رواية من تأليفي الشخصي اتطلع لقرأة الجميع لها وزيارة الصفحة الشخصية لها على الفيس بوك باسم (جولة ف

Page 1


‫" جولة في جرافة حوت "‬

‫تأليف ‪ /‬محمد سعد جاب هللا‬

‫المراجعة‪ /‬أ‪.‬حسين معوض‬

‫النسخة األولى‬ ‫‪2017‬‬

‫‪1‬‬


‫اإلهداء‬ ‫أهدي هذه الرواية لنبع الحنان "أمي" ‪ ،‬وقدوتي "والدي" رحمه هللا ‪ ،‬وأصحابي ولكل من وقف‬ ‫معي وعلى رأسهم ‪ ridere spirit‬ولكل أديب عرفته في حياتي لإللهام الذي أعطوني إياه‬

‫فبفضلهم وجدت كالماتي وتعابري التي وضعت‪.‬‬

‫‪2‬‬


‫المقدمة‬ ‫إن الكلمات التي وضعت في هذه األسطر لتجسد عن أحاسيس في وقت اشتد به اآلالم‪.‬‬ ‫ال للنجاة رغم فقدانه من حين ألخر وأمالً لم يفتقد‪...‬‬ ‫عن صبر كان سبي ً‬

‫‪3‬‬


‫في إحدى أيام طفولتي القصيرة‪ ،‬من طباعي عزلتي وبقائي‪ ،‬مع خيالي الفذ‪ ،‬كنت دائما‬ ‫أمسك بألعابي الصغيرة ‪،‬كنت أدعوها "مكعباتي "‪ .‬وهي أجزاء مكعبة صغيرة لتشكيل‬ ‫األجسام أللهو بها‪ ،‬ففي تلك اآلونة نضج عقلي درجة من درجات الطفولة‪ ،‬فقررت االعتزال‬

‫عنها بعض الشيء‪ ،‬واالنخراط بهواية جديدة‪ ،‬لكي أكون أكثر انسجاماً بعزلتي‪ ،‬اتخذت من‬ ‫جهازي المكتبي مسلكاً ألدخل هواية أشبع بها ملكات نفسي‪ ،‬السيما بعد أن فقدت شخصا‬ ‫‪،‬هو من أعز الناس لدى "والدي الغالي" رحمه هللا‪ ،‬مهتما باأللعاب التقنية ومر الوقت ومرت‬

‫األيام كأنها جبال حتى انقضت سنة أخرى‪ ،‬وفي واحدة من تلك الليالي الثقال‪ ،‬جلست في‬ ‫غرفتي منشغال بذلك الجهاز األسود دى الشاشة المسطحة لكي استمتع بما اعتدت عليه من‬ ‫تلك اللعبة االلكترونية الرائعة‬ ‫(كرة القدم)‪ ،‬تلك اللعبة التي طالما استمتعت بها كثي اًر والتي كنت دؤوباً عليها لما تبعث في‬ ‫نفسي نوعاً من اإلثارة والحماس ‪،‬اللذين جعالني أسلو أحزاني وقد أشعر في نفسي بشيء‬ ‫من النشوة ولكن في غمرة االستمتاع بهذه اللعبة‪،‬ال أدري مالدهر أخفاه لي‪.‬‬

‫وبينما أنا منغمس في لعبتي وفجأة أسمع دوي صوت كان في عقلي مجرد خيال‪ ،‬ألني لم‬ ‫أتوقع سماعه في واقعي‪ ،‬قلت لنفسي كال يا أبله هل ستترك لعبتك وتركض وراء ذهنك‪ ،‬هذا‬ ‫من وحي خيالك‪ ،‬أبقى واستمتع‪...‬‬

‫لكن لم استطع جذب تركيزي بين عيني حينما كان يسرح مع أذناي ‪،‬ليتفقد ما أسمعه من‬ ‫صوت فإذا بذلك الصوت يعلو ويكثر‪ ،‬قلت لنفسي لقد أصبح الخيال واقعا‪ ،‬وذهبت مسرعاً‬

‫ألخطف النظر من وراء سيتار نافذة شقتنا‪ ،‬تلك التي ترعرعت وشهدت فيها لذة وم اررة‬

‫حياتي ‪،‬ألجد أن هناك انتشا اًر للجيران وغرباء معهم يتبعثرون كتبعثر أزهار النرد في‬ ‫صندوق يرميها الالعب لتحديد مصيره‪...‬‬ ‫دخلت مسرعاً "ماما‪...‬ماما" هناك جلبة تجوب شارعنا‪ ،‬والخوف كان يعتريني‪ ،‬وخيالي أصبح‬ ‫يلقي بما كان يحويه عقلي‪ ،‬ذلك من أحداث كانت من المستبعد وقعها‪ ،‬أصوت كتلك التي‬ ‫تسمع في الحروب والغزوات ‪،‬أسلحة نارية خفيف منها وثقيل أيضا‪ ،‬مسدسات‪ ،‬ومدافع‬

‫‪4‬‬


‫واألغرب حينها صوت جنزة عجالت الدبابة الغريبة‪ ،‬فكنت استمع وأعرف ما كان يجوب‬ ‫شارعنا من أصوات على رغم صغري‪...‬‬

‫فقالت لي أمي حينها‪ :‬لقد حدث ما كان يقولون إنه ستكون ثورًة على حكم أصبح للبعض‬ ‫بغيضا جداً‪ ،‬قلت لنفسي ال دخل لي بأمور ال اعلمها فحينها الزلت صغي اًر ‪.‬ولكنه كان‬ ‫الحدث‪َ ،‬دخلت أمي مسرعة لغرفة إعداد الطعام "المطبخ" واذا بي أراها تحضر سكينا وتخبئه‬ ‫بين يديها وتأخذ بي وأخواتي االثنين ‪،‬فتحت باب شقتنا واذا بجيراننا يقولون كالم لم افهمه‬ ‫وأمي مذعورة من أشياء كنت أجهل حدوثها وهي تعلمها فكاهل المسؤولية يقع عليها لتحمينا‬ ‫وتحقق ما وعدت به أبانا رحمه هللا وأبقاها لنا‪...‬‬ ‫هبطنا إلى جيراننا ودخلت أمي واخوتي لمنزلهم ‪،‬وأنا إذا بي أدخل مع رجال الجيران أيضا‬ ‫لمنزل أحدهم‪ ،‬لكي نحتمي بجدران كاد اإلهتراء يمأل خارجها وداخلها ونعلم أن هللا القدير‬ ‫لبصير بحالنا وهو من يحمينا‪ ،‬ولكنها الغريزة التي بداخل كل آدمي‪...‬‬

