قصص فلسطينية بثينه الناصري

Page 1


‫القصص التي كتبتها من وحي النكبة الفلسطينية‪ .‬أنشرها مجمعة هنا حسب‬ ‫التسلسل الزمني لكتابتها ونشرها‪.‬‬ ‫‪-1‬‬ ‫‪-2‬‬ ‫‪-3‬‬ ‫‪-4‬‬ ‫‪-5‬‬

‫سيناريو فيلم صامت‬ ‫تل أبيب ‪2024‬‬ ‫العودة الى بيته‬ ‫أبناء الوكالة‬ ‫حجارة البيت‬


‫ن‬ ‫ف‬ ‫ل‬ ‫ص‬ ‫سيناريو م امت‬ ‫(هذا ليس سيناريو فيلم وإنما قصة قصيرة اقتبست شكل سيناريو لهذه التراجيديا التي طالت‬ ‫أكثر من الالزم‪).‬‬ ‫‪++‬‬

‫يمأل الشاشة دخان كثيف‪ .‬تهبط الكامرة على شجرة زيتون مشطورة وقد مس جزء منها‬ ‫األرض‪ .‬تظهر فردة حذاء رجالي عتيقة ممزقة الحواف ملطخة بدم طازج‪.‬‬ ‫الكامرة تستعرض خياما هاوية‪ ،‬محترقة‪ ،‬يتصاعد منها دخان وغبار‪.‬‬ ‫حركة طفيفة خلف مزق خيمة‪.‬‬ ‫لقطة قريبة لوجه طفل يطل من الخيمة‪ ،‬ينظر الى الكامرة دهشا‪ ،‬في الثالثة من عمره‪ ،‬عيناه‬ ‫سوداوان وشعره أسود مترب‪ ،‬في وجهه األبيض بقع سود‪ .‬يتلفت حوله‪ ،‬يبدو عليه الفزع‪،‬‬ ‫يرد رأسه خلف الخيمة‪ ،‬ولكنه بعد قليل يطل مرة أخرى‪.‬‬ ‫لقطة قريبة لوجه صغير يطل من الخيمة ‪ .‬ينظرة الى الكامرة بخطى متأرجحة‪ .‬تتحرك شفتاه‬ ‫دون صوت "ماما ‪ ..‬ماما"‬ ‫تستعرض الكامرة أنقاض الخيام‪ .‬األرض المحفرة‪ .‬صوت الطفل (خارج الكادر) ماما‪ ..‬ماما‪.‬‬ ‫خشيش النار يغطي على صوته‪.‬‬ ‫الكامرة تتابع ظهر الطفل وهو يتعثر بين الركام بحثا عن خيمته‪ .‬يدور بعينه حوله ثم يكمد‬ ‫وجهه‪.‬‬ ‫لقطة لشجرة الزيتون المحترقة‪.‬‬ ‫(خارج الكادر) صوت الطفل ينفجر باكيا‪ ،‬يتحول الى نشيج متقطع‪.‬‬


‫لقطة قريبة لوجه الطفل‪ ،‬يسكت ويلتفت التفاتة حادة‪.‬‬ ‫الكامرة على كومة حجارة تتحرك‬ ‫تدخل الكادر يد الطفل ترفع الحجارة‪.‬‬ ‫لقطة لوجه الطفل المندى بالدموع ضاحكا‪.‬‬ ‫الكامرة على وجه قطة سوداء ينبثق من بين كومة الحجر‪ .‬تذعر القطة‪ .‬تموء‪ .‬يضحك‬ ‫الطفل‪ .‬تطفر القطة بعيدا‪ ،‬يعدو خلفها‪ .‬تتسلق الزيتونة ‪ .‬تنظر اليه مرتابة‪ .‬يقعد على التراب‬ ‫يسند ظهره على الزيتونة‪ .‬تشغل اهتمامه فردة حذاء‪ ،‬يلتقطها‪.‬‬ ‫القطة في أعلى الشجرة تدفن لسانها في شعر ظهرها بطعنات متواترة‪ .‬تتلفت حولها بحذر‪،‬‬ ‫ثم تثني مخلبيها األماميين تحت صدرها وتغفو‪.‬‬ ‫صوت طفيف غامض خارج الكادر‪ .‬تنتبه القطة‪ .‬يتسع بؤبؤا عينيها وتنظر الى األسفل‪.‬‬ ‫لقطة من األعلى ‪ .‬الطفل يضع قدمه في الحذاء ويدق به األرض مقلدا الكبار‪.‬‬ ‫ينطبق جفنا القطة مرة أخرى‪.‬‬ ‫الكامرة على الطفل‪ .‬يتوقف‪ .‬ينظر باتجاه الخيام "ماما؟ ماما؟" يجر قدما يثقلها الحذاء‪ ،‬الى‬ ‫الشجرة‪ .‬يجلس ساهما "ماما؟" يبدو عليه الغضب فجأة فيصرخ "ماما؟" تسيل دمعتان‬ ‫ويصيح بأعلى صوته "ماما!"‪.‬‬ ‫تثب القطة من الشجرة ‪ .‬تقعي على مقربة منه ترقبه بعينين التطرفان‪ .‬الطفل اليأبه لها‪.‬‬ ‫يضع وجهه على ركبتيه ويبكي‪ .‬تدنو منه القطة‪ .‬يبكي‪ .‬تتسل اليه‪ .‬يبكي‪ .‬تمسح رأسها‬ ‫بقدمه‪ .‬يرفع رأسه‪ .‬تطفر بعيدا‪ .‬تمسح ظهرها في جذع الشجرة مرارا ‪ ..‬جيئة وذهابا‪.‬‬ ‫يرقبها ضاحكا‪.‬‬ ‫صوت طائرة (خارج الكادر)‬ ‫يجفل الطفل‪ .‬يرفع وجهه نحو السماء‪ .‬تجفل القطة تخفض رأسها‪ ،‬ترمي أذنيها الى الخلف‪،‬‬ ‫تتأهب‪.‬‬ ‫‪++‬‬ ‫لقطة من الطائرة الى األرض‪ .‬تتأثر الكامرة بحركة الطائرة‪ .‬األزيز يعلو‪.‬‬


‫صوت (خارج الكادر) شلوم‪ .‬مازي(‪)1‬؟ سيم ليف (‪.)2‬‬ ‫تنحرف طائرة القتال الى اليسار‪.‬‬ ‫‪++‬‬ ‫لقطة للحذاء العتيق ينقذف بعيدا عن الشجرة‪ ،‬تدخل الكادر القطة بقفزة واحدة‪ .‬تنشب‬ ‫مخالبها في الحذاء‪ .‬تحمله وتنقلب على ظهرها‪ .‬يدنو منها الطفل حذرا ترمي الحذاء وتعتدل‪.‬‬ ‫تنظر للطفل نظرة لعوبا متوثبة‪ .‬يهجم عليها‪ .‬تروغ من يديه‪ .‬تختفي تحت خيمة متهاوية‪.‬‬ ‫يدخل خلفها الطفل‪.‬‬ ‫لقطة من الطائرة‪ .‬األرض ساكنة صامتة‪ .‬تتصاعد خطوط خفيفة من الدخان‪ .‬الطائرة تحوم‬ ‫فوق المنطقة‪ .‬الشيء‪ .‬وكان الطيار على وشك أن يقسم أنه شاهد شيئا يتحرك‪ .‬على كل‬ ‫حال‪ ،‬دورة أخرى وبيعود ميعات ايجمور‪)3( .‬‬ ‫‪++‬‬ ‫كركرت ضحكة الطفل وخرج من الخيمة يضم على صدره كرة الفرو السوداء‪ .‬تمطت القطة‬ ‫بين يديه‪ .‬شد عليها الخناق‪ .‬لوت رأسها وعضت رسغه‪.‬‬ ‫‪++‬‬ ‫شنايم (‪ )4‬الطائرة تمأل الشاشة‪ .‬لم يكن مخطئا إذن‪ ..‬توف ميئود (‪ )5‬حدد الهدف تماما‪،‬‬ ‫وانحدرت الطائرة نحو الحركة وسط األنقاض‪.‬‬ ‫‪++‬‬ ‫آخ ‪ ..‬تركها تنزلق الى األرض‪ .‬مسح موضع أسنانها على رسغه حتى انبجست نقط دم‪.‬‬ ‫غضب‪ .‬نظر حوله فوجد فرع شجرة محترق‪ .‬حمله وركض به نحوها‪ .‬تقافزت القطة هنا‬ ‫صارا على أسنانه‪ .‬تقلبت على ظهرها أمامه ثم مدت مخالبها تداعب‬ ‫وهناك‪ .‬حام حولها‬ ‫ّ‬ ‫طرف العصا‪ .‬لطمها على رأسها‪ .‬ماءت واختفت تحت الخيمة ‪ .‬لبد على كومة الحجارة‬ ‫ينتظر‪.‬‬ ‫‪++‬‬ ‫لقطة من الجو للمخيم‪ .‬الحركة ‪ ..‬الشيء ‪ ..‬عدا الدخان الذي بدأ يتبدد‪ .‬سيم ليف! كمين‬ ‫مخربين والشك‪ .‬مناورة هي إذن؟‬


