Ro2a 29 017

Page 1

‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ن تَ‬ ‫ربية املُستقبل‬ ‫الشرط‬ ‫فهم‬ ‫اإلنساني‪ :‬رها ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬

‫*‬

‫‪124‬‬

‫إدغار موران‪ ،‬ترجمة‪ :‬عزيز مشواط‬ ‫يجب على كل تربية وتعليم يبغيان امتالك صالحيتهما مستقبالً‪ ،‬جتاوز التجزيء املؤذي‪ ،‬والتأسيس لفعل بديل ينبني على ضرورة االعتراف‬ ‫بالطابع املركب لإلنسان»‪ .‬تلك هي اخلالصة التي ينتهي إليها عالم االجتماع واإلبستمولوجي الفرنسي املرموق إدغار موران في هذا الفصل‬ ‫الثالث من كتابه املوسوم بـ»املعارف السبعة الضرورية لتعليم املستقبل»‪.‬‬ ‫يقدم املعالم الكبرى للمشروع التربوي الذي يدافع عنه إدغار موران‪ ،‬منذ سنوات‪ ،‬استناد ًا إلى نتائج وتراكمات‬ ‫وتأتي فائدة الكتاب من كونه ِّ‬ ‫تداخل املستويات‬ ‫يحكم‬ ‫الذي‬ ‫التعقيد‬ ‫مستوى‬ ‫في‬ ‫والقرار‬ ‫الفهم‬ ‫فيه‬ ‫يكون‬ ‫أفضل‪،‬‬ ‫مستقبل‬ ‫أجل‬ ‫من‬ ‫والنضال‬ ‫مسار طويل في البحث والتفكير‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫واملرجعيات واآلفاق‪.‬‬ ‫الكتاب برمته ال يشذ عن املنهج التي يعكف موران على تطويره منذ منتصف سبعينيات القرن املنصرم‪ ،‬إذ ينتهي استناد ًا إلى رؤية عبرمناهجية‬ ‫(‪ )transdisciplinaire‬إلى استخالص سبعة مبادئ رئيسية لكل تربية مستقبلية‪ ،‬قادته إلى تقسيم الكتاب إلى سبعة فصول‪( :‬عماء املعرفة‪:‬‬ ‫اخلطأ والوهم‪ ،‬تعليم الهوية األرضية‪ ،‬أخالق الكائن اإلنساني‪ ،‬مبادئ املعرفة املركبة‪ ،‬تعليم الشرط اإلنساني‪ ،‬في مواجهة الاليقني‪ ،‬تعليم‬ ‫الفهم)‪.‬‬ ‫قدم للكتاب فريديريكو مايور املدير السابق ملنظمة األمم املتحدة للتربية والثقافة والعلوم قائ ً‬ ‫ال “إن التزام مفكر من قبيل موران وحكمته يحظيان‬ ‫لدينا بأهمية قصوى‪ ،‬إن أفكاره تساعد اليونسكو على املساعدة في إحداث التغييرات العميقة واألساسية من أجل اإلعداد ملستقبل أفضل”‪.‬‬ ‫اخلالصات التي انتهى إليها موران في هذا العمل تشكل عصارة أفكاره التربوية‪ ،‬ألنها أتت في سياق مشروع اليونسكو املتعدد التخصصات‪،‬‬ ‫الذي رفع شعار “تعليم من أجل تنمية مستدامة”‪ .‬إنها تأمالت طالب “مايور” شخصي ًا من موران صياغتها‪ ،‬لالستئناس بها في سياق النقاش‬ ‫العاملي حول توجهات تربية املستقبل من أجل تنمية مستدامة‪.‬‬ ‫أما الفصل املترجم‪ ،‬فانعكاس وفي لتصورات موران العبرمنهاجية التي يعكف على تطويرها منذ سبعينيات القرن املاضي‪ ،‬كما يجسد تصوراته‬ ‫الداعية إلى توحيد املعرفة اإلنسانية من أجل توحيد مصير النوع اإلنساني‪ ،‬ومصير الفرد‪ ،‬واملصير االجتماعي‪ ،‬واملصير التاريخي‪ ،‬وكل املصائر‬ ‫املتناثرة بال نظام‪ .‬تلك هي الرهانات األساسية لتربية املستقبل‪ ،‬كما يتصورها موران‪ ،‬ألن كل تربية جديرة باملستقبل‪ ،‬هي تلك التي تربط بني‬ ‫املعرفة والوعي بالشروط الوجودية املشتركة لكل البشر‪ ،‬والوعي أيض ًا بالثراء الضروري املتمثل في تنوع األفراد والشعوب والثقافات‪.‬‬

‫رؤى تربوية ‪ -‬العدد التاسع والعشرون‬

‫املترجم‬ ‫كل تربية مستقبلية ال بد أن تتجه نحو تعليم أولي وشامل‪ ،‬يرتكز على‬ ‫ضرورة فهم شروط الوجود اإلنساني‪ ،‬ألننا نعيش في مرحلة تاريخية‬ ‫تتسم بالكونية‪ ،‬ونعيشها كمغامرة مشتركة تهم البشر في كل مكان‪ .‬هذه‬ ‫هي احلقيقة التي يجب االعتراف بها في أبعادها اإلنسانية املشتركة‪ ،‬وفي‬ ‫الوقت ذاته ال بد من االعتراف بالتعدد الثقافي املميز لإلنسانية‪.‬‬ ‫إن معرفة اإلنسان تقتضي بالضرورة موضعته في العالم‪ ،‬وليس فصله‪،‬‬ ‫وكما أكدنا على ذلك في الفصل األول‪ ،‬فإن كل معرفة جادة يجب‬

‫أن تأخذ بعني االعتبار سياق موضوعها‪ .‬وهنا تصبح أسئلة من قبيل‪:‬‬ ‫من نحن؟ أين نتموضع؟ من أين أتينا؟ وإلى أين منضي؟ غير قابلة‬ ‫للتجزيء‪.‬‬ ‫إن مساءلة وجودنا اإلنساني يعني في املقام األول مساءلة وضعنا في‬ ‫العالم‪ .‬لقد أسهم تدفق املعارف في نهاية القرن العشرين في توضيح‬ ‫وضعية الوجود اإلنساني بطريقة جديدة‪ ،‬تغيرت معها التصورات‬ ‫السائدة خالل الستينيات والسبعينيات حول الكون واألرض واحلياة‪،‬‬


