معر العمادي
إﻧﺠﻴﻞ دﻣﺸﻖ
د .ﻋﻤﺮ اﻟﻌﻤﺎدي
1
ن إ�يل دمشق ج
انجيل دمشق
عمر العامدي رواية مرتجمة من اللغة االنجليزية لنص املؤلف .The Gospel of Damascus دققت الرتجمة وحررتها األديبة زُليخة أبو ريشة. حقوق الطبع محفوظة 2016لدار فريجينيا للنرش التابعة لرشكة فيال ماجنا ذات املس ٔوولية املحدودة. جميع الحقوق محفوظة .ال يجوز إعادة إنتاج ا ٔو استخدام ا ٔي جزء من هذا الكتاب بأي شكل ا ٔو بأي طريقة ،سواء إليكرتونيًا ا ٔو ا ٓليًا ،مبا يف ذلك النسخ الضويئ والتسجيل ا ٔو باستخدام ا ٔي نظام من ا ٔنظمة تخزين املعلومات واسرتجاعها ،إال بعد الحصول عىل إذن كتايب من النارش. تقوم دار فريجينيا للنرش بالتدقيق اللغوي واملراجعة الٔي عمل بغرض ضامن جودة وسالمة الصياغة اللغوية لكل األعامل املنشورة .وال تقع عىل الدار ا ٔي مس ٔوولية تجاه االٔخطاء يف املعلومات ا ٔو الحقائق التي ترد ضمن محتوى هذا الكتاب ،فأي ا ٔخطاء من هذا النوع تقع مس ٔووليتها بالكامل عىل امل ٔولف وحده ،فهو الذي يقوم باملوافقة عىل النسخة النهائية للعمل قبل نرشه .كام ال تتحمل الدار ا ٔو امل ٔولف ا ٔي مس ٔوولية من ا ٔي نوع تجاه استخدام القارىء ملحتوى هذا الكتاب بأي صورة من الصور. ملزيد من املعلومات ،يرجى مراسلة دار فريجينيا للنرش عىل العنوان التايل: Virginia Institute Press/Villa Magna, LLC PO Box 68425 Virginia Beach, VA 23471 رقم اإليداع الدويل ISBN: 978-1-940178-28-8 الطبعة ااألوىل 2016 لوحة الغالف (W. Bouguereau )1869 طبع الكتاب يف الواليات املتحدة األمريكية
2
معر العمادي
ن إ�يل دمشق ج رواية
معر العمادي
3
ن إ�يل دمشق ج
4
معر العمادي
لعل الدافع األسايس يف كتابة هذه الرواية هو رغبتي يف أن أقدم ألوالدي وأصدقائهم ،بل ولهذا الجيل الناشئ بأكمله ،رواية مشبعة بخيال مستمد من تراثنا الروحي .وكم كنت أشعر بالتقصري اإلبداعي وأنا أشاهد ابنتي وهي تقرأ بشغف كتاباً من مئات الصفحات مستلهم من خيال ينتمي إىل تراث مختلف .تلك كانت البداية .مل يكن هديف أن أُبرش مبستقبل ميضء لبلدي فحسب (الذي كان وما يزال مير بفرتة عصيبة من تاريخه) ،ولكني كنت أهدف أيضاً إىل التأكيد عىل أن اإلسالم هو أرفع وأكرب وأجمل مام يقرتفه البعض باسمه .وبعد ،فإن هذه الرواية تستخدم أوصافاً خيالية للمالئكة والبرش والعالقة بينهام. ومن البديهي أن هذه األوصاف ليس لها أي مهمة عقائدية وال تهدف بأي شكل من األشكال إىل تحديد الرؤية الصحيحة (من منطلق عقائدي) ألي من هذه األمور .وإمنا الهدف ،كام ذكرت آنفاً ،هو كتابة رواية قادرة عىل جذب هؤالء الشباب والشابات الذين نخرسهم لرؤى أخرى يف كل يوم.
5
ن إ�يل دمشق ج
6
معر العمادي
«أنصتوا :القدس الجديدة سيبدأ بناؤها في سورية». حديث قبل القيامة أو رسولة للرسل (مخطوط يعود إلى القرن الثاني الميالدي).
7
ن إ�يل دمشق ج
8
معر العمادي
البحث عن حصان ناري
9
ن إ�يل دمشق ج
10
معر العمادي
1 َ مالئكة :تلك الموكلة بتنفيذ إرادة هللا على أ اسمي رقيم أنا واحد من ثمانية ٍ الرض. ُ ُفق َبيل عودة المسيح الثانيةُ ،ف ِت َحت سبعة أختام ،وأ ِع َّد حصان ٌّ بوحي من ناري ٍ كلمات على صحف ذهبية كانت قد ُر ِسمت. ٍ ُ أنا الشاهد الذي ُ اجت ِب َي ليق َّص بالحق تلك العجائب التي شهدتها عيناه. E
ّ َ كان البرزخ ً فضاء ّ بيني ًا توجد فيه المالئكة التي توشك أن ُت َك َّلف ّ ات و ألما بمهم ٍ ً َّ على الرض ،فإنه أيضا المكان الذي تغادر إليه أرواح البشر بعد الوفاة ،وتبقى فيه ُ حتى يوم القيامة .فعند نهاية كل قرن ،ت أ َرسل ثمانية مالئكة من عالم البرزخ ،لتحل ُ محل المالئكة التي أنهت مهمتها على الرض .وهذه المالئكة تدعى «حماة إالرادة إاللهية». أ ُ الخميس يوم شمس غروب من دقائق بعد رض ال وصلت وأصحابي السبعة إلى أ أ عام 1940الموافق لليوم الول من أيلول من العشرين أو 5701 عام تشري من ول ال أ من رمضان عام .1359وموعد مغادرتنا هو يوم أالسبت الول من تشري عام 5801أو الثامن من أيلول من عام ،2040الموافق لليوم الول من رمضان عام .1462 وعلى الرغم من أ أننا نتمثل بأشكال بشرية ،إال أننا ال نأكل وال نشرب ،لكن الدموع َوالضحك؛ تلك الهبات المقدسة بإمكاننا الشعور أ باللم وذرف َ َ َ َ والفرحَ ُ ، َ َ َّ ْ ُ ْ َ لكننا لسنا التي منحها هللا لبناء آدم «وأنه هو أضحك وأبكى» .فنحن ال نموت ،و أ محميين من أدوات الموت .مكان إقامتنا هو جبل الشيخ ،بوابة الجنة الساسية 11
ن إ�يل دمشق ج
أؤتمن كل منا على أسرار صفة مقدسة، حسب ما ورد في كتاب إدريس .ولقد ِ ُ «رقيم» يشير إلى أن الصفة التي أ وهبني وأسماؤنا تعكس هذه الصفات .فاسمي أ ُ إياها هللا هي حياكة القطع المتفرقة ،كما تحاك الحرف لتصبح كلمات أو الصوات لتصبح موسيقا. لنحو ست وعشرين سنة ارتبطت أغلب المهمات التي ُوكلنا بها بأحداث عادية متفرقة في أنحاء مختلفة من العالم .لكن أ لطالما تمنينا أنا وأصحابي السبعة ً يغير من ًطبيعة عظيم لحدث رض ال إعداد في تساهم مهمة مختلف، نوع من مهمة أ برغم يقيننا بأن هذه المهمات نادرة لن كثيرا من الوعي الروحي للبشرية وعمقه أ حماة إالرادة إاللهية قد وصلوا إلى الرض وغادروها من غير أن يحظوا بشرف القيام بمهمة مميزة كهذه .ولكن فجأة وصل «وحي». ً ً ليس أعلى منا منزلة فحسب ،ولكنه أيضا صلة وهو منا. واحدا ووحي هذا ليس أ َ الوصل بيننا وبين إرادة السماء .فكل العمال التي توكل إلينا وكل حركة نقوم بها يحملها إلينا وحي. في أثناء إقامتنا على هذا الكوكب تصل إلينا من ًخالل ّ َ رسائل ً ً السابعة عرفنا َجميعا بأن ثمة أمرا هاما يستدعي هذا عندما وصل وحي من السماء َّ ّ ً بدعوة إلى السماء السابعة ،فقد كان القدوم الهام .فعلى ُالرغم من أن أيا منا لم يحظ أ ٍ ً جليا لنا ًبأنه مكان تتخذ فيه القرار ًات ذات الهمية البالغة .عندما يقترب وحي، َّ فإن ًشعورا بالهواء والنور يصحبه دوما في ٍآن واحد ،مزيج غريب مثل نسمة الفجر تقريبا .صوته الدافئ والرزين يعزز حضوره: «عليكم التأ كد من كسر كل أسطوانة في الوقت المحدد».
ً ً الكلمات وهو يسلمني أصندوقا خشبيا يحتوي على صحف ذهبية ُ قال تلك ً تستخدم حصريا للمهمات ذات الهمية القصوى« .الفتح المتعاقب لهذه عليه ،وال يعني ذلك فقط التعليمات» ّهو ً التعريف التقني لما ًكان وحي يؤكد َ متابعة أن الرسالة مهمة جدا وإنما يعني أيضا أنه حتى أنا (الملك المسؤول عن ً المهمات السماوية) لن أعرف حتى آخر لحظة حقيقة تلك المهمة .راقبت وحيا وهو يختفي في السماء ّ البهية فوق جبل الشيخ وحملت الصندوق إلى كهفي. ً ُّ كان الصندوق مصنوعا من خشب شجرة الـ ِّـســدرة التي تحف بمشارف السماء السابعة .رفعته نحو وجهي واستنشقت رائحته المقدسة .كان في داخله َّ الذهبية ففي داخل هذه سبع أسطوانات زجاجية مصفوفة بنظام .أما الصحف أ َّ الزجاجية .عندما يحين وقت كسر االسطوانات تبدأ بالتوهج وكأنها السطوانات 12
معر العمادي
ضوء منير ولكن أجمل بكثير .وعندما فتحت الصندوق كانت إحداها َّ تتوهج. ولكسرها كان َّ والضغط في المركز .فهي يتعي ُن عليك َ إالمساك بها بكلتا اليدين َّ َُّ بأناقة وكأن َّما قصت بشفرة كهربائية. بحيث إذا ما أ ُض ِغط عليها انكسرت ٍ مصنوعة أ ّ واحتوت السطوانة الولى على صحيفتين ذهبيتين مرقمتين إللشارة إلى ترتيب فتحهما .وعلى الرغم من إدراكي التام بأن هذه الصحف الذهبية أالرقيقة ال يمكن ُ فوجدت تمزيقها أو كسرها ،فقد كنت من الحذر في غايته عندما فتحت الولى، عليها الكلمات التالية: ٌ حصان ٌّ ناري في مدينة المسيح من رحم هيوغونوتي [سيولد وفارس أوزبيكي] ً أ اختيار فإن منها. القصد هذا يكن لم قل ال على أو ، ا ز لم تكن تلك الكلمات لغ ً ً ُّ الكلمات في هذه الرسائل يعكس ما تعده السماء مهما .وعلى الرغم من ذلك ،فنادرا ً استثناء .كان َّ علي تتبع ما أ كنت أجد هذه الرسائل سهلة التفسير ،ولم تكن هذه ّ ّ الحصان الناري هو اسم إلحدى الناري» .وكنت أعلم أن الدلة وأولها «الحصان ً الصيني ،ولكنني شعرت بأن كثيرا ما يزال َّ ّ علي معرفته ،لذا السنوات في التقويم حان الوقت لمالقاة «فيي». َ لهية ،فإن وجهتنا تسعى إلى مالقاتنا .فبمجرد ال ادة ر ال حماة عندما نسافر نحن إ إ َّ أن نخطو خطوة واحدة نصل فجأة إليها .إن القليل من البشر قد حظي بشرف هذه الهبة؛ ففي نصوص الديانة اليهودية ُ «كيفتزات ها إريتز» أو «من تقفز عرفون ي َّ أ أ ال َ الرض لهم» .وقد َّ رض قد تقلصت لثالثة :أليعازر حدثنا الحاخامات« :بأن خادم ابراهيم ،وأبونا يعقوب ،وأبيشاي ابن صرويه »...وفي النصوص إال َّ سالمية َّ الصوفية ُيعرفون بأهل الخطوة. الناس للتصرف بأساليب معينة .ولكننا نبذل جذب أ وبإمكاننا ،إلى ذلك ،أ قصارى جهدنا ًلتفادي هذا المر ،لن الناس يتفاوتون في استجاباتهم للجذب ّ المالئكي .إذ نادرا ما يتوافق سلوكهم مع ما نريده منهم .إال أن هذه الليلة اختلفت. ّ المالئكي .وبخطوة فالرجل الذي أنوي اللقاء به قد أتقن فن االستجابة إلى الجذب ُ واحدة ُ كنت في هانغتشو في الصين على مقربة من شنغهاي .ووجدتني أدخل إلى البرج ،وهو مطعم يطل على البحيرة الغربية .ولم «لو وي لو» ،أو البرج الذي يلي ً أشعر بأي استغراب لوجود فيي جالسا في الداخل وتعلو وجهه ابتسامة. 13
ن إ�يل دمشق ج
أ «إذن أردت رؤيتي؟ لقد طلبت الروبيان المطبوخ بشاي التنين الخضر. ُ ال يتوجب على أحد أن يغادر هذه الدنيا من غير أن َّ يتذوقه .أما زلت تصر على أ سياسة عدم ال كل هذه؟» أ ُ آ َ كنت ل كل الروبيان!» «لو أني أستطيع ال كل يا فيي ،بالتأكيد ما
ً عندما نتعامل مع البشر فإننا نتخذ أشكاال مختلفة فتتغير مظاهر وجوهنا في الدقيقة التي نتصور فيها الشخص الذي نود أن نتمثل بصورته .والقلة فقط يعرفون المختارين ،لكنه إذا حقيقتنا على أننا مالئكة بأشكال بشرية .وكان فيي أحد هؤالء ً ما فكر بمشاركة سرنا مع أحد آخر ُ فستمسح أي ذكرى الجتماعه بنا فورا. ّ الصيني؟» «إذن رقيم ،أظن بأنك تحتاج إلى بعض المعلومات عن علم الفلك «نعم فيي .الرجاء إخباري عن سنة الحصان الناري ،هل هي مميزة على ّ أي ِ نحو؟» ٍ
ً رجال ذا علم واسع وفي الكمه بالغة .وقد َّ عرفني «ميزان» إليه .وميزان كان فيي َ هو المالك الموكل بأسرار الحكمة ،وأحد المالئكة السبعة المرافقين لي في جبل الشيخ .وقد دارت حياة فيي بأكملها حول الفلك ،واهتمامه باستفساري عنه جعله يجيب بسرعة عن النقاط المحددة التي كانت تهمني. ً «بخالف عام الحصان الذي يتكرر كل اثني عشر عاما فإن عام الحصان الناري يأتي مرة كل ستين سنة .وكان عام 1906آخر عام للحصان الناري .وسيبدأ عام الحصان الناري الجديد بعد أسبوع من اليوم ،أي في 21كانون الثاني 1966 وسينتهي في 8شباط ».1967 «شيء مثير!» أ طفال الذين يولدون ً في عام الحصان الناري يتمتعون بصفات ال «ببساطة، أ الحصان إلى الحد القصى .فهم جميعا يتمتعون بصفات عام الحصان ،أي الفردية
14
معر العمادي
ً ً ً وحب الحرية وكره االعتدال إلى ّ حد ّ التطرف .فتكون النتيجة مخلوقا خطيرا مقدرا ً ً له إما أن يكون مرموقا أو وضيعا ،إما أنه يجلب السعادة أو المأساة .ولكن ياصديقي من يريد المجازفة إلى هذا الحد؟ ولهذا السبب تلجأ بعض النساء الحوامل في هذا العام إلى إجهاض َّ أجنتهن». َّ اقشعر جسدي لمجرد التفكير بإجهاض طفل هو هبة من هللا. «هل هناك شيء آخر يجب َّ علي معرفته؟» قال« :نعم» وهو يمد يده نحو كأس نبيذ شاوسين: ُ «الح ُصن النارية أكثر خطورة عندما تقع في الحب .فتختفي كل سيطرتهم الذاتية عندما تصطدم بالعاطفة الفياضة التي يطلقها الحب في داخلهم». E
المالئكة السبع في كهوف مموهة تحيط بقمة جبل الشيخ ُنعيش ُأنا وباقي آ ٌ ويرتبط بعض ُها ببعضها الخر بشبكة من الممرات .وتتمتع أربع منها بتجسيد أنثوي. َ َ والغواءَ ، وسكينة؛ الموكلة بأسرار الطمأنينة ريشة؛ الموكلة إليها أسرار اللطف إ َ َ الموكلة بأسرار ُّ ّ الروحي .أما ر التغي ونور؛ الحب، ار ر بأس لة الموك الروحانية ،ورحمة؛ ً أ ً َ سور؛ الموكل بأسرار الحكام أخذنا مظهرا ذكورياً . أنا أوالمالئكة الثالثة َالباقية فقد أ َ والطر ،وعصا؛ الموكل بأسرار النساب والسلطة ،وأخيرا ميزان؛ الموكل بأسرار التوازن والحكمة. ً الطقس في جبل ً الشيخ بارد على الدوام تقريبا ،وتتساقط الثلوج بغزارة ُفي َّ مموه بشكل جميل ،وأكون كانون الثاني دوما .أما منزلي فليس سوى كهف أ شهر ً أ فيه عادة لفكر في الخطوة القادمة .أمسكت الصحيفة الولى وقرأت الرسالة مرة أخرى« .سيولد حصان ٌّ ناري في مدينة المسيح …» ما هي مدينة المسيح؟ البد ومر ًة أخرى ُ ٌ أن يكون هناك معنى أعمق لهذاَّ . محتاج إلى مساعدة. عرفت أنني أ ً ً دمشق ،مثلها مثل جميع المدن الرئيسية ،هي موطن لربعين رجال أوامرأة من القلوب الخرى في أصحاب القلوب َ ْ أ جميع َ ُ الطاهرة القادرة أ على استيعاب ظلمة ُ َ ً ُ مباشرة آخرُ، المدينة .أولئك يدعون البدال ،لنه عندما يموت أحدهم يستبدل به 15
ن إ�يل دمشق ج
أ الربعين هنالك ُ المص ِلح الذي وال تتوقف هذه العملية حتى نهاية العالم .ومن بين يتحمل مسؤولية تشخيص ِ ّ أهم أ مرض روحي في زمنه ووصف الدواء له .ويجب أن َّ َ َ ّ جهة ثانية ،والبالغ ربعين من جهة، ال هؤالء بين بس ل ال يكون ثمة والصديقين ،من ٍ ِ ً عددهم سبعين ،وهم أبدال أيضا ولكن في منزلة أعلى وال يعرفهم سوى هللا .وال تستوعب قلوب ّ مدينة محددة فحسب وإنما العالم بأسره ،ومن ظلمة يقين الصد ِ ً بينهم القطب وأربعة أوتاد يشكلون معا الخيمة الخفية التي تحمي العالم من نفسه. أ ً تعرفت إلى جميع أفراد الربعين في دمشق ،وعندما كان يموت أحدهم غالبا َّ أستبدله به َّ .وكان أحدهم الحاخام أليعازر وهو من ما كان وحي يخبرني عمن ً يهود دمشق ،وكان يظنني يهوديا مثله وأن اسمي يوسف وأنني من شمال إفريقيا أزور دمشق بشكل متكرر ُ.ولطالما قال ُ لي« :يوسف! سأكون آخر حاخام لهذا َّ متحف ُيزار» .كانت الشمس على سيتحول هذا المكان إلى الكنيس .من بعدي ٍ وشك الغروب عندما وصلت ً إلى ًمنزله الواقع قرب الكنيس ،فاستقبلتني خادمة تضع على رأسها غطاء صغيرا ملونا ً،وأدخلتني إلى الباحة .وبعد دقائق وصل الحاخام أليعازر .وكان الطقس جميال قليل البرودة. المفاجأة السارة؟ فأنت تختفي حتى ً أقول إن يوسف لن يعود ً «يوسف ،ما هذه ً أبدا ،وعندها تظهر مجددا أقول إن يوسف لن يغادر أبدا! أفترض أن هذه رحلة عمل أخرى؟ اجلس ،اجلس يا صديقي».
ً َ أ ُ لمسة ناعمة على أجواء َّ السكينة التي ملت هذه أضف ْت نافورة ماء صغيرة َّ الدمشقية. الباحة «سيدي الحاخام ،كنت أتساءل إذا كان بإمكانك مساعدتي». عينيه لم أطلب من قبل مساعدة الحاخام أليعازر ،لذا بدت عليه المفاجأة وفي ِ الفضول. ً «مساعدتك؟ كيف لمثلي أن يساعد رجال مثلك؟»
«كنت أتساءل سيدي الحاخام ،أين هي مدينة المسيح؟» 16
معر العمادي
َّ َّ ليتخيل ً وبدا على الحاخام أليعازر كأنما سألته السؤال الوحيد الذي لم يكن يوما أنني سأطرحه. «مدينة المسيح؟ وأين سمعت عن هذا؟»
أ ً ً ال ّ همية. وبدا واضحا على وجه الحاخام بأنني قد ذكرت موضوعا بالغ
ً ً ً ُّ «لقد سمعت نقاشا بدا لي فيه أن غموضا كثيرا يلف موقع مدينة المسيح، فقلت لنفسي بأن الحاخام أليعازر سيعرف بالتأكيد حقيقة ذلك». َ «ال يوجد أي لبس على إالطالق يا صديقي .دمشق هي مدينة المسيح». «دمشق؟» «نعم يا صديقي ،هي دمشق .وغالبية الحاخامات يعرفون ذلك .ولكن معظمنا ال يحب هذه الفكرةً .ففي نهاية المطاف ،ما هي دمشق لتنال هذا ًالشرف؟ ما الذي يميز دمشق ُلت َ ختار بدال من القدس؟ ولكن كتاب زكريا كان واضحا .كلماته ال تترك أي شك .وقد حاول بعضنا االلتفاف على هذه الحقيقة .فزعموا أن القدس ستتسع ُ َّ دمشق إحدى ضواحيها .جدل خالق ..المسيح سيظهر في وتتوسع حتى تصبح دمشق .هذه هي الحقيقة!» سكت الحاخام أليعازر لوهلة وكأنه يحاول التأكد من صحة ما سيفعله ،ثم قال« :لدي شيء سأحضره لك .انتظر هنا». ً ً عاد الحاخام بعد دقائق يحمل بيده كتابا صغيرا بدا وكأنه لم ُيفتح منذ فترة طويلة. صديقي «يوسف ،خذ الكتاب .لقد كتبته من سنوات طويلة وأرسلته إلى َّ الحاخام اسحق في حلبُ . سيجيب هذا الكتاب عن جميع تساؤالتك حول أن دمشق مدينة المسيح». 17
ن إ�يل دمشق ج
ً ً «شكرا سيدي الحاخام ،شكرا» آ ّ النَّ ، ضرورية». علي القيام بزيارة «أعذرني ً ً «نعم بالطبع ،شكرا جزيال على مساعدتك». E
آ أخذت أفكر بما قد توصلت إليه حتى الن .سيولد طفل في في هدوء كهفي آ دمشق في وقت ما بين الن وشهر شباط من العام المقبل .من هو هذا الطفل؟ أعدت قراءة الصحيفه مرة أخرى: «سيولد حصان ٌّ ّ ّ أوزبيكي» هيوغونوتي وفارس ناري في مدينة المسيح من رحم ٍ «إذن ما رأيك يا ريشة؟» سألتها عندما َأ ُ دركت أنها تقف خلفي « ..ما هو رحم هيوغونوتي يا ريشة؟»
آ «إذن قررت الن مشاركتي؟ ما الذي حدث لرقيم يقرأ ورقيم ينسج ونحن فقط نساعد عند الطلب؟» ُ ً «حسنا ،هذا ُ ما ينبغي أن يكون عليه الحال .ولكن عندما تقرر مالك اللطف المشاركة ،ال يكون بيدي ُّ أي حيلة! إذن ما رأيك؟» أ الر ِحم ُت ُ «البد أن َّ شير إلى الم .البد أنها تنحدر من ساللة الهيوغونوت .وإن لم أكن مخطئة فقد كانوا من طائفة البروتستانت الفرنسيين .فربما تكون هذه المرأة فرنسية أو تنحدر من ساللة فرنسية .وبطريقة ما تلتقي وتتزوج برجل من دمشق ينحدر من ساللة فارس من أوزبكستان؟» 18
معر العمادي
«أحسنت يا ريشة .ولكن كيف لنا أن نجد امرأة ينحدر أجدادها منذ قرون من البروتستانت الفرنسيين؟» ً أ َّ «حسنا ،ربما ل ًنها تنحدر من الهيوغونوت فذلك أحد أهم الصفات الرئيسية التي َّأهلتها لتكون ّأما لهذا الطفل .أ أما فيما أيتعلق بمحاولتك العثور عليها ،فكل ما بالضافة إلى فرنسا التي ترتبط عليك بالفعل معرفته هو الدول الوروبية الخرى إ بالهيوغونوت». ّ أمريكية؟» «وإذا كانت ّ أ أوروبي ،فالمر في «عندها نبحث عن امر ٍأة أمريكية هاجر أجدادها من بلد ٍ غاية البساطة .فقط ابحث عن كتاب جيد يحتوي على هذه المعلومات». لقد ُ وقعت في غ َرام مكتبة سوزالو في أثناء إقامة قصيرة لي في مدينة ً سياتل في ُ أمريكا ،عندما ُ اخت ِطفت فتاة صغيرة .أوكانت السماء ت ِّقدر أجدادها كثيرا فأرسلتني َ مع «عصا» (المالك الموكل بأسرار النساب والسلطة) إلطالق سراحها وإعادتها إلى والديها .وقد وجدنا الطفلة المسكينة في موقف سيارات خارج سياتل حيث ُ ّ حدق فيه .انفعل عصا كان خاطفها على وشك خلع مالبسها عندما رآنا فجأة ن ِ إلى درجة أنه ضرب الرجل مباشرة على رأسه .وفي تلك الليلة بعد جمع شمل ُ وجدت المكتبة .صعدت ساللم ًالرخام التي تقود إلى غرفة الطفلة مع والديها ُ خمسة وستين قدما تحيط بها أقواس على نمط الدراسات العليا ،وهي قاعة بارتفاع ٍُ ّ فترة التيودرز في القرن الخامس عشر ،وتضيئها ثريات جميلة عندما تفتح أبوابها للزوار .لكنني وصلت بعد أن أغلقت .لم يكن من الطقوس المالئكية المعتادة مغادرة دخول المكاتب بعد إغالقها ،ولكنني على خالف عصا ،لم َّيكن بإمكاني ً البحث في تاريخ ُأسرة هذه الطفلة .كان علي أن أعرف تماما ما سياتل من دون أ َّ َّ كانت هي أالمسؤولة الذي جعلها بهذه الهمية .وظهر أن أ أم جدتها من َّطرف والدتها أ طفال اليتام في عن المنزلة الروحانية العالية لهذه السرة .فقد كر ّست حياتها ًلل ً آمنا .لذا ُحم َيتْ وتؤمن لهم ملجأ سياتل حيث كانت تجمعهم من الشوارع ِ ِ مدينة ُ ً َ ْ حفيدتها وأعيدت سالمة إلى منزلها .يا لروعة التصميم إال ّ لهي! 19
ن إ�يل دمشق ج
ًأما الليلة ،فكانت زيارتي إلى غرفة الدراسات العليا من أجل هدف مختلف ُ كتاب «عطش من أجل الحرية: تماما .ومع صوت هطول المطر ّغرقت في قراءة ً مضي ساعة تناولت كتابا آخر «قصص الهيوغونوت قصة الهيوغونوت» .وبعد ِ الناجين» وأنهيت قراءته بعد الفجر بقليل .تأملت الزجاج الملون الذي تخللته ُ وانطلقت إلى جبل الشيخ. أشعة الشمس توص َ «إذن ،ما الذي َّ لت إليه؟» ً بشيء «حسنا ،من الواضح أن فرنسا هي أهم صلة وصل هنا .ولكنني انشغلت ٍ آخر». «انشغلت؟» «نعم .عثرت على قصة أخرى وال أعرف لماذا أعدت قراءتها َّ عدة مرات». «أخبرني». في أثناء مجزرة يوم القديس «هناك ُ طبيب اسمه آ وليام ريبون .هرب من باريس ً الهيوغونوت .سافر أوال إلى انكلترا ومن ثم إلى بارثولوميو عندما ً قتل الالف من َّ اسكوتلندا وأخيرا استقر في إيرلندا .ويقال إن أحد أحفاده ويدعى ماثيو ،كان قد عانى من نوع من أنواع الهلوسة الغريبة في بداية القرن التاسع عشر». «وكيف كان ذلك؟» ً ّ الدنيوية هي إعداد العالم للعودة الثانية». «حسنا ،يبدو أنه اقتنع بأن مهمته «للسيد المسيح؟» 20
معر العمادي
تخيل كم كان وقع ذلك على من حوله! فمن َّ «وبإمكانك ُّ شدة خوف أبيه عليه وضعه على متن قارب وأرسله إلى »... «إلى أمريكا؟» «نعم ،واستقر غالبية أحفاد هذا الرجل ،أي أسرة ريبون ،في مدينة نيو روشيل على مقربة من نيويورك». آ ً «الن فهمت سبب انشغالك بهذه القصة .قد تكون محقا فربما يكون رحم هيوغونوت من ساللة ماثيو». «لم أقل إن هذه هي ّ نظريتي». أ ً «ولكن هذه هي ّ نظريتك .حسنا ،انظر إذا كانت ال ُّم في دمشق فأنا أعدك بأنني سأجدها». «وكيف ستفعلين ذلك؟» ً «عليك أوال بمساعدتي في تحديد عدد الرجال المتزوجين من أجنبيات في لنفترض أنك ستجد ثالثين .ال ُّأتخيل أن نجد أكثر من ثالثين! عندئذ دمشق .و ً ٌ بإمكاننا ،استنادا إلى معلوماتك ،تحديد أدق لهؤالء النساء». أ «على القل بإمكاننا إقصاء غير الحوامل منهن .فالمرأة التي نبحث عنها آ حامل الن أو على وشك أن تحمل .إن لم تكن حامل بحلول شهر أيار فهي ليست المرأة التي نبحث عنها». «إذن أحضر لي الئحة بهن وأنا سأتكفل بالباقي». 21
ن إ�يل دمشق ج
ُ ذهبت إلى مديرية الهجرة والــجــوازات .ودخلت إلى مبنى صغير مليء أ بالجانب الذين يبحثون عن إذن إللقامة في سورية ،وسوريين يبحثون عن إذن للخروج من سورية ،وكان الجميع يدورون أفي فلك دخان السجائر! ما أريد معرفته محدد للغاية :أسماء وجنسيات النساء الجنبيات من أصل أمريكي أو أوروبي ُ اتجهت إلى رجل في زي المقيمات في دمشق والمتزوجات من رجال سوريين. رسمي ،وإذ به يتقدم باتجاهي ،وال أعرف إن كان ذلك بسبب البدلة الثمينة التي أرتديها أو بسبب جذبي الداخلي له أو كليهما ،وكأنه كان ينتظر تعليماتي .ولما كانت المعلومات التي أريدها مدونة على قطعة ورق فقد وضعتها في يده .فنظر إليها لبضع ثوان ثم هز رأسه. ً عدت في الثانية ظهرا وكان المبنى شبه خال .وعلى الرغم من بقاء نصف ساعة على انتهاء الدوام الرسمي ،فإن غالبية الموظفين كانوا قد غادروا .ولكن الرجل كان ً واقفا بجدية بجانب مكتبه .هل كان ينتظرني؟ أعطاني الالئحة فابتسمت له وشكرته ولكنه تمعن بي فقط. E
ريشة ،بما أنك مدمنة على زيارة كهفي ِل َم ال تساعدينني؟ يوجد ستة «إذن ً ّ ّ وأربعون اسما على هذه الالئحة! لدينا ثماني نساء بريطانيات ،وست بلجيكيات، ّ دنماركيات ،وإحدى عشرة ّ ّ أمريكيات! من أين نبدأ روسيات ،وأربع عشرة وسبع آ الن؟» َّ آ َّ َّ بعضهن الخر .وبالتالي سأكون أحدث بعضهن يجتمع مع «دعنا َنر .البد أن والتشوق ّ ّ لتذوق عضوة في هذا النادي ،سأكون امرأة أجنبية تشعر بالوحدة الشديدة ّ شائقة». حقيقية ومحادثة قهوة ٍ ً «أتفق معك .ولكن حاولي أن تظهري أقل جماال .كلما أثرت فيهن الغيرة كلما تضاءل احتمال مشاركتهن لك بمعلومات عن ساللتهن». َّ «رقيم ،تبدو وكأنك تغازلني! المشكلة يا مالكي المفضل أنه مهما فعلت أ فسأبقى الجمل». 22
معر العمادي
كانت ريشة بالفعل جميلة .صغيرة الحجم وشعرها طويل بلون جوزة الطيب بينهما .ولكن حضورها هو أكثر ما ولون عينيها يتراوح من بني إلى أخضر وكل ما ً كان يؤثر بي .فمثل اسمها ،كانت تحمل معها شعورا حلو المذاق يدغدغك على نحو ال يمكن وصفه. منزل أسرة القادري .فقد كانت كان صباح يوم سبت عندما دخلت ريشة إلى أ ّ سبق أن أحصلت على أرقام هواتف بعض النساء المريكيات على الالئحة من السفارة المريكية .ومن ثم اتصلت بهن فرحبن بها في الحال ودعونها إلى تناول القهوة وفطيرة التفاح في اجتماعهن المقبل. أ في نهاية تلك أالليلة عادت ريشة وهي محملة بقصص حول النساء الجنبيات في دمشق ،ولكن ال ّ هم أنها باتت متأكدة من أنها قد وجدت الرحم الهيوغونوتي. أ «اسمع .دخلت إلى هذه الشقة ووجدت الزوجات الجنبيات في دمشق وهن ً أثوابا جميلةّ . عرفت عن نفسي باسم فيكي و »... يرتدين ً «مهال ،فيكي؟» َّ َ َّ عن كيفية «نعم .لهذا االسم هالة ملوكية .وقد استقبلنني ثم انهلن علي بالنصائح أ االستمرار في العيش في دمشق من دون مستخلص الفانيال ،والفراولة ،والهم من ذلك الزبدة الحقيقية! فجأة دخلت تلك المرأة بشعرها الكستنائي الطويل وتلك العينين .كيف أصف ًلك تلك العينين؟ وكأن حب الحرية كله وروح االحتجاج المتوقدة التي كانت يوما ما لدى الهيوغونوت تشع من تلك العينين». «ريشةً ، رجاء أعطني الخالصة». ً ً ً «حسنا ،حسنا .تعرفت إليها أوال .واسمها جين .جين ريبين». «البد أنك تمزحين .يبدو هذا االسم وكأنه تحريف بسيط السم ريبون؟»
23
ن إ�يل دمشق ج
الحكومة .كانت قد التقت بزوجها في «لديها طفلة واحدة وزوجها موظف في ً أثناء دراستهما في جامعة نيويورك .واحزر ماذا ًأيضا؟ اسم زوجها جودت البخاري. هل فهمت؟ بخاري من بخارى؛ مدينة هامة جدا في ...أوزبكستان .فجأة بدأ كل شيء ينكشف .لكنني لم أنته بعد»... «أنا أسمعك .أنا أسمعك». «بدأنا نتحدث والحظت أنها تتجنب ًتناول أي شيء .فسألتها« :أال تحبين فطيرة التفاح؟» وأجابت« :ال أحب شيئا هذا الصباح ».ونظرت إلى بطنها وسألتها« :كم مضى على حملك؟» فأجابت« :ثالثة أشهر» .وسألتني بسرعة لكي الموضوع الذي كان من الواضح أنه أحرجها« :منذ متى أنت في دمشق؟ إذن تغير آ لديك الن كل شيء ،يا رقيم .ثالثة أشهر من الحمل .موعد الوالدة سيكون حوالي تموز »!1966 «ريشة ،البد أن أعترف »... «انتظر ،هناك المزيد .قلت لها إن فيها مالمح إيرلندية .فقالت إن والدها قد وإيرلندا .وحتى أنها سمعت بأن أخبرها مرة أنه إ بالمكان تتبع أسرتها إلى فرنسا ً ً ُ ً جداً من أجدادها هاجر إلى أمريكا ،فقد كان رجال ورعا أجبر على مغادرة إيرلندا خوفا من االضطهاد». «رائع ،البد أن هذا هو ماثيو». َ آ َ حصلت على كل ما تريد انت على «ربما ،ولكن لدي شعور بأنك الن بعد أن إقصائي .لن أحب ذلك .ال ،ال تبعد نظرك عني .أنا جادة .ليس من الذكاء وشك ً ُ َّ أن تزعج مالكا تتمتع بمثل مواهبي». «ليس لدي يا ريشة أية نية على فعل ذلك على إالطالق». E 24
معر العمادي
2 أ تقع المكتبة الظاهرية الوطنية شمال شرق الجامع الموي الكبير في دمشق وقد أسسها أ السلطان بيبرس في القرن الثالث عشر .واشتهر بيبرس باستعادته السيطرة على الراضي التي احتلها الصليبيون في بالد الشام ولكنه على خالف سلفه صالح المكتبة تحت قبة وردية مهيبة .قد الدين لم يتعامل معهم برحمة .ويقع قبره في ً مدينة القباب الوردية .القباب أيضا ً تكون دمشق هي بالفعل مدينة المسيح ولكنها ُ ّ الوردية موزعة في جميع أنحاء دمشق وكانت تشيد غالبا على مقامات السالطين أ القباب حتى أنهم لم هذه وجود على اعتادوا قد الدمشقيين أن ويبدو لياء. و وال أ ً يعودوا يلحظون جمالها ،وخاصة لونها الزاهي الذي يظهر جليا في اليام التي تشرق فيها الشمس بعد هطول المطر. أ ذهبت إلى المكتبة الظاهرية لنني أردت َّاالطالع على تاريخ أسرة البخاري ُ ووجدت أن المكتبة الظاهرية تحتوي على للتعرف إلى سر ّاختيار السماء لها .أ المسلمون مخطوطات تاريخية ومن ضمنها كتب العالم التي شغف علماء التاريخ ً أهم الرجال ،وأحيانا بتأليفها ،فكانت تحتوي على مقتطفات مختصرة عن حياة َّ َ النساء ،الذين عاشوا في حقبة زمنية معينة .ومن هذه الكتب ثمة مجموعات عامة ُ وشاملة ،وأخرى كانت تعنى بمدن محددة مثل دمشق .في قاعة المكتبة الكبيرة دمشقية ظهرت في بداية وجدت مجموعة من الكتابات حول علماء وشخصيات أ القرن السادس عشر وعائالتهم ما تزال موجودة حتى هذه اليام. أ ً كان كسباي والد عماد الدين البخاري جنديا في جيش أ المير جان بردي الغزالي المملوكي آخر حكام دمشق من المماليك .انضم المير الغزالي ًبعدها إلى العثمانيين الذين قضوا على دولة المماليك ،ولكنه ّ نصب نفسه سلطانا على سوريا بعد موت السلطان العثماني سليم عام ُ ،1520ليقتل فيما بعد في معركة مع الجيش الذي أرسله وريثه السلطان سليمان القانوني الستعادة دمشق .ونجا 25
ن إ�يل دمشق ج
واعتكف في ًمنزل ًصغير في حي العنابة في ريف دمشق. كسباي من المعركة ً عماد الدين دربا مختلفا تماما هو دراسة الفقه إالسالمي .وأصبح عماد واختار ال ًبنه ً الدين عالما هاما في الفقه الحنفي السني .فبينما فضل المماليك المذهب الشافعي تبنى العثمانيون المذهب الحنفي بقوة ،لذا ركب عماد الدين موجة العصر .وفاقه ابنه حميد الذي أصبح مفتي دمشق ،وتاله في ذلك المنصب من أسرة البخاري ستة آخرون .وبحلول القرن الثامن عشر انتقلت أسرة البخاري من العلم إلى إدارة وأن السالطين كانواأ يمنحون قرى الثروة الكبيرة التي جناها أجدادهم ال سيما أ بأكملها إلى علماء الدين المرموقين .لكن الجزء ال كبر من ثروة السرة قد تالشى بحلول بداية القرن العشرين الذي تزامن مع والدة جودت .وبالتالي ولد جودت في أسرة أرستقراطية فقيرة .لذلك فإن متابعته للدراسات ً العليا ًفي االقتصاد في جامعة نيويورك عن طريق بعثة أ حكومية وتوليه بعدها منصبا مرموقا في الحكومة السورية كان بمثابة إعادة والدة لسرة البخاري في العصر الحديث. َّإنه ٌّ تاريخها على في أعثر لم لكنني و لالهتمام، مثيرة البخاري أسرة أن لجلي ً أ ً َّ شيء أيقدم تفسيرا روحيا الختيارها .ومع أن علماء الدين في هذه السرة كانوا همية بمكان ،غير أني لم أجد سوى مساهمات ّ فكرية ونجاحات ّ من ال ّ مهنية. ّ ُ غير أني سرعان ما وصلت إلى حياة أحد رجاالت دمشق المرموقين وهو أحمد البخاري الذي توفي عام 1888في مرحلة تر ًاجع أهمية أسرته بعد أن تضاءلت ّ حبشية كانت تخدم في ثروتها .وحسب سيرته الذاتية ،فقد كان متزوجا من امر ٍأة منزله ،وهو ٌ أمر غير مألوف في القرن التاسع عشر في دمشق .ومما يثير االهتمام أكثر هو أن أحمد كان يعيش في حي القيمرية بالقرب من باب توما الذي تقطنه غالبية مسيحية .ففي عام 1860انتشرت في دمشق عمليات القتل الطائفية التي المسلمين والدروزً .وقد هاجمت عصابات من بدأت في لبنان ّ بين المارونيين ً أ َّ الحياء المسيحية وقتلت منهم عددا كبيرا ودمرت من منازلهم أ الكثير .غير أن من المسلمين من وقف في أوجه الجموع الغاضبة وقدم الحماية ل كبر ًعدد ممكن أنقذ المير عبد القادر الجزائري (الذي عاش منفيا وقتها في من المسيحيين .كما ً قليل من أالمسيحيين ،وهي مأثرة قدرها الغرب له دمشق) مع حراسه عددا غير ٍ ّ ُ فيما بعد .ولكن أحمد البخاري ،الجد ال كبر ألجودت ،لم ي ِقدر له أحد محاولته يملك السلحة أو الحراس ،فقد فتح منزله حماية جيرانه؛ فبالرغم من أنه لم يكن ً الفارين من العصابات معرضا حياته وسالمة أسرته للخطر .حتى أن للمسيحيين أ ّ أطفالهن ات الحوامل وضعن السيرة الذاتية لحمد أ ً تروي أن بعض النساء المسيحي ً َّ هؤالء ًالطفال المحظوظين أصبح طبيبا عندما شب ،وكان معروفا في منزله .وأحد ً عنه أنه ال يقبل ماال أبدا من مريض من أسرة البخاري. 26
معر العمادي
آ َّ ُ ُ أدركت َّ سر هذه العائلة وإن ظل ابتسمت آعندما قرأت سيرة أحمد .فالن ً غامضا على الخرين ..إذا أخذنا زوجة أحمد إال ّ فريقية بالحسبان ،فالحصان ّ الناري يمثل أربع قارات :آسيا وإفريقيا من طرف والده ،وأوروبا وأمريكا من طرف والدته .أو ربما كان السر هو استعداد أحمد لتقديم كل ما لديه لحماية مجموعة من الناس تنتمي إلى ديانة أخرى .فهذا نوع أصيل من التراحم! ليس التراحم مع أفراد عقيدتك وإنما هو ما كان مع أفراد جماعة من عقيدة مختلفة عند ُّ تعر ًضها ّ الذاتية هي تماما ما سيرة أحمد البخاري للخطر .ومثل قصة ماثيو ريبون ،كانت َّ كنت بحاجة إليه للتخلص من أدنى شك بأن أسرة البخاري هي بالفعل ساللة والد ّ الناري. الحصان E
27
ن إ�يل دمشق ج
28
معر العمادي
3 بعد أن تعرفت إلى َ ّ الناري ،أدركت أنني بحاجة إلى تعليمات والد أ ْي الحصان أ ذهبيتان .وقد ُ السطوانة الولى صحيفتان ّ نفذت تعليمات الصحيفة جديدة .كان في آ أ الولى ،وحان الن وقت فتح الصحيفة الثانية: [سيكون اسم القمر المولود حمامة ،وعندما يصل في منتصف النهار ستكون معه سكينة] «حمامة .هذا مثير لالهتمام .ما معنى ذلك؟» «ليس لدى أدنى فكرة .ربما هذا مجرد استعارة؟» ً ً «أو ربما يكون اسما عبريا؟» ً «ولماذا يكون عبريا؟» «فكري بمنطق الكتاب المقدس يا ريشة». «ال أعرف كيف أفكر بهذه الطريقة يا سيد رقيم!» 29
ن إ�يل دمشق ج
أ ً «السؤال هوُّ : أي نبي من النبياء في الكتاب المقدس يحمل اسما يعني حمامة؟» «ليس بإمكاني معرفة ذلك وإن كانت مهمتنا بأكملها تعتمد على ذلك». «عصا سيعرف .دعينا ُنز ْر ُه».
ً عصا أقرب إلى قمة الجبل .وعندما دخلنا عليه كان يقرأ كتابا كبير كان كهف ً الحجم ،فبدا وسيما وقور المظهر .وقد الحظت الصولجان رمز مكانته في إحدى زوايا المكان. أ«عصا ،نحن نأسف على مقاطعتك .لدينا سؤال سريع لك .هل يدعى أي نبي من النبياء في الكتاب المقدس حمامة؟» «يونس». «يونس النبي الذي التهمه الحوت؟» ً «لست متأكدا بأنه سيحب أن تصفه بهذه الطريقة ،ولكن نعم يونس الذي نجح في هداية مدينته إلى عقيدة التوحيد».
ً قال ذلك ثم فتح كتابه مجددا واستغرق فيه وكأنه ُيشير إلى انتهاء المحادثة.بعد عودتنا إلى كهفي سألت ريشة: ُ «إذن كيف نلهم جودت وجين بتسمية ابنهما يونس؟»
والغراء!» «هذا سهل ..بالغواية إ «ريشة!؟» 30
معر العمادي
«اسمع ،سأؤلف قصة عن رجل مذهل اسمه يونس وسأرويها لجين في أثناء تناول القهوة وفطيرة التفاح في لقائنا المقبل». ً «وكيف ستجعلينه مغريا؟» أ مغر يا عزيزي ال أكثر وال أقل!» أفعله ما كل مغرية. شياء ال «أنا ال أجعل ٍ E
ُ فتحت ترجمة باللغة االنجليزية للقرآن وقرأت عن يونس .لفظ «قبل أيام ّ جميل باللغة العربية .وقصته! كيف أشرحها لكن! علينا أن نعترف أن هناك يونس ً ً شيئا مميزا للغاية حول فكرة رجل حي في قلب حوت .هو أقرب ما يكون إلى رحمه». الجنين في ِ ً نظرت ريشة إلى جين وابتسمت .وتضاحكت بعض النسوة ،فيما بدا واضحا أن جين كانت شديدة االهتمام بحديث ريشة ،بل تمنت أن ال تتوقف.
«هو مكان مظلم ورطب .أتساءل إن كان بإمكان يونس سماع دقات قلب الحوت». ً قاطعتها لورا من بيتسبرغ« :قال لي زوجي مرة بأنه كان قادرا على سماع السمك ّ يسبح هللا في البحر». ِ إميلي من مانسفيلد« :الجميل في قصة يونس هو أنه على الرغم من وأضافت ً َ ارتكب خطأ ،إال أنه كان النبي الوحيد الذي استطاع في ذلك الزمن تحويل أنه عقيدة مدينة بأكملها». هزت جين رأسها .و تابعت ريشة الحديث: «نعم إميلي ،يبدو أنه إذا أردت النجاح فعليك أن تكوني مثل يونس ...أن تدخلي إلى الرحم مرتين وليس مرة واحدة». 31
ن إ�يل دمشق ج
غرقت جميع النساء في الغرفة بالضحك ،إال جين التي بدت وكأن فكرة سارة قد خطرت لها فجأة. يوجد في كل كهف من كهوف ُحماة إالر أادة إاللهية شاشة كبيرة على أحد جدرانه .عندما نريد متابعة ما يحدث على الرض فكل ما علينا القيام به هو فتظهر صوره الجلوس أمام هذه الشاشة وتوجيه قلوبنا نحو مكان أو شخص معين ً ً َّ فورا بوضوح على الشاشة ،وعندما نوجه قلوبنا إلى مكان أآخر تتغير الصور آليا وكأننا ّ نغير المحطة .في تلك الليلة جلست مع ريشة ًعلى الريكة الخضراء المخملية وشاهدنا جودت يعود من عمله إلى المنزل متأخرا كعادته ،وعندما دخل إلى غرفة النوم ابتسمت جين التي كانت مستلقية على الفراش بانتظاره ،وقالت له: «أعلم بأن اسم والدك سعيد .وقد تكون التقاليد المتبعة ًهنا تسمية المولود الذكر على اسم جده ،ولكن إذا كان الجنين الذي أحمله صبيا فلن يكون اسمه سوى يونس». «يونس؟ ولكن يا جين أنت حتى ال تستطيعين لفظه بشكل صحيح!» «لقد فكرت في طريقة أتحايل بها على ذلك ،اسم مصغر». «اسم مصغر؟ ما هذا االسم المصغر؟» ُ ً ُ «سأعلمك الحقا .تصبح على خير!» مصباح القراءة ثم أغمضت عينيها .وبدا قالت جين هذه الكلمات وأطفأت ُ عليها وهي تستغرق في النوم أنها كانت تحاول أن تتخيل جنينها في داخل رحمها. أ شوهد شعاع شمسي من الشعة السينية بسرعة في السابع من تموز عام ٌ 1966 َّ َّ 81.8ثانية ًضوئية .ال بد أنه حدث كبير على وشك أن يقع .كنت أعرف ذلك أقدرها ً لن شعاعا ضوئيا كهذا يؤذن بحدث مهم .دخلت إلى كهف ريشة الذي حولته إلى خزانة مالبس كبيرة! كانت تقف أمام المرآة تجرب بعض القبعات. 32
«منذ متى تزور كهفي؟»
معر العمادي
«اسمعي ،عليك االتصال بجين .علينا أن نعرف إذا ما بدأ المخاض». أ ً «لقد سبقتك الى ذلك .كنت أتصل بها يوميا طوال السبوع الماضي ولم يجبني أحد .فاتصلت بإحدى صديقاتها وعرفت بأنها مع أسرتها في الالذقية». «الالذقية؟ ال يمكن أن يكونوا في الالذقية فالطفل يوشك أن يولد .أريدهم أن يعودوا بسرعة». ً «حسنا ،بإمكاننا اجتذابهم». بلطف للجذب .هل «أتمنى فقط أن تكون جين من النوع الذي يستجيب ٍ أخبرت سكينة؟» «نعم ال تقلقي حول سكينة .إذا ولد الطفل في دمشق فهي ستكون هناك .فهي تعمل ممرضة في المشفى إاليطالي منذ ثالثة أشهر». أ «دع المر لي يا رقيمي الجميل». فجأة ،بعد ظهر يوم الخميس السابع من تموز أخبرت جين الجميع بأنها إن لم تعد إلى دمشق خالل الساعات القليلة القادمة ُ ّ عصبي على بانهيار صاب ست ٍ أ ٍ ال ّ مريكية! أعلنت ذلك وهي تحتسي القهوة في أثناء ما اعتقد جودت الطريقة ً خاطئا أنها لحظة هدوء. يتطلب الطريق من الالذقية إلى دمشق حوالي خمس ساعات .وكان أبو هادي سائق جودت يقود السيارة بسرعة 100كم في الساعة ،وكلما خفف من سرعته صاحت جين: «علي أن أكون في دمشق ،أريد أن ألد في دمشق ،يجب أن أكون في دمشق». 33
ن إ�يل دمشق ج
أ أ في يوم الجمعة الثامن من تموز في الساعة الشد حرارة من اليوم ،في الشهر ّ الناري ُوِلد يونس ،أو يون كما ُ سيعرف شد حرارة في السنة ،في عام الحصان ال ً ً المسيح .كانت سكينة أول من حمله ونفخت دعاء في الحقا ،في دمشق مدينة ّ وجهه وأعطته لجودت الذي أذن في أذنه اليمنى ثم وضعه في ذراعي والدته. EEE
34
معر العمادي
عندما يقع طفل في الحب
35
ن إ�يل دمشق ج
36
معر العمادي
1 ُ بانتظاري في جبل الشيخ .كانت تستلقي على أريكتي وهي وجدت ريشة ً ً ثوبا َ أحمر خمريا. ترتدي «نحن في مزاج أحمر خمري إذن؟» ً خمري عندما يولد طفل! لدي شعور بأن إحدى أحمر اج ز م في دائما أ «أنا آ السطوانات أصبحت جاهزة للفتح الن». «شعور؟ لنفتح الصندوق َ ونر».
