/crisyrien

Page 1

‫)الصرخة السوريّة و"اإلله" المفقود (النص الكامل‬ ‫· ‪ on Saturday, April 14, 2012 at 6:30pm‬منمنمات سورية‪ :‬بقلم نبراس شحيد ‪by‬‬ ‫‪:‬الصرخة‬ ‫ٌ‬ ‫مسرف في القتل‪ ،‬واآلفاق السياسية شبه مغلقة‪ ،‬والكثير من الشباب يُساق‬ ‫يستولي على بعضنا شعو ٌر عا ٌم باإلحباط‪ ،‬فالنظام‬ ‫ّ‬ ‫إلى العنف‪ ،‬والمجتمع الدولي يتالعب بنا‪ ،‬حتى "هللا‪ ،‬قال لي أحد األصدقاء‪ ،‬تخلى عنا"! كتبت عشتار على حائط‬ ‫نقض من العمر ما يكفي بحثا ً عنك؟؟ فَ ِل َم ال تجدنا؟؟ وجدناك منذ طفولتنا‪" ...‬‬ ‫الفايسبوك"‪" :‬إلهي لماذا تركتنا وحدنا؟؟ ألم‬ ‫ِ‬ ‫"تعمدنا‪ ...‬وقرأنا الفاتحة‪ ...‬بكينا الحسن والحسين‪ ...‬ول ْم تجدنا‬

‫‪":‬إلهي‪ ،‬إلهي‪ ،‬ل َم تركتني؟"‬ ‫ي مصلوبٌ على خشبة‪:‬‬ ‫قَبْل الصرخة هذه بألفي عام‪ ،‬صرخ في مثل هذا الوقت من السنة ‪ -‬بحسب المعتقد المسيح ّي ‪ -‬ناصر ٌّ‬ ‫"إلهي‪ ،‬إلهي‪ ،‬ل َم تركتني؟"‪ .‬استطاع بعضهم تسكين شي ٍء من حدة الكلمات هذه حين ت َّم تأويلها انطالقا ً من أحد المزامير‬ ‫الذي يبتدئ بها‪ ،‬منتهيا ً بتسليم األمر "هلل"‪ .‬لكن اإلحالة على المزمور هذا‪ ،‬وإن ه ّدأت شيئا ً من قلق السؤال‪ ،‬فإنها ال تستطيع‬ ‫اإليماني‪،‬‬ ‫ب موجع‪ ،‬لتتضاعف ح ّدتُها حين تُجرَّد من إطارها‬ ‫ألم واستغرا ٍ‬ ‫ّ‬ ‫أن تنزع من الكلمات هذه صرختها وما تخبئُه من ٍ‬ ‫عالم أشبه بالعبث‪ .‬وهنا‪ ،‬يمكن الصرخة‪ ،‬حين تُ َؤوَّل بطريق ٍة أش ّد راديكالية‪ ،‬أن تعبِّر ع ّما‬ ‫فتعبِّر حينها عن مأساة اإلنسان في ٍ‬ ‫س ّماه بعض الفالسفة "موت هللا"‪ ،‬للداللة على سما ٍء ص ّماء ال تسمع صراخ اإلنسان‪ ،‬أو على ما أطلق عليه بعض الالهوتيين‬ ‫اإلله"‪ ،‬أو على تبنّي "هللا" جوهريا ً "والفالسفة أيضا ً اسم "موت هللا"‪ ،‬لكن مجازيّاً‪ ،‬للداللة على موت تصوّراتنا القديمة عن‬ ‫‪.‬ألم اإلنسان وموته‬

