الرحيق المختوم صفي الرحمن المباركفوري
بين يدي الكتاب كلـمـة معالي الدكتور عبد ا عمر نصيف كلـمـة معالي الشيخ محمد بن على الحركان كلمة المؤلف
بين يدي الكتاب الحمد ل رب العالمين ،والصل ة والسل م على عبده ورسوله محمد أفضل الرسل وخات م النبيين ،وعلى آله وصحبه ومن اهتدي بهديه إلى يو م الدين. وبع ــد: فهذا الكتاب هو الذي أسهمت به في مسابقة السير ة النبوية العالمية التي نظمتها رابطة العال م السلمي ،وأعلنت عنها عقب أول مؤتمر للسير ة النبوية الذي عقدته دولة باكستان في شهر ربيع الول عا م 1396هـ. وقد قدر ال لهذا الكتاب من القبول ما ل م أكن أرجوه وقت الكتابة ،فقد نال المركز الول في المسابقة ،وأقبل عليه الخاصة والعامة إقبال يغتبط عليه. وكان من حديث هذا الكتاب أني ل م أطلع على إعلن الرابطة عن المسابقة في وقته ،ولما أخبرت به بعد حين ل م ِ ض ا ـ كلًيا إل أن القدر ساقني إلى ذلك .وكان آخر موعد لتلقي أم ْلـ إلى السها م فيها ،بل رفضت هذا القتراح رف ً بحوث المسابقة واستقبالها عند الرابطة أول شهر محر م من العا م القاد م 1397هـ ،أي نحو تسعة أشهر من وقت العلن ،وقد ضاعت مني من ذلك عد ة أشهر ،والمد ة الباقية ل م تكن تكفي لعداد مثل هذا الكتاب ،ولكن لما عزمت على ذلك استعنت ال سبحانه وتعالى ،وشمرت عن ساق الجد ،حتى ت م إنجازه إوارساله في الموعد. وكنت أعاني ـ مع ضيق الوقت والشتغال بأعمال أخري ـ قلة المصادر ،وعد م القدر ة على مراجعة كل ما هو موجود، وكانت الدقة مطلوبة عندي بصفة خاصة مع تجنب الحشو والزوائد ،والحاطة بالموضوع بقدر المكان ،وقد مررت بأماكن شعرت فيها بشيء من الفجو ة والفراغ ،وبحاجة إلى إضافات ل م تكن في مستطاعي في ذلك الحين .فكل ما كان بالمكان هو التسويد السريع لما هو موجود ،ث م نسخه أو استنساخه بغير مراجعة أو تنقيح. وقد بقيت في النفس رغبة إلى ملء تلك الفجو ة والفراغ إواضافة بعض الزيادات فيما بعد ،ولكن مضت اليا م والعوا م ول م يقدر لي ذلك ،حتى َتقاد م الَعْهُد وانفلت الزماُ م ،ـ وكنت أحياًنا أثبت في الكتاب أشياء ،وربما أقد م أو أؤخر ،أو
أضـيف أو أعدل أشياء ،وهي إوان ل م تكن عين ما كانت تتحدث به النفس عند التأليف ،لكنها مهمة ومفيد ة في السير ة ت إليه من المراجع الحديثة، إن شاء ال ،وكذلك اطلعت على مصادر قديمـة أغنتـني إلى حــد كبير عـما كـنت أَح ْلـ ُ فأدخلت كل ذلك في هذه الطبعة بتوفيـق ال .
وقد كنت أرجو ظهور بعض الملحوظات العلمية القيمة ،أستفيد بها في صلب بعض الموضوعات ،لكن الذي وصلني منها ل يمس الجوهر ،إوانما يمس بعض المور الجانبية التي ل تقد م ول تؤخر ،يضاف إلى ذلك أن معظمها خطأ ط غريب ل م يكن ُيْر َجـي ـمثله من عامة الدارسين ،فضًل عن أصحاب التخصص. واضح ،بل تََخ ّبـ ٌ وهذه الطبعة التي تتضمن هذه الضافات والتغييرات تكون أفضل وأكثر فائد ة من الطبعات السابقة إن شاء ال ، وهي الطبعة الشرعية الوحيد ة مع تلك الضافات والتعديلت .وقد طبع الكتاب قبل ذلك من جهة الرابطة عد ة طبعات ،كما طبعه بعض الخوان بإذن من المؤلف ،ولكن هناك عشرات الطبعات كلها غير شرعية قا م بها الناشرون بغير إذن من المؤلف ول إشعار له ،مستغلين سمعة الكتاب .وقد بلغت الجرأ ة ببعضه م إلى أنه احتفظ بجميع حقوق الكتاب لنفسه ،فهداه م ال للحق ،وليصال الحقوق إلى أهلها قبل أن يأتي يو م ل بيع فيه ول خلل. وصلى ال على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه وبارك وسل م. 18ربيع الول 1415هـ 26أغسطس 1994م صفي الرحمن المباركفوري الجامعة السلمية ،المدينة المنور ة
كلـمـة معالي الدكتور عبد ال عمر نصيف الحمد ل الذي بنعمته تت م الصالحات ،وأشهد أن ل إله إل ال وحده ل شريك له ،وأشهد أن محمًد اـ عبده ورسوله وصفيه وخليله ،أدي الرسالة وبلغ المانة ونصح المة وتركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها ،صلى ال عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ،ورضي ال عن كل من تبع سنته وعمل بها إلى يو م الدين ،وعنا معه م بعفوك ورضاك يا أرح م الراحمين.
أما بعد:
فإن السنة النبوية المطهر ة ـ وهي العطاء المتجدد والزاد الباقي إلى يو م الدين ،والتي يتسابق المتسابقون ،ويتنافس المتنافسون إلى الحديث عنها وكتابة الكتب والسفار في مواضيعها منذ بعث صلى ال عليه وسل م حتى تقو م الساعة ـ تضع للمسلمين النموذج العملي والبرنامج الواقعي لما ينبغي أن يكون عليه سلوكه م وأفعاله م وأقواله م وعلقاته م بربه م ،ث م بأهله م وعشيرته م إواخوانه م وأمته م والناس أجمعين. وقد قال ال عز وجل :}لَقَْد َك اـَن لَُك ْ مـ ِفيـ َر ُسـوـِل ال ِ أُْس َوـ ةٌـ َح َسـَنـةٌ لَّم نـ َك اـَن َيْر ُجـوـال َ َواْلَيْو َ ماـْل ِخ ــَر ـَو َذ ـَكـَرـال َ َك ثِـيًرا{ ]الحزاب.[21 : وقالت السيد عائشة ـ رضوان ال عليها ـ عندما سئلت عن خلق رسول ال صلى ال عليه وسل م :)كان خلقه القرآن(. فل ريب إذن أنه لبد لمن أراد النجا ة من هذه الدنيا باتباع المنهج الرباني في جميع شئون آخرته ودنياه وأن يتأسي بالرسول العظ م صلى ال عليه وسل م ،ويأخذ بالسير ة النبوية تفكًرا وتدبًرا على أنها هذا المنهج الرباني القوي م عاشه سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسل م واقًعاـ عملّيا في جميع شئون الحيا ة ،ففيها الهدي والرشاد للقاد ة والمقودين والحكا م والمحكومين والمرشدين والموجهين والمجاهدين ،وفيها السو ة الحسنة في جميع المجالت :في السياسة والحك م والقتصاد والمال والجتماع والعلقات النسانية والخلق الفاضلة والعلقات الدولية ،فما أحرى المسلمين اليو م ـ وقد انحدروا في مهاوي الجهالة والتخلف لبتعاده م عن هذه المنهج ـ أن يعودوا إلى صوابه م وأن يقدموا السير ة النبوية في مناهجه م الدراسية ومنتدياته م المختلفة على أنها ليست للمتعة الفكرية وحسب ،بل فيها طريق العود ة إلى ال ،وفيها إصلح الناس وفلحه م ،فهي السلوب العلمي لترجمة كتاب ال عّز وجّل سلوًك اـ وأخلًقا ،حتى يصبح المؤمن محتكًم اـ إلى شريعة ال سبحانه وتعالي ومحكًم اـ لها في جميع شئون الناس. وهذا الكتاب ]الرحيق المختو م[ جهد رائع وعمل مشكور لمؤلفه فضيلة الشيخ صفي الرحمن المباركفوري الذي استجاب لدعو ة رابطة العال م السلمي في مسابقة السير ة النبوية التي نظمتها عا م 1396هـ ،ففاز بالجائز ة الولى كما هو مذكور في مقدمة الطبعة الولى لفضيلة الشيخ محمد على الحركان ـ رحمه ال ـ المين العا م السابق لرابطة العال م السلمي تغمده ال برحمته وجزاه عنا خير الجزاء. وقد كان إقبال الناس عظيًم اـ وثناؤه م عطًرا على هذا الكتاب ،وقد نفدت نسخ الطبعة الولى بالكامل ،وطلب مني ص ا ـ لوجهه التقدي م للطبعة الثالثة فاستجبت له بهذه المقدمة الوجيز ة ،سائًل المولي عز وجل أن يجعل هذا العمل خال ً
الكري م ،وأن ينفع به المسلمين نفًعاـ يؤدي إلى تغيير واقعه م إلى الفضل ،وأن يعيد للمة السلمية مجدها المفقود س تَْأم رـ و ـن ِباْلم عـرـ و ـ ِ ومكانتها في قياد ة الم م عمًل بقوله عز وجل :}ُكنـتُ م َخ ْيـرـ أُّم ٍةـ أُْخ ِر ـج ْ ِ فَو تَـْن هَـْو َن ـَع ِنـ اْلُم نـَك ِرـ َ ت ـللّنا ِ ُ ُ َ َ ْ ُ ْ َ َو تُـْؤ ِم ـُنـوَنِبال ِ{ ]آل عمران.[110 : وصلى ال على المبعوث رحمة للعالمين ،رسول الهدى ومرشد النسانية إلى طريق النجا ة والفلح ،وعلى آله وصحبه وسل م. والحمد ل رب العالمين. د .عبد ال عمر نصيف المين العال م لرابطة العال م السلمي ]سابًقا[ نائب الرئيس لمجلس الشوري المملكة العربية السعودية
كلـمـة معالي الشيخ محمد بن على الحركان ـ رحمه ال ـ المين العا م لرابطة العال م السلمي الحمد ل رب العالمين ،خالق السموات والرض ،وجاعل الظلمات والنور ،وصلي ال على سيدنا محمد خات م النبياء والرسل أجمعين ،بّش رـ وأنذر ،ووعد وأوعد ،أنقذ ال به البشر من الضللة ،وهدي الناس إلى صراط مستقي م ،صراط ال الذي له ما في السموات وما في الرض أل إلى ال تصير المور.
وبعــد:
فلما أعطى ال سبحانه وتعالي لرسوله الشفاعة والدرجة الرفيعة ،وهدي المسلمين إلى محبته ،وجعل اتباعه من محبته تعالى فقال تعالى :}ُقْل ِإن ُك نـتُْ م تُِح ّبــوَن ال َ َفاتِّبُعوِني ُيْح بِـْب ُكـُ مـ ال ُ َو َيـْغ ِفـْرـلَُك ْ مـ ُذ ُنـوَبُك ْ مـ{ ]آل عمران ،[31 :فكان هذا من السباب التي صيرت القلوب تهفو إلى محبته صلى ال عليه وسل م ،وتتلمس السباب التي توثق الصلة فيما بينها وبينه صلى ال عليه وسل م .فمنذ فجر السل م والمسلمون يتسابقون إلى إبراز محاسنه ،ونشر سيرته العطر ة صلى ال عليه وسل م ،وسيرته صلى ال عليه وسل م هي أقواله وأفعاله وأخلقه الكريمة ،فقد قالت السيد ة عائشة زوج النبي صلى ال عليه وسل م رضي ال عنها :)كان خلقه القرآن( ،والقرآن كتاب ال وكلماته التامة ،ومن كان كذلك كان أحسن الناس وأكمله م وأحقه م بمحبة خلق ال جميًعاـ. ول م َيَز ِلـالمسلمون متمسكين بهذه المحبة الغالية التي انبثق عنها المؤتمر السلمي الول للسير ة النبوية الشريفة الذي عقد بباكستان سنة 1396هـ ،حيث أعلنت الرابطة في هذا المؤتمر عن جوائز مالية مقدارها مائة وخمسون ألف ر سعودي توزع على أحسن خمسة بحوث في السير ة النبوية بالشروط التية: 1ـ أن يكون البحث متكامًل مع ترتيب الحوادث التاريخية حسب وقوعها.
2ـ أن يكون جيًد اـ ول م يسبق نشره من قبل. 3ـ أن يذكر الباحث جميع المخطوطات والمصادر العلمية التي اعتمد عليها في كتابة البحث. 4ـ أن يكتب الباحث ترجمة كاملة ومفصلة عن حياته مع ذكر مؤهلته العلمية ومؤلفاته إن وجدت. 5ـ أن يكتب البحث بخط واضح ،ويستحسن نسخه على اللة الكاتبة. 6ـ تقبل البحوث باللغة العربية واللغات الحية الخري. 7ـ يبدأ قبول البحوث من غر ة ربيع الثاني 1396هـ ،وينتهي موعد القبول بغر ة محر م 1397هـ. 8ـ تسل م البحوث إلى المانة العامة لرابطة العال م السلمي بمكة المكرمة في ظرف مختو م ،وتضع المانة عليه ص ا ـ. رقًم اـ تسلسلًيا خا ً 9ـ تقو م بفحص البحوث لجنة عليا من كبار العلماء في هذ الشأن. فكان هذا العلن حافًزا لتسابق العلماء الذين وهبه م ال حب رسوله صلى ال عليه وسل م ،واستعدت رابطة العال م السلمي لستقبال هذه البحوث باللغات العربية والنجليزية والردية وأية لغة أخري.
وبدأ الخوان الكرا م في إرسال بحوثه م بهذه اللغات ،وقد بلغ عددها واحًد اـ وسبعين ومائة بحث منها: 84بحًثا باللغة العربية 64 ،بحًثا باللغة الردية 21 ،بحًثا باللغة النجليزية ،وبحث واحد فقط باللغة الفرنسية ،وبحث
واحد فقط باللغة الهوساوية.
وقد كونت الرابطة لجنة من كبار العلماء لدراسة هذه البحوث وترتيبها حسب استحقاق الفائز للجائز ة ،وقد كان الفائزون بالجوائز حسب الترتيب التي: 1ـ الفائز بالجائز ة الولى الشيخ صفي الرحمن المباركفوري من الجامعة السلفية بالهند ،ومقدار جائزته خمسون ألف ر سعودي. 2ـ الفائز بالجائز ة الثانية الدكتور ماجد على خان من الجامعة الملية السلمية نيودلهي ،الهند ،ومقدار جائزته أربعون ألف ر سعودي. 3ـ الفائز بالجائز ة الثالثة الدكتور نصير أحمد ناصر رئيس الجامعة السلمية بباكستان ،ومقدار جائزته ثلثون ألف ر سعودي. 4ـ الفائز بالجائز ة الرابعة الستاذ حامد محمود محمد منصور ليمود من جمهورية مصر العربية ،ومقدار جائزته عشرون ألف ر سعودي. 5ـ الفائز بالجائز ة الخامسة الستاذ عبد السل م هاش م حافظ من المدينة المنور ة ،المملكة العربية السعودية ،ومقدار جائزته عشر ة آلف ر سعودي. وقد أعلنت الرابطة أسماء الفائزين في المؤتمر السلمي السيوي الول الذي عقد في كراتشي في شهر شعبان سنة 1398هـ .كما أعلن عن ذلك في جميع الصحف. وبهذه المناسبة أقامت المانة العامة للرابطة بمقرها بمكة المكرمة حفًل كبيًرا تحت إشراف صاحب السمو الملكي المير سعود بن عبد المحسن بن عبد العزيز وكيل إمار ة منطقة مكة المكرمة ،نيابة عن صاحب السمو الملكي المير فواز بن عبد العزيز أمير منطقة مكة المكرمة ،حيث تفضل سموه بتوزيع الجوائز على أصحابها ،وذلك صباح يو م السبت الموافق 12ربيع الول سنة 1399هـ .وفي هذا الحفل أعلنت المانة العامة أنها ستقو م بطبع البحوث الفائز ة ونشرها بعد ة لغات ،وتنفيًذ اـ لذلك ها هي ذي تضع بين يدي القارئ الكري م باكور ة طبعات تلك البحوث ،وهو
بحث الشيخ /صفي الرحمن المباركفوري ،من الجامعة السلفية بالهند؛ لنه الفائز بالجائز ة الولي ،وستوالي طبع بقية البحوث الفائز ة حسب ترتيبها ،سائلين ال سبحانه وتعالي أن يتقبل منا جميًعاـ أعمالنا خالصة لوجهه الكري م ،إنه نع م المولي ونع م النصير. وصلى ال على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسل م. محمد بن على الحركان المين العا م لرابطة العال م السلمي
كلمة المؤلف الحمد ل الذي أرسل رسوله بالهدي ودين الحق ليظهره على الدين كله ،فجعله شاهًد اـ ومبشًرا ونذيًرا ،وداعًيا إلى ال بإذنه وس ارًج ا ـ منيًرا ،وجعل فيه أسو ة حسنة لمن كان يرجو ال واليو م الخر وذكر ال كثيًرا .ال م صل وسل م وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه م بإحسان إلى يو م الدين ،وفّج رـ له م ينابيع الرحمة والرضوان تفجي ار. وبعـد: فإن من دواعي الغبطة والسرور أن رابطة العال م السلمي أعلنت عقب مؤتمر السير ة النبوية الذي عقد في باكستان في شهر ربيع الول من سنة 1396هـ عن تنظي م مسابقة علمية عالمية؛ لتقدي م أحسن بحث في موضوع السير ة طا للكاتبين ،وتنسيقا لجهوده م الفكرية .إواني أري أن النبوية ـ على صاحبها ألف ألف صل ة وسل م وتحية ـ وذلك تنشي ً هذا العمل له قيمة كبير ة ربما ل يحيط بوصفه البيان .فإن السير ة النبوية والسو ة المحمدية ـ على صاحبها ما يستحق من الصل ة والسل م ـ إذا لحظناها بعين الدقة والعتبار هي المنبع الوحيد الذي تتفجر منه ينابيع حيا ة العال م السلمي وسعاد ة المجتمع البشري. إوان من سعادتي وحسن حظي أن أقد م بحًثا أسه م به في تلك المسابقة المباركة ،ولكن أين أنا حتى ألقي ضوًءا على حيا ة سيد الولين والخرين صلى ال عليه وسل م .إوانما أنا رجل يري لنفسه كل السعاد ة والفلح أن يقتبس من نوره، حتى ل يتهالك في دياجير الظلمات ،بل يحيا وهو من أمته ،ويموت وهو من أمته ،ويغفر ال له ذنوبه بشفاعته.
ومن منهجي في هذا الكتاب ـ عدا ما جاء في إعلن الرابطة ـ أني قررت سلوك سبيل العتدال ،متجنًبا التطويل
الممل واليجاز المخل ،وقد وجدت المصادر تختلف فيما بينها حول كثير مما يتعلق بالحداث اختلًفا ل يحتمل الجمع والتوفيق ،فاخترت سبيل الترجيح ،وأثبت في الكتاب ما ترجح لدي بعد التدقيق في الدراسة والنقد ،إل أني طويت ذكر الدلئل والوجوه؛ لن ذلك يفضي إلى طول غير مطلوب. أما بالنسبة لقبول الروايات وردها فقد استفدت في ذلك مما كتبه الئمة المتقنون ،واعتمدت عليه م فيما حكموا به من الصحة والحسن والضعف؛ إذ ل م أجد وقًتا يكفي للخوض في هذا المجال.
ت الستغراب ممن يق أر الكتاب ،أو وقد أشرت في بعض المواضع إلى بعض الدلئل ووجوه الترجيح ،وذلك حينما ِخ ْف ـ ُ رأيت شبه التفاق فيما بين الولين والخرين على خلف ما هو الصواب .وال ولي التوفيق.
ال م قدر لي الخير في الدنيا والخر ة ،إنك أنت الغفور الودود ،ذو العرش المجيد. صفي الرحمن المباركفوري بنارس ـ الهند
العرب ،الرض والشعب ،الحك م والقتصاد ،الديانة موقع العرب وأقوامها إن السير ة النبوية ـ على صاحبها الصل ة والسل م ـ هي في الحقيقة عبار ة عن الرسالة التي حملها رسول ال صلى ال عليه وسل م إلى المجتمع البشرى قوًل وفعًل ،ـ ـوتوجيها وسلوًك اـ ،وقلب بها موازين الحيا ة ،فبدل مكان السيئة الحسنة، وأخرج بها الناس من الظلمات إلى النور ،ومن عباد ة العباد إلى عباد ة ال ،حتى عدل خط التاريخ َوغّير مجرى الحيا ة في العال م النساني ،ول يت م إحضار هذه الصور ة الرائعة إل بعد المقارنة بين البيئة التي سبقت هذه الرسالة
وبين ما آلت إليه بعدها. وهذا يقتضي تقدي م فصول موجز ة عن أقوا م العرب وتطوراتها قبل السل م ،وعن تاريخ الحكومات والمارات والنظ م القبلية التي كانت سائد ة في ذلك الزمان ،مع صور من الديانات والِم لَـل والّنَح ل ـ والعادات والتقاليد ،والوضاع السياسية والجتماعية والقتصادية. وقد خصصنا لكل من ذلك هذا الباب ،إواليك م تلك الفصول:
موقع العرب كلمة العرب تنبيء عن الصحارى والِقفَـار ،والرض الُم ْجـ ِد ـبــة التي ل ماء فيها ول نبات .وقد أطلق هذا اللفظ منذ أقد م طُنوا تلك الرض واتخذوها موطنا له م. العصور على جزير ة العرب ،كما أطلق على قو م َق َ وجزير ة العرب يحدها غرًبا البحر الحمر وشبه جزير ة سيناء ،وشرًقا الخليج العربى وجزء من بلد العراق الجنوبية، وجنوًبا بحر العرب الذي هو امتداد لبحر الهند ،وشماًل بلد الشا م وجزء من بلد العراق ،على اختلف في بعض هذه الحدود ،وتقدر مساحتها ما بين مليون ميل مربع إلى مليون وثلثمائة ألف ميل مربع. ولجزير ة العرب أهمية بالغة من حيث موقعها الطبيعي والجغرافي؛ فإنها في وضعها الداخلي محاطة بالصحاري والرمال من كل جانب؛ ولجل هذا الوضع صارت الجزير ة حصًنا منيًعاـ ل م يستطع الجانب أن يحتلوها ويبسطوا عليها سيطرته م ونفوذه م .ولذلك نرى سكان الجزير ة أح ارًرا في جميع الشئون منذ أقد م العصور ،مع أنه م كانوا مجاورين لمبراطوريتين عظيمتين ل م يكونوا يستطيعون دفع هجماتهما لول هذا السد المنيع.
وأما بالنسبة إلى الخارج فإنها تقع بين القارات المعروفة في العال م القدي م ،وتلتقى به بًرا وبحًرا ،فإن ناحيتها الشمالية الغربية باب للدخول في قار ة إفريقية ،وناحيتها الشمالية الشرقية مفتاح لقار ة أوربا ،والناحية الشرقية تفتح أبواب العج م؛ ومن ث م آسيا الوسطى وجنوبها والشرق البعيد ،وكذلك تلتقي كل قار ة بالجزير ة بحًرا ،وترسى سفنها وبواخرها على ميناء الجزير ة أرًس اـ. ولجل هذا الوضع الجغرافي كان شمال الجزير ة وجنوبها موئًل للم م ،ومركًزا لتبادل التجار ة ،والثقافة ،والديانة، والفنون.
أقوا م العرب وأما أقوا م العرب فقد قسمها المؤرخون إلى ثلثة أقسا م؛ بحسب السللت التي ينحدرون منها: 1ـ العرب البائد ة :وه م العرب القدامى الذين انقرضوا تماًم اـ ول م يمكن الحصول على تفاصيل كافية عن تاريخه م، ِ ضـَر ـَمـوـت، مثل :عاد ،وثمود ،و َ ضـوــر ،وَو بـَـار ،وَع بِـيل ،وجاس م ،وَح ْ طْس مـ ،وَج دـيــس ،وِع ْم ـلــق ،وأَُم ْيـ مـ ،وُج ْرـُه م،وَح ُ وغيرها.
2ـ العرب العاربة :وه م العرب المنحدر ة من صلب َيْش ُجـبـ بن َيْع ُرـبـبن قَْح طــان ،وتسمى بالعرب القحطانية. 3ـ العرب المستعربة :وهي العرب المنحدر ة من صلب إسماعيل عليه السل م ،وتسمى بالعرب العدنانية. أما العرب العاربة ـ وهي شعب قحطان ـ فَم ْهـُد هـا بلد اليمن ،وقد تشعبت قبائلها وبطونها من ولد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان .فاشتهرت منها قبيلتانِ :ح ْمـَيـرـ بن سبأ ،وَك ْهـلن بن سبأ ،وأما بقية بنى سبأ ـ وهـ م أحـد عشـر أو أربعة عشـر بطًنا ـ فيقال له م :السبئيون ،وليست له م قبائل دون سبأ.
أ ـ فأما حمير فأشهر بطونها: ر ة ض اــعة :ومنها َبْهراء َو بِـلّى والقَْي نـ وَك ْلـبـ وُع ْذـَرـ ةوَو َب ـَ . 1ـ قُ َ 2ـ الّس كـاِس ك:ـ وهـ م بنو زيـد بـن وائلة بن حمير ،ولقب زيد :السكاسك ،وهي غير سكاسك ِك ْنـدـ ة التية في بنى َك ْهـلن. 3ـ زيــد الجمهــور :ومنها حمير الصغر ،وسبأ الصغر ،وحضور ،وذو أصبح. ب ـ وأما َك ْهـلن فأشهر بطونها: َهْم دــان ،وأْلَهان ،والْش َعـر ،وطيئ ،وَم ْذـِحـج ـ]ومن مذحجَ :ع ْنـسـ والّنْخ ع ـ[ ،ولَْخ م ـ ]ومن لخ م :كند ة ،ومن كند ة :بنو معاوية والّس ُكـوـن والسكاسك[ ،وُج َذـاـ م ،وعاملة ،وَخ ْوــلن،وَم َعـاِفر ،وأنمار ]ومن أنمارَ :خ ثْـَع مـ وَبِج يـلََة ،ومن بجيلة: أْح َم ـسـ[ والْز دــ] ،ومن الزد :الوس ،والخزرج ،وُخ َزــاعة،وأولد َج ْفـَنة ملوك الشا م المعروفون بآل غسان[. وهاجرت بنو كهلن عن اليمن ،وانتشرت في أنحاء الجزير ة ،يقال :كانت هجر ة معظمه م قبيل َس ْيـلـ الَعِر مـحين فشلت تجارته م لضغط الرومان وسيطرته م على طريق التجار ة البحرية ،إوافساده م طريق البر بعد احتلله م بلد مصر والشا م.
ويقال :بل إنه م هاجروا بعد السيل حين هلك الحرث والنسل بعد أن كانت التجار ة قد فشلت ،وكانوا قد فقدوا كل وسائل العيش ،ويؤيده سياق القرآن }لَقَْد َك اـَن ِلَس َبـٍإ ِفيـ َم ْسـَكـنِـِه ْ مـآَيةٌ َج ّنـَتاِن َع نـ َيِم يـٍن و ِش ـ َم ـاـٍلُك لُـوا ِم نـ ّر ْز ـ ِ قَـر ّبـُك ْ مـ َ
طّيَبةٌ َو َرـ ّ ضـواـَفَأْر َسـْلـَناـَع لَـْي ِهـْ مـ َس ْيـَلـ اْلَعِر ِ مـَو َبـّد ْلـَناُه م بَِج ّنـتَْي ِهـْ مـ َج ّنـتَْي ِنـ َذ َوـاَتى أُُك ٍلـ َخ ْمـٍطـَوأَْثٍل َواْش ُكـُرـ والَـهُ َب ْلـَد ةٌـ َ بـَغ فُـوٌر َفَأْع َرـ ُ َو َش ـْيـ ءٍ ـّم نـ ِس ْد ـٍرـَقِليٍل َذ ِلـَك َج َزـْيـَنـاُه مبَِم اـ َك فَـُر واـَوَهـْلـ ُنَج اـِزيِإّل اْلَك فُـوَر َو َجـ َعـْلـَناَبْي َنـهُْ م َو َبـْي َنـ اْلقَُرىـالِّتي َباَر ْكـَنـاـِفيَها قًُرىـ ث ظاِه َرـ ةًَو َقـّد ْرـ َنـاـِفيَها الّس ْيـَرـ ِس يـُر واـِفيَها لََياِلَي َوأَّياًم اـآِم نِـيَن َفَقالُوا َر ّبـَنا َباِع ْد ـ َبْي َنـ َأْس َفـاِر َنـاَو َ َ ظـَلُم وـا َأنفَُس هُـْ م فََج َعـْلـَناُهْ م أََح اـِد يـ َ و م ـّزـْقـَناُه مُك ّلـ م مـّزـ ٍ ِ ِ ٍّ ص ّبــاٍر َش ُكـوـٍر{ ]سور ة سبأ[19 :15: قـِإّن فيـ َذ لـَك َل َي ـاـت لُك ّلـ َ ْ َُ ََ ول غرو إن كانت هناك ـ عدا ما تقد م ـ منافسة بين بطون كهلن وبطون حمير أدت إلى جلء كهلن ،فقد يشير إلى هذا بقاء حمير مع جلء كهلن. ويمكن تقسي م المهاجرين من بطون كهلن إلى أربعة أقسا م: 1ـ الْز د:ـ وكانت هجرته م على رأى سيده م وكبيره م عمران بن عمرو ُم َزـْيـِقـياء،فساروا يتنقلون في بلد اليمن ويرسلون الرواد ،ث م ساروا بعد ذلك إلى الشمال والشرق .وهاك تفصيل الماكن التي سكنوا فيها بعد الرحلة نهائًيا:
نزل عمران بن عمرو في ُع َمـاـن ،واستوطنها هو وبنوه ،وه م أْز د ـُع َمـاـن. واستوطنت بنو نصر بن الزد ُتهامة ،وه م أزد َش ُنـوء ة. طـف ثَْع لَـبة بن عمرو مزيقياء نحو الحجاز ،فأقا م بين الثعلبية وذى قار ،ولما كبر ولده وقوى ركنه سار نحو وَع َ المدينة ،فأقا م بها واستوطنها ،ومن أبناء ثعلبة هذا :الوس والخزرج ،ابنا حارثة بن ثعلبة.
وتنقل منه م حارثة بن عمرو ـ وهو خزاعة ـ وبنوه في ربوع الحجاز ،حتى نزلوا بمر الظهران ،ث م افتتحوا الحر م فقطنوا مكة وأجلوا سكانها الجراهمة. وسار َج ْفـَنةـ بن عمرو إلى الشا م فأقا م بها هو وبنوه ،وهو أبو الملوك الغساسنة؛ نسبة إلى ماء في الحجاز يعرف بغسان ،كانوا قد نزلوا بها أوًل قبل انتقاله م إلى الشا م. وانضمت البطون الصغير ة إلى هذه القبائل في الهجر ة إلى الحجاز والشا م ،مثل كعب بن عمرو ،والحارث بن عمرو، وعوف بن عمرو. 2ـ لَْخ م ـ وُج َذـاـ م: انتقلوا إلى الشرق والشمال ،وكان في اللخميين نصر بن ربيعة أبو الملوك المناذر ة بالحير ة. طّيئـ: 3ـ بنو َ
ساروا بعد مسير الزد نحو الشمال حتى نزلوا بالجبلين أجأ وسلمى ،وأقاموا هناك ،حتى عرف الجبلن بجبلى طيئ. 4ـ ِك ْنـدـ ة: نزلوا بالبحرين ،ث م اضطروا إلى مغادرتها فنزلوا بـ]حضرموت[ ،ولقـوا هنـاك ما لقوا بالبحرين ،ث م نزلوا نجًد اـ ،وكونوا هناك دولة كبير ة الشأن ،ولكنها سرعان ما فنيت وذهبت آثارها.
وهناك قبيلة من حمير مع اختلف في نسبتها إليه ـ وهي قضاعة ـ هجرت اليمن واستوطنت بادية السماو ة من مشارف العراق ،واستوطن بعض بطونها مشارف الشا م وشمالي الحجاز. وأما العرب المستعربة ،فأصل جده م العلى ـ وهو سيدنا إبراهي م عليه السل م ـ من بلد العراق ،من مدينة يقال لها: ]أر[ على الشاطئ الغربي من نهر الفرات ،بالقرب من الكوفة ،وقد جاءت الحفريات والتنقيبات بتفاصيل واسعة عن هذه المدينة ،وعن أسر ة إبراهي م عليه السل م ،وعن الحوال الدينية والجتماعية في تلك البلد. ومعلو م أن إبراهي م عليه السل م هاجر منها إلى حاران أو َح ّرــان،ومنها إلى فلسطين ،فاتخذها قاعد ة لدعوته ،وكانت له جولت في أرجائها وأرجاء غيرها من البلد ،وفي إحدى هذه الجولت أتى إبراهي م عليه السل م على جبار من
الجبابر ة ،ومعه زوجته سار ة ،وكانت من أحسن النساء ،فأراد ذلك الجبار أن يكيد بها ،ولكن سار ة دعت ال تعالى عليه فرد ال كيده في نحره ،وعرف الظال م أن سار ة امرأ ة صالحة ذات مرتبة عالية عند ال ،فأخدمها هاجر اعت ارًفا بفضلها ،أو خوًفا من عذاب ال ،ووهبتها سار ة لبراهي م عليه السل م. ورجع إبراهي م عليه السل م إلى قاعدته في فلسطين ،ث م رزقه ال تعالى من هاجر ابنه إسماعيل ،وصار سبًبا لغير ة
سار ة حتى ألجأت إبراهي م إلى نفي هاجر مع ولدهـا الرضيـع ـ إسماعيل ـ فقد م بهما إبراهي م عليه السل م إلى الحجاز،
وأسكنهما بواد غير ذي زرع عند بيت ال المحر م الذي ل م يكن إذ ذاك إل مرتفًعاـ من الرض كالرابية ،تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله ،فوضعهما عند دوحة فوق زمز م في أعلى المسجد ،وليس بمكة يومئذ أحد ،وليس بها ماء، فوضع عندهما جرابا فيه تمر ،وسقاء فيه ماء ،ورجع إلى فلسطين ،ول م تمض أيا م حتى نفد الزاد والماء ،وهناك تفجرت بئر زمز م بفضل ال ،فصارت لهما قوتا وبلًغ اـ إلى حين .والقصة معروفة بطولها. وجاءت قبيلة يمانية ـ وهي ُج ْرـُه مالثانية ـ فقطنت مكة بإذن من أ م إسماعيل .يقال :إنه م كانوا قبل ذلك في الودية التي بأطراف مكة ،وقد صرحت رواية البخاري أنه م نزلوا مكة بعد إسماعيل ،وقبل أن يشب ،وأنه م كانوا يمرون بهذا الوادى قبل ذلك. وكان إبراهي م عليه السل م يرتحل إلى مكة ليطالع تركته بها ،ول يعل م بالضبط عدد هذه الرحلت ،إل أن المصادر المعتمد ة حفظت لنا أربعة منها:
1ـ فقد ذكر ال تعالى في القرآن الكري م أنه أرى إبراهي م في المنا م أنه يذبح إسماعيل ،فقا م بامتثال هذا المر :} َفلَّماـ ِ ّ ِ تـ الّر ْؤ ـَيــاِإّنا َك َذـِلـَك َنْج ِزــياْلُم ْحـ ِس ـ نِـيَنِإّن َهَذ اـ لَهَُو اْلَبَل ء ـا ـْلُم بِـيُن ص ّدـْقـ َ أَْس لَـَم اـ َو تَـلهُ لْلَج بِــيِن َو َنــاَد ْيـَنـاهُأَْن َيا ِإْب َرـاه يـُ مقَْد َ َو فَـَد ْيـَنـاهُ بِِذ ْبـٍحـ َع ِظـ يـٍ م{ ]الصافات[107 :103: وقد ذكر في ِس ْفـرـ التكوين أن إسماعيل كان أكبر من إسحاق بثلث عشر ة سنة ،وسياق القصة يدل على أنها وقعت قبل ميلد إسحاق؛ لن البشار ة بإسحاق ذكرت بعد سرد القصة بتمامها. وهذه القصة تتضمن رحلة واحد ة ـ على القل ـ قبل أن يشب إسماعيل ،أما الرحلت الثلث الخر فقد رواها البخاري بطولها عن ابن عباس مرفوًع اـ ،وملخصها: 2ـ أن إسماعيل عليه السل م لما شب وتعل م العربية من ُج ْرـُه م،وأنفسه م وأعجبه م زوجوه امرأ ة منه م ،وماتت أمـه ،وبدا لبراهي م أن يطالع تركته ،فجاء بعد هذا الزواج ،فل م يجد إسماعيل ،فسأل امرأته عنه وعن أحوالهما ،فشكت إليه ضيق العيش فأوصاها أن تقول لسماعيل أن يغير عتبة بابه ،وفه م إسماعيل ما أراد أبوه ،فطلق امرأته تلك وتزوج ضـ اــض بن عمرو ،كبير جره م وسيده م على قول الكثر[. امرأ ة أخرى ]وهي ابنة ُم َ 3ـ وجاء إبراهي م عليه السل م مر ة أخرى بعد أن تزوج إسماعيل هذه الزوجة الثانية ،فل م يجده فرجع إلى فلسطين بعد
ت َع تَـَبة بابه. أن سأل زوجته عنه وعن أحوالهما ،فأثنت على ال بخير ،فأوصى إلى إسماعيل أن ُيثَّب َ
4ـ ث م جاء إبراهي م عليه السل م بعد ذلك فلقى إسماعيل ،وهو َيْب ِرـى َنْب لـ له تحت دوحة قريًبا من زمز م ،فلما رآه قا م إليه فصنع كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد ،وكان لقاؤهما بعد فتر ة طويلة من الزمن ،قلما يصبر فيها الب الكبير الواه العطوف عن ولده ،والوالد البار الصالح الرشيد عن أبيه ،وفي هذه المر ة بنيا الكعبة ،ورفعا قواعدها، وأّذ نـ إبراهي م في الناس بالحج كما أمره ال . ضـ اــض اثنى عشر ولًد اـ ذكًرا،وه م :نابت أو نبايوط،وقَْي دـار ،وأدبائيل ،و ِم ْبـشـا م، وقد رزق ال إسماعيل من ابنة ُم َ
طور ،وَنفيس ،وقَْي ُدـمـان. وِم ْشـمـاع ،ودوما ،وِم يـشا ،وحدد ،وتيما ،وَي ُ
وتشعبت من هؤلء اثنتا عشر ة قبيلة ،سكنت كلها في مكة مد ة من الزمان ،وكانت جل معيشته م إذ ذاك التجار ة من بلد اليمن إلى بلد الشا م ومصر ،ث م انتشرت هذه القبائل في أرجاء الجزير ة بل إوالى خارجها ،ث م أدرجت أحواله م في غياهب الزمان ،إل أولد نابت وقيدار. وقد ازدهرت حضار ة النباط ـ أْب نـاء نابت ـ في شمال الحجاز ،وكونوا دولة قوية عاصمتها البتراء ـ المدينة الثرية
القديمة المعروفة في جنوب الردن ،وقد دان لهذه الدولة النبطية من بأطرافها ،ول م يستطع أحد أن يناوئها حتى جاء الرومان وقضوا عليها.
وقد جنحت طائفة من المحققين من أهل العل م بالنساب إلى أن ملوك آل غسان وكذا النصار من الوس والخزرج إنما كانوا من آل نابت بن إسماعيل ،وبقاياه م في تلك الديار. إواليه مال الما م البخاري ـ رحمه ال ـ في صحيحه ،فقد عقد باًبا عنوانه] :نسبة اليمن إلى إسماعيل عليه السل م[، واستدل عليه ببعض الحاديث ،ورجح الحافظ ابن حجر في شرحه أن قحطان من آل نابت بن إسماعيل عليه السل م. وأما قيدار بن إسماعيل فل م يزل أبناؤه بمكة ،يتناسلون هناك حتى كان منه عدنان وولده َم َعـّد ،ـ ومنه حفظت العرب العدنانية أنسابها .وعدنان هو الجد الحادى والعشرون في سلسة النسب النبوى ،وقد ورد أنه صلى ال عليه وسل م كان إذا انتسب فبلغ عدنان يمسك ويقول :)كذب النسابون( ،فل يتجاوزه ،وذهب جمع من العلماء إلى جواز رفع النسب فوق عدنان؛ مضعفين للحديث المشار إليه ،ولكنه م اختلفوا في هذا الجزء من النسب اختلفا ل يمكن الجمع بين أقواله م ،وقد مال المحقق الكبير العلمة القاضى محمد سليمان المنصورفورى ـ رحمه ال ـ إلى ترجيح ما ذكره ابن سعد ـ والذي ذكره الطبرى والمسعودى وغيرهما في جملة القوال ـ وهو أن بين عدنان وبين إبراهي م عليه السل م أربعين أبا بالتحقيق الدقيق .وسيأتى. وقد تفرقت بطون َم َعـّدـ من ولده َنَزار ـ قيل :ل م يكن لمعد ولد غيره ـ فكان لنزار أربعة أولد ،تشعبت منه م أربعة قبائل ضـ رــ ،وهذان الخيران هما اللذان كثرت بطونهما واتسعت أفخاذهما ،فكان من ربيعة: عظيمة :إياد وأنمار وربيعة وُم َ ض َبـْي َعـةـ وأسد ،ومن أسدَ :ع ْنـَزـ ةوَج ِدـيــلة ،ومن جديلة :القبائل الكثير ة المشهور ة مثل :عبد القيس ،والّنِم رـ ،وبنو وائل ُ الذين منه م بكر وتَْغ ِلــب ،ومن بنى بكر :بنو قيس وبنو شيبان وبنو حنيفة وغيرها .أما عنز ة فمنها آل سعود ملوك المملكة العربية السعودية في هذا الزمان.
وتشعبت قبائل مضر إلى شعبتين عظيمتين :قَْي سـ َع ْيـلـن بن مضر ،وبطون إلياس ابن مضر ،فمن قيس عيلن:
صـ .رـ صـ َعــة،وبنو َغ َ طـفان .ومن غطفانَ :ع ْبـسـ ،وُذ ْبـيـان ،وأْش َجـعــ،وأْع ُ ص ْع ـ َ بنو سلي م ،وبنو هوازن ،وبنو ثقيف ،وبنو َ
ضـ ر ـ :تمي م بن مر ة ،وُهَذ ْيـلـ بن ُم دـِر كـة ،وبنو أسد بن خزيمة ،وبطون كنانة بن خزيمة ،ومن كنانة ومن إلياس بن ُم َ قريش ،وه م أولد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة. ِ ص ّى ـ بن كلب ،وهي: وانقسمت قريش إلى قبائل شتى ،من أشهرهاُ :ج َمـحـ وَس ْهـ م وَع دـ ّ ى ـ ومخزو م وتَْي مـ وُزْه َرـ ة،وبطون قُ َ عبد الدار بن قصى،وأسد بن عبد العزى بن قصى ،وعبد مناف بن قصى. وكان من عبد مناف أربع فصائل :عبد شمس ،وَنْو َفــل ،والمطلب ،وهاش م ،وبيت هاش م هو الذي اصطفي ال منه سيدنا محمد بن عبد ال بن عبد المطلب بن هاش م صلى ال عليه وسل م.
قال صلى ال عليه وسل م :)إن ال اصطفي من ولد إبراهي م إسماعيل ،واصطفي من ولد إسماعيل بنى كنانة، واصطفي من بنى كنانة قريًش اـ ،واصطفي من قريش بنى هاش م ،واصطفانى من بنى هاش م(.
وعن العباس بن عبد المطلب قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)إن ال خلق الخلق فجعلني من خير فرقه م وخير الفريقين ،ث م تخير القبائل ،فجعلني من خير القبيلة ،ث م تخير البيوت ،فجعلني من خير بيوته م ،فأنا خيره م نفًس اـ وخيره م بيًتا ( .وفي لفظ عنه :)إن ال خلق الخلق فجعلني في خيره م فرقة ،ث م جعله م فرقتين فجعلني في خيره م فرقة، ث م جعله م قبائل فجعلني في خيره م قبيلة ،ث م جعله م بيوًتا فجعلني في خيره م بيًتا وخيره م نفًس اـ(.
ولما تكاثر أولد عدنان تفرقوا في أنحاء شتى من بلد العرب متتبعين مواقع القطر ومنابت العشب. فهاجرت عبد القيس ،وبطون من بكر بن وائل ،وبطون من تمي م إلى البحرين فأقاموا بها. ص بــة اليمامة ،وأقامت سائر بكر بن وائل في طول وخرجت بنو حنيفة بن على بن بكر إلى اليمامة فنزلوا بُح ْجـ رــ ،قَ َ الرض من اليمامة إلى البحرين إلى سيف كاظمة إلى البحر ،فأطراف سواد العراق فالُُبلّةُ فَِه يـت.
وأقامت تغلب بالجزير ة الفراتية ،ومنها بطون كانت تساكن َبْك ًرـا.وسكنت بنو تمي م ببادية البصر ة. وأقامت بنو سلي م بالقرب من المدينة ،من وادي القرى إلى خيبر إلى شرقي المدينة إلى حد الجبلين ،إلى ما ينتهي إلى الحر ة. وسكنت بنو أسد شرقي تيماء وغربي الكوفة ،بينه م وبين تيماء ديار ُبْح تُـٍر من طيئ ،وبينه م وبين الكوفة خمس ليال. وسكنت ذبيان بالقرب من تيماء إلى حوران ،وبقى بتهامة بطون كنانة ،وأقا م بمكة وضواحيها بطون قريش ،وكانوا متفرقين ل تجمعه م جامعة حتى نبغ فيه م قصّي ابن كلب ،فجمعه م ،وكون له م وحد ة شرفته م ورفعت من أقداره م.
الحكـ م والمـار ة فـي العـرب الملك باليمن الملك بالحيرة الملك بالشام المارة بالحجاز الحكم في سائر العرب الحالة السياسية
كان حكا م جزير ة العرب عند ظهور دعو ة النبي صلى ال عليه وسل م على قسمين: 1ـ ملوك ُم تَـّو ُجـوــن ـ إل أنه م في الحقيقة كانوا غير مستقلين. 2ـ رؤسـاء القبائـل والعشائر ـ وكـان له م مـن الحك م والمتـياز مـا كـان للملـوك المتوجين ،ومعظ م هـؤلء كانـوا على تمـا م الستقـلل ،وربمـا كانت لبعضـه م تبعية لملك متـوج. والملوك المتوجون ه م :ملوك اليمن ،وملوك مشارف الشا م ]وه م آل غسان[ وملوك الحير ة ،وما عدا هؤلء من حكا م الجزير ة ل م تكن له م تيجان .وفيما يلى موجز عن هؤلء الملوك والرؤساء. الملك باليمن من أقد م الشعوب التي عرفت باليمن من العرب العاربة قو م سبأ ،وقد عثر على ذكره م في حفريات ]أور[ بخمس وعشرين قرنا قبل الميلد ،ويبدأ ازدهار حضارته م ونفوذ سلطانه م وبسط سيطرته م بأحد عشر قرنا قبل الميلد. ويمكن تقسي م أدواره م حسب التقدير التى: 1ـ ما بين 1300إلى 620ق .م عرفت دولته م في هذه الفتر ة بالدولة المعينية ،ظهرت في الَج ْوـفــ؛ أى السهل الواقع بين نجران وحضرموت ،ث م أخذت
تنمو وتتسع وتسيطر وتزدهر حتى بلغ نفوذها السياسى إلى الُعل وَم َعـان من شمالي الحجاز.
ويقال :إن مستعمراتها وصلت إلى خارج بلد العرب ،وكانت التجار ة هي صلب معيشته م ،ث م إنه م بنوا سد مأرب الذي له شأن كبير في تاريخ اليمن ،والذي وفر له م معظ م خيرات الرض ،} َحتّــى َنُس وـا الّذ ْكـَرـ َو َك ـاـُنوا َقْو ًم ـاـُبوًرا{ ] الفرقان[18: وكان ملوكه م في هذه الفتر ة يلقبون بـ ]مكرب سبأ[ وكانت عاصمته م مدينة ] ِ ص ْرـ ـَوـ ـ[احالتي توجد أنقاضها على بعد 50كيلو متًرا إلى الشمال الغربي من مدينة ]مأرب[ ،وعلى بعد 142كيلو متًرا شرقى صنعاء ،وتعرف باس م
]ُخ َرـْيـبـة[ .ويقدر عدد هؤلء الملوك ما بين 22و 26ملًك اـ.
2ـ ما بين 620ق .م إلى سنة 115ق .م وعرفت دولته م في هذه الفتر ة بدولة سبأ ،وقد تركوا لقب ]مكرب[ وعرفوا بـ]ملوك سبأ[ ،واتخذوا ]مأرب[ عاصمة له م بدل ]صرواح[ وتوجد أنقاض مأرب على بعد 192كيلو متًرا شرقي صنعاء. 3ـ منذ سنة 115ق .م إلى سنة 300م وعرفت الدولة في هذه الفتر ة بالدولة الحميرية الولى؛ لن قبيلة حمير غلبت واستقلت بمملكة سبأ ،وقد عرف ملوكها بـ]ملوك سبأ وذى ريدان[ ،وهؤلء الملوك اتخذوا مدينة ]ريدان[ عاصمة له م بدل مدينة ]مأرب[ ،و تعرف ]ريدان[ باس م ظفار ،وتوجد أنقاضها على جبل مدور بالقرب من ]يري م[ .وفي هذا العهد بدأ فيه م السقوط والنحطاط ،فقد فشلت تجارته م إلى حد كبير لبسط النباط سيطرته م على شمال الحجاز أوًل ،ـ ـث م لغلبة الرومان على طريق التجار ة البحرية
بعد نفوذ سلطانه م على مصر وسوريا وشمالى الحجاز ثانًيا ،ولتنافس القبائل فيما بينها ثالًثا .وهذه العناصر هي التي سببت في تفرق آل قحطان وهجرته م إلى البلد الشاسعة. 4ـ منذ سنة 300م إلى أن دخل السل م في اليمن عرفت الدولة في هذه الفتر ة بالدولة الحميرية الثانية ،وعرف ملوكها بـ]ملوك سبأ وذى ريدان وحضرمـوت ويمـنت[ ،وقد توالت على هذه الدولة الضطرابات والحوادث ،وتتابعت النقلبات والحروب الهلية التي جعلتها عرضة للجانب حتى قضى على استقللها .ففي هذا العهد دخل الرومان في عدن ،وبمعونته م احتلت الحباش اليمن لول مر ة سنة 340م؛ مستغلين التنافس بين قبيلتى همدان وحمير ،واستمر احتلله م إلى سنة 378م .ث م نالت اليمن استقللها، ولكن بدأت تقع الثلمات في سد مأرب ،حتى وقع السيل العظي م الذي ذكره القرآن بسيل العر م في سنة 450م ،أو 451م.وكانت حادثة كبرى أدت إلى خراب العمران وتشتت الشعوب. وفي سنة 523م قاد ذو ُنَواس اليهودى حملة منكر ة على المسيحيين من أهل نجران ،وحاول صرفه م عن المسيحية قسًرا ،ولما أبوا خّد له م الخدود وألقاه م في النيران ،وهذا الذي أشـار إلـيه القـرآن في سـور ة الـبروج بقـوله :}قُتَِل ب اْلُْخ ُد ـوـِد{ اليات ] البروج.[4: ص َح ـاـ ُ أَ ْ وكان هذا الحادث هو السبب في نقمة النصرانية الناشطة إلى الفتح والتوسع تحت قياد ة أباطر ة الرومان من بلد العرب ،فقد حرضوا الحباش ،وهيأوا له م السطول البحرى ،فنزل سبعون ألف جندى من الحبشة ،واحتلوا اليمن مر ة ثانية ،بقياد ة أرياط سنة 525م ،وظل أرياط حاكًم اـ من قبل ملك الحبشة حتى اغتاله أبرهة بن الصباح الشر م ـ أحد قواد جيشه ـ سنة 549م ،ونصب نفسه حاكًم اـ على اليمن بعد أن استرضى ملك الحبشة وأرضاه ،وأبرهة هذا هو الذي جند الجنود لهد م الكعبة ،وعرف هو وجنوده بأصحاب الفيل.وقد أهلكه ال بعد عودته إلى صنعاء عقب وقعة
الفيل ،فخلفه على اليمن ابنه َيْك ُسـوـ م ،ث م البن الثانى مسروق ،وكانا ـ فيما يقال ـ ش ار من أبيهما ،وأخبث سير ة منه في
اضطهاد أهل اليمن وقهره م إواذلله م.
أما أهل اليمن فإنه م بعد وقعة الفيل استنجدوا بالفرس ،وقاموا بمقاومة الحبشة حتى أجلوه م عن البلد ،ونالوا الستقلل في سنة 575م بقياد ة معديكرب سيف بن ذى يزن الحميرى ،واتخذوه ملًك اـ له م ،وكان معديكرب أبقى معه جمًعاـ من الحبشة يخدمونه ويمشون في ركابه ،فاغتالوه ذات يو م ،وبموته انقطع الملك عن بيت ذى يزن ،وصارت
اليمن مستعمر ة فارسية تتعاقب عليها ول ة من الفرس ،وكان أوله م وهرز ،ث م المرزبان بن وهرز ،ث م ابنه التينجان ،ث م خسرو بن التينجان ،ث م باذان ،وكان آخر ول ة الفرس ،فإنه اعتنق السل م سنة 628م ،وبإسلمه انتهي نفوذ فارس على بلد اليمن.
الملك بالحير ة كانت الفرس تحك م بلد العراق وما جاورها منذ أن جمع شمله م قوروش الكبير ) 557ـ 529ق .م ( ول م يكن أحد يناوئه م ،حتى قا م السكندر المقدونى سنة 326ق .م فهز م ملكه م دا ار وبدده م وخضد شوكته م ،حتى تجزأت بلده م، وتولها ملوك عرفوا بملوك الطوائف ،وقد ظل هؤلء الملوك يحكمون البلد مجزأ ة إلى سنة 230م .وفي عهد هؤلء الملوك هاجر القحطانيون ،واحتلوا جزًءا من ريف العراق ،ث م لحقه م من هاجر من العدنانيين فزاحموه م حتى سكنوا جزًءا من الجزير ة الفراتية. وأول من ملك من هؤلء المهاجرين هو مالك بن فَْه م التُّنوخى من آل قحطان ،وكان منزله النبار ،أو مما يلى النبار ،وخلفه أخوه عمرو بن فه م في رواية .وَج ِذـيــمة بن مالك بن فه م ـ الملقب بالْب رـش والَو ّ ض ـاــح ـ في رواية أخرى. وعادت القو ة مر ة ثانية إلى الفرس في عهد أردشير بن بابك ـ مؤسس الدولة الساسانية سنة 226م ـ فإنه جمع شمل الفرس ،واستولى على العرب المقيمين على تخو م ملكه ،وكان هذا سببا في رحيل قضاعة إلى الشا م ،ولكن دان له أهل الحير ة والنبار. وفي عهد أردشير كانت ولية جذيمة الوضاح على الحير ة وسائر َم ْنـ ببادية العراق والجزير ة من ربيعة ومضر ،وكأن أردشير رأى أنه يستحيل عليه أن يحك م العرب مباشر ة ،ويمنعه م من الغار ة على تخو م ملكه ،إل أن يملك عليه م رجًل منه م له عصبية تؤيده وتمنعه ،ومن جهة أخرى يمكنه الستعانة به م على ملوك الرومان الذين كان يتخوفه م،
وليكون عرب العراق أما م عرب الشا م الذين اصطنعه م ملوك الرومان ،وكان يبقى عند ملك الحير ة كتيبة من جنود الفرس؛ ليستعين بها على الخارجين على سلطانه من عرب البادية ،وكان موت جذيمة حوالى سنة 268م.
وبعد موت جذيمة ولى الحير ة والنبار عمرو بن عدى بن نصر اللخمى ] 268ـ 288م[ وهو أول ملوك اللخميين، وأول من اتخذ الحير ة مقًرا له ،وكان في عهد كسرى سابور بن أردشير ،ث م ل م يزل الملوك من اللخميين من بعده يتولون الحير ة حتى ولى الفرس قَُباذ بن فيروز ]448ـ 531م[ وفي عهده ظهر َم ْزـ َدـكـ،وقا م بالدعو ة إلى الباحية،
فتبعه قباذ كما تبعه كثير من رعيته ،ث م أرسل قباذ إلى ملك الحير ة ـ وهو المنذر بن ماء السماء ]512ـ 554م[ ـ
يدعوه إلى اختيار هذا المذهب الخبيث ،فأبي عليه ذلك حمية وأنفة ،فعزله قباذ ،وولى بدله الحارث بن عمرو بن حجر الكندى بعد أن أجاب دعوته إلى المذهب المزدكى. وخلف قباذ كسرى أنوشروان ]531ـ 578م[ وكان يكره هذا المذهب جًد اـ ،فقتل المزدك وكثيًرا ممن دان بمذهبه ،وأعاد المنذر إلى ولية الحير ة ،وطلب الحارث بن عمرو ،لكنه أفلت إلى دار كلب ،فل م يزل فيه م حتى مات. واستمر الملك بعد المنذر بن ماء السماء في عقبه حتى كان النعمان بن المنذر ] 583ـ 605م[ فإنه غضب عليه كسرى بسبب وشاية دبرها زيد بن عدى العبادى ،فأرسل كسرى إلى النعمان يطلبه ،فخرج النعمان حتى نـزل سـ ار عـلى هانئ بن مسعود سـيد آل شيبان ،وأودعه أهله وماله ،ث م توجه إلى كسرى ،فحبسه كسرى حتى مات .وولى على الحير ة بدله إياس بن قَِبيصة الطائى ،وأمره أن يرسل إلى هانئ بن مسعود يطلب منه تسلي م ما عنده ،فأبي ذلك هانئ حمية ،وآذن الملك بالحرب ،ول م يلبث أن جاءته م ارزبة كسرى وكتائبه في موكب إياس ،ودارت بين الفريقين معركة هائلة عند ذى قار ،انتصر فيها بنو شيبان وانهزمت الفرس هزيمة نكراء .وهذا أول يو م انتصرت فيه العرب على العج م ،وهو بعد ميلد الرسول صلى ال عليه وسل م. واختلف المؤرخون في تحديد زمن هذه المعركة ،فقيل :هو بعد ميلد الرسول صلى ال عليه وسل م بقليل ،وأنه صلى ال عليه وسل م ولد لثمانية أشهر من ولية إياس بن قبيصة على الحير ة .وقيل :قبل النبو ة بقليل ـ وهو القرب .وقيل: بعد النبو ة بقليل .وقيل :بعد الهجر ة .وقيل :بعد بدر .وقيل غير ذلك. وولى كسرى على الحير ة بعد إياس حاكًم اـ فارسًيا اسمه آزادبه بن ماهبيان بن مهرابنداد ،وظل يحك م 17عاما]614ـ 631م[ ث م عاد الملك إلى آل لخ م سنة 632م ،فتولى منه م المنذر بن النعمان الملقب بالمعرور ،ولكن ل م تزد وليته على ثمانية أشهر حتى قد م عليه خالد بن الوليد بعساكر المسلمين .
الملك بالشا م في العهد الذي ماجت فيه العرب بهجرات القبائل سارت بطون من قضاعة إلى مشارف الشا م وسكنت بها ،وكانوا ض ْجـَعـ مـابن سليح المعروفون باس م الضجاعمة ،فاصطنعه م الرومان؛ ليمنعوا من بنى ُس لَـْي حـ بن ُح ْلـوان الذين منه م بنو َ عرب البرية من العبث ،وليكونوا عد ة ضد الفرس ،وولوا منه م ملًك اـ ،ث م تعاقب الملك فيه م سنين ،ومن أشهر ملوكه م زياد بن الهَُبولة ،ويقدر زمنه م من أوائل القرن الثانى الميلدى إلى نهايته تقريًبا ،وانتهت وليته م بعد قدو م آل غسان،
الذين غلبوا الضجاعمة على ما بيده م وانتصروا عليه م ،فولته م الرو م ملوًك اـ على عرب الشا م ،وكانت قاعدته م مدينة بصرى ،ول م تزل تتوالى الغساسنة على الشا م بصفته م عماًل لملوك الرو م حتى كانت وقعة اليرموك سنة 13هـ ،وانقاد
للسل م آخر ملوكه م َج َبـلَـة بن اليه م في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي ال عنه.
المار ة بالحجاز ولي إسماعيل عليه السل م زعامة مكة وولية البيت طول حياته ،وتوفي وله 137سنة ،ث م ولى واحد ،وقيل :اثنان ضـ اــض بن عمرو الُج ْرـُهـِم ّىـ ،ـفانتقلت من أبنائه :نابت ث م قَْي دـار ،ويقال العكس ،ث م ولى أمر مكة بعدهما جدهما ُم َ زعامة مكة إلى جره م ،وظلت في أيديه م ،وكان لولد إسماعيل مركز محتر م؛ لما لبيه م من بناء البيت ،ول م يكن له م من الحك م شيء. ومضت الدهور واليا م ول م يزل أمر أولد إسماعيل عليه السل م ضئيًل ل يذكر ،حتى ضعف أمر جره م قبيل ظهور
ص رــ ،وأخذ نج م عدنان السياسى يتألق في أفق سماء مكة منذ ذلك العصر ،بدليل ما جاء بمناسبة غزو بختنصر ُبْخ تُـَن ّ للعرب في ذات ِع ْر ـقــ،فإن قائد العرب في الموقعة ل م يكن جرهمًيا ،بل كان عدنان نفسه.
وتفرقت بنو عدنان إلى اليمن عند غزو ة بختنصر الثانية ]سنة 587ق .م[ وذهب برخيا ـ صاحب يرمياه النبي السرائيلى َبَم َعـّدـ ـ إلى حران من الشا م ،فلما انكشف ضغط بختنصر رجع معد إلى مكة فل م يجد من جره م إل َج ْوـ َش ـ مـ بن ُج ْلـُهمة ،فتزوج بابنته ُم َعـانة فولدت له ن ازًرا. وساء أمر جره م بمكة بعد ذلك ،وضاقت أحواله م ،فظلموا الوافدين إليها ،واستحلوا مال الكعبة ،المر الذي كان يغيظ العدنانيين ويثير حفيظته م ،ولما نزلت خزاعة بَِم ّرـ الظّْهران ،ورأت نفور العدنانيين من الجراهمة استغلت ذلك ،فقامت بمعونة من بطون عدنان ـ وه م بنو بكر بن عبد مناف بن كنانة ـ بمحاربة جره م ،حتى أجلته م عن مكة ،واستولت على حكمها في أواسط القرن الثانى للميلد. ولما لجأت جره م إلى الجلء سدوا بئر زمز م ،ودرسوا موضعها ،ودفنوا فيها عد ة أشياء ،قال ابن إسحاق :فخرج عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمى بغزالى الكعبة ،وبحجر الركن السود فدفنهما في بئر زمز م ،وانطلق هو ومن معه من جره م إلى اليمن ،فحزنوا على ما فارقوا من أمر مكة وملكها حزًنا شديًد اـ ،وفي ذلك قال عمرو: ص فَــا ** أنيـس ولـ م َيْس ُم ــر بمك ــة سام ــر كأن ل م يكن بين الَح ُجـوــن إلى ال ّ ص ُرـ وـفالليالى والُج ُدـوـد الَعَواِثر بلــى نحــن كــنا أهـلــها فأبـادنـا ** ُ ويقدر زمن إسماعيل عليه السل م بعشرين قرًنا قبل الميلد ،فتكون إقامة جره م في مكة واحًد اـ وعشرين قرًنا تقريًبا، وحكمه م على مكة زهاء عشرين قرًنا. واستبدت خزاعة بأمر مكة دون بنى بكر ،إل أنه كان إلى قبائل مضر ثلث خلل: الولى :الدفع بالناس من عرفة إلى المزدلفة ،والجاز ة به م يو م النفر من منى ،وكان يلى ذلك بنو الَغْو ث ـبن مر ة من
ص وـَفة ،ومعنى هذه الجاز ة أن الناس كانوا ل يرمون يو م النفر حتى يرمى بطون إلياس بن مضر ،وكانوا يسمون ُ
رجل من صوفة ،ث م إذا فرغ الناس من الرمى وأرادوا النفر من منى أخذت صوفة بجانبى العقبة ،فل م يجز أحد حتى يمروا ،ث م يخلون سبيل الناس ،فلما انقرضت صوفة ورثه م بنو سعد بن زيد منا ة من تمي م. الثانية :الفاضة من جمع غدا ة النحر إلى منى ،وكان ذلك في بنى عدوان. الثالثة:إنساء الشهر الحر م ،وكان ذلك إلى بنى فُقَْي مـ بن عدى من بنى كنانة. واستمرت ]ولية[ خزاعة على مكة ثلثمائة سنة .وفي وقت حكمه م انتشر العدنانيون في نجد وأطراف العراق والبحرين ،وبقى بأطراق مكة بطون من قريش وه م ح لُــول و ِ ص ْرــ م ـمتقطعون ،وبيوتات متفرقون في قومه م من بنى ُ كنانة ،وليس له م من أمر مكة ول البيت الحرا م شيء حتى جاء قصى بن كلب. ويذكر من أمر قصى :أن أباه مات وهو في حضن أمه ،ونكح أمه رجل من بنى ُع ْذـَرـ ةـ وهو ربيعة بن حرا م ـ فاحتملها إلى بلده بأطراف الشا م ،فلما شب قصى رجع إلى مكة ،وكان واليها إذ ذاك ُح لَـْي لـ بن َح ْبـِشـ ّيــةمن خزاعة، فخطب قصى إلى حليل ابنته ُح ّبــى ،فرغب فيه حليل وزوجه إياها ،فلما مات حليل قامت حرب بين خزاعة وقريش، أدت أخيًرا إلى تغلب قصى على أمر مكة والبيت.
وهناك ثلث روايات في بيان سبب هذه الحرب: الولى :أن قصًيا لما انتشر ولده وكثر ماله وعظ م شرفه وهلك حليل رأى أنه أولى بالكعبة وبأمر مكة من خزاعة وبنى بكر ،إوان قريًش اـ رءوس آل إسماعيل وصريحه م ،فكل م رجاًل من قريش وبنى كنانة في إخراج خزاعة وبنى بكر عن مكة فأجابوه.
الثانية :أن حليًل ـ فيما تزع م خزاعة ـ أوصى قصًيا بالقيا م على الكعبة وبأمر مكة ،ولكن أبت خزاعة أن تمضى ذلك لقصى فهاجت الحرب بينهما. الثالثة :أن حليًل أعطى ابنته حبى ولية البيت ،واتخذ أبا ُغ ْبـشـان .الخزاعي وكيل لها ،فقا م أبو غبشان بسدانة الكعبة
نيابة عن حبى ،وكان في عقله شيء ،فلما مات حليل خدعه قصى ،واشترى منه ولية البيت بأذواد من البل أو بزق من الخمر ،ول م ترض خزاعة بهذا البيع ،وحاولوا منع قصى عن البيت ،فجمع قصى رجاًل من قريش وبنى كنانة لخراج خزاعة من مكة ،فأجابوه.
وأيا ما كان ،فلما مات حليل وفعلت صوفة ما كانت تفعل أتاه م قصى بمن معه من قريش وكنانة عند العقبة ،فقال: نحن أولى بهذا منك م ،فقاتلوه فغلبه م قصى على ما كان بأيديه م ،وانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن قصى، فبادأه م قصى وأجمع لحربه م ،فالتقوا واقتتلوا قتاًل شديًد اـ حتى كثرت القتلى في الفريقين جميعا ،ث م تداعوا إلى الصلح فحّك مـوا َيْع ُمـرـ بن عوف أحد بنى بكر ،فقضى بأن قصًيا أولى بالكعبة وبأمر مكة من خزاعة ،وكل د م أصابه قصى
منه م موضوع يشدخه تحت قدميه ،وما أصابت خزاعة وبنو بكر ففيه الدية ،وأن يخلى بين قصى وبين الكعبة، فسمى يعمر يومئذ :الشداخ. وكانت فتر ة تولى خزاعة أمر البيت ثلثمائة سنة ،واستولى قصى على أمر مكة والبيت في أواسط القرن الخامس للميلد سنة 440م،وبذلك صارت لقصى ث م لقريش السياد ة التامة والمر النافذ في مكة ،وصار قصى هو الرئيس الديني لهذا البيت الذي كانت تفد إليه العرب من جميع أنحاء الجزير ة. ومما فعله قصى بمكة أنه جمع قومه من منازله م إلى مكة ،وقطعها رباًع اـ بين قومه ،وأنزل كل قو م من قريش منازله م التي أصبحوا عليها ،وأقر النسأ ة وآل صفوان وعدوان ومر ة بن عوف على ما كانوا عليه من المناصب؛ لنه كان يراه ديًنا في نفسه ل ينبغى تغييره. ومن مآثر قصى :أنه أسس دار الندو ة بالجانب الشمالى من مسجد الكعبة ،وجعل بابها إلى المسجد ،وكانت مجمع قريش ،وفيها تفصيل مها م أمورها ،ولهذه الدار فضل على قريش؛ لنها ضمنت اجتماع الكلمة وفض المشاكل بالحسنى. وكان لقصى من مظاهر الرياسة والتشريف: 1ـ رياسة دار الندو ة :ففيها كانوا يتشاورون فيما نزل به م من جسا م المور ،وفيها كانوا يزوجون بناته م. 2ـ اللواء :فكانت ل تعقد راية ول لواء لحرب قو م من غيره م إل بيده أو بيد أحد أولده ،وفي هذه الدار. 3ـ القياد ة :وهي إمار ة الركب ،فكانت ل تخرج ركب لهل مكة في تجار ة أو غيرها إل تحت إمارته أو إمار ة أولده. 4ـ الحجابـة :وهي حجابة الكعبة،ل يفتح بابها إل هو ،وهو الذي يلى أمر خدمتها وسدانتها. ض ا ـ من الماء ،يحلونها بشيء من التمر والزبيب ،فيشرب 5ـ سقاية الحاج :وهي أنه م كانوا يملون للحجاج حيا ً الناس منها إذا وردوا مكة. 6ـ رفاد ة الحاج :وهي طعا م كان يصنع للحاج على طريقة الضيافة ،وكان قصى فرض على قريش خرًج ا ـ تخرجه في الموس م من أموالها إلى قصى ،فيصنع به طعاًم اـ للحاج ،يأكله من ل م يكن له سعة ول زاد. كان كل ذلك لقصى ،وكان ابنه عبد مناف قد شرف وساد في حياته ،وكان عبد الدار بكره .فقال له قصى فيما يقال: للحقنك بالقو م إوان شرفوا عليك ،فأوصى له بما كان يليه من مصالح قريش ،فأعطاه دار الندو ة واللواء والقياد ة والحجابة والسقاية والرفاد ة ،وكان قصى ل يخالف ول يرد عليه شيء صنعه ،وكان أمره في حياته وبعد موته كالدين المتبع ،فلما هلك أقا م بنوه أمره ل نزاع بينه م ،ولكن لما هلك عبد مناف نافس أبناؤه بنى عمه م عبد الدار في هذه المناصب ،وافترقت قريش فرقتين ،وكاد يكون بينه م قتال ،إل أنه م تداعوا إلى الصلح ،واقتسموا هذه المناصب،
فصارت السقاية والرفاد ة والقياد ة إلى بنى عبد مناف ،وبقيت دار الندو ة واللواء والحجابة بيد بنى عبد الدار .وقيل: كانت دار الندو ة بالشتراك بين الفريقين ،ث م حك م بنو عبد مناف القرعة فيما أصابه م ،فصارت السقاية والرفاد ة لهاش م والقياد ة لعبد شمس ،فكان هاش م بن عبد مناف هو الذي يلى السقاية والرفاد ة طول حياته ،فلما مات خلفه أخوه المطلب بن عبد مناف ،وولى بعده عبد المطلب بن هاش م بن عبد مناف جد رسول ال صلى ال عليه وسل م ،وبعـده أبنـاؤه حتى جـاء السل م والولية إلى العبـاس .ويقـال :إن قصًيا هـو الذي قس م المناصب على أولده ،ثـ م توارثـها
أبناؤهـ م حسـب التفصيل المذكور ،وال أعل م .وكانت لقريش مناصب أخرى سوى ما ذكرنا وزعوها فيما بينه م ،وكونوا
بها دويلة ـ بل بتعبير أصح :شبه دويلة ديمقراطية ـ وكانت له م من الدوائر والتشكيلت الحكومية مـا يشبه في عصرنـا هـذا دوائـر البرلمـان ومجالسها ،وهاك لوحة من تلك المناصب: 1ـ اليسار :أي تولية قداح الصنا م للستقسا م ،وكان ذلك في بني ُج َمـحـ.
2ـ تحجير الموال :أي تنظي م القربات والنذور التي كانت تهدى إلى الصنا م ،وكذلك فصل الخصومات والمرافعات.وكان ذلك في بني سه م. 3ـ الشورى :وكانت في بني أسد. 4ـ الشناق :أي تنظي م الديات والغرامات ،وكان ذلك في بني تَْي مـ. 5ـ العقاب :أي حمل اللواء القومى ،وكان ذلك في بني أمية.
6ـ القبة :أي تنظي م المعسكر ،وكذلك قياد ة الخيل ،وكان في بني مخزو م. 7ـ السفار ة :وكانت في بني عدي.
الحك م في سائر العرب قد تقد م ذكر هجرات القبائل القحطانية والعدنانية ،وأنها اقتسمت البلد العربية فيما بينها ،فما كان من هذه القبائل بالقرب من الحير ة كانت تبًعاـ لملك العرب بالحير ة ،وما كان منها في بادية الشا م كانت تبًعاـ للغساسنة ،إل أن هذه التبعية كانت اسمية ل فعلية ،وأما ما كان منها في البوادى في داخل الجزير ة فكانت حر ة مطلقة. والحقيقة أن هذه القبائل كانت تختار لنفسها رؤساء يسودونها ،وأن القبيلة كانت حكومة مصغر ة ،أساس كيانها السياسى الوحد ة العصبية ،والمنافع المتبادلة في حماية الرض ودفع العدوان عنها. وكانت درجة رؤساء القبائل في قومه م كدرجة الملوك ،فكانت القبيلة تبًعاـ لرأي سيدها في السل م والحرب ،ل تتأخر عنه بحال ،وكان له من الحك م والستبداد بالرأي ما يكون لدكتاتور قوى؛ حتى كان بعضه م إذا غضب غضب له
ألوف من السيوف ل تسأله :في م غضب ،إل أن المنافسة في السياد ة بين أبناء الع م كانت تدعوه م إلى المصانعة بالناس من بذل الندى إواكرا م الضيف والكر م والحل م ،إواظهار الشجاعة والدفاع عن الغير ة ،حتى يكسبوا المحامد في أعين الناس ،ولسيما الشعراء الذين كانوا لسان القبيلة في ذلك الزمان ،وحتى تسمو درجته م عن مستوى المنافسين.
ض وــل ،يقول الشاعر: وكان للساد ة والرؤساء حقوق خاصة ،فكانوا يأخذون من الغنيمة الِم ْرـبــاعوال ّ ص فــي والّنشيطة والفُ ُ ِ ض وــل لك الِم ْرـَبــاعفينـا وال ّ ص فَــايا ** وُح ْكـُمـكـوالّنش يــطة والفُ ُ والمرباع :ربع الغنيمة ،والصفي :ما كان يصطفيه الرئيس ،أي يختاره لنفسه قبل القسمة ،والنشيطة :ما أصاب الرئيس في الطريق قبل أن يصل إلى بيضة القو م.والفضول:ما فضل من القسمة مما ل تصح قسمته على عدد الغزا ة ،كالبعير والفرس ونحوهما.
الحالة السياسية بعد أن ذكرنا حكا م العرب يجمل بنا أن نذكر جملة من أحواله م السياسية حتى يتضح الوضع ،فالقطار الثلثة التي كانت مجاور ة للجانب كانت حالتها السياسية في تضعضع وانحطاط ل مزيد عليه.فقد كان الناس بين ساد ة وعبيد، أو حكا م ومحكومين ،فالساد ة ـ ولسيما الجانب ـ كان له م كل الُغْن مـ ،والعبيد عليه م كل الُغْر مــ ،وبعبار ة أوضح:إن
الرعايا كانت بمثابة مزرعة تورد المحصولت إلى الحكومات ،والحكومات كانت تستخدمها في ملذاتها وشهواتها،
ورغائبها ،وجورها ،وعدوانها.أما الناس فكانوا في عمايته م يتخبطون ،والظل م ينحط عليه م من كل جانب ،وما في استطاعته م التذمر والشكوى ،بل كانوا يسامون الخسف والجور والعذاب ألواًنا ساكتين ،فقد كان الحك م استبداديا، والحقوق ضائعة مهدور ة. وأما القبائل المجاور ة لهذه القطار فكانوا مذبذبين تتقاذفه م الهواء والغراض ،مر ة يدخلون في أهل العراق ،ومر ة يدخلون في أهل الشا م. وكانت أحوال القبائل داخل الجزير ة مفككة الوصال ،تغلب عليها المنازعات القبلية والختلفات العنصرية والدينية، حتى قال ناطقه م: ت ـ** غويت ،إوان ترشد غزية أرشد وما أنا إل من َغ َّزـيـةإن َغ َوـ ْ ول م يكن له م ملك يدع م استقلله م ،أو مرجع يرجعون إليه ،ويعتمدون عليه وقت الشدائد. وأما حكومة الحجاز فقد كانت تنظر إليها العرب نظر ة تقدير واحترا م ،ويرونها قاد ة وَس َدـنـة المركز الدينى ،وكانت تلك
طا من الصدار ة الدنيوية والحكومية والزعامة الدينية ،حكمت بين العرب باس م الزعامة الدينية، الحكومة في الحقيقة خلي ً
وحكمت في الحر م وما واله بصفتها حكومة تشرف على مصالح الوافدين إلى البيت ،وتنفذ حك م شريعة إبراهي م،
وكانت لها من الدوائر والتشكيلت ما يشابه دوائر البرلمان ـ كما أسلفنا ـ ولكن هذه الحكومة كانت ضعيفة ل تقدر على حمل العبء كما وضح يو م غزو الحباش.
ديانات العـرب كان معظ م العرب يدينون بدين إبرهي م عليه السل م منذ أن نشأت ذريته في مكة وانتشرت في جزير ة العرب ،فكانوا ظا مما ذكروا به ،إل أنه م بقى يعبدون ال ويوحدونه ويلتزمون بشعائر دينه الحنيف ،حتى طال عليه م المد ونسوا ح ً
فيه م التوحيد وعد ة شعائر من هذا الدين ،حتى جاء عمرو بن لَُح ّي ـ رئيس خزاعة ،وكان قد نشأ على أمر عظي م من المعروف والصدقة والحرص على أمور الدين ،فأحبه الناس ودانوا له ،ظًنا منه م أنه من أكابر العلماء وأفاضل الوليـاء.
ث م إنه سافر إلى الشا م ،فرآه م يعبدون الوثان ،فاستحسن ذلك وظنه حًقا؛ لن الشا م محل الرسل والكتب ،فقد م معه بهَُب لـ وجعله في جوف الكعبة ،ودعا أهل مكة إلى الشرك بال فأجابوه ،ث م ل م يلبث أهل الحجاز أن تبعوا أهل مكة؛
لنه م ول ة البيت وأهل الحر م.
وكان هبل من العقيق الحمر على صور ة إنسان ،مكسور اليد اليمنى ،أدركته قريش كذلك ،فجعلوا له يًد اـ من ذهب، وكان أول صن م للمشركين وأعظمه وأقدسه عنده م. ومن أقد م أصنامه م َم نـا ة ،كانت لهَُذ ْيـلـ وخزاعة ،وكانت بالُم َشـلّـل على ساحل البحر الحمر حذو قَُد ْيـدـ ،والمشلل :ثنية جبل يهبط منها إلى قديد .ث م اتخذوا اللت في الطائف ،وكانت لثقيف ،وكانت في موضع منار ة مسجد الطائف اليسرى ،ث م اتخذوا الُعّزىـبوادى نخلة الشامية فوق ذات ِع ْر ـقــ،وكانت لقريش وبني كنانة مع كثير من القبائل الخرى.
وكانت هذه الصنا م الثلثة أكبر أوثان العرب ،ث م كثر فيه م الشرك ،وكثرت الوثان في كل ُبقعة. ويذكر أن عمرو بن لحي كان له رئى من الجن ،فأخبره أن أصنا م قو م نوح ـ وًد اـ وسواًع اـ ويغوث ويعوق ونسًرا ـ مدفونة بجد ة ،فأتاها فاستثارها ،ث م أوردها إلى تهامة ،فلما جاء الحج دفعها إلى القبائل ،فذهبت بها إلى أوطانها. فأما ود :فكانت لكلب ،بَج َرـشـبَد ْوـ َم ـةـالجندل من أرض الشا م مما يلى العراق ،وأما سواع :فكانت لهذيل بن ُم ْدـِرـكـة طـيف من بني مراد، بمكان يقال لهُ:رَهاط من أرض الحجاز ،من جهة الساحل بقرب مكة ،وأما يغوث :فكانت لبني ُغ َ بالُج ْرـف ـعند سبأ ،وأما يعوق:فكانت لهمدان في قرية َخ ْيـوـان من أرض اليمن ،وخيوان :بطن من همدان ،وأما
نسر:فكانت لحمير لل ذى الكلع في أرض حمير.
وقد اتخذوا لهذه الطواغيت بيوًتا كانوا يعظمونها كتعظي م الكعبة ،وكانت لها سدنة وحجاب ،وكانت تهدى لها كما يهدى للكعبة ،مع اعترافه م بفضل الكعبة عليها. ص ةـ وقد سارت قبائل أخرى على نفس الطريق ،فاتخذت لها أصناًم اـ آلهة وبنت لها بيوًتا مثلها ،فكان منها ذو الَخ لَـ َ لَد ْوـ س ـوَخ ثْـَع مـ وُبَج ْيـلَـة ،ببلده م من أرض اليمن ،بتََبالة بين مكة واليمن ،وكانت ِفْلس لبني طيئ ومن يليها بين جبلى
طيئ سلمى وأجأ.وكان منها ريا م ،بيت بصنعاء لهل اليمن وحمير ،وكانت منها رضاء ،بيت لبني ربيعة بن كعب
بن سعد بن زيد ،منا ة بن تمي م ،وكان منها الَك َعـَبـات لبكر وتغلب ابني وائل ،ولياد بَِس ْنـَدـاـد.
ض ا ـ صن م يقال له:ذو الكفين ،ولبني بكر ومالك وملكان أبناء كنانة صن م يقال له:سعد ،وكان لقو م من وكان لَد ْوـ س ـأي ً عذر ة صن م يقال له:شمس ،وكان لخولن صن م يقال لهُ:ع ْمـيــاِنس. وهكذا انتشرت الصنا م ودور الصنا م في جزير ة العرب ،حتى صار لكل قبيلة ث م في كل بيت منها صن م ،أما المسجد الحرا م فكانوا قد ملوه بالصنا م ،ولما فتح رسول ال صلىال عليه وسل م مكة وجد حول البيت ثلثمائة وستين صنًم اـ ،فجعل يطعنها بعود في يده حتى تساقطت ،ث م أمر بها فأخرجت من المسجد وحرقت ،وكان في جوف الكعبة ض ا ـ أصنا م وصور ،منها صن م على صور ة إبراهي م ،وصن م على صور ة إسماعيل ـ عليهما الصل ة والسل م ـ وبيدهما أي ً ض ا ـ يو م الفتح. الزل م ،وقد أزيلت هذه الصنا م ومحيت هذه الصور أي ً
وقد تمادى الناس في غيه م هذا حتى يقول أبو رجاء الُعطاردى رضي ال عنه :كنا نعبد الحجر ،فإذا وجدنا حجًرا هو خير منه ألقيناه وأخذنا الخر ،فإذا ل م نجد حجًرا جمعنا ُج ثْـَو ةًـ من تراب ،ث م جئنا بالشا ة فحلبناه عليه ،ث م طفنا به. وجملة القول:إن الشرك وعباد ة الصنا م كانا أكبر مظهر من مظاهر دين أهل الجاهلية الذين كانوا يزعمون أنه م على دين إبراهي م عليه والسل م. أما فكر ة الشرك وعباد ة الصنا م فقد نشأت فيه م على أساس أنه م لما أروا الملئكة والرسل والنبيين وعباد ال الصالحين من الولياء والتقياء والقائمين بأعمال الخير ـ لما رأوه م أنه م أقرب خلق ال إليه ،وأكرمه م درجة وأعظمه م منزلة عنده ،وأنه م قد ظهرت على أيديه م بعض الخوارق والكرامات ،ظنوا أن ال أعطاه م شيًئا من القدر ة والتصرف في بعض المور التي تختص بال سبحانه وتعالى ،وأنه م لجل تصرفه م هذا ولجل جاهه م ومنزلته م عند ال يستحقون أن يكونوا وسطاء بين ال سبحانه وتعالى وبين عامة عباده ،فل ينبغى لحد أن يعرض حاجته على ال إل بواسطة هؤلء؛ لنه م يشفعون له عند ال ،وأن ال ل يرد شفاعته م لجل جاهه م ،كذلك ل ينبغى القيا م بعباد ة ال إل بواسطة هؤلء؛ لنه م بفضل مرتبته م سوف يقربونه إلى ال زلفي. ولما تمكن منه م هذا الظن ورسخ فيه م هذا العتقاد اتخذوه م أولياء ،وجعلوه م وسيلة فيما بينه م وبين ال سبحانه وتعالى ،وحاولوا التقرب إليه م بكل ما رأوه من أسباب التقرب؛ فنحتوا لمعظمه م صوًرا وتماثيل ،إما حقيقية تطابق صوره م التي كانوا عليها ،إواما خيالية تطابق ما تخيلوا له م من الصور في أذهانه م ـ وهذه الصور والتماثيل هي التي تسمى بالصنا م.
وربما ل م ينحتوا له م صوًرا ول تماثيل ،بل جعلوا قبوره م وأضرحته م وبعض مقراته م ومواضع نزوله م واستراحته م أماكن مقدسة ،وقدموا إليها النذور والقرابين ،وأتوا لها بأعمال الخضوع والطاعات ،وهذه الضرحة والمقرات والمواضع هي التي تسمى بالوثان.
أما عبادته م لهذه الصنا م والوثان فكانت له م فيها تقاليد وأعمال ابتدع أكثرها عمرو بن لحى ،وكانوا يظنون أن ما أحدثه عمرو بن لحى فهو بدعة حسنة ،وليس بتغيير لدين إبراهي م \ ،فكان من جملة عبادته م للصنا م والوثان أنه م: 1ـ كانوا يعكفون عليها ويلتجئون إليها ..ويهتفون بها ،ويستغيثونها في الشدائد ،ويدعونها لحاجاته م ،معتقدين أنها تشفع عند ال ،وتحقق له م ما يريدون. 2ـ وكانوا يحجون إليها ويطوفون حولها ،ويتذللون عندها ،ويسجدون لها. 3ـ وكانوا يتقربون إليها بأنواع من القرابين ،فكانوا يذبحون وينحرون لها على أنصابها ،كما كانوا يذبحون بأسمائها في أي مكان. ل تَْأُك لُـوْا ِم ّمـاـ ص ِبـ{ ]المائد ة ،[3 :وفي قوله:} َو َ وهذان النوعان من الذبح ذكرهما ال تعالى في قوله :} َوَمـاـُذ بِـَح َع لَــى الّن ُ لَْ م ُيْذ َكـِرـ اْس ُ مـ ال ِ َع لَـْي ِهـ{ ]النعا م[121: 4ـ وكان من أنواع التقرب إلى هذه الصنا م والوثان أنه م كانوا يخصون لها شيئا من مآكله م ومشاربه م حسبما يبدو له م ،وكذلك كانوا يخصون لها نصيبا من حرثه م وأنعامه م ،ومن الطرائف:أنه م كانوا يخصون من ذلك جزًءا ل ض ا ـ.وكانت عنده م عد ة أسباب ينقلون لجلها إلى الصنا م ما كان ل ،ولكن ل م يكونوا ينقلون إلى ال ما كان أي ً لصنامه م بحال ،قال تعالى:} وجـعـلُـوْاِللِّه ِم ّمـاـ َذ رـَأ ِم نـ اْلح رـِث ـوالَْن عـاِ م َن ِ ص يــًبا َفَقالُوْا َهـَذ اـ ِللِّه بَِزْع ِمـِهـْ مـَوَهـَذ اـِلُش َرـَكـآـئَِناـفََم اـ َ َ َْ َ َ َََ ص ُلـ ـِإَلى ال ِ و م ـاـَك اـن ِللِّه فَهو ي ِ لي ِ ِ ِ ص ُلـ ـِإَلى ُش َرـَكـآـئِِه ْ مـَس اـء َم اـ َيْح ُك ـُمـوـَن{ ]النعا م.[136: َُ َ َك اـَن لُش َرـَكـآـئِه ْ مـفَ َ َ َ َ َ طعـم هـا ِإلّ ّ 5ـ وكان من أنواع التقرب إليها النذر في الحرث والنعا م قال تعالى :} وَقــالُوْا َهـِذ ِه ـ أَْن عـا م و حـ ر ـ ٌ ِ َ ٌ َ َْ ث ـح ْجـٌر ـل َي ْ َ ُ َ َ ِ ِ ِ ِ تـظُُهوُرَهاـ َوأَْن َعـاٌ م لّ َيْذ ُكـُرـ وـَناْس َ مـ ال ِ َع لَـْي هَـا اْفتَراء َع لَـْي هـ َس َيـْج ِز ـيـه مـبَم اـ َك اـُنوْا َيْفتَُر وـَن{ َم نـ ّنَش اـء بَِزْع ِمـِهـْ مـَوأَْن َعـاٌ م ُح ّرـَمـ ْ
] النعا م.[138:
6ـ وكانت منها البحير ة والسائبة والوصيلة والحامى. قال سعيد بن المسيب :البحير ة :التي يمنع درها للطواغيت ،فل يحلبها أحد من الناس.والسائبة :كانوا يسيبونها للهته م ،فل يحمل عليها شىء.والوصيلة :الناقة البكر تبكر في أول نتاج البل بأنثى ،ث م تثنى بعد بأنثى ،وكانوا يسيبونها لطواغيته م إن وصلت إحداهما بالخرى ،ليس بينهما ذكر .والحامى :فحل البل يضرب الضراب المعدود ]العشر من البل[ فإذا قضى ضرابه ودعوه للطواغيت ،وأعفوه من الحمل ،فل م يحمل عليه شىء وسموه الحامى. وقال ابن إسحاق :البحير ة بنت السائبة ،هي الناقة إذا تابعت بين عشر إناث ليس بينه م ذكر ،سيبت فل م يركب ظهرها ،ول م يجز وبرها ،ول م يشرب لبنها إل ضيف ،فما نتجت بعد ذلك من أنثى شقت أذنها ،ث م خلى سبيلها مع أمها فل م يركب ظهرها ،ول م يجز وبرها ،ول م يشرب لبنها إل ضيف ،كما فعل بأمها ،فهي البحير ة بنت السائبة. والوصيلة :الشا ة إذا أتأمت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن ليس بينه م ذكر جعلت وصيلة .قالوا :قد وصلت،
فكان ما ولد بعد ذلك للذكور منه م دون إناثه م إل أن يموت شىء فيشترك في أكله ذكوره م إواناثه م .والحامى :الفحل
إذا نتج له عشر إناث متتابعات ليس بينهن ذكر حمى ظهره ،فل م يركب ،ول م يجز وبره ،وخلى في إبله يضرب فيها، لو ِ ل ينتفع منه بغير ذلك ،وفي ذلك أنزل ال تعالى:} ماـ ج عـَلـ ال ُ ِم نـ بِح يـرٍ ةو َ ِ ٍ ل َح اـٍ م َو لَـِك ّنـ الِّذ يـَن ص ـ يـ ـلٍَةَو َ َ ََ ل َس آـئَبة َو َ َ َ َ َ ِ ِ ِِ ِ ص ةٌـ ل َيْع ِقـلُـوَن{ ]المائد ة ،[103:وأنزل:} َوَقــالُوْا َم اـ ِفيـ ُب ُ ب ـ َوأَْك ثَـُرُهْ م َ َك فَـُر وْاـَيْفتَُر وـَن َع لَــى ال ِ اْلَك ذـ َ طوِن َهـذ ه ـ الَْن َعـا م َخ اـل َ لُّذ ُكـوـِر َنـاـَو ُم ـَحـ ّرـٌ مـَع لَــى أَْز َوــاِج َنــاَو إِاـنـ َيُك نـ ّم ْيـتَـًة فَهُْ م ِفيِه ُش َرـَكـا {ـء ] النعا م ،[139:وقيل في تفسير هذه النعا م غير ذلك. وقد مر عن سعيد بن المسيب أن هذه النعا م كانت لطواغيته م.وفي الصحيحين أن النبي صلىال عليه وسل م قال: ص َبــه ]أي أمعاءه [ في النار(؛ لنه أول من غير دين إبراهي م، ) رأيت عمرو بن عامر بن لحى الخزاعى يجر قَ َ فنصب الوثان وسيب السائبة ،وبحر البحير ة ،ووصل الوصيلة ،وحمى الحامى. كانت العرب تفعل كل ذلك بأصنامه م معتقدين أنها تقربه م إلى ال وتوصله م إليه،وتشفع لديه ،كما في القرآن :} َماـ ل َينفَُعهُْ م َو َيـُقوُلوَن َهـُؤلء ض ّرـُهْ مَو َ َنْع ُبـُد ُهـْ م ِإّل لُِيقَّر ُبــوَناـِإَلى ال ِ ُز ْلـَفى{ ]الزمر [3 :} َوَيـْعُبـُدوـَن ِم نـ ُد وـِن ال ِ َم اـ َ ل َي ُ ُشفَـَعاُؤ َنـا ِع نـَد ال ِ{ ]يونس[81: وكانت العرب تستقس م بالزل م ،والّز لَـ م:القدح الذي ل ريش له ،وكانت الزل م ثلثة أنواع: 1ـ نوع فيه ثلثة أسه م ،أحدها]:نع م[ ،وثانيها] :ل[ ،وثالثهاُ]:غ ْفـلـ[ ،كانوا يستقسمون بها فيما يريدون من العمل؛ من نحو السفر والنكاح وأمثالهما.فإن خرج ]نع م[ عملوا به ،إوان خرج ]ل[أخروه عامه ذلك حتى يأتوه مر ة أخرى ،إوان طلع ]غفل[ أعادوا الضرب حتى يخرج واحد من الولين. 2ـ ونوع فيه المياه والعقول والديات. 3ـ ونوع فيه ]منك م[ أو ]من غيرك م[ أو ]ملصق[ ،فكانوا إذا شكوا في نسب أحده م ذهبوا به إلى هبل ،وبمائة دره م طا ،إوان خرج عليه ]من غيرك م[ كان حليًفا ،إوان وجزور ،فأعطوها صاحب القداح ،فإن خرج ]منك م[ كان منه م وسي ً خرج عليه ]ملصق[ كان على منزلته فيه م ،ل َنَس بـ ول ِح ْلــف. ويقرب من هذا الميسر والقداح ،وهو ضرب من القمار ،كانوا يقتسمون به لح م الجزور التي كانوا يتقامرون عليها؛ وذلك أنه م كانوا يشترون الجزور نسيئة فينحرونها ويقسمونها ثمانية وعشرين قسًم اـ ،أو عشر ة أقسا م ،ث م يضربون عليها بالقداح ،وفيها ]الرابح[ و]الغفل[ ،فمن خرج له قدح ]الرابح[ فاز ،وأخذ نصيبه من الجزور ،ومن خرج له ]الغفل[ خاب وغر م ثمنها. وكانوا يؤمنون بأخبار الكهنة والعرافين والمنجمين ،والكاهن :هو من يتعاطى الخبار عن الكوائن في المستقبل، ويدعى معرفة السرار ومن الكهنة من يزع م أن له تابًعاـ من الجن ،ومنه م من يدعى إدراك الغيب بفه م أعطيه ،ومنه م من يدعى معرفة المور بمقدمات وأسباب يستدل بها على مواقعها من كل م من يسأله أو فعله أو حاله ،وهذا القس م
يسمى ع ارًفا ،كمن يدعى معرفة المسروق ومكان السرقة والضالة ونحوهما.والمنج م:من ينظر في النجو م أي الكواكب، ويحسب سيرها ومواقيتها ،ليعل م بها أحوال العال م وحوادثه التي تقع في المستقبل.
والتصديق بأخبار المنجمين هو في الحقيقة إيمان بالنجو م ،وكان من إيمانه م بالنجو م اليمان بالنواء ،فكانوا يقولون:مطرنا بنوء كذا وكذا. وكانت فيه م الطير ة ]بكسر ففتح[ وهي التشاؤ م بالشىء ،وأصله أنه م كانوا يأتون الطير أو الظبى فينفرونه ،فإن أخذ ذات اليمين مضوا إلى ما قصدوا وعدوه حسًنا ،إوان أخذ ذات الشمال انتهوا عن ذلك وتشاءموا ،وكانوا يتشاءمون كذلك إن عرض الطير أو الحيوان في طريقه م. ويقرب من هذا تعليقه م كعب الرنب ،والتشاؤ م ببعض اليا م والشهور والحيوانات والدور والنساء ،والعتقاد بالعدوى والهامة ،فكانوا يعتقدون أن المقتول ل يسكن جأشه ما ل م يؤخذ بثأره ،وتصير روحه هامة أي بومة تطير في الفلوات، وتقول:صدى صدى أو اسقونى اسقونى ،فإذا أخذ بثأره سكن واستراح. كان أهل الجاهلية على ذلك وفيه م بقايا مـن ديــن إبراهي م ،ل م يكونوا قد تركوه كلـه ـ مثـل تعظي م البيت ،والطـواف بـه، والحـج ،والعمـر ة ،والـوقوف بعرفة والمزدلفة ،إواهداء البدن ـ إوانما كانوا قد ابتدعوا في ذلك بدًع اـ: منها:أن قريًش اـ كانوا يقولون:نحن بنو إبراهي م وأهل الحر م ،وول ة البيت وقاطنو مكة ،وليس لحد من العرب مثل حقنا ومنزلتنا ـ وكانوا يسمون أنفسه م الُح ْمـسـ ـ فل ينبغى لنا أن نخرج من الحر م إلى الحل ،فكانوا ل يقفون بعرفة ،ول ِ ض الّناُس{ ]البقر ة: ض وْاـ ِم ْنـ َح ْي ـ ُ ثـ أََفا َ يفيضون منها ،إوانما كانوا يفيضون من المزدلفة وفيه م أنزل ال تعالى :}ثُّ م َأفي ُ .[199
ومنها :أنه م قالوا :ل ينبغى للحمس أن يأِقطوا الِقطـ ول يسلوا السمن وه م حر م ،ول يدخلوا بيًتا من شعر ،ول يستظلوا إن استظلوا إل في بيوت الد م ما داموا حرًم اـ. ومنها :أنه م قالوا :ل ينبغى لهل الِح ّل ـ أن يأكلوا من طعا م جاءوا به من الحل إلى الحر م ،إذا جاءوا حجاجا أو عماًرا. ومنها:أنه م أمروا أهل الحل أل يطوفوا بالبيت إذا قدموا أول طوافه م إل في ثياب الحمس ،وكانت الحمس يحتسبون على الناس ،يعطـى الرجـل الرجـل الثياب يطـوف فيها ،وتعطى المرأ ة المرأ ة الثياب ،تطوف فيها ،فإن ل م يجدوا شيًئا فكان الرجال يطوفون عرا ة ،وكانت المرأ ة تضع ثيابها كلها إل درًع اـ مفرًج ا ـ ث م تطوف فيه ،وتقول: اليو م يبدو بعضه أو كله ** وما بدا منه فل أحله وأنزل ال في ذلك :} َيا َبِني آَد َ مـ ُخ ُذـوْـا ِز يـَنتَُك ْ مـِع نـَد ُك ّلـ َم ْسـِجـٍد{ـ ]العراف [31:فإن تكر م أحد من الرجل والمرأ ة فطاف في ثيابه التي جاء بها من الحل ألقاها بعد الطواف ول ينتفع بها هو ول أحد غيره.
ومنها :أنه م كانوا ل يأتون بيوته م من أبوابها في حال الحرا م ،بل كانوا ينقبون في ظهور البيوت نقًبا يدخلون ت ِم نـ ويخرجون منه ،وكانوا يحسبون ذلك الجفاء بّرا ،وقد نهي عنه القرآن ،قال ال تعالى :} َولَـْيَسـ اْلبِّر بِأَْن تَْأتُْو ْاـ اْلُبُيو َ ت ِم ْنـ َأْب َوـابَِها َواتّقُوْا ال َ لََع لّـُك ْ مـ تُْف ِلـُح وـَن{ ]البقر ة. [189: ظُُهوِرَهاـ َو لَـِك ّنـ اْلبِّر َم ِنـ اتَّقى َوْأتُوْا اْلُبُيو َ كانت هذه الديانة ـ ديانة الشرك وعباد ة الوثان ،والعتقاد بالوها م والخرافات ـ هي الديانة السائد ة في جزير ة العرب، وقد وجدت اليهودية والنصرانية والمجوسية والصابئية سبًل للدخول في ربوعها. ولليهود دوران ـ على القل ـ مثلوهما في جزير ة العرب: الول :هجرته م في عهد الفتوح البابلية والشورية في فلسطين ،فقد نشأ عن الضغط على اليهود ،وعن تخريب بلده م وتدمير هيكله م على يد الملك ُبْخ تُـَنصر سنة 587ق .م ،وسبى أكثره م إلى بابل أن قسًم اـ منه م هجر البلد الفلسطينية إلى الحجاز ،و تَــو ّ طن في ربوعها الشمالية. َ الدور الثاني :يبدأ من احتلل الرومان لفلسطين بقياد ة تيطس الرومانى سنة 70م ،فقد نشأ عن ضغط الرومان على اليهود وعن تخريب الهيكل وتدميره أن قبائل عديد ة من اليهود رحلت إلى الحجاز ،واستقرت في يثرب وخيبر وتيماء، وأنشأت فيها القرى والطا م والقلع ،وانتشرت الديانة اليهودية بين قس م من العرب عن طريق هؤلء المهاجرين، وأصبح لها شأن يذكر في الحوادث السياسية التي سبقت ظهور السل م ،والتي حدثت في صدره .وحينما جاء طـَلق وقريظة وقينقاع ،وذكر السمهودي أن عدد صـ َ السل م كانت القبائل اليهودية المشهور ة هي :خيبر والنضير والُم ْ القبائل اليهودية التي نزلت بيثرب بين حين وآخر :يزيد على عشرين.
ودخلت اليهودية في اليمن من قبل تُّبان أسعد أبي َك َرـبـ،فإنه ذهب مقاتًل إلى يثرب واعتنق هناك اليهودية وجاء بحبرين من بني قريظة إلى اليمن ،فأخذت اليهودية إلى التوسع والنتشار فيها ،ولما ولى اليمن بعده ابنه يوسف ذو ُنَواس هج م على النصارى من أهل نجران ودعاه م إلى اعتناق اليهودية ،فلما أبوا خّد له م الخدود وأحرقه م بالنار ،ول م يفرق بين الرجل والمرأ ة والطفال الصغار والشيوخ الكبار ،ويقال :إن عدد المقتولين ما بين عشرين ألًفا إلى أربعين ألًفا .وقع ذلك في شهر أكتوبر سنة 523م .وقد ذكره م ال تعالى في القرآن الكري م في سور ة البروج؛ إذ يقول :}قُتَِل
ب اْلُْخ ُد ـوـِد الّناِر َذ اـِت اْلَو قُــوِد ِإْذ ُهْ م َع لَـْي هَـا قُُعوٌد َوُهْ م َع لَــى َم اـ َيْفَع لُـوَن ِباْلُم ْؤـ ِم ـنِـيَنُش هُـوٌد{ ]البروج.[7 :4 : ص َح ـاـ ُ أَ ْ
أما الديانة النصرانية ،فقد جاءت إلى بلد العرب عن طريق احتلل الحبشة وبعض البعثات الرومانية ،وكان أول احتلل الحباش لليمن سنة 340م ،ولكن ل م يطل أمد هذا الحتلل ،فقد طردوا منها ما بين عامي 370ـ 378م، إل أنه م شجعوا على نشر النصرانية وتشجعوا لها ،وقد وصل أثناء هذا الحتلل رجل زاهد مستجاب الدعوات وصاحب كرامات ـ اسمه فيميون ـ إلى نجران ،ودعاه م إلى دين النصرانية فلبوا دعوته واعتنقوا النصرانية؛ لما أروا من آيات صدقه وصدق دينه. ولما احتلت الحباش اليمن مر ة أخرى عا م 525م ـ كرد فعل على ما أتاه ذو نواس من تحريق نصارى نجران في الخدود ،وتمكن أبرهة الشر م من حكومة اليمن ـ أخذ ينشر الديانة النصرانية بأوفر نشاط وأوسع نطاق ،حتى بلغ من
نشاطه أنه بني كعبة باليمن ،وأراد أن يصرف حج العرب إليها ويهد م بيت ال الذي بمكة ،فأخذه ال نكال الخر ة والولى. وقد اعتنق النصرانية العرب الغساسنة وقبائل تغلب وطيئ وغيرهما لمجاور ة الرومان ،بل قد اعتنقها بعض ملوك ض ا ـ. الحير ة أي ً أما المجوسية ،فكان ما كان منها في العرب المجاورين للفرس ،فكانت في عراق العرب وفي البحرين ـ الحسا ـ وَهَج ر ـ وما جاورها من منطقة سواحل الخليج العربي ،ودان لها رجال من اليمن في زمن الحتلل الفارسي. أما الصابئية ـ وهي ديانة تمتاز بعباد ة الكواكب وبالعتقاد في أنواء المنازل وتأثير النجو م وأنها هي المدبر ة للكون ـ فقد دلت الحفريات والتنقيبات في بلد العراق وغيرها أنها كانت ديانة قو م إبراهي م الكلدانيين ،وقد دان بها كثير من أهل الشا م وأهل اليمن في غابر الزمان ،وبعد تتابع الديانات الجديد ة من اليهودية والنصرانية ،تضعضع بنيان الصابئية وخمد نشاطها ،ولكن ل م يزل في الناس بقايا من أهل هذه الديانة مختلطين مع المجوس أو مجاورين له م في عراق العرب وعلى شواطئ الخليج العربي .وقد وجد شيء من الزندقة في بعض العرب ،وكانت وصلت إليه م عن طريق الحير ة ،كما وجدت في بعض قريش لحتكاكه م بالفرس عن طريق التجار ة.
الحالة الدينية كانت هذه الديانات هي ديانات العرب حين جاء السل م ،وقد أصاب هذه الديانات النحلل والبوار ،فالمشركون الذين كانوا يدعون أنه م على دين إبراهي م كانوا بعيدين عن أوامر ونواهي شريعة إبراهي م ،مهملين ما أتت به من مكار م الخلق .وكثرت فيه م المعاصي ،ونشأ فيه م على توالى الزمان ما ينشأ في الوثنيين من عادات وتقاليد تجرى مجرى الخرافات الدينية ،وأثرت في الحيا ة الجتماعية والسياسية والدينية تأثيًرا بالًغاـ جًد اـ. أما اليهودية ،فقد انقلبت رياء وتحكًم اـ ،وصار رؤساؤها أرباًبا من دون ال ،يتحكمون في الناس ويحاسبونه م حتى على خطرات النفس وهمسات الشفاه ،وجعلوا همه م الحظو ة بالمال والرياسة إوان ضاع الدين وانتشر اللحاد والكفر،
والتهاون بالتعالي م التي حض ال عليها وأمر كل فرد بتقديسها.
طا عجيًبا بين ال والنسان ،ول م يكن لها في نفوس العرب وأما النصرانية ،فقد عادت وثنية عسر ة الفه م ،وأوجدت خل ً المتدينين بهذا الدين تأثير حقيقي؛ لبعد تعاليمها عن طراز المعيشة التي ألفوها ،ول م يكونوا يستطيعون البتعاد عنها. وأما سائر أديان العرب :فكانت أحوال أهلها كأحوال المشركين ،فقد تشابهت قلوبه م ،وتواردت عقائده م ،وتوافقت تقاليده م وعوائده م.
صور من المجتمع العربي الجاهلي
الحالة الجتماعية الحالة التقتصادية اللخل ق
بعد البحث عن سياسة الجزير ة وأديانها يجمل بنا أن نلقى شيًئا من الضوء على أحوالها الجتماعية والقتصادية والخلقية ،وفيما يلي بيانها بإيجاز: الحالة الجتماعية كانت في العرب أوساط متنوعة تختلف أحوال بعضها عن بعض ،فكانت علقة الرجل مع أهله في الشراف على درجة كبير ة من الرقى والتقد م ،وكان لها من حرية الراد ة ونفاذ القول القسط الوفر ،وكانت محترمة مصونة تَُس ّلـ
دونها السيوف ،وتراق الدماء ،وكان الرجل إذا أراد أن يمتدح بما له في نظر العرب المقا م السامي من الكر م
والشجاعة ل م يكن يخاطب في معظ م أوقاته إل المرأ ة ،وربما كانت المرأ ة إذا شاءت جمعت القبائل للسل م ،إوان شاءت أشعلت بينه م نار الحرب والقتال ،ومع هذا كله فقد كان الرجل يعتبر بل نزاع رئيس السر ة وصاحب الكلمة فيها، وكان ارتباط الرجل بالمرأ ة بعقد الزواج تحت إشراف أوليائها ،ول م يكن من حقها أن تفتات عليه م. بينما هذه حال الشراف ،كان هناك في الوساط الخرى أنواع من الختلط بين الرجل والمرأ ة ،ل نستطيع أن نعبر عنه إل بالدعار ة والمجون والسفاح والفاحشة .روى البخاري وغيره عن عائشة رضي ال عنها. إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء :فنكاح منها نكاح الناس اليو م؛ يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ث م ينكحها ،ونكاح آخر :كان الرجل يقول لمرأته إذا طهرت من طمثها :أرسلي إلى فلن فاستبضعي منه، ويعتزلها زوجها ول يمسها أبًد اـ حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه ،فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب ،إوانما يفعل ذلك رغبة في َنَج اــبة الـولد ،فكان هـذا النكاح ]يسمى[ نكاح الستبضاع ،ونكاح آخر :يجتمع الرهط دون العشر ة ،فيدخلون على المرأ ة كله م يصيبها ،فإذا حملت ،ووضعت ومر]ت[ ليال بعد أن تضع حملها
أرسلت إليه م ،فل م يستطع رجل منه م أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها] ،فـ[ تقول له م :قد عرفت م الذي كان من أمرك م، وقد ولدت ،فهو ابنك يا فلن] ،فـ[ تسمى من أحبت ]منه م[ باسمه ،فيلحق به ولدها .ل يستطيع أن يمتنع منه الرجل،ونكاح رابع:يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأ ة ل تمتنع ممن جاءها،وهن البغايا،كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علًم اـ ،فمن أرادهن دخل عليهن ،فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها ،ودعوا له م القافة ،ث م ألحقوا ولدها بالذي يرون ،فالتاطته به ،ودعى ابنه ،ل يمتنع من ذلك ،فلما بعث ]ال [ محمًد اـ صلى ال عليه وسل م بالحق هد م نكاح ]أهل[ الجاهلية كله إل نكاح السل م اليو م.
وكانت عنده م اجتماعات بين الرجل والمرأ ة تعقدها شفار السيوف ،وأسنة الرماح ،فكان المتغلب في حروب القبائل يسبي نساء المقهور فيستحلها ،ولكن الولد الذين تكون هذه أمه م يلحقه م العار مد ة حياته م. وكان من المعروف في أهل الجاهلية أنه م كانوا يعددون بين الزوجات من غير حد معروف ينتهي إليه ،حتى حددها القرآن في أربع .وكانوا يجمعون بين الختين ،وكانوا يتزوجون بزوجة آبائه م إذا طلقوها أو ماتوا عنها حتى نهى تـَع لَـْي ُكـْ مـ ف ِإّنهُ َك اـَن َفاِح َشـًةـ َو َم ـْقـًتا َو َس ـاـء َس بِـي ً عنهما القرآن } َو َ ل َتنِك ُحـوْاـ َم اـ َنَك َحـ آَباُؤ ُكـ مـ ّم َنـ الّنَس اـء ِإلّ َم اـ قَْد َس لَـ َ ل ُح ّرـَمـ ْ ِّ ِ ضـْع ـَنـُك ْ مـَوَأَخ َوـاـتُُك مـّم َنـ ت الَِخ َو َبـَنا ُ أُّم هَـاتُُك ْ مـ َو َبـَناتُُك ْ مـ َوَأَخ َوـاـتُُك ْ مـَوَع ّمـاـتُُك ْ مـَو َخـ اـلَتُُك ْ مـَو َبـَنا ُ ت الُْخ ت ـ َوأُّم هَـاتُُك ُ مـ اللتي َأْر َ ل ت نَِس آـئُِك ْ مـ َو َرـَبــائُِبُك ُ مـاللِّتي ِفيـ ُح ُجـوـِر ُكـ مـّم نـ ّنَس آـئُِك ُ مـ اللِّتي َد َخـ ْلـُت م بِِه ّنـ فَِإن لّْ م تَُك وـُنوْا َد َخـ ْلـُت م بِِه ّنـ فَ َ ضـاـَع ِةـَوأُّم هَـا ُ الّر َ ِ ِّ ِ ِ ف ِإّن ال َ َك اـَن َغ فُـوًرا ّر ِحـ يـًم{اـ ص لَ ـبُِك ْ مـ َوَأن تَْج َم ـُعـوْا َبْي َنـ الُْخ تَـْي ِنـ إَلّ َم اـ قَْد َس لَـ َ ُج َنــاَح َع لَـْي ُكـْ مـ َو َحـ لَـئُل أَْب َنـائُك ُ مـ الذ يـَن م ْنـ أَ ْ
]سور ة النساء [23 ،22 :وكان الطلق والرجعة بيد الرجال ،ول م يكن لهما حد معين حتى حددهما السل م.
طا دون وسط ،أو صنًفا دون صنف إل وكانت فاحشة الزنا سائد ة في جميع الوساط ،ل نستطيع أن نخص منها وس ً أف ارًد اـ من الرجال والنساء ممن كان تعاظ م نفوسه م يأبى الوقوع في هذه الرذيلة ،وكانت الحرائر أحسن حاًل من الماء ،والطامة الكبرى هي الماء ،ويبدو أن الغلبية الساحقة من أهل الجاهلية ل م تكن تحس بعار في النتساب
إلى هذه الفاحشة ،روى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال :قا م رجل فقال :يا رسول ال ،إن فلًنا ابني ،عاهرت بأمه في الجاهلية ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)ل دعو ة في السل م ،ذهب أمر الجاهلية، الولد للفراش وللعاهر الَح َجـر ـ( ،وقصة اختصا م سعد بن أبي وقاص وعبد بن َز ْمـَعـةـفي ابن أمة زمعة ـ وهو عبد الرحمن بن زمعة ـ معروفة. وكانت علقة الرجل مع أولده على أنواع شتى ،فمنه م من يقول: إنم ــا أولدن ــا بيننــا ** أكبادنا تمشى على الرض ومنه م من كان يئد البنات خشية العار والنفاق ،ويقتل الولد خشية الفقر والملق:}ُقْل تََعاَلْو ْاـ أَْتُل َم اـ َح ّرـَ مـَر ّبـُك ْ مـ ل تَْقتُلُوْا أَْولََد ُكـ مـّم ْنـ إْم لَـ ٍ ل تَْقَر ُبـوْا اْلَفَواِح َش ـَم اـ ق ّنْح ُن ـ َنْر ُزـ ـقُـُك ْ مَـو إِاـّياُهْ م َو َ َع لَـْي ُكـْ مـ أَلّ تُْش ِرـُكـوْـابِِه َش ْيـًئـا َو ِبــاْلَواِلَد ْيـِنـِإْح َس ـاـًناـ َو َ ل تَْقتُلُوْا الّنْفَس الِّتي َح ّرـَ مـال ُ ِإلّ ِباْلَح ّ ص ـاـُك ْ مـبِِه لََع لّـُك ْ مـ تَْع ِقـلُـوَن{ ]النعا م [151 :ولكن ل قـ َذ ِلـُك ْ مـ َو ّ طَن َو َ ظهََر ِم ْنـهَـا َو َم ـاـَب َ َ يمكن لنا أن نعد هذا من الخلق المنتشر ة السائد ة ،فقد كانوا أشد الناس احتياًج ا ـ إلى البنين ليتقوا به م العدو.
أما معاملة الرجل مع أخيه وأبناء عمه وعشيرته فقد كانت موطد ة قوية ،فقد كانوا يحيون للعصبية القبلية ويموتون لها ،وكانت روح الجتماع سائد ة بين القبيلة الواحد ة تزيدها العصبية ،وكان أساس النظا م الجتماعي هو العصبية الجنسية والرح م ،وكانوا يسيرون على المثل السائر :)انصر أخاك ظالًم اـ أو مظلوًم اـ( على المعنى الحقيقي من غير التعديل الذي جاء به السل م؛ من أن نصر الظال م كفه عن ظلمه ،إل أن التنافس في الشرف والسؤدد كثيًرا ما كان
يفضى إلى الحروب بين القبائل التي كان يجمعها أب واحد ،كما نرى ذلك بين الوس والخزرج ،وَع ْبـسـ وُذ ْبـيـان، وَبْك رـ وتَْغ ِلـب وغيرها.
أما العلقة بين القبائل المختلفة فقد كانت مفككة الوصال تماًم اـ ،وكانت قواه م متفانية في الحروب ،إل أن الرهبة والوجل من بعض التقاليد والعادات المشتركة بين الدين والخرافة ربما كان يخفف من حدتها وصرامتها .وأحياًنا كانت
الموال ة والحلف والتبعية تفضى إلى اجتماع القبائل المتغاير ة .وكانت الشهر الحر م رحمة وعوًنا له م على حياته م وحصول معايشه م .فقد كانوا يأمنون فيها تما م المن؛ لشد ة التزامه م بحرمتها ،يقول أبو رجاء الُعطاردي :إذا دخل ص ُل ـ الِس ّنــة؛ فل ندع رمًح ا ـ فيه حديد ة ول سهًم اـ فيه حديد ة إل نزعناه ،وألقيناه شهر رجب .وكذلك شهر رجب قلناُ :م َنـ ّ في بقية الشهر الحر م.
وقصارى الكل م أن الحالة الجتماعية كانت في الحضيض من الضعف والعماية ،فالجهل ضارب أطنابه ،والخرافات لها جولة وصولة ،والناس يعيشون كالنعا م ،والمرأ ة تباع وتشترى وتعامل كالجمادات أحيانا ،والعلقة بين المة واهية مبتوتة ،وما كان من الحكومات فُج ّلـ همتها ملء الخزائن من رعيتها أو جر الحروب على مناوئيها. الحالة القتصادية أما الحالة القتصادية ،فتبعت الحالة الجتماعية ،ويتضح ذلك إذا نظرنا في طرق معايش العرب .فالتجار ة كانت أكبر وسيلة للحصول على حوائج الحيا ة ،والجولة التجارية ل تتيسر إل إذا ساد المن والسل م ،وكان ذلك مفقوًد اـ في جزير ة العرب إل في الشهر الحر م ،وهذه هي الشهور التي كانت تعقد فيها أسواق العرب الشهير ة من ُع كـاظ وذي
المَج اــز وَم َجـ ّنــة وغيرها.
وأما الصناعات فكانوا أبعد الم م عنها ،ومعظ م الصناعات التي كانت توجد في العرب من الحياكة والدباغة وغيرها كانت في أهل اليمن والحير ة ومشارف الشا م ،نع م ،كان في داخل الجزير ة شيء من الزراعة والحرث واقتناء النعا م، وكانت نساء العرب كافة يشتغلن بالغزل ،لكن كانت المتعة عرضة للحروب ،وكان الفقر والجوع والعرى عاًم اـ في المجتمع.
الخلق ل شك أن أهل الجاهلية كانت فيه م دنايا ورذائل وأمور ينكرها العقل السلي م ويأباها الوجدان ،ولكن كانت فيه م من الخلق الفاضلة المحمود ة ما يروع النسان ويفضى به إلى الدهشة والعجب ،فمن تلك الخلق: 1ـ الكر م :وكانوا يتبارون في ذلك ويفتخرون به ،وقد استنفدوا فيه نصف أشعاره م بين ممتدح به وُم ثْـٍن على غيره،
كان الرجل يأتيه الضيف في شد ة البرد والجوع وليس عنده من المال إل ناقته التي هي حياته وحيا ة أسرته ،فتأخذه هز ة الكر م فيقو م إليها ،فيذبحها لضيفه .ومن آثار كرمه م أنه م كانوا يتحملون الديات الهائلة والحمالت المدهشة، يكفون بذلك سفك الدماء ،وضياع النسان ،ويمتدحون بها مفتخرين على غيره م من الرؤساء والسادات.
وكان من نتائج كرمه م أنه م كانوا يتمدحون بشرب الخمور ،ل لنها مفخر ة في ذاتها؛ بل لنها سبيل من سبل الكر م، ومما يسهل الّس َرـفـعلى النفس ،ولجل ذلك كانوا يسمون َش َجـ َر ـ العنب بالَك ْرـ مــ،وَخ ْمـَرــهبِبِْن ِتـ الكر م .إواذا نظرت إلى دواوين أشعارالجاهلية تجد ذلك باًبا من أبواب المديح والفخر ،يقول عنتر ة بن شداد العبسي في معلقته: تـمن الم َدـاـم ةـ بع َدـ ما ** ر َكـ ــدالهواجـِر بالم شــو ِ ف الُم ْعـلـِ م ولقد َش ِرـْبـ ُ ُ َ َْ َ َ ُ َ ُ ت بأزه ـَر بالّش مـال ُم فـَّد ِ مـ بُز َجـ اـَج ٍةـصـَْفراء ذات أسـِّر ة ** ُقرَنـ ْ ت فإننى م سـتَـهلِـك ** مالى وِع ر ـ ِ ضـ ىـوـاِفـٌر ل م ُيْك لـَِ م فــإذا شـَِر بـ ُ ْ ُْ ْ
ص ُر ـ عن َنَد ىـ ** وكمــا َع لـمـت شمائلــى َو تَـَك ّرـمـِـى ت ـفما أُقَ ّ ص َحـْوـ ُ إواذا َ ومن نتائج كرمه م اشتغاله م بالميسر ،فإنه م كانوا يرون أنه سبيل من سبل الكر م؛ لنه م كانوا يطعمون المساكين ما ربحوه أو ما كان يفضل عن سها م الرابحين؛ ولذلك ترى القرآن ل ينكر نفع الخمر والميسر إوانما يقول :} َ إوِاثُْمهُـَمآـأَْك َبـُر ِم نـ ّنْفِع ِه ـَمـا{ـ ]البقر ة[219: 2ـ الوفاء بالعهد :فقد كان العهد عنده م ديًنا يتمسكون به ،ويستهينون في سبيله قتل أولده م ،وتخريب دياره م ،وتكفي في معرفة ذلك قصة هانئ بن مسعود الشيباني ،والّس َمـْوـأـلبن عاديا ،وحاجب بن زرار ة التميمي. 3ـ عز ة النفس والباء عن قبول الخسف والضي م :وكان من نتائج هذا فرط الشجاعة وشد ة الغير ة ،وسرعة النفعال، فكانوا ل يسمعون كلمة يشمون منها رائحة الذل والهوان إل قاموا إلى السيف والسنان ،وأثاروا الحروب العوان ،وكانوا ل يبالون بتضحية أنفسه م في هذا السبيل. 4ـ المضي في العزائ م :فإذا عزموا على شيء يرون فيه المجد والفتخار ،ل يصرفه م عنه صارف ،بل كانوا يخاطرون بأنفسه م في سبيله. 5ـ الحل م ،والنا ة ،والتؤد ة :كانوا يتمدحون بها إل أنها كانت فيه م عزيز ة الوجود؛ لفرط شجاعته م وسرعة إقدامه م على القتال. 6ـ السذاجة البدوية ،وعد م التلوث بلوثات الحضار ة ومكائدها :وكان من نتائجها الصدق والمانة ،والنفور عن الخداع والغدر. نرى أن هذه الخلق الثمينة ـ مع ما كان لجزير ة العرب من الموقع الجغرافي بالنسبة إلى العال م ـ كانت سبًبا في
اختيار ال عز وجل إياه م لحمل عبء الرسالة العامة ،وقياد ة المة النسانية ،إواصلح المجتمع البشرى؛ لن هذه الخلق إوان كان بعضها يفضى إلى الشر ،ويجلب الحوادث المؤلمة إل أنها كانت في نفسها أخلًقا ثمينة ،تدر بالمنافع العامة للمجتمع البشرى بعد شيء من الصلح ،وهذا الذي فعله السل م.
ولعل أغلى ما عنده م من هذه الخلق وأعظمها نفًعاـ ـ بعد الوفاء بالعهد ـ هو عز ة النفس والمضي في العزائ م؛ إذ ل يمكن قمع الشر والفساد إواقامة نظا م العدل والخير إل بهذه القو ة القاهر ة وبهذا العز م الصمي م .وله م أخلق فاضلة أخرى دون هذه التي ذكرناها ،وليس قصدنا استقصاءها.
النسب والمولد والنشأ ة نسب النبي صلى ا عليه وسلم وأسرته السرة النبوية المولـــد السيرة الجمالية تقبل النبوة
نسب النبي صلى ال عليه وسل م وأسرته نسب النبي صلى ال عليه وسل م نسب نبينا محمد صلى ال عليه وسل م ينقس م إلى ثلثة أجزاء :جزء اتفق عليه كافة أهل السير والنساب ،وهو الجزء الذي يبدأ منه صلى ال عليه وسل م وينتهي إلى عدنان. وجزء آخر كثر فيه الختلف ،حتى جاوز حد الجمع والئتلف ،وهو الجزء الذي يبدأ بعد عدنان وينتهي إلى إبراهي م عليه السل م فقد توقف فيه قو م ،وقالوا :ل يجوز سرده ،بينما جوزه آخرون وساقوه .ث م اختلف هؤل المجوزون في عدد الباء وأسمائه م ،فاشتد اختلفه م وكثرت أقواله م حتى جاوزت ثلثين قوًل ،ـ ـإل أن الجميع متفقون على أن عدنان من صريح ولد إسماعيل عليه السل م.
أما الجزء الثالث فهو يبدأ من بعد إبراهي م عليه السل م وينتهي إلى آد م عليه السل م ،وجل العتماد فيه على نقل أهل الكتاب ،وعنده م فيه من بعض تفاصـيل العمـار وغيرهـا ما ل نشك في بطلنه ،بينما نتوقف في البقية الباقية. وفيما يلى الجزاء الثلثة من نسبه الزكى صلى ال عليه وسل م بالترتيب : الجزء الول :محمد بن عبد ال بن عبد المطلب ـ واسمه َش ْيـَبـة ـ بن هاش م ـ واسمه عمرو ـ بن عبد مناف ـ واسمه ص ّى ـ ـ واسمه زيد ـ بن ِك لـب بن ُم ّرـ ةبن كعب بن لؤى بن غالب بن ِفْهـر ـ وهو الملقب بقريش إواليه المغير ة ـ بن قُ َ ض ر ـ ـ واسمه قيس ـ بن ِك َنـانة بن ُخ َزـْيـَمـةـبن ُم ْدـِرـكـةـ واسمه عامـر ـ بن إلياس بن تنتسب القبيلة ـ بن مالك بن الّن ْ ضـ ر ـ بن نَِزار بن َم َعـّدـ بن عدنان. ُم َ الجزء الثانى :ما فوق عدنان ،وعدنان هو ابن أَُد دـ بن الهََم ْيـَسـعـ بن سلمان بن َع ْوـ ص ـبن بوز بن قموال بن أبي بن عوا م بن ناشد بن ح از بن بلداس بن يدلف بن طابخ بن جاح م بن ناحش بن ماخى بن عيض بن عبقر بن عبيد بن الدعا بن َح ْمـدــان بن سنبر بن يثربى بن يحزن بن يلحن بن أرعوى بن عيض بن ديشان بن عيصر بن أفناد ابن
أيها م بن مقصر بن ناحث بن زارح بن سمى بن مزى بن عوضة بن عرا م بن قيدار ابن إسماعيل بن إيراهي م عليهما السل م.
الجزء الثالث :ما فوق إبراهي م عليه السل م ،وهو ابن تاَرح ـ واسمه آزر ـ بن ناحور بن ساروع ـ أو ساروغ ـ بن َراُع وـ بن َفاَلخ بن عابر بن َش اـَلخ بن أْر فَـْخ َش ـدـبن سا م بن نوح عليه السل م بن لمك بن َم تـوَش لـَخ بن أَْخ ُنــوخ ـ يقال :هو إدريس النبي عليه السل م ـ بن َيْر د ـبن َم ْهـلئيل بن قينان بن أُنوش بن ِش يــث بن آد م ـ عليهما السل م.
السر ة النبوية تعرف أسرته صلى ال عليه وسل م بالسر ة الهاشمية ـ نسبة إلى جده هاش م بن عبد مناف ـ إواذن فلنذكر شيًئا من أحوال هاش م ومن بعده : 1ـ هاش م : قد أسلفنا أن هاشًم اـ هو الذي تولى السقاية والرفاد ة من بني عبد مناف حين تصالح بنو عبد مناف وبنو عبد الدار على اقتسا م المناصب فيما بينهما ،وكان هاش م موسًرا ذا شرف كبير ،وهو أول من أطع م الثريد للحجاج بمكة ،وكان
اسمه عمرو فما سمى هاشًم اـ إل لهشمه الخبز ،وهو أول من سن الرحلتين لقريش ،رحلة الشتاء والصيف ،وفيه يقول الشاعر : عمرو الذي َهَش مـ الثريَد لقومه ** َقوٍ م بمكة م ِسـنـِتين ِع ج ـاـ ِ ف َ ُْ َ ت إليه الرحلتان كلهما ** َس فَـُر الشتاء ورحلة الصياف ُس ّنـ ْ
ومن حديثه أنه خرج إلى الشا م تاجًرا ،فلما قد م المدينة تزوج سلمى بنت عمرو أحد بني عدى بن النجار وأقا م عندها، ث م خرج إلى الشا م ـ وهي عند أهلها قد حملت بعبد المطلب ـ فمات هاش م بغز ة من أرض فلسطين ،وولدت امرأته سلمى عبد المطلب سنة 497م ،وسمته شيبة؛ لشيبة كانت في رأسه ،وجعلت تربيه في بيت أبيها في يثرب ،ول م يشعر به أحد من أسرتـه بمكـة ،وكان لهاش م أربعة بنين وه م :أسد وأبو صيفي ونضلة وعبد المطلب .وخمس بنات وهن :الشفاء ،وخالد ة ،وضعيفة ،ورقية ،وجنة. 2ـ عبـد المطلب : قد علمنا مما سبق أن السقاية والرفاد ة بعد هاش م صارت إلى أخيه المطلب بن عبد مناف ]وكان شريًفا مطاًع اـ ذا فضل في قومه ،كانت قريش تسميه الفياض لسخائه[ لما صار شيبة ـ عبد المطلب ـ وصيًفا أو فوق ذلك ابن سبع
سنين أو ثماني سنين سمع به المطلب .فرحل في طلبه ،فلما رآه فاضت عيناه ،وضمه ،وأردفه على راحلته فامتنع
حتى تأذن له أمه ،فسألها المطلب أن ترسله معه ،فامتنعت ،فقال :إنما يمضى إلى ملك أبيه إوالى حر م ال فأذنت له ،فقد م به مكة مردفه على بعيره ،فقال الناس :هذا عبد المطلب ،فقال :ويحك م ،إنما هو ابن أخى هاش م ،فأقا م عنده
حتى ترعرع ،ث م إن المطلب هلك بـ ]دمان[ من أرض اليمن ،فولى بعده عبد المطلب ،فأقا م لقومه ما كان آباؤه يقيمون لقومه م،وشرف في قومه شرًفا ل م يبلغه أحد من آبائه ،وأحبه قومه وعظ م خطره فيه م. ولما مات المطلب وثب نوفل على أركاح بد المطلب فغصبه إياها ،فسأل رجاًل من قريش النصر ة على عمه ،فقالوا:
ل ندخل بينك وبين عمك ،فكتب إلى أخواله من بني النجار أبياًتا يستنجده م ،فسار خاله أبو سعد بن عدى في ثمانين راكًبا ،حتى نزل بالبطح من مكة ،فتلقاه عبد المطلب ،فقال :المنزل يا خال ،فقال :ل وال حتى ألقى نوفًل ،ـ ـ ث م أقبل فوقف على نوفل ،وهو جالس في الحجر مع مشايخ قريش ،فسل أبو سعد سيفه وقال :ورب البيت ،لئن ل م
ترد على ابن أختى أركاحه لمكنن منك هذا السيف ،فقال :رددتها عليه ،فأشهد عليه مشايخ قريش ،ث م نزل على عبد المطلب ،فأقا م عنده ثلًثا ،ث م اعتمر ورجع إلى المدينة .فلما جرى ذلك حالف نوفل بني عبد شمس بن عبد مناف
على بني هاش م .ولما رأت خزاعة نصر بني النجار لعبد المطلب قالوا :نحن ولدناه كما ولدتموه ،فنحن أحق بنصره ـ
وذلك أن أ م عبد مناف منه م ـ فدخلوا دار الندو ة وحالفوا بني هاش م على بني عبد شمس ونوفل ،وهذا الحلف هو الذي صار سبًبا لفتح مكة كما سيأتى. ومن أه م ما وقع لعبد المطلب من أمور البيت شيئان: حفر بئر زمز م ووقعة الفيل وخلصة الول :أنه أمر في المنا م بحفر زمز م ووصف له موضعها ،فقا م يحفر ،فوجد فيه الشياء التي دفنها الجراهمة حين لجأوا إلى الجلء ،أي السيوف والدروع والغزالين من الذهب ،فضرب السياف باًبا للكعبة ،وضرب في الباب الغزالين صفائح من ذهب ،وأقا م سقاية زمز م للحجاج. ولما بدت بئر زمز م نازعت قريش عبد المطلب ،وقالوا له :أشركنا.قال :ما أنا بفاعل ،هذا أمر خصصت به ،فل م يتركوه حتى خرجوا به للمحاكمة إلى كاهنة بني سعد ُهَذ ْيـ مـ ،وكانت بأشراف الشا م ،فلما كانوا في الطريق ،ونفد الماء سقى ال عبد المطلب مطًرا ،م ينزل عليه م قطر ة ،فعرفوا تخصيص عبد المطلب بزمز م ورجعـوا ،وحينئذ نذر عبد المطلب لئن آتاه ال عشر ة أبناء ،وبلغوا أن يمنعوه لينحرن أحده م عند الكعبة. وخلصة الثانى :أن أبرهة بن الصباح الحبشى ،النائب العا م عن النجاشى على اليمن ،لما رأي العرب يحجون الكعبة بني كنيسة كبير ة بصنعاء ،وأراد أن يصرف حج العرب إليها ،وسمع بذلك رجل من بني كنانة ،فدخلها ليًل
فلطخ قبلتها بالعذر ة .ولما عل م أبرهة بذلك ثار غيظه ،وسار بجيش عرمر م ـ عدده ستون ألف جندى ـ إلى الكعبة
ليهدمها ،واختار لنفسه فيل من أكبر الفيلة ،وكان في الجيش 9فيلة أو 13فيل ،وواصل سيره حتى بلغ الُم َغـّم سـ،
وهناك عبأ جيشه وهيأ فيله ،وتهيأ لدخول مكة ،فلما كان في وادى ُم َحـ ّسـرـ بين المزدلفة ومنى برك الفيل ،ول م يق م
ليقد م إلى الكعبة ،وكانوا كلما وجهوه إلى الجنوب أو الشمال أو الشرق يقو م يهرول ،إواذا صرفوه إلى الكعبة برك، فبيناه م كذلك إذ أرسل ال عليه م طيًرا أبابيل ،ترميه م بحجار ة من سجيل ،فجعله م كعصف مأكول .وكانت الطير
أمثال الخطاطيف والبلسان ،مع كل طائر ثلثة أحجار؛ حجر في منقاره ،وحجران في رجليه أمثال الحمص ،ل
تصيب منه م أحًد اـ إل صارت تتقطع أعضاؤه وهلك ،وليس كله م أصابت ،وخرجوا هاربين يموج بعضه م في بعض، فتساقطوا بكل طريق وهلكوا على كل منهل ،وأما أبرهة فبعث ال عليه داء تساقطت بسببه أنامله ،ول م يصل إلى صنعاء إل وهو مثل الفرخ ،وانصدع صدره عن قلبه ث م هلك. وأما قريش فكانوا قد تفرقوا في الشعاب ،وتحرزوا في رءوس الجبال خوًفا على أنفسه م من معر ة الجيش ،فلما نزل بالجيش ما نزل رجعوا إلى بيوته م آمنين. وكانت هذه الوقعة في شهر المحر م قبل مولد النبي صلى ال عليه وسل م بخمسين يوًم اـ أو بخمسة وخمسين يوًم اـ ـ عند الكثر ـ وهو يطابق أواخر فبراير أو أوائل مارس سنة 571م ،وكانت تقدمة قدمها ال لنبيه وبيته؛ لّنا حين
ننظر إلى بيت المقدس نرى أن المشركين من أعداء ال استولوا على هذه القبلة مرتين بينما كان أهلها مسلمين ،كما
ص ر ـسنة 587ق .م ،والرومان سنة 70م ،ولكن ل م يت م استيلء نصارى الحبشة على الكعبة وه م وقع لُبْخ تُـَن ّ المسلمون إذ ذاك ،وأهل الكعبة كانوا مشركين.
وقد وقعت هذه الوقعة في الظروف التي يبلغ نبؤها إلى معظ م المعمور ة المتحضر ة إذ ذاك .فالحبشة كانت لها صلة قوية بالرومان ،والفرس ل يزالون له م بالمرصاد ،يترقبون ما نزل بالرومان وحلفائه م؛ ولذلك سرعان ما جاءت الفرس إلى اليمن بعد هذه الوقعة ،وهاتان الدولتان كانتا تمثلن العال م المتحضر في ذلك الوقت .فهذه الوقعة لفتت أنظار العال م ودلته على شرف بيت ال ،وأنه هو الذي اصطفاه ال للتقديس ،فإذن لو قا م أحد من أهله بدعوى النبو ة كان ذلك هو عين ما تقتضيه هذه الوقعة ،وكان تفسيًرا للحكمة الخفية التي كانت في نصر ة ال للمشركين ضد أهل اليمان بطريق يفوق عال م السباب. وكان لعبد المطلب عشر ة بنين ،وه م :الحارث ،والزبير ،وأبو طالب ،وعبد ال ،وحمز ة ،وأبو لهب ،والَغْي َدـاـق، والم َقـّو مــ ،و ِ ض َرــار،والعباس .وقيل :كانوا أحد عشر ،فزادوا ولًد اـ اسمه :قَُث م ،وقيل :كانوا ثلثة عشر ،فزادوا :عبد ُ وقيل :إن عبد الكعبة هو المقو م ،وحجل هو الغيداق ،ول م يكن من أولده رجل اسمه قث م ،وأما البنات الكعبة وَح ْجـًل ـ ،ـ ـ فست وهن :أ م الحكي م ـ وهي البيضاء ـ وَبّر ة ،وعاتكة ،وصفية ،وأْر َو ــى،وأميمة. 3ـ عبد ال والد رسول ال صلى ال عليه وسل م: ظة بـن مـر ة ،وكـان عبد ال أحسن أولد عبد المطلب أمـه فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزو م بن َيقَ َ
وأعفه م وأحبه م إليه ،وهو الذبيح؛ وذلك أن عبد المطلب لمـا ت م أبناؤه عشر ة ،وعرف أنه م يمنعونه أخبره م بنذره
فأطاعوه ،فقيل :إنه أقـرع بينه م أيه م ينـحـر ؟ فطـارت القرعــة على عـبد ال ،وكــان أحـب النـاس إليه.فقال:ال م هو أو مائة من البل.ث م أقرع بينه وبين البل فطارت القرعة على المائة من البل ،وقيل:إنه كتب أسماءه م في القداح،وأعطاها قي م هبل ،فضرب القداح فخرج القدح على عبد ال ،فأخذه عبد المطلب ،وأخذ الشفر ة،ث م أقبل به إلى الكعبة ليذبحه،فمنعته قريش،ولسيما أخواله من بني مخزو م وأخوه أبو طالب .فقال عبد المطلب :فكيف أصنع بنذري؟ فأشاروا عليه أن يأتى عرافة فيستأمرها ،فأتاها ،فأمرت أن يضرب القداح على عبد ال وعلى عشر من البل،
فإن خرجت على عبد ال يزيد عشًرا من البل حتى يرضى ربه ،فإن خرجت على البل نحرها ،فرجع وأقرع بين عبد ال وبين عشر من البل ،فوقعت القرعة على عبد ال ،فل م يزل يزيد من البل عشًرا عشًرا ول تقع القرعة إل عليه إلى أن بلغت البل مائة فوقعت القرعة عليها ،فنحرت ث م تركت ،ل يرد عنها إنسان ول سبع ،وكانت الدية في قريش
وفي العرب عشًرا من البل ،فجرت بعد هذه الوقعة مائة من البل ،وأقرها السل م ،وروى عن النبي صلى ال عليه وسل م أنه قال] :أنا ابن الذبيحين[ يعنى إسماعيل ،وأباه عبد ال . واختار عبد المطلب لولده عبد ال آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهر ة بن كلب ،وهي يومئذ تعد أفضل امرأ ة في قريش نسًبا وموضًعاـ ،وأبوها سيد بني زهر ة نسًبا وشرًفا ،فزوجه بها ،فبني بها عبد ال في مكة ،وبعد قليل أرسله عبد المطلب إلى المدينة يمتار له م تمًرا ،فمات بها ،وقيل :بل خرج تاجًرا إلى الشا م ،فأقبل في عير قريش ،فنزل بالمدينة
وهو مريض فتوفي بها ،ودفن في دار النابغة الجعدى ،وله إذ ذاك خمس وعشرون سنة ،وكانت وفاته قبل أن يولد رسول ال صلى ال عليه وسل م ،وبه يقول أكثر المؤرخين ،وقيل :بل توفي بعد مولده بشهرين أو أكثر .ولما بلغ نعيه إلى مكة رثته آمنة بأروع المراثى ،قالت : ب البطحاِء من ابن هاش م ** وجاور لَْح ًد ـاـ خارجًـا في الَغـَم اـِغ ـ ــ م َع فَـا جان ُ ت في الناس مثل ابن هاشـ م َد َعـتْــه المنــايا دع ـو ة فأجـابـ ـهـا ** وما ترك ْ عشيـة ارحـوا يحملــون سريـره ** تََعاَو َرـهُأصـحـابــه في الت ازحـ ــ م فإن تـك غـالتـه المنـايا وَر ْيـَبـه ــا** فقـد كـان ِم ْعـطــاًء كـثير التراح م
وجميع ما خلفه عبد ال خمسة أجمال ،وقطعة غن م ،وجارية حبشية اسمها بركة وكنيتها أ م أيمن ،وهي حاضنـة رسول ال صلى ال عليه وسل م.
المولد وأربعون عاًم اـ قبل النبو ة المول ــد ولـد سيـد المرسلـين صلى ال عليه وسل م بشـعب بني هاشـ م بمكـة في صبيحـة ي ـو م الثنين التاسع مـن شـهر ربيـع الول ،لول عـا م مـن حادثـة الفيـل ،ولربعـين سنة خلت من ملك كسرى أنوشروان ،ويوافق ذلك عشرين أو اثنين وعشرين من شهر أبريل سنة 571م حسبما حققه العال م الكبير محمد سليمان ـ المنصورفورى ـ رحمه ال . وروى ابــن سعــد أن أ م رســول ال صلى ال عليه وسل م قالــت :لمــا ولـدتــه خــرج مــن فرجـى نــور أضــاءت لـه قصـور الشا م .وروى أحمد والدارمى وغيرهمـا قريبًـا مـن ذلك.
وقد روى أن إرهاصات بالبعثة وقعت عند الميلد ،فسقطت أربع عشر ة شرفة من إيوان كسرى ،وخمدت النار التي يعبدها المجوس ،وانهدمت الكنائس حول بحير ة ساو ة بعد أن غاضت ،روى ذلك الطبرى والبيهقى وغيرهما .وليس له إسناد ثابت ،ول م يشهد له تاريخ تلك الم م مع قو ة دواعى التسجيل. ولما ولدته أمه أرسلت إلى جده عبد المطلب تبشره بحفيده،فجاء مستبشًرا ودخل به الكعبة ،ودعا ال وشكر له. واختار له اس م محمد ـ وهذا الس م ل م يكن معروًفا في العرب ـ وَخ تَـَنهـ يو م سابعه كما كان العرب يفعلون. وأول من أرضعته من المراضع ـ وذلك بعد أمه صلى ال عليه وسل م بأسبوع ـ ثَُو ْي ـَبـةـ مول ة أبي لهب بلبن ابن لها يقال لهَ :م ْسـُرـ وـح،وكانت قد أرضعت قبله حمز ة بن عبد المطلب ،وأرضعت بعده أبا سلمة بن عبد السد المخزومي.
في بني سعد وكانت العاد ة عند الحاضرين من العرب أن يلتمسوا المراضع لولده م ابتعاًد اـ له م عن أمراض الحواضر؛ ولتقوى أجسامه م ،وتشتد أعصابه م ،ويتقنوا اللسان العربى في مهده م ،فالتمس عبد المطلب لرسول ال صلى ال عليه وسل م المراضع ،واسترضع له امرأ ة من بني سعد بن بكر ،وهي حليمة بنت أبي ذؤيب عبد ال بن الحارث ،وزوجها الحارث ابن عبد العزى المكنى بأبي كبشة من نفس القبيلة. إواخوته صلى ال عليه وسل م هناك من الرضاعة :عبد ال بن الحارث ،وأنيسة بنت الحارث ،وحذافة أو جذامة بنت الحارث ]وهي الشيماء؛ لقب غلب على اسمها[ وكانت تحضن رسول ال صلى ال عليه وسل م ،وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن ع م رسول ال صلى ال عليه وسل م وكان عمه حمز ة بن عبد المطلب مسترضًعاـ في بني سعد بن بكر ،فأرضعت أمه رسول ال صلى ال عليه وسل م يوًم اـ وهو عند أمه حليمة،فكان حمز ة رضيع رسول ال
صلى ال عليه وسل م من جهتين ،من جهة ثويبة ومن جهة السعدية.
ورأت حليمة من بركته صلى ال عليه وسل م ما قضت منه العجب ،ولنتركها تروى ذلك مفصًل : قال ابن إسحاق :كانت حليمة تحدث :أنها خرجت من بلدها مع زوجها وابن لها صغير ترضعه في نسو ة من بني سعد بن بكر ،تلتمس الرضعاء .قالت :وذلك في سنة شهباء ل م تبق لنا شيًئا ،قالت :فخرجت على أتان لى قمراء،
ض ُبقطر ة ،وما ننا م ليلنا أجمع من صبينا الذي معنا ،من بكائه من الجوع ،ما في ثديى ومعنا شارف لنا ،وال ما تَبِ ّ
تـ بالركب حتى ما يغنيه ،وما في شارفنا ما يغذيه ،ولكن كنا نرجو الغيث والفرج ،فخرجت على أتانى تلك ،فلقد أَذ ّمـ ْ شق ذلك عليه م ،ضعًفا وعجًفا ،حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء ،فما منا امرأ ة إل وقد عرض عليها رسول ال صلى
ال عليه وسل م فتأباه ،إذا قيل لها :إنه يتي م ،وذلك أنا كنا نرجو المعروف من أبي الصبي ،فكنا نقول :يتي م! وما عسى أن تصنع أمه وجده ،فكنا نكرهه لذلك ،فما بقيت امرأ ة قدمت معي إل أخذت رضيًعاـ غيرى ،فلما أجمعنا النطلق
قلت لصاحبى :وال ،إنى لكره أن أرجع من بين صواحبى ول م آخذ رضيًعا ،وال لذهبن إلى ذلك اليتي م فلخذنه.
قال :ل عليك أن تفعلى ،عسى ال أن يجعل لنا فيه بركة .قالت :فذهبت إليه وأخذته،وما حملنى على أخذه إل أنى ل م أجد غيره ،قالت :فلما أخذته رجعت به إلى رحلى ،فلما وضعته في حجرى أقبل عليه ثديأي بما شاء من لبن،
فشرب حتى روى ،وشرب معه أخوه حتى روى ،ث م ناما ،وما كنا ننا م معه قبل ذلك ،وقا م زوجي إلى شارفنا تلك ،فإذا هي حافل ،فحلب منها ما شرب وشربت معه حتى انتهينا ريا وشبعا ،فبتنا بخير ليلة ،قالت :يقول صاحبى حين أصبحنا :تعلمي وال يا حليمة ،لقد أخذت نسمة مباركة ،قالت :فقلت :وال إنى لرجو ذلك .قالت :ث م خرجنا وركبت أنا أتانى ،وحملته عليها معى ،فوال لقطعت بالركب ما ل يقدر عليه شىء من حمره م ،حتى إن صواحبى ليقلن لى:
يا ابنة أبي ذؤيب ،ويحك! أْر بِــعى علينا ،أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها؟ فأقول لهن :بلى وال ،إنها لهي
ض ا ـ من أرض ال أجدب منها، هي ،فيقلن :وال إن لها شأًنا ،قالت :ث م قدمنا منازلنا من بلد بني سعد ،وما أعل م أر ً فكانت غنمى تروح علّى حين قدمنا به معنا شباًع اـ لُّبنًـا ،فنحلب ونشرب ،وما يحلب إنسان قطر ة لبن ،ول يجدها في
ضرع ،حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانه م :ويلك م ،اسرحوا حيث يسرح راعى بنت أبي ذؤيب ،فتروح
أغنامه م جياًع اـ ما تبض بقطر ة لبن ،وتروح غنمى شباًع اـ لبًنا .فل م نزل نتعرف من ال الزياد ة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته ،وكان يشب شباًبا ل يشبه الغلمان ،فل م يبلغ سنتيه حتى كان غلًم اـ جفًرا .قالت :فقدمنا به على أمه
ونحن أحرص على مكثه فينا ،لما كنا نرى من بركته ،فكلمنا أمه ،وقلت لها :لو تركت ابني عندي حتى يغلظ ،فإني أخشى عليه وباء مكة ،قالت :فل م نزل بها حتى ردته معنا. شق الصدر وهكذا رجع رسول ال صلى ال عليه وسل م إلى بني سعد ،حتى إذا كان بعده بأشهر على قول ابن إسحاق ،وفي السنة الرابعة من مولده على قول المحققين وقع حادث شق صدره ،روى مسل م عن أنس :أن رسول ال صلى ال عليه وسل م أتاه جبريل ،وهو يلعب مع الغلمان ،فأخذه فصرعه ،فشق عن قلبه ،فاستخرج القلب ،فاستخرج منه علقة، طْس تـ من ذهب بماء زمز م ،ث م لََم هـ ـ أي جمعه وض م بعضه إلى بعض ـ فقال :هذا حظ الشيطان منك ،ث م غسله في َ ث م أعاده في مكانه ،وجاء الغلمان يسعون إلى أمه ـ يعنى ظئره ـ فقالوا :إن محمًد اـ قد قتل ،فاستقبلوه وهو ُم ْنـتَـِق عُـ اللون ـ أي متغير اللون ـ قال أنس :وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره. إلى أمه الحنون وخشيت عليه حليمة بعد هذه الوقعة حتى ردته إلى أمه ،فكان عند أمه إلى أن بلغ ست سنين. ورأت آمنة ـ وفاء لذكرى زوجها الراحل ـ أن تزور قبره بيثرب ،فخرجت من مكة قاطعة رحلة تبلغ نحو خمسمائة كيلو متر ومعها ولدها اليتي م ـ محمد صلى ال عليه وسل م ـ وخادمتها أ م أيمن ،وقيمها عبد المطلب ،فمكثت شهًرا ث م قفلت، وبينما هي راجعة إذ لحقها المرض في أوائل الطريق ،ث م اشتد حتى ماتت بالْب َوـاء بين مكة والمدينة. إلى جده العطوف وعاد به عبد المطلب إلى مكة ،وكانت مشاعر الحنو في فؤاده تربو نحو حفيده اليتي م الذي أصيب بمصاب جديد َنَك أـ الجروح القديمةَ ،فَر ّ قـعليه رقة ل م يرقها على أحد من أولده ،فكان ل يدعه لوحدته المفروضة ،بل يؤثره على أولده، قال ابن هشا م :كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة ،فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه،
ل يجلس عليه أحد من بنيه إجلًل له ،فكان رسول ال صلى ال عليه وسل م يأتى وهو غل م جفر حتى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه ،فيقول عبد المطلب إذا رأي ذلك منه م :دعوا ابني هذا ،فوال إن له لشأًنا ،ث م يجلس معه على فراشه ،ويمسح ظهره بيده ،ويسره ما يراه يصنع.
ولثمانى سنوات وشهرين وعشر ة أيا م من عمره صلى ال عليه وسل م توفي جده عبد المطلب بمكة ،ورأي قبل وفاته أن يعهد بكفالة حفيده إلى عمه أبي طالب شقيق أبيه. إلى عمه الشفيق ونهض أبو طالب بحق ابن أخيه على أكمل وجه ،وضمه إلى ولده وقدمه عليه م واختصه بفضل احترا م وتقدير، وظل فوق أربعين سنة يعز جانبه ،ويبسط عليه حمايته ،ويصادق ويخاص م من أجله ،وستأتي نبذ من ذلك في مواضعها. يستسقى الغما م بوجهه طةقال :قدمت مكة وه م في قحط ،فقالت قريش :يا أبا طالب ،أقحط الوادي، أخرج ابن عساكر عن َج ْلـهَُم ةـ بن ُع ْرـ فُـ َ وأجدب العيال ،فهَلُّ م فاستسق ،فخرج أبو طالب ومعه غل م ،كأنه شمس ُد ُجـ ّنــة ،تجلت عنه سحابة قَتَْم اـء ،حوله
أَُغ ْيـلـمة ،فأخذه أبو طالب ،فألصق ظهره بالكعبة،ولذ بأضبعه الغل م ،وما في السماء قََزَع ةـ،فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا وأغدق واْغ َدـْوـ َد ـقـ،وانفجر الوادي ،وأخصب النادي والبادي ،إوالى هذا أشار أبو طالب حين قال: ِ ِ ص ـَم ـةٌـللرامل وأبي َ ض ُيستسقى الَغَم اـ م بوجهه ** ثماُل اليتامى ع ْ َبِح يـَرىـالراهب
ولما بلغ رسول ال صلى ال عليه وسل م اثنتى عشر ة سنة ـ قيل :وشهرين وعشر ة أيا م ـ ارتحل به أبو طالب تاجًرا إلى ص َبــة لُح وـَران،وكانت في ذلك الوقت قصبة للبلد العربية الشا م ،حتى وصل إلى ُب ْ ص َرـىـ وهي معدود ة من الشا م ،وقَ َ التي كانت تحت حك م الرومان .وكان في هذا البلد راهب عرف َببِح يـَرى،واسمه ـ فيما يقال :جرجيس ،فلما نزل الركب خرج إليه م ،وكان ل يخرج إليه م قبل ذلك ،فجعل يتخّلله م حتى جاء فأخذ بيد رسول ال صلى ال عليه وسل م،
وقال :هذا سيد العالمين ،هذا رسول رب العالمين ،هذا يبعثه ال رحمة للعالمين .فقال له ]أبو طالب و[ أشياخ
قريش] :و[ ما علمك ]بذلك[؟ فقال :إنك م حين أشرفت م من العقبة ل م يبق حجر ول شجر إل خر ساجًد اـ ،ول يسجدان
]وانا نجده في كتبنا[ ،ث م أكرمه م بالضيافة، إل لنبى ،إوانى أعرفه بخات م النبو ة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة ،إ وسأل أبا طالب أن يرده ،ول يقد م به إلى الشا م؛ خوًفا عليه من الرو م واليهود ،فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى مكة. حرب الِفَج اــر
وفي السنة العشرين من عمره صلى ال عليه وسل م وقعت في سوق ُع كـاظ حرب بين قريش ـ ومعه م كنانة ـ وبين قَْي سـ َع ْيـلـن ،تعرف بحرب الِفَج اــر وسببها :أن أحد بني كنانة ،واسمه الَبّراض ،اغتال ثلثة رجال من قيس عيلن ،ووصل الخبر إلى عكاظ فثار الطرفان ،وكان قائد قريش وكنانة كلها حرب بن أمية؛ لمكانته فيه م سنا وشرًفا ،وكان الظفر في أول النهار لقيس على كنانة ،حتى إذا كان في وسط النهار كادت الدائر ة تدور على قيس .ث م تداعى بعض قريش إلى الصلح على أن يحصوا قتلى الفريقين ،فمن وجد قتله أكثر أخذ دية الزائد .فاصطلحوا على ذلك ،ووضعوا الحرب ،وهدموا ما كان بينه م من العداو ة والشر .وسميت بحرب الفجار؛ لنتهاك حرمة الشهر الحرا م فيها ،وقد حضر هذه الحرب رسول ال صلى ال عليه وسل م ،وكان ينبل على عمومته؛ أي يجهز له م النبل للرمي. حلف الفضول وعلى أثر هذه الحرب وقع حلف الفضول في ذى القعد ة في شهر حرا م تداعت إليه قبائل من قريش :بنو هاش م ،وبنو المطلب،وأسد بن عبد العزى ،وزهر ة بن كلب ،وتي م بن مر ة ،فاجتمعوا في دار عبد ال بن ُج ْدـعـان التيمى؛ لسّنه
وشرفه ،فتعاقدوا وتعاهدوا على أل يجدوا بمكة مظلوًم اـ من أهلها وغيره م من سائر الناس إل قاموا معه ،وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته ،وشهد هذا الحلف رسول ال صلى ال عليه وسل م .وقال بعد أن أكرمه ال بالرسالة :)لقد شهدت في دار عبد ال بن جدعان حلًفا ما أحب أن لى به حمر النع م ،ولو أدعى به في السل م لجبت(. وهذا الحلف روحه تنافي الحمية الجاهلية التي كانت العصبية تثيرها ،ويقال في سبب هذا الحلف :إن رجًل من ُز َبـْي دـ
قد م مكة ببضاعة ،واشتراها منه العاص بن وائل السهمى ،وحبس عنه حقه ،فاستعدى عليه الحلف عبد الدار ومخزوًم اـ ،وُج َمـًحـا ـوَس ْهـًم اـ وَع ِدـ ّيــا فل م يكترثوا له ،فعل جبل أبي قَُبْي سـ ،ونادى بأشعار يصف فيها ظلمته رافًعاـ صوته، فمشى في ذلك الزبير بن عبد المطلب ،وقال :ما لهذا مترك؟ حتى اجتمع الذين مضى ذكره م في حلف الفضول، فعقدوا الحلف ث م قاموا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه حق الزبيدي. حيا ة الكدح
ول م يكن له صلى ال عليه وسل م عمل معين في أول شبابه ،إل أن الروايات توالت أنه كان يرعى غنًم اـ ،رعاها في بني سعد ،وفي مكة لهلها على ق ارريط ،ويبدو أنه انتقل إلى عمل التجار ة حين شب،فقد ورد أنه كان يتجر مع
السائب بن أبي السائب المخزومي فكان خير شريك له ،ل يدارى ول يمارى ،وجاءه يو م الفتح فرحب به ،وقال: مرحًبا بأخي وشريكي. وفي الخامسة والعشرين من سنه خرج تاجًرا إلى الشا م في مال خديجة رضي ال عنها قال ابن إسحاق :كانت خديجة بنت خويلد امرأ ة تاجر ة ذات شرف ومال ،تستأجر الرجال في مالها ،وتضاربه م إياه بشيء تجعله له م ،وكانت قريش قوًم اـ تجاًرا ،فلما بلغها عن رسول ال صلى ال عليه وسل م ما بلغها من صدق حديثه ،وعظ م أمانته وكر م أخلقه بعثت إليه ،فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشا م تاجًرا ،وتعطيه أفضل ما كانت تعطى غيره من التجار،
مع غل م لها يقال له :ميسر ة ،فقبله رسول ال صلى ال عليه وسل م منها ،وخرج في مالها ذلك ،وخرج معه غلمها ميسر ة حتى قد م الشا م. زواجه بخديجة ولما رجع إلى مكة ،ورأت خديجة في مالها من المانة والبركة ما ل م تر قبل هذا ،وأخبرها غلمها ميسر ة بما رأي فيه صلى ال عليه وسل م من خلل عذبة ،وشمائل كريمة ،وفكر راجح ،ومنطق صادق ،ونهج أمين ،وجدت ضالتها المنشود ة ـ وكان السادات والرؤساء يحرصون على زواجها فتأبي عليه م ذلك ـ فتحدثت بما في نفسها إلى صديقتها نفيسة بنت منبه ،وهذه ذهبت إليه صلى ال عليه وسل م تفاتحه أن يتزوج خديجة ،فرضى بذلك ،وكل م أعمامه ،فذهبوا إلى ع م خديجة وخطبوها إليه ،وعلى إثر ذلك ت م الزواج ،وحضر العقد بنو هاش م ورؤساء مضر ،وذلك بعد رجوعه من الشا م بشهرين ،وأصدقها عشرين َبْك ر ةـ .وكانت سنها إذ ذاك أربعين سنة ،وكانت يومئذ أفضل نساء قومها نسًبا وثرو ة وعقًل ،ـ ـوهي أول امرأ ة تزوجها رسول ال صلى ال عليه وسل م ،ول م يتزوج عليها غيرها حتى ماتت. وكل أولده صلى ال عليه وسل م منها سوى إبراهي م،ولدت له :أوًل القاس م ـ وبه كان يكنى ـ ث م زينب ،ورقية ،وأ م كلثو م، وفاطمة ،وعبد ال .وكان عبد ال يلقب بالطيب والطاهر ،ومات بنوه كله م في صغره م ،أما البنات فكلهن أدركن
السل م فأسلمن وهاجرن،إل أنهن أدركتهن الوفا ة في حياته صلى ال عليه وسل م سوى فاطمة رضي ال عنها ،فقد تأخرت بعده ستة أشهر ث م لحقت به. بناء الكعبة وقضية التحكي م ضـ ًم ـاـفوق ولخمس وثلثين سنة من مولده صلى ال عليه وسل م قامت قريش ببناء الكعبة؛ وذلك لن الكعبة كانت َر ْ
القامة ،ارتفاعها تسعة أذرع من عهد إسماعيل عليه السل م ،ول م يكن لها سقف ،فسرق نفر من اللصوص كنزها الذي
كان في جوفها ،وكانت مع ذلك قد تعرضت ـ باعتبارها أثًرا قديما ـ للعوادى التي أدهت بنيانها ،وصدعت جدرانها، وقبل بعثته صلى ال عليه وسل م بخمس سنين جرف مكة سيل عر م انحدر إلى البيت الحرا م ،فأوشكت الكعبة منه ص ا ـ على مكانتها ،واتفقوا على أل يدخلوا في بنائها إل طيًبا ،فل على النهيار ،فاضطرت قريش إلى تجديد بنائها حر ً يدخلون فيها مهر بغى ول بيع رًبا ول مظلمة أحد من الناس ،وكانوا يهابون هدمها ،فابتدأ بها الوليد بن المغير ة المخزومى ،فأخذ المعول وقال :ال م ل نريد إل الخير ،ث م هد م ناحية الركنين ،ولما ل م يصبه شيء تبعه الناس في
الهد م في اليو م الثاني ،ول م يزالوا في الهد م حتى وصلوا إلى قواعد إبراهي م ،ث م أرادوا الخذ في البناء فج أزوا الكعبة، وخصصوا لكل قبيلة جزًءا منها .فجمعت كل قبيلة حجار ة على حد ة ،وأخذوا يبنونها ،وتولى البناء بناء رومي اسمه: باقو م .ولما بلغ البنيان موضع الحجر السود اختلفوا فيمن يمتاز بشرف وضعه في مكانه ،واستمر النزاع أربع ليال أو خمًس اـ ،واشتد حتى كاد يتحول إلى حرب ضروس في أرض الحر م ،إل أن أبا أمية بن المغير ة المخزومى عرض عليه م أن يحكموا فيما شجر بينه م أول داخل عليه م من باب المسجد فارتضوه ،وشاء ال أن يكون ذلك رسول ال
صلى ال عليه وسل م ،فلما رأوه هتفوا :هذا المين ،رضيناه ،هذا محمد ،فلما انتهى إليه م ،وأخبروه الخبر طلب رداء
فوضع الحجر وسطه وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميًعاـ بأطراف الرداء ،وأمره م أن يرفعوه ،حتى إذا أوصلوه إلى موضعه أخذه بيده فوضعه في مكانه ،وهذا حل حصيف رضى به القو م.
