب وصل ...أكثر
ش���خصي على اآلخرين ،وينبغي علينا أن نكتسب المناعة من
المبك���ر ،واإلحباط أم���ام ما يرى من طريق طويل أمامه وجهد
تماما على النفس بحلول أدنى س���وف يكون له األثر العكسي ً
شيوعا عند من يعاني من األفكار السلبية هي االنهزام األخطاء ً
كليهم���ا .فااللتف���ات للم���دح ما ه���و إال تغذية للغ���رور والذي
شاق في تصيد أفكاره السلبية والصبر على تغييرها.
نقد أو ذم.
ال تل���م نفس���ك على س���لبية أف���كارك؛ اكش���ف باالعتراف
بوجودها والحاجة لتغييرها ،ثم س���ر في طريقك بإيجابية وثق
بالوصول.
حد ْثها بلط���ف اهلل وفضله كلم���ا حدثتك نفس���ك بتش���اؤمِّ ، ْ
ورعايت���ه وعنايت���ه .وجه انتباهك وتركي���زك لكل ما هو إيجابي
وبن���اء ف���ي الن���اس حول���ك؛ وف���ي األح���داث وف���ي الظروف، ���ك َف َت ْر َضى﴾(الضح���ى .)5:الجانب الذي ي���ك َر ُّب َ ���و َف ُي ْع ِط َ َ ﴿و َل َس ْ توج���ه انتباه���ك إليه ،هو الجانب الذي س���وف ينم���و ويقوي. ولو تأملت في أحاديث الرسول ،لوجدت الكثير من األدلة
عل���ى أث���ر نظرتك في واقعك؛ مثل قول���ه " :أنا عند ظن عبد
بي"" ،تفاءلوا بالخير تجدوه" ...إلخ.
ك���ن عل���ى يقي���ن ب���أن الك���ون يس���ير ف���ي مس���اره الطبيعي
والمفترض له ،وأن األحداث -وإن بدت لك أنها تس���ير على
حتما تس���ير وفق المكت���وب ووفق غي���ر المطل���وب -إال أنه���ا ً
المسار الذي يحقق الحكمة اإللهية المطلقة .ال تيئس من َروح ال َيي َئس ِم ْن ر ْو ِح ا ِ ون﴾(يوسف،)87: هلل ِإ َّ ال ا ْل َق ْو ُم ا ْل َكا ِف ُر َ َ اهللِ ﴿ ،إ َّن ُه َ ْ ُ وات���رك التش���اؤم فاهلل تعال���ى نبهنا أنه من أمر الش���يطان إذ قال: ﴿الش���ي َط ُ ِ ���م ا ْل َف ْق َر﴾(البق���رة ،)268:وإذا حدثت���ك نفس���ك ان َيع ُد ُك ُ َّ ْ بيأس فردها وقل مقالة سيدنا موسى حين أدركه فرعون، ين﴾(الشعراء.)62: ﴿ك َّال إ َِّن َم ِع َي َر ِّبي َس َي ْه ِد ِ إذ قالَ :
-6احرص على مصاحبة الش ت ت تتخصيات اإليجابية ،وتجنب المتشائمين والسلبيين :ال أحد ينكر أثر الصاحب على النفس،
فالصاح���ب س���احب" ،ق���ل ل���ي م���ن تصاحب ،أق���ل لك كيف
ستشعر".
وق���د نب���ه اهلل تعال���ى في أكثر م���ن موضع في الق���رآن على ين ﴿يا َأ ُّي َها ا َّل ِذ َ أهمية اختيار الرفقة لعل من أهمها قوله تعالىَ :
ين﴾(التوب���ة)119:؛ فأمر بعد آم ُن���وا َّات ُق���وا ا َ الصا ِد ِق َ ���ع َّ َ هلل َو ُكو ُن���وا َم َ التقوى باختيار الصحبة.
يج���ب علينا أن نعت���اد على التعرف عل���ى ذواتنا وإعطائها
بعيدا عن نظ���رة أو رأي من حولنا. قدره���ا م���ن الثقة واإليمان ً لي���س المقصود الغرور بالنفس ،وإنما الوصول إلى قيمة ذاتية
ثابتة ال تتأرجح بتأرجح رأي اآلخرين.
أيضا م���ن منافع تحقيق مب���دأ اإلخالص الذي ولع���ل هذا ً
يدعو إليه الدين .فقد قال العلماء :إن من عالمات اإلخالص
ف���ي العمل ،أن يس���توي عندك المدح وال���ذم .فمن عمل على تحقي���ق اإلخالص اكتس���ب راح���ة النفس ،إذ ال يبتغي س���وى رضى اهلل تعالى.
ويتب���ع ه���ذه النقطة أن تتجنب النقد للغي���ر :فإن كثرة النقد
عالمة على نفسية تتجه نحو رؤية النقص ،سواء في النفس أو في الغير ،وكالهما تفكير سلبي غير بناء.
-8ال تتردد في اللجوء للمس ت ت تتاعدة إذا ش ت ت تتعرت بالحاجة:
إن كل ما ذكرناه مس���ب ًقا من خطوات ،من ش���أنها أن تنجح في تبدي���د أغل���ب حاالت االكتئاب البس���يط والمتوس���ط إذا ما تم
االلت���زام بأغلب الخطوات بثبات واس���تمرار ،والتحلي ببعض
الصبر .إال أن الش���عور باالكتئاب في بعض األحيان قد يكون
من الحدة ،بحيث يصعب على اإلنسان أن يتغ ّلب عليه وحده، ويحتاج إلى معونة من متخصص.
واألدوي���ة المضادة لالكتئاب ليس���ت كما ي���دور في أذهان
الكثيري���ن ف���ي مجتمعاتن���ا ،م���ن أنها ت���ؤدي إلى الن���وم أو إلى اإلدم���ان عليه���ا ...فهي أدوية مثلها كمث���ل المضادات الحيوية
الت���ي له���ا برنامج معين في أخذها وتركها باستش���ارة طبيب ال
أقل وال أكثر .بل قد يكون ألغلبها أعراض جانبية أخف بكثير من أعراض المضادات الحيوية وغيرها من األدوية.
(*) كاتبة وباحثة كويتية.
49
السنة الثامنة -العدد (2012 )32
تاريخ وحضارة
أ.د .بركات محمد مراد*
ابن زهر
الطبيب اإلكلينكي ورائد علم األورام
ه���و أبو م���روان عبد الملك ب���ن أبي العالء بن
وش���اعرا .وق���د خدم الخليفة الموح���دي عبد المؤمن بن أديبا ً ً
المع���ارف اإلس���المية بأنه بي���ن عامي (-484
كتبا أخرى أهمها كتاب "التيس���ير ف���ي المداواة والتدبير" أل���ف ً
ُزه���ر ،ولد ب�"أش���بيلية" ف���ي زمن تق���دره دائرة
487ه����) .تلق���ى عل���وم األدب والفق���ه والش���ريعة وبل���غ فيه���ا منزل���ة عالية ،ثم علمه أبوه الط���ب ،ولم يمر وقت طويل حتى
ب���ز أس���تاذه في الط���ب وفاقه في كثي���ر من مس���ائله الدقيقة .ثم س���اعدت ميول���ه العلمية على النبوغ الس���ريع في الطب ،فكان
أيضا أمه���ر أطباء أس���رة ُزهر ،ومن ُنطُ س أطب���اء العرب ،وكان ً السنة الثامنة -العدد (2012 )32
50
كتابا ع���ن "األغذية" ،كما عل���ي ،ون���ال الحظوة لدي���ه وألف له ً الذي أهداه إلى صديقه وتلميذه ابن رش���د ،وقد تمت ترجمته إل���ى الالتينية عام 1280م ،وتتجلى في هذا الكتاب ش���خصية
ابن زهر بشكل واضح.
كان���ت ل���ه تج���ارب مبتكرة ف���ي إع���داد األدوي���ة ومعالجة
المرض���ى .بدأ حيات���ه العلمية بخدمة المرابطي���ن كما كان أبوه
من قبل ،وبعد انتهاء عهد المرابطين التحق بخدمة الموحدين.
مؤلفات ابن زهر
في العلوم والفلس���فة ،فتعرف بالطبيب الناشئ ،وقامت بينهما
بن زهر في كتاباته أسلوب علمي تعليمي من الدرجة األولى،
ساميا مركزا كان ابن رش���د الفيلسوف األندلسي حينئذ ،يحتل ً ً
صل���ة قوي���ة توطدت ُعراها عل���ى مر األيام ...وكان ابن رش���د
يق���در أبا م���روان بن زهر ،ويق���در نبوغه وعبقريت���ه في صناعة ّ الطب ،وال يفتأ يتحدث عنه في المحافل العامة ،ونقل عنه أنه
قال فيه" :إنه أعظم األطباء منذ عهد جالينوس".
كان���ت وظيفة ابن زهر كمدير للمستش���فى ،ق���د أتاحت له
فرصة العثور على كثير من جثث الموتى لتشريحها ،وقد تمكن من فصل طب العيون عن الطب العام في هذا الوقت المبكر.
كثي���را م���ن الجراح���ات الهامة ،إال أن���ه كان يأنف كان يج���ري ً م���ن إج���راء عمليات الفصد ،واس���تخراج الحصى م���ن المثانة ( ،)Tallaومع ذلك فقد قام بكثير من العمليات الهامة والناجحة. يتبين لنا تلك التقاليد العلمية التي س���ادت بعض وم���ن ثم ّ
األسر النبيلة في الحضارة العربية اإلسالمية؛ هؤالء الذين ثبت
عندهم أن يتعلم األبناء على اآلباء واألجداد ...وكما س���لكت األجيال الس���ابقة هذا المس���لك ،نراه هو اآلخر يتعلم عن أبيه
الصناع���ة بش���قيها النظ���ري والعمل���ي .وبعد طول الممارس���ة،
وصل الحفيد بصواب الرأي وحسن المعالجة وجودة التدبير، تل���ك الت���ي تميز بها نتيج���ة اهتمامه بالتجربة ف���ي إثبات صحة
الدواء وفعالية المعالجة.