آ تعليمات جديدة بعد أن إلى بحاجة ن ال كانت ريشة محقة .فنحن أ أ بالطبع ،أ ُ سطوانة الولى كذلك كانت أنهينا المهمة الولى .كسرت الختم .وكما كانت ال أ الثانية تحتوي على صحيفتين .فتحت ريشة الصحيفة الولى وقرأت: [كما كانت مريم لموسى ،كذلك ستكون أخته له. رحمة – 8سنوات] «قصة حب» قالت ريشة وعلى وجهها ابتسامة عريضة. الكنا كان يعرف بأن وجود «رحمة» يعني والدة قصة حب. «نعم ،ولكن هل هناك ٌ أخت ليون؟» 37
ن إ�يل دمشق ج
«نعم ،ذكرت لك مرة بأن أسرة البخاري لديها ابنة .قالت لي جين ذلك في أول يوم التقيتها بهِ .ل َم تسأل؟» ً ً «مريم كانت أخت موسى .وقد أحبت أخاها حبا كبيرا حتى أنها تبعته إلى قصر فرعون .يبدو أنه من المقدر أن يكون بين يون وأخته عالقة مشابهة». «لقد اقشعر جسمي». ّ البشري . ابتسمت لفكرة أن يكون لدى ريشة هذا إالحساس المفترض أن يتعرف يون على الحياة من خالل قصة حب مع أخته، «إذن من ً التي ال نعرف عنها شيئا». ًّ هما ..سأتأكد من مقابلتها في زيارتي المقبلة لمنزل جين». «ال تحمل ً «حسنا .وأنا سأتصل برحمة .بإمكانها أن تعمل خادمة في منزلهم». «ممتاز ،وأنا سأوصي بها لجين .أنت تعرف بأنها ال تستطيع مقاومة أفكاري». قالت هذا مع ابتسامة وخرجت من كهفي. بالفعل كان لدى يون ٌ سنوات. تسع بحوالي تكبره وكانت مريم اسمها أخت ً بخالف عيني والدتها اللتين كانتا تشعان حرية وحيوية ،كانت عيناها تشعان عمقا وروحانيةّ . عرفت ريشة رحمة إلى جين باسم «سعاد» الخادمة والمربية المثالية. ُ تكن تظن وظيفة كانت قد عرضت عليها قبيل آ والدةُ طفلها .ولم أ وتحدثت جين عن أ أن ذلك العمل ممكن لم مع مولودها الجديد ولكنها الن ستعيد التفكير بالمر. وهكذا ُغر َ منزل أسرة البخاري .وتحت في لرحمة الدائم الوجود بذرة ت س ِ أ رعاية المالك المسؤول عن أسرار الحب نما حب يون لخته ،وكما تنبأ فيي ذات مرة ،كان يون اليطيق وال أ ُيطاق عند ابتعاده عن حبه .وعندما كانت مريم تتمكن من الهروب في بعض الحيان لزيارة صديقة أو مجرد تمضية وقت وحدها دون 38
معر العمادي
متوتر ثم وقح ثم أيرتفع صوته، أن يالحظها يون ،يتحول أيون الطفل الوديع إلى طفل ً وإذا استمر غياب مريم ل كثر من ساعتين يصبح عنيفا ،ليس تجاه الشخاص بل أ يديه .وحتى أنه في مرة من المرات ضربات تحت الليغو هياكل فتتكسر شياء، ال ً أ ضرب نافذة فتحطمت فورا وتبعثر زجاجها على الرض ،ولم يكن هناك ما يستطيع أحد فعله سوى بالطبع البحث عن مريم والتوسل إليها لتعود إلى المنزل بسرعة. ً َ اختير والده مسؤوال في عندما أصبح يون في حوالي السادسة من عمره، أ َّ الحكومة السورية ،حيث تولى منصب وزير االقتصاد .ولنه كان من التكنوقراط َّ وقد نأى بنفسه عن الفاسدين والمولعين بالسلطة ،فإنه لم يكن ليتمتع بأية صفة من الصفات الضرورية للوصول إلى منصب كهذا في سورية في السبعينيات؛ فهو اطية في وقت كان فيه غالبية المسؤولين المهمين يأتون ينتمي إلى أسرة سنية أرستقر ً وكان متدينا في وقت كانت غالبيتهم من العلمانيين المتطرفين. ريفيةً ، من خلفيات ً ٌ ّ أمريكية ،في وقت كانت فيه وقد تلقى تعليما ليبراليا في الغرب بل ومتزوج من ً أ الحكومة السورية ذات النهج االشتراكي معادية علنا لمريكا وكل ما يرتبط بها. لذا لم يكن من الممكن أن ُي َّعي َن جودت في هذا المنصب لو لم يحدث ًشيء غير عادي .فقبل عدة سنوات احتاج وزير الدفاع (الذي فيما بعد أصبح رئيسا لسورية) إلى من يساعده في ً دراسة ً مادة االقتصاد .واختير جودت لتلك المهمة ،حيث أترك عند انتهائها انطباعا حسنا لدى اللواء .وهكذا في ًعام 1971عندما عرضت المم المتحدة على ًجودت وظيفة خارجأ سورية ،تلقى هاتفا في منتصف الليل من القصر الجمهوري طالبا منه البقاء « ...لن بلده بحاجة إليه». شعر جودت أبالوحدة خالل السنوات ً التي أمضاها بالعمل مع الحكومة السورية .وخالل الوقات الصعبة التي كثيرا ما تكررت عندما كان ينكشف له فساد وعفن بعض المسؤولين الذين كانوا يحيطون به ،كان يضع رأسه على الوسادة في نهاية يومه وهو يهمس لنفسه : وزير االقتصاد الذي عمل لحساب فرعون؛ ألم يكن يكن يوسف هو ً ً«ألم ً ّ يؤد عمله موحدا مخلصا بينما كان محاطا بمشركي مصر؟ وعلى الرغم من ذلك ألم ِ بما يرضي هللا؟ سأتبع مثاله حتى النهاية». ُ هام وعزز ًذلك شعوره بذاته .ولكن يون كان ً كان يون يدرك أن والده شخص ً أكثر بكثير ً بحبه .لم أيكن حبا رومنسيا بالطبع ،ولكنه في الوقت نفسه مشغوال ً لم يكن حبا اعتياديا يكنه أخ لخته .ببساطة كان يون بوجود مريم يشعر بالسالم 39
ن إ�يل دمشق ج
هناك أي شيئ آخر يمنحه هذا إالحساس .كان يون بحاجة إلى والدفء .ولم يكن ً مريم كي يكون طبيعيا. أ أكانت نزهات المشي إحدى طقوس قصة الحب هذه .نزهتهم الساسية كانت ُ سورية .كانت مريم تمسك بيد أخيها وهي يوم الحد بالرغم من أنه يوم عمل أفي أ تبحث عن زهرة البرسيم ذات الوراق الربع النادرة وخلفهما ببضع خطوات رحمة .وكان وجه يون يختفي بين العشب وهو يبحث ويبحث بصدق .لم ً تكن ورقة البرسيم بحد ذاتها تعني له أي شيء .فمبتغاه كان سعادة مريم ،وصوال إلى االبتسامة التي كان يتخيلها على وجهها إذا وجد هذه النبتة السحرية. أ كانت أزهار الياسمين هدفا للنزهات َّالخرى .وإذ تحيط َّأشجار هذه الزهرة وتتدف ُق من جنائنها ،فإن مريم ويون كانا الخالبة ٍ بكثير من البيوت الدمشقية أ يلتقطان أزهار الياسمين الواقعة على الرض ويضعانها في كيس ورقي صغير. وعندما يمتلىء الكيس يعودان بسرعة إلى المنزل ويجلسان على سرير مريم يصنعان العقود بكل دقة باستخدام خيط وإبرة. ً ً ً شكلت الكلمات أيضا جزءا كبيرا من القصة .عشقت مريم الشعر ووقع يون بدوره في غرامه .ولسنوات طويلة وبعد أن نسيتها مريم بقيت معه بعض بيوت الشعر التي كتبتها مرة على بطاقة ولصقتها على خزانتها: لدت من زبد البحر أنا و أ ولدت لتفتت ألف مرة ثم أولد من جديد فيروز .وكانت المسرحية الغنائية كانت مريم من عشاق المغنية اللبنانية ً الجديدة التي تقدمها في معرض دمشق الدولي حدثا تترقبه أسرة أالبخاري بأكملها فقط العرض الول للمسرحية، في كل صيف .وبينما كانت جين وزوجها يحضران ً المسرحية مرارا في الهواء الطلق .وإذ أ مريم كانت مريم ويون يعودان إلى مشاهدة ً تكتب كلمات أغاني فيروز وتحفظها فغالبا ما غنتها ليون قبل أن ينام .هذه الغاني التي كثير منها كان عن االنتظار ،انتظار من تحب في الصيف والشتاء ،انتظار بال توقع لليوم الذي يصل فيه الحبيب .وفي مسرحية أخرى ،ستلعب فيروز دور امرأة تعلن عن القدوم الوشيك لقطار .إال أنه قطار ال سكة له ،وفي الحقيقة ليس هناك إال مزرعة بطاطا في المكان نفسه الذي ّتدعي وصول القطار إليه! وعلى الرغم من ذلك، فهي تتمسك بإيمان االنتظار ،انتظار بال منطق ،ال يبالي بالوصول الحقيقي للحدث 40
معر العمادي
المتوقع .وفي مسرحية غنائية أخرى ،تلعب دور امرأة مسجونة ظلما لخمس عشرة تحمل ًزنزانتها طوال هذه السنين؟ إنها تجربة سنة .فمالذي أعطاها القدرة على ً على يون ،إذ تتساءل فيروز عن سبب االنتظار بال شك .وترك مشهد آخر أثرا كبيرا أ ُ حالة السكر ً الدائم لرجل ،فيجيبها أحدهم« :لنه يخاف أن يدرك بأن ما ينتظره لن يصل أبدا!» َّ تشرب يون كل ًهذه المعاني ،فقد كانت تهم مريم ،وكل ما يهم مريم يهمه. ولكن المفارقة أن يوما سيأتي لن تعني فيه فيروز أو كلماتها أي شيء لمريم .إال أن ُ كل ما ز ِر َع في يون خالل سنوات الحب البريء تلك ستبقى معه عمره كله. وإنما كل شيء يرتبط بها .كانت مريم طالبة في لم تكن الكلمات وحدها مهمة ّ وكان مدير المعهد الموسيقي ًفي دمشق حيث تتعلم العزف على البيانوً . المعهد ً ً رجال سوريا متزوجا من امرأة بريطانية صديقة لجين ،وكان منبهرا بمواهب مريم طالبة ملتزمة .كانت ترغب فقط في تعلم قراءة الموسيقية .ولكن مريم لم تكن أ الموسيقا لتتمكن من عزف بعض العمال الالكسيكية المفضلة لديها ،وعندما حققت ذلك ،توقفت بشكل كامل عن حضور الدروس .وكم من مرة ر ُ اقبت أنا يون بجوار ًأخته وهي تعزف «سوناتا ضوء القمر» ،حتى أنها يجلس على مقعد البيانو َّ صاغت قصة حولها ،وهي أن شابا يجلس في ضوء القمر في انتظار حبيبته ً.وينتظر ً يأت أحد .وفي الليلة التي يختفي فيها القمر كليا ،تصل ليلة، ليلة بعد ٍ لكن لم ِ ُ حبيبته فجأة وهي تضيء السماء بنور وجهها. كانت جين تتمتع بموهبة موسيقية تفوق ما لدى ابنتها .فصوتها يزداد ً بهاء أ وهي تعزف ًعلى الغيتار والبيانو وتغني الغاني المفضلة ليون لتشغله عن غياب ب«الصبي منصاعة لرغبته الدائمة في االستماع إليها وبالترتيب نفسه؛ فتبدأ مريم، ً ً المنشد» أوال ،ثم تتبعها ب«دونا دونا» ،ثم تتلوها بأغنية «هنري مارتن» وأخيرا يطلب َّ مفض َلته «ترنيمة معركة الجمهورية» التي كان على جين غناؤها مرتين على أ القل .وكانت جين حريصة على أن تغني تلك المقاطع التي تنسجم مع الرؤية التوحيدية الجازمة للدين إالسالمي ،وتحذف إالشارات التي تضفي على عيسى بن مريم مرتبة إلهية. ً ً في إحدى المرات تحدثت مريم ليون عن رجل مسن يملك متجرا صغيرا يبيع الدفاتر المحبوكة باليد .في هذا المتجر انبهر يون برؤية دفتر كبير ذي غالف جلدي أخضر داكن ،يكاد يكون حجمه بطول يون .وعندما وافقت مريم على شرائه، شعر يون أنه حصل على حجر ثمين آخر ضروري إل كمال بناء قصره السري؛ قصر مصنوع من كلمات ،وسالسل من ياسمين ،ودفاتر ،اكتمل في النهاية بقطة 41
ن إ�يل دمشق ج
صغيرة .فإحدى صديقات جين كان عندها عدد من القطط الصغيرة التي أرادت التخلص منها ،فذهبت مريم مع يون إلى منزلها واختارا قطة صغيرة بيضاء على أنفها بقعة سوداء ،وضعاها في كيس صغير وعادا بها إلى المنزل .وكان يون يتوقف كل حين ليتأكد من أن الكيس مفتوح بشكل كاف لتتنفس القطة دون أن يسمح لها بالهروب. E
في عام 1973اندلعت الحرب مع إسرائيل .وقررت مريم التطوع في مشفى المواساة العام .وهكذا وجد يون نفسه يعايش الحرب من دون وجود مريم إلى جانبه .عند كل فجر كانت الطائرات الحربية إالسرائيلية تخترق حاجز الصوت فوق دمشق .وقبلها بلحظات كان صوت صاف أرات إالنذار يدوي ليوقظ أفراد أسرة تعيش أخوات جودت، البخاري ويجبرهم على الهبوط إلى الطابق الرضي حيث أ أ محمية لن والد جودت كان غرفة كانوا يعتقدون أنها ً فيجتمع أفراد السرة في ً ً دائما يصلي فيها .لكن سريعا ما وجد يون نفسه وحيدا .فقد كان والده في العمل، الخوف فكانت على سقف البناية وأما والدته وريثة الهيوغونوت التي ال تعرف أ تراقب طائرات ميغ ً 21وميراج 3في سماء تشرين الول .ولكن أكثر ما أزعج يون تعتني بالمصابين .حتى زيارات رحمة لم هو غياب مريم بعيدا عنه في المشفى أ أ تعد منتظمة ،لن الحرب عطلت جميع النشطة االعتيادية .أولكن ،وبعد عدة أيام ،فقد يون قدرته على التحمل وقرر زيارة مريم مهما كلفه المر .وهكذا انتظر المنزل وطلب منه بصوت مفعم بالسلطة أن يأخذه يون وصول سائق جودت إلى ً أ فورا إلى مشفى المواساة برغم كل الجواء الخطيرة .عندما وصل يون إلى المشفى وجد مريم تقف بجانب سرير رجل مصاب .لم تصدق مريم عينيها عندما رأت أخاها الصغير هناكً ،فانطلقت نحوه وصفعته على وجهه .وبذلك ّمر يون بامتحان هام؛ هل كان مستعدا لتحمل إالهانة من أجل حبه؟ كان من الواضح أنه اجتاز االمتحان .فكل ما كان يريده هو أن يراها وقد تحقق له ذلك وليفعل بعدها الجميع ما يشاؤون .عاد السائق بيون إلى المنزل بخد أحمر وعيون مليئة بالدمع وشفتين مبتسمتين. E
42
معر العمادي
2 أ في يوم ميالد يون الثامن حان موعد فتح الصحيفة الثانية للسطوانة الثانية: ُ ّ أيلول ،وسيتزين عالم الطفل بروعة [سيقبل الضوء أخته في أ الزرق نور – سنتان وخمسة أشهر] عندما يكون هناك حاجة إلحداث نقلة روحية تظهر «نور» على الساحة ،نور ّ ّ الروحي والتغيير المفاجىء .يسود كهف نور شعور عميق بالسكينة. التحول مالك وعندما وصلت كانت جالسة على سرير أبيضً في حالة ذكر وتأمل ،وكعادتها كانت ترتدي غطاء رأس ناصع البياض .ال أذكر أبدا أني رأيت شعرها في كل السنوات التي عرفتها بها .فتحت نور عينيها وحدقت بي وكأن حضوري المفاجىء قد أزعج هدوءها. ً«رقيم ،الحال الذي تحمله معك يقول لي بأنك كنت برفقة ريشة لفترات طويلة مؤخرا». ً ً لم تتفق نور وريشة كثيرا فالمز ُاج العام لكل منهما مختلف تماما ،ولكن المفارقة ّ حد مذهل. بأنهما متكاملتان إلى ٍ َ ْ أ «البد أن إحدى الصحف قد ذك َرتني لحظى منك بشرف هذه الزيارة».
43
ن إ�يل دمشق ج
ً «نعم ،لقد ُ است َ دعيت .ستشهد مريم الفتاة ذات السبعة عشر عاما من دمشق ً ً تحوال روحيا». «أنا على دراية كاملة بمريم يا رقيم». ً «حقا؟» «ريشة تشارك معلومات أكثر مما تظن». ً «حسنا .ما هي الخطة؟» ّ «سأعرفها إلى أخوات هارون». «ماذا؟» أ ً «يبدو أنك لست مطلعا على الحداث الروحية في دمشق».
ُ ً منشغال بيون ،إذ ُ كنت أقضي معظم وقتي أتابعه كانت نور على حق .فلقد كنت من كهفي ،حتى لو لم يكن لي دور مباشر في حياته. أ ً «هل تعلم مثال من هو أجدد عضو في الربعين؟»
«»... «هل تعلم بأن هذا العضو الجديد ُس ّ يقدر له بأن يصبح المجدد القادم؟» «»... 44
معر العمادي
ً «الكثير من االحتكاك بريشة قد يشوش رؤيتك .إذا اسمح لي بتثقيفك .في الوقت نفسه الذي ُوِلدت فيه مريم ،بدأت امرأة تدعى «شمس» بدعوة النساء يركز على التعلم والتعليم ويوافق بين الحداثة في دمشق إلى درب روحي؛ درب َ ّ لجميع النساء ًالالئي يبحثن عن والحشمة .وشكل درب شمس البديل المثالي ً التقليدية حياة ال ينحاز للعلمانية أو ً التقليدية ،وهو أيضا ليس تابعا للسلطة ً أسلوب ً َ وليس خاليا من الهوية الدينية .لو كنت تخرج أكثر لكنت الحظت أسلوبا جديدا للباس النساء في دمشق .فبالمقارنة مع التنورة القصيرة للمصصمين الغربيين أو المالية العثمانية السوداء ،فالنساء الالتي انضممن إلى درب شمس يلبسن المعاطف الزرقاء السماوية وغطاء الرأس بلون مماثل». «انتظري ،هل قلت أزرق؟» «نعم ،أزرق سماوي .لماذا تبدو عليك المفاجأة؟» «ال ،ال .لقد تذكرت كلمات الصحيفة». « أي كلمات؟» أ الضوء َ ُ ُ أخته في أيلول ،وسيتزين عالم الطفل بروعة الزرق» «سي ّقبل أ «هل ترى كم أنا مواكبة للحداث؟» «نعم ،استمري ً رجاء عن شمس». المثقفات الواثقات من «نجحت شمس في أ االستحواذ على اهتمامأ النساء ً أنفسهن ،وبعضهن من أرقى السر في دمشق ،وال كثر انفتاحا على العلمانية .نعم هناك شيء جذاب يميز شمس ودربها». 45
ن إ�يل دمشق ج
ٌ ُ غر؟» « شيء م ٍ َ «هذه عبارات ريشة .لقد قلت لك إنك تمضي الكثير من الوقت برفقتها». «استمري ،نور». «إنهن ينجذبن الى هذا الدرب بقوة قادرة على مواجهة من يحاول منعهن من االنضمام إليها». «من يحاول منعهن؟» دمشق يتراوحون بين موقفين :إما «الرجال! وهذه هي المفارقة. الرجال ً ً في أ ات يرتدين ثيابا وفقا للعراف الغربية ،أو يتبعن القواعد إنهم يريدون نساءهم متحرر ً الدينية المتشددة ويلبسن لباسا ال يبدي حتى وجوههن .وفي الحالتين هم يريدون ُ َْ َ شعرنهم باالرتباك؛ فهن انضممن إلى درب شمس ي السيطرةً .ولكن النساء اللواتي يرتدين ثيابا محتشمة وفي الوقت نفسه يفكرن بأسلوب غاية في التحرر». «أشعر كأنني كنت أعيش على كوكب مختلف». ً «أو ببساطة كنت تقضي وقتا أكثر من الالزم مع ريشة!» «الرجاء توقفي عن التهكم فهو ال يناسب طبيعتك الروحية». «أنت على حق .أعتذر». «اذن لماذا أشرت إليهن بأخوات هارون؟» 46
معر العمادي
«بحسب إنجيل لوقا فإن اليزابيث والدة يوحنا المعمدان كانت تنتمي إلى أخوات هارون ،مدرسة روحية نسائية قديمة .هذا هو الحال مع النساء الالتي انضممن ًإلى درب شمس .فهن ال يرتدين الثياب بأسلوب ًمميز فحسب ،وإنما يعشن وفقا لمبادىء أخالقية حازمة .رقيم ،اصغ إلي جيدا ..هن يشاركن في جلسات تأمل منتظمة». «التأمل الروحي؟» أ «نعم هذا صحيح .ومن هذا المنطلق فهن مثال حديث لخوات هارون». «وكيف حصلت على كل هذه المعلومات عنهن؟» أ «لنني يا رقيم قد انضممت إليهن». قالت نور ذلك وأخذت المعطف المعلق بجانب سريرها ووضعته على كتفيها. إلي بتمعن .أنا زينب إحدى َح ّ «انظر ّ واريات شمس الكثيرات». ً «حسنا يا نور! فكيف نجذب ،نعم نجذب مريم إلى درب شمس؟» «سأطرق بابها وأغمر عالمها بالنور! ولكن َّ علي االنتظار حتى أيلول كما ُ قالت بحلول أيلول يكون شهر رمضان قد بدأ .ستكون مريم صائمة مع أسرتها الرسالةً . والصوم دائما لديه أثر روحي على المرء». بالحباط بسبب أعراض االمتناع عن النيكوتين». «إال إذا أحس إ «نعم ولكن أشك أن تكون مريم مدخنة!» E 47
ن إ�يل دمشق ج
أ ّ تعبيري إالغراء واالنجذاب ،فإن أ السلوب الذي بالرغم من االختالف بين تستخدمه كل من ريشة ونور متماثل إلى حد كبير .ففي يوم ًالربعاء 25أيلول ُ شاهدت نورا وهي تطرق باب الموافق للثامن من رمضان في التقويم إالسالمي، أسرة البخاري ،وكان يون من فتح الباب. «هل مريم موجودة؟» «نعم أختي هنا». تبعت نور يون إلى الداخل .وبعد دقائق ظهرت مريم حافية القدمين ترتدي ً ً َّ ثوبا طويال أخضر .قدمت نور نفسها على أنها زينب .وقالت إنها قد جاءت لتسألها إذا كانت ترغب (بأكثر)». ً قالت مريم« :عفوا؟ .أ كثر من ماذا؟»
أ ابتسمت نور .ول كثر من عشرين دقيقة شرحت نور أسلوب حياة يجمع أجزاء حياة مريم المشتتة ويجعلها تشعر بالقوة والسكينة. «أنا أعرف من يستطيع أن يحيك لك أجنحة ويعلمك التحليق دون أن تغادري مكانك». ابتسمت مريم« .خذيني إليها».
ً عندما غادرت نور كان يون مرتبكا .سأل أخته من تكون هذه المرأة وعن ماذا كانت تتحدث. حديث هذا المساء .بإمكانك «ال تقلق يون .كانت فقط تريد دعوتي إلى ٍ الذهاب معي إن َ أردت». ً ً «طبعا أريد أن أذهب معك ،طبعا» أخذ ابن الثامنة يكرر. E 48
معر العمادي
صديقتها وأنها ستأخذ يون في ذلك المساء قالت مريم لوالدتها بأنها ذاهبة لرؤية ً ُ معها .كانت نور تنتظرها في شارع قريب .مشى الجميع معا من حي المهاجرين حيث تقطن أسرة البخاري ،إلى حي المالكي العريق .وعندما وصلوا إلى المنزل أدخلتهم نور إلى غرفة كبيرة تتدلى من سقفها ثريا من الكريستال ًالبوهيمي ،وعلى أرضها سجادة عجمي نائين .كانت هناك خمس وثالثون فتاة تقريبا ،احتللن جميع الغرفة كان هناك الكراسي الموجودة وبعضهن جلسن على السجادة .في صدر أ كرسيان من الخشب من طراز «الملكة آن» بمقاعد من المخمل الزرق الداكن. وترقبا ما سيحدث. بعد أن خلعت مريم ويون حذاءيهما جلسا على السجادة ً وخالل دقائق ،دخلت الى الغرفة امرأتان ترتدي كل منهما معطفا وغطاء رأس. واندفع الجميع الستقبالهما .إحداهما كانت محور االهتمام .فابتسامتها كانت تفيض بالدفء وعيناها كانتا تشعان بالذكاء .وعندما تجمعت البنات حولها لمصافحتها سألتهن عن صحتهن ودراستهن وأحوال أسرهن .انتقل يون بعينيه من الثريا إلى وجه المرأة وكأنه يحاول التحقق مما إذا كان الكريستال في الثريا هو الذي ُيضيء وجه المرأة أو إذا كان ببساطة وجهها هو الذي يضفي على الثريا بريقها .جلستا على الكرسيين وبدأت المرأة ذات الوجه المشرق بالتحدث .وهمست نور في أذن مريم« :أليست جميلة؟ هذه شمس التي حدثتك عنها ».وأومأت مريم لها بالموافقة. تحدثت شمس بصوت قوي وعذب: وعلى الرغم من أننا نحب مدينتنا وبلدنا ،إال «إن دربنا يا بناتي يبدأ من دمشق .أ البالد والجماعات الخرى .دربنا درب نسائي ،لكنه يحترم أن دربنا أ ال يتحيز ضد أ أ آ الباء والخوة والزواج والبناء .فنحن ال نحمل أية ضغينة ضد الرجال؛ ولكننا لسنا مضطرات إلثبات أنفسنا لهم .هو درب ينادي بحق المرأة في اختيار دينها وتعلمه وممارسته ،ولكنه ال يطالب بعزلها عن الرجال .هو ينادي باستقالل المرأة ُ عرض للخطر دورها المحوري دون أن ي ّ ِ أ المالي وحقها في تعليمها واختيار مهنتها ً روحاني ،لكنه أيضا درب خدمة :خدمة هللا من خالل درب هو دربنا سرة. ال في ً خدمة مخلوقاته .فهو ليس دربا ًيهدف إلى االقتراب من جالل هللا بالعبادات فحسب ،وإنما هو درب يهدف أيضا إلى رضى هللا من خالل خدمة البشرية». تحمل صينية بعد دقائق فقط من انتهاء حديث شمس دخلت شابة إلى الغرفة ُ ال ،وعندما قدم إليه كان سيحصل على كوب شاي أم أ شاي .تساءل يون ما إذا أ َّشعر بالسعادة تغمره ،ليس لنه أراد أن يشرب الشاي ،وإنما لنه أراد التأكد من أن وجوده َ معترف به. 49
ن إ�يل دمشق ج
وفي طريق العودة لم تتحدث ًمريم مع يون .كان يبدو على يون أنه منشغل بحل لغز الوجه المشرق ،وكان واضحا على مريم أنها مستغرقة في التفكر في كلمات شمس .لم تنم مريم في تلك الليلة .لقد سيطرت رؤية شمس على وجدانها ..رؤيا درب روحي تتبعه نساء قويات مثقفات ذوات وعي اجتماعي عميق! ياه! و كيف لها أن ترفض الدعوة إلى درب كهذا؟ وعندما اتصلت نور بها في الصباح التالي قالت لها مريم بأنها قد قررت االنضمام إلى هذا الدرب وأنها نعم ستبدأ بارتداء غطاء على رأسها. ٍ E
َُّ «المهمة ن ِفذ ْت». آ «نعم يبدو ذلك .لقد تابعت بإمعان .ماذا سيحدث الن يا نور؟» آ «رقيم ،لقد اشتعل النور في مريم الن .سيحاول الجميع إخماده .ولكنهم ال يدركون أن هذا النوع من النور مثل نبات الصحراء كلما حاولت اقتالعه كلما غاصت جذوره في العمق أكثر». E
ً ً الحجاب) قرارا ثوريا كان يطلق عليه أ كان قرار مريم بارتداء غطاء الرأس (أو ما أ ليس فقط في أسرة البخاري ،وإنما في جميع السر السورية-الجنبية من أصدقاء العائلة .فقد أثبتت مريم للجميع بأن بناتها ليست لديهن المناعة ضد إالغواء وبدورها أثبتت ًشمس بأن الروحاني او االنجذاب كما كانت نور تفضل تسميته .أ لديهن كل مؤهالت الحياة العلمانية ،هن ال كثر استعدادا لالنضمام النساء الالتي أ إلى دربها وذلك لنهن نساء في منتهى الجدية فيما يتعلق بهويتهن ودورهن في هذا العالم ،فهن لسن بحاجة إلى دعوة إلى هذا الدرب وإنما في الحقيقة قد خلقن له. تجادل والدا مريم وأصدقاؤها وأقاربها معها بشكل مستمر .وكانت تتجنب مناقشتهم ما أمكن .لم يكن يهمها في ذلك الوقت إقناع أحد .يون هو الوحيد الذي وقف بجانبها وذلك من باب الحب أكثر من باب االقتناع .كان يكره فكرة أن تكون 50
معر العمادي
مريم أخته عرضة للهجوم .وأخذ يوثق في دفتره الكبير النقاش الذي كان يدور بين مريم ووالديها ليكتب بعده تعليقه الخاص: «جريمتها الوحيدة أنها تتمسك بغطاء رأسها»... « ليست لديهم مشكلة مع من يلبسن وشاح البندانا الذي ترتديه بعض نساء الغرب »... ُ سيدافع عنها»... «في المرة القادمة التي يجعلونها تبكي أنا من اكتشاف مريم لذاتها الجديدة أعاد صوغ طقوس قصة حبها مع يون .فقد تم استبدال المشي بالركوب أفي سيارة مريم البيضاء الحديثة من طراز بيجو 101 ،لتوزيع نزهات أ الطعام واللبسة على الحياء الدمشقية الفقيرة .ورافقتهما الفتيات الشمسيات، يسمونهن ،في السيارة الصغيرة التي كانت تزدحم بهن .وتركت كما كان الدمشقيون ً ً في صور هؤالء الفقراء أثرا كبيرا على يون .وهناك حدث معين أغرقه في حيرة كبيرة ً ّ َ إحدى هذه الجوالت .فقد ِوزع الطعام على إحدى عشر أسرة من وعاء أكان موضوعا في صندوق السيارة يحتوي على الكوسا المحشي ،وعندما جاء دور السرة الثانية عشرة فتحت مريم الصندوق ورفعت غطاء الوعاء لترى ما تبقى من طعام .وبالرغم فارغأ إال أنها تفاجأت بأنه ممتلىء حتى حافته! من أنها توقعت أن أيكون شبه ٍ اعتبر يون أن هذه الحداث هي السرار الجديدة لقصة حبهما .فلم يشارك هذه القصص مع أحد .وكان يون يحب أن يهمس في أذن مريم عندما يكونا جالسين آ مع الخرين للتأكيد بأنهما ما زال لديهما عالمهما الخاص المغلق: «هل تذكرين عندما...؟» ظلت الكلمات تستحوذ على جزء كبير من عالقتهما ،ولكن حلت بدل كلمات فيروز آيات من القرآن الكريم .وكانت سورة طه هي المفضلة لدى يون وذلك بسبب إيقاعها الموسيقي .وكان هناك عديد من القصص قبل النوم تحتوي على التي عملت على تعزيز صفات الحصان رسالة روحانية .وإحدى هذه القصص أ أ من الناري وأصبحت ْفيما بعد حجر الساس لسلوب حياة لم تكن مريم تتوقعها ً يون ،هي قصة « ِبشر الحافي» .كانت القصة بسيطة الحبكة ولكنها لم تفشل أبدا في التأثير على يون: 51
ن إ�يل دمشق ج
ً بعيد كان هناك رجل يدعى بشر ،وكان ثريا ويعيش حياة مترفة للغاية. في زمن أ وفي يوم من اليام طرق بابه رجل مسن .فتحت الخادمة الباب وفوجئت برؤيته. وعندما سألته ماذا يريد ،أجابها« :الرجاء أن تسألي سيدك إن كان قد تذوق الحرية؟» أغلقت الخادمة الباب وعندما استفسر بشر عن الطارق أجابت بأنه «رجل مسن مجنون يسأل أسئلة غريبة ».عندما ذكرت له سؤال الرجلُ ،صعق بشر وركض خارج قصره من غير أن يلبس حذاءه وبحث عن الرجل المسن حتى وجده .أمسك ً بيده وقال له« :أنت محق فأنا لم أتذوق الحرية .أرجوك علمني كيف أكون حرا بحق ».في تلك اللحظة تخلى بشر عن حياته السابقة ولم يعد إلى قصره ولم ينظر إلى الوراء قط! أ ً أسلوب حياة مريم الجديد ،وكان مع كليا يون وتأقلم يام ال ًوهكذا مضت ً أ سعيدا طالما أبقته جزءا من عالمها .في يوم من أاليام أقنعت مريمأ يون بأن يذهب إلى درس ديني مخصص للرجالُ ،يلقيه أحد الئمة .وافق يون لجلها ولكنه قال لها بعد عودته بأنه كره كل دقيقة من الدرس ،وأنه لن يذهب من دونها إلى حدث كهذا مرة أخرى. في أيلول 1976اكتشف ً يون بأن مريم سترافق والدها في زيارة إلى أمريكا. ومريم ستزور كان جودت سيحضر مؤتمرا لصندوق النقد الدولي في واشنطن أ جدتها وخاالتها في منطقة نيو روشيل ،أو هكذا اعتقد يون .في حقيقة المر كانت أسرة دمشقية متدينة قد طلبت يد مريم للزواج من ابنهم الذي كان يدرس الطب الرحلة. في أمريكا .وفاجأت مريم والديها باستعدادها لمقابلته وهكذا تم ترتيب َّ ُ َ جودت لم يكن يجدن لم يجرؤ أ أحد على إخبار يون هذا االمر ولكن أخوات ً االحتفاظ بالسرار .فسمع يون ما يكفي من عماته ليفهم أن شيئا ما له عالقة بزواح مريم كان ُي َّدبر .غابت مريم عشرة أيام ّتمت خاللها خطبة غير رسمية. ً ليلة عودتها ظهر حب يون العميق لها بأسلوب حنون جدا .فعلى الرغم من وفي ً َّ أنه كان نائما ،إال أنه استفاق عندما سمع صوتها وطلب منها أن تأتي إلى سريره وتعانقه .عندما اقتربت منه أمسك يون يديها وبحث عن خاتم .وعندما لم يجده – كانت مريم قد وضعته في حقيبتها – ابتسم وعاد إلى النوم. أ ً بتسامة لم تدم طويال .فقد ُح ِّد َد موعد العرس في كانون الول ،1976 ولكن اال أ وبحلول تشرين الول كان يون قد فهم كل شيء وواجه أ مريم بذلك ،فوضعت يديها على كتفيه وحدثته عن الرجل الذي ستتزوجه وفي الثناء عن شعره الطويل .في المتوقع أن يقول يون« :هل تعتقدين فعال أنني أكترث كان من ً موقف مثل هذا ً إن كان شعره طويال أو قصيرا أو ليس له شعر على إالطالق؟» ولكن شعور يون 52
معر العمادي
ً بالحب الذي كان يسري من يدي مريم جعله للحظة قادرا على التحدث عن شعر «سرمد» .وعندما وصل سرمد إلى دمشق قبل العرس ببضعة أيام ،كان يون ّفي انتظاره في المطار .بحثت عيناه عن رجل مظهره وملبسه مثل الهبييز يحمل غيتارا! لكن سرمد كان يرتدي بدلة وكان شعره متوسط الطول ويحمل حقيبة عمل جلدية سوداء اللون. ً أ ً البخاري لن الفنادق لم تكن خيارا مطروحا فهي حفلة العرس كانت في منزل ً تقدم الكحول ودرب مريم كان قاطعا ضد هذا الموضوع .في أثناء العرس لم يستطع يون أن يحبس دموعه ،فلم تكن أخته تتزوج فقط وإنما كانت ُ ستغادر دمشق في اليوم التالي مع زوجها إلى أمريكا .لقد انتهت الحياة التي كان يون يعرفها. EEE
53
ن إ�يل دمشق ج
54
معر العمادي
جميع الطرق تقود إلى دمشق
55
ن إ�يل دمشق ج
56
معر العمادي
1 ً َ ً كان خدي مبلال بالدموع عندما دخلت ريشة .وقد الحظت ذلك فورا وامتدت أصابعها إلى وجهي لتمسحها بنعومةُ . ثوان من النعيم .كنت أحب لمسة يدها بضع ٍ ُّ ّ البشري أقرب شيء إلى التودد على وجهي أو عندما تضعها على شعري .كان هذا ً نستطيع نحن المالئكة الوصول إليه .شعور يشابه تقريبا شعور الطفل عندما تقبله طفلة صغيرة تلعب معه في الحديقة. «لماذا يبكي رقيم الغالي؟» ً «كنت أشاهد عرسا!» ُ «وأراهن بأنك لم تلحظ الثوب الجميل الذي كنت أرتديه». «أنت كنت هناك؟» «بالطبع كنت هناك .لم يرقص أحد مثلي». «رقصت؟ مع من؟» ِ «لم أرقص مع أحدً ،يا أيها المالك الغيور .لم يكن هناك سوى اثنين من الذكور هما يون الذي كان مختفيا معظم الوقت ،وسرمد الذي وصل قرب انتهاء العرس. 57
ن إ�يل دمشق ج
أ ً ً ً كان عرسا للنساء فقط مختلفا تماما عن العراس المختلطة التي تحدث في فنادق دمشق». «ألم تقلقي على يون؟» «أقلق؟ أنا أبعد ما أكون عن ذلك! سيكون بخير .كل شيء سينتهي بشكل رائع .كانت قصة حب لطيفة حتى ظهرت آ نور! على كل حال ،حان الوقت لنمضي. أراهن أن هناك أسطوانة مشعة تنتظرنا الن». أ أ ً ومثل السطوانتين السابقتين ،احتوت السطوانة الثالثة أيضا على صحيفتين: [من أعماق الكثبان الرملية ستوقد نار ُت ُ ضاء لها نارفك ريشة – 8سنوات]. آ أ «انتهى المر ،يون لي الن!» «هكذا يبدو يا ريشة ولكن هذا فقط ما استطعت فهمه .أي كثبان رملية؟ وأين تقع نارفك؟» ً ً « يبدو اسم نارفك اسما اسكندافيا؛ عليك البحث عنه .ولكنني أعرف معنى إالشارة إلى الكثبان الرملية». «ماذا؟» ً «أثناء العرس أخذتني جين جانبا وقالت لي إنها ظلت قلقة على يون إلى أن أخبرها جودت بأن وظيفة مرموقة ُعرضت عليه في الكويت .أنت تعرف الكويت؟» ً «طبعا أعرف الكويت». 58
معر العمادي
«نعم ولكنك ال تعرف أين تقع نارفك». ُ ً «لماذا عليكن أن تك َّن جميعا متهكمات؟» «ومع من تجمعني بالضبط؟» «أكملي ريشة». ً أ جيدا ليون لنه يحتاج «قالت لي إنها تعتقد أن االنتقال إلى الكويت سيكون ُ إلى االنشغال عن مريم .وبالطبع جين ال تعرف بأنه عندما أنهي مهمتي معه سيواجه صعوبة في تذكر اسم أخته». «هل تعلمين أن لديك ونور الكثير من الصفات المشتركة؟» ُ «لماذا تغير الموضوع؟» «فقط أردت أن أخبرك بأن لديكما الميل نفسه للسخرية ،و بعبارة ألطف، خفة الظل!» ً «قد تكون هي ساخرة أما أنا فبالتأكيد خفيفة ظل .ذكية وجميلة .استمع جيدا إلى القوافي المتشابهة :ريشة ذكية ومليحة .لماحة وفصيحة». «توقفي». أ «إذن اسمح لي بأن أكمل الحديث عن رؤيتي المذهلة .إذا جرت المور على خير ،فسينتقلون إلى الكويت في نهاية شهر آب». 59
ن إ�يل دمشق ج
«هل ستذهبين إلى هناك؟» «هل سأذهب؟ من المفترض أن أذهب ،هل تذكر؟ ً خالل السنوات الثمانية القادمة سأسكن في أحاسيسه ،كلما التفت سيرى تجسيدا آخر لي حوله». ً أنسيتني العرس». «حسنا يا ريشة ..يجب أن أعترف بأنك ِ «ما عليك سوى أن َ َ وتسترخي وتراقبني! وال تنس أن تجد موقع نارفك». تجلس «إلى أين أنت ذاهبة؟» أ «سأغادر إلى الكويتَّ .. علي أن أتقدم للعمل في المدرسة المريكية هناك». «هل أنت جادة؟» أ ال كثر ً إغواء لطفل في العاشرة من أمينة مكتبة «عزيزي رقيم! ما هو الشيء جميلة؟» E
في وقت الحق في ذلك اليوم دخلت نور إلى كهفي وبدا عليها الغضب الشديد. ً ً مضمون هذه الصحف احتراما كامال، «أردت فقط أن أقول بأني ،نعم ،أحترم أ ولكن ال أرى أي منطق في أن تدمر ريشة كل الشياء الجميلة التي أنجزتها مع يون ومريم خالل العامين الماضيين! لماذا ريشة؟» أ «أنت تعلمين بأنه من غير الدب االعتراض على تعليمات الرسائل يا نور».
60
معر العمادي
«يبدو أنك نسيت بأن المالئكة قد أبدت اعتر أاضها على خلق آدم .بل على العكس إخفاء هذه المشاعر هو الذي ال ينتظم مع الدب الروحي». آ بمشاعرك ليكن لدينا يقين بأن كل شيء سينتهي بشكل بحت ِ «والن وقد ِ رائع». ً ً آ ««ينتهي بشكل رائع؟» الن أصبحت تتكلم مثل ريشة .شكرا كثيرا على مساعدتك». ً «انتظري .أحتاج إلى أن أسألك شيئا .هل لديك أي فكرة أين تقع نارفك؟» نظرت ّ إلي نور نظرة غاضبة وغادرت كهفي. E
ً أ أ يون متوترا في يومه الول في المدرسة المريكية في الكويت .كل شيء كان ً كان جديدا :المدينة والبيت والطقس والمدرسة والطالب والمدرسون .كل شيء كان يشعره بعدم االرتياح .وعندما علم بأن الحصة السادسة فترة فراغ قرر زيارة المكتبة ،لعله يستطيع نسيان كل هذا من خالل قراءة كتاب جيد.
أ الول .هل ّ تحب «اسمي مس تريشا ،أنا أمينة المكتبة ،البد أن هذا هو يومك أن آخذك في جولة في المكتبة ؟» فجأة انتقل يون إلى كوكب مختلف .كان هناك شيء ما لم يفهمه بشأن أمينة غريب في جوفه .عندما ينظر المكتبة هذه .فكلما وقعت عيناه عليها أحس بشعور أ أ إلى السفل يرى الصندل الخشبي بكعبه المرتفع ،وإلى العلى بلوزة قطنية سوداء تماشت مع شعرها البني الفاتح .ولكن ابتسامتها هي أكثر ما استحوذ عليه .تلك االبتسامة التي بدت و كأنها تقول« :تعال إلي .تعال إلي عندما ُيسيء الطالب معاملتك ..تعال إلي عندما تقرر مس جاكسون أنك دون المستوى المتوسط المطلوب في الرياضيات ..تعال إلي عندما تتجاهلك سارة التي تجلس بجانبك 61
ن إ�يل دمشق ج
لما تقول لها صباح الخير ..تعال إلي عندما تنهكك الكويت بحرارتها ورطوبتها.. تعال إلي يا يون وسأكون هنا بانتظارك». ً توقفت مس تريشا عند أحد الرفوف وبدا ليون أنها ًتشرح له شيئا عن مجموعة أ من الفالم ،ولكنه لم يسمع ما قالت ،وكأنه كان مستغرقا في استيعاب ابتسامتها. وفجأة سمعها تقول: «إذن ماذا قررت؟ هل ستبدأ بفيلم ابنة رايان أو فيلم الوسيط؟»
ً من يد مس تريشا قائال« :سأستعير هذا الشريط أخذ يون أحد الشريطين ً اليوم» .قال ذلك واستدار خارجا وهو يبذل جهده لئال يقع. ًوهكذا بدأت المرحلة التي كانت ريشة تحب أن تطلق عليها «تثقيف يون»، بالضبط. كثيرا ما ًكنت أظهر في منزلها في الكويت لتشرح ًلي ما كانت تفعله بالصبي ً فهي دائما قادرة على تبديد مخاوفي ،إال أن شعورا بعدم االرتياح لم يغادرني كليا. «ما الذي يجعلك تبدأين بتثقيفه بفيلم عن قصة حب بين بنت ريفية إيرلندية وجندي بريطاني؟» «هناك الكثير في فيلم ابنة رايان أ كثر من مجرد قصة حب عادية». «مثل ماذا؟» «مثل استعدادها لمواجهة كل شيء باسم حبها .روزي ،ابنة رايان ،تواجه شعبها ،ووالدها ،وزوجها ،والمهانة ،والخطر على حياتها وفوق ذلك حسها بهويتها، كل ذلك من أجل حبها». «ما زلت ال أستطيع أن أرى عالقة ذلك بيون».
62
معر العمادي
«انظر ،الكنا ال يعرف ما هي المهمة التي ستوكل ليون ،ولكننا نحن االثنان نعرف أنه سيواجه الكثير من المقاومة .فكل من يحاول إصالح أي شيء على هذا الكوكب ُي َ قاوم». «نعم». «وبالتالي فمن غير المستغرب أن َّ تقص مريم عليه قصة بشر الحافي .ال ّ عصري لقصة بشر الحافي». تضحك ولكن فيلم ابنة رايان هو تجسيد «ممتع .أنا متأكد بأن نور ستجد أوجه التشابه بينهما مثيرة». آ «ولماذا عليك ذكر نور الن؟» «ال تنظري إلي هكذا». «ما زلت أنتظر إجابة». «كنت أحاول أن أضيف على محادثتنا لمسة فكاهية .سامحيني لن أكرر ذلك مرة أخرى». «سامحتك ولكنني ما زلت أنوي دغدغتك».
