الكلمة الأخرية العادات التي تشكل بمجموعها الهوية االجتماعية والذائقة العامة ،قوة رئيسة وسياج واق لديمومة هذه الهوية ،بل هي الهوية نفسها! غير أن هذه الوظيفة الحمائية للعادات واملألوف االجتماعي ،تتحول إلى حائط صد ،ومرتفع صخري معيق لتدفق املياه ،مياه التاريخ والحركة املستمرة ،فوفقا لفالسفة «التأريخ» فإن ثمة روحا دافعة لألمام باستمرار ،وهي قوة حتمية ال تقاوم .بعض املجتمعات تظل راكدة هانئة متصالحة مع واقعها ونظام حياتها ،مهما بدا فقيرا وساذجا ،مثل املجتمعات البدائية في جزر املحيطني الهادي والهندي ،لكن بعض املجتمعات ال تملك ترف البقاء على مألوفها ومعتادها ،فهي على صدوع التحوالت وخطوط القوافل ومهب الرياح. بالنسبة للعرب في مجتمعات الهالل الخصيب ومرافئ الخليج ،األمر كان واضحا في قسوة التحول ،وفي كل دورة مؤملة من دورات التحول ،يخرج لنا فرسان نبالء قرروا الصمود على الحال القديم حتى ولو حاربوا بسيوف من خشب .نتحدث عن «النبالء» في موقفهم ،ال عن املتاجرين بقضية الهوية والنقاء الديني الثقافي ،ملطامع سياسية دنيوية .نذكر ملحات ربما تساعد قليال على التصور .حينما دخلت السيارات إلى مجتمع الجزيرة العربية تم النظر لها بريبة وتربص ،وثارت الحمية للبعير والدواب ،جانب من هذه النظرة بسبب الشك واالندهاش من هذا االختراع العجيب ،ثم تلبس هذا الشك بلبوس ديني ،ثم صار موقفا صلبا ،حتى أني – شخصيا -أدركت شيوخ وعظ يأنفون من ركوب السيارات ،إن لم يكن تحريما فتنزها دينيا. ما جرى تجاه السيارات لدى سكان قرى وبلدات الجزيرة العربية ،حصل تجاه وسائل االتصال «الحديثة» وقتها ،وعلى رأسها التلغراف والبرقية ،حتى إن «مسألة البرقية» تحولت إلى ملف معقد ضمن ملفات جماعة «إخوان السبلة» ضد امللك املؤسس عبد العزيز ،وفتاوى ورسائل املشايخ حينها حافلة بجدل وتنظير غزير حول املسألة ،يكفي أن تقرأ املجموعة الشهيرة التي خصصت لتراث علماء الدعوة املسماة بـ«الدرر السنية» لتقف على جانب من هذا «التراث».
بقلم :م�شاري الذايدي
مضت السنون ،وغادرنا لحظة معركة «السبلة» الدامية ،نحن اآلن في ،1960وبداية «معركة» تعليم البنات في السعودية ،وهي املعركة التي دشنها امللك سعود ،وخاضها بجسارة وشجاعة وحكمة امللك فيصل ،ومن يطلع على كتاب الباحث السعودي عبد الله الوشمي وعنوانه «فتنة القول بتعليم البنات في اململكة العربية السعودية» يقف على مساجالت ووثائق غاية في األهمية ،تحوي أرشيفا سياسيا واجتماعيا وثقافيا حول تلك اللحظة الفارقة في تاريخ املجتمع السعودي .ومن لطائف ما ذكره الكتاب حول شخصية شيخ شاب كان من أبرز املتحمسني ضد تعليم البنات ،والساعني في تأليب العامة والناس ،وسوق الحشود والوفود ،أن هذا الشخص صار ّ الحقا سمحا ّ هينا لينا له بنات أسهمن بسهم وافر في مسيرة التعليم النظامي للبنات ،بتشجيع من والدهن. املؤلف ،عبد الله الوشمي ،وفي إضافة ثمينة ،لفت إلى «ممانعات» أخرى في املجتمعات املسلمة للتعليم النظامي للبنات من أفريقيا حتى آسيا ،من عرب وعجم« .املمانعة» إذن ليست سلوكا غريبا على أي مجتمع في العالم، بصرف النظر عن دينه ولونه ،فهي آلية مقاومة طبيعية لحظتها ،لكل جديد مريب ،كما لو زرع عضو في جسد مريض ،فيحتاج الجسد إلى ما يساعده على تقبل هذا العضو الصحيح ،الذي به قوام عافيته وحياته .غير أن ما ال يقبل هنا هو «التجلمد» و« التجمد» عند هذه اللحظة العفوية «العابرة» هنا يتحول العفوي إلى تخريبي وملهاة حزينة .ثمة لحظات ال بد فيها من اتخاذ قرارات غير شعبية وال محبذة ،فالجماهير تضل السبيل كثيرا وتأخذها الحماسة أكثر ،دون تأمل وال تفكر في عواقب األمور.
تاريخ العناد!
كما قلنا هو سلوك دائم في كل املجتمعات ،وأسهل دعاية إلثارة الجمهور ،أي جمهور ،هي الدعاية الدينية ثم الوطنية .يذكر عالم االجتماع العراقي علي الوردي في موسوعته «ملحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث» ـ ملحق الجزء السادس ص ،40في سبب انتهاء حكم الشريف عبد املطلب بن غالب على مكة عام 1854حادثة ذات داللة عميقة .قال« :في 1854حدث حادث أدى إلى عزله (الشريف عبد املطلب) وخالصة الحادث أن الوالي التركي كامل باشا قد وصله أمر السلطان بمنع بيع الرقيق علنا في األسواق تنفيذا ملعاهدة عقدت بني الدولة العثمانية وبريطانيا .وقد استدعى كامل باشا داللي الرقيق وأبلغهم األمر ،ولم يكد ينتشر الخبر في مكة حتى اهتاج الناس وتنادوا بالجهاد ،واجتمع طلبة العلم في بيت رئيس العلماء ،وطلبوا منه أن ال يرضخ لهذا األمر الذي هو مخالف للشرع في نظرهم ،كما طلبوا منه أن يذهب معهم إلى دار القاضي ليمنع من صدور األمر .فاستجاب رئيس العلماء لطلبهم وسار معهم متجها إلى دار القاضي وانضم الجمهور إليهم في الطريق وهم ينادون بالثورة ،واشتبكوا مع الحامية التركية في قتال عنيف امتد إلى املسجد الحرام وسقط فيه عدة قتلى بني الفريقني» .ثمة مثال آخر حول الريبة من الجديد ،حتى ولو كان ضروريا ومفيدا. يذكر املؤرخون الذين كتبوا حول تاريخ املطبعة والطباعة في الشرق اإلسالمي ،أنه في نهاية القرن الـ 15قدم إلى األستانة -عاصمة الدولة العثمانية -عالم يهودي اسمه (إسحق جرسون) وأحضر معه مطبعة وحروفا عبرية لينشر بها كتب الديانة اليهودية املخطوطة التي كان يصعب الحصول عليها لقلة الناسخني اليهود وارتفاع أسعار املخطوطات .لكن السلطان (بايزيد الثاني) خشي أن يستفيد رعاياه من االختراع الجديد فما كان منه إال أن أصدر في سنة 1485أمرا يحرم على غير اليهود استخدام فن الطباعة. وصدرت فتاوى دينية بذلك. من يتذكر اآلن أنه قبل عقود قريبة من السنوات كان هناك كتاب ديني فقهي كامل ألفه رجل زاهد وفاضل ،وقدمه واحتفى به رمز من رموز املجال الديني في العالم اإلسالمي ،كان عنوانه «اإليضاح والتبيني ملا وقع فيه األكثرون من مشابهة املشركني»؟ ومما حذر منه املؤلف الورع الزاهد الناس في هذا الكتاب ،حسب نص عناوين فصوله :لبس البرنيطة والسترة والبنطلون ،فرق النساء شعر الرأس من جانبيه وجمعه من ناحية القفا ،تعقيد الخرق في رءوس البنات كأنها الزهر ،األكل باملالعق ونحوها من غير ضرورة، اللعب بالكرة ،إقامة التمثيليات ..وغير ذلك؟! ال تثريب على أهل ذلك الزمان وال على ممانعاتهم األولية ،التثريب على من يقف في وجه سيول التاريخ وأسئلة الحاضر. 66
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
االستبداد يف الشرق األوسط: احلكم واالحتقان ومرونة النظام يف سوريا وإيران ستيفن هايدمان ورينود ليندرز
يتناول الجزء األول من قصة حياة مارغريت ثاتشر التي كتبها مور في مجلدين يتميزان بالتشويق ويذخران باملعلومات من البداية إلى النهاية، أفكارا ومواقف معروفة جيدا عن ابنة البقال في البلدة الصغيرة التي أصبحت زعيمة حزب املحافظني البريطاني ،ورئيسة وزراء بريطانيا وسياسية ذات قناعات وطباع أكسبتها لقب املرأة الحديدية .توضح تفاصيل كثيرة -من قصص حبها األولى إلى عالقاتها مع زمالئها األكبر سنا -تعقيدات وتناقضات هذه العاملة الذكية التي تحولت إلى شخصية سياسية من طبقة متوسطة :مثال اضطرابها لدى مقابلة ملكة إنجلترا؛ واحتقارها لتظاهر الطبقات العليا ،والذي لم يقلل من رغبتها العارمة في االنضمام إليها؛ وميلها املفاجئ لالستجابة إلى الخبراء واالنحناء إلى البرغماتية .ينقل مور ببراعة عبر صفحات كتابه كيف كان غريبا على امرأة أن ترأس أكثر حزب سياسي وقارا في العالم ثم تصبح رئيسة وزراء: ويصف في أحد املشاهد دموع الشهامة والحزنُ التي مألت عيون كبار قيادات الحزب عندما أعلنت ثاتشر رئيسة للحزب في عام .1975يختتم الكتاب بأفضل فترات ثاتشر: زعامتها أثناء حرب فوكالند بني اململكة املتحدة واألرجنتني.
ال يشبه هذا الكتاب إيران بحليفتها سوريا .في الواقع ،يبدو أن املحررين اختارا عن قصد نظامني مختلفني للغاية لدراستهما من أجل استيعاب األساليب االستبدادية السائدة .فكرتهما األساسية واضحة: «سوف يستمر االستبداد في الشرق األوسط بعد هذه اللحظة الفارقة» .يدعم املؤلفان هذا الرأي املثير للخالف بأدلة جديرة باالعتبار ،كما أن خبرتهما في تكتيكات البقاء السياسي ومعرفتهما العميقة بالدولتني تثيران اإلعجاب .تقول الفرضية األساسية إن الحكام املستبدين في إيران وسوريا يستطيعون تحمل التحديات الهيكلية الشاقة التي يواجهونها من خالل تكيفات «أعيد تركيبها»: تأسيس منظمات غير حكومية ترعاها الدولة من أجل إقامة قشرة خادعة للمجتمع املدني؛ التعاون مع بعض منظمات املجتمع املدني الحقيقية ،ومن بينها املنظمات الدينية؛ واستخدام العديد من صور القسر بطريقة قانونية أو خارج إطار القانون. ويتميز الحكام املستبدون في طهران ودمشق باالبتكار واملكر ،ولكنهما ال يقدمان نموذجا للبقاء االستبدادي .تكمن مخاطرة واضحة في أنه من خالل مالحظة بقاء النظام ،ربما ينسب املراقبون السبب في ذلك على نحو خاطئ إلى مجموعة من التكتيكات املترابطة .وفي الواقع ،ربما يكون الحظ والتحرك السريع فقط عاملني مؤثرين .في حالة سوريا ربما يكون الحظ قد نفد أخيرا.
مارغريت ثاتشر :سرية ذاتية معتمدة؛ من غرانثام إلى فوكالند تشارلز مور
معضلة السالم :سعي أمريكا إلى السالم العربي اإلسرائيلي 2011-1989 دانيال س .كروتزر ،وسكوت ب. السينسكي ،وويليام ب .كواندت، وستيفن ل .سبيغل ،وشبلي ز .تلحمي
يملك املؤلفون مجتمعون خبرة في شؤون الشرق األوسط ال يتفوق عليها أحد .يتميز تحليلهم باإليجاز ،ويبدو تصويرهم ملساعي الواليات املتحدة للتوسط من أجل السالم العربي اإلسرائيلي قاتما .ال يرى املؤلفون سوى ثالثة نجاحات فقط :االنسحاب اإلسرائيلي من سيناء في ،1973ومعاهدة كامب ديفيد في ،1978ومؤتمر السالم في مدريد عام ،1991والذي فشل في النهاية ولكنه مهد الساحة ملباحثات أوسلو .منذ ذلك الحني، أوشكت بعض املساعي على اإلخفاق :اجتماعات طابا في فبراير (شباط) ،2001واملباحثات اإلسرائيلية الفلسطينية التي بدأتها مباحثات أنا بوليس في نوفمبر (تشرين الثاني) عام .2007 ولكن في املجمل ،قدم أفضل وأملع الدبلوماسيني األميركيني القليل للغاية .يؤكد املؤلفون على أنه يجب على واضعي السياسات األميركيني معالجة القضايا الرئيسة وتحويل انحيازهم الطبيعي تجاه إسرائيل إلى عنصر إيجابي ،واستعادة عزم الحزبني على حل القضية ،والحفاظ على االستمرارية بني اإلدارات ،وإقناع اإلسرائيليني والفلسطينيني بأن واشنطن تتفهم وتحترم مصالحهم األساسية .ولكن ربما تكون هناك قراءة أخرى بأن دور الواليات املتحدة هو مجرد الحفاظ على استمرار هذه املحاوالت حتى وإن لم تؤد إلى حل ،وإذا كان الطرفان عاجزين عن االتفاق ،فإن املحاولة إلى ما ال نهاية أفضل من الوقوف أمام طريق مسدود.
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
65
مراجعات
تعرض «املجلة» على قرائها بالنقد والتحليل أفضل خمسة كتب من مختارات مجلة «فورن أفيرز» .كتب قيمة تستحق القراءة والتأمل وتتميز باإلثارة والثراء ،بخاصة وأنها تحكي أحداثا وتتعرض لشخصيات مؤثرة عامليا .ومن أهم الكتب املختارة كتاب «العلم والتنمية والسيادة في العالم العربي» للمفكر والعالم الفلسطيني أنطوان زحالن .فعلى مدار عقود ،ألف زحالن الكثير من الكتب في مراقبة اإلنتاج العلمي العربي ،في ضوء خبرته كعالم فيزياء .يأتي تقريره عن حالة العلم في العالم العربي محبطا ولكنه ال يبعث على اليأس ..وفي كتابه «مارغريت ثاتشر :سيرة ذاتية معتمدة؛ من غرانثام إلى فوكالند» يتناول املؤلف تشارلز مور الجزء األول من قصة حياة مارغريت ثاتشر التي كتبها في مجلدين يتميزان بالتشويق ويذخران باملعلومات من البداية إلى النهاية ،أفكارا ومواقف معروفة جيدا عن ابنة البقال في البلدة الصغيرة التي أصبحت زعيمة حزب املحافظني البريطاني ،ورئيسة وزراء بريطانيا .وفيما يلي نخبة منتقاة من أفضل الكتب الصادرة أخيرا.
أفضل خمسة كتب ..من معضلة السالم .. إلى السرية الذاتية ملارغريت ثاتشر أخطر مكان يف العالم الشباب يف الصومال
العلم والتنمية والسيادة يف العالم العربي
تأليف :جيمس فريغسون وستيغ غارل هانسن
عندما نالت الصومال استقاللها في عام ،1960رحب الخبراء بهذه الخطوة إذ اعتبروها من بني الدول القليلة ذات املستقبل املشرق الواعد في جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا ،نظرا ألنها ال تعاني من انقسامات عرقية وبالتالي فإنها من الدول القالئل ذات القومية الواحدة في املنطقة. ولكن بعد أن أدت عدة عقود من الفساد والحكم الذي ال يتسم بالكفاءة إلى انهيار اقتصادي وانقسامات متزايدة داخل خليط معقد من القبائل التي تشكل املجتمع الصومالي ،أدى انهيار الدولة في مطلع التسعينات إلى نشوب حرب أهلية ،وظهور القراصنة قبالة سواحل الصومال ،وتدخالت دولية أحرزت درجات متفاوتة من النجاح ،وأخيرا ظهور حركات إسالمية مسلحة .في عام ،2010استطاع تنظيم الشباب ،أكثر الجماعات اإلسالمية التي تدعي والءها لـ«القاعدة» تشددا ،السيطرة على النصف الجنوبي من البالد .ولكنه انهزم كلية أمام قوة دولية حشدها االتحاد األفريقي .ولكن على مدار عامني ،كان الشباب يمثل الجماعة
64
أ .زحالن
الوحيدة التابعة لـ«القاعدة» التي استطاعت السيطرة على مساحة كبيرة من األرض. لم تحظ هذه القصة بالعرض كما ينبغي، لذلك يستحق هذان الكتابان االستثنائيان أن يصال إلى قطاع عريض من القراء .يقدم فيرغسون وصفا حيا ألهوال بشعة شهدتها حرب ال تنتهي في الصومال ،مضيفا إلى حكايته دعابات ساخرة لبعض املشاركني في الحرب .ويبدو أنه كان مصاحبا لقوة االتحاد األفريقي في عامي 2010و ،2011حيث يتحدث عن النجاح العسكري الذي أحرزته هذه القوات من خالل مجموعة من املقاالت القصيرة الكاشفة .وفي توضيح لحجم تبعات انهيار دولة الصومال يتطرق فيرغسون إلى الشتات الصومالي من لندن إلى مينابوليس، التي تضم جيوبا تقدم الدعم لتنظيم الشباب. يركز هانسن بصورة محدودة على تنظيم الشباب واملزيج املثير للفضول الذي يجمع فيه بني اآليديولوجيا اإلسالمية الدولية واملخاوف املحلية التي يستغلها في الدخول إلى السياسة الفوضوية في الصومال.
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
على مدار عقود ،ألف زحالن الكثير من الكتب في مراقبة اإلنتاج العلمي العربي ،في ضوء خبرته كعالم فيزياء. يأتي تقريره عن حالة العلم في العالم العربي محبطا ولكنه ال يبعث على اليأس .تتوفر جميع متطلبات النجاح العربي في األبحاث والتنمية فيما عدا الثقافة واإلرادة السياسية .ال توجد صالت عضوية بني الجامعات والصناعات واألسواق في الدول العربية نظرا ألن الحكومات تمول مشروعات كاملة دون اإلصرار على أن يشارك املطورون وسائل التكنولوجيا التي تقوم على أساسها .هذه الطريقة «الجاهزة» تعني أن كال من الحكومات والصناعات ال تحتاج إلى اللجوء إلى الجامعات أو مراكز األبحاث للحصول على أحدث األبحاث والتطوير .في ظل فقدان هذه الحلقة املهمة ،ال توجد قوة دفع كافية لتطوير نوعية االتحادات والشبكات املهنية التي تدعم املهنية العلمية في األساس .كما ال توجد قوة دفع في سبيل التعاون العلمي بني الدول العربية .والنتائج واضحة. في عام ،2009كان 31عاملا فقط في العالم العربي يحظون بقدر من الظهور العاملي .في املقابل ،منذ عام ،1970ارتفع حجم اإلنتاج العلمي والتنموي لكوريا الجنوبية من نصف حجم إنتاج العالم العربي إلى 20ضعفا ،بينما يبلغ حجم إنتاج إسرائيل البحثي، مقارنة بعدد السكان 26 ،ضعف العالم العربي.
نتيجة لذلك ،قام الغذامي بتجريد أولئك النفر من الرواد من استحقاقاتهم املكتسبة اكتسابا ،ومارس ذلك بوعي ،وتكتيك مألوف في استراتيجية «النفي واإلثبات» ،و«الشخصنة» بهدف تأكيد الذات والسبق. لقد كانت خطيئة الغذامي في أنه حكم بفشل املشروع الثقافي برمته استنادا إلى مصائر الرواد ،والحقهم في القاهرة ،وغيرها من املدن العربية ،مع أن «نطفة التجديد والتحديث زرعت في رحم الثقافة السعودية ،وبالتالي فإن متابعة مراحل الحمل وتطور الجنني ينبغي أن تكون هنا في الثقافة الحاملة للنطفة ،ال هناك بعيدا حيث سافر أو هاجر أو اغترب صاحب النطفة! أليس هذا هو املنطق السليم؟! بلى ..ولكنه داء (الشخصنة) قاتله الله». يعود املؤلف ويؤكد قائال« :ولكنني أزعم أن قراءة منصفة ومتجردة لتراث هؤالء الرواد ،كمحمد حسن عواد ،وحمزة شحاته ،وغيرهم ،ستكشف أنهم أكثر صدقا وجرأة وجذرية في رؤاهم التحديثية ،وفي طرحهم النهضوي من الغذامي ومجايليه ،الذين كانوا أكثر حذرا وتقية ،أو أقل وعيا وأضيق أفقا من أسالفهم».
الغذامي والسريحي ..وللحداثة إله واحد إنك عبثا تحاول أن تجد في «حكاية الحداثة» عن كاتب أو كتاب أو مقال ،أو أي أثر ثقافي ملفكر أو مبدع ،غير البطل الوحيد للرواية ،الذي هز الجدل الثقافي، ومسح طاولة املشهد الحداثي ،ولم يعد هناك مكان ألحد بعد أن حجزها هو بالكامل. يتجلى هذا اإللغاء واإلقصاء التام لآلخر -كما يقول املؤلف -وبشكل واضح فاضح في قصة الغذامي مع سعيد السريحي -الذي يعتبر من أهم نقاد الحداثة -حيث يبدو في حكاية الغذامي كما لو كان نكرة طفيليا يتغشى مواقع الغذامي فأرضى نفسه (فهو شاب لم نكن نجهله ،ولكن معرفتنا به خفيفة) ،هكذا يصوره« ،مع أن السريحي -لوال التقاليد الثقافية املشوهة - الحتل موقعه املناسب واحدا من أكثر النقاد العرب تفعيال وتوظيفا عميقا ملناهج النقد املعاصر». هذه هي النتيجة إذن« ..إلغاء دور اآلخرين وإقصاؤهم من الصورة ،لتكريس دور البطولة املطلقة للغذامي نفسه في حركة الحداثة في اململكة ..فكل ما
يمكن أن تعثر عليه في قصة املوجة الثالثة عدا (الخطيئة والتكفير) هو أطياف أشخاص بال مالمح ،يتحركون كاألشباح تحت ظل الكتاب وصاحبه ..فهم ينصبون له السرادق ويجهزون امليكرفونات ،أو يشتغلون جواسيس له، وينقلون له أخبار ما يحاك ضده من مؤامرات ،ويكشفون له مواقع ما ينصب له من شباك وفخاخ ،وهذا هو قصارى دورهم وجهدهم وإسهامهم في حركة الحداثة السعودي ،كما يصورها لنا الغذامي». ومع كل ذلك ،يتعقب املؤلف حاكما مقيما لتلك الحركة الحداثية قائال« :حني يصف الغذامي بأن تجربة العشرينات امليالدية يمكن أن يطلق عليها (حداثة النصف خطوة) ،فإننا نجيز ألنفسنا أن نصف حركة الثمانينات التي نصب الغذامي فيها نفسه بطال ،وجعل من كتاب (الخطيئة والتكفير) شرارتها األولى ،بأنها (مجاز حداثة) ،أو مجرد (حداثة افتراضية) ،فهي حداثة بالنية، ولم تكن على أرض الواقع».
ماذا لو قرأه طه حسني؟! وفي طور آخر من أطوار «التضخم األنوي» ،يشبه الغذامي في أكثر من موضع صدى وأثر كتابه «الخطيئة والتكفير» بكتاب عميد األدب العربي طه حسني «في الشعر الجاهلي» ،بل إنه في نصوص أخرى يقول إن ردة الفعل تجاه كتابه في الجسد الثقافي الرسمي والشعبي في السعودية فاقت ردة الفعل التي أحدثها كتاب طه حسني« ،األنا املتضخمة في سبيل تضييقها للواسع تذهل عن الفوارق والحقائق التاريخية واالجتماعية التي تكون في غاية الوضوح وال يمكن إلغاؤها أو تجاهلها وإغفالها ،دون أن تنسف األساس التي تقوم دعواها عليه». ال يتمالك املؤلف نفسه أمام هذه التشبيهات املتمادية في التضخم األنوي، فيمعن في ازدراء هذا التشبيه الذي يسوقه الغذامي بينه وبني طه حسني، قائال« :ال أشك في أن العمر لو امتد بالعميد ليقرأ مثل كالم الغذامي في صحيفة سيارة تلتقطها أيدي الصبيان والفتيات الذين لم يتفتق وعيهم بعد ،ويظنون بمثل هذه القامات التربوية والعلمية الخير ،لنسب الغذامي إلى فئات اجتماعية وإلى أماكن أخرى في املجتمع ،ليس فضاء الفكر والثقافة واألدب من بينها إطالقا<
الغذامي خالل ندوة في جامعة امللك سعود بالرياض في ديسمبر 2010 وصف الليبرالية باملوشومة ،منكرًا وجود أي ليبرالي سعودي
,,
عبثا تحاول أن تجد في «حكاية الحداثة» عن كاتب أو كتاب أو أي أثر ثقافي ملفكر أو مبدع غير البطل الوحيد للرواية
,,
* كاتب سعودي
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
63
ثقافة
على الرغم من أن كتاب الدكتور عبد الله الغذامي الذي تناول فيه (حكاية الحداثة في اململكة العربية السعودية) قد صدر في عام ،2004فإن الردود ما زالت تتوالى عليه ،وتتعقبه بالنقد والتمحيص واملعالجة ،ألن الحكاية ،كما يقول مؤلفنا ،مرتبطة بشخص (الغذامي) وانطباعاته و«أهوائه» أكثر من أن تكون مرتبطة فعليا بتأريخ حقيقي لتجربة الحداثة في السعودية.
ثقوب األنا والنرجسية في كتاب «حكاية الحداثة»
أهواء الغذامي بقلم: عبد الله الناصر*
اسم الكتاب: «أوهام الحداثوية.. ثقوب في رواية عبد الله الغذامي لتجربة الحداثة في السعودية» املؤلف :عز الدين صغيرون الناشر :دار «مدارك» للنشر 2013
عز الدين صغيرون ،كاتب وشاعر سوداني ،هو ابن للصحافة تاريخ مختلق ..ملفق تماما
السعودية والخليجية ،جال قلمه بني صحيفة «عكاظ» السعودية، و«االتحاد» اإلماراتية ،ومجلة «الدوحة» القطرية .في كتابه الصادر في فبراير (شباط) « 2013أوهام الحداثوية ..ثقوب في رواية عبد الله الغذامي لتجربة الحداثة السعودية» عن دار «مدارك» للنشر ،يضع صغيرون الغذامي تحت مجهر الناقد املتربص الحاد الذي ال يبتغي تخفيف العبارة أو تنميقها تحاشيا لأللم أو املصادمة ،وإنما تخرج منه مباشرة مندفعة صريحة ،هو ال يعترف بأن الغذامي في حكايته يقدم رواية تاريخية ،بل هي أبعد ما تكون عن ذلك .إنها شيء «ال يمكن االعتماد عليه في رصد تطور الفكر السعودي ،في واحدة من أهم محطاته التاريخية ،فقط انهمك راوي الحكاية في سرد معاركه الشخصية الصغيرة ،مستغرقا في تفاصيل ال تكتسب أهميتها وقيمتها إال راو يتمحور حول ذاته فيظنها وقائع من زاوية ذاتية تهم الراوي وحده ،وهو ٍ كبرى تهم الناس جميعا».
في هذا السياق ،يرى صغيرون أن رواية الغذامي لحكاية الحداثة في السعودية يمكن أن تفيد دارسي اإلنتاج األدبي الغذامي ،وراصدي حياته الشخصية وتركيبته النفسية ،أكثر مما تفيد في دراسة تاريخ الفكر السعودي وتطور تجربته الحداثية. وهذا سببه يعود بشكل واضح إلى تلك «النرجسية والتضخم األنوي الذي يجعل صاحبه يمارس أسوأ أنواع الخداع الذاتي متصورا مركزية أنوية، ليغطي بها عجزا بنيويا عن التمثل الحقيقي ملتطلبات (الحداثة) الحقة ،وهو بهذا يمثل الحداثوية العربية في أسوأ حاالتها». قسم املؤلف كتابه لثالثة فصول؛ األول تحدث فيه عن منهج الغذامي في روايته لتجربة الحداثة ومحدداته ومنطلقاته ،وكان بعنوان يجملها ويلخصها «ثمة راو ..ولكن أين الرواية؟!» ،والفصل الثاني تحدث فيه عن األفكار والطروحات الواردة في حكاية الغذامي ،خصوصا سرده لتطوره املجتمع السعودي وتحقيبه للحداثة من التأسيس وحتى اليوم، كان الفصل بعنوان «الحداثة في العقل الطفروي» ،أما الفصل الثالث الذي جاء في مجمله مقيما وناقدا لتجربة الحداثيني العرب بشكل عام ،وأسباب فشلهم ،وسر قفزاتهم البلهوانية االنتحارية ،منزال ذلك في األخير على تحوالت الغذامي ،وانقالبه للنقد للثقافي ،ثم ارتدائه لزي اإلحرام وأدائه للعمرة معلنا توبته ،واستعداده لحرق كتابه «الخطيئة والتكفير» ،وفعل كل ما يرضي اإلسالميني ،لكنهم -كما يعبر الغذامي متحسرا في حديث لصحيفة «عكاظ» « -لم يسلموا عليه (أي اإلسالميني) ولم يفرحوا كثيرا بتوبته ،وما زالوا يتحاشون النظر إليه والسالم عليه ،والصالة بجواره، ونجحت الصورة النمطية التي رسمها محمد مليباري وعوض القرني وسعيد الغامدي».
62
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
يطرح املؤلف هذا التساؤل في مطلع كتابه« :ملاذا عبد الله الغذامي؟» ،ويجيب: «إنه من أقوى األصوات الحداثوية في اململكة ،أو دعنا نقل بدقة :ألنه األكثر إنتاجا ثقافيا ،وبالتالي ألنه األكثر حضورا في ساحة الفعل الثقافي العربي من بني الكتاب السعوديني» .أما ملاذا نتناول «حكاية الحداثة في اململكة العربية السعودية» ،فألن كاتبه قدم نفسه كناطق رسمي بها ،في حني أنه قدم تاريخ الثقافة السعودية «بشكل مشوه للغاية ..إن لم نقل :مختلق وملفق تماما». فرواية قصة تطور الحداثة في املجتمع السعودي على نحو صحيح وموضوعي ستعتبر «درسا» ال غنى عنه لكل قارئ لتاريخ الثقافة العربية بوجه عام ،ورصد تحوالتها ومراحل تطورها ،وفهم صحيح ملساراتها املفصلية ،وهذا ما لم يفعله الغذامي في روايته لتجربة الحداثة والتجديد في اململكة ،وبالتالي ،فإن روايته هذه لن تفيد شيئا ملن يسعى لقراءة تجربة الحداثة والتجديد في املجتمع السعودي ،بل سوف تسبب لقارئها تشوها وارتباكا ،وسوف تكون ضارة لكل من يسعى إلى معرفة هذه التجربة من زاوية تاريخية موضوعية .فهذه «الحكاية» باختصار هي «مسرح الرجل الواحد بعينه» ،يمكنك أن تستشف ادعاء دور البطولة املطلقة التي ينسبها الغذامي لنفسه في املنجز الحداثي ،الذي لم يكتمل بعد على مستوى الخطاب، ومع ذلك تجده حني يستعرض أو يحاول قراءة أسالفه الحداثيني الذين تشكل أعمالهم إرهاصات حداثية في فضاء املراحل التاريخية التي عاشوا فيها ،هو في كل قراءته لجهد أولئك يحصر جهده لإلجابة عن سؤال يضمر إجابته، وهو :ملاذا لم ينجز الرواد ما استطاع أن ينجزه هو؟ ومثل هذا السؤال امللتبس وغير املصرح به يكشف في الواقع عن إجابة تحيل على نتيجة تأكدت مسبقا ،تتمحور حول «األنا».
التاريخ ومالحقة األشخاص يتساءل املؤلف منطلقا من السؤال املضمر السابق في رواية الغذامي ،ويقول: «حني يحاول أي مؤرخ موضوعي للحركة الثقافية أو لتاريخ الفكر السعودي وتطوره ،أن يقوم ويقيم مساهمة وتجربة الرواد فيه ،فإن أول سؤال يخطر على ذهنه هو مدى حجم االختراق الذي أحدثته هذه الحركة في النسق الثابت الذي كانت عليه الثقافة ،لكن الغذامي ،بدال من أن يتجه ببصره إلى حركة املجتمع ،نجده يتابع بعينه مصائر أولئك الرجال الذين طرحوا رؤاهم الجريئة ،مع أن أي ساذج ال يمكن أن يتصور أو يتوقع مصيرا مبهجا ورديا لشخص يصدم الناس في ثوابتهم العرفية ،ويحرك سواكنهم ويقلقها ..لقد آثر الغذامي أن يالحق أولئك الرواد في منافيهم االختيارية -وبشيء من الشماتة -وكأن ذلك سيساعد في قراءة آثار حركتهم ومعرفة نتائجها».
األفكار حتى هبت رياح «البنيوية» التي قامت بمراجعة التفسير التاريخي مراجعة جذرية ،ومحاولة القضاء على ادعائه احتكار القدرة على تفسير الظواهر البشرية. وبينما يتصل باأللسنية بالتحديد ،وهي من أدوات املشروع الغذامي ،فإن العالقة فيها بني املنهج و«األفكار املسبقة» (الغيبيات) عالقة وثيقة ،على نحو ال نكاد نجد له نظيرا في نظرية نقدية أخرى ،وهي ال تمثل خطوة نحو دخول العلوم اإلنسانية فردوس العلوم الطبيعية! فمثال ،أهم مكونات النظرية« :العالمة» يعد (حسب بارت) من «املصطلحات الغامضة جدا» ،و«جاك دريدا حينما حاول أن يخضع «العالمة» إلى سؤال الجوهر( :ما أنت؟)» ،وصل إلى أنها «الشيء غير املسمى بوضوح، والوحيد الذي يفلت من السؤال املؤسس للفلسفة( :ما هو..؟)».
في ندوة ،وقلت له :يا دكتور غذامي قل لي من هو الفحل الشعري الذي أظهر موسوليني أو هتلر؟!». وحسب عبد املطلب ،فإن «الخطأ الذي وقع فيه الغذامي سببه أنه بدأ قراءة التراث بالرفض وليس بحميمية؛ فقدم منهجا مختال في كتابه ألنه يبدأ من الثقافة ليصل إلى النص ،واملفروض العكس؛ أن تبدأ من النص لتصل إلى الثقافة ،ألنك تبحث عن النسق الثقافي للنص، ودائما ما أعتمد مقولة (قراءة ثقافية) ،وليس (نقدا ثقافيا) ،ألن النقد سيقتضي إصدار حكم ،وحكمك على النص هو حكم على الثقافة كلها، إنما القراءة توضيح دون حكم» (. )15
وهذا املنطق املعكوس هو ما يسكن قلب الدمية األخيرة من «املاتروشكا الغذامية»! <
فهل دخلت العلوم اإلنسانية بهذا الغموض وهذه التهويمات الصوفية حول الهوامش املفاهيم املؤسسة «فردوس العلوم الطبيعية»؟
واألخطر في مسار دي سوسير القول إن العالقة مع العالمة اللغوية «اعتباطية» انطالقا من أن العالقة بني الدال واملدلول ليست «توقيفية» بقدر ما هي اعتباطية وجزافية .وأول ما يرد إلى ذهني أنا شخصيا عما إذا كانت هذه العالقة التي ترجح فيها كفة «االعتباطية» على «التوقيفية» يمكن أن تستخدم في فهم القرآن مثال أم ال؟ ولعل من أهم نتائج مقولة اعتباطية العالمة اللغوية ،ما توصلت إليه املدرسة البنيوية السيكولوجية بقيادة الفيلسوف واملحلل النفسي جاك الكان ،الذي دفع النقد األدبي في فرنسا ،نحو اتجاه جديد يقوم على مبدأ أن «البنية الشاملة للغة هي بنية ال شعورية» ،فبأي من مناهج «العلوم الطبيعية» يمكن أن يتعامل الغذامي مع عالم «الالشعور»؟ ()13
الدمية الرابعة التلفيقية والتالعب بمستويات التعيني والتجريد ،والتعميم والتخصيص، وخاصة عالقة اللغة (لغة اإلبداع والنقد معا) بالرؤية الكونية .ومن نماذج هذا التالعب عالقة اللغة باملقدس ،حيث تطرح القضية مبتسرة بقصر دائرة النظر على «املعيش» املباشر اليومي ،دون اإلشارة لصلته باملقدس، وحسب الدكتور إدوارد سعيد فإن إشكالية مثل «الشفاهية والكتابة» تثير
«العديد من السجاالت .إنها مسألة على درجة عالية من الخطورة ،كونها ترتبط بعناصر آيديولوجية ال شأن لها باملعيش اليومي» .وهي نقطة
ال يعتادها مستخدمو اللغات األوروبية الحديثة التي تتطابق فيها اللغتان املحكية واملكتوبة ،وفقدت فيها الكتب املقدسة سلطانها اللغوي(.)14
وأتوقف هنا عند مالحظتني؛ فاإلجابة عن السؤال تتصل باآليديولوجيا، أي «األفكار املسبقة» ،أي أنها جزء من رؤية اإلنسان للكون والذات ،وهي تتضمن بالضرورة انحيازا ،وال تتصل بالعلم بطبيعته املحايدة املنضبطة باملنهج .واملالحظة الثانية هي االرتباط بني قضية لغوية وفقدان «السلطة اللغوية» للكتب املقدسة! والغذامي يختبئ وراء الطبيعة «التأويلية» لألدب ،ثم يقفز من النص للواقع املتعني ليرتب نتائج ال تلزم عن مقدماتها. ويضرب الناقد املصري املعروف الدكتور محمد عبد املطلب مثاال لهذه التلفيقية قائال« :حاولت أن أرد على عبد الله الغذامي في كتابه (النقد الثقافي) ،ألنه في كتابه هذا ظلم الثقافة العربية ظلما بينا؛ ظلم اللغة العربية واتهمها بأنها لغة ذكورية ،ظلم الشعر العربي واتهمه بأنه شعر ذكوري ،واتهم الثقافة العربية بأنها عدو للمرأة ،فكان همي في مصنفي هذا الرد على هذه الرؤية املغلوطة للغذامي ..فالغذامي اعتمد على منهج االنتقاء ،وهذا خطأ فادح ،بل إنه رد كل مثالب الواقع العربي الحالي إلى الثقافة العربية القديمة ،فذكر أن الديكتاتورية انتشرت في العالم العربي رد فعل للفحل في الشعر العربي القديم ..وقد التقيته مرة
( )1عمر زرفاوي (دكتور) :الثقافة العربية وعوملة النقد :قراءة في مشروع النقد األلسني لعبد الله الغذامي .مجلة اآلداب والعلوم االجتماعية – العدد 9يونيو .2009 ( )2فتح الرحمن يوسف( :حوار) «عبد الله الغذامي :أدونيس مثال حي على رجعية الحداثة العربية :الناقد السعودي يرى أن الثقافة القومية ثقافة شوفينية» .جريدة «الشرق األوسط» اللندنية .عدد 29أكتوبر .2009 ( )3محمد عناني (دكتور) :املصطلحات األدبية الحديثة ..دراسة ومعجم إنجليزي/ عربي .الشركة املصرية العاملية للنشر – لونجمان .الطبعة الثانية .سنة .1997ص ص .136 – 135 ( )4يوسف حامد جابر :قراءة نقدية في كتاب النقد الثقافي للدكتور عبد الله الغذامي .مجلة دراسات في اللغة العربية وآدابها .العدد التاسع .ربيع .2012 ( )5عبد الله الغذامي (دكتور) :النقد الثقافي ..مقدمة نظرية وقراءة في األنساق الثقافية العربية .املركز الثقافي العربي .املغرب .2000 .ص ص .95 / 94 ( )6يوسف حامد جابر :مرجع سابق. ( )7عمر زرفاوي (دكتور) :مرجع سابق. ( )8بدر الغانمي( :حوار) «د .عبد الله الغذامي يكشف معاناته لـ(عكاظ) :رفضوا الصالة بجانبي وال يسلمون علي ..وصدوا عني وأنا محرم في الحج ..لست إبليسا وتمنيت أن يفرحوا بتوبتي» .صحيفة «عكاظ» .عدد 30أكتوبر .2009
,,
اتسم الجهد التطبيقي للغدامي باالنطباعية واالنتقائية فالناقد حلم باملوضوعية فسقط في االنطباعية وتحليله للنصوص ال يكاد يجاوز حدود الوصف واالنطباع
,,
( )9بدر الغانمي :حوار «د .عبد الله الغذامي يكشف معاناته لـ(عكاظ)» .سبق ذكره. ( )10يوسف هزاع( :حوار) «اتهمهم بأنهم نبتة غربية ويجيرون إنجازات 50عامًا ألنفسهم ..الغذامي :من هم الليبراليون السعوديون؟ إنهم السائل واإلسالميون الصلب»« .إيالف» 27 .ديسمبر .2010 ( )11عبد الله الغذامي (دكتور) :الخطيئة والتكفير ..من البنيوية إلى التشريحية.. نظرية وتطبيق .الطبعة السادسة .املركز الثقافي العربي .املغرب .ص .7 ( )12عصام عبد الله (دكتور) :علم تاريخ األفكار .مركز زايد للتنسيق واملتابعة. دولة اإلمارات العربية املتحدة .2002ص .5 ( )13مالس مختار :السيميولوجيا والعالمة ..املفهوم واملصطلح .مجلة الرافد. اإلمارات. ( )14إدوارد سعيد :اللغة العربية ..الرولز رويس والفولسفاغن .لوموند دبلوماتيك. أغسطس .2004 ( )15مصطفى سليم وأحمد الدعدر( :حوار) «محمد عبد املطلب ..يرصد مغالطات النقاد العرب في حق تراثنا النقدي» .مجلة «الثقافة الجديدة» .العدد .241أكتوبر .2010
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
61
ثقافة
,, يلح الغذامي إلى ضرورة إرساء دعائم نظرية نقدية «تنحت من صخر التراث وتغرف من بحر النظرية الغربية الحديثة» وهو بذلك ينكر الفوارق الحضارية
,,
يمكن أن يؤكل وال يرمى» ،وأضاف« :أنا الذي اتهمت الحداثة العربية بأنها حداثة رجعية ،ألنها فاشلة فلم تتجه نحو املشروع السياسي أو االقتصادي أو الفكري ،فبالتالي هي حداثة جزء ،وليس كال»(.)9
وهكذا ُيحكم على الحداثة بالفشل ،على الرغم من أن من اجتزأوها هم من يتحملون مسؤولية الفشل ،فهل هذه خفة أم استخفاف؟ وقد لفت نظري أنه ال يرى مشكلة في تداول مفاهيم تنطوي على تفتيش واضح في النيات ،وإقرار شبه صريح بأن «الزئبقية» من مفردات الواقع الفكري ،فهو -مثال -لم ُي ِبد أي امتعاض أو اعتراض عندما سئل في حوار صحافي عن «التقية الثقافية» عند الليبراليني السعوديني(!)10 وهذا التكتيك في املواربة واإلفصاح قد يبرره كثيرون بالقيود على حرية الفكر في العالم العربي ،وبعضها مصدره سياسي ،وبعضها مصدره اجتماعي ،لكن بعض القيود مصدره -دون مواربة -شرعي .وعليه ،فقد يبرر البعض مسلك «الزئبقيني» املعاصرين ،لكن ما تقوله تجربة التاريخ (وهنا أستعير عبارة قالها محمد جالل كشك)« :التاريخ ال تغيره شكاوى مجهولي الهوية» ،أي أن «طلب السالمة» بـ«الزئبقية» مرفوض أخالقيا! والقضية هنا ليست التفتيش في الضمائر ،وهي مفردات طاملا استدعيت بالحق وبالباطل -بل هي وجوب أخذ حقيقتني في االعتبار .األولى أنمناقشة ما قاله -أو كتبه -شخص ليس تفتيشا في الضمائر ،بل مناقشة ملنتج انفصل عن صاحبه .الحقيقة الثانية أن دروس التاريخ ال يجوز إهمالها ،ففي حقبة التنوير األوروبي ،ظهر سيل مؤلفات انتقدت اليهودية بشدة ،وكان مبرر استهدافها تحاشي انتقاد املسيحية التي بقي نفوذها قويا لفترة طويلة ،بعد بدء التحول الفكري العلماني الغربي .ويذهب كثير من مؤرخي الفكر الغربيني إلى أن هذه الكتب أسهمت في تقويض اإليمان الديني ،وأدى التبشير الواسع بـ«الربوبية» (أي اإليمان بإله مع إنكار الوحي والنبوات) إلى انتشار اإللحاد ،فنقض األسس ال يبقي شيئا لجدران البنيان وسقفه.