وقصرت بقريش النفقة الطيبة فأخرجوا من الجهة الشمالية نحوا من ستة أذرع ،وهي التي تسمى بالحجر والحطي م، ورفعوا بابها من الرض؛ لئل يدخلها إل من أرادوا ،ولما بلغ البناء خمسة عشر ذ ارًع اـ سقفوه على ستة أعمد ة. وصارت الكعبة بعد انتهائها ذات شكل مربع تقريًبا ،يبلغ ارتفاعه 15متًرا ،وطول ضلعه الذي فيه الحجر السود والمقابل له 10أمتار ،والحجر موضوع على ارتفاع 50.1متر من أرضية المطاف .والضلع الذي فيه الباب والمقابل له 12متًرا ،وبابها على ارتفاع مترين من الرض ،ويحيط بها من الخارج قصبة من البناء أسفلها ،متوسط ارتفاعها 25.0متًرا ومتوسط عرضها 30.0متًرا وتسمى بالشاذروان ،وهي من أصل البيت لكن قريًش اـ تركتها.
السير ة الجمالية قبل النبو ة كان النبي صلى ال عليه وسل م قد جمع في نشأته خير ما في طبقات الناس من ميزات ،وكان ط ارًزا رفيًعاـ من الفكر ظا وافًرا من حسن الفطنة وأصالة الفكر ة وسداد الوسيلة والهدف ،وكان يستعين الصائب ،والنظر السديد ،ونال ح ً بصمته الطويل على طول التأمل إوادمان الفكر ة واستكناه الحق ،وطالع بعقله الخصب وفطرته الصافية صحائف الحيا ة وشئون الناس وأحوال الجماعات ،فعاف ما سواها من خرافة ،ونأي عنها ،ث م عاشر الناس على بصير ة من
أمره وأمره م ،فما وجد حسًنا شارك فيه إوال عاد إلى عزلته العتيد ة ،فكان ل يشرب الخمر ،ول يأكل مما ذبح على النصب ،ول يحضر للوثان عيًد اـ ول احتفاًل ،ـ ـبل كان من أول نشأته ناف ار من هذه المعبودات الباطلة ،حتى ل م يكن شيء أبغض إليه منها ،وحتى كان ل يصبر على سماع الحلف باللت والعزى.
ول شك أن القدر حاطه بالحفظ ،فعندما تتحرك نوازع النفس لستطلع بعض متع الدنيا ،وعندما يرضى باتباع بعض التقاليد غير المحمود ة ـ تتدخل العناية الربانية للحيلولة بينه وبينها ،قال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون غير مرتين ،كل ذلك يحول ال بيني وبينه ،ث م ما هممت به حتى أكرمنى برسالته ،قلت ليلة للغل م الذي يرعى معي الغن م بأعلى مكة :لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة وأسمر بها كما يسمر الشباب ،فقال :أفعل ،فخرجت حتى إذا كنت عند أول دار بمكة سمعت عزًفا ،فقلت :ما هذا؟ فقالوا :عرس فلن بفلنة ،فجلست أسمع ،فضرب ال على أذنـى فنمت ،فما أيقظني إل حر الشمس .فعدت إلى صاحبي فسألني، فأخبرته ،ث م قلت ليلة أخرى مثل ذلك ،ودخلت بمكة فأصابني مثل أول ليلة ...ث م ما هممت بسوء(. وروى البخاري عن جابر بن عبد ال قال :لما بنيت الكعبة ذهب النبي صلى ال عليه وسل م وعباس ينقلن الحجار ة، فقال عباس للنبي صلى ال عليه وسل م :اجعل إزارك على رقبتك يقيقك من الحجار ة ،فخر إلى الرض وطمحت عيناه إلى السماء ث م أفاق ،فقال :) إزاري ،إزاري( فشد عليه إ ازره .وفي رواية :فما رؤيت له عور ة بعد ذلك.
وكان النبي صلى ال عليه وسل م يمتاز في قومه بخلل عذبة وأخلق فاضلة ،وشمائل كريمة ،فكان أفضل قومه
مروء ة ،وأحسنه م خلًقا ،وأعزه م جواًرا ،وأعظمه م حلًم اـ ،وأصدقه م حديًثا ،وألينه م َع ِرـيـكة،وأعفه م نفًس اـ وأكرمه م خيًرا، وأبره م عمًل ،ـ ـوأوفاه م عهًد اـ ،وآمنه م أمانة حتى سماه قومه] :المين[ لما جمع فيه من الحوال الصالحة والخصال
المرضية ،وكان كما قالت أ م المؤمنين خديجة رضي ال عنها يحمل الكل ،ويكسب المعدو م ،ويقرى الضيف ،ويعين
على نوائب الحق.
حيا ة النبـو ة و الرسـالة والدعـو ة النبــوة والدعــوة -العهـد المكـي في ظلل النبوة والرسالة المرحلة الولى :من جهاد الدعوة إلي ا
النب ـو ة والدع ـو ة -العهـد المكـي تنقس م حيا ة رسول ال صلى ال عليه وسل م بعد أن شرفه ال بالنبو ة والرسالة إلى عهدين يمتاز أحدهما عن الخـر تمـا م المتياز ،وهما: 1ـ العهد المكي ،ثلث عشر ة سنة تقريًبا. 2ـ العهد المدني ،عشر سنوات كاملة. ث م يشتمل كل من العهدين على عد ة مراحل ،لكل مرحلة منها خصائص تمتاز بها عن غيرها ،يظهر ذلك جلًيا بعد النظر الدقيق في الظروف التي مرت بها الدعو ة خلل العهدين. ويمكن تقسي م العهد المكي إلى ثلث مراحل: 1ـ مرحلة الدعو ة السرية ،ثلث سنوات. 2ـ مرحلة إعلن الدعو ة في أهل مكة ،من بداية السنة الرابعة من النبو ة إلى هجرته صلى ال عليه وسل م إلى المدينة. 3ـ مرحلة الدعو ة خارج مكة وفشوها فيه م ،من أواخر السنة العاشر ة من النبو ة .وقد شملت العهد المدني وامتدت إلى آخر حياته صلى ال عليه وسل م. أما مراحل العهد المدني فسيجيء تفصيلها في موضعه.
في ظلل النبو ة والرسالة في غار حراء لما تقاربت سنه صلى ال عليه وسل م الربعين ،وكانت تأملته الماضية قد وسعت الشقة العقلية بينه وبين قومه،
حبب إليه الخلء ،فكان يأخذ الّس ِوـ يــق والماء ،ويذهب إلى غار حراء في جبل النور على مبعد ة نحو ميلين من مكة ـ
وهو غار لطيف طوله أربعة أذرع ،وعرضه ذراع وثلثة أرباع ذراع من ذراع الحديد ـ فيقي م فيه شهر رمضان، ويقضي وقته في العباد ة والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون وفيما وراءها من قدر ة مبدعة ،وهو غير مطمئن لما عليه قومه من عقائد الشرك المهلهلة وتصوراتها الواهية ،ولكن ليس بين يديه طريق واضح ،ول منهج محدد ،ول طريق قاصد يطمئن إليه ويرضاه. ض ّجـة ـ وكان اختياره صلى ال عليه وسل م لهذه العزلة طرًفا من تدبير ال له ،وليكون انقطاعه عن شواغل الرض و َ الحيا ة وهمو م الناس الصغير ة التي تشغل الحيا ة نقطة تحول لستعداده لما ينتظره من المر العظي م ،فيستعد لحمل المانة الكبرى وتغيير وجه الرض ،وتعديل خط التاريخ ...دبر ال له هذه العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلث سنوات، ينطلق في هذه العزلة شهًرا من الزمان ،مع روح الوجود الطليقة ،ويتدبر ما وراء الوجود من غيب مكنون ،حتى يحين موعد التعامل مع هذا الغيب عندما يأذن ال . جبريل ينزل بالوحي ولما تكامل له أربعون سنة ـ وهي رأس الكمال ،وقيل :ولها تبعث الرسل ـ بدأت طلئع النبو ة تلوح وتلمع ،فمن ذلك أن حجًرا بمكة كان يسل م عليه ،ومنها أنه كان يرى الرؤيا الصادقة؛ فكان ل يرى رؤيا إل جاءت مثل فلق الصبح ،حتى مضت على ذلك ستة أشهر ـ ومد ة النبو ة ثلث وعشرون سنة ،فهذه الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزًءا من النبو ة ـ فلما كان رمضان من السنة الثالثة من عزلته صلى ال عليه وسل م بحراء شاء ال أن يفيض من رحمته على أهل الرض ،فأكرمه بالنبو ة ،وأنزل إليه جبريل بآيات من القرآن. وبعد النظر والتأمل في القرائن والدلئل يمكن لنا أن نحدد ذلك اليو م بأنه كان يو م الثنين لحدى وعشرين مضت من شهر رمضان ليًل ،ـ ـوقد وافق 10أغسطس سنة 610م ،وكان عمره صلى ال عليه وسل م إذ ذاك بالضبط أربعين سنة قمرية ،وستة أشهر ،و 12يوًم اـ ،وذلك نحو 39سنة شمسية وثلثة أشهر وعشرين يوًم اـ.
ولنستمع إلى عائشة الصديقة رضي ال عنها تروى لنا قصة هذه الوقعة التي كانت نقطة بداية النبو ة ،وأخذت تفتح دياجير ظلمات الكفر والضلل حتى غيرت مجرى الحيا ة ،وعدلت خط التاريخ ،قالت عائشة رضي ال عنها. أول ما بديء به رسول ال صلى ال عليه وسل م من الوحي الرؤيا الصالحة في النو م ،فكان ل يرى رؤيا إل جاءت
ب إليه الخلء ،وكان يخلو بغار حراء ،فَيتََح ّنــث فيه ـ وهو التعبد ـ الليالي ذوات العدد قبل أن مثل َفَلق الصبح ،ث م ُح ّبـ َ ينزع إلى أهله ،ويتزود لذلك ،ث م يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها ،حتى جاءه الحق وهو في غار حراء ،فجاءه الملك فقال :اق أر :قال :)ما أنا بقارئ( ،قال :)فأخذنى فغطنى حتى بلغ منى الجهد ،ث م أرسلنى ،فقال :اقرأ ،قلت :مـا أنـا بقـارئ ،قـال :فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلـغ منـى الجهد ،ث م أرسلني فقال :اقرأ ،فقلت :ما أنا بقارئ ،فأخذني فغطني ق ا ِْل نـَس اـَن ِم ْنـ َع لَـ ٍ ق اْقَرْأ َو َرـّبـَكاْلَْك َرـُ مـ{]العلق ،([3 :1:فرجع ق َخ لَـ َ الثالثة ،ثـ م أرسلـني فـقـال :}اْقَرْأ ِباْس ِ مـ َر ّبـَكـالِّذ ي ـ َخ لَـ َ بها رسول ال صلى ال عليه وسل م يرجف فؤاده ،فدخل على خديجة بنت خويلد فقال :) َزّمـلُـونىزملونى( ،فزملوه حتى ذهب عنه الروع ،فقال لخديجة :)ما لي؟( فأخبرها الخبر ،)لقد خشيت على نفسي( ،فقالت خديجة :كل ،وال ما
يخزيك ال أبًد اـ ،إنك لتصل الرح م ،وتحمل الكل ،وتكسب المعدو م ،وتقرى الضيف ،وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل ابن أسد بن عبد العزى ابن ع م خديجة ـ وكان ام أر تنصر في الجاهلية ،وكان يكتب الكتاب العبرانى ،فيكتب من النجيل بالعبرانية ما شاء ال أن يكتب ،وكان شيًخ ا ـ كبيًرا قد عمي ـ فقالت له خديجة :يابن ع م ،اسمع من ابن أخيك ،فقال له ورقة :يابن أخي ،ماذا ترى؟ فأخبره رسول ال صلى ال عليه وسل م خبر ما رأي ،فقال له ورقة :هذا الناموس الذي نزله ال على موسى ،يا ليتني فيها َج َذـعـا ،ليتنى أكون حًيا إذ يخرجك قومك ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)أو مخرجّي ه م؟( قال:نع م ،ل م يأت رجل قط بمثل ما جئت بـ ورقة أن توفي ،وفََتر الوحى. ىـ ،ـ إوان يدركنى يومك أنصرك نصًرا مؤزًرا ،ث م ل م َيْن َشـ ْ به إل ُع وـِد َ
فَتَْر ة الوحى أما مد ة فتر ة الوحى فاختلفوا فيها على عد ة أقوال .والصحيح أنها كانت أياًم اـ ،وقد روى ابن سعد عن ابن عباس ما يفيد ذلك .وأما ما اشتهر من أنها دامت ثلث سنوات أو سنتين ونصًفا فليس بصحيح. وقد ظهر لى شىء غريب بعد إدار ة النظر في الروايات وفي أقوال أهل العل م .ول م أر من تعرض له منه م ،وهو أن هذه القوال والروايات تفيد أن رسول ال صلى ال عليه وسل م كان يجاور بحراء شهًرا واحًد اـ ،وهو شهر رمضان من كل سنة ،وذلك من ثلث سنوات قبل النبو ة،وأن سنة النبو ة كانت هي آخر تلك السنوات الثلث ،وأنه كان يت م جواره بتما م شهر رمضان ،فكان ينزل بعده من حراء صباًح اـ ـ أي لول يو م من شهر شوال ـ ويعود إلى البيت. وقد ورد التنصيص في رواية الصحيحين على أن الوحى الذي نزل عليه صلى ال عليه وسل م بعد الفتر ة إنما نزل وهو صلى ال عليه وسل م راجع إلى بيته بعد إتما م جواره بتما م الشهر. أقول :فهذا يفيد أن الوحى الذي نزل عليه صلى ال عليه وسل م بعد الفتر ة إنما نزل في أول يو م من شهر شوال بعد نهاية شهر رمضان الذي تشرف فيه بالنبو ة والوحى؛ لنه كان آخر مجاور ة له بحراء ،إواذا ثبت أن أول نزول الوحى كان في ليلة الثنين الحادية عشر ة من شهر رمضان فإن هذا يعنى أن فتر ة الوحى كانت لعشر ة أيا م فقط .وأن الوحى نزل بعدها صبيحة يو م الخميس لول شوال من السنة الولى من النبو ة .ولعل هذا هو السر في تخصيص العشر الواخر من رمضان بالمجاور ة والعتكاف ،وفي تخصيص أول شهر شوال بالعيد السعيد ،وال أعل م. وقد بقى رسول ال صلى ال عليه وسل م في أيا م الفتر ة كئيًبا محزوًنا تعتريه الحير ة والدهشة ،فقد روى البخاري في كتاب التعبير ما نصه: وفتر الوحي فتر ة حزن النبي صلى ال عليه وسل م فيما بلغنا حزًنا عدا منه م ارًرا كى يتردى من رءوس شواهق الجبال ،فكلما أْو فــي بِذ ْرـ َوــ ةـجبل لكى يلقى نفسه منه َتبّد ىـ له جبريل فقال :يا محمد ،إنك رسول ال حًقا ،فيسكن لذلك جأشه ،وتَقَّر نفسه ،فيرجع ،فإذا طالت عليه فتر ة الوحى غدا لمثل ذلك ،فإذا أوفي بذرو ة الجبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك.
جبريل ينزل بالوحي مر ة ثانية قال ابن حجر :وكان ذلك ]أي انقطاع الوحي أياًم اـ[؛ ليذهب ما كان صلى ال عليه وسل م وجده من الروع ،وليحصل له التشوف إلى العود ،فلما حصل له ذلك وأخذ يرتقب مجىء الوحى أكرمه ال بالوحي مر ة ثانية .قال :صلى ال عليه وسل م: )جاورت بحراء شهًرا فلما قضيت جوارى هبطت ]فلما استبطنت الوادي[ فنوديت ،فنظرت عن يميني فل م أر شيًئا، ونظرت عن شمالي فل م أر شيًئا ،ونظرت أمامي فل م أر شيئا ،ونظرت خلفي فل م أرشيًئا ،فرفعت رأسى فرأيت شيًئا، ت منه رعًبا حتى هويت إلى الرض[ ]فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والرض ،فَُج ئِـثْ ُ فأتيت خديجة فقلت] :زملوني ،زملوني[ ،دثرونى ،وصبوا على ماء بارًد اـ( ،قال :)فدثرونى وصبوا على ماء بارًد اـ، طهّْر َوالّر ْجـ َزَـفاْه ُجـْرـ{ ]المدثر ([5 :1 :وذلك قبل أن تفرض فنزلت :}َيا أَّيَها اْلُم ّدـثّـُر قُْ م فََأنِذ ْر ـ َو َرـّبـَكفََك ّبـْر َو ثِـَياَبَك فَ َ الصل ة ،ث م حمى الوحى بعد وتتابع. وهذه اليات هي مبدأ رسالته صلى ال عليه وسل م وهي متأخر ة عن النبو ة بمقدار فتر ة الوحى .وتشتمل على نوعين من التكليف مع بيان ما يترتب عليه: النوع الول :تكليفه صلى ال عليه وسل م بالبلغ والتحذير ،وذلك في قوله تعالى :}قُْ م فََأنِذ ْر ـ{ فإن معناه :حذر الناس من عذاب ال إن ل م يرجعوا عما ه م فيه من الغى والضلل وعباد ة غير ال المتعال ،والشراك به في الذات والصفات والحقوق و الفعال. النوع الثاني :تكليفه صلى ال عليه وسل م بتطبيق أوامر ال سبحانه وتعالى على ذاته ،واللتزا م بها في نفسه؛ ليحرز بذلك مرضا ة ال ،ويصير أسو ة حسنة لمن آمن بال وذلك في بقية اليات .فقوله :}َو َرـّبـَكفََك ّبـْر{ معناه :خصه طهّْر{ المقصود الظاهر منه :تطهير الثياب والجسد ،إذ ليس بالتعظي م ،ول تشرك به في ذلك أحًد اـ .وقوله :}َو ثِـَياَبَك فَ َ
لمن يكبر ال ويقف بين يديه أن يكون نجًس اـ مستقذًرا .إواذا كان هذا التطهر مطلوًباـ فإن التطهر من أدران الشرك وأرجاس العمال والخـلق أولـى بالطـلب ،وقولــه :}َوالّر ْجـ َزَـفاْه ُجـْرـ{ معناه :ابتعد عن أسباب سخط ال وعذابه ،وذلك بالتزا م طاعته وترك معصيته .وقوله :}َوَل تَْم ُنــن تَْس تَـْك ثِـُر{ أي :ل تحسن إحساًنا تريد أجره من الناس أو تريد له جزاء أفضل في هذه الدنيا. أما الية الخير ة ففيها تنبيه على ما يلحقه من أذى قومه حين يفارقه م في الدين ويقو م بدعوته م إلى ال وحده
ص بِـْر{ ،ث م إن مطلع اليات تضمنت النداء العلوى ـ في صوت الكبير وبتحذيره م من عذابه وبطشه ،فقال :}َو ِلـَر ّبـَكـَفا ْ المتعال ـ بانتداب النبي صلى ال عليه وسل م لهذا المر الجلل ،وانتزاعه من النو م والتدثر والدفء إلى الجهاد والكفاح والمشقة :}َيا أَّيَها اْلُم ّدـثّـُر قُْ م فََأنِذ ْر ـ{ ،كأنه قيل :إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريًح اــ ،أما أنت الذي تحمل هذا العبء الكبير فما لك والنو م؟ وما لك والراحة؟ وما لك والفراش الدافئ؟ والعيش الهادئ؟ والمتاع المريح! ق م للمر
العظي م الذي ينتظرك ،والعبء الثقيل المهيأ لك ،ق م للجهد والنصب ،والكد والتعب ،ق م فقد مضى وقت النو م والراحة، وما عاد منذ اليو م إل السهر المتواصل ،والجهاد الطويل الشاق ،ق م فتهيأ لهذا المر واستعد. إنها كلمة عظيمة رهيبة تنزعه صلى ال عليه وسل م من دفء الفراش في البيت الهادئ والحضن الدافئ ،لتدفع به في الخض م ،بين الزعازع والنواء ،وبين الشد والجذب في ضمائر الناس وفي واقع الحيا ة سواء. وقا م رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فظل قائًم اـ بعدها أكثر من عشرين عاًم اـ؛ ل م يسترح ول م يسكن ،ول م يعـش لنفسه ول لهله .قا م وظل قائًم اـ على دعو ة ال ،يحمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ ول ينوء به ،عبء المانة الكبرى
في هذه الرض ،عبء البشرية كلها ،عبء العقيد ة كلها ،وعبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى ،عاش في المعركة الدائبة المستمر ة أكثر من عشرين عاًم اـ؛ ل يلهيه شأن عن شأن في خلل هذا المد منذ أن سمع النداء العلوى الجليل ،وتلقى منه التكليف الرهيب ...جزاه ال عنا وعن البشرية كلها خير الجزاء. وليست الوراق التية إل صور ة مصغر ة بسيطة من هذا الجهاد الطويل الشاق الذي قا م به رسول ال صلى ال عليه
وسل م خلل هذا المد. أقسا م الوحى وقبل الدخول في موضوع هذا الجهاد أرى من الحسن أن أستطرد إلى بيان أقسا م الوحى ومراتبه .قال ابن القي م ،وهو يذكر تلك المراتب: إحداها :الرؤيا الصادقة ،وكانت مبدأ وحيه صلى ال عليه وسل م. الثانية :ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه ،كما قال النبي صلى ال عليه وسل م :)إن روح القدس نفث في روعى أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها ،فاتقوا ال وأجملوا في الطلب ،ول يحملنك م استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية ال ،فإن ما عند ال ل ينال إل بطاعته(. الثالثة :إنه صلى ال عليه وسل م كان يتمثل له الملك رجًل فيخاطبه حتى َيِع َى ـ عنه ما يقول له ،وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحياًنا. ص د ـ عرًقا في الرابعة :أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس ،وكان أشده عليه ،فيلتبس به الملك ،حتى أن جبينه ليتَفَ ّ اليو م الشديد البرد ،وحتى أن راحلته لتبرك به إلى الرض إذا كان راكبها ،ولقد جاء الوحى مر ة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت ،فثقلت عليه حتى كادت ترضها. الخامسة :إنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها ،فيوحى إليه ما شاء ال أن يوحيه ،وهذا وقع له مرتين كما ذكر ال ذلك في سور ة النج م.
السادسة :ما أوحاه ال إليه ،وهو فوق السموات ليلة المعراج من فرض الصل ة وغيرها. السابعة :كل م ال له منه إليه بل واسطة ملك كما كل م ال موسى بن عمران ،وهذه المرتبة هي ثابتة لموسى قطًعاـ
بنص القرآن .وثبوتها لنبينا صلى ال عليه وسل م هو في حديث السراء.
وقـد زاد بعضه م مرتبة ثامنة؛ وهي تكلي م ال له كفاًح ا ـ من غير حجاب ،وهي مسألة خلف بين السلف والخلف. انتهي مع تلخيص يسير في بيان المرتبة الولى والثامنة.
المرحلة الولى :من جهاد الدعو ة إلي ال ثلث سنوات من الدعو ة السرية قا م رسول ال صلى ال عليه وسل م بعد نزول ما تقد م من آيات سور ة المدثر ،بالدعو ة إلى ال سبحانه وتعالى؛ وحيث إن قومه كانوا جفا ة ل دين له م إل عباد ة الصنا م والوثان ،ول حجة له م إل أنه م ألفوا آباءه م على ذلك ،ول أخلق له م إل الخذ بالعز ة والنفة ،ول سبيل له م في حل المشاكل إل السيف ،وكانوا مع ذلك متصدرين للزعامة الدينية في جزير ة العرب ،ومحتلين مركزها الرئيس ،ضامنين حفظ كيانها ،فقد كان من الحكمة تلقاء ذلك أن تكون الدعو ة في بدء أمرها سرية؛ لئل يفاجئ أهل مكة بما يهيجه م. الرعيل الول وكان من الطبيعى أن يعرض الرسول صلى ال عليه وسل م السل م أوًل على ألصق الناس به من أهل بيته،
وأصدقائه ،فدعاه م إلى السل م ،ودعا إليه كل من توس م فيه الخير ممن يعرفه م ويعرفونه ،يعرفه م بحب الحق والخير ،ويعرفونه بتحرى الصدق والصلح ،فأجابه من هؤلء ـ الذين ل م تخالجه م ريبة قط في عظمة الرسول صلى
ال عليه وسل م وجللة نفسه وصدق خبره ـ َج ْمـٌعـ ُع ِرـفـوا في التاريخ السلمى بالسابقين الولين ،وفي مقدمته م زوجة
النبي صلى ال عليه وسل م أ م المؤمنين خديجة بنت خويلد ،وموله زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي وابن عمه علي
بن أبي طالب ـ وكان صبًيا يعيش في كفالة الرسول صلى ال عليه وسل م ـ وصديقه الحمي م أبو بكر الصديق .أسل م هؤلء في أول يو م الدعو ة. ث م نشط أبو بكر في الدعو ة إلى السل م ،وكان رجًل مألًفا محبًبا سهًل ذا خلق ومعروف،وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه؛ لعلمه وتجارته وحسن مجالسته ،فجعل يدعو من يثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه ،فأسل م بدعوته عثمان بن عفان الموى ،والزبير بن العوا م السدى ،وعبد الرحمن بن عوف ،وسعد بن أبي وقاص الزهريان ،وطلحة بن عبيد ال التيمي .فكان هؤلء النفر الثمانية الذين سبقوا الناس ه م الرعيل الول وطليعة السل م.
ث م تل هؤلء أمين هذه المة أبو عبيد ة عامر بن الجراح من بني الحارث بن فهر ،وأبو سلمة بن عبد السد المخزومى ،وامرأته أ م سلمة ،والرق م بن أبي الرق م المخزومى ،وعثمان بن مظعون الُج َمـِحـّى ـوأخواه قدامة وعبد ال ، وعبيد ة بن الحارث ابن المطلب بن عبد مناف ،وسعيد بن زيد العدوى ،وامرأته فاطمة بنت الخطاب العدوية أخت عمر بن الخطاب ،وخباب بن الرت التميمى ،وجعفر بن أبي طالب ،وامرأته أسماء بنت ُع َمـْيـسـ ،وخالد بن سعيد بن
العاص الموى ،وامرأته أمينة بنت خلف ،ث م أخوه عمرو بن سعيد بن العاص ،وحاطب بن الحارث الجمحي ،وامرأته فاطمة بنت الُم َجـ لّــل وأخوه الخطاب بن الحارث ،وامرأته فَُك ْيـهَـة بنت يسار ،وأخوه معمر ابن الحارث ،والمطلب بن أزهر الزهري ،وامرأته رملة بنت أبي عوف ،ونعي م بن عبد ال بن النحا م العدوي ،وهؤلء كله م قرشيون من بطون وأفخاذ شتى من قريش. ومن السابقين الولين إلى السل م من غير قريش :عبد ال بن مسعود الهذلي ،ومسعود بن ربيعة القاري ،وعبد ال ص هَـْي بـ بن ِس نـان الرومي ،وعمار بن ياسر بن جحش السدي وأخوه أبو أحمد بن جحش ،وبلل بن رباح الحبشيُ ، العنسي ،وأبوه ياسر ،وأمه سمية ،وعامر بن ُفهير ة . وممن سبق إلى السل م من النساء غير من تقد م ذكرهن :أ م أيمن بركة الحبشية ،وأ م الفضل لبابة الكبرى بنت الحارث الهللية زوج العباس بن عبد المطلب ،وأسماء بنت أبي بكر الصديق رضي ال عنهما. هؤلء معروفون بالسابقين الولين ،ويظهر بعد التتبع والستقراء أن عدد الموصوفين بالسبق إلى السل م وصل إلى مائة وثلثين رجًل وامرأ ة ،ولكن ل يعرف بالضبط أنه م كله م أسلموا قبل الجهر بالدعو ة أو تأخر إسل م بعضه م إلى الجهر بها. الصل ة ومن أوائل ما نزل من الحكا م المر بالصل ة ،قال ابن حجر :كان صلى ال عليه وسل م قبل السراء يصلى قطًعاـ وكذلك أصحابه ،ولكن اختلف هل فرض شىء قبل الصلوات الخمس من الصلوات أ م ل؟ فقيل :إن الفرض كانت
صل ة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها .انتهي .وروى الحارث بن أبي أسامة من طريق ابن لَِه يـَعةـ موصوًل عن زيد ابن حارثة :أن رسول ال صلى ال عليه وسل م في أول ما أوحى إليه أتاه جبريل ،فعلمه الوضوء ،فلما فرغ من
الوضوء أخذ غرفة من ماء فنضح بها فرجه ،وقد رواه ابن ماجه بمعناه ،وروى نحوه عن البراء بن عازب وابن عباس ،وفي حديث ابن عباس :وكان ذلك من أول الفريضة. وقد ذكر ابن هشا م أن النبي صلى ال عليه وسل م وأصحابه كانوا إذا حضرت الصل ة ذهبوا في الشعاب فاستخفوا بصلته م من قومه م ،وقد رأي أبو طالب النبي صلى ال عليه وسل م وعلّيا يصليان مر ة ،فكلمهما في ذلك ،ولما عرف جلية المر أمرهما بالثبات. تلك هي العباد ة التي أمر بها المؤمنون ،ول تعرف له م عبادات وأوامر ونواه أخرى غير ما يتعلق بالصل ة ،إوانما كان الوحى يبين له م جوانب شتى من التوحيد ،ويرغبه م في تزكية النفوس ،ويحثه م على مكار م الخلق ،ويصف له م
الجنة والنار كأنهما رأي عين ،ويعظه م بمواعظ بليغة تشرح الصدور وتغذى الرواح ،وتحدو به م إلى جو آخر غير الذي كان فيه المجتمع البشرى آنذاك. وهكذا مرت ثلثة أعوا م ،والدعو ة ل م تزل مقصور ة على الفراد ،ول م يجهر بها النبي صلى ال عليه وسل م في المجامع والنوادى،إل أنها عرفت لدى قريش ،وفشا ذكر السل م بمكة ،وتحدث به الناس ،وقد تنكر له بعضه م أحياًنا ،واعتدوا على بعض المؤمنين ،إل أنه م ل م يهتموا به كثيًرا حيث ل م يتعرض رسول ال صلى ال عليه وسل م لدينه م ،ول م يتكل م
في آلهته م.
المرحلـة الثانية :الدع ـو ة جهــاًرا أول أمـر بإظهار الدعـوة المجلس الستشاري لكف الحجاج عن استماع الدعوة أساليب شتى لمجابهة الدعوة الطضطهادات
أول أمـر بإظهار الدعـو ة لما تكونت جماعة من المؤمنين تقو م على الخو ة والتعاون ،وتتحمل عبء تبليغ الرسالة وتمكينها من مقامها نزل الوحى يكلف رسول ال صلى ال عليه وسل م بمعالنة الدعو ة ،ومجابهة الباطل بالحسنى. وأول ما نزل بهذا الصدد قوله تعالى :} َوَأنِذْرـَع ِشـ يـَر تَـَكاْلَْقَر بِــيَن{ ]الشعراء ،[214:وقد ورد في سياق ذكرت فيه أوًل قصة موسى عليه السل م ،من بداية نبوته إلى هجرته مع بني إسرائيل ،وقصة نجاته م من فرعون وقومه ،إواغراق آل
فرعون معه ،وقد اشتملت هذه القصة على جميع المراحل التي مر بها موسى عليه السل م ،خلل دعو ة فرعون وقومه إلى ال .
وكأن هذا التفصيل جىء به مع أمر الرسول صلى ال عليه وسل م بجهر الدعو ة إلى ال ؛ ليكون أمامه وأما م أصحابه مثال لما سيلقونه من التكذيب والضطهاد حينما يجهرون بالدعو ة ،وليكونوا على بصير ة من أمره م منذ البداية. ومن ناحية أخرى تشتمل هذه السور ة على ذكر مآل المكذبين للرسل ،من قو م نوح ،وعاد ،وثمود ،وقو م إبراهي م ،وقو م لوط ،وأصحاب اليكة ـ عدا ما ذكر من أمر فرعون وقومه ـ ليعل م الذين سيقومون بالتكذيب عاقبة أمره م وما سيلقونه من مؤاخذ ة ال إن استمروا عليه ،وليعرف المؤمنون أن حسن العاقبة له م وليس للمكذبين. الدعـو ة في القربين ودعا رسول ال صلى ال عليه وسل م عشيرته بني هاش م بعد نزول هذه الية ،فجاءوا ومعه م نفر من بني المطلب بن عبد مناف ،فكانوا نحو خمسة وأربعين رجًل .فلما أراد أن يتكل م رسول ال صلى ال عليه وسل م بادره أبو لهب وقال: هؤلء عمومتك وبنو عمك فتكل م ،ودع الصبا ة ،واعل م أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة ،وأنا أحق من أخذك،
فحسبك بنو أبيك ،إوان أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليه م من أن يثب بك بطون قريش ،وتمده م العرب ،فما رأيت أحًد اـ جاء على بني أبيه بشر مما جئت به ،فسكت رسول ال صلى ال عليه وسل م ،ول م يتكل م في ذلك المجلس. ث م دعاه م ثانية وقال :)الحمد ل ،أحمده وأستعينه ،وأومن به ،وأتوكل عليه .وأشهد أن ل إله إل ال وحده ل شريك له( .ث م قال :)إن الرائد ل يكذب أهله ،وال الذي ل إله إل هو ،إنى رسول ال إليك م خاصة إوالى الناس عامة ،وال لتموتن كما تنامون ،ولتبعثن كما تستيقظون ،ولتحاسبن بما تعملون ،إوانها الجنة أبًد اـ أو النار أبًد اـ(.
فقال أبو طالب :ما أحب إلينا معاونتك ،وأقبلنا لنصيحتك ،وأشد تصديًقا لحديثك .وهؤلء بنو أبيك مجتمعون ،إوانما أنا أحده م ،غير أني أسرعه م إلى ما تحب ،فامض لما أمرت به .فوال ،ل أزال أحوطك وأمنعك ،غير أن نفسى ل تطاوعنى على فراق دين عبد المطلب. فقال أبو لهب :هذه وال السوأ ة ،خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيرك م ،فقال أبو طالب :وال لنمنعه ما بقينا. على جبل الصفا وبعد تأكد النبي صلى ال عليه وسل م من تعهد أبي طالب بحمايته وهو يبلغ عن ربه ،صعد النبي صلى ال عليه وسل م ذات يو م على الصفا ،فعل أعلها حجًرا ،ث م هتف :)يا صباحاه( وكانت كلمة إنذار تخبر عن هجو م جيش أو وقوع أمر عظي م. ث م جعل ينادى بطون قريش ،ويدعوه م قبائل قبائل :)يا بني فهر ،يا بني عدى ،يا بني فلن ،يا بني فلن ،يا بني عبد مناف ،يا بني عبد المطلب(. فلما سمعوا قالوا :من هذا الذي يهتف؟ قالوا :محمد .فأسرع الناس إليه ،حتى إن الرجل إذا ل م يستطع أن يخرج إليه أرسل رسوًل لينظر ما هو ،فجاء أبو لهب وقريش. صـ ّدـِقـّىـ؟(. فلما اجتمعوا قال :) أرأيتك م لو أخبرتك م أن خيًل بالوادى بَس ْفـح هذا الجبل تريد أن تغير عليك م أكنت م ُم َ قالوا :نع م ،ما جربنا عليك كذًبا ،ما جربنا عليك إل صدًقا. قال :)إنى نذير لك م بين يدى عذاب شديد ،إنما مثلى ومثلك م كمثل رجل رأي الَعُد ّوـ فانطلق َيْر َبـأـأهله() أي يتطلع وينظر له م من مكان مرتفع لئل يدهمه م العدو( )خشى أن يسبقوه فجعل ينادى :يا صباحاه( ث م دعاه م إلى الحق ،وأنذره م من عذاب ال ،فخص وع م فقال: )يا معشر قريش ،اشتروا أنفسك م من ال ،أنقذوا أنفسك م من النار ،فإنى ل أملك لك م من ال ضًرا ول نفًعا ،ول أغنى عنك م من ال شيًئا. يا بني كعب بن لؤى ،أنقذوا أنفسك م من النار ،فإني ل أملك لك م ضًرا ول نفًعاـ. يا بني مر ة بن كعب ،أنقذوا أنفسك م من النار. يا معشر بني قصى ،أنقذوا أنفسك م من النار ،فإنى ل أملك لك م ضًرا ول نفًعاـ.
يا معشر بني عبد مناف ،أنقذوا أنفسك م من النار ،فإنى ل أملك لك م من ال ضًرا ول نفًعا ،ول أغنى عنك م من ال شيًئا. يا بني عبد شمس ،أنقذوا أنفسك م من النار. يا بني هاش م ،أنقذوا أنفسك م من النار. يا معشر بني عبد المطلب ،أنقذوا أنفسك م من النار ،فإنى ل أملك لك م ضًرا ول نفًعا ،ول أغنى عنك م من ال شيًئا، سلونى من مالى ماشئت م ،ل أملك لك م من ال شيًئا. يا عباس بن عبد المطلب ،ل أغنى عنك من ال شيًئا. يا صفية بنت عبد المطلب عمة رسول ال ،ل أغنى عنك من ال شيًئا. يا فاطمة بنت محمد رسول ال ،سلينى ما شئت من مالى ،أنقذى نفسك من النار ،فإنى ل أملك لك ضًرا ول نفًعا، ول أغنى عنك من ال شيًئا. للها( أي أصلها حسب حقها. غير أن لك م رحًم اـ سأُبّلها ِبب َ ولما ت م هذا النذار انفض الناس وتفرقوا ،ول يذكر عنه م أي رد ة فعل ،سوى أن أبا لهب واجه النبي صلى ال عليه ت َيَد اـ أَِبي لَهٍَب َو تَـ ّ ب{ ]سور ة المسد.[1: وسل م بالسوء ،وقال :تبا لك سائر اليو م ،ألهذا جمعتنا؟ فنزلت :}تَّب ْ
كانت هذه الصيحـة العالية هي غاية البلغ ،فقد أوضح الرسول صلى ال عليه وسل م لقرب الناس إليه أن التصديق بهذه الرسالة هو حيا ة الصلت بينه وبينه م ،وأن عصبة القرابة التي يقو م عليها العرب ذابت في حرار ة هذا النذار التى من عند ال . ضـَع ِنـ اْلُم ْشـِرـِكـيـ َ{ن صَد ـ ْ عـ بَِم اـ تُْؤ َمـُرـ َوَأْع ِرـ ْ ول م يزل هذا الصوت يرتج دويه في أرجاء مكة حتى نزل قوله تعالى :} َفا ْ ]الحجر ،[94:فقا م رسول ال صلى ال عليه وسل م يجهر بالدعو ة إلى السل م في مجامع المشركين ونواديه م ،يتلو عليه م كتاب ال ،ويقول له م ما قالته الرسل لقوامه م :}َيا َقْو ِ م ـاْع ُبـُد وْـا ال َ َم اـ لَُك مـ ّم ْنـ ِإلَـٍه َغ ْيـُرـه{ُ ]العراف،[59:وبدء يعبد ال تعالى أما م أعينه م ،فكان يصلى بفناء الكعبة نهاًرا جهاًرا وعلى رءوس الشهاد. وقد نالت دعوته مزيًد اـ من القبول ،ودخل الناس في دين ال واحًد اـ بعد واحد .وحصل بينه م وبين من ل م يسل م من أهل بيته م تباغض وتباعد وعناد واشمأزت قريش من كل ذلك ،وساءه م ما كانوا يبصرون. المجلس الستشاري لكف الحجاج عن استماع الدعو ة
وخلل هذه اليا م أه م قريًش اـ أمر آخر،وذلك أن الجهر بالدعو ة ل م يمض عليه إل أيا م أو أشهر معدود ة حتى قرب موس م الحج ،وعرفت قريش أن وفود العرب ستقد م عليه م ،فرأت أنه لبد من كلمة يقولونها للعرب ،في شأن محمد
صلى ال عليه وسل م حتى ل يكون لدعوته أثر في نفوس العرب ،فاجتمعوا إلى الوليد بن المغير ة يتداولون في تلك ض اــ ،قالوا: ض اــ ،ويرد قولك م بعضه بع ً الكلمة ،فقال له م الوليد :أجمعوا فيه رأيًـا واحًد اـ،ول تختلفوا فيكذب بعضك م بع ً فأنت فقل ،وأق م لنا أرًيا نقول به .قال :بل أنت م فقولوا أسمع .قالوا :نقول :كاهن .قال :ل وال ما هو بكاهن ،لقد رأينا الكهان فما هو بَز ْمـَزـَمـةـالكاهن ول سجعه .قالوا :فنقول :مجنون ،قال :ما هو بمجنون ،لقد رأينا الجنون وعرفناه ،ما هو بَخ ْن ـِقـهـ ول تََخ اـلُِج ه ـ ول وسوسته .قالوا :فنقول :شاعر .قال :ما هو بشاعر ،لقد عرفنا الشعر كله َر َجـ َزــهوَهَز َجـ ه ـ
ض ه ـوَم ْقـُبوضه وَم ْبـُسـوـطه ،فما هو بالشعر ،قالوا :فنقول :ساحر .قال :ما هو بساحر ،لقد رأينا السحار وسحره م، وَقِر يـ َ ]وان عليه لطلو ة[ إوان أصله لَعَذ قـ ،إوان فما هو بَنْفثِِه مـ ول عْقِد ِهـ مـ .قالوا :فما نقول؟ قال :وال إن لقوله لحلو ة ،إ فَْرَع هـلَج َنــا ة ،وما أنت م بقائلين من هذا شيًئا إل عرف أنه باطل ،إوان أقرب القول فيه لن تقولوا :ساحر .جاء بقول هو سحر ،يفرق به بين المرء وأبيه ،وبين المرء وأخيه ،وبين المرء وزوجته ،وبين المرء وعشيرته ،فتفرقوا عنه بذلك. وتفيد بعض الروايات أن الوليد لما رد عليه م كل ما عرضوا له ،قالوا :أرنا رأيك الذي ل غضاضة فيه ،فقال له م: أمهلونى حتى أفكر في ذلك ،فظل الوليد يفكر ويفكر حتى أبدى له م رأيه الذي ذكر آنًفا. تلَهُ َم اـًل ّم ْمـُدـوـًد اـَو َبـِنيَن ت َو ِحـ يـًد اـَو َجـ َعـْلـ ُ وفي الوليد أنزل ال تعالى ست عشر ة آية من سور ة المدثر} َذْرنِــيَو َم ـْنـَخ لَـْق ُ ِ ِ ِ ّ ُشهُـوًد اـ َو َم ـهّـد ّ فـ قَّد َرـ ثُّ م ت لَهُ تَْم ِهـيـًد اـ ثُّ م َي ْ ص ُعــوًد اـ ِإّنهُ فَّك َرـ َو قَـّد َرـ فَقُتَِل َك ْيـ َ طَم ُعـ أَْن َأِز يـَد َك لـ ِإّنهُ َك اـَن ل َي ـاـتَناـَع نـيًد اـ َس أُـْرِه قُـهُ َ ّ ِ ّ ص ِلــيِهَس قَـَر{ فـ قَّد َرـ ثُّ م َن َ قُتَِل َك ْيـ َ ظَر ثُّ م َع َبـَس َو َبـَس َرـثُّ م أَْد َبـَر َواْس تَـْك َبـَر فَـَقا َِإلْن َهَذ اـ ِإل س ْح ـٌر ـُيْؤ ثَـُر ِإْن َهَذ اـ ِإل َقْو ُل ـاْلَبَش ِرـَسـأُـ ْ ظَر ثُّ م فـ قَّد َرـ ثُّ م َن َ فـ قَّد َرـ ثُّ م قُتَِل َك ْيـ َ ]من 11إلى [26وفي خللها صور كيفية تفكيره ،فقال :}ِإّنهُ فَّك َرـ َو قَـّد َرـ فَقُتَِل َك ْيـ َ َع َبـَس َو َبـَس َرـثُّ م أَْد َبـَر َواْس تَـْك َبـَرفََقاَل ِإْن َهَذ اـ ِإّل ِس ْح ـٌر ـُيْؤ ثَـُر ِإْن َهَذ اـ ِإّل َقْو ُل ـاْلَبَش ِرـ{ ]المدثر[25 :18: وبعد أن اتفق المجلس على هذا القرار أخذوا في تنفيذه ،فجلسوا بسبل الناس حين قدموا للموس م ،ل يمر به م أحد إل حذروه إياه وذكروا له م أمره. أما رسول ال صلى ال عليه وسل م فخرج يتبع الناس في منازله م وفي ُع َكـاـظ وَم َجـ ّنــة وذى الَم َجـاــز ،يدعوه م إلى ال ، وأبو لهب وراءه يقول :ل تطيعوه فإنه صابئ كذاب. وأدى ذلك إلى أن صدرت العرب من ذلك الموس م بأمر رسول ال صلى ال عليه وسل م وانتشر ذكره في بلد العرب كلها.
أساليب شتى لمجابهة الدعو ة
ولما فرغت قريش من الحج فكرت في أساليب تقضى بها على هذه الدعو ة في مهدها .وتتلخص هذه الساليب فيما يلي: 1ـ السخرية والتحقير ،والستهزاء والتكذيب والتضحيك: قصدوا بها تخذيل المسلمين ،وتوهين قواه م المعنوية ،فرموا النبي صلى ال عليه وسل م بته م هازلة ،وشتائ م سفيهة، فكانوا ينادونه بالمجنون } َوَقــالُوْا َيا أَّيَها الِّذ ي ـ ُنّز َلـَع لَـْي ِهـ الّذ ْكـُرـ ِإّنَك َلَم ْجـ ُنــوٌن{ ]الحجر ،[6:ويصمونه بالسحر والكذب ب{ ]ص،[4:وكانوا يشيعونه ويستقبلونه بنظرات ملتهمة } َوَعِجـُبـواَأن َج اــءُه م ّم نـِذ ٌر ـ ّم ْنـهُـْ م َو قَــاَل اْلَك اـِفُرـ وـَنَهَذ اـ َس اـِح ٌر ـ َك ّذـاـ ٌ ِّ صـ اـِرِه ْ مـلَّم اـ َس ِمـُعـوا الّذ ْكـَرـ َو َيـُقوُلوَن ِإّنهُ َلَم ْجـ ُنــوٌن{ ناقمة ،وعواطف منفعلة هائجة } َ إوِان َيَك اـُد الذ يـَن َك فَـُر واـلَُيْز ِلـُقوَنَكـبِأَْب َ ]القل م،[51:وكان إذا جلس وحوله المستضعفون من أصحابه استه أزوا به م وقالوا :هؤلء جلساؤه } َمّنـ ال ُ َع لَـْي ِهـ مـ ّم نـ َبْي نِـَناـ{ ]النعا م ،[53 :قال تعالى :}أَلَْيَسـ ال ُ بِأَْع لَـَ م ِبالّش اـِك ِرـيـَن{ ]النعا م،[53:وكانوا كما قص ال علينا }ِإّن الِّذ يـَن ض َح ـُك ـوـَن َو إِاَذـاـَم ّرـ وْاـبِِه ْ مـ َيتََغاـَم ُزـ وـَنَو إِاَذ اـانَقَلُبوْا ِإَلى أَْه ِلـِه ُ مـ انَقَلُبوْا فَِك ِهـيـَن َو إِاَذـاـَرَأْو ُهـْ مَقالُوا ِإّن َأْج َر ـُمـوـاَك اـُنوْا ِم َنـ الِّذ يـَن آَم ُنـوا َي ْ ض اـّلوَن َو َم ـاـأُْر ِسـ لُـواَع لَـْي ِهـْ مـ َح اـِفِظ يـَن{ ]المطففين.[33 :29 : َهُؤَل ءَلـ ـ َ وقد أكثروا من السخرية والستهزاء وزادوا من الطعن والتضحيك شيًئا فشيًئا حتى أثر ذلك في نفس رسول ال صلى ال عليه وسل م ،كما قال ال تعالى :} ولَـقَْد َنع لَـ م أَّنَك ي ِ ص ْدـُرـَكـبَِم اـ َيُقوُلوَن { ]الحجر ،[97:ث م ثبته ال وأمره بما ض يـ ـ ُ َ ق َ َ ْ ُ يذهب بهذا الضيق فقال :} فََسّبـْح بَِح ْمـِدـ َر ّبـَكـَو ُك ـنـ ّم َنـ الّس اـِج ِدـيـَن َواْع ُبـْد َر ّبـَك َح تّــى َيْأتَِيَكـ اْلَيِقيُن{]الحجر ،[99 ،98:وقد أخبره من قبل أنه يكفيه هؤلء المستهزئين حيث قال :}ِإّنا َك فَـْي َنـاَك اْلُم ْسـتَـْهِز ئِـيَنالِّذ يـَن َيْج َع ـلُـوَن َم َعـ ال ِ ِإلـًها آَخ َر ـ ف ـَيْع َمـلُـوَن{ ]الحجر ،[96 ،95 :وأخبره أن فعله م هذا سوف ينقلب وباًل عليه م فقال :} َولَـقَِد اْس تُـْهِزىَء ِبُر ُسـٍلـّم نـ َفَس ْوـ َ ق ِبالِّذ يـَن َس ِخـ ُرـ وْاـِم ْنـهُـ م ّم اـ َك اـُنوْا بِِه َيْس تَـْهِز ُؤ ـوـ َ{ن ]النعا م.[10: قَْب ِلـَك فََح اـ َ 2ـ إثار ة الشبهات وتكثيف الدعايات الكاذبة: وقد أكثروا من ذلك وتفننوا فيه بحيث ل يبقى لعامة الناس مجال للتدبر في دعوته والتفكير فيها ،فكانوا يقولون عن ث أَْح لَـٍ م{ ]النبياء [5:يراها محمد بالليل ويتلوها بالنهار ،ويقولون :} َبِلـ اْفتََراهُ{ من عند نفسه ويقولون: ضَغــا ُ القرآن :} أَ ْ ن ]الفرقان [4 :أي اشترك هو وزملؤه في ك اْفتََراهُ َوأََع اـَنهُـ َع لَـْي ِهـ َقْو ٌ م ـآَخ ُرـ و ـَ{ } ِإّنَماـ ُيَع لّـُم هُـ َبَش ٌرـ{ وقالوا :}ِإْن َهَذ اـ ِإّل ِإْف ٌ اختلقه .} وَقــالُوا أَس اـِط ي ـر اْلَّو ِلــين اْك تَـتَبها فَِه يـ تُم لَــى ع لَـْي ِهـ بْك رـ ةًوأَـ ِ ل ]الفرقان[5: ص يــً{ َ ُ َ ََ َ ْ َ ُ َ َ َ وأحيانا قالوا :إن له جًنا أو شيطاًنا يتنزل عليه كما ينزل الجن والشياطين على الكهان .قال تعالى رًد اـ عليه م :} َهْل أَُنّبُئُك ْ مـ َع لَــى َم نـ تََنّز ُلـالّش َيـاِط يـُن تََنّز ُلـَع لَــى ُك ّلـ أَّفاٍك أَِثيٍ م{ ]الشعراء ،[222 ،221:أي إنها تنزل على الكذاب الفاجر المتلطخ بالذنوب ،وما جّر بـت م علّى كذًبا ،وما وجدت م في فسًقا ،فكيف تجعلون القرآن من تنزيل الشيطان؟ وأحياًنا قالوا عن النبي صلى ال عليه وسل م :إنه مصاب بنوع من الجنون ،فهو يتخيل المعانى ،ث م يصوغها في
كلمات بديعة رائعة كما يصوغ الشعراء ،فهو شاعر وكلمه شعر .قال تعالى رًد اـ عليه م :} َوالّشَعـَراءَيتّبُِعهُُ م اْلَغاُو وـَن أَلَْ م تََر أَّنهُْ م ِفيـ ُك ّلـ َواٍد َيِه يـُم وـَن َوأَّنهُْ م َيُقوُلوَن َم اـ َل َيْفَع لُـوَن{ ]الشعراء [226 :225:فهذه ثلث خصائص يتصف بها
الشعراء ليست واحد ة منها في النبي صلى ال عليه وسل م ،فالذين اتبعوه هدا ة مهتدون ،متقون صالحون في دينه م وخلقه م وأعماله م وتصرفاته م ،وليست عليه م مسحة من الغواية في أي شأن من شئونه م ،ث م النبي صلى ال عليه وسل م ل يهي م في كل واد كما يهي م الشعراء ،بل هو يدعو إلى رب واحد ،ودين واحد ،وصراط واحد ،وهو ل يقول إل ما يفعل ،ول يفعل إل ما يقول ،فأين هو من الشعر والشعراء؟ وأين الشعر والشعراء منه. هكذا كان يرد عليه م بجواب مقنع حول كل شبهة كانوا يثيرونها ضد النبي صلى ال عليه وسل م والقرآن والسل م. ومعظ م شبهته م كانت تدور حول التوحيد ،ث م رسالة محمد صلى ال عليه وسل م ،ث م بعث الموات ونشره م وحشره م يو م القيامة ،وقد رد القرآن على كل شبهة من شبهاته م حول التوحيد ،بل زاد عليها زيادات أوضح بها هذه القضية من كل ناحية ،وبين عجز آلهته م عجًزا ل مزيد عليه ،ولعل هذا كان مثار غضبه م واستنكاره م الذي أدى إلى ما أدى إليه. أما شبهاته م في رسالة النبي صلى ال عليه وسل م فإنه م مع اعترافه م بصدق النبي صلى ال عليه وسل م وأمانته وغاية صلحه وتقواه ،كانوا يعتقدون أن منصب النبو ة والرسالة أجل وأعظ م من أن يعطى لبشر ،فالبشر ل يكون رسوًل ،ـ ـ
والرسول ل يكون بشًرا حسب عقيدته م .فلما أعلن رسول ال صلى ال عليه وسل م عن نبوته ،ودعا إلى اليمان به تحيروا وقالوا :} ماـِل هَذ اـ الّر سـوـِل يْأُك ُلـ ال ّ طَعاَ م و َيـْم ِشـ يِفـيـ اْلَْس وـا ِ ق{ ]الفرقان ،[7 :وقالوا :إن محمًد اـ صلى ال عليه َ َ ُ َ َ َ ِ ب الِّذ ي ـ وسل م بشر،و } َماـ َأنَز َلـال ُ َع لَــى َبَش ٍرـ ّم نـ َش ْيـ ٍء ـ{ ]النعا م ،[19 :فقال تعالى رًد اـ عليه م:}ُقْل َم ْنـ َأنَز َلـاْلك تَـا َ َج اــء بِِه ُم وـَس ىـ ُنوًرا وُهًد ىـّللّنا ِ ض ا ـ بأن كل قو م قالوا س{ ،وكانوا يعرفون ويعترفون بأن موسى بشر .ورد عليه م أي ً َ ّ ّ ت لَهُْ م ُر ُسـلُـهُْ م ِإن ّنْح ُن ـ ِإل َبَش ٌرـ ّم ثْـلُُك ْ مـ َو لَـِك ّنـ لرسله م إنكاًرا على رسالته م :}ِإْن َأنتُْ م ِإل َبَش ٌرـ ّم ثْـلَُناـ{ ]إبراهي م ،[10:فـ }َقالَ ْ ال َ َيُم ّنـ َع لَــى َم نـ َيَش اـء ِم ْنـ ِع َبــاِد ِه{ـ ]إبراهي م .[11 :فالنبياء والرسل ل يكونون إل بشًرا ،ول منافا ة بين البشرية والرسالة.
وحيث إنه م كانوا يعترفون بأن إبراهي م و إسماعيل وموسى ـ عليه م السل م ـ كانوا رسًل وكانوا بشًرا ،فإنه م ل م يجدوا مجاًل للصرار على شبهته م هذه،فقالوا:أل م يجد ال لحمل رسالته إل هذا اليتي م المسكين،ما كـان ال ليترك كـبار أهـل مكـة والطائف ويتخذ هذا المسكين رسوًل} َوَقــالُوا لَْوَل ُنّز َلـَهَذ اـ اْلقُْرآُن َع لَــى َر ُجـٍلـّم َنـ اْلَقْر َي ـتَْي ِنـَع ِظـ يـٍ م{ ]الزخرف ،[31:قال ثـ تعالى رًد اـ عليه م:}أَُهْ م َيْقِس ُم ـوـَن َر ْحـ َم ـةَـَر ّبـَك{ـ ]الزخرف ،[32:يعنى أن الوحى والرسالة رحمة من ال و}ال ُ أَْع لَـُ م َح ْيـ ُ َيْج َع ـُلـ ِر َسـاـلَتَهُ{ ]النعا م.[124: وانتقلوا بعد ذلك إلى شبهة أخرى ،قالوا :إن رسل ملوك الدنيا يمشون في موكب من الخد م والحش م ،ويتمتعون بالبهة والجلل ،ويوفر له م كل أسباب الحيا ة ،فما بال محمد يدفع في السواق للقمة عيش وهو يدعى أنه رسول ال ؟ } وَقــالُوا َم اـِل َهَذ اـ الّر ُسـوـِل َيْأُك ُلـ الطَّعاَ م و َيـْم ِشـ يِفـيـ اْلَْس وـا ِ ك َفَيُك وـَن َم َعـهُـ َنِذ يـًراأَْو ُيْلَقى ِإلَْي ِهـ َك نـٌز أَْو ق لَْوَل ُأنِز َلـ ِإلَْي ِهـ َم لَـ ٌ َ َ َ ّ ِ ِ ّ ِ ِ ّ ِ را ]الفرقان ،[8 :7:ورد على شبهته م هذه بأن تَُك وـُن لَهُ َج ّنـةٌ َيْأُك ُلـ م ْنـهَـا َو قَــاَل الظالُم وـَن إن تَتبُعوَن إل َر ُجـًلـّم ْسـُحـوـً { محمًد اـ رسول ،يعنى أن مهمته هو إبلغ رسالة ال إلى كل صغير وكبير ،وضعيف وقوى ،وشريف ووضيع ،وحر
وعبد ،فلو لبث في البهة والجلل والخد م والحش م والحرس والمواكبين مثل رسل الملوك ،ل م يكن يصل إليه ضعفاء الناس وصغاره م حتى يستفيدوا به ،وه م جمهور البشر ،إواذن فاتت مصلحة الرسالة ،ول م تعد لها فائد ة تذكر. أما إنكاره م البعث بعد الموت فل م يكن عنده م في ذلك إل التعجب والستغراب والستبعاد العقلي ،فكانوا يقولون :} أَئَِذاـ ظــاًم اـأَئِّنا لََم ْبـُعـوُثوَن أََوآَباُؤ َنـاـاْلَّو لُــوَن{ ]الصافات،[17 ،16:وكانوا يقولون :} َذِلـَك َر ْجـ ٌع ـَبِع يـٌد{ ]ق[3 : ِم تْـَنا َو ُك ـّنـا تَُراًبا َوِع َ قـِإّنُك ْ مـ لَِفيـ َخ ْلـ ٍ وكانوا يقولون على سبيل الستغراب :}َهْل َنُد لّـُك ْ مـ َع لَــى َر ُجـٍلـُيَنّبُئُك ْ مـ ِإَذ اـ ُم ّزـْقـتُْ م ُك ّلـ ُم َمـّزـ ٍ ق َج ِدـيـٍد أَْفتََرىـ َع لَــى ال ِ َك ِذـ ًبـاـ َأ م بِِه ِج ّنـةٌ{ ]سبأ.[8 ،7 : وقال قائله م: ث ُخ َرــافةيا أ م عمرو ت ـث م َبْع ٌ ثـ ث م َح ْشـٌرـ ** حِد يـ ُ َأمْو ٌ وقد رد عليه م بتبصيره م ما يجرى في الدنيا ،فالـظال م يموت دون أن يلقى جزاء ظلمه ،والمظلو م يموت دون أن يأخذ حقه من ظالمه ،والمحسن الصالح يموت قبل أن يلقى جزاء إحسانه وصلحه ،والفاجر المسىء يموت قبل أن يعاقب على سوء عمله ،فإن ل م يكن بعث ول حيا ة ول جزاء بعد الموت لستوى الفريقان ،بل لكان الظال م والفاجر أسعد من المظلو م والصالح ،وهذا غير معقول إطلقا .ول يتصور من ال أن يبني نظا م خلقه على مثل هذا الفساد .قال فـ تَْح ُك ـُمـوـَن{ ]القل م ،[36 ،35:وقال :} أَفََنْجَعـُلـ اْلُم ْسـ ِلـِم يـَن َك اـْلُم ْجـ ِر ـِمـيـَن تعالى :} أَفََنْجَعـُلـ اْلُم ْسـ ِلـِم يـَن َك اـْلُم ْجـ ِر ـِمـيـَنَم اـ لَُك ْ مـ َك ْيـ َ ِ ب ـالِّذ يـَن اْج تَـَر ُحـواـالّس ّيـَئاِت ّأن ّنْج َع ـلَـهُْ م َك اـلِّذ يـَن آَم ُنـوا َوَع ِمـلُـوا َم اـ لَُك ْ مـ َك ْيـ َ فـ تَْح ُك ـُمـوـَن{ ]ص ،[28 :وقال :}أًْ م َح سـ َ ص اـِلَح اـِت َس َوـاء ّم ْحـ َيــاُه م َو َم ـَمـاـتُهُْ م َس اـء َم اـ َيْح ُك ـُمـوـَن{ ]الجاثية.[21: ال ّ وأما الستبعاد العقلى فقال تعالى رًد اـ عليه :}أََأنتُْ م أََش ّدـ َخ ْلـًقا أَِ م الّس َمـاـء َبَناَهاـ{ ]النازعات ،[27:وقال :} َأَولَـْ م َيَر ْو ـاـأَّن ال ِ ض ـَو لَـْ م َيْع َيـ بَِخ ْلـِقِه ّنـ بَِقاِد ٍر ـ َع لَــى أَْن ُيْح يِـَي اْلَم ْوـ تَــى َب لَـى ِإّنهُ َع لَــى ُك ّلـ َش ْيـ ٍء ـقَِد يـٌر{ َ الِّذ ي ـ َخ لَـ َ ق الّس َمـاـَواتَواْلَْر َ لوَلى َفلَْوَل َتذّك ُرـ وـَن{ ]الواقعة ،[62:وبين ما هو معروف عقًل وعرًفا، ]الحقاف ،[33 :وقال :} َولَـقَْد َع ِلـْم تُـُ م الّنْش أَـ ةَ ا ْ ُ ق ّنِع يـُد هُـ{ ]النبياء ،[104:وقال :} أَفََعِييَنا ِباْلَخ ْلـ ِ وهو أن العاد ة } َأْهوـُن ـَع لَـْي ِهـ{ ]الرو م،[27 :وقال :} َكَمـاـ َبَد ْأـَنا َأّو َل ـ َخ ْلـ ٍ ق َ اْلَّو ِل ـ{ ]ق.[15 : وهكذا رد على كل ما أثاروا من الشبهات رًد اـ مفحًم اـ يقنع كل ذى عقل ولب ،ولكنه م كانوا مشاغبين مستكبرين يريدون ُع لـوا في الرض وفرض رأيه م على الخلق ،فبقوا في طغيانه م يعمهون. 3ـ الحيلولة بين الناس وبين سماعه م القرآن ،ومعارضته بأساطير الولين: كان المشركون بجنب إثار ة هذه الشبهات يحولون بين الناس وبين سماعه م القرآن ودعو ة السل م بكل طريق يمكن، فكانوا يطردون الناس ويثيرون الشغب والضوضاء ويتغنون ويلعبون ،إذا أروا أن النبي صلى ال عليه وسل م يتهيأ للدعو ة ،أو إذا رأوه يصلى ويتلو القرآن .قال تعالى :} َوقَــاَل الِّذ يـَن َك فَـُر واـَل تَْس َمـُعـوا ِلهََذ اـ اْلقُْرآِن َواْلَغْوـاـِفيِه لََع لّـُك ْ مـ تَْغ ِلـُبوَن{
]فصلت [26:حتى إن النبي صلى ال عليه وسل م ل م يتمكن من تلو ة القرآن عليه م في مجامعه م ونواديه م إل في ض ا ـ عن طريق المفاجأ ة ،دون أن يشعروا بقصده قبل بداية التلو ة. أواخر السنة الخامسة من النبو ة ،وذلك أي ً وكان النضر بن الحارث ،أحد شياطين قريش قد قد م الحير ة ،وتعل م بها أحاديث ملوك الفرس ،وأحاديث رست م واسفنديار ،فكان إذا جلس رسول ال صلى ال عليه وسل م مجلًس اـ للتذكير بال والتحذير من نقمته خلفه النضر ويقول :أنا و ال يا معشر قريش أحسن حديًثا منه ،ث م يحدثه م عن ملوك فارس ورست م واسفنديار ،ث م يقول :بماذا محمد أحسن حديًثا مني.
وفي رواية عن ابن عباس أن النضر كان قد اشترى قَْي َنـًة ،فكان ل يسمع بأحد يريد السل م إل انطلق به إلى قينته، فيقول :أطعميه واسقيه وغنيه ،هذا خير مما يدعوك إليه محمد ،وفيه نزل قوله تعالى :} وِمـَنـالّنا ِ س َم نـ َيْش تَـِري لَْهَو َ اْلح ِدـيـِث ِلي ِ ض ّلـ ـَع نـ َس بِـيِل ال ِ{ ]لقمان.[6 : ُ َ
الضطهادات أعمل المشركون الساليب التي ذكرناها شيًئا فشيًئا لحباط الدعو ة بعد ظهورها في بداية السنة الرابعة من النبو ة، ومضت على ذلك أسابيع وشهور وه م مقتصرون على هذه الساليب ل يتجاوزونها إلى طريق الضطهاد والتعذيب، ولكنه م لما أروا أن هذه الساليب ل م تجد نفًعاـ في إحباط الدعو ة السلمية استشاروا فيما بينه م ،فقرروا القيا م بتعذيب المسلمين وفتنته م عن دينه م ،فأخذ كل رئيس يعذب من دان من قبيلته بالسل م ،وانقض كل سيد على من اختار من عبيده طريق اليمان. وكان من الطبيعي أن يهرول الذناب والوباش خلف ساداته م وكبرائه م ،ويتحركوا حسب مرضاته م وأهوائه م ،فجروا على المسلمين ـ ولسيما الضعفاء منه م ـ ويلت تقشعر منها الجلود ،وأخذوه م بنقمات تتفطر لسماعها القلوب. كان أبو جهل إذا سمع برجل قد أسل م له شرف ومنعة أنبه وأخزاه ،وأوعده بإبلغ الخسار ة الفادحة في المال ،والجاه، إوان كان ضعيًفا ضربه وأغرى به. وكان ع م عثمان بن عفان يلفه في حصير من ورق النخيل ث م يدخنه من تحته. ولما علمت أ م مصعب بن عمير بإسلمه منعته الطعا م والشراب ،وأخرجته من بيته ،وكان من أنع م الناس عيًش اـ، فـ جلده تخشف الحية. فتََخ ّشـ َ
وكان صهيب بن سنان الرومي ُيعّذ بـ حتى يفقد وعيه ول يدرى ما يقول.
وكان بلل مولى أمية بن خلف الجمحي ،فكان أمية يضع في عنقه حبًل ،ـ ـث م يسلمه إلى الصبيان ،يطوفون به في
جبال مكة ،ويجرونه حتى كان الحبل يؤثر في عنقه ،وهو يقول :أَح ٌدـ أَح ٌدـ،ـ وكان أمية يـشده شـًد اـ ث م يضربه بالعصا، و يلجئه إلى الجلوس في حر الشمس ،كما كان يكرهه على الجوع .وأشد من ذلك كله أنه كان يخرجه إذا حميت الظهير ة ،فيطرحه على ظهره في الرمضاء في بطحاء مكة ،ث م يأمر بالصخر ة العظيمة فتوضع على صدره ،ث م يقول: ل وال ل تـزال هكـذا حتى تموت أو تكفر بمحمد ،وتعبد اللت والعزى ،فيقول وهو في ذلك :أحد،أحد ،ويقـول :لو أعل م كلمة هي أغيظ لك م منها لقلتها .ومر به أبو بكر يوما وه م يصنعون ذلك به فاشتراه بغل م أسود ،وقيل :بسبع أواق أو بخمس من الفضة ،وأعتقه. وكان عمار بن ياسر رضي ال عنه مولى لبني مخزو م ،أسل م هو وأبوه وأمه ،فكان المشركون ـ وعلى رأسه م أبو جهل ـ يخرجونه م إلى البطح إذا حميت الرمضاء فيعذبونه م بحرها .ومر به م النبي صلى ال عليه وسل م وه م يعذبون فقال: ) صب ًار آل ياسر ،فإن موعدك م الجنة( ،فمات ياسر في العذاب ،وطعن أبو جهل سمية ـ أ م عمار ـ في قبلها بحربة فماتت ،وهي أول شهيد ة في السل م ،وهي سمية بنت خياط مول ة أبي حذيفة بن المغير ة بن عبد ال بن عمر بن مخزو م ،وكانت عجوًزا كبير ة ضعيفة .وشددوا العذاب على عمار بالحر تار ة ،وبوضع الصخر الحمر على صدره
أخرى ،وبغطه في الماء حتى كان يفقد وعيه .وقالوا له :ل نتركك حتى تسب محمًد اـ ،أو تقول في اللت والعزى خيًرا ،فوافقه م على ذلك مكرًها ،وجاء باكًيا معتذًرا إلى النبي صلى ال عليه وسل م .فأنزل ال :} َمنـ َك فَـَر ِبال ِ ِم نـ طـَم ئِـّن ِباِل يـَم اـِن{الية ] النحل.[ 106 : َبْع ِدـ إيَم اـنِِه ِإلّ َم ْنـ أُْك ِرـهَ َو َقـْلُبهُ ُم ْ
وكان أبو فَُك ْيـهَـَة ـ واسمة أفلح ـ مولى لبني عبد الدار ،وكان من الزد .فكانوا يخرجونه في نصف النهار في حر شديد ،وفي رجليه قيد من حديد ،فيجردونه من الثياب ،ويبطحونه في الرمضاء ،ث م يضعون على ظهره صخر ة حتى ل يتحرك ،فكان يبقى كذلك حتى ل يعقل ،فل م يزل يعذب كذلك حتى هاجر إلى الحبشة الهجر ة الثانية ،وكانوا مر ة قد ربطوا رجله بحبل ،ث م جروه وألقوه في الرمضاء وخنقوه حتى ظنوا أنه قد مات ،فمر به أبو بكر فاشتراه وأعتقه ل. وكان خباب بن الرت مولى ل م أنمار بنت ِس بـاع الخزاعية ،وكان حداًد اـ ،فلما أسل م عذبته مولته بالنار ،كانت تأتى بالحديد ة المحما ة فتجعلها على ظهره أو رأسه ،ليكفر بمحمد صلى ال عليه وسل م ،فل م يكن يزيده ذلك إل إيماًنا ض ا ـ يعذبونه فيلوون عنقه ،ويجذبون شعره ،وقد ألقوه على النار ،ث م سحبوه عليها ،فما وتسليًم اـ ،وكان المشركون أي ً أطفأها إل َو َد ـَكـ ظهره.
وكانت ِز ّنـيَر ةُأَم ةًـ رومية قد أسلمت فعذبت في ال ،وأصيبت في بصرها حتى عميت ،فقيل لها :أصابتك اللت والعزى ،فقالت :ل وال ما أصابتني ،وهذا من ال ،إوان شاء كشفه ،فأصبحت من الغد وقد رد ال بصرها ،فقالت قريش :هذا بعض سحر محمد. وأسلمت أ م ُع َبـْي سـ ،جارية لبني زهر ة ،فكان يعذبها المشركون ،وبخاصة مولها السود بن عبد يغوث ،وكان من أشد أعداء رسول ال صلى ال عليه وسل م ،ومن المستهزئين به.
وأسلمت جارية عمر بن مؤمل من بني عدى ،فكان عمر بن الخطاب يعذبها ـ وهو يومئذ على الشرك ـ فكان يضربها حتى يفتر ،ث م يدعها ويقول :وال ما أدعك إل سآمة ،فتقول :كذلك يفعل بك ربك. وممـن أسلمـن وعـذبن مـن الجـوارى :النهدية وابنتها ،وكانتا لمـرأ ة من بني عبد الدار. وممن عذب من العبيد :عامر بن فُهَْي َرـ ة ،كان يعذب حتى يفقد وعيه ول يدرى ما يقول. واشترى أبوبكر رضي ال عنه هؤلء الماء والعبيد رضي ال عنه م وعنهن أجمعين ،فأعتقه م جميًعاـ .وقد عاتبه في ذلك أبوه أبو قحافة وقال :أراك تعتق رقاًبا ضعاًفا ،فلو أعتقت رجاًل جلًد اـ لمنعوك .قال :إني أريد وجه ال .فأنزل ّ ّ ِّ بـ َو تَـَو لّــى{ ص َل ـ َه ـاـِإّل اْلَْش قَـى الذ ي ـ َك ذـ َ ال قرآًنا مدح فيه أبا بكر ،وذ م أعداءه .قال تعالى :} َفَأنَذْرـتُـُكْ مـَناًرا تَلَظى َل َي ْ ]الليل [16 :14:وهو أمية بن خلف ،ومن كان على شاكلته } َوَسـُيـَجّنـُبَهااْلَتَْقى الِّذ ي ـ ُيْؤ تِــي َم اـلَهُ َيتََز ّكـىـَو َم ـاـِلََح ٍد ـ ى ـ ]الليـل [21 :17:وهـو أبـو بـكـر الصديـق رضي ال ضـ { ِع نـَد هُـ ِم نـ ّنْع َمـٍةـ تُْج َزـىـِإّل اْب تِـَغاء َو ْجـ ِه ـَر ّبـِه اْلَْع لَــى َو َلـَس ْوـ َ فَـيْر َ عنه. ض ا ـ .فقد أخذه نوفل بن خويلد العدوى ،وأخذ معه طلحة بن عبيد ال وأوذى أبو بكر الصديق رضي ال عنه أي ً فشدهما في حبل واحد ،ليمنعهما عن الصل ة وعن الدين فل م يجيباه ،فل م يروعاه إل وهما مطلقان يصليان؛ ولذلك سميا بالقرينين ،وقيل :إنما فعل ذلك عثمان بن عبيد ال أخو طلحة بن عبيد ال رضي ال عنه. والحاصل أنه م ل م يعلموا بأحد دخل في السل م إل وتصدوا له بالذى والنكال ،وكان ذلك سهًل ميسوًرا بالنسبة
لضعفاء المسلمين ،ول سيما العبيد والماء منه م ،فل م يكن من يغضب له م ويحميه م ،بل كانت الساد ة والرؤساء ه م
أنفسه م يقومون بالتعذيب ويغرون الوباش ،ولكن بالنسبة لمن أسل م من الكبار والشراف كان ذلك صعًبا جًد اـ؛ إذ كانوا في عز ومنعة من قومه م ،ولذلك قلما كان يجتريء عليه م إل أشراف قومه م ،مع شيء كبير من الحيطة والحذر.
ايذاء المشركين المسلمين موتقف المشركين من رسول ا صلى ا عليه وسلم وفد تقريش إلى أبي طالب تقريش يهددون أبا طالب تقريش بين يدى أبي طالب مرة ألخرى اعتداءات على رسول ا صلى ا عليه وسلم دار الرتقم الهجرة الولى إلى الحبشة سجود المشركين مع المسلمين وعودة المهاجرين الهجرة الثانية إلى الحبشة مكيدة تقريش بمهاجري الحبشة الشدة في التعذيب ومحاولة القطضاء على رسول ا صلى ا عليه وسلم
موقف المشركين من رسول ال صلى ال عليه وسل م وأما بالنسبة لرسول ال صلى ال عليه وسل م فإنه صلى ال عليه وسل م كان رجًل شهًم اـ وقوًرا ذا شخصية فذ ة، تتعاظمه نفوس العداء والصدقاء بحيث ل يقابل مثله إل بالجلل والتشريف ،ول يجترئ على اقتراف الدنايا والرذائل ضده إل أراذل الناس وسفهاؤه م ،ومع ذلك كان في منعة أبي طالب ،وأبو طالب من رجال مكة المعدودين ،كان معظًم اـ في أصله ،معظًم اـ بين الناس ،فكان من الصعب أن يجسر أحد على إخفار ذمته واستباحة بيضته ،إن هذا الوضع أقلق قريًش اـ وأقامه م وأقعده م ،ودعاه م إلى تفكير سلي م يخرجه م من المأزق دون أن يقعوا في محذور ل يحمد عقباه ،وقد هداه م ذلك إلى أن يختاروا سبيل المفاوضات مع المسئول الكبر :أبي طالب ،ولكن مع شيء كبير من الحكمة والجدية ،ومع نوع من أسلوب التحدي والتهديد الخفي حتى يذعن لما يقولون.
وفد قريش إلى أبي طالب قال ابن إسحاق :مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب ،فقالوا :يا أبا طالب ،إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا ،وَس فّـه أحلمنا ،وضلل آباءنا ،فإما أن تكفه عنا ،إواما أن تخلى بيننا وبينه ،فإنك على مثل ما نحن عليه من خلفه ،فنكفيكه ،فقال له م أبو طالب قوًل رقيًقا ورده م رًد اـ جميًل ،ـ ـفانصرفوا عنه ،ومضى رسول ال
صلى ال عليه وسل م على ما هو عليه ،يظهر دين ال ويدعو إليه .ولكن ل م تصبر قريش طويًل حين رأته صلى ال عليه وسل م ماضًيا في عمله ودعوته إلى ال ،بل أكثرت ذكره وتذامرت فيه ،حتى قررت مراجعة أبي طالب بأسلوب أغلظ وأقسى من السابق.
قريش يهددون أبا طالب وجاءت سادات قريش إلى أبي طالب فقالوا له :يا أبا طالب ،إن لك سًناـ وشرًفا ومنزلة فينا ،إوانا قد استنهيناك من ابن أخيك فل م تنهه عنا ،إوانا وال ل نصبر على هذا من شت م آبائنا ،وتسفيه أحلمنا ،وعيب آلهتنا ،حتى تكفه عنا ،أو ننازله إواياك في ذلك ،حتى يهلك أحد الفريقين.
َع ظُـ م على أبي طالب هذا الوعيد والتهديد الشديد ،فبعث إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م وقال له :يا بن
أخي ،إن قومك قد جاءونى فقالوا لي كذا وكذا ،فأبق علّي وعلى نفسك ،ول تحملنى من المر ما ل أطيق ،فظن رسول ال صلى ال عليه وسل م أن عمه خاذله ،وأنه ضُعف عن نصرته ،فقال :)يا ع م ،وال لو وضعوا الشمس
في يمينى والقمر في يسارى على أن أترك هذا المر ـ حتى يظهره ال أو أهلك فيه ـ ما تركته( ،ث م استعبر وبكى ،وقا م ،فلما ولى ناداه أبو طالب ،فلما أقبل قال له :اذهب يا بن أخي ،فقل ما أحببت ،فو ال ل أُْس ِلـُم كـ لشىء أبًد اـ وأنشد: وال لن يصلوا إليك بَج ْمـعـِِه مـ ** حتى أَُو ّسـَدـ في الت ـراب دفي ـًنا ض ة ـ** واْب ِشـ ْر ـوقَّر بذاك منك عيوًنا ضـ ا ـ َ فاصدع بأمرك ما عليك َغ َ وذلك في أبيات.
قريش بين يدى أبي طالب مر ة أخرى ولما رأت قريش أن رسول ال صلى ال عليه وسل م ماض في عمله عرفت أن أبا طالب قد أبي خذلن رسول ال صلى ال عليه وسل م ،وأنه مجمع لفراقه م وعداوته م في ذلك ،فذهبوا إليه بعمار ة ابن الوليد بن المغير ة وقالوا له :يا أبا طالب ،إن هذا الفتى أْن هَـَد فتى في قريش وأجمله ،فخذه فلك عقله ونصره ،واتخذه ولًد اـ فهو لك ،وأْس ِلـْ م إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك ،وفرق جماعة قومك ،وسفه أحلمه م ،فنقتله ،فإنما هو رجل برجل، فقال :وال لبئس ما تسومونني ،أتعطوني ابنك م أغذوه لك م ،وأعطيك م ابني تقتلونه؟ هذا وال ما ل يكون أبًد اـ.
فقال المطع م بن عدى بن نوفل ابن عبد مناف :وال يا أبا طالب لقد أنصفك قومك ،وجهدوا على التخلص مما تكره ،فما أراك تريد أن تقبل منه م شيًئا ،فقال :وال ما أنصفتموني ،ولكنك قد أجمعت خذلني ومظاهر ة القو م علّى ،ـ فاصنع ما بدا لك.
ولما فشلت قريش في هذه المفاوضات ،ول م توفق في إقناع أبي طالب بمنع رسول ال صلى ال عليه وسل م وكفه عن الدعو ة إلى ال ،قررت أن يختار سبيل قد حاولت تجنبه والبتعاد منه مخافة مغبته وما يؤول إليه ،وهو سبيل العتداء على ذات الرسول صلى ال عليه وسل م.
اعتداءات على رسول ال صلى ال عليه وسل م واخترقت قريش ما كانت تتعاظمه وتحترمه منذ ظهرت الدعو ة على الساحة ،فقد صعب على غطرستها وكبريائها أن تصبر طويًل ،ـ ـفمدت يد العتداء إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م ،مع ما كانت تأتيه من السخرية
والستهزاء والتشوية والتلبيس والتشويش وغير ذلك .وكان من الطبيعى أن يكون أبو لهب في مقدمته م وعلى
رأسه م ،فإنه كان أحد رؤوس بني هاش م ،فل م يكن يخشى ما يخشاه الخرون ،وكان عدًواـ لدوًد اـ للسل م وأهله، وقد وقف موقف العداء من رسول ال صلى ال عليه وسل م منذ اليو م الول ،واعتدى عليه قبل أن تفكر فيه قريش ،وقد أسلفنا ما فعل بالنبي صلى ال عليه وسل م في مجلس بني هاش م ،وما فعل على الصفا. وكان أبو لهب قد زوج ولديه عتبة وعتيبة ببنتى رسول ال صلى ال عليه وسل م رقية وأ م كلثو م قبل البعثة ،فلما كانت البعثة أمرهما بتطليقهما بعنف وشد ة حتى طلقاهما. ولما مات عبد ال ـ البن الثاني لرسول ال صلى ال عليه وسل م ـ استبشر أبو لهب وذهب إلى المشركين يبشره م بأن محمًد اـ صار أبتر. وقد أسلفنا أن أبا لهب كان يجول خلف النبي صلى ال عليه وسل م في موس م الحج والسواق لتكذيبه ،وقد روى طارق بن عبد ال المحاربى ما يفيد أنه كان ل يقتصر على التكذيب بل كان يضربه بالحجر حتى يدمى عقباه. وكانت امرأ ة أبي لهب ـ أ م جميل أروى بنت حرب بن أمية ،أخت أبي سفيان ـ ل تقل عن زوجها في عداو ة النبي صلى ال عليه وسل م ،فقد كانت تحمل الشوك ،وتضعه في طريق النبي صلى ال عليه وسل م وعلى بابه ليًل ،ـ ـ وكانت امرأ ة سليطة تبسط فيه لسانها ،وتطيل عليه الفتراء والدس ،وتؤجج نار الفتنة ،وتثير حرًباـ شعواء على
النبي صلى ال عليه وسل م؛ ولذلك وصفها القرآن بحمالة الحطب.
ولما سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن أتت رسول ال صلى ال عليه وسل م وهو جالس في المسجد عند الكعبة ،ومعه أبو بكر الصديق وفي يدها ِفْهـٌر ]أي بمقدار ملء الكف[ من حجار ة ،فلما وقفت عليهما أخذ ال
ببصرها عن رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فل ترى إل أبا بكر ،فقالت :يا أبا بكر ،أين صاحبك؟ قد بلغنى أنه يهجونى ،وال لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه ،أما وال إني لشاعر ة .ث م قالت: ُم َذـّمـمـا عصينا * وأمره أبينا * ودينه َقلَْي نـا ث م انصرفت ،فقال أبو بكر :يا رسول ال ،أما تراها رأتك؟ فقال :)ما رأتنى ،لقد أخذ ال ببصرها عني(. وروى أبو بكر البزار هذه القصة ،وفيها :أنها لما وقفت على أبي بكر قالت :أبا بكر ،هجانا صاحبك ،فقال أبو
بكر :ل ورب هذه البنية ،ما ينطق بالشعر ول يتفوه به ،فقالت :إنك لُم صـّد قـ.
كان أبو لهب يفعل كل ذلك وهو ع م رسول ال صلى ال عليه وسل م وجاره ،كان بيته ملصقا ببيته ،كما كان غيره من جيران رسول ال صلى ال عليه وسل م يؤذونه وهو في بيته. قال ابن إسحاق :كان النفر الذين يؤذون رسول ال صلى ال عليه وسل م في بيته أبا لهب ،والحك م بن أبي العاص بن أمية ،وعقبة بن أبي معيط ،وعدى بن حمراء الثقفي ،وابن الصداء الهذلى ـ وكانوا جيرانه ـ ل م يسل م منه م أحد إل الحك م بن أبي العاص ،فكان أحده م يطرح عليه صلى ال عليه وسل م رح م الشا ة وهو يصلى ،وكان أحده م يطرحها في برمته إذا نصبت له ،حتى اتخذ رسول ال صلى ال عليه وسل م حجًرا ليستتر به منه م إذا صلى فكان رسول ال صلى ال عليه وسل م إذا طرحوا عليه ذلك الذى يخرج به على العود ،فيقف به على بابه، ث م يقول :)يا بني عبد مناف ،أي جوار هذا؟( ث م يلقيه في الطريق. وازداد عقبة بن أبي ُم َعـْيـطـ في شقاوته وخبثه ،فقد روى البخاري عن عبد ال بن مسعود رضي ال عنه:أن النبي صلى ال عليه وسل م كان يصلى عند البيت ،وأبو جهل وأصحاب له جلوس؛ إذ قال بعضه م لبعض :أيك م يجىء لـ َج ُزـ وـربني فلن فيضعه على ظهر محمد إذا سجد ،فانبعث أشقى القو م ]وهو عقبة بن أبي معيط[ فجاء به بَس َ
فنظر ،حتى إذا سجد النبي وضع على ظهره بين كتفيه ،وأنا أنظر ،ل أغنى شيًئا ،لو كانت لي منعة ،قال: فجعلوا يضحكون ،ويحيل بعضه م على بعضه م ]أي يتمايل بعضه م على بعض مرًح ا ـ وبطًرا[ ورسول ال صلى ال عليه وسل م ساجد ،ل يرفع رأسه ،حتى جاءته فاطمة ،فطرحته عن ظهره ،فرفع رأسه ،ث م قال] :ال م عليك بقريش[ ثلث مرات ،فشق ذلك عليه م إذ دعا عليه م ،قال :وكانوا يرون أن الدعو ة في ذلك البلد مستجابة ،ث م سمى :)ال م عليك بأبي جهل ،وعليك بعتبة بن ربيعة ،وشيبة بن ربيعة ،والوليد بن عتبة ،وأمية بن خلف،
وعقبة بن أبي معيط( ـ وعد السابع فل م نحفظه ـ فوالذي نفسى بيده لقد رأيت الذين عّد رسول ال صلى ال عليه وسل م صرعى في الَقِليب ،قليب بدر.
وكان أمية بن خلف إذا رأي رسول ال صلى ال عليه وسل م همزه ولمزه .وفيه نزل :} َوْيـٌلـلُّك ّلـ ُهَم َزـٍ ةلَّم َزـٍ ة{ ]سور ة الهمز ة [1:قال ابن هشا م :الهمز ة :الذي يشت م الرجل علنية ،ويكسر عينيه ،ويغمز به .واللمز ة :الذي يعيب الناس سًرا ،ويؤذيه م. أما أخوه أبي بن خلف فكان هو وعقبة بن أبي معيط متصافيين .وجلس عقبة مر ة إلى النبي صلى ال عليه وسل م وسمع منه ،فلما بلغ ذلك أبًيا أنبه وعاتبه ،وطلب منه أن يتفل في وجه رسول ال صلى ال عليه وسل م ففعل ،وأبي بن خلف نفسه فت عظًم اـ رميًم اـ ث م نفخه في الريح نحو رسول ال صلى ال عليه وسل م. وكان الخنس بن َش ِرـيـق الثقفي ممن ينال من رسول ال صلى ال عليه وسل م وقد وصفه القرآن بتسع صفات تدل على ما كان عليه ،وهي في قوله تعالى:} وَل تُِط ع ـ ُك ّلـ َح ّلـ ٍ ف ـّـم ِهـيـٍن َهّمـاـٍز ّم ّشـاـء بَِنِم يـٍ م َم ّنـاٍع لّْلَخ ْي ـِرـ ُم ْعـتَـٍد أَِثيٍ م ْ َ ك َز نِــيٍ م{ ]القل م.[13 :10: ُع تُـّل َبْع َدـ َذ ِلـ َ وكان أبو جهل يجىء أحياًنا إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م يسمع منه القرآن ،ث م يذهب عنه فل يؤمن ول يطيع ،ول يتأدب ول يخشى ،ويؤذى رسول ال صلى ال عليه وسل م بالقول ،ويصد عن سبيل ال ،ث م يذهب ص لّــى{ ]القيامة: ص ّد ـ َ قـ َوَل َ مختاًل بما فعل ،فخوًرا بما ارتكب من الشر ،كأن ما فعل شيًئاـ يذكر ،وفيه نزل :}فََل َ ،[31وكان يمنع النبي صلى ال عليه وسل م عن الصل ة منذ أول يو م رآه يصلى في الحر م ،ومر ة مر به وهو يصلى عند المقا م فقال :يا محمد ،أل م أنهك عن هذا ،وتوعده ،فأغلظ لــه رسـول ال صلى ال عليه وسل م وانتـهره، عـ الّز َبـانَِيَة{ عـ َناِد َيــه َس َنـْد ُ فقال :يا محمد ،بأي شىء تهددنى؟ أما وال إني لكثر هذا الوادى نادًيا .فأنزل ال } َفْلَيْد ُ ك فَأَْو لَــى ثُّ م ]العلق .[18 ،17:وفي رواية أن النبي صلى ال عليه وسل م أخذ بخناقه وهزه ،وهو يقول له:} أَْولَــى لَ َ ك فَأَْو لَــى{ ]القيامة [35 ،34:فقال عدو ال :أتوعدنى يا محمد؟ وال ل تستطيع أنت ول ربك شيًئا ،إواني أَْو لَــى لَ َ لعز من مشى بين جبليها. ول م يكن أبو جهل ليفيق من غباوته بعد هذا النتهار ،بل ازداد شقاو ة فيما بعد .أخرج مسل م عن أبي هرير ة قال: قال أبو جهل :يعفر محمد وجهه بين أظهرك م؟ فقيل :نع م ،فقال :واللت والعزى ،لئن رأيته لطأن على رقبته، ولعفرن وجهه ،فأتى رسول ال صلى ال عليه وسل م وهو يصلى ،زع م ليطأ رقبته ،فما فجأه م إل وهو ينكص على عقبيه ،ويتقى بيديه ،فقالوا :ما لك يا أبا الحك م؟ قال :إن بينى وبينه لخندًقا من نار وهوًل وأجنحًة ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)لو دنا منى لختطفته الملئكة عضًواـ عضًواـ(. هذه صور ة مصغر ة جًد اـ لما كان يتلقاه رسول ال صلى ال عليه وسل م والمسلمون من الظل م والخسف والجور على أيدى طغا ة المشركين ،الذين كانوا يزعمون أنه م أهل ال وسكان حرمه.
وكان من مقتضيات هذه الظروف المتأزمة أن يختار رسول ال صلى ال عليه وسل م موقًفا حازًم اـ ينقذ به المسلمين عما دهمه م من البلء ،ويخفف وطأته بقدر المستطاع ،وقد اتخذ رسول ال صلى ال عليه وسل م خطوتين حكيمتين كان لهما أثرهما في تسيير الدعو ة وتحقيق الهدف ،وهما: 1ـ اختيار دار الرق م بن أبي الرق م المخزومى مرك از للدعو ة ومقًرا للتربية. 2ـ أمر المسلمين بالهجر ة إلى الحبشة.
دار الرق م كانت هذه الدار في أصل الصفا ،بعيد ة عن أعين الطغا ة ومجالسه م ،فاختارها رسول ال صلى ال عليه وسل م ليجتمع فيها بالمسلمين سًرا ،فيتلو عليه م آيات ال ويزكيه م ويعلمه م الكتاب والحكمة؛ وليؤدى المسلمون عبادته م وأعماله م ،ويتلقوا ما أنزل ال على رسوله وه م في أمن وسل م ،وليدخل من يدخل في السل م ول يعل م به الطغا ة من أصحاب السطو ة والنقمة. ومما ل م يكن يشك فيه أن رسول ال صلى ال عليه وسل م لو اجتمع بالمسلمين علنا لحاول المشركون بكل ما عنده م من القسو ة والغلظة أن يحولوا بينه وبين ما يريد من تزكية نفوسه م ومن تعليمه م الكتاب والحكمة ،وربما أفضى ذلك إلى مصادمة الفريقين ،بل قد وقع ذلك فعًل .فقد ذكر ابن إسحاق أن أصحاب رسول ال صلى ال
عليه وسل م كانوا يجتمعون في الشعاب ،فيصلون فيها سًرا ،فرآه م نفر من كفار قريش ،فسبوه م وقاتلوه م ،فضرب
سعد بن أبي وقاص رجًل فسال دمه ،وكان أول د م هريق في السل م.
ومعلو م أن المصادمة لو تعددت وطالت لفضت إلى تدمير المسلمين إوابادته م ،فكان من الحكمة السريةُ والختفاء ،فكان عامة الصحابة ُيْخ فُــون إسلمه م وعبادته م واجتماعه م ،أما رسول ال صلى ال عليه وسل م فكان
ظهراني المشركين ،ل يصرفه عن ذلك شىء ،ولكن كان يجتمع مع المسلمين سًرا؛ يجهر بالدعو ة والعباد ة بين إ نظًرا لصالحه م وصالح السل م. الهجر ة الولى إلى الحبشة كانت بداية العتداءات في أواسط أو أواخر السنة الرابعة من النبو ة ،بدأت ضعيفة ،ث م ل م تزل تشتد يوًم اـ فيوًم اـ
وشهًرا فشهرا ،حتى تفاقمت في أواسط السنة الخامسة ،ونبا به م المقا م في مكة ،وأخذوا يفكرون في حيلة تنجيه م
من هذا العذاب اللي م ،وفي هذه الظروف نزلت سور ة الزمر تشير إلى اتخاذ سبيل الهجر ة ،وتعلن بأن أرض ال ص اـبُِر وـَنأَْج َرـُه مبَِغْيـِرـ ِح َسـاـٍب{ ض ـال ِ َواـِس َع ـةٌـِإّنَم اـ ُيَو فّــى ال ّ ليست بضيقة } ِللِّذيـَن َأْح َس ـُنـوا ِفيـ َهِذـ ِهـ الّد ْنـَيـا َح َسـَنـةٌ َوَأـْر ُ ]الزمر.[10:
ص َح ـَمـةـالنجاشى ملك الحبشة ملك عادل ،ل يظل م عنده أحد، وكان رسول ال صلى ال عليه وسل م قد عل م أن أ ْ فأمر المسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة ف ارًرا بدينه م من ال م ،لكن لما بلغت إلى الشاطئ كانوا قد انطلقوا آمنين، وأقا م المسلمون في الحبشة في أحسن جوار.
سجود المشركين مع المسلمين وعود ة المهاجرين وفي رمضان من نفس السنة خرج النبي صلى ال عليه وسل م إلى الحر م ،وفيه جمع كبير من قريش ،فيه م ساداته م وكبراؤه م ،فقا م فيه م ،وفاجأه م بتلو ة سور ة النج م ،ول م يكن أولئك الكفار سمعوا كل م ال من قبل؛ لنه م ض اــ،من قوله م :}َل تَْس َمـُعـوا ِلهََذ اـ اْلقُْرآِن َواـْلَغ ْوـاـِفيـِه لََع لّـُك ْ مـ تَْغ ِلـُبوَن{ كانوا مستمرين على ما تواصى به بعضه م بع ً ]فصلت [26:فلما باغته م بتلو ة هذه السور ة ،وقرع آذانه م كل م إلهي خلب ،وكان أروع كل م سمعوه قط ،أخذ مشاعره م ،ونسوا ما كانوا فيه فما من أحد إل وهو مصغ إليه ،ل يخطر بباله شىء سواه ،حتى إذا تل في خواتي م هذه السور ة قوارع تطير لها القلوب ،ث م ق أر :} َفاْسُجـُدـوـا ِللِّه َواـْع ُبـُد وـا{ ]النج م [62:ث م سجد ،ل م يتمالك أحد نفسه حتى خر ساجًد اـ .وفي الحقيقة كانت روعة الحق قد صدعت العناد في نفوس المستكبرين والمستهزئين ،فما تمالكوا أن يخروا ل ساجدين.
ط في أيديه م لما أحسوا أن جلل كل م ال َلّوى زمامه م ،فارتكبوا عين ما كانوا يبذلون قصارى جهده م في وَس قَـ َ محوه إوافنائه ،وقد توالى عليه م اللو م والعتاب من كل جانب ،ممن ل م يحضر هذا المشهد من المشركين ،وعند
ذلك كذبوا على رسول ال صلى ال عليه وسل م وافتروا عليه أنه عطف على أصنامه م بكلمة تقدير ،وأنه قال
عنها ما كانوا يرددونه ه م دائما من قوله م :)تلك الغرانيـق العلى ،إوان شفاعته م لترتجى( ،جاءوا بهذا الفك المبـين ليعـتذروا عـن سجوده م مع النبي صلى ال عليه وسل م ،وليس يستغ ــرب هـذا مـن قـو م كانوا يألفون الكذب، ويطيلون الدس والفتراء. وبلغ هذا الخبر إلى مهاجري الحبشة ،ولكن في صور ة تختلف تماًم اـ عن صورته الحقيقية ،بلغه م أن قريًش اـ أسلمت ،فرجعوا إلى مكة في شوال من نفس السنة ،فلما كانوا دون مكة ساعة من نهار وعرفوا جلية المر رجع منه م من رجع إلى الحبشة ،ول م يدخل في مكة من سائره م أحد إل مستخفًيا ،أو في جوار رجل من قريش. ث م اشتد عليه م وعلى المسلمين البلء والعذاب من قريش ،وسطت به م عشائره م ،فقد كان صعب على قريش ما بلغها عن النجاشي من حسن الجوار ،ول م ير رسول ال صلى ال عليه وسل م بدا من أن يشير على أصحابه بالهجر ة إلى الحبشة مر ة أخرى.
الهجر ة الثانية إلى الحبشة واستعد المسلمون للهجر ة مر ة أخرى ،وعلى نطاق أوسع ،ولكن كانت هذه الهجر ة الثانية أشق من سابقتها ،فقد تيقظت لها قريش وقررت إحباطها ،بيد أن المسلمين كانوا أسرع ،ويسر ال له م السفر ،فانحازوا إلى نجاشي الحبشة قبل أن يدركوا. وفي هذه المر ة هاجر من الرجال ثلثة وثمانون رجًل إن كان فيه م عمار ،فإنه يشك فيه ،وثماني عشر ة أوتسع
عشر ة امرأ ة.
مكيد ة قريش بمهاجري الحبشة عز على المشركين أن يجد المهاجرون مأمنا لنفسه م ودينه م ،فاختاروا رجلين جلدين لبيبين ،وهما :عمرو بن العاص ،وعبد ال بن أبي ربيعة ـ قبل أن يسلما ـ وأرسلوا معهما الهدايا المستطرفة للنجاشي ولبطارقته ،وبعد أن ساق الرجلن تلك الهدايا إلى البطارقة ،وزوداه م بالحجج التي يطرد بها أولئك المسلمون ،وبعد أن اتفقت البطارقة أن يشيروا على النجاشي بإقصائه م ،حض ار إلى النجاشي ،وقدما له الهديا ث م كلماه فقال له: ض َوــى إلى بلدك غلمان سفهاء ،فارقوا دين قومه م ،ول م يدخلوا في دينك ،وجاءوا بدين ابتدعوه، أيها الملك ،إنه قد َ ل نعرفه نحن ول أنت ،وقد بعثنا إليك فيه م أشراف قومه م من آبائه م وأعمامه م وعشائره م؛ لترده م إليه م ،فه م أعلى به م عيًنا ،وأعل م بما عابوا عليه م ،وعاتبوه م فيه. وقالت البطارقة :صدقا أيها الملك ،فأسلمه م إليهما ،فليرداه م إلى قومه م وبلده م. ولكن رأي النجاشي أنه ل بد من تمحيص القضية ،وسماع أطرافها جميًعاـ .فأرسل إلى المسلمين ،ودعاه م، فحضروا ،وكانوا قد أجمعوا على الصدق كائًنا ما كان .فقال له م النجاشي :ما هذا الدين الذي فارقت م فيه قومك م، ول م تدخلوا به في دينى ول دين أحد من هذه الملل ؟
قال جعفر بن أبي طالب ـ وكان هو المتكل م عن المسلمين :أيها الملك كنا قوًم اـ أهل جاهلية؛ نعبد الصنا م ونأكل الميتة ،ونأتى الفواحش ،ونقطع الرحا م ،ونسىء الجوار ،ويأكل منا القوى الضعيف ،فكنا على ذلك حتى بعث ال إلينا رسوًل منا ،نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ،فدعانا إلى ال لنوحده ونعبده ،ونخلع ما كنا نعبد
نحن وآباؤنا من دونه من الحجار ة والوثان ،وأمرنا بصدق الحديث ،وأداء المانة ،وصلة الرح م ،وحسن الجوار، والكف عن المحار م والدماء ،ونهانا عن الفواحش ،وقول الزور ،وأكل مال اليتي م،وقذف المحصنات،وأمرنا أن نعبد
ال وحده،ل نشرك به شيًئا،وأمرنا بالصل ة والزكا ة والصيا م ـ فعدد عليه أمور السل م ـ فصدقناه ،وآمنا به،
واتبعناه على ما جاءنا به من دين ال ،فعبدنا ال وحده ،فل م نشرك به شيًئا ،وحرمنا ما حر م علينا ،وأحللنا ما أحل لنا ،فعدا علينا قومنا ،فعذبونا وفتنونا عن ديننا؛ ليردونا إلى عباد ة الوثان من عباد ة ال تعالى ،وأن نستحل
ما كنا نستحل من الخبائث ،فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا ،وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك ،ورغبنا في جوارك ،ورجونا أل نظل م عندك أيها الملك. فقال له النجاشي :هل معك مما جاء به عن ال من شيء؟ فقال له جعفر :نع م .فقال له النجاشي :فاقرأه على، ض ـلُـوا فق أر عليه صدًرا من :}كهيعص{ فبكى وال النجاشي حتى اخضلت لحيته ،وبكت أساقفته حتى أْخ َ
مصاحفه م حين سمعوا ما تل عليه م ،ث م قال له م النجاشي :إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكا ة واحد ة ،انطلقا ،فل وال ل أسلمه م إليكما ،ول يكادون ـ يخاطب عمرو بن العاص وصاحبه ـ فخرجا ،فلما خرجا
قال عمرو بن العاص لعبد ال بن أبي ربيعة :وال لتينه غًد اـ عنه م بما أستأصل به خضراءه م .فقال له عبد ال بن أبي ربيعة :ل تفعل ،فإن له م أرحاًم اـ إوان كانوا قد خالفونا ،ولكن أصر عمرو على رأيه. فلما كان الغد قال للنجاشي :أيها الملك ،إنه م يقولون في عيسى ابن مري م قوًل عظيًم اـ ،فأرسل إليه م النجاشي يسأله م عن قوله م في المسيح ففزعوا ،ولكن أجمعوا على الصدق ،كائًنا ما كان ،فلما دخلوا عليه وسأله م ،قال له جعفر :نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى ال عليه وسل م :هو عبد ال ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مري م العذراء الَبُتول . فأخذ النجاشي عوًد اـ من الرض ث م قال :وال ما عدا عيسى ابن مري م ما قلت هذا العود ،فتناخرت بطارقته، فقال :إوان َنَخ ْر ـتُـ موال . ث م قال للمسلمين :اذهبوا فأنت م ُش ُيـوٌ م بأرضي ـ والشيو م :المنون بلسان الحبشة ـ من َس ّبـك م َغ ِرـ مـ ،من سبك م غر م، من سبك م غر م ،ما أحب أن لى َد ْبـًرـامن ذهب إواني آذيت رجًل منك م ـ والدبر :الجبل بلسان الحبشة. ث م قال لحاشيته :رّد وـا عليهما هداياهما فل حاجة لى بها ،فوال ما أخذ ال منـي الرشـو ة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشـو ة فيــه ،وما أطاع الناس في فأطيعـه م فيه. قالت أ م سلمة التي تروى هذه القصة :فخرجا من عنده مقبوحين مردوًد اـ عليهما ما جاءا به ،وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار. هذه رواية ابن إسحاق ،وذكر غيره أن وفاد ة عمرو بن العاص إلى النجاشي كانت بعد بدر ،وجمع بعضه م بأن
الوفاد ة كانت مرتين .ولكن السئلة والجوبة التي ذكروا أنها دارت بين النجاشي وبين جعفر بن أبي طالب في الوفاد ة الثانية هي نفس السئلة والجوبة التي ذكرها ابن إسحاق هنا ،ث م إن تلك السئلة تدل بفحواها أنها كانت في أول مرافعة قدمت إلى النجاشي.
الشد ة في التعذيب ومحاولة القضاء على رسول ال صلى ال عليه وسل م ظا، ولما أخفق المشركون في مكيدته م ،وفشلوا في استرداد المهاجرين استشاطوا غضًبا ،وكادوا يتميزون غي ً فاشتدت ضراوته م وانقضوا على بقية المسلمين ،ومدوا أيديه م إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م بالسوء، وظهرت منه م تصرفات تدل على أنه م أرادوا القضاء على رسول ال صلى ال عليه وسل م؛ ليستأصلوا جذور الفتنة التي أقضت مضاجعه م ،حسب زعمه م. أما بالنسبة للمسلمين فإن الباقين منه م في مكة كانوا قليلين جًد اـ ،وكانوا إما ذوى شرف ومنعة ،أو محتمين بجوار أحد ،ومع ذلك كانوا يخفون إسلمه م ويبتعدون عن أعين الطغا ة بقدر المكان ،ولكنه م مع هذه الحيطة والحذر
ل م يسلموا كل السلمة من الذى والخسف والجور. وأما رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فقد كان يصلى ويعبد ال أما م أعين الطغا ة ،ويدعو إلى ال سًرا وجهًرا ل
يمنعه عن ذلك مانع ،ول يصرفه عنه شيء؛ إذ كان ذلك من جملة تبليغ رسالة ال منذ أمره ال سبحانه وتعالى ضـَع ِنـ اْلُم ْشـِرـِكـيـ َ{ن ]الحجر ،[94:وبذلك كان يمكن للمشركين أن يتعرضوا له إذا صَد ـ ْ عـ بَِم اـ تُْؤ َمـُرـ َوَأـْع ِرـ ْ بقوله :} َفا ْ أرادوا ،ول م يكن في الظاهر ما يحول بينه م وبين ما يريدون إل ما كان له صلى ال عليه وسل م من الحشمة والوقار ،وما كان لبي طالب من الذمة والحترا م ،وما كانوا يخافونه من مغبة سوء تصرفاته م ،ومن اجتماع بني هاش م عليه م ،إل أن كل ذلك ل م يعد له أثره المطلوب في نفوسه م؛ إذ بدءوا يستخفون به منذ شعروا بانهيار كيانه م الوثنى وزعامته م الدينية أما م دعوته صلى ال عليه وسل م. ومما روت لنا كتب السنة والسير ة من الحداث التي تشهد القرائن بأنها وقعت في هذه الفتر ة :أن عتيبة بن أبي لهب أتى يوًم اـ رسول ال صلى ال عليه وسل م فقال :أنا أكفر بـ } َواـلّنْجِ م ـِإَذ اـ َه َوـى{ ]النج م [1:وبالذي }ثُّ م َد َنـاـ فَتََد لّـى{ ]النج م [8:ث م تسلط عليه بالذى ،وشق قميصه ،وتفل في وجهه صلى ال عليه وسل م ،إل أن البزاق ل م
يقع عليه ،وحينئذ دعا عليه النبي صلى ال عليه وسل م وقال :)ال م سلط عليه كلًبا من كلبك( ،وقد استجيب دعاؤه صلى ال عليه وسل م ،فقد خرج عتيبة إثر ذلك في نفر من قريش ،فلما نزلوا بالزرقاء من الشا م طاف به م السد تلك الليلة ،فجعل عتيبة يقول :يا ويل أخي هو وال آكلى كما دعا محمد علّى ،ـ قتلنى وهو بمكة ،وأنا بالشا م ،ث م جعلوه بينه م ،وناموا من حوله ،ولكن جاء السد وتخطاه م إليه ،فضغ م رأسه.
ومنها :ما ذكر أن عقبة بن أبي ُم َعـْيـطـ وطئ على رقبته الشريفة وهو ساجد حتى كادت عيناه تبرزان. ومما يدل على أن طغاته م كانوا يريدون قتله صلى ال عليه وسل م ما رواه ابن إسحاق عن عبد ال ابن عمرو بن العاص قال :حضرته م وقد اجتمعوا في الحجر ،فذكروا رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فقالوا :ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل ،لقد صبرنا منه على أمر عظي م ،فبينا ه م كذلك إذ طلع رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فأقبل يمشى حتى استل م الركن ،ث م مر به م طائًفا بالبيت فغمزوه ببعض القول ،فعرفت ذلك في وجه رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فلما مر به م الثانية غمزوه بمثلها ،فعرفت ذلك في وجهه ،ث م مر به م الثالثة فغمزوه بمثلها .فوقف ث م قال :)أتسمعون يا معشر قريش ،أما والذي نفسى بيده ،لقد جئتك م بالذبح( ،فأخذت القو م كلمته ،حتى ما منه م رجل إل كأنما على رأسه طائر واقع ،حتى إن أشده م فيه ليرفؤه بأحسن ما يجد ،ويقول: انصرف يا أبا القاس م ،فو ال ما كنت جهوًل. فلما كان الغد اجتمعوا كذلك يذكرون أمره إذ طلع عليه م ،فوثبوا إليه وثبة رجل واحد وأحاطوا به ،فلقد رأيت رجًل منه م أخذ بمجمع ردائه ،وقا م أبو بكر دونه ،وهو يبكى ويقول :أتقتلون رجًل أن يقول ربي ال ؟ ث م انصرفوا ص ا ـ. عنه ،قال ابن عمرو :فإن ذلك لشد ما رأيت قريًش اـ نالوا منه قط .انتهي ملخ ً
وفي رواية البخاري عن عرو ة بن الزبير قال :سألت ابن عمرو بن العاص :أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي صلى ال عليه وسل م ،قال :بينا النبي صلى ال عليه وسل م يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط ،فوضع ثوبه في عنقه ،فخنقه خنًقا شديًد اـ؛ فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبيه ،ودفعه عن النبي صلى ال عليه وسل م ،وقال :أتقتلون رجًل أن يقول ربي ال ؟. وفي حديث أسماء :فأتى الصريخ إلى أبي بكر فقال :أدرك صاحبك ،فخرج من عندنا وعليه غدائر أربـع ،فـخرج وهــو يـقول :أتقتلون رجًل أن يقول ربي ال ؟ فلهوا عنه وأقبلوا على أبي بكر ،فرجع إلينا ل نمس شيًئاـ من غدائره إل رجع معنــا.
دخول كبار الصحابة فى السل م إسل م حمز ة رضي ال عنه خلل هذا الجو الملبد بغيو م الظل م والعدوان ظهر برق أضاء الطريق ،وهو إسل م حمز ة بن عبد المطلب رضي ال عنه أسل م في أواخر السنة السادسة من النبو ة ،والغلب أنه أسل م في شهر ذى الحجة. وسبب إسلمه :أن أبا جهل مر برسول ال صلى ال عليه وسل م يوًم اـ عند الصفا فآذاه ونال منه ،ورسول ال صلى ال عليه وسل م ساكت ل يكلمه ،ث م ضربه أبو جهل بحجر في رأسه فََش ّجـ هُـ حتى نزف منه الد م ،ث م انصرف عنه إلى نادى قريش عند الكعبة ،فجلس معه م ،وكانت مول ة لعبد ال بن ُج ْدـَعـاـن في مسكن لها على الصفا ترى ذلك ،وأقبل حمز ة من القََنص ُم تَـَو ّش ـًحـ ا ـقوسه ،فأخبرته المول ة بما رأت من أبي جهل ،فغضب حمز ة ـ وكان أعز فتى في قريش وأشده شكيمة ـ فخرج يسعى ،ل م يقف لحد؛ معًد اـ لبي جهل إذا لقيه أن يوقع به ،فلما دخل المسجد قا م على رأسه،
صـ فّـَر اْس تَـه ،تشت م ابن أخي وأنا على دينه ؟ ث م ضربه بالقوس فشجه شجة منكر ة ،فثار رجال من بني وقال له :يا ُم َ مخزو م ـ حى أبي جهل ـ وثار بنو هاش م ـ حي حمز ة ـ فقال أبو جهل :دعوا أبا عمار ة ،فإني سببت ابن أخيه سًبا قبيًح ا ـ.
وكان إسل م حمز ة أول المر أنفة رجل ،أبي أن يهان موله ،ث م شرح ال صدره فاستمسك بالعرو ة الوثقى ،واعتز به المسلمون أيما اعتزاز. إسل م عمر بن الخطاب رضي ال عنه وخلل هذا الجو الملبد بغيو م الظل م والعدوان أضاء برق آخر أشد بريًقا إواضاء ة من الول ،أل وهو إسل م عمر بن الخطاب ،أسل م في ذى الحجـة سـنة سـت مـن النبـو ة .بعد ثلثة أيا م من إسل م حمز ة رضي ال عنه وكان النبي صلى ال عليه وسل م قد دعا ال تعالى لسلمه .فقد أخرج الترمذى عن ابن عمر ،وصححه ،وأخرج الطبراني عن ابن مسعود وأنس أن النبي صلى ال عليه وسل م قال :)ال م أعز السل م بأحب الرجلين إليك :بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشا م( فكان أحبهما إلى ال عمر رضي ال عنه. وبعد إدار ة النظر في جميع الروايات التي رويت في إسلمه يبدو أن نزول السل م في قلبه كان تدريجًيا ،ولكن قبل أن نسوق خلصتها نرى أن نشير إلى ما كان يتمتع به رضي ال عنه من العواطف والمشاعر. كان رضي ال عنه معروًفا بحد ة الطبع وقو ة الشكيمة ،وطالما لقى المسلمون منه ألوان الذى ،والظاهر أنه كانت تصطرع في نفسه مشاعر متناقضة؛ احترامه للتقاليد التي سنها الباء والجداد وتحمسه لها ،ث م إعجابه بصلبة
المسلمين ،وباحتماله م البلء في سبيل العقيد ة ،ث م الشكوك التي كانت تساوره ـ كأي عاقل ـ في أن ما يدعو إليه السل م قد يكون أجل وأزكى من غيره ،ولهذا ما إن َيُثور حتى َيُخ وــر. وخلصة الروايات ـ مع الجمع بينها ـ في إسلمه رضي ال عنه :أنه التجأ ليلة إلى المبيت خارج بيته ،فجاء إلى
الحر م ،ودخل في ستر الكعبة ،والنبي صلى ال عليه وسل م قائ م يصلي ،وقد استفتح سور ة } اْلَحاـقّةُ{،فجعل عمر يستمع إلى القرآن ،ويعجب من تأليفه ،قال :فقلت ـ أي في نفسي :هذا وال شاعر ،كما قالت قريش ،قال :فق أر }ِإّنهُ َلقَْو ُل ـ َر ُسـوـٍل َك ِرـيـٍ م َو َم ـاـُهَو ِبَقْو ِل ـَش اـِع ٍر ـَقِليًل َم اـ تُْؤ ِمـُنــوَن{ ]الحاقة [41 ،40:قال :قلت :كاهن .قال:} َوَل ِبَقْو ِل ـَك اـِه ٍنـ َقِليًل َم اـ تََذ ّكـُرـ وـَنَتنِز يـٌل ّم نـ ّر ّ بـاْلَعالَِم يـَن{ إلى آخر السور ة ]الحاقة . [43 ،42:قال :فوقع السل م في قلبي.
كان هذا أول وقوع نوا ة السل م في قلبه ،لكن كانت قشر ة النزعات الجاهلية ،وعصبية التقليد ،والتعاظ م بدين الباء هي غالبـة على مخ الحقيقة التي كان يتهمس بها قلبه ،فبقى مجًد اـ في عمله ضد السل م غير مكترث بالشعور الذي يكمن وراء هذه القشر ة. وكان من حد ة طبعه وفرط عداوته لرسول ال صلى ال عليه وسل م أنه خرج يوًم اـ متوشًح ا ـ سيفه يريد القضاء على النبي صلى ال عليه وسل م ،فلقيه نعي م بن عبد ال النحا م العدوي ،أو رجل من بني زهر ة ،أو رجل من بني مخزو م فقال :أين تعمد يا عمر؟ قال :أريد أن أقتل محمًد اـ .قال :كيف تأمن من بني هاش م ومن بني زهر ة وقد قتلت محمًد اـ؟ فقال له عمر :ما أراك إل قد صبوت ،وتركت دينك الذي كنت عليه ،قال :أفل أدلك على العجب يا عمر! إن أختك وَخ تَـَنَكـ قد صبوا ،وتركا دينك الذي أنت عليه ،فمشى عمر دامًرا حتى أتاهما ،وعندهما خباب بن الرت ،معه صحيفة فيها] :طه[ يقرئهما إياها ـ وكان يختلف إليهما ويقرئهما القرآن ـ فلما سمع خباب حس عمر توارى في البيت، وسترت فاطمة ـ أخت عمر ـ الصحيفة .وكان قد سمع عمر حين دنا من البيت قراء ة خباب إليهما ،فلما دخل عليهما قال :ما هذه الهينمة التي سمعتها عندك م؟ فقال :ما عدا حديًثا تحدثناه بيننا .قال :فلعلكما قد صبوتما .فقال له ختنه: يا عمر ،أرأيت إن كان الحق في غير دينك؟ فوثب عمر على ختنه فوطئه وطأ شديًد اـ .فجاءت أخته فرفعته عن زوجها ،فنفحها نفحة بيده ،فدمى وجهها ـ وفي رواية ابن إسحاق أنه ضربها فشجها ـ فقالت ،وهي غضبى :يا عمر، إن كان الحق في غير دينك ،أشهد أن ل إله إل ال ،وأشهد أن محمًد اـ رسول ال . فلما يئس عمر ،ورأي ما بأخته من الد م ند م واستحيا ،وقال :أعطونى هذا الكتاب الذي عندك م فأقرؤه ،فقالت أخته: إنك رجس ،ول يمسه إل المطهرون ،فق م فاغتسل ،فقا م فاغتسل ،ث م أخذ الكتاب ،فق أر :}بس م ال الرحمن الرحي م{ فقال: ـي ص َلـ ةَلِـ ـِذ ْكـِرـ { أسماء طيبة طاهر ة .ث م ق أر ]طه[ حتى انتهي إلى قوله :}ِإّنِني أََنا ال ُ َل ِإلََه ِإّل أََنا َفاْع ُبـْد نِـي َوأَِقِ مـ ال ّ ]طه [14:فقال :ما أحسن هذا الكل م وأكرمه؟ دلوني على محمد. فلما سمع خباب قول عمر خرج من البيت ،فقال :أبشر يا عمر ،فإني أرجو أن تكون دعو ة الرسول صلى ال عليه وسل م لك ليلة الخميس :)ال م أعز السل م بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشا م( ،ورسول ال صلى ال عليه
وسل م في الدار التي في أصل الصفا. فأخذ عمر سيفه ،فتوشحه ،ث م انطلق حتى أتى الدار ،فضرب الباب ،فقا م رجل ينظر من خلل الباب ،فرآه متوشًح ا ـ
السيف ،فأخبر رسول ال صلى ال عليه وسل م ،واستجمع القو م ،فقال له م حمز ة :ما لك م ؟ قالوا :عمر؟ فقال :وعمر؟
افتحوا له الباب ،فإن كان جاء يريد خيًرا بذلناه له ،إوان كان جاء يريد شًرا قتلناه بسيفه ،ورسول ال صلى ال عليه وسل م داخل يوحى إليه ،فخرج إلى عمر حتى لقيه في الحجر ة ،فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل السيف ،ث م جبذه جبذ ة شديد ة فقال :)أما أنت منتهًيا يا عمر حتى ينزل ال بك من الخزى والنكال ما نزل بالوليد بن المغير ة؟ ال م ،هذا عمر بن الخطاب ،ال م أعز السل م بعمر بن الخطاب( ،فقال عمر :أشهد أن ل إله إل ال ،وأنك رسول ال . وأسل م ،فكبر أهل الدار تكبير ة سمعها أهل المسجد. كان عمر رضي ال عنه ذا شكيمة ل يرا م ،وقد أثار إسلمه ضجة بين المشركين ،وشعو ار له م بالذلة والهوان ،وكسا المسلمين عز ة وشرًفا وسروًرا. روى ابن إسحاق بسنده عن عمر قال :لما أسلمت تذكرت أي أهل مكة أشد لرسول ال صلى ال عليه وسل م عداو ة، قال :قلت :أبو جهل ،فأتيت حتى ضربت عليه بابه ،فخرج إلّى ،ـ وقال :أهًل وسهًل ،ـ ـما جاء بك؟ قال :جئت لخبرك إني قد آمنت بال وبرسوله محمد ،وصدقت بما جاء به .قال :فضرب الباب في وجهي ،وقال :قبحك ال ،وقبح ما جئت به. وذكر ابن الجوزي أن عمر رضي ال عنه قال :كان الرجل إذا أسل م تعلق به الرجال ،فيضربونه ويضربه م ،فجئت ـ أي حين أسلمت ـ إلى خالى ـ وهو العاصى بن هاش م ـ فأعلمته فدخل البيت ،قال :وذهبت إلى رجل من كبراء قريش ـ لعله أبو جهل ـ فأعلمته فدخل البيت. وفي رواية لبن إسحاق ،عن نافع ،عن ابن عمر قال :لما أسل م عمر بن الخطاب ل م تعل م قريش بإسلمه ،فقال :أي أهل مكة أنشأ للحديث؟ فقالوا :جميل بن معمر الجمحى .فخرج إليه وأنا معه ،أعقل ما أرى وأسمع ،فأتاه ،فقال: ياجميل ،إني قد أسلمت ،قال :فو ال ما رد عليه كلمة حتى قا م عامًد اـ إلى المسجد فنادى ]بأعلى صوته[ أن :يا قريش ،إن ابن الخطاب قد صبأ .فقال عمر ـ وهو خلفه :كذب ،ولكنى قد أسلمت ]وآمنت بال وصدقت رسوله[، طَلح ـ أي أعيا ـ عمر ،فقعد ،وقاموا على فثاروا إليه فما زال يقاتله م ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رءوسه م ،و َ رأسه ،وهو يقول :افعلوا ما بدا لك م ،فأحلف بال أن لو كنا ثلثمائة رجل لقد تركناها لك م أو تركتموها لنا.
وبعد ذلك زحف المشركون إلى بيته يريدون قتله.روى البخاري عن عبد ال بن عمر قال:بينما هو ـ أي عمر ـ في الدار خائًفا إذ جاءه العاص بن وائل السهمى أبو عمرو،وعليه حلة حبر ة وقميص مكفوف بحرير ـ وهو من بني سه م، وه م حلفاؤنا في الجاهلية ـ فقال له :ما لك؟ قال :زع م قومك أنه م سيقتلوني إن أسلمت ،قال :ل سبيل إليك ـ بعد أن
قالها أمنت ـ فخرج العاص ،فلقى الناس قد سال به م الوادي ،فقال :أين تريدون؟ فقالوا :هذا ابن الخطاب الذي قد ط ـعنه. صبأ ،قال :ل سبيل إليه ،فََك ّرـ الناس .وفي لفظ في رواية ابن إسحاق :وال ،لكأنما كانوا ثوًبا ُك ِشـ َ هذا بالنسبة إلى المشركين ،أما بالنسبة إلى المسلمين فروى مجاهد عن ابن عباس قال :سألت عمر بن الخطاب: لي شيء سميت الفاروق؟ قال :أسل م حمز ة قبلى بثلثة أيا م ـ ث م قص عليه قصة إسلمه .وقال في آخره :قلت ـ أي حين أسلمت :يا رسول ال ،ألسنا على الحق إن متنا إوان حيينا؟ قال :)بلى ،والذي نفسي بيده ،إنك م على الحق إوان مت م إوان حييت م( ،قال :قلت :ففي م الختفاء؟ والذي بعثك بالحق لنخرجن ،فأخرجناه في صفين ،حمز ة في أحدهما ،وأنا في الخر ،له كديد ككديد الطحين ،حتى دخلنا المسجد ،قال :فنظرت إلّى قريش إوالى حمز ة ،فأصابته م كآبة ل م يصبه م مثلها ،فسماني رسول ال صلى ال عليه وسل م )الفاروق( يومئذ.
وكان ابن مسعود رضي ال عنه يقول :ما كنا نقدر أن نصلى عند الكعبة حتى أسل م عمر. وعن صهيب بن سنان الرومى رضي ال عنه قال :لما أسل م عمر ظهر السل م ،ودعى إليه علنية ،وجلسنا حول البيت حلًقا ،وطفنا بالبيت ،وانتصفنا ممن غلظ علينا ،ورددنا عليه بعض ما يأتى به. وعن عبد ال بن مسعود قال :ما زلنا أعز ة منذ أسل م عمر.
ممثل قريش بين يدي الرسول صلى ال عليه وسل م وبعد إسل م هذين البطلين الجليلين ـ حمز ة بن عبد المطلب وعمـر بن الخطاب رضي ال عنهما أخذت السحائب تتقشع ،وأفاق المشركون عن سكره م في تنكيله م بالمسلمين ،وغيروا تفكيره م في معاملته م مع النبي صلى ال عليه وسل م والمؤمنين ،واختاروا أسلوب المساومات وتقدي م الرغائب والمغريات ،ول م يدر هؤلء المساكين أن كل ما تطلع عليه الشمس ل يساوي جناح بعوضة أما م دين ال والدعو ة إليه ،فخابوا وفشلوا فيما أرادوا. قال ابن إسحاق :حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظى قال :حدثت أن عتبة بن ربيعة ،وكان سيًد اـ ،قال
يوًم اـ ـ وهو في نادى قريش ،ورسول ال صلى ال عليه وسل م جالس في المسجد وحده :يا معشر قريش ،أل أقو م إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموًرا لعله يقبل بعضها ،فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟ وذلك حين أسل م حمز ة رضي ال عنه و أروا أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسل م يكثرون ويزيدون ،فقالوا :بلى ،يا أبا الوليد ،ق م إليه ،فكلمه ،فقا م طـِة في إليه عتبة،حتى جلس إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فقال :يابن أخي ،إنك منا حيث قد علمت من الّس َ
العشير ة ،والمكان في النسب ،إوانك قد أتيت قومك بأمر عظي م ،فرقت به جماعته م ،وسفهت به أحلمه م ،وعبت به آلهته م ودينه م ،وكفرت به من مضى من آبائه م ،فاسمع منى أعرض عليك أموًرا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها.
قال :فقال رسول صلى ال عليه وسل م :)قل يا أبا الوليد أسمع(. قال :يابن أخي ،إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا المر ماًل جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا ماًل ،ـ ـ إوان كنت تريد به شرًفا سودناك علينا حتى ل نقطع أمًرا دونك ،إوان كنت تريد به ملًك اـ ملكناك علينا ،إوان كان هذا الذي يأتيك رئًيا تراه ل تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب ،وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه ،فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه ـ أو كما قال له ـ حتى إذا فرغ عتبة ورسول ال صلى ال عليه وسل م يستمع منه قال:
)أقد فرغت يا أبا الوليد؟( قال :نع م ،قال :)فاسمع منى( ،قال:أفعل ،فقال :} بس م ال الرحمن الرحي م ح م َتنِز يـٌل ّم َنـ ِ ِ ضـأَْك ثَـُرُهْ م فَهُْ م َل َيْس َمـُعـوَن َو َقــالُوا ُقُلوُبَنا ب فُ ّ ص لَـ ْ الّر ْحـ َم ـِنـالّر ِحـ يـِ مِك تَـا ٌ ت آَياتُهُ قُْرآًنا َع َرـبِـّيالَّقْو ٍ م ـَيْع َلـُم وـَن َبش يـًراَو َن ـذ يـًراَفَأْع َرـ َ ِفيـ أَِك ّنـٍة ّم ّمـاـ تَْد ُعـوـَنا ِإلَْي ِهـ{ ]فصلت .[5 :1:ث م مضى رسول ال فيها ،يقرؤها عليه .فلما سمعها منه عتبة أنصت له،
وألقى يديه خلف ظهره معتمًد اـ عليهما ،يسمع منه ،ث م انتهي رسول ال صلى ال عليه وسل م إلى السجد ة منها فسجد ث م قال :)قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت ،فأنت وذاك(.
فقا م عتبة إلى أصحابه ،فقال بعضه م لبعض :نحلف بال لقد جاءك م أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به .فلما جلس إليه م قالوا :ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال :ورائي أني سمعت قوًل وال ما سمعت مثله قط ،وال ما هو بالشعر ول
بالسحر ،ول بالكهانة ،يا معشر قريش ،أطيعونى واجعلوها بي ،وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه ،فوال
ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظي م ،فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيرك م ،إوان يظهر على العرب فملكه ملكك م، وعزه عزك م ،وكنت م أسعد الناس به ،قالوا :سحرك وال يا أبا الوليد بلسانه ،قال :هذا رأيي فيه ،فاصنعوا ما بدا لك م. ضـواـفَُقْل وفي روايات أخرى :أن عتبة استمع حتى إذا بلغ الرسول صلى ال عليه وسل م قوله تعالى :}فَِإْن َأْع َرـ ُ َأنَذ رـ تُـُك مـ ِ ص اـِع قَـِة َع اـٍد َو ثَـُم وـَد{ ]فصلت [13:قال :حسبك ،حسبك ،ووضع يده على ف م رسول ال صلى ال ص اـع قَـًة ّم ثْـَل َ ْ ْ َ عليه وسل م ،وناشده بالرح م أن يكف ،وذلك مخافة أن يقع النذير ،ث م قا م إلى القو م فقال ما قال.
رؤساء تقريش يفاوطضون رسول ا صلى ا عليه وسلم عزم أبي جهل على تقتل رسول ا صلى ا عليه وسلم مساومات وتنازلت حيرة تقريش وتفكيرهم الجاد واتصالهم باليهود موتقف أبي طالب وعشيرته
رؤساء قريش يفاوضون رسول ال صلى ال عليه وسل م وكأن رجاء قريش ل م ينقطع بما أجاب به النبي صلى ال عليه وسل م عتبة على اقتراحاته؛ لنه ل م يكن صريًح ا ـ في الرفض أو القبول ،بل تل عليه النبي صلى ال عليه وسل م آيات ل م يفهمها عتبة ،ورجع من حيث جاء ،فتشاور
رؤساء قريش فيما بينه م وفكروا في كل جوانب القضية ،ودرسوا كل المواقف بروية وتريث ،ث م اجتمعوا يوًم اـ عند ظهر الكعبة بعد غروب الشمس ،وأرسلوا إلى النبي صلى ال عليه وسل م يدعونه ،فجاء مسرًع اـ يرجو خيًرا ،فلما جلس إليه م
قالوا له مثل ما قال عتبة ،وعرضوا عليه نفس المطالب التي عرضها عتبة .وكأنه م ظنوا أنه ل م يثق بجدية هذا
العرض حين عرض عتبة وحده ،فإذا عرضوا ه م أجمعون يثق ويقبل ،ولكن قال له م رسول ال صلى ال عليه وسل م: طُلب َأْم َوــالُك مـول الّش رـف فيك م ،ول الُم ْلـَك عليك م ،ولكّن ال َبَعثَِنى إلَْي ُكـ مـ )ما بي ما تَُقوُلون ،ما ِج ْئـتُـُك مـ بما ِج ْئـتُـُك مـ ِبه أَ ْ ِ ّ ِ ِ ِ تلَـُك ْ مـ ،ـ فِإْن تَْقَب لُـوا ِم ّنـى ما ص ْح ـ ُ َر ُسـوًـل َ،ـوـ َأْن َزـَلـعلّى ك تـاًبا ،وَأَم َرـنِــىأْن َأُك وـَن لَُك مـ َبش يـًراَو َن ـذ يـًرا،فََب لـْغ تُـُك مـ ِر َسـاـلت ربيَ ،و َن ـ َ ّ ص بِــر لْم ِرـ ال ِ حّتى َيْح ُك ـ مـ ال ُ َبْي نِـى َو َبْي ـَنُك مـ( .أو كما قال. ِج ْئـتُـُك مـ ِبه فَهَُو َح ظـُك مـ في الُد نـيا والخر ة ،إواْن تَُر ّدـوـا علّى أَ ْ
فانتقلوا إلى نقطة أخرى ،وطلبوا منه أن يسأل ربه أن يسير عنه م الجبال ،ويبسط له م البلد ،ويفجر فيها النهار، ويحيى له م الموتى ـ ول سيما قصى بن كلب ـ فإن صدقوه يؤمنون به .فأجاب بنفس ما سبق من الجواب. فانتقلوا إلى نقطة ثالثة ،وطلبوا منه أن يسأل ربه أن يبعث له ملًك اـ يصدقه ،ويراجعونه فيه ،وأن يجعل له جنات وكنوًزا وقصوًرا من ذهب وفضة ،فأجابه م بنفس الجواب. فانتقلوا إلى نقطة رابعة ،وطلبوا منه العذاب :أن يسقط عليه م السماء كسًفا ،كما يقول ويتوعد ،فقال :)ذلك إلى ال ، إن شاء فعل( .فقالوا :أما عل م ربك أنا سنجلس معك ،ونسألك ونطلب منك ،حتى يعلمك ما تراجعنا به ،وما هو صانع بنا إذا ل م نقبل. وأخيًرا هددوه أشد التهديد ،وقالوا:أما وال ل نتركك وما فعلت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا ،فقا م رسول ال صلى ال عليه وسل م عنه م ،وانصرف إلى أهله حزيًنا أسفا لما فاته ما طمع من قومه.
عز م أبي جهل على قتل رسول ال صلى ال عليه وسل م ولما انصرف رسول ال صلى ال عليه وسل م عنه م خاطبه م أبو جهل في كبريائه وقال :يا معشر قريش ،إن محمًد اـ
قد أبي إل ما ترون من عيب ديننا ،وشت م آبائنا ،وتسفيه أحلمنا ،وشت م آلهتنا ،وأني أعاهد ال لجلسن له بحجر ما أطيق حمله ،فإذا سجد في صلته فضخت به رأسه ،فأسلمونى عند ذلك أو امنعونى ،فليصنع بعد ذلك بنو عبد
مناف ما بدا له م ،قالوا :وال ل نسلمك لشيء أبًد اـ ،فامض لما تريد. فلما أصبح أبو جهل ،أخذ حجًرا كما وصف ،ث م جلس لرسول ال صلى ال عليه وسل م ينتظره ،وغدا رسول ال صلى ال عليه وسل م كما كان يغدو ،فقا م يصلي ،وقد غدت قريش فجلسوا في أنديته م ينتظرون ما أبو جهل فاعل ،فلما سجد رسول ال صلى ال عليه وسل م احتمل أبو جهل الحجر ،ث م أقبل نحوه ،حتى إذا دنا منه رجع منهزًم اـ ممتقًعاـ
لونه ،مرعوًباـ قد يبست يداه على حجره ،حتى قذف الحجر من يده ،وقامت إليه رجال قريش فقالوا له :ما لك يا أبا الحك م؟ قال :قمت إليه لفعل به ما قلت لك م البارحة ،فلما دنوت منه عرض لى دونه فَْح ٌل ـ من البل ،ل وال ما ِ ص َرـتِــهول أنيابه لفحل قط ،فَهَّ م بى أن يأكلنى. رأيت مثل َهاَم تـه ،ول مثل َق َ قال ابن إسحاق :فذكر لى أن رسول ال صلى ال عليه وسل م قال :)ذلك جبريل عليه السل م لو دنا لخذه(
مساومات وتنازلت ولما فشلت قريش في مفاوضته م المبنية على الغراء والترغيب ،والتهديد والترهيب ،وخاب أبو جهل فيما أبداه من الرعونة وقصد الفتك ،تيقظت فيه م رغبة الوصول إلى حل حصيف ينقذه م عما ه م فيه ،ول م يكونوا يجزمون أن النبي صلى ال عليه وسل م على باطل ،بل كانوا ـ كما قال ال تعالى }لَِفي َش ّكـ ّم ْنـهُـ ُم ِرـيـٍب{ ]الشورى .[ 14:ف أروا أن يساوموه صلى ال عليه وسل م في أمور الدين ،ويلتقوا به في منتصف الطريق ،فيتركوا بعض ما ه م عليه ،ويطالبوا النبي صلى ال عليه وسل م بترك بعض ما هو عليه ،وظنوا أنه م بهذا الطريق سيصيبون الحق ،إن كان ما يدعو إليه النبي صلى ال عليه وسل م حًقا. روى ابن إسحاق بسنده ،قال :اعترض رسول ال صلى ال عليه وسل م ـ وهو يطوف بالكعبة ـ السود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى والوليد بن المغير ة وأمية بن خلف والعاص بن وائل السهمى ـ وكانوا ذوى أسنان في قومه م ـ فقالوا: يا محمد ،هل م فلنعبد ما تعبد ،وتعبد ما نعبد ،فنشترك نحن وأنت في المر ،فإن كان الذي تعبد خيًرا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه ،إوان كان ما نعبد خيًرا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه ،فأنزل ال تعالى فيه م :}ُقْل َيا أَّيَها اْلَك اـِفُر وـَنَل أَْع ُبـُد َم اـ تَْع ُبـُد وـَن{ السور ة كلها.
وأخرج َع ْبـُدـ بن ُح َمـ ـْي دـ وغيره عن ابن عباس أن قريًش اـ قالت :لو استلمت آلهتنا لعبدنا إلهك .فأنزل ال :}ُقْل َيا أَّيَها ن السور ة كلها وأخرج ابن جرير وغيره عنه أن قريًش اـ قالوا لرسول ال صلى ال عليه وسل م :تعبد آلهتنا سنة، اْلَك اـِفُر و ـَ{ ونعبد إلهك سنة،فأنزل ال :}ُقْل أَفََغ ْي َرـ ال ِ تَْأُم ُرـ وـّني أَْع ُبـُد أَّيَها اْلَج اـِه لُــوَن{ ]الزمر[64: ولما حس م ال تعالى هذه المفاوضة المضحكة بهذه المفاصلة الجازمة ل م تيأس قريش كل اليأس ،بل أبدوا مزيًد اـ من التنازل بشرط أن يجرى النبي صلى ال عليه وسل م بعض التعديل فيما جاء به من التعليمات ،فقالوا :} اْئِتـ بِقُْرآٍن ض ا ـ بإنزال ما يرد به النبي صلى ال عليه وسل م عليه م فقال :}ُقْل َم اـ َيُك وـُن َغ ْيـِرـ َهـَذ اـ أَْو َبّد ْلـهُ{ ،فقطع ال هذا السبيل أي ً ب َيْو ٍ م ـَع ِظـ يـٍ م{ ]يونس[15: ِلي أَْن أَُبّد لَـهُ ِم نـ تِْلَقاء َنْفِس ي ـِإْن أَتّبُِع ِإلّ َم اـ ُيوَح ى ـ ِإلَّي ِإّني أََخ اـ ُ صـ ْي ـ ُ تـ َر ّبـي َع َذـاـ َ ف ِإْن َع َ ِ ِّ ِ ي َع لَـْي َنـاـ َغ ْيـَرـهَُو إِاًذـاـلّتَّخ ُذـوـَك ونبه على عظ م خطور ة هذا العمل بقوله:} َ إوِان َك اـُد وْـا َلَيْفتُنوَنَك َع ِنـ الذ ي ـ أَْو َحـْيـَنـاـِإلَْي َكـ لتْفتَِر َ فـاْلح يــاِ ة و ِ ِ ِ ت تَر َكـنـِإلَْي ِهـ مـ َش ْيـًئـاـ َقِلي ً ِ ّ ل تَِج ُدـ لََك َع لَـْي َنـا فـاْلَم َمـاـِت ثُّ م َ ل َو لَـْو َ َخ ِلــي ً ض ـ ْعـ ـ َ لَأن ثَّبتَْناَك لَقَْد ك دـ ّ ْ ُ ْ ل إذًا لََذ ْقـَناَك ض ْعـ ـ َ َ َ َ َن ِ را ]السراء.[75 :73: ص يــً { حير ة قريش وتفكيره م الجاد واتصاله م باليهود أظلمت أما م المشركين السبل بعد فشله م في هذه المفاوضات والمساومات والتنازلت ،واحتاروا فيما يفعلون ،حتى قا م أحد شياطينه م :النضر بن الحارث ،فنصحه م قائًل :يا معشر قريش ،وال لقد نزل بك م أمر ما أتيت م له بحيلة بعد ،قد
كان محمد فيك م غلًم اـ حدًثا أرضاك م فيك م ،وأصدقك م حديًثا ،وأعظمك م أمانة ،حتى إذا رأيت م في صدغيه الشيب ،و
جاءك م بما جاءك م به ،قلت م :ساحر ،ل وال ما هو بساحر ،لقد رأينا السحر ة وَنْفَثه م وَع ْقـَد هـ م ،وقلت م :كاهن ،ل وال ما هو بكاهن ،قد رأينا الكهنة وتََخ اـلَُج هـ م وسمعنا َس َجـ َعـُه م ،وقلت م :شاعر ،ل وال ما هو بشاعر ،قد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها َهَز َجـ ه ـوَر َجـ َزــه،وقلت م :مجنون ،ل وال ما هو بمجنون ،لقد رأينا الجنون ،فما هو بخنقه ،ول وسوسته ،ول تخليطه ،يا معشر قريش ،فانظروا في شأنك م ،فإنه وال لقد نزل بك م أمر عظي م.
وكأنه م لما أروا صموده صلى ال عليه وسل م في وجه كل التحديات ،ورفضه كل المغريات ،وصلبته في كل مرحلة ـ مع ما كان يتمتع به من الصدق والعفاف ومكار م الخلق ـ قويت شبهته م في كونه رسوًل حًقا ،فقرروا أن يتصلوا باليهود حتى يتأكدوا من أمره صلى ال عليه وسل م ،فلما نصحه م النضر بن الحارث بما سبق كلفوه مع آخر أو آخرين ليذهب إلى يهود المدينة ،فأتاه م فقال أحباره م :سلوه عن ثلث ،فإن أخبر فهو نبى مرسل ،إوال فهو متقول؛ سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الول،ما كان أمره م؟ فإن له م حديًثا عجًبا ،وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق
الرض ومغاربها ،ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ،ما هي؟
فلما قد م مكة قال :جئناك م بفصل ما بينك م وبين محمد ،وأخبره م بما قاله اليهود ،فسألت قريش رسول صلى ال عليه وسل م عن المور الثلثة ،فنزلت بعد أيا م سور ة الكهف ،فيها قصة أولئك الفتية ،وه م أصحاب الكهف ،وقصة الرجل
الطواف ،وهو ذو القرنين ،ونزل الجواب عن الروح في سور ة السراء .وتبين لقريش أنه صلى ال عليه وسل م على حق وصدق ،ولكن أبي الظالمون إل كفوًرا. هذه نبذ ة خفيفة مما واجه به المشركون دعو ة رسول ال صلى ال عليه وسل م ،وقد مارسوا كل ذلك جنبا إلى جنب، متنقلين من طور إلى طور ،ومن دور إلى دور .فمن شد ة إلى لين ،ومن لين إلى شد ة ،ومن جدال إلى مساومة، ومن مساومة إلى جدال ،ومن تهديد إلى ترغيب ،ومن ترغيب إلى تهديد ،كانوا يثورون ث م يخورون ،ويجادلون ث م يجاملون ،وينازلون ث م يتنازلون ،ويوعدون ث م يرغبون ،كأنه م كانوا يتقدمون ويتأخرون ،ل يقر له م قرار ،ول يعجبه م الفرار ،وكان الغرض من كل ذلك هو إحباط الدعو ة السلمية ،ولَّ م َش ْعـِثـ الكفر ،ولكنه م بعد بذل كل الجهود واختبار كل الحيل عادوا خائبين ،ول م يبق أمامه م إل السيف ،والسيف ل يزيد الفرقة إل شد ة ،ول ينتج إل عن تناحر يستأصل الشأفة ،فاحتاروا ماذا يفعلون.
موقف أبي طالب وعشيرته أما أبو طالب فإنه لما واجه مطالبة قريش بتسلي م النبي صلى ال عليه وسل م له م ليقتلوه ،ث م رأي في تحركاته م وتصرفاته م ما يؤكد أنه م يريدون قتله إواخفار ذمته ـ مثل ما فعله عقبة بن أبي معيط ،وأبو جهل بن هشا م وعمر بن الخطاب ـ جمع بني هاش م وبني المطلب ،ودعاه م إلى القيا م بحفظ النبي صلى ال عليه وسل م ،فأجابوه إلى ذلك كله م ـ مسلمه م وكافره م ـ َح ِمـّيـًة للجوار العربي ،وتعاقدوا وتعاهدوا عليه عند الكعبة .إل ما كان من أخيه أبي لهب ،فإنه فارقه م ،وكان مع قريش.
المقاطعة العامة ميثا ق الظلم والعدوان ثلثة أعوام في شعب أبي طالب نقض صحيفة الميثا ق آلخر وفد تقريش إلي أبي طالب
ميثاق الظل م والعدوان زادت حير ة المشركين إذ نفدت به م الحيل ،ووجدوا بني هاش م وبني المطلب مصممين على حفظ نبى ال صلى ال
ص ـِبـفتحالفوا على بني هاش م عليه وسل م والقيا م دونه ،كائًنا ما كان ،فاجتمعوا في خيف بني كنانة من وادى الُم َحـ ّ وبني المطلب أل يناكحوه م ،ول يبايعوه م ،ول يجالسوه م ،ول يخالطوه م ،ول يدخلوا بيوته م ،ول يكلموه م ،حتى يسلموا إليه م رسول ال صلى ال عليه وسل م للقـتل ،وكتـبوا بذلك صحيـفـة فيها عهود ومواثيق )أل يقبلوا من بني هاش م صلًح ا ـ
أبًد اـ ،ول تأخذه م به م رأفة حتى يسلموه للقتل( .قال ابن القي م :يقال :كتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاش م، ت ويقال :نضر بن الحارث ،والصحيح أنه َبِغ يــض بن عامر بن هاش م ،فدعا عليه رسول ال صلى ال عليه وسل م فَُش لّـ ْ يده. ت م هذا الميثاق وعلقت الصحيفة في جوف الكعبة ،فانحاز بنو هاش م وبنو المطلب ،مؤمنه م وكافره م ـ إل أبا لهب ـ وحبسوا في شعب أبي طالب ،وذلك فيما يقال :ليلة هلل المحر م سنة سبع من البعثة .وقد قيل غير ذلك.
ثلثة أعوا م في شعب أبي طالب واشتد الحصار ،وقطعت عنه م المير ة والماد ة ،فل م يكن المشركون يتركون طعاًم اـ يدخل مكة ول بيًعاـ إل بادروه فاشتروه ،حتى بلغه م الجهد ،والتجأوا إلى أكل الوراق والجلود ،وحتى كان يسمع من وراء الشعب أصوات نسائه م وصبيانه م يتضاغون من الجوع ،وكان ل يصل إليه م شيء إل سًرا ،وكانوا ل يخرجون من الشعب لشتراء الحوائج
إل في الشهر الحر م ،وكانوا يشترون من العير التي ترد مكة من خارجها ،ولكن أهل مكة كانوا يزيدون عليه م في السلعة قيمتها حتى ل يستطيعون شراءها. وكان حكي م بن حزا م ربما يحمل قمًح اـ إلى عمته خديجة رضي ال عنها وقـد تعـرض لـه مر ة أبو جهل فتعلق به ليمنعه ،فتدخل بينهما أبو البخترى ،ومكنه من حمل القمح إلى عمته.
وكان أبو طالب يخاف على رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فكان إذا أخذ الناس مضاجعه م يأمر رسول ال صلى
ال عليه وسل م أن يضطجع على فراشه ،حتى يرى ذلك من أراد اغتياله ،فإذا نا م الناس أمر أحد بنيه أو إخوانه أو بني عمه فاضطجع على فراش رسول ال صلى ال عليه وسل م ،وأمره أن يأتى بعض فرشه م. وكان رسول ال صلى ال عليه وسل م والمسلمون يخرجون في أيا م الموس م ،فيلقون الناس ،ويدعونه م إلى السل م ،وقد أسلفنا ما كان يأتى به أبو لهب.
نقض صحيفة الميثاق مر عامان أو ثلثة أعوا م والمر على ذلك ،وفي المحر م سنة عشر من النبو ة نقضت الصحيفة وفك الحصار؛ وذلك أن قريًش اـ كانوا بين راض بهذا الميثاق وكاره له ،فسعى في نقض الصحيفة من كان كارًهاـ لها. وكان القائ م بذلك هشا م بن عمرو من بني عامر بن لؤى ـ وكان يصل بني هاش م في الشعب مستخفًيا بالليل بالطعا م ـ فإنه ذهب إلى زهير بن أبي أمية المخزومى ـ وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب ـ وقال :يا زهير ،أرضيت أن تأكل الطعا م ،وتشرب الشراب ،وأخوالك بحيث تعل م؟ فقال :ويحك ،فما أصنع وأنا رجل واحد؟ أما وال لو كان معى رجل آخر لقمت في نقضها ،قال :قد وجدت رجًل .قال :فمن هو؟ قال :أنا .قال له زهير :ابغنا رجًل ثالًثا . فذهب إلى المطع م بن عدى ،فذكره أرحا م بني هاش م وبني المطلب ابني عبد مناف ،ولمه على موافقته لقريش على هذا الظل م ،فقال المطع م :ويحك ،ماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد ،قال :قد وجدت ثانًيا ،قال :من هو؟ قال :أنا .قال:
ابغنا ثالًثا .قال :قد فعلت .قال :من هو؟ قال :زهير بن أبي أمية ،قال :ابغنا رابًعاـ.
فذهب إلى أبي البخترى بن هشا م ،فقال له نحًواـ مما قال للمطع م ،فقال :وهل من أحد يعين على هذا؟ قال :نع م. قال :من هو؟ قال زهير بن أبي أمية ،والمطع م بن عدى ،وأنا معك ،قال :ابغنا خامًس اـ. فذهب إلى زمعة بن السود بن المطلب بن أسد ،فكلمه وذكر له قرابته م وحقه م ،فقال له :وهل على هذا المر الذي تدعونى إليه من أحد؟ قال :نع م ،ث م سمى له القو م ،فاجتمعوا عند الَح ُجـوــن ،وتعاقدوا على القيا م بنقض الصحيفة،
وقال زهير :أنا أبدأك م فأكون أول من يتكل م.
فلما أصبحوا غدوا إلى أنديته م ،وغدا زهير عليه حلة ،فطاف بالبيت سبًعا ،ث م أقبل على الناس ،فقال :يا أهل مكة، أنأكل الطعا م ونلبس الثياب وبنو هاش م هلكى ،ل يباع ول يبتاع منه م؟ وال ل أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة. قال أبو جهل ـ وكان في ناحية المسجد :كذبت ،وال ل تشق.