أ ً كان خاطر الدغدغة من ريشة كافيا لتشتيت انتباهي عن خياراتها من الفالم. «في مكان ولكن فيلم ابنة رايان كان مجرد البداية ،وتبعه فيلم أ «الوسيط» وفيلم ً وأذكر أن آخر فيلم شاركته معه كان أكثر الفالم تأزيما ّبالنسبة ما في الزمن». أ لي :فيلم «الجيغلو المريكي»! وينبغي القول إني أحسست بالجزع من ِكل هذا، ريشة ملتزمة بتعليمات حتى أنني فكرت بإعالم وحي بأنه من غير الممكن أن تكون ّ تسكن روعي ،حتى أنها المهمة الموكلة إليها .ولكن مرة أخرى استطاعت ريشة أن ِ جعلتني أشعر بالذنب لمساءلتها. 63
ن إ�يل دمشق ج
«انظر ،يون فتى مراهق في الثالثة عشر من عمره وهو كجميع الشباب لديه الكثير من الخواطر الجنسية .ال تنظر إلي هكذا ،بالطبع ،لديه! نعم المراهقين ً اخترت فيلما بموضوع جنسي ،نعم فعلت ذلك ،ولكنه مجرد إطار .مرة أخرى، المضمون الحقيقي هو امرأة تضحي بكل شيء ،ثروتها وأمنها وسمعتها من أجل تحبه .الفيلم كله بالنسبة لي وكذلك ليون – أنت تعلم بأنني أتحدث الرجل ًالذي أ معه قليال عن الفالم التي أشاركها معه – يتمحور بأكمله حول المقابلة القصيرة بعد أن تعترف لين المتهم بجريمة وميشيل زوجة سيناتور مهم ً التي تدور بين جو ً للشرطة بأنهما كانا معا ليلة وقوع الجريمة .فعلت ذلك وهي تعرف جيدا بأنها تتخلى أعرف الحوار عن ظهر قلب عن كل شيء؛ حياتها بأكملها من أجل قصة حبها .أنا ّ يمكنهما من التحدث إال فهو يحدث في مركز الشرطة وبينهما حاجز زجاجي ال ِ بواسطة الهاتف». يقول جولين« :لم يكن عليك فعل ذلك يا ميشيل .كان بإمكانك نسياني». وتجيب ميشيل« :أفضل الموت على ذلك ».وعندها يسأل جولين« :لماذا فعلت ذلك؟» تقدم ميشيل إالجابة الجميلة المشابهة إلجابة بشر الحافي« :لم يكن لدي ُ َ خيار ».وتضيف« ،أحبك ».يسمع جولين ذلك ويلقي بسماعة الهاتف وكأنه غير قادر على تصديق وجود حب حقيقي كهذا ويهمس لنفسه: «يا إلهي! ...كم كان علي أن أنتظر حتى أصل إليك؟»
أ معه فيها أشاركها التي فالم فال في الحقيقة هي قصة بشر الحافي مرة أخرى. ً بشر خفي .جميعها تتميز باستعداد شخص لترك كل شيء والركض حافيا نحو قدره». «ريشة .أنا عاجز عن الالكم». «أريدك أن تردد ذلك في حضور نور!» E
ً ُ كانت كتب الفلسفة والدين تبهر يون .وغالبا ما كان يبحث فيً المكتبة في أثناء فترات مكوثه الطويلة هناك عن أعمال متعمقة في الفلسفة .وكثيرا ما كان يقرأ هذه 64
معر العمادي
َّ وكأنه يستعد المتحان ما .ومع أن ريشة الكتب ،بمساعدة القاموس ،بتمعن شديدَّ ، يهمها هو استعداده لقراءة لم تشجع هذا الميل لدى يون ولم تثبطه ،فإن ما كان ً الكتب التي كانت تختارها له .وقد اختارت من الكتب عددا أغلبها أشعار مع قليل من الروايات .وجعلته يقرأ باليك وجون دون ولورد بايرون وييتس– ما الذي جعلها تركز على الحركة الرومانسية؟ أ ً ً «لنها تتميز بالروحانية والحسية معا! تماما مثلي!» ً «رجاء كوني أكثر جدية». « رقيم ،ما أردته ليون هو أن يعايش تجربتهم للرحلة ،تلك الرحلة الجميلة معلمه الروحاني: السرد للنسان نحو قدره مهما يكن .مثل لرحلة ْ َ القرآني ْ موسى َ ْللقاء َ ُ ُ َ إ ْ َ َ ُ َ ٰ َ َ ُ َ َ ْ َ ُ َ َّ ٰ َ ْ ُ َ ْ َ ْ َ ْ ً َ َ َ (و ِإذ قال موسى ِلفتاه ل أبرح حتى أبلغ مجمع البحر ي ِن أو أم ِضي حقبا) .أليست هذه الرحلة نفسها التي يشير إليها جون دون؟ آالف يوم وليلة ِ امتط حصانك عشرة ً حتى يتساقط العمر شعرا أبيض على رأسك وعندما تعود من سفرك ُ ستحدثني عن جميع العجائب الغريبة التي صادفتك. أو وليام بليك؟:
ً الجداول اللطيفة بجانب أيضا طفلي الغالي ،أنا أ تجولت طوال الليل في أراضي الحالم، وعلى رغم هدوء الماء ودفئه، آ فإني لم أستطع العبور إلى الطرف الخر.
أو حتى لورد بايرون؟:
ً طفال بال ٍ ّ هم لو أنني كنت ما زال يقطن في كهفه المرتفع 65
ن إ�يل دمشق ج
أو يطوف خالل أالبراري الداكنة أو يقفز فوق الموج الزرق الداكن. ولكن ال يوجد أحد يقولها بشكل أجمل من ييتس!: تعال ،أيها الطفل! والبراري إلى المياه ً مع جنية ،يدا بيد فالعالم يسوده النحيب أكثر مما يمكنك فهمه». «أبيات جميلة ،متى تمكنت من حفظها؟» «لدى ذاكرة فوتوغرافية .أتذكر كل شيء أقرأه ،ولكن فقط إذا أحببته!» «مثير للغاية .سأتأكد من استخدام موهبتك هذه بشكل كامل .ولكنني ال أفهم َلم كل هذا التركيز على الرحلة؟» ً أ «لنه يا عزيزي رقيم عندما يصبح يون جاهزا ستبدأ رحلته .تذكر كلمات الصحيفة: ...ستوقد نار ُت ُ ضاء لها نارفك على فكرة ،نارفك في شمال النرويج». «أعرف .أعرف .بحثت عنها .ما الذي يمكن أن يأخذ يون إلى نارفك؟» ً ورجاء توقف عن التشكيك بأساليبي». «ال تهتم ستتولى مس تريشا ذلك.
66
معر العمادي
2 لندن – حزيران1980 ،
ً أول رحلة ليون كانت في صيف عام .1980فقد وجد إعالنا في المدرسة عن لندن .وكانت مس تريشا ،مسؤولة المكتبة فتح باب التسجيل لرحلة للطالب إلى أ الجميلة وأكثر إنسان مفضل على وجه الرض ليون في هذه المرحلة ،سترافق الطالب!
بعد حضور المسرحيات الغنائية إيفيتا والبؤساء وكاتس ،وبعد جولة في نهر التايمز وزيارة قلعة لندن ومتحف الشمع ،وتناول السمك والبطاطا المقلية الملفوفة بأوراق الجرائد في أثناء المشي في حديقة هايد بارك ،وبعد الركض لالحتماء من زخات المطر المفاجئة ...بعد أسبوعين من تناول وجبات الفطور والغداء والعشاء مع مس تريشا ...بعد كل هذاُ ،س ِم َح ليون واثنين من أصدقائه ،أديب وسمير، لقضاء أمسية في لندن وحدهم دون رقيب .نعم كان عليهم االلتزام بالئحة طويلة من التعليمات مثل العودة قبل الساعة الحادية عشر ،إال أنها كانت ليلة استثنائية للمغامرة واالستكشاف. في البداية تجولوا حول ساحة بيكاديلي .كانوا قد زاروا المنطقة من قبل ولكنهم وعندما شعروا بالجوع، أرادوا المرور أبهذه التجربة دون مالحقة أعيني مس تريشاً . أخذوا قطار النفاق إلى ساحة أوكسفورد لنهم سمعوا أن عددا من المطاعم الجيدة هناك .ولكنهم التهوا بالحديث مع بعضهم حتى فاتتهم المحطة المقصودة ،فنزلوا في االنحدار، الصغيرة والقديمة ،وصعدوا على درج متحرك شديد محطة ميدا فيل ً ً استغرق بلوغ نهايته قرونا .وعند خروجهم من المحطة الحظوا على يسارهم مطعما ً يابانيا اسمه شوزان. 67
ن إ�يل دمشق ج
بدا المكان وكأنه مقهى شاي ياباني .وقد استقبلتهم نادلة في نهاية العشرينات من العمر ترتدي كيمونو وجوارب بيضاء وطلبت منهم خلع أحذيتهم .ثم أخذتهم إلى إحدى الطاوالت الصغيرة بالقرب من النافذة .ولم يملكوا إال أن يبتسموا وهم يجلسون على حصيرة التتامي التقليدية .وبعد دقائق عادت ومعها ًالئحة الطعام، وبينما كانت تنا ًولها ليون ،وضعت يدها على كتفه وضغطت قليال .تفاجأ يون شخص يعتذر ً عن عمل غير واستدار مضطربا ليجدها تبتسم .لم تكن ابتسامة ً مقصود ،أو ابتسامة إنسان بالغ يريد أن يشعر شخصا أصغر عمرا بالراحة .الك، كانت ابتسامة امرأة تريد أن تؤكد له إعجابها به ولم ُ تبد أعليها ذرة شعور بالندم! وإذ لم يلحظ أصدقاء يون ما حدث فقد قرر هو تجاهل المر .ولكن فيما بعد ،عندما وصل الطعام ،وضعت يدها على رقبته من الخلف وداعبت أصابعها شعره .وعندما احمرت وجنتاه ولم يكن قد نظر إليها هذه المرة سألته إن كان يستمتع بطعامه .آ تذوق طعامه بعد ،وهز رأسه .ولكن أصدقائه الحظوا الن ما كان يحدث وانهالت مالحظاتهم الالذعة عليه: «لم نكن نعرف عن عالقاتك اليابانية!» «ما هو الشيء الذي يجذب النادالت إليك؟» أكل يون طعامه بسرعة وتمنى لو ينتهي كل شيء ،ولكن الكثير والكثير كان ينتظره .سألته النادلة متجاهلة أصدقائه« :ما نوع الحلوى التي تفضلها؟» .وعندما أشار إلى أنه قد شبع أوال يستطيع تناول المزيد قالت له« :إذن البد من أن تجرب الشاي «إنه الشاي الخضر مع الياسمين المعروف بمزاياه الشفائية». «نعم» أضاف أديب« ،إنه يتمتع بمزايا شفائية قوية ».عندها طلب يون الفاتورة ،وبعد دقائق قليلة توجه نحو الباب .ارتدى حذائه بسرعة وخرج من المطعم وانتظر أصدقائه .ولكن النادلة كانت أول من خرج من المطعم .وانطلقت نحوه آنئذ أن ما شد انتباه يون في لحظتها هو وكأنه حبيبها الضائع .والمثير للسخرية ٍ قدماها .فبمجرد الفكرة بأنها نسيت ولم تأبه بأن ترتدي حذاءها قبل مغادرة المطعم، هذه التفصيلة العفوية التي قد تبدو غير مهمة ،هيً ما استحوذ عليه إلى درجة أنه أصدقائه وسألوه لم ُي ِبد أي مقاومة عندما أمسكت بيده ليمشيا معا .عندما لحقه ً ّ عما يحدث؟ طلب يون منهم أن يعودوا من دونه ،ووعد بأن يتبعهم قريبا ،فذكروه بالمس تريشا وبأنه بذا يخالف تعليماتها .وكرر طلبه بأن يتركوه لشأنه ومشى مع ...؟ 68
معر العمادي
«ما هو اسمك؟» «ماذا تحبه أن يكون؟» «روزي .الليلة أنت روزتي .هل سمعت عن فيلم ابنة رايان؟» ُ تساءلت بيني وبين نفسي إن كان َّ بعد والذهاب عن يون متابعة عن التوقف علي ً آ فورا إلى لندن .فلقد أردت أن أسأل ريشة إن كانت تعرف أين يون الن .وبرفقة لكن مجرد التفكير بأنها ستقول لي من؟ وما الذي يبدو ُأنه على وشك القيام به؟ و ً بأنني لم أثق بها مرة أخرى منعني من التصرف وفقا لمشاعري. أ ركب يون والفتاة قطار النفاق إلى محطة ماربل آرتش ومن هناك استقال الباص رقم 159إلى ضاحية سترايثم في جنوب لندن ،حيث كانت تقيم ريشة والطالب .وفي الطريق ،ساد الصمت بينهما أغلب الوقت .وكلما نظر يون إليها كانت تقول« :بعد ً كل هذا الوقت نلتقي مرة أخرى ».كان يون يبتسم فقط ويهز رأسه ً .البد أن شيئا في داخله كان يعتقد بأنها مجنونة ،ولكن معظم اهتمامه كان منصبا على القدمين في الجوارب البيضاء. نزال بالقرب من حديقة كبيرة ًفي ستراثيم على بعد دقائق من البيت الذي كان يقيم فيه ،لكن يون لم ًيكن متوجها نحو المنزل ،فقد سار مباشرة باتجاه الحديقة حيث كان العشب رطبا مما جعل روزي ُ تخلع جوربيها وترميهما وراءها ،فنظر ّ ُ المرمية ،ترى ،هل كان يتساءل ما إذا كانت تترك أدلة وراءها؟ الجوارب يون إلى أ ونظر يون إلى السفل؛ هل كان يتساءل كيف تشعر قدماها الحافيتان بالرطوبة؟ منزو ً؟! وصال إلى هضبة صغيرة تغطيها شجرتا بلوط كبيرتان .لماذا ذهبا الى مكان ٍ حدق يون بروزي بينما بدأت ًبفك أزرار قميصه .أخذت تقبله بلطف وبطء ،أوال إلى على جبينه ثم على أنفه وأخيرا على شفتيه في لحظة بدا لي وكأنها استمرت ً ً أ البد .لم أهتم بردة فعل ريشة أ وقررت الوصول إلى الحديقة في ستراثيم فورا متنكرا أ ولول مرة منذ وصولي إلى الرض ،كقاطع طريق! وكل ما كنت أنتظره هو الخطوة سيد المفاجآت! لقد أبعد رأسه المحتومة التي ستتبع القبلة .ولكن اتضح أن يون ً عنها وأخفضه ثم وقف وهمس في أذنها ثم سار مبتعدا .لم تتبعه .هل كانت تتوقع أن يعود؟ 69
ن إ�يل دمشق ج
ً أسرع يون إلى المنزل ،فوجد أديب جالسا على عتبة الباب« .أين كنت؟ انه منتصف الليل!» تجاهله يون وصعد الدرج إلى غرفة ريشة .لم يطرق الباب .كانت جالسة على السرير تنظر إلى النافذة عندما دخل .انطلق نحوها ووضع رأسه على حجرها وبكى .وضعت يدها على عينيه وقالت« :إهدأ يا طفلي .إهدأ .أعدك بأن ينتهي كل شيء بشكل رائع». E
نارفك – تموز1983 ، ُفي صيف عام 1983انطلق يون في رحلة إلى نارفك ،في شمال النرويج حيث تبعد عن القطب الشمالي حوالي 220كمً .كانت ريشة قد عرضت على يون بالد شمس فكرة الذهاب إلى نارفك عندما شاركت معه كتابا بعنوان « النرويجً ، منتصف الليل ».وبعد ذلك جعلته يشاهد فيلم «الرجل الذي أصبح ملكا» الذي كفرستان في شمال شرق أفغانستان والتي تسمى يروي رحلة رجلين إلى آ مقاطعة ً ُ ْ الن نورستان .ألكن يون لم يب ِد تجاوبا .عندها قررت ريشة أن تعرفه إلى مايا ،طالبة في المدرسة المريكية وهي من أب سوري وأم نرويجية .ولم يكن التحدي هو إيجاد المكان المالئم لتعارفهما ،فالمكتبة كانت المكان المثالي لذلك ،وإنما كان ضمان االنجذاب المتبادل بينهما .كانت مايا خجولة ومتحفظة بطبعها ،فلم يكن لها بوي فريند من قبل ولم يظهر عليها أنها كانت تهتم بهذه الفكرة .ومن ناحية أخرى، واحدة هي ريشة .فهي لم تكن مجرد الوريثة الروحية لم يكن يون يهتم إال بامرأة ً والجمالية لمريم وإنما كانت أيضا تجسد أحالم ورغبات المراهقة لديه. قررت ريشة االعتماد على مايا بعد أن أدركت أن التعامل مع عدم اهتمامها بالشباب أسهل من احتواء اهتمام يون الجامح بمسؤولة المكتبة .وهكذا أوشكت على انتهاك الحدود المسموحة لنا ،نحن المالئكة ،للسلوك الذي نغرسه في البشر. نعم ،قامت ريشة بإيقاع «مايا» في حب يون. بتأن إلى حيث كان يون ًوفي مساء يوم في شهر شباط شاهدت مايا تمشي ٍ جالسا في المكتبة .كان من الواضح أنها ورثت عينيها البنيتين الداكنتين من شاحب .ابتسمت وجلست بطول قامة ولون شعر نرويجي أ والدها ،بينما اتسمت ً بجانبه .كان يون يقرأ كتابا بعنوان «وحدانية هللا – أالثر على الفكر والحياة». حدق فيها لبضع ثوان .ومثل جميع طالبات المدرسة المريكية في الكويت ،كانت 70
معر العمادي
ً ً ترتدي تنورة زرقاء داكنة وقميصا أبيض وشعرها كان ملفوفا في ضفيرة مربوطة إلى الخلف على شكل كعكة. «قالت لي مس تريشا إنك مهتم بالنرويج». «هل قالت لك ذلك؟» «نعم .أحب أن أتحدث إليك عن النرويج .إذ أمي من أوسلو عاصمة النرويج». «نعم ،أعرف». «تعرف ذلك؟» «أعرف بأنها العاصمة ،ولكن لم أكن أعرف بأن أمك من هناك». «هذا مضحك». ضحكت مايا بينما وضعت يدها ً على يد يون في ما بدا أنه تعبير عفوي عن مشاعرها البريئة .ظهر االرتباك واضحا على يون ،فهو لم يتوقع أن تكون لمسة يدها بهذه الرقة والدفء .وعندما أراد أن يتجاوب قال: «إذن متى سنبدأ بالتحدث عن النرويج؟»
أ استمتع يون بالوقت الذي كان يقضيه مع مايا خالل الشهر التي تبعت هذا اللقاء ً .وكانت رغبته في مشاركة أفكاره ومشاعره معها هو ما ألهمه لكتابة الشعر. وريشة .ولكن كانت ريشة حذرة من أن وأحيانا كان يقرأ القصيدة نفسها على مايا ً تجعله يشعر بعدم الوفاء الذي قد يسبب نزاعا في داخله .فقد أكان اهتمام ريشة أ الساسي هو ضمان بأن ما يحدث بين يون ومايا سيصبح حجر الساس لرحلة إلى «بالد شمس منتصف الليل». 71
ن إ�يل دمشق ج
ً وعلى الرغم من أن والد مايا كان متحررا من عدة نواحي ،إال أن فكرة التقاء ابنته مع يون ًبشكل منتظم لم يكن ليتقبلها بسهولة .ولكن كان لمايا أخ اسمه صديق يون .وأصبح باسل الحجة المثالية لزيارات يون «باسل» سريعا ما أصبح ً المتكررة إلى ًمنزل ًمايا .وغالبا ما كان الوقت الذي يقضيه يون مع مايا خالل هذه الزيارات قصيرا جدا .فحتى عندما لم يكن والدها في المنزل كانت والدتها وأختها تصران على إبقاء هذه الزيارات في إطار ما كان يدعي أنها زيارات لباسل .أ فقط في مرات نادرة كانا يلتقيان خلسة ًفي أعلى درج البناية .وكانا يجلسان على الرض بالقرب من باب السطح المقفل يدا بيد يتساءالن إن كان أحد قد الحظ صعودهما الدرج أو نزولهما فيما بعد. وأثناء الفترات الطويلة التي قضاها يون في غرفة باسل بانتظار أن تجد مايا حجة لدخول غرفة أخيها ،ولو لبضع دقائق ،تم التخطيط الدقيق لرحلة إلى «بالد شمس منتصف الليل ».وفي الحقيقة كانت والدة مايا هي من اقترح نارفك عندما اكتشفت اهتمامهما في زيارة شمال النرويج .وتبنى يون الفكرة بحماس شديد ً متذكرا القصص العديدة التي سمعها من ريشة. كانت مايا ستغادر مع أسرتها إلى أوسلو في نهاية شهر حزيران لقضاء إالجازة السنوية هناك ،بينما يلحق يون بها في منتصف تموز ويقضي معها وأسرتها بضعة أيام ،ثم يغادر مع باسل بعد أن يشتريا بطاقات قطار تمكنهما من السفر إلى أي مكان في اسكندنافيا لمدة أسبوعين .وكان أعليهما الوصول إلى نارفك قبل 18تموز وهو آخر يوم تكون فيه الشمس أعلى من الفق. قبل مغادرته إلى أوسلو بيوم واحد ،التقى يون بريشة في المكتبة:
ً «سأغادر غدا». ً «غدا؟» ً «نعم غدا». «إلى نارفك؟» 72
معر العمادي
«نعم». «أريدك أن تعدني بشيء». «نعم ،أي شيء تريدينه». «افتح يدك».
ً ً فتح يون يده وهو يحدق في وجه ريشة .وضعت فيها ظرفا صغيرا أصفر اللون وقالت: «عندما ترى شمس منتصف الليل أريد منك أن تفتح الظرف وتقرأ ما فيه من كلمات». للمكتبة .وتوقف هناك لبضع ثوان هز يون رأسه ومشى نحو المدخل الرئيسي ً وكأنه يحاول طبع صورة ريشة في عينيه ثم مشى خارجا. E
في صباح يوم السبت 16تموز ركب يون وباسل القطار ًالمتجه إلى ًأوسلو من تروندهايم .وقد استغرقت الرحلة سبع ساعات ،ثم ركبا قطارا آخر متجها إلى بالمكان الوصول إلى نارفك مباشرة من ستورالين على الحدود السويدية .لم يكن إ تروندهايم ،فكان عليهما السفر إلى شرق السويد ومن هناك إلى الشمال الغربي وصال إليها بعد أكثر إلى نارفك .ومن ستورالين سافرا إلى آنغ ومن ثم إلى بودن التي أ من إحدى وعشرين ساعة من السفر .كانا متعبين وجائعين ،والهم من ذلك غير قادرين على تصور فكرة ركوبهما في قطار آخر! وعلى الرغم من أنهما أصبحا على ساعات فقط من نارفك ،أصر باسل على قضاء الليلة في بودن وبعدها بعد ست ً ركوب قطار جنوبا إلى استوكهولم والتخلي عن نارفك وشمسها في منتصف الليل! «اسمع يا يون ..لقد اكتفيت من التمتع بالطبيعة .هي جميلة ولكن أريد أن أرى حضارة .أريد أن أكون في مدينة اسكندنافية حديثة!» 73
ن إ�يل دمشق ج
«وماذا عن شمس منتصف الليل؟» «هل آبإمكاننا أن ننسى «شمس منتصف الليل؟» لم يعد بمقدوري أن أسمع عنها بعد الن .انظر ،كانت الشمس بازغة ليلة أمس حوالي الساعة الحادية عشر ً ليال .فما الفرق بين ذلك ورؤية الشمس في منتصف الليل؟» أ «هذا ليس ما أتحدث عنه؛ إنها رؤية الشمس وهي تغرب فوق الفق». لن ترى ذلك إال في ًحال كانت السماء صافية ،وكل من تحدثنا إليه «يا رجل ً قال لنا بأنها غالبا ما تكون محجوبة بالغيوم». أ ً تردد يون قليال؛ فالنوم في فراش مريح في بودن وال كل في مطعم جيد في مدينة مثل استوكهولم كانت خواطر تتراقص في ذهنه .ومن جهتي ،عندما ُ بدأت أتساءل ما إذا كانت خطة ريشة على وشك االنهيار ،ظهرت فتاة بثوب أصفر فاقع. مشت على رصيف المحطة وكأنها تتمشى على منصة عرض أزياء .وبينما حدق يون فيها تحركت يده بشكل تلقائي ألتلمس ظرف ريشة في جيبه .نظر إليه بسرعة ثم أعاده .وقفت الفتاة ذات الثوب الصفر أمام يون وباسل. ً «عفوا ،ولكن هل تعرفان متى سيصل القطار المتجه إلى نارفك؟» ً كان سؤالها موجها إليهما ولكنها كانت تنظر إلى يون فقط.
أجاب يون: «سيصل بعد حوالي نصف ساعة ،أر بعين دقيقة بالضبط». ً ً «شكرا .هل أنت مسافر إلى نارفك أيضا؟» لم يتردد يون على إالطالق: «نعم ،بالطبع .نارفك هي وجهتي». 74
معر العمادي
لم يصدق باسل ما حدث وفتح فمه ونظر إلى يون بازدراء.
ً ً«حسنا ،أتمنى لكما رحلة سالمة إلى نارفك ».قال باسل هذه الكلمات ومشى خارجا من المحطة. جلس يون بجانب الفتاة التي كان اسمها «آنا» ،وتبادال القصص عن حياتهما َّ وأحالمهما .وقال لها بأنها ذكرته بامرأة كانت أكثر بكثير من مجرد مسؤولة مكتبة. وتحدثت آنا عن الجمال الذي كانت تتوقع مشاهدته في نارفك .لكن يون نام في الطريق ،وعندما استيقظ في محطة نارفك كانت آنا قد اختفت. أ في منتصف النهار، الثانية الساعة حوالي تموز من عشر السابع حد ال في يوم ً ً استأجر يون غرفة في فندق صغير في نارفك .وأخذ حماما آساخنا وتمتع باالستلقاء على الفراش المريح .ثم اخذ يفكر في باسل وماذا يفعل الن في بودن ،ومايا في منزلها في أوسلو ،ومس تريشا بين كتبها وأفالمها .وعند حوالي الساعة العاشرة ً مساء ً غادر يون غرفته .وسأل رجال في استعالمات الفندق عن أفضل موقع لرؤية شمس منتصف الليل. ً سيكون رائعا الليلة .السماء صافية للغاية .خذ تلفريك «في الحقيقة ،أي مكان ً إلى أعلى الجبل .إنه قريب جدا من الفندق وستحظى على مشهد رائع لشمس منتصف الليل».
وهكذا في ليلة السابع عشر من تموز وقف يون على جبل فاغرنيسفيليت المطل بدقائق قليلة ،عندما وصلت الشمس إلى أدنى وقبل منتصف الليل أ على نارفك .أ ُ نقطة لها فوق الفق ،فتح ظرف ريشة الصفر .صدم عندما وجد فيه قصيدة كان قد كتبها وقرأها لكل من مايا وريشة: قبل الغروب دقائق ٌ مالك ًمن السماء يهبط َ ليجمع عالما كان تحت الضياء يرقص فدع عقلك يرقص من أجل المطر وقلبك من أجل نافذة أما جسدك فمن أجل إطار 75
ن إ�يل دمشق ج
ً ولكن صوتا في داخلك همس أ من بعيد عما قريب ستتحد كل هذه الشياء E
ً ً ُ تساءلت لماذا كان على يون الذهاب إلى نارفك؟ لماذا نرسل شابا في كثيرا ما السابعة عشر من العمر إلى القطب الشمالي؟ ما هو الشيء الذي كان عليه تعلمه الروحي الذي التقى من هذه الرحلة؟ لو أنه التقى بأحد هناك ،أحد مثل المرشد ً به موسى في نقطة التقاء البحرين ،لو حدث هذا لكان ذلك منطقيا .فلقاء المرشد الروحي كان من الممكن أن يكون السر وراء رحلة طويلة كهذه .لكن يون ال يلتقي بأحد عندما يصل ،بل وتجعله ريشة يردد إحدى قصائده! آ ُ بحت بحيرتي إلى ريشة .وبعد مضي الوقت أدرك الن أنه ربما كان من أ الفضل لو لم أفعل. َ ُ َ «إذن ِلم أ ِرسل يون إلى نارفك؟» «ال أصدق بأنك تسألني .كنت أعتقد بأننا نحن االثنين فهمنا ذلك بوضوح!» «أنت تستفزينني». «أنا أحب أن أستفزك». ً أنت أيضا ليس لديك أدنى تفسير». أنك ِ «يبدو ِ «بالطبع لدي .مشاعري التي ال تخطئ هي التي وضحت لي الرسالة .كان على يون الذهاب إلى نارفك والوقوف بمفرده وترديد كلماته هناك .كان عليه أن يفعل كل ذلك من أجل تعلم درس خطير!» 76
«ماذا؟ أي درس؟»
معر العمادي
ً «في هذه الحياة قد يتوجب عليك قطع مسافة طويلة جدا ،ليكون الشخص الوحيد الذي ستلقاه في نهاية المطاف هو نفسك ..والصوت الوحيد الذي ستسمعه هو صوتك». ً «البد أنك تمزحينِ .ل َم َّ يتوجب على يون أن يتعلم درسا كهذا؟» يجب أن أعرف ما اختصاصي .إللجابة عنه «هذا السؤال لم يعد في مجال أ ُ ّ ُّ أ هي المهمة النهائية المقدرة ليون ،وما الذي يعد لجله .هل تعرف الجوبة عن هذه أ السئلة؟» «أنت تعرفين بأنني ال أعرف». ً «أحيانا أتساءل ...إنني أمزح». E
أ في آخر سنة له في المدرسة المريكية في الكويت ،كان من الواضح أن يون المكتبة ،فأتقن فن إالغواء ليصبح أكثر شباب المدرسة أمينة ً قد استوعب مهارات ً ً يرتدي قميصا قطنيا أسود اللون وبنطال أجينز أسود وحذاء أسود ،وكان شعبية .كان أ يزهو بشعره ً الشقر الطويل وجسده الممشوق ،والهم من ذلك بشخصيته التي الحسية وروحانية وليام بليك ،بحيث استطاع كانت مزيجا من جاذبية جون دون أ أن يجعل معظم الفتيات في عمره يتشوقن لي تفاعل معه .وعلى الرغم من أن مس تريشا بقيت مميزة في قلبه ،إال أن زياراته لها نحو نهاية العام كانت بدافع إطالعها على تجاربه ،وليس من أجل أن يتعلم أو يستلهم منها .فمن الواضح بأنه قد أتم تعليمه.
77
ن إ�يل دمشق ج
78
معر العمادي
3 ً وبتشجيع من ابن خالته «روبرت» قدم يون طلبا لاللتحاق بجامعة ماكالستر في مدينة سانت بول في مينيسوتا في أمريكا .ولم يقدم يون إلى أي جامعة أخرى. وبحلول شهر أيار كان قد حصل على رسالة قبول وعليه أن يغادر الكويت في تموز. وأعترف بأنني كنت في غاية القلق؛ فيون يتصرف بال أي رادع ،والتفكير في ذهابه وحضور الحفالت الطالبية ًالجامحة جعلني أتمنى أن وقت فتح إلى سانت بول أ الصحيفة الثانية من السطوانة الثالثة هو غدا وليس بعد خمسة أشهر .وفي ليلة من الليالي صارحت ريشة بمخاوفي.
أ «ما هي بالضبط الخطوط الحمراء التي ُ اليسمح ليون بتجاوزها؟ ما هي الشياء التي ال ُي َ سمح له بأن يفعلها؟» «أنت تسألني ،أنا مالك إالغواء ،عن الخطوط الحمراء؟ الخطوط الحمراء؟» «ومن غيرك أسأل يا ريشة؟ أنت المالك التي ترعاه لخمسة أشهر أخرى». أ «يبدو أنك تتمنى لو لم يكن المر كذلك!»
«أنا قلق فقط يا ريشة .أال تشعرين بالمشاعر ذاتها؟ لو ظهرت له في الحديقة مرة أخرى فتاة بدا عليها الشغف نفسه ًالذي أظهرته النادلة اليابانية فهل سيلجأ إلى حضنك مرة أخرى؟ أشك في ذلك كثيرا ..فليس لديه أي من ضوابط الماضي». 79
ن إ�يل دمشق ج
أ علي أن ّ َّ أوضح لك طريقة التفكير في هذا المر ،رغم ِ «من المذهل أنه يتوجب أ أنك المالك المسؤول عن ربط الحداث المتناقضة في حبكة تجاه هدف محدد! كيف بإمكانك أن تفترض بأن ضوابط الماضي هي التي تمنع يون من انتهاك هذه الخطوط التي تسميها حمراء؟ لو أخذنا باالعتبار كل ّ المهمات التي نقوم بها ،فهناك الكثير الذي ال نعرفه .ما الذي أحاول قوله هو »... «بكل بساطة ال يمكن أن يحدث شيء خطأ؟» أ «نعم رقيم .وليس لننا بارعان في عملنا».. أ بالضافة إلى عملنا فإن إالرادة إاللهية لها أدواتها الخفية التي تتدخل «لنه إ عندما ال نستطيع ذلك؟» «أو ربما وببساطة فإن الهدف النهائي ليون ال يمكن تعطيله حتى ولو عمل يون كل ما بوسعه للتنصل منه .هل تذكر يونس؟» «يونس الذي أخذ يون اسمه منه؟» «نعم يونس المذكور في الكتاب المقدس والقرآنّ .فهو يحاول التهرب من لينفذ مهمته النهائية وهي مهمته ليجد نفسه في بطن الحوت َّثم ُيلقى على الشاطئ ِ دعوة بلدته إلى التوحيد!» «بكلمات أخرى ،فإن مجرد محاولتك الهروب من إالرادة إاللهية هو تنفيذ ال شعوري لتلك إالرادة؟» آ أ والن َّ التحدث بهذه عن التوقف علي رقيم! يا ببالغة مر ال «لقد لخصت ً الطريقة وإال فسأبدأ بالشعور بأنني شخص آخر .وفي الحقيقة أشعر حاليا كذلك، ولست متأكدة من أنني أحب هذا الشعور». 80
معر العمادي
«نور؟» باليمان عزيزي رقيم ..وتوقف «نعم .نعم .رجاء ،يكفي التحدث عن نور .تمتع إ عن التفكير بالخطوط حمرائها وصفرائها!» E
ً ً لقاء عذبا .فقد وصل في تموز َّود َع يون الكويت .وكان آخر لقاء له مع مايا بيجامة قطنية زهرية إلى منزلها دقائق بعد مغادرة والدها إلى عمله .وكانت ترتدي ً الفطور ،وقفا عند الباب وتحدثا قليال .أمسك بيدها اللون .وبينما ً أعدت والدتها أ وكأنه يقول« :شكرا .أنا آسف لنني لم أتمكن من حبك بنفس الطريقة الجميلة التي أحببتيني بها». ً َ لريشة أكثر شغفاً .فلم يغادر المكتبة إال بعد أ أن جعلها ت ِع ُده بأن وكان وداعه ً تكتب إليه أسبوعيا وتتصل به هاتفيا مرة في الشهر على القل ،وأن تبذل كل جهدها لزيارته في سانت بول .وبعدها استجمع كل شجاعته َّ وقبلها على خدها، أشعر بقليل من سنوات من االمتنان ،ونعم! جعلتني ً قبلة طويلة عبرت عن ثماني ً الغيرة .ولم يكن يون يدري طبعا أن ريشة قد خططت للظهور مجددا في سانت بول ،وهذه المرة كإحدى المشرفات على السكن الطالبي. E
َّ َّ َّ عندما خطط بعها ات التي نفسها بالدقة بول سانت إلى لرحلته يون ط وخط ً ً أ اسكندنافيا .ولنه لم يكن يسافر إال برا وبحرا على متن لرحلته مع باسل إلى شمال أ السيارات والقطارات والسفن لنه كان ينزعج من فكرة الطيران ،فإنه غادر الكويت بالسيارة إلى دمشق مع أحد أصدقاء والده ،ومن دمشق استقل حافلة إلى طرطوس حيث ركب على متن سفينة شحن روسية كانت متجهة إلى ليماسول في قبرص. وهناك التقى بهادي أحد أصدقائه من الكويت حيث وصل قبله بالطائرة .وبعد قضاء عدة أيام في فندق تقطنه بشكل رئيسي بنات هوى من آسيا ،كان قد اختاره هادي ذو الشخصية اللعوب ،سافرا على سفينة متجهين الى البندقية .وبعد أربع وبعدها بأسبوع أخذا القطار إلى وعشرين ساعة بلغا مدينة الحب والرومانسيةً . روما حيث لعبا بأعصابي طوال إقامتهما فيها .وأخيرا ،ودع يون هادي في بداية شهر 81
ن إ�يل دمشق ج
ً آب وركب القطار قاصدا مدينة ساوثمبتون في بريطانيا .وبالطبع كان هذا قبل حفر نفق قناة المانش ،فقطع يون القناة َّ بالعبارة ومن ثم سافر بالقطار إلى ساوثمبتون بعد أ مرفئها إلى نيويورك من سيبحر كان يون ن ل توقف في لندن .لماذا ساوثمبتون؟ أ في الخامس من آب على متن الباخرة .QE2عبر يون المحيط الطلسي في ستة أيام من الرفاهية .وعند وصوله إلى مرفأ نيويورك ،كانت والدة يون وجدته وخالته وابن خالته بانتظاره .وبعد قضاء عدة أيام في منزل عائلة جين في نيو روشيل في ضواحي نيويورك ،سافر يون مع والدته على متن القطار إلى إيفنستن حيث تعيش أخت جين ،والدة روبرت ،ومن هناك إلى سانت بول التي وصال إليها في السادس والعشرين من آب عام .1984 ً كثيرا ما قلقت على يون في أثناء رحلته إلى سانت بول ،ولكن على الرغم من كلمات ريشة المطمئنة ،فإني لم أشعر بالقلق كما شعرت به في أثناء إقامته في روما .إذ هناك التقى يون بفتاة سويسرية ُت َ دعى بيتريس كانت تتنقل في إيطاليا. أ أ وبالمكان إلقاء اللوم على القدام! نعم القدام .وبشكل خاص قدمي فتاة تالمس إ المياه في نافورة «حوريات إالغواء» في ساحة «ديال ريبابلكا» .كان يون قد ترك هادي يستمتع بفنجان إسبريسو في مقهى قريب لكي يلقي نظرة عن كثب على النافورة .وبانتظاره وجد أربع حوريات نحتها ماريو روتيللي وحورية خامسة كانت بيضاء حليبية تستمتع بغسل قدميها ًبالماء بعد أن رفعت ثوبها فوق أركبتيهاً . بمسحة ورد .كنت دائما أعرف بأن يون ضعيف إزاء القدام .وكثيرا ما شاهدته وهو أن ريشة ً فهمت ما يحدث، يراقب قدمي أمينة المكتبة لساعات .ومما ال شك فيه ً فكانت تغير أحذيتها كل يوم .ولكن أال أذكر أنني رأيته يوما مفتونا لهذه الدرجة .هل بالثارة أم قدما هذه الفتاة وهي تالعب كانت حوريات روتيللي هي التي تمل الهواء إ الماء ،أم الكهما؟ وفجأة اقترب يون منها. ً «ما تفعلينه قد يكون خطيرا».
ً وأجابت بلكنة سويسرية ألمانية «خطيرا»؟ لماذا ،هل هو الماء؟» «ال ،إنها العيون». «العيون؟ عيون من؟» 82
معر العمادي
«عيوني» «أنا آسفة ولكن لم أفهم». أ استمررت في مالعبة قدميك الجميلتين في الماء فقد أضطر لن أدعوك «إذا ِ إلى جيالتو بطعم الليمون». ْ ْ َّ ابتسمت وهزت برأسها. واحمرت وجنتاها ثم ترددت لوهلة
ُ وبعد بضع دقائق ذهب هادي إلى وادي النسيان ،بينما الشاب والفتاة قد وصال بنكهة الليمون .وإن كان يون هو من بادر أفي هذا إلى مكان قريب لتناول جيالتو أ َ الحدث ،فإن الفتاة ذات الشعر الشقر المجعد قد استلمت بسرعة زمام المر. «هناك شيء ٌ ٌّ وحسي في جيالتو الليمون ،أليس كذلك؟» مثير «نعم». «هل تود تذوقه؟» «أحسب أننا نأكل الشيء نفسه ،ولكن بالطبع ُّ أود أن أتذوقه».
أُ َّ اقتربت منه وجيالتو الليمون يمل لكنها و فمه، في ملعقتها تضع أن يون ع توق ً وبجزء من الثانية قبلته قبلة لم يكن لها أمثيل أبدا ،لم يغمض يون عينيه في فمها، ً أثنائها تعبيرا عن مدى ارتباكه من اختالط الحاسيس التي عصفت به .وعندما انتقل الحديث إلى مكان إقامتها ومدى قرب الفندق الذي ًتنزل ًبه من هنا وكم كانت تود أن يرى المنظر من نافذتها ،كان َّ علي أن أفعل شيئا ..شيئا ال يمكن أن أعترف به لريشة. ً فجأة ظهر هادي وسأل «أين كنت يا يون؟» وبدا واضحا أنه غير مسرور برؤية بيتريس التي كانت تجلس في حضنه. 83
ن إ�يل دمشق ج
«كيف وجدتني؟» «لوال ألبيرتو ما كنت أحزر مكانك». «ألبيرتو؟ من هو ألبيرتو؟» آ «أنت تسألني؟ أنت الذي أرسلته إلي .هل نستطيع الذهاب الن؟ سعدت بلقائك .يا »... «بيتريس». آ «نعم بيتريس ،أنا آسف ولكننا مضطران إلى الذهاب الن». قال هادي هذا وهو يشد على يد يون ويغادرا المكان. E
سانت بول – خريف عام 1984 دخال حرم جامعة وصل يون ووالدته إلى مدينة سانت بول في نهاية شهر آبً . ماكالستير ومعهما صندوق أ أسود كبير .كانت جين قد سألت بعضا من صديقاتها وصديقات صديقاتها عن الشياء التي يحتاج إليها يون لبدء حياته الجامعية هناك، وكانت النصيحة التي أجمعن عليها هي شراء صندوق وجاكيت من الريش وحذاء مضاد للماء وألبسة داخلية حرارية والكثير ،الكثير من الكنزات الصوفية .لكن والرطوبة في شهر آب .وقد آثر يون أن ًال يجادل سانت بول كانت شديدة الحرارة أ هذا الصندوق السود أو محتوياته ،فقد كان متلهفا لخوض والدته حول وظيفة َّ َ الحياة الجامعية ،وفضل أن يحضن والدته ويشكرها على كل ما فعلته من أجله. ُ تحتاج إليها». «خذ هذه ،إنها أرقام هواتف قد 84
ألقى يون نظرة سريعة على الورقة.
معر العمادي
«المركز إالسالمي؟» ً «نعم ،اكتشفت بأن هناك مركزا في كولومبيا هايتس بالقرب من هنا». ً «شكرا ماما .الرجاء إعالمي عندما تصلين بالسالمة .أحبك».
ً ترك يون والدته في اتحاد الطالب تحتسي فنجان قهوة منتظرة سيارة أجرة على وشك أن تصل لتقلها إلى المطار .أما هو فتوجه نحو مقر إقامته في بناء دوبري وهو يجر صندوقه الثقيل ،ويتساءل ما الذي سيجعله يتصل بالمركز إالسالمي هنا في منيسوتا ،وهو الذي قلما ذهب إلى صالة الجمعة مع والده في الكويت؟ ولربما من خمسة أشهر سيقود السيارة إلى حي كولومبيا ما كان ليعرف بأنه خالل أقل ً هايتس في أثناء عاصفة ثلجية بحثا عن المركز إالسالمي! E
ً «اسمي ديبرا كوتش ،أهال بك في بناء دوبري .غرفتك رقم 201وشريكك في الغرفة اسمه كريس وهو شاب لطيف من نيو جيرسي». وكأنني سمعت يون يقول« :هناك شيء غريب بشأن ديبرا ».انتظر حتى بتفريغ محتوياته .وفجأة سمع صوت ألفيس الغرفة ثم فتح الصندوق وبدأ أ غادرت أ كوستيلو يمل الغرفة وهو يغني «من الفضل أن تنتبه لخطواتك» .كان كريس قد دخل إلى الغرفة وقام فور دخوله بممارسة طقوسه بالضغط على زر تشغيل المسجل. ً ً «مرحبا ،أنا كريس .أرى بأنه توجب عليك أيضا إحضار صندوق أسود؟»
«نعم .أنا يون». «يون؟» 85
ن إ�يل دمشق ج
«نعم إنه اختصار لالسم العربي يونس». ارتد ثيابك! لدينا ٌ كثير من الحفالت علينا «اسم جميل .اسمع ،استحم ثم ِ ُ حضورها الليلة ،سأكون دليلك الخاص .وعلى فكرة ،أتمنى أنك تحب ألفيس كوستيلو؟» «بالطبع ».في الحقيقة لم يسمع يون بكوستيلو من قبل! ً أ «حسنا لنني أستمع إليه طوال الوقت ،طوال الوقت!»
ً كريس عددا ال ُيحصى من الحفالت في سكن الطالب. وهكذا حضر يون بمعية أ يون يمضى أغلب وقته وحتى بداية الفصل الدراسي الول في منتصف أيلول كان أ مع كريس .وفي عدة مرات استيقظا وهما مستلقيان على الرض في أبنية سكن الطالب في جامعة مكالستير: «ما هذا؟ رأسك على كتفي!» «آسف يا رجل .أين نحن بالضبط؟» «في مكان ما في بناية واليس». «كيف وصلنا إلى واليس؟ ألم نكن في بيغالو؟» «بيغالو؟ لم تطأ أقدامنا بيغالو!» «قد تكون أنت في واليس يا رجل ،ولكنني أنا بالتأكيد في بيغالو!» E 86
معر العمادي
بناية تيرك شعر يون بحاجة إلى هواء طلق وقرر مرة في إحدى الحفالت في ً الخروج لبضع دقائق ،وهنا سمع أحدا يناديه وهو يتجه إلى الباب الرئيسي. « يون أنا وليد».
ً ً كان وليد طالبا كويتيا قد التقى به يون في مركز طالب الجامعة الدولي .وعلى الرغم من أنهما لم يعرفا بعضهما في الكويت ،فإن وليد أحب فكرة التعرف إلى شخص في سانت بول كان يعيش في بلده. ً «تفضل ادخل هذه غرفتي .استرح .هل تريد أن تشرب شيئا؟» ً «ال شكرا فقط بعض الهواء .هل تمانع في فتح النافذة؟»
أ الغرفة .كانت متوسطة الطول عريضة ال كتاف. دخلت فتاة ًإلى ً في تلك اللحظة أ كان شعرها القصير الحمر داكنا ومجعدا .وكانت ترتدي بيجامة نوم كحلية اللون أظهرت جمال بشرتها البيضاء .ولكن ما لفت نظر يون هو أنها حافية! لم ينطق يون بكلمة حتى عندما حاول وليد تعريفهما إلى بعض .لقد أسرته الطاقة التي حملتها معها إلى الغرفة حتى أنه لم يسمع وليد وهو يتحدث. آ ً ٌ أحيانا .انظر َّ إلي «هو عادة أكثر أدبا مما هو الن يا أماندا .وهو يستطيع الالكم يا رجل .هذه أماندا .غرفتها مقابل غرفتي». «أنا آسف ما زلت أحس بالدوار من الحفلة التي كنت أحضرها .اسمي يون». «يون؟ هل هو اسم سويسري؟» «ال ،البد أنك تفكرين بكارل يون؟» «نعم هذا صحيح». 87
ن إ�يل دمشق ج
«اسمي يون وهو مختصر االسم العربي يونس». «أثرت فضولي .أود سماع المزيد .من أين أنت؟» «في الحقيقة الموضوع معقد .بإمكانك القول من دمشق». «دمشق؟ ال يبدو عليك أنك من دمشق». «لذلك الموضوع معقد». «أنا أعشق التعقيد .هل تريد أن نتمشى ونتحدث؟» «نعم هيا بنا». وهكذا مشى بجانب أماندا التي كانت ترتدي بيجامتها الكحلية وهي حافية القدمين .تمشيا في شارع غراند أفينيو حتى ً متجر في نهاية الشارع ورجعا .لم يكن الماضي مهتما بآرائه حول الدين والسياسة والحياة أحد ممن التقى به يون في آ بشكل عام .لكن لم يكن هناك الن أي موضوع يهم يون لم تستطع أماندا التحدث إلى باب ً غرفتها لم يكن هناك هذا عنه بانفتاح وشغف مذهلين .وعندما وصال آ ّ سيقبل الخر أوال ،أو إذا كان على أحدهما الشعور آالغريب أو االرتباك بشان من ِ دعوة الخر إلى ً الدخول .هذه المرة كانت مجرد« ،لقد استمتعنا بهذا الحديث. علينا إكماله غدا ».خفض يون رأسه وألقى نظرة أخيرة على قدميها وعاد إلى بناية دوبري. عندما عاد إلى غرفته وجد كريس يالمس خصالت الشعر البني لفتاة جميلة. «يون أين كنت؟» «كنت أتمشى فقط». 88
معر العمادي
«هذه أنيكا من هولندا». ً «مرحبا أنيكا .هل تودان أن أعود بعد قليل؟» «ال ،ال رجاء َ ابق .كنت أحدثها عن هذا الطعام الغريب مع زيت الزيتون». هذا «الطعام الغريب مع زيت الزيتون» كان خليط الزعتر المطحون مع المنتشر في سورية مثل انتشار زبدة ًالفول السوداني في الواليات حبوب السمسم ً المتحدةَّ . لكن كان و لهما. الكعك من كيسا وفتح والزعتر الزيت من صحنا يون أعد ً يشعر بطمأنينة غريبة هذه الليلة فقد استرخى على فراشه وغط في النوم سريعا بينما كان كريس يقبل أنيكا وكوستيلو يغني «رجل خارج الزمن». E
أ متكررة .عرف أنها من بصورة في اليام التي تلت ،اجتمع يون مع أماندا ٍ ٍ سانت بول وأن والديها مطلقان ،وأنها َّ تربت عند والدتها ومع ذلك فهي تشبه والدها ً ّ حد كبير ،وغالبا ما كانت تتصرف مثله .وقد وصفت نفسها بأنها ديمقراطية إلى ٍ متحررة ،أمسيحية التربية إال أنها لم يعد بإمكانها االرتياح للمعتقدات التي نشأت والهم من ذلك أنها من مناصرات حقوق المرأة .ولم تكن موسيقى كوستيلو عليهاُ ، هي التي تسمع في غرفتها بل عزف جورج ونستون الراقي على البيانو. بالطمأنينة على يون منذ غادرت آمريم مثل ما شعرت تجاه عالقته لم أشعر َّ ُ وللسخرية ،فإن ريشة التي اتخذت الن شخصية ديبرا كوتش ،لم تحب بأمانداً . أماندا مطلقا .ولم أعد أستطيع أن أحصي عدد المرات التي حاولت فيها قطع حديثهما أعندما يكونان في غرفته .وهكذا قررت أن أزور ريشة في بداية شهر تشرين الول في بناية دوبري. «عزيزي رقيم أو هل أناديك ألبيرتو؟» «هل شاهدت ذلك؟» 89
ن إ�يل دمشق ج
ً «أنت تعلم بأنك لست الوحيد الذي لديه شاشة في ًكهفه! كنت وفيا مع قلبك ولكن البد أن تشعر بالحزن على بيتريس .لقد أفزعتها حقا!» «إنسي أمر بيتريس .ما هي مشكلتك مع أماندا؟» «أماندا .أماندا .ال أحبها ،هذه هي الحقيقة». «لماذا؟» وأعرف بأنه لم يعد «اسمع ،أنا أعرف أن وقتي مع يون على وشك االنتهاء، أ حتى لو بقي لي يوم واحد فلن أسمح لحد أن يطفئ لدي شيء أعلمه إياه ،و ألكن ُ النار التي بذلت الكثير لوقدها وأبقيها مشتعلة .ال أماندا وال غيرها». « ولكن لماذا تعتقدين بأن أماندا ستفعل ذلك؟» ُ كاف على أنه ال يمكن الوثوق بها إلبقاء «مجرد أنها تشعرك باالرتياح إثبات ٍ النار متقدة في يون .هل فهمت يا ألبيرتو؟» أ «فهمت .لدي سؤال واحد فقط ،من هي ديبرا كوتش في حقيقة المر؟» المفترض أن تصل هذا الخريف لتكون «ديبرا هي الفتاة التي كان من أ المسؤولة عن الطابق الذي يسكن فيه يون! للسف واجهت بعض الصعوبات في الوصول أهذا الفصل .هل سمعت بعدوى مونو فهي واسعة االنتشار في مناطق الغرب الوسط». ً رت هويتك؟» «حلو جدا! ماذا ستفعلين عندما يكتشفون بأنك ّزو ِ 90
«يستطيعون البحث عني في جبل الشيخ!»
