د .مصطفى محمود
حوار مع صديقي امللحد تنسيق :سامح طالب samih.talib@gmail.com
الفهرس مقدمة 3 ................................................. ................................ ................................ الفصل األول :لم يلـد ولم يولـد 5 ........................................... ................................ الفصل الثاني :إذا كان هللا َّ قدر ّ علي أفعالي فلماذا يحاسبني؟ 10........................ الفصل الثالث :ملاذا خلق هللا الشر؟ 17............................... ................................ الفصل الرابع :وما ذنب الذي لم يصله قرآن؟ 21................................................ الفصل الخامس :الجنة والنار 22......................................... ................................ الفصل السادس :حكاية اإلسالم مع املرأة 31 ...................... ................................ الفصل السابع :هل الدين أفيون ..؟! 37 .............................. ................................ الفصل الثامن :الروح 62 ...................... ................................ ................................ الفصل التاسع :الضميـ ــر 56 ................................................. ................................ الفصل العاشر :هل مناسك الحج وثنية؟ 57 ...................... ................................ الفصل الحادي عشر :ملاذا ال يكون القرآن من تأليف محمد؟ 20 ...................... الفصل الثاني عشر :القرآن ال يمكن أن يكون مؤلفا 71 ...................................... الفصل الثالث عشر :شكوك 77 ........................................... ................................ الفصل الرابع عشر :موقـف الـدين من التطــور 55 .............................................. الفصل الخامس عشر :كلمة "ال إله إال هللا" 72 ................................................... الفصل السادس عشر :ك ـه ـي ـعــص 77 .................................. ................................ الفصل السابع عشر :املعجزة 102....................................... ................................ الفصل الثامن عشر :معنى الدين 105................................. ................................ الفصل التاسع عشر :فزنا بسعادة الدنيا وفزتم باألوهام 105............................
2
مقدمة ألن هللا غيب ..وألن املستقبل غيب ..وألن اآلخرة غيب ..وألن من يذهب إلى القبر ال يعود.. راجت بضاعة اإللحاد ..وسادت األفكار املادية ..وعبد الناس أنفسهم واستسلموا لشهواتهم وانكبوا على الدنيا يتقاتلون على منافعها ..وظن أكثرهم أن ليس وراء الدنيا ش يء وليس بعد الحياة ش يء ..وتقاتلت الدول الكبرى على ذهب األرض وخيراتها ..وأصبح للكفر نظريات وللمادية فلسفات ولإلنكار محاريب وسدنة وللمنكرين كعبة يتعلقون بأهدابها ويحجون إليها في حلهم وترحالهم ..كعبة مهيبة يسمونها "العلم".. وحينما ظهر أمر "الجينوم البشري" ذلك الكتيب الصغير من خمسة ماليين صفحة في خاليا كل منا واملدون في حيز خلوي ميكروسكوبي في ثالثة مليارات من الحروف الكيميائية عن قدر كل منا ومواطن قوته ومواطن ضعفه وصحته وأمراضه ..أفاق العالم كله كأنما بصدمة كهرباية ..كيف؟ ..ومتى؟ ..وبأي قلم غير مرئي كتب هذا "السفر" الدقيق عن مستقبل لم يأت بعد ..ومن الذي كتب كل تلك املعلومات ..وبأي وسيلة ..ومن الذي يستطيع أن يدون مثل تلك املدونات. ورأينا كلينتون رئيس أكبر دولة في العالم يطالعنا في التلفزيون ليقول في نبرات خاشعة: أخيرا أمكن جمع املعلومات الكاملة عن الجينوم البشري وأوشك العلماء أن يفضوا الشفرة التي كتب هللا بها أقدارنا.. هكذا ذكر "هللا" باالسم في بيانه.. نعم ..كانت صحوة مؤقتة ..أعقبها جدل ..وضجيج ..وعجيج ..وتكلم الكثير ..باسم الدين.. وباسم العلم ..واختلفوا.. وعادت األسئلة القديمة عن حرية اإلنسان.. مسير أم َّ وهل هو َّ مخير.. وإذا كان هللا ّ قدر علينا أفعالنا فلماذا يحاسبنا.. وملاذا خلق هللا البشر.. 3
وما ذنب الذي لم يصله قرآن.. وما موقف الدين من التطور ..وملاذا نقول باستحالة أن يكون القرآن مؤلفا.. وعاد ذلك الحوار القديم مع صديقي امللحد ليتردد ..وعادت موضوعاته ..عن الجبر واالختيار ..والبعث ..واملصير ..والحساب ..لتصبح مواضيع الساعة.. وتعود هذه الطبعة الجديدة في وقتها وميعادها ..لتشارك في حل هذا اللغز ..ولتعود لتثير املوضوع من منطلق العلم الثابت واإلشارات القرآنية ..واليقين اإللهي الذي ال يتزلزل. جاء كتابنا مرة أخرى ..في ميعاده.. ومرحبا مرة أخرى بالحوار الهادئ البناء.
مصطفى محمود
4
الفصل األول :مل يلـد ومل يولـد صديقي رجل يحب الجدل ويهوى الكالم ..وهو يعتقد أننا -نحن املؤمنين السذج -نقتات باألوهام ونضحك على أنفسنا بالجنة والحور العين وتفوتنا لذات الدنيا ومفاتنها ..وصديقي بهذه املناسبة تخرج في فرنسا وحصل على دكتوراه ..وعاش مع الهيبز وأصبح ينكر كل ش يء. قال لي ساخرا: أنتم تقولون :إن هللا موجود ..وعمدة براهينكم هو قانون "السببية" الذي ينص على أن لكل صنعة صانعا ..ولكل خلق خالقا ..ولكل وجود موجدا ..النسيج يدل على ّ النساج ..والرسم الرسام ..والنقش يدل على ّ يدل على ّ النقاش ..والكون بهذا املنطق أبلغ دليل على اإلله القدير الذي خلقه.. صدقنا ّ ّ وآمنا بهذا الخالق ..أال يحق لنا بنفس املنطق أن نسأل ..ومن خلق الخالق ..من خلق هللا الذي تحدثوننا عنه ..أال تقودنا نفس استدالالتكم إلى هذا ..وتبعا لنفس قانون السببية.. ما رأيكم في هذا املطب دام فضلكم؟ ّ ونحن نقول له :سؤالك فاسد ..وال مطب وال حاجة فأنت تسلم بأن هللا خالق ثم تقول َمن خلقه؟! فتجعل منه خالقا ومخلوقا ًفي نفس الجملة وهذا تناقض.. والوجه اآلخر لفساد السؤال أنك تتصور خضوع الخالق لقوانين مخلوقاته ..فالسببية قانوننا نحن أبناء الزمان واملكان. وهللا الذي خلق الزمان واملكان هو بالضرورة فوق الزمان واملكان وال يصح لنا أن نتصوره مقيدا بالزمان واملكان ..وال بقوانين الزمان واملكان. وهللا هو الذي خلق قانون السببية ..فال يجوز أن نتصوره خاضعا لقانون السببية الذي خلقه. وأنت بهذه السفسطة أشبه بالعرائس التي تتحرك بزمبلك ..وتتصور أن اإلنسان الذي صنعها ال بد هو اآلخر يتحرك بزمبلك ..فإذا قلنا لها بل هو يتحرك من تلقاء نفسه ..قالت: مستحيل أن يتحرك ش يء من تلقاء نفسه ..إني أرى في عالمي كل ش يء يتحرك بزمبلك. 5
وأنت باملثل ال تتصور أن هللا موجود بذاته بدون موجد ..ملجرد أنك ترى كل ش يء حولك في حاجة إلى موجد. وأنت كمن يظن أن هللا محتاج إلى براشوت لينزل على البشر ومحتاج إلى أتوبيس سريع ليصل إلى أنبيائه ..سبحانه وتعالى عن هذه األوصاف ّ علوا كبيرا.. و"عمانويل كانت" الفيلسوف األملاني في كتابه "نقد العقل الخالص" أدرك أن العقل ال يستطيع أن يحيط بكنه األشياء وأنه ُم ّهيأ بطبيعته إلدراك الجزئيات والظواهر فقط ..في حين أنه عاجز عن إدراك املاهيات املجردة مثل الوجود اإللهي ..وإنما عرفنا هللا بالضمير وليس بالعقل ..شوقنا إلى العدل كان دليلنا على وجود العادل ..كما أن ظمأنا إلى املاء هو دليلنا على وجود املاء.. أما أرسطو فقد استطرد في تسلسل األسباب قائال :إن الكرس ي من الخشب والخشب من الشجرة ..والشجرة من البذرة ..والبذرة من الزارع ..واضطر إلى القول بأن هذا االستطراد املتسلسل في الزمن الالنهائي البد أن ينتهي بنا في البدء األول إلى سبب في غير حاجة إلى سبب.. سبب أول أو محرك أول في غير حاجة إلى من يحركه ..خالق في غير حاجة إلى خالق ..وهو نفس ما نقوله عن هللا.. أما ابن عربي فكان رده على هذا السؤال "سؤال َمن خلق الخالق" ..بأنه سؤال ال يرد إال على عقل فاسد ..فاهلل هو الذي يبرهن على الوجود وال يصح أن نتخذ من الوجود برهانا على هللا.. تماما كما نقول إن النور يبرهن على النهار ..ونعكس اآلية لو قلنا إن النهار يبرهن على النور.. يقول هللا في حديث قدس ي" :أنا ُيستدل بي ..أنا ال ُيستدل ّ علي".. فاهلل هو الدليل الذي ال يحتاج إلى دليل ..ألنه هللا الحق الواضح بذاته ..وهو الحجة على كل ش يء ..هللا ظاهر في النظام والدقة والجمال واإلحكام ..في ورقة الشجر ..في ريشة الطاووس ..في جناح الفراش ..في عطر الورد ..في صدح البلبل ..في ترابط النجوم والكواكب.. في هذا القصيد السيمفوني الذي اسمه الكون.. لو قلنا إن كل هذا جاء مصادفة ..لكنا كمن يتصور أن إلقاء حروف مطبعة في الهواء يمكن أن يؤدي إلى تجمعها تلقائيا على شكل قصيدة شعر لشكسبير بدون شاعر وبدون مؤلف. 6
والقرآن يغنينا عن هذه املجادالت بكلمات قليلة وبليغة فيقول بوضوح قاطع ودون ُ ُ َ َّ ُ َ اّلل أ َحد * هللا الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد)) تفلسف(( :قل هو [اإلخالص.]1: ويسألنا صاحبنا ساخرا :وملاذا تقولون إن هللا واحد ..؟ ملاذا ال يكون اآللهة متعددين ..؟ يتوزعون بينهم االختصاصات؟ وسوف نرد عليه باملنطق الذي يعترف به ..بالعلم وليس بالقرآن.. سوف نقول له إن الخالق واحد ،ألن الكون كله مبني من خامة واحدة وبخطة واحدة ..فمن األيدروجين تألفت العناصر االثنان والتسعون التي في جدول "مندليف" بنفس الطريقة.. "باالدماج" وإطالق الطاقة الذرية التي تتأجج بها النجوم وتشتعل الشموس في فضاء الكون. كما أن الحياة كلها بنيت من مركبات الكربون "جميع صنوف الحياة تتفحم باالحتراق" وعلى مقتض ى خطة تشريحية واحدة ..تشريح الضفدعة ،واألرنب ،والحمامة ،والتمساح، والزرافة ،والحوت ،يكشف عن خطة تشريحية واحدة ،نفس الشرايين واألوردة وغرفات القلب ،ونفس العظام ،كل عظمة لها نظيرتها ..الجناح في الحمامة هو الذراع في الضفدعة.. نفس العظام مع تحور طفيف ..والعنق في الزرافة على طوله نجد فيه نفس الفقرات السبع التي تجدها في عنق القنفذ ..والجهاز العصبي هو هو في الجميع ،يتألف من مخ وحبل شوكي وأعصاب حس وأعصاب حركة ..والجهاز الهضمي من معدة واثني عشر ،وأمعاء دقيقة وأمعاء غليظة والجهاز التناسلي نفس املبيض والرحم والخصية وقنواتها ..والجهاز البولي الكلية والحالب ،وحويصلة البول ..ثم الوحدة التشريحية في الجميع هي الخلية ..وهي في النبات كما في الحيوان كما في اإلنسان ،بنفس املواصفات ،تتنفس وتتكاثر وتموت وتولد بنفس الطريقة.. فأية غرابة بعد هذا أن نقول إن الخالق واحد؟ ..أال تدل على ذلك وحدة األساليب. وملاذا يتعدد الكامل ..؟ وهل به نقص ليحتاج إلى من يكمله؟ ..إنما يتعدد الناقصون. ولو تعدد اآللهة الختلفوا ،ولذهب كل إله بما خلق ،ولفسدت السماوات واألرض ,وهللا له الكبرياء والجبروت وهذه صفات ال تحتمل الشركة.. 7
ويسخر صاحبنا من معنى الربوبية كما نفهمه ..ويقول أليس عجيبا ذلك الرب الذي يتدخل في كل صغيرة وكبيرة ،فيأخذ بناصية الدابة ،ويوحي إلى النحل أن تتخذ من الجبال بيوتا ،وما ّ تسقط من ورقة إال يعلمها ،وما تخرج من ثمرات من أكمامها إال أحصاها عددا ،وما تحمل من أنثى وال تضع إال بعلمه ..وإذا عثرت قدم في حفرة فهو الذي أعثرها ..وإذا سقطت ذبابة في طعام فهو الذي أسقطها ..وإذا تعطلت الحرارة في تليفون فهو الذي عطلها ..وإذا امتنع املطر فهو الذي منعه ،وإذا هطل فهو الذي أهطله ..أال تشغلون إلهكم بالكثير التافه من األمور بهذا الفهم.. وال أفهم أيكون الرب في نظر السائل أجدر بالربوبية لو أنه أعفى نفسه من هذه املسئوليات وأخذ إجازة وأدار ظهره للكون الذي خلقه وتركه يأكل بعضه بعضا! هل الرب الجدير في نظره هو رب عاطل مغمى عليه ال يسمع وال يرى وال يستجيب وال يعتني بمخلوقاته؟ ..ثم من أين للسائل بالعلم بأن موضوعا ما تافه ال يستحق تدخل اإلله، وموضوعا آخر مهما وخطير الشأن؟ إن الذبابة التي تبدو تافهة في نظر السائل ال يهم في نظره أن تسقط في الطعام أو ال تسقط، هذه الذبابة يمكن أن ّ تغير التاريخ بسقوطها التافه ذلك ..فإنها يمكن أن تنقل الكوليرا إلى جيش وتكسب معركة لطرف آخر ،تتغير بعدها موازين التاريخ كله. ألم تقتل اإلسكندر األكبر بعوضة؟ إن أتفه املقدمات ممكن أن تؤدي إلى أخطر النتائج ..وأخطر املقدمات ممكن أن تنتهي إلى ال ش يء ..وعالم الغيب وحده هو الذي يعلم قيمة كل ش يء. تقدس ّ وصيا على هللا يحدد له اختصاصاتهّ .. وهل تصور السائل نفسه ّ وتنزه ربنا عن هذا التصور الساذج. إنما اإلله الجدير باأللوهية هنا هو اإلله الذي أحاط بكل ش يء علما ..ال يعزب عنه مثقال ذرة في األرض وال في السماء. اإلله السميع املجيب ،املعتني بمخلوقاته.
8
َّ الفصل الثاني :إذا كان اهلل قدر علي أفعايل فلماذا حياسبني؟
قال صديقي في شماتة وقد ّ تصور أنه أمسكني من عنقي وأنه ال مهرب لي هذه املرة: أنتم تقولون إن هللا ُيجري كل ش يء في مملكته بقضاء وقدر ،وإن هللا َّ قدر علينا أفعالنا، فإذا كان هذا هو حالي ،وأن أفعالي كلها ّ مقدرة عنده فلماذا يحاسبني عليها؟ َّ ال تقل لي كعادتك ..أنا مخيـر ..فليس هناك فرية أكبر من هذه الفرية ودعني أسألك: هل ُخ ّـي ُ رت في ميالدي وجنس ي وطولي وعرض ي ولوني ووطني؟ هل باختياري تشرق الشمس ويغرب القمر؟ هل باختياري ينزل َّ علي القضاء ويفاجئني املوت وأقع في املأساة فال أجد مخرجا إال الجريمة ..ملاذا ُيكرهني هللا على فعل ثم يؤاخذني عليه؟ وإذا قلت إنك حر ،وإن لك مشيئة إلى جوار مشيئة هللا أال تشرك بهذا الكالم وتقع في القول بتعدد املشيئات؟ ثم ما قولك في حكم البيئة والظروف ،وفي الحتميات التي يقول بها املاديون التاريخيون؟ أطلق صاحبي هذه الرصاصات ثم راح يتنفس الصعداء في راحة وقد َّ تصور أني توفيت وانتهيت ،ولم يبق أمامه إال استحضار الكفن.. قلت له في هدوء: أنت واقع في عدة مغالطات ..فأفعالك معلومة عند هللا في كتابه ،ولكنها ليست مقدورة مقد ة في علمه فقط ..كما ّ تقدر أنت بعلمك أن ابنك سوف يزني ..ثم عليك باإلكراه ..إنها َّ ر ِّ يحدث أن يزني بالفعل ..فهل أكرهته ..أو كان هذا تقديرا في العلم وقد أصاب علمك.. أما كالمك عن الحرية بأنها فرية ،وتدليلك على ذلك بأنك لم َّ تخير في ميالدك وال في جنسك وال في طولك وال في لونك وال في موطنك ،وأنك ال تملك نقل الشمس من مكانها ..هو تخليط آخر.. َّ تتصور الحرية بالطريقة غير تلك التي نتصورها نحن وسبب التخليط هذه املرة أنك املؤمنين.. 9
أنت تتكلم عن حرية مطلقة ..فتقول ..أكنت أستطيع أن أخلق نفس ي أبيض أو أسود أو طويال أو قصيرا ..هل بإمكاني أن أنقل الشمس من مكانها أو أوقفها في مدارها ..أين حريتي؟ ونحن نقول له :أنت تسأل عن حرية مطلقة ..حرية التصرف في الكون وهذه ملك هلل وحده.. َ َ ُّ َ َ ُ ُ َ َ َ َ َ َ ُ َ َ َ َ ُ ان ل ُه ُم ال ِّخ َي َرة)) نحن أيضا ال نقول بهذه الحرية ((وربك يخلق ما يشاء ويختار ما ك [القصص.]25: ليس ألحد الخيرة في مسألة الخلق ،ألن هللا هو الذي يخلق ما يشاء ويختار.. ولن يحاسبك هللا على ق َ صرك ولن يعاتبك على طولك ولن يعاقبك ألنك لم توقف الشمس ِّ في مدارها ،ولكن مجال املساءلة هو مجال التكليف ..وأنت في هذا املجال حر ..وهذه هي الحدود التي نتكلم فيها.. أنت حر في أن تقمع شهوتك وتلجم غضبك وتقاوم نفسك وتزجر نياتك الشريرة وتشجع ميولك الخيرة.. أنت تستطيع أن تجود بمالك ونفسك.. أنت تستطيع أن تصدق وأن تكذب.. وتستطيع أن تكف يدك عن املال الحرام.. وتستطيع أن تكف بصرك عن عورات اآلخرين.. وتستطيع أن تمسك لسانك عن السباب والغيبة والنميمة.. في هذا املجال نحن أحرار.. ُ َ ُ حاسب ونسأل.. وفي هذا املجال ن الحرية التي يدور حولها البحث هي الحرية النسبية وليست الحرية املطلقة حرية اإلنسان في مجال التكليف.. وهذه الحرية حقيقة ودليلنا عليها هو شعورنا الفطري بها في داخلنا فنحن نشعر باملسئولية وبالندم على الخطأ ،وبالراحة للعمل الطيب ..ونحن نشعر في كل لحظة أننا نختار ونوازن بين احتماالت متعددة ،بل إن وظيفة عقلنا األولى هي الترجيح واالختيار بين البديالت..
01
ونحن نفرق بشكل واضح وحاسم بين يدنا وهي ترتعش بالحمى ،ويدنا وهي تكتب خطابا.. فنقول إن حركة األولى جبرية قهرية ،والحركة الثانية حرة اختيارية ..ولو كنا مسيرين في الحالتين ملا استطعنا التفرقة.. ويؤكد هذه الحرية ما نشعر به من استحالة إكراه القلب على ش يء ال يرضاه تحت أي ُ ضغط ..فيمكنك أن تكره امرأة بالتهديد والضرب على أن تخلع ثيابها ..ولكنك ال تستطيع بأي ضغط أو تهديد أن تجعلها تحبك من قلبها ومعنى هذا أن هللا أعتق قلوبنا من كل صنوف اإلكراه واإلجبار ،وأنه فطرها حرة.. ولهذا جعل هللا القلب والنية عمدة األحكام ،فاملؤمن الذي ينطق بعبارة الشرك والكفر تحت التهديد والتعذيب ال يحاسب على ذلك طاملا أن قلبه من الداخل مطمئن باإليمان ،وقد استثناه هللا من املؤاخذة في قوله تعالى(( :إ َّال َمن ُأكر َه َو َقل ُب ُه ُمط َِّ اإل َيم ِّان)) [النحل.]102: ب ن ئ م ِّ ِّ ِّ ِّ والوجه اآلخر من الخلط في هذه املسألة أن بعض الناس يفهم حرية اإلنسان بأنها علو على املشيئة ،وانفراد باألمر ،فيتهم القائلين بالحرية بأنهم أشركوا باهلل وجعلوا له أندادا يأمرون كأمره ،ويحكمون كحكمه ،وهذا ما فهمته أنت أيضا ..فقلت بتعدد املشيئات ..وهو فهم خاطئ ..فالحرية اإلنسانية ال تعلو على املشيئة اإللهية.. إن اإلنسان قد يفعل بحريته ما ينافي الرضا اإللهي ولكنه ال يستطيع أن يفعل ما ينافي املشيئة.. هللا أعطانا الحرية أن نعلو على رضاه "فنعصيه" ،ولكن لم يعط أحدا الحرية في أن يعلو على مشيئته ..وهنا وجه آخر من وجوه نسبية الحرية اإلنسانية.. وكل ما يحدث منا داخل في املشيئة اإللهية وضمنها ،وإن خالف الرضا اإللهي وجانب الشريعة.. وحريتنا ذاتها كانت منحة إلهية وهبة منحها لنا الخالق باختياره ..ولم نأخذها منه كرها وال غصبا.. إن حريتنا كانت عين مشيئته.. َ ومن هنا معنى اآليةَ (( :و َما َت َش ُاؤو َن إال أن َي َشاء َّ ُ اّلل)) [اإلنسان.]30: ِّ 00
ألن مشيئتنا ضمن مشيئته ،ومنحة منه ،وهبة من كرمه وفضله ،فهي ضمن إرادته ال ثنائية وال تناقض ،وال منافسة منا ألمر هللا وحكمه.. والقول بالحرية بهذا املعنى ال ينافي التوحيد ،وال يجعل هلل أندادا يحكمون كحكمه ويأمرون كأمره ..فإن حرياتنا كانت عين أمره ومشيئته وحكمه.. والوجه الثالث للخلط أن بعض من تناولوا مسألة القضاء والقدر والتسيير والتخيير.. فهموا القضاء والقدر بأنه إكراه لإلنسان على غير طبعه وطبيعته وهذا خطأ وقعت فيه أنت أيضا ..وقد نفى هللا عن نفسه اإلكراه بآيات صريحة(( :إن َّن َشأ ُن َن ّزل َع َليهم ّمن َّ الس َماء َآية ِّ ِّ ِّ ِّ َ َ َّ َ َ ُ ُ َ َ َ اض ِّع َين)) [الشعراء..]6: خ فظلت أعناقهم لها ِّ ُ واملعنى واضح ..أنه كان من املمكن أن نكره الناس على اإليمان باآليات امللزمة ،ولكننا لم نفعل ..ألنه ليس في سنتنا اإلكراه.. َ (( َال إك َر َاه في ّ الدين َقد َّت َب َّي َن ُّ الرش ُد ِّم َن الغ ّ ِّي)) [البقرة.]252: ِّ ِّ ِّ ِّ َ َ َ َ ُّ ُ ُ َ ُ ُ آلم َن َمن في األ ض كل ُهم َجميعا أفأ َ نت تكر ُه َّ (( َو َلو شاء َرُّب َك َ الن َ اس َح َّتى َيكونوا ُمؤ ِّم ِّن َين)) ر ِّ ِّ ِّ ِّ [يونس.]77: ليس في ُسنة هللا اإلكراه.. والقضاء والقدر ال يصح أن ُيفهم على أنه إكراه للناس على غير طبائعهم ..وإنما على العكس.. هللا يقض ي على كل إنسان من جنس نيته ..ويشاء له من جنس مشيئته ،ويريد له من جنس إرادته ،ال ثنائية ..تسيير هللا هو عين تخيير العبد ،ألنه هللا ّ يسير كل امرئ على هوى قلبه وعلى ِّ مقتض ى نياته.. َ َ َ َ َ َ َ ُ ُ َ َ ُّ ُ (( َمن َك َ الدن َيا نؤ ِّت ِّه ِّمن َها)) ان ُي ِّر ُيد َحرث اآل ِّخ َر ِّة ن ِّزد ل ُه ِّفي َحرِّث ِّه ومن كان ي ِّريد حرث [الشورى.]20: ((في ُق ُلوبهم َّم َرض َف َز َاد ُه ُم ّ ُ اّلل َم َرضا)) [البقرة.]10: ِّ ِّ ِّ َّ َ َ (( َوالذ َ ين اهتدوا َز َاد ُهم ُهدى)) [محمد.]17: ِّ
02
ُ َ ُ ُ َ َ َ ُّ ُُ ُ َ اّلل ِّفي قل ِّوبكم خيرا ُيؤ ِّتكم خيرا ِّّم َّما أ ِّخذ ِّمنكم)) وهو يخاطب األسرى في القرآنِّ (( :إن يعل ِّم [األنفال.]70: هللا يقض ي ّ ويقدر ،ويجري قضاءه وقدره على مقتض ى النية والقلب ..إن شرا فشر وإن خيرا ِّ فخير.. ومعنى هذا أنه ال ثنائية ..التسيير هو عين التخيير ..وال ثنائية وال تناقض.. هللا ّ يسيرنا إلى ما اخترناه بقلوبنا ونياتنا ،فال ظلم وال إكراه وال جبر ،وال قهر لنا على غير ِّ طبائعنا.. َ َ (( َف َأ َّما َمن َأع َطى َو َّات َقى * َو َ ص َّد َق ِّبال ُحس َنى * ف َس ُن َي ِّ ّس ُر ُه ِّلل ُيس َرى * َوأ َّما َمن َب ِّخ َل َواس َتغ َنى * َ َ َّ َوكذ َب ِّبال ُحس َنى * ف َس ُن َي ِّ ّس ُر ُه ِّلل ُعس َرى)) [الليل..]5: (( َو َما َر َمي َت إذ َر َمي َت َو َلك َّن ّ َ اّلل َر َمى)) [األنفال.]17: ِّ ِّ هنا تلتقي رمية العبد والرمية َّ املقدرة من الرب ،فتكون رمية واحدة ..وهذا مفتاح لغز القضاء والقدر ..على العبد النية ،وعلى هللا التمكين ،إن خيرا فخير ،وإن شرا فشر.. والحرية اإلنسانية ليست مقدارا ثابتا ،ولكنها قدرة نسبية قابلة للزيادة.. اإلنسان يستطيع أن يزيد من حريته بالعلم ..باختراع الوسائل واألدوات واملواصالت استطاع اإلنسان أن يطوي األرض ،ويهزم املسافات ،ويخترق قيود الزمان واملكان ..وبدراسة قوانين البيئة استطاع أن يتحكم فيها ويسخرها لخدمته ،وعرف كيف يهزم الحر والبرد والظالم ،وبذلك يضاعف من حرياته في مجال الفعل.. العلم كان وسيلة إلى كسر القيود واألغالل وإطالق الحرية.. أما الوسيلة الثانية فكانت الدين ..االستمداد من هللا بالتقرب منه ..واألخذ عنه بالوحي والتلقي والتأييد ..وهذه وسيلة األنبياء ومن في دربهم.. ّ ّ سخر سليمان الجن وركب الريح وكلم الطير بمعونة هللا ومدده.. وشق موس ى البحر ..وأحيا املسيح املوتى ..ومش ى على املاء ..وأبرأ األكمه واألبرص واألعمى.. ُ ونقرأ عن األولياء أصحاب الكرامات الذين تطوى لهم األرض وتكشف لهم املغيبات..