‫بفعل الطفرات التي حققتها علوم الكوسمولوجيا وعلوم األرض وعلوم‬ ‫البيئة والبيولوجيا وعلوم ما قبل التاريخ‪.‬‬ ‫وعلى الرغم من التطور احلاصل في هذه امليادين العلمية‪ ،‬فإنها ال تزال‬ ‫تعاني من التجزئة‪ ،‬إذ يظل البعد اإلنساني مقصي ًا ومجز ًأ إلى فسيفساء‬ ‫متناثرة من رقعة فاقدة لشكلها احلقيقي‪ .‬وهنا يطرح مشكل إبستيمولوجي‬ ‫يتعلق باستحالة تصور وفهم الوحدة املعقدة للكائن اإلنساني من خالل‬ ‫الفكر التجزيئي‪ ،‬الذي ينظر إلى إنسانيتنا بطريقة مجتزأة‪ ،‬ودون أخذ‬ ‫الكون احمليط بنا واملادة الفيزيقية املكونة واألفكار التي نحملها بعني‬ ‫االعتبار‪ ،‬كما ال ميكن فهم حقيقتنا من خالل تلك النظرة االختزالية التي‬ ‫حتصر الوحدة اإلنسانية في مكون بيولوجي ذري صرف‪ ،‬بل إن العلوم‬ ‫اإلنسانية ذاتها تتعرض لالختزال والتجزئة‪.‬‬ ‫وهكذا يصبح هذا التركيب اإلنساني غير مرئي وتختفي احلقيقة اإلنسانية‬ ‫كما تختفي قشة صغيرة على رمال شاسعة‪ ،‬ومن ثمة تصبح املعرفة على‬ ‫الرغم من أصالتها‪ ،‬بسبب جتزيئها‪ ،‬غير قادرة على استيعاب تعقد‬ ‫الوجود اإلنسان واستدماجه‪ ،‬وباملقابل ترتفع حدة اجلهل املعمم‪ ،‬في‬ ‫الوقت الذي تتضخم فيه معرفة األجزاء املنفصلة‪.‬‬ ‫لكل هذه احملاذير يلزم على تربية املستقبل أن تقوم باالستفادة من هذا‬ ‫العدد الكبير من العلوم الطبيعية من أجل فهم أفضل لشروط الوجود‬ ‫اإلنساني في هذا العالم‪ ،‬أما وظيفة العلوم اإلنسانية‪ ،‬فيجب أن تتجه‬ ‫نحو توضيح األبعاد اإلنسانية املتعددة واملركبة وضرورة إعارة االهتمام‬ ‫لكل اجلوانب اإلنسانية املهمة‪ ،‬ليس الفلسفية والتاريخية فحسب‪ ،‬بل‬ ‫الشعرية والفنية أيضاً‪.‬‬

‫في البداية ال بد من االعتراف بانتمائنا املزدوج إلى الكون املادي وإلى‬ ‫احمليط احلي‪ ،‬كما يلزمنا في الوقت نفسه االعتراف بتفردنا اإلنساني‪،‬‬ ‫حيث ننتمي في اآلن نفسه إلى الطبيعة ونخالفها أيضاً‪.‬‬

‫‪125‬‬

‫‪ 1.1‬الشرط الكوني‬ ‫لقد غادرنا إلى غير رجعة فكرة وجودنا في كون منظم‪ ،‬كامل وأبدي‬ ‫لصالح عالم خلق عبر مجموعة من الدوائر‪ ،‬يلف مصيره املجهول‪،‬‬ ‫حيث يتضافر فيه التكامل من جهة‪ ،‬والتناقض والتنافس من جهة أخرى‪،‬‬ ‫ويتضافر فيه النظام والالنظام أيضاً‪ .‬إننا نعيش في كون عمالق‪ ،‬يتمدد‬ ‫باستمرار‪ ،‬ويتكون من مليارات املجرات والنجوم‪ ،‬إن كوكبنا ليس‬ ‫سوى نقطة متناهية في الصغر تدور دون توقف في مدار مجرة صغيرة‪،‬‬ ‫وفي عالم ال ٍ‬ ‫متناه من املجرات‪.‬‬ ‫تكون أجسامنا ميكن أن تكون قد تشكلت خالل‬ ‫إن اجلزيئات التي ّ‬ ‫الثواني األولى لظهور الكون‪ ،‬الذي يعود رمبا إلى أكثر من ‪ 15‬مليار‬ ‫ذرات الكربون املكونة ألعضائنا قد تكون تنتمي إلى أحد‬ ‫سنة‪ ،‬كما أن ّ‬ ‫أو العديد من الشموس السابقة علينا‪ ،‬أي أن جزيئاتنا الدقيقة انتظمت‬ ‫جتمعت‬ ‫في أوائل الزمن املضطرب لألرض‪ .‬أما املكونات الكبرى‪ ،‬فقد ّ‬ ‫في دوامات من االضطراب‪ ،‬تشكل أحد أكبر مصادر الثراء والغنى‬ ‫والتعدد‪ ،‬بعد أن حتولت إلى نسق جديد مختلف عن النسق الكيماوي‬ ‫األول‪ :‬إنه نسق حي ذاتي التنظيم‪.‬‬

‫رؤى تربوية ‪ -‬العدد التاسع والعشرون‬

‫من حصة تدريبية في مدرسة غزة للموسيقى‪.‬‬

‫‪ .1‬اإلنسان بني التج ُّ‬ ‫ذر واالقتالع‬


‫‪126‬‬

‫تعرض باستمرار إلى تأثيرات الالنظام‬ ‫إن هذا التتويج الكوني للتنظيم ّ‬ ‫تعرض أيض ًا ملؤثرات ال ّتجميع التي منعت الكون من‬ ‫والتدمير‪ ،‬كما ّ‬ ‫التالشي واالختفاء بعد ميالده‪.‬‬ ‫إننا في وجودنا اإلنساني احلالي نتابع املغامرة الكونية من أجل تطور‬ ‫خالق‪ ،‬تقودنا في هذه املسيرة تلك امليزة اخلاصة املتمثلة في قدرة الكائن‬ ‫اخلاصة هذه املغامرة‬ ‫احلي على التنظيم الذاتي‪ .‬إننا نواصل بطريقتنا‬ ‫ّ‬ ‫احملفوفة باملخاطر‪.‬‬

‫‪ 2.1‬الشرط املادي‬ ‫نشأت احلياة على األرض على الشكل التالي‪ :‬انتظمت القليل من‬ ‫املكونات املادية بطريقة دينامية وحرارية عن طريق «تخمر» بحري‬ ‫وتفاعل كيماوي وتفريغ كهربائي‪ .‬وهكذا‪ ،‬ترتبط احلياة بالشمس‪،‬‬ ‫وجتمعت‬ ‫ألن مكونات احلياة استمدت طاقتها الدافعة من الشمس‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫على كوكب لفظته هذه األخيرة‪ .‬إن احلياة نتاج للتحوالت التي شهدها‬ ‫مجرى الفطونات املستمدة من شرارات الدوامات الشمسية‪ .‬وبهذا‪،‬‬ ‫نتكون نحن األحياء من بويضة ناجتة عن الشتات والتالشي الكوني‪،‬‬ ‫ومن بعض مكونات الوجود الشمسي التي لقحت الوجود األرضي‪.‬‬

