القصص التي كتبتها من وحي النكبة الفلسطينية .أنشرها مجمعة هنا حسب التسلسل الزمني لكتابتها ونشرها. -1 -2 -3 -4 -5
سيناريو فيلم صامت تل أبيب 2024 العودة الى بيته أبناء الوكالة حجارة البيت
ن ف ل ص سيناريو م امت (هذا ليس سيناريو فيلم وإنما قصة قصيرة اقتبست شكل سيناريو لهذه التراجيديا التي طالت أكثر من الالزم). ++
يمأل الشاشة دخان كثيف .تهبط الكامرة على شجرة زيتون مشطورة وقد مس جزء منها األرض .تظهر فردة حذاء رجالي عتيقة ممزقة الحواف ملطخة بدم طازج. الكامرة تستعرض خياما هاوية ،محترقة ،يتصاعد منها دخان وغبار. حركة طفيفة خلف مزق خيمة. لقطة قريبة لوجه طفل يطل من الخيمة ،ينظر الى الكامرة دهشا ،في الثالثة من عمره ،عيناه سوداوان وشعره أسود مترب ،في وجهه األبيض بقع سود .يتلفت حوله ،يبدو عليه الفزع، يرد رأسه خلف الخيمة ،ولكنه بعد قليل يطل مرة أخرى. لقطة قريبة لوجه صغير يطل من الخيمة .ينظرة الى الكامرة بخطى متأرجحة .تتحرك شفتاه دون صوت "ماما ..ماما" تستعرض الكامرة أنقاض الخيام .األرض المحفرة .صوت الطفل (خارج الكادر) ماما ..ماما. خشيش النار يغطي على صوته. الكامرة تتابع ظهر الطفل وهو يتعثر بين الركام بحثا عن خيمته .يدور بعينه حوله ثم يكمد وجهه. لقطة لشجرة الزيتون المحترقة. (خارج الكادر) صوت الطفل ينفجر باكيا ،يتحول الى نشيج متقطع.
لقطة قريبة لوجه الطفل ،يسكت ويلتفت التفاتة حادة. الكامرة على كومة حجارة تتحرك تدخل الكادر يد الطفل ترفع الحجارة. لقطة لوجه الطفل المندى بالدموع ضاحكا. الكامرة على وجه قطة سوداء ينبثق من بين كومة الحجر .تذعر القطة .تموء .يضحك الطفل .تطفر القطة بعيدا ،يعدو خلفها .تتسلق الزيتونة .تنظر اليه مرتابة .يقعد على التراب يسند ظهره على الزيتونة .تشغل اهتمامه فردة حذاء ،يلتقطها. القطة في أعلى الشجرة تدفن لسانها في شعر ظهرها بطعنات متواترة .تتلفت حولها بحذر، ثم تثني مخلبيها األماميين تحت صدرها وتغفو. صوت طفيف غامض خارج الكادر .تنتبه القطة .يتسع بؤبؤا عينيها وتنظر الى األسفل. لقطة من األعلى .الطفل يضع قدمه في الحذاء ويدق به األرض مقلدا الكبار. ينطبق جفنا القطة مرة أخرى. الكامرة على الطفل .يتوقف .ينظر باتجاه الخيام "ماما؟ ماما؟" يجر قدما يثقلها الحذاء ،الى الشجرة .يجلس ساهما "ماما؟" يبدو عليه الغضب فجأة فيصرخ "ماما؟" تسيل دمعتان ويصيح بأعلى صوته "ماما!". تثب القطة من الشجرة .تقعي على مقربة منه ترقبه بعينين التطرفان .الطفل اليأبه لها. يضع وجهه على ركبتيه ويبكي .تدنو منه القطة .يبكي .تتسل اليه .يبكي .تمسح رأسها بقدمه .يرفع رأسه .تطفر بعيدا .تمسح ظهرها في جذع الشجرة مرارا ..جيئة وذهابا. يرقبها ضاحكا. صوت طائرة (خارج الكادر) يجفل الطفل .يرفع وجهه نحو السماء .تجفل القطة تخفض رأسها ،ترمي أذنيها الى الخلف، تتأهب. ++ لقطة من الطائرة الى األرض .تتأثر الكامرة بحركة الطائرة .األزيز يعلو.