‫‪:‬في جدليّة األلم‬ ‫أيّا ً يكن توجهنا الديني أو الفلسفي‪ ،‬ستبقى الكلمات الموجعة هذه صرخةً في وجه الالمعقول‪ .‬وكصرخة‪ ،‬ستقوم هذه الكلمات‬ ‫على حال ٍة جدليّ ٍة تقول شدة األلم‪ ،‬لكن لتقاومه من خالل التعبير عنه‪ .‬بمعن ًى آخر‪ ،‬تُب ِّد ُل الصرخة من طبيعة األلم‪ ،‬عندما‬ ‫ضر الصرخة حياةَ‬ ‫تصير الصرخة كلمة‪ ،‬ليصير األلم تعبيراً‪ ،‬ويضيف السوريون‪ :‬فناً وشعارا ٍ‬ ‫ت وأغنيات! هكذا‪ ،‬تستح ِ‬ ‫اإلنسان الداخليّة بعريها‪ ،‬بعيداً عن التزيّن أو الحشمة‪ ،‬لكن‪ ،‬لتجعل من األلم كلمةً تتجاوز هيجان العواطف‪ ،‬فتقطع عليه‬ ‫الطريق كي ال يصير وحشاً‪ ،‬أو غصّ ةً تخنق صاحبها في سكرات اليأس‪ .‬هكذا‪ ،‬مثالً‪ ،‬تحوّلت حماة الثمانينيات‪ ،‬وللمرة‬ ‫األولى‪ ،‬من صرخ ٍة خام في ذاكرة السوريين إلى ثورة لغ ٍة أفلتت من وجع الضمير وأقفاص الرقابة‪ ،‬فصارت في شباط‬ ‫المنصرم‪ ،‬وبعد ثالثين عاماً‪ ،‬تظاهرةً بصرية‪ ،‬صوتية وكتابية‪ ،‬تواصلية‪ ،‬انتزعت من األلم مطلقيّته‪ ،‬كما انتزعت منه‬ ‫!سُميّته لتجعل منه ذاكرةً قابلةً للشفاء‬

‫‪:‬في جدليّة الحضور‬ ‫ى جدل ٍّي آخر‪ ،‬تتو ّجه إلى "هللا"‪ ،‬لكن لتسأله‬ ‫وكما أن الصرخة تقول األلم وتقاومه في الوقت ذاته‪ ،‬فكذلك نراها‪ ،‬على مستو ً‬ ‫بشكل غير مباشر عن صمته‪" :‬يا هللا عجّل نصرك يا هللا!" ‪.‬وتذهب أحد الرسوم الكاريكاتورية لتصوّر أناسا ً باتوا يقولون‪:‬‬ ‫ضلْ غيرنا يا هللا"‪ ،‬ثم "يا هللا‪ ،‬شو صار معك يا هللا؟"‪ ،‬ليعقِّب أحدهم ببراءة‪" :‬استغفر هللا‪ ،‬لكنها ف ّشة خلق"!‬ ‫"يا هللا‪ ،‬ما َ‬ ‫ّ‬ ‫هكذا‪ ،‬يعبّر المعلّ ُ‬ ‫يكف‬ ‫ق هذا وغيره عن استغرابهم من "إل ٍه" يحضر في اللغة‪ ،‬ويغيب عن دائرة القرار السياسي؛ "إلهٌ" ال‬ ‫أقلّها في الدنيا‪ ،‬لمن يؤمنون باآلخرة)‪ ،‬وال ي ُحول دون موت األبرياء‪ ،‬وما أكثر الطغاة الذين (عنا‪ ،‬كما نتمنى‪ ،‬ظُل َم المعتدين‬ ‫ماتوا واالبتسامة ترتسم على وجوههم! هكذا‪ ،‬تتو ّجه الصرخة إلى "هللا"‪ ،‬معترفةً بشي ٍء من حضوره‪ ،‬ولو لغويّاً‪ ،‬لتضع‬ ‫ي‪ ،‬فترسم شكالً جديداً من الحضور الذي ال ينفي الغياب بل يؤكده‪ .‬وهنا‪ ،‬يمكن الصرخةَ‪،‬‬ ‫اصبعها في جرح غيابه الوجود ّ‬ ‫"حالل مشاكل"‪ ،‬بل‪ ،‬وقبل كل شي ٍء‪ ،‬مرجعيّةً أخالقيّة‪ ،‬وأحيانا ً‬ ‫عندما تعي ذاتها‪ ،‬أن تش ّكل وعيا ً جديداً ال يرى في "هللا" ّ‬ ‫صوفيّة‪ ،‬تحترم صيرورة التاريخ‪ ،‬لتَغيب عنه سياسياً‪ ،‬أقلُّها بشك ٍل مباشر‪ ،‬وتحضر فيه إنسان ّياً‪ .‬هكذا‪ ،‬تثور الصرخة على‬ ‫ق وآفاق ّ‬ ‫خالقة‬ ‫‪.‬استقرار العالم القديم‪ ،‬فتضعنا أمام هوّة الغياب وما تحمله من قل ٍ‬