ولي���س أدل عل���ى كثرة دربته (تجربته) من أنه أعاد تركيب
دواء مرك���ب كان وال���ده ق���د ركبه للملك ،وأم���ر الوالد بصحة
تركيب���ه ...ومثل ه���ذه الحالة تدلنا على الجان���ب النقدي لدى أطب���اء بني زه���ر ،وأن التلمي���ذ ال ينبغي أن يكون نس���خة طبق
األصل من األستاذ حتى ولو كان والده ،إذ لو تمسك التالميذ
بكل ما لدى األس���اتذة ،لما تقدمت العلوم وتطورت .ولذلك
يق���ول الباحث "خال���د حربي" في مقال له عن أس���رة بني زهر الطبي���ة" :وقد قادني البحث إل���ى الوقوف على جانب هام من
جوانب فكره ،وهو ممارس���ته للعم���ل العلمي الجماعي .فلقد يكون جماعة علمية ممتازة ومتعاونة اس���تطاع ذلك الحفيد أن ّ ضم���ت إل���ى جانبه أخت���ه وبنت أخت���ه ...فكما تعل���م هو على
أبيه وأس���الفه ،تعلم ابنه أبو محمد عليه ،فأوقفه على كثير من أس���رار الصناعة وعملها ،م���ن خالل الق���راءة النظرية ألمهات
الكتب الطبية إلى جانب الممارسة العملية".
جميع مؤلفات ابن زهر تقع في مجال العلوم الطبية ،وأسلوب وه���و ث���ري بمصطلحات���ه العلمي���ة المتمي���زة المخت���ارة بدق���ة بالغ���ة ،والتي تدل على س���عة االطالع وعم���ق الخبرة العلمية،
وه���و أس���لوب محبب ألنه مرص���ع ببعض الطرائف الش���ائقة، والتعليق���ات الظريف���ة الت���ي يس���وقها بن زهر من واق���ع خبراته الشخصية وذكرياته في مهنة الطب.
كتبا كثيرة ف���ي الطب ،إال أنه وعل���ى الرغ���م من أنه وض���ع ً
لم يش���تهر منها إال كتابان؛ كت���اب "االقتصاد وإصالح األنفس واألجساد" ،وقد شجعه على تأليفه -كما يرى -األمير إبراهيم بن يوس���ف .والثاني كتاب"التيسير في المداواة والتدبير" ،وقد
وضعه بإشارة من صديقه ابن رشد الفيلسوف المشهور .وكان أب���و مروان يؤم���ن بنظرية األمزجة الت���ي وضعها جالينوس من
الناحي���ة النظري���ة ،ولكنه م���ن الناحية العملي���ة كان يؤمن إيما ًنا
قويا بالتجربة وأثرها؛ إذ كان يرى أن التجربة خير مرشد .وله ًّ
في هذا الكتاب ابتكارات طبية تقوم على التجارب الصحيحة والمالحظات الدقيقة ...وبذلك أضاف إلى علوم الطب ثروة
علمية جديدة.
وق���د كان الب���ن زه���ر مؤلف���ات أخ���رى مهم���ة ،إال أنها لم
تش���تهر مث���ل هذين الكتابي���ن ،وهي كتاب "الترياق الس���بعيني" ومختص���ره ،وكتاب "األغذية" ،ورس���الة كت���ب فيها إلى بعض األطب���اء بأش���بيلية ف���ي علمي "الب���رص" و"البه���ق" ،ومقال في
أيضا كت���اب "التذكرة" وضع���ه لولده في "عل���ل الكل���ى" .ول���ه ً
معالج���ة األم���راض ،وفي���ه نصائ���ح تتص���ل باألح���وال الجوية وصلته���ا باألم���راض المألوف���ة في مدينة مراك���ش ومالحظات
ش���خصية تس���تحق الذكر ،منها قوله" :إن أحسن عالج للحمى ف���ي األعضاء هي غمس المحموم في الماء البارد" .وقد انتقد
وبين أضرارها، بشدة تهافت األطباء على استعمال المسهالت ّ
أيضا كت���اب "التعليق في تجنبها .وله ً فإنما هي س���موم يج���ب ّ الطب"؛ وهو كتاب في اإلرشادات الطبية ،ومخطوطه محفوظ في مكتبة "تشستربتي" بمدينة "دبلن" عاصمة "إيرلندا".
ابن زهر وكتاب التيسير
أم���ا أه���م كت���ب ابن زهر وأش���هرها هو "التيس���ير ف���ي المداواة والتدبي���ر" ،ألف���ه لصديقه الفيلس���وف ابن رش���د صاحب كتاب
51
السنة الثامنة -العدد (2012 )32
"الكلي���ات في الط���ب" ليك���ون الكتابان متممي���ن أحدهما لآلخ���ر .وقد ذكر ابن زه���ر نفس���ه أنه مأم���ور في تأليف���ه (على
ما يوضحه الجغراف���ي والمؤرخ التركي "حاج���ي خليف���ة" ف���ي كتاب���ه "كش���ف
الظنون عن أس���امي الكت���ب والفنون").
وي���رى المؤرخ���ون أن ه���ذا الكتاب قد اش���تهر ش���هرة كبي���رة ،ف�"المق���ري" ف���ي
مث���ال يق���ول" :وأما كتب "نف���ح الطيب" ً الطب ،فالمشهور بأيدي الناس اآلن في أيضا في المش���رق المغرب ،وقد س���ار ً لنبل���ه كتاب "التيس���ير" لعب���د الملك بن
اب��ن زهر ،ه��و َمن تو�س��ل اإىل درا�سات وت�سخي�سات �رشيرية (اإكلينكي��ة) الأول م��رة ملر���س ال�رشطان واالأورام اخلبيثة .يعترب لذلك ،اأول من اأ�سار بالو�سف الدقي��ق اإىل الورم الذي يحدث يف ال�س��در ويف الغ�س��اء الذي يق�سم ال�سدر بالطول ،وي�سمى حديثًا ب�"التهاب املن�سف".
م���روان العالء بن زهر" .وقد ترجم هذا الكتاب إلى الالتينية بعنوان "."Theisir
والكت���اب يتأل���ف م���ن ثالث���ة أقس���ام ،ف���ي كل قس���م عدد
م���ن الرس���ائل ،تخت���ص كل رس���الة منها بعدد م���ن األمراض. ويمي���ل اب���ن زهر ف���ي هذا الكت���اب إلى االقتص���اد والوضوح؛
عال���ج فيه مختلف األمراض الباطني���ة والجلدية باإلضافة إلى
الجراح���ة .فق���د بحث فيه قروح ال���رأس وأمراضه وما يعرض له م���ن الخراجات ،وأمراض األذنين واألنف والفم والش���فاه واألس���نان والعيون ،وأمراض الرقبة والرئة والقلب والنقرس،
والحميات واألمراض الوبائية.
ال عن ذلك ،خراج الحيزوم وص ًفا دقي ًقا ألنه ووصف فض ً
وفرق بينه كان ً مصاب���ا ب���ه ،كما وصف التهاب غش���اء القل���ب ّ
وبي���ن الته���اب الرئة ،وناقش في���ه كتاب "القانون" البن س���ينا،
أيضا كتاب"كامل الصناعة" والكتاب "الملكي" أو كما يس���مى ً للمجوس���ي ،واتهمهما باإلطالة .كما كان له اهتمام كبير ببيان فض���ل التغذي���ة الصناعية ،وش���رح طريقتها بدق���ة ومهارة فائقة
سواء أكانت بطريق الحلقوم أم بطريق الشرج.
وال ش���ك أن تألي���ف ابن زه���ر مثل هذا الكت���اب في ذلك
العص���ر ،عم���ل أصيل دع���اه إلى إنجازه ابن رش���د .ويذكر ابن
زه���ر ف���ي مقدمة الكت���اب ،أنه ما أق���دم على تأليفه إال بس���بب نقص الكت���ب الطبية وإلحاح اإلخوان عليه في تأليفه .وقارئ ه���ذا الكت���اب يعجب باس���تقالل صاحبه بآرائ���ه وبجرأته على ال عن نق���د الخاطئ م���ن آراء المتقدمين الس���ابقين ،وه���و فض ً
ذل���ك ،كتاب عامر بالمالحظات الش���خصية واألفكار الخاصة السنة الثامنة -العدد (2012 )32
52
والنصائ���ح الطبية الثمينة .وقد ألحق ابن زهر بهذا الكتاب مقالة أطلق عليها اسم "الجام���ع ف���ي األش���ربة والمعجونات"، وه���ي عبارة ع���ن مجموعة من وصفات األدوي���ة والعقاقي���ر والترياق���ات ،وطرق تركيبه���ا ووج���وه اس���تعمالها .ويالح���ظ أن وض���ع الع���الج ف���ي متن���اول غي���ر المتخصصي���ن أم���ر مع���روف ف���ي تل���ك العص���ور ،كم���ا أن وصف���ات األدوي���ة المركب���ة التي أثبتها المؤل���ف تزيد على الخمس���ين ،وفيها بيان تحضير األش���ربة ويع���د اب���ن والمراه���م والمعاجي���ن. ّ زه���ر بس���بب ه���ذا الكتاب أعظ���م أطباء األندلس.