صوت (خارج الكادر) شلوم .مازي()1؟ سيم ليف (.)2 تنحرف طائرة القتال الى اليسار. ++ لقطة للحذاء العتيق ينقذف بعيدا عن الشجرة ،تدخل الكادر القطة بقفزة واحدة .تنشب مخالبها في الحذاء .تحمله وتنقلب على ظهرها .يدنو منها الطفل حذرا ترمي الحذاء وتعتدل. تنظر للطفل نظرة لعوبا متوثبة .يهجم عليها .تروغ من يديه .تختفي تحت خيمة متهاوية. يدخل خلفها الطفل. لقطة من الطائرة .األرض ساكنة صامتة .تتصاعد خطوط خفيفة من الدخان .الطائرة تحوم فوق المنطقة .الشيء .وكان الطيار على وشك أن يقسم أنه شاهد شيئا يتحرك .على كل حال ،دورة أخرى وبيعود ميعات ايجمور)3( . ++ كركرت ضحكة الطفل وخرج من الخيمة يضم على صدره كرة الفرو السوداء .تمطت القطة بين يديه .شد عليها الخناق .لوت رأسها وعضت رسغه. ++ شنايم ( )4الطائرة تمأل الشاشة .لم يكن مخطئا إذن ..توف ميئود ( )5حدد الهدف تماما، وانحدرت الطائرة نحو الحركة وسط األنقاض. ++ آخ ..تركها تنزلق الى األرض .مسح موضع أسنانها على رسغه حتى انبجست نقط دم. غضب .نظر حوله فوجد فرع شجرة محترق .حمله وركض به نحوها .تقافزت القطة هنا صارا على أسنانه .تقلبت على ظهرها أمامه ثم مدت مخالبها تداعب وهناك .حام حولها ّ طرف العصا .لطمها على رأسها .ماءت واختفت تحت الخيمة .لبد على كومة الحجارة ينتظر. ++ لقطة من الجو للمخيم .الحركة ..الشيء ..عدا الدخان الذي بدأ يتبدد .سيم ليف! كمين مخربين والشك .مناورة هي إذن؟
++ لقطة متوسطة للطفل البدا على الحجارة .صوت أزيز الطائرة خارج الكادر .نظر الى السماء حائرا .تحركت شفتاه دون صوت "ماما؟ ماما؟" هز رأسه واخضلت أهدابه بالدموع .وقعت عيناه على العصا المتفحمة في يده .رماها وطفق يبكي بصوت عال .أزت الطائرة فوقه ،وظل يبكي .عال صوته. برز رأس أسود .و انسلت القطة الى جانبه .تمددت قرب قدميه .أزت الطائرة ،يمأل صوتها الفضاء. لقطة قريبة لحضن الطفل تحوطه ذراعاه المتصالبتان على ركبتيه ،ومؤخرة القطة وهي تدس جسمها بحذر وهدوء لتكمن فيه. يتحرك الطفل بأناة .تربض القطة في حضنه .يمسح رأسها مترفقا ثم ينظر شاردا حوله. لقطة استعراضية للخيام المقوضة ،تتوقف عينا الطفل عند خيمة يعرفها .ينهض ضاما القطة الى صدره ويتجه نحو الخيمة .يكاد يركض. ++ أتا مخان؟ مياد ()7تنقض الطائرة .لقطة من الجو للجسم الصغير المتحرك .بياض يضم سوادا ,.يركض ،تنحدر الطائرة ..تحدد الهدف ،توف ميئود .إضرب! صوت قاصف. ( )6
تخمد الحركة. لقطة طويلة على األبيض واألسود يغطيهما أحمر.
هوامش () 1 () 2 () 3 () 4
مازي :ماهذا؟ سيم ليف :انتبه وبيعود ميعات ايجمور :بعد قليل أنتهي شنايم :اثنان
() 5
توف ميئود .جيد جدا .عال.
() 6 () 7
أتا مخان :انت مستعد مياد :فورا.
+++ نشرت في مجموعة (حدوة حصان) الصادرة في بغداد 1974 وضمت الى مجموعة األعمال الكاملة (كتاب المغامرات) الجزء األول 2016 -
تل أبيت 2024 .. (توضيح البد منه :كتبت هذه القصة في آذار 1974ولهذا قدرت انها لن تحدث قبل نصف قرن بالتمام .وهي تصور محاوالت الكيان الصهيوني الفاشلة البادة الفلسطينيين مع تواطيء االمم المتحدة وصمت العرب .وهي قصة رمزية تستلهم اسلوب الفانتازيا ولكن مع حقائق المكان .سيجد العارفين بفلسطيني المحتلة ان اسماء المواقع والشوارع وحتى ارقام الحافالت حقيقيا .وقد استعنت بذلك بمصادر شتى .ولهذا اقول دائما ان اضفاء المصداقية على القصص يتطلب البحث الجاد والعمل المضني .فكتابة قصة ليست سهلة ابدا .ولعل رمز المتحف فيه الكثير من المفارقة ألن هذا الكيان المسخ يحاول ان يصنع له تاريخا ال وجود له). ** في وسط أورشليم الغربية .بين الكنيست ووادي الصليب والجامعة العبرية يقوم بناء حديث الطراز . كتل معمارية مكعبة ومستطيلة ودائرية ،باالبيض واالسود. "خذ الباص رقم 5او .. "16هنا تأريخ يوغل في القدم . قال السائح األمريكي شيئا .. ردت المرأة االسرائيلية الجديدة : -اذن متحف رقم 2
القاعة باردة ..نفحة من رائحة غامضة .أرض المعة ..صامتة .صناديق زجداجية ..صامتة ..ورائحة ما .قطع بيضاء تصرخ (انسان نياندرتال) بثالث لغات .جمجمة متآكلة .عظام سوداء يغصب سرها الضوء. يقف عندها الزمن . نهاية القاعة . تلقي عن ظهرك عبء ست ماليين سنة . تدلف الى اخرى .. صندوق زجاجي عريض ..خيمة نصف محترقة ،يطل منها تمثال امرأة سمراء ، على الوجه تجاعيد وبسمة رضى .يجلس في زاوية من الصندوق رجل يعتمر كوفية وعقال يتفرج على الناس خارج الزجاج . يضع امامخ طاسة فخارية تحوي شيئا أبيض ..قد يكون لبن البعير البارك في الجهة االخرى . لوحة بيضاء أنيقة ( االنسان العربي عاش في اسرائيل منذ ست آالف سنة .بدأ في االنقراض منذ عام ) 1948 جر ضابط انجليزي زوجته : ّ العرب . أوه ..وتدلهت بعشق العربي حالما رأته ..ساحت عيناها في انحاء جسمه ،عند ملتقى فخذيه .كان جلباب أسمر يغطيه ،وفارس الصحراء ثابت النظرات ..يكاد .. انجرت وراء زوجها : أليس فاتنا ؟(تعتبر هذه المعروضة من أنفس مقتنيات المتحف لندرة الحصول على النماذج في الوقت الحاضر )
قالت المرأة االسرائيلية الجديدة : هذي جوهرة المتحف . استطيع ان أرى ذلك . اقصد المعروضة يهمني التاريخ الحي ليس لي تاريخ بعد اصنع لك واحدا ؟وسارا نحو باب الخروج يضحكان . ** لم يكن شهر آذار خيرا فإلى جانب استمرار االمطار وقلة السواح ..حدث ذلك الشيء الذي هز العالم .