فقال زمعة بن السود :أنت وال أكذب ،مارضينا كتابتها حيث كتبت. قال أبو البخترى :صدق زمعة ،ل نرضى ما كتب فيها ،ول نقر به. قال المطع م بن عدى :صدقتما ،وكذب من قال غير ذلك ،نب أر إلى ال منها ومما كتب فيها. وقال هشا م بن عمرو نحًواـ من ذلك. فقال أبو جهل :هذا أمر قضى بليل ،وتُُش وـِو رـ فيه بغير هذا المكان. وأبو طالب جالس في ناحية المسجد ،إنما جاءه م لن ال كان قد أطلع رسوله صلى ال عليه وسل م على أمر الصحيفة ،وأنه أرسل عليها الرضة ،فأكلت جميع ما فيها من جور وقطيعة وظل م إل ذكر ال عز وجل ،فأخبر بذلك عمه ،فخرج إلى قريش فأخبره م أن ابن أخيه قد قال كذا وكذا ،فإن كان كاذًبا خلينا بينك م وبينه ،إوان كان صادًقا رجعت م عن قطيعتنا وظلمنا ،قالوا :قد أنصفت. وبعد أن دار الكل م بين القو م وبين أبي جهل ،قا م المطع م إلى الصحيفة ليشقها ،فوجد الرضة قد أكلتها إل )باسمك ال م( ،وما كان فيها من اس م ال فإنها ل م تأكله. ث م نقض الصحيفة وخرج رسول ال صلى ال عليه وسل م ومن معه من الشعب ،وقد رأي المشركون آية عظيمة من ضـواـَو َيـُقولُوا ِس ْح ـٌر ـّم ْسـتَـِم ّرـ{ ]القمر [2:ـ أعرضوا عن هذه آيات نبوته ،ولكنه م ـ كما أخبر ال عنه م } َ إوِان َيَر ْو ـاـآَيًة ُيْع ِرـ ُ الية وازدادوا كفًرا إلى كفره م . آخر وفد قريش إلي أبي طالب خرج رسول ال صلى ال عليه وسل م من الشعب ،وجعل يعمل على شاكلته ،وقريش إوان كانوا قد تركوا القطيعة، لكنه م ل م يزالوا عاملين على شاكلته م من الضغط على المسلمين والصد عن سبيل ال ،وأما أبو طالب فهو ل م يزل يحوط ابن أخيه ،لكنه كان قد جاوز الثمانين من سنه ،وكانت الل م والحوادث الضخمة المتوالية منذ سنوات ـ لسيما حصار الشعب ـ قد وهنت وضعفت مفاصله وكسرت صلبه ،فل م يمض على خروجه من الشعب إل أشهر معدودات، إواذا هو يلحقه المرض ويلح به ،وحينئذ خاف المشركون سوء سمعته م في العرب إن أتوا بعد وفاته بمنكر على ابن أخيه ،فحاولوا مر ة أخرى أن يفاوضوا النبي صلى ال عليه وسل م بين يديه ،ويعطوا بعض ما ل م يرضوا إعطاءه قبل
ذلك .فقاموا بوفاد ة هي آخر وفادته م إلى أبي طالب. قال ابن إسحاق وغيره :لما اشتكى أبو طالب ،وبلغ قريًش اـ ثقله ،قالت قريش بعضها لبعض :إن حمز ة وعمر قد أسلما، وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها ،فانطلقوا بنا إلى أبي طالب ،فليأخذ على ابن أخيه ،وليعطه منا ،وال ما نأمن أن يبتزونا أمرنا ،وفي لفظ :فإنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون إليه شيء فتعيرنا به العرب ،يقولون :تركوه حتى إذا مات عمه تناولوه. مشوا إلى أبي طالب فكلموه ،وه م أشراف قومه؛ عتبة بن ربيعة ،وشيبة بن ربيعة ،وأبو جهل بن هشا م ،وأمية بن خلف ،وأبو سفيان بن حرب ،في رجال من أشرافه م ـ وه م خمسة وعشرون تقريًباـ ـ فقالوا :يا أبا طالب ،إنك منا حيث قد علمت ،وقد حضرك ما ترى ،وتخوفنا عليك ،وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك ،فادعه فخذ له منا ،وخذ لنا منه؛ ليكف عنا ونكف عنه ،وليدعـنا وديننا وندعه ودينه ،فبعث أبو طالب ،فجاءه فقال :يابن أخي ،هؤلء أشراف قومك ،قد اجتمعوا لك ليعطوك ،وليأخذوا منك ،ث م أخبـره بالذي قالوا له وعرضوا عليه من عد م تعرض كل فريق للخر .فقال له م رسول ال صلى ال عليه وسل م :) أرأيت م إن أعطيتك م كلمة تكلمت م بها ،ملكت م بها العرب ،ودانت لك م بها العج م( ،وفي لفظ أنه قال مخاطًبا لبي طالب :)إني أريده م على كلمة واحد ة يقولونها تدين له م بها العرب، وتؤدى إليه م بها العج م الجزية( ،وفي لفظ آخر قال :)أي ع م ،أفل أدعوه م إلى ما هو خير له م؟( قال :إوال م تدعوه م؟ قال :)أدعوه م إلى أن يتكلموا بكلمة تدين له م بها العرب ،ويملكون بها العج م( ،ولفظ رواية ابن إسحاق :)كلمة واحد ة
تعطونها تملكون بها العرب ،وتدين لك م بها العج م( ،فلما قال هذه المقالة توقفوا وتحيروا ول م يعرفوا كيف يرفضون هذه الكلمة الواحد ة النافعة إلى هذه الغاية والحد .ث م قال أبو جهل :ما هي؟ وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها ،قال :تقولون: )ل إله إل ال ،وتخلعون ما تعبدون من دونه( .فصفقوا بأيديه م ،ث م قالوا :أتريد يا محمد أن تجعل اللهة إلًها واحًد اـ؟ إن أمرك لعجب. ث م قال بعضه م لبعض :إنه وال ما هذا الرجل بمعطيك م شيًئا مما تريدون ،فانطلقوا وامضوا على دين آبائك م ،حتى يحك م ال بينك م وبينه ،ث م تفرقوا. وفي هؤلء نزل قوله تعالى :}ص واْلقُْرآِنِذ ي ـ الّذ ْكـِرـ َب ِلـ الِّذ يـَن َك فَـُر واـِفيـ ِع ّزـٍ ةو ِش ـ قَـا ٍ قَك ْ مـ أَْه لَـْك َنــا ِم نـ قَْب ِلـِه مـ ّم نـ َقْر ٍن ـ َ َ ِ ِ ّ ِ ِ ِ ِ ِ ت ـ ـِح يـَن َم َنـا ٍ ب أََج َعـَلـ اْل ل ـ ـهََة إلًَها َواح ًدـاـإّن ص َوَع ِجـ ُبـواَأن َج اــءُه م ّم نـذ ٌر ـ ّم ْنـهُـْ م َو قَــاَل اْلَك اـفُر وـَنَهَذ اـ َس اـح ٌر ـ َك ذـاـ ٌ َفَناَد ْوـاـَوَل َ ِ ص بِـُر واـَع لَــى آِلهَتُِك ْ مـ ِإّن َهَذ اـ َلَش ْيـ ٌء ـُيَراُد َم اـ َس ِمـْعـَنـاـ بِهََذ اـ ِفيـ اْلِم لّـِة ب َوان َ طلَ َ َهَذ اـ َلَش ْيـ ٌء ـُع َجـ اـ ٌ ق اْلَم َلُـ م ْنـهُـْ م أَِن اْم ُشـوـا َوا ْ ق ـ ـ]ص.[7 :1: اْل ِخ ــَرـإِ ةْن َهَذ اـ ِإّل اْخ تِـَل {ٌ
عــا م الح ــزن وفاة أبي طالب لخديجة إلى رحمة ا تراكم الحزان الزواج بسودة رطضي ا عنها عوامل الصبر والثبات
وفا ة أبي طالب ألح المرض بأبي طالب ،فل م يلبث أن وافته المنية ،وكانت وفاته في رجب سنة عشر من النبو ة ،بعد الخروج من الشعب بستة أشهر .وقيل :توفي في رمضان قبل وفا ة خديجة رضي ال عنها بثلثة أيا م. وفي الصحيح عن المسيب :أن أبا طالب لما حضرته الوفا ة دخل عليه النبي صلى ال عليه وسل م وعنده أبو جهل ،فقال :)أي ع م ،قل :ل إله إل ال ،كلمة أحاج لك بها عند ال ( فقال أبو جهل وعبد ال بن أبي أمية :يا أبا طالب ،ترغب عن ملة عبد المطلب؟ فل م يزال يكلماه حتى قال آخر شيء كلمه م به :على ملة عبد المطلب، فقال النبي صلى ال عليه وسل م :)لستغفرن لك ما ل م أنه عنـه( ،فـنزلت:} َماـ َك اـَن ِللّنبِّي َواـلِّذ يـَن آَم ُنـوْا َأن ِ ِ ِ ِ ِ ك ب اْلَج ِحـيـِ م{ ]التوبة [113:ونزلت :}ِإّن َ ص َح ـاـ ُ َيْس تَـْغ فـُرـ وْاـلْلُم ْشـِرـكـيـَنَو لَـْو َك اـُنوْا أُْو ِلــي قُْر َبـىـم نـ َبْع دـ َم اـ تََبّيَن لَهُْ م أَّنهُْ م أَ ْ تـ{ ]القصص.[56 : َل تَْهِد ي ـ َم ْنـ أَْح َبـْب َ ول حاجة إلى بيان ما كان عليه أبو طالب من الحياطة والمنع ،فقد كان الحصن الذي احتمت به الدعو ة السلمية من هجمات الكبراء والسفهاء ،ولكنه بقى على ملة الشياخ من أجداده ،فل م يفلح كل الفلح. ففي الصحيح عن العباس بن عبد المطلب ،قال للنبى صلى ال عليه وسل م :ما أغنيت عن عمك ،فإنه كان ض ـاــحمن نار ،ولول أنا لكان في الدرك السفل من النار( ض ْحـ َ يحوطك ويغضب لك؟ قال :)هو في َ وعن أبي سعيد الخدرى أنه سمع النبي صلى ال عليه وسل م ـ وذكر عنده عمه ـ فقال :)لعله تنفعه شفاعتى يو م القيامة ،فيجعل في ضحضاح من النار تبلغ كعبيه(
خديجة إلى رحمة ال وبعد وفا ة أبي طالب بنحو شهرين أو بثلثة أيا م ـ على اختلف القولين ـ توفيت أ م المؤمنين خديجة الكبرى رضي ال عنها وكانت وفاتها في شهر رمضان في السنة العاشر ة من النبو ة ،ولها خمس وستون سنة على أشهر القوال ،ورسول ال صلى ال عليه وسل م إذ ذاك في الخمسين من عمره. إن خديجة كانت من نع م ال الجليلة على رسول ال صلى ال عليه وسل م ،بقيت معه ربع قرن تحن عليه ساعة قلقه ،وتؤازره في أحرج أوقاته ،وتعينه على إبلغ رسالته ،وتشاركه في مغار م الجهاد المر،وتواسيه بنفسها ومالها، يقول رسول ال صلى ال عليه وسل م :)آمنت بى حين كفر بى الناس ،وصدقتنى حين كذبني الناس ،وأشركتنى في مالها حين حرمنى الناس ،ورزقنى ال ولدها وحر م ولد غيرها( وفي الصحيح عن أبي هرير ة قال :أتى جبريل النبي صلى ال عليه وسل م ،فقال :يا رسول ال ،هـذه خديجة قـد أتت ،معها إناء فيه إدا م أو طعا م أو شراب ،فإذا هي أتتك فاقـ أر عليها السل م من ربها ،وبشرها ببيت في الجنة
ب ـ. ص َ ص َخـ َ ب ـفيه ول َن َ ص ٍب ـ ل َ من قَ َ تراك م الحزان
وقعت هاتان الحادثتان المؤلمتان خلل أيا م معدود ة ،فاهتزت مشاعر الحزن والل م في قلب رسول ال صلى ال عليه وسل م ،ث م ل م تزل تتوالى عليه المصائب من قومه .فإنه م تج أروا عليه وكاشفوه بالنكال والذى بعد موت أبي طالب ،فازداد غًم اـ على غ م ،حتى يئس منه م ،وخرج إلى الطائف رجـاء أن يستجيبوا لدعوتـه ،أو يؤووه وينصـروه على قومــه ،فل م يـر مـن يؤوى ول م يـر ناصًرا ،بل آذوه أشد الذى ،ونالوا منه ما ل م ينله قومـه. وكما اشتدت وطأ ة أهل مكة على النبي صلى ال عليه وسل م اشتدت على أصحابه حتى التجأ رفيقه أبو بكر الصديق رضي ال عنه إلى الهجر ة عن مكة ،فخرج حتى بلغ َبْر ك ـالِغ َمـاـد ،يريد الحبشة ،فأرجعه ابن الّد ُغـّنـة في جواره. قال ابن إسحاق :لما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول ال صلى ال عليه وسل م من الذى ما ل م تطمع به في حيا ة أبي طالب ،حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه ت ارًبا ،ودخل بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكى ،ورسول ال صلى ال عليه وسل م يقول لها :)ل تبكى يابنية ،فإن ال مانع أباك( .قال :ويقول بين ذلك :)ما نالت منى قريش شيًئاـ أكرهه حتى مات أبو طالب(.
ولجل توالى مثل هذه الل م في هذا العا م سمى بعا م الحزن ،وعرف به في السير ة والتاريخ.
الزواج بسود ة رضي ال عنها وفي شوال من هذه السنة ـ سنة 10من النبو ة ـ تزوج رسول ال صلى ال عليه وسل م سود ة بنت زمعة ،كانت ممن أسل م قديًم اـ وهاجرت الهجر ة الثانية إلى الحبشة ،وكان زوجها السكران بن عمرو ،وكان قد أسل م وهاجر معها ،فمات بأرض الحبشة ،أو بعد الرجوع إلى مكة ،فلما حلت خطبها رسول ال صلى ال عليه وسل م وتزوجها ،وكانت أول امرأ ة تزوجها بعد وفا ة خديجة ،وكانت قد وهبت نوبتها لعائشة رضي ال عنها أخيًرا. عوامل الصبر والثبات وهنا يقف الحلي م حيران ،ويتساءل عقلء الرجال فيما بينه م :ما هي السباب والعوامل التي بلغت بالمسلمين إلى هذه الغاية القصوى ،والحد المعجز من الثبات؟ كيف صبروا على هذه الضطهادات التي تقشعر لسماعها الجلود ،وترجف لها الفئد ة؟ ونظًرا إلى هذا الذي يتخالج القلوب نرى أن نشير إلى بعض هذه العوامل والسباب إشار ة عابر ة بسيطة:
1ـ اليمــان بال : إن السبب الرئيسي في ذلك أوًل وبالذات هو اليمان بال وحده ومعرفته حق المعرفة ،فاليمان الجاز م إذا خالطت
بشاشته القلوب يزن الجبال ول يطيش ،إوان صاحب هذا اليمان المحك م وهذا اليقين الجاز م يرى متاعب الدنيا مهما كثرت وكبرت وتفاقمت واشتدت ـ يراها في جنب إيمانه ـ طحالب عائمة فوق َس ْيـلـ جارف جاء ليكسر السدود المنيعة والقلع الحصينة ،فل يبالى بشيء من تلك المتاعب أما م ما يجده من حلو ة إيمانه ،وط ارو ة ثـ ِفيـ الَْر ِ ض{ـ ]الرعد.[17: بـ ُج فَــاء َوأَـّم اـَم اـ َينفَُع الّناَس فََيْم ُكـ ُ إذعانه ،وبشاشة يقينه } فَأَّماـ الّز َبـُدـفََيْذ َهـ ُ ويتفرع من هذا السبب الوحيد أسباب أخرى تقوى هذا الثبات والمصابر ة وهي: 2ـ قياد ة تهوى إليها الفئد ة:
فقد كان النبي صلى ال عليه وسل م ـ وهو القائد العلى للمة السلمية ،بل وللبشرية جمعاء ـ يتمتع من جمال الخلق ،وكمال النفس ،ومكار م الخلق ،والشي م النبيلة ،والشمائل الكريمة ،بما تتجاذب إليه القلوب وتتفإني دونه
ب ل م يرزق بمثلها بشر .وكان على أعلى قمة من الشرف والنبل النفوس ،وكانت أنصبته من الكمال الذي يحّب ُ والخير والفضل .وكان من العفة والمانة والصدق ،ومن جميع سبل الخير على ما ل م يتمار ول م يشك فيه أعداؤه فضًل عن محبيه ورفقائه ،ل تصدر منه كلمة إل ويستيقنون صدقها. اجتمع ثلثة نفر من قريش ،وكان قد استمع كل واحد منه م إلى القرآن سًرا عن صاحبيه ،ث م انكشف سره م، فسأل أحده م أبا جهل ـ وكان من أولئك الثلثة :ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال :ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف؛ أطعموا فأطعمنا ،وحملوا فحملنا ،وأعطوا فأعطينا ،حتى إذا تحاذينا على الركب ،وكنا
َك َفـَر سـْى ِرَهاـن قالوا :لنا نبى يأتيه الوحى من السماء ،فمتى ندرك هذه؟ وال ل نؤمن به أبًد اـ ،ول نصدقه.
كـ َو لَـِك ّنـ وكان أبو جهل يقول :يا محمد ،إنا ل نكذبك ولكن نكذب بما جئت به ،فأنزل ال :} فَِإّنهُْ م لَ ُيَك ّذـُبـوَن َ ال ّ ظاِلِم يـَن ِبآَياِت ال ِ َيْج َح ـُدـوـَن{ ]النعا م.[33: وغمزه صلى ال عليه وسل م الكفار يوًم اـ ثلث مرات فقال في الثالثة :)يا معشر قريش ،جئتك م بالذبح( ،فأخذته م تلك الكلمة حتى إن أشده م عداو ة يرفؤه بأحسن ما يجد عنده. لـ َج ُزـ وـٍروهو ساجد ،دعا عليه م ،فذهب عنه م الضحك ،وساوره م اله م والقلق ،وأيقنوا أنه م ولما ألقوا عليه َس َ
هالكون.
ودعا على عتبة بن أبي لهب فل م يزل على يقين من لقاء ما دعا به عليه حتى إنه حين رأي السد قال :قتلنى وال ـ محمد ـ وهو بمكة. وكان أبي بن خلف يتوعده بالقتل .فقال :)بل أنا أقتلك إن شاء ال ( ،فلما طعن أبًيا في عنقه يو م أحد ـ وكان خدًش اـ غير كبير ـ كان أبي يقول :إنه قد كان قال لى بمكة :أنا أقتلك ،فو ال لو بصق على لقتلني ـ وسيأتي. وقال سعد بن معاذ ـ وهو بمكة ـ لمية بن خلف :لقد سمعت رسول ال صلى ال عليه وسل م يقول :)إنه م ـ أي المسلمين ـ قاتلوك( ففزع فزًع اـ شديًد اـ ،وعهد أل يخرج عن مكة ،ولما ألجأه أبو جهل للخروج يو م بدر اشترى أجود بعير بمكة ليمكنه من الفرار ،وقالت له امرأته :يا أبا صفوان ،وقد نسيت ما قال لك أخوك اليثربي؟ قال :ل وال ما أريد أن أجوز معه م إل قريًباـ. هكذا كان حال أعدائه صلى ال عليه وسل م،أما أصحابه ورفقاؤه فقد حل منه م محل الروح والنفس ،وشغل منه م
مكان القلب والعين ،فكان الحب الصادق يندفع إليه اندفاع الماء إلى الُح دــور ،وكانت النفوس تنجذب إليه انجذاب الحديد إلى المغناطيس.
فصورته هيولى كل جس م ** ومغناطيس أفئـد ة الرجــال وكان من أثر هذا الحب والتفاني أنه م كانوا ليرضون أن تندق أعناقه م ول يخدش له ظفر أو يشاك شوكة. وطيء أبو بكر بن أبي قحافة يوًم اـ بمكة ،وضرب ضرًباـ شديًد اـ ،دنا منه عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفين ويحرفهما لوجهه ،ون از على بطن أبي بكر ،حتى ما يعرف وجهه من أنفه ،وحملت بنو تي م أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله ،ول يشكون في موته ،فتكل م آخر النهار فقال :ما فعل رسول ال صلى ال عليه وسل م؟ فمسوا منه بألسنته م وعذلوه ،ث م قاموا وقالوا لمه أ م الخير :انظرى أن تطعميه شيًئاـ أو تسقيه إياه ،فلما خلت به ألحت عليه ،وجعل يقول :ما فعل رسول ال صلى ال عليه وسل م؟ فقالت :وال ل عل م لى بصاحبك، فقال :اذهبى إلى أ م جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه ،فخرجت حتى جاءت أ م جميل فقالت :إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد ال ،قالت :ما أعرف أبا بكر ول محمد بن عبد ال ،إوان كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك ذهبت ،قالت :نع م ،فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريًع اـ دنًفا ،فدنت أ م جميل وأعلنت بالصياح،
وقالت :وال إن قوًم اـ نالوا هذا منك لهل فسق وكفر ،إواني لرجو أن ينتق م ال لك منه م ،قال :فما فعل رسول ال صلى ال عليه وسل م؟ قالت :هذه أمك تسمع ،قال :فل شيء علىك منها ،قالت :سال م صالح ،فقال :أين هو؟
قالت :في دار ابن الرق م ،قال :فإن ل على أل أذوق طعاًم اـ ول أشرب ش ارًباـ أو آتى رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فأمهلتا حتى إذا هدأت الّر ْجـ لــ،وسكن الناس خرجتا به ،يتكئ عليهما ،حتى أدخلتـاه على رسول ال صلى ال عليه وسل م.
وسننقل نوادر الحب والتفإني في مواضع شتى من هذا الكتاب ،ول سيما ما وقع في يو م أحد ،وما وقع من خبيب وأمثاله. 3ـ الشعور بالمسئولية: فكان الصحابة يشعرون شعوًرا تاًم اـ ما على كواهل البشر من المسئولية الفخمة الضخمة ،وأن هذه المسئولية ل يمكن عنها الحياد والنحراف بحال ،فالعواقب التي تترتب على الفرار عن تحملها أشد وخامة وأكبر ضرًرا عما ه م فيه من الضطهاد ،وأن الخسار ة التي تلحقه م ـ وتلحق البشرية جمعاء ـ بعد هذا الفرار ل يقاس بحال على المتاعب التي كانوا يواجهونها نتيجة هذا التحمل. 4ـ اليمـان بالخـر ة: وهو مما كان يقوى هذا الشعور ـ الشعور بالمسئولية ـ فقد كانوا على يقين جاز م بأنه م يقومون لرب العالمين،
ويحاسبون على أعماله م دقها وجلها ،صغيرها وكبيرها ،فإما إلى النعي م المقي م ،إواما إلى عذاب خالد في سواء الجحي م ،فكانوا يقضون حياته م بين الخوف والرجاء ،يرجون رحمة ربه م ويخافون عذابه ،وكانوا } ُيْؤتُــوَن َم اـ آتَوا
ّو ُقـُلوُبهُْ م َو ِجـ لَـةٌ أَّنهُْ م ِإَلى َر ّبـِه ْ مـَراِج ُعــو َ{ن ]المؤمنون ،[60:وكانوا يعرفون أن الدنيا بعذابها ونعيمها ل تساوى جناح بعوضة في جنب الخر ة ،وكانت هذه المعرفة القوية تهون له م متاعب الدنيا ومشاقها وم اررتها؛ حتى ل م يكونوا يكترثون لها ويلقون إليها باًل. 5ـ القـ ـرآن: وفي هذه الفترات العصيبة الرهيبة الحالكة كانت تنزل السور واليات تقي م الحجج والبراهين على صدق مبادئ السل م ـ التي كانت الدعو ة تدور حولها ـ بأساليب منيعة خلبة ،وترشد المسلمين إلى أسس قدر ال أن يتكون عليها أعظ م وأروع مجتمع بشرى في العال م ـ وهو المجتمع السلمى ـ وتثير مشاعر المسلمين ونوازعه م على الصبر والتجلد ،تضرب لذلك المثال ،وتبين له م ما فيه من الحك م }أَْ م َح ِسـ ْب ـتُـْ م َأن تَْد ُخـلُـوْا اْلَج ّنـَة َو لَـّم اـَيْأتُِك مـ ّم ثَـُل ِّ الِّذ يـَن َخ َلـْو ْاـِم نـ قَْب ِلـُك مـ ّم ّسـتْـهُُ م اْلَبْأَس اـء َواـل ّ ص ُر ـ ال ِ َأل ِإّن ض ّرــاءَو ُزـْلـِز لُـوْاَح تّــى َيُقوَل الّر ُسـوـُل َواـلذ يـَن آَم ُنـوْا َم َعـهُـ َم تَـى َن ْ ب ـالّناُس َأن ُيتَْر ُكـوـا َأن َيُقولُوا آَم ّنـا َوُهـْ م َل ُيْفتَُنوَن َو لَـقَْد فَتَّنا الِّذ يـَن ِم نـ ص َر ـ ال ِ َقِر يـ ٌ ب{ ]البقر ة [ 214:}ال م أََح ِسـ َ َن ْ ِّ ِ ص َدـقُـوا َو لَـَيْع لَـَم ّنـاْلَك اـِذ بِــيَن{ ]العنكبوت.[3 :1: قَْب لـِه ْ مـ َفلََيْع لَـَم ّنـ ال ُ الذ يـَن َ كما كانت تلك اليات ترد على إيرادات الكفار والمعاندين رًد اـ مفحًم اـ ،ول تبقى له م حيلة ،ث م تحذره م مر ة عن عواقب َو ِخـ يـَم ةـ إن أصروا على غيه م وعناده م ـ في جلء ووضوح ،مستدلة بأيا م ال ،والشواهد التاريخية التي تدل على سنة ال في أوليائه وأعدائه ،وتلطفه م مر ة ،وتؤدى حق التفهي م والرشاد والتوجيه حتى ينصرفوا عما ه م فيه من الضلل المبين. وكان القرآن يسير بالمسلمين في عال م آخر ،ويبصره م من مشاهد الكون وجمال الربوبية ،وكمال اللوهية ،وآثار الرحمة والرأفة ،وتجليات الرضوان ما يحنون إليه حنيًناـ ل يقو م له أي عقبة. ضـ َوـاـ ٍَنو َجـ ّنــاٍت لّهُْ م ِفيـَها َنِع يـٌ م وكانت في طى هذه اليات خطابات للمسلمين ،فيها } ُيَبّشُرـُهْ مَر ّبـُه م بَِر ْحـ َم ـٍةـّم ْنـهُـ َو ِرـ ْ ّم ِقـيـٌ م{ ] التوبة ،[ 21:وتصور له م صور ة أعدائه م من الكفر ة الطغا ة الظالمين يحاكمون ويصادرون ،ث م } َيْوَ م ـ ُيْس َحـُبــوَن ِفيـ الّناِر َع لَــى ُو ُجـ وـِه ِهـْ مـُذ وـقُوا َم ّسـ َس قَـَر{ ]القمر.[48: 6ـ البشارات بالنجاح: ومع هذا كله كان المسلمون يعرفون منذ أول يو م لقوا فيه الشد ة والضطهاد ـ بل ومن قبله ـ أن الدخول في السل م ليس معناه جر المصائب والحتوف ،بل إن الدعو ة السلمية تهدف ـ منذ أول يومها ـ إلى القضاء على الجاهلية الجهلء ونظامها الغاش م ،وأن من نتائجها في الدنيا بسط النفوذ على الرض ،والسيطر ة على الموقف
السياسي في العال م لتقود المة النسانية والجمعية البشرية إلى مرضا ة ال ،وتخرجه م من عباد ة العباد إلى عباد ة ال . وكان القرآن ينزل بهذه البشارات ـ مر ة بالصراحة وأخرى بالكناية ـ ففي تلك الفترات القاصمة التي ضيقت الرض على المسلمين ،وكادت تخنقه م وتقضى على حياته م كانت تنزل اليات بما جرى بين النبياء السابقين وبين أقوامه م الذين قاموا بتكذيبه م والكفر به م ،وكانت تشتمل هذه اليات على ذكر الحوال التي تطابق تماًم اـ أحوال
مسلمى مكة وكفارها ،ث م تذكر هذه اليات بما تمخضت عنه تلك الحوال من إهلك الكفر ة والظالمين ،إوايراث
عباد ال الصالحين الرض والديار .فكانت في هذه القصص إشارات واضحة إلى فشل أهل مكة في المستقبل، ونجاح المسلمين مع نجاح الدعو ة السلمية.
ت َك ِلـَم تُـَناـ ِلِع َبــاِد َنــا اْلُم ْرـ َسـِلــيَنِإّنهُْ م وفي هذه الفترات نزلت آيات تصرح ببشار ة غلبة المؤمنين ،قال تعالى :} َولَـقَْد َس َبـقَ ْ ف ـُيْب ِ لَه م اْلم نـص وـر و ـنو إِاـّنـ ُج نـَد َنـاـ لَه م اْلَغاـِلُبون فَتَو ّل ـ َع ْنـهـ م َح تّــى ِح يـٍن وأَـْب ِ صـ ُرـ ـوـَنأَفَبَِعَذـاـبَِناـ َيْس تَـْع ِجـ لُــوَن فَِإَذ اـ صـ ْرــُهـفَْ مـَس ْوـ َ ُْ ُُ َ َ َ ُُ َ ُ ُ َ َ ِ ص َبــاُح اْلُم نـَذ ِرـيـ َ{ن ]الصافات،[177 :171:وقال :} َسُيـْهَزُ مـاْلَج ْمـُعـ َو ُيـَو لّــوَنالّد ُبـَر{ ]القمر،[45: َنَز َلـبَِس اـَح تـِه ْ مـ فََس اـء َ ب ]ص .[11:ونزلت في الذين هاجروا إلى الحبشة :} َواـلِّذيـَن َهاـَج ُرـ وْاـِفيـ ك َم ْهـُز وـٌ مّم َنـ اْلَْح َزـا ِ{ وقال :} ُجنـٌد ّم اـ ُهَناِل َ ال ِ ِم نـ َبْع ِدـ َم اـ ظُِلُم وْاـ لَُنَبّو َئـّنهُْ م ِفيـ الّد ْنـَيـا َح َسـَنـةً َوَلَْج ُر ـالِخ َرـِ ةأَْك َبـُرـ لَْو َك اـُنوْا َيْع لَـُم وـَن{ ]النحل .[41:وسألوه عن ت ّللّس اـئِِليَن{ ]يوسف .[7:أي فأهل مكة فـ َو إِاـْخـ َو ـتِـِهآَيا ٌ قصة يوسف فأنزل ال في طيها :}لّقَْد َك اـَن ِفيـ ُيوُس َ السائلون يلقون ما لقى إخوانه من الفشل ،ويستسلمون كاستسلمه م ،وقال وهو يذكر الرسل :} َوقَــاَل الِّذ يـَن ّ َك فَـر وْاـِلر سـِلـِه مـلَُنْخ ِر ـَجـ ّن ـُك مـّم ْنـ َأر ِ ضـ ضـ َن ـآأَـْو لَتَُعوُد ّنـ ِفيـ ِم لّـتَِناـ فَأَْو َحـى ـِإلَْي ِهـْ مـ َر ّبـهُْ م لَُنْهِلَك ّنـ الظاِلِم يـَن َو لَـُنْس ِكـَنـّنـُك ُ مـالَْر َ ْ ُ ُ ُ ْ ف َوِعـ يـِد{ ]إبراهي م.[14 ،13:وحينما كانت الحرب مشتعلة بين الفرس ِم نـ َبْع ِدـ ِه ـْ مـَذ ِلـ َ ف َم قَـاِم يـ َو َخـ اـ َ ك ِلَم ْنـ َخ اـ َ والرومان ،وكان الكفار يحبون غلبة الفرس لكونه م مشركين ،والمسلمون يحبون غلبة الرومان لكونه م مؤمنين بال والرسل والوحى والكتب واليو م الخر ،وكانت الفرس يغلبون ويتقدمون ،أنزل ال بشار ة بغلبة الرو م في بضع سنين ،ولكنه ل م يقتصر على هذه البشار ة الواحد ة ،بل صرح ببشار ة أخرى ،وهي نصر ال للمؤمنين حيث قال: ٍِ ص ِر ـ ال { ]الرو م.[5 ،4 : } َوَيـْوَم ـئـذَيْفَرُح اْلُم ْؤـ ِمـُنــوَنبَِن ْ وكان رسول ال صلى ال عليه وسل م نفسه يقـو م بمـثل هذه البشارات بين آونـة وأخـرى ،فكـان إذا وافي الموس م،
وقـا م بـين الناس في ُع كـاظ ،وَم َجـ ّنــة ،وذى الَم َجـ اــز لتبليغ الرسالة ،لـ م يكـن يبشره م بالجـنة فحسب ،بل يقول له م
بكل صراحة :)يأيها الناس ،قولوا :ل إله إل ال تفلحوا ،وتملكوا بها العرب ،وتدين لك م بها العج م ،فإذا مت م كنت م ملوًك اـ في الجنة(. وقد أسلفنا ما أجاب به النبي صلى ال عليه وسل م عتبة بن ربيعة حين أراد مساومته على رغائب الدنيا ،وما فهمه ورجاه عتبة من ظهور أمره عليه الصل ة والسل م.
وكذلك ما أجاب به النبي صلى ال عليه وسل م آخر وفد جاء إلى أبي طالب ،فقد صرح له م أنه يطلب منه م كلمة واحد ة يعطونها تدين له م بها العرب ،ويملكون العج م. وقال خباب بن الرت :أتيت النبي صلى ال عليه وسل م وهو متوسد برده وهو في ظل الكعبة ،وقد لقينا من المشركين شد ة ،فقلت :أل تدعو ال ،فقعد ،وهو محمر وجهه ،فقال :)لقد كان من قبلك م ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لح م وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه ،وليتمن ال هذا المر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إل ال ـ زاد بيان الراوى ـ والذئب على غنمه( وفي رواية :)ولكنك م تستعجلون( ول م تكن هذه البشارات مخفية مستور ة ،بل كانت فاشية مكشوفة ،يعلمها الكفر ة ،كما كان يعلمها المسلمون ،حتى كان السود بن المطلب وجلساؤه إذا أروا أصحاب النبي صلى ال عليه وسل م تغامزوا به م ،وقالوا :قد جاءك م ملوك الرض الذين يرثون كسرى وقيصر ،ث م يصفرون ويصفقون. وأما م هذه البشارات بالمستقبل المجيد المستنير في الدنيا ،مع ما فيه من الرجاء الصالح الكبير البالغ إلى النهاية في الفوز بالجنة كان الصحابة يرون أن الضطهادات التي تتوالى عليه م من كل جانب ،والمصائب التي تحيط به م من كل الرجاء ليست إل :)سحابة صيف عن قليل تقشع(. هذا ول م يزل الرسول صلى ال عليه وسل م يغذى أرواحه م برغائب اليمان ،ويزكى نفوسه م بتعلي م الحكمة والقرآن، ويربيه م تربية دقيقة عميقة ،يحدو بنفوسه م إلى منازل سمو الروح ،ونقاء القلب ،ونظافة الخلق ،والتحرر من سلطان الماديات ،والمقاومة للشهوات ،والنزوع إلى رب الرض والسموات ،ويذكى جمر ة قلوبه م ،ويخرجه م من الظلمات إلى النور ،ويأخذه م بالصبر على الذى ،والصفح الجميل ،وقهر النفس .فازدادوا رسوًخ ا ـ في
ص ا ـ على العل م ،وفقًها في الدين، الدين،وعزوفا عن الشهوات ،وتفانًياـ في سبيل المرضا ة ،وحنيًنا إلى الجنة ،وحر ً ومحاسبة للنفس ،وقهًرا للنزعات وغلبة على العواطف ،وتسيطًرا على الثائرات والهائجات ،وتقيًد اـ بالصبر والهدوء والوقار.
المرحلة الثالثة :دعـو ة السـل م خـارج مكـة
الرسول صلى ال عليه وسل م في الطائف في شوال سنة عشر من النبو ة ]في أواخر مايو أو أوائل يونيو سنة 619م[ خرج النبي صلى ال عليه وسل م إلى الطائف ،وهي تبعد عن مكة نحو ستين ميًل ،ـ ـسارها ماشًيا على قدميه جيئة وذهوًبا ،ومعه موله زيد بن حارثة، وكان كلما مر على قبيلة في الطريق دعاه م إلى السل م ،فل م تجب إليه واحد ة منها. فلما انتهي إلى الطائف عمد ثلثة إخو ة من رؤساء ثقيف ،وه م عبد ياليل ومسعود وحبيب أبناء عمرو بن عمير الثقفي ،فجلس إليه م ودعاه م إلى ال ،إوالى نصر ة السل م ،فقال أحده م :هو َيْم ُرـطـثياب الكعبة ]أي يمزقها[ إن كان ال أرسلك .وقال الخر :أما َو َجـ َد ـال أحًد اـ غيرك ،وقال الثالث:وال ل أكلمك أبًد اـ ،إن كنت رسوًل لنت
أعظ م خطًرا من أن أرد عليك الكل م ،ولئن كنت تكذب على ال ما ينبغى أن أكلمك .فقا م عنه م رسول ال صلى ال عليه وسل م وقال له م] :إذ فعلت م ما فعلت م فاكتموا عني[.
وأقا م رسول ال صلى ال عليه وسل م بين أهل الطائف عشر ة أيا م ،ل يدع أحًد اـ من أشرافه م إل جاءه وكلمه، فقالوا :اخرج من بلدنا .وأغروا به سفهاءه م ،فلما أراد الخروج تبعه سفهاؤه م وعبيده م يسبونه ويصيحون به، طْي نـ]أي صفين[ وجعلوا يرمونه بالحجار ة ،وبكلمات من السفه ،ورجموا حتى اجتمع عليه الناس ،فوقفوا له ِس َم ـاـ َ عراقيبه ،حتى اختضب نعله بالدماء .وكان زيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى أصابه ِش َج ـاــج في رأسه ،ول م يزل به
السفهاء كذلك حتى ألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة على ثلثة أميال من الطائف ،فلما التجأ إليه رجعوا عنه ،وأتى رسول ال صلى ال عليه وسل م إلى ُح ْبـلَـة من عنب فجلس تحت ظلها إلى جدار .فلما جلس إليه واطمأن ،دعا بالدعاء المشهور الذي يدل على امتلء قلبه كآبة وحزًناـ مما لقى من الشد ة ،وأسًفا على أنه ل م
يؤمن به أحد ،قال:
وهواني على الناس ،يا أرح م الراحمين ،أنت رب المستضعفين، ض ْعـفـ قُّو تِــى ،وقلة حيلتى ،إ )ال م إليك أشكو َ وأنت ربي ،إلى من تَِك لُـنى؟ إلى بعيد َيتََج هّـُم نِـى؟ أ م إلى عدو ملكته أمري؟ إن ل م يكن بك علّي غضب فل أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي ،أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ،وصلح عليه أمر الدنيا والخر ة من أن
تنزل بي غضبك ،أو يحل علي َس َخـ طُــك ،لك الُعتَْبىـ حتى ترضى ،ول حول ول قو ة إل بك(. فلما رآه ابنا ربيعة تحركت له رحمهما ،فدعوا غلًم اـ لهما نصرانًياـ يقال لهَ :ع ّدـاـس ،وقال له:خذ قطًفا من هذا العنب ،واذهب به إلى هذا الرجل .فلما وضعه بين يدى رسول ال صلى ال عليه وسل م مد يده إليه قائًل :)باس م
ال ( ث م أكل. فقال عداس :إن هذا الكل م ما يقوله أهل هذه البلد ،فقال له رسول ال صلى ال عليه وسل م :)من أي البلد أنت؟ وما دينك؟ قال :أنا نصراني من أهل ِنيَنَوى .فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م :من قرية الرجل الصالح يونس بن َم تّـى( .قال له :وما يدريك ما يونس ابن متى؟ قال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)ذاك أخي ،كان
نبًيا وأنا نبي( ،فأكب عداس على رأس رسول ال صلى ال عليه وسل م ويديه ورجليه يقبلها.
فقال ابنا ربيعة أحدهما للخر :أما غلمك فقد أفسده عليك .فلما جاء عداس قال له :ويحك ما هذا؟ قال :يا سيدى ،ما في الرض شيء خير من هذا الرجل ،لقد أخبرني بأمر ل يعلمه إل نبى ،قال له :ويحك يا عداس ، ل يصرفنك عن دينك ،فإن دينك خير من دينه. ورجع رسول ال صلى ال عليه وسل م في طريق مكة بعد خروجه من الحائط كئيًباـ محزوًناـ كسير القلب ،فلما بلغ قرن المنازل بعث ال إليه جبريل ومعه ملك الجبال ،يستأمره أن يطبق الخشبين على أهل مكة. وقد روى البخاري تفصيل القصة ـ بسنده ـ عن عرو ة بن الزبير ،أن عائشة رضي ال عنها حدثته أنها قالت للنبى صلى ال عليه وسل م :هل أتى عليك يو م كان أشد عليك من يو م أحد؟ قال :)لقيت من قومِك ما لقيت ،وكان أشد ما لقيت منه م يو م العقبة ،إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياِليل بن عبد ُك لَـل ،فل م يجبني إلى ما أردت،
فانطلقت ـ وأنا مهمو م ـ على وجهي ،فل م أستفق إل وأنا بَقْر ِنـالثعالب ـ وهو المسمى بَقْر ِن ـالمنازل ـ فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني ،فنظرت فإذا فيها جبريل ،فناداني ،فقال :إن ال قد سمع قول قومك لك ،وما ردوا عليك ،وقد بعث ال إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيه م .فناداني ملك الجبال ،فسل م علّي ث م قال :يا محمد، ذلك ،فما شئت ،إن شئت أن أطبق عليه م الخشبين ـ أي لفعلت ،والخشبان :هما جبل مكة :أبو قَُبْي سـ والذي يقابله ،وهو قَُعْيـِقـَعـاـن ـ قال النبي صلى ال عليه وسل م :بل أرجو أن يخرج ال عز وجل من أصلبه م من يعبد ال عز وجل وحده ل يشرك به شيئا(.
وفي هذا الجواب الذي أدلى به الرسول صلى ال عليه وسل م تتجلى شخصيته الفذ ة ،وما كان عليه من الخلق العظي م ل يدرك غوره. وأفاق رسول ال صلى ال عليه وسل م واطمأن قلبه لجل هذا النصر الغيبى الذي أمده ال عليه من فوق سبع سموات ،ث م تقد م في طريق مكة حتى بلغ وادى نخلة ،وأقا م فيه أياًم اـ .وفي وادى نخلة موضعان يصلحان للقامة ـ الّس ْيـلـ الكبير والّز ْيـَمـةـ لما بهما من الماء والخصب ،ول م نقف على مصدر يعين موضع إقامته صلى ال عليه وسل م فيه.
وخلل إقامته صلى ال عليه وسل م هناك بعث ال إليه نفًرا من الجن ذكره م ال في موضعين من القرآن :في ص تُــوا َفلَّم اـ قُ ِ ضـرـ وهـَقالُوا َأن ِ ِ ض َيـ ـَو لّـْو اـِإَلى ص َر ـْفـَناـِإلَْي َ كـ َنفًَرا ّم َنـ اْلِج ّن ـ َيْس تَـم ُعــوَن اْلقُْرآَن َفلَّم اـ َح َ ُ ُ سور ة الحقاف :} َ إوِاـْذـ َ ِ ِ ِ ِ ِ صـ ّد ـقًـا لَّم اـ َبْي َنـ َيَد ْيـِهـ َيْهِد ي ـ ِإَلى اْلَح ّ ق ـ َو إِاـلَـى قَْو ِم ـِهـ مـّم نـذ ِر ـيـَنَقالُوا َيا قَْو َم ـَنـا ِإّنا َس مـْعـَنـاـ ك تَـاًباـ ُأنِز َلـ م نـ َبْع دـ ُم وـَس ىـ ُم َ طِر يـ ٍ ق ّم ْسـتَـِقيـٍ م َيا قَْو َم ـَنـاـَأِج يـُبوا َد اـِع َي ـال ِ َوآـِم ُنـوا بِِه َيْغ ِفـْرـ لَُك مـ ّم نـ ُذ ُنـوبُِك ْ مـ َو ُيـِج ْر ـُكـ مـّم ْنـ َع َذـاـٍب أَِليٍ م{ ]الحقاف:29: َ .[31
وفي سور ة الجن :}ُقْل ُأوِح َي ـ ِإلَّي أَّنهُ اْس تَـَم َعـ َنفٌَر ّم َنـ اْلِج ّن ـ َفَقالُوا ِإّنا َس ِمـْعـَنـاـ قُْرآًناـَع َجـ ًبـاـ َيْهِد ي ـ ِإَلى الّر ْشـِدـَفآَم ّنـا بِِه كـِبَر ّبـَناـأََح ًدـاـ{ إلـى تمـا م اليــة الخامـسة عشـر ] الجن.[15 :1 : َو لَــن ّنْش ِرـ َ ومن سياق هذه اليات ـ وكذا من سياق الروايات التي وردت في تفسير هذا الحادث ـ يتبين أن النبي صلى ال عليه وسل م ل م يعل م حضور ذلك النفر من الجن حين حضروا وسمعوا ،إوانما عل م بعد ذلك حين أطلعه ال عليه بهذه اليات ،وأن حضوره م هذا كان لول مر ة ،ويقتضى سياق الروايات أنه م وفدوا بعد ذلك م ارًرا. وحًقا كان هذا الحادث نصًرا آخر أمده ال من كنوز غيبه المكنون بجنوده التي ل يعلمها إل هو ،ث م إن اليات التي نزلت بصدد هذا الحادث كانت في طيها بشارات بنجاح دعو ة النبي صلى ال عليه وسل م ،وأن أي قو ة من ب ـ َد اـِع ي ـال ِ َفلَْي َسـ بُِم ْعـِجـ ٍز ـِفيـ اْلَْر ِ ض ـَو لَـْي َسـ قوات الكون ل تستطيع أن تحول بينها وبين نجاحها :} َوَمـنـّل ُيِج ْ َ ظَنّنا َأن ّلن ّنعِج َز ـ ال َ ِفيـ اْلَْر ِ ض َلـ ٍل ـّـم بِـيٍن{ ]الحقاف ،[32:} َوأَـّنا َ لَهُ ِم نـ ُد وـنِِه َأوِلَياء أُْو لَ ـئِ َ ك ِفيـ َ ض ـَو لَــن ّنْع ِجـ َزـهُ َهَرـًبـا{ـ ]الجن.[12:
أما م هذه النصر ة ،وأما م هذه البشارات ،أقشعت سحابة الكآبة والحزن واليأس التي كانت مطبقة عليه منذ أن خرج من الطائف مطروًد اـ مدحوًرا ،حتى صم م على العود إلى مكة ،وعلى القيا م باستئناف خطته الولى في عرض السل م إوابلغ رسالة ال الخالد ة بنشاط جديد وبجد وحماس. وحينئذ قال له زيد بن حارثة :كيف تدخل عليه م وقد أخرجوك؟ يعنى قريًش اـ ،فقال :)يا زيد ،إن ال جاعل لما ترى
فرًج ا ـ ومخرًج اــ ،إوان ال ناصر دينه ،ومظهر نبيه( .وسار رسول ال صلى ال عليه وسل م حتى إذا دنا من مكة مكث بِح َرــاء،وبعث رجًل من خزاعة إلى الخنس بن َش ِرـيـق ليجيره ،فقال :أنا حليف ،والحليف ل يجير ،فبعث إلى سهيل بن عمرو ،فقال سهيل :إن بني عامر ل تجير على بني كعب ،فبعث إلى المطع م بن عدى ،فقال
المطع م :نع م ،ث م تسلح ودعا بنيه وقومه ،فقال :البسوا السلح ،وكونوا عند أركان البيت ،فإني قد أجرت محمًد اـ ،ث م بعث إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م :أن ادخل ،فدخل رسول ال صلى ال عليه وسل م ومعه زيد بن حارثة حتى انتهي إلى المسجد الحرا م ،فقا م المطع م بن عدى على راحلته فنادى :يا معشر قريش ،إني قد
أجرت محمًد اـ فل يهجه أحد منك م ،وانتهي رسول ال صلى ال عليه وسل م إلى الركن فاستلمه ،وطاف بالبيت، وصلى ركعتين ،وانصرف إلى بيته ،ومطع م بن عدى وولده محدقون به بالسلح حتى دخل بيته. وقيل :إن أبا جهل سأل مطعًم اـ :أمجير أنت أ م متابع ـ مسل م؟ .قال :بل مجير .قال :قد أجرنا من أجرت. وقد حفظ رسول ال صلى ال عليه وسل م للمطع م هذا الصنيع ،فقال في أسارى بدر :)لو كان المطع م بن عدى حًيا ث م كلمنى في هؤلء النتنى لتركته م له(.
عرض السلم علي القبائل والفراد القبائل التي عرض عليها السلم المؤمنون من غير أهل مكة ست نسمات طيبة من أهل يثرب استطراد
عرض السل م علي القبائل والفراد في ذى القعد ة سنة عشر من النبو ة ـ في أواخر يونيو أو أوائل يوليو سنة 619م ـ عاد رسول ال صلى ال عليه وسل م إلى مكة؛ ليستأنف عرض السل م على القبائل والفراد ،ولقتراب الموس م كان الناس يأتون إلى مكة رجال، وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق لداء فريضة الحج ،وليشهدوا منافع له م ،ويذكروا اس م ال في أيا م معلومات ،فانتهز رسول ال صلى ال عليه وسل م هذه الفرصة ،فأتاه م قبيلة قبيلة يعرض عليه م السل م ويدعوه م إليه ،كما كان يدعوه م منذ السنة الرابعة من النبو ة ،وقد بدأ يطلب منه م من هذه السنة ـ العاشر ة ـ أن يؤووه وينصروه ويمنعوه حتى يبلغ ما بعثه ال به.
القبائل التي عرض عليها السل م قال الزهرى :وكان ممن يسمى لنا من القبائل الذين أتاه م رسول ال صلى ال عليه وسل م ،ودعاه م وعرض نفسه صـفَــة ،وفزار ة ،وغسان ،ومر ة ،وحنيفة ،وسلي م ،وَع ْبـسـ ،وبنو صـ َعـةـ ،وُم َحـ اـِر بـبن َخ َ ص ْعـ َ عليه م :بنو عامر بن َ نصر ،وبنو الَبّك اـء ،وكند ة ،وكلب ،والحارث بن كعب ،وُع ْذـَرـ ة،والحضارمة ،فل م يستجب منه م أحد.
وهذه القبائل التي سماها الزهرى ل م يكن عرض السل م عليها في سنة واحد ة ول في موس م واحد ،بل إنما كان ما بين السنة الرابعة من النبو ة إلى آخر موس م قبل الهجر ة .ول يمكن تسمية سنة معينة لعرض السل م على قبيلة معينة ،ولكن الكثر كان في السنة العاشر ة. أما كيفية عرض السل م على هذه القبائل ،وكيف كانت ردوده م على هذا العرض فقد ذكرها ابن إسحاق، ونلخصها فيما يلي: 1ـ بنو كلب :أتى النبي صلى ال عليه وسل م إلى بطن منه م يقال له م :بنو عبد ال ،فدعاه م إلى ال وعرض عليه م نفسه ،حتى إنه ليقول له م :)يا بني عبد ال ،إن ال قد أحسن اس م أبيك م( ،فل م يقبلوا منه ما عرض عليه م.
2ـ بنو حنيفة :أتاه م في منازله م فدعاه م إلى ال ،وعرض عليه م نفسه ،فل م يكن أحد من العرب أقبح عليه رًد اـ
منه م.
3ـ وأتى إلى بني عامر بن صعصعة :فدعاه م إلى ال ،وعرض عليه م نفسه ،فقال َبْي َحـ َرـ ةبن ِفَرـاس ]رجل منه م[ :وال ،لو إني أخذت هذا الفتى من قريش لكلت به العرب ،ث م قال :أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ث م أظهرك ال على من خالفك أيكون لنا المر من بعدك؟ قال :)المر إلى ال ،يضعه حيث يشاء( ،فقال له: فـ نحورنا للعرب دونك ،فإذا أظهرك ال كان المر لغيرنا ،ل حاجة لنا بأمرك ،فأبوا عليه. أفَتُْهَد ُ ولما رجعت بنو عامر تحدثوا إلى شيخ له م ل م يواف الموس م لكبر سنه ،وقالوا له :جاءنا فتى من قريش من بني عبد المطلب يزع م أنه نبى ،يدعونا إلى أن نمنعه ونقو م معه ،ونخرج به إلى بلدنا ،فوضع الشيخ يديه على طـَلب؟ والذي نفس فلن بيده ما تَقَّو لَــها لف ؟ هل لُذ َنـاَباها من َم ْ رأسه ث م قال :يا بني عامر وهل لها من تَ َ
إسماعيلى قط ،إوانها لحق ،فأين رأيك م كان عنك م؟. المؤمنون من غير أهل مكة
وكما عرض رسول ال صلى ال عليه وسل م السل م على القبائل والوفود ،عرض على الفراد والشخاص، وحصل من بعضه م على ردود صالحة ،وآمن به عد ة رجال بعد هذا الموس م بقليل ،وهاك نبذ ة منه م: 1ـ سويد بن الصامت: كان شاعًرا لبيًبا ،من سكان يثرب ،يسميه قومه ]الكامل[ لجلده وشعره وشرفه ونسبه ،جاء مكة حاًج ا ـ أو معتمًرا، فدعاه رسول ال صلى ال عليه وسل م إلى السل م ،فقال :لعل الذي معك مثل الذي معى .فقال له رسول ال صلى ال عليه وسل م :)وما الذي معك؟( قال :حكمة لقمان .قال :)اعرضها علّي( .فعرضها ،فقال له رسول ال صلى ال عليه وسل م :)إن هذا لكل م حسن ،والذي معى أفضل من هذا؛ قرآن أنزله ال تعالى علّي ،ـ هو هدى ونور( ،فتل عليه رسول ال صلى ال عليه وسل م القرآن ،ودعاه إلى السل م ،فأسل م ،وقال :إن هذا لقول حسن.
فلما قد م المدينة ل م يلبث أن قتل في وقعة بين الوس والخزرج قبل يو م بعاث .والغلب أنه أسل م في أوائل السنة الحادية عشر ة من النبو ة. 2ـ إياس بن معاذ: كان غلًم اـ حدثا من سكان يثرب ،قد م في وفد من الوس ،جاءوا يلتمسون الحلف من قريش على قومه م من الخزرج ،وذلك قبيل حـرب بعاث في أوائل سنة 11من النبو ة؛ إذ كانت نيران العداو ة متقد ة في يثرب بين القبيلتين ـ وكان الوس أقل عدًد اـ من الخزرج ـ فلما عل م رسول ال صلى ال عليه وسل م بمقدمه م جاءه م ،فجلس إليه م ،وقال له م :)هل لك م في خير مما جئت م له؟( فقالوا :وما ذاك؟ قال :)أنا رسول ال ،بعثنى إلى العباد، أدعوه م إلى أن يعبدوا ال ول يشركوا به شيًئا ،وأنزل علّي الكتاب( ،ث م ذكر له م السل م ،وتل عليه م القرآن .فقال
إياس بن معاذ :أي قو م ،هذا وال خير مما جئت م له ،فأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع ـ رجل من الوفد ـ حفنة من تراب البطحاء فرمى بها وجه إياس ،وقال :دعنا فلعمرى لقد جئنا لغير هذا ،فصمت إياس ،وقا م رسول ال صلى ال عليه وسل م ،وانصرفوا إلى المدينة من غير أن ينجحوا في عقد حلف مع قريش. وبعد رجوعه م إلى يثرب ل م يلبث إياس أن هلك ،وكان يهلل ويكبر ويحمد ويسبح عند موته ،فل يشكون أنه مات مسلًم اـ. 3ـ أبو ذر الغفاري: وكان من سكان نواحي يثرب ،ولعله لما بلغ إلى يثرب خبر مبعث النبي صلى ال عليه وسل م بسويد بن ض اــ ،وصار سبًباـ لسلمه. الصامت إواياس بن معاذ ،وقع في أذن أبي ذر أي ً روى البخاري عن ابن عباس قال :قال أبو ذر :كنت رجًل من غفار ،فبلغنا أن رجًل قد خرج بمكة يزع م أنه
نبى ،فقلت لخي :انطلق إلى هذا الرجل وكلمه ،وائتنى بخبره ،فانطلق فلقيه ،ث م رجع ،فقلت :ما عندك؟ فقال: وال ،لقد رأيت رجًل يأمر بالخير ،وينهي عن الشر ،فقلت له :ل م تشفنى من الخبر ،فأخذت ج ارًبا وعصا ،ث م أقبلت إلى مكة ،فجعلت ل أعرفه ،وأكره أن أسأل عنه ،وأشرب من ماء زمز م وأكون في المسجد .قال :فمر بى علّي .فقال :كأن الرجل غريب؟ قال :قلت :نع م .فقال :فانطلق إلى المنزل ،فانطلقت معه ل يسألنى عن شيء ول أسأله ول أخبره .فلما أصبحت غدوت إلى المسجد لسأل عنه ،وليس أحد يخبرنى عنه بشيء .قال :فمر بى علّي فقال :أما نال للرجل يعرف منزله بعد؟ قال :قلت :ل .قال :فانطلق معي ،قال :فقال :ما أمرك؟ وما أقدمك هذه البلد ة؟ قال :قلت له:إن كتمت علّي أخبرتك ،قال :فإني أفعل ،قال :قلت له :بلغنا أنه قد خرج هاهنا رجل
يزع م أنه نبى ال ،فأرسلت أخي يكلمه فرجع ول م يشفنى من الخبر ،فأردت أن ألقاه.
فقال له :أما إنك قد رشدت .هذا وجهي إليه ،ادخل حيث أدخل فإني إن رأيت أحًد اـ أخافه عليك قمت إلى الحائط كإني أصلح نعلى ،وامض أنت .فمضى ومضيت معه حتى دخل ،ودخلت معه على النبي صلى ال عليه وسل م.فقلت له:اعرض علّي السل م .فعرضه ،فأسلمت مكإني ،فقال لي :)يا أبا ذر ،اكت م هذا المر ،وارجع إلى بلدك ،فإذا بلغك ظهورنا فأقبل( .فقلت :والذي بعثك بالحق لصرخن بها بين أظهره م ،فجئت إلى المسجد، وقريش فيه ،فقلت :يا معشر قريش ،إني أشهد أن ل إله إل ال ،وأشهد أن محمًد اـ عبده ورسوله ،فقالوا :قوموا إلى هذا الصابئ .فقاموا ،فضربت لموت ،فأدركنى العباس فأكب علّي ،ـ ث م أقبل عليه م فقال :ويلك م تقتلون رجًل
من غفار؟ ومتجرك م وممرك م على غفار ،فأقلعوا عنى .فلما أن أصبحت الغد ،رجعت ،فقلت مثل ما قلت
بالمس .فقالوا :قوموا إلى هذا الصابئ ،فصنع بي ما صنع بالمس ،فأدركني العباس ،فأكب علّي وقال مثل مقالته بالمس.
4ـ طُفَْي لـ بن عمرو الّد ْوـ ســى: كان رجًل شريًفا ،شاعًرا لبيًبا ،رئيس قبيلة دوس ،وكانت لقبيلته إمار ة أو شبه إمار ة في بعض نواحى اليمن ،قد م مكة في عا م 11من النبو ة ،فاستقبله أهلها قبل وصوله إليها ،وبذلوا له أجل تحية وأكر م تقدير ،وقالوا له :يا
طفيل ،إنك قدمت بلدنا ،وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا ،وقد فرق جماعتنا ،وشتت أمرنا ،إوانما قوله كالسحر ،يفرق بين الرجل وأبيه ،وبين الرجل وأخيه ،وبين الرجل وزوجـه ،إوانا نخشى عليك وعلى قومك ما
قد دخل علينا ،فل تكلمه ول تسمعن منه شيًئا.
يقول طفيل :فوال ما زالوا بي حتى أجمعت أل أسمع منه شيًئا ،ول أكلمه ،حتى حشوت أذنى حين غدوت إلى المسجد ُك ْرـ ُسـفًـا؛فرًقا من أن يبلغنى شيء من قوله ،قال :فغدوت إلى المسجد فإذا هو قائ م يصلى عند الكعبة،
فقمت قريًباـ منه ،فأبي ال إل أن يسمعنى بعض قوله ،فسمعت كلًم اـ حسًنا ،فقلت في نفسى :واثكل أمي ،وال إني رجل لبيب شاعر؛ ما يخفي علّي الحسن من القبيح ،فما يمنعنى أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟ فإن كان
حسًنا قبلته ،إوان كان قبيًح ا ـ تركته ،فمكثت حتى انصرف إلى بيته فاتبعته ،حتى إذا دخل بيته دخلت عليه، فعرضت عليه قصة مقدمى ،وتخويف الناس إياي ،وسد الذن بالكرسف ،ث م سماع بعض كلمه ،وقلت له:
اعرض علّي أمرك ،فعرض علّي السل م ،وتل علّي القرآن .فوال ما سمعت قوًل قط أحسن منه ،ول أمًرا أعدل منه ،فأسلمت وشهدت شهاد ة الحق ،وقلت له :إني مطاع في قومى ،وراجع إليه م ،وداعيه م إلى السل م ،فادع ال أن يجعل لى آية ،فدعا. وكانت آيته أنه لما دنا من قومه جعل ال نوًرا في وجهه مثل المصباح ،فقال :ال م في غير وجهي .أخشى أن يقولوا :هذه مثلة ،فتحول النور إلى سوطه ،فدعا أباه وزوجته إلى السل م فأسلما ،وأبطأ عليه قومه في السل م، لكن ل م يزل به م حتى هاجر بعد الخندق ،ومعه سبعون أو ثمانون بيًتا من قومه ،وقد أبلى في السل م بلء حسًنا ،وقتل شهيًد اـ يو م اليمامة. 5ـ ِ ض َمــاـد الزدى:
كان من أْز ِد ـَش ُنـوَء ة من اليمن ،وكان يرقى من هذا الريح ،قد م مكة فسمع سفهاءها يقولون :إن محمًد اـ مجنون، فقال :لو إني أتيت هذا الرجل لعل ال يشفيه على يدى ،فلقيه ،فقال :يا محمد ،إني أرقى من هذا الريح ،فهل لك؟ فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)إن الحمد ل نحمده ونستعينه ،من يهده ال فل مضل له ،ومن يضلله فل هادى له ،وأشهد أن ل إله إل ال وحده ل شريك له ،وأشهد أن محمًد اـ عبده ورسوله .أما بعد(. فقال :أعد علّي كلماتك هؤلء ،فأعادهن عليه رسول ال صلى ال عليه وسل م ثلث مرات ،فقال :لقد سمعت قول الكهنة ،وقول السحر ة ،وقول الشعراء ،فما سمعت مثل كلماتك هؤلء ،ولقد بلغن قاموس البحر ،هات يدك أبايعك على السل م ،فبايعه.
ست نسمات طيبة من أهل يثرب وفي موس م الحج من سنة 11من النبو ة ـ يوليو سنة 620م ـ وجدت الدعو ة السلمية بذوًرا صالحة ،سرعان ما تحولت إلى شجرات باسقات ،اتقى المسلمون في ظللها الوارفة لفحات الظل م والعدوان حتى تغير مجرى الحداث وتحول خط التاريخ. وكان من حكمته صلى ال عليه وسل م إزاء ما كان يلقى من أهل مكة من التكذيب والصد عن سبيل ال أنه كان يخرج إلى القبائل في ظل م الليل ،حتى ل يحول بينه وبينه م أحد من أهل مكة المشركين. فخرج ليلة ومعه أبو بكر وعلى ،فمر على منازل ُذ ْهـلـ وشيبان بن ثعلبة ،وكلمه م في السل م .وقد دارت بين أبي بكر وبين رجل من ذهل أسئلة وردود طريفة ،وأجاب بنو شيبان بأرجى الجوبة ،غير أنه م توقفوا في قبول السل م. ث م مر رسول ال صلى ال عليه وسل م بعقبة منى ،فسمع أصوات رجال يتكلمون فعمده م حتى لحقه م ،وكانوا ستة نفر من شباب يثرب كله م من الخزرج ،وه م: 1ـ أسعد بن ُز َرـار ة]من بني النجار[. 2ـ عوف بن الحارث بن رفاعة ابن َع ْفـراء ]من بني النجار[. [. 3ـ رافع بن مالك بن الَع ْجـ لــن ]من بني ُز َر ـْيـقـ
طَبـة بن عامر بن حديد ة ]من بني سلمة[. 4ـ قُ ْ 5ـ ُع ْقـَبة بن عامر بن نابي ]من بني َح َرــا مبن كعب [.
6ـ جابر بن عبد ال بن ِر ئـاب ]من بني عبيد بن َغ ْنـ مـ [. وكان من سعاد ة أهل يثرب أنه م كانوا يسمعون من حلفائه م من يهود المدينة ،إذا كان بينه م شيء ،أن نبًيا من النبياء مبعوث في هذا الزمان سيخرج ،فنتبعه ،ونقتلك م معه قتل عاد إوار م. فلما لحقه م رسول ال صلى ال عليه وسل م قال له م :)من أنت م؟( قالوا :نفر من الخزرج ،قال :)من موالى اليهود؟( أي حلفائه م ،قالوا :نع م .قال :)أفل تجلسون أكلمك م؟( قالوا :بلى ،فجلسوا معه ،فشرح له م حقيقة السل م ودعوته، ودعاه م إلى ال عز وجل ،وتل عليه م القرآن .فقال بعضه م لبعض :تعلمون وال يا قو م ،إنه للنبى الذي توعدك م به يهود ،فل تسبقنك م إليه ،فأسرعوا إلى إجابة دعوته ،وأسلموا. وكانوا من عقلء يثرب ،أنهكته م الحرب الهلية التي مضت قريًبا ،والتي ل يزال لهيبها مستعًرا ،فأملوا أن تكون
دعوته سبًبا لوضع الحرب ،فقالوا :إنا قد تركنا قومنا ول قو م بينه م من العداو ة والشر ما بينه م ،فعسى أن يجمعه م ال بك ،فسنقد م عليه م ،فندعوه م إلى أمرك ،ونعرض عليه م الذي أجبناك إليه من هذا الدين ،فإن يجمعه م ال عليك فل رجل أعز منك. ولما رجع هؤلء إلى المدينة حملوا إليها رسالة السل م ،حتى ل م تبق دار من دور النصار إل وفيه ذكر رسول ال صلى ال عليه وسل م.
استطراد ـ زواج رسول ال صلى ال عليه وسل م بعائشة وفي شوال من هذه السنة ـ سنة 11من النبو ة ـ تزوج رسول ال صلى ال عليه وسل م عائشة الصديقة رضي ال عنها وهي بنت ست سنين وبني بها بالمدينة في شوال في السنة الولى من الهجر ة وهي بنت تسع سنين.
الس ـراء والمع ـراج
وبينما النبي صلى ال عليه وسل م يمـر بهذه المرحلة ،وأخذت الدعو ة تشق طريًقا بين النجاح والضطهـاد ،وبـدأت نجـو م المل تتلمح في آفاق بعيد ة ،وقع حادث السراء والمعـراج .واختلف في تعيين زمنه على أقوال شتى: 1ـ فقيل :كان السراء في السنة التي أكرمه ال فيها بالنبو ة ،واختاره الطبرى. 2ـ وقيل :كان بعد المبعث بخمس سنين ،رجح ذلك النووى والقرطبى. 3ـ وقيل :كان ليلة السابع والعشرين من شهر رجب سنة 10من النبو ة. 4ـ وقيل :قبل الهجر ة بستة عشر شهًرا ،أي في رمضان سنة 12من النبو ة. 5ـ وقيل :قبل الهجر ة بسنة وشهرين ،أي في المحر م سنة 13من النبو ة. 6ـ وقيل :قبل الهجر ة بسنة ،أي في ربيع الول سنة 13من النبو ة. َو ُرـّدـِتـالقواُل الثلثة الول بأن خديجة رضي ال عنها توفيت في رمضان سنة عشر من النبو ة ،وكانت وفاتها قبل أن تفرض الصلوات الخمس .ول خلف أن فرض الصلوات الخمس كان ليلة السراء .أما القوال الثلثة الباقية فل م أجد ما أرجح به واحًد اـ منها ،غير أن سياق سور ة السراء يدل على أن السراء متأخر جًد اـ. وروى أئمة الحديث تفاصيل هذه الوقعة ،وفيما يلي نسردها بإيجاز: قال ابن القي م :أسرى برسول ال صلى ال عليه وسل م بجسده على الصحيح من المسجد الحرا م إلى بيت المقدس، راكًبا على الُبَراق ،صحبة جبريل عليهما الصل ة والسل م ،فنزل هناك ،وصلى بالنبياء إماًم اـ ،وربط البراق بحلقة باب المسجد. ث م عرج به تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء الدنيا ،فاستفتح له جبريل ففتح له ،فرأي هنالك آد م أبا البشر، فسل م عليه ،فرحب به ورد عليه السل م ،وأقر بنبوته ،وأراه ال أرواح السعداء عن يمينه ،وأرواح الشقياء عن يساره. ث م عرج به إلى السماء الثانية ،فاستفتح له ،فرأي فيها يحيى بن زكريا وعيسى ابن مري م ،فلقيهما وسل م عليهما، فردا عليه ورحبا به ،وأقّرا بنبوته.
ث م عرج به إلى السماء الثالثة ،فرأي فيها يوسف ،فسل م عليه فرد عليه ورحب به ،وأقر بنبوته. ث م عرج به إلى السماء الرابعة ،فرأي فيها إدريس ،فسل م عليه ،فرد عليه ،ورحب به ،وأقر بنبوته. ث م عرج به إلى السماء الخامسة ،فرأي فيها هارون بن عمران ،فسل م عليه ،فرد عليه ورحب به ،وأقر بنبوته.
ث م عرج به إلى السماء السادسة ،فلقى فيها موسى بن عمران ،فسل م عليه ،فرد عليه ورحب به ،وأقر بنبوته. فلما جاوزه بكى موسى ،فقيل له :ما يبكيك ؟ فقال :أبكى؛ لن غلًم اـ بعث من بعدى يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتى. ث م عرج به إلى السماء السابعة ،فلقى فيها إبراهي م عليه السل م ،فسل م عليه ،فرد عليه ،ورحب به ،وأقر بنبوته. ث م رفع إلى سدر ة المنتهى ،فإذا َنْب قُـها مثل ِقلَـل َهَجـ رــ ،إواذا ورقها مثل آذان الفيلة ،ث م غشيها فراش من ذهب، ونور وألوان ،فتغيرت ،فما أحد من خلق ال يستطيع أن يصفها من حسنها .ث م رفع له البيت المعمور ،إواذا هو
يدخله كل يو م سبعون ألف ملك ث م ل يعودون .ث م أدخل الجنة ،فإذا فيها حبائل اللؤلؤ ،إواذا ترابها المسك .وعرج ص ِر ـيـفالقل م. به حتى ظهر لمستوى يسمع فيه َ
ث م عرج به إلى الجّبار جل جلله ،فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى ،فأوحى إلى عبده ما أوحى ،وفرض عليه خمسين صل ة ،فرجع حتى مّر على موسى فقال له :ب م أمرك ربك؟ قال] :بخمسين صل ة[ .قال :إن أمتك
ل تطيق ذلك ،ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لمتك ،فالتفت إلى جبريل ،كأنه يستشيره في ذلك ،فأشار :أن نع م إن شئت ،فعل به جبريل حتى أتى به الجبار تبارك وتعالى ،وهو في مكانه ـ هذا لفظ البخاري في بعض الطرق
ـ فوضع عنه عشًرا ،ث م أنزل حتى مر بموسى ،فأخبره ،فقال :ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ،فل م يزل يتردد بين موسى وبين ال عز وجل ،حتى جعلها خمًس اـ ،فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف ،فقال] :قد استحييت من ربي ،ولكني أرضى وأسل م[ ،فلما بعد نادى مناد :قد أمضيت فريضتى وخففت عن عبادى .انتهي.
ث م ذكر ابن القي م خلًفا في رؤيته صلى ال عليه وسل م ربه تبارك وتعالى ،ث م ذكر كلًم اـ لبن تيمية بهذا الصدد، وحاصل البحث أن الرؤية بالعين ل م تثبت أصًل ،ـ ـوهو قول ل م يقله أحد من الصحابة .وما نقل عن ابن عباس من رؤيته مطلًقا ورؤيته بالفؤاد فالول ل ينافي الثاني.
ث م قال :وأما قوله تعالى في سور ة النج م :}ثُّ م َد َنـا فَتََد لّـى{ ]النج م [8:فهو غير الدنو الذي في قصة السراء ،فإن الذي في سور ة النج م هو دنو جبريل وتدليه ،كما قالت عائشة وابن مسعود ،والسياق يدل عليه ،وأما الدنو والتدلى في حديث السراء فذلك صريح في أنه دنو الرب تبارك وتعالى وتدليه ،ول تعرض في سور ة النج م لذلك ،بل فيه أنه رآه نزلة أخرى عند سدر ة المنتهى .وهذا هو جبريل ،رآه محمد صلى ال عليه وسل م على صورته مرتين :مر ة في الرض ،ومر ة عند سدر ة المنتهى ،وال أعل م .انتهى. ض اــ ،وقد رأى النبي صلى ال وقد جاء في بعض الطرق أن صدره صلى ال عليه وسل م شق في هذه المر ة أي ً عليه وسل م في هذه الـرحلة أموًرا عديد ة:
عرض عليه اللبن والخمر ،فاختار اللبن ،فقيل :هديت الفطر ة أو أصبت الفطر ة ،أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك. ورأي أربعة أنهار يخرجن من أصل سدر ة المنتهى :نهران ظاهران ونهران باطنان ،فالظاهران هما :النيل والفرات، عنصرهما .والباطنان :نهران في الجنة .ولعل رؤية النيل والفرات كانت إشار ة إلى تمكن السل م من هذين القطرين ،وال أعل م. ورأى مالًك اـ خازن النار ،وهو ل يضحك ،وليس على وجهه بشر ول بشاشة ،وكذلك رأي الجنة والنار. ورأى أكلة أموال اليتامى ظلًم اـ له م مشافر كمشافر البل ،يقذفون في أفواهه م قطًعاـ من نار كالفهار ،فتخرج من أدباره م. ورأى أكلة الربا له م بطون كبير ة ل يقدرون لجلها أن يتحولوا عن أماكنه م ،ويمر به م آل فرعون حين يعرضون على النار فيطأونه م. ورأى الزنا ة بين أيديه م لح م سمين طيب ،إلى جنبه لح م غث منتن ،يأكلون من الغث المنتن ،ويتركون الطيب السمين. ورأى النساء اللتى يدخلن على الرجال من ليس من أولده م ،رآهن معلقات بثديهن. ورأى عيًرا من أهل مكة في الياب والذهاب ،وقد دله م على بعير َنّد له م ،وشرب ماءه م من إناء مغطى وه م نائمون ،ث م ترك الناء مغطى ،وقد صار ذلك دليًل على صدق دعواه في صباح ليلة السراء. قال ابن القي م :فلما أصبح رسول ال صلى ال عليه وسل م في قومه أخبره م بما أراه ال عز وجل من آياته الكبرى ،فاشتد تكذيبه م له وأذاه م واستضراره م عليه ،وسألوه أن يصف له م بيت المقدس ،فجله ال له ،حتى عاينه ،فطفق يخبره م عن آياته ،ول يستطيعون أن يردوا عليه شيًئا ،وأخبره م عن عيره م في مسراه ورجوعه، وأخبره م عن وقت قدومها ،وأخبره م عن البعير الذي يقدمها ،وكان المر كما قال ،فل م يزده م ذلك إل نفوًرا ،وأبي
الظالمون إل كفوًرا .
يقالُ :س مـى أبو بكر رضي ال عنه صديًقا؛ لتصديقه هذه الوقعة حين كذبها الناس.
وأوجز وأعظ م ما ورد في تعليل هذه الرحلة هو قوله تعالى :} ِلُنِرَيـهُ ِم ْنـ آَياتَِناـ{ ]السراء [1 :وهذه سنة ال في ت الّس َمـاـَواـِت َواـلَْر ِ ض ـَو ِلـَيُك وـَن ِم َنـ اْلُم وـِقنِـيَن{ ]النعا م ،[75:وقال لموسى النبياء ،قال :} َوَكـَذـِلـ َ كُنِري ِإْب َرـاِه يـَ مَم لَـُك وـ َ ىـ ]طه ،[23:وقد بين مقصود هذه الراء ة بقوله :} َوِلـَيُكوـَن ِم َنـ اْلُم وـِقنِـيَن{ ك ِم ْنـ آَياتَِناـ اْلُك ْبـَرـ { عليه السل م :} ِلُنِرَيـ َ فبعد استناد علو م النبياء إلى رؤية اليات يحصل له م من عين اليقين ما ل يقادر قدره ،وليس الخبر كالمعاينة، فيتحملون في سبيل ال ما ل يتحمل غيره م ،وتصير جميع قوات الدنيا عنده م كجناح بعوضة ل يعبأون بها إذا ما تدول عليه م بالمحن والعذاب. والحك م والسرار التي تكمن وراء جزئيات هذه الرحلة إنما محل بحثها كتب أسرار الشريعة ،ولكن هنا حقائق بسيطة تتفجر من ينابيع هذه الرحلة المباركة ،وتتدفق إلى حدائق أزهار السير ة النبوية ـ على صاحبها الصل ة ض ا ـ منها باليجاز: والسل م والتحية ـ أرى أن أسجل بع ً يرى القارئ في سور ة السراء أن ال ذكر قصة السراء في آية واحد ة فقط ،ث م أخذ في ذكر فضائح اليهود وجرائمه م ،ث م نبهه م بأن هذا القرآن يهدى للتى هي أقو م ،فربما يظن القارئ أن اليتين ليس بينهما ارتباط ،والمر ليس كذلك ،فإن ال تعالى يشير بهذا السلوب إلى أن السراء إنما وقع إلى بيت المقدس؛ لن اليهود سيعزلون عن منصب قياد ة المة النسانية؛ لما ارتكبوا من الجرائ م التي ل مجال بعدها لبقائه م على هذا المنصب ،إوان ال سينقل هذا المنصب فعل إلى رسوله صلى ال عليه وسل م ويجمع له مركزى الدعو ة البراهيمية كليهما ،فقد آن أوان انتقال القياد ة الروحية من أمة إلى أمة؛ من أمة ملت تاريخها بالغدر والخيانة والث م والعدوان ،إلى أمة تتدفق بالبر والخيرات ،ول يزال رسولها يتمتع بوحى القرآن الذي يهدى للتى هي أقو م. ولكن كيف تنتقل هذه القياد ة ،والرسول يطوف في جبال مكة مطروًد اـ بين الناس؟ هذا السؤال يكشف الغطاء عن حقيقة أخرى ،وهي أن عهًد اـ من هذه الدعو ة السلمية قد أوشك إلى النهاية والتما م ،وسيبدأ عهد آخر جديد
يختلف عن الول في مجراه ،ولذلك نرى بعض اليات تشتمل على إنذار سافر ووعيد شديد بالنسبة إلى ك َقْر َيـًة َأَم ْرـ َنــاُم تْـَر ِفـيـَهاَفَفَس قُـوْا ِفيـَها فََح ّ ق ـ َع لَـْي هَـا اْلقَْو ُل ـَفَد ّمـْرـ َنــاَهاـتَْد ِمـيـًراَو َكـْ مـ أَْه لَـْك َنـاـ ِم َنـ المشركين } َ إوِاـَذـاـَأَر ْدـَنـاـَأن ّنْهِل َ كـبُِذ ُنـوِب ِع َبــاِد ِه ـَخ بِــي ًرا َب ِ را ]السراء [17 ،16:وبجنب هذه اليات آيات أخرى ص يــً { اْلقُُر وـِن ِم نـ َبْع ِدـ ُنوٍح َو َكـفَـى ِبَر ّبـ َ َ تبين للمسلمين قواعد الحضار ة وبنودها ومبادئها التي يبتنى عليها مجتمعه م السلمى ،كأنه م قد أووا إلى أرض امتلكوا فيها أموره م من جميع النواحى ،وكونوا وحد ة متماسكة تدور عليها رحى المجتمع ،ففيه إشار ة إلى أن
الرسول صلى ال عليه وسل م سيجد ملجأ ومأمًنا يستقر فيه أمره ،ويصير مركًزا لبث دعوته في أرجاء الدنيا .هذا سر من أسرار هذه الرحلة المباركة ،يتصل ببحثنا فآثرنا ذكره. ولجل هذه الحكمة وأمثالها نرى أن السراء إنما وقع إما قبيل بيعة العقبة الولى أو بين العقبتين ،وال أعل م.
بيعة العقبة الولى سفير السلم في المدينة النجاح المغتبط بيعة العقبة الثانية بداية المحادثة وتشريح العباس للخطورة المسئولية بنود البيعة التأكيد من لخطورة البيعة عقد البيعة اثنا عشر نقيًبا شيطان يكتشف المعاهدة استعداد النصار لطضرب تقريش تقريش تقدم الحتجاج إلى رؤساء يثرب تأكد اللخبر لدى تقريش ومطاردة المبايعين
بيعة العقبة الولى قد ذكرنا أن ستة نفر من أهل يثرب أسلموا في موس م الحج سنة 11من النبو ة ،ووعدوا رسول ال صلى ال عليه وسل م بإبلغ رسالته في قومه م. وكان من جراء ذلك أن جاء في الموس م التالي ـ موس م الحج سنة 12من النبو ة ،يوليو سنة 621م ـ اثنا عشر رجًل ،ـ ـفيه م خمسة من الستة الذين كانوا قد التقوا برسول ال صلى ال عليه وسل م في العا م السابق ـ والسادس الذي ل م يحضر هو جابر بن عبد ال بن ِر ئـاب ـ وسبعة سواه م ،وه م: 1ـ معاذ بن الحارث ،ابن عفراء من بني النجار ]من الخزرج[ 2ـ َذ ْكـَوـاـنبن عبد القيس من بني ُز َر ـْيـ .قـ ]من الخزرج[ 3ـ عباد ة بن الصامت من بني َغ ْنـ مـ ]من الخزرج[ 4ـ يزيد بن ثعلبة من حلفاء بني غن م ]من الخزرج[
ض لَــة من بني سال م ]من الخزرج[ 5ـ العباس بن ُع َبـاد ة بن َن ْ 6ـ أبو الهَْي ثَـ م بن التّّيَهان من بني عبد الشهل ]من الوس[. 7ـ ُع َوـ ْي ـ مـبن ساعد ة من بني عمرو بن َع ْوـ ف ـ]من الوس[. الخيران من الوس ،والبقية كله م من الخزرج. التقى هؤلء برسول ال صلى ال عليه وسل م عند العقبة بمنى فبايعوه بيعة النساء ،أي وفق بيعتهن التي نزلت بعد الحديبية.
روى البخاري عن عباد ة بن الصامت أن رسول ال صلى ال عليه وسل م قال] :تعالوا بايعوني على أل تشركوا بال شيًئا ،ول تسرقوا ،ول تزنوا ،ول تقتلوا أولدك م ،ول تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديك م وأرجلك م ،ول تعصوني في معروف ،فمن وفي منك م فأجره على ال ،ومن أصاب من ذلك شيًئاـ فعوقب به في الدنيا ،فهو له كفار ة ،ومن
أصاب من ذلك شيًئا فستره ال ،فأمـره إلى ال ؛ إن شاء عاقبه ،إوان شاء عفا عـنه[ .قــال :فبايعته ـ وفي نسخة: فبايعناه ـ على ذلك.
سفير السل م في المدينة وبعد أن تمت البيعة وانتهى الموس م بعث النبي صلى ال عليه وسل م مع هؤلء المبايعين أول سفير في يثرب؛ ليعل م المسلمين فيها شرائع السل م ،ويفقهه م في الدين ،وليقو م بنشر السل م بين الذين ل م يزالوا على الشرك، صـ َعـبـ بن ُع َمـْيـرـ العبدرى رضي ال واختار لهذه السفار ة شاًبا من شباب السل م من السابقين الولين ،وهو ُم ْ عنه.
النجاح المغتبط نزل مصعب بن عمير على أسعد بن ُز َرـار ة،وأخذا يبثان السل م في أهل يثرب بجد وحماس ،وكان مصعب ُيْع َرـفـ بالمقرئ.
ظَفر، ومن أروع ما يروى من نجاحه في الدعو ة أن أسعد بن زرار ة خرج به يوًم اـ يريد دار بني عبد الشهل ودار بني َ فدخل في حائط من حوائط بني ظفر ،وجلسا على بئر يقال لها :بئر َم َرـقــ،واجتمع إليهما رجال من المسلمين ـ ضـْي ـرـسيدا قومهما من بني عبد الشهل يومئذ على الشرك ـ فلما سمعا بذلك قال سعد وسعد بن معاذ وأَُس ْيـدـ بن ُح َ
لسيد :اذهب إلى هذين اللذين قد أتيا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما ،وانههما عن أن يأتيا دارينا ،فإن أسعد بن زرار ة ابن خالتي ،ولول ذلك لكفيتك هذا. فأخذ أسيد حربته وأقبل إليهما ،فلما رآه أسعد قال لمصعب :هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق ال فيه ،قال مصعب: إن يجلس أكلمه .وجاء أسيد فوقف عليهما متشتًم اـ ،وقال :ما جاء بكما إلينا؟ تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلنا إن كانت
لكما بأنفسكما حاجة ،فقال له مصعب :أو تجلس فتسمع ،فإن رضيت أم ار قبلته ،إوان كرهته كف عنك ما تكره،
فقال :أنصفت ،ث م ركز حربته وجلس ،فكلمه مصعب بالسل م ،وتل عليه القرآن .قال :فو ال لعرفنا في وجهه
السل م قبل أن يتكل م ،في إشراقه وتهلله ،ث م قال :ما أحسن هذا وأجمله؟ كيف تصنعون إذا أردت م أن تدخلوا في هذا الدين؟ قال له :تغتسل ،وتطهر ثوبك ،ث م تشهد شهاد ة الحق ،ث م تصلى ركعتين .فقا م واغتسل ،وطهر ثوبه وتشهد وصلى
ركعتين ،ث م قال :إن ورائى رجًل إن تبعكما ل م يتخلف عنه أحد من قومه ،وسأرشده إليكما الن ـ سعد بن معاذ ـ ث م
أخذ حربته وانصرف إلى سعد في قومه ،وه م جلوس في ناديه م .فقال سعد :أحلف بال لقد جاءك م بغير الوجه الذي ذهب به من عندك م. فلما وقف أسيد على النادى قال له سعد :ما فعلت؟ فقال :كلمت الرجلين ،فوال ما رأيت بهما بأًس اـ ،وقد نهيتهما فقال :نفعل ما أحببت.
ك فقا م سعد وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرار ة ليقتلوه ـ وذلك أنه م قد عرفوا أنه ابن خالتك ـ ِلُيْخ ِفـُرـ و ـ.
مغضًباـ للذى ذكر له ،فأخذ حربته ،وخرج إليهما ،فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيًد اـ إنما أراد منه أن يسمع منهما،
تـهذا منى، فوقف عليهما متشتًم اـ ،ث م قال لسعد بن زرار ة :وال يا أبا أمامة ،لول ما بينى وبينك من القرابة ما ُر ْمـ َ
تغشانا في دارنا بما نكره؟
وقـد كان أسعد قال لمصعب :جاءك وال سيد من ورائه قومه ،إن يتبعك ل م يتخلف عنك منه م أحد ،فقال مصعب لسعد بن معاذ :أو تقعد فتسمع؟ فإن رضيت أمًرا قبلته ،إوان كرهته عزلنا عنك ما تكره ،قال :قد أنصفت ،ث م ركز حربته فجلس .فعـرض عليــه السل م ،وقـ أر علـيه القـرآن ،قـال :فعرفنـا وال في وجهـه السل م قبـل أن يتكل م ،في
إشـراقه وتهّلله ،ثـ م قـال :كيـف تصنـعون إذا أسلمتـ م؟ قال :تغتسل ،وتطهر ثوبك ،ث م تشهد شهاد ة الحق ،ث م تصلى
ركعتين .ففعل ذلك.
ث م أخذ حربته فأقبل إلى نادى قومه ،فلما رأوه قالوا :نحلف بال لقد رجع بغير الوجه الذي ذهب به. فلما وقف عليه م قال :يا بني عبد الشهل ،كيف تعلمون أمرى فيك م؟ قالوا :سيدنا وأفضلنا أرًيا ،وأيمننا نقيبة ،قال:
فإن كل م رجالك م ونسائك م علّى حرا م حتى تؤمنوا بال ورسوله .فما أمسى فيه م رجل ول امرأ ة إل مسلًم اـ ومسلمة ،إل
ص ْي ـِرـ مـ تأخر إسلمه إلى يو م أحد ،فأسل م ذلك اليو م وقاتل وقتل ،ول م يسجد ل سجد ة ،فقال النبي رجل واحد ـ وهو الُ َ
صلى ال عليه وسل م] :عمل قليًل وأجر كثيًرا[.
وأقا م مصعب في بيت أسعد بن زرار ة يدعو الناس إلى السل م ،حتى ل م تبق دار من دور النصار إل وفيها رجال طـَم ةـووائل .كان فيه م قيس بن السلت الشاعر ـ وكانوا ونساء مسلمون ،إل ما كان من دار بني أمية بن زيد وَخ ْ
يطيعونه ـ فوقف به م عن السل م حتى كان عا م الخندق سنة خمس من الهجر ة.
وقبل حلول موس م الحج التالى ـ أي حج السنة الثالثة عشر ة ـ عاد مصعب بن عمير إلى مكة يحمل إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م بشائر الفوز ،ويقص عليه خبر قبائل يثرب ،وما فيها من مواهب الخير ،وما لها من قو ة ومنعة.
بيعة العقبة الثانية في موس م الحج في السنة الثالثة عشر ة من النبو ة ـ يونيو سنة 622م ـ حضر لداء مناسك الحج بضع وسبعون نفًس اـ من المسلمين من أهل يثرب،جاءوا ضمن حجاج قومه م من المشركين ،وقد تساءل هؤلء المسلمون فيما بينه م ـ وه م ل م يزالوا في يثرب أو كانوا في الطريق :حتى متى نترك رسول ال صلى ال عليه وسل م يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟ فلما قدموا مكة جرت بينه م وبين النبي صلى ال عليه وسل م اتصالت سرية أدت إلى اتفاق الفريقين على أن يجتمعوا في أوسط أيا م التشريق في الشعب الذي عند العقبة حيث الجمر ة الولى من منى ،وأن يت م الجتماع في سرية تامة في ظل م الليل. ولنترك أحد قاد ة النصار يصف لنا هذا الجتماع التاريخي الذي حول مجرى اليا م في صراع الوثنية والسل م. يقول كعب بن مالك النصاري رضي ال عنه: خرجنا إلى الحج ،وواعدنا رسول ال صلى ال عليه وسل م بالعقبة من أوسط أيا م التشريق ،فلما فرغنا من الحج، وكانت الليلة التي واعدنا رسول ال صلى ال عليه وسل م لها ،ومعنا عبد ال بن عمرو بن َح َرــا مأبو جابر ،سيد من ساداتنا ،وشريف من أشرافنا ،أخذناه معنا ـ وكنا نكت م من معنا من قومنا من المشركين أمرنا ـ فكلمناه وقلنا له :يا أبا جابر ،إنك سيد من ساداتنا ،وشريف من أشرافنا ،إوانا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غًد اـ .ث م دعوناه إلى السل م ،وأخبرناه بميعاد رسول ال صلى ال عليه وسل م إيانا العقبة ،قال :فأسل م وشهد معنا العقبة وكان نقيًبا.
قال كعب :فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول ال
طا ،مستخفين ،حتى اجتمعنا في الّش ْعـبـ عند العقبة ،ونحن ثلثة وسبعون صلى ال عليه وسل م ،نتسلل تسلل القَ َ رجًل ،ـ ـوامرأتان من نسائنا؛ ُنَس ْيـَبـة بنت كعب ـ أ م ُع َمـاـر ة ـ من بني مازن بن النجار،وأسماء بنت عمرو ـ أ م منيع ـ من بني سلمة.
فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول ال صلى ال عليه وسل م حتى جاءنا ،ومعه عمه :العباس بن عبد المطلب ـ وهو يومئذ على دين قومه ـ إل أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ،ويتوثق له ،وكان أول متكل م.
بداية المحادثة وتشريح العباس لخطور ة المسئولية وبعد أن تكامل المجلس بدأت المحادثات لبرا م التحالف الدينى والعسكرى ،وكان أول المتكلمين هو العباس بن عبد المطلب ع م رسول ال صلى ال عليه وسل م ،تكل م ليشرح له م ـ بكل صراحة ـ خطور ة المسئولية التي ستلقى على كواهله م نتيجة هذا التحالف .قال: يا معشر الخزرج ـ وكان العرب يسمون النصار خزرجًـا ،خزرجـها وأوسـها كليهما ـ إن محمًد اـ منا حيث قد علمت م ،وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه،فهو في عز من قومه ومنعة في بلده .إوانه قد أبي إل
النحياز إليك م واللحوق بك م ،فإن كنت م ترون أنك م وافون له بما دعوتموه إليه ،ومانعوه ممن خالفه ،فأنت م وما تحملت م من ذلك .إوان كنت م ترون أنك م ُم ْسـ ِلـُم وـه وخاذلوه بعد الخروج به إليك م فمن الن فدعوه .فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده. قال كعب :فقلنا له :قد سمعنا ما قلت ،فتكل م يا رسول ال ،فخذ لنفسك ولربك ما أحببت. وهذا الجواب يدل على ما كانوا عليه من عز م صمي م ،وشجاعة مؤمنة ،إواخلص كامل في تحمل هذه المسئولية العظيمة ،وتحمل عواقبها الخطير ة. وألقى رسول ال صلى ال عليه وسل م بعد ذلك بيانه ،ث م تمت البيعة.
بنود البيعة وقد روى ذلك الما م أحمد عن جابر مفصًل .قال جابر :قلنا :يا رسول ال ،عل م نبايعك؟ قال: ]على السمع والطاعة في النشاط والكسل. وعلى النفقة في العسر واليسر. وعلى المر بالمعروف والنهي عن المنكر. وعلى أن تقوموا في ال ،ل تأخذك م في ال لومة لئ م. وعلى أن تنصرونى إذا قدمت إليك م ،وتمنعونى مما تمنعون منه أنفسك م وأزواجك م وأبناءك م ،ولك م الجنة[.
وفي رواية كعب ـ التي رواها ابن إسحاق ـ البند الخير فقط من هذه البنود ،ففيه :قال كعب :فتكل م رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فتل القرآن ،ودعا إلى ال ،ورغب في السل م ،ث م قال] :أبايعك م على أن تمنعوني مما تمنعون منه نسائك م وأبناءك م[ .فأخذ البراء ابن َم ْعـُرـ وـربيده ث م قال :نع م ،والذي بعثك بالحق نبًيا ،لنمنعنك مما نمنع أُُز َر ـنــامنه،
فبايعنا يا رسول ال ،فنحن وال أبناء الحرب وأهل اْلَح ْلـَقة ،ورثناها كابًرا عن كابر.
قال :فاعترض القول ـ والبراء يكل م رسول ال صلى ال عليه وسل م ـ أبو الهيث م بن التّّيَهان ،فقال :يا رسول ال ،إن
بيننا وبين الرجال حباًل ،ـ ـ إوانا قاطعوها ـ يعنى اليهود ـ فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ،ث م أظهرك ال إن ترجع إلى قومك وتدعنا؟
قال :فتبس م رسول ال صلى ال عليه وسل م ،ث م قال] :بل الّد ُ مـ الّد ُ مـ،ـ والهَْد ُ مـ اْلهَْد ُ مـ،ـ أنا منك م وأنت م منى ،أحارب من حاربت م ،وأسال م من سالمت م[.
التأكيد من خطور ة البيعة وبعد أن تمت المحادثة حول شروط البيعة ،وأجمعوا على الـشروع في عقدها قا م رجلن من الرعيل الول ممن أسلموا في مواس م سنتى 11و 12من النبو ة ،قا م أحدهما تلو الخر؛ ليؤكدا للقو م خطور ة المسئولية ،حتى ل يبايعوه إل على جلية من المر ،وليعرفا مدى استعداد القو م للتضحية ،ويتأكدا من ذلك. ض لَــة :هل تدورن عل م تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: قال ابن إسحاق :لما اجتمعوا للبيعة قال العباس بن عباد ة بن َن ْ تـ أموالك م مصيبة، نع م ،قال :إنك م تبايعونه على حرب الحمر والسود من الناس .فإن كنت م ترون أنك م إذا َنهََك ْ وأشرافك م قتل أسلمتموه ،فمن الن ،فهو وال إن فعلت م خزى الدنيا والخر ة .إوان كنت م ترون أنك م وافون له بما دعوتموه إليه على َنْهَك ةـ الموال وقتل الشراف فخذوه ،فهو وال خير الدنيا والخـر ة.
قالوا :فإنا نأخذه على مصيبة الموال وقتل الشراف ،فما لنا بذلك يا رسول ال إن نحن وفينا بذلك؟ قال: ]الجنة[ .قالوا :ابسط يدك ،فبسط يده فبايعوه. وفي رواية جابر ]قال[ :فقمنا نبايعه،فأخذ بيده أسعد بن زرار ة ـ وهو أصغر السبعين ـ فقال :رويدا يا أهل يثرب، إنا ل م نضرب إليه أكباد البل إل ونحن نعل م أنه رسول ال ،وأن إخراجه اليو م مفارقة العرب كافة ،وقتل خيارك م، وأن تعضك م السيوف ،فإما أنت م تصبرون على ذلك فخذوه ،وأجرك م على ال ،إواما أنت م تخافون من أنفسك م خيفة فذروه فهو أعذر لك م عند ال .
عقد البيعة وبعد إقرار بنود البيعة ،وبعد هذا التأكيد والتأكد بدأ عقد البيعة بالمصافحة ،قال جابر ـ بعد أن حكى قول أسعد طـ عنا يدك .فوال ل نذر هذه البيعة ،ول نستقيلها. بن زرار ة ـ قال :فقالوا :يا أسعد ،أِم ْ وحينئذ عرف أسعد مدى استعداد القو م للتضحية في هذا السبيل وتأكد منه ـ وكان هو الداعية الكبير مع مصعب بن عمير ـ فكان هو السابق إلى هذه البيعة .قال ابن إسحاق :فبنو النجار يزعمون أن أبا أمامة أسعد بن زرار ة كان أول من ضرب على يده .وبعد ذلك بدأت البيعة العامة ،قال جابر :فقمنا إليه رجًل رجًل فأخذ علينا البيعة،
يعطينا بذلك الجنة.
وأما بيعة المرأتين اللتين شهدتا الوقعة فكانت قوًل .ما صافح رسول ال صلى ال عليه وسل م امرأ ة أجنبية قط.
اثنا عشر نقيًبا وبعد أن تمت البيعة طلب رسول ال صلى ال عليه وسل م أن يختاروا اثنى عشر زعيًم اـ يكونون نقباء على قومه م ،يكفلون المسئولية عنه م في تنفيذ بنود هذه البيعة ،فقال للقو م :أخرجوا إلّى منك م اثنى عشر نقيًبا ليكونوا على قومه م بما فيه م.
فت م اختياره م في الحال ،وكانوا تسعة من الخزرج وثلثة من الوس.وهاك أسماءه م: نقباء الخزرج 1ـ أسعد بن ُز َرـاَر ةبن عدس. 2ـ سعد بن الّر بِـيع بن عمرو.
3ـ عبد ال بن رواحة بن ثعلبة. 4ـ رافع بن مالك بن الَع ْجـ لــن.
ص ْخـر.ـ 5ـ البراء بن َم ْعـُرـ وـربن َ 6ـ عبد ال بن عمرو بن َح َرـ .ـا م
7ـ عباد ة بن الصامت بن قيس. 8ـ سعد بن عباد ة بن ُد لَـْي مـ.
9ـ المنذر بن عمرو بن ُخ َنـْي سـ.
نقباء الوس
ضـْي ـرـ بن ِس َم ـاـك. 1ـ أَُس ْيـدـ بن ُح َ 2ـ سعد بن َخ ْيـثَـَم ةـ بن الحارث.
3ـ رفاعة بن عبد المنذر بن زبير. ولما ت م اختيار هؤلء النقباء أخذ عليه م النبي صلى ال عليه وسل م ميثاًقا آخر بصفته م رؤساء مسئولين. قال له م] :أنت م على قومك م بما فيه م كفلء ،ككفالـة الحواريين لعيسى ابن مري م ،وأنا كفيل على قومي[ ـ يعنى المسلمين ـ قالوا :نع م.
شيطان يكتشف المعاهد ة ولما ت م إبرا م المعاهد ة ،وكان القو م على وشك الرفضاض ،اكتشفها أحد الشياطين؛ وحيث إن هذا الكتشاف جاء في اللحظة الخير ة ،ول م يكن يمكن إبلغ زعماء قريش هذا الخبر سًرا ،ليباغتوا المجتمعين وه م في الشعب،
قا م ذلك الشيطان على مرتفع من الرض،وصاح بأنفذ صوت سمع قط :يا أهل الَج َبــاجب ـ المنازل ـ هل لك م في ُم َذـّمـ مـ والصبا ة معه؟ قد اجتمعوا على حربك م.
فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م] :هذا أَز ّ بـالعقبة ،أما وال يا عدو ال لتفرغن لك .ث م أمره م أن ينفضوا إلى رحاله م[.
استعداد النصار لضرب قريش وعند سماع صوت هذا الشيطان قال العباس بن عباد ة بن نضلة :والذي بعثك بالحق ،إن شئت لنميلن على أهل منى غًد اـ باسيافنا. فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م] :ل م نؤمر بذلك ،ولكن ارجعوا إلى رحالك م[ ،فرجعوا وناموا حتى أصبحوا. قريش تقد م الحتجاج إلى رؤساء يثرب لما قـرع هذا الخبر آذان قريش وقعت فيه م ضجة ،وساورته م القلقل والحزان؛ لنه م كانوا على معرفة تامة بعواقب مثل هذه البيعة ونتائجها بالنسبة إلى أنفسه م وأمواله م ،فما أن أصبحوا حتى توجه وفد كبير من زعماء مكة وأكابر مجرميها إلى أهل يثرب؛ ليقد م احتجاجه الشديد على هذه المعاهد ة ،قال الوفد: ]يا معشر الخزرج ،إنه قد بلغنا أنك م قد جئت م إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا ،وتبايعونه على حربنا، إوانه وال ما من حى من العرب أبغض إلينا من أن تنشب الحرب بيننا وبينه م منك م[.
ولما كان مشركو الخزرج ل يعرفون شيًئاـ عن هذه البيعة؛ لنها تمت في سرية تامة في ظل م الليل ،انبعث هؤلء المشركون يحلفون بال :ما كان من شيء وما علمناه ،حتى أتوا عبد ال بن أبي بن سلول ،فجعل يقول :هذا باطل ،وما كان هذا،وما كان قومى ليفتاتوا على بمثل هذا ،ولو كنت بيثرب ما صنع قومي هذا حتى يؤامروني. أما المسلمون فنظر بعضه م إلى بعض ،ث م لذوا بالصمت ،فل م يتحدث أحد منه م بنفي أو إثبات. ومال زعماء قريش إلى تصديق المشركين ،فرجعوا خائبين. تأكد الخبر لدى قريش ومطارد ة المبايعين
عاد زعماء مكة وه م على شبه اليقين من كذب هذا الخبر ،لكنه م ل م يزالوا يتَن ّ طُس وـنه ـ يكثرون البحث عنه ََ
ويدققون النظر فيه ـ حتى تأكد لديه م أن الخبر صحيح ،والبيعة قد تمت فعًل .وذلك بعد ما نفر الحجيج إلى
أوطانه م ،فسارع فرسانه م بمطارد ة اليثربيين ،ولكن بعد فوات الوان ،إل أنه م تمكنوا من رؤية سعد بن عباد ة
والمنذر ابن عمرو فطاردوهما ،فأما المنذر فأعجز القو م ،وأما سعد فألقوا القبض عليه ،فربطوا يديه إلى عنقه بنِْس عـ َر ْحـ ِلــه،وجعلوا يضربونه ويجرونه ويجرون شعره حتى أدخلوه مكة ،فجاء المطع م بن عدى والحارث بن حرب بن أمية فخلصاه من أيديه م؛ إذ كان سعد يجير لهما قوافلهما المار ة بالمدينة ،وتشاورت النصار حين فقدوه أن يكروا إليه ،فإذا هو قد طلع عليه م ،فوصل القو م جميًعاـ إلى المدينة. هذه هي بيعة العقبة الثانية ـ التي تعرف ببيعة العقبة الكبرى ـ وقد تمت في جو تعلوه عواطف الحب والولء، والتناصر بين أشتات المؤمنين ،والثقة والشجاعة والستبسال في هذا السبيل .فمؤمن من أهل يثرب يحنو على أخيه المستضعف في مكة ،ويتعصب له،ويغضب من ظالمه ،وتجيش في حناياه مشاعر الود لهذا الخ الذي أحبه بالغيب في ذات ال . ول م تكن هذه المشاعر والعواطف نتيجة نزعة عابر ة تزول على مر اليا م ،بل كان مصدرها هو اليمان بال وبرسوله وبكتابه ،إيمان ل يزول أما م أي قو ة من قوات الظل م والعدوان ،إيمان إذا هبت ريحه جاءت بالعجائب في العقيد ة والعمل ،وبهذا اليمان استطاع المسلمون أن يسجلوا على أوراق الدهر أعماًل ،ـ ـويتركوا عليها آثاًرا خل عن نظائرها الغابر والحاضر ،وسوف يخلو المستقبل.
طلئـع الهجـر ة
طلئـع الهجـرة في دار الندوة ]برلمان تقريش[ النقاش البرلماني والجماع على تقرار غاشم بقتل النبي صلى ا عليه وسلم
طلئـع الهجـر ة وبعد أن تمت بيعة العقبة الثانية ونجح السل م في تأسيس وطن له وسط صحراء تموج بالكفر والجهالة ـ وهو أخطر كسب حصل عليه السل م منذ بداية دعوته ـ أذن رسول ال صلى ال عليه وسل م للمسلمين بالهجر ة إلى هذا الوطن. ول م يكن معنى الهجر ة إل إهدار المصالح ،والتضحية بالموال ،والنجا ة بالشخص فحسب ،مع الشعار بأنه مستباح منهوب قد يهلك في أوائل الطريق أو نهايتها ،وبأنه يسير نحو مستقبل مبه م ،ل يدرى ما يتمخض عنه من قلقل وأحزان. وبدأ المسلمون يهاجرون وه م يعرفون كل ذلك ،وأخذ المشركون يحولون بينه م وبين خروجه م؛ لما كانوا يحسون به من الخطر ،وهاك نماذج من ذلك: 1ـ كان من أول المهاجرين أبو سلمة ـ هاجر قبل العقبة الكبرى بسنة على ما قاله ابن إسحاق ـ وزوجته وابنه، فلما أجمع على الخروج قال له أصهاره :هذه نفسك غلبتنا عليها ،أرأيت صاحبتنا هذه؟ عل م نتركك تسير بها في البلد؟ فأخذوا منه زوجته ،وغضب آل أبي سلمة لرجله م،فقالوا :ل نترك ابننا معها إذ نزعتموها من صاحبنا، وتجاذبوا الغل م بينه م فخلعوا يده ،وذهبوا به .وانطلق أبو سلمة وحده إلى المدينة. وكانت أ م سلمة رضي ال عنها و بعد ذهاب زوجها وضياع ابنها تخرج كل غدا ة بالبطح تبكى حتى تمسى، ومضى على ذلك نحو سنة ،فرق لها أحد ذويها وقال :أل تخرجون هذه المسكينة؟ فرقت م بينها وبين زوجها وولدها ،فقالوا لها :الحقى بزوجك إن شئت ،فاسترجعت ابنها من عصبته ،وخرجت تريد المدينة ـ رحلة تبلغ حوالى خمسمائة كيلو متر تمر بين شواهق الجبال ومهالك الودية ـ وليس معها أحد من خلق ال .حتى إذا كانت بالتّْن ِعـ يـ م لقيها عثمان بن طلحة بن أبي طلحة ،وبعد أن عرف حالها شيعها حتى أقدمها إلى المدينة ،فلما
نظر إلى قباء ،قال :زوجك في هذه القرية فادخليها على بركة ال ،ث م انصرف راجًعاـ إلى مكة.
ص هَـْي بـ بن ِس نـان الرومى بعد رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فلما أراد الهجر ة قال له كفار قريش: 2ـ وهاجر ُ
أتيتنا صعلوًك اـ حقيًرا ،فكثر مالك عندنا ،وبلغت الذي بلغت ،ث م تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟ وال ل يكون ذلك. فقال له م صهيب :أرأيت م إن جعلت لك م مالى أتخلون سبيلى؟ قالوا :نع م ،قال :فأني قد جعلت لك م مالى ،فبلغ ذلك رسول ال صلى ال عليه وسل م فقال] :ربح صهيب ،ربح صهيب[. ض بـ فوق 3ـ وتواعد عمر بن الخطاب ،وَع ّيـاش بن أبي ربيعة ،وهشا م بن العاص بن وائل موضًعاـ اسمه التَّنا ُ َس ِرـفـيصبحون عنده ،ث م يهاجرون إلى المدينة ،فاجتمع عمر وعياش ،وحبس عنهما هشا م. ولما قدما المدينة ونزل بقباء قد م أبو جهل وأخوه الحارث إلى عياش ـ وأ م الثلثة واحد ة ،وهي أسماء بنت ُم َخـ ّر ـَبـ ــة
فقال له :إن أمك قد نذرت أل يمس رأسها مشط ،ول تستظل بشمس حتى تراكَ ،فَر ّ قـلها .فقال له عمر :يا
عياش ،إنه وال إن يريدك القو م إل ليفتنوك عن دينك فاحذره م ،فوال لو آذى أمك القمل لمتشطت ،ولو قد
اشتد عليها حر مكة لستظلت ،فأبي عياش إل الخروج معهما ليبر قس م أمه ،فقال له عمر :أما إذ قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتى هذه ،فإنها ناقة نجيبة ذلول ،فالز م ظهرها ،فإن رابك من القو م ريب فانج عليها. فخرج عليها معهما ،حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل :يابن أمي ،وال لقد استغلظت بعيري هذا، أفل تعقبني على ناقتك هذه؟ قال :بلى ،فأناخ وأناخا ليتحول عليها ،فلما استووا بالرض عدوا عليه فأوثقاه وربطاه ،ث م دخل به مكة نهاًرا موثًقا ،وقال :يا أهل مكة ،هكذا فافعلوا بسفهائك م ،كما فعلنا بسفيهنا هذا. هذه ثلثة نماذج لما كان المشركون يفعلونه بمن يريد الهجر ة إذا علموا ذلك .ولكن على رغ م ذلك خرج الناس ض ا ـ .وبعد شهرين وبضعة أيا م من بيعة العقبة الكبرى ل م يبق بمكة من المسلمين إل أرساًل يتبع بعضه م بع ً رسول ال صلى ال عليه وسل م وأبو بكر وعلى ـ أقاما بأمره لهما ـ إوال من احتبسه المشركون كرًهاـ ،وقد أعد رسول ال صلى ال عليه وسل م جهازه ينتظر متى يؤمر بالخروج ،وأعد أبو بكر جهازه.
روى البخاري عن عائشة قالت :قال رسول ال صلى ال عليه وسل م للمسلمين] :أني أريت دار هجرتك م ،ذات نخل بين لَبتَْي نـ[ ـ وهما الحرتان ـ فهاجر من هاجر قبل المدينة ،ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة ،وتجهز أبو بكر قبل المدينة ،فقال له رسول ال صلى ال عليه وسل م] :على ِر ْسـ ِلــك،فأني أرجو أن يؤذن لي[ .فقال له أبو بكر :وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال] :نع م[ ،فحبس أبو بكر نفسه على رسول ال صلى ال ط ـ أربعة أشهر. عليه وسل م ليصحبه ،وعلف راحلتين كانتا عنده ورق الّس َمـرـ ـ وهو الَخ َب ـ ُ في دار الندوة ]ربرلمان قريش[
ولما رأى المشركون أن أصحاب رسول ا صلى ا عليه وسلم قد تجهزوا وخرجوا ،وحملوا وساقوا الذرارى والفطفال والموال إلى الوس والخزرج أصاربتهم الكآربة والحزن ،وساورهم القلق والهم ربشكل لم يسبق له مثيل، فقد تجسد أمامهم خطر حقيقى عظيم ،أخذ يهدد كيانهم الوثني والقتصادي. فقد كانوا يعلمون ما في شخصية محمد صلى ا عليه وسلم من غاية قوة التأثير مع كمال القيادة والرشاد ،وما في أصحاربه من العزيمة والستقامة والفداء في سبيله ،ثم ما في قبائل الوس والخزرج من القوة والمنعة ،وما في عقلء هاتين القبيلتين من عوافطف السلم والصل،ح ،والتداعي إلى نبذ الحقاد ،ولسيما ربعد أن ذاقوا مرارة الحروب الهلية فطيلة أعوام من الدهر. كما كانوا يعرفون ما للمدينة من الموقع الستراتيجي ربالنسبة إلى المحجة التجارية التى تمر ربساحل البحر الحمر من اليمن إلى الشام .وقد كان أهل مكة يتاجرون إلى الشام ربقدر رربع مليون دينار ذهب سنوًيا ،سوى ما كان لهل الطائف وغيرها .ومعلوم أن مدار هذه التجارة كان على استقرار المن في تلك الطريق. فل يخفي ما كان لقريش من الخطر البالغ في تمركز الدعوة السلمية في يثرب ،ومجاربهة أهلها ضدهم. شعر المشركون ربتفاقم الخطر الذي كان يهدد كيانهم ،فصاروا يبحثون عن أنجح الوسائل لدفع هذا الخطر الذي مبعثه الوحيد هو حامل لواء دعوة السلم محمدصلى ا عليه وسلم. وفي يوم الخميس 26من شهر صفر سنة 14من النبوة ،الموافق 12من شهر سبتمبر سنة 622م ـ أي ربعد شهرين ونصف تقريًبا من ربيعة العقبة الكبرى ـ عقد ربرلمان مكة ]دار الندوة[ في أوائل النهارأخطر اجتماع له في تاريخه ،وتوافد إلى هذا الجتماع جميع نواب القبائل القرشية؛ ليتدارسوا خطة حاسمة تكفل القضاء سريًعا على حامل لواء الدعوة السلمية؛ وتقطع تيار نورها عن الوجود نهائًيا .وكانت الوجوه البارزة في هذا الجتماع الخطير من نواب قبائل قريش: 1ـ أربو جهل ربن هشام ،عن قبيلة ربني مخزوم. 4 ،3 ،2ـ جبير ربن ُم ْ طِعم ،وفطَُعْيَمة ربن عدى ،والحارث ربن عامر ،عن ربني نَْوَفل ربن عبد مناف. 7 ،6 ،5ـ شيبة وعتبة اربنا رربيعة وأربو سفيان ربن حرب ،عن ربني عبد شمس ربن عبد مناف. 8ـ النّ ْ ضر ربن الحارث ،عن ربني عبد الدار. 11 ،10 ،9ـ أربو البَْختَِرى ربن هشام ،وَزْمَعة ربن السود ،وَحِكيم ربن ِحَزام ،عن ربني أسد ربن عبد العزى. 13 ،12ـ نُبَْيه وُمنَّبه اربنا الحجاج ،عن ربني سهم. 14ـ أمية ربن َخَلف ،عن ربني ُجَمح. ولما جاءوا إلى دار الندوة حسب الميعاد ،اعترضهم إربليس في هيئة شيخ جليل ،عليه ربَ ّ ت له ،ووقف على الباب، فقالوا :من الشيخ؟ قال :شيخ من أهل نجد سمع ربالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون ،وعسى أل يعدمكم منه رأًيا ونصًحا .قالوا :أجل ،فادخل ،فدخل معهم.
النقاش البرلماني والجماع على قرار غاش م بقتل النبي صلى ال عليه وسل م وبعد أن تكامل الجتماع بدأ عرض القتراحات والحلول ،ودار النقاش طويًل .قال أبو السود :نخرجه من بين
أظهرنا وننفيه من بلدنا ،ول نبالي أين ذهب ،ول حيث وقع ،فقد أصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت.
قال الشيخ النجدى :ل وال ما هذا لك م برأي ،أل م تروا حسن حديثه ،وحلو ة منطقه ،وغلبته على قلوب الرجال بما يأتى به؟ وال لو فعلت م ذلك ما أمنت م أن يحل على حى من العرب ،ث م يسير به م إليك م ـ بعد أن يتابعوه ـ حتى يطأك م به م في بلدك م ،ث م يفعل بك م ما أراد ،دبروا فيه أرًيا غير هذا. قال أبو البخترى :احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه باًبا ،ث م تربصوا به ما أصاب أمثاله من الشعراء الذين كانوا قبله ـ زهيًرا والنابغة ـ ومن مضى منه م ،من هذا الموت ،حتى يصيبه ما أصابه م. قال الشيخ النجدى :ل وال ما هذا لك م برأي ،وال لئن حبستموه ـ كما تقولون ـ ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقت م دونه إلى أصحابه ،فلوشكوا أن يثبوا عليك م ،فينزعوه من أيديك م ،ث م يكاثروك م به حتى يغلبوك م على أمرك م ،ما هذا لك م برأي ،فانظروا في غيره. وبعد أن رفض البرلمان هذين القتراحين ،قد م إليه اقتراح آث م وافق عليه جميع أعضائه ،تقد م به كبير مجرمى مكة أبو جهل بن هشا م .قال أبو جهل :وال إن لى فيه أرًياـ ما أراك م وقعت م عليه بعد .قالوا :وما هو يا أبا طافينا ،ث م نعطى كل فتى منه م سيًفا صارًم اـ، الحك م؟ قال :أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شاًباـ جليًد اـ َنِس يـبا َو ِسـ ي ـ ً ث م يعمدوا إليه ،فيضربوه بها ضربة رجل واحد ،فيقتلوه ،فنستريح منه ،فإنه م إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميًعاـ ،فل م يقدر بنو عبد مناف على حرب قومه م جميًعاـ ،فرضوا منا بالَع ْقـلـ ،فعقلناه له م. قال الشيخ النجدى :القول ما قال الرجل ،هذا الرأي الذي ل رأي غيره. ووافق برلمان مكة على هذا القتراح الث م بالجماع ،ورجع النواب إلى بيوته م وقد صمموا على تنفيذ هذا القرار فوًرا.
هجـر ة النبـي صلى ال عليه وسل م
بين تدبير تقريش وتدبير ا سبحانه وتعالى تطوي ق منزل الرسول صلى ا عليه وسلم الرسول صلى ا عليه وسلم يغادر بيته من الدار إلى الغار إذ هما في الغار في الطري ق إلى المدينة النزول بقباء الدلخول في المدينة
بين تدبير قريش وتدبير ال سبحانه وتعالى من طبيعة مثل هذا الجتماع السرية للغاية ،وأل يبدو على السطح الظاهر أي حركة تخالف اليوميات ،وتغاير ض ا ـ ينبئ عن العادات المستمر ة ،حتى ل يش م أحد رائحة التآمر والخطر ،ول يدور في خلد أحد أن هناك غمو ً الشر ،وكان هذا مكًرا من قريش ،ولكنه م ماكروا بذلك ال سبحانه وتعالى ،فخيبه م من حيث ل يشعرون .فقد نزل
جبريل عليه السل م إلى النبي صلى ال عليه وسل م بوحى من ربه تبارك وتعالى فأخبره بمؤامر ة قريش ،وأن ال قد أذن له في الخروج ،وحدد له وقت الهجر ة ،وبين له خطة الرد على قريش فقال :ل تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه.
وذهب النبي صلى ال عليه وسل م في الهاجر ة ـ حين يستريح الناس في بيوته م ـ إلى أبي بكر رضي ال عنه ليبر م معه مراحل الهجر ة ،قالت عائشة رضي ال عنها :بينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهير ة ،قال قائل لبي بكر :هذا رسول ال صلى ال عليه وسل م متقنًعاـ ،في ساعة ل م يكن يأتينا فيها ،فقال أبو بكر :فداء له أبي وأمى ،وال ما جاء به في هذه الساعة إل أمر. قالت :فجاء رسول ال صلى ال عليه وسل م ،.فاستأذن،فأذن له فدخل ،فقال النبي صلى ال عليه وسل م لبي بكر] :أخرج َم ْنـ عندك[ .فقال أبو بكر :إنما ه م أهلك ،بأبي أنت يا رسول ال .قال] :فأني قد أذن لى في الخروج[ ،فقال أبو بكر :الصحبة بأبي أنت يا رسول ال ؟ قال رسول ال صلى ال عليه وسل م] :نع م[.
ث م أبر م معه خطة الهجر ة ،ورجع إلى بيته ينتظر مجىء الليل .وقد استمر في أعماله اليومية حسب المعتاد حتى ل م يشعر أحد بأنه يستعد للهجر ة ،أو لي أمر آخر اتقاء مما قررته قريش.
تطويق منزل الرسول صلى ا عليه وسلم أما أكاربر مجرمي قريش فقضوا نهارهم في العداد سرا لتنفيذ الخطة المرسومة التى أربرمها ربرلمان مكة ]دار الندوة[ صباًحا ،واختير لذلك أحد عشر رئيًسا من هؤلء الكاربر ،وهم: 1ـ أربو جهل ربن هشام. 2ـ الَحَكم ربن أربي العاص. 3ـ ُعْقَبة ربن أربي ُمَعْيط. 4ـ النّ ْ ضر ربن الحارث. 5ـ ُأمية ربن َخَلف. 6ـ َزْمَعة ربن السود. ى. 7ـ فطَُعْيمة ربن َعِد .ّ 8ـ أربو لهب. 9ـ أربي ربن خلف. 10ـ نُبَْيه ربن الحجاج. 11ـ أخوه ُمنَّبه ربن الحجاج. وكان من عادة رسول ا صلى ا عليه وسلم أن ينام في أوائل الليل ربعد صلة العشاء ،ويخرج ربعد نصف الليل إلى المسجد الحرام ،يصلي فيه قيام الليل ،فأمر علًيا رضي ا عنه تلك الليلة أن يضطجع على فراشه ،ويتسجى رببرده الحضرمي الخضر ،وأخبره أنه ل يصيبه مكروه. فلما كانت عتمة من الليل وساد الهدوء ،ونام عامة الناس جاء المذكورون إلى ربيته صلى ا عليه وسلم سًرا، واجتمعوا على رباربه يرصدونه ،وهم يظنونه نائًما حتى إذا قام وخرج وثبوا عليه ،ونفذوا ما قرروا فيه. وكانوا على ثقة ويقين جازم من نجا،ح هذه المؤامرة الدنية ،حتى وقف أربو جهل وقفة الزهو والخيلء ،وقال مخافطًبا لصحاربه المطوقين في سخرية واستهزاء :إن محمًدا يزعم أنكم إن تاربعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم ،ثم ربعثتم من ربعد موتكم ،فجعلت لكم جنان كجنان الردن ،وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذربح ،ثم ربعثتم من ربعد موتكم ،ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها. وقد كان ميعاد تنفيذ تلك المؤامرة ربعد منتصف الليل في وقت خروجه صلى ا عليه وسلم من البيت ،فباتوا متيقظين ينتظرون ساعة الصفر ،ولكن ا غالب على أمره ،ربيده ملكوت السموات والرض ،يفعل ما يشاء ،وهو ك الِّذيَن َكفَُروْا يجير ول يجـار عليه ،فقـد فعـل مـا خافطب ربه الرسول صلى ا عليه وسلم فيما ربعد :}َوإِْذ يَْمُكُر ربِ َ ك َويَْمُكُروَن َويَْمُكُر ا ُ َوا ُ َخْيُر اْلَماِكِريَن{ ]النفال30:[. ك أَْو يُْخِرُجو َ ك أَْو يَْقتُُلو َ لِيُْثبُِتو َ الرسول صلى ال عليه وسل م يغادر بيته وقد فشلت قريش في خطته م فشًل ذريًعاـ مع غاية التيقظ والتنبه؛ إذ خرج رسول ال صلى ال عليه وسل م من البيت ،واخترق صفوفه م ،وأخذ حفنة من البطحاء فجعل يذره على رءوسه م ،وقد أخذ ال أبصاره م عنه فل ل ُيْب ِ صـ ُرـ ـو ـ{َن ]يس .[9:فل م يبق يرونه ،وهو يتلو :} َوَجـَعـْلـَناِم نـ َبْي ِنـ أَْي ِدـ يـِه ْ مـ َس ّدـاـ َو ِمـْنـَخ ْلـِفِهـْ مـ َس ّدـاـ فَأَْغ َشـْيـَنـاُهْ م فَهُْ م َ منه م رجل إل وقد وضع على رأسه ت ارًبا ،ومضى إلى بيت أبي بكر ،فخرجا من خوخة في دار أبي بكر ليًل حتى لحقا بغار ثَْو ر ـ في اتجاه اليمن.
وبقى المحاصرون ينتظرون حلول ساعة الصفر ،وقبيل حلولها تجلت له م الخيبة والفشل ،فقد جاءه م رجل ممن ل م يكن معه م ،ورآه م ببابه فقال :ما تنتظرون؟ قالوا :محمًد اـ .قال :خبت م وخسرت م ،قد وال مر بك م ،وذر على رءوسك م التراب ،وانطلق لحاجته ،قالوا :وال ما أبصرناه ،وقاموا ينفضون التراب عن رءوسه م. ولكنه م تطلعوا من صير الباب ف أروا علًيا ،فقالوا :وال إن هذا لمحمد نائًم اـ ،عليه برده ،فل م يبرحوا كذلك حتى أصبحوا .وقا م علّى عن الفراش ،فسقط في أيديه م ،وسألوه عن رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فقال :ل عل م لي
به.
من الدار إلى الغار غادر رسول ا صلى ا عليه وسلم ربيته في ليلة 27من شهر صفر سنة 14من النبوة ،الموافق 12/13سبتمبر سنة 622م .وأتى إلى دار رفيقه ـ وأم.ّن الناس عليه في صحبته وماله ـ أربي ربكر رضي ا عنه .ثم غادر منزل الخير من رباب خلفي؛ ليخرجا من مكة على عجل وقبل أن يطلع الفجر. ولما كان النبي صلى ا عليه وسلم يعلم أن قريًشا َستَِجّد في الطلب ،وأن الطريق الذي ستتجه إليه النظار لول وهلة هو فطريق المدينة الرئيسى المتجه شماًل ،فسلك الطريق الذي يضاده تماًما ،وهو الطريق الواقع جنوب مكة ،والمتجه نحو اليمن ،سلك هذا الطريق نحو خمسة أميال حتى ربلغ إلى جبل يعرف ربجبل ثَْور وهو جبل شامخَ ،وِعر الطريق ،صعب المرتقى ،ذو أحجار كثيرة ،فحفيت قدما رسول ا صلى ا عليه وسلم ،وقيل :ربل كان يمشى في الطريق على أفطراف قدميه كى يخفي أثره فحفيت قدماه ،وأيا ما كان فقد حمله أربو ربكر حين ربلغ إلى الجبل ،وفطفق يشتد ربه حتى انتهي ربه إلى غار في قمة الجبل عرف في التاريخ ربغار ثور. إذ هما في الغار ولما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر :وال ل تدخله حتى أدخل قبلك ،فإن كان فيه شيء أصابني دونك ،فدخل فكسحه ،ووجد في جانبه ثقًبا فشق إ ازره وسدها به ،وبقى منها اثنان فألقمهما رجليه ،ث م قال لرسول ال صلى ال عليه وسل م :ادخل ،فدخل رسول ال صلى ال عليه وسل م ،ووضع رأسه في حجره ونا م ،فلدغ أبو بكر في رجله من الجحر ،ول م يتحرك مخافة أن ينتبه رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فسقطت دموعه على وجه رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فقال] :ما لك يا أبا بكر؟[ قال :لدغت ،فداك أبي وأمي ،فتفل رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فذهب ما يجده. وَك ُمـَنـاـ في الغار ثلث ليال ،ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الحد .وكان عبد ال بن أبي بكر يبيت عندهما. قالت عائشة :وهو غل م شاب ثَِقفـ لَِقنـ ،فُيْد ِلــج من عندهما بَس َحـ ٍرـ ،ـ ـفيصبح مع قريش بمكة كبائت ،فل يسمع أمًرا يكتادان به إل وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظل م ،و ]كان[ يرعى عليهما عامر بن فُهَْي َرـ ة مولى
أبي بكر ِم ْنـَحـ ة ـمن غن م ،فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء ،فيبيتان في ِر ْسـ ل ـ وهو لبن ِم ْنـَحـ تِــهما وَر ضــيِفهـما ـ حتى َيْن ِعـ ق ـ بها عامر بن فُهَْي َرـ ة بَغ لَـس ،يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالى الثلث ،وكان عامر بن فهير ة يتبع بغنمه أثر عبد ال بن أبي بكر بعد ذهابه إلى مكة لُيَع فـي عليه. أما قريش فقد جن جنونها حينما تأكد لديها إفلت رسول ال صلى ال عليه وسل م صباح ليلة تنفيذ المؤامر ة .فأول ما فعلوا بهذا الصدد أنه م ضربوا علًيا ،وسحبوه إلى الكعبة ،وحبسوه ساعة ،عله م يظفرون بخبرهما. ولما ل م يحصلوا من علّي على جدوى جاءوا إلى بيت أبي بكر وقرعوا بابه ،فخرجت إليه م أسماء بنت أبي بكر، فقالوا لها :أين أبوك؟ قالت :ل أدرى وال أين أبي؟ فـرفع أبو جهل يـده ـ وكان فاحًش اـ خبيًثا ـ فلط م خـدها لطمـة طـرح منها قرطها. وقررت قريش في جلسة طارئة مستعجلة استخدا م جميع الوسائل التي يمكن بها القبض على الرجلين ،فوضعت جميع الطرق النافذ ة من مكة ]في جميع الجهات[ تحت المراقبة المسلحة الشديد ة ،كما قررت إعطاء مكافأ ة ضخمة قدرها مائة ناقة بدل كل واحد منهما لمن يعيدهما إلى قريش حيين أو ميتين ،كائًناـ من كان. وحينئذ جدت الفرسان والمشا ة وقصاص الثر في الطلب ،وانتشروا في الجبال والوديان ،والوهاد والهضاب ،لكن من دون جدوى وبغير عائد ة. وقد وصل المطاردون إلى باب الغار ،ولكن ال غالب على أمره ،روى البخاري عن أنس عن أبي بكر قال: كنت مع النبي صلى ال عليه وسل م في الغار ،فرفعت رأسى فإذا أنا بأقدا م القو م ،فقلت :يا نبي ال ،لو أن بعضه م طأطأ بصره رآنا .قال] :اسكت يا أبا بكر ،اثنان ،ال ثالثهما[ ،وفي لفظ] :ما ظنك يا أبا بكر باثنين ال ثالثهما[. وقد كانت معجز ة أكر م ال بها نبيه صلى ال عليه وسل م ،فقد رجع المطاردون حين ل م يبق بينه وبينه م إل خطوات معدود ة. في الطريق إلى المدينة وحين خمدت نار الطلب ،وتوقفت أعمال دوريات التفتيش ،وهدأت ثائرات قريش بعد استمرار المطارد ة الحثيثة ثلثة أيا م بدون جدوى ،تهيأ رسول ال صلى ال عليه وسل م وصاحبه للخروج إلى المدينة.
وكانا قد استأج ار عبد ال بن أَُر ْيـِقـطـالليثى ،وكان هادًيا ِخ ّرـيـًتاـ ماهًرا بالطريق ـ وكان على دين كفار قريش، وأمناه على ذلك ،وسلما إليه راحلتيهما ،وواعداه غار ثَْو ر ـ بعد ثلث ليال براحلتيهما ،فلما كانت ليلة الثنين ـ غر ة
ربيع الول سنة 1هـ 16 /سبتمبر سنة 622م ـ جاءهما عبد ال بن أريقط بالراحلتين ،وكان قد قال أبو بكر
للنبى صلى ال عليه وسل م عند مشاورته في البيت :بأبي أنت يا رسول ال ،خذ إحدى راحلتى هاتين ،وقرب إليه أفضلهما ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م بالثمن .وأتتهما أسماء بنت أبي بكر رضي ال عنها ِ ص ـاـًم اـ ،فلما ارتحل ذهبت لتعلق السفر ة ،فإذا ليس لها عصا م ،فشقت نطاقها بُس ْفـَر تِــهما ،ونسيت أن تجعل لها ع َ باثنين ،فعلقت السفر ة بواحد ،وانتطقت بالخر فسميت :ذات النطاقين. ث م ارتحل رسول ال صلى ال عليه وسل م وأبو بكر رضي ال عنه وارتحل معهما عامر بن فُهَْي رـ ة ،وأخذ به م الدليل ـ عبد ال بن أريقط ـ على طريق السواحل. وأول ما سلك به م بعد الخروج من الغار أنه أمعن في اتجاه الجنوب نحو اليمن ،ث م اتجه غرًباـ نحو الساحل، حتى إذا وصل إلى طريق ل م يألفه الناس ،اتجه شماًل على مقربة من شاطئ البحر الحمر ،وسلك طريًقا ل م يكن يسلكه أحد إل نادًرا.
وقد ذكر ابن إسحاق المواضع التي مر بها رسول ال صلى ال عليه وسل م في هذا الطريق ،قال :لما خرج بهما الدليل سلك بهما أسفل مكة ،ث م مضى بهما على الساحل حتى عارض الطريق أسفل من ُع ْسـفَـان ،ث م سلك بهما
على أسفل أَم جـ ،ث م استجاز بهما حتى عارض بهما الطريق بعد أن أجاز قَُد ْيـًدـاـ ،ث م أجاز بهما من مكانه ذلك فسلك بهما اْلَخ ّرــار،ث م سلك بهما ثَّنية اْلَم ّرـ ة،ث م سلك بهما ِلْقًفا ،ث م أجاز بهما َم ْدـلَـَج ة ـِلْقف ،ث م استبطن بهما ض َو ـْي ـنـ،ث م بطن ذى َك ْشـرـ ،ث م أخذ َم ْدـلَـجة ِم َجـاــج ،ث م سلك بهما َم ْرـِجـ ح ـِم َجـاــح ،ث م تبطن بهما َم ْرـِجـ ح ـمن ذى الُغ ْ بهما على اْلَج َدـاـِج دــ ،ث م على الجرد ،ث م سلك بهما ذا سل م من بطن أعدا َم ْدـلَـَج ة ـتِْع ِهـَنـ ،ـث م على الَعَبـابيد ،ث م أجاز بهما الَفاَج ةــ ،ث م هبط بهما اْلَعْرـج،ث م سلك بهما ثنية الَعاـِئر ـ عن يمين َر ُكـوـبة ـ حتى هبط بهما بطن ِر ْئـ مـ ،ث م قد م بهما على ُقباء. وهاك بعض ما وقع في الطريق 1ـ روى البخاري عن أبي بكر الصديق رضي ال عنه قال :أسرينا ليلتنا ومن الغد حتى قا م قائ م الظهير ة وخل الطريق ،ل يمر فيه أحد ،فرفعت لنا صخر ة طويلة ،لها ظل ل م تأت عليها الشمس ،فنزلنا عنده ،وسويت للنبي صلى ال عليه وسل م مكاًناـ بيدى ،ينا م عليه ،وبسطت عليه فرو ة ،وقلت :ن م يا رسول ال ،وأنا أنفض لك ما حولك ،فنا م ،وخرجت أنفض ما حوله ،فإذا أنا براع مقبل بغنمه إلى الصخر ة ،يريد منها مثل الذي أردنا ،فقلت له :لمن أنت يا غل م؟ فقال :لرجل من أهل المدينة أو مكة .قلت :أفي غنمك لبن؟ قال :نع م .قلت :أفتحلب؟
قال :نع م .فأخذ شا ة ،فقلت :انفض الضرع من التراب والشعر والقََذ ىـ ،فحلب في قعب ُك ثْـبة من لبن ،ومعى إداو ة حملتها للنبي صلى ال عليه وسل م ،يرتوى منها ،يشرب ويتوضأ ،فأتيت النبي صلى ال عليه وسل م فكرهت أن
أوقظه ،فوافقته حين استيقظ ،فصببت من الماء على اللبن حتى برد أسفله ،فقلت :اشرب يا رسول ال ،فشرب حتى رضيت ،ث م قال] :أل م يأن للرحيل؟[ قلت :بلى ،قال :فارتحلنا. 2ـ وكان من دأب أبي بكر رضي ال عنه أنه كان ردًفا للنبى صلى ال عليه وسل م ،وكان شيًخ ا ـ يعرف ،ونبى ال صلى ال عليه وسل م شاب ل يعرف ،فيلقى الرجل أبا بكر فيقول :من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول :هذا الرجل يهدينى الطريق ،فيحسب الحاسب أنه يعنى به الطريق ،إوانما يعنى سبيل الخير. 3ـ وفي اليو م الثاني أو الثالث مر بخيمتى أ م َم ْعـَبـد الخزاعية ،وكان موقعهما بالُم َشـلّـل من ناحية قَُد ْيـدـ على بعد نحو 130كيلو متًرا من مكة ،وكانت أ م معبد امرأ ة برز ة جلد ة تحتبى بفناء الخيمة ،ث م تطع م وتسقى من مر بها، فسألها :هل عندها شيء؟ فقالت :وال لو كان عندنا شيء ما أعوزك م ،الِقَرـىـوالشاء عازب ،وكانت َس َنـةٌ َش ْهـباء. فنظر رسول ال صلى ال عليه وسل م إلى شا ة في كسر الخيمة ،فقال] :ما هذه الشا ة يا أ م معبد؟[ قالت :شا ة خلفها الجهد عن الغن م ،فقال] :هل بها من لبن؟[ قالت :هي أجهد من ذلك .فقال] :أتأذنين لى أن أحلبها؟[ قالت: نع م بأبي وأمي إن رأيت بها حلًبا فاحلبها .فمسح رسول ال صلى ال عليه وسل م بيده ضرعها ،وسمى ال ودعا،
تـ ،ـ ـفدعا بإناء لها َيْر بِــض الرهط ،فحلب فيه حتى علته الرغو ة ،فسقاها ،فشربت حتى رويت، ت ـ عليه وَد ّرـ ْ فتََفاّج ْ وسقى أصحابه حتى رووا ،ث م شرب ،وحلب فيه ثانًيا ،حتى مل الناء ،ث م غادره عندها فارتحلوا. فما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعن از عجافا يتساوكن ه ًزل ،ـ ـفلما رأي اللبن عجب ،فقال :من أين لك
هذا؟ والشا ة عازب ،ول حلوبة في البيت؟ فقالت :ل وال إل أنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت، ومن حاله كذا وكذا ،قال :أني وال أراه صاحب قريش الذي تطلبهِ ، ص ِفــيـه لى يا أ م معبد ،فوصفته بصفاته الكريمة وصًفا بديًعاـ كأن السامع ينظر إليه وهو أمامه ـ وسننقله في بيان صفاته صلى ال عليه وسل م في أواخر الكتاب ـ فقال أبو معبد :وال هذا صاحب قريش الذي ذكروا من أمره ما ذكروا ،لقد هممت أن أصحبه ،ولفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيًل .وأصبح صوت بمكة عالًيا يسمعونه ول يرون القائل: جزى ال رب العرش خير جزائه ** رفيقين َح لّـ خيمــتى أ م َم ْعـَبــِد هـمـا نزل بالبِـ ـّر وارتحل به ** وأفلح من أمسى رفيق محمــد
ص ّى ـ مــا َز َوــىال عنكــ م ** به من فعال ل ُيَح اــذى وُس ـْؤ ُدـدـ فيا لقُ َ
ِ ِ ص ــد لَيْهِن بني كعـب مكــان َفتاتهــ م ** ومقعُد هــا للمؤمنـين َبْم رـ َ َس لُـوا أختك م عن شاتهـا إوانائهـا ** فإنك م إن تسألوا الشـا ة تَْش ـهَ ــد قالت أسماء :ما درينا أين توجه رسول ال صلى ال عليه وسل م إذ أقبل رجل من الجن من أسفل مكة فأنشد هذه البيات ،والناس يتبعونه ويسمعون صوته ول يرونه حتى خرج من أعلها .قالت :فلما سمعنا قوله عرفنا حيث توجه رسول ال صلى ال عليه وسل م ،وأن وجهه إلى المدينة. 4ـ وتبعهما في الطريق ُس َرـاقة بن مالك .قال سراقة :بينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومى بني ُم ْدـلـج ،أقبل
رجل منه م حتى قا م علينا ونحن جلوس ،فقال :يا سراقة ،أني رأيت آنًفا أْس ِوـَدـ ةـبالساحل ،أراها محمًد اـ وأصحابه. قال سراقة :فعرفت أنه م ه م ،فقلت له :إنه م ليسوا به م ،ولكنك رأيت فلًناـ وفلًنا انطلقوا بأعيننا ،ث م لبثت في المجلس ساعة ،ث م قمت فدخلت ،فأمرت جاريتى أن تخرج فرسى ،وهي من وراء أَك َمـةـ ،فتحبسها َع لَـّى ،ـ وأخذت ت ـعاليه ،حتى أتيت فرسى فركبتها، طـ ْ رمحى ،فخرجت به من ظهر البيت ،فَخ َ تـ بُز ّجـ ِهـالرض ،وَخ فَـ ْ ض ُ طُ
تـبى فرسى فخررت عنها ،فقمت ،فأهويت يدى إلى كنانتى، فَر فَـْع تُـها تَُقّر بـ بى حتى دنوت منه م ،فَعثَـَر ْ بـ ض ّرـُهْ مـأ م ل؟ فخرج الذي أكره ،فركبت فرسي ـ وعصيت الزل م ـ تَُقّر ُ فاستخرجت منها الزل م ،فاستقسمت بها ،أ ُ ت ـ يدا بي ،حتى إذا سمعت قراء ة رسول ال صلى ال عليه وسل م ـ وهو ل يلتفت ،وأبو بكر يكثر اللتفات ـ َس اـَخ ْ فرسى في الرض حتى بلغتا الركبتين ،فخررت عنها ،ث م زجرتها فنهضت ،فل م تََك ْدـ تخرج يديها ،فلما استوت قائمة إذا لثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان ،فاستقسمت بالزل م ،فخرج الذي أكره ،فناديته م
بالمان ،فوقفوا ،فركبت فرسى حتى جئته م ،ووقع في نفسى حين لقيت ما لقيت من الحبس عنه م أن سيظهر أْم ُرـ رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فقلت له :إن قومك قد جعلوا فيك الدية ،وأخبرته م أخبار ما يريد الناس به م، وعرضت عليه م الزاد والمتاع فل م َير َزــأني،ول م يسألني إل أن قال] :أَْخ ِ ف ـ عنا[ ،فسألته أن يكتب لى كتاب أْم ٍنـ ،ـ ـ ْ فأمر عامر بن فُهَْي رـ ة ،فكتب لى في رقعة من أد م ،ث م مضى رسول ال صلى ال عليه وسل م. وفي رواية عن أبي بكر قال :ارتحلنا والقو م يطلبوننا ،فل م يدركنا منه م أحد غير سراقة بن مالك بن ُج ْعـُشـ مـ ،على
ل تَْح َز ـْنـِإّن ال َ َم َعـَنـا{ ]التوبة.[40: فرس له ،فقلت :هذا الطلب قد لحقنا يا رسول ال ،فقال :} َ
ورجع سراقة فوجد الناس في الطلب فجعل يقول :قد استبرأت لك م الخبر ،قد كفيت م ما ها هنا .وكان أول النهار جاهًد اـ عليهما ،وآخره حارًس اـ لهما. صـْي ـبـالسلمى ومعه نحو ثمانين بيًتا ،فأسل م 5ـ وفي الطريق لقى النبي صلى ال عليه وسل م ُبرْي َدـ ةـ بن الُح َ وأسلموا ،وصلى رسول ال صلى ال عليه وسل م العشاء الخر ة فصلوا خلفه ،وأقا م بريد ة بأرض قومه حتى قد م على رسول ال صلى ال عليه وسل م بعد أُُح دـ.
وعن عبد ال بن بريد ة أن النبي صلى ال عليه وسل م كان يتفاءل ول يتطير ،فركب بريد ة في سبعين راكًباـ من
أهل بيته من بني سه م ،فلقى النبي صلى ال عليه وسل م ،فقال له] :ممن أنت؟[ قال :من أسل م ،فقال :لبي بكر: سلمنا ،ث م قالِ] :م ْنـ بني َم ْنـ؟[ قال :من بني سه م .قال] :خرج سهمك[ 6ـ ومر رسول ال صلى ال عليه وسل م بأبي أْو س ـتمي م بن َح َجـر ـأو بأبي تمي م أوس بن حجر السلمى، بقحداوات بين الُج ْحـ فَــة وَهْرـ َش ـىـ بالعرج ـ وكان قد أبطأ عليه بعض ظهره ،فكان هو وأبو بكر على جمل واحد،
فحمله أوس على فحل من إبله ،وبعث معهما غلًم اـ له اسمه مسعود ،وقال :اسلك بهما حيث تعل م من محار م الطريق ول تفارقهما ،فسلك بهما الطريق حتى أدخلهما المدينة ،ث م رد رسول ال صلى ال عليه وسل م مسعوًد اـ
إلى سيده ،وأمره أن يأمر أوًس اـ أن يس م إبله في أعناقها قيد الفرس ،وهو حلقتان ،ومد بينهما مًد اـ ،فهي سمته م. ولما أتى المشركون يو م أحد أرسل أوس غلمه مسعود بن ُهَنْي َدـ ةـ من الَعْرـجعلى قدميه إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م يخبره به م .ذكره ابن َم اـُك وـل عن الطبرى ،وقد أسل م بعد قدو م رسول ال صلى ال عليه وسل م المدينة، وكان يسكن العرج.
7ـ وفي الطريق ـ في بطن ِر ْئـ م ـ لقى رسول ال صلى ال عليه وسل م الزبير ،وهو في ركب من المسلمين ،كانوا ض ا ـ. تجاًرا قافلين من الشا م ،فكسا الزبير رسول ال صلى ال عليه وسل م وأبا بكر ثياًبا بيا ً النزول بقباء وفي يو م الثنين 8ربيع الول سنة 14من النبو ة ـ وهي السنة الولى من الهجر ة ـ الموافق 23سبتمبر سنة 622م نزل رسول ال صلى ال عليه وسل م بقباء. قال عرو ة بن الزبير :سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول ال صلى ال عليه وسل م من مكة ،فكانوا يغدون كل غدا ة إلى الَح ّرـ ة،فينتظرونه حتى يرده م حر الظهير ة ،فانقلبوا يوًم اـ بعد ما أطالوا انتظاره م ،فلما أووا إلى بيوته م ط م من آطامه م لمر ينظر إليه ،فبصر برسول ال صلى ال عليه وسل م وأصحابه أَْو فــي رجل من يهود على أُ ُ م َبـّي ِ ض ي ــن يزول به م السراب ،فل م يملك اليهودى أن قال بأعلى صوته :يا معاشر العرب ،هذا جدك م الذي ُ تنتظرون ،فثار المسلمون إلى السلح .وتلقوا رسول ال صلى ال عليه وسل م بظهر الحر ة. قال ابن القي م :وُس ِمـعـت الَو ْجـ َب ـةُـوالتكبير في بني عمرو بن عوف ،وكبر المسلمون فرًح ا ـ بقدومه ،وخرجوا للقائه، فتلقوه وحيوه بتحية النبو ة ،فأحدقوا به مطيفين حوله ،والسكينة تغشاه ،والوحى ينزل عليه :}فَِإّن ال َ ُهَو َم ْوـَل هُـ ـ
ظِه يـٌر{ ]التحري م.[4: ك َ صـاـِلُح اْلُم ْؤـ ِم ـنِـيَنَواـْلَم َلـ ئِ ــَك َبةُـْع َدـ َذ ِلـ َ َو ِجـ ْب ـِرـيـُلَو َ قال عرو ة بن الزبير :فتلقوا رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فعدل به م ذات اليمين حتى نزل به م في بني عمرو بن عوف ،وذلك يو م الثنين من شهر ربيع الول .فقا م أبو بكر للناس ،وجلس رسول ال صلى ال عليه وسل م صامًتا ،فطفق من جاء من النصار ممن ل م ير رسول ال صلى ال عليه وسل م يحىى ـ وفي نسخة :يجىء ـ أبا بكر ،حتى أصابت الشمس رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه ،فعرف الناس رسول ال صلى ال عليه وسل م عند ذلك. وكانت المدينة كلها قد زحفت للستقبال ،وكان يوًم اـ مشهوًد اـ ل م تشهد المدينة مثله في تاريخها ،وقد رأي اليهود صدق بشار ة َح ْبـقُـوق النبي :إن ال جاء من التيمان ،والقدوس من جبال فاران. ونزل رسول ال صلى ال عليه وسل م بقباء على كلثو م بن الهد م ،وقيل :بل على سعد بن َخ ْيـثَـَم ةـ ،والول أثبت. ومكث على بن أبي طالب رضي ال عنه بمكة ثلًثا حتى أدى عن رسول ال صلى ال عليه وسل م الودائع التي كانت عنده للناس ،ث م هاجر ماشًياـ على قدميه حتى لحقهما بقباء ،ونزل على كلثو م بن الهَْد مـ. وأقا م رسول ال صلى ال عليه وسل م بقباء أربعة أيا م :الثنين والثلثاء والربعاء والخميس .وأسس مسجد قباء وصلى فيه ،وهو أول مسجد أسس على التقوى بعد النبو ة ،فلما كان اليو م الخامس ـ يو م الجمعة ـ ركب بأمر ال له ،وأبو بكر ردفه ،وأرسل إلى بني النجار ـ أخواله ـ فجاءوا متقلدين سيوفه م ،فسار نحو المدينة وه م حوله، وأدركته الجمعة في بني سال م بن عوف ،فجمع به م في المسجد الذي في بطن الوادى ،وكانوا مائة رجل. الدخول في المدينة ث م سار النبي صلى ال عليه وسل م بعد الجمعة حتى دخل المدينة ـ ومن ذلك اليو م سميت بلد ة يثرب بمدينة الرسول صلى ال عليه وسل م ،ويعبر عنها بالمدينة مختصًرا ـ وكان يوًم اـ مشهوًد اـ أغر ،فقد ارتجت البيوت والسكك بأصوات الحمد والتسبيح ،وتغنت بنات النصار بغاية الفرح والسرور: طـلـع الـبــدر علـينا **مـن ثـنيــات الـوداع وجـب الشـكـر علـينا ** م ــا دعــا لـلـه داع أيـهـا المبـعـوث فـينا ** جـئـت بـالمـر المطاع والنصار إوان ل م يكونوا أصحاب ثروات طائلة إل أن كل واحد منه م كان يتمنى أن ينزل الرسول صلى ال عليه وسل م عليه ،فكان ل يمر بدار من دور النصار إل أخذوا خطا م راحلته :هل م إلى العدد والعد ة والسلح والمنعة،
فكان يقول له م] :خلوا سبيلها فإنها مأمور ة[ ،فل م تزل سائر ة به حتى وصلت إلى موضع المسجد النبوى اليو م فبركت ،ول م ينزل عنها حتى نهضت وسارت قليًل ،ـ ـث م التفتت ورجعت فبركت في موضعها الول ،فنزل عنها، وذلك في بني النجار ـ أخواله صلى ال عليه وسل م ـ وكان من توفيق ال لها ،فإنه أحب أن ينزل على أخواله،
يكرمه م بذلك ،فجعل الناس يكلمون رسول ال صلى ال عليه وسل م في النزول عليه م ،وبادر أبو أيوب النصارى إلى رحـله ،فأدخله بيته،فجعل رسول ال صلى ال عليه وسل م يقول] :المرء مع رحله[ ،وجـاء أسعد بن زرار ة فأخـذ بزما م راحلته ،فكانت عنــده. وفي رواية أنس عند البخاري ،قال نبى ال صلى ال عليه وسل م] :أي بيوت أهلنا أقرب؟[ فقال أبو أيوب :أنا يا رسول ال ،هذه دارى ،وهذا بأبي .قال] :فانطلق فهيئ لنا مقيًل[ ،قال :قوما على بركة ال . وبعد أيا م وصلت إليه زوجته َس ْوـ َد ـ ةـ،وبنتاه فاطمة وأ م كلثو م ،وأسامة بن زيد ،وأ م أيمن ،وخرج معه م عبد ال بن أبي بكر بعيال أبي بكر ،ومنه م عائشة ،وبقيت زينب عند أبي العاص ،ل م يمكنها من الخروج حتى هاجرت بعد بدر. طَح اــن يجرى َنْج ًل ـ ،ـ ـأي ماًء آِج ًنــا. قالت عائشة :وقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض ال ،فكان ُب ْ وقالت :لما قد م رسول ال صلى ال عليه وسل م المدينة وعك أبو بكر وبلل ،فدخلت عليهما فقلت :يا أبه كيف تجدك؟ ويا بلل كيف تجدك؟ قالت :فكان أبو بكر إذا أخذته الُح ّمـىـ يقول: صـ ّبـٌح في أهله ** والموت أدنى من ِش َرـاكَنْع ِلــه كل امرئ ُم َ وكان بلل إذا أقلع عنه يرفع عقيرته ويقول: أل ليت ِش ْع ـِرـىهل أبيتَّن ليلة ** بـَواـٍد وحـولى إْذ ِخـٌر ـ وَج ِلـيـُل طِفيـُل وهل أرْد نـ يومـًـا ميـاه ِم َجـّنــة ** وهل َيْب ُدـَوـ ْن ـلى شامة و َ قالت عائشة :فجئت رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فأخبرته ،فقال] :ال م العن شيبة بن ربيعة ،وعتبة بن ربيعة ،وأمية بن خلف ،كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء[ .ث م قال رسول ال صلى ال عليه وسل م] :ال م حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد ،وصححها ،وبارك في صاعها ومدها ،وانقل حماها فاجعلها بالُج ْحـ فَــة[. وقد استجاب ال دعاءه صلى ال عليه وسل م ،فأرى في المنا م أن امرأ ة سوداء ثائر ة الرأس خرجت من المدينة حتى نزلت بالَم ْهـَيَع ةـ ،وهي الجحفة .وكان ذلك عبار ة عن نقل وباء المدينة إلى الجحفة ،وبذلك استراح المهاجرون عما كانوا يعانونه من شد ة مناخ المدينة.
إلى هنا انتهي بيان قس م من حياته صلى ال عليه وسل م بعد النبو ة ،وهو العهد المكى .وفيما يلى نقد م باليجاز عهده المدنى صلى ال عليه وسل م .وبال التوفيق.
العهد المدني عهد الدعو ة والجهاد والنجاح مراحل الدعوة والجهاد في العهد المدني سكان المدينة وأحوالهم عند الهجرة
مراحل الدعو ة والجهاد في العهد المدني يمكن تقسي م العهد المدني إلى ثلث مراحل: 1ـ مرحلة تأسيس المجتمع السلمي ،وتمكين الدعو ة السلمية ،وقد أثيرت في هذه المرحلة القلقل والفتن من الداخل ،وزحف فيها العداء من الخارج؛ ليستأصلوا شأفة المسلمين ،ويقلعوا الدعو ة من جذورها .وقد انتهت هذه المرحلة بتغلب المسلمين وسيطرته م على الموقف مع عقد صلح الحديبية في ذى القعد ة سنة ست من الهجر ة. 2ـ مرحلة الصلح مع العدو الكبر ،والفراغ لدعو ة ملوك الرض إلى السل م ،وللقضاء على أطراف المؤامرات. وقد انتهت هذه المرحلة بفتح مكة المكرمة في رمضان سنة ثمان من الهجر ة. 3ـ مرحلة استقبال الوفود ،ودخول الناس في دين ال أفواًج ا ـ .وقد امتدت هذه المرحلة إلى وفا ة الرسول صلى ال عليه وسل م في ربيع الول سنة إحدى عشر ة من الهجر ة.
سكان المدينة وأحواله م عند الهجر ة ل م يكن معنى الهجر ة التخلص والفرار من الفتنة فحسب ،بل كانت الهجر ة تعنى مع هذا تعاوًنا على إقامة مجتمع ض ا ـ على كل مسل م يقدر على الهجر ة أن يهاجر ويسه م في بناء هذا الوطن جديد في بلد آمن ،ولذلك أصبح فر ً الجديد ،ويبذل جهده في تحصينه ورفعة شأنه.
ولشك أن رسول ال صلى ال عليه وسل م كان هو الما م والقائد والهادى في بناء هذا المجتمع ،وكانت إليه أزمة المور بل نزاع. والذين قابله م رسول ال صلى ال عليه وسل م في المدينة كانوا على ثلثة أصناف ،يختلف أحوال كل واحد منها بالنسبة إلى الخر اختلًفا واضًح اــ ،وكان يواجه بالنسبة إلى كل صنف منها مسائل عديد ة غير المسائل التي
كان يواجهها بالنسبة إلى الخر. وهذه الصناف الثلثة هي: 1ـ أصحابه الصفو ة الكرا م البرر ة رضي ال عنه م. 2ـ المشركون الذين ل م يؤمنوا بعد ،وه م من صمي م قبائل المدينة. 3ـ اليهــود. أ ـ والمسائل التي كان يواجهها بالنسبة إلى أصحابه هو أن ظروف المدينة بالنسبة إليه م كانت تختلف تماًم اـ عن
الظروف التي مروا بها في مكة ،فه م في مكة إوان كانت تجمعه م كلمة جامعة وكانوا يستهدفون هدًفا واحًد اـ ،إل أنه م كانوا متفرقين في بيوتات شتى ،مقهورين أذلء مطرودين ،ل م يكن له م من المر شيء ،إوانما كان المر بيد أعدائه م في الدين ،فل م يكن هؤلء المسلمون يستطيعون أن ينشئوا مجتمًعاـ إسلمًياـ جديًد اـ بمواده التي ل يستغنى عنها أي مجتمع إنسإني في العال م؛ ولذلك نرى السور المكية تقتصر على تفصيل المبادئ السلمية ،وعلى
التشريعات التي يمكن العمل بها لكل فرد وحده ،وعلى الترغيب في البر والخير ومكار م الخلق والترهيب عن الرذائل والدنايا. أما في المدينة فكان أمر المسلمين بأيديه م منذ أول يو م ،ول م يكن يسيطر عليه م أحد من الناس ،وهذا يعنى أنه م قد آن له م أن يواجهوا مسائل الحضار ة والعمران ،والمعيشة والقتصاد ،والسياسة والحكومة ،والسل م والحرب ،وأن تفصل له م مسائل الحلل والحرا م ،والعباد ة والخلق ،وما إلى ذلك من شئون الحيا ة. أي آن للمسلمين أن يكونوا مجتمًعاـ إسلمًيا يختلف في جميع مراحل الحيا ة عن المجتمع الجاهلي ،ويمتاز عن أي مجتمع يوجد في العال م النساني ،ويكون ممثًل للدعو ة السلمية التي عانى لها المسلمون ألواًنا من النكال والعذاب طيلة عشر سنوات.
ول يخفي أن تكوين أي مجتمع على هذا النمط ل يمكن أن يستتب في يو م واحد ،أو شهر واحد ،أو سنة واحد ة، بل لبد له من زمن طويل يتكامل فيه التشريع والتقنين والتربية والتثقيف والتدريب والتنفيذ شيًئاـ فشيًئا ،وكان ال كفيًل بهذا التشريع ،وكان رسول ال صلى ال عليه وسل م قائًم اـ بتنفيذه والرشاد إليه ،وبتربية المسلمين وتزكيته م ب َواـْلِح ْك ـَمـ{َةـ ]الجمعة: وفق ذلك }ُهَو الِّذ ي ـ َبَع َ ثـ ِفيـ اْلُّم ّيـيَن َر ُسـوًـلّم ْنـهُـْ م َيْتُلو َع لَـْي ِهـْ مـ آَياتِِه َو ُيـَز ّكـيـِه ْ مَـو ُيـَع لّـُم هُـُ م اْلِك تَـا َ .[2 وكان الصحابة رضي ال عنه م مقبلين عليه بقلوبه م،يتحلون بأحكامه،ويستبشرون بها } َ إوِاـَذـاـتُِلَي ْ تـ َع لَـْي ِهـْ مـ آَياتُهُ
َزاَد تْـهُْ م ِإيَم اـًنا{ ]النفال .[2 :وليس تفصيل هذه المسائل كلها من مباحث موضوعنا ،فنقتصر منها على قدر الحاجة. وكان هذا أعظ م ما واجهه رسول ال صلى ال عليه وسل م بالنسبة للمسلمين ،وهو الهدف السمى والمطلب النبيل المقصود من الدعو ة السلمية والرسالة المحمدية ،ومعلو م أنه ليس بقضية طارئة تطلب الستعجال ،بل هي قضية أصيلة تحتاج إلى آجال .نع م ،كانت هناك قضايا طارئة تطلب الحل العاجل والحكي م ،أهمها أن المسلمين كانوا على قسمين: قس م كانوا في أرضه م ودياره م وأمواله م ،ل يهمه م من ذلك إل ما يه م الرجل وهو آمن في ِس ْر ـبِــه،وه م النصار، وكان بينه م تنافر مستحك م وعداء مزمن منذ أمد بعيد.
وقس م آخر فاته م كل ذلك ،ونجوا بأنفسه م إلى المدينة ،وه م المهاجرون ،فل م يكن له م ملجأ يأوون إليه ،ول عمل يكسبون به ما يسد حاجته م ،ول مال يبلغون به َقَواـًم اـمن العيش ،وكان عدد هؤلء اللجئين غير قليل ،ث م كانوا يزيدون يوًم اـ فيوما؛ إذ كان قد أوذن بالهجر ة لكل من آمن بال ورسوله .ومعلو م أن المدينة ل م تكن على ثرو ة
طائلة فتزعزع ميزانها القتصادى ،وفي هذه الساعة الحرجة قامت القوات المعادية للسل م بشبه مقاطعة اقتصاديةَ ،قّلت لجلها المستوردات وتفاقمت الظروف.
ب ـ أما القو م الثاني ـ وه م المشركون من صمي م قبائل المدينة ـ فل م تكن له م سيطر ة على المسلمين ،وكان منه م من يتخالجه الشكوك ويتردد في ترك دين الباء ،ولكن ل م يكن يبطن العداو ة والكيد ضد السل م والمسلمين ،ول م تمض عليه م مد ة طويلة حتى أسلموا وأخلصوا دينه م ل. وكان فيه م من يبطن شديد الحن والعداو ة ضد رسول ال صلى ال عليه وسل م والمسلمين ،ولكن ل م يكن يستطيع أن يناوئه م ،بل كان مضطًرا إلى إظهار الوّد والصفاء نظًرا إلى الظروف ،وعلى رأس هؤلء عبد ال بن أبي ،فقد كانت الوس والخزرج اجتمعوا على سيادته بعد حرب ُبَعاـث ـ ول م يكونوا اجتمعوا على سياد ة أحد قبله ـ وكانوا قد
نظموا له الَخ ْر ـ زــ،لُيتَّو ُجـ وـه وُيَم لّـُك وـه ،وكان على وشك أن يصير ملًك اـ على أهل المدينة إذ بوغت بمجىء رسول ال صلى ال عليه وسل م ،وانصراف قومه عنه إليه ،فكان يرى أنه استلبه الملك ،فكان يبطن شديد العداو ة ضده، ولما رأي أن الظروف ل تساعده على شركه ،وأنه سوف يحر م بقايا العز والشرف وما يترتب عليهما من منافع الحيا ة الدنيا أظهر السل م بعد بدر ،ولكن بقى مستبطًناـ الكفر ،فكان ل يجد مجاًل يكيد فيه برسول ال صلى ال عليه وسل م وبالمسلمين إل ويأتيه ،وكان أصحابه ـ من الرؤساء الذين حرموا المناصب المرجو ة في ملكه ـ يساهمونه ويدعمونه في تنفيذ خططه ،وربما كانوا يتخذون بعض الشباب وسذجة المسلمين عميًل لتنفيذ خطته م
من حيث ل يشعر.