‫‪++‬‬ ‫لقطة متوسطة للطفل البدا على الحجارة‪ .‬صوت أزيز الطائرة خارج الكادر‪ .‬نظر الى السماء‬ ‫حائرا‪ .‬تحركت شفتاه دون صوت "ماما؟ ماما؟"‬ ‫هز رأسه واخضلت أهدابه بالدموع‪ .‬وقعت عيناه على العصا المتفحمة في يده‪ .‬رماها وطفق‬ ‫يبكي بصوت عال‪ .‬أزت الطائرة فوقه‪ ،‬وظل يبكي‪ .‬عال صوته‪.‬‬ ‫برز رأس أسود‪ .‬و انسلت القطة الى جانبه‪ .‬تمددت قرب قدميه‪ .‬أزت الطائرة ‪ ،‬يمأل صوتها‬ ‫الفضاء‪.‬‬ ‫لقطة قريبة لحضن الطفل تحوطه ذراعاه المتصالبتان على ركبتيه‪ ،‬ومؤخرة القطة وهي‬ ‫تدس جسمها بحذر وهدوء لتكمن فيه‪.‬‬ ‫يتحرك الطفل بأناة‪ .‬تربض القطة في حضنه‪ .‬يمسح رأسها مترفقا ثم ينظر شاردا حوله‪.‬‬ ‫لقطة استعراضية للخيام المقوضة‪ ،‬تتوقف عينا الطفل عند خيمة يعرفها‪ .‬ينهض ضاما القطة‬ ‫الى صدره ويتجه نحو الخيمة ‪ .‬يكاد يركض‪.‬‬ ‫‪++‬‬ ‫ أتا مخان؟‬‫ مياد (‪)7‬‬‫تنقض الطائرة‪ .‬لقطة من الجو للجسم الصغير المتحرك‪ .‬بياض يضم سوادا‪ ,.‬يركض‪ ،‬تنحدر‬ ‫الطائرة ‪ ..‬تحدد الهدف‪ ،‬توف ميئود‪ .‬إضرب! صوت قاصف‪.‬‬ ‫( ‪)6‬‬

‫تخمد الحركة‪.‬‬ ‫لقطة طويلة على األبيض واألسود يغطيهما أحمر‪.‬‬

‫هوامش‬ ‫(‪) 1‬‬ ‫(‪) 2‬‬ ‫(‪) 3‬‬ ‫(‪) 4‬‬

‫مازي‪ :‬ماهذا؟‬ ‫سيم ليف‪ :‬انتبه‬ ‫وبيعود ميعات ايجمور‪ :‬بعد قليل أنتهي‬ ‫شنايم‪ :‬اثنان‬


‫(‪) 5‬‬

‫توف ميئود‪ .‬جيد جدا‪ .‬عال‪.‬‬

‫(‪) 6‬‬ ‫(‪) 7‬‬

‫أتا مخان‪ :‬انت مستعد‬ ‫مياد‪ :‬فورا‪.‬‬

‫‪+++‬‬ ‫‪ ‬نشرت في مجموعة (حدوة حصان) الصادرة في بغداد ‪1974‬‬ ‫وضمت الى مجموعة األعمال الكاملة (كتاب المغامرات) الجزء األول ‪2016 -‬‬


‫تل أبيت ‪2024 ..‬‬ ‫(توضيح البد منه‪ :‬كتبت هذه القصة في آذار ‪ 1974‬ولهذا قدرت انها لن تحدث‬ ‫قبل نصف قرن بالتمام ‪ .‬وهي تصور محاوالت الكيان الصهيوني الفاشلة البادة‬ ‫الفلسطينيين مع تواطيء االمم المتحدة وصمت العرب‪ .‬وهي قصة رمزية تستلهم‬ ‫اسلوب الفانتازيا ولكن مع حقائق المكان ‪ .‬سيجد العارفين بفلسطيني المحتلة ان‬ ‫اسماء المواقع والشوارع وحتى ارقام الحافالت حقيقيا ‪ .‬وقد استعنت بذلك‬ ‫بمصادر شتى ‪ .‬ولهذا اقول دائما ان اضفاء المصداقية على القصص يتطلب البحث‬ ‫الجاد والعمل المضني ‪ .‬فكتابة قصة ليست سهلة ابدا ‪ .‬ولعل رمز المتحف فيه‬ ‫الكثير من المفارقة ألن هذا الكيان المسخ يحاول ان يصنع له تاريخا ال وجود له‪).‬‬ ‫**‬ ‫في وسط أورشليم الغربية ‪ .‬بين الكنيست ووادي الصليب والجامعة العبرية يقوم‬ ‫بناء حديث الطراز ‪.‬‬ ‫كتل معمارية مكعبة ومستطيلة ودائرية ‪ ،‬باالبيض واالسود‪.‬‬ ‫"خذ الباص رقم ‪ 5‬او ‪ .. "16‬هنا تأريخ يوغل في القدم ‪.‬‬ ‫قال السائح األمريكي شيئا ‪..‬‬ ‫ردت المرأة االسرائيلية الجديدة ‪:‬‬ ‫‪ -‬اذن متحف رقم ‪2‬‬


‫القاعة باردة ‪ ..‬نفحة من رائحة غامضة ‪ .‬أرض المعة ‪ ..‬صامتة ‪ .‬صناديق‬ ‫زجداجية ‪ ..‬صامتة ‪ ..‬ورائحة ما ‪ .‬قطع بيضاء تصرخ (انسان نياندرتال) بثالث‬ ‫لغات ‪ .‬جمجمة متآكلة ‪ .‬عظام سوداء يغصب سرها الضوء‪.‬‬ ‫يقف عندها الزمن ‪.‬‬ ‫نهاية القاعة ‪.‬‬ ‫تلقي عن ظهرك عبء ست ماليين سنة ‪.‬‬ ‫تدلف الى اخرى ‪..‬‬ ‫صندوق زجاجي عريض ‪ ..‬خيمة نصف محترقة ‪ ،‬يطل منها تمثال امرأة سمراء ‪،‬‬ ‫على الوجه تجاعيد وبسمة رضى‪ .‬يجلس في زاوية من الصندوق رجل يعتمر‬ ‫كوفية وعقال يتفرج على الناس خارج الزجاج ‪.‬‬ ‫يضع امامخ طاسة فخارية تحوي شيئا أبيض ‪ ..‬قد يكون لبن البعير البارك في‬ ‫الجهة االخرى ‪.‬‬ ‫لوحة بيضاء أنيقة ( االنسان العربي عاش في اسرائيل منذ ست آالف سنة ‪ .‬بدأ‬ ‫في االنقراض منذ عام ‪) 1948‬‬ ‫جر ضابط انجليزي زوجته ‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ العرب ‪.‬‬‫ أوه ‪..‬‬‫وتدلهت بعشق العربي حالما رأته ‪ ..‬ساحت عيناها في انحاء جسمه ‪ ،‬عند ملتقى‬ ‫فخذيه ‪ .‬كان جلباب أسمر يغطيه ‪ ،‬وفارس الصحراء ثابت النظرات ‪ ..‬يكاد ‪..‬‬ ‫انجرت وراء زوجها ‪:‬‬ ‫ أليس فاتنا ؟‬‫(تعتبر هذه المعروضة من أنفس مقتنيات المتحف لندرة الحصول على النماذج في‬ ‫الوقت الحاضر )‬