الدمية الثالثة هي اإلصرار على القراءة املادية لثقافة تتأسس على نص مرجعي «مفارق للمادة» (الوحي) ،وما الصدامات -والصدمات الثقافية -التي شهدناها
خالل القرن املاضي من طه حسني إلى اآلن إال ثمرة لهذا املسعى إلعادة بناء ثقافتنا العربية كلها ،وفق منظور «معرفي مادي» ،وهذه الدمية من «املاتروشكا الغذامية» فتحتها لي عبارة ناقد غربي معروف اختار الغذامي أن يصدر بها كتابه األول .تقول العبارة« :روضت العلوم اإلنسانية نفسها ،منذ قرون ،على النظر إلى العلوم الطبيعية على أنها نوع من الفردوس الذي لن يتاح لها دخوله أبدا ،ولكن فجأة ظهر منفذ صغير انفتح بني الحقلني ،والفاتح لهذا املنفذ هو علم (األلسنية)» (.)11
والعبارة ،أوال ،تشير لحقيقة يحرص كثير من الحداثيني العرب على جعلها رمادية ليسهل لهم تحقيق هدفهم ،وهي أنهم يستهدفون التغيير الفكري الشامل ،وبالتالي فإن أفق عملهم أفق «العلوم اإلنسانية» ال النقد األدبي، وهذا ليس اتهاما ،فهذا حقهم واختيارهم .لكن املشكلة -وهذه هي املالحظة الثانية -أنهم يؤسسون جهودهم النقدية على مقوالت تأسيسية غربية تكاد تكون «غيبيات علمية» ،وينتقلون وفقا ملسار السجال حول أفكارهم ال وفقا للضرورات املنهجية -فيحتمون وراء «ساتر املتعني» إذا أدى«التجريد» إلى وضعهم تحت مظلة معينة ،وهكذا. والثقافة الغربية شهدت معركة مهمة استمرت ألكثر من قرن حول وجوه االتفاق واالختالف بني العلوم الطبيعية والعلوم اإلنسانية ،وما إذا كان باإلمكان أن تستخدم «اإلنسانية» مناهج «الطبيعية» بغية مزيد من الدقة .والغذامي -بإيراده هذه العبارة -ال يعارض ما اعتبره 60
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
«تراتبية» بني اإلنسانيات والطبيعيات تشعر فيه العلوم اإلنسانية بالتضاؤل أمام الطبيعية ،وهو موقف وراءه احتفاء غربي بـ«املادة» فضال بالقول بأسبقيتها ،وإال فال مبرر يسوغه املنطق يجعل أيا منهما أفضل بالضرورة! وقد كان هذا الخالف حول املنهج وثيق الصلة بالسياق األوسع (املعرفي)، مما يعني أن مناقشته في بيئته الجديدة (العربية) متصال بهذا السياق األوسع ليس «جريمة تديني للعلم»! تالق بني وهنا تأتي أهمية علم حديث نسبيا؛ «علم تاريخ األفكار» ،كنقطة ٍ الفلسفة والتاريخ ،ويتناول «األفكار البشرية مبرزا الكيفيات التي تجعل أفكارا ومفاهيم تبقى وتستمر» ،عبر «الوقوف عند كل فكرة وعالقتها بلحظتها التاريخية وخلفياتها االجتماعية املختلفة» (.)12 ويعد عام 1882حاسما للعلوم اإلنسانية عموما ،ففيه شغل فيلهلم دلتاي ( )1911 - 1833كرسي هيغل بجامعة برلني ،بالتزامن مع سيادة «الوضعية» ومناداة دعاتها بأن الخالص الوحيد لتأخر العلوم اإلنسانية عن الطبيعية يكمن في تطبيق املنهج التجريبي عليها للوصول إلى قوانني كلية (ص )10
ويتميز هذا العلم بتركيزه على «العالم الباطني للفكر» ال على «العالم الخارجي للحياة العملية» ،ومدار اهتمامه األفكار التي تنتشر .وهو، حسب فوكو« :يتتبع املبادالت التي تتم بني امليادين املعرفية وهجرة األفكار بني بعضها بعضا» و«كيف تهجر املشكالت واملفاهيم واألفكار املحورية الحقل الفلسفي الذي تشكلت فيه إلى خطابات علمية أو سياسية»( .علم تاريخ األفكار ص .)13 - 12
ومن أبرز أهدافه الكشف عن أفكار قد تكون وراء كل الفكر الصوري أو تعد شرطا له ،فهذه األفكار «افتراضات» أو «تصورات مسبقة» يمتصها الناس باالرتشاح من بيئاتهم العقلية ،وغالبا دون دراية كاملة بها .أي أنه «يتركز حول أفكار قد يكون من األفضل تسميتها (إيمانات)» ،وفي تاريخ اإلنسانية أفكار «نؤمن بها». وما يتناوله هذا العلم من أفكار مسبقة تعتبر «إيمانات» هي مربط الفرس! وظاهر األمر يوحي بأن تاريخ األفكار ّ يقوم مقولة «العقل أو الروح هو القوة القصوى وراء كل تقدم في التاريخ» (علم تاريخ األفكار ص .)15 أي أنه «مثالي» ،لكنه في الحقيقة وسيط بني املثالي واملادي .واألفكار ال تدفع الناس للعمل إال إذا أحدثت لديهم إيمانا حيا دافعا للفعل .ويقوم تاريخ األفكار بمحاولة حسم الصراع املزمن بني املثالية واملادية ،فالنتاجات املادية البشرية لها بالضرورة بعد فكري روحي ،والفكر بالذات يتحول لقوة مادية ،وبالتالي لم يعد هناك مبرر النشطار العالم الفلسفي ملعسكرين؛ مادي ومثالي .وفي الحقيقة فإن ما يعتبره حداثيون عرب كثيرون حال توفيقيا بني املادي واملثالي ،ليس إال حال مراوغا يتحول فيه املثالي إلى مثالي اسما مادي فعال على طريقة باروخ اسبينوزا الذي استخدم مفردات ذات مدلوالت مثالية متجاوزة للداللة على ظواهر مادية صرف مثل مقولة: «اإلله /الطبيعة».
ومما يكشف عنه هذا العلم املهم عالقة دور اآليديولوجيا في عالم الفكر،
ويقصد بها دراسة األفكار «بمعناها العام» .أي «البحث في وقائع الالشعور» .وكلمة آيديولوجيا ارتبطت في نشأتها بالنزوع الحسي
أو املادي في فرنسا في القرن الثامن عشر ،فكان املنهج اآليديولوجي املنهج العلمي الوحيد الذي استخدمه الفالسفة في تحليل األفكار .وكان اآليديولوجيون أنصار الجماعة الفلسفية التي أسسها الفيلسوف املادي الفرنسي كوندياك ،وتأثروا بالتقليد التجريبي ،ونبذوا امليتافيزيقا، ورفضوا الفكر امليتافيزيقي ،ورأوا أن دراسة األفكار يجب أن ال تجري من منطلقات ميتافيزيقة .ولم تكد تتبلور مالمح البحث الحديث في تاريخ
مفاهيم «الفحولة الشعرية» التي من سماتها التعالي وعشق الذات وهي بدورها أنتجت الطغيان السياسي عبر العصور(.)4 ويؤكد الغذامي هذا الحكم الكاسح بقوله إن شخصية الفرد املتوحد« :فحل الفحول ذو األنا املتضخمة النافية لآلخرين من جهة ثانية ،هي من السمات املترسخة في الخطاب الشعري ،ومنه تسربت إلى الخطابات األخرى ،ومن ثم صارت نموذجا سلوكيا ثقافيا ..مما ربى صورة الطاغية األوحد (فحل الفحول)»(.)5
وال أجد تعليقا أكثر تأدبا على هذا التصور الذي يفرضه الغذامي على الوجود من قول الدكتور يوسف جابر إن الغذامي كان أولى به أن يكون
«أكثر شفافية في إطالق أحكام بريئة وإيجابية ،من شأنها تطبع دراسته بالحيادية والعلمية» ،منتهيا إلى أن استنتاجه «فيه كثير من العنت والبعد عن املوضوعية»(.)6
وفي كتابه «تشريح النص» ،يربط الغذامي السابق بالالحق عبر مصطلح «التشريح» .ويبدو أن الناقد ال يبحث عن بنية تحكم إبداع شاعر ،بل يسعى للقبض على نسق عام يحكم الشعر العربي الحديث ،فبعد أن يصل إلى تعيني شفرة معينة تحكم قصيدة كل شاعر ،يحاول إيجاد النسق العام كمحصلة نهائية الجتماع تلك الشفرات .وقد حلم بالبنيوية فوقع في االنطباعية ،وبالتشريحية (كما يسميها) فسقط في االتجاه األسلوبي البنيوي!! ويرى زرقاوي أن كتاب «املوقف من الحداثة» مراجعة شاملة للنقد األدبي في الوسط الثقافي آنذاك ،وفيه حديث عن فكرة موت املؤلف التي تنسب لروالن بارت ،وإذ حاول الناقد تأصيل املقولة في التراث العربي ،عاد بها إلى بيت املتنبي: أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم
والغذامي هنا يبحث عن شرعية للحداثة بالعودة للتراث والتنقيب فيه عما يؤيدها .وفكرة «موت املؤلف» يرجع أصلها للمخاض الفلسفي الغربي، وبالتحديد ملقولتي «موت اإلله» عند فريدريك نيتشه ،و«موت اإلنسان» عند ميشال فوكو ،و«موت اإلله» يعني نهاية «الحقيقة املطلقة» ،وموت اإلنسان يعني سيطرة البنية على اإلنسان .وتأسيسا على ذلك ،فال لقاء بني مقولة «موت املؤلف» وبيت املتنبي .وربط الناقد بني حديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) وثنائية «الحضور والغياب» الدريدية ،باعثا من جديد للتساؤل عن الصلة بينهما ،فالثنائية املذكورة بنت بارة ونتاج طبيعي لعالقة التلمود بالتوراة في الفكر اليهودي ،التلمود كنص ثان، والتوراة كنص أصلي! وفي كل أعماله تقريبا ،يلح الغذامي على ضرورة إرساء دعائم نظرية نقدية «تنحت من صخر التراث وتغرف من بحر النظرية الغربية الحديثة»، وهو بذلك ينكر الفوارق الحضارية ،فالحداثة بالنسبة له ليست خصوصية أوروبية بل إرث إنساني! وفي «املشاكلة واالختالف» يركز الغذامي على «البحث عن شرعية للحداثة» ،بتركيز جهوده على قراءة التراث العربي النقدي والبالغي.
وبقدر ما أعجب الناقد بعبد القاهر الجرجاني ،ألنه الناقد الحداثي بامتياز، بنيوي تارة وتفكيكي تارة أخرى ،يصفه بالتناقض لجعله اللفظ تابعا للمعنى .ويتوقف عمر زرقاوي أمام ما يرى كاتب هذه السطور أنه واحد من أهم مفاتيح املشروع الغذامي ،وهو البدء من «أحكام كلية مسبقة» ،يجري البحث عما يمكن أن يكون «مقدمات» تلزم عنها هذه األحكام ،بوصفها «نتائج» الزمة حتما ،وغالبا تكون املقدمات ظواهر جزئية ،بينما النتائج (التي هي فعليا) «أحكام مسبقة» مطلقة! يقول زرقاوي إنه «في مشروع النقد الثقافي ..ينقد الطاغية ويحمل
الشعر العربي الضائقة الحضارية ،فأسس لنا طاغية جديدا سمي بالنقد الثقافي ،فنقد الدغمائيات ال يولد إال دغمائيات بديلة» (!)7
واآلن لنفتح معا دمى املاتروشكا.
الدمية األولى كان مشوار الغذامي دائما ثالثي األضالع« :الغذامي -الفكرة -الغاضبون من الفكرة» .ولنتأمل ما يقوله عن عالقته بفكرة «الجمهور» .يقول الغذامي في حوار معه إنه ال يبحث «عن الجمهور» .وفي إجابته عن السؤال التالي مباشرة قال« :الهجوم املحلي مفيد جدا للفكر والكتاب على مستوى التسويق واإلشاعة ..بل عندما أصدر كتابا ،وال يحدث حوله ضجيج أعد أنني خسرت» (.)8 فهل اإلجابتان املتتاليتان متناقضتان؟
الدمية الثانية هي دمية «املفكر الزئبقي» ،وفتح لي هذه الدمية الدكتور حسن حنفي عندما أطلق اللقب على نفسه ليقدم خدمة جليلة ملن يجتهد في فك شفرة مشاريع كثيرة مشابهة. والدكتور الغذامي على امتداد مشواره حافظ مرات على هذه الزئبقية في مفاصل كان تخليه فيها عنها يمكن أن يكون ذا تكلفة كبيرة ،فقد قبل راضيا -أن يوصف بـ«الحداثي» و«الليبرالي» ،وغيرها من أوصافتضعه تحت مظلة مرجعية ثقافية واضحة املعالم ،ثم قرر في لحظة رآها مناسبة مهاجمة الليبراليني ،وأن يقف على مسافة من «الحداثة»!
,,
الغذامي يختبئ وراء الطبيعة «التأويلية» لألدب ،ثم يقفز من النص للواقع املتعني ليرتب نتائج ال تلزم عن مقدماتها
,,
ّ وهو فجأة قال« :أنا لم أتخل عن الحداثة وإنما انتقلت .وحينما قلت عن الحداثة إنها (طبخة بايتة) فال يعني هذا أنها طبخة فاسدة؛ فالبايت المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
59
ثقافة
«املاتروشكا» دمية روسية ملونة بألوان زاهية ،تحتوي داخلها عدة دمى أخرى بالشكل نفسه بأحجام متناقصة، وهي في تقديري تعبير يوجز ،دون إخالل ،معالم مشروع الناقد السعودي الدكتور عبد الله الغذامي الذي هو محاكاة مكتوبة للماتروشكا ،وهي بدورها تدريب على لعبة «األقنعة» التي يمارسها الغذامي ،وهي لعبة تشيع في الثقافات املشرقية حتى تكاد تكون قطاعا عرضيا في هذه الثقافات!
عبدالله الغذامي ..الحداثة ..التحوالت ..الجمهور
املاتروشكا الغذامية!
بقلم: ممدوح الشيخ
,,
الحداثة بالنسبة للغذامي ليست خصوصية أوروبية بل إرث إنساني!
,,
قبل فتح الدمية: قبل فتح املاتروشكا الغذامية نقف وقفة إجمالية أمام مشروعه.
وما إخال الدكتور الغذامي إال فاسحا صدره للرأي اآلخر و«النص املضاد» ،وهو الحداثي بامتياز ،واملنافح عن «ثقافة األسئلة» (!)1
فالتفكيكية ليست مجرد «منهج» نقدي ،بل رؤية كلية لديها موقف من
ومن مفاتيح مشروع الغذامي ما أسميه «وحدة الزمن الثقافي الكوني»، فهناك توقيت ثقافي (معرفي) واحد ،وكل من يسير وفقا لـ«توقيت آخر» فهو متخلف .يقول الغذامي ردا على سؤال عن تنكره للحداثة« :أنا لم أقل
ويتساءل عمر زرقاوي عن مشروعية الجمع بني اتجاه حداثي أسس ملقولة «النسق املغلق» (البنيوية) ،واتجاهني من اتجاهات ما بعد الحداثة الداعية لتقويض النسق (السيميائية والتفكيكية) ،ألم يقع في التلفيق؟ وال يعني هذا أن مزج املناهج مرفوض؛ فاملرفوض هو مزج املتناقضات ،وكرر ذلك عندما مزج النقد األلسني وما سماه مفهومات عربية عند ابن جني والجرجاني والقرطاجني.
الثقافية الغربية» ،وهي مقولة خالفية في الشرق والغرب معا.
فهل الجمع هنا ممكن دون تلفيق؟
إنني لست حداثيا ،بمعنى التنكر لشيء فعلته ،إنما أقول إن التحول املعرفي الثقافي العاملي حول الثقافة اإلنسانية كلها من مرحلة الحداثة إلى مرحلة ما بعد الحداثة ،الذي يظل حداثيا إلى اآلن ،أعتبره رجعيا ومتخلفا» ( .)2ومعيار التخلف واملواكبة هنا صدى ملقولة «املركزية
ومما تجدر اإلشارة إليه أيضا ،تباين كبير في تلقي النقاد لهذا املشروع،
إذ «أكد فريق أنه بدأ بالنقد األلسني وانتهى إلى النقد الثقافي ،وقال ثان إنه بدأ بالنقد الثقافي وانتهى إليه ،وأقر ثالث بأن ما أنجز أقرب ٍ ما يكون إلى النقد املواضيعي» .وقد ُولد الغذامي ناقدا بكتاب «الخطيئة والتكفير من البنيوية إلى التشريحية ..قراءة نقدية لنموذج معاصر».
وفي كتابه بدأ الغذامي مسارا طويال حاول فيه إيجاد أوجه مشابهة بني نظريات نقدية غربية حديثة ونتاجات نقدية عربية سابقة لتوطني هذه املناهج النقدية ،دون إشارة (وطبعا دون اكتراث) إلى ما تحمله من أفكار مسبقة تتجاوز حدود املجالني اللغوي والنقدي .والغذامي مثال تعامل مع «التفكيكية» متغافال امتداداتها املعرفية ،وبحث عن مقابل عربي لها أو لبعض مفرداتها .فمثال يتوقف عمر زرقاوي مع مصطلح «األثر» التفكيكي الذي تناوله ،وخصه بإسهاب يعبر عن االضطراب املفاهيمي« ،فهو تارة بديل لإلشارة لدى دي سوسير ،وتارة أخرى التشكيل الناتج عن الكتابة ،وهو تارة ثالثة لغز غير قابل للتحجيم ..وهو فيما يحسبه الناقد سحر البيان» .وهناك بون شاسع «بني داللة تلك املصطلحات في أرض النشأة وتلك البدائل التي قدمها الناقد».
ومؤسس التفكيكية جاك دريدا صب غضبه على زعم البنيويني طموحهم التباع املنهج العلمي ،فالعلم عنده -كالدين والفلسفة امليتافيزيقية -يقيم نظامه على ما يسميه «الحضور» ،ومعناه التسليم بوجود نظام خارج اللغة يبرر اإلحالة إلى الحقائق أو الحقيقة .والفلسفة الغربية تحاول« :منذ أفالطون تقديم أو افتراض وجود شيء يسمى الحقيقة أو الحقيقة السامية املتميزة» أو ما يسميه هو «املدلول املتعالي» ،أي املعنى الذي
يتعالى على (أو يتجاوز) نطاق الحواس .ويمكن في رأيه إدراك ذلك عبر
58
كيانات ميتافيزيقية احتلت في كل املذاهب الفلسفية ،مثل :الصورة ،املبدأ األول ،األزل ،الغاية ،الهيولي ،الرب(.)3
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
«الغيب»!
أما جهده التطبيقي ،فاتسم باالنطباعية واالنتقائية ،فالناقد حلم باملوضوعية فسقط في االنطباعية ،فتحليله للنصوص ال يكاد يجاوز حدود الوصف واالنطباع .وثنائية الخطيئة والتكفير نتيجة ثنائيات وبنى صغرى هي في حقيقتها ليست نتاج عالقات النص الداخلية ،بل بنت ثقافة الناقد الدينية ،فهي «ليست بنيوية وال سيميولوجية وال تفكيكية ،وإنما هي فكرة أخالقية ودينية».
ولغة الخطاب النقدي الغذامي في كتابه األول ميلودرامية عبرت من «لغة النقد العلمية املحكمة إلى لغة اإلبداع الطفولية املداعبة ،فكما حجب نص الناقد نص الشاعر حجبت لغة الناقد لغة النص األصلية على هدي حجب التلمود للتوراة» ،وحدث هذا تحت شعار مواكبة «اتجاهات العصر». وتقديري أن الكتاب التالي في األهمية هو «النقد الثقافي :مقدمة نظرية وقراءة في األنساق الثقافة العربية» .ويهدف إلى كشف النسق
املضمر في النصوص األدبية التي تشكل بنية الثقافة السائدة .ودور النقد الثقافي تعرية مضامني هذه الثقافة ،وكشف تأثيراتها االجتماعية التي ترسخ هيمنتها ثم تعمم هذه الهيمنة عبر وسائل اإلنتاج الثقافي واالجتماعي املختلفة .وبهذا املعنى ،فإن هذه النصوص تصنع بنية ثقافية تقوم بتشكيل منظومة القيم عبر الزمن فتخلق (عمدا أو عرضا) أنظمة معرفية تهيمن على السياسة واالقتصاد والتاريخ .وهي في نهاية الشوط ،تتحكم في إنتاج الثقافة .والغذامي في كتابه نظر من خاللها إلى الثقافة العربية. وما استنتجه الغذامي أن األنساق املضمرة في الشعر العربي أنتجت
ملحق يومي وصفحات متخصصة في عقارات
صحتك
السبت
الجمعة
سفر وسياحة
ثقافة األحد
الثالثاء
إعالم
االثنني
حصاد
ملسـات
الخميس
األربعاء
املتخصصة صفحات أجندة األعمال السبت واألربعاء > علوم السبت سيارات األحد > فنون االثنني > التعليم االثنني > تقنية املعلومات الثالثاء كتب األربعاء > أنغام الخميس > سينما الجمعة سجاالت األحد (داخل صفحات الرأي)
..تجدد دائم
صحافة عالمية
جولة أخرى من مفاوضات السالم بني جوبا والخرطوم أسفرت في سبتمبر (أيلول) 2012عن االتفاق على نزع سالح األراضي الحدودية بما في ذلك امليل .14وبعد شهور من التلكؤ ،بدأ الجيش الجنوبي إخالء املناطق املتنازع عليها في مارس (آذار) 2013ووفقا لألمم املتحدة ،سرعان ما عادت القوات مرة أخرى. وكان كال الطرفني يعلم جيدا أن املنطقة لن تخلو أبدا من السالح وذلك حيث إن التعهدات املستمرة من قبل جوبا بوقف إيواء املتمردين الشماليني لن ترضي الخرطوم أو تنهي التمرد بالسودان .ونظرا ألن السلطات الجنوب سودانية غير مستعدة أو غير قادرة على منع الحركة الشعبية لتحرير السودان -الشمال وفصائل دارفور املوالية من املرور جيئة وذهابا عبر الحدود الجديدة ،يتخذ املتمردون السودانيون من تلك املنطقة موطنا لهم .ويزعمون أنهم يسيطرون على 40في املائة من الخط غير املرئي. ومن جهة أخرى ،فإن الخرطوم وجوبا مترددتان في أن تقدما كثيرا من التنازالت بشأن الحدود نظرا ألن كلتيهما لديها مخاوف بشأن تحويل السكان الساخطني في تلك املناطق الحدودية إلى متمردين .ومثلما كان أفراد قبيلة الدينكا في املناطق الحدودية هم خط الدفاع األول للحركة الشعبية لتحرير السودان خالل الحرب األهلية فإن القبائل العربية مثل الرزيقات كانت تشكل معظم القوات املسلحة التي استخدمتها الخرطوم لقتال املتمردين في جنوب السودان ثم الحقا في دارفور .وذلك حيث انضم املقاتلون العرب الذين كانوا يشعرون أنهم يتم التالعب بهم وال يحصلون على ما يكفي من املكاسب إلى جيش الحركة الشعبية لتحرير السودان (تفيد التقارير بأن هناك عدة مئات ما زالوا بني صفوف جنوب السودان) .كما اتضح أيضا أن بعضهم كان بني مجموعات املتمردين الشمالية. ومن السهل أن تعثر على متمردين مناهضني للخرطوم في والية «الوحدة» التي أسيء تسميتها ،والتي تشاركها الحدود والية جنوب كردفان .وعلى الرغم من أن الوالية الغنية بالبترول كان يجب أن تمثل التعايش بني الشمال والجنوب ،لم يعد ذلك سوى محض حلم.
من امل�ستحيل عقد �سالم دائم بني ال�سودان وجنوب ال�سودان
وذات يوم ،وبعدما هبطت على سهل أسود ،إثر حرائق الغابات ،يعج باملنشآت النفطية ،قدت السيارة شماال باتجاه منطقة «جو» بوالية الوحدة في سيارة تحمل لوحات جنوبية ولكنها تمتلئ باملقاتلني الشماليني الذين فوجئوا بانفصال الجنوب ولم يتمكنوا من الذهاب إلى الشمال لسنوات طويلة .وعند هذه اللحظة ،لم يكن أي منهم على يقني مما إذا كان جنديا جنوبيا أم متمردا شماليا. وصلنا إلى نقطة تفتيش عند الحدود بني السودان وجنوب السودان .وكان مرشدي، وهو متمرد شمالي ،يخشى أن يحاول الجنود الجنوبيون الذين يعملون بنقطة التفتيش ركوب السيارة أمال في الحصول على توصيلة مجانية ،قائال« :أنا ال أحبهم .فهم غير مهذبني ،فهم من نهبوا مدينة هجليج» .تقع مدينة هجليج على بعد 30ميال ،وهي عبارة عن حقل بترول سوداني ما زال جنوب السودان يطالب به وكانت قد تعرضت لغارة من قبل تحالف بني جيش الجنوب واملتمردين الشماليني في أبريل (نيسان) .2012والشيء نفسه حدث مع مدينة «جو» في فبراير (شباط). ومنذ ذلك الحني ،كان املقاتلون الشماليون والجنوبيون يعيشون في معسكرات متجاورة ويستحمون معا في بحيرة جو .وكان مرشدي يشعر بقدر أكبر من االرتياح عند نقطة التفتيش الثانية التي تقع على بعد عدة مئات من األقدام والتي كانت تعد بداية الجانب الشمالي من الحدود وإن كان املتمردون هم من يحرسونها وليس الجنود السودانيون .هرع مرشدي إلى معانقتهم فقد كان يشعر اآلن بأنه في موطنه.
وبالنسبة للمتمردين في شمال السودان ،دائما ما تعد مناقشة قضية الحدود مؤملة. كما يقف الناس من كل األطياف والقبائل في السودان ضد انفصال الجنوب وينظرون إليه كإخفاق جماعي في احتواء الجنوبيني وجعل الوحدة تبدو جذابة ،وهو ما كان أحد الوعود الكبرى التفاقية سالم عام .2005
ومن جهة أخرى ،فإن حكومة الخرطوم وكذلك العديدون داخل املعارضة ليسوا مستعدين ألن يخسروا أي جزء آخر من أراضيهم .فقد أخبرني متمرد من قبيلة املسيرية العربية بأنه على يقني من أن هجليج ،وهي موطن قبيلته ،تنتمي إلى الشمال، ولكنه أضاف أن املناطق املتنازع عليها مثل هجليج وآبيي القريبة منها وهما منطقتا صراع رئيستان بني الشمال والجنوب يجب أن تصبحا أراضي مشتركة بني الدينكا والعرب الذين يجب أن يعيشوا معا في تناغم وسالم.
التنوع الثقافي والعرقي وقد قطعت حوارنا طائرة أنتونوف شمالية دارت حولنا قبل أن تسقط ثماني قنابل على مقربة من الطرق وخط اإلمدادات الذي يربط بني جنوب السودان ومعقل املتمردين في جبال النوبة القريبة على الجانب الجنوبي من الحدود .ولكن كل من القنابل واملتمردين العرب كانوا يرسلون نفس الرسالة :لكي تصبح الحدود سلمية يجب أال تصبح حدودا مرنة وهو ما أكده االتحاد األفريقي .ويجب أن تتضمن املناقشات حول كيف يمكن تحقيق ذلك الحكومات في الخرطوم وجوبا واملتمردين الشماليني باإلضافة إلى السكان املحليني.ملاذا ال يصبح الدينكا مواطنا سودانيا والعربي مواطنا جنوب سوداني؟ ربما يجب أن تصبح الحدود ضعيفة لكي يمكنها االستمرار. وحتى في ذروة النزاع الذي أدى إلى انقسام السودان ،لم تتوقف املبادالت السلمية بني املجتمعات التي تعيش على الحدود أبدا .فخالل الحرب ،كان البدو العرب مثل قبيلة املسيرية يتاجرون سرا مع املتمردين سواء في الجنوب أو الشمال ،وما زالت بعض «أسواق السالم» تلك قائمة حتى وقتنا الراهن ولكن بالكاد .فيقول أحد التجار الشماليني ،يحيى محمد« :نحن كعرب نرغب في إقامة عالقات طيبة لكي نذهب بمواشينا ملناطق املتمردين وجنوب السودان؛ حيث يلتقي كال الجانبني في مناطق خضراء على الحدود لرعي مواشيهم معا دون أية مشكالت .كما أننا نتاجر مع بعضنا البعض .وقد اعتدنا أن نطلق على أسواقنا سوق السالم ولكننا نفضل أن نطلق عليها سوق السنبوك ،والسنبوك هو قارب صغير يستخدم لعبور البحر األحمر حيث إن الذهاب إلى تلك األسواق يماثل اإلبحار بالسنبوك؛ فأنت ال تدري ما إذا كنت سوف تعود من تلك الرحلة أم ال .وقبل شهرين ،جلبت وقودا إلى السوق ،ولكن جنود الحكومة أطلقوا علي النيران وأصابوني ولكن املتمردين أنقذوني». وفي أبريل (نيسان) ،2012أعلن نائب الرئيس السوداني علي عثمان طه املنطقة الحدودية برمتها منطقة طوارئ .وأصدر أوامر للقوات املسلحة بقتل أي أحد يعمل بالتهريب مع متمردي الجبهة الشعبية للتحرير -الشمال .وقد أخبرني يحيي أنه عندما علم بصدور أوامر بإطالق النيران والقتل قرر أال يعود إلى املنطقة التي تهيمن عليها الحكومة. من املستحيل عقد سالم دائم بني السودان وجنوب السودان وداخل البلدين عبر اإلصالحات التدريجية املنفصلة .فباعترافهم ،ركزت األطراف الدولية خاصة وسطاء االتحاد األفريقي على العالقات بني السودان وجنوب السودان .وبعد أن جربوا كل شيء ممكن ملنع أو حل النزاعات الجديدة بني البلدين ،أدركوا أن السالم سوف يظل هشا طاملا ظلت كلتا الحكومتني تعاني من النزاعات الداخلية والنزاعات مع املتمردين. فيجب على كلتا الدولتني أن تعمال على إعادة بناء الثقة مع مواطنيها خاصة في املناطق الحدودية .وتدرك املجتمعات الحدودية أهميتها كما تعد أراضيها من أكثر املناطق كثافة سكانية باإلضافة إلى أن مواشيها ومياهها وبترولها والتجارة العابرة للحدود تجعلهم من أكثر الناس ثراء في بلدانهم .ومع ذلك ،فإنهم يشعرون بأن حكوماتهم تهملهم .وفي السودان على نحو خاص ،يمكن أن يؤدي حوار قومي شامل إلى تمكينهم .بل إن االضطرابات األخيرة في الخرطوم قد جعلت هذا الحل أكثر وأكثر شعبية بني السودانيني من كافة األطراف وبني األطراف الدولية .وفي املنطقة الحدودية بوالية النيل األزرق التي تعاني من الحرب ،والتي تمثل تقاطعا لثالثة حدود بني السودان وجنوب السودان وإثيوبيا أخبرني زعيم قبيلة محلية، أويسا مادي زيما« :نحن لسنا متعلمني وال نعرف الكثير عن السياسة ولكن الحكومة التي ستحسن معاملتنا سوف نصبح موالني لها سواء كانت جنوب السودان أم شمال السودان»
فورن أفيرز /نوفمبر -تشرين الثاني 56 - 2013 /
تسير هذه الجموع تاركة قراها خلفها في تالل إينغيسانا على مبعدة أربعة أيام تحاصرها القوات الحكومية.ومن وقت آلخر ،كانت تظهر سيارة من سيارات املتمردين لكي تقل من تخلف عن الركب إلى أقرب نقطة استراحة ،ولكنهم كانوا يتركون األشخاص األكثر استضعافا مثل العجائز واملكفوفني واملصابني بأمراض عضال ،فيما يتابع الناجون طريقهم إلى نقطة عبور «الفوج» التي تقع على الحدود بني بالدهم التي مزقتها الحرب ووالية النيل األزرق في السودان ودولة جنوب السودان حديثة العهد والتي أصبحت على بعد يوم أو اثنني اآلن. لقد كانت الحرب األهلية في السودان تلقب دائما بأطول النزاعات األفريقية .اندلعت أولى حلقاتها في الفترة بني 1963و ،1972حيث شن املتمردون من الجزء الجنوبي بالسودان هجماتهم على الحكومة املركزية التي كانت تهيمن عليها النخبة العربية ،ثم منح الشمال الجنوب درجة من درجات االستقالل في 1972ولكنه لم يكن كافيا ملحو آثار تلك السنوات الطويلة من الغضب. عاد النزاع للنشوب مرة أخرى في عام 1983بإنشاء الحركة الشعبية لتحرير السودان/ الجيش الشعبي .وعلى الرغم من أن اسم الحركة يحمل مصطلح التحرير فقد كان زعيم الحركة جون قرنق ،القائد الجنوبي ذو الشعبية الطاغية ،يدافع عن التنوع من داخل الوحدة ولم يكن مناديا بانفصال الجنوب .وعلى الرغم من أن تلك األجندة املعتدلة نسبيا لم تكن تحظى بقبول واسع في أعماق الجنوب ،فإنها كانت تحظى بشعبية في املناطق الحدودية على الجانب الشمالي من الحدود التي تفصل السودان وجنوب السودان بما في ذلك والية النيل األزرق وجبال النوبة بجنوب كردفان. وفي عام ،2005وبعد عشرين عاما من حرب دموية ،وقعت الخرطوم واملتمردون اتفاقية سالم منحت الجنوب (ولكن دون والية النيل األزرق أو جنوب كردفان) الحق في تقرير املصير .وبحلول عام ،2011كان معظم الجنوبيني قد فقدوا إيمانهم بالوحدة وصوتوا لالستقالل .وفي شمال الحدود الجديدة التي تمتد إلى 1250 ميال بني شمال وجنوب السودان ،يتمركز اآلن املتمردون من جنوب كردفان والنيل األزرق الذين يطلقون على أنفسهم اسم الحركة الشعبية لتحرير السودان والتي تعهدت بمواصلة القتال .وفي يونيو (حزيران) ،2011أي بعد أن خسروا االنتخابات املحلية مباشرة وقبل شهر من استقالل جنوب السودان حملوا أسلحتهم مرة أخرى واستأنفوا القتال أوال في جنوب السودان ثم في والية النيل األزرق. ومنذ ذلك الحني ،شق نحو 200ألف مدني سوداني طريقهم عبر الحدود إلى معسكرات الالجئني في جنوب السودان والتي تعد فكرة عبور الحدود بالنسبة للعديدين منهم فكرة مستغربة.
الجنسية املزدوجة وعلى الرغم من أن وضع الحدود الجديدة كان من املفترض أن يتم بناء على حدود املقاطعات التي كانت موجودة في عام ،1956وهو عام استقالل السودان ،وعلى الرغم من أن تلك الحدود لم تتوقف أبدا عن التغير وهو ما كان يحدث في بعض األحيان ألسباب معقولة كتيسير حركة البدو أو الوصول إلى موارد املياه ،تحولت تلك الحدود فجأة إلى حدود صارمة رغم أن حدود 1956كانت حدودا مرنة. وعندما تتجول في تلك املناطق ،فإنك تقابل األقليات الخائفة من أن تصبح أكثر تهميشا من ذي قبل ،فيما تبقى من السودان باإلضافة إلى البدو الخائفني من أن يخسروا حقوقهم في الرعي بجنوب السودان .ومن ثم ،أصر وسطاء االتحاد األفريقي أن تصبح الحدود الجديدة حدودا مرنة أي أن تمنح الحق للشعوب من كال الجانبني في حرية التنقل والتجارة واإلقامة والزراعة والرعي ،بل وحتى حق التصويت والحصول على الجنسية املزدوجة .وعلى الرغم من جاذبية تلك الفكرة فإن تفعيلها يحتاج إلى أن تبذل كل من الخرطوم وجوبا جهدا بدال من تلك الحرب املزمنة الدائرة بينهما. وذات مساء في فصل الجفاف ،زرت قرية شالي؛ وهي القرية الرئيسة لقبيلة األودوك بوالية النيل األزرق .وعلى نحو مفارق ،كانت تلك املنطقة موطنا لبعض املسيحيني السودانيني ،الذين تحولوا إلى املسيحية على يد البعثات التبشيرية األميركية التي طردها بينيتو موسوليني من إثيوبيا في أواخر الثالثينات .وعند وصولي إلى هناك،
كانت تلك القرية مهجورة إلى حد كبير .فقبل يوم من وصولي ،كانت الطائرات الحكومية قد أسقطت أربع قنابل مما أسفر عن تدمير مستشفى مهجور وكان الدخان ما زال يتصاعد من جذوع األشجار في األرض التي تحولت إلى اللون األسود حول املسجد القريب. وقد دفع ذلك املسجد الجميل الذي يشبه القالع والذي بني بتمويل سعودي في عام 1983العديد من األودوك ،معظمهم من املسيحيني ،إلى االنضمام إلى حركة التمرد الجنوبية التي كانت قد بدأت لتوها ضد الخرطوم .فقد أخبرني بوليس ماكا ،أحد املتمردين املحليني بأن« :ذلك املسجد هو سبب مشاكلنا .فقد علمنا أنهم يرغبون في تحويل أطفالنا إلى مسلمني» .كان ماكا يجلس إلى جانب بندقيته في الكنيسة املجاورة للمسجد والتي على الرغم من عدم تعرضها للدمار ،كانت خاوية على عروشها .وكان يجلس إلى جواره مارتن لوين ،وهو القس الوحيد من بني سبعة قساوسة لم يغادروا إلى معسكرات الالجئني بجنوب السودان .ووفقا لروايات ماكا ولوين فإن األودوك يخشون من عدم وجود مكان لهم في السودان الشمالية التي تميل نخبتها الحاكمة إلى تأكيد هويتها املسلمة والعربية .فقبل انفصال جنوب السودان، حذر رئيس السودان ،عمر البشير ،من أن الجنوب إذا ما حصل على استقالله لن يكون هناك مجال للحديث عن التنوع الثقافي والعرقي .وأضاف« :سوف تكون الشريعة اإلسالمية هي املصدر الرئيس للتشريع ،كما أن اإلسالم هو الدين الرسمي والعربية هي اللغة الرسمية للبالد». وكان سبب ذلك التحذير واضحا؛ فبعد أن فقدت ثلث أراضيها (وثالثة أرباع مواردها النفطية) ،ال تستطيع الخرطوم احتواء املزيد .وقد أثارت تهديدات البشير قلقا بالغا ليس فقط بني املسيحيني القالئل املتبقني في السودان ولكن بني املاليني من املسلمني غير العرب الذين يعيش العديد منهم في املناطق التي تمزقها الحروب على مقربة من الحدود.
ملاذا ال ي�صبح الدينكا مواطنا �سودانيا والعربي مواطنا جنوب �سوداين
ويرجع السبب الرئيس وراء استمرار األزمة حول األجزاء املتنازع عليها من املناطق الحدودية إلى أن حكومتي الخرطوم وجوبا هشتان ،كما أنهما تخشيان تحول سكان املناطق الحدودية إلى متمردين .ويعد أحد املواقع املهمة في ذلك النزاع هو ما يطلق عليه «امليل »14وهي منطقة كانت محال للنزاعات الشائكة في عام .2012 وفي موسم الجفاف ،يصبح «امليل »14الذي يمتد ملسافة 14ميال من الشمال إلى الجنوب ونحو 125ميال من الشرق إلى الغرب سهال منبسطا وجافا يسكنه رعاة املاشية من الدينكا باإلضافة إلى البدو العرب من الشمال.قدت السيارة عبر العشب األصفر حتى وصلت إلى النهر الذي يطلق عليه العرب «بحر العرب» والذي يطلق عليه الدينكا «كير». ويعد املمر املائي املتعرج الذي تحيط به الخضرة من الجانبني هو املمر املائي الرئيس الشمالي غرب النيل .وما زال الهيكل الحديدي للجسر الذي يربط بني الضفتني يعمل كنقطة عبور للتجار الشماليني والبدو رغم الدبابات الجنوبية الثالث التي توجه مدافعها شماال .وهي الدبابات التي تموضعت ضمن استراتيجية جنوب السودان في أواخر 2010لتسليح ذلك الجزء املتنازع عليه من الحدود.
التمرد السوداني وعندما طلبت قبيلة الرزيقات العربية التي تعيش في الشمال من الخرطوم أن تتخذ موقفا مما اعتبروه غزوا ألراضيهم من قبل الدبابات الجنوبية ،طلبت منهم الخرطوم أن يدفعوا بجمالهم ورجالهم املسلحني .وعلى الرغم من أن موقف الخرطوم بدا سلبيا فإنه وفقا ألحد الزعماء العرب كان يحمل رسالة مفادها استعدوا لشن الحرب .ومنذ ذلك الحني ،تصاعدت التوترات حيث كانت ميليشيات الرزيقات في بعض األحيان تشن هجمات ضد قوات جنوب السودان .وقد أسفر تصاعد الحوادث الحدودية عن
فورن أفيرز /نوفمبر -تشرين الثاني 55 - 2013 /
صحافة عالمية
أطول النزاعات األفريقية
السودان وجنوب على شفا حرب
الالجئون في جنوب السودان
بقلم :جريوم توبيانا *
من الفجر وحتى املغيب ،كانت مجموعات صغيرة من الرجال الذين يرتدون الجالبيب والنساء بمالبسهن امللونة وأطفالهن الذين يعتلون أظهر الحمير أو أكتاف آبائهم أو يسيرون محمولني في سالل على ظهور أمهاتهم ،تعبر املمر الترابي بني املناطق التي تهيمن عليها حكومة السودان وتلك التي تخضع لهيمنة املتمردين.يحملون تنكات املياه التي نفد املاء منها ،واملاعز الصغيرة التي ال تستطيع السير ،واألواني ،باإلضافة إلى السالح الذي يتراوح من سيوف القرن التاسع عشر إلى قاذفات القنابل الصاروخية اللتني تجتمعان في بعض األحيان على كتف واحدة .وبني هؤالء املدنيني، يسير جنود من املتمردين لحمايتهم من اعتداءات ميليشيات الحكومة. * مراسل من جنوب السودان
فورن أفيرز /نوفمبر -تشرين الثاني 54 - 2013 /
خالل فترة طويلة من الزمن ،قامت حركة الشباب بالتهديد بتنفيذ عمليات داخل ُ ُ كينيا ،وال تعد تلك املرة األولى التي تظهر الحركة فيها قوتها ومقدرتها على تنفيذ تهديداتها .وكما ذكرت خالل شهر يناير (كانون الثاني) ،فإن كينيا قد عانت من موجة من الهجمات في السنوات األخيرة ،شأنها شأن بلدان أخرى في املنطقة .وفي عام ،2010على سبيل املثال ،شنت حركة الشباب عملية تفجيرية ضد مجموعات من األشخاص الذين كانوا يشاهدون مباراة كأس العالم في كمباال بأوغندا ،مما أدى إلى مقتل ما يزيد على 70شخصًا .وهذه املرة ،لم تكن خطط املعتدين بالجديدة :فمنذ زمن بعيد ،اتجهت حركة الشباب نحو تفضيل استخدام القنابل اليدوية وأسلحة إيه كيه 47-لقتل هؤالء األشخاص الذين لم يحالفهم الحظ وكانوا في املكان الخطأ في الوقت الخطأ .فالهجمات التي يتم شنها على األهداف السهلة تجذب االنتباه وتضمن معدالت وفاة أعلى من تلك التي يتم شنها على منشآت حكومية تخضع لحراسة مشددة.
حصار املركز التجاري تتمثل االختالفات في هذه الحالة في مستوى التطور -فقد كان حصار املركز ُ التجاري أفضل بكثير من تلك املجهودات العشوائية التي كانت تبذل في السابق ً ً ً جديدا مروعا .فاحتجاز باإلضافة إلى قرار أخذ رهائن الذي كان ُيعد منعطفاالرهائن قد ضمن استمرار الحصار لفترة أطول ،وبالتالي فإنه جذب أكبر قدر من االهتمام املمكن ،فيما عجزت قوات األمن عن ممارسة وحشيتها ً تماما مثلما تفعل ً في أوضاع خالف ذلك .وأشارت التقارير أيضا إلى أن حركة الشباب لديها عناصر مسلمة ،مما ُيعد بمثابة دليل على اهتمامها املتزايد بصورتها العامة والصورة العامة للحركة الجهادية على نطاق أوسع .وبالنسبة للحركة التي تدعي أنها طليعة اإلسالم، فإن أعضاءها يقومون بشن عمليات قتل للمسلمني الصوماليني خالل العديد من األعوام ،بينما يدرك قادة حركة الشباب ً جيدا أن مثل ذلك السلوك يؤدي إلى نفور املتطوعني وتراجع الدعم العام. وتتعرض حركة الشباب للضغوط من ناحية أخرى .فقد عانت الحركة خسائر فادحة في الصومال ،حيث كانت تقاتل قوات االتحاد األفريقي منذ عام ،2011وكانت حريصة على إثبات وجودها .ومن املمكن أن تمثل أية جماعة إرهابية أقصى قدر من الخطر عندما تجذب املزيد من االهتمام ،وعليه ،فإن ذلك الهجوم يثبت القاعدة .كما ً أنه يوضح أيضا أن الهجمات التي تم شنها في الصومال قد تسببت في وضع املزيد من الضغوط على حركة الشباب لتوجيه املزيد من قواتها نحو شن عمليات بالدول املجاورة.
الغزو الكيني وبالتأكيد ،فإن تلك هي الرسالة التي كان يوضحها حساب «تويتر» ذو صلة بحركة الشباب عقب بدء الحصار .فهؤالء األشخاص الذين يديرون الحساب أعلنوا مسؤوليتهم عن الهجمات ،ولكنهم وضعوا اللوم على الحكومة الكينية ،التي شاركت قواتها العسكرية في عملية االتحاد األفريقي بالصومال .وخالل الشهر املاضي ،أكد ً مؤكدا على مختار علي زبير ،زعيم حركة الشباب مسؤولية الحركة عن الهجوم، ً وموضحا أن «الهجوم على املركز التجاري كان هدفه االنتقام من القادة ذلك املنطق، الكينيني الذين قاموا بغزو الواليات اإلسالمية (الدولة اإلسالمية)» .واستكمل حديثه ً ً قائال إنه أيضا «كان بمثابة عقاب لتلك الدول الغربية التي دعمت الغزو الكيني وسفك األبرياء» .وبالنسبة للعديد من أعضاء حركة الشباب ،الذين يتبعون دماء املسلمني ً الفكر الجهادي كلية ،فإن الجهاد في الصومال ال يمثل سوى جبهة واحدة ضمن ُ ً العديد من الجبهات في هذا الصراع .وتعد الدول مثل كينيا أهدافا مشروعة للهجمات االنتقامية .وعليه ،فقد كان املركز التجاري ويستغيت ،الذي يتردد عليه مسؤولون كينيون وسياح غربيون ،ويملكه أشخاص إسرائيليون ،بمثابة وسيلة لتحقيق ثالثة أهداف في ذات الوقت. ً مباشرة؛ حيث يشبه ذلك ً كثيرا وخالل تصريحاته ،وجه زبير حديثه للشعب الكيني ً أشهر التصريحات التي أدلى بها أسامة بن الدن للشعب األميركي .وتماما مثلما فعل بن الدن ،فإن زبير قد حاول تبرير ما فعلته جماعته لعامة الشعب.
ً وذكر قائال« :لقد خضتم حربا ليست من شأنكم ،وتأتي ضد املصالح الوطنية ً الخاصة بكم ،كما تخليتم طوعا عن أمنكم واقتصادكم ،لتفقدوا العديد من أبنائكم». وأشار كذلك إلى أنه ،من خالل دعم الحكومة عن طريق التصويت ودفع الضرائب ،فإن جميع الكينيني سوف ُيعدون بمثابة أنصار وداعمني للحرب على اإلسالم .وذكر أن ً األمر متروك لهم ،إما أن يتجهوا نحو التغيير وإما أن يظلوا أهدافا للحركة.
تجنيد الغربيني وعلى الجانب اآلخر ،فإن حركة الشباب لديها جمهور آخر ينبغي أخذه في االعتبار. فمن بني كافة الجماعات التابعة لتنظيم القاعدة ،تأتي حركة الشباب ضمن أفضل الجماعات في تجنيد الغربيني .فقد أنتجت أشرطة فيديو دعائية باللغة اإلنجليزية كجزء من جهودها املتضافرة لجذب املسلمني الغربيني لدعم قضيتها .وتقوم ًالحملة الدعائية على أنه في حالة ما إذا كان هناك شخص مسلم في الغرب يرغب حقا في الوفاء بواجبه الديني لحماية املسلمني في جميع أنحاء العالم ،فإنه يتعني عليه /عليها القتال -واملوت -كي تظل حركة الشباب على رأس األولويات .وأثبت ذلك النمط من التفكير فعاليته في استمالة املتحولني الغربيني وجذب أعضاء من الجالية الصومالية. ومن املعتقد أن هناك نحو 100شخص من اململكة املتحدة والواليات املتحدة األميركية وحدها قد انضموا للحركة .ومن غير املرجح أن تؤدي خطوة استهداف كينيا ذاتها إلى إبعاد هؤالء األشخاص عن الصومال. ومن السابق ألوانه معرفة األشخاص الذين قاموا بتنفيذ تلك العملية على وجه التحديد .فقد تم تنفيذ األغلبية العظمى من الهجمات في كينيا من خالل خليط من الصوماليني والكينيني األصليني ،حيث تم استهداف الكينيني األصليني لالنضمام إلى الحركة على مدار السنوات الثالث املاضية ،ويرجع ذلك ملعرفتهم بالبالد .ومن بني هؤالء ،نجد أحمد إيمان علي ،زعيم قوات مسلحة بشرق أفريقيا تابعة لحركة الشباب ،فهو كيني األصل ومقيم بالصومال ،وكنت قد تحدثت عنه في مقالتي السابقة، فهو ال يزال على قيد الحياة وكان يشتبه في أنه العقل املدبر لهجمات داخل بالده.