03
وهي درجات من الحرية اكتسبوها باالجتهاد في العبادة والتقرب إلى هللا والتحبب إليه.. فأفاض عليهم من علمه املكنون.. إنه العلم مرة أخرى.. ولكنه هذه املرة العلم "اللدني".. َّ ولهذا ُيلخص أبو حامد الغزالي مشكلة َّ واملسير قائال في كلمتين: املخير اإلنسان َّ مخير فيما يعلم.. َّ مسير فيما ال يعلم.. وهو يعني بهذا أنه كلما اتسع علمه اتسع مجال حريته ..سواء كان العلم املقصود هو العلم ّ اللدني.. املوضوعي أو العلم ِّ ويخطئ املفكرون املاديون أشد الخطأ حينما يتصورون اإلنسان أسير الحتميات التاريخية والطبقية ..ويجعلون منه حلقة في سلسلة من الحلقات ال فكاك له ،وال مهرب من الخضوع لقوانين االقتصاد وحركة املجتمع ،كأنما هو قشة في تيار بال ذراعين وبال إرادة.. والكلمة التي يرددونها وال يتعبون من ترديدها وكأنها قانون" :حتمية الصراع الطبقي" وهي كلمة خاطئة في التحليل العلمي ،ألنه ال حتميات في املجال اإلنساني ،وإنما على األكثر ترجيحات واحتماالت ..وهذا هو الفرق بين اإلنسان ،وبين التروس ،واآلالت واألجسام املادية ..فيمكن التنبوء بخسوف الشمس بالدقيقة والثانية ،ويمكن التنبؤ بحركاتها املستقبلة على مدى أيام وسنين ..أما اإلنسان فال يمكن أن يعلم أحد ماذا ُيضمر وماذا ُيخبئ في نياته ،وماذا يفعل غدا أو بعد غد ..وال يمكن معرفة هذا إال على سبيل االحتمال والترجيح والتخمين ،وذلك على فرض توفر املعلومات الكافية للحكم.. وقد أخطأت جميع تنبؤات كارل ماركس ،فلم تبدأ الشيوعية في بلد متقدم كما تنبأ ،بل في بلد متخلف ،ولم يتفاقم الصراع بين الرأسمالية والشيوعية ،بل تقارب االثنان إلى حالة من التعايش السلمي ،وأكثر من هذا فتحت البالد الشيوعية أبوابها لرأس املال األمريكي ..ولم تتصاعد التناقضات في املجتمع الرأسمالي إلى اإلفالس الذي توقعه كارل ماركس ،بل على
04
العكس ،ازدهر االقتصاد الرأسمالي ووقع الشقاق والخالف بين أطراف املعسكر االشتراكي ذاته.. أخطأت حسابات ماركس جميعها دالة بذلك على خطأ منهجه الحتمي ..ورأينا صراع العصر الذي يحرك التاريخ هو الصراع الالطبقي بين الصين وروسيا ،وليس الصراع الطبقي الذي جعله ماركس عنوان منهجه ..وكلها شواهد على فشل الفكر املادي في فهم اإلنسان والتاريخ ،وتخبطه في حساب املستقبل ..وجاء كل ذلك نتيجة خطأ جوهري ،هو أن الفكر املادي َّ تصور أن اإلنسان ذبابة في شبكة من الحتميات ..ونس ي تماما ّأن اإلنسان حر ..وأن حريته حقيقة.. ّأما كالم املاديين عن حكم البيئة واملجتمع والظروف ،وأن اإلنسان ال يعيش وحده وال تتحرك حريته في فراغ.. نقول ر ّدا على هذا الكالم :إن حكم البيئة واملجتمع والظروف كمقاومات للحرية الفردية إنما يؤكد املعنى الجدلي لهذه الحرية وال ينفيه ..فالحرية الفردية ..ال تؤكد ذاتها إال في وجه مقاومة تزحزحها.. أما إذا كان اإلنسان يتحرك في فراغ بال مقاومة من أي نوع فإنه ال يكون حرا باملعنى املفهوم للحرية ،ألنه لن تكون هناك عقبة يتغلب عليها ويؤكد حريته من خاللها..
05
الفصل الثالث :ملاذا خلق اهلل الشر؟ قال صاحبي ساخرا: كيف تزعمون أن إلهكم كامل ورحمن ورحيم وكريم ورءوف وهو قد خلق كل هذه الشرور في العالم ..املرض والشيخوخة واملوت والزلزال والبركان وامليكروب والسم والحر والزمهرير وآالم السرطان التي ال تعفي الطفل الوليد وال الشيخ الطاعن. إذا كان هللا محبة وجماال وخيرا فكيف يخلق الكراهية والقبح والشر. واملشكلة التي أثارها صاحبي من املشاكل األساسية في الفلسفة وقد انقسمت حولها مدارس الفكر واختلفت حولها اآلراء. ونحن نقول أن هللا كله رحمة وكله خير وأنه لم يأمر بالشر ولكنه سمح به لحكمة. َ ََ َ َ ُ َ َّ ّ َ َ َ ُ ُ َ َ َ َ ُ ُ َن َ َ ّ اّلل َما ال تعل ُمون * قل أ َم َر َرِّّبي ِّبال ِّقس ِّط َوأ ِّق ُيموا (( ِّإن اّلل ال يأمر ِّبالفحشاء أتقولو على ِّ َ ُ ُ ُ َ ُ ند ك ِّ ّل َمس ِّجد)) [األعراف.]27-25: وهكم ِّع وج هللا ال يأمر إال بالعدل واملحبة واإلحسان والعفو والخير وهو ال يرض ى إال بالطيب. فلماذا ترك الظالم يظلم والقاتل يقتل والسارق يسرق؟ ألن هللا أرادنا أحرارا ..والحرية اقتضت الخطأ وال معنى للحرية دون أن يكون لنا حق التجربة والخطأ والصواب ..واالختيار الحر بين املعصية والطاعة. وكان في قدرة هللا أن يجعلنا جميعا أخيارا وذلك بأن يقهرنا على الطاعة قهرا وكان ذلك يقتض ي أن يسلبنا حرية االختيار. وفي دستور هللا وسنته أن الحرية مع األلم أكرم لإلنسان من العبودية مع السعادة ..ولهذا تركنا نخطيء ونتألم ونتعلم وهذه هي الحكمة في سماحه بالشر. ومع ذلك فإن النظر املنصف املحايد سوف يكشف لنا أن الخير في الوجود هو القاعدة وأن الشر هو االستثناء.. فالصحة هي القاعدة واملرض استثناء ونحن نقض ي معظم سنوات عمرنا في صحة وال يزورنا املرض إال أياما قليلة ..وباملثل الزالزل هي في مجملها بضع دقائق في عمر الكرة األرضية 06
الذي يحص ى بماليين السنين وكذلك البراكين وكذلك الحروب هي تشنجات قصيرة في حياة األمم بين فترات سالم طويلة ممتدة. ثم أننا نرى لكل ش يء وجه خير فاملرض يخلف وقاية واأللم يربي الصالبة والجلد والتحمل والزالزل تنفس عن الضغط املكبوت في داخل الكرة األرضية وتحمي القشرة األرضية من االنفجار وتعيد الجبال إلى أماكنها كأحزمة وثقاالت تثبت القشرة األرضية في مكانها ،والبراكين تنفث املعادن والثروات الخبيثة الباطنة وتكسو األرض بتربة بركانية خصبة ..والحروب تدمج األمم وتلقح بينها وتجمعها في كتل وأحالف ثم في عصبة أمم ثم في مجلس أمن هو بمثابة محكمة عاملية للتشاكي والتصالح ..وأعظم االختراعات خرجت أثناء الحروب ..البنسلين الذرة الصواريخ الطائرات النفاثة كلها خرجت من أتون الحروب. ومن سم الثعبان يخرج الترياق. ومن امليكروب نصنع اللقاح. ولوال أن أجدادنا ماتوا ملا كنا اآلن في مناصبنا ،والشر في الكون كالظل في الصورة إذا اقتربت منه خيل إليك أنه عيب ونقص في الصورة ..ولكن إذا ابتعدت ونظرت إلى الصورة ككل نظرة شاملة اكتشفت أنه ضروري وال غنى عنه وأنه يؤدي وظيفة جمالية في البناء العام للصورة. وهل كان يمكننا أن نعرف الصحة لوال املرض ..إن الصحة تظل تاجا على رؤوسنا ال نراه وال نعرفه إال حينما نمرض. وباملثل ما كان ممكنا أن نعرف الجمال لوال القبح وال الوضع الطبيعي لوال االشاذ. ولهذا يقول الفيلسوف أبو حامد الغزالي :إن نقص الكون هو عين كماله مثل اعوجاج القوس هو عين صالحيته ولو أنه استقام ملا رمى. وظيفة أخرى للمشقات واآلالم ..أنها هي التي تفرز الناس وتكشف معادنهم. لوال املشقة ساد الناس كلهم . ..الجود يفقر واإلقدام قتال إنها االمتحان الذي نعرف به أنفسنا ..واالبتالء الذي تتحدد به مراتبنا عند هللا. ثم إن الدنيا كلها ليست سوى فصل واحد من رواية سوف تتعدد فصولها فاملوت ليس نهاية القص ولكن بدايتها. 07
وال يجوز أن نحكم على مسرحية من فصل واحد وال أن نرفض كتابا ألن الصفحة األولى لم تعجبنا. الحكم هنا ناقص.. وال يمكن استطالع الحكمة كلها إال في آخر املطاف ..ثم ما هو البديل الذي يتصوره السائل الذي يسخر منا؟! هل يريد أن يعيش حياة بال موت بال مرض بال شيخوخة بال نقص بال عجز بال قيود بال أحزان بال آالم. هل يطلب كماال مطلقا؟! ولكن الكمال املطلق هلل. والكامل واحد ال يتعدد ..وملاذا يتعدد ..وماذا ينقصه ليجده في واحد آخر غيره؟! معنى هذا أن صاحبنا لن يرضيه إال أن يكون هو هللا ذاته وهو التطاول بعينه. ودعونا نسخر منه بدورنا ..هو وأمثاله ممن ال يعجبهم ش يء. هؤالء الذين يريدونها جنة.. ماذا فعلوا ليستحقونها جنة؟ وماذا قدم صاحبنا لإلنسانية ليجعل من نفسه هللا الواحد القهار الذي يقول للش يء كن فيكون. إن جدتي أكثر ذكاء من األستاذ الدكتور املتخرج من فرنسا حينما تقول في بساطة" :خير من هللا شر من نفوسنا". إنها كلمات قليلة ولكنها تلخيص أمين للمشكلة كلها.. فاهلل أرسل الرياح وأجرى النهر ولكن ربان السفينة الجشع مأل سفينته بالناس والبضائع بأكثر مما تحتمل فغرقت فمض ى يسب هللا والقدر ..وما ذنب هللا؟! ..هللا أرسل الرياح رخاء وأجرى النهر خيرا ..ولكن جشع النفوس وطمعها هو الذي قلب هذا الخير شرا. ما أصدقها من كلمات جميلة طيبة.. "خير من هللا شر من نفوسنا". 08
الفصل الرابع :وما ذنب الذي مل يصله قرآن؟ هرش صاحبنا الدكتور رأسه.. كان من الواضح أنه يبحث لي في الدكتوراه عن حفرة أو مطب يدق عنقي فيه ..ثم قال في هدوء وهو يرتب كلماته: حسنا ..وما رأيك في هذا اإلنسان الذي لم يصله قرآن ولم ينزل عليه كتاب ..ولم يأته نبي.. ما ذنبه ..وما مصيره عندكم يوم الحساب ..مثل اسكيمو في أقاص ي القطبين ..أو زنجي في الغابات ..ماذا يكون حظه بين يدي إلهكم يوم القيامة. قلت له: دعني أصحح معلوماتك أوال ..فقد بنيت أسئلتك على مقدمة خاطئة ..فاهلل أخبرنا بأنه لم يحرم أحدا من رحمته ووحيه وكلماته وآياته. ُ َّ َ َ (( َوِّإن ِّّمن أ َّمة ِّإال خال ِّف َيها ن ِّذير)) [فاطر.]26: ُ ُ ََ (( َولقد َب َعث َنا ِّفي ك ِّ ّل أ َّمة َّر ُسوال)) [النحل.]32: والرسل الذين جاء ذكرهم في القرآن ليسوا كل الرسل.. وإنما هناك آالف غيرهم ال نعلم عنهم شيئا ..وهللا يقول لنبيه عن الرسل: َ ((من ُهم َّمن َق َ صص َنا َع َلي َك َومن ُهم َّمن َّلم َنق ُ صص َعلي َك)) [غافر.]75: ِّ ِّ وهللا يوحي إلى كل ش يء حتى النحل. َ َ َ َ َ ُّ َ َ َ ُ ُ َ َ َّ َ َ َّ َ ُ نَ َّ َّ َ ((وأوحى ربك ِّإلى النح ِّل أ ِّن ات ِّخ ِّذي ِّمن ال ِّجب ِّال بيوتا و ِّمن الشج ِّر و ِّمما يع ِّرشو )) [النحل.]25: وقد يكون الوحي كتابا يلقيه جبريل ..وقد يكون نورا يلقيه هللا في قلب العبد ..وقد يكون انشراحا في الصدر ..وقد يكون حكمة وقد يكون حقيقة وقد يكون فهما وقد يكون خشوعا ورهبة وتقوى. وما من أحد يرهف قلبه ويرهف سمعه إال ويتلقى من هللا فضال. أما الذين يصمون آذانهم وقلوبهم فال تنفعهم كتب وال رسل وال معجزات ولو كثرت. 09
وهللا قال أنه يختص برحمته من يشاء ..وأنه ال يسأل عما يفعل. وقد يريد هللا لحكمة أن ينذر أحدا وأن يعذر آخر فيقبل منه أهون اإليمان. ومن يدرينا ..ربما كانت مجرد لفته من ذلك الزنجي البدائي إلى السماء في رهبة هي عند هللا منجية ومقبولة أكثر من صالتنا. على أن القراءة املتأملة ألديان هؤالء الزنوج البدائيين تدل على أنه كان لهم رسل ورساالت سماوية مثل رساالتنا. في قبيلة املاو ماو مثال نقرأ أنهم يؤمنون بإله يسمونه "موجايى" ويصفونه بأنه واحد أحد لم يلد ولم يولد وليس له كفو وال شبيه ..وأنه ال يرى وال يعرف إال من آثاره وأفعاله ..وأنه خالق رازق وهاب رحيم يشفي املريض وينجد املأزوم وينزل املطر ويسمع الدعاء ويصفونه بأن البرق خنجره والرعد وقع خطاه. أليس هذا الـ"موجايى" هو إلهنا بعينه ..ومن أين جاءهم هذا العلم إال أن يكون في تاريخهم رسول ومبلغ جاء به ..ثم تقادم عليه العهد كاملعتاد فدخلت الخرافات والشعوذات فشوهت هذا النقاء الديني. وفي قبيلة نيام نيام نقرأ أنهم يؤمنون بإله واحد يسمونه "مبولي" ويقولون أن كل ش يء في الغابة يتحرك بإرادة "مبولي" وأنه يسلط الصواعق على األشرار من البشر ..ويكافئ األخيار بالرزق والبرة واألمان. وفي قبيلة الشيلوك يؤمنون بإله واحد يسمونه "جوك" ويصفونه بأنه خفي وظاهر ..وأنه في السماء وفي كل مكان وأنه خالق كل ش يء. وفي قبيلة الدنكا يؤمنون بإله واحد يسمونه "نياالك" وهي كلمة ترجمتها الحرفية ..الذي في السماء ..أو األعلى. ماذا نسمي هذه العقائد إال أنها إسالم. وماذا تكون إال رساالت كان لها في تاريخ هؤالء األقوام رسل. إن الدين لواحد.
21
َّ َّ َ َ ُ َ َّ َ َ ُ َ َّ َ َ ى َ َّ َ َ َ َ َّ اّلل َوال َ اآلخ ِّر َو َع ِّم َل م و ي ِّ ِّ (( ِّإن ال ِّذين آمنوا وال ِّذين هادوا والنصار والص ِّاب ِّئين من آمن ِّب ِّ َ َ ُ َ َ َ صالحا َف َل ُهم َأج ُر ُهم ع َ َ ند َ ِّرّب ِّهم َوال خوف َعلي ِّهم َوال ُهم َيح َزنون)) [البقرة.]22: ِّ ِّ حتى الصابئين الذين عبدوا الشمس على أنها آية من آيات هللا وآمنوا باهلل الواحد وباآلخرة والبعث والحساب وعملوا الصالحات فلهم أجرهم عند ربهم. ومعلوم أن رحمة هللا تتفاوت. وهناك من يولد أعمى وهناك من يولد مبصرا وهناك من عاش أيام موس ى ورآه رأي العين وهو يشق البحر بعصاه ..وهناك من عاش أيام املسيح ورآه يحيى املوتى ..أما نحن فال نعلم عن هذه اآليات إال سمعا ..وليس الخبر كالعيان ..وليس من رأي كمن سمع. ومع ذلك فاإليمان وعدمه ليس رهنا باملعجزات. واملكابرون املعاندون يرون العجب من أنبيائهم فال يزيد قولهم على أن هذا ((سحر مفترى)). وال شك أن صاحبنا الدكتور القادم من فرنسا قد بلغه من الكتب ثالثة ..توراة وإنجيل وقرآن وبلغته ..فلم تزده هذه الكتب إال إغراقا في الجدل ..وحتى يهرب من املوقف كله أحاله على شخص مجهول في الغابات لم ينزل عليه كتاب ..وراح يسألنا ..وما بالكم بهذا الرجل الذي لم يصله قرآن ولم ينزل عليه كتاب ..ملتمسا بذلك ثغرة في العدل اإللهي أو موهما نفسه بأن املسألة كلها عبث. وهو لذلك يسألنا :وملاذا تتفاوت رحمة هللا ..ملاذا يشهد هللا واحدا على آياته ..وال يدري آخر بتلك اآليات إال سمعا. ونحن نقول أنها قد ال تكون رحمة بل نقمة ألم يقل هللا ألتباع املسيح الذين طلبوا نزول ّ ُ َ ُّ َ َ َ ُ َ َ َ ُ َ ُ ُ نكم َفإ ّني ُأ َع ّذ ُب ُه َع َذابا َّال ُأ َع ّذ ُبهُ مائدة من السماء محذراِّ (( :إ ِّني من ِّزلها عليكم فمن يكفر بعد ِّم ِّ ِّ ِّ ِّ َ َ ّ َ َ َ َ أحدا ِّمن الع ِّاملين)) [املائدة.]115: ذلك ألنه مع نزول املعجزات يأتي دائما تشديد العذاب ملن يكفر. وطوبى ملن آمن بالسماع ودون أن يرى معجزة. والويل للذين شاهدوا ولم يؤمنوا. 20
فالقرآن في يدك حجة عليك ونذير ..ويوم الحساب يصبح نقمة ال رحمة. وعدم إقامة هذه الحجة البينة على االسكيمو ساكن القطبين قد يكون إعفاء وتخفيفا ورحمة ومغفرة يوم الحساب ..وقد تكون لفتة إلى السماء من هذا االسكيمو الجاهل ذات ساعة في عمره ..عند هللا كافية لقبوله مؤمنا مخلصا. أما ملاذا يرحم هللا واحدا أكثر مما يرحم آخر فهو أمر يؤسسه هللا على علمه بالقلوب.. َ َ َ َ َّ َ َ ُ ََ َ َ َ ((ف َع ِّل َم َما ِّفي ُقل ِّوب ِّهم فأنزل الس ِّك َينة َعلي ِّهم َوأث َاب ُهم فتحا ق ِّريبا)) [الفتح.]15: وعلم هللا بنا وبقلوبنا يمتد إلى ما قبل نزولنا في األرحام حينما كنا عنده أرواحا حول عرشه.. فمنا من التف حول نوره ..ومنا من انصرف عنه مستمتعا بامللكوت وغافال عن جمال خالقه.. فاستحق الرتبة الدنيا من ذلك اليوم وسبق عليه القول ..هذا كالم أهل املشاهدة. وما نراه من تاريخنا القصير في الدنيا ليس كل ش يء.. ومعرفة الحكمة من كل ألم وحرمان أمر ال يعلمه إال العليم. والذي يسألني ..ملاذا خلق هللا الخنزير خنزيرا ..ال أملك إال أن أجيبه بأن هللا اختار له ثوبا خنزيريا ألن نفسه خنزيرية وأن خلقه هكذا حق وعدل. وكل ما نرى حولنا من استحقاقات هي عدل لكن معرفة الحكمة الكلية وإماطة اللثام عن هذا العدل أمر ليس في مقدور كل واحد. ولعل لهذا السبب هناك آخرة ..ويوم تنصب فيه املوازين وينبئنا العليم بكل ما اختلفنا فيه. ومع هذا فسوف أريحك بالكلمة الفصل ..فقد قال هللا في كتابه أنه لن يعذب إال من أنذرهم ُ َ َ ّ بالرسلَ (( ..و َما ك َّنا ُم َع ِّذ ِّب َين َح َّتى نب َعث َر ُسوال)) [اإلسراء.]15: هل أرحت واسترحت.. ثم دعني أقول لك يا صاحبي.. إن أعجب ما في سؤالك أن ظاهره يوهم باإليمان واإلشفاق على الزنجي املسكين الذي فاته ما في القرآن من نور ورحمة وهدى ..مع أن حقيقتك هي الكفر بالقرآن وبنوره ورحمته وهداه ..فسؤالك أقرب ما يكون إلى االستدراج واملخادعة وفيه مناقضة للنفس هي "اللكاعة" بعينها ..فأنت تحاول أن تقيم علينا حجة هي عندك ليس لها أي حجة. 22
أال ترى معي يا صاحبي أن جهاز املنطق عندك في حاجة إلى إصالح.
23
الفصل اخلامس :اجلنة والنار كان صديقنا الدكتور واثقا من نفسه كل الثقة هذه املرة وهو يلوك الكلمات ببطء ليلقي بالقنبلة: كيف يعذبنا هللا وهو الرحمن الرحيم على ذنب محدود في الزمن بعذاب ال محدود في األبد ((النار خالدين فيها أبدا)). ومن نحن وماذا نساوي بالنسبة لعظمة هللا حتى ينتقم منا هذا االنتقام.. وما اإلنسان إال ذرة أو هبأة في الكون وهو بالنسبة لجالل هللا أهون من ذلك بكثير ..بل هو الالش يء بعينه. ونحن نصحح معلومات الدكتور فنقول: إننا لسنا ذرة وال هبأة في الكون ..وإن شأننا عند هللا ليس هينا بل عظيما.. ألم ينفخ فينا من روحه.. ألم يسجد لنا املالئكة.. ألم يعدنا بميراث السماوات واألرض ويقول عنا(( :ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيال)). إن فينا إذا من روح هللا. ونحن بالنسبة للكون لسنا ذرة وال هبأة.. إننا نبدو بالنظر إلى أجسادنا كذرة أو هبأة بالنسبة للكون الفسيح الواسع. ولكن أال نحتوي على هذا الكون ونستوعبه بعقلنا وندرك قوانينه وأفالكه ونرسم لكل كوكب مداره ..ثم ينزل رائد الفضاء على القمر فيكتشف أن كل ما استوعبناه بعقلنا على األرض كان صحيحا ..وكل ما رسمناه كان دقيقا. أال يدل هذا على أننا بالنظر إلى روحنا أكبر من الكون وأننا نحتوي عليه وأن الشاعر كان على حق حينما خاطب اإلنسان قائال: وفيك انطوى العالم األكبر وتحسب أنك جرم صغير 24
وإن اإلنسان كما يقول الصوفية هو الكتاب الجامع والكون صفحاته. إذا اإلنسان عظيم الشأن كبير الخطر. وهو من روح هللا. وأعماله تستوجب املحاسبة. أما عن الذنب املحدود في الزمان الذي يحاسبنا هللا عليه بعذاب الالمحدود في األبد.. فمغالطة أخرى وقع فيها الدكتور العزيز الواثق من نفسه. فاهلل يقول عن هؤالء املخلدين في النار حينما يطلبون العودة إلى الدنيا ليعملوا غير ما عملوا.. يقول سبحانه(( :ولو ردوا لعادوا ملا نهوا عنه وإنهم لكاذبون)). أي أن ذنبهم ليس ذنبا محدودا في الزمان بل هو خصلة ثابتة سوف تتكرر في كل زمان ..ولو ردوا لعادوا إلى ذنبهم وإنهم لكاذبون. هي إذن صفحة مؤبدة في النفس وليست سقطة عارضة في ظرف عارض في الدنيا. وهو يقول عنهم في مكان آخر(( :يوم يبعثهم هللا جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على ش يء ..أال إنهم هم الكاذبون)). هنا لون آخر من اإلصرار والتحدي يصل إلى أنهم يواجهون هللا بالكذب والحلف الكذب وهم بين يديه يوم املوقف العظيم يوم ترفع الحجب وينكشف الغطاء.. وهذا غاية الجبروت والصلف. ولسنا هنا أمام ذنب محدود في الزمان .بل أمام ذنب مستمر في الزمان وبعد أن يطوى الزمان وكل زمان.. نحن هنا أمام نفس تحمل معها شرها األبدي. ومن هنا كان تأبيد العذاب لهذه النفس عدال. ولهذا تقول عنهم اآلية في صراحة(( :وما هم بخارجين من النار)). ويقول ابن عربي :إن الرحمة بالنسبة لهؤالء أنهم سوف يتعودون على النار ..وتصبح تلك النار في اآلباد املؤبدة بيئتهم املالئمة. 25
وال شك أن هناك مجانسة بين بعض النفوس املجرمة وبين النار.. فبعض تلك النفوس هي في حقيقتها شعلة حسد وحقد وشهوة وغيرة وغل وضرام من الغضب والنقمة والثورة واملشاعر اإلجرامية املحتدمة وكأنها نار بالفعل. مثل تلك النفوس ال تستطيع أن تعيش في سالم ..وال تستطيع أن تحيا ساعة دون أن تشعل حولها حربا ..ودون أن تضرم حولها النيران ..ألن النيران هي بيئتها وطبيعتها. ومثل تلك النفوس يكون قرارها في النار هو الحكم العدل ويكون هذا املصير من قبيل وضع الش يء في مكانه.. فلو أنها أدخلت الجنة ملا تذوقتها. ألم تكن ترفض السالم في األرض؟ وينبغي أن نفهم النار والجنة في اآلخرة فهما واسع األفق.. فالنار في اآلخرة ليست شواية .وليس ما يجري فيها هو الحريق باملعنى الدنيوي فاهلل يقول إن املذنبين يتكلمون ويتالعنون وأن النار فيها شجرة لها ثمر.. هي شجرة الزقوم التي تخرج من أصل الجحيم ..كما أن فيها ماء حميما يشرب منه املعذبون. مثل تلك النار التي فيها شجرة الزقوم وفيها ماء.. ويتكلم فيها الناس فال بد أنها نار غير النار(( :كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم ألوالهم ربنا هؤالء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن ال تعلمون)). إنهم يتكلمون وهم في النار وهي نار(( :وقودها الناس والحجارة)). هذه النار إذا من قبيل الغيب.. وما ورد عنها إشارات. وال يجب أن يفهم من هذا الكالم أننا ننكر العذاب الحس ي ونقول بالعذاب املعنوي ..فإن العذاب الحس ي صريح ال يجوز الشك فيه ونحن نؤمن بوجوده ..وإنما نقول إن تفاصيل هذا العذاب وكيفيته ..كما أن كيفية تلك النار وأوصافها التفصيلية ..هي غيب مجهول ..فهي على
26
ما يبدو في اإلشارات القرآنية ..نار غير النار ..كما أن أجسامنا في تحملها لتلك النار هي غير األجسام الترابية الهشة التي لنا اآلن. .. ونفس الش يء في الجنة ..فهي ليست سوق خضار وبلح ورمان وعنب.. وإنما تلك األوصاف القرآنية هي مجرد إشارات وضرب أمثلة وتقريب إلى األذهان(( ..مثل الجنة التي وعد املتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه)).. "مثل الجنة" ..أي أننا نضرب مثال يقرب فهم الجنة إليك ،ولكن الحقيقة أن التفاصيل غيب.. ((فال تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون)).. ((جنة عرضها السموات واألرض)).. فهي ال يمكن أن تكون مجرد حديقة.. ((وفاكهة كثيرة ال مقطوعة وال ممنوعة)).. فهي غير فاكهتنا املقطوعة واملمنوعة ..وخمر.. ((ال يصدعون عنها وال ينزفون)).. فهي غير خمرنا التي تصدع الرأس وتنزف العقل.. ويقول القرآن عن أهل الجنة.. ((ونزعنا ما في صدورهم من غل)).. ها هنا نفوس طهرت بطريقة ال نعلمها. الجنة إذا هي األخرى غيب وليس في هذا الكالم أي إنكار للنعيم الحس ي فنحن نؤمن بأن الجنة نعيم حس ي ومعنوي معا كما أن النار عذاب حس ي ومعنوي ولكن ما نريد تأكيده أن تفاصيل هذا النعيم أو العذاب وكيفياته غيب. وأن الجنة ليست سوقا للفاكهة والخضار وال النار فرنا لشوي اللحم. وإن التعذيب في اآلخرة ليس تجبرا من هللا على عباده وإنما هو تطهير وتعريف وتقويم ورحمة. ((ما يفعل هللا بعذابكم إن شكرتم وآمنتم)).. 27
فاألصل هو عدم العذاب.. وهللا ال يعذب العارف املؤمن وإنما ينصب عذابه على الجاحد املنكر الذي فشلت معه كل وسائل الهداية والتعريف والتفهيم. ((ولنذيقنهم من العذاب األدنى دون العذاب األكبر لعلهم يرجعون)).. سنة هللا أن يذيق هؤالء من العذاب األصغر في الدنيا إليقاظهم من غفلتهم وإلزعاجهم من هذا املم والسبات(( ..لعلهم يرجعون)).. فإذا لم تفلح كل الوسائل.. وظل املنكر على إنكاره لم يبق إال مواجهته بالعذاب الحق لتعريفه.. والتعريف بالحق هو عين الرحمة.. ولو أن هللا تركهم على عماهم وجهلهم وأهملهم لكان في حقه ظلما.. سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ..فالعرض على النار بالنسبة لهؤالء الجهال ..عناية. وكل أفعال هللا رحمة.. يرحم الجاهل بالجحيم تأديبا وتعليما. ويرحم العارف بالجنة فضال وكرامة. ((عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل ش يء)). فجعل رحمته تسع كل ش يء حتى العذاب. ثم دعونا نسأل الدكتور.. أيكون هللا أكثر عدال في نظره لو أنه ساوى بين الظاملين واملظلومين وبين السفاحين وضحاياهم فقدم لكل حفلة شاي في اآلخرة. وهل العدل في نظر الدكتور أن يستوي األبيض واألسود. وللذين يستبعدون عن هللا أن يعذب نقول :أال يعذبنا هللا بالفعل في دنيانا؟.. وماذا تكون الشيخوخة واملرض والسرطان إال العذاب بعينه. ومن خالق امليكروب ..؟!! أليست جميعها إنذارات بأننا أمام إله يمكن أن يعذب. 28
الفصل السادس :حكاية اإلسالم مع املرأة قال صديقي الدكتور: أال توافقني أن اإلسالم كان موقفه رجعيا مع املرأة؟ -وبدأ يعد على أصابعه -حكاية تعدد الزوجات وبقاء املرأة في البيت ..والحجاب والطالق في يد الرجل ..والضرب والهجر في املضاجع ..وحكاية ما ملكت أيمانكم ..وحكاية الرجال قوامون على النساء ..ونصيب الرجل املضاعف في امليراث. قلت له وأنا أستجمع نفس ي: التهم هذه املرة كثيرة ..والكالم فيها يطول ..ولنبدأ من البداية ..من قبل اإلسالم ..وأظنك تعرف تماما أن اإلسالم جاء على جاهلية ،والبنت التي تولد نصيبها الوأد والدفن في الرمل، والرجل يتزوج العشرة والعشرين ويكره جواريه على البغاء ويقبض الثمن ..فكان ما جاء به اإلسالم من إباحة الزواج بأربع تقييدا وليس تعديدا ..وكان إنقاذ للمرأة من العار واملوت واالستعباد واملذلة. وهل املرأة اآلن في أوروبا أسعد حاال في االنحالل الشائع هناك وتعدد العشيقات الذي أصبح واقع األمر في أغلب الزيجات أليس أ كرم للمرأة أن تكون زوجة ثانية ملن تحب ..لها حقوق الزوجة واحترامها من أن تكون عشيقة في السر تختلس املتعة من وراء الجدران. ومع ذلك فاإلسالم جعل من التعدد إباحة شبه معطلة وذلك بأن شرط شرطا صعب التحقيق وهو العدل بين النساء. ((وإن خفتم أال تعدلوا فواحدة)).. ((ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم)).. فنفى قدرة العدل حتى عن الحريص فلم يبق إال من هو أكثر من حريص كاألنبياء واألولياء ومن في دربهم. أما البقاء في البيوت فهو أمر وارد لزوجات النبي باعتبارهن مثال عليا.. ((وقرن في بيوتكن)). 29
وهي إشارة إلى أن الوضع األمثل للمرأة هي أن تكون أما وربة بيت تفرغ لبيتها وألوالدها. ويمكن أن نتصور حال أمة نساؤها في الشوارع واملكاتب وأطفالها في دور الحضانة واملالجئ.. أتكون أحسن حاال أو أمة النساء فيها أمهات وربات بيوت واألطفال فيها يتربون في حضانة أمهاتهم واألسرة فيها متكاملة الخدمات. الرد واضح. ومع ذلك فاإلسالم لم يمنع املقتضيات التي تدعو إلى خروج املرأة وعملها ..وقد كانت في اإلسالم فقيهات وشاعرات ..وكانت النساء يخرجن في الحروب ..ويخرجن للعلم. إنما توجهت اآلية إلى نساء النبي كمثل عليا ،وبين املثال واملمكن والواقع درجات متعددة وقد خرجت نساء النبي مع النبي في غزواته. وينسحب على هذا أن الخروج ملعونة الزوج في كفاح شريف هو أمر ال غبار عليه. أما الحجاب فهو لصالح املرأة. وقد أباح اإلسالم كشف الوجه واليدين وأمر بستر ما عدا ذلك. ومعلوم أن املمنوع مرغوب وأن ستر مواطن الفتنة يزيدها جاذبية. وبين القبائل البدائية وبسبب العري الكامل يفتر الشوق تماما وينتهي الفضول ونرى الرجل ال يخالط زوجته إال مرة في الشهر وإذا حملت قاطعها سنتين. وعلى الشواطئ في الصيف حينما يتراكم اللحم العاري املباح للعيون يفقد الجسم العريان جاذبيته وطرافته وفتنته ويصبح أمرا عاديا ال يثير الفضول. وال شك أنه من صالح املرأة أن تكون مرغوبة أكثر وأال تتحول إلى ش يء عادي ال يثير. أما حق الرجل في الطالق فيقابله حق املرأة أيضا على الطرف اآلخر فيمكن للمرأة أن تطلب الطالق باملحكمة وتحصل عليه إذا أبدت املبررات الكافية. ويمكن للمرأة أن تشترط االحتفاظ بعصمتها عند العقد ..وبذلك يكون لها حق الرجل في الطالق. واإلسالم يعطي الزوجة حقوقا ال تحصل عليها الزوجة في أوروبا ..فالزوجة عندنا تأخذ مهرا،
31
وعندهم تدفع دوطة ..والزوجة عندنا لها حق التصرف في أمالكها ،وعندهم تفقد هذا الحق بمجرد الزواج ويصبح الزوج هو القيم على أمالكها. أما الضرب والهجر في املضاجع فهو معاملة املرأة الناشز فقط ..أما املرأة السوية فلها عند الرجل املودة والرحمة. والضرب والهجر في املضاجع من معجزات القرآن في فهم النشوز ..وهو يتفق مع أحدث ما وصل إليه علم النفس العصري في فهم املسلك املرض ي للمرأة. وكما تعلم يقسم علم النفس هذا املسلك املرض ي إلى نوعين: * "املسلك الخضوعي" وهو ما يسمى في االصطالح العلمي "ماسوشزم" masochismوهو ُ َ ُ َّ ضرب وتعذب وتكون الطرف الخاضع. تلك الحالة املرضية التي تلتذ فيها املرأة بأن ت والنوع الثاني هو" :املسلك التحكمي" وهو ما يسمى في االصطالح العلمي "سادزم" sadism وهو تلك الحالة املرضية التي تلتذ فيها املرأة بأن تتحكم وتسيطر وتتجبر وتتسلط وتوقع األذى بالغير. ومثل هذه املرأة ال حل لها سوى انتزاع شوكتها وكسر سالحها التي تتحكم به ،وسالح املرأة أنوثتها وذلك بهجرها في املضجع فال يعود لها سالح تتحكم به.. أما املرأة األخرى التي ال تجد لذتها إال في الخضوع والضرب فإن الضرب لها عالج ..ومن هنا كانت كلمة القرآن(( :واهجروهن في املضاجع واضربوهن)) .إعجازا علميا وتلخيصا في كلمتين لكل ما أتى به علم النفس في مجلدات عن املرأة الناشز وعالجها. أما حكاية "ما ملكت أيمانكم" التي أشار إليها السائل فإنها تجرنا إلى قضية الرق في اإلسالم.. اتهام املستشرقين لإلسالم بأنه دعا إلى الرق ..والحقيقة أن اإلسالم لم يدع إلى الرق ..بل كان الدين الوحيد الذي دعا إلى تصفية الرق. ولو قرأنا اإلنجيل ..وما قاله بولس الرسول في رسائله إلى أهل افسس وما أوص ى به العبيد لوجدناه يدعو العبيد دعوة صريحة إلى طاعة سادتهم كما الرب" :أيها العبيد ..أطيعوا سادتكم بخوف ورعدة في بساطة قلوبكم كما الرب".