‫‪ 3.1‬الشرط األرضي‬ ‫يرتبط مصيرنا مبصير الكون بشكل وثيق على الرغم من أننا نقع في اجلزء‬ ‫الهامشي منه‪ .‬إننا نعيش في كوكب األرض الذي ميثل الكوكب الثالث‬ ‫للشمس التي انتزعت منها مركزيتها‪ ،‬وأصبحت جنم ًا قزمي ًا تدور على غرار‬ ‫مليارات النجوم في مجرة‪ ،‬تشكل بدورها هامش كون يتمدد باستمرار‪.‬‬

‫رؤى تربوية ‪ -‬العدد التاسع والعشرون‬

‫لقد تشكل كوكب األرض الذي ننتمي إليه منذ حوالي خمسة مليارات‬ ‫سنة‪ ،‬انطالق ًا من احتمال يقول بانفجار كوني ناجت عن دمار أصاب‬ ‫شمساً‪ .‬أما بخصوص الكائن احلي‪ ،‬فقد انبثق رمبا حوالي أربعة مليارات‬ ‫سنة نتيجة دوامة ضخمة ملجموعة من اجلزيئات‪ ،‬بفعل اضطرابات‬ ‫الكواكب وتشنجاتها‪ .‬وهكذا انتظمت األرض كونياً‪ ،‬وأنتجت نفسها‬ ‫باستقالل عن الشمس‪ ،‬وتشكلت من خالل تركيب فيزيقي حي انطالق ًا‬ ‫من اللحظة التي تطور فيها محيطها البيولوجي‪.‬‬ ‫إننا في اآلن نفسه كائنات كونية وأرضية‪ .‬إن احلياة نتجت بفعل تشنجات‬ ‫واضطرابات الكواكب (‪ )les convulsions telluriques‬وفي سياق‬ ‫مغامرتها الوجودية هذه تعرضت في مناسبتني خلطر التالشي عند نهاية‬ ‫احلياة البدائية‪ ،‬وخالل املرحلة الثانوية‪ .‬لقد تطورت احلياة ليس كأمناط‬ ‫مختلفة فحسب‪ ،‬ولكن تطورت كذلك على شكل أنساق بيئية شكل‬ ‫فيها االفتراس سلسلة من االنتصارات ذات التوجه املزدوج‪ :‬احلياة من‬ ‫جهة‪ ،‬والعدم من جهة ثانية‪.‬‬ ‫تسبح األرض التي نعيش فيها في هذا الكون الشاسع‪ ،‬لذلك وجب‬ ‫أن نستخلص النتائج من هذه الوضعية الهامشية واحمليطية‪ ،‬وباعتبارنا‬ ‫كائنات حية داخل هذه األرض‪ ،‬فإننا نرتبط بشكل حيوي باملجال‬ ‫البيولوجي األرضي‪ ،‬ما يجبرنا على االعتراف بالهوية اإلنسانية الضاربة‬

‫في عمق املادي والبيولوجي‪.‬‬

‫‪ 4.1‬الشرط اإلنساني‬ ‫إن أهمية التربية على الشرط اإلنساني حتظى بأهمية قصوى‪ ،‬ألن من‬ ‫شأن ذلك أن يبرهن على الكيفية التي تشكل بها الوجود اإلنساني من‬ ‫خالل جتميع بعدين أساسني‪ :‬البعد اإلنساني‪ ،‬والبعد احليواني‪.‬‬ ‫تفيدنا األنثروبولوجيا املهتمة بدراسة حقب ما قبل التاريخ‪ ،‬في التعرف‬ ‫على مسلسل األنسنة‪ ،‬إذ أن اكتساب اإلنسان إلنسانيته يعتبر مغامرة‬ ‫تضرب جذورها في عمق التاريخ‪ ،‬ومبدة تقاس مباليني السنني‪ ،‬إنها‬ ‫مغامرة مرت مبراحل منفصلة شهدت ميالد أشكال البشر األولني‪،‬‬ ‫الذين يطلق العلم عليهم أسماء “النيودرتال“‪ ،‬و“األموسابيان“‬ ‫و“اإليريكتوس املنتصب«‪ ،‬كما عرفت أيض ًا اختفاء بعض األنواع‬ ‫السابقة‪ ،‬وكذا انبثاق لغات وثقافات‪ ،‬ومراحل متصلة مبا يعنيه ذلك من‬ ‫استمرار مسلسل تطور وظائف اليدين والرجلني واستقامة اجلسم وتطور‬ ‫الدماغ‪ ،‬واستمرار التعقيد االجتماعي‪ ،‬وهي الصيرورة التي انبثقت‬ ‫منها اللغة اإلنسانية التي متيزنا‪ .‬هذه اللغة ساهمت في الوقت نفسه في‬ ‫تطور الثقافة والرأسمال املكتسب من املعارف والكفاءة واالعتقادات‬ ‫واألساطير املنقولة جي ً‬ ‫ال عن جيل‪.‬‬ ‫لقد انتهت عملية األنسنة إلى والدة جديدة‪ .‬إن الكائن اإلنساني‬ ‫«يتأنسن»‪ ،‬ومع ذلك فإن مفهوم اإلنسان ميكن أن نقاربه من خالل‬ ‫مدخلني‪ :‬مدخل بيومادي وآخر نفسي اجتماعي‪ ،‬حيث يحيل أحدهما‬ ‫على اآلخر‪ .‬إن أصلنا هو الكون والطبيعة واحلياة‪ ،‬لكن بفعل هذه‬ ‫اإلنسانية نفسها وبفعل هذه الثقافة وهذا الفكر وهذا الوعي أصبحنا‬ ‫يظل متخفي ًا فينا على الرغم منا‪.‬‬ ‫غرباء عن هذا الكون‪ ،‬الذي ّ‬ ‫إن فكرنا ووعينا الذي مكننا من معرفة العالم هو نفسه ما يبعدنا عنه‪ ،‬بل‬ ‫إن قضية الدراسة العلمية واملوضوعية للعالم تبعدنا أكثر عن هذا الكون‬ ‫الثاوي فينا الذي ننتمي إليه‪.‬‬ ‫إن تطورنا يتجاوز البعد املادي واحلي‪ ،‬وهذا التجاوز هو أن اخلصائص‬ ‫اإلنسانية في تشتتها شبيهة مبا يقع لنقطة صغيرة داخل مجسم ضخم‪.‬‬ ‫نحمل داخل خصوصيتنا وتفردنا‪ ،‬ليس فقط اإلنسانية وكل احلياة كافة‪،‬‬ ‫ولكن نحمل تقريب ًا كل الكون‪ ،‬بكل غموضه الذي ميكث في عمق‬ ‫الطبيعة اإلنسانية‪ .‬وباملقابل‪ ،‬لسنا مجرد كائنات ميكن إدراكها وفهمها‬ ‫انطالق ًا فقط مما هو كوسمولوجي أو مادي بيولوجي أو نفسي‪ .‬إن إنسانية‬ ‫اإلنسان أكبر من أن تختزل في هذا البعد أو ذاك‪.‬‬