معر العمادي
ً الواضح أن زيارتي باءت بالفشل .أصبحت ريشة أكثر إصرارا على أساليبها من أ المعادية لماندا .حتى أنها وجدت نسخة أمريكية عن مايا َّ وعرفتها إلى يون .كانت الطابق الذي يعلو غرفة أماندا في بناية تيرك. « ِللي» فتاة شقراء جميلة تعيش في ً وكانت عكس أماندا في كل شيء تقريبا .تتبع ّيون في كل مكان ،وال تهتم بأية ظل يون ورفقته فقط .ومن جهته، مناقشات فكرية على إالطالق ،قانعة بالبقاء ً في ِ فلم يمانع يون أن ًيكون في صحبتها خصوصا أن ِللي لم تطالبه بعالقة جسدية على كانت تمسك بيده وتقبله .ولكن في نهاية المطاف ،وعلى الرغم من أنها كثيرا ما َّ الرغم من استياء ريشة ،فإن الوقت الطويل الذي كان يقضيه مع أماندا لم يترك له أي وقت ل ِللي. ً من الليالي كان بالقرب من ليلة في تجاهها. ضعيفا فقط مرة واحدة بدا يون ً غرفتها فقرر زيارتها ليلقي التحية .لم يكن الباب مقفال كالعادة ،وعندما دخل وجدها تقف أمام المرآة ولم يكن ً على جسدها سوى منشفة حمراء .لقد خرجت من الحمام ّ للتو وكان شعرها مبتال .مشت نحوه من دون أن تتفوه بكلمة وأطفأت النور ،ثم قادته إلى فراشها وأشارت له بأن يجلس .ألقت بالمنشفة وبدأت ترتدي مالبسها .ثوب قصير فيروزي اللون ال ًشيئ تحته .وبعدها ارتدت جوارب بيضاء شفافة تصل إلى فخذيها .وضعت عطرا على عنقها من زجاجة كالفين الكين ثم جلست إلى جانب يون .ما حدث في الدقائق القليلة التي تلت ،أو بشكل أدق َّ كيف مر بها يون دونها فيما بعد في قصيدة: ْ توقفت إنها الدقائق التي لترسم دائرة أو لتنصب سارية فخطة إغوائها أفشت َّ سرك ً لم يكن بنيتك أبدا التوقف الدفء الرطب ،كان غايتك حتى الزمن نسجته في تلك الصفحة دقيقة و تصل إلى ركبتها ذاك الخط في ثالث تقطع َ الذي يفصل القماش عن الجسد َ اللعب عن الغزو َ البراءة عن المجون 91
ن إ�يل دمشق ج
لكن كيف فاجأك جرف الثلج؟ يدها على يدك تنهار لتحجزها ُ ّ ً تعيش معلقا؟ متى بإمكانك أن ً إلى ً ممنوعا من الدخول ومرحبا بك في آن؟ طالق ،حتى أن يون سحب يده وخرج ردة فعل ِللي لم تكن متوقعة على إال ً من الغرفة بسرعة .لماذا منعته ِللي ،ما زال لغزا لها وليون .فيما بعد كانت ِللي تخلد للنوم وهي تحلم بأنها تصرفت بشكل مختلف .ولكن َّ علي أن أعترف بأنني أنا الذي جذبتها في تلك اللحظة وجعلت ًيدها تندفع لتوقف يد ًيون .ربما ًلو لم أفعل ذلك لتوقف يون من ذاته .ولكن خالفا ًلريشةً ،لم يكن سهال علي أبدا استيعاب هذه أ الحداث بالرغم من قناعتي بأن شيئا خاطئا لم يكن ليحدث. أ ً ً ً وبالطبع ،كان المر مختلفا تماما عند مشاهدة يون وأماندا يزوران متحفا ،أو يحتسيان قهوة مع بقالوة في مطعم جافا التركي في وسط المدينة في منيابوليس، أو يمشيان عند الغروب إلى نهر الميسسيبي بالقرب من جامعة سانت توماس. كنت أحب أن أستمع إليهما وهما يستكتشفان آفاقهما الذهنية .ولم يكن كله مجرد الكم ،بل ترجما قناعاتهما المشتركة إلى قواعد حياة ،وحتى أنهما حددا االستثناءات التفكير في كيفية لتلك القواعد .وعندما ً اتفقا على أن أكل اللحم يتطلب تعطيل ً ذبح الحيوان ،قررا فورا أن يصبحا ْ نباتيين .فقط السمك كان مسموحا به .وعندما شاركت أماندا قصة عن صديقتها في الغرفة التي كانت على وشك الدخول إلى تناول المشفى بسبب كميات الكحول الكبيرة التي تشربها ،قررا التوقف عن أ الكحولية َ .ولكن هذا لم يكن ينطبق على مشروبات الكوكتيل لنها المشروبات ً ً ُ أوال لذيذة ،وثانيا ال تحتسى إال في مناسبات خاصة وقليلة. ومع اقتراب نهاية فصل الخريف الدراسي ،دعته خالته لقضاء إجازة عيد الميالد مع أسرتها في نيو روشيل .وبدوره دعا يون أماندا لمرافقته إلى هناك .كان سيغادر بعد قضاء ذلك اليوم مع أسرتها .وحتى في ذلك الوقت قبل يوم الميالد وهي ستتبعه أ لم تستسلم ريشة .في أثناء اليام القليلة التي قضاها يون في نيو رويشيل ،وقبل وصول أماندا ،كان يخرج أغلب الوقت مع ابنة خالته ليزا وأصدقائها ،واستطاعت ريشة أن تشعل في إحدى صديقات ليزا رغبة شديدة بيون جذبتها مباشرة إلى فراشه. 92
«كيف وصلت إلى هنا؟ أين ابنة خالتي بالضبط؟ ماذا فعلت بليزا؟»
معر العمادي
«ال شيء! هي نائمة .الجميع نيام .ال يوجد سوى أنا وأنت». ً ً ً «أنا وأنت؟» ردد يون كلماتها وقد الحظ أنها ترتدي شورتا قطنيا قصيرا زهري اللون وبلوزة بيضاء بال أكمام! «نعم» وبدأت تقبله. «هناك شيء البد أن أخبرك به». «أنت ترغب بي بقدر ما أنا أرغب بك؟» «في الحقيقة أنا ّ مثلي». لوهلة تجمدت ،ثم ابتعدت عنه وغادرت الغرفة من دون أن تنطق بكلمة.
93
ن إ�يل دمشق ج
94
معر العمادي
4 أ وصلت أماندا يوم الجمعة 28كانون الول .وبدا التجاذب الفكري بينهما ً من كان معهما ،لم أو فيه كانا الذي المكان عن النظر وبغض للجميع. واضحا ً يتوقف أماندا ويون عن الالكم .وأنا متأكد بأن ريشة كانت كثيرا ما تتساءل عن بالضافة إلى حبهما للحوار ،كانا سبب عدم نضوب الموضوعات التي يتحدثان فيها .إ ّ وبخاص ٍة المطاعم والفنادق .ومن َّثم يشتركان في ذوق رفيع ويحبان كل شيء ر ٍاق، َّ خط ُطا لقضاء ليلة رأس السنة في مدينة نيويورك .فجمعا ما لديهما من مدخرات، حيث كانت حصة يون أكثر من حصة أماندا ،ودفعا 225دوالر من أجل ليلة في غرفة جميلة في فندق والدورف أستوريا تطل على مانهاتن .ولكن الغرفة لم تكن مرتبطة بأي نية لتودد جسدي .مجرد أنهما بعد مشاهدة سقوط كرة رأس السنة وتناول وجبة عشاء فاخرة بحاجة إلى مكان راق يستريحان فيه. أ ً ً أتذكر تلك الليلة بوضوح .ارتدت أماندا ثوبا ضيقا من المخمل الحمر كانت قد أهدتها إياه جدتها .وبعد منتصف الليل بحوالي ساعة ،جلست أماندا ويون المنهكين في بيانو بار ليشربا بينا كوالدا وذلك بعد أن تمكنا من شق طريقهما ُ شعرت ازدحمت بهم ساحة التايمز .في تلك اللحظة خالل الجموع المنتشية التي ً بالحاجة إلى أ فتح الصندوق مجددا .لقد مضت ثماني سنوات وأصبحت الصحيفة الثانية من السطوانة الثالثة جاهزة للفتح: [رحلته إلى دمشق ستبدأ في هذه الليلة ،عندما يذوب القصر الثلجي تحت ضياء شرقي. نور – سنتان]. «نور عليك الذهاب إلى مدينة نيويورك».
95
ن إ�يل دمشق ج
«في ليلة رأس السنة؟ هل لديك أي فكرة عن مدى ظلمة الجو وثقله هناك؟» ُ دعيت يا نور .انظري إلى هذه الصحيفة». «لقد است ِ َّ آ علي الن أن أعود؟» «بعد ثماني سنوات من ريشة «نعم عليك العودة». «ما هو المنطق في ذلك؟» ً «حسنا ،هناك روابط بين الحاضر والماضي». «مثل ماذا؟» ً «في المرة الماضية التي دخلت فيها حياته فعلت شيئا ليون من خالل مريم. وهذه المرة ستكون من خالل أماندا». «أماندا ،هي القصر الثلجي؟» «نعم .ابنة منيسوتا أرض القصور الثلجية!» «وهي التي ستعيده إلى دمشق». ً «نعم ولكن من يعرف متى يكون ذلك؟ دعينا نركز على هذه الليلة .هما حاليا في بيانو بار».
96
ً «وكيف يكون ذلك محفزا على التغير الروحي!»
معر العمادي
«لقد اتفقنا على التوقف عن التهكم». ً ً «حسنا حسنا .سأغادر بعد بضع دقائق». «شخصية من ستتقمصين؟» «بشخصية من سأكون في بيانو بار غير نادلة؟ ولكنني أضمن لك بأنني لن أكون مثل النادلة التي التقاها مرة في لندن». «ليس لدي أي شك في ذلك يا نور». بشخصيتها الجديدة خرجت نور من كهفي .بعد دقائق ًقليلة كانت تتمشى ً «كارمن» في البيانو بار وهي ترتدي قميصا َ سوداء .وبدال عن غطاء أبيض وتنورة ً الذي كانت تغطي أشعرها به والذي لم أرها أبدا من دونه ،كانت الرأس المعتاد ً ً ترتدي منديال صغيرا من الساتان البيض. E
ً «هل تود كأسا أخرى؟» ٌ «بالطبع ،ربما كأس ثانية من البينا كوالدا؟» «أو المشروب الذي نشتهر به؟» «ما هو؟» «الهالل العربي». 97
ن إ�يل دمشق ج
«ما هو بالضبط؟» سألت أماندا وهي متشوقة. «سأجلبه لكما وستكتشفان ما هو». ارتشف يون وأماندا الشراب ،وربما كان بسبب شيء وضعته نور فيه أو لمجرد وجودها ،بدآ في التحدث عن الدين وبشكل خاص إالسالم. ً «لماذا ال تتحدث معي أبدا عن إالسالم ،أنت مسلم أليس كذلك؟» «نعم وال». «حدثني عن النعم». ً أ ً ُ ً «حسنا ،نعم لن االسالم زرع في داخلي عندما كنت صغيرا من شخص قريب جدا إلى قلبي». «من؟» «مريم ،أختي .كان لديها إيمان رائع باهلل». «حدثني عن هللا الذي تؤمن به». ُ «لديها رؤية هلل تشعرني باالرتياح والسالم». «حدثني عنها». «هللا في إالسالم له ثالث صفات رئيسية». 98
معر العمادي
«أصبحت تتكلم كأستاذ جامعة».
أ «البد أن ً هذا أثر الهالل العربي! على كل حال ،الصفة الولى هي التنزيه. هللا ليس جزءا من الفضاء أو الزمان .وال يمكن مقارنة هللا بأي شيء مألوف .فإذا َّ كأنه ٌ أب أو كأنه ٌ ابن أو ًبعبارات فيها تشبيه ،حتى لو استخدمتها تحدثت عن هللا ً لمقاييسك البشرية». مجازا ،فأنت تقعين في فخ وصف هللا وفقا ِ «وما المشكلة في ذلك؟» «إذن ماذا عن البنت التي اعتدى عليها والدها ،هل من العدل أن نطلب منها أن تتواصل مع هللا على أنه أب؟ وبعد ذلك عندما تبدأين بوصف هللا على أنه رجل أوروبي المالمح »... آ «أنت الن تهاجم ديني!» ً «مهال ،كنت أعتقد بأنك تعانين من خيبة أمل من الدين المسيحي». «نعم أنا كذلك .ولكن هناك اختالف بين قدرتي على النقد الذاتي وبين أن أسمح لك أن تنتقد الدين الذي نشأت عليه». «أماندا .أنا ال أهاجم الدين المسيحي على إالطالق .أنا أشعر بارتباط كبير بالدين المسيحي .أسرة أمي بأكملها مسيحية .كنت فقط أحاول شرح نظرة إالسالم أ بالثارة سألتني .دعينا نغير الموضوع ونتحدث عن سبب شعور الناس إ هلل لنك ِ لبداية عام جديد؟» «ال ،أريدك أن تكمل». «هل الحظت كم أصبحت هجومية؟» 99
ن إ�يل دمشق ج
آ «نعم أعرف ولكن على الرغم من ذلك ال يمكنك التوقف الن». « أماندا .ماذا يوجد في كأسك؟» «ال شيء! إنه فارغ وأنا في الحقيقة أريد المزيد».
ً ً استلمت نور الطلب وعادت فورا بكأس آخر .كان جميال أن أشاهد نور وهي تتعامل مع مسوؤل البار والنادالت وحتى المدير .لقد مارست في حاالت قليلة ً الناس عن وجودك الغريب بينهم ،وهو يتطلب تساؤل تعطيل وهو غشاء، ال جدا إ ً طاقة روحية مكثفة ولفترات قصيرة جدا وال أزال أذكر الشعور باالنهاك بعد تلك المرات التي لجأت إليه. أذنها وهي تضع الكأس الثاني من الهالل اقتربت نور من أماندا وهمست في أ العربي على الطاولة .ابتسمت أماندا وللمرة الولى في حضور يون احمرت وجنتاها. «ماذا قالت لك؟» «ال شيء يجب أن تعرفهً . رجاء استمر قبل أن أصبح أكثر هجومية». ً َّ «حسنا .كما كنت أقول ،إن تمثيل هللا في هيئة شاب أوروبي ،كما ُيمثل السيد المسيح في الغرب ،هو وضع قناع على هللا أقد ُيقصي آ الماليين من الناس التواصل معه .ماذا عن ال أفارقة والسيويين؟ هل عليهم الذين ال يستطيعون ببساطة أ أن يعتقدوا أن هللا اختار العرق البيض من بين كل العراق؟» «إذن ما هو القناع الذي يقترحه إالسالم؟» «هذا هو المغزى يا أماندا الذي أحــاول توصيله .ال يوجد أي قناع على إالطالق!» 100
«ال يوجد قناع؟»
معر العمادي
ً «ال يوجد قناع .في اللحظة التي نضع فيها قناعا فإننا ننتهك التنزيه». ً «حسنا ،انتقل إلى نقطة أخرى». ُ «نقطة أخرى؟ و كأنك تطلبين وجبة سر يعة من مطعم ماكدونالد!» «ال أظن أن هذه هي الطريقة التي يجب أن تتحدث بها مع امرأة تشرب كأسها الثاني من الهالل العربي!» أيتك بهذا المزاج من قبل» «ال أظن أنني ر ِ «إذا كنت تريدني أن أخرج منه استمر في الالكم». ً «الصفة الثانية هي الوحدانية .ربما كان علي أن أذكر هذه الصفة أوال .الكلمة أقوى حتى من الوحدانية .أية إشارة إلى وجود أي في اللغة العربية هي توحيد .فهي أ شيء إلهي أو مكافئ هلل غير هللا الحد مرفوضة ،كذلك فكرة أن الوحدانية يمكن، ً فالسالم بشكل أساسي نسخة من وحدانية نوعا ما ،تقسيمها أو توزيعها ،مرفوضة .إ ِصرفة غير قابلة للمساومة». «أنت تتحدث كأستاذ جامعة مرة أخرى». ً «أنت تصعبين علي التحدث وفي الوقت نفسه تجعلين التوقف َّ علي عسيرا». ً «تماما .أريد أن أشعرك باالرتباك». ً «لماذا تفعلين شيئا كهذا لشخص لطيف مثلي؟» 101
ن إ�يل دمشق ج
«الحقيقة؟» «نعم بالطبع الحقيقة». أ أ ً «لنك تتحداني ولول مرة منذ بدأنا نتحاور أمعا ال أعرف كيف أجيبك! ال أريد أن ًأدافع عن رؤية هللا أالتي تربيت عليها ،لنني كمناصرة لحقوق المرأة التي واجهت صعوبة في تقبل البعاد الذكورية لهذه الرؤية .آ دائما آ الكلمات القليلة ً َ َّ نطقت بها إلي الن استطاعت أن تفكك أساس رؤيتي هلل .والن إن كنت ذكيا ستتصرف وكأنك لم تسمع أي كلمة تفوهت بها وتستمر في الالكم». ً َّ بالمعية وهي الصفة المفضلة «حسنا ،والسمة الثالثة هي القرب أو الشعور لدي». «من علمك التحدث هكذا بالضبط؟» «أنا قارئ جيد يا أماندا .عشت لفترة طويلة في مكتبة المدرسة». «واضح ..أكمل». ً «الشعور بالمعية يعني َّأن هللا ٌ قريب جدا ،أقرب إلينا من قلوبنا .وهنا يلتقي إالسالم والمسيحية .وهكذا انتهيت ،دعينا ننتقل إلى شيء آخر». ُ ً ً بأنك جذاب للغاية عندما أعترف أن بد ال . ا ر كثي تعبك أ لم أنني أتمنى . «حسنا ً ً تتحدث مثل البرفيسور .هل أستطيع أن أسأل سؤاال واحدا فقط؟» «سؤال واحد فقط».
102
«لماذا كنت تعيش في المكتبة؟»
معر العمادي
ً «كنت مغرما بقدمي أمينة المكتبة». «هذه قصة أتشوق لسماعها». آ ً «حسنا ..ولكن دعينا نخرج من هنا الن .لقد مللت هذا المكان». E
«نور ،ماذا همست في أذنها؟» «هل من الضروري أن تعرف؟» «إنني في غاية الفضول». ً مكانك لما جادلته كثيرا». «قلت لها بأنه صيد ثمين ولو كنت ِ «وما الذي جعلك تقولين ذلك؟» «رقيم ،ألم تلحظ كم كانت هجومية تجاهه؟ أردت أن أصرف انتباهها عن التوتر الذي كان يتزايد في داخلها». «لذلك احمرت وجنتاها؟» أ ً ً «لنني لمست شيئا بداخلها منجذبا بشكل حقيقي ليون ،وال أعني الجانب الفكري فقط ». E 103
ن إ�يل دمشق ج
الليلة ومعظم الصباح في النوم في فندق أمضى يون وأماندا ما تبقى من تلك ً ُ أستوريا .ناما في فراشين مختلفين وحلما أحالما مختلفة .يون حلم ّبأن مريم تمسك بيد أماندا وتمشي مبتعدة بها .أ وأماندا حلمت بأنها تسجد كما يصلي المسلمون في التلفاز ،وعندما المس أرأسها الرض سيطر عليها شعور رائع ..شعرت وكأن السجود يسمو بجسدها نحو العلى .وعندما استيقظت ّ قصت حلمها على يون ،ثم أعلنت: «أريد أن أصبح مسلمة». أ ً «رجاء أماندا ال تتحدثي هكذا .ما تحدثنا عنه ليلة المس كان مجرد مناقشة مناقشات كثيرة سبقتها وكثيرة ستليها .حتى أنا ال أمارس إالسالم ولم أخرى مثل ً أكن كذلك أبدا». «من يتحدث عنك؟ أنت ال تفهم .ال أستطيع وصف هذا الشعور الذي شعرته وببساطة ال يمكنني تجاهله». «ولكنه كان مجرد حلم». «ال لم يكن مجرد حلم .كان أقوى من أي شيء شعرت به وأنا مستيقظة!» ً «حسناَ .لم ال نغادر الفندق ونتناول الفطور ثم نبحث عن مكتبة لديها ترجمة بالنكليزية.؟ وأعتقد أنه عليك التروي ومراجعة شعورك بعد أسبوع». للقرآن إ «دعنا نتناول الفطور ..ولكن يون عليك أن تعرف بعد أن أمضيت كل هذا الوقت معي بأنني عندما أتحدث بهذه الثقة فهذا يعني بكل بساطة أنني لن أغير رأيي». بالنكليزية. رجع يون وأماندا إلى نيو روشيل ومعهما ترجمة آربيري للقرآن إ ولما كان عليهما قضاء ليلة أخرى في نيو روشيل ومن ثم الطيران إلى سانت بول الغارديا ،فقد قضت أماندا ليلتها تلك في غرفتها تقرأ كتابها الجديد ،بينما من مطار ً فعل يون شيئا لم يفعله منذ زمن بعيد .اتصل بمريم.
104
معر العمادي
ً «مرحبا مريم». آ «يون؟ هل كل شيء على ما يرام؟ أين أنت الن؟» «كل شيء جيد .أنا آسف على االتصال في هذا الوقت المتأخر». «ال تقل ذلك .ما الذي شغلك عنا؟» «أماندا!» «من هي أماندا؟» آ «أماندا هي الفتاة التي ترقد في الطابق العلوي الن في بيت خالتنا والتي قررت أن تصبح مسلمة!» «ماذا قلت؟»
ً سرد يون قصة أماندا بالكامل كما عايشها .وعندما انتهى ساد الصمت .وأخيرا قالت مريم: تكون فقط مجرد نزوة تمر بها .ولكن إذا كانت صادقة فإن التعامل معها «قد ً سيصبح صعبا للغاية». «ماذا تقصدين؟» ً ُ َّ والحظت أن «لقد قابلت عددا من معتنقي إالسالم الجدد في لوس آنجلوس. يستحوذ عليهم بعد إسالمهم جدية يصعب على كثير من الناس التعامل معها ما ً وخصوصا إنسان بحساسيتك». 105
ن إ�يل دمشق ج
«هل أستطيع أن أعطيها رقم هاتفك؟» «بالطبع تستطيع». E
الطائرة التي عادت بهما إلى سانت بول ،قرأت أماندا ليون بعض آيات في ّ سحرتها قصة آدم وحواء التي تحدثت عن توبتهما القرآن التي أثرت فيها .فقد أ وبالتالي ُلم تطرح مفهوم الخطيئة الولى على خالف القصة الواردة في الكتاب المقدس .أعجب يون بالموضوع .ولكن عندما بدأت تسأله عن الخطوات التي يجب أن يتبعها أي شخص ليعتنق إالسالم ،نظر يون في عينيها وقال: سالم .صحيح أنني مؤمن وأشعر بارتياح شديد لنظرة «أماندا ،أنا ال أمارس إال أ مساعدتك ًفيما يتجاوز ذلك .في إالسالم هلل ،لكن هذا كل ما في المر .ال أستطيع ً الحقيقة أنا ًأعتقد أنه بإمكان المرء أن يكون مسيحيا ومسلما في الوقت ذاته .بل أنا كذلك نوعا ما». ً «حسنا أنا لست كذلك .لماذا ال تستطيع إالجابة عن سؤالي فقط؟» هز يون رأسه ووضع يده في جيبه وأخرج ورقة عليها رقم هاتف مريم .قال لها : «اسأليها» ثم التفت نحو النافذة. E
106
معر العمادي
5 في اليوم السابع من كانون الثاني عام 1985ركب يون وهو متردد وأماندا كلها إصرار في سيارة صديق لهما وانطلقوا من شارع غراند أفانيو إلى حي مرتفعات عاصفة ثلجية والتوقف عند عدد من كولومبيا .وبعد مضي ساعة من القيادة في ُ ّ َ المتاجر للتأكد من العنوان ،وصلوا إلى منزل قد ح ِول إلى مسجد صغير مع مقصف في القبو .وعندما دخلوا سألت أماندا أين تستطيع أن تنطق بالشهادة .قادهم رجل في متوسط العمر ذو وجه لطيف إلى قاعة الصالة .وإذ كانت أماندا ما تزال تغطي رأسها بقبعة معطفها فلذا لم يطلب منها أحد تغطية شعرها .جلسوا على السجادة وبينما كان يون يراقب العاصفة الثلجية من نافذة عليا ،رددت أماندا خلف الرجل: ً «أشهد أن ال إله إال هللا وأشهد أن محمدا عبده ورسوله».
انهمرت دمعة من عين أماندا بينما استمر يون في التحديق في النافذة. E
بعد هذا الحدث انقطع تواصل يونَّ مع أماندا؛ فقد كانت فكرة اعتناق أماندا إللسالم قد أأربكته وأتعبته .وبدورها ،فإن أماندا لم تالحقه أو تتصل به ،فقد كانت مشغولة بالحداث المتتالية في عالمها .ومع بداية فصل الربيع الدراسي َّكانت الجامعي إلى شقة مع فتيات ماليزيات ّتبن ْي َنها قد انتقلت من غرفتها في السكن ً يشكل لها وأكل لحم الخنزير الذي لم ِ بصدق .أوتوقفت عن شرب الكحول تماما ً مشكلة لنها كانت أصبحت نباتية .وبدأت أيضا تصلي خمس مرات في اليوم دون انقطاع .ولكن التغير الملفت للنظر كان ارتداؤها غطاء للشعر وثيابأ محتشمة. 107
ن إ�يل دمشق ج
أ وفي بداية شهر شباط شاهد يون أماندا للمرة الولى وهي بزيها الجديد عندما بأن الفتيات الماليزيات الثالث كانت تتحدث مع بعض صديقاتها .فقد الحظ ً الالئي كن يرتدين أوشحة ملونة قد أصبحن أربعا .لكن الفتاة الرابعة َّ لم تكن ماليزية .لقد كانت أماندا! إن مشاهدة أماندا وهي ترتدي غطاء رأسها أخل بتوازنه وأعاد إليه ّ سنوات .هذا هو الرابط عشر قبل الروحية وثورتها لمريم ذكريات ة عد أ أ الذي حاو ُ لت مرة أن ألفت انتباه نور إليه والذي كان له ال آثر القوى على يون. بطريقة ما ،الشيء الذي تعرف إليه من خالل مريم كان الن يشتبك معه مرة أخرى من خالل أماندا .وإذ كان قد فشل في تقدير إرث مريم فكأنه قد حصل آ وكأن السفينة التي فاتته مرة قد اقتربت مرة أخرى من جديدة. فرصة على ن ال ً المرة .لقد كان هناك الكثير هذه متنها على للصعود مستعدا شاطئه لترى إن كان أ المحك ،أكثر بكثير مما تستطيع أن تمحوه أغنية للفيس كوستيلو وحفلة في على أ نهاية السبوع مع كريس. ومع حلول شهر حزيران شعر يون بأن عالمه أو قدرته على االستمتاع به قد ُ كان ًمن المفترض أن يستمتع به في جامعة سلبا منه .كل شيء ..كل الجمال الذي ُ ّ للفنون الحرة مثل ماكالستير بدا فجأة ملطخا .لقد سيطرت أماندا على نظرته إلى أ الشياء .إلى متى يستطيع قلب االنسان أن يتمسك بما يناقض رؤيته؟ ُأجاب يون عن هذا التساؤل في تموز أعندما غادر فراشه في ظهيرة يوم أحد، حيث خرج من غرفته وذهب إلى الحمام ،ولول مرة منذ سنوات توضأ .كان الماء ً باردا فشعر باالنتعاشَّ .ثم عاد إلى غرفته وحاول أن يحدد اتجاه مكة .كان قد سمع أنه الشمال الشرقي .وبعد لحظات قرر أن يصلي باتجاه النافذة .أوصد الباب كي فجأة ،فقد كانت فكرة الصالة على أنغام ال يقاطعه ُكريس في حال قرر الدخول أ كوستيلو ال تحتمل .وعندما المست جبهته الرض دعا بصمت:
ً «ربي أنا أشعر بالتعب الشديد .أنا أعرف أنني لم أكن قريبا منك كما يجب. وأنا غير متأ كد من أنني أستطيع التغير .ساعدني».
دعاء يون الخاص ،كما أصبح يون يسمي هذه الصالة فيما بعدً ،لم يحفزه على التغير بنفس الطريقة التي تغيرت بها أماندا فحسب ،بل جعله أيضا يريد التقرب مرة أخرى .ولكن زيارات يون إلى أماندا كانت تقابل باستجابة باردة لم يكن إليها ً مستعدا لها .كان يتوقع من أماندا أن تفرح أبه بعد أن سمعت عن تجربته الروحية، لكنها أابتسمت فقط وقالت بأنها سعيدة لجله وهي تقف خارج باب منزلها .في بداية المر ّبرر يون البعد بينه وبين أماندا بوجود الفتيات الماليزيات ،ولكنه فيما
108
معر العمادي
ً أماندا قد أصبحت فعال تتعامل بشكل رسمي مع الرجال وهو من بعد الحظ أن ً ضمنهم .ولكن بدال من أن تتراجع ثورته الروحية قرر يون المضي بها بمفرده. طلب يون من عدد من أصدقائه الماليزيين الذين كانوا يستأجرون شقة بالقرب من الجامعة إالقامة معهم ،وبحلول شهر أيلول عام َّ 1985ودع كريس والغرفة رقم الخمس دون انقطاع أو تقطيع ،على 201غرب دوبري .وبدأ يون يصلي الصلوات ً ً رمضان الرغم من أنه نادرا ما كان يستطيع االستيقاظ باكرا لصالة الفجر .وعندما أتى ً في نهاية شهر أيار ،وبعكس كل توقعاته ،صام يون الشهر بأكمله .ولما كان أحيانا يلتقي بأماندا على مأدبة إالفطار التي كانت تقام في قبو قاعة العبادة في الجامعة، فإنهما كانا يبتسمان لبعضهما عن بعد ،دون أن يفكر باالقتراب منها وهي محاطة بكل هؤالء الفتيات. وبحلول ربيع عام ،1986كان يون قد تجاوز بنجاح كل امتحانات إالخالص التي واجهها .وكانت متعددة .وأكثرها صعوبة كانت تلك التي لها عالقة بالنساء. ففي مرة من المرات مشت فتاة مكسيكية كان يعرفها حافية على العشب ونادته باسمه ليرافقها ،بينما كانت أغنية برينس «المطر القرمزي» تنطلق من مذياع أحد وسألته فتاة أخرى في مكتبة «العقل الجائع» إن كان قد الطالب في الجامعةً . مارس الحب مع فتاة يوما وهي تقرأ الشعر .وكذلك فتاة ثالثة في قاعة الطعام قررت قرصه وهو يقف بالدور بانتظار طعامه! وفوق ذلك أحالم وأحالم في أثناء نومه عن فتيات كان يعرفهن وفتيات لم يرهن من قبل. «زهرمان» أحد الطالب الماليزيين ممن أ وفي آخر شهر أيلول ً 1986جاء أ يقيم معهم وناوله رسالة قائال« :يون ،الخت المريكية المسلمة تركت لك هذه الرسالة» .انتظر حتى أصبح في الغرفة بمفرده ليفتحها .كانت من أماندا .قرأها بتمعن وبعد أن انتهى وضع رأسه بين يديه .كانت أماندا قد عرضت عليه الزواج. كانت تريد أن تتزوجه وتبدأ «أسرة مسلمة». ً أحيانا أهم القرارات في حياة إالنسان ال تتطلب أكثر من بضع ثوان التخاذها. وهذا ما حدث .أخذ يون الهاتف واتصل بها: «هل قرأت الرسالة؟» «نعم». 109
ن إ�يل دمشق ج
«وجوابك هو؟» «نعم ،جوابي هو نعم». E
أ تم الترتيب لعقد القران في شهر كانون الول ،حيث سيكون هناك حفالن، حفل استقبال في قاعة العبادة ،وحفلة عرس في شقة أمانداً .واستطاع يون أن يقنع والديه ،جين أكثر من جودت ،بأن هذا الزواج سيعطيه حافزا أقوى للدراسة .أما والدا أماندا فكانا ما يزاالن يحاوالن التأقلم مع التغير الدراماتيكي في مظهر ابنتهما عندما سمعا بالزواج .فاعتناقها إالسالم لم يكن ما أزعجهماَّ ،فكما كان حال أسرة مريم من قبل ،فهما لم يتمكنا من تقبل غطاء الرأس .غير أن فكرة الزواج قبل الجامعة كانت قد زادت من شكوكهما بأن ابنتهما ،على الرغم من كونها التخرج من ّ متورطة في شيء غريب ،ربما طقوس سرية منحرفة .ومما ذكية ومميزة ،فلعلها أ يدعو إلى الدهشة أن المر الوحيد الذي طمأنهم هو يون .كانت والدة أماندا قد التقت به قبل اعتناق ابنتها إالسالم .فبعد أن امتحنته من خالل لعبة ورقية تعتمد المتناثرة» ًأحد الطقوس العائلية في على الذكاء الفطري «السعي نحو المعلومات ً ً وسط غرب أمريكا ،استنتجت أنه ً ليس رجال عربيا نمطيا بالمعنى المتعارف عليه، بل إنه على العكس من ذلك تماما! وصلت مريم وسرمد من لوس أنجلوس .هل كانت مجرد مصادفة أن يوافق عقد قران أماندا ويون الذكرى العاشرة لزواجهما؟ طلب يون من سرمد عقد قران َّ شرعي كما ًفي إال ًسالم ،مما يعني أنه ال يتطلب وجود رجل دين ،بحيث ُي َّثب ُت ُ تذهب الزواج الحقا قانونيا .قبل عشر سنوات بكى يون وهو ينظر إلى أول حب له ُ إنسان آخر ،ترى ما الذي كان يجول في خاطره في هذه الليلة الشتوية الباردة؟ مع ٍ أ المالئكة ليست لديهم القدرة على قراءة الفكار .هذا صحيح ،ولكن ذلك بحاجة إلى توضيح .إذ الحقيقة هي أننا ال نستطيع سماع الناس وهم يتحدثون ً مع أنفسهم ،ولكن حدسنا الذي هو أقوى بكثير من أي حدس بشري مرهف ،نادرا ما يخطئ في إدراك ما يحدث في الغرف المظلمة في العقول البشرية. أ عادة ما تعبر العراس عن اللهفة والتوقع والفرح والشغف .لكني شاهدت ً أعراسا تعبر عن الخوف والشك وحتى الحزن .يون لم يشعر بأي من هذا .كان 110
معر العمادي
يستشعر الحدث على أنه تصميم إلهي إلنقاذه! ولكن َّ مم كان يريد إالنقاذ؟ كان ً يريد إنقاذا منأ نفسه؛ من عودة مفاجئة ليون عازم على اقتالع الشجرة التي غرستها مريم ،وإلى البد. ً كان شعور يون الجمالي مرهفا لدرجة كانت تجعله يدخل في آمزاج سيء بالهانة لساعات بعد رؤية أشياء غير مرتبة أو غير جميلة .ولكنه لم يشعر الن إ أو االنزعاج من الستارة البشعة التي ًوضعت لفصل الرجال عن أالنساء بناء على التأقلم معه أبدا .ولم يضطرب من رؤية الحذية المبعثرة يستطع ً فهم للحشمة لم أ بالقرب من الباب لن أكثيرا من المسلمين المتدينين ،وخاصة الذين من ماليزيا، ال أ يسمحون بارتداء الحذية داخل المنزل .ولعل أغرب شيء كان هو المرأة المريكية المسلمة المتزوجة من رجل سعودي ًوالتي كانت على ما يبدو المسؤولة عن التصوير في هذه المناسبة .كانت ترتدي نقابا على وجهها ال يظهر غير عينيها، وطلبت من يون وأماندا أن يأخذا مجموعة من الصور في المطبخ! ً َّ زمن آخر ،كان مجرد شعور يون أن شخصا حوله غير مرتاح ،سيدفعه ً في أي ّ ٍ ّ حل إالشكال .وفي هذه الليلة عبر الكثير من الحضور أعن عدم ارتياحهم، فورا إلى ِ بما في ذلك جدة أماندا التي اعترضت على ً الجلوس على الرض ،ووالد أماندا َّ سرمد لم بأن د أك المرموق ،الذي كان أكثر دبلوماسية من غيره ،الذي المحامي ً ً ً يكن مخوال قانونيا إلجراء مراسيم الزواج؛ ووالدة أماندا ً التي كان واضحا عليها االرتباك مما يحدث ،قررت التزام الصمت والمغادرة مبكرا. راقب يون كل هذا إال أنه لم يشعر بأي دافع للتحرك .ولو ُس ِئل قبل عدة تتخللها شهور عن تصوره لعرسه لتحدث عن حديقة يابانية تنيرها مصابيح حجرية، ً بحيرات تطفو عليها زهور اللوتس وتعبرها أ جسور خشبية صغيرة .ولوصف احتفاال يحظى فيه ًالضيوف بمعاملة ملكية ،والطفال يطوفون أبه وهم يحملون الورود البيضاء .بدال من ذلك كان عرس يون في قبو ،وكان الطفال ال يتوقفون عن الشجار إال عندما كانوا يطلبون من أمهاتهم أخذهم إلى الحمام .ثوب أماندا ،الذي ثياب قديمة بقيمة 62دوالر هو ًالشيء ًالوحيد اشترته من غير معرفة يون من محل أ الذي استطاع يون التفاعل معه ،فقط لن اللون الوردي لم يكن لونا مألوفا لثوب عرس. أ ولكن في هذه الليلة لم تكن أ كل هذه المور تعني له أي شيء .كان الحصان ّ السفينة أي أهمية .كل ما كان يحدث على ّ الناري قد غادر المرفأ ،ولم يكن لي أمر ً يهم يون هو أن السفينة كانت متجهة بعيدا عن حياة ال تعظم هللا. 111
ن إ�يل دمشق ج
112
معر العمادي
صندوق لكل دافع
113
ن إ�يل دمشق ج
114
معر العمادي
1 [سيبحث عن الكثير من الطرق .ولكنها ستكون جميعها مغلقة بباب موصد. سور – 10سنوات] ُ أ كسرت السطوانة الرابعة .لم أشهدها تبدو بهذا كانت ريشة في كهفي عندما الحزن من قبل. «سور! لقد جاء اليوم الذي أفضل فيه أن تكون نور هي من ترعى طفلي». «ما زلت تنظرين إليه على أنه طفل؟» آ ً نواح ما زلت أراه طفال .ولكني الن سابدأ بالتفكير فيه كأسير. « نعم ،من عدة ٍ أسير في مملكة سور!» «ال تكوني بهذه القسوة على سور». أ«الموضوع ليس موضوع قسوة .ولكن من الصعب تخيل شعور أي حصان، وبالخص حصان ناري ،عندما يعترضه حاجز في تلك اللحظة التي يوقن بأنه على وشك الوصول إلى الحرية». 115
ن إ�يل دمشق ج
E
كان سور يرتدي نظارة فضية لها إطار أسود ً فوق العدسات مما أ يعطي االنطباع بوجود حاجبين فوق كل عين .وكان رأسه صغيرا وشعره القصير يمله الشيب .وكان ُ دخلت إلى كهفه. يتمعن في عدسة مكبرة عندما ً «أرى بأنك أصبحت مهتما بالبكتيريا؟»
«وما الذي يجعلك تعتقد بأنها بكتيريا؟ ولماذا ال تكون البالستيدات الخضراء في الخاليا النباتية؟ هل بإمكانك أن ِّ تخمن شكلها؟» «ليس لدي أدنى فكرة». «فكر بالشكل الذي أحبه أنا». ً ً «لم أكن حتى أعرف بأن لديك شالك مفضال». «هي دائرية الشكل». «هل هي كذلك؟» أ «نعم .كان عليك أأن تعرف بأنني أحب أن أرسم دوائر حول الشياء .عملي هو وضع دوائر حول الشياء». «على ما يبدو إننا بحاجة إلى مواهبك». ربما كانت كلمات ريشة أو مشاعري الخاصة هي التي جعلت ًمن الصعب ّ علي إطالع سور على ًالمعلومات التي كان يحتاج إليها ليصبح مسؤوال عن حياة يون .كنت أعرف تماما أين سيبدأ .وكأنني كنت أستطيع رؤية عينيه تتصوران خطة 116
معر العمادي
أ الولى أن ّ يوضح ليون بأن َّثمة عندما ً ذكرت بأن يون قد تزوج .كانت مهمة سور حدودا واضحة للحب بين البشر .وكان يعلم بأن ذلك سيدفع يون للوصول إلى هذه الحدود بسرعة ،ومحاولة معرفة إلى أي قدر يمكنه تجاوزها ،وعندما يتأكد من استحالة ذلك ،سيتخلى عن التجربة كلها. استغرق سور حوالي أسبوع لتوضيح حدود العالقة بين أيون وأماندا .نعم مجرد أسبوع .كل ما ًكان على سور القيام به هو عكس إدراكهما للشياء .كان على أماندا المعتنقة حديثا للدين االسالمي أن ترى يون على أنه يتآمر ضد التزامها الديني. فعندما طلب منها أن ترافقه إلى عشاء رومانسي ،حرص سور على جعل أماندا تركز بشكل كامل على أن المطعم يقدم ًالكحول ولذا فمن غير المقبول الدخول إلى مكان كهذا .وعندما اشترى يون لها ثوبا حرص سور على جعلها تركز فقط على الحشمة إالسالمية .أما بالنسبة ليون ،الشاعر الذي فشل الثوب في تحقيق مقاييس َّ أماندا ،ليست غير مستعدة بأن تطلق العنان يؤمن بقصة بشر الحافي ،فكان يرى أن ً لعالقة غير مقيدة معه فحسب ،وإنما أيضا غير حساسة ،إن لم تكن قاسية ،في كيفية التعبير عن عدم استعدادها. ً لم تكن مشاهدة يون وأماندا وهما يختلفان جميلة ،وحاولت جاهدا أن أتفادى شعوري بالمسؤولية تجاه الحصان الناري صاحب الصحف الذهبية ذلك .ولكن أ أعادني أمرة بعد الخرى إلى مشاهدة الشاشة .شعور يون باالغتراب ألجأه إلى دفء الريكة .نعم أريكة كبيرة خضراء حيث كان يقضي معظم ساعات الليل وهو يقلب محطات التلفزيون ًوكأنه نوع من أنواع الطقوس ًالعالجية .وكانت ًتكمن السخرية ًفي أنني كنت ملتصقا بشاشتي كما كان يون ملتصقا بشاشته .وأحيانا كان يأخذ دفترا ويبدأ بكتابة الشعر .ولكنه لم ينه إال القليل من القصائد: جاءت معها صندوق لكل دافع ووظيفة لكل رغبة ومضاد لكل خيال يتحور في ذهن شاعر حتى الساعة الخامسة كنت أبحث عن موطن أبحث عن ً موطن في داخلي آ الن ،أخيرا أنا مرهقِ :ش ٌعر وشاي أركض إلى ملجأي
117
ن إ�يل دمشق ج
ولكنه أال يستطع تذكري على الرض يقع الكمال مجموعة من الحرب والجنون درب يفصل بحر كوني ِش ٌعر وشاي أ الولى فاطمة كان لها ٌ ٌّ عاطفي شغله ،ولكن لم يكن لها أثر تأثير والدة ابنة يون حقيقي على تواصل أأماندا مع يون أو العكس .وكذلك فإن تخرج يون من جامعة ماكالستير آوانتقال السرة إلى فيالدلفيا والتحاقه هناك ببرنامج دكتواره في قسم الدراسات السيوية والشرق أوسطية في جامعة بنسلفانيا لم ُيحدث أي تغيير في طبيعة العالقة. ً َّ وعندما اطمأن سور بأنه قد وضع لعالقة يون وأماندا حدودا ال يمكن اختراقها، كان لديه انتقل إلى مهاجمة تجربة يون الدينية حديثة العهد .ومن الواضح أن سور أ هذا مشكلة مع أي شيء قد يحمل أدنى حد من القدسية في قلب أحد .لماذا؟ لن ً الموقع محجوز فقط هلل .وال حتى الدرب الذي ّيقود إلى هللا يجب ً أن يكون مهما الشرك وإن كان خفيا ،فإنه يتعارض لذاته ،وإال وقع إالنسان في شكل من أشكال ِ مع المفهوم النقي لتوحيد هللا .ومرة أخرى كان سور يعرف كيف يتغلغل إلى عقل يون ،الذي كانت لديه بعض الوساوس القهرية ،وبالتالي كان عرضة للوقوع في فخ ما يسمى بهوس الطقوس. على المسلمين أن يتوضأوا قبل أداء الصالة .ومن المفترض أن ال يستغرق الوضوء أكثر من ثالث دقائق .ولكن سور نجح في تحويل كل وضوء إلى لعبة ذهنية .وطالما وجد يون نفسه يتساءل إذا ما كان قد غسل ساعديه؟ وجهه؟ مسح رأسه؟ هل تأكد من وضع ًالقدر الكافي من الماء في أثناء الوضوء؟ فقط ليعود ويبدأ العملية من جديد .وأحيانا كان يون يخرج من الحمام بعد عشرين دقيقة من النزاع مع الماء .كل هذا أدى ّبالتأكيد إلى تقويض قدرته على االستمتاع بصالته ،إذ لم وعندما سع لتجربة روحية في خضم كل هذه الوساوس. يكن من السهل ايجاد مت ٍ ً في نهاية ًالمطاف للصالة لم تكن ثيابه مبلولة فحسب ،وإنما كان أيضا وقف ً يون ً مرهقا جسديا وذهنيا. التي كان يون يعاني من هوس الطقوس ،نضبت قدرته على وفي اللحظة ذاتها آ كيف استطاع تحمل هذا ّالسلوك لدى الخرين .وقد شاهدت ذلك كله وتساءلت ً يحول يون من شخص كان يرى في اللباس إالسالمي تعبيرا عن القوة سور أن ِ
118
معر العمادي
والجمال إلى شخص ال يرى في هذا اللباس أكثر من مجرد زي موحد! فكل ما كان على سور القيام به هو تجريد اللباس من الروابط الذهنية السابقة المتمثلة بالقبول به ٍ ّ إلهي ال ُيناقش. كأمر ٍ ً كان يون أحيانا يقف ويراقب أماندا بدقة وهي ترتدي ثيابها قبل مغادرة المنزل، فيرى في المشهد ما يثير السخرية ،السخرية الصامتة ،ولكنني كنت أستطيع أن َّ أحس بها بسهولة .فكانت أماندا تشعر بأن كل قطعة ثياب أترتديها ،من التنورة الطويلة ذات الطيات والجوارب البنية الداكنة ،إلى المعطف الزرق الذي حصلت عليه كهدية من مريم ،تؤكد على إظهار حقيقتها .أما بالنسبة ليون ،فكانت هذه الثياب تعمل على إالخفاء وليس على إالظهار ،والهدف النهائي منها هو التضحية بحسه الجمالي على مذبح حشمة أماندا. أ بالحاديث التي كانت ّ تعبر عن فضولهما وحب االستطالع لم تعد أماندا تهتم ً ِ لديهما .كانت قد وجدت ما تبحث عنه ،وغالبا ما شعرت بأن الحديث مع يون كان ً مباريات الكمية لم يعد لديها أي رغبة في لعبها .ومرة ،بينما هما في السيارة لزيارة ُ شاهدت يون وهو يكتشف مرة أخرى كم كانت أماندا تقاوم جدته في نيو روشيل أفكاره وكلماته. بحر من آ «أنت تدركين بأن كل هذه القواعد التي تتبعينها هي مجرد إبرة في ٍ الراء الفقهية في إالسالم؟» آ «ما هي القواعد التي نتحدث عنها الن؟» «أسلوب ثيابك ،وضوؤك »... «ال أعتقد بأن نموذجك في الوضوء هو ٌ أمر تريد التحدث عنه!» «هذا ليس مغزى الحديث». آ «أنت تعلم بأنني أقود السيارة الن؟» 119
ن إ�يل دمشق ج
ً ً «مثال ..لماذا أترتدين معطفا أزرق اللون فقط؟ كيف يمكن أن يكون أكثر حشمة من اللون الخضر؟» َ سمعتني أقول بأنه «هل من الممكن التوقف عن التحدث عن معطفي؟ متى أكثر حشمة؟» ً موضوع المعطف .لماذا تعتبرين وضع شجرة ميالد صغيرة في انسي ، «حسنا ً ً ً منزلنا أمرا مرفوضا تماما؟ الكنا تربينا في بيوت تضع شجرة الميالد». «عيد الميالد هو احتفال مولد ابن هللا .هل لديك أدنى فكرة كم يشعرني ذلك بعدم االرتياح؟ هل قلت لك بأنني في يوم تثبيت تعميدي في كنيسة أمي اللوثرية، بالسالم ،لم أتمكن من ترديد ذلك الجزء عن ابن هللا؟» قبل أن أسمع إ «نعم حكيت لي هذه القصة». «أرأيت؟ أنت تعرف كل قصصي ،فلماذا تتحداني باستمرار؟» ً «ولكن ليس علينا أن نراه بهذه الطريقة؛ أنا لم أنظر إلى الميالد كذلك أبدا. لماذا ال نعتبره مجرد والدة للسيد المسيح؟» هزت أماندا رأسها وهي ممتعضة من إصرار يون. «ألن تستمتعي بتزيين شجرة ميالد مع فاطمة؟» هنا شغلت أماندا الراديو لتستمع إلى رش ليمبو المذيع الساخر الذي كانت تستمتع بكراهيته .أما يون فالتفت إلى الخلف حيث فاطمة في ّ كرسيها الصغير، ونظر إلى ابنته البالغة الثالثة من العمر وهمس« :أنت تحبين شجرة عيد الميالد مثل أبيك؟» ابتسمت فاطمة وهزت برأسها. E 120
معر العمادي
121
ن إ�يل دمشق ج
122
معر العمادي
2 بعد تخرجه من جامعة ماكالستير في ربيع عام 1988بشهادة في العلوم السياسية ،انتقل يون مع أسرته إلى فيالدلفيا .فجامعة بنسلفانيا ،التي هي أقدم العشرة التي تشكل ما يسمى ايفي ليج ،أو جامعة في أمريكا وإحدى ً الجامعات ً بتوفير تجربة فكرية مثمرة .ولم يتطلع جامعات النخبة ،حملت معها وعدا مبطنا ً التجربة فحسب ،ولكنه أيضا ،وإن لم يكن ذلك بوعي كامل، يون بشغف إلى هذه ً أماندا. اعتبر هذه التجربة تعويضا لفشله في الحصول على العالقة التي أرادها ًمع ً جيمس ستاكس مشرفا أكاديميا هذه التطلعات كانت ًكلها قبل تعيين الدكتور ً ُ تساءلت ً فيما إن كان ليون ،وفيما بعد مشرفا على أطروحته للدكتوراه .وغالبا ما َّ ً ً فقد كان ًمؤهال تماما لتحقيق كل سور هو في الحقيقة من عين الدكتور ستاكس! ً قصيرا ،عريض المنكبين ،ذا ما كان سور يطمح إليه. كان الدكتور ستاكس رجال أ َ مذهل بوالدته اليونانية الصل ،وخاصة في مزاجها؛ حاجبين غليظين ،وعلى شب ٍه ٍ أوسطية .كان يون صغير السن اشتهر بنوبات الغضب ذات الصبغة الشرق أ فقد ً وصادقا في اهتمامه بالمعرفةً ،ولم يكن هناك ما يهيئه لن يعبث شخص ما بتجربته جامعة بنسلفانيا ،خصوصا إن كان هذا الشخص هو بروفسور في الجامعة في ً ّ أطروحته .وهنا استخدم سور أدب يون العربي الجم الذي ال يسمح ومشرفا على أ ٌ لثقافة له على احت َرامهم .فهو في النهاية ابن ٍ بأن ُيقول «ال» للشخاص الذين ًتربى ً ّ سوري ٍة تضفي على ً المعلمين احتراما خاصا .والمثل العربي يقول« :من علمني ً حرفا كنت له عبدا ».وأنا غير ً متأكد إن كان سور أم الدكتور ستاكس هو من الحظ هذه الخصلة في يون أوال .ولكنها كانت هي التي مهدت الطريق لكل ما حدث فيما بعد. طلب أالدكتور ستاكس من يون العمل مع فريقه على مشروع بحثي بتمويل من المجلس الوروبي عن العالقات التركية اليونانية .ولكن يون لم يكن لديه وصف واضح لمهماته ،وبسرعة أصبح الشخص الذي يقوم بجميع المهمات التي ال يقبل 123
ن إ�يل دمشق ج
أحد بالقيام بها .في البداية شعر يون بالفخر الختياره ،ولكن بعد أمضي أربعة أشهر جلس بمفرده في مكتب الدكتور ستاكس وهو يطبع صفحة تلو الخرى من دراسة الحقيقية بدأت في منتصف عام ال معنى لها وبدأ يشعر باالضطهاد .ولكن التسلية أ 1990عندما حان الوقت الختيار الموضوع المحدد لطروحة يون .استغرقت هذه ثالث جمل! رفض الدكتور على ً العملية ستة أشهر لكي يوافق الدكتور أ ستاكس ً اقترب يون من ستاكس الجملة التي تبين إشكالية الطروحة مرارا وتكرارا حتى أ بأكمله .وكان أكثر ما أحبطه أن ما وافق عليه الستاذ في التخلي عن المشروع ً ً النهاية ،كان مماثال تقريبا لما اقترحه يون في البداية. وفي خضم إالحباط العاطفي والفكري الذي وجد يون نفسه فيه ،وفي خضم الصحراء التي استمر سور في توسيع نطاقهاُ ،ولــدت واحة صغيرة ،وقد تلك ُ أ ُّ تفاجأت لن سور تركها دون تدخل .ففي أثناء إحدى والئم العشاء في جمعية الطالب المسلمين ،التي كانت أماندا تعشق حضورها ،وكان يون يمارس في أثنائها الذاتي كي يستطيع االستمرارَّ ، ّ ّ تعرف يون على شاب أصبح الذهني االسترخاء صديقه حتى النهاية. على بعد سنوات من اكتشاف فهم إللسالم وعلى الرغم من أنه كان ما يزال ً المسلمين الذين يشعره بالسكينة ،إال أن يون كان مقتنعا كل االقتناع بأن غالبية أ ّ مبادئه الفكرية والروحية الساسية .فعلى تعرف إليهم لم يكونوا على توافق مع أ يلتقي فيها الرجال، سبيل المثال ،كان يون يكره هذه الوالئم لنها كانت مناسبات أ ّ سطحي ضد الديان والطوائف وقد فصلتهم ستارة أ أ عن النساء ،لينخرطوا في هجوم أ ٍ المسلمة الخرى ،والهم من ذلك كله «المؤامرة المريكية اليهودية» ضدهم!! وبكل بساطة لم يستطع يون أن يستمد أي احترام لذاته أو اقتناع بحضور هذه اللقاءات .بل إنه كان يشعر بأنه محاط بالمنافقين .وكان يتساءل :أليست أمريكا هي التي وفرت لكم الحرية لعقد صالة الجمعة في الحرم الجامعي؟ وسمحت لكم بارتداء المالبس التي تختارونها؟ والتفاعل االجتماعي الذي تريدونه لمتابعة حواراتكم الفكرية؟ ونعم لتنظموا هذه الوالئم السخيفة؟ وحتى أن الكثير منكم يستقرون في هذه البالد ،ويحصلون على جنسيتها ،ويشترون منازل في ضواحيها، الخلفية ،ويحرصون على جمع كوبونات ويقيمون حفالت الشواء في حدائقهم ً التسوق في متاجرها .إال أن وجوهكم تشع فرحا عندما تهاجمون أمريكا والغرب. على العكس كان سيوافق أ بشكل كامل لو كان االنتقاد ولم ًيكن يون ليعترض ،بل أ فقد كان يعتبر بأن للسياسة الخارجية أالمريكية نحو الشرق الوســطً . موجها أ العربية االسرائيلية متحيزة جدا لصالح إسرائيل، السياسة المريكية تجاه الزمة أ حتى عندما تنتهك القيم إالنسانية الساسية .ولكنه ضجر من تلك االحاديث التي
124
معر العمادي
أصبحت كلها ،ومنذ بداية التسعينيات ،ضد أمريكا َّ بصورة وضد كل ما تمثله ٍ ُ قاطعة ال تحتمل النقاش! كم كان يتمنى لو استطاع أن يصرخ« :إن كنتم تكرهون ٍ بهذا القدر لماذا اخترتم العيش هنا؟» ولكن يون بشخصيته المرهفة هذا المكان ً كان يبقى صامتا ويبحث عن زاوية هادئة ينزوي فيها حتى نهاية العشاء ،وهو يحرك دائري شوكة الطعام في صحنه .وخالل إحدى هذه المناسبات ،وبينما كان بشكل ً يون جالسا بمفرده ،اقترب منه شاب وعرف نفسه باسم «طارق». «يبدو وكأنك تحاول الهرب ..وأنا ال ألومك». «آسف ..لم أفهم؟» «أظن بأنك فهمت .من الواضح أنك ال تستطيع المشاركة في حواراتهم .ولكن ال تقلق فأنا مثلك». «ولماذا؟» أجاب يون وكأنه يحاول امتحانه. «عندما أستمع إليهم أجد نفسي ،دونما قصد ،أعد كم مغالطة منطقية بإمكانهم ارتكابها .فتبدأ شفتاي بالتحرك بمفردهما :واحد ،اثنان ،ثالثة .وبعدها أرتبك وأتساءل إذا كان أحد قد الحظ ما أفعل».