جـ ـ أما القو م الثالث ـ وه م اليهود ـ فإنه م كانوا قد انحازوا إلى الحجاز زمن الضطهاد الشورى والروماني كما أسلفنا ،وكانوا في الحقيقة عبرانيين ،ولكن بعد النسحاب إلى الحجاز اصطبغوا بالصبغة العربية في الزى واللغة والحضار ة ،حتى صارت أسماؤه م وأسماء قبائله م عربية ،وحتى قامت بينه م وبين العرب علقة الزواج والصهر، إل أنه م احتفظوا بعصبيته م الجنسية ،ول م يندمجوا في العرب قطًعاـ ،بل كانوا يفتخرون بجنسيته م السرائيلية ـ اليهودية ـ وكانوا يحتقرون العرب احتقاًرا بالًغاـ وكانوا يرون أن أموال العرب مباحة له م ،يأكلونها كيف شاءوا ،قال كـ و ِمـْنـهـ م ّم نـ ِإن تَْأم ْنـهـ بِِد يـناٍر لّ يؤ ّدـِهـ ِإلَي َ ّ تـ تعالى :} َوِمـْنـأَْه ِلـ اْلِك تَـاِب َم ْنـ ِإن تَْأَم ْنـهُـ بِِقنـ َ َُ ْ كـ ِإل َم اـ ُد ْمـ َ َ ُ َ طاٍر ُيَؤ ّدـِهـ ِإلَْي َ َ ُ ْ ك بِأَّنهُْ م َقالُوْا لَْي َسـ َع لَـْي َنـاـ ِفيـ الُّم ّيـيَن َس بِـيٌل{ ]آل عمران .[75 :ول م يكونوا متحمسين في نشر دينه م، َع لَـْي ِهـ َقآئًِم اـ َذ ِلـ َ إوانما جل بضاعته م الدينية هي :الفأل والسحر والنفث والرقية وأمثالها ،وبذلك كانوا يرون أنفسه م أصحاب عل م وفضل وقياد ة روحانية.
وكانوا َم هَـَر ةًفي فنون الكسب والمعيشة ،فكانت في أيديه م تجار ة الحبوب والتمر والخمر والثياب ،كانوا يستوردون الثياب والحبوب والخمر ،ويصدرون التمر ،وكانت له م أعمال من دون ذلك ه م لها عاملون ،فكانوا يأخذون المنافع من عامة العرب أضعاًفا مضاعفة ،ث م ل م يكونوا يقتصرون على ذلك ،بل كانوا أكالين للربا ،يعطون القروض الطائلة لشيوخ العرب وساداته م؛ ليكسبوا بها مدائح الشعراء والسمعة الحسنة بين الناس بعد إنفاقها من غير جدوى ول طائلة ،وكانوا يرتهنون لها أرض هؤلء الرؤساء وزروعه م وحوائطه م ،ث م ل يلبثون إل أعواًم اـ حتى
يتملكونها.
وكانوا أصحاب دسائس ومؤامرات وعتو وفساد؛ يلقون العداو ة والشحناء بين القبائل العربية المجاور ة ،ويغرون بعضها على بعض بكيد خفي ل م تكن تشعره تلك القبائل ،فكانت تتطاحن في حروب ،ول م تكد تنطفئ نيرانها حتى تتحرك أنامل اليهود مر ة أخرى لتؤججها من جديد .فإذا ت م له م ذلك جلسوا على حياد يرون نتائج هذا التحريض والغراء ،ويستلذون بما يحل بهؤلء المساكين ـ العرب ـ من التعاسة والبوار ،ويزودونه م بقروض ثقيلة ربوية حتى ل يحجموا عن الحرب لعسر النفقة .وبهذا التدبير كانوا يحصلون على فائدتين كبيرتين :هما الحتفاظ على كيانه م اليهودى ،إوانفاق سوق الربا؛ ليأكلوه أضعاًفا مضاعفة ،ويكسبوا ثروات طائلة. وكانت في يثرب منه م ثلث قبائل مشهور ة: 1ـ بنو قَْي ُنـَقاع :وكانوا حلفاء الخزرج ،وكانت دياره م داخل المدينة. 2ـ بنو الّن ِ ض يــر :وكانوا حلفاء الخزرج ،وكانت دياره م بضواحى المدينة. 3ـ بنو قَُر ْيـظـة :وكانوا حلفاء الوس ،وكانت دياره م بضواحى المدينة.
وهذه القبائل هي التي كانت تثير الحروب بين الوس والخزرج منذ أمد بعيد ،وقد ساهمت بأنفسها في حرب ُبَعاـث ،كل مع حلفائها. وطبًعاـ فإن اليهود ل م يكن يرجى منه م أن ينظروا إلى السل م إل بعين البغض والحقد؛ فالرسول ل م يكن من أبناء جنسه م حتى ُيَس ّكـنـ َج ْأـَش عصبيته م الجنسية التي كانت مسيطر ة على نفسياته م وعقليته م ،ودعو ة السل م ل م تكن إل دعو ة صالحة تؤلف بين أشتات القلوب ،وتطفئ نار العداو ة والبغضاء ،وتدعو إلى التزا م المانة في كل
الشئون ،إوالى التقيد بأكل الحلل من طيب الموال ،ومعنى كل ذلك أن قبائل يثرب العربية ستتآلف فيما بينها، وحينئذ لبد من أن تفلت من براثن اليهود ،فيفشل نشاطه م التجارى ،ويحرمون أموال الربا الذي كانت تدور عليه رحى ثروته م ،بل يحتمل أن تتيقظ تلك القبائل ،فتدخل في حسابها الموال الربوية التي أخذتها اليهود ،وتقو م بإرجاع أرضها وحوائطها التي أضاعتها إلى اليهود في تأدية الربا. كان اليهود يدخلون كل ذلك في حسابه م منذ عرفوا أن دعو ة السل م تحاول الستقرار في يثرب؛ ولذلك كانوا يبطنون أشد العداو ة ضد السل م ،وضد رسول ال صلى ال عليه وسل م منذ أن دخل يثرب ،إوان كانوا ل م يتجاسروا على إظهارها إل بعد حين. ويظهر ذلك جلًيا بما رواه ابن إسحاق عن أ م المؤمنين صفية رضي ال عنها قال ابن إسحاق :حدثت عن صفية بنت حيي بن أخطب أنها قالت :كنت أَح ّ ب ـ ولد أبي إليه ،إوالى عمي أبي ياسر ،ل م ألقهما قط مع ولد لهما إل
أخذإني دونه .قالت :فلما قد م رسول ال صلى ال عليه وسل م المدينة ونزل قباء في بني عمرو بن عوف غدا عليه أبي؛ حيى بن أخطب ،وعمى أبو ياسر بن أخطب ُم َغـلّـِس يــن ،قالت :فل م يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس ،قالت :فأتيا َك اـلّْي نـ كسلنين ساقطين يمشيان الهَُو ْيـَنـىـ .قالت :فهششت إليهما كما كنت أصنع ،فوال ما التفت إلّى واحد منهما ،مع ما بهما من الغ م .قالت :وسمعت عمى أبا ياسر ،وهو يقول لبي حيي بن أخطب: أهو هو؟ قال :نع م وال ،قال :أتعرفه وتثبته؟ قال :نع م ،قال :فما في نفسك منه؟ قال :عداوته وال ما بقيت.
ض ا ـ ما رواه البخاري في إسل م عبد ال بن َس لَـ م رضي ال عنه فقد كان حبًرا من فطاحل علماء ويشهد بذلك أي ً اليهود ،ولما سمع بمقد م رسول ال صلى ال عليه وسل م المدينة في بني النجار جاءه مستعجًل ،ـ ـوألقى إليه أسئلة
ل يعلمها إل نبى ،ولما سمع ردوده صلى ال عليه وسل م عليها آمن به ساعته ومكانه ،ث م قال له :إن اليهود قو م
ت ،ـإن علموا بإسلمي قبل أن تسأله م َبهَُتوِنى عندك ،فأرسل رسول ال صلى ال عليه وسل م فجاءت اليهود، ُبْه ٌ ودخل عبد ال بن سل م البيت .فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م] :أي رجل فيك م عبد ال بن سل م؟[ قالوا:
أعلمنا وابن أعلمنا ،وأخيرنا وابن أخيرنا ـ وفي لفظ :سيدنا وابن سيدنا .وفي لفظ آخر :خيرنا وابن خيرنا ،وأفضلنا وابن أفضلنا ـ فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م ] :أفرأيت م إن أسل م عبد ال؟[ فقالوا :أعاذه ال من ذلك ]مرتين أو ثلثا[ ،فخرج إليه م عبد ال فقال :أشهد أن ل إله إل ال ،وأشهد أن محمًد اـ رسول ال ،قالوا :شّر نـا وابن شّر نـا،
ووقعوا فيه .وفي لفظ :فقال :يا معشر اليهود ،اتقوا ال ،فوال الذي ل إله إل هو ،إنك م لتعلمون أنه رسول ال، وأنه جاء بحق .فقالوا :كذبت. وهذه أول تجربة تلقاها رسول ال صلى ال عليه وسل م من اليهود في أول يو م دخل فيه المدينة. وهذه هي الظروف والقضايا الداخلية التي واجهها الرسول صلى ال عليه وسل م حين نزل بالمدينة. أما من ناحية الخارج فكان يحيط بها من يدين بدين قريش ،وكانت قريش ألـد عـدو للسل م والمسلمين ،جربت عليه م طوال عشر ة أعوا م ـ حينما كان المسلمون تحت أيديها ـ كل أساليب الرهاب والتهديد والمضايقة والتعذيب، والمقاطعة والتجويع ،وأذاقته م التنكيلت والويلت ،وشنت عليه م حرًباـ نفسية مضنية مع دعاية واسعة منظمة، ولما هاجر المسلمون إلى المدينة صادرت أرضه م ودياره م وأمواله م ،وحالت بينه م وبين أزواجه م وذرياته م ،بل حبست وعذبت من قدرت عليه ،ول م تقتصر على هذا ،بل تآمرت على الفتك بصاحب الدعو ة صلى ال عليه
وسل م ،والقضاء عليه وعلى دعوته ،ول م تَْأُلـ جهًد اـ في تنفيذ هذه المؤامر ة .فكان من الطبيعى جًد اـ ،حينما نجا المسلمون منها إلى أرض تبعد نحو خمسمائة كيلو متر ،أن تقو م بدورها السياسى والعسكرى ،لما لها من الصدار ة الدنيوية والزعامة الدينية بين أوساط العرب بصفتها ساكنة الحر م ومجاور ة بيت ال وسدنته ،وتغرى غيرها من
مشركي الجزير ة ضد أهل المدينة ،وفعًل قامت بذلك كله حتى صارت المدينة محفوفة بالخطار ،وفي شبه ت لجلها المستوردات ،في حين كان عدد اللجئين إليها يزيد يوًم اـ بعد يو م ،وبذلك كانت ]حالة مقاطعة شديد ة َقلّ ْ الحرب[ قائمة بين هؤلء الطغا ة من أهل مكة ومن دان دينه م ،وبين المسلمين في وطنه م الجديد. وكان من حق المسلمين أن يصادروا أموال هؤلء الطغا ة كما صودرت أمواله م ،وأن يديلوا عليه م من التنكيلت بمثل ما أدالوا بها ،وأن يقيموا في سبيل حياته م العراقيل كما أقاموها في سبيل حيا ة المسلمين ،وأن يكيلوا لهؤلء الطغا ة صاًع اـ بصاع حتى ل يجدوا سبيًل لباد ة المسلمين واستئصال خضرائه م. وهذه هي القضايا والمشاكل الخارجية التي واجهها رسول ال صلى ال عليه وسل م بعدما ورد المدينة ،وكان عليه أن يعالجها بحكمة بالغة حتى يخرج منها مكلًل بالنجاح. وقد قا م رسول ال صلى ال عليه وسل م بمعالجة كل القضايا أحسن قيا م ،بتوفيق من ال وتأييده ،فعامل كل قو م بما كانوا يستحقونه من الرأفة والرحمة أو الشد ة والنكال،وذلك بجانب قيامه بتزكية النفوس وتعلي م الكتاب والحكمة ،ول شك أن جانب التزكية والتعلي م والرأفة والرحمة كان غالًبا على جانب الشد ة والعنت ـ حتى عاد المر إلى السل م وأهله في بضع سنوات ،وسيجد القارئ كل ذلك جلًيا في الصفحات التية.
المرحلة الولى بناء مجتمع جديد بناء المسجد النبوي المؤالخاة بين المسلمين ميثا ق التحالف السلمي أثر المعنويات في المجتمع
بناء مجتمع جديد قد أسلفنا أن نزول رسول ال صلى ال عليه وسل م بالمدينة في بني النجار كان يو م الجمعة ] 12ربيع الول سنة 1هـ /الموافق 27سبتمبر سنة 622م[ ،وأنه نزل في أرض أما م دار أبي أيوب ،وقال] :هاهنا المنزل إن شاء ال[ ،ث م انتقل إلى بيت أبي أيوب رضي ال عنه
بناء المسجد النبوي وأول خطو ة خطاها رسول ال صلى ال عليه وسل م بعد ذلك هو بناء المسجد النبوي ،واختار له المكان الذي بركت فيه ناقته صلى ال عليه وسل م ،فاشتراه من غلمين يتيمين كانا يملكانه ،وأسه م في بنائه بنفسه ،فكان ينقل اللِبن والحجار ة ويقول:
شـ الخر ة ** فاْغ ِفـْرـ للنصار والُم هَـاِج َر ـ[ ة ]الله م ل َع ْيـَشـ إل َع ْيـ ُ وكان يقول: طـَهر[ ]هذا الِح َمـاـُل ل ِح َمـاـل َخ ْيـَبـرـ ** هــذا أبَـّر َر ّبـَناـوأ ْ وكان ذلك مما يزيد نشاط الصحابة في العمل ،حتى إن أحده م ليقول: ضـ لّــل لئن قََع ـْد نـا والنبي َيْع َمـلـ ** لـذاك ِم ـّنا الَعَمـ ـُل الُم َ وكانت في ذلك المكان قبور للمشركين ،وكان فيه خرب ونخل وشجر ة من َغ ْرـ قَــد،فأمر رسول ال صلى ال عليه وسل م بقبور المشركين فنبشت ،وبالَخ ِرـبـفسويت ،وبالنخل والشجر ة فقطعت ،وصفت في قبلة المسجد ،وكانت
القبلة إلى بيت المقدس ،وجعلت عضادتاه من حجار ة ،وأقيمت حيطانه من اللبن والطين ،وجعل سقفه من جريد النخل ،وُع ُمـدـه الجذوع ،وفرشت أرضه بالرمال والحصباء ،وجعلت له ثلثة أبواب ،وطوله مما يلى القبلة إلى
مؤخره مائة ذراع ،والجانبان مثل ذلك أو دونه ،وكان أساسه قريًباـ من ثلثة أذرع.
وبني بجانبه بيوًتا بالحجر واللبن ،وسقفها بالجريد والجذوع ،وهي حجرات أزواجه صلى ال عليه وسل م ،وبعد تكامل الحجرات انتقل إليها من بيت أبي أيوب. ول م يكن المسجد موضًعاـ لداء الصلوات فحسب ،بل كان جامعة يتلقى فيها المسلمون تعالي م السل م وتوجيهاته، ومنتدى تلتقى وتتآلف فيه العناصر القبلية المختلفة التي طالما نافرت بينها النزعات الجاهلية وحروبها ،وقاعد ة لدار ة جميع الشئون وبث النطلقات ،وبرلمان لعقد المجالس الستشارية والتنفيذية. وكان مع هذا كله داًرا يسكن فيها عدد كبير من فقراء المهاجرين اللجئين الذين ل م يكن له م هناك دار ول مال ول أهل ول بنون. وفي أوائل الهجر ة شرع الذان ،تلك النغمة العلوية التي تدوى في الفاق ،وتهز أرجاء الوجود ،تعلن كل يو م خمس مرات بأن ل إله إل ال وأن محمًد اـ رسول ال ،وتنفي كل كبرياء في الكون وكل دين في الوجود ،إل كبرياء ال ،والدين الذي جاء به عبده محمد رسول ال .وقد تشرف برؤيته في المنا م أحد الصحابة الخيار عبد ال بن زيد بن عبد ربه رضي ال عنه فأقره النبي صلى ال عليه وسل م وقد وافقت رؤياه رؤيا عمر بن الخطاب رضي ال عنه فأقره النبي صلى ال عليه وسل م ،والقصة بكاملها مروية في كتب السنة والسير ة.
المؤاخا ة بين المسلمين ث م إن النبي صلى ال عليه وسل م بجانب قيامه ببناء المسجد :مركز التجمع والتآلف ،قا م بعمل آخر من أروع ما يأثره التاريخ ،وهو عمل المؤاخا ة بين المهاجرين والنصار ،قال ابن القي م :ث م أخي رسول ال صلى ال عليه وسل م بين المهاجرين والنصار في دار أنس بن مالك ،وكانوا تسعين رجًل ،ـ ـنصفه م من المهاجرين ،ونصفه م من
النصار ،أخي بينه م على المواسا ة ،ويتوارثون بعد الموت دون ذوى الرحا م إلى حين وقعة بدر ،فلما أنزل ال ضـهُـْ م أَْو لَــى بَِبْع ٍ ضـ{ ]النفال [75 :رد التوارث إلى الرح م دون عقد الخو ة. عز وجل :} َوأُـْولُـوْاالَْر َحـاـِ مَبْع ُ
وقد قيل :إنه أخي بين المهاجرين بعضه م مع بعض مؤاخا ة ثانية ...والثبت الول ،والمهاجرون كانوا مستغنين بأخو ة السل م وأخو ة الدار وقرابة النسب عن عقد مؤاخا ة فيما بينه م ،بخلف المهاجرين مع النصار .اهـ. ومعنى هذا الخاء أن تذوب عصبيات الجاهلية ،وتسقط فوارق النسب واللون والوطن ،فل يكون أساس الولء والبراء إل السل م.
وقد امتزجت عواطف اليثار والمواسا ة والمؤانسة إواسداء الخير في هذه الخو ة ،وملت المجتمع الجديد بأروع المثال. روى البخاري :أنه م لما قدموا المدينة أخي رسول ال صلى ال عليه وسل م بين عبد الرحمن وسعد ابن الربيع، فقال لعبد الرحمن :إني أكثر النصار ماًل ،ـ ـفاقس م مالى نصفين ،ولى امرأتان ،فانظر أعجبهما إليك فسمها لي،
أطلقها ،فإذا انقضت عدتها فتزوجها ،قال :بارك ال لك في أهلك ومالك ،وأين سوقك م؟ فدلوه على سوق بني ٍِ ص ْفـَر ة،فقال النبي صلى قينقاع ،فما انقلب إل ومعه فضل من أقطـ وَس ْمـ ٍنـ ،ـ ـث م تابع الغدو ،ث م جاء يوًم اـ وبه أثر ُ ال عليه وسل مَ ] :مْهـَيْ م؟[ قال :تزوجت .قال] :ك م سقت إليها؟[ قال :نوا ة من ذهب.
وروى عن أبي هرير ة قال :قالت النصار للنبى صلى ال عليه وسل م :اقس م بيننا وبين إخواننا النخيل .قال] :ل[، فقالوا :فتكفونا المؤنة ونشركك م في الثمر ة .قالوا :سمعنا وأطعنا. وهذا يدلنا على ما كان عليه النصار من الحفاو ة البالغة بإخوانه م المهاجرين ،ومن التضحية واليثار والود والصفاء ،وما كان عليه المهاجرون من تقدير هذا الكر م حق قدره ،فل م يستغلوه ول م ينالوا منه إل بقدر ما يقي م أوده م. وحًقا فقد كانت هذه المؤاخا ة حكمًة فذً ة ،وسياسًة حكيمًة ،وحًل رشيًد اـ لكثير من المشاكل التي كان يواجهها المسلمون ،والتي أشرنا إليها.
ميثاق التحالف السلمي وكما قا م رسول ال صلى ال عليه وسل م بعقد هذه المؤاخا ة بين المؤمنين ،قا م بعقد معاهد ة أزاح بها ما كان بينه م من ح اززات في الجاهلية ،وما كانوا عليه من نزعات قبلية جائر ة ،واستطاع بفضلها إيجاد وحد ة إسلمية شاملة. ص ا ـ: وفيما يلى بنودها ملخ ً هذا كتاب من محمد النبي صلى ال عليه وسل م بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ،ومن تبعه م فلحق به م ،وجاهد معه م: 1ـ إنه م أمة واحد ة من دون الناس.
2ـ المهاجرون من قريش على ِر ْبـَعـتِـه م يتعاقلون بينه م ،وه م َيْفُد وـن َع اـِنيه م بالمعروف والقسط بين المؤمنين ،وكل
قبيلة من النصار على ربعته م يتعاقلون معاقله م الولى ،وكل طائفة منه م تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 3ـ إوان المؤمنين ل يتركون ُم ْفـَر ًحـ ا ـبينه م أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل. 4ـ إوان المؤمنين المتقين على من بغى منه م ،أو ابتغى َد ِسـ يــعة ظل م أو إث م أو عدوان أو فساد بين المؤمنين. 5ـ إوان أيديه م عليه جميًعاـ ،ولو كان ولد أحده م. 6ـ ول يقتل مؤمن مؤمنا في كافر.
7ـ ول ينصر كافًرا على مؤمن. 8ـ إوان ذمة ال واحد ة يجير عليه م أدناه م.
9ـ إوان من تبعنا من يهود فإن له النصر والسو ة ،غير مظلومين ول متناصرين عليه م. 10ـ إوان سل م المؤمنين واحد ة؛ ل يسال م مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل ال إل على سواء وعدل بينه م. 11ـ إوان المؤمنين يبيء بعضه م على بعض بما نال دماءه م في سبيل ال. 12ـ إوانه ل يجير مشرك ماًل لقريش ول نفًس اـ ،ول يحول دونه على مؤمن.
13ـ إوانه من اعتبط مؤمًنا قتًل عن بينة فإنه قود به إل أن يرضى ولي المقتول. 14ـ إوان المؤمنين عليه كافة ،ول يحل له م إل قيا م عليه.
15ـ إوانه ل يحل لمؤمن أن ينصر محدًثا ول يؤويه ،وأنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة ال وغضبه يو م ص ْرـف ـول َع ْدـلـ. القيامة ،ول يؤخذ منه َ 16ـ إوانك م مهما اختلفـت م فيه من شيء ،فإن مرده إلى ال ـ عز وجل ـ إوالى محمـد صلى ال عليه وسل م.
أثر المعنويات في المجتمع بهذه الحكمة وبهذا التدبير أرسى رسول ال صلى ال عليه وسل م قواعد مجتمع جديد ،كانت صورته الظاهر ة بيانا وآثاًرا للمعاني التي كان يتمتع بها أولئك المجاد بفضل صحبة النبي صلى ال عليه وسل م ،وكان النبي صلى ال عليه وسل م يتعهده م بالتعلي م والتربية ،وتزكية النفوس ،والحث على مكار م الخلق ،ويؤدبه م بآداب الود والخاء والمجد والشرف والعباد ة والطاعة. سأله رجل :أي السل م خير؟ قال] :تطع م الطعا م ،وتقرئ السل م على من عرفت ومن ل م تعرف[. قال عبد ال بن سل م :لما قد م النبي صلى ال عليه وسل م المدينة جئت ،فلما تبينت وجهه ،عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب ،فكان أول ما قال] :يا أيها الناس ،أفشوا السل م ،وأطعموا الطعا م ،وصلوا الرحا م ،وصلوا بالليل والناس نيا م ،تدخلوا الجنة بسل م[ وكان يقول] :ل يدخل الجنة من ل يأمن جاره بوائقه[ ويقول] :المسل م من سل م المسلمون من لسانه ويده[
ويقول] :ل يؤمن أحدك م حتى يحب لخيه ما يحب لنفسه[ ويقول] :المؤمنون كرجل واحد ،إن اشتكى عينه اشتكى كله ،إوان اشتكى رأسه اشتكى كله[. ويقول] :المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا[ ويقول] :ل تباغضوا ،ول تحاسدون ،ول تدابروا ،وكونوا عباد
ال إخوانًا ،ول يحل لمسل م أن يهجر أخاه فوق ثلثة أيا م[ .ويقول] :المسل م أخو المسل م ل يظلمه ول يسلمه ،ومن
كان في حاجة أخيه كان ال في حاجته ،ومن فرج عن مسل م كربة فرج ال عنه كربة من كربات يو م القيامة،
ومن ستر مسلمًا ستره ال يو م القيامة[ ويقول] :ارحموا من في الرض يرحمك م من في السماء[ .ويقول] :ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره جائع إلى جانبه[ .ويقولِ] :س بـاب المؤمن فسوق ،وقتاله كفر[ .وكان يجعل إماطة الذى عن الطريق صدقة ،ويعدها شعبة من شعب اليمان .ويقول] :الصدقة تطفئ الخطايا كما يطفئ الماء النار[ .ويقول] :أيما مسل م كسا مسلمًا ثوبًا على ُع رـى كساه ال من ُخ ضــر الجنة ،وأيما مسل م أطع م مسلمًا على
جوع أطعمه ال من ثمار الجنة ،وأيما مسل م سقى مسلمًا على ظمأ سقاه ال من الرحي م المختو م[ ويقول] :اتقوا
الناء ولو بشق تمر ة ،فإن ل م تجد فبكلمة طيبة[ .وبجانب هذا كان يحث حثًا شديدًا على الستعفاف عن المسألة، ويذكر فضائل الصبر والقناعة ،فكان يعد المسألة كدوحًا أو خدوشًا أو خموشًا في وجه السائل الله م إل إذا كان
مضط ًرا .كما كان يبين له م ما في العبادات من الفضائل والجر والثواب عند ال ،وكان يربطه م بالوحي النازل
عليه من المساء ربطًا مؤثقًا ،فكان يقرؤه عليه م ويقرؤونه :لتكون هذه الدراسة إشعا ًار بما عليه م من حقوق الدعو ة ل عن ضرور ة الفه م والتدبر .وهكذا هذب تفكيره م ،وربع معنوياته م ،وأيقظ مواهبه م ،وزوده م وتبعات الرسلة ،فض ً
بأعلى القي م والقدار ،حتى وصول إلى أعلى قمة من الكمال عرفت في تاريخ البشر بعد النبياء .يقول عبد ال
بن مسعود رضى ال عنه :من كان مستنا فليستن بمن قد مات ،فإن الحي ل تؤمن عليه الفتنة ،أولئك أصحاب محمد صلى ال عليه وسل م ،كانوا أفضل هذه المة؛ وأبرها قلوبًا ،وأعمقها علما ،وأقلها تكلفًا ،اختاره م ال لصحبة نبيه ،ولقامة دينه ،فاعرفوا له م فضله م ،وابتعوه م على أثره م ،وتمسكوا بما استطعت م من أخلقه م
وسيره م ،فإنه م كانوا على الهدى المستقي م .ث م إن هذا الرسول القائد العظ م صلى ال عليه وسل م كان يتمتع من الصفات المعنوية والظاهر ة ،ومن الكمالت المواهب ،والمجاد والفضائل ،ومكار م الخلق ومحاسن العمال بما جعتله تهوى إليه الفئد ة ،وتتفانى عليه النفوس ،فما يتكل م بكلمة إل ويبادر صحابته رضي ال عنه م إلى امتثالها ،وما يصدر من إرشاد أو توجيه إل ويتسابقون إلى العمل به .بمثل هذا استطاع النبي صلى ال عليه ل وسل م أن يبني في المدينة مجتمعًا جديدًا أروع وأشرف مجتمع عرفة التاريخ ،وأن يضع لمشاكل هذا المجتمع ح ً
تنفست له النسانية الصعداء ،بعد أن كانت قد تعبت في غياهب الزمان ودياجير الظلمات .وبمثل هذه
المعنويات الشامخة تكاملت عناصر المجتمع الجديد الذي واجه كل تيارات الزمان حتى صرف وجهتها ،وحول مجرى التاريخ واليا م.
معاهد ة مع اليهود بعد أن أرسى رسول ال صلى ال وعليه وسل م قواعد مجتمع جديد وأمة إسلمية حديد ة ،بإقامة الوحد ة العقدية والسياسية والنظامية بين المسلمين ،بدأ بتنظي م علقاته بغير المسلمين ،وكان قصده بذلك توفير المن والسل م والسعاد ة الخير للبشرية جمعاء ،مع تنظي م المنطقة في وفاق واحد ،فسن في ذلك قوانين السماح والتجاوز التي ل م تعهد في ذلك العال م الملئ بالتعصب والغراض الفردية والعرقية. وأقرب من كان يجاور المدينة من غير المسلمين ه م اليهود -كما أسلفنا -وه م إوان كانوا يبطنون العداو ة للمسلمين ،لكن ل م يكونوا أظهروا أية مقاومة أو خصومة بعد ،فعقد معه م رسول ال صلى ال عليه وسل م معاهد ة قرر له م فيها النصح والخير ،وترك له م فيها مطلق الحرية في الدين والمال ،ول م يتجه إلى سياسة البعاد أو المصادر ة والخصا م. وفيما يلى أه م بنود هذه المعاهد ة: بنود المعاهد ة -1إن يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين ،لليهود دينه م وللمسلمين دينه م مواليه م وأنفسه م ،وكذلك لغير بنى عوف من اليهود. وان على اليهود نفقته م ،وعلى المسلمين نفقته م. 2إ -3إوان بينه م النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة. -4إوان بينه م النصح والنصحية ،والبر دون الث م. -5إوانه ل م يأث م امرؤ بحليفه.
-6إوان النصر للمظلو م. -7إوان اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
وان يثرب حرا م جوفها لهل هذه الصحيفة. 8إ -9إوانه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى ال عز وجل ،إوالى محمد رسول ال صلى ال عليه وسل م. -10إوانه ل تجار قريش ول من نصرها. -11إوان بينه م النصر على من َد َهـ مـ يثرب ..على كل أناس حصته م من جابنه م الذي قبله م. -12إوانه ل يحول هذا الكتاب دون ظال م أو آث م.
وبإبرا م هذه المعاهد ة صارت المدينة وضواحيها دولة وفاقية ،عاصمتها المدينة ،ورئيسها ـ إن صح هذا التعبير ـ رسول ال صلى ال عليه وسل م ،والكلمة النافذ ة والسلطان الغالب فيها للمسلمين.
ولتوسيع منطقة المن والسل م عاهد النبي صلى ال عليه وسل م قبائل أخرى في المستقبل بمثل هذه المعاهد ة، حسب ما اقتضته الظروف ،وسيأتي ذكر شيء عنها.
الكفاح الدامي
استفزازات تقريش واتصالهم بعبد ا بن أبي إعلن عزيمة الصد عن المسجد الحرام تقريش تهدد المهاجرين الذان بالقتال الغزوات والسيرايا تقبل بدر وفيما يلى أحوال هذه السرايا باليجاز:
استف اززات قريش واتصاله م بعبد ال بن أبي تقد م ما أدلى به كفار مكة من التنكيلت والويلت على المسلمين في مكة ،ث م ما أتوا به من الجرائ م التي استحقوا لجلها المصادر ة والقتال ،عند الهجر ة ،ث م إنه م ل م يفيقوا من غيه م ول امتنعوا عن عدوانه م بعدها ،بل زاده م غيظًا أن فاته م المسلمون ووجدوا مأمنًا ومق ًار بالمدنية ،فكتبوا إلى عبد ال بن أبي سلول -وكان إذ ذاك
مشركًا -بصفته رئيس النصار قبل الهجر ة -فمعلوا أنه م كانوا قد اتفقوا عليه ،وكادوا يجعلونه ملكًا على أنفسه م
لول أن هاجر رسول ال صلى ال عليه وسل م إليه م ،وآمنوا به -كتبوا إليه إوالى أصحابه المشركين ،يقولون له م في كلمات باتة: إنك م آويت م صاحبنا ،إوانا نقس م بال لتقاتلنه أو لتخرجنه ،أو لنسيرن إليك م بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتك م ،ونستبيح نساءك م.
وبمجرد بلوغ هذا الكتاب قا م عبد ال بن أبي ليمتثل أوامر إخوانه المشركين من أهل مكة -وقد كان يحقد على النبي صلى ال عليه وسل م :لما يراه أنه استبله ملكه -يقول عبد الرحمن بن كعب :فلما بلغ ذلك عبد ال بن أبي ومن كان معه من عبد ة الوثان اجتمعوا لقتال رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فلما بلغ ذلك النبي صلى ال عليه وسل م لقيه م ،فقال :)لقد بلغ وعيد قريش منك م المبالغ ،ما كانت تكيدك م بأكثر ما تريدون أن تكيدوا به أنفسك م ،تريدون أن تقالوا أبناءك م إواخوانك م( ،فلما سمعوا ذلك من النبي صلى ال عليه وسل م تفرقوا. امتنع عبد ال بن أبي بن سلول عن القتال إذ ذلك ،لما رأي خو ًار أو رشدًا في أصحابه ،ولكن يبدو من تصرفاته أنه كان متواطئًا مع قريش ،فكان ل يجد فرصة إل وينتهزها ليقاع الشر بين المسلمين والمشركين ،وكان يض م
معه اليهود ،ليعينوه على ذلك ،ولكن تلك هي حكمة النبي صلى ال عليه وسل م التي كانت تطفئ نار شره م حينا بعد حين.
إعلن عزيمة الصد عن المسجد الحرام ثم أن سعد ربن معاذ انطلق إلى مكة معتمرًا ،فنزل على أمية ربن خلف ربمكة ،فقال لمية :انظر لي ساعة خلوة لعلي أن أفطوف البيت ،فخرج ربه قريباً من نصف النهار ،فلقيهما أربو جهل ،فقال :يا أربا صفوان ،من هذا معك؟ فقال: هذا سعد ،فقال له أربو جهل :أل أراك تطوف ربمكة آمناً وقد آويتم الصباة ،وزعمتم أنكم تنصرونهم ،وتعينونهم ،أما وا لول أنك مع أربي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالمًا ،فقال له سعد -ورفع صوته عليه :أما وا لئن منعتني هذا لمنعك ما هو أشد عليكم منه :فطريقك على أهل المدينة. قريش تهدد المهاجرين وكأن قريشًا كانت تعتزعلى شر أشد من هذا ،وتفكر في القيا م بنفهسا للقضاء على المسلمين ،وخاصة على
النبي صلى ال عليه وسل م.
ول م يكن هذا مجرد وه م أو خيال ،فقد تأكد لدى رسول ال صلى ال عليه وسل م من مكائد قريش إوارادتها على
الشر ما كان لجله ل يبيت إل ساه ًرا ،أو في حرس من الصحابة .روى الشيخان في صحيحيهما عن عائشة
ل صالحًا من رضى ال عنها قالت :سهر رسول ال صلى ال عليه وسل م مقدمه المدينة ليلة فقال :)ليت رج ً
أصحابي يحرسني الليلة( ،قالت :فبينما نحن كذلك سمعنا خشخشة سلح ،فقال :)من هذا ؟( قال :سعد بن أبي وقاص ،فقال له رسول ال صلى ال عليه وسل م :)ما جاء بك؟( فقال :وقع في نفسي خوف على رسول ال
صلى ال عليه وسل م ،فجئت أحرسه ،فدعا له رسول ال صلى ال عليه وسل م ،ث م نا م. ول م تكن هذه الحراسة مختصة ببعض الليالي ،بل كان ذلك أم ًار مستم ًرا ،فقد روى عن عائشة قالت :كان رسول ل حتى نزل :} واـُل َيع ِ كـِم َنـ الّنا ِ س{ ]المائد ة ،[67 :فأخرج رسول ال صلى ال صلى ال عليه وسل م يحرس لي ً صـ ُمـ ـ َ َ ْ ال عليه وسل م رأسه من القبة ،فقال :)يا أيها الناس ،انصرفوا عني فقد عصمني ال عز وجل(.
ول م يكن الخطر مقتص اًر على رسول ال صلى ال عليه وسل م ،بل كان يحدق بالمسلمين كافة ،فقد روى أبي بن
كعب ،قال :لما قد م رسول ال صلى ال عليه وسل م وأصحابه المدينة ،وآوته م النصار رمته م العرب عن قوس واحد ة ،وكانوا ل يبيتون إل بالسلح ،ول يصبحون إل فيه.
الذان بالقتال في هذه الظروف الخطير ة التي كانت تهدد كيان المسلمين بالمدينة ،وتنبئ عن قريش أنه م ل يفيقون عن غيه م ول يمتنعون عن تمرده م بحال ،أنزل ال تعالى الذن بالقتال للمسلمين ول م يفرضه عليه م ،قال تعالى :} أُِذَنـ ِ ِ ِّ ص ِرـِه ْ مـلَقَِد يـٌر{ ]الحج.[39 : للذ يـَن ُيَقاتَُلوَن بِأَّنهُْ م ظُلُم وـا َو إِاـّنـ اَل َع لَــى َن ْ
وأنزل معه آيات بين له م فيها أن هذا الذن إنما هو لزاحة الباطل إواقامة شعائر ال ،قال تعالى :} الِّذيـَن ِإن ص َلـ ةَ ـ ـوآـتَواالّز َكـاـ ةَ وأَـم رـ واـِباْلم عـرـ و ـ ِ ّم ّكـّنـاُهْ م ِفيـ اْلَْر ِ فَو َنـهَْو اـَع ِنـ اْلُم نـَك ِرـ َو ِلـلِّه َع اـِقَبـةُـ اْلُُم وـِر { ]الحج: َ ُْ َ َُ ض ـَأَقاُم وـا ال ّ َ ُ .[41 وكان الذن مقتص اًر على قتال قريش ،ث م تطور فيما بعد مع تغير الظروف حتى وصل إلى مرحلة الوجوب،
وجاوز قريشًا إلى غيره م ،ول بأس أن نذكر تلك المراحل بإيجاز قبل أن ندخل في ذكر الحداث:
-1اعتبار مشركي قريش محاربين؛ لنه م بدأوا بالعدوان ،فحق للمسلمين أن يقاتلوه م ويصادروا أمواله م دون غيره م من بقية مشركي العرب. -2قتال كل من تمال من مشركي العرب مع قريش واتحد معه م ،وكذلك كل من تفرد بالعتداء على المسلمين من غير قريش. -3قتال من خان أو تحيز للمشركين من اليهود الذين كان له م عقد وميثاق مع رسول ال صلى ال عليه وسل م، ونبذ ميثاقه م إليه م على سواء. -4قتال من بادأ بعداو ة المسلمين من أهل الكتاب ،كالنصارى ،حتى يعطوا الجزية عن يد وه م صاغرون. -5الكف عمن دخل في السل م ،مشركًا كان أو يهوديًا أو نصرانيًا أو غير ذلك ،فل يتعرض لنفسه وماله إل
بحق السل م ،وحسابه على ال.
ولما نزل الذن بالقتال رأى رسول ال صلى ال عليه وسل م أن يبسط سيطرته على الطريق الرئيس الذي تسلكه قريش من مكة إلى الشا م في تجاراته م ،واختار لذلك خطتين: الولى :عقد معاهدات الحلف أو عد م العتداء مع القبائل التي كانت مجاور ة لهذا الطريق ،أو كانت تقطن ما بين هذا الطريق وما بين المدينة ،وقد عقد صلى ال عليه وسل م معاهد ة مع جهينة قبل الخذ في النشاط العسكري ،وكانت مساكنه م على ثلث مراحل من المدينة ،كما عقد معاهدات أخرى أثناء دورياته العسكرية، وسيأتي ذكرها. الثانية :إرسال البعوث واحد ة تلو الخرى إلى هذا الطريق.
الغزوات والسيرايا قبل بدر
ل بعد نزول الذن بالقتال وكانت أشبه بالدوريات ولتنفيذ هاتين الخطتين بدأ بالتحركات العسكرية فع ً
الستطلعية ،وكان المطلوب منها كما أشرنا:
الستكشاف والتعرف على الطرق المحيطة بالمدينة ،والمسالك المؤدية إلى مكة. عقد المعاهدات مع القبائل التي مساكنها على هذه الطرق. إشعار مشركي يثرب ويهودها وأعراب البادية الضاربين حولها بأن المسلمين أقوياء وأنه م تخلصوا من ضعفه م القدي م. إنذار قريش ُع قـَبى طيشها ،حتى تفيق عن َغ يـها الذي ل يزال يتوغل في أعماقها ،وعلها تشعر بتفاق م الخطر على اقتصادها وأسباب معايشها فتجنح إلى السل م ،وتمتنع عن إراد ة قتال المسلمين في عقر داره م ،وعن الصد عن سبيل ال ،وعن تعذيب المستضعفين من المؤمنين في مكة ،حتى يصير المسلمون أح ار ًار في إبلغ رسالة
ال في ربوع الجزير ة.
وفيما يلى أحوال هذه السرايا باليجاز: -1سرية سيف البحر في رمضان سنة 1هـ ،الموافق مارس سنة 623م ،أمر رسول ال صلى ال عليه وسل م على هذه السرية حمز ة ل من المهاجرين يعترضون عي اًر لقريش جاءت من الشا م ،وفيها أبو جهل بن عبد المطلب ،وبعثه في ثلثين رج ً بن هشا م في ثلثمائة رجل ،فلبغوا سيف البحر من ناحية العيص ،فالتقوا واصطفوا للقتال ،فمشى مجدي بن عمرو الجني ـ وكان حليفًا للفريقين جميعًا ـ بين هؤلء وهؤلء حتى جحز بينه م فل م يقتتلوا. وكان لواء حمز ة أول لواء عقده رسول ال صلى ال عليه وسل م ،وكان أبيض ،وحمله أبو مرثد َك نـاز بن حصين
الَغَنـوي.
-2سرية رابغ: في شوال سنة 1من الهجر ة ،الموافق أبريل سنة 632م ،بعث لها رسول ال صلى ال عليه وسل م عبيد ة بن ل من المهاجرين ،فلقى أبا سفيان -وهو في مائتين -على بطن رابغ ،وقد الحارث بن المطلب في ستين رج ً ترامي الفريقان بالنبل ،ول م يقع قتال.
وفي هذه السرية انض م رجلن من جيش مكة إلى المسلمين ،وهما المقداد بن عمرو البهراني ،وعتبه بن غزوان المارني ،وكانا مسلمين خرجا مع الكفار ليكون ذلك وسيلة للوصول إلى المسلمين ،وكان لواء عبيد ة أبيض،
وحامله مسطح بن أثاثة بن المطلب بن عبد مناف. -3سرية الخرار في ذي العقد ة سنة 1هـ ،الموافق مايو سنة 623م ،بعث لها رسول ال صلى ال عليه وسل م سعد بن أبي وقاص في عشرين رجل يعترضون عي اًر لقريش ،وعهد إليه إل يجاوز الخرار ،فخرجوا مشا ة يكمنون بالنهار،
ويسيرون بالليل ،حتى بلغوا الخرار صبيحة خمس ،فوجدوا العير قد مرت بالمس. كان لواء سعد رضى ال عنه أبيض ،وحمله المقداد بن عمرو. -4غز ة البواء أو ودان:
في صفر سنة 2هـ ،الموافق أغسطس سنة 623م ،خرج رسول ال صلى ال عليه وسل م فيها بنفسه في سبعين ل من المهاجرين خاصة يعترض عي ًار لقريش ،حتى بلغ ودان ،فل م يلق كيدًا ،واستخلف فيها على المدينة سعد رج ً بن عباد ة رضى ال عنه.
وفي هذه الغزو ة عقد معاهد ة حلف مع عمرو بن مخشى الضمري ،وكان سيد بنى ضمر ة في زمانه ،وهذا نص المعاهد ة :)هذا كتاب من محمد رسول ال لبني ضمره ،فإنه م آمنون على أمواله م وأنفسه م ،إوان له م النصر على من رامه م إل أن يحاربوا دين ال ن ما بل بحر صوفة وأن النبي إذا دعاه م لنصره أجابوه(. وهذه أول غزو ة غزاها رسول ال صلى ال عليه وسل م ،وكانت غيبته خمس عشر ة ليلة ،وكان اللواء أبيض وحامله حمز ة بن عبد المطلب. -5غزو ة بواط: في شهر ربيع الول سنة 2هـ الموافق سبتمبر سنة 623م ،خرج فيها رسول ال صلى ال عليه وسل م في مائتين من أصحابه ،يعترض عي ًار لقريش فيها أمية بن خلف الجمحي ومائة رجل من قريش ،وألفان وخمسمئة بعير،
فبلغ بواطا من ناحية رضوى ول م يلق كيدا.
واستخلف في هذه الغزو ة على المدينة سعد بن معاذ ،واللواء كان أبيض ،وحامله سعد بن أبي وقاص رضى ال عنه.
-6غزو ة سفوان في شهر ربيع الول سنة 2هـ ،الموافق سبتمبر سنة 623م ،أغار كرز بن جابر الفهري في قوات خفيفة من
ل من المشركين على مراعي المدينة ،ونهب بعض المواشي فخرج رسول ال صلى ال عليه وسل م في سبعين رج ً
أصحابه لمطارته ،حتى بلغ واديًا يقال له :سفوان من ناحية بدر ،ولكنه ل م يدرك كر اًز وأصحابه ،فرجع من دون حرب ،وهذه الغزو ة تسمى بغزو ة بدر الولى.
واستخلف في هذه الغزو ة على المدينة زيد بن حارثة ،وكان اللواء أبيض ،وحامله علي بن أبي طالب. -7غزو ة ذي العشير ة: في جمادى الولى ،وجمادى الخر ة سنة 2هـ ،الموافق نوفمبر وديسمبر سنة 623هـ ،خرج فيها رسول ال صلى ال عليه وسل م في خمسين ومائة ويقال :في مائتين ،من المهاجرين ،ول م يكره أحدًا على الخروج ،وخرجوا على
ثلثين بعي ًار يعتقبونها ،يعترضون عي ًار لقريش ،ذاهبة إلى الشا م ،وقد جاء الخبر بفصولها من مكة ،فيها أموال
لقريش فبلغ ذا العشير ة ،فوجد العير قد فاتته بأيا م ،وهذه هي العير التي خرج في طلبها حين رجعت من الشا م،
فصارت سببًا لغزو ة بدر الكبرى. وكان خروجه صلى ال عليه وسل م في أواخر جمادى الولى ،ورجوعه في أوائل جمادى الخر ة ،على ما قاله ابن إسحاق ،ولعل هذه هو سبب اختلف أهل السير في تعيين شهر هذه الغزو ة. وفي هذه الغزو ة عقد رسول ال صلى ال عليه وسل م معاهد ة عد م اعتداء مع بنى مدلج وحلفائه م من بنى ضمر ة. واستخلف على المدينة في هذه الغزو ة أبا سلمة بن عبد السد المخزومي ،وكان اللواء أبيض ،وحامله حمز ة بن عبد الملطب رضي ال عنه. -8سرية نخلة: في رجب سنة 2هـ ،الموافق يناير سنة 624م ،بعث رسول ال صلى ال عليه وسل م كتب له كتابًا ،وأمره أل ينظر فيه حتى يسير يومين ،ث م ينظر فيه .فسار عبد ال ث م ق أر الكتاب بعد يومين ،فإذا فيه :)إذا نظرت في
كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكلة والطائف ،فترصد بها عير قريش وتعل م لنا من أخباره م( .فقال: سمعًا وطاعة ،وأخبر أصحابه بذلك ،وأنه ل يستكرهه م ،فمن أحب الشهاد ة فلينهض ،ومن كره الموت فليرجع،
وأما أنا فناهض ،فنهضوا كله م ،غير أنه لما كان في أثناء الطريق أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان
بعي اًر لهما كانا يعتقبانه ،فتخلفا في طلبه. وسار عبد ال بن جحش حتى نزل بنخلة ،فمرت عير لقريش تحمل زبيبًا وأدمًا وتجار ة ،وفيها عمرو بن
الخضرمي ،وعثمان ونوفل ابنا عبد ال بن المغير ة ،والحك م ابن كيسان مولى بني المغير ة .فتشاور المسلمون وقالوا :نحن في آخر يو م من رجب الشهر الحرا م ،فإن قاتلناه م انتهكنا الشهر الحرا م ،إوان تركناه م الليلة دخلوا الحر م ،ث م اجتمعوا على اللقاء ،فرمى أحده م عمرو بن الحضرمي فقتله ،وأسروا عثمان والحك م وأفلت نوفل ،ث م
قدموا بالعير والسيرين إلى المدينة ،وقد عزلوا من ذلك الخمس ،وهو أو خمس كان في السل م ،وأول قتيل في السل م ،وأول أسيرين في السل م. وأنكر رسول ال صلى ال عليه وسل م ما فعلوه ،وقال :)ما أمرتك م بقتال في الشهر الحرا م( وتوقف عن التصرف في العير والسيرين. ووجد المشركون فيما حدث فرصة لتها م المسلمين بأنه م قد أحلوا ما حر م ال ،وكثر في ذلك القيل والقال ،حتى
ك َع ِنـ نزل الوحي حاسمًا هذه القاويل وأن ما عليه المشروكون أكبر وأعظ م مما ارتكبه المسلمون :} َيْسأَـُلوَن َ ِِ ِ ِ ِ ِ ِ جْه ِلـِه ِم ْنـهُـ أَْك َبـُرـ صـّد ـَع نـ َس بِـيِل اِل َو ُكـْفـٌر بِِه َواـْلَم ْسـِجـِداـْلَح َرــاِ مَو إِاـْخـ َرـا ُأَ الّش ْهـِر اْلَح َرــا مقتَـاٍل فيـه ُقْل قتَـاٌل فيـه َك بِـيٌر َو َ ِع نـَد اِل َواـْلِفتْـَنةُ أَْك َبـُرـ ِم َنـ اْلقَْتِل{ ]البقر ة.[217 :
فقد صرح هذا الوحي بأن الضجة التي افتعلها المشركون لثار ة الريبة في سير ة المقاتلين المسلمين ل مساغ لها، فإن الحرمات المقدسة قد انتهكت كلها في محاربة السل م ،واضطهاد أهله ،أل م يكن المسلمون مقيمين بالبلد الحرا م حين تقرر سلب أمواله م وقتل نبيه م؟ فما الذي أعاد لهذه الحرمات قداستها فجأ ة ،فأصبح انتهاكها معر ة وشناعة؟ ل جر م أن الدعاية التي أخذ ينشرها المشركون دعاية تبتني على وقاحة ودعار ة. وبعد ذلك أطلق رسول ال صلى ال عليه وسل م سراح السيرين, ،أدى دية المقتول إلى أوليائه. تلك م السرايا والغزوات قبل بدر ،ل م يجر في احد منها سلب الموال وقتل الرجال إل بعد ما ارتكبه المشركون في قياد ة كرز بن جابر الفهري ،فالبداية إنما هي من المشركين مع ما كانوا قد أتوه قبل ذلك من الفاعيل. وبعد وقوع ما وقع في سرية عبد ال بن جحش تحقق خوف المشركين وتجسد أمامه م الخطر الحقيقي ،ووقعوا فيما كانوا يخشون الوقوع فيه ،وعلموا أن المدينة في غاية من التيقظ والتربص ،تترقب كل حركة من حركاته م التجارية ،وأن المسلمين يستطيعون أن يزحفوا إلى ثلثمائة ميل تقريبًا ،ث م يقلتوا ويأسروا رجاله م ،ويأخذوا أمواله م، ويرجعوا سالمين غانمين ،وشعر هؤلء المشركون بأن تجارته م إلى الشا م أما م خطر دائ م ،لكنه م بدل أن يفيقوا
عن غيه م ،ويأخذوا طريق الصلح والموادعة -كما فعلت جهينة وبنو ضمر ة ازدادوا حقدًا وعيظًا ،وصم م
صناديده م وكبراؤه م على ما كانوا يوعدون ويهددون به من قبل :من إباد ة المسلمين في عقر داره م ،وهذا هو الطيش الذي جاء به م إلى بدر. أما المسلمون فقد فرض ال عليه م القتال بعد وقعة سرية عبد ال بن جحش في شهر شعبان سنة 2هـ ،وأنزل ل ُيِح ّ ثـ ل تَْع تَـُد وْـا ِإّن اَل َ في ذلك آيات بينات :} َوقَــاِتلُوْا ِفيـ َس بِـيِل اِل الِّذ يـَن ُيَقاتُِلوَنُك ْ مـ َو َ ب ـ اْلُم ْعـتَـِد يـَن َواـْقتُُلوُهْ مـ َح ْيـ ُ ل تَُقاِتُلوُهْ مـ ِع نـَد اْلَم ْسـِجـِد ـاْلَح َرــاِ مَح تّــى ُيَقاتُِلوُك ْ مـ ِفيـِه ثـ أَْخ َر ـُجـ وـُك ْ مـَواـْلِفتْـَنةُـ أََش ّدـ ِم َنـ اْلقَْتِل َو َ ثَِق ْفـتُُم وـُهْ مـ َوأَـْخ ِرـُجـ وـُه مّـم ْنـ َح ْيـ ُ ل تَُك وـَن ِفتْـَنةٌ َو َيـُك وـَن الّد يـُن ك َج َزــاءاْلَك اـِف ِرـيـَنفَِإِن انتَهَْو ْاـ فَِإّن اَل َغ فُـوٌر ّر ِحـ يـٌ مَو َقــاتُِلوُهْ م َح تّــى َ فَِإن َقاتَُلوُك ْ مـ َفاْقتُُلوُهْ مـ َك َذـِلـ َ ل ع ْدـوـاـنِإلّ ع لَــى ال ّ ظاِلِم يـَن{ ]البقر ة.[193 :190: ِللِّه فَِإِن انتَهَوْا فَ َ ُ َ َ َ
ث م ل م يلبث أن أنزل ال تعالى عليه م آيات من نوع آخر ،يعلمه م فيها طريقة القتال ،ويحثه م عليه ،ويبين له م ق فَِإّم اـ َم ّنـا َبْع ُدـ َو إِاـّمـاـِفَدـاـء ب ـالّر قَـاِب َح تّــى ِإَذ اـ َأثَْخ نـتُُم وـُهْ مـ َفُش ّدـوـا اْلَو ثَـا َ ض ْرـ َ بعض أحكامه :}فَِإذا لَِقيـتُُ م الِّذ يـَن َك فَـُر واـَف َ ضـ ُكـ مـ بَِبْع ٍ ضـ َواـلِّذ يـَن قُتِلُوا ِفيـ َس بِـيِل اِل ب ـأَْو َزــاَرَهَذاـِلـ َ ص َر ـِم ْنـهُـْ م َو لَـِك نـ لَّيْب لُـَو َبْع َ ض َع ـ اْلَح ْرـ ُ َح تّــى تَ َ ك َو لَـْو َيَش اـء اُل َل ن ـتَـ َ ِّ ِ ض ّلـ ـأَْع مـاـلَه م س َيـهِد يـِه مـو ُيـ ِ َفَلن ُي ِ ص ْرـُكـْ مـ َ ُْ َ ْ ْ َ ْ ص ُرـ واـاَل َين ُ ص لـُحَبالَهُْ م َو ُيـْد خـلُـهُُ ماْلَج ّنـَة َع ّرـفَـَهالَهُْ م َيا أَّيَها الذ يـَن آَم ُنـوا ِإن َتن ُ ت أَْقَد اـَم ُكـْ مـ { ]محمد.[7 :4 : َو ُيـثَّب ْ ت ُس وـَر ةٌ ّم ْحـ َك ـَمـةٌـَو ُذـِكـَرـِفيـَها ث م ذ م ال الذين طفقت أفئدته م ترجف وتخفق حين سمعوا المر بالقتال :} فَِإَذاـ ُأنِز لَـ ْ ظَر اْلَم ْغـِشـ ّي ـَع لَـْي ِهـ ِم َنـ اْلَم ْوـ ِت{ـ ]محمد.[20 : كـ َن َ ضـَينظُُر وـَن ِإلَْي َ تـالِّذ يـَن ِفيـ ُقُلوبِِه مـ ّم َرـ ٌ اْلِقتَـاُل َرأَْي َ إوايجاب القتال والحض عليه ،والمر بالستعداد له هو عين ما كانت تقتضيه الحوال ،ولو كان هناك قائد يسبر أغوار الظروف لمر جنده بالستعداد لجميع الطورائ ،فكيف بالرب العلي م المتعال ،فالظروف كانت تقتضى عراكًا داميًا بين الحق والباطل ،وكانت وقعة سرية عبد ال بن جحش ضربة قاسية على غير ة المشركين وحميته م ،آلمته م وتركته م يتقلبون على مثل الجمر.
وآيات المر بالقتال تدل بفحواها على قرب العراك الدامي ،وأن النصر والغلبة فيه للمسلمين نهائيا ،انظر كيف يأمر ال المسلمين بإخراج المشركين من حيث أخرجوه م ،وكيف يعلمه م أحكا م الجند المتغلب في الساري والثخان في الرض حتى تضع الحرب أوزارها ،هذه كلها إشار ة إلى غلبة المسلمين نهائيًا .ولكن ترك كل ذلك
مستو ًار حتى يأتي كل رجل بما فيه من التحمس في سبيل ال.
وفي هذه اليا م -في شعبان سنة 2هـ /فبراير 624م -أمر ال تعالى بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرا م ،وأفاد ذلك أن الضعفاء والمنافقين من اليهود الذين كانوا قد خلوا صفوف المسلمين لثار ة البلبلة، انكشفوا عن المسلمين ورجعوا إلى ما كانوا عليه ،وهكذا تطهرت صفوف المسلمين عن كثير من أهل الغدر والخيانة. ولعل في تحويل القبلة إشار ة لطيفة إلى بداية دور جديد ل ينتهي إلى بعد احتلل المسلمين هذه القبلة ،أو ليس من العجب أن تكون قبلة قو م بيد أعدائه م ،إوان كانت بأيديه م فعل فلبد من تخليصها يوما ما إن كانوا على الحق. وبهده الوامر والشارات زاد نشاط المسلمين ،واشتد شوقه م إلى الجهاد في سبيل ال ،ولقاء العدو في معركة فاصلة لعلء كلمة ال.
غزو ة بدر الكبرى أول معركة من معارك السل م الفاصلة
سبب الغزوة مبلغ تقوة الجيش السلمي وتوزيع القيادات النذير في مكة أهل مكة يتجهزون للغزو تقوام الجيش المكي مشكلة تقبائل بني بكر جيش مكة يتحرك العير تفلت َهّم الجيش المكي بالرجوع ،ووتقوع النشقا ق فيه موتقف الجيش السلمي في طضي ق وحرج المجلس الستشاري الجيش السلمي يواصل سيره الرسول صلى ا عليه وسلم يقوم بعملية الستكشاف الحصول على أهم المعلومات عن الجيش المكي الجيش السلمي يسب ق إلى أهم المراكز العسكرية مقر القيادة تعبئة الجيش وتقطضاء الليل الجيش المكي في عرصة القتال ،ووتقوع النشقا ق فيه
سبب الغزو ة سبق في ذكر غرز ة العشير ة أن عي اًر لقريش أفلتت من النبي صلى ال عليه وسل م في ذهابها من مكة إلى الشا م،
فلما قرب رجوعها من الشا م إلى مكة بعث رسول ال صلى ال عليه وسل م طلحة بن عبيد ال وسعيد بن زيد إلى الشمال ليقوما باكتشاف خبرها ،فوصل إلى الحوراء ومكثا حتى مر بهما أبو سفيان بالعير ،فأسرعا إلى المدينة وأخب ار رسول ال صلى ال عليه وسل م الخبر. وكانت العير تحمل ثروات طائلة لكبار أهل مكة ورؤسائها :ألف بعير موقر ة بأموال ل تقل عن خمسين ألف دينار ذهبي .ول م يكن معها من الحرب إل نحو أربعين رجل. إنها فرصة ذهبية للمسلمين ليصيبوا أهل مكة بضربة اقتصادية قاصمة ،تتأل م لها قلوبه م على مر العصور ،لذلك ل :)هذه عير قريش فيها أمواله م ،فاخرجوا إليها لعل ال ينفلكموها(. أعلن رسول ال صلى ال عليه وسل م قائ ً ول م يعز م على أحد بالخروج ،بل ترك المر للرغبة المطلقة ،لما أنه ل م يكن يتوقع عند هذا النتداب أنه سيصطد م بجيش مكة -بدل العير -هذا الصطدا م العنيف في بدر؛ ولذلك تخلف كثير من الصحابة في المدينة ،وه م يحسبون أن مضى رسول ال صلى ال عليه وسل م في هذا الوجه لن يعدو ما ألفوه في السرايا والغزوات الماضية؛ ولذلك ل م ينكر على أحد تخلفه في هذه الغرو ة.
مبلغ قو ة الجيش السلمي وتوزيع القيادات ل ـ ،313أو ،314أو 317 واستعد رسول ال صلى ال عليه وسل م للخروج ومعه ثلثمائة وبضعة عشر رج ً
ل ـ 82أو 83أو 86من المهاجرين و 61من الوس و 170من الخرزج .ول م يحتفلوا لهذا الخروج احتفال رج ً بليغا ،ول اتخذوا أهبته م كاملة ،فل م يكن معه م إل فرس أو فرسان :فرس للزبير بن العوا م ،وفرس للمقداد بن
السود الكندي ،وكان معه م سبعون بعي ار يعتقب الرجلن والثلثة على بعير واحد ،وكان رسول ال صلى ال عليه وسل م وعلي ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبون بعي اًر واحد. واستخلف على المدينة وعلى الصل ة ابن أ م مكتو م ،فلما كان بالروحاء رد أبا لبابة ابن عبد المنذر ،واستعمله على المدينة. ودفع لواء القياد ة العامة إلى مصعب بن عمير القرشي العبدري ،وكان هذا اللواء أبيض. وقس م جيشه إلى كتيبتين: -1كتيبة المهاجرين :وأعطى رايتها علي بن أبي طالب ،ويقال لها :العقاب. -2وكتبية النصار :وأعطى رايتها سعد بن معاذ .ـ وكانت الرايتان سوداوين ـ. وجعل على قياد ة الميمنة الزبير بن العوا م ،وعلى الميسر ة المقداد بن عمرو -وكانا هما الفارسين الوحيدين في الجيش -كما سبق -وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة ،وظلت القياد ة العامة في يده صلى ال عليه وسل م كقائد أعلى للجيش. وسار رسول ال صلى ال عليه وسل م في هذا الجيش غير المتأهب ،فخرج من نقب المدينة ،ومضى على الطريق الرئيسي المؤدي إلى مكة ،حتى بلغ بئر الروحاء ،فلما ارتحل منها ترك طريق مكة إلى اليسار ،وانحرف ذات اليمين على النازية يريد بد ًار فسلك في ناحية منه حتى جزع وديًا يقال له :رحقان بين النازية وبين مضيق
الصفراء ،ث م مر على المضيق ث م انصب منه حتى قرب من الصفراء ،ومن هنالك بعث بسبس بن عمرو الجني
وعدي بن أبي الزغباء الجهي إلى بدر يتجسسان له أخبار العير.
النذير في مكة وأما خبر العير فإن أبا سفيان -وهو المسئول عنها -كان على غاية من الحيطة والحذر ،فقد كان يعل م أن طريق مكة محفوف بالخطار ،وكان يتحسس الخبار ويسأل من لقى من الركبان ،ول م يلبث أن نقلت إليه استخباراته بأن محمدًا صلى ال عليه وسل م قد استنفر أصحابه ليوقع بالعير ،وحينئذ استأجر أبو سفيان ضمض م
بن عمرو الغفاري إلى مكة مستصرخًا لقريش بالنفير إلى عيره م؛ ليمنعوه من محمد صلى ال عليه وسل م
وأصحابه ،وخرج ضمض م سريعًا حتى أتى مكة ،فخرخ ببطن الوادي واقفًا على بعيره ،وقد جدع أنفه وحول رحله،
وشقق قميصه ،وهو يقول :يا معشر قريش ،اللطيمة ،اللطيمة أموالك م مع أبي سفيان قد عرض لها لها محمد في أصحابه ،ل أرى أن تدركوها ،الغوث ...الغوث.
أهل مكة يتجهزون للغزو فتحفز الناس س ارًع اـ وقالوا :أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي؟ كل وال ليعلمن غير ذلك،
فكانوا بين رجلين :إما خارج ،إواما باعث مكانه رجًل ،ـ ـوأوعبوا في الخروج فل م يتخلف من أشرافه م أحد سوى أبي لهب ،فإنه عوض عنه رجًل كان له عليه دين ،وحشدوا من حوله م من قبائل العرب ،ول م يتخلف عنه م أحد من بطون قريش إل بني عدى فل م يخرج منه م أحد.
قوا م الجيش المكي
وكان قوا م هذا الجيش نحو ألف وثلثمائة مقاتل في بداية سيره ،وكان معه مائة فرس وستمائة ِد ْرــع،وجمال كثير ة
ل يعرف عددها بالضبط ،وكان قائده العا م أبا جهل ابن هشا م ،وكان القائمون بتموينه تسعة رجال من أشراف قريش ،فكانوا ينحرون يوًم اـ تسًعاـ ويوًم اـ عشًرا من البل. مشكلة قبائل بني بكر ولما أجمع هذا الجيش على المسير ذكرت قريش ما كان بينها وبين بني بكر من العداو ة والحرب ،فخافوا أن تضربه م هذه القبائل من الخلف ،فيكونوا بين نارين ،فكاد ذلك يثنيه م ،ولكن حينئذ تبدى له م إبليس في صور ة
ُس َرـاقة بن مالك بن ُج ْعـُشـ مـ المدلجى ـ سيد بني كنانة ـ فقال له م :أنا لك م جار من أن تأتيك م كنانة من خلفك م بشيء تكرهونه.
جيش مكة يتحرك
ط ًار َو ِرـَئـاءالّنا ِ ص ّدـوـَنَع نـ َس بِـيِل اِل{ ]النفال ،[47:وأقبلوا ـ كما وحينئذ خرجوا من دياره م ،كما قال ال :} َب َ س َو َيـ ُ ن قال رسول ال صلى ال عليه وسل م ـ بحده م وحديده م يحادون ال ويحادون رسوله } َوَغـَدـْواـَع لَــى َح ْرـٍد ـَقاِد ِرـيـ َ{ ] القل م ،[25:وعلى حمية وغضب وحنق على رسول ال صلى ال عليه وسل م وأصحابه؛ لجرأ ة هؤلء على قوافله م. تحركوا بسرعة فائقة نحو الشمال في اتجاه بدر ،وسلكوا في طريقه م وادى ُع ْسـفَـان ،ث م قَُد ْيـًدـاـ ،ث م الُج ْحـ فَــة ،وهناك تلقوا رسالة جديد ة من أبي سفيان يقول له م فيها :إنك م إنما خرجت م لتحرزوا عيرك م ورجالك م وأموالك م ،وقد نجاها ال فارجعوا.
العير تفلت ظا ،وضاعف حركاته وكان من قصة أبي سفيان أنه كان يسير على الطريق الرئيسى ،ولكنه ل م يزل حذًرا متيق ً ى ـبن عمرو ،وسأله عن جيش المدينة ،فقال :ما الستكشافية ،ولما اقترب من بدر تقد م عيره حتى لقى َم ْجـ ِد ـ ّ رأيت أحًد اـ أنكره إل إني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل ،ث م استقيا في شن لهما ،ث م انطلقا ،فبادر أبو
سفيان إلى مناخهما ،فأخذ من أبعار بعيرهما ،ففته فإذا فيه النوى ،فقال :هذه وال علئف يثرب ،فرجع إلى عيره سريًعاـ ،وضرب وجهها محوًل اتجاهها نحو الساحل غرًبا ،تارًك اـ الطريق الرئيسى الذي يمر ببدر على اليسار، وبهذا نجا بالقافلة من الوقوع في قبضة جيش المدينة ،وأرسل رسالته إلى جيش مكة التي تلقاها في الجحفة.
َهّ مـ الجيش المكي بالرجوع ،ووقوع النشقاق فيه ولما تلقى هذه الرسالة جيش مكة ه م بالرجوع ،ولكن قا م طاغية قريش أبو جهل في كبرياء وغطرسة قائًل :وال ل نرجع حتى نرد بدًرا ،فنقي م بها ثلًثا ،فننحر الَج ُزـ وـر،ونطع م الطعا م ،ونسقى الخمر ،وتعزف لنا الِقيـان ،وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا ،فل يـزالون يهابوننا أبًد اـ. ولكن على رغ م أبي جهل ـ أشار الْخ َنـسـ بن َش ِرـيـق بالرجوع فعصوه،فرجع هو وبنو ُزْه َر ـ ة وكان حليًفا له م، ورئيًس اـ عليه م في هذا النفير ـ فل م يشهد بدًرا زهرى واحد ،وكانوا حوالى ثلثمائة رجل،واغتبطت بنو زهر ة َبْع ُدـ برأي
الخنس بن شريق ،فل م يزل فيه م مطاًع اـ معظًم اـ.
وأرادت بنو هاش م الرجوع فاشتد عليه م أبو جهل ،وقال :ل تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع.
فسار جيش مكة وقوامه ألف مقاتل بعد رجوع بني زهر ة ـ وهو يقصد بدًرا ـ فواصل سيره حتى نزل قريًباـ من بدر، وراء كثيب يقع بالعدو ة القصوى على حدود وادى بدر.
موقف الجيش السلمي في ضيق وحرج أما استخبارات جيش المدينة فقد نقلت إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م ـ وهو ل يزال في الطريق بوادي َذ ِفـَرـانـ خبر العير والنفير ،وتأكد لديه بعد التدبر في تلك الخبار أنه ل م يبق مجال لجتناب اللقاء الدامي ،وأنه ل بد من إقدا م يبني على الشجاعة والبسالة ،والجراء ة ،والجسار ة ،فمما ل شك فيه أنه لو ترك جيش مكة يجوس خلل تلك المنطقة يكون ذلك تدعيًم اـ لمكانة قريش العسكرية ،وامتداًد اـ لسلطانها السياسي ،إواضعاًفا لكلمة المسلمين وتوهيًنا لها،بل ربما تبقى الحركة السلمية بعد ذلك جسًد اـ ل روح فيه ،ويجرؤ على الشر كل من فيه حقد أو غيظ على السل م في هذه المنطقة.
ث م هل هناك ضمان للمسلمين بامتناع جيش مكة عن مواصلة سيره نحو المدينة ،حتى ينقل المعركة إلى أسوارها ،ويغزو المسلمين في عقر داره م؟ كل! فلو حدث من جيش المدينة نكول ما ،لكان له أسوأ الثر على هيبة المسلمين وسمعته م.
المجلس الستشاري ونظًرا إلى هذا التطور الخطير المفاجيء عقد رسول ال صلى ال عليه وسل م مجلًس اـ عسكرًيا استشارًياـ أعلى، أشار فيه إلى الوضع الراهن ،وتبادل فيه الرأي مع عامة جيشه وقادته .وحينئذ تزعزع قلوب فريق من ك ِباْلَح ّ ق ـ َو إِاـّنـ َفِر يـقًا ّم َنـ اْلُم ْؤـ ِمـنِــيَن ك ِم نـ َبْي تِـ َ كَـر ّبـ َ الناس،وخافوا اللقاء الدامى،وه م الذين قال ال فيه م :} َكَمـاـ أَْخ َر ـَجـ َ كـ ِفيـ اْلَح ّ ق ـ َبْع َدـَمـاـ تََبّيَن َك أَـّنَم اـ ُيَس اـُقوَن ِإَلى اْلَم ْوـ ِت ـَوُهـْ م َينظُُر وـَن{ ]النفال ،[6 ،5:وأمــا قاد ة لََك اـِرُهوَن ُيَج اـِد لُــوَن َ الجيش فقـا م أبو بكر الصديق فقال وأحسن،ث م قا م عمر بن الخطاب فقال وأحسن،ث م قا م المقداد بن عمرو فقال: ت يا رسول ال ،امض لما أراك ال،فنحن معك،وال ل نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى :} َفاْذَهـ ْ بـ َأن َ كفََقاِتل ِإّنا َهاـُهَناـ َقاِع ُد ـوـَن{ ]المائد ة ،[24:ولكن اذهب أنت وربك فقاتل إنا معكما مقاتلون ،فوالذي بعثك َو َرـّبـ َ بالحق لو سرت بنا إلى َبْر ك ـالِغ َمـاـد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م خيًرا ودعا له به.
وهؤلء القاد ة الثلثة كانوا من المهاجرين ،وه م أقلية في الجيش ،فأحب رسول ال صلى ال عليه وسل م أن يعرف
رأي قاد ة النصار؛ لنه م كانوا يمثلون أغلبية الجيش ،ولن ثقل المعركة سيدور على كواهله م ،مع أن نصوص العقبة ل م تكن تلزمه م بالقتال خارج دياره م ،فقال بعد سماع كل م هؤلء القاد ة الثلثة :)أشيروا علّى أيها الناس( إوانما يريد النصار ،وفطن إلى ذلك قائد النصار وحامل لوائه م سعد بن معاذ.
فقال :وال ،ولكأنك تريدنا يا رسول ال؟ قال :)أجل(.
قال :فقد آمنا بك ،فصدقناك ،وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ،وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ،فامض يا رسول ال لما أردت ،فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته
ص ّدـقـ في ص ُبــر في الحربُ ، لخضناه معك ،ما تخلف منا رجل واحد ،وما نكره أن تلقى بنا عدونا غًد اـ ،إنا ل ُ اللقاء ،ولعل ال يريك منا ما تَقَّر به عينك ،فِس ْر ـبنا على بركة ال.
وفي رواية أن سعد بن معاذ قال لرسول ال صلى ال عليه وسل م :لعلك تخشى أن تكون النصار ترى حًقا عليها أل تنصرك إل في دياره م ،إواني أقول عن النصار وأجيب عنه م :فاظعن حيث شئت ،و ِ ص ْلـ ـَح ْبـلـ من شئت، واقطع حبل من شئت ،وخذ من أموالنا ما شئت ،وأعطنا ما شئت ،وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت ،وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لمرك ،فهو ال لئن سرت حتى تبلغ البرك من ِغ ْم ـدــان لنسيرن معك ،ووال لئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك. فَُس ّرـ رسول ال صلى ال عليه وسل م بقول سعد ،ونشطه ذلك ،ث م قال :)سيروا وأبشروا ،فإن ال تعالى قد وعدنى إحدى الطائفتين ،وال لكإني الن أنظر إلى مصارع القو م(.
الجيش السلمي يواصل سيره
ث م ارتحل رسول ال صلى ال عليه وسل م من َذ ِفـَرـان،فسلك على ثنايا يقال لها :الصافر ،ث م انحط منها إلى بلد يقال له :الّد ّبـة ،وترك الَح ّنــان بيمين ـ وهو َك ثِـيب عظي م كالجبل ـ ث م نزل قريًباـ من بدر. الرسول صلى ال عليه وسل م يقو م بعملية الستكشاف وهناك قا م صلى ال عليه وسل م بنفسه بعملية الستكشاف مع رفيقه في الغار أبي بكر الصديق رضي ال عنه وبينما هما يتجولن حول معسكر مكة إذا هما بشيخ من العرب ،فسأله رسول ال صلى ال عليه وسل م عن قريش وعن محمد وأصحابه ـ سأل عن الجيشين زياد ة في التكت م ـ ولكن الشيخ قال :ل أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما؟ فقال له رسول ال صلى ال عليه وسل م :)إذا أخبرتنا أخبرناك( ،قال :أو ذاك بذاك؟ قال :)نع م(. قال الشيخ :فإنه بلغنى أن محمًد اـ وأصحابه خرجوا يو م كذا وكذا ،فإن كان صدق الذي أخبرني فه م اليو م بمكان كذا وكذا ـ للمكان الذي به جيش المدينة .وبلغنى أن قريًش اـ خرجوا يو م كذا وكذا ،فإن كان صدق الذي أخبرني
فه م اليو م بمكان كذا وكذا ـ للمكان الذي به جيش مكة.
ولما فرغ من خبره قال :ممن أنتما؟ فقال له رسول ال صلى ال عليه وسل م :)نحن من ماء( ،ث م انصرف عنه، وبقى الشيخ يتفوه :ما من ماء؟ أمن ماء العراق؟
الحصول على أه م المعلومات عن الجيش المكي وفي مساء ذلك اليو م بعث صلى ال عليه وسل م استخباراته من جديد ليبحث عن أخبار العدو ،وقا م لهذه العملية ثلثة من قاد ة المهاجرين؛ على بن أبي طالب والزبير بن العوا م وسعد ابن أبي وقاص في نفر من أصحابه، ذهبوا إلى ماء بدر فوجدوا غلمين يستقيان لجيش مكة ،فألقوا عليهما القبض ،وجاءوا بهما إلى الرسول صلى ال عليه وسل م وهو في الصل ة ،فاستخبرهما القو م ،فقال :نحن سقا ة قريش ،بعثونا نسقيه م من الماء ،فكره القو م، ورجوا أن يكونا لبي سفيان ـ لتزال في نفوسه م بقايا أمل في الستيلء على القافلة ـ فضربوهما ضرًباـ موجًعاـ
حتى اضطر الغلمان أن يقول :نحن لبي سفيان فتركوهما.
ولما فرغ رسول ال صلى ال عليه وسل م مـن الصل ة قال له م كالعاتب :)إذا صدقاك م ضربتموهما ،إواذا كذباك م تركتموهما ،صدقا وال ،إنهما لقريش(. أخبراني عن قريش( ،قال :ه م وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدو ة القصوى ،فقال ث م خاطب الغلمين قائًل :) إ
لهما :)ك م القو م؟( قال :كثير .قال :)ما عدته م؟( قال :ل ندرى ،قال :)ك م ينحرون كل يو م؟( قال :يوًم اـ تسًعاـ
ويوًم اـ عشًرا ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)القو م فيما بين التسعمائة إلى اللف( ،ث م قال لهما :)فمن ى بن هشا م ،وحكي م بن ِح ــزا م ،وَنْو َفــل بن خويلد، فيه م من أشراف قريش؟( قال :عتبة وشيبة ابنا ربيعة ،وأبو الَبْخ تَــر ّ والحارث بن عامر ،وطَُعْيـَمـةـ بن عدى ،والنضر بن الحارثَ ،و زـْم َعـةـبن السود ،وأبو جهل بن هشا م ،وأميــة بن خلف في رجال سمياه م.
فأقبل رسول ال صلى ال عليه وسل م على الناس فقال :)هذه مكة قد ألقت إليك م أفلذ كبدها(. نزول المطر وأنزل ال عز وجل في تلك الليلة مطًرا واحًد اـ ،فكان على المشركين وابًل شديًد اـ منعه م من التقد م ،وكان على المسلمين طل طهره م به ،وأذهب عنه م رجس الشيطان ،ووطأ به الرض ،وصلب به الرمل ،وثبت القدا م، ومهد به المنزل ،وربط به على قلوبه م. الجيش السلمي يسبق إلى أه م المراكز العسكرية وتحرك رسول ال صلى ال عليه وسل م بجيشه ليسبق المشركين إلى ماء بدر ،ويحول بينه م وبين الستيلء عليه ،فنزل عشاء أدنى ماء من مياه بدر ،وهنا قا م الُح َبــاب بن المنذر كخبير عسكرى وقال :يا رسول ال ،أرأيت
هذا المنزل ،أمن ًزل أنزلكه ال ،ليس لنا أن نتقدمه ول نتأخر عنه؟ أ م هو الرأي والحرب والمكيد ة؟ قال :)بل هو الرأي والحرب والمكيد ة(.
قال :يا رسول ال ،إن هذا ليس بمنزل ،فانهض بالناس حتى نأتى أدنى ماء من القو م ـ قريش ـ فننزله ونغّو رـ ـ أي ض اــ ،فنمله ماء ،ث م نقاتل القو م ،فنشرب ول يشربون ،فقال رسول ُنَخ ّر ـبـ ما وراءه من الُقُلب ،ث م نبني عليه حو ً ال صلى ال عليه وسل م :)لقد أشرت بالرأي(.
فنهض رسول ال صلى ال عليه وسل م بالجيش حتى أتى أقرب ماء من العدو ،فنزل عليه شطر الليل ،ث م صنعوا الحياض وغوروا ما عداها من القلب.
مقر القياد ة وبعد أن ت م نزول المسلمين على الماء اقترح سعد بن معاذ على رسول ال صلى ال عليه وسل م أن يبني المسلمون مقًرا لقيادته؛ استعداًد اـ للطوارئ ،وتقديًرا للهزيمة قبل النصر ،حيث قال: يا نبى ال ،أل نبني لك عريًش اـ تكون فيه ،ونعد عندك ركائبك ،ث م نلقى عدونا ،فإن أعزنا ال وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا ،إوان كانت الخرى جلست على ركائبك فلحقت بَِم ْنـ وراءنا من قومنا ،فقد تخلف عنك أقوا م يا نبي ال ما نحن بأشد لك حًبا منه م ،ولو ظنوا أنك تلقى حرًباـ ما تخلفوا عنك ،يمنعك ال به م ،يناصحونك ويجاهدون معك.
فأثنى عليه رسول ال صلى ال عليه وسل م خيًرا ودعا له بخير ،وبني المسلمون َع ِرـيـًش اـعلى تل مرتفع يقع في الشمال الشرقى لميدان القتال ،ويشرف على ساحة المعركة. كما ت م اختيار فرقة من شباب النصار بقياد ة سعد بن معاذ يحرسون رسول ال صلى ال عليه وسل م حول مقر قيادته.
تعبئة الجيش وقضاء الليل ث م عبأ رسول ال صلى ال عليه وسل م جيشه .ومشى في موضع المعركة ،وجعل يشير بيده :)هذا مصرع فلن غًد اـ إن شاء ال ،وهذا مصرع فلن غدا إن شاء ال( .ث م بات رسول ال صلى ال عليه وسل م يصلي إلى جذع شجر ة هنالك ،وبات المسلمون ليله م هادئي النفاس منيري الفاق ،غمرت الثقة قلوبه م ،وأخذوا من الراحة
قسطه م؛ يأملون أن يروا بشائر ربه م بعيونه م صباًح ا ـ :}ِإْذ ُيَغّشـيـُك ُ مـ الّنَعاـَس أََم َنـًةـ ّم ْنـهُـ َو ُيـَنّزـ ُلـَع لَـْي ُكـ مـ ّم نـ الّس َمـاـء َم اـء ت بِِه الَْقَد اـَ م{ ]النفال.[11: طـاِن َو ِلـَيْر بِـ َ بـَع نـُك ْ مـ ِرْجـ َز ـالّش ْيـ َ لُّي َ طَع لَــى ُقُلوبُِك ْ مـ َو ُيـثَّب َ طهَّر ُكـ مـبِِه َو ُيـْذ ِهـ َ كانت هذه الليلة ليلة الجمعة ،السابعة عشر ة من رمضان في السنة الثانية من الهجر ة ،وكان خروجه صلى ال عليه وسل م في 8أو 12من نفس الشهر.
الجيش المكي في عرصة القتال ،ووقوع النشقاق فيه أما قريش فقضت ليلتها هذه في معسكرها بالعدو ة القصوى ،ولما أصبحت أقبلت في كتائبها ،ونزلت من الكثيب إلى وادي بدر .وأقبل نفر منه م إلى حوض رسول ال صلى ال عليه وسل م فقال] :دعوه م[ ،فما شرب أحد منه م يومئذ إل قتل ،سوى حكي م بن حزا م ،فإنه ل م يقتل ،وأسل م بعد ذلك ،وحسن إسلمه ،وكان إذا اجتهد في اليمين قال :ل والذي نجاني من يو م بدر. فلما اطمأنت قريش بعثت ُع َمـْيـرـ بن وهب الُج َمـِحـ ى ـللتعرف على مدى قو ة جيش المدينة ،فدار عمير بفرسه حول العسكر ،ث م رجع إليه م فقال :ثلثمائة رجل ،يزيدون قليًل أو ينقصون ،ولكن أمهلونى حتى أنظر أللقو م كمين أو مدد؟
فضرب في الوادى حتى أبعد ،فل م ير شيًئا ،فرجع إليه م فقال :ما وجدت شيًئا ،ولكنى قد رأيت يا معشر قريش البليا تحمل المنايا ،نواضح يثرب تحمل الموت الناقع ،قو م ليس معه م منعة ول ملجأ إل سيوفه م ،وال ما أرى أن يقتل رجل منه م حتى يقتل رجًل منك م،فإذا أصابوا منك م أعدادك م فما خير العيش بعد ذلك؟ فروا رأيك م. وحينئذ قامت معارضة أخرى ضد أبي جهل ـ المصم م على المعركة ـ تدعو إلى العود ة بالجيش إلى مكة دونما قتال ،فقد مشى حكي م بن حزا م في الناس ،وأتى عتبة ابن ربيعة فقال :يا أبا الوليد ،إنك كبير قريش وسيدها، والمطاع فيها ،فهل لك إلى خير تذكر به إلى آخر الدهر؟ قال :وما ذاك يا حكي م؟ قال :ترجع بالناس ،وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمى ـ المقتول في سرية نخلة ـ فقال عتبة :قد فعلت .أنت ضامن علّى بذلك .إنما هو حليفي ،فعلى عقله ]ديته[ وما أصيب من ماله. ظـِلّيِة ـ أبا جهل ،والحنظلية أمه ـ فإني ل أخشى أن يشجر أمر الناس ث م قال عتبة لحكي م بن حزا م :فائت ابن الَح ْن ـ َ غيره. ث م قا م عتبة بن ربيعة خطيًباـ فقال :يا معشر قريش ،إنك م وال ما تصنعون بأن تلقوا محمًد اـ وأصحابه شيًئا ،وال لئن أصبتموه ليزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه ،قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجًل من عشيرته،
فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب ،فإن أصابوه فذاك الذي أردت م ،إوان كان غير ذلك أْلَفاُك ْ مـ ول م ضـواـمنه ما تريدون. تََعّرـ ُ
وانطلق حكي م بن حزا م إلى أبي جهل ـ وهو يهيئ درًع اـ له ـ قال :يا أبا الحك م ،إن عتبة أرسلنى بكذا وكذا ،فقال أبو جهل :انتفخ وال َس ْحـ ُر ـهُحين رأي محمًد اـ وأصحابه ،كل وال ل نرجع حتى يحك م ال بيننا وبين محمد ،وما
بعتبة ما قال ،ولكنه قد رأي أن محمًد اـ وأصحابه أكلة َج ُزـ وـر،وفيه م ابنه ـ وهو أبو حذيفة بن عتبة كان قد أسل م قديًم اـ وهاجر ـ فَتََخ ّوـفَـُك ْ مـعليه. صـ فّــر اْس تَـه من انتفخ سحره ،أنا أ م هو؟ ولما بلغ عتبة قول أبي جهل :انتفخ وال سحره ،قال عتبة :سيعل م ُم َ وتعجل أبو جهل ،مخافة أن تقوى هذه المعارضة ،فبعث على إثر هذه المحاور ة إلى عامر بن الحضرمى ـ أخي عمرو بن الحضرمى المقتول في سرية عبد ال بن جحش ـ فقال :هذا حليفك ]أي عتبة[ يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينك ،فق م فاْن ُشـدـ ُخ ْفـَر تَــك ،وَم ْقـتََل أخيك ،فقا م عامر فكشف عن استه ،وصرخ :واعمراه ،واعمراه، بـ أمره م ،واستوثقوا على ما ه م عليه من الشر ،وأفسد على الناس الرأي الذي دعاه م إليه فحمى القو م ،وَح ِقـ َ عتبة .وهكذا تغلب الطيش على الحكمة ،وذهبت هذه المعارضة دون جدوى.
الجيشان يتراآن ساعة الصفر وأول وتقود المعركة المبـــارزة الهجوم العام الرسول صلى ا عليه وسلم يناشد ربه نزول الملئكة الهجوم المطضاد إبليس ينسحب عن ميدان القتال الهزيمة الساحقة صمود أبي جهل مصرع أبي جهل من روائع اليمان في هذه المعركة
الجيشان يتراآن ولما طلع المشركون وتراءى الجمعان قال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)الله م هذه قريش قد أقبلت بُخ َيــلئها وفَْخ رـها تَُح اـّد كـ وتكذب رسولك ،الله م فنصرك الذي وعدتني ،الله م أْح نِـُه م ]الغدا ة[( وقد قال رسول ال صلى ال عليه وسل م ـ ورأى عتبة بن ربيعة في القو م على جمل له أحمر :)إن يكن في أحد من القو م خير فعند صاحب الجمل الحمر ،إن يطيعوه َيْر ُش ـُدـوـا(. وعدل رسول ال صلى ال عليه وسل م صفوف المسلمين ،وبينما هو يعدلها وقع أمر عجيب ،فقد كان في يديه ِقْدـحـ يعدل به ،وكان س وـاـد بن َغ ِزـّيـةم سـتَـْن ِ صـ ًلـ ـمن الصف ،فطعن في بطنه بالقدح ،وقال :)استو يا سواد( ،فقال ُْ ََ سواد :يا رسول ال ،أوجعتنى فأقدنى ،فكشف عن بطنه وقال :)استقد( ،فاعتنقه سواد وقبل بطنه ،فقال :)ما حملك على هذا يا سواد؟( قال :يا رسول ال ،قد حضر ما ترى ،فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدى جلدك .فدعا له رسول ال صلى ال عليه وسل م بخير. ولما ت م تعديل الصفوف أصدر أوامره إلى جيشه بأل يبدأوا القتال حتى يتلقوا منه الوامر الخير ة ،ث م أدلى إليه م بتوجيه خـاص في أمـر الحـرب ،فقال :)إذا أكثبوك م ـ يعنى اقتربوا منك م ـ فارموه م ،واستبقوا نبلك م ،ول تسلوا السيوف حتى يغشوك م( ث م رجع إلى العريش هو وأبو بكر خاصة،وقا م سعد بن معاذ بكتيبة الحراسة على باب العريش. أما المشركون فقد استفتح أبو جهل في ذلك اليو م فقال :الله م أقطعنا للرح م ،وآتانا بما لنعرفه،فأِح ْنـهـ الغدا ة،الله م أينا كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره اليو م ،وفي ذلك أنزل ال :}ِإن تَْس تَـْفِتُح وْاـ فَقَْد َج اــءُك ُ مـ اْلفَتُْح َو إِاـنـ َتنتَهُوْا ن ]النفال[19: تـَوأَـّن اَل َم َعـ اْلُم ْؤـ ِم ـنِـي َ{ فَهَُو َخ ْيـٌرـ لُّك ْ مـ َو إِاـنـ تَُعوُد وْـا َنُعْد َو لَــن تُْغ نِـَي َع نـُك ْ مـ ِفَئـتُُك ْ مـ َش ْيـًئـاـ َو لَـْو َك ثُـَر ْ
ساعة الصفر وأول وقود المعركة وكان أول وقود المعركة السود بن عبد السد المخزومى ـ وكان رجًل شرًس اـ سيئ الخلق ـ خرج قائًل :أعاهد ال لشربن من حوضه م أو لهدمنه أو لموتن دونه .فلما خرج خرج إليه حمز ة بن عبد المطلب رضي ال عنه فلما
طّن قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض ،فوقع على ظهره تشخب رجله دًم اـ نحو أصحابه، التقيا ضربه حمز ة فأ َ ث م حبا إلى الحوض حتى اقتح م فيه ،يريد أن تبر يمينه ،ولكن حمز ة ثنى عليه بضربة أخرى أتت عليه وهو داخل الحوض.
المب ــارز ة وكان هذا أول قتل أشعل نار المعركة ،فقد خرج بعده ثلثة من خير ة فرسان قريش كانوا من عائلة واحد ة ،وه م عتبة وأخوه شيبة ابنا ربيعة ،والوليد بن عتبة ،فلما انفصلوا من الصف طلبوا المبارز ة ،فخرج إليه م ثلثة من شباب النصار َع ْوـ ف ـوُم َعـّوـ ذ ـابنا الحارث ـ وأمهما عفراء ـ وعبد ال بن رواحة ،فقالوا :من أنت م؟ قالوا :رهط من النصار .قالوا :أ ِك فّـاء كرا م ،ما لنا بك م حاجة ،إوانما نريد بني عمنا ،ث م نادى مناديه م :يا محمد ،أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)ق م يا عبيد ة بن الحارث ،وق م يا حمز ة ،وق م يا على(،
فلما قاموا ودنوا منه م ،قالوا :من أنت م؟ فأخبروه م ،فقالوا :أنت م أكفاء كرا م ،فبارز عبيد ة ـ وكان أسن القو م ـ عتبة بن ربيعة ،وبارز حمز ة شيبة ،وبارز على الوليد .فأما حمز ة وعلى فل م يمهل قرنيهما أن قتلهما ،وأما عبيد ة فاختلف بينه وبين قرنه ضربتان ،فأثخن كل واحد منهما صاحبه ،ث م َك ّرـ على وحمز ة على عتبة فقتله ،واحتمل عبيد ة ض ِمـًنـاـ حتى مات بالصفراء،بعد أربعة أو خمسة أيا م من وقعة بدر ،حينما كان وقد قطعت رجله ،فل م يزل َ
ص ُمـوـا ِفيـ المسلمون في طريقه م إلى المدينة .وكان على يقس م بال أن هذه الية ن ـزلت فيه م :} َهَذـاـِن َخ ْ صـَم ـاـِناْخ تَـ َ
َر ّبـِه ْ م{ـ الية ]الحج.[19: الهجو م العا م
وكانت نهاية هذه المبارز ة بداية سيئة بالنسبة للمشركين؛ إذ فقدوا ثلثة من خير ة فرسانه م وقادته م دفعة واحد ة،فاستشاطوا غضًبا،وكروا على المسلمين كر ة رجل واحد. وأما المسلمون فبعد أن استنصروا ربه م واستغاثوه وأخلصوا له وتضرعوا إليه تلقوا هجمات المشركين المتتالية، وه م مرابطون في مواقعه م ،واقفون موقف الدفاع ،وقد ألحقوا بالمشركين خسائر فادحة ،وه م يقولون :أَح د ـ أَح د ـ.
الرسول صلى ال عليه وسل م يناشد ربه أما رسول ال صلى ال عليه وسل م فكان منذ رجوعه بعد تعديل الصفوف يناشد ربه ما وعده من النصر ،ويقول: )الله م أنجز لي ما وعدتني ،الله م إني أنشدك عهدك ووعدك( ،حتى إذا َح ِمـَىـ الَو ِطـيـُس ،ـوـ ـاستدارت رحى الحرب بشد ة واحتد م القتال ،وبلغت المعركة قمتها ،قال :)الله م إن تهلك هذه العصابة اليو م ل تعبد ،الله م إن شئت ل م تعبد بعد اليو م أبًد اـ( .وبالغ في البتهال حتى سقط رداؤه عن منكبيه ،فرده عليه الصديق ،وقال :حسبك يا رسول ال ،ألححت على ربك. بـ ]النفال،[12 :وأوحى وأوحى ال إلى ملئكته :}أَّني َم َعـُكـْ مـ َفثَّبتُوْا الِّذ يـَن آَم ُنـوْا َس أُـْلِقيـ ِفيـ ُقُلوِب الِّذ يـَن َك فَـُر وْاـالّرْع َ{ إلى رسوله :}أَّني م ِمـّدـُكـ مـ بِأَْل ٍ ض اـ فـ ّم َنـ اْلَم لـئَِك ِةـ ُم ْرـ ِد ـِف ـيـ{َن ]النفال [9:ـ أي إنه م ردف لك م ،أو يردف بعضه م بع ً ُ
أرساًل ،ـ ـل يأتون دفعة واحد ة.
نزول الملئكة وأغفي رسول ال صلى ال عليه وسل م إغفاء ة واحد ة ،ث م رفع رأسه فقال :)أبشر يا أبا بكر ،هذا جبريل على
ثََناياه الّنْقُع( ]أي الغبار[ وفي رواية ابن إسحاق :قال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)أبشر يا أبا بكر ،أتاك نصر ال ،هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده ،وعلى ثناياه النقع(. ث م خرج رسول ال صلى ال عليه وسل م من باب العريش وهو يثب في الدرع ويقول :} َسُيـْهَزُ مـاْلَج ْمـُعـَو ُيـَو لّــوَن صـَبــاء ،فاستقبل بها قريًش اـ وقال :)شاهت الوجوه( ورمى بها في وجوهه م، الّد ُبـَر{ ]القمر، [45:ث م أخذ َح ْفـَنًة من الَح ْ
تـِإْذ فما من المشركين من أحد إل أصاب عينيه ومنخريه وفمه من تلك القبضة ،وفي ذلك أنزل ال :} َوَمـاـَر َمـْيـ َ تـَو لَـِك ّنـ اَل َر َمـى{ـ ]النفال.[17: َر َمـْيـ َ الهجو م المضاد وحينئذ أصدر إلى جيشه أوامره الخير ة بالهجمة المضاد ة فقال :)شدوا( ،وحرضه م على القتال ،قائًل :)والذي
نفس محمد بيده ،ل يقاتله م اليو م رجل فيقتل صابًرا محتسًبا مقبًل غير مدبر ،إل أدخله ال الجنة( ،وقال وهو
يحضه م على القتال :)قوموا إلى جنة عرضها السموات والرض(] ،وحينئذ[ قال ُع َمـْيـرـ بن الُح َمـاـ مَ :بْخ َبْخ .فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)ما يحملك على قولك :بخ بخ؟( قال :ل ،وال يا رسول ال إل رجاء أن أكون من أهلها ،قال :)فإنك من أهلها( .فأخرج تمرات من َقَر نِــه فجعل يأكل منهن ،ث م قال :لئن أنا حييت حتى آكل
تمراتى هذه إنها لحيا ة طويلة ،فرمى بما كان معه من التمر ،ث م قاتله م حتى قتل.
وكذلك سأله عوف بن الحارث ـ ابن عفراء ـ فقال :يا رسول ال ،ما يضحك الرب من عبده؟ قال :) َغْمـُسـهـ يده في الَعُدـّوـ حاسًرا( ،فنزع درعا كانت عليه فقذفها ،ث م أخذ سيفه فقاتل القو م حتى قتل. وحين أصدر رسول ال صلى ال عليه وسل م المر بالهجو م المضاد كانت حد ة هجمات العدو قد ذهبت وفتر حماسه ،فكان لهذه الخطة الحكيمة أثر كبير في تعزيز موقف المسلمين ،فإنه م حينما تلقوا أمر الشد والهجو م ـ وقد كان نشاطه م الحربي على شبابه ـ قاموا بهجو م كاسح مرير ،فجعلوا يقلبون الصفوف ،ويقطعون العناق. طا وحد ة أن أروا رسول ال صلى ال عليه وسل م يثب في الدرع ،وقد تقدمه م فل م يكن أحد أقرب من وزاده م نشا ً المشركين منه ،وهو يقول في جز م وصراحة :} َسُيـْهَزُ مـاْلَج ْمـعُـَو ُيـَو لّــوَنالّد ُبـَر{ فقاتل المسلمون أشد القتال ونصرته م الملئكة .ففي رواية ابن سعد عن عكرمة قال :كان يومئذ َيْن ُدـرـ رأس الرجل ل يدرى من ضربه ،وتندر يد الرجل
ل يدرى من ضربها .وقال ابن عباس :بينما رجل من المسلمين يشتد في إثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع
ضربة بالسوط فوقه ،وصوت الفارس يقول :أقد م َح ْي ـُزـ وـ م،فنظر إلى المشرك أمامه ،فخر مستلقًيا ،فنظر إليه فإذا ض ـّر ـذلك أجمع ،فجاء النصارى فحدث بذلك رسول ال صلى هو قد خط م أنفه وشق وجهه كضربة السوط ،فاْخ َ ال عليه وسل م ،فقال :)صدقت ،ذلك من مدد السماء الثالثة(.
وقال أبو داود المازنى :إني لتبع رجًل من المشركين لضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي ،فعرفت أنه
قد قتله غيرى ،وجاء رجل من النصار بالعباس بن عبد المطلب أسيًرا،فقال العباس :إن هذا وال ما أسرني ،لقد أسرني رجل أجلح ،من أحسن الناس وجًها على فرس أْب لَـق ،وما أراه في القو م ،فقال النصاري :أنا أسرته يا رسول ال ،فقال :)اسكت فقد أيدك ال بملك كري م(. وقال علي :قال لي رسول ال صلى ال عليه وسل م يو م بدر ،ولبي بكر :)مع أحدكما جبريل ومع الخر ميكائيل ،إواسرافيل ملك عظي م يشهد القتال ،أو يكون في القتال(. إبليس ينسحب عن ميدان القتال ولما رأى إبليس ـ وكان قد جاء في صور ة سراقة بن مالك بن ُج ْعـُشـ مـ المدلجي كما ذكرنا ،ول م يكن فارقه م منذ ذلك الوقت ـ فلما رأي ما يفعل الملئكة بالمشركين فر ونكص على عقبيه ،وتشبث به الحارث بن هشا م ـ وهو يظنه سراقة ـ فوكز في صدر الحارث فألقاه ،ث م خرج هارًبا ،وقال له المشركون :إلى أين يا سراقة؟ أل م تكن قلت :إنك ف اَل َواـُل َش ِدـ يـُد اْلِع قَــاِب{ ]النفال ،[48:ث م فر حتى جار لنا ،ل تفارقنا؟ فقال :}ِإّني َأَرىـَم اـ َ ل تََر ْو ـَنِإـّنَيـ أََخ اـ ُ ألقى نفسه في البحر.
الهزيمة الساحقة وبدأت أمارات الفشل والضطراب في صفوف المشركين ،وجعلت تتهد م أما م حملت المسلمين العنيفة ،واقتربت المعركة من نهايتها ،وأخذت جموع المشركين في الفرار والنسحاب المبدد ،وركب المسلمون ظهوره م يأسرون ويقتلون ،حتى تمت عليه م الهزيمة.
صمود أبي جهل أما الطاغية الكبر أبو جهل ،فإنه لما رأى أول أمارات الضطراب في صفوفه حاول أن يصمد في وجه هذا السيل ،فجعل يشجع جيشه ويقول له م في شراسة ومكابر ة :ل يهزمنك م خذلن سراقة إياك م ،فإنه كان على ميعاد من محمد ،ول يهولنك م قتل عتبة وشيبة والوليد ،فإنه م قد عجلوا ،فواللت والعزى ل نرجع حتى نقرنه م بالحبال، ول ألفين رجًل منك م قتل منه م رجًل ،ـ ـولكن خذوه م أخًذ اـ حتى نعرفه م بسوء صنيعه م. ولكن سرعان ما تبدت له حقيقة هذه الغطرسة ،فما لبث إل قليًل حتى أخذت الصفوف تتصدع أما م تيارات
هجو م المسلمين .نع م ،بقى حوله عصابة من المشركين ضربت حوله سياًج ا ـ من السيوف ،وغابات من الرماح، ولكن عاصفة هجو م المسلمين بددت هذا السياج ،وأقلعت هذه الغابات ،وحينئذ ظهر هذا الطاغية ،ورآه المسلمون يجول على فرسه ،وكان الموت ينتظر أن يشرب من دمه بأيدى غلمين أنصاريين.
مصرع أبي جهل قال عبد الرحمن بن عوف رضي اله عنه إني لفي الصف يو م بدر إذ التفت ،فإذا عن يمينى وعن يسارى فتيان حديثا السن ،فكأني ل م آمن بمكانهما ،إذ قال لي أحدهما سًرا من صاحبه :يا ع م ،أرني أبا جهل ،فقلت :يابن أخي ،فما تصنع به؟ قال :أخبرت أنه يسب رسول ال صلى ال عليه وسل م ،قال :والذي نفسي بيده لئن رأيته ل يفارق سوادي سواده حتى يموت العجل منا ،فتعجبت لذلك .قال :وغمزني الخر ،فقال لي مثلها ،فل م أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس .فقلت :أل تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألني عنه ،قال :فابتدراه فضرباه حتى قتله ،ث م انصرفا إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فـقال :)أيكما قتله؟( فقـال كـل واحد منهما :أنا قتلته، قال :)هل مسحتما سيفيكما؟( فـقال :ل .فنـظر رسول ال صلى ال عليه وسل م إلــى السيفـين فقال :)كلكما قتله(، وقضى رسول ال صلى ال عليه وسل م بَس لَـِبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح ،والرجلن معاذ بن عمرو بن الجموح وُم َعـّوـ ذـابن عفراء.
وقال ابن إسحاق :قال معاذ بن عمرو بن الجموح :سمعت القو م ،وأبو جهل في مثل الَح َرـَجـ ـة ـ والحرجة :الشجر
الملتف ،أو شجر ة من الشجار ل يوصل إليها ،شبه رماح المشركين وسيوفه م التي كانت حول أبي جهل لحفظه بهذه الشجر ة ـ وه م يقولون :أبو الحك م ل يخلص إليه ،قال :فلما سمعتها جعلته من شاني فصمدت نحوه ،فلما ت قدمه ـ أطارتها ـ بنصف ساقه ،فوال ما شبهتها حين طاحت إل أمكنني حملت عليه ،فضربته ضربة أ َ طّن ْ بالنوا ة تَِط يـُح من تحت ِم رـ ِ ضـ َخـ ـة ـالنوى حين يضرب بها .قال :وضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي، ْ
فتعلقت بجلد ة من جنبي ،وأجهضني القتال عنه ،فلقد قاتلت َع اـّم َةـ يومي إواني لسحبها خلفي ،فلما آذتني وضعت ّ تـ بها عليها حتى طرحتها ،ث م مر بأبي جهل ـ وهو َع ِقـيـٌر ـ ُم َعـّوـ ذ ـابن عفراء فضربه حتى عليها قدمي ،ث م تََم طـْي ُ أثبته ،فتركه وبه َر َمـقـ،وقاتل معوذ حتى قتل. ولما انتهت المعركة قال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)من ينظر ما صنع أبو جهل؟( فتفرق الناس في طلبه،
فوجده عبد ال بن مسعود رضي ال عنه وبه آخر رمق ،فوضع رجله على عنقه وأخذ لحيته ليحتز رأسه ،وقال: هل أخزاك ال يا عدو ال؟ قال :وبماذا أخزاني؟ أأعمد من رجل قتلتموه؟ أو هل فوق رجل قتلتموه؟ وقال :فلو غير أّك اـر قتلنى ،ث م قال :أخبرني لمن الدائر ة اليو م؟ قال :ل ورسوله ،ث م قال لبن مسعود ـ وكان قد وضع رجله على عنقه :لقد ارتقيت مرتقى صعًباـ يا ُر َو ـْيـِعـ َى ـالغن م ،وكان ابن مسعود من رعا ة الغن م في مكة.
وبعد أن دار بينهما هذا الكل م احتز ابن مسعود رأسه ،وجاء به إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فقال :يا رسول ال ،هذا رأس عدو ال أبي جهل ،فقال :)ال الذي ل إله إل هو؟( فرددها ثلًثا ،ث م قال :)ال أكبر ،الحمد ل الذي صدق وعده ،ونصر عبده ،وهز م الحزاب وحده ،انطلق أرنيه( ،فانطلقـنا فــأريته إيـاه ،فقال :)هذا فرعون هذه المة(.
من روائع اليمان في هذه المعركة لقد أسلفنا نموذجين رائعين من عمير بن الحما م وعوف بن الحارث ـ ابن عفراء ـ وقد تجلت في هذه المعركة مناظر رائعة تبرز فيها قو ة العقيد ة وثبات المبدأ ،ففي هذه المعركة التقى الباء بالبناء ،والخو ة بالخو ة ،خالفت بينهما المبادئ ففصلت بينهما السيوف ،والتقى المقهور بقاهره فشفي منه غيظه. 1ـ روى ابن إسحاق عن ابن عباس أن النبي صلى ال عليه وسل م قال لصحابه :)إني قد عرفت أن رجاًل من
بني هاش م وغيره م قد أخرجوا كرًهاـ ،ل حاجة له م بقتالنا ،فمن لقى أحًد اـ من بني هاش م فل يقتله ،ومن لقى أبا يبن هشا م فل يقتله ،ومن لقى العباس بن عبد المطلب فل يقتله ،فإنه إنما أخرج مستكرًه اـ( ،فقال أبو الَبْخ تَـِر ّ حذيفة بن عتبة :أنقتل آباءنا وأبناءنا إواخواننا وعشيرتنا ونترك العباس ،وال لئن لقيته للحمنه ـ أو للجمنه ـ
بالسيف ،فبلغت رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فقال لعمر بن الخطاب :)يا أبا حفص ،أيضرب وجه ع م رسول ال صلى ال عليه وسل م بالسيف( ،فقال عمر :يا رسول ال ،دعني فلضرب عنقه بالسيف ،فوال لقد نافق. فكان أبو حذيفة يقول :ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ ،ول أزال منها خائًفا إل أن تكفرها عنى الشهاد ة .فقتل يو م اليمامة شهيًد اـ.
2ـ وكان النهي عن قتل أبي البختري؛ لنه كان أكف القو م عن رسول ال صلى ال عليه وسل م وهو بمكة،
وكان ل يؤذيه ،ول يبلغ عنه شيء يكرهه ،وكان ممن قا م في نقض صحيفة مقاطعة بني هاش م وبني المطلب. ّ ى لقيه في المعركة ومعه زميل له، ولكن أبا البختري قتل على رغ م هذا كله ،وذلك أن الُم َجـ ذ ـرـ بن زياد اْلَب َلـِو ّ يقاتلن سوًيا ،فقال المجذر :يا أبا البخترى إن رسول ال صلى ال عليه وسل م قد نهانا عن قتلك ،فقال :وزميلي؟
فقال المجذر :ل وال ما نحن بتاركي زميلك ،فقال:وال إذن لموتن أنا وهو جميًعاـ ،ث م اقتتل ،فاضطر المجذر إلى قتله. 3ـ كان عبد الرحمن بن عوف وأمية بن خلف صديقين في الجاهلية بمكة ،فلما كان يو م بدر مر به عبد الرحمن ،وهو واقف مع ابنه على بن أمية ،آخًذ اـ بيده ،ومع عبد الرحمن أدراع قد استلبها ،وهو يحملها ،فلما رآه
قال :هل لك في؟ فأنا خير من هذه الدراع التي معك ،ما رأيت كاليو م قط ،أما لك م حاجة في اللبن؟ ـ يريد أن
من أسرني افتديت منه بإبل كثير ة اللبن ـ فطرح عبد الرحمن الدراع ،وأخذهما يمشى بهما ،قال عبد الرحمن :قال لي أمية بن خلف ،وأنا بينه وبين ابنه :من الرجل منك م المعل م بريشة النعامة في صدره؟ قلت :ذاك حمز ة بن عبد المطلب ،قال :ذاك الذي فعل بنا الفاعيل. قال عبد الرحمن :فوال إني لقودهما إذ رآه بلل معي ـ وكان أمية هو الذي يعذب بلًل بمكة ـ فقال بلل :رأس الكفر أمية بن خلف ،ل نجوت إن نجا .قلت :أي بلل ،أسيري .قال :ل نجوت إن نجا .قلت :أتسمع يابن
السوداء .قال :ل نجوت إن نجا .ث م صرخ بأعلى صوته :يا أنصار ال ،رأس الكفر أمية بن خلف ،ل نجوت إن نجا .قال :فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل اْلَم َسـَكـةـ ،وأنا أذب عنه ،قال :فأخلف رجل السيف ،فضرب رجل ابنه
فوقع ،وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط ،فقلت :انج بنفسك ،ول نجاء بك ،فوال ما أغني عنك شيًئاـ .قال:
فَهََبُر وـُهَم اـبأسيافه م حتى فرغوا منهما ،فكان عبد الرحمن يقول :يرح م ال بلًل ،ـ ـذهبت أدراعي ،وفجعني بأسيري. وروى البخاري عن عبد الرحمن بن عوف قال :كاتبت أمية بن خلف كتاًباـ بأن يحفظني في صاغيتي ـ أي خاصتي ومالي ـ بمكة ،وأحفظه في صاغيته بالمدينة ...فلما كان يو م بدر خرجت إلى جبل لحرزه حين نا م
الناس ،فأبصره بلل ،فخرج حتى وقف على مجلس النصار فقال :أمية بن خلف ،ل نجوت إن نجا أمية ،فخرج معه فريق من النصار في آثارنا ،فلما خشيت أن يلحقونا خلفت له م ابنه ليشغله م ،فقتلوه ،ث م أبوا حتى يتبعونا، وكان رجًل ثقيًل ،ـ ـفلما أدركونا قلت له :ابرك ،فبرك ،فألقيت عليه نفسي لمنعه ،فتخللوه بالسيوف من تحتي حتى
قتلوه ،وأصاب أحده م رجلي بسيفه .وكان عبد الرحمن يرينا ذلك الثر في ظهر قدمه.
4ـ وقتل عمر بن الخطاب رضي ال عنه يومئذ خاله العاص بن هشا م بن المغير ة ،ول م يلتفت إلى قرابته منه، ولكن حين رجع إلى المدينة قال للعباس ع م رسول ال صلى ال عليه وسل م ،وهو في السر :يا عباس أسل م،
فوال أن تسل م أحب إلى من أن يسل م الخطاب ،وما ذاك إل لما رأيت رسول ال صلى ال عليه وسل م يعجبه إسلمك. 5ـ ونادى أبو بكر الصديق رضي ال عنه ابنه عبد الرحمن ـ وهو يومئذ مع المشركين ـ فقال :أين مالي يا خبيث؟ فقال عبد الرحمن: ّ ٍّ ب لَْ م َيْب َ ض لــل الّش َيـ ْ ص اـِر ٍ مـَيْقتُُل ُ قـ َغ ْيـُرـ َش كـةـ وَيْع ُبـوب ** و َ 6ـ ولما وضع القو م أيديه م يأسرون ،ورسول ال صلى ال عليه وسل م في العريش ،وسعد بن معاذ قائ م على بابه يحرسه متوشًح ا ـ سيفه ،رأي رسول ال صلى ال عليه وسل م في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس، فقال له :وال لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القو م؟ قال :أجل وال يا رسول ال ،كانت أول وقعة أوقعها ال بأهل الشرك ،فكان الثخان في القتل بأهل الشرك أحب إلّى من استبقاء الرجال. ِ ّ ص ـن ـالسدي ،فأتى رسول ال صلى ال عليه وسل م فأعطاه ِج ْذـًلـ من 7ـ وانقطع يومئذ سيف ُع كـاـَش ةـ بن م ْحـ َ
حطب ،فقال :)قاتل بهذا يا عكاشة( ،فلما أخذه من رسول ال صلى ال عليه وسل م هزه ،فعاد سيًفا في يده طويل القامة ،شديد المتن ،أبيض الحديد ة ،فقاتل به حتى فتح ال تعالى للمسلمين ،وكان ذلك السيف يسمى الَع ْوـ نــ ،ث م
ل م يزل عنده يشهد به المشاهد ،حتى قتل في حروب الرد ة وهو عنده.
8ـ وبعد انتهاء المعركة مر مصعب بن عمير العبدري بأخيه أبي عزيز بن عمير الذي خاض المعركة ضد المسلمين،مر به وأحد النصار يشد يده ،فقال مصعب للنصاري :شد يديك به ،فإن أمه ذات متاع ،لعلها تفديه منك ،فقال أبو عزيز لخيه مصعب :أهذه وصاتك بي؟ فقال مصعب :إنه ـ أي النصاري ـ أخي دونك. 9ـ ولما أمر بإلقاء جيف المشركين في الَقِليب ،وأخذ عتبة بن ربيعة فسحب إلى القليب ،نظر رسول ال صلى ال عليه وسل م في وجه ابنه أبي حذيفة ،فإذا هو كئيب قد تغير ،فقال :)يا أبا حذيفة ،لعلك قد دخلك من شأن
أبيك شيء؟( فقال :ل وال ،يا رسول ال ،ما شككت في أبي ول مصرعه ،ولكنني كنت أعرف من أبي أرًيا وحلًم اـ وفضًل ،ـ ـفكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى السل م ،فلما رأيت ما أصابه ،وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد
الذي كنت أرجو له أحزنني ذلك .فدعا له رسول ال صلى ال عليه وسل م بخير ،وقال له خيًرا.
تقتلى الفريقين مكة تتلقى نبأ الهزيمة المدينة تتلقى أنباء النصر الجيش النبوي يتحرك نحو المدينة وفود التهنئة تقطضية السارى القرآن يتحدث حول موطضوع المعركة
قتلى الفريقين انتهت المعركة بهزيمة ساحقة بالنسبة للمشركين ،وبفتح مبين بالنسبة للمسلمين ،وقد استشهد من المسلمين في هذه المعركة أربعة عشر رجًل ،ـ ـستة من المهاجرين وثمانية من النصار. أما المشركون فقد لحقته م خسائر فادحة ،قتل منه م سبعون ،وأسر سبعون .وعامته م القاد ة والزعماء والصناديد. ولما انقضت الحرب أقبل رسول ال صلى ال عليه وسل م حتى وقف على القتلى فقال :)بئس العشير ة كنت م لنبيك م؛ كذبتموني وصدقني الناس ،وخذلتموني ونصرني الناس ،وأخرجتموني وآواني الناس( ،ث م أمر به م فسحبوا إلى قليب من ُقُلب بدر. وعن أبي طلحة :أن نبي ال صلى ال عليه وسل م أمر يو م بدر بأربعة وعشرين رجًل من صناديد قريش ،فقذفوا في صـة ـثلث ليال ،فلما كان ببدر اليو م الثالث َ طو ّ ي من أطواء بدر َخ بِــيث ُم ْخـ بــث .وكان إذا ظهر على قو م أقا م بالَعْرـ َ أمر براحلته فشد عليها رحلها ،ث م مشى ،واتبعه أصحابه .حتى قا م على شفة الّر ِكـّىـ ،ـفجعل يناديه م بأسمائه م وأسماء آبائه م ،)يا فلن بن فلن ،يا فلن بن فلن ،أيسرك م أنك م أطعت م ال ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حًقا ،فهل وجدت م ما وعد ربك م حًقا؟( فقال عمر :يا رسول ال ،ما تكل م من أجساد ل أرواح لها؟ قال النبي صلى ال عليه
وسل م :)والذي نفس محمد بيده ،ما أنت م بأسمع لما أقول منه م( وفي رواية :)ما أنت م بأسمع منه م ،ولكن ل يجيبون(.
مكة تتلقى نبأ الهزيمة فر المشركون من ساحة بدر في صور ة غير منظمة؛ تبعثروا في الوديان والشعاب ،واتجهوا صوب مكة مذعورين ،ل يدرون كيف يدخلونها خجًل. قال ابن إسحاق :وكان أول من قد م بمصاب قريش الَح ْيـُسـَمـاـن بن عبد ال الخزاعى ،فقالوا :ما وراءك؟ قال :قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو الحك م بن هشا م وأمية بن خلف ،في رجال من الزعماء سماه م .فلما أخذ يعد أشراف قريش قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الِح ْجـر:ـ وال إن يعقل هذا ،فاسألوه عنى .قالوا :ما فعل صفوان بن أمية؟ قال :ها هو ذا جالس في الحجر ،وقد وال رأيت أباه وأخاه حين قتل.
وقال أبو رافع ـ مولى رسول ال صلى ال عليه وسل م :كنت غلًم اـ للعباس وكان السل م قد دخلنا أهَل البيت ،فأسل م
العباس ،وأسلمت أ م الفضل ،وأسلمت ،وكان العباس يكت م إسلمه ،وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر ،فلما جاءه الخبر كبته ال وأخزاه ،ووجدنا في أنفسنا قو ة وعًزا ،وكنت رجًل ضعيًفا أعمل القداح ،أنحتها في حجر ة زمز م ،فوال إني لجالس فيها أنحت أقداحى وعندى أ م الفضل جالسة ،وقد سرنا ما جاءنا من الخبر ،إذ أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر حتى جلس على طُُنب الحجر ة ،فكان ظهره إلى ظهرى ،فبينما هو جالس إذ قال الناس :هذا أبو سفيان بن
الحارث بن عبد المطلب قد قد م ،فقال له أبو لهب :هل م إلّى ،ـ فعندك لعمرى الخبر ،قال :فجلس إليه،والناس قيا م
عليه .فقال :يابن أخي ،أخبرني كيف كان أمر الناس؟ قال :ما هو إل أن لقينا القو م فمنحناه م أكتافنا ،يقتلوننا كيف شاءوا ،ويأسروننا كيف شاءوا واي م ال مع ذلك ما لمت الناس ،لَِقيَناـ رجال بيض على خيل ُبْلق بين السماء والرض، وال ما تُِليق شيًئا ،ول يقو م لها شيء. قال أبو رافع :فرفعت طنب الحجر ة بيدى ،ث م قلت :تلك وال الملئكة .قال :فرفع أبو لهب يده ،فضرب بها وجهي ضربة شديد ة ،فثاورته ،فاحتملنى فضرب بى الرض ،ث م برك علّى يضربني ،وكنت رجًل ضعيًفا فقامت أ م الفضل تـ في رأسه شجة منكر ة ،وقالت :استضعفته أن غاب عنه إلى عمود من ُع ُمـدـ الحجر ة فأخذته ،فضربته به ضربة َفلََع ْ سيده ،فقا م مولًياـ ذليًل ،ـ ـفوال ما عاش إل سبع ليال حتى رماه ال بالعدسة ]وهي قرحة تتشاء م بها العرب[ فقتلته،
فتركه بنوه ،وبقى ثلثة أيا م ل تقرب جنازته ،ول يحاول دفنه ،فلما خافوا السبة في تركه حفروا له ،ث م دفعوه بعود في حفرته ،وقذفوه بالحجار ة من بعيد حتى واروه. هكذا تلقت مكة أنباء الهزيمة الساحقة في ميدان بدر ،وقد أثر ذلك فيه م أثًرا سيًئا جًد اـ ،حتى منعوا النياحة على القتلى؛ لئل يشمت به م المسلمون. ومن الطرائف أن السود بن المطلب أصيب ثلثة من أبنائه يو م بدر ،وكان يحب أن يبكي عليه م ،وكان ضرير
ب ـ؟ هل بكت قريش على قتلها؟ لعلي البصر ،فسمع ليًل صوت نائحة ،فبعث غلمه ،وقال :انظر هل أحل الّنْح ُ أبكي على أبي حكيمة ـ ابنه ـ فإن جوفي قد احترق ،فرجع الغل م وقال :إنما هي امرأ ة تبكى على بعير لها أضلته،
فل م يتمالك السود نفسه وقال: أتبكي أن يضل لها بعير ** ويمنعها من النو م السهود فل تبكي على بكر ولكن ** على بدر تقاصرت الجدود على بدر سرا ة بني هصيص ** ومخزو م ورهط أبي الوليد وبكى إن بكيت على عقيل ** وبكى حارثا أسد السود وبكيه م ول تسمى جميعا ** وما لبي حكيمة من نديد أل قد ساد بعده م رجال ** ولول يو م بدر ل م يسودوا
المدينة تتلقى أنباء النصر ولما ت م الفتح للمسلمين أرسل رسول ال صلى ال عليه وسل م بشيرين إلى أهل المدينة؛ ليعجل له م البشرى ،أرسل عبد ال بن رواحة بشيًرا إلى أهل العالية ،وأرسل زيد بن حارثة بشيًرا إلى أهل السافلة. وكان اليهود والمنافقون قد أرجفوا في المدينة بإشاعة الدعايات الكاذبة ،حتى إنه م أشاعوا خبر مقتل النبي صلى ال ص َوــاء ـ ناقة رسول ال صلى ال عليه وسل م ـ قال :لقد قتل عليه وسل م ،ولما رأي أحد المنافقين زيد بن حارثة راكًبا الَق ْ محمد ،وهذه ناقته نعرفها ،وهذا زيد ل يدري ما يقول من الرعب ،وجاء فَلّ فلما بلغ الرسولن أحاط بهما المسلمون ،وأخذوا يسمعون منهما الخبر ،حتى تأكد لديه م فتح المسلميـن ،فََعّم تـ البهجـة
والسـرور ،واهتزت أرجاء المدينة تهليًل وتكبيًرا ،وتقد م رءوس المسلمين ـ الذين كانوا بالمدينة ـ إلى طريق بدر ،ليهنئوا رسول ال صلى ال عليه وسل م بهذا الفتح المبين. قال أسامة بن زيد :أتانا الخبر حين سوينا التراب على رقية بنت رسول ال صلى ال عليه وسل م التي كانت عند عثمان بن عفان ،كان رسول ال صلى ال عليه وسل م خلفنى عليها مع عثمان.
الجيش النبوي يتحرك نحو المدينة أقا م رسول ال صلى ال عليه وسل م ببدر بعد انتهاء المعركة ثلثة أيا م ،وقبل رحيله من مكان المعركة وقع خلف بين الجيش حول الغنائ م ،ولما اشتد هذا الخلف أمر رسول ال صلى ال عليه وسل م بأن يرد الجميع ما بأيديه م، ففعلوا ،ث م نزل الوحى بحل هذه المشكلة. عن عباد ة بن الصامت قال :خرجنا مع النبي صلى ال عليه وسل م ،فشهدت معه بدًرا ،فالتقى الناس فهز م ال العدو، فانطلقت طائفة في آثاره م يطاردون ويقتلون ،وأكبت طائفة على المغن م يحرزونه ويجمعونه ،وأحدقت طائفة برسول ال صلى ال عليه وسل م؛ ل يصيب العدو منه ِغ ّرـ ة،حتى إذا كان الليل ،وفاء الناس بعضه م إلى بعض ،قال الذين جمعوا الغنائ م :نحن حويناها ،وليس لحد فيها نصيب،وقال الذين خرجوا في طلب العدو :لست م أحق بها منا ،نحـن
نحـينا منـها العـدو وهزمناه ،وقال الذين أحدقوا برسول ال صلى ال عليه وسل م :خفنا أن يصيب العدو منه غر ة، ِِ ت بِْي نِـُك ْ مـ َوَأِط يـُعوْااَل لنَفاِل ُقِل ا َ فاشتغلنا به ،فأنزل ال :} َيْسَأـُلوَنَك َع ِنـ ا َ ص ِلـُح وْاـَذ اـ َ لنَفاُل للّه َوالّر ُسـوـِلَفاتّقُوْا اَل َوَأ ْ َو َرـُسـوـلَهُِإن ُك نـُت م ّم ْؤـِم ـنِـيَن{ ]النفال .[1:فقسمها رسول ال صلى ال عليه وسل م بين المسلمين. وبعد أن أقا م رسول ال صلى ال عليه وسل م ببدر ثلثة أيا م تحرك بجيشه نحو المدينة ومعه السارى من المشركين،
واحتمل معه النفل الذي أصيب من المشركين ،وجعل عليه عبد ال بن كعب ،فلما خرج من م ِ ضـ ي ــق الصفراء نزل َ على َك ثِـيب بين المضيق وبين الّناِز َيـة ،وقس م هنالك الغنائ م على المسلمين على السواء بعد أن أخذ منها الخمس. وعندما وصل إلى الصفراء أمر بقتل النضر بن الحارث ـ وكان هو حامل لواء المشركين يو م بدر ،وكان من أكابر مجرمى قريش ،ومن أشد الناس كيًد اـ للسل م إوايذاء لرسول ال صلى ال عليه وسل م ـ فضرب عنقه علي بن أبي طالب. ولمـا وصل إلى ِع ْر ـق ـالظّْب َيـِة أمر بقتل ُع ْقـَبةـ بن أبي ُم َعـْي طـ ـ وقد أسلفنا بعض ما كان عليه من إيذاء رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فهو الذي كان ألقى َس لـ َج ُزـ وـرعلى ظهر رسول ال صلى ال عليه وسل م وهو في الصل ة ،وهو ص ْبـَيـِةـ يا محمد؟ قال: الذي خنقه بردائه وكاد يقتله ،لول اعتراض أبي بكر رضي ال عنه ـ فلما أمر بقتله قال :من لل ّ )النار( .فقتله عاص م ابن ثابت النصارى ،ويقال :علي بن أبي طالب. وكان قتل هذين الطاغيتين واجًبا نظًرا إلى سوابقهما ،فل م يكونا من السارى فحسب ،بل كانا من مجرمى الحرب بالصطلح الحديث.
وفود التهنئة ولما وصل صلى ال عليه وسل م إلى الّر ْو ـَحـاــءلقيه رءوس المسلمين ـ الذين كانوا قد خرجوا للتهنئة والستقبال حين سمعوا بشار ة الفتح من الرسولين ـ يهنئونه بالفتح .وحينئذ قال له م َس لَـَم ةـ بن سلمة:ما الذي تهنئوننا به؟ فوال إن لَِقينا ص ْلـًعاـ كاْلُبْد نـ المُعّقلَِة ،ـ فنحرناها ،فتبس م رسول ال صلى ال عليه وسل م ،ث م قال :)يا بن أخي ،أولئك إل عجائز ُ المل(.
وقال أسيد بن حضير :يا رسول ال ،الحمد ل الذي أظفرك ،وأقر عينك ،وال يا رسول ال ما كان تخلفي عن بدر وأنا أظن أنك تلقى عدًوا ،ولكن ظننت أنها عير ،ولو ظننت أنه عدو ما تخلفت ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)صدقت(. ث م دخل رسول ال صلى ال عليه وسل م المدينة مظفًرا منصوًرا قد خافه كل عدو له بالمدينة وحولها ،فأسل م بشر كثير من أهل المدينة ،وحينئذ دخل عبد ال بن أبي وأصحابه في السل م ظاهًرا. وقد م السارى بعد بلوغه المدينة بيو م ،فقسمه م على أصحابه ،وأوصى به م خيًرا .فكان الصحابة يأكلون التمر،
ويقدمون لسرائه م الخبز ،عمًل بوصية رسول ال صلى ال عليه وسل م
قضية السارى ولما بلغ رسول ال صلى ال عليه وسل م المدينة استشار أصحابه في السارى ،فقال أبو بكر :يا رسول ال ،هؤلء بنو الع م والَعِش يــر ة والخوان ،إواني أرى أن تأخذ منه م الفدية ،فيكون ما أخذناه قو ة لنا على الكفار ،وعسى أن يهديه م ال ،فيكونوا لنا عضًد اـ. فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)ما ترى يابن الخطاب؟( قال :قلت :وال ما أرى ما رأى أبو بكر ،ولكن أرى أن تمكننى من فلن ـ قريب لعمر ـ فأضرب عنقه ،وتمكن علًيا من َع ِقـيـل بن أبي طالب فيضرب عنقه ،وتمكن حمز ة من فلن أخيه فيضرب عنقه ،حتى يعل م ال أنه ليست في قلوبنا هواد ة للمشركين .وهؤلء صناديده م وأئمته م وقادته م.
فهوى رسول ال صلى ال عليه وسل م ما قال أبو بكر ،ول م يهو ما قلت ،وأخذ منه م الفداء :فلما كان من الغد قال عمر :فغدوت إلى النبي صلى ال عليه وسل م وأبي بكر وهما يبكيان ،فقلت :يا رسول ال ،أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت ،إوان ل م أجد بكاء تباكيت لبكائكما ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)أبكى للذى عرض على أصحابك من أخذه م الفداء ،فقد عرض علّى عذابه م أدنى من هذه الشجر ة( ـ شجر ة قريبة. وأنزل ال تعالى :} َماـ َك اـَن ِلَنبِّي َأن َيُك وـَن لَهُ أَْس َرـىـَح تّــى ُيثِْخ َن ـ ِفيـ الَْر ِ ضـالّد ْنـَيـاـ َواُل ُيِر يـُد الِخ َرـ ةََواُل ض ـتُِر يـُد وـَن َع َرـ َ ب َع ِظـ يـٌ م{ ]النفال.[68 ،67: َع ِزـيـٌز َح ِكـيـٌ م لّْو َ ب ّم َنـ اِل َس َبـ َ ق لََم ّسـُكـْ مـ ِفيَم اـ أََخ ْذـتُـْ م َع َذـاـ ٌ ل ِك تَـا ٌ والكتاب الذي سبق من ال قيل :هو قوله تعالى :} فَِإّماـ َم ّنـا َبْع ُدـ َو إِاّمـاـِفَد اـء{ ]محمد .[4 :ففيه الذن بأخذ الفدية من السارى؛ ولذلك ل م يعذبوا ،إوانما نزل العتاب لنه م أسروا الكفار قبل أن يثخنوا في الرض ،وقيل :بل الية المذكور ة
نزلت فيما بعد ،إوانما الكتاب الذي سبق من ال هو ما كان في عل م ال من إحلل الغنائ م لهذه المة ،أو من المغفر ة والرحمة لهل بدر.
وحيث إن المر كان قد استقر على رأي الصديق فقد أخذ منه م الفداء ،وكان الفداء من أربعة آلف دره م إلى ثلثة آلف دره م إلى ألف دره م ،وكان أهل مكة يكتبون ،وأهل المدينة ل يكتبون ،فمن ل م يكن عنده فداء دفع إليه عشر ة غلمان من غلمان المدينة يعلمه م ،فإذا حذقوا فهو فداء. ص ْيـفـي ومّن رسول ال صلى ال عليه وسل م على عد ة من السارى فأطلقه م بغير فداء ،منه م :المطلب ابن َح ْنـ َ طـب ،و َ
بن أبي رفاعة ،وأبو عز ة الُج َمـِحـىــ ،وهو الذي قتله أسي ار في أحد ،وسيأتي. ومّن على َخ تَـِنه أبي العاص بشرط أن يخلى سبيل زينب ،وكانت قد بعثت في فدائه بمال بعثت فيه بقلد ة لها كانت عند خديجة ،أدخلتها بها على أبي العاص ،فلما رآها رسول ال صلى ال عليه وسل م رق لها رقة شديد ة ،واستأذن أصحابه في إطلق أبي العاص ففعلوه ،واشترط رسول ال صلى ال عليه وسل م على أبي العاص أن يخلى سبيل زينب ،فخلها فهاجرت ،وبعث رسول ال صلى ال عليه وسل م زيد بن حارثة ورجًل من النصار ،فقال :)كونا ببطن
َيأَج ج ـ حتى تمر بكما زينب فتصحباها( ،فخرجا حتى رجعا بها .وقصة هجرتها طويلة ومؤلمة جًد اـ.
ِ صـ قَـًعا ،فقال عمر :يا رسول ال ،انزع ثنيتي سهيل بن عمرو َيْد لَـْع وكان في السرى سهيل بن عمرو ،وكان خطيًبا م ْ لَس اـُنه ،فل يقو م خطيًبا عليك في موطن أبًد اـ ،بيد أن رسول ال صلى ال عليه وسل م رفض هذا الطلب؛ احت ارًزا عن الُم ْثـلَِة ،ـ وعن بطش ال يو م القيامة. وخرج سعد بن النعمان معتمًرا فحبسه أبو سفيان ،وكان ابنه عمرو بن أبي سفيان في السرى ،فبعثوا به إلى أبي سفيان فخلى سبيل سعد.
القرآن يتحدث حول موضوع المعركة وحول موضوع هذه المعركة نزلت سور ة النفال ،وهذه السور ة تعليق إلهي ـ إن صح هذا التعبير ـ على هذه المعركة، يختلف كثيًرا عن التعاليق التي ينطق بها الملوك والقواد بعد الفتح. إن ال تعالى لفت أنظار المسلمين ـ أوًل ـ إلى بعض التقصيرات الخلقية التي كانت قد بقيت فيه م ،وصدر بعضها
منه م؛ ليسعوا في تحلية نفوسه م بأرفع مراتب الكمال ،وفي تزكيتها عن هذه التقصيرات.
ث م ثَّنى بما كان في هذا الفتح من تأييد ال وعونه ونصره بالغيب للمسلمين .ذكر له م ذلك لئل يغتروا بشجاعته م
وبسالته م ،فتتسور نفوسه م الغطرسة والكبرياء ،بل ليتوكلوا على ال ،ويطيعوه ويطيعوا رسوله عليه الصل ة والسل م.
ث م بين له م الهداف والغراض النبيلة التي خاض الرسول صلى ال عليه وسل م لجلها هذه المعركة الدامية الرهيبة، ودله م على الصفات والخلق التي تتسبب في الفتوح في المعارك. ث م خاطب المشركين والمنافقين واليهود وأسارى المعركة ،ووعظه م موعظة بليغة ،تهديه م إلى الستسل م للحق واللتزا م به.
ث م خاطب المسلمين حول موضوع الغنائ م ،وقنن له م مبادئ وأسس هذه المسألة. ث م بين وشرع له م من قوانين الحرب والسل م ما كانت الحاجة تمس إليها بعد دخول الدعو ة السلمية في هذه المرحلة، حتى تمتاز حروب المسلمين عن حروب أهل الجاهلية ،ويتفوق المسلمون في الخلق والقي م والمثل ،ويتأكد للدنيا أن السل م ليس مجرد وجهة نظر ،بل هو دين يثقف أهله عملًيا على السس والمبادئ التي يدعو إليها. ث م قرر بنوًد اـ من قوانين الدولة السلمية التي تقي م الفرق بين المسلمين الذين يسكنون داخل حدودها ،والذين يسكنون خارجها. وفي السنة الثانية من الهجر ة فرض صيا م رمضان ،وفرضت زكا ة الفطر ،وبينت أنصبة الزكا ة الخرى ،وكانت فريضة زكا ة الفطر وتفصيل أنصبة الزكا ة الخرى تخفيًفا لكثير من الوزار التي كان يعانيها عدد كبير من المهاجرين اللجئين الذين كانوا فقراء ل يستطيعون ضرًبا في الرض. ومن أحسن المواقع وأروع الصدقات أن أول عيد تعيد به المسلمون في حياته م هو العيد الذي وقع في شوال سنة 2 هـ ،إثر الفتح المبين الذي حصل له م في غزو ة بدر .فما أروع هذا العيد السعيد الذي جاء به ال بعد أن تَّوَج هامته م بتاج الفتح والعز ،وما أروق منظر تلك الصل ة التي صلوها بعد أن خرجوا من بيوته م يرفعون أصواته م بالتكبير
والتوحيد والتحميد ،وقد فاضت قلوبه م رغبة إلى ال ،وحنيًنا إلى رحمته ورضوانه بعد ما أوله م به من النع م،وأيده م به ض ـتََخ اـُفون َأن يتََخ ّ ض َع ـفُـوَن ِفيـ الَْر ِ طـفَُك ُ مـ الّناُس َفآَواـُك ْ مـ من النصر ،وقد ذكره م بذلك قائًل :} َواْذُكـُرـوِْإاـْذ َأنتُْ م َقِليٌل ّم ْسـتَـ ْ َ َ ن ]النفال.[26: ص ِرـِهَو َرـ َز ـقَـُكّم مـَنـ الطّّيَباِت لََع لّـُك ْ مـ تَْش ُكـُرـ و ـَ{ َوأَّيَد ُكـ مـبَِن ْ
النشاط العسكري بين بدر وأحد إن معركة بدر كانت أول لقاء مسلح بين المسلمين والمشركين ،وكانت معركة فاصلة أكسبت المسلمين نص اًر
حاسمًا شهد له العرب قاطبة .والذين كانوا أشد استياء لنتائج هذه المعركة ه م أولئك الذين منوا بخسائر فادحة مباشر ة؛ وه م المشركون ،أو الذين كانوا يرون عز ة المسلمين وغلبته م ضربًا قاصمًا على كيانه م الديني
والقتصادي ،وه م اليهود .فمنذ أن انتصر المسلمون في معركة بدر كان هذان الفريقان يحترقان غيظًا وحنًقا على المسلمين؛ } لَتَِجَدــّنـ أََش ّدـ الّنا ِ س َع َدـاـَو ةًـلّلِّذ يـَن آَم ُنـوْا اْلَيُهوَد َواـلِّذ يـَن أَْش َرـُكـو{ْـا ]المائد ة ،[82:وكانت في المدينة
بطانة للفريقين دخلوا في السل م حين ل م يبق مجال لعزه م إل في السل م ،وه م عبد ال بن أبي وأصحابه ،ول م تكن هذه الفرقة الثالثة أقل غيظًا من الوليين.
وكانت هناك فرقة رابعة ،وه م البدو الضاربون حول المدينة ،ل م يكن يهمه م مسألة الكفر واليمان ،ولكنه م كانوا
أصحاب سلب ونهب ،فأخذه م القلق ،واضطربوا لهذا النتصار ،وخافوا أن تقو م في المدينة دولة قوية تحول بينه م وبين اكتساب قوته م عن طريق السلب والنهب ،فجعلوا يحقدون على المسلمين وصاروا له م أعداء. وتبين بهذا أن النتصار في بدر كما كان سببًا لشوكة المسلمين وعزه م وكرامته م كذلك كان سببًا لحقد جهات
ل ليصاله إلى غايته. متعدد ة ،وكان من الطبيعي أن يتبع كل فريق ما يراه كفي ً
فبينما كانت المدينة وما حولها تظاهر بالسل م ،وتأخذ في طريق المؤامرات والدسائس الخفية كانت فرقة من اليهود تعلن بالعداو ة ،وتكاشف عن الحقد والغيظ ،وكانت مكة تهدد بالضرب القاص م ،وتعلن بأخذ الثأر والنقمة، وتهت م بالتعبئة العامة جها ًرا ،وترسل إلى المسلمين بلسان حالها ،تقول: ول بد من يو م أغّر ُم َحـ ّجـل ـ** يطول استماعي بعده للنوادب ل فقد قادت غزو ة قاصمة إلى أسوار المدينة عرفت في التاريخ بغزو ة أحد ،والتي كان لها أثر سيئ على وفع ً
سمعة المسلمين وهيبته م.
وقد لعب المسلمون دو ًار هامًا للقضاء على هذه الخطار ،تظهر فيه عبقرية قياد ة النبي صلى ال عليه وسل م،
وما كان عليه من غاية التيقظ حول هذه الخطار ،وما كان عليه من حسن التخطيط للقضاء عليها ،ونذكر في
السطور التية صور ة مصغر ة منها:
غزو ة بني ُس لَـي م بالُك ْدـرـ طـَفان تحشد قواتها أول ما نقلت استخبارات المدينة إلى النبي صلى ال عليه وسل م بعد بدر أن بني سلي م وبني َغ َ لغزو المدينة ،فباغته م النبي صلى ال عليه وسل م في مائتي راكب في عقر دراه م ،وبلغ إلى منازله م في موضع
يقال له :الُك ْدـرـ .ففر بنو سلي م ،وتركوا في الوادي خمسمائة بعير استولي عليها جيش المدينة ،وقسمها رسول ال صلى ال عليه وسل م بعد إخراج الخمس فأصاب كل رجل بعيرين ،وأصاب غلما يقال له :)يسار( فأعتقه. وأقا م النبي صلى ال عليه وسل م في دياره م ثلثة أيا م ،ث م رجع إلى المدينة. وكانت هذه الغزو ة في شوال سنة 2هـ بعد الرجوع من بدر بسبعة أيا م ،أوفي المحر م للنصف منه ،واستخلف في طة .وقيل :ابن أ م مكتو م. هذه الغزو ة على المدينة ِس َبـاع بن ُع ْرـ فُـ َ
مؤامر ة لغتيال النبي صلى ال عليه وسل م كان من أثر هزيمة المشركين في وقعة بدر أن استشاطوا غضبًا ،وجعلت مكة تغلي كالِم ْرـَجـل ـضد النبي صلى ال عليه وسل م ،حتى تآمر بطلن من أبطالها أن يقضوا على مبدأ هذا الخلف والشقاق ومثار هذا الذل والهوان في زعمه م ،وهو النبي صلى ال عليه وسل م.
جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية في الِح ْجـر ـبعد وقعة بدر بيسير ـ وكان عمير من شياطين قريش ممن كان يؤذي النبي صلى ال عليه وسل م وأصحابه وه م بمكة ـ وكان ابنه وهب بن عمير في أساري بدر ،فذكر أصحاب الَقِليب ومصابه م ،فقال صفوان :وال إن في العيش بعده م خير. قال له عمير :صدقت وال ،أما وال لول َد ْيـنـ على ليس له عندي قضاء ،وعيال أخشي عليه م ال ّ ض ْيـعـَة بعدي ت إلى محمد حتى أقتله ،فإن لي ِقَبـلَـهُْ م ِع لّـًة ،ابني أسير في أيديه م. لركب ُ
فاغتنمها صفوان وقال :على دينك ،أنا أقضيه عنك ،وعيالك مع عيإلى ،أواسيه م ما بقوا ،ل يسعني شيء ويعجز عنه م. فقال له عمير :فاكت م عني شأني وشأنك .قال :أفعل. ث م أمر عمير بسيفه فُش ِحـ َذ ـ له وُس ّ مـ،ـ ث م انطلق حتى قد م به المدينة ،فبينما هو على باب المسجد ينيخ راحلته رآه عمر بن الخطاب ـ وهو في نفر من المسلمين يتحدثون ما أكرمه م ال به يو م بدر ـ فقال عمر :هذا الكلب عدو ال عمير ما جاء إل لشر .ث م دخل على النبي صلى ال عليه وسل م ،فقال :يا نبي ال ،هذا عدو ال عمير قد
جاء متوشحًا سيفه ،قال :)فأدخله علي( ،فأقبل إلى عمير فلَّبَبهُ بَح َمـاـلة سيفه ،وقال لرجال من النصار :ادخلوا على رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فاجلسوا عنده واحذروا عليه من هذا الخبيث ،فإنه غير مأمون ،ث م دخل
به ،فلما رآه رسول ال صلى ال عليه وسل م ـ وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه ـ قال :)أرسله يا عمر ،ادن يا عمير( ،فدنا وقال :أْن ِعـ ُمـوـا صباحًا ،فقال النبي صلى ال عليه وسل م :)قد أكرمنا ال بتحية خير من تحيتك يا عمير ،بالسل م تحية أهل الجنة(. ث م قال :)ما جاء بك يا عمير ؟( قال :جئت لهذا السير الذي في أيديك م ،فأحسنوا فيه. قال :)فما بال السيف في عنقك؟( قال:قبحها ال من سيوف ،وهل أغنت عنا شيئًا ؟ قال :)اصدقني ،ما الذي جئت له ؟( قال :ما جئت إل لذلك.
ت أنت وصفوان بن أمية في الِح ْجـرــ ،فذكرتما أصحاب القليب من قريش ،ث م قلت :لول دين علي قال :)بل قعد َ وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمدًا ،فتحمل صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني ،وال حائل بينك وبين ذلك(.
قال عمير :أشهد أنك رسول ال ،قد كنا يا رسول ال نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء ،وما ينزل عليك من الوحي ،وهذا أمر ل م يحضره إل أنا وصفوان ،فوال إني لعل م ما أتاك به إل ال ،فالحمد ل الذي هداني للسل م ،وساقني هذا المساق ،ث م تشهد شهاد ة الحق .فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)فقهوا أخاك م في دينه ،وأقرئوه القرآن ،وأطلقوا له أسيره(. وأما صفوان فكان يقول :أبشروا بوقعة تأتيك م الن في أيا م تنسيك م وقعة بدر .وكان يسأل الركبان عن عمير، حتى أخبره راكب عن إسلمه فحلف صفوان أل يكلمه أبًد اـ ،ول ينفعه بنفع أبدا. ورجع عمير إلى مكة وأقا م بها يدعو إلى السل م ،فأسل م على يديه ناس كثير.
غـزو ة بني قينقـاع
غـزوة بني تقينقـاع نموذج من مكيدة اليهود بنو َتقيُنَقاع ينقطضون العهد الحصار ثم التسليم ثم الجلء سِوي ق غزوة ال ّ غزوة ذي أمر تقتل كعب بن الشرف غزوة ُبْحران سرية زيد بن حارثة
غـزوة ربني قينقـاع قدمنا ربنود المعاهدة التي عقدها رسول ا صلى ا عليه وسلم مع اليهود ،وقد كان حريصاً كل الحرص على تنفيذ ما جاء في هذه المعاهدة ،وفع ً ل لم يأت من المسلمين ما يخالف حرفا ً واحد ًا من نصوصها .ولكن اليهود الذين ملوا تاريخهم ربالغدر والخيانة ونكث العهود ،لم يلبثوا أن تمشوا مع فطبائعهم القديمة ،وأخذوا في فطريق الدس والمؤامرة والتحريش وإثارة القلق والضطراب في صفوف المسلمين .وهاك مثلً من ذلك:
نموذج من مكيد ة اليهود قال ابن إسحاق :مر شاس بن قيس ـ وكان شيخًا ]يهوديًا[ قد عسا ،عظي م الكفر ،شديد الضغن على المسلمين،
شديد الحسد له م ـ على نفر من أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسل م من الوس والخزرج في مجلس قد جمعه م،
يتحدثون فيه ،فغاظه ما رأي من ألفته م وجماعته م وصلح ذات بينه م على السل م ،بعد الذي كان بينه م من العداو ة في الجاهلية ،فقال :قد اجتمع مل بني قَْي لَـَة بهذه البلد ،ل وال ما لنا معه م إذا اجتمع ملؤه م بها من قرار ،فأمر فتي شابًا من يهود كان معه ،فقال :اعمد إليه م ،فاجلس معه م ،ث م اذكر يو م ُبَعاث وما كان من قبله ،وأنشده م بعض ما
كانوا تقاولوا فيه من الشعار ،ففعل ،فتكل م القو م عند ذلك ،وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلن من الحيين على
الركب فتقاول ،ث م قال أحدهما لصاحبه :إن شئت م رددناها الن َج َذـَعـة ـ يعني الستعداد لحياء الحرب الهلية التي كانت بينه م ـ وغضب الفريقان جميعًا ،وقالوا :قد فعلنا ،موعدك م الظاهر ة ـ والظاهر ة :الَح ّرـ ةـ السلح السلح ،فخرجوا إليها ]وكادت تنشب الحرب[.
فبلغ ذلك رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فخرج إليه م فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءه م فقال :)يا معشر المسلمين ،ال ال ،أبدعوي الجاهلية وأنا بين أظهرك م بعد أن هداك م ال للسل م ،وأكرمك م به ،وقطع به عنك م أمر الجاهلية ،واستنقذك م به من الكفر وألف بين قلوبك م( فعرف القو م أنها نزغة من الشيطان ،وكيد من عدوه م ،فبكوا ،وعانق الرجال من الوس والخزرج بعضه م بعضًا ،ث م انصرفوا مع رسول ال صلى ال عليه وسل م سامعين مطيعين ،قد أطفأ ال عنه م كيد عدو ال شاس بن قيس.
هذا نموذج مما كان اليهود يفعلونه ويحاولونه من إثار ة القلقل والفتن في المسلمين ،إواقامة العراقيل في سبيل الدعو ة السلمية ،وقد كانت له م خطط شتي في هذا السبيل .فكانوا يبثون الدعايات الكاذبة ،ويؤمنون وجه النهار ،ث م
يكفرون آخره؛ ليزرعوا بذور الشك في قلوب الضعفاء ،وكانوا يضيقون سبل المعيشة على من آمن إن كان له م به ارتباط مإلى ،فإن كان له م عليه يتقاضونه صباح مساء ،إوان كان له عليه م يأكلونـه بالباطل ،ويمتنعون عن أدائه وكانوا يقولون :إنما كان علينا قرضك حينما كنت على دين آبائك ،فأما إذ صبوت فليس لك علينا من سبيل. كانوا يفعلون كل ذلك قبل بدر على رغ م المعاهد ة التي عقدوها مع رسول ال صلى ال عليه وسل م ،وكان رسول ال صلى ال عليه وسل م وأصحابه يصبرون على كل ذلك؛ حرصًا على رشده م ،وعلى بسط المن والسل م في المنطقة. بنو َقيُنَقاع ينقضون العهد لكنه م لما أروا أن ال قد نصر المؤمنين نص ًار مؤز ًار في ميدان بدر ،وأنه م قد صارت له م عز ة وشوكة وهيبة في قلوب القاصي والداني .تميزت قدر غيظه م ،وكاشفوا بالشر والعداو ة ،وجاهروا بالبغي والذي.
وكان أعظمه م حقدًا وأكبره م ش اًر كعب بن الشرف ـ وسيأتي ذكره ـ كما أن شر طائفة من طوائفه م الثلث ه م يهود
بني قينقاع ،كانوا يسكنون داخل المدينة ـ في حي باسمه م ـ وكانوا صاغة وحدادين وصناع الظروف والواني ،ولجل هذه الحرف كانت قد توفرت لكل رجل منه م آلت الحرب ،وكان عدد المقاتلين فيه م سبعمائة ،وكانوا أشجع يهود المدينة ،وكانوا أول من نكث العهد والميثاق من اليهود.
فلما فتح ال للمسلمين في بدر اشتد طغيانه م ،وتوسعوا في تحرشاته م واستف اززاته م ،فكانوا يثيرون الشغب ،ويتعرضون بالسخرية ،ويواجهون بالذي كل من ورد سوقه م من المسلمين حتى أخذوا يتعرضون بنسائه م. وعندما تفاق م أمره م واشتد بغيه م ،جمعه م رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فوعظه م ودعاه م إلى الرشد والهدي، وحـذره م مغـبة البغـي والـعدوان ،ولكنه م ازدادوا في شره م وغطرسته م. روي أبو داود وغيره ،عن ابن عباس رضي ال عنهما قال :لما أصاب رسول ال صلى ال عليه وسل م قريشًا يو م
بدر ،وقد م المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع .فقال :)يا معشر يهود ،أسلموا قبل أن يصيبك م مثل ما أصاب
قريشًا( .قالوا:يا محمد ،ل يغرنك من نفسك أنك قتلت نف ًار من قريش كانوا أغما اًر ل يعرفون القتال ،إنك لو قاتلتنا نَلى َج هَـّنَ م َو بِـْئ َسـ لعرفت أنا نحن الناس ،وأنك ل م تلق مثلنا ،فأنزل ال تعالى :}ُقل لّلِّذ يـَن َك فَـُر وْاـَس تُـْغ َلـُبوَن َو تُـْح َش ـُرـ و ـَِإ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ص ِرـِه ي اْلَعْيـِنـ َواُل ُيَؤ ّيـُد بَِن ْ اْلم هَـاُد قَْد َك اـَن لَُك ْ مـ آَيةٌ فيـ فَئتَْي ِنـ اْلتَقََتا فَئةٌ تَُقاتُل فيـ َس بِـيِل ال َوأُْخ َرـىـَك اـفَرـ ةٌَيَر ْو ـَنـُه مّم ثْـلَْي ِهـْ مـ َرْأ َ ِ ِ ِ ّ صـ اـِر{ ]آل عمران .[13 ،12 َم نـ َيَش اـء ِإّن فيـ َذ لـَك لَع ْبـَرـ ةًلُْو ِلــي الَْب َ
كان في معني ما أجاب به بنو قينقاع هو العلن السافر عن الحرب ،ولكن كظ م النبي صلى ال عليه وسل م غيظه،
وصبر المسلمون ،وأخذوا ينتظرون ما تتمخض عنه الليإلى واليا م. وازداد اليهود ـ من بني قينقاع ـ جراء ة ،فقلما لبثوا أن أثاروا في المدينة قلقًا واضطرابًا ،وسعوا إلى حتفه م بظلفه م،
وسدوا على أنفسه م أبواب الحيا ة.
روي ابن هشا م عن أبي عون :أن امرأ ة من العرب قدمت بَج لَـٍب لها ،فباعته في سوق بني قينقاع ،وجلست إلى
صائغ ،فجعلوا يريدونها على كشف وجهها ،فأبت ،فََعَم دـ الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها ـ وهي غافلة ـ فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا بها فصاحت ،فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله ـ وكان يهوديًا ـ فشدت
اليهود على المسل م فقتلوه ،فاستصرخ أهل المسل م المسلمين على اليهود ،فوقع الشر بينه م وبين بني قينقاع.
الحصار ث م التسلي م ث م الجلء وحينئذ ِع يـَل صبر رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فاستخلف على المدينة أبا لَُبابة بن عبد المنذر ،وأعطي لواء المسلمين حمز ة بن عبد المطلب ،وسار بجنود ال إلى بني قينقاع ،ولما رأوه تحصنوا في حصونه م ،فحاصره م أشد الحصار ،وكان ذلك يو م السبت للنصف من شوال سنة 2هـ ،ودا م الحصار خمس عشر ة ليلة إلى هلل ذي القعد ة، وقذف ال في قلوبه م الرعب ـ فهو إذا أرادوا خذلن قو م وهزيمته م أنزله عليه م وقذفه في قلوبه م ـ فنزلوا على حك م رسول ال صلى ال عليه وسل م في رقابه م وأمواله م ونسائه م وذريته م ،فأمر به م فكتفوا. وحينئذ قا م عبد ال بن أبي بن سلول بدور نفاقه ،فألح على رسول ال صلى ال عليه وسل م أن يصدر عنه م العفو، موالى ـ وكـان بنـو قينـقاع حلفـاء الخزرج ـ فأبطأ عليه رسول ال صلى ال عليه وسل م فكرر فقال :يا محمد ،أحسن فـي إ ابن أبي مقالته فأعرض عنه ،فأدخل يده في جيب درعه ،فقال له رسول ال صلى ال عليه وسل م :)أرسلني(، ل ،ث م قال :)ويحك ،أرسلني( .ولكن المنافق مضى على إص ارره وقال :ل وال ل ظل ً وغضب حتى أروا لوجهه ُ
أرسلك حتى تحسن في موالى أربعمائة حاسر وثلثمائة دارع قد منعوني من الحمر والسود ،تحصده م في غدا ة
واحد ة ؟ إني وال امرؤ أخشي الدوائر. وعامل رسول ال صلى ال عليه وسل م هذا المنافق ـ الذي ل م يكن مضي على إظهار إسلمه إل نحو شهر واحد فحسب ـ عامله بالحسنى .فوهبه م له ،وأمره م أن يخرجوا من المدينة ول يجاوروه بها ،فخرجوا إلى أْذ ُرـَع اـتالشا م ،فقل أن لبثوا فيها حتى هلك أكثره م.
وقبض رسول ال صلى ال عليه وسل م منه م أمواله م ،فأخذ منها ثلث ِقِس ي ـودرعين وثلثة أسياف وثلثة رماح، وخمس غنائمه م ،وكان الذي تولي جمع الغنائ م محمد بن مسلمة. غزو ة الّس ِوـ يــق بينما كان صفوان بن أمية واليهود والمنافقون يقومون بمؤامراته م وعملياته م ،كان أبو سفيان يفكر في عمل قليل المغار م ظاهر الثر ،يتعجل به؛ ليحفظ مكانة قومه ،ويبرز ما لديه م من قو ة ،وكان قد نذر أل يمس رأسه ماء من
ب ،ـ من جنابة حتى يغزو محمدًا ،فخرج في مائتي راكب ليبِّر يمينه ،حتى نزل بصْد رـ َقنا ة إلى جبل يقال لهَ :ثي ٌ المدينة على َبِر يـد أو نحوه ،ولكنه ل م يجرؤ على مهاجمة المدينة جها ًرا ،فقا م بعمل هو أشبه بأعمال القرصنة ،فإنه
دخل في ضواحي المدينة في الليل مستخفيًا تحت جنح الظل م ،فأتي حيي بن أخطب ،فاستفتح بابه ،فأبي وخاف، فانصرف إلى َس لّـ م بن ِم ْشـَكـ مـ سيد بِني النضير ،وصاحب كنزه م إذ ذاك ،فاستأذن عليه فأذن ،فَقََراه وسقاه الخمر، طن له من خبر الناس ،ث م خرج أبو سفيان في عقب ليلته حتى أتي أصحابه ،فبعث مفرز ة منه م ،فأغارت على وَب َ
ل من النصار وحليفًا له ص َوــاًرامن النخل ،ووجدوا رج ً ناحية من المدينة يقال لها] :الُعَر يـض[ ،فقطعوا وأحرقوا هناك أ ْ
في حرث لهما فقتلوهما ،وفروا راجعين إلى مكة. وبلغ رسول ال صلى ال عليه وسل م الخبر ،فسارع لمطارد ة أبي سفيان وأصحابه ،ولكنه م فروا ببالغ السرعة ،وطرحوا سويقاً كثي اًر من أزواده م وتمويناته م ،يتخففون به ،فتمكنوا من الفلت ،وبلغ رسول ال صلى ال عليه وسل م إلى َقْر قَـَر ِ ةالُك ْدـرـ ،ث م انصرف راجعًا .وحمل المسلمون ما طرحه الكفار من سويقه م ،وسموا هذه المناوشة بغزو ة السويق.
وقد وقعت في ذي الحجة سنة 2هـ بعد بدر بشهرين ،واستعمل على المدينة في هذه الغزو ة أبا لبابة بن عبد المنذر.