بدأ في عطفة من شارع دزنكوف في تل ابيب. يقال ان كل اسرائيلي – في وقت فراغه – منقب آثار هاو ،ويقال ايضا ان ليس ثمة شبر في اسرائيل لم يسكنه يوما االغريق او البيزنطيون او العرب او الصليبيون او االتراك .. وهكذا ما أن غادر شاؤول مخزن (بات آدم) بعد انتهاء العمل حتى تعثر بهذا االثر الفريد قرب (كافتريا فراك – 131شارع دزنكوف) .تلفت حوله .ال احد هناك . عاين االثر من كل وجوهه .قلب االمر في رأسه .تلفت حوله مرة اخرى .هز كتفيه وحمله الى (كاسيت كافيه) ملتقى االدباء والمفكرين والصعاليك . لغط وسحب دخان . يرتفع صوت ..يبدأ الشجار . يختفي "االثر " تحت منضدة .تلفت شاؤول المحاسب حوله وغادر المكان .
*** اشترى االمريكي نسخة من "جيروسليم بوست" كان العنوان اسود فاضحا : لغز يحير العلماء العثور على ولد عربي حي "في الساعة السابعة وخمس عشرة دقيقة من مساء االمس ،تم العثور على ولد عربي حي .وكان هذا الحدث مفاجأة للعلماء الذين اعلنوا سابقا انقراض الجنس العربي على ارض اسرائيل .وقد اودعت العينة مختبر الجامعة العبرية حيث تخضع عصر اليوم ألولى الفحوص المختبرية قبل تقرير مصيرها "... قطعت دار االذاعة برامجها : " سيداتي سادتي ..وصلنا االن هذا النبأ .نشرت جريدة جيروسليم بوست "... وفي المساء طارت برقية من رئيس دولة عربية الى االمين العام لالمم المتحدة . االمريكي يطرق باب التأريخ .. االمين العام لالمم المتحدة يدعو ممثل اسرائيل الى اجتماع عاجل .. قاعة رحبة مستديرة . كان طالب الجامعة وهواة االثار يزحمون المدرجات .وعلى المنصة كان علماء االثار والبايولوجي واالثنولوجي واللغة واالكولوجي يحيطون بالعينة الجالسة على منضدة . تقدم احدهم ..لحية سوداء مدببة ..قاس محيط الرأس وتمتم شيئا ،سجله مساعده . قاس الجبهة سجل مساعده
قاس المؤخرة سجل مساعده هيأ لغوي آلته وقربها من العينة . هز الرجل رأسه : غريبة ! أليست العربية ؟ نعم ..لكنها غريبة ..ال ا فهمها .واستمر االجتماع الى ساعة متأخرة . "ارسل لنا احد القراء ".. كتب محرر جريدة معاريف : "يقترح حال لمعضلة العلماء في تقدير عمر الولد العربي بقياس الكربون المشع . وال ندري ان كان القاريء الكريم – في اقتراحه – جادا ام هازال اذ ان هذه الوسيلة تستخدم في تحديد عمر المتحجرات فقط .فمن المعروف انه بعد الموت يختفي الكربون المشع الذي تحتويه الكائنات الحية ببطء شديد .وبقياس كمية الكربون المشع الذي تحتويه الحفرية يمكن تحديد عمرها" الولد ممدود على الطاولة .عالم بيولوجي يمد يده في فمه ..يفحص اسنانه ثم يجس عظامه ويبدو االرتياح على وجهه ويعود الى مكانه يكتب مالحظاته . الولد يشير الى فمه . يجفل اللغوي : يقول انه فقد النطق .لغط ..آهة ..نفاد صبر الولد يشير الى فمه
يشتمه اللغوي. يشير الى فمه يجلس اللغوي يائسا . الولد يشير الى فمه يريد ان يأكل !كان صوت صغير ينزوي بين قدمي أبيه .ومثل صفعة واحدة ادارت رؤوس العلماء نحو المنضدة يحملقون مدهوشين بالعينة التي تريد ان تأكل ! برقية اخرى . الكنيست :اجتماع فوق العادة مدير متحف اسرائيل في اورشليم يجتمع بنائب رئيس الوزراء الموقف يزداد سوءا في (كاسيت كافيه) بصق المثقفون آراءهم على االرض وفي الهواء وفي وجوه بعضهم . قال الوافد الجديد : اعتقل ! من ؟ من ؟ من ؟مدير االذاعة . كال ..رئيس تحرير جيروسليم بوست مدير االذاعة ايضاهمس متأدب :لماذا ؟ نظروا اليه باحتقار .
اذن المسألة جادة . طبعا ..لو لم تعبر الحدود لكانت ..أسهل . لكن ..من اوصل الخبر للجريدة ؟قال الجميع (لست أنا ) وتسللوا من الكافيه واحدا إثر آخر. الكنيست ينهي اجتماعه استقالة عالم بيولوجي من الجامعة العبرية االمريكي مشغول بصنع التاريخ . مدير متحف "هآريتز" في تل ابيب يطلب مقابلة وزير الثقافة . الولد العربي :يريد ان يأكل. وزير الدفاع يهدد باالستقالة . مدير المتحف يقول :لكنا في تل ابيب وجدناه . ويرتدي االمريكي بنطلونه . صاحب كاسيت كافيه لزوجته ":اذا استمر الكساد يحسب بي اغالق المحل". االمين العام لالمم المتحدة يجتمع بممثل اسرائيل مجددا. لغط خارج المبنى عميد الجامعة العبرية لعالم اللغة :حتى اذا خرجت عن طورك ..كلمني بالعبرية. ثم ان المسألة قد خرجت من يدي او يديك. "تغيرات متوقعة في حزب الماباي" اعتقال بروفسور كرونين :الرجل الذي صنع (اشاعة) انقراض الجنس العربي.
