" جولة في جرافة حوت "
تأليف /محمد سعد جاب هللا
المراجعة /أ.حسين معوض
النسخة األولى 2017
1
اإلهداء أهدي هذه الرواية لنبع الحنان "أمي" ،وقدوتي "والدي" رحمه هللا ،وأصحابي ولكل من وقف معي وعلى رأسهم ridere spiritولكل أديب عرفته في حياتي لإللهام الذي أعطوني إياه
فبفضلهم وجدت كالماتي وتعابري التي وضعت.
2
المقدمة إن الكلمات التي وضعت في هذه األسطر لتجسد عن أحاسيس في وقت اشتد به اآلالم. ال للنجاة رغم فقدانه من حين ألخر وأمالً لم يفتقد... عن صبر كان سبي ً
3
في إحدى أيام طفولتي القصيرة ،من طباعي عزلتي وبقائي ،مع خيالي الفذ ،كنت دائما أمسك بألعابي الصغيرة ،كنت أدعوها "مكعباتي " .وهي أجزاء مكعبة صغيرة لتشكيل األجسام أللهو بها ،ففي تلك اآلونة نضج عقلي درجة من درجات الطفولة ،فقررت االعتزال
عنها بعض الشيء ،واالنخراط بهواية جديدة ،لكي أكون أكثر انسجاماً بعزلتي ،اتخذت من جهازي المكتبي مسلكاً ألدخل هواية أشبع بها ملكات نفسي ،السيما بعد أن فقدت شخصا ،هو من أعز الناس لدى "والدي الغالي" رحمه هللا ،مهتما باأللعاب التقنية ومر الوقت ومرت
األيام كأنها جبال حتى انقضت سنة أخرى ،وفي واحدة من تلك الليالي الثقال ،جلست في غرفتي منشغال بذلك الجهاز األسود دى الشاشة المسطحة لكي استمتع بما اعتدت عليه من تلك اللعبة االلكترونية الرائعة (كرة القدم) ،تلك اللعبة التي طالما استمتعت بها كثي اًر والتي كنت دؤوباً عليها لما تبعث في نفسي نوعاً من اإلثارة والحماس ،اللذين جعالني أسلو أحزاني وقد أشعر في نفسي بشيء من النشوة ولكن في غمرة االستمتاع بهذه اللعبة،ال أدري مالدهر أخفاه لي.
وبينما أنا منغمس في لعبتي وفجأة أسمع دوي صوت كان في عقلي مجرد خيال ،ألني لم أتوقع سماعه في واقعي ،قلت لنفسي كال يا أبله هل ستترك لعبتك وتركض وراء ذهنك ،هذا من وحي خيالك ،أبقى واستمتع...
لكن لم استطع جذب تركيزي بين عيني حينما كان يسرح مع أذناي ،ليتفقد ما أسمعه من صوت فإذا بذلك الصوت يعلو ويكثر ،قلت لنفسي لقد أصبح الخيال واقعا ،وذهبت مسرعاً
ألخطف النظر من وراء سيتار نافذة شقتنا ،تلك التي ترعرعت وشهدت فيها لذة وم اررة
حياتي ،ألجد أن هناك انتشا اًر للجيران وغرباء معهم يتبعثرون كتبعثر أزهار النرد في صندوق يرميها الالعب لتحديد مصيره... دخلت مسرعاً "ماما...ماما" هناك جلبة تجوب شارعنا ،والخوف كان يعتريني ،وخيالي أصبح يلقي بما كان يحويه عقلي ،ذلك من أحداث كانت من المستبعد وقعها ،أصوت كتلك التي تسمع في الحروب والغزوات ،أسلحة نارية خفيف منها وثقيل أيضا ،مسدسات ،ومدافع
4
واألغرب حينها صوت جنزة عجالت الدبابة الغريبة ،فكنت استمع وأعرف ما كان يجوب شارعنا من أصوات على رغم صغري...
فقالت لي أمي حينها :لقد حدث ما كان يقولون إنه ستكون ثورًة على حكم أصبح للبعض بغيضا جداً ،قلت لنفسي ال دخل لي بأمور ال اعلمها فحينها الزلت صغي اًر .ولكنه كان الحدثَ ،دخلت أمي مسرعة لغرفة إعداد الطعام "المطبخ" واذا بي أراها تحضر سكينا وتخبئه بين يديها وتأخذ بي وأخواتي االثنين ،فتحت باب شقتنا واذا بجيراننا يقولون كالم لم افهمه وأمي مذعورة من أشياء كنت أجهل حدوثها وهي تعلمها فكاهل المسؤولية يقع عليها لتحمينا وتحقق ما وعدت به أبانا رحمه هللا وأبقاها لنا... هبطنا إلى جيراننا ودخلت أمي واخوتي لمنزلهم ،وأنا إذا بي أدخل مع رجال الجيران أيضا لمنزل أحدهم ،لكي نحتمي بجدران كاد اإلهتراء يمأل خارجها وداخلها ونعلم أن هللا القدير لبصير بحالنا وهو من يحمينا ،ولكنها الغريزة التي بداخل كل آدمي...