‫قالت المرأة االسرائيلية الجديدة ‪:‬‬ ‫ هذي جوهرة المتحف ‪.‬‬‫ استطيع ان أرى ذلك ‪.‬‬‫ اقصد المعروضة‬‫ يهمني التاريخ الحي‬‫ ليس لي تاريخ بعد‬‫ اصنع لك واحدا ؟‬‫وسارا نحو باب الخروج يضحكان ‪.‬‬ ‫**‬ ‫لم يكن شهر آذار خيرا فإلى جانب استمرار االمطار وقلة السواح ‪ ..‬حدث ذلك‬ ‫الشيء الذي هز العالم ‪.‬‬

‫بدأ في عطفة من شارع دزنكوف في تل ابيب‪.‬‬ ‫يقال ان كل اسرائيلي – في وقت فراغه – منقب آثار هاو‪ ،‬ويقال ايضا ان ليس‬ ‫ثمة شبر في اسرائيل لم يسكنه يوما االغريق او البيزنطيون او العرب او‬ ‫الصليبيون او االتراك ‪..‬‬ ‫وهكذا ما أن غادر شاؤول مخزن (بات آدم) بعد انتهاء العمل حتى تعثر بهذا االثر‬ ‫الفريد قرب (كافتريا فراك – ‪ 131‬شارع دزنكوف) ‪ .‬تلفت حوله ‪ .‬ال احد هناك ‪.‬‬ ‫عاين االثر من كل وجوهه ‪ .‬قلب االمر في رأسه ‪ .‬تلفت حوله مرة اخرى ‪ .‬هز‬ ‫كتفيه وحمله الى (كاسيت كافيه) ملتقى االدباء والمفكرين والصعاليك ‪.‬‬ ‫لغط وسحب دخان ‪.‬‬ ‫يرتفع صوت ‪ ..‬يبدأ الشجار ‪.‬‬ ‫يختفي "االثر " تحت منضدة ‪ .‬تلفت شاؤول المحاسب حوله وغادر المكان ‪.‬‬


‫***‬ ‫اشترى االمريكي نسخة من "جيروسليم بوست" كان العنوان اسود فاضحا ‪:‬‬ ‫لغز يحير العلماء‬ ‫العثور على ولد عربي حي‬ ‫"في الساعة السابعة وخمس عشرة دقيقة من مساء االمس ‪ ،‬تم العثور على ولد‬ ‫عربي حي ‪ .‬وكان هذا الحدث مفاجأة للعلماء الذين اعلنوا سابقا انقراض الجنس‬ ‫العربي على ارض اسرائيل‪ .‬وقد اودعت العينة مختبر الجامعة العبرية حيث‬ ‫تخضع عصر اليوم ألولى الفحوص المختبرية قبل تقرير مصيرها ‪"...‬‬ ‫قطعت دار االذاعة برامجها ‪:‬‬ ‫" سيداتي سادتي ‪ ..‬وصلنا االن هذا النبأ ‪ .‬نشرت جريدة جيروسليم بوست ‪"...‬‬ ‫وفي المساء طارت برقية من رئيس دولة عربية الى االمين العام لالمم المتحدة ‪.‬‬ ‫االمريكي يطرق باب التأريخ ‪..‬‬ ‫االمين العام لالمم المتحدة يدعو ممثل اسرائيل الى اجتماع عاجل ‪..‬‬ ‫قاعة رحبة مستديرة ‪.‬‬ ‫كان طالب الجامعة وهواة االثار يزحمون المدرجات ‪ .‬وعلى المنصة كان علماء‬ ‫االثار والبايولوجي واالثنولوجي واللغة واالكولوجي يحيطون بالعينة الجالسة على‬ ‫منضدة ‪.‬‬ ‫تقدم احدهم ‪ ..‬لحية سوداء مدببة ‪ ..‬قاس محيط الرأس وتمتم شيئا‪ ،‬سجله‬ ‫مساعده ‪.‬‬ ‫قاس الجبهة‬ ‫سجل مساعده‬


‫قاس المؤخرة‬ ‫سجل مساعده‬ ‫هيأ لغوي آلته وقربها من العينة ‪.‬‬ ‫هز الرجل رأسه ‪:‬‬ ‫ غريبة !‬‫ أليست العربية ؟‬‫ نعم ‪ ..‬لكنها غريبة ‪ ..‬ال ا فهمها ‪.‬‬‫واستمر االجتماع الى ساعة متأخرة ‪.‬‬ ‫"ارسل لنا احد القراء ‪"..‬‬ ‫كتب محرر جريدة معاريف ‪:‬‬ ‫"يقترح حال لمعضلة العلماء في تقدير عمر الولد العربي بقياس الكربون المشع ‪.‬‬ ‫وال ندري ان كان القاريء الكريم – في اقتراحه – جادا ام هازال اذ ان هذه‬ ‫الوسيلة تستخدم في تحديد عمر المتحجرات فقط ‪ .‬فمن المعروف انه بعد الموت‬ ‫يختفي الكربون المشع الذي تحتويه الكائنات الحية ببطء شديد ‪ .‬وبقياس كمية‬ ‫الكربون المشع الذي تحتويه الحفرية يمكن تحديد عمرها"‬ ‫الولد ممدود على الطاولة ‪ .‬عالم بيولوجي يمد يده في فمه ‪ ..‬يفحص اسنانه ثم‬ ‫يجس عظامه ويبدو االرتياح على وجهه ويعود الى مكانه يكتب مالحظاته ‪.‬‬ ‫الولد يشير الى فمه ‪.‬‬ ‫يجفل اللغوي ‪:‬‬ ‫ يقول انه فقد النطق ‪.‬‬‫لغط ‪ ..‬آهة ‪ ..‬نفاد صبر‬ ‫الولد يشير الى فمه‬


‫يشتمه اللغوي‪.‬‬ ‫يشير الى فمه‬ ‫يجلس اللغوي يائسا ‪.‬‬ ‫الولد يشير الى فمه‬ ‫ يريد ان يأكل !‬‫كان صوت صغير ينزوي بين قدمي أبيه ‪ .‬ومثل صفعة واحدة ادارت رؤوس‬ ‫العلماء نحو المنضدة يحملقون مدهوشين بالعينة التي تريد ان تأكل !‬ ‫برقية اخرى ‪.‬‬ ‫الكنيست ‪ :‬اجتماع فوق العادة‬ ‫مدير متحف اسرائيل في اورشليم يجتمع بنائب رئيس الوزراء‬ ‫الموقف يزداد سوءا‬ ‫في (كاسيت كافيه) بصق المثقفون آراءهم على االرض وفي الهواء وفي وجوه‬ ‫بعضهم ‪.‬‬ ‫قال الوافد الجديد ‪:‬‬ ‫اعتقل !‬‫ من ؟ من ؟ من ؟‬‫مدير االذاعة ‪.‬‬ ‫ كال ‪ ..‬رئيس تحرير جيروسليم بوست‬‫ مدير االذاعة ايضا‬‫همس متأدب ‪ :‬لماذا ؟‬ ‫نظروا اليه باحتقار ‪.‬‬


‫ اذن المسألة جادة ‪.‬‬‫ طبعا ‪ ..‬لو لم تعبر الحدود لكانت ‪ ..‬أسهل ‪.‬‬‫ لكن ‪ ..‬من اوصل الخبر للجريدة ؟‬‫قال الجميع (لست أنا ) وتسللوا من الكافيه واحدا إثر آخر‪.‬‬ ‫الكنيست ينهي اجتماعه‬ ‫استقالة عالم بيولوجي من الجامعة العبرية‬ ‫االمريكي مشغول بصنع التاريخ ‪.‬‬ ‫مدير متحف "هآريتز" في تل ابيب يطلب مقابلة وزير الثقافة ‪.‬‬ ‫الولد العربي ‪ :‬يريد ان يأكل‪.‬‬ ‫وزير الدفاع يهدد باالستقالة ‪.‬‬ ‫مدير المتحف يقول ‪ :‬لكنا في تل ابيب وجدناه ‪.‬‬ ‫ويرتدي االمريكي بنطلونه ‪.‬‬ ‫صاحب كاسيت كافيه لزوجته ‪ ":‬اذا استمر الكساد يحسب بي اغالق المحل"‪.‬‬ ‫االمين العام لالمم المتحدة يجتمع بممثل اسرائيل مجددا‪.‬‬ ‫لغط خارج المبنى‬ ‫عميد الجامعة العبرية لعالم اللغة ‪ :‬حتى اذا خرجت عن طورك ‪..‬كلمني بالعبرية‪.‬‬ ‫ثم ان المسألة قد خرجت من يدي او يديك‪.‬‬ ‫"تغيرات متوقعة في حزب الماباي"‬ ‫اعتقال بروفسور كرونين ‪ :‬الرجل الذي صنع (اشاعة) انقراض الجنس العربي‪.‬‬