من بني كافة اجلماعات التابعة لتنظيم القاعدة ت�أتي حركة ال�شباب �ضمن �أف�ضل اجلماعات يف جتنيد الغربيني
وأشار البعض ،بما في ذلك مسؤولون كينيون ،إلى تورط الغربيني .وعلى الرغم ً مستبعدا .وعلى سبيل املثال ،نجد من أن ذلك غير محتمل ،فمن املؤكد أنه ليس جيرمني غرانت ،جهادي بريطاني منضم لصفوف حركة الشباب ،ويقضي في الوقت الحالي عقوبته بالسجن داخل كينيا بعد إدانته بالتخطيط لهجمات تفجيرية ً داخل البالد .كما تشير بعض االدعاءات إلى أن هناك أيضا امرأة بريطانية املنشأ قد ُ تحولت إلى اإلسالم تدعى سامنتا ليوثويت ،قد تورطت في عملية املركز التجاري ويستغيت .أما عن لوثويت ،أرملة جيرمني ليندسي ،الذي قام بعملية انتحارية في لندن في اليوم املوافق 7يوليو (تموز) لعام ،2005فمن املعتقد أنها موجودة في املنطقة باعتبارها جزءا من شبكة حركة الشباب بشرق أفريقيا .وال يوجد هناك أية أدلة عامة حتى اآلن على تورطها في املهمة األخيرة لحركة الشباب أو تورط أي شخص غربي في هذه القضية .فحقيقة إصدار املنظمة الدولية للشرطة الجنائية ً (اإلنتربول) ملذكرة اعتقال دولية لهاً ، سريعا ما بناء على طلب من الحكومة الكينية، سيؤدي إلى وضعها في دائرة الشك .ومن الحكمة تجنب أية استنتاجات متسرعة، على الرغم من ذلك ،حيث إن األمر يتعلق بتهم اإلرهاب منذ عام ،2011مع عدم وجود أية إشارة إلى عملية ويستغيت. ومهما كانت هوية املعتدين ،فإن الهجوم الذي شهده قلب املجتمع الراقي الكيني خالل الشهر املاضي ُيعد بمثابة تذكرة بأن حركة الشباب وأعضاءها من املجندين املدربني ً تهديدا للمنطقة لبعض الوقت في املستقبل. على أعلى مستوى ال يزالون يشكلون ويتعني على املراقبني الغربيني أخذ حذرهم الشديد ،حيث إنه من غير املحتمل أن تكون تلك العملية هي األخيرة من نوعها
فورن أفيرز /نوفمبر -تشرين الثاني 53 - 2013 /
صحافة عالمية
ما وراء الهجمات األخيرة التي شنتها حركة «الشباب» في كينيا
عمليات جهادية مرة أخرى
شنت حركة "الشباب" الصومالية املتشددة يوم السبت 21سبتمبر هجوما على مركز تجاري وسط العاصمة الكينية نيروبي واحتجزت عددا من الرهائن داخل املركز التجاري
بقلم :ألكسندر ميليغرو هيتشن*
ً حصارا على أحد املراكز التجارية الراقية بشمال بعد مرور أيام من فرض حركة الشباب ذات الصلة بتنظيم القاعدة نيروبي ،ال تزال التداعيات السياسية ،مثل عدد القتلى ،غير معروفة .وجدير بالذكر أن الهجمات جاءت مفاجئة للمراقبني الغربيني ،حيث كانوا منهمكني في سوريا وقضية األسلحة النووية ،ولكن لم يكن لينبغي ذلك. ً * زميل باحث لدى املركز الدولي لدراسة التطرف ( )ICSRبكلية كنغ بلندن .كما يعمل أيضا محققا لدى االتحاد الوطني لدراسة اإلرهاب والردود على اإلرهاب ( )STARTبجامعة ماريالند
فورن أفيرز /نوفمبر -تشرين الثاني 52 - 2013 /
شهريا للتعويض عن بعض فروحاني ليس ُم ً ً صلحا .ولكنه رجل النظام ،لذلك السبب سمح له باحتالل املنصب الشعبية ،مثل املبالغ التي يحصل عليها اإليرانيون مراحل الدعم ملشاريع الطاقة وغيرها من السلع .وجدير بالذكر أن الوضع الحالي الذي األول بالدولة .ومن املؤكد أنه أراد التوصل إلى اتفاق ،ولكن لم تكن هناك أية إشارة تشهده إيران واستعدادها للتفاوض يعزز املثل اإليراني القديم القائل بأن الجمهورية علنية واضحة للشروط التي قد توافق عليها إيران .وعلى الرغم من ذلك ،فمن املفترض أن إيران والغرب لديهم بالفعل فكرة جيدة عن عواقب أي اتفاقات على الجانب اإليراني: اإليرانية ال تخضع للضغط على اإلطالق ،ولكنها تخضع فقط للضغوط الهائلة. قبول قيود على تخصيب اليورانيوم وشحن معظم اليورانيوم املخصب إلى خارج تدهور األحوال االقتصادية اإليرانية البالد ،إن لم يكن جميعه .وزيادة الشفافية واالستجابة للتساؤالت التي تطرحها ُ الوكالة الدولية للطاقة الذرية حول األنشطة السابقة. وعلى الرغم من ذلك ،فإن العقوبات املفروضة على إيران ال تعد السبب الوحيد وراء تغير اتجاه إيران .وعلى نفس القدر من األهمية ،نجد حالة الغضب املتزايدة التي وعلى الرغم من ذلك ،فإنه ال ُيعد سوى نصف االتفاق فقط .أما بالنسبة للنصف اآلخر، يشهدها الشعب اإليراني في ظل تدهور األحوال االقتصادية اإليرانية الناتجة عن فيتمثل فيما يقدمه الغرب في املقابل ،وعلى وجه التحديد في صورة رفع العقوبات. السياسات الشعبية غير املترابطة التي تتبناها حكومة أحمدي نجاد ً مثلما ا تمام وحتى اآلن ،فإن الغرب وخاصة الواليات املتحدة األميركية ،أبدوا أقل من املتوقع. هو الحال مع العقوبات املفروضة .فالنظام األذكى كان عليه تجنب وطأة الغضب وعليه ،ينبغي على اإليرانيني أن يتسموا بالحذر :وبوجه عام ،كانت الواليات املتحدة ُ الشعبي اإليراني وتحويله تجاه الواليات املتحدة األميركية .ولكن ،لم تتمكن إيران من األميركية بطيئة في تخفيف العقوبات .وسواء في ليبيا أو ميانمار (التي تسمى ً أيضا) أو فيتنام ،فإن رفع العقوبات التي كانت مفروضة استغرق ً إقناع شعبها بأن عليها صب الغضب على أي أعواما عدة شخص ولكن ليس على املتشددين بورما اإليرانيني ،في ظل تبني سياسات اقتصادية غير ُ النووي. موقفها ظل وفي جدية م أكثر مما توقعته تلك الحكومات .وفي الواقع ،فإن قيود جاكسون -فانيك التي كانت وخالل األيام الحالية ،تتمثل األولوية األولى إليران في تعديل الوضع االقتصادي .وفي مفروضة على االتحاد السوفياتي في عام 1974نتيجة للقيود التي تفرضها موسكو هذا الصدد ،أظهر اإليرانيون عدم رغبتهم في االستمرار في تحمل تلك األعباء الثقيلة على الهجرة اليهودية لم ُترفع حتى عام ،2012أي بعد مرور أكثر من ً 20 عاما على املتمثلة في عائدات النفط املرتجعة وأزمة التضخم والبطالة -مقابل االستمرار في انتهاء حدود الهجرة تلك ،واختفاءالبرنامج النووي .وفي املقام الثاني ،نجد استعادة العالقات مع العالم الخارجي ،مما الحكومة السوفياتية. يعني تغيير سياسات العزلة مثل القيود املفروضة على اإلنترنت والقنوات الفضائية. ً وحتى املرشد األعلى علي خامنئي ،الذي يدعو منذ زمن بعيد إلى املقاومة بدال من عالقات أفضل ً التوصل إلى حلول وسطية ،فإنه قد تحدث مؤخرا عن الحاجة إلى ما سماه «املرونة مع الشعب اإليراني البطولية». وقبل أن تقوم الواليات املتحدة والسبب األخير األكثر أهمية في االتجاه الجديد الذي تتبناه إيران هو تعزيز األميركية برفع العقوبات ،فإنها ً دائما الديمقراطية اإليرانية .فاالنتخابات الرئاسية التي جرت خالل شهر يونيو (حزيران) ما ترغب فيما هو أكثر من مجرد لم تكن انتخابات نزيهة على اإلطالق .ولكن ،على خالف ما حدث عام ،2009جرى تأكيد حول تنفيذ االتفاق .فهي فرز أصوات املنتخبني بالفعل .كما أعلنت النتائج بعد إغالق صناديق االقتراع بواقع ترغب في الحصول على دليل ً وبدال من تتويج خامنئي للفائزً ، مثلما ا تمام ساعات عديدة وليس ساعة واحدة فقط. واضح على أن أي اتفاق سوف يستمر ،عالوة على رغبتها في إحداث تقدم بشأن ً الثالثة األشقاء بني املنافسة وقف حيال خطوات فعل عام ،2009لم يتخذ خامنئي أية مناقشات ثنائية أخرى أيضا .وبالنسبة إليران ،فإن ذلك يعني أن واشنطن ترغب في املعارضني اإليرانيني خامنئي ناشد وعندما الرئيسون. وهم املرشحون املحافظون إنهاء طهران لدعمها لإلرهاب باإلضافة إلى االنتهاكات السافرة التي تتبعها حيال ُ للجمهورية اإلسالمية ودعاهم للتصويت (على عكس تفاخره بأن التصويت يمثل حقوق اإلنسان .ويعني ذلك كله أنه مهما تراجعت حدة العقوبات التي قد تفرضها ً عرضا لتأييد النظام الحاكم) ،أدرك الشعب تلك الرسالة :ففي هذه املرة ،سوف يخضع الواليات املتحدة األميركية عقب بدء املباحثات النووية ،فإنها سوف تكون محدودة خامنئي الختيار الشعب من بني املرشحني .فقد سمحت االنتخابات التي اتسمت للغاية .كما أنه من غير الواضح أن االتحاد األوروبي سوف يتخذ أية إجراءات إنقاذ؛ ُ باملزيد من الحرية ُ بطرح النقاشات األكثر جدية حول السياسات الخارجية واألمنية حيث إنه من غير املمكن إنهاء تلك العقوبات سوى من خالل إصدار قرار تصدق عليه للبالد ،التي كانت تعد بمثابة أحد املحرمات في السابق .فقد اعتاد اإليرانيون سماع 28حكومة باإلجماع. أن املفاوض النووي السابق ،سعيد جليلي ،لم يكن يتسم باملرونة أو املنطق .فقد تعرضت مواقفه حيال املفاوضات النووية للهجوم من قبل جميع املرشحني. ومن املحتمل أن تتفادى الواليات املتحدة األميركية تلك املشكلة من خالل تقديم
كلما ازدادت م�ساحة الدميقراطية واحلرية داخل �إيران ازدادت االحتماالت الأف�ضل حيال ت�سوية الأزمة
البرنامج النووي ً ودائما ما كان يود الغرب رؤية نقاش جاد داخل إيران حول البرنامج النووي للبالد. وفي النهاية ،جرت تلك املناقشات .وبالتأكيد ،فقد أدى فرض العقوبات على إيران إلى نشوب حالة من السخط حيال تأثير البرنامج النووي ،إال أن ذلك لم ُيترجم إلى إصالحات في السياسة اإليرانية إلى أن جرى تقديم فرصة للشعب اإليراني لإلعراب عن وجهات نظره .ولم يكن ليحدث ذلك لو لم ُيقرر خامنئي السماح لهذه االنتخابات أن تسير كما فعل .وتمثلت النتيجة النهائية في التأييد الشعبي القوي لروحاني ،الذي ً يمثل الصوت األكثر اعتداال .فالدرس الذي ينبغي على الغرب معرفته هو أنه كلما ازدادت مساحة الديمقراطية والحرية داخل إيران ،ازدادت االحتماالت األفضل حيال تسوية األزمة النووية .وبعبارة أخرى ،فإن دعم الحرية داخل إيران ليس فقط الشيء ً الصحيح الذي ينبغي فعله من الناحية األخالقية ،بل ُيعد أيضا أفضل وسيلة لحمل إيران على التخلي عن طموحاتها النووية.
عرض لدعم الشعب اإليراني ،حتى مع الحفاظ على القيود الصارمة التي تفرضها على الحكومة اإليرانية .وبالفعل ،قامت واشنطن على الفور بتشديد العقوبات على املؤسسات ذات الصلة بالحكومة ،في ظل تخفيف القواعد على املواطنني، وعلى سبيل املثال ،املسابقات الرياضية والتبرعات لألعمال الخيرية داخل إيران وصفقات البيع لإليرانيني للهواتف الجوالة والبرمجيات ذات الصلة .وعقب التوصل الى اتفاق ،سوف تتمكن واشنطن من فعل الكثير والكثير لوضع حد للقيود التي ُ تعرقل املواطنني اإليرانيني والشركات الخاصة ،وربما من خالل تخفيف إجراءات التأشيرات والسماح للصفقات التجارية الخاصة بالسلع االستهالكية مع شركات خاصة .ويتمثل أفضل أمل للواليات املتحدة األميركية لتحسني العالقات مع إيران في الحصول على عالقات أفضل مع الشعب اإليراني ،حيث يتعني على الواليات املتحدة األميركية أن تضع تركيزها على ما يحتاجونه ويرغبون فيه .كما أن تخفيف العقوبات على الشعب اإليراني ال ُيعد سوى خطوة صغيرة نحو دعم ُ الديمقراطية ،ولكنها خطوة تعد أفضل من ال شي
فورن أفيرز /نوفمبر -تشرين الثاني 51 - 2013 /
صحافة عالمية
ُ العقوبات املفروضة على إيران لن تجبر طهران على االستمرار في املفاوضات
أقوال أم أفعال؟
مجسم لصاروخ ايراني "أرض – أرض" من طراز "نازعات "10
بقلم :باتريك كالوسون *
خالل عام ،2012كنت قد ذكرت أن العقوبات املفروضة على إيران قد نجحت في إرغام طهران على العودة مرة ُ أخرى لطاولة املفاوضات ،ولكنها ال تمثل استراتيجية بحد ذاتها .فاملحادثات العرضية (التي ال جدوى منها في أغلب ً ُ األحيان) ،وبعد كل ذلك ،لن تعد بديال عن االستقرار الشامل والتطبيع السياسي .وضمن إحدى كتاباتي ،كنت قد ً نجاحا على املدى البعيد ينبغي أن تتجه نحو بناء دولة إيرانية تتسم باملزيد من ذكرت أن أية سياسة أميركية أكثر ً الديمقراطية .وال يزال األمر صحيحا حتى اليوم. * مدير قسم األبحاث بمعهد واشنطن لسياسات الشرق األدنى ،كما أنه مؤلف أو محرر العديد من الكتب والدراسات حول إيران
في الوقت الذي تتصاعد فيه هجمات الرئيس اإليراني حسن روحاني أمام الجمعية العامة لألمم املتحدة ،ينبغي تذكر أن العقوبات وحدها لن تؤدي إلى تبني إيران لنهج جديد .كما أنها لن تكون كافية لضمان تعاون إيران في املستقبل. وعلى مدار العامني املاضيني ،حققت أنظمة العقوبات التي تتبناها الواليات املتحدة األميركية واالتحاد األوروبي نتائج مذهلة ،ويرجع الفضل في ذلك إلى الدعم الدولي الواسع واالمتثال لهم .فبعض الدول ،مثل كندا ،قد أقرت فرض عقوبات تجارية
متشددة .وعلى الجانب اآلخر ،فإن بعض الدول األخرى ،مثل الهند ،قد قلصت من حجم مشترياتها من النفط اإليراني وفرضت ً قيودا على ما يكون بوسع إيران فعله حيال مدفوعات ذلك النفط .ويرى الجميع أن عائدات صادرات النفط اإليراني الصالح لالستخدام قد تراجعت بواقع الثلثني عما كان ُمقدرا لها في العام الحالي .وجدير بالذكر أن عائدات النفط اإليراني الصالح لالستخدام تتراوح بني 35-30مليار دوالر أميركي ً سنويا ،حيث لم تصل إلى ذلك املستوى منذ عقد مضى .وعليه ،فقد أدى ذلك الوضع إلى إجبار الحكومة اإليرانية على السحب من االحتياطي والحد من املبادرات
فورن أفيرز /نوفمبر -تشرين الثاني 50 - 2013 /
ُ العقوبات املفروضة على إيران لن تجبر طهران على االستمرار في املفاوضات
أقوال أم أفعال؟ بقلم :باتريك كالوسون
ما وراء الهجمات األخيرة التي شنتها حركة «الشباب» في كينيا
عمليات جهادية مرة أخرى بقلم :ألكسندر ميليغرو هيتشن
أطول النزاعات األفريقية
السودان واجلنوب على شفا حرب بقلم :جريوم توبيانا
فورن أفيرز /نوفمبر -تشرين الثاني 49 - 2013 /
البـحـوث العلـميـة عاليـة التأثيـر ٌ متـاحـة ا ن للمـجتـمع بأكمله.
ﺷـﻬـﺮﻳﺎ ﺑﺎﻃﻼﻋﻚ ﻋﻠﻰ Natureﺍﻟﻄﺒــﻌﺔ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴــﺔ ،ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺼـﺪﺭ ًّ ﺍﻧﻀـﻢ ﺇﻟﻰ ُﺭ ّﻭﺍﺩ ﺍﻟﻌﻠــﻮﻡ ﱢ ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴـــﺔ ،ﺇﻟﻰ ﺟﺎﻧﺐ ﺍﻟﻤﻮﻗﻊ ﺍﻹﻟﻜﺘــﺮﻭﻧﻲ ﺍﻟﺨـﺎﺹ ﺑﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﺷﺒـﻜﺔ ﺍﻹﻧﺘـﺮﻧـﺖ ،ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺘﻢ ﺗﺤﺪﻳﺜﻪ ﺑﺼﻔﺔ ﺩﺍﺋﻤﺔ. ﺇﻥ Natureﺍﻟﻄﺒــﻌﺔ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴــﺔ ﺗﺘﻴﺢ ﻟﻠﻨﺎﻃﻘﻴﻦ ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴــﺔ ﻣﺘﺎﺑﻌﺔ ﺍﻷﺧﺒــﺎﺭ ﺍﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻴــﺔ ﻓﺎﺋﻘﺔ ﺍﻟﺠﻮﺩﺓ ،ﻭﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻘﺎﺕ ﻣﺘﺎﺣﺎ ﻣﺠﺎﻧً ﺎ ﻋﻠﻰ ﺍﻹﻧﺘـﺮﻧـﺖ ﻛﻞ ﺃﺳﺒــﻮﻉ ،ﻣﻊ ﻭﺟـﻮﺩ ﻧُ َﺴﺦ ﺍﻟﻮﺍﺭﺩﺓ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ”.“Natureﺇﻥ ﻣﺤﺘـﻮﻯ ﺍﻟﻤﺠﻠﺔ ﺳﻴـﻜﻮﻥ ً ﺷﻬﺮﻳﺎ ﻣﻄﺒﻮﻋﺔ ﻣﺤﺪﻭﺩﺓ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺠﻠﺔ ًّ
ﺍﻃﻠِ ْﻊ ﻋﻠﻰ Natureﺍﻟﻄﺒﻌﺔ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﺍﻹﻧﺘﺮﻧﺖ ،ﻭﺍﻣﻸ ﺍﻟﻨﻤﻮﺫﺝ ﺍﻟﺨﺎﺹ ﺑﺎﻻﺷﺘﺮﺍﻙ ﻣﺠﺎﻧً ﺎ ﺑﺎﺳﺘﺨﺪﺍﻡ ﺍﻟﺮﺍﺑﻂ ﺍﻟﺘﺎﻟﻲ: ﱠ
arabicedition.nature.com
ﺑﺎﳌﺸﺎرﻛﺔ ﻣﻊ:
غافني يونغ يتحدث الى "املجلة" في لندن بعد عودته من رحلته األخيرة
لتحقيق حلمي القديم عندما كنت أعيش في ذلك املكان ذي الطبيعة املتوحشة في كورنوول على البحر.
وبخاصة الناخودة ،أي القبطان ،الذي تخلى له عن مرقده ،وهو عبارة عن دكة خشبية عليها وسادة مغطاة بمادة بالستيكية.
ملا لم أرد أن أركب باخرة ركاب فاخرة في رحلة بحرية طويلة، خطرت لي فكرة بسيطة .ان آخذ أي زورق أو سفينة من أي نوع أو حجم يقع في طريقي وأهرب بها الى البحر ،شريطة اال تكون املسافة بني ميناء وآخر طويلة .قررت ان أسافر من أوروبا الى كانتون في الصني على أي مركب أصادفه في طريقي ،أكان ناقلة نفط أو باخرة شحن أو زورقا شراعيا من النوع الذي يعرف في الخليج العربي باسم "الدهو" – أو "الداو" كما يسمى محليا .بدأت من اليونان بعد أن علمت على أطلس رخيص اشتريه أسماء موانيء سبق لي زيارتها ،أو موانيء استهواني جرس اسمها .كنت قد اخترت موانيء سميرنا واالسكندرية وبورسعيد والسويس وجدة ودبي وكراتشي وبمباي وكوتشني وكولومبو وكاكوتا ومدارس وسنغافورة ،وبوناي وبانكوك ومانيال وهونغ كونغ ومكاون وكانتون ،لقد استغرقت الرحلة ثمانية أشهر ،وكانت أكثر اثارة مما توقعت".
ونسأل غافني يونغ :هل حققت اآلن حلم طفولتك ،فهدأ بالك؟ ينظر بعيدا وكأنه يحاول ان يستجمع في ذاكرته صورة واضحة عن أيام الطفولة في قرى كورنوول القابعة بني فجاج صخور عالية حول خلجان صغيرة تحميها من البحر وتحتمي من غضبته بأسوار من كتل الصخر ،ويخيل اليك أنه تلمح في عينيه ومضة ما تلبث أن تخبو ،ويقول":ال يا صديقي ،بل نصف الحلم" .اما النصف اآلخر فلن يتحقق اال عندما يبحر غافني يونغ في سلسلة من الزوارق الصغيرة البطيئة في اتجاه الغرب ،متنقال كالجندب من ميناء الى آخر ،يختلط بالغرباء الطيبني في شوارعها الضيقة فينسى بينهم غربته.
وتعرض غافني يونغ في رحلته املثيرة لكثير من املخاطر .فقد هاجمت العبارة املصرية "العنود" التي استقلها من قبرص الى االسكندرية عن طريق بيروت "طغمة من األوغاد ،وسال قدر كبير من الدماء بني بيروت واالسكندرية ،وطعن في األقل مصري واحد حتى شارف على الهالك" .وفيما كان يتجه الى زامبوغانا في الشرق األقصى ،هاجم الزورق الصغير الذي كان يستقله أفراد من عصابة "املورو" وأرادوا تشليحه ساعة معصمه وسترته ،فحاول بدوره تشليحهم قمصانهم وأحذيتهم .كما تعرض زورقه لعاصفة هوجاء قرب جزر املالديف ،ولغزوة قراصنة في بحر سولو. ولكن أجمل مراحل الرحلة تلك التي قطعها بني الشارقة في الخليج العربي وكراتشي في باكستان على "دهو" بحارته من البلوشيني. و"الدهو" مصنوع من الخشب على الطريقة الخليجية التقليدية، ولكن كان في جوفه محرك عتيق كان ينفث دخانا كثيفا كلما أرهقه االبحار. ويعتزم غافني يونغ العودة في نهاية نوفمبر الى دبي ليبحث عن أصدقائه البلوشيني ،ليقدم لهم نسخا من كتابه اعترافا بجميلهم،
وتصافحه شاكرا على الوقت الذي قضاه مع قراء "املجلة"، فسيتمهلك ":أال تريد أن تسألني ملاذا أحببت قومك العرب؟" .فنقول له :كان هذا أول ما جال ببالنا من تساؤالت ،ولكننا أحجمنا مخافة أن يدغدغنا اطراء أو يحرجنا تقريع .فيقول ضاحكا":بل اجلس، فسأقول لك :أحب في العرب أوال دعابتهم وظرفهم .فالدعابة العربية مثال ال وجود لها في ايران أو تركيا .الفارق الرئيسي بينهم وبني العرب عالوة على اختالف الجنس ،هو افتقارهم الواضح الى الدعابة وخفة الظل .تجد من بني العرب في أحلك الساعات وأكربها من ينطلق بدعابة مضحكة ،تخفف من حدة التوتر في الجو .وأنا أعتقد ان هذه ميزة عظيمة من مزايا العرب تمس الحاجة اليها في عالم اليوم ،وبخاصة للعرب الذين مرت بهم حقب مأساوية في تاريخهم الحديث .انهم يحتاجون ألن يضحكوا قليال". ويضيف":وأنا معجب بجلد العرب وبدفئهم وعاطفتهم ،امي من ويلز ،والويلزيون عاطفيون أيضا .وأنا أحب العاطفة بالرغم من أنها تكون متعبة أحيانا .فالناس في املآسي يبالغون في الحزن واألسى .ولكن من ناحية أخرى تصبح الحياة بدون ضرب من األحاسيس العاطفية شيئا ال يطاق" .ويختتم":ويعجبني في العرب الطريقة التي يقيمون بها الصداقة فبعد عشرين سنة من الغياب عن األهوار ،استرددت صداقتي مع أهلها وكأني لم أغب عنهم أكثر من خمس دقائق .أما الشجاعة التي عرف بها العرب فهي ميزة مشتركة بني العديد من الشعوب"<
,, 1947خطفت عصابة بيغن شاويشني بريطانيني وشنقتهما على الشجر
,,
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
47
أرشيف
,,
بعد العدوان الثالثي على السويس تدهورت شعبية البريطانيني في الشرق األوسط وطلب الى الكثيرين ممن كانوا يعملون أو يتجولون في املنطقة العربية مغادرتها
,,
وفي كتابه األخير الذي صدر هذا الشهر "على زورق بطيء الى الصني" يروي غافني يونغ كيف عاد الى جدة ،على منت باخرة حجاج سعودية تحمل حجاجا مصريني من مدينة السويس .نزل الى امليناء مع رهط الحجاج وفي جواز سفره تأشيرة دخول تسمح له بالبقاء ثالثة أيام فقط .ظن موظفو الجوازات في امليناء في بداية األمر انه مسلم أوروبي جاء يؤدي فريضة الحج .وعندما تبني لهم أن املسألة غير ذلك ،لم يوافقوا لعدم علمهم بمواقفه املناصرة للقضايا العربية ،على تمديد مدة اقامته ليتسنى له العودة الى عسير ومن ثم اتمام رحلته بالبر الى دبي للبحث عن زورق بطيء آخر يحمله الى باكستان .أحس بكثير من خيبة األمل ،ولم يخفف عنه سوى لقائه مع سائق أجرة من أبها ،طلب اليه يونغ باللغة العربية ان يحمله من امليناء الى أحد فنادق جدة. وعندما عرف يونغ أثناء تجاذبهما أطراف الحديث ان السائق من أبها ،سأله عن بعض رجاالت أبها وعسير من أصدقائه القدماء فاستغرب السائق معرفته بهؤالء الناس الذين قال أنهم ما زالوا احياء يرزقون .وملا عرف من يونغ صلته باالقليم وموقف دائرة الجوازات منه ،انفعل بشدة وأقسم ان يحملنه ساعتئذ الى عسير ويعيده منها قبل انقضاء االيام الثالثة .ولكن يونغ رفض تلك االريحية العفوية ،وظل راكبا في سيارته تلف بهما شوارع جدة على غير هدى وهما يتحدثان عمن عرفا من أشخاص وأماكن، حتى توقفت في نهاية املطاف أمام أحد الفنادق .رفض السائق تقاضي أي أجرة ،واحتضن يونغ مودعا ،أو معتذرا. بعد العدوان الثالثي على السويس تدهورت شعبية البريطانيني في الشرق األوسط ،وطلب الى الكثيرين ممن كانوا يعملون أو يتجولون في املنطقة العربية مغادرتها .والى هذا أصبح التجوال بالنسبة الى يونغ مرتفع الكلفة لعدم انتظام موارده املالية. فشد الرحال الى املغرب العربي ،بهدف الحصول على وظيفة مصرفية .وكانت حرب التحرير الجزائرية يومئذ على أشدها. وكان يونغ بطبيعة الحال يتعاطف مع الجزائريني في كفاحهم ضد االستيطان الفرنسي .والحظ ان صحيفة "االبزيرفر" االسبوعية اللندنية قد اتخذت ،على نقيض معظم الصحف البريطانية ويومئذ ،خطا متعاطفا مع القومية العربية بسبب تحرر أفكار رئيس تحريرها ديفيد استور .وبسبب هذا االتجاه انخفض توزيع الصحيفة بمقدار النصف ،ألنها أخبرت قراءها بان عبد الناصر هو روح القومية العربية ،وانه ليس بالرجل السيء .اما الصحف االخرى التي كانت تنعته بالديكتاتورية فقد ازدادت مبيعاتها ،ألن الجميع أرادوا تصديق ذلك. كتب يونغ الى استور من تونس ،رغم عدم وجود خبرة صحفية لديه ،عارضا عليه مراسلة الصحيفة من املغرب العربي لتغطية أنباء الحرب الجزائرية .استدعاه استور الى لندن ،واتفقا على أن يكتب "لالوبزيرفر" قطعا اخبارية عن الحرب الجزائرية .فكتب قطعا صغيرة ثم أكبر منها وانتقل من ذلك الى كتابة املقاالت الطويلة والتحليالت العميقة .ولكن عمله كمراسل حربي لم يصل الى قمته اال في عام 1960ابان أزمة الكونغو.
غالف كتابه األخير
46
طلبت اليه "االوبزرفر" االنتقال الى الكونغو التي ظلت أنباء الحرب األهلية وتورط الدول الكبرى واألمم املتحدة ،تمأل أعمدة الصفحات األولى في الصحف العاملية .بقي في الكونغو أكثر من عام ،عرضت عليه "االوبزرفر" خالله االنضمام الى هيئة تحريرها ،فقبل ألنه أصبح يتوق الى استقرار في دخله ،وألنه ظن ان عمله مع الصحيفة كمراسل حربي مثبت سيساعده على تحقيق حلم طفولته بالتجول في موانئ العالم النائية الغريبة .ولكنه أحس انه رغم
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
تغطيته للحروب والثورات في شتى أنحاء العالم ،من فيتنام الى كوبا ،ومن اليمن الى الهند وباكستان وما الى ذلك ،بأن ذلك الحلم ما زال كبيرا يصعب تحقيقه ،واأليام تمضي والشباب ينحسر رويدا رويدا. كان لصلة يونغ الشخصية بالعرب تأثيرا على ما يكتبه .سألناه عن ذلك فقال":هذا جانب من الحقيقة .لقد كتبت الكثير من االشياء التي يجهلها اآلخرون عن العالم العربي ،ألنني كنت هناك وبدأت مطلع شبابي هناك ،وأنا أحب العرب وأتحدث العربية .اما غيري من الكتاب الذين لم يتح لهم الذهاب الى العالم العربي فانهم كانوا ببساطة جاهلني بقضاياه .وبغض النظر عن رأيي الخاص بجمال عبد الناصر مثال ،كنت أعرف أن معظم العرب كانوا ينظرون اليه كزعيمهم .وهذا املهم .اما حلف بغداد ،فلم يكن مناسبا لتلك الحقبة من تاريخ املنطقة ،ولذا كان من خطل الرأي تأييده ان ايجاد االعذار له .لم تكن وجهة نظر الصحف الغربية عموما ،ولكن "االوبزيرفر" كانت لحسن الطالع تحمل أفكارا مماثلة ألفكاري".
بعد 1967 عندما نشبت حرب األيام الستة عام ،1967كان يونغ في باريس ،فسارع بالسفر على أول طائرة يسمح لها بالهبوط في مطار بيروت .ومن هناك اتجه فورا الى عمان ،ليرى الالجئني الفلسطينيني يتدفقون من الضفة الغربية عبر حطام جسر اللنبي. قال":كان الوضع سيئا للغاية واملنظر مريعا .كتبت من هناك مقالة عن الالجئني ومأساتهم التي تفطر القلوب. وقد نشرت املقالة في الصفحة األولى من "االوبزيرفر" في الوقت الذي كانت فيه الصفحات األولى من الصحف األخرى تتغنى بأمجاد اسرائيل العسكرية وانتصاراتها الباهرة .انا لم أنكر أن االسرائيليني حققوا نصرا ،ولكن بدا لي في تلك الفترة ان من األهم التركيز على مأساة الالجئني املريعة .ولكن ما فعلته كسب لي قدرا عظيما من العداوة والبغضاء واالهانة والتهديد من أناس في لندن لم أكن أعرف وقتئذ أنهم صهاينة". وعندما يقتتل العرب في ما بينهم ،كما حدث في اليمن ،يتخذ غافني يونغ جانب تلك الفئة املستضعفة البريئة .فقد انضم أوال الى القوات الجمهورية اليمنية في صنعاء التي كان يدعمها املصريون. ولكنه أحس بأنه ينبغي عليه ان يطلع على وجهة نظر القوات امللكية قبل ان يكون لنفسه رأيا عن الصراع الدائر في اليمن. اتخذ طريقه الى جيزان ،ومنها عبر الحدود مشيا على األقدام لالنضمام الى القوات امللكية":لم تكن مشاعري في حقيقة األمر مع أي من الجانبني ،كانت مشاعري مع املدنيني اليمنيني الذين وقعوا في الوسط وطحنتهم الحرب .لم أكن أعتقد ان وجود املصريني كان مفيدا .فقد قتل العديد منهم .ولم أكن أعتقد بأن امللكيني سيحققون النصر .ولكن كانت هناك فئة ثالثة في اليمن تريد خروج املصريني ،ولكنها ال تريد عودة امللكيني ،فئة كانت تريد أن يحكم اليمنيون بالدهم .ووجدت في هذا املوقف كثيرا من املنطق. وقد تغلب هذا االتجاه في اليمن في ما بعد". وفي عام ،1980نشر غافني يونغ كتاب "ما بني النهرين" الذي وضعه بتشجيع من السيد طارق عزيز عن معالم العراق التاريخية. فالعراق بلد مثير ثري ،مرت عليه بني النهرين حضارات عريقة، او مرت به مخلفة آثارها في كل مكان .اما كتابه األخير "على زورق بطيء الى الصني" فقد كان كما قال لنا غافني يونغ "محاولة
,,
عالم الشرق الغريب
في مطلع السبعينات ،فاستأذن من السيد طارق عزيز بالعودة الى األهوار ،فشجعه على ذلك .قال يونغ لـ"املجلة"":كنت دائما أحلم بالعودة الى هناك ،ولكنني كنت أخشى أن أصاب بخيبة أمل عظيمة اذا عدت فوجدت املكان قد تغير والناس الذين أحببتهم ماتوا. اتجهت اليها يالزمني شعور بالخوف والتوجس ،ولكنني لفرحتي وابتهاجي وجدت املكان على حاله تقريبا ،وان معظم الذين عرفتهم أحياء..ليسوا أحياء فحسب ،ولكنهم تذكروني .كان لنا لقاء عاطفي ،وأحيوا لي حفالت بهيجة ،وأخذوني الى كل قرنة في األهوار التي عرفتها من قبل ،وهي منطقة واسعة تحتاج الى أسبوع بالزورق لالنتقال من طرف الى آخر .ولكنني وجدت ان املكان تغير من ناحية أخرى الى األفضل ،حيث أصبحت العناية الصحية متوفرة ،والوصول الى األسواق املحلية أسهل .وقد ألغت السلطة نظام املشيخات ووزعت األرض على الناس العاديني .ولكن الحياة لم تتغير في جوهرها". كان لعودة يونغ الى األهوار اثر عظيم على نفسه حتى أنه قرر ان يكتب عنها .أعد أوال مقالة مسهبة مصورة للمجلة الجغرافية الوطنية التي تصدر في الواليات املتحدة ،ثم اصطحب معه صديقه املصور الفوتوغرافي املعروف نيكوالس ويلر ،لتسجيل الحياة في األهوار ،بهدف استعمال الصور في كتاب كان يعد نصه ،اسماه عند نشره "عودة الى األهوار" .كما طلب اليه تلفزيون هيئة االذاعة البريطانية اعداد فيلم تسجيلي عن املنطقة عرض في بريطانيا وانحاء أخرى من العالم. وقد وصف احد النقاد البريطانيني ،واسمه جوناثان رابان ،نص كتاب "عودة الى األهوار" بأنه "تحفة رائعة ،مثير السبك ،فيه نغمة شخصية دافئة ،ومعرفة تاريخية أكاديمية ،وموهبة في الوصف الدقيق قلما توجد خارج نطاق القصص الخيالي الجيد .ان هناك قاسما مشتركا بني البريطانيني والعرب وهو روح الدعابة. وقد استطاع يونغ الذي عاش بني أهل األهوار مدة تسمح له بالكتابة عنهم كاصدقاء ،اصطياد روح الدعابة العربية بحذق .ان كتاب
"عودة الى األهوار" ليس كتاب رحالت ،وانما لوحة عن مجتمع كان يتحرك فيه يونغ كأحد أبنائه". اال ان صور نيكوالس ويلر ،التي حلى بها يونغ كتابه ،لم تحظ رغم روعتها بنفس التقريظ .فقد مر ويلر باالهوار مرور السائح بني قوم غرباء ،يستهويه منظر مغيب الشمس ،والسديم يتجمع ضبابيا فوق األهوار ساعة الفجر او املغيب ،والنار املوقدة، فيصورها بدقة متناهية .ان صوره تجعل األهوار تبدو جميلة ولكنها نائية .اما نص غافني يونغ فانه يفعل العكس تماما.
بال دراهم لم يكن لدى يونغ من املال ما يمكنه من التجول في السعودية، وبخاصة بعد أن قضى آخر عامني في األهوار بدون دخل .ولذا قبل وظيفة مع الوكالة الدولية ملكافحة الجراد التابعة لألمم املتحدة، التي كانت بعض فرقها تعمل على مقاومة الجراد في منطقة عسير .اتجه الى عسير فوجدها منطقة غزيرة املاء مشجرة باالشجار املثمرة ،ووقع في حب املنطقة من أول نظرة":انها منطقة رائعة الجمال ،وأهلها طيبون وجميلو املظهر بشعورهم الطويلة ،يعيشون في بيوت كناطحات السحاب على نمط املباني اليمنية .قضيت هناك أسعد عامني في حياتي كلها .لقد أتيح لي التجول في جميع أنحاء تلك املنطقة الرائعة .انها حديقة اململكة العربية السعودية الغناء ،بحدائقها وبساتينها وفواكهها وقمحها ومياهها.
لم يكن لدى يونغ من املال ما يمكنه من التجول في السعودية وبخاصة بعد أن قضى آخر عامني في األهوار بدون دخل
,,
كانت الحياة ممتعة وعاش الناس حياة رخية .ولكن كان من الصعب الوصول الى تلك املنطقة يومئذ ،ألن الطريق املؤدية اليها لم تكن سوى مسارب في الصحراء وعلى سفوح الجبال. وكان الوصول اليها من جدة يستغرقني أربعة او خمسة أيام على ظهر شاحنة ثقيلة .ولذا لم تستقطب السياح مطلقا .الغرباء الوحيدون الذين كانوا يأتونها هم النجديون الذين كانوا يعملون في خدمة الدولة هناك". المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
45
أرشيف
,,
عاش يونغ في األهوار مدة عامني يتمتع باصطياد السمك وتربية الجواميس املائية ويتلذذ بهدر وقته على الطريقة القروية العربية
,,
قبل االقالع الى الشرق األقصى
احللم الكبري كان الرجل قد ولد وفي دمائه رومانطيقية خاصة .كان يريد ان يحقق الكثير ،وان يصبح رحالة مكتشفا يزور كل زاوية نائية في العالم .ولكنه عندما وصل الى البصرة قنع بالتركيز على العالم العربي .اتخذ لنفسه معلما يعلمه العربية .وتعلم الكتابة والقراءة. وأخذ يخطط لرحلة استكشافية على ظهر جمل يقطع املسافة بني البصرة والسويس .لم يكن متأثرا وقتئذ بلورنس العرب قدر تأثره بالرحالة تشارلز داوتي وولفريد ثيسيجر ،الرجل الذي بدأ وقتئذ يكتسب شهرة كرحالة ومستكشف. وشاءت الصدف ان يمر ثيسيجر في هذه االثناء بالبصرة ،فسارع يونغ ،الذي كان ينظر اليه كبطل حقق منجزات عظيمة بقطعة الربع الخالي على جمل مرتني ،الى لقائه ،وطرح عليه فكرته للسفر من البصرة الى السويس على ظهر جمل .اال ان ثيسيجر ضحك وقال له ان الظروف السياسية التي كانت سائدة يومئذ ،وحظر السلطات السعودية على البريطانيني التجوال في أراضيها ،تكاد تجعل الفكرة مستحيلة التنفيذ .ودعاه عوض ذلك لزيارته في األهوار. كان ثيسيجر ،وهو عالم انثروبولوجيا – اي البحث في علم أصل االنسان – يعيش في منطقة االهوار جنوب العراق ،لدراسة تصرفات وخلفيات عرب املنطقة املنحدرين من سالالت سومرية وبابلية عتيقة ،ويسكنون في مجتمع بدائي قائم في تركيبه واقتصاده على طبيعة املنطقة املائية ،عند بلدة القرنة ملتقى نهري دجلة والفرات ،اللذين ينضمان عندها معا لتشكيل شط العرب. وملا لم تكن املسافة تبعد عن البصرة بأكثر من مائة كيلومتر ،قرر يونغ ان يلبي دعوة ثيسيجر وقضاء عطلة نهاية االسبوع معه. ولكن املكان سحره على الفور بعزلته وببحيراته وقنواته املائية، وبيوته الرائعة املجعولة من القصب ،والتي تشكل كل منها جزيرة عائمة ،والتي تبدو لضخامتها وحسن هندستها البدائية كالكنائس او الجوامع ،وزوارقه النحيفة التي يتنقل فيها الناس من مكان الى مكان ،وأهله الطيبني .عاد الى البصرة من زيارته
44
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
االولى لألهوار ،واستقال من عمله مع شركة الشحن البحري، ووجد نفسه مدفوعا لترك كل شيء وراءه ،والذهاب للعيش بني هؤالء الناس .لم يكن وقتئذ متأكدا مما يريد ان يعمله هناك .ولكنه استغل وجوده الذي دام عامني في دراسة طبيعة املنطقة وأهلها. لم يجد تلك الحياة غريبة ،وانما مختلفة عما ألفه من أساليب حياة وطرق معيشة. ووجد أن أفضل طريقة للتعرف على الناس على حقيقتهم، هي كسر الحواجز التي تفصله عنهم ،وتناسى أصله ونشأته املختلفتني ،والتصرف تماما كما يتصرف الناس الذين اعتزم العيش بني ظهرانهيم .قال "للمجلة"":لم نتناول – هو وثيسيجر – طعاما خاصا قط .كنا نأكل من طعام االهلني .ولم نغل املاء لتقنينه ،بل كنا نشرب من مياه األهوار ونستعملها في صنع القهوة وما الى ذلك .لقد عشت مثل االهواريني تماما وتعلمت لغتهم جيدا ،ولم أندم على ذلك قط". وعاش يونغ في األهوار مدة عامني يتمتع باصطياد السمك وتربية الجواميس املائية ،ويتلذذ بهدر وقته على الطريقة القروية العربية، التي قالت عنها صحيفة "الصاندي تايمز" اللندنية "ال يعرف أحد أكثر من القروي العربي كيف يهدر الوقت بذلك القدر من الرشاقة والدعابة .ولعل ظاهرة تعشق البريطانيني االستعراب منذ القدم، وهي الظاهرة التي أسرت بيرتون وداوتي ولورنس وثيسيجر وفريا ستارك وغافني ماكسويل ،ترجع الى انجذابهم الى أولئك الناس الذين يعيشون بقناعة في عالم يعرفون انهم ال يستطيعون تغييره" ولكن ثيسيجر ما لبث ان همس في أذن يونغ ،ان عليه ان أراد حقا ارتياد الجزيرة العربية ،ان يعجل قبل أن تتغير تحت وطأة الزحف الحضاري الحديث. ونصحه أن يذهب الى أجمل أجزاء الجزيرة العربية ،في الجنوب الغرب من اململكة العربية السعودية ،الى الجنوب من الطائف في اتجاه اقليم عسير ونجران وأبها ،وصوب شمال اليمن عند منطقة جيزان .ولكن غافني يونغ عاد الى األهوار بعد قرابة عشرين سنة من رحيله عنها .كان في بغداد يغطي أنباء مؤتمر للنفط عقد هناك
,,
غافني يونغ على مركب شراعي في آخر رحلة له الى الشرق األقصى
للوضع بأسره .فصغار الجنود ال يفكرون كثيرا في الظروف السياسية التي يخدمون فيها .ولكنني أذكر بوضوح كيف كنا نتعرض باستمرار لهجمات من قبل عصابة "ارغون زفاي الومي"، أو طغمة "شتيرن" التي كان املستر بيغن زعيمها .كانت القنابل تلقى علينا ونتعرض الطالق النار.
بالرغم من أنه لم يكن له في الواقع خيار في ذلك الن ظروفه املادية هي التي وجهت خطاه الى املشرق .كان قد عاد عن طريق حيفا الى بريطانيا في نهاية االنتداب البريطاني ،والتحق بجامعة اكسفورد لدراسة التاريخ الحديث .كانت فترة قلقة في حياته ،امتازت كما قال لنا بخموله وكسله.
وما زلت أذكر بألم كيف اختطفت عصابة املستر بيغن شاويشني بريطانيني وشنقتهما على الشجر" .ورغم هذه الظروف ،فقد افتنت بفلسطني بعد أن تنقل في أرجائها من طولكرم الى معسكر بيت ليد قرب ناتانيا ،الى معسكر في طبريا":كان تأثير سحرها علي مباشرا .طبيعة جمالها ،وأهلها.
فما كان يؤرقه هو كيف سيستطيع بعد االنتهاء من دراسته السفر والتجول في انحاء العالم ،وبخاصة ان والده لم يكن رجال ثريا .وعندما انتهى من الدراسة في اكسفورد بدأ يبحث عن عمل ":كان أول عمل حصلت عليه ،في شركة لها مصالح في الشحن البحري .ولحسن حظى ،أو ألن هذا قدري ،ارسلوني الى البصرة، حيث عملت في مكتب الشحن البحري هناك .كانت البصرة يومئذ ميناء نشيطا دائب الحركة ،ربما أهم مما هو عليه اآلن ،فقد كانت تصدر منه التمور والقمح والشعير والجلود والعظام .لقد انحسرت اآلن حركة التصدير من ميناء البصرة ،وربما أصبح العراقيون اآلن يستوردون القمح".
كانت مثيرة جدا ،ووعدت نفسي أن أعود اليها .لم أكن وقتئذ أدري كيف سأعود ،ولكنني عدت بالفعل مرارا ،وزرت موقع معسكر طولكرم ،الذي كان أول اتصال فعلي لي باملشرق العربي" .وكان لفلسطني تأثير مباشر على تعلق الرجل بالعرب والعالم العربي،
تعرض غافني يونغ في رحلته املثيرة لكثير من املخاطر فقد هاجمت العبارة املصرية "العنود" التي استقلها من قبرص الى االسكندرية عن طريق بيروت "طغمة" من األوغاد وسال قدر كبير من الدماء بني بيروت واالسكندرية
,,
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
43
أرشيف
غافني يونغ ،أحد أشهر املراسلني الحربيني البريطانيني والكاتب والرحالة ،هو قبل كل شيء صديق للعرب ،عاش بينهم في أهوار العراق وعسير السعودية وتجول في جميع أنحاء بالدهم وأحبهم .وكان من بني الصحفيني البريطانيني األوائل الذين آمنوا بالحق العربي ودافعوا عنه على صفحات صحفهم .ولكنه تعرض بسبب ذلك ،حاله حال الرواد من الصحفيني البريطانيني الذين أسهموا في كشف زيف االدعاءات الصهيونية ومهدوا الحداث تغيير جذري في الرأي العام الغربي ،أمثال ارسكني تشيلدرز ومايكل آدامز ،تعرض الى التهديد والتحقير واالهانات من العناصر الصهيونية ومؤيديها.