بيان بأمر وزير الدفاع (يمنع منعا باتا التنقيب عن النماذج األثرية او تداولها والمخالف يعرض نفسه ألقصى العقوبات) يفتح االمريكي أزرار بنطلونه . وعلى متحف اسرائيل في اورشليم علقت الفتة : (مغلق حتى اشعار آخر) ** اخترقت السيارة البيضاء صفين من الخضرة النامية بين مربعات االسفلت .تنفرج البوابة الحديدية على مصراعيها . وعلى الدرجات يقف بضعة رجال وامرأة واحدة .بسمات سعيدة هادئة . تقترب السيارة .يفتح الباب راكبها الذي يحمل حقيبة مطبوع عليها شعار االمم المتحدة .يلتقي بالمستقبلين وسط الطريق .يصافح الجميع بحرارة . -
آسف لهذا االزعاج ابدا ..على الرحب والسعة .بل علينا ان نعتذر . ...؟ اليوم السبت وال نستطيع ان نفعل شيئا . أوه ..كنت آمل ان تنتهي مهمتي بأسرع وقت .
"آه" ..همس وهو يرمي بجسده على مقعد السيارة الفارهة مرة اخرى " أني .. متعب" **
ينحني موظف الهوتيل وبسمة ترف على شفتيه .يدخل الضيف جناحه الفخم .. جدران ملونة وفي كل زاوية آنية ورد .مجالت مختارة ..جهاز تلفزيون ..ثالثة انواع من الشراب المحلي .تنهد الضيف " ما أحلى الراحة بعد يوم عناء". فتح باب الشرفة ومال على سورها . اورشليم المآذن والزيتون والتماع القباب تحت الشمس .ابتسم ابتسامة ماكرة اليعرفها غيره .تقدم نحو السرير .رمى نفسه عليه "ليأت الطوفان ..اني سعيد؟ ** يفسح الناس الطريق : (متحف رقم )2 يدخل الضيف يتبعه مدير المتحف. القاعة باردة ..نفحة من رائحة غامضة .أرض المعة ،صامتة ..صناديق زجاجية ..صامتة ورائحة ما . قطع بيضاء تصرخ (انسان نياندرتال) بثالث لغات ..جمجمة متآكلة .عظام سوداء يغصب سرها الضوء ،يقف عندها الزمن . نهاية القاعة تلقي عن ظهرك عبء ست ماليين سنة .. صندوق زجاجي عريض ..خيمة نصف محترقة . .يطل منها تمثال امرأة سمراء . على الوجه تجاعيد وبسمة رضى .يجلس في زاوية من الصندوق رجل يعتمر كوفية وعقال يتفرج على الضيف خارج الزجاج ،يضع امامخ طاسة فخارية تحوي شيئا أبيض ..قد يكون لبن البعير البارك في الجهة االخرى ،وخطمه بيد ولد صغير مفاجأ في حالة لعب أزلية.
التفت مدير المتحف : شيء متواضع من متحف الشمع . ولكن ..رائع ! وكما ترى ياسيدي .. أي فن ! كانت اشاعة !وكان وجه الصغير ازرق مجعدا في دهشته . يكاد ينطق بالحياة !مدير المتحف يغض الطرف بحياء . +++
نشرت في مجموعة (حدوة حصان) الصادرة في بغداد 1974وضمت الى مجموعة األعمال الكاملة (كتاب المغامرات) الجزء األول – 2016
العودة الى بيته .. بقلم :بثينة الناصري حين أتذكر الفرح الذي كنت احسه وأنا اغادر (المركاز هاكليتا) ( )1حامال اسما جديدا ومفتاح بيت وحقيبة صغيرة ،تتبعني يائيل (امرأتي) موردة الخدين ،التفت اليها فأرى اللهفة في وجهها تغطي تعب تلك السنوات . كنت ادعك في كفي خريطة المدينة .اقف بين حين وآخر ..اضع الحقيبة على االرض وأفتح الخريطة . تأتي يائيل قربي .هذا شارع بن يهودا .من هنا شارع فرعي .لم نخطيء اذن .وأطوي الخريطة. اخيرا بيتنا !حين اتذكر لحظة وقوفنا مسمرين أمام الباب الخشبية المقوسة والشعور الذي لم نكن نستطيع ان نفصح عنه .ال اصدق ان ذلك حدث لي – انا دان بن شمت مهندس مدني ومواطن اسرائيلي – بل لشخص آخر ال أعرفه .ربما يكون اسمه كارل وربما يكون مهاجرا من ألمانيا . كان المفتاح الذي أخفوه بحرص تحت ثيابي مسودا من القدم .حملته خائفا الى الباب. ** انفتح الباب على ممر مظلم يفوح برائحة غامضة .سرنا متوجسين وهبطنا بضع درجات الى باحة تحيط بها ابواب مغلقة .طافت برأسي حكايات الجن والبيوت المسكونة .ارتخت ركبتاي وجلست على الدكة فيما ركضت يائيل نحو االبواب .وقبل ان انتبه كانت قد دفعتها جميا. لم يكن خلفها سوى فراغات مظلمة .كان البيت خاليا . رمت يائيل ذراعيها حولي وهي تهتف :
بيتنا !وبعد ان هدأت مشاعر الفرح والمفاجأة ،استطعت ان ألم شتات نفسي وانظر حولي – بعين مهندس – كان البيت مغرقا في شرقيته. ولكن لو وضعنا سورا من الحديد المزخرف حول الباحة .نقطع التينة المزروعة في الوسط . نوسع المطبخ .ستارة هنا .اصيص لنبات صناعي هناك .كان كل شيء سيمر على مايرام لو لم أسمع ومامضى اسبوع واحد ،صوت يائيل يناديني من غرفة الجلوس . كارل ..اسرعفحدست أن في االمر شيئا ،اذ كانت يائيل قد تعلمت طوال ستة اشهر قضيناها في المركاز هاكليتا ان تنسى اسمي القديم. هتفت حين رأتني وهي تشير الى احد الجدران: انظر ماذا وجدت !قربت عيني من الحائط .كان منقوشا برسوم وخربشات محفورة باصرار وقوة . سألتها : كيف لم نرها من قبل ؟ كان بعضه مخفيا بظهر االريكة.وجه مدور لطفلة تسبح ظفيرتاها ويداها ورجالها في الفضاء .كتابة عربية ايضا .شجرة ما .جذورها اطول من اغصانها ،واسهم معوجة واشارات ..وكتابة عربية ايضا . ** في البار القريب رآني جاري أضم الى صدري علبة الطالء ،فحمل كأسه واقترب مني وسألني مشيرا الى العلبة ولما حكيت له القصة قال انه اضطر الى لصق بوسترات دعاية على حيطان بيته . -فكرة رائعة .ولكن الرسوم عندي في مكان اليصلح لتعليق بوستر.