30
ولم يأمر اإلنجيل بتصفية الرق كنظام وإنما أقص ى ما طالب به كان األمر باملحبة وحسن املعاملة بين العبيد وسادتهم. وفي التوراة املتداولة كان نصيب األحرار أسوأ من نصيب العبيد ..ومن وصايا التوراة أن البلد التي تستسلم بال حرب يكون حظ أهلها أن يساقوا رقيقا وأسارى والتي تدافع عن نفسها بالسيف ثم تستسلم يعرض أهلها على السالح ويقتل شيوخها وشبابها ونساؤها وأطفالها ويذبحوا تذبيحا. كان االسترقاق إذا حقيقة ثابتة قبل مجيء اإلسالم وكانت األديان السابقة توص ي بوالء العبد لسيده. فنزل القرآن ليكون أول كتاب سماوي يتكلم عن فك الرقاب وعتق الرقاب. ولم يحرم القرآن الرق بالنص والصريح ..ولم يأمر بتسريح الرقيق ..ألن تسريحهم فجأة وبأمر قرآني في ذلك الوقت وهم مئات اآلالف بدون صناعة وبدون عمل اجتماعي وبدون توظيف يستوعبهم كان معناه كارثة اجتماعية وكان معناه خروج مئات األلوف من الشحاذين في الطرقات يستجدون الناس ويمارسون السرقة والدعارة ليجدوا اللقمة .وهو أمر أسوأ من الرق ،فكان الحل القرآني هو قفل باب الرق ثم تصفية املوجود منه ..وكان مصدر الرق في ذلك العصر هو استرقاق األسرى في الحروب فأمر القرآن بأن يطلق األسير أو تؤخذ فيه فدية وبأن ال يؤخذ األسرى أرقاء. ((فإما منا بعد ..وإما فداء)). فإما أن تمن على األسير فتطلقه لوجه هللا ..وإما تأخذ فيه فدية. أما الرقيق املوجود بالفعل فتكون تصفيته بالتدرج وذلك بجعل فك الرقاب وعتق الرقاب كفارة الذنوب صغيرها وكبيرها وبهذا ينتهي الرق بالتدريج. وإلى أن تأتي تلك النهاية فماذا تكون معاملة السيد ملا ملكت يمينه ..أباح له اإلسالم أن يعاشرها كزوجته. وهذه حكاية "ما ملكت أيمانكم" التي أشار إليها السائل وال شك أن معاشرة املرأة الرقيق كالزوجة كان في تلك األيام تكريما ال إهانة. 32
وينبغي أال ننس ى موقف اإلسالم من العبد الرقيق وكيف جعل منه أخا بعد أن كان عبدا يداس بالقدم. ((إنما املؤمنون إخوة)). ((هو الذي خلقكم من نفس واحدة)). ((ال يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون هللا)). وقد ضرب محمد عليه الصالة والسالم املثل حينما تبنى عبدا رقيقا هو زيد بن حارثة فأعتقه وجعل منه ابنه ..ثم زوجه من الحرة سليلة البيت الشريف زينب بنت جحش. كل هذا ليكسر هذه العنجهية والعصبية ..وليجعل من تحرير العبيد موقفا يقتدى به.. وليقول بالفعل وباملثال أن رسالته عتق الرقاب. أما أن الرجال قوامون على النساء فهي حقيقة في كل مكان في البالد اإلسالمية .وفي البالد املسيحية .وفي البالد التي ال تعرف إلها وال دينا. في موسكو امللحدة الحكام رجال من أيام لينين وستالين وخروشوف وبولجانين إلى اليوم، وفي فرنسا الحكام رجال ،وفي لندن الحكام رجال ،وفي كل مكان من األرض الرجال هم الذين يحكمون ويشرعون ويخترعون ،وجميع األنبياء كانوا رجاال ،وجميع الفالسفة كانوا رجاال، حتى امللحنين (مع أن التلحين صنعة خيال ال يحتاج إلى رجال) ،وكما يقول العقاد ساخرا: حتى صناعة الطهي والحياكة واملوضة وهي تخصصات نسائية تفوق فيها الرجال ثم انفردوا بها. وهي ظواهر ال دخل للشريعة اإلسالمية فيها ..فهي ظواهر عامة في كل بقاع الدنيا حيث ال تحكم شريعة إسالمية وال يحكم قرآن. إنما هي حقائق أن الرجل قوام على املرأة بحكم الطبيعة واللياقة والحاكمية التي خصه بها الخالق. وإذا ظهرت وزيرة أو زعيمة أو حاكمة فإنها تكون الطرافة التي تروى أخبارها واإلستثناء الذي يؤكد القاعدة.
33
واإلسالم لم يفعل أكثر من أنه سجل هذه القاعدة وهذا يفسر لنا بعد ذلك ملاذا أعطى القرآن الرجل ضعف النصيب في امليراث ..ألنه هو الذي ينفق وألنه هو الذي يعول ..وألنه هو الذي يعمل. كان موقف اإلسالم من املرأة هو العدل. وكانت سيرة النبي مع نسائه هي املحبة والحدب والحنان ..الذي يؤثر عنه قوله" :حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصالة". فذكر النساء مع الطيب والعطر والصالة وهذا غاية اإلعزاز ،وكان آخر ما قاله في آخر خطبة له قبل موته هو التوصية بالنساء. وإذا كان هللا قد اختار املرأة للبيت والرجل للشارع فألنه عهد إلى الرجل أمانة التعمير والبناء واإلنشاء بينما عهد إلى املرأة أمانة أكبر وأعظم هي تنشئة اإلنسان نفسه. وإنه من األعظم لشأن املرأة أن تؤتمن على هذه األمانة. فهل ظلم اإلسالم النساء؟!!
34
الفصل السابع :هل الدين أفيون ..؟! قال لي صاحبي الدكتور وهو يغمز بعينيه: وما رأيك في الذين يقولون أن الدين أفيون !!. ..وأنه يخدر الفقراء واملظلومين ليناموا على ظلمهم وفقرهم ويحلموا بالجنة والحور العين.. في حين يثبت األغنياء على غناهم باعتبار أنه حق ..وأن هللا خلق الناس درجات. ..؟ وما رأيك في الذين يقولون أن الدين لم ينزل من عند هللا ..وإنما هو طلع من األرض من الظروف والدواعي االجتماعية ليكون سالحا لطبقة على طبقة ..؟ وهو يشير بذلك إلى املاديين وأفكارهم.. قلت: ليس ابعد من الخطأ القائل بان الدين افيون ..فالدين في حقيقته اعباء وتكاليف وتبعات.. وليس تخفيفا وتحلال ..وبالتالي ليس مهربا من املسئوليات وليس افيونا.. وديننا عمل وليس كسل(( ..وقل اعملوا فسيرى هللا عملكم)). ونحن نقول بالتوكل وليس التواكل.. والتوكل يقتض ي عندنا العزم واستفراغ الوسع وبذل غاية الطاقة والحيلة ،ثم التسليم بعد ذلك لقضاء هللا وحكمه. ((فإذا عزمت فتوكل على هللا)).. العزم أوال.. والنبي يقول ملن أراد أن يترك ناقته سائبة توكال على حفظ هللا "اعقلها وتوكل" ..أي ابذل وسعك أوال فثبتها في عقالها ثم توكل.. والدين صحو وانتباه ويقظة .ومحاسبة للنفس ومراقبة للضمير في كل فعل وفي كل كلمة وكل خاطر .وليس هذا حال أكل األفيون ..إنما أكل األفيون الحقيقي هو املادي الذي ينكر الدين هربا من تبعاته ومسئولياته ،ويتصور أن لحظته ملكه ،وأنه ال حسيب وال رقيب وال بعث بعد املوت ..فيفعل ما يخطر على باله .وأين هذا الرجل من املتدين املسلم الذي يعتبر 35
نفسه مسئوال عن سابع جار ..واذا جاع فرد في أمته أو ضربت دابة عاتب نفسه بأنه لم يقم بواجب الدين في عنقه.. وليس صحيحا أن ديننا خرج من األرض ..من الظروف والدواعي االجتماعية ..ليكون سالحا لطبقة على طبقة وتثبيتا لغنى االغنياء وفقر الفقراء.. والعكس هو الصحيح.. فاإلسالم جاء ثورة على األغنياء والكانزين املال واملستغلين الظاملين ..فأمر صراحة بأال يكون املال دولة بين األغنياء يحتكرونه ويتداولونه بينهم ..وإنما يكون حقا للكل.. ((والذين يكنزون الذهب والفضة وال ينفقونها في سبيل هللا فبشرهم بعذاب أليم)). واإلنفاق يبدأ من زكاة اجبارية ( )2.5في املائة ..ثم يتصاعد اختياريا إلى كل ما في الجيب وكل ما في اليد .فال تبقي لنفسك إال خبزك ..كفافك.. ((يسألونك ماذا ينفقون قل العفو)).. والعفو هو كل ما زاد على الكفاف والحاجة.. وبهذا جمع اإلسالم بين التكليف الجبري القانوني والتكليف االختياري القائم على الضمير.. وهذا أكرم لالنسان من نزع أمالكه بالقهر واملصادرة.. ووصل إلى اإلنفاق إلى ما فوق التسعين في املائة بدون إرهاق.. ولم يأت اإلسالم ليثبت ظلم الظاملين .بل جاء ثورة صريحة على كل الظاملين ..وجاء سيفا وحربا على رقاب الطواغين واملستبدين.. أما التهمة التي يسوقها املاديون بأن الدين رجعي وطبقي بدليل اآليات.. ((وهللا فضل بعضكم على بعض في الرزق)).. ((ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات)).. فنحن نرد بأن هذه اآليات تنطبق على لندن وباريس وبرلين وموسكو ..بمثل ما تنطبق على القاهرة ودمشق وجدة.. وإذا مشينا في شوارع موسكو فسوف نجد من يسير على رجليه ..ومن يركب بسكليت .ومن يركب عربة موسكوفتش ..ومن يركب عربة زيم فاخرة.. 36
وماذا يكون هذا إال التفاضل في الرزق بعينه والدرجات والرتب االقتصادية.. والتفاوت بين الناس حقيقة جوهرية.. ولم تستطع الشيوعية أن تلغي التفاوت.. ولم يقل حتى غالة املادية والفوضوية باملساواة.. واملساواة غير ممكنة فكيف نساوي بين غير متساويين.. الناس يولدون من لحظة امليالد غير متساوين في الذكاء والقوة والجمال واملواهب ..يولدون درجات في كل ش يء.. وأقص ى ما طمعت فيه املذاهب االقتصادية هي املساواة في الفرص وليس املساواة بين الناس.. أن يلقى كل واحد نفس الفرصة في التعليم والعالج والحد األدنى للمعيشة.. وهو نفس ما تحض عليه األديان.. أما إلغاء الدرجات وإلغاء التفاوت فهو الظلم بعينه واألمر الذي ينافي الطبيعة.. والطبيعة تقوم كلها على أساس التفاضل والتفاوت والتنوع في ثمار األرض وفي البهائم وفي الناس.. في القطن نجد طويل التيلة .وقصير التيلة.. وفي الحيوان واإلنسان نجد الرتب والدرجات والتفاوت أكثر.. هذا هو قانون الوجود كله ..التفاضل.. وحكمة هذا القانون واضحة ..فلو كان جميع الناس يولدون بخلقة واحدة وقالب واحد ونسخة واحدة ..ملا كان هناك داع مليالدهم أصال ..وكان يكفي أن نأتي بنسخة واحدة فتغني عن الكل.. وكذلك الحال في كل ش يء.. وال نتهي األمر إلى فقر الطبيعة وإفالسها ..وإنما غنى الطبيعة وخصبها ال يظهر إال بالتنوع في ثمارها وغالتها والتفاوت في ألوانها واصنافها..
37
ومع ذلك فالدين لم يسكت على هذا التفاوت بين األغنياء والفقراء ..بل أمر بتصحيح األوضاع وجعل للفقير نصيبا من مال الغني ..وقال إن هذا التفاوت فتنة وامتحان.. ((وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون)).. سوف نرى ماذا يفعل القوي بقوته.. هل ينجد بها الضعفاء؟ أو يضرب ويقتل ويكون جبارا في االرض. ..؟ وسوف نرى ماذا يفعل الغني بغناه.. هل يسرف ويطغى؟ أو يعطف ويحسن ..؟ وسوف نرى ماذا يفعل الفقير بفقره.. هل يحسد ويحقد ويسرق ويختلس؟ ..أو يعمل ويكد ويجتهد ليرفع مستوى معيشته بالشرع والعدل ..؟ وقد أمر الدين بالعدل وتصحيح األوضاع باملساواة بين الفرص.. وهدد بعذاب االخرة وقال أن االخرة ستكون أيضا درجات أكثر تفاوتا لتصحيح ما لم يجر تصحيحه في األرض. ((وللخرة أكبر درجات وأكبر تفضيال)).. وللذين يتهمون اإلسالم بالرجعية السياسية نقول إن اإلسالم أتى بأكثر الشرائع تقدمية في نظم الحكم. احترام الفرد في اإلسالم بلغ الذروة ..وسبق ميثاق حقوق اإلنسان وتفوق عليه ..فماذا يساوي الفرد الواحد في اإلسالم ..؟ إنه يساوي اإلنسانية كلها. ((من قتل نفا بغير نفس أو فساد في األرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا)). ال تغني املنجزات وال اإلصالحات املادية وال التعمير وال السدود وال املصانع ..إذا قتل الحاكم فردا واحدا ظلما في سبيل هذا اإلصالح ،فإنه يكون قد قتل الناس جميعا.
38
ذروة في احترام الفرد لم يصل إليها مذهب سياس ي قديم أو جديد ..فالفرد في اإلسالم له قيمة مطلقة بينما في كل املذاهب السياسية له قيمة نسبية ..والفرد في اإلسالم آمن في بيته.. وفي أسراره (ال تجسس وال غيبة) آمن في ماله ورزقه وملكيته وحريته. كل ش يء حتى التحية حتى إفساح املجلس حتى الكلمة الطيبة لها مكان في القرآن. وقد نهى القرآن عن التجبر والطغيان واإلنفراد بالحكم. وقال هللا للنبي -وهو من هو في كماله وصالحيته:- ((وما أنت عليهم بجبار)). ((فذكر إنما أنت مذكر ..لست عليهم بمسيطر)). ((إنما املؤمنون إخوة)). ونهى عن عبادة الحاكم وتأليه العظيم: ((ال يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون هللا)). ((وقض ى ربك أال تعبدوا إال إياه)). ونهى عن الغوغائية وتملق الدهماء والسوقة والجري وراء األغلبية املضللة وقال أن: ((بل أكثر الناس ال يعلمون)).. ((بل أكثرهم ال يعقلون)).. ((أكثر الناس ال يؤمنون)).. ((إن يتبعون إال الظن وإن هم إال يخرصون)) .أي :يكذبون. ((إن هم إال كاألنعام بل هم أضل)).. ونهى عن العنصرية والعرقية: ((إن أكرمكم عند هللا أتقاكم)).. ((هو الذي خلقكم من نفس واحدة)).. وباملعنى العلمي كان اإلسالم تركيبا جدليا جامعا بين مادية اليهودية وروحانية املسيحية، بين العدل الصارم الجاف الذي يقول :السن بالسن والعين بالعين .وبين املحبة والتسامح املتطرف الذي يقول :من ضربك على خدك األيمن فأدر له األيسر. 39
وجاء القرآن وسطا بين التوراة التي حرفت حتى أصبحت كتابا ماديا ليس فيه حرف واحد عن اآلخرة ،وبين اإلنجيل الذي مال إلى رهبانية تامة ،ونادى القرآن بناموس الرحمة الجامع بين العدل واملحبة فقال بشرعية الدفاع عن النفس ولكنه فضل العفو والصفح واملغفرة. ((وملن صبر وغفر إن ذلك ملن عزم األمور)). وإذا كانت الرأسمالية أطلقت للفرد حرية الكسب إلى درجة استغالل اآلخرين ..وإذا كانت الشيوعية سحقت هذه الحرية تماما ..فإن اإلسالم قدم الحل الوسط. ((للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن)). الفرد حر في الكسب ولكن ليس له أن يأخذ ثمرة أرباحه كلها ..وإنما له فيها نصيب ..وللفقير نصيب يؤخذ زكاة وإنفاقا من 2.5في املائة إلى %70جبرا واختيارا ..وهذا النصيب ليس تصدقا وتفضال وإنما هو حق هللا في الربح ..وبهذه املعادلة الجميلة حفظ اإلسالم للفرد حريته وللفقير حقه. ولهذا أصاب القرآن كل الصواب حينما خاطب أمة اإلسالم قائال: ((وكذلك جعلناكم أمة وسطا)). فقد اختار اإلسالم الوسط العدل في كل ش يء. وهو ليس الوسط الحسابي وإنما الوسط الجدلي أو التركيب الذي يجمع النقيضين (اليمين واليسار) ويتجاوزهما ويزيد عليهما ..ولذلك ليس في اإلسالم يمين ويسار وإنما فيه "صراط" االعتدال الوسط الذي نسميه الصراط املستقيم من خارج عنه باليمين أو اليسار فقد انحرف. ولم يقيدنا القرآن بدستور سياس ي محدد أو منهج مفصل للحكم لعلم هللا بأن الظروف تتغير بما يقتض ي االجتهاد في وضع دساتير متغيرة في األزمنة املتغيرة ،وحتى يكون البا مفتوحا أمام املسلمين لألخذ والعطاء من املعارف املتاحة في كل عصر دون انغالق على دستور بعينه. ولهذا اكتفى القرآن بهذه التوصيات السياسية العامة السالفة كخصائص للحكم األمثل.. ولم يكبلنا بنظرية وهذا سر من أسرار إعجازه وتفوقه وليس فقرا وال نقصا فيه. وتلك ملسة أخرى من تقديمة القرآن التي سبقت كل التقديمات. 41
ونرد على القائلين بأن الدين جمود وتحجر ..بأن اإلسالم لم يكن أبدا دين تجمد وتحجر وإنما كان دائما وأبدا دين نظر وفكر وتطوير وتغيير بدليل آياته الصريحة. ((قل سيروا في األرض فانظروا كيف بدأ الخلق)).. ((فلينظر اإلنسان مم خلق ..خلق من ماء دافق ..يخرج من بين الصلب والترائب)).. ((أفال ينظرون إلى اإلبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى ألرض كيف سطحت)).. أوامر صريحة بالنظر في خلق اإلنسان وفي خلق الحيوان وفي خلق الجبال وفي طبقات األرض وفي السماء وأفالكها ..والتشريح والفسيولوجيا والبيولوجيا وعلم األجنة. أوامر صريحة بالسير في األرض وجمع الشواهد واستنباط األحكام والقوانين ومعرفة كيف بدأ الخلق ..وهو ما نعرفه اآلن بعلوم التطور. وال خوف من الخطأ. فاإلسالم يكافئ الذي يجتهد ويخطئ بأجر والذي يجتهد ويصيب بأجرين. وليس صحيحا ما يقال من أننا تخلفنا بالدين وتدم الغرب باإللحاد ..والحق أننا تخلفنا حينما هجرنا أوامر ديننا. وحينما كان املسلمون يأتمرون بهذه اآليات حقا كان هناك تقدم وكانت هناك دولة من املحيط إلى الخليج وعلماء مثل ابن سينا في الطب وابن رشد في الفلسفة وابن الهيثم في الرياضيات وابن النفيس في التشريح وجابر بن حيان في الكيمياء. وكانت الدنيا تأخذ عنا علومنا ..وما زالت مجمعات النجوم وأبراجها تحتفظ إلى اآلن بأسمائها العربية في املعاجم األوروبية ..وما زالوا يسمون جهاز التقطير بالفرنسية imbique ومنه الفعل من كلمة أمبيق العربية Imbiquerولم يتقدم الغرب باإللحاد بل بالعلم. وإنما وقع الخلط مما حدث في العصور الوسطى من طغيان الكنيسة ومحاكم التفتيش وحجرها على العلم والعلماء وما حدث من سجن غاليليو وحرق جيوردانو برونو.
40
حينما حكمت الكنيسة وانحرف بها البابوات عن أهدافها النبيلة فكانت عنصر تأخر.. فتصور النقاد السطحيون أن هذا ينسحب أيضا على اإلسالم وهو خطأ ..فاإلسالم ليس بابوية وال كهنوت.. هللا لم يقم بينه وبين املسلمين أوصياء وال وسطاء. وحينما حكم اإلسالم بالفعل كان عنصر تقدم كما شرحنا وكما يقول التاريخ مكذبا هذه املزاعم السطحية. وآيات القرآن الصريحة تحض على العلم وتأمر بالعلم وال تقيم بين العلم والدين أي تناقض: ((وقل رب زدني علما)).. ((هل يستوي الذين يعلمون والذين ال يعلمون)).. ((شهد هللا أنه ال إله إال هو واملالئكة وأولو العلم)).. جعل هللا املالئكة وأولي العلم في اآلية مقترنين بشرف اسمه ونسبته. وأول آية في القران وأول كلمة كانت "اقرأ" والعلماء في القرآن موعودون بأرفع الدرجات: ((يرفع هللا الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)).. وتتكرر كلمة العلم ومشتقاته في القرآن نحوا من ثمانمائة وخمسين مرة. فكيف يتكلم بعد هذا متكلم عن تناقض بين الدين والعلم أو حجر من الدين على العلم. والنظر في الدين وتطوير فهمه مطلوب ،وتاريخ اإلسالم كله حركات إحياء وتطوير ..والقرآن بريء من تهمة التحجير على الناس وكل ش يء في ديننا يقبل التطوير ..ما عدا جوهر العقيدة وصلب الشريعة ..ألن هللا واحد ولن يتطور إلى اثنين أو ثالثة ..هذا أمر مطلق ..وكذلك الشر شر والخير خير ..لن يصبح القتل فضيلة وال السرقة حسنة وال الكذب حلية يتحلى بها الصالحون. وفيما عدا ذلك فالدين مفتوح للفكر واالجتهاد واإلضافة والتطوير. وجوهر اإلسالم عقالني منطقي يقبل الجدل والحوار ويحض على استخدام العقل واملنطق. 42
وفي أكثر من مكان وفي أكثر من صفحة في القرآن نعثر على التساؤل" ..أفال يعقلون"" ..أفال يفقهون". وأهل الدين عندنا هم "أولو األلباب". ((شر الدواب عند هللا الصم البكم الذين ال يعقلون)). ((أفلم يسيروا في األرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها)). احترام العقل في لب وصميم الديانة.. واإليجابية عصبها.. والثورة روحها.. لم يكن اإلسالم أبدا خانعا وال سلبيا.. ((وقاتلوا في سبيل هللا الذين يقاتلونكم)).. ((إن هللا يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص)).. والجهاد بالنفس واملال واألوالد ..والقتال والثبات وعدم النكوص على األعقاب ،ومواجهة اليأس واملصابة واملرابطة في صلب ديننا. فكيف يمكن لدين بهذه املرونة والعقالنية والعلمية واإليجابية والثورة أن يتهم بالتحجر والجمود إلى من صديق عزيز مثل الدكتور القادم من فرنسا ال يعرف من أوليات دينه شيئا ولم يقرأ في قرآنه حرفا.