غافني يونغ صديق العرب
انكليزي عاش سنتني يف حدائق السعودية الغناء «املجلة» العدد92 : 14اكتوبر 1981 تحقيق خاص ب ـ «املجلة» (املحرر)
جميع مؤلفات غافني يونغ مرتبطة بطريقة او أخرى بالعالم العربي .فكتابه "عودة الى األهوار" الذي اعتبر النقاد نصه قطعة فنية ،هو وصف مسهب رشيق دقيق لعودته الى أهوار العراق بعد غيبة عشرين سنة .وكتابه "ما بني النهرين" لوحة مصورة مبسطة لتاريخ متشابك معقد في بالد ترعرعت فيها أو مرت عليها أعرق الحضارات القديمة ،مخلفة بصماتها في كل قرنة .ولكن ما حفز "املجلة" الى استضافة غافني يونغ على صفحاتها ،هو كتابه األخير "على زورق بطيء الى الصني" الذي صدر هذا الشهر في لندن ،وحقق فيه املؤلف نصف حلم طفولته ،كما قال لنا .ولكن ماذا عن نصف حلمه اآلخر؟ في ذلك الجزء النائي ذي الطبيعة الوحشية من مقاطعة كورنوول االنكليزي ،حيث تتقوقع قرى الصيد الساحلية املطلة على األطلسي ،بني فجاج الصخور الشاهقة ،وحول خلجان صغيرة تحمي مراسيها الحجرية العتيقة ،وتحتمي من غضبة االطلسي الحرون ،او تيارات املد العاتية وراء أسوار من كتل الصخور ،ولد غافني يونغ ألب انكليزي وأم من مقاطعة ويلز التي عرف عن أهلها، حالهم حال العرب ،بأنهم قوم عاطفيون متفتحون يحبون الدعابة ويعشقون الغناء واملوسيقى. وفي تلك النواحي ،مواطن الفقمة والعقبان وانصاف الكنائس التي هجرها املتعبدون الى شؤون دنياهم فعفى عليها الزمن ،وحيث تتكسر أمواج املحيط التي ابتلعت رجاال من مئات املراكب الشراعية التي تحطمت على صخورها عبر العصور ،ترعرع الفتى وهو يحلم بالبحر الكبير ،يجتذبه اليه سحر مبهم تزينه له حكايات املسنني وقصص العائدين من البحر ،فيكبر حلمه ويشتد الحاحا .ولكن أني له الفرار الى ما وراء ذلك األفق االربد ،كما كان يهرب اليه الفتية في قديم الزمان ،الى حيث السفن الرائعة والنجوم والجزر التي يسكنها أناس طيبون. وظل البحر القريب نائيا عنه حتى أنهى دراسته الثانوية.
42
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
كان أهله رغم ضيق ذات يدهم قد أفلحوا في ادخاله مدرسة خاصة هيأته لنباهته لدخول جامعة اكسفورد العريقة .ولكنه قبل أن يلتحق باكسفورد ،كان عليه أوال ان يؤدي خدمة العلم مدة عامني ونصف ،وهي خدمة كانت يومئذ اجبارية .وذات يوم وجد نفسه ومئات الجنود البريطانيني يبحرون في املتوسط في اتجاه بورسعيد. ولكن تلك الرحلة البحرية لم ترو غليله أو تحقق حلمه .فقد كان الحلم أكبر .كان يتمنى لو كان منعتقا من كل قيد ،وبخاصة قيد الجندية ،يتنقل على هواه من مركب الى آخر ،أو ينط كالجندب من ميناء ساحر الى آخر ،ليمتزج باخالط الناس الذين يتجمعون في العادة في املوانئ من كل جنس وملة ،من أغنياء وفقراء ،ومن كل لون،يحملون معهم حكاياتهم وقصصهم وثراء خلفياتهم، ويمتزجون معا بتسامح مثير لالهتمام. وعندما رست به ناقلة الجنود في امليناء املصري العريق، حمل أشياءه وفي نفسه اشتياق الستجالء كنه أول ميناء في املشرق الساحر يحط فيه .اال أن األوامر سرعان ما صدرت اليهم باالستعداد للرحيل الى فلسطني. أخذه القطار مع رهطه عبر شمال سيناء الى فلسطني حيث أرسل الى معسكر للجيش البريطاني قرب طولكرم .كانت تلك الحقبة عام 1947عصيبة في تاريخ فلسطني ،التي كانت تشهد صراعا عنيفا بني الفلسطينيني وقوات االستيطان الصهيونية .وكانت قوات الجيش البريطاني تجلس متفرجة تقريبا ،في انتظار انسحابها من فلسطني بعد أن اتخذت الحكومة البريطانية قرارا بانهاء انتدابها على البالد. وكان غافني يونغ يومئذ جنديا صغيرا في السابعة عشرة من عمره .جاهال تمام الجهل بالتاريخ الحديث لتلك املنطقة .قال لنا ":لم أكن مطلعا في حقيقة األمر على تفاصيل الحق والباطل
عام .2010لكن يبدو ّأن هذا الهدف قد تحقق في عام .2008فقد وصلت صادرات اململكة 116.2مليار ريال سعودي بينما بلغت الواردات من الصني 40.13مليار ريال سعودي .في عام 2008شهد امليزان التجاري بني البلدين زيادة قدرها 180في املائة ،بسبب ارتفاع أسعار النفط وأيضا بسبب زيادة حجم الصادرات النفطية إلى الصني ،حيث صدرت السعودية إلى الصني ما يعادل 720.000برميل نفط يوميا. أما فيما يتعلق بالنفط فقد كانت صادرات اململكة إلى الصني ضئيلة خالل الجزء األكبر من الثمانينات (باستثناء عام .)1988فحتى عام ،1994كانت اململكة قد ّ صدرت إلى الصني ما قيمته 451مليون ريال سعودي فقط. ْ لكن ّ سجلت زيادة ملحوظة على هذا الصعيد في عام ،1997عندما قفزت قيمة صادرات اململكة إلى الصني إلى 1.58مليار ريال سعوديّ ،ثم في عام ،1999حيث وصلت إلى 2.35مليار ريال سعودي .أما سبب الزيادات التي سجلت في منتصف التسعينات وبعده بثالث سنوات ،فهو حقيقة ّأن الصني أصبحت منذ عام 1993مستوردا صافيا للنفطّ . لكن القفزة الكبيرة في ّ الصادرات السعودية إلى الصني حدثت في عام ،2000حيث بلغ معدل نموها السنوي 139في املائة ،ووصلت إلى 5.63مليار ريال سعودي .ومنذ ذلك العام ،تعاظمت قيمة الصادرات السعودية إلى الصني سنة تلو األخرى .ففي عام ،2001بلغت قيمتها 8.15مليار ريال سعودي وفي عام ،2008وصلت قيمتها إلى 116.25مليار ريال سعودي. ً جاء هذا النمو املذهل ،بالدرجة األولى ،نتيجة لطلب الصني املتزايد على الطاقة إثر اتساع ّ الهوة بني مستويات استهالكها النفطي وإجمالي إنتاجها املحلي من الخام .بني عامي 2000و ،2005ارتفع استهالك الصني النفطي من 4.7 مليون برميل يوميا إلى نحو سبعة ماليني برميل يوميا ،نحو 43في املائة من احتياجاتها النفطية .بالتالي ،لم يكن من املفاجئ أن ّ تسجل الصني انخفاضا ملحوظا في كفاءتها في استخدام النفط للحصول على كل دوالر إضافي من إجمالي ناتجها املحلي منذ عام .2000 ّ الصني هي املستورد الصافي الثاني للنفط في العالم بعد الواليات املتحدة، ألنها تجاوزت اليابان في عام .2008فعلى صعيد الطاقة ،وخالفا ملا كان سائدا قبل عقد من الزمن ،أصبحت الصني تستورد اليوم كميات هائلة من النفط .ومن خالل تعديل محطاتها لتكرير النفط وزيادة طاقاتها اإلنتاجية، أصبحت الصني قادرة على استيعاب كميات متزايدة من الخام السعودي َ املصدر الرئيس لواردات الصني النفطية (الثقيل) .وهذا ما حول اململكة إلى وجعل األخيرة ،في الوقت ذاته ،أهم مستوردي الخام السعودي في نظر اململكةّ . ّ التحول ما كان ليحدث لوال النمو املتسارع لالقتصاد لكن هذا ّ الصيني الذي تجاوز معدله السنوي 9في املائة ،بني عامي 1978و.2005 ّ ّ مصدري إلى جانب أنغوال ،ظلت اململكة خالل السنوات املاضية في طليعة تحولت اململكة إلى أكبر ّ النفط إلى الصني .وفي عام ّ ،2007 مصدر للنفط إلى الصني؛ حيث ّزودتها بنحو 527ألف برميل مكافئ يوميا ،ووصلت في عام 2008إلى 720.000برميل في اليوم .وكان ذلك نتيجة لالتفاقية التي أبرمتها «أرامكو السعودية» في شهر يونيو (حزيران) لزيادة إمدادات النفط الخام إلى شركة النفط الصينية «سينوبيك» ليصل إلى 1.5مليون برميل في اليوم بحلول عام .2015وسجلت هذه املستويات من صادرات اململكة ّ ألن الصني أدركت ّأن وصولها إلى الخام السعودي كان حيويا بالنسبة ّ لنموها .في الوقت ّ ذاته ،كانت اململكة تدرك أنه سيستحيل تكرير املزيد من خامها الثقيل إال إذا ّ وسعت الصني أو اململكة نفسها الطاقة التكريرية املحلية للخام الثقيل. تعمل باململكة حاليا أكثر من سبعني شركة صينية تنشط اثنتان وستون ّ منها في مجال اإلنشاءات وتستخدم نحو ستة عشر ألف عامل صيني. وقد فازت إحداها مؤخرا بعقد قيمته 2.2مليار ريال سعودي للمساهمة في توسيع منشآت جامعة امللك خالد؛ وهذا هو أضخم عقد تفوز به شركة إنشاءات صينية منذ بداية انخراط شركات اإلنشاءات الصينية في السوق السعودية .وفي عام ،2007فازت شركة مقاوالت صينية أخرى بعقد لبناء
مرفأ لسفن الحاويات في ميناء جدة اإلسالمي بتكلفة قدرها 860مليون ريال سعودي ،وتم اختيار نفس الشركة لبناء امليناء الصناعي في رأس الزور ّ املحلية .وتساهم شركات األسمنت الصينية بالتعاون مع إحدى الشركات أيضا في تحديث وتوسيع نظيراتها السعودية. وفي ذات السياق كتب السفير الصيني في اململكة لي تشنغ وين مقاال في جريدة «الرياض» السعودية في شهر سبتمبر (أيلول) املاضي مؤكدا أن العالقات الصينية السعودية تتميز بالتطور النوعي في مختلف املجاالت وعلى املستويات كافة« ،حيث تمثل السعودية أكبر شريك تجاري للصني في غربي آسيا وأفريقيا خالل السنوات العشر األخيرة وهي أكبر دولة مصدرة للنفط للصني ،وبلغ حجم التبادل التجاري بني السعودية والصني 36.6مليار دوالر استوردت الصني خاللها 27مليون طن من النفط الخام ،في حني يعمل في السعودية أكثر من 21ألف عامل صيني» .وعلى مستوى االستثمار يقرر السفير الصيني بأن هناك ما يزيد على 140شركة صينية تعمل في اململكة في مجاالت اإلنشاء واالتصاالت والبنية التحتية والبتروكيماويات وغيرها، فضال عن تزايد االستثمارات املتبادلة بني البلدين؛ وهو ما أسهم بشكل واضح في وجود طفرة اقتصادية في اآلونة األخيرة في البلدين.
األزمة السورية تلقي بظاللها جاءت األزمة السورية لتضفي جوا من التعقيد واإلرباك على العالقات السعودية الصينية ،حيث تنحاز الصني لحلف روسيا في موقفها من األزمة السورية ،وهذا ما يتعارض كليا مع سياسة اململكة التي وقفت بشدة ضد تجاوزات نظام األسد وطالبت املجتمع الدولي بالوقوف ضده ،لكن الصني تعي جيدا أنها قد تخسر بشكل كبير عالقاتها مع السعودية ودول الخليج في ظل استمرار موقفها املنحاز لنظام األسد ،وهذا ما قد يكبدها خسائر وعواقب كبيرة ،ولذلك بدا املوقف الصيني تجاه األزمة السورية يشهد مؤخرا تراجعا وإعادة حسابات وتواصال مستمرا بني الجانبني إلعادة صيغة العالقة وإزالة نقاط اللبس ،وهذا األمر أكده بوضوح السفير السعودي في بكني املهندس يحيى بن عبد الكريم الزيد ،الذي قال في حديث لصحيفة «الوطن» السعودية إن املوقف الصيني إزاء األزمة السورية بدأ يتخذ خطوات مغايرة ،وأصبح أقل انحيازا للنظام ،مما دفعها إلجراء اتصاالت باملعارضة .وشدد على توجيهات خادم الحرمني الشريفني امللك عبد الله بن عبد العزيز ،ببذل الجهود الدبلوماسية إلقناع الجانب الصيني باتخاذ موقف أكثر عدال وعقالنية تجاه األزمة <
الصني ضيف شرف مهرجان الجنادرية في الرياض 2013
,,
الصني تعي جيدا أنها قد تخسر بشكل كبير عالقاتها مع دول الخليج في ظل استمرار موقفها املنحاز لنظام األسد
,,
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
41
اقتصاد
إذا كنا نتحدث عن الجذور والعوامل الرئيسة لبناء العالقات بني الدول ،فإن العامل االقتصادي كان الحاضر الفاعل والقوي األبرز في تأسيس العالقات بني اململكة العربية السعودية وجمهورية الصني الشعبية ،حيث تؤكد وزارة الخارجة السعودية في بيانها حول طبيعة عالقتها مع الصني بأنه «لوال التبادل التجاري ونمو االقتصاد الصيني لكانت العالقات بني اململكة والصني أقل إثارة لالهتمام».
السعودية والصني ..عالقات اقتصادية التتوقف
االجتاه شرقًا
بقلم: املحرر االقتصادي
,,
الصني ثاني أكبر مصدر لواردات اململكة وخامس أكبر مستوردي املنتجات السعودية
,,
تعود العالقات الدبلوماسية بني اململكة العربية السعودية والصني إلى عام 1990م .ويعزى وصول هذه العالقات الثنائية إلى مستواها الحالي ،بالدرجة األولى ،إلى تطورها بصورة متبادلة .فالصني دولة مصدرة للسلع االستهالكية واململكة مستورد مهم ملثل هذه السلع .ولطاملا لبت اململكة جزءا كبيرا من احتياجات الصني املتنامية من النفط املستورد. كما تعد الصني املصدر الثاني لواردات اململكة (وفقا لبيانات عام )2007 وخامس أكبر مستوردي املنتجات التصديرية السعودية .أما اليوم فيؤكد السفير الصيني لدى اململكة لي تشينغ أن التبادل التجاري بني اململكة والصني بلغ 73.4مليار دوالر خالل 2012بزيادة مقدارها 14في املائة عن عام ،2011 إذ ّ سجل أعلى رقم بتاريخه ،مشيرا إلى أن الصني حققت املرتبة األولى لعدة سنوات ألكبر شريك تجاري للمملكة ومنها قيمة الصادرات الصينية للمملكة والتي تقدر بـ 18.45مليار دوالر بزيادة 24.4في املائة ،كما أن الواردات الصينية من اململكة بلغت 54.95مليار دوالر بازدياد 10.9في املائة.
جذور في عمق التاريخ املؤرخون يؤكدون أن العالقات بني شبه الجزيرة العربية والصني تعود بدايتها إلى عام 651م ولم تشهد انقطاعا واضحا حتى الوقت الحاضر .فلم تتوقف الوفود التجارية والدبلوماسية بني الصني وشبه الجزيرة العربية ،ولم تنقطع وفود الحجاج والدارسني الصينيني إلى جزيرة العرب وخاصة األراضي املقدسة ،كما يورد ذلك الباحث السعودي سرحان العتيبي في دراسة له حول واقع العالقات السعودية الصينية ،فقد توافد التجار والرحالة واملبعوثون الدبلوماسيون والدعاة الدينيون من شبه الجزيرة العربية إلى الصني .إضافة إلى ذلك ،فإن أول تبادل رسمي بني الصني والعرب في القرن العشرين قد تم أيضا من جزيرة العرب ،وذلك عندما أقامت اململكة العربية السعودية في عام 1939عالقات دبلوماسية مع الصني ،لتكون بذلك أول دولة عربية تقيم عالقات دبلوماسية مع الصني .بل ولقد كانت من أوائل الدول العربية التي قدمت الدعم الرسمي والشعبي لنضال الشعب الصيني ضد الغزو الياباني، فقد ذكرت املصادر التاريخية الصينية أن امللك عبد العزيز استقبل وفدا سياسيا من مسلمي الصني عام 1937وأبدى تعاطفا ودعما لقضية الشعب الصيني في مواجهة التهديد الياباني .وقد توثقت تلك العالقات عندما وقع البلدان عام 1946معاهدة صداقة .واستمرت تلك العالقة منذ ذلك الوقت بني الدولتني حتى استيالء الحزب الشيوعي الصيني على السلطة في الصني عام 1949م.
االقتصاد والنمو تعتبر الصني أكبر دولة نامية في العالم ،وتنتج نحو 150مليون طن من البترول سنويا ،إال أن هذه الكمية ال تلبي احتياجات النمو املتواصل 40
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
لالقتصاد الصيني .حيث يزداد طلبها على النفط باستمرار مع التنمية مكتف ذاتيا االقتصادية السريعة .وقد انتقلت الصني منذ عام 1993من بلد ٍ من البترول إلى بلد مستورد له ،حيث تحولت الصني إلى ثاني أكبر مستورد للنفط في العالم بعد الواليات املتحدة األميركية .وتشير بعض الدراسات إلى أن استهالك الصني من البترول سيصل إلى 400مليون طن عام .2015 وانطالقا من هذه الرؤية فإن السعودية قد تكون هي الدولة األكثر قدرة على تزويد الصني باحتياجاتها النفطية ملا تمتلكه من احتياطيات بترولية كبيرة، مما يعني أن التعاون بينهما سيحقق مصالح الطرفني املتمثلة في التكامل االقتصادي والتنمية املشتركة وأن هناك أهمية استراتيجية لهذا التعاون. وعلى هذا األساس أقامت الصني عالقة تعاون استراتيجي مع اململكة العربية السعودية بعد زيارة األمير عبد الله ولي العهد السعودي عام ،1998وبذلك أصبحت اململكة رابع دولة في العالم تقيم معها الصني مثل هذه العالقة بعد فرنسا ومصر وروسيا( .سرحان العتيبي ،العالقات السعودية الصينية، الواقع واملستقبل). وبحسب إحصاءات حديثة تعتبر الصني ثاني أكبر مصدر لواردات اململكة وخامس أكبر مستوردي املنتجات التصديرية السعودية .وفي عام 2008 وصل حجم التبادل التجاري بني السعودية والصني 76.1مليار ريال على خلفية ارتفاع حجم الصادرات النفطية واألسعار .وفي 2012وصل حجم التبادل بني البلدين إلى 240مليار ريال سعودي .وخالل العقد الذي أعقب تأسيس العالقات الدبلوماسية بني البلدين ،تعاظم حجم التبادل التجاري بينهما .فقد ارتفعت قيمة الصادرات الصينية إلى اململكة بنسبة 167في املائة من 1.66مليار ريال سعودي في عام 1990إلى 4.44مليار ريال سعودي في عام .2000وفي الفترة نفسها ،نمت الصادرات السعودية إلى الصني بنسبة 3.463في املائة من 158مليون ريال سعودي إلى 5.63مليار ريال سعودي. وأبرز الصادرات الصينية إلى اململكة هي املالبس واملنتجات امليكانيكية واإللكترونية وأجهزة التكييف واملنسوجات .أما أبرز وارداتها من اململكة، فهي النفط الخام والغاز الطبيعي املسال ولدائن البالستيك الخام. وفي الفترة ( )2008 - 2003زاد اإلقبال السعودي على املنتجات الصينية، ملنتجاتها في وهو ما انسجم مع رغبة الصني في الحصول على حصة ً السوق السعودية .وبني عامي 2002وّ ،2004 سجلت الصني ،مقارنة بباقي دول العالم ،أعلى ّ معدل نمو في قيمة صادراتها إلى اململكة ( 160في املائة)، ّ وإذا نظرنا إلى القفزة التي سجلتها قيمة الصادرات الصينية إلى اململكة خالل السنوات الثماني األخيرة ،فإن النتيجة مذهلة .ففي عام ،2000كانت قيمة هذه الصادرات 4.48مليار ريال سعودي لكنها بلغت في عام 2008 (طبقا للبيانات األولية) 40.13مليار ريال سعودي .وفي أبريل (نيسان) ،2006أعلن الرئيس الصيني ،هو جنتاو ،هدف بالده املتمثل ْ بأن تصل قيمة التبادالت التجارية الثنائية مع اململكة إلى 150مليار ريال سعودي بحلول
جون ألترمان
سألت ألترمان ما إذا كانت السعودية استفادت من عالقات الصني املعتمدة على مواردها النفطية في ممارسة ضغوط سياسية على سياساتها العامة تجاه الشرق األوسط .أجاب ألترمان« :ال يريد السعوديون استخدام نفوذهم كثيرا ،وذلك إلى حد ما بسبب عدم رغبتهم في ذلك .فهم يريدون أن يؤدوا دور املصرفي املوثوق به في سوق الطاقة العاملية وليس طرفا معاديا. وال يريدون أن يبحث الصينيون عن عالقات بديلة بدال من تعزيز العالقات بينهم» .ومن جانبها تحرص الصني على مساعدة السعوديني بمشروعات تجارية يمكنها االستثمار فيها ،بمعنى أنها تسعى إلى إقامة نوع من االعتماد االقتصادي املتبادل الذي يخفف من الخالفات السياسية بني البلدين.
السعودية والصني يعتقد ألترمان أنه على املدى البعيد ،سوف تؤثر نتيجة العالقات السعودية الصينية على االتجاهات األميركية في املنطقة أيضا .من جانب ،ال يجد ألترمان دليال قويا على أن واشنطن سوف تتدخل في أو تثبط العالقات السعودية الصينية .وعلى جانب آخر ،ربما تتأثر بصمة أميركا في الشرق األوسط بسبب عالقات الطاقة اآلسيوية املتنامية مع الخليج عموما ،وليس فقط الصني بل اليابان وكوريا الجنوبية والدول األخرى. ويوضح قائال« :عندما تركز الواليات املتحدة على آسيا بصورة
أكبر من الشرق األوسط ،ربما تبدأ أميركا في رؤية املنطقة العربية من منظور شركائها اآلسيويني ،وتصبح أكثر اهتماما بحماية التدفق الحر للطاقة وأقل اهتماما باستراتيجية الشرق األوسط التي «تركز على الشرق» التي كانت نمط السياسة األميركية ملدة تزيد على قرن ..سيكون علينا أن نفكر عمن سيحمي املمرات املائية ،وهل من املعقول توفير كل هذا التأمني مجانا بينما يحمل مستهلكون آخرون هائلون الطاقة مجانا على كتف أميركا». أما فيما يتعلق بالعالقات االقتصادية بني الواليات املتحدة والخليج، فقد تتسع بدال من أن تنكمش نتيجة لتزايد اعتماد الصينيني على النفط السعودي ،يفسر ألترمان ذلك قائال« :ربما ال نستورد النفط الشرق أوسطي بوسائل مباشرة في األعوام املقبلة بل بطرق غير مباشرة :عندما نشتري منتجات مصنعة في آسيا ،تكون مصنوعة بالطاقة الشرق أوسطية ،حينها نصبح مرتبطني بالشرق األوسط بطرق جديدة ،تكون غير متصلة بمخاوفنا التقليدية في منطقة الشرق ..في خالل عشر سنوات ،سوف نتحدث مع كوريا الجنوبية عن استراتيجية الشرق األوسط .أعتقد أن جميع االحتماالت تشير إلى ذلك». يبدو أن هذه اإلعادة للتخطيط تمثل تحديات سياسية وأمنية أمام الواليات املتحدة باإلضافة إلى السعودية .ولكن إذا قررت اململكة العربية السعودية وحلفاؤها في الخليج الضغط على الصني سياسيا في ضوء األزمات العديدة التي تعاني منها املنطقة اآلن ،فسوف تواجه بكني أزمات أكبر على املدى القريب واملتوسط <
,,
يعتقد ألترمان أنه على املدى البعيد سوف تؤثر نتيجة العالقات السعودية الصينية على االتجاهات األميركية في املنطقة
,,
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
39
تقرير
استقبلت وزارة الخارجية الصينية نبأ الهجوم بقذائف هاون على السفارة الصينية في دمشق في 30 سبتمبر(ايلول) املاضي املاضي بإعرابها عن «صدمتها» ،وذلك لكونها غير معتادة في العموم على وقوع تهديدات ضد منشآتها املادية في املنطقة العربية( .أسفر الهجوم عن مقتل مواطن سوري يعمل في السفارة ولم يصب أي صيني) .أكد الهجوم أن املواطنني الصينيني ليسوا محصنني من دائرة العنف التي تجتاح البالد في الوقت الحالي. وفي مباحثات صريحة مع بعض من نظرائهم في العواصم الغربية ،اعترف مسؤولون صينيون بأن الهجوم يشير إلى موجة أوسع من الغضب تجاه بكني في عدد من الدول العربية ،والذي يرجع إلى حد كبير إلى سياسات البالد تجاه ليبيا وسوريا على وجه التحديد.
ألترمان :بكني تعاني من ضعف نفوذها في الشرق األوسط
دور الصني املتوازن يف اخلليج بقلم: جوزيف براودي
,,
حاول الصينيون بجد وفعالية على مدار السنوات العشر األخيرة إقامة عالقات استراتيجية مع السعوديني
,,
لم تكن هذه التطورات مفاجئة بالنسبة لجون ألترمان ،مدير قسم الشرق األوسط وشمال أفريقيا في مركز الدراسات االستراتيجية والدولية،الذي الدراسة التي صدرت في أغسطس (آب) املاضي تحت عنوان «دور الصني املتوازن في الخليج». وفي مقابلة معه في مكتبه ،تحدث ألترمان عن العالقة الحقيقية بني احتياجات الدولة من الطاقة وسياستها الخارجية تجاه العالم النامي. في مطلع الثمانينات ،ألول مرة في تاريخها ،أصبحت الصني تستورد احتياجاتها من النفط بالكامل ،وعلى الرغم من محاوالت تعويض احتياجاتها من الطاقة بتصدير الفحم ،فإنها وجدت ذاتها في حاجة إلى إقامة عالقات استيراد مع الدول الثرية بالنفط التي كانت صلتها بها ضعيفة .كان العالم العربي ميدانا تعاني فيه الصني من عيب خطير هو ضعف النفوذ ،وخاصة إذا ما قورنت بخصمها االقتصادي الواليات املتحدة. في مرحلة مبكرة ،سعت الصني إلى تجنب الوقوع في صراع مع الواليات املتحدة في مجال واردات الطاقة .يقول ألترمان« :انظر حول العالم وسوف تجد مساعي صينية إلقامة عالقات ال يريدها الغرب، وخاصة الواليات املتحدة؛ وهي عالقات مع الدول التي تعاني من عدم تقدير قيمتها الحقيقية مثل جنوب السودان وإيران وعدة دول أفريقية .كانت هذه وسيلة للحصول على النفط بأسعار مخفضة من مناطق ال يذهب إليها آخرون .إنها أكبر حليفة استراتيجية لها في أوروبا وهي ألبانيا» .في هذه الدول ،تحاول بكني إقامة عالقات تكافلية من خالل العديد من مشروعات األعمال املحلية .يوضح ألترمان قائال« :ولكن عندما تنظر إلى جودة بعض هذه املشروعات تجد أن األموال التي تتبقى لدى االقتصاد املحلي ال تمثل ربحا .وأن مبالغ كثيرة للغاية من هذه األموال تعود إلى الصني .لهذا السبب ،على سبيل املثال ،لم يعد الصينيون على وجه التحديد يالقون ترحيبا في أنغوال».
استراتيجية تحوط في محاوالت تقارب الصني مع الدول العربية ،تعاونت الصني سابقا 38
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
مع بعض الدول املارقة مثل ليبيا تحت قيادة معمر القذافي ،ومع بعض الدول املستقرة الكبرى و أهم الشركاء االستراتيجيني للغرب ومصادر النفط الرئيسة في املنطقة ،وخاصة اململكة العربية السعودية .وكان ال بد أن يتضمن ذلك اتخاذ خيارات سياسية أيضا« ،وفي ليبيا تحديدا( ،أيد الصينيون) الحصان الخاسر مع تخصيص مليارات الدوالرات في تعاقدات مع ليبيا تحت حكم القذافي» .ورفضت بكني تأييد الحملة التي قادها حلف الناتو لإلطاحة بالقذافي ،وتجاهلتها الحكومة االنتقالية التي جاءت بعد ذلك. يقول ألترمان إنه في محاولة لالستفادة من درس التجربة الليبية، تبنت بكني «استراتيجية تحوط» في سوريا وسط الصراع األهلي املستمر في الدولة .من جانب ،كانت الصني معظم الوقت حليفة لسوريا في مجلس األمن،ونادرا ما اختلفت مع روسيا حليفة سوريا الرئيسة .ومن جانب آخر ،يكشف ألترمان أن بكني دعت عددا من قادة املعارضة إلى البالد وأقامت بدايات لعالقات معهم .وتستمر الصني في تبني موقف رسمي بالدعوة إلى حل للصراع عن طريق الحوار السلمي. ولكن تسبب غموض السياسات الصينية تجاه سوريا في خيبة أمل أصدقاء الثوار في املنطقة وخاصة السعودية .يعلق ألترمان: «حاول الصينيون بجد وفعالية على مدار السنوات العشر األخيرة إقامة عالقات استراتيجية مع السعوديني .وعلى الرغم من عدم خوفهم من أن الصينيني سوف يتسببون في عزلتهم فإنهم قلقون من أن األمور قد ال تسير بسالسة أو أنهم قد ال يحصلون على كل ما يريدون» .يضيف ألترمان أنه على الرغم من إثارة الغربيني ملخاوفهم بشأن عالقات الصني مع إيران فإن الصني تستورد من السعودية 20في املائة من نفطها .وعلى الرغم من التوترات الحالية بني السعودية والواليات املتحدة بسبب ما يحدث في سوريا ومصر والصراعات األخرى املشتعلة في املنطقة ،فإن «التنسيق بني الصينيني والسعوديني ال يصل إلى مستوى التنسيق بني السعودية والواليات املتحدة ،وال سيما في القضايا األمنية» .كذلك ليس من املرجح أن يتغير هذا الوضع في السنوات العشر املقبلة، في ظل تردد الصني في التوسع في التزاماتها بعيدا عن املحيط الهادي.
وصف مفتي جمهورية مصر علي جمعة بأنه «عبد للسلطة والعسكر»، ألنه انحاز لصف من انقلبوا على «الرئيس الشرعي» وباعوا دينهم من أجل أرضاء السيسي ،حسب قوله.
لرئيس االتحاد العاملي لعلماء املسلمني ،بعد أن اصطبغ االتحاد بشخصية القرضاوي وانغمس في الصراعات السياسية الخاصة بجماعة اإلخوان املسلمني.
ويختتم املشهد فصوله سريعا ،فبحكم «اإلخوان» الذي لم يدم سوى عام الشيخ والحركة ..وسر العالقة
واحد ،انقلب حال القرضاوي ،من خطيب تهتف باسمه الجموع في ميدان التحرير ،يؤم املصلني والثوار ،إلى رجل ممنوع اليوم من دخول مصر، مطلوب لالعتقال ،وفقا ألمر النائب العام الذي وضعه على لوائح «ترقب الوصول» على خلفية بالغات تتهمه بالتحريض على قتل متظاهرين في أحداث مختلفة. املتتبع ملسيرة القرضاوي يجد أنه يفقد عن طوره ،ويغضب ويحتد حني يتعلق األمر بجماعة اإلخوان املسلمني على الرغم من أنه يؤكد انتهاء عالقته التنظيمية بها ،فمن أحداث خلية «اإلخوان» في اإلمارات التي هاجم فيها القرضاوي حكام اإلمارات ملوقفها القانوني الحازم منهم ،إلى ما جرى أخيرا ومهاجمته لكل من وقف أو ساند الثورة ضد الرئيس املعزول محمد مرسي، في مشهد تخلى فيه القرضاوي عن كل أبجديات املناورة السياسية التي كان يستخدمها ،فارتدت لهبها عليه فأحرقت تاريخه وعزلته في خانة بات فيها مذموما مكروها ليس من السلطة وال النظام ،بل من جموع شعب كانوا يستمعون لخطبه ومواعظه وتفاجأوا به اليوم اكتفى أن يكون سيفا مصلتا من أجل جماعة صغيرة انتهى دورها وسقطت في الفشل. يختصر الصورة املمثل املصري حسن يوسف الذي صرح لصحيفة «الوفد» ،وقال «إن القرضاوي الذي أعرفه قد توفاه الله من زمان ،فهو ليس القرضاوي الذي أشاهده اليوم وهو يتهجم على الجيش املصري» .ربما تكون هذه األيام هي األشد على القرضاوي في بلده التي باتت ال ترحب به ،وتتبرم منه في صفحات إعالمها ،حتى اشتكت قناة «الجزيرة» وكتبت عبر موقعها خبرا «حملة متواصلة ضد القرضاوي في اإلعالم املصري.. واتهامات متواصلة بالخيانة العظمى ،والتحريض على قتل املتظاهرين». هكذا كان املشهد بسيطا رغم تعقيداته في املاضي ،فالفشل الذريع لجماعة اإلخوان املسلمني عصف بالقرضاوي أيضا ،واتضح ببساطة أنه رغم كل القصص التي تروى عن عامليته واستقالله قد أصبح أداة صغيرة في ماكينة «اإلخوان» ،تلك املاكينة التي صنعت ونفخت من هالته ،واستطعت أن ترسم صورته ووجوهه املتعددة ،ولذلك لم يستطع أن يخرج منها حتى وهو تعصف به وتمزق تاريخه وإرثه وسمعته .ويبدو أن السامر بدأ ينفض من حوله ،حيث نأى أخيرا الشيخ املوريتاني عبد الله بن بيه عن موقعه كنائب
الشيخ األزهري يوسف مصطفى القرضاوي (ابن القرية والكتاب) كما يصف نفسه في كتابه الذي حوى مذكراته وسيرته ولد في قرية صفت تراب مركز املحلة الكبرى ،محافظة الغربية ،في سبتمبر (أيلول) .1926 ومن كلية أصول الدين بجامعة األزهر عام 1953حصل على العالية ،ووضع العمامة األزهرية. في شبابه املبكر انتمى القرضاوي إلى جماعة اإلخوان املسلمني ،وكان أحد أهم وأبرز الوجوه بها ،تعرض للسجن عدة مرات ،فسجن ألول مرة عام 1949خالل العهد امللكي بمصر ،كما جرى اعتقاله ثالث مرات خالل عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لنفس السبب ،قبل أن يجد طريقة فيهرب إلى دولة قطر مطلع الستينات ،وهناك بدأت مرحلة أخرى من حياته ،حصل معها على الجنسية القطرية ،وبدأ في تأسيس الوجود اإلخواني في الخليج الذي أصبح له موردا وموجها وقائدا .تروي بعض املصادر القريبة من القرضاوي ،أن «منصب املرشد العام للجماعة قد عرض عليه وألكثر من مرة ،لكنه رفض ،لكونه يعتبر نفسه ملكا للمسلمني جميعا ،وال يريد أن يقصر نفسه على حزب أو جماعة ،كما أنه ال يحب تقلد املناصب ،واستمر يحضر لقاءات التنظيم العاملي لإلخوان املسلمني كممثل لفرع الجماعة في قطر ،إلى أن طلب إعفاءه من العمل التنظيمي في الجماعة». ورغم كل االدعاء بأن القرضاوي قد تخلى عن العمل التنظيمي في جماعة اإلخوان املسلمني ،فإن الباحث املصري حسام تمام في دراسة له بعنوان «القرضاوي واإلخوان ..قراءة في جدلية الشيخ والحركة» عام ،2008يقول في مطلعها« :القرضاوي هو ابن خالص لحركة اإلخوان املسلمني ،فلم يعرف عنه انتماء حركي أو فكري لغير جماعة اإلخوان ومدرستها ،كما لم يعرف له خروج صريح منها أو عنها .وقد عرف القرضاوي بحركة اإلخوان ربما بالقدر الذي عرفت به ،وارتبطا معا في كل مراحل العمر كأنك تقرأ تاريخها حني تقرأ مذكراته التي صدرت في ثالثة أجزاء؛ وكأنه يكتب عن نفسه حني يؤرخ للجماعة في كتابه (اإلخوان املسلمون سبعون عاما في الدعوة والتربية) .يقترب عمر القرضاوي من عمر اإلخوان ،وتاريخه يكاد يتطابق مع الفترة األبرز في تاريخ اإلخوان» <
الشيخ يوسف القرضاوي
,,
انتمى القرضاوي لجماعة اإلخوان املسلمني في سن مبكرة.. عرض عليه منصب املرشد العام لكنه رفض مفضال أن يكون ممثال لإلخوان في قطر
,,
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
37
قصة الغالف
هكذا أصبح املشهد بسيطا رغم تعقيداته في املاضي ،فالفشل الذريع لجماعة اإلخوان املسلمني عصف بالقرضاوي أيضا ،واتضح ببساطة أنه رغم كل القصص التي تروى عن عامليته واستقالله فإنه أصبح أداة صغيرة في ماكينة «اإلخوان» ،تلك املاكينة التي صنعت هالته ،واستطاعت أن ترسم صورته ووجوهه املتعددة ،ولذلك لم يستطع أن يخرج منها حتى وهي تغرقه وتمزق تاريخه وإرثه وسمعته.
يوسف القرضاوي ..وجوه متعددة لنتيجة واحدة
الشيخ واحلركة بقلم: عبد الله االرشيد
,,
سعى القرضاوي إلى تقديم نفسه في صورة مرجعية شاملة لإلسالم السني على غرار املرجعيات الشيعية
,,
حني بلغ الشيخ يوسف القرضاوي السبعني من عمره قرر الدكتور علي املحمدي عميد كلية الشريعة بجامعة قطر سابقا أن يكرم الشيخ القرضاوي ،فكان ذلك عبر إعداد كتاب ضخم بعنوان «يوسف القرضاوي ..كلمات في تكريمه وبحوث في فكره وفقهه»، جمع الكتاب بحوث ودراسات مجموعة كبيرة من قيادات الحركة اإلسالمية في العالم ،وفيه قدم القرضاوي كنموذج للتيسير واالعتدال املوجه للحركة اإلسالمية ،املستقل الذي ال ينتمي ألي تيار أو تنظيم ،وإنما يعمل لصالح األمة كلها. الكتاب الذي صدر في 2003يقع في 1068صفحة ،حوى مقاالت ودراسات ألبو الحسن الندوي ،ومحمد الغزالي ،وحسن الترابي ،ومصطفى الزرقا، وعبد الفتاح أبو غدة ،كلها حول القرضاوي ،ووصفه املستشار السعودي عبد الله العقيل ،في مقالة له عنوانها «القرضاوي ،فقيه العصر ..رجل املرحلة» ،وفيها يقول« :الشيخ القرضاوي عالم مجتهد ،وداعية مصلح، وخطيب مفوه ،وشاعر مفلق ،بل هو مجدد العصر ونابغته ،وله الفضل بعد الله في هذا البعث اإلسالمي والصحوة اإلسالمية الوسطية والتيار اإلسالمي الذي يعم العالم خيره». تمثل هذه الحقبة العصر الذهبي الذي استطاع من خالله القرضاوي التمدد والتوسع ،وصنع اسم كبير لشعبيته التي امتدت على مستوى العالم اإلسالمي ،إلى درجة أصبح يوصف معها في كل تعريف به بأنه «أحد أبرز علماء السنة في العصر الحديث» تسانده في ذلك العدد الكبير من املؤلفات التي أصدرها ،حيث يلحظ بوضوح أنها تتدخل في مواضيع كثيرة ،ما بني الفقه ،والوعظ ،والتوجيه االجتماعي ،وترشيد الصحوة اإلسالمية، وفقه األقليات املسلمة ،بل والشعر واألدب والتاريخ ،في صورة تتعمد رسم الوجوه املتعددة للقرضاوي التي تسعى إلى تأكيد مرجعيته الشاملة في شتى املجاالت.
«الوسطية» كأداة للتسويق ال يغفل كثيرون الدور الكبير الذي لعبته قناة الجزيرة ،وبرنامج «الشريعة والحياة» في تقديم هذه الشخصية التي اعتمدت على مزج خليط من الفقه املعتدل ،والتنظير الديني للقضايا السياسية ،والصوت املمتد للتحاور مع الطوائف األخرى .أصبح كتاب القرضاوي «الحالل والحرام في اإلسالم» الذي صدر عام 1959دستورا معتمدا للفقه التيسيري ،بل وأكثر من ذلك يصرح القرضاوي في أكثر من محفل بأنه يخفي كثيرا من مواقفه وفتاواه املعتدلة خوفا من أن يسبب ذلك تشويشا على عامة املسلمني. استمرت الحملة التسويقية تعمل على كل األصعدة ،تحركها وتغذيها
36
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
مكينة التنظيم العاملي لإلخوان املسلمني التي تقدمه كرمز عام للمسلمني، وهو يظهر في العلن كشخص مستقل ال يمانع بني الفينة واألخرى في أن يقدم انتقادات ومالحظات على منهج «اإلخوان» حتى يضفي على منهجه مسحة االستقالل. أجدت الحملة التسويقية نفعا ،وأصبح اسما ال يغيب بحضوره أو بقضيته عن كل املحافل واملؤتمرات اإلسالمية ،الفقيه الناطق باسم «أهل السنة» وربما املمثل األبرز لهم ،وتتويجا لذلك جاء تأسيس «االتحاد العاملي لعلماء املسلمني» الذي يترأسه ،كتنظيم مقنن لهذا الحضور ،الذي يسعى إلى أن يوازي به املرجعيات الدينية ،سواء داخل الدائرة اإلسالمية كاملرجعيات الشيعية ،أو كمرجعية الفاتيكان وشخصية البابا في املسيحية. هذه الحملة املتواصلة من صناعة وتسويق رمز متكامل ..أثمرت ،حصل على الكثير من الجوائز ،من بينها جائزة العطاء العلمي املتميز من رئيس الجامعة اإلسالمية العاملية بماليزيا لعام ،1996وجائزة السلطان بروناي في الفقه اإلسالمي لعام ،1997وجائزة سلطان العويس في اإلنجاز الثقافي والعلمي لسنة ،1999وجائزة دبي للقرآن الكريم فرع شخصية العام اإلسالمية ،باإلضافة إلى جائزة الدولة التقديرية للدراسات اإلسالمية من دولة قطر لعام .2008 وفي ذات العام ،احتل القرضاوي املرتبة الثالثة بعد املفكر التركي فتح الله كولن ،والعالم البنغالي بمجال االقتصاد ،محمد يونس ضمن أبرز املفكرين على مستوى العالم في قائمة عشرين شخصية أكثر تأثيرا على مستوى العالم لعام ،2008في استطالع دولي أجرته مجلتا «فورين بولسي» األميركية ،و«بروسبكت» البريطانية على التوالي.
ثمن لحظة الربيع العربي وحني جاءت لحظة الربيع العربي ،تلك اللحظة املناسبة لتحقيق نتائج هذه الصناعة املتواصلة ،كانت املرحلة املرتبكة املضطربة الفاصلة في حياة القرضاوي ،التي شهدت على مدى ثالث سنوات صعودا كبيرا ،وانتكاسة أكبر ،فحني عاد إلى القاهرة التي هرب منها منفيا مستوطنا قطر ،وقام يخطب في ميدان التحرير 2011محييا الثوار ،ومهلال باالنتصار ،بدأ مؤشر الخطاب يكشف عن صراحته ،ويتخلى عن أوهام استقالله ،فقال إن «جماعة اإلخوان املسلمني هي أفضل الجماعات اإلسالمية املوجودة اليوم» ،وحني تقدم مرشح «اإلخوان» الدكتور محمد مرسي للرئاسة أفتى القرضاوي بأن التصويت له واجب ،واستمر بصراحة حان وقت قطافها بعد سنني من التحضير واإلعداد قائال وموجها حديثه ضد الذين تمردوا على محمد مرسي واصفا إياهم بأنهم «خوارج» ،وأثار ضجة كبيرة حني
«املجتهد» .القرضاوي بتلك الرعاية الخليجية املبكرة بات مشروعا مستقال يراد له أن يكون رمزا للمرجعية السنية في مقابل املرجعيات الشيعية ،أو بابا املسلمني في مقابل بابا الفاتيكان ،وتدعم جماعات اإلسالم السياسي هذا التوجه بقوة إلى الدرجة التي يصبح معها مجرد التعرض للقرضاوي نقديا جريمة ال تغتفر ،والسؤال :هل بلغ القرضاوي هذا الهدف الذي يحاول «اإلخوان» بمباركة قطرية الوصول إليه؟ اإلجابة ببساطة ال ،وال يمكن ذلك في املدى املنظور ،إذا ما أخذنا في االعتبار أن «اإلخوان» تحولوا إلى نخب سياسية هرمة منفصلة تماما عن القواعد الشعبية لها التي طالها الكثير من التحوالت ،هذا إذا ما تجاوزنا عن أن بطاقة مرور القرضاوي نحو شرعية فقيه األمة تصطدم بعالقته السلبية جدا باألزهر كمؤسسة وكشيوخ ،وربما كانت تصريحاته تجاه األزهر وشيخه ،إضافة إلى عدد من املواقف والفتاوى ذات املنزع السياسي التي تخالف رؤية األزهر ،سببا في عدم قدرته على كسب ثقة مؤسسة عريقة كاألزهر .على مستوى الحالة السلفية بتمثالتها املختلفة: السلفية العلمية والجهادية واإلصالحية ،وحتى السلفية السياسية التي تمثلها مجموعات سلفية أعادت النظر في مشروع الديمقراطية واملشاركة السياسية ،وأفرزت خطابا سلفيا سياسيا غير تقليدي ،كل هذه التمثالت ترفض منح القرضاوي بطاقة العبور الرمزية للحديث باسم األمة.
شخصية تلفيقية التيارات السلفية أيضا ال تعترف بالعقل الفقهي القرضاوي رغم تسامحه وفتاواه التي تنشر لدى طبقات االنتلجينسيا الدينية ،وهم مزيج متنوع يرى في تسامح القرضاوي الفقهي مخرجا من أزمة الوقوع في املحظور الديني ،غير مكترثني كثيرا لخطه السياسي ،لكن التيارات السلفية ترى أن شخصية القرضاوي الفقهية هي تلفيقية بامتياز ،تقوم على تقديم تنازالت اجتماعية لكسب أكبر شريحة من املتابعني في مقابل آراء سياسية متصلبة وذات منزع ثوري يصل أحيانا إلى حد االفتعال ،في كل مؤلفات القرضاوي الفقهية حتى كتابه «فقه الجهاد» الذي شرق وغرب ،ال تجد مسالك الفقهاء الكبار كالشيخ أبو زهرة والطاهر بن عاشور ،وحتى مشايخ معاصرين كاأللباني أو حتى الفقيه الزاهد الشيخ عبد الله بن بيه، فهذا الكتاب يتوسل نتائج متسامحة بأدوات فقيرة من الناحية العلمية.