أخبار تَ ِرُد لنا من بقينا وقت ًا طويال واذا بتلك األصوات تعلو وتجوب شوارع المنطقة وهنا ُ خارج العمارة التي كنا بها ،معلومات عن أن جيشاً يتقدم لكي ينتهك حرمات المنازل العامرة بأهلها اآلمنين ،ويجوب األبنية لبسط سيطرته كاملة عليها ،ويثبت حكمه فيها،ولكن قاطنيها
أبوا واستنكروا وأصروا على الجهاد وأال يستكينوا بعد سقوط أول فقيد حينها ،لتندلع أكثر وأكثر ولم تنطفئ حتى وان قال ِ أم ُرُهم ارجعوا ولكم منا سالم أََب ِد َي... طال الوقت ،واستمر حتى شارفت شمس المغيب وأصوات الطلقات ودوي المدفع الينقطع للوصول حدث ما حدث وأمي كانت في كل ثارة من ذلك الوقت تخرج من منزل الجيران وتقول "ولدي ولدي ديرو بالكم عليه" والخوف يقطع أوصال قلبها ،وال تملك من األمر شيء على وعلى أخواتي ،هدأ الوضع ونزلنا ألسفل الشارع لنجد المكان أصبح إال خوفاً عارماً َّ ساح ًة هبت عليها عاصفة جعلتها جرداء بال لون ،ليقول لنا جارنا الذي أصبح يجاور أبي لدى خالقنا رحمهما هللا ،هيا ليأخذ كل منا أسرته ويخرج من المنطقة إلى حين هدوء األوضاع ،ذهبت مسرعا أنادي " ماما...ماما هيا" اجلبي ما تستطعين مما أمكنك وأتي به . هكذا خيالي كان يقول ولساني نطق بـ " هيا بنطلعو" أخدت بهم أسفل العمارة واذ بجيراني
يركبون سياراتهم ويرحلون ولم يتبقى غيرنا وأنا في ذلك الوقت ال أعلم أن بمقدوري القيادة في وسط يسوده دمار كنملة تحاول النجاة من قطرات ماء متناثرة في كل مكان ،ولكن بيني 5
وبين نفسي قلت أستطيع فعلها ،ركبنا وقدت بأسرتي ولففت الشارع لكي اخرج منه ولم أكن أعلم بصيرناَ إلى أين يأخذنا...
الشارع كان مزدحماً والمنظر كان أشد المناظر الواقعية التي لم أكن أتصورها البتة ،مبعثرة ومحروقة تلك المركبات المجنزرة واألظرف الفارغة من رصاصها الحي ،والبشر يهتفون
بأعلى صوت " هللا اكبر هللا اكبر" وجسمي يقشعر ،وأمي وأخواتي كادوا يموتون رعباً والبعض يقول لنا من خارج الطريق " كبري يا حاجه متخافيش " انطلقنا لمصير مجهول ال علم لنا به. وفجأة تقول أمي لنذهب ألصدقاء أباك رحمه هللا فإنهم لن يتركونا .سرنا إليهم والدمع يذرف أعيننا وصلنا حينها بجهد كبير ألني في ذلك الوقت تعلمت القيادة من شدة خوفي على من ُ عائلتي وشعوري بالمسؤولية التي ألقيت على عاتقي وأنا في سن حدث ال زلت صبياً.
بمرور األيام مرت ثالثة أشهر تقريباً ،وبعد تلك الفوضى أصبحنا نجوب البيوت خوفا من تأزم األوضاع والقلب يزداد خوفا ورعباً وألماً ،ولكن بزيادة المسؤولية التي أجهل التعامل
معها ،إلى أن نصل إلى بيت أقارب والدتي الذين لم أعي بوجودهم في مدينتنا ألنني كنت صغي ار ال أعرفهم ،وبعد ِ بحث طال الوقت إليجادهم من منطقة ألخرى ومن بيت آلخر ومن
مدرسة ألخرى إلى أن وصلنا لمدرسة كان القدر يحملنا لها ،بعد تالطم أمواج الحياة في
وجوهنا بقينا في تلك المدرسة نتخالط ونتعارف إلى األناس الذين سبقونا إليها ،ووجدت آنذاك
جاري الطفل الصغير الذي كان صديقا لي ،يراقبني من بعيد وفي ذهنه يقول ،هل هذا صديقي الذي يقف هناك ولكن كيف؟ !... اتجهت إليه ماشياً ألسلم عليه ،واستمر ذلك الوضع المشتت الذي فقد فيه صديقي أخته أثناء الحرب على مدينتي ،وأقول لنفسي كيف يحدث هذا أي قلوب تقوم بهذا من أي أنواع
البشر هم ،ومر الوقت وهدأت األوضاع في الخارج حسبما ُيأتي إلينا من أخبار وخرجنا مع العائلة التي بقيت معهم أمي واخوتي في فصل لتعليم األطفال الذين هم في مثل سني والذي أصبح اآلن محل إيواء للعائالت الفارة من حرب أكلت من األرض أخضرها ويابسها وبسطت عليها صفارها... وصلنا لمنزلهم وكانوا فرحين ألول وهلة أروا فيها منازلهم الناجية من تلك العاصفة الهوجاء فبقينا لدى تلك العائلة ريثما يتحدد مصيرنا إن كان سيتركنا بال مأوى أم سنرجع لمنزلنا! 6
توالت األيام وال يزال الوضع على مشارف المدينة يزداد سوء ونحن نقطن هذه المنطقة عرفت من أمي بأن هناك أناس ،استقلوا سفن ليذهبوا إلي بالقرب من ميناء المدينة ،إلى أن ُ مدن أخرى ،فقالت لقد تخاطبت أنا والعائلة التي كنا لديهم حول ذهابنا في إحدى تلك السفن وأنا حينها أصبحت أتصور سفناً شتى كبيرة وصغيرة واألحمر واألبيض منها و البطيء والسريع والواقع يخفي الحقيقة في طياته…
أتى رجل كانت والدته تربطها بوالدتي صله ،أخدنا وبعض من أغراضنا تلك إلى ميناء السفن ،والسماء تسودها ظلمة حالكة كسواد فوهة المدافع والبنادق ،ال نهاية لها ولكنها صافية،
وصلنا واالزدحام يملئ المكان نزل الرجل من سيارته وفي غضون لحظة واحدة تهافتت نحونا أشياء براقة من السماء ذات أصوات صاخبة يقال لها "جراد ".