غزو ة ذي أمر وهي أكبر حملة عسكرية قادها رسول ال صلى ال عليه وسل م قبل معركة أحد ،قادها في المحر م سنة 3هـ. وسببها أن استخبارات المدينة نقلت إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م أن جمعًا كبي ًار من بني ثعلبة ومحارب
تجمعوا ،يريدون الغار ة على أطراف المدينة ،فندب رسول ال صلى ال عليه وسل م المسلمين ،وخرج في أربعمائة ل ما بين راكب وراجل ،واستخلف على المدينة عثمان بن عفان. وخمسين مقات ً
وفي أثناء الطريق قبضوا على رجل يقال لهُ :ج َبــار من بني ثعلبة ،فأدخل على رسول ال صلى ال عليه وسل م، ل لجيش المسلمين إلى أرض العدو. فدعاه إلى السل م فأسل م ،فضمه إلى بلل ،وصار دلي ً
وتفرق العداء في رءوس الجبال حين سمعوا بقدو م جيش المدينة .أما النبي صلى ال عليه وسل م فقد وصل بجيشه إلى مكان تجمعه م ،وهو الماء المسمي ]بذي أمر[ فأقا م هناك صف ًار كله ـ من سنة 3هـ ـ أو قريبًا من ذلك ،ليشعر العراب بقو ة المسلمين ،ويستولي عليه م الرعب والرهبة ،ث م رجح إلى المدينة.
قتل كعب بن الشرف كان كعب بن الشرف من أشد اليهود حنقًا على السل م والمسلمين ،إوايذاء لرسول ال صلى ال عليه وسل م ،وتظاه ار بالدعـو ة إلى حربه. كان من قبيلة طيئ ـ من بني َنْب هـان ـ وأمه من بني النضير ،وكان غنيًا مترفًا معروفًا بجماله في العرب ،شاع ًار من شعرائها .وكان حصنه في شرق جنوب المدينة خلف ديار بني النضير.
ولما بلغه أول خبر عن انتصار المسلمين ،وقتل صناديد قريش في بدر قال :أحق هذا ؟ هؤلء أشراف العرب، وملوك الناس ،وال إن كان محمد أصاب هؤلء القو م لبطن الرض خير من ظهرها. ولما تأكد لديه الخبر ،انبعث عدو ال يهجو رسول ال صلى ال عليه وسل م والمسلمين ،ويمدح عدوه م ويحرضه م عليه م ،ول م يرض بهذا القدر حتى ركب إلى قريش ،فنزل على المطلب بن أبي َو َد ـاـعة السهمي ،وجعل ينشد الشعار يبكي فيها على أصحاب الَقِليب من قتلى المشركين ،يثير بذلك حفائظه م ،ويذكي حقده م على النبي صلى ال عليه
وسل م ،ويدعوه م إلى حربه ،وعندما كان بمكة سأله أبو سفيان والمشركون :أديننا أحب إليك أ م دين محمد وأصحابه؟ ل؟ فقال :أنت م أهدي منه م سبيل ،وأفضل ،وفي ذلك أنزل ال تعالى :}أَلَْ م تََر ِإَلى الِّذ يـَن ُأوتُوْا وأي الفريقين أهدي سبي ً
ص يـ ـبا ّم نـ اْلِك تَـاِب يؤ ِم ـنـون ِباْلِج بـِتـ وال ّ ِ طاُغ وـِت َو َيـُقوُلوَن ِللِّذ يـَن َك فَـُر وْاـَهُؤلء أَْه َدـىـ ِم َنـ الِّذ يـَن آَم ُنـوْا َس بِـيلً{ ] النساء: ُْ ُ َ َن ً َ ْ َ .[51
ث م رجع كعب إلى المدينة على تلك الحال ،وأخذ يشبب في أشعاره بنساء الصحابة ،ويؤذيه م بسلطة لسانه أشد اليذاء. وحينئذ قال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)من لكعب بن الشرف ؟ فإنه آذى ال ورسوله( ،فانتدب له محمد بن مسلمة ،وَع ّبـاد بن بشر ،وأبو نائلة ـ واسمه ِس ْلـَك اـن بن سلمة ،وهو أخو كعب من الرضاعة ـ والحارث بن أوس ،وأبو َع ْبـسـ بن جبر ،وكان قائد هذه المفرز ة محمد بن مسلمة.
وتفيد الروايات في قتل كعب بن الشرف أن رسول ال صلى ال عليه وسل م لما قال :)من لكعب بن الشرف ؟ فإنه قد آذى ال ورسوله( ،قا م محمد بن مسلمة فقال :أنا يا رسول ال ،أتحب أن أقتله ؟ قال :)نع م( .قال :فائذن لي أن أقول شيئًا .قال :)قل(.
فأتاه محمد بن مسلمة ،فقال :إن هذا الرجل قد سألنا صدقة ،إوانه قد َع ّنـانا. قال كعب :وال لَتََم لّـّنهُ.
قال محمد بن مسلمة :فإنا قد اتبعناه ،فل نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه ؟ وقد أردنا أن تسلفنا َو ْس ـقـًـا أو َو ْس ـقَـين. قال كعب :نع م ،أرهنوني. قال ابن مسلمة :أي شيء تريد ؟ قال :أرهنوني نساءك م. قال :كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب ؟ قال :فترهنوني أبناءك م.
بـ أَح ُدـهـ م فيقالُ :رِه نـبوسق أو وسقين هذا عار علينا .ولكنا نرهنك الّ ْ قال :كيف نرهنك أبناءنا فُيَس ّ لَم ةـ ،يعني السلح.
فواعده أن يأتيه. وصنع أبو نائلة مثل ما صنع محمد بن مسلمة ،فقد جاء كعبًا فتناشد معه أطراف الشعار سويعة ،ث م قال له :ويحك يا بن الشرف ،إني قد جئت لحاجة أريد ذكرها لك فاكت م عني.
قال كعب :أفعل.
قال أبو نائلة :كان قدو م هذا الرجل علينا بلء ،عادتنا العرب ،ورمتنا عن َقْو ٍ ت عنا السبل ،حتى س ـواحد ة ،وقطع ْ ضاع العيال ،وُج ِهـَدـتـ النفس ،وأصبحنا قد ُج ِهـْدـنـا وُج ِهـدـ عيالنا ،ودار الحوار على نحو ما دار مع ابن مسلمة.
وقال أبو نائلة أثناء حديثه :إن معي أصحابًا لي على مثل رأيي ،وقد أردت أن آتيك به م ،فتبيعه م وتحسن في ذلك. وقد نجح ابن مسلمة وأبو نائلة في هذا الحوار إلى ما قصد ،فإن كعبًا لن ينكر معهما السلح والصحاب بعد هذا الحوار.
وفي ليلة ُم ْقـِم َرـ ةـ ليلة الرابع عشر من شهر ربيع الول سنة 3هـ ـ اجتمعت هذه المفرز ة إلى رسول ال صلى ال عليه ل :)انطلقوا على اس م ال ،الله م أعنه م( ،ث م رجع إلى بيته ،وطفق وسل م ،فشيعه م إلى َبِقيع الَغْرـ قَــد،ث م وجهه م قائ ً
يصلى ويناجي ربه. وانتهت المفرز ة إلى حصن كعب بن الشرف ،فهتف به أبو نائلة ،فقا م لينزل إليه م ،فقالت له امرأته ـ وكان حديث العهد بها :أين تخرج هذه الساعة ؟ أسمع صوتًا كأنه يقطر منه الد م.
قال كعب :إنما هو أخي محمد بن مسلمة ،ورضيعي أبو نائلة ،إن الكري م لو دعي إلى طعنة أجاب ،ث م خرج إليه م وهو متطيب ينفح رأسه. وقد كان أبو نائلة قال لصحـابـه :إذا ما جاء فإني آخذ بشعره فأشمه ،فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونك م فاضربوه ،فلما نزل كعب إليه م تحدث معه م ساعة ،ث م قال أبو نائلة :هل لك يا بن الشرف أن نتماشى إلى ِش ْع ـبـ العجوز فنتحدث بقية ليلتنا ؟ قال :إن شئت م ،فخرجوا يتماشون ،فقال أبو نائلة وهو في الطريق :ما رأيت كالليلة طيبًا أعطر ،وزهي كعب بما سمع ،فقال :عندي أعطر نساء العرب ،قال أبو نائلة :أتأذن لي أن أش م رأسك ؟ قال:
نع م ،فأدخل يده في رأسه فشمه وأش م أصحابه . ث م مشى ساعـة ث م قال :أعود ؟ قال كعب :نع م ،فعاد لمثلها .حتى اطمأن . ث م مشى ساعة ث م قال :أعود ؟ قال :نع م ،فأدخل يده في رأسه ،فلما استمكن منه قال :دونك م عدو ال ،فاختلفت لفوضعه في ثُّنتِِه ،ـ ث م تحامل عليه حتي بلغ عانته، عليه أسيافه م ،لكنها ل م تغن شيئًا ،فأخذ محمد بن مسلمة ِم ْغـَوـ ً ل ،وكان قد صاح صيحة شديد ة أفزعت من حوله ،فل م يبق حصن إل أوقدت عليه النيران. فوقع عدو ال قتي ً
ورجعت المفرز ة وقد أصيب الحارث بن أوس بُذ َبـاب بعض سيوف أصحابه فجرح ونزف الد م ،فلما بلغت المفرز ة َح ّرـ ة الُعَر ْيـضـرأت أن الحارث ليس معه م ،فوقفت ساعة حتي أتاه م يتبع آثاره م ،فاحتملوه ،حتي إذا بلغوا َبِقيع الَغْر قَــد كبروا ،وسمع رسول ال صلى ال عليه وسل م تكبيره م ،فعرف أنه م قد قتلوه ،فكبر ،فلما انتهوا إليه قال :)أفلحت الوجوه( ،قالوا :ووجهك يا رسول ال ،ورموا برأس الطاغية بين يديه ،فحمد ال على قتله ،وتفل علي جرح الحارث فبرأ ،ول م يؤذ بعده. ولما علمت اليهود بمصرع طاغيتها كعب بن الشرف دب الرعب في قلوبه م العنيد ة ،وعلموا أن الرسول صلى ال عليه وسل م لن يتوانى في استخدا م القو ة حين يري أن النصح ل يجدي نفعًا لمن يريد العبث بالمن إواثار ة
الضطرابات وعد م احترا م المواثيق ،فل م يحركوا ساكنًا لقتل طاغيته م ،بل لزموا الهدوء ،وتظاهروا بإيفاء العهود،
واستكانوا ،وأسرعت الفاعي إلى جحورها تختبئ فيها .
وهكذا تفرغ الرسول صلى ال عليه وسل م ـ إلي حين ـ لمواجهة الخطار التي كان يتوقع حدوثها من خارج المدينة، وأصبح المسلمون وقد تخفف عنه م كثير من المتاعب الداخلية التي كانوا يتوجسونها ،ويشمون رائحتها بين آونة وأخري .
غزو ة ُبْح رـان وهي دورية قتال كبير ة ،قوامها ثلثمائة مقاتل ،قادها الرسول صلى ال عليه وسل م في شهر ربيع الخر سنة 3هـ إلى أرض يقال لها :بحران ـ وهي َم ْعـِدـ ن ـبالحجاز من ناحية الفُْرع ـ فأقا م بها شهر ربيع الخر ث م جمادى الولى ـ من
السنة الثالثة من الهجر ة ـ ث م رجع إلى المدينة ،ول م يلق حربًا.
سرية زيد بن حارثة وهي آخر وأنجح دورية للقتال قا م بها المسلمون قبل أحد ،وقعت في جمادي الخر ة سنة 3هـ. وتفصيلها :أن قريشًا بقيت بعد بدر يساورها القلق والضطراب ،وجاء الصيف ،واقترب موس م رحلتها إلى الشا م، فأخذها َهّ م آخر.
قال صفوان بن أمية لقريش ـ وهو الذي نخبته قريش في هذا العا م لقياد ة تجارتها إلى الشا م :إن محمدًا وصحبه
َع ّوـُرـ واـعلينا متجرنا ،فما ندري كيف نصنع بأصحابه ،وه م ل يبرحون الساحل ؟ وأهل الساحل قد وادعه م ودخل عامته م معه ،فما ندري أين نسلك ؟ إوان أقمنا في دارنا هذه أكلنا رءوس أموالنا فل م يكن لها من بقاء .إوانما حياتنا بمكة على التجار ة إلى الشا م في الصيف ،إوالى الحبشة في الشتاء.
ودارت المناقشة حول هذا الموضوع ،فقال السود بن عبد المطلب لصفوان :تنكب الطريق على الساحل وخذ طريق العراق ـ وهي طريق طويلة جدًا تخترق نجدًا إلى الشا م ،وتمر في شرقي المدينة على بعد كبير منها ،وكانت قريش
تجهل هذه الطريق كل الجهل ـ فأشار السود بن عبد المطلب على صفوان أن يتخذ فَُرات بن َح ّيــان ـ من بني بكر ل له ،ويكون رائده في هذه الرحلة. بن وائل ـ دلي ً
وخرجت عير قريش يقودها صفوان بن أمية ،آخذ ة الطريق الجديد ة ،إل أن أنباء هذه القافلة وخطة سيرها طارت إلى المدينة .وذلك أن َس ِلـيط بن النعمان ـ كان قد أسل م ـ اجتمع في مجلس شرب ـ وذلك قبل تحري م الخمر ـ مع نعي م بن مسعود الشجعي ـ ول م يكن أسل م إذ ذاك ـ فلما أخذت الخمر من نعي م تحدث بالتفصيل عن قضية العير وخطة سيرها،فأسرع سليط إلى النبي صلى ال عليه وسل م يروي له القصة. وجهز رسول ال صلى ال عليه وسل م لوقته حملة قوامها مائة راكب في قياد ة زيد بن حارثة الكلبي ،وأسرع زيد حتى ده م القافلة بغتة ـ على حين غر ة ـ وهي تنزل على ماء في أرض نجد يقال لهَ :قْر َدـ ةـ بالفتح فالسكون ـ فاستولي عليها كلها ،ول م يكن من صفوان ومن معه من حرس القافلة إل الفرار بدون أي مقاومة. وأسر المسلمون دليل القافلة ـ فرات بن حيان ،وقيل :ورجلين غيره ـ وحملوا غنيمة كبير ة من الواني والفضة كانت تحملها القافلة ،قدرت قيمتها بمائة ألف ،وقس م رسول ال صلى ال عليه وسل م هذه الغنيمة على أفراد السرية بعد أخذ الخمس ،وأسل م فرات بن حيان على يديه صلى ال عليه وسل م.
وكانت مأسا ة شديد ة ونكبة كبير ة أصابت قريشًا بعد بدر ،اشتد لها قلق قريش وزادتها هما وحزنًا .ول م يبق أمامها إل
طريقان،إما أن تمتنع عن غطرستها وكبريائها ،وتأخذ طريق الموادعة والمصالحة مع المسلمين ،أو تقو م بحرب شاملة
تعيد لها مجدها التليد ،وعزها القدي م ،وتقضي على قوات المسلمين بحيث ل يبقي له م سيطر ة على هذا ول ذاك ،وقد اختارت مكة الطريق الثانية ،فازداد إصرارها على المطالبة بالثأر ،والتهيؤ للقاء المسلمين في تعبئة كاملة ،وتصميمها على الغزو في دياره م ،فكان ذلك وما سبق من أحداث التمهيد القوي لمعركة أحد.
غـزو ة أحـد
استعداد تقريش لمعركة ناتقمة تقوام جيش تقريش وتقيادته جيش مكة يتحرك استعداد المسلمين للطوارئ الجيش المكي إلى أسوار المدينة المجلس الستشاري للخذ لخطة الدفاع تكتيب الجيش السلمي ولخروجه إلى ساحة القتال استعراض الجيش المبيت بين أحد والمدينة تمرد عبد ا بن أبي وأصحابه بقية الجيش السلمي إلى أحد لخطة الدفاع الرسول صلى ا عليه وسلم ينفث روح البسالة في الجيش
تعبئـة الجيش المكي مناورات سياسية من تقبل تقريش جهود نسوة تقريش في التحميس أول وتقود المعركة ثقل المعركة حول اللواء وإبادة حملته القتال في بقية النقاط مصرع أسد ا حمزة بن عبد المطلب السيطرة على الموتقف من أحطضان المرأة إلى مقارعة السيوف والدرتقة نصيب فصيلة الرماة في المعركة الهزيمة تنزل بالمشركين غلطة الرماة الفظيعة لخالد بن الوليد يقوم بلخطة تطوي ق الجيش السلمي
استعداد قريش لمعركة ناقمة كانت مكة تحترق غيظًا على المسلمين مما أصاربها في معركة ربدر من مأساة الهزيمة وقتل الصناديد والشراف ،وكانت تجيش فيها نزعات النتقام وأخذ الثأر ،حتى إن قريشاً كانوا قد منعوا البكاء على قتلهم في ربدر ،ومنعوا من الستعجال في فداء الساري حتى ل يتفطن المسلمون مدي مأساتهم وحزنهم. وعلى أثر غزوة ربدر اتفقت قريش على أن تقوم ربحرب شاملة ضد المسلمين تشفي غيظها وتروي غلة حقدها ،وأخذت في الستعداد للخوض في مثل هذه المعركة. وكان عكرمة ربن أربي جهل ،وصفوان ربن أمية ،وأربو سفيان ربن حرب ،وعبد ا ربن أربي رربيعة أكثر زعماء قريش نشافطاً وتحمساً لخوض المعركة. وأول ما فعلوه ربهذا الصدد أنهم احتجزوا العير التي كان قد نجا ربها أربو سفيان ،والتي كانت سبباً لمعركة ربدر ،وقالوا للذين كانت فيها أموالهم :يا معشر قريش ،إن محمداً قد َوتََرُكم وقتل خياركم ،فأعينونا ربهذا المال على حرربه ؛ لعلنا أن ندرك منه ثأرًا ،فأجاربوا لذلك، صّدوْا َعن َسِبيِل فباعوها ،وكانت ألف ربعير ،والمال خمسين ألف دينار ،وفي ذلك أنزل ا تعالي :}إِّن الِّذيَن َكفَُروْا ُينفُِقوَن أَْمَوالَهُْم لِيَ ُ اِ فََسُينفُِقونََها ثُّم تَُكوُن َعلَْيِهْم َحْسَرةً ثُّم يُْغلَُبوَن{ ]النفال36 :[ ثم فتحوا رباب التطوع لكل من أحب المساهمة في غزو المسلمين من الحاربيش وكنانة وأهل تهامة ،وأخذوا لذلك أنواعا من فطرق التحريض ،حتى إن صفوان ربن أمية أغري أربا عزة الشاعر ـ الذي كان قد أسر في ربدر ،فََمّن عليه رسول ا صلى ا عليه وسلم وأفطلق سراحه ربغير فدية ،وأخذ منه العهد ربأل يقوم ضده ـ أغراه على أن يقوم ربتحريض القبائل ضد المسلمين ،وعاهده أنه إن رجع عن الغزوة حي ًا يغنيه ،وإل يكفل ربناته ،فقام أربو عزة ربتحريض القبائل ربأشعاره التي كانت تذكي حفائظهم ،كما اختاروا شاعراً آخر ـ ُمَسافع ربن عبد مناف الجمحي ـ لنفس المهمة. وكان أربو سفيان أشد تأليباً على المسلمين ربعدما رجع من غزوة الّسِويق خائباً لم ينل ما في نفسه ،ربل أضاع مقداًرا كبيراً من تمويناته في هذه الغزوة. وزاد الطينة ربلة ـ أو زاد النار إذكاء ،إن صح هذا التعبير ـ ما أصاب قريشا ً أخيرًا في سرية زيد ربن حارثة من الخسارة الفادحة التي قصمت فقار اقتصادها ،وزودها من الحزن والهم ما ل يقادر قدره ،وحينئذ زادت سرعة قريش في استعدادها للخوض في معركة تفصل ربينهم وربين المسلمين.
قوام جيش قريش وقيادته ولما استدارت السنة كانت مكة قد استكملت عدتها ،واجتمع إليها من المشركين ثلثة آلف مقاتل من قريش والحلفاء والحاربيش ،ورأي قادة قريش أن يستصحبوا معهم النساء حتى يكون ذلك أربلغ في استماتة الرجال دون
أن تصاب حرماتهم وأعراضهم ،وكان عدد هذه النسوة خمس عشرة امرأة. وكان سل،ح النقليات في هذا الجيش ثلثة آلف ربعير ،ومن سل،ح الفرسان مائتا فرس ،جنبوها فطول الطريق، وكان من سل،ح الوقاية سبعمائة درع .وكانت القيادة العامة إلى أربي سفيان ربن حرب ،وقيادة الفرسان إلى خالد ربن الوليد يعاونه عكرمة ربن أربي جهل .أما اللواء فكان إلى ربني عبد الدار. جيش مكة يتحرك تحرك الجيش المكي بعد هذا العداد التا م نحو المدينة ،وكانت التارات القديمة والغيظ الكامن يشعل البغضاء في القلوب ،ويشف عما سوف يقع من قتال مرير .الستخبارات النبوية تكشف حركة العدو وكان العباس بن عبد المطلب يرقب حركات قريش واستعداداتها العسكرية ،فلما تحرك هذا الجيش بعث العباس رسالة مستعجلة إلى النبي صلى ال عليه وسل م ضمنها جميع تفاصيل الجيش. وأسرع رسول العباس بإبلغ الرسالة ،وجد في السير حتى إنه قطع الطريق بين مكة والمدينة ـ التي تبلغ مسافتها إلى نحو خمسمائة كيلو متر ـ في ثلثة أيا م ،وسل م الرسالة إلى النبي صلى ال عليه وسل م وهو في مسجد قباء. ق أر الرسالة على النبي صلى ال عليه وسل م أبي بن كعب ،فأمره بالكتمان ،وعاد مسرعًا إلى المدينة ،وتبادل الرأي مع قاد ة المهاجرين والنصار.
استعداد المسلمين للطوارئ وظلت المدينة في حالة استنفار عا م ل يفارق رجالها السلح حتى وه م في الصل ة ،استعدادًا للطوارئ. وقامت مفرز ة من النصار ـ فيه م سعد بن معاذ ،وأسيد بن حضير ،وسعد بن عباد ة ـ بحراسة رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فكانوا يبيتون على بابه وعليه م السلح .وقامت على مداخل المدينة وأنقابها مفرزات تحرسها ؛ خوفا من أن يؤخذوا على غر ة. وقامت دوريات من المسلمين ـ لكتشاف تحركات العدو ـ تتجول حول الطرق التي يحتمل أن يسلكها المشركون للغار ة على المسلمين.
الجيش المكي إلى أسوار المدينة وتابع جيش مكة سيره على الطريق الغربية الرئيسية المعتاد ة ،ولما وصل إلى الْب َوـاء اقترحت هند بنت عتبة ـ زوج أبي سفيان ـ بنبش قبر أ م رسول ال صلى ال عليه وسل م َ ،بيَد أن قاد ة الجيش رفضوا هذا الطلب،وحذروا من العواقب الوخيمة التي تلحقه م لو فتحو هذا الباب.
ث م واصل جيش مكة سيره حتى اقترب من المدينة ،فسلك وادي الَعقيق ،ث م انحرف منه إلى ذات اليمين حتى نزل
قريبًا بجبل أحد ،في مكان يقال لهَ :ع يـَنْي نـ ،في بطن الّس ْبـَخـ ة ـمن قنا ة على شفير الوادي ـ الذي يقع شمإلى المدينة
بجنب أحـد ،فعسكر هناك يو م الجمعة السادس من شهر شوال سنة ثلث من الهجر ة. المجلس الستشاري لخذ خطة الدفاع
ونقلت استخبارات المدينة أخبار جيش مكة خب اًر بعد خبر حتى الخبر الخير عن معسكره ،وحينئذ عقد رسول ال
صلى ال عليه وسل م مجلسًا استشاريًا عسكريًا أعلى ،تبادل فيه الرأي لختيار الموقف ،وأخبره م عن رؤيا رآها ،قال: )إني قد رأيت وال خي ًرا ،رأيت بق ًار يذبح ،ورأيت في ُذ َبـاب سيفي ثُْلمًا ،ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة(،
وتأّو ل ـ البقر بنفر من أصحابه يقتلون ،وتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته ،وتأول الدرع بالمدينة.
ث م قد م رأيه إلى صحابته أل يخرجوا من المدينة وأن يتحصنوا بها،فإن أقا م المشركون بمعسكره م أقاموا بَِش ّرـ ُم قَـا م وبغير جدوي ،إوان دخلوا المدينة قاتله م المسلمون على أفواه الزقة ،والنساء من فوق البيوت ،وكان هذا هو الرأي.
ووافقه على هذا الرأي عبد ال بن أبي بن سلول ـ رأس المنافقين ـ وكان قد حضر المجلس بصفته أحد زعماء
الخزرج .ويبدو أن موافقته لهذا الرأي ل م تكن لجل أن هذا هو الموقف الصحيح من حيث الوجهة العسكرية ،بل ليتمكن من التباعد عن القتال دون أن يعل م بذلك أحد ،وشاء ال أن يفتضح هو وأصحابه ـ لول مر ة ـ أما م المسلمين وينكشف عنه م الغطاء الذي كان كفره م ونفاقه م يكمن وراءه ،ويتعرف المسلمون في أحرج ساعاته م على تلك الفاعي التي كانت تتحرك تحت ملبسه م وأكمامه م. فقد بادر جماعة من فضلء الصحابة ممن فاته الخروج يو م بدر ومن غيره م ،فأشاروا على النبي صلى ال عليه وسل م بالخروج ،وألحوا عليه في ذلك حتى قال قائله م :يا رسول ال،كنا نتمني هذا اليو م وندعو ال ،فقد ساقه إلينا
وقرب المسير ،اخرج إلى أعدائنا ،ل يرون أنا َج ُبـّنا عنه م.
وكان في مقدمة هؤلء المتحمسين حمز ة بن عبد المطلب ع م رسول ال صلى ال عليه وسل م ـ الذي كان قد أبلي أحسن بلء في معركة بدر ـ فقد قال للنبي صلى ال عليه وسل م :والذي أنزل عليك الكتاب ل أطع م طعامًا حتى أجالده م بسيفي خارج المدينة .
وتنازل رسول ال صلى ال عليه وسل م عن رأيه مراعا ة لهؤلء المتحمسين ،واستقر الرأي على الخروج من المدينة، واللقاء في الميدان السافر.
تكتيب الجيش السلمي وخروجه إلى ساحة القتال ث م صلى النبي صلى ال عليه وسل م بالناس يو م الجمعة ،فوعظه م وأمره م بالجد والجتهاد ،وأخبر أن له م النصر بما صبروا ،وأمره م بالتهيؤ لعدوه م ،ففرح الناس بذلك .ث م صلى بالناس العصر ،وقد حشدوا وحضر أهل الَع َوـإاـلى ،ث م دخل بيته ،ومعه صاحباه أبو بكر وعمر ،فعمماه وألبساه ،فتدجج بسلحه وظاهر بين درعين ]أي لبس درعا فوق
درع[ وتقلد السيف ،ث م خرج على الناس. وكان الناس ينتظرون خروجه ،وقد قال له م سعد بن معاذ وأسيد بن حضير :استكرهت م رسول ال صلى ال عليه وسل م على الخروج فردوا المر إليه،فندموا جميعًا على ما صنعوا ،فلما خرج قالوا له :يا رسول ال،ما كان لنا أن
نخالفك فاصنع ما شئت ،إن أحببت أن تمكث بالمدينة فافعل .فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)ما ينبغي لنبي إذا لبس لَْم تَـه ـ وهي الدرع ـ أن يضعها حتى يحك م ال بينه وبين عدوه( . وقس م النبي صلى ال عليه وسل م جيشه إلى ثلث كتائب: .1كتيبة المهاجرين ،وأعطي لواءها مصعب بن عمير العبدري. .2كتيبة الوس من النصار ،وأعطي لواءها أسيد بن حضير. .3كتيبة الخزرج من النصار ،وأعطي لواءها الُح َبــاب بن المنذر. وكان الجيش متألفًا من ألف مقاتل فيه م مائة دارع ،ول م يكن فيه م من الفرسان أحد ،واستعمل على المدينة ابن أ م
مكتو م على الصل ة بمن بقي في المدينة،وآذن بالرحيل ،فتحرك الجيش نحو الشمال ،وخرج السعدان أما م النبي صلى ال عليه وسل م يعدوان دارعين.
ولما جاوز ثنية الوداع رأي كتيبة حسنة التسليح منفرد ة عن سواد الجيش ،فسأل عنها ،فأخبر أنه م اليهود من حلفاء الخزرج يرغبون المساهمة في القتال ضد المشركين ،فسأل :)هل أسلموا ؟( فقالوا:ل ،فأبى أن يستعين بأهل الكفر على أهل الشرك. استعراض الجيش وعندما وصل إلى مقا م يقال له] :الشيخان[ استعرض جيشه ،فرد من استصغره ول م يره مطيقًا للقتال ،وكان منه م عبد ال بن عمر بن الخطاب وأسامة بن زيد ،وأسيد بن ظَُهير ،وزيد بن ثابت ،وزيد بن أرق م ،وَع َرـاَبةـبن أْو ســ،
وعمرو بن حز م ،وأبو سعيد الخدري ،وزيد بن حارثة النصاري ،وسعد بن َح ّبــة ،ويذكر في هؤلء البراء بن عازب،
لكن حديثه في البخاري يدل على شهوده القتال ذلك اليو م.
وأجاز رافع بن َخ ِدـيــج ،وَس ُمـَرـ ةبن ُج ْنـَدـبـعلى صغر سنهما ،وذلك أن رافع بن خديج كان ماه ًار في رماية النبل
فأجازه ،فقال سمر ة :أنا أقوي من رافع،أنا أصرعه ،فلما أخبر رسول ال صلى ال عليه وسل م بذلك أمرهما أن يتصارعا أمامه فتصارعا ،فصرع سمر ة رافعًا ،فأجازه أيضًا. المبيت بين أحد والمدينة
ل لحراسة وفي هذا المكان أدركه م المساء ،فصلى المغرب ،ث م صلى العشاء ،وبات هنالك ،واختار خمسين رج ً
المعسكر يتجولون حوله ،وكان قائده م محمد بن مسلمة النصاري ،بطل سرية كعب بن الشرف ،وتولي َذ ْكـَوـاـنبن عبد قيس حراسة النبي صلى ال عليه وسل م خاصة.
تمرد عبد ال بن أبي وأصحابه
وقبل طلوع الفجر بقليل أدلج ،حتى إذا كان بالّش ْوـ ط ـصلى الفجر ،وكان بمقربة جدًا من العدو ،فقد كان يراه م
ل :ما ندري عل م ويرونه ،وهناك تمرد عبد ال بن أبي المنافق ،فانسحب بنحو ثلث العسكر ـ ثلثمائة مقاتل ـ قائ ً
نقتل أنفسنا ؟ ومتظاه ًار بالحتجاج بأن الرسول صلى ال عليه وسل م ترك رأيه وأطاع غيره.
ول شك أن سبب هذا النعزال ل م يكن هو ما أبداه هذا المنافق من رفض رسول ال صلى ال عليه وسل م رأيه ،إوال ل م
يكن لسيره مع الجيش النبوي إلى هذا المكان معني .ولو كان هذا هو السبب ل نعزل عن الجيش منذ بداية سيره ،بل كان هدفه الرئيسي من هذا التمرد ـ في ذلك الظرف الدقيق ـ أن يحدث البلبلة والضطراب في جيش المسلمين على مرأي ومسمع من عدوه م،حتى ينحاز عامة الجيش عن النبي صلى ال عليه وسل م ،وتنهار معنويات من يبقي معه، بينما يتشجع العدو ،وتعلو همته لرؤية هذا المنظر ،فيكون ذلك أسرع إلى القضاء على النبي صلى ال عليه وسل م وأصحابه المخلصين ،ويصحو بعد ذلك الجو لعود ة الرياسة إلى هذا المنافق وأصحابه. وكاد المنافق ينجح في تحقيق بعض ما كان يهدف إليه ،فقد همت طائفتان ـ بنو حارثة من الوس ،وبنو سلمة من الخزرج ـ أن تفشل ،ولكن ال تولهما ،فثبتتا بعدما سري فيهما الضطراب ،وهمتا بالرجوع والنسحاب ،وعنهما يقول ال تعالي :}ِإْذ هّمـتـ ّ ن ]آل عمران.[122 : لـ َواـُل َو ِلـّيهَُم اـَوَعـ لَــىاِل َفْلَيتََو ّك ـِلـاْلُم ْؤـ ِمـُنــو َ{ طآئِفََتاِن ِم نـُك ْ مـ َأن تَْفَش َ َ وحاول عبد ال بن َح َرـ ــا م والد جابر بن عبد ال ـ تذكير هؤلء المنافقين بواجبه م في هذا الظرف الدقيق ،فتبعه م وهو
يوبخه م ويحضه م على الرجوع ،ويقول :تعالوا قاتلوا في سبيل ال أو ادفعوا ،قالوا :لو نعل م أنك م تقاتلون ل م نرجع، ل :أبعدك م ال أعداء ال ،فسيغني ال عنك م نبيه. فرجع عنه م عبد ال بن حرا م قائ ً
وفي هؤلء المنافقين يقول ال تعالى :} َوْلـَيْعلَـَ مالِّذ يـَن َناَفقُوْا َو ِقـيـَل لَهُْ م تََعاـَلْو ْاـَقاِتلُوْا ِفيـ َس بِـيِل اِل أَِو اْد َفـُعوْا َقالُوْا لَْو َنْع لَـُ م ِقتَـا ً ّ بـِم ْنـهُـْ م ِل ِ ل يـَم اـِن َيُقوُلوَن ِبَأْفَواـِه ِهـ مـّم اـ لَْي َسـ ِفيـ ُقُلوبِِه ْ مـ َواـُل أَْع لَـُ م بَِم اـ َيْك تُـُم وـَن{ ]آل ل لتَّبْع َنـاُك ْ مـ ُهْ م ِلْلُك ْفـِر َيْو َم ـئِـٍذَأْقَر ُ
عمران.[167 : بقية الجيش السلمي إلى أحد وبعد هذا التمرد والنسحاب قا م النبي صلى ال عليه وسل م ببقية الجيش ـ وه م سبعمائة مقاتل ـ ليواصل سيره نحو
العدو ،وكان معسكر المشركين يحول بينه وبين أحد في مناطق كثير ة ،فقال :)من رجل يخرج بنا على القو م من َك ثَـٍب ـ أي من قريب ـ من طريق ل يمر بنا عليه م ؟(.
فقال أبو َخ يـَثمَة :أنا يارسول ال ،ث م اختار طريقًا قصي ًار إلى أحد يمر بَح ّرـِ ةبني حارثة وبمزارعه م ،تاركًا جيش المشركين إلى الغرب. ومر الجيش في هذا الطريق بحائط ِم ْرـَبـعـبن َقيِظ ي ـ ـ وكان منافقًا ضرير البصر ـ فلما أحس بالجيش قا م يحثو التراب في وجوه المسلمين ،ويقول :ل أحل لك أن تدخل حائطي إن كنت رسول ال .فابتدره القو م ليقتلوه ،فقال صلى ال عليه وسل م :)ل تقتلوه ،فهذا الْع َمـىـ أعمى القلب أعمى البصر(. ل ونفذ رسول ال صلى ال عليه وسل م حتى نزل الشعب من جبل أحد في عدو ة الوادي ،فعسكر بجيشه مستقب ً
ل بين المسلمين وبين المدينة. المدينة ،وجاعل ظهره إلى هضاب جبل أحد ،وعلى هذا صار جيش العدو فاص ً
خطة الدفاع وهناك عبأ رسول ال صلى ال عليه وسل م جيشه ،وهيأه م صفوفًا للقتال ،فاختار منه م فصيلة من الرما ة الماهرين، ل ،وأعطي قيادتها لعبد ال بن جبير بن النعمان النصاري الوسي البدري ،وأمره م بالتمركز قوامها خمسون مقات ً
على جبل يقع على الضفة الشمالية من وادي قنا ة ـ وعرف فيما بعد بجبل الرما ة ـ جنوب شرق معسكر المسلمين، على بعد حوالى مائة وخمسين مت ًار من مقر الجيش السلمي.
والهدف من ذلك هو ما أبداه رسول ال صلى ال عليه وسل م في كلماته التي ألقاها إلى هؤلء الرما ة ،فقد قال لقائده م :)انضح الخيل عنا بالنبل ،ل يأتونا من خلفنا ،إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك ،ل نؤتين من قبلك( وقال للرما ة :)احموا ظهورنا ،فإن رأيتمونا نقتل فل تنصرونا ،إوان رأيتمونا قد غنمنا فل تشركونا( ،وفي رواية البخاري أنه قال :)إن رأيتمونا تخطفنا الطير فل تبرحوا مكانك م هذا حتى أرسل إليك م ،إوان رأيتمونا هزمنا القو م ووطأناه م فل تبرحوا حتى أرسل إليك م(.
بتعين هذه الفصيلة في الجبل مع هذه الوامر العسكرية الشديد ة سد رسول ال صلى ال عليه وسل م الثلمة الوحيد ة
التي كان يمكن لفرسان المشركين أن يتسللوا من ورائها إلى صفوف المسلمين ،ويقوموا بحركات اللتفاف وعملية التطويق. أما بقية الجيش فجعل على الميمنة المنذر بن عمرو ،وجعل على الميسر ة الزبير بن العوا م ،يسانده المقداد بن السود ،وكان إلى الزبير مهمة الصمود في وجه فرسان خالد بن الوليد،وجعل في مقدمة الصفوف نخبة ممتاز ة من شجعان المسلمين ورجالته م المشهورين بالنجد ة والبسالة ،والذين يوزنون باللف . ولقد كانت خطة حكيمة ودقيقة جدًا ،تتجلي فيها عبقرية قياد ة النبي صلى ال عليه وسل م لعسكرية ،وأنه ل يمكن لي
قائد مهما تقدمت كفاءته أن يضع خطة أدق وأحك م من هذا؛ فقد احتل أفضل موضع من ميدان المعركة ،مع أنه نزل
فيه بعد العدو ،فإنه حمي ظهره ويمينه بارتفاعات الجبل ،وحمي ميسرته وظهره ـ حين يحتد م القتال ـ بسد الثلمة الوحيد ة التي كانت توجد في جانب الجيش السلمي ،واختار لمعسكره موضعًا مرتفعًا يحتمي به ـ إذا نزلت الهزيمة
بالمسلمين ـ ول يلتجئ إلى الفرار ،حتى يتعرض للوقوع في قبضة العداء المطاردين وأسره م ،ويلحق مع ذلك خسائر
فادحة بأعدائه إن أرادوا احتلل معسكره وتقدموا إليه،وألجأ أعداءه إلى قبول موضع منخفض يصعب عليه م جدًا أن
يحصلوا على شيء من فوائد الفتح إن كانت الغلبة له م ،ويصعب عليه م الفلت من المسلمين المطاردين إن كانت الغلبة للمسلمين ،كما أنه عوض النقص العددي في رجاله باختيار نخبة ممتاز ة من أصحابه الشجعان البارزين. وهكذا تمت تعبئة الجيش النبوي صباح يو م السبت السابع من شهر شوال سنة 3هـ. الرسول صلى ال عليه وسل م ينفث روح البسالة في الجيش ونهى الرسول صلى ال عليه وسل م الناس عن الخذ في القتال حتى يأمره م ،وظاهر بين درعين ،وحرض أصحابه على القتال ،وحضه م على المصابر ة والجلد عند اللقاء ،وأخذ ينفث روح الحماسة والبسالة في أصحابه حتى جرد
سيفًا بات ًار ونادي أصحابه :)من يأخذ هذا السيف بحقه؟( ،فقا م إليه رجال ليأخذوه ـ منه م على بن أبي طالب ،والزبير بن العوا م ،وعمر بن الخطاب ـ حتى قا م إليه أبو ُد َجـ اــنة ِس َم ـاـك بن َخ َرـَشـةـ،فقال :وما حقه يا رسول ال ؟ قال :)أن تضرب به وجوه العدو حتى ينحني( .قال :أنا آخذه بحقه يا رسول ال ،فأعطاه إياه. ل شجاعًا يختال عند الحرب ،وكانت له عصابة حمراء إذا اعتصب بها عل م الناس أنه سيقاتل وكان أبو دجانة رج ً
حتى الموت .فلما أخذ السيف عصب رأسه بتلك العصابة ،وجعل يتبختر بين الصفين ،وحينئذ قال رسول ال صلى
ال عليه وسل م :)إنها لمشية يبغضها ال إل في مثل هذا الموطن(.
تعبئـة الجيش المكي أما المشركون فعبأوا جيشه م حسب نظا م الصفوف ،فكانت القياد ة العامة إلى أبي سفيان صخر بن حرب الذي تمركز
في قلب الجيش ،وجعلوا على الميمنة خالد بن الوليد ـ وكان إذ ذاك مشركًا ـ وعلى الميسر ة عكرمة بن أبي جهل،
وعلى المشا ة صفوان ابن أمية ،وعلى رما ة النبل عبد ال بن أبي ربيعة.
أما اللواء فكان إلى مفرز ة من بني عبد الدار ،وقد كان ذلك منصبه م منذ أن اقتسمت بنو عبد مناف المناصب التي ورثوها من قصي بن كلب ـ كما أسلفنا في أوائل الكتاب ـ وكان ل يمكن لحد أن ينازعه م في ذلك؛ تقيدًا بالتقاليد
التي ورثوها كاب ًار عن كابر ،بيد أن القائد العا م ـ أبا سفيان ـ ذكره م بما أصاب قريشًا يو م بدر حين أسر حامل لوائه م
النضر بن الحارث ،وقال له م ـ ليستفز غضبه م ويثير حميته م :يا بني عبد الدار ،قد وليت م لواءنا يو م بدر فأصابنا ما
قد رأيت م ،إوانما يؤتي الناس من قبل راياته م ،إواذا زالت زالوا ،فإما أن تكفونا لواءنا ،إواما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه.
ونجح أبو سفيان في هدفه ،فقد غضب بنو عبد الدار لقول أبي سفيان أشد الغضب ،وهموا به وتواعدوه وقالوا له: نحن نسل م إليك لواءنا ؟ستعل م غدًا إذا التقينا كيف نصنع .وقد ثبتوا عند احتدا م المعركة حتى أبيدوا عن بكر ة أبيه م.
مناورات سياسية من قبل قريش وقبيل نشوب المعركة حاولت قريش إيقاع الفرقة والنزاع داخل صفوف المسلمين .فقد أرسل أبو سفيان إلى النصار يقول له م :خلوا بيننا وبين ابن عمنا فننصرف عنك م ، ،فل حاجة لنا إلى قتالك م .ولكن أين هذه المحاولة أما م اليمان الذي ل تقو م له الجبال ،فقد رد عليه النصار ردًا عنيفًا ،وأسمعوه ما يكره. واقتربت ساعة الصفر ،وتدانت الفئتان ،فقامت قريش بمحاولة أخري لنفس الغرض ،فقد خرج إلى النصار عميل ص يـِفي ،وكان يسمي الراهب ،فسماه رسول ال صلى ال عليه خائن يسمي أبا عامر الفاسق ـ واسمه عبد عمرو ابن َ وسل م الفاسق ،وكان رأس الوس في الجاهلية ،فلما جاء السل م َش ِرـقـبه ،وجاهر رسول ال صلى ال عليه وسل م بالعداو ة ،فخرج من المدينة وذهب إلى قريش يؤلبه م على رسول ال صلى ال عليه وسل م ويحضه م على قتاله،
ووعده م بأن قومه إذا رأوه أطاعوه ،ومالوا معه ـ فكان أول من خرج إلى المسلمين في الحابيش وُع ْبـَدـاـن أهل مكة. فنادي قومه وتعرف عليه م ،وقال :يا معشر الوس ،أنا أبو عامر .فقالوا :ل أنع م ال بك عينًا يا فاسق .فقال :لقد ل شديدًا وراضخه م بالحجار ة. أصاب قومي بعدي شر .ـ ولما بدأ القتال قاتله م قتا ً
وهكذا فشلت قريش في محاولتها الثانية للتفريق بين صفوف أهل اليمان .ويدل عمله م هذا على ما كان يسيطر عليه م من خوف المسلمين وهيبته م ،مع كثرته م وتفوقه م في العدد والعد ة.
جهود نسو ة قريش في التحميس وقامت نسو ة قريش بنصيبهن من المشاركة في المعركة ،تقودهن هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان ،فكن يتجولن في
الصفوف ،ويضربن بالدفوف؛ يستنهضن الرجال ،ويحرضن على القتال ،ويثرن حفائظ البطال ،ويحركن مشاعر أهل الطعان والضراب والنضال ،فتار ة يخاطبن أهل اللواء فيقلن: َو ْي ـهـا بني عبد الــدار ** ويـها ُح َمـاـ ة الدب ــار ** ضـربًا بكـل بت ـ ــار **
وتار ة يأززن قومهن على القتال وينشدن: إن تـُْقبلُـوا ُنَعانـِـق ** شـ النم ــارق ** وَنف ـِْر ُ
أو تـُْد بِـُر واـُنفـَـاِر قـ ** ف ـراق غيـر َوامِـق **
أول وقود المعركة وتقارب الجمعان وتدانت الفئتان ،وآنت مرحلة القتال ،وكان أول وقود المعركة حامل لواء المشركين طلحة بن أبي طلحة العبدري ،وكان من أشجع فرسان قريش ،يسميه المسلمون كبش الكتيبة .خرج وهو راكب على جمل يدعو إلى المبارز ة ،فأحج م عنه الناس لفرط شجاعته ،ولكن تقد م إليه الزبير ول م يمهله ،بل وثب إليه وثبة الليث حتى صار معه على جمله ،ث م اقتح م به الرض فألقاه عنه وذبحه بسيفه. ورأي النبي صلى ال عليه وسل م هذا الصراع الرائع فكبر ،وكبر المسلمون وأثنى على الزبير ،وقال في حقه :)إن لكل نبي حواريًا ،وحواري الزبير( . ثقل المعركة حول اللواء إواباد ة حملته
ث م اندلعت نيران المعركة ،واشتد القتال بين الفريقين في كل نقطة من نقاط الميدان ،وكان ثقل المعركة يدور حول لواء المشركين ،فقد تعاقب بنو عبد الدار لحمل اللواء بعد قتل قائده م طلحة بن أبي طلحة ،فحمله أخوه أبو شيبة عثمان بن أبي طلحة ،وتقد م للقتال وهو يقول: ص ْعـَدـ ةـ أو تَْن َدـقّـا ب ـ ال ّ ضـ َ إّن على أْه لـ اللَواء حق ـًا ** أن تُْخ َ فحمل عليه حمز ة بن عبد المطلب فضربه على عاتقه ضربة بترت يده مع كتفه ،حتى وصلت إلى سرته ،فبانت رئته.
ث م رفع اللواء أبو سعد بن أبي طلحة ،فرماه سعد بن أبي وقاص بسه م أصاب حنجرته ،فأُْد ِلـَع لساُنهُ ومات لحينه. وقيل :بل خرج أبو سعد يدعو إلى البراز ،فتقد م إليه على بن أبي طالب ،فاختلفا ضربتين ،فضربه على فقتله. ث م رفع اللواء ُم َسـاـفع بن طلحة بن أبي طلحة ،فرماه عاص م بن ثابت بن أبي الْف لَـح بسه م فقتله ،فحمل اللواء بعده أخوه ِك لَـب بن طلحة بن أبي طلحة ،فانقض عليه الزبير بن العوا م وقاتله حتى قتله ،ث م حمل اللواء أخوهما الُج لَــس بن طلحة بن أبي طلحة ،فطعنه طلحة بن عبيد ال طعنة قضت على حياته .وقيل :بل رماه عاص م بن ثابت بن أبي الفلح بسه م فقضي عليه. هؤلء ستة نفر من بيت واحد ،بيت أبي طلحة عبد ال بن عثمان بن عبد الدار ،قتلوا جميعًا حول لواء المشركين ،ث م حمله من بني عبد الدار أرطا ة بن ُش َرـْحـ بِــيل،فقتله على بن أبي طالب ،وقيل :حمز ة بن عبد المطلب ،ث م حمله ُش َرـيـح
بن قارظ فقتله قُْز َمـاـنـ وكان منافقًا قاتل مع المسلمين حمية ،ل عن السل م ـ ث م حمله أبو زيد عمرو بن عبد مناف العبدري ،فقتله قزمان أيضًا ،ث م حمله ولد لشرحبيل بن هاش م العبدري فقتله قزمان أيضًا.
فهؤلء عشر ة من بني عبد الدار ـ من حمله اللواء ـ أبيدوا عن آخره م ،ول م يبق منه م أحد يحمل اللواء .فتقد م غل م لـه م ص َؤــاب ـ فحمل اللواء ،وأبدي من صنوف الشجاعة والثبات ما فاق به مواليه من حملة اللواء الذين قتلوا حبشي ـ اسمه ُ
قبله ،فقد قاتل حتى قطعت يداه ،فبرك على اللواء بصدره وعنقه؛ لئل يسقط ،حتى قتل وهو يقول :الله م هل أعزرت ؟ يعني هل أعذرت؟. ص ؤـاب ـ سقط اللواء على الرض ،ول م يبق أحد يحمله ،فبقي ساقطًا. وبعد أن قتل هذا الغل م ـ ُ
القتال في بقية النقاط وبينما كان ثقل المعركة يدور حول لواء المشركين كان القتال المرير يجري في سائر نقاط المعركة ،وكانت روح اليمان قد سادت صفوف المسلمين ،فانطلقوا خلل جنود الشرك انطلق الفيضان تتقطع أمامه السدود ،وه م يقولون: ]أمت ،أمت[ كان ذلك شعا اًر له م يو م أحد. أقبل أبو ُد َجـ اــنة معلمًا بعصابته الحمراء ،آخذًا بسيف رسول ال صلى ال عليه وسل م ،مصممًا على أداء حقه ،فقاتل
حتى أمعن في الناس ،وجعل ل يلقي مشركًا إل قتله ،وأخذ يهد صفوف المشركين هّد اـ.قال الزبير بن العوا م :وجدت في نفسي حين سألت رسول ال صلى ال عليه وسل م السيف فمنعنيه ،وأعطاه أبا دجانة ،وقلت ـ أي في نفسي :أنا ابن صفية عمته ،ومن قريش ،وقد قمت إليه ،فسألته إياه قبله فآتاه إياه وتركني ،وال لنظرن ما يصنع ؟ فاتبعته، فأخرج عصابة له حمراء فعصب بها رأسه ،فقالت النصار :أخرج أبو دجانة عصابة الموت ،فخرج وهو يقول:
أنا الذي عاهـدني خليلي ** ونحـن بالّس ْفـح لدى الّنِخ يــل
بـبَس يـف ال والرسول ض ِر ـ ْ أل أقو م الّد ْهـَرـ في الَك يـول ** أ ْ ف عليه ،فجعل كل واحد منهما يدنو فجعل ل يلقى أحدًا إل قتله ،وكان في المشركين رجل ل يدع لنا جريحًا إل َذ فّـ َ من صاحبه ،فدعوت ال أن يجمع بينهما فالتقيا ،فاختلفا ضربتين ،فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بدرقته ،فََع ّ تـ ض ْ بسيفه ،فضربه أبو دجانة فقتله .
ث م أمعن أبو دجانة في هّد الصفوف ،حتى خلص إلى قائد ة نسو ة قريش ،وهو ل يدري بها .قال أبو دجانة:رأيت إنسانًا يْخ ِم ـشـ الناس خمشًا شديدًا ،فصمدت له ،فلما حملت عليه السيف وَلْو َل ـ ،ـفإذا امرأ ة ،فأكرمت سيف رسول ال صلى ال عليه وسل م أن أضرب به امرأ ة. وكانت تلك المرأ ة هي هند بنت عتبة .قال الزبير بن العوا م :رأيت أبا دجانة قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة ،ث م عدل السيف عنها ،فقلت:ال ورسوله أعل م . وقاتل حمز ة بن عبد المطلب قتال الليوث المهتاجة ،فقد اندفع إلى قلب جيش المشركين يغامر مغامر ة منقطعة النظير ،ينكشف عنه البطال كما تتطاير الوراق أما م الرياح الهوجاء ،فبالضافة إلى مشاركته الفعالة في إباد ة حاملي لواء المشركين فعل الفاعيل بأبطاله م الخرين ،حتى صرع وهو في مقدمة المبرزين ،ولكن ل كما تصـرع البطال وجهًا لوجـه في ميدان القتـال ،إوانما كمـا يغتال الكرا م في حلك الظـل م. مصرع أسد ال حمز ة بن عبد المطلب طـِع مــ ،وكان عمه طَُعيَم ةـ بن عدي قد أصيب يو م بدر ،فلما يقول قاتل حمز ة وْح ِش ـي ـبن حرب :كنت غلمًا لجبير بن ُم ْ سارت قريش إلى أحد قال لي جبير :إنك إن قتلت حمز ة ع م محمد بعمي فأنت عتيق .قال :فخرجت مع الناس ـ ل حبشيًا أقذف بالحربة قذف الحبشة ،قلما أخطئ بها شيئًا ـ فلما التقي الناس خرجت أنظر حمز ة وأتبصره، وكنت رج ً حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الْو َر ـقـ،يهُّد الناس هّد اـ ما يقو م له شيء .فوال إني لتهيأ له أريده ،فأستتر منه بشجر ة أو حجر ليدنو مني إذ تقدمني إليه ِس َبـاع بن عبد العزي ،فلما رآه حمز ة قال له :هل م إلى يابن ُم قَـطَّع ةـ ظور ـ وكانت أمه ختانة ـ قال :فضربه ضربة كأنما أخطأ رأسه . الُب ُ
قال :وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها إليه ،فوقعت في ثُّنِته ـ أحشائه ـ حتى خرجت من بين رجليه، ِ ب ،ـوتركته إواياها حتى مات ،ث م أتيته فأخذت حربتي ،ث م رجعت إلى العسكر فقعدت فيه ،ول م وذهب لينوء نحوي فَُغ لـ َ يكن لي بغيره حاجة ،إوانما قتلته لعتق ،فلما قدمت مكة عتقت . السيطر ة على الموقف
وبرغ م هذه الخسار ة الفادحة التي لحقت المسلمين بقتل أسد ال وأسد رسوله حمز ة بن عبد المطلب ،ظل المسلمون مسيطرين على الموقف كله .فقد قاتل يومئذ أبو بكر ،وعمر بن الخطاب ،وعلى بن أبي طالب ،والزبير بن العوا م، ومصعب بن عمير ،وطلحة بن عبيد ال ،وعبد ال بن جحش ،وسعد بن معاذ ،وسعد بن عباد ة ،وسعد بن الربيع،
ل َفّل عزائ م المشركين ،وف ّ ت في أعضاده م. وأنس بن النضر وأمثاله م قتا ً من أحضان المرأ ة إلى مقارعة السيوف والدرقة ظـلة الَغِس يــل ـ وهو حنظلة بن أبي عامر ،وأبو عامر هذا هو الراهب الذي وكان من البطال المغامرين يومئذ َح ْنـ َ سمي بالفاسق ،والذي مضي ذكره قريبًا ـ كان حنظلة حديث عهد بالُعْر ســ،فلما سمع هواتف الحرب وهو على امرأته
انخلع من أحضانها ،وقا م من فوره إلى الجهاد ،فلما التقي بجيش المشركين في ساحة القتال أخذ يشق الصفوف حتى خلص إلى قائد المشركين أبي سفيان صخر بن حرب ،وكاد يقضي عليه لول أن أتاح ال له الشهاد ة ،فقد شد على
أبي سفيان ،فلما استعله وتمكن منه رآه شداد بن السود فضربه حتى قتله. نصيب فصيلة الرما ة في المعركة وكانت للفصيلة التي عينها الرسول صلى ال عليه وسل م على جبل الرما ة يد بيضاء في إدار ة دفة القتال لصالح الجيش السلمي ،فقد هج م فرسان مكة بقياد ة خالد بن الوليد يسانده أبو عامر الفاسق ثلث مرات؛ ليحطموا جناح الجيش السلمي اليسر ،حتى يتسربوا إلى ظهور المسلمين ،فيحدثوا البلبلة والرتباك في صفوفه م وينزلوا عليه م هزيمة ساحقة ،ولكن هؤلء الرما ة رشقوه م بالنبل حتى فشلت هجماته م الثلث. الهزيمة تنزل بالمشركين
هكذا دارت رحي الحرب الّز ُبـون ،وظل الجيش السلمي الصغير مسيطًرا على الموقف كله حتى خارت عزائ م أبطال المشركين ،وأخذت صفوفه م تتبدد عن اليمين والشمال والما م والخلف ،كأن ثلثة آلف مشرك يواجهون ثلثين ألف مسل م ل بضع مئات قلئل ،وظهر المسلمون في أعلى صور الشجاعة واليقين. وبعد أن بذلت قريش أقصى جهدها لسد هجو م المسلمين أحست بالعجز والخور ،وانكسرت همتها ـ حتى ل م يجترئ ص ؤـاب فيحمله ليدور حوله القتال ـ فأخذت في النسحاب ،ولجأت أحد منها أن يدنو من لوائها الذي سقط بعد مقتل ُ
إلى الفرار ،ونسيت ما كانت تتحدث به في نفوسها من أخذ الثأر والوتر والنتقا م ،إواعاد ة العز والمجد والوقار.
قال ابن إسحاق :ث م أنزل ال نصره على المسلمين ،وصدقه م وعده ،فحسوه م بالسيوف حتى كشفوه م عن المعسكر، وكانت الهزيمة لشك فيها. روى عبد ال بن الزبير عن أبيه أنه قال :وال لقد رأيتني أنظر إلى َخ َدـ مـ ـ سوق ـ هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب ،ما دون أخذهن قليل ول كثير ...إلخ. وفي حديث البراء بن عازب عند البخاري في الصحيح :فلما لقيناه م هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل، يرفعن سوقهن قد بدت خلخيلهن .وتبع المسلمون المشركين يضعون فيه م السلح وينتهبون الغنائ م.
غلطة الرما ة الفظيعة وبينما كان الجيش السلمي الصغير يسجل مر ة أخري نص ًار ساحقًا على أهل مكة ل م يكن أقل روعة من النصر
الذي اكتسبه يو م بدر ،وقعت من أغلبية فصيلة الرما ة غلطة فظيعة قلبت الوضع تمامًا ،وأدت إلى إلحاق الخسائر
الفادحة بالمسلمين ،وكادت تكون سببًا في مقتل النبي صلى ال عليه وسل م ،وقد تركت أسوأ أثر على سمعته م ،وعلى
الهيبة التي كانوا يتمتعون بها بعد بدر.
لقد أسلفنا نصوص الوامر الشديد ة التي أصدرها رسول ال صلى ال عليه وسل م إلى هؤلء الرما ة ،بلزومه م موقفه م من الجبل في كل حال من النصر أو الهزيمة ،ولكن على رغ م هذه الوامر المشدد ة لما رأي هؤلء الرما ة أن المسلمين ينتهبون غنائ م العدو غلبت عليه م أثار ة من حب الدنيا ،فقال بعضه م لبعض :الغنيمة ،الغنيمة ،ظهر أصحابك م ،فما تنتظرون ؟ أما قائده م عبد ال بن جبير ،فقد ذكره م أوامر الرسول صلى ال عليه وسل م ،وقال :أنسيت م ما قال لك م رسول ال صلى ال عليه وسل م؟ ل ،وقالت :وال لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة .ثـ م غـادر أربعون ولكن الغلبية الساحقة ل م تلق لهذا التذكير با ً ل أو أكثر هؤلء الرما ة مواقعه م من الجبل ،والتحقوا بَس َوـاد الجيش ليشاركـوه فـي جمع الغنائ م .وهكذا خلت ظهور رج ً المسلمين ،ول م يبق فيها إل ابن جبير وتسعة أو أقل من أصحابه والتزموا مواقفه م مصممين على البقاء حتى يؤذن
له م أو يبادوا.
خالد بن الوليد يقو م بخطة تطويق الجيش السلمي وانتهز خالد بن الوليد هذه الفرصة الذهبية ،فكّر بسرعة خاطفة إلى جبل الرما ة ليدور من خلفه إلى مؤخر ة الجيش
السلمي ،فل م يلبث أن أباد عبد ال بن جبير وأصحابه إل البعض الذين لحقوا بالمسلمين ،ث م انقض على المسلمين
من خلفه م ،وصاح فرسانه صيحة عرف بها المشركون المنهزمون بالتطور الجديد فانقلبوا على المسلمين ،وأسرعت امرأ ة منه م ـ وهي عمر ة بنت علقمة الحارثية ـ فرفعت لواء المشركين المطروح على التراب ،فالتف حوله المشركون ولثوا به ،وتنادي بعضه م بعضًا ،حتى اجتمعوا على المسلمين ،وثبتوا للقتال ،وأحيط المسلمون من الما م والخلف، ووقعوا بين ِش قّــي الرحي.
موتقف الرسول الباسل إزاء عمل التطوي ق تبدد المسلمين في الموتقف احتدام القتال حول رسول ا أحرج ساعة في حياة الرسول صلى ا عليه وسلم بداية تجمع الصحابة حول الرسول صلى ا عليه وسلم تطضاعف طضغط المشركين البطولت النادرة إشاعة مقتل النبي صلى ا عليه وسلم وأثره على المعركة الرسول صلى ا عليه وسلم يواصل المعركة وينقذ الموتقف مقتل أبي بن لخلف طلحة ينهض بالنبي صلى ا عليه وسلم آلخر هجوم تقام به المشركون تشويه الشهداء
مدى استعداد أبطال المسلمين للقتال حتى نهاية المعركة بعد انتهاء الرسول صلى ا عليه وسلم إلى الشعب شماتة أبي سفيان بعد نهاية المعركة وحديثه مع عمر جمع الشهداء ودفنهم الرسول صلى ا عليه وسلم يثني على ربه عز وجل ويدعوه الرجوع إلى المدينة ،ونوادر الحب والتفاني الرسول صلى ا عليه وسلم في المدينة تقتلى الفريقين حالة الطوارئ في المدينة غزوة حمراء السد القرآن يتحدث حول موطضوع المعركة الحكم والغايات المحمودة في هذه الغزوة
موقف الرسول الباسل إزاء عمل التطويق وكان رسول ال صلى ال عليه وسل م حينئذ في مفرز ة صغير ة ـ تسعة نفر من أصحابه ـ في مؤخر ة المسلمين ،كان يرقب مجالد ة المسلمين ومطاردته م المشركين؛ إذ بوغت بفرسان خالد مباغتة كاملة ،فكان أمامه طريقان :إما أن ينجو ـ بالسرعة ـ بنفسه وبأصحابه التسعة إلى ملجأ مأمون ،ويترك جيشه المطوق إلى مصيره المقدور ،إواما أن يخاطر بنفسه فيدعو أصحابه ليجمعه م حوله ،ويتخذ به م جبهة قوية يشق بها الطريق لجيشه المطوق إلى هضاب أحد. وهناك تجلت عبقرية الرسول صلى ال عليه وسل م وشجاعته المنقطعة النظير ،فقد رفع صوته ينادي أصحابه :)إلي عباد ال( ،وهو يعرف أن المشركين سوف يسمعون صوته قبل أن يسمعه المسلمون ،ولكنه ناداه م ودعاه م مخاط اًر بنفسه في هذا الظرف الدقيق.
ل فقد عل م به المشركون فخلصوا إليه ،قبل أن يصل إليه المسلمون. وفع ً
تبدد المسلمين في الموقف أما المسلمون فلما وقعوا في التطويق طار صواب طائفة منه م ،فل م تكن تهمها إل أنفسها ،فقد أخذت طريق الفرار، وتركت ساحة القتال ،وهي ل تدري ماذا وراءها؟ وفر من هذه الطائفة بعضه م إلى المدينة حتى دخلها ،وانطلق بعضه م إلى ما فوق الجبل. ورجعت طائفة أخري فاختلطت بالمشركين ،والتبس العسكران فل م يتميزا ،فوقع القتل في المسلمين بعضه م من بعض. روي البخاري عن عائشة قالت :لما كان يو م أحد هز م المشركون هزيمة بينة ،فصاح إبليس :أي عباد ال أخراك م ـ أي
احترزوا من ورائك م ـ فرجعت أوله م فاجتلدت هي وأخراه م ،فبصر حذيفة ،فإذا هو بأبيه اليمان ،فقال :أي عباد ال أبي أبي .قالت :فوال ما احتجزوا عنه حتى قتلوه ،فقال حذيفة :يغفر ال لك م .قال عرو ة :فوال ما زالت في حذيفة بقية خير حتى لحق بال . وهذه الطائفة حدث داخل صفوفها ارتباك شديد ،وعمتها الفوضي ،وتاه منها الكثيرون؛ل يدرون أين يتوجهون ،وبينما ه م كذلك إذ سمعوا صائحًا يصيح :إن محمدًا قد قتل ،فطارت بقية صوابه م ،وانهارت الروح المعنوية أو كادت تنهار
في نفوس كثير من أفرادها ،فتوقف من توقف منه م عن القتال ،وألقي بأسلحته مستكينًا ،وفكر آخرون في التصال
بعبد ال بن أبي ـ رأس المنافقين ـ ليأخذ له م المان من أبي سفيان.ومر بهؤلء أنس بن النضر ،وقد ألقوا ما بأيديه م
فقال :ما تنتظرون ؟ فقالوا :قتل رسول ال صلى ال عليه وسل م ،قال :ما تصنعون بالحيا ة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول ال صلى ال عليه وسل م ،ث م قال :الله م إني أعتذر إليك مما صنع هؤلء ،يعني المسلمين ،وأب أر إليك مما صنع هؤلء ،يعني المشركين ،ث م تقد م فلقيه سعد بن معاذ ،فقال :أين يا أبا عمر ؟ فقال أنس :واها لريح الجنة يا سعد ،إني أجده دون أحد ،ث م مضي فقاتل القو م حتى قتل ،فما عرف حتى عرفته أخته ـ بعد نهاية المعركة ـببنانه ،وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح ،وضربة بسيف ،ورمية بسه م . ونادى ثابت بن الَد ْحـ َد ـاـح قومه فقال :يا معشر النصار ،إن كان محمد قد قتل ،فإن ال حي ل يموت ،قاتلوا على دينك م ،فإن ال مظفرك م وناصرك م .فنهض إليه نفر من النصار ،فحمل به م على كتيبة فرسان خالد فما زال يقاتله م حتى قتله خالد بالرمح ،وقتل أصحابه . طـ في دمه ،فقال :يا فلن ،أشعرت أن محمدًا قد قتل ؟ فقال ومر رجل من المهاجرين برجل من النصار ،وهو يتََش ّحـ ُ النصاري :إن كان محمد قد قتل فقد َب لّـغ ،فقاتلوا عن دينك م . وبمثل هذا الستبسال والتشجيع عادت إلى جنود المسلمين روحه م المعنوية ،ورجع إليه م رشده م وصوابه م ،فعدلوا عن فكر ة الستسل م أو التصال بابن أبي ،وأخذوا سلحه م ،يهاجمون تيارات المشركين ،وه م يحاولون شق الطريق إلى مقر القياد ة ،وقد بلغه م أن خبر مقتل النبي صلى ال عليه وسل م كذب ُم ْخـ تَـَلق ،فزاده م ذلك قو ة على قوته م ،فنجحوا في الفلت عن التطويق ،وفي التجمع حول مركز منيع ،بعد أن باشروا القتال المرير ،وجالدوا بض ارو ة بالغة.
وكانت هناك طائفة ثالثة ل م يكن يهمه م إل رسول ال صلى ال عليه وسل م .فقد كرت هذه الطائفة إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م ،وعمل التطويق فى بدايته ،وفى مقدمة هؤلء أبو بكر الصديق ،وعمر بن الخطاب ،وعلي بن أبي طالب وغيره م ـ رضي ال عنه م ـ كانوا فى مقدمة المقاتلين ،فلما أحسوا بالخطر على ذاته الشريفة ـ عليه الصل ة والسل م والتحية ـ صاروا فى مقدمة المدافعين.
احتدا م القتال حول رسول ال
وبينما كانت تلك الطوائف تتلقي أواصر التطويق ،وتطحن بين ِش قّــي َر َحـ ي ـالمشركين ،كان العراك محتدمًا حول رسول
ال صلى ال عليه وسل م ،وقد ذكرنا أن المشركين لما بدءوا عمل التطويق ل م يكن مع رسول ال صلى ال عليه وسل م إل تسعة نفر ،فلما نادي المسلمين :)هلموا إلي ،أنا رسول ال( ،سمع صوته المشركون وعرفوه ،فكروا إليه وهاجموه، ومالوا إليه بثقله م قبل أن يرجع إليه أحد من جيش المسلمين ،فجري بين المشركين وبين هؤلء النفر التسعة من الصحابة عراك عنيف ظهرت فيه نوادر الحب والتفاني والبسالة والبطولة. روى مسل م عن أنس بن مالك أن رسول ال صلى ال عليه وسل م أفرد يو م أحد في سبعة من النصار ورجلين من قريش ،فلما رهقوه قال :)من يرده م عنا وله الجنة ؟ أو هو رفيقي في الجنة ؟( فتقد م رجل من النصار فقاتل حتى قتل ث م رهقوه أيضًا فقال :)من يرده م عنا وله الجنة ،أو هو رفيقي في الجنة ؟( فتقد م رجل من النصار فقاتل حتى قتل ،فل م يزل كذلك حتى قتل السبعة ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م لصاحبيه ـ أي القرشيين :)ما أنصفنا أصحابنا( . وكان آخر هؤلء السبعة هو عمار ة بن يزيد بن الّس َكـنـ ،قاتل حتى أثبتته الجراحة فسقط . أحرج ساعة في حيا ة الرسول صلى ال عليه وسل م وبعد سقوط ابن السكن بقي الرسول في القرشيين فقط ،ففي الصحيحين عن أبي عثمان قال :ل م يبق مع النبي صلى ال عليه وسل م في بعض تلك اليا م التي يقاتل فيهن غير طلحة ابن عبيد ال وسعد ـ بن أبي وقاص ـ وكانت أحرج ساعة بالنسبة إلى حيا ة رسول ال صلى ال عليه وسل م ،وفرصة ذهبية بالنسبة إلى المشركين ،ول م يتوان المشركون في انتهاز تلك الفرصة ،فقد ركزوا حملته م على النبي صلى ال عليه وسل م ،وطمعوا في القضاء عليه ،رماه عتبة بن تـ شفته السفلي ،وتقد م إليه عبد ال بن أبي وقاص بالحجار ة فوقع لشقه ،وأصيبت رباعيته اليمنى السفلى ،وُك ِلـَم ْ شهاب الزهري فََش ّجـ هـ في جبهته ،وجاء فارس عنيد هو عبد ال بن قَِم َئـة ،فضرب على عاتقه بالسيف ضربة عنيفة شكا لجلها أكثر من شهر إل أنه ل م يتمكن من هتك الدرعين ،ث م ضرب على وجنته صلى ال عليه وسل م ضربة أخري عنيفة كالولي حتى دخلت حلقتان من حلق الِم ْغـفَـر في وْج َنـِته ،وقال :خذها وأنا ابن قمئة .فقال رسول ال
صلى ال عليه وسل م وهو يمسح الد م عن وجهة :)أقمأك ال( .
ت الد م عنه ويقول :)كيف يفلح وفي الصحيح أنه صلى ال عليه وسل م كسرت َر َبـاِع َيــته،وُش ّجـ في رأسه ،فجعل َيْس لُـ ُ قو م شجوا وجه نبيه م ،وكسروا رباعيته ،وهو يدعوه م إلى ال( ،فأنزل ال عز وجل :} لَْيَسـ لََك ِم َنـ الَْم ِرـ َش ْيـ ٌء ـأَْو ظاِلُم وـَن{ ]آل عمران. [128: ب َع لَـْي ِهـْ مـ أَْو ُيَعّذ َبـهُْ م فَِإّنهُْ م َ َيُتو َ وفي رواية الطبراني أنه قال يومئذ :)اشتد غضب ال على قو م دموا وجه رسوله( ،ث م مكث ساعة ث م قال :)الله م اغفر لقومي فإنه م ل يعلمون( ،وفي صحيح مسل م أنه قال:)رب اغفر لقومي فإنه م ل يعلمون( ،وفي الشفاء للقاضي عياض أنه قال :)الله م اهد قومي فإنه م ل يعلمون(.
ول شك أن المشركين كانوا يهدفون القضاء على حيا ة رسول ال صلى ال عليه وسل م إل أن القرشيين سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد ال قاما ببطولة نادر ة ،وقاتل ببسالة منقطعة النظير ،حتى ل م يتركا ـ وهما اثنان فحسب ـ سبيل ً إلى نجاح المشركين في هدفه م ،وكانا من أمهر رما ة العرب فتناضل حتى أجهضا مفرز ة المشركين عن رسول ال صلى ال عليه وسل م. فأما سعد بن أبي وقاص ،فقد نثل له رسول ال صلى ال عليه وسل م كنانته وقال:)ار م فداك أبي وأمي( .ويدل على مدى كفاءته أن النبي صلى ال عليه وسل م ل م يجمع أبويه لحد غير سعد. وأما طلحة بن عبيد ال فقد روي النسائي عن جابر قصة تََج ّمـعـ المشركين حول رسول ال صلى ال عليه وسل م ومعه نفر من النصار ،قال جابر :فأدرك المشركون رسول ال صلى ال عليه وسل م فقال :)من للقو م ؟( فقال طلحة :أنا، ث م ذكر جابر تقد م النصار ،وقتله م واحدًا بعد واحد ،بنحو ما ذكرنا من رواية مسل م ،فلما قتل النصار كله م تقد م
طلحة .قال جابر :ث م قاتل طلحة قتال الحد عشر حتى ضربت يده فقطعت أصابعه ،فقالَ :ح ّسـ ،ـ ـ ـفقال النبي صلى
ال عليه وسل م :)لو قلت :بس م ال ،لرفعتك الملئكة والناس ينظرون( ،قال :ث م رد ال المشركين .ووقع عند الحاك م في الكليل أنه جرح يو م أحد تسعًا وثلثين أو خمسًا وثلثين ،وشلت إصبعه ،أي السبابة والتي تليها . وروي البخاري عن قيس بن أبي حاز م قال :رأيت يد طلحة شلء ،وقى بها النبي صلى ال عليه وسل م يو م أحد. وروي الترمذي وابن ماجه أن النبي صلى ال عليه وسل م قال فيه يومئذ :)من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد ال( . وروي أبو داود الطيالسي عن عائشة قالت :كان أبوبكر إذا ذكر يو م أحد قال :ذلك اليو م كله لطلحة. وقال فيه أبو بكر الصديق رضي ال عنه أيضًا: ت الَم هَـا الِع يـَنا يا طلحة بن عبيد ال قد َو َجـ َب ـ ْ ت** لك الجنان وُبّو ئـ َ وفي ذلك الظرف الدقيق والساعة الحرجة أنزل ال نصره بالغيب ،ففي الصحيحين عن سعد ،قال :رأيت رسول ال صلى ال عليه وسل م يو م أحد ،ومعه رجلن يقاتلن عنه ،عليهما ثياب بيض كأشد القتال ،ما رأيتهما قبل ول بعد. وفي رواية :يعني جبريل وميكائيل.
بداية تجمع الصحابة حول الرسول صلى ال عليه وسل م وقعت هذه كلها بسرعة هائلة في لحظات خاطفة ،إوال فالمصطفون الخيار من صحابته صلى ال عليه وسل م ـ الذين
كانوا في مقدمة صفوف المسلمين عند القتال ـ ل م يكادوا يرون تغير الموقف ،أو يسمعوا صوته صلى ال عليه وسل م حتى أسرعوا إليه ؛ لئل يصل إليه شيء يكرهونه ،إل أنه م وصلوا وقد لقي رسول ال صلى ال عليه وسل م ما لقي من الجراحات ـ وستة من النصار قد قتلوا والسابع قد أثبتته الجراحات ،وسعد وطلحة يكافحان أشد الكفاح ـ فلما وصلوا أقاموا حوله سياجًا من أجساده م وسلحه م ،وبالغوا في وقايته من ضربات العدو ،ورد هجماته .وكان أول من رجع إليه هو ثانيه في الغار أبو بكر الصديق رضي ال عنه.
روي ابن حبان في صحيحه عن عائشة قالت :قال أبو بكر الصديق :لما كان يو م أحد انصرف الناس كله م عن ل يقاتل عنه النبي صلى ال عليه وسل م ،فكنت أول من فاء إلى النبي صلى ال عليه وسل م ،فرأيت بين يديه رج ً
ويحميه ،قلت :كن طلحة ،فداك أبي وأمي ،كن طلحة ،فداك أبي وأمي] ،حيث فاتني ما فاتني ،فقلت :يكون رجل من قومي أحب إلي[ فل م أنشب أن أدركني أبو عبيد ة بن الجراح ،إواذا هو يشتد كأنه طير حتى لحقني ،فدفعنا إلى النبي صلى ال عليه وسل م ،فإذا طلحة بين يديه صريعًا ،فقال النبي صلى ال عليه وسل م :)دونك م أخـاك م فقـد أوجب( ،وقد رمي النبي صلى ال عليه وسل م في َو ْجـ َن ـتِِهحتى غابت حلقتان من حلق الِم ْغـفَـر في وجنته ،فذهبت لنزعهما عن النبي صلى ال عليه وسل م فقال أبو عبيد ة :نشدتك بال يا أبا بكر ،إل تركتني ،قال :فأخذ بفيه فجعل يَن ّ ض ــضه كراهية أن يؤذي رسول ال صلى ال عليه وسل م ،ث م استل السه م بفيه ،فَنَد َرـتـثنية أبي عبيد ة ،قال أبو بكر :ث م ذهبت لخذ الخر ،فقال أبو عبيد ة :نشدتك بال يا أبا بكر ،إل تركتني ،قال:فأخذه فجعل ينضضه حتى اْس تَـّله، فندرت ثنية أبي عبيد ة الخري ،ث م قال رسول ال صلى ال عليه وسل م:)دونك م أخاك م ،فقد أوجب( ،قال :فأقبلنا على طلحة نعالجه ،وقد أصابته بضع عشر ة ضربة .وفي تهذيب تاريخ دمشق :فأتيناه في بعض تلك الحفار فإذا به بضع وستون أو أقل أو أكثر ،بين طعنة ورمية وضربة ،إواذا قد قطعت إصبعه ،فأصلحنا من شأنه. وخلل هذه اللحظات الحرجة اجتمع حول النبي صلى ال عليه وسل م عصابة من أبطال المسلمين منه م أبو ُد َجـ اــنة،
ومصعب بن عمير ،وعلى بن أبي طالب ،وسهل بن حنيف ،ومالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري ،وأ م عمار ة ُنَس ْيـبـة بنت كعب المازنية ،وقتاد ة ابن النعمان ،وعمر بن الخطاب ،وحاطب بن أبي بلتعة ،وأبو طلحة. تضاعف ضغط المشركين
كما كان عدد المشركين يتضاعف كل آن ،وبالطبع فقد اشتدت حملته م وزاد ضغطه م على المسلمين ،حتى سقط تـركبته ،وأخذه على رسول ال صلى ال عليه وسل م في حفر ة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق يكيد بها ،فُج ِحـَشـ ْ ل من المهاجرين يقول :شهدت بيده ،واحتضنه طلحة بن عبيد ال حتى استوي قائمًا ،وقال نافع بن جبير :سمعت رج ً أحدًا فنظرت إلى النبل يأتي من كل ناحية ،ورسول ال صلى ال عليه وسل م وسطها ،كل ذلك يصرف عنه ،ولقد
رأيت عبد ال بن شهاب الزهري يقول يومئذ :دلوني على محمد ،فل نجوت إن نجا ،ورسول ال صلى ال عليه وسل م
إلى جنبه ،ما معه أحد ،ث م جاوزه ،فعاتبه في ذلك صفوان ،فقال :وال ما رأيته ،أحلف بال إنه منا ممنوع ،خرجنا أربعة ،فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله ،فل م نخلص إلى ذلك .
البطولت النادر ة وقا م المسلمون ببطولت نادر ة وتضحيات رائعة ،ل م يعرف لها التاريخ نظي ًار .كان أبو طلحة يسور نفسه بين يدي
رسول ال صلى ال عليه وسل م ،ويرفع صدره ليقيه سها م العدو .قال أنس :لما كان يو م أحد انهز م الناس عن النبي
ل راميًا شديد النزع ،كسر يومئذ قوسين صلى ال عليه وسل م ،وأبو طلحة بين يديه مجوب عليه بحجفة له ،وكان رج ً
أو ثلثا ،وكان الرجل يمر معه بَج ْع ـَبـة من النبل فيقول :)انثرها لبي طلحة( ،قال :ويشرف النبي صلى ال عليه وسل م ينظر إلى القو م ،فيقول أبو طلحة :بأبي أنت وأمي ل تشرف يصيبك سه م من سها م القو مَ ،نْح ِرــيدون نحرك .
وعنه أيضًا قال :كان أبو طلحة يتترس مع النبي صلى ال عليه وسل م بترس واحد ،وكان أبو طلحة حسن الّر ْمـيــ، فكان إذا رمي تشرف النبي صلى ال عليه وسل م ،فينظر إلى موقع نبله.
وقا م أبو دجانة أما م رسول ال صلى ال عليه وسل مَ ،فتَّر َسـ عليه بظهره .والنبل يقع عليه وهو ل يتحرك. وتبع حاطب بن أبي بلتعة عتبة بن أبي وقاص ـ الذي كسر الّر بـاعية الشريفة ـ فضربه بالسيف حتى طرح رأسه ،ث م
أخذ فرسه وسيفه ،وكان سعد بن أبي وقاص شديد الحرص على قتل أخيه ـ عتبة هذا ـ إل أنه ل م يظفر به ،بل ظفر
به حاطب. وكان سهل بن ُح َنــيف أحد الرما ة البطال ،بايع رسول ال صلى ال عليه وسل م على الموت ،ث م قا م بدور فعال في ذود المشركين.
وكان رسول ال صلى ال عليه وسل م يباشر الرماية بنفسه ،فعن قتاد ة بن النعمان :أن رسول ال رمي عن قوسه حتى اندقت ِس يـُتها ،فأخذها قتاد ة بن النعمان ،فكانت عنده ،وأصيبت يومئذ عينه حتى وقعت على َو ْجـ َنـِته،فردها رسول ال صلى ال عليه وسل م بيده ،فكانت أحسن عينيه وأَح ّدـُهـما. وقاتل عبد الرحمن بن عوف حتى أصيب فوه يومئذ فهُتَِ م ،ـ وجرح عشرين جراحة أو أكثر ،أصابه بعضها في رجله فعرج.
وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الد م من وجنته صلى ال عليه وسل م حتى أنقاه ،فقال :) ُمّجـهـ( ،فقال: وال ل أمجه ،ث م أدبر يقاتل ،فقال النبي صلى ال عليه وسل م :)من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا( ،فقتل شهيدًا. وقاتلت أ م عمار ة فاعترضت لبن قَِم َئـةـ في أناس من المسلمين ،فضربها ابن قمئة على عاتقها ضربة تركت جرحًا أجوف ،وضربت هي ابن قمئة عد ة ضربات بسيفها ،لكن كانت عليه درعان فنجا ،وبقيت أ م عمار ة تقاتل حتى
أصابها اثنا عشر جرحًا. وقاتل مصعب بن عمير بض ارو ة بالغة ،يدافع عن النبي صلى ال عليه وسل م هجو م ابن قمئة وأصحابه ،وكان اللواء بيده ،فضربوه على يده اليمني حتى قطعت ،فأخذ اللواء بيده اليسري ،وصمد في وجوه الكفار حتى قطعت يده اليسري ،ث م برك عليه بصدره وعنقه حتى قتل ،وكان الذي قتله هو ابن قمئة ،وهو يظنه رسول ال ـ لشبهه به ـ فانصرف ابن قمئة إلى المشركين ،وصاح :إن محمدًا قد قتل .
إشاعة مقتل النبي صلى ال عليه وسل م وأثره على المعركة ول م يمض على هذا الصياح دقائق ،حتى شاع خبر مقتل النبي صلى ال عليه وسل م في المشركين والمسلمين .وهذا هو الظرف الدقيق الذي خارت فيه عزائ م كثير من الصحابة المطوقين ،الذين ل م يكونوا مع رسول ال صلى ال عليه وسل م ،وانهارت معنوياته م ،حتى وقع داخل صفوفه م ارتباك شديد ،وعمتها الفوضي والضطراب ،إل أن هذه الصيحة خففت بعض التخفيف من مضاعفة هجمات المشركين ؛ لظنه م أنه م نجحوا في غاية مرامه م ،فاشتغل الكثير منه م بتمثيل قتلي المسلمين.
الرسول صلى ال عليه وسل م يواصل المعركة وينقذ الموقف ل شديدًا ،وقامت بقية الصحابة الموجودين ولما قتل مصعب أعطي رسول ال اللواء على بن أبي طالب ،فقاتل قتا ً هناك ببطولته م النادر ة ،يقاتلون ويدافعون.
وحينئذ استطاع رسول ال صلى ال عليه وسل م أن يشق الطريق إلى جيشه المطوق ،فأقبل إليه م فعرفه كعب بن مالك ـ وكان أول من عرفه ـ فنادي بأعلى صوته :يا معشر المسلمين أبشروا ،هذا رسول ال صلى ال عليه وسل م، فأشار إليه أن اصمت ـ وذلك لئل يعرف موضعه المشركون ـ إل أن هذا الصوت بلغ إلى آذان المسلمين ،فلذ إليه ل من الصحابة. المسلمون حتى تجمع حوله حوالى ثلثين رج ً وبعد هذا التجمع أخذ رسول ال صلى ال عليه وسل م في النسحاب المنظ م إلى شعب الجبل ،وهو يشق الطريق بين المشركين المهاجمين ،واشتد المشركون في هجومه م ؛ لعرقلة النسحاب إل أنه م فشلوا أما م بسالة ليوث السل م . تقد م عثمان بن عبد ال بن المغير ة ـ أحد فرسان المشركين ـ إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م وهو يقول :ل نجوت إن نجا .وقا م رسول ال صلى ال عليه وسل م لمواجهته ،إل أن الفرس عثرت في بعض الحفر ،فنازله الحارث بن
ف عليه وأخذ سلحه ،والتحق برسول ال صلى ال عليه وسل م. ال ّ ص ّمـةـ ،فضرب على رجله فأقعده ،ث م َذ فّـ َ
ص ّمـةـ ،فضرب بالسيف على عاتقه فجرحه وعطف عبد ال بن جابر ـ فارس آخر من فرسان مكة ـ على الحارث بن ال ّ حتى حمله المسلمون ولكن انقض أبو دجانة ـ البطل المغامر ذو العصابة الحمراء ـ على عبد ال بن جابر فضربه
بالسيف ضربة أطارت رأسه. وأثناء هذا القتال المرير كان المسلمون يأخذه م النعاس أمنة من ال ،كما تحدث عنه القرآن .قال أبو طلحة :كنت فيمن تغشاه النعاس يو م أحد حتى سقط سيفي من يدي م ار ًرا ،يسقط وآخذه ويسقط وآخذه . وبمثل هذه البسالة بلغت هذه الكتيبة ـ في انسحاب منظ م ـ إلى شعب الجبل ،وشق لبقية الجيش طريقًا إلى هذا المقا م المأمون ،فتلحق به في الجبل ،وفشلت عبقرية خالد أما م عبقرية رسول ال صلى ال عليه وسل م.
مقتل أبي بن خلف قال ابن إسحاق :فلما أسند رسول ال صلى ال عليه وسل م في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول :أين محمد ؟ ت إن نجا .فقال القو م :يا رسول ال ،أيعطف عليه رجل منا ؟ فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م:)دعوه(، ل نجو ُ فلما دنا منه تناول رسول ال صلى ال عليه وسل م الحربة من الحارث بن الصمة ،فلما أخذها منه انتفض انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض ،ث م استقبله وأبصر تَْر قُـَو تَــهمن فرجة بين سابغة الدرع والبيضة ،فطعنه فيها طعنة تدأدأ ـ تدحرج ـ منها عن فرسه م ار ًار .فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشًا غير
كبير ،فاحتقن الد م ،قال :قتلني وال محمد ،قالوا له :ذهب وال فؤادك ،وال إن بك من بأس ،قال :إنه قد كان قال
لي بمكة:)أنا أقتلك( ،فوال لو بصق على لقتلني .فمات عدو ال بَس ِرـفـوه م قافلون به إلى مكة.وفي رواية أبي
السود عن عرو ة ،وكذا في رواية سعيد بن المسيب عن أبيه :أنه كان يخور خوار الثور ،ويقول :والذي نفسي بيده،
لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا جميعًا .
طلحة ينهض بالنبي صلى ال عليه وسل م وفي أثناء انسحاب رسول ال صلى ال عليه وسل م إلى الجبل عرضت له صخر ة من الجبل ،فنهض إليها ليعلوها فل م يستطع ؛ لنه كان قد َبّد َنـ وظاهر بين الدرعين ،وقد أصابه جرح شديد.فجلس تحته طلحة بن عبيد ال ،فنهض به بـطلحةُ( ،أي:الجنة. حتى استوي عليها ،وقال :) أْوَجـ َ آخر هجو م قا م به المشركون ولما تمكن رسول ال صلى ال عليه وسل م من مقر قيادته في الشعب قا م المشركون بآخر هجو م حاولوا به النيل من المسلمين .قال ابن إسحاق :بينا رسول ال صلى ال عليه وسل م في الشعب إذ علت عالية من قريش الجبل ـ يقوده م أبو سفيان وخالد بن الوليد ـ فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)الله م إنه ل ينبغي له م أن يعلونا( ،فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوه م من الجبل . وفي مغازي الموي :أن المشركين صعدوا على الجبل ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م لسعد:) اْجُنـْبهُـْ م( ـ يقول:
ل فقتله ،قال :ث م اردده م ـ فقال :كيف أْج ُنـُبهُْ م وحدي ؟ فقال ذلك ثلثًا ،فأخذ سعد سهمًا من كنانته ،فرمي به رج ً أخذت سهمي أعرفه ،فرميت به آخر ،فقتلته ،ث م أخذته أعرفه فرميت به آخر فقتلته ،فهبطوا من مكانه م ،فقلت :هذا سه م مبارك ،فجعلته في كنانتي .فكان عند سعد حتى مات ،ث م كان عند بنيه .
تشويه الشهداء وكان هذا آخر هجو م قا م به المشركون ضد النبي صلى ال عليه وسل م ،ولما ل م يكونوا يعرفون من مصيره شيئًا ـ بل كانوا على شبه اليقين من قتله ـ رجعوا إلى مقره م ،وأخذوا يتهيأون للرجوع إلى مكة ،واشتغل من اشتغل منه م ـ وكذا
اشتغلت نساؤه م ـ بقتلي المسلمين ،يمثلون به م ،ويقطعون الذان والنوف والفروج ،ويبقرون البطون .وبقرت هند بنت عتبة كبد حمز ة فلكتها ،فل م تستطع أن تسيغها فلفظتها ،واتخذت من الذان والنوف َخ َدـمـًا ـ خلخيل ـ وقلئد. مدى استعداد أبطال المسلمين للقتال حتى نهاية المعركة وفي هذه الساعة الخير ة وقعت وقعتان تدلن على مدي استعداد أبطال المسلمين للقتال ،ومدي استماتته م في سبيل ال: .1قال كعب بن مالك :كنت فيمن خرج من المسلمين ،فلما رأيت تمثيل المشركين بقتلي المسلمين قمت فتجاوزت، فإذا رجل من المشركين جمع اللمة يجوز المسلمين وهو يقول :استوسقوا كما استوسقت جزر الغن م .إواذا رجل من المسلمين ينتظره وعليه لمته ،فمضيت حتى كنت من ورائه ،ث م قمت أقدر المسل م والكافر ببصري ،فإذا الكافر أفضلهما عد ة وهيئة ،فل م أزل أنتظرهما حتى التقيا ،فضرب المسل م الكافر ضربة فبلغت وركه وتفرق فرقتين ،ث م كشف المسل م عن وجهه ،وقال :كيف تري يا كعب ؟ أنا أبو دجانة . .2جاءت نسو ة من المؤمنين إلى ساحة القتال بعد نهاية المعركة ،قال أنس :لقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأ م ِ بـعلى متونهما ،تفرغانه في أفواه القو م ،ث م ترجعان فتملنها، سلي م ،إوانهما لمشمرتان ـ أري َخ َدـ مـ سوقهما ـ تَْن قُـَزاِن القَر َ ث م تجيئان فتفرغانه في أفواه القو م .وقال عمر :كانت ]أ م َس ِلـيط من نساء النصار[ تزفر لنا القرب يو م أحد . وكانت في هؤلء النسو ة أ م أيمن ،لما رأت فلول المسلمين يريدون دخول المدينة ،أخذت تحثو التراب في وجوهه م وتقول لبعضه م:هاك المغزل ،وهل م سيفك .ث م سارعت إلى ساحة القتال ،فأخذت تسقي الجرحي ،فرماها ِح ّبــان ـ بالكسر ـ بن الَعَرـ قَـة بسه م ،فوقعت وتكشفت ،فأغرق عدو ال في الضحك ،فشق ذلك على رسول ال صلى ال عليه
وسل م ،فدفع إلى سعد بن بي وقاص سهمًا ل نصل له ،وقال:)ار م به( ،فرمي به سعد ،فوقع السه م في نحر حبان، فوقع مستلقيًا حتى تكشف ،فضحك رسول ال صلى ال عليه وسل م حتى بدت نواجذه ،ث م قال:)استقاد لها سعد، أجاب ال دعوته( .
بعد انتهاء الرسول صلى ال عليه وسل م إلى الشعب
ولما استقر رسول ال صلى ال عليه وسل م في مقره من الّش عـب خرج على أبي طالب حتى مل َد َرـقَـتهماء من الِم ْهـَراسـ قيل :هو صخر ة منقور ة تسع كثي ًار .وقيل :اس م ماء بأحد ـ فجاء به إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م
ليشرب منه ،فوجد له ريحًا فعافه ،فل م يشرب منه ،وغسل عن وجهه الد م ،وصب على رأسه وهو يقول :)اشتد غضب
ال على من َد ّمـىـ وجه نبيه( .
وقال سهل :وال إني لعرف من كان يغسل جرح رسول ال صلى ال عليه وسل م ،ومن كان يسكب الماء ،وبما ُدوـِوي ؟ كانت فاطمة ابنته تغسله ،وعلى بن أبي طالب يسكب الماء بالِم َجـّنـ ،ـفلما رأت فاطمة أن الماء ل يزيد الد م إل كثر ة أخذت قطعة من حصير ،فأحرقتها ،فألصقتها فاستمسك الد م. وجاء محمد بن مسلمة بماء عذب سائغ ،فشرب منه النبى صلى ال عليه وسل م ودعا له بخير .وصلى الظهر قاعدًا من أثر الجراح ،وصلى المسلمون خلفه قعودًا.
شماتة أبي سفيان بعد نهاية المعركة وحديثه مع عمر ولما تكامل تهيؤ المشركين للنـصراف أشـرف أبو سفـيان على الجبل ،فـنادي أفيك م محمد؟ فل م يجيبوه .فقال :أفيك م ابن أبي قحافة؟ فل م يجبيبوه .فقال :أفيك م عمر بن الخطاب؟ فل م يجيبوه ـ وكان النبي صلى ال عليه وسل م منعه م من الجابة ـ ول م يسأل إل عن هؤلء الثلثة لعلمه وعل م قومه أن قيا م السل م به م .فقال :أما هؤلء فقد كفيتموه م ،فل م يملك عمر نفسه أن قال :يا عدو ال ،إن الذين ذكرته م أحياء ،وقد أبقي ال ما يسوءك .فقال :قد كان فيك م مثلة ل م آمر بها ول م تسؤني.
ث م قال :أْع ِل ـ ُهَب لـ.
فقال النبي صلى ال عليه وسل م :)أل تجيبونه؟( فقالوا:فما نقول؟ قال :)قولوا :ال أعلى وأجل(. ث م قال :لنا الُعّزى ول عزى لك م.
فقال النبي صلى ال عليه وسل م :)أل تجيبونه؟( قالوا :ما نقول؟ قال :)قولوا:ال مولنا ،ول مولي لك م(. تـ فََعال ،يو م بيو م بدر ،والحرب ِس َج ـاــل. ث م قال أبو سفيان :أْن َعـْمـ َ فأجابه عمر ،وقال :لسواء ،قتلنا في الجنة ،وقتلك م في النار. ث م قال أبو سفيان :هل م إلى يا عمر ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)ائته فانظر ما شأنه؟( فجاءه ،فقال له أبو سفيان :أنشدك ال يا عمر ،أقتلنا محمدًا؟ قال عمر :الله م ل .إوانه ليستمع كلمك الن .قال :أنت أصدق عندي من ابن قَِم َئـة وأبر. مواعد ة التلقي في بدر قال ابن إسحاق :ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادي :إن موعدك م بدر العا م القابل.فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م لرجل من أصحابه :)قل :نع م ،هو بيننا وبينك موعد(.
التثبت من موقف المشركين ث م بعث رسول ال صلى ال عليه وسل م على بن أبي طالب ،فقال :)اخرج في آثار القو م فانظر ماذا يصنعون؟ وما يريدون؟ فإن كانوا قد َج َنـُبوا الخيل ،واْم تَـطُوا البل ،فإنه م يريدون مكة ،إوان كانوا قد ركبوا الخيل وساقوا البل فإنه م يريدون المدينة .والذي نفسي بيده ،لئن أرادوها لسيرن إليه م فيها ،ث م لناجزنه م( .قال على :فخرجت في آثاره م أنظر
ماذا يصنعون ،فجنبوا الخيل وامتطوا البل ،وَو ّجـهُـوا إلى مكة .
تفقد القتلى والجرحى وفرغ الناس لتفقد القتلي والجرحي بعد منصرف قريش .قال زيد بن ثابت :بعثني رسول ال صلى ال عليه وسل م يو م أحد أطلب سعد بن الربيع .فقال لي :)إن رأيته فأقرئه مني السل م ،وقل له :يقول لك رسول ال صلى ال عليه وسل م: كيف تجدك؟( قال :فجعلت أطوف بين القتلي ،فأتيته وهو بآخر رمق ،فيه سبعون ضربة ؛ ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف ،ورمية بسه م ،فقلت :يا سعد ،إن رسول ال يق أر عليك السل م ،ويقول لك :أخبرني كيف تجدك؟ فقال: وعلى رسول ال صلى ال عليه وسل م السل م ،قل له ،يا رسول ال ،أجد ريح الجنة ،وقل لقومي النصار :ل عذر لك م عند ال إن خلص إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م وفيك م عين تطرف ،وفاضت نفسه من وقته . ص يـِر م ـ عمرو بن ثابت ـ وبه رمق يسير ،وكانوا من قبل يعرضون عليه السل م فيأباه ،فقالوا: ووجدوا في الجرحي الُ َ
بـ على قومك ،أ م إن هذا الصير م ما جاء به؟ لقد تركناه إوانه لمنكر لهذا المر ،ث م سألوه :ما الذي جاء بك ،أَح َدـ ٌ رغبة في السل م؟ فقال :بل رغبة في السل م ،آمنت بال ورسوله ،ث م قاتلت مع رسول ال صلى ال عليه وسل م حتى أصابني ما ترون ،ومات من وقته ،فذكروه لرسول ال صلى ال عليه وسل م ،فقال :)هو من أهل الجنة( .قال أبو ص ّل ـ ل صل ة قط . هرير ة :ول م ُي َ
ووجدوا في الجرحي قُْز َمـاـنـ وكان قد قاتل قتال البطال ؛ قتل وحده سبعة أو ثمانية من المشركين ـ وجدوه قد أثبتته ظَفر ،وبشره المسلمون فقال :وال إن قاتلت إل عن أحساب قومي ،ولول ذلك ما الجراحة ،فاحتملوه إلى دار بني َ
قاتلت ،فلما اشتد به الجراح نحر نفسه .وكان رسول ال صلى ال عليه وسل م يقول ـ إذا ذكر له :)إنه من أهل النار(
ـ وهذا هو مصير المقاتلين في سبيل الوطنية أو في أي سبيل سوي إعلء كلمة ال ،إوان قاتلوا تحت لواء السل م، بل وفي جيش الرسول والصحابة. وعلى عكس من هذا كان في القتلي رجل من يهود بني ثعلبة ،قال لقومه :يا معشر يهود ،وال لقد علمت م أن نصر محمد عليك م حق.قالوا:إن اليو م يو م السبت .قال:ل سبت لك م.فأخذ سيفه وعدته ،وقال :إن أصبت فمإلى لمحمد. يصنع فيه ما شاء ،ث م غدا فقاتل حتى قتل.فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م :) ُمَخـيـِريـقخير يهود(.
جمع الشهداء ودفنه م وأشرف رسول ال صلى ال عليه وسل م على الشهداء فقال :)أنا شهيد على هؤلء ،إنه ما من جريح ُيْج َرــحفي ال إل وال يبعثه يو م القيامةَ ،يْد َمـيـ ُج ْرـُحـهــ،اللون لون الد م ،والريح ريح الِم ْسـكـ( . وكان أناس من الصحابة قد نقلوا قتله م إلى المدينة فأمر أن يردوه م ،فيدفنوه م في مضاجعه م وأل يغسلوا ،وأن يدفنوا كما ه م بثيابه م بعد نزع الحديد والجلود .وكان يدفن الثنين والثلثة في القبر الواحد ،ويجمع بين الرجلين في ثوب واحد ،ويقول :)أيه م أكثر أَْخ ًذ ـاـ للقرآن؟( فإذا أشاروا إلى الرجل قدمه في اللحد ،وقال :)أنا شهيد على هؤلء يو م القيامة( .ودفن عبد ال بن عمرو بن حرا م وعمرو بن الجموح في قبر واحد لما كان بينهما من المحبة .
وفقدوا نعش حنظلة ،فتفقدوه فوجدوه في ناحية فوق الرض يقطر منه الماء ،فأخبر رسول ال صلى ال عليه وسل م أصحابه أن الملئكة تغسله ،ث م قال :)سلوا أهله ما شأنه؟( فسألوا امرأته ،فأخبرته م الخبر.ومن هنا سمي حنظلة: غسيل الملئكة . ولما رأى ما بحمز ة ـ عمه وأخيه من الرضاعة ـ اشتد حزنه ،وجاءت عمته صفية تريد أن تنظر أخاها حمز ة ،فأمر رسول ال صلى ال عليه وسل م ابنها الزبير أن يصرفها ،ل تري ما بأخيها ،فقالت :ول م؟ وقد بلغني أن قد ُم ثّـَل بأخي، وذلك في ال ،فما أرضانا بما كان من ذلك ،لحتسبن ولصبرن إن شاء ال ،فأتته فنظرت إليه ،فصلت عليه ـ دعت له ـ واسترجعت واستغفرت له .ث م أمر رسول ال صلى ال عليه وسل م بدفنه مع عبد ال بن جحش ـ وكان ابن أخته، وأخاه من الرضاعة. قال ابن مسعود :ما رأينا رسول ال صلى ال عليه وسل م باكيًا قط أشد من بكائه على حمز ة بن عبد المطلب.وضعه
في القبلة ،ث م وقف على جنازته وانتحب حتى َنَش عـ من البكاء ـ والنشع :الشهيق.
وكان منظر الشهداء مريعًا جدًا يفتت الكباد .قال خباب :إن حمز ة ل م يوجد له كفن إل برد ة َم ْلـَح اــء ،إذا جعلت على ص ت ـ عن قدميه ،إواذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه ،حتى مدت على رأسه ،وجعل على قدميه اِل ْذ ـَخـر ـ رأسه َقلَ َ .
وقال عبد الرحمن بن عوف :قتل مصعب بن عمير وهو خير مني ،كفن في برد ة إن غطي رأسه بدت رجله ،إوان غطي رجله بدا رأسه ،وروي مثل ذلك عن خباب ،وفيه :فقال لنا النبي صلى ال عليه وسل م :)غطوا بها رأسه، واجعلوا على رجليه الذخر(.
الرسول صلى ال عليه وسل م يثني على ربه عز وجل ويدعوه روي الما م أحمد :لما كان يو م أحد وانكفأ المشركون ،قال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)استووا حتى أثني على ربي عز وجل( ،فصاروا خلفه صفوفًا ،فقال: )الله م لك الحمد كله ،الله م ل قابض لما بسطت ،ول باسط لما قبضت ،ول هادي لمن أضللت ،ول مضل لمن هديت ،ول معطي لما منعت ،ول مانع لما أعطيت ،ول مقرب لما باعدت ،ول مبعد لما قربت .الله م ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك(. )الله م إني أسألك النعي م المقي م ،الذي ل يُح وــل ول يزول .الله م إني أسألك العون يو م العيلة ،والمن يو م الخوف .الله م إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا .الله م حبب إلينا اليمان وزينه في قلوبنا ،وكره إلينا الكفر والفسوق
والعصيان ،واجعلنا من الراشدين .الله م توفنا مسلمين ،وأحينا مسلمين ،وألحقنا بالصالحين ،غير خزايا ول مفتونين. الله م قاتل الكفر ة الذين يكذبون رسلك ،ويصدون عن سبيلك ،واجعل عليه م رجزك وعذابك .الله م قاتل الكفر ة الذين أوتوا الكتاب ،إله الحق(.
الرجوع إلى المدينة ،ونوادر الحب والتفاني ولما فرغ رسول ال من دفن الشهداء والثناء على ال والتضرع إليه ،انصرف راجعًا إلى المدينة ،وقد ظهرت له نوادر الحب والتفاني من المؤمنات الصادقات ،كما ظهرت من المؤمنين في أثناء المعركة.
لقيته في الطريق َح ْمـَنــة بنت جحش ،فَُنِع ي ـ إليها أخوها عبد ال بن جحش فاسترجعت واستغفرت له ،ث م نعي لها خالها حمز ة بن عبد المطلب ،فاسترجعت واستغفرت ،ث م نعي لها زوجها مصعب بن عمير ،فصاحت وولوت ،فقال رسول
ال صلى ال عليه وسل م :)إن زوج المرأ ة منها لبَِم كـان( .
ومر بامرأ ة من بني دينار ،وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها بأحد ،فلما نعوا لها قالت :فما فعل رسول ال صلى ال عليه وسل م؟ قالوا :خي اًر يا أ م فلن ،هو بحمد ال كما تحبين ،قالت :أرونيه حتى أنظر إليه ،فأشير إليها حتى إذا رأته
قالت :كل مصيبة بعدك َج لَـٌل ـ تريد صغير ة.
وجاءت إليه أ م سعد بن معاذ تعدو ،وسعد آخذ بلجا م فرسه ،فقال :يا رسول ال ،أمي ،فقال :)مرحبًا بها( ،ووقف لها، فلما دنت عزاها بابنها عمرو بن معاذ .فقالت :أما إذ رأيتك سالمًا فقد اشتويت المصيبة ـ أي استقللتها ـ ث م دعا لهل
من قتل بأحد ،وقال :)يا أ م سعد ،أبشري وبشري أهله م أن قتله م ترافقوا في الجنة جميعًا ،وقد شفعوا في أهله م
جميعًا( .قالت :رضينا يا رسول ال ،ومن يبكي عليه م بعد هذا؟ ث م قالت :يا رسول ال ،ادع لمن خلفوا منه م ،فقال: ف على من ُخ لّـفُوا( . )الله م أذهب حزن قلوبه م ،واجبر مصيبته م ،وأحسن الَخ لـ َ
الرسول صلى ال عليه وسل م في المدينة وانتهي رسول ال صلى ال عليه وسل م مساء ذلك اليو م ـ يو م السبت السابع من شهر شوال سنة 3هـ ـ إلى المدينة. فلما انتهي إلى أهله ناول سيفه ابنته فاطمة ،فقال :)اغسلي عن هذا دمه يا بنية ،فوال لقد صدقني اليو م( ،وناولها على بن أبي طالب سيفه ،فقال :وهذا أيضًا فاغسلي عنه دمه ،فوال لقد صدقني اليو م ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)لئن كنت صدقت القتال ،لقد صدق معك سهل بن ُح َنــيف وأبو ُد َجـ اــنة( .
قتلى الفريقين اتفقت جل الروايات على أن قتلي المسلمين كانوا سبعين ،وكانت الغلبية الساحقة من النصار؛ فقد قتل منه م ل ،واحد وأربعون من الخزرج ،وأربعة وعشرون من الوس ،وقتل رجل من اليهود .وأما شهداء خمسة وستون رج ً
المهاجرين فكانوا أربعة فقط.
ل ،ولكن الحصاء الدقيق ـ بعد تعميق النظر في وأما قتلي المشركين فقد ذكر ابن إسحاق أنه م اثنان وعشرون قتي ً
جميع تفاصيل المعركة التي ذكرها أهل المغازي والسير ،والتي تتضمن ذكر قتلي المشركين في مختلف مراحل القتال
ـ يفيد أن عدد قتلي المشركين سبعة وثلثون ،ل اثنان وعشرون ،وال أعل م . حالة الطوارئ في المدينة بات المسلمون في المدينة ـ ليلة الحد الثامن من شهر شوال سنة 3هـ بعد الرجوع من معركة أحد ـ وه م في حالة الطوارئ ،باتوا ـ وقد أنهكه م التعب ،ونال منه م أي منال ـ يحرسون أنقاب المدينة ومداخلها ،ويحرسون قائده م العلى رسول ال صلى ال عليه وسل م خاصة ؛ إذ كانت تتلحقه م الشبهات من كل جانب.
غزو ة حمراء السد وبات الرسول صلى ال عليه وسل م وهو يفكر في الموقف ،فقد كان يخاف أن المشركين إن فكروا في أنه م ل م يستفيدوا شيئًا من النصر والغلبة التي كسبوها في ساحة القتال ،فل بد من أن يندموا على ذلك ،ويرجعوا من الطريق لغزو
المدينة مر ة ثانية ،فصم م على أن يقو م بعملية مطارد ة الجيش المكي.
قال أهل المغازي ما حاصله :إن النبي صلى ال عليه وسل م نادي في الناس ،وندبه م إلى المسير إلى لقاء العدو ـ وذلك صباح الغد من معركة أحد ،أي يو م الحد الثامن من شهر شوال سنة 3هـ ـ وقال :)ل يخرج معنا إل من شهد القتال( ،فقال له عبد ال بن أبي :أركب معك؟ قال :)ل( ،واستجاب له المسلمون على ما به م من الجرح الشديد، والخوف المزيد ،وقالوا :سمعًا وطاعة .واستأذنه جابر بن عبد ال ،وقال :يا رسول ال ،إني أحب أل تشهد مشهدًا إل
كنت معك ،إوانما خلفني أبي على بناته فائذن لي أسير معك ،فأذن له.
وسار رسول ال صلى ال عليه وسل م والمسلمون معه حتى بلغوا حمراء السد ،على بعد ثمانية أميال من المدينة، فعسكروا هناك. وهناك أقبل َم ْعـَبـد بن أبي معبد الخزاعي إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م فأسل م ـ ويقال :بل كان على شركه، ولكنه كان ناصحًا لرسول ال صلى ال عليه وسل م لما كان بين خزاعة وبني هاش م من الحلف ـ فقال :يا محمد ،أما
وال لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ،ولوددنا أن ال عافاك .فأمره رسول ال صلى ال عليه وسل م أن يلحق أبا سفيان فَُيَخ ّذـلَـه. ول م يكن ما خافه رسول ال صلى ال عليه وسل م من تفكير المشركين في العود ة إلى المدينة إل حقًا ،فإنه م لما نزلوا ل من المدينة تلوموا فيما بينه م ،قال بعضه م لبعض:ل م تصنعوا شيئًا ،أصبت م بالروحاء على بعد ستة وثلثين مي ً
شوكته م وحده م ،ث م تركتموه م ،وقد بقي منه م رءوس يجمعون لك م ،فارجعوا حتى نستأصل شأفته م.
ويبدو أن هذا الرأي جاء سطحيًا ممن ل م يكن يقدر قو ة الفريقين ومعنوياته م تقدي ًار صحيحًا ؛ ولذلك خالفه م زعي م ل :يا قو م ،لتفعلوا فإني أخاف أن يجمع عليك م من تخلف من الخروج ـ أي من مسئول ]صفوان بن أمية[ قائ ً
المسلمين في غزو ة أحد ـ فارجعوا والدولة لك م ،فإني ل آمن إن رجعت م أن تكون الدولة عليك م .إل أن هذا الرأي رفض
أما م رأي الغلبية الساحقة ،وأجمع جيش مكة على المسير نحو المدينة .ولكن قبل أن يتحرك أبو سفيان بجيشه من مقره لحقه معبد بن أبي معبد الخزاعي ول م يكن يعرف أبو سفيان بإسلمه ،فقال :ما وراءك يا معبد؟ فقال معبد ـ وقد شن عليه حرب أعصاب دعائية عنيفة :محمد قد خرج في أصحابه ،يطلبك م في جمع ل م أر مثله قط ،يتحرقون عليك م تحرقًا ،قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومك م ،وندموا على ما ضيعوا ،فيه م من الحنق عليك م شيء ل م أر مثله
قط.
قال أبو سفيان :ويحك ،ما تقول؟ قال :وال ما أري أن ترتحل حتى تري نواصي الخيل ـ أو ـ حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الكمة. فقال أبو سفيان :وال لقد أجمعنا الكر ة عليه م لنستأصله م. قال :فل تفعل ،فإني ناصح. وحينئذ انهارت عزائ م الجيش المكي وأخذه الفزع والرعب ،فل م ير العافية إل في مواصلة النسحاب والرجوع إلى مكة، بيد أن أبا سفيان قا م بحرب أعصاب دعائية ضد الجيش السلمي ،لعله ينجح في كف هذا الجيش عن مواصلة المطارد ة ،وطبعًا فهو ينجح في تجنب لقائه .فقد مر به ركب من عبد القيس يريد المدينة ،فقال :هل أنت م مبلغون
عني محمدًا رسالة ،وأوقر لك م راحلتك م هذه زبيًبا بعكاظ إذا أتيت م إلى مكة؟
قالوا :نع م. قال :فأبلغوا محمدًا أنا قد أجمعنا الكر ة ؛ لنستأصله ونستأصل أصحابه.
فمر الركب برسول ال صلى ال عليه وسل م وأصحابه ،وه م بحمراء السد ،فأخبره م بالذي قال له أبو سفيان ،وقالوا: }ِإّن الّناَس قَْد َج َمـُعـوْا لَُك ْ مـ َفاْخ َش ـْوـُهـْ مفََزاَد ُهـْ م{ ـ أي زاد المسلمين قوله م ذلك ـ } ِإيَماـنًا َو َقــالُوْا َح ْسـُبـَنا اُل َو نِـْع َ مـ اْلَو ِك ـيـُل َفانَقَلُبوْا ِ ِ ض ٍل ـ َع ِظـ يـٍ م{]آل عمران.[174 ،173 : ضـ َوــاَنال َواُل ُذ وـ فَ ْ ض ٍل ـلّْ م َيْم َسـْسـهُـْ م ُس وـٌء َواتَّبُعوْا ِر ْ بِنِْع َمـٍةـ ّم َنـ ال َو فَـ ْ أقا م رسول ال صلى ال عليه وسل م بحمراء السد ـ بعد مقدمه يو م الحد ـ الثنين والثلثاء والربعاء ـ 11 ،10 ،9
شوال سنة 3هـ ـ ث م رجع إلى المدينة ،وأخذ رسول ال صلى ال عليه وسل م قبل الرجوع إلى المدينة أبا َع ّزـ ةالجمحي ـ وهو الذي كان قد مّن عليه من أساري بدر ؛ لفقره وكثر ة بناته ،على أل يظاهر عليه أحدًا ،ولكنه نكث وغدر فحرض الناس بشعره على النبي صلى ال عليه وسل م والمسلمين ،كما أسلفنا ،وخرج لمقاتلته م في أحد ـ فلما أخذه رسول ال
صلى ال عليه وسل م قال :يا محمد ،أقلني ،وامنن على ،ودعني لبناتي ،وأعطيك عهدًا أل أعود لمثل ما فعلت ،فقال صلى ال عليه وسل م :)ل تمسح عارضيك بمكة بعدها وتقول :خدعت محمدًا مرتين ،ل يلدغ المؤمن من جحر مرتين( ،ث م أمر الزبير أو عاص م بن ثابت فضرب عنقه.
كما حك م بالعدا م في جاسوس من جواسيس مكة ،وهو معاوية بن المغير ة بن أبي العاص جد عبد الملك بن مروان لمه ؛ وذلك أنه لما رجع المشركون يو م أحد جاء معاوية هذا إلى ابن عمه عثمان بن عفان رضي ال عنه فاستأمن له عثمان رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فأمنه على أنه إن وجد بعد ثلث قتله .فلما خلت المدينة من الجيش السلمي أقا م فيها أكثر من ثلث يتجسس لحساب قريش ،فلما رجع الجيش خرج معاوية هاربًا ،فأمر رسول ال
صلى ال عليه وسل م زيد بن حارثة وعمار بن ياسر ،فتعقباه حتى قتله .
ومما ل شك فيه أن غزو ة حمراء السد ليست بغزو ة مستقلة ،إوانما هي جزء من غزو ة أحد ،وتتمة لها وصفحة من صفحاتها. تلك هي غزو ة أحد بجميع مراحلها وتفاصيلها ،وطالما بحث الباحثون حول مصير هذه الغزو ة ،هل كانت هزيمة أ م ل؟ والذي ل يشك فيه أن التفوق العسكري في الصفحة الثانية من القتال كان للمشركين ،وأنه م كانوا مسيطرين على ساحة القتال ،وأن خسار ة الرواح والنفوس كانت في جانب المسلمين أكثر وأفدح ،وأن طائفة من المؤمنين انهزمت قطعًا ،وأن دفة القتال جرت لصالح الجيش المكي ،لكن هناك أمور تمنعنا أن نعبر عن كل ذلك بالنصر والفتح. فمما ل شك فيه أن الجيش المكي ل م يستطع احتلل معسكر المسلمين ،وأن المقدار الكبير من الجيش المدني ل م يلتجئ إلى الفرار ـ مع الرتباك الشديد والفوضي العامة ـ بل قاو م بالبسالة حتى تجمع حول مقر قيادته ،وأن كفته ل م تسقط إلى حد أن يطارده الجيش المكي ،وأن أحدًا من جيش المدينة ل م يقع في أسر الكفار ،وأن الكفار ل م يحصلوا
على شيء من غنائ م المسلمين ،وأن الكفار ل م يقوموا إلى الصفحة الثالثة من القتال مع أن جيش المسلمين ل م يزل
في معسكره ،وأنه م ل م يقيموا بساحة القتال يومًا أو يومين أو ثلثة أيا م ـ كما هو دأب الفاتحين في ذلك الزمان ـ بل سارعوا إلى النسحاب وترك ساحة القتال قبل أن يتركها المسلمون ،ول م يجترئوا على الدخول في المدينة لنهب
الذراري والموال ،مع أنها على بعد عد ة خطوات فحسب ،وكانت مفتوحة وخالية تمامًا. كل ذلك يؤكد لنا أن ما حصل لقريش ل م يكن أكثر من أنه م وجدوا فرصة نجحوا فيها بإلحاق الخسائر الفادحة بالمسلمين ،مع الفشل فيما كانوا يهدفون إليه من إباد ة الجيش السلمي بعد عمل التطويق ـ وكثي اًر ما يلقي الفاتحون
بمثل هذه الخسائر التي نالها المسلمون ـ أما أن ذلك كان نص ًار وفتحًا فكل وحاشا.
بل يؤكد لنا تعجيل أبي سفيان في النسحاب والنصراف أنه كان يخاف على جيشه المعر ة والهزيمة لو جرت صفحة ثالثة من القتال ،ويزداد ذلك تأكدًا حين ننظر إلى موقف أبي سفيان من غزو ة حمراء السد. إواذن فهذه الغزو ة إنما كانت حربًا غير منفصلة ،أخذ كل فريق بقسطه ونصيبه من النجاح والخسار ة ،ث م حاد كل منها عن القتال من غير أن يفر عن ساحة القتال ويترك مقره لحتلل العدو ،وهذا هو معني الحرب غير المنفصلة. ل تَِه ُنـوْا ِفيـ اْب تِـَغاء اْلَقْو ِ م ـِإن تَُك وـُنوْا تَْأَلُم وـَن فَِإّنهُْ م َيْأَلُم وـَن َك َمـاـ تَْأَلموَن َو تَـْر ُجـوـَنِم َنـ اِل َم اـ إوالى هذا يشير قوله تعإلى :} َو َ ل َيْر ُجـوـَ{ن ]النساء ،[104 :فقد شبه أحد العسكرين بالخر في التأل م إوايقاع الل م ،مما يفيد أن الموقفين كانا َ متماثلين ،وأن الفريقين رجعا وكل غير غالب.
القرآن يتحدث حول موضوع المعركة ونزل القرآن يلقي ضوءًا على جميع المراحل المهمة من هذه المعركة مرحلة مرحلة ،وصرح بالسباب التي أدت إلى هذه الخسار ة الفادحة ،وأبدي النواحي الضعيفة التي ل م تزل موجود ة في طوائف أهل اليمان بالنسبة إلى واجبه م في
مثل هذه المواقف الحاسمة ،وبالنسبة إلى الهداف النبيلة السامية التي أنشئت للحصول عليها هذه المة ،والتي تمتاز عن غيرها بكونها خير أمة أخرجت للناس. كما تحدث القرآن عن موقف المنافقين ،ففضحه م وأبدي ما كان في باطنه م من العداو ة ل ولرسوله ،مع إزالة الشبهات والوساوس التي كانت تختلج في قلوب ضعفاء المسلمين ،والتي كان يثيرها هؤلء المنافقون إواخوانه م اليهود ـ أصحاب الدس والمؤامر ة ـ وقد أشار إلى الحك م والغايات المحمود ة التي تمخضت عنها هذه المعركة.
تـ نزلت حول موضوع المعركة ستون آية من سور ة آل عمران تبتدئ بذكر أول مرحلة من مراحل المعركة :} َ إوِاْذ َغ َدـْوـ َ ِم ْنـ أَْه ِلـَك تَُبّوىُء اْلُم ْؤـ ِمـنِـيَنَم قَـاِع َد ـِلْلِقَتاِل{ ] آل عمران ،[ 121 :وتترك في نهايتها تعليقًا جامعًا على نتائج هذه
ث ِم َنـ الطّّيِب َو َم ـاـَك اـَن المعركة وحكمتها ،قال تعإلى :} ّماـ َك اـَن اُل ِلَيَذ َرـ اْلُم ْؤـ ِمـنِـيَنَع لَــى َم آـ َأنتُْ م َع لَـْي ِهـ َح تّـَى َيِم يـَز اْلَخ بِــي َ طِلَعُك ْ مـ َع لَــى اْلَغْي ِبـ َو لَـِك ّنـ اَل َيْج تَـِبي ِم نـ ّر ُسـِلـِهَم نـ َيَش اـء َفآِم ُنـوْا ِباِل َو ُرـُسـِلـِهَو إِانـ تُْؤ ِم ـُنـوْا َو تَـتّقُوْا َفلَُك ْ مـ أَْج ٌر ـ َع ِظـ يـٌ م{ ]آل اُل ِلُي ْ عمران.[179 :
الحك م والغايات المحمود ة في هذه الغزو ة قد بسط ابن القي م الكل م على هذا الموضوع بسطًا تامًا .وقال ابن حجر :قال العلماء :وكان في قصة أحد وما
أصيب به المسلمون فيها من الفوائد والحك م الربانية أشياء عظيمة ،منها تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية،
وشؤ م ارتكاب النهي؛ لما وقع من ترك الرما ة موقفه م الذي أمره م الرسول صلى ال عليه وسل م أل يبرحوا منه. ومنها أن عاد ة الرسل أن تبتلي وتكون لها العاقبة ،والحكمة في ذلك أنه م لو انتصروا دائمًا دخل في المؤمنين من
ليس منه م ،ول م يتميز الصادق من غيره ،ولو انكسروا دائمًا ل م يحصل المقصود من البعثة ،فاقتضت الحكمة الجمع
بين المرين لتمييز الصادق من الكاذب ،وذلك أن نفاق المنافقين كان مخفيًا عن المسلمين ،فلما جرت هذه القصة،
وأظهر أهل النفاق ما أظهروه من الفعل والقول عاد التلويح تصريحًا ،وعرف المسلمون أن له م عدوًا في دوره م، فاستعدوا له م وتحرزوا منه م.
ومنها أن في تأخير النصر في بعض المواطن هضـمًا للنفس ،وكس اًر لشـماختها ،فلما ابتلي المؤمنـون صـبروا ،وجـزع المنافقون.
ومنها أن ال هيأ لعباده المؤمنين منازل فى دار كرامته ل تبلغها أعماله م ،فقيض له م أسباب البتلء والمحن ليصلوا إليها. ومنها أن الشهاد ة من أعلى مراتب الولياء فساقها إليه م. ومنها أنه أراد إهلك أعدائه ،فقيض له م السباب التى يستوجبون بها ذلك من كفره م وبغيه م وطغيانه م في أذى أوليائه ،فمحص بذلك ذنوب المؤمنين ،ومحق بذلك الكافرين.
السرايا والبعوث بين أحد والحزاب
سرية أبي سلمة بعث عبد ا بن أ َُنيس بعث الّرِجيع مأساة بئر َمُعونة غزوة بني النطضير غزوة نجد غزوة بدر الثانية غزوة ُدَومة الجندل
كان لمأسا ة أحد أثر سيئ على سمعة المؤمنين ،فقد ذهبت ريحه م ،وزالت هيبته م عن النفوس ،وزادت المتاعب الداخلية والخارجية على المؤمنين وأحاطت الخطار بالمدينة من كل جانب ،وكاشف اليهود والمنافقون والعراب بالعداء السافر ،وهمت كل طائفة منه م أن تنال من المؤمنين ،بل طمعت في أن تقضي عليه م وتستأصل شأفته م. ضـ ل ـ وَقاَر ة في فل م يمض على هذه المعركة شهران حتى تهيأت بنو أسد للغار ة على المدينة .ث م قامت قبائل َع َ شهر صفر سنة 4هـ بمكيد ة تسببت في قتل عشر ة من الصحابة ،وفي نفس الشهر نفسه قا م عامر بن ال ّ طَفيل
العامري بتحريض بعض القبائل حتى قتلوا سبعين من الصحابة ،وتعرف هذه الوقعة بوقعة بئر َم ُعـوَنة ،ول م تزل بنو نضير خلل هذه المد ة تجاهر بالعداو ة حتى قامت في ربيع الول سنة 4هـ بمكيد ة تهدف إلى قتل النبي
طـَفان حتى همت بالغزو على المدينة في جمادي الولي سنة 4هـ. صلى ال عليه وسل م ،وتجرأت بنو َغ َ فريح المسلمين التي كانت قد ذهبت في معركة أحد تركت المسلمين ـ إلى حين ـ يهددون بالخطار ،ولكن تلك هي حكمة محمد صلى ال عليه وسل م التي صرفت وجوه التيارات ،وأعادت للمسلمين هيبته م المفقود ة ،وأكسبته م العلو والمجد من جديد .وأول ما أقد م عليه بهذا الصدد هي حركة المطارد ة التي قا م بها إلى حمراء السد ،فقد حفظ بها قد ًار من سمعة جيشه ،واستعاد بها من مكانته شيئًا مذكو ًرا ،ث م قا م بمناورات أعادت للمسلمين هيبته م،
بل زادت فيها ،وفي الصفحات التية شيء مما جري بين الطرفين.
سرية أبي سلمة أول من قا م ضد المسلمين بعد نكسة أحد ه م بنو أسد بن خزيمة ،فقد نقلت استخبارات المدينة أن طلحة وسلمة ابني خويلد قد سا ار في قومهما ومن أطاعهما يدعون بني أسد بن خزيمة إلى حرب رسول ال صلى ال عليه وسل م. ل من المهاجرين والنصار، فسارع رسول ال صلى ال عليه وسل م إلى بعث سرية قوامها مائة وخمسون مقات ً وأمر عليه م أبا سلمة ،وعقد له لواء .وباغت أبو سلمة بني أسد بن خزيمة في دياره م قبل أن يقوموا بغارته م،
فتشتتوا في المر ،وأصاب المسلمون إبل وشاء له م فاستاقوها ،وعادوا إلى المدينة سالمين غانمين ل م يلقوا حربًا.
كان مبعث هذه السرية حين استهل هلل المحر م سنة 4هـ .وعاد أبو سلمة وقد نفر عليه جرح كان قد أصابه في أحد ،فل م يلبث حتى مات.
بعث عبد ال بن أَُنيس وفي اليو م الخامس من نفس الشهر ـ المحر م سنة 4هـ ـ نقلت الستخبارات أن خالد بن سفيان الهذلي يحشد الجموع لحرب المسلمين ،فأرسل إليه النبي صلى ال عليه وسل م عبد ال ابن أنيس ليقضي عليه. وظل عبد ال بن أنيس غائبًا عن المدينة ثماني عشر ة ليلة ،ث م قد م يو م السبت لسبع بقين من المحر م ،وقد قتل
خالدًا وجاء برأسه ،فوضعه بين يدي النبي صلى ال عليه وسل م فأعطاه عصا وقال :)هذه آية بيني وبينك يو م القيامة( ،فلما حضرته الوفا ة أوصي أن تجعل معه في أكفانه.
بعث الّر ِجـ يــع
وفي شهر صفر من نفس السنة ـ أي الرابعة من الهجر ة ـ قد م على رسول ال صلى ال عليه وسل م قو م من
ضـ ل ـ وَقاَر ة ،وذكروا أن فيه م إسلمًا ،وسألوا أن يبعث معه م من يعلمه م الدين ،ويقرئه م القرآن ،فبعث معه م ستة َع َ نفر ـ في قول ابن إسحاق ،وفي رواية البخاري أنه م كانوا عشر ة ـ وأمر عليه م َم ْرـ ثَــد بن أبي َم ْرـ ثَــد الَغَنـِوي ـ في قول ابن إسحاق ،وعند البخاري أنه عاص م بن ثابت جد عاص م بن عمر بن الخطاب ـ فذهبوا معه م ،فلما كانوا
بالرجيع ـ وهو ماء لهَُذ يـِل بناحية الحجاز بين َراِبغ وُج ّدـ ةـ ـ استصرخوا عليه م حيًا من هذيل يقال له م :بنو لَْح َيــان،
فتبعوه م بقريب من مائة را م ،واقتصوا آثاره م حتى لحقوه م ،فأحاطوا به م ـ وكانوا قد لجأوا إلى فَْد فَـد ـ وقالوا :لك م ل .فأما عاص م فأبي من النزول وقاتله م في أصحابه ،فقتل منه م العهد والميثاق إن نزلت م إلينا أل نقتل منك م رج ً
سبعة بالنبل ،وبقي ُخ َبــيب وزيد بن الّد ثِـّنِة ورجل آخر ،فأعطوه م العهد والميثاق مر ة أخري ،فنزلوا إليه م ولكنه م غدروا به م وربطوه م بأوتار ِقِسـ يــه م ،فقال الرجل الثالث :هذا أول الغدر ،وأبي أن يصحبه م ،فجرروه وعالجوه على أن يصحبه م فل م يفعل فقتلوه ،وانطلقوا بخبيب وزيد فباعوهما بمكة ،وكانا قتل من رءوسه م يو م بدر ،فأما خبيب فمكث عنده م مسجونًا ،ث م أجمعوا على قتله ،فخرجوا به من الحر م إلى التنعي م ،فلما أجمعوا على صلبه
قال :دعوني حتى أركع ركعتين ،فتركوه فصلهما ،فلما سل م قال :وال لول أن تقولوا :إن ما بي جزع لزدت ،ث م قال:الله م أْح ِ ص ـ ِهــْ مـَع َدـًدـاـ ،واقتله م َبَد ًدـاـ ،ول تُْب ِ قـ منه م أحدا ،ث م قال :فقال له أبو سفيان :أيسرك أن محمدا عندنا نضرب عنقه ،وأنك في أهلك؟ فقال :ل وال ،ما يسرني أني في أهلي وأن محمدًا في مكانه الذي هو فيه تصيبه ل ،فذهب شوكة تؤذيه .ث م صلبوه ووكلوا به من يحرس جثته ،فجاء عمرو بن أمية الضمري ،فاحتمله بخدعة لي ً
به فدفنه ،وكان الذي تولي قتل خبيب هو عقبة بن الحارث ،وكان خبيب قد قتل أباه حارثًا يو م بدر.
طـًفا من العنب ،وما بمكة وفي الصحيح أن خبيبًا أول من سن الركعتين عند القتل ،وأنه رئي وهو أسير يأكل ِق ْ ثمر ة. وأما زيد بن الّد ثِـّنة فابتاعه صفوان بن أمية فقتله بأبيه. وبعثت قريش إلى عاص م ليؤتوا بشيء من جسده يعرفونه ـ وكان عاص م قتل عظيمًا من عظمائه م يو م بدر ـ فبعث ال عليه مثل الظّّلة من الّد ْبـرـ ـ الزنابير ـ فحمته من رسله م ،فل م يقدروا منه على شيء .وكان عاص م
أعطي ال عهدًا أل يمسه مشرك ول يمس مشركًا .وكان عمر لما بلغه خبره يقول :يحفظ ال العبد المؤمن بعد وفاته كما يحفظه في حياته .
مأسا ة بئر َم ُعـونة
وفي الشهر نفسه الذي وقعت فيه مأسا ة الّر ِجـ يــعوقعت مأسا ة أخري أشد وأفظع من الولي ،وهي التي تعرف
بوقعة بئر معونة.
وملخصها :أن أبا براء عامر بن مالك المدعو بُم لَـِع ب ـالِس ّنــة قد م على رسول ال صلى ال عليه وسل م
المدينة ،فدعاه إلى السل م فل م يسل م ول م يبعد ،فقال :يا رسول ال ،لو بعثت أصحابك إلى أهل َنْج د ـ يدعونه م
إلى دينك لرجوت أن يجيبوه م ،فقال :)إني أخاف عليه م أهل نجد( ،فقال أبو َبَراء :أنا َج اـٌر له م ،فبعث معه ل ـ في قول ابن إسحاق ،وفي الصحيح أنه م كانوا سبعين ،والذي في الصحيح هو الصحيح ـ وأمر أربعين رج ً ق ِليُم وـت ،وكانوا من خيار المسلمين وفضلئه م وساداته م عليه م المنذر بن عمرو أحد بني ساعد ة الملقب بالُم ْعـنِـ َ وقرائه م ،فساروا يحتطبون بالنهار ،يشترون به الطعا م لهل الصفة ،ويتدارسون القرآن ويصلون بالليل ،حتى نزلوا
بئر معونة ـ وهي أرض بين بني عامر وَح ّرـ ةبني ُس لَـْي مـ ـ فنزلوا هناك ،ث م بعثوا حرا م بن ِم ْلـَح اــن أخا أ م سلي م بكتاب ل فطعنه بالحربة من رسول ال صلى ال عليه وسل م إلى عدو ال عامر بن الطّفَْي لـ ،فل م ينظر فيه ،وأمر رج ً ت ـورب الكعبة. خلفه ،فلما أنفذها فيه ورأى الد م ،قال حرا م :ال أكبر ،فُْز ُ ث م استنفر عدو ال لفوره بني عامر إلى قتال الباقين ،فل م يجيبوه لجل جوار أبي براء ،فاستنفر بني سلي م،
صـ ّيــة وِرْع ل ـوَذ َكـوـان ،فجاءوا حتى أحاطوا بأصحاب رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فقاتلوا حتى قتلوا فأجابته ُع َ عن آخره م إل كعب بن زيد بن النجار ،فإنه ار تُـ ّ ث من بين القتلي ،فعاش حتى قتل يو م الخندق. ْ
وكان عمرو بن أمية الضمري والمنذر بن عقبة بن عامر في سرح المسلمين فرأيا الطير تحو م على موضع الوقعة ،فنزل المنذر ،فقاتل المشركين حتى قتل مع أصحابه ،وأسر عمرو بن أمية الضمري ،فلما أخبر أنه من
ضـ ر ـ َج ّز ـ عامر ناصيته ،وأعتقه عن رقبة كانت على أمه. ُم َ
ل معه أنباء المصاب الفادح ،مصرع سبعين ورجع عمرو بن أمية الضمري إلى النبي صلى ال عليه وسل م حام ً
من أفاضل المسلمين ،تذكر نكبته م الكبير ة بنكبة أحد ؛ إل أن هؤلء ذهبوا في قتال واضح ؛ وأولئك ذهبوا في غدر ة شائنة.
ولما كان عمرو بن أمية في الطريق بالَقْر قَـَر ةمن صدر قنا ة ،نزل في ظل شجر ة ،وجاء رجلن من بني كلب فنزل معه ،فلما ناما فتك بهما عمرو ،وهو يري أنه قد أصاب ثأر أصحابه ،إواذا معهما عهد من رسول ال صلى ال عليه وسل م ل م يشعر به ،فلما قد م أخبر رسول ال صلى ال عليه وسل م بما فعل ،فقال :)لقد قتلت قتيلين لِد َيـّنهما( ،وانشغل بجمع ديتهما من المسلمين ومن حلفائه م اليهود ،وهذا الذي صار سببًا لغزو ة بني النضير، كما سيذكر.
وقد تأل م النبي صلى ال عليه وسل م لجل هذه المأسا ة ،ولجل مأسا ة الرجيع اللتين وقعتا خلل أيا م معدود ة ، تألما شديدًا ،وتغلب عليه الحزن والقلق ،حتى دعا على هؤلء القوا م والقبائل التي قامت بالغدر والفتك في
أصحابه .ففي الصحيح عن أنس قال :دعا النبي صلى ال عليه وسل م على الذين قتلوا أصحابه ببئر معونة
ت ـ ال ورسوله(، صـ ْ صـيــة َع َ صـ يــة ،ويقول:) ُع َ ثلثين صباحًا ،يدعو في صل ة الفجر على ِرْع ل ـوَذ ْكـَوـاـنولَْح َيــان وُع َ فأنزل ال تعالى على نبيه قرآنًا قرأناه حتى نسخ بعد :)بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه( فترك رسول ال صلى ال عليه وسل م قُُنوَته .
غزو ة بني النضير قد أسلفنا أن اليهود كانوا يتحرقون على السل م والمسلمين إل أنه م ل م يكونوا أصحاب حرب وضرب ،بل كانوا أصحاب دس ومؤامر ة ،فكانوا يجاهرون بالحقد والعداو ة ،ويختارون أنواعًا من الحيل ؛ ليقاع اليذاء بالمسلمين
دون أن يقوموا للقتال مع ما كان بينه م وبين المسلمين من عهود ومواثيق ،وأنه م بعد وقعة بني قينقاع وقتل كعب بن الشرف خافوا على أنفسه م فاستكانوا والتزموا الهدوء والسكوت. ولكنه م بعد وقعة أحد تج أروا ،فكاشفوا بالعداو ة والغدر ،وأخذوا يتصلون بالمنافقين وبالمشركين من أهل مكة س ًرا، ويعملون لصالحه م ضد المسلمين .
وصبر النبي صلى ال عليه وسل م حتى ازدادوا جرأ ة وجسار ة بعد وقعة الّر ِجـ يــعوبئر َم ُعـونة ،حتى قاموا بمؤامر ة
تهدف القضاء على النبي صلى ال عليه وسل م.
وبيان ذلك :أنه صلى ال عليه وسل م خرج إليه م في نفر من أصحابه ،وكلمه م أن يعينوه في دية الكلبيين اللذين
قتلهما عمرو بن أمية ال ّ ـي وكان ذلك يجب عليه م حسب بنود المعاهد ة ـ فقالوا :نفعل يا أبا القاس م ،اجلس ض ْمـِرـ ـ ها هنا حتى نقضي حاجتك .فجلس إلى جنب جدار من بيوته م ينتظر وفاءه م بما وعدوا ،وجلس معه أبو بكر وعمر وعلى وطائفة من أصحابه. وخل اليهود بعضه م إلى بعض ،وسول له م الشيطان الشقاء الذي كتب عليه م ،فتآمروا بقتله صلى ال عليه وسل م ،وقالوا :أيك م يأخذ هذه الرحي ،ويصعد فيلقيها على رأسه يشدخه بها؟ ...فقال أشقاه م عمرو بن جحاش: أنا .فقال له م َس لّـ م بن ِم ْشـَكـ مـ :ل تفعلوا ،فوال ليخبرن بما هممت م به ،إوانه لنقض للعهد الذي بيننا وبينه .ولكنه م عزموا على تنفيذ خطته م. ونزل جبريل من عند رب العالمين على رسوله صلى ال عليه وسل م يعلمه بما هموا به ،فنهض مسرعًا وتوجه
تـ به يهود. إلى المدينة ،ولحقه أصحابه فقالوا :نهضت ول م نشعر بك ،فأخبره م بما َهّمـ ْ
وما لبث رسول ال صلى ال عليه وسل م أن بعث محمد بن مسلمة إلى بني النضير يقول له م :)اخرجوا من المدينة ول تساكنوني بها ،وقد أجلتك م عش ًرا ،فمن وجدت بعد ذلك بها ضربت عنقه( .ول م يجد يهود مناصًا من الخروج ،فأقاموا أيامًا يتجهزون للرحيل ،بيد أن رئيس المنافقين ـ عبد ال بن أبي ـ بعث إليه م أن اثبتوا وتََم ّنـُعوا،
ول تخرجوا من ديارك م ،فإن معي ألفين يدخلون معك م حصنك م ،فيموتون دونك م }لَئِْن أُْخ ِرـْجـ تُـْ ملََنْخ ُر ـَجـ ّن ـَم َعـُكـْ مـ َوَل ِ ِ ص َرـّنـُك{ْ مـ ]الحشر [11:وتنصرك م قريظة وحلفاؤك م من غطفان. ُنط يـُع فيـُك ْ مـ أََح ًدـاـ أََبًد اـ َو إِاـنـ ُقوتِْلتُْ م َلَنن ُ
وهناك عادت لليهود ثقته م ،واستقر رأيه م على المناوأ ة ،وطمع رئيسه م حيي بن أخطب فيما قاله رأس المنافقين، فبعث إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م يقول :إنا ل نخرج من ديارنا ،فاصنع ما بدا لك. ول شك أن الموقف كان حرجًا بالنسبة للمسلمين ،فإن اشتباكه م بخصومه م في هذه الفتر ة المحرجة من تاريخه م ل م
يكن مأمون العواقب ،وقد أروا َك لَـب العرب عليه م وفتكه م الشنيع ببعوثه م ،ث م إن يهود بني النضير كانوا على
درجة من القو ة تجعل استسلمه م بعيد الحتمال ،وتجعل فرض القتال معه م محفوفًا بالمكاره ،إل أن الحال التي
جدت بعد مأسا ة بئر معونة وما قبلها زادت حساسية المسلمين بجرائ م الغتيال والغدر التي أخذوا يتعرضون لها
جماعات وأفرادًا ،وضاعفت نقمته م على مقترفيها ،ومن ث م قرروا أن يقاتلوا بني النضير ـ بعد همه م باغتيال الرسول صلى ال عليه وسل م ـ مهما تكن النتائج.
فلما بلغ رسول ال صلى ال عليه وسل م جواب حيي بن أخطب كبر وكبر أصحابه ،ث م نهض لمناجز ة القو م، فاستعمل على المدينة ابن أ م مكتو م ،وسار إليه م ،وعلى بن أبي طالب يحمل اللواء ،فلما انتهي إليه م فرض عليه م الحصار. والتجأ بنو النضير إلى حصونه م ،فأقاموا عليها يرمون بالنبل والحجار ة ،وكانت نخيله م وبساتينه م عونًا له م في
ذلك ،فأمر بقطعها وتحريقها ،وفي ذلك يقول حسان:
وهان على َس َرـاِ ةبني ُلؤي ** حـريـق بالُبَو ْي ـَرـِ ةمسـتطيـر ِ ّ ٍ ص وـِلَها ]البوير ة :اس م لنخل بني النضير[ وفي ذلك أنزل ال تعالى :} َماـ قَ َ طْع تُـ م ّم نـ ليَنة أَْو تََر ْكـتُـُم وـَهاـَقائَم ًةـ َع لَــى أُ ُ فَبِِإْذ ِنـ اِل{ ]الحشر.[5 : واعتزلته م قريظة ،وخانه م عبد ال بن أبي وحلفاؤه م من غطفان ،فل م يحاول أحد أن يسوق له م خي ًرا ،أو يدفع طـاِن ِإْذ َقاَل ِل ْ ِ ل نـَس اـِن اْك فُـْر َفلَّم اـ َك فَـَر َقاَل عنه م ش ًرا ،ولهذا شبه سبحانه وتعإلى قصته م ،وجعل مثله م:} َكَمـثَـِل الّش ْيـ َ ك{ ]الحشر[16 : ِإّني َبِريٌء ّم نـ َ ول م يطل الحصار ـ فقد دا م ست ليال فقط ،وقيل :خمس عشر ة ليلة ـ حتى قذف ال في قلوبه م الرعب ،فاندحروا وتهيأوا للستسل م وللقاء السلح ،فأرسلوا إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م :نحن نخرج عن المدينة .فأنزله م على أن يخرجوا عنها بنفوسه م وذ ارريه م ،وأن له م ما حملت البل إل السلح. فنزلوا على ذلك ،وخربوا بيوته م بأيديه م ،ليحملوا البواب والشبابيك ،بل حتى حمل بعضه م الوتاد وجذوع السقف، ث م حملوا النساء والصبيان ،وتحملوا على ستمائة بعير ،فترحل أكثره م وأكابره م كحيي بن أخطب وس ّ ل م بن أبي
الُح قَــيق إلى خيبر ،وذهبت طائفة منه م إلى الشا م ،وأسل م منه م رجلن فقط :ياِم يـُن بن عمرو وأبو سعد بن وهب، فأحر از أموالهما. وقبض رسول ال صلى ال عليه وسل م سلح بني النضير ،واستولي على أرضه م ودياره م وأمواله م ،فوجد من السلح خمسين درعًا وخمسين بيضة ،وثلثمائة وأربعين سيفًا. وكانت أموال بني النضير وأرضه م ودياره م خالصة لرسول ال صلى ال عليه وسل م ؛ يضعها حيث يشاء ،ول م
يَخ ّمـْسـهــا لن ال أفاءها عليه ،ول م يوِج ف ـ المسلمون عليها بَِخ يـٍل ول ِر كـاب ،فقسمها بين المهاجرين الولين خاصة ،إل أنه أعطي أبا ُد َجـ اــنة وسهل بن ُح َنــيف النصاريين لفقرهما .وكان ينفق منها على أهله نفقة سنة ،ث م يجعل ما بقي في السلح والُك َرـاع عد ة في سبيل ال.
كانت غزو ة بني النضير في ربيع الول سنة 4من الهجر ة ،أغسطس 625م ،وأنزل ال في هذه الغزو ة سور ة الحشر بأكملها ،فوصف طرد اليهود ،وفضح مسلك المنافقين ،وبين أحكا م الفيء ،وأثني على المهاجرين والنصار ،وبين جواز القطع والحرق في أرض العدو للمصالح الحربية ،وأن ذلك ليس من الفساد في الرض، وأوصي المؤمنين بالتزا م التقوي والستعداد للخر ة ،ث م ختمها بالثناء على نفسه وبيان أسمائه وصفاته. وكان ابن عباس يقول عن سور ة الحشر :قل :سور ة النضير . هذه خلصة ما رواه ابن إسحاق وعامة أهل السير حول هذه الغزو ة .وقد روي أبو داود وعبد الرزاق وغيرهما سببًا آخر حول هذه الغزو ة ،وهو أنه لما كانت وقعة بدر فكتبت كفار قريش بعد وقعة بدر إلى اليهود :إنك م أهل الحلقة والحصون ،إوانك م لتقاتلن صاحبنا أو لنفعلن كذا وكذا ،ول يحول بيننا وبين َخ َدـ مـ نسائك م شيء ـ وهو الخلخيل ـ فلما بلغ كتابه م اليهود أجمعت بنو النضير على الغدر ،فأرسلوا إلى النبي صلى ال عليه وسل م :
ف ـ بيننا اخرج إلينا في ثلثين رج ً ص ٌ ل من أصحابك ،ولنخرج في ثلثين حب ًرا ،حتى نلتقي في مكان كذاَ ،ن َ وبينك م ،فيسمعوا منك ،فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا كلنا ،فخرج النبي صلى ال عليه وسل م في ثلثين من
أصحابه ،وخرج إليه ثلثون حب اًر من يهود ،حتى إذا برزوا في براز من الرض قال بعض اليهود لبعض :كيف
ل من أصحابه ،كله م يحب أن يموت قبله ،فأرسلوا إليه :كيف تفه م ونفه م ونحن تخلصون إليه ومعه ثلثون رج ً
ل ؟ اخرج في ثلثة من أصحابك ويخرج إليك ثلثة من علمائنا ،فليسمعوا منك ،فإن آمنوا بك آمنا كلنا ستون رج ً وصدقناك ،فخرج النبي صلى ال عليه وسل م في ثلثة نفر من أصحابه واشتملوا ]أي اليهود[ على الخناجر،
وأرادوا الفتك برسول ال صلى ال عليه وسل م ،فأرسلت امرأ ة ناصحة من بني النضير إلى بني أخيها ،وهو رجل مسل م من النصار ،فأخبرته خبر ما أرادت بنو النضير من الغدر برسول ال صلى ال عليه وسل م ،فأقبل أخوها سريعًا حتى أدرك النبي صلى ال عليه وسل م ،فساره بخبره م قبل أن يصل النبي صلى ال عليه وسل م إليه م،
فرجع النبي صلى ال عليه وسل م ،فلما كان من الغد غدا عليه م رسول ال صلى ال عليه وسل م بالكتائب فحاصره م ،وقال له م :)إنك م لتأمنون عندي إل بعهد تعاهدوني عليه( ،فأبوا أن يعطوه عهدًا ،فقاتله م يومه م ذلك هو والمسلمون ،ث م غدا الغد على بني قريظة بالخيل والكتائب ،وترك بني النضير ،ودعاه م إلى أن يعاهدوه،
فعاهدوه ،فانصرف عنه م ،وغدا إلى بني النضير بالكتائب ،فقاتله م حتى نزلوا على الجلء ،وعلى أن له م ما أقلت البل إل الَح ْلــقة ـ والحْلقة :السلح ـ فجاءت بنو النضير واحتملوا ما أقلت إبل من أمتعته م وأبواب بيوته م
وخشبها ،فكانوا يخربون بيوته م فيهدمونها ،فيحملون ما وافقه م من خشبها ،وكان جلؤه م ذلك أول حشر الناس
إلى الشا م .
غزو ة نجد وبهذا النصر الذي أحرزه المسلمون ـ في غزو ة بني النضير ـ دون قتال وتضحية توطد سلطانه م في المدينة، وتخاذل المنافقون عن الجهر بكيده م ،وأمكن للرسول صلى ال عليه وسل م أن يتفرغ لقمع العراب الذين آذوا المسلمين بعد أحد ،وتواثبوا على بعوث الدعا ة يقتلون رجالها في نذالة وكفران ،وبلغت به م الجرأ ة إلى أن أرادوا القيا م بجر غزو ة على المدينة. فقبل أن يقو م النبي صلى ال عليه وسل م بتأديب أولئك الغادرين ،نقلت إليه استخبارات المدينة بتحشد جموع البدو طـَفان ،فسارع النبي صلى ال عليه وسل م إلى الخروج ،يجوس فيافي والعراب من بني ُم َحـ اـِر بـوبني ثعلبة من َغ َ
نجد ،ويلقي بذور الخوف في أفئد ة أولئك البدو القسا ة؛ حتى ل يعاودوا مناكره م التي ارتكبها إخوانه م مع المسلمين.
وأضحي العراب الذين مردوا على النهب والسطو ل يسمعون بمقد م المسلمين إل حذروا وتمنعوا في رءوس الجبال ،وهكذا أرهب المسلمون هذه القبائل المغير ة ،وخلطوا بمشاعره م الرعب ،ث م رجعوا إلى المدينة آمنين. وقد ذكر أهل المغازي والسير بهذا الصدد غزو ة معينة غزاها المسلمون في أرض نجد في شهر ربيع الثاني أو جمادي الولي سنة 4هـ ،ويسمون هذه الغزو ة بغزو ة ذات الّر قَـاع .أما وقوع الغزو ة خلل هذه المد ة فهو أمر
تقتضيه ظروف المدينة ،فإن موس م غزو ة بدر التي كان قد تواعد بها أبو سفيان حين انصرافه من أحد ،كان قد
اقترب .إواخلء المدينة ،مع ترك البدو والعراب على تمرده م وغطرسته م ،والخروج لمثـل هذا اللقاء الرهيب ل م يكن من مصالح سياسة الحروب قطعاً ،بل كان ل بد من خضد شوكته م وكف شره م ،قبل الخروج لمثل هذه الحرب الكبير ة ،التى كانوا يتوقعون وقوعها فى رحاب بدر .
وأما أن تلك الغزو ة التى قادها الرسول صلى ال عليه وسل م فى ربيع الخر أو جمادى الولى سنة 4هـ هى
غزو ة ذات الرقاع فل يصح ،فإن غزو ة ذات الرقاع شهدها أبو هرير ة وأبو موسى الشعرى رضي ال عنهما، وكان إسل م أبى هرير ة قبل غزو ة خيبر بأيا م ،وكذلك أبو موسى الشعرى رضي ال عنه ،وافى النبى صلى ال عليه وسل م بخيبر .إواذن فغزو ة ذات الرقاع بعد خيبر ،ويدل على تأخرها عن السنة الرابعة أن النبى صلى ال عليه وسل م صلى فيها صل ة الخوف ،وكانت أول شرعية صل ة الخوف فى غزو ة ُع ْسـفَـان ،ول خلف أن غزو ة
عسفان كانت بعد الخندق ،وكانت غزو ة الخندق فى أواخر السنة الخامسة.
غزو ة بدر الثانية ولما خضد المسلمون شوكة العراب ،وكفكفوا شره م ،أخذوا يتجهزون لملقا ة عدوه م الكبر ،فقد استدار العا م وحضر الموعد المضروب مع قريش ـ في غزو ة أحد ـ وحق لمحمد صلى ال عليه وسل م وصحبه أن يخرجوا ؛ ليواجهوا أبا سفيان وقومه ،وأن يديروا رحى الحرب كر ة أخرى حتى يستقر المر لهدي الفريقين وأجدرهما بالبقاء. ففي شعبان سنة 4هـ يناير سنة 626م خرج رسول ال صلى ال عليه وسل م لموعده في ألف وخمسمائة ،وكانت الخيل عشر ة أفراس ،وحمل لواءه على بن أبي طالب ،واستخلف على المدينة عبد ال بن رواحة ،وانتهي إلى بدر ،فأقا م بها ينتظر المشركين. وأما أبو سفيان فخرج في ألفين من مشركي مكة ،ومعه م خمسون فرسًا ،حتى انتهي إلى َم ّرـ الظّْهَران على بعد مرحلة من مكة فنزل بَم َجـ ّنــة ـ ماء في تلك الناحية. ل يفكر في عقبي القتال مع المسلمين ،وقد أخذه الرعب ،واستولت على مشاعره خرج أبو سفيان من مكة متثاق ً
الهيبة ،فلما نزل بمر الظهران خار عزمه ،فاحتال للرجوع ،وقال لصحابه :يا معشر قريش ،إنه ل يصلحك م إل عا م خصب ترعون فيه الشجر ،وتشربون فيه اللبن ،إوان عامك م هذا عا م جدب ،إواني راجع فارجعوا. ويبدو أن الخوف والهيبة كانت مستولية على مشاعر الجيش أيضًا ،فقد رجع الناس ول م يبدوا أي معارضة لهذا
الرأي ،ول أي إصرار إوالحاح على مواصلة السير للقاء المسلمين.
وأما المسلمون فأقاموا ببدر ثمانية أيا م ينتظرون العدو ،وباعوا ما معه م من التجار ة فربحوا بدره م درهمين ،ث م رجعوا إلى المدينة وقد انتقل زما م المفاجأ ة إلى أيديه م ،وتوطدت هيبته م في النفوس ،وسادوا على الموقف.
وتعرف هذه الغزو ة ببدر الموعد ،وبدر الثانية ،وبدر الخر ة ،وبدر الصغرى.
غزو ة ُد َوـ مــة الجندل عاد رسول ال صلى ال عليه وسل م من بدر ،وقد ساد المنطقة المن والسل م ،واطمأنت دولته ،فتفرغ للتوجه إلى أقصي حدود العرب حتى تصير السيطر ة للمسلمين على الموقف ،ويعترف بذلك الموالون والمعادون. مكث بعد بدر الصغري في المدينة ستة أشهر ،ث م جاءت إليه الخبار بأن القبائل حول دومة الجندل ـ قريبًا من
الشا م ـ تقطع الطريق هناك ،وتنهب ما يمر بها وأنها قد حشدت جمعًا كبي ار تريد أن تهاج م المدينة ،فاستعمل طةالغفاري ،وخرج في ألف من المسلمين لخمس ليال رسول ال صلى ال عليه وسل م على المدينة ِس َبـاع ابن ُع ْرـ فُـ َ ل للطريق يقال له :مذكور. ل من بني ُع ْذـَرـ ةدلي ً بقين من ربيع الول سنة 5هـ ،وأخذ رج ً خرج يسير الليل ويكمن النهار حتى يفاجئ أعداءه م وه م غارون ،فلما دنا منه م إذا ه م مغربون ،فهج م على ما شيته م ورعائه م ،فأصاب من أصاب ،وهرب من هرب. وأما أهل دومة الجندل ففروا في كل وجه ،فلما نزل المسلمون بساحته م ل م يجدوا أحدًا ،وأقا م رسول ال صلى ال عليه وسل م أيامًا ،وبث السرايا وفرق الجيوش ،فل م يصب منه م أحدًا ،ث م رجع إلى المدينة ،ووادع في تلك الغزو ة
عيينة بن حصن .وُد وـمة بالض م :موضع معروف بمشارف الشا م بينها وبين دمشق خمس ليال ،وُبْع ُدـهـا من
المدينة خمس عشر ة ليلة.
بهذه الجراءات السريعة الحاسمة ،وبهذه الخطط الحكيمة الحازمة نجح النبي صلى ال عليه وسل م في بسط المن ،وتنفيذ السل م في المنطقة ،والسيطر ة على الموقف ،وتحويل مجري اليا م لصالح المسلمين ،وتخفيف المتاعب الداخلية والخارجية التي كانت قد توالت عليه م وأحاطت به م من كل جانب ،فقد سكت المنافقون واستكانوا ،وت م إجلء قبيلة من اليهود ،وبقيت الخري تظاهر بإيفاء حق الجوار ،وبإيفاء العهود والمواثيق، واستكانت البدو والعراب ،وحادت قريش عن مهاجمة المسلمين ،ووجد المسلمون فرصة لنشر السل م وتبليغ رسالت رب العالمين.
غزو ة الحزاب
عاد المن والسل م ،وهدأت الجزير ة العربية بعد الحروب والبعوث التي استغرقت أكثر من سنة كاملة ،إل أن اليهود ـ الذين كانوا قد ذاقوا ألوانًا من الذلة والهوان نتيجة غدره م وخيانته م ومؤامراته م ودسائسه م ـ ل م يفيقوا من
غيه م ،ول م يستكينوا ،ول م يتعظوا بما أصابه م من نتيجة الغدر والتآمر .فه م بعد نفيه م إلى خيبر ظلوا ينتظرون ما
يحل بالمسلمين من خلل المناوشات التي كانت قائمة بين المسلمين والوثنيين ،ولما تحول مجري اليا م لصالح المسلمين ،وتمخضت الليإلى واليا م عن بسط نفوذه م ،وتوطد سلطانه م ـ تحرق هؤلء اليهود أي تحرق. وشرعوا في التآمر من جديد على المسلمين ،وأخذوا يعدون العد ة ،لتصويب ضربة إلى المسلمين تكون قاتلة ل حيا ة بعدها .ولما ل م يكونوا يجدون في أنفسه م جرأ ة على قتال المسلمين مباشر ة ،خططوا لهذا الغرض خطة رهيبة. ل من زعماء اليهود وسادات بني النضير إلى قريش بمكة ،يحرضونه م على غزو الرسول صلى خرج عشرون رج ً ال عليه وسل م ،ويوالونه م عليه ،ووعدوه م من أنفسه م بالنصر له م ،فأجابته م قريش ،وكانت قريش قد أخلفت
موعدها في الخروج إلى بدر ،فرأت في ذلك إنقاذا لسمعتها والبر بكلمتها. طـَفان ،فدعاه م إلى ما دعا إليه قريشًا فاستجابوا لذلك ،ث م طاف الوفد في قبائل العرب ث م خرج هذا الوفد إلى َغ َ
يدعوه م إلى ذلك فاستجاب له من استجاب ،وهكذا نجح ساسة اليهود وقادته م في تأليب أحزاب الكفر على النبي صلى ال عليه وسل م والمسلمين. وعلى إثر ذلك خرجت من الجنوب قريش وكنانة وحلفاؤه م من أهل تهامة ـ وقائده م أبو سفيان ـ في أربعة آلف، ّ ِ صـنــ ،وبنو ووافاه م بنو سلي م بَم ّرـ الظْهَران ،وخرجت من الشرق قبائل غطفان :بنو فََزار ة ،يقوده م ُع يـيَنةـ بن ح ْ ُم ّرـ ة،يقوده م الحارث بن عوف ،وبنو أشجع ،يقوده م ِم ْسـَعـرـ بن ُر َحـ يـلَِة ،ـكما خرجت بنو أسد وغيرها. واتجهت هذه الحزاب وتحركت نحو المدينة على ميعاد كانت قد تعاقدت عليه. وبعد أيا م تجمع حول المدينة جيش َع َرـْمـَرـ مـيبلغ عدده عشر ة آلف مقاتل ،جيش ربما يزيد عدده على جميع من في المدينة من النساء والصبيان والشباب والشيوخ.