العقل السياسي للقرضاوي العقل السياسي للقرضاوي على النقيض تماما من العقل الفقهي املتسامح ،أقرب ما يكون إلى النص املغلق الذي ال يعكس اآلراء املتسامحة فقهيا للشيخ ،وهذا التناقض بني الشخصية السياسية والفقهية لم يكن نتاج الشيخ وحده ،بل هو عالمة فارقة ومسجلة لـ«اإلخوان» يمكن تتبع جذورها األولية في شخص املؤسس حسن البنا ،لكن خصائص العقل القرضاوي السياسي الجديد تكمن في قدرته على الجمع بني املتناقضات، على مستوى النظرية واملمارسة .كلنا يتذكر على سبيل املثال موقفه الصارم من زيارة القدس بحجة التطبيع ،وهي في العمق موقف متحيز تجاه حماس وضد فتح ،وكالمه عن املؤامرات الصهيونية يشعر متابعه بأنه يقيم في غزة .لم تكن خيارات القرضاوي السياسية جديدة كما تعكس ردة الفعل الصاخبة على موقفه األخير من دولة اإلمارات ،بل سبق أن طالب على الهواء مباشرة باالغتيال السياسي وتحمل التبعات ،كما في حديث القرضاوي عن القذافي ،وهو أمر خطير جدا يرتقي إلى مصاف التحريض املباشر الذي يعد جريمة جنائية مكتملة الشروط ،لكن فظائع وجرائم القذافي كانت الوحل الذي غرق فيه تحريض القرضاوي الذي تجاوز التدخل السيادي إلى إصدار فرمانات اإلعدام على الهواء مباشرة من برنامج يفترض أنه يناقش «الشريعة والحياة». اندفاع القرضاوي وراء اإليقاع السياسي لجماعات اإلسالم السياسي
وعلى رأسها «اإلخوان املسلمون» أوقعه في أخطاء استراتيجية بل كارثية على املستوى طويل األمد ،مثل الهجوم على دولة كاإلمارات تحظى بصورة إيجابية جدا في الشارع العربي ،سواء في حيادها السياسي أو نجاحاتها التنموية ،ويتعاظم حجم وكلفة هذا الخيار املتسرع إذا ما قورن بانحياز الشيخ الكامل لحماس على حساب باقي فصائل املقاومة الفلسطينية، حماس التي تعاني تراجعا حادا في شعبيتها لدى النخب والشارع العربي. صحيح جدا أن محبي القرضاوي يحمدون له موقفه األخير من التمدد الشيعي ،لكنهم يقفزون على حقيقة أثبتتها مواقف القرضاوي من امللف ذاته منذ بداياته والتي تطرح تساؤالت هامة حول براغماتية موقفه بناء على معطيات جديدة على األرض تتمثل في تضارب املصالح بني الهالل الشيعي والهالل اإلخواني ،وليس كما يراه داعموه بخلفيات طائفية.
البراغماتية السياسية البراغماتية السياسية في ممارسة الشيخ القرضاوي ليست منحصرة في مواقفه األخيرة ما بعد ما سمي بالربيع العربي والتي قد تبدو متفهمة حيث انتقلت اإلسالم السياسي بجماعاته ومنظريه ومفكريه من ضفة «املعارضة» والضحية ،إلى منصة الحاكم بأمر الله ،بل على العكس لتلك البراغماتية والذرائعية السياسية بمنطق ديني لها نظائر كثيرة من أبرزها التفريق بني حدود املطالبة بني مجتمع وآخر ،بل بني دولة رغم أنها متماثلة ،فالقرضاوي في رئاسته للمجلس األوروبي لإلفتاء والبحوث يرى ضرورة أن يحترم املسلمون قوانني البالد التي يقيمون فيها ،لكن هذا يتناقض مع الرؤية التقليدية الشمولية للقرضاوي حول مسألة تحكيم الشريعة والقوانني ،يقول« :إذا كان الله قد حكم على أهل الكتاب بالكفر أو بالظلم أو بالفسق ألنهم لم يحكموا التوراة واإلنجيل فهل يكون من ترك القرآن ولم يحكم بما أنزل الله أقل إثما من هؤالء؟» ،لكن هذا التناقض يمكن فهمه إذا ما أدركنا أن صاحب النص األول هو القرضاوي السياسي ،بينما صاحب الفتوى هو القرضاوي العقائدي .والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق ما الذي يجعل من فقيه متسامح أن يقوم من خالل منبر الجمعة بالدعوة إلى اغتيال القذافي أو الدعوة للقتال والنفير في سوريا أو التحرك املضاد لالستقرار في مصر والوقوف ضد العسكر وتجريمهم؟ أعتقد أن ثمة عوامل كثيرة ومعقدة لفهم هذا السلوك الثوري ،لكن يترشح في األساس عامل داخلي يتصل بطبيعة فهم القيادات الدينية لدورها ،ويتمثل ذلك في عدم رغبة «اإلخوان» ودعاة اإلسالم السياسي في فقدان الشرعية الدينية بعد أن اهتزت شرعيتهم السياسية كثيرا ،ال سيما أن املنافس في سباق الشرعية الدينية أقوى بمراحل منهم وهم السلفيون وبقايا تيارات الجهاد والجماعة اإلسالمية في مصر ومجموعات السلفية الجهادية في باقي الدول ،بينما ينافسهم في الشرعية السياسية <
القرضاوي يتسلم هدية تذكارية من بعض الحاخامات اليهود في 30ابريل 2008
,,
يحاول القرضاوي جاهدا إبقاء نفسه كمرجعية سنية تعتمد على الحشد وتكتيك «التجميع» األثير لدى جماعات اإلسالم السياسي
,,
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
35
قصة الغالف
يبدو أن لعنات اإلمام محمد عبده لـ«ساس ويسوس» وكل ما اشتق من السياسة ،عبرت عن نبوءة استباقية لنهاية عصر الفقيه املجدد الذي ال يتلوث بطني السياسة وأالعيبها ومنطقها الذرائعي واملتحول ،وبداية عصر «رجل الدين» الذي يتوسل السياسة ويتمثلها ،حيث بات من الصعب اآلن فصل املواقف السياسة املتحركة في عالم املرجعيات الدينية الذي تجاوز طرح رؤى شرعية تجاه املستجدات إلى االنغماس في وحل املوقف السياسي اليومي ،بل والتحول إلى منصة تحريض آيديولوجي دون مباالة في ظل األوضاع املتردية في هذا الجزء من العالم بتبعات هذه التوجهات االنقالبية التي أطلت برأسها مع أول فرصة ربيع لحريات سياسية جرت صناعاتها خارج مطبخ «اإلسالم السياسي» الذي ظل منذ النكسة «نجم» املشهد السياسي العربي.
القرضاوي ..الفقيه الوادع أم السياسي الراديكالي؟
ازدواجية وتلفيق بقلم: يوسف الديني
,,
العقل السياسي للقرضاوي على النقيض تماما من عقله الفقهي املتسامح، أقرب ما يكون إلى النص املغلق
,,
يحاول القرضاوي جاهدا إبقاء نفسه مرجعية سنية تعتمد على الحشد وتكنيك «التجميع» األثير لدى جماعات اإلسالم السياسي رغم تراجع دور االتحاد العاملي الذي يرأسه والذي كان يهدف إلى سحب البساط من املؤسسات الدينية العريقة التي يتهمها باالنحياز إلى السلطة ،كاألزهر ،ويرشق الحكومة االنتقالية املصرية بسهام اإلدانة على خلفية سياسية .وبإزاء هيمنة القرضاوي على اتحاد علماء املسلمني جاءت املفاجئة بانسحاب العالمة الفقيه الكبير واملقدر في األوساط السلفية بسبب متانته العلمية الشيخ عبد الله بن بيه من االتحاد ،معلال ذلك بأن «سبيل اإلصالح واملصالحة يقتضي خطابا ال يتالءم مع موقعي في االتحاد» ،وهو ما يعني بعبارة أخرى خروج االتحاد من األهداف اإلصالحية إلى خطاب سياسي أحادي االتجاه. لم تقف أخطاء القرضاوي السياسية عند ملف «الربيع العربي» التي واجهت انتقادات عدة حتى من املقربني من الشيخ ،بل استمر الشيخ في استدعاء تصلبه السياسي ودعمه لخيار «اإلخوان» حتى بعد السقوط املدوي في مصر والتراجع الكبير في تونس ومواقع أخرى .الشيخ هذه املرة أطل من النافذة السودانية وتعامل مع االحتجاجات املتنامية في صفوف الناقمني على حكم البشير الذي تعاظم نقده في الداخل بعد تراجع وأفول آيديولوجية اإلسالم السياسي بازدواجية غريبة ،معتبرا أن ما يحدث احتجاج جماهيري يزول بالحوار وتجنب العنف وليس االحتكام للعملية االنتخابية! في وقت انقسم فيه السودان وذهب نصفه وتحالفت كل القوى السياسية ضد حكم البشير ،ولم يتركب املحتجون أي أعمال عنفية كالتي يقوم بها حلفاء الشيخ في مصر بعد سقوطهم؛ من حرق الكنائس وتعذيب املوالني للحكومة والتنكيل بهم.
شخصية محيرة الدكتور يوسف القرضاوي الفقيه املتسامح األبرز منذ عقود والذي ساهم في قلب بنية الهرم السلفي الحركي بفتاوى وآراء متسامحة فقهية في وقت كانت فيه الفجوة بني الفقهاء التقليديني وإيقاع العصر تزداد اتساعا، متيحة املسرح لصعود فئات دينية أقل حضورا وتأثيرا من الدعاة ونجوم الفضائيات ورموز جماعات اإلسالم السياسي القادمني من خلفيات غير شرعية. شخصية الدكتور الشيخ القرضاوي محيرة جدلية على أكثر من مستوى،
34
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
بدءا بالتحوالت التي خاضها في حياته ،وهذا ما يفسر حجم الرأسمال الثقافي الذي خلقه القرضاوي لنفسه منذ أن مارس دور تجسير العالقة بني العلماء والفقهاء التقليديني وبني جماعات اإلسالم السياسي. نجح القرضاوي جدا في تلك املرحلة املبكرة من حضوره وعبر بوابة التسامح الفقهي من «شرعنة» الحالة اإلخوانية في تمثالتها للسلطة ،بدءا بتجربة الجماعة األم ،ومرورا بتجربة حماس والسودان ،ووصوال إلى املوقف من الثورات التي تعامل معها الدكتور ببراغماتية سياسية تجاوزت كل األطر والحدود بني ما هو ديني وسياسي في شخصية الدكتور الذي يعد مثاال جيدا يستحق الدراسة في ازدواجية الديني والسياسي. أزمة القرضاوية السياسية تبدأ في الفارق الكبير بني األداء السياسي وبني الرؤية الفكرية ،أو بمعنى آخر تحويره كل ما هو سياسي إلى عقائدي، بحيث يصبح الخالف معه واالختالف أزمة غالبا ما يجري تصويرها بشكل تراجيدي ،ال سيما أن الجميع يتكئ على تراث الشيخ الفقهي املتسامح ،وكيف أنه شكل لكثيرين بديال آمنا عن التيارات املتشددة التي ال يمكن آلرائها الفقهية واالجتماعية أن تأخذ طابعا عامليا كما هو الحال مع القرضاوي وفتاواه املتسامحة ،ال سيما تلك التي تخص املسلمني في املهجر ،وهي حالة ليست جديدة أبدا ،ليس فقط على مستوى العصر الحديث ونشأة الحركات اإلسالمية على أنقاض النكسة العربية ،بل حتى على مستوى التاريخ اإلسالمي الذي زخر بنماذج فقهية متسامحة ثائرة على املستوى السياسي أو العقائدي ،وربما كان اإلمام أبو حنيفة واملحدث صالح بن حي في آخرين نماذج على هذه املفارقة .البناء الفقهي للدكتور القرضاوي هو الذي قدمه بامتياز للمشهد الديني ،وقد كتب عنها الكثير من املؤلفات (رصد كتاب «دليل الباحثني إلى القرضاوي» ملحمد املختار الشنقيطي 161كتابا 151بحثا 160 ،خطبة 671 ،فتوى ،كما كتبت عشرات الرسائل الجامعية عن الشيخ ،وأكثر من 45مؤلفا عنه، عدا مؤتمرات كثيرة أغلبها برعاية مركز القرضاوي للوسطية في قطر).
تقديم احتفائي هذا التقديم االحتفائي للقرضاوي في طوره الخليجي بعد أن باتت عباءة «اإلخوان» ضيقة يطرح السؤال عن استقطاب تأثيره ودوره السياسي أكثر من تفوقه العلمي والفقهي على مجايليه من علماء املنطقة األكثر تميزا بمعايير التحصيل الشرعي مما يدخل في تسمية وشروط ومواصفات
الشيخ القرضاوي والشيخ راشد الغنوشي في تونس
الفصل التشريعي إقرار التعديالت الدستورية التي كان هدفها تمكني نجل الرئيس األسبق من الوصول إلى السلطة بتعديل املادة 76من دستور ،1971وكانت القشة التي قصمت ظهر نظام مبارك بثورة شعبية أزاحته عن السلطة وذهبت به إلى غياهب السجون ،ولعل ما حدث أثناء ثورة الخامس والعشرين من يناير من قبول جماعة اإلخوان املسلمني للجلوس مع نائب رئيس الجمهورية األسبق آنذاك «عمر سليمان» يؤكد سياسة «اإلخوان» في توظيف األحداث واستغاللها بما يصب في مصلحتهم فحسب ،وكذلك ما حدث بعد حصول الجماعة على مقعد الرئاسة ونقض العهود كافة التي قطعتها الجماعة على نفسها مع مختلف القوى السياسية .رابعا :إضافة إلى كل ما سبق ،يظل من املدهش جدا أن يتحول الشيخ يوسف القرضاوي من مفكر إسالمي إلى داع مباشر ،بل ومحوري في إثارة القالقل والفنت داخل بعض البلدان العربية ،فحينما يدعو الجيش املصري لعدم طاعة أوامر قياداته أو يفتي باستمرار املظاهرات التي تؤدى إلى وقوع املزيد من سفك الدماء ،إلى غيرها من هذه الفتاوى ،دفاعا عن موقف الجماعة ورئيسها بسبب األحداث التي شهدتها مصر في الثالثني من يونيو - بغض الطرف عن تقييم مثل هذه األحداث ومالبساتها وتباين وجهات النظر بشأنها -فهو يدعو إلى تمزيق األمة وتقطيع أوصالها وصب الزيت على رماد النفور وحالة عدم الثقة بني املسلمني وسفك الدماء وانتهاك األعراض واستباحة الذمم والدعوة للكراهية.
القرضاوي واألزهر الشريف وهنا تكمن املشكلة في أن تأتي مثل هذه الدعوات من رجل في مقام الشيخ القرضاوي الذي من املفترض أن يمثل العقل الراجح والرأي السديد لجماعة اإلخوان ،فكيف تخرج مثل هذه الفتاوى من رجل ديني له وزنه العلمي والديني ،فلو صدرت مثل هذه الفتاوى من رجل دين عادي أو من أحد دعاة التكفير فلن يلتفت إليها أحد .بل أكثر من ذلك تظل خطورة مثل هذه الفتاوى فيما يتعلق بمواقف املؤسسات الدينية الكبرى وفي مقدمتها األزهر الشريف برجاله وعلمائه ،فالجميع يعلم أنه على مر التاريخ اإلسالمي وجد
من حكام العرب من كان ظاملا ووجد من علماء املسلمني الذين يعترف لهم اإلسالم بالجرأة والقدرة على املجابهة من لم يكفره ألنه من املعلوم شرعا أن التكفير يلزمه شروط وانتفاء وموانع، ومن بينها على األقل إقامة الحجة الكافية والواضحة على أن هذا الحاكم قد نطق أو باشر كفرا ،أما بقية األفعال والتصرفات األخرى التي يأتيها الحاكم بمناسبة ممارسة مهام السلطة ،فهي تدخل في باب املمارسات العادية التي يحاكم عليها ،سواء من خالل صناديق االقتراع أو طبقا للدستور أو القانون املعمول به في كل بلد عربي. ملخص القول أن ما تواجهه جماعة اإلخوان املسلمني اليوم من تحديات جسام تتطلب أن يعالجها رجال على قدر من االتزان الفكري واالستنارة املعرفية والراجحة العقلية ،فهي لحظات فاصلة وخطيرة في حياة الجماعة وحاضرها ومستقبلها. فاالرتكان إلى مثل هذه الفتاوى واآلراء التي ال تسمن وال تغني من جوع لن تزيد الجماعة إال تراجعا وخسارة لرصيد امتد على مدار ثمانني عاما .وقديما قالوا إن التخطيط قبل الفعل تنظيم، والتخطيط بعد الفعل تبرير ،وما تمارسه الجماعة اليوم هو من قبيل التبرير لكل األخطاء والخطايا التي ارتكبتها خالل العامني املاضيني ،فربما يكون للجماعة أخطاء على مدار األعوام السابقة، إال أن الضوء لم يسلط عليها لطبيعة موقعها بعيدا عن السلطة واملسؤولية ،وهذا ما لم تفطن إليه الجماعة ومنظرها األول الشيخ يوسف القرضاوي من أن خطابات وسياسات املعارضة ال تصلح كلية إلدارة شؤون البالد إذا ما تولت هذه القوى مقاليد الحكم ،وهذا هو دور املنظرين واملفكرين ألي تنظيم أو تجمع في تصحيح املسار إذا ما انحرف وتوجيه الدفة إذا ما ضلت السفينة الطريق .ولذا ،فعلى الجماعة إن أرادت أن تستكمل وجودها في املجتمع أن تقوم بالدراسة والتأمل والتحقيق؛ للوقوف على خلفيات مواقف منظرها األول (القرضاوي) وحيثياتها وتبعاتها؛ للحد من خطورتها وتحجيم آثارها ،فمن غير املنطقي أن يبدي الشيخ رأيه وفتواه في كل مناحي الحياة ومجاالتها وكأنه أوتي جوامع الكلم ،فهل هذا صحيح؟<
رئيس املكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل يقبل رأس رئيس االتحاد العاملي لعلماء املسلمني يوسف القرضاوي
,,
مع الدخول في عصر العوملة واالنفتاح على اآلخر حاول الشيخ أن يقدم فكرا وإجابات عن أسئلة اللحظة من خالل بعض الكتابات ،منها: «املسلمون والعوملة»
,,
* كاتب بصحيفة األهرام املصرية وكيل لجنة الثقافة واإلعالم في مجلس الشورى سابقا رئيس وحدة األقليات في مركز الحوار للدراسات السياسية (القاهرة)
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
33
شؤون سياسية
القرضاوي يتوسط املرشد االسبق محمد مهدي عاكف ومرشد عام االخوان السابق محمد بديع
,,
رغم انتماء القرضاوي إلى جماعة اإلخوان املسلمني فإن بعضا من آرائه كانت تهاجم قيادات الجماعة كما حدث في موقفه من سيد قطب
,,
32
ثالثني سنة ،إن لم نقل ستني سنة ،محرومني من انتخاب رئيس لهم ،يسلمون له حكمهم باختيارهم ،حتى هيأ الله لهم ،ألول مرة ،رئيسا اختاروه بأنفسهم وبمحض إرادتهم ،وهو الرئيس محمد مرسي ،وقد أعطوه مواثيقهم وعهودهم على السمع والطاعة في العسر واليسر ،وفيما أحبوا وما كرهوا ،وسلمت له كل الفئات من مدنيني وعسكريني ،وحكام ومحكومني ،ومنهم الفريق أول عبد الفتاح السيسي الذي كان وزير الدفاع واإلنتاج الحربي في وزارة هشام قنديل ،وقد أقسم وبايع أمام أعيننا على السمع والطاعة للرئيس مرسي ،واستمر في ذلك السمع والطاعة حتى رأيناه تغير فجأة ،ونقل نفسه من مجرد وزير إلى صاحب سلطة عليا ،علل بها أن يعزل رئيسه الشرعي، ونقض بيعته له ،وانضم إلى طرف من املواطنني ضد الطرف اآلخر ،بزعم أنه مع الطرف األكثر عددا». وهو ما يكشف عن عدم قراءة الشيخ للموقف بكل جوانبه وتعقيداته التي وصلت إلى درجة أن بعث إليه ابنه عبد الرحمن يوسف القرضاوي برسالة مطولة أفاض فيها شرحا وتفصيال ملا حدث من جانب الجماعة ورئيسها ،وكان أهم ما جاء فيها ما نصه« :صدقني يا أبي الكريم الحليم لو طبقنا ما كتبته في كتبك عن األمة والدولة ،وعن فقه األولويات ،وفقه الواقع ،وفقه املقاصد ،وعن الحرية التي هي قبل الشريعة كما علمتنا ،لكنت أول الداعني للثورة على من ظلم ،وخان العهود واملواثيق ،وأفشى أسرار الدولة ،وزج بمخالفيه في السجن بتهمة إهانته ،ولم يترك لهم من الحرية إال ما كان يتركه لهم مبارك :قولوا ما شئتم وسأفعل ما أريد».
املنظر الراهن لفكر الجماعة وتوجهاتها تكشف هذا الحادثة خلطا واجب التسجيل في هذا الخصوص، وهو أن البعض يرى أن الشيخ القرضاوي هو املنظر الراهن لفكر الجماعة وتوجهاتها ،في حني أن الواقع يثبت أن الشيخ بسبب طعنه في السن وكذلك نهجه املطيع داخل إطار الجماعة ال يجرؤ على أن يوجه عقل الجماعة إلى قراءة الواقع الراهن بمتغيراته وتعقيداته ،بل رأى أن السباحة مع التيار الجارف داخل الجماعة رغم وضوح خطورة االستمرار في هذا النهج
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
املؤدي إلى خطأ فادح بسبب سياسات غير محسوبة ورؤى غير واقعية وتوجهات غير رشيدة تبنتها الجماعة منذ ثورة الخامس والعشرين من يناير (كانون الثاني). ثالثا :رغم انتماء الشيخ يوسف القرضاوي إلى جماعة اإلخوان املسلمني ،فإن بعضا من آرائه كانت تهاجم قيادات الجماعة، كما حدث في موقفه من سيد قطب ،وهو ما أشار إليه األستاذ جمال سلطان في دراسته تعليقا على ما كتبه الشيخ القرضاوي عن قطب ،حينما أشار إلى استحضار الشيخ لنصوص كثيرة مطولة من كتابات قطب ،خاصة عندما يتحدث فيه عن الجاهلية والكفر والردة التي رآها انتشرت في جنبات األرض في العصر الحديث ،ويضع خطوطا تحت كلمات وألفاظ بعينها ،ليؤكد على تطرفها وروح التكفير فيها ،ويدقق لكي يثبت له أن الرجل ليس كاتبا معتدال أو حادا في عبارته فقط ،وإنما كان كاتبا تكفيريا، وبالتالي متطرفا ،وهو ما اتضح موقفه جليا في حواره عام 2009في إحدى القنوات الفضائية املصرية ،حينما أشار إلى «أن قطب أخطأ في قضية تكفير مجموع املسلمني وليس فقط الحكام واألنظمة» ،مشيرا إلى أن «قطب يتحمل بعض املسؤولية عن تيار التكفير ،فقد أخذ أفكار املودودي ورتب عليها نتائج لم تخطر على بال املودودي نفسه». صحيح أن الشيخ لم يذكر صفة التطرف أو اإلرهاب ،إال أن األمر ال يحتاج إلى شرح ليثبت أن الرجل كان تكفيريا ،وهو ما يمكن تفسيره في ضوء التوتر الداخلي القديم بني الفصيل الذي انتمى إلى سيد قطب ،واآلخر الذي انتمى إلى الشيخ مصطفى مشهور ومجموعته ،وهي التوترات التي بدأت في املعتقالت وتفجرت في أوائل السبعينات بعد الخروج من سجون عبد الناصر؛ حيث سرت موجة غامضة بني الفصيل الثاني الذي حاول أن يلعب بأوراق السياسة ومماهاة السلطة واالستفادة منها في الوصول إلى بعض املناصب وهو األسلوب الذي ظل غالبا على فكر «اإلخوان» وتوجهاتها خالل فترة الحكم املباركي ،حيث حصدت أكثر من مرة عددا معتبرا من املقاعد البرملانية كما حدث في انتخابات ،1984و ،1987و ،2000وكانت الجائزة الكبرى عام 2005حينما حصدت الجماعة 88مقعدا ،أي ما يقارب ربع مقاعد مجلس الشعب آنذاك ،وجرى خالل هذا
ومحمد صيفي كتبا عن القرضاوي في أوروبا ،وإيهاب جالل كتب عن القرضاوي والتلفزيون اإلسالمي الجديد ،وبتينا غراف كتبت عن مفهوم «الوسطية» لدى القرضاوي ،وأرماندو سلفاتوري كتب عن تطور القرضاوي من آيديولوجي إسالمي إلى رمز لعاملية اإلسالم وعوملته.
فكر الشيخ ومع الدخول في عصر العوملة واالنفتاح على اآلخر ،حاول الشيخ أن يقدم فكرا وإجابات على أسئلة اللحظة من خالل بعض الكتابات ،منها« :املسلمون والعوملة» ،و«خطابنا الديني في عصر العوملة» ،و«اإلسالم واملسلمون وعلوم املستقبل على أعتاب القرن القادم» ،و«املسلمون والتخلف العلمي» ،و«رعاية البيئة في شريعة اإلسالم» ،و«حقوق املسنني من منظور إسالمي» ،و«الغرب واإلسالم». إال أن املطالع لهذه الكتابات يخلص إلى الرأي بأنها افتقدت في كثير منها للفهم الدقيق واملتعمق واإلحاطة املطلوبة ملوضوعاتها وقضاياها التي لم يدركها الشيخ سواء بسبب طبيعتها الفكرية املعقدة واملتشابكة من جانب ،أو بسبب السن (العمر) وأحكامه وما يمثله من عائق أمام الشخص في التحصيل والتحليل والتقييم وطرح الرؤى والتصورات ،وهو ما يمكن سحبه على بعض اآلراء األخيرة التي يبديها الشيخ في بعض القضايا املعاصرة خاصة القضايا الفكرية والسياسية التي لم يستطع الشيخ تحقيق اإلملام الكامل واإلحاطة الالزمة بكافة جوانبها وتعقيداتها مما جعل آراءه وفتاواه خارجة عن مقتضيات اللحظة ومتطلباتها.
ثانيا :لم يثبت أن الشيخ القرضاوي كان له موقف مستقل عن املوقف العام أو الخط العام داخل الجماعة والوالء لقيادتها الشرعية املجمع عليها حتى وإن اختلف مع هذا الخط ،بل التزم القرضاوي هذا الخط دون معارضة أو ممانعة ،فعلى سبيل املثال ،حينما وقعت األزمة الشهيرة عام 1954واختلفت الجماعة حول شخص املرشد الثاني املستشار حسن الهضيبي ،ورغم أن القرضاوي كان أقرب إلى منطق وجبهة من عرفوا بتيار املشايخ واألزهرية املعارض للهضيبي وسياساته (يمثله الشيوخ محمد الغزالي وسيد سابق وعبد املعز عبد الستار).. فلم يصل األمر بالقرضاوي إلى االنضمام إلى هذه الجبهة حني انشقت على الجماعة أو احتجت على قرار فصلها ،بل التزم ما انتهت إليه القيادة املمسكة بدفة التنظيم. وتكرر األمر كذلك مع حزب الوسط الذي يمكن النظر إليه كأكبر انشقاق تنظيمي عرفته الجماعة منذ أزمة املرشد الثاني ،فرغم أن القرضاوي كان متعاطفا مع هذا املشروع وقريبا من أبناء الجيل الذي قاد التجربة؛ جيل الوسط ،ورغم أن أصحاب املشروع الحزبي أكدوا في ورقته املذهبية تأثرهم باجتهاداته وآرائه في الفقه السياسي (جواز التعددية الحزبية ،وفكرة اإلسالم الحضاري) فإن القرضاوي لم يدخل طرفا في هذا املشروع. وهو ما يدلل على أن ثمة ضابطا حاكما لفكر الشيخ في معالجته للقضايا واملحن التي تواجه الجماعة حتى في أحلك اللحظات والظروف ،ولعل األزمة األخيرة التي تعيشها الجماعة مع أحداث الثالثني من يونيو املاضي تؤكد على هذه الخالصة ،ففي عقب عزل الرئيس السابق الدكتور محمد مرسي ،أصدر الشيخ فتواه في السادس من يوليو 2013جاء فيها« :إن املصريني عاشوا
القرضاوي بعد القائه خطبة الجمعة في الجامع األزهر ألول مرة بعد تولي األخوان السلطة بمناسبة الذكرى الثانية لثورة يناير (25يناير )2013
,,
من املدهش جدا أن يتحول القرضاوي من مفكر إسالمي إلى داع مباشر بل ومحوري في إثارة القالقل والفنت داخل بعض البلدان العربية
,,
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
31
قصة الغالف
ليست مصادفة أن يحظى الشيخ يوسف القرضاوي بهذا الزخم الديني واإلعالمي الذي ال يضاهيه أحد في الوقت الراهن ملا يمثله من مكانة علمية جعلته واحدا من املراجع العلمية لدى جماعة اإلخوان املسلمني.
القرضاوي ..قراءة في الفكر ورؤية في املضمون
فقيه اجلماعة
بقلم: عماد املهدي *
,,
لم يثبت أن القرضاوي كان له موقف مستقل عن املوقف العام أو الخط العام داخل الجماعة والوالء لقيادتها الشرعية املجمع عليها حتى وإن اختلف مع هذا الخط
,,
عبد الرحمن القرضاوي
30
صحيح أن الجماعة وقادتها حظيت باهتمام واسع لقاء ات األسر والكتائب
على مدى األعوام الثمانني املاضية ،إال أنه من الصحيح أيضا أن هذا االهتمام ظل محصورا في مواقفها من السلطة الحاكمة سواء اتسمت هذه املواقف باملعارضة الصريحة أو بإبرام صفقات تفوز بمقتضاها ببعض املغانم من السلطة ،كما أنه من الصحيح أيضا أن مظاهر هذا االهتمام اختلفت خالل العامني املاضيني مع ما شهدته املنطقة العربية من تحوالت استراتيجية أفرزت تغييرا في أنظمة الحكم في بعض البلدان العربية تولى على أثرها جماعة اإلخوان املسلمني املسؤولية والحكم كما حدث في تونس ومصر ،حيث نجحت جماعة اإلخوان وجناحاها السياسيان ،كما يحب أن يوصف حزب النهضة في تونس وحزب الحرية والعدالة في مصر ،في الوصول إلى منصب رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية في تونس ومصر على الترتيب ،دون أن يقلل ذلك من دورهم في األزمة الليبية ،وكذلك وجودهم اآلن في األزمة السورية. ولكن ما يهم هو وصولهم إلى رئاسة الدولة في مصر كونها املهد األول للجماعة وبها مكتب املرشد العام وكل املؤسسات التي تدير الجماعة على مستوى العالم باستثناء مقر التنظيم الدولي الذي يشرف عليه أيضا مكتب اإلرشاد ،بمعنى أكثر تحديدا ما حققته جماعة اإلخوان املسلمني في مصر يظل نقطة فاصلة وجوهرية في مسار الجماعة ومستقبلها ،دفع الكثيرين من الباحثني واملتخصصني إلى دراسة أسباب هذا الصعود ومساراته املستقبلية وتداعياته على الجماعة وأعضائها ،وعلى البلدان التي حكمتها ،إال أنه لم يكد تخرج هذه الدراسات والتحليالت إلى النور إال وعصفت أحداث الثالثني من يونيو (حزيران) والثالث من يوليو (تموز) 2013 بوجود الجماعة في الحكم لتشهد أقوى صفعة منذ نشأتها، فقد كان للسقوط املدوي بعد عام بالضبط من وصولها إلى الحكم وعودتها إلى جماعة محظورة بإرادة شعبية وليس بقرار من السلطة الحاكمة فحسب نقطة تحول أخرى أكثر أهمية ،جعلت من األهمية بمكان للباحثني والدارسني اإلسراع لقراءة فكر املنظرين واملفكرين املنتمني إلى هذه الجماعة للوقوف على العقل املوجه والفكر املسيطر على توجهات الجماعة وسياستها خالل املرحلة املقبلة ،وهو ما يستوجب بدوره قراءة لواحد من املفكرين الرئيسيني املوجهني لعمل الجماعة «الشيخ يوسف القرضاوي» ،لعل ذلك يسهم في فهم ما الذي حدث؟ وملاذا حدث؟ وما رؤية الجماعة فيما حدث؟ وكيف ترى الواقع ومشكالته؟ وما رؤيتها للتعامل مع هذا الواقع؟.
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
وال شك أن اإلجابة على هذه التساؤالت تحتاج إلى دراسات متعمقة عن فكر الجماعة وقادتها ،والكيفية التي تدير بها شؤونها سواء داخل الجماعة أو داخل الجمعية أو داخل الحزب، رغم أنهم يمثلون كيانا واحدا ال انفصام بينهم. إال أن ما نحاول تقديمه هو قراءة في فكر املنظر األول للجماعة اليوم الذي يقدم رؤى وأطروحات تتعلق بسياسة الجماعة ومواقفها حيال مختلف القضايا في محاولة لإلجابة على سؤال كيف تفكر الجماعة؟ وذلك من خالل عدة نقاط نقف فيها على بعض مواقف الشيخ وأفكاره بعيدا عن القضايا الفقهية ،فلها مقام آخر ،كونه لدى الجماعة ليس الفقيه والداعية الذي يكتفي بمدها بالزاد الفقهي والدعوي فحسب ،بل هو بالنسبة لها أيضا املربي واملؤطر التربوي ،فقد شارك مبكرا في وضع البناء التربوي والثقافي داخل التنظيم عبر سلسلة مقاالت مطولة كتبها لهذا الغرض تحت عنوان «ثقافة الداعية» كانت تنشرها «مجلة الدعوة» التي كانت تصدرها الجماعة في السبعينات ،وذلك كله على النحو التالي: أوال :شارك القرضاوي في عملية التأطير والتكوين ألبناء الجماعة داخل محاضنها التربوية الخاصة مثل لقاءات األسر والكتائب ،وهي لقاءات مغلقة على أطر الجماعة ،فقد تابع الجماعة منذ انضمامه لها في مراحل نموها بالنصح والتوجيه وسعى إلى إرشادها إلى وجهات محددة ،فكتب عدة رسائل مهمة كانت كلها تدور حول رسم توجهات الجماعة وسياستها ،من أهمها« :الصحوة اإلسالمية بني الجحود والتطرف» ،و«الصحوة اإلسالمية وهموم الوطن العربي واإلسالمي» ،و«الصحوة اإلسالمية بني االختالف املشروع والتفرق املذموم» ،و«الصحوة اإلسالمية من املراهقة إلى الرشد» ،و«من أجل صحوة راشدة تجدد الدين وتنهض بالدنيا» ،و«أولويات الحركة اإلسالمية في املرحلة املقبلة». وفي محاولة لفهم فكر الجماعة التي ظلت تعمل ملدة طويلة منذ حظرها في الخمسينات من القرن املنصرم ،تعددت الكتابات التي تناولت فكر الشيخ وآراءه الفقهية والسياسية ،فجاكوب بترسن (الذي له أطروحة كبيرة في فتاوى األزهر ودار اإلفتاء املصرية) كتب عن عالقة القرضاوي باألزهر ،وحسام تمام كتب عن القرضاوي واإلخوان ،ومعتز الخطيب كتب عن مرجعية القرضاوي في كتابه «يوسف القرضاوي -فقيه الصحوة اإلسالمية :سيرة فكرية تحليلية» ،وألكسندر كاميرو
األخيرة على مفتي مصر السابق الدكتور علي جمعة .استخدم القرضاوي برنامجه على قناة «الجزيرة» واالتحاد العاملي لعلماء املسلمني للهجوم على علي جمعة الذي يشير إليه حاليا في تغريداته باسم «مفتي العسكر». في شهر سبتمبر (أيلول) ،هاجم القرضاوي علي جمعة ومن خالل بيان صدر عن االتحاد العاملي بسبب إصدار جمعة فتوى تؤيد عزل الجيش ملرسي .وبحسب ما قال القرضاوي ،أصبح علي جمعة «املتحدث العسكري باسم االنقالب» و«عبد السلطة وعالم الشرطة».
قدح املفتي كذلك طعن القرضاوي أيضا في مؤهالت جمعة كعالم دين .ففي البيان ذاته ،وصف القرضاوي فتاوى جمعة – بشأن التعامل بالربا وبيع املسلمني للكحوليات ولحم الخنزير واغتسال النساء باللنب وغيرها من الفتاوى – بالشاذة .وقال القرضاوي إن جمعة «يحلل الحرام ويحرم الحالل ..ويفتري على الله ورسوله والعلماء واألمة». نشرت الصحف املصرية تغطية موسعة للحرب الكالمية بني القرضاوي وجمعة مثلما فعلت الصحافة املوالية لحزب الله وإليران ،على نحو غير مفاجئ .وفي الفترة األخيرة ،نشرت صحيفة «املنار» خبر دعوة القرضاوي لجمعة إلى التوبة قبل أن يواجه «سوء الخاتمة» .قال القرضاوي: «يؤيد علي جمعة أهل القوة على أهل الحق ،والجنود على العلماء والعسكر على الشعب ،والسيف على القلم ،والسلطان (أي عبد الفتاح السيسي) على القرآن ،والدولة على الدين!» .في رد على هذه التعليقات وعلى دعوات القرضاوي إلى الجهاد في مصر ،صرح جمعة ،الذي عمل ألعوام كرجل دين يحصل على راتب من الحكومة في عهد مبارك ،على التلفزيون املصري بأن «القرضاوي كبير السن ويعاني من الزهايمر» .كذلك انتقد زمالء جمعة في األزهر القرضاوي لزرعه الفتنة بني املسلمني وأرجعوا السبب في مواقفه إلى إصابته بـ«الشيخوخة». انتقد إسالميون مصريون آخرون مسألة تدخل القرضاوي في الشؤون الداخلية املصرية .على سبيل املثال ،على الرغم من إفراج اإلخوان املسلمني عن العديد من أعضاء الجهاد اإلسالمي في مصر ،إال أن تنظيم الجهاد وجه انتقادات ضد القرضاوي .ووصف نبيل نعيم القيادي في التنظيم القرضاوي بأنه عميل «تخدم فتاواه أميركا وإسرائيل» .وحتى ابن القرضاوي ،عبد الرحمن القرضاوي ،انتقد موقف والده مما يحدث في مصر .في رسالة إلى صحيفة «اليوم السابع» اليومية املصرية ،كتب االبن أنه تم عزل مرسي ألنه خالف الديمقراطية في حكمه في انتهاك ليمني الرئاسة التي أقسم بها .وسأل «بأي عهود الله تريدنا أن نبقي عليه؟». وأضاف أن فتاوى والده «أربكته وآملته».
ال يعد إعالن القرضاوي الجهاد من أجل إعادة مرسي إلى الرئاسة املوقف الوحيد الذي يدعو إلى القتال في مخالفة ملوقف معظم املصريني .يضع دفاع القرضاوي املتحمس عن حركة حماس ،الفرع الفلسطيني من جماعة اإلخوان( ،والتي تعتبرها الواليات املتحدة واالتحاد األوروبي منظمة إرهابية) الشيخ املصري بعيدا عن اإلجماع السائد في مصر في الوقت الحالي. على مدار الشهرين املاضيني ،اتخذ الجيش املصري خطوات من أجل تشديد الرقابة على الحدود مع غزة من أجل منع تسلل األسلحة وعناصر من حماس ومقاتلني أجانب ينتمون إلى تنظيم القاعدة إلى شبه جزيرة سيناء التي يزداد وضعها خطورة .وتلقى جهود إغالق الحدود مع غزة وتأمني سيناء قبوال في القاهرة إن لم يكن بني سكان سيناء ،وهي محاوالت استخدمت فيها ألول مرة طائرات هليكوبتر ومقاتالت مصرية فوق األراضي الفلسطينية. وقد تعرض مئات من قوات األمن املصرية للقتل أو اإلصابة في الشهور األخيرة في سيناء .وفي الوقت ذاته ،تعارض جماعة اإلخوان املسلمني - والقرضاوي فيما يبدو – جهود إعادة األمن إلى سيناء أمال في االستفادة من العنف الدائر من أجل الحصول على تنازالت سياسية لصالح اإلسالميني. وبالطبع تكمن املشكلة في أن انعدام األمن في مصر ال يقف عند سيناء. منذ عزل مرسي في الصيف املاضي ،استهدف إرهابيون محطة قمر صناعي مملوكة للدولة في إحدى ضواحي القاهرة بقذائف صاروخية، وحاولوا اغتيال وزير الدفاع عن طريق سيارة مفخخة في مدينة القاهرة. وفي حادث يسبب إشكالية مماثلة ،أطلق مسلحون في سيناء صواريخ على سفينة عابرة لقناة السويس في شهر أغسطس (آب) املاضي.
أنصار اإلخوان املسلمني يرفعون صور الرئيس املخلوع محمد مرسي أمام جنود الجيش في شارع صالح سالم بوسط القاهرة ( 19يوليو )2013
,,
ألقى القرضاوي بيانا مطوال على قناة «الجزيرة مباشر مصر» يشجع فيه املصريني على «الخروج إلى الشوارع» ومواجهة الجيش ووصف ذلك بـ«فرض العني»
,,
بدأ هؤالء املسلحون يعبرون القناة ويزعزعون استقرار مصر بتحريض من «القاعدة» ودعوات القرضاوي إلى الجهاد .يشبه العنف الحالي في مصر ،التي تعاني بالفعل من أزمات اقتصادية وسياسية ،ما حدث في التسعينات ،مما يهدد الفترة االنتقالية وآمال العودة إلى الحياة الطبيعية في فترة ما قبل الثورة. ومن املؤسف أن الحراك الذي يشجعه القرضاوي هو محاولة بائسة إلعادة اإلخوان املسلمني إلى السلطة .وعلى الرغم من أن العنف لن يحقق في النهاية هذا الهدف ،فإنه يسبب كثيرا من الضرر ملصر ويقوض أي فرصة للمصالحة بني اإلسالميني املهزومني والجيش وخصومهم العلمانيني .بغض النظر عن كل ذلك .يبدو أن القرضاوي وجماعة اإلخوان وصلوا إلى نتيجة أنه قد يكون من الضروري تدمير مصر من أجل إنقاذها <
علي جمعة
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
29
قصة الغالف
أعلن إسقاط الرئيس حسني مبارك عام 2011عن بداية فترة طويلة من عدم االستقرار السياسي والشكوك االقتصادية في مصر .عندما انتخب محمد مرسي القيادي في جماعة اإلخوان املسلمني رئيسا عام ،2012شعر كثير من املصريني بالتفاؤل بأن اإلدارة اإلسالمية الجديدة سوف تحكم بكفاءة وسوف تخرج مصر من األزمة. ولكن حكم مرسي البالد بطريقة تفتقد إلى الديمقراطية وإلى الكفاءة ،وانتقل بمصر إلى حافة االنهيار املالي، وعندما تدخل الجيش لعزله عن السلطة في يوليو (تموز) عام ،2013كانت مصر تواجه تمردا إرهابيا ناشئا في شبه جزيرة سيناء في طريقه إلى االنتشار في وادي النيل.
دعوات القرضاوي لتدمير مصر من أجل إنقاذها!
اجلهاد ضد العسكر بقلم: ديفيد شينكر
,,
ادعى القرضاوي املنتمي إلى جماعة اإلخوان املسلمني أنه تلقى عرضا بأن يتولى منصب املرشد العام للجماعة ولكنه رفض
,,
عبد الله بن بيه
في أعقاب اإلطاحة بمرسي ،كان هناك خالف في العواصم الغربية حول ما إذا كان تدخل الجيش يصب في مصلحة مصر .ولم يكن هناك خالف على أن إعادة ترسيخ األمن واالستقرار االقتصادي في الدول العربية أمر مهم للغاية .ولكن يتخذ الشيخ يوسف القرضاوي عالم الدين املصري املقيم في قطر وجهة نظر مختلفة .أصدر القرضاوي الذي يعد أبرز علماء الدين السنة في الشرق األوسط فتاوى في األشهر األخيرة تؤيد أعمال العنف من أجل إعادة الرئيس املصري املعزول إلى منصبه. باإلضافة إلى عدم واقعية هذا املوقف ،حيث لن يسمح الجيش املصري لإلخوان املسلمني باستعادة مقاليد السلطة في مصر في وقت قريب ،فإنه يتسبب في استمرار عدم االستقرار .لطاملا كان القرضاوي داعية ذا تأثير، وله تابعون مخلصون .إلى جانب رئاسته لالتحاد العاملي لعلماء املسلمني، صدر للقرضاوي مؤلفات غزيرة ،كما أنه يقدم برنامجا خاصا به يذاع يوم األحد في وقت الذروة على قناة «الجزيرة» يحمل اسم «الشريعة والحياة».
وكان من املفهوم أن يصاب القرضاوي بالصدمة جراء خطوة الجيش في 3 يوليو (تموز) بعزل الرئيس مرسي وقتل العديد من مؤيديه .عكس رد فعله ما يشعر به من غضب وإحباط بتغير حظوظ جماعة اإلخوان املسلمني. وبعد أيام من اإلطاحة بمرسي ،أصدر القرضاوي فتوى قال فيها« :حرام على مصر أن تفعل هذا ..فليس وراء ذلك إال مقت الله ونكاله» .بعد ذلك أصدر فتوى أخرى يدعو فيها «املسلمني من جميع أنحاء العالم» إلى السعي للشهادة في مصر ،مضيفا« :سوف يسألكم الله يوم القيامة عما رأيتموه من هذه املجازر اإلنسانية».
الوسطي املعتدل
انتقاد الجيش
يحاول القرضاوي منذ فترة بعيدة أن ينصب ذاته ممثال للتيار اإلسالمي الوسطي املعتدل .بغض النظر عن آرائه بأن التفجيرات االنتحارية مشروعة إال أنه يعتبر على نطاق واسع في املنطقة ممثال للوسطية .ولكن في الفترة األخيرة ،اتسمت آراء القرضاوي بشأن مصر باالستفزاز والتسبب في االنقسام على نحو غير معهود .منذ عدة أسابيع ،استقال نائبه في االتحاد العاملي لعلماء املسلمني ،عالم الدين املوريتاني عبد الله بن بيه من منصبه وسط مزاعم بأن السبب هو وجود خالفات حول آراء القرضاوي بشأن مصر وسوريا.
كان رد فعل القرضاوي على الحملة التي نفذها الجيش يوم 14أغسطس (آب) ضد احتالل اإلخوان املسلمني مليدان رابعة أكثر حدة .وقد قتل نحو ألف شخص من مؤيدي اإلخوان أثناء فض االعتصام في امليدان ،حيث واجه الجيش مقاومة عنيفة.
على مدار عقود ،كان القرضاوي منتميا إلى جماعة اإلخوان املسلمني ومدافعا عنها .وفي الحقيقة ،ادعى عالم الدين أنه تلقى عرضا بأن يتولى منصب املرشد العام للجماعة ولكنه رفض .وهكذا سعد القرضاوي بقيام الثورة التي أسقطت مبارك ،الذي قمع اإلخوان وأبعدهم منذ أن وصل إلى السلطة في عام .1981وبدا أن انتصارات اإلخوان في االنتخابات البرملانية والرئاسية في عصر ما بعد مبارك تبشر بعصر تسود فيه جماعة اإلخوان املسلمني في مصر ،وهي فرصة ألسلمة السياسة املصرية بما ال يمكن الرجوع عنه. بعد ثورة يناير (كانون الثاني) عام ،2011عاد القرضاوي ،الذي تعرض في
28
لالبعاد عهد الرئيس املصري الراحل جمال عبد الناصر ،منتصرا إلى مصر ألول مرة منذ الستينات ليلقي خطابا حضره اآلالف في ميدان التحرير. وزار القاهرة بعد ذلك ليلقي خطبة الجمعة في الجامع األزهر املؤسسة الدينية البارزة في مصر .بالنسبة للقرضاوي ،لم يكن مسار مصر في مرحلة ما بعد الثورة ليكون أفضل من ذلك.