وانهمكنا ذلك المساء في طالء الحائط .كان السائل االزرق يغرق في الشقوق المحفورة عميقا. تأملت عملي من بعيد لما انتهيت ثم ناولت يائيل العلبة والفرشاة : مارأيك ؟ردت مرتابة : البأس ! انتظري حتى تجف .وفي اليوم التالي حين بدت الرسوم اكثر وضوحا ونظافة ،قالت يائيل : ال ادري ..ولكن يبدو لي ان فكرة البوسترات أحسن وأرخص.قلت باصرار :نضع طبقة اخرى من الطالء . ** بوستر جنب بوستر ( ..تعال الى اسرائيل ..ارض االحالم) ( ..تطوع في جيش الدفاع االسرائيلي ) ( ..تريد مزيدا من السعادة ؟اشرب براندي ) ايفا !صرخت وأنا اخلع بنطلوني في غرفة النوم . جاءني صوتها ممتعضا : اسمي يائيل . يائيل تعالي .في غرفة النوم ايضا ..طائرات وصواريخ هذه المرة.هرعت الي : اين ؟اشرت الى الجدار ..طائرات قتال وشموس وكتابات وانقاض . تهاوت ذراعاها بيأس : -آه ..المخرب !
حلمت تلك الليلة ان غرفة النوم صارت ساحة حرب .كنت اختبيء خلف الستارة ارقب فزعا طائرات ورقية تلقي قنابل حارقة بين السرير واالرض .لم تكن يائيل معي لكن صراخها كان يمألني رعبا . وفجأة ..اتجهت احدى الطائرات نحوي .انقضت سريعا على الستارة .كان ذيلها الورقي يهتز بعنف .اندلعت النار بالستارة فركضت قافزا بين الحفر وانقاض السرير. وجدت زوجتي مطروحة على االرض .الطائرة تزوم خلفي .لم يكن عندي وقت النقاذ يائيل . خرجت من الغرفة باقصى سرعة .أدخل دهليزا طويال مظلما يمأله هدير طائرات ضخمة . اركض حتى اهلك .اتكيء على الجدران فتغرق اصابعي في اخاديد محفورة كتابات وخرابيش. أخيرا ... يلوح بصيص ضوء من كوة بعيدة .اتحامل على نفسي نحوه ..قبل أن ..اصله ..رأيت ما جمد الدم في عروقي . ال ادري لم فزعت مع انه كان ..مجرد غالم صغير ،خبيث العينين ،ينظر الي ويبتسم ابتسامة غامضة . كان يهبط ببطء . ظل يهبط .. حانت التفاتة مني الى يديه .كان يشد حول اصابعه خيوط طائرات ورقية. أطلقت صرخة رن لها الدهليز ورجعت على عقبي سريعا . أحسه ورائي يسرع الخطى.. أقع ..انهض ..اركض ..اتعثر .. انه خلفي تماما .. اسمعه يتنفس ..
يغمى علي ! -
انت تهذي ! ال ..يائيل ..ال ..هل تسمعين ؟ انصتي ! خطوات خفيفة على السلم . ال اسمع شيئا . ها ! انها تقترب ..يائيل ..تقترب.
تصعد السلم .. تهبط السلم تقترب ..تصل . ثم حفيف طائرات ورقية يجول في غرفة النوم ..ولكن أسوأها ..كان صرير قلم خشبي يحفر في الحيطان صورا وكتابة ،فقد كنت اسمعه في كل االوقات .في اي مكان من البيت ..حتى سمعته يائيل ايضا .ولم نجد ايما فائدة في صم آذاننا ،لذا تعلمنا الكالم صراخا لنغطي على ضجة اصرير .وأخذنا نقرأ الشعر والمنشورات بأعلى صوت. لكننا في آخر الليل كنا نحشو آذاننا قطنا وندفن رأسينا بين المخدة والغطاء .والصرير يعلو .. يعلو ..يعلو .. -
دان ..دعنا نغادر البيت . إش ش ..اخفضي صوتك !! دعنا نغادر يا دان. ولكن هذه خيانة .تذكري دان بن اموتز ( )2سأفقد عملي وربما ماهو اسوأ .
** ولكني كنت سأفقد عملي على اية حال .فقد جاءني رئيس القسم اليوم ووضع ذراعه على كتفي وقال : دان ..لماذا ال تحاول أخذ اجازة ؟ وماذا افعل بها ؟ واضح انك في حاجة اليها .عملك لم يعد كما كان والتصاميم التي كنت تبدعها ..صارت ..ماذا اقول ؟ اشبه بخربشات اطفال .بل اني انصحك ان ترى طبيبا .يا دان بن شمت ..ان واجبك كمواطن في الدولة االسرائيلية ان تحافظ على نفسك ..لن نسمح أن نفقد رجال صالحا قبل الحرب .