أ لم يسيطر يون على نفسه وبدأ يضحك .ولعل هذه كانت المرة الولى التي يضحك فيها في عشاء لجمعية الطالب المسلمين! «إذن ما هي المغالطات المنطقية التي يرتكبونها؟»
أ «من أين أبدأ؟ ًهم يقارنون أفضل النواحي في ثقافتهم بأسوأ النواحي في الثقافة المريكية .هم دائما يبحثون عن مؤامرة .يبحثون عن مؤامرة حتى عندما تكون أ ُّ الدلة المتوافرة توضح بشكل ّ بالتوصل إلى قطعي عدم وجود مؤامرة .وهم يفتخرون ٍ موضوعية ّ ّ مبنية على افتراضاتهم الشخصية». استنتاجات 125
ن إ�يل دمشق ج
«نعم ،نعم .هذا هو بالضبط ما يفعلونه .فماذا تدرس هنا؟» «الجماليات». «هل أنت جاد؟» ً «و َلم ال أكون جادا؟ وماذا عنك؟» «في الحقيقة أ أنا التقيت بالكثير من المسلمين َّالذين ًيدرسون الطب والهندسة والمواد العلمية الخرى ،ولكن هذه أول مرة أسمع أن أحدا يدرس الجماليات .أنا أختص بالدراسات الشرق أوسطية». آ والن أريد «أنا درست ًهندسة ًالعمارة في جامعة ماساتشوسيس للتكنولوجياً ، أن أدرس تخصصا فلسفيا أكثر .الدراسات الشرق أوسطية تبدو ممتعة أيضا .ما هو مجال اختصاصك؟» أ «دور المؤسسات المدنية في الشرق الوسط الحديث .وعلى فكرة من أين أنت؟» «من مصر .ولكن أجدادي شركس من قبيلة بيسليني .لقد زرت بيسليني وهو مكان جميل بالقرب من البروس أعلى جبل في أوروبــا .هل سمعت بمجزرة المماليك؟» «هل تقصد المجزرة التي خطط لها محمد علي للمماليك عندما دعاهم إلى قلعته؟» ذلك كان في عام .1811وقد نجا شخص واحد فقط «نعم هذه هي وأعتقد أن أ منها اسمه أمين بيك وهو جدي ال كبر!» 126
معر العمادي
«أنت تمزح!» «هذه هي الحقيقة؛ وهناك قصة تشرح سبب نجاته». ً «كان مسلحا؟» أحد محمد ً «ال ًالسالح ًلم يكن ليساعدهً . قبل مغادرته بيته إلى دعوة ً علي كسر ً الخدم إناء صينيا باهظ الثمن ،وبدال من معاقبته ،كان أمين لطيفا جدا معه قائال: «انكسر ّ الشر»» «وبالتالي كان هو الذي حماه؟» «نعم .أجبر حصانه على القفز من فوق سور القلعة فنجا». «على فكرة ..هناك شعور سوريالي لهذه المحادثة بيننا». َ«نعم يا صديقي .زوجتي لن تصدق بأنني شاركت بحديث ذي معنى مع أحد الليلة». ابتسم يون .لم ُ يدعه أحد «صديقي» منذ مدة طويلة. وهكذا ولدت صداقة .وفي قبو المنزل الذي استأجره يون في ضواحي فيالدلفيا، أمضى طارق ويون ساعات طويلة وهما يناقشان مواضيع مختلفة من تأويل بول ريكور للمطلق إلى تعليق كارل يون على سورة الكهف في القرآن. كان من غير الممكن أن ًسور لم ًيلحظ ًهذه العالقة ،ولكن مما ال شك فيه أن قراره في تجاهلها كان قرارا مدروسا تماما .ولو أردت التخمين كنت سأقول ثانية كانت عالقة يون بأماندا جهة ٍ بأنه كان يحاول حماية يون من الضياع .ومن ٍ تحمل معها الوعد باندماج وجودي كامل ،لذا شعر سور بضرورة مهاجمتها .ولكن مع طارق حملت العالقة معها مجرد احتمال الراحة الذهنية .فبإمكان طارق أن 127
ن إ�يل دمشق ج
يتحدث عندما يحتاج يون لمن يصرفه عن ذهنه الذي كان يعج بالضجيج ،وكان بإمكانه االستماع إليه عندما يحتاج يون إلى من يصرفه عن قلبه الذي كان يتشوق إلى عالقة عاطفية. ُ استمتعت ومن بين القصص الكثيرة المرتبطة بطارق ويون ،هناك قصة واحدة بمشاهدتها .وهي إحدى الذكريات القليلة الحلوة في هذه المرحلة .ففي صيف عام 1992كان يون وطارق في خضم كتابة أطروحتيهما ،وكانت أماندا وفاطمة في دمشق في زيارة أسرة يون ،وريدانة زوجة طارق وابنها في القاهرة لزيارة أسرتها .كان طارق وكان المخطط كتابة ثالثة فصول من أطروحتيهما قبل عودة ينام في منزل يون ،أ أماندا وريدانة .على القل هذا كان المخطط قبل أن يظهر طارق في إحدى الليالي ومعه حوالي عشرة أفالم أجنبية. ً تصدق يا يون فقد وجدت متجرا في شارع تشيسنات .لديه مجموعة رائعة أ«لن أ من الفالم الجنبية من فيلليني إلى كوروساوا ،لديهم كل شيئ يا صديقي». «هل أنت جاد؟» ً وصلصلة تباسكو وبصل سردين ائع: ر عشاء ارتجال لدرجة جاد . جدا «أنا جاد ً وكوال! كل ما عليك القيام به هو اختيار الفيلم الذي تريد مشاهدته أوال».
أ الشرطة من الكيس َّ وتفحصها صعد طارق إلى المطبخ ،بينما أخرج يون باهتمام .بعد عدة دقائق اختار فيلمين لفيلليني هما «مدينة النساء» و»ثمانية لكن ،بعد أن أدخل الشريط في ونصف» .ثم اختار من بينهما مدينة النساء .و آ ً أن ما فعله طارق الن كان ًينبغي أن يحدث بعد جهاز الفيديو ،خطر بباله فجأة أ االنتهاء من جميع المخططات ال كاديمية التي وضعاها معا لهذا الصيف؛ حيث كل فيلم سيتبعه فيلم آخر ،وبعد كل فيلم سيكون هناك حوار فلسفي عن معناه، وقبل أن يدركا ما حدث ،ستكون أماندا وريدانة قد عادتا! ولكن ،ما من جدوى من أية محاولة للتفاهم مع طارق بهذا الخصوص .فقد كان التصرف في مزاج فيلليني ولن يتمكن أحد من إخراجه منه .وأدرك يون بأن عليه ً بسرعة ،فقد كان بوسعه سماع صوت قدمي طارق وهو ينزل على الدرج ،فأخذ مقصا كان على المنضدة ومن دون أدنى تردد ،أدخله بقوة في إحدى الفتحات في الجهاز، 128
معر العمادي
ً أ وأخرجه َّثم أدخله في الفتحة الخرى محاوال إحداث أكبر ضرر ممكن للجهاز دون تغيير مظهره الخارجي. ً «الوليمة أصبحت جاهزة! هل اخترت فيلما؟» «مدينة النساء». «نعم أحبه .دع العرض يبدأ يا صديقي».
أ ضغط يون زر التشغيل وجلس على الريكة بالقرب من طارق .وكم كانت بالمكان أن يعمل؟» أ وكأني أسمع يون المفاجأة عندما اشتغل الجهاز« .كيف إ يتحدث مع نفسه .ولكن بعد دقائق قليلة بعد بداية المشهد الول توقف الجهاز عن العمل .وكان طارق قد بدأ يأكل وقضم بصلة بيضاء حلوة عندما فتح عينيه وهو ال يصدق ما يحدث .وخالل الساعة التالية حاول طارق كل شيء إلصالح الضرر الذي أحدثه مقص يون ولكن دون جدوى. E
129
ن إ�يل دمشق ج
130
معر العمادي
3 استطاع يون بأعجوبة الخروج من أتجربة الدكتور جيمس ستاكس ،وحصل على شهادة الدكتوراه في شهر كانون الول عام .1993وأنهى طارق دراسته بعده بسنة .وبحلول شهر كانون الثاني عام 1994كان يون مع أسرته قد عاد إلى دمشق. فأماندا ومنذ سنوات اتخذت القرار أ بالعودة إلى دمشق لتكون بالقرب من تلميذات شمس التي وصفتها مريم بأجمل الوصاف .وكانت تتحدث باستمرار إلى صديقاتها عن نيتها تربية ابنتها وهي محاطة بنساء مثل مريم .ولكنها لم تخبر يون بذلك ،إلى أن وصل إلى نقطة الالعودة في كتابة أطروحته .عندها بدأت أماندا تقدم الفكرة يلحظ كم أصبح ارتباط أماندا بالتدريج .في البداية أصاب ًيون االرتباك .فهو لم ً بدرب الطريقة الشمسية قويا .كما أنه كان مضطربا بشأن عمله المستقبلي في دمشق .كان حلمه تعليم الدراسات الشرق أوسطية في جامعة أمريكية ،والعودة في نهاية المطاف أدرك يون إلى دمشق كانت تعني التخلي عن هذا الحلم .ولكن أ فالعودة إلى دمشق كانت إحدى الشياء التي لم تكن أماندا بأنها معركة خاسرةّ ، وسط بشأنها. حل ٍ مستعدة للتوصل إلى ٍ دمشق رأى حلمأ .وشكل هذا ًالحلم عندما بدأ يون يعتاد على فكرة العودة إلى َ أ َّ َّ المالئكة السبعة المؤشر الول للمهمة التي كان مقدرا ليون وأصحابي بالنسبة إلي ً أ أنه القيام بها؛ مؤشرا ربما يشرح الهمية الروحية ً المستقبلية لهذا الشاب .حلم يون ً مسؤوال موظف رفيع المستوى في دمشق .لم يكن متأكدا ما هو مركزه ،ولكنه كان أ أ كبيرة من ال ّ همية في ليلة الميالد في الجامع الموي درجة عن تنظيم حدث على ٍ ٍ في دمشق .وقد َّ ضمت الئحة الضيوف سفراء وموظفين حكوميين وعلماء دين وممثلين لكل الطوائف المسيحية في دمشق .كان يون ينتقل من مكان إلى آخر يبذل قصارى جهده ليتأكد من أن كل شيء على ما يرام .وبعدها أانتقل المشهد إلى الحدث نفسه .وقد ُوضعت منصة في منتصف باحة الجامع الموي وقف حولها أ الطفال ،البنات والصبية ،وهم يلبسون الثياب البيضاء ويحملون الورود البيضاء. 131
ن إ�يل دمشق ج
آ وكان يون الن على المنصة على وشك إلقاء كلمة افتتاحية .ولكن في الثانية التي كان على وشك الالكم فيها ،استيقظ من النوم وهو مرتبك .اتصل بطارق وطلب منه حديث مهم. أن يأتي إلى بيته من أجل ٍ «إذن ،كيف لي أن أفهم هذا الحلم؟» «دعنا نبدأ من النهاية .لو كان من المفترض معرفة مضمون هذا الحدث ،ما كنت لتستيقظ قبل بداية كلمتك». «ماذا؟» أ «استمع إلى يا صديقي .خطابك هو الذي كان سيشرح هذا الحدث .الكلمات الولى منه كانت لتوضح موضوع الحدثً ،ولكنك استيقظت وبالتالي نحن نعرف آ الن بأنك من غير المفترض أن تعرف شيئا». ً «إذن لماذا رأيت الحلم أساسا؟» أ «لنك كنت تتجادل مع زوجتك لمدة طويلة حول العودة إلى دمشق وأنت مقتنع كل االقتناع بأن هذا مشروع أماندا وحدها». «وهو كذلك». ً شيئا ذا ّ «استمع ّ أهمي ٍة ما ينتظرك في إلي .أنا ًأعتقد بأن الحلم يخبرك بأن أمر مهم يضم المسؤولين والسفراء وحتى الشخصيات دمشق .ستكون مسؤوال عن ٍ الدينية». أ «ولكن لماذا الجامع الموي؟» 132
معر العمادي
أ َّ الموي هو مجرد رمز لدمشق! فما الذي يمكن أن الجامع أن «ربما يا صديقي أ يرمز إلى دمشق أكثر من الجامع الموي؟ فهو بمثابة تمثال الحرية لمدينة نيويورك. ولكن المغزى هو أن العودة إلى دمشق لم يعد مشروع أماندا فقط ..هذا ما عليك فهمه». عن مقاومة محاولتها وكذلك ً توقف يون عن الشعور باالستياء من أمانداً ، وفي التاسع عشر إعادته إلى دمشق .وفجأة أصبح مشروع العودة مشروعا مشتركا .أ أ من شهر كانون الول عام 1993ركب يون وأسرته على متن الطائرة الردنية المتجهة إلى دمشق عبر عمان .وتساءل فيما إذا كان سيجد في دمشق ،أقدم مدينة مأهولة في العالم ،مغزى حياته الذي لم يجده في أمريكا .ولكن ما إن وصل يون حتى شرع سور في حملة محمومة لشل قدرة يون على أن يستمتع بأي معنى أو مغزى لحياته في دمشق. ً ً ُ ينزعج من جميع أوال ركز سور على المدينة بحد ذاتها .فقد كان يون كثيرا ما القصص التي كان يسمعها في فيالدلفيا عن خطف السيارات وحوادث إطالق ُ اتهن الرصاص المرتبطة بالمخدرات .وكانت قصص النساء اللواتي يختطفن مع سيار ً في ًمنتصف النهار شائعة في فيالدلفيا في التسعينيات .وكان يون يعرف صديقا عربيا يقود سيارة أجرة في المساء عندما أطلق عليه أحدهم رصاصة في الرأس، على الرغم من أنه كان قد أعطاه ساعته ومحفظته ،كما قال شهود عيان .وقد ُ اغت ِص َبت طالبة في شقتها التي كانت على بعد شارع واحد من الحرم الجامعي. كل هذه القصص جعلت يون شديد الخوف على أماندا وفاطمة .وكان دائم القلق في أثناء خروجهما من المنزل ،بغض النظر في أي وقت من أالنهار كان ذلك .لقد كانت إحدى أهم مزايا دمشق التي كان يتطلع يون إليها هي المان .ولكن بعد أقل من أسبوع من وصولهم ،سمع يون قصة غريبة نافست في رعبها أي قصة كان قد سمعها في فيالدلفيا ،كان َ محورها متجر يبيع مالبس نسائية في منطقة القصاع شرقي ُ دمشق ،وعندما تريد امرأة قياس ثوب تدعى إلى غرفة خلفية لتغيير المالبس حيث ُت َّ خدر .وقد كانت النساء الالتي يحضرن بمفردهن هن من ُي َ ست َهدفن .وبعد ذلك ً ُ يتولى ّ جراح بتر أعضاء من أجسامهن وتهريبها سرا من البلد ،بينما ترمى َّالجثث في خرابة بعيدة .ومع أنه مما ال شك فيه أن القصة من نسج الخيال ،غير أن يون وسمح لها بأن تسيطر على عقله .وهكذا ُد ِّم َر ْت صورة دمشق على أنها هذا سمعها آ المكان المن الذي كان من المفترض أن يهدئ روع شخص كثير القلق مثل يون! أ اهتمامه على الشياء المادية في حياة يون .كان والد يون سور أ وبعد ذلك ،ركز ً قد اشترى سيارة ومنزال لهذه السرة اليافعة ،شقة جميلة مطلة على حقل أخضر 133
ن إ�يل دمشق ج
المجاري في نهاية منطقة المزة .كانت أالشقة مكتملة بكل معنى الكلمة ،إال رائحة ً الكريهة التي كانت فجأة تملها .وكان يون يركض من غرفة إلى أخرى باحثا عن مصدر الرائحة .وكان شبه متأكد من أن الرائحة تأتي من المطبخ ،ولكن لم يكن هناك أي شيء في المطبخ يشير الى مصدرها .استخدم كل نوع من أنواع ملطفات الجو التي يمكن شراؤها ،حتى توسلت أماندا وفاطمة َّ إليه أن يتوقف .وكان عليه أن ينتظر سنتين ليعلم من عامل للمجاري الصحية أن مصدر الرائحة في حائط ٌ سائب لفتحة أنبوب متصل خلف خزانة المطبخ ،حيث كان على الحائط غطاء بخزانأ المجاري الرئيسي للبناية ،فكلما تحرك الهواء في داخل الخزان يدفع بالرائحة إلى النابيب المتصلة به لتنبعث فجأة في منزل يون. E
ً «كيف استطاع أن يفعل شيئا كهذا؟» أ «هل رأيته يفك غطاء النبوب يا ريشة؟» «أنت تعرف بأنه هو الفاعل يا رقيم .وال تبدأ بالتحدث عن مهمته .ال أستطيع أن أفهم كيف يمكن تبر ير تعبئة منزل شخص برائحة المجاري».
ً وحصل يون أيضا على سيارة مرسيدس حديثة طراز 200لم يستعملها أحد منذ 4000كيلومتر. أن اشتراها والده في عام ،1990وكان مؤشر عداد السيارة أقل من ً ووجد في ر ًائحة الجلد الطبيعي لمقاعدها تعويضا عن رائحة وقد عشق يون السيارة ً المجاري في بيته .ولكن شيئا غريبا كان يحدث للسيارة عندما يقودها على الطريق بسرعة العام ،حيث كان محركها يتوقف فجأة .وعندها يحاول يون توجيه السيارة َ وأرسلت نحو طرف الطريق ليتفادى الحوادث الخطيرة التي كانت توشك أن تقعِ . السيارة عدة مرات إلى مرآب الصيانة الرئيسي لشركة المرسيدس ،حيث تأكد رئيس الشركة بنفسه من عرضها للفحص على مهندسين ألمان من أجل إرضاء والد يون ،ولكنهم لم يجدوا أي عطل فيها يفسر توقف المحرك المفاجئ .وفقط بعد فترة طويلة ،عند إرسال السيارة إلى ميكانيكي ّ مسن في دمشقُ ،ح ِّد َد السبب. ٍ كان المحرك يتوقف لالنقطاع المفاجئ لتدفق البنزين إليه .ولم يكن الجاني سوى قطعة صغيرة من الصدأ كانت تعوم بحرية في خزان البنزين ،ولكن إذا قررت أن 134
معر العمادي
َّ ً البنزين ،وبدال منه يتدفق الرعب الذي تلتصق بفوهة المحرك الداخلية ينقطع تدفق أ يستحوذ على يون وهو يحاول توجيه السيارة نحو المان. «هذا عمل إجرامي .ولو كنت مكانك الستدعيت وحي وأخبرته بكل ما يحدث». «أستدعي؟ ريشة أنت تعرفين بأنني ال أستدعي وحي». «ولكن كان من الواضح أنك فكرت في ذلك عندما ُ كنت أحاول تعليم يون. هل تعرف بأنه كان سيتسبب في قتله؟» «الصدأ كان المسؤول عن توقف السيارة المفاجئ وليس سور». «نعم قطعة بريئة من الصدأ قررت منع تدفق البنزين في الدقيقة نفسها التي كان يون يقود السيارة في شارع عام! ال يمكن تصديق ذلك!» ولكن لم يكن هناك أي شيء قام به سور َ أشعر يون باالغتراب أكثر من الوظيفة التي حصل عليها في النهاية .أراد يون التدريس في جامعة دمشق ،وإذا لم يتيسر له ذلك ،ففي مدرسة دولية هناك .ولكن جودت ،والد يون ،كانت لديه خطط أخرى. كان جودت قد عاد إلى دمشق في عام 1985ليتسلم منصب وزير لالقتصاد .كان يتمنى البقاء في الكويت ،ولكنه ًشعر بالرضى عندما استطاع لدى عودته إطالق سراح ابن اخته أالذي كان معتقال النتمائه إلى إالخوان المسلمين .أوعلم جودت مكتبه بأن ً منظمة ً المم المتحدة من مسؤول في المم المتحدة كان قد زاره في ً للتعليم والثقافة والعلوم (اليونيسكو) قد افتتحت مؤخرا مكتبا إقليميا لها في دمشق، وكانت تبحث عن شاب سوري حاصل على شهادة من جامعة غربية للعمل فيه. لموظف منصب يمكن وظهر إعالن عن َ ُ وظيفة لمسؤول وطني للمنظمة ،وهو أعلى أ محلي الوصول إليه .أعجب جودت بفكرة عمل ابنه مع المم المتحدة ،وبدأ بالضغط على يون وعلى أي شخص بإمكانه أن يؤثر على يون ،بما فيهم جين أنجلوس ،إلقناعه بالتقدم إلى وأماندا وحتى مريم التي كانت ال تزال في لوس أ هذه الوظيفة .وجادل يون بأن هذه الوظيفة في نهاية المر ما هي إال وظيفة مكتبية تنحصر في إدارة بعض الموظفين ،ولكن الجميع رفضوا حجته .وهكذا تقدم يون 135
ن إ�يل دمشق ج
ً أ سيدركون بسهولة بأنه ً المم المتحدة ُ بناء للوظيفة معتقدا بأن المسؤولين العقالء في على معايير فحص أنماط الشخصية التي وضعها كارل يون ،فإن شخصيته التي والدراك» ال يمكن هي من نمط INFPالتي تتسم «باالنطواء ،والحدس ،والشعور إ أن تكون مناسبة لهذا النوع إالداري من العمل .ولكن يون بشهادة الدكتوراه من جامعة بنسلفانيا ،وإتقانه اللغة إالنكليزية وصالته االجتماعية الرفيعة حصل على الوظيفة مباشرة .وهكذا أصبح يون المسؤول الوطني لمنظمة اليونيسكو في دمشق. بالسكرتير/المحاسب/المدقق اللغوي المبجل. وكان يون يفضل أن يصف نفسه أ فقد كان يحدد مواعيد االجتماعات للخبراء الجانب الذين يزورون دمشق ،ويعد ّ الفصلية للمكتب ،ويتأكد من خلو التقارير التي كان يعدها هؤالء الميزانيات أ والمالئية. الخبراء من الخطاء اللغوية إ ُ فرض على يون أن يمر بكل هذه المواقف الصعبة ،ولم يكن هناك هذه المرة طارق أو أي صديق آخر ُليلهيه أو ّ يسري عنه .حتى لو قررت أماندا فجأة أن تمد يدها إليه لحمايته من الجنون ،فإن سور كان قد استبق هذا االحتمال بتوجيه طاقتها إلى مكان آخر .كان يون قد تمنى عند وصوله إلى دمشق بأن عالقة أماندا به ستتغير .وكان يبرر لنفسه بأن أ أماندا ربما كانت تكبح عواطفها في أمريكا كأسلوب دفاع ضد تهديد البيئة المريكية لهويتها الجديدة بعد اعتناقها إالسالم. ولعلها عندما تأتي إلى دمشق ،هذه المدينة المسلمة ،لن تشعر بضرورة إبقاء آليات دفاعها في وضع التأهب ،فلعلها تسترخي وتولد عالقتهما من جديد .ولكنها عندما وصلت إلى دمشق ،عبرت أماندا عن عميق شوق للتواصل مع مدرساتها وأخواتها في الطريقة الشمسية بقضاء معظم ساعات اليوم في حضور الدروس وجلسات ُ العبادة واالحتفاالت الدينية .وكانت المدارس التي تديرها تلميذات شمس تطلب مساعدتها باستمرار ،لتستفيد من ُّ تخصصها في مجال التعليم .ولم يكن أي من ً هذه التصرفات مقصودا من طرف أماندا ضد يون ،فهي لم تكن شريكة واعية في المؤامرة مع سور. يون بأن أي وهم كان وبعد أقل من ثالثة أشهر من وصوله إلى دمشق ،أدرك ً لديه من أن حياته في دمشق ستكون ذات معنى ،ولو كان ضئيال ،قد تالشى .ونجح سور في تحويل اليوم العادي في حياة يون الجديدة في دمشق إلى نسق متكرر من طقوس تبدأ في الصباح برائحة المجاري المنبعثة التي توقظه فجأة من نومه، ثم التوجه إلى عمله يقود سيارة وكله رعب من أن تتوقف في أي لحظة في وسط الطريق .وقضاء ثماني ساعات يعبث بأوراق رفعها إليه زمالؤه الذين كانوا على ما يبدو بدورهم يعبثون بها ،وفي النهاية العودة ً مساء بسيارة الرعب إلى منزل فارغ .لقد انتهى سور من حراثة قلب يون بشكل كامل .فإلى متى سيستطيع احتمال ذلك؟
136
معر العمادي
إنجيل دمشق
137
ن إ�يل دمشق ج
138
معر العمادي
1 أ وتزامن موعد كسر السطوانة الخامسة في ليلة عيد الميالد في عام .1996فقد كانت ريشة موجودة وحريصة على أن تعرف إذا كان طفلها سيتحرر من سجن سور ،وأعترف بأنه كان لدي الشعور نفسه. ُ [سي َرس ُل يونس إلى يحيى .وسوف ُي َّ عم ُد بكلمات .وسيتعلم كيف ينفخ في الطيور. ميزان – سنتان]. «من هو يحيى؟» أ آ «ال أعرف يا ريشة .و ألكني تذكرت الن! هناك واحد من الربعين اسمه يحيى. في الحقيقة عندما توفي الب بطرس من حوالي ست سنوات »... أ «انتظر ..من هو الب بطرس؟» أ «واحد من الربعين». «نعم ،نعم بالطبع .استمر».
139
ن إ�يل دمشق ج
آ أ يحيى النوري هو الذي حل محل الب بطرس .الن بدأت «فكان يحيىً ، أتذكر ،النوري هو أيضا قريب سرمد!» «سرمد زوج مريم؟» «نعم ،يحيى النوري هو خال سرمد». أ «يبدو أن المور تتطور .لن يكون من الصعب تعريف يون على خال زوج أخته». «نعم ..ولكن المشكلة هي أن سرمد ما زال في لوس أنجلوس ،أليس كذلك؟» «ليس لدي أي فكرة .اذهب واكتشف أين هو». ً «حسنا ،ولكن هل بإمكانك تقديم خدمة لي؟ أبلغي ميزان». «هل أنت متأ كد من أنه لن ينزعج من ذلك؟» «ميزان هو مثال التوازن والحكمة .وحتى لو انزعج سيستقبلك بابتسامة».
ً شيء واضحا .يحيى النوري هو أحد شيوخ الطريقة وبعد عدة أيام أصبح كل ً المولوية الصوفية .وهو مثقف جدا ويحمل شهادات عليا في التاريخ والشريعة، ولكنه رجل يحرص ًعلى خصوصيته ،ويعطي دروســه عادة لعدد محدود من المريدين .والمثير أيضا أن سرمد ومريم وأطفالهما كانوا على وشك مغادرة لوس والعودة إلى دمشق يوم الخميس القادم .وسيقيم جودت في أنجيلوس بشكل دائمً ، مساء يوم ً الجمعة احتفاال بعودتهم .ويحيى النوري مدعو ،وبالطبع سيكون يون هناك أيضا. 140
«وكيف تأكدت من أن جودت سيدعو النوري؟»
معر العمادي
ً «جودت يدعو النوري دائما ً .كان من المفترض أن يلتقي يون بالنوري منذ زمن بعيد لوال أن النوري ال يزور أحدا!» «وكيف نعرف بأنه سيأتي إلى هذا االحتفال؟» ً «ال نعرف! ولكن شعوري هو أن هذا اختصاص ميزان .دعينا نقف جانبا ونشاهد». وفي ليلة الجمعة في منزل جودت البخاري ،اجتمع الرجال في غرفة االستقبال الكبيرة بينما اجتمعت النساء في غرفة الجلوس .وحضر أقرباء جودت وسرمد. وكان يون يشغل نفسه بتقديم القهوة والحلويات لكي يتفادى الحديث مع أحد، عادة إلى السؤال عن عمله .وفجأة رن الجرس .فتح يون الباب الحديث الذي يؤدي ً وللحظة لم يكن متأكدا ماذا يفعل أو ماذا يقول .وقف أمامه رجالن لهما حضور مهيب ،وكل منهما لديه لحية بيضاء خفيفة ،وأحدهما يرتدي بدلة سوداء بينما آ الخر عباءة زرقاء داكنة وعلى رأسه عمامة بيضاء. وقف الجميع عندما دخل النوري إلى غرفة االستقبال ،وسارع جودت إلى من يكون استقباله آوقاده إلى مقعد في صدر الغرفة .ولم يسأل أحد أو يتساءل ً النوري حيث بقي صامتا طوال الرجل الخر .يبدو أنهم افترضوا بأنه مرافق يحيى ً الليلة وكأنه حارسه الشخصي! ولم يتحدث النوري كثيرا ولكنني شاهدته يقترب من يون عند مغادرته ويصافحه. ً غدا ً مساء موعد جيد .سرمد سيدلك على منزلي .سوف «يونس ..قم بزيارتي. تأتي أليس كذلك؟» «نعم ..نعم» أجاب يون وكأنه تحت تأثير مخدر. وفيما بعد ،سألت ميزان كيف استطاع إقناع النوري بالذهاب إلى منزل البخاري؟ و بأي صفة رافقه؟ «قلت له من أكون». 141
ن إ�يل دمشق ج
«ماذا تعني أنك قلت له من تكون؟» ً «أعني ذلك تماما .ذهبت لزيارته ،وفي لحظة جلوسي قال لي بأنني مالك». «ماذا؟» ً «لقد عرف فورا من أكون». «وماذا قلت له؟» ً «أدركت بأن هذا الرجل هو من أولياء هللا ويتمتع بحدس روحيُ قوي جدا، ومن غير الحكمة أن أخفي الحقيقة عنه .قلت له نعم أنا مالك وبأنني أرسلت إليه لكي أحثه على قبول دعوة جودت كي يتعرف بشاب اسمه يون». «قلت له كل ذلك؟» «نعم ..وحتى أنني قلت له بأنه سيؤتمن على تعليم يون لمدة سنتين». «لست أدري كيف أتفاعل مع ما َ ُ فعلت .لو أن أي شخص آخر فعل هذا ُ لشعرت بالقلق .ولكن كيف لي أن أتهمك بأنك غير حكيم؟» ً «أنت محق .لن يكون ذلك حكيما». ابتسمت وعدت إلى كهفي .وكانت ريشة بانتظاري. «يبدو عليك السرور».
142
«أنا كذلك».
معر العمادي
«ولكنك »... أ «مشغول .كل ما أستطيع التفكير فيه هو يوم الحد وما الذي سيفعله النوري بيون». أ «توقف عن القلق» وأشارت َّ إلي بالجلوس إلى جانبها .وللمرة الولى وضعت رأسي على حضنها َ والم َست شعري بلطف. ً «توقف عن القلق ،كل شيء سيكون جميال .أنا أعدك بذلك». كانت الساعة السادسة ً مساء عندما طرق يون باب يحيى النوري .كان النوري ً متزوجا ولكن لم يكن لديه أطفال أو خدم .أ فتحت زوجته الباب وكانت ترتدي ثياب صالة بيضاء .كانت تسمي زوجها «بالستاذ» .وتحدثت بصوت قوي وهي توجه يون نحو غرفة االستقبال: أ «الستاذ سيكون معك بعد قليل».
وكانت غرفة االستقبال مشابهة لقاعة القراءة المفضلة لدي في مكتبة سياتل. الجنوبي الذي صحيح أنها أصغر بكثير ،ولكن فيها قوسان جميالن ،وجدارها َّ ً الخشب الدمشقي المحفور معشقا بالزجاج يفصلها عن الشرفة مشغول أبالكامل من أ الملون .جلس يون على الريكة َّ وحدق في الرض وكأنه يتساءل عن سبب دعوته إلى هنا وما الذي جعله يقبل الدعوة؟
أ «لنك من المفترض أن تتعلم الــدوران ».هذا ما قاله النوري وهو يدخل الغرفة. «الدوران؟»
«نعم ،لنر إن كان قلبك يستطيع الرقص ».خلع النوري عباءته السوداء وظهر ٌ فضفاض أبيض اللون .اتخذ قدمه اليسرى كمركز لتوازنه حيث تحتها ثوب جميل 143
ن إ�يل دمشق ج
وضع أثقله عليها ،وبدأت قدمه اليمنى بالتحرك حركة دائرية بطيئة .ورفع يديه إلى العلى ومال برأسه إلى اليمين .كان النوري يؤدي نسخة بطيئة من رقصة لبضع ثوان الطريقة المولوية المشهورة« .ال تتردد» قال النوري ولم يتردد يون .و أ وقف يون يتمعن في حركات النوري وكأنه يحاول استيعاب الخطوات الساسية، يتصادما .ووقعت الحزم الضوئية بألوان متعددة ثم بدأ بالدوران بجانبه من دون أن أ ُ عليهما وهما يتحركان بشكل دائري .ولول مرة منذ سنوات كثيرة شعرت بأن يون يبتسم من الداخل.
أ أ الدروس ،كانون الول – 1996كانون الول 1998 محاضرة دينية ً في ًأول زيارة كما خشي ًيون .ولكن في الزيارة ولم ُي ِلق النوري ً دفترا جديدا كبيرا أخضر اللون -شبيها بالدفتر الذي أهدته الثانية ،جلب يون معه ً إياه مريم عندما كان طفال – وتمنى بصدق أن يتحدث النوري ّعن دربه الروحي، وهذا ما حدث .كان وقع كلمات النوري عليه كالسحر .وحلت هذه الكلمات ّ المتعددة التي تحكمت بتصور يون لدينه .فتحررت ممارسة بشكل تام إالشكاليات يون للصالة بما في ذلك الوضوء ،من قيد الوسواس القهري إلى آفاق سكينة روحية. وحل محل ضيقه من إالسالم كطقوس جافة ونصوص قانونية بحتة إلى إقبال على معايشة معانيه الروحية ومضامينه الجمالية .فكما اكتشف يون ،كانت كلمات وتجربة إاليمان لدى متلقيها بغض النظر الروحية ً الحياة ً النوري تهدف إلى تعميق ً عن ديانته سواء أكان مسلما أم يهوديا أم مسيحيا .فكل ما كان النوري يود إيصاله حوار نثري بذوق شعري غني باالستعارات والقصص ،وحتى كان يتم من ًخالل ً ْ النكات أحيانا ،التي غالبا ما استحوذت على يون َّ وعلي أنا حتى ولو لم نكن واثقين من إدراكنا لجميع أبعادها. عودته إلى منزله كان يون ُيعيد كتابة مالحظاته بأسلوب منظم ليكتشف في عند أ بباله وهو ومعاني كثير من الحيان في كلمات النوري رسائل مرتبطة به لم ًتخطر ً ً ً كان بيانا روحيا ،مختصرا وقصيرا ولكن يستمع إليها .ما خلص إليه يون في النهاية ً ً َّ مذهال في مضامينه .وحتى أنه وضع له عنوانا وكأنه كان يعرف بأنه مقدر له النشر ً يوما ما .وكان يون في غاية الحذر بأن ال يدرج أي شيء يعتقد بأن النوري ال يوافق ينفي الكثير من مريدي النوري، عليه .ولم يكن يون يعلم بأن الوقت سيأتي عندما أ وبشدة ،بأن يكون شيخهم قد صادق بأي شكل من الشكال على جميع محتويات هذا البيان. E 144
معر العمادي
2
إنجيل دمشق
دليل روحي لمرحلة نهاية الزمان كلمات يحيى النوري
جمع وإعداد يونس البخاري E
أ ستظهر في اللفية الثالثة عقيدة التوحيد النقي كرابطة روحية للمؤمنين في مختلف أنحاء العالم .وعلى أساس هذه العقيدة ،سوف ُيدعى جميع البشر إلى أن تكون لهم عالقة شخصية مباشرة مع إالله الذي خلق هذا الكون بأكمله من العدم. ولن يتطلب قبول هذه الدعوة من أحد التخلي عن االكتشافات العلمية الحديثة أو المبادىء العالمية لحقوق إالنسان.
عالقة مباشرة أمع خالق هذه المليارات من المجرات وكل ما تحتويها ،من ندفة الثلج إلى النجم العظم .وما هو القلب البشري مقابل هذا الجالل إاللهي؟ ولكنه بالرغم من ذلك مدعو إلى أن تكون لديه عالقة مباشرة مع إله َّ منزه بشكل كامل عن َْ خلقه وفي الوقت نفسه أقرب إلينا من حبل الوريد .كم نحن مكرمون كي نحصل على دعوة كهذه! 145
ن إ�يل دمشق ج
آ ولالف السنين لم تستطع غالبية البشر التواصل مع هللا إال من خالل الوسائط من تماثيل و ألوحات دينية وحتى البشر؛ منهم الصالحون وغير الصالحين .وفيما بعد تمكن البعض استخدموا الساطير إالغريقية آمن أجل شرح عقيدة التوحيد بلغة ً من تقبلها .ولكن هذه الدعوة الن تعني أن كل هذا لم يعد ضروريا ،بل تعني أن قلوبنا – على الرغم من ضآلتها -أضحت مستعدة ،أكثرأ من أي وقت مضى، للتواصل المباشر مع جالل هللا وعظمته« :إن السماوات والرض ضعفت على أن تسعني ووسعني قلب المؤمن». E
َ َ َّ الل) (ف ِف ُّروا ِإلى ِ مكة منذ حوالي 1418سنة هاجر الرسول الكريم وصحابته .تركوا منازلهم في ً رحلته الروحية بهجرة أيضا. وسافروا إلى المدينة .وبدأ ًسيدنا إبراهيم عليه السالم ُ وفي مصر كانت غ ِرست بذرة إيمانهم ،وفي أ وموسى وأبناء إسرائيل أيضا هاجرواً ، وأحيانا تتطلب هذه الهجرة قطع مسافات مادية، شجرتها. أزهرت الموعودة رض ال ً َ ً مسافات روحية ُلتقطع. ولكنها دائما تتطلب ٍ آ إذن اسأل نفسك ،أين أنت الن؟ هل هاجر قلبك بعد؟ هل ما زلت في مكة؟ هل وصلت إلى المدينة؟ أو ربما أنت في مكان ما بينهما؟ أنت بحاجة إلى دليل للهجرة – دليل يقود الطفل بداخلك خارج أقبية عالمك. ً ً ً عليك أن تعرف أوال ماذا ستترك وراءك .إنها فعال معادلة بسيطة جدا :كل شخص وكل شيء يرفض الرحيل معك .بعد ذلك عليك تحديد ماذا ستأخذ معك .لقد أدرك خبراء الهجرة على مر العصور أنه ال أيمكن أن تغادر من دون وهناك بعض الشياء التي يجلبها البعض صاحب يأخذ بيدك ،ودليل يأخذ بقلبك. ً معهم – خرائط وبوصلة وساعة – ولكن تدريجيا يكتشفون بأنها عديمة الفائدة ،إن لم تكن إلى ذلك ّ تشوش الرؤية. ِ أ أ الهم من ذلك ،يجب أن تعرف سبب هجرتك .الناس تهاجر لسباب مختلفة. البعض يهاجر على أمل جني الثروة أو أالسلطة أو المركزً .البعض يهاجر من أجل امرأة جميلة أو رجل وسيم ،والبعض لهداف أكثر تعقيدا .لعلهم ينجذبون إلى صورة مجيدة لعظمة هذا الدرب .لعلهم يريدون أن يكونوا ً جزء من مشروع مجيد.