هذا ما علمت ،عندما سألت عنها،و في عجلة من أمري قفزت لمقعد السائق وقدت بأهلي
متخذاً من صناديق المعدن الكبيرة "حاويات" تلك مخبأ ،كنت كعصفور في بداية حياته يبحث عن مأوى له ،استجمعت قوة الرجال في نفسي استرجلت وذهبت إلي الخارج بعد الرعب الذي انتشر ،اخدت أقدم العون للذين يتعاونون علي إفراغ ذاك المركب الرث ،وبين زوايا عقلي أتمتم أين تلك السفينة الغبية التي ستنقلنا ،بعد االنتهاء وبسرعة فائقة من إفراغ
محتويات المركب ،قام بعض القائمين على الرحالت البحرية على متنه يقولون هلمو بسرعة وأحضروا العائالت وأنا وقعت في محيط ذلك المكان شارداً هل هذه سفينتنا التي سنكربها…
أصبحت العائالت تركب في هذا المركب باستعجال ،منهم من وقع ومنهم من جرح وكل تلك الجلبة خوف من تكرار ما حدث فور وصلنا…
أسود تمت عملية التعبئة بنجاح ،هكذا قلت لنفسي ،انطلقت السفينة تبحر كما لو أنها ثقب ُ أسفلنا أشد حلكة بالعتمة ،ومركبنا قد أطفئ أضوائه لكي ال في فضاء سماؤه شديدة الظلمة و َ
نصبح هدفا سهال لمدافع العدو ،هكذا استنتجت من أفكاري... ُ يا للمجهول ،أنت يا بائس الحظ شاحب الوجه ،مهتز الشعور ،غير مكثرت ،نسير لوجهة ال نعلمها ولكننا ،سرنا.
ومن شدة تعبي وخوفي لم أستطع المقاومة والبرد أفشلني ،ومن كان بجواري يقول هذه
الجرافة حينها وبذهن ضعيف التقط أخر الكلمات "جرافة"!.
7
انطلق كطائر النورس محلقاً في سماء البحار ،وارتقب فريسة سهلة لكي انقض واشبع
جوفي م ن تلك المسافات الطويلة ،ها أنا مثله أبحر على متن جرافة مهترئة صغيرة الحجم ِ المتوسط مزدحمة ،البشر فوقها ،ال اعلم كم مسافة سنقطع وال يوم سنبقى في ماء البحر ،بزغت الشمس وها أنا أول مرة أشاهدها تشرق من بحر أنا ضيفه كما لو أنه يضفي
طمأنينة علينا أال تحزنوا ستبشرون...
مرة اللحظات والساعات واأللم والخوف يمأل من المكان ،أنظر أين أمي؟ وأخواتي؟ هل فقدتهم أم ماذا؟؟ جبت الجرافة تلك باحثا لكي أجدهم بحجرة مألتها المياه ،والقرف يعم أرجائها ،وجدتهم
ممددين بين النساء الالتي كن معهن ،ضممتها وقلت هل انتن بخير ،أو تحتاجون لشئ؟
قالت ال ولكن أرجوك بني احذر ،أننا في مصير ال نعلمه ،وأنت أملنا بعد هللا ،تركتهم آنذاك ،ومضى اليوم بما فيه من أشياء لم اعتدها واشتياق لغرفتي ومدينتي واألكثر منهما احن لليابسة الجرداء هناك. أصبحت ُ اليوم التالي آتى بعد معناة مع البرد القارص ،والمياه المتجمدة ،والخالء الذي كان أشد من الذي كنت أجاوره في غرفتي ،إال أني اعتدته و أمواج البحر تتالطم بجدران المركب ،ومنها
ما يدخله البشر من حولي مرعبون أطفاال ،ونساء ،وشيباً ،ورجاالً ،منهم من كان يخفف من آالمه بالبحث عن الطعام الذي لم نجلبه معنا بسبب الفزع الذي حدث في الميناء ،ولكن بعض الطعام وجد ،وكان عبارة عن صندوق طماطم وعلب تونة وبعض اكياس من المعكرونة وماء الشرب ليس بكثير. كان هناك رجل مليء البنية يبحث عن بعض الطماطم وعلب التونة تلك ،فوجدها واذا به
يأخذ منها ،ويمسك باليمنى التونة ،واليسرى الطماطم ،ويأكل بشراهة ،كما لو أنه لم يأكل من عشرة أيام ،إال أننا لم نتمكن سوى يوم واحد ،أكل ما استطاع أكله ومن تم ذهب مسرعاً إلى
حافة الجرافة ليفرغ ما في جعبته من طعام يا لسوء حظه العاثر ،بقيت أحدق بالذين كانوا
على مقربة مني يمينا ويسار هل سأصل حيث المرتقب آم سنبقى عالقين ،أم سيظهر لنا
حوت كبير ويلتهمنا؟ والخيال يأتي بما طاب له التفكير فيه ،وفجأة سمعت كما سمع غيري
8