‫بيان‬ ‫بأمر وزير الدفاع‬ ‫(يمنع منعا باتا التنقيب عن النماذج األثرية او تداولها والمخالف يعرض نفسه‬ ‫ألقصى العقوبات)‬ ‫يفتح االمريكي أزرار بنطلونه ‪.‬‬ ‫وعلى متحف اسرائيل في اورشليم علقت الفتة ‪:‬‬ ‫(مغلق حتى اشعار آخر)‬ ‫**‬ ‫اخترقت السيارة البيضاء صفين من الخضرة النامية بين مربعات االسفلت ‪ .‬تنفرج‬ ‫البوابة الحديدية على مصراعيها ‪.‬‬ ‫وعلى الدرجات يقف بضعة رجال وامرأة واحدة ‪ .‬بسمات سعيدة هادئة ‪.‬‬ ‫تقترب السيارة ‪ .‬يفتح الباب راكبها الذي يحمل حقيبة مطبوع عليها شعار االمم‬ ‫المتحدة ‪ .‬يلتقي بالمستقبلين وسط الطريق ‪ .‬يصافح الجميع بحرارة ‪.‬‬ ‫‬‫‬‫‬‫‬‫‪-‬‬

‫آسف لهذا االزعاج‬ ‫ابدا ‪ ..‬على الرحب والسعة ‪ .‬بل علينا ان نعتذر ‪.‬‬ ‫‪...‬؟‬ ‫اليوم السبت وال نستطيع ان نفعل شيئا ‪.‬‬ ‫أوه ‪..‬كنت آمل ان تنتهي مهمتي بأسرع وقت ‪.‬‬

‫"آه" ‪ ..‬همس وهو يرمي بجسده على مقعد السيارة الفارهة مرة اخرى " أني ‪..‬‬ ‫متعب"‬ ‫**‬


‫ينحني موظف الهوتيل وبسمة ترف على شفتيه ‪ .‬يدخل الضيف جناحه الفخم ‪..‬‬ ‫جدران ملونة وفي كل زاوية آنية ورد ‪ .‬مجالت مختارة ‪ ..‬جهاز تلفزيون ‪ ..‬ثالثة‬ ‫انواع من الشراب المحلي ‪ .‬تنهد الضيف " ما أحلى الراحة بعد يوم عناء"‪.‬‬ ‫فتح باب الشرفة ومال على سورها ‪.‬‬ ‫اورشليم المآذن والزيتون والتماع القباب تحت الشمس ‪ .‬ابتسم ابتسامة ماكرة‬ ‫اليعرفها غيره ‪ .‬تقدم نحو السرير ‪ .‬رمى نفسه عليه "ليأت الطوفان ‪ ..‬اني سعيد؟‬ ‫**‬ ‫يفسح الناس الطريق ‪:‬‬ ‫(متحف رقم ‪)2‬‬ ‫يدخل الضيف يتبعه مدير المتحف‪.‬‬ ‫القاعة باردة ‪ ..‬نفحة من رائحة غامضة ‪ .‬أرض المعة ‪ ،‬صامتة ‪ ..‬صناديق‬ ‫زجاجية ‪ ..‬صامتة ورائحة ما ‪.‬‬ ‫قطع بيضاء تصرخ (انسان نياندرتال) بثالث لغات ‪ ..‬جمجمة متآكلة ‪ .‬عظام‬ ‫سوداء يغصب سرها الضوء ‪ ،‬يقف عندها الزمن ‪.‬‬ ‫نهاية القاعة‬ ‫تلقي عن ظهرك عبء ست ماليين سنة ‪..‬‬ ‫صندوق زجاجي عريض ‪..‬خيمة نصف محترقة ‪ . .‬يطل منها تمثال امرأة سمراء ‪.‬‬ ‫على الوجه تجاعيد وبسمة رضى ‪ .‬يجلس في زاوية من الصندوق رجل يعتمر‬ ‫كوفية وعقال يتفرج على الضيف خارج الزجاج ‪ ،‬يضع امامخ طاسة فخارية‬ ‫تحوي شيئا أبيض ‪ ..‬قد يكون لبن البعير البارك في الجهة االخرى ‪ ،‬وخطمه بيد‬ ‫ولد صغير مفاجأ في حالة لعب أزلية‪.‬‬


‫التفت مدير المتحف ‪:‬‬ ‫ شيء متواضع من متحف الشمع ‪.‬‬‫ ولكن ‪ ..‬رائع !‬‫ وكما ترى ياسيدي ‪..‬‬‫ أي فن !‬‫ كانت اشاعة !‬‫وكان وجه الصغير ازرق مجعدا في دهشته ‪.‬‬ ‫ يكاد ينطق بالحياة !‬‫مدير المتحف يغض الطرف بحياء ‪.‬‬ ‫‪+++‬‬

‫نشرت في مجموعة (حدوة حصان) الصادرة في بغداد ‪ 1974‬وضمت الى‬ ‫مجموعة األعمال الكاملة (كتاب المغامرات) الجزء األول – ‪2016‬‬


‫العودة الى بيته ‪..‬‬ ‫بقلم‪ :‬بثينة الناصري‬ ‫حين أتذكر الفرح الذي كنت احسه وأنا اغادر (المركاز هاكليتا) (‪ )1‬حامال اسما جديدا ومفتاح‬ ‫بيت وحقيبة صغيرة ‪ ،‬تتبعني يائيل (امرأتي) موردة الخدين ‪ ،‬التفت اليها فأرى اللهفة في‬ ‫وجهها تغطي تعب تلك السنوات ‪.‬‬ ‫كنت ادعك في كفي خريطة المدينة ‪ .‬اقف بين حين وآخر ‪ ..‬اضع الحقيبة على االرض وأفتح‬ ‫الخريطة ‪.‬‬ ‫تأتي يائيل قربي‪ .‬هذا شارع بن يهودا ‪ .‬من هنا شارع فرعي ‪ .‬لم نخطيء اذن ‪ .‬وأطوي‬ ‫الخريطة‪.‬‬ ‫اخيرا بيتنا !‬‫حين اتذكر لحظة وقوفنا مسمرين أمام الباب الخشبية المقوسة والشعور الذي لم نكن نستطيع‬ ‫ان نفصح عنه ‪ .‬ال اصدق ان ذلك حدث لي – انا دان بن شمت مهندس مدني ومواطن‬ ‫اسرائيلي – بل لشخص آخر ال أعرفه‪ .‬ربما يكون اسمه كارل وربما يكون مهاجرا من ألمانيا ‪.‬‬ ‫كان المفتاح الذي أخفوه بحرص تحت ثيابي مسودا من القدم ‪ .‬حملته خائفا الى الباب‪.‬‬ ‫**‬ ‫انفتح الباب على ممر مظلم يفوح برائحة غامضة ‪ .‬سرنا متوجسين وهبطنا بضع درجات الى‬ ‫باحة تحيط بها ابواب مغلقة‪ .‬طافت برأسي حكايات الجن والبيوت المسكونة ‪ .‬ارتخت ركبتاي‬ ‫وجلست على الدكة فيما ركضت يائيل نحو االبواب‪ .‬وقبل ان انتبه كانت قد دفعتها جميا‪.‬‬ ‫لم يكن خلفها سوى فراغات مظلمة ‪ .‬كان البيت خاليا ‪.‬‬ ‫رمت يائيل ذراعيها حولي وهي تهتف ‪:‬‬