إنجازات ابن زهر الطبية
نج���ح ابن زه���ر في ع���الج "ش���لل البلع���وم" بث���الث ط���رق مختلفة أخذ بها األطباء من بع���ده ،ومنها تغذية صناعي���ا بأنبوب من الفضة ينق���ل الغذاء من البلعوم المص���اب ًّ إلى المعدة. كان اب���ن زه���ر م���ن أوائ���ل األطب���اء الذين وصف���وا خراج الحي���زوم ،والته���اب التام���ور (التهاب غش���اء القل���ب) اليابس واالنسكابي ،وميز بينه وبين "التهاب غشاء الرئة" (.)Plura وبع���د نظر ،لدراس���ة األمراض النفس���ية، تص���دى باقت���دار ُ واعتبرها حاصلة ع���ن عوامل عديدة منها الصدمات المتوالية الت���ي يتع���رض لها اإلنس���ان وصحة الجس���م .ونصح بحس���ن معامل���ة المري���ض وإعطائ���ه العقاقي���ر المهدئ���ة ،وإس���ماعه الطبيب المعال���ج بمعرفة حالة الموس���يقى ،ونص���ح -كذلك- َ مريضه ،ألن ذلك يساعد على الشفاء. رائدا في مجال التخدير ،إذ كان يخدر مرضاه بطريقة كان ً المنوم؛ وهو إس���فنج طبيعي يغمر في االستنش���اق باإلس���فنج ّ المنومة والمواد العطرية كاألفيون والسيكران مزيج من المواد ّ والزوان والش���يلم ،ثم يجفف ويحفظ ،وعند االستعمال يبلل مش���بعا بالمحل���ول المخ���در ،ويس���تخدم ف���ي بالم���اء فيصب���ح ً التخدير بوضعه على أنف وفم المريض أثناء الجراحة. حازما ضد اس���تخدام المس���هالت، اتخ���ذ اب���ن زهر موق ًفا ً وهاج���م تهاف���ت األطب���اء عل���ى اس���تعمالها قائالً" :ما س���قيت ()Pharyngoplegia
مس���هال ق���ط كدواء إال واش���تغل بال���ي قبله بأيام وبع���ده بأيام،
الرئوي���ة ،وأجرى عملية القصبة المؤدية إلى الرئة ،وتمكن هو
أدويته���م ومراقبة تأثي���ر الدواء مدة ثالثة أيام ،فإذا أفاد أمكنهم
أنبوب���ة مجوف���ة م���ن القصدي���ر لتغذي���ة المصابين بعس���ر البلع،
فإنما هي المس���هالت س���موم" .وأوصى األطباء بالتلطف في زيادة الجرعة.
بع���د ذل���ك من تش���ريح القصبة ف���ي مرض الذبحة ،واس���تعمل
واس���تعمل الحقن المغذية ،واكتش���ف طفيلية الجرب وسماها
وص���ف ابن زهر طفيل الجرب (وهو في حقيقة األمر نوع
بسط طرق العالج القديمة ،وأوضح أن الطبيعة "صؤابة" ،كما ّ
تس���مى "الحلم" ( ،)Mitesوقد أش���ار إليه باسم "قمل الجرب".
عل���ى مناع���ة الجس���م الطبيعي���ة) .وق���د توص���ل إلى دراس���ات
م���ن مفصليات األرج���ل) الصغيرة الش���بيهة بالعناك���ب ،والتي
تكف���ي وحدها في الغالب لعالج األوجاع واألورام (االعتماد
لك���ن تبي���ن أن الطبي���ب "علي بن رب���ن الطبري" قد س���بقه إلى
وتش���خيصات س���ريرية (إكلينكية) ألول مرة لمرض الس���رطان
وتعرض ابن زهر في حياته العملية الطبية لجراحات المخ
إلى الورم الذي يحدث في الصدر ،وفي الغش���اء الذي يقس���م
الب���ن زهر إنج���ازات رائدة باهرة في مجال أمراض الحلق
وقد عالج ابن زهر "الخثر" وهو جرب العين عند العرب،
تشخيص الكثير من هذه األمراض ،بطرق بسيطة مبتكرة تعتمد
وقد نادى بالطب الوقائي في مقدمة كتابه "التيسير في المداواة
وصف ذلك الطفيل في القرن العاشر الميالدي.
والقلب والكبد والمعدة والصدر ،وكتب عنها في مؤلفاته.
والحنج���رة ،إذ نج���ده في كتابه "التيس���ير" يش���رح كيف يمكن عل���ى مق���درة الطبيب وق���وة مالحظته وفرط إحساس���ه .وهذه تعتم���د عل���ى الفحص بالعيني���ن المجردتين ،وتحس���س الحلق
والحنج���رة واألحب���ال الصوتية باألصابع ،ورص���د أية تغيرات
تطرأ على ملمس هذه األعضاء ،وعلى تكوين سطحها وعلى أيض���ا ،نجد ابن كيفي���ة حرك���ة أجزائه���ا .وفي كتاب "التيس���ير" ً
زهر يش���رح كيف يمكن بالنظر واللمس باألصابع ،تش���خيص الكثي���ر من األمراض الت���ي تصيب هذه األعضاء ،بما في ذلك
األم���راض النادرة الحدوث ،مث���ل األورام الحميدة أو الخبيثة وشلل األحبال الصوتية.
واألورام الخبيث���ة .وهو لذلك أول من أش���ار بالوصف الدقيق الصدر بالطول ،ويسمى حدي ًثا ب�"التهاب المنصف".
والرمد الحبيبي حدي ًثا ،بواس���طة الجراحة بش���ق شريان الخثر. والتدبي���ر" ،حيث قدم أكثر من عش���رين نصيح���ة تتعلق بحفظ الصح���ة ،وق���ال إنها ته���دف إلى "إدامة أس���باب الصحة ودفع أس���باب األس���قام" .وهو أول من وصف التهاب غش���اء القلب
وفرق بينه وبين أمراض الرئة. الرطب والناشفّ ،
والبن زه���ر كلمات طبية رائعة مثل قوله" :الخبرة وحدها
هي المرشد ،ومحك الممارسة المعقولة لتبرئة ساحة األطباء أو صحيحا تفوق بعض األعضاء إدانتهم يوم القيامة" ،وقوله" :ليس ً عل���ى بع���ض ،وال تفوق القل���ب والمخ على م���ا عداهما ،إنما
الكل في ارتباط وانسجام تام" ،وقوله" :وأنبل الحواس العين".
لقد كانت معالجات ابن زهر مختارة ،وتدل على قوته في
غريب���ا أن نج���د المستش���رقة األلمانية وم���ن هن���ا ال يك���ون ً
المرضى دون أن يس���ألهم عن أوجاعهم ،إذ كان يقتصر أحيا ًنا
أن تق���ول" :إن الطبيب اإلش���بيلي ابن زهر ،المتحدر من عائلة
صناعة الطب ،وله نوادر في تشخيص األمراض ،ومعرفة آالم عل���ى فحص أح���داق عيونهم ،أو على ج���س نبضهم ،أو على النظر إلى قواريرهم (قناني البول).
"زيغريد هونكة" في كتابها "شمس العرب تسطع على الغرب" عريقة في الطب تمتد فروعها حتى تصل إلى جذورها العربية
األصيلة ،قد وضع كتابه "التيس���ير في المداواة والتدبير" وهو
وت���دل آث���اره الت���ي وصل���ت إلين���ا ،عل���ى أن���ه كان جي���د
موسوعة طبية يظهر فيها تضلع ابن زهر من الطب وموهبته فيه.
له ابتكارات -اس���تحدثها هو -لم يصل إليها أحد في اإلسالم
كثيرا من الممارسات الطبية العملية التي جعلت من صاحبها ً
حس���ن المعالجة، االس���تقصاء في األدوي���ة المفردة والمركبةَ ، أو قبل اإلس���الم .إنه طبيب إكلينكي ،يعتمد على المالحظات
الس���ريرية ،ومعرفة أعراض المرض ،واس���تقصاء أسبابه وعلله م���ن أج���ل عالج األس���باب ،لتختف���ي األع���راض .ولذلك فقد
توصل بفضل قياساته الطبية والتجريبية الشخصية إلى الكشف ع���ن أم���راض جديدة لم تدرس من قب���ل .فقد اهتم باألمراض
كثيرا من االكتش���افات العلمية ،وأتقن لقد أضاف ابن زهر ً
أش���هر وأكب���ر أعالم الطب العربي واإلس���المي ف���ي األندلس،
وعمل���ت على تطور وتق���دم علم الطب ف���ي العصور الالحقة حتى وصلت إلى الغرب الذي عرفه باسم (.)Avenzoar
(*) رئيس قسم الفلسفة واالجتماع ،كلية التربية ،جامعة عين شمس /مصر.
53
السنة الثامنة -العدد (2012 )32
قضايا فكرية أ.د .عمار جيدل*
ﻋﲆ ﻗﺪر ﻋﻠﻮ ﻫﻤﺘﻚ ﺗﻜﻮن ﻋﻨﺪ اﻟﻠﻪ ﻣﻨﺰﻟﺘُﻚ ،وأﻋﻼ ﻣﻘﺎﻣﺎت اﻟﻬﻤﻢ اﻟﺘﻀﺤﻴ ُﺔ واﻟﻔﺪا ُء ﻣﻦ أﺟﻞ إﺳﻌﺎد اﻵﺧﺮﻳﻦ.. آﺛ ْﺮ ﺳﻌﺎدة اﻵﺧﺮﻳﻦ ﻋﲆ ﺳﻌﺎدﺗﻚْ ، وﻃﺄ ﺑﻘﺪﻣﻚ ﺣﺘﻰ ﻛﺮاﻣﺘﻚ ،وﻟﻴﻜﻦ ﴍ ُﻓﻚ ﻣﻦ ﴍف أﻣﺘﻚ ..واﻛﻈﻢ ﻏﻴﻈﻚ، واﻛﺘﻢ آﻻﻣﻚ ،واﻏﻀﺐ ﻷﻣﺘﻚ وﻻ ﺗﻐﻀﺐ ﻋﻠﻴﻬﺎ ،وازْأ ْر ﻻ ﻹﺧﺎﻓﺘﻬﺎ وﻟﻜﻦ ﻹﺧﺎﻓﺔ أﻋﺪاﺋﻬﺎ ..ﻓﺘﻠﻚ ﻫﻲ اﻟﺘﻀﺤﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﻀﺤﻴﺔ ﻗﺒﻠﻬﺎ وﻻ ﺗﻀﺤﻴﺔ ﺑﻌﺪﻫﺎ. )اﳌﻮازﻳﻦ( ***
أسس بعث الفعالية
في فقه محمد البشير اإلبراهيمي يج���د المتأم���ل المتدب���ر فيم���ا كتب���ه العالم���ة محم���د البش���ير اإلبراهيمي
(1889م1965-م) أنه أمام نص أدبي رفيع ،يكاد أن يكون من نصوص فتحكمه خصيصا إلى هذا العص���ر، عص���ر االحتج���اج اللغوي جيء ب���ه ّ ً
وغربا، ال بين ش���يوخ زمانه وأقرانه ش���ر ًقا قل أن تجد له مثي ً بناصية اللغة العربية وآدابها ّ ً تحكمه بناصية اللس���ان العربي من ق���ال الش���يخ محمد الغزالي -رحم���ه اهلل -في وصف ّ
السنة الثامنة -العدد (2012 )32
54
تمكنه من خ���الل محاضرة ألقاها" :كان ّ
بارزا في أس���لوب األداء األدب العرب���ي ً
وطريق���ة اإللقاء ،والحق أن الرجل ُرزق س���احرا ،وتأ ّن ًقا في العب���ارة يذكرنا بيا ًن���ا ً
بأدباء العربية في أزهى عصورها".