ولو بلغت هذه الحزاب والمحزبة والجنود المجند ة إلى أسوار المدينة بغتة لكانت أعظ م خط اًر على كيان
المسلمين مما يقاس ،وربما تبلغ إلى استئصال الشأفة إواباد ة الخضراء ،ولكن قياد ة المدينة كانت قياد ة متيقظة ،ل م تزل واضعة أناملها على العروق النابضة ،تتجسس الظروف ،وتقدر ما يتمخض عن مجراها ،فل م تكد تتحرك هذه الجيوش عن مواضعها حتى نقلت استخبارات المدينة إلى قيادتها فيها بهذا الزحف الخطير. وسارع رسول ال صلى ال عليه وسل م إلى عقد مجلس استشاري أعلي ،تناول فيه موضوع خطة الدفاع عن كيان المدينة ،وبعد مناقشات جرت بين القاد ة وأهل الشوري اتفقوا على قرار قدمه الصحابي النبيل سلمان الفارسي ضي ال عنه. قال سلمان :يا رسول ال ،إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا َخ ْنـَدـْقـَناـ علينا .وكانت خطة حكيمة ل م تكن تعرفها العرب قبل ذلك.
وأسرع رسول ال صلى ال عليه وسل م إلى تنفيذ هذه الحظة ،فوكل إلى كل عشر ة رجال أن يحفروا من الخندق أربعين ذراعًا ،وقا م المسلمون بجد ونشاط يحفرون الخندق ،ورسول ال صلى ال عليه وسل م يحثه م ويساهمه م في عمله م هذا .ففي البخاري عن سهل بن سعد ،قال :كنا مع رسول ال في الخندق ،وه م يحفرون ،ونحن ننقل
ش الخر ة ،فاغفر للمهاجرين التراب على أكتادنا ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)الله م ل َع يـَش إل عي ُ والنصار(. وعن أنس :خرج رسول ال صلى ال عليه وسل م إلى الخندق فإذا المهاجرين والنصار يحفرون في غدا ة بارد ة، فل م يكن له م عبيد يعملون ذلك له م ،فلما رأي ما به م من النصب والجوع قال: الله م إن العيش عيش الخر ة ** فاغفـر للنصـار والمهـاجر ة فقالوا مجيبين له: نحـن الذيـن بايعـوا محمـدًا ** على الجهـاد ما بقيـنا أبدًا وفيه عن البراء بن عازب قال :رأيته صلى ال عليه وسل م ينقل من تراب الخندق حتى واري عني الغبار جلد ة بطنه ،وكان كثير الشعر ،فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة ،وهو ينقل من التراب ويقول:
الله م لول أنت ما اهتدينا ** ول تصـدقنـا ول صلينــا فأنزلن سكينـة علينـا ** وثبت القـدا م إن لقينــا إن اللى رغبوا علينـا ** إوان أرادوا فتـنـة أبين ــا قال :ث م يمد بها صوته بآخرها ،وفي رواية: إن اللى قـد بغـوا علينـا ** إوان أرادوا فـتنـة أبينـا كان المسلمون يعملون بهذا النشاط وه م يقاسون من شد ة الجوع ما يفتت الكباد ،قال أنس :كان أهل الخندق يؤتون بملء كفي من الشعير ،فيصنع له م بإَهاـلٍَة سنخة توضع بين يدي القو م ،والقو م جياع ،وهي بشعة في الحلق ولها ريح.
وقال أبو طلحة :شكونا إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م الجوع ،فرفعنا عن بطوننا عن حجر حجر ،فرفع رسول ال صلى ال عليه وسل م عن حجرين. وبهذه المناسبة وقعت أثناء حفر الخندق آيات من أعل م النبو ة ،رأي جابر بن عبد ال في النبي صلى ال عليه وسل م خمصًا شديًد اـ فذبح بهيمة ،وطحنت امرأته صاعًا من شعير ،ث م التمس من رسول ال صلى ال عليه وسل م
س ًار أن يأتي في نفر من أصحابه ،فقا م النبي صلى ال عليه وسل م بجميع أهل الخندق ،وه م ألف ،فأكلوا من ذلك الطعا م وشبعوا ،وبقيت ُبْر َمـةـاللح م تغط به كما هي ،وبقي العجين يخبز كما هو.
وجاءت أخت النعمان بن بشير بَح ْفـَنة من تمر إلى الخندق ليتغدي به أبوه وخاله ،فمرت برسول ال صلى ال عليه وسل م ،فطلب منها التمر ،وبدده فوق ثوب ،ث م دعا أهل الخندق ،فجعلوا يأكلون منه وجعل التمر يزيد ،حتى صدر أهل الخندق عنه ،إوانه يسقط من أطراف الثواب. وأعظ م من هذين ما رواه البخاري عن جابرقال :إنا يو م خندق نحفر ،فعرضت ُك ْدـيـة شديد ة ،فجاءوا النبي صلى ال عليه وسل م فقالوا :هذه كدية عرضت في الخندق .فقال :)أنا نازل( ،ث م قا م وبطنه معصوب بحجر ـ ولبثنا ل ثلثة ل نذوق ذواقًا ـ فأخذ النبي صلى ال عليه وسل م الِم ْعـَوـ لــ،فضرب فعاد كثيبًا أْه يـل أو أْه يـ م ،أي صار رم ً ل يتماسك. وقال البراء :لما كان يو م الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخر ة ل تأخذ منها المعاول ،فاشتكينا ذلك لرسول ال صلى ال عليه وسل م ،فجاء ة وأخذ المعول فقال :)بس م ال( ،ث م ضرب ضربة ،وقال :)ال أكبر،
أعطيت مفاتيح الشا م ،وال إني لنظر قصورها الحمر الساعة( ،ث م ضرب الثانية فقطع آخر ،فقال :)ال أكبر، أعطيت فارس ،وال إني لبصر قصر المدائن البيض الن( ،ث م ضرب الثالثة ،فقال :)بس م ال( ،فقطع بقية الحجر ،فقال :)ال أكبر ،أعطيت مفاتيح اليمن ،وال إني لبصر أبواب صنعاء من مكاني(. وروي ابن إسحاق مثل ذلك عن سلمان الفارسي رضي ال عنه. ولما كانت المدينة تحيط بها الحرات والجبال وبساتين من النخيل من كل جانب سوي الشمال ،وكان النبي صلى ال عليه وسل م يعل م أن زحف مثل هذا الجيش الكبير ،ومهاجمته المدينة ل يمكن إل من جهة الشمال ،اتخذ الخندق في هذا الجانب. وواصل المسلمون عمله م في حفره ،فكانوا يحفرونه طول النهار ،ويرجعون إلى أهليه م في المساء ،حتى تكامل الخندق حسب الخطة المنشود ة ،قبل أن يصل الجيش الوثني العرمر م إلى أسوار المدينة. طـَفان ومن وأقبلت قريش في أربعة آلف ،حتى نزلت بمجتمع السيال من ُر وـَم ةـبين الُج ْرـف ـوَزَغ اـَبة،وأقبلت َغ َ تبعه م من أهل نجد في ستة آلف حتى نزلوا بَذ َنـِبـ َنْقَم يـ إلى جانب أحد. قـاُل َو َرـُسـوـلُهَُو َمـاـَزاَد ُهـْ مـِإّل ِإيَم اـًنا َو تَـْس ِلــيًم{اـ ص ـَدـ َ } َولَـّماـَرَأى اْلُم ْؤـ ِم ـُنـوَناْلَْح َزـا َ بَقالُوا َهَذـاـ َم اـ َوَعـَدـَنـاـاُل َو َرـُسـوـلُهَُو َ ]الحزاب.[22 : وأما المنافقون وضعفاء النفوس ضـّم اـ َوَعـَدـَنـاـاُل َو َرـُسـوـلُهُِإّل ّم َرـ ٌ
فقد تزعزعت قلوبه م لرؤية هذا الجيش } َ إوِاـْذـ َيُقوُل اْلُم َنـاِف قُـوَن َواـلِّذ يـَن ِفيـ ُقُلوبِِه مـ ُغ ُرـ وـًرا{] الحزاب.[12 :
وخرج رسول ال صلى ال عليه وسل م في ثلثة آلف من المسلمين ،فجعلوا ظهوره م إلى جبل َس ْلـع فتحصنوا به،
والخندق بينه م وبين الكفار.وكان شعاره م] :ح م ل ينصرون[ ،واستحلف على المدينة ابن أ م مكتو م ،وأمر بالنساء والذراري فجعلوا في آطا م المدينة. ولما أراد المشركون مهاجمة المسلمين واقتحا م المدينة ،وجدوا خندقًا عريضًا يحول بينه م وبينها ،فالتجأوا إلى
فرض الحصار على المسلمين ،بينما ل م يكونوا مستعدين له حين خرجوا من دياره م ،إذ كانت هذه الخطة ـ كما قالوا ـ مكيد ة ما عرفتها العرب ،فل م يكونوا أدخلوها في حسابه م رأسًا. وأخذ المشركون يدورون حول الخندق غضابًا ،يتحسسون نقطة ضعيفة ؛ لينحدروا منها ،وأخذ المسلمون
يتطلعون إلى جولت المشركين ،يرشقونه م بالنبل ،حتى ل يجترئوا على القتراب منه ،ول يستطيعوا أن يقتحموه، أو يهيلوا عليه التراب ،ليبنوا به طريقًا يمكنه م من العبور. وكره فوارس من قريش أن يقفوا حول الخندق من غير جدوي في ترقب نتائج الحصار ،فإن ذلك ل م يكن من شيمه م ،فخرجت منها جماعة فيها عمرو بن عبد ُو ّدـ وعكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب وغيره م ،فتيمموا مكانًا ضيقًا من الخندق فاقتحموه ،وجالت به م خيله م في الّس ْبـخـة بين الخندق وَس ْلـع ،وخرج على بن أبي طالب
في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليه م الثغر ة التي أقحموا منها خيله م ،ودعا عمرو إلى المبارز ة ،فانتدب له
على بن أبي طالب ،وقال كلمة حمي لجلها ـ وكان من شجعان المشركين وأبطاله م ـ فاقتح م عن فرسه فعقره وضرب وجهه ،ث م أقبل على علي ،فتجاول وتصاول حتى قتله علي رضي ال عنه ،وانهز م الباقون حتى اقتحموا الخندق هاربين ،وقد بلغ به م الرعب إلى أن ترك عكرمة رمحه وهو منهز م عن عمرو. وقد حاول المشركون في بعض اليا م محاولة بليغة لقتحا م الخندق ،أو لبناء الطرق فيها ،ولكن المسلمين كافحوا مكافحة مجيد ة ،ورشقوه م بالنبل ،وناضلوه م أشد النضال حتى فشل المشركون في محاولته م. ولجل الشتغال بمثل هذه المكافحة الشديد ة فات بعض الصلوات عن رسول ال صلى ال عليه وسل م والمسلمين ،ففي الصحيحين عن جابر رضي ال عنه :أن عمر بن الخطاب جاء يو م الخندق ،فجعل يسب كفار قريش .فقال :يا رسول ال صلى ال عليه وسل م ،ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب ،فقال النبي طَحـ اــن ،فتوضأ للصل ة، صلى ال عليه وسل م :)وأنا وال ما صليتها( ،فنزلنا مع النبي صلى ال عليه وسل م ُب ْ وتوضأنا لها ،فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ،ث م صلي بعدها المغرب.
وقد استاء رسول ال صلى ال عليه وسل م لفوات هذه الصل ة حتى دعا على المشركين ،ففي البخاري عن على عن النبي صلى ال عليه وسل م أنه قال يو م الخندق :)مل ال عليه م بيوته م وقبوره م نا ًرا ،كما شغلونا عن الصل ة
الوسطي حتى غابت الشمس(.
وفي مسند أحمد والشافعي أنه م حبسوه عن صل ة الظهر والعصر والمغرب والعشاء فصلهن جميعًا .قال
النووي :وطريق الجمع بين هذه الروايات أن وقعة الخندق بقيت أيامًا فكان هذا في بعض اليا م ،وهذا في
بعضها .انتهي.
ومن هنا يؤخذ أن محاولة العبور من المشركين ،والمكافحة المتواصلة من المسلمين ،دامت أيامًا ،إل أن الخندق
ل بين الجيشين ل م يجر بينهما قتال مباشر أو حرب دامية ،بل اقتصروا على المراما ة والمناضلة. لما كان حائ ً
وفي هذه المراما ة قتل رجال من الجيشين ،يعدون على الصابع :ستة من المسلمين ،وعشر ة من المشركين ،بينما كان قتل واحد أو اثنين منه م بالسيف. وفي هذه المراما ة رمي سعد بن معاذ رضي ال عنه بسه م فقطع منه الْك َحـلــ ،رماه رجل من قريش يقال له:
َح ّبــان بن الَعِرـقَـة ،فدعا سعد :الله م إنك تعل م أنه ليس أحد أحب إلى أن أجاهده م فيك من قو م كذبوا رسولك وأخرجوه ،الله م فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينه م ،فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني له م حتى أجاهده م فيك ،إوان كنت وضعت الحرب فافجرها واجعل موتتي فيها .وقال في آخر دعائه :ول تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة. وبينما كان المسلمون يواجهون هذه الشدائد على جبهة المعركة كانت أفاعي الدس والتآمر تتقلب في جحورها، تريد إيصال الس م داخل أجساده م :انطلق كبير مجرمي بني النضير حيي بن أخطب إلى ديار بني قريظة فأتي كعب بن أسد القرظي ـ سيد بني قريظة وصاحب عقده م وعهده م ،وكان قد عاقد رسول ال صلى ال عليه وسل م على أن ينصره إذا أصابته حرب ،كما تقد م ـ فضرب عليه حيي الباب فأغلقه كعب دونه ،فما زال يكلمه حتى طاٍ م ،ـجئتك بقريش على قادتها وسادتها ،حتى فتح له بابه ،فقال حيي :إني قد جئتك يا كعب بعز الدهر وببحر َ أنزلته م بمجمع السيال من ُر وـَم ةـ،وبغطفان على قادتها وسادتها ،حتى أنزلته م بَذ َنـبـ َنْقَم يـ إلى جانب أحد ،قد عاهدوني وعاقدوني على أل يبرحوا حتى نستأصل محمدًا ومن معه.
فقال له كعب :جئتني وال بُذ ّلـ الدهر وبَج هَــاٍ م قد َهَرـاق ماؤه ،فهو يْرِع د ـويْب ِرـقـ ،ليس فيه شيء .ويحك يا حيي فدعني وما أنا عليه ،فإني ل م أر من محمد إل صدقا ووفاء. فل م يزل حيي بكعب يْفتُِله في الّذ ْرـ َوــ ةـوالَغاـِر بـ ،حتى سمح له على أن أعطاه عهدًا من ال وميثاقًا :لئن رجعت قريش وغطفان ،ول م يصيبوا محمداً أن أدخل معك في حصنك ،حتى يصيبني ما أصابك ،فنقض كعب بن أسد عهده ،وبرئ مما كان بينه وبين المسلمين ،ودخل مع المشركين في المحاربة ضد المسلمين.
ل قامت يهود بني قريظة بعمليات الحرب .قال ابن إسحاق :كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع حصن وفع ً
حسان بن ثابت ،وكان حسان فيه مع النساء والصبيان ،قالت صفية :فمر بنا رجل من يهود ،فجعل يطيف
بالحصن ،وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول ال صلى ال عليه وسل م ،وليس بيننا وبينه م أحد يدفع عنا ،ورسول ال صلى ال عليه وسل م والمسلمون في غور عدوه م ،ل يستطيعون أن ينصرفوا عنه م إن أتانا آت ،قالت :فقلت :يا حسان ،إن هذا اليهودي كما تري يطيف بالحصن ،إواني وال ما آمنه أن يدل على عورتنا َم ْنـ وراءنا ِم ْنـ يهود ،وقد شغل عنا رسول ال صلى ال عليه وسل م وأصحابه ،فانزل إليه فاقتله.
قال :وال لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا ،قالت :فاحتجزت ث م أخذت عمودًا ،ث م نزلت من الحصن إليه ،فضربته بالعمود حتى قتلته ،ث م رجعت إلى الحصن وقلت :يا حسان ،انزل إليه فاسلبه ،فإنه ل م يمنعني من سبله إل أنه رجل ،قال :ما لي بسلبه من حاجة. وقد كان لهذا الفعل المجيد من عمة الرسول صلى ال عليه وسل م أثر عميق في حفظ ذراري المسلمين ونسائه م، ويبدو أن اليهود ظنوا أن هذه الطا م والحصون في منعة من الجيش السلمي ـ مع أنها كانت خالية عنه م تمامًا
ـ فل م يجترئوا مر ة ثانية للقيا م بمثل هذا العمل ،إل أنه م أخذوا يمدون الغزا ة الوثنيين بالمؤن ،كدليل عملي على ل. انضمامه م إليه م ضد المسلمين ،حتى أخذ المسلمون من مؤنه م عشرين جم ً
وانتهي الخبر إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م إوالى المسلمين فبادر إلى تحقيقه ،حتى يستجلي موقف قريظة، فيواجهه بما يجب من الوجهة العسكرية ،وبعث لتحقيق الخبر السعدين؛ سعد بن معاذ وسعد بن عباد ة ،وعبد ال بن رواحة وَخ ّوــات بن جبير ،وقال :)انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلء القو م أ م ل ؟ فإن كان حقًا فالحنوا لي لحنًا أعرفه ،ول تَفُتّوا في أعضاد الناس ،إوان كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس( .فلما دنوا منه م وجدوه م على أخبث ما يكون ،فقد جاهروه م بالسب والعداو ة ،ونالوا من رسول ال صلى ال عليه وسل م.
وقالوا :من رسول ال ؟ ل عهد بيننا وبين محمد ،ول عقد .فانصرفوا عنه م ،فلما أقبلوا على رسول ال صلى ال
ضـ ل ـ وَقاَر ة ؛ أي إنه م على غدر كغدر عضل وقار ة بأصحاب الّر ِجـ يـ .ـع عليه وسل م لحنوا له ،وقالواَ :ع َ وعلى رغ م محاولته م إخفاء الحقيقة تفطن الناس لجلية المر ،فتجسد أمامه م خطر رهيب.
وقد كان أحرج موقف يقفه المسلمون ،فل م يكن يحول بينه م وبين قريظة شيء يمنعه م من ضربه م من الخلف، بينما كان أمامه م جيش عرمر م ل م يكونوا يستطيعون النصراف عنه ،وكانت ذ ارريه م ونساؤه م بمقربة من هؤلء ب اْلَح َنــاِج َر ـَو تَـظُّنوَن الغادرين في غير منعة وحفظ ،وصاروا كما قال ال تعالي :} َ إوِاـْذـ َزاَغ ْ صـ اـُر َو َبـلَـَغ ِتـاْلُقُلو ُ تـاْلَْب َ ك اْب تُـِلَي اْلُم ْؤـ ِمـُنــوَنَو ُزـْلـِز لُـوِاز ْلـَزاًلَش ِدـ يـًد اـ{] الحزاب[11 ،10: ِباِل الظُّنوَناـ ُهَناِل َ ونج م النفاق من بعض المنافقين حتى قال :كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسري وقيصر ،وأحدنا اليو م ل يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط .وحتى قال بعض آخر في مل من رجال قومه :إن بيوتنا عور ة من العدو، فائذن لنا أن نخرج ،فنرجع إلى دارنا فإنها خارج المدينة .وحتى همت بنو سلمة بالفشل ،وفي هؤلء أنزل ال ضـّم اـ وعـَدـنـاـاُل و رـسـوـلُهِإّل ُغ رـ و ـراو إِاـْذـ َقاَلت ّ طائِفَةٌ ّم ْنـهُـْ م َيا أَْه َلـ تعالي :} َ إوِاـْذـ َيُقوُل اْلُم َنـاِف قُـوَن َواـلِّذ يـَن ِفيـ ُقُلوبِِه مـ ّم َرـ ٌ َ َ َ َ َ ُ ُ ُ ًَ را ق ّم ْنـهُـُ م الّنبِّي َيُقوُلوَن ِإّن ُبُيوتََناـ َع ْوـ َرـ ةٌَو َمـاـِه َيـ بَِع ْوـ َرـٍ ةِإن ُيِر يـُد وـَن ِإّل ِفَرـا ً{ بـ َل ُم قَـاَ م لَُك ْ مـ َفاْر ِجـُعـواَو َيـْس تَـْأِذ ُن ـَفِر يـ ٌ َيثِْر َ ]الحزاب.[13 ،12 :
ل حتى اشتد على أما رسول ال صلى ال عليه وسل م فتقنع بثوبه حين أتاه َغ ْدـرـ قريظة ،فاضطجع ومكث طوي ً الناس البلء ،ث م نهض مبش ًار يقول :)ال أكبر ،أبشروا يا معشر المسلمين بفتح ال ونصره( ،ث م أخذ يخطط
لمجابهة الظرف الراهن ،وكجزء من هذه الخطة كان يبعث الحرس إلى المدينة؛ لئل يؤتي الذراري والنساء على غر ة ،ولكن كان لبد من إقدا م حاس م ،يفضي إلى تخاذل الحزاب ،وتحقيـقًا لهــذا الهـدف أراد أن يصالـح ُع يـيَنةـ بن
حصن والحارث بن عوف رئيسي غطفان على ثلث ثمار المدينة ،حتى ينصرفا بقومهما ،ويخلو المسلمون للحاق الهزيمة الساحقة العاجلة بقريش التي اختبروا مدي قوتها وبأسها م ار ًرا ،وجرت المراود ة على ذلك،
فاستشار السعدين في ذلك ،فقال :يا رسول ال ،إن كان ال أمرك بهذا فسمعًا وطاعة ،إوان كان شيء تصنعه لنا فل حاجة لنا فيه ،لقد كنا نحن وهؤلء القو م على الشرك بال وعباد ة الوثان ،وه م ل يطمعون أن يأكلوا منها ثمر ة إل ِقًرـيـأو بيعًا ،فحين أكرمنا ال بالسل م وهدانا له وأعزنا بك نعطيه م أموالنا ؟ وال ل نعطيه م إل السيف، بـرأيهما وقال :)إنما هو شيء أصنعه لك م لما رأيت العرب قد رمتك م عن قوس واحد ة(. ص ّوـ َ فَ َ ث م إن ال عز وجل ـ وله الحمد ـ صنع أم ًار من عنده خذل به العدو وهز م جموعه م ،وَفّل حده م ،فكان مما هيأ ل من غطفان يقال له :نعي م بن مسعود بن عامر الشجعي رضي ال عنه جاء رسول ال صلى من ذلك أن رج ً ال عليه وسل م فقال :يا رسول ال ،إني قد أسلمت ،إوان قومي ل م يعلموا بإسلمي ،فمرني ما شئت ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)إنما أنت رجل واحدَ ،فخّذ ْلـ عنا ما استطعت ،فإن الحرب خدعة( ،فذهب من فوره
إلى بني قريظة ـ وكان عشي اًر له م في الجاهلية ـ فدخل عليه م وقال :قد عرفت م ودي إياك م ،وخاصة ما بيني
وبينك م ،قالوا :صدقت .قال :فإن قريشًا ليسوا مثلك م ،البلد بلدك م ،فيه أموالك م وأبناؤك م ونساؤك م ،ل تقدرون أن
تتحولوا منه إلى غيره ،إوان قريشًا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه ،وقد ظاهرتموه م عليه ،وبلده م وأمواله م ونساؤه م بغيره ،فإن أصابوا فرصة انتهزوها ،إوال لحقوا ببلده م وتركوك م ومحمداً فانتق م منك م ،قالوا :فما العمل يا نعي م ؟ قال :ل تقاتلوا معه م حتى يعطوك م رهائن .قالوا :لقد أشرت بالرأي.
ث م مضي نعي م على وجهه إلى قريش وقال له م :تعلمون ودي لك م ونصحي لك م؟ قالوا :نع م ،قال :إن يهود قد ندموا على ما كان منه م من نقض عهد محمد وأصحابه ،إوانه م قد راسلوه أنه م يأخذون منك م رهائن يدفعونها إليه، ث م يوالونه عليك م ،فإن سألوك م رهائن فل تعطوه م ،ث م ذهب إلى غطفان ،فقال له م مثل ذلك. فلما كانت ليلة السبت من شوال ـ سنة 5هـ ـ بعثوا إلى يهود :أنا لسنا بأرض مقا م ،وقد هلك الُك َرـاع والخف ،
فانهضوا بنا حتى نناجز محمدًا ،فأرسل إليه م اليهود أن اليو م يو م السبت ،وقد علمت م ما أصاب من قبلنا حين
أحدثوا فيه ،ومع هذا فإنا ل نقاتل معك م حتى تبعثوا إلينا رهائن ،فلما جاءته م رسله م بذلك قالت قريش وغطفان:
صدقك م وال نعي م ،فبعثوا إلى يهود إنا وال ل نرسل إليك م أحدًا ،فاخرجوا معنا حتى نناجز محمدًا ،فقالت قريظة: صدقك م وال نعي م .فتخاذل الفريقان ،ودبت الفرقة بين صفوفه م ،وخارت عزائمه م.
وكان المسلمون يدعون ال تعإلى :)الله م استر عوراتنا وآمن روعاتنا( ،ودعا رسول ال صلى ال عليه وسل م على الحزاب ،فقال :)الله م منزل الكتاب ،سريع الحساب ،اهز م الحزاب ،الله م اهزمه م وزلزله م(. وقد سمع ال دعاء رسوله والمسلمين ،فبعد أن دبت الفرقة في صفوف المشركين وسري بينه م التخاذل أرسل ال عليه م جندًا من الريح فجعلت تقوض خيامه م ،ول تدع له م ِقْدـًرـاإل كفأتها ،ول طُُنًباـ إل قلعته ،ول يقر له م قرار، وأرسل جندًا من الملئكة يزلزلونه م ،ويلقون في قلوبه م الرعب والخوف. وأرسل رسول ال صلى ال عليه وسل م في تلك الليلة البارد ة القارسة حذيفة بن اليمان يأتيه بخبره م ،فوجده م على هذه الحالة ،وقد تهيأوا للرحيل ،فرجع إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فأخبره برحيل القو م ،فأصبح رسول ال صلى ال عليه وسل م وقد رد ال عدوه بغيظه م ل م ينالوا خي اًر وكفاه ال قتاله م ،فصدق وعده ،وأعز جنده ،ونصر عبده ،وهز م الحزاب وحده ،فرجع إلى المدينة.
وكانت غزو ة الخندق سنة خمس من الهجر ة في شوال على أصح القولين ،وأقا م المشركون محاصرين رسول ال صلى ال عليه وسل م والمسلمين شه اًر أو نحو شهر .ويبدو بعد الجمع بين المصادر أن بداية فرض الحصار
كانت في شوال ونهايته في ذي القعد ة ،وعند ابن سعد أن انصراف رسول ال صلى ال عليه وسل م من الخندق
كان يو م الربعاء لسبع بقين من ذي القعد ة. إن معركة الحزاب ل م تكن معركة خسائر ،بل كانت معركة أعصاب ،ل م يجر فيها قتال مرير ،إل أنها كانت من أحس م المعارك في تاريخ السل م ،تمخضت عن تخاذل المشركين ،وأفادت أن أية قو ة من قوات العرب ل تستطيع استئصال القو ة الصغير ة التي تنمو في المدينة ؛ لن العرب ل م تكن تستطيع أن تأتي بجمع أقوي مما أتت به في الحزاب ،ولذلك قال رسول ال صلى ال عليه وسل م حين أجلي ال الحزاب :)الن نغزوه م ،ول يغزونا ،نحن نسير إليه م(.
غزو ة بني قريظة غزوة بني تقريظة س ّ لم بن أبي الُحَقْي ق مقتل َ سرية محمد بن مسلمة غزوة بني لَْحَيان متابعة البعوث والسرايا
غزو ة بني قريظة وفي اليو م الذي رجع فيه رسول ال إلى المدينة ،جاءه جبريل \ عند الظهر ،وهو يغتسل في بيت أ م سلمة ،فقال :أو قد وضعت السلح؟ فإن الملئكة ل م تضع أسلحته م ،وما رجعت الن إل من طلب القو م ،فانهض بمن معك إلى بني قريظة ،فإني سائر أمامك أزلزل به م حصونه م ،وأقذف في قلوبه م الرعب ،فسار جبريل في موكبه من الملئكة. ص لّــيّن العصر إل ببني وأمر رسول ال صلى ال عليه وسل م مؤذنًا فأذن في الناس :من كان سامعًا مطيعًا فل ي َ
قريظة ،واستعمل على المدينة ابن أ م مكتو م ،وأعطي الراية على بن أبي طالب ،وقّد مـه إلى بني قريظة ،فسار على حتى إذا دنا من حصونه م سمع منها مقالة قبيحة لرسول ال صلى ال عليه وسل م.
وخرج رسول ال صلى ال عليه وسل م في موكبه من المهاجرين والنصار ،حتى نزل على بئر من آبار قريظة يقال لها :بئر أّنا .وبادر المسلمون إلى امتثال أمره ،ونهضوا من فوره م ،وتحركوا نحو قريظة ،وأدركته م العصر في
ل منه م صلوا العصر بعد العشاء الخر ة، الطريق فقال بعضه م :ل نصليها إل في بني قريظة كما أمرنا ،حتى إن رجا ً
وقال بعضه م :ل م يرد منا ذلك ،إوانما أراد سرعة الخروج ،فصلوها في الطريق ،فل م يعنف واحد ة من الطائفتين.
ل حتى تلحقوا بالنبي صلى ال عليه وسل م ،وه م ثلثة آلف، هكذا تحرك الجيش السلمي نحو بني قريظة أرسا ً
والخيل ثلثون فرسًا ،فنازلوا حصون بني قريظة ،وفرضوا عليه م الحصار.
ولما اشتد عليه م الحصار عرض عليه م رئيسه م كعب بن أسد ثلث خصال :إما أن يسلموا ويدخلوا مع محمد صلى ال عليه وسل م في دينه ،فيأمنوا على دمائه م وأمواله م وأبنائه م ونسائه م ـ وقد قال له م :وال ،لقد تبين لك م أنه لنبي مرسل ،وأنه الذي تجدونه في كتابك م ـ إواما أن يقتلوا ذ ارريه م ونساءه م بأيديه م ،ويخرجوا إلى النبي صلى ال عليه صـ ِلـِتين ،يناجزونه حتى يظفروا به م ،أو يقتلوا عن آخره م ،إواما أن يهجموا على رسول ال صلى ال وسل م بالسيوف ُم ْ عليه وسل م وأصحابه ،ويكبسوه م يو م السبت ؛ لنه م قد أمنوا أن يقاتلوه م فيه ،فأبوا أن يجيبوه إلى واحد ة من هذه
الخصال الثلث ،وحينئذ قال سيده م كعب بن أسد ـ في انزعاج وغضب :ما بات رجل منك م منذ ولدته أمه ليلة واحد ة من الدهر حازمًا. ول م يبق لقريظة بعد رد هذه الخصال الثلث إل أن ينزلوا على حك م رسول ال صلى ال عليه وسل م ،ولكنه م أرادوا أن يتصلوا ببعض حلفائه م من المسلمين ،لعله م يتعرفون ماذا سيحل به م إذا نزلوا على حكمه ،فبعثوا إلى رسول ال
صلى ال عليه وسل م أن أرسل إلينا أبا لَُبابة نستشيره ،وكان حليفًا له م ،وكانت أمواله وولده في منطقته م ،فلما رأوه قا م إليه الرجال ،وَج هَـَش النساء والصبيان يبكون في وجههَ ،فَر ّ قـله م ،وقالوا :يا أبا لبابة ،أتري أن ننزل على حك م محمد؟ قال :نع م ؛ وأشار بيده إلى حلقه ،يقول :إنه الذبح ،ث م عل م من فوره أنه خان ال ورسوله فمضي على وجهه ،ول م
يرجع إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م حتى أتي المسجد النبوي بالمدينة ،فربط نفسه بسارية المسجد ،وحلف أل يحله إل رسول ال صلى ال عليه وسل م بيده ،وأنه ل يدخل أرض بني قريظة أبدًا .فلما بلغ رسول ال صلى ال عليه
وسل م خبره ـ وكان قد استبطأه ـ قال :)أما إنه لو جاءني لستغفرت له ،أما إذ قد فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب ال عليه(. وبرغ م ما أشار إليه أبو لبابة قررت قريظة النزول على حك م رسول ال صلى ال عليه وسل م ،ولقد كان باستطاعة اليهود أن يتحملوا الحصار الطويل ؛ لتوفر المواد الغذائية والمياه والبار ومناعة الحصون؛ ولن المسلمين كانوا
يقاسون البرد القارس والجوع الشديد وه م في العراء ،مع شد ة التعب الذي اعتراه م ؛ لمواصلة العمال الحربية من قبل بداية معركة الحزاب ،إل أن حرب قريظة كانت حرب أعصاب ،فقد قذف ال في قلوبه م الرعب ،وأخذت معنوياته م تنهار ،وبلغ هذا النهيار إلى نهايته أن تقد م علي بن أبي طالب والزبير بن العوا م ،وصاح علي :يا كتيبة اليمان، وال لذوقن ما ذاق حمز ة أو لفتحن حصنه م. وحينئذ بادروا إلى النزول على حك م رسول ال صلى ال عليه وسل م ،وأمر رسول ال صلى ال عليه وسل م باعتقال الرجال ،فوضعت القيود في أيديه م تحت إشراف محمد بن مسلمة النصاري ،وجعلت النساء والذراري بمعزل عن الرجال في ناحية ،وقامت الوس إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م فقالوا :يا رسول ال ،قد فعلت في بني قينقاع ما قد علمت ،وه م حلفاء إخواننا الخزرج ،وهؤلء موالينا ،فأحسن فيه م ،فقال :)أل ترضون أن يحك م فيه م رجل منك م؟( قالوا :بلي .قال :)فذاك إلى سعد بن معاذ( .قالوا :قد رضينا. فأرسل إلى سعد بن معاذ ،وكان في المدينة ل م يخرج معه م للجرح الذي كان قد أصاب أْك ُحـلَــه في معركة الحزاب. فُأركب حما ًرا ،وجاء إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فجعلوا يقولون ،وه م َك َنـفَْي ِهـ :يا سعد ،أجمل في مواليك،
فأحسن فيه م ،فإن رسول ال قد حكمك لتحسن فيه م ،وهو ساكت ل يرجع إليه م شيئًا ،فلما أكثروا عليه قال :لقد آن
لسعد أل تأخذه في ال لومة لئ م ،فلما سمعوا ذلك منه رجع بعضه م إلى المدينة فنعي إليه م القو م.
ولما انتهى سعد إلى النبي صلى ال عليه وسل م قال للصحابة :)قوموا إلى سيدك م( ،فلما أنزلوه قالوا :يا سعد ،إن هؤلء قد نزلوا على حكمك .قال :وحكمي نافذ عليه م؟ قالوا :نع م .قال :وعلى المسلمين؟ قالوا :نع م ،قال :وعلى من ل له وتعظيًم اـ .قال :)نع م ،وعلي(. هاهنا؟ وأعرض بوجهه وأشار إلى ناحية رسول ال صلى ال عليه وسل م إجل ً قال :فإني أحك م فيه م أن يقتل الرجال ،وتسبي الذرية ،وتقس م الموال ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)لقد حكمت فيه م بحك م ال من فوق سبع سموات(.
وكان حك م سعد في غاية العدل والنصاف ،فإن بني قريظة ،بالضافة إلى ما ارتكبوا من الغدر الشنيع ،كانوا قد جمعوا لباد ة المسلمين ألفًا وخمسمائة سيف ،وألفين من الرماح ،وثلثمائة درع ،وخمسمائة ترس ،وَح َج ـفَــة ،حصل عليها المسلمون بعد فتح دياره م. وأمر رسول ال صلى ال عليه وسل م فحبست بنو قريظة في دار بنت الحارث امرأ ة من بني النجار ،وحفرت له م ل ،وتضرب في تلك الخنادق ل أرسا ً خنادق في سوق المدينة ،ث م أمر به م ،فجعل يذهب به م إلى الخنادق أرسا ً
أعناقه م .فقال من كان بعد في الحبس لرئيسه م كعب بن أسد :ما تراه يصنع بنا؟ فقال :أفي كل موطن ل تعقلون؟ أما ترون الداعي ل ينزع؟ والذاهب منك م ل يرجع؟ هو وال القتل ـ وكانوا ما بين الستمائة إلى السبعمائة ،فضربت أعناقه م. وهكذا ت م استئصال أفاعي الغدر والخيانة ،الذين كانوا قد نقضوا الميثاق المؤكد ،وعاونوا الحزاب على إباد ة المسلمين في أحرج ساعة كانوا يمرون بها في حياته م ،وكانوا قد صاروا بعمله م هذا من أكابر مجرمي الحروب الذين يستحقون المحاكمة والعدا م. وقتل مع هؤلء شيطان بني النضير ،وأحد أكابر مجرمي معركة الحزاب حيي بن أخطب والد صفية أ م المؤمنين رضي ال عنها كان قد دخل مع بني قريظة في حصنه م حين رجعت عنه م قريش وغطفان ؛ وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه حينما جاء يثيره على الغدر والخيانة أيا م غزو ة الحزاب ،فلما أتي به ـ وعليه ُح لّــة قد شقها من كل ناحية بقدر أنملة لئل ُيْس لَـَبها ـ مجموعة يداه إلى عنقه بحبل ،قال لرسول ال صلى ال عليه وسل م :أما وال ما لمت نفسي في معاداتك ،ولكن من ُيغالب ال ُيْغ لَـب .ث م قال :أيها الناس ،ل بأس بأمر ال ،كتاب وقََد رـ وَم ْلـَح َمـةـكتبها ال على بني إسرائيل ،ث م جلس ،فضربت عنقه.
وقتل من نسائه م امرأ ة واحد ة كانت قد طرحت الرحى على َخ لّــد بن ُسَوـ ْي ـدـفقتلته ،فقتلت لجل ذلك. ت ،ـوترك من ل م ينبت ،فكان ممن ل م ينبت عطية القَُر ِظـ يــ،فترك حيًا فأسل م ،وله وكان قد أمر رسول ال بقتل من أْن َبـ َ صحبة. واستوهب ثابت بن قيس ،الزبير بن باطا وأهله وماله ـ وكانت للزبير يد عند ثابت ـ فوهبه م له رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فقال له ثابت بن قيس :قد وهبك رسول ال صلى ال عليه وسل م إلى ،ووهب لي مالك وأهلك فه م لك. فقال الزبير بعد أن عل م بمقتل قومه :سألتك بيدي عندك يا ثابت إل ألحقتني بالحبة ،فضرب عنقه ،وألحقه بالحبة من اليهود ،واستحيا ثابت من ولد الزبير بن باطا عبد الرحمن بن الزبير ،فأسل م وله صحبة. واستوهبت أ م المنذر سلمي بنت قيس النجارية رفاعة بن سموأل القرظي ،فوهبه لها فاستحيته ،فأسل م وله صحبة. وأسل م منه م تلك الليلة نفر قبل النزول ،فحقنوا دماءه م وأمواله م وذ ارريه م.
ل ل م يدخل مع بني قريظة في غدره م برسول ال صلى ال عليه وسل م ـ وخرج تلك الليلة عمرو بن سعدي ـ وكان رج ً فرآه محمد بن مسلمة قائد الحرس النبوي ،فخلي سبيله حين عرفه ،فل م يعل م أين ذهب.
وقس م رسول ال صلى ال عليه وسل م أموال بني قريظة بعد أن أخرج منها الخمس ،فأسه م للفارس ثلثة أسه م؛ سهمان للفرس وسه م للفارس ،وأسه م للراجل سهمًا واحدًا ،وبعث من السبايا إلى نجد تحت إشراف سعد بن زيد
ل وسلحًا. النصاري فابتاع بها خي ً
واصطفى رسول ال صلى ال عليه وسل م لنفسه من نسائه م َر ْيـَحـ اــنةبنت عمرو بن ُخ َنــافة ،فكانت عنده حتى توفي عنها وهي في ملكه ،هذا ما قاله ابن إسحاق.وقــال الكلبي :إنه صلى ال عليه وسل م أعتقها ،وتزوجها سنة 6هـ، وماتت مرجعـه مـن حجة الـوداع ،فدفنها بالبقيـع. ولما ت م أمر قريظة أجيبت دعو ة العبد الصالح سعد بن معاذ رضي ال عنه ـ التي قدمنا ذكرها في غزو ة الحزاب ـ وكان النبي صلى ال عليه وسل م قد ضرب له خيمة في المسجد ليعوده من قريب ،فلما ت م أمر قريظة انتقضت جراحته .قالت عائشة :فانفجرت من لَّبتِِه فل م َيُرْع هُـْ مـ وفي المسجد خيمة من بني غفار ـ إل والد م يسيل إليه م ،فقالوا: يا أهل الخيمة ،ما هذا الذي يأتينا من قبلك م ،فإذا سعد يغذو جرحه دمًا ،فمات منها. وفي الصحيحين عن جابر أن رسول ال صلى ال عليه وسل م قال :)اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ(. وصحح الترمذي من حديث أنس قال :لما حملت جناز ة سعد بن معاذ قال المنافقون :ما أخف جنازته ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)إن الملئكة كانت تحمله(. قتل في حصار بني قريظة رجل واحد من المسلمين ،وهو خلد بن ُس َوـ ْي ـدـالذي طرحت عليه الرحى امرأ ة من قريظة. ِ ِ ص ـن ـأخو ُع ّكـاـَش ةـ. ومات في الحصار أبو س نـان بن م ْحـ َ وأما أبو ُلبابة ،فأقا م مرتبطًا بالجذع ست ليال ،تأتيه امرأته في وقت كل صل ة فتحله للصل ة ،ث م يعود فيرتبط
بالجذع ،ث م نزلت توبته على رسول ال صلى ال عليه وسل م َس َحـ ًرــاوهو في بيت أ م سلمة ،فقامت على باب حجرتها، وقالت :يا أبا لبابة ،أبشر فقد تاب ال عليك ،فثار الناس ليطلقوه ،فأبي أن يطلقه أحد إل رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فلما مر النبي صلى ال عليه وسل م خارجًا إلى صل ة الصبح أطلقه.
وقعت هــذه الغــزو ة فـي ذي القعد ة سنـة 5هـ ،ودا م الحصار خمسًا وعشريـن ليلة. وأنزل ال تعإلى في غزو ة الحزاب وبني قريظة آيات من سور ة الحزاب ،ذكر فيها أه م جزئيات الوقعة ،وبين حال المؤمنين والمنافقين ،ث م تخذيل الحزاب ،ونتائج الغدر من أهل الكتاب.
النشاط العسكري بعد هذه الغزو ة مقتل َس لّـ م بن أبي الُح قَـْي قـ كان سل م بن أبي الحقيق ـ وكنيته أبو رافع ـ من أكابر مجرمي اليهود الذين حزبوا الحزاب ضد المسلمين ،وأعانه م بالمؤن والموال الكثير ة ،وكان يؤذي رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فلما فرغ المسلمون من أمر قريظة استأذنت الخزرج رسول ال صلى ال عليه وسل م في قتله .وكان قتل كعب بن الشرف على أيدي رجال من الوس ،فرغبت الخزرج في إحراز فضيلة مثل فضيلته م ،فلذلك أسرعوا إلى هذا الستئذان. وأذن رسول ال في قتله ونهي عن قتل النساء والصبيان ،فخرجت مفرز ة قوامها خمسة رجال ،كله م من بني سلمة من الخزرج ،قائده م عبد ال بن َع تِـيك. خرجت هذه المفرز ة ،واتجهت نحو خيبر ؛ إذ كان هناك حصن أبي رافع ،فلما دنوا منه ،وقد غربت الشمس ،وراح الناس بسرحه م ،قال عبد ال بن عتيك لصحابه :اجلسوا مكانك م ،فإني منطلق ومتلطف للبواب ،لعلى أن أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب ،ث م تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته ،وقد دخل الناس ،فهتف به البواب :يا عبد ال ،إن كنت تريد أن تدخل فادخل ،فإني أريد أن أغلق الباب. قال عبد ال بن َع تِـيك :فدخلت فكمنت ،فلما دخل الناس أغلق الباب ،ث م علق الغاليق على َو ّد ـ .قال :فقمت إلى القاليد فأخذتها ،ففتحت الباب ،وكان أبو رافع يسمر عنده ،وكان في عللى له ،فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه ،فجعلت كلما فتحت بابًا أغلقت على من داخل .قلت :إن القو م لو َنِذ رـوا بي ل م يخلصوا إلى حتى أقتله ،فانتهيت إليه ،فإذا هو في بيت مظل م وسط عياله ،ل أدري أين هو من البيت .قلت :أبا رافع ،قال :من هذا؟ فأهويت نحو
الصوت فأضربه ضربة بالسيف وأنا دهش ،فما أغنيت شيئًا ،وصاح ،فخرجت من البيت ،فأمكث غير بعيد ،ث م
ل في البيت ضربني قبل بالسيف .قال: دخلت إليه ،فقلت :ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ فقال :لمك الويل ،إن رج ً ض بِــيب السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره ،فعرفت أني قتلته ،فجعلت فأضربه ضربة أثخنته ول م أقتله .ث م وضعت َ
أفتح البواب بابًا بابًا ،حتى انتهيت إلى درجة له ،فوضعت رجلي ،وأنا أري أني قد انتهيت إلى الرض ،فوقعت في
ليلة مقمر ة ،فانكسرت ساقي ،فعصبتها بعمامة ،ث م انطلقت حتى جلست على الباب .فقلت :ل أخرج الليلة حتى أعل م أقتلته؟ فلما صاح الديك قا م الناعي على السور ،فقال :أنعي أبا رافع تاجر أهل الحجاز ،فانطلقت إلى أصحابي
فقلت :النجاء ،فقد قتل ال أبا رافع .فانتهيت إلى النبي صلى ال عليه وسل م ،فحدثته فقال :)ابسط رجلك( ،فبسطت رجلي فمسحها فكأنما ل م أشتكها. هذه رواية البخاري ،وعند ابن إسحاق أن جميع النفر دخلوا على أبي رافع واشتركوا في قتله ،وأن الذي تحامل عليه ل ،وانكسرت ساق عبد ال بن عتيك حملوه ،وأتوا بالسيف حتى قتله هو عبد ال بن أنيس ،وفيه :أنه م لما قتلوه لي ً
َم ْنـهَـًرامن عيونه م فدخلوا فيه ،وأوقد اليهود النيران واشتدوا في كل وجه ،حتى إذا يئسوا رجعوا إلى صاحبه م ،وأنه م حين رجعوا احتملوا عبد ال بن عتيك حتى قدموا على رسول ال صلى ال عليه وسل م.
كان مبعث هذه السرية في ذي القعد ة أو ذي الحجة سنة 5هـ. ولما فرغ رسول ال صلى ال عليه وسل م من الحزاب وقريظة أخذ يوجه حملت تأديبية إلى القبائل والعراب ،الذين ل م يكونوا يستكينون للمن والسل م إل بالقو ة القاهر ة. سرية محمد بن مسلمة وكانت أول سرية بعد الفراغ من الحزاب وقريظة ،وكان عدد قوات هذه السرية ثلثين راكباً. ض ِرـّيـةبالَبَك رـات من أرض نجد ،وبين ضرية والمدينة سبع ليال ،تحركت تحركت هذه السرية إلى القرطاء بناحية َ
لعشر ليال خلون من المحر م سنة 6هـ إلى بطن بني بكر بن كلب .فلما أغارت عليه م هربوا ،فاستاق المسلمون
نعما وشاء ،وقدموا المدينة لليلة بقيت من المحر م ومعه م ثَُم اـَم ةـ بن أثال الحنفي سيد بني حنيفة ،كان قد خرج متنك اًر لغتيال النبي صلى ال عليه وسل م بأمر مسيلمة الكذاب ،فأخذه المسلمون ،فلما جاءوا به ربطوه بسارية من سواري المسجد ،فخرج إليه النبي صلى ال عليه وسل م فقال :)ما ذا عندك يا ثمامة؟( فقال :عندي خير يا محمد ،إن تقتل تقتل ذا د م ،إوان تنع م تنع م على شاكر ،إوان كنت تريد المال فََس ْلـ تعط منه ماشئت ،فتركه ،ث م مّر به مر ة أخري ؛ ل ،ث م مر مر ة ثالثة فقال ـ بعد ما دار بينهما الكل م السابق :)أطلقوا فقال له مثل ذلك ،فرد عليه كما رد عليه أو ً
ثمامة( ،فأطلقوه ،فذهب إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ،ث م جاءه فأسل م ،وقال :وال ،ما كان على وجه الرض
وجه أبغض إلى من وجهك ،فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلى ،وال ما كان على وجه الرض دين أبغض إلى من دينك ،فقد أصبح دينك أحب الديان إلى ،إوان خيلك أخذتني وأنا أريد العمر ة ،فبشره رسول ال صلى ال عليه وسل م، وأمره أن يعتمر ،فلما قد م على قريش قالوا :صبأت يا ثمامة ،قال :ل وال ،ولكني أسلمت مع محمد صلى ال عليه وسل م ،ول وال ل يأتيك م من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول ال صلى ال عليه وسل م .وكانت يمامة ريف مكة ،فانصرف إلى بلده ،ومنع الحمل إلى مكة ،حتى جهدت قريش ،وكتبوا إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م يسألونه بأرحامه م أن يكتب إلى ثمامـة يخلي إليـه حمل الطعـا م ،ففعـل رسـول ال صلى ال عليه وسل م.
غزو ة بني لَْح َيــان بنو لحيان ه م الذين كانوا قد غدروا بعشر ة من أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسل م بالّر ِجـ يــع،وتسببوا في
إعدامه م ،ولكن لما كانت دياره م متوغلة في الحجاز إلى حدود مكة .والتارات الشديد ة قائمة بين المسلمين وقريش
والعراب ،ل م يكن يري رسول ال صلى ال عليه وسل م أن يتوغل في البلد بمقربة من العدو الكبر ،فلما تخاذلت الحزاب ،واستوهنت عزائمه م ،واستكانوا للظروف الراهنة إلى حد ما ،رأي أن الوقت قد آن لن يأخذ من بني لحيان ثأر أصحابه المقتولين بالرجيع ،فخرج إليه م في ربيع الول أو جمادي الولي سنة 6هـ في مائتين من أصحابه، واستخلف على المدينة ابن أ م مكتو م ،وأظهر أنه يريد الشا م ،ث م أسرع السير حتى انتهي إلى بطن ُغ َرـانـ واد بين
أَم َجـ وُع ْسـفَـان ـ حيث كان مصاب أصحابه ،فترح م عليه م ودعا له م ،وسمعت به بنو لحيان فهربوا في رءوس الجبال،
فل م يقدر منه م على أحد ،فأقا م يومين بأرضه م ،وبعث السرايا ،فل م يقدروا عليه م ،فسار إلى عسفان ،فبعث عشر ة فوارس إلى ُك َرـاع الَغِم يـ م لتسمع به قريش ،ث م رجع إلى المدينة .وكانت غيبته عنها أربع عشر ة ليلة. متابعة البعوث والسرايا ث م تابع رسول ال صلى ال عليه وسل م في إرسال البعوث والسرايا ،وهاك صور ة مصغر ة منها: ِ ّ ل إلى ص ـن ـإلى الَغْم رـ في ربيع الول أو الخر سنة 6هـ .خرج عكاشة في أربعين رج ً 1ـ سرية ُع كـاـَش ةـ بن م ْحـ َ الغْم رــ ،ماء لبني أسد ،ففر القو م ،وأصاب المسلمون مائتي بعير ساقوها إلى المدينة. ص ة ـ في ربيع الول أو الخر سنة 6هـ .خرج ابن مسلمة في عشر ة رجال إلى 2ـ سرية محمد بن َم ْسـ لَـَم ةـإلى ذي القَ ّ ذي القصة في ديار بني ثعلبة ،فكمن القو م له م ـ وه م مائة ـ فلما ناموا قتلوه م إل ابن مسلمة فإنه أفلت منه م جريحًا. 3ـ سرية أبي عبيد ة بن الجراح إلى ذي القصة في ربيع الخر سنة 6هـ ،وقد بعثه النبي صلى ال عليه وسل م على ل إلى مصارعه م ،فساروا ليلته م مشا ة ،ووافوا بني ثعلبة إثر مقتل أصحاب محمد بن مسلمة ،فخرج ومعه أربعون رج ً
ل واحدًا فأسل م ،وغنموا َنَعما وشاء. مع الصبح فأغاروا عليه م ،فأعجزوه م هربًا في الجبال ،وأصابوا رج ً
4ـ سرية زيد بن حارثة إلى الج مـوـ م في ربيع الخر سنة 6هـ ـ والجمو م ماء لبني سلي م في م ّرـ ال ّ ظْهَران ـ خرج إليه م َ َُ زيد فأصاب امرأ ة من ُم َزـْيـَنـةيقال لها :حليمة ،فدلته م على محلة من بني سلي م أصابوا فيها نعما وشاء وأسري ،فلما
قفل زيد بما أصاب وهب رسول ال صلى ال عليه وسل م للمزينية نفسها وزوجها.
5ـ سرية زيد إلى الِع يــص في جمادي الولي سنة 6هـ في سبعين ومائة راكب ،وفيها أخذت أموال عير لقريش كان قائدها أبو العاص َخ تَــن رسول ال صلى ال عليه وسل م.وأفلت أبو العاص ،فأتي زينب فاستجار بها ،وسألها أن تطلب من رسول ال صلى ال عليه وسل م رد أموال العير عليه ففعلت ،وأشار رسول ال صلى ال عليه وسل م على الناس برد الموال من غير أن يكرهه م ،فردوا الكثير والقليل والكبير والصغير حتى رجع أبو العاص إلى مكة ،وأدي الودائع إلى أهلها ،ث م أسل م وهاجر ،فرد عليه رسول ال صلى ال عليه وسل م زينب بالنكاح الول بعد ثلث سنين ونيف ،كما ثبت في الحديث الصحيح ردهــا بالنـكاح الول ؛ لن آيــة تحري م المسلمات على الكفار ل م تكن نزلت إذ ذاك ،وأما ما ورد من الحديث من أنه رد عليه بنكاح جديد ،أو رد عليه بعد ست سنين فل يصح معني ،كما أن ــه ليـس بصحـيح سندًا .والعجب ممن يتمسكون بهذا الحديث الضعيف فإنه م يقولون :إن أبا العاص أسل م في أواخر سنة
ثمان قبيل الفتح .ث م يناقضون أنفسه م ،فيقولون :إن زينب ماتت في أوائل سنة ثمان ،وقد بسطنا الكل م شيئًا في
تعليقنا على بلوغ المرا م .وجنح موسي بن عقبة إلى أن هذا الحادث وقع في سنة 7هـ من قبل أبي بصير وأصحابه،
ولكن ذلك ل يطابق الحديث الصحيح ول الضعيف.
ل إلى بني 6ـ سرية زيد أيضًا إلى الطِّر فـأو الطِّر قـفي جمادي الخر سنة 6هـ .خرج زيد في خمسة عشر رج ً ثعلبة فهربت العراب ،وخافوا أن يكون رسول ال صلى ال عليه وسل م سار إليه م ،فأصاب من َنَعِمـِهـ مـ عشرين بعي ًرا، وغاب أربع ليال. ل إلى وادي القري؛ لستكشاف 7ـ سرية زيد أيضًا إلى وادي القري في رجب سنة 6هـ .خرج زيد في اثني عشر رج ً
حركات العدو إن كانت هناك ،فهج م عليه م سكان وادي القري ؛ فقتلوا تسعة ،وأفلتت ثلثة فيه م زيد بن حارثة.
8ـ سرية الَخ َبــط ـ تذكر هذه السرية في رجب سنة 8هـ ،ولكن السياق يدل على أنها كانت قبل الحديبية ـ قال جابر: بعثنا النبي صلى ال عليه وسل م في ثلثمائة راكب ،أميرنا أبو عبيد ة بن الجراح ،نرصد عي ًار لقريش ،فأصابنا جوع
شديد حتى أكلنا الخبط ،فسمي جيش الخبط ،فنحر رجل ثلث جزائر ،ث م نحر ثلث جزائر ،ث م نحر ثلث جزائر ،ث م
إن أبا عبيد ة نهاه ،فألقي إلينا البحر دابة يقال لها :الَعْن َبـر ،فأكلنا منه نصف شهر ،واّد َهـّنا منه حتى ثابت منه أجسامنا ،وصلحت ،وأخذ أبو عبيد ة ضلعًا من أضلعه ،فنظر إلى أطول رجل في الجيش وأطول جمل ،فحمل عليه ،ومر تحته ،وتزودنا من لحمة َو َش ـاـِئق ،فلما قدمنا المدينة ،أتينا رسول ال صلى ال عليه وسل م فذكرنا له ذلك، فقال :)هو رزق أخرجه ال لك م ،فهل معك م من لحمة شيء تطعمونا؟( فأرسلنا إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م منه.
إوانما قلنا :إن سياق هذه السرية يدل على أنها كانت قبل الحديبية؛ لن المسلمين ل م يكونوا يتعرضون لعير قريش بعد صلح الحديبية.
غزو ة بني الُم صـطلق أو غزو ة المريسيع في شعبان سنة 5أو 6هـ غزوة بني الُمصطل ق أو غزوة المريسيع دور المنافقين تقبل غزوة بني المصطل ق دور المنافقين في غزوة بني المصطل ق
غزو ة بني الُم صـطلق أو غزو ة المريسيع وهذه الغزو ة إوان ل م تكن طويلة الذيل ،عريضة الطراف من حيث الوجهة العسكريـة ،إل أنها وقعـت فيـها وقـائـع أحدثـت البلبلـة والضطـراب فـي المجتمـع السلمي ،وتمخضت عن افتضاح المنافقين ،والتشريعات التعزيرية التي أعطت
ل ،ث م نذكر تلك الوقائع. المجتمع السلمي صور ة خاصة من النبل والكرامة وطهار ة النفوس .ونسرد الغزو ة أو ً كانت هذه الغزو ة في شعبان سنة خمس عند عامة أهل المغازي ،وسنة ست على قول ابن إسحاق. وسببها أنه بلغه صلى ال عليه وسل م أن رئيس بني المصطلق الحارث بن أبي ِ ض َرــارسار في قومه ومن قدر عليه من العرب يريدون حرب رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فبعث ُبَر ْيـَدـ ةـبن الحصيب السلمي لتحقيق الخبر ،فأتاه م ،ولقي الحارث بن أبي ضرار وكلمه ،ورجع إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م فأخبره الخبر.
وبعد أن تأكد لديه صلى ال عليه وسل م صحة الخبر ندب الصحابة ،وأسرع في الخروج ،وكان خروجه لليلتين خلتا من شعبان ،وخرج معه جماعة من المنافقين ل م يخرجوا في غزا ة قبلها ،واستعمل على المدينة زيد بن حارثة ،وقيل :أبا ذر، وقيلُ :نَم ْيـلَـة بن عبد ال الليثي ،وكان الحارث بن أبي ضرار قد وجه عيًنا ؛ ليأتيه بخبر الجيش السلمي ،فألقي المسلمون عليه القبض وقتلوه.
ولما بلغ الحارث بن أبي ضرار ومن معه مسير رسول ال صلى ال عليه وسل م وقتله عينه ،خافوا خوفًا شديدًا وتفرق عنه م من كان معه م من العرب ،وانتهي رسول ال صلى ال عليه وسل م إلى الُم َرـْيـِسـ يـ ــع بالض م فالفتح مصغ ًرا ،اس م لماء صـ ّ ف ـرسول ال صلى ال عليه وسل م أصحابه ،وراية المهاجرين من مياهه م في ناحية قَُد ْيـدـ إلى الساحل ـ فتهيأوا للقتالَ .و َ مع أبي بكر الصديق ،وراية النصار مع سعد بن عباد ة ،فتراموا بالنبل ساعة ،ث م أمر رسول ال صلى ال عليه وسل م
فحملوا حملة رجل واحد ،فكانت النصر ة وانهز م المشركون ،وقتل من قتل ،وسبى رسول ال صلى ال عليه وسل م النساء والذراري والنع م والشاء ،ول م يقتل من المسلمين إل رجل واحد ،قتله رجل من النصار ظنًا منه أنه من العدو. كذا قال أهل المغازي والسير ،قال ابن القي م :هو َوْه مـ ،فإنه ل م يكن بينه م قتال ،إوانما أغار عليه م على الماء فسبي
ذ ارريه م وأمواله م ،كما في الصحيح أغار رسول صلى ال عليه وسل م على بني المصطلق وه م غارون ،وذكر الحديث.
انتهي.
وكان من جملة السبيُ :ج َوـْي ـِرـَيـةبنت الحارث سيد القو م ،وقعت في سه م ثابت ابن قيس ،فكاتبها ،فـأدي عنها رسول ال صلى ال عليه وسل م وتزوجهـا ،فأعـتق المسلـمون بسبـب هـذا التزويـج مـائـة أهـل بيـت مـن بنـي المصطلق قـد أسلمـوا، وقـالـوا :أصهـار رسول ال صلى ال عليه وسل م. وأما الوقائع التي حدثت في هذه الغزو ة ،فلجل أن مبعثها كان هو رأس النفاق عبد ال بن أبي وأصحابه ،نري أن نورد ل شيئًا من أفعاله م في المجتمع السلمي. أو ً
دور المنافقين قبل غزو ة بني المصطلق ق على السل م والمسلمين ،ولسيما على رسول ال صلى ال عليه وسل م َح َنـًقا قدمنا م ار ًار أن عبد ال بن أبي كان َيْح َن ـ ُ شديدًا ؛ لن الوس والخزرج كانوا قد اتفقوا على سيادته ،وكانوا ينظمون له الَخ َرـ َز ـليتوجوه إذ دخل فيه م السل م، فصرفه م عن ابن أبي ،فكان يري أن رسول ال صلى ال عليه وسل م هو الذي استلبه ملكه.
وقد ظهر حنقه هذا وتحرقه منذ بداية الهجر ة قبل أن يتظاهر بالسل م ،وبعد أن تظاهر به .ركب رسول ال صلى ال
عليه وسل م مر ة على حمار ليعود سعد بن عباد ة ،فمر بمجلس فيه عبد ال بن أبي فَخ ّمـَرـ ابن أبي أنفه ،وقال :ل تَُغّبُر واـ علينا .ولما تل رسول ال صلى ال عليه وسل م على المجلس القرآن ،قال :اجلس في بيتك ،ول تؤذنا في مجالسنا.
وهذا قبل أن يتظاهر بالسل م ،ولما تظاهر به بعد بدر ل م يزل إل عدًواـ ل ولرسوله وللمؤمنين ،ول م يكن يفكر إل في
يوالى أعداءه ،وقد تدخل في أمر بني قينقاع كما ذكرنا ،وكذلك تشتيت المجتمع السلمي وتوهين كلمة السل م .وكان إ جاء في غزو ة أحد من الشر والغدر والتفريق بين المسلمين ،إواثار ة الرتباك والفوضي في صفوفه م بما مضي.
وكان من شد ة مكر هذا المنافق وخداعه بالمؤمنين أنه كان بعد التظاهر بالسل م ،يقو م كل جمعة حين يجلس رسول ال صلى ال عليه وسل م للخطبة ،فيقول :هذا رسول ال صلى ال عليه وسل م بين أظهرك م ،أكرمك م ال وأعزك م به ،فانصروه وعزروه ،واسمعـوا لــه وأطيعوا ،ث م يجلس ،فيقو م رسول ال صلى ال عليه وسل م ويخطب .وكان من وقاحة هذا المنافق أنه قا م في يو م الجمعة التي بعد أحد ـ مع ما ارتكبه من الشر والغدر الشنيع ـ قا م ليقول ما كان يقوله من قبل ،فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه ،وقالوا له :اجلس أي عدو ال ،لست لذلك بأهل وقد صنعت ما صنعت ،فخرج يتخطي رقاب الناس ،وهو يقول :وال لكأنما قلت ُبْج ًرـاأن قمت أشدد أمره ،فلقيه رجل من النصار بباب المسجد ...فقال:
ويلك ،ارجع يستغفر لك رسول ال صلى ال عليه وسل م ،قال :وال ما أبتغي أن يستغفر لي.
وكانت له اتصالت ببني النضير يؤامر معه م ضد المسلمين حتى قال له م :}لَئِْن أُْخ ِرـْج تُـْ ملََنْخ ُر ـَجـ ّنَـم َعـُك ْ مـ َوَل ُنِط يـُع ِفيُك ْ مـ ص َرـّنـُك ْ{ مـ ] الحشر.[11 : أََح ًدـاـ أََبًد اـ َو إِاـنـُقوتِْلتُْ م َلَنن ُ
وكذلك فعل هو وأصحابه في غزو ة الحزاب من إثار ة القلق والضطراب إوالقاء الرعب والدهشة في قلوب المؤمنين ما را إلى ضـّم اـ َوَع َدـَنـااللّهُ َو َرـُسـوـلُهُِإّل ُغ ُرـ وـً{ قصه ال تعالى في سور ة الحزاب :}َو إِاْذـَيُقوُل اْلُم َنـاِفقُـوَن َوالِّذ يـَنِفيـ ُقُلوبِِه مـ ّم َرـ ٌ
ِ بَيَو ّد ـوـالَْو أَّنُه م َباُد وـَن ِفيـ اْلَْع َرــاِبَيْس َأـُلوَن َع ْنـ َأنَبائُِك ْ مـ َو لَـْو َك اـُنوا بلَْ م َيْذ َهـُبـوا َو إِاـنـَيْأت اْلَْح َزـا ُ قوله :} َيْح َس ـُبـوَن اْلَْح َزـا َ ِفيُك مـ ّم اـ َقاَتلُوا ِإّل َقِليًل{ ]الحزاب.[20 :12 : بيد أن جميع أعداء السل م من اليهود والمنافقين والمشركين كانوا يعرفون جيدًا أن سبب غلبة السل م ليس هو التفوق المادي وكثر ة السلح والجيوش والعدد ،إوانما السبب هي القي م والخلق والمثل التي يتمتع بها المجتمع السلمي وكل
من يمت بصلة إلى هذا الدين ،وكانوا يعرفون أن منبع هذا الفيض إنما هو رسول ال صلى ال عليه وسل م الذي هو
المثل العلى ـ إلى حد العجاز ـ لهذه القي م ،كما عرفوا بعد إدار ة دفة الحروب طيلة خمس سنين ،أن القضاء على هذا الدين وأهله ل يمكن عن طريق استخدا م السلح ،فقرروا أن يشنوا حربًا دعائية واسعة ضد الدين من ناحية الخلق
والتقاليد ،وأن يجعلوا شخصية الرسول صلى ال عليه وسل م أول هدف لهذه الدعاية الكاذبة الخاطئة .ولما كان المنافقون ه م الطابور الخامس في صفوف المسلمين ،ولكونه م سكان المدينة ،كان يمكن له م التصال بالمسلمين واستفزاز مشاعره م كل حين .تحمل فريضة الدعاية هؤلء المنافقون ،وعلى رأسه م ابن أبي. وقد ظهرت خطته م هذه جلية حينما تزوج رسول ال صلى ال عليه وسل م بأ م المؤمنين زينب بنت جحش ،بعد أن طلقها زيد بن حارثة ،فقد كان من تقاليد العرب أنه م كانوا يعتبرون المتبني مثل البن الصلبي ،فكانوا يعتقدون حرمة حليلة المتبني على الرجل الذي تبناه ،فلما تزوج النبي صلى ال عليه وسل م بزينب وجد المنافقون ثُْلَم تَـْي نـ ـ حسب زعمه م ـ لثار ة المشاغب ضد النبي صلى ال عليه وسل م.
الولى :أن زوجته هذه كانت زوجة خامسة ،والقرآن ل م يكن أذن في الزواج بأكثر من أربع نسو ة ،فكيف صح له هذا الزواج؟ الثانية :أن زينب كانت زوجة ابنه ـ ُم تَـَبّناه ـ فالزواج بها من أكبر الكبائر ،حسب تقاليد العرب .وأكثروا من الدعاية في
هذا السبيل ،واختلقوا قصصًا وأساطير ،قالوا :إن محمدًا رآها بغتة ،فتأثر بحسنها وشغفته حبًا ،وعلقت بقلبه ،وعل م بذلك
ابنه زيد فخلي سبيلها لمحمد ،وقد نشروا هذه الدعاية المختلقة نش ًار بقيت آثاره في كتب التفسير والحديث إلى هذا
الزمان ،وقد أثرت تلك الدعاية أث ًار قويًا في صفوف الضعفاء حتى نزل القرآن باليات البينات فيها شفاء لما في الصدور ،وينبئ عن سعة نشر هذه الدعاية أن ال استفتح سور ة الحزاب بقوله :}يا أَّيَها الّنبِّي اتّ ِ ق اللَّه َوَل تُِط ِع ـ اْلَك اـِفِرـيـَن َواْلُم َنـاِفِقـيـَنِإّن اللَّه َك اـَن َع ِلــيًم اـَح ِكـيـًم َاـ{ ]الحزاب.[1 : وهذه إشارات عابر ة ،وصور مصغر ة لما اقترفه المنافقون قبل غزو ة بني المصطلق ،وكان النبي صلى ال عليه وسل م يكابد كل ذلك بالصبر واللين والتلطف ،وكان عامة المسلمين يحترزون عن شره م ،أو يتحملونه بالصبر ؛ إذ كانوا قد ل ل َيُتوُبوَن َو َ ل َيَر ْو ـَنأَ ـّنهُْ م ُيْفتَُنوَن ِفيـ ُك ّلـ َع اـٍ م ّم ّرـ ةًأَْو َم ّرـتَـْي ِنـثُّ م َ عرفوه م بافتضاحه م مر ة بعد أخري حسب قوله تعالى :}أََو َ ُهْ م َيّذ ّكـُرـ و ـَ{ن ]التوبة .[126:
دور المنافقين في غزو ة بني المصطلق
ض ـُعـوْا ولما كانت غزو ة بني المصطلق وخرج فيها المنافقون مثلوا قوله تعالى :}لَْو َخ َرـُجـوْاـِفيُك مـ ّم اـ َزاُد وـُك ْ مـِإلّ َخ َبــا ً ل ولَْو َ ِخ لَـلَُك ْ مـ َيْب ُغـوَنُك ُ مـ اْلِفتَْنةَـ{ ]التوبة [47 :فقد وجدوا متنفسين للتنفس بالشر ،فأثاروا الرتباك الشديد في صفوف المسلمين، والدعاية الشنيعة ضد النبي صلى ال عليه وسل م ،وهاك بعض التفصيل عنها: 1ـ قول المنافقين] :لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن العز منها الذل[ كان رسول ال صلى ال عليه وسل م بعد الفراغ من الغزو ة مقيمًا على الُم َرـْيـِسـ يــع،ووردت وارد ة الناس ،ومع عمر بن الخطاب أجير يقال لهَ :ج ْهـَج اــه الغفاري ،فازدح م هو وِس َنـان بن َو َبــر الجهني على الماء فاقتتل ،فصرخ الجهني :يا معشر النصار ،وصرخ جهجاه :يا معشر المهاجرين ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)أبدعوي الجاهلية وأنا بين أظهرك م؟ دعوها فإنها ُم ْنـتِـَنة( ،وبلغ ذلك عبد ال بن أبي بن سلول فغضب ـ وعنده رهط من قومه ،فيه م زيد بن أرق م غل م حدث ـ وقال :أو قد فعلوها ،قد نافرونا وكاثرونا في بلدنا ،وال ما نحن وه م إل كما قال الولَ :س ّمـْنـ َك ْلـَبَك َيأُك ْلـَك ،ـأما
وال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن العز منها الذل ،ث م أقبل على من حضره فقال له م :هذا ما فعلت م بأنفسك م، أحللتموه م بلدك م ،وقاسمتموه م أموالك م ،أما وال لو أمسكت م عنه م ما بأيديك م لتحولوا إلى غير دارك م.
فأخبر زيد بن أرق م عمه بالخبر ،فأخبر عمه رسول ال صلى ال عليه وسل م وعنده عمر ،فقال عمرُ :م ْرـ َع ّبـاد بن بشر فليقتله .فقال :)فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه؟ ل ولكن أَّذ ْنـ بالرحيل( ،وذلك في ساعة ل م يكن
يرتحل فيها ،فارتحل الناس ،فلقيه أسيد بن حضير فحياه ،وقال :لقد رحت في ساعة منكر ة؟ فقال له :)أو ما بلغك ما قال
صاحبك م؟( يريد ابن أبي ،فقال :وما قال؟ قال :)زع م أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن العز منها الذل( ،قال :فأنت يا رسول ال ،تخرجه منها إن شئت ،هو وال الذليل وأنت العزيز ،ث م قال :يا رسول ال ،ارفق به ،فوال لقد جاءنا ال بك، إوان قومه لينظمون له الَخ َرـ ز ـليتوجوه ،فإنه يري أنك استلبته ملكًا. ص ْدـرـيومه م ذلك حتى آذته م الشمس ،ث م نزل بالناس، ث م مشي بالناس يومه م ذلك حتى أمسي ،وليلته م حتى أصبح ،و َ
فل م يلبثوا أن وجدوا َم ـّس الرض فوقعوا نيامًا .فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث.
أما ابن أبي فلما عل م أن زيد بن أرق م بلغ الخبر جاء إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م ،وحلف بال ما قلت ما قال ،ول تكلمت به ،فقال من حضر من النصار :يا رسول ال عسي أن يكون الغل م قد أوه م في حديثه ،ول م يحفظ ما قال الرجل .فصدقه ،قال زيد :فأصابني َهّ م ل م يصبني مثله قط ،فجلست في بيتي ،فأنزل ال :}ِإَذ اـ َج اــءَك اْلُم َنـاِفقُـوَن{ إلى قوله :}ُهُ م الِّذ يـَن َيُقوُلوَن َل ُتنِفقُوا َع لَــى َم ْنـ ِع نـَد َر ُسـوـِلاللِّه َح تّــى َينَف ّ ض واـ{ إلى }لَُيْخ ِرـَج ّناـْلََع ّزـ ِم ْنـهَـا اْلََذ ّلـ{ ]المنافقون1 : ـ ،[8فأرسل إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م فقرأها علي .ث م قال :)إن ال قد صدقك(.
ل صالحًا من الصحابة الخيار ،فتب أر من أبيه ،ووقف له وكان ابن هذا المنافق ـ وهو عبد ال بن عبد ال بن أبي ـ رج ً على باب المدينة ،واستل سيفه ،فلما جاء ابن أبي قال له :وال ل تجوز من هاهنا حتى يأذن لك رسول ال صلى ال
عليه وسل م ،فإنه العزيز وأنت الذليل ،فلما جاء النبي صلى ال عليه وسل م أذن له فخلي سبيله ،وكان قد قال عبد ال ابن عبد ال بن أبي :يا رسول ال ،إن أردت قتله فمرني بذلك ،فأنا وال أحمل إليك رأسه.
2ـ حديث الفك وفي هذه الغزو ة كانت قصة الفك ،وملخصها :أن عائشة رضي ال عنها كانت قد خرج بها رسول ال صلى ال عليه وسل م معه في هذه الغزو ة بقرعة أصابتها ،وكانت تلك عادته مع نسائه ،فلما رجعوا من الغزو ة نزلوا في بعض المنازل، فخرجت عائشة لحاجتها ،ففقدت عقدًا لختها كانت أعارتها إياه ،فرجعت تلتمسه في الموضع الذي فقدته فيه في وقتها، فجاء النفر الذين كانوا يرحلون َهْو َد ـَجـ هــافظنوها فيه فحملوا الهودج ،ول ينكرون ِخ فّـَته؛ لنها رضي ال عنها كانت فَتِّيَة السن ل م َيْغ َشـهَـا اللح م الذي كان يثقلها ،وأيضًا فإن النفر لما تساعدوا على حمل الهودج ل م ينكروا خفته ،ولو كان الذي حمله واحداً أو اثنين ل م يخف عليهما الحال ،فرجعت عائشة إلى منازله م ،وقد أصابت العقد ،فإذا ليس به داع ول
مجيب ،فقعدت في المنزل ،وظنت أنه م سيفقدونها فيرجعون في طلبها ،وال غالب على أمره ،يدبر المر من فوق عرشه كما يشاء ،فغلبتها عيناها ،فنامت ،فل م تستيقظ إل بقول صفوان بن الُم َعـطّـل :إنا ل إوانا إليه راجعون ،زوجة رسول ال صلى ال عليه وسل م؟ وكان صفوان قد َع َرـسـفي أخريات الجيش ؛ لنه كان كثير النو م ،فلما رآها عرفها ،وكان يراها قبل نزول الحجاب ،فاسترجع وأناخ راحلته ،فقربها إليها ،فركبتها ،وما كلمها كلمة واحد ة ،ول م تسمع منه إل استرجاعه، ث م سار بها يقودها ،حتى قد م بها ،وقد نزل الجيش في نحر الظهير ة ،فلما رأي ذلك الناس تكل م كل منه م بشاكلته ،وما يليق به ،ووجد الخبيث عدو ال ابن أبي متنفسًا ،فتنفس من كرب النفاق والحسد الذي بين ضلوعه ،فجعل يستحكي
الفك ،ويستوشيه ،ويشيعه ،ويذيعه ،ويجمعه ويفرقه ،وكان أصحابه يتقربون به إليه ،فلما قدموا المدينة أفاض أهل الفك ل ـ في فراقها، في الحديث ،ورسول ال صلى ال عليه وسل م ساكت ليتكل م ،ث م استشار أصحابه ـ لما استلبث الوحي طوي ً فأشار عليه علي رضي ال عنه أن يفارقها ،ويأخذ غيرها ،تلويحًا لتصريحًا ،وأشار عليه أسامة وغيره بإمساكها ،وأل
يلتفت إلى كل م العداء .فقا م على المنبر يستعذر من عبد ال ابن أبي ،فأظهر أسيد بن حضير سيد الوس رغبته في قتله فأخذت سعد بن عباد ة ـ سيد الخزرج ،وهي قبيلة ابن أبي ـ الحمية القبلية ،فجري بينهما كل م تثاور له الحيان، فخفضه م رسول ال صلى ال عليه وسل م حتى سكتوا وسكت. أما عائشة فلما رجعت مرضت شه ًرا ،وهي لتعل م عن حديث الفك شيئًا ،سوي أنها كانت ل تعرف من رسول ال صلى ل ،فعثرت أ م مسطح طـح إلى الَبَرازلي ً ت خرجت مع أ م ِم ْسـ َ ال عليه وسل م اللطف الذي كانت تعرفه حين تشتكي ،فلما َنِقهَـ ْ في ِم ْرـ ِطـهــا،فدعت على ابنها ،فاستنكرت ذلك عائشة منها ،فأخبرتها الخبر ،فرجعت عائشة واستأذنت رسول ال صلى ال عليه وسل م ؛ لتأتي أبويها وتستيقن الخبر ،ث م أتتهما بعد الذن حتى عرفت جلية المر ،فجعلت تبكي ،فبكت ليلتين
ويومًا ،ل م تكن تكتحل بنو م ،ول يرقأ لها دمع ،حتى ظنت أن البكاء فالق كبدها ،وجاء رسول ال صلى ال عليه وسل م في
ذلك ،فتشهد وقال :)أما بعد يا عائشة ،فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا ،فإن كنت بريئة فسيبرئك ال ،إوان كنت ألممت بذنب
فاستغفري ال وتوبي إليه ،فإن العبد إذا اعترف بذنبه ،ث م تاب إلى ال تاب ال عليه(.
وحينئذ َقَلص دمعها ،وقالت لكل من أبويها أن يجيبا ،فل م يدريا ما يقولن .فقالت :وال لقد علمت لقد سمعت م هذا الحديث حتى استقر في أنفسك م ،وصدقت م به ،فلئن قلت لك م :إني بريئة ـ وال يعل م أني بريئة ـ ل تصدقونني بذلك ،ولئن اعترفت ِ ص ّدـقـّني ،وال ما أجد لي ولك م مث ً ص ْبـٌرـ َج مـيـٌل َواللّهُ ل إل قول أبي يوسف ،قال :}فَ َ لك م بأمر ـ وال يعل م أني منه بريئة ـ لتُ َ اْلم سـتَـعان ع لَــى م اـ تَ ِ ص فُــوَن{ ]يوسف.[18 : ُْ َ ُ َ َ
ث م تحولت واضطجعت ،ونزل الوحي ساعته ،فَُس ّرـيعن رسول ال صلى ال عليه وسل م وهو يضحك .فكانت أول كلمة ل ببراء ة ساحتها ،وثقة بمحبة تكل م بها :)يا عائشة ،أما ال فقد برأك( ،فقالت لها أمها :قومي إليه ..فقالت عائشة ـ إدل ً
رسول ال صلى ال عليه وسل م ـ وال ل أقو م إليه ،ول أحمد إل ال.
ِ ِّ صـ َب ـةٌـّم نـُك ْ مـ ] {...النور .[20 :11 :العشر والذي أنزله ال بشأن الفك هو قوله تعالي :}إِّن الذ يـَن َج اـُؤ وـا ِبا ِْل ْف ـكـ ُع ْ اليات. طـح بن أثاثة ،وحسان بن ثابت ،وَح ْمـَنـةـبنت جحش ،جلدوا ثمانين ثمانين ،ول م ُيَح ّدـ الخبيث عبد وُج ِلــد من أهل الفك ِم ْسـ َ
ال بن أبي مع أنه رأس أهل الفك ،والذي تولي كبره ؛ إما لن الحدود تخفيف لهلها ،وقد وعده ال بالعذاب العظي م في الخر ة ،إواما للمصلحة التي ترك لجلها قتله.
وهكذا وبعد شهر أقشعت سحابة الشك والرتياب والقلق والضطراب عن جو المدينة ،وافتضح رأس المنافقين افتضاحًا ل م يستطع أن يرفع رأسه بعد ذلك ،قال ابن إسحاق :وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه ه م الذين يعاتبونه
ويأخذونه ويعنفونه .فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م لعمر :)كيف ترى يا عمر؟ أما وال لوقتلته يو م قلت لي :اقتله، ت ،ـلْم رـ رسول ال صلى ال عليه وسل م أعظ م لرعدت له آنف ،ولو أمرتها اليو م بقتله لقتلته( .قال عمر :قد وال علم ُ بركة من أمري.
البعوث والسرايا بعد غزو ة الُم َرـْيـِسـ يــع 1ـ سرية عبد الرحمن بن عوف إلى ديار بني كلب بَد ْوـ َم ـةـالَج ْنـَدـلـ ،في شعبان سنة 6هـ .أقعده رسول ال صلى ال عليه وسل م بين يديه وعممه بيده ،وأوصاه بأحسن المور في الحرب ،وقال له :)إن أطاعوك فتزوج ابنة ملكه م(، فمكث عبد الرحمن بن عوف ثلثة أيا م يدعوه م إلى السل م ،فأسل م القو م وتزوج عبد الرحمن تُم اـ ِ ض رـ ـبنت الصبغ، َ وهي أ م أبي سلمة ،وكان أبوها رأسه م وملكه م. 2ـ سرية على بن أبي طالب إلى بني سعد بن بكر بفََد كـ ،في شعبان سنة 6هـ .وذلك أنه بلغ رسول ال صلى ال عليه وسل م أن بها جمعًا يريدون أن يمدوا اليهود .فبعث إليه م علياً في مائتي رجل ،وكان يسير الليل ويكمن النهار،
فأصاب عينًا له م ،فأقر أنه م بعثوه إلى خيبر يعرضون عليه م نصرته م على أن يجعلوا له م تمر خيبر .ودل العين على موضع تجمع بني سعد ،فأغار عليه م علي ،فأخذ خمسمائة بعير وألفي شا ة ،وهربت بنو سعد بال ّ ظعُن ،ـ وكان رئيسه م َو َبــر بن ُع لَـْي مـ.
3ـ سرية أبي بكر الصديق أو زيد بن حارثة إلى وادي القري ،في رمضان سنة 6هـ .كان بطن من فََزار ة يريد اغتيال
النبي صلى ال عليه وسل م ،فبعث رسول ال صلى ال عليه وسل م أبا بكر الصديق .قال َس لَـَم ةـ بن الْك َوـع :وخرجت معه حتى إذا صلينا الصبح أمرنا فشننا الغار ة ،فوردنا الماء ،فقتل أبو بكر من قتل ،ورأيت طائفة وفيه م الذراري،
فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل فأدركته م ،ورميت بسه م بينه م وبين الجبل ،فلما أروا السه م وقفوا ،وفيه م امرأ ة هي أ م ِقْر فَــة ،عليها قَْش ٌعـ من أِد يـ م ،معها ابنتها من أحسن العرب ،فجئت به م أسوقه م إلى أبي بكر ،فنفلني أبو بكر ابنتها ،فل م أكشف لها ثوبا ،وقد سأله رسول ال صلى ال عليه وسل م بنت أ م ِقْر فَــة،فبعث بها إلى مكة ،وفدي بها أسري من المسلمين هناك.
وكانت أ م قرفة شيطانة تحاول اغتيال النبي صلى ال عليه وسل م ،وجهزت ثلثين فارسًا من أهل بيتها لذلك ،فلقت جزاءها ،وقتل الثلثون.
4ـ سرية ُك ْرـ زـ ـبن جابر الفهري إلى الُعَر نِـّيين ،في شوال سنة 6هـ ،وذلك أن رهطًا من ُع َكـلـ وُع َرـيـَنةأظهروا السل م، وأقاموا بالمدينة فاستوخموها ،فبعثه م رسول ال صلى ال عليه وسل م في ذود في المراعي ،وأمره م أن يشربوا من ألبانها وأبوالها ،فلما صحوا قتلوا راعي رسول ال صلى ال عليه وسل م ،واستاقوا البل ،وكفروا بعد إسلمه م ،فبعث في طلبه م كر ًاز الفهري في عشرين من الصحابة ،ودعا على العرنيين :)الّله م أع م عليه م الطريق ،واجعلها عليه م
ت أعينه م ،جزاء وقصاصًا بما أضيق من َم َسـكـ( ،فعمي ال عليه م السبيل فأدركوا ،فقطعت أيديه م وأرجله م ،وَس ُمـلَـ ْ فعلوا ،ث م تركوا في ناحية الحر ة حتى ماتوا ،وحديثه م في الصحيح عن أنس.
ويذكر أهل السير بعد ذلك سرية عمرو بن أمية ال ّ ض ْمـِرــيمع سلمة بن أبي سلمة ،في شوال سنة 6هـ .أنه ذهب إلى
مكة لغتيال أبي سفيان ؛ لن أبا سفيان كان أرسل أعرابيًا لغتيال النبي صلى ال عليه وسل م ،بيد أن المبعوثين ل م ينجحا في الغتيال ،لهذا ،ول ذاك .ويذكرون أن عم ار قتل في الطريق ثلثة رجال ،ويقولون :إن عم ار أخذ جثة
الشهيد ُخ َبـْي بـ في هذا السفر ،والمعروف أن خبيبًا استشهد بعد الّر ِجـ يــعبأيا م أو أشهر ،ووقعة الرجيع كانت في صفر سنة 4هـ ،فل أدري هل اختلط السفران على أهل السير ،أو كان المران في سفر واحد في السنة الرابعة ،وقد أنكر العلمة المنصورفوري أن تكون هذه السرية سرية حرب أو مناوشة .وال أعل م. هذه هي السرايا والغزوات بعد الحزاب ،وبني قريظة ،ل م يجر في واحد ة منها قتال مرير ،إوانما وقعت فيما وقعت مصادمة خفيفة ،فليست هذه البعوث إل دوريات استطلعية ،أو تحركات تأديبية ؛ لرهاب العراب والعداء الذين ل م يستكينوا بعد .ويظهر بعد التأمل في الظروف أن مجري اليا م كان قد أخذ في التطور بعد غزو ة الحزاب ،وأن ضـد ـ أعداء السل م كانت معنوياته م في انهيار متواصل ،ول م يكن بقي له م أمل في نجاح كسر الدعو ة السلمية وَخ ْ شوكتها ،إل أن هذا التطور ظهر جليًا بصلح الحديبية ،فل م تكن الهدنة إل العتراف بقو ة السل م ،والتسجيل على
بقائها في ربوع الجزير ة العربية.
عمر ة الحديبية في ذي القعد ة سنة 6هـ سبب عمرة الحديبية استنفار المسلمين المسلمون يتحركون إلى مكة محاولة تقريش صد المسلمين عن البيت تبديل الطري ق ومحاولة اجتناب اللقاء الدامي ُبَدْيل يتوسط بين رسول ا صلى ا عليه وسلم وتقريش رسل تقريش هو الذي كف أيديهم عنكم عثمان بن عفان سفيراً إلى تقريش
إشاعة مقتل عثمان وبيعة الرطضوان إبرام الصلح وبنوده رد أبي جندل الّنْحر والَحْل ق للِحلّ عن العمرة الباء عن رد المهاجرات ماذا يتملخض عن بنود المعاهدة حزن المسلمين ومناتقشة عمر النبي صلى ا عليه وسلم انحلت أزمة المستطضعفين إسلم أبطال من تقريش
سبب عمر ة الحديبية ولما تطورت الظروف في الجزيز ة العربية إلى حد كبير لصالح المسلمين ،أخذت طلئع الفتح العظ م ونجاح الدعو ة السلمية تبدو شيئًا فشيئًا ،وبدأت التمهيدات لقرار حق المسلمين في أداء عبادته م في المسجد الحرا م ،الذي كان قد
صد عنه المشركون منذ ستة أعوا م.
أري رسول ال صلى ال عليه وسل م في المنا م ،وهو بالمدينة ،أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرا م ،وأخذ مفتاح الكعبة ،وطافوا واعتمروا ،وحلق بعضه م وقصر بعضه م ،فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا ،وحسبوا أنه م داخلو مكة عامه م ذلك ،وأخبر أصحابه أنه معتمر فتجهزوا للسفر. استنفار المسلمين واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي ليخرجوا معه ،فأبطأ كثير من العراب ،أما هو فغسل ثيابه ،وركب ناقته ص وـاء ،واستخلف على المدينة ابن أ م مكتو م أو ُنَم ْيـلَـة الليثي .وخرج منها يو م الثنين غر ة ذي القعد ة سنة 6هـ، الَق ْ
ومعه زوجته أ م سلمة ،في ألف وأربعمائة ،ويقال :ألف وخمسمائة ،ول م يخرج معه بسلح ،إل سلح المسافر: السيوف في القُُر بـ. المسلمون يتحركون إلى مكة
وتحرك في اتجاه مكة ،فلما كان بذي الُح لَـْي فَـة َقّلد الهدي وأْش َعـَرـه،وأحر م بالعمر ة؛ ليأمن الناس من حربه ،وبعث بين يديه عينًا له من خزاعة يخبره عن قريش ،حتى إذا كان قريبًا من ُع ْسـفَـان أتاه عينه ،فقال :إني تركت كعب بن لؤي
قد جمعوا لك الحابيش ،وجمعوا لك جموعًا ،وه م مقاتلوك وصادوك عن البيت ،واستشار النبي صلى ال عليه وسل م
أصحابه ،وقال :)أترون نميل إلى ذراري هؤلء الذين أعانوه م فنصيبه م؟ فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين ،إوان نجوا يكن عنق قطعها ال ،أ م تريدون أن نؤ م هذا البيت فمن صدنا عنه قاتلناه؟( فقال أبو بكر :ال ورسوله أعل م ،إنما
جئنا معتمرين ،ول م نجئ لقتال أحد ،ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه ،فقال النبي صلى ال عليه وسل م: )فروحوا( ،فراحوا.
محاولة قريش صد المسلمين عن البيت وكانت قريش لما سمعت بخروج النبي صلى ال عليه وسل م عقدت مجلسًا استشاريًا قررت فيه صد المسلمين عن
البيت كيفما يمكن ،فبعد أن أعرض رسول ال صلى ال عليه وسل م عن الحابيش ،نقل إليه رجل من بني كعب أن قريشًا نازلة بذي طَُوي ،وأن مائتي فارس في قياد ة خالد بن الوليد مرابطة بُك َرـاع الَغِم يـ م في الطريق الرئيسي الذي يوصل إلى مكة .وقد حاول خالد صد المسلمين ،فقا م بفرسانه إزاءه م يتراءي الجيشان .ورأي خالد المسلمين في
صل ة الظهر يركعون ويسجدون ،فقال :لقد كانوا على غر ة ،لو كنا حملنا عليه م لصبنا منه م ،ث م قرر أن يميل على المسلمين ـ وه م في صل ة العصر ـ ميلة واحد ة ،ولكن ال أنزل حك م صل ة الخوف ،ففاتت الفرصة خالدًا.
تبديل الطريق ومحاولة اجتناب اللقاء الدامي وأخذ رسول ال صلى ال عليه وسل م طريقًا َوْع ًرــابين شعاب ،وسلك به م ذات اليمين بين ظهري الَح ْمـضـفي طريق تخرجه على ثنية الُم َرـارمهبط الحديبية من أسفل مكة ،وترك الطريق الرئيسي الذي يفضي إلى الحر م ما ًار بالتنعي م، تركه إلى اليسار ،فلما رأي خالد قَتََر ة الجيش السلمي قد خالفوا عن طريقه انطلق يركض نذي اًر لقريش.
تـ ،فقالوا: وسار رسول ال صلى ال عليه وسل م حتى إذا كان بثنية المرار بركت راحلته ،فقال الناسَ :ح ْل ـ َح ْل ـ ،ـفألَّح ْ خلت القصواء ،فقال النبي صلى ال عليه وسل م :)ما خلت القصواء ،وما ذاك لها بخلق ،ولكن حبسها حابس الفيل( ،ث م قال :)والذي نفسي بيده ل يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات ال إل أعطيته م إياها( ،ث م زجرها فوثبت به ،فعدل حتى نزل بأقصي الحديبية ،على ثََم دـ قليل الماء ،إنما يتبرضه الناس تبرضًا ،فل م يلبث أن نزحوه .فشكوا إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م العطش ،فانتزع سهمًا من كنانته ،ث م أمره م أن يجعلوه فيه ،فوال ما زال يجيش
له م بالري حتى صدروا.
ُبَد ْيـلـ يتوسط بين رسول ال صلى ال عليه وسل م وقريش ولما اطمأن رسول ال صلى ال عليه وسل م جاء بديل بن َو ْرـقَــاءالخزاعي في نفر من خزاعة ،وكانت خزاعة َع ْيـَبـة
ص ح ـ لرسول ال صلى ال عليه وسل م من أهل تَُهاَم ةـ ،فقال :إني تركت كعب ابن لؤي ،نزلوا أعداد مياه الحديبية، ُن ْ طاِفيل ،وه م مقاتلوك وصاَد وـك عن البيت .قال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)إنا ل م نجئ لقتال معه م الُعوذ الم َ أحد ،ولكنا جئنا معتمرين ،إوان قريشًا قد نهكته م الحرب وأضرت به م ،فإن شاءوا ماددته م ،ويخلوا بيني وبين الناس،
إوان شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا ،إوال فقد َج ّمـواـ ،إوان ه م أبوا إل القتال فوالذي نفسي بيده لقاتلنه م على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ،أو لينفذن ال أمره(. قال بديل :سأبلغه م ما تقول ،فانطلق حتى أتي قريشًا ،فقال :إني قد جئتك م من عند هذا الرجل ،وسمعته يقول قول، فإن شئت م عرضته عليك م.
فقال سفهاؤه م :ل حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء .وقال ذوو الرأي منه م :هات ما سمعته .قال :سمعته يقول كذا وكذا ،فبعثت قريش ِم ْكـَرـ ز ـبن حفص ،فلما رآه رسول ال صلى ال عليه وسل م قال :هذا رجل غادر ،فلما جاء وتكل م قال له مثل ما قال لبديل وأصحابه ،فرجع إلى قريش وأخبره م.
رسل قريش ث م قال رجل من كنانة ـ اسمه الُح لَـْي سـ بن علقمة :دعوني آته .فقالوا :ائته ،فلما أشرف على النبي صلى ال عليه
وسل م وأصحابه قال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)هذا فلن ،وهو من قو م يعظمون البدن ،فابعثوها( ،فبعثوها له، واستقبله القو م يلبون ،فلما رأي ذلك .قال :سبحان ال ما ينبغي لهؤلء أن يصدوا عن البيت ،فرجع إلى أصحابه، فقال :رأيت البدن قد قلدت وأشعرت ،وما أري أن يصدوا ،وجري بينه وبين قريش كل م أحفظه. فقال عرو ة بن مسعود الثقفي :إن هذا قد عرض عليك م خطة ُر ْشـدـفاقبلوها ،ودعوني آته ،فأتاه ،فجعل يكلمه ،فقال له النبي صلى ال عليه وسل م نحوًا من قوله لبديل .فقال له عرو ة عند ذلك :أي محمد أرأيت لو استأصلت قومك ،هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك ،إوان تكن الخري فوال إني ل أري وجوها ،إواني أري أوباشا من الناس ظرـ اللت ،أنحن نفر عنه؟ قال :من ذا؟ قالوا :أبو بكر ،قال: خليقًا أن يفروا ويدعوك ،قال له أبو بكر :امصص َب ْ
أما والذي نفسي بيده لول يد كانت عندي ل م أْج ِز ـَكـبها لجبتك .وجعل يكل م النبي صلى ال عليه وسل م ،وكلما كلمه أخذ بلحيته ،والمغير ة بن شعبة عند رأس النبي صلى ال عليه وسل م ،ومعه السيف وعليه الِم ْغـفَـُر ،ـ ـفكلما أهوي عرو ة إلى لحية النبي صلى ال عليه وسل م ضرب يده بنعل السيف ،وقال :أخر يدك عن لحية رسول ال صلى ال عليه
ـك وكان ت أسعي في َغ ْدـَرـتِ ؟ وسل م ،فرفع عرو ة رأسه ،وقال :من ذا؟ قالوا :المغير ة بن شعبة ،فقال :أي ُع َذـرـ ،أو لس ُ المغير ة ِ ب ـقومًا في الجاهلية فقتله م وأخذ أمواله م ،ث م جاء فأسل م ،فقال النبـي صلى ال عليه وسل م :)أما السل م ص حـ َ َ فأقبُل ،ـ وأما المال فلست منـه فـي شيء( )وكان المغير ة ابن أخي عرو ة(.
ث م إن عرو ة جعل يرمق أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسل م وتعظيمه م له ،فرجع إلى أصحابه ،فقال :أي قو م، وال لقد وفدت على الملوك ،على قيصر وكسري والنجاشي ،وال ما رأيت ملكًا يعظمه أصحابه ما يعظ م أصحاب محمد محمدًا ،وال إن تََنّخ َ مـ نخامة إل وقعت في كف رجل منه م ،فدلك بها وجهه وجلده ،إواذا أمره م ابتدروا أمره ،إواذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ،إواذا تكل م خفضوا أصواته م عنده ،وما ُيِح ّدـوـن إليه النظر تعظيمًا له ،وقد عرض عليك م خطة ُر ْشـٍدـفاقبلوها.
هو الذي كف أيديه م عنك م ولما رأي شباب قريش الطائشون ،الطامحون إلى الحرب ،رغبة زعمائه م في الصلح فكروا في خطة تحول بينه م وبين ل قد قاموا ل ،ويتسللوا إلى معسكر المسلمين ،ويحدثوا أحداثًا تشعل نار الحرب ،وفع ً الصلح ،فقرروا أن يخرجوا لي ً
ل فهبطوا من جبل التنعي م ،وحاولوا التسلل إلى معسكر بتنفيذ هذا القرار ،فقد خرج سبعون أو ثمانون منه م لي ً
المسلمين ،غير أن محمد بن مسلمة قائد الحرس اعتقله م جميعًا.
ورغبة ف ــي الصلــح أطلـق سراحه م النبي صلى ال عليه وسل م وعفا عنـه م ،وفي ذلك أنزل ال :}وُهـو الِّذ ي ـ َك ّ فـ أَْي ِدـ َيـهُْ م َ َ ظَفَر ُكـْ مـَع لَـْي ِهـْ مـ{ ]الفتح[24 : طِنـ َم ّكـَةـ ِم نـ َبْع ِدـ أَْن َأ ْ َع نـُك ْ مـ َوأَْي ِدـ َيـُك ْ مـَع ْنـهُـ م بَِب ْ
عثمان بن عفان سفي ًار إلى قريش وحينئذ أراد رسول ال صلى ال عليه وسل م أن يبعث سفي اًر يؤكد لدي قريش موقفه وهدفه من هذا السفر ،فدعا عمر ل :يا رسول ال ،ليس لي أحد بمكة من بني عدي بن كعب يغضب لي إن بن الخطاب ليرسله إليه م ،فاعتذر قائ ً
أوذيت ،فأرسل عثمان بن عفان ،فإن عشيرته بها ،إوانه مبلغ ما أردت ،فدعاه ،وأرسله إلى قريش ،وقال :أخبره م أنا ل م ل بمكة مؤمنين ،ونساء مؤمنات ،فيبشره م نأت لقتال ،إوانما جئنا عما ًرا ،وادعه م إلى السل م ،وأمره أن يأتي رجا ً بالفتح ،ويخبره م أن ال عز وجل مظهر دينه بمكة ،حتى ل يستخفي فيها أحد باليمان.
فانطلق عثمان حتى مر على قريش بَِب ْلـَد حـ ،فقالوا :أين تريد؟ فقال :بعثني رسول ال صلى ال عليه وسل م بكذا وكذا،
قالوا :قد سمعنا ما تقول ،فانفذ لحاجتك ،وقا م إليه أبان ابن سعيد بن العاص ،فرحب به ث م أسرج فرسه ،فحمل عثمان على الفرس ،وأجاره وأردفه حتى جاء مكة ،وبلغ الرسالة إلى زعماء قريش ،فلما فرغ عرضوا عليه أن يطوف بالبيت، فرفض هذا العرض ،وأبي أن يطوف حتى يطوف رسول ال صلى ال عليه وسل م.
إشاعة مقتل عثمان وبيعة الرضوان واحتبسته قريش عندها ـ ولعله م أرادوا أن يتشاوروا فيما بينه م في الوضع الراهن ،ويبرموا أمره م ،ث م يردوا عثمان بجواب ما جاء به من الرسالة ـ وطال الحتباس ،فشاع بين المسلمين أن عثمان قتل ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م لما بلغته الشاعة :)ل نبرح حتى نناجز القو م( ،ث م دعا أصحابه إلى البيعة ،فثاروا إليه يبايعونه على أل يفروا، وبايعته جماعة على الموت ،وأول من بايعه أبو سنان السدي ،وبايعه سلمة بن الكوع على الموت ثلث مرات ،في أول الناس ووسطه م وآخره م ،وأخذ رسول ال صلى ال عليه وسل م بيد نفسه وقال :)هذه عن عثمان( .ولما تمت البيعة جاء عثمان فبايعه ،ول م يتخلف عن هذه البيعة إل رجل من المنافقين يقال لهَ :ج ّد ـ بن قَْي سـ.
أخذ رسول ال صلى ال عليه وسل م هذه البيعة تحت شجر ة ،وكان عمر آخذا بيده ،وَم ْعـِقـلـ بن َيَس اـر آخذا بغصن الشجر ة يرفعه عن رسول ال صلى ال عليه وسل م ،وهذه هي بيعة الرضوان التي أنزل ال فيها :}لَقَْد ر ِ ضـ َيـ ـاللّهُ َع ِنـ َ ت ـ الّش َجـ َرـ{ِ ةالية ]الفتح[18 : اْلُم ْؤـ ِم ـنِـيَنِإْذ ُيَباِيُعوَنَكـ تَْح َ
إبرا م الصلح وبنوده وعرفت قريش ضيق الموقف ،فأسرعت إلى بعث ُسهَـْي لـ بن عمرو لعقد الصلح ،وأكدت له أل يكون في الصلح إل أن يرجع عنا عامه هذا ،ل تتحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنو ة أبدًا ،فأتاه سهيل بن عمرو ،فلما رآه \ قال :)قد ل ،ث م اتفقا على قواعد الصلح، سهل لك م أمرك م( ،أراد القو م الصلح حين بعثوا هذا الرجل ،فجاء سهيل فتكل م طوي ً
وهي هذه:
.1الرسول صلى ال عليه وسل م يرجع من عامه ،فل يدخل مكة ،إواذا كان العا م القابل دخلها المسلمون فأقاموا بها ثلثًا ،معه م سلح الراكب ،السيوف في القُُر بـ ،ول يتعرض له م بأي نوع من أنواع التعرض. .2وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين ،يأمن فيها الناس ،ويكف بعضه م عن بعض. .3من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ،ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهده م دخل فيه، وتعتبر القبيلة التي تنض م إلى أي الفريقين جزءًا من ذلك الفريق ،فأي عدوان تتعرض له أي من هذه القبائل يعتبر عدوانًا على ذلك الفريق.
.4من أتي محمدًا من قريش من غير إذن وليه ـ أي هاربًا منه م ـ رده عليه م ،ومن جاء قريشًا ممن مع محمد ـ أي
هاربًا منه ـ ل م يرد عليه.
ث م دعا عليًا ليكتب الكتاب ،فأملي عليه :)بس م ال الرحمن الرحي م( فقال سهيل :أما الرحمن فوال ل ندري ما هو؟
ولكن اكتب :باسمك الّله م .فأمر النبي صلى ال عليه وسل م بذلك .ث م أملي :)هذا ما صالح عليه محمد رسول ال(
فقال سهيل :لو نعل م أنك رسول ال ما صددناك عن البيت ،ول قاتلناك ،ولكن اكتب :محمد بن عبد ال فقال :)إني
رسول ال إوان كذبتموني( ،وأمر عليًا أن يكتب :محمد بن عبد ال ،ويمحو لفظ رسول ال ،فأبي على أن يمحو هذا اللفظ .فمحاه صلى ال عليه وسل م بيده ،ث م تمت كتابة الصحيفة ،ولما ت م الصلح دخلت خزاعة في عهد رسول ال صلى ال عليه وسل م ـ وكانوا حليف بني هاش م منذ عهد عبد المطلب ،كما قدمنا في أوائل الكتاب ،فكان دخوله م في هذا العهد تأكيدًا لذلك الحلف القدي م ـ ودخلت بنو بكر في عهد قريش. رد أبي جندل
فـفي قيوده ،قد خرج من أسفل مكة حتى رمي بنفسه بين وبينما الكتاب يكتب إذ جاء أبو َج ْنـَدـلـ بن سهيل َيْر ُس ـ ُ ظهور المسلمين ،فقال سهيل :هذا أول ما أقاضيك عليه على أن ترده فقال النبي صلى ال عليه وسل م :)إنا ل م نقض الكتاب بعد(. فقال :فوال إذا ل أقاضيك على شيء أبدًا .فقال النبي صلى ال عليه وسل م :)فأجزه لي( .قال :ما أنا بمجيزه لك.
قال :)بلى فافعل( ،قال :ما أنا بفاعل .وقد ضرب سهيل أبا جندل في وجهه ،وأخذ بتلبيبه وجره ؛ ليرده إلى
المشركين ،وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته :يا معشر المسلمين ،أأرد إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)يا أبا جندل ،اصبر واحتسب ،فإن ال جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجا ،إنا قد عقدنا بيننا وبين القو م صلحًا ،وأعطيناه م على ذلك ،وأعطونا عهد ال فل نغدر به م(.
فوثب عمر بن الخطاب رضي ال عنه مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول :اصبر يا أبا جندل ،فإنما ه م المشركون ،إوانما د م أحده م د م كلب ،ويدني قائ م السيف منه ،يقول عمر :رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه، فضن الرجل بأبيه ،ونفذت القضية.
الّنْح ر ـ والَح ْلــق للِح ّل ـ عن العمر ة ولما فرغ رسول ال صلى ال عليه وسل م من قضية الكتاب قال :)قوموا فانحروا( ،فوال ما قا م منه م أحد حتى قال ثلث مرات ،فلما ل م يق م منه م أحد قا م فدخل على أ م سلمة ،فذكر لها ما لقي من الناس ،فقالت :يا رسول ال ،أتحب ذلك؟ اخرج ،ث م ل تكل م أحدًا كلمة حتى تنحر بدنك ،وتدعو حالقك فيحلقك ،فقا م فخرج فل م يكل م أحدًا منه م حتى فعل
ذلك ،نحر ُبْد َنـه ،ودعا حالقه فحلقه ،فلما رأي الناس ذلك قاموا فنحروا ،وجعل بعضه م يحلق بعضًا ،حتى كاد بعضه م ل كان يقتل بعضًا غمًا ،وكانوا نحروا البدنة عن سبعة ،والبقر ة عن سبعة ،ونحر رسول ال صلى ال عليه وسل م جم ً
لبي جهل ،كان في أنفه ُبَر ةٌ من فضة ،ليغيظ به المشركين ،ودعا رسول ال صلى ال عليه وسل م للمحلقين ثلثًا بالمغفر ة وللمقصرين مر ة .وفي هذا السفر أنزل ال فدية الذي لمن حلق رأسه ،بالصيا م ،أو الصدقة ،أو النسك ،في شأن كعب بن ُع ْجـ َر ـ .ة
الباء عن رد المهاجرات ث م جاء نسو ة مؤمنات فسأل أولياؤهن أن يردهن عليه م بالعهد الذي ت م في الحديبية ،فرفض طلبه م هذا ؛ بدليل أن الكلمة التي كتبت في المعاهد ة بصدد هذا البند هي :)وعلى أنه ل يأتيك منا رجل ،إوان كان على دينك إل رددته تُم هَـاِج َرــاٍت علينا( ،فل م تدخل النساء في العقد رأسًا .وأنزل ال في ذلك :}َيا أَّيَها الِّذ يـَن آَم ُنـوا ِإَذ اـ َج اــءُك ُ مـ اْلُم ْؤـ ِمـَنــا ُ ِ ِ صـِ م ـاْلَك َوـاـِفِر{ـ ]الممتحنة [10 :فكان رسول ال صلى ال عليه وسل م يمتحنهن بقوله تعالى: َفاْم تَـح ُنــوُهّن{ ،حتى بلغ }بِع َ
تُيَبايِْع َنـَكـ َع لَــى َأن ّل ُيْش ِرـْكـَنـِباللِّه َش ْيـًئـاـ {...إلخ ]الممتحنة ،[12 :فمن أقرت بهذه الشروط قال }ِإَذ اـ َج اــءَك اْلُم ْؤـ ِمـَنــا ُ لها :)قد بايعتك( ،ث م ل م يكن يردهن. وطلق المسلمون زوجاته م الكافرات بهذا الحك م .فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك ،تزوج بإحداهما معاوية، وبالخري صفوان بن أمية.
ماذا يتمخض عن بنود المعاهد ة هذا هو صلح الحديبية ،ومن سبر أغوار بنوده مع خلفياته ل يشك أنه فتح عظي م للمسلمين ،فقريش ل م تكن تعترف بالمسلمين أي اعتراف ،بل كانت تهـدف استئصـال شأفته م ،وتنتظر أن تشهد يومًا ما نهايته م ،وكانت تحاول بأقصي
قوتها الحيلولة بين الدعو ة السلمية وبين الناس ،بصفتها ممثلة الزعامة الدينية والصدار ة الدنيوية في جزير ة العرب،
ومجرد الجنوح إلى الصلح اعتراف بقو ة المسلمين ،وأن قريشًا ل تقدر على مقاومته م ،ث م البند الثالث يدل بفحواه على
أن قريشًا نسيت صدارتها الدنيوية وزعامتها الدينية ،وأنها لتهمها الن إل نفسها ،أما سائر الناس وبقية جزير ة العرب
ل فلو دخلت في السل م بأجمعها ،فليه م ذلك قريشًا ،ول تتدخل في ذلك بأي نوع من أنواع التدخل .أليس هذا فش ً ذريعًا بالنسبة إلى قريش؟ وفتحا مبينًا بالنسبة إلى المسلمين؟ إن الحروب الدامية التي جرت بين المسلمين وبين
أعدائه م ل م تكن أهدافها ـ بالنسبة إلى المسلمين ـ مصادر ة الموال إواباد ة الرواح ،إوافناء الناس ،أو إكراه العدو على اعتناق السل م ،إوانما كان الهدف الوحيد الذي يهدفه المسلمون من هذه الحروب هو الح ـرية الكاملة للناس فـي
العــقيد ة والــدين } فََمنـ َش اـء َفْلُيْؤ ِم ـنـَو َم ـنـَش اـء َفْلَيْك فُـر{ ]الكهف .[29 :ل يحول بينه م وبين ما يريدون أي قو ة من القوات ،وقدحصل هذا الهدف بجميع أجزائه ولوازمه ،وبطريق ربما ل يحصل بمثله في الحروب مع الفتح المبين، وقد كسب المسلمون لجل هذه الحرية نجاحًا كبي ًار في الدعو ة ،فبينما كان عدد المسلمين ل يزيد على ثلثة آلف قبل الهدنة صار عدد الجيش السلمي في سنتين عند فتح مكة عشر ة آلف.
أما البند الثاني فهو جزء ثان لهذا الفتح المبين ،فالمسلمون ل م يكونوا بادئين بالحروب ،إوانما بدأتها قريش ،يقول ال تعالى :}َوُه م َبَد ُؤـوـُك ْ مـَأّو َل ـ َم ّرـٍ ة{ ]التوبة ،[13 :أما المسلمون فل م يكن المقصود من دورياته م العسكرية إل أن تفيق قريش عن غطرستها وصدها عن سبيل ال ،وتعمل معه م بالمساوا ة ،كل من الفريقين يعمل على شاكلته ،فالعقد
بوضع الحرب عشر سنين حد لهذه الغطرسة والصد ،ودليل على فشل من بدأ بالحرب وعلى ضعفه وانهياره. أما البند الول فهو حد لصد قريش عن المسجد الحرا م ،فهو أيضًا فشل لقريش ،وليس فيه ما يشفي قريشًا سوي أنها نجحت في الصد لذلك العا م الواحد فقط.
أعطت قريش هذه الخلل الثلث للمسلمين ،وحصلت بإزائها خلة واحد ة فقط ،وهي ما في البند ال اربــع ،ولـكن تلك الخلة تافهة جدًا ،ليس فيها شيء يضر بالمسلمين ،فمعلو م أن المسل م ما دا م مسلمًا ل يفر عن ال ورسوله ،وعن
مدينة السل م ،ول يفر إل إذا ارتد عن السل م ظاه ًار أو باطنًا ،فإذا ارتد فل حاجة إليه للمسلمين ،وانفصاله من
المجتمع السلمي خير من بقائه فيه ،وهذا الذي أشار إليه رسول ال صلى ال عليه وسل م بقوله :)إنه من ذهب منا إليه م فأبعده ال( .وأما من أسل م من أهل مكة فهو إوان ل م يبق للجوئه إلى المدينة سبيل لكن أرض ال واسعة ،أل م تكن الحبشة واسعة للمسلمين حينما ل م يكن يعرف أهل المدينة عن السل م شيئاً؟ وهذا الذي أشار إليه النبي بقوله:
)ومن جاءنا منه م سيجعل ال له فرجًا ومخرجًا(.
والخذ بمثل هذا الحتفاظ ،إوان كان مظهر العتزاز لقريش ،لكنه في الحقيقة ينبئ عن شد ة انزعاج قريش وهلعه م وَخ َوـِرــه م،وعن شد ة خوفه م على كيانه م الوثني ،وكأنه م كانوا قد أحسوا أن كيانه م اليو م على شفا ُج ُرـفـهار ل بد له من الخذ بمثل هذا الحتفاظ .وما سمح به النبي صلى ال عليه وسل م من أنه ل يسترد من فّر إلى قريش من ل على أنه يعتمد على تثبيت كيانه وقوته كمال العتماد ،ول يخاف عليه من مثل هذا المسلمين ،فليس هذا إل دلي ً الشرط.
حزن المسلمين ومناقشة عمر النبي صلى ال عليه وسل م هذه هي حقيقة بنود هذ الصلح ،لكن هناك ظاهرتان عمت لجلهما المسلمين كآبة وحزن شديد. الولي :أنه كان قد أخبره م أنا سنأتي البيت فنطوف به ،فما له يرجع ول م يطف به؟ الثانية :أنه رسول ال صلى ال عليه وسل م وعلى الحق ،وال وعد إظهار دينه ،فما له قبل ضغط قريش ،وأعطي الّد نِـّيَة في الصلح؟ كانت هاتان الظاهرتان مثار الريب والشكوك والوساوس والظنون ،وصارت مشاعر المسلمين لجلهما جريحة ،بحيث غلب اله م والحزن على التفكير في عواقب بنود الصلح.ولعل أعظمه م حزنًا كان عمر بن الخطاب ،فقد جاء إلى
النبي صلى ال عليه وسل م وقال :يا رسول ال ،ألسنا على حق وه م على باطل؟ قـال :)بلى( .قـال :أليس قتلنا في الجنة وقتله م في النار؟ قال :)بلي( .قال :ففي م نعطي الدنية في ديننا ،ونرجع ولما يحك م ال بيننا وبينه م؟ قال :)يا
ابن الخطاب ،إني رسول ال ولست أعصيه ،وهو ناصري ولن يضيعني أبدًا( .قال :أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال :)بلي ،فأخبرتك أنا نأتيه العا م؟( قال :ل .قال :)فإنك آتيه ومطوف به(.
ث م انطلق عمر متغيظا فأتي أبا بكر ،فقال له كما قال لرسول ال صلى ال عليه وسل م ،ورد عليه أبو بكر ،كما رد عليه رسول ال صلى ال عليه وسل م سواء ،وزاد :فاستمسك بَغْر ِزــهحتى تموت ،فوال إنه لعلى الحق.
ث م نزلت :}ِإّنا فَتَْح َنـاـ لََك فَتًْح ا ـ ّم بِـيًناـ {...إلخ ]سور ة الفتح ،[1:فأرسل رسول ال إلى عمر فأقرأه إياه .فقال :يا رسول ال ،أو فتح هو؟ قال :)نع م( .فطابت نفسه ورجع.
ل ،مازلت أتصدق وأصو م وأصلي وأعتق من ث م ند م عمر على ما فرط منه ندمًا شديدًا ،قال عمر :فعملت لذلك أعما ً الذي صنعت يومئذ ،مخافة كلمي الذي تكلمت به ،حتى رجوت أن يكون خي ًار.
انحلت أزمة المستضعفين ولما رجع رسول ال صلى ال عليه وسل م إلى المدينة ،واطمأن بها ،انفلت رجل من المسلمين ،ممن كان يعذب في مكة ،وهو أبو ب ِ ص ي ــر ،رجل من ثقيف حليف لقريش ،فأرسلوا في طلبه رجلين ،وقالوا للنبي صلى ال عليه وسل م: َ العهد الذي جعلت لنا .فدفعه النبي صلى ال عليه وسل م إلى الرجلين ،فخرجا به حتى بلغا ذا الُح لَـْي فَـة ،فنزلوا يأكلون
من تمر له م ،فقال أبو بصير لحد الرجلين :وال إني لري سيفك هذا يا فلن جيدًا ،فاستله الخر فقال :أجل ،وال تـ فقال أبو بصير :أرني أنظر إليه ،فأمكنه منه ،فضربه حتى برد. تـبه ث م َج ّرـْبـ ُ. إنه لجيد ،لقد َج ّرـْبـ ُ
وفر الخر حتى أتي المدينة ،فدخل المسجد يعدو ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م حين رآه :)لقد رأى هذا ذع ًار( ،فلما انتهي إلى النبي صلى ال عليه وسل م قال :قُِتل صاحبي ،إواني لمقتول ،فجاء أبو بصير وقال :يا نبي
ال ،قد وال أْو فَــي ال ذمتك ،قد رددتني إليه م ،ث م أنجاني ال منه م ،قال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)ويل أمه، ف البحر ،وينفلت منه م أبو ِم ْسـَعـرـ َح ْر ـٍب ـلو كان له أحد( ،فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليه م ،فخرج حتى أتي ِس ي ـ َ جندل بن سهيل ،فلحق بأبي بصير ،فجعل ل يخرج من قريش رجل قد أسل م إل لحق بأبي بصير ،حتى اجتمعت منه م عصابة .فو ال ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشا م إل اعترضوا لها ،فقتلوه م وأخذوا أمواله م .فأرسلت قريش إلى النبي صلى ال عليه وسل م تناشده ال والرح م لما أرسل ،فمن أتاه فهو آمن ،فأرسل النبي صلى ال عليه وسل م إليه م ،فقدموا عليه المدينة.
إسل م أبطال من قريش وفي سنة 7من الهجر ة بعد هذا الصلح أسل م عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة ،ولما حضروا عند النبـي صلى ال عليه وسل م قـال :)إن مكـة قد ألقت إلينا أفلذ كبدها(.
المرحلة الثانية :طور جديد مكاتبة الملوك والمراء الكتاب إلى النجاشي ملك الحبشة الكتاب إلى المقوتقس ملك مصر الكتاب إلى كسرى ملك فارس الكتاب إلى تقيصر ملك الروم ساِوي الكتاب إلى المنذر بن َ الكتاب إلى َهْوَذة بن على صاحب اليمامة الكتاب إلى الحارث بن أبي َ شِمر الغساني صاحب دمش ق الكتاب إلى ملك ُعَمان
إن صلح الحديبية كان بداية طور جديد في حيا ة السل م والمسلمين ،فقد كانت قريش أقوي قو ة وأعندها وألدها في عداء السل م ،وبانسحابها عن ميدان الحرب إلى رحاب المن والسل م انكسر أقوي جناح من أجنحة الحزاب الثلثة طـَفان واليهود ـ ولما كانت قريش ممثلة للوثنية ،وزعيمته م في ربوع جزير ة العرب انخفضت حد ة مشاعر ـ قريش وَغ َ
الوثنيين ،وانهارت نزعاتها العدائية إلى حد كبير ،ولذلك ل نري لغطفان استف از ًاز كبي ًار بعد هذه الهدنة ،وجل ما جاء
منه م إنما جاء من قبل إغراء اليهود.
أما اليهود فكانوا قد جعلوا خيبر بعد جلئه م عن يثرب وك ار للدس والتآمر ،وكانت شياطينه م تبيض هناك وتفرخ، وتؤجج نار الفتنة ،وتغري العراب الضاربة حول المدينة ،وتبيت للقضاء على النبي صلى ال عليه وسل م والمسلمين، أو للحاق الخسائر الفادحة به م ،ولذلك كان أول إقدا م حاس م من النبي صلى ال عليه وسل م بعد هذا الصلح هو شن الحرب الفاصلة على هذا الوكر. ث م إن هذه المرحلة التي بدأت بعد الصلح أعطت المسلمين فرصة كبير ة لنشر الدعو ة السلمية إوابلغها ،وقد تضاعف نشاط المسلمين في هذا المجال ،وبرز نشاطه م في هذا الوجه على نشاطه م العسكري ؛ ولذلك نري أن نقس م هذه المرحلة إلى قسمين: 1ـ النشاط في مجال الدعو ة ،أو مكاتبة الملوك والمراء. 2ـ النشاط العسكري. وقبل أن نتابع النشاط العسكري في هذه المرحلة ،نتناول موضوع مكاتبة الملوك والمراء ؛ إذ الدعو ة السلمية هي المقدمة طبعًا ،بل ذلك هو الهدف الذي عاني له المسلمون ما عانوه من المصائب والل م ،والحروب والفتن ،والقلقل والضطرابات.
مكاتبة الملوك والمراء في أواخر السنة السادسة حين رجع رسول ال صلى ال عليه وسل م من الحديبية كتب إلى الملوك يدعوه م إلى السل م. ولما أراد أن يكتب إلى هؤلء الملوك قيل له :إنه م ل يقرءون كتابا إل وعليه خات م ،فاتخذ النبي صلى ال عليه وسل م خاتمًا من فضة ،نقشه :محمد رسول ال صلى ال عليه وسل م ،وكان هذا النقش ثلثة أسطر :محمد سطر ،ورسول
سطر ،وال سطر ،هــكذا.
ل له م معرفة وخبر ة ،وأرسله م إلى الملوك ،وقد جز م العلمة المنصورفوري أن النبي صلى ال واختار من أصحابه رس ً عليه وسل م أرسل هؤلء الرسل غر ة المحر م سنة سبع من الهجر ة قبل الخروج إلى خيبر بأيا م .وفيما يلي نصوص هذه
الكتب ،وبعض ما تمخضت عنه.
1ـ الكتاب إلى النجاشي ملك الحبشة: ص َح ـَمـةـبن الْب َجـ رــ ،كتب إليه النبي صلى ال عليه وسل م مع عمرو بن أمية ال ّ ض ْمـِرــيفي آخر وهذا النجاشي اسمه أ ْ سنة ست أو في المحر م سنة سبع من الهجر ة .وقد ذكر الطبري نص الكتاب ،ولكن النظر الدقيق في ذلك النص، يفيد أنه ليس بنص الكتاب الذي كتبه صلى ال عليه وسل م بعد الحديبية ،بل لعله نص كتاب بعثه مع جعفر حين خرج هو وأصحابه مهاجرين إلى الحبشة في العهد المكي ،فقد ورد في آخر الكتاب ذكر هؤلء المهاجرين بهذا اللفظ: )وقد بعثت إليك م ابن عمي جعف اًر ومعه نفر من المسلمين ،فإذا جاءك فأقره م ودع التجبر(. وروي البيهقي عن ابن إسحاق نص كتاب كتبه النبي صلى ال عليه وسل م إلى النجاشي ،وهو هذا: )بس م ال الرحمن الرحي م .هذا كتاب من محمد رسول ال إلى النجاشي ،الصح م عظي م الحبشة ،سل م على من اتبع الهدي ،وآمن بال ورسوله ،وشهد أن ل إله إلال وحده ل شريك له ،ل م يتخذ صاحبه ول ولدًا ،وأن محمًد اـ عبده ورسوله ،وأدعوك بدعاية السل م ،فإني أنا رسوله فأسل م تسل م ،}يا أَْه َلـ اْلِك تَـاِب تَعاَلو ْاـ ِإَلى َك لَـم ٍةـ س وـاء بي نـناـ و ب ـي نـُك مـأَلّ َ َ َ َ َْ ََ َ َْ َ ْ َ ْ ِ ّ ِ ل ُنْش ِرـَكـبِِه َش ْيـًئـاـ و َ ِ ضـ َنــا َبْع ضـًا َأْر َبــاًباـّم نـ ُد وـِن اللّه فَِإن تََو لـْو ْاـفَُقولُوْا اْش هَـُد وْـا بِأَّنا ُم ْسـ لـُم وـَن{ فإن َنْع ُبـَد ِإلّ اللَّه َو َ ل َيتّخ َذـ َبْع ُ َ أبيت فعليك إث م النصارى من قومك(.
وقد أورد المحقق الكبير الدكتور حميد ال ـ باريس ـ نص كتاب قد عثر عليه في الماضي القريب ـ بمثل ما أورده ابن القي م مع الختلف في كلمة فقط ـ وبذل الدكتور في تحقيق ذلك النص جهدًا بليغًا ،واستعان في ذلك كثي ًار باكتشافات
العصر الحديث ،وأورد صورته في الكتاب وهو هكذا:
)بس م ال الرحمن الرحي م .من محمد رسول ال إلى النجاشي عظي م الحبشة ،سل م على من اتبع الهدى ،أما بعد:
فإني أحمد إليك ال الذي ل إله إل هو الملك القدوس السل م المؤمن المهيمن ،وأشهد أن عيسي بن مري م روح ال وكلمته ألقاها إلى مري م البتول الطيبة الحصينة ،فحملت بعيسي من روحه ونفخه ،كما خلق آد م بيده ،إواني أدعو إلى ال وحده ل شريك له ،والموال ة على طاعته ،وأن تتبعني ،وتؤمن بالذي جاءني ،فإني رسول ال صلى ال عليه وسل م ،إواني أدعوك وجنودك إلى ال عز وجل ،وقد بلغت ونصحت ،فاقبل نصيحتى ،والسل م على من اتبع الهدى(. وأكد الدكتور المحتر م أن هذا هو نص الكتاب الذي كتبه النبي صلى ال عليه وسل م إلى النجاشي بعد الحديبية ،أما صحة هذا النص فل شك فيها بعد النظر في الدلئل ،وأما أن هذا الكتاب هو الذي كتب بعد الحديبية فل دليل عليه ،والذي أورد البيهقي عن ابن إسحاق أشبه بالكتب التي كتبها النبي صلى ال عليه وسل م إلى ملوك وأمراء النصاري بعد الحديبية ،فإن فيه الية الكريمة :} َيا أَْه َلـ اْلِك تَـاِب تََعاَلْو ْاـ ِإَلى َك لَـَم ٍةـ {...إلخ ،كما كان دأبه في تلك الكتب ،وقد ورد فيه اس م الصحمة صريحًا ،وأما النص الذي أورده الدكتور حميد ال ،فالغلب عندي أنه نص
الكتاب الذي كتبه النبي صلى ال عليه وسل م بعد موت أصحمة إلى خليفته ،ولعل هذا هو السبب في ترك الس م.
وهذا الترتيب ليس عندي عليه دليل قطعي سوي الشهادات الداخلية التي تؤديها نصوص هذه الكتب .والعجب من الدكتور حميد ال أنه جز م بأن النص الذي أورده البيهقي عن ابن عباس هو نص الكتاب الذي كتبه النبي صلى ال عليه وسل م بعد موت أصحمة إلى خليفته مع أن اس م أصحمة وارد في هذا النص صريحًا ،والعل م عند ال. ولما بلغ عمرو بن أمية الضمري كتاب النبي صلى ال عليه وسل م إلى النجاشي أخذه النجاشي ،ووضعه على عينه، ونزل عن سريره على الرض ،وأسل م على يد جعفر بن أبي طالب ،وكتب إلى النبي صلى ال عليه وسل م بذلك، وهاك نصه: ]بس م ال الرحمن الرحي م .إلى محمد رسول ال من النجاشي أصحمة ،سل م عليك يا نبي ال من ال ورحمة ال وبركاته ،ال الذي ل إله إل هو ،أما بعد: فقد بلغني كتابك يا رسول ال فيما ذكرت من أمر عيسي ،فورب السماء والرض إن عيسي ل يزيد على ما ذكرت تُْفُر وـقا ،إنه كما قلت ،وقد عرفنا ما بعثت به إلينا ،وقد قرينا ابن عمك وأصحابك ،فأشهد أنك رسول ال صادقًا
مصدقًا ،وقد بايعتك ،وبايعت ابن عمك ،وأسلمت على يديه ل رب
العالمين( .
وكان النبي صلى ال عليه وسل م قد طلب من النجاشي أن يرسل جعف ًار ومن معه من مهاجري الحبشة ،فأرسله م في سفينتين مع عمرو بن أمية الضمري ،فقد م به م على النبي صلى ال عليه وسل م وهو بخيبر.
وتوفي النجاشي هذا في رجب سنة تسع من الهجر ة بعد تبوك ،ونعاه النبي صلى ال عليه وسل م يو م وفاته ،وصلي عليه صل ة الغائب ،ولما مات وتخلف على عرشه ملك آخر كتب إليه النبي صلى ال عليه وسل م كتابًا آخر ،ول
يدري هل أسل م أ م ل؟.
2ـ الكتاب إلى المقوقس ملك مصر: وكتــب النبــي صلى ال عليه وسل م إلى ُج َرـْيـجـبـن َم تّـي الملقب بالُم َقـْو ِقـسـملك مصر والسكندرية: )بس م ال الرحمن الرحي م من محمد عبد ال ورسوله إلى المقوقس عظي م القبط ،سل م على من اتبع الهدى ،أما بعد، فإني أدعوك بدعاية السل م ،أسل م تسل م ،وأسل م يؤتك ال أجرك مرتين ،فإن توليت فإن عليك إث م أهل القبــط ،}َيا أَْه َلـ ل ُنْش ِرـَكـبِِه َش ْيـًئـاـ و َ ِ ضـ َنــا َبْع ضـًا َأْر َبــاًباـّم نـ ُد وـِن اللِّه اْلِك تَـاِب تََعاَلْو ْاـ ِإَلى َك لَـَم ٍةـ َس َوـاء َبْي َنـَناـ َو َبـْي َنـُك ْ مـأَلّ َنْع ُبـَد ِإلّ اللَّه َو َ ل َيتّخ َذـ َبْع ُ َ فَِإن تََو لّـْو ْاـفَُقولُوْا اْش هَـُد وْـا بِأَّنا ُم ْسـ ِلـُم وـَن{( واختار لحمل هذا الكتاب حاطب بن أبي َب ْلـتََعةـ .فلما دخل حاطب على المقوقس قال له :إنه كان قبلك رجل يزع م أنه الرب العلى ،فأخذه ال نكال الخر ة والولى ،فانتق م به ث م انتق م منه ،فاعتبر بغيرك ،ول يعتبر غيرك بك. فقال المقوقس :إن لنا دينا لن ندعه إل لما هو خير منه. فقال حاطب :ندعوك إلى دين السل م الكافي به ال فَْقَد ما ِس وـاه ،إن هذا النبي دعا الناس فكان أشده م عليه قريش، وأعداه م له اليهود ،وأقربه م منه النصاري ،ولعمري ما بشار ة موسي بعيسي إل كبشار ة عيسي بمحمد ،وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إل كدعائك أهل التورا ة إلى النجيل ،فكل نبي أدرك قومًا فه م أمته ،فالحق عليه م أن يطيعوه ،وأنت ممن أدركه هذا النبي ،ولسنا ننهاك عن دين المسيح ،ولكنا نأمرك به.
فقال المقوقس :إني قد نظرت في أمر هذا النبي ،فوجدته ل يأمر بمزهود فيه .ول ينهي عن مرغوب فيه ،ول م أجده بالساحر الضال ،ول الكاهن الكاذب ،ووجدت معه آية النبو ة بإخراج الخبء والخبار بالنجوي ،وسأنظر. وأخذ كتاب النبي صلى ال عليه وسل م ،فجعله في ُح ّ قـ من عاج ،وخت م عليه ،ودفعه إلى جارية له ،ث م دعا كاتبًا له يكتب بالعربية ،فكتب إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م: )بس م ال الرحمن الرحي م .لمحمد بن عبد ال من المقوقس عظي م القبط ،سل م عليك ،أما بعد: فقد قرأت كتابك ،وفهمت ما ذكرت فيه ،وما تدعو إليه ،وقد علمت أن نبيًا بقي ،وكنت أظن أنه يخرج بالشا م ،وقد
أكرمت رسولك ،وبعثت إليك بجاريتين ،لهما مكان في القبط عظي م ،وبكسو ة ،وأهديت بغلة لتركبها ،والسل م عليك(.
ول م يزد على هذا ول م يسل م ،والجاريتان مارية ،وسيرين ،والبغلة ُد ْلـُد لـ ،بقيت إلى زمن معاوية ،واتخذ النبي صلى ال عليه وسل م مارية سرية له ،وهي التي ولدت له إبراهي م .وأما سيرين فأعطاها لحسان بن ثابت النصاري.
3ـ الكتاب إلى كسرى ملك فارس:
وكتب النبي صلى ال عليه وسل م إلى كسرى ملك فارس: )بس م ال الرحمن الرحي م .من محمد رسول ال إلى كسرى عظي م فـارس ،سـل م على من اتبع الهدي ،وآمن بال ورسوله ،وشهد أن ل إله إل ال وحده ل شريك له ،وأن محمدًا عبده ورسوله ،وأدعوك بدعاية ال ،فإني أنا رسول ال إلى الناس كافة ،لينذر من كان حيًا ويحق القول على الكافرين ،فأسل م تسل م ،فإن أبيت فإن إث م المجوس عليك(.
واختار لحمل هذا الكتاب عبد ال بن حذافة السهمي ،فدفعه السهمي إلى عظي م البحرين ،ول ندري هل بعث به عظي م ل من رجالته ،أ م بعث عبد ال السهمي ،وأّيا ما كان فلما قرئ الكتاب على كسرى مزقه ،وقال في البحرين رج ً غطرسة :عبد حقير من رعيتي يكتب اسمه قبلي ،ولما بلغ ذلك رسول ال صلى ال عليه وسل م قال :)مزق ال ملكه( ،وقد كان كما قال ،فقد كتب كسرى إلى َباَذ اـن عامله على اليمن :ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين من عندك جلدين فليأتياني به .فاختار باذان رجلين ممن عنده ،أحدهما :قهرمانه بانويه ،وكان حاسبًا كاتبًا بكتاب
فارس .وثانيهما :خرخسرو من الفرس ،وبعثهما بكتاب إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م يأمر أن ينصرف معهما
إلى كسري ،فلما قدما المدينة ،وقابل النبي صلى ال عليه وسل م ،قال أحدهما :إن شاهنشاه ]ملك الملوك[ كسرى قد ل توعده فيه ،فأمرهما كتب إلى الملك باذان يأمره بأن يبعث إليك من يأتيه بك ،وبعثني إليك لتنطلق معي ،وقال قو ً النبي صلى ال عليه وسل م أن يلقياه غدًا.
وفي ذلك الوقت كانت قد قامت ثور ة كبير ة ضد كسرى من داخل بيته بعد أن لقت جنوده هزيمة منكر ة أما م جنود قيصر ،فقد قا م شيرويه بن كسرى على أبيه فقتله ،وأخذ الملك لنفسه ،وكان ذلك في ليلة الثلثاء لعشر مضين من جمادي الولي سنة سبع ،وعل م رسول ال صلى ال عليه وسل م الخبر من الوحي ،فلما غدوا عليه أخبرهما بذلك. فقال :هل تدري ما تقول؟ إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر ،أفنكتب هذا عنك ،ونخبره الملك .قال :)نع م أخبراه ذلك عني ،وقول له :إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ كسرى ! وينتهي إلى منتهي الخف والحافر ،وقول له :إن أسلمت أعطيتك ما تحت يدك ،وملكتك على قومك من البناء( ،فخرجا من عنده حتى قدما على باذان فأخبراه الخبر ،وبعد قليل جاء كتاب بقتل شيرويه لبيه ،وقال له شيرويه في كتابه :انظر الرجل الذي كان كتب فيه أبي إليك ،فل تهجه حتى يأتيك أمري. وكان ذلك سببًا في إسل م باذان ومن معه من أهل فارس باليمن. 4ـ الكتاب إلى قيصر ملك الرو م: روى البخاري ـ ضمن حديث طويل ـ نص الكتاب الذي كتبه النبي صلى ال عليه وسل م إلى ملك الرو م هرقل ،وهو هذا: )بس م ال الرحمن الرحي م .من محمد عبد ال ورسوله إلى هرقل عظي م الرو م ،سل م على من اتبع الهدي ،أسل م تسل م، أسل م يؤتك ال أجرك مرتين ،فإن توليت فإن عليك إث م الريسيين } َيا أَْه َلـ اْلِك تَـاِب تََعاَلْو ْاـ ِإَلى َك لَـَم ٍةـ َس َوـاء َبْي َنـَناـ َو َبـْي َنـُك ْ مـ
ل ُنْش ِرـَكـبِِه َش ْيـًئـاـ و َ ِ ضـ َنــا َبْع ضـًا َأْر َبــاًباـّم نـ ُد وـِن اللِّه فَِإن تََو لّـْو ْاـفَُقولُوْا اْش هَـُد وْـا بِأَّنا ُم ْسـ ِلـُم وـَن{( أَلّ َنْع ُبـَد ِإلّ اللَّه َو َ ل َيتّخ َذـ َبْع ُ َ ]آل عمران.[64: واختار لحمل هذا الكتاب َد ْحـ َيــة بن خليفة الكلبي ،وأمره أن يدفعه إلى عظي م بصري ،ليدفعه إلى قيصر ،وقد روي البخاري عن ابن عباس أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش ،كانوا تجا ًار بالشا م ،في المد ة التي كان رسول ال صلى ال عليه وسل م ماّد فيها أبا سفيان وكفار قريش ،فأتوه وه م بإيلياء ،فدعاه م في
مجلسه وحوله عظماء الرو م ،ث م دعاه م ودعا ترجمانه فقال :أيك م أقرب نسبًا بهذا الرجل الذي يزع م أنه نبي؟ قال أبو سفيان :فقلت :أنا أقربه م نسبًا ،فقال :أدنوه مني ،وقربوا أصحابه ،فاجعلوه م عند ظهره ،ث م قال لترجمانه :إني سائل
هذا عن هذا الرجل ،فإن كذبني فكذبوه ،فو ال لول الحياء من أن يأثروا على كذبًا لكذبت عليه.
ث م قال :أول ما سألني عنه أن قال :كيف نسبه فيك م؟ فقلت :هو فينا ذو نسب ،قال :فهل قال هذا القول منك م أحد قط قبله؟ قلت :ل .قال :فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت :ل .قال :فأشراف الناس اتبعوه أ م ضعفاؤه م؟ قلت :بل ضعفاؤه م .قال :أيزيدون أ م ينقصون؟ قلت :بل يزيدون .قال :فهل يرتد أحد منه م سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه: قلت :ل .قال :فهل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت :ل .قال :فهل يغدر؟ قلت :ل ،ونحن منه في مد ة ل ندري ما هو فاعل فيها ـ قال :ول م تمكنني كلمة أدخل فيها شيئًا غير هذه الكلمة ـ قال :فهل قاتلتموه؟ قلت :نع م .قال:
فكيف كان قتالك م إياه؟ قلت :الحرب بيننا وبينه سجال ،ينال منا وننال منه .قال :ماذا يأمرك م؟ قلت :يقول :)اعبدوا ال وحده ،ول تشركوا به شيئًا ،واتركوا ما يقول آباؤك م( ،ويأمرنا بالصل ة والصدق والعفاف والصلة. فقال للترجمان :قل له :سألتك عن نسبه ،فذكرت أنه فيك م ذو نسب ،وكذلك الرسل تبعث في نسب من قومها.
وسألتك :هل قال أحد منك م هذا القول قبله؟ فذكرت أن ل .قلت :لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت :رجل يأتسي بقول قيل قبله .وسألتك :هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن ل .فقلت :فلو كان من آبائه من ملك قلت :رجل يطلب ملك أبيه .وسألتك :هل كنت م تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن ل ،فقد أعرف أنه ل م يكن ليذر الكذب على الناس ،ويكذب على ال .وسألتك :أشراف الناس اتبعوه أ م ضعفاؤه م؟ فذكرت أن ضعفاءه م اتبعوه ،وه م أتباع الرسل .وسألتك :أيزيدون أ م ينقصون؟ فذكرت أنه م يزيدون ،وكذلك أمر اليمان حتى يت م .وسألتك :أيرتد أحد سخطه لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن ل ،وكذلك اليمان حين تخالط بشاشته القلوب .وسألتك :هل يغدر؟ فذكرت أن ل ،وكذلك الرسل ل تغدر.وسألتك :بماذا يأمر؟ فذكرت أنه يأمرك م أن تعبدوا ال ،ول تشركوا به شيئًا
وينهاك م عن عباد ة الوثان ،ويأمرك م بالصل ة والصدق والعفاف ،فإن كان ما تقول حقًا فسيملك موضع قدمي هاتين،
وقد كنت أعل م أنه خارج ،ول م أكن أظنه أنه منك م ،فلو أني أعل م أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ،ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه.
ث م دعا بكتاب رسول ال صلى ال عليه وسل م فقرأ ،فلما فرغ من قراء ة الكتاب ارتفعت الصوات عنده وكثر اللغط، وأمر بنا فأخرجنا ،قال :فقلت لصحابي حين أخرجنا :لقد أِم َرـ أْم ُرـ ابن أبي َك ْبـَشـةـ ،إنه ليخافه ملك بني الصفر ، فما زلت موقنا بأمر رسول ال صلى ال عليه وسل م أنه سيظهر حتى أدخل ال على السل م.
هذا ما رآه أبو سفيان من أثر هذا الكتاب على قيصر ،وقد كان من أثره عليه أنه أجاز دحية بن خليفة الكلبي ،حامل كتاب الرسول صلى ال عليه وسل م بمال وكسو ة ،ولما كان دحية بِح ْسـَمـيـفي الطريق لقيه ناس من ُج َذـاـ م ،فقطعوها عليه ،فل م يتركوا معه شيئًا ،فجاء رسول ال صلى ال عليه وسل م قبل أن يدخل بيته ،فأخبره ،فبعث رسول ال صلى ال عليه وسل م زيد بن حارثة إلى حسمي ،وهي وراء وادي القري ،في خمسمائة رجل ،فشن زيد الغار ة على جذا م،
ل ذريعًا ،واستاق َنَعمه م ونساءه م ،فأخذ من النع م ألف بعير ،ومن الشاء خمسة آلف ،والسبي مائة من فقتل فيه م قت ً النساء والصبيان.
وكان بين النبي صلى ال عليه وسل م وبين قبيلة جذا م موادعة ،فأسرع زيد بن ِر فَـاعة الجذامي أحد زعماء هذه القبيلة بتقدي م الحتجاج إلى النبي صلى ال عليه وسل م ،وكان قد أسل م هو ورجال من قومه ،ونصروا دحية حين قطع عليه الطريق فقبل النبي صلى ال عليه وسل م احتجاجه ،وأمر برد الغنائ م والسبي. وعامة أهل المغازي يذكرون هذه السرية قبل الحديبية ،وهو خطأ واضح ،فإن بعث الكتـاب إلى قيـصر كـان بعد الحديبية ؛ ولذا قال ابن القي م :هذا بعد الحديبية بل شك.
5ـ الكتاب إلى المنذر بن َس اـِوي: وكتب النبي صلى ال عليه وسل م إلى المنذر بن ساوي حاك م البحرين كتابًا يدعوه فيه إلى السل م ،وبعث إليه العلء بن الحضرمي بذلك الكتاب ،فكتب المنذر إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م:
]أما بعد ،يا رسول ال ،فإني قرأت كتابك على أهل البحرين ،فمنه م من أحب السل م وأعجبه ،ودخل فيه ،ومنه م من كرهه ،وبأرضي مجوس ويهود ،فأحدث إلى في ذلك أمرك[. فكتب إليه رسول ال صلى ال عليه وسل م: )بس م ال الرحمن الرحي م .من محمد رسول ال إلى المنذر بن ساوي ،سل م عليك ،فإني أحمد إليك ال الذي ل إله إل هو ،وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ،أما بعد ،فإني أذكرك ال عز وجل ،فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه ،إوانه من يطيع رسلي ويتبع أمره م فقد أطاعني ،ومن نصح له م فقد نصح لي ،إوان رسلي قد أثنوا عليك خي ًرا ،إواني قد شفعتك
في قومك ،فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه ،وعفوت عن أهل الذنوب ،فاقبل منه م ،إوانك مهما تصلح فل م نعزلك عن عملك .ومن أقا م على يهودية أو مجوسية فعليه الجزية(.
6ـ الكتاب إلى َهْو َذ ـ ةـبن على صاحب اليمامة: وكتب النبي صلى ال عليه وسل م إلى هوذ ة بن على صاحب اليمامة:
)بس م ال الرحمن الرحي م .من محمد رسول ال إلى هوذ ة بن علي ،سل م على من اتبع الهدى ،واعل م أن ديني سيظهر إلى منتهي الخف والحافر ،فأسل م تسل م ،وأجعل لك ما تحت يديك(. واختار لحمل هذا الكتاب َس ِلـيط بن عمرو العامري ،فلما قد م سليط على هوذ ة بهذا الكتاب مختومًا أنزله وحياه ،وق أر
عليه الكتاب ،فرد عليه ردًا دون رد ،وكتب إلى النبي صلى ال عليه وسل م] :ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله ،والعرب
تهاب مكاني ،فاجعل لي بعض المر
أتبعك( ،وأجاز سليطاً بجائزة ،وكساه أثواباً من نسج هجر .
فقد م بذلك كله على النبي صلى ال عليه وسل م فأخبره ،وق أر النبي صلى ال عليه وسل م كتابه فقال :)لو سألني قطعة من الرض ما فعلت ،باد ،وباد ما في يديه( .فلما انصرف رسول ال من الفتح جاءه جبريل عليه السل م بأن هوذ ة مات ،فقال النبي صلى ال عليه وسل م :)أما إن اليمامة سيخرج بها كذاب يتنبي ،يقتل بعدي( ،فقال قائل :يا رسول ال ،من يقتله؟ فقال :)أنت وأصحابك( ،فكان كذلك؟.
7ـ الكتاب إلى الحارث بن أبي َش ِمـرـ الغساني صاحب دمشق: كتب إليه النبي صلى ال عليه وسل م: )بس م ال الرحمن الرحي م .من محمد رسول ال إلى الحارث بن أبي شمر ،سل م على من اتبع الهدى ،وآمن بال وصدق ،إواني أدعوك إلى أن تؤمن بال وحده ل شريك له ،يبقي لك ملكك(. واختار لحمل هذا الكتاب شجاع بن وهب من بني أسد بن خزيمة ،ولما أبلغه الكتاب رمي به وقال] :من ينزع ملكي مني؟ أنا سائر إليه[ ،ول م يسل م .واستأذن قيصر في حرب رسول ال صلى ال عليه وسل م فثناه عن عزمه ،فأجاز الحارث شجاع بن وهب بالكسو ة والنفقة ،ورده بالحسني.
8ـ الكتاب إلى ملك ُع َمـاـن: وكتب النبي صلى ال عليه وسل م كـتابًا إلى ملـك عمان َج ْي ـفَـر وأخيه عبد ابني الُج لَـْن َدـيـ ،ونصه: )بس م ال الرحمن الرحي م .من محمد رسول ال إلى جيفر وعبد ابني الجلندي ،سل م على من اتبع الهدي ،أما بعد: فإني أدعوكما بدعاية السل م ،أسلما تسلما ،فإني رسول ال صلى ال عليه وسل م إلى الناس كافة ،لنذر من كان حيًا ويحق القول على الكافرين ،فإنكما إن أقررتما بالسل م وليتكما ،إوان أبيتما ]أن تق ار بالسل م[ فإن ملككما زائل، وخيلي تحل بساحتكما ،وتظهر نبوتي على ملككما(.
واختار لحمل هذا الكتاب عمرو بن العاص رضي ال عنه قال عمرو :فخرجت حتى انتهيت إلى عمان ،فلما قدمتها عمدت إلى عبد ـ وكان أحل م الرجلين ،وأسهلهما خلقًا ـ فقلت :إني رسول رسول ال صلى ال عليه وسل م إليك إوالى أخيك ،فقال :أخي المقد م على بالسن والملك ،وأنا أوصلك إليه حتى يق أر كتابك ،ث م قال :وما تدعو إليه؟ قلت :أدعو إلى ال وحده ل شريك له ،وتخلع ما عبد من دونه ،وتشهد أن محمدًا عبده ورسوله .قال :يا عمرو ،إنك ابن سيد
قومك فكيف صنع أبوك؟ فإن لنا فيه قدو ة .قلت :مات ول م يؤمن بمحمد صلى ال عليه وسل م ،ووددت أنه كان أسل م وصدق به ،وقد كنت أنا على مثل رأيه حتى هداني ال للسل م .قال :فمتى تبعته؟ قلت :قريبًا .فسألني أين كان
إسلمك؟ قلت :عند النجاشي ،وأخبرته أن النجاشي قد أسل م .قال :وكيف صنع قومه بملكه؟ فقلت :أقروه واتبعوه. قال :والساقفة والرهبان تبعوه؟ قلت :نع م .قال :انظر يا عمرو ما تقول ،إنه ليس من خصلة في رجل أفضح له من الكذب .قلت :ما كذبت ،وما نستحله في ديننا ،ث م قال :ما أرى هرقل عل م بإسل م النجاشي.قلت :بلي ،قال :فبأي شيء علمت ذلك؟ قلت :كان النجاشي يخرج له خرجًا ،فلما أسل م وصدق بمحمد صلى ال عليه وسل م ،قال :ل وال لو سألني درهما واحدًا ما أعطيته ،فبلغ هرقل قوله ،فقال له الَيّناق أخوه :أتدع عبدك ل يخرج لك خرجًا ،ويدين بدين غيرك دينًا محدثًا؟ قال هرقل :رجل رغب في دين ،فاختاره لنفسه ،ما أصنع به؟ وال لول الضن بملكي لصنعت كما
صنع .قال :انظر ما تقول يا عمرو؟ قلت :وال صدقتك.
قال عبد :فأخبرني ما الذي يأمر به وينهي عنه؟ قلت :يأمر بطاعة ال عز وجل وينهي عن معصيته ،ويأمر بالبر وصلة الرح م ،وينهي عن الظل م والعدوان ،وعن الزنا ،وعن الخمر ،وعن عباد ة الحجر والوثن والصليب .قال :ما أحسن هذا الذي يدعو إليه ،لو كان أخي يتابعني عليه لركبنا حتى نؤمن بمحمد صلى ال عليه وسل م ونصدق به، ولكن أخي أضن بملكه من أن يدعه ويصير ذنبًا .قلت :إنه إن أسل م َم لّـَك هُـ رسول ال صلى ال عليه وسل م على قومه ،فأخذ الصدقة من غنيه م فيردها على فقيره م .قال :إن هذا لخلق حسن .وما الصدقة؟ فأخبرته بما فرض رسول ال صلى ال عليه وسل م في الصدقات في الموال ،حتى انتهيت إلى البل .قال :يا عمرو ،وتؤخذ من سوائ م مواشينا التي ترعي الشجر وترد المياه؟ فقلت :نع م ،فقال :وال ما أري قومي في بعد داره م وكثر ة عدده م يطيعون لهذا. قال :فمكثت ببابه أيامًا ،وهو يصل إلى أخيه فيخبره كل خبري ،ث م إنه دعاني يومًا فدخلت عليه ،فأخذ أعوانه
بضبعي فقال :دعوه ،فأرسلت فذهبت لجلس ،فأبوا أن يدعوني أجلس ،فنظرت إليه فقال :تكل م بحاجتك ،فدفعت إليه الكتاب مختومًا ،ففض خاتمه ،وق أر حتى انتهي إلى آخره ،ث م دفعه إلى أخيه فقرأه مثل قراءته ،إل أني رأيت أخاه أرق
منه ،قال :أل تخبرني عن قريش كيف صنعت؟ فقلت :تبعوه ،إما راغب في الدين ،إواما مقهور بالسيف .قال :ومن معه؟ قلت :الناس قد رغبوا في السل م واختاروه على غيره ،وعرفوا بعقوله م مع هدي ال إياه م أنه م كانوا في ضلل، فما أعل م أحدًا بقي غيرك في هذه الَح رـَج ةــ ،وأنت إن ل م تسل م اليو م وتبعته توطئك الخيل وتبيد خضراءك ،فأسل م تسل م،
ويستعملك على قومك ،ول تدخل عليك الخيل والرجال ،قال :دعني يومي هذا ،وارجع إلى غدًا.
فرجعت إلى أخيه فقال :يا عمرو ،إني لرجو أن يسل م إن ل م ي ِ ض ّنـ ـبملكه ،حتى إذا كان الغد أتيت إليه ،فأبي أن َ
يأذن لي .فانصرفت إلى أخيه ،فأخبرته أني ل م أصل إليه ،فأوصلني إليه ،فقال :إني فكرت فيما دعوتني إليه ،فإذا أنا
ل ليس كقتال من لقي. ل ما في يدي ،وهو لتبلغ خيله هاهنا ،إوان بلغت خيله لقيت قتا ً أضعف العرب إن ملكت رج ً
قلت :أنا خارج غدًا ،فلما أيقن بمخرجي خل به أخوه فقال :ما نحن فيما ظهر عليه ،وكل من أرسل إليه قد أجابه، فأصبح فأرسل إلى ،فأجاب إلى السل م هو وأخوه جميعًا ،وصدقا النبي صلى ال عليه وسل م ،وخليا بيني وبين الصدقة ،وبين الحك م فيما بينه م ،وكانا لي عونًا على من خالفني.
وسياق هذه القصة تدل على أن إرسال الكتاب إليهما تأخر كثي اًر عن كتب بقية الملوك ،والغلب أنه كان بعد الفتح. وبهذه الكتب كان النبي صلى ال عليه وسل م قد أبلغ دعوته إلى أكثر ملوك الرض ،فمنه م من آمن به ومنه م من كـفر ،ولكن شغل فكره هؤلء الكافرين ،وعرف لديه م باسمه ودينه
النشاط العسكري بعد صلح الحديبية غزوة الغابة أو غزوة ذي َتقَرد غزوة لخيبر ووادي الُقري )في المحرم سنة 7هـ( سرية أَبان بن سعيد بقية السرايا والغزوات في السنة السابعة
غزو ة الغابة أو غزو ة ذي َقَر دـ هذه الغزو ة حركــة مطـارد ة ضد فصيلة من بني فََزار ة قامت بعمل القرصنة في ِلَقاِح رسول ال صلى ال عليه وسل م. وهي أول غزو ة غزاها رسول ال صلى ال عليه وسل م بعد الحديبية ،وقبل خيبر .ذكر البخاري في ترجمة باب أنها كانت قبل خيبر بثلث ،وروي ذلك مسل م مسندًا من حديث سلمة ابن الكوع .وذكر الجمهور من أهل المغازي أنها كانت قبل الحديبية ،وما في الصحيح أصح مما ذكره أهل المغازي.
وخلصة الروايات عن سلمة بن الكوع بطل هذه الغزو ة أنه قال :بعث رسول ال صلى ال عليه وسل م بظهره مع غلمه َر َبـاح ،وأنا معه بفرس أبي طلحة ،فلما أصبحنا إذا عبد الرحمن الفزاري قد أغار على الظهر ،فاستاقه أجمع،
وقتل راعيه ،فقلت :يا رباح ،خذ هذا الفرس فأبلغه أبا طلحة ،وأخبر رسول ال صلى ال عليه وسل م ،ث م قمت على أَك َمـةـ ،واستتقبلت المدينة ،فناديت ثلثًا :يا صباحاه ،ث م خرجت في آثار القو م أرميه م بالنبل وأرتجز ،أقول: ضـع ـ ]ُخ ْذـهـا[ أنا ابُن الْك ـَوع ** واليـوُ م يـوُ م الّر ّ
فو ال ما زلت أرميه م وأعقر به م ،فإذا رجع إلى فارس جلست في أصل الشجر ،ث م رميته فتعفرت به ،حتى إذا دخلوا في تضايق الجبل علوته ،فجعلت أرديه م بالحجار ة ،فما زلت كذلك أتبعه م حتى ما خلق ال تعالى من بعير من ظهر رسول ال صلى ال عليه وسل م إل خلفته وراء ظهري ،وخلوا بيني وبينه ،ث م اتبعته م أرميه م ،حتى ألقوا أكثر من ثلثين برد ة ،وثلثين رمحًا يستخفون ،ول يطرحون شيئًا إل جعلت عليه آرامًا من الحجار ة ،يعرفها رسول ال صلى ال عليه وسل م وأصحابه .حتى أتوا متضايقًا من ثَنِّيٍة ،ـ فجلسوا يتغدون ،وجلست على رأس َقْر نــ ،فصعد إلى منه م ل منك م إل أدركته ،ول يطلبني فيدركني، أربعة في الجبل ،قلت :هل تعرفونني؟ أنا سلمة بن الكوع ،ل أطلب رج ً
فرجعوا .فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول ال صلى ال عليه وسل م يتخللون الشجر ،فإذا أوله م أخر م ،وعلى أثره أبو قتاد ة ،وعلى أثره المقداد بن السود ،فالتقي عبد الرحمن وأخر م ،فعقر بعبد الرحمن فرسه ،وطعنه عبد الرحمن فقتله ،وتحول على فرسه ،ولحق أبو قتاد ة بعبد الرحمن فطعنه فقتله ،وولي القو م مدبرين ،فتبعته م أعدو على رجلي، حتى يعدلوا قبل غروب الشمس إلى شعب فيه ماء يقال له :ذو َقَر دـ ،ليشربوا منه ،وه م عطاش ،فأجليته م عنه ،فما
ذاقوا قطر ة منه ،ولحقني رسول ال صلى ال عليه وسل م والخيل عشاء ،فقلت :يا رسول ال ،إن القو م عطاش ،فلو
بعثتني في مائة رجل استنقذت ما عنده م من الّس ْرـح،وأخذت بأعناق القو م ،فقال :)يا بن الكوع .ملكت فأسجح( ،ث م
قال :)إنه م ليقرون الن في غطفان(.