‫أخبار تَ ِرُد لنا من‬ ‫بقينا وقت ًا طويال واذا بتلك األصوات تعلو وتجوب شوارع المنطقة وهنا‬ ‫ُ‬ ‫خارج العمارة التي كنا بها‪ ،‬معلومات عن أن جيشاً يتقدم لكي ينتهك حرمات المنازل العامرة‬ ‫بأهلها اآلمنين‪ ،‬ويجوب األبنية لبسط سيطرته كاملة عليها‪ ،‬ويثبت حكمه فيها‪،‬ولكن قاطنيها‬

‫أبوا واستنكروا وأصروا على الجهاد وأال يستكينوا بعد سقوط أول فقيد حينها‪ ،‬لتندلع أكثر‬ ‫وأكثر ولم تنطفئ حتى وان قال ِ‬ ‫أم ُرُهم ارجعوا ولكم منا سالم أَ​َب ِد َي‪...‬‬ ‫طال الوقت‪ ،‬واستمر حتى شارفت شمس المغيب وأصوات الطلقات ودوي المدفع الينقطع‬ ‫للوصول حدث ما حدث وأمي كانت في كل ثارة من ذلك الوقت تخرج من منزل الجيران‬ ‫وتقول "ولدي ولدي ديرو بالكم عليه" والخوف يقطع أوصال قلبها‪ ،‬وال تملك من األمر شيء‬ ‫على وعلى أخواتي‪ ،‬هدأ الوضع ونزلنا ألسفل الشارع لنجد المكان أصبح‬ ‫إال خوفاً عارماً َّ‬ ‫ساح ًة هبت عليها عاصفة جعلتها جرداء بال لون‪ ،‬ليقول لنا جارنا الذي أصبح يجاور أبي‬ ‫لدى خالقنا رحمهما هللا‪ ،‬هيا ليأخذ كل منا أسرته ويخرج من المنطقة إلى حين هدوء‬ ‫األوضاع‪ ،‬ذهبت مسرعا أنادي " ماما‪...‬ماما هيا" اجلبي ما تستطعين مما أمكنك وأتي به ‪.‬‬ ‫هكذا خيالي كان يقول ولساني نطق بـ " هيا بنطلعو" أخدت بهم أسفل العمارة واذ بجيراني‬

‫يركبون سياراتهم ويرحلون ولم يتبقى غيرنا وأنا في ذلك الوقت ال أعلم أن بمقدوري القيادة في‬ ‫وسط يسوده دمار كنملة تحاول النجاة من قطرات ماء متناثرة في كل مكان‪ ،‬ولكن بيني‬ ‫‪5‬‬


‫وبين نفسي قلت أستطيع فعلها‪ ،‬ركبنا وقدت بأسرتي ولففت الشارع لكي اخرج منه ولم أكن‬ ‫أعلم بصيرناَ إلى أين يأخذنا‪...‬‬

‫الشارع كان مزدحماً والمنظر كان أشد المناظر الواقعية التي لم أكن أتصورها البتة ‪ ،‬مبعثرة‬ ‫ومحروقة تلك المركبات المجنزرة واألظرف الفارغة من رصاصها الحي‪ ،‬والبشر يهتفون‬

‫بأعلى صوت " هللا اكبر هللا اكبر" وجسمي يقشعر‪ ،‬وأمي وأخواتي كادوا يموتون رعباً‬ ‫والبعض يقول لنا من خارج الطريق " كبري يا حاجه متخافيش " انطلقنا لمصير مجهول ال‬ ‫علم لنا به‪.‬‬ ‫وفجأة تقول أمي لنذهب ألصدقاء أباك رحمه هللا فإنهم لن يتركونا‪ .‬سرنا إليهم والدمع يذرف‬ ‫أعيننا وصلنا حينها بجهد كبير ألني في ذلك الوقت تعلمت القيادة من شدة خوفي على‬ ‫من ُ‬ ‫عائلتي وشعوري بالمسؤولية التي ألقيت على عاتقي وأنا في سن حدث ال زلت صبياً‪.‬‬

‫بمرور األيام مرت ثالثة أشهر تقريباً‪ ،‬وبعد تلك الفوضى أصبحنا نجوب البيوت خوفا من‬ ‫تأزم األوضاع والقلب يزداد خوفا ورعباً وألماً‪ ،‬ولكن بزيادة المسؤولية التي أجهل التعامل‬

‫معها‪ ،‬إلى أن نصل إلى بيت أقارب والدتي الذين لم أعي بوجودهم في مدينتنا ألنني كنت‬ ‫صغي ار ال أعرفهم‪ ،‬وبعد ِ‬ ‫بحث طال الوقت إليجادهم من منطقة ألخرى ومن بيت آلخر ومن‬

‫مدرسة ألخرى إلى أن وصلنا لمدرسة كان القدر يحملنا لها‪ ،‬بعد تالطم أمواج الحياة في‬

‫وجوهنا بقينا في تلك المدرسة نتخالط ونتعارف إلى األناس الذين سبقونا إليها‪ ،‬ووجدت آنذاك‬

‫جاري الطفل الصغير الذي كان صديقا لي‪ ،‬يراقبني من بعيد وفي ذهنه يقول ‪ ،‬هل هذا‬ ‫صديقي الذي يقف هناك ولكن كيف؟ !‪...‬‬ ‫اتجهت إليه ماشياً ألسلم عليه‪ ،‬واستمر ذلك الوضع المشتت الذي فقد فيه صديقي أخته‬ ‫أثناء الحرب على مدينتي‪ ،‬وأقول لنفسي كيف يحدث هذا أي قلوب تقوم بهذا من أي أنواع‬

‫البشر هم ‪،‬ومر الوقت وهدأت األوضاع في الخارج حسبما ُيأتي إلينا من أخبار وخرجنا مع‬ ‫العائلة التي بقيت معهم أمي واخوتي في فصل لتعليم األطفال الذين هم في مثل سني والذي‬ ‫أصبح اآلن محل إيواء للعائالت الفارة من حرب أكلت من األرض أخضرها ويابسها‬ ‫وبسطت عليها صفارها‪...‬‬ ‫وصلنا لمنزلهم وكانوا فرحين ألول وهلة أروا فيها منازلهم الناجية من تلك العاصفة الهوجاء‬ ‫فبقينا لدى تلك العائلة ريثما يتحدد مصيرنا إن كان سيتركنا بال مأوى أم سنرجع لمنزلنا!‬ ‫‪6‬‬