صوت بدأ مألوفا ومستبعد أيضا ،صوت طائرة عاموديه "هليكوبتر" هكذا اعرفها ،تحوم فوق الجرافة وأصبحت أبداننا تقشعر هل سنقتل أم ماذا؟
وفي ذلك الوقت أصبحت أقول لنفسي كل ما شاهدته من خيال وسمعت عنه يحدث أمامي هل أنا في غيبوبة أم حقيقة مؤلمة! بدأ "كابتن" الجرافة يخاطبهم عبر جهاز الالسلكي ،
واالستيعاب لم يكن يحالفني تلك األثناء فلم أعلم سوى أنهم يظنون أننا أشخاص يحاولون الهرب من خالل البحر ليذهبوا إلى بالد أولئك األوروبيين ،وبعد طول انتظار في بحر عميق تركونا وشأننا ،بعد أن تأكدوا من هويتنا ووجهتنا ،الجوع والخوف يكاد أن يصبحان كظلي ،فاألمر لم ينتهي بعد اهت اززات ،ورياح وبرد ،كتلك التي يواجهها الصياد ،ليصل إلى صيده الوفير في يوم مليء بالغيوم ،وحلت الظلمة الحالكة ولكنها امتألت بمصابيح "النجوم" لذلك المسافر في طريقه المجهولة ،لتنير له قلبه وتريحه على الرغم من شدتها عليه ،أتى الصباح وأشرقت الشمس من مكان بعيد ،وانتصف النهار وصوت النورس الجميل ،مهال ا ستفقت فجأة من سرح كان كالخيال صوت نورس وسط بحر عميق!! وبدأت الجرافة تعمها الضوضاء ،شخص يقول وصلنا واألخر يهتف إنها اليابسة ،وأخر لقد نجونا ،وتقشعر األبدان واتجهت صوب أمي بفرح يعم أرجائي ،وصلنا نجونا إنها المدينة ،الحمد لك إلهي بدأنا نقترب واألمر كالعادة ،حين االقتراب يصبح أبعد من ِقَل ِة االنتظار التي تعتري كل من
يقترب لوجهته ،أصوات بوق ورصاص ومراكب نجاة ،ورجال شرطة يستقبلوننا بفرح ،لقد وصلتم أهال بكم ،حينها قل الخوف واأللم كما لو أن قنينة ماء كانت مائلة ،واستقامت لتحتفظ بمائها للسقيم… احتضنت أمي بفرح غامر لم أكن أهتم حينها بالمجهول وان كان لم يكتمل ،ألني قريب من أمي ،واألرض تحتضننا ،وبعد مرور ثالثة أيام حيث كنا وسط بحر ال يدخله إال صديق له
لكننا سنبقى ونحارب ،ألجل البقاء إلى أن تحين لحظة السفر ،فتكون مع من بقرب من
رحلوا عن دنيانا ،هكذا فكرت ،وقلت ،وانتظرت إلى وقت سيأتي قريباً…
مدينتي رجعت بعد شهر مضى ،األرض كلها واحدة في بالد واحدة ،ترابها واحد ،هي من
ولدت عليها واستنشقت هوائها ،هذا هو ما اشتاقت له رئتاي لتستنشقه ،واستمر الخوف
واألمل يداعب مشاعري وأنا بينهما سأناضل ألبقى وأهلي بخير ،هكذا الحياة يوم لك ويوم
9
عليك ناضل وأستمر وكافح ستصل ،إن كانت طريقك صحيح وأحذر من ظلم تكون ضالته وال يبصر قبلك سواه...
هذا ما كان يجول في ذهني من وقائع تلك الفترة ،أما من منظور والدتي ذات العيون البنية
واالبتسامة الزهية تجاه ما حدث فكان مختلف ،فحين سألتها عن ما جاب في ذهنها لما سبق؟ كانت إجابتها لي ،يا بني ما حدث في ذلك الوقت من أحداث ومواقف وغيرها ما هو إال جزء جديد من ألم عشت أقسى منه في الماضي ،دعني أسرد لك ما طاب لذهني تذكره من ذلك األلم الذي كان كشبح يخطو خطواته األولى خارج زنزانته ،بعد طول انتظار،كسماء مظلمة ال قمر ينتصفها ،وأنا بصمت وانتباه شديد استمع لها. أنا أنثى شرقية ولدت في الثالث والعشرين من شهر نوفمبر سنة 1966م في مدينة تقع شرقي البالد ترعرعت بين أذرع والداي عشت مع إخوتي وأخواتي البالغ عددهم سبعة وأنا ِ
معهم ،وحللت الترتيب الثاني بينهم ،فعشنا جميعاً ببيت في شارع قريب للبحر ،إلى أن أتت سنة 1974م حينها بلغت من العمر تسع سنوات تقريباِ ، مرضت والدتي فجأة ،وأصبحت ال تستطيع الوقوف علي قدميهاِ ، حزناَ جميعاً وبدأت تلك المعاناة التي لم احسب لها في الحسبان ،كذلك الصوص الذي يركض وراء والدته وال يعلم بما سيحدث لكليهما...