‫‪ .2‬إنسانية اإلنسان‬ ‫‪ 1.2‬الوحدة املزدوجة‬ ‫يتكون اإلنسان بالدرجة نفسها من مكون بيولوجي وثقافي‪ ،‬وهذه‬ ‫الوحدة املزدوجة هي ما مينح اإلنسان أصالته ومتيزه‪ .‬إنه كائن حي متفوق‬ ‫طور بطريقة مذهلة قدراته على احلياة‪ .‬إنه تعبير بطريقة مفرطة جد ًا عن‬


‫إمكانياته التمركزية والغيرية للفرد‪.‬‬ ‫إن اإلنسان ذو أبعاد بيولوجية‪ ،‬بكل ما تعنيه الكلمة من معنى‪ ،‬ولكن‬ ‫افتراض عدم توفره على املكتسب الثقافي سيحوله إلى كائن بدائي من‬ ‫األصناف احليوانية األولى‪ ،‬إن الثقافة مبا هي مجموعة من التراكمات‬ ‫احلاصلة عبر سنني طويلة تتضمن كل ما مت االحتفاظ به ونقله وتعلمه‪،‬‬ ‫وهي تتضمن أيض ًا القواعد واملبادئ املكتسبة‪.‬‬

‫‪ 2.2‬دائرة الدماغ ‪ ..‬الفكر ‪ ..‬الثقافة‬ ‫ال يكتمل اإلنسان ككائن تام اإلنسانية إال داخل الثقافة وبواسطتها‪ ،‬كما‬ ‫أنه من املستحيل تصور ثقافة دون دماغ إنساني (كجهاز بيولوجي يتوفر‬ ‫على كفاءة احلراك‪ ،‬والتصور‪ ،‬واملعرفة والتعلم)‪ ،‬لكن ال وجود لفكر‬ ‫خالص؛ أي إمكانية وجود وعي وفكر دون ثقافة‪ .‬إن الفكر اإلنساني‬ ‫ينشأ وينمو داخل هذه العالقة الثنائية بني الدماغ والثقافة‪ ،‬إذ مبجرد‬ ‫انبثاق الفكر يتدخل في اشتغال اجلهاز العصبي ويؤثر عليه‪.‬‬ ‫هناك إذن دائرة ثالثية العناصر متشكلة من الدماغ والفكر والثقافة‪،‬‬ ‫حيث كل مفهوم يقتضي بالضرورة وجود العنصر اآلخر‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإن‬ ‫الفكر انبثق من الدماغ الذي أفرز الثقافة التي ال ميكن تصور إمكانيتها‬ ‫دون دماغ‪.‬‬

‫أيضاً‪ ،‬حيث تتضمن صراعات معروفة بني الغريزة والقلب والعقل‪،‬‬ ‫وبالنتيجة فإن العالقة الثالثية ال تخضع بالضرورة لتراتبية‪ :‬عقل‪،‬‬ ‫عاطفة‪ ،‬غريزة‪ .‬إن العالقة بني هذه املكونات ليست سكونية بل دائرية‪.‬‬ ‫العقالنية بهذا املعنى ال تتوفر على سلطة مطلقة‪ ،‬إنها مجرد مكون‬ ‫يتنافس ويتعارض‪ ،‬وال ميكن فصلها عن باقي املكونات الثالثة‪ ،‬وهي‬ ‫في الوقت نفسه هشة‪ ،‬وتتمثل هشاشتها في قدرة باقي املكونات على‬ ‫السيطرة عليها وإزاحتها‪ ،‬بل واستبعادها من قبل اإلحساس أو الغريزة‪.‬‬ ‫إن غريزة القتل ميكن أن تشغل القدرات اخلارقة للمنطق‪ ،‬وتستعمل‬ ‫العقالنية التقنية من أجل تنظيم أفعالها وتبريرها‪.‬‬

‫‪127‬‬

‫‪ 4.2‬ثالثية‪ :‬الفرد‪ ،‬املجتمع‪ ،‬النوع‬ ‫ال يستقيم احلديث عن اإلنسان دون التوقف عند هذه الثالثية‪ :‬فرد‪،‬‬ ‫مجتمع‪ ،‬نوع؛ ألن األفراد ليسوا سوى منتوج لصيرورة إعادة إنتاج‬ ‫النوع البشري‪ ،‬لكن هذه الصيرورة نفسها ليست سوى منتوج اللتقاء‬ ‫فرديني‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإن تفاعالت األفراد تنتج املجتمع‪ ،‬وهذا األخير‬ ‫شاهد على انبثاق الثقافة التي تؤثر جدلي ًا على األفراد انطالق ًا من الشكل‬ ‫التالي‪:‬‬ ‫فرد‬

‫‪ 3.2‬دائرة العقل اإلحساس ‪ ..‬والغريزة‬ ‫إلى جانب ثالثية (الدماغ ‪ -‬الفكر‪ -‬الثقافة) ميكن العثور أيض ًا على ثالثية‬ ‫بيو– أنثروبولوجية أخرى غير مذكورة سالفاً‪ ،‬واملتمثلة في ثالثية أخرى‬ ‫جتد سندها في التصور الثالثي للدماغ‪ ،‬كما جندها لدى ماكلني (‪Mac‬‬ ‫‪ 1،)lean‬إذ أن الدماغ اإلنساني حسب نظرية هذا العالم األمريكي‬ ‫يتضمن مجموعة من املكونات‪:‬‬

‫إن العالقة بني املكونات الثالثة ليست تكاملية فحسب ولكنها تنافرية‬

‫ال يحظى أي عنصر من هذه العناصر باألفضلية‪ ،‬وال ميكن بأي حال‬ ‫من األحوال إضفاء صفة اإلطالقية على الفرد‪ ،‬وأن جنعل منه الغاية‬ ‫القصوى لهذه الثالثية‪ ،‬كما ال ميكن في الوقت ذاته أن نضفي اإلطالقية‬ ‫نفسها على املجتمع على حساب الفرد الذي يعيش بدوره من أجل‬ ‫املجتمع‪ .‬وهكذا يصبح كال الطرفني غاية ووسيلة‪ :‬إن الثقافة واملجتمع‬ ‫متكن األفراد من التالحم‪ ،‬كما أن التفاعالت بني األفراد متكنهم من‬ ‫استمرارية الثقافة والوصول إلى التنظيم الذاتي للمجتمع‪ .‬وباملقابل‪،‬‬ ‫ميكننا أن نعتبر أن االنفتاح وحرية تعبير األفراد‪/‬الذوات يشكل مصيرنا‬ ‫األخالقي والسياسي دون أن نعتقد أن الذوات نفسها تشكل الغاية‬ ‫القصوى من ثالثية‪ :‬املجتمع‪ ،‬الفرد‪ ،‬النوع‪ .‬واخلالصة‪ ،‬أنه ال ميكن‬ ‫فهم تعقيد الظاهرة اإلنسانية في انفصالها عن العناصر املكونة لها‪،‬‬ ‫ألن كل تطور حقيقي لإلنسان يعني تطور ًا متالزم ًا لالستقالل الذاتي‬ ‫لألفراد‪ ،‬وتطور ًا للمشاركة اجلماعية‪ ،‬وتطور ًا لإلحساس باالستماع‬ ‫إلى النوع اإلنساني‪.‬‬