وإن تعج���ب م���ن لغت���ه فالعج���ب ْ دبجها األكب���ر يتجلى في المباحث التي ّ يراع���ه ،فم���ا م���ن ف���ن كتب في���ه إال كان
فارس���ا ال يبارى كأني به ال يحس���ن فيه ً غي���ره .وبالرغ���م من الميادين الفس���يحة
التحكم تجش���مها فقد ظ ّلت مي���زة ّ التي ّ والضب���ط المعرف���ي والمنهج���ي مي���زة
عام���ة .وتالح���ظ حي���ن الق���راءة ل���ه ،أن
اإن احلي��اة العملي��ة تنبن��ي على احلي��اة العلمي��ة ق�� ّوة و�سعفً��ا إنتاجا وعمال ً ،واإن اأفراد االأمة وا ً ال يكون��ون اأقوياء يف العمل اإال اإذا كان��وا اأقوي��اء يف العلم ،وال يكونون اأقوي��اء يف العلم اإال اإذا انقطعوا له ووقفوا عليه الوقت كله ...اإن العلم ال يعطي القياد اإال ملن مه��ره ال�سه��اد و�رشَف اإليه اأعنّة االجتهاد.
ومؤه���الت ذهني���ة ���ادا للرج���ل ذكاء و ّق ً ّ
بوج���وب نقلها من المباحثة النظرية إلى
التنفيذ العملي ،ويتجلى المقصد نفس���ه
من اهتمامه باس���تجالب العبر والعظات
م���ن مباح���ث التاريخ وس���ير أمجاده مع الح���ث على ضرورة إحيائه���ا .ويتو ّقف
نجاح تلك الجهود على تطهير النفوس
م���ن األم���راض االجتماعي���ة والنفس���ية، له���ذا ينص���ح بالتو ّق���ف عن���د األم���راض االجتماعية وجوائحها النفسية والخلقية
الت���ي حجبت عنا وج���ه الحياة ،وأخفت
علين���ا مس���الكه ،وينصح بع���دم االكتفاء بالتو ّق���ف النظ���ري البح���ت ،ب���ل يج���ب
االنتقال إلى تش���ريح الداء وبيان الدواء،
تو ّلدت عنها نباهة عقلية وضبط منهجي من المصاف العالي،
تيس���يرا للتمزي���ق العلم���ي والعمل���ي ً للجالبي���ب التي أضفاه���ا الجهل على عقولنا فل���م نفقه معنى
وف���اق به���ا علم���اء الزمان من الش���رقيين والغربيي���ن ،ولم يكن
ال���رؤوس ويتباهى بها في المجالس ،بل ألجل الفعالية ...وال
يدفع إلى االعتراف له بالقدرة على الضبط التي ّبز بها األقران
الحي���اة وفق���ه الحياة ،ليس من قبيل المعارف التي تحش���ى بها
تندر أو رغبة في غلبة بقدر ما كان اهتمامه بها ألجل ّ تفكه أو ّ
يتو ّقف في بعث الفعالية عند الميادين المشار إليها وفق الرأي
تحويل المعارف إلى فعالية
في���ه ودع���وة الغافلي���ن أو المتخ ّلفي���ن ع���ن ركابه إلى التش���مير
الهمة ببعث فعالية مفقودة. متع ّلق ّ
الش���ائع ،بل ينتظر بيان العلم في آفاقه الواس���عة ،مع الترغيب
يتجل���ى ف���ي مجمل ما كت���ب ،اهتمامه البالغ بمس���ألة الفعالية؛
التمس���ك بأس���بابه ويأخذونه عن س���اعد الجد ،فيس���ارعوا إلى ّ
نصا غير ناطق بسؤال محمد البشير اإلبراهيمي ،فال تكاد تجد ًّ
قائ���ال" :ابحثوا ون ّقب���وا واحدوا وعلومه���ا وآدابه���ا فيدعوه���م ً
فتكاد مسألة الفعالية أن تكون طابع مجموع مسموع ومكتوب
الفعالية في مجموع ما نقل عنه .بلغ االهتمام بمسألة الفعالية فيصرح به���ا في التراج���م ويعمل على ف���ي فق���ه الرجل م���داه، ّ
اس���تجالبها ف���ي ميادي���ن المباحث���ة والنظر والتأصي���ل ،ورأس
مداخ���ل الفعالية اإلحس���ان والذي م���ن مقتضياته أن ال يكتب يتحك���م فيه من الراغ���ب ف���ي تحصي���ل الفعالي���ة ف���ي غي���ر م���ا ّ
المعارف ويحسن بحث موضوعه.
يؤك���د حض���ور س���ؤال الفعالي���ة م���ا اقترح���ه عل���ى كت���اب ّ
م���ن أقطابه .ويختم تلك الميادين الباعث���ة على الفعالية باللغة
ركابها وطربوا ،واسعوا لبيان فضلها سعيكم لتعليمها ،وأشربوا
غرد بلبل بغير حنجرته". قلوب أوالد هذه األمة :أ ّنه ما ّ
تتح���ول المع���ارف ب���ر علي���ه أن ّ وف���ي مق���ام الفعالي���ة َي ْك ُ أش���باحا بال أرواح بفع���ل التقليد وق ّلة االس���تقالل اإلس���المية ً لفق���د االس���تدالل ،واألدهى م���ن كل ذلك أن يلق���ى االهتمام
باالس���تدالل ال���ذي ه���و عن���وان االس���تقالل ،التضيي���ق عوض
المباركة والتأييد .قال األستاذ في سياق تأبينه للمرحوم محمد
"البصائ���ر" (لس���ان حال الجمعية) ،فنصحه���م بالكتابة في بيان
بن ش���نب (أحد أعالم الجزائر األفذاذ)" :أما أس���لوب البحث
ال، نشرا علما وعم ً ونصرا بعد إحيائها ً والسنن ّ ً الميتة بإحيائها ً
الخاصة به ونعته الصادق" ،ثم ينتقل إلى بيان سبب اإلعجاب
وش���رح حقائ���ق الدي���ن وفضائل���ه ،وآداب اإلس���الم وحكمه، ورف���ع األص���وات بل���زوم إحيائه���ا ...وف���ي كل ذل���ك تصريح ببع���ث الفعالية المفقودة في درس تلك المباحث ،مع التذكير
العلم���ي وبن���اؤه عل���ى المحاكم���ة والنق���د فهو ظاه���رة الرجل
ب���ه فيق���ول" :الس���بب ه���و أنني نظرت ف���ي جميع م���ا لدينا من تتبع أطوار العلوم نسميه ً تراث األوائل مما ّ علما ،وأمعنت في ّ
55
السنة الثامنة -العدد (2012 )32
اإلس���المية م���ن النقطة الت���ي وصل إليها
مداها في االتس���اع إلى المنشأ األصلي، فوجدت أن جميع علومنا اإلسالمية في جمي���ع أدوارها يعوزها االختبار والنقد،
يعوزها االس���تقالل في ال���رأي ،تعوزها الش���جاعة ...إل���ى أن ج���اءت عص���ور
االنحط���اط؛ ف���كان ذلك اإلع���واز بذرة فاس���دة للتقليد في جمي���ع علومنا حتى
أش���باحا بال أرواح ،فال عجب أصبحت ً إذا أكبرت الرجل وأكبرت كل من يو ّفق
إلى غرس هذه الملكة فيه في نفسه".
الفاعلية المنشودة برنامج عملي عام
أه��م عنا�رش التاأ�سي���س للفعالية ا ّ ّ��م .واالأم��ة الت��ي ال تتعلّم التعل ُ يغتاله��ا اجلوع العقل��ي ،واالأمة الت��ي ال تعم��ل يغتاله��ا اجل��وع البدين ،لهذا فاالأم��ة التي تتعلّم هي اأمة امل�ستقبل ،واأمة امل�ستقبل ه��ي اأم��ة �سحيح��ة العق��ول، �سحيح��ة العقائ��د� ،سحيح��ة التفك��ر �سحيح��ة االأب��دان، �سحيحة االأعمال.
نتحول من مجتمع مقص���د الفعالية؛ أن ّ التف���كك والتخاذل وضعف البصائر في ّ
أقوي���اء ف���ي العل���م إال إذا انقطعت���م ل���ه ووقفت���م علي���ه الوق���ت كل���ه ...إن العلم
ال يعط���ي القي���اد إال لم���ن مهره الس���هاد أعنة االجتهاد". وصرف إليه ّ َ
أسس بعث الفعالية
-1الع���ودة إل���ى هداية الكتاب والس���نة وس���يرة الس���لف الصال���ح ،والتركي���ز
عل���ى الجوان���ب الهدائي���ة -وف���ي ذل���ك
لفت نظ���رٍ إلى ترك المباحث���ات النظرية الت���ي ال طائ���ل منه���ا ف���ي حاض���ر األمة ومس���تقبلها -والتركيز في تفسير القرآن
عل���ى تفهي���م معاني���ه وأحكام���ه وحكمه
وآدابه ومواعظه والتفهيم ...تابع للفهم،
فمن أحس���ن فهمه أحسن تفهيمه .وفهم
منظمة في جميع الدين والدنيا إلى مجتمع خاص منتج لنهضة ّ
الق���رآن يتو ّق���ف -بع���د القريح���ة الصافية والذه���ن النير -على
الدي���ن واألخ���الق والعل���م والم���ال ،وهو أصل م���ا ترمي إلى
المبينة لمقاصد القرآن ،الشارحة ألغراضه بالقول والعمل. ّ
ل���وازم حياتنا االجتماعية والخاصة .وألزم هذه اللوازم أربعة: تحقيق���ه جمعية العلماء المس���لمين الجزائريين بطريق إرش���اد
األمة إلى هداية الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح.