أخذت االجازة ..حسنا ..لعلهم يحسبونني مجنوناا ؟ اسمع اشياء ال وجود لها ؟ ولكن يائيل تسمع ايضا .لم ا قل لهم ذلك طبعا واسنحبت اجر كبريائي. على اية حال ..فعلت ما يجب على كل اسرائيلي مخلص ان يفعله ..ذهبت مع يائيل الى الطبيب. وفي جلسات متعاقبة ..روينا ذكريات الطفولة هناك في كولون ..المشاكل الصغيرة .االحالم ..الكوابيس . أعطانا حبوبا مهدئة وقال انها مشكلة التاقلم في محيط جديد ،كما اكد لنا ان كل البيوت القديمة تحدث مثل هذه االصوات الغامضة ..وانه حتى في بيته يسمع احيانا .. ** قالت ايفا حين خرجنا من عنده آخر مرة : كارل ..دعنا نتمشى قليال .ال اريد العودة الى ذلك البيت االن . دخلنا حديقة صغيرة .انفلت عنها . اين ذهبت ياكارل .عدت اليها : كنت ابحث عن رودة ..آسف ياعزيزتي .لم اجد واحدة .هل تذكرين اول يوم رأيتكفيه ؟ ال بأس ..يكفي انك فكرت في ذلك ..كانت زنقبة بيضاء والحارس هل تذكره ؟ أوه ياكارل .. كيف تجرؤ ياسيد ان تقطف زهرة ؟ضحكت ايفا ضحكة خجولة لم اسمعها من زمن بعيد . قلت له :انظر ياسيدي الحارس .اما تستأهل حبيبتي ايفا زنبقة صغيرة ؟التصقت بي ايفا :
ونظر اليك بجد وقال :بل باقة ورد !عادت ايفا تضحك فضممتها قائال : احب ان أراك تضحكين . لكني كنت خائفة حقا ..اعني ذلك اليوم ..جلنا في الحديقة صامتين .ثم قالت ايفا : الشك ان فراو شنايدر قد رجعت من ا لسوق االن . أوه ايفا ..ما الذي ذكرك بها ؟ كان هذا وقت رجوعنا من السوق .اتمنى االن لو كنت كتبت لها كما وعدتها .اذكرلحظة الوداع .كانت واقفة على العبة يحيط بها ترودي وماكس . ضحكت حين تراءى لي وجه ماكس الشقي الذي لم نعرف لون عينيه اذ كان شعره االشقر يغطيها ابدا . كانت تضم الى صدرها كلبنا فيكي وآخر ماقالته "سأسقي الورد دائما وال تشغلي بالكمن ناحية فيكي " هل ترى ياكارل ؟ قالتها وكأننا سنرجع يوما . امسكت ذراعها وقلت بحزم : -
-
يجب اال نفكر بهذا الشكل .وحسنا فعلت انك لم تكتبي لها .اننا نبدأ من جديد . لكني ال استطيع ياكارل .لم اقل لك من قبل ..لكني اشتاق كثيرا ..اشتاق اليهم جميعا . ترودي ..ماكس ..غوستاف القصاب ،موزع الحليب ،ساعي البريد ،فيكي ،حتى قبر أمي ..واسفلت الشارع والبيت الذي نستطيع ان ندعوه بيتنا ..الورق االصفر الذي يغطي جدرانه .. كفى ! حتى جرس الباب والمرآة الصغيرة التي كنت ارى فيها نفسي قبل ان افتح الباب . كفى ! كان بيتنا .لماذا ال نستطيع ان نعود ؟
صفعتها بقوة : -يائيل اخرسي ..دعينا نرجع الى البيت .
ذلك البيت !قالتها بحقد . ** انفتح الباب على الممر المظلم ..فسرنا متوجسين .كان البيت هادئا على غير العادة . انتظرنا .. لكن الصمت كان ثقيال هذه المرة . تبادلنا النظرات ..وابتسمنا بارتباك . ثم ذهبت يائيل الى المطبخ لتعد طعام العشاء فيما جلست في الصالة اقرأ بصمت كتابا .لم اشعر بالحاجة الى القراءة صراخا فقد كان كل شيء حولي ساكنا . سمعت يائيل تدندن بصوت حذر . اقترب صوتها ودخلت الغرفة حاملة شرائح اللحم البارد وقطع خبز وقدحي نبيذ . جلسنا متقابلين ،والول مرة احسست بالراحة وكأني ازحت ثقال كنت احمله . هتفت يائيل ضاحكم : -
آسفة على مابدر مني في الطريق .كنت سخيفة . ال عليك ..ماذا سماه الطبيب ؟ صعوبة التأقلم في محيط جديد ؟ أعدك ان أبذل كل جهدي ..أني ال أسمع شيئا االن . وال أنا ! اني سعيدة يا كارل . دان ! يالغبائي ..آسفة ..دان !
رفعنا كأسينا : في صحتنا .لكن يد يائيل توقفت في منتصف الطريق الى فمها ونظرت خلف ظهري جازعة .. -كارل ..أني ارى ..
وسقط الكأس من يدها .. التفت سريعا الى حيث اشارت .. ومنذ تلك اللحظة لم نعد نسمع شيئا .. بدأنا نرى !... ++ () 1
المركاز هاكليتا :مراكز االستقبال التي يقيم فيها المهاجرون الجدد الى فلسطين المحتلة حيث يتعلمون فيها اللغة العبرية وشيئا من تاريخ وجغرافية المكان.
() 2
دان بن إموتز – كاتب مسرحي يساري (اسرائيلي) أثار ضجة حين راح يبحث عن الفلسطيني صاحب البيت الذي يسكنه فلما وجده سلمه مفتاح البيت قائال له انه طوال سكنه في البيت لم يشعر انه (بيته) وهو القائل "على كل يهودي أن يترك البالد لتبقى غولدا (مائير) لتطفىء الشمعة األخيرة" ومن هذه الواقعة استوحيت هذه القصة.