‫بيتنا !‬‫وبعد ان هدأت مشاعر الفرح والمفاجأة ‪ ،‬استطعت ان ألم شتات نفسي وانظر حولي – بعين‬ ‫مهندس – كان البيت مغرقا في شرقيته‪.‬‬ ‫ولكن لو وضعنا سورا من الحديد المزخرف حول الباحة ‪ .‬نقطع التينة المزروعة في الوسط ‪.‬‬ ‫نوسع المطبخ ‪ .‬ستارة هنا ‪ .‬اصيص لنبات صناعي هناك ‪ .‬كان كل شيء سيمر على مايرام‬ ‫لو لم أسمع ومامضى اسبوع واحد ‪ ،‬صوت يائيل يناديني من غرفة الجلوس ‪.‬‬ ‫ كارل ‪..‬اسرع‬‫فحدست أن في االمر شيئا ‪ ،‬اذ كانت يائيل قد تعلمت طوال ستة اشهر قضيناها في المركاز‬ ‫هاكليتا ان تنسى اسمي القديم‪.‬‬ ‫هتفت حين رأتني وهي تشير الى احد الجدران‪:‬‬ ‫انظر ماذا وجدت !‬‫قربت عيني من الحائط ‪ .‬كان منقوشا برسوم وخربشات محفورة باصرار وقوة ‪.‬‬ ‫سألتها ‪:‬‬ ‫ كيف لم نرها من قبل ؟‬‫ كان بعضه مخفيا بظهر االريكة‪.‬‬‫وجه مدور لطفلة تسبح ظفيرتاها ويداها ورجالها في الفضاء ‪ .‬كتابة عربية ايضا ‪ .‬شجرة ما‬ ‫‪ .‬جذورها اطول من اغصانها ‪ ،‬واسهم معوجة واشارات ‪ ..‬وكتابة عربية ايضا ‪.‬‬ ‫**‬ ‫في البار القريب رآني جاري أضم الى صدري علبة الطالء ‪ ،‬فحمل كأسه واقترب مني وسألني‬ ‫مشيرا الى العلبة ولما حكيت له القصة قال انه اضطر الى لصق بوسترات دعاية على حيطان‬ ‫بيته ‪.‬‬ ‫‪ -‬فكرة رائعة ‪ .‬ولكن الرسوم عندي في مكان اليصلح لتعليق بوستر‪.‬‬


‫وانهمكنا ذلك المساء في طالء الحائط ‪ .‬كان السائل االزرق يغرق في الشقوق المحفورة‬ ‫عميقا‪.‬‬ ‫تأملت عملي من بعيد لما انتهيت ثم ناولت يائيل العلبة والفرشاة ‪:‬‬ ‫ مارأيك ؟‬‫ردت مرتابة ‪:‬‬ ‫ البأس !‬‫ انتظري حتى تجف ‪.‬‬‫وفي اليوم التالي حين بدت الرسوم اكثر وضوحا ونظافة ‪ ،‬قالت يائيل ‪:‬‬ ‫ ال ادري ‪ ..‬ولكن يبدو لي ان فكرة البوسترات أحسن وأرخص‪.‬‬‫قلت باصرار ‪ :‬نضع طبقة اخرى من الطالء ‪.‬‬ ‫**‬ ‫بوستر جنب بوستر ‪( ..‬تعال الى اسرائيل ‪ ..‬ارض االحالم) ‪( ..‬تطوع في جيش الدفاع‬ ‫االسرائيلي ) ‪( ..‬تريد مزيدا من السعادة ؟اشرب براندي )‬ ‫ ايفا !‬‫صرخت وأنا اخلع بنطلوني في غرفة النوم ‪.‬‬ ‫جاءني صوتها ممتعضا ‪:‬‬ ‫ اسمي يائيل ‪.‬‬‫ يائيل تعالي ‪ .‬في غرفة النوم ايضا ‪ ..‬طائرات وصواريخ هذه المرة‪.‬‬‫هرعت الي ‪:‬‬ ‫ اين ؟‬‫اشرت الى الجدار ‪ ..‬طائرات قتال وشموس وكتابات وانقاض ‪.‬‬ ‫تهاوت ذراعاها بيأس ‪:‬‬ ‫‪ -‬آه ‪ ..‬المخرب !‬


‫حلمت تلك الليلة ان غرفة النوم صارت ساحة حرب ‪ .‬كنت اختبيء خلف الستارة ارقب فزعا‬ ‫طائرات ورقية تلقي قنابل حارقة بين السرير واالرض ‪ .‬لم تكن يائيل معي لكن صراخها كان‬ ‫يمألني رعبا ‪.‬‬ ‫وفجأة ‪..‬اتجهت احدى الطائرات نحوي ‪ .‬انقضت سريعا على الستارة ‪ .‬كان ذيلها الورقي يهتز‬ ‫بعنف ‪ .‬اندلعت النار بالستارة فركضت قافزا بين الحفر وانقاض السرير‪.‬‬ ‫وجدت زوجتي مطروحة على االرض ‪ .‬الطائرة تزوم خلفي ‪ .‬لم يكن عندي وقت النقاذ يائيل ‪.‬‬ ‫خرجت من الغرفة باقصى سرعة ‪ .‬أدخل دهليزا طويال مظلما يمأله هدير طائرات ضخمة ‪.‬‬ ‫اركض حتى اهلك ‪ .‬اتكيء على الجدران فتغرق اصابعي في اخاديد محفورة كتابات وخرابيش‪.‬‬ ‫أخيرا ‪...‬‬ ‫يلوح بصيص ضوء من كوة بعيدة ‪ .‬اتحامل على نفسي نحوه‪ ..‬قبل أن ‪ ..‬اصله ‪ ..‬رأيت ما‬ ‫جمد الدم في عروقي ‪.‬‬ ‫ال ادري لم فزعت مع انه كان ‪ ..‬مجرد غالم صغير ‪ ،‬خبيث العينين ‪ ،‬ينظر الي ويبتسم‬ ‫ابتسامة غامضة ‪.‬‬ ‫كان يهبط ببطء ‪.‬‬ ‫ظل يهبط ‪..‬‬ ‫حانت التفاتة مني الى يديه ‪ .‬كان يشد حول اصابعه خيوط طائرات ورقية‪.‬‬ ‫أطلقت صرخة رن لها الدهليز ورجعت على عقبي سريعا ‪.‬‬ ‫أحسه ورائي يسرع الخطى‪..‬‬ ‫أقع ‪ ..‬انهض ‪ ..‬اركض ‪ ..‬اتعثر ‪..‬‬ ‫انه خلفي تماما ‪..‬‬ ‫اسمعه يتنفس ‪..‬‬


‫يغمى علي !‬ ‫‬‫‬‫‬‫‪-‬‬

‫انت تهذي !‬ ‫ال ‪ ..‬يائيل ‪ ..‬ال ‪ ..‬هل تسمعين ؟ انصتي ! خطوات خفيفة على السلم ‪.‬‬ ‫ال اسمع شيئا ‪.‬‬ ‫ها ! انها تقترب ‪..‬يائيل ‪ ..‬تقترب‪.‬‬

‫تصعد السلم ‪..‬‬ ‫تهبط السلم‬ ‫تقترب ‪ ..‬تصل ‪.‬‬ ‫ثم حفيف طائرات ورقية يجول في غرفة النوم ‪ ..‬ولكن أسوأها ‪ ..‬كان صرير قلم خشبي يحفر‬ ‫في الحيطان صورا وكتابة ‪ ،‬فقد كنت اسمعه في كل االوقات ‪ .‬في اي مكان من البيت ‪ ..‬حتى‬ ‫سمعته يائيل ايضا ‪ .‬ولم نجد ايما فائدة في صم آذاننا ‪ ،‬لذا تعلمنا الكالم صراخا لنغطي على‬ ‫ضجة اصرير ‪ .‬وأخذنا نقرأ الشعر والمنشورات بأعلى صوت‪.‬‬ ‫لكننا في آخر الليل كنا نحشو آذاننا قطنا وندفن رأسينا بين المخدة والغطاء ‪ .‬والصرير يعلو ‪..‬‬ ‫يعلو ‪ ..‬يعلو ‪..‬‬ ‫‬‫‬‫‬‫‪-‬‬

‫دان ‪ ..‬دعنا نغادر البيت ‪.‬‬ ‫إش ش ‪ ..‬اخفضي صوتك !!‬ ‫دعنا نغادر يا دان‪.‬‬ ‫ولكن هذه خيانة ‪ .‬تذكري دان بن اموتز (‪ )2‬سأفقد عملي وربما ماهو اسوأ ‪.‬‬