43
الفصل الثامن :الروح قال صديقي الدكتور وهو يعلم هذه املرة أن اإلشكال سيكون عسيرا: ما دليلك على أن اإلنسان له روح وأنه يبعث بعد موت وأنه ليس مجرد الجسد الذي ينتهي إلى تراب ..وماذا يقول دينكم في تحضير األرواح؟ قلت بعد برهة تفكير: ال شك أن السؤال اليوم صعب والكالم عن الروح ضرب في تيه والحقائق املوجودة قليلة ولكنها مع ذلك في صفنا نحن وليست ي صفكم. ومضيت برهة أغرقت فيها في التفكير ثم قلت مردفا: فكر معي قليال ..إن أول املؤشرات التي تساعدنا على التدليل على وجود الروح ..أن اإلنسان ذو طبيعة مزدوجة. اإلنسان له طبيعتان: طبيعة خارجية ظاهرة مشهودة هي جسده تتصف بكل صفات املادة ،فهي قابلة للوزن والقياس متحيزة في املكان متزمنة بالزمان دائمة التغير والحركة والصيرورة من حال إلى حال ومن لحظة إلى لحظة فالجسد تتداول عليه األحوال من صحة إلى مرض إلى سمنة إلى هزال إلى تورد إلى شحوب إلى نشاط إلى كسل إلى نوم إلى يقظة إلى جوع إلى شبع ،وملحق بهذه الطبيعة الجسدية شريط من االنفعاالت والعواطف والغرائز واملخاوف ال يكف لحظة عن الجريان في الدماغ. وألن هذه الطبيعة واالنفعاالت امللحقة بها تتصف بخواص املادة نقول إن جسد اإلنسان ونفسه الحيوانية هما من املادة. ولكن هناك طبيعة أخرى مخالفة تماما لألولى ومغايرة لها في داخل اإلنسان ..طبيعة من نوع آخر تتصف بالسكون والالزمان والالمكان والديمومة ..هي العقل بمعاييره الثابتة وأقيسته ومقوالته ..والضمير بأحكامه ،والحس الجمالي ،وال أنا التي تحمل كل تلك الصفات (من عقل وضمير وحس جمالي وحس أخالقي). 44
والـ"أنا" غير الجسد تماما وغير النفس الحيوانية التي تلتهب بالجوع والشبق. الـ"أنا" هي الذات العميقة املطلقة وعن طريق هذه الذات والكينونة والشخوص واملثول في العالم ..وبأنه هنا وبأنه كان دائما هنا ..وهو شعور ثابت ممتد ال يطرأ عليه التغير ال يسمن وال يهزل وال يمرض وال يتصف بالزمان ..وليس فيه ماض وحاضر ومستقبل ..إنما هو "آن" مستمر ال ينصرم كما ينصرم املاض ي ..وإنما يتمثل في شعور بالدوام ..بالديمومة. هناك نوع آخر من الوجود ال يتصف بصفات املادة فال هو يطرأ عليه التغير وال هو يتحيز في املكان أو يتزمن بالزمان وال هو يقبل الوزن والقياس ..بالعكس نجد أن هذا الوجود هو الثابت الذي نقيس به املتغيرات واملطلق الذي نعرف به كل ما هو نسبي في عالم املادة. وأصدق ما نصف به هذا الوجود أنه روحي وأن طبيعته روحية. ولنا أن نسأل بعد ذلك ..أي الطبيعتين هي اإلنسان حقا؟ ..هل اإلنسان بالحقيقة هو جسده أو روحه؟.. ولنعرف الجواب علينا أن نبحث أي الطبيعتين هي الحاكمة على األخرى. يقول لنا املاديون أن اإلنسان هو جسده ،وأن الجسد هو الحاكم وأن كل ما ذكرت من عقل ومنطق وحس جمالي وحس أخالقي وضمير وهذه "التخريفة" التي اسمها الذات أو الـ"أنا" كل هذه ملحق بالجسد ثانوي عليه تابع له يأتمر بأمره ويقوم على خدمته ويتولى إشباع شهواته وأهوائه. هذا كالم إخواننا املاديين وهو خطأ ،فالحقيقة أن الجسد تابع وليس متبوعا مأمور وليس آمرا أال يجوع الجسد فنرفض إمداده بالطعام ألننا قررنا أن نصوم هذا اليوم هلل ..أال يتحرك بشهوة فنزجره؟! أال نصحوا في الصباح فيبدأ الجسد تلقائيا في تنفيذ خطة عمل وضعها العقل وصنف بنودها بندا بندا ..من ساعة إلى ساعة من التابع هنا ومن املتبوع؟ ولحظة التضحية بالنفس حينما يضع الفدائي حزام الديناميت حول جسده ويتقدم ليحطم الدبابة ومن فيها ..أين جسده هنا ..أين املصلحة املادية التي يحققها بموته ..ومن الذي يأمر اآلخر ..إن الروح تقرر إعدام الجسد في لحظة مثالية تماما ال يمكن أن يفسرها مذهب 45
مادي بأي مكسب مادي والجسد ال يستطيع أن يقاوم هذا األمر ..وال يملك أي قوة ملواجهته، ال يملك إال أن يتالش ى تماما ..وهنا يظهر أي الوجودين هو األعلى ..وأي الطبيعتين هي اإلنسان حقا. وعندنا اليوم أكثر من دليل على أن الجسد هو الوجود الثانوي ..ما يجري اآلن من حوادث البتر واالستبدال وزرع األعضاء ..وما نقرأه عن القلب اإللكتروني والكلية الصناعية وبنك الدم وبنك العيون ومخازن اإلكسسوار البشري حيث يجري تركيب السيقان واألذرع والقلوب. ولن تكون نكتة أن يدخل العريس على عروسه سنة 2000فيجدها تخلع طقم األسنان والباروكة والنهود الكاوتشوك والعين الصناعية والساق الخشبية فال يتبقى منها إال هيكل مثل شاسيه السيارة بعد نزع الجلد والكراس ي واألبواب. إلى هذه الدرجة يجري فك الجسم وتركيبه واستبداله دون أن يحدث ش يء للشخصية ألن هذه الذراع أو تلك الساق أو ذلك الشعر أو العين أو النهد كل هذه األشياء ليست هي اإلنسان ..فها هي تنقل وتستبدل وتوضع مكانها بطاريات ومسامير وقطع من األلومنيوم دون أن يحدث ش يء ..فاإلنسان ليس هذه األعضاء وإنما هو الروح الجالسة على عجلة القيادة لتدير هذه املاكينة التي اسمها الجسد. إنها اإلدارة التي يمثلها مجلس إدارة من خاليا املخ ..ولكنها ليست املخ ..فاملخ مثله مثل خاليا الجسد يصدع باألوامر التي تصدر إليه ويعبر عنها ولكنه في النهاية ليس أكثر من قفاز لها.. قفاز تلبسه هذه اليد الخفية التي اسمها الروح وتتصرف به في العالم املادي. نفهم من هذه الشواهد كلها أن اإلنسان له طبيعتان: طبيعة جوهرية حاكمة هي روحه. وطبيعة ثانوية زائلة هي جسده.وما يحدث باملوت أن الطبيعة الزائلة تلتحق بالزوال والطبيعة الخالدة تلتحق بالخلود فيلتحق الجسد بالتراب وتلتحق الروح بعاملها الباقي.
46
ولعشاق الفلسفة نقدم دليال آخر على وجود الروح من الخاصية التي تتميز بها الحركة. فالحركة ال يمكن رصدها إال من خارجها. ال يمكن أن تدرك الحركة وأن تتحرك معها في نفس الفلك وإنما ال بد من عتبة خارجية تقف تقف عليها لترصدها ..ولهذا تأتي عليك لحظة وأنت في أسانسير متحرك ال تستطيع أن تعرف هل هو واقف أم متحرك ألنك أصبحت قطعة واحدة معه في حركته ..ال تستطيع ادراك هذه الحركة إال إذا نظرت من باب األسانسير إلى الرصيف الثابت في الخارج. ونفس الحالة في قطار يسير بنعومة على القضبان ..ال تدرك حركة مثل هذا القطار وأنت فيه إال لحظة شروعه في الوقوف أو لحظة إطاللك من النافذة على الرصيف الثابت في الخارج. وباملثل ال يمكنك رصد الشمس وأنت فوقها ولكن يمكنك رصدها من القمر أو األرض ..كما ال يمكنك رصد األرض وأنت تسكن عليها وإنما تستطيع رصدها من القمر. ال تستطيع أن تحيط بحالة إال إذا خرجت خارجها. ولهذا ما كنا نستطيع إدراك مرور الزمن لوال أن الجزء املدرك فينا يقف على عتبة منفصلة وخارجة عن هذا املرور الزمني املستمر (أي على عتبة خلود) ..ولو كان إدراكنا يقفز مع عقرب الثواني كل لحظة ملا استطعنا أن ندرك هذه الثواني أبدا ،وال نصرم إدراكنا كما تنصرم الثواني بدون أن يالحظ شيئا. وهي نتيجة مذهلة تعني أن هناك جزءا من وجودنا خارجا عن إطار املرور الزمني (أي خالد) هو الذي يالحظ الزمن من عتبة سكون ويدركه دون أن يتورط فيه ولهذا ال يكبر وال يشيخ وال يهرم وال ينصرم ..ويوم يسقط الجسد ترابا سوف يظل هذا الجزء على حاله حيا حياته الخاصة غير الزمنية هذا الجز هو الروح. وكل منا يستطيع أن يحس بداخله هذا الوجود الروحي على صورة حضور وديمومة وشخوص وكينونة مغايرة تماما للوجود املادي املتغير املتقلب النابض مع الزمن خارجه.
47
هذه الحالة الداخلية التي ندركها في لحظات الصحو الباطني والتي أسميتها حالة حضور.. هي املفتاح الذي يقودنا إلى الوجود الروحي بداخلنا ويضع يدنا على هذا اللغز الذي اسمه الروح.. ودليل آخر على طبيعتنا الروحية هو شعورنا الفطري بالحرية ،ولو كنا أجساما مادية ضمن إطار حياة مادية تكمنا القوانين املادية الحتمية ملا كان هناك معنى لهذا الشعور الفطري بالحرية. لنا الروح إذا تعلو على الزمن وتتخطى املوت وتتخطى الحتميات املادية. ماذا عن البعث إذا ..؟ لم يعد أحد بعد املوت ليخبرنا ماذا جرى له. ولم يأت يوم البعث لنقدم دليال ملموسا أو شاهد عيان. وكل ما يمكن قوله في موضوع البعث أنه حقيقة دينية يرجحها العقل والعلم. ملاذا يرجحها العقل والعلم؟ ألن شواهد الوجود وظواهره تشير جميعها إلى أن هناك عودا على بدء ودورة لكل ش يء.. بعد النهار يأتي الليل ثم يعود من جديد فيأتي النهار ،والشمس تشرق ثم تغرب ثم تعود فتشرق. الصيف والخريف والشتاء والربيع ثم تعود فتتكرر الدورة من جديد فيأتي الصيف ثم الخريف ثم الشتاء الخ ..بعد اليقظة ونوم الليل نعود فنستيقظ من جديد ..وهذا يرجح أنه بعد رقود املوت هناك صحوة بعث ..ألن هناك عودا لكل ش يء ..وهللا يسمي نفسه في القرآن املبدئ املعيد. ((كما بدأكم تعودون)).. ((يبدأ الخلق ثم يعيده)).. أال يدور كل ش يء في فلك من الذرة إلى املجرة ،حتى الحضارات لها دورات والتاريخ له دورات. الدليل اآلخر على البعث هو النظام املحكم الذي ليس فيه بادرة خلل واحدة من أكبر املجرات حتى أصغر الذرات حتى اإللكترون الذي ال ُيرى نجد النظام والقانون يهيمن على كل 48
ش يء ..حتى اإللكترون املتناهي في الصغر ال يستطيع أن ينتقل من فلك إلى فلك في الذرة إال إذا أعطى أو أخذ مقدارا من الطاقة يساوي حركته ..وكأنه راكب قطار ال يستطيع أن يصل أي مكان بدون تذكرة ..فكيف نتصور في هذا النظام أن يهرب قاتل أو يفر ظالم من الجزاء ملجرد أنه ضلل. إن العقل يتصور أنه البد سيلقى جزاءه حتما ،وإن هناك البد عاملا آخر يسوى فيه الحساب ..هكذا يقول العدل. ونحن مفطورون على تحري العدل وعلى حب العدل والبحث عن العدل ومحاولة تحقيق العدل. ومع ذلك فالعدل في الدنيا غير موجود. وكما يقول أهل الفكر إذا كان الظمأ إلى املاء يدل على وجود املاء ..فال بد أن الظمأ إلى العدل يدل على وجود العدل ..فإن لم يكن موجودا في دنيانا فال بد أن له يوما وساعة تنصب فيها موازينه. كل هذه مؤشرات تشير وترجح أن هناك بعثا وحسابا وعاملا آخر. واملؤمن الذي يصدق القرآن في غير حاجة إلى هذه االستدالالت ألنه آمن بقلبه وأراح نفسه من الجدل. يبقى بعد ذلك أن نسأل :وما الروح؟.. ((ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إال قليال)).. هي لغز وال أحد يعلم عنها شيئا. والعجيب أنه كلما جاء ذكر الروح في القرآن ذكرت معها كلمة من أمر ربي. ((يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده)).. ((ينزل املالئكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده)).. ((تنزل املالئكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر)).. ((وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا)).. دائما كلمة "من أمرنا"" ..من أمره"" ..من أمر ربي" ..كلما ذكرت الروح. 49
أيكون أمر هللا روحا؟ وكلمة هللا روحا؟ ألم يقل هللا عن املسيح عليه السالم أنه: ((كلمة منه اسمه املسيح عيس ى بن مريم)).. وأنه: ((كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه)).. الكلمة ..األمر ..الروح ..هل هي ألفاظ مترادفة ملعنى واحد.. هي مجرد إشارات.. وال أحد يعلم الحقيقة إال العليم.. يبقى بعد ذلك سؤالك عن تحضير األرواح. وتحضير األرواح عندنا أمر مشكوك فيه. مشكوك فيه أنه ظواهر الغرفة املظلمة سببها حضور روح فالن أو عالن. ومفكر كبير مثل هنري سودر يقول :إن تلك الظواهر مصدرها العقل الباطن للوسيط والقوى الروحية للوسيط ذاته ..وال ش يء يحضر باملرة. ويقول املفكرون الهنود :إن الذي يتلبس الوسيط أثناء التحضير هي أرواح سفلية تعرف بعض األشياء عن املوتى وتستخدمها في السخرية بعقول املوجودين والضحك عليهم. ويقول الصوفية املسلمون إن الذي يحضر في تلك الجلسات ليس الروح ولكن القرين، وهو الجن الذي كان يصاحب امليت أثناء حياته ..وهو بحكم هذه الصحبة يعرف أسراره.. وألن الجن معمر فإنه يبقى حيا بعد موت صاحبه ..وهو الذي يحضر الجلسات ويفش ي أسرار صاحبه ويقلد صوته وعاداته ليسخر من املوجودين على عادة الجن في عدائهم لإلنسان. وهم يقولون :إننا إذا دققنا جرس املكتب فإن الذي يحضر هو الخادم ..أما السادة فإنهم ال يتركون عاملهم ويحضرون بهذه السذاجة وباملثل في عالم األرواح ..فالذي يحضر في الجلسات ويهرج على املوجودين هي األرواح السفلية والجن ومن في مستواهم. 51
أما األرواح البشرية فهي في عالم آخر هو عالم البرزخ وال يمكن استحضارها ..ولكنها قد تتصل بمن تحب في الحلم أو في اليقظة إذا توفرت الظروف املالئمة. ومن الجلسات الكثيرة التي حضرناها ومما جمعنا من خبرة خاصة في هذا املوضوع نقول:أنه ال يوجد دليل واحد على أن ظواهر الغرفة املظلمة سببها حضور الروح املطلوبة. وربما كان رأي الصوفية املسلمين أكثر اآلراء تفسيرا ملا يحدث. واملسألة ما زالت قيد البحث. ولألسف الشعوذات في هذا املوضوع أكثر من الحقائق ..والكلمة األخيرة لم تقل بعد. ال شك أنك سوف تضحك على كلمات مثل الجن واألرواح السفلية ..والقرين. ولك عذرك ..فإذا كنت ال تؤمن بروحك أنت فكيف يتوقع منك أن تؤمن بجني.. وإذا كنت ال تؤمن باهلل فكيف ينتظر منك أن تؤمن بشياطينه. ومع ذلك لو كنت ولدت منذ مئة سنة وجاءك رجل يحدثك عن أشعة غير منظورة تخرق الحديد ،صور تنتقل في الهواء عبر املحيطات في أقل من ثانية ،ورائد فضاء يمش ي على تراب القمر ..ألم تكن تضحك وتقهقه وتستلقي على قفاك أضعاف ما تضحك اآلن ..وتقول لنفسك ..هذا رجل هارب من مستشفى املجاذيب ومع ذلك فيا لها من حقائق ملء السمع والبصر اآلن.
50
الفصل التاسع :الضـمـري قال صاحبي: أنتم تتكلمون عن الضمير في تقديس كما لو كان شيئا مطلقا مع أنه أحد املصنوعات االجتماعية ،عملة نحاسية ال أكثر صكت ودمغت وسبكت في فرن التعامالت االجتماعية وهو عندنا ش يء تتغير أحكامه وضوابطه وفق املصالح الجارية والقيمة التي تفيد نقول عنها خيرا والقيمة التي تضر نقول عنها شرا ولو كانت هذه القيمة هي العفة التي تتمسكون بها كعيونكم. قلت له في هدوء: نعم ..هذا هو رأي الفلسفة املادية على ما أسمع ..أن الضمير سلطة زجر وردع نبتت من الدواعى االجتماعية ..مجرد تحصيل خبرة تتفاوت بين شخص وشخص وبين عصر وعصر وبين أمة وأمة. هذا كالمكم ..ولكن الحقيقة غير ذلك.. الحقيقة أن الضمير نور وضعه هللا في الفطرة ومؤشر ودليل وبوصلة نولد بها ..تهدينا إلى الحقائق وكل دور االكتساب االجتماعى أنه يجلو مرآة هذه البوصلة ويصقل زجاجها. ولنا على ذلك براهين تؤيدنا وتشجب كالمكم.. انظر إلى عالم الحيوان حيث ال مجتمع ،ترى القطة تتبرز ثم تستدير لتغطى فضالتها بالتراب ،في أي مجتمع قططى تعلمت القطة هذا الوازع؟ وكيف ميزت بين القذارة والنظافة؟ وأنت ترى القطة تسرق السمكة فإذا ضبطتها وضربتها على رأسها طأطأت ونكست بصرها في إحساس واضح بالذنب ..وتراها تلهو مع األطفال في البيت فتكسر فازة أثناء اللعب ..فماذا يحدث ،إنها تجرى في فزع وتختبيء تحت الكراس ى وقد أدركت أنها أخطأت. كل هذه شواهد ومالمح ضمير. وليس في مملكة القطط دواع لنشأة هذه املشاعر ..وال نرى حتى مجتمعا قططيا من األساس. 52
وتقاليد الوفاء الزوجى في الحمام.. ونبل الحصان في ارتباطه بصاحبه حتى املوت.. وكبرياء األسد وترفعه عن الهجوم على فريسته من الخلف ..وخجل الجمل وتوقفه عن مضاجعة أنثاه إذا وجد أن هناك عينا ترقبه.. ثم تلك الحادثة البليغة التي رآها جمهور املشاهدين في السيرك القومى بالقاهرة ..حينما قفز األسد على املدرب محمد الحلو من الخلف وأنشب مخالبه في كتفه وأصابه بجرج قاتل.. وبقية الحادثة يرويها موظفو السيرك ..كيف امتنع األسد عن الطعام ..وحبس نفسه في زنزانته ال يبرحها ..وكيف نقلوه إلى حديقة الحيوان وقدموا له أنثى لتروح عنه فضربها وطردها ..وظل على صيامه ورفضه للطعام ثم انقض على يده اآلثمة وظل يمزقها حتى نزف ومات. حيوان ينتحر ندما وتكفيرا عن جريمته.. من أي مجتمع في دنيا السباع أخذ األسد هذه التقاليد ..هل في مجتمع السباع أن افتراس اإلنسان جريمة تدعو إلى االنتحار. نحن هنا أمام نبل وخلق وضمير ال نجده في بشر. ّ ّ املادي وللتصور املادي لحقيقة الضمير. ونحن أمام فشل كامل للتفسير وال تفسير ملا نراه سوى ما يقوله الدين ..من أن الضمير هو نور وضعه هللا في الفطرة وأن كل دور االكتساب االجتماعي أن يجلو صدأ النفس فتشف عن هذا النور االلهي. وهذا هو ما حدث بين األسد ومدربه ..املعاشرة واملحبة واملصاحبة صقلت تلك النفس الحيوانية فأيقظت ذلك القبس الرحمانى ..فإذا باألسد يحزن ويندم وينتحر كمدا كالبشر. "الحالل ّبين والحرام ّبين" . ..كما قال نبينا عليه الصالة والسالم. "استفت قلبك وإن أفتاك الناس". لسنا في حاجة إلى كلية شريعة لنعرف الخطأ من الصواب والحرام من الحالل ..فقد وضع هللا في قلب كل منا كلية شريعة ..وميزانا ال يخطئ ..وكل ما نحن مطالبون به أن نجلو نفوسنا
53
من غواش ى املادة ومن كثافة الشهوات فنبصر ونرى ونعرف ونميز بدون عكاز (الخبرة االجتماعية) وذلك بنور هللا الذي اسمه الضمير. َّ ُ ُ َ ين َآم ُنوا َإن َت َّت ُقوا ّ َ ((يا َأ ُّي َها َّالذ َ اّلل َيج َعل لكم فرقانا)) [ األنفال اآلية .]27 ِّ ِّ يقول هللا في الحديث القدس ي للصوفي محمد بن عبد الجبار" :كيف تيأس ّ مني وفي قلبك سفيري ومتحدثي". الضمير حقيقة ثابتة والقيم األخالقية األساسية هي باملثل ثابتة فقتل البريء لن يصبح يوما ما فضيلة وكذا السرقة والكذب وإيذاء اآلخرين والفحشاء والفجور والبذاءة والغلظة والقسوة والنفاق والخيانة كل هذه نقائض خلقية ،وسوف تظل هكذا إلى أن يرث هللا األرض ومن عليها. وكذلك سوف تظل املحبة والرحمة والصدق والحلم والعفو واإلحسان فضائل ..ولن تتحول إلى جرائم إال إذا فسدت السماوات واألرض وساد الجنون وانتهى العقل.
54
الفصل العاشر :هل مناسك احلج وثنية؟ قال صاحبي -وهو يفرك يديه ارتياحا ويبتسم ابتسامة خبيثة تبدي نواجذه وقد ملعت عيناه بذلك البريق الذي يبدو في وجه املالكم حينما يتأهب لتوجيه ضربة قاضية:- أال تالحظ معي أن مناسك الحج عندكم هي وثنية صريحة .ذلك البناء الحجري الذي تسمونه الكعبة وتتمسحون به وتطوفون حوله ،ورجم الشيطان ..والهرولة بين الصفا واملروة ،وتقبيل الحجر األسود ..وحكاية السبع طوفات والسبع رجمات والسبع هروالت وهي بقايا من خرافة األرقام الطلسمية في الشعوذات القديمة ،وثوب اإلحرام الذي تلبسونه على اللحم.. ال تؤاخذني إذا كنت أجرحك بهذه الصراحة ولكن ال حياء في العلم. وراح ينفث دخان سيجارته ببطء ويراقبني من وراء نظارته. قلت في هدوء: أال تالحظ معي أنت أيضا أن في قوانين املادة التي درستها أن األصغر يطوف حول األكبر، اإللكترون في الذرة يدور حول النواة ،والقمر حول األرض ،واألرض حول الشمس ،والشمس حول املجرة ،واملجرة حول مجرة أكبر ،إلى أن نصل إلى "األكبر مطلقا" وهو هللا ..أال نقول "هللا أكبر" ..أي أكبر من كل ش يء.. وأنت اآلن تطوف حوله ضمن مجموعتك الشمسية رغم أنفك وال تملك إال أن تطوف فال ش يء ثابت في الكون إال هللا هو الصمد الصامد الساكن والكل في حركة حوله.. وهذا هو قانون األصغر واألكبر الذي تعلمته في الفيزياء.. أما نحن فنطوف باختيارنا حول بيت هللا.. وهو أول بيت اتخذه اإلنسان لعبادة هللا.. فأصبح من ذلك التاريخ السحيق رمزا وبيتا هلل..
55
أال تطوفون أنتم حول رجل محنط في الكرملين تعظمونه وتقولون أنه أفاد البشرية ،ولو عرفتم لشكسبير قبرا لتسابقتم إلى زيارته بأكثر مما نتسابق إلى زيارة محمد عليه الصالة والسالم.. أال تضعون باقة ورد على نصب حجري وتقولون أنه يرمز للجندي املجهول فلماذا تلوموننا ألننا نلقي حجرا على نصب رمزي نقول أنه يرمز إلى الشيطان.. أال تعيش في هرولة من ميالدك إلى موتك ثم بعد موتك يبدأ ابنك الهرولة من جديد وهي نفس الرحلة الرمزية من الصفا (الصفاء أو الخواء أو الفراغ رمز للعدم) إلى املروة وهي النبع الذي يرمز إلى الحياة و الوجود.. من العدم إلى الوجود ثم من الوجود إلى العدم.. أليست هذه هي الحركة البندولية لكل املخلوقات.. أال ترى في مناسك الحج تلخيصا رمزيا عميقا لكل هذه األسرار.. ورقم 7الذي تسخر منه ..دعني أسألك ما السر في أن درجات السلم املوسيقي ( 7صول ال س ي دو ري مي فا) ثم بعد املقام السابع يأتي جواب الصول من جديد ..فال نجد 5وإنما نعود إلى سبع درجات أخرى وهلم جر ،وكذلك درجات الطيف الضوئي 7وكذلك تدور اإللكترونات حول نواة الذرة في نطاقات 7والجنين ال يكتمل إال في الشهر 7وإذا ولد قبل ذلك يموت وأيام األسبوع عندنا وعند جميع أفراد الجنس البشري 7وضعوها كذلك دون أن يجلسوا ويتفقوا.. أال يدل ذلك على ش يء ..أم أن كل هذه العلوم هي األخرى شعوذات طلسمية. أال تقبل خطابا من حبيبتك ..هل أنت وثني؟ فلماذا تلومنا إذا قبلنا ذلك الحجر األسود الذي حمله نبينا محمد عليه الصالة والسالم في ثوبه وقبله .ال وثنية في ذلك باملرة ..ألننا ال نتجه بمناسك العبادة نحو الحجارة ذاتها ..وإنما نحو املعاني العميقة والرموز والذكريات. إن مناك الحج هي عدة مناسبات لتحريك الفكر وبعث املشاعر وإثارة التقوى في القلب .أما ثوب اإلحرام الذي نلبسه على اللحم ونشترط أال يكون مخيطا فهو رمز للخروج من زينة الدنيا وللتجرد التام أمام حضرة الخالق ..تماما كما نأتي إلى الدنيا في اللفة ونخرج من الدنيا في لفة وندخل القبر في لفة.. 56
أال تشترطون أنتم لبس البدل الرسمية ملقابلة امللك ونحن نقول :إنه ال ش يء يليق بجاللة هللا إال التجرد وخلع جميع الزينة ألنه أعظم من جميع امللوك وألنه ال يصلح في الوقفة أمامه إال التواضع التام والتجرد ..وألن هذا الثوب البسيط الذي يلبسه الغني والفقير واملهراجا واملليونير أمام هللا فيه معنى آخر لألخوة رغم تفاوت املراتب والثروات. والحج عندنا اجتماع عظيم ومؤتمر سنوي.. ومثله صالة الجمعة وهي املؤتمر الصغير الذي نلتقي فيه كل أسبوع. هي كلها معان جميلة ملن يفكر ويتأمل ..وهي أبعد ما تكون عن الوثنية. ولو وقفت معي في عرفة بين عدة ماليين يقولون "هللا أكبر" ويتلون القرآن بأكثر من عشرين لغة ويهتفون لبيك اللهم لبيك ويبكون ويذوبون شوقا وحبا ،لبكيت أنت أيضا دون أن تدري وتذوب في الجمع الغفير من الخلق ..وأحسست بذلك الفناء والخشوع أمام اإلله العظيم مالك امللك الذي بيده مقاليد كل ش يء.