146
معر العمادي
ً أو لعلهم وبكل بساطة يتبعون أحدا يريد أن يكون على هذا الدرب .الجميع مسموح له بالمغادرة .ولكن بعد يوم من السفر أو شهر أو سنة أو حتى بعد عقود بأكملها تتحول تلك النية المبطنة ،ذلك الهدف الحقيقي لهجرتهم إلى جدار كبير يحجب عنهم القدرة على المضي على هذا الدرب .تأمل هذه المفارقة! الطريقة الوحيدة لتكملة مسيرتك على هذا الدرب تكمن في تطهير النفس من أية نية أو هدف ال يليق به .البعض يعود أدراجه .والبعض يقضي ما تبقى من حياته يحاول واحد اختراق هذا الجدار ،ولكنه ال يستطيع اختراقه .فهناك هدف ونية من نوع ً الحقيقة هذا ليس مهما. فقط مسموح بها على هذا الدرب :الحب .حب ماذا؟ في ً المهم أن تحب .فالحب الصادق ينشأ من مصدر ًواحد ودائما يقود إلى المكان نفسه .فبإمكانك أن تحب أي شيء وأن تكون صادقا في هذا الحب .وتجربة هذا الحب ستقودك أفيما بعد إلى حب هللا .وكلما ازداد إخالصك كلما أسرعت بالوصول «الخالص سر من إلى حب هللا الحد الذي يستحق هذا الحب العميق والكامل إ أسراري استودعته قلب من أحببت» .هل شعرت بهذا النوع من الحب؟ في البداية قلب تحب يجب أن في الحب يكون َ َ َ لديك ُ َ ْ ولكن قبل أن يقع قلبك َّ َٰ َ َ ْ ٰ ٌ َ َ «إن ِفي ذ ِلك ل ِذكرى ِلمن كان له قلب» .الجميع يولد به .يقول القرآن الكريمِ : بقلب يضخ الدم بنشاط مستمر غير طوعي وال غنى عنه .ولكن ًالقلب الذي يضخ الحب بنشاط مستمر ال إرادي وال ً غنى عنه للحياة هو ليس قلبا نولد به وإنما هو هبة تولد تحت ظروف محددة جدا. لقد ولد قلبي عندما كان عمري حوالي اثنى عشر سنة .كنت في طريق عودتي يحاولون إلى المنزل عندما الحظت بعض الصبية يسيئون معاملة قطة صغيرة .كانوا ً تخيف أحدا ،إال حشرها في زاوية ،ولما لم أكن أتمتع بجسد أو شخصية يمكن أن ً ُ اقتربت منهم بدأت أ فجأة أصرخ وأصرخ حتى هربوا جميعا .وما زلت أنني عندما أتساءل لماذا كان ألصوتي هذا الثر عليهم؟ وبعد ذلك حان ًوقت االعتناء بالقطة. القطة وأخذها إلى منزلي بعيدا عن مخاطر الطريق، وإذ كان شعوري الول حمل ً إال أنني تذكرت أنها صغيرة جدا ،والقطة الصغيرة ال تستطيع البقاء دون أمها ،كما وارتبكت؛ إذا تركتها قد يعود ً الصبية ويؤذونها ،وإذا سمعت والدتي مرة تقول .أ أجلس على أخذتها إلى المنزل َّ قد تموت لنني حرمتها من أمها .وأخيرا قررت أن ً ً تأتي .انتظرت أربع ساعات وكنت جائعا ومتعبا ،وعندما الرصيف وأنتظر لعل أمها أ القطة الصغيرة وهي تركض نحو أمها كنت على وشك أن أفقد المل الحظت ً العائدة ،فعرفت بأن أمهمتي قد انتهت .وطبعا في المنزل أنبتني والدتي وأرسلتني إلى النوم دون عشاء لنني غبت من غير أن أخبرها .ولكنني شعرت بشعور عذب في قلبي ونمت وأنا أبتسم. 147
ن إ�يل دمشق ج
ُ قصصت هذه القصة مع شيخي فقال لي بأن القلب النوراني يحتاج بعد سنوات إلى حوالي أربع ساعات لكي يولد .أربع ساعات يمضيها في فعل شيء يتطلب الرعاية والجهد والرحمة .أربع ساعات من فعل شيء يبدو غير منطقي لمن يشاهده، بل حتى بالنسبة لمن يقوم بهذا الفعل نفسه. E
َ َ ْ َ َ ً ُْ َ)واذ ك ِر ْاس َم َر ِّبك َوت َب َّتل ِإل ْي ِه ت ْب ِتيال( في ُظلمة َّإهمالك عند والدة القلب عليه أن يتعلم كيف يتنفس وإال فسيختنق ْ ُ َ َّ َ َ َ ْ َ ْ أَ ْ َ ُ َ َٰ َ ُ ْ َ له .والقرآن الكريم يقول « :ف ِإنها ل تعمى البصار ول ِكن تعمى القلوب ال ِتي ِفي ُّ الص ُد ِور »...وفقط الذكر أو التأمل الروحي الذي يهدف إلى التواصل المباشر مع جالل هللا ،هو ما سيعلم قلبك التنفس. موسى عليه السالم يبحث عن هل تذكر كيف اختير موسى في البداية؟ كان ُ ُ النار لتدفئة أهله عندما وجد الشجيرة المشتعلة التي قدر لها أن تضيء العالم .لم يكن موسى يبحث عن تجربة كهذه ،فكل ما كان يبحث عنه هو توفير الدفء الذكر أوإنما يبدو بأنه كان يبحث عني. لعائلته .وأنا كذلك لم أكن أبحث عن ِ في يوم من آخر أيام الخريف أرسلني عمي لجد من ينظف المدخنة ،فقد برد المطاف إلى البيت ولم نستطع تشغيل المدفأة النسدادها .وعندما وصلت في نهاية ً محل أشهر منظف مداخن في دمشق في أعلى جبل قاسيون وجدته مغلقا .وقال باتجاه لي رجل هناك بأنني أستطيع أن أجده في جامع في أعلى الجبل .مشيت ً في الجامع و ألم أكن أعرف شكل ّ هذا الرجل ،وشعرت بالخجل من أن أسأل ً أحدا ً منهكا ومحبطا الجامع ،لن الجميع ً كان يصلي .وجلست في إحدى زوايا الجامع ً ً ُ أسه على ر ً وعندها سمعت رجال يقول أ «تعال واجلس بجانبي» رأيت رجال مسنا ً عمامة بيضاء .مد إلي يده لمسكها ،ثم قال لي« :أغمض عينيك وخذ نفسا عميقا والحظ قلبك يكرر دون تحريك لسانك: هللا معي هللا ناظر ّ إلي هللا شاهد ّ علي» 148
معر العمادي
ً أ وهكذا فعلت .وبعدها سألني« :هل ترى اسم هللا مكتوبا على قلبك بالنور البيض؟» نظرت بداخلي ولكن لم أر سوى الظالم .وشعرت أنني أقف على السطح وأنظر إلى أسفل مدخنة بيتنا المظلمة َ .أردت أن أفتح عيني وأترك يده ،ولكنه ضغط ّ أركز أكثر هذه المرة .في البداية وطلب مني أخذ نف ٍس أعمقً ،وأن ِ على يدي ًبقوةً ، رأيت شيئا غامضا ،إال أنني رأيت فجأة شيئا يشبه الشعلة البيضاء التي أخذت شكل كلمة .هل كانت الكلمة اسم هللا الواحد؟ هل كانت بالعربية؟ كنت ما أزال على هذه الصورة عندما قال الشيخ« :ال تنشغل بالكلمة بل انتقل أحاول التركيز ُ َّ من االسم إلى المسم ًى ،اسمح ً لنفسك أن تتأمل جالله ».وشعرت وهو يقول هذه الكلمات وكأن تيارا كهربائيا يمر في جسدي .وترك يدي َّ وتبسم وقال بصوت مستلق في فراشك الليلة الحظ قلبك يردد الكلمات التي علمتك لطيف« :وأنت آ ٍ إياها حتى تنام .والن يا بني بإمكانك االنصراف إلى تنظيف ًالمدخنة .الرجل الذي تبحث عنه يقف بالقرب من النافذة ».لقد مضى ستون عاما منذ ذلك اليوم ْ يا يونس ..وكما علمني شيخي لم أخلد إلى النوم مرة إال وأنا في حالة ِذ ك ٍر. E
ُ
َّ َ َ َ َ َ َّ • ى ل َ( ثم َدنا فتد َ ََْ
ََف َ َك َان ق َ َاب ق َْو َس ْي ِن أ ْوَ أدنى• فأ ْو َح َ َى ِإلى ْعُ ْب َ ِد ُِه َما أ ْ َو َحى• َما كذ َب الفؤاد َما َرأى)
قلبك كيف يستمع ليس بإمكانك أن تمشي ُّفي هذا الدرب إال إذا عرف آ إلى الصوت آ إاللهي .البعض يعد القرآن كتاب قوانين .البعض الخر يعده كتاب عقيدة .وهو للخرين دليل للنزاع َّبين قوى النور ٌوقوى الظالم .ولكن بالنسبة إلى من يمشي في هذا الدرب الرقيق ،فإن القرآن سجل لتلك اللحظات المقدسة عندما َّ تحدث الصوت إاللهي من خالل القلب البشري. ً ً ُ عليك أن ت ِّقدر ماذا يعني هذا الشيء روحيا .مرة سألت شيخي لماذا يبدأ أوال ً بضمير الغائب «هو» وفجأة ينتقل إلى ضمير جمع هللا إلى شارة بال أحيانا القرآن إ ً المتكلم «نحن» ومن ثم يعود أحيانا إلى ضمير المفرد المتكلم «أنا»؟ بقي شيخي 149
ن إ�يل دمشق ج
ً َّ صامتا لبضع لحظات وكأنه يتحقق إذا ما كنت قد وصلت إلى النضج الروحي الكافي لسماع الجواب .وبعدها قال:
آ «عندما يتواصل قلبك مع اليات القرآنية يصبح شديد الحساسية .وبالتالي ُيستخدم ضمير الغائب «هو» كــأداة لتخفيف شدة وطء التجربة على قلب رسمية َ وهناك حاجز. المستمع .وبعدها «نحن» تشدك لتقترب ولكنها ما تز َال َ َ َ َ ّ َ َومن َ َّثم تأتي «أنا» لتجعل قلبك يذوب بالكامل « :و ِإذا سألك ِع َب ِادي ع ِني فإ ِّني قر ٌ هذه ،فتنتقل الذوبان حالة في يستمر أن القلب بإمكان ليس لكن و ». يب َ ِآ ِ ً «نحن» و «هو» .فإن كان قلبك متواصال بشكل إلى نا» «أ من بسرعة يات ال ّ حقيقي مع صوت القرآن فإن «أنا» تجعلك ترتعش مثل أول لحظة تتذوق فيها الحب .ولكن هذا الشعور ألذ بكثير.
أ وهناك طرق أخرى ُّ لتذوق طعم الثر الروحي لما يعنيه أن يتحدث الصوت إاللهي من خالل قلب النبي إالنسان .فالقرآن يتلو علينا قصة سيدتنا مريم ،أم فجأة عيسى عليه السالم ،في سرد شديد خضم َ الحساسية َ َ ْ ْ ْ وفي َ ْ القصة َ ْ ُ ُ والجمالَ ُ ْ ُ . ََ ُ ْ َ ُ ُ ُّ َ ْ ْ تواجهك آية ال يمكن تفسير وجودها( :وما كنت لدي ِهم ِإذ يلقون أقالمهم أيهم يكفل َْ ََ والرسول نفسه يعرف بأنه لم يكن مر يم) .ونحن نعرف بأن الرسول لم آ يكن معهمً . معهم .ولكن لماذا إذن تظهر هذه الية؟ وتظهر أيضا في قصة سيدنا يوسف وثالث مرات في قصة سيدنا موسى؟ آ ُ الوحي أن ظهر ت ولكن الغموض يتالشى عندما يبدأ قلبك باالستماع .فهذه الية آ قد رفع قلب الرسول إلى درجة عالية من الشفافية بحيث أنه يرى الن المقدس أكان َ بوضوح الحداث التي توحى إليه .وكأنه يقف بجانب زكريا والد يحيى المعمدان ٍ وهو يمسك بيد مريم ويقودها إلى المعبد .وكأنه يمشي بجانب موسى وهو يدخل مدينة مدين .وكأنه يقف بجانب أخوة يوسف وهم يتآمرون ضده .ولكن الوحي إاللهي فجأة يقاطع السرد ويعلن« :أنت لم تكن هناك »...وكأنه يعيد الرسول بلطف من المكان الذي كانت عيون قلبه قد نقلته إليه ،إلى المكان الذي هو فيه ً حقا .وبعد أن تمت حمايته من االرتقاء في عالم الغيب أكثر مما ينبغي يعود الوحي إاللهي إلى سرد القصة.
بالمكان فهم أي من هذه المعاني بمجرد قراءة النص .عليك أن تسمح وليس إ تتمكن من استشعار الصوت القرآني ،تبدأ لقلبك بأن يستشعر الكلمات .وعندما آ الرسالة الحقيقية والهدف المقصود ًمن اليات باالنكشاف .قد تصرخ أمك عليك ً أحيانا ،وقد تحضنك لتهدئك أحيانا أخرى .وقد تكون حادة وقد تكون لطيفة.
150
معر العمادي
عدم تطبيقها .ولو ُاستمع إليها أحد آخر من الخارج أعلى أ وقد تضع ُالقوانين وتختار ً لست بحاجة لحد فأنت الفهم. سيء ت لن أنت لكن و . نهائيا الفهم سيء سي غلب ال أ أ كي يعلمك كيف تستمع إلى أمك .أنت لست بحاجة لحد ،لن قلبك مرتبط بقلبها وبالتالي أنت تعرف الهدف الحقيقي من كلماتها .وهي قد تهددك ولكنك التصرف .وما تقودك نحوه عندما بأنها في الحقيقة ال تريد منك سوى حسن ً تعرف ً كامل عندما تصبح بالغا .وإذا كنت ً على وشك الوقوع تكون طفال ،قد يتغير بشكل أ قد تشد على يدك بقوة تؤلمك ليام ولكنك تعرف ،تعرف حقا أنها فقط تحاول حمايتك .كل هذا نفهمه ونستشعره مع أمهاتنا ،ولكن هللا سبحانه وتعالى الذي خلقنا يحبنا أكثر بكثير من أمهاتنا .لماذا عندما نتعامل مع كلمات هللا الموجهة إلينا نخرجها بسهولة من مضمون الحب؟ ٌّ ّ يوثق كيف َّ إلينا من خالل قلب الرسول عليه هللا ث تحد فالقرآن هو سجل ِ ً السالم ،وليس فقط في ظروف مختلفة ،ولكن أيضا في مراحل مختلفة من تطورنا الروحي .إال أن العلماء يقولون لنا« :هذا ما يقوله القرآن وهذه هي القوانين التي ّ لكن هذا ومعظم كتب التشريع والفقه تستند إلى قراءة للقرآن ينص عليها ».و ً بالقلوب .القرآن يعلمنا بأن الفهم الحقيقي االستماع بالعيون والعقول بدال من َ ُ ْ ُ ُ إليه ُ َ ٌ ْ َ َ يحدث داخل القلب« :لهم قلوب يع ِقلون ِبها ».ولو استمع علماؤنا بحق لكان عليهم إجراء مراجعة جذرية لغالبية ما دونوه في كتبهم .ولو استمع علماؤنا بحق لبدأت عملية إصالح مذهلة .أغمض عينيك اليوم وابدأ باالستماع بقلبك. E
ُْ َّ َ َ ْ َ ُ َ َ َ ْ ُ ْ َ ْ َ ُ ْ َ ْ َ َّ َّ َّ َ ْ الل َيغ ِف ُر الل ِإن (قل َيا ِع َب ِادي ال ِذين ُّأ ُسرفوا على أ ًنف َِّس ِهم ال ْت َق ُنطوا ِمن رحم ِة ِ الذن َ وب َج ِميعا ِإن ُه ُه َو الغف ُور َّ الر ِح ُيم) ً ً وهناك قصتان شاركهما الرسول الكريم معنا هما أكثر عمقا وتأثيرا من كثير من دربنا بأكمله. هذه الكتب التي كتبها من أيقرأ القرآن بعينيه ال بقلبه :وهما يلخصان ً ثيابا محتشمة إحدى القصتين عن قطة الخرى عن كلب! هناك امرأة كانت ترتدي أ وكانت تصلي وتصوم ولكنها لم تتلق دعوة لدخول نعيم الجنة .لماذا؟ لنها لم تكن تقدم الرعاية الكافية لقطة تعيش في منزلها حتى ماتت من الجوع والعطش .ماتت القطة وكذلك ماتت القيمة الروحية للمرأة في عيون السماء .لم تكن لحشمتها وصالتها وصيامها أي قيمة! وهناك امرأة أخرى باعت جسدها مقابل المال .حتى 151
ن إ�يل دمشق ج
أنها لم تفعل ذلك بدافع العاطفة أو الحب .ال بل باعت جسدها من أجل القليل من الدراهم الفضية .وفي مرة من ًالمرات في ًأثناء سفرها ،وصلت إلى بئر وجلبت الماء لنفسها .وفجأة الحظت كلبا يلهث عطشا وكما جلبت الماء لنفسها ذهبت وجلبت الماء للكلب الذي شرب حتى ارتوىُ .ودعيت هذه المرأة إلى نعيم الجنة. هي لم تكن تبحث عن المغفرة ومع ذلك حصلت عليها وأصبحت لها مكانة عالية في عيون السماء. الكبر .ولكن إذا كنا عنيدين وأصررنا الذنوب تجعلنا نشعر بالتواضع أونقاوم ِ على الذنوب فقد تحرقناٌ . الكتب الفقهية بتجنبها هي وكثير من الشياء التي تطالبنا ً ً علميا في يومنا هذا .فكل ما ثبت ّ طبيا بأنه ُّ يضر بأجسامنا أشياء أضحت موثقة ً بكثير من يجب أن ال يكون جزءا آ من حياتنا .ولكن هذه الذنوب هي أقل وأقل أ الذنوب التي نرتكبها ضد الخرين .فذنب إساءة معاملة قطة ،قد يحجبك للبد من الدنو من جالل هللا ،فما بالك بسوء معاملة إنسان! E
ْ ُ َّ َ ْ َ(و َج َعل َنا ِم َن ال َماء كل ش ْي ٍء َح ّ ٍي) ً أ عندما يتواضع قلبك يصبح مثل الماء دائما يحاول االختفاء في أدنى أجزاء الرض .وهناك الكثير الذي نستطيع تعلمه من الماء! فعليك أن تكون بليونة الماء؛ انظر كيف يأخذ شكل أي إناء يوضع فيه دون أن تتغير طبيعته الحقيقية في أثناء حتى ذلك .وتمثل إ بالصرار مثل ًالماء؛ راقب كيف يرتطم بصخرة ،قرن بعد قرنً ، الطقس حارا يحولها إلى رمل .أكن حكيما كالماء؛ انتبه كيف يتبخر عندما يكون ً وكيف يعود إلى الرض على هيئة مطر عندما تنخفض الحرارة .وكن قادرا على االحتضان مثل الماء؛ ْ كيف يسقط من السماء على أكواخ الفقراء وقصور أبصر أ ً ْ َ محبا كالماء؛ َّ تأمل كيف ّ العشب عند الفجر .وعندما يقبل الندى الغنياء .وكن تصبح مثل الماء ،كل شيء يالمسك سيفعم بالحياة. E
152
معر العمادي
ُ ْ ُ ٌّ ُ َ َ ّ ٌ َ َ َ َّ ُ َ َ َ ْ َ ُ َ ون َم ْن َأ ْص َح ُ اب ِ ّ الص َر ِاط (قل كل متر ِبص فتر بصوا ۖ فستعلم َ َ ٰ َّ الس ِو ِّي َو َم ِن ْاهتدى) ووصف العالمات الصغرى والكبرى. وتحدث رسولنا الكريم عن آخر الزمن .آ َّ وقد تحقق أ جميع العالمات الصغرى .ونحن الن في المرحلة النهائية .وقد تستمر لسنوات وقد تمتد لقرون .وفقط هللا وحده يعرف كم ستستمر هذه المرحلة الخيرة آ لكننا الن في بداياتها .وهناك كثيرون يدركون هذه الحقيقة .وهؤالء المرحلة .و ً يتحرقون ترقبا .ولكن ماذا ينتظرون؟ النصر؟ العدل؟ عالم أفضل؟ وبإمكانك معرفة الكثير عن إنسان ما إذا كنت تعرف ما الذي ينتظره. فأن تعيش في آخر الزمان هو أن تعيش في زمن المسيح .وأن تعيش في حالة انتظار عودته .وعودة المسيح هي أهم العالمات الكبرى .وهي في نهاية أ المطاف الحروب ووصول الحضارة إالنسانية إلى أوجها (وتقع المنة على ستؤدي إلى نهاية أ أ الرض ،حتى ترتع السود مع إالبل ،والنمار مع البقر ،والذئاب مع الغنم) .زمن نصبح فيه كل ما يجب أن نكون عليه .يقول الرسول الكريم« :من أدرك منكم عيسى بن مريم فليقرئه مني السالم». أ ولكن البد من إعداد الرض لهذا الحدث .البد من فعل الكثير .والبد من وستحدث هذه تغيرات ملحوظة ً في طريقة أتفكير الناس وشعورهمً ً . إحداث أ ات لن هناك أعدادا كبيرة من الشخاص الذين أيعملون ليال نهارا من أجل التغير أ تهيئة الرض لهذا الحدث .إال أن هناك مهمات بالغة الهمية ما زالت متروكة لم يمسسها أحد. وكما في زمن المسيح ،فإن عالمنا يشهد اليوم سيطرة االمبراطورية الرومانية، امبراطورية رومانية حديثة .نعم امبراطورية تحترم االنسان وحرياته وحقوقه أ َّ المقدس ،وقد نضبت الروحانية فيها الساسية ...ولكنها امبراطورية ال تحترم وخسرت إالحساس بغايتها .وكما في زمن المسيح ،هذه االمبراطورية هي موطن أربع مجموعات ،وكل منها لها هدفها الخاص في االنتظار: ً أوال هناك الذين يستعدون للمعركة النهائية .فهم ينتظرون النصر العسكري ضد االمبراطورية الرومانية .وهم من أديان مختلفة ولكنهم يتحدون في هذا الهدف، في هذا البغض لالمبراطورية الرومانية الحديثة .ولكن زمن المسيح هو زمن الحياة 153
ن إ�يل دمشق ج
ً أوليس الموت .وسيكون هناك نصر ولكنه لن يكون عسكريا .فقد قال ابن آدم لخيه مرة: َ َّ أَ ْ ُ َ َ(ل ِئن َبسطت َّ باس ٍط يدي لقتلك) إلي يدك لتقتلني ما أنا ِب ِ ً ً أخيرا أصبحنا جاهزين لفهم هذه الكلمات ووضع العنف جانبا .إن تطوير ُ أسلحة الدمار الشامل جعلنا ندرك بأن العنف يجب أن ينتهي و إال سننتهي معه. الثانية هي من حماة القانون والشريعة في هذا الزمن ،أولئك والمجموعة ً ّ َ الذين ينتظرون زمنا تتبنى د ًولة ما ًالقوانين ًالدينية التي سخروا حياتهم لتطبيقها بحذافيرها .وهم ينتظرون نصرا قانونيا أو شرعيا .ولكن غالبية القوانين التي صاغوها لم يعد لها أي صلة بالهدف المنشود .وبينما يستمر هؤالء العلماء في االختالف حول القضايا الشرعية التي ال عالقة لها بالحياة التي نعيشها اليوم نستمر في خسارة أجيال كاملة لصالح المادية. ً وأولئك الذين خسروا أنفسهم هم المجموعة الثالثة .وهي أكبر مجموعة حجما. ماليين الماليين من الناس الذين استحوذت عليهم أالمادية .وهم ينتظرون؛ ويسعون جاهدين لليوم الذي يصبحون به مواطنين كاملي الهلية في االمبراطورية الرومانية. ً ّوأخيرا لدينا المجموعة الرابعة ،المجموعة التي تحتضن أولئك الذين ينتظرون المعلم الصالح الذي سيقود العالم خارج الظالم ...ينتظرون المسيح .والحقيقة ِ حواريي المسيح جميع أعدائها .ولكن أن االمبراطورية الرومانية ستنتصر على أ أ الجدد سيستحوذون عليها ًمن ًالداخل ً ،كما مل أتباعهً االمبر ًاطورية الولى بالنور. وتضم هذه المجموعة عددا قليال مختارا سيلعبون دورا خاصا عندما يعود المسيح وسيكونون في دمشق الستقباله .وهذه مهمة لم يباشرها أحد بعد. «إذ بعث هللا المسيح بن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ» ّ حواريي ومن بين أتباع سيدنا محمد عليه الصالة والسالم سيكون هناك خلفاء التعرف إلى هؤالء الحواريين ،فالبد من أسر قلوبهم ،وال ًبد المسيح .ولكن البد من ُّ ُ أن تصبح حياتهم تجربة ترق ٍب مكثفة .ولو كنت صغير السن لكنت ذهبت باحثا عنهم .وعندما ينزل المسيح على المنارة البيضاء في ّ شرقي دمشق ،عندما يصل في 154
معر العمادي
ً أً طبقات أمن النور ...أتمنى أن أكون حاضرا لقبل يده وأهمس« ،يا أمير هذا الزمن خاتم النبياء يقرئك السالم». E
َ َ َ ْ َ َ َّ ُ َ ْ ْ ُ ْ َ ْ ُ َ ُ َ َ َ ْ َ َّ الش َ َج َر ِةً ف َع ِل َم َما (لقد ر ِضي ُ ُالل ع َ َن ْ َال َمؤ ِم ِنين ِ َإ َذ ي َب َ ِايعون َ َ كَ َت ُح ْ َ تْ ً ِفي قلوبه ْم فأنزل َّ الس ِكينة عل ْي ِه ْم وأثابهم فتحا ق ِر يبا) ِِ ويتحد أفراد المجموعة الرابعة بعهد روحي ال يقص الجواهر ويصقلها فحسب، وإنما هو صندوق محكم يحفظهم من فتن آخر الزمان: ُ «سن ْخ ِلص لوحدانية هللا وتنزيهه وإجالله ،وسنفتح قلوبنا الستشعار حضور هللا ومحبته. ّ ّ أناني لعل هللا يباركنا بقلوب حقيقية. سنكرس أنفسنا لعطاء غير ٍ سنفارق الدروب المادية من أجل الحب. وسنرشد قلوبنا للتنفس قبل أن ننام. سنستمع بقلوبنا إلى كلمات السماء. سنتواضع أمام الذنوب دون أن نحترق بها. سنجسد أسرار الماء لنمنح الحياة لكل من يصادفه دربنا. ُ وسنتقن فن انتظار وصول أمير هذا العصر المسيح بصبر وسكينة». E
155
ن إ�يل دمشق ج
156
معر العمادي
3 أ وفي بداية شهر كانون الول عام 1998توفي النوري .وعاد يون بعد الجنازة كبيرة تطلً على داريا ،غرب وجلس على أريكته المفضلة التي كانت تواجه نافذة ّ دمشق .بقي على أريكته لثالثة أيام كاملة من دون أن يكلم أحدا .وتساءلت أماندا إن كان عليها استشارة طبيب .ولكنه نهض بعدها واستحم وارتدى مالبسه ثم ذهب إلى عمله. المسيح هو ما أقنع يون بأن عليه أن يلعب درس النوري عن انتظار ً ً لقد كان أ دورا في إعداد الرض للعودة الثانية .وأخيرا اتفقنا أنا وأصحابي المالئكة في جبل الشيخ على أهمية هذا الشخص الذي استهلك تركيزنا خالل االثنين والثالثين سنة الماضية .نعم سيكون له دور في تلك المهمة «المتروكة» ،مهمة تحديد خلفاء ّ حواريي المسيح الذين سيكونون هناك في استقباله عند عودته .فجأة أصبحنا نحن ،حماة إالرادة إاللهية ،ويون نمتلك رؤية موحدة. EEE
157
ن إ�يل دمشق ج
158
معر العمادي
أعدوا طريق الرب
159
ن إ�يل دمشق ج
160
معر العمادي
1 [في البداية سيكون إحدى عشرة ورقة تتطاير مع الريح .ومن ثم دمشق من جديد. سيكون اثنا عشر يشهدون ميالد ً عصا ورحمة وريشة – 12شهرا]. «وكأنه رمز رقمي!» أ «ال يهم ..السطوانة السادسة قد أعادتني». «نعم .ولكن لماذا رحمة وعصا؟» «عصا ليمنح يون السلطة ،ورحمة لتمنحه قوة أسر القلوب ،وأنا أمنحه قوة الدغدغة». أ سي َ ولي هدف ُ ستخدم؟» «مزيج مذهل! «هذا ما سيجيب عنه رقيمي الذكي .طالما أصبح لدي تواصل مع يون فأنا فوق القمر». «القمر؟»
161
ن إ�يل دمشق ج
«نعم القمر ،هذه عبارة بشرية»،
أ أ قالت ريشة ذلك وأشارت إلى السماء وهي تحرك رأسها إلى العلى والسفل أ مثل الطفال لتأكيد فكرتها. ً أ ً «ضعي القمر جانبا للحظة يا ريشة ،وساعديني مع هذه الرقام .أوال إحدى عشرة وبعد ذلك اثنا عشر؟» ّ حواريي المسيح». «اسمع ،البد أن لها عالقة بما قاله النوري عن تحديد ً «إذن ستكون مهة يون العثور على أحد عشر حـ ّ ـواري مستخدما السلطة ٍ والغواء لتسهيلها .هم أحد عشر وعندما يلتحق بهم يصبحون ».. والحب إ «اثني عشر! ولكن أين سيجدهم؟» «في المكان الذي يقضي فيه ثماني ساعات كل يوم». «اليونسكو؟» ً «في أي مكان آخر يا ريشة؟ فهو بالكاد يعرف أحدا في هذه المدينة .فهو إما في المنزل أو في العمل!» ً «حسنا ..إذن مهمتك إيجاد منافذ محتملة لعصا ورحمة إلى اليونسكو». «وأنت؟» ً «ال تقلق بشأني .ستكون لدي وظيفة هناك غدا». 162
معر العمادي
َ موطئ قدم في اليونسكو؛ حيث وبحلول شهر آذار ،1999كان الثالثة قد َّأمنوا تقرير عن التعليم عصا ورحمة كخبيرين .وكان من المفترض على عصا إعداد ٍ الثانوي ورحمة تقرير عن تمكين النساء في سورية الحديثة .وكان على إالثنين المكتب بشكل متكرر لتقديم تقارير مرحلية واستخدام المكتبة الصغيرة في زيارة أ الطابق العلى .والتقرير الحقيقي الذي كان على عصا ورحمة إعداده هو تقرير َّ عن الن َسب الروحي والسيرة العاطفية لكل رجل وامرأة تعمل مع يون في اليونسكو، زوار للمكان .لم تكن حاجتي إلى هذا التقرير بسبب موظفين أو خبراء ،أو حتى ٍ ّ عدم ثقتي في اختيار يون للحواريين المقصودين ،ولكن مهمتي كانت ضمان الخيارات الصحيحة ،والمعلومات التي يوفرها عصا ورحمة ستساعدني على تأكيد ذلك .أصبحت ريشة موظفة االستقبال الجديدة .فلم يدخل أو يخرج أحد من يتحدث أحد على الهاتف أو يتلقى مكالمة دون أالمرور من خالل المكتب ،ولم أ كانون الول 1999راقبت ريشة .وخالل الشهر التسعة التي تلت منذ شهر ّ آذار إلى ً وأصحابي المالئكة في جبل الشيخ يون يكرس نفسه كليا لهذه المهمة .وكان أنا ً أداؤه دائما يتميز بعاطفة تبعث على إالبهار. E
ُ َ صفة يتحلى بها الحواريون الذين يبحث عنهم لكان أهم عن يون ل ولو س ِئ ً َّ جوابه «عليهم أن يكونوا أطفاال!» إذ عدد من القصائد التي كتبها وضحت هذه الفكرة. ً أصبحت طفال أنت تعرف أنك ً عندما يصبح قلبك ممتلئا ويداك خاليتين
أ يعيش الطفال في زوايا العالم المنسية في أطالل المعابد والصوامع والجوامع تجدهم في امتحانهم يخلدون جفونهم هي العيون يتوارون في ظلمة الشمس تحت جليد الشمال 163
ن إ�يل دمشق ج
تجدهم يحتفلون في موتهم بضعفهم يتباهون ّ دروبهم شتى لكنهم ِ ّ موحدون كانت غرفة مثل التي تجدها في المشافي ليست بعيدة عن الممرات التي تقود إلى صفارات إنذار العناية المركزة كانت غرفة أ مثل التي تجدها في الهرام محجوبة عن الضوء ،ولكن يدنسها الجميع تزخرفها تواشيح دين قديم مدفونة تحت الكثبان الرملية لمنتصف النهار كانت غرفة وكانت قلب طفل
ً أ ً في محاولته للتعرف إلى أولئك الطفال أدرك يون سريعا بأنه ليس مسؤوال َ إعدادهم ُوإنما اكتشافهم .فكل واحد منهم كان قد مر الزمن اختير ،وعلى ّ ِ ُعن َ ُ َ َ ّ ن ِحت وص ِقل ول ِمع .والفرق بينهم وبين يون هو أنهم كانوا حواريين في الالوعي ،لم واعين بحقيقتهم أو بمهمتهم .وكان على يون اكتشاف ما هو موجود ،وإن لم يكونوا ً يكن موجودا فلن يتمكن أي سحر لديه أن يخرجه إلى حيز الوجود .توصل يون إلى هذا الفهم ،ليس من خالل تصور نظري ،وإنما من خالل تجربة شخصية مؤلمة. في أثناء هذه الفترة ظهرت مايا فجأة ،مايا من سنوات مراهقته في الكويت، خال ودخلت حياته من جديد .حدث ذلك بمكالمة هاتفية غير متوقعة في ٍ يوم ٍ أ فقط ،وأنها قد حصلت عليه السالم تريد بأنها قالت آذار. شهر في حداث ال من آ على هاتفه عندما التقت بأمه قبل يومين .أخبرته أنها تعيش الن في بيروت حيث تعمل في شركة تصميم غرافيكي .ربما كانت «تريد السالم عليه فقط» ولكن يون قرأ هاتفها كإشارة ذات مغزى .ستكون هي ببساطة رقم .1وبعد مضي أربعة أسابيع، من عبور الحدود السورية اللبنانية ّمرات ّ ومرات ،وقضاء الليالي في ملتقيات الفنانين في بيروت ،إضافة إلى ساعات وساعات من المكالمات الهاتفية ،ذاق يون
164
معر العمادي
ُ وح َيت َلرسول إال َسالم في غمرة محاو َلته إدخال عمه في طعم تلك الكلمات التي أ ِ َّ َ َ َ ْ َ ْ ْ َ ْ َ َ ٰ َّ َّ َ ْ َ َ َ ُ «إنك ال ته ِدي من أحببت ولـ ِكن ٱلل يه ِدي من يشآء». دين التوحيدِ : ويا للمفارقة! قاومت مايا دعوة يون ولكنها لم تقاوم يون؛ مما ّ صعب عليه فهم ما يحدث .خالل أيام قليلة كانت مايا مستعدة للتخلي ً عن حياتها بأكملها لتكون مع يون ،نفس يون الذي تخلى عنها منذ أربعة عشر عاما .تحدثت عن الرحيل إلى النرويج وبداية جديدة لهما واالستمتاع في البراري النرويجية ،ولكن في اللحظة التي كان يبدأ فيها بالتحدث عن المسيح وعودته الثانية كانت تبتسم وتقول« ،هل عدت بعد كل هذه السنين إلى حياتي لتحدثني عن عودة المسيح؟» أ ّ الخصال بكل طبيعي بشكل تتحلى كانت مايا أن مور، ال اد من تعقيد ومما ز أ ً ً تجلب شخصا روحانيا إلى الروحانية الساسية من عمق وطيبة وشاعرية« .كيف ً الروحانية؟» كان يون يسائل نفسه أوهو يقود سيارته عائدا من بيروت إلى دمشق. ولكن روحانية مايا لم تكن منفتحة لي شيئ له عالقة بعالم السماء .وبغض النظر عن عدد النوافذ التي نجح يون في فتحها في داخلها ،إال أنه لم يتمكن من إقناعها بالنظر خارج هذه النوافذ الى السماء. ً أ وبعد مضي أربعة أسابيع ِفهم يون أخيرا بأن العبور إلى الضفة الخرى يتطلب أكثر من جسر ودليل .الحواريون الذين يبحث عنهم كانوا في حالة انتظار طوال لديهم وعي بهذه حياتهم للحظة التي يتلقون فيها الدعوة لقطع الجسر .وقد ّال يكون ً مايا لكن كل ما ً المهمة ،و ً عليك فعله هو طرح فكرتها حتى يسلموا بها فورا .سمعتَ ً الفكرة تكرارا ونفتها تكرارا .وعلى الرغم من جمالها وطهرها إال أنها لم تكن قطعا واحدة من االثني عشر .وبعد أربعة أسابيع انتقل اهتمام يون إلى مكان آخر. E
مضت السنون ولم يعثر يون على أصدقاء حقيقيين له في دمشق .ولكن كان الطبيعي ،أو لديه الكثير من المعارف وأغلبهم زمالؤه في مكتب اليونسكو .ومن ً ونظرا لعدم أنها خطة القدر ،أن يركز اهتمامه على اكتشاف الحواريين بين زمالئهً . ارتياح يون لثقافة التبجح لدى الرجال في مراكز السلطة ،فلم يكن غريبا أن ً نراه يركز على زميالته ،وعلى أولئك الرجال الذين عملوا في وظائف متواضعة جدا في المكتب. الحواري الحادي في النهاية ،انقسم الحواريون إلى مسلمين ومسيحيينّ .أما ّ عشر فلم ُت َعرف بعد هويته وانتماءاتهّ . ّ حواري: لكل والصفة الرتبة يون ف وصن ٍ 165
ن إ�يل دمشق ج
طارق الكاشف توأم قلب يون َ َ وصف أبا بكر بأنه الوحيد من بين جميع النبي محمد ،عليه الصالة والسالم، الصحابة الذي قبل رسالته من دون أدنى تردد .لم يكن من حاجة إلى إالغراء أو ُ الوعود أو حواجز نفسية تزال .وهكذا آحدث مع طارق ،الرجل الذي صادق يون في جامعة بنسلفانيا .طارق كان يعيش الن في عمان .وفي بداية شهر نيسان طلب منه يون زيارته في دمشق .وعندما التقيا سأله يون دون أي نوع من المقدمات: «هل ستنتظر معي عودة المسيح؟» وأجاب طارق مباشرة« :وكيف لي أن ال أنتظر معك؟»
السيدات الثالث ً ً ّ ات من النساء ،كن بعينيه وأيضا في شهر نيسان ،أخذ يون عهدا من ثالثة حواري ٍ والحسين بنات رجال مميزين« .صوفيا» و»ريدانة» كانتا من أحفاد الحسن ً ً عليهما السالم؛ وإيفا كانت حفيدة «بنودي سنقين» الذي كان مصلحا دينيا كبير أ ال ّ همية. أ كانت «صوفيا الحسني» سليلة النبي من خالل َنسب حفيده ال كبر الحسن. وفي اليوم الذي انضمت فيه إلى الحواريين شعر يون بأنه قد حصل على جوهرة ال البشرية في مكتب اليونسكو .وعندما قسم الموارد أ تقدر بثمن .كانت صوفيا ت ًرأس ً لم تكن تعمل ،كانت دائما تقرأ كتابا .في يوم من اليام وهي تقرأ كافكا ،جلس يون وتحدث معها عن المسيح .استمعت بصمت .وفي اليوم التالي وجد يون ورقة الكلمات« :لم يكن بإمكان آأحد أن يدخل إلى مطوية على أمكتبه تضمنت هذه ً ُ هذا المكان لن الباب لم يكن موجودا .لقد خلق لك فقط .والن سأغلقه». E
166
معر العمادي
أ أما «ريدانة ُ الحسيني» فكانت سليلة حفيد النبي ًالصغر الحسين .وكانت ً أيضا زوجة طارق الكاشف .وكان طارق يتحدث إليها دائما عن انتظار المسيح حتى يون يون .وبعد أن وصلت إلى دمشق طلبت أن تجلس مع ً وافقت على أن تقابل ً بمفردها .فهي كانت دائما تشعر بقدرتها على معرفة ما إذا كان المتحدث صادقا. بأنها ورثتها ًمن جدها نبي إالسالم .وتركهما طارق في مكتب وهي صفة كانت تعتقد ً تخلت عن تحفظها .وعندما يون .وبعد ساعة عاد متوترا ومتمنيا أن تكون زوجته قد ّ دخل المكتب وجد ريدانة تمسك بيد يون« .أنا معك ،كلي معك »،قالت ريدانة وهي تمد يدها اليسرى إلى طارق بينما يدها اليمنى تمسك بيد يون بقوة. E
«إيفا سنقين» كانت ابنة حفيد «بنودي سنقين» من ريف حمص .في نهاية القرن التاسع عشر التقى بندوي برجل من أتباع الكنيسة إالنجيلية المشيخية واعتنق المشيخية .وعند عودته إلى قريته اتهمه مجتمعه السرياني المسيحي بالكفر ،ولكنه تمسك بمعتقده الجديد ًونجح في إقناع أخويه باعتناقه ،وكان يقول: «هذا الدرب الجديد هو أكثر تواصال مع انتظار أميري ،المسيح ».وبعد مضي قرن جاءت إحدى حفيداته إلى مكتب اليونسكو ًالستعارة كتاب من المكتبة. وهناك التقت بمن تحدث إليها عن درب أكثر تواصال مع انتظار المسيح .وبينما تصديق ذلك ،لكنك في أمسك يون بيدها همست« :أنا أعرف بأنه من الصعب أ ستين دقيقة دخلت إلى نفس المكان في قلبي المخصص لوالدي .سأكون وفية َ لما ذكرته لي حتى النهاية».
الشعلتان ْ حواريين َ آخر ْين سرعان ما أصبحا في شهر أيار عام 1999تعرف يون إلى رفيقين ال يفترقان عنه .فأينما استدار كان واحد منهما بجانبه .لقد كانا ليون شعلتين يلجأ إليهما عند اشتداد الظلمة والعواصف:
167
ن إ�يل دمشق ج
نبيل صديقي ً ً حاجات قضاء عن مسؤوال العمر منتصف في رجال كان «نبيل صديقي» ً المكتب اليومية بما فيها تحضير الشاي والقهوة .كل شيء في حياته كان عاديا؛ خلفيته وتعليمه ومنزله .ولكن زوجته كانت العنصر غير العادي في حياته ،كانت تسيئ معاملته بشكل مستمر .وكان نبيل يكره المواجهة ،ووجد المالذ من إهانات المنزل في جامع صغير في ركن الدين .وقد ّ حدثه إمام الجامع الشيخ أحمد أن عليه أن يكون سفي ًرا إللسالم الحقيقي في زمن َّ شوه فيه المسلمون دينهم .إالسالم الحقيقي ،كما شرحه الشيخ أحمد ،هو فوق كل شيء ر ٍاق ووقور .هو وقور وذو أ هيبة لنك ال تستطيع وأنت تراقبه ،مهما كانت ديانتك ،إال أن تنبهر بممارسته. بالعجاب ،وإذا لم يدركوا ّ رقيه إذن فهناك شيء خاطىء «نبيل ،إن لم يشعروا إ يكن هناك في ممارستك لهً ،أو حتى أسوأ من ذلك ،في فهمك له ».وبالتالي لم ً أي شيء أكثر كرها للشيخ أحمد من أولئك المسلمين الذين يقترفون أفعاال تظهر أمسياته إالسالم بأنه جاهل وعنيف وهمجي .وهكذا كان نبيل يحب أن يقضي ً باالستماع إلى الشيخ أحمد وهو يتحدث عن إسالم راق يستحق أن يكون هاديا للبشرية نحو روحانية مستنيرة. ومثله مثل كل الحواريين ،كان على نبيل اجتياز ثالث مراحل لكي ُي َ ختار: َ َّ المالئكة ،على علم واضح بهذه العملية. مرحلة أولية ثم إعدادية فنهائية .وكنا ،نحن أ عدم الخلط بين االختيار النهائي والولــي أو إالعــدادي .يبدأ الدرب ويجب أ ُ باالختيار الولي وينتقل إلى إالعداد ومن ثم يطرح سؤالً ، وبناء على إالجابة يتأكد االختيار أو ُينسخ. أ واستند االختيار الولي لنبيل صديقي إلى أنه كان الذكر الوحيد على قيد الحياة من أجداده على علم بهذه الصلة من ساللة القديس يعقوب .ولم يكن نبيل أو أي أ نبيل ال كبر منزل عائلته في أريحا بعد العظيمة .ففي القرن العاشر غادر الياس جد ً واستقر إلياس في دمشق حيث أن تزوج أخوه من الفتاة التي كان يحبها هو س ًراً . اعتنق إالسالم وتزوج ابنة جاره الذي كان رجال متدينا ،وإلى هذا اعتنى بالياس سوى حبه الخالص للمسيح وإصراره وكأنه ابنه .وأخفى كل ماضيه عن أوالده أ ُ على العيش في حياة صالحة .كان يعقوب ،الخ الروحي للمسيح ،يعرف بالصديق بسبب والئه غير المحدود لتعاليم الكتاب المقدس ،وبعد ألف سنة اشتهر الياس بين أصحابه في دمشق بالياس الصديقي. 168
معر العمادي
دخل فيها ً إلى منزله وهو يشعر كأن لنبيل في ًالليلة َّ التي ً تم االختيار إالعدادي ً الشيخ أحمد قد منحه مرسوما ملكيا وعينه فارسا روحيا مهمته مشاركة التوحيد الصافي مع العالم .وصل إلى المنزل وحاول جهده أن يفتح الباب دون أن يوقظ زوجته.
ً «هل تعلم ماذا سأفعل غدا؟ سأذهب إلى الجامع وأفضحك أمام شيخك! ّ ُ يضيع وقته عليك». سأقول له إنك ال تستطيع إعالة أسرتك ،وعندها سيدرك بأنه ِ كانت قد سمعت وبدأت ابنته في الغرفة المجاورة بالبكاء .وتساءل نبيل إن ً أمها تصرخ عليه .وكانت كل خلية في جسمه تريد أن تصرخ عاليا وتقول لزوجته بأنه لم يعد يحتمل المزيد .ولكن اعترض غضبه سؤال سمعه من الشيخ أحمد: الرقي أن تصرخ على الزوجة؟» توقف نبيل للحظات ،ثم ذهب إلى غرفة «هل من ً نوم ابنته محاوال أال ينظر في عيني زوجته .نظرت ابنته إليه وأغمضت عينيها .وضع يده على رأسها وأنشد بصوت منخفض: «هللا ،هللا، هللا ربي، عوني وحسبي، مالي سواه، مالي سواه».
ً واعترف ليون مرة قائال...« :عندما أغني ..فقط أمي تعرف بأنني أبكي »... E
ًلقد انجذب نبيل إلى يون منذ اللحظة التي بدأ عمله في اليونسكو .ذلك أن أحدا لم يبتسم له كما فعل يون .ولم يسأله أحد سوى يون لماذا كان يبدو عليه التعب أو الحزن أو حتى الفرح .ولم يطلب منه أحد سوى يون أن يجلس ويشرب معه فنجان الشاي الذي أعده .عندما يكون مع يون كان نبيل يستطيع أن يشعر بحقيقته كسفير مرموق إللسالم .وكان ّ يقص على يون كلمات الشيخ أحمد وكان يون يبتسم ويؤكد له كم هو متفق معها .وعندما طرح يون على نبيل رؤيته لعودة المسيح وطرح السؤال الذي يمثل اختيار نبيل النهائي ،شعر نبيل بأنه قد حصل على ترقية من سفير إللسالم الحقيقي إلى مرتبة أحد حواريي المسيح الجدد. 169
ن إ�يل دمشق ج
ً ً منذ ذلك وجدانه. بكل نبيل واحتضنها ، مهيبا حدثا كانت الترقية بالنسبة إليه ً ً اليوم حرص نبيل على أن يكون دائما أبجوار يون .كان يبقى في الظل صامتا أغلب الوقت ،ويظهر فجأة عند حاجة يون لي مساعدة. ً ً ماضي» ،مساعد يون الشخصي ،في أن «ركان إقناع في هاما ولعب نبيل دورا أ يكون أحد الحواريين .ولكن ركان ،كما أثبتت الحداث فيما بعد ،كان قد انضم للحواريين فقط من رغبته في أن يكون ضمن محيط تأثير يون .وقد خان فيما بعد ثقته به.
أليسار كوزاك «أليسار» هي ابنة أخت نادين ،التي كانت امرأة مسيحية تعمل في ًوحدة البحوث في مكتب اليونسكو .شعر يون بالقرب من نادين وكان يفكر جديا في دعوتها لكي تنضم إلى الحواريين عندما فاجأته بطلب ...أن يقابل ابنة أختها البالغة التاسعة عشرة من العمر التي كانت تعاني من اكتئاب شديد« .هي تستيقظ تصرخ! هناك شيء فيك يا يون يشعرني بالهدوء ،ولعلك تستطيع كل ليلة وهي ً مساعدة أليسار أيضا؟» كانت أليسار متوسطة الطول شعرها أسود وجسدها ملفوف كزجاجة ساعة يون رملية .وكانت ثيابها تلفت النظر إلى أنوثتها الحسية .عندما دخلت إلى مكتب ً شهر أيار عام 1999كانت ترتدي تنورة طويلة مفتوحة من الجانبين وقميصا في ًبداية ً ضيقا قصيرا يظهر سرتها. أ «لماذا َ طلبت مقابلتي؟» سألته وهي تجلس على الريكة الصغيرة التي تواجه مكتبه .كانت مليئة بالثقة ولم تشعر بأي حرج وهي تنظر مباشرة في عينيه. أ ابتسم يون« .كان المر خارج سيطرتي». «هل أنت مهتم بي؟» تفاجئك». «نعم وبطرق قد ِ 170
معر العمادي
آ «لم أمارس الحب مع رجل أكبر مني من قبل .في الحقيقة حتى الن لم أمارس الحب سوى مع وسادتي». «وسادة؟» «نعم ،ولدينا عالقة جسدية جادة .وحتى لها اسم «جوان» هل تعرفه» من «دون جوان»». «إذن أنت تضعين رأسك على جوان وماذا يحدث بعد ذلك؟» «ال ،هناك وسادة ثانية لرأسي .جوان ينام بين ساقي .في منتصف الليل بعد أن يتأكد بأنني نائمة يبدأ بممارسة الحب معي فجأة». أدار يون رأسه نحو النافذة إلى يمينه .وقد تفاجأ من شعوره بعدم االنزعاج. «هل تعرفين ما هو أكثر حميمية من ممارسة الحب مع شخص؟» «فاجئني!» «النوم بين ذراعي شخص». «أنا ليس لدي أي مشكلة في النوم». بسرعة ،وتعرفين بأنك استيقظت «أعلم .ولكنك تستيقظين فجأة وقلبك ينبض ً من كابوس على الرغم من أنك ال تتذكرين منه شيئا ،ثم تدفنين كل هذه المشاعر المظلمة في جوان». «هل أخبرتك نادين بهذا؟» 171
ن إ�يل دمشق ج
«نادين ال تعرف عن هذا .بإمكاني التخلص من كوابيسك». E
واتجهت نحو الباب وأغلقته ثم اقتربت من يون حتى وقفت وقفت أليسار ً أمامه .بقي يون هادئا في كرسيه وكأنه كان يعرف ماذا سيحدث .انحنت أليسار ووضعت يدها على عينيه وكأنها تعيق إدراكه لما هي على وشك فعله .قبلته قبلة طويلة .دفعت بلسانها داخل فمه وقبل أن تبعد رأسها عضت شفته بلطف .ومن ثم أبعدت يدها عن عينيه وكأنها تحاول تفحص أثرها عليه .لكن عينا يون بقيتا ْ َ مغلقتين .وأدرك ْت كما أدرك ُت أنا بأن يون قد استطاع أن يعطل أثر قبلتها عليه. أخلصك من الكوابيس». وهمس« :أنا أستطيع أن ِ «مارس الحب معي وسأتخلص من جوان». ابتسم يون« .ماذا تفعلين اليوم بعد الظهر؟» «ال شيء إن أردت رؤيتي». «نعم أريد ذلك .سنلتقي في الخامسة». «نعم ،أين؟» «دعينا نلتقي هنا وبعدها ننطلق». عادت أليسار في الساعة الخامسة .وكان يون ينتظر في سيارته .رأها تصل بسيارة أجرة وناداها عندما خطت نحو آ البوابةً الرئيسية لمكتب اليونسكو .التفتت واتجهت نحو سيارته .كانت ترتدي الن ثوبا بال أكمام لونه أبيض موشح بورود حمراء صغيرة .صندلها ً بكعبه العالي لفت المزيد من االهتمام إلى أسلوب مشيها اللعوب الذي بدا عفويا. 172
معر العمادي
ركبت في السيارة ومدت يدها مباشرة إلى ساق يون« .هل نحن على وشك أن نخون جوان؟» ً بقي يون صامتا وقاد السيارة إلى دمشق القديمة. «هل سمعت ببوب ديالن؟» ً «انا الذي يجب أن يسألك ذلك .أنت صغيرة جدا على معرفة بوب ديالن!» َ «أنا من معجباته .إذا أردت ان تثيرني أسمعني أغاني ديالن». نظر يون إلى يساره وحدق في جيب في باب السيارة حيث يضع أقراص الموسيقا المضغوطة. إثارتك االنتظار». «أخشى بأن على ِ «ال تهتم ..فإنني أستطيع أن أسمع الموسيقا في خيالي». آ أ «هل تستطيعين؟ ما هي الغنية التي تستمعين إليها الن؟» «مستر تامبورين مان».