‫‪ .3‬الوحدة املتعددة التركيبات‪:‬‬ ‫الوحدة والتنوع اإلنساني‬ ‫يجب أن ترتكز تربية املستقبل على أن تكون وحدة النوع اإلنساني ال‬ ‫تتعارض مع تعدده‪ ،‬كما أن فكرة التعدد ال ميكنها القضاء على فكرة‬

‫رؤى تربوية ‪ -‬العدد التاسع والعشرون‬

‫< الفص اجلبهي الذي متت وراثته من دماغ الزواحف‪ ،‬وهو مصدر‬ ‫العدوانية والغرائز البدائية‪.‬‬ ‫< قشرة الدماغ احلوفية‪ ،‬كجزء من مخلفات الثدييات األولى‪ ،‬حيث‬ ‫يبدو احلصني (‪ 2)l’hippocampe‬كمؤشر على ذلك االرتباط الدال‬ ‫بني مجموعة من الكائنات وحلقة مهمة في التطور‪ .‬إن هذا اجلزء من‬ ‫الدماغ مسؤول عن تطور العاطفة وتطور الذاكرة الطويلة األمد‪.‬‬ ‫< القشرة الدماغية‪ :‬واملتطورة بشكل كبير لدى الثدييات إلى درجة تغطية‬ ‫جميع أجزاء املخ وتشكيل اجلزء الغربي من القشرة الدماغية‪ ،‬وهي‬ ‫متضخمة بشكل كبير لدى اجلنس البشري مقارنة بباقي األنواع‪ ،‬وهي‬ ‫التي حتولت فيما بعد إلى قشرة املخ احلديثة (‪ )néocortex‬التي تعتبر‬ ‫املسؤولة عن القدرات التحليلية واملنطقية واإلستراتيجية‪ ،‬والتي تعمل‬ ‫الثقافة على تطويرها باستمرار‪ .‬وهنا يظهر وجه آخر من أوجه التعقيد‬ ‫اإلنساني واملتمثلة في استدماج صفات حيوانية (ثدييات وزواحف)‬ ‫في الكائن البشري من جهة‪ ،‬واختالط اإلنساني باحليواني من جهة‬ ‫ثانية‪.‬‬

‫مجتمع ‬

‫نوع‬


‫‪128‬‬

‫الوحدة‪ .‬هناك وحدة إنسانية وهناك باملقابل تعدد إنساني‪ .‬إن الوحدة‬ ‫ال تتمثل في املالمح البيولوجية لإلنسان العاقل‪ ،‬كما أن الوحدة ليست‬ ‫في املكونات السيكولوجية والثقافية واالجتماعية للكائن اإلنساني‪،‬‬ ‫هناك أيض ًا تعدد محض بيولوجي داخل الوحدة اإلنسانية ذاتها‪ .‬وهناك‬ ‫وحدة ليس فقط في اجلهاز العصبي‪ ،‬بل وحدة فكرية ونفسية وشعورية‬ ‫وثقافية‪ ،‬األدهى من ذلك أن الثقافات واملجتمعات األشد تباين ًا يشتركون‬ ‫في مبادئ عامة أو منظمة‪.‬‬ ‫إن الوحدة اإلنسانية تتضمن داخلها املبادئ املتعددة للتنوع‪ .‬وهكذا‪،‬‬ ‫فإن فهم األبعاد اإلنسانية تقتضي فهم وحدة النوع اإلنساني في تنوعه‪،‬‬ ‫وفهم تنوعه في وحدته‪ ،‬يجب بناء تصور جديد ينظر إلى الوحدة في‬ ‫التنوع وينظر إلى املتعدد في الواحد‪ .‬وعلى هذا األساس‪ ،‬يجب على‬ ‫التربية أن تشجع مبدأ الوحدة والتعدد في كل املجاالت‪ ،‬بل يجب أن‬ ‫يكون هذا الهدف بداية ومنتهى كل فعل تربوي مستقبلي‪.‬‬

‫‪ 1.3‬املجال الفردي‬ ‫تتجاور داخل الفرد نفسه الوحدة والتعدد الوراثيان‪ .‬فكل إنسان‬ ‫يحمل في جيناته مورثات النوع اإلنساني‪ ،‬كما يحمل في الوقت‬ ‫ذاته خصوصياته املميزة له تشريحي ًا وفسيولوجياً‪ .‬هناك وحدة وتنوع‬ ‫عصبي‪ ،‬عقلي‪ ،‬وسيكولوجي‪ ،‬وعاطفي‪ ،‬وثقافي‪ ،‬وذاتي‪ .‬فكل‬ ‫إنسان يحمل داخله خصوصيات عصبية وثقافية وسيكولوجية وعاطفية‬ ‫وذاتية ترتد باألساس إلى ما هو مشترك‪ ،‬وفي الوقت ذاته‪ ،‬يتكون‬ ‫اإلنسان من خصوصيات عقلية وأخالقية ونفسية وشعورية وثقافية متيزه‬ ‫عن اآلخرين‪.‬‬

‫‪ 2.3‬في املجال االجتماعي‬ ‫املجال االجتماعي بدوره ال يخرج عن ثنائية التنوع والوحدة في اآلن‬ ‫ذاته‪ ،‬ففي اللغات توجد اختالفات شاسعة في البنيات‪ ،‬لكنها تشترك‬ ‫جميعها من حيث متفصلها املزدوج‪ ،‬ما يجعلنا توائم في الكالم‬ ‫ومختلفني في اللغات‪ .‬وثنائية الوحدة والتعدد نفسها جندها في‬ ‫التنظيمات االجتماعية والثقافية‪.‬‬

‫رؤى تربوية ‪ -‬العدد التاسع والعشرون‬

‫‪ 3.3‬التنوع الثقافي وتعدد األفراد‬ ‫تتخذ الثقافة صيغتني‪ ،‬فنقول ثقافة بصيغة املفرد وثقافات بصيغة‬ ‫اجلمع‪ .‬إن الثقافة تشكيلة من املعارف والقدرات والقواعد واألسس‬ ‫واإلستراتيجيات واالعتقادات واألفكار والقيم واألساطير املنقولة جي ً‬ ‫ال‬ ‫عن جيل‪ ،‬التي يعيد إنتاجها كل فرد وتفرض رقابة على املجتمع وحتافظ‬ ‫على التناسق االجتماعي والسيكولوجي‪ .‬فال وجود ملجتمع قدمي‬ ‫أو حديث دون ثقافة‪ ،‬لكن لكل ثقافة خصوصيتها املتفردة‪ ،‬وبالتالي‬ ‫توجد ثقافة في الثقافات‪ ،‬لكن الثقافة ال ميكن أن تستمر إال عبر الثقافات‬ ‫املتعددة‪.‬‬ ‫توجد التقنيات بدرجات متفاوتة حسب اختالف الثقافات‪ ،‬كما هو‬ ‫احلال بالنسبة لتقنيات العجالت والدوران‪ ،‬أو الترابط‪ ،‬أو البوصلة أو‬