57
الفصل احلادي عشر :ملاذا ال يكون القرآن من تأليف حممد؟ قال صاحبي وهو ينتقى عباراته: ال أريد أن أجرحك فأنا أعلم اعتزازك بالقرآن وأنا معك في أنه كتاب قيم ..ولكن ملاذا ال يكون من تأليف محمد؟ ..إن رجال في عظمة محمد ال يستغرب منه أن يضع كتابا في عظمة القرآن.. سوف يكون هذا منطقيا أكثر من أن نقول إن هللا أنزله .فإنا لم نر هللا ينزل من السماء شيئا.. ونحن في عصر من الصعب أن نقنع فيه إنسانا بأن هناك مالكا اسمه جبريل نزل بن السماء بكتاب ليوحى به إلى أحد. قلت في هدوء: بل نحن في عصر يسهل فيه تماما أن نصدق بأن هناك مالئكة ال ترى ،وبأن الحقائق يمكن أن تلقى إلى اإلنسان وحيا ..فهم يتكلمون اليوم عن أطباق طائرة تنزل على األرض .كواكب بعيدة وأشعة غير منظورة تقتل ،وأمواج ال سلكية تحدد األهداف وتضربها ..وصور تتحول إلى ذبذبات في الهواء ثم تستقبل في أجهزة صغيرة كعلب التبغ ..وكاميرات تصور األشباح.. وعيون ترى في الظالم ..ورجل يمش ى على القمر ..وسفينة تنزل على املريخ ..لم يعد غريبا أن نسمع أن هللا أرسل ملكا خفيا من مالئكته ..وأنه ألقى بوحيه على أحد أنبيائه ..لقد أصبح وجود جبريل اليوم حقيقة من الدرجة الثانية ..وأقل عجبا وغرابة مما نرى ونسمع كل يوم. أما ملاذا ال نقول إن القرآن من تأليف محمد عليه الصالة والسالم ..فألن القران بشكله وعباراته وحروفه وما احتوى عليه من علوم ومعارف وأسرار وجمال بالغى ودقة لغوية هو مما ال يدخل في قدرة بشر أن يؤلفه ..فإذا أضفنا الى ذلك أن محمدا عليه الصالة والسالم كان أميا ،ال يقرأ وال يكتب ولم يتعلم في مدرسة ولم يختلط بحضارة ،ولم يبرح شبه الجزيرة العربية ،فإن احتمال الشك واحتمال إلقاء هذا السؤال يغدو مستحيال ..وهللا يتحدى املنكرين ممن زعموا أن القرآن مؤلف(( ..قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون هللا)) ..استعينوا بالجن واملالئكة وعباقرة اإلنس وأتوا بسورة من مثله وما زال التحدى قائما ولم يأت أحد بش يء . ..إال ببعض عبارات مسجوعة ساذجة سموها "سورة من مثله" . ..أتى 58
بها أناس يعتقدون أن القرآن مجرد كالم مسجوع ..ولكن سورة من مثله ..أي بها نفس اإلعجاز البالغي و العلمي.. وإذا نظرنا إلى القرآن في حياد وموضوعية فسوف نستبعد تماما أن يكون محمد عليه الصالة والسالم هو مؤلفه. أوال :ألنه لو كان مؤلفه لبث فيه همومه وأشجانه ،ونحن نراه في عام واحد يفقد زوجهخديجة وعمه أبا طالب وال سند له في الحياة غيرهما ..وفجيعته فيهما ال تقدر ..ومع ذلك ال يأتي لهما ذكر في القرآن وال بكلمة ..وكذلك يموت ابنه إبراهيم ويبكيه ،وال يأقى لذلك خبر في القرآن ..القرآن معزول تماما عن الذات املحمدية. بل إن اآلية لتأتى مناقضة ملا يفعله محمد وما يفكر فيه ..وأحيانا تنزل اآلية معاتبة له كما حدث بصدد األعمى الذي انصرف عنه النبي إلى أشراف قريش(( :عبس وتولى * أن جاءه األعمى * وما يدريك لعله يزكى * أو يذكر فتنفعه الذكرى)) [عبس.]6-1: وأحيانا تنزل اآلية فتنقض عمال من أعمال النبي(( :ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في األرض تريدون عرض الدنيا وهللا يريد اآلخرة وهللا عزيز حكيم * لوال كتاب من هللا سبق ملسكم فيما أخذتم عذاب عظيم)) [األنفال.]25-27: وأحيانا يأمر القرآن محمد بأن يقول ألتباعه ما ال يمكن أن يقوله لو أنه كان يؤلف الكالم تأليفا(( :قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدرى ما يفعل بي وال بكم)) [األحقاف.]7: ال يوجد نبي يتطوع من تلقاء نفسه ليقول ألتباعه"ال أدرى ما يفعل بي وال بكم" ..ال أملك لنفس ي ضرا وال نفعا ..وال أملك لكم ضرا وال نفعا .فإن هذا يؤدى إلى أن ينفض عنه أتباعه. وهذا ما حدث فقد اتخذ اليهود هذه اآلية عذرا ليقولوا ..ما نفع هذا النبي الذي ال يدري ماذا يفعل به وال بنا ..هذا رجل ال جدوى فيه .مثل هذه اآليات ما كان يمكن أن يؤلفها النبي لو كان يضع القرآن من عند نفسه. ثانيا :لو نظرنا بعد ذلك في العبارة القرآنية لوجدنا أنها جديدة منفردة في رصفها وبنائهاومعمارها ليس اال شبيه فيما سبق من أدب العرب وال شبيه فيما أتى الحقا بعد ذلك ..حتى لتكاد اللغة تنقسم إلى شعر ونثر وقرآن ..فنحن أمام كالم هو نسيج وحده ال هو بالنثر وال 59
بالشعر .فموسيقى الشعر تأتى من الوزن ومن التقفية فنسمع الشاعر ابن األبرص األسدى ينشد: فليس يبدى وال يعيد أقفر من أهله عبيد هنا املوسيقى تخرج من التشطير ومن التقفية على الدال املمدودة ،فهي موسيقى خارجية.. أما موسيقى القران فهي موسيقى داخلية(( :والضحى * والليل إذ ا سجى)) [الضحى.]2-1: ال تشطير وال تقفية في هذه العبارة البسيطة ،ولكن املوسيقى تقطر منها ..من أين؟ إنها موسيقى داخلية. اسمع هذه اآليات (( :ب إني وهن العظم ّ مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب ر شقيا)) [مريم.]6: وهذه اآليات(( :طه * ما انزلنا عليك القران لتشقى * إال تذكرة ملن يخش ى * تنزيال ممن خلق األرض والسموات العلى * الرحمن على العرش استوى)) [طه.]5-1: فإذا تناولت اآليات تهديدا تحول بناء العبارة ونحتها إلى جالميد صخر ..وأصبح لإليقاع صلصلة نحاسية تصخ السمع(( :إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر * تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر)) [القمر..]20-17: كلمات مثل "صرصرا" ..و"منقعر" ..كل كلمة كأنها جلمود صخر .فإذا جاءت اآلية لتروى خبرا هائال كما في نهاية الطوفان تقاصرت العبارات وكأنها إشارات "مورس" التلغرافية. وأصبحت اآلية كلها كأنها تلغراف مقتضب له وقع هائل(( :وقيل يأرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعى وغيض املاء وقض ى األمر)) [هود.]66: هذا التلون في نحت األلفاظ وفي بناء العبارة وفي إيقاع الكلمات مع املعاني واملشاعر ..يبلغ في القرآن الذروة ويأتي دائما منسابا ال تكلف فيه والتعمل. ثالثا :إذا مضينا في التحليل أكثر فإنا سنكتشف الدقة البالغة واإلحكام املذهل ..كل حرففي مكانه ال تقديم وال تأخير ..ال تستطيع أن تضع كلمة مكان كلمة ،وال حرفا مكان حرف ..كل لفظة تم اختيارها من مليون لفظة بميزان دقيق ..وسنرى أن هذه الدقة البالغة ال مثيل لها في التأليف. 61
انظر إلى هذه الكلمة "لواقح" في اآلية(( :وأرسلنا الرياح لواقح)) [الحجر.]22: وكانوا يفسرونها في املاض ي على املعنى املجازى بمعنى أن الرياح تثير السحب فتسقط املطر فيلقح األرض بمعنى "يخصبها" ثم عرفنا اليوم أن الرياح تسوق السحب إيجابية التكهرب وتلقى بها في أحضان السحب سالبة التكهرب فيحدث البرق والرعد واملطر ..وهي بهذا املعنى "لواقح" أيضا ،ونعرف اآلن أيضا أن الرياح تنقل حبوب اللقاح من زهرة إلى زهرة فتلقحها باملعنى الحرفي ،ونعرف أخيرا أن املطر ال يسقط إال بتلقيح قطيرات املاء بذرات الغبار فتنمو القطيرات حول هذه األنوية من الغبار وتسقط مطرا .كها نحن أوالء أمام كلمة صادقة مجازيا وحرفيا وعلميا ،ثم هي بعد ذلك جميلة فنيا وأدبيا وذات إيقاع حلو. هنا نرى منتهى الدقة في انتقاء اللفظة ونحتها ،وفي آية أخرى(( :وال تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس باإلثم وأنتم تعلمون)) [البقرة.]155: كلمة "تدلوا"!! ..مع أن الحاكم الذي تلقى إليه األموال في األعلى وليس في األسفل!.. ال ،إن القران يصحح الوضع ،فاليد التي تأخذ الرشوة هي اليد السفلى ولو كانت يد الحاكم ..ومن هنا جاءته كلمة "تدلوا بها إلى الحكام" لتعبر في بالغة المثيل اال عن دناءة املرتش ى وسفله. َّ وفي آية الجهاد(( :ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل هللا اثاقلتم إلى األرض)) [التوبة.]35: َّ القرآن يستعمل كلمة "اثاقلتم" بدال من تثاقلتم ..يدمج الحروف إدماجا ،ويلصقها إلصاقا ليعبر عن جبن الجبناء الذين يلتصقون باألرض و"يتربسون" فيها من الخوف إذا دعوا إلى القتال ،فجاءت حروف الكلمة باملثل "متربسة". وفي آية قتل األوالد من الفقر نراها جاءت على صورتين: ((وال تقتلوا أوالدكم من إمالق نحن نرزقكم وإياهم)) [األ نعام.]151: ((وال تقتلوا أوالدكم خشية إمالق نحن نرزقهم وإياكم)) [اإلسر اء.]31: والفرق بين اآليتين لم يأت اعتباطا ،وإنما جاء ألسباب محسوبة ..فحينما يكون القتل من إمالق فإن معناه أن األهل فقراء في الحاضر ،فيقول :نحن "نرزقكم" وإياهم .وحينما يكون 60
قتل األوالد خشية إمالق فإن معناه أن الفقر هو احتمال في املستقبل ولذا تشير اآلية إلى األبناء فتقول نحن "نرزقهم" وإياكم .مثل هذه الفروق ال يمكن أن تخطر على بال مؤلف. وفي حاالت التقديم والتأخير نجد دائما أنه لحكمة ،نجد أن السارق مقدم على السارقة في آية السرقة ،في حين أن الزانية مقدمة على الزانى في آية الزنى ..وذلك لسبب واضح ،أن الرجل أكثر إيجابية في السرقة ..أما في الزنى فاملرأة هي التي تأخذ املبادرة ،من لحظة وقوفها أمام املرآة تضع "البارفان" وملسات "التواليت" وتختار الفستان أعلى الركبة فإنها تنصب الفخاخ للرجل املوعود. ((الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة)) [النور.]2: ((والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما)) [املائدة.]35: وباملثل تقديم السمع على البصر في أكثر من 12مكانا.. ((وجعل لكم السمع واألبصار واألفئدة)) [النحل.]75: ((وجعلنا لكم سمعا وأبصارا وأفئدة)) [األحقاف.]22: ((أسمع بهم وأبصر)) [مريم.]35: ((إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئوال)) [اإلسراء.]32: ((وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم وال أبصاركم)) [فصلت.]22: ((ليس كمثله ش يء وهو السميع البصير)) [الشورى.]11: دائما السمع أوال.. وال شك أن السمع أكثر إرهافا وكماال من البصر ..إننا نسمع الجن وال نراه ،واألنبياء سمعوا هللا وكلموه ولم يره أحد. وقد تلقى محمد القرآن سمعا .واألم تميز بكاء ابنها في الزحام وال تستطيع أن تميز وجهه. والسمع يصاحب اإلنسان أثناء النوم فيظل صاحيا في حين تنام عيناه ،ومن حاول تشريح جهاز السمع يعلم أنه أعظم دقة وإرهافا من جهاز البصر. وباملثل تقديم املال على الولد: ((يوم الينفع مال وال بنون .إال من أتى هللا بقلب سليم)) [الشعراء.]57-55: 62
((إنما أموالكم وأوالدكم فتنة ،وهللا عنده أجر عظيم)) [التغابن.]15: ((لن تغنى عنكم أموالكم وال أوالدهم من هللا شيئا ،وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)) [آل عمران.]12: ((أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين * نسارع لهم في الخيرات بل ال يشعرون)) [املؤمنون.]52-55: ((فال تعجبك أموالهم وال أوالدهم إنما يريد أهلل ليعذبهم بها في الحياة الدنيا)) [التو بة.]55: ((اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في األموال واألوالد كمثل غيث أعجب الكفار نباته)) [الحديد.]20: واألمثلة على هذا التقديم كثيرة والسر أن املال عند أكثر الناس أعز من الولد. ثم الدقة والخفاء واللطف في اإلعراب .انظر إلى هذه اآلية(( :وإن طائفتان من املؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما)) [الحجرات.]7: مرة عوملت الطائفتان على أنهما جمع "اقتتلوا" ومرة على أنهما مثنى "فأصلحوا بينهما" والسر لطيف. فالطائفتان في القتال تلتحمان وتصبحان جمعا من األذرع املتضاربة ..في حين أنهما في الصلح تتفصالن إلى اثنين ..وترسل كل واحدة عنها مندوبا ،ومن هنا قال: وإن طائفتان من املؤمنين "اقتتلوا" فأصلحوا "بينهما"! حتى حروف الجر والوصل والعطف تأتى وتمتنع في القرآن ألسباب عميقة ،وبحساب دقيق محكم. مثال تأتي كلمة "يسألونك" في أماكن عديدة من القرآن: ((يسألونك ماذا ينفقون قل العفو)) [البقرة.]217: ((يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي)) [اإلسراء.]55: ((يسألونك عن األهلة قل هي مواقيت للناس والحج)) [البقرة.]157: دائما الجواب بكلمة "قل" ..ولكنها حين تأتى عن الجبال: ((ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا)) [طه.]105: 63
هنا ألول مرة جاءت "فقل" بدال من "قل". والسبب ان كل األسئلة السابقة كانت قد سئلت بالفعل ،اما سؤال الجبال فلم يكن قد سئل بعد ،ألنه من أسرار القيامة ،وكأنما يقول هللا :فإذا سألوك عن الجبال "فقل" ..فجاءت الفاء زاندة لسبب محسوب. أما في اآلية(( :وإذا سألك عبادى عنى فإني قريب أجيب دعوة الداع)) [البقرة.]152: هنا ال ترد كلمة "قل" ألن السؤال عن ذات هللا ..وهللا أولى باإلجابة عن نفسه.. كذلك الضمير "أنا" و"نحن". يتكلم هللا بضمير الجمع حيثما يكون التعبير عن "فعل" إلهي تشترك فيه جميع الصفات اإللهية كالخلق ،وإنزال القرآن وحفظه: ((إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)) [الحجر.]7: ((نحن خلقناكم فلوال تصدقون)) [الواقعة.]57: ((إنا أنزلناه في ليلة القدر)) [القدر.]1: ((أفرأيتم ما تمنون .أأنتم تخلقونه أم نحن الحالقون)) [الواقعة.]57-55: ((نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالم تبديال)) [اإلنسان.]25: و"نحن" هنا تعبر عن جمعية الصفات اإللهية وهي تعمل في إبداع عظيم مثل عملية الخلق. أما إذا جاءت اآلية في مقام مخاطبة بين هللا وعبده كما في موقف املكاملة مع موس ى ..تأتي اآلية بضمير املفرد(( :إنني أنا هللا ال إله إال أنا فاعبدني وأقم الصالة لذكري)) [طه.]16: هللا يقول "أنا" ألن الحضرة هنا حضرة ذات ،وتنبيها منه سبحانه على مسألة التوحيد والوحدانية في العبادة. ونجد مثل هذه الدقة الشديدة في آيتين متشابهتين عن الصبر تفترق الواحدة عن األخرى في حرف الالم. يقول لقمان لولده(( :واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم األمور)) [لقمان]17: وفي آية أخرى عن الصبر نقرأ(( :وملن صبر وغفر إن ذلك ملن عزم األمور)) [الشورى.]63:
64
الصبر في األولى "من عزم األمور" وفي الثانية "ملن عزم األمور" ..وسر التوكيد بالالم في الثانية أنه صبر مضاعف ،ألنه صبر على عدوان بشري لك فيه غريم ،وأنت مطالب فيه بالصبر واملغفرة وهو أمر اشد على النفس من الصبر على القضاء اإللهي الذي ال حيلة فيه. ونفس هذه املالحظة عن "الالم" نجدها مرة أخرى في آيتين عن إنزال املطر وإنبات الزرع: ((أفرأيتم املاء الذي تشربون * أأنتم أنزلتموه من املزن أم نحن املنزلون * لو نشاء جعلناه أجاجا)) [الواقعة ،]70-25:أي مالحا ،وفي آية ثانية((:أفرأيتم ما تحرثون * أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون * لو نشاء لجعلناه حطاما)) [الواقعة ]25-23:في اآلية األولى "جعلناه" أجاجا.. وفي اآلية الثانية "لجعلناه" حطاما ..والالم جاءت في الثانية لضرورة التوكيد ،ألن هناك من سوف يدعى بأنه يستطيع أن يتلف الزرع كما يتلفه الخالق ،ويجعله حطاما .في حين لن يستطيع أحد من البشر أن يدعى أن في إمكانه أن ينزل من سحب السماء مطرا مالحا فال حاجة إلى توكيد بالالم. ونفس هذه الدقة نجدها في وصف إبراهيم لربه في القرآن بأنه: ((الذي يميتنى ثم يحيين)) [الشعراء.]51: ((والذي هو يطعمنى ويسقين)) [الشعراء.]77: فجاء بكلمة "هو" جينما تكلم عن "اإلطعام" ليؤكد الفعل اإللهي ،ألنه سوف يدعى الكل أنهم يطعمونه .ويسقونه ،على حين لن يدعى أحد بأنه يميته ومجييه كما يميته هللا ويجييه. ونجد هذه الدقة أيضا حينما يخاطب القرآن املسلمين قائال(( :اذكروني أذكركم)) [البقرة.]152: ويخاطب اليهود قائال(( :اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم)) [البقرة..]60: فاليهود ماديون ال يذكرون هللا إال في النعمة والفاندة واملصلحة واملسلمون أكثر شفافية ويفهمون معنى أن يذكر هللا لذاته ال ملصلحة.. وبنفس املعنى يقول هللا للخاصة من أولى األلباب(( :اتقون يا أولى األلباب)) [البقرة.]177: ويقول للعوام(( :اتقوا النار التي وقود ها الناس والحجارة)) [البقرة.]26:
65
ألن العوام ال يردعهم إال النار ،أما الخاصة فهم يعلمون أن هللا أقوى من كل نار ،وأنه يستطيع أن يجعل النار بردا وسالما إن شاء. ونجد مثل هذه الدقة البالغة في اختيار اللفظ في كالم إبليس حينما أقسم على ربه قائال: ((فبعزتك ألغوينهم أجمعين)) [ص.]52: أقسم إبليس بالعزة اإللهية ولم يقسم بغيرها ،فأثبت بذلك علمه وذكاءه ،ألن هذه العزة اإللهية هي التي اقتضت استغناء هللا عن خلقه ،فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ،ولن يضروا هللا شيئا ،فهو العزيز عن خلقه ،الغز عن العاملين. ويقول هللا في حديثه القدس ي" :هؤالء في النار وال أبالي ،وهؤالء في الجنة وال أبالي". وهذا مقتض ى العزة اإللهية. وهي الثغرة الوحيدة التي يدخل منها إبليس ،فهو بها يستطيع أن يضل ويوسوس ،ألن هللا لن يقهر أحدا اختار الكفر على اإليمان ..ولهذا قال ((فبعزتك ألغوينهم أجمعين)). ((ألقعدن لهم صراطك املستقيم .ثم آلتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم)) [األعراف.]17-12: ذكر الجهات األربع ،ولم يذكر من فوقهم وال من تحتهم .ألن "فوق" الربوبية" ،وتحت" تواضع العبودية ..ومن لزم مكانه األدنى من ربه األعلى لن يستطيع الشيطان أن يدخل عليه. ثم ذكر إبليس أن مقعده املفضل لإلغواء سوف يكون الصراط املستقيم ..على طريق الخير وعلى سجادة الصالة ،ألن تارك الصالة والسكير والعربيد ليس في حاجة إلى إبليس ليضله، فقد تكفلت نفسه بإضالله ،إنه إنسان خرب ..وإبليس لص ذكى ،ال يحب أن يضيع وقته بأن يحوم حول البيوت الخربة. مثال آخر من أمثلة الدقة القرآنية نجده في سبق املغفرة على العذاب والرحمة على الغضب في القرآن ..فاهلل في "الفاتحة" هو الرحمن الرحيم قبل أن يكون مالك يوم الدين.. وهو دائما يوصف بأنه يغفر ملن يشاء ويعذب من يشاء . ..تأتى املغفرة أوال قبل العذاب إال في مكانين..
66
في آية قطع اليد(( :يعذب من يشاء ويغفرملن يشاء)) [املائدة ..]60:ألن العقوبة بقطع اليد عذاب دنيوى ..تليه مغفرة أخروية.. وفي كالم عيس ى يوم القيامة عن املشركين الذين عبدوه من دون هللا ..فيقول لربه(( :إن تعذبهم فإنهم عبادك ،وإن تغفر الم فإنك أنت العزيز الحكيم)) ..فال يقول "فإنك أنت الغفور الرحيم" تأدبا ..ويذكر ألم العذاب قبل املغفرة ..لعظم اإلثم الذي وقعوا فيه. ونجد هذه الدقة القرانية مرة أخرى في تناول القرآن للزمن ..فاملستقبل يأتي ذكره على لسان الخالق على أنه ماض ..فأحداث يوم القيامة ترد كلها على أنها ماض: ((ونفخ في الصور)) [الكهف.]77: ((وانشقت السماء فهي يومئذ واهية)) [الحاقة.]12: ((وبرزت الجحيم للغاوين)) [الشعراء.]71: ((وعرضوا على ربك صفا)) [الكهف.]65: والسر في ذلك أن كل األحداث حاضرها ومستقبلها قد حدثت في علم هللا وليس عند هللا زمن يحجب عنه املستقبل ،فهو سبحانه فوق الزمان واملكان ،ولذا نقرأ العبارة القرآنية أحيانا فنجد أنها تتحدث عن زمانين نحتلفين ،وتبدو في ظاهرها متناقضة مثل: ((أتى أمر هللا فال تستعجلوه)) [النحل.]1: فاألمر قد أتى وحدث في املاض ي .لكن هللا يخاطب الناس بأال يستعجلوه كا لو كان مستقبال لم يحدث بعد ..والسر كما شرحنا أنه حدث في علم هللا ،لكنه لم يحدث بعد في علم الناس، وال تناقض ..وإنما دقة وإحكام ،وخفاء واستسرار ،وصدق في املعافي العميقة. هذه بعض األمثلة للدقة البالغة والنحت املحكم في بناء العبارة القرآنية وفي اختيار األلفاظ واستخدام الحروف ال زيادة وال نقص ،وال تقديم وال تأخير ،إال بحساب وميزان ،وال نعرف لذلك مثيال في تأليف أو كتاب مؤلف ،وال نجده إال في القرآن. أما ملحات العلم في القران وعجائب اآليات الكونية التي أتت باألسرار والخفايا التي لم تكتشف إال في عصرنا ،والتي لم يعرفها محمد! وال عصره فهي موضوع آخر يطول ،وله جلسة أخرى. 67
الفصل الثاني عشر :القرآن ال ميكن أن يكون مؤلفا قلت لصديقي: ربما كان حديث اليوم عن ملحات العلم في القرآن أكثر إثارة لعقلك العلمي من جلستنا السابقة ..فما كان الفلك الحديث ،وال علوم الذ ّرة ،وال علوم البيولوجيا والتشريح معروفة حينما نزلت اآليات الكونية في القرآن منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة لتتكلم عن السماوات واألرض والنجوم والكواكب ،وخلق الجنين وتكوين اإلنسان بما يتفق مع أحداث العلوم التي جاء بها عصرنا. ولم يتعرض القرآن لهذه املوضوعات بتفصيل الكتاب العلمي املتخصص ،ألنه جاء في املقام األول كتاب عقيدة ومنهج وتشريع.. ولو أنه تعرض لتلك املوضوعات بتفصيل ووضوح لصدم العرب بما ال يفهمونه ..ولهذا لجأ إلى أسلوب اإلشارة واللمحة والومضة لتفسرها علوم املستقبل وكشوفه بعد ذلك بمئات السنين ..وتظهر للناس جيال بعد جيل كآيات ومعجزات على صدق نزول القرآن من هللا َ َ َ َ َ َ َ َ َ ُ الحقَ (( ..سن ِّر ِّيهم َآيا ِّت َنا ِّفي اآلف ِّاق َو ِّفي أ ُنف ِّس ِّهم َح َّتى َيت َب َّي َن ل ُهم أ َّن ُه ال َح ُّق أ َولم َيك ِّف ِّب َرِّّب َك أ َّن ُه َعلى ُ َ َ ك ِّ ّل ش يء ش ِّهيد)) [فصلت..]53: ألنهم لم يكتفوا بشهادة هللا على كتابه ..فأصبح من الضروري أن نريهم ذلك باآليات الكاشفة.. هكذا يقول هللا في كتابه.. وما زال القرآن يكشف لنا يوما بعد يوم مزيدا من تلك اآليات العجيبة ..وحول كروية األرض جاءت هذه اآليات الصريحة التي تستخدم لفظ التكوير لتصف انزالق الليل والنهار كنصفي َ َّ ُ َ ّ ُ َّ الن َهار َو ُي َك ّو ُر َّ اللي َل َع َلى َّ كرة(( :يك ِّور الن َه َار َعلى اللي ِّل)) [الزمر.]5: ِّ ِّ َ َ َ األر َ ض َبع َد ذ ِّل َك َد َح َاها)) [النازعات..]30: ثم اآلية التي تصف دحو األرض(( ..و ودحا هي الكلمة الوحيدة في القاموس التي تعني البسط والتكوير معا ..واألرض كما هو معلوم مبسوطة في الظاهر ومكورة في الحقيقة ،بل هي أشبه بالدحية "البيضة" في تكويرها.. 68
ثم نقرأ إشارة أخرى صريحة عن أن الجبال تسبح في الفضاء ،وبالتالي فاألرض كلها تسبح َ َ َ َ ُ َ َ َ َ َ َ ُ ُّ َ َّ َّ َ َََ اب بجبالها حيث َهي والجبال كتلة واحدة(( :وترى ال ِّجبال تحسبها ج ِّامدة و ِّهي تمر مر السح ِّ ُ َ َّ َّ َ ُ َ اّلل ال ِّذي أتق َن ك َّل ش يء)) [النمل.]55: صنع ِّ فالجبال التي تبدو جامدة ساكنة هي في الواقع سابحة في الفضاء ..وتشبيه الجبال بالسحب فيه ملحة أخرى عن التكوين الهش للمادة ..التي نعرف اآلن أنها مؤلفة من ذ ّرات ،كما أن السحب مؤلفة من قطيرات. ثم الكالم عن تواقت الليل والنهار بدون أن يسبق أحدهما اآلخر من مبدأ الخلق إلى نهايته.. َ َّ ُ َ َ َ َ َ ُ َ َ َ َ َ َ َّ اللي ُل َساب ُق َّ الن َه ِّار)) [يـس ..]60:إشارة أخرى إلى ((ال الشمس ينب ِّغي لها أن تد ِّرك القمر وال ِّ كروية األرض ..حيث بدأ الليل والنهار معا وفي وقت واحد منذ بدء الخليقة كنصفي كرة ،ولو كانت األرض مسطحة لتعاقب النهار والليل الواحد بعد اآلخر بالضرورة. َ َ َ َ ثم تأتي القيامة واألرض في ليل ونهار في وقت واحد كما كانت في البدءَ (( ..ح َّت َى ِّإذا أخذ ِّت َ ََ َ َ َ َ َ َ َ َ َ ُ َ َ َ األر ُ ض ُزخ ُرف َها َوا َّزَّينت َوظ َّن أهل َها أ َّن ُهم ق ِّاد ُرو َن َعلي َهآ أت َاها أم ُرنا ليال أو َن َهارا ف َج َعل َن َاها َح ِّصيدا َ َ َّ َ َ َ س)) [يونس..]26: م األ كأن لم تغن ِّب ِّ وفي قوله تعالى ((ليال أو نهارا)) ..تأكيد لهذا التواقت الذي ال تفسير له إال أن نصف األرض محجوب عن الشمس ومظلم ،واآلخر مواجه للشمس ومض يء بحكم كونها كروية ،ولو كانت َ َ َّ اللي ُل َساب ُق َّ الن َه ِّار)) مسطحة لكان لها في كل وقت وجه واحد ،وملا صح أن نقول(( :وال ِّ [يـس.]60: ثم تعدد املشارق واملغارب في القرآن فاهلل ُي َ وصف: ََ ََ (( ِّب َر ِّ ّب املش ِّار ِّق َواملغا ِّر ِّب)) [املعارج.]60: َ َ َ (( َر ُّب املش ِّرقي ِّن َو َر ُّب املغ ِّرَبي ِّن)) [الرحمن.]17: ولو كانت األرض مسطحة لكان هناك مشرق واحد ومغرب واحد ،يقول اإلنسان لشيطانه َ َ َ يوم القيامةَ (( :يا لي َت َبي ِّني َو َبي َن َك ُبع َد املش ِّرقي ِّن)) [الزخرف.]35: وال تكون املسافة على األرض أبعد ما تكون بين مشرقين إال إذا كانت األرض كروية..