سافرت والدتي وأبي رحمه هللا يصطحبها ،لكي يجدوا عالجاً مما عانت منه فسافر والداي
إلى دول عدة منها اليونان ،وألمانيا ،وايطاليا ،وغيرها ،وفي تلك األثناء تركت د ارستي لكي
أقوم برعاية إخوتي وكانت عمتي رحمها هللا معنا ،وفي تلك اآلونة التي بقي األقارب فيها معنا منهم من أحسن رعايتنا ومنهم من لم يفعل وكنت إحدى أخواتي اللواتي تلقت غضب من الموجودين ،طفلة أنا حينها ،كنت أضجر ،وأغضب ،وأخاف ،أتمتم وأكتم أبكي على طفولة أوشكت علي الرحيل ،ومر الوقت والليالي تليها ليلة ظلماء كظالم بئر عميق يملئه المطر بالماء ولكنه ال يعلو منسوبه هكذا أنا أمأله صب اًر ،رجع والداي ولكن لم يتغير شيء
فكانت والدتي على حالتها تجالس كرسياً متحركاً واألب يجتهد ليلبي رغباتناَ كالحطاب يخرج ِ عل به نار يدفئُ به عائلته ،فكان أبي يشتغل بمهنة اللحام "جزار" َ لغابته يجمع الحطب ليش َ ،نعم انه يجر وينحر أعناق الماشية ولكن قلبه كان رقيقاً ِ فرقته كانت تفوق ورقة بيضاء نقية
من الشوائب .
10
ِ مابك أماه ؟ نظرت إلي والدمع يمأل عينيها كسيالن وادي فصمتت أمي للحظة ،فسألتها جارف مرت به عاصفة ممطرة أصبح يتدفق الماء منه بغ ازرة ،ال شيء وانما ما أتذكره يصعب نسيانه ،وحلوه كاد يتالشى من ذهني ،وأكملت ما كانت تنوي قوله لي ،وأنا أتأملها وأقول لنفسي ِ إنك من أنجبتني ليفرح قلبك وتقر عينيك بمشاهدتي ،سأبذل قصارى جهدي
ِ ماتمنيت. ألحقق
خبر مؤلماً كاد الموت يبارحني يابني في نهاية سبعينيات القرن الماضي استقبلت وأسرتي اً ُ لسماعه أبي شديد الحنان والحنة وافته المنية وأنا أذرف دموعي تلك وأقول لنفسي ذهبت يا
من أنزلت بي سكينة برؤياك ،وبسم ًة حين أخاطبك ،وأصبح أشد طفولة وأدعو أال أصحو نت بشدة وذلك الجرح يزداد عمقاَ ،لقد خاطبت نفسي قائل ًة أمي سقمت ،بأس سقمها منهاَ ،حز ُ وأبي فارق الحياة واخوتي صغار ،وأخي الذي يكبرني بسنتين يساندني حالياً والمجهول أصبح بعيد الوجهة يا إلهي عونك . ِ شهدت طفولة عسيرة ،كاد جمالها يختفي حقاً أنا آسف لذلك … فقلت لها يا أمي
نعم يا بني استمرت حياتي تلك سنين طويلة فرأيت م اررة الدنيا وحلوها القليل ،حتى َك ُب َر إخوتي وحاولت جاهدة أن أستكمل دراستي وكانت عمتي األخرى رحمها هللا تبدي رأيها مع بقية أفراد أسرتي لِماَ ال تجعلوها تستكمل دراستها فهي ال تزال طفلة ،ولكن لسوء حظي
قطار سريعاً وأنا تأخرت على موعد االلتحاق بها فلم العاثر الدراسة التي كنت ُ أودها استقلت ً يبقى سوى مكان واحد أستطيع استكمال التعليم به مكانٌ مليء بالعجائز كبار السن الذين فاتهم ذلك القطار مثلي ،لكي يتعلموا ما فاتهم ،فوافقت حينها ألن ما باليد حيله غيرها، دخلت واستقبلت ذلك العلم الذي كنت أرغبه بكل ضيق ويوم عن يوم يزداد األمر اختناقاً
ضقت ذرعاً به أناس يكبروني سن ًا ليس ألني لم أستطع استيعابه ،ولكني استقبله في مكان ُ ثياب عجائز كما لو أني امرأة تجاوزت الخمسين ،عاماً وأنا لم أتجاوز ربعه ،حينها وأرتدي َ تنهدت أمي وقالت :بعض من السعادة التي منحت لي في صغري كان أحدها الذي امتطى فيها دراجة هوائية اركبها مع طفل جيراننا باستمتاع ذاهب ًة لمدرستي التي درست بها أول سنة من تعليمي القصير واالبتسامة ترتسمني ،مر الوقت أنا أجالسها وهي تسرد وتسرد فقالت أيضا ،لقد يجدي نفعاً ُُ
بقيت بالمنزل أرعى إخوتي وأمي أيضاً وفي سنة 1984م أحسست بالصبر والمطر ملئت بئري تلك عندما استبشرت بموافقة أهلي لكي اشتغل بمكان يقوى 11
على مساعدة الناس استمريت بذلك المكان لوقت إلى أن أبشرت بمجيء فارس على تلك الجواد التي تمطى في المسابقات للفوز بجوائزهم كطير محلق يحمل رسالة فرج من وسط زحام عاثر بالتعاسة ،رجل كان قد رآني من قبل وأنا لم الحظ هكذا أخبرت باألمر ،أراد أن يتزوجني أتى وأخبر أهلي بذلك ،فأخبروني به أنا تغمرني السعادة أسوف اسعد من جديد؟ ويستمر األمر ،وافقت على زواجه وأقيم الفرح وذهبت معه إلى مدينته التي تتوسط البالد أصح على زقزقة العصافير وثغاء الماعز وخوار البقر ورائحة النسيم العليل التي تمأل فكانت ُ سافرت من مكان بعيد عن التعاسة التي عشتها إلى هذا تلك المزرعة ،قلت لنفسي لقد ُ المكان أرجو السعادة فيه ،زوجي حبيب قلبي يداك الدافئتان وعيناك وقلبك ممتلئان بذلك الحنان كأنك تحلق في السماء ﻭقلبﻚ كملك متوج تهﺰ الشعوب سعاﺩﺓ تمأل ﺍلﻜﻮﻥ ﻭأحاسيﺲ ال تﻮصف بحﺮﻭﻑ إذا هو ﺍلحﺐ الذي تغني به والشعراء األدباء... فبعطفك ذلك ملكت قلبي وفجأة ينقلب الميزان رأساً على عقب ،أسرته أصبحت تستفزنا
وتضايقنا ال أعلم لما تلك الحرب البلهاء كعائلة ملكية تحارب فرداً من أفرادها ألنه أخذ امرأة من خارج مملكتهم تلك ،وأنا ضحية حربهم الهوجاء استمرت طويال إلى أن عزمت وزوجي
الحبيب على المغادرة وترك مملكتهم لهم ،أيام وليالي مجردة من األمل مظلمة كاظالم حقل بها أرواح ال عشب به وال نجوم وال قمر يضئ عتمته ،كناجيين من حرب بغيضة أزهقت َ كثيرةٌ إال أن نور خافت اقترب من بعيد في نهاية كهف بارد تغلغلت به بؤرة ضوء لتنره.