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
وفي ذلك اليوم ،ألقى القرضاوي بيانا مطوال على قناة «الجزيرة مباشر مصر» يشجع فيه املصريني على «الخروج إلى الشوارع» ومواجهة الجيش. وصف القرضاوي ذلك بـ«فرض العني» بأن يخرج كل مصري مسلم قادر من بيته .وأضاف القرضاوي أن وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي والحكومة املصرية «متورطون في هذه املجازر» ،و«سيسألون أمام الله عما فعلوا». ومنذ ذلك الحني ،يبرر القرضاوي تحريضه على العنف ضد الجيش املصري بأن الجيش ومؤيديه من املصريني من «الخوارج» (في إشارة إلى طائفة من املسلمني خرجت عن أهل السنة املسلمني في القرن السابع) .واألسوأ من ذلك ،وفقا للقرضاوي ،أن وزير الدفاع السيسي «خائن» حذره القرضاوي من «عقاب الدنيا قبل اآلخرة» .وقال القرضاوي« :القتلة سيقتلهم الله». وفي حني يستمر القرضاوي في انتقاد الجيش وحملة االعتقاالت التي تتم ضد مسؤولي جماعة اإلخوان املسلمني ،يصب عالم الدين غضبه في الفترة
مجلة العرب الدولية شهرية سياسية
تأسست في لندن عام 1980
www.majalla.com
العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
مجلة العرب الدولية
اشرتك اآلن واحصل على نسختك الورقية
شهرية سياسية
تأسست في لندن عام 1980
جون األرتمان :تاأثري العالقات ال�صعودية ال�صينية على الجتاهات الأمريكية يف املنطقة م�صاري الذايدي :فر�صان نبالء قرروا ال�صمود على احلال القدمي ..تاريخ العناد! � ّصالم الكواكبي :هل يعد «جنيف »2فر�صة ب�صار الأ�صد للبقاء يف من�صبه؟
للحصول على العدد اسـتخـدم هاتفــك ال ــذكي لـمــسح هـ ـ ــذا الـ ــرقـ ـ ـ ــم 11
ISSN 1319-0873
9 771319 087013
issue 1589 November 2013
www.majalla.com
قصة الغالف
األولى ،بدال من مقاطعتها ،وآخرون في الخارج ،وجدوا في خروجه من البالد وانعدام فرص عودته تهمة أكبر ،هي التخلي عن موقعه ومكانته فيها ،فهو ليس أكاديميا وشخصية ذات وزن ،بل وزعيم ومؤسس رئيس لـ«التجمع الوطني الديمقراطي» الذي يحظى بمكانة بني الفلسطينيني حافظت له على عضويته للكنيست لدورات متتالية. أما بشارة نفسه ،فال يخفي توقه للعودة ،شأن كل فلسطيني جرى نفيه ،أو اختار منفاه ،أجبر على اختياره ،لكنه ال يرى أفقا في الوقت الحاليّ : «ألن الظروف التي ْ ّ دعت إلى الخروج من الوطن ما زالت قائمة، ْ بل تفاقمت» .هنا ،صاغ بشارة مفهوما للوطن يناسب وضعه املستجد أوسعّ ، ويفلسفه« :إن مفهومي للوطن َ وإن َ عناء املنفى -في حالتي ّ ٌ كعربي وكفلسطيني وكمثقف -هو وطن أيضا». لكن انتقال د .بشارة لإلقامة في الدوحة الحقا ،أثار تساؤالت واتهامات عدة ،بلغت ذروتها في الشهور القليلة املاضية ،حني قيل إنه أصبح مستشارا للديوان األميري .وهي اتهامات تعتبر امتدادا لوجوده في الدوحة وملكانته التي منحته إياها قناة «الجزيرة» كمفكر قومي عربي، خصها وجمهورها بأفكاره ،ومحلل سياسي ثابت ومطلوب في أي وقت وفي كل األوقات ،لتمرير أفكار وسياسات تريدها. لقاء الدكتور عزمي بشارة مع الشيخ راشد الغنوشي في مكتبه باملركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات الدوحة (نوفمبر )2011
,,
انتقال بشارة لإلقامة في الدوحة أثار تساؤالت واتهامات عدة بلغت ذروتها في الشهور القليلة املاضية
,,
26
ُ كانوا ُم ِّ ّ َّ يستمر .رب ـ(التجمع) بأن يت الفرصة ل ؤسسني! وبخروجي أ ِ عط ِ ضارة نافعة إذن». انتهت سنوات بشارة البرملانية (في الكنيست اإلسرائيلي) ،وما رافقها من إشكاليات وتحديات ومجابهات ومحاججات كالمية إلى نتيجتني :اتهامه بالتطبيع من قبل خصوم في الداخل يعتبرون املشاركة في الكنيست «تطبيعا» ،وسقوطا فيما حذر منه بشارة نفسه أي «األسرلة» باملشاركة في مؤسسات الدولة السياسية
بشارة اعتبر هذا كله «شائعات معيبة» .وصاغ تفسيرا ،لهذا التحول الكبير في حياته بالقول« :إن الوالء ينبغي أن يكون للمبادئ ال للدول» ،رافضا منطق من يعتبرون اإلقامة في دولة ما ،تعبيرا عن موقف .منطق بقدر ما هو صحيح ،يتجاهل تأثير الجغرافيا على تلك املبادئ ،خصوصا حني تتعارض تلك املبادئ مع التضاريس السياسية واآليديولوجية ،التي تفرضها الجغرافيا السياسية، وخصوصا في منطقة لم تعرف التعددية وال الديمقراطية وال تقبل الرأي اآلخر ،إال في حدود الصخب الفوضوي املطلوب إعالميا، أحيانا <
عزمي بشارة يف سطور ولد عزمي بشارة في عائلة عربية مسيحية عام .1956درس في املدرسة املعمدانية في الناصرة .انتخب عام 1974رئيسا ملجلس الطالب في مدرسته الثانوية ،كما ساهم في تأسيس اللجنة القطرية للثانويني العرب وكان رئيسها األول .انتسب إلى جامعة حيفا عام .1975عام 1976ساهم في تأسيس اتحاد الطالب الجامعيني العرب وكان رئيسه األول. درس في الجامعة العبرية في القدس عام .1977ودرس في جامعة "هومبولت" في برلني عام ،1980وحصل على دكتوراة في الفلسفة بدالجة امتياز عام .1986عام 1997أجريت له عملية زرع كلية إثر فشل كلوي. في عام 1999أصيب برصاصة مطاطية أثناء مشاركته في مظاهرة دفاعا عن بيت في مدينة اللد ،ضد امر اسرائيلي صدر بهدمه .وتعرض بيت بشارة في الناصرة العليا ،إلى اعتداء من مئات العنصريني االسرائيليني اليهود املنظمني ،بعد أن اتهم باملسؤولية عن مظاهرات جرت في عامي ،2000و . 2002 فاز بجائزة ابن رشد للفكر الحر .أصدر عددا كبيرا من املؤلفات املنشورة بالعربية واإلنجليزية واألملانية والعبرية في شؤون الديمقراطية والحرية املدنية ،حقوق األقليات القومية في إسرائيل،
المجلة /العدد 1588أكتوبر -تشرين األول 2013
اإلسالم والديمقراطية والقضية الفلسطينية في الداخل وغيره من جملتها: > الثورة التونسية املجيدة :بنية ثورة وصيرورتها من خالل يومياتها. > العرب في إسرائيل :رؤية من الداخل "الخطاب السياسي املبتور. > املجتمع املدني :دراسة نقدية "مع إشارة للمجتمع املدني العربي. > االنتفاضة واملجتمع اإلسرائيلي :تحليل في خضم األحداث. > طروحات عن النهضة املعاقة. > الحاجز شظايا -رواية. > من يهودية الدولة حتى شارون -دراسة في تناقض الديمقراطية اإلسرائيلية. > حب في منطقة الظل -رواية . > في املسألة العربية :مقدمة لبيان ديمقراطي عربي.
لكن مسيرة عزمي بشارة السياسية والكفاحية ،تعرضت لهزات في أواخر ثمانينات القرن املاضي ،مثل كثيرين من أبناء جيله« :الجيل الثاني» ،في ظل تراجع مسيرة اليسار الذي سحبه من الصفوف األولى جماهيريا وانتخابيا في البالد ،انهيار االتحاد السوفياتي وتفكك منظومته دوليا، وتنامي الشعور القومي وصعود التيارات اإلسالمية واتساع نفوذها محليا .وقد جرفت تلك املرحلة الجميع وزجت بهم في تيارين رئيسيني: تيار يميل إلى التعامل ببراغماتية أكبر مع مؤسسات الدولة اإلسرائيلية، والنضال من أجل املزيد من الحقوق وحماية ما تبقى للفلسطينيني في بالدهم .وتبنى هذا التيار ،في وقت متأخر ،نسبيا ،الدعوة إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة في الضفة والقطاع إلى جانب دولة إسرائيل يهودية. أما التيار اآلخر ،فقدم أتباعه طرحا يقوم على ضرورة احترام الحقوق القومية للعرب في إسرائيل ،وتبنوا الدعوة لقيام «دولة لكل مواطنيها»، في سياق العمل على مزيد من بلورة الهوية القومية للعرب من أجل دولة ثنائية القومية كحل نهائي للصراع. في خضم تلك التطورات ،غادر عزمي بشارة صفوف الحزب الشيوعي، في مرحلة قال :إنه لم يعد مقتنعا فيها ببرنامجه الذي دعا إلى دولة يهودية ودولة فلسطينية في الضفة والقطاع ،واكتشافه ،أي بشارة ،من خالل التجربة ،أن الفرق بني النظام الشيوعي واألنظمة الشمولية ضئيل« :حني تختفي القيم األصلية التي على أساسها قامت اآليديولوجيا الشيوعية. مع ذلك لم يسقط عزمي بشارة النظرية املاركسية من ارتهاناته الفكرية واآليديولوجية خصوصا جانبها املتعلق باملادية التاريخية ،ولم ينف ما علمته التجربة الحزبية من إيجابيات. عن تلك املرحلة ،قال رفيق له« :لقد تبدلت األيام واألحوال ،لنحصل على عزمي في أعلى مراحل النرجسية السياسية ،حيث راح يستخدم أدوات البحث العلمي واملنطق الجدلي واألساليب السياسية املتبعة واملعتمدة دوليا ،ويوظفها لـ(الضرب في املندل) السياسي (أي التنجيم) ،فاعتلى املنصات ليحلل ويتنبأ ،لكن أيا من تنبؤاته لم يصدق ،ثم يترك الساحة واختفى» .ويضيف« :مهما يكن من أمر ،فعزمي يبقى محاولة فلسطينية محلية كتب لها الفشل بسبب مكوناته الذاتية التي لم تتوافق والسلوكيات القيادية» .عام 1995شارك عزمي بشارة في تأسيس «التجمع الوطني الديمقراطي» ،وانتخب عضوا للكنيست عام 1996بعد ترشحه ضمن قائمة مشتركة بني «الجبهة الديمقراطية للسالم واملساواة» و«التجمع الوطني الديمقراطي» .ثم أعيد انتخابه عام 1999مرشحا عن «التجمع الوطني الديمقراطي» ضمن قائمة تحالف فيها التجمع مع «الحركة العربية للتغيير» ،التي يتزعهما د.أحمد الطيبي ،وأعيد انتخاب بشارة عام .2003 في تلك الفترة رشح بشارة نفسه ملنصب رئاسة الوزراء ،فيما اعتبره تحديا للديمقراطية اإلسرائيلية .وكان من أبرز املنتقدين لسياسة إسرائيل التي يصفها بـ«العنصرية» ،وللفكر الصهيوني املسيطر في الدولة، مشيرا إلى أن تعامل الدولة اإلسرائيلية مع السكان العرب الفلسطينيني األصليني ،يتعارض مع ادعاءات إسرائيل بأنها دولة ديمقراطية. إسرائيل ضاقت بعزمي بشارة الذي لم تعد «مشاغباته» البرملانية هاجسها الوحيد ،بل توسع نفوذه في الوسط العربي ،ما دعا الرئيس السابق لـ«الشاباك» (جهاز األمن العام) ،يعقوب بيري ،إلى املطالبة بـ«وضع حد لظاهرة عزمي بشارة التي تدخل كل بيت فلسطيني».
انعطافة حادة في 6أبريل (نيسان) .2007بينما كان بشارة في رحلة خارج البالد،نشر في إسرائيل ،خبر يفيد بنية أحد أعضاء الكنيست العرب االستقالة، وملح إلى وجود سبب خفي وراء ذلك .أثار الخبر ضجة إعالمية وسط
تكهنات حول نية بشارة العودة إلى إسرائيل .وقد أصدر أمر منع النشر حول القضية .لكن عزمي بشارة فاجأ الجميع بتقديم استقالته من عضوية الكنيست اإلسرائيلي ،إلى القنصل اإلسرائيلي في القاهرة ،في 22من الشهر عينه .وصرح بشارة بأنه قرر عدم العودة إلى إسرائيل في املدى املنظور .وذلك لخوفه من أن يحكم عليه بالسجن ملدة طويلة بسبب مواقفه السياسية الداعمة للقضايا العربية واملقاومة العربية واملثيرة للجدل في األوساط اإلسرائيلية .من ناحية أخرى أكد بأن استقالته من الكنيست ال تعني اعتزاله العمل السياسي. وقد وجهت الشرطة اإلسرائيلية ،في بداية شهر مايو (أيار) ،2007إلى بشارة ،اتهامات من شقني« :سياسي ـ أمني» ،هو االتصال بحزب الله وإيصال معلومات له خالل العدوان على لبنان صيف .2006و«سياسي ـ جنائي» ،هو غسل أموال عبر تلقي آالف الدوالرات من حزب الله ومن دول أجنبية ،وتجاوز قوانني تمويل «اإلرهاب» و«األحزاب» .ووفقا لهذه التهم، واجه بشارة فعليا عقوبة السجن املؤبد بتهمة «الخيانة».
دفاع عن املنفى دافع بشارة عن قراره عدم العودة إلى البالد ،قائال إنه تعرض ملالحقات قضائية من قبل ،وواجه املحاكم لكنه بقي في البالد« :غير ّأن هذا النوع من التهم -التي َّ معها لكونها أساس أو توجه من دون أي ٍ ٍ أدوات للتعاملّ ُ ّ ُتهما ّ مكنة في امل ة القضائي ة السياسي املعركة قواعد عن أمنية خارجة ِ ّ النضال السياسي -ال َيترك لي مجاال للبقاءُّ .والحق أنني ال أرى أي تسليم نفسي (ّ )...بل على العكس :فكل سجني أمني أعرفه فائدة في ّ نفسه أو ال يسلم َ يسل ْم َ نفسه .وفي اعتقادي ّأن ما َينتج من ( )...لم ّ ٌ الوطنية ،وهو غباء. ضرر يصيب الحركة تسليم نفسي في هذه الظروف وأما ما نتج من خروجي من ّ املؤسسات التي َأقمناها ،فقد بدا بفضله ّ يت جانبا؛ وهذا ما ُيفترض أن يفعله القادة في حياتهم ْ تنح ُ وكأنني ّ وإن
,,
صاغ عزمي بشارة مفهوما للوطن يناسب وضعه املستجد واإلقامة خارج بالده
,,
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
25
قصة الغالف
عزمي بشارة مشبع تاريخه بالنضال ،والتحدي ،واملعارك السياسية ،والعمل الجماهيري املباشر واملنظم ،مثلما هو مليء باملفاجآت والتقلبات وااللتباسات التي أثرت في صورته العامة ،وجعلت منه شخصية إشكالية ،بمعنى ما ،إذ لم تخل مواقفه من غموض وتناقض ،ليس على مستوى طروحاته السياسية أو مواقفه وحسب ،بل وفي خياراته التي حكمت هذه املواقف أيضا ،أو أنتجتها ،أو أثرت عليها بصورة واضحة ،وحرفتها في أحيان كثيرة ،عما رسمه هو نفسه لها في مراحل سابقة ،وما رسمه آخرون له في مراحل الحقة.
عزمي بشارة ..سجل حافل بالغموض واملتناقضات
املعادلة الصعبة!
بقلم: رامي نصار
,,
اتهم بشارة بغسل أموال واالتصال بحزب الله وإيصال معلومات له خالل العدوان على لبنان صيف 2006
,,
24
ليس أكثر التباسا ،وربما إثارة للدهشة ،لدى مؤيدي ومعارضي عزمي بشارة على حد سواء ،من تلك اللحظات التي امتدت قبل قرابة عامني ،مسيطرة على قناة «الجزيرة» لدقيقتني وسبع وثالثني ثانية ،حبس خاللها مشاهدوه أنفاسهم خلف الكالم الهامس حينا واملغمغم أحيانا الذي دار أمامهم وعلى مسمع منهم .خالل ذلك الحوار «الخاص» ،أعطى منتج البرنامج تعليماته ملقدم الحلقة ،بوقف الحوار من أجل بث فقرة إعالنية .لكن خطأ تقنيا ما وقع في قنوات االتصال بني ثالثة أطراف هي :املنتج ،ومهندس الصوت ،ومقدم الحلقة، أبقى الحديث الهامس واملتوجس من انكشاف محتمل وغير مؤكد ،بني مقدم الحلقة وضيفه ،معلقا على الهواء ،ولم يجر فصل املتحاورين عن البث املباشر .ما جرى بعد ذلك ،كان مفاجئا وصادما ،ورسم الخطوط العامة لكيفية توظيف حوار سياسي ومحاور يتمتع بنسبة مشاهدين عالية جدا ،لصالح توجه سياسي معني ذي تأثير بالغ على قطاعات واسعة انخرطت في ثورات الربيع العربي ،أو رافقت انفجارها وراقبته عبر وسائل اإلعالم املختلفة.
جامع ألقاب
أوقاتها ،حصيلة توصيف لنمط حضوره الصحافي املتلفز .بلغ بشارة، في تلك املرحلة ذروة «نجوميته» التي سبقه إليها على الشاشة عينها، وعلى شاشات تلفزة أخرى ،محللون سياسيون شبه متفرغني ملالحقة التطورات في املنطقة ،و«استراتيجيون» ،كما أطلق عليهم ،الكثير منهم جنراالت متقاعدون ،ودعاة سياسيون ،وآخرون دينيون انخرطوا في «حفالت» تحليل سياسي معلن مناصرين هذا الطرف أو ذاك من أطراف ينس كثيرون كلمات د.بشارة الكارهة لـ«عبادة الصراع ،في وقت لم ُ نجوم ُ ٌ بالعبي كرة أشبه وكأنهم السياسيني ه وتسويق املشهد اإلعالمي ِ ّ القدم والفنانني». في ذلك اللقاء امللتبس ،ناقش املحاور وضيفه ما ينبغي مناقشته من أوضاع سياسية في املنطقة .وكشفا على مسمع من املشاهدين، تفاصيل صناعة حلقة سياسية ،وسبل إدارتها وطريقة اإلعداد .سأل بشارة محاوره عما تمت مناقشته وأدائه خالل الحلقة ،فطمأنه مقدم الحلقة« :ممتاز» ،وأكد لهّ : «بيضت صفحة املؤسسة ...وهذا أهم شي». املذيع وضيفه تعرضا للكويتيني والبحرينيني والسوريني ،واستبعدا األردنيني من الحوار بطلب من بشارة.
ضيف تلك الحلقة كان الدكتور عزمي بشارة ،الفلسطيني النصراوي الحزب الشيوعي اإلسرائيلي
(نسبة إلى الناصرة) ،حامل الجنسية اإلسرائيلية ،عضو الكنيست اإلسرائيلي (البرملان) ،حتى إعالنه استقالته منه في 22أبريل (نيسان)، في ظروف ملتبسة أيضا ،بينما كان خارج البالد ،خلفت أسئلة كثيرة لم تزل تثير جدال حتى اليوم. هو «جامع ألقاب» لم تمنح ،من قبل ،لشخص في موقعه أو مكانته أو تضفى عليه ،سواء ما سعى هو إلى تحقيقه في سياق طموحاته املشروعة ،أو ما أصبغه عليه آخرون من ألقاب تناسبهم .فهو الناشط السياسي ،والباحث األكاديمي ،واملحاضر الجامعي ،واملؤلف الذي قدم الكثير من أعمال نشرت بالعربية واإلنجليزية واألملانية والعبرية ،تناولت، إجماال ،موضوعات تتعلق بالديمقراطية والحرية املدنية ،وحقوق األقليات القومية في إسرائيل ،واإلسالم والديمقراطية ،والقضية الفلسطينية في الداخل وغيرها .وهو مدير عام «املركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات» في الدوحة والقائد الحزبي ،والزعيم السياسي ،والكاتب ،ثم الروائي الذي أصدر روايتني هما« :الحاجز» ،و«حب في منطقة الظل» .لكنه في تلك اللحظة املتلفزة ،ظهر د.عزمي بشارة ،بصفة أخرى جديدة هي «املفكر القومي العربي» ،لقب احتاجته ظروف تلك املرحلة لكي «يلعب دور فيلسوف الثورة والربيع العربي ،تاركا جانبا ،ألقابا أخرى كانت ،في
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
بدأ عزمي بشارة ( 56عاما) ،حياته السياسية والنضالية ،حني كان طالبا في املرحلة الثانوية في الناصرة ،من خالل مشاركته في تأسيس اتحاد الطالب الثانويني العرب ،وبعد التحاقه بالجامعة شارك في قيادة الحركة الطالبية الفلسطينية في الجامعات اإلسرائيلية لسنوات عدة حتى مغادرته إلى أملانيا لدراسة الفلسفة .في املرحلة «الطالبية» ،انتسب بشارة إلى الحزب الشيوعي اإلسرائيلي «راكح» ،وكان ناشطا بارزا في صفوف الحزب ومنظماته ،وكان رفاقه فخورين به .عن تلك املرحلة يقول رفيق كفاح سابق له« :لقد استبشرنا خيرا ملستقبل شعبنا حني ترعرع عزمي الشاب بني ظهرانينا .يشرب من بحر املاركسية ويفتخر بانتمائه لحزبه وشعبه .يفكر بإبداع مستخدما الديالكتيك الذي تعلمه في أملانيا الشرقية سابقا». بعد عودته من أملانيا عام 1986عمل في جامعة بيرزيت حيث شغل منصبي أستاذ ومدير قطاعات الفلسفة والعلوم السياسية .وعام 1990 عمل باحثا في معهد «فان لير» اإلسرائيلي في القدس الغربية ،ومنسق مشاريع األبحاث فيه ،واستمر في العمل هناك حتى عام 1996حينما ترشح لعضوية الكنيست.
خروج زوجته أيضا إلى عمان للمشاركة في حفل لتأبينه .أما عزمي بشارة فهو دائم الزيارة إلى دمشق وبيروت علنا ،ويصرح من هناك بضرورة محاربة الكيان اإلسرائيلي والضغط عليه، ويجتمع مع أحمد جبريل وحسن نصر الله ويلتقط معهما الصور التذكارية وينشرها بشكل علني.
بشارة ورئاسة وزراء إسرائيل فما هي أسباب وخلفية هذا االستثناء لعزمي بشارة؟ ..وهل يتم كل ذلك في غفلة من أجهزة الدولة اإلسرائيلية التي تحصي أنفاس الفلسطينيني في كل مكان ،أم أن هذه الزيارات كانت تتم عالنية بمعرفة من الحكومة اإلسرائيلية؟ هذا ما أكده الصحافي اإلسرائيلي امنون أبراموفيتش للقناة التلفزيونية اإلسرائيلية رقم واحد يوم 16يونيو (حزيران) لعام ،2001حيث قال أن «عزمي بشارة كان يلتقي مع رئيس الوزراء اإلسرائيلي إيهود باراك قبل كل زيارة لدمشق ،ومع الجنرال احتياط داني ياتوم رئيس جهاز املوساد السابق ،وتعود على تقديم تقارير إلى ياتوم عن زيارته إلى سوريا» .ومن املعروف واملعلن أن بشارة سبق له أن ترشح لرئاسة الوزارة اإلسرائيلية ثم تنازل لصالح باراك على اعتبار أنه يساري يواجه قوى اليمني اإلسرائيلي. وفي الثامن عشر من يناير لعام 2004اعترف كل من داني ياتوم وعزمي بشارة باللقاءات التي بينهما ،ففي حديث إلذاعة الجيش اإلسرائيلي قال داني ياتوم «بما أن بشارة كان يسافر كثيرا إلى دمشق ،فقد اجتمعت معه لكي أبلغه باملوقف اإلسرائيلي ،وقمت برسم خريطة له حول ذلك على منديل ورق ..وقد تبادلنا الحديث عن األهمية البالغة الستمرار السيادة والسيطرة اإلسرائيلية على الجهة الشمالية الشرقية من بحيرة طبرية ،وأن تمتد هذه السيادة على رقعة حدودية على أراض مكونة من مئات األمتار» .وأضاف ياتوم «االقتراح ليس باسمي ..أنا رسمت شخصيا على ورقة منديل لعزمي بشارة ،لكن هذا املوقف اإلسرائيلي اقترحه إيهود باراك ،فقد كان مستعدا لالنسحاب من الجوالن حتى الحدود الدولية ،وكان هدفنا إبعاد السوريني عن حدود بحيرة طبرية». وردا على سؤال آخر قال داني ياتوم «اللقاءات لم يحضرها باراك، لكني أبلغته بأنني سأجتمع مع بشارة لكي أوجهه (بشارة) ،ليس كمبعوث رسمي بالكامل إلسرائيل ،ولكن ألنه كان يجتمع مع القيادة السورية» .وفي اللقاء اإلذاعي نفسه قال عزمي بشارة« :لقد سافرت إلى سوريا كثيرا قبل ذلك واجتمعت مع األسد ،ودائما كنت مستعدا للجلوس واالجتماع مع سياسيني إسرائيليني، واجتمعت مع باراك عدة مرات بعد ذلك». وقد صاحب هذه الزيارة القيام في أحيان كثيرة بدور املحامي املدافع عن النظام البعثي بشكل يتناقض مع أحاديثه املدوية عن الحرية والديمقراطية واملجتمع املدني ،وكان أكثرها نشازا عندما هاجم في حديث تلفزيوني لقناة لبنانية منتقدي التسلط والقمع البعثي وزجه اآلالف من معارضيه في السجون ،حيث تحدث يومها مشيدا بديمقراطية حزب البعث ..وتعرضت تصريحاته تلك للنقد من نشطاء حقوق اإلنسان ،مذكرين إياه بالديمقراطية اإلسرائيلية التي تسمح له بزيارة دمشق واالجتماع مع حسن نصر الله دون زجه في السجن ،في حني أن السياسيني السوريني باآلالف في سجون البعث املتيم بحبه ،وذكروه باملناضل الشيوعي رياض الترك الذي أمضى أكثر من ثالثني عاما في سجون البعث، وكان التذكير بالشيوعي الترك تحديدا على اعتبار أن عزمي بشارة كان عضوا في الحزب الشيوعي اإلسرائيلي «راكاح» ،قبل
أن يغادره في بداية التسعينات إلى النقيض حيث بدأ تنظيراته للقومية العربية ،واستعمال اسم جمال عبد الناصر وصوره.
العصر الذهبي لعزمي بشارة العصر الذهبي لبشارة إذن بدأ فعليا في الدوحة ومن خالل «الجزيرة» ومركز الدراسات واألبحاث هناك ،قبل ذلك كان يدعم ماليا من القذافي لتمويل أنشطته ،ويمتدح القذافي ،ويقيم الندوات لهذا الغرض في الجامعات الليبية ..وبعدها طلق دمشق وطرابلس وبيروت واستقر في الدوحة ،ومع بداية مع يسمى بالربيع العربي تم تعميده كمنظر للثورة عبر «الجزيرة» ،وكان في أطروحاته يبدو كمن يقرأ من كتاب ال من يملك وقائع ،ولم تكن أطروحاته تقنع من كان لديه درجة متوسطة من املعرفة السياسية ،ألن املفكر كان يظهر كغير مقتنع بما يقوله على مدى ساعات يوميا ،وتعابير وجهه تنم عن إرهاق وظيفي وليس عن ضعف فكري بداخله، وثبت ذلك في شريط الفيديو الذي تم ترويجه في ساعة غفلة والحوار بينه وبني مقدم برنامج بالقناة دون إدراكهما أنهما على الهواء وليس «أوف الين» ،وفيه تجلى بشارة كموظف تم تلقينه ما يقول ،وأنتقل من دور اإلعالمي األكاديمي الذي ينظر «للثورات» وربيعها إلى التحكم في شخوص الثورات خاصة السوريني والتونسيني ..فقد صار املندوب السامي الذي يرعب املعارضني السوريني ويهددهم بسيف «الجزيرة» إن لم ينفذوا طلباته ،وصار يتدخل في تركيبة املجلس الوطني وهيئات التنسيق الخ. وبواسطة مركز الدراسات الذي أسسه حاول استقطاب املثقفني واألكاديميني العرب ليكونوا «براغي» في املاكينة اإلعالمية، فالرجل مدجج بالقوة والثوار واملال والسلطة اإلعالمية <
د.عزمي بشارة يوقع كتابه (أن تكون عربيا في أيامنا) مايو2009 -
,,
كان عزمي بشارة ذا حظوة لدى النظام السوري واعتنق عقيدة املمانعة في محور البعث وحزب الله وإيران
,,
* كاتب ومحلل سياسي فلسطيني ورئيس تحرير صحيفة "الحياة الجديدة" سابقا
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
23
قصة الغالف
من بوابة بشار األسد تعرف الدكتور عزمي بشارة على شخصيات رفيعة املستوى في دولة قطر ،حيث كان بشارة ضيفا على النظام السوري ومنظرا له في املناسبات السورية الوطنية مادحا وليس قادحا .وحكاية عزمي بشارة هي حكاية قناص الفرص السياسية منذ بداياته في الحزب الشيوعي اإلسرائيلي ،حيث التحق به لفترة ،ثم قضى وطره منه إلى أن أقاله الكاتب واألديب والسياسي الفلسطيني إميل حبيبي منه .ومنذ تلك اللحظة تنقل بشارة من حزب إلى آخر متحالفا مع خصم هنا وصديق هناك من أجل أن يبقى طافيا على السطح.
ّ قناص الفرص
قراءة في تقلباته السياسية والفكرية..من هو عزمي بشارة؟
بقلم: حافظ البرغوئي *
,,
كانت زيارات بشارة لدمشق ولبنان تتم علنا ويلتقي فيها أعلى املسؤولني ثم يعود إلى إسرائيل دون محاسبته أو سؤاله
,,
22
كانت بداية انتشار الدكتور عزمي بشارة خارج حدود «عرب »48في رام الله ،حيث عمل محاضرا في جامعة بيرزيت ،وقدم نفسه كسياسي راديكالي معاد للمؤسسة الصهيونية ،لكنه في رام الله لم يستطع أن يصنع لنفسه تلك الهالة التي يطمح إليها بسبب أن قامات أخرى كانت هناك ،وأن قيام السلطة الوطنية بدد أوهامه في أن يكون شخصية مهيمنة على املشهد السياسي ،فلم يستطيع إنجاز أي اختراق رغم ما تواتر عنه بأنه حصل على تمويل خارجي أميركي من مؤسسة فورد والسفارة األميركية في تل أبيب ،وكنت شخصيا أتفادى االحتكاك به ألنه ال يأتي بجديد بل يحفظ غيبا نظريات وتحليالت سبق أن كتبها وألقاها في عشرات الندوات واملحافل الحزبية داخل الخط األخضر ..فالوضع السياسي في الداخل منحه فرصة التحليق في فضائه.
اآليديولوجي النتصار حزب الله بالدعم السوري الالمحدود واإليراني .ولم تمض سنتان على ذلك حتى ألهب هذا االنتصار هجاء ،ربما ألنه قرر أن يغير توجهاته السياسية من املقاومة واملمانعة نحو أفق جديد وجده في نافذة «الجزيرة» الفضائية ،لذلك وجدناه في ندوة بالجامعة األميركية عام 2009يهجو املقاومة ويعتبر أن انتصارها غير ممكن وأن مقاومة الداخل الفلسطيني ال طائل من ورائها ..وبعد أن عمل منظما لرحالت سياحية سياسية إلى دمشق صار يطالب النظام السوري بوقف هذه الرحالت! ..ثم طلب من معمر القذافي عدم استقبال وفود من عرب ،1948واعتبر ذلك نوعا من التطبيع ،كما ورد على لسانه في إحدى املقابالت، فقد كان املفكر «القومجي» أي «املتاجر بالقومية» يرى أن مثل هذه الرحالت والوفود إن تمت بموافقته وبتزكيته فهي وطنية ،أما إن تمت بترتيب آخرين فهي تطبيعية جنائية.
أكاديمي داهية
بشارة القومي والقرضاوي الديني
لكن بشارة يعد أكاديميا داهية ،وصاحب نظرية تسويقية للنظريات السياسية والفلسفية ،نجح في العزف على الوتر القومي وصار عضوا في الكنيست عام 1996بتحالف مع الحزب الشيوعي ،ثم فك ارتباطه بالحزب ،وتحالف حزبه وهو التجمع الوطني مع أحمد الطيبي من الحركة العربية للتغيير ،بعد أن كانا خصمني لدودين، وأعيد انتخابه عام 2003ثم ثبتت حوله شبهات قضائية بشأن ارتباطاته الخارجية وتنظيمه رحالت لشخصيات من الداخل إلى سوريا ..فقد بات الرجل محظيا لدى النظام السوري منذ األب حافظ األسد وصوال إلى ابنه بشار ،واعتنق عقيدة املمانعة في محور البعث وحزب الله وإيران ،وأشيع أنه كان ينقل معلومات إلى حزب الله .ولم تشأ السلطات اإلسرائيلية اعتقاله عند عودته من الخارج بل سمحت له بالسفر دون رجعة ،وحتى اآلن ال تعرف أسباب عدم اعتقاله رغم وجود أدلة تدينه بشأن اتهامات امنية ومالية.
ولعله حاول بعد أن قدم استقالته من الكنيست في السفارة اإلسرائيلية من القاهرة بعد حربه – ربما املتفق عليها -مع املؤسسة اإلسرائيلية أن يستقر في اإلمارات ،لكنه غادرها إلى قطر حيث التقت مصالحه مع قناة «الجزيرة» التي كانت في حاجة إلى منظر قومي ملؤازرة املنظر الديني يوسف القرضاوي ..فالتقى املسيحي واملسلم في سياق سياسي واحد ،أحدهما يتحدث باسم العروبة والقومية واآلخر باسم الدين .فعزمي بشارة كان ال يطيق أن يظل في الظل ،وكان مستعدا لفعل أي شيء حتى يبقى طافيا على السطح .فقد كانت زياراته لدمشق ولبنان تتم علنا ويلتقي فيها أعلى املسؤولني ،ثم يعود إلى إسرائيل دون محاسبته أو سؤاله ،رغم أن إسرائيل ال تقيم عالقات دبلوماسية مع النظام البعثي .وكانت ردود الفعل اإلسرائيلية ال تتعدى الصخب اإلعالمي أيضا ..ونفس ردود الفعل اإلسرائيلية كانت على زياراته لألردن قبل توقيع معاهدة الصلح األردنية اإلسرائيلية عام .1994
تراجع طموحه السياسي
وهناك العديد من الحاالت املعروفة للمواطنني الفلسطينيني في داخل دولة إسرائيل ،التي رفضت فيها األجهزة األمنية اإلسرائيلية خروجهم لزيارة لألردن أو سوريا ،رغم الظروف اإلنسانية املسببة للزيارة .فقد رفضت تلك األجهزة خروج صالح برانسي إلى عمان للمشاركة في حفل تأبني منصور كردوش أحد مؤسسي حركة األرض القومية .وبعد وفاة برانسي رفضت السلطات اإلسرائيلية
في خطاب عزمي بشارة في مدينة قرداحة ،بحضور الرئيس السوري بشار األسد والرئيس اللبناني إميل لحود ونائب الرئيس اإليراني آنذاك ،دعا إلى توسيع قاعدة املقاومة .وازداد خطابه القومي املقاوم زخما بعد حرب لبنان ،وبات بشارة املنظر
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
كيف تدعم «قوميته» انفصاال أو تقسيما داخل األراضياملحتلة عام ،67باإلضافة إلى تمزيق الكيان السياسي الوطني، الذي نشأ على األرض الفلسطينية ألول مرة في التاريخ إلى سلطتني متنازعتني تحت االحتالل اإلسرائيلي؟ كيف تقيم «قوميته» اضطرابا داخل أوساط فلسطينيي ،48ومن بعد فوضى وتقاتل داخل املجتمعات العربية عموما؟ كيف يدعو أهله من فلسطينيي 48إلى استمرار البقاءوالصمود داخل أراضيهم في مواجهة إسرائيل .بينما يغادرها ويغادرهم إلى قطر ،وليس إلى سوريا أو ليبيا وأي من مواقع الثورات ،التي يدعي أنه منها ويزعم مساندتها ويقوم بخدمه التنظير لها؟ يتغنى أو يتشدق القرضاوي وبشارة وبقية أبناء وتنظيمات الحرب الباردة وبقايا ثقافة الالسلم والالحرب بأنهم األقدر على إنجاز التحرر والتنمية ،وقد أضافوا أخيرا الديمقراطية أيضا مع أنه ال أصل لها في أفكارهم وممارساتهم وال تجاربهم، لكنهم ما جلبوا إال االحتالل أو كرسوه ،وقد أضافوا إلية تقسيم األوطان تحت االحتالل أو لصالح االحتالل ال فرق. فهم ممن يزعمون الحرب ويرفضون السلم .بينما وظيفتهم األساسية هي التصارع الداخلي ،فإسقاط النظام مقدم عندهم على تحرير األوطان .وتحرير فلسطني يبدأ عندهم من السيطرة على العواصم العربية الرئيسية أوال ،وليس السيطرة على األرض الفلسطينية املحتلة أوال وأخيرا .الحاصل أن بقايا الحرب الباردة بشخوصهم وتنظيماتهم ظلوا ويظلون أكبر عائق أمام التحرر والتنمية والديمقراطية .وفوق هذا كله أغرقوا املنطقة العربية برمتها في مستنقعات الفوضى.
األممية اإلخوانية ال الدوحة هانوي الفيتنامية ،وال هي ستالينغراد الروسية. وال القرضاوي وبشارة من مغاوير القتال ،بل من مغاوير الكالم وتروس الدعاية والتعبئة بتنظيرات فوضى ثقافة الالسلم والالحرب املوجهة عبر الفضاء .ربما لذلك تبدو ثورات القرضاوي -بشارة الفضائية نموذجا واضحا للحرب املوجهة، التي يتم إدارتها بوسائل الفوضى ،أو الفوضى ،التي تعد امتدادا للحرب .على أرض الواقع تظل األممية اإلخوانية ،التي يعبر عنها القرضاوي هي صاحبة الدور املحلي الرئيسي في تدوير عجلة الحرب الطائرة بوسائل الفوضى داخل املنطقة العربية ،وفي بدايتها جذب اإلخوان أو تم جذب مختلف التيارات القومية واليسارية والوطنية العامة إلى جانبهم .إنما سرعان ما عادت هذه التيارات األخيرة أدراجها تحت وقع نزعات االستئثار واإلقصاء اإلخواني املضاد لها ،وانكشاف أبعاد األدوار واألطماع األجنبية في هدم وتمزيق الدول واملجتمعات العربية والسيطرة عليها ،فلم يشذ عن هذه القاعدة بالطبع سوى بشارة وبعض الفرق الصغيرة وتحالفات اإلخوان األجنبية إقليميا ودوليا. ربما بوصفها صاحبة املصلحة األساسية.
حرب الفوضى اندلعت حرب الفوضى داخل املنطقة العربية بتفجيرات اجتماعية داخلية هائلة بداية من نهايات عام ،2010وبتعبئة وتوجيه وتحريض غير مسبوق على القتل وسفك الدماء من القرضاوي -بشارة .ال فرق ،فتم إسقاط حكام وجرى ذبح آخرين بوحشية منقطعة النظير .إنما سرعان ما انكشفت االنفجارات على فوضى عارمة ،انتقلت معها بلدان الثورة أو
الحرب من أوضاع الدولة إلى الالدولة .كما صارت تعج بمختلف أنواع فوضى االنقسامات والصراعات الداخلية ،وسيطرة العصابات املسلحة وأمراء الفوضى ،ومنها من سقط في مستنقع الحرب األهلية ومنها من ينتظر أو تهدده أشباحها بدعوات االنفصال داخله. الشاهد أن نتائج فوضى بقايا الحرب الباردة جاءت فورية فقد انهار داخليا كل ما حول إسرائيل أو تضاءلت قوته .بينما بقيت إسرائيل على قوتها .إن لم تكن قد ازدادت قوة .إضافة لذلك أصبحت املنطقة العربية برمتها ساحة مفتوحة ألطماع أجنبية إقليمية ودولية .وصارت مهددة بتقسيمات جغرافية وسياسية -اجتماعية جديدة تحت الهيمنة األجنبية من جانب أطراف إقليمية (إسرائيل -إيران -تركيا) ،وأخرى دولية (الواليات املتحدة األميركية -بعض القوى األوروبية الرئيسية). وكما هو أصل الطبع الذي يغلب التطبع جرى ويجري تسويغ هذا كله بتبريرات موظفة خصيصا من القرضاوي وبشارة و«الجزيرة» واإلخوان وغيرهم من بقايا الحرب الباردة ،التي لم تجد حرجا في طلب االستدعاء الصريح للقوات األميركية عند الحاجة أو االستقواء بأميركا وبقية القوى األجنبية اإلقليمية والدولية واستخدام منظمات العنف واإلرهاب كما هو الحال في مواجهة تحدي نجاح الثورة الوطنية املصرية في 30 يونيو (حزيران) املاضي وبرزوها كحائط صد مضاد لحرب الفوضى الجارية. عزيزنا القارئ فيما تبقى لنا من مساحة ولك من وقت أن تضع بنفسك القرضاوي وبشارة وإخوانهم من بقايا الحرب الباردة في أي وضع تشاء أو يليق بهم أو تعاملهم بما تراه أو يستحقونه <
,,
القرضاوي وبشارة بما يؤمنان به ويمارسانه ينتميان إلى بقايا ثقافة الحرب الباردة
,,
* كاتب ومحلل سياسي -رئيس تحرير «األهرام املسائي» ومدير مكتب «األهرام» في غزة سابقا
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
21
قصة الغالف
يصح عند البعض أن الدكتور يوسف القرضاوي مشكلة كشخص مثلما يبدو الدكتور عزمي بشارة كذلك .إنما املشكلة العضال هي في الثقافة التي ينتمي إليها القرضاوي وبشارة معا ،مع أن أحدهما مسلم واآلخر مسيحي، واألول إخواني والثاني يعتبر نفسه قوميا عربيا ،واألول أيضا قطري الجنسية مصري األصل ،والثاني إسرائيلي الجنسية من «عرب »48وقطري اإلقامة.
القرضاوي وبشارة :بقايا الحرب الباردة التي تقاتل بالفوضى
مغاوير الكالم بقلم: طارق حسن *
,,
يتغنى أو يتشدق القرضاوي وبشارة وبقية أبناء وتنظيمات الحرب الباردة وبقايا ثقافة الالسلم والالحرب بأنهم األقدر على إنجاز التحرر والتنمية
,,
20
القرضاوي كما بشارة عابر للوطنية ،فال القرضاوي بإخوانيته «وطني مصري أو قطري» باملعنى الفكري والسياسي ،وال بشارة بقوميته «وطني من عرب »48 باملعنى ذاته .التحق القرضاوي باألممية اإلخوانية منذ نعومة أظفاره الفكرية والسياسية ،وما زال عليها .ركب بشارة أوال عربات األممية الشيوعية من املحطة اإلسرائيلية ،ثم غادرها المتطاء القومية العربية من بوابة عرب ،48وأخيرا غادر هذا كله باستقالة منه للقنصل اإلسرائيلي في القاهرة من عضويه الكنيست (البرملان اإلسرائيلي) بعد ثالث دورات له ،وأيضا من العمل داخل أراضي ،48ليحتل موقع «الخبير» و«املتكلم» في فضائية «الجزيرة» إلى جوار القرضاوي. القرضاوي وبشارة ،بما يؤمنان به ويمارسانه ،أو ينتميان إليه ويعبران عنه ،من بقايا ثقافة الحرب الباردة والالسلم والالحرب ،التي نشأت كأساس فكري سياسي التفاقيات «سايكس -بيكو» االستعمارية املفروضة بقوى الهيمنة الدولية وتكرست كواقع أخير ،مع انتهاء الحرب العاملية الثانية عام .1945وشملت تقسيمات جغرافية ونظما سياسية -اجتماعية بمناطق شتى من العالم في القلب منها املنطقة العربية.