‫املطبعة‪ ،‬وتختلف أيض ًا حسب درجة حضور املعتقدات الدينية واألفكار‬ ‫املالئكية‪ .‬غير أن بعض الثقافات استطاعت أن تصبح عاملية‪ .‬فداخل كل‬ ‫ثقافة يوجد رأسمال خاص من املعتقدات واألفكار والقيم واألساطير‬ ‫التي تشكل أساس الروابط القوية بني أفراد جماعة معينة وأجدادهم‬ ‫وثقافتهم وموتاهم‪.‬‬ ‫يحاول املدافعون عن التعدد جاهدين التبخيس واحلد من الوحدة‬ ‫اإلنسانية‪ ،‬في حني يعمد املدافعون عن الوحدة اإلنسانية إلى اعتبار التعدد‬ ‫الثقافي مسألة هامشية‪ .‬ضد هذين التوجهني يجب االهتمام بالوحدة‬ ‫التي تضمن وتشجع التعدد‪ :‬تعدد يدخل ضمن سياق الوحدة‪.‬‬ ‫تشكل ثنائية الوحدة والتعدد أمر ًا حاسم ًا بالنسبة للثقافات‪ .‬فالثقافة‬ ‫حتافظ على الهوية اإلنسانية في خصوصياتها‪ ،‬أما الثقافات فتحافظ‬ ‫على الهويات االجتماعية في ما مييزها‪ .‬وهكذا يظهر أن الثقافات تنغلق‬ ‫على ذاتها من أجل حماية الهوية اخلاصة‪ .‬وباملقابل‪ ،‬تقوم هذه الثقافات‬ ‫باالنفتاح على اخلارج من خالل استدماج األفكار والعادات وعادات‬ ‫األكل واألفراد‪ ،‬وليس فقط املعارف والتقنيات‪ .‬إن استيعاب ثقافة ما‬ ‫لعناصر ثقافية تنتمي إلى مجال آخر يؤدي إلى حصول اإلغناء واإلثراء‪.‬‬ ‫مكتسبات كبيرة جد ًا وخالقة تنتج عن التالقح الثقافي‪ .‬إن النموذج‬ ‫اخلالق لهذا التالقح يتجسد بوضوح في موسيقى الفالمنكو وموسيقى‬ ‫أمريكا الالتينية وموسيقى «الراي»‪ 3.‬وباملقابل‪ ،‬فان إقصاء ثقافة ما حتت‬ ‫التأثير املدمر للهيمنة التقنية واحلضارية يشكل خسارة لإلنسانية كافة‪،‬‬ ‫التي يشكل التعدد الثقافي أحد كنوزها األكثر أهمية‪.‬‬ ‫الكائن اإلنساني واحد ومتعدد‪ ،‬وكما أسلفنا سابقاً‪ ،‬فان كل إنسان‬ ‫في أبسط مكوناته يحمل داخله مخلفات كونية‪ ،‬إذ أن كل كائن مهما‬ ‫كانت شدة انغالقه ومهما كان بدائياً‪ ،‬يتضمن في تكوينه عناصر من‬ ‫هذا الكون‪ .‬إنه يحمل في داخله أبعاده الداخلية املتعددة وشخصياته‬ ‫االفتراضية‪ ،‬وعدد ًا النهائي ًا من العناصر املتوهمة‪ ،‬ووجوداً‪ ،‬متعدداً‪،‬‬ ‫ومتخي ً‬ ‫ال وواقعياً‪ ،‬في النوم واليقظة‪ ،‬في الطاعة والتمرد‪ ،‬في السر‬ ‫والعلن‪.‬‬ ‫كل شخص يتضمن داخله مجرات من األحالم واألوهام ومشاعر‬ ‫ظمأى من الرغبات ومشاعر احلب‪ ،‬وانتكاسات من احلزن‪ ،‬ومساحات‬ ‫ال متناهية من الالمباالة املتراكمة‪ ،‬وأكوام ًا من النجوم احملترقة‪ ،‬ومشاعر‬ ‫من الكراهية‪ ،‬وإشراقات من الوضوح‪ ،‬ورعود ًا من احلماقات‪.‬‬

‫‪ 4.3‬اإلنسان‪ ،‬العاقل‪ ،‬الواهم‬ ‫يجب أن نتخلص في القرن احلادي والعشرين من تلك النظرة األحادية‬ ‫البعد التي تعرف الكائن اإلنساني بالعقل فحسب (‪،)homo sapien‬‬ ‫أو من خالل وصفه بالكائن الصانع (‪ ،)homo faber‬تلك النظرة‬ ‫التي تعرف الكائن اإلنساني بالعقل فحسب أو التي حتصره في أنشطته‬ ‫االقتصادية (‪ )homoeconomicus‬أو من التي تقتصر على الوظائف‬ ‫األساسية‪.‬‬ ‫يجب النظر إلى اإلنسان بعيد ًا عن هذه النظرة األحادية‪ ،‬من خالل‬


‫استبدالها بتصور يقارب اإلنسان باعتباره كائن ًا مركب ًا يحمل في ذاته‬ ‫خصائص متناقضة وبطريقة ثنائية األقطاب‪ ،‬إنه‪:‬‬ ‫< عاقل وواهم (‪)sapiens - démens‬‬ ‫< عامل والعب يحب اللهو (‪)faber- ludens‬‬ ‫< واقعي وخيالي (‪)empiricus- immaginerues‬‬ ‫< منتج اقتصادياً‪ ،‬ومستهلك (‪)economicus- consuman‬‬ ‫< نثري وشعري (‪)prosaicus-poeticus‬‬ ‫إن اإلنسان العقالني هو نفسه احلامل أبعاد ًا عاطفية‪ ،‬وهو نفسه ذلك‬ ‫املؤمن باألسطورة واخلرافات‪ ،‬واإلنسان العامل هو نفسه ذاك الذي‬ ‫يجد في اللعب جوهره‪ ،‬كما أن اإلنسان الواقعي هو نفسه ذلك اإلنسان‬ ‫احلالم‪ .‬وبالقدر نفسه الذي ميكن أن نصف اإلنسان باالقتصادي ميثل‬ ‫أيض ًا ذلك البعد االستهالكي‪ .‬من جهة أخرى‪ ،‬فاإلنسان منتج النثر‪،‬‬ ‫هو الذي ينظم الشعر أيضاً‪ ،‬مبا يعنيه ذلك من امتياز‪ ،‬ومشاركة‪،‬‬ ‫وحب ونزوات‪ .‬إن احلب شعر‪ ،‬وكل حب ناشئ قادر على إغراق‬ ‫العالم شعراً‪ ،‬وكل حب وجد طريقه نحو االستمرارية يبعث في احلياة‬ ‫اليومية متدفق ًا من الشعر فيما تؤدي نهاية احلب إلى رمينا في صحاري‬ ‫النثر‪ .‬يتضح إذن‪ ،‬أن اإلنسان ال يعيش فقط من خالل بعديه العقالني‬ ‫والتقني‪ ،‬إنه يشمئز‪ ،‬ميزح‪ ،‬وينخرط في الرقص‪ ،‬وفي جذبة مرضية‬ ‫وفي األساطير‪ ،‬والسحر والطقوس‪ .‬إنه يعتقد أيض ًا في قيم التضحية‪.‬‬ ‫ويعيش باستمرار مستعد ًا حلياة ما بعد املوت‪.‬‬ ‫في جميع املجاالت يتمظهر النشاط التقني والعملي والثقافي‪ ،‬كمؤشر‬ ‫على ذكاء جتريبي وعقالني‪ .‬وفي جميع املجاالت كذلك‪ ،‬تشكل‬ ‫احلفالت واألعياد والطقوس بكل متظهراتها وأفراحها والضياع الذي‬ ‫تقتضيه مؤشرات على البعد الترفيهي واالستهالكي واخليالي والواهم‬ ‫في اإلنسان‪.‬‬