مكث ببطني هذه واحتمي من الحرب الجرداء حملت بطفل هو أنت بني ،تسعة أشهر كاملة َ ومن تم أتت اللحظة التي أنجبتك بها كنت صغير الحجم ابتسامتك أفرحتنا وقلبي ازداد قوة بوجودكما أنت ووالدك ،فقررنا االنتقال لمدينة أخرى لكي نبدأ حياة جديدة وأخذ والدك يشتغل لكي نشعر براحه كالتي شعرت بها قبل سوء األوضاع في مدينته استمر وقتنا
بالمضي تارة نسعد وتارة نحزن كلعبة األطفال تلك ترفعك من جهة وتنزلك من جهة أخرى ، كبرت يابني ودخلت مدرستك وأنجبت أختك الوسطى والصغيرة أيضاً أتت فأحسست أن
السعادة أتيت وأبت الذهاب ولكن يبدو أنني حسدت نفسي لسعادتي تلك فلم تستمر وحدث ما
حدث مرض والدك زوجي الغالي بمرض خطير فاستقبلت ذلك الخبر كرعداً ضرب منزالً عامر لتدمر عمارته ،ضاقت نفسي وضغطي وسكري باشر في االرتفاع لدرجة ال يتحملها ً الجسم أصبحت استقبل األخبار السيئة باستمرار ،نجدت بكل ما أوتيت لي من قوة لكي افعل 12
المستحيل وأساعده ،فسافرت إلى إحدى الدول لعالجه وكان العالج طويال وأجريت له العملية المكلفة تلك ورجعنا لبالدنا وجفوني سوداء كما لو أن غراباً أخذ ريش ًة من ريشه وخط لي بها ألهمل نفسي جرائها ،ومن يساندني غيرك الهي كنت دوما عوني ال تخذلني ،بقينا على حالنا هذه عامين قبل سقوط الثلوج الكثيفة ،فتأخذ دفئنا في ليلة قاحلة من النجوم اخدت أجالس أباك رحمه هللا واشربه قليل من الماء إال أنه أخرجها من فمه حينها غادرت روحه لخالقها وصرخت وبكيت بأعلى صوت لي على فراقك الصعب كطفلة أخذوا منها أعز ماتمتلك ،أصبحت أناجيك إلهي لطفك بي .
قلبي قد أصبحت يتيماً كمن أخذ والدها الحنون م ِ سكن آالمها ،كسماء بال شمس وال ضوء ُ لتحدد ل لسائر أي طريق يتخذ ،ووقع الحمل على كاهني أيضا ،بأن أحافظ عليكم ،ألنها
غريزة األمومة وأيضا كوعد أعطيته لوالدكم رحمه هللا ،فمر الوقت والمسؤولية تنهك كاهلي فكنتم صغا اًر في ذلك الوقت ،متطلباتكم كثيرة وأنا ليست بيدي حيلة أبذل جهدي لتحقيقها ،تركت كل ما اشتهي وأحب وراء ظهري لكي أسعدكم والغير يقول لي بإمكانك تركهم والمضي قدماً فرددتهم قائلة هل هناك شخص يرمي كبده في العراء ،ويناشد كبد غيرها ،وال يعلم خباياها؟
وضعت كالمهم وراء ظهري وملئت أذناي بعازل عن كالم الناس ،وبقيت أبحر بكم في بحر تسبح به القروش والفقمات لتأكل ما تسنى لها من فرائس ،أنتم أبنائي من يقترب منكم اجعله فتاتاً.