القومية العربية والقومية اإليرانية شهدت الحرب العاملية األولي نهاية اإلمبراطوريات األملانية والروسية والعثمانية والنمساوية -املجرية ،وتشكيل دول جديدة في أوروبا والشرق األوسط ،وتم نقل املستعمرات األملانية ومناطق اإلمبراطورية العثمانية إلى القوى األخرى خصوصا بريطانيا وفرنسا تحت الهيمنة األميركية. وضعت الحرب العاملية األولى أيضا بذرة الحركات اآليديولوجية العابرة للوطنية كالشيوعية والقومية واإلخوانية وإلى جانبها صراعات املستقبل في الحرب العاملية الثانية فالحرب الباردة. باختصار شكلت الحرب العاملية األولى البداية لعالم سايكس- بيكو ،فقد كانت املؤجج للثورة البلشفية الشيوعية في روسيا، التي أحدثت تغيرا في السياسة الصينية والكوبية ،ومهدت الطريق للحرب الباردة بني العمالقني الواليات املتحدة األميركية واالتحاد السوفياتي السابق ،كما صدر وعد بلفور ،الذي يقضي بقيام وطن قومي لليهود على أرض فلسطني العربية، فأقيمت إسرائيل رسميا عام ،1948وفي غضون ذلك سادت القومية في مناطق كثيرة من العالم العربي ،وبرزت القومية
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
اإليرانية ،وقام اإلخوان في مصر عام ،1928فتم استيعابهم في الحرب الباردة. الحرب الباردة أميركية األصل وثقافة الالسلم والالحرب أيضا، وتعني ببساطه اصطناع خصم أو دفعه للخصومة ،وأن يدفع هذا الخصم تكاليف الحرب دون أن يحارب خارجيا أو يتم فرض الحرب في داخله. فرضت أميركا الحرب الباردة بثقافتها على العالم منذ عام .1945والحقا أفلح األوروبيون والصينيون والروس واليابانيون في التخلص منها ،إال العرب فقد بقي يتم في داخلهم إعادة إنتاج وتمجيد مكونات وأوضاع وزعامات وأدوات ترسيخ هذه الثقافة ،فبقي أغلب العرب يدفع تكاليف الحرب دون حرب ،حتى تم فرض الحرب الداخلية عليهم ببقايا الحرب الباردة وأبناء وأنجال وأحفاد هذه الثقافة وفي مقدمتهم القرضاوي وبشارة. ربما ال يصدق القرضاوي وبشارة أنهما معا من نماذج بقايا الحرب الباردة وثقافة الالسلم والالحرب ،وقد ال يصدق آخرون من نجوم هذه الثقافة .إذ ال يسأل القرضاوي نفسه بعمق فيجيبها: كيف تنتج أمميته اإلخوانية خاصة والدينية عموما تقسيماواضطرابا وتفتيتا في الواقع السياسي -االجتماعي باملجتمعات العربية واملسلمة قبل غيرها وكما يجري مثاال في السودان وفلسطني املحتلة؟ وكيف تكون أمميته اإلخوانية بذاتها رديفا لالحتالل وقوىالهيمنة الدولية في الواقع السياسي -االجتماعي باملجتمعات العربية واملسلمة ،كما يجري منذ نهايات عام 2010وحتى اآلن؟ ثم كيف يكون هو بذاته داعيا الستدعاء قوي الهيمنة األجنبيةوفي مقدمتها الواليات املتحدة األميركية إلى املجتمعات العربية واملسلمة ،مع تقديمه خدمة املسوغات واملبررات «الفقهية» الالزمة لجلبها؟ كذلك ال يفعل بشارة ،فيسأل ويجيب: كيف تنتج «قوميته» من ناحية دعوة «لدولة إسرائيلية-فلسطينية ثنائية القومية» داخل إسرائيل .بينما يناهض بذاته من ناحية أخرى التيار الرئيسي في الحركة الوطنية الفلسطينية الداعم لقيام دوله فلسطينية مستقلة على األراضي املحتلة عام 67؟
Distinguish yourself
Kingâ&#x20AC;&#x2122;s is ranked in the top 30 universities worldwide* and based in the heart of London. With nine Schools and six Medical Research Council centres, Kingâ&#x20AC;&#x2122;s offers world-class teaching and research. Our extensive range of subjects includes humanities, law, medicine, psychiatry, dentistry, nursing, mathematics; natural, biomedical, social and management sciences. For further information, please contact Ghazi Lashab at ghazi.lashab@kcl.ac.uk *QS World University Rankings, 2011
www.kcl.ac.uk
شؤون سياسية
,,
صعود الصني لم يكن يوما خافيا على الواليات املتحدة ،التي بدأت منذ اعادة انتخاب أوباما ما أطلقت عليه سياسة «االستدارة» من الشرق األوسط إلى الشرق األدنى
,,
وقد تؤثر سلبا على األداء االقتصادي الصيني .بكني بدورها أدركت أن سباقا أمامها ،فراحت توقع االتفاقيات مع الجمهوريات السوفياتية السابقة الواقعة على حدودها الشمالية ،والغنية بالنفط عموما .لكن هذه الدول تفتقر إلى املقدرة االقتصادية والبشرية التي تتمتع بها االقتصادات املتقدمة شريكة أميركا ،في االتفاقية املذكورة ،مثل اليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية .هكذا ،بعدما وضعت واشنطن نفسها على مسار اقتصادي تنافسي يجعل من تفوق الصني عليها أمرا أصعب مما كان عليه قبل خمسة أعوام ،التفتت إلى التوازنات العسكرية ،فوقعت اتفاقيات جديدة مع دول مجاورة للصني ،وتضمنت هذه االتفاقيات إنشاء قاعدة أميركية للمارينز في أستراليا ،وقواعد لطائرات التجسس من دون طيار من طراز «غلوبال هوك» في اليابان ،في شهر سبتمبر (أيلول) املاضي. ومع أن التجسس موجه نظريا إلى كوريا الشمالية ،فإنه يغطي من دون شك حركة القطعات البحرية الصينية. ومن املتوقع أن تسهم الترسانة العسكرية األميركية املتفوقة في حماية خطوط التجارة بني دول هذه االتفاقية ،وتعزيز أمن مجموعة «الشراكة عبر الباسيفيك» ،تماما كما فعلت القوات األميركية و«حلف األطلسي» في زمن الحرب الباردة في وجه السوفيات .هذه املواجهة األميركية - الصينية الباردة ستؤثر على السياسة الدولية ألبرز قوتني في العالم، وسيتصدرها من دون الشك النزاع القديم على مصادر الطاقة ،فالصني أصبحت مؤخرا األولى عامليا في استهالك النفط بدال من أميركا ،ال بسبب زيادة حاجتها إلى الطاقة فحسب ،بل بسبب اقتراب أميركا من االكتفاء الذاتي ،وهو ما دفع األميركيني إلى االعتقاد بأن االستمرار في سياسة حماية منابع النفط ،وطرق انتقاله البحرية والدولية ،عملية مكلفة لواشنطن ومردودها األكبر يعود إلى الصني .هكذا ،صارت األصوات تتردد داخل العاصمة األميركية حول ضرورة إما إجبار الصني على تحمل مسؤولياتها في تكاليف حماية التجارة الدولية ،ومنها الطاقة ،أو االنسحاب من املناطق التي تعتقد واشنطن أن الصني بحاجة أكثر لها، مثل الشرق األوسط ،مما يجبر بكني على التدخل إيجابا في صناعة سياسات هذه الدول بدال من دور املتفرج أو املعطل الذي تلعبه هنا أو هناك ،فإذا كانت القنبلة النووية اإليرانية تدفع إلى سباق تسلح نووي وتهدد استقرار الشرق األوسط وتدفع سعر النفط صعودا ،فلتتعامل الصني بمسؤولية أكبر مع املوضوع. والدعوة األميركية إلى مسؤولية صينية عاملية تنطبق كذلك على شؤون مثل البيئة وانبعاث الغازات الحرارية ،ومكافحة الجريمة الدولية ،ومجابهة االتجار باملخدرات ،ومحاربة القرصنة ،فإذا كانت الصني تفيد من االستقرار ومن محاربة هذه اآلفات ،فعليها املساهمة سياسيا وماليا في ذلك .هذا يعني أن أميركا جدية في سياسة «االستدارة» ،وأنها تنوي استثمار ما تبقى لها من تفوق على الصني في إطالة تفوقها قدر اإلمكان، بل استعادته وتثبيته إن أمكن.
االستدارة في زمن العوملة
توم دونيلون مستشار الرئيس األمريكي لشؤون األمن القومي
18
توم دونيلون عمل مستشار األمن القومي الثالث والعشرين في تاريخ الواليات املتحدة ،والثاني عند أوباما ،وهو شغل منصبه بني عامي 2010 و .2013أما أبرز ما يعزى إليه فهو تصميمه لسياسة «االستدارة» من الشرق األوسط إلى الشرق األدنى التي تنتهجها الحكومة األميركية الحالية .وبموجب هذه السياسة ،أنهت أميركا حربها في العراق على وجه السرعة ،أي من دون التوصل إلى اتفاقية مع العراقيني إلبقاء قوة عسكرية صغيرة بعد االنسحاب األميركي في نهاية عام .2011كذلك، تسعى أميركا إلى إنهاء حربها في أفغانستان العام املقبل ،بغض النظر إن نجحت في تثبيت الوضع هناك أم ال ،وبغض النظر إن وافق األفغان على إبقاء قوة أميركية صغيرة في مرحلة ما بعد االنسحاب أم ال.
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
وال يخفى أنه في أثناء املرحلة التي عرفت بالربيع العربي ،بدت واشنطن مرتبكة تجاه الثورة التي أطاحت بالرئيس املصري األسبق حسني مبارك ،ومترددة في املشاركة في الحرب التي أطاحت بالعقيد الليبي معمر القذافي .وبلغ التقاعس األميركي في الشرق األوسط ذروته بعدما تراجعت واشنطن عن توجيه ضربة لنظام بشار األسد في سوريا، بعد شن نظام األخير هجوما باألسلحة الكيماوية ضد مدنيني في 21 أغسطس (آب) املاضي. في السياق نفسه ،يندر أن يفوت أوباما فرصة من دون أن يتوجه إلى قيادة إيران بطلب انفتاح إلى درجة تبدو وكأنها تشبه االستجداء .وال يختلف الباحثون على أن لدى إيران فرصة ذهبية القتناص تسوية من أميركا تكون في مصلحة طهران ،فتتحول إيران إلى دولة نووية ،أو على األقل تصبح صاحبة مقدرة على إنتاج أسلحة نووية حتى لو لم تقم فعليا بصناعة هذه األسلحة ،وفي الوقت نفسه ترفع أميركا واملجتمع الدولي العقوبات االقتصادية املفروضة عليها مقابل تطبيع دبلوماسي بني الجانبني .وتعتقد الواليات املتحدة ،على األقل حسب كتاب مذكرات وزير الدفاع تشاك هاغل الذي أصدره على أثر تقاعده من مجلس الشيوخ في عام ،2008أن االنفتاح على إيران يشبه انفتاح أميركا على الصني الشيوعية مطلع السبعينات .يومذاك ،تجاهلت واشنطن عقيدة الصني االقتصادية وتجاوزاتها لحقوق اإلنسان ومعظم املبادئ التي تبشر أميركا بها ،وانفتحت على بكني في سبيل ما اعتقدته مكاسب اقتصادية على شكل تجارة واستثمارات مربحة للشركات األميركية في الصني. لكن الدرس الوحيد من االنفتاح األميركي على الصني هو أن األخيرة تحولت إلى قوة اقتصادية ،وبقيت في الوقت نفسه ندا -وفي بعض األحيان خصما -للواليات املتحدة .ومن غير املفهوم كيف يمكن أن تتحول إيران النووية ،صاحبة أكبر مخزونات العالم النفطية ،إلى قوة صديقة ألميركا، من دون أن تهدد املصالح األميركية ومصالح حلفائها في املنطقة .ثم إنه في حال رفع العقوبات عن إيران ،وبسبب قرب الصني جغرافيا منها، تكون الواليات املتحدة قد قدمت للصينيني مصدرا هائال للطاقة على طبق من ذهب ،مما يعني أن سياسة «االستدارة» ،التي تفترض أن الشرقني األوسط واألدنى كيانان منفصالن وال يرتبطان مع بعضهما البعض ،هي ضرب من السذاجة في السياسة الدولية ،فاالستدارة األميركية ممكنة فقط لو كان الشرقان منفصلني إلى الحد الذي يتصوره بعض األميركيني من أمثال دونيلون .ولكن مع عالم معولم ومتصل ببعضه بعضا على شكل يومنا الحالي ،تصعب االستدارات ،ويصبح املطلوب سياسات أكثر تعقيدا تسمح لواشنطن بأن «تمشي وتمضغ العلكة في الوقت نفسه»، على حسب التعبير األميركي الرائج.
أميركا القوية وقيادتها الضعيفة على ضوء ما تقدم ،يمكن االستنتاج أن حلول الصني محل أميركا ما زال موضع شك ،وأن الواليات املتحدة ما زالت تتمتع بقدرات تجعل من الصعب أن ينافسها آخرون .لكن من الواضح أيضا أن واشنطن ابتليت بقيادة عديمة الخبرة في الشؤون الدولية ،وهي حتى لو نجحت في الفوز في سباقها مع الصني ،ترتكب أخطاء على صعيد العالم ،خصوصا في الشرق األوسط ،من شأنها أن تعطي الصينيني نقاط أفضلية ،على عكس ما تأمله واشنطن .أما أبرز األمثلة على ضعف أميركا عامليا على الرغم من قوتها الفعلية فيبدو جليا في تفوق الروس واإليرانيني ،الذين يتأخرون بما ال يقاس على أميركا ،ألسباب يبدو أنها تنحصر بسياسات واشنطن حصرا < * صحافي لبناني يقيم في الواليات املتحدة األميركية يكتب بانتظام في صحف اميركية من بينها نيويورك تايمز ،واشنطن بوست ،كريسشان ساينس مونيتور ،كما شارك في برامج تلفزيونية على قنوات اخبارية اميركية
إلى أقصاه .ويمكن القول إن النموذج الصيني سيرتطم بالسور العظيم، والسؤال الوحيد اآلن هو مدى فداحة االرتطام». وينقسم بعض االقتصاديني في تحديد شكل األزمة الصينية املقبلة، فيعتقد بعضهم أنه ال يمكن لهذه األزمة أن تأتي على شكل التعثر الياباني في عام ،1992بسبب محدودية انخراط الصني في األسواق املالية العاملية، فيما يعتقد جزء آخر أنه بسبب إصرار الصني على تمويل حكومي لصناعتها من أجل اإلبقاء على إنتاجها مرتفعا من أجل الحفاظ على «األمن االجتماعي» ،املرتبط بإبقاء معدالت البطالة منخفضة ،قد يأتي انهيار الصني االقتصادي بطيئا على شكل الوهن الذي أصاب االتحاد السوفياتي. وبغض النظر عن إن كان اقتصاد الصني سيرتطم بأي عقبات أم ال، فإنه من املؤكد أن أمامها عقدين فقط لتحقيق سطوتها العاملية والحفاظ عليها ،إذ من املتوقع أن تصيب الشعب الصيني شيخوخة قبل حلول منتصف القرن الحالي ،وهو ما يفرض تراجعا اقتصاديا على غرار أوروبا واليابان .ويبدو ذلك جليا في أرقام نمو السكان ،فالنسبة الوحيدة التي تتقدم فيها أميركا على الصني منذ عام 1992هي النمو السكاني، بفعل الوالدة والهجرة ،مما يعني أن أمام أميركا فرصا أكبر للحفاظ على شبابية قوتها اإلنتاجية لفترة أطول بكثير من الصني واليابان وباقي االقتصادات املتقدمة ،وما من شأنه أن يسمح ألميركا بالحفاظ على صدارتها االقتصادية العاملية ،وتاليا سطوتها.
الحرب الباردة بنسختها املحدثة أميركا املتيقظة دائما ألي منافسة عاملية ال يبدو أنها تنتظر تعثر الصني ذاتيا ،بل تعمل وكأن النمو الصيني مستمر إلى األبد .هكذا ،والحتواء الصعود الصيني ،كان ال بد لواشنطن من عقد تحالفات دولية على غرار
تلك التي عقدتها زمن الحرب الباردة ،ففي أيام الصراع مع موسكو تفوق السوفيات على األميركيني في عديد القوات التقليدية وكميات األسلحة ومساحة الجبهات ،حتى إنهم صعدوا إلى الفضاء قبل األميركيني ،لكن أميركا نجحت في خلق «تحالف األطلسي» مع األوروبيني ،وكان يمكن لهذا التحالف مقارعة الروس من حيث عديد الجنود الذي كانت أميركا متأخرة فيه. في حالة الصراع مع الصني ،تعاني أميركا مشكلة مشابهة ،فعدد سكانها البالغ 330مليونا بالكاد يبلغ ربع تعداد سكان الصينيني .اقتصاديا، يعطي ذلك الصني نقاط تفوق متعددة ،فمع التقدم في مداخيل الصينيني، يمكن أن تتحول الصني إلى أكبر سوق استهالكية في العالم ،وهي لديها حاليا أكبر عدد من العاملني على وجه املعمورة ،كما أن تعداد أفراد طبقتها الوسطى وحدها يساوي عدد الشعب األميركي مجتمعا. وتشير أحدث اإلحصاءات إلى أن أميركا ما زالت أكبر سوق في العالم مع حجم استيراد سنوي يبلغ تريليونني و 200مليار سنويا ،تليها الصني بتريليون و 700مليار .أما إذا تحولت الصني إلى أكبر مستوردة في العالم، فذلك سيعني أن الدول ستسعى إلى صداقتها أكثر للحفاظ على هذه السوق ،مما سيعطي الصني أهمية استراتيجية تتفوق فيها على أميركا. على ضوء ذلك ،قامت الواليات املتحدة باالنضمام إلى سوق إقليمية تجمعها مع حلفائها ومنافسي الصني في جنوب وشرق آسيا ،وذلك في إطار اتفاقية «الشراكة عبر الباسيفيك» ،وهي اتفاقية تجارة حرة في حال قيامها املتوقع قريبا ستجمع كتلة بشرية من نحو 800مليون بشري، مع اقتصاد يبلغ حجمه 28تريليون دوالر .هذه الشراكة ،املبنية على رؤية أميركية للتجارة العاملية -غالبا ما ال تلتزم بها الصني -تحترم حقوق امللكية الفكرية وقواعد التجارة الحرة وتلغي الحمايات الجمركية ،وهي في حال قيامها ستتحول إلى عمالق اقتصادي يفيد الدول األعضاء،
,,
باراك أوباما يصافح الرئيس الصيني شي جني بينغ
في حال رفع العقوبات عن إيران وبسبب قرب الصني جغرافيا منها تكون الواليات املتحدة قد قدمت للصينيني مصدرا هائال للطاقة على طبق من ذهب
,,
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
17
شؤون سياسية
انهيار سطوة السوفيات العسكرية وتوقف املاكينة االقتصادية اليابانية أبقيا الواليات املتحدة وحدها في طليعة دول العالم عسكريا واقتصاديا من دون منازع .ذلك االنفراد بالصدارة هو الذي دفع األميركيني ،مسؤولني ومثقفني، إلى الوقوف والتأمل في بريق تلك اللحظة ،فأطلق الرئيس األسبق بيل كلينتون لقب «القرن األميركي» على القرن العشرين ،فيما أطلق األكاديمي املعروف فرانسيس فوكوياما عنوان «نهاية التاريخ» على السنوات األخيرة من األلفية الثانية التي شهدت تفوقا أميركيا ال لبس فيه.لكن التاريخ لم ينته ،وراحت الواليات املتحدة تخسر صدارتها في بعض املجاالت االقتصادية مع نهاية القرن املاضي.
املواجهة األميركية ـ ـ الصينية ستؤثر على السياسة الدولية
غروب وشروق
بقلم: حسني عبد الحسني *
,,
االقتصاد الصيني سيصبح األكبر عامليا في عام 2021 وستتحول الصني إلى أكبر دولة تنفق على الشؤون الدفاعية في عام 2025 متخطية أمريكا
,,
16
في عام 1999انتزعت الصني صدارة العالم في استهالك الفوالذ ،وفي عام 2001في عدد الهواتف النقالة ،وفي عام 2002 أصبحت الصني األولى عامليا في استهالك النحاس .أما في عام 2003فتصدرت الصني دول العالم في االستثمارات األجنبية ،وأصبحت الدولة األولى في انبعاث ثاني أكسيد الكربون في عام ،2006واألولى في الصادرات في عام .2007وفي عام 2010أصبحت الصني األولى في اإلنتاج الصناعي ،وفي استهالك الطاقة ،وفي مبيعات السيارات. هذا التقدم السريع جعل الصني تتقدم في عام 2011إلى مركز ثاني أكبر اقتصاد في العالم ،لتحل محل اليابان .ومع نهاية العام الحالي من املتوقع أن يبلغ حجم االقتصاد الصيني 9تريليونان دوالر ،ليبقى في املرتبة الثانية خلف االقتصاد األميركي الذي يبلغ حجمه 14تريليونا. وحسب توقعات «ذي إيكونوميست انتيليجنس يونيت» املرموقة ،فإن االقتصاد الصيني سيصبح األكبر عامليا في عام ،2021وستتحول الصني إلى أكبر دولة تنفق على الشؤون الدفاعية في عام ،2025متخطية أميركا التي بلغ إنفاق وزارتها للدفاع في عام 2008إنفاق وزارات دفاع العالم مجتمعة .صعود الصني هذا لم يكن يوما خافيا على أحد، خصوصا الواليات املتحدة ،التي بدأت منذ انتخاب باراك أوباما في عام 2009ما أطلقت عليه سياسة «االستدارة» من الشرق األوسط إلى الشرق األدنى ،وهي سياسة معقدة ومبنية على خطوات مصممة إلبقاء أميركا األولى عامليا .حجر الزاوية في سياسة أوباما هذه هو إعادة تأهيل داخلية، وهو ما كان يتطلب حكما إنهاء حروب أميركا املكلفة في الخارج ،أي في العراق وأفغانستان ،التي تشير التقديرات إلى أن تكلفتها بلغت قرابة 6 تريليونات دوالر ،أو ثلث الدين األميركي العام البالغ نحو 17تريليونا. وترافق إنهاء اإلنفاق األميركي «لبناء الدول» في الخارج مع تجديد حزمة من السياسات االقتصادية أسهمت في إعادة إحياء الصناعة األميركية وزيادة الصادرات التي ارتفعت بنسبة 19في املائة بني عامي 2008 و ،2012لتصل إلى تريليون و 500مليون ،فقفزت أميركا من املركز الثالث عامليا في الصادرات إلى املركز الثاني ،لتحل محل أملانيا وتصبح الثانية خلف الصني .وكانت أميركا خسرت مركزها األول في عام ،2003لكن مع حلول عام 2013أظهرت البيانات أن كمية صادرات أميركا بلغت 76 في املائة من صادرات الصني ،وهو ما يشير إلى تقلص في الهوة بني البلدين ملصلحة األميركيني .ومن حسن حظ أوباما أن سياسته للبقاء في الصدارة ترافقت مع انتشار تقنية استخراج النفط والغاز الصخري،
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
وشهدت أميركا العام املاضي زيادات في ناتجها اليومي من الطاقة لم تشهدها منذ اكتشاف البترول في والية بنسلفانيا في عام .1859وكانت وزارة الطاقة األميركية أعلنت ،الشهر املاضي ،أنها احتلت املركز األول كأكبر دولة منتجة للنفط والغاز في العالم ،لتحل محل روسيا. الفورة النفطية األميركية ال تنبئ باكتفاء ذاتي مع نهاية العقد فحسب، بل أسهمت حتى اآلن في إعادة إحياء صناعات أميركية كثيرة ترتبط بمشتقات النفط ،وأسهمت هذه الصناعات -مع الزيادة في التصدير والتقليص في استيراد الطاقة -إلى تقليص في عجز ميزان املدفوعات األميركي للمرة األولى منذ عقود.
هل تصبح الصني األولى عامليا؟ بدأت أرقام تشير إلى تعافي اقتصادها ،وإن بشكل خجول ،وصارت نسب النمو االقتصادي تقارب 3في املائة سنويا ،يترافق ذلك مع انخفاض في نسبة البطالة وفي عجز ميزانية الدولة السنوي .في الوقت نفسه ،تراجعت نسب النمو االقتصادي في الصني في عام 2013إلى 7.5في املائة ،بعدما تعدت 14في املائة في عام .2009 واالقتصاديون ينقسمون عموما حول مستقبل الصني .البعض من أمثال جيم أونيل ،مؤلف تسمية «دول بريكس» ،يعتقد أنه في حني خيبت آماله ثالث دول من هذه املجموعة هي البرازيل وروسيا والهند ،التي انهار الصعود االقتصادي الذي شهدته على مدى العقد املاضي ،فإن أونيل ما زال يراهن على أن الصني ستنجح في قلب اقتصادها من واحد يعتمد على االستثمارات األجنبية والتصدير إلى آخر يعتمد على االستهالك الداخلي .وبمقارنة بسيطة ،يظهر أنه فيما يعتمد ثلثا نشاط اقتصاد أميركا على االستهالك املحلي ،ال تتعدى النسبة نفسها 35في املائة في الصني حسب بيانات خريف عام .2013وكانت الحكومة الصينية وعدت بزيادة نسبة االستهالك إلى 50في املائة من ناتجها املحلي مع نهاية العقد الحالي ،إال أن هذا الهدف يبدو طموحا بعض الشيء. بدوره ،يقول املعلق في صحيفة «نيويورك تايمز» وأستاذ االقتصاد الحائز لجائزة نوبل بول كروغمان إن «اإلشارات اليوم ال يمكن أن تخطئ، فالصني في ورطة كبيرة» .ويضيف «نحن ال نتحدث عن تراجع بسيط، إنما مشكلة جوهرية» .ويتابع أن «كل النموذج الذي تجري فيه الصني أعمالها ،النظام االقتصادي الذي غذى ثالثة عقود من النمو املذهل ،وصل
واعتبار إيران لتركيا جسرا آمنا يبقي على وشائج التواصل بني طهران والغرب في أصعب الظروف. وفى ظل التداعيات الالفتة للثورات العربية التي أظلت منطقة طاملا شكلت مسرحا مهما للتنافس بني أنقرة وطهران ،برأسها أطلت عالمات االستفهام متسائلة عن إمكانية تأثر أسس العالقات التركية اإليرانية بتلك التداعيات. ففي خضم التحوالت املفصلية التي تجتاح منطقة الشرق األوسط ،الحت في األفق نذر تنافس بني مشروعني ،أولهما ،إيراني يسوق لنظام حكم ثيوقراطي ويقود «محور املمانعة» والتصدي ملا يعتبره مؤامرات غربية وهيمنة أميركية وإسرائيلية ،وال يتورع عن التدخل في شؤون دول الجوار مستخدما أدوات صلبة وناعمة في آن .وثانيهما ،تركي يستخدم القوة الناعمة كالديمقراطية والتنمية االقتصادية والجمع بني اإلسالم والعلمانية والحداثة من دون تدخل في شؤون الغير ،وهو نموذج تحديثي يستند على ثالوث الجيش واإلدارة واالعتدال اإلسالمي .وفي حني ال يلقى املشروع األول رواجا عربيا أو دعما غربيا ،يحظى اآلخر بمستوى ما من القبول العربي والتأييد الغربي. وقد بدت مالمح التنافس بني املشروعني واضحة في غير موضع بدءا من القوقاز وآسيا الوسطى ،مرورا ببالد الشام والعراق ودول مجلس التعاون الخليجي وانتهاء بأفريقيا .وفى اآلونة األخيرة ،وتحديدا خالل جولة أردوغان بشمال أفريقيا ،بدأت إيران تلمس تحركا محموما من قبل حكومة العدالة لتسويق نموذجها املدعوم غربيا بغية تقليص املد اإليراني ،إذ ترى إيران في احتضان أنقرة للمعارضة السورية محاولة لفرض نظام سوري موال لألتراك يقود بدوره إلى تكرار سيناريو معركة جال ديران عام 1514التي هزم فيها الشاه إسماعيل الصفوي أمام السلطان العثماني سليم األول وفتحت الطريق أمام العثمانيني للسيطرة على الجنوب عبر مرج دابق عام ،1516ثم الحجاز ومصر في السنة التالية ومن بعديهما العراق عام .1534 وبناء عليه ،طالب املستشار العسكري ملرشد الثورة اإليرانية تركيا بضرورة إعادة النظر في مسعاها لتسويق ما اعتبره «علمانية مسلمة غير متوقعة وال يمكن تصورها» في العالم العربي ،وهددها بأنها ستواجه مشكالت مع شعبها ومع جيرانها ،كما ستقوم كل من سوريا والعراق وإيران بإعادة تقييم عالقاتها معها ،إذا لم تتراجع .ورغم الزخم الواضح في بواعث التوتر بني أنقرة وطهران جراء الثورات العربية ،ثمة مؤشرات عدة تشي باستمرار السمت التفاهمي لعالقاتهما .فبقدر ما يطوي ذلك الربيع بني ثناياه من تحديات ،يمكن القول إنه لم يخل من محفزات لإلبقاء على ذلك السمت .فمع حالة الضبابية الشديدة التي باتت تلف املشهد الشرق أوسطي ،قد ال تجد أنقرة وطهران بدا من االستقواء ببعضهما بعضا على خلفية عدم ثقتهما في واشنطن وتل أبيب ومخططاتهما بشأن إعادة هندسة املنطقة .ففي حني تتطلع أنقرة من جانبها إلى توسيع دائرة عمقها الجيواستراتيجي قدر املستطاع ليكون رصيدا مهما يعزز موقفها التفاوضي مع حلفائها الغربيني ويعظم من فرص ولوجها إلى فردوسها األوروبي ،وظهيرا موازيا أو خيارا بديال تلوذ به حالة إخفاق أو تعثر رهاناتها على الغرب ،وهو ما يفسر إخراج وثيقة األمن القومي التركية للعام 2010كل من روسيا وسوريا وإيران واليونان من خانة العدو الخارجي ،تحرص طهران في مسعى آخر على االحتفاظ بنافذة استراتيجية حيوية تطل من خاللها على املجتمع الدولي ،سواء ألغراض املناورة أو التقارب ما استطاعت ألحدهما أو لكليهما سبيال ،وتبقى عبرها الباب مواربا أمام أي صفقة جديدة محتملة بأي وقت بني النظام األكثر براجماتية في طهران ونظرائه على الجانب اآلخر ،سواء أولئك املترقبني في كل من واشنطن وتل أبيب ،أو هؤالء القلقني املترددين بشأن التقارب معها في سائر بلدان العالم العربي واإلسالمي.
التصالحي واملصلحي ومن رحم ذلك التصور ،انبلجت مبادرات وخطا التقارب بني أنقرة وطهران مؤخرا .فعلى مستوى التحرك الثنائي ،لم يوصد الجانبان كلية باب الحوار مع دول قوقازية وغربية حول مشروع «نابوكو» لنقل النفط والغاز من وسط آسيا إلى أوروبا عبر تركيا وإيران دون املرور باألراضي الروسية .وعلى الصعيد
التركي ،عمدت حكومة العدالة إلى طمأنة طهران بشأن نشر رادارات للدرع الصاروخية األطلسية في تركيا وتعزيز إجراءات بناء الثقة معها مؤكدة أنها ال تستهدف إيران ،كما شدد وزير الخارجية التركي خالل استقباله علي فتح الله ،مساعد وزير الخارجية اإليراني لشؤون آسيا واملحيط الهادي مطلع شهر أكتوبر (تشرين األول) ،2012أن أحدا ال يستطيع تهديد أمن إيران عبر األراضي التركية ،التي أكد أنها لن تكون ركيزة للدفاع عن أمن إسرائيل .وإبان زيارة وزير الخارجية اإليراني لتركيا قبل نهاية الشهر ذاته ،شكك أوغلو في إمكانية تورط طهران بمؤامرة الغتيال السفير السعودي بواشنطن. أما الجانب اإليراني ،فلم يتورع بدوره عن إظهار حرصه على توثيق عرى التعاون مع الشريك التركي ،فخالل االجتماع الوزاري األخير لوزراء الدول الثماني اإلسالمية في شهر أكتوبر ،2012دعا وزير التجارة والصناعة اإليراني كال من مصر وتركيا لتعزيز الشراكة بني البلدان الثالث .وفى مسعى منها لتقليص الفجوة بينها وبني أنقرة حول الوضع الراهن في سوريا ،أدانت طهران أعمال القتل والعنف هناك داعية نظام بشار األسد لتبني إصالحات وإطالق املعتقلني السياسيني ،وسحب الجيش من املناطق السكنية ،وتأسيس مجلس سياسي ملعالجة األوضاع ،واتخاذ ما يلزم إلجهاض العبث في مستقبل سوريا واملنطقة .وأكد وزير الخارجية اإليراني حرص بالده على الوقوف مع الشعب السوري لنيل حقوقه في الحرية والديمقراطية .وهي مؤشرات تحول مهمة في موقف طهران إزاء نظام دمشق قد تفسر ما أوردته مصادر سوريا عن تهديدات بشار األسد إليران باطالع الواليات املتحدة على خريطة مخازن األسلحة التابعة لحزب الله في لبنان حال توقف طهران عن دعم نظام األسد. وتأسيسا على ما سبق ،يجوز االدعاء بأن التأثير املحتمل للثورات العربية على العالقات التركية اإليرانية ربما ال يصل إلى مستوى يعرج بها من حالة التنافس التاريخي املحكوم واملحدد السقف إلى حالة الصراع أو املواجهة ،وإن أسهم في توسيع دوائر ومجاالت هذا التنافس وتعلية سقفه بعض الشيء، طاملا أن معادلة توازن القوى واملصالح التي تحكم العالقات بني البلدين لم يطلها أي تغيير جوهري قد يخل بها .غير أن التوجه التصالحي واملصلحي الطموح بني القاهرة وطهران وأنقرة ،املستوحى من النموذج التركي اإليراني في التنسيق وسط بواعث الخالف املتنوعة ،يستوجب أن يستبقه ويواكبه إجراءات متبادلة ومتزامنة وجادة لبناء الثقة املهترئة وتبديد املخاوف والشكوك املتراكمة ،عالوة على مساع جماعية حثيثة لتذويب الخالفات املزمنة وتسوية املشكالت العالقة على أسس عادلة ،والتنسيق بني األدوار والتطلعات اإلقليمية املنفردة لكل طرف ،بما يحول دون تدخل أي منها في شؤون اآلخر. ووسط هذه املساعي الجماعية النشطة ،تبدو مصر ،املرهقة من تبعات وأعباء حراكها الثوري املضني املنهمر منذ قرابة أعوام ثالثة ،في مسيس الحاجة إلى تكثيف جهودها لتدارك ما فاتها والتماس كل السبل الكفيلة بتقليص الفجوة املتنامية في موازين القوة الشاملة بينها وبني سائر شركائها اإلسالميني الشرق أوسطيني ،ال سيما تركيا وإيران <
شاب تركي مؤيد لجماعة االخوان يحمل ملصقا فيه صور زعيم حركة حماس اسماعيل هنية الرئيس املصري املعزول محمد مرسي ورئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان
,,
االختالف املذهبي بني إيران الشيعية املذهب وكل من تركيا ومصر أجج هواجس ومخاوف هائلة لدى املصريني واألتراك حيال املد الشيعي
,,
* كاتب ومحلل سياسي ورئيس تحرير مجلة (الديمقراطية) الصادرة عن مؤسسة (األهرام) املصرية
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
15
شؤون سياسية
لطاملا استغرقت النخب السياسية والفكرية حول العالم في جدل حامي الوطيس حول موقع الدين في العملية السياسية عموما وفى العالقات الدولية على وجه التحديد .وما بني فريق واقعي يرى في نظرية القوة ركيزة أساسية لتلك العالقات ويعتقد في مبدأ املصلحة دافعا وقصدا لها ،وفريق آخر مثالي يعلي من أهمية القيم النبيلة واملبادئ اإلنسانية الرفيعة ،وقف نفر ثالث يوقن بدور بارز للدين في التأثير على مسار التفاعالت بني القوى السياسية داخل الدولة الواحدة ،كما على اتجاهات وأنماط العالقات بني الفاعلني الدوليني بشتى صنوفهم ،سواء كانوا دوال أو منظمات أو حتى شخصيات دولية مؤثرة.
الدين والثالوث املصري اإليراني التركي
اختالف وتباين بقلم: بشير عبد الفتاح *
,,
تالقي املذاهب الدينية لم يكن كافيا للحيلولة دون بروز بواعث الجفاء وعدم االنسجام
,,
بالنظر إلى اتجاهات العالقات اإلقليمية بمنطقة الشرق األوسط ،قد يتراءى لكثيرين منذ الوهلة األولى أن الدين يعد ،ولو نظريا على األقل ،أحد أبرز عناصر التقريب والتالقي بني القوى الرئيسة في تلك املنطقة ،والتي ستقتصر هذه السطور على تناول ثالث منها فقط على سبيل املثال وليس الحصر ،هي مصر وتركيا وإيران ،على اعتبار أن ثالثتهم دول مسلمة ،ترتبط فيما بينها بوشائج حضارية وثقافية تضرب بجذورها في عمق التاريخ البشري الحديث ،كما كان لجميعها إسهام واضح وملموس في بناء الحضارة اإلسالمية وترسيخ دعائمها العقائدية والفكرية ،التي باتت تشكل مرجعية دينية وثقافية لجموع املسلمني في مشارق األرض ومغاربها. غير أن مسحة الخصوصية الثقافية والحضارية التي تميز تجربة كل دولة من هذه الدول الثالث على حدة ،والتي أفرزت تأثيرات عميقة على فهمها لإلسالم وممارسته وتأثرها به في سياساتها على الصعيدين املحلي والدولي ،قد أتاحت بدورها فرصا لبروز مساحات من التنوع ،الذي بلغ حد االختالف والتباين في أحيان كثيرة ومواضع شتى .وهو األمر الذي مهد السبيل تدريجيا لتحول الدين من عنصر تقريب إلى عامل تفريق بني القوى اإلسالمية الثالث .فما من شك في أن االختالف املذهبي بني إيران الشيعية املذهب وكل من تركيا ومصر ،وهي دول سنية الهوى واملذهب ،قد أجج هواجس ومخاوف هائلة لدى املصريني واألتراك ،حكومات وشعوبا ،حيال ما يمكن أن يسمى باملد الشيعي ،خصوصا بعد أن آل نظام والية الفقيه في إيران الخمينية على نفسه منذ اندالع الثورة اإلسالمية في عام 1979تبني مبدأ التشييع وتصدير الثورة إلى دول الجوار العربي واإلسالمي.
العالقات املصرية التركية وعلى صعيد العالقات املصرية التركية ،فيبدو جليا أن تالقي املذاهب الدينية لم يكن كافيا للحيلولة دون بروز بواعث الجفاء وعدم االنسجام .فرغم أن البلدين يتفقان في املذهب السني ،وإن كانت تركيا حنفية ومصر شافعية ،فإن تركيا الحالية بقيادة حزب العدالة والتنمية تقدم نموذجا لإلسالم الحداثي الليبرالي املعتدل املتصالح مع الغرب والعلمانية والديمقراطية ،هذا في الوقت الذي لم يكن تيار اإلسالم السياسي في مصر ،بمختلف مشاربه من سلفيني و«إخوان مسلمني» وجهاديني وتكفيريني سابقني ،مياال النتهاج ذلك النهج.
وزير الخارجية االيراني محمد جواد ظريف
14
وهو األمر الذي ظهر بجالء إبان زيارة أردوغان قبل األخيرة للقاهرة والتي أكد خاللها أن حزبه ليس إسالميا وإنما هو ليبرالي علماني ،ما أدى إلى استياء إسالميي مصر وتقليصهم من فرط الحفاوة الالفتة التي قابلوا بها الزعيم التركي في مستهل زيارته ،كما تجلى أيضا في أجواء البرود التي تخيم على
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
العالقات بني القاهرة وأنقرة خالل السنة التي تسنى لجماعة اإلخوان املسلمني وذراعها السياسية املتمثل في حزب الحرية والعدالة حكم مصر ،رغم املبادرات التركية الجذابة والعروض السخية التي لم يسل لها لعاب نظام الرئيس املعزول مرسي. على خالف ذلك ،اكتست العالقات بني تركيا وإيران سمتا فريدا ،فرغم الصراعات التاريخية بني الدولتني العثمانية السنية والصفوية الشيعية على النفوذ والزعامة ،ثم املنافسة الحالية على األدوار اإلقليمية بني طهران وأنقرة، تسنى للبلدين التوصل إلى صيغة من العيش املشترك وحسن الجوار القائمني على توازن القوى واملصالح فيما بينهما .ولم تحل مخاوف أنقرة من املد الشيعي اإليراني دون توثيق العالقات االقتصادية والسياسية والثقافية بني البلدين ،حتى أضحت تركيا بمثابة رئة إيران التي تساعدها على الصمود والبقاء ،سواء إبان الحرب العراقية اإليرانية ( ،)1988 - 1980أو تحت وطأة العقوبات الدولية والعزلة الغربية اللتني يكابدهما اإليرانيون منذ سنوات بجريرة برامجهم النووية املريبة .وإذا كانت املعطيات السابقة تشي بأن التالقي العقائدي ليس كافيا وحده لضمان تعزيز التعاون بني الدول ،فإن التنوع املذهبي هو اآلخر ال يمكن أن يفضي بالضرورة إلى نفور سياسي أو تناقض في املصالح .ويمكن لدول املنطقة استلهام تجارب عاملية ناجعة كثيرة في هذا السياق كاالتحاد األوروبي والنافتا واإليبيك واآلسيان والبريكس وغيرها ،والتي تسامت دولها فوق االختالفات الدينية واإلثنية لتتبنى نموذجا للمصالح املتالقية.
الثالوث املصري التركي اإليراني ويمكن في هذا السياق للثالوث املصري التركي اإليراني أن يعمل على بلورة حزمة من املصالح املشتركة على غرار ما فعلت تركيا السنية مع إيران الشيعية ،تكون قاعدة لالنطالق نحو تفاهمات وشراكات استراتيجية إقليمية أوثق وأشمل تتسع الستيعاب فاعلني إسالميني بارزين كالسعودية ،على أن يمضي ذلك قدما بالتوازي مع تفعيل الحوار وإحياء جهود التقريب بني املذاهب اإلسالمية .فلقد ارتكنت العالقات التركية اإليرانية منذ منتصف القرن السادس عشر على أساس براجماتي صلب تجلى في حسن الجوار القائم على تحييد الخالفات املذهبية واحتواء التوترات املتجددة ،فضال عن توازن املصالح املستند على توازن القوى بني الطرفني ،اللذين تجمعهما عالقات تجارية متنامية ،عالوة على التنسيق في املسائل األمنية املتعلقة بأفغانستان وباكستان كما حركات التمرد املسلح التي تقض مضاجع نظامي أنقرة وطهران ،إلى جانب توافق جيواستراتيجي يتأتى من اعتبار تركيا إليران فاعال رئيسا يصعب الولوج املستقر من دونه إلى وسط آسيا وجنوبها،
وترجع املشكلة الرئيسة فى املباحثات األميركية اإليرانية حول الدور اإلقليمي لطهران إلى أن هذه املباحثات ليست إقليمية بل ثنائية؛ فلم تجري دعوة أي من القوى اإلقليمية إلى تلك املباحثات كما لم تتشاور الواليات املتحدة مع أي منها ،وهو ما ينظر إليه العديد من العرب باعتباره إهانة لدورهم ومكانتهم في املنطقة ،ويمكن أن يسفر عن تداعيات خطيرة. وعلى صعيد الحدود ،يجب أن يجري الربط بني املباحثات مع إيران والجهود الدبلوماسية األخرى في املنطقة خاصة القضية السورية والقضية اإلسرائيلية -الفلسطينية .كما يجب أن تتضمن استراتيجية أوسع وأكثر تماسكا مشاركة كافة األطراف وأصحاب املصالح في املنطقة .فمن جهته، حذر وزير الخارجية السعودي ،األمير سعود الفيصل ،خالل الشهر املاضي من أن اللجوء إلى الدبلوماسية لعالج األزمة السورية سوف يسمح لألسد بممارسة املزيد من القتل .وباملثل ،سوف يدفع التقارب األميركي اإليراني دول مجلس التعاون الخليجي إلى إعادة النظر في موقفها من سوريا .وربما تبدأ دول الخليج في تقديم املزيد من األسلحة املتطورة للمعارضة السورية لكي تغير توازن القوى على األرض.
رسالة السعودية للعالم كما رفضت اململكة العربية السعودية املقعد الذي حصلت عليه ألول مرة بني األعضاء غير الدائمني فى أكبر هيئة أمنية دولية إلى جانب تشاد وتشيلى وليتوانيا ونيجيريا .وبعد يوم واحد من االنتخابات فى الجمعية العمومية لألمم املتحدة والذي حصلت خالله السعودية على املقعد ،أعلنت السعودية رفضها قائلة إن الهيئة ال تستطيع التعامل مع النزاعات الدولية .وفي بداية الشهر الحالي ،أحجم األمير سعود الفيصل عن إلقاء الخطاب السنوى أمام الجمعية العمومية لألمم املتحدة ألول مرة .وينظر إلى هاتني الواقعتني باعتبارهما رسالة قوية إلى الغرب بشأن الطريقة التي يعالج بها املباحثات مع إيران .وليست املباحثات في ذاتها هي ما يقلق اململكة العربية السعودية ودول الخليج بقدر ما يقلقهم تجاهل الواليات املتحدة األميركية لهم .وعلى الرغم من عدم صدور أية تصريحات رسمية بذلك الصدد فإن العديد من املسؤولني بالخليج ووسائل اإلعالم الخليجية أكدوا تلك الرؤية. ومن جهة أخرى ،فإن عقد صفقة مع إيران سوف يعزز من نفوذها في سوريا ويمنح الجمهورية اإلسالمية وحرسها الثوري الفرصة للمزيد من الوجود في املنطقة والقدرة على الوصول إلى قلب املشرق .كما سوف يمنح حزب الله الفرصة للمزيد من فرض هيمنته على مؤسسات الدولة اللبنانية واملزيد من القدرة على توجيه سياستها الخارجية ،باإلضافة إلى تعزيز دور إيران في العراق .كما لن تسمح إسرائيل بوجود إيران على أعتابها ،وهو ما يمكن أن يدفعها ألن تحاول حل مشاكلها بنفسها مما يطرح الحرب كخيار أكثر من أي وقت سابق .ففي عشية اجتماع جنيف ،قال رئيس الوزراء اإلسرائيلي بنيامني نتنياهو إن العالم يخاطر بارتكاب خطأ تاريخي إذا ما خفف الضغط على إيران .كما كان قد ملح من قبل إلى احتمالية شن ضربة استباقية أحادية الجانب على إيران .وقد قال مسؤول إسرائيلي عسكري سابق لصحيفة «جيروزاليم بوستون صنداي» إن رئيس الوزراء لم يكن يناور ،مضيفا« :إنه يعتقد أننا نعيش في الثالثينات .فاإليرانيون هم األملان والتاريخ يستخف بوجود ستة ماليني يهودي اآلن فى إسرائيل». وإذا ما كان ذلك هو الحال ،أو على األقل إذا ما كان ذلك محتمال ،فهل تستطيع املنطقة تحمل حرب أخرى إذا ما ضربت إسرائيل إيران ولبنان وربما سوريا؟ وهل تستطيع الواليات املتحدة أن تستمر في املراقبة دون تدخل؟ وهل يمكن أن يصمد اتفاق مع إيران في حالة أن تحقق مثل ذلك السيناريو؟ في الحد األدنى سوف يعمل ذلك على تعقيد كل شيء .وسوف يكون على القوى الدولية الست أن تغير توجهاتها الحتواء املخاطر الناجمة عن مثل تلك الحرب في حال وقوعها .فعلى صعيد آخر ،هناك إشاعات في األوساط اإلعالمية تفيد بأن الصفقة مع إيران سوف تسمح لها باالستمرار
في تخصيب اليورانيوم شريطة أن تحجم عن تطوير األسلحة النووية .فمن جهته ،يقول علي فايز ،محلل الشؤون اإليرانية بمجموعة األزمات الدولية إنه يعتقد أن املباحثات سوف تسفر عن تعهد الدول الست بالنظر في استمرار إيران في تخصيب اليورانيوم إذا ما عالجت إيران املخاوف الدولية بشأن برنامجها النووي.
تدهور العالقات بني اميركا والقوى اإلقليمية وأضاف فايز أن موافقة أميركا على استمرار إيران في التخصيب سوف تثير انتقادات املعارضني الذين يؤمنون بأن إيران سوف تراوغ وتعمل سرا على تطوير األسلحة النووية ولكنه أصر على أنه ال يوجد طريق آخر لعقد صفقة نظرا ألن اإليرانيني لن يشرعوا في املفاوضات إال إذا تأكدوا من أنهم سيكون لهم الحق فى التخصيب. وحتى إذا كان ذلك غير مؤكد بعد ،فإن مجرد احتمالية أن تحاول إيران تطوير األسلحة النووية سرا سوف يثير سباقا على التسلح النووي في أقل املناطق استقرارا بالعالم .ومن ثم فإن الشفافية هي ضرورة قصوى ،وإذا لم يتم إشراك الحلفاء اإلقليميني في تلك العملية فيجب إطالعهم على األقل على التطورات؛ حيث إن السرية حول تلك املفاوضات واقتصارها على االجتماعات الثنائية ليس باألمر الطيب ،وذلك إذ إن انعدام الثقة سوف تجري ترجمته إلى تدهور العالقات ببني الواليات املتحدة والقوى اإلقليمية. وعلى الرغم من أن الواليات املتحدة والدول األوروبية تدركان أهمية إيران في املنطقة فيجب أن يكون واضحا منذ البداية أن إيران لن تستطيع ولن تصبح طرفا استثنائيا فى الشؤون اإلقليمية ،حيث إن العوامل الديناميكية فى املنطقة تتغير بسرعة وال يجب عقد صفقة مع إيران دون أن يتم وضع موجة التغيرات في االعتبار .كما يجب أخذ عنصر آخر في االعتبار وهو األمن والتوازن العسكري .فيجب أن تدرك إيران أنه بغض النظر عن أي شيء، ليس مسموحا لها بالهيمنة على املنطقة ومن ثم فيجب أن تتوقف عن إثارة النزاعات الطائفية والتدخل فى العراق وسوريا ولبنان .وفى كافة األحوال، سيكون من السذاجة أن تتوقع إيران حدوث تطورات جذرية في وقت قريب، حيث إن لفقدان الثقة بني الجانبني جذورا عميقة ومن ثم فيحتاج األمر ألكثر من الحماس لتحقيق نتائج مرضية ،فهناك الكثير على املحك. وعلى الرغم من أن الواليات املتحدة ربما ترغب في تقديم تنازالت فإن حلفاءها اإلقليميني سوف يفعلون أي شيء وكل شيء لكي يتأكدوا من أن مصالحهم لن يتم تجاهلها في تلك العملية .فسوف يمارسون الكثير من الضغط على واشنطن خالل األسابيع املقبلة وهو ما يمكن أن يؤدي إلى بطء العملية ويحد من الحماس خالقا مساحة للعقالنية بدال من الحماس املفرط<
الرئيس االيراني حسن روحاني
,,
عقد صفقة مع إيران سوف يعزز من نفوذها في سوريا ويمنح حرسها الثوري الفرصة للمزيد من الوجود في املنطقة والقدرة على الوصول إلى قلب املشرق
,,
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
13
شؤون سياسية
مما ال شك فيه أن هذه األسابيع القليلة ستكون حرجة للغاية وتمثل تحديا لحلفاء الواليات املتحدة في املنطقة خاصة دول الخليج التى أعربت عن مخاوفها بشأن عقد صفقة مع إيران قائلة إنها سوف تأتي على حساب دورها ومصالحها في املنطقة.