‫توالت األيام وال يزال الوضع على مشارف المدينة يزداد سوء ونحن نقطن هذه المنطقة‬ ‫عرفت من أمي بأن هناك أناس‪ ،‬استقلوا سفن ليذهبوا إلي‬ ‫بالقرب من ميناء المدينة ‪ ،‬إلى أن‬ ‫ُ‬ ‫مدن أخرى‪ ،‬فقالت لقد تخاطبت أنا والعائلة التي كنا لديهم حول ذهابنا في إحدى تلك السفن‬ ‫وأنا حينها أصبحت أتصور سفناً شتى كبيرة وصغيرة واألحمر واألبيض منها و البطيء‬ ‫والسريع والواقع يخفي الحقيقة في طياته…‬

‫أتى رجل كانت والدته تربطها بوالدتي صله‪ ،‬أخدنا وبعض من أغراضنا تلك إلى ميناء السفن‬ ‫‪،‬والسماء تسودها ظلمة حالكة كسواد فوهة المدافع والبنادق‪ ،‬ال نهاية لها ولكنها صافية‪،‬‬

‫وصلنا واالزدحام يملئ المكان نزل الرجل من سيارته وفي غضون لحظة واحدة تهافتت‬ ‫نحونا أشياء براقة من السماء ذات أصوات صاخبة يقال لها "جراد "‪.‬‬

‫هذا ما علمت‪ ،‬عندما سألت عنها‪،‬و في عجلة من أمري قفزت لمقعد السائق وقدت بأهلي‬

‫متخذاً من صناديق المعدن الكبيرة "حاويات" تلك مخبأ‪ ،‬كنت كعصفور في بداية حياته‬ ‫يبحث عن مأوى له‪ ،‬استجمعت قوة الرجال في نفسي استرجلت وذهبت إلي الخارج بعد‬ ‫الرعب الذي انتشر‪ ،‬اخدت أقدم العون للذين يتعاونون علي إفراغ ذاك المركب الرث‪ ،‬وبين‬ ‫زوايا عقلي أتمتم أين تلك السفينة الغبية التي ستنقلنا‪ ،‬بعد االنتهاء وبسرعة فائقة من إفراغ‬

‫محتويات المركب‪ ،‬قام بعض القائمين على الرحالت البحرية على متنه يقولون هلمو بسرعة‬ ‫وأحضروا العائالت وأنا وقعت في محيط ذلك المكان شارداً هل هذه سفينتنا التي سنكربها…‬

‫أصبحت العائالت تركب في هذا المركب باستعجال‪ ،‬منهم من وقع ومنهم من جرح وكل تلك‬ ‫الجلبة خوف من تكرار ما حدث فور وصلنا…‬

‫أسود‬ ‫تمت عملية التعبئة بنجاح‪ ،‬هكذا قلت لنفسي ‪ ،‬انطلقت السفينة تبحر كما لو أنها ثقب ُ‬ ‫أسفلنا أشد حلكة بالعتمة‪ ،‬ومركبنا قد أطفئ أضوائه لكي ال‬ ‫في فضاء سماؤه شديدة الظلمة و َ‬

‫نصبح هدفا سهال لمدافع العدو‪ ،‬هكذا استنتجت من أفكاري‪...‬‬ ‫ُ‬ ‫يا للمجهول‪ ،‬أنت يا بائس الحظ شاحب الوجه ‪،‬مهتز الشعور‪ ،‬غير مكثرت‪ ،‬نسير لوجهة ال‬ ‫نعلمها ولكننا‪ ،‬سرنا‪.‬‬

‫ومن شدة تعبي وخوفي لم أستطع المقاومة والبرد أفشلني‪ ،‬ومن كان بجواري يقول هذه‬

‫الجرافة حينها وبذهن ضعيف التقط أخر الكلمات "جرافة"!‪.‬‬

‫‪7‬‬


‫انطلق كطائر النورس محلقاً في سماء البحار ‪ ،‬وارتقب فريسة سهلة لكي انقض واشبع‬

‫جوفي م ن تلك المسافات الطويلة ‪ ،‬ها أنا مثله أبحر على متن جرافة مهترئة صغيرة الحجم‬ ‫ِ‬ ‫المتوسط‬ ‫مزدحمة‪ ،‬البشر فوقها‪ ،‬ال اعلم كم مسافة سنقطع وال يوم سنبقى في ماء البحر‬ ‫‪،‬بزغت الشمس وها أنا أول مرة أشاهدها تشرق من بحر أنا ضيفه كما لو أنه يضفي‬

‫طمأنينة علينا أال تحزنوا ستبشرون‪...‬‬

‫مرة اللحظات والساعات واأللم والخوف يمأل من المكان ‪ ،‬أنظر أين أمي؟ وأخواتي؟ هل‬ ‫فقدتهم أم ماذا؟؟‬ ‫جبت الجرافة تلك باحثا لكي أجدهم بحجرة مألتها المياه‪ ،‬والقرف يعم أرجائها‪ ،‬وجدتهم‬

‫ممددين بين النساء الالتي كن معهن‪ ،‬ضممتها وقلت هل انتن بخير‪ ،‬أو تحتاجون لشئ؟‬

‫قالت ال ولكن أرجوك بني احذر‪ ،‬أننا في مصير ال نعلمه‪ ،‬وأنت أملنا بعد هللا‪ ،‬تركتهم‬ ‫آنذاك ‪،‬ومضى اليوم بما فيه من أشياء لم اعتدها واشتياق لغرفتي ومدينتي واألكثر منهما‬ ‫احن لليابسة الجرداء هناك‪.‬‬ ‫أصبحت ُ‬ ‫اليوم التالي آتى بعد معناة مع البرد القارص‪ ،‬والمياه المتجمدة‪ ،‬والخالء الذي كان أشد من‬ ‫الذي كنت أجاوره في غرفتي‪ ،‬إال أني اعتدته و أمواج البحر تتالطم بجدران المركب‪ ،‬ومنها‬

‫ما يدخله البشر من حولي مرعبون أطفاال‪ ،‬ونساء‪ ،‬وشيباً‪ ،‬ورجاالً ‪،‬منهم من كان يخفف‬ ‫من آالمه بالبحث عن الطعام الذي لم نجلبه معنا بسبب الفزع الذي حدث في الميناء‪ ،‬ولكن‬ ‫بعض الطعام وجد‪ ،‬وكان عبارة عن صندوق طماطم وعلب تونة وبعض اكياس من‬ ‫المعكرونة وماء الشرب ليس بكثير‪.‬‬ ‫كان هناك رجل مليء البنية يبحث عن بعض الطماطم وعلب التونة تلك‪ ،‬فوجدها واذا به‬

‫يأخذ منها‪ ،‬ويمسك باليمنى التونة‪ ،‬واليسرى الطماطم‪ ،‬ويأكل بشراهة‪ ،‬كما لو أنه لم يأكل من‬ ‫عشرة أيام‪ ،‬إال أننا لم نتمكن سوى يوم واحد ‪ ،‬أكل ما استطاع أكله ومن تم ذهب مسرعاً إلى‬