69
َ َّ َ َ ات ال ُح ُب ِّك)) ذ ثم الكالم عن السماء بأن فيها مسارات ومجاالت وطرقا(( :والسماء ِّ [الذاريات ..]7:والحبك هي املسارات.. َ َّ َ َ ات َّ الرج ِّع)) [الطارق ..]11:أي أنها ترجع كل ما يرتفع فيها إلى األرض ..ترجع بخار ذ ((والسماء ِّ املاء مطرا ..وترجع األجسام بالجاذبية األرضية.. وترجع األمواج الالسلكية بانعكاسها من طبقة األيونوسفير ..كما ترجع األشعة الحرارية تحت الحمراء معكوسة إلى األرض بنفس الطريقة فتدفئها في الليل.. وكما تعكس السماء ما ينقذف إليها من األرض كذلك تمتص وتعكس وتشتت ما ينقذف إليها من العالم الخارجي ،وبذلك تحمي األرض من قذائف األشعة الكونية املميتة ،واألشعة فوق البنفسجية القاتلة ..فهي تتصرف كأنها سقف.. (( َو َج َعل َنا َّ الس َماء َسقفا َّمح ُفوظا)) [األنبياء.]32: َ َ َّ َ َ َ َ َ َ َ َّ َ ُ وس ُعون)) [الذاريات.]67: ((والسماء بنيناها ِّبأيد وِّإنا مل ِّ وهو ما يعرف اآلن باسم تمدد الكون املطرد.. وكان مثقال الذرة يعرف في تلك األيام بأنه أصغر مثقال ،وكانت الذرة توصف بأنها جوهر فرد ال ينقسم ،فجاء القرآن ليقول بمثاقيل أصغر تنقسم إليها الذرة ..وكان أول كتاب يذكر َّ َ َ َ َ َ َ ُ ُ َ ُ َ ُ َ َ ََ َ َ ُ َّ ض وال أصغر ِّمن األ ي ف ال و ات او م الس ي ف ة ذ شيئا ر ر ِّ ِّ أصغر من الذرة(( :ال يعزب عنه ِّمثقال ِّ ِّ َ َ َ ذ ِّل َك َوال أك َب ُر)) [سبأ.]3: كل هذه ملحات كاشفة قاطعة عن حقائق مذهلة مثل كروية األرض ،وطبيعة السماء والذرة ..وهي حقائق لم تكن تخطر على بال عاقل أو مجنون في ذلك العصر البائد الذي نزل فيه القرآن.. ثم بصيرة القرآن في تكوين اإلنسان وكالمه عن النطفة املنوية وانفرادها بتحديد جنس َ َ َّ ُ َ َ َّ َ َ َ ُ َ ُّ َ َ ُ َ َ َ َّ املولود(( :وأنه خلق الزوجي ِّن الذكر واألنثى * ِّمن نطفة ِّإذا تمنى)) [النجم.]62-65: ُ ّ إال هذا الزمان ..ونحن نقول اآلن إن رأس الحيوان املنوي وهي حقيقة بيولوجية لم تعرف هو وحده الذي يحتوي على عوامل تحديد الجنس .Sex Determination Factor
71
وتسوية البنان بما فيه من رسوم البصمات التي أوردها هللا في مجال التحدي عن البعث َ ُ َ َّ َ َ َ َ َ ُ َ َ َ َ َ َ ُّ َ والتجسيدَ (( :أ َيح َس ُ ين َعلى أن ن َس ّ ِّو َي َب َنان ُه)) ب اإلنسان ألن نجمع ِّعظامه * بلى ق ِّاد ِّر ِّ [القيامة.]6-3: بل سوف نجسد حتى ذلك البنان ونسويه كما كان ..وفي ذلك لفتة إلى اإلعجاز امللحوظ في تسوية البنان بحيث ال يتشابه فيه اثنان.. وأوهن البيوت في القرآن هو بيت العنكبوت ..لم يقل هللا خيط العنكبوت بل قال بيت العنكبوت.. وخيط العنكبوت كما هو معلوم أقوى من مثيله من الصلب أربع مرات ..إنما الوهن في البيت ال في الخيط ..حيث يكون البيت أسوأ ملجأ ملن يحتمي فيه ..فهو مصيدة ملن يقع فيه من الزوار الغرباء ..وهو مقتل حتى ألهله ..فالعنكبوت األنثى تأكل زوجها بعد التلقيح ..وتأكل أوالدها عند الفقس ،واألوالد يأكل بعضهم بعض. إن بيت العنكبوت هو أبلغ مثال يضرب عن سوء امللجأ وسوء املصير ..وهكذا حال من يلجأ َّ َ َ َ َ َ َ َ َ َ لغير هللا ..وهنا بالغة اآليةَ (( :م َث ُل َّالذ َ ين َّات َخ ُذوا من ُ ُ ن وت ا َّتخذت ب نك ع ال ل ث م ك اء ي ل و أ اّلل و د ِّ ِّ ِّ ِّ ِّ ِّ ِّ َ َ َّ َ َ َ ُ ُ َ َ ُ َ َ ُ َ َ ُ َ َ ُ نَ وت لو كانوا يعلمو )) [العنكبوت.]61: وت لبيت العنكب ِّ بيتا وِّإن أوهن البي ِّ وجاءت خاتمة اآلية عبارة(( ..لو كانوا يعلمون)) ..إشارة إلى أنه علم لن يظهر إال متأخرا.. ومعلوم أن هذه األسرار البيولوجية لم تظهر إال متأخرة.. َ َ ُ ََ َ َ كذلك نجد في سورة "الكهف"َ (( ..ول ِّبثوا ِّفي كه ِّف ِّهم ثالث ِّمائة ِّس ِّن َين َواز َد ُادوا ِّتسعا)) [الكهف ..]25:ونعرف اآلن أن ثالثمائة سنة بالتقويم الشمس ي تساوي ثالثمائة وتسعا بالتقويم القمري باليوم والدقيقة والثانية.. وفي سورة "مريم" يحكي هللا تبارك وتعالى عن مريم وكيف جاءها املخاض فأوت إلى جذع النخلة وهي تتمنى املوت ،فناداها املنادي أن تهز بجذع النخلة وتأكل ما يتساقط من رطب َّ َ َ َ َ َ ََ َ َ ََ ُ َ ُّ َ َ َ َ َ ُ ُ َ َ ً َّ نسيا * جنى(( :فأجاءها املخاض ِّإلى ِّجذ ِّع النخل ِّة قالت يا ليت ِّني ِّمت قبل هذا وكنت نسيا م ِّ َ َ َ َّ َ َ َ َ َ َ َ ُّ َ َ َ ً َ ُ ّ َ َ َّ َ ُ َ ف َن َاد َاها ِّمن تح ِّتها أال تحزِّني قد جعل رب ِّك تحت ِّك س ِّريا * وه ِّزي ِّإلي ِّك ِّب ِّجذ ِّع النخل ِّة تسا ِّقط َ َ َ َُ َعلي ِّك ُرطبا َج ِّن ًيا * فك ِّلي َواش َرِّبي َوق ّ ِّري َعينا)) [مريم.]22-23: 70
وملـاذا الرطـب؟!! إن أحدث بحث علمي عن الرطب يقول :إن فيه مادة قابضة للرحم تساعد على الوالدة، وتساعد على منع النزيف بعد الوالدة ،مثل مادة ،Oxytocinوأن فيه مادة ملينة ..ومعلوم طبيا أن امللينات النباتية تفيد في تسهيل وتأمين عملية الوالدة بتنظيفها للقولون.. إن الحكمة العلمية لوصف الرطب وتوقيت تناول الرطب مع مخاض الوالدة فيه دقة علمية واضحة. هذه األمثلة من الصدق العلمي والصدق املجازي والصدق الحرفي هو ما أشار إليه هللا َ َ سبحانه واصفا القرآن بأنهَ (( :ال َيأتيه ال َ اط ُل ِّمن َبي ِّن َي َدي ِّه َوال ِّمن خل ِّف ِّه)) [فصلت..]62: ب ِّ ِّ ِّ َ ّ َ َ َ وبأنهَ (( :و َلو َك َ اّلل ل َو َج ُدوا ِّف ِّيه اخ ِّتالفا ك ِّثيرا)) [النساء ..]52:اختالفا بين اآليات ر ي غ ند ع ن م ان ِّ ِّ ِّ ِّ ِّ وبين بعضها بمعنى تناقضها ..واختالفا عن الحقائق الثابتة التي سوف تكشفها العلوم.. وكال االختالفين نجده دائما في الكتب املؤلفة ..ولهذا يحرص املؤلف على أن يضيف أو يحذف أو يعدل كلما أصدر طبعة جديدة من كتبه ..ونرى النظريات تتلو بعضها البعض مكذبة بعضها البعض ..ونرى املؤلف مهما راعى الدقة يقع في التناقض ..وهي عيوب ال نجدها في القرآن. وهو بعد ذلك معجزة ،ألنه يخبرك عن ماض لم يؤرخ ويتنبأ بمستقبل لم يأت.. وقد صدقت نبوءات القرآن املتعددة عن انتصار الروم بعد هزيمتهمُ (( :غ ِّل َب ِّت ُّ الرو ُمِّ .في َ َ َ َ ُ ّ َ َ َ َ َ ُ نَ َّ َ ّلل)) [الروم.]6-2: ض وهم ِّمن بع ِّد غل ِّب ِّهم سيغ ِّلبو ِّ .في ِّبض ِّع ِّس ِّنين ِّ ِّ أدنى األر ِّ و"بضع" في اللغة هي ما بين ثالث وتسع ..وقد جاء انتصار الروم بعد سنين. وعن انتصار بدرَ (( :س ُيه َز ُم ال َجم ُع َو ُي َو ُّلو َن ُّ الد ُب َر)) [القمر.]65: َ ُُ َ َ ص َد َق َّ ُ وعن رؤيا دخول مكةَ (( :ل َقد َ اّلل َر ُس َول ُه ُّ الرؤ َيا ِّبال َح ِّ ّق ل َتدخل َّن املس ِّج َد ال َح َر َام ِّإن شاء صر َ َّ ُ اّلل آمني َن ُم َح ّلق َين ُر ُؤ َ وس ُكم َو ُم َق ّ ين)) [الفتح ..]27:وقد كان.. ِّ ِّ ِّ ِّ ِّ ِّ وما الت في القرآن نبوءات تتحقق أمام أعيننا ..فهذا إبراهيم يدعو بهَّ َّ (( :ب َنا إ ّني َأس َكنتُ ز ر ر ِّ ِّ َ َ َ َ ُ من ُذ ّ َّيتي ب َواد َغير ذي َ الص َال َة َفاج َعل أفئ َدة ّم َن ا َّ امل َح َّرم َرَّب َنا ل ُ َّ ُ ر اس لن ا و يم ق ي ك ت ي ب ند ع ع ز ِّ ِّ ِّ ِّ ِّ ِّ ِّ ِّ ِّ ِّ ِّر ِّ ِّ ِّ َ َ ُ ُ ّ َ َّ َ َ َ َّ ُ َ ات ل َعل ُهم َيشك ُرو َن)) [إبراهيم.]37: ته ِّوي ِّإلي ِّهم وارزقهم ِّمن الثمر ِّ 72
لقد دعا بالرزق لهذا الوادي الجديب.. ثم جاء وعد هللا ألهل مكة بالرخاء والغنى حينما أمرهم بمنع املشركين من زيارة البيت فخافوا البوار االقتصادي والكساد ،وكان أهل مكة يعتمدون في رواجهم على حج البيت َ ُ َ َ َ َ َ ُ ُ يك ُم ّ ُ اّلل ِّمن فض ِّل ِّه)) [التوبة..]25: فقال ليطمئنهمَ (( :وِّإن ِّخفتم عيلة فسوف يغ ِّن وهو وعد نراه اآلن يتحقق أمامنا في البترول الذي يتدفق من الصحراء بال حساب وترتفع أسعاره في جنون يوما بعد يوم ..ثم في كنوز اليورانيوم التي تخفيها تلك الصحاري بما يضمن لها الرخاء إلى نهاية الزمان.. ّ ثم نرى القرآن يحدثنا عن الغيب املطلسم في أسرار الجن واملالئكة مما لم يكشف إال لقلة من املخصوصين من أهل التصوف ..فإذا رأي هؤالء فهم ال يرون إال ما يوافق كلمة القرآن.. وإذا طالعوا ال يطالعون إال ما يطابق أسراره. ثم هو يقدم لنا الكلمة األخيرة في السياسة واألخالق ،ونظم الحكم ،والحرب والسلم، واالقتصاد واملجتمع ،والزواج واملعاشرة ،ويشرع لنا من محكم الشرائع ما يسبق به ميثاق حقوق اإلنسان.. كل ذلك في أسلوب منفرد وعبارة شامخة وبنيان جمالي وبالغي هو نسيج وحده في تاريخ اللغة. سألوا ابن عربي عن سر إعجاز القرآن فأجاب بكلمة واحدة هي" :الصدق املطلق".. فكلمات القرآن صادقة صدقا مطلقا ،في حين أقص ى ما يستطيعه مؤلف هو أن يصل إلى صدق نسبي ،وأقص ى ما يطمع فيه كاتب هو أن يكون صادقا حسب رؤيته ..ومساحة الرؤية دائما محدودة ومتغيرة من عصر إلى عصر ..كل واحد منا يحيط بجانب من الحقيقة وتفوته جوانب ،ينظر من زاوية وتفوته زوايا..
73
وما يصل إليه من صدق دائما صدق نسبي ..أما صاحب العلم املحيط والبصر الشامل فهو هللا وحده ..وهو وحده القادر على الصدق املطلق ..ولهذا نقول على القرآن إنه من عند هللا ،ألنه أصاب الصدق املطلق في كل ش يء. سألوا محمدا عليه الصالة والسالم عن القرآن فقال" :فيه نبأ ما قبلكم ،وفصل ما بينكم، وخبر ما بعدكم ،وهو الفصل ليس بالهزل ،وهو الذكر الحكيم ،وهو حبل هللا املتين ،وهو الصراط املستقيم ،من تركه من جبار قصمه هللا ،ومن ابتغى الهدى في غيره أضله هللا ،وهو الذي ال تلتبس به األلسن ،وال تزيغ به العقول ،وال يخلق على كثرة الرد ،وال يشبع منه العلماء، وال تنقض ي عجائبه".. عن انفجار شمسنا ونهاية الحياة على األرض وقيام القيامة يقول ربنا في سورة "الرحمن": َّ َ َ َ َ َ ُ َُ ّ َ َ َ الس َماء َف َك َانت َور َدة َك ّ انش َّ َّ الد َه ِّان * ف ِّبأ ّ ِّي آالء َرِّّبك َما تك ِّذ َب ِّان * ف َيو َم ِّئذ ال ُيسأ ُل َعن ت ق ((ف ِّإذا ِّ ِّ ُ َ ُ ُ َذنبه إنس َوَال َجان * َفب َأ ّي َآالء َرّب ُك َما ُت َك ّذ َ املجر ُمو َن بس َيم ُاهم َف ُيؤ َخ ُذ بال َّن َ اص ي و ف ر ع ي * ان ب ِّ ِّ ِّ ِّ ِّ ِّ ِّ َ ِّ ِّ ِّ َ َ َ ِّ ُ ِّ َ ِّ ُ َّ َ ُ ّ ّ َ َ ُ ُ َواألق َد ِّام * ف ِّبأ ّ ِّي آالء َرِّّبك َما تك ِّذ َب ِّان * َه ِّذ ِّه َج َه َّن ُم ال ِّتي ُيك ِّذ ُب ِّب َها املج ِّر ُمون * َيطوفون َبي َن َها َو َبي َن َح ِّميم آن)) [الرحمن..]66-37: وتأتينا علوم الفلك اآلن وبعد ألف وأربعمائة سنة من نزول القرآن ..بأن هذه نهاية النجوم التي تمأل السماء بألوانها املبهرة ..بل ويطلق الفلكيون على بعض هذه النجوم املنفجرة اسم Rosettaأي وردة.. من أي مصدر جاءت هذه النبوءات للرسول منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام.. إال أن تكون من رب الكون نفسه ..ويستطيع أي قارئ أن يرى هذه العجائب على اإلنترنت موقع NASAباب Astronomical picture of the dayبعنوان Cats eyeوهذا كالمهم وليس كالمنا.. وهذا هو كتابنا يا صديقــي.. ولهذه الصفات مجتمعة ال يمكن أن يكون مؤلفا..
74
الفصل الثالث عشر :شكوك قال صاحبي: تقول إن القرآن ال يتناقض مع نفسه فما بالك بهذه اآلية(( :فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)) [الكهف .]37:واآلية األخرى التي تنقضها(( :وما تشاءون إال أن يشاء هللا)) [اإلنسان.]30: ثم نجد القرآن يقول عن حساب املذنبين إنهم سوف يسألون(( :ستكتب شهادتهم ويسألون)) [الزخرف(( ،]17:وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون)) [الزخرف ..]66:ومرة أخرى يقول(( :وال يسأل عن ذنوبهم املجرمون)) [القصص ،]75:وأنهم سوف يعرفون بسيماهم(( :فيؤخذ بالنواص ى واألقدام)) [الرحمن ،]61:ومرة يقول إنه ال أحد سوف يشد وثاق املجرم(( :وال يوثق وثاقه أحد)) [الفجر ]22:بمعنى أن كل واحد سوف يتكفل بتعذيب نفسه(( ..كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا)) [اإلسراء ،]16:ومرة يقول(( :ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه)) [الحاقة.]32: قلت له: هذه ليست تناقضات ..ولنفكر فيها معا.. ((فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)) ..آية صريحة تشير إلى حرية العبد واختياره ..ولكن هذه الحرية لم نأخذها من هللا غصبا وغالبا ..وإنما أعطاها إيانا بمشيئته ..فتأتي اآلية الثانية لتشرح دلك فتقول(( :وما تشاءون إال أن يشاء هللا)) [اإلنسان ..]30:أي أن حرية العبد ضمن مشيئة الرب وليست ضدها ..أي أن حرية العبد يمكن أن تناقض الرضا اإللهي فتختار املعصية ولكنها ال يمكن أن تناقض املشيئة ..فهي تظل دائما ضمن املشيئة ،ولو خالفت الرضا ..وهي نقطة دقيقة ..وقلنا إن التسيير اإللهي هو عين التخيبر ،ألن هللا يختار للعبد من جنس نيته وقلبه ..ومعنى ذلك أنه يريد للعبد نفس ما أراد العبد لنفسه بنيته واختيار قلبه.. .أي أن العبد مسير إلى ما اختار ..ومعنى ذلك أنه ال إكراه و أنه ال ثنائية وال تناقض ..وأن
75
التسيير هو عين التخيير .وهي مسألة من أدق املسائل في فهم لغز املخير واملسير ..وما تسميه أنت تناقضا هو في الحقيقة جالء ذلك السر. أما اآليات الواردة عن الحساب فإن كل آية تعنى طائفة مختلفة ،فهناك من سوف يسأل وتطلب شهادته ،وهناك من ستكون ذنوبه من الكثرة بحيث تطفح على وجهه ،وهؤالء هم الذين سوف يعرفون بسيماهم فيؤخذون بالنواص ى واألقدام ،وهناك املعاند املنكر الذي سوف تشهد عليه يداه ورجاله(( :اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون)) [يس..]25: وهناك من سيكون حسيبا على نفسه يعذبها بالندم ويشد وثاقها بالحسرة ..وهو الذي ال يوثق وثاقه أحد. وهناك أكابر املجرمين الجبارين الذين سوف يكذبون على هللا ،وهم يواجهونه ويحلفون الكذب وهم في املوقف العظيم(( :يوم يبعثهم هللا جميعا فيحلفون له كما يجلفون لكم ويجسبون أنهم على ش يء أال إنهم هم الكاذبون)) [املجادلة.]15: وهؤالء هم الذين سوف يسحبون على وجوههم ويوثقون في السالسل ..وأبو حامد الغزالي يفسر هذه السالسل بأنها سالسل األسباب. قال: وما رأيك في كالم القرآن عن العلم اإللهي: ((إن هللا عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في األرحام وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا وما تدرى نفس بأي أرض تموت)) [لقمان.]36: يقول القرآن إن هللا اختص نفسه بهذا العلم ال يعلمه غير: ((وعنده مفاتح الغيب ال يعلمها إال هو)) [األنعام.]51: فما بالك اآلن بالطبيب الذي يستطيع أن يعلم ما باألرحام ،ويستطيع أن يتنبأ إن كان ذكرا أم أنثى ..وما بالك بالعلماء الذين أنزلوا املطر الصناعي باألساليب الكيماوية.
76
لم يتكلم القرآن عن إنزال املطر وإنما عن إنزال الغيث ،وهو املطر الغزير الكثيف الذي ينزل بكميات تكفى لتغيير مصير أمة وإغاثتها ونقلها من حال الجدب إلى حال الخصب والرخاء ..واملطر بهذه الكميات ال يمكن إنزاله بتجربة. قلت له: أما علم هللا ملا في األرحام فهو علم كلى محيط وليس فقط علما بجنس املولود هل هو ذكر أو أنثى ،وإنما علم بمن يكون ذلك املولود وما شأنه وماذا سيفعل في الدنيا ،وما تاريخه من يوم يولد إلى يوم يموت :وهو أمر ال يستطيع أن يعلمه طبيب. وما حكاية كرس ى هللا الذي تقولون إنه وسع السموات واألرض ..وعرش هللا الذي يحملهثمانية. إن عقلك يسع السموات واألرض وأنت البشر الذي ال تذكر ..فكيف ال يسعها كرس ى هللا..واألرض والشمس والكواكب والنجوم واملجرات محمولة بقوة هللا في الفضاء ..فكيف تعجب لحمل عرش.. وما هو الكرس ي وما العرش؟ قل لي ما اإللكترون أقل لك ما الكرس ي؟ قل لي ما الكهرباء؟ قل لي ما الجاذبية؟ قل لي ماالزمان؟ إنك ال تعرف ماهية أي ش يء لتسألني ما الكرس ي وما العرش؟ إن العالم مملوء باألسرار وهذه بعض أسراره. والنملة التي تكلمت في القرآن وحذرت بقية النمل من قدوم سليمان وجيشه(( :قالت نملةيأيها النمل ادخلوا مساكنكم ال يحطمنكم سليمان وجنوده)) [النمل.]15: لو قرأت القليل عن علم الحشرات اآلن ملا سألت هذا السؤال ..إن علم الحشرات حافلبدراسات مستفيضة عن لغة النمل ولغة النحل .ولغة النمل اآلن حقيقة مؤكدة ..فا كان من املمكن أن تتوزع الوظائف في خلية من مئات األلوف ويتم التنظيم وتنقل األوامر والتعليمات بين هذا الحشد الحاشد لوال أن هناك لغة للتفاهم ،وال محل للعجب في أن نملة عرفت سليمان ..ألم يعرف اإلنسان هللا؟
77
وكيف يمحو هللا ما يكتب في لوح قضائه(( :يمحو هللا ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب))[الرعد ..]35:أيخطى ربكم كما نخطى في الحساب فنمحو ونثبت ..أم يراجع نفسه كما نراجع أنفسنا. هللا يمحو السيئة بأن يلهمك بالحسنة ويقول في كتابه(( :إن الحسنات يذهبن السيئات))[هود.]116: ويقول عن عباده الصالحين(( :وأوحينا إليهم فعل الخيرات و إقام الصالة وإيتاء الزكاة)) [األنبياء.]73: وبذلك يمحو هللا دون أن يمحو وهذا سر اآلية 37من سورة "الرعد" التي ذكرتها. وما رأيك في اآلية(( ..وما خلقت الجن واإلنس إال ليعبدون)) [الذاريات ..]52:هل كان هللافي حاجة لعبادتنا؟! بل نحن املحتاجون لعبادته.أتعبد املرأة الجميلة حبا بأمر تكليف ،أم أنك تلتذ بهذا الحب وتنتش ى وتسعد لتذوقك لجمالها؟ كذلك هللا وهو األجمل من كل جميل إذا عرفت جالله وجماله وقدره عبدته، ووجدت في عبادتك له غاية السعادة والنشوة .إن العبادة عندنا ال تكون إال عن معرفة ..وهللا ال يعبد إال بالعلم.. ومعرفة هللا هي ذروة املعارف كلها ،ونهاية رحلة طويلة من املعارف تبدأ منذ امليالد وأول ما يعرف الطفل عند ميالده هو ثدي أمه ،وتلك أول لذة ،ثم يتعرف على أمه وأبيه وعائلته ومجتمعه وبيئته ،ثم يبدأ في استغالل هذه البيئة ملنفعته ،فإذا هي ثدي آخر كبير يدر عليه الثراء واملغانم وامللذات ،فهو يخرج من األرض الذهب واملاس ،ومن البحر الللئ ،ومن الزرع الفواكه والثمار ،وتلك هي اللذة الثانية في رحلة املعرفة. ثم ينتقل من معرفته لبيئته االرضية ليخرج إلى السموات ويضع رجله على القمر ،وبطلق سفائنه إلى املريخ في مالحة نحو املجهول ليستمتع بلذة أخرى أكبر هي لذة استطالع الكون، ثم يرجع ذلك املالح ليسأل نفسه :ومن أنا الذي عرفت هذا كله؟ ..ليبدأ رحلة معرفة جديدة
78
إلى نفسه ..بهدف معرفة نفسه والتحكم في طاقاتها وإدارتها لصالحه وصالح اآلخرين ،وتلك لذة أخرى .ثم تكون ذروة املعارف بعد معرفة النفس هي معرفة الرب الذي خلق تلك النفس. وبهذه املعرفة األخيرة يبلغ اإلنسان ذروة السعادات ،ألنه يلتقى بالكامل املتعال األجمل من كل جميل ..تلك هي رحلة العابد على طريق العبادة ..وكلها ورود ومسرات. وإذا كانت في الحياة مشقة ،فألن قاطف الورود البد أن تدمى يديه األشواك ..والطامع في ذرى الالنهاية البد أن يكدح إليها ..ولكن وصول العابد إلى معرفة ربه وانكشاف الغطاء عن عينيه ..ما أروعه ..يقول الصوفي البس الخرقة" :نحن في لذة لو عرفها امللوك لقاتلونا عليها بالسيوف" ..تلك هي لذة العبادة الحقة ..وهي من نصيب العابد.. ولكن هللا في غنى عنها وعن العاملين ..ونحن ال نعبده بأمر تكليف ولكنا نعبده ألننا عرفنا جماله وجالله ..ونحن ال نجد في عبادته ذال بل تحررا وكرامة ..تحررا من كل عبوديات الدنيا.. تحررا من الشهوات رالغرائز واألطماع واملال ..ونحن نخاف هللا فال نعود نخاف أحدا بعده وال نعود نعبأ باحد ..خوف هللا شجاعة ..وعبادته حرية ..والذل له كرامة ..ومعرفته يقين وتلك هي العبادة.. حن الذين نجنى أرباحها ومسراتها ..أما هللا فهو الغنى عن كل ش يء ..إنما خلقنا هللا ليعطينا ال ليأخذ منا ..خلقنا ليخلع علينا من كماالته فهو السميع البصير ،وقد أعطانا سمعا وبصرا وهو العليم الخبير ،وقد أعطانا العقل لنتزود من علمه ،والحواس لنتزود من خبرته وهو يقول لعبده املقرب في الحديث القدس ى" :عبد أطعنى أجعلك ربانيا تقول للش يء كن فيكون". ألم يفعل هذا لعيس ى عليه السالم ..فكان عيس ى يحي املوتى بإذنه ويخلق من الطين طيرا بإذنه ويشفى األعمى واألبرص بإذنه. العبودية هلل إذن هي عكس العبودية في مفهومنا ..فالعبودية في مفهومنا هي أن يأخذ السيد خير العبد ،أما العبودية هلل فهي على العكس ،أن يعطى السيد عبده ما ال خدود له من النعم ،ويخلع عليه ما ال نهاية من الكماالت..
79
فحينما يقول هللا(( :وما خلقت الجن واإلنس إال ليعبدون)) [الذاريات ..]52:فمعناها الباطن ما خلقت الجن واإلنس إال ألعطيهم وأمنحهم حبا وخيرا ،وكرامة وعزة ،وأخلع عليهم ثوب التشريف والخالفة. فالسيد الرب غنى مستغن عن عبادتنا ..ونحن املحتاجون إلى هذه العبادة والشرف، واملواهب والخيرات التي ال حد لها. فاهلل الكريم سمح لنا أن ندخل عليه في أي وقت بال ميعاد ،ونبقى في حضرته ما شئنا وندعوه ما وسعنا ..بمجرد أن نبسط سجادة الصالة ونقول "هللا أكبر" نصبح في حضرته نطلب منه ما نشاء. أين هو امللك الذي نستطيع أن ندخل عليه بال ميعاد و نلبث في حضرته ما نشاء؟! وفي ذلك يقول موالنا العبد الصالح الشيخ محمد متولي الشعراوي في شعر جميل: يحتفي بي بال مواعيد رب حسب نفس ي عزا أنني عبد أن ـ ـا ألقى متى وحين أحـ ـ ـب ه ـو في قدس ـ ـ ـه األعـز ولك ـن ويقول :أرونى صنعة تعرض على صانعها خمس مرات في اليوم (يقصد الصلوات الخمس) وتتعرض للتلف وهذه بعض املعاني الباطنة في اآلية التي أثارت شكوكك(( :وما خلقت الجن واإلنس إال ليعبدون)) ،ولو تأملتها ملا أثارت فيك إال الذهول واإلعجاب.