التعمق في أسرار البيان العربي ،والتف ّقه لروح السنة المحمدية ّ قصارى ما يطلب في هذا الباب ،التركيز على لباب العلم
واطراح القشور وما ال محصول والرمي إلى أغراضه السديدةّ ،
أن اإلسالم الرتكازه على مبدأ الفعالية ،دفع ذكر األس���تاذ ّ
له من المباحث ،وإيثار العلم المفهوم على العلم المحفوظ.
الحياة ،دفع األبطال إلى الفتح وجعل الرفق رديفه ،ودفع أولي
االختب���ار والنق���د واالس���تدالل ،وال طري���ق لبلوغه���ا م���ن غير
عرفهم بمعاني أبناءه بروحانيته العنيفة إلى ميادين الحياة بعد أن ّ
الهم���م إلى المل���ك وجعل الع���دل حليفه ،ودف���ع العلماء إلى التربي���ة وجعل اإلصالح غايتها ،ودفع األغنياء إلى بناء المآثر
���د كل واحد ثغ���رة وأبقى فيها ع���زة األم���ة نهايتهاَ ،ف َس ّ وجع���ل ّ
اآلثار الخوالد ،أبقى األبطال تلك الفتوحات التي هي مفاتيح مل���ك اإلس���الم ،وأبق���ى الخلفاء تلك الس���ير الت���ي هي جمال
األيام ،وأبقى تلك األسفار الكريمة التي عطر التاريخ أزهاره، وأبق���ى األغني���اء ه���ذه المعاقل الباذخ���ة التي هي بي���وت اهلل". أن الفعالي���ة المنش���ودة برنام���ج عملي عام، ّبي���ن األس���تاذ ّ
-2التأس���يس لثقافة االس���تقالل في الرأي بتش���جيع ثقافة
الش���جاعة األدبية والنفس���ية ،وتكاد آثاره أن تكون ناطقة بهذا المقص���د ،ولك���ن الخل���وص إل���ى عقلي���ة االختب���ار والنقد ثم
تأسيسا لالس���تقالل في الرأي والمحاكمة ،بحاجة االس���تدالل ً إلى صناع ٍة تستوجب إعادة النظر في طرائق التعليم ومصنفاته
مش���كورا جهدا ومس���توى تحصيل معلميه .وقد بذل األس���تاذ ً ً ألجل تحقيق هذا القصد بالتوجيه واإلرش���اد والتنظيم ،وكان القص���د من تل���ك األعمال الجليلة ،دفع عقلية "س��� ّلم تس���لم"
"فالعزة الالمعة و"س��� ّلم للرجال في كل حال" .قال األس���تاذ: ّ
سي ًدا يفرض على المس���لم الهيمنة على قس���مي الحياة فيكون ّ
في جبين هذه النهضة العلمية هي اقتران العلم بدليله ،فأصبح
أن "الثانية منهما تنبني متو ّقفة على الس���يادة في األول���ى ،ذلك ّ
بالدليل ،ويحكمون بالدليل ولو على أنفسهم".
ولكن الس���يادة في الثانية ف���ي الحي���اة العلمية والحياة العملية، ّ وعم���ال ،وإنكم ال تكونون وإنتاجا ق���وة وضع ًفا ً ً عل���ى األولى ّ أقوي���اء في العم���ل إال إذا كنتم أقوياء ف���ي العلم ،وال تكونون السنة الثامنة -العدد (2012 )32
56
علماؤن���ا يعمل���ون بالدلي���ل ،ويدع���ون إل���ى الدلي���ل ويطالبون -3التأكي���د على أن الحياة الدنيا للعاملين وأن العاقبة في
للمتقين ،وكالهما برنامج عملي يتأسس على الفعالية اآلخرة ّ
في ش���عاب الحياة .وفي هذا الرأي توجيه النظر إلى البذل في
البشر منها بقدر ما بذلوا لتذليلها ش���عاب الحياة ،فالدنيا يأخذ ُ
على وفق أمر ربها.
-4ينتظ���ر م���ن أف���راد األم���ة الس���عي واالقتن���اع الت���ام بأن
العناص���ر الضعيف���ة محكوم عليه���ا بالذوبان وفق س���نة اهلل في الكائن���ات ،وه���ذا يفرض أن تملك األم���ة عناصر القوة وتدفع
عن نفسها عناصر الضعف ،وال مطمع في إنشاء القسم األول وأهم ودف���ع الثان���ي بغير أمة تعيش الفعالية في أعمق أعماقها. ّ عناصر التأس���يس للفعالية التع ّلم .واألمة التي ال تتع ّلم يغتالها الج���وع العقلي ،واألم���ة التي ال تعمل يغتاله���ا الجوع البدني،
له���ذا فاألم���ة التي تتع ّل���م هي أمة المس���تقبل ،وأمة المس���تقبل ه���ي أمة صحيحة العق���ول ،صحيحة العقائد ،صحيحة التفكير
صحيحة األبدان ،صحيحة األعمال.
-5االس���تفادة م���ن األم���م المتقدمة ف���ي العل���م والمعرفة
والنظ���ام ،فخ���ذوا منها العب���رة ،وخذوا من مصائره���ا العظة... فالنظ���ام أس���اس النجاح ف���ي التربي���ة التعليمي���ة واالجتماعية، كل مناحي عملي���ة التعليم ونظامن���ا يس���توجب اإلص���الح ف���ي ّ
ث���م الحي���اة ،وال ضي���ر على اإلط���الق من اإلفادة م���ن التجربة
اإلنسانية في مجال التنظيم.
يبز المسلمون غيرهم من األمم األخرى: -6األخالق بها ّ
وتفرعت أفنانه ،وأس���لس العلم وحده مهما ّ تش���عبت أغصانهّ ،
ال عصي���ه حتى فتح���ت مغلقات الكون ،لم ولن يغ���ن عنها فتي ً ّ مفس���دا عن ينهى ال العلم إن والفضائل. األخ���الق تغني مم���ا ّ ً مجرما عن اإلج���رام ،وال يميت في نفوس اإلفس���اد ،وال ي���زع ً األقوي���اء غرائ���ز الع���دوان والبغ���ي عل���ى الضعفاء ،ب���ل ما زاد
وتفننا في اإلثم... المتجردين من الفضيلة إال ضراوة بالش���رّ ، ّ له���ذا يحث األس���تاذ اإلبراهيمي على جعل الفضيلة رأس���مال
ربحا .وعمدة انسياب األخالق في نفوس التالميذ وجعل العلم ً
ضمائر المتلقين تخلُّق المرشد بالخالل التي يدعو إليها .لهذا ينصح األس���تاذ ألجل تيس���ير فعالية جنود اإلصالح في عملية
اإلصالح ،أن يعتنوا بإصالح أنفسهم ومداواتها من داء األنانية والغ���رور والتحل���ي باألخوة ،والتع���اون والتس���اند والتضامن. توجي���ه األمة للصالحات وتربيتها التربية العقلية والروحية
المثمرة ،ورياضتها على الفضيلة الشرقية اإلسالمية ،وتصحيح
نظرتها للحي���اة ،ووزنها للرجال ،وتقديرها لألعمال ،وتحقيق
ومحب���ة إخوانهم في مكون���ات المجتم���ع، روح التآخ���ي بي���ن ّ ّ
والمحبة ،االتص���ال والتعارف العل���م ،وأوثق وس���يلة للتآخ���ي ّ التطور العلمي الذي وس���يلته العمل ثم التعاون ،ودعوتها إلى ّ
واإلنت���اج والدخول ف���ي الميادين العامة والتغلغل في ش���ؤون الحياة" .وهذا يفرض البعد عن األس���اليب الش���ائعة بين علماء زمان���ه ،إذ كان ديدنه���م اإلجاب���ة عن األس���ئلة دون تو ّقف عند أس���بابها وطرق دفعها ،ذلك أنهم رجال انقطعت الصلة بينهم وبي���ن أهل زمانهم ...وبهذه الس���يرة الت���ي كانوا عليها خرجت األمة من أيديهم إلى أيد ال تحسن قيادة األمة. -7تش���جيع التخص���ص العلم���ي واالبت���كار والمطالع���ة "الحق أقول إن ش���بابنا كس���ول عن المس���تمرة ،قال األس���تاذ: َّ المطالعة ،والمطالعة نصف العلم أو ثلثاه .فأوصيكم يا شباب
بانتظام الخي���ر بإدم���ان المطالعة واإلكباب ،ولتك���ن مطالعتكم ٍ
حرصا على الوقت أن يضيع في غير طائل ،وإذا كنتم تريدون ً الكمال فهذه إحدى سبل الكمال.
وتعليما ،وإجادته���ا تك ّلما علم���ا ً -8إتق���ان اللغ���ة العربي���ة ً
ٍ دررا من العلم، وكتابة وخطابة ،فالنهضة تقوم على ألسنة تنثر ً وأقالم تسيل رحمة في مواطن وألسن ٍة تنفث السحر من البيان، ٍ
وتمج السمام أو تنثر السهام في مواطن الغضب للحق الرحمة ّ
و ال���ذود ع���ن الح���ق ،وال طريق لتصوي���ر تل���ك الحقائق بغير التحكم في اللسان العربي. ّ (*) كلية العلوم اإلسالمية ،جامعة الجزائر /الجزائر.
المراجع ( )1آث���ار اإلم���ام محم���د البش���ير اإلبراهيمي ،ألحم���د طال���ب اإلبراهيمي ،دار الغرب اإلسالمي ،1997 ،بيروت. والعالم���ة محم���د البش���ير اإلبراهيم���ي ،ه���و من أب���رز أع���الم اإلصالح في احا بم���ا انتهت إلي���ه قناعاته ،وال العالمي���ن العرب���ي واإلس���المي .كان ّ صد ً يخاف في إبدائها لومة الئم ،ترأس جمعية العلماء المس���لمين الجزائريين بعد وفاة الشيخ الرئيس عبد الحميد بن باديس (1940/04/16م) .وكانت وف���اة اإلبراهيم���ي يوم الخمي���س 18من محرم 1385ه���� ،الموافق 20من مايو1965م.