‫حافة الجرافة ليفرغ ما في جعبته من طعام يا لسوء حظه العاثر‪ ،‬بقيت أحدق بالذين كانوا‬

‫على مقربة مني يمينا ويسار هل سأصل حيث المرتقب آم سنبقى عالقين‪ ،‬أم سيظهر لنا‬

‫حوت كبير ويلتهمنا؟ والخيال يأتي بما طاب له التفكير فيه‪ ،‬وفجأة سمعت كما سمع غيري‬

‫‪8‬‬


‫صوت بدأ مألوفا ومستبعد أيضا ‪ ،‬صوت طائرة عاموديه "هليكوبتر" هكذا اعرفها ‪ ،‬تحوم‬ ‫فوق الجرافة وأصبحت أبداننا تقشعر هل سنقتل أم ماذا؟‬

‫وفي ذلك الوقت أصبحت أقول لنفسي كل ما شاهدته من خيال وسمعت عنه يحدث أمامي‬ ‫هل أنا في غيبوبة أم حقيقة مؤلمة! بدأ "كابتن" الجرافة يخاطبهم عبر جهاز الالسلكي ‪،‬‬

‫واالستيعاب لم يكن يحالفني تلك األثناء فلم أعلم سوى أنهم يظنون أننا أشخاص يحاولون‬ ‫الهرب من خالل البحر ليذهبوا إلى بالد أولئك األوروبيين ‪،‬وبعد طول انتظار في بحر‬ ‫عميق تركونا وشأننا‪ ،‬بعد أن تأكدوا من هويتنا ووجهتنا‪ ،‬الجوع والخوف يكاد أن يصبحان‬ ‫كظلي‪ ،‬فاألمر لم ينتهي بعد اهت اززات‪ ،‬ورياح وبرد‪ ،‬كتلك التي يواجهها الصياد‪ ،‬ليصل إلى‬ ‫صيده الوفير في يوم مليء بالغيوم‪ ،‬وحلت الظلمة الحالكة ولكنها امتألت بمصابيح "النجوم"‬ ‫لذلك المسافر في طريقه المجهولة‪ ،‬لتنير له قلبه وتريحه على الرغم من شدتها عليه‪ ،‬أتى‬ ‫الصباح وأشرقت الشمس من مكان بعيد‪ ،‬وانتصف النهار وصوت النورس الجميل‪ ،‬مهال‬ ‫ا ستفقت فجأة من سرح كان كالخيال صوت نورس وسط بحر عميق!! وبدأت الجرافة تعمها‬ ‫الضوضاء‪ ،‬شخص يقول وصلنا واألخر يهتف إنها اليابسة‪ ،‬وأخر لقد نجونا‪ ،‬وتقشعر‬ ‫األبدان واتجهت صوب أمي بفرح يعم أرجائي ‪،‬وصلنا نجونا إنها المدينة‪ ،‬الحمد لك إلهي‬ ‫بدأنا نقترب واألمر كالعادة‪ ،‬حين االقتراب يصبح أبعد من ِقَل ِة االنتظار التي تعتري كل من‬

‫يقترب لوجهته‪ ،‬أصوات بوق ورصاص ومراكب نجاة‪ ،‬ورجال شرطة يستقبلوننا بفرح‪ ،‬لقد‬ ‫وصلتم أهال بكم ‪،‬حينها قل الخوف واأللم كما لو أن قنينة ماء كانت مائلة‪ ،‬واستقامت‬ ‫لتحتفظ بمائها للسقيم…‬ ‫احتضنت أمي بفرح غامر لم أكن أهتم حينها بالمجهول وان كان لم يكتمل‪ ،‬ألني قريب من‬ ‫أمي‪ ،‬واألرض تحتضننا‪ ،‬وبعد مرور ثالثة أيام حيث كنا وسط بحر ال يدخله إال صديق له‬

‫لكننا سنبقى ونحارب‪ ،‬ألجل البقاء إلى أن تحين لحظة السفر‪ ،‬فتكون مع من بقرب من‬

‫رحلوا عن دنيانا‪ ،‬هكذا فكرت‪ ،‬وقلت‪ ،‬وانتظرت إلى وقت سيأتي قريباً…‬

‫مدينتي رجعت بعد شهر مضى‪ ،‬األرض كلها واحدة في بالد واحدة‪ ،‬ترابها واحد‪ ،‬هي من‬

‫ولدت عليها واستنشقت هوائها‪ ،‬هذا هو ما اشتاقت له رئتاي لتستنشقه‪ ،‬واستمر الخوف‬

‫واألمل يداعب مشاعري وأنا بينهما سأناضل ألبقى وأهلي بخير‪ ،‬هكذا الحياة يوم لك ويوم‬

‫‪9‬‬


‫عليك ناضل وأستمر وكافح ستصل‪ ،‬إن كانت طريقك صحيح وأحذر من ظلم تكون ضالته‬ ‫وال يبصر قبلك سواه‪...‬‬

‫هذا ما كان يجول في ذهني من وقائع تلك الفترة‪ ،‬أما من منظور والدتي ذات العيون البنية‬

‫واالبتسامة الزهية تجاه ما حدث فكان مختلف‪ ،‬فحين سألتها عن ما جاب في ذهنها لما‬ ‫سبق؟ كانت إجابتها لي ‪،‬يا بني ما حدث في ذلك الوقت من أحداث ومواقف وغيرها ما هو‬ ‫إال جزء جديد من ألم عشت أقسى منه في الماضي ‪ ،‬دعني أسرد لك ما طاب لذهني تذكره‬ ‫من ذلك األلم الذي كان كشبح يخطو خطواته األولى خارج زنزانته‪ ،‬بعد طول انتظار‪،‬كسماء‬ ‫مظلمة ال قمر ينتصفها ‪ ،‬وأنا بصمت وانتباه شديد استمع لها‪.‬‬ ‫أنا أنثى شرقية ولدت في الثالث والعشرين من شهر نوفمبر سنة ‪1966‬م في مدينة تقع‬ ‫شرقي البالد ترعرعت بين أذرع والداي عشت مع إخوتي وأخواتي البالغ عددهم سبعة وأنا‬ ‫ِ‬

‫معهم ‪،‬وحللت الترتيب الثاني بينهم ‪ ،‬فعشنا جميعاً ببيت في شارع قريب للبحر‪ ،‬إلى أن أتت‬ ‫سنة ‪1974‬م حينها بلغت من العمر تسع سنوات تقريبا‪ِ ،‬‬ ‫مرضت والدتي فجأة‪ ،‬وأصبحت ال‬ ‫تستطيع الوقوف علي قدميها‪ِ ،‬‬ ‫حزناَ جميعاً وبدأت تلك المعاناة التي لم احسب لها في‬ ‫الحسبان‪ ،‬كذلك الصوص الذي يركض وراء والدته وال يعلم بما سيحدث لكليهما‪...‬‬