وبعد مدة وجيزة كان القدر يخبئ في جعبته مواقف شتى منها ما حدث في ذلك الوقت انتفاضة شعب على حاكم بغيض في حكمه لتتداخل األوضاع في بعضها ،فحينها كنت في
"مطبخي" أعد طعام الغذاء وفجأة أتيت إلي مرتعباً يابني فاخدت ذلك السكين بدون أن أعلم
كيفية استفادتي منه أمام بنادق الرصاص تلك فكنت مرتعبة أيضا ،اتجهنا إلى باب شقتنا وحينما لقينا جيراننا خارج شقتهم أيضا قمنا بالنزول لنبقى بالقرب من بعضنا البعض ،دخلت لبيت جارتنا وأخواتك معي ندعو هللا السالمة وكنت خائفة أشد الخوف عليك كنت أناشد جيراننا أن يحموك لي وكنا نكمل انتظارنا في غرفة تنيرها أضواء المصابيح ،وفجأة يسطع
ضوء أحمر براق ،يفوق إنارة تلك المصباح الصغيرة كما لو أنه نيزك ،مر بجانب القمر
13
فأخد أنظار الناظرين له بذهول ارتعبنا كثي ار وصرخنا لم نعلم ما جرى والعمارة التي كنا بها تهتز كلعبة تصدر أصوات خشخشة من يد أحد األطفال. هدأ الوضع بعد مروره كمرور سنة وسط زحام مليء بالخوف من فقدان من ٌنحبهم ،وفي يت إلى وقلت لي لنخرج كما سيفعل البقية فنزلنا وركبنا سياراتنا ونظرت من هذه األثناء أتَ َ حولي والذهول يملئ تعابير وجهي كنت أراقب تعابيرك بدقة فكنت تخفي بعض من الخوف
فانطلقت بنا إلى المجهول ،واذا بالذين حققوا الهدوء في ساحات المدينة يقولون لي "كبري يا
حاجه متخافيش " وأنا أكاد أموت رعباً فتجاوزناهم واالزدحام يعم الشوارع والذين يقودون سياراتهم ليبتعدوا مثلنا ويقودون برعب من المشاهد واألصوات الموجودة ،فأجبتك عن سؤالك أصدقاء لوالدك الذي قصدت فيه ألين سنذهب وقلت لنذهب إلى أناس قد كانوا وال زالوا ً رحمه هللا وصلنا إلى هناك وتوالت األيام بالمرور وفي جمعة قصدت أنت وأحد الرجال بذلك المنزل لتفقد شقتنا فكانت كما هي هكذا قلت لي هل تذكر ذلك بني؟ آه يا أمي أتذكر ذلك بتفاصيل ذلك اليوم ياليتني أخرجت ما استطعت من أغراضنا قبل أن تصبح رمادا
وبعضاً منها يلطخ بدماء من كانوا بها من جنود ،ال تحزن بني على شيء لم تكن تعلمه
وبعد مدة شهر تقريبا علي بقائنا لدى األصدقاء أصبحنا نتنقل من منزل صديق آلخر ،فهل تذكر يابني صديقك الذي بقينا عنده؟ كنا نبيت في حجرة مفصولة عن منزله ال غرفة لقضاء
الحاجة بها وال دفء يملئها كزنزانة من الخرسانة هي ،ففي إحدى تلك األيام التي تشتد الحرب بها أصبحنا مرعبين من الكالم الذي نسمعه عن أوالئك الذين احتلوا المدينة بأنهم
يدخلون المنازل وغيرها من األشياء التي يقومون بفعلها نعم أتذكر ما حدث فكنتي تحتضننا
في كل ليلة ،وعند كل خشخشة تصدر من الشجرة التي كانت موجودة بجانب النافذة تقفزين من الفزع وتنادي باسمي فأقول لكي ال تخافي أنها الشجرة ليس إال ،نعم يابني ،وآخر األماكن قبل وصولنا لتلك المدرسة كنا نبحث عن منزل أقاربي الذين مر على زيارتي لهم أنا وزوجي وجدتي وقت فكنت صغي اًر آنذاك إال أنهم خرجوا أيضا من منطقتهم هكذا عرفنا
الحق ًا ألنها كانت تشهد كما شهدنا في منطقتنا وصلنا لمدرسة قيل لنا عنها من إحدى المدارس التي اتجهنا إليها لنسألهم إن كان بمقدورنا البقاء أيضا مع النازحين من منازلهم
دخلنا لها فاستقبلنا من الذين كانوا في بوابة الدخول وأرشدونا ألحد الفصول الصغيرة وجدت بها عائلة أصبحت أتحدث معهم ومن حديث آلخر تبين لي أنهم من منطقة أقاربي فهم 14
أيضا يقربونهم شعرت حينها ببعض من األمل الذي فقدته وارتحت قليال ،فيا بني من إحدى أحاسيس الراحة تلك التي اصطفت بها النساء وراء الرجال ليأدو إحدى الصلوات وكنت من ضمنهم أحسست براحة واطمئنان لم اشعر بها طيلة هذه الفترة وبعد االنتهاء كنت كما لو كنت أقرب ِم َن هللا عز جالله ،ومضت األيام واتى وقت خروجهم من المدرسة راجعين لمنازلهم شعرت أنداك بسوء ألنني سأبقى وبناتي وحدنا فإذا بهم يقولون لي هيا ِ أنت أيضاً سترحلين معنا لن تبقي هنا ،ابتسمت وقلت لنفسي الحمد لك إلهي فانطلقنا معهم ،ووصلنا
لتلك المنطقة وقالت لي إحدى نسائهم لتأتوا عندنا ريثما تعلموا ماذا ستفعلون؟