‫**‬ ‫ولكني كنت سأفقد عملي على اية حال ‪ .‬فقد جاءني رئيس القسم اليوم ووضع ذراعه على‬ ‫كتفي وقال ‪:‬‬ ‫ دان ‪ ..‬لماذا ال تحاول أخذ اجازة ؟‬‫ وماذا افعل بها ؟‬‫ واضح انك في حاجة اليها ‪ .‬عملك لم يعد كما كان والتصاميم التي كنت تبدعها ‪..‬‬‫صارت ‪ ..‬ماذا اقول ؟ اشبه بخربشات اطفال ‪ .‬بل اني انصحك ان ترى طبيبا ‪ .‬يا دان‬ ‫بن شمت ‪ ..‬ان واجبك كمواطن في الدولة االسرائيلية ان تحافظ على نفسك ‪ ..‬لن‬ ‫نسمح أن نفقد رجال صالحا قبل الحرب ‪.‬‬


‫أخذت االجازة ‪ ..‬حسنا ‪ ..‬لعلهم يحسبونني مجنوناا ؟ اسمع اشياء ال وجود لها ؟‬ ‫ولكن يائيل تسمع ايضا ‪ .‬لم ا قل لهم ذلك طبعا واسنحبت اجر كبريائي‪.‬‬ ‫على اية حال ‪ ..‬فعلت ما يجب على كل اسرائيلي مخلص ان يفعله ‪ ..‬ذهبت مع يائيل الى‬ ‫الطبيب‪.‬‬ ‫وفي جلسات متعاقبة ‪ ..‬روينا ذكريات الطفولة هناك في كولون ‪ ..‬المشاكل الصغيرة ‪ .‬االحالم‬ ‫‪ ..‬الكوابيس ‪.‬‬ ‫أعطانا حبوبا مهدئة وقال انها مشكلة التاقلم في محيط جديد ‪ ،‬كما اكد لنا ان كل البيوت‬ ‫القديمة تحدث مثل هذه االصوات الغامضة ‪ ..‬وانه حتى في بيته يسمع احيانا ‪..‬‬ ‫**‬ ‫قالت ايفا حين خرجنا من عنده آخر مرة ‪:‬‬ ‫ كارل ‪ ..‬دعنا نتمشى قليال ‪ .‬ال اريد العودة الى ذلك البيت االن ‪.‬‬‫‬‫ دخلنا حديقة صغيرة ‪ .‬انفلت عنها ‪.‬‬‫ اين ذهبت ياكارل ‪.‬‬‫عدت اليها ‪:‬‬ ‫ كنت ابحث عن رودة ‪ ..‬آسف ياعزيزتي ‪ .‬لم اجد واحدة ‪ .‬هل تذكرين اول يوم رأيتك‬‫فيه ؟‬ ‫ ال بأس ‪ ..‬يكفي انك فكرت في ذلك ‪ ..‬كانت زنقبة بيضاء والحارس هل تذكره ؟ أوه يا‬‫كارل ‪..‬‬ ‫ كيف تجرؤ ياسيد ان تقطف زهرة ؟‬‫ضحكت ايفا ضحكة خجولة لم اسمعها من زمن بعيد ‪.‬‬ ‫ قلت له ‪ :‬انظر ياسيدي الحارس ‪ .‬اما تستأهل حبيبتي ايفا زنبقة صغيرة ؟‬‫التصقت بي ايفا ‪:‬‬


‫ ونظر اليك بجد وقال ‪ :‬بل باقة ورد !‬‫عادت ايفا تضحك فضممتها قائال ‪:‬‬ ‫ احب ان أراك تضحكين ‪.‬‬‫ لكني كنت خائفة حقا ‪ ..‬اعني ذلك اليوم ‪..‬‬‫جلنا في الحديقة صامتين ‪ .‬ثم قالت ايفا ‪:‬‬ ‫ الشك ان فراو شنايدر قد رجعت من ا لسوق االن ‪.‬‬‫ أوه ايفا ‪ ..‬ما الذي ذكرك بها ؟‬‫ كان هذا وقت رجوعنا من السوق ‪ .‬اتمنى االن لو كنت كتبت لها كما وعدتها ‪ .‬اذكر‬‫لحظة الوداع‪ .‬كانت واقفة على العبة يحيط بها ترودي وماكس ‪.‬‬ ‫ضحكت حين تراءى لي وجه ماكس الشقي الذي لم نعرف لون عينيه اذ كان شعره االشقر‬ ‫يغطيها ابدا ‪.‬‬ ‫ كانت تضم الى صدرها كلبنا فيكي وآخر ماقالته "سأسقي الورد دائما وال تشغلي بالك‬‫من ناحية فيكي " هل ترى ياكارل ؟ قالتها وكأننا سنرجع يوما ‪.‬‬ ‫امسكت ذراعها وقلت بحزم ‪:‬‬ ‫‬‫‪-‬‬

‫‬‫‬‫‬‫‪-‬‬

‫يجب اال نفكر بهذا الشكل ‪ .‬وحسنا فعلت انك لم تكتبي لها ‪ .‬اننا نبدأ من جديد ‪.‬‬ ‫لكني ال استطيع ياكارل ‪ .‬لم اقل لك من قبل ‪ ..‬لكني اشتاق كثيرا ‪ ..‬اشتاق اليهم جميعا ‪.‬‬ ‫ترودي ‪..‬ماكس ‪ ..‬غوستاف القصاب ‪ ،‬موزع الحليب ‪ ،‬ساعي البريد ‪ ،‬فيكي ‪ ،‬حتى قبر‬ ‫أمي ‪ ..‬واسفلت الشارع والبيت الذي نستطيع ان ندعوه بيتنا ‪ ..‬الورق االصفر الذي‬ ‫يغطي جدرانه ‪..‬‬ ‫كفى !‬ ‫حتى جرس الباب والمرآة الصغيرة التي كنت ارى فيها نفسي قبل ان افتح الباب ‪.‬‬ ‫كفى !‬ ‫كان بيتنا ‪ .‬لماذا ال نستطيع ان نعود ؟‬

‫صفعتها بقوة ‪:‬‬ ‫‪ -‬يائيل اخرسي ‪..‬دعينا نرجع الى البيت ‪.‬‬


‫ ذلك البيت !‬‫قالتها بحقد ‪.‬‬ ‫**‬ ‫انفتح الباب على الممر المظلم ‪ ..‬فسرنا متوجسين ‪ .‬كان البيت هادئا على غير العادة ‪.‬‬ ‫انتظرنا ‪..‬‬ ‫لكن الصمت كان ثقيال هذه المرة ‪.‬‬ ‫تبادلنا النظرات ‪ ..‬وابتسمنا بارتباك ‪.‬‬ ‫ثم ذهبت يائيل الى المطبخ لتعد طعام العشاء فيما جلست في الصالة اقرأ بصمت كتابا ‪ .‬لم‬ ‫اشعر بالحاجة الى القراءة صراخا فقد كان كل شيء حولي ساكنا ‪.‬‬ ‫سمعت يائيل تدندن بصوت حذر ‪.‬‬ ‫اقترب صوتها ودخلت الغرفة حاملة شرائح اللحم البارد وقطع خبز وقدحي نبيذ ‪.‬‬ ‫جلسنا متقابلين ‪ ،‬والول مرة احسست بالراحة وكأني ازحت ثقال كنت احمله ‪.‬‬ ‫هتفت يائيل ضاحكم ‪:‬‬ ‫‬‫‬‫‬‫‬‫‬‫‬‫‪-‬‬

‫آسفة على مابدر مني في الطريق ‪ .‬كنت سخيفة ‪.‬‬ ‫ال عليك ‪ ..‬ماذا سماه الطبيب ؟ صعوبة التأقلم في محيط جديد ؟‬ ‫أعدك ان أبذل كل جهدي ‪ ..‬أني ال أسمع شيئا االن ‪.‬‬ ‫وال أنا !‬ ‫اني سعيدة يا كارل ‪.‬‬ ‫دان !‬ ‫يالغبائي ‪ ..‬آسفة ‪ ..‬دان !‬

‫رفعنا كأسينا ‪:‬‬ ‫ في صحتنا ‪.‬‬‫لكن يد يائيل توقفت في منتصف الطريق الى فمها ونظرت خلف ظهري جازعة ‪..‬‬ ‫‪ -‬كارل ‪ ..‬أني ارى ‪..‬‬