‫سافرت والدتي وأبي رحمه هللا يصطحبها‪ ،‬لكي يجدوا عالجاً مما عانت منه فسافر والداي‬

‫إلى دول عدة منها اليونان‪ ،‬وألمانيا‪ ،‬وايطاليا‪ ،‬وغيرها‪ ،‬وفي تلك األثناء تركت د ارستي لكي‬

‫أقوم برعاية إخوتي وكانت عمتي رحمها هللا معنا‪ ،‬وفي تلك اآلونة التي بقي األقارب فيها‬ ‫معنا منهم من أحسن رعايتنا ومنهم من لم يفعل وكنت إحدى أخواتي اللواتي تلقت غضب‬ ‫من الموجودين‪ ،‬طفلة أنا حينها‪ ،‬كنت أضجر‪ ،‬وأغضب‪ ،‬وأخاف‪ ،‬أتمتم وأكتم أبكي على‬ ‫طفولة أوشكت علي الرحيل‪ ،‬ومر الوقت والليالي تليها ليلة ظلماء كظالم بئر عميق يملئه‬ ‫المطر بالماء ولكنه ال يعلو منسوبه هكذا أنا أمأله صب اًر‪ ،‬رجع والداي ولكن لم يتغير شيء‬

‫فكانت والدتي على حالتها تجالس كرسياً متحركاً واألب يجتهد ليلبي رغباتناَ كالحطاب يخرج‬ ‫ِ‬ ‫عل به نار يدفئُ به عائلته‪ ،‬فكان أبي يشتغل بمهنة اللحام "جزار"‬ ‫َ‬ ‫لغابته يجمع الحطب ليش َ‬ ‫‪،‬نعم انه يجر وينحر أعناق الماشية ولكن قلبه كان رقيقاً ِ‬ ‫فرقته كانت تفوق ورقة بيضاء نقية‬

‫من الشوائب ‪.‬‬

‫‪10‬‬


‫ِ‬ ‫مابك أماه ؟ نظرت إلي والدمع يمأل عينيها كسيالن وادي‬ ‫فصمتت أمي للحظة‪ ،‬فسألتها‬ ‫جارف مرت به عاصفة ممطرة أصبح يتدفق الماء منه بغ ازرة‪ ،‬ال شيء وانما ما أتذكره‬ ‫يصعب نسيانه‪ ،‬وحلوه كاد يتالشى من ذهني‪ ،‬وأكملت ما كانت تنوي قوله لي‪ ،‬وأنا أتأملها‬ ‫وأقول لنفسي ِ‬ ‫إنك من أنجبتني ليفرح قلبك وتقر عينيك بمشاهدتي‪ ،‬سأبذل قصارى جهدي‬

‫ِ‬ ‫ماتمنيت‪.‬‬ ‫ألحقق‬

‫خبر مؤلماً كاد الموت يبارحني‬ ‫يابني في نهاية سبعينيات القرن الماضي‬ ‫استقبلت وأسرتي اً‬ ‫ُ‬ ‫لسماعه أبي شديد الحنان والحنة وافته المنية وأنا أذرف دموعي تلك وأقول لنفسي ذهبت يا‬

‫من أنزلت بي سكينة برؤياك‪ ،‬وبسم ًة حين أخاطبك‪ ،‬وأصبح أشد طفولة وأدعو أال أصحو‬ ‫نت بشدة وذلك الجرح يزداد عمقاَ‪ ،‬لقد خاطبت نفسي قائل ًة أمي سقمت‪ ،‬بأس سقمها‬ ‫منها‪َ ،‬حز ُ‬ ‫وأبي فارق الحياة واخوتي صغار‪ ،‬وأخي الذي يكبرني بسنتين يساندني حالياً والمجهول‬ ‫أصبح بعيد الوجهة يا إلهي عونك ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫شهدت طفولة عسيرة‪ ،‬كاد جمالها يختفي حقاً أنا آسف لذلك …‬ ‫فقلت لها يا أمي‬

‫نعم يا بني استمرت حياتي تلك سنين طويلة فرأيت م اررة الدنيا وحلوها القليل‪ ،‬حتى َك ُب َر‬ ‫إخوتي وحاولت جاهدة أن أستكمل دراستي وكانت عمتي األخرى رحمها هللا تبدي رأيها مع‬ ‫بقية أفراد أسرتي لِماَ ال تجعلوها تستكمل دراستها فهي ال تزال طفلة‪ ،‬ولكن لسوء حظي‬

‫قطار سريعاً وأنا تأخرت على موعد االلتحاق بها فلم‬ ‫العاثر الدراسة التي كنت ُ‬ ‫أودها استقلت ً‬ ‫يبقى سوى مكان واحد أستطيع استكمال التعليم به مكانٌ مليء بالعجائز كبار السن الذين‬ ‫فاتهم ذلك القطار مثلي‪ ،‬لكي يتعلموا ما فاتهم‪ ،‬فوافقت حينها ألن ما باليد حيله غيرها‪،‬‬ ‫دخلت واستقبلت ذلك العلم الذي كنت أرغبه بكل ضيق ويوم عن يوم يزداد األمر اختناقاً‬

‫ضقت ذرعاً به أناس يكبروني سن ًا‬ ‫ليس ألني لم أستطع استيعابه ‪ ،‬ولكني استقبله في مكان‬ ‫ُ‬ ‫ثياب عجائز كما لو أني امرأة تجاوزت الخمسين‪ ،‬عاماً وأنا لم أتجاوز ربعه ‪،‬حينها‬ ‫وأرتدي َ‬ ‫تنهدت أمي وقالت‪ :‬بعض من السعادة التي منحت لي في صغري كان أحدها الذي امتطى‬ ‫فيها دراجة هوائية اركبها مع طفل جيراننا باستمتاع ذاهب ًة لمدرستي التي درست بها أول سنة‬ ‫من تعليمي القصير واالبتسامة ترتسمني‪ ،‬مر الوقت أنا أجالسها وهي تسرد وتسرد فقالت‬ ‫أيضا ‪ ،‬لقد‬ ‫يجدي نفعاً ُ​ُ‬

‫بقيت بالمنزل أرعى إخوتي وأمي أيضاً وفي سنة ‪1984‬م أحسست بالصبر‬ ‫والمطر ملئت بئري تلك عندما استبشرت بموافقة أهلي لكي اشتغل بمكان يقوى‬ ‫‪11‬‬