57
السنة الثامنة -العدد (2012 )32
علوم
أ.د .عرفان يلماز*
الكنغر
والدة قبل النمو طاب���ت أيام���ك أيها اإلنس���ان ...أن���ا "الكغنر"،
المخل���وق المتمي���ز ع���ن باق���ي المخلوق���ات بطريق���ة اإلنج���اب والتكاث���ر .معرفت���ك ب���ي
حديث���ة العه���د مقارن��� ًة بالحيوانات األخ���رى الت���ي عرف َتها من
زم���ان بعي���د؛ فمن���ذ آدم وأن���ت تع���رف آالف الكائن���ات الحي���ة على ترب���ة ه���ذه األرض؛ كالخيول وال���كالب والقطط
والطيور واألس���ماك والحش���رات والزواح���ف وكثير مما خلق
عش���ت اهلل تعال���ى ،إذ كان���ت تعي���ش عل���ى نفس األرض التي َ عليه���ا ف���ي أوراس���يا أي الدنيا القديم���ة ،أما معرفت���ك بي -أنا الكنغر -وبأستراليا ،فلم تتجاوز المئتي سنة ،ولكن أنا أعرفك م���ن زم���ن بعي���د .فقد عش���نا آالف الس���نين م���ع "األبوريجين" (س���كان أس���تراليا األصليي���ن) الذي���ن ج���اؤوا إل���ى هن���ا م���ن
تقريب���ا .إن "األبوريجيون" ق���ارة آس���يا قب���ل ثالثين أل���ف س���نة ً
أناس���ا مس���المين قنوعين ال يصط���ادون إال بقدر هوالء ،كانوا ً احتياجه���م ،وذل���ك لع���دم اإلخ���الل بالت���وازن البيئ���ي .وما إن ازدادت الرح���الت االكتش���افية األوروبية لعالمن���ا ال ِبكْ ر الذي
فقدن���ا الراح���ة والطمأنينة، لم تمس���ه األي���دي المدم���رة ،حتى ْ ّ
ول���م نع���د نعرف العي���ش الرغيد ف���ي وطننا كما كن���ا من قبل. ننتم���ي نحن الكناغر الذي���ن نعيش على القارة األس���ترالية
إل���ى "الثدييات الجرابية" ( .)Marsupialiaوق���د خلق ربنا النبات
كثيرا عن ف���ي ه���ذه المناطق ً مناس���با لطبيعتن���ا ،حيث يختل���ف ً
نب���ات المناط���ق األخرى .والب���د أن أذكر في ه���ذا الصدد ،أن
أول حيوان مفترس جاء به س���كان هذه المنطقة من آس���يا إلى هن���ا ،ه���و حيوان "الدينغو" .إنكم -أيها البش���ر -تطلقون اس���م
السنة الثامنة -العدد (2012 )32
58
أيضا من تقي الصغير من األمراض .وقد تختلف فترة الرضاع ً نوع آلخر ،وينقطع حليب األم عندما يبلغ الصغير مبلغ الطعام ٍ يدب في الصغير ويتعل���م طريقة الحصول عليه .وس���رعان م���ا ّ التوجي���ه اإلله���ي على ش���كل أنش���طة وتصرفات مع ّق���دة تبدو
وكأن���ه تعلَّمه���ا في بطن أمه ،ليس���تطيع البقاء عل���ى قيد الحياة.
لكننا نحن الثدييات الجيبية أو الكيسيةُ ،خلِقنا بآلية مختلفة
لإلنج���اب والتكاث���ر؛ إذ نملك رحمين اثنتين ،ودورة تناس���لية
ُت���دار بالهورمونات بطريق���ة مختلفة .وقد تجلى ربنا بأس���مائه
الحس���نى المتنوعة علينا ،فأحدث في سجل الثديات تغييرات طفيفة تخضع لها في مراحل التكاثر والنمو ،وبذلك يظهر بأنه وح���ده صاحب القوة والقدرة المطلقة ،يخلق ما يش���اء وكيف
يشاء ،يخفي في كل مخلوق من خلقه من البدائع ما ال يمكن إدراكها إال بالتفكر والتدبر.
الوالدة قبل النمو
نض���ع نحن الكناغ���ر صغارنا عند بداية التكوي���ن الجيني وقبل
"الثدي���ات الحقيقي���ة" ( )Eutheriaعل���ى الحيوانات "المش���يمية"
نمو أرجله���ا الخلفية وأعينها وذيولها ،ويتراوح طول الواحدة ّ
اإللهي���ة منحت الثديات الحقيقية َر ِح ًم���ا واحدة .فالبيضة عند
المشيمية لَسقط الجنين ومات ،أي ألسقطت األم جنينها كما
التحامه���ا بالنطفة المحمولة من قِبل الس���ائل المنوي ،تتش���بث
م���ا يتعلق بش���عر بط���ن أمه ويزح���ف علي���ه بذراعي���ه القويتين،
لتميزوه���ا عن���ا .وإن أه���م ف���رق بينن���ا أن الق���درة (ّ )Placentalia
"علقة" نتيجة ه���ذا الن���وع ،التي تبيضها األم والتي تتح���ول إلى َ
بج���دار الرح���م وتعش���ش فيه كالش���جرة الت���ي تتش���بث بالتربة بجذورها ،ثم تبدأ باالنقسامات لتتكاثر الخاليا وينمو الجنين وف���ق برامج الش���يفرات الوراثية المقترن���ة بها .ومن أجل النمو
المس���تمر م���ع التحوالت المتواصلة داخ���ل بطن األم دون أي خل���ل ،يتم تغذي���ة الجنين عن طريق المش���يمة التي تلتقي فيها
منه���ا م���ا بين 15-5م���م .ولو حصل ه���ذا األمر عن���د الثديات
تقول���ون .وصغيرن���ا هذا ال���ذي يولد دون إتمام نموه ،س���رعان
ث���م يدخل الجراب من دون أية مس���اعدة ليص���ل إلى حلمات
الحلي���ب األربع���ة الموجودة فيه ،فيتمس���ك الصغير -الذي لم
بعد -بحلمة منها بقوة ...هذا ويكون الجراب قد ُتخلق عيونه ُ
ُج ِّهز من قِبل الرحمن الرحيم ،بشكل يلبي كل ما يحتاجه هذا الصغير العاجز من غذاء وماء.
نت���وزع -نح���ن الكناغ���ر -إل���ى 50-45فصيل���ة .فالكناغر
األوعي���ة الدموية ل���ألم باألوعية الدموية للجني���ن .وتضع األم ٍ تبعا ش���هورا أو الجنين بعد زمن يس���تغرق أس���ابيع أو س���نوات ً ً
الصغي���رة م ّن���ا تس���مى ب�"الكنغ���ر الف���أر" ،والكناغر المتوس���طة
���ري الذي يصل ب���كل التفرع���ات الدقيقة ،وبانقطاع الحبل ُّ الس ِّ
المنتس���بين إلى الفصيلة األخي���رة .يظل صغارنا داخل جواربنا
لحجمه���ا وضخامتها ،وبع���د اكتمال أجه���زة الجنين وأعضائه المشيمة بس���رة الجنين عند الوالدة ،يبدأ المولود بالتنفس ،ثم ���ري .يولد بتن���اول الغذاء بنفس���ه دون الحاج���ة إلى الحبل ُّ الس ّ
عاج���زا بال أس���نانُ ،فيحدِ ث ربن���ا ذو الرحمة المطلقة الجني���ن ً
حليبا َيرضعه صغارها ،إذ تغييرات هرمونية في األم ليدِ ّر ثديها ً يحتوي هذا الحليب على كافة الفيتامينات واألغذية العضوية
وغي���ر العضوية ،ويحت���وي كذلك على الخاليا الليمفاوية التي
الحج���م ب�"الول���ب" ،والكناغ���ر الكبي���رة ب�"الرم���ادي" وأن���ا من يوما أو جيوبن���ا ت���أكل وتن���ام مدة تت���راوح ما بي���ن ً 320-150 تبعا ألحجامنا ،وبعد هذه الفترة -حين يكمل نموها -نس���مح ً له���ا بالخروج من الجي���ب لتتنزه لفترات قصيرة .وإن كنا نحن
الكناغ���ر الكبي���رة نمن���ع صغارن���ا من الع���ودة إل���ى الجيب مرة
أخ���رى ،فه���ذا ال يعن���ي أننا نتخلى عنها بالمرة ،بل نس���مح لها بإدخال رؤوسها للرضاعة فقط ،والبد لنا أن نفعل ذلك حتى
59
السنة الثامنة -العدد (2012 )32
يتعل���م صغارن���ا االعتماد على أنفس���هم في الحي���اة ،وحتى يتم إعداد الجيب للمولود الجديد .ولعلكم تتساءلون في عجب:
أمر تحار له العقول أليس كذلك؟ ٌ حمل في فترة الرضاع؟! ٌ
تعاقب الحمل
إن َر ِحم الكنغر تستعيد نشاطها بعد الوالدة بأيام قليلة ،فتعيش حال���ة الطمث من جديد ،أي إن الكنغر الوالدة ال تعرف حالة النف���اس التي تعرفونها في نس���ائكم أنتم البش���ر بعد الوالدة...
قل���ت حالة الطم���ث ،لتقريب الصورة إل���ى أذهانكم ،فالطمث ُ يوما ،تكتمل عندنا خالل الذي يستمر في نسائكم حوالي ً 28 أي���ام مع���دودات ،ولذل���ك تك���ون الكنغر مس���تعدة للحمل من
جديد في أيام قالئل بعد الوالدة! وإن لم يكن الصغير قد بلغ مرحل���ة الخروج من الجيب ،فإن الجنين يبقى -بتوليف رباني "السبات قدير -على ش���كل بيضة حديثة العهد باللقاح .وهذا ُّ الجنيني" الذي ينتظر فيه الجنين اكتمال نمو أخيه في الجيب، يتم بنظام هرموني فريد بأمر من الرحمن الرحيم.
وعندما يكتمل نمو الكنغر الصغير ويخرج من الجيب بعد
تقريبا ،تفيق البيضة من سباتها لتعشش على جدار رحم ش���هر ً
ل���ه دون التع���رض إل���ى حلمة آخ���رى ،وذلك لع���دم صالحية
يكون صغيرنا الس���ابق قد استعد لمغادرة الجيب .يلد المولود
الرحمن ذي الرحمة المطلقة البصير العالم القدير.