‫‪ 5.3‬اإلنسان املركب‬ ‫إننا كائنات لعوبة‪ ،‬وعدوانية‪ ،‬وواهمة‪ ،‬وبالقدر نفسه‪ ،‬نحن عقالنيون‪.‬‬ ‫كل ذلك يشكل اللحمة اخلاصة باإلنسان‪ .‬إن اإلنسان كائن عقالني‬ ‫ٍ‬ ‫ومستعص عليه‪ .‬إنه كائن‬ ‫وال عقالني في الوقت ذاته‪ ،‬قابل للقياس‬ ‫ذو إحساس كثيف وغير مستقر‪ .‬إنه يضحك‪ ،‬يبتسم‪ ،‬يبكي‪ ،‬ولكن‬

‫‪129‬‬

‫ال بد من التساؤل كذلك إن كان احلمق يشكل معضلة أساسية لإلنسان‬ ‫وليس فقط مخلفاته أو أمراضه‪ .‬إن تأثير احلمق اإلنساني كان واضح ًا‬ ‫بالنسبة للفلسفة القدمية واحلكمة الشرقية‪ ،‬وللشعراء من كل األنحاء‬ ‫وألصحاب النظرة األخالقية من «إيرازم» إلى «باسكال»‪ ،‬ومن‬ ‫«مونتني» إلى «روسو»‪ .‬غير أن موضوع احلمق هذا تالشى‪ ،‬بفعل‬ ‫الفورة األيديولوجية للتيار اإلنساني التي اجتاحت العالم‪ ،‬واجتاحت‬ ‫أيض ًا العلوم‪.‬‬ ‫لم يقد احلمق اإلنسان إلى الفناء (فقط الطاقات النووية الناجتة عن‬ ‫استخدام العقل العلمي وفقط التقدم العقالني والتقني في مقابل‬ ‫البيولوجي‪ ،‬ميكن أن تودي إلى دمار اإلنسان)‪ .‬بل إن البشر وعلى‬ ‫الرغم من قضائهم جلزء مهم من أوقاتهم في الرقص وممارسة الطقوس‬ ‫والعادات والتزيني وعدد ال يستهان به من احلماقات‪ ،‬فإن التقدم التقني‬ ‫والعلمي احلاصل يعتبر مذه ً‬ ‫ال حقاً‪ ،‬وأنتجت احلضارات والفلسفة‬ ‫والعلم‪ ،‬وسيطر الكائن اإلنساني على كوكب األرض‪.‬‬ ‫ميكن أن نستخلص أن التطورات املعقدة أجنزت بواسطة احلمق اإلنساني‬ ‫وضده‪ .‬إن احلوار عقل‪/‬حمق كان ناجع ًا في الوقت نفسه الذي يشكل‬ ‫فيه عنصر دمار‪ .‬إن الفكر والعلم والفنون قد انبثقت من خالل القوة‬ ‫العميقة للعاطفة واألحالم والقلق والرغبات واملخاوف واآلمال‪.‬‬ ‫في كل اإلنتاجات اإلنسانية يتجاور دائم ًا الثنائي عقل‪/‬حمق‪ .‬احلمق‬ ‫يناقض العقل لكنه يستحثه‪ .‬وقد الحظ أفالطون منذ القدمي أن ديكي‪،‬‬ ‫ممثلة قانون احلكمة‪ ،‬سليلة أوربيس التي متثل إله الالنظام‪.‬‬ ‫إنه الغضب األعمى ذاك الذي دمر أعمدة العبودية‪ ،‬التي مثلها سجن‬ ‫الباستيل‪ ،‬وباملقابل فإن السيطرة على سجن الباستيل كانت من طبيعة‬ ‫عقلية‪ ،‬والعقل نفسه سيتحمل مسؤولية طوفان املوت واإلعدام الذي‬ ‫أعقب الثورة الفرنسية‪.‬‬ ‫العبقرية في شكل من أشكالها‪ ،‬ناجتة باألساس من عدم القدرة على‬ ‫سجن اإلنسان في ما هو واقعي ومنطقي‪ ،‬وفي شفرة وراثية أو في‬ ‫ثقافة أو مجتمع‪ .‬إن البحث واالكتشاف ال يتقدم إال عبر صبيب معني‬ ‫من الاليقني‪ ،‬وعبر هامش من التردد املتاح‪ .‬ألن العبقرية ال تنبثق‬ ‫إال من رحم االنفالت من الرقابة‪ .‬وهنا يتأجج احلمق ويفعل فعله‬ ‫املبدع‪.‬‬

‫رؤى تربوية ‪ -‬العدد التاسع والعشرون‬

‫إن أنشطة اللعب واالحتفال والطقوس ليست مجرد أنشطة بسيطة‬ ‫للترفيه واالسترخاء من أجل التخفيف من عبء اليومي والعمل‪ .‬كما‬ ‫أن االعتقاد في اآللهة‪ ،‬وفي األفكار ال ميكن اختزالها إلى مجرد أوهام‬ ‫أو خرافات‪ .‬إنها تضرب بجذورها عميق ًا في األعماق األنثروبولوجية‪،‬‬ ‫ألنها تهم الكائن اإلنساني في طبيعته األصلية‪ .‬دون شك‪ ،‬هناك عالقة‬ ‫ظاهرة أو متخفية بني السيكولوجي والعاطفي والسحر واألسطورة‬ ‫والدين‪ .‬هناك في الوقت نفسه وحدة وازدواجية ما بني اإلنسان العامل‪،‬‬ ‫اإلنسان الالعب‪ ،‬اإلنسان العاقل‪ ،‬اإلنسان األسطوري‪ ،‬وبخاصة أن‬ ‫التطور العقالني التجريبي التقني لدى اإلنسان‪ ،‬لم يستطع‪ ،‬في أي‬ ‫حال من األحوال‪ ،‬أن ينهي مع املعرفة الرمزية واألسطورية والسحرية‬ ‫والشعرية‪.‬‬