ً في شمال قلعة دمشق هناك حارة صغيرة ُر ِّم َم ْت حديثا .قاد يون السيارة من خالل قوس بوابتها ثم توقف .أغمض عينيه وقرأ الفاتحة. «ماذا تفعل؟» قاض مسلم لدمشق مدفون هنا وقد أرسلت إليه فاتحة». «أبو الدرداء ،أول ٍ ً «هل تملك منزال في هذه المنطقة؟» 173
ن إ�يل دمشق ج
ً ً استأنف يون قيادة السيارة وانعطف يمينا ثم شماال ثم أوقف السيارة. «تعالي».
أ لحقت أليسار به .وكان الجامع الموي على بعد ًبضع خطوات واتجه يون نحو بوابة السياح .اشترى بطاقة دخول للسياح وطلب جلبابا ،وهو عباءة بقبعة َّ مخصصة أ للزائرات اللواتي ال يرتدين مالبس محتشمة ،وناوله لليسار. «ستمارس الحب معي في الجامع؟ أنا ليس لدي أي مانع إذا كنت أنت ال تمانع؟» أمسك يون بيدها ومشى باتجاه باب الفراديس الذي يقع تحت منارة العروس الشمالية .خلع حذائه ووضعه عند حارس البوابة الذي أأشار إلى أليسار لتفعل الطويل والقدمان إليها .لقد أضفى عليها الثوب السود أ ينظر ً الشيء نفسهً .وقف ً الحافيتان مظهرا مختلفا تماما ،لكنه لم يتمكن من إخفاء حضورها النوثي. المرة مدت أليسار يدها لتمسك بيد يون بطريقة بدت تلقائية .كان صحن وهذه ً كن النساء اللواتي ً الجامع خاليا سوى من أطفال يركضون ويلحقون بالحمام ،وبعض أ يجلسن في الظل يتحدثن .اتجه يون نحو قبة الخزنة وجلس على الرض مستندا إلى أحد أعمدتها. ً وقالت أليسار وهي ما تزال واقفة« :هنا؟ لن يكون هذا مريحا!»
أ آ «فقط ًاجلسي أليسار .الن انظري إلى العلى .المنارة التي على يمينك ستشهد قريبا بداية شيء رائع يغير طبيعة الحضارة البشرية». «كل ما أريد أن أفعله هو أن أقبلك مرة أخرى».
آ أ اقتربت بعض الحمامات ولول وهلة بدا عليها التردد ثم هتفت لبعضها الخر فاقتربت أكثر .وبعد قليل أصبح يون وأليسار محاطين بالحمام. وقالت أليسار« :ماذا تريد منا؟» وأجابها يون بابتسامة« :تريدك أن تحسني التصرف». 174
معر العمادي
«قل للحمائم أن تذهب». وهذه المرة وضع يون يده على عينيها. قدميها وشعرت أليسار بنسمة ربيعية تالمس وجهها وبالرخام البارد تحت َ وضحك الحافيتين .وفجأة غطتها سحابة نعاس حاولت مقاومتها .لكن يد يون ِ أ الطفال العذب القادم من بعيد زادا من استرخائها .توقفت عن المقاومة ووضعت رأسها على حضن يون وتكور جسدها ويديها بين ركبتيها .اقتربت حمامة شجاعة من قدميها وقفزت على ساقها .ابتسم يون وتساءل ماذا كانت أليسار ستفعل إذا فتحت عينيها فجأة ورأت هذه الحمامة بهذا القرب منها .وبقيت نائمة إلى أن ارتفع أذان المغرب ثم فتحت عينيها. «البد أنك خدرتني». «إنها الحمامات .هل حلمت بشيء؟» «نعم ولكن دون كوابيس .لقد قررت استبدال جوان بك». ً «لن يكون جوان مسرورا». «سأحضر له وسادة أنثى». اقتربت من وجهه وخاف يون أنها توشك أن تقبله مرة أخرى هنا في صحن الجامع وكان صبره لهذه التصرفات قد نفذ .والكنها همست في أذنه بمقطع من «ألق سحر الرقص نحوي وسأعدك بأن ال أقاومه». أغنية لبوب ديالنِ : E
أليسار كوزاك ًولدت في دمشق ولكن أجدادها جابوا في الماضي براري أوكرانيا. القوزاق كانوا عشاقا للحرية ،وورثت أليسار عنهم هذه الصفات .وبعد انتهاء الحرب أ الهلية الروسية في 1920غادر كثير من القوزاق روسيا بعد أن وقفوا بجانب الجيش 175
ن إ�يل دمشق ج
أ أ أ البلدان الوروبية الخرى وبعضهم إلى أمريكا نحو غالبيتهم واتجهت بيض. ال أ ومنها إلى سورية ليستقر تركيا، نحو اتجه كبر ال وكندا .ولكن «أندري» جد أليسار ً في قرية كفرون الشمالية .كان وراء قراره منام سمع فيه صوتا يطلب منه التوجه الجبل بالقرب من مدينة نحو سورية والبحث عن جبل العذراء .وهو قد وجد ً وهناك اشترى قطعة أرض صغيرة وبنى منزال وتزوج من ابنة خباز كفرون الشمالية. أ ذهب القرية .وفي يوم من اليام وهو يعمل في الحقل تساءل «ماذا لو؟» ماذا لو ً كيف له أن يتخذ قرارا إلى ًألمانيا مثل غالبية أقاربه؟ ألم تكن أ الحياة أسهل هناك؟ ً ً منام؟ وبدأت السئلة تزداد أ ضجيجا في رأسه .خلد إلى مهما ً كهذا بناء على مجرد ً يهرب من تلك الصوات .وفي تلك الليلة رأى النوم باكرا في تلك الليلة أمال في أن ً في منامه طفلة جميلة كانت ترتدي تاجا من الماس أجمل بكثير من ذلك الذي ساللتك ارتدته قيصرة روسيا .وسأل «من تكون الطفلة؟» وأتى الجواب« :هي من ً تماما جميل .لم يفهم أ وهي سبب قدومك إلى هنا ».واستيقظ أندري ولديه شعور أ كاف لن يوقف إلى البد ما كان المنام يشير إليه ،ولكن كان هناك شيء خاص ٍ هذا الشعور بالندم. E
أ في صحن الجامع الموي بداية أليسار جديدة .ومثل أ وشهدت ظهيرة ذلك اليوم ً جدها ال كبر قبلها لم تفهم تماما ماذا كان يعني يون بحديثه عن عودة المسيح، بشيء تجاه يون كان من العمق والقوة بحيث َّبدد جانبها المظلم .تلك لكنها أحست ٍ الشهوانية الفجة التي كانت تتغذى على عالقة مظلمة مع صديقها الخيالي جوان تحولت إلى توبة وحسية أنثوية رقيقة وبتعبير بريء لطيف. حلب في رافقت أليسار يون إلى كل مكان ً يذهب إليه .ومرة في أثناء رحلة إلى أ مهمة لليونسكو عاد يون إلى الفندق متأخرا في الليل ليجدها جالسة على الرض أمام غرفته. «لقد تأخرت!» «وأنت في المكان الخاطىء». ِ تبعته إلى داخل غرفته. 176
معر العمادي
ً «أنا نعسانة كثيرا وال أستطيع أن أصدق بأنك تركتني أنتظرك كل هذا الوقت». «أليس »،كما كان يناديها يون «أنا حتى لم أعرف أنك في حلب!» «وأنت ّتدعي بأن لديك بصيرة!» على الفراش .هز رأسه ذهب يون إلى الحمام وعندما خرج كانت مستلقية أ واستلقى على الفراش بجانبها .وضعت رأسها على كتفه اليمن كما تفعل االبنة الصغيرة مع والدها.
أ ّ «احضني ً رجاء .ال أستطيع أن أنتظر أكثر كي تأتيني الحالم العذبة وأنا نائمة بقربك».
َّ سأتدخ ُل مباشرة و ُ أليسار أو كليهما أو يون سحبت لكنت في أي وقت آخر كنت ً ً من الفراش .ولكني لم أكن قلقا ،فكل شيء في تلك الغرفة كان بريئا ،وبدا أن كل شيء في توازن تام.
الخائن كان ركان ماضي المساعد الشخصي ليون من الذين فشلوا في تجاوز امتحان االختيار ،وأطلق عليه الحواريون لقب الخائن .كان يون يتفادى التحدث عنه، عندما يلحون عليه يقول« :هو كان من ُدعي إلى العشاء في قصر الملك ولكن أ واختار ال كل في الزريبة».
أ العمدة الثالثة أليخاندرا ميندز كانت «أليخاندرا» واحدة من اثني عشر اختيروا من بين جميع البشر ليكونوا في استقبال المسيح عندما يصل .كانت فتاة إسبانية في بداية العشرينات ،تعمل 177
ن إ�يل دمشق ج
ً في مكتب دمشق كمسؤولة برامج .وهي واحدة من عدد قليل جدا أمن الشابات والشباب الذين تختارهم الحكومة إالسبانية لتدريبهم في مؤسسات المم المتحدة لتستقطبهم فيما بعد للعمل كموظفين مدنيين دوليين. أليخاندرا تشعر بالفخر بتراثها إالسباني ،إال أنها لم تكن تدرك كم كان وكانت ً هذا التراث مثيرا .فإحدى جداتها من طرف أبيها ،وكان اسمها ألغيرا ،كانت النساء إالسبانيات اللواتي خطفهن جنود عثمان بن ناعسة، من بين مجموعة من أ الحاكم البربري لشمال ًالندلس في القرن الثامن .وقد وجدت ألغيرا البالغة من خيمة الجندي العربي جواد بن ُعمير .عندما العمر السادسة عشرة عاما نفسها في أ ّ تسمر في مكانه لنه لم ير مثل هذا الجمال من قبل .ثم فتح جواد إلى وجهها ً نظر ً «باسم هللا الواحد »،وهو يضع الخاتم صندوقا وأخذ منه خاتما من الزمرد .وقال ً في أحد أصابعها المرتجفة .لم تر ألغيرا حجرا بهذا الخضار من قبل .وفيما بعد وبينما كان جواد يعاشرها في تلك الليلة الربيعية الباردة أمسكت الخاتم بيدها بقوة ورددت شفتاها صالة «المسيح يفديني ،المسيح يفديني» .ووضع جواد أذنه على فمها وكأنه يحاول استنشاق كلماتها مع رائحتها .وبعد أسبوع واحد فقط تحررت ألغيرا ،ومع نهاية شهر أيار نفسه تزوجت من سانشو أحد الشبان الذين حرروها. يتميز بلون بعد تسعة أشهر ولدت ابنة سمتها جبلوردين ،وهو نوع من الفطر الذي ُ أخضر فاقع على طرفه السفلي .هذه الطفلة التي ولدت من خالل رابطة أ ِسست باسم الواحد ُوب ِنيت بصالة «المسيح يفديني» كانت جدة أليخاندرا ميندز الكبرى من طرف أمها. وبعد أربعة قرون في 16تموز عام 1212شارك دييغو لوبيز ،وهو سليل مباشر لـ العقابً ،وهي إحدى المعارك الفاصلة جبلوردين ،في معركة ال نافاس دي تو ً لوسا أو ً في التاريخ إالسباني والتي شهدت نصرا إسبانيا حاسما على المسلمين .بعد انتهاء بين قتيل أ وجريح عندما سمع المعركة ًمشى دييغو بين حوالي مائة ألف ًجسد ً ً حياته دقائق في رض ال على مسلما جنديا يمينه على وجد الماء. يطلب خافتا صوتا أ ً ً ً وشك الغروب وكان دييغو منهكا ومصابا ومتلهفا على الشمس كانت خيرة. ال ً لمغادرة موقع المعركة .ولكن شيئا سيطر عليه أكثر من تعبه ورغبته في االستراحة ُ كان وتلهفه لالحتفال بالنصر جعله يهرع إلى المخيم الرئيسي ليجلب الماء ويعودً . يشعر بالخوف وهو يحمل إبريق الماء الصغير من أن يجد الجندي المسلم ميتا عندما يصل .وسأل نفسه وهو يركض« :من نكون وما هي مبادؤنا إن لم ّ نلب ِ أ رجاء رجل يطلب الماء في لحظاته الخيرة؟» عندما وصل دييغو رفع رأس الرجل ووضع إبريق الماء بالقرب من شفتيه لكن الرجل كان قد فارق الحياة ،وكان آخر تواصل له مع الماء دموع دييغو التي سقطت على وجنتيه .وباسم تلك اللحظة
178
معر العمادي
حصلت أليخاندرا ،سليلة دييغو من القرن العشرين ،على شرف اختيارها كإحدى الحواريين للمسيح. أ كان لليخاندرا جسد شابة مراهقة بطول 157سم وكان شعرها كستنائي أاللون وعيناها خضراوين بلون شجر الصنوبر .وتنانيرها القصيرة كانت في كامل الناقة، إال أنها كانت تجعلها تبدو مثل طالبة مدرسة وهي تمشى في المكتب .وكانت تتطلع الى أن يطلب منها أحد في المكتب أن تشارك في مشروع هام .لكنها كانت تتحدث بسرعة كبيرة وبلهجة إسبانية واضحة يصعب فهمها على معظم الموظفين السوريين من متحدثي اللغة إالنكليزية .أدرك يون مشكلة التواصل هذه واستغلها لصالحه .وعندما اتصل ليطلب منها أن تأتي إلى مكتبه شعر بتلهفها للحصول على أي اهتمام مهني أو غير ذلك. «اجلسي .ماذا تريدين أن تشربي؟» «ال يوجد لدي الكثير من الخيارات يون!» «لدينا كباتشينو ممتاز». «كباتشينو؟ لم أتذوق كباتشينو منذ أن وصلت إلى دمشق». ً «إذن حان الوقت لنفعل شيئا إزاء ذلك .اتبعيني أليخاندرا». قال يون هذه الكلمات وخرج من مكتبه دون أن يلتفت إلى الوراء ليتأكد إن كانت أليخاندرا تتبعه أم ال .ولكنها تبعته .وبعد لحظات ركبا في سيارته السانغ يونغ الجديدة ،التي اشتراها منذ سنة بعد أن قرر بأن سيارته المرسيدس موسو السوداء أ التكنولوجية الغريبة! وبيما كان بروس سبرينغستين ال تصلح إال لمتحف للُخطاء ً تستطيع أن تشعل نارا وأنت خائف على انهيار عالمك الصغير »،قاد يغني« ،ال ً يون سيارته مبتعدا عن مكتب اليونسكو .وبعد دقائق دخال إلى فندق الشيراتون أحد ثالثة فنادق خمسة نجوم وحيدة في ذلك الوقت في المدينة .وكانت هندسة قاعة المدخل مستوحاة من الباحات الدمشقية بنوافيرها الرخامية .وفي إحدى 179
ن إ�يل دمشق ج
الزوايا كانت هناك فتاة تعزف البيانو .اختار يون زاوية منزوية وأشار إلى أليخاندرا لتجلس .عندما جاء النادل طلب يون فنجاني كباتشينو. ً راقب يون أليخاندرا .كانت ترتدي قميصا أبيض اللون بال أكمام وتنورة حمراء إلى يساره وعلى بعد أمتار قصيرة وحذاء أبيض بكعب ٍ اشات حمراءً . عال عليه فر ً قليلة جلست امرأة بمفردها كانت تقرأ كتابا وترتدي قميصا أحمر اللون بال أكمام عال عليه فراشات بيضاء .ودخلت صورتها وتنورة بيضاء قصيرة وحذاء أحمر بكعب ٍ عيني يون وبدا أنه لم يتمكن من استيعابها فعاد بنظره إلى أليخاندرا بمستوى أكبر من االهتمام. «أنا لم آت إلى هنا من قبل .أنت مجنون لماذا جئت بنا إلى هنا؟» «كنت أعتقد بأنك تريدين كابتشينو؟» «يون من المفترض أن نكون في المكتب أليس كذلك؟»
ً ً كانت أليخاندرا بعد أن تسأل سؤاال تفتح شفتيها وتبقيهما منفرجتين قليال العليا مع لمحة ابتسامة تبقى لثانية أو ثانيتين ،وبعدها تمد لسانها ليالمس شفتها ً وشعر الكهما بأن هناك شيئا يون هذا ً ً وكذلك ريشة ،كل من جهته ً ،أ للحظة .الحظ ً يحدث هنا ،أنثويا ًحسيا جدا يحدث .وكان هذا مهما لن يون حتى هذه اللحظة َ عندما يكون لديه رؤية لم يكن ُملهما حسيا ً ،وكان أداؤه أفضل ما ً يكونً ،ليس ًفقط ً لهدف ما ،وإنما أيضا عندما يكون منجذبا عاطفيا وملهما حسيا.
ً ً «أليخاندرا ،كيف لنا أن نعمل سويا إن كنا بالكاد نعرف بعضنا؟ أخبريني شيئا عنك». ُ وصل الكابتشينو وكانت أليخاندرا متحمسة ُّ لتذوقه وكأنها تطمئن نفسها بأن وجودها هنا لفائدة. «إنه لذيذ .أنا متفاجئة .ماذا تريد أن تعرف؟»
أ أ ومرة أخرى ،ثوان من فتح الفم وظهور اللسان والثر الخير للشفتين المبلولتين. 180
معر العمادي
«كل شيء». ً «حسنا .أنا من إسبانيا .وأنت تعرف ذلك ولكنك ال تعرف بأنني من أستوريا الجزء المميز منها ،فهي المنطقة الوحيدة التي لم يستعمرها العرب!» «مثير». «نحن شعب فخور ونصنع أفضل سيدرا في العالم». «سيدرا؟» «سيدرا هو نبيذ التفاح .لدينا أفضل أنواع التفاح وبالتالي لدينا أفضل سيدرا!» «ما زلت أنتظر أن أسمع عنك .هل أساعدك؟» «كيف ستساعد؟» «بأن أطرح عليك أسئلة محددة». «اسأل». «هل وقعت في الحب من قبل؟» «يون! هذه أمور خاصة». «أنا فقط أحاول أن أتعرف إليك أكثر .إن أردت بإمكاننا أن نشرب الكاباتشينو ونذهب». 181
ن إ�يل دمشق ج
لم تعجبها فكرة المغادرة .ربما كان يون يسأل عن «أمور خاصة» ولكنها كانت تندمج في أول محادثة حقيقية منذ أن وصلت إلى دمشق ،وكانت مستعدة من تنتهي .وهكذا بعد ساعتين خرج يون وأليخاندرا ً للتحدث عن أي شيء لئال ً ً ّ الشيراتون .كان يون ما يزال لغزا لها ،ولكنها كانت قد قصت عليه قصصا وأسرارا حتى أختها لم تعرفها عنها .ولكن هناك أمور آثرت عدم فتحها معه ،أمور عن عالقتها بزوجة أبيها .لم تخبر أليخاندرا يون عن إساءة زوجة أبيها الجسدية لها التي دمشق .لم تقصص تلك الليلة التي صفعتها فيها زوجة لم تتوقف حتى غادرت إلى أ أصدقائها لنه لم يعجبها ما كانت ترتديه لحفلة عيد ميالدها أبيها على وجهها أمام ً بفرشاة التاسع عشر .ولم أ ِ ترو له أيضا عن ذلك اليوم عندما ضربتها زوجة أبيها أ أكثر مع والدها .والهم شعر على رأسها لنها تجرأت ْوطلبت أمنها التحدث بلطف ً من ذلك أن أليخاندر أا لم تعلمه عن السلوب الذي كانت دائما تستجيب به لهذه ذلك مرة أخرى ».ولعل إالساءة؛ «أنا آسفة لنني ِ أزعجتك ،وأعد بأن ال أكرر أ تشارك هذه القصص مع يون أو أي شخص آخر ألنها في الوعيها فهمتها أليخاندرا لم أ بمثابة حد أن يطلع عليها إال هللا .وكانت هذه الحداث المريرة كأسرار ال يجوز ل ٍ ً مرحلة إعدادية لها .وعندما وصلت في النهاية إلى الشيراتون ،وصلت تحمل شعورا ً لئك الذين يستجيبون لجراحهم بسمو؛ إنه إاليمان الراسخ بأنهم و أ لدى تجده عميقا َ أ في يوم من اليام سيتعاف ْون. في تلك الليلة اتصل بها يون .كانت في شقتها الصغيرة في أبو رمانة. «هل أنت جاهزة؟» «جاهزة لماذا؟» «هل نسيت موعدنا الليلة؟» «أي موعد؟» ً «حسنا أليخاندرا إذا كنت ال تريدين أن تذهبي ...؟» 182
معر العمادي
«انتظر أريد أن أذهب .إلى أين سنذهب؟» ويعد عشرين دقيقة كان عند شقتها الصغيرة على سطح بناية في أبو رمانة. إلى غرفة نومها لتنتهي من ارتداء ثيابها .وبعدما لمح فتحت الباب وعادت مسرعة أ ّ يون قدميها الحافيتين وشورتها البيض ،دخل إلى الشقة وتوجه نحو الشرفة. «بإمكانك أن تغير الموسيقا إن أردت ذلك».
أ وستصبح طريقة أليخاندرا "اكتشافك" المسماه انا ز رو غنية ل وكانت تستمع أ المفضلة لقضاء أمسياتها فيما بعد هو االستماع المتكرر لهذه الغنية التس كانت تذكرها بأوقاتها مع يون. «هل تعرف ماذا تقول؟ أم أن لغتك إالسبانية بسوء لغتي العربية!»
ً ً ً وحذاء مفتوحا والكثير من استدار يون .كانت أليخاندرا ترتدي ثوبا أسود قصير الحلي الفضية بما في ذلك خاتم على إصبع قدمها. «إنها تقول :أنا أبحث عنك منذ زمن طويل في روحي وفي جلدي». وفي نهاية المطاف ذهبا إلى البيانو بار الواقع على الطريق التي تقود إلى كنيسة حنانيا حيث استرد بولص بصره منذ حوالي ألفي سنة .وكانت أليخاندرا في مزاج لعوب ،فهناك شيء ما جذبها إلى يون ولكنها لم تكن متأكدة ما هو .ولكن يون الطفل الذي علمته ريشة في الماضي ،استجاب لمزاجها بإغواء راق مراوغ مما أدى إلى أن زاد من إثارتها .وعندما سألت إن أراد العودة إلى شقتها ،تحدث عن تنظيم حفلة للموظفين عندها .وعندما سألت عن الفكرة الخيالية المفضلة لديه حدثها عن رمز الكهف عند أفالطون ،وعندما وضعت قدمها على قدمه مد يده وأزال الخاتم من إصبعها« .من أين حصلت عليه ،هل أستطيع قياسه؟» وفي طريق عودتهما ،بدت وكأنها استنفدت طاقتها ،فوضعت يدها حول خصره ومالت برأسها على كتفه ،بينما يون يقودها َ صوب حنانيا .كانت الكنيسة تغلق أبوابها في حوالي الساعة السادسة ،ولكن البوابة كانت ما تزال مفتوحة عندما وصل يون ُ تساءلت أنا ًمن كان ً المسؤول عن ذلك؟ هل مع أليخاندرا قرابة منتصف الليل. كان عصا؟ ولكن يون لم يكترث لذلك .نزال درجا مظلما حتى وصال إلى الكنيسة 183
ن إ�يل دمشق ج
أ ً التي كانت يوما ما أقبو منزل حنانيا .وكان النور الخافت رض ال السفلية تحت ً المنبعث من الشموع كافيا إلظهار بعض اليقونات على الحائط .وقفت أليخاندرا بالسبانية: مذهولة ثم رسمت إشارة الصليب على صدرها وكررت إ «المسيح يفديني». وبعدها أدارت رأسها نحو يون.
آ استطعت فتح قلبي كما لم أعرف من قبل .والن تجلبني إلى «في يوم واحد آ هناً .روحي انفتحت لك الن كما كان جسدي في بداية الليلة في البار ».بقي يون صامتا. «ماذا تريد مني؟» «أريدك أن تنتظري ،تنتظري معي». «أنتظر؟ أنتظر ماذا؟» وهمس في إذنها« :انتظري معي المسيح بن مريم العذراء الذي أرسله هللا الواحد للجميع .كوني معي عندما يهبط بكل مجده على المنارة البيضاء شرقي دمشق». وكأنها تحاول حدقت أليخاندرا في يون وهي مصدومة .ومدت يدها إلى كتفه ً أن تتمالك نفسها من السقوط .ولم تكن متأكدة إن كان يتوقع منها جوابا .ومن ثم استجمعت كل طاقتها ومشت بسرعة نحو السيارة دون أن تتفوه بكلمة. لم يتحدثا في طريق العودة .بدت أليخاندرا مذهولة بالكامل .وعندما وصال نزلت من السيارة ومشت نحو شقتها دون أن تودعه .وفجأة استدارت وعادت إلى السيارة .فتح يون النافذة. «هل تتذكر ما قلته لك عن أستوريا؟ بأنها لم تقع في قبضة المسلمين؟» 184
معر العمادي
«نعم». ً «ولكن الليلة يا يون وفي أقل من ساعة دخل المسلمون أخيرا إلى أستوريا». ابتسم يون« .ربما يا أليخاندرا! ولكنهم فعلوا ذلك باسم المسيح!»
هانز سابولد الثقافي .كان يعرف الكثير عن الدكتور «هانز سابولد» المختص بالتعليم ً تاريخ الثقافة الدمشقية مما جعل يون يفتتن به فكريا .ومرة وهما يمشيان في سوق للخضار في حي ركن الدين سأل هانز: َ ًّ عليا؟» «دكتور يون هل تعرف لماذا يسمى التين ب
أ «لنه يتغذى بماء المطر». «نعم ولكن لماذا َب ّ علي؟» «ال أعرف سوى أن هذه الكلمة تعني المحاصيل التي تتغذى بماء المطر». «بعل أهو إله المطر والرعد والبرق .وفي الحقيقة نحن نعرف كيف أصبح إله المطر من اللواح التي اكتشفت في رأس شمرا في شمال سورية والتي تعود إلى حوالي 1500سنة قبل الميالد! فكما ترى ..بعد مضي أكثر من 3500سنة ..وبعد والسالم ما زال التين الذي يتغذى بماء المطر يسمى قرون من اليهودية والمسيحية إ في دمشق بعلي! ماذا يقول ذلك عن دمشق؟»
ً ً «يوهان» عريفا تقنيا ولد هانز أفي ر أ اينالند في قرية «أورمتز» .وكان والده ُ َ لماني .ولنه كان يتمتع بخلفية هندسية فقد أ ِرسل إللشراف على في الجيش ال أ «بيرغن» النرويجي .وفي أثناء إجازة قصيرة إنشاء التحصينات اللمانية في مرفأ أ في عام 1940تزوج يوهان وولد ابنه الول هانز بعد تسعة أشهر .وبعد االنتهاء
185
ن إ�يل دمشق ج
ُ من إنشاء التحصينات طلب من يوهان إالشراف على مشروع آخر في معسكر اعتقال «أسبيالند» في آرنا القريبة من بيرغنُ . ُ معظم العمال من اليهود من وجلب معسكر اعتقال أولفين .وفي هذا الوقت بدأ يوهان في رؤية هذه المنامات؛ كان بناء ما يبدو كصرح عظيم أفي البداية ولكن موضوعها يتكرر باستمرار فهو يشارك في أ ٍ عند نهاية المنام يحترق ويتهاوى إلى الرض .وفي صباح ٌأحد اليام كان يوهان ما يزال يحاول نسيان أحد هذه المنامات عندما شهد جنديا يضرب أحد العمال المنام وصورة حتى الموت .وفجأة تطابقت الصورتان في ذهنه ،صورة الحريق في ً ُ الضرب العنيف للعامل .وولد شيء في قلب يوهان ،شيء جعله مهووسا بالتكفير عن خطيئته لمساعدته في بناء «بيت الشر» كما أصبح يراه .ومنذ حوالي عام 1943 وحتى 1945عندما ُح ّ ِر َر معسكر اعتقال أسبيالند ،أكان يوهان قد ساعد ًأكثر من عشرة أسرى أ يهود على الهرب إلى السويد ،ولكن الهم من ًذلك كان دائما ّيشارك يكفر عن طعامه مع السرى في المعتقل .وكان يسأل أنفسه «كم رغيفا من الخبز ِ بناء هذا المكان؟» وعلى ذلك كان معظم السرى الذين ُوجدوا على قيد الحياة عند تحرير المعسكر ،وعددهم مئتان ،يدينون بحياتهم ليوهان سايبولد .ولكنه اختفى قبل أن يشكره أحد .خلع زيه العسكري وعاد إلى أسرته في أورمتز. ً قبل أن يدرس أ علم االجتماع كان هانز يريد أن يصبح قسا ،ربما بسبب أمه أو يمسك سانت ًجورج عندما كان ربما بسبب تلك اليام التي كان يقضيها في كنيسة ً ً مسبحة الدعاء في صالته .ولكن ذلك لم يكن حافزا كافيا إل كمال دراسته ،وبدال إفريقيا. ً من االستمرار في دراساته الدينية جمع مدخراته وانطلق الكتشاف شمالً وفي إحدى المرات ،في أثناء تجواله في سوق في مراكش الحظ مسجدا صغي ًرا. المسجد كان مختلفا. هذا ً كان قد ز ًار في السابق جوامع مراكش الكبيرة ،ولكن ً وكان مغلقا بعد انتهاء صالة العصر ،ولكن هانز وجد بابا جانبيا دخل منهَّ .كان ُ الجامع على شكل مكعب صغير مغطى بقبة زخرفت قاعدتها بزجاج أزرق معشق. وهمس هانز لنفسه« :هذا بالفعل مختلف ».جلس وظهره إلى الحائط ،وخالل دقائق غط في نوم عميق .في تلك الدقائق الثالثين ُولد هانز الذي سيقابل يون في ّ ويصدقه. نهاية المطاف ّ المتكررة لدمشق كان هانز هو المرجع الفكري ليون .وهكذا وفي أثناء زياراته بقيت العالقة حتى شهر حزيران عام 1999عندما وصل إلى دمشق في مهمة لثالثة أيام .وفي وقتها كان يون في خضم بحثه عن قطعة أرض في الغوطة بين حقول أقصى الغرب إلى عربين ٌفي الجوز والمشمش التي تحيط ًبدمشق من داريا في ً أقصى الشرق .وأصبح يون مهتما بالغوطة بعد أن قرأ كتابا يقول إنه سيكون لها شأن ّ خاص في نهايات العالم .وبعد انتهاء ساعات العمل ،قاد يون سيارته ومعه هانز 186
معر العمادي
أ إلى قطعة الرض التي وقع اختياره أعليها في بلدة صغيرة اسمها دير العصافير حوالي 22كم شمال شرق دمشق .كانت الرض مزروعة بأشجار الجوز و لها بوابة خشبية قديمة وكان فيها بئر وكوخ صغير يحتوي على معاول وأكياس قديمة .جلسا على العشب بالقرب من شجرة جوز كبيرة .وفجأة كان يون هو من يتحدث من مركز سلطة. «إذن من هي كيريستن؟» «البد أنك سمعتني أتحدث على الهاتف .كيرستين هي صديقتي». «أنا كنت أعتقد بأنك متزوج؟» «أنا وإيفا منفصالن». هانز وكأنه يحاول التأكد من رغبة يون الحقيقية في االستماع إلى القصة ابتسم ً ُّ التي كان متلهفا ًلروايتها .ابتسم يون بأسلوب يؤكد بأنه يحب االستماع إلى أي شيء كان هانز مستعدا للتحدث عنه. «فكما ترى يا دكتور يون »...
أ وقال يون «دعنا نترك اللقاب ».ووضع يده على كتف هانز .هل الحظ يون كمية الطاقة التي كانت تتدفق من يده إلى هانز؟
ً أ «في الحقيقة المر معقد جدا .وأنا ال أقصد مجرد قصتي ولكن كل شيء يحدث في ألمانيا وفي الغرب». «ما هو المعقد؟» أ «العالقات وكل شيء له عالقة بالجنس! أنا منفصل عن إيفا لنها كانت على عالقة مع جوزيف أستاذ البيانو البنتي .ولكنها ال تعلم بأنني كنت على عالقة 187
ن إ�يل دمشق ج
بكيرستين قبل ذلك ..كيرستين مطلقة ولها طفالن ..كانت مطلقة عندما تعرفت إليها ،ولكنها ما تزال تعيش مع صديقها وطفليه .فبإمكانك القول بأنها كانت تخون صديقها معي!» كان هانز يتحدث وكأنه يسارع للتخلص من ثقل مظلم لطالما قبع على صدره. «وكأن مؤسسة الزواج في كل العالم الغربي وقعت تحت لعنة قوية لم يفلت أحد من قبضتها!» آ ّ وغير هانز الن جلسته ومال رأسه نحو يون.
تلحقنا إلى كل مكان. «الحق أني سئمت من كل هذه ً الخيانات! ولكن اللعنة ُّ ال أستطيع أن أتذكر عالقة واحدة بدأت نظيفة وبقيت كذلك! كل ما أريده أن أبدأ في كولون؟ لطالما أخذتني أمي إليها. من جديد .هل تعرف الكاتدأرائية الجميلة ً لي أحب أن ً أذهب إليها لنني كنت مفتونا بضريح الملوك الثالثة الذي بدا ً ً كنت ً ّ بالملوك الثالثة؟ كانوا فرسا؛ فهم من تبعوا نجما ٍ آنئذ قفصا ذهبيا .البد أنك سمعت ُ فارس إلى بيت لحم حيث قدموا الهدايا إلى المسيح الطفل ..يا هللا! قادهم من بالد ً كم كان ذلك رائعا!!» ُ ً مرة إلى َّكولون مع جارتي هيلغا لحضور حفل التقط هانز أأنفاسه ،ثم تابع: «سافرت ً ً افتتاح دار الوبرا الذي كان حدثا عظيما كما أن العرض رائع .وأتذكر بوضوح كيف أثناء االستراحة ،وقطعت الشارع إلى ً الكاتدرائية المقابلة ..ومع أنها تركت هيلغا في َّ ُ كانت مغلقة إال أن ًكل ما أردته هو أن أقف صامتا بالقرب من بوابة الكاتدرائية وأغلق ّ عيني ...وغالبا ما أخلد إلى النوم وأنا أتخيل بأنني واحد منهم .وأرى نفسي أتبع نجم بيت لحم حتى يقودني إلى المسيح».
ابتسم يون.
آ أ «دخلت أإلى الكاتدرائية في يوم من اليام وإلى الن ما زلت ال أعرف َلم ،فقد تفاديت ذلك ل كثر من عشرين سنة .كانت أمي تقول لي باستمرار بأنني سأعود إليها ولكنني كنت أضحك وأستبعد الكمها .جلست على أحد المقاعد وبعد دقائق دخلت امرأة وجلست بجانبي ...الكاتدرائية بأكملها فارغة ولكنها جلست بجانبي. 188
معر العمادي
ً نظرت نحوها وبدأنا نتحدث .اسمها «هايدي» .وفجأة أصبح كل شيء واضحا بأنها هي كل ما أردت في حياتي في امرأة وزوجة .ولكني يا يون خائف للغاية». «من ماذا؟» اللعنة .كل مرة أحاول أن أبدأ من جديد تصفعني اللعنة مرة أخرى. «من آ في أي دقيقة الن ستكتشف كيرستين أنني واقع في حب هايدي .وفي أي دقيقة أخرج من حياتها كما طلبت مرة من إيفا أن تفعل .يا يون يجب ستطلب مني أن ً أريده هو البدء من جديد ،أن أحب هايدي على أحد أن يضع حدا لهذا! كل ما ً وأن تحبني ،وأن يكون هذا الحب مباركا حتى آخر يوم في حياتي». تحدث يون بسلطة وعمق عاطفي: ُ ً «هانز ،سأحررك أنت وهايدي من هذه اللعنة إذا وعدت أن تكون واحدا من اثني عشر». «اثنا عشر ماذا؟» أ «االثنا عشر الذين سيكونون هناك عند عودة المسيح ليخلص الرض من لعنة الشهوة المظلمة ولعنة الكراهية».
َّ ّ الفكري الذي علمه بدت الصدمة على وجه هانز .وعلى ً الرغم من تدريبه موضوعيا ،لم يكن ليستطيع أن يعارض السلطويةّ الشك في كل شيء ال يمكن إثباته التي تحدث بها يون.
أ «أريدك أن تكون هنا في دمشق في الرابع والعشرين من كانون الول هذا العام». «ليلة الميالد؟» «نعم .واجلب هايدي معك إن أردت». 189
ن إ�يل دمشق ج
«واللعنة؟» ُ ُ َّ «اللعنة قد أزيلت .عندما تعود إلى كولون ستجد أن كل شيء أ ِعد من أجلك لصلة أبدية ومخلصة بينك وبين هايدي».
آ َ بصورة ال نقاش فيها بأنه كان في حضرة سلطة من نوع لم يعرف أدرك هانز الن ٍ بوجودها من قبل ،وسارع في طلب شيء آخر: «وأليسون؟» «أليسون؟» ً «ابنتي .أريدها أن تكون محفوظة من اللعنة أيضا». أغمض يون عينيه. «إنها محمية». أمسك هانز يد يون وكأنه يشكره ويؤكد العهد بينهما .وضغط يون على يده بقوة. «ليلة الميالد؟» «ليلة الميالد».
مجدولين حداد في كانت «مجدولين» ،أو «لين» كما ً كان كل من في المكتب يناديهاً ، منتصف الثالثينات من عمرها ،متزوجة ،وكانت عملت في الماضي مدرسة للغة إالنكليزية .وهنا في مكتب اليونسكو كانت لين مثال الطفل الذي يعيش
190
معر العمادي
ً أ ً بين الشياء المظلمة في هذا العالم .كانت تعمل كثيرا وتتحدث قليال وال تتوقع أي شيء .وقد استخدمت كل راتبها لتعيل أسرتها ،واحتفظت بما يكفي لشراء سجائرها من نوع بول مول ،ولمساعدة امرأة عجوز اسمها عفيفة كانت تجوب الشوارع بالقرب من منزلها. أن يقضي الوقت في مكتب لين ،حيث يستطيع االختباء فيه كان يون يحب ً من الذين يزورونه يوميا .وركان ،سكرتيره ،كان بالطبع يعرف بأن وجوده في مكتب لين يعني ًأنه ليس بمزاج يسمح له برؤية أحد .حتى هذه اللحظة لم يكن يون قد تحدث كثيرا مع لين ،إذ يكتفي بالجلوس هناك ليقرأ جريدة أو يشرب فنجان شاي. ولكن في هذا اليوم دخل يون إلى مكتب لين ليس ليهرب وإنما ليحصل على عهد جديد. «لين متى كانت آخر مرة نمت فيها طوال الليل؟» كانت لين تطبع عندما دخل إلى مكتبها .رفعت رأسها وحدقت فيه غير مصدقة ما سمعت. «ماذا؟» ً«سألتك متى كانت آخر مرة نمت فيها طوال الليل؟ ولكني أعرف الجواب مسبقا». «ماذا تعرف؟» «أعرف كيف تتمددين على فراشك وأنت تحدقين في السقف ،وكيف تبقين مستيقظة حتى أذان الفجر». «من قال لك هذا؟» ً «وأعرف كيف تقضين وقتك محاولة إالجابة عن سؤال واحد». 191
ن إ�يل دمشق ج
«أي سؤال؟» «سأقول لك السؤال ولكن هل ستثقين بجوابي؟»
ً حدقت لين بيون مقتنعة كل االقتناع بأن كل ما يجري ليس حقيقيا .مدت يدها نحو علبة سجائرها وكأنها تحاول التهرب من السؤال المفاجئ. َ طرحت «ال أعرف .أنا لست متأكدة أنني أعرف عماذا تتحدث .ولكن نعم إذا السؤال معي فإني واثقة بأنك البد أن تعرف الجواب». ُ ُ لقت لهذا فقط؟ أنت تقضين الليل بأكمله تتساءلين هل خلقت لهذا «هل خ ِ فقط؟» قال يون ذلك وأمسك بيدها .لم تمانع لين فكانت يده فوق يدها ويدها فوق علبة السجائر. «ما هو الجواب؟» «الجواب ال». «ال؟» ُ «ال لين ..أنت لم تخلقي لهذا فقط». E
ولدت مجدولين حداد في مدينة دير الزور في شمال سورية .وولد جدها وفي عام 1919عند انهيار ً إالمبراطورية العثمانية الحداد في عام ،1895أ الكبير عبود أ هرب مئات ال ًرمن من العنف في الناضول وتوجهوا جنوبا نحو دير الزور .وكان عبود يملك أرضا في قرية تسمى الكسرى على مشارف دير الزور .وكل يوم جمعة 192
معر العمادي
كان والداه وإخوته وأخواته يجتمعون هناك ،إال أن عبود كان يذهب في ظهيرة يوم يمتلىء بالضوضاء .وفي يوم من أيام الخميس الخميس ليستمتع بالمكان قبل أن ً لساعات سمع عبود صوتا يشبه صوت طفل كان أيبكي ً ً ،1919 هذه في آآذار عام ً الشجرة ال كبر عمرا في عميقا ً .اقترب من ً شجرة التين ،أ وأصبح الن يئن أنينا ً عليها أرضه ،فالتقطت عيناه لونا ،لونا أحمر ذهبيا ال يتماشى مع اللوان أ التي اعتاد ً ملقاة على الرض ترتدي ثوبا عبود في ًأرضه .وخلف أ الشجرة كانت فتاة مر ًاهقة ً أسود ضافيا .وكان شعرها الحمر الذهبي طويال مربوطا بضفائر ،ومن الواضح أنها لم تمشطه منذ أيام .حملها عبود إلى منزله في دير الزور وهي ضعيفة ومريضة وشبه غائبة عن الوعي. كانت هذه بداية القصة .وعرف فيما بعد أن اسمها أليكسي .أ وقد شهدت مقتل جميع أفراد عائلتها ،ولم تعرف سبب نجاتها .كانت قد مشت ل كثر من ثالثة أيام قبل أن يجدها عبود في الكسرى بالقرب من شجرة التين .ولما كان ال يعرف كيف الفاتحة .وبعد أقل من ستة يلفظ أليكسي فقد سماها «فضة» بسبب لون بشرتها ً أشهر تزوج عبود من فضة .أما ابنهما عمر فهو من سيصبح جدا لمجدولين .وبقيت أخذها أ إلى حلب يحرص على ً فضة على دينها المسيحي حتى أموتها وكان عبود أ مرة في الشهر لتحضر قداس يوم الحد في كاتدرائية الربعين أشهيدا للرمن .وبعد سنوات من موت فضةُ ،ب ِن َيت كنيسة في دير الزور في ذكرى الرمن الذين قتلوا في بداية القرن العشرين. E
أ ومنذ حديثها الجاد الول مع يون أصبحت لين ترتقب زياراته إلى مكتبها. وحاولت أن تبقي مكتبها بأحلى صورة في عينيه .فأوصلت مكبرات صوت صغيرة إلى كمبيوترها ًحتى يستطيع يون االستماع إلى أغانيها المفضلة وهو يقرأ جريدته. ووضعت صحنا من الكريستال على منضدة القهوة الزجاجية وتأكدت من امتالئه ً كهربائية حتى يكون فنجان قهوة صنع آلة اشترت أنها وحتى اليوسفي. بفاكهة دائما ً ً أ زمالؤه كان التي قاويل لل منتبها يون يكن لم و قدومه. عند ا ز القهوة الساخن جاه ً وغالبا يلوكونها حول الساعات الطويلة التي كان يقضيها في مكتب امرأة متزوجة. ً ما اعتمد على مساعده ركان للتغطية عليه وخاصة بعد أن ظن بأنه أصبح واحدا من االثني عشر. ً كيف كان يون يقضي وقته هناك؟ كان يدخل إلى المكتب ،ويأخذ شيئا ليقرأه، ويتناول فنجان قهوته ،وقد يتبعه يوسفي ،وبعدها تبدأ لين بالالكم .ولو راقبهما أحد 193
ن إ�يل دمشق ج
ً لقال إن لين قد اعتبرت يون معالجها النفسي الشخصي استنادا إلى الثقة الروحية يغرسها فيها .وكان يون يتركها تتحدث حتى يشعر بأن الكبيرة التي استطاع ًأن ً الوقت حان ليقول شيئا؛ شيئا يعطيها الراحة ،وكذا يعزز في الوقت َّنفسه إحساسها االثني عشر .والذكرى المفضلة لي هي عندما تمكن يون في يوم بهويتها كواحدة من ّ أ الذكر والرقص الروحي في أقل من ساعة. من اليام من تعليمها ِ َ ً وعلى الرغم من أن شعر لين كان داكنا ،إال أنه كان يشبه في طبيعته شعر جدتها الكبيرة ّ ّ أنها ورثته عن الجلي من فاتح نمش من بعض وجهها وعلى ة. فض ً ً ً تلك الجدة .وفي هذا اليوم بالذات كانت تلبس ثوبا قطنيا أبيض طويال. ً «كثيرا ما أفكر فيما قلت».
ً بقي يون مركزا على جريدته وأشعلت لين سيجارة.
ً «أنت تعرف أنني ال أنام .لم أخبر أ بذلك أحدا ...زوجي يقول بأن عدم النوم ٌّ عندئذ أن أقوم لصلي ..وهو ما كان سيفعله لو كان مكاني! صحي ومفيد ،وأن ًعلي ٍ ولكنه ال يسألني أبدا عن سبب أرقي». وأدارت رأسها نحو النافذة إلى يسارها ونفخت الدخان باتجاهها.
ً ً تعرف أن لكل شيء صوتا .أنا أترك فراشي وأذهب باحثة هل الصوت. «أوال أ عن مصدر الصوت .أبدأ بالشياء ً الواضحة ،الساعة على الحائط ،الحنفية التي ّ تنقط أو حتى الثالجة .بل أحيانا أتمكن من سماع صوت الكهرباء تسري في الحائط». أنزل يون جريدته. «لذا أطفىء الكهرباء من العداد الرئيسي .يتبعها ثوان من الصمت الجميل. يقلقني منذ البداية لكن عندما أعود إلى فراشي أكتشف أن الصوت الذي كان أ ً ّ تفعل عندما تكتشف صوتا أ يذكرك بكل الوقات التي تم هو صوته بجانبي .ماذا َ إسكاتك فيها؟ ومع كل نفس يأخذه أتذكر كل الوقات التي شعرت فيها أنني ال أستطيع التنفس .وهكذا تبدأ رحلتي الثانية .هذه المرة أريد أن أستنشق ً هواء .أتنقل في المنزل وأنا أفتح النوافذ بغض النظر عن الطقس ،كأنما ال يوجد 194
معر العمادي
أوكسجين في المنزل! وأتمدد مرة أخرى وأشعر أنني أستطيع أن ًأتنفس ولكن النوافذ المفتوحة تجلب أصوات السيا أرات والشاحنات وحتى أحيانا أسمع هدير الطائرات .أصدقاؤنا المقربون وأفراد السرة يأتون إلي وأنا ال أعرف ماذا يالحظون؟ هل يالحظونني أم يالحظونه؟ ويقولون بأن علي أن أكون صبورة على الرغم من أنني بإمكانهم أن يقضوا حياتهم غير قادرين على النوم؟ ال آأشكو .ولكنني أتساءل هل أ والخرون يقولون بأن الخطأ مني لنني ال أرد وال أرسم الخطوط الواضحة بيننا، هكذا يقولون .ربما بإمكاني رسم الخطوط ولكن ماذا ستكون هذه العالقة؟ الناس الشركات .والمدراء يرسمون الخطوط أللموظفين .ولكن هل من ترسم الخطوط في ً المفترض أن أرسم خطوطا للشخص الذي أنام معه؟ أو بالحرى من لست أستطيع النوم بجانبه؟» ً أ وخالل كل هذا الوقت كان يون ينظر نحو السفل .أخيرا التفت إليها. أ «أنا أعرف طريقة إلسكات كل هذه الصوات».