‫وسقط الكأس من يدها ‪..‬‬ ‫التفت سريعا الى حيث اشارت ‪..‬‬ ‫ومنذ تلك اللحظة لم نعد نسمع شيئا ‪..‬‬ ‫بدأنا نرى ‪!...‬‬ ‫‪++‬‬ ‫(‪) 1‬‬

‫المركاز هاكليتا‪ :‬مراكز االستقبال التي يقيم فيها المهاجرون الجدد الى فلسطين‬ ‫المحتلة حيث يتعلمون فيها اللغة العبرية وشيئا من تاريخ وجغرافية المكان‪.‬‬

‫(‪) 2‬‬

‫دان بن إموتز – كاتب مسرحي يساري (اسرائيلي) أثار ضجة حين راح يبحث‬ ‫عن الفلسطيني صاحب البيت الذي يسكنه فلما وجده سلمه مفتاح البيت قائال له‬ ‫انه طوال سكنه في البيت لم يشعر انه (بيته) وهو القائل "على كل يهودي أن‬ ‫يترك البالد لتبقى غولدا (مائير) لتطفىء الشمعة األخيرة" ومن هذه الواقعة‬ ‫استوحيت هذه القصة‪.‬‬

‫كتبت في كانون الثاني‪/‬يناير ‪1975‬‬ ‫نشرت في مجموعة (موت إله البحر) – القاهرة – ‪ 1977‬وضمت في مجموعة االعمال‬ ‫القصصية الكاملة (كتاب المغامرات) الجزء االول الصادر ‪ .2016‬ترجمت من قبل المترجم‬ ‫المعروف دنيس جونسون ديفز ونشرت في المختارات التي ترجمها لي ونشرتها دار النشر‬ ‫في الجامعة االمريكية في القاهرة في ‪ 2001‬بعنوان (‪ )Final Night‬ثم ترجمت الى‬ ‫اإليطالية وصدرت في ميالنو ‪ 2003‬ضمن مختاراتي ‪Notte Finale‬‬


‫أبناء الوكالة‬ ‫بقلم‪ :‬بثينة الناصري‬ ‫(مهداة الى ابناء وكاالت الغوث من البشر سكان الخيام في كافة انحاء العالم‪ .‬مع أن هذه‬ ‫القصة ال تقتصر على أهل المخيمات من الفلسطينيين ولكني استلهمتها من أوضاعهم)‬ ‫‪++‬‬ ‫كلت قدما الرجل الضئيل جيئة وذهابا وهو يحمل قدرا كبيرة فارغة ‪ ..‬كان ينقرها بين حين‬ ‫يشب على قدميه يحاول ان يستطلع الشارع فيما وراء باب المخيم‬ ‫وآخر تعبيرا عن قلقه ‪ .‬ثم‬ ‫ّ‬ ‫‪ .‬داخل الخيمة القريبة ترقد زوجته تحتضن وليدها الثالث الذي ولدته ليلة البارحة ‪ ،‬وقد‬ ‫دخلي عليها قبل قليل فوجدها محمومة ‪ ،‬لكنه خشي ان يفارق مكانه إلحضار طبيب المخيم‬ ‫لئال تفوته سيارة الوكالة التي تأخرت عن موعدها شهرا كامال واتفى بأ‪ ،‬دلق شيئا من الماء‬ ‫على وجه زوجته وربّت على كتفها وخرج يتخذ مكانه خارج الخيمة ‪ .‬ومن حيث يقف كان‬ ‫يرى نساء واطفال ورجال المخيم يحملون قدورا وأكياسا من القماش يدورون حول انفسهم‬ ‫وحول بعضهم متحفزين لالنقضاض‪.‬‬ ‫التقت عيناه بعين جارته وكانت تربض على حجر قرب باب خيمتها ‪ ،‬فرفعت يدها تحييه ثم‬ ‫وقفت وبدا عليها التردد ‪ ،‬لكنها حسنت امرها وتقدمت منه وهي تضع قدرا مقلوبة على‬ ‫رأسها وبادرته‪:‬‬ ‫ كيف حال زوجتك ؟‬‫ مريضة وهللا ‪.‬‬‫تركت المرأة القدر على االرض وأحنت رأسها وهي تدخل ثم خرجت بعد لحظات قائلة ‪:‬‬ ‫ البد ان يراها الطبيب‪.‬‬‫‪ -‬ولكني كما ترين مشغول‬


‫ ابعث احد ولديك ‪.‬‬‫تلفت الرجل حوله وقال يائسا ‪:‬‬ ‫ ال أجد أحدا منهما ‪.‬‬‫قالت المرأة وهي تلتقط قدرها ‪:‬‬ ‫ البد انهما انضما الى االوالد االخرين الذين ينتظرون السيارة على باب المخيم ‪.‬‬‫ لقد تأخرت كثيرا ‪ .‬أتظنين انها لن تأتي هذه المرة ايضا ؟‬‫وضعت المرأة القدر على رأسها وتخصرت وهي تقول ‪:‬‬ ‫ هذه المرة ايضا ؟ وهل يتركوننا جوعى ؟ على اية حال سمعت ان القتال توقف‬‫والطريق مفتوح ‪.‬‬ ‫ثم اردفت وهي تمضي ‪:‬‬ ‫ التحمل هما ‪ ..‬سوف آتي ألجلس مع زوجتك بعد ان نأخذ الحصة ان شاء هللا ‪.‬‬‫وقبل ان تصل الى خيمتها التقطت أذناها ضجيجا وهتافا عند باب المخيم فالتفتت الى‬ ‫الرجل وصاحت وهي تجري "جاء الفرج" ‪.‬‬ ‫انطلق الرجل في أثرها واختلط بجموع الراكضين الذين أحاطوا سيارة نقل مغطاة أخذت‬ ‫تشق طريقها بصعوبة وسط الناس في حين تسلق مؤخرتها عشرات االوالد‪.‬‬ ‫داخل السيارة تكومت تالل بيضاء من أكياس الدقيق مطبوع عليها باللون االزرق حروف‬ ‫اسم وكالة الغوث ‪ .‬تالل امتطاها الصبيان وأخذ بعضهم يعالج االكياس باسنانه علّه يفتح‬ ‫فيها ثغرة ‪ .‬وفيما هم يكافحون لحفظ توازنهم فوق أكوام الدقيق أحسوا بلسع عصي‬ ‫صغيرة يحملها رجال الوكالة وقد تمكنوا اخيرا من صعود مؤخرة السيارة ‪ .‬وسرعان‬ ‫ماكان االوالد يتساقطون خارجها مثل اذباب بين سيقان الجمع الغفير الذي ترتفع منه‬ ‫غابات من أياد نافذة الصبر تلوح بقدور مسودة الحواف وأكياس منورق وقماش ‪.‬‬ ‫تدحرج صبي على الرجل الصغير فزحزحه عن مكانه فما كان من الرجل اال ان أمسك به‬ ‫من كتفه وركله بكل قوته فانحنى الولد صارخا ثم التفت الى الرجل وهجم عليه بيدين‬ ‫مضمومتين يضربه في بطنه وفخذيه والرجل يصفعه على وجهه وصدغيه حتى سمع‬ ‫شهقة من الصبي وهو يهتف ‪:‬‬ ‫‪ -‬هذا أنا يا أبي‪.‬‬