مكثنا لديهم وأنا في أمل إليجاد وسيلة ألرى أهلي وحتى ال أبقى وأطفالي عبء على أحد طوال مجهولنا المتبقي وفي إحدى الليالي قالت لي امرأة المنزل الذي بقينا عندهم بأن هناك سفينة تنقل الناس إلى مدينة أهلي فرحت وقلت هاقد فرجت وحينها أخبرتك يابني فقلت للمرأة
لت ِجدوا لنا وسيلة للذهاب على متن السفينة تلك وفي اليوم التالي أعلمتني بموعد الرحلة المرتقبة كان وقتها في ليلة ظلماء يسودها الهدوء الحذر والمرتقب لعاصفة ليست معلومة انطلقنا إلى الميناء وفجأة عند وصولنا سمعت أصوات غريبة مرعبة و أضوائها في السماء مضيئة كشعلة مدخنة لتكرير الغاز تنفت نا اًر من أعالها ،فأخذت مسرعاً تقود السيارة
تبعدنا عن العراء فكنت أحتضن بناتي مذعورة عمت الفوضى المكان فنزلت أنت لتجد ذلك
الرجل الذي أحضرنا وهل الرحلة ستنطلق أم تأجلت بقيت مع بناتي داخل السيارة محاطين بصناديق حديد والوقت بالكاد يمر انقضت ساعة على رحيلك عنا ،فإذا بك تأتي مسرعاً
تقول لنا هيا لتنزلوا بسرعة بدأت الرحلة فقلت لبناتي حان الوقت بعد أن أخ ُذ غفوة بسيطة
من ذلك التعب الذي مررنا به وصلنا لمكان الركوب تفاجأت بالذي كنت أنظر إليه مركب
صغير يحوي الكثير من الناس اهو الذي سيقلناَ! ركبنا على متنه كأسرى الحرب يأخذون من معتقل في جزيرة إلى وسط المدينة بعد اإلفراج عنهم ،انطلقنا بعد أن اكتظ المركب
بالنساء واألطفال والرجال وأطفئت أضواء المركب وابتعد عن اليابسة قلت لنفسي إنها ليست
كأول مرة ركبت فيها سفينة مبحرة ألني أحسست بخوف وشوق لليابسة التي لم تمضي إال دقائق على فراقنا لها وأيضا كنت أقول سوف اذهب ألهلي وأطفالي معي ال بأس بذلك وكنت قلقة عليك يابني أنت من أصبحت مصدر أمن لي وأخواتك انقضى ذلك اليوم ببرده القارص سمائه المظلمة . 15
في صباح اليوم التالي لم أكن مرتاحة واأللم بداخلي يرهقني ،فكري لم يهنأ كنت أسأل عنك لتفقدك بعد أول ليلة في البحر ،كانت جالسة بقربي امرأة كبيرة في العمر الحظت قلقي
فقالت ال تخافي على ابنك سيكون بخير وان حدث مكروه سيكون لنا بمثله ،وكانت الغرفة التي كنا بها مفصولة عن أنظار من كان خارجها بحاجب من قماش وكنت اختلس النظر من خالله باحث ًة عنك فرأيت رجالً سألته عنك قال لي أنك بخير ولكن لو أحضرتي له ال. بعض من الثياب الكثيفة وبعضاً من الجوارب لكان أفضل حا ً ازداد حزني تجاهك ياليتني أستطيع إيقاف ما يحدث ألوقفته ولكنه مقدر له ذلك وفجأة
سمعنا األ صوات التي قلت عنها يا بني صوت طائرة من نوع العموديات ذات الصوت
المخيف ،وهذا المركب الذي يدعى الجرافة اسم سمعته من الذين كانوا يتحدثون بالقرب من الغرفة تلك وكومة الحديد الصدئة المليئة بالمياه والرائحة الكريهة التي تشعرك بالغثيان فتوقفت الجرافة وأنا أقول لنف سي لقد وصلت رحلتنا إلى مطافها األخير فجأة سمعنا صراخا من الخارج يقول لقد تركونا في سبيلنا ،وهكذا باشرنا باإلبحار في وسط المياه المالحة
العميقة لمدة يومين م ار كما لو أنهما سنتان مرعبتان ،ال يابسة نرى وال طي اًر نسمع صوته ال
يعلم حالنا إال هللا الذي خالقنا مر هذا اليوم وفكري كاد ينفجر من كثرة التفكير بالمسؤولية الواقعة علي وأنا ال حوال لي وال قوة في هذا البحر. سهرت في كل ليلة كسجينة في معتقل سياسي بجزيرة ،واذا بلحظات قليلة اسمع صراخاً يقولون إنها اليابسة ،وصلنا المدينة كنت جالسة على األرضية فدمعت عيناي ،أحسست ئ أرى حينها بأحاسيس لم استطع تفسيرها هل فرحاً كان أم حزناً هو ،أم أمل ،سمعت أو عب ً بين ناظري؟ وأتيت أنت حينها وضممتك واستقبلنا حينها بالتهليل والرصاص الذي أرعبني رست الجرافة بالمكان وبدأت الناس بالنزول وأنا أرى األمل من جديد فال يأس يستمر وال ألم يبقى سأناضل من أجلكم أبنائي ،هكذا هي الحياة وهكذا هي أنا لن استسلم يا بني هكذا
أحسست ،يا ذات القلب الحنون العطوف والعيون التي وسعتنا أنا وأخواتي يا من حميتنا وال زلتي تفعلي سأبدل جهدي ألجد السعادة لكي ولنا أيضا لطالما الشمس تشرق والهواء
نتنفس سنفعل ما في وسعنا فهكذا الحياة تمضي ونحن معها نمضي.
16