فط���ري إلهي متمس���كً ا بش���عر بطن أم���ه ،ويلت���زم حلمة حليب
البط���ن الواح���د مولودي���ن أو ثالثة مواليد ،أما األن���واع الكبيرة
األم وتستهل نموها وانقساماتها ،وقبل الوالدة بيوم أو بيومين، أيضا ،ويزحف نحو الجيب بتوجيه الجدي���د قبل اكتمال نم���وه ً
حليبها له! وهل يمكن أن تكون هذه الشفقة والرحمة ،إال من ه���ذا ويمك���ن لبعض إن���اث الكناغر الصغي���رة أن تضع في
مناسبة له كما فعل كبيره المولود األول.
واحدا في كل مرة .وإذا كان���ت القلّة منا تنتظر مول���ودا فتض���ع ً ً
يلتزم المولود الجديد أحد ثديي األم بتقدير إلهي عجيب ،ألن
تماما أنتم البش���ر .تس���تمر فت���رة الحمل عند المح���ددة ،مثلكم ً
للمولود الجديد .وال نس���مح بعده���ا للصغير النامي بالدخول
هذا الحمل عند الكناغر الصغيرة ما بين ثالثة أو أربعة أسابيع.
أم واحدة وتعددية في نوعية الحليب
صالحا للمولود الس���ابق غير الصالح حليبا ً الث���دي اآلخ���ر ّ يدر ً إل���ى الجيب خو ًفا م���ن إضرار المولود الجديد ،بل نس���مح له
فقط أن ُيدخل رأس���ه ليحتس���ي الحليب من الثدي الصالح له. وهك���ذا تعيش إناثن���ا هذه األحوال الثالثة ف���ي آن واحد ،ففي
للتو من الوق���ت الذي يرضع في���ه الكنغر الصغير الذي خ���رج ّ
الجي���ب؛ ُت ِ رضع الوافد الجديد إلى الجيب وتحافظ عليه حتى
يكتم���ل نم���وه ،ولعله كان في رحمها بيضة ملقحة في س���بات تنتظر دورها في النمو.
تتغير نوعية الحليب بما يناس���ب نم���و الصغار الثالثة ،كلٌّ
ين���ال غ���ذاءه الصال���ح له م���ن أم واحدة ومن حلم���ة مخصصة السنة الثامنة -العدد (2012 )32
60
يتزوج في األوقات غير موس���ما ً محددا للتزاوج ،فإن معظمنا ّ ً الكناغ���ر الكبيرة مثلي ،أربعة أو خمس���ة أس���ابيع ،بينما يتراوح
أم���ا ال���والدة عندنا فتك���ون س���هلة دون أالم ثقيل���ة ،ألننا نضع األجنة صغيرة قبل اكتمال نموها.
تترش���ح إن���اث الكناغ���ر الكبيرة لألموم���ة في الع���ام الثاني
والثال���ث م���ن عمره���ا ،وتظل تلد م���دة تتراوح م���ا بين 12-8 عام���ا ،أما إناث ن���وع الكناغر الصغيرة فتبلغ س���ن األمومة في ً
السبات الجنيني في 5-4أش���هر من العمر ،ويمكن أن يستمر ُّ شهرا. هذه األنواع ً 11-10
آلية القفز المدهشة
أرجلنا الخلفية تش���كل الجانب األقوى من أعضائنا ،و َأذْ رعتنا
تلبية الحاجات بال نقصان
حارا نس���تخدم َأذْ رع َتنا في قياس الح���رارة ً أيضا؛ إذا كان الجو ًّ
وندهن بها األماكن الس���اخنة في أجس���امنا نبص���ق عل���ى أيدينا َ
حت���ى نخف���ض حرارتها .فمن إحس���ان ربنا إلين���ا أن َو َهب كل أعضاء ومواهب تسهل له العيش وفق البيئة نوع من مخلوقاته ً
الج ْرذ يملك قدرة عظيمة على التمويه، المحيطة بها .فالكنغر ُ
كم���ا تتمتع أنواع أخرى من الكناغ���ر ،بأيد طويلة قوية تمكّ نها
من التس���لق على األش���جار والعي���ش فوقها ،حي���ث تنزل هذه
األن���واع من الش���جرة باالعتم���اد على أذيالها المنبس���طة القوية
أيضا موهبة القفز من شجرة التي ال تلتف وال تلتوي ،وتملك ً إلى أخرى في المسافات القريبة .هذا وقد ُخلقت أقدام كناغر أبدا. الولب التي تعيش في المناطق الصخرية ،بشكل ال تنزلق ً لق���د تم خلق القس���م األمام���ي لمعدتنا على ش���كل "غرفة
تخمي���ر" ( .)Fermantasyonوقد منحنا خالقنا "البكتريا التكافلية"
( )Simbiyontوالكائن���ات ذات الخلي���ة المهدب���ة الواح���دة ف���ي المع���دة واألمعاء لتؤدي خدماتها ف���ي الهضم .حتى إنه تعالى
أيضا إال أنها قصيرة ،كما أن الجزء العلوي من أجس���امنا قوية ً
خل���ق بع���ض أنواعن���ا ،لتتمت���ع بإمس���اك اليوريا في الب���ول قبل
ط���وي ركبتينا أثناء ال���ورك الضي���ق الطويل ،ثم إننا ال نس���تطيع َ َ
لديه���ا ،وعندم���ا يحصل انخف���اض في كمي���ة الفيتامينات لدى
صغي���ر كذلك .يت���م دعم عظم الفخذ الطوي���ل من قِبل مفصل
القفز وال نحتاج إلى ذلك أصالً ،ألن أقدامنا الخلفية مصممة
للقفز بش���كل ميكانيكي ...فأصاب���ع القدمين لدينا ،وعضالت
المشطين والساقين والفخذين ،واألوتار الرخوة المتصلة بها، تقوم بدور القوس المشدود لتؤدي إلى القفز عند تحرير الطاقة الكامنة فيها ...وقد تصل القفزة الواحدة في بعض أنواعنا إلى
مترا .كما يقوم ذيلنا بعضالته القوية، تسعة أمتار أو إلى ً 13,5 بمس���اندتنا أثن���اء القفز والوث���وب ،وكذلك بتأمي���ن توازننا عند
الوقوف وكأنه قدم خامسة .أما الهدف من القفز هو التشويش عل���ى الع���دو والف���رار منه بس���رعة ،باإلضاف���ة إل���ى أن الذكور
تس���تعين بذيوله���ا عن���د االقتت���ال ببعضه���ا البعض .وق���د خلَق
ج���دا حول الخصر جلدا س���ميكً ا ًّ س���بحانه بعلم���ه الالمتناهيً ،
درعا يحمي لذكورنا (أسمك من جلد الكتف بضعفين) ليغدو ً بطونه���ا م���ن التم���زق والخ���رق نتيجة ال���ركالت عن���د العراك. أحيا ًنا نمشي زح ًفا وأحيا ًنا أخرى نقفز ،نستطيع أن نجري
بسرعة 55كم/س ،أما نوع الكناغر الصغيرة م ّنا تجري بسرعة 30كم/س.
الط���رح لبناء البروتينات من جديد .عن طريق األيض الخاص بعض أنواعنا ،تقوم -بفضل عملية استقالب خاص -بإمساك
اليوريا في البول قبل طرحها الس���تخدامها في بناء البروتينات
من جديد .يا لها من صنعة بديعة لصانع بديع.
أثر م���ن آثار خالق أيه���ا اإلنس���ان الحبي���ب ...نحن وإي���اك ٌ
واحد صمد .م ّتع كل نوع منا ببدائعه المختلفة .إياك أن تنسى
َنعم اهلل عليك ،إذ وهبك العقل والمش���اعر والوجدان والقلب
قت بها على سائر الكائنات... تفو َ وما شابهها من اآلليات التي ّ
وإياك أن تنس���ى أنك في امتحان ،إما أن تفوز بحس���ناتك وإما أن تخس���ر بس���يئاتك .أما نحن فنأكل ونشرب ونمضي بحياتنا هم هذا االمتحان وما يعقبه من حس���اب وجزاء. بعيدي���ن ع���ن ّ
أبدا... فكل ذلك بتقديره وإرادته س���بحانه ،فلو ش���اء ما خل َقنا ً
فنحم���ده عل���ى كل ما أعطانا من َنعم ،ثم أتركك أيها اإلنس���ان ِقت له. ألن تتأمل وتفكر لما ُخل َ
(*) جامعة 9أيلول /تركيا .الترجمة عن التركية :مصطفى حمزة.
61
السنة الثامنة -العدد (2012 )32
محطات حضارية نور الدين صواش*
تنبيهات رمضانية لدى الدولة العثمانية ورد في "رمضان َت ْن ِب ْه َن َامسِ ���ي" (وثيقة تنبيهات رمضان) لدى الدولة العثمانية ،أن السلطان ذاته هو َمن كان يقوم باختبار واختيار نوعية القمح سيصنع منه الخبز في شهر رمضان المبارك ،وكذلك هو الذي ُ َم���ن كان يقوم بتحديد وزنه وكمية المل���ح التي تضاف إليه... حتى إنه كان يختار نوع الحطب الذي يتم حرقه في طهي هذا الخبز! وإذا نال هذا الخبز إعجاب السلطان وأهل الخبرة في القص���ر ،تب���دأ األفران بخب���زه وبيعه إلى األهال���ي والصائمين. وقبل حلول ش���هر رمضان المبارك الذي تبدأ التحضيرات يوما ،يأمر السلطان بتشكيل هيئ ٍة لمراقبة له قبل خمس���ة عش���ر ً األغذية في األس���واق وتنظيم أس���عارها .ولعل قيام الس���لطان ذات���ه باإلش���راف عل���ى أدق التفاصيل إب���ان هذه التحضي���رات ،خير دليل على اهتمامه بالرعية واعتنائه بصحتهم.