‫على مساعدة الناس استمريت بذلك المكان لوقت إلى أن أبشرت بمجيء فارس على تلك‬ ‫الجواد التي تمطى في المسابقات للفوز بجوائزهم كطير محلق يحمل رسالة فرج من وسط‬ ‫زحام عاثر بالتعاسة ‪ ،‬رجل كان قد رآني من قبل وأنا لم الحظ هكذا أخبرت باألمر‪ ،‬أراد أن‬ ‫يتزوجني أتى وأخبر أهلي بذلك‪ ،‬فأخبروني به أنا تغمرني السعادة أسوف اسعد من جديد؟‬ ‫ويستمر األمر‪ ،‬وافقت على زواجه وأقيم الفرح وذهبت معه إلى مدينته التي تتوسط البالد‬ ‫أصح على زقزقة العصافير وثغاء الماعز وخوار البقر ورائحة النسيم العليل التي تمأل‬ ‫فكانت‬ ‫ُ‬ ‫سافرت من مكان بعيد عن التعاسة التي عشتها إلى هذا‬ ‫تلك المزرعة‪ ،‬قلت لنفسي لقد‬ ‫ُ‬ ‫المكان أرجو السعادة فيه ‪ ،‬زوجي حبيب قلبي يداك الدافئتان وعيناك وقلبك ممتلئان بذلك‬ ‫الحنان كأنك تحلق في السماء ﻭقلبﻚ كملك متوج تهﺰ الشعوب سعاﺩﺓ تمأل ﺍلﻜﻮﻥ ﻭأحاسيﺲ‬ ‫ال تﻮصف بحﺮﻭﻑ إذا هو ﺍلحﺐ الذي تغني به والشعراء األدباء‪...‬‬ ‫فبعطفك ذلك ملكت قلبي وفجأة ينقلب الميزان رأساً على عقب‪ ،‬أسرته أصبحت تستفزنا‬

‫وتضايقنا ال أعلم لما تلك الحرب البلهاء كعائلة ملكية تحارب فرداً من أفرادها ألنه أخذ امرأة‬ ‫من خارج مملكتهم تلك ‪ ،‬وأنا ضحية حربهم الهوجاء استمرت طويال إلى أن عزمت وزوجي‬

‫الحبيب على المغادرة وترك مملكتهم لهم ‪ ،‬أيام وليالي مجردة من األمل مظلمة كاظالم حقل‬ ‫بها أرواح‬ ‫ال عشب به وال نجوم وال قمر يضئ عتمته ‪ ،‬كناجيين من حرب بغيضة أزهقت َ‬ ‫كثيرةٌ إال أن نور خافت اقترب من بعيد في نهاية كهف بارد تغلغلت به بؤرة ضوء لتنره‪.‬‬

‫مكث ببطني هذه واحتمي من الحرب الجرداء‬ ‫حملت بطفل هو أنت بني ‪ ،‬تسعة أشهر كاملة َ‬ ‫ومن تم أتت اللحظة التي أنجبتك بها كنت صغير الحجم ابتسامتك أفرحتنا وقلبي ازداد قوة‬ ‫بوجودكما أنت ووالدك ‪ ،‬فقررنا االنتقال لمدينة أخرى لكي نبدأ حياة جديدة وأخذ والدك‬ ‫يشتغل لكي نشعر براحه كالتي شعرت بها قبل سوء األوضاع في مدينته استمر وقتنا‬

‫بالمضي تارة نسعد وتارة نحزن كلعبة األطفال تلك ترفعك من جهة وتنزلك من جهة أخرى ‪،‬‬ ‫كبرت يابني ودخلت مدرستك وأنجبت أختك الوسطى والصغيرة أيضاً أتت فأحسست أن‬

‫السعادة أتيت وأبت الذهاب ولكن يبدو أنني حسدت نفسي لسعادتي تلك فلم تستمر وحدث ما‬

‫حدث مرض والدك زوجي الغالي بمرض خطير فاستقبلت ذلك الخبر كرعداً ضرب منزالً‬ ‫عامر لتدمر عمارته ‪ ،‬ضاقت نفسي وضغطي وسكري باشر في االرتفاع لدرجة ال يتحملها‬ ‫ً‬ ‫الجسم أصبحت استقبل األخبار السيئة باستمرار‪ ،‬نجدت بكل ما أوتيت لي من قوة لكي افعل‬ ‫‪12‬‬


‫المستحيل وأساعده ‪ ،‬فسافرت إلى إحدى الدول لعالجه وكان العالج طويال وأجريت له‬ ‫العملية المكلفة تلك ورجعنا لبالدنا وجفوني سوداء كما لو أن غراباً أخذ ريش ًة من ريشه وخط‬ ‫لي بها ألهمل نفسي جرائها‪ ،‬ومن يساندني غيرك الهي كنت دوما عوني ال تخذلني ‪،‬بقينا‬ ‫على حالنا هذه عامين قبل سقوط الثلوج الكثيفة‪ ،‬فتأخذ دفئنا في ليلة قاحلة من النجوم اخدت‬ ‫أجالس أباك رحمه هللا واشربه قليل من الماء إال أنه أخرجها من فمه حينها غادرت روحه‬ ‫لخالقها وصرخت وبكيت بأعلى صوت لي على فراقك الصعب كطفلة أخذوا منها أعز‬ ‫ماتمتلك‪ ،‬أصبحت أناجيك إلهي لطفك بي ‪.‬‬

‫قلبي قد أصبحت يتيماً كمن أخذ والدها الحنون م ِ‬ ‫سكن آالمها‪ ،‬كسماء بال شمس وال ضوء‬ ‫ُ‬ ‫لتحدد ل لسائر أي طريق يتخذ ‪ ،‬ووقع الحمل على كاهني أيضا‪ ،‬بأن أحافظ عليكم‪ ،‬ألنها‬

‫غريزة األمومة وأيضا كوعد أعطيته لوالدكم رحمه هللا‪ ،‬فمر الوقت والمسؤولية تنهك كاهلي‬ ‫فكنتم صغا اًر في ذلك الوقت‪ ،‬متطلباتكم كثيرة وأنا ليست بيدي حيلة أبذل جهدي لتحقيقها‬ ‫‪،‬تركت كل ما اشتهي وأحب وراء ظهري لكي أسعدكم والغير يقول لي بإمكانك تركهم‬ ‫والمضي قدماً فرددتهم قائلة هل هناك شخص يرمي كبده في العراء‪ ،‬ويناشد كبد غيرها‪ ،‬وال‬ ‫يعلم خباياها؟‬