‫‪":‬التجديف"في جدليّة‬ ‫وهنا تَلِ ُد الجدليّةُ الثانية أخرى ثالثةً‪ ،‬ف َمن أطلق الصرخة إلى "هللا" مات بتهمة "التجديف"‪ ،‬فبعد استجواب الناصريّ ‪ ،‬ش ّ‬ ‫ق‬ ‫ٌ‬ ‫تجديف! ما رأيكم؟"‪ ،‬فأجابوه‪" :‬إنّه يستوجب الموت!" بالطريقة هذه‪ ،‬مات الصال ُح كمج ّدف‪ ،‬ألنه " ‪:‬رئيس الكهنة ثيابه وقال‬ ‫ً‬ ‫الهوتي وآخر‬ ‫لم يدخل في القوالب الدينيّة الموجودة آنذاك‪ ،‬فكان موته ثورة على مطلقيّة الدين (وكذلك كان لموته بع ٌد‬ ‫ّ‬ ‫سياسي لن أخوض فيهما)‪ .‬هكذا " ُكفّر" الصارخ من عمق الناصرة‪ ،‬ومات "ملعوناً"‪ ،‬ألنه ب ّشر "بإل ٍه" غريب يؤمن‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫باإلنسان الحر ويتألم في شعبه! وهنا يمكن صرخة عشتار‪ ،‬صرختَنا‪ ،‬عندما تعي ذاتها‪ ،‬أن تكون ثورة على سطوة القوالب‬ ‫الدينية على المجتمع‪ ،‬أقديمةً كانت أم تلك التي أنتجها واقع الثورة‪ ،‬من ثقافة اتكاليّة أو تكفيريّة أو إقصائية أو أقلّويّة تجت ّر‬ ‫‪.‬يأسها في مرارة التكرار‪ ،‬وتخاف من جديد الحياة‬

‫‪:‬ثورة الصرخة‬ ‫ّ‬ ‫قادر على‬ ‫ق غير‬ ‫وألن الصرخة هذه ال تعيش من ثقل الحضور بل من تغلغل الغياب فيه‪ ،‬وألنّها تثور على حضور ٍ‬ ‫ألم مطل ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ق يه ّمش التاريخ‪ ،‬وألنها تثور على حال ٍة دينيّ ٍة مطلق ٍة ال تعرف إال لغة "التعبير عن ذاته‪ ،‬وألنها تثور على حضور‬ ‫إل ٍه" مطل ٍ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫حضور‬ ‫على‬ ‫م‬ ‫قائ‬ ‫ا‬ ‫أيض‬ ‫فاالنتقام‬ ‫االنتقام‪.‬‬ ‫آليات‬ ‫من‬ ‫العدالة‬ ‫منطق‬ ‫تحمي‬ ‫أن‬ ‫ن‪،‬‬ ‫ل‬ ‫عق‬ ‫ت‬ ‫عندما‬ ‫الصرخة‪،‬‬ ‫يمكن‬ ‫والوعيد‪،‬‬ ‫الخوف‬ ‫ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ق لأللم ال يملك من أساليب التعبير عن نفسه إال االنفجار‪ ،‬أو اإلحالة‪ ،‬في ساعة العجز‪ ،‬على "إل ٍه" ير ُّد الصاع صا َعيْن‬ ‫مطل ٍ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫بنوع من الغياب‬ ‫الحضور‬ ‫م‬ ‫َس‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ثالث‪،‬‬ ‫ط‬ ‫بوسي‬ ‫العدالة‬ ‫تقبل‬ ‫المقابل‪،‬‬ ‫في‬ ‫األلم؛‬ ‫ّة‬ ‫ي‬ ‫مطلق‬ ‫ا‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫ش‬ ‫م‬ ‫‪.‬‬ ‫الصرخة‬ ‫هذه‬ ‫عقلنة‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫تش‬ ‫هكذا‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ثورةً ثقافية مجتمعية‪ ،‬وأحيانا دينية‪ ،‬قد تستطيع يوما تفكيك شي ٍء من بُنى المطلق المتعددة التي تعمل في ثقافتنا ولغتنا بشك ٍل‬ ‫الواع ِّ‬ ‫مقزمةً اإلنسان‪ .‬وهنا‪ ،‬يمكن حقيقة الصرخة‪ ،‬التي بدت يائسةً ُمحبَطة‪ ،‬أن تتجلى أمالً‪ ،‬ال بل رجا ًء في الحياة‪ ،‬يقع‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫‪.‬على عاتقنا جميعا تحليلها وعقلنتها ودفعها إلى األمام‬ ‫نبراس شحيد ‪-‬راهب يسوعي سوري‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.