‫توقف الرجل ونظر بحدة في وجه الولد وقد بي ّ‬ ‫ضه الدقيق الذي تمرغ فيه منذ قليل ‪ ،‬وصاح‬ ‫بغضب ‪:‬‬ ‫ اذهب الى الخيمة ‪ ..‬لعنة هللا عليك ‪.‬‬‫قام الولد وهو يضع يده في جيبه ويخرجها بحفنة دقيق يضعها بسرعة في القدر التي‬ ‫يحملها أبوه ثم يرشق يده مرة اخرى في جيب آخر ويغرف حفنة ثانية ولكن قبل ان يرميها‬ ‫في القدر اهتزت يده بضربة مفاجئة فتناثر الدقيق على االرض ‪ ..‬كانت جارتهم تقف متنمرة‬ ‫بعد ان ل ّ‬ ‫بتشف للرجل ‪:‬‬ ‫طت يده وقال‬ ‫ّ‬ ‫ هذا فعلك اذن لتحصل على أكثر من حصتك ؟‬‫نقل الرجل عينيه مبهوتا بين الدقيق المختلط بالتراب ووجه المرأة فغلى دمه ‪ ،‬رمى القدر‬ ‫على االرض ودفع المرأة بكل قوته وفيما هي تتهاوى على الجمع المتدافع خلفها‪ ،‬أمسك بها‬ ‫الرجل مرة اخرى فأطاح بغطاء رأسها فصرخت المرأة وأشرعت يديها لتمسك بتالبيبه‬ ‫ولكنها في تلك اللحظة سمعت انطالق صفارة قصيرة وصوت حاد يقول بحزم "صف "‪.‬‬ ‫أشار رجال الوكالة بعصيهم القصيرة ‪ :‬قفوا صفا منتظما‬ ‫أحكمت المرأة غطاء رأسها والتقط الرجل الضئيل قدره من االرض وأسرع يتخذ مكانه في‬ ‫الصف وراءها ‪.‬‬ ‫واحد وراء واحد ‪ ..‬تعثر الرجال خلف بعضهم ‪ ..‬نقلت النساء ثقل اجسادهن من قدم الى‬ ‫اخرى‬ ‫التمعت الشمس على وجوه الصغار وهم يقفون بصبر اعتادوا عليه ‪ .‬تصبب العرق من‬ ‫االصداغ وسال حتى اآلباط والظهور ‪ .‬واحد وراء واحد ‪.‬‬ ‫صف طويل حلزوني ‪ ..‬يتحرك ببطء ‪ ..‬يقف هنيهة ‪ ..‬ترتفع القدور وتهبط ‪ ..‬ينتظر ‪..‬‬ ‫يتحرك ‪ ..‬يقف ‪ ..‬ترتفع القدور وتهبط ‪ ..‬صف طويل حلزوني ‪.‬‬ ‫تتوسط الشمس السماء ‪ ..‬يتحرك الصف ببطء ‪ ..‬يقف ‪ ..‬ينتظر ‪ ..‬ترتفع القدور وتهبط ‪..‬‬ ‫تغرب الشمس على صف طويل حلزوني من بشر يزحف ‪ ..‬يقف ‪ ..‬ينتظر ‪.‬‬ ‫‪++‬‬


‫نشرت القصة في مجموعة (وطن آخر) الصادرة في القاهرة ‪ 1994‬وضمنت في مجموعة‬ ‫االعمال الكاملة (كتاب المغامرات) الجزء األول ‪2016 -‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ح‬ ‫ت‬ ‫ج‬ ‫ي‬ ‫ارة ت‬ ‫بقلم‪ :‬بثينة الناصري‬

‫الحجارة‬ ‫كانت حجارة بناء قديمة حوافها مكسرة‪ ،‬مسودة الجوانب وكانت قد رأت اياما أفضل منذ ان‬ ‫وضعت أول مرة في الزاوية اليمنى ليرتكز عليها شباك ذلك البيت الجديد‪ ،‬منذ سنوات غائرة‬ ‫في القدم‪ .‬الشباك يطل على زيتونة وارفة تصطفق بأغصانها رياح تشرين وصدى صوت‬ ‫(أبي خليل) وهو يشتغل بهمة‪:‬‬ ‫ابني يابنّا‬ ‫وعلّي البنيان‬ ‫وتستاهل يابنّا‬ ‫بدلة من الشام‬ ‫والعمال يهزجون وراءه‪.‬‬ ‫بعد االنتهاء من بناء البيت‪ ،‬سكنته الصبية الجميلة وزوجها‪ .‬وكانا في امسيات الصيف‬ ‫الرقيقة يجلسان في الشباك يطالن على الحقل وياما استمعت الحجارة الى صوت االحالم‬ ‫واالماني‪ .‬كانت الشمس إذا غربت تشع نورا أحمر يلتمع على أوراق الزيتونة البرية وينعكس‬ ‫على الحجارة مثل وهج النار‪ .‬وفي يوم اطلت الصبية من الشباك تنتظر عودة زوجها من‬ ‫الحقل ولكن طال انتظارها‪ .‬ثم عرفت انه لن يأتي‪ .‬بل جاءت المدافع واحترقت الزيتونة واقفة‬ ‫‪ ،‬وطار الشباك وتدحرجت الحجارة الى األرض مكسرة في شظايا‪.‬‬


‫ولكن لم يمض وقت طويل حتى التقطها رجل جاء في ظلمة الليل‪ ،‬واحتمى في ظل الحائط‬ ‫المهدم‪ .‬جمع حطبا من اغصان الزيتونة اليابسة وحوطها باالحجار واشعل نارا تدفئه ريثما‬ ‫ينظف بندقيته وهو يترنم بصوت خافت‪:‬‬ ‫ابني يابنّا وعلّي البنيان‪.‬‬ ‫‪++‬‬

‫الدخيل‬ ‫عندما ارتفعت الحجارة بيد الولد الفلسطيني‪ ،‬ادرك رامون ليبوفيتش على الجانب اآلخر انه‬ ‫على وشك االنتهاء من مهمته‪ .‬كان ورفيقه يحتميان بإحدى عربات الدورية التي تحيط‬ ‫بالمخيم‪ .‬لم يكن الجو في برودة شتاء موطنه األصلي الذي هاجر منه منذ ثالث سنوات‪ ،‬ولكن‬ ‫رامون احس بقشعريرة تعتري جسده وهو يثبت البندقية اآللية على حافة العربة‪.‬‬ ‫بعد ان استطاع رامون ان يفلت من حصار وطنه‪ ،‬هاجر الى اسرائيل – حلمه البعيد – اما‬ ‫اوري ابن عمه فقد اتجه الى الواليات المتحدة ومن هناك ظل في باديء االمر يراسله داعيا‬ ‫اياه للحاق به ثم انقطعت الرسائل فترة طويلة واخيرا بعث يقول انه يعد العدة للعودة الى وطنه‬ ‫بولندة‪ .‬لم يكن ذلك الخبر مفاجئا له‪ ،‬فمنذ وطئت قدماه هذه االرض الغريبة واحساس قوي ال‬ ‫يفارقه بأنه لن يطيل المقام بها‪.‬‬ ‫تحركت عربات الدورية باتجاه المخيم‪ .‬الحظ رامون بامتعاض ومضة الترقب التي تلوح في‬ ‫عيني ديفد كصياد رصد طريدته‪ .‬كان ديفد أوفر حظا من رامون فقد استطاع بعد فترة قصيرة‬ ‫من انخراطه في الجيش ان يجد طريقة لتهريب وبيع سالح الجيش لليهود والعرب على‬ ‫السواء‪ .‬أما رامون فإنه لم يعرف مايفعله بعد الخروج من مركز االستيعاب اال ان يلتحق‬ ‫بالخدمة العسكرية حيث يجد المأوى واألكل واالفيون ايضا‪ .‬امسك بالبندقية بكل قوته وكأنه‬ ‫يستمد منها العزم وهو على اية حال لم يحس باالنتماء في هذه البالد اال لها‪ .‬وبعد شهر حين‬ ‫يتم تسريحه لن يستطيع اي يهودي ان ينكر انه أدى واجبه‪ ،‬وربما يشفع له ذلك عندما يتهيأ‬ ‫للرجوع الى وطنه او أي مكان آخر غير هذا الجحيم‪ .‬سدد البندقية الى الفلسطيني‪ ،‬في الوقت‬ ‫الذي انطلقت فيها الحجارة في الهواء‪ .‬حجارة مجبولة من تراب أحمر بلون الدم والنار‬ ‫واألحالم المتقدة ‪ ..‬تلوت في الفضاء مثل كرة من لهب‪ ،‬وانقضت على الهدف‪.‬‬ ‫كان آخر ماسمعه رامون رنين خوذته العسكرية لدى اصطدامها باألرض‪.‬‬ ‫‪++‬‬


‫‪ ‬نشرت القصة في مجموعة (يوميات الكوفي شوب وقصص أخرى) األلكترونية‬ ‫‪ 2016‬وضمنت في مجموعة االعمال الكاملة (كتاب المغامرات) الجزء الثاني‬ ‫‪2016‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.