التقارب االيراني االميركي يكشف زيف العداء
عالج روحاني بقلم: حنني غدار
,,
رفض السعودية املقعد الذي حصلت عليه ألول مرة بني األعضاء غير الدائمني في األمم املتحدة رسالة قوية إلى الغرب بشأن الطريقة التي يعالج بها املباحثات مع إيران
,,
12
وصفت الواليات املتحدة املفاوضات مع إيران بشأن برنامجها النووي في جنيف بأنها املفاوضات األكثر جدية وصدقا .وقال دبلوماسيون غربيون إن طهران ملحت إلى أنها مستعدة لتقليل أنشطتها النووية في مقابل تخفيف العقوبات .بالنسبة للواليات املتحدة، كانت دائما املشكلة مع إيران تتعلق ببرنامجها النووي فيما تجاهلت لفترة من الزمن الدور املتنامي إليران في املنطقة والتهديدات التي تمثلها ألمن عدد من الدول مثل سوريا ولبنان والعراق والبحرين واليمن .ومن ثم ،يجب أال تتجاهل الصفقة مع إيران الدور املتنامي الذي يتزايد إشكالية إليران في املنطقة. وعلى الرغم من تهديدها السابق بمحو إسرائيل من على الخريطة ،ونعت الواليات املتحدة بالشيطان األعظم لعدة عقود ،لم تنظر إيران أبدا إلى إسرائيل أو الغرب باعتبارهما املهدد الرئيس لها فقد كانت دائما ترى التهديد الرئيس كامنا في دول الخليج .وال يمثل برنامجها النووي هدفا في ذاته بل أداة لتحقيق الهدف الحقيقي للسياسة الخارجية اإليرانية وهو أن تصبح الالعب الرئيس في املنطقة.
السياسة الخارجية ألميركا وعلى الرغم من وجود إشارات على حدوث تغيرات داخلية مثل التصريحات األخيرة املهدئة لألجواء التي أصدرتها كبرى القيادات اإليرانية باإلضافة إلى نقل امللف األمني من وزارة الدفاع إلى وزارة الخارجية ،فإن تلك اإلشارات ال تعد دليال على االلتزام أو على وجود تغيرات استراتيجية جدية. وفي ظل ذلك الدليل الخفي على التزام إيران ،يستعد حلفاء أميركا في مجلس التعاون الخليجي الحتمال أن تتخلى عنهم أميركا بعد 70عاما ،وهو ما يمكن أن يدفعهم ملعالجة األمور بأنفسهم خاصة فيما يتعلق باملف السوري. وهناك إحساس عام بخيبة األمل من الطريقة التي أدارت بها الواليات املتحدة التحول من توجيه ضربة عسكرية إلى سوريا إلى صفقة بني الواليات املتحدة وروسيا ثم مباشرة بني الواليات املتحدة وإيران؛ حيث يتزايد اإلحساس بفقدان الثقة فى السياسة الخارجية للواليات املتحدة على نحو مضطرد باإلضافة إلى الخوف من صفقة محتملة ربما تدفع بدول الخليج للتعامل مع األمور على نحو مختلف ودون الرجوع إلى الواليات املتحدة. وقبل أن نقفز إلى النتائج علينا فهم السياق مليا؛ فهناك رغبة من كال الطرفني اآلن في التوصل إلى صفقة أكثر من أي وقت مضى ،وهو ما يثير املخاوف بشأن احتمالية التسرع في التوصل إلى صفقة دون التفكير العميق وتقييم كافة املخاطر املترتبة على تلك الصفقة .وذلك حيث ترغب القوى الست الكبرى في التوصل إلى صفقة نظرا لقلقهم بشأن احتمالية أن تتمكن إيران من تطوير األسلحة النووية في أقل من عام .ومن جهة أخرى ،تسعى إيران لعقد
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
اتفاق يخفف من العقوبات التي فرضتها الواليات املتحدة والدول األوروبية عليها والتي أضرت باقتصادها وزادت من عزلتها الدولية .فقد بلغ التضخم في إيران ما يزيد على 40في املائة .ووفقا للبنك املركزي اإليراني فإن 65في املائة من اإليرانيني تحت خط الفقر .فهل يمكن أن يؤدي ذلك إلى ثورة اجتماعية في إيران؟ ربما ال ،ولكن اإليرانيني ال يرغبون في املخاطرة بذلك .فمما ال شك فيه أن رفع العقوبات عن إيران سوف يعمل على تحسني األوضاع االقتصادية. باإلضافة إلى أن سوريا أصبحت تمثل إشكالية بالنسبة إليران سواء ماليا أو سياسيا .فعلى الصعيد املالى ،تنفق إيران التي تعاني من صعوبات اقتصادية إثر العقوبات أكثر مما تستطيع تحمله على التدخل في سوريا باإلضافة إلى دعم نظام األسد اقتصاديا وعسكريا .وعلى الصعيد السياسي ،أصبح األسد يمثل عبئا على إيران حيث أصبح الرأي العام الدولي واإلقليمي ينظر إليه باعتباره قاتال ومجرما .وقد تسبب ذلك في مشكالت تتعلق باملصداقية سواء بالنسبة إليران أو لحزب الله ليس فقط في الشارع العربي ولكن كذلك داخل املجتمعات الشيعية في املنطقة .فعلى سبيل املثال ،تقلص التأييد الذي كان يحظى به حزب الله إلى حد كبير منذ أن تدخل في سوريا.
نفوذ إيران اإلقليمي لقد كان حزب الله دائما يطرح نفسه كحركة مقاومة ضد إسرائيل وسواء كنت توافق على وجود جماعة مسلحة داخل الدولة أم ال ،فقد كانت دائما هناك حجج بأن حزب الله يقاتل إسرائيل في األراضي اللبنانية املحتلة، وهو ما تغير إثر قتالهم إلى جانب األسد في سوريا؛ فلم تعد املقاومة مبررة بغض النظر عن مدى الجهد الذي يبذلونه لجعلها مبررا ألنشطتهم داخل سوريا .باإلضافة إلى أن نقل املعركة من كونها معركة ضد االحتالل اإلسرائيلي إلى معركة ضد السنة في سوريا قد أضاف منحى طائفيا خطيرا للعوامل الديناميكية اإلقليمية ،فلم يكن الصدع السني الشيعي أكبر مما هو عليه اآلن من قبل .فمن جهة ،ترغب إيران في أن تتأكد من أنها لن تخسر نفوذها اإلقليمي في سوريا خاصة الصلة بني لبنان ودمشق والساحل عبر القصير وحمص .ومن ثم ،فإنهم كانوا وما زالوا مستعدين لكي يدفعوا ذلك الثمن الباهظ للحفاظ على هيمنتهم في سوريا والتي سوف تستخدم كبطاقة مساومة خالل املفاوضات للوصول إلى صفقة أفضل .واآلن وبعد أن أكدت الواليات املتحدة أن الغرب لن يتدخل لخلع األسد ،تزايدت قوة إيران التفاوضية إلى حد كبير ومن ثم فإن عقد صفقة بشأن برنامجها النووي وهيمنتها اإلقليمية فى هذا التوقيت سوف يكون في مصلحتها. ومن جهة أخرى ،هناك قوى إقليمية أخرى مشاركة في سوريا مثل قطر واململكة العربية السعودية وتركيا .ومن ثم فإن تقديم أية تنازالت في سوريا إلرضاء إيران لن يكون له أثر طيب على باقي أنحاء املنطقة.
والقضية الفلسطينية العادلة تعطي املثال الصارخ، لك اآلخرونّ . ومن املفيد التعلم من دروسها .وبالتالي ،فاإلدارة السيئة للملف من قبل بعض السوريني ،كما جرى مع بعض الفلسطينيني، ستزيد من انحسار فرص النجاح .وسيقوم النظام بتنظيم «انتخابات» مراقبة عربيا في املناطق التي يسيطر عليها للحصول على نتيجة مالئمة الستمرار «شرعيته» .وسيقبل الغربيون بنتائجها بضغط من الروس أو ألنهم فاقدوا الحيلة أمام العجز األميركي عن اتخاذ موقف ال يالئم في كل حذافيره ّ املتحسب من انفالت األمور في سوريا املوقف اإلسرائيلي وتأثير ذلك املحتمل على حدوده اآلمنة منذ عقود.
تراث الحكم األحادي التطرف في املواقف من التفاوض لوقف املقتلة السورية ال يمكن أن يكون مبررا إال لدى من هم غير معنيني باملأساة املستمرة. وممارسة رياضة التخوين والتشكيك وتوزيع الوطنيات ،تصيب ّ بالتقلصات األخالقية ،وهي ليست مساعدة على تمهيد الطريق للشعب السوري للحصول على حريته. والتفاوض املبني على خطة طريق واضحة بعيدا عن التنازل الرخيص بحثا عن موقع تحت الشمس هو الوسيلة األنجح للوصول إلى ما يمكن أن يحقق الجزء األكبر من أهداف املواطنني الذين خرجوا عفويا للتعبير عن رفضهم الستمرار آلة القمع واالستبداد والفساد.
ملصق للرئيس السوري بشار األسد على جدار احد املباني بالعاصمة دمشق بينما يتحرك موكب سيارات تابعة لألمم املتحدة تحمل خبراء ومفتشني من منظمة حظر األسلحة الكيميائية (أكتوبر)2013-
على املتردد األميركي القابع في البيت األبيض والذي يمارس أسوأ سياسة خارجية للواليات املتحدة منذ نهاية الحرب العاملية الثانية ،وبغياب عربي واضح ،ما عدا تمثيل رمزي بشخص اإلبراهيمي وموظفي الجامعة العربية العاجزة بنيويا ،فالنتيجة ستكون ليست حتى باتفاق دايتون سوري أو طائف سوري ،أو حتى بحل على الطريقة اليمنية. النتيجة ستكون سلبية للغاية من أجل املناضلني في سبيل الحرية والكرامة والعدالة :إن لم ّ تتعدل موازين القوى حتى انعقاد هذا املؤتمر الشبح ،وإن لم تتمكن املعارضات السورية من وضع خالفاتها التافهة والتي تترجم انعدام املسؤولية ،أو حتى األخالق ،لدى من يثيرها دون كلل ،وإن لم تقم القوى الغربية الكاذبة حتى يثبت العكس ،في دعم املعارضة الديمقراطية املوجودة على أرض الواقع ،وإن لم تسع بعض الدول العربية املؤثرة إلى وقف املساعدات العمياء لقوى ظالمية تعبث باملشهد السوري حاضرا ومستقبال ،وإن لم تقم أيضا قوى املعارضات السياسية إلى تحديد موقف وطني واضح من الدخالء على الثورة وسارقيها وظالمييها ،دون لف ودوران ،ودون خطابات غوغائية ما فتئنا نسمعها من بعض رموزها. أن تكون على حق وصاحب قضية عادلة ال يعني البتة أن ينتصر
لقد قادهم تخلي العرب والغرب عنهم ،وضعف أداء معارضاتهم السياسية ،ودخول عناصر غريبة على قيمهم وعلى أهدافهم على خط املواجهة ،وفاعلية الدعم واملساندة والتغطية الروسية واإليرانية للنظام ،إضافة إلى إدارة حملة عالقات عامة وتواصل ّ فعالة من قبله ،مقابل تشتت جهود التواصل وتناقضها من طرف بعض املعارضات ،قادهم ذلك كله إلى الوصول إلى مرحلة من اإلحباط النسبي ،ال تثنيهم بالتأكيد عن مواصلة السعي إلى تحقيق األهداف املبدئية. ّ املتحسس إن التفاؤل الحذر الذي يمكن أن «يصيب» املراقب للقضية السورية ،ينبع من التصميم الهائل للشعب السوري على متابعة املقاومة بكافة صورها وأشكالها .ويعتمد أيضا على إرادة قوية لدى بعض قواهم السياسية على إيجاد مخرج مقبول ومناسب لجميع السوريني بعيدا عن تراث الحكم األحادي واملستبد الذي حرمهم من كل فرص التنمية والتطور السياسي ،الثقافي ،االقتصادي واالجتماعي .إن عزيمتهم قادرة على اختراق سنتني ونصف السنة من املوت باتجاه ّ املحمل باآلمال. مخرج النجاة هذا التفاؤل يحتاج إلى ِّ حد أدنى من املسؤولية لدى من يمثل ّ تطلعاتهم السياسية ،والذي سيمثلهم في «جنيف» أو في غيره. ويحتاج أيضا إلى موقف دولي أقل هالمية وأكثر وضوحا، وإلى موقف عربي ّ يوحد جهوده السلمية أو العسكرية دون الخوض في االستقطابات وصراعات الذاكرة وطموحات البروز على حساب األمواتv.إن أسباب التفاؤل هذه تحمل في طياتها جرعات من التشاؤم ،ولكننا ملتزمون بعبارة الراحل سعد الله ونوس :إننا محكومون باألمل <
,,
التوصل إلى حل سياسي ينقل السلطة إلى جماعة منتخبة من قبل مؤتمر حوار وطني يسبق تنظيم الحياة السياسية التي ستفضي حتما إلى انتخابات شفافة ونزيهة
,,
األخضر اإلبراهيمي
* باحث في العلوم السياسية والعالقات الدولية نائب مدير مبادرة اإلصالح العربي رئيس مبادرة من أجل سوريا جديدة أستاذ مشارك في جامعة باريس األولى
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
11
شؤون سياسية
,,
يبدو أن من أصيب بخيبة أمل من طرف السوريني هم أولئك فقط الذين ّ صدقوا يوما أن اآلخرين مهتمون لشؤونهم ويريدون مساعدتهم فعال ّ على التخلص من النظام
,,
في داخل تنظيماتها املختلفة ،كاالئتالف أو املجلس الوطني أو الجيش الحر ..إلخ .على املشاركة أو عدمها أو مضمونها ..إلخ. وبدأت الرؤوس الحامية في تسجيل املواقف الشعبوية بحثا عن سمعة «فيسبوكية» بعيدا عن آالم املاليني القابعني تحت القصف اليومي أو التجويع املمنهج أو القمع ذي اللبوسني، األمني والديني. ّ وبدأت بعض القوى اإلقليمية املؤثرة في تحريك بيادقها على رقعة املشهد السوري ،وبدأ تناسل التجمعات والهيئات ّ واشتد والتكتالت ،بعيدا عن أية خارطة طريق واضحة. ساعد القوى الظالمية التي لم تواجه النظام إال ملاما ،وسعت منذ بروزها غير واضح الكواليس ،إلى السيطرة املجتمعية، بالترهيب وبالترغيب ،وفرض سلطة ال مرجعية وطنية سورية لها حتما. من جهة ما يسمى باملجتمع (الهالمي) الدولي ،فبعد أن بارك ممثلوه (باملعنى املسرحي للكلمة) ،للنظام جرأته وخطواته اإليجابية ،وبعد أن توقف أمني عام األمم املتحدة عن إبداء قلقه اليومي عجزا وترقبا ،وبعد أن ّ عبرت الدولة العبرية عن غبطتها بتدمير الترسانة الكيماوية السورية ،بدا وكأن املعضلة السورية قد أضحت بعيدة عن اهتمامات صانعي القرار .وبدا أن حديث النظام وتابعيه وأبواقه ومسترزقيه ومريديه وحماته ورعاته ُفي بدء الثورة الوطنية التحررية عن مؤامرة متخيلة ،قد أتى أكله وأثمرت الكذبة الكبيرة عن اجتراع مؤامرة فعلية متشابكة ومعقدة ومتلونة ليس ضد النظام القائم ،بل ضد الشعب السوري بذاته. وبعد إرسال ما يقارب املائة موظف أممي ملراقبة عملية تفكيك الترسانة السورية وتدمير محتوياتها ،أضحى دفقا من النفاق املمجوج الحديث عن تسليح القوى املعتدلة واملؤمنة بديمقراطية الدولة السورية .فال يمكن للدول الفاعلة أن تقوم بهذا معرضة حياة ممثليها للخطر .باملقابل ،يستمر الظالميون والقاعديون بتلقي السالح من كل حدب وصوب ،وكذا النظام .وتستمر املقتلة السورية تحت سمع وبصر املتخاذلني من العرب، الذين حركتهم رسوم هزلية بحق رموز دينية ال تنتظر منهم أن يدافعوا عنها وعن قدسيتها ،إال إذا تم اإلقرار بضعفها، وهذا من املستحيالت ،ولم تحركهم آالف الضحايا البشرية املتساقطة أمامهم يوميا. وتستمر املأساة السورية تعبر بني أخبار املنوعات العاملية بعد ّ أن تخلص منها الوعي الغربي من بني أولوياته .وأضحت املسألة محصورة بالحالة اإلنسانية التي يروق للبعض االنغماس بها بحثا عن براءة مصطنعة من مسؤولية إنسانية تتجاوز مسألة املهجرين والالجئني لتحيط بمصائر شعب ودولة حاق بهما الدمار من كل صوب.
جون كيري
10
يبدو أن من أصيب بخيبة أمل من طرف السوريني هم أولئك فقط ّ اآلخرين مهتمون لشؤونهم ويريدون الذين صدقوا يوما أن ّ مساعدتهم فعال على التخلص من النظام .وربما ،التوصل إلى حل سياسي ينقل السلطة إلى جماعة منتخبة من قبل مؤتمر حوار وطني يسبق تنظيم الحياة السياسية التي ستفضي حتما إلى انتخابات شفافة ونزيهة .وهؤالء السوريون يشكلون القسم األكبر من بعض املعارضات السياسية املتشظية واملصابة بأمراض الشخصانية أو تراكم عقد اآليديولوجيات املتراكمة واملتوارثة ،أو املتعرضة للتأثير من قبل قوى إقليمية ودولية عديدة.
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
مفاوضات جنيف ّ يصدقوا أما من هم في صلب املعاناة ،وهم الغالبية ،فلم يوما وعودا كاذبة أو آماال وهمية .ليس ذلك نابعا من إيمان بدائي بأن اآلخر ضدهم وضد مصالحهم ،ولكنهم ،وبعض من نخبهم ،وعوا مبكرا إلى تعقيد املشهد وتداخل املصالح واالستراتيجيات .وعرفوا أن مسؤولية الخروج من النفق هي سورية أوال وقبل حسن أو سوء الظن باآلخر مهما كان هذا اآلخر ،أخا في القومية أو في الدين أو في اإلنسانية .وقد ّنبه هؤالء إلى ضرورة سورنة التفكير بالحل والبحث عن عالقات متوازنة مع القوى املؤثرة دون هيمنة زيد أو عمرو .ولكن صوت العقل قليال ما يتم اإلنصات له ،مما يترك املجال ألصوات أخرى متعددة املصادر. فإن تعقدت مفاوضات جنيف بحضور من حضر ،وهذه ّ رغبة صناع ّالقرار وفارضيه في غياب خارطة طريق واضحة، وبوجود منظم لقوى النظام الحليفة واملعارضة ،وبوجود وبحضور فاعل والعسكرية، متشرذم لقوى املعارضة املدنية ٍ ّ ملن يفرض نفسه أكثر فأكثر كعنصر حل للمسألة السورية (إيران) بعد أن اعتبرت عن حق أنها طرف حقيقي من مسؤولي املقتلة السورية ،وبوجود روسي فرح بانتصاره الدبلوماسي
السورية مع صاحب القرار الفعلي في طهران .ولكن هذا املخاض كله سيستمر باملقتلة السورية أشهرا عدة ،ولو تم التوافق بني الراعيني األميركي والروسي ،دون التشاور مع أحد ،على أن يكون موعد مؤتمر جنيف املوعود في 25من الشهر املقبل. وهنا يبدو أن املعارضات السورية تتأرجح بني املوافقة واالعتكاف عن املشاركة في هذا اللقاء املنتظر ،والذي يعتبر الروس واألميركيون أنه فاتحة الحل بالنسبة للسوريني. باملقابل ،ال يحمل اإلعداد «الحثيث» لهذا اللقاء من قبل املبعوث األممي األخضر اإلبراهيمي ،أية مضامني واضحة أو مسارات محددة أو بنود جدول أعمال يمكن لها أن ّ تذر الرماد في عيون الواهمني املترقبني املوعودين بالفرج على أقل تقدير.
االنتخابات الرئاسية إن موعد االنتخابات الرئاسية في سوريا قد اقترب ،وهي التي ً استفتاء على رئيس لم تكن ،منذ عقود وحتى تاريخه ،إال كتجديد للبيعة .وها هي البالد ،تكتشف موجود ُيشار إليه ٍ أن أمر البيعة في النظام الرئاسي مرافق لكل استبداد ،وال يمكن التمييز في هذا الصدد بني الدولة األمنوقراطية والدولة األوثوقراطية .فإن املجموعات الظالمية ٌ واإلقصائية الدخيلة على املجتمع السوري ،التي ساهم تمويل مشبوه املقصد في ّ ّ فحد السيف أو تطورها وانتشارها ،تطالب بالبيعة لها وإال رصاصة الرحمة. مخرج فهل يعتبر مؤتمر جنيف فرصة لتمرير الوقت وإيجاد ٍ
«مناسب» عبر هذه االنتخابات (االستفتاءات) املرتقبة؟ يجوز ّ االعتقاد بذلك إن كان هناك أدنى شعور بالضعف لدى حكام دمشق ،وهو ما كانوا قد خبروه في األشهر األولى من الحراك الثوري السلمي السوري ،ومن ثم ،استمروا في الشعور به ّ التحول إلى الحراك العسكري حتى مرحلة معينة. خالل فمنذ أن نجحوا في تحويل الوهم إلى حقيقة ،أي منذ أن ّ تحول الحديث عن إرهاب «القاعدة» واملقاتلني األجانب من كذب وبهتان في بداية الثورة إلى حقيقة ملموسة في األشهر األخيرة ،ومنذ أن بدأ اإلعالم الغربي في التركيز على هذا الجانب حصرا من الحراك السوري ،ومنذ أن تصارعت قوى إقليمية فيما بينها عبر تعزيز قدرات هذا التنظيم الدخيل أو ذاك ،ومنذ سعت قوى إقليمية أخرى إلى تصفية حسابات سياسية وأمنية فيما بينها على حساب حيوات السوريني ،بدا أن النظام يسترجع الشعور ّ بالثقة ويحضر نفسه ،مع معارضته املصطنعة ،للذهاب إلى جنيف ومحاولة فرض ما يراه هو الحل للخروج من عنق ّ التوجه ،ال يأبه فعال إلى أمرين أساسيني الزجاجة .وهو في هذا ُيفترض أن السوريني بمجملهم معنيون بهما ،وهما وحدة األراضي السورية ووقف املقتلة املستمرة منذ عامني ونصف. عال بالذات وبالحلفاء الذين لم يبخلوا دعما إذن ،منسوب الثقة ٍ وإرشادا وتوجيها. ومقابل هذا الشعور املستند إلى تقدم إعالمي وعسكري وتغاض دولي وتلكؤ عربي ونفاق أمم متحدي (أو قلق مستمر ٍ يعبر عنه األمني العام) ،يبدو أن املعارضات السورية تجد نفسها في موقف ال تحسد عليه البتة .فهي غير متفقة ،حتى
متظاهرون اتراك وسوريون يحملون ملصقات للرئيس السوري بشار األسد خالل مظاهرة مناوئة للنظام السوري أمام مسجد الفاتح في اسطنبول (اغستطس ) 2013
,,
املسألة السورية ما بعد 21 أغسطس أضحت محصورة ببضعة جوانب منها التقني ومنها اإلقليمي ومنها املرحلي
,,
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
9
شؤون سياسية
مع اقتراب موعد االنتخابات الرئاسية في سوريا بات النظام الحاكم أشبه ما يكون بالثور املذبوح أو ذاك املقتول على حلبة املصارعة اإلسبانية الشهيرة التي تجري فيها املواجهة بني الثور واملصارع على مرأى ومسمع من الناس ملشاهدة تغلب املصارع على الثور الهائج ،ويندهش املشاهد من تحركات الثور العشوائية بعد مقاومة عنيفة ،ويبدو وكأنه يرفع رأسه بعد تلقيه السهم األخير في عنقه أو بعد ذبحه ،ثم يقوم ويجري بعنف ليخيف املصارع ومن حوله من مساعدين ومشاهدين ،وإنما هو يضطرب في رقصة الوداع األخيرة ليموت وينتهي ال ليبقى ويحيا.
هل يعد «جنيف »2فرصة بشار األسد للبقاء في منصبه؟
رقصة املذبوح
بقلم: سالم الكواكبي *
,,
املجموعات الظالمية واإلقصائية الدخيلة على املجتمع السوري تطالب بالبيعة لها وإال ّ فحد السيف أو رصاصة الرحمة
,,
ّ تغيرت خريطة القوى «الصديقة» للثورة السورية وتلكم «العدوة» بعد املقامرة العظمى يوم 21أغسطس (آب) املاضي .فقد غامر النظام السوري باستخدام جرعات كبيرة من السالح الكيماوي ضد منطقة الغوطة ،مما أدى إلى مئات الضحايا من املدنيني. واعتبر «محللوه» أن هذه الخطوة بقدر ما يمكن لها أن ّ تحرض على ّ فعل دولي غاضب ،بقدر ما هي قادرة على إعادة رد ٍ ترتيب البيت الداخلي والحديقة الخارجية .فالخطوط الحمراء ٌ كثير من القادة الغربيني واإلقليميني بخصوص التي تحدث بها املقتلة ّ املستمرة في هذا البلد االستراتيجي للجميع ،كانت ّ املحصلة أنها ال تقصد أميل للون الوردي الباهت .وتبني في البتة حيوات السوريني من املدنيني بل تسعى ،إن كانت جدية بالتأكيد ،إلى حماية أصدقاء الغرب. هذا وقد أوحى األميركيون على ّلسان وزير خارجيتهم كيري في مؤتمر صحافي شهير بالحل للروس ،الذين سرعان ما تلقفوه وأقنعوا ،أو أمروا (لن ندخل في متاهات األفعال في هذه العجالة) ،دمشق بالقبول به واعتباره املخرج األفضل للورطة املرتبة غالبا. ونجح الرهان ،فقد تمحور الهم الدولي إعالميا وسياسيا على ّ املحرم دوليا منذ عشرينات القرن مسألة استخدام هذا السالح املنصرم واملنصوص عليه في عديد من املعاهدات الدولية التي ّ وتبدى بأن الحديث عن كانت آخرها قد وقعت سنة .1993 ضربات تأديبية كان محض هراء ،أميركيا على األقل ،وأوقع الكثير من رموز املعارضة السورية في وهم «الخالص» القريب، مما أشار بجالء إلى بدائية /سذاجة تحليلهم السياسي وضعف مقدراتهم الذهنية على فهم الرهانات الدولية واملحاصصات والحسابات واملصالح .وهذا لألسف ليس بغريب عن أدائهم السياسي منذ بدء الحراك الثوري السوري مما أدى إلى انفصام حقيقي عن املسألة السياسية وانعكاساتها العسكرية واإلنسانية. وانشغلت الدول بوفودها ومؤتمراتها الصحافية عن املقتلة السورية بمسألة تفكيك هذه األسلحة ،وتجاوب معها النظام
8
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
ّ ّ متخليا عما تغنى به كسالح السوري بفاعلية وواقعية عدو لم يحاربه خالل عقود. استراتيجي ضد ٍ وأشار بعض أبواقه االستراتيجيني إلى أن هذا التخلي السريع واملنتهك للسيادة الوطنية ناجم عن امتالكه ألسلحة أكثر ّ وتطورا تجعل العدو في خطر ماحق ومستمر .حتى تعقيدا إن الخيال الكوميدي دفع بأحدهم للحديث عن صاروخ أطلقته القوات األميركية من قاعدة لها في جنوب إسبانيا (حيث ال توجد مثل هذه القاعدة) ،باتجاه األراضي السورية ،وتم ّ تصور هذا اعتراضه بصاروخ دفاعي فوق املتوسط .ويمكن ّ تصور درجة االستهزاء باملنطق وبالعقل املسار إضافة إلى من مطلقي هذه األكاذيب .ولكن ،هل هم ينفخون في قربة مقطوعة؟ يبدو أن الجواب هو بالنفي.
سوريا ما بعد 21أغسطس املسألة السورية ما بعد 21أغسطس ،أضحت محصورة ببضعة جوانب ،منها التقني ومنها اإلقليمي ومنها املرحلي. وتضعضعت التحالفات ،ولو كانت وهمية وعلى الورق ،بني األطراف التي ّادعت يوما عن كذب أو نفاق بأنها صديقة للشعب السوري .ونجح الدب الروسي السينيكي بامتياز في فرض ّ تصوره للحلّ ، مرسخا «مصداقيته» التي لم يتراجع عنها يوما فيما يتعلق بالشأن السوري وذلك على العكس من نفاق من ادعى قربا من السوريني ومطالبهم الشرعية .ولقد استغل الروس التردد املرضي املالزم للسياسة الخارجية األميركية في عهد أوباما ،لينقضوا على امللف بقفازات مخملية وبأنياب ٌ كثير من العارفني نسبيا بصناعة القرار في بارزة .وقد أوضح ُ واشنطن ،بأن القرار قد حسم بأن الحل الروسي ،مع بعض التعديالت ،هو األنسب. مالمح املستقبل القريب تبدو ضبابية للبعض وجزيلة الوضوح ّ املحبذ أن يكون املوقف العقالني متموضعا للبعض اآلخر ،ومن في منتصف هذا الطريق .فعلى الرغم من أن الراعي الروسي قد ّ سجل انتصارا واضحا على املستوى الدبلوماسي ،فيبدو أن العمل الحثيث على امللف اإليراني من قبل بعض الجهات األوروبية واألميركية سيفتح مجاالت أوسع ملناقشة املسألة
الكتــاب املســاهمـون يف هـذا العـدد ديفيد شينكر :زميل أوفزين ومدير برنامج السياسة العربية في معهد واشنطن .وكان يعمل في السابق في مكتب وزير الدفاع كمدير شؤون دول املشرق ،واملساعد األعلى في سياسة البنتاغون الخاصة بدول املشرق العربي. يوسف الديني :كاتب وباحث سعودي، متخصص في الحركات اإلسالمية وجماعات العنف السياسي ،له عمود أسبوعي في صحيفة الشرق األوسط ،صدرت له دراسة عن مركز املسبار للدراسات والبحوث بعنوان "التنوير في السعودية ،سجاالت السقوف املنخفضة". جوزيف براودي :كاتب ومحلل سياسي اميركي متخصص في شؤون املجتمعات العربية .آخر كتبه" ،املوتى املحترمون" ()The Honored Dead ُ من اصدار "راندوم هاوس" للنشر .قد نشرت مقاالته في النيويورك تايمز والوول ستريت جورنال وغيرها من الجرائد واملجالت األمريكية. ممدوح الشيخ :مؤلف وباحث مصري،كاتب مقال رأي في عديد من الصحف العربية .صدر له أكثر من 30مؤلفًا في القاهرة وبيروت ودبي ومسقط ،بينها روايتان وعدة دوواين ومسرحية .حاز على عدة جوائز في الشعر واملسرح والرواية داخل مصر وخارجها .شارك في موسوعة "الحركات اإلسالمية في الوطن العربي" (بيروت .)2013 - حنني غدار :مدير تحرير موقع (اآلن) باللغة االنكليزية ،تكتب بانتظام في عدد من املجالت والصحف ،بما في ذلك "النيويورك تايمز".باحثة لبنانية في مركز وودرو ويلسون الدولي للعلماء، وعملت كباحثة لبرنامج األمم املتحدة اإلنمائي - املكتب اإلقليمي بني عامي . 2004 – 2002وتشارك حاليا في مشروع بحثي حول املرأة العربية بعد الصحوة العربية وصعود االسالميني. ّ سالم الكواكبي :صحافي سوري ،كاتب وباحث اكاديمي .ناشط سياسي ،استاذ العلوم السياسية في جامعة باريس .نائب مدير مؤسسة االصالح العربي املهتمة بحركة املجتمع املدني.
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
7
المحتوى
هل يعد «جنيف »2فرصة بشار األسد للبقاء في منصبه؟
رقصة املذبوح عبدالله الغذامي.. الحداثة ..التحوالت .. الجمهور
التقارب االيراني االميركي يكشف زيف العداء
املاتروشكا الغذامية!
عالج روحاني
املواجهة األميركية ـ ـ الصينية ستؤثر على السياسة الدولية
غروب وشروق
القرضاوي وبشارة :بقايا الحرب الباردة التي تقاتل بالفوضى
مغاوير الكالم
ما وراء الهجمات األخيرة التي شنتها حركة «الشباب» في كينيا
عمليات جهادية مرة أخرى 6
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
االفتتاحية
رساله المحرر تتمتع شخصيتا الشيخ يوسف القرضاوي والدكتور عزمي بشارة بحضور وجدل الفتني على مستوى أحداث وتقلبات املرحلة العربية الراهنة املليئة بالجديد واملفاجآت. تاريخ الشخصيتني يستدعي كثيرا من التساؤل والبحث والنقاش ،ووضع إنتاجهما العلمي ،والرؤى واملبادئ واألفكار على محك املساءلة واملراجعة لتحوالتهما ،وتعاطيهما مع األحداث املشتعلة في املنطقة. (إعادة إنتاج الهوية ..يوسف القرضاوي وعزمي بشارة في رحلة البحث عن الذات) هذا ما تطرحه «املجلة» كموضوع للغالف في عدد هذا الشهر ،حيث يستفتح الكاتب واملحلل السياسي طارق حسن امللف مؤكدا أن «القرضاوي وبشارة ،من بقايا الحرب الباردة التي تقاتل بالفوضى ،وتدعي أنها األقدر على تقديم وصفة خاصة بالتحرر والتنمية» ،في حني أن القرضاوي ،كما بشارة ،عابر للوطنية« ،فال األول بإخوانيته وطني مصري أو قطري ،وال بشارة بقوميته وطني من عرب ،»48كالهما ينطلق من بعد أممي يرتكز عند األول في األممية اإلسالمية ،والثاني في القومية العربية. وفي ذات السياق يؤكد الكاتب الفلسطيني حافظ البرغوثي -في مقال يقرأ تقلبات عزمي بشارة الفكرية والسياسية – أن «بشار األسد كان البوابة التي عرفت عزمي بشارة بشخصيات رفيعة املستوى في قطر ..فهو قناص للفرص السياسية منذ بداياته في الحزب الشيوعي اإلسرائيلي ،حيث يسعى دائما إلى أن يكون بارزا على السطح». وضمن أوراق امللف يطرح الكاتب األميركي ديفيد شينكر دالئل ومؤشرات توضح أن الشيخ املصري يوسف القرضاوي هو وجماعة اإلخوان املسلمني بعد أن يئسوا من عودتهم للحكم ،بدأوا يسعون لتدمير مصر بشعارات تدعي الحرص على إنقاذها. كما كتب األستاذ يوسف الديني في مقال بعنوان «القرضاوي ..الفقيه الوادع أم السياسي الراديكالي» مؤكدا أن «العقل السياسي للقرضاوي -على النقيض تماما من عقله الفقهي املتسامح -أقرب ما يكون للنص املغلق». وفي ملف آخر يحلل الباحث والشاعر املصري ممدوح الشيخ عقلية وآليات بحث الدكتور السعودي عبد الله الغذامي في مقالة قدمت املعالم األبرز التي تشكل مشروع الغذامي ،والتي تتمحور حول «السعي وراء الجمهور، والزئبقية ،والتلفيقية ،والتالعب بمستويات التعيني والتجريد ،والتخصيص والتعميم» ،محلال ذلك وفق إنتاج الغذامي ومؤلفاته. كما تناول العدد تطور املواجهة بني الواليات املتحدة األميركية والصني ،وخيارات العالقة القائمة بني الخليج العربي والقوة الصينية ،وظالل األزمة السورية التي تلقي بآثارها على هذه العالقة. إضافة إلى ذلك تنشر «املجلة» مقاالت مترجمة من مجلة «فورن أفيرز» تتناول املستجدات القائمة في الساحة اإليرانية واألفريقية ،مع تقرير خاص بأهم وأفضل الكتب التي صدرت مؤخرا في السياسة والتاريخ والثقافة. ندعوك عزيزي القارئ لقراءة هذه املوضوعات وغيرها الكثير على موقعنا majalla.comونرحب دائما بآرائك وندعوك للتعليق على املوضوعات أو االتصال بنا إذا رغبت في التواصل معنا.
المحرر 4
المجلة /العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
ĴĽŬ ĚŠĴĽŤ ŚťšũŤē źIJżřŭĝŤē ĺżĐĴŤē +y:a ` 3x3Na - M k 1fM Acting CEO of NASHR Co.
Omar A. Alshaikh ﻣﺴﺆول ﻣﻜﺘﺐ اﳋﻠﻴﺞ
ĴĽŬ ĚŠĴĽŤ ŚťšũŤē źIJżřŭĝŤē ĺżĐĴŤē +y:a ` 3x3Na - M k 1fM
^¤ 7yG* Ò* ^d<
اﻟﺘﺤﺮﻳﺮ ĴĽŬ ĚŠĴĽŤ ŚťšũŤē źIJżřŭĝŤē ĺżĐĴŤē Acting CEO of ﺳﻜﺮﺗﲑ NASHR Co. Omar A. Alshaikh +y:a ` 3x3Na - M k 1fM
¥E¢ 6^G* £ }H
ǀżȤƾƪƵƴŽ Actingسكرتري CEO of-NASHR م�صطفى الد�سوقي. د:التحرير الر�شيدCo. عبد اهلل:مسؤول مكتب اخلليج
ΔϤϠϛ ϰϠϋ ΪϳΰΗ ϻ ΐΠϳ ΕϻΎϘϤϟ ϊϴϤΟ ΔχϮΤϠϣ HGLWRULDO#PDMDOOD FRP ϲϧϭήΘϜϟϹ ΪϳήΒϟ ϰϠϋ ΔϠγήϤϟ ϰΟήϳ ˯έ ϭ ΕϻΎϘϣ ϝΎγέϹ Omar A. Alshaikh
للمشاركة ȝƾżȚǍƄŵȚ
كلمة 800 جميع المقاالت يجب أال تزيد على: ملحوظةeditorial@majalla.com إلرسال مقاالت أو آراء يرجى المراسلة على البريد اإللكتروني ZZZ LVVXX FRP PDMDOOD ΔϴϧϭήΘϜϟϻ ϲϓ ϙήΘηϼϟ VXEVFULSWLRQV#PDMDOOD FRP ˰Α ϝΎμΗϻ ϰΟήϳ ˬΔϴϤϗήϟ ΔόΒτϟ ϲϓ ϙήΘηϼϟ
اشتراكات ϡΎψϧ ϱ ϲϓ ΎϬϨϳΰΨΗ ϭ ΎϬϨϣ ˯ΰΟ ϱ ϭ ΔϠΠϤϟ ΔϋΎΒσ ΓΩΎϋ· ϝϮΣϷ Ϧϣ ϝΎΣ ϱ΄Α ίϮΠϳ ϻϭ ΓΩϭΪΤϣ Δϛήη ΓΪΤΘϤϟ ΔϜϠϤϤϟ ϖϳϮδΘϟϭ ΙΎΤΑϸϟ ΔϳΩϮόδϟ Δϛήθϟ Ϧϋ έΪμΗ ϲΘϟ ΔϠΠϤϟ ΔϠΠϤϟ ΔχϮϔΤϣ ήθϨϟ ϕϮϘΣ www.issuu.com/majalla : لالشتراك في االلكترونيةsubscriptions@majalla.com : يرجى االتصال بـ،لالشتراك في الطبعة الرقمية ϲϘϠΘϟ ˱ΎϳήϬη ΔϠΠϤϟ έΪμΗϭ ΓΩϭΪΤϣ Δϛήη ϖϳϮδΘϟϭ ΙΎΤΑϸϟ ΔϳΩϮόδϟ Δϛήθϟ Ϧϣ ϖΒδϣ ϳήμΗ ϰϠϋ ϝϮμΤϟ ϥϭΩ ϪΑΎη Ύϣ ϭ ΎϬϠϴΠδΗ ϭ ΎϫήϳϮμΗ ϭ Δϴϟ ϭ ΔϴϧϭήΘϜϟ· ΔϠϴγϭ ϱ ϭ ΓέϮλ ϱ΄Α ΎϬϠϘϧ ϭ ϲϋΎΟήΘγ ZZZ PDMDOOD FRP ΓέΎϳί ϰΟήϳ ˬϲϤϗήϟ ϙήΘηϻ ΕέΎδϔΘγ
وال يجوز بأي حال من األحوال إعادة طباعة المجلة أو أي جزء منها أو تخزينها في أي نظام. التي تصدر عن الشركة السعودية لألبحاث والتسويق (المملكة المتحدة) شركة محدودة2009 حقوق النشر محفوظة لمجلة المجلة لتلقي.ً وتصدر المجلة شهريا.)استرجاعي أو نقلها بأي صورة أو أي وسيلة إلكترونية أو آلية أو تصويرها أو تسجيلها أو ما شابه دون الحصول على تصريح مسبق من الشركة السعودية لألبحاث والتسويق (شركة محدودة www.majalla.com يرجى زيارة،استفسارات االشتراك الرقمي
LVVXH
$XJXVW
Ώ βτδϏ ΩΪόϟ
++ 6DXGL 5HVHDUFK DQG 0DUNHWLQJ 8. /WG Issue 1589 -November 2013 $UDE 3UHVV +RXVH +LJK +ROERUQ /RQGRQ :& 9 $3 HH Saudi Research and Marketing (UK) Ltd 7HO )D[ Arab Press House, 184 High Holborn,
London WC1V 7AP Tel: +44 207 831 8181 - Fax: +44 207 831 2310
ϰμμΨΘϟ ϊσΎϘΗ ΔϜϣ ϖϳήσ ΕήϤΗΆϤϟ ϲΣ νΎϳήϟ ΎϬϟ κΧήϣ 2013 تشرين الثاني- نوفمبر1589 العدد
$ 0RQWKO\ 3ROLWLFDO 1HZV 0DJD]LQH ϥΪϨϟ ϒΗΎϫ νΎϳήϟ
ZZZ PDMDOOD FRP HQJ
تقاطع التخصصى- طريق مكة- حي المؤتمرات- الرياض
مرخص لها
A Monthly Political News Magazine +44 207 831 8181 : لندن- 4419933 هاتف:الرياض
www.majalla.com/eng KT#DONKDOHHMLDK FRP ϲϧϭήΘϜϟ· ΪϳήΑ ˬZZZ DONKDOHHMLDK FRP ϲϧϭήΘϜϟ· ϊϗϮϣ ϝϭΪϟ ϒϠΘΨϣ Ϧϣϭ ˬ ϥΪϨϟ ˬ βϳέΎΑ ˬ ϲΑΩ ˬ ΔϜϠϤϤϟ ϞΧΩ Ϧϣ
hq@alkhaleejiah.com : بريد إلكتروني،www.alkhaleejiah.com :موقع إلكتروني +966 1 441 1444 : ومن مختلف الدول، +44 207 404 6950: لندن، +331 537 764 00: باريس،+9714 3 914440 : دبي،920 000 417 : من داخل المملكة
ϲϧϼϋϹ ϞϴϛϮϟ الوكيل اإلعالني
ϲϧΎΠϣ ϒΗΎϫ ˬZZZ DUDEPHGLDFR FRP ϲϧϭήΘϜϟ· ϊϗϮϣ ˬ LQIR#DUDEPHGLDFR FRP ϲϧϭήΘϜϟ· ΪϳήΑ
ΕΎϛήΘηϹ Ϟϴϛϭ
800-2440076 : هاتف مجاني،www.arabmediaco.com : موقع إلكتروني، info@arabmediaco.com :بريد إلكتروني
وكيل اإلشتراكات
ˬ βϛΎϓ ϒΗΎϫ ˬ νΎϳήϟ Ώ ι ΕήϤΗΆϤϟ ϲΣ ΔϳΩϮόδϟ ΔϴΑήόϟ ΔϜϠϤϤϟ ϲϓ ϊϳίϮΘϟ Ϟϴϛϭ ZZZ VDXGLGLVWULEXWLRQ FRP ϲϧϭήΘϜϟ· ϊϗϮϣ ،+966 1 2121774 : فاكس+966 1 4419933 : هاتف،11585 الرياض- 62116 ب. ص- المؤتمرات وكيل التوزيع في المملكة العربية السعودية حي
www.saudidistribution.com :موقع إلكتروني
ZZZ KDODSULQWFR FRP ϲϧϭήΘϜϟ· ϊϗϮϣ ˬ βϛΎϓ ˬ ϒΗΎϫ ˬ νΎϳήϟ Ώ ι
�شركات ن�شر شركات نشر
ϊϳίϮΘϟ Ϟϴϛϭ
وكيل التوزيع
ΔϋΎΒτϟ ΰϛήϣ
ΔϋϮϤΠϤϟ ΕΎϛήη www.arabmediaco.com
Saudi Specialized Publishing املتخصص السعودية للنشر الشركةCompany www.sspc.com.sa
áeÉ©dG äÉbÓ©dGh ¿ÓYEÓd á«é«∏ÿG www.srpc.com 6DXGL 6SHFLDOL]HG 3XEOLVKLQJ &RPSDQ\
حقوق التوزيع لهذه المطبوعات محفوظة
»لشركة «تريبيون لخدمات اإلعالم
ΔχϮϔΤϣ ΕΎϋϮΒτϤϟ ϩάϬϟ ϊϳίϮΘϟ ϕϮϘΣ
©ϡϼϋϹ ΕΎϣΪΨϟ ϥϮϴΒϳήΗª Δϛήθϟ 8002440014 يرجى اإلتصال على الهاتف المجاني،المعلومات للحصول على المزيد من
»حقوق النشر لهذه المطبوعات باللغة العربية مرخصة «المجلة
AN AMERICAN EDUCATION A BRITISH SETTING A GLOBAL FUTUR E A Since the 1970’s Richmond has been educating leading Middle Eastern families. Richmond’s unique style of personalised higher education ensures that students leave us with a dually accredited degree, that is recognised in the UK, the USA and worldwide.
+44 20 8133 2877 • enroll@richmond.ac.uk Visit www.richmond.ac.uk/al-majalla today to download our catalog and viewbook.
العدد 1589نوفمبر -تشرين الثاني 2013
مجلة العرب الدولية شهرية سياسية
تأسست في لندن عام 1980
جون �ألرتمان :ت�أثري العالقات ال�سعودية ال�صينية على االجتاهات الأمريكية يف املنطقة م�شاري الذايدي :فر�سان نبالء قرروا ال�صمود على احلال القدمي ..تاريخ العناد! � ّسالم الكواكبي :هل يعد «جنيف »2فر�صة ب�شار الأ�سد للبقاء يف من�صبه؟
للحصول على العدد اسـتخـدم هاتفــك ال ــذكي لـمــسح هـ ـ ــذا الـ ــرقـ ـ ـ ــم 11
ISSN 1319-0873
9 771319 087013
issue 1589 November 2013
www.majalla.com