81
الفصل الرابع عشر :موقـف الـدين من التطــور قال صاحبي: موقفك اليوم سيكون صعبا ،فعليك أن تثبت أن خلق اإلنسان جاء على طريقة "جال جال".. أمسك الخالق قطعة طين ثم عجنها في يده ونفخ فيها فإذا بها آدم ،وهو كالم تخالفك فيه بشدة علوم التطور التي تقول :إن صاحبك آدم جاء نتيجة سلسلة من األطوار الحيوانية السابقة ،وإنه ليس مقطوع الصلة بأفراد عائلته من الحيوانات ،وإنه والقرود أوالد عمومة يلتقون معا في سابع جد ..وإن التشابه األكيد في تفاصيل البنية التشريحية للجميع يدل على أنهم جميعا أفراد أسرة واحدة. قلت وأنا أستعد ملعركة علمية دسمة: دعني أصحح معلوماتك أوال فأقول لك إن هللا لم يخلق آدم على طريقة "جال جال".. ها هنا قطعة طين ننفخ فيها فتكون آدم ..فالقرآن يروي قصة مختلفة تماما عن خلق آدم، قصة يتم فيه الخلق على مراحل وأطوار وزمن إلهي مديد ،والقرآن يقول إن اإلنسان لم نس َ يخرج من الطين مباشرة ،وإنما خرج من ساللة جاءت من الطينَ (( :و َل َقد َخ َلق َنا اإل َ ان ِّمن ِّ َ َ ُساللة ِّّمن ِّطين)) [املؤمنون.]12: َ ََ ََ ّ َ َّ َ َ ُ َ اإلنس ِّان ِّحين ِّمن الده ِّر لم يكن وأن اإلنسان في البدء لم يكن شيئا يذكر(( ..هل أتى على ِّ ُ َ شيئا َّمذكورا)) [اإلنسان.]1: وأن خلقه جاء على أطوار.. َ َّ َ ُ َ َ ُ َ َّ َ َ َََ ُ ّلل َوقارا * َوقد خلقكم أط َوارا)) [نوح.]16-13: ((ما لكم ال ترجون ِّ ِّ ص َّور َن ُاكم ُث َّم ُقل َنا لل َملئ َكة اس ُج ُدوا َ (( َو َل َقد َخ َلق َن ُاكم ُث َّم َ آلد َم َف َس َج ُدوا إ َّال إب ِّل َ يس)) ِّ ِّ ِّ ِّ ِّ [األعراف.]11: َ َ َ َ َ ّ َ ََ ََ ((إذ َق َ ال َرُّب َك ِّلل َمال ِّئك ِّة ِّإ ِّني خ ِّالق َبشرا ِّمن ِّطين * ف ِّإذا َس َّوي ُت ُه َونفخ ُت ِّف ِّيه ِّمن ُّرو ِّحي فق ُعوا ِّ َ َ ل ُه َس ِّاج ِّدين)) [ص.]72-71: معنى ذلك أن هناك مراحل بدأت بالخلق ثم التصوير ..ثم التسوية ثم النفخ.. 80
ََ َ َ و"ثم" بالزمن اإللهي معناها ماليين السنين(( :إ َّن َيوما ع َ ند َرِّّب َك كأل ِّف َس َنة ِّّم َّما ت ُع ُّدون)) ِّ ِّ [الحج.]67: َ انظر إلى هذه املراحل الزمنية للخلق في سورة "السجدة" ..يقول هللا سبحانه إنهَ (( :و َب َدأ َ َ َ َ ُ ُ ََ َ َخل َق اإل َ نس ِّان ِّمن ِّطين * ث َّم َج َع َل نسل ُه ِّمن ُساللة ِّّمن َّماء َّم ِّهين * ث َّم َس َّو ُاه َونفخ ِّف ِّيه ِّمن ِّ َ َ َ َ َ ُ ُ َ السم َع َواألب َ ُّرو ِّح ِّه َو َج َع َل لك ُم َّ ص َار َواألف ِّئ َدة ق ِّليال َّما تشك ُرو َن)) [السجدة.]7-7: في البدء كان الطين ،ثم جاءت ساللة من ماء مهين هي البدايات األولى لإلنسان التي لم تكن شيئا مذكورا ،ثم التسوية والتصوير ،ثم نفخ الروح التي بها أصبح لإلنسان سمع وبصر وفؤاد ..وأصبح آدم ..فآدم إذن نهاية سلسلة من األطوار وليس بدءا مطلقا على طريقة "جال جال".. َ َّ ُ َ َ َ ُ ّ َ َ َ ض ن َباتا)) [نوح.]17: ((واّلل أنبتكم ِّمن األر ِّ هنا عملية إنبات بكل ما في اإلنبات من أطوار ومراحل وزمن.. ولكن اللغز الحقيقي هو ..ماذا كانت تلك املراحل بالضبط ،وماذا كانت تلك األطوار؟ هل كل شجرة الحياة من أب واحد.. هي كلها من الطين بحكم التركيب الكيميائي ..وكلها تنتهي باملوت إلى أصلها الترابي ..هذه حقيقة ..ولكننا نقصد من كلمة أب شيئا أكثر من األصل الطيني.. والسؤال هو هل تولدت من الطين خلية أولى تعددت وأنجبت كل تلك األنواع والفصائل النباتية والحيوانية بما في ذلك اإلنسان؟ أم أنه كانت هناك بدايات متعددة ..بداية تطورت إلى نباتات ،وبداية تطورت إلى فرع من فروع الحيوان ،كاإلسفنج مثال ،وبداية أخرى خرج منها فرع آخر كاألسماك ،وبداية خرجت منها الزواحف ،وبداية خرجت منها الطيور ،وبداية خرجت منها الثدييات ،وبداية خرج منها اإلنسان ،وبذلك يكون لإلنسان جد منفصل ،ويكون لكل نوع جد خاص به؟
82
إن التشابه التشريحي للفروع واألنواع والفصائل ال ينفي خروج كل نوع من بداية خاصة، وإنما يدل هذا التشابه التشريحي في الجميع على وحدة الخالق ،وأن صانعها جميعا واحد، ألنه خلقها جميعا من خامة واحدة وبأسلوب واحد وبخطة واحدة ..هذه هي النتيجة الحتمية. ولكن خروجها كلها من أب واحد ليس نتيجة محتمة لتشابهها التشريحي ..فوسائل املواصالت تتشابه فيما بينها العربة والقطار والترام والديزل كلها تقوم على أسس هندسية وتركيبة متشابهة ،دالة بذلك على أنها جميعا من اختراع العقل البشري ..ولكن هذا ال يمنع أن كل صنف منها جاء من أب مستقل ومن فكرة هندسية مستقلة.. كما أننا ال يصح أن نقول إن عربة اليد تطورت تلقائيا بحكم القوانين الباطنة فيها إلى عربة حنطور ،ثم إلى عربة فورد ثم إلى قطار ،ثم إلى ديزل. فالواقع غير ذلك ..وهو أن كل طور من هذه األطوار جاء بطفرة ذهنية في عقل املخترع، وقفزة إبداع في عقل املهندس ،لم يخرج نوع من آخر ..مع أن الترتيب الزمني قد يؤيد فكرة خروج نوع من نوع.. ولكن ما حدث كان غير ذلك فكل نوع جاء بطفرة إبداعية من العقل املخترع ،وبدأ مستقال. وهذه هي أخطاء داروين واملطبات والثغرات التي وقع فيها حينما صاغ نظريته. ودعنا نتذكر معا ما قال داروين في كتابه "أصل األنواع".. كان أول ما اكتشفه داروين في أثناء رحلته بالسفينة "بيجل" هي الخطة التشريحية الواحدة التي بنيت عليها كل الفصائل الحيوانية.. فالهيكل العظمي واحد في أغلب الحيوانات الفقرية :الذراع في القرد هو نفس الجناح في الطائر ،هو نفس الجناح في الخفاش ،كل عظمة هنا تقابلها عظمة تناظرها هناك مع تحورات طفيفة ،لتالئم الوظيفة ،فالعظام في الطيور رقيقة وخفيفة ومجوفة وهي مغطاة بالريش ..ثم نجد رقبة الزرافة الطويلة بها سبع فقرات ،ورقبة اإلنسان سبع فقرات ،ورقبة القنفذ التي ال تذكر من فرط قصرها هي األخرى بها سبع فقرات ،وهناك خمس أصابع في يد اإلنسان ،ونجد نفس التخميس في أصابع القرد ،واألرنب ،والضفدعة ،والسحلية ،وفترة الحمل في الحوت والقرد واإلنسان تسعة أشهر ،وفترة اإلرضاع في الجميع سنتان ،وفقرات 83
الذيل في القرد نجدها في اإلنسان متدامجة ملتصقة فيما يسمى بالعصعص ،ونجد عضالت الذيل قد تحورت في اإلنسان إلى قاع متين للحوض ،ثم نجد القلب بغرفه األربع في الحصان والحمار واألرنب والحمامة واإلنسان ،ونفس الخطة في تفرع الشرايين واألوردة ،ثم نجد نفس الخطة في الجهاز الهضمي :البلعوم ثم املعدة ..ثم "االثنى عشر" ..ثم األمعاء الدقيقة ..ثم األمعاء الغليظة ..ثم الشرج والجهاز التناسلي :نفس الخصية ،واملبيض ،وقنوات الخصية، وقنوات املبيض ..وكذلك الجهاز البولي :نفس الكلية ،والحالب ،وحويصلة البول ..والجهاز التنفس ي :القصبة الهوائية والرئتين ،ونجد أن الرئة في البرمائيات هي نفس كيس العوم في السمكة. كان طبيعيا بعد هذا أن يتصور داروين أن الحيوانات كلها أفراد أسرة واحدة تفرقت بهم البيئات فتكيفت كل فصيلة مع بيئتها.. الحوت في املنطقة الجليدية لبس معطفا من الشحم ..والدببة لبست الفراء ..وإنسان ّ أسود جلده فأصبح كاملظلة الواقية ليقيه الشمس ..وسحالي الغابة في الشمس االستوائية الكهوف ضمرت عيونها ألنها ال تجد لها فائدة في الظالم فأصبحت عمياء في حين نجد سحالي البراري مبصرة ..والحيوانات التي نزلت املاء طورت أطرافها إلى زعانف ..والتي غزت الجو طورت أطرافها إلى أجنحة ..وزواحف األرض طورت أطرافها إلى أرجل. ثم أال يحكي الجنين القصة؟ ففي مرحلة من مراحل نموه نراه يتنفس بالخياشيم ثم تضمر الخياشيم وتظهر فيه الرئتان ،وفي مرحلة نجد له ذيال يضمر الذيل ويختفي ،وفي مرحلة نراه يكتس ي بالشعر ثم ينحسر بعد ذلك الشعر عن جسمه. ثم أال تحكي لنا طبقات الصخور بما حفظت لنا من حفريات قصة متسلسلة الحلقات عن ظهور واختفاء هذه األنواع الواحد بعد اآلخر من الحيوانات البسيطة وحيدة الخلية ،إلى عديدة الخاليا ،إلى الرخويات ،إلى القشريات ،إلى األسماك ،إلى البرمائيات ،إلى الزواحف ،إلى الطيور ،إلى الثدييات ..وأخيرا إلى اإلنسان.. ولقد أصاب داروين وأبدع حينما وضع هذه املقدمة القيمة في التشابه التشريحي بين الحيوانات وأصاب حينما قال بالتطور. 84
ولكنه أخطأ حينما حاول أن يفسر عملية االرتقاء ،وأخطأ حينما حاول أن يتصور مراحل هذا االرتقاء وتفاصيله. كان تفسير داروين لعملية االرتقاء أنه يتم بالعوامل املادية التلقائية وحدها ،حيث تتقاتل الحيوانات بالناب واملخلب في صراع الحياة الدموي الرهيب فيموت الضعيف ويكون البقاء دائما لألصلح.. تلك الحرب الناشبة في الطبيعة هي التي تفرز الصالح والقوي وتشجعه ..وتبقي على نسله.. وتفسح أمامه سبل الحياة.. وإذا كانت هذه النظرية تفسر لنا بقاء األقوى فإنما ال تفسر لنا بقاء األجمل ،فإن الجناح املنقوش ال يمتاز بأي صالحيات مادية أو معاشية عن الجناح األبيض ،وليس أكفأ منه في الطيران.. وإذا قلنا إن الذكر يفضل الجناح املنقوش ،في التزاوج ،فسوف نسأل وملاذا؟ ..ما دام هذا النقش ال يمثل أي مزيد من الكفاءة؟ وإذا دخل تفضيل األجمل في الحساب فإن النظرية املادية تنهار من أساسها.. وتبقى النظرية بعد ذلك عاجزة عن تفسير ملاذا خرج من عائلة الحمار ش يء كالحصان.. وملاذا خرج من عائلة الوعل ش يء رقيق مرهف وجميل كالغزال ..مع أنه أقل قوة وأقل احتماال ..كيف نفسر جناح الهدهد وريشة الطاووس وموديالت الفراش بألوانها البديعة ونقوشها املذهلة ..ونحن هنا أمام يد مصور فنان يتفنن ويبدع ..ولسنا أمام عملية غليظة كصراع البقاء وحرب املخلب والناب.. والخطأ الثاني في نظرية التطور جاء بعد ذلك من أصحاب نظرية الطفرة.. والطفرات هي الصفات الجديدة املفاجئة التي تظهر في النسل نتيجة تغيرات غير محسوبة في عملية تزاوج الخلية األنثوية والخلية الذكرية ولقاء الكروموسومات لتحديد الصفات الوراثية ..وأحيانا تكون هذه الصفات الجديدة صفات ضارة كاملسوخ والتشوهات ،وأحيانا تكون طفرات مفيدة للبيئة الجديدة للحيوان كأن تظهر للحيوان الذي ينزل املاء أرجل مبططة ..فتكون صفة جديدة مفيدة ..ألن األرجل املبططة أنسب للسباحة ،فتشجع 85
الطبيعة هذه الصفة وتنقلها إلى األجيال الجديدة ،وتقض ي على الصفة القديمة لعدم صالحيتها ،وبذلك يحدث االرتقاء وتتطور األرجل العادية إلى أرجل غشائية.. وخطأ هذه النظرية أنها أقامت التطور على أساس الطفرات واألخطاء العشوائية.. وأسقطت عملية التدبير واإلبداع تماما.. وال يمكن أن تصلح هذه الطفرات العشوائية أساسا ملا نرى حولنا من دقة وإبداع وإحكام في كل ش يء.. إن البعوضة تضع بيضها في املستنقع ..وكل بيضة تأتي إلى الوجود مزودة بكيسين للطفو.. من أين تعلمت البعوضة قوانين أرشميدس لتزود بيضها بهذه األكياس الطافية؟ وأشجار الصحارى تنتج بذورا مجنحة تطير مع الرياح أمياال وتنتثر في مساحات واسعة بال حدود.. من أين تعلمت أشجار الصحارى قوانين الحمل الهوائي لتصنع لنفسها هذه البذور املجنحة ،التي تطير مئات األميال بحثا عن أراض مالئمة لإلنبات؟ وهذه النباتات املفترسة التي تصطنع لنفسها الفخاخ والشراك الخداعية العجيبة لتصيد الحشرات وتهضمها وتأكلها بأي عقل استطاعت أن تصطنع تلك الحيل؟ نحن هنا أمام عقل كلي يفكر ويبتكر ملخلوقاته ويبدع لها أسباب الحيل ..ال يمكن تصور َ َ ُ ُ َّ َ َ ُ َّ َ َ َ َّ حدوث االرتقاء بدون هذا العقل املبدع(( :ال ِّذي أعطى كل ش يء خلقه ثم هدى)) [طه.]50: والعقبة الثالثة أمام نظرية داروين ..هي ما اكتشفناه اآلن باسم الخريطة الكروموسومية.. أو خريطة الجينات ..ونحن نعلم اآلن أن لكل نوع حيواني خريطة كروموسومية خاصة به، ويستحيل أن يخرج نوع من نوع بسبب اختالف هذه الخريطة الكروموسومية. نخلص من هذا إلى أن نظرية داروين تعثرت ..وإذا كان التشابه التشريحي بين الحيوانات حقيقة متفق عليها ،وإذا كان التطور أيضا حقيقة ،فإن مراحل هذا التطور وكيفياته ما زالت لغزا.. هل كانت هناك بدايات مستقلة أم أن بعض الفروع تلتقي عند أصول واحدة؟
86
والتطور وارد باللفظ الصريح في القرآن ..كما أن مراحل الخلق والتصوير والتسوية ونفخ واردة.. الروح ولكن لم يستقر العلم على نظرية ثابتة لتلك املراحل بعد ..وإذا عدنا لسورة "السجدة" التي َ َ َ َ ُ ُ تحكي عن هللا أنهَ (( :و َب َد َأ َخل َق اإل َ نس ِّان ِّمن ِّطين .ث َّم َج َع َل نسل ُه ِّمن ُساللة ِّّمن َّماء َّم ِّهين .ث َّم ِّ َ َ َ َ َ ُ ُ َ السم َع َواألب َ َس َّو ُاه َو َن َف َخ ِّف ِّيه من ُّرو ِّح ِّه َو َج َع َل لك ُم َّ ص َار َواألف ِّئ َدة ق ِّليال َّما تشك ُرو َن)) ِّ [السجدة ..]7-7:فإن معنى اآلية صريح في أن البدايات األولى لإلنسان التي جاء منها آدم فيما بعد ،وهي تلك التي جاء نسلها من ماء مهين ،لم يكن لها سمع وال أبصار وال أفئدة.. وإنما جاءت هذه األبصار واألسماع واألفئدة بعد نفخ الروح وهي آخر مراحل خلق آدم.. َ هي إذن بدايات أشبه بالحياة الحيوانية املتخلفةَ (( :هل َأ َتى َع َلى اإل َ نس ِّان ِّحين ِّّم َن ا َّلده ِّر لم ِّ ُ ُ َ َيكن شيئا َّمذكورا)) [اإلنسان..]1: هو تفسير ال يختلف كثيرا عن العلوم التي تتحدث عنها ..ولكن نفس اآلية قد تعني معنى آخر هو أطوار الجنين داخل الرحم وكيف يتخلق من بدايات ال سمع فيها وال بصر ثم يأتي نفخ الروح في هذه املضغة في الشهر الرابع فتستوي خلقا آخر ..آيات الخلق إذن متشابهات والقرآن يحمل أكثر من وجه من وجوه التفسير ..والحقيقة بعد هذا ما زالت لغزا ..وال يستطيع أحد أن يدعي أنه كشف الحقيقة ..والسؤال ما زال مفتوحا للبحث ،وكل ما جاء به العلم فروض.. َّ َ َ َ َ َ َ َّ َ َ َ اك ف َع َدل َكِّ .في أ ِّي وربما كانت أرجح اآلراء أن التسوية املذكورة في القرآن ((خلقك فسو َ َّ ُ صو َرة َّما شاء َرك َب َك)) [االنفطار.]5-7: كانت تسوية ساللية بش يء أشبه بالهندسة الوراثية وأن األمر ليس تطورا كما يقول داروين ولكنه تطوير يحدث بتدخل وفعل إلهي إلعداد الحشوة الحية (وهي في أصل املنشأ من الطين) لتستقبل نفخة الروح وحلول النفس فيها لتكون آدم.. ثم النفس وحكايتها هي سؤال آخر أكثر ألغازا.. هل يكون للنفس تصوير في القوالب الطينية فتكون لها تجسدات متعداة وتاريخ وتطور هي األخرى؟ أم أنها على حالها من علم هللا بها منذ األزل ..هللا أعلم ..واملوضوع كله عماء.. 87
ّ وربما كان أفضل فهم لعملية التطور أنها كانت تطويرا بفعل فاعل وبذات مبدعة خالقة ولم تكن تطورا تلقائيا كما تصورها داروين وصحبه ولم تكن مراحل متروكة للصدفة ..وإنما كانت تخليقا مرادا ومخططا خالق قادر حكيم ..وإنها هندسة وراثية ملهندس عظيم ليس كمثله ش يء.. وما جاء في القرآن هو أصدق صورة ملا حدث.. والقطع في هذه القضية مستحيل.. وما زال القرآن يفرض نفسه بال بديل..
88
الفصل اخلامس عشر :كلمة "ال إله إال اهلل" قال صاحبي: ألست معي في أنكم تبالغون كثيرا في استخدام كلمة "ال إله إال هللا" وكأنها مفتاح لكل باب.. تشيعون بها امليت وتستقبلون الوليد وتطبعونها على األختام وتنقشونها على القالئد وتصكون بها العمالت وتعلقونها على الجدران ..من ينطق بها منكم تقولون أن جسمه أعتق من النار.. فإذا نطق بها مائة ألف مرة دخل الجنة وكأنها طلسم سحري أو تعويذة لطرد الجن أو قمقم لحبس املردة ..ثم هذه الحروف التي ال تعرفون لها معنى" ..الم"" ..كهيعص"" ..طسم"" ..حم".. "الر". هل أنجو من العذاب إذا قلت "ال إله إال هللا" ..إذن فإنى أقولها وأشهدك وأشهد الحضور على ذلك ..ال إله إال هللا ..هل انتهي األمر؟!. قلت له: بل أنت لم تقل شيئـا. إن "ال إله إال هللا" ملن يعمل بها وليست ملن يشقشق بها لسانه" ..ال إله إال هللا" منهج عمل وخطة حياة وليست مجرد حروف ..ودعنا نفكر قليال في معناها.. إننا حينما نقول "ال إله إال هللا" نعنى أنه ال معبود إال هللا ..وبين ال وإال بين النفي واإلثبات في العبارة بين هاتين الدفتين تقع العقيدة كلها ال النافية تنفي األلوهية عن كل ش يء ..عن كل ما نعبد من مشتهيات في الدنيا ،عن املال والجاه والسلطان واللذات وترف العيش والنساء الباهرات والعز الفاره ..لكل هذا نقول "ال" ..ال نعبدك ..لست إلها ..ثم نقول ال لنفوسنا التي تشتهي تلك األشياء ألن اإلنسان يعبد نفسه في العادة ويعبد رأيه ويعبد هواه واختياره ومزاجه ويعبد ذكاءه ومواهبه وشهرته ويتصور أن بيده مقاليد األمور وأقدار الناس واملجتمع ..ويجعل من نفسه إلها دون أن يدرى ..لهذه النفس نحن نقول "ال" ..ال نعبدك.. لست إلها. نقول "ال" للمدير والرئيس والحاكم ..ال لست إلها. 89
ومعنى كلمة "إله" أي فاعل ..والفاعل بحق عندنا هو هللا ،أما كل هذه األشياء فوسائط وأسباب ،املدير والوزير والرئيس واملال والجاه والسلطان والنفس بذكائها ومواهبها ..لكل هذا نقول ال ..لست إلها. "إال" ..واحد نستثنيه ونثبت له تلك الفاعلية والقدرة هو هللا. وبين ال وإال بين هذا النفي وهذا اإلثبات تقع العقيدة كلها فمن كان مشغوال بجمع املال وتكديس الثروات وتملق السلطان والتزلف للرؤساء وتحرى اللذات واتباع هوى نفسه وتعشق رأيه والتعصب لوجهة نظره ..فهو لم يقل ال لكل هــذه املعبودات وهو ساجد في محرابها دون أن يدرى وحينما يقول ال إله إال هللا فهو يقولها كاذبا ..يقول بلسانه ما ال يفعل بيديه ورجليه. ومعنى "ال إله إال هللا" أنه ال حسيب وال رقيب إال هللا ..هو وحده الجدير بالخشية والخوف واملراقبة ..فمن كان يخاف املرض ومن كان يخاف امليكروب ومن كان يخاف عصا الشرطي وجند الحاكم فإنه لم يقل "ال" ..لكل تلك اآللهة الوهمية ..وإنما هو ما زال ساجدا لها وقد أشرك مع خالقه كل تلك اآللهة املزيفة ..فهو كاذب في كلمة "ال إله إال هللا". ومعنى ذلك أن "ال إله إال هللا" عهد ودستور ومنهج حياة. واملقصود بها ..العمل بها. فمن عمل بها كانت له طلسما بالفعل يفتح له كل األبواب العصية ..وكانت نجاة في الدنيا واآلخرة ومدخال إال الجنة. أما نطق اللسان بدون تصديق القلب وعمل الجوارح ..فإنه ال يغنى. و"ال إله إال هللا" تعنى أكثر من هذا موقفا فلسفيا. يقول الدكتور زكى نجيب محمود أن "شهادة أن ال إله إال هللا" تتضمن اإلقرار بثالث حقائق ..أن الشاهد موجود واملشهود موجود ..والحضور الذين تلقى أمامهم الشهادة موجودون أيضا أي أنها إقرار صريح بأن الذات وهللا واآلخرين لهم جميعا وجود حقيقي. وبهذا يرفض اإلسالم الفلسفة املثالية كما يرفض الفلسفة املادية في ذات الوقت ..يرفض اليمين واليسار معا ويختار موقفـا وسطا. 91
يرفض املثالية الفلسفية ..ألن املثالية الفلسفية ال تعترف بوجود اآلخرين وال بوجود العالم املوضوعي كحقيقة خارجية مستقلة عن العقل ..وإنما كل ش يء في نظر الفلسفة املثالية يجرى كأنه حلم في دماغ ..أو أفكار في عقل ..أنت والراديو والشارع واملجتمع والصحيفة والحرب كلها حوادث ومرائى وأحالم تجرى في ّ عقلي ..ال وجود حقيقي للعــالم الخارجى. وهذا املوقف املثالى املتطرف يرفضه اإلسالم وترفضه الشهادة ألنها كما قلنا إقرار صريح بان الشاهد واملشهود والحضور الذين تلقى أمامهم الشهادة أي الذات وهللا واآلخرين حقائق مقررة. كما يرفض اإلسالم أيضا الفلسفة املادية ألن الفلسفة املادية تعترف بالعالم املوضوعي ولكنها تنكر ما وراءه ..تنكر الغيب وهللا. واإلسالم بهذا يقدم فلسفة واقعية وفكرا واقعيا فيعترف بالعالم املوضوعي ثم يضيف إلى هذا العالم كل الثراء الذي يتضمنه الوجود اإللهي الغيبي ..ويقدم تركيبا جدليا جامعا بين فكر اليمين وفكر اليسار في فلسفة جامعة ما زالت تتحدى كل اجتهاد املفكرين فتسبق ما سطروا من نظريات ظنية ال تقوم على يقين. شهادة "الإله إال هللا" تعنى إذن منهج حياة وموقفا فلسفيا. ّ املادي الذي اخترت موقفـا فلسف ـيـا ماديـا وأنت تنطق ولهذا فأنت تكذب وأنت الرجل بالشهادة كذبتين: الكذبة األولى :أنك تشهد بما ينافي فلسفتك. والكذبة الثانية :أنك ال تعمل بهذه الشهادة في حياتك قدر خردلة. أما حكاية "الم" و"كهيعص" و"حم" و"الر" ،فدعنى أسألك ..وما حكـاية (س ص) ولوغاريتم ومعادلة الطاقة (طاقة = كتلة × سرعة )2وهي ألغاز وطالسم بالنســبة ملن ال يعرف شيئـا في الحساب والجبر والرياضيات ..وعند العاملين لها معانى خطيرة. كذلك هذه الحروف حينما يكشف لنا عن معناها. قال صاحبي في سخرية: وهل كشف لك عن معناها؟ 90
قلت وأنا ألقى بالقنبلة: هذه موضوع مثير يحتاج إلى كالم آخر طويل سوف يدهشك.
92
الفصل السادس عشر :كـــهـــيــعــص قلت لصديقي امللحد: ال شك أن هذه الحروف املقطعة في أوائل السور قد صدمتك حينما طالعتها ألول مرة ..هذه الـ"حم"" ،طسم"" ،الم"" ،كهيعص"" ،ق"" ،ص" ..ترى ماذا قلت لنفسك وأنت تقرأها؟ اكتفى بأن يمط شفتيه في ال مباالة ويقول في غمغمة مبتورة :يعنى. يعنى ماذا. يعنى ..أي كالم يضحك به النبي عليكم. حسنـا دعنا نختبر هذا الكالم الذي تدعى أنه كالم فارغ والذي تصورت أن النبي يضحكبه علينا. ودعنا نأخذ سورة صغيرة بسيطة من هذه السور ..سورة "ق" مثال ..ونجرى تجربة ..فنعد ما فيها من قافات وسنجد أن فيها 57قافـا ..ثم نأخذ السورة التالية وهي سورة "الشورى" وهي ضعفها في الطول وفي فواتحها حرف ق أيضـا ..وسنجد أن فيها عى األخرى 57قافـا. هل هي صدفة ..لنجمع 116 = 57 + 57عدد سور القرآن ..هل تذكر كيف تبدأ سورة "ق".. ََّ َ َ ُ َ ُ يد)) وفي ختامها(( ..فذ ِّكر ِّبال ُقر ِّآن َمن َيخاف وكيف تختتم ..في بدايتها ((ق والقر ِّآن امل ِّج ِّ َ يد)) ..وكأنما هي إشارات بأن "ق" ترمز للقرآن( ..ومجموع القافات 116وهي مجموع سور و ِّع ِّ القرآن). قال صاحبي في ال مباالة :هذه أمور من قبيل الصدف. قلت في هدوء: ّ لكتروني ونسأله أن يقدم لنا احصائية سنمض ى في التجربة ونضع سور القرآن في العقل اإل بمعدالت توارد حرف القاف في جميع السور. قال وقد توترت أعصابه وتيقظ تمامـا :وهل فعلوها؟ قلت في هدوء :نعم فعلوها. وماذا كانت النتيجة؟93
ّ لكتروني أن أعلى املتوسطات واملعدالت موجودة في سورة "ق" وأن هذه قال لنا العقل اإلالسورة قد تفوقت حسابيـا على كل املصحف في هذا الحرف ..هل هي صدفة أخرى؟ غريب.ّ لكتروني احصائية بتوارد هذه وسورة "الرعد" تبدأ بالحروف "املر" قدم لنا العقل اإلالحروف في داخل السور كاآلتى: (ا) ترد 225مرة. (ل) ترد 677مرة. (م) ترد 220مرة. (ر) ترد 137مرة. هكذا وفي ترتيب تنازلى (ا) ثم (ل) ثم (م) ثم (ر) ..بنفس الترتيب الذي كتبت به "املر" تنازليـا ّ لكتروني بإحصاء معدالت توارد هذه الحروف في املصحف كله ..وألقى إلينا ثم قام العقل اإل بالقنبلة الثانية ..أن أعلى املعدالت واملتوسطات لهذه الحروف هي في سورة "الرعد" ..وأن هذه السورة تفوقت حسابيـا في هذه الحروف على جميع املصحف. نفس الحكاية في "الم" البقرة. (ا) وردت 6572مرة. (ل) وردت 3206مرات. (م) وردت 2175مرة. بنفس الترتيب التنازلى "الم". ّ لكتروني أن هذه الحروف الثالثة لها تفوق حسابي على باقي الحروف ثم يقول لنا العقل اإل في داخل سورة "البقرة". نفس الحكاية في "الم" آل عمران. (ا) وردت 2575مرة. (ل) وردت 1555مرة. (م) وردت 1251مرة. 94
بنفس الترتيب التنازلى "الم" وهي تتوارد في السورة بمعدالت أعلى من باقي الحروف. نفس الحكاية في "الم" سورة "العنكبوت". (ا) وردت 756مرة. (ل) وردت 556مرة. (م) وردت 366مرة. بنفس الترتيب التنازلى "الم" وهي تتوارد في السورة بمعدالت أعلى من باقي الحروف. نفس الحكاية في "الم" سورة "الروم". (ا) وردت 567مرة. (ل) وردت 372مرة. (م) وردت 315مرة. بنفس الترتيب "الم" ثم هي تتوارد في السورة بمعدالت أعلى من باقي الحروف. وفي جميع السور التي ابتدأت بالحروف "الم" نجد أن السور املكية تتفوق حسابيـا في معدالتها على باقي السور املكية ،واملدنية تتفوق حسابيـا في معدالتها من هذه الحروف على باقي السور املدنية. وباملثل في "املص" سورة "األعراف". ّ لكتروني أن معدالت هذه الحروف هي أعلى ما تكون في سورة "األعراف"، يقول لنا العقل اإل وأنها تتفوق حسابيـا على كل السور املكية في املصحف. وفي سورة "طـه" نجد أن الحرف (ط) والحرف (هـ) يتواردان فيها بمعدالت تتفوق على كل السور املكية ..وكذلك في كهيعص مريم ترتفع معدالت هذه الحروف على كل السور املكية في املصحف. كما نجد أن جميع السور التي افتتحت بالحروف حـم ..إذا ضمت إلى بعضها فإن معدالت توارد الحرف (ح) والحرف (م) تتفوق على كل السور املكية في املصحف.