كتبت في كانون الثاني/يناير 1975 نشرت في مجموعة (موت إله البحر) – القاهرة – 1977وضمت في مجموعة االعمال القصصية الكاملة (كتاب المغامرات) الجزء االول الصادر .2016ترجمت من قبل المترجم المعروف دنيس جونسون ديفز ونشرت في المختارات التي ترجمها لي ونشرتها دار النشر في الجامعة االمريكية في القاهرة في 2001بعنوان ( )Final Nightثم ترجمت الى اإليطالية وصدرت في ميالنو 2003ضمن مختاراتي Notte Finale
أبناء الوكالة بقلم :بثينة الناصري (مهداة الى ابناء وكاالت الغوث من البشر سكان الخيام في كافة انحاء العالم .مع أن هذه القصة ال تقتصر على أهل المخيمات من الفلسطينيين ولكني استلهمتها من أوضاعهم) ++ كلت قدما الرجل الضئيل جيئة وذهابا وهو يحمل قدرا كبيرة فارغة ..كان ينقرها بين حين يشب على قدميه يحاول ان يستطلع الشارع فيما وراء باب المخيم وآخر تعبيرا عن قلقه .ثم ّ .داخل الخيمة القريبة ترقد زوجته تحتضن وليدها الثالث الذي ولدته ليلة البارحة ،وقد دخلي عليها قبل قليل فوجدها محمومة ،لكنه خشي ان يفارق مكانه إلحضار طبيب المخيم لئال تفوته سيارة الوكالة التي تأخرت عن موعدها شهرا كامال واتفى بأ ،دلق شيئا من الماء على وجه زوجته وربّت على كتفها وخرج يتخذ مكانه خارج الخيمة .ومن حيث يقف كان يرى نساء واطفال ورجال المخيم يحملون قدورا وأكياسا من القماش يدورون حول انفسهم وحول بعضهم متحفزين لالنقضاض. التقت عيناه بعين جارته وكانت تربض على حجر قرب باب خيمتها ،فرفعت يدها تحييه ثم وقفت وبدا عليها التردد ،لكنها حسنت امرها وتقدمت منه وهي تضع قدرا مقلوبة على رأسها وبادرته: كيف حال زوجتك ؟ مريضة وهللا .تركت المرأة القدر على االرض وأحنت رأسها وهي تدخل ثم خرجت بعد لحظات قائلة : البد ان يراها الطبيب. -ولكني كما ترين مشغول
ابعث احد ولديك .تلفت الرجل حوله وقال يائسا : ال أجد أحدا منهما .قالت المرأة وهي تلتقط قدرها : البد انهما انضما الى االوالد االخرين الذين ينتظرون السيارة على باب المخيم . لقد تأخرت كثيرا .أتظنين انها لن تأتي هذه المرة ايضا ؟وضعت المرأة القدر على رأسها وتخصرت وهي تقول : هذه المرة ايضا ؟ وهل يتركوننا جوعى ؟ على اية حال سمعت ان القتال توقفوالطريق مفتوح . ثم اردفت وهي تمضي : التحمل هما ..سوف آتي ألجلس مع زوجتك بعد ان نأخذ الحصة ان شاء هللا .وقبل ان تصل الى خيمتها التقطت أذناها ضجيجا وهتافا عند باب المخيم فالتفتت الى الرجل وصاحت وهي تجري "جاء الفرج" . انطلق الرجل في أثرها واختلط بجموع الراكضين الذين أحاطوا سيارة نقل مغطاة أخذت تشق طريقها بصعوبة وسط الناس في حين تسلق مؤخرتها عشرات االوالد. داخل السيارة تكومت تالل بيضاء من أكياس الدقيق مطبوع عليها باللون االزرق حروف اسم وكالة الغوث .تالل امتطاها الصبيان وأخذ بعضهم يعالج االكياس باسنانه علّه يفتح فيها ثغرة .وفيما هم يكافحون لحفظ توازنهم فوق أكوام الدقيق أحسوا بلسع عصي صغيرة يحملها رجال الوكالة وقد تمكنوا اخيرا من صعود مؤخرة السيارة .وسرعان ماكان االوالد يتساقطون خارجها مثل اذباب بين سيقان الجمع الغفير الذي ترتفع منه غابات من أياد نافذة الصبر تلوح بقدور مسودة الحواف وأكياس منورق وقماش . تدحرج صبي على الرجل الصغير فزحزحه عن مكانه فما كان من الرجل اال ان أمسك به من كتفه وركله بكل قوته فانحنى الولد صارخا ثم التفت الى الرجل وهجم عليه بيدين مضمومتين يضربه في بطنه وفخذيه والرجل يصفعه على وجهه وصدغيه حتى سمع شهقة من الصبي وهو يهتف : -هذا أنا يا أبي.