‫قادر على إنتاج معرفة موضوعية‪ .‬إنه كائن جدي‪ ،‬ويجيد العد‪ ،‬ولكن‬ ‫أيض ًا كائن قلق وعصبي وفرجوي‪ ،‬يحب اللذة ويهيم بها‪ ،‬كائن عنيف‬ ‫وحنون‪ ،‬محب وحاقد‪ ،‬كائن يخترقه اخليال‪ ،‬ويعترف بالواقع‪ ،‬يسمع‬ ‫باملوت ويرفض التصديق به‪ .‬يستبطن األسطورة والسحر ويتجاوران‬ ‫داخله مع العلم والفلسفة‪ .‬مهووس باآللهة واألفكار ويشكك فيهما‬ ‫وينتقدهما‪ ،‬يتغذى من األفكار الواقعية ومن األوهام واألحالم غير‬ ‫الواقعية‪ ،‬وفي الوقت الذي حتدث فيه القطيعة بني الرقابة العقلية والثقافية‬ ‫واملادية‪ ،‬يقع ذلك اللبس القائم بني الذاتي واملوضوعي‪ .‬وعندما يتحقق‬ ‫انسجام األوهام بفعل سيادة منطق غير مترابط يقوم البعد األحمق في‬ ‫اإلنسان باستعباد الكائن العاقل‪ ،‬ويصبح الذكاء العقالني تابع ًا للجانب‬ ‫املتوحش من البشر‪.‬‬


‫‪130‬‬

‫ينبثق اإلبداع من خالل ذلك الرابط بني األعماق النفسية والوجدانية‬ ‫املظلمة والشعلة املتقدة للوعي‪ .‬وعلى هذا األساس يجب على التربية‬ ‫أن تكشف وتوضح املصير املتعدد املعالم لإلنسان‪ ،‬من خالل توضيح‬ ‫مصير النوع اإلنساني‪ ،‬ومصير الفرد‪ ،‬واملصير االجتماعي‪ ،‬واملصير‬ ‫التاريخي‪ ،‬وكل املصائر املتناثرة بال نظام وغير املنفصلة‪ .‬ومن بني‬ ‫الرهانات األساسية أيض ًا لتربية املستقبل‪ ،‬اإلعالء من موهبة فهم‬ ‫التعقيد اإلنساني ودراسته‪ .‬إن كل تربية جديرة باملستقبل هي تلك‬

‫التي تربط بني املعرفة والوعي بالشروط الوجودية املشتركة لكل البشر‬ ‫والوعي أيض ًا بهذا الثراء الضروري املتمثل في تنوع األفراد والشعوب‬ ‫والثقافات‪ ،‬ما يجعل جذورنا مشتركة كمواطنني ننتمي إلى هذه‬ ‫األرض‪.‬‬ ‫إدغار موران‬ ‫ترجمة‪ :‬عزيز مشواط‬

‫الهوامش‬

‫رؤى تربوية ‪ -‬العدد التاسع والعشرون‬

‫* العنوان األصلي للمقال هو (‪ENSEIGNER LA CONDITION‬‬ ‫‪ ،)HUMAINE‬وميثل الفصل الثالث من كتاب إدغار موران املعنون‬ ‫بـ «املعارف السبعة الضرورية لتربية املستقبل» (‪Les sept savoirs‬‬ ‫‪ ،)nécessaires à l’éducation du futur‬واملنشور بدعم من‬ ‫اليونسكو‪.‬‬ ‫‪ 1‬بول د‪ .‬ماكلني عالم البيولوجيا العصبية‪ ،‬أمريكي اجلنسية (‪.)2007-1913‬‬ ‫اشتهر بنظريته الثالثية حول الدماغ التي يعتبر فيها أن الدماغ اإلنساني‬ ‫يتضمن ثالثة مكونات‪ ،‬بحيث يحيل كل مكون على مرحلة من مراحل‬ ‫التطور اإلنساني بدأت من الزواحف والثدييات وصو ً‬ ‫ال لإلنسان احلالي‪،‬‬ ‫(املترجم)‪.‬‬ ‫‪ 2‬احلصني أو قرن آمون قشرة دماغية توجد أسفل الفص الصدغي للدماغ‪،‬‬ ‫وقد حظيت باهتمام كبير من الدراسات التشريحية منذ أواخر القرن التاسع‬ ‫عشر‪ ،‬وبخاصة في أوائل القرن املنصرم‪ .‬ويرجع االهتمام إلى املعطيات‬ ‫التي قدمها طبيب األعصاب بابيز (‪ ،)Papez‬حيث أظهر هذا الباحث‬ ‫أن للحصني دور ًا مهم ًا في اكتساب املعلومات‪ ،‬وافتراضها من اجلهات‬ ‫األساسية والضرورية للتذكر والذاكرة‪ .‬وبالفعل‪ ،‬أكدت الدراسات‬

‫من دورة كمبيوتر للفتيات نظمها مسرح احلرية في جنني‪.‬‬

‫فيما بعد أن للحصني دور ًا في معاجلة املعلومات اخلاصة بالتذكر والذاكرة‬ ‫طويلة املدى‪ .‬وزيادة على كون هذه اجلهة الدماغية تشكل املمر الضروري‬ ‫للمعلومات‪ ،‬فإن لها دور ًا آخر ال يقل أهمية عن األول‪ ،‬بحيث أنها تخزن‬ ‫املعلومات التي هي في طريق الترسيخ ملدة زمانية تصل إلى أسابيع عدة‪،‬‬ ‫قبل أن تبعث أو مترر إلى نوى أو باحات قشرية دماغية أخرى‪ .‬ويستغرق‬ ‫تخزين املعلومات بالنوى والباحات األخرى حيز ًا زماني ًا يدوم في بعض‬ ‫األحيان بباحات أو نوى عدة‪ ،‬لكل منها دور ونشاط عصبحيوي يتولى‬ ‫وظيفة معلوماتية معينة‪( ،‬املترجم)‪.‬‬ ‫‪ 3‬الراي هو حركة موسيقية غنائية نشأت بالغرب اجلزائري‪ ،‬تعود أصولها إلى‬ ‫لحن»‪ ،‬لغة أغاني امللحون من اللهجة العامية‬ ‫شيوخ الشعر امللحون أي «ا ُمل ّ‬ ‫القريبة جد ًا للعربية الفصحى‪ ،‬وتأخذ جل مواضيعها من املديح الديني‬ ‫واملشاكل االجتماعية‪ .‬ركزت اهتمامها إبان فترة االستعمار الفرنسي على سرد‬ ‫مآسي السكان من صعوبة في املعيشة وآفات اجتماعية حتاول بها توعية املستمع‪.‬‬ ‫تطورت هذه احلركة كثير ًا في أواخر القرن املاضي في كل من املغرب واجلزائر‪،‬‬ ‫بعد أن استطاع بعض الشباب تطعيمها بإيقاعات موسيقية غربية وشرقية مختلفة‬ ‫لتشكل منوذج ًا فريد ًا من التمازج واالختالط املوسيقي‪ ،‬املترجم‪.‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.