95
وباملثل السورتان اللتان افتتحتا بحرف "ص" وهما سورة "ص" و"األعراف" (املص) ويالحظ أنهما نزلتا متتابعتين في الوحي ..إذا ضمتا معـا تفوقتا حسابيـا في هذه الحروف على باقي املصحف. وكذلك السور التي افتتحت بالحروف "الر" وهي إبراهيم ويونس وهود ويوسف والحجر وأربع منها جاءت متتابعة في تواريخ الوحي ..إذا ضمت لبعضها ..أعطانا العقل اإللكت ّ روني أعلى معدالت في نسبة توارد حروفها "الر" على كل السور املكية في املصحف. أما في سورة "يـس" فإننا نالحظ أن الداللة موجودة ولكنها انعكست ..ألن ترتيب الحروف انعكس؛ فالياء في األول "يـس" (بعكس الترتيب األبجدي). ولهذا نرى أن توارد الحرف (ي) والحرف (س) هو أقل من توارده في جميع املصحف مدنيـا ومكـيا. فالداللة اإلحصائية هنا موجودة ولكنها انعكست. كان صاحبي قد سكت تمامـا. قلت وأنا أطمئنه: أنا ال أقول هذا الكالم من عند نفس ي وإنما هي دراسة قام بها عالم مصر ّي في أمريكا هو الدكتور رشاد خليفة.. وهذا الكتاب الذي بين يديك يقدم لك هذه الدراسة مفصلة.Miracle of Quran : وقدمت إليه كتابا إنجليزيا مطبوعا في أمريكا للمؤلف. أخذ صاحبي يقلب الكتاب في صمت. قلت: لم تعد املسألة صدفة ..وإنما نحن أمام قوانين محكمـة وحروف محسوبة كل حرف وضع َّ ُ َّ َ َ َ َ ّ َ َ َ َ َ بميزان ورحت أتلو عليه من سورة "الشورى"(( :اّلل ال ِّذي أنزل ال ِّكتاب ِّبالح ِّق و ِّامليزان)) [الشورى.]17: وأي مي ـزان ..نحن هنا أمام ميزان يدق حتى يزن الشعرة والحرف..
96
أظن أن فكرة النبي الذي يؤلف القرآن ويقول لنفسه سلفـا سوف أؤلف ســورة "الرعد" من حروف "املر" وأورد بها أعلى معدالت من هذه الحروف على باقي الكتاب وهو لم يؤلف بعد الكتاب مثل هذا الظن لم يعد جائزا.. وأين هذا الذي يحص ى له هذه املعدالت وهي مهمة ال يستطيع أن يقوم بها إال عقل إلكتروني ولو تكفل هو بها فإنه سيقض ى بضع سنين ليحص ى الحروف في سورة واحدة يجمع ويطرح بعلوم عصره وهو ال يعرف حتى علوم عصره وهو سيؤلف أو يشتغل عدادا للحروف. نحن هنا أمام استحالة. فإذا عرفنا أن القرآن نزل مفرقـا ومقطعا على 23سنة.. فإنا سوف نعرف أن وضع معدالت إحصائية مسبقة بحروفه هي استحالة أخرى ..وأمر ال يمكن أن يعرفه إال العليم الذي يعلم كل ش يء قبل حدوثه ،والذي يحص ى بأسرع وأدق من كل العقول اإللكترونية ..هللا الذي أحاط بكل ش يء علما ..وما هذه الحروف املقطعة في فواتح السور إال رموز علمه بثها في تضاعيف كتابه لنكشفها نحن على مدى الزمان. َ َ َ َ َ ُ (( َسن ِّر ِّيهم َآيا ِّت َنا ِّفي اآلف ِّاق َو ِّفي أ ُنف ِّس ِّهم َح َّتى َيت َب َّي َن ل ُهم أ َّن ُه ال َح ُّق)) [فصلت.]53: وال أقول أن هذه كل أسرار الحروف ..بل هي مجرد بداية ال أحد يدرى إلى أي آفاق سوف توصلنا. وهذه الحروف بهذه الداللة الجديدة تنفي نفيا باتا شبهة التأليف. ثم هي تضعنا أمام موازين دقيقة ودالالت عميقة لكل حرف فال يجرؤ أحدنا أن يقول أنه أمام ..أي كالم ..أال ترى يا صاحبي أنك أمام كالم ال يمكن أن يكون أي كالم. ولم يجب صاحبي ،وإنما ظل يقلب الكتاب اإلنجليزى ويتصفحه ثم يعود يقلبه دون أن ينطق بحرف.
97
الفصل السابع عشر :املعجزة قال صاحبي: ال أفهم كيف يجوز للرب الرحيم الذي تصفونه بأنه رءوف ودود كريم عفو غفور ..كيف يأمر هذا الرب نبيه الخليل املقرب إبراهيم بأن يذبح ولده ..أال ترى معي أن هذه مسألة صعبة التصديق؟ قلت له: القصة تدل من سياقها وأحداثها على أن مراد هللا من إبراهيم لم يكن ذبح ابنه ،بدليل أن الذبح لم يحدث وإنما كان املراد أن يذبح إبراهيم شغفه الزائد بابنه ..ومحبته الزائدة البنه.. وتعلقه الزائد بابنه إذ ال يجوز أن يكون في قلب النبي تعلق بغير هللا ..ال دنيا وال ولد وال جاه وال سلطان ..كل هذه األمور ال يصح أن يتعلق بها قلب النبي ..وكما هو معلوم كان إسماعيل قد جاء ألبيه إبراهيم على كبر وعلى شيخوخة ..فشغف به الشيخ وتعلق به ..فجاء امتحان هللا لنبيه ضروريا ..وما حدث في القصة يدل على سالمة هذا التفسير ..فما إن صدع النبي ألمر ربه وأشرع سكينه ليذبح ولده حتى جاء أمر السماء بالفداء. وما رأيك في معجزات إبراهيم العجيبة ودخوله النار دون أن يحترق ..وما فعله موس ى منبعده حينما أخرج من عصاه ثعبانا ثم حينما شق بهذه العصا البحر ،ثم حينما أخرج يده من تحت إبطه فإذا هي بيضاء ..أال تبدو هذه األمور وكأنها عرض بهلواني في سيرك ..وكيف يدلل هللا على قدرته وعظمته بهذه البهلوانيات التي هي في حد ذاتها صنوف من الال معقول ..وأمثلة من خرق النظام.. أال يبدو أن البرهان األقوى على عظمة هللا هو النظام والعقل واالنضباط والقوانين في سريانها الجميل في الكون دون أن تخرق.. لقد فهمت املعجزة خطأ وتصورتها خطأ..املعجزة في تصورك عمل بهلواني وخرق للقانون ،وال معقول ،ولكن الحقيقة غير ذلك.. 98
َ ّ أقرب املوضوع إلى ذهنك بمثل.. ودعني ِّ ُ لو أنه ق ِّّدر لك أن تعود ثالثة آالف سنة إلى الوراء ،ثم تدخل على فرعون مصر في ذلك الزمن البائد ومعك ترانزستور في حجم علبة الثقاب يتكلم ويغني من تلقاء نفسه ..ترى ماذا سيكون حال فرعون وحاشيته؟ ..سيهتفون في ذهول بال شك معجزة ،سحر ،ال معقول ،خرق لجميع القوانين ..ولكننا نعلم اآلن أنه ال إعجاز في املوضوع وال سحر ،وال خرق ألي قانون.. بل إن ما يحدث في داخل الترانزستور هو أمر يجري حسب قوانين في علم اإللكترونيات ..وإنه معقول تماما.. وسيكون األمر أعجب لو أنك دخلت على ملك بابل وفي يدك تليفزيون ينقل الصور من بالد الروم.. وسوف يصفق ملك آشور عجبا لو أنك أدرت له أسطوانة بالستيك فتكلمت. بل إن التاريخ ليحفظ لنا قصة مماثلة حينما نزل املستعمرون أفريقيا ..وحطت أول طائرة لهم في الغابة وسط البدائيين ..ماذا حدث؟ سجد الزنوج العراة على وجوههم ودقوا الطبول وذبحوا القرابين وظنوا أن هللا نزل من سماواته وتصوروا فيما يحدث خرقا لجميع القوانين.. مع أننا نعلم اآلن أن الطائرة تطير بقانون وتنزل بقانون ..وأنها مصممة حسب القوانين الهندسية املحكمة ،وأن طيرانها أمر معقول تماما ،وأنها ال تخرق قانون الجاذبية ،وإنما تتجاوز هذا القانون بقانون آخر هو قانون الفعل ورد الفعل.. نحن إذن أمام تفاضل قوانين وليس أمام خرق قوانين.. واملاء يصعد في ساق النخلة ضد الجاذبية ليس بخرق هذه الجاذبية وإنما بمجموعة قوانين فسيولوجية تتفاضل معها ..هي قانون تماسك العمود املائي وقانون الخاصة الشعرية، وقانون الضغط األزموزي ،وهي جميعها قوانين تؤدي إلى شد املاء إلى أعلى. نحن دائما ال نخرج عن العقل وال عن املعقول ،وما حدث لم يكن بهلوانيات ..وإنما كانت دهشة الزنوج البدائيين مردها جهلهم بهذه القوانين ..وكذلك دهشتك أمام شق موس ى للبحر وإخراجه للثعبان من العصا ،وإحياء عيس ى للموتى ،ودخول إبراهيم للنار بدون أن يحترق.. تصورت أنها ال معقول وخرق للقوانين ،وبهلوانيات ..في حين أنها تجري جميعها على وفاق 99
املشيئة اإللهية التي تتفاضل مع جميع القوانين التي نعرفها ..وهي إذن صنوف من النظام.. ومن املعقول ..ولكن أعلى من مداركنا وهللا ال يهدم النظام بهذه املعجزات ،وإنما يشهدنا على نظام أعلى ،وقوانين أعلى ،وعقل أكبر من استيعابنا ،ومشيئة أعلى من ذلك كله. وقد وقع البهائيون في نفس غلطتك حينما رفضوا املعجزات ،وتصوروا أن قبولها فيه امتهان للعقل ،وازدراء بالعقل ،فتحايلوا على القرآن ّ وحرفوا معانيه عن ظاهرها ..فموس ى لم يشق البحر بعصاه ،وإنما كانت عصاه هي الشريعة التي فرقت الحق من الباطل ،وباملثل كانت يده البيضاء هي رمز ليد الخير ..وباملثل أحيا عيس ى النفوس ولم يحي األجساد ..وفتح العقول ولم يفتح العيون العمى ..وبهذا أخرجوا القرآن عن معانيه الحرفية إلى تأويالت وتفسيرات مجازية ورمزية كلما اصطدموا بش يء لم يعقلوه.. وكان هذا ألنهم أخطأوا فهم املعجزة وتصوروا أنها ال معقول ،وخرق للقانون ،وهدم للنظام ،وهو نفس ما وقعت فيه. والحق أننا نعيش في عصر لم تعد تستغرب فيه املعجزات. وقد رأينا العلم يأخذ بيدنا إلى سطح القمر ،وإذا كان العلم البشري أعطانا كل هذا السلطان ،فالعلم اإللهي اللدني ال شك يمكن أن يمدنا بسلطان أكبر ..استمع إلى هذه اآلية َّ َ َ َ َ َ َ َ َ ُ َ َ ُ ُ الجميلةَ (( :يا َمع َش َر الج ّن َ ض األ و ات او م الس ار ط ق أ ن م وا ذ نف ت ن أ م ت ع ط ت اس ن إ نس اإل و ر ِّ ِّ ِّ ِّ ِّ ِّ ِّ ِّ ِّ ِّ َ َ ُ ُ َ َ ُ َ َّ انفذوا ال ت ُنفذون ِّإال ِّب ُسلطان)) [الرحمن.]33: ف وهذا هو السلطان ..العلم البشري ..وأعظم منه العلم اإللهي.
011
الفصل الثامن عشر :معىن الدين قال صاحبي: اسمع ..إذا كانت عندكم جنة كما تقولون ..فأنا أول واحد سوف يدخلها فأنا أكثر دينا من كثير من دعاتكم من أصحاب اللحى واملسابح إياهم.. تساءلت: أكثر دينا؟! ..ماذا تعني بهذا؟! أعني أني ال أؤذي أحدا وال أسرق ،وال أقتل ،وال أرتش ي ،وال أحسد ،وال أحقد ،وال أضمرّ ّ سوءا ملخلوق ،وال أنوي إال الخير ،وال أهدف إال إلى النفع العام ..أصحو وأنام بضمير مستريح وشعار حياتي هو اإلصالح ما استطعت ..أليس هذا هو الدين؟ أال تقولون عندكم إن الدين املعاملة؟.. هذا ش يء له اسم آخر ..اسمه حسن السير والسلوك ..وهو من مقتضيات الدين ولكنهليس الدين ،إنك تخلط بين الدين وبين مقتضايته ..والدين ليس له إال معنى واحد هو معرفة اإلله ..أن تعرف إلهك حق املعرفة ،ويكون بينك وبين هذا اإلله سلوك ومعاملة ..أن تعرف إلهك عظيما جليال قريبا مجيبا يسمع ويرى فتدعوه راكعا ساجدا خاشعا خشوع العبد للرب ..هذه املعاملة الخاصة بينك وبين الرب هي الدين ..أما حسن معاملتك إلخوانك فهي من مقتضيات هذا التدين وهي في حقيقة األمر معاملة للرب أيضا ..يقول نبينا عليه الصالة والسالم" :إن الصدقة تقع في يد هللا قبل أن تقع في يد السائل" ..فمن أحب هللا أحب مخلوقاته وأحسن إليها ..أما إذا اقتصرت معامالتك على الناس ال تعترف إال بهم وال ترى غيرهم ..وال ترى غير الدنيا فأنت كافر تماما وإن أحسنت السير والسلوك مع هؤالء الناس.. إنما يدل حسن سيرك وسلوكك على الفطانة والسياسة والكياسة والطبع اللبيب وليس على الدين فأنت تريد أن تكسب الناس لتنجح في حياتك ،وحسن سيرك وسلوكك ذريعة إلى كسب الدنيا فحسب ..وهذه طباع أكثر الكفار أمثالك. صدقني أنا أشعر أحيانا بأن هناك قوة..010
قوة! نعم ..ثمة قوة مجهولة وراء الكون ..أنا أؤمن تماما بأن هناك قوة.. وما تصورك لهذه القوة ..أتتصورها كائنا يسمع ويرى ويعقل ويتعهد مخلوقاته بالرعايةوالهداية ،وينزل لهم الكتب ويبعث لهم الرسل ويستجيب لصرخاتهم وتوسالتهم؟ بصراحة أنا ال أصدق هذا الكالم وال أتصوره ،وأكثر من هذا أراه ساذجا ال يليق بهذهالقوة العظيمة.. إذن فهي قوة كهرمغنطيسية عمياء تسوق الكون في عبثية ال خالق لها ..وهذه هي الصفةالتي تليق بقوتك العظيمة.. ربما.. بئس ما تصورت إلهك ..خلق لك البصر فتصورته أعمى ..وخلق لك الرشد فتصورتهعابثا أخرق ..وهللا إنك الكافر بعينه ،ولو أحسنت السير والسلوك مدى الدهرّ .. وإن أعمالك الصالحة مصيرها اإلحباط يوم الحساب وأن تتبدد هباء منثورا.. أال يكون هذا ظلما ..؟ بل هو عين العدل ..فقد تصورت هذه األعمال من ذاتك ليس وراءها الهادي الذي هداكوالرشيد الذي أرشدك فظلمت إلهك ..أنكرت فضله ..وهذا هو الفرق بين طيبات املؤمن وطيبات الكافر ،إذا استوى االثنان في حسن السير والسلوك الظاهر ..فكالهما قد يبني مستشفى لعالج املرض ى ..فيقول الكافر :أنا بنيت هذا املستشفى العظيم للناس ..ويقول املؤمن :وفقني ربي إلى بناء هذا املستشفى للناس وما كنت إال واسطة خير.. وما أكبر الفرق ..واحد أسند الفضل لصاحب الفضل ولم يبق لنفسه فضال إال مجرد الوساطة وحتى هذه يشكر عليها هللا ويقول :أحمدك يا ربي أن جعلتني سببا ..واآلخر أسند الفضل لنفسه وراح يقول :أنا ..أنا ..أنا كل ش يء ..فارق كبير بين الكبرياء والتواضع ..وبين العلو وخفض الجناح ..بين الجبروت والوداعة ..ولهذا فأنتم في ديانتكم الوثنية وإيمانكم بهذه القوة الكهرمغنطيسية العمياء ال تصلون وال تسجدون..
012
وملاذا نصلي وملن نصلي ..؟ إني ال أرى لصالتكم هذه أي حكمة ..وملاذا كل تلك الحركات أماكان يكفي الخشوع ..؟ حكمة الصالة أن يتحطم هذا الكبرياء املزيف الذي تعيش فيه لحظة سجودك ومالمسةجبهتك التراب وقولك بلسانك وقلبك" :سبحان ربي األعلى" ..وقد عرفت مكانك أخيرا وأنك أنت األدنى وهو األعلى ..وأنك تراب على التراب ..وهو ذات منزهة من فوق سبع سماوات.. أما ملاذا الحركات في الصالة ،وملاذا ال نكتفي بالخشوع القلبي فإني أسألك بدوري: وملاذا خلق لك الجسد أصال ..وملاذا ال تكتفي بالحب الشفوي فتريد أن تعانق وتقبل.. ملاذا ال تكتفي بالكرم الشفوي فتجود باليد واملال ..بل خلق هللا لك الجسد إذا كان خشوعك صادقا فاض على جسدك فركعت وسجدت ..وإن كان خشوعك زائفا لم يتعد لسانك.. هل تعتقد أنك ستدخل الجنة ..؟سنر ُد النار ..ثم ينجي هللا الذين اتقوا ..وال أعرف هل اتقيت أم ال؟ ..يعلم هذا عالم كلنا ِّالقلوب ..وكل عملي -لألسف -حبر على ورق ..وقد يسلم العمل وال تسلم النية ..وقد تسلم النية وال يسلم اإلخالص ..فنظن الواحد منا أنه يعمل الخير لوجه هللا وهو يعمله للشهرة والدنيا والجاه بين الناس ..وما أكثر ما يخدع الواحد منا في نفسه ويدخل عليه التلبيس وحسن الظن واالطمئنان الكاذب من حيث ال يدري ..نسأل هللا السالمة.. وهل يستطيع اإلنسان أن يكون مخلصا؟ ال يملك ذلك من تلقاء نفسه ..وإنما هللا هو الذي يخلص القلوب ..ولهذا يتكلم القرآن فيَ املخلصين بكسر الالم ..ولكن هللا وعد بأن وليس الالم بفتح صين املخل أكثر اآليات عن ِّ ((يهدي إليه من ينيب)) أي كل من يؤوب ويرجع إليه ..فعليك بالرجوع إليه ..وعليه الباقي..
013
الفصل التاسع عشر :فزنا بسعادة الدنيا وفزمت باألوهام قال صاحبي ..وكانت في نبرته فرحة رجل منتصر: مهما اختلفنا ومهما طال بنا الجدل فال شك أننا خرجنا من معركتنا معكم منتصرين فقد فزنا بسعادة الدنيا وخرجتم أنتم ببضعة أوهام في رؤوسكم ..وماذا يجدي الكالم وقد خرجنا من الدنيا بنصيب األسد ..فلنا السهرة والسكرة والنساء الباهرات والنعيم الباذخ واللذات التي ال يعكرها خوف الحرام ..ولكم الصيام والصالة والتسابيح وخوف الحساب ..من الذي ربح؟ رددت قائال: هذا لو كان ما ربحتموه هو السعادة ..ولكن لو فكرنا معا في هدوء ملا وجدنا هذه الصورة التي وصفتها عن السهرة والسكرة والنساء الباهرات والنعيم الباذخ واللذات التي ال يعكرها خوف الحرام ..ملا وجدنا هذه الصورة إال الشقاء بعينه. الشقاء ..وكيف؟ ألنها في حقيقتها عبودية لغرائز ال تشبع حتى تجوع ،وإذا أتخمتها أصابها الضجر واملاللوأصابك أنت البالدة والخمول.. هل تصلح أحضان امرأة لتكون مستقر سعادة ،والقلوب تتقلب والهوى ال يستقر على حال والغواني يغرهن الثناء ..وما قرأنا في قصص العشاق إال التعاسة فإذا تزوجوا كانت التعاسة أكبر وخيبة األمل أكبر ألن كال من الطرفين سوف يفتقد في اآلخر الكمال املعبود الذي كان يتخيله ..وبعد قضاء الوطر وفتور الشهوة يرى كل واحد عيوب اآلخر بعدسة مكبرة.. وهل الثراء الفاحش إال عبودية إذ يضع الغنى نفسه في خدمة أمواله وفي خدمة تكثيرها وتجميعها وحراستها فيصبح عبدها بعد أن كانت خادمته.. وهل السلطة والجاه إال مزلق إلى الغرور والكبر والطغيان ..وهل راكب السلطان إال كراكب األسد يوما هو راكبه ويوما هو مأكوله..
014
وهل الخمر والسكر واملخدرات والقمار والعربدة والجنس بعيدا عن العيون وبعيدا عن خوف الحرام سعادة ..وهل هي إال أنواع من الهروب من العقل والضمير وعطش الروح ومسئولية اإلنسان باإلغراق في ضرام الشهوة وسعار الرغبات ..وهل هو ارتقاء أم هبوط إلى حياة القرود وتسافد البهائم وتناكح السوائم.. َ َ َ َّ ُ َ َ َ ُ ُ َ َ َ َ ُ ُ َ األن َع ُام َو َّ الن ُار َمثوى صدق القرآن إذ يقول عن الكفار ..أنهم ((يتمتعون ويأكلون كما تأكل َّ ل ُهم)) [محمد.]12: فهو لم ينكر أنهم يتمتعون ،ولكن كما تتمتع األنعام ،وكما ترعى السوائم ..وهل هذه سعادة؟! وهل حياة الشهوة تلك إال سلسلة من الشبق والتوترات والجوع األكال والتخمة الخانقة ال تمت إلى السعادة الحقة بسبب ..وهل تكون السعادة الحقة إال حالة من السالم والسكينة النفسية والتحرر الروحي من كافة العبوديات ..وهل هي في تعريفها النهائى إال حالة صلح بين اإلنسان ونفسه وبين اإلنسان واآلخرين وبين اإلنسان وهللا ..وهذه املصالحة والسالم واألمن النفس ي ال تتحقق إال بالعمل ..بأن يضع اإلنسان قوته وماله وصحته في خدمة اآلخرين وبأن يحيا حياة الخير والبر نية وعمال وأن تتصل العالقة بينه وبين هللا صالة وخشوعا فيزيده هللا سكينة ومددا ونورا ..وهل هذه السعادة إال الدين بعينه ..ألم يقل الصوفي البس الخرقة" :نحن في لذة لو عرفها امللوك لقاتلونا عليها بالسيوف" ..والذين عرفوا تلك اللذة ..لذة الصلة باهلل والصلح مع النفس ..يعلمون أن كالم الصوفي على حق. ألم تكن مثلنا من سنوات تسكر كما نسكر وتلهو كما نلهو وتسعد هذه السعادةالحيوانية التي نسعدها وتكتب الكفر بعينه في كتابك "هللا واإلنسان" فتسبق به إلحاد املالحدة فماذا غيرك من النقيض إلى النقيض؟ سبحانه يغير وال يتغير. أعلم أنك تقول أن كل ش يء بفضل هللا ..ولكن ماذا كان دورك ..وماذا كان سعيك؟ نظرت حولى فرأيت أن املوت ثم التراب نكتة وعبثـا وهزال ورأيت العالم حولى كله محكمادقيقـا منضبطـا ال مكان فيه للهزل وال للعبث ..ولو كانت حياتي عبثا كما تصور العابثون
015
ونهايتها ال ش يء ..فلماذا أبكى وملاذا أندم وملا أتحرق وألتهب شوقـا على الحق والعدل وأفتدى هذه القيم بالدم والحياة. رأيت النجوم تجرى في أفالكها بقانون.. ورأيت الحشرات االجتماعية تتكلم والنباتات ترى وتسمع وتحس.. ورأيت الحيوانات لها أخالق.. ورأيت املخ البشرى عجيبة العجائب يتألف من عشرة آالف مليون خط عصبي تعمل كلها في وقت واحد في كمال معجز ..ولو حدث بها عطل هنا أوهناك لجاء في أثره الشلل والعمى والخرس والتخليط والهذيان وهي أمور ال تحدث إال استثناء ..فما الذي يحفظ لهذه اآللة الهائلة سالمتها ومن الذي زودها بكل تلك الكماالت. ورأيت الجمال في ورقة الشجر وفي ريشة الطاووس وجناح الفراش وسمعت املوسيقى في صدح البالبل وسقسقة العصافير وحيثما وجهت عينى رأيت رسم رسام وتصميم مصمم وإبداع يد مبدعة. ورأيت الطبيعة بناء محكما متكامال تستحيل فيها الصدفة والعشوائية ..بل كل ش يء يكاد يصرخ ..دبرنى مدبر ..وخلقنى مبدع قدير. وقرأت القرآن فكان له في سمعي رنين وإيقاع ليس في مألوف اللغة وكان له في ع ّ قلي انبهار.. فهو يأتى بالكلمة األخيرة في كل ما يتعرض له من أمور السياسة واألخالق والتشريع والكون والحياة والنفس واملجتمع رغم تقادم العهد على نزوله أكثر من ألف وثالثمائة سنة ..وهو يوافق كل ما يستجد من علوم رغم أنه أتى على يد رجل بدوى َّ أمي ال يقرأ وال يكتب في أمة متخلفة بعيدة عن نور الحضارات.. وقرأت سيرة هذا الرجل وما صنع ..فقلت ..بل هو نبي ..وال يمكن أن يكون إال نبي ..وال يمكن لهذا الكون البديع إال أن يكون صنع هللا القدير الذي وصفه القرآن ..ووصف أفعاله. قال صاحبي -بعد أن أصغى باهتمام إلى كل ما قلت ،وراح يتلمس الثغرة األخيرة:- فماذا يكون الحال لو أخطأت حساباتك وانتهيت بعد عمر طويل إلى موت وتراب ليس بعده ش يء؟ 016
قلت في هدوء: لن أكون قد خسرت شيئـا فقد عشت حياتي كأعرض وأسعد وأحفل ما تكون الحياة.. ولكنكم أنتم سوف تخسرون كثيرا لو أصابت حساباتى وصدقت توقعاتى ..وإنها لصادقة سوف تكون مفاجئة هائلة يا صاحبي. ونظرت في عمق عينيه وأنا أتكلم فرأيت ألول مرة بحيرة من الرعب تنداح في كل عين ورأيت أجفانه تطرف وتختلج. كانت لحظة عابرة من الرعب ..ما لبث أن استعاد بعدها توازنه ..ولكنها كانت لحظة كافية ألدرك أنه بكل غروره وعناده ومكابرته واقف على جرف من الشك والخواء والفراغ وممسك بال ش يء. قال لي بنبرة حاول أن يشحنها باليقين :سوف ترى أن التراب هو كل ما ينتظرك وينتظرنا. سئلته :هل أنت متأكد؟ وللمرة الثانية انداحت في عينيه تلك البحيرة من الرعب. قال وهو يضغط على الحروف وكأنما يخش ى أن تخونه نبراته :نعم.. قلت :كذبت ..فهذا أمر ال يمكن أن نتأكد منه أبدا. وحينما كنت أعود وحدى تلك الليلة بعد حوارنا الطويل كنت أعلم أنى قد نكأت في نفسه جرحا ..وحفرت تحت فلسفته املتهاوية حفرة سوف تتسع على األيام ولن يستطيع منطقه املتهافت أن يردمها. قلت في نفس ي وأنا أدعو له ..لعل هذا الرعب ينجيه ..فمن َس َّد على نفسه كل منافذ الحق بعناده ال يبقى له إال الرعب منفذا. َ وكنت أعلم أنى ال أملك هدايته ..ألم يقل هللا لنبيه(( ..إ َّن َك َال َتهدي َمن أح َبب َت َو َلك َّن َّ َ اّلل ِّ ِّ ِّ َ َيه ِّدي َمن َيشاء)) [القصص.]52: ولكنى كنت أتمنى له الهداية وأدعو له بها فليس أسوأ من الكفر ذنبا وال مصيرا.
017