توقف الرجل ونظر بحدة في وجه الولد وقد بي ّ ضه الدقيق الذي تمرغ فيه منذ قليل ،وصاح بغضب : اذهب الى الخيمة ..لعنة هللا عليك .قام الولد وهو يضع يده في جيبه ويخرجها بحفنة دقيق يضعها بسرعة في القدر التي يحملها أبوه ثم يرشق يده مرة اخرى في جيب آخر ويغرف حفنة ثانية ولكن قبل ان يرميها في القدر اهتزت يده بضربة مفاجئة فتناثر الدقيق على االرض ..كانت جارتهم تقف متنمرة بعد ان ل ّ بتشف للرجل : طت يده وقال ّ هذا فعلك اذن لتحصل على أكثر من حصتك ؟نقل الرجل عينيه مبهوتا بين الدقيق المختلط بالتراب ووجه المرأة فغلى دمه ،رمى القدر على االرض ودفع المرأة بكل قوته وفيما هي تتهاوى على الجمع المتدافع خلفها ،أمسك بها الرجل مرة اخرى فأطاح بغطاء رأسها فصرخت المرأة وأشرعت يديها لتمسك بتالبيبه ولكنها في تلك اللحظة سمعت انطالق صفارة قصيرة وصوت حاد يقول بحزم "صف ". أشار رجال الوكالة بعصيهم القصيرة :قفوا صفا منتظما أحكمت المرأة غطاء رأسها والتقط الرجل الضئيل قدره من االرض وأسرع يتخذ مكانه في الصف وراءها . واحد وراء واحد ..تعثر الرجال خلف بعضهم ..نقلت النساء ثقل اجسادهن من قدم الى اخرى التمعت الشمس على وجوه الصغار وهم يقفون بصبر اعتادوا عليه .تصبب العرق من االصداغ وسال حتى اآلباط والظهور .واحد وراء واحد . صف طويل حلزوني ..يتحرك ببطء ..يقف هنيهة ..ترتفع القدور وتهبط ..ينتظر .. يتحرك ..يقف ..ترتفع القدور وتهبط ..صف طويل حلزوني . تتوسط الشمس السماء ..يتحرك الصف ببطء ..يقف ..ينتظر ..ترتفع القدور وتهبط .. تغرب الشمس على صف طويل حلزوني من بشر يزحف ..يقف ..ينتظر . ++
نشرت القصة في مجموعة (وطن آخر) الصادرة في القاهرة 1994وضمنت في مجموعة االعمال الكاملة (كتاب المغامرات) الجزء األول 2016 -
ل ا ح ت ج ي ارة ت بقلم :بثينة الناصري
الحجارة كانت حجارة بناء قديمة حوافها مكسرة ،مسودة الجوانب وكانت قد رأت اياما أفضل منذ ان وضعت أول مرة في الزاوية اليمنى ليرتكز عليها شباك ذلك البيت الجديد ،منذ سنوات غائرة في القدم .الشباك يطل على زيتونة وارفة تصطفق بأغصانها رياح تشرين وصدى صوت (أبي خليل) وهو يشتغل بهمة: ابني يابنّا وعلّي البنيان وتستاهل يابنّا بدلة من الشام والعمال يهزجون وراءه. بعد االنتهاء من بناء البيت ،سكنته الصبية الجميلة وزوجها .وكانا في امسيات الصيف الرقيقة يجلسان في الشباك يطالن على الحقل وياما استمعت الحجارة الى صوت االحالم واالماني .كانت الشمس إذا غربت تشع نورا أحمر يلتمع على أوراق الزيتونة البرية وينعكس على الحجارة مثل وهج النار .وفي يوم اطلت الصبية من الشباك تنتظر عودة زوجها من الحقل ولكن طال انتظارها .ثم عرفت انه لن يأتي .بل جاءت المدافع واحترقت الزيتونة واقفة ،وطار الشباك وتدحرجت الحجارة الى األرض مكسرة في شظايا.
ولكن لم يمض وقت طويل حتى التقطها رجل جاء في ظلمة الليل ،واحتمى في ظل الحائط المهدم .جمع حطبا من اغصان الزيتونة اليابسة وحوطها باالحجار واشعل نارا تدفئه ريثما ينظف بندقيته وهو يترنم بصوت خافت: ابني يابنّا وعلّي البنيان. ++
الدخيل عندما ارتفعت الحجارة بيد الولد الفلسطيني ،ادرك رامون ليبوفيتش على الجانب اآلخر انه على وشك االنتهاء من مهمته .كان ورفيقه يحتميان بإحدى عربات الدورية التي تحيط بالمخيم .لم يكن الجو في برودة شتاء موطنه األصلي الذي هاجر منه منذ ثالث سنوات ،ولكن رامون احس بقشعريرة تعتري جسده وهو يثبت البندقية اآللية على حافة العربة. بعد ان استطاع رامون ان يفلت من حصار وطنه ،هاجر الى اسرائيل – حلمه البعيد – اما اوري ابن عمه فقد اتجه الى الواليات المتحدة ومن هناك ظل في باديء االمر يراسله داعيا اياه للحاق به ثم انقطعت الرسائل فترة طويلة واخيرا بعث يقول انه يعد العدة للعودة الى وطنه بولندة .لم يكن ذلك الخبر مفاجئا له ،فمنذ وطئت قدماه هذه االرض الغريبة واحساس قوي ال يفارقه بأنه لن يطيل المقام بها. تحركت عربات الدورية باتجاه المخيم .الحظ رامون بامتعاض ومضة الترقب التي تلوح في عيني ديفد كصياد رصد طريدته .كان ديفد أوفر حظا من رامون فقد استطاع بعد فترة قصيرة من انخراطه في الجيش ان يجد طريقة لتهريب وبيع سالح الجيش لليهود والعرب على السواء .أما رامون فإنه لم يعرف مايفعله بعد الخروج من مركز االستيعاب اال ان يلتحق بالخدمة العسكرية حيث يجد المأوى واألكل واالفيون ايضا .امسك بالبندقية بكل قوته وكأنه يستمد منها العزم وهو على اية حال لم يحس باالنتماء في هذه البالد اال لها .وبعد شهر حين يتم تسريحه لن يستطيع اي يهودي ان ينكر انه أدى واجبه ،وربما يشفع له ذلك عندما يتهيأ للرجوع الى وطنه او أي مكان آخر غير هذا الجحيم .سدد البندقية الى الفلسطيني ،في الوقت الذي انطلقت فيها الحجارة في الهواء .حجارة مجبولة من تراب أحمر بلون الدم والنار واألحالم المتقدة ..تلوت في الفضاء مثل كرة من لهب ،وانقضت على الهدف. كان آخر ماسمعه رامون رنين خوذته العسكرية لدى اصطدامها باألرض. ++
نشرت القصة في مجموعة (يوميات الكوفي شوب وقصص أخرى) األلكترونية 2016وضمنت في مجموعة االعمال الكاملة (كتاب المغامرات) الجزء الثاني 2016