وقال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)خير فرساننا اليو م أبو قتاد ة ،وخير رجالتنا سلمة( .وأعطاني سهمين ،سه م ض َبــاء راجعين إلى المدينة. الراجل وسه م الفارس ،وأردفني وراءه على الَع ْ استعمل رسول ال صلى ال عليه وسل م على المدينة في هذه الغزو ة ابن أ م مكتو م ،وعقد اللواء للمقداد بن عمرو.
غزو ة خيبر ووادي الُقري )في المحر م سنة 7هـ( كانت خيبر مدينة كبير ة ذات حصون ومزارع على بعد ثمانين ميل من المدينة في جهة الشمال ،وهي الن قرية في مناخها بعض الوخامة. سبب الغزو ة ولما اطمأن رسول ال صلى ال عليه وسل م من أقوي أجنحة الحزاب الثلثة ،وهو قريش ،وأمن منه تمامًا بعد صلح
الحديبية أراد أن يحاسب الجناحين الباقيين ـ اليهود وقبائل نجد ـ حتى يت م المن والسل م ،ويسود الهدوء في المنطقة،
ويفرغ المسلمون من الصراع الدامي المتواصل إلى تبليغ رسالة ال والدعو ة إليه. ولما كانت خيبر هي وكر ة الدس والتآمر ومركز الستف اززات العسكرية ،ومعدن التحرشات إواثار ة الحروب ،كانت هي الجدير ة بالتفات المسلمين أول. أما كون خيبر بهذه الصفة ،فل ننسي أن أهل خيبر ه م الذين حزبوا الحزاب ضد المسلمين ،وأثاروا بني قريظة على الغدر والخيانة ،ث م أخذوا في التصالت بالمنافقين ـ الطابور الخامس في المجتمع السلمي ـ وبغطفان وأعراب البادية ـ الجناح الثالث من الحزاب ـ وكانوا ه م أنفسه م يتهيأون للقتال ،فألقوا المسلمين بإجراءاته م هذه في محن متوصلة ،حتى وضعوا خطة لغتيال النبي صلى ال عليه وسل م ،إوازاء ذلك اضطر المسلمون إلى بعوث متواصلة، إوالى الفتك برأس هؤلء المتآمرين ،مثل سل م بن أبي الُح قَـْي قـ ،وأِس يــر بن ازر م ،ولكن الواجب على المسلمين إزاء هؤلء اليهود كان أكبر من ذلك ،إوانما أبطأوا في القيا م بهذا الواجب ؛ لن قو ة أكبر وأقوي وألد وأعند منه م ـ وهي قريش ـ كانت مجابهة للمسلمين ،فلما انتهت هذه المجابهة صفا الجو لمحاسبة هؤلء المجرمين ،واقترب له م يو م الحساب. الخروج إلى خيبر قال ابن إسحاق :أقا م رسول ال صلى ال عليه وسل م بالمدينة حين رجع من الحديبية ذا الحجة وبعض المحر م ،ث م خرج في بقية المحر م إلى خيبر.
قال المفسرون :إن خيبر كانت وعدا وعدها ال تعالى بقوله :} َوَعَدـُكـُ مـاللّهُ َم َغـانَِ م َك ثِـيَر ةً تَْأُخ ُذـوـَنَها فََعّج َل ـ لَُك ْ مـ َهِذ ِه ـ{ ]الفتح [20 :يعني صلح الحديبية ،وبالمغان م الكثير ة خيبر. عدد الجيش السلمي ولما كان المنافقون وضعفاء اليمان تخلفوا عن رسول ال صلى ال عليه وسل م في غزو ة الحديبية أمر ال تعالى نبيه طلَْقتُْ م ِإَلى َم َغـانَِ م ِلتَْأُخ ُذـوـَهاـ َذ ُرـ وـَناـَنتّبِْع ُكـْ مـ ُيِر يـُد وـَن َأن ُيَبّد لُـوا ل :} َسَيـُقوُل اْلُم َخـ لّـُفوَن ِإَذ اـ ان َ صلى ال عليه وسل م فيه م قائ ً َك َلـ َ م ـ ـاللِّه ُقل ّلن تَتّبُِعوَناـ َك َذـِلـُك ْ مـ َقاَل اللّهُ ِم نـ قَْب ُلـ فََس َيـُقوُلوَن َب ْلـ تَْح ُس ـُدـوـَنَناـ َب ْلـ َك اـُنوا َل َيْفَقُهوَن ِإّل َقِليًل{ ]الفتح.[15 : فلما أراد رسول ال صلى ال عليه وسل م الخروج إلى خيبر أعلن أل يخرج معه إل راغب في الجهاد ،فل م يخرج إل أصحاب الشجر ة وه م ألف وأربعمائة. طَةالغفاري ،وقال ابن إسحاقُ :نَم ْيـلَـة بن عبد ال الليثي ،والول أصح عند واستعمل على المدينة ِس َبـاع بن ُع ْرـ فُـ َ المحققين. وبعد خروجه صلى ال عليه وسل م قد م أبو هرير ة المدينة مسلمًا ،فوافي سباع بن عرفطة في صل ة الصبح ،فلما فرغ من صلته أتي سباعا فزوده ،حتى قد م على رسول ال صلى ال عليه وسل م ،وكل م المسلمين فأشركوه وأصحابه في سهمانه م. اتصال المنافقين باليهود وقد قا م المنافقون يعملون لليهود ،فقد أرسل رأس المنافقين عبد ال بن أبي إلى يهود خيبر :إن محمدًا قصد قصدك م، وتوجه إليك م ،فخذوا حذرك م ،ول تخافوا منه فإن عددك م وعدتك م كثير ة ،وقو م محمد شرذمة قليلون ،عّز لـ ،ل سلح
معه م إل قليل ،فلما عل م ذلك أهل خيبر ،أرسلوا كنانة بن أبي الحقيق وَهْو َذ ـ ةـبن قيس إلى غطفان يستمدونه م ؛ لنه م كانوا حلفاء يهود خيبر ،ومظاهرين له م على المسلمين ،وشرطوا له م نصف ثمار خيبر إن ه م غلبوا المسلمين. الطريق إلى خيبر وسلك رسول صلى ال عليه وسل م في اتجاهه نحو خيبر جـبل عــصر ـ بالكسر ،وقيل :بالتحريك ـ ث م على الصهباء، ث م نزل على واد يقال له :الرجيع ،وكان بينه وبين غطفان مسير ة يو م وليلة ،فتهيأت غطفان وتوجهوا إلى خيبر، لمداد اليهود ،فلما كانوا ببعض الطريق سمعوا من خلفه م حسًا ولغطًا ،فظنوا أن المسلمين أغاروا على أهاليه م
وأمواله م فرجعوا ،وخلوا بين رسول ال صلى ال عليه وسل م وبين خيبر.
ث م دعا رسول ال صلى ال عليه وسل م الدليلين اللذين كانا يسلكان بالجيش ـ وكان اس م أحدهماُ :ح َسـْيـلـ ـ ليدله على الطريق الحسن ،حتى يدخل خيبر من جهة الشمال ـ أي جهة الشا م ـ فيحول بين اليهود وبين طريق فراره م إلى الشا م ،كما يحول بينه م وبين غطفان.
قال أحدهما :أنا أدلك يا رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فأقبل حتى انتهي إلى مفرق الطرق المتعدد ة وقال :يا رسول ال ،هذه طرق يمكن الوصول من كل منها إلى المقصد ،فأمر أن يسمها له واحدًا واحدًا .قال :اس م واحد منها حزن، فأبي النبي صلى ال عليه وسل م من سلوكه ،قال :اس م الخر شاش ،فامتنع منه أيضًا ،وقال :اس م الخر حاطب، فامتنع منه أيضًا ،قال حسيل :فما بقي إل واحد .قال عمر :ما اسمه؟ قالَ :م ْرـَحـبــ،فاختار النبي صلى ال عليه
وسل م سلوكه.
بعض ما وقع في الطريق ل ،فقال رجل من القو م 1ـ عن سلمة بن الكوع قال :خرجنا مع النبي صلى ال عليه وسل م إلى خيبر فسرنا لي ً
ل شاع اًر ـ فنزل يحدو بالقو م ،يقول: لعامر :يا عامر ،أل تسمعنا من هنيهاتك؟ ـ وكان عامر رج ً ص لّـيـنـا الله م لول أنت ما اهتديـنا ** ول َتصّد ْقـنا ول َ فاغـفر ِفَد اـًء لك ما اْقتَفَْي نـا ** َو ثـّبت القدا م إن لقينـا وأْلـِقيْن سكـينة عــلينا ** إنا إذا ِ ص ـ ـــيَح بنا أبينــا وبالصياح َع ّوـ لُـوا عــلينا **
فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)من هذا السائق( قــالوا :عــامر بــن الكوع ،قال :)يرحمه ال( :قال رجل من القو م :وجبت يا نبي ال ،لول أمتعتنا به. وكانوا يعرفون أن رسول ال صلى ال عليه وسل م ل يستغفر لنسان يخصه إل استشهد ،وقد وقع ذلك في حرب خيبر. 2ـ وبالصهباء من أدني خيبر صلي النبي صلى ال عليه وسل م العصر ،ث م دعا بالزواد ،فل م يؤت إل بالّس ِوـ يــق،
فأمر به فثري ،فأكل وأكل الناس ،ث م قا م إلى المغرب ،فمضمض ،ومضمض الناس ،ث م صلي ول م يتوضأ ،ث م صلي العشاء. 3ـ ولما دنا من خيبر وأشرف عليها قال :)قفوا( ،فوقــف الجيش ،فــقال :)الله م رب السموات السبع وما أظللن ،ورب الرضين السبع وما أقللن ،ورب الشياطين وما أضللن ،ورب الرياح وما أذرين ،فإنا نسألك خير هذه القرية ،وخير أهلها ،وخير ما فيها ،ونعوذ بك من شر هذه القرية ،وشر أهلها ،وشر ما فيها ،أقدموا ،بس م ال(. الجيش السلمي إلى أسوار خيبر وبات المسلمون الليلة الخير ة التي بدأ في صباحها القتال قريًبا من خيبر ،ول تشعر به م اليهود ،وكان النبي صلى ال عليه وسل م إذا أتي قوًم اـ بليل ل م يقربه م حتى يصبح ،فلما أصبح صلي الفجر بَغ لَـس ،وركب المسلمون ،فخرج أهل
خيبر بمساحيه م ومكاتله م ،ول يشعرون ،بل خرجوا لرضه م ،فلما أروا الجيش قالوا :محمد ،وال محمد والَخ ِمـيـس ،ث م
رجعوا هاربين إلى مدينته م ،فقال النبي صلى ال عليه وسل م :)ال أكبر ،خربت خيبر ،ال أكبر ،خربت خيبر ،إنا إذا نزلنا بساحة قو م فساء صباح المنذرين(. حصون خيبر وكانت خيبر منقسمة إلى شطرين ،شطر فيها خمسة حصون: ص ْعـبـ بن معاذ. 1ـ حصن ناع م 2 .ـ حصن ال ّ 3ـ حصن قلعة الزبير 4 .ـ حصن أبي. 5ـ حصن الّنَزار. والحصون الثلثة الولي منها كانت تقع في منطقة يقال لها :)النطا ة( وأما الحصنان الخران فيقعان في منطقة تسمي بالّش ّ قـ.
أما الشطر الثاني ،ويعرف بالكتيبة ،ففيه ثلثة حصون فقط: 1ـ حصن الَقُم وـص ]وكان حصن بني أبي الحقيق من بني النضير[. 2ـ حصن الَو ِط ـيــح. 3ـ حصن الّس لـل م. وفي خيبر حصون وقلع غير هذه الثمانية ،إل أنها كانت صغير ة ،ل تبلغ إلى درجة هذه القلع في مناعتها وقوتها. والقتال المرير إنما دار في الشطر الول منها ،أما الشطر الثاني فحصونها الثلثة مع كثر ة المحاربين فيها سلمت دونما قتال. معسكر الجيش السلمي ل ،فأتاه ُح َبــاب بن المنذر ،فقال :يا رسول ال ،أرأيت وتقد م رسول ال صلى ال عليه وسل م حتى اختار لمعسكره منز ً هذا المنزل أنزلكه ال ،أ م هو الرأي في الحرب؟ قال :)بل هو الرأي( فقال :يا رسول ال ،إن هذا المنزل قريب جًد اـ
طا ة ،وجميع مقاتلي خيبر فيها ،وه م يدرون أحوالنا ،ونحن ل ندري أحواله م ،وسهامه م تصل إلينا، من حصن َن َ
ض ا ـ هذا بين النخلت ،ومكان غائر ،وأرض وخيمة ،لو أمرت بمكان وسهامنا ل تصل إليه م ،ول نأمن من بياته م ،وأي ً خال عن هذه المفاسد نتخذه معسكًرا ،قال صلى ال عليه وسل م :) الرأي ما أشرت( ،ث م تحول إلى مكان آخر.
التهيؤ للقتال وبشار ة الفتح ولما كانت ليلة الدخول ـ وقيل :بل بعد عد ة محاولت ومحاربات ـ قال النبي صلى ال عليه وسل م :)لعطين الراية ل يحب ال ورسوله ويحبه ال ورسوله] ،يفتح ال على يديه [( فلما أصبح الناس غدوا على رسول ال صلى غًد اـ رج ً
ال عليه وسل م ،كله م يرجو أن يعطاها ،فقال :)أين علي بن أبي طالب؟( فقالوا :يا رسول ال ،هو يشتكي عينيه،
قال :)فأرسلوا إليه( ،فأتي به فبصق رسول ال صلى ال عليه وسل م في عينيه ،ودعا له ،فبرئ ،كأن ل م يكن به وجع، فأعطاه الراية ،فقال :يا رسول ال ،أقاتله م حتى يكونوا مثلنا ،قال :)انفذ على رسلك ،حتى تنزل بساحته م ،ث م ادعه م إلى السل م ،وأخبره م بما يجب عليه م من حق ال فيه ،فوال ،لن يهدي ال بك رجل واحًد اـ خير لك من أن يكون لك حمر النع م(. بدء المعركة وفتح حصن ناع م أما اليهود فإنه م لما أروا الجيش وفروا إلى مدينته م تحصنوا في حصونه م ،وكان من الطبيعي أن يستعدوا للقتال. وأول حصن هاجمه المسلمون من حصونه م الثمانية هو حصن ناع م. وكان خط الدفاع الول لليهود لمكانه الستراتيجي ،وكان هذا الحصن هو حصن مرحب البطل اليهودي الذي كان يعد باللف. خرج علي بن أبي طالب رضي ال عنه بالمسلمين إلى هذا الحصن ،ودعا اليهود إلى السل م ،فرفضوا هذه الدعو ة، وبرزوا إلى المسلمين ومعه م ملكه م مرحب ،فلما خرج إلى ميدان القتال دعا إلى المبارز ة ،قال سلمة بن الكوع :فلما أتينا خيبر خرج ملكه م مرحب يخطر بسيفه يقول: ت خيبر أني َم ْرـَحـب ـ** َش اـِك يـ السلح بطل ُم َجـ ّرـبـ قد َع ِلــم ْ ت تَلَّهب ** إذا الحروب أقبل ْ فبرز له عمي عامر فقال: قد علمت خيبر أني عامر ** شاكي السلح بطل ُم َغـاِم رـ فاختلفا ضربتين ،فوقع سيف مرحب في ترس عمي عامر ،وذهب عامر يسفل له ،وكان سيفه قصيًرا ،فتناول به ساق اليهودي ليضربه ،فيرجع ُذ َبـاب سيفه فأصاب عين ركبته فمات منه ،وقال فيه النبي صلى ال عليه وسل م :)إن له لجرين ـ وجمع بين إصبعيه ـ إنه لَج اـِه ٌدـ ُم َجـ اـِه دـَ ،قّل عربي َم َشـيـ بها ِم ْثـَله(. ويبدو أن مرحًبا دعا بعد ذلك إلى البراز مر ة أخري وجعل يرتجز بقوله:
قد علمت خيبر أني مرحب ...إلخ ،فبرز له على بن أبي طالب .قال سلمة ابن الكوع :فقال علي: ظـَرْه أنا الذي سمتني أمي َح ْيـَدـَرـْه** كلَْي ِثـ غابات َك ِرـيـه الَم ْنـ َ ص اــع َك ْيـلـ الّس ْنـَدـَرـْه** ُأوِفيه م بال ّ فضرب رأس مرحب فقتله ،ث م كان الفتح على يديه. ولما دنا علي رضي ال عنه من حصونه م اطلع يهودي من رأس الحصن ،وقال :من أنت؟ فقال :أنا علي بن أبي طالب ،فقال اليهودي :علوت م وما أنزل على موسى. ث م خرج ياسر أخو مرحب ،وهو يقول :من يبارز؟ فبرز إليه الزبير ،فقالت صفية أمه :يا رسول ال ،يقتل ابني ،قال: )بل ابنك يقتله( ،فقتله الزبير. ودار القتال المرير حول حصن ناع م ،قتل فيه عد ة سرا ة من اليهود ،انهارت لجله مقاومة اليهود ،وعجزوا عن صد هجو م المسلمين ،ويؤخذ من المصادر أن هذا القتال دا م أياًم اـ لقي المسلمون فيها مقاومة شديد ة ،إل أن اليهود يئسوا ص ْعـبـ ،واقتح م المسلمون حصن ناع م. من مقاومة المسلمين ،فتسللوا من هذا الحصن إلى حصن ال ّ فتح حصن الصعب بن معاذ وكان حصن الصعب الحصن الثاني من حيث القو ة والمناعة بعد حصن ناع م ،قا م المسلمون بالهجو م عليه تحت قياد ة الحباب بن المنذر النصاري ،ففرضوا عليه الحصار ثلثة أيا م ،وفي اليو م الثالث ،دعا رسول ال صلى ال عليه وسل م لفتح هذا الحصن دعو ة خاصة. روي ابن إسحاق أن بني سه م من أسل م أتوا رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فقالوا :لقد جهدنا ،وما بأيدينا من شيء، فقال :)الله م إنك قد عرفت حاله م ،وأن ليست به م قو ة ،وأن ليس بيدي شيء أعطيه م إياه ،فافتح عليه م أعظ م حصونها عنه م َغ َنـاء ،وأكثرها طعاًم اـ وَو َد ـًكـاـ( .فغدا الناس ففتح ال عز وجل حصن الصعب بن معاذ ،وما بخيبر حصن كان أكثر طعاًم اـ وودًك اـ منه. ولما ندب النبي صلى ال عليه وسل م المسلمين بعد دعائه لمهاجمة هذا الحصن كان بنو أسل م ه م المقادي م في المهاجمة ،ودار البراز والقتال أما م الحصن ،ث م فتح الحصن في ذلك اليو م قبل أن تغرب الشمس ،ووجد فيه المسلمون بعض المنجنيقات والدبابات. ولجل هذه المجاعة الشديد ة التي ورد ذكرها في رواية ابن إسحاق ،كان رجال من الجيش قد ذبحوا الحمير ،ونصبوا القدور على النيران ،فلما عل م رسول ال صلى ال عليه وسل م بذلك نهي عن لحو م الحمر النسية. فتح قلعة الزبير
طا ة إلى قلعة الزبير ،وهو حصن منيع في رأس ُقلٍّة ، وبعد فتح حصن ناع م والصعب تحول اليهود من كل حصون الّن َ
ل تقدر عليه الخيل والرجال لصعوبته وامتناعه ،ففرض عليه رسول ال صلى ال عليه وسل م الحصار ،وأقا م
محاصًرا ثلثة أيا م ،فجاء رجل من اليهود ،وقال :يا أبا القاس م ،إنك لو أقمت شهًرا ما بالوا ،إن له م ش ارًبا وعيوًناـ تحت الرض ،يخرجون بالليل ويشربون منها ،ث م يرجعون إلى قلعته م فيمتنعون منك ،فإن قطعت مشربه م عليه م أصحروا لك .فقطع ماءه م عليه م ،فخرجوا فقاتلوا أشد القتال ،قتل فيه نفر من المسلمين ،وأصيب نحو العشر ة من اليهود ،وافتتحه رسول ال صلى ال عليه وسل م. فتح قلعة أبي وبعد فتح قلعة الزبير انتقل اليهود إلى قلعة أبي وتحصنوا فيه ،وفرض المسلمون عليه م الحصار ،وقا م بطلن من اليهود واحد بعد الخر بطلب المبارز ة ،وقد قتلهما أبطال المسلمين ،وكان الذي قتل المبارز الثاني هو البطل المشهور أبو ُد َجـ اــنة ِس َم ـاـك بن َخ َرـَشـةـالنصاري صاحب العصابة الحمراء .وقد أسرع أبو دجانة بعد قتله إلى اقتحا م القلعة ،واقتح م معه الجيش السلمي ،وجري قتال مرير ساعة داخل الحصن ،ث م تسلل اليهود من القلعة ،وتحولوا إلى حصن النزار آخر حصن في الشطر الول. فتح حصن الّنَزار كان هذا الحصن أمنع حصون هذا الشطر ،وكان اليهود على شبه اليقين بأن المسلمين ل يستطيعون اقتحا م هذه القلعة ،إوان بذلوا قصاري جهده م في هذا السبيل ،ولذلك أقاموا في هذه القلعة مع الذراري والنساء ،بينما كانوا قد أخلوا منها القلع الربعة السابقة. وفرض المسلمون على هذا الحصن أشد الحصار ،وصاروا يضغطون عليه م بعنف ،ولكون الحصن يقع على جبل مرتفع منيع ل م يكونوا يجدون سبيل للقتحا م فيه .أما اليهود فل م يجترئوا للخروج من الحصن ،وللشتباك مع قوات المسلمين ،ولكنه م قاوموا المسلمين مقاومة عنيد ة برشق النبال ،وبإلقاء الحجار ة. وعندما استعصى حصن النزار على قوات المسلمين ،أمر النبي صلى ال عليه وسل م بنصب آلت المنجنيق ،ويبدو أن المسلمين قذفوا به القذائف ،فأوقعوا الخلل في جدران الحصن ،واقتحموه ،ودار قتال مرير في داخل الحصن انهز م أمامه اليهود هزيمة منكر ة ،وذلك لنه م ل م يتمكنوا من التسلل من هذا الحصن كما تسللوا من الحصون الخري ،بل فروا من هذا الحصن تاركين للمسلمين نساءه م وذ ارريه م. طا ة والّش ّ قـ،ـ وكانت في هذه الناحية وبعد فتح هذا الحصن المنيع ت م فتح الشطر الول من خيبر ،وهي ناحية الّن َ
حصون صغير ة أخري إل أن اليهود بمجرد فتح هذا الحصن المنيع أخلوا هذه الحصون ،وهربوا إلى الشطر الثاني من
بلد ة خيبر. فتح الشطر الثاني من خيبر
ولما أت م رسول ال صلى ال عليه وسل م فتح ناحية النطا ة والشق ،تحول إلى أهل الكتيبة التي بها حصن الَقُم وـص: حصن بني أبي الُح قَـْي قـ من بني النضير ،وحصن الَو ِط ـيــحوالّس لـل م ،وجاءه م كل َفّل كان انهز م من النطا ة والشق، وتحصن هؤلء أشد التحصن. واختلف أهل المغازي هل جري هناك قتال في أي حصن من حصونها الثلثة أ م ل؟ فسياق ابن إسحاق صريح في جريان القتال لفتح حصن القموص ،بل يؤخذ من سياقه أن هذا الحصن ت م فتحه بالقتال فقط من غير أن يجري هناك مفاوضة للستسل م. أما الواقدي ،فيصرح تما م التصريح أن قلع هذا الشطر الثلث إنما أخذت بعد المفاوضة ،ويمكن أن تكون المفاوضة قد جرت لستل م حصن القموص بعد إدار ة القتال ،وأما الحصنان الخران فقد سلما إلى المسلمين دونما قتال. ومهما كان ،فلما أتي رسول ال صلى ال عليه وسل م إلى هذه الناحية ـ الكتيبة ـ فرض على أهلها أشد الحصار ،ودا م الحصار أربعة عشر يوًم اـ ،واليهود ل يخرجون من حصونه م ،حتى هّ م رسول ال صلى ال عليه وسل م أن ينصب عليه م المنجنيق ،فلما أيقنوا بالهلكة سألوا رسول ال صلى ال عليه وسل م الصلح. المفاوضة وأرسل ابن أبي الُح قَـْي قـ إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م :أنزل فأكلمك؟ قال :)نع م( ،فنزل ،وصالح على حقن دماء َم ْنـ في حصونه م من المقاتلة ،وترك الذرية له م ،ويخرجون من خيبر وأرضها بذ ارريه م ،ويخلون بين رسول ال صلى ال عليه وسل م وبين ما كان له م من مال وأرض ،وعلى الصفراء والبيضاء ـ أي الذهب والفضة ـ والُك َرـاع
واْلَح ْلـَقة إل ثوًباـ على ظهر إنسان ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)وبرئت منك م ذمة ال وذمة رسوله إن كتمتموني شيئا( ،فصالحوه على ذلك ،وبعد هذه المصالحة ت م تسلي م الحصون إلى المسلمين ،وبذلك ت م فتح خيبر. قتل ابني أبي الحقيق لنقض العهد وعلى رغ م هذه المعاهد ة غيب ابنا أبي الحقيق مال كثيرا ،غيبا َم ْسـًكـاـ فيه مال وُح لُــي لحيي بن أخطب ،كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير. قال ابن إسحاق :وأتي رسول ال صلى ال عليه وسل م بِك َنـانة الربيع ،وكان عنده كنز بني النضير ،فسأله عنه ،فجحد أن يكون يعرف مكانه ،فأتي رجل من اليهود فقال :إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غدا ة ،فقال رسول ال
صلى ال عليه وسل م لكنانة :) أرأيت إن وجدناه عندك أأقتلك؟( قال :نع م ،فأمر بالخربة ،فحفرت ،فأخرج منها بعض كنزه م ،ث م سأله عما بقي ،فأبي أن يؤديه .فدفعه إلى الزبير ،وقال :عذبه حتى نستأصل ما عنده ،فكان الزبير يقدح بزند في صدره حتى أشرف على نفسه ،ث م دفعه رسول ال صلى ال عليه وسل م إلى محمد بن مسلمة ،فضرب عنقه بمحمود بن مسلمة ـ وكان محمود قتل تحت جدار حصن ناع م ،ألقي عليه الرحي ،وهو يستظل بالجدار فمات ـ.
وذكر ابن القي م أن رسول ال صلى ال عليه وسل م أمر بقتل ابني أبي الحقيق ،وكان الذي اعترف عليهما بإخفاء المال هو ابن ع م كنانة. وسبي رسول ال صلى ال عليه وسل م صفية بنت حيي بن أخطب ،وكانت تحت كنانة بن أبي الحقيق ،وكانت عروًس اـ حديثة عهد بالدخول. قسمة الغنائ م وأراد رسول ال صلى ال عليه وسل م أن يجلي اليهود من خيبر ،فقالوا :يا محمد ،دعنا نكون في هذه الرض، نصلحها ،ونقو م عليها ،فنحن أعل م بها منك م ،ول م يكن لرسول ال صلى ال عليه وسل م ول لصحابه غلمان يقومون عليها ،وكانوا ل يفرغون حتى يقوموا عليها ،فأعطاه م خيبر على أن له م الشطر من كل زرع ،ومن كل ثمر ،ما بدا لرسول ال صلى ال عليه وسل م أن يقره م ،وكان عبد ال بن رواحة يخرصه عليه م. وقس م أرض خيبر على ستة وثلثين سهًم اـ ،جمع كل سه م مائة سه م ،فكانت ثلثة آلف وستمائة سه م ،فكان لرسول ال صلى ال عليه وسل م والمسلمين النصف من ذلك وهو ألف وثمانمائة سه م ،لرسول ال صلى ال عليه وسل م سه م كسه م أحد المسلمين ،وعزل النصف الخر ،وهو ألف وثمانمائة سه م ،لنوائبه وما يتنزل به من أمور المسلمين ،إوانما قسمت على ألف وثمانمائة سه م لنها كانت طعمة من ال لهل الحديبية من شهد منه م ومن غاب ،وكانوا ألفا وأربعمائة ،وكان معه م مائتا فرس ،لكل فرس سهمان ،فقسمت على ألف وثمانمائة سه م ،فصار للفارس ثلثة أسه م، وللراجل سه م واحد. ويدل على كثر ة مغان م خيبر ما رواه البخاري عن ابن عمر قال :ما شبعنا حتى فتحنا خيبر ،وما رواه عن عائشة قالت :لما فتحت خيبر قلنا :الن نشبع من التمر ،ولما رجع رسول ال صلى ال عليه وسل م إلى المدينة رد المهاجرون إلى النصار منائحه م التي كانوا منحوه م إياها من النخيل حين صار له م بخيبر مال ونخيل. قدو م جعفر بن أبي طالب والشعريين وفي هذه الغزو ة قد م عليه ابن عمه جعفر بن أبي طالب وأصحابه ،ومعه م الشعريون أبو موسى وأصحابه. قال أبو موسي :بلغنا مخرج رسول ال صلى ال عليه وسل م ونحن باليمن ،فخرجنا مهاجرين إليه ـ أنا وأخوان لي ـ في ل من قومي ،ركبنا سفينة ،فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة ،فوافقنا جعفًرا وأصحابه عنده، بضع وخمسين رج ً فقال :إن رسول ال صلى ال عليه وسل م بعثنا وأمرنا بالقامة ،فأقيموا معنا ،فأقمنا معه حتى قدمنا فوافقنا رسول ال صلى ال عليه وسل م حين فتح خيبر ،فأسه م لنا ،وما قس م لحد غاب عن فتح خيبر شيئا إل لمن شهد معه ،إل لصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه ،قس م له م معه م.
ولما قد م جعفر على النبي صلى ال عليه وسل م تلقاه وقَّبَلـ ما بين عينيه وقال :)وال ما أدري بأيهما أفرح؟ بفتح خيبر أ م بقدو م جعفر(.
وكان قدو م هؤلء على أثر بعث الرسول صلى ال عليه وسل م إلى النجاشي عمرو بن أمية الضمري يطلب توجيهه م ل ،معه م من بقي من نسائه م وأولده م ،وبقيته م جاءوا إلى إليه ،فأرسله م النجاشي على مركبين ،وكانوا ستة عشر رج ً المدينة قبل ذلك. الزواج بصفية ذكرنا أن صفية جعلت في السبايا حين قتل زوجها ِك َنـانة بن أبي الحقيق لغدره ،ولما جمع السبي جاء دحية بن خليفة
الكلبي ،فقال :يا نبي ال ،أعطني جارية من السبي ،فقال :اذهب فخذ جارية ،فأخذ صفية بنت حيي ،فجاء رجل إلى
النبي صلى ال عليه وسل م فقال :يا نبي ال ،أعطيت دحية صفية بنت حيي سيد ة قريظة وبني النضير ،ل تصلح إل لك ،قال :)ادعوه بها( .فجاء بها ،فلما نظر إليها النبي صلى ال عليه وسل م قال :)خذ جارية من السبي غيرها(، وعرض عليها النبي صلى ال عليه وسل م السل م فأسلمت ،فأعتقها وتزوجها ،وجعل عتقها صداقها ،حتى إذا كان بسد الصهباء راجًعاـ إلى المدينة حلت ،فجهزتها له أ م سلي م ،فأهدتها له من الليل ،فأصبح عروًس اـ بها ،وأول م عليها بحيس من التمر والسمن والّس ِوـ يــق ،وأقا م عليها ثلثة أيا م في الطريق يبني بها. ورأى بوجهها خضر ة ،فقال :)ما هذا؟( قالت :يا رسول ال ،رأيت قبل قدومك علينا كأن القمر زال من مكانه ،وسقط في حجري ،ول وال ما أذكر من شأنك شيئا ،فقصصتها على زوجي ،فلط م وجهي .فقال :تمنين هذا الملك الذي بالمدينة. أمر الشا ة المسمومة ولما اطمأن رسول ال صلى ال عليه وسل م بخيبر بعد فتحها أهدت له زينب بنت الحارث ،امرأ ة َس لّـ م بن ِم ْشـَكـ مـ ،شا ة صـ ِلـّيًة ،وقد سألت أي عضو أحب إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م؟ فقيل لها :الذراع ،فأكثرت فيها من الس م ،ث م َم ْ سمت سائر الشا ة ،ث م جاءت بها ،فلما وضعتها بين يدي رسول ال صلى ال عليه وسل م تناول الذراع ،فَلََك منها مضغة فل م يسغها ،ولفظها ،ث م قال :)إن هذا العظ م ليخبرني أنه مسمو م( ،ث م دعا بها فاعترفت ،فقال :)ما حملك على ذلك؟( قالت :قلت :إن كان ملًك اـ استرحت منه ،إوان كان نبًيا فسيخبر ،فتجاوز عنها. وكان معه بِْش رـ بن البراء بن َم ْعـُرـ وـر،أخذ منها أكلة فأساغها ،فمات منها. واختلفت الروايات في التجاوز عن المرأ ة وقتلها ،وجمعوا بأنه تجاوز عنها أول ،فلما مات بشر قتلها قصاصا. قتلى الفريقين في معارك خيبر
ل ،أربعة من قريش وواحد من أْش َجـعــ ،وواحد من وجملة من استشهد من المسلمين في معارك خيبر ستة عشر رج ً أْس لَـ م ،وواحد من أهل خيبر والباقون من النصار.
ل. ويقال :إن شهداء المسلمين في هذه المعارك 81رج ً ل ،ث م قال :إني وجدت بعد التفحص 32اسما ،واحد منها في الطبري فقط، وذكر العلمة المنصورفوري 91رج ً
وواحد عند الواقدي فقط ،وواحد مات لجل أكل الشا ة المسمومة ،وواحد اختلفوا هل قتل في بدر أو خيبر ،والصحيح أنه قتل في بدر. ل. أما قتلي اليهود فعدده م ثلثة وتسعون قتي ً
فَـَد كـ ص ة ـبن مسعود إلى يهود فََد كـ ،ليدعوه م إلى السل م، ولما بلغ رسول ال صلى ال عليه وسل م إلى خيبر ،بعث ُم َحـ ّيـ َ فأبطأوا عليه ،فلما فتح ال خيبر قذف الرعب في قلوبه م ،فبعثوا إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م يصالحونه على النصف من فدك بمثل ما عامل عليه أهل خيبر ،فقبل ذلك منه م ،فكانت فدك لرسول ال صلى ال عليه وسل م خالصة؛ لنه ل م ُيوِج ف ـ عليه المسلمون بخيل ول ركاب.
وادي القَُريـ ولما فرغ رسول ال صلى ال عليه وسل م من خيبر ،انصرف إلى وادي القري ،وكان بها جماعة من اليهود ،وانضاف إليه م جماعة من العرب. فلما نزلوا استقبلته م يهود بالرمي ،وه م على تعبئة ،فقتل ِم ْدـَعـ م ـ َع ْبـٌدـ لرسول ال صلى ال عليه وسل م ـ فقال الناس: هنيئا له الجنة ،فقال النبي صلى ال عليه وسل م :)كل ،والذي نفسي بيده ،إن الّش ْمـ لَــة التي أخذها يو م خيبر من المغان م ،ل م تصبها المقاس م ،لتشتعل عليه ناًرا( ،فلما سمع بذلك الناس جاء رجل إلى النبي صلى ال عليه وسل م بِش َرـاكأو شراكين ،فقال النبي صلى ال عليه وسل م :) شراك من نار أو شراكان من نار(.
ص فّــه م ،ودفع لواءه إلى سعد بن عباد ة ،وراية إلى الُح َبــاب بن ث م َع ّبـأ رسول ال صلى ال عليه وسل م أصحابه للقتال ،و َ المنذر ،وراية إلى سهل بن ُح َنـْي فـ ،وراية إلى عباد بن بشر ،ث م دعاه م إلى السل م فأبوا ،وبرز رجل منه م ،فبرز إليه الزبير بن العوا م فقتله ،ث م برز آخر فقتله ،ث م برز آخر فبرز إليه علي بن أبي طالب رضي ال عنه فقتله ،حتى قتل
ل ،كلما قتل منه م رجل دعا من بقي إلى السل م. منه م أحد عشر رج ً
وكانت الصل ة تحضر هذا اليو م ،فيصلي بأصحابه ،ث م يعود ،فيدعوه م إلى السل م إوالى ال ورسوله ،فقاتله م حتى أمسوا ،وغدا عليه م فل م ترتفع الشمس قيد رمح حتى أعطوا ما بأيديه م ،وفتحها عنو ة ،وَغ ّنـَم هُـ اُل أمواله م ،وأصابوا أثاثا
ومتاًع اـ كثيًرا.
وأقا م رسول ال صلى ال عليه وسل م بوادي القري أربعة أيا م .وقس م على أصحابه ما أصاب بها ،وترك الرض والنخل بأيدي اليهود ،وعامله م عليها ـ كما عامل أهل خيبرـ. تَْي َمـ ــاء ولما بلغ يهود تيماء خبر استسل م أهل خيبر ث م فََد كـ ووادي القَُري ،ل م يبدوا أي مقاومة ضد المسلمين ،بل بعثوا من تلقاء أنفسه م يعرضون الصلح ،فقبل ذلك منه م رسول ال صلى ال عليه وسل م ،وأقاموا بأمواله م .وكتب له م بذلك
كتابا وهاك نصه :هذا كتاب محمد رسول ال لبني عاديا ،أن له م الذمة ،وعليه م الجزية ،ول عداء ول جلء ،الليل مد ،والنهار شد ،وكتب خالد بن سعيد. العود ة إلى المدينة ث م أخذ رسول ال صلى ال عليه وسل م في العود ة إلى المدينة ،وفي الطريق أشرف الناس على واد فرفعوا أصواته م بالتكبير :)ال أكبر ،ال أكبر ،ل إله إل ال( فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)أربعوا على أنفسك م ،إنك م ل ص ّ م ـ ول غائبا ،إنك م تدعون سميعا قريبا(. تدعون أ َ وفي مرجعه ذلك سار النبي صلى ال عليه وسل م ليلة ،ث م نا م في آخر الليل ببعض الطريق ،وقال لبلل :)اكل لنا ل عيناه ،وهو مستند إلى راحلته ،فل م يستيقظ أحد ،حتى ضربته م الشمس ،وأول من استيقظ بعد الليل( ،فغلبت بل ً
ذلك رسول ال صلى ال عليه وسل م ،ث م خرج من ذلك الوادي ،وتقد م ،ث م صلي الفجر بالناس ،وقيل :إن هذه القصة
في غير هذا السفر. وبعد النظر في تفصيل معارك خيبر ،يبدو أن رجوع النبي صلى ال عليه وسل م كان في أواخر صفر أو في ربيع الول سنة 7هـ. سرية أَبان بن سعيد كان النبي صلى ال عليه وسل م يعرف أكثر من كل قائد عسكري أن إخلء المدينة تماما بعد انقضاء الشهر الحر م ليس من الحز م قطًعا ،بينما العراب ضاربة حولها ،تطلب غر ة المسلمين للقيا م بالنهب والسلب وأعمال القرصنة ؛ ولذلك أرسل سرية إلى نجد لرهاب العراب تحت قياد ة أبان بن سعيد ،بينما كان هو إلى خيبر ،وقد رجع أبان بن سعيد بعد قضاء ما كان واجًبا عليه ،فوافي النبي صلى ال عليه وسل م بخيبر ،وقد افتتحها.
والغلب أن هذه السرية كانت في صفر سنة 7هـ ،وقد ورد ذكرها في البخاري .قال ابن حجر :ل م أعرف حال هذه السرية.
بقية السرايا والغزوات في السنة السابعة غزو ة ذات الّر قَـاع ولما فرغ رسول ال صلى ال عليه وسل م من كسر جناحين قويين من أجنحة الحزاب الثلثة تفرغ تماًم اـ لللتفات إلى الجناح الثالث ،أي إلى العراب القسا ة الضاربين في فيافي نجد ،والذين ما زالوا يقومون بأعمال النهب والسلب بين آونة وأخري. ولما كان هؤلء البدو ل تجمعه م بلد ة أو مدينة ،ول م يكونوا يقطنون الحصون والقلع ،كانت الصعوبة في فرض السيطر ة عليه م إواخماد نار شره م تماًم اـ تزداد بكثير عما كانت بالنسبة إلى أهل مكة وخيبر ؛ ولذلك ل م تكن تجدي فيه م إل حملت التأديب والرهاب ،وقا م المسلمون بمثل هذه الحملت مر ة بعد أخري. ولفرض الشوكة ـ أو لجتماع البدو الذين كانوا يتحشدون للغار ة على أطراف المدينة ـ قا م رسول ال صلى ال عليه وسل م بحملة تأديبية عرفت بغزو ة ذات الرقاع. وعامة أهل المغازي يذكرون هذه الغزو ة في السنة الرابعة ،ولكن حضور أبي موسي الشعري وأبي هرير ة رضي ال عنهما في هذه الغزو ة يدل على وقوعها بعد خيبر ،والغلب أنها وقعت في شهر ربيع الول سنة 7هـ. وملخص ما ذكره أهل السير حول هذه الغزو ة :أن النبي صلى ال عليه وسل م سمع باجتماع بني أنمار أو بني ثعلبة
وبني ُم َحـ اـِر بـمن غطفان ،فأسرع بالخروج إليه م في أربعمائة أو سبعمائة من أصحابه ،واستعمل على المدينة أبا ذر أو عثمان بن عفان رضي ال عنهما ،وسار فتوغل في بلده م حتى وصل إلى موضع يقال له :نخل ،على بعد
يومين من المدينة ،ولقي جمعًا من غطفان ،فتقاربوا وأخاف بعضه م بعضًا ول م يكن بينه م قتال ،إل أنه صلي به م
يومئذ صل ة الخوف.وفي رواية البخاري :وأقيمت الصل ة فصلي بطائفة ركعتين ،ث م تأخروا ،وصلي بالطائفة الخري ركعتين ،وكان للنبي صلى ال عليه وسل م أربع ،وللقو م ركعتان. وفي البخاري عن أبي موسي الشعري رضي ال عنه م قال :خرجنا مع رسول ال صلى ال عليه وسل م ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه ،فنقبت أقدامنا ،ونقبت قدماي ،وسقطت أظفاري ،فكنا نلف على أرجلنا الخرق ،فسميت ذات الرقاع ،لما كنا نعصب الخرق على أرجلنا. وفيه عن جابر :كنا مع النبي صلى ال عليه وسل م بذات الرقاع ،فإذا أتينا على شجر ة ظليلة تركناها للنبي صلى ال عليه وسل م ،فنزل رسول ال صلى ال عليه وسل م فتفرق الناس في العضا ة ،يستظلون بالشجر ،ونزل رسول ال صلى
ال عليه وسل م تحت شجر ة فعلق بها سيفه .قال جابر :فنمنا نومة ،فجاء رجل من المشركين :فاخترط سيف رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فقال :أتخافني؟ قال :)ل( ،قال :فمن يمنعك مني؟ قال :)ال( .قال جابر :فإذا رسول ال صلى ال عليه وسل م يدعونا ،فجئنا ،فإذا عنده أعرابي جالس .فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)إن هذا اخترط ص ْلـًتا .فقال لي :من يمنعك مني؟ قلت :ال ،فها هو ذا جالس( ،ث م ل م يعاتبه سيفي وأنا نائ م ،فاستيقظت وهو في يده َ رسول ال صلى ال عليه وسل م .وفي رواية أبي عوانة :فسقط السيف من يده ،فأخذه رسول ال صلى ال عليه وسل م، فقال :)من يمنعك مني؟( قال :كـن خـير آخـذ ،قال :)تشهد أن ل إله إل ال وأني رسول ال؟( قال العرابي :أعاهدك على أل أقاتلك ،ول أكون مع قو م يقاتلونك ،قال :فخلي سبيله ،فجاء إلى قومه ،فقال :جئتك م من عند خير الناس. وفي رواية البخاري :قال مسدد عن أبي عوانة عن أبي بشر :اس م الرجل َغ ْوـ َر ـثـابن الحارث.قال ابن حجر :ووقع عند الواقدي في سبب هذه القصة :أن اس م العرابي ُد ْعـ ثُــور ،وأنه أسل م ،لكن ظاهر كلمه أنهما قصتان في غزوتين. وال أعل م.
وفي مرجعه م من هذه الغزو ة سبوا امرأ ة من المشركين ،فنذر زوجها أل يرجع حتى يهريق دمًا في أصحاب محمد ل ،وقد أرصد رسول ال صلى ال عليه وسل م رجلين َر بِـيئة للمسلمين من العدو ،وهما صلى ال عليه وسل م ،فجاء لي ً عباد بن بشر وعمار بن ياسر ،فضرب عبادًا ،وهو قائ م يصلي ،بسه م فنزعه ،ول م يبطل صلته ،حتى رشقه بثلثة
أسه م ،فل م ينصرف منها حتى سل م ،فأيقظ صاحبه ،فقال :سبحان ال! هل نبهتني ،فقال :إني كنت في سور ة فكرهت أن أقطعها. كان لهذه الغزو ة أثر في قذف الرعب في قلوب العراب القسا ة ،إواذا نظرنا إلى تفاصيل السرايا بعدالغزو ة نري أن هذه القبائل من غطفان ل م تجترئ أن ترفع رأسها بعد هذه الغزو ة ،بل استكانت شيئاً فشيئاً حتى استسلمت ،بل وأسلمت، حتى نري عد ة قبائل من هذه العراب تقو م مع المسلمين في فتح مكة ،وتغزو ُح َنـْي نـًا ،وتأخذ من غنائمها ،ويبعث
إليها المصدقون فتعطي صدقاتها بعد الرجوع من غزو ة الفتح ،فبهذا ت م كسر الجنحة الثلثة التي كانت ممثلة في الحزاب ،وساد المنطقة المن والسل م ،واستطاع المسلمون بعد ذلك أن يسدوا بسهولة كل خلل وثلمة حدثت في بعض المناطق من بعض القبائل ،بل بعد هذه الغزو ة بدأت التمهيدات لفتوح البلدان والممالك الكبير ة ؛ لن الظروف في داخل البلد كانت قد تطورت لصالح السل م والمسلمين. وبعد الرجوع من هذه الغزو ة أقا م رسول ال صلى ال عليه وسل م إلى شوال سنة 7هـ. وبعث في خلل ذلك عد ة سرايا .وهاك بعض تفصيلها: 1ـ سرية غالب بن عبد ال الليثي إلى بني الُم لَـّوح ُبقَد ْيـدـ ،في صفر أو ربيع الول سنة 7هـ .كان بنو الملوح قد قتلوا أصحاب بشير بن ُس َوـ ْي ـدـ ،فبعثت هذه السرية لخذ الثأر ،فشنوا الغار ة في الليل فقتلوا من قتلوا ،وساقوا النع م ،وطارده م جيش كبير من العدو ،حتى إذا قرب من المسلمين نزل مطر ،فجاء سيل عظي م حال بين الفريقين .ونجح المسلمون
في بقية النسحاب.
2ـ سرية ِح ْسـَمـيـ ،في جمادي الثانية سنة 7هـ ،وقد مضي ذكرها في مكاتبة الملوك. ل .كانوا يسيرون الليل ويستخفون في 3ـ سرية عمر بن الخطاب إلى تَُر َبـة ،في شعبان سنة 7هـ ،ومعه ثلثون رج ً النهار ،وأتي الخبر إلى هوازن فهربوا ،وجاء عمر إلى محاله م فل م يلق أحدًا ،فانصرف راجعًا إلى المدينة. ل .خرج إليه م 4ـ سرية بشير بن سعد النصاري إلى بني مر ة بناحية فََد كـ ،في شعبان سنة 7هـ في ثلثين رج ً
واستاق الشاء والنع م ،ث م رجع فأدركه الطلب عند الليل ،فرموه م بالنبل حتى فني نبل بشير وأصحابه ،فقتلوا جميعًا إل بشير ،فإنه ار تُـ ّ ث إلى فدك ،فأقا م عند يهود حتى برأت جراحه ،فرجع إلى المدينة. ْ 5ـ سرية غالب بن عبد ال الليثي ،في رمضان سنة 7هـ إلى بني ُع َوـال وبني عبد ابن ثعلبة بالَم ْيـفَـَعة ،وقيل إلى ل ،فهجموا عليه م جميعًا ،وقتلوا من أشرف له م ،واستاقوا نعما وشاء ،وفي الُح َرـقَــاتمن ُج هَـْي َنـة ،في مائة وثلثين رج ً هذه السرية قتل أسامةُ بن زيد َنِه يـَك بن ِم ْرـَدـاـسبعد أن قال :ل إله إل ال ،فلما قدموا وأخبر النبي صلى ال عليه وسل م ،كبر عليه وقال :)أقتلته بعد ما قال :ل إله إل ال؟( فقال :إنما قالها متعوذًا قال :)فهل شققت عن قلبه فتعل م أصادق هو أ م كاذب؟(.
6ـ سرية عبد ال بن رواحة إلى خيبر ،في شوال سنة 7هـ في ثلثين راكًبا .وذلك أن أِس يــر أو بشير بن ازر م كان يجمع غطفان لغزو المسلمين ،فأخرجوا أسيًرا في ثلثين من أصحابه ،وأطمعوه أن الرسول صلى ال عليه وسل م يستعمله على خيبر ،فلما كانوا بَقْر قَـَر ةنَِيار وقع بين الفريقين سوء ظن أفضي إلى قتل أسير وأصحابه الثلثين .ذكر الواقدي هذه السرية في شوال سنة ست قبل خيبر بأشهر. 7ـ سرية بشير بن سعد النصاري إلى يمن وَج بــار ]بالفتح ،أرض لغطفان ،وقيل :لفََزاَر ةوُع ْذـَرـ ة[ ،في شوال سنة 7هـ في ثلثمائة من المسلمين ،للقاء جمع كبير تجمعوا للغار ة على أطراف المدينة ،فساروا الليل وكمنوا النهار ،فلما بلغه م مسير بشير هربوا ،وأصاب بشير نعما كثير ة ،وأسر رجلين ،فقد م بهما المدينة إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م فأسلما. 8ـ سرية أبي َح ْدـَرـدـالسلمي إلى الغابة ،ذكرها ابن القي م في سرايا السنة السابعة قبل عمر ة القضاء ،وملخصها :أن رجل من ُج َشـ مـ بن معاوية أقبل في عدد كبير إلى الغابة ،يريد أن يجمع قيًس اـ على محاربة المسلمين .فبعث رسول
ال صلى ال عليه وسل م أبا حدرد مع رجلين ليأتوا منه بخبر وعل م ،فوصلوا إلى القو م مع غروب الشمس ،فكمن أبو حدرد في ناحية ،وصاحباه في ناحية أخري ،وأبطأ على القو م راعيه م حتى ذهبت فحمة العشاء ،فقا م رئيس القو م وحده ،فلما مر بأبي حدرد رماه بسه م في فؤاده فسقط ول م يتكل م ،فاحتز أبو حدرد رأسه ،وشد في ناحية العسكر، وكبر ،وكبر صاحباه وشدا ،فما كان من القو م إل الفرار ،واستاق المسلمون الثلثة الكثير من البل والغن م.
عمر ة القضاء
قال الحاك م :تواترت الخبار أنه صلى ال عليه وسل م لما َهّلـ ذو القعد ة أمر أصحابه أن يعتمروا قضاء عمرته م ،وأل يتخلف منه م أحد شهد الحديبية ،فخرجوا إل من استشهد ،وخرج معه آخرون معتمرين ،فكانت عدته م ألفين سوي النساء والصبيان .ا هـ. ض َبــط الّد يـلي ،أو أبا ُرْه مـالغفاري ،وساق ستين بدنة ،وجعل عليها ناجية بن واستخلف على المدينة ُع َوـ يــف بن ال ْ
ُج ْنـُدـبـ السلمي ،وأحر م للعمر ة من ذي الُح لَـْي فَـة ،ولبي ،ولبي المسلمون معه ،وخرج مستعدًا بالسلح والمقاتلة ،خشية أن يقع من قريش غدر ،فلما بلغ َيأُج جـ وضع الدا ة كلها :الَح َجـف ـوالِم َجـاـّن والّنْب لـ والّر مـاح ،وخلف عليها أوس بن َخ ْوـِلــيالنصاري في مائتي رجل ،ودخل بسلح الراكب :السيوف في القُُر بـ.
ص وـاء ،والمسلمون متوشحون السيوف ،محدقون وكان رسول اللهصلى ال عليه وسل م عند الدخول راكبًا على ناقته الَق ْ برسول ال صلى ال عليه وسل م يلبون.
وخـرج المشركـون إلى جبل قَُعْي ِقـَعـاـن ـ الجبل الذي في شمال الكعبة ـ ليروا المسلمين ،وقد قالوا فيما بينه م :إنه يقد م
عليك م وفد وهنته م حمي يثرب ،فأمر النبي صلى ال عليه وسل م أصحابه أن يرملوا الشواط الثلثة ،وأن يمشوا ما
بين الركنين .ول م يمنعه أن يأمره م أن يرملوا الشواط كلها إل البقاء عليه م ،إوانما أمره م بذلك ليري المشركين قوته كما أمره م بالضطباع ،أي أن يكشفوا المناكب اليمني ،ويضعوا طرفي الرداء على اليسري. ودخل رسول ال صلى ال عليه وسل م مكة من الثنية التي تطلعه على الَح ُجـوــن ـ وقد صف المشركون ينظرون إليه ـ فل م يزل يلبي حتى استل م الركن بِم ْحـ َج ـنِــه،ث م طاف ،وطاف المسلمون ،وعبد ال بن رواحة بين يدي رسول ال صلى ال عليه وسل م يرتجز متوشحًا بالسيف: وفي حديث أنس فقال عمر :يا ابن رواحة ،بين يدي رسول ال صلى ال عليه وسل م ،وفي حر م ال تقول الشعر؟ فقال له النبي صلى ال عليه وسل م :) َخّلـ عنه يا عمر ،فلهو أسرع فيه م من نضح النبل(.
وَر َمـَلـرسول ال صلى ال عليه وسل م والمسلمون ثلثة أشواط ،فلما رآه م المشركون قالوا :هؤلء الذين زعمت م أن الحمي قد وهنته م ،هؤلء أجلد من كذا وكذا. ولما فرغ من الطواف سعي بين الصفا والمرو ة ،فلما فرغ من السعي ،وقد وقف الهدي عند المرو ة ،قال :)هذا المنحر،
وكل فجاج مكة منحر( ،فنحر عند المرو ة ،وحلق هناك ،وكذلك فعل المسلمون ،ث م بعث ناسًا إلى َيْأُج جــ ،ليقيموا على السلح ،ويأتي الخرون فيقضون نسكه م ففعلوا.
وأقا م رسول ال صلى ال عليه وسل م بمكة ثلثًا ،فلما أصبح من اليو م الرابع أتوا عليًا فقالوا :قل لصاحبك :اخرج عنا فقد مضي الجل ،فخرج النبي صلى ال عليه وسل م ،ونزل بَس ِرـفـفأقا م بها. ولما أراد الخروج من مكة تبعته م ابنة حمز ة ،تنادى ،يا ع م يا ع م ،فتناولها علي ،واختص م فيها على وجعفر وزيد، فقضي النبي صلى ال عليه وسل م لجعفر ؛ لن خالتها كانت تحته. وفي هذه العمر ة تزوج النبي صلى ال عليه وسل م بميمونة بنت الحارث العامرية ،وكان رسول ال صلى ال عليه وسل م قبل الدخول في مكة بعث جعفر بن أبي طالب بين يديه إلى ميمونة ،فجعلت أمرها إلى العباس ،وكانت أختها أ م الفضل تحته ،فزوجها إياه ،فلما خرج من مكة خلف أبا رافع ليحمل ميمونة إليه حين يمشي ،فبني بها بسرف. وسميت هذه العمر ة بعمر ة القضاء ؛ إما لنها كانت قضاء عن عمر ة الُح َدـْيـبِـَية ،أو لنها وقعت حسب المقاضا ة ـ أي المصالحة ـ التي وقعت في الحديبية ،والوجه الثاني رجحه المحققون ،وهذه العمر ة تسمي بأربعة أسماء :القضاء، والقَ ِ ص لــح. ض ّي ــة ،والقصاص ،وال ّ وقــد أرسل رسول ال صلى ال عليه وسل م بعد الرجـوع مـن هذه العمر ة عد ة سرايا ،وهي كما يلي: ل .بعثه رسول ال صلى ال عليه وسل م إلى 1ـ سرية ابن أبي العوجاء ،في ذي الحجة سنة 7هـ في خمسين رج ً
ل شديدًا .جرح فيه أبو العوجاء، بني ُس لَـْي مـ ؛ ليدعوه م إلى السل م ،فقالوا :ل حاجة لنا إلى ما دعوتنا ،ث م قاتلوا قتا ً وأسر رجلن من العدو. 2ـ سرية غالب بن عبد ال إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بفََد كـ ،في صفر سنة 8هـ .بعث في مائتي رجل، فأصابوا من العدو نعما ،وقتلوا منه م قتلي. ض اـَع ةـ قد حشدت جموعًا كبير ة للغار ة على المسلمين، 3ـ سرية ذات أطلح في ربيع الول سنة 8هـ .كانت بنو قُ َ ل ،فلقوا العدو ،فدعوه م فبعث إليه م رسول ال صلى ال عليه وسل م كعب بن عمير النصاري في خمسة عشر رج ً إلى السل م ،فل م يستجيبوا لهـ م ،وأرشقوه م بالنبل حتى استشهد كله م إل رجل واحد ،فقد ار تُـ ّ ث من بين القتلي. ْ 4ـ سرية ذات ِع ْر ـق ـإلى بني هوازن ،في ربيع الول سنة 8هـ .كانت بنو هوازن قد أمدت العداء مر ة بعد أخري ل ،فاستاقوا َنَعما من العدو ،ول م يلقوا كيدًا. فأرسل إليها ُش َجـ اــع بن وهب السدي في خمسة وعشرين رج ً
معركة مؤتة
وهذه المعركة أكبر لقاء ُم ثْـِخ نــ ،وأعظ م حرب دامية خاضها المسلمون في حيا ة رسول ال صلى ال عليه وسل م ،وهي مقدمة وتمهيد لفتوح بلدان النصاري ،وقعت في جمادي الولي سنة 8هـ ،وفق أغسطس أو سبتمبر سنة 926م.
ومؤتة )بالض م فالسكون( هي قرية بأدني بلقاء الشا م ،بينها وبين بيت المقدس مرحلتان. سبب المعركة يـ ص َر ـ . وسبب هذه المعركة أن رسول ال صلى ال عليه وسل م بعث الحارث بن عمير الزدي بكتابه إلى عظي م ُب ْ
ل على البلقاء من أرض الشا م من قبل قيصر ـ فأوثقه رباطًا ،ث م فعرض له ُش َرـْحـ بِــيلبن عمرو الغساني ـ وكان عام ً قدمه ،فضرب عنقه.
وكان قتل السفراء والرسل من أشنع الجرائ م ،يساوي بل يزيد على إعلن حالة الحرب ،فاشتد ذلك على رسول ال صلى ال عليه وسل م حين نقلت إليه الخبار ،فجهز إليه م جيشًا قوامه ثلثة آلف مقاتل ،وهو أكبر جيش إسلمي ل م يجتمع قبل ذلك إل في غزو ة الحزاب.
أمراء الجيش ووصية رسول ال صلى ال عليه وسل م إليه م أمر رسول ال صلى ال عليه وسل م على هذا البعث زيد بن حارثة ،وقال :)إن قتل زيد فجعفر ،إوان قتل جعفر فعبد ال بن رواحة( ،وعقد له م لواء أبيض ،ودفعه إلى زيد بن حارثة. وأوصاه م أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير ،وأن يدعوا َم ْنـ هناك إلى السل م ،فإن أجابوا إوال استعانوا بال عليه م، وقاتلوه م ،وقال له م :)اغزوا بس م ال ،في سبيل الَ ،م ْنـ كفر بال ،ل تغدروا ،ول تغلوا ،ول تقتلوا وليداً ول امرأ ة ،ول ل ول شجر ة ،ول تهدموا بناء(. ل بصومعة ،ول تقطعوا نخ ً كبي ًار فانيًا ،ول منعز ً توديع الجيش السلمي وبكاء عبد ال بن رواحة ولما تهيأ الجيش السلمي للخروج حضر الناس ،وودعوا أمراء رسول ال صلى ال عليه وسل م ،وسلموا عليه م، وحينئذ بكي أحد أمراء الجيش ـ عبد ال بن رواحة ـ فقالوا :ما يبكيك؟ فقال :أما وال ما بي حب الدنيا ،ول صبابة بك م ،ولكني سمعت رسول ال صلى ال عليه وسل م يق أر آية من كتاب ال يذكر فيها النار:} َ إوِان ّم نـُك ْ مـ ِإّل َواِر ُدـَهـاـَك اـَن ع لَــى ر ّبـَكـح تْـم اـ ّم ْقـ ِ ض ّيــا{ ]مري م ،[71:فلست أدري كيف لي بالصدور بعد الورود؟ فقال المسلمون :صحبك م ال َ َ َ ً بالسلمة ،ودفع عنك م ،وردك م إلينا صالحين غانمين ،فقال عبد ال بن رواحة:
لكنني أسأل الرحمن مغفــر ة ** وضربة ذات فرع تقذف الزبدا أو طعنة بيدي حران مجـهز ة ** بحربة تنفذ الحشـاء والكبدا حتى يقال إذا مروا على جدثي ** أرشده ال من غاز وقد رشدا ث م خرج القو م ،وخرج رسول ال صلى ال عليه وسل م مشيعًا له م حتى بلغ ثنية الوداع ،فوقف ووّد عـه م. تحرك الجيش السلمي ،ومباغتته حالة رهيبة وتحرك الجيش السلمي في اتجاه الشمال حتى نزل َم َعـان ،من أرض الشا م ،مما يلي الحجاز الشمإلى ،وحينئذ نقلت
إليه م الستخبارات بأن هرقل نازل بمآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الرو م ،وانض م إليه م من لَْخ م ـ وُج َذـاـ م وَب ْلـقَْي نـ وَبْهَراء وَب ِلـي مائة ألف. المجلس الستشاري بَم َعـان
ل م يكن المسلمون أدخلوا في حسابه م لقاء مثل هذا الجيش العرمر م ـ الذي بوغتوا به في هذه الرض البعيد ة ـ وهل يهج م جيش صغير ،قوامه ثلثة آلف مقاتل فحسب ،على جيش كبير عرمر م مثل البحر الخض م ،قوامه مائتا ألف مقاتل؟ حار المسلمون ،وأقاموا في َم َعـان ليلتين يفكرون في أمره م ،وينظرون ويتشاورون ،ث م قالوا :نكتب إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فنخبره بعدد عدونا ،فإما أن يمدنا بالرجال ،إواما أن يأمرنا بأمره فنمضي له.
ل :يا قو م ،وال إن التي تكرهون لَلِّتي خرجت م تطلبون: ولكن عبد ال بن رواحة عارض هذا الرأي ،وشجع الناس ،قائ ً الشهاد ة ،وما نقاتل الناس بعدد ول قو ة ول كثر ة ،ما نقاتله م إل بهذا الدين الذي أكرمنا ال به ،فانطلقوا ،فإنما هي
إحدي الحسنيين ،إما ظهور إواما شهاد ة .وأخي ًار استقر الرأي على ما دعا إليه عبد ال بن رواحة. الجيش السلمي يتحرك نحو العدو وحينئذ بعد أن قضي الجيش السلمي ليلتين في معان ،تحركوا إلى أرض العدو ،حتى لقيته م جموع هرقل بقرية من فـ ث م دنا العدو ،وانحاز المسلمون إلى مؤتة ،فعسكروا هناك ،وتعبأوا للقتال ،فجعلوا على قرى البلقاء يقال لهاََ] :ش اـِر [
طَبة بن قتاد ة الُعْذ ِرـي،وعلى الميسر ة عباد ة بن مالك النصاري. ميمنته م قُ ْ بداية القتال ،وتناوب القواد
وهناك في مؤتة التقي الفريقان ،وبدأ القتال المرير ،ثلثة آلف رجل يواجهون هجمات مائتي ألف مقاتل .معركة عجيبة تشاهدها الدنيا بالدهشة والحير ة ،ولكن إذا هبت ريح اليمان جاءت بالعجائب. أخذ الراية زيد بن حارثة ـ ِح ّ ب ـ رسول ال صلى ال عليه وسل م ـ وجعل يقاتل بض ارو ة بالغة ،وبسالة ل يوجد لها نظير إل في أمثاله من أبطال السل م ،فل م يزل يقاتل ويقاتل حتى شاط في رماح القو م ،وخر صريعًا.
ل منقطع النظير ،حتى إذا أرهقه القتال اقتح م عن فرسه وحينئذ أخذ الراية جعفر بن أبي طالب ،وطفق يقاتل قتا ً
الشقراء فعقرها ،ث م قاتل حتى قطعت يمينه ،فأخذ الراية بشماله ،ول م يزل بها حتى قطعت شماله ،فاحتضنها بعضديه،
فل م يزل رافعًا إياها حتى قتل .يقال :إن روميًا ضربه ضربًة قطعته نصفين ،وأثابه ال بجناحيه جناحين في الجنة، يطير بهما حيث يشاء ؛ ولذلك سمي بجعفر الطيار ،وبجعفر ذي الجناحين.
روى البخاري عن نافع؛ أن ابن عمر أخبره :أنه وقف على جعفر يؤمئذ وهو قتيل ،فعددت به خمسين بين طعنة وضربة ،ليس منها شيء في دبره ،يعني ظهره. وفي رواية أخري قال ابن عمر :كنت فيه م في تلك الغزو ة ،فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلي ،ووجدنا ما في جسده بضعًا وتسعين من طعنة ورمية .وفي رواية العمري عن نافع زياد ة] :فوجدنا ذلك فيما أقبل من جسده[. ولما قتل جعفر بعد أن قاتل بمثل هذه الض ارو ة والبسالة ،أخذ الراية عبد ال بن رواحة ،وتقد م بها ،وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه ،ويتردد بعض التردد ،حتى حاد حيد ة ث م قال: ث م نزل ،فأتاه ابن ع م له بَعْر ق ـمن لح م فقال :شد بهذا صلبك ،فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت ،فأخذه من يده فانتهس منه َنْهَس ةـ ،ث م ألقاه من يده ،ث م أخذ سيفه فتقد م ،فقاتل حتى قتل. الراية إلى سيف من سيوف ال وحينئذ تقد م رجل من بني َع ْجـ لــن ـ اسمه ثابت بن أقر م ـ فأخذ الراية وقال :يا معشر المسلمين ،اصطلحوا على رجل
ل مري ًرا ،فقد روي منك م ،قالوا :أنت .قال :ما أنا بفاعل ،فاصطلح الناس على خالد بن الوليد ،فلما أخذ الراية قاتل قتا ً البخاري عن خالد بن الوليد قال :لقد انقطعت في يدي يو م مؤتة تسعة أسياف ،فما بقي في يدي إل صفيحة يمانية.
وفي لفظ آخر :لقد دق في يدي يو م مؤتة تسعة أسياف ،وصبرت في يدي صفيحة لي يمانية. وقد قال رسول ال صلى ال عليه وسل م يو م مؤتة ـ مخب ًار بالوحي ،قبل أن يأتي إلى الناس الخبر من ساحة القتال: )أخذ الراية زيد فأصيب ،ث م أخذ جعفر فأصيب ،ث م أخذ ابن رواحة فأصيب ـ وعيناه تذرفان ـ حتى أخذ الراية سيف
من سيوف ال ،حتى فتح ال عليه م(. نهاية المعركة ومع الشجاعة البالغة والبسالة والض ارو ة المريرتين ،كان مستغربًا جدًا أن ينجح هذا الجيش الصغير في الصمود أما تيارات ذلك البحر الغطمط م من جيوش الرو م .ففي ذلك الوقت أظهر خالد بن الوليد مهارته ونبوغه في تخليص
المسلمين مما ورطوا أنفسه م فيه. واختلفت الروايات كثي اًر فيما آل إليه أمر هذه المعركة أخي ًار .ويظهر بعد النظر في جميع الروايات أن خالد بن الوليد نجح في الصمود أما م جيش الرومان طول النهار ،في أول يو م من القتال .وكان يشعر بمسيس الحاجة إلى مكيد ة
حربية تلقي الرعب في قلوب الرومان حتى ينجح في النحياز بالمسلمين من غير أن يقو م الرومان بحركات المطارد ة .فقد كـان يعرف جيدًا أن الفلت من براثنه م صعب جدًا لو انكشف المسلمون ،وقا م الرومان بالمطارد ة. فلما أصبح اليو م الثاني غير أوضاع الجيش ،وعبأه من جديد ،فجعل مقدمته ساقه ،وميمنته ميسر ة ،وعلى العكس، فلما رآه م العداء أنكروا حاله م ،وقالوا :جاءه م مدد ،فرعبوا ،وصار خالد ـ بعد أن تراءي الجيشان ،وتناوشا ساعة ـ ل ،مع حفظ نظا م جيشه ،ول م يتبعه م الرومان ظنًا منه م أن المسلمين يخدعونه م ،ويحاولون ل قلي ً يتأخر بالمسلمين قلي ً القيا م بمكيد ة ترمي به م في الصحراء.
وهكذا انحاز العدو إلى بلده ،ول م يفكر في القيا م بمطارد ة المسلمين ونجح المسلمون في النحياز سالمين ،حتى عادوا إلى المدينة. قتلى الفريقين ل ،أما الرومان ،فل م يعرف عدد قتله م ،غير أن تفصيل المعركة يدل واستشهد يومئذ من المسلمين اثنا عشر رج ً على كثرته م. أثر المعركة وهذه المعركة إوان ل م يحصل المسلمون بها على الثأر ،الذي عانوا م اررتها لجله ،لكنها كانت كبير ة الثر لسمعة المسلمين ،إنها ألقت العرب كلها في الدهشة والحير ة ،فقد كانت الرومان أكبر وأعظ م قو ة على وجه الرض ،وكانت العرب تظن أن معني جلدها هو القضاء على النفس وطلب الحتف بالظّْلف ،فكان لقاء هذا الجيش الصغير ـ ثلثة آلف مقاتل ـ مع ذلك الجيش الضخ م العرمر م الكبير ـ مائتا ألف مقاتل ـ ث م الرجوع عن الغزو من غير أن تلحق به
خسار ة تذكر .كان كل ذلك من عجائب الدهر ،وكان يؤكد أن المسلمين من طراز آخر غير ما ألفته العرب وعرفته، وأنه م مؤيدون ومنصورون من عند ال ،وأن صاحبه م رسول ال حقًا .ولذلك نري القبائل اللدود ة التي كانت ل تزال
طـَفان وُذ ْبـَيـان وفََزاَر ةوغيرها. تثور على المسلمين جنحت بعد هذه المعركة إلى السل م ،فأسلمت بنو ُس لَـْي مـ وأْش َجـعـ وَغ َ
وكانت هذه المعركة بداية اللقاء الدامي مع الرومان ،فكانت توطئة وتمهيدًا لفتوح البلدان الرومانية ،واحتلل المسلمين الراضي البعيد ة النائية.
سرية ذات الّس لـِس ل ـ ولما عل م رسول ال صلى ال عليه وسل م بموقف القبائل العربية ـ التي تقطن مشارف الشا م ـ في معركة مؤتة من اجتماعه م إلى الرومان ضد المسلمين ،شعر بمسيس الحاجة إلى القيا م بحكمة بالغة توقع الفرقة بينها وبين الرومان، وتكون سببًا للئتلف بينها وبين المسلمين ،حتى ل تتحشد مثل هذه الجموع الكبير ة مر ة أخري.
واختار لتنفيذ هذه الخطة عمرو بن العاص ؛ لن أ م أبيه كانت امرأ ة من َب ِلـي .فبعثه إليه م في جمادي الخر ة سنة 8 ض اـَع ةـ قد تجمعوا ،يريدون أن يدنوا هـ على إثر معركة مؤتة ؛ ليستألفه م ،ويقال :بل نقلت الستخبارات أن جمعًا من قُ َ
من أطراف المدينة ،فبعثه إليه ،ويمكن أن يكون السببان اجتمعا معًا.
وعقد رسول ال صلى ال عليه وسل م لعمرو بن العاص لواء أبيض ،وجعل معه راية سوداء ،وبعثه في ثلثمائة من سرا ة المهاجرين والنصار ،ومعه م ثلثون فرسًا ،وأمره أن يستعين بمن مر به من َب ِلـي وُع ْذـَرـ ةَوَب ْلـقَْي ِنـ .فسار الليل َو كـَم َنـالنهار ،فلما قرب من القو م بلغه أن له م جمعًا كثي ًرا ،فبعث رافع بن َم ِكـيـٍث الُج هَـِني إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م يستمده ،فبعث إليه أبا عبيد ة بن الجراح في مائتين ،وعقد له لواء ،وبعث له سرا ة المهاجرين والنصار ـ
فيه م أبو بكر وعمر ـ وأمره أن يلحق بعمرو ،وأن يكونا جميعًا ول يختلفا .فلما لحق به أراد أبو عبيد ة أن يؤ م الناس،
فقال عمرو :إنما قدمت على مددا ،وأنا المير ،فأطاعه أبو عبيد ة ،فكان عمرو يصلي بالناس.
ض اـَع ةـ ،فدوخها حتى أتي أقصي بلده م ،ولقي في آخر ذلك جمعًا ،فحمل عليه م المسلمون وسار حتى وطئ بلد قُ َ فهربوا في البلد وتفرقوا.
وبعث عوف بن مالك الشجعي بريدًا إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فأخبره بقفوله م وسلمته م ،وما كان في غزاته م.
وذات السلسل ]بض م السين الولي وفتحها :لغتان[ بقعة وراء وادي القَُري ،بينها وبين المدينة عشر ة أيا م .وذكر ابن إسحاق أن المسلمين نزلوا على ماء بأرض ُج َذـاـ م يقال له :السلسل ،فسمي ذات السلسل. سرية أبي قتاد ة إلى خضر ة طـَفان كانوا يتحشدون في َخ ِ ضـ َرــ ة وهي أرض ُم َحـ اـِر بـ كانت هذه السرية في شعبان سنة 8هـ ؛ وذلك لن بني َغ َ ل ،فقتل منه م ،وَس َبـي وغن م ،وكانت بَنْج د ـ ـ فبعث إليه م رسول ال صلى ال عليه وسل م أبا قتاد ة في خمسة عشر رج ً غيبته خمس عشر ة ليلة.
غزو ة فتح مكة
قال ابن القي م :هو الفتح العظ م الذي أعز ال به دينه ورسوله وجنده وحزبه المـين ،واستنقذ به بلــده وبيته الذي جعله هدي للعالمين ،من أيدي الكفار والمشركين ،وهو الفتح الذي استبشر بـه أهـل السمـاء ،وضـربت أطناب ِع ّزــه على مناكب الجوزاء ،ودخل الناس به فــي ديــن ال أفواجـًا ،وأشرق به وجه الرض ضياء وابتهاجًا ا .هـ. سبب الغزو ة قدمنا في وقعة الحديبية أن بندًا من بنود هذه المعاهد ة يفيد أن من أحب أن يدخل في عقد محمد صلى ال عليه
وسل م وعهده دخل فيه ،ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهده م دخل فيه ،وأن القبيلة التي تنض م إلى أي الفريقين تعتبر جزءًا من ذلك الفريق ،فأي عدوان تتعرض له أي من تلك القبائل يعتبر عدوانًا على ذلك الفريق. وحسب هذا البند دخلت ُخ َزــاَع ةـفي عهد رسول ال صلى ال عليه وسل م ،ودخلت بنو بكر في عهد قريش ،وصارت كل من القبيلتين في أمن من الخري ،وقد كانت بين القبيلتين عداو ة وتوترات في الجاهلية ،فلما جاء السل م ،ووقعت هذه الهدنة ،وأمن كل فريق من الخر ـ اغتنمها بنو بكر ،وأرادوا أن يصيبوا من خزاعة الثأر القدي م ،فخرج َنْو َفــل بن
ل ،وه م على ماء يقال له: معاوية الّد يـلي في جماعة من بني بكر في شهر شعبان سنة 8هـ ،فأغاروا على خزاعة لي ً ل ،وتناوشوا واقتتلوا ،وأعانت قريش بني بكر بالسلح ،وقاتل معه م رجال من قريش ]الَوتِــير[ فأصابوا منه م رجا ً مستغلين ظلمة الليل ،حتى حازوا خزاعة إلى الحر م ،فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر :يا نوفل ،إنا قد دخلنا الحر م ،إلهك إلهك ،فقال كلمة عظيمة :ل إله اليو م يا بني بكر ،أصيبوا ثأرك م .فلعمري إنك م لَتسِر قُـون في الحر م ،أفل تصيبون ثأرك م فيه؟
ولما دخلت خزاعة مكة لجأوا إلى دار ُبَد ْيـلـ بن َو ْرـقَــاءالخزاعي ،إوالى دار مولي له م يقال له :رافع. وأسرع عمرو بن سال م الخزاعي ،فخرج حتى قد م على رسول ال صلى ال عليه وسل م المدينة ،فوقف عليه ،وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس فقال: فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)نصرت يا عمرو بن سال م( ،ث م عرضت له سحابة من السماء ،فقال :)إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب(. ث م خرج ُبَد ْيـلـ بن َو ْرـقَــاءالخزاعي في نفر من ُخ َزــاَع ةـ،حتى قدموا على رسول ال صلى ال عليه وسل م المدينة، فأخبروه بمن أصيب منه م ،وبمظاهر ة قريش بني بكر عليه م ،ث م رجعوا إلى مكة.
أبو سفيان يخرج إلى المدينة ليجدد الصلح ول شك أن ما فعلت قريش وحلفاؤها كان غد ًار محضًا ونقضًا صريحًا للميثاق ،ل م يكن له أي مبرر ،ولذلك سرعان ما أحست قريش بغدرها ،وخافت وشعرت بعواقبه الوخيمة ،فعقدت مجلسًا استشاريًا ،وقررت أن تبعث قائدها أبا سفيان
ل لها ليقو م بتجديد الصلح. ممث ً
وقد أخبر رسول ال صلى ال عليه وسل م أصحابه بما ستفعله قريش إزاء غدرته م .قال :)كأنك م بأبي سفيان قد جاءك م ليشد الَعْقَد ،ـ ويزيد في المد ة(. وخرج أبو سفيان ـ حسب ما قررته قريش ـ فلقي بديل بن ورقاء بُعْس فَـان ـ وهو راجع من المدينة إلى مكة ـ فقال :من
أين أقبلت يا بديل؟ ـ وظن أنه أتي النبي صلى ال عليه وسل م ـ فقال :سرت في خزاعة في هذا الساحل وفي بطن هذا
الوادي .قال :أو ما جئت محمداً؟ قال :ل. فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان :لئن كان جاء المدينة لقد علف بها النوي ،فأتي مبرك راحلته ،فأخذ من بعرها ،ففته ،فرأي فيها النوي ،فقال :أحلف بال لقد جاء بديل محمدًا. وقد م أبو سفيان المدينة ،فدخل على ابنته أ م حبيبة ،فلما ذهب ليجلس على فراش رسول ال صلى ال عليه وسل م طوته عنه ،فقال :يا بنية ،أرغبت بي عن هذا الفراش ،أ م رغبت به عني؟ قالت :بل هو فراش رسول ال صلى ال عليه وسل م ،وأنت رجل مشرك نجس .فقال :وال لقد أصابك بعدي شر. ث م خرج حتى أتي رسول ال صلى ال عليه وسل م فكلمه ،فل م يرد عليه شيئًا ،ث م ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكل م
رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فقال :ما أنا بفاعل .ث م أتي عمر بن الخطاب فكلمه ،فقال :أأنا أشفع لك م إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م؟ فوال لو ل م أجد إل الّذ ّرـ لجاهدتك م به ،ث م جاء فدخل على على بن أبي طالب ،وعنده فاطمة ،وحسن ،غل م يدب بين يديهما ،فقال :يا علي ،إنك أمس القو م بي رحمًا ،إواني قد جئت في حاجة ،فل أرجعن كما جئت خائبًا ،اشفع لي إلى محمد ،فقال :ويحك يا أبا سفيان ،لقد عز م رسول ال صلى ال عليه وسل م
على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه .فالتفت إلى فاطمة ،فقال :هل لك أن تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس ،فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت :وال ما يبلغ ابني ذاك أن يجير بين الناس ،وما يجير أحد على رسول ال صلى
ال عليه وسل م. وحيئذ أظلمت الدنيا أما م عيني أبي سفيان ،فقال لعلى بن أبي طالب في هلع وانزعاج ويأس وقنوط :يا أبا الحسن، إني أري المور قد اشتدت علي ،فانصحني ،قال :وال ما أعل م لك شيئًا يغني عنك .ولكنك سيد بني كنانة ،فق م فأجر بين الناس ،ث م اْلَح ْقـ بأرضك .قال :أو تري ذلك مغنيًا عني شيئاً؟ قال :ل وال ما أظنه ،ولكني ل م أجد لك غير ذلك.
فقا م أبو سفيان في المسجد ،فقال :أيها الناس ،إني قد أجرت بين الناس ،ث م ركب بعيره ،وانطلق.
ولما قد م على قريش ،قالوا :ما وراءك؟ قال :جئت محمدًا فكلمته ،فوال ما رد على شيئًا ،ث م جئت ابن أبي قحافة فل م
أجد فيه خي ًرا ،ث م جئت عمر بن الخطاب ،فوجدته أدني العدو ،ث م جئت عليًا فوجدته ألين القو م ،قد أشار على بشيء
صنعته ،فوال ما أدري هل يغني عني شيئًا أ م ل؟ قالوا :وب م أمرك؟ قال :أمرني أن أجير بين الناس ،ففعلت ،قالوا:
فهل أجاز ذلك محمد؟ قال :ل .قالوا :ويلك ،إن زاد الرجل على أن لعب بك .قال :ل وال ما وجدت غير ذلك. التهيؤ للغزو ة ومحاولة الخفاء
يؤخذ من رواية الطبراني أن رسول ال صلى ال عليه وسل م أمر عائشة ـ قبل أن يأتي إليه خبر نقض الميثاق بثلثة أيا م ـ أن تجهزه ،ول يعل م أحد ،فدخل عليها أبو بكر ،فقال :يابنية ،ما هذا الجهاز؟ قالت :وال ما أدري .فقال :وال ما هذا زمان غزو بني الصفر ،فأين يريد رسول ال؟ قالت :وال ل عل م لي ،وفي صباح الثالثة جاء عمرو بن سال م الخزاعي في أربعين راكبًا ،وارتجز :يا رب إني ناشد محمدًا ...البيات .فعل م الناس بنقض الميثاق ،وبعد عمرو جاء
بديل ،ث م أبو سفيان ،وتأكد عند الناس الخبر ،فأمره م رسول ال صلى ال عليه وسل م بالجهاز ،وأعلمه م أنه سائر إلى مكة ،وقال :)الّله م خذ العيون والخبار عن قريش حتى نبغتها في بلدها(. وزياد ة في الخفاء والتعمية بعث رسول ال صلى ال عليه وسل م سرية قوامها ثمانية رجال ،تحت قياد ة أبي قتاد ة بن ِ ض مــ ،فيما بين ذي َخ َشـبـ وذي المرو ة ،على ثلثة ُبُر دـمن المدينة ،في أول شهر رمضان سنة 8هـ ِر ْبـعـ يــ،إلى بطن إ َ ؛ ليظن الظان أنه صلى ال عليه وسل م يتوجه إلى تلك الناحية ،ولتذهب بذلك الخبار ،وواصلت هذه السرية سيرها، حتى إذا وصلت حيثما أمرت بلغها أن رسول ال صلى ال عليه وسل م خرج إلى مكة ،فسارت إليه حتى لحقته. وكتب حاطب بن أبي َب ْلـتََع ةـ إلى قريش كتابًا يخبره م بمسير رسول ال صلى ال عليه وسل م إليه م ،ث م أعطاه امرأ ة، لـ على أن تبلغه قريشًا ،فجعلته في قرون رأسها ،ث م خرجت به ،وأتي رسول ال صلى ال عليه وسل م وجعل لها ُج ْعـ ً الخبر من السماء بما صنع حاطب ،فبعث عليًا والمقداد والزبير بن العوا م وأبا َم ْرـ ثَــدالَغَنـِوي فقال :)انطلقوا حتى تأتوا ض ـَة ـَخ اــخ ،فإن بها ظعينة معها كتاب إلى قريش( ،فانطلقوا تعادي به م خيله م حتى وجدوا المرأ ة بذلك المكان، َر ْو ـ َ
فاستنـزلوها ،وقالوا :معك كتاب؟ فقالت :ما معي كتاب ،ففتشوا رحلها فل م يجدوا شيئًا .فقال لها علي :أحلف بال ،ما
كذب رسول ال صلى ال عليه وسل م ول كذبنا ،وال لتخرجن الكتاب أو لنجردنك .فلما رأت الجد منه قالت :أعرض، فأعرض ،فحلت قرون رأسها ،فاستخرجت الكتاب منها ،فدفعته إليه م ،فأتوا به رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فإذا فيه :)من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش( يخبره م بمسير رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فدعا رسول ال صلى ال عليه وسل م حاطبًا ،فقال :)ما هذا يا حطب؟( فقال :ل تَْع َجـ ْل ـ على يا رسول ال .وال إني لمؤمن بال ورسوله ،وما ص قـًـا في قريش ؛ لست من أْن فَـِس هـ م ،ولي فيه م أهل وعشير ة وولد ،وليس لي فيه م ارتددت ول بدلت ،ولكني كنت ام أر ُم ْلـ َ قرابة يحمونه م ،وكان من معك له قرابات يحمونه م ،فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عنده م يدًا يحمون بها قرابتي.
فقال عمر بن الخطاب :دعني يا رسول ال أضرب عنقه ،فإنه قد خان ال ورسوله ،وقد نافق ،فقال رسول ال صلى
ال عليه وسل م :)إنه قد شهد بد ًرا ،وما يدريك يا عمر لعل ال قد اطلع على أهل بدر فقال :اعملوا ما شئت م فقد غفرت تعينا عمر ،وقال :ال ورسوله أعل م. لك م( ،فَذ َرـفَـ ْ
وهكذا أخذ ال العيون ،فل م يبلغ إلى قريش أي خبر من أخبار تجهز المسلمين وتهيئه م للزحف والقتال. الجيش السلمي يتحرك نحو مكة ولعشر خلون من شهر رمضان المبارك 8هـ ،غادر رسول ال صلى ال عليه وسل م المدينة متجهًا إلى مكــة ،في عشر ة ألف من الصحابة رضي ال عنه م ،واستخـلف على المدينة أبا ُرْه مـالغفاري.
ولما كان بالُج ْحـ فَــة ـ أو فوق ذلك ـ لقيه عمه العباس بن عبد المطلب ،وكان قد خرج بأهله وعياله مسلمًا مهاج ًرا ،ث م لما كان رسول ال صلى ال عليه وسل م بالبواء لقيه ابن عمه أبو سفيان ابن الحارث وابن عمته عبد ال بن أبي أمية ،فأعرض عنهما ،لما كان يلقاه منهما من شد ة الذي والهجو ،فقالت له أ م سلمة :ل يكن ابن عمك وابن عمتك أشقي الناس بك .وقال على لبي سفيان بن الحارث :ائت رسول ال صلى ال عليه وسل م من قبل وجهه ،فقل له ما قال إخو ة يوسف ليوسف :}َقالُوْا َتاللِّه لَقَْد آثََر َكـ اللّهُ َع لَـْي َنـاـ َو إِانـ ُك ّنـا لََخ اـِط ئِــيَن{ ]يوسف ،[91:فإنه ل يرضي أن يكون ب َع لَـْي ُكـُ مـ اْلَيْو َ م ـَيْغ ِفـُرـ ل .ففعل ذلك أبو سفيان ،فقال له رسول ال صلى ال عليه وسل م :}َقاَل َ أحد أحسن منه قو ً ل تَثَْر يـ َ اللّهُ لَُك ْ مـ َوُهـَو أَْر َحـُ مـالّراِح ِمـيـ َ{ن ]يوسف ،[92:فأنشده أبو سفيان أبياتًا منها: طـّر د؟ـ(. طّر ْدـتَـِني كل ُم َ ت َ فضرب رسول ال صلى ال عليه وسل م صدره وقال :)أن َ الجيش السلمي ينزل بم ّرـ ال ّ ظْهَران َ وواصل رسول ال صلى ال عليه وسل م سيره وهو صائ م ،والناس صيا م ،حتى بلغ الُك َدـْيـدـ ـ وهو ماء بين ُع ْسـفَـان وقَُد ْيـدـ ـ فأفطر ،وأفطر الناس معه .ث م واصل سيره حتى نزل بمر الظهران ـ وادي فاطمة ـ نزله عشاء ،فأمر الجيش ،فأوقدوا النيران ،فأوقدت عشر ة آلف نار ،وجعل رسول ال صلى ال عليه وسل م على الحرس عمر بن الخطاب رضي ال عنه أبو سفيان بين يدي رسول ال صلى ال عليه وسل م وركب العباس ـ بعد نزول المسلمين بمر الظهران ـ بغلة رسول ال صلى ال عليه وسل م البيضاء ،وخرج يلتمس ،لعله يجد بعض الح ّ طــابة أو أحدًا يخبر قريشًا ليخرجوا يستأمنون رسول ال صلى ال عليه وسل م قبل أن يدخلها. َ وكان ال قد عمي الخبار عن قريش ،فه م على َو َجـ ٍل ـوترقب ،وكان أبو سفيان يخرج يتجسس الخبار ،فكان قد خرج هو وحكي م بن حزا م ،وبديل بن ورقاء يتجسسون الخبار.
قال العباس :وال إني لسير عليها ـ أي على بغلة رسول ال صلى ال عليه وسل م ـ إذ سمعت كل م أبي سفيان وبديل بن ورقاء ،وهما يتراجعان ،وأبو سفيان يقول :ما رأيت كالليلة نيرانًا قط ول عسك ًار .قال :يقول بديل :هذه وال خزاعة، َح َمـَشـتْـها الحرب ،فيقول أبو سفيان :خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.
ظـَلة؟ فعرف صوتي ،فقال :أبا الفضل؟ قلت :نع م .قال :مالك؟ فداك أبي قال العباس :فعرفت صوته ،فقلت :أبا َح ْنـ َ
وأمي .قلت :هذا رسول ال صلى ال عليه وسل م في الناس ،واصباح قريش وال.
قال :فما الحيلة فداك أبي وأمي؟ ،قلت :وال لئن ظفر بك ليضربن عنقك ،فاركب في عجز هذه البغلة ،حتى آتي بك رسول ال صلى ال عليه وسل م فأستأمنه لك ،فركب خلفي ،ورجع صاحباه. قال :فجئت به ،فكلما مررت به على نار من نيران المسلمين ،قالوا :من هذا؟ فإذا أروا بغلة رسول ال صلى ال عليه وسل م وأنا عليها قالوا :ع م رسول ال صلى ال عليه وسل م على بغلته .حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال :من هذا؟ وقا م إلى ،فلما رأي أبا سفيان على عجز الدابة قال :أبو سفيان ،عدو ال؟ الحمد ل الذي أمكن منك بغير عقد ت البغلة فسبقت ،فاقتحمت عن البغلة ،فدخلت ول عهد ،ث م خرج يشتد نحو رسول ال صلى ال عليه وسل م ،وركض ُ على رسول ال صلى ال عليه وسل م ،ودخل عليه عمر ،فقال :يا رسول ال ،هذا أبو سفيان فدعني أضرب عنقه، قال :قلت :يا رسول ال ،إني قد أجرته ،ث م جلست إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م فأخذت برأسه ،فقلت :وال ل ل يا عمر ،فوال لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما يناجيه الليلة أحد دوني ،فلما أكثر عمر في شأنه قلت :مه ً
ل يا عباس ،فوال لسلمك كان أحب إلى من إسل م الخطاب ،لو أسل م ،وما بي إل أني قد قلت مثل هذا ،قال :مه ً عرفت أن إسلمك كان أحب إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م من إسل م الخطاب.
فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)اذهب به يا عباس إلى رحلك ،فإذا أصبحت فأتني به( ،فذهبت ،فلما أصبحت غدوت به إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فلما رآه قال :)ويحك يا أبا سفيان ،أل م يأن لك أن تعل م أن ل إله إل ال؟( قال :بأبي أنت وأمي ،ما أحلمك وأكرمك وأوصلك؟ لقد ظننت أن لو كان مع ال إله غيره لقد أغني عني شيئًا بعد.
قال :)ويحك يا أبا سفيان ،أل م يأن لك أن تعل م أني رسول ال؟( ،قال :بأبي أنت وأمي ،ما أحلمك وأكرمك وأوصلك: أما هذه فإن في النفس حتى الن منها شيء .فقال له العباس :ويحك أسل م ،واشهد أن ل إله إل ال ،وأن محمدًا
رسول ال ،قبل أن تضرب عنقك ،فأسل م وشهد شهاد ة الحق.
قال العباس :يا رسول ال ،إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئًا .قال :)نع م ،من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ،ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ،ومن دخل المسجد الحرا م فهو آمن(.
الجيش السلمي يغادر مر الظهران إلى مكة وفي هذا الصباح ـ صباح يو م الثلثاء للسابع عشر من شهر رمضان سنة 8هـ ـ غادر رسول ال صلى ال عليه طـِ م الجبل ،حتى تمر به جنود وسل م مر الظهران إلى مكة ،وأمر العباس أن يحبس أبا سفيان بمضيق الوادي عند َخ ْ
ال فيراها ،ففعل ،فمرت القبائل على راياتها ،كلما مرت به قبيلة قال :يا عباس ،من هذه؟ فيقول ـ مثل ـ سلي م ،فيقول:
مإلى وِلُس لَـْي مـ؟ ث م تمر به القبيلة فيقول :يا عباس ،من هؤلء؟ فيقولُ :م َزـْيـَنـة،فيقول :ما لي ولمزينة؟ حتى نفذت القبائل ،ما تمر به قبيلة إل سأل العباس عنها ،فإذا أخبره قال :مالي ولبني فلن؟ حتى مر به رسول ال صلى ال عليه وسل م في كتيبته الخضراء ،فيها المهاجرون والنصار ،ل يري منه م إل الَح َدـقـ من الحديد ،قال :سبحان ال! يا عباس ،من هؤلء؟ قال :هذا رسول ال صلى ال عليه وسل م في المهاجرين والنصار ،قال :ما لحد بهؤلء ِقَب ٌلـ ول ك ابن أخيك اليو م عظيمًا .قال العباس :يا أبا سفيان ،إنها النبو ة، طاقة .ث م قال :وال يا أبا الفضل ،لقد أصبح ُم ْلـ ُ
قال :فنع م إذن.
وكانت راية النصار مع سعد بن عباد ة ،فلما مر بأبي سفيان قال له :اليو م يو م الملحمة ،اليو م تُْس تَـَح ّل ـ الُح ْرـَمـةـ،اليـو م
أذل ال قـريشًا .فلما حـاذي رسول ال صلى ال عليه وسل م أبا سفيان قال :يا رسول ال ،أل م تسمع ما قال سعد؟ قال:
)وما قال؟( فقال :قال كذا وكذا .فقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف :يا رسول ال ،ما نأمن أن يكون له في قريش صولة ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)بل اليو م يو م تُع ّ ظ م فيه الكعبة ،اليو م يو م أعز ال فيه قريشًا( ث م أرسل َ إلى سعد فنزع منه اللواء ،ودفعه إلى ابنه قيس ،ورأي أن اللواء ل م يخرج عن سعد .وقيل :بل دفعه إلى الزبير. قريش تباغت زحف الجيش السلمي ولما مر رسول ال صلى ال عليه وسل م بأبي سفيان ومضي قال له العباس :النجاء إلى قومك .فأسرع أبو سفيان
حتى دخل مكة ،وصرخ بأعلى صوته :يا معشر قريش ،هذا محمد ،قد جاءك م فيما ل قبل لك م به .فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن .فقامت إليه زوجته هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت :اقتلوا الَح ِمـيـت الدس م الخمش الساقين ،قُّبَح طِليَع ةـ قو م. من َ قال أبو سفيان :ويلك م ،لتغرنك م هذه من أنفسك م ،فإنه قد جاءك م بما ل قبل لك م به ،فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن .قالوا :قاتلك ال ،وما تغني عنا دارك؟ قال :ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ،ومن دخل المسجد فهو آمن .فتفرق الناس إلى دوره م إوالى المسجد ،ووبشوا أوباشًا له م ،وقالوا :نقد م هؤلء ،فإن كان لقريش شيء كنا معه م ،إوان أصيبوا أعطينا الذي سئلنا .فتجمع سفهاء قريش وأِخ فّــاؤها مع عكرمة بن أبي جهل ،وصفوان بن أمية ،وسهيل بن عمرو بالَخ ْنـَدـَمـةـليقاتلوا المسلمين .وكان فيه م رجل من بني بكر ـ ِح َمـاـس بن قيس ـ كان يعد قبل ذلك سلحًا ،فقالت له امرأته :لماذا تعد ما أري؟ قال :لمحمد وأصحابه .قالت :وال ما يقو م لمحمد وأصحابه شيء .قال :إني وال لرجو أن أخدمك بعضه م ،ث م قال: إن يقبلوا اليو م فمالي ِع لّــه ** هــذا ســلح كامــل وأّله وذو ِغ َرـاَر ْيـنـسريع الّس لّـة ** فكان هذا الرجل فيمن اجتمعوا في الخندمة. الجيش السلمي بذي طَُوى
أما رسول ال صلى ال عليه وسل م فمضي حتى انتهي إلى ذي طوي ـ وكان يضع رأسه تواضعًا ل حين رأي ما
أكرمه ال به من الفتح ،حتى أن شعر لحيته ليكاد يمس واسطة الرحل ـ وهناك وزع جيشه ،وكان خالد بن الوليد على الُم َجـ ّنـَبِة اليمني ـ وفيها أْس لَـُ م وُس لَـْي مـ وِغ فَــار وُم َزـْيـَنـةـوُج هَـْي َنـةـ وقبائل من قبائل العرب ـ فأمره أن يدخل مكة من أسفلها، وقال :)إن عرض لك م أحد من قريش فاحصدوه م حصدًا ،حتى توافوني على الصفا(. وكان الزبير بن العوا م على الُم َجـ ّنـَبِةـ اليسري ،وكان معه راية رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فأمره أن يدخل مكة من أعلها ـ من َك َدـاـء ـ وأن يغرز رايته بالَح ُجـوــن ،ول يبرح حتى يأتيه.
وكان أبو عبيد ة على الرجالة والُح ّسـرـ ـ وه م الذي م لسلح معه م ـ فأمره أن يأخذ بطن الوادي حتى ينصب لمكة بين يدي رسول ال صلى ال عليه وسل م. الجيش السلمي يدخل مكة وتحركت كل كتيبة من الجيش السلمي على الطريق التي كلفت الدخول منها. فأما خالد وأصحابه فل م يلقه م أحد من المشركين إل أناموه .وقتل من أصحابه من المسلمين ُك ْرـ زـ ـبن جابر الِفْهِري وُخ َنـْي سـ بن خالد بن ربيعة .كانا قد شذا عن الجيش ،فسلكا طريقًا غير طريقه فقتل جميعًا ،وأما سفهاء قريش فلقيه م
ل ،فانهز م المشركون ،وانهز م خالد وأصحابه بالَخ ْنـَدـَمـةـفناوشوه م شيئا من قتال ،فأصابوا من المشركين اثني عشر رج ً ِح َمـاـس بن قيس ـ الذي كان يعد السلح لقتال المسلمين ـ حتى دخل بيته ،فقال لمرأته :أغلقي على بابي.
فقالت :وأين ما كنت تقول؟ فقال: وأقبل خالد يجوس مكة حتى وافى رسول ال صلى ال عليه وسل م على الصفا. وأما الزبير فتقد م حتى نصب راية رسول ال صلى ال عليه وسل م بالَح ُجـوــن عند مسجد الفتح ،وضرب له هناك قبة، فل م يبرح حتى جاءه رسول ال صلى ال عليه وسل م.
الرسول صلى ال عليه وسل م يدخل المسجد الحرا م ويطهره من الصنا م ث م نهض رسول ال صلى ال عليه وسل م ،والمهاجرون والنصار بين يديه وخلفه وحوله ،حتى دخل المسجد ،فأقبل إلى الحجر السود ،فاستلمه ،ث م طاف بالبيت ،وفي يده قوس ،وحول البيت ثلثمائة وستون صنما ،فجعل يطعنها قـاْلَباِط ُل ـِإّن اْلَباِط َل ـَك اـَن َزُهوًقا{ ]السراء ،[81:}ُقْل َج اــء اْلَح ّ بالقوس ،ويقول :}َج اــء اْلَح ّ ق ـ َو َم ـاـُيْب ِدـ ئُـ اْلَباِط ُل ـَو َم ـاـ قـ َو َزـَه َ ُيِع يـُد{ ]سبأ [49:والصنا م تتساقط على وجوهها.
وكان طوافه على راحلته ،ول م يكن محرمًا يومئذ ،فاقتصر على الطواف ،فلما أكمله دعا عثمان بن طلحة ،فأخذ منه مفتاح الكعبة ،فأمر بها ففتحت فدخلها ،فرأي فيها الصور ،ورأي فيها صور ة إبراهي م ،إواسماعيل ـ عليهما السل م ـ يستقسمان بالزل م ،فقال :)قاتله م ال ،وال ما استقسما بها قط( .ورأي في الكعبة حمامة من عيدان ،فكسرها بيده،
وأمر بالصور فمحيت. الرسول صلى ال عليه وسل م يصلي في الكعبة ث م يخطب أما م قريش ث م أغلق عليه الباب ،وعلى أسامة وبلل ،فاستقبل الجدار الذي يقابل الباب حتى إذا كان بينه وبينه ثلثة أذرع وقف ،وجعل عمودين عن يساره ،وعمودًا عن يمينه ،وثلثة أعمد ة وراءه ـ وكان البيت يومئذ على ستة أعمد ة ـ ث م
صلي هناك .ث م دار في البيت ،وكبر في نواحيه ،ووحد ال ،ث م فتح الباب ،وقريش قد ملت المسجد صفوفًا ينتظرون ماذا يصنع؟ فأخذ بعضادتي الباب وه م تحته ،فقال:
)ل إله إل ال وحده ل شريك له ،صدق وعده ،ونصر عبده ،وهز م الحزاب وحده ،أل كل مأثَُر ة أو مال أو د م فهو تحت قدمي هاتين ،إل ِس َد ـاـَنة البيت وِس قـاية الحاج ،ألوقتيل الخطأ شبه العمد ـ السوط والعصا ـ ففيه الدية مغلظة،
مائة من البل أربعون منها في بطونها أولد.
يا معشر قريش إن ال قد أذهب عنك م نخو ة الجاهلية وتعظمها بالباء ،الناس من آد م ،وآد م من تراب ث م تل هذه الية :}يا أيها الناس إنا خلقناك م من ذكر وأنثى وجعلناك م شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمك م عند ال أتقاك م إن ال علي م خبير{.
ل تثريب عليك م اليو م ث م قال :)يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بك م؟( قالوا :خيًرا ،أخ كري م وابن أخ كري م ،قال :)فإني أقول لك م ب َع لَـْي ُكـُ مـ{ اذهبوا فأنت م الطلقاء(. كما قال يوسف لخوته :} َ ل تَثَْر يـ َ مفتاح البيت إلى أهله ث م جلس رسول ال صلى ال عليه وسل م في المسجد فقا م إليه علي رضي ال عنه ومفتاح الكعبة في يده فقال: اجمع لنا الحجابة مع السقاية ،صلى ال عليك ـ وفي رواية أن الذي قال ذلك هو العباس ـ فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)أين عثمان بن طلحة؟( .فدعي له ،فقال له :)هاك مفتاحك يا عثمان ،اليو م يو م بر ووفاء(، وفي رواية ابن سعد في الطبقات أنه قال له حين دفع المفتاح إليه :)خذوها خالد ة تالد ة ،ل ينزعها منك م إل ظال م، يا عثمان إن ال استأمنك م على بيته ،فكلوا مما يصل إليك م من هذا البيت بالمعروف(. بلل يؤذن على الكعبة
وحانت الصل ة ،فأمر رسول ال صلى ال عليه وسل م بلل أن يصعد فيؤذن على الكعبة ،وأبو سفيان بن حرب، وعتاب بن أسيد ،والحارث بن هشا م جلوس بفناء الكعبة ،فقال عتاب :لقد أكر م ال أسيدا أل يكون سمع هذا، فيسمع منه ما يغيظه .فقال الحارث :أما وال لو أعل م أنه حق لتبعته .فقال أبو سفيان :أما وال ل أقول شيًئا، لو تكلمت لخبرت عني هذه الحصباء .فخرج عليه م النبي صلى ال عليه وسل م فقال له م :)لقد علمت الذي قلت م( ث م ذكر ذلك له م. فقال الحارث وعتاب :نشهد أنك رسول ال ،وال ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك. صل ة الفتح أو صل ة الشكر ودخل رسول ال صلى ال عليه وسل م يومئذ دار أ م هانئ بنت أبي طالب ،فاغتسل وصلى ثماني ركعات في بيتها ـ وكان ضحى ـ فظنها من ظنها صل ة الضحى ،إوانما هذه صل ة الفتح ،وأجارت أ م هانئ حموين لها ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)قد أجرنا من أجرت يا أ م هانئ( ،وقد كان أخوها علي بن أبي طالب أراد أن يقتلهما ،فأغلقت عليهما باب بيتها ،وسألت النبي صلى ال عليه وسل م فقال لها ذلك. إهدار د م رجال من أكابر المجرمين وأهدر رسول ال صلى ال عليه وسل م يومئذ دماء تسعة نفر من أكابر المجرمين ،وأمر بقتله م إوان وجدوا تحت أستار الكعبة ،وه م عبد العزى بن خطل ،وعبدال بن سعد بن أبي سرح ،وعكرمة بن أبي جهل ،والحارث بن نفيل بن وهب ،ومقيس بن صبابة ،وهبار بن السود ،وقينتان كانتا لبن الخطل ،كانت تغنيان بهجو النبي صلى ال عليه وسل م ،وسار ة مول ة لبعض بني عبد المطلب ،وهي التي وجد معها كتاب حاطب. فأما ابن أبي سرح فجاء به عثمان إلى النبي صلى ال عليه وسل م ،وشفع فيه ،فحقن دمه ،وقبل إسلمه بعد أن أمسك عنه رجاء أن يقو م إليه بعض الصحابة فيقتله ،وكان قد أسل م قبل ذلك وهاجر ،ث م ارتد ورجع إلى مكة. وأما عكرمة بن أبي جهل ،ففر إلى اليمن ،فاستأمنت له امرأته ،فأمنه النبي صلى ال عليه وسل م فتبعته ،فرجع معها وأسل م وحسن إسلمه. وأما ابن خطل فكان متعلًقا بأستار الكعبة ،فجاء رجل إلى النبي صلى ال عليه وسل م وأخبره ،فقال :)اقتله( فقتله. وأما مقيس بن صبابة فقتله نميلة بن عبدال ،وكان مقيس قد أسل م قبل ذلك ،ث م عدا على رجل من النصار فقتله ،ث م ارتد ولحق بالمشركين. وأما الحارث فكان شديد الذى لرسول ال بمكة ،فقتله علي.
وأما هبار بن السود فهو الذي كان قد عرض لزينب بنت رسول ال صلى ال عليه وسل م حين هاجرت ،فنخس بها حتى سقطت على صخر ة وأسقطت جنينها ،ففر هبار يو م مكة ث م أسل م وحسن إسلمه. وأما القينتان فقتلت إحداهما ،واستؤمن للخرى فأسلمت ،كما استؤمن لسار ة وأسلمت. قال ابن حجر :وذكر أبو معشر فيمن أهدر دمه الحارث بن طلطل الخزاعي ،قتله على .وذكر الحاك م أيضًا
ممن أهدر دمه كعب بن زهير ،وقصته مشهور ة ،وقد جاء بعد ذلك وأسل م ومدح ،ووحشي بن حرب ،وهند بنت عتبة امرأه أبي سفيان ،وقد أسلمت ،وأرنب موله ابن خطل أيضًا قتلت ،وأ م سعد قتلت ،فيما ذكر ابن إسحاق،
فكملت العد ة ثامنية رجال وست نسو ة ،ويحتمل أن تكون أرنب وأ م سعد القينتان ،أختلف في اسمهما أو باعتبار الكنية واللقب. إسل م صفوان بن أمية ،وفضالة بن عمير ل م يكن صفوان ممن أهدر دمه ،لكنه بصفته زعيمًا كبي اًر من زعماء قريش خاف على نفسه وفر ،فاستأمن له
عمير بن وهب الجمحي رسول ال صلى ال عليه وسل م فأمنه ،وأعطاه عمامته التي دخل بها مكة ،فلحقة عمير وهو يريد أن يركب البحر من جد ة إلى اليمن فرده ،فقال لرسول ال صلى ال عليه وسل م :اجعلني بالخيار
شهرين .قال )أنت بالخيار أربعة أشهر( ث م أسل م صفوان ،وقد كانت امرأته أسلمت قبله ،فأقرهما على النكاح الول. ل جريئا جاء إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م ،وهو في الطواف؛ ليقتله ،فأخبر الرسول صلى وكان فضالة رج ً
ال عليه وسل م بما في نفسه فأسل م.
خطبة الرسول صلى ال عليه وسل م الثاني من الفتح: ولما كان الغد من يو م الفتح قا م رسول ال صلى ال عليه وسل م في الناس خطيبًا ،فحمد ال ،وأثنى عليه ،ومجده
بما هو أهله ،ث م قال :)أيها الناس ،إن ال حر م مكة يو م خلق السموات والرض ،فهي حرا م بحرمة ال إلى يو م
القيامة ،فل يحل لمرئ يؤمن بال واليو م الخر أن يسفك فيها دمًا ،أو يعضد بها شجر ة ،فإن أحد ترخص لقتال
رسول ال صلى ال عليه وسل م فقولوا :إن ال أذن لرسولة ول م يأذن لك م ،إوانما حلت لي ساعة من نهار ،وقد عادت حرمتها اليو م كحرمتها بالمس ،فليبلغ الشاهد الغائب(.
وفي رواية :)ل يعضد شوكه ،ول ينفر صيده ول تلتقط ساقطته إل من عرفها ،ول يختلى خله( ،فقال العباس :يا رسول ال ،إل الذخر ،فإنه لقينه م وبيوته م ،فقال :)إل الذخر(.
وكانت خزاعة قتلت يومئذ رجل من بنى ليث بقتيل له م في الجاهلية ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م بهذا الصدد :)يا معشر خزاعة ،ارفعو أيديك م عن القتل ،فلقد كثر القتل إن نفع ،ولقد قتلت م قتيال لدينه ،فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين ،إن شاءوا فد م قاتله ،إوان شاءوا فعقله(. وفي رواية :فقا م رجل من أهل اليمن يقال له :شاه فقال :اكتب لي يا رسول ال ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)اكتبو لبي شاه(. تخوف النصار من بقاء الرسول صلى ال عليه وسل م في مكة ولما ت م فتح مكة على الرسول صلى ال عليه وسل م -وهي بلده ووطنه ومولده -قال النصار فيما بينه م: أترون رسول ال صلى ال عليه وسل م إذ فتح ال عليه أرضه وبلده أن يقي م بها -وهو يدعو على الصفا رافعًا
يديه -فلما فرغ من دعائة قال :)ماذا قلت م؟( قالوا :ل شيء يا رسول ال ،فل م يزل به م حتى أخبروه ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)معاذ ال ،المحيا محياك م ،والممات مماتك م(. أخذ البيعة وحين فتح ال مكة على رسول ال صلى ال عليه وسل م والمسلمين ،تبين لهل مكة الحق ،وعلموا أن ل سبيل إلى النجاح إل السل م ،فأذعنوا له ،واجتمعوا للبيعة ،فجلس رسول ال صلى ال عليه وسل م على الصفا يبايع الناس ،وعمر بن الخطاب أسفل منه ،يأخذ على الناس فبايعوه على السمع والطاعة فيما استطاعوا. وفي المدارك :روى أن النبي صلى ال عليه وسل م لما فرغ من بيعة الرجال أخذ في بيعة النساء ،وهو على الصفا ،وعمر قاعد أسفل منه ،يبايعهن بأمره ،ويبلغهن عنه ،فجاءت هند بنت عتبة امرأ ة أبي سفيان متنكر ة، خوفًا من رسول ال صلى ال عليه وسل م أن يعرفها؛ لما صنعت بحمز ة ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م
)أبايعكن على أل تشركن بال شيئا( ،فبايع عمر النساء على أل يشركن بال شيئا فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)ول تسرقن( فقالت هند :إن أبا سفيان رجل شحيح ،فإن أنا أصبت من ماله هنات؟ فقال أبو سفيان :وما
أصبت فهو لك حلل ،فضحك رسول ال صلى ال عليه وسل م وعرفها ،فقال :) إوانك لهند؟( قالت :نع م ،فاعف عما سلف يا نبي ال ،عفا ال عنك. فقال :)ول يزنين( .فقالت :أو تزني الحر ة؟ فقال :)ول يقتلن أولدهن( .فقالت :ربيناه م صغارا ،وقتلناه م كبارا ،فأنت م وه م أعل م ـ وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يو م بدرـ فضحك عمر حتى استلقى فتبس م رسول ال صلى ال عليه وسل م. قال :)ول يأتين ببهتان( فقالت :وال إن البهتان لمر قبيح وما تأمرنا إل بالرشد ومكار م الخلق.
فقال :)ول يعصينك في معروف( فقالت :وال ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك. ولما رجعت جعلت تكسر صنمها وتقول :كنا منك في غرور. وفي الصحيح :جاءت هند بنت عتبة فقالت :يا رسول ال ما كان على ظهر الرض من أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك ،ث م ما أصبح اليو م على ظهر الرض أهل خباء أحب إلي أن يغزوا من أهل خبائك .قال: )وأيضا ،والذي نفسي بيده( قالت :يا رسول ال،له إن أبا سفيان رجل مسيك فهل علي حرج أن أطع م من الذي له عيالنا؟ قال :)ل أره إل بالمعروف(. إقامته صلى ال عليه وسل م بمكة وعمله فيها وأقا م رسول ال صلى ال عليه وسل م بمكة تسعة عشر يوًم اـ يجدد معال م السل م ،ويرشد الناس إلى الهدى والتقى ،وخلل هذه اليا م أمر أبا أسيد الخزاعي ،فجدد أنصاب الحر م ،وبث سراياه للدعو ة إلى السل م ،ولكسر الوثان التي كانت حول مكة ،فكسرت كلها ،ونادى مناديه بمكة :من كان يؤمن بال واليو م الخر فل يدع في بيته صنما إل كسره. السرايا والبعوث 1ـ ولما اطمأن رسول ال صلى ال عليه وسل م بعد الفتح بعث خالد بن الوليد إلى العزى لخمس ليال بقين من شهر رمضان ـ سنة 8هـ ـ ليهدمها وكانت بنخلة ،وكانت لقريش وجميع بني كنانة وهي أعظ م أصنامه م .وكان سدنتها بني شيبان ،فخرج إليها خالد في ثلثين فارًس اـ حتى انتهى إليها ،فهدمها .ولما رجع إليها سأله رسول ال ظا صلى ال عليه وسل م )هل رأيت شيئا؟( قال :ل قال :)فإنك ل م تهدمها فارجع إليها فاهدمها( فرجع خالد متغي ً قد جرد سيفه فخرجت إليه امرأ ة عريانة سوداء ناشر ة الرأس فجعل السادن يصيح بها ،فضربها خالد فجزلها
باثنتين ،ث م رجع إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م فأخبره ،فقال :)نع م ،تلك العزى ،وقد أيست أن تعبد في بلدك م أبدا(. 2ـ ث م بعث عمرو بن العاص في نفس الشهر إلى سواع ليهدمه وهو صن م لهذيل برهاط ،على قرابة 150كيلوا مت ار شمال شرقي مكة ،فلما انتهى إليه عمرو قال له السادن :ما تريد؟ قال :أمرني رسول ال صلى ال عليه وسل م أن أهدمه قال :ل تقدر على ذلك قال :ل م ؟ قال تمنع قال :حتى الن أنت على الباطل؟ ويحك فهل يسمع أو يبصر؟ ث م دنا فكسره ،وأمر أصحابه فهدموا بيت خزانته فل م يجدوا فيه شيئا ،ث م قال للسادن :كيف رأيت؟ قال: أسلمت ل. 3ـ وفي الشهر نفسه بعث سعد بن زيد بن الشهلي في عشرين فارًس اـ إلى منا ة وكانت بالمشلل عند قديد للوس والخزرج وغسان وغيره م ،فلما انتهى سعد إليها قال له سادنها :ما تريد؟ قال :هد م منا ة ،قال :أنت وذاك ،فأقبل
إليها سعد ،وخرجت امرأ ة عريانة سوداء ثائر ة الرأس ،تدعو بالويل ،وتضرب صدرها ،فقال لها السادن :منا ة دونك بعض عصاتك .فضربها سعد فقتلها ،وأقبل إلى الصن م فهدمه وكسره ،ول م يجدوا في خزانته شيًئاـ. 4ـ ولما رجع خالد بن الوليد من هد م العزى بعثه رسول ال صلى ال عليه وسل م في شوال من نفس السنة ـ 8هـ ـ إلى بني جذيمة داعيا إلى السل م ل مقاتل فخرج في ثلثمائة وخمسين رجل من المهاجرين والنصار وبني سلي م ،فانتهى إليه م فدعاه م إلى السل م فل م يحسنوا أن يقولوا :أسلمنا ،فجعلوا يقولون :صبأنا ،صبأنا .فجعل خالد يقتله م ويأسره م ودفع إلى كل رجل ممن كان معه أسيًرا ،فأمر يوًم اـ أن يقتل كل رجل أسيره فأبى ابن عمر وأصحابه حتى قدموا على النبي صلى ال عليه وسل م ،فذكروا له ،فرفع صلى ال عليه وسل م يديه وقال :)الله م إني أب أر إليك مما صنع خالًد اـ( مرتين. وكانت بنو سلي م ه م الذين قتلوا أسراه م دون المهاجرين والنصار وبعث رسول ال صلى ال عليه وسل م علًيا فودى له م قتله م وما ذهب منه م وكان بين خالد وعبد الرحمن بن عوف كل م وشر في ذلك فبلغ النبي صلى ال عليه وسل م فقال :)مهل يا خالد ،دع عنك أصحابي ،فوال لو كان أحد ذهبا ،ث م أنفقته في سبيل ال ما أدركت غدو ة رجل من أصحابي ول روحته(. تلك هي غزو ة فتح مكة ،وهي المعركة الفاصلة والفتح العظ م الذي قضى على كيان الوثنية قضاء باًتا ،ول م يترك لبقائها مجال ول مبر ار في ربوع الجزير ة العربية ،فقد كانت عامة القبائل تنتظر ماذا يتمخض عنه العراك والصطدا م الذي كان دائًرا بين المسلمين والوثنيين وكانت تلك القبائل تعرف جيدا أن الحر م ل يسيطر عليه إل من كان على الحق وكان قد تأكد لديه م هذا العتقاد الجاز م أي تأكد قبل نصف القرن حين قصد أصحاب الفيل هذا البيت فأهلكوا وجعلوا كعصف مأكول. ض اــ ،وناظره في وكان صلح الحديبية مقدمة وتوطئة بين يدي هذا الفتح العظي م ،أمن الناس به وكل م بعضه م بع ً
السل م ،وتمكن من اختفى من المسلمين بمكة من إظهار دينه والدعو ة إليه والمناظر ة عليه ،ودخل بسببه كثير في السل م ،حتى إن عدد الجيش السلمي الذي ل م يزد في الغزوات السالفة على ثلث آلف إذا هو يزخر في هذه الغزو ة في عشر ة آلف. وهذه الغزو ة الفاصلة فتحت أعين الناس وأزالت عنها آخر الستور التي كانت تحول بينها وبين السل م وبهذا الفتح سيطر المسلمون على الموقف السياسي والديني كليهما معا في طول جزير ة العرب وعرضها ،فقد انتقلت إليه م الصدار ة الدينية والزعامة الدنيوية. فالطور الذي كان قد بدأ بعد صلح الحديبية لصالح المسلمين قد ت م وكمل بهذا الفتح المبين ،وبدأ بعد ذلك طور آخر كان لصالح المسلمين تماًم اـ ،وكان له م فيه السيطر ة على الموقف تماًم اـ .ول م يبق لقوا م العرب إل أن يفدوا
إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م فيعتنقوا السل م ويحملوا دعوته إلى العال م ،وقد ت م استعداده م لذلك في سنتين آتيتين.
المرحلة الثالثة وهي آخر مرحلة من مراحل حيا ة الرسول صلى ال عليه وسل م .تمثل النتائج التي أثمرتها دعوته السلمية بعد جهاد طويل وعناء ومتاعب وقلقل وفتن واضطرابات ومعارك وحروب دامية واجهتها طيلة بضعة وعشرين عاًم اـ. وكان فتح مكة هو أعظ م فتح حصل عليه المسلمون في هذه العوا م ،تغير لجله مجرى اليا م ،وتحول به جو العرب ،فقد كان الفتح حًد اـ فاصل بين السابقة عليه وبين ما بعده ،فإن قريًش اـ كانت في نظر العرب حما ة الدين وأنصاره ،والعرب في ذلك تبع له م ،فخضوع قريش يعتبر القضاء الخير على الدين الوثني في جزير ة العرب. ويمكن أن نقس م هذه المرحلة إلى صفحتين: 1ـ صفحة المجاهد ة والقتال. 2ـ صفحة تسابق الشعوب والقبائل إلى اعتناق السل م. وهاتان الصفحتان متلصقتان تناوبتا في هذه المرحلة ،ووقعت كل واحد ة منهما خلل الخرى إل أنا اخترنا في الترتيب الوضعي أن نأتي على ذكر كل من الصفحتين متميز ة عن الخرى ،ونظًرا إلى صفحة القتال ألصق بما مضى ،وأكثر مناسبة من الخرى قدمناها في الترتيب.
ولما أجمع القائد العا م ـ مالك بن عوف ـ المسير إلى حرب المسلمين ،ساق مع الناس أمواله م ونساءه م وأبناءه م،
طــاس ـ وهو واد في دار َهَوـاـِز نـبالقرب من ُح َنـْي نـ ،لكن وادي أوطاس غير وادي حنين ،وحنين فسار حتى نزل بأْو َ ل من جهة عرفات. واد إلى جنب ذي المَج اــز ،بينه وبين مكة بضعة عشر مي ً
ُم َجـ ّرـبـالحروب ُيَغ لّـط رأي القائد ص ّمـِةـ ـ وهو شيخ كبير ،ليس فيه إل رأيه ومعرفته بالحرب ولما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس ،وفيه م ُد َرـْيـُدـبن ال ّ ض رـٌس ،ول َس ْهـٌل وكان شجاعًا مجربًا ـ قال دريد :بأي واد أنت م؟ قالوا :بأوطاس ،قال :نع م َم َجـ اـُل الخيل ،ل َح ْزـٌن ـ َ َد ِهـسـ ،مإلى أسمع ُرَغ اـءالبعير ،وُنَهاق الحمير ،وُبَك اـء الصبي ،وثَُغاـء الشاء؟ قالوا :ساق مالك بن عوف مع الناس نساءه م وأمواله م وأبناءه م ،فدعا مالكًا وسأله عما حمله على ذلك ،فقال :أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنه م ،فقال :راعي ضأن والّله ،وهل يرد المنهز م شيء؟ إنها إن كانت لك ل م ينفعك إل رجل
بسيفه ورمحه ،إوان كانت عليك فُ ِ ت ـفي أهلك ومالك ،ث م سأل عن بعض البطون والرؤساء ،ث م قال :يا مالك، ض ْحـ ـ َ ص َبــا ة ق ال ّ ضـ ة ـ هوازن إلى نحور الخيل شيئًا ،ارفعه م إلى ممتنع بلده م وعلياء قومه م ،ث م اْل َ إنك ل م تصنع بتقدي م َبْي َ ت أهلك ومالك. على متون الخيل ،فإن كانت لك لحق بك من وراءك ،إوان كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرز َ
ل :والّله ل أفعل ،إنك قد كبرت وكبر عقلك ،والّله لتطيعني هوازن ولكن مالكًا ـ القائد العا م ـ رفض هذا الطلب قائ ً أو لتِّك َئـّنـ على هذا السيف حتى يخرج من ظهري ،وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي ،فقالوا :أطعناك .فقال
دريد :هذا يو م ل م أشهده ول م َيفُتِْني :
عـ ** أُخ ّ ض ْع ـ يا ليتنـي فيها جـََذ ْ بـ فيها وأ َ عـ أقود و ْ ص َدـ ْ طَفاءَ الّز َمـ ـْع** كأنها شـا ة َ سلح استكشاف العدو وجاءت إلى مالك عيون كان قد بعثه م للستكشاف عن المسلمين ،جاءت هذه العيون وقد تفرقت أوصاله م ،قال: ل بيضا على خيل ُبْلـق ،وال ما تماسكنا أن أصابنا ما تري. ويلك م ،ما شأنك م؟ قالوا :رأينا رجا ً سلح استكشاف رسول الّله صلى ال عليه وسل م ونقلت الخبار إلى رسول الّله صلى ال عليه وسل م بمسير العدو ،فبعث أبا َح ْد ـَرـدـالسلمي ،وأمره أن يدخل في الناس ،فيقي م فيه م حتى يعل م علمه م ،ث م يأتيه بخبره م ،ففعل. الرسول صلى ال عليه وسل م يغادر مكة إلى حنين وفي يو م السبت ـ السادس من شهر شوال سنة 8هـ ـ غادر رسول الّله صلى ال عليه وسل م مكةـ وكان ذلك اليو م
التاسع عشر من يو م دخوله في مكة ـ خرج في اثني عشر ألفًا من المسلمين ؛ عشر ة آلف ممن كانوا خرجوا معه لفتح مكة ،وألفان من أهل مكة .وأكثره م حديثو عهد بالسل م واستعار من صفوان بن أمية مائة درع
بأداتها ،واستعمل على مكة َع تّـاب بن أسيد.
ولما كان عشية جاء فارس ،فقال :إني طلعت جبل كذا وكذا ،فإذا أنا بهوازن على بكر ة آبائه م بِظُُعِنه م وَنَعِمـهـ م وشائه م اجتمعوا إلى حنين ،فتبس م رسول الّله صلى ال عليه وسل م وقال :)تلك غنيمة المسلمين غًد اـ إن شاء
الّله( ،وتطوع للحراسة تلك الليلة أنس بن أبي َم ْرـ ثَــد الَغَنـوي.
وفي طريقه م إلى حنين أروا ِس ْد ـَرـ ةعظيمة خضراء يقال لها :ذات أْن َوـاـط ،كانت العرب تعلق عليها أسلحته م، ويذبحون عندها ويعكفون ،فقال بعض أهل الجيش لرسول الّله صلى ال عليه وسل م :اجعل لنا ذات أنواط ،كما
له م ذات أنواط .فقال :)الّله أكبر ،قلت م والذي نفس محمد بيده كما قال قو م موسي :اجعل لنا إلها كما له م آلهة،
قال :إنك م قو م تجهلون ،إنها الّس َنـُن ،ـلتركبن َس َنـَن من كان قبلك م(.
ب اليو م ،وكان قد شق ذلك على رسول الّله صلى ال عليه وقد كان بعضه م قال نظ ًار إلى كثر ة الجيش :لن ُنْغ لَـ َ وسل م:
تـ بالرما ة والمهاجمين الجيش السلمي ُيباَغ ْ انتهي الجيش السلمي إلى حنين ،الليلة التي بين الثلثاء والربعاء لعشر خلون من شوال ،وكان مالك بن عوف قد سبقه م ،فأدخل جيشه بالليل في ذلك الوادي ،وفرق ُك َمـَنـاءه في الطرق والمداخل والشعاب والخباء والمضايق ،وأصدر إليه م أمره بأن يرشقوا المسلمين أول ما طلعوا ،ث م يشدوا شد ة رجل واحد.
وبالّس َحـ ر ـ عبأ رسول الّله صلى ال عليه وسل م جيشه ،وعقد اللوية والرايات ،وفرقها على الناس ،وفي َع َمـاـية الصبح استقبل المسلمون وادي حنين ،وشرعوا ينحدرون فيه ،وه م ل يدرون بوجود كمناء العدو في مضايق هذا الوادي ،فبينا ه م ينحطون إذا تمطر عليه م النبال ،إواذا كتائب العدو قد شدت عليه م شد ة رجل واحد ،فانشمر المسلمون راجعين ،ل يلوي أحد على أحد ،وكانت هزيمة منكر ة ،حتى قال أبو سفيان بن حرب ،وهو حديث عهد بالسل م :ل تنتهي هزيمته م دون البحر ـ الحمر ـ وصرخ َج َبـلَـةُ أو َك لَـَد ةُـ بن الَح ْنـَبـلـ :أل بطل الّس ْحـ ر ـاليو م. وانحاز رسول الّله صلى ال عليه وسل م جهة اليمين وهو يقول :) َهلُـّمواـ إلى أيها الناس ،أنا رسول ال ،أنا محمد
بن عبد الّله( ول م يبق معه في موقفه إل عدد قليل من المهاجرين والنصار .تسعة على قول ابن إسحاق ،واثنا عشر على قول النووي ،والصحيح ما رواه أحمد والحاك م في المستدرك من حديث ابن مسعود ،قال :كنت مع
لمن المهاجرين والنصار ،فكنا النبي صلى ال عليه وسل م يو م حنين ،فولي عنه الناس وثبت معه ثمانون رج ً على أقدامنا ول م ُنَو لّــه م الّد ُبـر ،وروي الترمذي من حديث ابن عمر بإسناد حسن قال :لقد رأيتنا يو م حنين إوان الناس لمولين ،وما مع رسول الّله صلى ال عليه وسلممائة رجل.
وحينئذ ظهرت شجاعة النبي صلى ال عليه وسل م التي ل نظير لها ،فقد طفق يركض بغلته قبل الكفار وهو يقول: ب ـ ** أنا ابن عبد المطلب( )أنــا النبي ل َك ِذـ ْ بيد أن أبا سفيان بن الحارث كان آخذا بلجا م بغلته ،والعباس بركابه ،يكفانها أل تسرع ،ث م نزل رسول الّله صلى ل :)الّله م أنزل نصرك(. ال عليه وسل م فاستنصر ربه قائ ً
رجوع المسلمين واحتدا م المعركة
وأمر رسول الّله صلى ال عليه وسل م عمه العباس ـ وكان َج ِهـَيـرـ الصوت ـ أن ينادي الصحابة ،قال العباس:
طـَفة البقر على طـفَتَُه م حين سمعوا صوتي َع ْ فقلت بأعلى صوتي :أين أصحاب الّس ُمـَرـ ة؟ قال :فوال لكأن َع ْ أولدها ،فقالوا :يا لبيك ،يا لبيك .ويذهب الرجل ليثني بعيره فل يقدر عليه ،فيأخذ درعه ،فيقذفها في عنقه ،ويأخذ سيفه وترسه ،ويقتح م عن بعيره ،ويخلي سبيله ،فيؤ م الصوت ،حتى إذا اجتمع إليه منه م مائة استقبلوا الناس واقتتلوا. وصرفت الدعو ة إلى النصار :يا معشر النصار ،يا معشر النصار ،ث م قصرت الدعو ة في بني الحارث بن الخزرج ،وتلحقت كتائب المسلمين واحد ة تلو الخري كما كانوا تركوا الموقعة ،وتجالد الفريقان مجالد ة شديد ة، ونظر رسول الّله صلى ال عليه وسل م إلى ساحة القتال ،وقد استحر واحتد م ،فقال :)الن َح ِم ـيـ الَو ِط ـيـُس( .ث م أخذ رسول الّله صلى ال عليه وسل م قبضة من تراب الرض ،فرمي بها في وجوه القو م وقال :)شاهت الوجوه(، ل وأمره م ُم ْدـبِـًرا. فما خلق الّله إنسانًا إل ملعينيه ترابًا من تلك القبضة ،فل م يزل َح ّدـُهـ م َك ِلـي ً انكسار حد ة العدو وهزيمته الساحقة
وما هي إل ساعات قلئل ـ بعد رمي القبضة ـ حتى انهز م العدو هزيمة منكر ة ،وقتل من ثَِقيـف وحده م نحو
السبعين ،وحاز المسلمون ما كان مع العدو من مال وسلح وظُُعن.
وهذا هو التطور الذي أشار إليه سبحانه وتعالى في قوله :} َوَيـْوَ م ـُح َنـْي ٍنـ ِإْذ أَْع َجـَبـتُْك ْ مـ َك ثْـَر تُـُك ْ مـَفلَْ م تُْغ ِنـ َع نـُك ْ مـ َش ْيـًئـاـ تثُّ م َو لّـْي تُـ م ّم ْدـِبـِر يـَنثُّ م َأَنزَل اللّهُ َس ِكـيـَنتَهُ َع لَــى َر ُسـوـِلِه َوَعـ لَــى اْلُم ْؤـ ِمـنِــيَنَوَأـنَز َلـُج ُنــوًد اـ ض ـبَِم اـ َر ُحـَبـ ْ ضـا ـقَ ْ ت َع لَـْي ُكـُ مـ الَْر ُ َو َ ن ]التوبة[26 ،25: ك َج َزــاءاْلَك اـِف ِرـيـ َ{ بـ الِّذ يـَن َك فَـُر وْاـَو َذـِلـ َ لّْ م تََر ْو ـَهـاـَوعـّذ َ حركة المطارد ة ولما انهز م العدو صارت طائفة منه م إلى الطائف ،وطائفة إلى َنْخ لَــة ،وطائفة إلى أْو طــاس ،فأرسل النبي صلى
ل ،ث م ال عليه وسل م إلى أوطاس طائفة من المطاردين يقوده م أبو عامرالشعري ،فَتََناَو َش ـ الفريقان القتال قلي ً
انهز م جيش المشركين ،وفي هذه المناوشة قتل القائد أبو عامر الشعري.
ص ّمـةـ فقتله وطاردت طائفة أخري من فرسان المسلمين فلول المشركين الذين سلكوا نخلة ،فأدركت ُد َرـْيـَدـبن ال ّ ربيعة بن ُر فَـْي عـ. وأما معظ م فلول المشركين الذين لجأوا إلى الطائف ،فتوجه إليه م رسول الّله صلى ال عليه وسل م بنفسه بعد أن
جمع الغنائ م.
الغنائ م وكانت الغنائ م :السبي ستة آلف رأس ،والبل أربعة وعشرون ألفًا ،والغن م أكثر من أربعين ألف شا ة ،وأربعة
آلف أوقية فضة ،أمر رسول الّله صلى ال عليه وسل م بجمعها ،ث م حبسها بالِج ْعـَرـاَنة،وجعل عليها مسعود بن عمرو الغفاري ،ول م يقسمها حتى فرغ من غزو ة الطائف. وكانت في السبي الشيماء بنت الحارث السعدية ؛ أخت رسول الّله صلى ال عليه وسل م من الرضاعة ،فلما
جيء بها إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م عرفت له نفسها ،فعرفها بعلمة فأكرمها ،وبسط لها رداءه، وأجلسها عليه ،ث م مّن عليها ،ورّد هـا إلى قومها. غزو ة الطائف
وهذه الغزو ة في الحقيقة امتداد لغزو ة حنين ،وذلك أن معظ م فلول َهَوـاـزن وثَِقيـف دخلوا الطائف مع القائد العا م ـ
ص ِرــيـ وتحصنوا بها ،فسار إليه م رسول ال صلى ال عليه وسل م بعد فراغه من حنين وجمع مالك بن عوف الّن ْ الغنائ م بالجعرانة ،في الشهر نفسه ـ شوال سنة 8هـ.
وقد م خالد بن الوليد على مقدمته طليعة في ألف رجل ،ث م سلك رسول اللهصلى ال عليه وسل م إلى الطائف ،فمر في طريقه على نخلة اليمانية ،ث م على َقْر ِن ـالمنازل ،ث م على ِلّيَة ،وكان هناك حصن لمالك بن عوف فأمر بهدمه ،ث م واصل سيره حتى انتهي إلى الطائف فنزل قريبًا من حصنه ،وعسكر هناك ،وفرض الحصار على أهل الحصن.
ودا م الحصار مد ة غير قليلة ،ففي رواية أنس عند مسل م :أن مد ة حصاره م كانت أربعين يومًا ،وعند أهل السير
خلف في ذلك ،فقيل :عشرين يومًا ،وقيل :بضعة عشر ،وقيل :ثمانية عشر ،وقيل :خمسة عشر.
ووقعت في هذه المد ة مراما ة ،ومقاذفات ،فالمسلمون أول ما فرضوا الحصار رماه م أهل الحصن رميًا شديدًا، ل ،واضطروا إلى الرتفاع كأنه ِرْجـ ل ـجراد ،حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة ،وقتل منه م اثنا عشر رج ً عن معسكره م إلى مسجد الطائف اليو م ،فعسكروا هناك.
ونصب النبي صلى ال عليه وسل م المنجنيق على أهل الطائف ،وقذف به القذائف ،حتى وقعت شدخة في جدار الحصن ،فدخل نفر من المسلمين تحت دبابة. ودخلوا بها إلى الجدار ليحرقوه ،فأرسل عليه م العدو سكك الحديد محما ة بالنار .فخرجوا من تحتها ،فرموه م بالنبل ل. وقتلوا منه م رجا ً وأمر رسول الّله صلى ال عليه وسل م ـ كجزء من سياسة الحرب للجاء العدو إلى الستسل م ـ أمر بقطع
العناب وتحريقها ،فقطعها المسلمون قطعًا ذريعًا ،فسألته ثقيف أن يدعها لّله والرح م ،فتركها لّله والرح م.
ونادى مناديه صلى ال عليه وسل م :أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر ،فخرج إليه م ثلثة وعشرون ل ،فيه م أبو بكر ة ـ تسور حصن الطائف ،وتدلي منه ببكر ة مستدير ة يستقى عليها ،فكناه رسول الّله صلى ال رج ً عليه وسل م ]أبا بكر ة[ ـ فأعتقه م رسول الّله صلى ال عليه وسل م ،ودفع كل رجل منه م إلى رجل من المسلمين
يمونه ،فشق ذلك على أهل الحصن مشقة شديد ة.
ولما طال الحصار واستعصي الحصن ،وأصيب المسلمون بما أصيب من رشق النبال وبسكك الحديد المحما ة ـ وكان أهل الحصن قد أعدوا فيه ما يكفيه م لحصار سنة ـ استشار رسول الّله صلى ال عليه وسل م َنْو َفـلـ بن معاوية الّد يـلي فقال :ه م ثعلب في جحر ،إن أقمت عليه أخذته إوان تركته ل م يضرك ،وحينئذ عز م رسول الّله
صلى ال عليه وسل م على رفع الحصار والرحيل ،فأمر عمر بن الخطاب فأذن في الناس ،إنا قافلون غدًا إن
شاء الّله ،فثقل عليه م وقالوا :نذهب ول نفتحه؟ فقال رسول الّله صلى ال عليه وسل م :)اغدوا على القتال( ،فغدوا
فأصابه م جراح ،فقال :)إنا قافلون غدًا إن شاء الّله( فسروا بذلك وأذعنوا ،وجعلوا يرحلون ،ورسول الّله صلى ال عليه وسل م يضحك.
ولما ارتحلوا واستقلوا قال :قولوا :)آيبون تائبون عابدون ،لربنا حامدون(. وقيل :يا رسول الّله ،ادع على ثقيف ،فقال :)الّله م اهد ثقيفا ،وائت به م(. قسمة الغنائ م بالِج ْعـَرـاَنةـ ولما عاد رسول الْله صلى ال عليه وسل م بعد رفع الحصار عن الطائف مكث بالجعرانة بضع عشر ة ليلة ل يقس م
الغنائ م ،ويتأني بها ،يبتغي أن يقد م عليه وفد هوازن تائبين فيحرزوا ما فقدوا ،ولكنه ل م يجئه أحد ،فبدأ بقسمة
المال ،ليسكت المتطلعين من رؤساء القبائل وأشراف مكة ،فكان المؤلفة قلوبه م أول من أعطي وحظي بالنصبة الجزلة. أعطي أبا سفيان بن حرب أربعين أوقية ومائة من البل ،فقال :ابني يزيد؟ فأعطاه مثلها ،فقال :ابني معاوية؟ فأعطاه مثلها ،وأعطي حكي م بن حزا م مائة من البل ،ث م سأله مائة أخري ،فأعطاه إياها .وأعطي صفوان بن أمية مائة من البل ،ث م مائة ث م مائة ـ كذا في الشفاء ـ وأعطي الحارث بن الحارث بن َك لَـَد ةـ مائة من البل، وكذلك أعطي رجال من رؤساء قريش وغيرها مائة مائة من البل وأعطي آخرين خمسين خمسين وأربعين أربعين ،حتى شاع في الناس أن محمدًا يعطي عطاًء ،ما يخاف الفقر ،فازدحمت عليه العراب يطلبون المال
حتى اضطروه إلى شجر ة ،فانتزعت رداءه فقال :)أيها الناس ،ردوا علي ردائي ،فو الذي نفسي بيده لو كان عندي ل ول جبانًا ول كذابًا(. عدد شجر تهامة نعمًا لقسمته عليك م ،ث م ما ألفيتموني بخي ً ث م قا م إلى جنب بعيره فأخذ من سنامه وبر ة ،فجعلها بين إصبعه ،ث م رفعها ،فقال :)أيها الناس ،والّله مالى من
فيئك م ول هذه الوبر ة إل الخمس ،والخمس مردود عليك م(.
وبعد إعطاء المؤلفة قلوبه م أمر رسول الّله صلى ال عليه وسل م زيد بن ثابت بإحضار الغنائ م والناس ،ث م فرضها
على الناس ،فكانت سهامه م لكل رجل إما أربعًا من البل ،إواما أربعين شا ة ،فإن كان فارسًا أخذ اثني عشر بعي اًر أو عشرين ومائة شا ة. النصار تَِج ُد ـ على رسول الّله صلى ال عليه وسل م ت ألسنة شتي بالعتراض. كانت هذه القسمة مبنية على سياسة حكيمة ،لكنها ل م تُْفَه م أول المر ،فأُ ْ طِلق ْ روى ابن إسحاق عن أبي سعيد الخدري قال :لما أعطي رسول الّله صلى ال عليه وسل م ما أعطي من تلك
العطايا في قريش وفي قبائل العرب ،ول م يكن في النصار منها شيءَ ،و َجـ َد ـهذا الحي من النصار في أنفسه م حتى كثرت فيه م الَقالَُة ،حتى قال قائله م :لقي والّله رسول الّله صلى ال عليه وسل م قومه ،فدخل عليه سعد بن
عباد ة فقال :يا رسول الّله ،إن هذا الحي من النصار قد َو َجـ ُدـوـاعليك في أنفسه م لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت ،قسمت في قومك ،وأعطيت عطايا عظامًا في قبائل العرب ،ول م يك في هذا الحي من النصار منها
شيء.قال :)فأين أنت من ذلك يا سعد؟( قال :يا رسول الّله ،ما أنا إل من قومي .قال :)فاجمع لي قومك في هذه الحظير ة( .فخرج سعد فجمع النصار في تلك الحظير ة ،فجاء رجال من المهاجرين فتركه م فدخلوا .وجاء
آخرون فرده م ،فلما اجتمعوا له أتاه سعد فقال :لقد اجتمع لك هذا الحي من النصار ،فأتاه م رسول الّله صلى ال عليه وسل م فحمد الّله ،وأثني عليه ،ث م قال :)يا معشر النصار ،ما َقالَهٌ بلغتني عنك مَ ،و ِجـ َدـ ةٌـوجدتموها على ل فهداك م الّله؟ وعالة فأغناك م الّله؟ وأعداء فألف الّله بين قلوبك م؟( قالـوا :بلـي ،الّله في أنفسك م؟ أل م آتك م ضل ً ض ُل ـ. ورسولـه أَم ّنـ وأْف َ
ث م قال :)أل تجيبوني يا معشر النصار؟( قالوا :بماذا نجيبك يا رسول الّله؟ لّله ورسوله المن والفضل .قال :)أما ل ل فنصرناك ،وطريدًا فآويناك ،وعائ ً ص ّدـْقـتُْ م :أتيتنا ُم َكـّذـًبـاـ فصدقناك ،ومخذو ً ص َدـْقـتُْ م ول ُ والّله لو شئت م لقلت م ،ف َ فآَس ْيـَنـاك(. ت بها قومًا لُيْس ِلـُم وـا ،وَو َكـْلـُتك م إلى إسلمك م؟ أل ) أَوَجـْدـتُـْ ميا معشر النصار في أنفسك م في لََعاـَع ٍةـ من الدنيا َتألفّ ُ ترضون يا معشر النصار أن يذهب الناس بالشا ة والبعير ،وترجعوا برسول الّله صلى ال عليه وسل م إلى رحالك م؟ فوالذي نفس محمد بيده ،لول الهجر ة لكنت ام أر من النصار ،ولو سلك الناس ِش ْع ـًبـا ،وسلكت النصار شعبًا لسلكت شعب النصار ،الّله م ارح م النصار ،وأبناء النصار ،وأبناء أبناء النصار(. ض ـلُـوا ِلَح اـُه مـ وقالوا :رضينا برسول الّله صلى ال عليه وسل م قَْس ًمـاـ وحظًا ،ث م انصرف رسول فبكي القو م حتى أْخ َ الّله صلى ال عليه وسل م ،وتفرقوا.
قدو م وفد هوازن ص َرـدــ،وفيه م أبو ُبْر قَــان ع م وبعد توزيع الغنائ م أقبل وفد هوازن مسلمًا ،وه م أربعة عشر رج ً ل ورأسه م زهير ابن ُ رسول الّله صلى ال عليه وسل م من الرضاعة ،فأسلموا وبايعوا ث م قالوا :يا رسول الّله ،إن فيمن أصبت م المهات والخوات ،والعمات والخالت ،وهن مخازي القوا م:
فامنن علينا رسول الّله في كـر م ** فإنـك المرء نرجـوه وننتظر امنن على نسو ة قد كنت ترضعها ** إذ فوك تملؤه من محضها الدرر وذلك في أبيات .فقال :)إن معي من ترون ،إوان أحب الحديث إلى أصدقه ،فأبناؤك م ونساؤك م أحب إليك م أ م أموالك م؟( قالوا :ما كنا نعدل بالحساب شيئًا .فقال :)إذا صليت الغدا ة ـ أي صل ة الظهر ـ فقوموا فقولوا :إنا
نستشفع برسول الّله صلى ال عليه وسل م إلى المؤمنين ،ونستشفع بالمؤمنين إلى رسول الّله صلى ال عليه وسل م أن يرد إلينا سبينا( ،فلما صلي الغدا ة قاموا فقالوا ذلك .فقال رسول الّله صلى ال عليه وسل م :)أما ما كان لي
ولبني عبد المطلب فهو لك م ،وسأسأل لك م الناس( ،فقال المهاجرون والنصار :ما كان لنا فهو لرسول الّله صلى ِ صـن:ـ أما أنا وبنو فََزاَر ةفل.وقال ال عليه وسل م .فقال الْقَرع بن حابس :أما أنا وبنو تمي م فل .وقال ُع َيـْي َنـة بن ح ْ ـس أما أنا وبنو ُس لَـْي مـ فل .فقالت بنو سلي م :ما كان لنا فهو لرسول الّله صلى ال عليه وسل م. العباس بن ِم ْرـَدـا :
فقال العباس بن مرداس :وهنتموني.
فقال رسول الّله صلى ال عليه وسل م :)إن هؤلء القو م قد جاءوا مسلمين ،وقد كنت استأنيت َس ْبـَيـهُْ م ،ـ وقد خيرته م فل م يعدلوا بالبناء والنساء شيئًا ،فمن كان عنده منهن شيء فطابت نفسه بأن يرده فسبيل ذلك ،ومن أحب أن يستمسك بحقه فليرد عليه م ،وله بكل فريضة ست فرائض من أول ما يفيء الّله علينا( ،فقال الناس :قد طيبنا
لرسول الّله صلى ال عليه وسل م .فقال :)إنا ل نعرف من رضي منك م ممن ل م يرض ،فارجعوا حتى يرفع إلينا ُع َرـفَــاؤك مأمرك م( ،فردوا عليه م نساءه م وأبناءه م ،ل م يتخلف منه م أحد غير عيينة بن حصن ،فإنه أبي أن يرد
عجو ًاز صارت في يديه منه م ،ث م ردها بعد ذلك ،وكسا رسول الّله صلى ال عليه وسل م السبي قبطية قبطية. العمر ة والنصراف إلى المدينة
ولما فرغ رسول الّله صلى ال عليه وسل م من قسمة الغنائ م في الِج ْعـَرـانةأهّل معتم اًر منها ،فأدي العمر ة ،وانصرف بعد ذلك راجعًا إلى المدينة بعد أن ولي على مكة َع تّـاب بن أسيد ،وكان رجوعه إلى المدينة ودخوله فيها لست ليال بقيت من ذي القعد ة سنة 8هـ.
البعوث والسرايا بعد الرجوع من غزو ة الفتح وبعد الرجوع من هذا السفر الطويل الناجح أقا م رسول الّله صلى ال عليه وسل م بالمدينة يستقبل الوفود ،ويبعث ت من بقي فيه الستكبار عن الدخول في دين الّله ،والستسل م للمر الواقع الذي العمال ،ويبث الدعا ة ،وَيْك بِـ ُ
شاهدته العرب .وهاك صور ة مصغر ة من ذلك.
المصدقون قد عرفنا مما تقد م أن رجوع رسول الّله صلى ال عليه وسل م إلى المدينة كان في أواخر أيا م السنة الثامنة ،فما صـ ّد ـقـين إلى القبائل، هو إل أن استهل هلل المحر م من سنة 9هـ ،وبعث رسول الّله صلى ال عليه وسل م الُم َ وهذه هي قائمته م:
1ـ ُع َيـْي َنـةُـ بن حصن إلى بني تمي م. صـْي ـنـإلى أْس لَـ م وِغ فَــار. 2ـ يزيد بن الُح َ 3ـ َع ّبـاد بن بشير الشهلي إلى ُس لَـْي مـ وُم َزـْيـَنـَ.ة 4ـ رافع بن َم ِكـيـث إلى ُج هَـْي َنـةـ. ر ة 5ـ عمرو بن العاص إلى بني فََزا َ . 6ـ الضحاك بن سفيان إلى بني كلب. 7ـ بشير بن سفيان إلى بني كعب. 8ـ ابن اللِّْتبّية الزدي إلى بني ُذ ْبـَيـان. 9ـ المهاجر بن أبي أمية إلى صنعاء ـ وخرج عليه السود العنسي وهو بها. 10ـ زياد بن لبيد إلى حضرموت. 11ـ عدي بن حات م إلى طيئ وبني أسد. ظـَلة. 12ـ مالك بن ُنَو ْيـَرـ ةإلى بني َح ْن ـ َ
13ـ الّز ْبـِرـقَـانبن بدر إلى بني سعد ـ إلى قس م منه م. 14ـ قيس بن عاص م إلى بني سعد ـ إلى قس م آخر منه م. 15ـ العلء بن الحضرمي إلى البحرين. 16ـ علي بن أبي طالب إلى نجران ـ لجمع الصدقة والجزية كليهما. وليس هؤلء العمال كله م بعثوا في المحر م سنة 9هـ ،بل تأخر بعث عد ة منه م إلى اعتناق السل م من تلك القبائل التي بعثوا إليها .نع م كانت بداية بعث العمال بهذا الهتما م البالغ في المحر م سنة 9هـ ،وهذا يدل على مدي نجاح الدعو ة السلمية بعد صلح الحديبية ،وأما بعد فتح مكة فقد دخل الناس في دين الّله أفواجًا.
السرايا وكما بعث المصدقون إلى القبائلَ ،م ّسـِتـ الحاجة إلى بعث عد ة من السرايا مع سياد ة المن على عامة مناطق
الجزير ة ،وهاك لوحة تلك السرايا:
1ـ سرية عيينة بن حصن الفزاري ـ في المحر م سنة 9هـ ـ إلى بني تمي م ،في خمسين فارسًا ،ل م يكن فيه م
مهاجري ول أنصاري ،وسببها :أن بني تمي م كانوا قد أغروا القبائل ،ومنعوه م عن أداء الجزية.
وخرج عيينة بن حصن يسير الليل ،ويكمن النهار ،حتى هج م عليه م في الصحراء فولي القو م مدبرين ،وأخذ منه م ل إواحدي وعشرين امرأ ة وثلثين صبيًا ،وساقه م إلى المدينة ،فأنزلوا في دار َر ْمـلَــةبنت الحارث. أحد عشر رج ً وقد م فيه م عشر ة من رؤسائه م ،فجاءوا إلى باب النبي صلى ال عليه وسل م فنادوا :يا محمد ،اخرج إلينا ،فخرج، فتعلقوا به ،وجعلوا يكلمونه ،فوقف معه م ،ث م مضي حتى صلي الظهر ،ث م جلس في صحن المسجد ،فأظهروا
طـاِر دـبن حاجب فتكل م ،فأمر رسول ال صلى ال عليه وسل م رغبته م في المفاخر ة والمباها ة ،وقدموا خطيبه م ُع َ
ثابت بن قيس بن َش ّمـاـس ـ خطيب السل م ـ فأجابه م ،ث م قدموا شاعره م الزبرقان بن بدر ،فأنشد مفاخ ًرا ،فأجابه
شاعر السل م حسان بن ثابت على البديهة.
ولما فرغ الخطيبان والشاعران قال القرع بن حابس :خطيبه أخطب من خطيبنا ،وشاعره أشعر من شاعرنا، وأصواته م أعلى من أصواتنا ،وأقواله م أعلى من أقوالنا ،ث م أسلموا ،فأجازه م رسول الّله صلى ال عليه وسل م،
فأحسن جوائزه م ،ورد عليه م نساءه م وأبناءه م.
طَبةـ بن عامر إلى حي من َخ ثْـَع مـ بناحية تََباَلة ،بالقرب من تَُر َبــة في صفر سنة 9هـ .خرج قطبة في 2ـ سرية قُ ْ ل شديدًا حتى كثر الجرحى في الفريقين جميعًا، ل على عشر ة أبعر ة يعتقبونها ،فشن الغار ة ،فاقتتلوا قتا ً عشرين رج ً وقتل قطبة مع من قتل ،وساق المسلمون الّنَع مـ والنساء والشاء إلى المدينة.
3ـ سرية الضحاك بن سفيان الكلبي إلى بني ِك لَـب في ربيع الول سنة 9هـ .بعثت هذه السرية إلى بني كلب ؛
ل. لدعوته م إلى السل م ،فأبوا وقاتلوا ،فهزمه م المسلمون ،وقتلوا منه م رج ً
4ـ سرية علقمة بن ُم َجـ ّز ـ ِر ـالُم ْدـِلــجي إلى سواحل ُج ّدـ ةـ في شهر ربيع الخر سنة 9هـ في ثلثمائة.بعثه م إلى رجال
صـَنـةـضد أهل مكة ،فخاض علقمة من الحبشة ،كانوا قد اجتمعوا بالقرب من سواحل جد ة للقيا م بأعمال الَقْر َ البحر حتى انتهي إلى جزير ة ،فلما سمعوا بمسير المسلمين إليه م هربوا.
5ـ سرية على بن أبي طالب إلى صن م لطيئ يقال له :الُفْلس ـ ليهدمه ـ في شهر ربيع الول سنة 9هـ .بعثه
رسول الّله صلى ال عليه وسل م في خمسين ومائة ،على مائة بعير وخمسين فرسًا ،ومعه راية سوداء ولواء
أبيض ،فشنوا الغار ة على محلة آل حات م مع الفجر ،فهدموه وملوا أيديه م من السبي والنع م والشاء ،وفي السبي
أخت عدي بن حات م ،وهرب عدي إلى الشا م ،ووجد المسلمون في خزانة الفلس ثلثة أسياف وثلثة أدرع ،وفي الطريق قسموا الغنائ م ،وعزلوا الصفي لرسول الّله صلى ال عليه وسل م .ول م يقسموا آل حات م. ولما جـاءوا إلى المدينة استعطفت أخـت عـدي بـن حات م رسول الّله صلى ال عليه وسل م ،قائلـة :يا رسول الّله،
غاب الوافد ،وانقطع الوالد ،وأنا عجوز كبير ة ،ما بي من خدمة ،فُم ّنـ على ،مّن الّله عليك .قال :)من وافدك؟( قالت :عدي بن حات م .،قال :)الذي فر من الّله ورسوله؟( ث م مضي ،فلما كان الغد قالت مثل ذلك ،وقال لها مثل ما قال أمس .فلما كان بعد الغد قالت مثل ذلك ،فمن عليها ،وكان إلى جنبه رجل ـ تري أنه على ـ فقال لها: سليه الِح ْمـلــن فسألته فأمر لها به.
ورجعت أخت عدي بن حات م إلى أخيها عدي بالشا م ،فلما لقيته قالت عن رسول ال صلى ال عليه وسل م :لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلها ،ائته راغبًا أو راهبًا ،فجاءه عدي بغيرأمان ول كتاب .فأتي به إلى داره ،فلما جلس كـ؟ أُيِفّرـكـأن تقول :)ل إله إل الّله؟ فهل تعل م من إله سوى الّله؟( بين يديه حمد الّله وأثني عليه ،ث م قال :ما ُيِفّرـ َ
قال :ل .ث م تكل م ساعة ث م قال :)إنما تفر أن يقال :الّله أكبر ،فهل تعل م شيئًا أكبر من ال؟( قال :ل .قال :)فإن اليهود مغضوب عليه م ،إوان النصاري ضالون( .قال :فإني َح نِــيف مسل م ،فانبسط وجهه فرحًا ،وأمر به فنزل عند رجل من النصار ،وجعل يأتي النبي صلى ال عليه وسل م طرفي النهار.
وفي رواية ابن إسحاق عن عدي :أن النبي صلى ال عليه وسل م لما أجلسه بين يديه في داره قال له :)إيه يا عدي بن حات م ،أل م تكن َر ُكـوـِس ّي ـ؟ا( قال :قلت :بلي ،قال :)أو ل م تكن تسير في قومك بالِم ْرـَبــاع؟(.قال :قلت :بلي. قال :)فإن ذلك ل م يحل لك في دينك( .قال :قلت أجل والّله .قال :وعرفت أنه نبي مرسل ،يعرف ما ُيْج هَــل.
وفي رواية لحمد :أن النبي صلى ال عليه وسل م قال :)يا عدي ،أسل م تسل م( .فقلت :إني من أهل دين .قال: )أنا أعل م بدينك منك( .فقلت :أنت أعل م بديني مني؟ قال :)نع م ،ألست من الركوسية ،وأنت تأكل مرباع قومك؟( فقلت :بلي ،قال :)فإن هذا ل يحل لك في دينك( .قال :فل م يعد أن قالها فتواضعت لها. وروي البخاري عن عدي قال :بينا أنا عند النبي صلى ال عليه وسل م إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة ،ث م أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل ،فقال :)يا عدي ،هل رأيت الحير ة؟ فإن طالت بك حيا ة فلترين الظعينة ترتحل من الحير ة حتى تطوف بالكعبة ،ل تخاف أحدًا إل الّله ،ولئن طالت بك حيا ة لتفتحن كنوز كسري ،ولئن طالت بك حيا ة
لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة ،ويطلب من يقبله فل يجد أحدًا يقبله منه (...الحديث وفي آخره:
قال عدي :فرأيت الظعينة ترتحل من الحير ة حتى تطوف بالكعبة ل تخاف إل الّله .وكنت فيمن افتتح كنوز
كسري بن هرمز ،ولئن طالت بك م حيا ة لترون ما قال النبي أبو القاس م صلى ال عليه وسل م :)يخرج ملء كفه(.