آ وقفت لين ومشت نحو النافذة .كانت تقف الن أمامه مباشرة وكل تركيزها على ما يقوله. «إنه يدعى خلوة الكهف». «خلوة الكهف؟» ً ً «عندما تكونين في الفراش أغمضي عينيك وخذي نفسا عميقا وكرري بقلبك وليس بلسانك». «ماذا أكرر؟» «هللا معي .هللا ناظر إلي .هللا شاهد ّ علي». كررت لين الكلمات كما قالها يون وكأنها تتدرب على أدائها في الليل. 195
ن إ�يل دمشق ج
ً أ «بعد ذلك ستبدأين برؤية اسم هللا محفورا بالضوء البيض على قلبك .وستصل لحظة تدخلين فيها خلوة الكهف». «ما هي خلوة الكهف؟» «هي عندما يغادرك شعورك بالصوت والزمان والمكان». «وماذا يحدث عندها؟» «هذا ما عليك أن تتذوقيه بنفسك». «وماذا يحدث لك في خلوة الكهف؟» ً ً الليل .أحيانا يصل في منتصف في يصل وأحيانا «أرى ًالمسيح يصل فجأة. ً النهار .أحيانا يكون هناك الكثير من االزدحام .وأحيانا أكون أنا الوحيد هناك». أمسكت لين بفأرة الكمبيوتر وضغطت زر التشغيل.
ً أ «هناك أغنية يجب أن تسمعها .ال أعرف لماذا ولكنها دائما تستدعي لي الشياء التي تقولها». كانت أغنية لفريق البيتلز:
196
الكلمات تنهمر وكأنها أمطار ال نهاية لها على أكواب من الورق تنزلق زاحفة تتالشى في الكون بحيرات من الحزن وأمواج من الفرح تنجرف في أنحاء عقلي المفتوح تستحوذ علي وتداعبني
معر العمادي
وقف يون وأبعد المنضدة نحو الحائط وكما فعل النوري مرة معه بدأ يدور حول نفسه ببطء. جاي غورو ديفا أوم ال شيء سيغير عالمي نظر نحو لين التي كانت واقفة وتراقبه بإعجاب. «ال تترددي». ولم تتردد لين. ال شيء سيغير عالمي ال شيء سيغير عالمي ال شيء سيغير عالمي وهما يدوران في مكتب لين ًالصغير دخل عليهما ركان فجأة .أحمر وجهه وبدا عليه االمتعاض ولكنه لم يقل شيئا.
الحادي عشر أ ّ الحواري الحادي عشر ً ،حتى جاء يوم من اليام وفشل يون في العثور على مكتبه .كان مدى اخضرار عينيه ملفتا للنظر ،والغريب أنه كان دخل فيه رجل إلى ً يرتدي سترة خضراء أيضا. «تفضل بالجلوس ،هل أستطيع أن أساعدك؟» أ ً «ال أستطيع أن أبقى طويال ..جئت لقول لك أن تتوقف عن البحث .أنا الحادي عشر!» 197
ن إ�يل دمشق ج
«الحادي عشر؟» «نعم أنا الحادي عشر .اختارني الذي تنتظره .وسأكون هناك عندما يصل». ً قال الرجل هذه الكلمات وهو يغادر تاركا يون يبكي.
198
معر العمادي
آية يونس
199
ن إ�يل دمشق ج
200
معر العمادي
1 «ماذا تعني أنها ال تتوهج؟» «مجرد أنها ال تتوهج يا ريشة!» أ أ أ «ولكن يا رقيم هذه هي السطوانة السابعة ،أي السطوانة الخيرة وقد آ عرفنا جميع الحواريين .وهم مستعدون أن يحضروا عند «والدة دمشق ».علينا الن أن نعرف متى سيحدث ذلك». أ «يبدو أن يون يعتقد بأنه سيحدث في 24كانون الول !1999وقد أبلغ الحواريين بذلك وبدأ يخطط للحدث». «أي حدث؟» «الليلة التي يعتقد بأن المسيح سيعود فيها .وقد أعد خطة لتنظيم احتفال كبير أ لتآلف الديان سيحضره زائر غير متوقع كما يؤمن يون». «ولكن ِل َم 1999؟» أ «ربما يعتقد بأنها آخر سنة في اللفية». 201
ن إ�يل دمشق ج
أ «هل تعلم أنه أخطأ بسنة؟ آخر سنة في اللفية هي »!2000 «ربما لجأ إلى تقويم داخلي». «كل هذا من دون الحصول على تعليمات؟» «ال يوجد شيء يتوهج يا ريشة».
أ أ الجامع الموي الكبير – الجمعة 24 ،كانون الول 1999 اليونسكو كانت هناك فترتان شعر وخالل كل السنوات التي قضاها يون في أ خاللهما باالمتنان لوجوده في هذه المنظمة .الفترة الولى عندما بدأ بحثه عن المؤسسة المثالية التي من اليونسكو كانت هي أ الحواريين ،والثانية عندما أدرك بأن أ دامت خاللها يستطيع تنظيم احتفال لتآخي الديان في الجامع الموي الكبير .وما ً اليونسكو هي المؤسسة العالمية المعنية بالثقافة فما الذي يمكن أن يضاهي احتفاال طويلة ومثيرة إللعجاب. كهذا بما ينطوي عليه من ٍ معان؟ وكانت الئحة المدعوين أ فقد ضمت وزير الثقافة الذي ُرعى االحتفال ،والسفراء الجانب وجميع رؤساء ٌّ خشبي في منتصف صحن لية في دمشق .وأ ِنشئ لهذه الغاية مسرح المنظمات الدو ُ أ َّ إضاءة باهرة لمنارة المسيح في تمام الساعة الثانية عشرة ت د ع وأ موي ال الجامع ِ َّ ّ منتصف الليل .وبالرغم من أن الموافقة على كل شيء قد تمت ،إال أن يون أراد المزيد والمزيد .وفي أعلى الئحة طلباته كان التخلص من غرفة الكهرباء البشعة المسدودة لكاتدرائية يوحنا، الملتصقة بالحائط آالجنوبي حيث البوابة الرئيسية ً والتي اليظهر منها الن سوى حافتها العلوية .وكان يريد أيضا ترميمأ الكتابة اليونانية المنقوشة على حافة البوابة« :مملكتك أيها المسيح تدوم إلى البد ».لقد اعتبر هذا النقش أهم من قصة التين البعلي؛ إذ َلم فشل كل المتعصبين خالل القرون أ الربعة عشر الماضية في تحديد وجوده وتدميره؟ وهذا ما أكد لعقل يون وقلبه بأن هذا هو بالفعل مكان هبوط المسيح .ولكن غرفة الكهرباء بقيت كما هي .وهدده مسؤول وزارة الثقافة الذي كان يون ينسق معه تنظيم الحدث بأن إالصرار على هذه «السخافات» قد تعرض المشروع بأكمله للخطر. ً بقيت مهمة واحدة أبقاها يون سرا عن ً الجميع .كان لمنارة المسيح باب واحد يرتبط بممر من صحن الجامع .وكان مغلقا معظم الوقت ،ذلك أن الميكروفونات 202
معر العمادي
خمس الدرج أإلى أعلى المنارة وأشرطة التسجيل ألغت عمل المؤذن وصعوده ً ً مرات في اليوم .وقد أراد يون أن ُيبقي هذا الباب مفتوحا لنه شعر بأن بقائه مفتوحا المزيد من االحترام .وهكذا طلب يون من نبيل صديقي التأكد من للمسيح ينم عن ً بقاء الباب مفتوحا دون أن يخبر أحد. كان يون يستطيع أن يرى االحتفال بأكمله في ذهنه .رأى المسيح ،أغلب متأخر من الليل ،تحمله المالئكة إلى منصة المنارة المرات ،حيث يظهر في ٍ وقت ّ ٍ النبوي .وكانت قطرات من الماء تشبه حبات اللؤلؤ البيضاء كما في الحديث ً الجميلة تتساقط من شعره تأكيدا على أنه هو المسيح .بعدها ينزل الدرج ويدخل الجامع .وعندما يصبح في الداخل يتوجه نحو مقام يحيى .وكان يون يراه يقف أمام المقام مغلق العينين .وبعد أن يصلي صالة الفجر سيخرج من الجامع ومعه أتباعه. واحدة .فهو ً كان ًيرى المسيح ولكن كانت رؤية يون لالحتفال تعاني من مشكلة ً يخرج من خالل البوابة التي عليها النقوش اليونانية خروجا ملكيا مهيبا .ولكن هذه البوابة بالطبع مسدودة بعد أن أصبحت ً الحائط الجنوبي للجامع .وبمجرد جزء من ً أن يذكر يون أمنيته بفتحها سيجعله ذلك يبدو مجنونا في عيون الدمشقيين! وقد ُد ِع َ المسيحية لترديد مقاطع من كتبهم المقدسة الطوائف كل من ممثلون ي ُ تلى قصة والدة المسيح من الكتاب ست عن والدة المسيح في خمس لغات دينية .أكما آ ُ المقدس بالعربية واليونانية والالتينية والرمنية والشورية .وإلى ذلك د َ عي اثنان آ آ من مقرئي القرآن ،أحدهما سيتلو بعض اليات من سورة آل عمران والخر من السبعة على المسرح في مواجهة الجمهور، سورة مريم .وسيجلس هؤالء المقرئون أ خمسة مسيحيون أ واثنان مسلمان .وسيقف الطفال الذين يرتدون الثياب البيضاء ُ َّ كرسي في الجزء الغربي مئة حوالي ف ويحملون الورد البيض حول المسرح .وص أ من صحن الجامع كي تضمن أن يرى معظم المدعوين الجزء العلى لمنارة المسيح. ولسبب ما ،قرر يون ًتقديم مشروب من الزنجبيل الغازي لهم ،ربما بإيحاء من القرآن الذي يذكر شرابا من زنجبيل في الجنة. جميع الحواريين بما فيهم يون استطاعوا الحضور بصفات متعددة .فقط أنا ْ ْ كممثلين من السلك الدبلوماسي .ولكن متنكرين وريشة من بين الثمانية كنا هناك شيء مما يحدث قد أتى أصحابي الستة الباقين كانوا محقين في إالشارة إلى أن ال ُ بإلهام من وحي .وفي غياب أسطوانة تتوهج ورسالة واضحة تشير إلى تفاصيل ما يجب فعله ،سيبقون في كهوفهم! ولم يكونوا الوحيدين الذين قاطعوا االحتفال ،فمن أسرة يون فقط والده هو الذي وافق على القدوم .أما أماندا فشعرت أن هذا ليس 203
ن إ�يل دمشق ج
سوى وسيلة إلهاء مبتدعة ابتكرها يون لتجاهل مسؤولياته تجاه أسرته ،وكانت اخته مريم بكل بساطة ال تستطيع أن تتفاعل مع الترتبات الروحية لحدث كهذا. كان ًيون يرتديأ بدلة بيضاء أنيقة للغاية .وكل شيء يتعلق به في هذه الليلة كان يبدو رائعا .على القل هكذا كانت ريشة تتحدث عنه .صعد يون إلى المسرح، ُ يسترجع المنام وتساءلت إذا ما كان وبينما هو يعدل الميكروفون توقف للحظة. أ الذي رآه مرة وهو يقف على مسرح يشابه هذا المسرح في صحن ًالجامع الموي .في ذاك المنام استيقظ قبل أن يبدأ بالالكم .ولكن هذا لم يكن مناما .وبعد الترحيب بالجميع وشكر اليونسكو ً ووزارة الثقافة لتعاونهما في ضمان نجاح الحدث ،فاجأ يون الجميع بقراءته مقطعا من قصيدة كتبها بعد موت النوري بقليل: ُ ْ اك ألست أر ْ جس ُ َ ُت ِّ الزمان آخر أنباء د ِ ُ ُ ْ ومضة إال ْيمان حين ّيت ِ ُقد الك ُفر من َ ِ وتستهلك ُ الص َو ُر حقيقة إال ْنسان ُ ُ ُّ الفكرة َ المكان أبعاد ف كي ُ ْ وت ُ ْ بالصفاء من يرتقي بالحنان و يسقط ِ * َ الستارْ حتى إذا أما ارتفع ِ َوت َد َف َق ِت ال ْ نوار و ُن َ : ودي ٌ َ االنت ْ ظار أهل "سالم ِ ً سالم ٌ على ْ من صنعَ سفينة في الصحراءْ وقام َ َ تحت الشمس ُي ِّبش ُر ْ بالماء" ِ ْ ُ َ ُ ْ *َ ريد له إن ًالذي أأ أ أن يكون ُ َ القدومْ ُ نشيدا يمل الرض ببشرى بعينيه ما ْ يشاء فليكتب ِ ُثب َ االصطفاءُ ت ِ ْ َ وكان الذي سيكون
أ وعاد يون إلى مقعده في الصف المامي وبدأت التالوات الجميلة لتنتهي قبل منتصف الليل بثوان .وكانت ريشة تبدو جميلة للغاية في هذه الليلة .كانت ترتدي 204
معر العمادي
أ ً ً تاجا ًعليه زهور مطلية بالمينا الخضراء ،أوثوبا أخضر من المخمل بلون شجر الرز وعقدا من اللؤلؤ .وعندما بدأت التالوة الخيرة من سورة مريم كانت تبدو مأخوذة ً تماما: َ َ ً َ ً َ انت َب َذ ْ َ(و ْاذ ُك ْر ِفي ْال ِك َتاب َم ْر َ َ ت ِم ْن أ ْه ِل َها َ َمك َّ َانا َش ْر ِق ّي َا ً* ذ إ م ي ِ َ َّ َ َ ْ ْ ُ ِ ْ َ ً َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ َ َ َ َ ُ ْ َ فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا َ ّ ً َ َ ْ ِ ّ َِ ِ ُ ُ ِ َّ ْ َ ْ َ ِ ْ ُ َ َ ّ ً َ َ َّ َ َ َ س ِويا * قالت ِإ ِني أ ُعوذ ِبالرح أَم ِن ِمنَك ِإ ُن ك ًنت تً ِقيا * قال ِإنما أنا َ َر ُسول َر ِّب ِك ل َه َب ل ِك غالما ز ِك ّيا) وانتهت التالوة من سورة مريم بالكلمات التالية التي نطقها المسيح الرضيع: ُ ُ ً الم َع َل َّي َي ْو َم ُول ْد ُت َو َي ْو َم َأ ُم ُ الس ُ َ(و َّ وت َو َي ْو َم أ ْب َعث َح ّيا) ِ ُ واستدرت نحو ريشة وهمست« :أشعر وبهذه الكلمات انتهت التالوات. بالتوتر» أولكنها بدت وكأنها تفاجأت ،ولم تجب .وعندما شارف منتصف الليل ّ ُس ِلطت الضواء على المنارة البيضاء وخلفها سماء الليل ،فصفق الجميع ،الجميع عشر آخرون كانت عيونهم تحدق في المنارة بانتظار أن يحدث إال يون وأحد ً ُّ شيئ يشابه ولو قليال الصورة التي تخيلوها لعودة المسيح الثانية .ثم و ِزعت أكواب َّ ُ شاهدت أنا وريشة يون يغادر على الحضور .وبينما كان الشر ًاب يوزع الزنجبيل ً المكان مسرعا .والحظت أليسار ذلك أيضا وهرعت خلفه وهو يخرج من الجامع من خالل البوابة الغربية. ً ً اتجه يون شماال ثم يمينا نحو الشارع المستقيم .واستمر في الجري لخمس حتى وصل إلى القوس الروماني بجانب الكنيسة المريمية .كان القوس عشرة دقيقة ً الروماني متصال بمنارة بيضاء صغيرة .وكان يون قد الحظ هذه المنارة في أثناء جوالته في دمشق القديمة وشعر أنه ربما ،فقط ربما ،تكون منارة المسيح الحقيقية. يلهث توقفت أليسار خلفه بقليل وهي تمسك حذاءها وعندما وصل يون أإليها وهو أ بيدها .نظر إلى العلى وإلى المام ليتأكد بأنه لم يغفل عن شيء .ربما وصل المسيح؟ ربما كان يقف بجانب الرصيف؟ ربما شعر بالخيبة لعدم وجود أحد في استقباله هناك؟ ثم بدأ يون يجري من جديد .جرى لمسافة 700متر نحو الباب منارة بيضاء أخرى صغيرة فوق الشرقي .كان هذا آخر مكان محتمل ،حيث ًتوجد ً البوابة .تفحص يون المكان ،ثم فحصه مجددا .ومجددا لم يكن هناك أحد سواه. 205
ن إ�يل دمشق ج
نادته أليسار من الخلف« .يون ،توقفً ، رجاء توقف!» ثم أسرعت نحوه وأمسكت ً بيده وأخذته بعيدا. E
206
معر العمادي
2 أ وتروي الحداث التي تلت تلك الليلة قصة ال أحب أن أتذكرها .قصة تسرد ُ ساعدت أأنا وأصحابي في تعليمه وإعــداده ،وتبعثر كآنية كيف انكسر رجل رض .سافر يونً إلى منارة المسيح كما سافر إلى الكريستال عندما تصطدم بال ً نارفك في الماضي ولم يجد أحدا سواه أو صوتا غير صوته. ً ً ً أ وبالنسبة لكل من اعتبر هذا الحدث احتفاال بالديان ،فقد كان نجاحا كبيرا. كان هذا الحدث أكبر لحظة إحباط في حياتهم. ولكن بالنسبة لمن آمن بيون فقد أ أ والحباط .ففي المكتب تناولت الشائعات وحملت اليام التالية المزيد من اللم إ يون ،وكان مصدرها الرئيسي مساعده ركان .وبالتالي أصبح يون هذا الرجل الفاسق الذي رقص أفي مكتبه مع النساء المتزوجات وتحدث لساعات عن معتقداته غير مع السوية مع الجانب! كان يون من الحساسية بحيث أنه لم يستطع أن يتعامل ً ُّ َ أية من هذه القصص وبالتالي لم تكن استقالته من اليونسكو مفاجئة .كما ات ِهم أيضا بأنه نسب إلى النوري كلمات لم يتفوه بها .وكان ركان يملك نسخة من إنجيل دمشق النوري من معارف الذي كان قد أوزعه يون على كل الحواريين ،فعرضه على الكثير ّ ً كلمات المعلم .كانوا جميعا الذين وقعوا للسف في ًالفخ واتهموا يون بتحريف أ خالل السنتين الخيرتين من حياته ،وهذا يدركون كم كان يون مقربا من النوري ً بحد ذاته كان يجب أن يجعلهم أكثر حذرا من أن يوجهوا مثل هذه االتهامات. باستثناء ركان لم يكونوا جزء من أي شيء .صحيح إنهم شعروا فقط الحواريون أ بالحباط و تضارب الصوات في أذهانهم لكن قلوبهم بقيت تشعر بالوالء. إ
نشاطه الطبيعي. عندما مات النوري احتاج يون إلى ثالثة أيام حتى أيعود إلى ً الحزن، ولكن هذه المرة احتاج إلى أربعين .وعندما انتهت الربعون يوما من ً عاد إلى يون حسه بالمسؤولية ولكن الفرح والضحك كانا قد ُ اقتلعا من قلبه تماما. ً َ وقد آثر يون أن يعمل مدرسا في مدرسة ثانوية دولية صغيرة بعد أن كان يحتل 207
ن إ�يل دمشق ج
أ ً في المدرسة والتحق للعمل طلبا فقدم سورية، في المتحدة مم ال أعلى منصب في ً كثير من الحواريين الحقا مواساته بعد أن بالفصل الثاني .ومن جهتهم ،حاول ً تفسير ما حدث. كان بإمكانه تجاوزوا شعورهم إ ً بالحباط .وحاولوا أيضا معرفة إن أ ولكن يون لم يكن بوضع يسمح له أن يفسر أي شيء لحد ،وكان مصرا على رفض أية مساعدة عرضوها عليه. أ ً ُ ًفي أثناء النهار كان يون مشتتا بين شعورين متناقضين؛ الول بأنه خذل ،بل ُ ليؤمن بشيء رائع .فهي رؤية ما كان ليتبناها لوال سلسلة أحيانا أ كان يشعر بأنه خ ِدع ِ من الحداث في حياته بدء من قصص النوم التي كانت مريم تقصها عليه ًوانتهاء ّ يؤنبه ،الشعور بأنه بال شك كان مغرورا َ ليدع بدروس النوري .وكان لديه شعور آخر أ ً أناه المتضخمة تدفعه ليؤمن بفكرة العودة الثانية للمسيح حرفيا ودوره فيها ..والسوأ من ذلك أنه وضع تلك الرؤية قيد التنفيذ! وفي أثناء الليل ،كان على يون التعامل مع شعور من نوع ّآخر ،آشعور أجبره فأصبح يون الذي كان في الماضي ُي ِعلم الخرين كيف على اكتشاف آفاق القلقً . ينامون هو الذي يحدق طويال في السقف .كان هذا الشعور هو الحنين .فقد اشتاق إلى النوري وأكثر من ذلك اشتاق إلى أن يشهد رؤية النوري لعودة المسيح، واشتاق إلى إيمانه بهذه الرؤية ،كما اشتاق إلى لذة التفاؤل بوجود هدف لحياته. اشتاق إلى كل هذا ...وما أصعب النوم عندما يستحوذ عليك الحنين! أ السطوانة السابعة .وكثي ًرا ما ُ فكرت في سؤال وحي طوال هذه الفترة لم تتوهج عن تفسير .وبالفعل أرسلت له مرة رسالة .ولكنه لم يجب .فشعرت بأنه من غير أ مهمات أخرى لم تتعلق الدب أن ألح في الطلب .وعدت أنا وأصحابي إلى تنفيذ ٍ الذهبية ،ولم يذكر أحد منا أي شيء له عالقة بيون ،باستثناء ريشة في بالصحف ً ّ مرات قليلة جدا .وكنت أقدر لهم هذا الصمت لما ينمه عن احترام لي .فقد علم أصحابي ًالمكانة الخاصة التي احتلها يون في قلبي ،ولم يكن أحد منهم يريد أن يقول شيئا قد يبدو غير حساس أو مؤدب. E
أ ومرت السنون وتحقق الكثير من الشياء التي تنبأ بها النوري أ في العالم. وازدهــرت إالمبراطورية الرومانية الجديدة التي سميت «اتحاد المم الحرة» إلى درجة ليس لها مثيل في التاريخ البشريُ ، وه ِز َم كل أعدائها .ولكني كنت ً بدافع من شعوري الماضي في أفعله كنت وما يون. مع يحدث بما اهتماما أكثر ٍ
208
معر العمادي
أ آ أشتاق إليه .وكم من كنت بساطة بكل نني ل فقط ن ال بالمسؤولية أصبحت أفعله ً شاشة كهفي .كان يبدو منكسرا ،ولكنه انكسار مرة جلست وشاهدت يون على ً ً جعله أكثر تواضعا .فقد اختفت كليا الثقة المتكبرة التي ارتبطت باقتناعه بأنه َّ مفوض بتنفيذ مهمة كبيرة. أ ً أ ومرت اليام ،وبنى منزال له على الرض التي اشتراها في الغوطة ،أو فيما يسميه الكتاب المقدس «براري دمشق» .وبدأ يقضي معظم أمسياته هناك أيتأمل لكن في الحقيقة ازداد إخالصه لسرته ويسترجع أ أفكاره ويتمشى في حديقته .و ً وأب .وأيضا اختفى شعوره بالمرارة تجاه زوجته واستعداده لداء واجباته كزوج أ السالم أماندا .فكيف له أن يحكم عليها لنه استحوذ عليها أسلوب حياة منحها ً بينما سمح لنفسه أن تستحوذ عليه بالكامل رؤية َّ تبين أنها من صنع خياله؟ ونوعا ً ً شاعري ،بل منطلق من ليس قصائده، في مرة كتب كما ، طفال أ أما ،أصبح يون ُأخيرا ً لنه أدرك بأنه نقل رغما عنه من المجد المنتظر في تلك الليلة في الجامع الموي إلى «الزوايا المنسية» في منزله في الغوطة. ْ هناك بالطبع أسطوانة واحدة ،وقد توصلنا أنا وريشة إلى النتيجة نفسها بقيت َّ وهي أن ال شك أنها تحتوي على رسالة تستدعي وجودنا لوداع يون عند وفاته .ولكن َ َ المرتبطة بيون؟ كانت لم حدث كل هذا؟ ولم كان علينا تنفيذ كل هذه المهمات ً أسئلة لم يستطع أحد منا أ إالجابة عنها .ولما لم تكن المالئكة بشرا فقد كان بإمكاننا الفطري أهو الذي سيوجهنا في النهاية. التعايش مع َ ْالغموض والس ًرار ،وتواضعنا َّ ً فمثال كان ُخلق آدم غامضا بالنسبة إلينا ،وظل المر كذلك بالنسبة إلى غالبية البشر ،حيث لم تساعدنا طريقة تصرفهم على فهم الهدف الخاص من خلقهم. E
وفي بداية عام 2020بدأت حركة روحية تحظى باهتمام االعالم .و قد لفتت انتباهي قبل ذلك بعدة أشهر عندما أوصل ممثل لهذه الحركة إلى منزل يون في الغوطة في ليلة من ليالي شهر كانون الول ،من دون دعوة وبشكل غير متوقع. «هانز .هانز سايبولد .ما الذي جاء بك إلى هنا؟» أ بأمر مهم». خبرك ل «يون يا معلمي جئت ٍ 209
ن إ�يل دمشق ج
ً «رجاء ال تدعوني كذلك .ادخل واجلس يا صديقي .هل تشرب الشاي؟» ً «نعم الشاي سيكون رائعا». ً «لن آخذ الكثير من وقتك .أنت تذكر أنه بإمكاني أن أكون دقيقا».
ً ً ً ً نوعا مما سيحدثه به ،ولكنه كان مسرورا جدا لرؤية خائفا ً ابتسم يون .كان ً رجل ما زال يحتل مكانا خاصا في قلبه. أ «لقد جئت لروي لك قصة ليس لك علم بها .بعد االحتفال »...
هانز كلمة «االحتفال» وكأنه غير واثق من كيفية إالشارة إلى تلك الليلة ذكر أ ُ في كانون الول عام 1999من دون أن يزعج يون. أ «نحن ،أعني الحد عشر ،في الحقيقة نحن العشرة »..
ً هذا موضوع آخر كان هانز يريد تفاديه وهو خيانة ركان .وضع يون فنجانا وكان أ من الشاي الخضر على منضدة دائرية كبيرة بالقرب من هانز. ً ً «شكرا ..فقد التقينا ًجميعا واتفقنا على أن نعود إلى بالدنا ونحاول أن ننسى ما حدث لمدة أربعين يوما».
ً حزنت لمدة أربعين يوما» وكأنه كان يتحدث مع نفسه، وهمس يون «أنا أ وشعر هانز بأنه من غير الدب أن يتصرف وكأنه سمعه.
ً استطاع بعضنا أو كلنا تجاوز ما حدث إذا يوما «واتفقنا أنه بعد مضي أربعين ً فلن نجتمع مرة أخرى .ولكن إذا شعرنا جميعا بأنه علينا أن نجتمع فيجب أن نجتمع .واخترنا مدينة قونيا .لقد نسيت من اقترح هذه المدينة ولكننا اخترنا قونيا لتكون المكان الذي سنجتمع به فقط أإذا كنا ما نزال غير قادرين ًعلى نسيان الكلمات التي جمعتنا .وبحلول الليلة الربعين كنت ما زلت مقتنعا بالحماسة نفسها ،بتلك الحقيقة وذلك النور اللذين احتواهما إنجيل دمشق».
210
معر العمادي
«والبقية؟» «في الحقيقة ال أعرف .وقررت أن ال أتصل أو أسأل ،وأن أسافر إلى قونيا، وهذا ما فعلته .عندما وصلت وجدت بأن أليسار ومجدولين قد وصلتا قبل أكثر من أسبوع ،والباقي كانوا قد وصلوا قبلي بيوم .وعندها قررنا في مقام موالنا ًجالل يعد ولكن النوري لم يقل شيئا عن الدين الرومي أن نجدد عهدنا .نعم ،المسيح لم ً الموعد المحدد لعودته .وبالتالي لم يعد ذلك مهما بالنسبة لنا .اتفقنا على أن نعود إلى بالدنا وننشر كلمات النوري».
ً آ وكان واضحا الن أن يون لم يصدق ما يسمعه .كل هذا كان يجري ،وبينما هو يعيش حياته المنكسرة في الغوطة غير قادر على تجاوز حنينه ،كان الحواريون ّ يغيرون العالم.
أ ً «وهكذا بدأنا .كان المر صعبا في البداية .كنا ندعو أقرب أصدقائنا وأفراد ونجلس معهم نتأمل ونذكر أ ونقرأ مقاطع من إنجيل دمشق .كانت السنة أسرنا أ أ الولى هي الصعب ولكن بدأت العداد تزداد وتزداد حتى أصبح من الواضح بأننا أصبحنا حركة كبيرة للغاية تمتد في أربع قارات». ً وسأل يون «كم عددكم؟» متوقعا أن يكون العدد في المئات.
ً أ ّ «ال أحد يعرف تماما لن النوري ،كما تعلم ،لم يعلمنا أن نبدو مختلفين. نقدم أنفسنا على أننا أتباع الديانات التي ولدنا عليها ،وال نرتدي مالبس ما زلنا أ مختلفة .ولننا نشدد على التوحيد والوحدانية فقد اعتبرنا بعض المسيحيين في البداية نسخة جديدة من الكنيسة الموحدة .ولكن على مر السنين أصبحنا ّ نسمى بالنوريين! وقد سمعت بأن لدينا حوالي سبعة ماليين عضو وربما عدد أكبر من المتعاطفين». «سبعة ماليين؟» «نعم .بإمكاننا تقدير العدد من عدد الزيارات إلى مواقعنا ومدوناتنا وعدد العروض التي تصلنا من وكاالت إالعالن .وهذا ال يعني أن ليس لنا كارهون، فبعض الزوار ال يتورع عن كيل الشتائم لنا». 211
ن إ�يل دمشق ج
«ال أستطيع أن أصدق ،ولماذا اخترت أن تزورني الليلة؟ ولماذا لم يزرني أحد الحواريين السوريين؟» أ ً «نحن ما زلنا نجتمع على القل مرة في السنة ودائما في قونيا .وقد اجتمعنا منذ بضعة أيام وكنا فقط تسعة .فكما سمعت توفي نبيل منذ فترة قصيرة». ً ً ً «لم أكن أعرف ذلك ».من الواضح أن ذلك كان محزنا ،بل كان غريبا نوعا ما أن يعرف هانز من كولون بوفاة نبيل في دمشق دون أن يعرف يون بذلك! ً «كانت صدمة كبيرة لنا جميعا .كان يحبك بصدق واعتقد بك حتى النهاية. أ على كل الحوال كان هو الوحيد الذي بقي في دمشق .أليخاندرا في مدريد ،وإيفا وأليسار تعيشان في أمريكا ،وطارق وريدانة في عمان ،ومجدولين في إنكلترا، وصوفيا في كندا ،وأنا مازلت في كولون بالطبع». ً «لماذا غادروا جميعا؟» «أظن أنهم أرادوا نشر الرسالة أو ربما كانت لديهم أسباب عائلية .في الحقيقة أنا ًغير متأكد .وقرر التسعة بأن أزورك وأخبرك بما يجري .في الحقيقة رأى أحدنا مناما ..تلك كانت لين .حلمت بأننا نركب على متن سفينة جميلة بدت لها وكأنها فلك نوح .ولكن نوحنا لم يكن معنا!» وظهر على يون أنه على وشك البكاء.
ً «وكذلك اتفقنا جميعا أن نطلعك على ما يجري بخصوص الحركة الكبرى. وها أنا أمامك». صمت يون للحظات قبل أن يجيب. ُ شعرت «هانز ،زيارتك المست قلبي .وأنا ال أبالغ عندما أقول بأنها أحلى تجرية بها منذ عشرين سنة ،ولكنني ال أستطيع االجتماع بإخوانك وأخواتك في إاليمان 212
معر العمادي
أ َ لن هناك شيء في داخلي لم يتعاف ُبعد .وال أريدهم أن يشعروا بذلك ،فال أريد أن يكون لي أثر سلبي عليهمً . رجاء ال تسئ فهم ما أق ًوله .أنا أؤمن كل ً إاليمان بأن ادها هللا وباركها .ولكنني لست مستعدا بعد ...ربما قريبا وربما لن هذه الحركة أ ًر ً أكون مستعدا أبدا». واندفع نحو يون ً الجالس أمامه لم ينتظر هانز حتى ّ َ يكمل يون كلماته .وقف ً بتلقائية لم تكن ألمانية البتة ليضمه ألثواني .وبكيا معا وكأنهما أخيرا يطلقان الحزن الذي تراكم خالل العشرين السنة الخيرة. E
أ لم تكن السلطات الحكومية تخاف من النوريين لنه لم تكن لديهم أجندة سياسية .كانوا يتبعون القانون ،ولم يكن لديهم أي رغبة في إيذاء أحد .واحترموا بكل صدق الحريات وحقوق إالنسان التي تبنتها هذه إالمبراطورية العلمانية ،مع أنهم لم يحترموا ماديتها .وفي الحقيقة ،في زمن انخفضت فيه نسبة مرتادي الكنائس إلى أقل من خمسة في المائة ،كان النوريون يمثلون القوة الروحية ًالديناميكية كانت تجذب الناس بعيدا عنها .لم الوحيدة التي لم تقاوم المادية ،فحسب وإنما ً يكن على أحد اعتناق دين جديد حتى يصبح نوريا .الكل حافظ على دينه ،ولكنهم عاهدوا العهد النوري الذي تطلب إحداث الكثير من التغيرات في أسلوب فهمهم إليمانهم وكيف يعيشون حياتهم. E
فجأة في بداية عام َّ ،2029 تصدع السالم الذي تمتع به العالم لفترة طويلة .فقد أ أعلنت كتلة شرقية في اتحاد المم الحرة استقاللها .واتسع نطاق ًالكتلة تحت قيادة رجل مظلم كان يتمتع بالكاريزما .وكان الحديث عن الحرب دائما ،ولم يكن اتحاد أ يتصرف .بل لم يكن أحد ليتوقع أن بعد كل هذه السنوات كيف يعرف الحرة مم ال ً هناك من ال يريد أن يكون جزءا من االتحاد ،فما بالك بأن يعلن الحرب ضده! ومع أ الحرب سيترتب عليها دمار من مستوى لم تشهده فإن للطرفين المتوافرة سلحة ال أ البشرية من قبل .أ ولذا اختار اتحاد المم الحرة أسلوب الترضية الذي بدا كأنه قد نجح لفترة على القل. 213
ن إ�يل دمشق ج
أ يتعلق بالنوريين كان استشعارهم ّللزمة فقط من خالل الرقابة التي وفيما ً النوريين الذين كانوا باتت مفروضة على أنشطتهم أ وحركتهم .فقد تقلصت حريات ً وأصبحت قدرة يعيشون في ظل الحلف الشرقي لن إيمانهم كان يعد تخريبيا. أ النوريين الذين كانوا يعيشون في الدول التي ما زالت ً جزء من اتحاد المم الحرة ً على السفر شرقا مقيدة للغاية. أ يعلو .وهذه المرة يبدو الحرب نفير عاد 2031 عام من ول ال وفي شهر تشرين ً أنه لم يكن من شيء قادر على تفاديها .وكان الجميع متأكدا بأن الحرب قادمة ولكن السؤال الوحيد هو متى .وبينما أعد العالم نفسه للحرب ،ازدادت أنشطة النوريين التبشيرية .وتوالت االنهيارات االقتصادية والكوارث البيئية التي كانت بمثابة ضربات ضد الوعود الوهمية للمادية مما سهل من انتشار رسالة النوري. وعندما تحركت الكتلة الشرقية في نهاية المطاف في منتصف ،2032فإن تحركها لموجات مليونية من زحف ٍ لم يكن على شكل هجوم بالصواريخ ،بل على شكل ٍ المدنيين ومثلهم من الجنود باتجاه الغرب .وجاءت كل هذه التحركات نتيجة للخطاب الذي ألقاه أرئيس هذه الكتلة ودعا فيه إلى تطهير العالم من المبادىء التي ينادي بها اتحاد المم الحرة .كان التحرك البشري الكبير سيتوجه نحو الغرب المطاف «لتحرير» جميع المدن أفي طريقه .والغرب بالطبع كان يعني في نهاية ً دمشق .ولم يكن اتحاد المم الحرة قد تنبأ بحدوث شيء كهذا .كان مستعدا لمواجهة القوة العسكرية الهائلة بغض النظر من أي اتجاه جاءت .ولكن ما هو 2032لم يكن بالماليين من المدنيين؟ مع نهاية عام أ أسلوب الهجوم على مسيرة ً التحرك البشري قد ازداد حجما فحسب ،بالرغم من محاوالت اتحاد المم الحرة المكثفة في تقليصه ،ولكنه كان قد آوصل إلى الحدود الشرقية للصحراء السورية ً أيضا .والسيطرة على دمشق أصبح الن مجرد مسألة وقت. E
أ الجامع الموي الكبير – السبت 9نيسان 2033 البرزخ بسبع سنوات أرضية (أي ً قبل موعد إعادتي أنا وأصحابي إلى ًعالم ً تحديدا بعد مرور مائة سنة كما كان مقررا لنا مسبقا) حدث شيء عجيب؛ ففي كنت قد عدت للتو من مهمة قصيرة في مدينة النبك على بعد صباح يوم سبت ً ّ مسن يعيش حوالي خمسين ميال إلى الشمال من دمشق .كانت مهمتي إنقاذ رجل ٍ إلى هناك قبل وصول الزحف الشرقي .وعندما دخلت إلى كهفي ،شعرت بالحاجة ً فتح صندوق لم ألمسه منذ سنوات .وحتى قبل أن أفتحه كان من الواضح بأن شيئا
214
معر العمادي
بشيء ينقبض بداخلي .هل كان يون على وشك أن يموت؟ يتوهج بداخله. شعرت ٍ أ لم أتمكن من فتح السطوانة بمفردي .فحملتها وذهبت إلى كهف ريشة. ً «رجاء قفي بجانبي». «إنها تتوهج .إنها تتوهج .افتحها». «لم أكن أريد أن أفتحها بمفردي». «أنت لست بمفردك .افتحها». ضغطت على وسط االسطوانة فانفتحت بالطريقة المعتادة السهلة. «ماذا تقول؟ اقرأ بصوت مرتفع ».وهذا ما فعلته: [اخرج يونس أمن البحر. السماء ستنفتح وستستقبل الرض المفتاح المنتظر. ريشة ونور ورحمة وسكينة وميزان وعصا وسور ورقيم. نيسان – 2033/ 10-9منتصف الليل – الفجر] ً «اسمعي ّ أصحابي .وأريد منك أيضا أن تجذبي علي أن أذهب .أريد أن أخبر أ منتصف الليل .من الجامع الموي في ً جميع الحواريين حتى يكونوا موجودين في ً المفروض أن يكون الطيران من أوروبا سهال ولكني لست متأكدا بشأن إفريقيا أصحابك مخولون بحملهم مباشرة إلى وآسيا .اسمعي إن اضطررتم ،أنت وجميع ً دمشق من أي مكان هم فيه .وأنا سأكون مسؤوال عن يون». «نعم ال تقلق .أنا سأكون مسؤولة عن كل شيء .ولكن رقيم هم أحد عشر وليس تسعة». 215
ن إ�يل دمشق ج
ً «ركان لم يعد منهم وتوفي نبيل مؤخرا». ّ «نعم أعرف .ولكن نور ِكلفت بإيجاد بديلين .لم يكن من المفترض أن أخبرك بهذا ..ولكن لقد تغير كل شيء فجأة». «ومن أخذ محلهما؟» استمرار «لم تقل لي نور بعد .اعتقدت أن ذلك حدث فقط من أجل ضمان أ النوريين .لم أعتقد بأن الحواريين سيجتمعون مرة أخرى في الجامع الموي الكبير». وال مرة بأن هذا سيحدث .اسمعي ،يجب أن أتأكد «وال أنا يا ريشة .لم أتخيل أ شيء جاهز في الجامع الموي الكبير .وقبل منتصف اللليل بحوالي ساعة بأن كل ُ يجب أن أحضر يون». ً «حسنا ال تقلق سنكون هناك». حدقنا ببعضنا للحظات وكأننا فجأة أدركنا بأن عذوبة تيسير الرسائل المتعلقة بيون قد عادت من غير أن نتوقع ذلك. وخالل الساعات العشرة التي تلت َ االرضية تسابق أصحابي في أنحاء الكرة ً يجذبون الحواريين وعند الضرورة يحملونهم على متن رحالت لن ينسوها أبدا. وهم ً وأنا أيضا جذبت عمال النظافة في الجامع ليقوموا بأدق عملية تنظيف قاموا بها لسجاد الجامع ورخام صحنه. ً ً كنت أخيرا مستعدا لمغادرة دمشق القديمة والوصول إلى منزل يون في الغوطة عندما توقفت سيارة مرسيدس سوداء بنوافذ مظللة بجانبي .ونزل زجاج النافذة. «هل أستطيع توصيلك؟» كان وحي. 216
«هل أنت منزعج؟»
معر العمادي
ً أ «ال ..أبدا» قلت له وأنا أدخل إلى السيارة وأجلس في المقعد المامي. «إلى أين نحن ذاهبان؟» «إلى منزل في الغوطة».
ً أ كان في رأسي عدد من السئلة التي أردت أن أطرحها ولم أكن متأكدا من أين أبدأ .ولكن وحي قاطع أفكاري.
أ أ ً «أنت تعرف بأنه أحيانا ال يمكن إعالمك ببعض المور ،لن ذلك سيكون له أثر على مشاعرك تجاه الحدث .وحزنك كان موضوع تقدير وكذلك شعورك بالحباط ،إذ قلب يون مربوط بقلبك دون أن يعي ذلك .إنها صلة عاطفية قوية إ ليس ليون أن يدركها .ولذا لو كنت على علم بما سيحدث الليلة لكان شعورك باالرتياح سينتقل إليه». لم أتمكن من منع نفسي من مقاطعته« .وما المشكلة في أن يشعر يون ببعض االرتياح؟» سألت هذا السؤال وأدركت بأننا قد وصلنا إلى منزل يون ،وأوقف وحي السيارة خارج البوابة الخضراء الكبيرة.
ً أ «لنه كان من المفترض أن يكون منكسرا .ال يمكن استقبال المسيح وأنت يستقبلوه كان عليهم منتصر .نعم وصوله نصر ولكن أولئك الذين من المفترض أن ً أن يشعروا باالنكسار .وفي حالة يون ،كان عليه الشعور بأن شالك من أشكال االغتراب المظلم الذي ال ي ًراه أحد سواه يحيطه بشكل دائم .ولكن على الرغم من صعوبته إال أنه لم يكن حوتا!» «حوت؟» «نعم تذكر – يون هو يونس!»
ً وفي الحقيقة لم تخطر ببالي هذه الصلة الواضحة أبدا. 217
ن إ�يل دمشق ج
«لكل يوم قضاه يونس في داخل الحوت كان على يون قضاء أحد عشر سنة في داخل شعوره بالحزن والخيبة والوحدة .وعندما ُس ِئل المسيح عن آية ،كان يجيب« :لن تكون هناك آية سوى آية يونس ».هذا ما قاله المسيح بعد أن قام بعدد كبير من المعجزات بما في ذلك آية عازر .ولكنه لم يكن يتحدث عن شيء كان ليحدث في القدس قبل ألفي سنة؛ بل كان يتحدث عن شيء سيحدث بعد وثالثين سنة كرجل منكسر في ريف دمشق ومغادرته ألفي سنة .حياة يون لثالثة أ الليلة ليكون هناك في الجامع الموي الكبير هي آية يونس التي تحدث عنها المسيح». «ولكن لماذا 2033؟» أسبوع من اليومُ ،رفع المسيح فوق القدس ً التي «منذ ألفي سنة ،وبالتحديد ً وعندما يصل غدا ،سيوافق اليوم الذي دخل فيه منتصرا إلى فشلت في تقدير هبته. ً القدس .أنت تعرف بأن غدا هو أحد الشعانين؟» «»... ُ ً «وهو أيضا عاشوراء ،العاشر من محرم اليوم الذي أنقذ فيه نوح من الفيضان، وإبراهيم من النمرود ،وموسى من فرعون». ولشعوري بالخجل من فشلي في التوصل إلى هذه الصالت نظرت إلى الساعة. «إنها الساعة الحادية والنصف». «نعم ،الرجاء أن تطرق الباب وتطلب منه المجيء معنا». «هل َّ علي أن أشرح؟» ً«ال ..فقط اطرق الباب واطلب بلطف .وهو لن يقاوم .فهو قد قضى النهار بطوله متوترا ،ولم يشعر بهذا المستوى من الترقب منذ »...
218
معر العمادي
«ثالث وثالثين سنة؟» ٍ «نعم». ُ طرقت الباب وفتح يون الباب بسرعة وكأنه كان يقف خلفه مباشرة. «هل من الممكن أن ترافقني؟»
أ ً يون بي لوهلة .كانت هذه المرة الولى التي نلتقي فيها وجها لوجه .كان حدق ً ما يزال وسيما ويبدو أصغر من عمره بكثير. «نعم سأجلب معطفي .يبدو أن المطر على وشك أن يهطل». جلس يون في المقعد الخلفي .رحب به وحي بابتسامة ملكية ،وقاد السيارة نحو دمشق القديمة .وعندما اقتربنا من شارع القلعة الذي يقود مباشرة إلى الجامع أ الموي الكبير شاهدت يون في المرآة الجانبية .كان يبدو عليه أنه يفهم كل ما يحدث أكثر مني. ثم وصلنا .وأوقف وحي السيارة بالقرب من البوابة الغربية وأشار لنا لنتبعه. الموازي للحائط الجنوبي للجامع ،الشارع اتجه إلى اليسار حتى وصل إلى الشارع آ طالق. إلى منارة المسيح .اشتد المطر الن ولكنه لم يزعجنا على إال ً الذي يقود أ نظرت إلى العلى ورأيت السماء تمتلىء بالغيوم المنخفضة – منظر كنت معتادا على رؤيته في جبل الشيخ ولكن ليس في دمشق. ً كان يون يمشي بالقرب مني .وتساءلت بصمت إذا كان يدرك كم كان قريبا من قلبي .وهمس في أذني« :أستطيع أن أسمع أمي تغني». «ماذا تغني؟» «عيناي رأت مجد قدوم المسيح ».ابتسمت .لقد كان على التردد الصحيح. وفجأة توقفنا نحن الثالثة وحدقنا بدهشة .ففي المكان الذي كانت غرفة الكهرباء موجودة لم يعد سوى بقايا أحجار .لم يتبق من الصخور الكبيرة التي 219
ن إ�يل دمشق ج
ً أغلقت البوابة لمدة أربعة عشر قرنا سوى الغبار .والكتابة إالغريقية المنحوتة فوق ُ يلمع ساطع ضوء هناك وكان بالذهب. أخرى مرة حتت ن البوابة كانت تبدو وكأنها ً من داخل الجامع قوي لدرجة جعل المنطقة خارج البوابة مباشرة مرئية تماما. أصحابي السبعة والحواريون اصطفوا على طرفي البوابة .لم يدخل أحد منهم؛ كانوا وهما تلبسان يون .إ بانتظار أ وبالضافة إلى التسعة وقفت مريم وأماندا بجانب نور ً مؤمنتين المعطف الزرق المميز وتمسكان بيديهما وتبتسمان وكأنهما كانتا دائما ً آ َّ محمر الوجه ،والبعض الخر يبدو مذهوال وغير بأنهما ستكونان هنا .كان البعض قادر على التعبير عما يشعر به ،بينما آخر يشع من الفرح .كانت ريشة ومجدولين نفسيهما ،وأليسار تبكي ،واقترب هانز وطارق من يون وربتا على كتفه. تدوران حول أ وكان ميزان هو القرب إلى المدخل .نظر إلى يون وقال بصوته الملكي: آ «لقد وصل .نزل من درج المنارة وهو الن داخل الجامع يمشي نحو مقام سيدنا يحيى». وأمسك وحي بيد يون وقاده إلى الداخل نحو النور. E
في أأثناء السنوات السبع التي تلت ،هزم المسيح وأتباعه ،الذين شكل أالنوريون النواة الساسية لهمَ ، جنود الموت والدمار .ومع حلول الوقت المحدد لي ولصحابي أ للعودة ،كانت الرض قد شهدت ثورة روحية .ولكن هذه لم تكن القصة التي كان ناري .كان هناك حصان ناري حمل الياس علي مشاركتها .قصتي هي قصة حصان أ إلى السماء .ولكن عندما عاد المسيح إلى الرض كان هناك حصان ناري بانتظاره. EEE
220
معر العمادي
221
ن إ�يل دمشق ج
Other Foreign Language & Culture Books by Virginia Institute Press: Communicative Focus: Teaching Foreign Language on the Basis of the Native Speaker´s Communicative Focus, 2nd Edition, Boris Shekhtman – June 2015 Côte à côte : Etude comparative de l’anglais et du français (French/English), Jacques Bourgeacq – February 2016 Diagnostic Assessment at the Superior / Distinguished Threshold, Bella Cohen – January 2015 The Gospel of Damascus (English language fiction, 2nd edition), Omar Imady – October 2016 El Evangelio de Damasco (Spanish language fiction), Omar Imady – October 2016 L’Evangil de Damas (French language fiction), Omar Imady – October 2016 ( انجيل دمشقArabic language fiction), Omar Imady – October 2016 How to Improve Your Foreign Language IMMEDIATELY, 3rd Edition. Foreign Language Communication Tools, Boris Shekhtman – January 2014 Individualized Study Plans for Very Advanced Students of Foreign Language, Betty Lou Leaver – May 2016 Poemas y Laberintos/Poems and Labyrinths (Spanish/English – reading, comprehension), Idy Linares – May 2015 Sonría y aprenda/Smile and Learn (Spanish/ English – reading, comprehension, and vocabulary building), Idy Linares – September 2014 222
معر العمادي
What Works: Helping Students Reach Native-Like Second-Language Competence, 2nd Edition. Txabarriaga, Rocío, editor. Authorial collective: Rajai Rasheed Al-Khanji, James Bernhardt, Gerd Brendel, Tseng Tseng Chang, Dan Davidson, Christian Degueldre, Madeline Ehrman, Surendra Gambhir, Jaiying Howard, Frederick Jackson, Cornelius Kubler, Betty Lou Leaver, Maria Lekič, Natalia Lord, Michael Morrissey, Boris Shekhtman, Kenneth Shepard, Svetlana Sibrina – May 2015 Working with Advanced Foreign Language Students, 2nd Edition. Boris Shekhtman – April 2016 www.virginiainstitutepress.com
223
ن إ�يل دمشق ج
224
معر العمادي
225