‫وضعت كالمهم وراء ظهري وملئت أذناي بعازل عن كالم الناس‪ ،‬وبقيت أبحر بكم في بحر‬ ‫تسبح به القروش والفقمات لتأكل ما تسنى لها من فرائس‪ ،‬أنتم أبنائي من يقترب منكم اجعله‬ ‫فتاتاً‪.‬‬

‫وبعد مدة وجيزة كان القدر يخبئ في جعبته مواقف شتى منها ما حدث في ذلك الوقت‬ ‫انتفاضة شعب على حاكم بغيض في حكمه لتتداخل األوضاع في بعضها‪ ،‬فحينها كنت في‬

‫"مطبخي" أعد طعام الغذاء وفجأة أتيت إلي مرتعباً يابني فاخدت ذلك السكين بدون أن أعلم‬

‫كيفية استفادتي منه أمام بنادق الرصاص تلك فكنت مرتعبة أيضا‪ ،‬اتجهنا إلى باب شقتنا‬ ‫وحينما لقينا جيراننا خارج شقتهم أيضا قمنا بالنزول لنبقى بالقرب من بعضنا البعض‪ ،‬دخلت‬ ‫لبيت جارتنا وأخواتك معي ندعو هللا السالمة وكنت خائفة أشد الخوف عليك كنت أناشد‬ ‫جيراننا أن يحموك لي وكنا نكمل انتظارنا في غرفة تنيرها أضواء المصابيح‪ ،‬وفجأة يسطع‬

‫ضوء أحمر براق‪ ،‬يفوق إنارة تلك المصباح الصغيرة كما لو أنه نيزك‪ ،‬مر بجانب القمر‬

‫‪13‬‬


‫فأخد أنظار الناظرين له بذهول ارتعبنا كثي ار وصرخنا لم نعلم ما جرى والعمارة التي كنا بها‬ ‫تهتز كلعبة تصدر أصوات خشخشة من يد أحد األطفال‪.‬‬ ‫هدأ الوضع بعد مروره كمرور سنة وسط زحام مليء بالخوف من فقدان من ٌنحبهم ‪ ،‬وفي‬ ‫يت إلى وقلت لي لنخرج كما سيفعل البقية فنزلنا وركبنا سياراتنا ونظرت من‬ ‫هذه األثناء أتَ َ‬ ‫حولي والذهول يملئ تعابير وجهي كنت أراقب تعابيرك بدقة فكنت تخفي بعض من الخوف‬

‫فانطلقت بنا إلى المجهول‪ ،‬واذا بالذين حققوا الهدوء في ساحات المدينة يقولون لي "كبري يا‬

‫حاجه متخافيش " وأنا أكاد أموت رعباً فتجاوزناهم واالزدحام يعم الشوارع والذين يقودون‬ ‫سياراتهم ليبتعدوا مثلنا ويقودون برعب من المشاهد واألصوات الموجودة‪ ،‬فأجبتك عن سؤالك‬ ‫أصدقاء لوالدك‬ ‫الذي قصدت فيه ألين سنذهب وقلت لنذهب إلى أناس قد كانوا وال زالوا‬ ‫ً‬ ‫رحمه هللا وصلنا إلى هناك وتوالت األيام بالمرور وفي جمعة قصدت أنت وأحد الرجال‬ ‫بذلك المنزل لتفقد شقتنا فكانت كما هي هكذا قلت لي هل تذكر ذلك بني؟ آه يا أمي أتذكر‬ ‫ذلك بتفاصيل ذلك اليوم ياليتني أخرجت ما استطعت من أغراضنا قبل أن تصبح رمادا‬

‫وبعضاً منها يلطخ بدماء من كانوا بها من جنود ‪ ،‬ال تحزن بني على شيء لم تكن تعلمه‬

‫وبعد مدة شهر تقريبا علي بقائنا لدى األصدقاء أصبحنا نتنقل من منزل صديق آلخر‪ ،‬فهل‬ ‫تذكر يابني صديقك الذي بقينا عنده؟ كنا نبيت في حجرة مفصولة عن منزله ال غرفة لقضاء‬

‫الحاجة بها وال دفء يملئها كزنزانة من الخرسانة هي‪ ،‬ففي إحدى تلك األيام التي تشتد‬ ‫الحرب بها أصبحنا مرعبين من الكالم الذي نسمعه عن أوالئك الذين احتلوا المدينة بأنهم‬

‫يدخلون المنازل وغيرها من األشياء التي يقومون بفعلها نعم أتذكر ما حدث فكنتي تحتضننا‬

‫في كل ليلة ‪،‬وعند كل خشخشة تصدر من الشجرة التي كانت موجودة بجانب النافذة تقفزين‬ ‫من الفزع وتنادي باسمي فأقول لكي ال تخافي أنها الشجرة ليس إال ‪ ،‬نعم يابني ‪ ،‬وآخر‬ ‫األماكن قبل وصولنا لتلك المدرسة كنا نبحث عن منزل أقاربي الذين مر على زيارتي لهم أنا‬ ‫وزوجي وجدتي وقت فكنت صغي اًر آنذاك إال أنهم خرجوا أيضا من منطقتهم هكذا عرفنا‬

‫الحق ًا ألنها كانت تشهد كما شهدنا في منطقتنا وصلنا لمدرسة قيل لنا عنها من إحدى‬ ‫المدارس التي اتجهنا إليها لنسألهم إن كان بمقدورنا البقاء أيضا مع النازحين من منازلهم‬

‫دخلنا لها فاستقبلنا من الذين كانوا في بوابة الدخول وأرشدونا ألحد الفصول الصغيرة وجدت‬ ‫بها عائلة أصبحت أتحدث معهم ومن حديث آلخر تبين لي أنهم من منطقة أقاربي فهم‬ ‫‪14‬‬


‫أيضا يقربونهم شعرت حينها ببعض من األمل الذي فقدته وارتحت قليال ‪،‬فيا بني من إحدى‬ ‫أحاسيس الراحة تلك التي اصطفت بها النساء وراء الرجال ليأدو إحدى الصلوات وكنت من‬ ‫ضمنهم أحسست براحة واطمئنان لم اشعر بها طيلة هذه الفترة وبعد االنتهاء كنت كما لو‬ ‫كنت أقرب ِم َن هللا عز جالله ‪ ،‬ومضت األيام واتى وقت خروجهم من المدرسة راجعين‬ ‫لمنازلهم شعرت أنداك بسوء ألنني سأبقى وبناتي وحدنا فإذا بهم يقولون لي هيا ِ‬ ‫أنت أيضاً‬ ‫سترحلين معنا لن تبقي هنا‪ ،‬ابتسمت وقلت لنفسي الحمد لك إلهي فانطلقنا معهم‪ ،‬ووصلنا‬