السنة الثامنة -العدد (2012 )32
62
وأيض���ا تم في وثيقة "تنبيهات رمضان" توجيه األهالي إلى ً
التمس���ك ببعض الضرورات وااللتزام بها طيلة ش���هر رمضان
الوعاظ بتذكير الجماعة في المس���اجد، المب���ارك ،حي���ث يقوم ّ
ال والمن���ادون بتنبيه األهالي في الش���وارع؛ بأال ي���زور أحد منز ً دون إخب���ار صاحبه أو دون دعوته له ...وأال يقوم أحد بتناول
األطعمة أو المشارب في الشوارع ...وأن يحرص الناس على الصلوات الخمس بجماعة في المس���اجد ...وأن يبذلوا كل ما
بوسعهم لنيل بركات هذا الشهر المبارك وفضائله ...ثم ُيطلب
م���ن األهالي أن يدع���وا إلى الدولة العثماني���ة بالخير والفالح، وإلى األمة اإلسالمية بالفوز والنجاح.
والب���د من التذكير هنا ،بأن الدول���ة العثمانية قامت بتقديم
مكاف���آت كبي���رة ألول َم���ن يرى هالل ش���هر رمض���ان المبارك ويخبر اللجنة العليا بذلك.
محطات علمية
النحل
خبير التكييف كلن���ا يع���رف أن إن���اث النحل تصنع العس���ل،
ح���رارة الج���و ...ففي هذه الحالة تقوم بع���ض عامالت النحل
المكيف عند من���ا يعرف أن النح���ل تس���تخدم ّ
خالل���ه دف���ع الهواء البارد إلى داخل الخلي���ة! أما إذا كان الحر
ش���افيا لبني البش���ر ...ولكن َمن دواء ّ وتقدم���ه ً ً الحر ،والمدفأة عند شدة البرد!! شدة ّ
هوائيا يتم من تيارا بتحريك أجنحتها للتهويةّ ، فيتش���كل إثرها ً ًّ ش���ديدا ،فتقوم بعض هذه العامالت بتحريك أجنحتها بسرعة ً
أجل ،يس���ير النحل في بيوته على الطريقة التي س���ار عليها
فائق���ة ،وبعضها اآلخر برش الماء عل���ى عيون الخلية لتلطيف
هلم نرى... وكأني أسمعك تسأل بفضول :وكيف ذلك؟! حس ًنا ّ
عليه���ا؛ وه���ي 32درجة ثابتة ال تتغي���ر وال تتبدل ،ال في الحر
عن���د هب���وط درجة الح���رارة ،بالتجمع حول الخالي���ا وتغطيها
من أين تعلّمت هذه المخلوقات كل هذه األمور يا ترى؟!
اإلنسان في التكييف والتبريد في بيته أو دكانه أو محل عمله! يق���وم جمع غفير من عام���الت النحل عند الفجر البارد أو
بكثاف���ة -كأنه���ا تحتضنه���ا -لتحمي البيض وتزوده بأجس���امها
الصغيرة الناعمة بالحرارة الالزمة!
وأم���ا األمر اآلخر الذي يثير العق���ول ويأخذ باأللباب ،هو
الطريق���ة التي تتبعها ه���ذه المخلوقات في التبري���د عند ارتفاع
جوه���ا وإعادة درجة حرارتها إلى الحال���ة الطبيعية التي كانت
وال في البرد!
أال يعني هذا ،أن نظام التكييف والتدفئة تم استخدامه من قبل
ماليين السنين؟!
(*) كاتب وباحث تركي.
63
السنة الثامنة -العدد (2012 )32
التصور العام
• حراء جملة علمية فكرية ثقافية تعىن بالعلوم الطبيعية واإلنسانية واالجتماعية وحتاور أسرار النفس البشرية وآفاق الكون الشاسعة باملنظور القرآين اإلمياين يف تآلف وتناسب بني العلم واإلميان ،والعقل والقلب ،والفكر والواقع. • جتمع بني األصالة واملعاصرة وتعتمد الوسطية يف فهم اإلسالم وفهم الواقع ،مع البعد عن اإلفراط والتفريط. • تؤمن باالنفتاح على اآلخر ،واحلوار البناء واهلادئ فيما يصب لصاحل اإلنسانية. • تسعى إىل املوازنة بني العلمية يف املضمون واجلمالية يف الشكل وأسلوب العرض ،ومن مث تدعو إىل معاجلة املواد مبهنية عالية مع التبسيط ومراعاة اجلوانب األدبية واجلمالية يف الكتابة.
شروط النشر
• أن يكون النص املرسل جديدا مل يسبق نشره. • أال يزيد حجم النص على 2000كلمة كحد أقصى ،وللمجلة أن تلخص أو ختتصر النصوص اليت تتجاوز احلد املطلوب. • يرجى من الكاتب الذي مل يسبق له النشر يف اجمللة إرسال نبذة خمتصرة عن سريته الذاتية. • ختضع األعمال املعروضة للنشر ملوافقة هيئة التحرير ،وهليئة التحرير أن تطلب من الكاتب إجراء أي تعديل على املادة املقدمة قبل إجازهتا للنشر. • اجمللة غري ملزمة بإعادة النصوص إىل أصحاهبا نشرت أم مل تنشر ،وتلتزم بإبالغ أصحاهبا بقبول النشر ،وال تلتزم بإبداء أسباب عدم النشر. • حتتفظ اجمللة حبقها يف نشر النصوص وفق خطة التحرير وحسب التوقيت الذي تراه مناسبا. النصوص اليت تنشر يف اجمللة تعب عن آر ُ َّاهبا ،وال تعب بالضرورة عن رأي اجمللة. اء كت • رِّ رِّ ً • مجا إىل أي لغة أخرى ، للمجلة حق إعادة نشر النص منفصال أو ضمن جمموعة من البحوث ،بلغته األصلية أو مرت ً دون حاجة إىل استئذان صاحب النص. • جملة حراء ال متانع يف النقل أو االقتباس عنها شريطة ذكر املصدر. يرجى إرسال مجيع املشاركات إىل هيئة حترير اجمللة على العنوان اآليت:
hira@hiramagazine.com YEMEN دار النشر للجامعات الجمهورية اليمنية ،صنعاء ،الخط الدائري الغربي، أمام الجامعة القديمة Phone: +967 1 440144 GSM: +967 711518611 ALGERIA Bois des Cars 1 Villa Nº68 Dely Brahim GSM: +213 770 26 00 27 SUDAN مركز دار النيل ،مكتب اخلرطوم أركويت مربع 48منـزل رقم - 31اخلرطوم -السودان Phone: 0024 999 559 92 26 - 0024 915 522 24 69 hirasudan@hotmail.com JORDAN شركة زوزك/مشيساين شارع عبد احلميد شرف ،بناية رقم61: عمان/األردن. Phone: +962 656 064 44 GSM: +962 775 935 756 hirajordan@hotmail.com UNITED ARAB EMIRATES دار الفقيه للنشر والتوزيع ص.ب 6677 .أبو ظبي Phone: +971 266 789920 MAURITANIA Phone: +2223014264
USA Tughra Books 345 Clifton Ave., Clifton, NJ, 07011, USA Phone:+1 732 868 0210 Fax:+1 732 868 0211 SAUDI ARABIA الوطنية للتوزيع Phone: +966 1 4871414 املكتب الرئيسي :شارع التخصصي مع تقاطع شارع األمري سلطان بن عبد العزيز عمارة فيصل السيار ص.ب 68761 :الرياض11537 : اجلوال00966504358213 : saudia@hiramagazine.com abdallahi7@hotmail.com Phone-Fax: +966 1 2815226 MOROCCO الدار البيضاء 70زنقة سجلماسة Société Arabo-Africaine de Distribution, )d'Edition et de Presse (Sapress 70, rue de Sijilmassa, 20300 Casablanca / Morocco Phone: +212 22 24 92 00 SYRIA GSM: +963 955 411 990
جملة علمية فكرية ثقافية تصدر كل شهرين عن: Işık Yayıncılık Ticaret A.Ş İstanbul / Türkiye
صاحب االمتياز
مصطفى طلعت قاطريجي أوغلو
املشرف العام نوزاد صواش
nsavas@hiramagazine.com
رئيس التحرير هانئ رسالن
hraslan@hiramagazine.com
مدير التحرير أجري إشيوك
eisiyok@hiramagazine.com
املخرج الفين
أنكني جفتجي
املركز الرئيس HIRA MAGAZINE Kısıklı Mah. Meltem Sok. No:5 34676 Üsküdar İstanbul / Turkey Phone: +902163186011 Fax: +902164224140 hira@hiramagazine.com
مركز التوزيع 7ش البامكة -احلي السابع -م.نصر/القاهرة تليفون وفاكس+20222631551 : اهلاتف اجلوال +20100780831 : مجهورية مصر العربية
نوع النشر جملة دورية دولية
Yayın Türü Yaygın Süreli
الطباعة Çağlayan Matbaası İzmir - Turkiye Tel:+90 (232) 252 20 96
رقم اإليداع
1879-1306
لالشرتاك من كل أحناء العامل pr@hiramagazine.com
• اململكة العربية السعودية ١٢ :ريال سعودي • اليمن ٣٥٠ :ريال ميني • املغرب ٢٠ :درهم • الجزائر ٢٥٠ :دﻳﻨﺎر
النورسي...
النورسي نادرة العصر ومبدع الفكر اإليماني التصديقي والتجديدي...
في فكره اإلبداعي تخوض أقالم كبار مفكري العصر...
هامة من إبداعاته اإليمانية يدلون بشهاداتهم... على جوانب َّ
إن الروح اإلنساني مدين لهذا الفكر العمالق بابتعاثه من مرقده من جديد...
ّ يستمد ،ومن وحيه يكتب... قلمه من وحي القرآن
القرآن قبلته األعظم يستقبله في كل مهماته الفكرية والوجدانية...
مركز التوزيع فرع القاهرة 7 :ش البرامكة ،الحي السابع ،مدينة نصر -القاهرة /مصر
تليفون وفاكس +20222631551 :
الهاتف الجوال +201065523088 :
w w w. d a r a l n i l e . c o m
ﺗﺮﻛﻴﺎ ٦ :لريات • أوروبا ٣,٥ :يورو • أمريكا ٥ :دوﻻر
الطفلة والدعاء إنه ما رّد خاوي اليدين أحدا وما قال ألمثالك "ال" أبدا تكرم على من شاء بما شاء إنه ّ إخالصا وصفاء وأسعد كل قلب خفق ً ***
Eylül - Ekim 2012 Sayı: 32 Fiyatı: 6 TL.
32