غ ــزو ة تب ــوك في رجب سنة 9هـ
إن غزو ة فتح مكة كانت غزو ة فاصلة بين الحق والباطل ،ل م يبق بعدها مجال للريبة والظن في رسالة محمد صلى ال عليه وسل م عند العرب ،ولذلك انقلب المجري تمامًا ،ودخل الناس في دين الّله أفواجًا ـ كما سيظهر
ذلك مما نقدمه في فصل الوفود ،ومن العدد الذي حضر في حجة الوداع ـ وانتهت المتاعب الداخلية ،واستراح المسلمون لتعلي م شرائع ا ّل ،ـ ـ ـوبث دعو ة السل م. سبب الغزو ة إل أنه كانت هناك قو ة تعرضت للمسلمين من غير مبرر ،وهي قو ة الرومان ـ أكبر قو ة عسكرية ظهرت على وجه الرض في ذلك الزمان ـ وقد عرفنا فيما تقد م أن بداية هذا التعرض كانت بقتل سفير رسول الّله صلى ال عليه وسل م ـ الحارث بن عمير الزدي ـ على يدي ُش َرـْحـ بِــيلبن عمرو الغساني ،حينما كان السفير يحمل رسالة النبي
ص َرــي،وأن النبي صلى ال عليه وسل م أرسل بعد ذلك سرية زيد بن حارثة التي صلى ال عليه وسل م إلى عظي م ُب ْ
اصطدمت بالرومان اصطدامًا عنيفًا في مؤتة ،ول م تنجح في أخذ الثأر من أولئك الظالمين المتغطرسين ،إل أنها
تركت أروع أثر في نفوس العرب ،قريبه م وبعيده م.
ول م يكن قيصر ليصرف نظره عما كان لمعركة مؤتة من الثر الكبير لصالح المسلمين ،وعما كان يطمح إليه بعد ذلك كثير من قبائل العرب من استقلله م عن قيصر ،ومواطأته م للمسلمين ،إن هذا كان خط ًار يتقد م ويخطو إلى حدوده خطو ة بعد خطو ة ،ويهدد الثغور الشامية التي تجاور العرب ،فكان يري أن القضاء يجب على قو ة المسلمين قبل أن تتجسد في صور ة خطر عظي م ل يمكن القضاء عليها ،وقبل أن تثير القلقل والثورات في المناطق العربية المجاور ة للرومان. ونظ اًر إلى هذه المصالح ،ل م يقض قيصر بعد معركة مؤتة سنة كاملة حتى أخذ يهيئ الجيش مـن الرومـان والعرب التابعة له م من آل غسان وغيره م ،وبدأ يجهز لمعركة دامية فاصلة. الخبار العامة عن استعداد الرومان وَغ ّسـاـن وكانت النباء تترامي إلى المدينة بإعداد الرومان ؛ للقيا م بغزو ة حاسمة ضد المسلمين ،حتى كان الخوف يتسوره م كل حين ،ل يسمعون صوتًا غير معتاد إل ويظنونه زحف الرومان.ويظهر ذلك جليًا مما وقع لعمر بن الخطاب ،فقد كان النبي صلى ال عليه وسل م إلى من نسائه شه اًر في هذه السنة ـ 9هـ ـ وكان هجرهن واعتزل عنهن في مشربة له ،ول م يفطن الصحابة إلى حقيقة المر في بدايته ،فظنوا أن النبي صلى ال عليه وسل م
طلقهن ،فسري فيه م اله م والحزن والقلق .يقول عمر بن الخطاب ـ وهو يروي هذه القصة :وكان لي صاحب من
النصار إذا غبت أتاني بالخبر ،إواذا غاب كنت آتية أنا بالخبر ـ وكانا يسكنان في عوالى المدينة ،يتناوبان إلى النبي صلى ال عليه وسل م ـ ونحن نتخوف ملكاً من ملوك غسان ذكر لنا أنه يريد أن يسير إلينا ،فقد امتلت
صدورنا منه ،فإذا صاحبي النصاري يدق الباب ،فقال :افتح ،افتح ،فقلت :جاء الغساني؟ فقال :بل أشد من ذلك ،اعتزل رسول الّله صلى ال عليه وسل م أزواجه ...الحديث.
وفي لفظ آخر ـ أنه قال ـ :وكنا تحدثنا أن آل غسان تنعل النعال لغزونا ،فنزل صاحبي يو م َنْو َب ـتِِه ،ـفرجع عشاء،
فضرب بابي ضربًا شديدًا وقال :أنائ م هو؟ ففزعت ،فخرجت إليه ،وقال :حدث أمر عظي م .فقلت :ما هو؟ أجاءت غسان؟ قال :ل بل أعظ م منه وأطول ،طلق رسول الّله صلى ال عليه وسل م نساءه ...الحديث.
وهذا يدل على خطور ة الموقف ،الذي كان يواجهه المسلمون بالنسبة إلى الرومان ،ويزيد ذلك تأكدًا ما فعله
المنافقون حينما نقلت إلى المدينة أخبار إعداد الرومان ،فبرغ م ما رآه هؤلء المنافقون من نجاح رسول الّله صلى
ال عليه وسل م في كل الميادين ،وأنه ل يوجل من سلطان على ظهر الرض ،بل يذيب كل ما يعترض في
طريقه من عوائق ـ برغ م هذا كله ـ طفق هؤلء المنافقون يأملون في تحقق ما كانوا يخفونه في صدوره م ،وما كانوا يتربصونه من الشر بالسل م وأهله .ونظ اًر إلى قرب تحقق آماله م أنشأوا وكر ة للدس والتآمر ،في صور ة
مسجد ،وهو مسجد ال ّ ض َرــار،أسسوه كف ًار وتفريقًا بين المؤمنين إوارصادًا لمن حارب الّله ورسوله ،وعرضوا على
رسول الّله صلى ال عليه وسل م أن يصلي فيه ،إوانما مرامه م بذلك أن يخدعوا المؤمنين فل يفطنوا ما يؤتي به في هذا المسجد من الدس والمؤامر ة ضده م ،ول يلتفتوا إلى من يرده ويصدر عنه ،فيصير وكر ة مأمونة لهؤلء
المنافقين ولرفقائه م في الخارج ،ولكن رسول الّله صلى ال عليه وسل م أخر الصل ة فيه ـ إلى قفوله من الغزو ة ـ
لشغله بالجهاز ،ففشلوا في مرامه م وفضحه م الّله ،حتى قا م الرسول صلى ال عليه وسل م بهد م المسجد بعد القفول
من الغزو ،بدل أن يصلي فيه.
الخبار الخاصة عن استعداد الرومان وغسان كانت هذه هي الحوال والخبار التي يواجهها ويتلقاها المسلمون ،إذ بلغه م من النباط الذين قدموا بالزيت من الشا م إلى المدينة أن هرقل قد هيأ جيشًا عرمرما قوامه أربعون ألف مقاتل ،وأعطي قيادته لعظي م من عظماء الرو م ،وأنه أجلب معه م قبائل لَْخ ٍ م ـ وُج َذـاـٍ م وغيرهما من متنصر ة العرب ،وأن مقدمته م بلغت إلى البلقاء ،وبذلك تمثل أما م المسلمين خطر كبير.
زياد ة خطور ة الموقف والذي كان يزيد خطور ة الموقف أن الزمان كان فصل القيظ الشديد ،وكان الناس في عسر ة وجدب من البلء وقلة من الظهر ،وكانت الثمار قد طابت ،فكانوا يحبون المقا م في ثماره م وظلله م ،ويكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذي ه م فيه ،ومع هذا كله كانت المسافة بعيد ة ،والطريق وعر ة صعبة.
الرسول صلى ال عليه وسل م يقرر القيا م بإقدا م حاس م ولكن الرسول صلى ال عليه وسل م كان ينظر إلى الظروف والتطورات بنظر أدق وأحك م من هذا كله ،إنه كان يري أنه لو تواني وتكاسل عن غزو الرومان في هذه الظروف الحاسمة ،وترك الرومان لتجوس خلل المناطق التي كانت تحت سيطر ة السل م ونفوذه ،وتزحف إلى المدينة كان له أسوأ أثر على الدعو ة السلمية وعلى سمعة المسلمين العسكرية ،فالجاهلية التي تلفظ نفسها الخير بعد ما لقيت من الضربة القاصمة في حنين ستحيا مر ة أخري ،والمنافقون الذين يتربصون الدوائر بالمسلمين ،ويتصلون بملك الرومان بواسطة أبي عامر الفاسق سيبعجون بطون المسلمين بخناجره م من الخلف ،في حين تهج م الرومان بحملة ضارية ضد المسلمين من الما م ،وهكذا يخفق كثير من الجهود التي بذلها هو أصحابه في نشر السل م ،وتذهب المكاسب التي حصلوا عليها بعد حروب دامية ودوريات عسكرية متتابعة متواصلة ...تذهب هذه المكاسب بغير جدوي. كان رسول الّله صلى ال عليه وسل م يعرف كل ذلك جيدًا ،ولذلك قرر القيا م ـ مع ما كان فيه من العسر ة والشد ة ـ
بغزو ة فاصلة يخوضها المسلمون ضد الرومان في حدوده م ،ول يمهلونه م حتى يزحفوا إلى دار السل م. العلن بالتهيؤ لقتال الرومان
ولما قرر الرسول صلى ال عليه وسل م الموقف أعلن في الصحابة أن يتجهزوا للقتال ،وبعث إلى القبائل من العرب إوالى أهل مكة يستنفره م .وكان قل ما يريد غزو ة يغزوها إل َو ّرـيـبغيرها ،ولكنه نظ اًر إلى خطور ة الموقف إوالى شد ة العسر ة أعلن أنه يريد لقاء الرومان ،وجلي للناس أمره م ؛ ليتأهبوا أهبة كاملة ،وحضه م على الجهاد، ونزلت قطعة من سور ة براء ة تثيره م على الجلد ،وتحثه م على القتال ،ورغبه م رسول الّله صلى ال عليه وسل م
في بذل الصدقات ،إوانفاق كرائ م الموال في سبيل الّله. المسلمون يتسابقون إلى التجهز للغزو
ول م يكن من المسلمين أن سمعوا صوت رسول الّله صلى ال عليه وسل م يدعو إلى قتال الرو م إل وتسابقوا إلى
امتثاله ،فقاموا يتجهزون للقتال بسرعة بالغة ،وأخذت القبائل والبطون تهبط إلى المدينة من كل صوب وناحية، ول م يرض أحد من المسلمين أن يتخلف عن هذه الغزو ة ـ إل الذين في قلوبه م مرض إوال ثلثة نفر ـ حتى كان يجيء أهل الحاجة والفاقة يستحملون رسول الّله صلى ال عليه وسل م ؛ ليخرجوا إلى قتال الرو م ،فإذا قال له م: ض ِم َنـ الّد ْمـِعـ َح َزـًنــاأَلّ َيِج ُدـوْـا َم اـ ُينِف قُـوَن{ ]التوبة.[92: } َ ل أَِج ُد ـ َم اـ أَْح ِم ـلُـُك ْ مـ َع لَـْي ِهـ تََو لّـوْا ّوأَْع ُيـُنهُْ م تَِفيـ ُ كما تسابق المسلمون في إنفاق الموال وبذل الصدقات ،كان عثمان بن عفان قد جهز عي ًار للشا م ،مائتا بعير
بأقتابها وأحلسها ،ومائتا أوقية ،فتصدق بها ،ث م تصدق بمائة بعير بأحلسها وأقتابها ،ث م جاء بألف دينار فنثرها
ض ّر ـ عثمان ما عمل في حجره صلى ال عليه وسل م ،فكان رسول الّله صلى ال عليه وسل م يقلبها ويقول :)ما َ بعد اليو م( ،ث م تصدق وتصدق حتى بلغ مقدار صدقته تسعمائة بعير ومائة فرس سوى النقود. وجاء عبد الرحمن بن عوف بمائتي أوقية فضة ،وجاء أبو بكر بماله كّله ول م يترك لهله إل الّله ورسوله ـ وكانت
أربعة آلف دره م ـ وهو أول من جاء بصدقته .وجاء عمر بنصف ماله ،وجاء العباس بمال كثير ،وجاء طلحة
وسعد بن عباد ة ومحمد بن مسلمة ،كله م جاءوا بمال .وجاء عاص م بن عدي بتسعين َو ْسـقًــا من التمر ،وتتابع الناس بصدقاته م قليلها وكثيرها ،حتى كان منه م من أنفق ُم ّدـاـ أو مدين ل م يكن يستطيع غيرها .وبعثت النساء ما
قدرن عليه من َم َسـكـ ومعاضد وخلخل وقُْر ط ـوخوات م.
ول م يمسك أحد يده ،ول م يبخل بماله إل المنافقون } الِّذيـن ي ْلـِم ُزـ و ـناْلم ّ ل طـّو ِع يـَنِم َنـ اْلُم ْؤـ ِم ـنِـيَنِفيـ ال ّ ص َدـقَـاِت َواـلِّذ يـَن َ ََ َ ُ َيِج ُدـوـَن ِإلّ ُج ْهـَد ُهـْ م فََيْس َخـُر ـ وـَنِم ْنـهُـْ م{]التوبة.[79 : الجيش السلمي إلى تبوك وهكذا تجهز الجيش ،فاستعمل رسول الّله صلى ال عليه وسل م على المدينة محمد بن مسلمة النصاري ،وقيل: صـ عليه المنافقون ،فخرج ِس َبـاع بن ُع ْرـ فُـ َ طَة ،وخلف على أهله على بن أبي طالب ،وأمره بالقامة فيه م ،وَغ َمـ َ فلحق برسول ال صلى ال عليه وسل م ،فرده إلى المدينة وقال :)أل ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسي ،إل أنه ل نبي بعدي(. وتحرك رسول الّله صلى ال عليه وسل م يو م الخميس نحو الشمال يريد تبوك ،ولكن الجيش كان كبي اًر ـ ثلثون
ألف مقاتل ،ل م يخرج المسلمون في مثل هذا الجمع الكبير قبله قط ـ فل م يستطع المسلمون مع ما بذلوه من
ل ،بل كانت في الجيش قلة شديد ة بالنسبة إلى الزاد والمراكب ،فكان ثمانية عشر الموال أن يجهزوه تجهي ًاز كام ً
ل يعتقبون بعي ًار واحدًا ،وربما أكلوا أوراق الشجار حتى تورمت شفاهه م ،واضطروا إلى ذبح البعير ـ مع قلتها رج ً ـ ليشربوا ما في كرشه من الماء ،ولذلك سمي هذا الجيش جيش الُعْس َرـِ .ة ومر الجيش السلمي في طريقه إلى تبوك بالِح ْج ـر ـ ديار ثمود الذين جابوا الصخر بالواد ،أي وادي القَُرىـ ـ فاستقي الناس من بئرها ،فلما راحوا قال رسول الّله صلى ال عليه وسل م :)ل تشربوا من مائها ول تتوضأوا منه
للصل ة ،وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه البل ،ول تأكلوا منه شيئًا( ،وأمره م أن يستقوا من البئر التي كانت
تردها ناقة صالح رسول ال.
وفي الصحيحين عن ابن عمر قال :لما مر النبي صلى ال عليه وسل م بالحجر قال :)ل تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسه م أن يصيبك م ما أصابه م إل أن تكونوا باكين( ،ث م َقنَع رأسه وأسرع بالسير حتى جاز الوادي.
واشتدت في الطريق حاجة الجيش إلى الماء حتى شكوا إلى رسول الّله ،فدعا الّله ،فأرسل الّله سحابة فأمطرت
حتى ارتوي الناس ،واحتملوا حاجاته م من الماء.
ض َح ـي ـالنهار، ولما قرب من تبوك قال :)إنك م ستأتون غدًا إن شاء الّله تعالى عين تبوك ،إوانك م لن تأتوها حتى َي ْ فمن جاءها فل يمس من مائها شيئًا حتى آتي( ،قال معاذ :فجئنا وقد سبق إليها رجلن ،والعين تَبِ ّ ض بشيء من
مائها ،فسألهما رسول الّله صلى ال عليه وسل م :)هل مسستما من مائها شيئًا؟( قال :نع م .وقال لهما ما شاء الّله ل حتى اجتمع اْلَو َشـُلـ ،ث م غسل رسول الّله صلى ال عليه وسل م فيه وجهه ل قلي ً أن يقول .ث م غرف من العين قلي ً ويده ،ث م أعاده فيها فجرت العين بماء كثير ،فاستقي الناس ،ث م قال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)يوشك يا
معاذ ،إن طالت بك حيا ة أن تري ماهاهنا قد ملئ جنانًا(. وفي الطريق أو لما بلغ تبوك ـ على اختلف الروايات ـ قال رسول الّله صلى ال عليه وسل م :)تهب عليك م الليلة ريح شديد ة ،فل يق م أحد منك م ،فمن كان له بعير فليشد ِع قَــاَله( ،فهبت ريح شديد ة ،فقا م رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طيئ.
وكان دأب رسول الّله صلى ال عليه وسل م في الطريق أنه كان يجمع بين الظهر والعصر ،وبين المغرب والعشاء جمع التقدي م وجمع التأخيركليهما.
الجيش السلمي بتبوك نزل الجيش السلمي بتبوك ،فعسكر هناك ،وهو مستعد للقاء العدو ،وقا م رسول الّله صلى ال عليه وسل م فيه م خطيبًا ،فخطب خطبة بليغة ،أتي بجوامع الكل م ،وحض على خير الدنيا والخر ة ،وحذر وأنذر ،وبشر وأبشر،
حتى رفع معنوياته م ،وجبر بها ما كان فيه م من النقص والخلل من حيث قلة الزاد والماد ة والمؤنة .وأما الرومان وحلفاؤه م فلما سمعوا بزحف رسول الّله صلى ال عليه وسل م أخذه م الرعب ،فل م يجترئوا على التقد م واللقاء ،بل
تفرقوا في البلد في داخل حدوده م ،فكان لذلك أحسن أثر بالنسبة إلى سمعة المسلمين العسكرية ،في داخل
الجزير ة وأرجائها النائية ،وحصل بذلك المسلمون على مكاسب سياسية كبير ة خطير ة ،لعله م ل م يكونوا يحصلون عليها لو وقع هناك اصطدا م بين الجيشين. جاء ُيَح ّنـةُ بن ُر ْؤ ـَبـةَـصاحب أْي لَـَة ،فصالح الرسول صلى ال عليه وسل م وأعطاه الجزية ،وأتاه أهل َج ْرـَبــاءوأهل أْذ ُرـح،فأعطوه الجزية ،وكتب له م رسول الّله صلى ال عليه وسل م كتابًا فهو عنده م ،وصالحه أهل ِم يـَناء على ربع ثمارها ،وكتب لصاحب أيلة :)بس م الّله الرحمن الرحي م ،هذه أمنة من الّله ومحمد النبي رسول الّله ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة ،سفنه م وسياراته م في البر والبحر له م ذمة الّله وذمة محمد النبي ،ومن كان معه من أهل الشا م
وأهل البحر ،فمن أحدث منه م حدثًا ،فإنه ل يحول ماله دون نفسه ،إوانه طيب لمن أخذه من الناس ،وأنه ل يحل أن يمنعوا ماء يردونه ،ول طريقًا يريدونه من بر أو بحر(.
وبعث رسول الّله صلى ال عليه وسل م خالد بن الوليد إلى أَُك ْيـِدـ ِر ـ ُد وـَم ةـ الَج ْنـَدـلـ في أربعمائة وعشرين فارسًا ،وقال له :)إنك ستجده يصيد البقر( ،فأتاه خالد ،فلما كان من حصنه بمنظر العين ،خرجت بقر ة ،تحك بقرونها باب القصر ،فخرج أكيدر لصيدها ـ وكانت ليلة مقمر ة ـ فتلقاه خالد في خيله ،فأخذه وجاء به إلى رسول الّلهصلى ال عليه وسل م ،فحقن دمه ،وصالحه على ألفي بعير ،وثمانمائة رأس وأربعمائة درع ،وأربعمائة رمح ،وأقر بإعطاء
الجزية ،فقاضاه مع ُيَح ّنــة على قضية ُد وـَم ةـ وتبوك وأْي لَـَة َو تَـْي مـاء.
وأيقنت القبائل التي كانت تعمل لحساب الرومان أن اعتمادها على سادتها القدمين قد فات أوانه ،فانقلبت لصالح المسلمين ،وهكذا توسعت حدود الدولة السلمية ،حتى لقت حدود الرومان مباشر ة ،وشهد عملء الرومان نهايته م إلى حد كبير. الرجوع إلى المدينة ورجع الجيش السلمي من تبوك مظفرين منصورين ،ل م ينالوا كيدًا ،وكفي ال المؤمنين القتال ،وفي الطريق عند ل من المنافقين الفتك بالنبي صلى ال عليه وسل م ،وذلك أنه حينما كان يمر بتلك عقبة حاول اثنا عشر رج ً
العقبة كان معه عمار يقود بزما م ناقته ،وحذيفة ابن اليمان يسوقها ،وأخذ الناس ببطن الوادي ،فانتهز أولئك المنافقون هذه الفرصة .فبينما رسول الّله صلى ال عليه وسل م وصاحباه يسيران إذ سمعوا وكز ة القو م من ورائه م، قد غشوه وه م ملتثمون ،فبعث حذيفة فضرب وجوه رواحله م بِم ْحـ َج ـن ـكان معه ،فأرعبه م الّله ،فأسرعوا في الفرار حتى لحقوا بالقو م ،وأخبر رسول الّله صلى ال عليه وسل م بأسمائه م ،وبما هموا به ،فلذلك كان حذيفة يسمي بصاحب سـر رسول ال صلى ال عليه وسل م ،وفي ذلك يقول الّله تعالي :}َوَهـّمـوْاـ بَِم اـ لَْ م َيَنالُوا{ ]التوبة.[74:
طاَبُة ،وهذا أُح ٌدـ،ـ جبل يحبنا ونحبه(، ولما لحت للنبي صلى ال عليه وسل م معال م المدينة من بعيد قال :)هذه َ وتسامع الناس بمقدمه ،فخرج النساء والصبيان والولئد يقابلن الجيش بحفاو ة بالغة ويقلن: طلع البـدر علينا ** من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ** ما دعا للع داع وكانت عودته صلى ال عليه وسل م من تبوك ودخوله في المدينة في رجب سنة 9هـ ،واستغرقت هذه الغزو ة خمسين يومًا ،أقا م منها عشرين يومًا في تبوك ،والبواقي قضاها في الطريق جيئة وذهوًبا .وكانت هذه الغزو ة آخر غزواته صلى ال عليه وسل م.
الُم َخـ لّــفون
وكانت هذه الغزو ة ـ لظروفها الخاصة بها ـ اختبا ًار شديدًا من الّله ،امتاز به المؤمنون من غيره م ،كما هي سنته ث ِم َنـ تعالى في مثل هذه المواطن ،حيث يقول :} ّماـ َك اـَن اللّهُ ِلَيَذ َرـ اْلُم ْؤـ ِم ـنِـيَنَع لَــى َم آـ َأنتُْ م َع لَـْي ِهـ َح تّـَى َيِم يـَز اْلَخ بِــي َ ال ّ طّيِب{] آل عمران .[179:فقد خرج لهذه الغزو ة كل من كان مؤمنًا صادقًا ،حتى صار التخلف أمار ة على نفاق الرجل ،فكان الرجل إذا تخلف وذكروه لرسول الّله صلى ال عليه وسل م قال له م :)دعوه ،فإن يكن فيه خير
فسيلحقه الّله بك م ،إوان يكن غير ذلك فقد أراحك م منه( ،فل م يتخلف إل من حبسه م العذر ،أو الذين كذبوا الّله ورسوله من المنافقين ،الذين قعدوا بعد أن استأذنوا للقعود كذبًا ،أو قعدوا ول م يستأذنوا رأسا .نع م كان هناك ثلثة نفر من المؤمنين الصادقين تخلفوا من غير مبرر ،وه م الذين أبله م الّله ،ث م تاب عليه م.
ولما دخل رسول الّله صلى ال عليه وسل م المدينة بدأ بالمسجد ،فصلي فيه ركعتين ،ث م جلس للناس ،فأما
ل ـ فجاءوا يعتذرون بأنواع شتي من العذار ،وطفقوا يحلفون له ،فقبل منه م المنافقون ـ وه م بضعة وثمانون رج ً علنيته م ،وبايعه م ،واستغفر له م ،ووكل سرائره م إلى الّله.
وأما النفر الثلثة من المؤمنين الصادقين ـ وه م كعب بن مالك ،وُم َرـاَر ةبن الربيع ،وهلل بن أمية ـ فاختاروا الصدق ،فأمر رسول الّله صلى ال عليه وسل م الصحابة أل يكلموا هؤلء الثلثة ،وجرت ضد هؤلء الثلثة
مقاطعة شديد ة ،وتغير له م الناس ،حتى تنكرت له م الرض ،وضاقت عليه م بما رحبت ،وضاقت عليه م أنفسه م، وبلغت به م الشد ة إلى أنه م بعد أن قضوا أربعين ليلة من بداية المقاطعة أمروا أن يعتزلوا نساءه م ،حتى تمت ض ـبَِم اـ ض اـقَ ْ ت َع لَـْي ِهـُ مـ الَْر ُ على مقاطعته م خمسون ليلة ،ث م أنزل الّله توبته م :}َو َعـ لَــى الثّلَثَِة الِّذ يـَن ُخ لّـفُوْا َح تّــى ِإَذ اـ َ ّ ّ ب الّر ِحـ يـُ{ م ت َع لَـْي ِهـْ مـ َأنفُُس هُـْ م َو َ ضـاـقَ ْ َر ُحـَبـ ْ ب َع لَـْي ِهـْ مـ لَِيُتوُبوْا ِإّن اللَّه ُهَو التّّوا ُ ظـّنوْا َأن ل َم ْلـَج َأ ـ ِم َنـ اللِّه ِإل ِإلَْي ِهـ ثُّ م َتا َ تـَو َ ]التوبة.[118: وفرح المسلمون ،وفرح الثلثة فرحًا ل يقاس مداه وغايته ،فبشروا وأبشروا واستبشروا وأجازوا وتصدقوا ،وكان
أسعد يو م من أيا م حياته م.
وأما الذين حبسه م العذر فقد قال تعالى فيه م :}لّْيَسـ َع لَــى ال ّ ل َع لَــى الِّذ يـَن لَ َيِج ُدـوـَن َم اـ ض ـى ـَو َ ض َعـفَـاء َو َ ل َع لَــى اْلَم ْرـ َ ِ ص ُحـوْاـ ِللِّه َو َرـُسـوـِل{ِه ]التوبة .[91 :وقال فيه م رسول الّله حين دنا من المدينة :)إن بالمدينة ُينف قُـوَن َح َرـٌجِإَذ اـ َن َ ل ما سرت م َم ِسـ ي ـ ًرا ،ول قطعت م واديًا إل كانوا معك م ،حبسه م الُعْذ ُرـ( ،قـالوا :يا رسول الّله ،وهــ م بالمدينة؟ قال: رجا ً )وه م بالمدينة(. أثر الغزو ة وكان لهذه الغزو ة أعظ م أثر في بسط نفوذ المسلمين وتقويته على جزير ة العرب ،فقد تبين للناس أنه ليس لي قو ة من القوات أن تعيش في العرب سوي قو ة السل م ،وبطلت بقايا أمل وأمنية كانت تتحرك في قلوب بقايا
الجاهليين والمنافقين الذين كانوا يتربصون الدوائر بالمسلمين ،وكانوا قد عقدوا آماله م بالرومان ،فقد استكانوا بعد هذه الغزو ة ،واستسلموا للمر الواقع ،الذي ل م يجدوا عنه محيدًا ول مناصًا. ولذلك ل م يبق للمنافقين أن يعامله م المسلمون بالرفق واللين ،وقد أمر الّله بالتشديد عليه م ،حتى نهي عن قبول
صدقاته م ،وعن الصل ة عليه م ،والستغفار له م والقيا م على قبره م ،وأمر بهد م وكر ة دسه م وتآمره م التي بنوها
باس م المسجد ،وأنزل فيه م آيات افتضحوا بها افتضاحًا تامًا ،ل م يبق في معرفته م بعدها أي خفاء ،كأن اليات قد نصت على أسمائه م لمن يسكن بالمدينة.
ويعرف مدي أثر هذه الغزو ة من أن العرب إوان كانت قد أخذت في التوافد إلى رسول الّله صلى ال عليه وسل م بعد غزو ة فتح مكة ،بل وما قبلها ،إل أن تتابع الوفود وتكاثرها بلغ إلى القمة بعد هذه الغزو ة. نزول القرآن حول موضوع الغزو ة نزلت آيات كثير ة من سور ة براء ة حول موضوع الغزو ة ،نزل بعضها قبل الخروج ،وبعضها بعد الخروج ـ وهو في السفر ـ وبعض آخر منها بعد الرجوع إلى المدينة ،وقد اشتملت على ذكر ظروف الغزو ة ،وفضح المنافقين، وفضل المجاهدين والمخلصين ،وقبول التوبة من المؤمنين الصادقين ،الخارجين منه م في الغزو ة والمتخلفين ،إلى غير ذلك من المور. بعض الوقائع المهمة في هذه السنة وفي هذه السنة وقعت عد ة وقائع لها أهمية في التاريخ: 1ـ بعد قدو م رسول الّله صلى ال عليه وسل م من تبوك وقع اللعان بين ُع َوـ ْيـِمـرـالَع ْجـ لــني وامرأته. 2ـ رجمت المرأ ة الغامدية ،التي جاءت فاعترفت على نفسها بالفاحشة ،رجمت بعدما فطمت ابنها. ص َح ـَمـةـ،ملك الحبشة ،في رجب ،وصلي عليه رسول ال صل ة الغائب في المدينة. 3ـ توفي النجاشي أ ْ 4ـ توفيت أ م كلثو م بنت النبي صلى ال عليه وسل م في شعبان ،فحزن عليها حزنًا شديدًا ،وقال لعثمان :)لو
كانت عندي ثالثة لزوجتكها(.
5ـ مات رأس المنافقين عبد الّله بن أبي بن َس لُـول بعد مرجع رسول الّله صلى ال عليه وسل م من تبوك ،فاستغفر
له رسول الّله صلى ال عليه وسل م ،وصلي عليه بعد أن حاول عمر منعه عن الصل ة عليه ،وقد نزل القرآن بعد
ذلك بموافقة عمر.
حج أبي بكر رطضي ا عنه نظرة على الغزوات الناس يدلخلون في دين ّ ا أفواجا ً الـوفـــود
حج أبي بكر رضي ال عنه وفي ذي القعد ة أو ذي الحجــة من نفس السنة ـ 9هـ ـ بعث رسول الّله صلى ال عليه وسل م أبــا بكر الصديق
رضي ال عنه أمي ًار على الحج ،ليقي م بالمسلمين المناسك.
ث م نزلت أوائل سور ة براء ة بنقض المواثيق ونبذها على سواء ،فبعث رسول الّله صلى ال عليه وسل م على بن أبي طالب ليؤدي عنه ذلك ،وذلك تمشيًا منه على عاد ة العرب في عهود الدماء والموال ،فالتقي على بأبي بكر
ض ْجـَنــان ،فقال أبو بكر :أمير أو مأمور؟ قال علي :ل ،بل مأمور .ث م مضيا ،وأقا م أبو بكر للناس بالَعْرـجأو ب َ حجه م ،حتى إذا كان يو م النحر ،قا م على بن أبي طالب عند الجمر ة ،فأذن في الناس بالذي أمره رسول الّله
صلى ال عليه وسل م ،ونبذ إلى كل ذي عهد عهده ،وأجل له م أربعة شهور ،وكذلك أجل أربعة أشهر لمن ل م يكن له عهد ،وأما الذين ل م ينقصوا المسلمين شيئًا ،ول م يظاهروا عليه م أحدًا فأبقي عهده م إلى مدته م. ل ينادون في الناس :أل ل يحج بعد هذا العا م مشرك ،ول يطوف بالبيت وبعث أبو بكر رضي ال عنه رجا ً
ـان ُع ْرـ َيـ .
وكان هذا النداء بمثابة إعلن نهاية الوثنية في جزير ة العرب ،وأنها ل تُْب ِدـ ئُـ ول تُِع يـُد بعد هذا العا م. نظر ة على الغزوات إذا نظرنا إلى غزوات النبي صلى ال عليه وسل م وبعوثه وسراياه ،ل يمكن لنا ول لحد ممن ينظر في أوضاع الحروب وآثارها وخلفياتها ـ ل يمكن لنا إل أن نقول: إن النبي صلى ال عليه وسل م كان أكبر قائد عسكري في الدنيا ،وأشده م وأعمقه م فراسة وتيقظًا ،إنه صاحب عبقرية
فذ ة في هذا الوصف ،كما كان سيد الرسل وأعظمه م في صفة النبو ة والرسالة ،فل م يخض معركة من المعارك إل في الظرف ومن الجهة اللذين يقتضيهما الحز م والشجاعة والتدبير ،ولذلك ل م يفشل في أي معركة من المعارك التي خاضها لغلطة في الحكمة وما إليها من تعبئة الجيش وتعيينه على المراكز الستراتيجية ،واحتلل أفضل المواضع وأوثقها للمجابهة ،واختيار أفضل خطة لدار ة دفة القتال ،بل أثبت في كل ذلك أن له نوعًا آخر من القياد ة غير ما عرفتها الدنيا في القواد .ول م يقع ما وقع في ُأحد وحنين إل من بعض الضعف في أفراد الجيش ـ في حنين ـ أو من
جهة معصيته م أوامره وتركه م التقيد واللتزا م بالحكمة والخطة اللتين كان أوجبهما عليه م من حيث الوجهه العسكرية.
وقد تجلت عبقريته صلى ال عليه وسل م في هاتين الغزوتين عند هزيمة المسلمين ،فقد ثبت مجابهًا للعدو ،واستطاع
بحكمته الفذ ة أن يخيبه م في أهدافه م ـ كما فعل في أحد ـ أو يغير مجري الحرب حتى يبدل الهزيمة انتصا ًار ـ كما في حنين ـ مع أن مثل هذا التطور الخطير ،ومثل هذه الهزيمة الساحقة تأخذان بمشاعر القواد ،وتتركان على أعصابه م
أسوأ أثر ،ل يبقي له م بعد ذلك إل ه م النجا ة بأنفسه م. هذه من ناحية القياد ة العسكرية الخالصة ،أما من نواح أخري ،فإنه استطاع بهذه الغزوات فرض المن وبسط السل م، إواطفاء نار الفتنة ،وكسر شوكة العداء في صراع السل م والوثنية ،إوالجائه م إلى المصالحة ،وتخلية السبيل لنشر الدعو ة ،كما استطاع أن يتعرف على المخلصين من أصحابه ممن هو يبطن النفاق ،ويضمر نوازع الغدر والخيانة. وقد أنشأ طائفة كبير ة من القواد ،الذين لقوا بعده الفرس والرومان في ميادين العراق والشا م ،ففاقوه م في تخطيط الحروب إوادار ة دفة القتال ،حتى استطاعوا إجلءه م من أرضه م ودياره م وأمواله م من جنات وعيون وزروع ومقا م كري م ونعمة كانوا فيها فاكيهن. كما استطاع رسول الّله صلى ال عليه وسل م بفضل هذه الغزوات أن يوفر السكني والرض والحرف والمشاغل
ص ي ـ من كثير من مشاكل اللجئين الذين ل م يكن له م مال ول دار ،وهيأ السلح والُك َرـاع والعد ة للمسلمين ،حتى تَفَ ّ
والنفقات ،حصل على كل ذلك من غير أن يقو م بمثقال ذر ة من الظل م والطغيان والبغي والعدوان على عباد الّله.
وقد غير أغراض الحروب وأهدافها التي كانت تضطر م نار الحرب لجلها في الجاهلية ،فبينما كانت الحرب عبار ة عن النهب والسلب والقتل والغار ة والظل م والبغي والعدوان ،وأخذ الثأر ،والفوز بالَو تَــر ،وكبت الضعيف ،وتخريب العمران ،وتدمير البنيان ،وهتك حرمات النساء ،والقسو ة بالضعاف والولئد والصبيان ،إواهلك الحرث والنسل ،والعبث
والفساد في الرض ـ في الجاهلية ـ إذ صارت هذه الحرب ـ في السل م ـ جهادًا في تحقيق أهداف نبيلة ،وأغراض
سامية ،وغايات محمود ة ،يعتز بها المجتمع النساني في كل زمان ومكان ،فقد صارت الحرب جهادًا في تخليص ص فــ ،من نظا م يأكل فيه القوي الضعيف ،إلى نظا م يصير النسان من نظا م القهر والعدوان ،إلى نظا م العدالة والّن َ
ضَعـِفيَنِم َنـ الّر َجـ اـِلَوالّنَس اـء َواْلِو ْلـَد اـِنالِّذ يـَن فيه القوي ضعيفًا حتى يؤخذ منه ،وصارت جهادًا في تخليص } َواْلُمْسـتَـ ْ يُقوُلون ر ّبـناـأَْخ ِر ـج نـاـِم نـ هـِذ ِه ـ اْلَقر يـِةـال ّ ظاِلِ م أَْه لُـها واْج ع ـلـلَّنا ِم نـ لُّد نـَك و ِلـّيا واْج ع ـلـلَّنا ِم نـ لُّد نـَك َن ِ را ]النساء.[75: ص يــً { َ َ َ َ َْ ْ َ َْ َ َ َ َ َ َ
وصارت جهادًا في تطهير أرض الّله من الغدر والخيانة والث م والعدوان ،إلى بسط المن والسلمة والرأفة والرحمة ومراعا ة الحقوق والمروء ة.
كما شرع للحروب قواعد شريفة ألز م التقيد بها على جنوده وقوادها ،ول م يسمح له م الخروج عنها بحال .روي سليمان بن بريد ة عن أبيه قال :كان رسول الّله صلى ال عليه وسل م إذا أمر أمي اًر على جيش أو سرية أوصاه في خاصته
بتقوي الّله عز وجل ،ومن معه من المسلمين خي ًرا ،ث م قال :)اغزوا بس م الّله ،في سبيل الّله ،قاتلوا من كفر بالّله،
اغزوا ،فل تغلوا ،ولتغدروا ،ول تمثلوا ،ول تقتلوا وليدًا (...الحديث .وكان يأمر بالتيسير ويقول :)يسروا ول تعسروا،
وسكنوا ول تنفروا(.
وكان إذا جاء قومًا بِلَْي لـ ل م ُيِغ ْر ـ عليه م حتى ُيصِبح ،ونهي أشد النهي عن التحريق في النار ،ونهي عن قتل الصبر، وقتل النساء وضربهن ،ونهي عن النهب حتى قال :)إن الّنْهَبىـ ليست بأحل من الميتة( ،ونهي عن إهلك الحرث
والنسل وقطع الشجار إل إذا اشتدت إليها الحاجة ،ول يبقي سواه سبيل .وقال عند فتح مكة :)ل تجهزن على جريح،
ول تتبعن مدب ًرا ،ول تقتلن أسي ًار( ،وأمضى السنة بأن السفير ل يقتل ،وشدد في النهي عن قتل المعاهدين حتى قال: )من قتل معاهدًا ل م ُيِرْح رائحة الجنة ،إوان ريحها لتوجد من مسير ة أربعين عامًا( ،إلى غير ذلك من القواعد النبيلة التي طهرت الحروب من أدران الجاهلية حتى جعلتها جهادًا مقدسًا.
الناس يدخلون في دين الّله أفواجًا كانت غزو ة فتح مكة ـ كما قلنا ـ معركة فاصلة ،قضت على الوثنية قضاء باتًا ،عرفت العرب لجلها الحق من
الباطل ،وزالت عنه م الشبهات ،فتسارعوا إلى اعتناق السل م .قال عمرو بن سلمة :كنا بماء ممر الناس ،وكان يمر
بنا الركبان فنسأله م :ماللناس؟ ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ ـ أي النبي صلى ال عليه وسل م ـ فيقولون :يزع م أن الّله
أرسله ،أوحي إليه ،أوحي الّله كذا ،فكنت أحفظ ذاك الكل م ،فكأنما يقر في صدري ،وكانت العرب تلو م بإسلمه م الفتح ،فيقولون :اتركوه وقومه ،فإنه إن ظهر عليه م فهو نبي صادق .فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قو م
بإسلمه م ،وبدر أبي قومي بإسلمه م ،فلما قد م قال :جئتك م والّله من عند النبي صلى ال عليه وسل م حقًا .فقال:
صلوا صل ة كذا في حين كذا ،وصل ة كذا في حين كذا ،فإذا حضرت الصل ة فليؤذن أحدك م ،وليؤمك م أكثرك م قرآنًا ...الحديث.
وهذا الحديث يدل مدي أثر فتح مكة في تطوير الظروف ،وتعزيز السل م ،وتعيين الموقف للعرب ،واستسلمه م للسل م ،وتأكد ذلك أي تأكد بعد غزو ة تبوك ،ولذلك نري الوفود تقصد المدينة تتري في هذين العامين ـ التاسع والعاشر ـ ونري الناس يدخلون في دين الّله أفواجًا ،حتى إن الجيش السلمي الذي كان قوامه عشر ة آلف مقاتل في
غزو ة الفتح ،إذا هو يزخر في ثلثين ألف مقاتل في غزو ة تبوك قبل أن يمضي على فتح مكة عا م كامل ،ث م نري في حجة الوداع بح اًر من رجال السل م ـ مائة ألف من الناس أو مائة ألف وأربعة وأربعون ألفا منه م ـ يموج حول رسول
الّله صلى ال عليه وسل م بالتلبية والتكبير والتسبيح والتحميد ،تدوي له الفاق ،وترتج له الرجاء.
الـوف ــود والوفود التي سردها أهل المغازي يزيد عددها على سبعين وفدًا ،ول يمكن لنا استقصاءها ،وليس كبير فائد ة في بسط ل ماله روعة أو أهمية في التاريخ ،وليكن على ذكر من القارئ أن وفاد ة عامة تفاصيلها ،إوانما نذكر منها إجما ً القبائل إوان كانت بعد الفتح ،ولكن هناك قبائل توافدت قبله أيضًا:
1ـ وفد عبد القيس:
كانت لهذه القبيلة وفادتان :الولي سنة خمس من الهجر ة أو قبل ذلك .كان رجل منه م يقال له ُم ْنـِقـُذـ بن حيانَ ،يِر ُدـ المدينة بالتجار ة ،فلما جاء المدينة بتجارته بعد مقد م النبي صلى ال عليه وسل م ،وعل م السل م أسل م ،وذهب بكتاب ل ،وفيها من النبي صلى ال عليه وسل م إلى قومه فأسلموا ،فتوافدوا إليه في شهر حرا م في ثلثة أو أربعة عشر رج ً سألوا عن اليمان وعن الشربة ،وكان كبيره م الشج العصري الذي قال فيه رسول الّله صلى ال عليه وسل م :)إن
فيك خصلتين يحبهما الّله :الحل م والنا ة(.
ل ،وكان فيه م الجارود بن العلء العبدي ،وكان والوفاد ة الثانية كانت في سنة الوفود ،وكان عدده م فيها أربعين رج ً نصرانيًا فأسل م وحسن إسلمه. 2ـ وفد َد ْوـ س:ـ
كانت وفاد ة هذه القبيلة في أوائل سنة سبع ،ورسول الّله صلى ال عليه وسل م بخيبر ،وقد قدمنا حديث إسل م الطّفَْي لـ بن عمرو الدوسي ،وأنه أسل م ورسول الّله صلى ال عليه وسل م بمكة ،ث م رجع إلى قومه ،فل م يزل يدعوه م إلى
السل م ،ويبطئون عليه حتى يئس منه م ،ورجع إلى رسول الّله صلى ال عليه وسل م ،فطلب منه أن يدعو على
دوس ،فقال :)الله م اهد دوسًا( .ث م أسل م هؤلء ،فوفد الطفيل بسبعين أو ثمانين بيتا من قومه إلى المدينة في أوائل سنة سبع ،ورسول الّله صلى ال عليه وسل م بخيبر ،فلحق به.
3ـ رسول فَْر َوــ ةـبن عمرو الُج َذـاـمي: ل له م على من يليه م من العرب ،وكان منزله َم َعـان وما حوله من أرض كان فرو ة قائدًا عربيًا من قواد الرومان ،عام ً الشا م ،أسل م بعد ما رأي من جلد المسلمين وشجاعته م ،وصدقه م اللقاء في معركة مؤتة سنة 8هـ ،ولما أسل م بعث ل بإسلمه ،وأهدي له بغلة بيضاء ،ولما عل م الرو م بإسلمه أخذوه فحبسوه، إلى رسول الّله صلى ال عليه وسل م رسو ً
ث م خيروه بين الرد ة والموت ،فاختار الموت على الرد ة ،فصلبوه بفلسطين على ماء يقال له :عفراء ،وضربوا عنقه. ص َدـاـء: 4ـ وفد ُ
جاء هذا الوفد عقب انصراف رسول الّله صلى ال عليه وسل م من الِج ْع ـَرـانةسنة 8هـ ،وذلك أن رسول ال ّله صلى ال
ص َدـاـء ،وبينما ذلك البعث عليه وسل م هيأ بعثًا من أربعمائة من المسلمين ،وأمره م أن يطأوا ناحية من اليمن فيها ُ ص ْدـِرـ قََنا ة عل م به زياد بن الحارث الصدائي ،فجاء إلى رسول الّله صلى ال عليه وسل م فقال :جئتك وافدًا معسكر ب َ
على َم ْنـ ورائي ،فاردد الجيش وأنا لك بقومي ،فرد الجيش من صدر قنا ة ،وجاء الصدائي إلى قومه فرغبه م في القدو م ل منه م ،وبايعوه على السل م ،ث م رجعوا إلى على رسول الّله صلى ال عليه وسل م ،فقد م عليه خمسة عشر رج ً
قومه م ،فدعوه م ففشا فيه م السل م ،فوافي رسول الّله صلى ال عليه وسل م منه م مائة رجل في حجة الوداع. 5ـ قدو م كعب بن زهير بن أبي سلمى:
كان من بيت الشعراء ،ومن أشعر العرب ،وكان يهجو النبي صلى ال عليه وسل م ،فلما انصرف رسول الّله صلى ال عليه وسل م من غزو ة الطائف سنة 8هـ ،كتب إلى كعب بن زهير أخوه ُبَج ْيـرـ بن زهير أن رسول الّله صلى ال عليه
ل بمكة ممن كانوا يهجونه ويؤذونه ،ومن بقي من شعراء قريش هربوا في كل وجه ،فإن كانت لك في وسل م قتل رجا ً نفسك حاجة فَِط ْر ـ إلى رسول الّله صلى ال عليه وسل م ،فإنه ل يقتل أحدًا جاء تائبًا ،إوال فانج إلى نجاتك ،ث م جري بين الخوين مراسلت ضاقت لجلها الرض على كعب ،وأشفق على نفسه ،فجاء المدينة ،ونزل على رجل من ُج هَـْي َنـَة ،وصلي معه الصبح ،فلما انصرف أشار عليه الجهني ،فقا م إلى رسول الّله صلى ال عليه وسل م حتى جلس إليه ،فوضع يده في يده ،وكان رسول الّله صلى ال عليه وسل م ل يعرفه فقال :يا رسول الّله ،إن كعب بن زهير قد
جاء ليستأمن منك تائبًا مسلمًا ،فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ قال :)نع م( .قال :أنا كعب بن زهير ،فوثب عليه
رجل من النصار يستأذن ضرب عنقه ،فقال :)دعه عنك ،فإنه قد جاء تائبًا نازعًا عما كان عليه(. وحينئذ أنشد كعب قصيدته المشهور ة التي أولها: بانت سعاد فقلبي اليو م َم تْـُبول ** ُم تَـّيٌ م إثَْرَها ،ل م ُيْفَد ،ـ َم ْكـُبـول قال فيها ـ وهو يعتذر إلى رسول الّله صلى ال عليه وسل م ،ويمدحه: نبئت أن رسول ال أوعدني ** والعفو عند رسول ال مأمول مهل هداك الذي أعطاك نافلة الـ ** قرآن فيها مواعيظ وتفصيل ل تأخذن بأقوال الوشا ة ول م ** أذنب ،ولو كثرت فّي القاويل لقد أقو م مقاما ما لو يقو م به ** أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل لظل يرعد إل أن يكون له ** من الرسول بإذن ال تنويل حتى وضعت يميني ما أنازعه ** في كف ذي نقمات قيله القيل فلهو أخوف عندي إذ أكلمه ** وقيل :إنك منسوب ومسئول من ضيغ م بضراء الرض مخدر ة ** في بطن عثر غيل دونه غيل إن الرسول لنور يستضاء به ** مهند من سيوف ال مسلول
ث م مدح المهاجرين من قريش؛ لنه م ل م يكن تكل م منه م رجل في كعب حين جاء إل بخير ،وعرض في أثناء مدحه م على النصار لسئذان رجل منه م في ضرب عنقه ،قال: ب ـإذا َع ّرـدـالّس وـُد التَّناِبيل ض ْرـ ٌ يمشون َم ْشـيـ الجمال الّزْه ِرـيعصمه م ** َ فلما أسل م وحسن إسلمه مدح النصار في قصيد ة له ،وتدارك ما كان قد فرط منه في شأنه م ،قال في تلك القصيد ة:
من سره َك َرـُ مـالحــيا ة فل َيَز ْلـ** في ِم ْقـَنٍبـ من صالحي النصار ورثوا المكار م كاب اًر عن كـابر ** إن الخـيار هـ م بنـو الخيار 6ـ وفد ُع ْذـَرـ :ة
ل فيه م حمز ة بن النعمان ،قال متكلمه م حين سئلوا )من القو م؟(: قد م هذا الوفد في صفر سنة 9هـ ،وه م اثنا عشر رج ً ص ي ـ لمه ،نحن الذين عضدوا قصيًا ،وأزاحوا من بطن مكة خزاعة وبني بكر ،لنا قرابات نحن بنو ُع ْذـَرـ ة،إخو ة قُ َ
وأرحا م ،فرحب به م النبي صلى ال عليه وسل م ،وبشره م بفتح الشا م ،ونهاه م عن سؤال الكاهنة ،وعن الذبائح التي كانوا يذبحونها .أسلموا وأقاموا أيامًا ث م رجعوا. 7ـ وفد َب ِلـي:
قد م في ربيع الول سنة 9هـ ،وأسل م وأقا م بالمدينة ثلثًا ،وقد سأل رئيسه م أبو ال ّ ض َبـْي بـ عن الضيافة هل فيها أجر؟ فقال رسول الّله صلى ال عليه وسل م :)نع م ،وكل معروف صنعته إلى غني أو فقير فهو صدقة( ،وسأل عن وقت
الضيافة ،فقال :)ثلثة أيا م( ،وسأل عن ضالة الغن م ،فقال :)هي لك أو لخيك أو للذنب( ،وسأل عن ضالة البعير.
فقال :)مالك وله؟ دعه حتى يجده صاحبه(. 8ـ وفد ثقيف: كانت وفادته م في رمضان سنة 9هـ ،وقصة إسلمه م أن رئيسه م عرو ة بن مسعود الثقفي جاء إلى رسول الّله صلى
ال عليه وسل م بعد مرجعه من غزو ة الطائف في ذي القعد ة سنة 8هـ قبل أن يصل إلى المدينة ،فأسل م عرو ة ،ورجع إلى قومه ،ودعاه م إلى السل م ـ وهو يظن أنه م يطيعونه ؛ لنه كان سيدا مطاعًا في قومه ،وكان أحب إليه م من
أبكاره م ـ فلما دعاه م إلى السل م رموه بالنبل من كل وجه حتى قتلوه ،ث م أقاموا بعد قتله أشه ًرا ،ث م ائتمروا بينه م ،و أروا
ل إلى رسول الّله أنه ل طاقة له م بحرب َم ْنـ حوله م من العرب ـ الذين كانوا قد بايعوا وأسلموا ـ فأجمعوا أن يرسلوا رج ً صلى ال عليه وسل م ،فكلموا َع ْبـدـ ياِليل بن عمرو ،وعرضوا عليه ذلك فأبي ،وخاف أن يصنعوا به إذا رجع مثل ما ل ،فبعثوا معه رجلين من الحلف وثلثة من بني مالك، ل حتى ترسلوا معي رجا ً صنعوا بعرو ة .وقال :لست فاع ً فصاروا ستة فيه م عثمان بن أبي العاص الثقفي ،وكان أحدثه م سنًا.
فلما قدموا على رسول الّله صلى ال عليه وسل م ضرب عليه م قبة في ناحية المسجد ،لكي يسمعوا القرآن ،ويروا
الناس إذا صلوا ،ومكثوا يختلفون إلى رسول الّله صلى ال عليه وسل م ،وهو يدعوه م إلى السل م ،حتى سأل رئيسه م
أن يكتب له م رسول الّله صلى ال عليه وسل م قضية صلح بينه وبين ثقيف ،يأذن له م فيه بالزنا وشرب الخمور وأكل الربا ،ويترك له م طاغيته م اللت ،وأن يعفيه م من الصل ة ،وأل يكسروا أصنامه م بأيديه م ،فأبي رسول الّله صلى ال
عليه وسل م أن يقبل شيئًا من ذلك ،فخلوا وتشاوروا فل م يجدوا محيصًا عن الستسل م لرسول الّله صلى ال عليه وسل م،
فاستسلموا وأسلموا ،واشترطوا أن يتولي رسول الّله صلى ال عليه وسل م هد م اللت ،وأن ثقيفًا ل يهدمونها بأيديه م
أبدًا .فقبل ذلك ،وكتب له م كتابًا ،وأمر عليه م عثمان بن أبي العاص الثقفي ؛ لنه كان أحرصه م على التفقه في السل م وتعل م الدين والقرآن .وذلك أن الوفد كانوا كل يو م يغدون إلى رسول الّله صلى ال عليه وسل م ،ويخلفون
عثمان بن أبي العاص في رحاله م ،فإذا رجعوا وقالوا بالهاجر ة عمد عثمان بن أبي العاص إلى رسول الّله صلى ال
عليه وسل م فاستقرأه القرآن ،وسأله عن الدين ،إواذا وجده نائمًا عمد إلى أبي بكر لنفس الغرض )وكان من أعظ م الناس بركة لقومه في زمن الرد ة ،فإن ثقيفًا لما عزمت على الرد ة قال له م :يا معشر ثقيف ،كنت م آخر الناس إسلمًا،
فل تكونوا أول الناس رد ة ،فامتنعوا عن الرد ة ،وثبتوا على السل م(.
ورجع الوفد إلى قومه فكتمه م الحقيقة ،وخوفه م بالحرب والقتال ،وأظهر الحزن والكآبة ،وأن رسول الّله صلى ال عليه وسل م سأله م السل م وترك الزنا والخمر والربا وغيرها إوال يقاتله م .فأخذت ثقيفًا نخو ة الجاهلية ،فمكثوا يومين أو ثلثة يريدون القتال ،ث م ألقي الّله في قلوبه م الرعب ،وقالوا للوفد :ارجعوا إليه فأعطوه ما سأل .وحينئذ أبدي الوفد حقيقة المر ،وأظهروا ما صالحوا عليه ،فأسلمت ثقيف.
ل لهد م اللت ،أمر عليه م خالد بن الوليد ،فقا م المغير ة ابن شعبة ،فأخذ وبعث رسول الّله صلى ال عليه وسل م رجا ً الُك ْرـ ِزــيـنوقال لصحابه :والّله لضحكنك م من ثقيف ،فضرب بالكرزين ،ث م سقط يركض ،فارتج أهل الطائف ،وقالوا:
أبعد الّله المغير ة ،قتلته الّر ّبـُة ،فوثب المغير ة فقال :قبحك م الّله ،إنما هي لَُك اـع حجار ة وَم َدـرـ ،ث م ضرب الباب فكسره ،ث م عل أعلى سورها ،وعل الرجال فهدموها وسووها بالرض حتى حفروا أساسها ،وأخرجوا حليها ولباسها ،فبهتت ثقيف،
ورجع خالد مع مفرزته إلى رسول الّْله صلى ال عليه وسل م بحليها وكسوتها ،فقسمها رسول ال صلى ال عليه وسل م من يومه ،وحمد ال على نصر ة نبيه إواعزاز دينه. 9ـ رسالة ملوك اليمن:
وبعد مرجع النبي صلى ال عليه وسل م من تبوك قد م كتاب ملوك ِح ْمـَيــر ،وه م الحارث بن عبد ُك لـل ،ونعي م بن عبد كلل ،والنعمان ،وقَْي ُلـ ذي ُرَع ْيـنـوَهْم َدـاـن وُم َعـاِفر ،ورسوله م إليه صلى ال عليه وسل م مالك بن مر ة الّرَهاوي ،بعثوه
بإسلمه م ومفارقته م الشرك وأهله ،وكتب إليه م رسول ال صلى ال عليه وسل م كتابًا َبّيَن فيه ما للمؤمنين وما عليه م، ل من أصحابه أميره م وأعطي فيه المعاهدين ذمة الّله وذمة رسوله إذا أعطوا ما عليه م من الجزية وبعث إليه م رجا ً معاذ بن جبل ،وجعله على الكور ة العلياء من جهة َع َدـنـ بين الّس ُكـوـن والّس َكـاـِس كــ ،وكان قاضيًا وحاكمًا في الحروب، ل على أخذ الصدقة والجزية ،ويصلي به م الصلوات الخمس ،وبعث أبا موسي الشعري رضي ال عنه على وعام ً
الكور ة السفليُ :ز َبـْي دـومأرب َو َزـَمـعـوالساحل ،وقال :) يس ار ول تعسرا ،وبش ار ول تنفرا ،وتطاوعا ول تختلفا( .وقد مكث معاذ باليمن حتى توفي رسول الّله صلى ال عليه وسل م .أما أبو موسي الشعري رضي ال عنه فقد م عليه صلى ال عليه وسل م في حجة الوداع. 10ـ وفد همدان:
قدموا سنة 9هـ بعد مرجعه صلى ال عليه وسل م من تبوك ،فكتب له م رسول الّله صلى ال عليه وسل م كتابًا أقطعه م طـ ،واستعمله على من أسل م من قومه ،وبعث إلى سائره م خالد بن الوليد فيه ما سألوه ،وأمر عليه م مالك بن الّنَم َ يدعوه م إلى السل م ،فأقا م ستة أشهر يدعوه م فل م يجيبوه ،ث م بعث على بن أبي طالب ،وأمره أن َيْقُفَل خالدًا ،فجاء
على إلى همدان ،وق أر عليه م كتابًا من رسول الّله صلى ال عليه وسل م ،ودعاه م إلى السل م فأسلموا جميعًا ،وكتب
على ببشار ة إسلمه م إلى رسول صلى ال عليه وسل م ،فلما ق أر الكتاب خر ساجدًا ،ث م رفع رأسه فقال :)السل م على همدان ،السل م على همدان(.
ر ة 11ـ وفد بني فََزا َ : ل جاءوا مقرين بالسل م، قد م هذا الوفد سنة 9هـ بعد مرجعه صلى ال عليه وسل م من تبوك ،قد م في بضعة عشر رج ً
وشكوا جدب بلده م ،فصعد رسول ال صلى ال عليه وسل م المنبر ،فرفع يديه واستسقي ،وقال :)الله م اسق بلدك ل غير آجل، طَبقًا واسعًا ،عاج ً وبهائمك ،وانشر رحمتك ،وأْح ي ـ بلدك الميت ،الله م اسقنا َغ ْيـثـًا ُم ِغـ يــثًا ،مريًئا َم ِرـيـعًاَ ، نافعًا غير ضار ،الّله م سقيا رحمة ،ل سقيا عذاب ،ولَهْد مـ ول َغ َرـقـول َم ْحـ قــ ،الّله م اسقنا الغيث ،وانصرنا على العداء(. 12ـ وفد نجران: ]نجران[ بفتح النون وسكون الجي م :بلد كبير على سبع مراحل من مكة إلى جهة اليمن ،كان يشتمل على ثلث وسبعين قرية ،مسير ة يو م للراكب السريع ،وكان يؤلف مائة ألف مقاتل كانوا يدينون بالنصرانية.
ل منه م أربعة وعشرون من الشراف ،فيه م ثلثة كانت إليه م وكانت وفاد ة أهل نجران سنة 9هـ ،وقوا م الوفد ستون رج ً زعامة أهل نجران .أحدهْ م :الَعاِقبـ ،كانت إليه المار ة والحكومة ،واسمه عبد المسيح .والثاني :السيد ،كانت تحت ـيل والثالث :الْس قـف ،وكانت إليه الزعامة الدينية ،والقياد ة إشرافه المور الثقافية والسياسية ،واسمه الْي هَـ م أو ُش َرـِْحـ بـ . الروحانية ،واسمه أبو حارثة بن علقمة.
ولما نزل الوفد بالمدينة ،ولقي النبي صلى ال عليه وسل م سأله م وسألوه ،ث م دعاه م إلى السل م ،وتل عليه م القرآن فامتنعوا ،وسألوه عما يقول في عيسي عليه السل م ،فمكث رسول الّله صلى ال عليه وسل م يومه ذلك حتى نزل عليه: }ِإّن َم ثَـَل ِع يـَس ىـ ِع نـَد اللِّه َك َمـثَـِل آَد َ مـ َخ لَـقَهُ ِم نـ تَُراٍب ثِّ م َقاَل لَهُ ُك نـ َفَيُك وـُن اْلَح ّ ل تَُك نـ ّم نـ اْلُم ْمـ تَـِر يـَنفََم ْنـ ق ـ ِم نـ ّر ّبـَك فَ َ عـ أَْب َنـاءَنا َوأَْب َنـاءُك ْ مـَو نِـَس اـءَنا َو نِـَس اـءُك ْ مـَوَأنفَُس َنـا وَأنفَُس ُكـْ مـ ثُّ م َنْب تَـِه ْلـ َح آـّج َك ـِفيِه ِم نـ َبْع ِدـ َم اـ َج اــءَك ِم َنـ اْلِع ْلـِ م فَُقْل تََعاَلْو ْاـ َنْد ُ فََنْج َع ـلـ لّْع َنـةُ اللِّه َع لَــى اْلَك اـِذ بِــيَن{ ]آل عمران.[61 :59: ولما أصبح رسول الّله صلى ال عليه وسل م أخبره م بقوله في عيسي ابن مري م في ضوء هذه الية الكريمة ،وتركه م ذلك اليو م ؛ ليفكروا في أمره م ،فأبوا أن يقروا بما قال في عيسي .فلما أصبحوا وقد أبوا عن قبول ما عرض عليه م
ل على من قوله في عيسي ،وأبوا عن السل م دعاه م رسول الّله صلى ال عليه وسل م إلى المباهلة ،وأقبل مشتم ً الحسن والحسين في َخ ِمـيــل له ،وفاطمة تمشي عند ظهره ،فلما أروا منه الجد والتهيؤ خلوا وتشاوروا ،فقال كل من
العاقب والسيد للخر :ل تفعل ،فو الّله لئن كان نبيًا فَلََع َنـَنا ل نفلح نحن ول عقبنا من بعدنا ،فل يبقي على وجه الرض منا شعر ة ول ظُْفرـ إل هلك ،ث م اجتمع رأيه م على تحكي م رسول الّله صلى ال عليه وسل م في أمره م ،فجاءوا وقالوا :إنا نعطيك ما سألتنا .فقبل رسول الّله صلى ال عليه وسل م منه م الجزية ،وصالحه م على ألفي ُح لّــة :ألف في رجب ،وألف في صفر ،ومع كل حلة أوقية ،وأعطاه م ذمة الّله وذمة رسوله .وترك له م الحرية الكاملة في دينه م،
ل أمينًا ،فبعث عليه م أمين هذه المة أبا عبيد ة بن الجراح؛ وكتب له م بذلك كتابًا ،وطلبوا منه أن يبعث عليه م رج ً ليقبض مال الصلح.
ث م طفق السل م يفشو فيه م ،فقد ذكروا أن السيد والعاقب أسلما بعد ما رجعا إلى نجران ،وأن النبي صلى ال عليه وسل م بعث إليه م علّيا ؛ ليأتيه بصدقاته م وجزيته م ،ومعلو م أن الصدقة إنما تؤخذ من المسلمين. 13ـ وفد بني حنيفة:
ل فيه م ُم َسـْيـِلـمة الكذاب ـ وهو ُم َسـْيـِلـمة بن ثَُم اـَم ةـ بن كبير بن حبيب كانت وفادته م سنة 9هـ ،وكانوا سبعة عشر رج ً بن الحارث من بني حنيفة ـ نزل هذا الوفد في بيت رجل من النصار ،ث م جاءوا إلى النبي صلى ال عليه وسل م فأسلموا ،واختلفت الروايات في مسيلمة الكذاب ،ويظهر بعد النظر في جميعها أن مسيلمة صدر منه الستنكاف والنفة والستكبار والطموح إلى المار ة ،وأنه ل م يحضر مع سائر الوفد إلى رسول الّله صلى ال عليه وسل م ،وأن
النبي صلى ال عليه وسل م أراد استئلفه بالحسان بالقول والفعل أول ،فلما رأي أن ذلك ل يجدي فيه نفعًا تفرس فيه
الشر.
وكان النبي صلى ال عليه وسل م قد أري قبل ذلك في المنا م أنه أتي بخزائن الرض ،فوقع في يديه سواران من ذهب، فكب ار عليه وأهماه ،فأوحي إليه أن انفخهما فنفخهما فذهبا ،فأّو لَـهَُم اـ كذابين يخرجان من بعده ،فلما صدر من مسيلمة ما صدر من الستنكاف ـ وقد كان يقول :إن جعل لي محمد المر من بعده تبعته ـ جاءه رسول الّله صلى ال عليه
وسل م وفي يده قطعة من جريد ،ومعه خطيبه ثابت بن قيس بن َش ّمـاـس ،حتى وقف على مسيلمة في أصحابه ،فكلمه، فقال له مسيلمة :إن شئت خلينا بينك وبين المر ،ث م جعلته لنا بعدك ،فقال :)لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها،
ت ،ـوهذا ثابت يجيبك عني(، ت فيه ما رأي ُ ت ليعقرنك الّله ،والّله إني لراك الذي أِر يـ ُ ولن تعدو أمر الّله فيك ،ولئن أدبر َ ث م انصرف. وأخي ًار وقع ما تََفّر َسـ فيه النبي صلى ال عليه وسل م ،فإن مسيلمة لما رجع إلى الَيَم اـمة بقي يفكر في أمره ،حتى ادعي أنه أشرك في المر مع النبي صلى ال عليه وسل م ،فادعي النبو ة ،وجعل يسجع السجعات ،وأحل لقومه الخمر والزنا ،وهو مع ذلك يشهد لرسول الّله صلى ال عليه وسل م أنه نبي ،وافتتن به قومه فتبعوه وأصفقوا معه ،حتى تفاق م أمره ،فكان يقال له :رحمان اليمامة لعظ م قدره فيه م ،وكتب إلى رسول الّله صلى ال عليه وسل م كتابًا قال فيه :إني
أشركت في المر معك ،إوان لنا نصف المر ،ولقريش نصف المر ،فرد عليه رسول الّله صلى ال عليه وسل م بكتاب قال فيه :)إن الرض لّله يورثها من يشاء من عباده ،والعاقبة للمتقين(.
وعن ابن مسعود :جاء ابن الّنّواَح ةــ ،وابن أَُثال رسول مسيلمة إلى النبي صلى ال عليه وسل م ،فقال لهما :)أتشهدان أني رسول ال ّله؟( فقال :نشهد أن مسيلمة رسول الّله .فقال النبي صلى ال عليه وسل م :)آمنت بالّله ورسوله ،لو كنت ل لقتلتكما(. ل رسو ً قات ً
كان ادعاء مسيلمة النبو ة سنة عشر ،وقتل في حرب اليمامة في عهد أبي بكر الصديق رضي ال عنه في ربيع الول سنة 21هـ ،قتله َو ْحـ ِش ـي ـقاتل حمز ة.وأما المتنبئ الثاني ،وهو السود الَعْن ِسـ ي ـالذي كان باليمن ،فقتله فَْي ُرـ وـز، واحتز رأسه قبل وفا ة النبي صلى ال عليه وسل م بيو م وليلة ،فأتاه الوحي فأخبر به أصحابه ،ث م جاء الخبر من اليمن إلى أبي بكر رضي ال عنه. صـ َع ـة:ـ ص ْع ـ َ 14ـ وفد بني عامر بن َ كان فيه م عامر بن الطّفَْي لـ عدو الّله وأْر َبـدـبن قيس ـ أخو لَِبيد لمه ـ وخالد بن جعفر ،وَج ّبــار بن أسل م ،وكانوا رؤساء القو م وشياطينه م ،وكان عامر هو الذي غدر بأصحاب بئر َم ُعـونة ،فلما أراد هذا الوفد أن يقد م المدينة تآمر عامر
وأربد ،واتفقا على الفتك بالنبي صلى ال عليه وسل م ،فلما جاء الوفد جعل عامر يكل م النبي صلى ال عليه وسل م،
ودار أربد خلفه ،واخترط سيفه شب ًرا ،ث م حبس الّله يده فل م يقدر على سله ،وعص م الّله نبيه ،ودعا عليهما النبي صلى ال عليه وسل م ،فلما رجعا أرسل الّله على أربد وجمله صاعقة فأحرقته ،وأما عامر فنزل على امرأ ة َس لُـوِلّيٍة ،ـ فأصيب بُغّد ٍ ةـ في عنقه فمات وهو يقول :أغد ة كغد ة البعير ،وموتا في بيت السلولية. وفي صحيح البخاري :أن عام ًار أتي النبي صلى ال عليه وسل م فقال :أَُخ ّيـُر َكـبين خصال ثلث :يكون لك أهل طَفان بألف أشقر وألف شقراء ،فطعن في بيت الّس ْهـِل ولي أهل الَم َدـَرـ ،ـ ـأو أكون خليفتك من بعدك ،أو أغزوك بَغ َ امرأ ة ،فقال :أغد ة كغد ة البعير ،في بيت امرأ ة من بني فلن ! ايتوني بفرسي ،فركب ،فمات على فرسه. 15ـ وفد تُِج يــب:
ل ،وكانوا يسألون عن القرآن والسنن قد م هذا الوفد بصدقات قومه مما فضل عن فقرائه م ،وكان الوفد ثلثة عشر رج ً
يتعلمونها ،وسألوا رسول الّله صلى ال عليه وسل م أشياء فكتب له م بها ،ول م يطيلوا اللبث ،ولما أجازه م رسول الّله صلى ال عليه وسل م بعثوا إليه غلمًا كانوا خلفوه في رحاله م ،فجاء الغل م ،وقال :والّله ما أْع َمـلَـِني من بلدي إل أن تسأل الّله عز وجل أن يغفر لي ويرحمني ،وأن يجعل غناي في قلبي ،فدعا له بذلك .فكان أقنع الناس ،وثبت في الرد ة على السل م ،وذكر قومه ووعظه م فثبتوا عليه ،والتقي أهل الوفد بالنبي صلى ال عليه وسل م مر ة أخري في حجة الوداع سنة 01هـ. 16ـ وفد طّيـئ:
قد م هذا الوفد وفيه م َز ْيـُدـالَخ ْي ـِلـ ،فلما كلموا النبي صلى ال عليه وسل م ،وعرض عليه م السل م أسلموا وحسن إسلمه م ،وقال رسول الّله صلى ال عليه وسل م عن زيد :)ما ذكر لي رجل من العرب بفضل ،ث م جاءني إل رأيته دون ما يقال فيه ،إل زيد الخيل ،فإنه ل م يبلغ كل ما فيه( ،وسماه زيد الخير.
وهكذا تتابعت الوفود إلى المدينة في سنتي تسع وعشر ،وقد ذكر أهل المغازي والسير منها وفود أهل اليمن ،والْز د ـ
ض اـَع ةـ ،وبني عامر بن قَْي سـ ،وبني أسد ،وَبْهَراء وَخ ْوــلنوُم َحـ اـِر بـوبني الحارث بن كعب وبني سعد ُهَذ ْيـ مـ من قُ َ وَغ اـِم دـ وبني الُم ْنـتَـِفق ،وَس لـمان ،وبني َع ْبـسـ ،وُم َزـْيـَنـة،وُم َرـاد،وُز َبـْي دـ،وِك ْنـَدـ ةـ ،وذي ُم ّرـ ة،وَغ ّسـاـن ،وبني ِع يــش ،وَنْخ ع ـ ـ
وهو آخر الوفود ،توافـد فـي منتصف محـر م سنة 11هـ في مائتي رجـل ـ وكانت وفاد ة الغلبية من هذه الوفود سنة 9 و 01هـ ،وقد تأخرت وفاد ة بعضها إلى سنة 11هـ. وتََتاُبع هذه الوفود يدل على مدي ما نالت الدعو ة السلمية من القبول التا م ،وبسط السيطر ة والنفوذ على أنحاء جزير ة العرب وأرجائها ،وأن العرب كانت تنظر إلى المدينة بنظر التقدير والجلل ،حتى ل م تكن تري محيصًا عن
الستسل م أمامها ،فقد صارت المدينة عاصمة لجزير ة العرب ،ل يمكن صرف النظر عنها ،إل أننا ل يمكن لنا القول
بأن الدين قد تمكن من أنفس هؤلء بأسره م ؛ لنه كان وسطه م كثير من العراب الجفا ة الذين أسلموا تبعًا لسادته م،
ول م تكن أنفسه م قد خلصت بعد عما تأصل فيها من الميل إلى الغارات ،ول م تكن تعالي م السل م قد هذبت أنفسه م تما م التهذيب.
بأََش ّدـ ُك ْفـًرا َو نِـَفاًقا َوأَْج َد ـُرـأَلّ َيْع َلـُم وْاـ ُح ُدـوـَد َم اـ َأنَز َلـاللّهُ َع لَــى وقد وصف القرآن بعضه م بقوله في سور ة التوبة :}الَْع َارـ ُ صبُِك ُ مـ الّد َوـائَِر َع لَـْي ِهـْ مـ َد آـئَِر ةُالّس ْوـ ِءـ ـَواللّهُ َس ِمـيـٌع َر ُسـوـِلِه َواللّهُ َع ِلــيٌ م َح ِكـيـٌ م َو ِم ـَنـالَْع َرــاِبَم نـ َيتِّخ ُذ ـ َم اـ ُينِف ُ قـ َم ْغـَرـًمـاـَو َي ـتََر ّبـ ُ َع ِلــيٌ م{ ]التوبة[98 ،97: ِ ٍ ِ ص ـَلـَواِت وأثنى على آخرين منه م فقال :}َو ِم ـَنـالَْع َرــاِبَم نـ ُيْؤ ِم ـُنـِباللِّه َواْلَيْو ِ م ـالِخ ِر ـ َو َي ـتِّخ ُذ ـَم اـ ُينِف ُ قـ قُُر َبـات ع نـَد اللّه َو َ الّر ُسـوـِل َأل ِإّنَها قُْر َبـةٌـلّهُْ م َس ُيـْد ِخـلُـهُُ م اللّهُ ِفيـ َر ْحـ َم ـتِـِهِإّن اللَّه َغ فُـوٌر ّر ِحـ يـٌ{ م ] التوبة.[99: أما الحاضرون منه م في مكة والمدينة وثقيف ،وكثير من اليمن والبحرين ،فقد كان السل م فيه م قويًا ،ومنه م كبار الصحابة وسادات المسلمين.
نجاح الدعوة وأثرها حجـة الــوداع آلخر البعوث
نجاح الدعو ة وأثرها وقبل أن نتقد م خطو ة أخري إلى مطالعة أواخر أيا م حيا ة الرسول صلى ال عليه وسل م ،ينبغي لنا أن نلقي نظر ة
إجمالية على العمل الجلل الذي هو فذلكة حياته ،والذي امتاز به عن سائر النبياء والمرسلين ،حتى توج ال ّله هامته بسياد ة الولين والخرين.
إنه صلى ال عليه وسل م قيل له :}َيا أَّيَها اْلُم ّزـّمـُلـقُِ م اللّْي َلـ ِإّل َقِليًل{ اليات ]المزمل .[2 ،1:و} َيا أَّيَها اْلُم ّدـثّـُر قُْ م فََأنِذ ْر ـ{ ]المدثر [2 ،1:اليات ،فقا م وظل قائمًا أكثر من عشرين عامًا يحمل على عاتقه عبء المانة الكبري في هذه الرض ،عبء البشرية كلها وعبء العقيد ة كلها ،وعبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى.
حمل عبء الكفاح والجهاد في ميادين الضمير البشري الغارق في أوها م الجاهلية وتصوراتها ،المثقل بأثقال الرض وجواذبها ،المكبل بأوهاق الشهوات وأغللها .حتى إذا خلص هذا الضمير في بعض صحابته مما يثقله من ركا م الجاهلية والحيا ة الرضية ،بدأ معركة أخري في ميدان آخر ،بل معارك متلحقة ...مع أعداء دعو ة الّله المتألبين عليها ،وعلى المؤمنين بها ،الحريصين على قتل هذه الغرسة الزكية في منبتها ،قبل أن تنمو وتمد
جذورها في التربـة ،وفروعها في الفضاء ،وتظلل مساحات أخرى ...ول م يكد يفرغ من معارك الجزير ة العربية حتى كانت الرو م تعد لهذه المة الجديد ة ،وتتهيأ للبطش بها على تُُخ وـِم هــا الشمالية.
وفي أثناء هذا كله ل م تكن المعركة الولي ـ معركة الضمير ـ قد انتهت ،فهي معركة خالد ة ،الشيطان صاحبها، وهو ل َيِني لحظة عن مزاولة نشاطه في أعماق الضمير النساني ،ومحمد صلى ال عليه وسل م قائ م على دعو ة
الّله هناك ،وعلى المعركة الدائبة في ميادينها المتفرقة ،في شظف من العيش ،والدنيا مقبلة عليه وفي جهد وَك ّدـ،ـ ص بـ دائ م ل ينقطع ،وفي صبر جميل على هذا والمؤمنون يستروحون من حوله ظلل المن والراحة ،وفي ُن ُ
كله ،وفي قيا م الليل ،وفي عباد ة لربه وترتيل لقرآنه ،وتََبّتل إليه كما أمره أن يفعل.
وهكذا عاش في المعركة الدائبة المستمر ة أكثر من عشرين عامًا ،ل يلهيه شأن عن شأن في خلل هذا المد،
حتى نجحت الدعو ة السلمية على نطاق واسع تتحير له العقول ،فقد دانت لها الجزير ة العربية ،وزالت غبر ة
الجاهلية عن آفاقها ،وصحت العقول العليلة حتى تركت الصنا م بل كسرت ،أخذ الجو يرتج بأصوات التوحيد، ل وسمع الذان للصلوات يشق أجواء الفضاء خلل الصحراء التي أحياها اليمان الجديد ،وانطلق القراء شما ً وجنوبًا ،يتلون آيات الكتاب ،ويقيمون أحكا م الّله.
وتوحدت الشعوب والقبائل المتناثر ة ،وخرج النسان من عباد ة العباد إلى عباد ة الّله ،فليس هناك قاهر ومقهور،
وسادات وعبيد ،وحكا م ومحكومون ،وظال م ومظلو م ،إوانما الناس كله م عباد الّله ،إخوان متحابون ،متمثلون لحكامه ،أذهب الّله عنه م ُع ّبـّيَة الجاهلية ونخوتها وتعاظمها بالباء ،ول م يبق هناك فضل لعربي على عجمي، ول لعجمي على عربي ،ول لحمر على أسود إل بالتقوي ،الناس كله م بنو آد م ،وآد م من تراب.
وهكذا تحققت ـ بفضل هذه الدعو ة ـ الوحد ة العربية ،والوحد ة النسانية ،والعدالة الجتماعية ،والسعاد ة البشرية في قضاياها ومشاكلها الدنيوية ،وفي مسائلها الخروية ،فتقلب مجري اليا م ،وتغير وجه الرض ،وانعدل خط التاريخ ،تبدلت العقلية. إن العال م كانت تسيطر عليه روح الجاهلية ـ قبل هذه الدعو ة ـ ويتعفن ضميره ،وتأسن روحه ،وتختل فيه القي م والمقاييس ،ويسوده الظل م والعبودية ،وتجتاحه موجة من الترف الفاجر والحرمان التاعس ،وتغشاه غاشية الكفر والضلل والظل م ،على الرغ م من الديانات السماوية ،التي كانت قد أدركها التحريف ،وسري فيها الضعف، وفقدت سيطرتها على النفوس ،واستحالت طقوسًا جامد ة ،ل حيا ة فيها ول روح. فلما قامت هذه الدعو ة بدورها في حيا ة البشرية ،خلصت روح البشر من الوه م والخرافة ،ومن العبودية والرق، ومن الفساد والتعفن ،ومن القذار ة والنحلل ،وخلصت المجتمع النساني من الظل م والطغيان ،ومن التفكك والنهيار ،ومن فوارق الطبقات ،واستبداد الحكا م ،واستذلل الكهان ،وقامت ببناء العال م على أسس من العفة والنظافة ،واليجابية والبناء ،والحرية والتجدد ،ومن المعرفة واليقين ،والثقة واليمان ،والعدالة والكرامة ،ومن العمل الدائب لتنمية الحيا ة ،وترقية الحيا ة ،إواعطاء كل ذي حق حقه في الحيا ة. وبفضل هذه التطورات شاهدت الجزير ة العربية نهضة مباركة ل م تشاهد مثلها منذ نشأ فوقها العمران ،ول م يتألق تاريخها تألقه في هذه اليا م الفريد ة من عمرها.
حجـة الــوداع تمت أعمال الدعو ة ،إوابلغ الرسالة ،وبناء مجتمع جديد على أساس إثبات اللوهية لّله ،ونفيها عن غيره ،وعلى أساس رسالة محمد صلى ال عليه وسل م ،وكأن هاتفًا خفيًا انبعث في قلب رسول الّله صلى ال عليه وسل م،
يشعره أن مقامه في الدنيا قد أوشك على النهاية ،حتى إنه حين بعث معاذا على اليمن سنة 01هـ قال له ـ فيما قال :)يا معاذ ،إنك عسي أل تلقاني بعد عامي هذا ،ولعلك أن تمر بمسجدي هذا لفراق رسول الّل ه صلى ا علي ه وسلم .
وقبري( ،فبكي معاذا خشعاً
وشاء الّله أن يري رسوله صلى ال عليه وسل م ثمار دعوته ،التي عاني في سبيلها ألوانًا من المتاعب بضعًا
وعشرين عامًا ،فيجتمع في أطراف مكة بأفراد قبائل العرب وممثليها ،فيأخذوا منه شرائع الدين وأحكامه ،ويأخذ
منه م الشهاد ة على أنه أدي المانة ،وبلغ الرسالة ،ونصح المة.
أعلن النبي صلى ال عليه وسل م بقصده لهذه الحجة المبرور ة المشهود ة ،فقد م المدينة بشر كثير كله م يلتمس أن يأت م برسول الّله صلى ال عليه وسل م .وفي يو م السبت لخمس بقين من ذي القعد ة تهيأ النبي صلى ال عليه وسل م للرحيل ،فتََر ّجـ لـواّد َهـَنـ ولبس إ ازره ورداءه وَقّلد ُبْد َنـه ،وانطلق بعد الظهر ،حتى بلغ ذا الُح لَـْي فَـة قبل أن يصلي العصر ،فصلها ركعتين ،وبات هناك حتى أصبح .فلما أصبح قال لصحابه :)أتاني الليلة آت من ربي ص ّل ـ في هذا الوادي المبارك وقل :عمر ة في فقالَ :
حجة( .
وقبل أن يصلي الظهر اغتسل لحرامه ،ث م طيبته عائشة بيدها بَذ ِرـَيـر ة وطيب فيه ِم ْسـكـ ،في بدنه ورأسه ،حتى ص الطيب يري في مفارقه ولحيته ،ث م استدامه ول م يغسله ،ث م لبس إ ازره ورداءه ،ث م صلي الظهر كان وَبيِ ُ ركعتين ،ث م أهل بالحج والعمر ة في م ّ ص َوـاـَء،فأَهّلـ أيضًا ،ث م أَهّلـ لما صـ لــه ،وَقَر نـبينهما ،ث م خرج ،فركب الَق ْ ُ َ استقلت به على الَبْي َدـاـء. ث م واصل سيره حتى قرب من مكة ،فبات بذي طَُوي ،ث م دخل مكة بعد أن صلي الفجر واغتسل من صباح يو م
الحد لربع ليال خلون من ذي الحجة سنة 01هـ ـ وقد قضي في الطريق ثماني ليال ،وهي المسافة الوسطي ـ فلما دخل المسجد الحرا م طاف بالبيت ،وسعي بين الصفا والمرو ة ،ول م َيِح ّل ـ ؛لنه كان قارنًا قد ساق معه الهدي،
فنزل بأعلى مكة عند الَح ُجـوــن ،وأقا م هناك ،ول م يعد إلى الطواف غير طواف الحج.
وأمر من ل م يكن معه َهْدـيـ من أصحابه أن يجعلوا إحرامه م عمر ة ،فيطوفوا بالبيت وبين الصفا المرو ة ،ث م يحلوا
ل تامًا ،فترددوا ،فقال :)لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ،ولول أن معي الهدي حل ً
لحللت( ،فحل
من لم يكن مع ه هدي ،وسمعوا وأطاعوا .
وفي اليو م الثامن من ذي الحجة ـ وهو يو م التّْر ِوــَيـ ــة توجه إلى مني ،فصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء ل حتى طلعت الشمس ،فأجاز حتى أتي عرفة ،فوجد القبة قد ضربت له والفجر ـ خمس صلوات ـ ث م مكث قلي ً
ِ ص َوـاـءفرحلت له ،فأتي بطن الوادي ،وقد اجتمع حوله مائة ألف َبَنم َرـ ة،فنزل بها ،حتى إذا زالت الشمس أمر بالَق ْ وأربعة وعشرون أو أربعة وأربعون ألفًا من الناس ،فقا م فيه م خطيبًا ،وألقى هذه الخطبة الجامعة: )أيها الناس ،اسمعوا قولي ،فإني ل أدري لعلى ل ألقاك م بعد عامي هذا بهذا الموقف
أبدًا( .
)إن دماءك م وأموالك م حرا م عليك م كحرمة يومك م هذا ،في شهرك م هذا ،في بلدك م هذا .أل كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ،ودماء الجاهلية موضوعة ،إوان أول د م أضع من دمائنا د م ابن ربيعة بن الحارث ـ وكان مسترضعًا في بني سعد فقتلته ُهَذ ْيـلـ ـ وربا الجاهلية موضوع ،وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبد المطلب ،فإنه موضوع
كله( .
)فاتقوا الّله في النساء ،فإنك م أخذتموهن بأمانة الّله ،واستحللت م فروجهن بكلمة الّله ،ولك م عليهن أل يوطئن فرشك م
أحدًا تكرهونه ،فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير ُم َبـّرح،ولهن عليك م رزقهن وكسوتهن )وقد تركت فيك م ما لن تضلوا بعده إن اعتصمت م به ،كتاب
بالمعروف( .
الّله( .
)أيها الناس ،إنه ل نبي بعدي ،ول أمة بعدك م ،أل فاعبدوا ربك م ،وصلوا خمسك م ،وصوموا شهرك م ،وأدوا زكا ة أموالك م ،طيبة بها أنفسك م ،وتحجون بيت ربك م ،وأطيعوا أولت أمرك م ،تدخلوا جنة )وأنت م تسألون عني ،فما أنت م
ربك م( .
قائلون؟( قالوا :نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت .
فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء ،وينكتها إلى الناس :)الله م
اشهد( ثل ث مرات .
وكان الذي يصرخ في الناس بقول رسول الّله صلى ال عليه وسل م ـ وهو بعرفة ـ ربيعة بن أمية ابن َخ لَــف. تـ لَُك ْ مـ ِد يـَنُك ْ مـ وبعد أن فرغ النبي صلى ال عليه وسل م من إلقاء الخطبة نزل عليه قوله تعالى :}اْلَيْو َ م ـأَْك َمـْلـ ُ تـَع لَـْي ُكـ مـ نِع مـتِـي و رـ ِ تُك ُ مـ اِل ْس ـلَـَ م ِد يـًنا{ ]المائد ة ،[3 :ولما نزلت بكي عمر ،فقال له النبي صلى ال ضـ يـ ـ ُلَ َوأَـتَْم ْمـ ُ ْ َْ ََ عليه وسل م :)ما يبكيك؟( قال :أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا ،فأما إذا كمل فإن ه لم يكمل شيء قط إل نقص ،فقال: )صدقت( .
وبعد الخطبة أذن بلل ث م أقا م ،فصلى رسول الّله صلى ال عليه وسل م بالناس الظهر ،ث م أقا م فصلي العصر،
ص َخـَرــات ،وجعل َح ْبـلـ ول م يصل بينهما شيئًا ،ث م ركب حتى أتي الموقف ،فجعل بطن ناقته القصواء إلى ال ّ
ل حتى غاب القُْر ص.ـ المشا ة بين يديه ،واستقبل القبلة ،فل م يزل واقفا حتى غربت الشمس ،وذهبت الصفر ة قلي ً وأردف أسامة ،ودفع حتى أتي الُم ْزـ َدـِلـَفة،فصلي بها المغرب والعشاء بأذان واحد إواقامتين ول م يسبح بينهما شيئًا، ث م اضطجع حتى طلع الفجر ،فصلي الفجر حين تبين له الصبح بأذان إواقامة ،ث م ركب القصواء حتى أتي الَم ْشـَعـَرـ الحرا م ،فاستقبل القبلة ،فدعاه ،وكبره ،وهّلله ،ووحده ،فل م يزل واقفًا حتى أْس فَـر ِج ّدـاـ.
طَنـ ُم َحـ ّسـٍرـ ،ـَفـَح ّرـكـ فََد فَـع ـ من المزدلفة إلى مني ـ قبل أن تطلع الشمس ،وأردف الفضل بن عباس حتى أتي َب ْ
ل ،ث م سلك الطريق الوسطي التي تخرج على الجمر ة الكبري ،حتى أتي الجمر ة التي عند الشجر ة ـ وهي الجمر ة قلي ً
الكبري نفسها ،كانت عندها شجر ة في ذلك الزمان ،وتسمي بجمر ة الَع قَـَبة وبالجمر ة الولي ـ فرماها بسبع حصيات،
يكبر مع كل حصا ة منها مثل حصي الَخ ْذ ـفـ ،رمي من بطن الوادي ،ث م انصرف إلى المنحر ،فنحر ثلثًا وستين بدنة بيده ،ث م أعطي عليًا فنحر ما َغ َبـَرـ ـ وهي سبع وثلثون بدنة ،تما م المائة ـ وأشركه في هديه ،ث م أمر من كل بدنة ببضعة ،فجعلت في ِقْدـرـ ،فطبخت ،فأكل من لحمها ،وشربا من َم َرـِقـه.ـا
ث م ركب رسول الّله صلى ال عليه وسل م ،فأفاض إلى البيت ،فصلي بمكة الظهر ،فأتي على بني المطلب َيْس قُـون على زمز م ،فقال :)انزعوا بني عبد المطلب ،فلول أن يغلبك م الناس على سقايتك م لنزعت دلواً فشرب من ه .
معك م( ،فناولوه
وخطب النبي صلى ال عليه وسل م يو م النحر ـ عاشر ذي الحجة ـ أيضًا حين ارتفع الضحي ،وهو على بغلة
َش ْهـَباء ،وعلى يعبر عنه ،والناس بين قائ م وقاعد ،وأعاد في خطبته هذه بعض ما كان ألقاه أمس ،فقد روي
الشيخان عن أبي بكر ة قال :خطبنا النبي صلى ال عليه وسل م يو م النحر ،قال :)إن الزمان قد استدار كهيئته يو م
خلق ال السموات والرض ،السنة اثنا عشر شه ًرا ،منها أربعة حر م ،ثلث متواليات ،ذو القعد ة وذو الحجة ضـ ر ـ الذي بين جمادي والمحر م ،ورجب ُم َ
وقال :)أي شهر
وشعبان( .
هذا؟( قلنا :ا ورسول ه أعلم ،فسكت حتى ظننا أن ه سيسمي ه بغير اسم ه ،قال) :أليس ذا الحجة؟(
قلنا :بلي؟ قال) :أي بلد هذا؟( قلنا :ا ورسول ه أعلم ،فسكت حتى ظننا أن ه سيسمي ه بغير اسم ه ،قال) :أليست البلدة؟( قلنا :بلي .قال) :فأي يوم هذا؟( قلنا :ا ورسول ه أعلم .فسكت حتى ظننا أن ه سيسمية بغير اسم ه ،قال: )أليس يوم النحر؟( قلنا :بلي .قال) :فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ،في بلدكم هذا ،في شهركم هذا( .
ل يضرب بعضك م رقاب )وستلقون ربك م ،فيسألك م عن أعمالك م ،أل فل ترجعوا بعدي ضل ً )أل هل
بعض( .
ب ُمبَّلغ أوعي من سامع( . بلغت؟( قالوا :نعم ،قال) :اللهم اشهد ،فليبلغ الشاهد الغائب َ ،فُر ّ
وفي رواية أنه قال في تلك الخطبة :)أل ل يجني َج اـٍن إل على نفسه ،أل ل يجني جان على ولده ،ول مولود
على والده ،أل إن الشيطان قد يئس أن ُيْع َبـدـ في بلدك م هذا أبدًا ،ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالك م ،فسيرضى به( .
وأقا م أيا م التشريق بمني يؤدي المناسك ويعل م الشرائع ،ويذكر ال ،ويقي م سنن الهدي من ملة إبراهي م ،ويمحو آثار الشرك ومعالمها. وقد خطب في بعض أيا م التشريق أيضًا ،فقد روي أبو داود بإسناد حسن عن َس ّرـاِء بنت َنْب هَـاَن قالت :خطبنا
رسول ال صلى ال عليه وسل م يو م الرءوس ،فقال :)أليس هذا أوسط أيا م مثل خطبت ه يوم النحر ،ووقعت هذه الخطبة عقب نزول سورة النصر .
التشريق( .وكانت خطبت ه في هذا اليوم
وفي يو م الّنْفرـ الثاني ـ الثالث عشر من ذي الحجة ـ نفر النبي صلى ال عليه وسل م من مني ،فنزل بِخ يــف بني طـح ،وأقا م هناك بقية يومه ذلك ،وليلته ،وصلي هناك الظهر والعصر والمغرب والعشاء ،ث م رقد ِك َنـانة من الْب َ رقد ة ،ث م ركب إلى البيت ،فطاف به طواف الوداع ،وأمر به الناس.
ولما قضي مناسكه حث الركاب إلى المدينة المطهر ة ،ل ليأخذ حظًا من الراحة ،بل ليستأنف الكفاح والكدح ل وفي سبيل ال.
آخر البعوث كانت كبرياء دولة الر م قد جعلتها تأبي حق الحيا ة على من آمن بال ورسوله ،وحملها على أن تقتل من أتباعها من يدخل في السل م ،كما فعلت بفَْر َوــ ةـبن عمرو الُج َذـاـِم يـ ،الذي كان واليًا على َم َعـاـن من قبل الرو م. ونظ ًار إلى هذه الجراء ة والغطرسة ،أخذ رسول ال صلى ال عليه وسل م يجهز جيشًا كبي اًر في صفر سنة 11هـ،
وأمر عليه أسامة بن زيد بن حارثة ،وأمره أن يوطئ الخيل تُُخ وـ م البلقاء والدارو م من أرض فلسطين ،يبغي بذلك
إرهاب الرو م إواعاد ة الثقة إلى قلوب العرب الضاربين على الحدود ،حتى ل يحسبن أحد أن بطش الكنيسة ل معقب له ،وأن الدخول في السل م يجر على أصحابه الحتوف فحسب.
وتكل م الناس في قائد الجيش لحداثة سنه ،واستبطأوا في بعثه ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)إن تطعنوا في إمارته ،فقد كنت م تطعنون في إمار ة أبيه من قبل ،واي م ال ،إن كان لخليقًا للمار ة ،إوان كان من أحب الناس إلى ،و إن هذا من أحب الناس إلى بعده( . وانتدب الناس يلتفون حول أسامة ،وينتظمون في جيشة ،حتى خرجوا ونزلوا الُج ْرـفــ،على َفْر َسـخـمن المدينة ،إل أن الخبار المقلقة عن مرض رسول ال صلى ال عليه وسل م ألزمته م التريث ،حتى يعرفوا ما يقضي ال به ،وقد قضي ال أن يكون هذا أول بعث ينفذ في خلفة أبي بكر الصديق.
إلى الرفيق العلي
طلئع التوديع ولما تكاملت الدعو ة وسيطر السل م على الموقف ،أخذت طلئع التوديع للحيا ة والحياء تطلع من مشاعره صلى ال عليه وسل م ،وتتضح بعباراته وأفعاله. إنه اعتكف في رمضان من السنة العاشر ة عشرين يومًا ،بينما كان ل يعتكف إل عشر ة أيا م فحسب ،وتدارسه جبريل القرآن مرتين ،وقال في حجة الوداع :)إني ل أدري لعلى ل ألقاك م بعد عامي هذا بهذا الموقف
أبدًا( ،وقال
وهو عند جمرة العقبة) :خذوا عني مناسككم ،فلعلي ل أحج بعد عامي هذا( ،وأنزلت علي ه سورة النصر في أوسط أيام التشريق ،فعرف أن ه الوداع وأن ه نعيت إلي ه نفس ه .
وفي أوائل صفر سنة 11هـ خرج النبي صلى ال عليه وسل م إلى أحد ،فصلي على الشهداء كالمودع للحياء والموات ،ث م انصرف إلى المنبر فقال :)إني فرط لك م ،وأنا شهيد عليك م ،إواني وال لنظر إلى حوضي الن، إواني أعطيت مفاتيح خزائن الرض ،أو مفاتيح الرض ،إواني وال ما أخاف عليك م أن تشركوا بعدي ،ولكني
أخاف عليك م أن تنافسوا
فيها( .
وخرج ليلة ـ في منتصفها ـ إلى الَبِقيـع ،فاستغفر له م ،وقــال :)السل م عليكـ م يـا أهل المقابرِ ،لَيْهَنـ لك م ما أصبحت م فيه بما أصبح الناس فيه ،أقبلت الفتن كقطع الليل المظل م ،يتبع آخرها أولها ،والخر ة شر من الولي( ،وبشرهم قائل ً) :إنا بكم للحقون( .
بـدايـة المـرض وفي اليو م الثامن أو التاسع والعشرين من شهر صفر سنة 11هـ ـ وكان يو م الثنين ـ شهد رسول ال صلى ال عليه وسل م جناز ة في البقيع ،فلما رجع ،وهو في الطريق أخذه صداع في رأسه ،واتقدت الحرار ة ،حتى إنه م كانوا ِ صـاــبة التي تعصب بها رأسه. يجدون َس ْوـ َرـتَــهافوق الع َ وقد صلي النبي صلى ال عليه وسل م بالناس وهو مريض 11يومًا ،وجميع أيا م المرض كانت ،31أو 41
يومًا.
السبوع الخير وثقل برسول ال صلى ال عليه وسل م المرض ،فجعل يسأل أزواجه :)أين أنا غدًا؟ أين أنا
غدًا؟( ففهمن مراده ،
فأذن ل ه يكون حيث شاء ،فانتقل إلى بيت عائشة يمشي بين الفضل بن عباس وعلى بن أبي طالب ،عاصباً رأس ه ،تخط قدماه حتى دخل بيتها ،فقضي عندها آخر أسبوع من حيات ه .
وكانت عائشة تق أر بالمعوذات والدعية التي حفظتها من رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فكانت تنفث على نفسه ،وتمسحه بيده رجاء البركة. قبل الوفا ة بخمسة أيا م ويو م الربعاء قبل خمسة أيا م من الوفا ة ،اتقدت حرار ة العلة في بدنه ،فاشتد به الوجع وغمي ،فقال :)هريقوا علي ب ،وصبوا علي ه الماء حتى طفق خ َ ض ٍ سبع ِق َرـ بـمن آبار شتي ،حتى أخرج إلى الناس ،فأعهد إليه م( ،فأقعدوه في ِم َ يقول) :حسبكم ،حسبكم( .
وعند ذلك أحس بخفة ،فدخل المسجد متعطفًا ملحفة على منكبيه ،قد عصب رأسه بعصابة دسمة حتى جلس
على المنبر ،وكان آخر مجلس جلسه ،فحمد ال وأثني عليه ،ث م قال :)أيها الناس،
إلي( ،فثابوا إلي ه ،فقال ـ فيما
قال) :لعنة ا على اليهود والنصارى ،اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد( ـ وفي رواية) :قاتل ا اليهود والنصارى ،اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد( ـ وقال) :ل تتخذوا قبري وثناً يعبد( .
ظْهًرا فهذا ظهري فليستقد منه ،ومن كنت شتمت له ِع ْر ـضـًا ل :)من كنت جلدت له َ وعرض نفسه للقصاص قائ ً فهذا عرضي فليستقد منه( . ث م نزل فصلى الظهر ،ث م رجع فجلس على المنبر ،وعاد لمقالته الولي في الشحناء وغيرها .فقال رجل :إن لي عندك ثلثة دراه م ،فقال :)أعطه يا
فضل( ،ثم أوصي بالنصار قائل ً:
)أوصيك م بالنصار ،فإنه م ِك ْرـ ِشـ ي ـوَع ْيـَبـِتي ،وقد قضوا الذي عليه م وبقي الذي له م ،فاقبلوا من ُم ْحـ ِس ـنــه م،وتجاوزوا
ل النصار حتى يكونوا كالملح في الطعام ،فمن ولي منكم أمراً عن مسيئه م( ،وفي رواية أن ه قال) :إن الناس يكثرون ،وتَِق ّ يضر في ه أحداً أو ينفع ه فليقبل من محسنهم ،ويتجاوز عن مسيئهم( .
ث م قال :)إن عبدًا خيره ال بين أن يؤتيه من زهر ة الدنيا ما شاء ،وبين ما عنده ،فاختار ما
عنده( .قال أبو سعيد
الخدري :فبكي أبو بكر .قال :فديناك بآبائنا وأمهاتنا ،فعجبنا ل ه ،فقال الناس :انظروا إلى هذا الشيخ ،يخبر رسول ا صلى ا علي ه وسلم عن عبد خيره ا بين أن يؤتي ه من زهرة الدنيا ،وبين ما عنده ،وهو يقول :فديناك بآبائنا وأمهاتنا .فكان رسول ا صلى ا علي ه وسلم هو المخير ،وكان أبو بكر أعلمنا .
ث م قال رسول ال صلى ال عليه وسل م :)إن من أمّن الناس على في صحبته وماله أبو بكر ،ولو كنت متخذًا ل ،ولكن أخو ة السل م ومودته ،ل يبقين في المسجد باب إل سد ،إل باب ل غير ربي ل تخذت أبا بكر خلي ً خلي ً أبي
بكر( .
قبل أربعة أيا م ويو م الخميس قبل الوفا ة بأربعة أيا م قال ـ وقد اشتد به الوجع :)هلموا أكتب لك م كتابًا لن تضلوا
بعده( ـ وفي البيت
رجال فيهم عمر ـ فقال عمر :قد غلب علي ه الوجع ،وعندكم القرآن ،حسبكم كتاب ا ،فاختلف أهل البيت واختصموا ، فمنهم من يقول :قربوا يكتب لكم رسول ا صلى ا علي ه وسلم ،ومنهم من يقول ما قال عمر ،فلما أكثروا اللغط والختلف قال رسول ا صلى ا علي ه وسلم) :قوموا عني( .
وأوصى ذلك اليو م بثلث :أوصي بإخراج اليهود والنصاري والمشركين من جزير ة العرب ،وأوصي بإجاز ة الوفود بنحو ما كان يجيزه م ،أما الثالث فنسيه الراوي .ولعله الوصية بالعتصا م بالكتاب والسنة ،أو تنفيذ جيش أسامة، أو هي :)الصل ة وما ملكت
أيمانك م( .
والنبي صلى ال عليه وسل م مع ما كان به من شد ة المرض كان يصلي بالناس جميع صلواته حتى ذلك اليو م ـ يو م الخميس قبل الوفا ة بأربعة أيا م ـ وقد صلي بالناس ذلك اليو م صل ة المغرب ،فق أر فيها بالمرسلت عرفًا. وعند العشاء زاد ثقل المرض ،بحيث ل م يستطع الخروج إلى المسجد .قالت عائشة :فقال النبي صلى ال عليه ضب( ،ففعلنا ،فاغتسل ، خ َ صلّــى الناس؟( قلنا :ل يا رسول ا ،وهم ينتظرونك .قال) :ضعوا لي ماء في ال ِ م ْ وسل م :) أ َ
فذهب لينوء فأغمي علي ه .ثم أفاق ،فقال) :أصلى الناس؟( ـ ووقع ثانياً وثالثاً ما وقع في المرة الولي من الغتسال ثم الغماء حينما أراد أن ينوء ـ فأرسل إلى أبي بكر أن يصلي بالناس ،فصلي أبو بكر تلك اليام 17صلة في حيات ه صلى ا علي ه وسلم ،وهي صلة العشاء من يوم الخميس ،وصلة الفجر من يوم الثنين ،وخمس عشرة صلة فيما بينها .
وراجعت عائشة النبي صلى ال عليه وسل م ثلث أو أربع مرات ؛ ليصرف المامة عن أبي بكر حتى ل يتشاء م به الناس ،فأبي وقال :)إنكن لنتن صواحب يوسف ،مروا أبا بكر فليصل
بالناس( .
قبل ثلثة أيا م قال جابر :سمعت النبي صلى ال عليه وسل م قبل موته بثلث وهو يقول :)أل ل يموت أحد منك م إل وهو يحسن الظـن
بال( .
قبل يو م أو يومين ويو م السبت أو الحد وجد النبي صلى ال عليه وسل م في نفسه خفة ،فخرج بين رجلين لصل ة الظهر ،وأبو بكر يصلي بالناس ،فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر ،فأومأ إليه بأل يتأخر ،قال :)أجلساني إلى
جنبه( ،فأجلساه إلى
يسار أبي بكر ،فكان أبو بكر يقتدي بصلة رسول ا صلى ا علي ه وسلم ويسمع الناس التكبير .
قبل يو م وقبل يو م من الوفا ة ـ يو م الحد ـ أعتق النبي صلى ال عليه وسل م غلمانه ،وتصدق بستة أو سبعة دنانير كانت عنده ،ووهب للمسلمين أسلحته ،وفي الليل أرسلت عائشة بمصباحها امرأ ة من النساء وقالت :أقطري لنا في مصباحنا من ُع ّكـتِـك السمن ،وكانت درعه صلى ال عليه وسل م مرهونة عند يهودي بثلثين صاعًا من الشعير.
آخر يو م من الحيا ة
روي أنس بن مالك :أن المسلمين بينا ه م في صل ة الفجـر من يو م الثنين ـ وأبو بكر يصلي به م ـ ل م يفجأه م إل رسول ال صلى ال عليه وسل م كشف ستر حجر ة عائشة فنظر إليه م ،وه م في صفوف الصل ة ،ث م تبس م يضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه ؛ ليصل الصف ،وظن أن رسول ال صلى ال عليه وسل م يريد أن يخرج إلى الصل ة .فقال أنس :وَهّ مـ المسلمون أن يفتتنوا في صلته م ،فََر ًحـ ا ـبرسول ال صلى ال عليه وسل م ،فأشار إليه م بيده رسول ال صلى ال عليه وسل م أن أتموا صلتك م ،ث م دخل الحجر ة وأرخي الستر. ث م ل م يأت على رسول ال صلى ال عليه وسل م وقت صل ة أخرى. ولما ارتفع الضحى ،دعا النبي صلى ال عليه وسل م فاطمة فَس اـّرهابشيء فبكت ،ث م دعاها ،فسارها بشيء
فضحكت ،قالت عائشة :فسألنا عن ذلك ـ أي فيما بعد ـ فقالت :سارني النبي صلى ال عليه وسل م أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه ،فبكيت ،ث م سارني فأخبرني أني أول أهله يتبعه فضحكت. وبشر النبي صلى ال عليه وسل م فاطمة بأنها سيد ة نساء العالمين. ورأت فاطمة ما برسول ال صلى ال عليه وسل م من الكرب الشديد الذي يتغشاه. فقالت :وا كرب أباه .فقال لها :)ليس على أبيك كرب بعد
اليو م( .
ودعا الحسن والحسين فقبلهما ،وأوصي بهما خي ًرا ،ودعا أزواجه فوعظهن وذكرهن. وطفق الوجع يشتد ويزيد ،وقد ظهر أثر الس م الذي أكله بخيبر حتى كان يقول :)يا عائشة ،ما أزال أجد أل م
الطعا م الذي أكلت بخيبر ،فهذا أوان وجدت انقطاع أْب هَـِري من ذلك
الس م( .
ِ ص ة ـله على وجهه ،فإذا اغت م بها كشفها عن وجهه ،فقال وهو كذلك ـ وكان هذا آخر ما تكل م وقد طرح َخ مـيـ َ وأوصي به الناس :)لعنة ال على اليهود والنصارى ،اتخذوا قبور أنبيائه م مساجد ـ يحذر ما صنعوا ـ ل يبقين دينان بأرض
العرب( .
وأوصى الناس فقال :)الصل ة ،الصل ة ،وما ملكت
أيمانك م( ،كــرر ذلك مــراراً .
الحتضار وبدأ الختصار فأسندته عائشة إليها ،وكانت تقول :إن من نع م ال على أن رسول ال صلى ال عليه وسل م توفي
في بيتي وفي يومي وبين َس ْحـ ِرــيوَنْح ِرــي،وأن ال جمع بين ريقي وريقه عند موته .دخل عبد الرحمن ـ بن أبي بكر ـ وبيده السواك ،وأنا مسند ة رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فرأيته ينظر إليه ،وعرفت أنه يحب السواك،
فقلت :آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نع م .فتناولته فاشتد عليه ،وقلت :ألينه لك؟ فأشار برأسه أن نع م .فلينته ،فأمره ـ
وفي رواية أنه استن به كأحسن ما كان مستنا ـ وبين يديه َر ْكـَوـ ةـفيها ماء ،فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح به وجهه ،يقول :)ل إله إل ال ،إن للموت سكرات (...الحديث . وما عدا أن فرغ من السواك حتى رفع يده أو أصبعه ،وشخص بصره نحو السقف ،وتحركت شفتاه ،فأصغت إليه عائشة وهو يقول :)مع الذين أنعمت عليه م من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ،الله م اغفر لي وارحمني ،وألحقني بالرفيق العلي .الله م ،الرفيق
العلي( .
كرر الكلمة الخير ة ثلثًا ،ومالت يده ولحق بالرفيق العلي .إنا ل إوانا إليه راجعون. وقع هذا الحادث حين اشتدت الضحي من يو م الثنين 12ربيع الول سنة 11هـ ،وقد ت م له صلى ال عليه وسل م ثلث وستون سنة وزادت أربعة أيا م. تفاق م الحزان على الصحابة وتسرب النبأ الفادح ،وأظلمت على أهل المدينة أرجاؤها وآفاقها .قال أنس :ما رأيت يومًا قط كان أحسن ول أضوأ
من يو م دخل علينا فيه رسول ال صلى ال عليه وسل م ،وما رأيت يوما كان أقبح ول أظل م من يو م مات فيه رسول ال صلى ال عليه وسل م.
ولما مات قالت فاطمة :يا أبتاه ،أجاب ربا دعاه .يا أبتاهَ ،م ْنـ جنة الفردوس مأواه .يا أبتاه ،إلى جبريل ننعاه. موقف عمر ل من المنافقين يزعمون أن رسول ال صلى ال عليه وسل م توفي ،إوان ووقف عمر بن الخطاب يقول :إن رجا ً رسول ال صلى ال عليه وسل م ما مات ،لكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسي بن عمران ،فغاب عن قومه أربعين ليلة ،ث م رجع إليه م بعد أن قيل :قد مات. ووال ،ليرجعن رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فليقطعن أيدي رجال وأرجله م يزعمون أنه مات. موقف أبي بكر وأقبل أبو بكر على فرس من مسكنه بالّس ْنـحـ حتى نزل ،فدخل المسجد ،فل م يكل م الناس ،حتى دخل على عائشة فتيم م رسول ال صلى ال عليه وسل م ،وهو مغشي بثوب ِح َبـَر ة،فكشف عن وجهه ث م أكب عليه ،فقبله وبكي ،ث م قال :بأبي أنت وأمي ،ل يجمع ال عليك موتتين ،أما الموتة التي كتبت عليك فقد ِم تّـَها. ث م خرج أبو بكر ،وعمر يكل م الناس ،فقال :اجلس يا عمر ،فأبي عمر أن يجلس ،فتشهد أبو بكر ،فأقبل الناس إليه ،وتركوا عمر ،فقال أبو بكر:
أما بعد ،من كان منك م يعبد محمدًا صلى ال عليه وسل م فإن محمدًا قد مات ،ومن كان منك م يعبد ال فإن ال ت أَْو قُتَِل انَقلَْب تُـْ م َع لَــى أَْع قَــابُِك ْ مـ حي ل يموت ،قال ال :}َو َمـاـُم َحـ ّمـٌدـ ِإلّ َر ُسـوـٌل قَْد َخ لَـ ْ ت ِم نـ قَْب ِلـِه الّر ُسـُلـأَفَِإنـ ّم اـ َ ض ّرـ اللَّه َش ْيـًئـاـ َو َسـَيـْج ِزــياللّهُ الّش اـِك ِرـيـَن{ ]آل عمران.[144: َو َمـنـَينَقِل ْ ب َع لَـَى َع ِقـَبـْي ِهـ َفَلن َي ُ قال ابن عباس :وال لكأن الناس ل م يعلموا أن ال أنزل هذه الية حتى تلها أبو بكر ،فتلقاها منه الناس كله م، فما أسمع بش اًر من الناس إل يتلوها. قال ابن المسيب :قال عمر :وال ،ما هو إل أن سمعت أبا بكر تلها ،فعرفت أنه الحق ،فعقرت حتى ما تُُقّلني رجلي ،وحتى أهويت إلى الرض حين سمعته تلها ،علمت أن النبي صلى ال عليه وسل م قد مات. التجهيز وتوديع الجسد الشريف إلى الرض ووقع الخلف في أمرالخلفة قبل أن يقوموا بتجهيزه صلى ال عليه وسل م ،فجرت مناقشات ومجادلت وحوار وردود بين المهاجرين والنصار في َس ِقـيـفة بني ساعد ة ،وأخيًرا اتفقوا على خلفة أبي بكر رضي ال عنه، ومضي في ذلك بقية يو م الثنين حتى دخل الليل ،وشغل الناس عن جهاز رسول ال صلى ال عليه وسل م حتى كان آخر الليل ـ ليلة الثلثاء ـ مع الصبح ،وبقي جسده المبارك على فراشه مغشي بثوب ِح َبـَر ة،قد أغلق دونه الباب أهله. ويو م الثلثاء غسلوا رسول ال صلى ال عليه وسل م من غير أن يجردوه من ثيابه ،وكان القائمون بالغسل: العباس وعلّيا ،والفضل وقَُث م ابني العباس ،وُش ْقـَرانمولي رسول ال صلى ال عليه وسل م ،وأسامة بن زيد ،وأوس بن َخ ْوـلــي،فكان العباس والفضل وقث م يقلبونه ،وأسامة وشقران يصبان الماء ،وعلى يغسله ،وأوس أسنده إلى
صدره.
وقد غسل ثلث غسلت بماء وِس ْد ـرـ ،وغسل من بئر يقال لها :الَغْرـ س ـلسعد بن َخ ْيـثَـَم ةـ بقَُباء وكان يشرب منها. ث م كفنوه في ثلثة أثواب يمانية بيض َس ُحـ وـِلّية من ُك ْرـ ُس ـفـ،ليس فيها قميص ول عمامة .أدرجوه فيها إد ارًج ا ـ. واختلفوا في موضع دفنه ،فقال أبو بكر :إني سمعت رسول الّله صلى ال عليه وسل م يقول :)ما قبض نبي إل
دفن حيث
يـقبض( ،فرفع أبو طلحة فراش ه الذي توفي علي ه ،فحفر تحت ه ،وجعل القبر لحداً .
ل ،عشر ة فعشر ة ،يصلون على رسول الّله صلى ال عليه وسل م أفذاذًا ،ل يؤمه م أحد، ودخل الناس الحجر ة أرسا ً
ل أهل عشيرته ،ث م المهاجرون ،ث م النصار ،ث م الصبيان ،ث م النساء ،أو النساء ث م الصبيان. وصلي عليه أو ً
ل ،ومعظ م ليلة الربعاء ،قالت عائشة :ما علمنا بدفن رسول الّله صلى ال ومضى في ذلك يو م الثلثاء كام ً عليه وسل م حتى سمعنا صوت المَس اـِح ي ـ من جوف الليل ـ وفي رواية :من آخر الليل ـ ليلة الربعاء.
البيت النبوي -1كان البيت النبوي في مكة قبل الهجر ة يتألف منه عليه الصل ة والسل م ،ومن زوجته خديجة بنت خويلد، تزوجها وهو في خمس وعشرين من سنه ،وهي في الربعين ،وهي أول من تزوجه من النساء ،ول م يتزوج عليها غيرها ،وكان له منها أبناء وبنات ،أما البناء ،فل م يعش منه م أحد ،وأما البنات فهن :زينب ورقية وأ م كلثو م وفاطمة ،فأما زينب فتزوجها قبل الهجر ة ابن خالتها ,أبوالعاص بن الربيع ،وأما رقية وأ م كلثو م فقد تزوجهما عثمان بن عفان رضي ال عنه الواحد ة بعد الخرى ،وأما فاطمة فتزوجها على بن أبي طالب بين بدر وأحد، ومنها كان الحسن والحسين وزينب وأ م كلثو م. ومعلو م أن النبي صلى ال عليه وسل م كان يمتاز عن أمته بحل التزوج بأكثر من أربع زوجات لغراض كثير ة، فكان عدد من عقد عليهن ثلثة عشر ة امرأه ،منهن تسع مات عنهن ،واثنتان توفيتا في حياته ،إحداهما خديجة، والخرى أ م المساكين زينب بنت خريمة ،واثنتان ل م يدخل بهما ،وها هي أسماؤهن وشيء عنهن. -2سود ة بنت زمعة ،تزوجها رسول ال صلى ال عليه وسل م في شوال سنة عشر من النبو ة ،بعد وفا ة خديجة بنحو شهر ،وكانت قبله عند ابن ع م لها يقال له :السكران بن عمرو ،فمات عنها .توفيت بالمدينة في شوال سنة 54هـ . 3ـ عائشة بنت أبي بكر الصديق ،تزوجها في شوال سنة إحدى عشر ة من النبو ة ،بعد زواجه بسود ة بسنة ،وقبل الهجر ة بسنتين وخمسة أشهر ،تزوجها وهي بنت ست سنين ،وبني بها في شوال بعد الهجر ة بسبعة أشهر في المدينة ،وهي بنت تسع سنين ،وكانت بك ًار ول م يتزوج بك ًار غيرها ،وكانت أحب الخلق إليه ،وأفقه نساء المة،
وأعلمهن على الطلق ،فضلها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعا م .توفيت في 17رمضان سنة 57هـ
أو 58هـ ودفنت بالبقيع. -4حفصة بنت عمر بن الخطاب ،تأيمت من زوجها خنيس بن خذافة السهمي بين بدر وأحد ،فلما حلت تزوجها رسول ال صلى ال عليه وسل م في شعبان سنة 3هـ توفيت في شعبان سنة 45هـ بالمدينة ،ولها ستون سنة،ودفنت بالبقيع. -5زينب بنت خزيمة من بنى هلل بن عامر بن صعصة ،وكانت تسمى أ م المساكين ،لرحمتها أياه م ورقتها عليه م ،كانت تحت عبد ال بن جحش ،فاستشهد في أحد ،فتزوجها رسول ال صلى ال عليه وسل م سنة 4هـ . ماتت بعد الزواج بنحو ثلثة أشهرفي ربيع الخر سنة 4هـ ،فصلى عليها النبي صلى ال عليه وسل م ،ودفنت بالبقيع.
-6أ م سلمة هند بنت أبي أمية ،كانت تحت أبي سلمة،وله منها أولد ،فمات عنها في جمادى الخر سنة 4هـ، فتزوجها رسول ال صلى ال عليه وسل م في ليال بقين من شوال السنة نفسها ،وكانت من افقه النساء وأعقلهن. توفيت سنة 59هـ ،وقيل62 :هـ ودفنت بالبقيع ،ولها 84سنة. -7زينب بنت جحش بن رباب من بنى أسد بن خزيمة ،وهي بنت عمة رسول ال صلى ال عليه وسل م ،كانت تحت زيد بن حارثة -الذي كان يعتبر ابنا للنبي صلى ال عليه وسل م -فطلقها زيد ،فلما انقضت العد ة أنزل ال طـًراَز ّو ـْجـ َنــاَك {هَـا]الحزاب ،[37 :وفيها نزلت من ض ى ـ َز ْيـٌدـّم ْنـهَـا َو َ تعالى يقول لرسوله صلى ال عليه وسل م } َفلَّماـ قَ َ سور ة الحزاب آيات فصلت قضية التبني -وسنأتي على ذكرها -تزوجها رسول ال صلى ال عليه وسل م في
ذي القعد ة سنة خمس من الهجر ة .وقيل :سنة 4هـ ،وكانت أعبد النساء وأعظمهن صدقة ،توفيت سنة 20هـ ولها 53سنة .وكانت أول أمهات المؤمنين وفا ة بعد رسول ال صلى ال عليه وسل م ،صلى عليها عمر بن الخطاب، ودفنت بالبقيع. -8جويرية بنت الحارث سيد بنى المصطلق من خزاعة ،كانت في سبي بنى المصطلق في سه م ثابت بن قيس بن شماس ،فكاتبها ،فقضى رسول ال صلى ال عليه وسل م كتابتها ،وتزوجها في شعبان سنة 6هـ .وقيل :سنة 5هـ ،فأعتق المسلمون مائة أهل بيت من بني المصطلق ،وقالوا أصهار رسول ال صلى ال عليه وسل م ،فكانت أعظ م النساء بركة على قومها .توفيت في ربيع الول سنة 56هـ ،وقيل 55 :هـ .ولها 65سنة. -9أ م حبيبة رملة بنت أبي سفيان ،كانت تحت عبيد ال بن جحش ،فولدت له حبيبة فكنيت بها ،وهاجرت معه إلى الحبشة ،فارتد عبيد ال وتنصر ،وتوفي هناك ،وثبتت أ م حبيبة على دينها وهجرتها ،فلما بعث رسول ال صلى ال عليه وسل م عمرو بن أميه الضمري بكتابه إلى النجاشي في المحر م سنة 7هـ .خطب عليه أ م حبيبة فزوجها إياه وأصدقها من عنده أربعمائة دينار ،وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة .فابتنى بها النبي صلى ال عليه وسل م بعد رجوعه من خيبر .توفيت سنة 42هـ ،أو 44هـ ،أو 50هـ. -10صفية بنت حيي بن أخطب سيد بن النضير من بنى إسرائيل ،كانت من سبي خيبر ،فاصطفاها رسول ال صلى ال وعليه وسل م لنفسه ،وعرض عليها السل م فأسلمت ،فأعتقها وتزوجها بعد فتح خيبر سنة 7هـ ،وابتنى بها بسد الصهباء على بعد 12ميل من خيبر في طريقه إلى المدينة .توفيت سنة 50هـ وقيل52 :هـ ،وقيل 36 هـ ودفنت بالبقيع. -11ميمونة بنت الحارث ،أخت أ م الفضل لبابة بنت الحارث ،تزوجها في ذي القعد ة سنة 7هـ ،في عمر ة القضاء ،بعد أن حل منها على الصحيح. وابتنى بها بسرف على بعد 9أميال من مكة ،وقد توفيت بسرف سنة 61هـ ،وقيل ،63 :وقيل 38 :هـ ودفنت هناك ،ول يزال موضع قبرها معروفا.
فهؤلء إحدى عشر ة سيد ة تزوج بهن الرسول صلى ال عليه وسل م ،وبنى بهن وتوفيت منهن اثنتان -خديجة وزينب أ م المساكين -في حياته ،وتوفي هو عن التسع البواقي. وأما الثنتان اللتان ل م يبن بهما ،فواحد ة من بنى كلب ،وأخرى من كند ة ،وهي المعروفة بالجونبة ،وهناك خلفات لحاجة إلى بسطها. وأما السراري فالمعروف أنه تسرى باثنتين إحداهما مارية القبطية ،أهداها له المقوقس ،فأولدها ابنه إبراهي م ،الذي توفي صغي ار بالمدينة في حياته صلى ال عليه وسل م ،في / 28أو 29من شهر شوال سنة 10هـ وفق 27 يناير سنة 632م. والسرية الثانية هي ريحانة بنت زيد النضرية أو القرظية ،كانت من سبايا قريظة ،فاصطفاها لنفسه ،وقيل :بل هي من أزواجه صلى ال عليه وسل م ،أعتقها فتزوجها .والقول الول رجحه ابن القي م .وزاد أبو عبيد ة اثنتين أخريين ،جميلة أصابها في بعض السبي ،وجارية وهبتها له زينب بنت جحش. ومن نظر إلى حيا ة الرسول صلى ال عليه وسل م عرف جيدًا أن زواجه بهذا العدد الكثير من النساء في أواخر
عمره بعد أن قضى ما يقارب ثلثين عامًا من ريعان شبابه وأجود أيامه مقتص ار على وجة واحد ة شبه عجوز -
خديجة ث م سود ة -عرف أن هذا الزواج ل م يكن لجل أنه وجد بغته في نفسه قو ة عارمة من الشبق ،ل يصبر
معها إل بمثل هذا العدد الكثير من النساء؛ بل كانت هناك أغراض أخرى أجل وأعظ م من الغرض الذي يحققه عامة الزواج. فاتجاه الرسول صلى ال عليه وصلى إلى مصاهر ة أبي بكر وعمر بزواجه بعائشة وحفصة -وكذلك تزوجيه ابنته فاطمة بعلي بن أبي طالب ،وتزويجه ابنتيه رقية ث م أ م كلثو م بعثمان بن عفان -يشير إلى أنه يبغي من وراء ذلك توثيق الصل ة بالرجال الربعة ،الذي عرف بلءه م وفداءه م للسل م في الزمات التي مرت به ،وشاء ال أن يجتازها بسل م. وكان من تقاليد العرب الحترا م للمصاهر ة ،فقد كان الصهر عنده م بابا من أبواب التقرب بين البطون المختلفة، وكانوا يرون مناوأ ة ومحاربة الصهار سبة وعا اًر على أنفسه م ،فأراد رسول ال صلى ال عليه وسل م بزواج عد ة
من أمهات المؤمنين أن يكسر سور ة عداء القبائل للسل م ،ويطفئ حد ة بغضائها ،كانت أ م سلمة من بنى مخزو م حي أبي جهل وخالد بن الوليد -فلما تزوجها رسول ال صلى ال عليه وسل م ل م يقف خالد من المسلمينموقفه الشديد بأحد ،بل أسل م بعد مد ة غير طويلة طائعا راغبًا ،وكذلك أبو سفيان ل م يواجه رسول ال صلى ال
عليه وسل م بأي محاربة بعد زواجه بابنته أ م حبيبة ،وكذلك ل نرى من قبيلتي بني المصطلق وبني النضير أي
استفزاز وعداء بعد زواجه بجويرية وصفية؛ بل كانت جويرية أعظ م النساء بركة على قومها ،فقد أطلق الصحابة
أسر مائة بيت من قومها حين تزوجها رسول ال صلى ال عليه وسل م ،وقالوا :أصهار رسول ال صلى ال عليه وسل م .ول يخفي ما لهدا المن من الثر البالغ في النفوس. وأكبر من كل ذلك وأعظ م أن النبي صلى ال عليه وسل م كان مأمو ار بتزكية وتثقيف قو م ل م يكونوا يعرفون شيئا من آداب الثقافة والحضار ة والتقيد بلواز م المدينة ،والمساهمة في بناء المجتمع وتعزيزه. والمبادئ التي كانت أسسا لبناء المجتمع السلمي ،ل م تكن تسمح للرجال أن يختلطوا بالنساء ،فل م يكن يمكن تثقيفهن مباشر ة مع المراعا ة لهذه المبادئ ،مع أن مسيس الحاجة إلى تثفيفهن مباشر ة ل م يكن أهون وأقل من الرجال ،بل كان أشد وأقوى. إواذن فل م يكن للنبي صلى ال عليه وسل م سبيل إل أن يختار من النساء المختلفة العمار والمواهب ما يكفي لهذا الغرض ،فيزكيهن ويربيهن ،ويعلمهن الشرائع والحكا م ،ويثقفهن بثقافة السل م حتى يعدهن؛ لتربية البدويات والحضريات ،العجائر منهن والشابات ،فيكفين مؤنة التبليغ في النساء. وقد كان لمهات المؤمنين فضل كبير في نقل أحواله -صلى ال عليه وسل م -المنزلية للناس ،خصوصًا من
طالت حياته منهن كعائشة ،فإنها روت كثي اًر من افعاله وأقواله.
وهناك نكاح واحد كان لنقض تقليد جاهلي متأصل ،وهي قاعد ة التبني .وكان للمتبني عند العرب في الجاهلية جميع الحرمات والحقوق التي كانت للبن الحقيقي سواء بسواء .وكانت قد تاصلت تلك القاعد ة في القلوب، ل ،لكن كانت تلك القاعد ة تعارض معارضة شديد ة للسس والمبادئ التي قررها السل م بحيث ل م يكن محوها سه ً
في النكاح والطلق والميراث وغير ذلك من المعاملت ،وكانت تلك القاعد ة تجلب كثي ار من المفاسد والفواحش التي جاء السل م؛ ليمحوها عن المجتمع. وقدر ال أن يكون هد م تلك القاعد ة على يد رسول ال صلى ال عليه وسل م وبذاته الشريفة ،وكانت ابنة عمته زينب بنت جحش ،وكانت تحت زيد بن حارثة الذي كان يدعى زيد بن محمد ،ول م يكن بينهما توافق ،حتى ه م
زيد بطلقها ،وفاتح بذلك رسول ال صلى ال عليه وسل م ،وقد عرف الرسول صلى ال عليه وسل م ـ إما بإشارات الظروف ،إواما بإخبار ال عز وجل إياه ـ أن زيدا إن طلقها فسيؤمر هو صلى ال عليه وسل م أن يتزوجها بعد انقضاء عدتها ،وكان ذلك في ظروف حرجة من تألب المشركين على رسول ال صلى ال عليه وسل م والمسلمين ،وكان يخاف ـ إذا وقع هذا الزواج ـ دعاية المنافقين والمشركين واليهود ،وما يثيرونه من الوساوس والخرافات ضده ،وما يكون له من الثر السيئ في نفوس ضعفاء المسلمين ،فلما فاتح زيد رسول ال صلى ال عليه وسل م بإرادته طلق زينب أمره بأن يمسكها ول يطلقها ،وذلك لئل تجئ له مرحلة هذا الزواج في تلك الظروف الصعبة.
ول م يرض ال من رسوله صلى ال عليه وسل م،هذا التردد والخوف حتى عاتبه ال عليه بقوله :}َو إِاـْذـ تَُقوُل ِللِّذ ي ـ كَـواـتّ ِ كـ َز ْو ـَجـ َ تـَع لَـْي ِهـ أَْم ِسـ ْك ـَع لَـْي َ أَْن َعـَ مـ اللّهُ َع لَـْي ِهـ َوأَـْن َعـْمـ َ ق اللَّه َو تُـْخ ِفـيـِفيـ َنْفِس َك ـَم اـ اللّهُ ُم ْبـِدـ يـِه َو تَـْخ َش ـىـالّناَس َواـللّهُ أََح ّ ق ـ َأن تَْخ َش ـاـهُ{ ]الحزاب.[37 : وأخي ار طلقها زيد ،وتزوجها رسول ال صلى ال عليه وسل م في أيا م فرض الحصار على بني قريظة بعد أن انقضت عدتها .وكان ال قد أوجب عليه هذا النكاح ،ول م يترك له خيا ار ول مجال ،حتى تولى ال ذلك النكاح طـًراَز ّو ـْجـ َنــاَك هَِلـاَك ْيـ َل َيُك وـَن َع لَــى اْلُم ْؤـ ِم ـنِـيَنَح َرـٌجِفيـ أَْز َوــاـِجأَْد ِعـ َيــائِِه ْ مـِإَذ اـ ض ى ـ َز ْيـٌدـّم ْنـهَـا َو َ بنفسه يقول :} َفلَّماـ قَ َ طـ ط ـً { ل كما هدمها قول :}اْد ُعـوـُهْ م ِل َب ـاـئِِه ْ مـُهَو أَْقَس ُ را ]الحزاب ،[37 :وذلك ليهد م قاعد ة التبني فع ً ض ْوـاـِم ْنـهُـّن َو َ َق َ ِع نـَد الّلهِ{ ]الحزاب ،[5 :}ّم اـ َك اـَن ُم َحـ ّمـٌدـ أََبا أََح ٍد ـ ّم نـ ّر َجـ اـِلُك ْ مـَو لَـِك نـ ّر ُسـوـَل اللِّه َو َخـ اـتََ م الّنبِّييَن{ ]الحزاب.[40 : وك م التقاليد المتأصلة الجافة ل يمكن هدمها أو تعديلها لمجرد القول ،بل لبد له من مقارنة فعل صاحب الدعو ة، ويتضح ذلك بما صدر من المسلمين في عمر ة الحديبية ،كان هناك أولئك المسلمون الذين رآه م عرو ة بن مسعود الثقفي ،ل يقع من النبي صلى ال عليه وسل م نخامة إل في يد أحده م ،ورآه م يتبادرون إلى وضوئه حتى كادوا يقتتلون عليه ،نع م كان أولئك الذين تسابقوا إلى البيعة على الموت أو على عد م الفرار تحت الشجر ة ،والذين كان فيه م مثل أبو بكر وعمر ،لما أمر النبي صلى ال عليه وس م أولئك الصحابة المتفانين في ذاته -بعد عقد الصلح -أن يقوموا فينحروا هديه م ل م يق م لمتثال أمره أحد ،حتى أخذه القلق والضطراب ،ولكن لما أشارت عليه أ م سلمة أن يقو م إلى هديه فينحر ،ول يكل م أحدا ففعل ،تبادر الصحابة إلى اتباعه في فعله ،فتسابقوا إلى نحر جزوره م .وبهذا الحادث يتضح جليا ما هو الفرق بين أثري القول والفعل لهد م قاعد ة راسخة. وقد أثر المنافقون وساوس كثير ة ،وقاموا بدعايات كاذبة واسعة حول هذا النكاح ،أثر بعضها في ضعفاء المسلمين ،ل سيما أن زينب كانت خامسة أزواجه صلى ال عليه وسل م ،ول م يكن يعرف المسلمون حل الزواج بأكثر من أربع نسو ة وأن زيدا كان يعتبر ابنا للنبي صلى ال عليه وسل م ،والزواج بزوجة البن كان من أغلظ الفواحش ،وقد أنزل ال في سور ة الحزاب حول الموضوعين ما شفى وكفى ،وعل م الصحابة أن التبني ليس له أثر عند السل م ،وأن ال تعالى وسع لرسوله صلى ال عليه وسل م في الزواج مال م يوسع لغيره ،لغراضهة النبيلة الممتاز ة. هذا ،وكانت عشرته صلى ال عليه وسل م مع أمهات المؤمنين في غاية الشرف والنبل والسمو والحسن ،كما كن في أعلى درجة من الشرف والقناعة والصبر والتواضع والخدمة والقيا م بحقوق الزواج ,مع أنه كان في شظف من العيش ل يطيقه أحد .قال أنس :ما أعل م النبي صلى ال عليه وسل م رأى رغيفا مرفقا حتى لحق بال ،ول رأى شا ة سميطا بعينه قط .وقالت عائشة :إن كنا لننظر إلى الهلل ثلثة أهلة في شهرين ،وما أوقدت في أبيات رسول ال صلى ال عليه وسل م نار .فقال لها عرو ة :ما كان يعيشك م؟ قالت :السودان؛ التمر والماء .والخبار بهذا الصدد كثير ة.
ومع هذا الشظف والضيق ل م يصدر منهن ما يوجب العتاب إل مر ة واحد ة -حسب مقتضى البشرية ،وليكون كِ ـإن ُك نـتُّن تُِر ْدـَنـاْلَح َيــا ةَ الّد ْنـَيـاـ َو ِزـيـَنتََهافَتََعاـلَْي َنـ سببا لتشريع الحكا م -فأنزل ال آية التخيير }أَّيَها الّنبِّي ُقل ّلَْز َوــاـِج َ أَُم تّـْع ُكـّنـ َوأُـَس ّرـْحـ ُكــّنـَس َرـاًح ا ـَج ِمـيـًل َو إِاـنـ ُك نـتُّن تُِر ْدـَنـاللَّه َو َرـُسـوـلَهَُواـلّد اـَر اْل ِخ ــَرـف ةَِإّن اللَّه أََع ّدـ ِلْلُم ْحـ ِس ـَنـاِتِم نـُك ّنـ أَْج ًرـا َع ِظـ يـً م{ ]الحزاب [29 ،28 :وكان من شرفهن ونبلهن أنهن آثرن ال ورسوله ،ول م تمل واحد ة منهن إلى اختيار الدنيا. وكذلك ل م يقع منهن ما يقع بين الضرائر ـ مع كثرتهن ـ إل شيء يسير من بعضهن حسب اقتضاء البشرية ،ث م عاتب ال عليه فل م يعدن له مر ة أخرى وهو الذي ذكره ال في سور ة التحري م بقوله }َيا أَّيَها الّنبِّي ِلَ م تَُح ّرـُ مـَم اـ أََح ّل ـ ك{ إلى تما م الية الخامسة. اللّهُ لَ َ وأخي ار أرى أنه ل حاجة إلى البحث في موضوع مبدأ تعدد الزوجات ،فمن نظر في حيا ة سكان اوروبا الذين يصدر منه م النكير الشديد على هذا المبدأ ،ونظر إلى مايقاسون من الشقاو ة والمرار ة ،وما يأتون من الفضائح والجرائ م الشنيعة ،وما يواجهون من البليا والقلقل لنحرافه م عن هذا المبدأ كفى له ذلك عن البحث والستدلل، فحياته م أصدق شاهد على عدالة هذا المبدأ ،إوان في ذلك لعبر ة لولى البصار.
الصفات والخلق
كان النبي صلى ال عليه وسل م يمتاز من جمال َخ ْلــقه وكمال ُخ لُــقه بما ل يحيط بوصفه البيان ،وكان من أثره أن القلوب فاضت بإجلله ،والرجال تفانوا في حياطته إواكباره ،بما ل تعرف الدنيا لرجل غيره ،فالذين عاشروه أحبوه
إلى حد الهيا م ،ول م يبالوا أن تندق أعناقه م ول يخدش له ظُْفر ،وما أحبوه كذلك إل لن أنصبته من الكمال الذي
يحبب عاد ة ل م يرزق بمثلها بشر .وفيما يلي نورد ملخص الروايات في بيان جماله وكماله مع اعتراف العجز عن الحاطة. جمال الَخ ْلـقـ قالت أ م َم ْعـَبـٍدـ الخزاعية عن رسول ال صلى ال عليه وسل م ـ وهي تصفه لزوجها ،حين مر بخيمتها مهاج ًار: ص ْعـلَـة ،وِس يـ م قَِس يـ م ،في عينيه َد َعـجـ ،وفي ظاهر الَو َ ضـاــء ة ،أْب لَـُج الوجه ،حسن الُخ لُــق ،ل م تعبه ثُْج لَــة ،ول م تُْز ِرـ ـبه َ طـع ،أْح َو ـرــ،أْك َحـلــ ،أَزّج ،ـأْقَر نــ ،شديد سواد الشعر ،إذا صمت ص هَــل ،وفي عنقه َس َ أشفاره َو َ طــف ،وفي صوته َ عله الوقار ،إوان تكل م عله الَبَهاء ،أجمل الناس وأبهاه م من بعيد ،وأحسنه وأحله من قريب ،حلو المنطق، ِ صـ رــ ،ول تشنؤه من فَ ْ ض لــ ،ل َنْز رـ ـول َهَذـرـ ،كأن منطقه َخ َر ـ َزـاتنظمن َيَتحّد رـنَ ،ر ْبـَعـةـ،ل تقحمه عين من ق َ ظـر الثلثة منظ ًرا ،وأحسنه م قْد ًرــا،له رفقاء يحفون به ،إذا قال استمعوا لقوله، صـ َنـْي نـ ،فهو أْن َ صـ ن ـبين ُغ ْ طولُ ،غ ْ إواذا أمر تبادروا إلى أمرهَ ،م ْحـ فُــودَ ،م ْحـ ُش ـوـد ،ل َع اـِبس ول ُم فَـّند.
وقال على بن أبي طالب ـ وهو ينعت رسول ال صلى ال عليه وسل م :ل م يكن بالطويل الُم َمـّغـِط ،ـول القصير طـّه م ،ول بالُم َكـْلـَث م ،وكان المتردد ،وكان َر ْبـَعـةـمن القو م ،ول م يكن بالَج ْعـدـ القَِط ِط ـ ،ـول بالّس ْبـطـَ ،ر ِجـ لًــ،ول م يكن بالُم َ في الوجه تدوير ،وكان أبيض ُم ْشـَرـًبــا،أْد َعـجـ العينين ،أْه َدـبـ الْش فَـارَ ،ج ِلــيل الُم َشـاـش والَك تَـِد ،ـ دقيق المْس ُرـَبـة،
ص َبــب ،إواذا التفت التفت معًا ،بين كتفيه خات م النبو ة، أْج َر ـدــَ،ش ثْـُن الكفين والقدمين ،إذا مشي تََقّلع كأنما يمشي في َ وهو خات م النبيين ،أجود الناس كفًا ،وأج أر الناس صد ًرا ،وأصدق الناس لَْهَج ةــ ،وأوفي الناس ذمة ،وألينه م َع رـيَك ةـ، وأكرمه م عشر ة ،من رآه بديهة هابه ،ومن خالطه معرفة أحبه ،يقول ناعته :ل م أر قبله ول بعده مثله ،صلى ال عليه وسل م.
وفي رواية عنه :أنه كان ض ْخـ م ـالرأس ،ضخ م الَك رـاِد يــس،طويل الم سـرـبـة،إذا مشي تََك فّـأ تََك فّـيا كأنما يْن حـ ّ ط ـ من َ َ ً َ ُْ َ َ َ ص َبــب. َ ض ِلــيع الف م ،أْش َكـلـ العينينَ ،م ْنـهُـوس العقبين. وقال جابر بن َس ُمـر ةـ :كان َ ص ًدـاـ. وقال أبو الطفيل :كان أبيضَ ،م ِلـيح الوجهُ ،م قَـ ّ
ق ،ـ ول آَد مـُ ،قبض وليس في وقال أنس بن مالك :كان بِْس َ طـ الكفين .وقال :كان أْزَهرـاللون ،ليس بأبيض أْم هَـ َ رأسه ولحيته عشرون شعر ة بيضاء. ص ْدـَغـْيـهـ ،وفـي رواية :وفي الرأس َنْب ٌذـ. وقال :إنما كان شيء ـ أي من الشيب ـ في ُ وقال أبو ُج َحـْيـفـة :رأيت بياضًا تحت شفته السفلي ،الَعْنـفَـَقة. وقال عبد ال بن ُبْس رـ :كان في عنفقته شعرات بيض. وقال الب ارء :كان َم ْرـ ُبــوًع اـَ،بِع يـَد ما بين الَم ْنـِكـَبـْي نـ ،له َش ْعـرـ يبلغ َش ْحـ َم ـةـأذنيه ،رأيته في ُح لّــة حمراء ،ل م أر شيئًا قط أحسن منه. ل لحبه موافقة أهل الكتاب ،ث م َفَر قـرأسه بعد. وكان ُيْس ِدـل ـشعره أو ً قال البراء :كان أحسن الناس وجًها ،وأحسنه م ُخ لُـًقا. وسئل :أكان وجه النبي صلى ال عليه وسل م مثل السيف؟ قال :ل بل مثل القمر .وفي رواية :كان وجهه مستدي ًار. وقالت الّر َبـّيعـبنت ُم َعـّوـ ذ:ـ لو رأيته رأيت الشمس طالعة. ض ِح ـَيــاٍن ،ـ ـفجعلت أنظر إلى رسول ال صلى ال عليه وسل م إوالى القمر ـ وقال جابر بن َس ُمـَرـ :ة رأيته في ليلة إ ْ وعليه حلة حمراء ـ فإذا هو أحسن عندي من القمر. وقال أبو هرير ة :ما رأيت شيئًا أحسن من رسول ال صلى ال عليه وسل م ،كأن الشمس تجري في وجهه ،وما
طَوي له ،إوانا لنجهد أنفسنا ،إوانه رأيت أحدًا أسرع في مشيه من رسول ال صلى ال عليه وسل م ،كأنما الرض تُ ْ لغير مكترث. وقال كعب بن مالك :كان إذا ُس ّرـ استنار وجهه ،حتى كأنه قطعة قمر. وعرق مر ة وهو عند عائشة رضي ال عنها َيْخ ِ ل ،فجعلت تبرق أسارير وجهه ،فلما ل ،وهي تغزل غز ً فـ ـنع ً صـ ُ ت وقالت :وال لو رآك أبو َك بِـير الهَُذ لـي لعل م أنك أحق بشعره من غيرك: رأته ُبِه تَـ ْ إواذا نظرت إلى أسر ة وجهه ** برقت كبرق العارض المتهلل وكان أبو بكر إذا رآه يقول:
أمين مصطفى بالخير يدعو ** كضوء البدر زايله الظل م وكان عمر ينشد قول زهير في َهِرـ مـبن ِس َنـان: لو كنت من شيء سوى البشر ** كنت المضيء لليلة البدر ث م يقول :كذلك كان رسول ال صلى ال عليه وسل م. وكان إذا غضب احمر وجهه ،حتى كأنما فقئ في وجنتيه َح ّ ب ـ الرمان. وقال جابر بن َس ُمـَرـ :ة كان في ساقيه ُح ُمـوـشة ،وكان ل يضحك إل تََبّس مـًا .وكنت إذا نظرت إليه قلت :أْك َحـل ـ العينين ،وليس بأكحل. وقال عمر بن الخطاب :وكان من أحسن الناس ثَْغ ًارـ. قال ابن عباس :كان أْف لَـَج الثنيتين ،إذا تكل م رؤي كالنور يخرج من بين ثناياه. طـف ،وفي لحيته كثافة ،وكان واسع الجبين، وأما ُع ُنـقه فكأنه ِج يـُد ُد ْمـ َيـٍة في صفاء الفضة ،وكان في أَْش فَـاره َع َ أَزّج الحواجب في غير قرن بينهما ،أْقَني الِع ْرـنِــينَ،س ْهـل الَخ ّدـْيـنـ ،من لُّبِته إلى ُس ّرـتِـه شعر يجري كالقضيب ،ليس في بطنه ول صدره شعر غيره ،أْش َعـرـ الذراعين والمنكبينَ ،س َوـاـءُ البطن والصدرَ ،م ِسـ يــح الصدر عريضه ،طويل صـ ْيـنـَ،س اـِئل الطراف ،إذا َزاَل َزاَل َقْلعًا ،يخطو تََك فّـيًا ويمشي صـاــن الْخ َم ـ َ ص بــُ ،خ ْمـ َ الّز ْنـدـَ ،ر ْحـ ب ـالراحةَ ،س ْبـطـ القَ َ َهْوـ نـًا. وقال أنس :ما مسست حري ًار ول ديباجًا ألين من كف النبي صلى ال عليه وسل م ،ول شممت ريحًا قط أو َع ْرـ فـًا قط ،وفي رواية :ما شممت عنب ًار قط ول ِم ْسـكـًا ول شيئًا أطيب من ريح أو عرف رسول ال صلى ال عليه وسل م. وقال أبو ُج َحـْيـفـة :أخذت بيده ،فوضعتها على وجهي ،فإذا هي أبرد من الثلج ،وأطيب رائحة من المسك. وقال جابر بن سمر ة ـ وكان صبيا :مسح َخ ّدـيـ فوجدت ليده بردًا أو ريحًا كأنما أخرجها من ج وـنِة ع ّ طـار. ُ َ َ وقال أنس :كأن عرقه اللؤلؤ .وقالت أ م سلي م :هو من أطيب الطيب. وقال جابر :ل م يسلك طريقًا فيتبعه أحد إل عرف أنه قد سلكه من طيب َع ْرـ ِفـ.هـ أو قال :من ريح عرقه. وكان بين كتفيه خات م النبو ة مثل بيضة الحمامة ،يشبه جسده ،وكان عند َناِغ ض ـ كتفه اليسري ُج ْمـعـًا ،عليه ِخ َيــلن كأمثال الّثآِليل .
كمال النفس ومكار م الخلق كان النبي صلى ال عليه وسل م يمتاز بفصاحة اللسان ،وبلغة القول ،وكان من ذلك بالمحل الفضل ،والموضع الذي ل يجهل ،سلمة طبع ،ونصاعة لفظ ،وجزالة قول ،وصحة معان ،وقلة تكلف ،أوتي جوامع الكل م ،وخص ببدائع الحك م ،وعل م ألسنة العرب ،يخاطب كل قبيلة بلسانها ،ويحاورها بلغتها ،اجتمعت له قو ة عارضة البادية وجزالتها ،ونصاعة ألفاظ الحاضر ة ورونق كلمها ،إلى التأييد اللهي الذي مدده الوحي. ت أدبه ال بها ،وكل حلي م قد عرفت منه وكان الحل م والحتمال ،والعفو عند المقدر ة ،والصبر على المكاره ،صفا ٌ زلة ،وحفظت عنه َه ْفَو ةـ ،ولكنه صلى ال عليه وسل م ل م يزد مع كثر ة الذي إل صبرا ،وعلى إسراف الجاهل إل حلما ،وقالت عائشة :ما خير رسول ال صلى ال عليه وسل م بين أمرين إل اختار أيسرهما ما ل م يكن إثمًا ،فإن
كان إثما كان أبعد الناس عنه ،وما انتق م لنفسه إل أن تنتهك حرمة ال فينتق م ل بها .وكان أبعد الناس غضبًا، وأسرعه م رضًا.
وكان من صفة الجود والكر م على مال يقادر قدره ،كان يعطي عطاء من ل يخاف الفقر ،قال ابن عباس :كان النبي صلى ال عليه وسل م أجود الناس ،وأجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل ،وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان ،فيدارسه القرآن ،فلرسول ال صلى ال عليه وسل م أجود بالخير من الريح المرسلة .وقال جابر: ما سئل شيئًا قط فقال :ل. وكان من الشجاعة والنجد ة والبأس بالمكان الذي ل يجهل ،كان أشجع الناس ،حضر المواقف الصعبة ،وفر عنه الكما ة والبطال غير مر ة ،وهو ثابت ل يبرح ،ومقبل ل يدبر ،ول يتزحزح ،وما شجاع إل وقد أحصيت له فَّر ة، قـ،ـ اتقينا برسول ال صلى ال عليه وسل م وحفظت عنه جولة سواه ،قال علي :كنا إذا حمي البأس واحمرت الَح َدـ ُ فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه .قال أنس :فزع أهل المدينة ذات ليلة ،فانطلق ناس ِقَبـَلـ الصوت ،فتلقاه م رسول ال صلى ال عليه وسل م راجعًا ،وقد سبقه م إلى الصوت ،وهو على فرس لبي طلحة ُع ْرـيـ،في عنقه السيف ،وهو يقول :)ل م تَُراعوا ،ل م تَُراعوا(.
وكان أشد الناس حياء إواغضاء ،قال أبو سعيد الخدري :كان أشد حياء من العذراء في ِخ ْد ـرـها ،إواذا كره شيئًا عرف في وجهة .وكان ل يثبت نظره في وجه أحد ،خافض الطرف .نظره إلى الرض أطول من نظره إلى ل بلغ عنه شيء السماءُ ،ج ّلـ نظره الملحظة ،ل يشافه أحدًا بما يكره حياء وكر م نفس ،وكان ل يسمي رج ً
يكرهه ،بل يقول .)ما بال أقوا م يصنعون كذا(.
وكان أحق الناس بقول الفرزدق: يغضي حياء ويغضي من مهابته ** فــل يكلـ م إل حيـن يبتسـ م
وكان أعدل الناس ،وأعفه م ،وأصدقه م لهجة ،وأعظمه م أمانة ،اعترف له بذلك مجاوروه وأعداؤه ،وكان يسمي قبل نبوته المين ،وُيَتحاك م إليه في الجاهلية قبل السل م ،روي الترمذي عن على أن أبا جهل قال له :إنا ل نكذبك، كـ و لَـِك ّنـ ال ّ ولكن نكذب بما جئت به ،فأنزل ال تعالى فيه م :}فَِإّنه م َ ّ ظاِلِم يـَن ِبآَياِت اللِّه َيْج َح ـُدـوَـن{ ]النعا م: ُْ ل ُيَك ذـُبـوَن َ َ .[33وسأل هرقل أبا سفيان ،هل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال :ل. وكان أشد الناس تواضعًا ،وأبعده م عن الكبر ،يمنع عن القيا م له كما يقومون للملوك ،وكان يعود المساكين،
ويجالس الفقراء ،ويجيب دعو ة العبد ،ويجلس في أصحابه كأحده م ،قالت عائشة :كان يخصف نعله ،ويخيط ثوبه ،ويعمل بيده كما يعمل أحدك م في بيته ،وكان بش ًار من البشر َيْف ِلـي ثوبه ،ويحلب شاته ،ويخد م نفسه. وكان أوفي الناس بالعهود ،وأوصله م للرح م ،وأعظمه م شفقة ورأفة ورحمة بالناس ،أحسن الناس عشر ة وأدبًا،
وأبسط الناس خلقًا ،أبعد الناس من سوء الخلق ،ل م يكن فاحشًا ،ول متفحشًا ،ول لعانًا ،ول صخابا في
السواق ،ول يجزي بالسيئة السيئة ،ولكن يعفو ويصفح ،وكان ل يدع أحدا يمشي خلفه ،وكان ل يترفع على عبيده إوامائه في مأكل ول ملبس ،ويخد م من َخ َدـَمـهـ ،ول م يقل لخادمه أف قط ،ول م يعاتبه على فعل شيء أو تركه ،وكان يحب المساكين ويجالسه م ،ويشهد جنائزه م ،ول يحقر فقي ًار لفقره .كان في بعض أسفار ة فأمر
بإصلح شا ة ،فقال رجل :على ذبحها ،وقال آخر :على سلخها ،وقال آخر على طبخها ،فقال صلى ال عليه وسل م :)وعلي جمع الحطب( ،فقالوا :نحن نكفيك .فقال :)قد علمت أنك م تكفوني ولكني أكره أن أتميز عليك م ،فإن ال يكره من عبده أن يراه متمي اًز بين أصحابه( ،وقا م وجمع الحطب. ولنترك هند بن أبي هالة يصف لنا رسول ال صلى ال عليه وسل م ؛ قال هند فيما قال :كان رسول ال صلى ال عليه وسل م متواصل الحزان ،دائ م الفكر ة ،ليست له راحة ،ول يتكل م في غير حاجة ،طويل السكوت ،يفتتح الكل م ل ،ل فضول فيه ول تقصير ،دمثًا ليس بالجافي ول ويختمه بأشداقه ـ ل بأطراف فمه ـ ويتكل م بجوامع الكل م ،فص ً
بالمهين ،يعظ م النعمة إوان دقت ،ليذ م شيئًا ،ول م يكن يذ م ذواقًا ـ ما يطع م ـ ول يمدحه ،ول يقا م لغضبه إذا تعرض للحق بشيء حتى ينتصر له ،ل يغضب لنفسه ،ول ينتصر لها ـ سماحة ـ إواذا أشار أشار بكفه كلها ،إواذا تعجب قلبها ،إواذا غضب أعرض وأشاح ،إواذا فرح غض طرفه ،جل ضحكه التبس م ،ويفتر عن مثل حب الغما م. وكان يخزن لسانه إل عما يعنيه ،يؤلف أصحابه ول يفرقه م ،يكر م كري م كل قو م ،ويوليه عليه م ،ويحذر الناس، ويحترس منه م من غير أن يطوي عن أحد منه م بشره. يتفقد أصحابه ،ويسأل الناس عما في الناس ،ويحسن الحسن ويصوبه ،ويقبح القبيح ويوهنه ،معتدل المر ،غير مختلف ،ل يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملوا ،لكل حال عنده عتاد ،ل يقصر عن الحق ،ول يجاوزه إلى غيره. الذين يلونه من الناس خياره م ،وأفضله م عنده أعمه م نصيحة ،وأعظمه م عنده منزلة أحسنه م مواسا ة ومؤازر ة.
كان ل يجلس ول يقو م إل على ذكر ،ول يوطن الماكن ـ ل يميز لنفسه مكانًا ـ إذا انتهي إلى القو م جلس حيث
ينتهي به المجلس ،ويأمر بذلك ،ويعطي كل جلسائه نصيبه حتى ل يحسب جليسه أن أحدًا أكر م عليه منه ،من جالسه أو قاومه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه ،ومن سأله حاجة ل م يرده إل بها أو بميسور من
القول ،وقد وسع الناس بسطه وخلقه ،فصار له م أبا ،وصاروا عنده في الحق متقاربين ،يتفاضلون عنده بالتقوي، مجلسه مجلس حل م وحياء وصبر وأمانة ،ل ترفع فيه الصوات ،ول تؤبن فيه الحر م ـ ل تخشي فلتاته ـ يتعاطفون بالتقوي ،يوقرون الكبير ،ويرحمون الصغير ،ويرفدون ذا الحاجة ،ويؤنسون الغريب. ص ّخـاــب ،ول فحاش ،ول عتاب ،ول مداح، كان دائ م البشر ،سهل الخلق ،لين الجانب ،ليس بفظ ،ول غليظ ،ول َ يتغافل عما ل يشتهي ،ول يقنط منه .قد ترك نفسه من ثلث :الرياء ،والكثار ،وما ل يعنيه ،وترك الناس من
ثلث :ل يذ م أحدًا ،ول يعيره ،ول يطلب عورته ،ول يتكل م إل فيما يرجو ثوابه ،إذا تكل م أطرق جلساؤه ،كأنما على
رءوسه م الطير ،إواذا سكت تكلموا .ل يتنازعون عنده الحديث ،من تكل م عنده أنصتوا له حتى يفرغ ،حديثه م حديث أوله م ،يضحك مما يضحكون منه ،ويعجب مما يعجبون منه ،ويصبر للغريب على الجفو ة في المنطق، يقول :إذا رأيت م صاحب الحاجة يطلبها فأرفدوه ،ول يطلب الثناء إل من مكافئ. وقال خارجة بن زيد :كان النبي صلى ال عليه وسل م أوقر الناس في مجلسه ،ل يكاد يخرج شيئًا من أطرافه،
وكان كثير السكوت ،ل يتكل م في غير حاجة ،يعرض عمن تكل م بغير جميل ،كان ضحكه تبسمًا ،وكلمه فصل
ل فضول ول تقصير ،وكان ضحك أصحابه عنده التبس م توقي اًر له واقتداء به.
وعلى الجملة ،فقد كان النبي صلى ال عليه وسل م محلي بصفات الكمال المنقطعة النظير ،أدبه ربه فأحسن ك لََع لـى ُخ لُـ ٍ ق َع ِظـ يـٍ م{ ]القل م ،[4 :وكانت هذه الخلل مما قرب إليه تأديبه ،حتى خاطبه مثنيًا عليه فقال :}َو إِاـّنـ َ النفوس ،وحببه إلى القلوب ،وصيره قائدًا تهوي إليه الفئد ة ،وألن من شكيمة قومه بعد الباء ،حتى دخلوا في
دين ال أفواجًا.
وهذه الخلل التي أتينا على ذكرها خطوط قصار من مظاهر كماله وعظي م صفاته ،أما حقيقة ما كان عليه من المجاد والشمائل فأمر ل يدرك كنهه ،ول يسبر غوره ،ومن يستطيع معرفة كنه أعظ م بشر في الوجود بلغ أعلى قمة من الكمال ،استضاء بنور ربه ،حتى صار خلقه القرآن؟ الله م صل على محمد وعلى آل محمد ،كما صّليت على إبراهي م وعلى آل إبراهي م ،إّنك َح مــيد مجيد. ت على إبراهي م وعلى آل إبراهي م إّنك حميد مجيد. الله م بارك على محمد وعلى آل محمد ،كما بارك َ