‫لتلك المنطقة وقالت لي إحدى نسائهم لتأتوا عندنا ريثما تعلموا ماذا ستفعلون؟‬

‫مكثنا لديهم وأنا في أمل إليجاد وسيلة ألرى أهلي وحتى ال أبقى وأطفالي عبء على أحد‬ ‫طوال مجهولنا المتبقي وفي إحدى الليالي قالت لي امرأة المنزل الذي بقينا عندهم بأن هناك‬ ‫سفينة تنقل الناس إلى مدينة أهلي فرحت وقلت هاقد فرجت وحينها أخبرتك يابني فقلت للمرأة‬

‫لت ِجدوا لنا وسيلة للذهاب على متن السفينة تلك وفي اليوم التالي أعلمتني بموعد الرحلة‬ ‫المرتقبة كان وقتها في ليلة ظلماء يسودها الهدوء الحذر والمرتقب لعاصفة ليست معلومة‬ ‫انطلقنا إلى الميناء وفجأة عند وصولنا سمعت أصوات غريبة مرعبة و أضوائها في السماء‬ ‫مضيئة كشعلة مدخنة لتكرير الغاز تنفت نا اًر من أعالها ‪ ،‬فأخذت مسرعاً تقود السيارة‬

‫تبعدنا عن العراء فكنت أحتضن بناتي مذعورة عمت الفوضى المكان فنزلت أنت لتجد ذلك‬

‫الرجل الذي أحضرنا وهل الرحلة ستنطلق أم تأجلت بقيت مع بناتي داخل السيارة محاطين‬ ‫بصناديق حديد والوقت بالكاد يمر انقضت ساعة على رحيلك عنا‪ ،‬فإذا بك تأتي مسرعاً‬

‫تقول لنا هيا لتنزلوا بسرعة بدأت الرحلة فقلت لبناتي حان الوقت بعد أن أخ ُذ غفوة بسيطة‬

‫من ذلك التعب الذي مررنا به وصلنا لمكان الركوب تفاجأت بالذي كنت أنظر إليه مركب‬

‫صغير يحوي الكثير من الناس اهو الذي سيقلناَ! ركبنا على متنه كأسرى الحرب يأخذون‬ ‫من معتقل في جزيرة إلى وسط المدينة بعد اإلفراج عنهم‪ ،‬انطلقنا بعد أن اكتظ المركب‬

‫بالنساء واألطفال والرجال وأطفئت أضواء المركب وابتعد عن اليابسة قلت لنفسي إنها ليست‬

‫كأول مرة ركبت فيها سفينة مبحرة ألني أحسست بخوف وشوق لليابسة التي لم تمضي إال‬ ‫دقائق على فراقنا لها وأيضا كنت أقول سوف اذهب ألهلي وأطفالي معي ال بأس بذلك‬ ‫وكنت قلقة عليك يابني أنت من أصبحت مصدر أمن لي وأخواتك انقضى ذلك اليوم ببرده‬ ‫القارص سمائه المظلمة ‪.‬‬ ‫‪15‬‬


‫في صباح اليوم التالي لم أكن مرتاحة واأللم بداخلي يرهقني‪ ،‬فكري لم يهنأ كنت أسأل عنك‬ ‫لتفقدك بعد أول ليلة في البحر ‪ ،‬كانت جالسة بقربي امرأة كبيرة في العمر الحظت قلقي‬

‫فقالت ال تخافي على ابنك سيكون بخير وان حدث مكروه سيكون لنا بمثله ‪ ،‬وكانت الغرفة‬ ‫التي كنا بها مفصولة عن أنظار من كان خارجها بحاجب من قماش وكنت اختلس النظر‬ ‫من خالله باحث ًة عنك فرأيت رجالً سألته عنك قال لي أنك بخير ولكن لو أحضرتي له‬ ‫ال‪.‬‬ ‫بعض من الثياب الكثيفة وبعضاً من الجوارب لكان أفضل حا ً‬ ‫ازداد حزني تجاهك ياليتني أستطيع إيقاف ما يحدث ألوقفته ولكنه مقدر له ذلك وفجأة‬

‫سمعنا األ صوات التي قلت عنها يا بني صوت طائرة من نوع العموديات ذات الصوت‬

‫المخيف‪ ،‬وهذا المركب الذي يدعى الجرافة اسم سمعته من الذين كانوا يتحدثون بالقرب من‬ ‫الغرفة تلك وكومة الحديد الصدئة المليئة بالمياه والرائحة الكريهة التي تشعرك بالغثيان‬ ‫فتوقفت الجرافة وأنا أقول لنف سي لقد وصلت رحلتنا إلى مطافها األخير فجأة سمعنا صراخا‬ ‫من الخارج يقول لقد تركونا في سبيلنا ‪ ،‬وهكذا باشرنا باإلبحار في وسط المياه المالحة‬

‫العميقة لمدة يومين م ار كما لو أنهما سنتان مرعبتان‪ ،‬ال يابسة نرى وال طي اًر نسمع صوته ال‬

‫يعلم حالنا إال هللا الذي خالقنا مر هذا اليوم وفكري كاد ينفجر من كثرة التفكير بالمسؤولية‬ ‫الواقعة علي وأنا ال حوال لي وال قوة في هذا البحر‪.‬‬ ‫سهرت في كل ليلة كسجينة في معتقل سياسي بجزيرة‪ ،‬واذا بلحظات قليلة اسمع صراخاً‬ ‫يقولون إنها اليابسة‪ ،‬وصلنا المدينة كنت جالسة على األرضية فدمعت عيناي‪ ،‬أحسست‬ ‫ئ أرى‬ ‫حينها بأحاسيس لم استطع تفسيرها هل فرحاً كان أم حزناً هو‪ ،‬أم أمل‪ ،‬سمعت أو عب ً‬ ‫بين ناظري؟ وأتيت أنت حينها وضممتك واستقبلنا حينها بالتهليل والرصاص الذي أرعبني‬ ‫رست الجرافة بالمكان وبدأت الناس بالنزول وأنا أرى األمل من جديد فال يأس يستمر وال ألم‬ ‫يبقى سأناضل من أجلكم أبنائي‪ ،‬هكذا هي الحياة وهكذا هي أنا لن استسلم يا بني هكذا‬

‫أحسست ‪ ،‬يا ذات القلب الحنون العطوف والعيون التي وسعتنا أنا وأخواتي يا من حميتنا‬ ‫وال زلتي تفعلي سأبدل جهدي ألجد السعادة لكي ولنا أيضا لطالما الشمس تشرق والهواء‬

‫نتنفس سنفعل ما في وسعنا فهكذا الحياة تمضي ونحن معها نمضي‪.‬‬

‫‪16‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.