حوار مع صديقي الملحد للدكتور مصطفى محمود

Page 1


‫د‪ .‬مصطفى محمود‬

‫حوار‬ ‫مع صديقي امللحد‬ ‫تنسيق ‪ :‬سامح طالب ‪samih.talib@gmail.com‬‬


‫الفهرس‬ ‫مقدمة ‪3 ................................................. ................................ ................................‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬لم يلـد ولم يولـد ‪5 ........................................... ................................‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬إذا كان هللا َّ‬ ‫قدر ّ‬ ‫علي أفعالي فلماذا يحاسبني؟ ‪10........................‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬ملاذا خلق هللا الشر؟ ‪17............................... ................................‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬وما ذنب الذي لم يصله قرآن؟ ‪21................................................‬‬ ‫الفصل الخامس‪ :‬الجنة والنار ‪22......................................... ................................‬‬ ‫الفصل السادس‪ :‬حكاية اإلسالم مع املرأة ‪31 ...................... ................................‬‬ ‫الفصل السابع‪ :‬هل الدين أفيون‪ ..‬؟! ‪37 .............................. ................................‬‬ ‫الفصل الثامن‪ :‬الروح ‪62 ...................... ................................ ................................‬‬ ‫الفصل التاسع‪ :‬الضميـ ــر ‪56 ................................................. ................................‬‬ ‫الفصل العاشر‪ :‬هل مناسك الحج وثنية؟ ‪57 ...................... ................................‬‬ ‫الفصل الحادي عشر‪ :‬ملاذا ال يكون القرآن من تأليف محمد؟ ‪20 ......................‬‬ ‫الفصل الثاني عشر‪ :‬القرآن ال يمكن أن يكون مؤلفا ‪71 ......................................‬‬ ‫الفصل الثالث عشر‪ :‬شكوك ‪77 ........................................... ................................‬‬ ‫الفصل الرابع عشر‪ :‬موقـف الـدين من التطــور ‪55 ..............................................‬‬ ‫الفصل الخامس عشر‪ :‬كلمة "ال إله إال هللا" ‪72 ...................................................‬‬ ‫الفصل السادس عشر‪ :‬ك ـه ـي ـعــص ‪77 .................................. ................................‬‬ ‫الفصل السابع عشر‪ :‬املعجزة ‪102....................................... ................................‬‬ ‫الفصل الثامن عشر‪ :‬معنى الدين ‪105................................. ................................‬‬ ‫الفصل التاسع عشر‪ :‬فزنا بسعادة الدنيا وفزتم باألوهام ‪105............................‬‬

‫‪2‬‬


‫مقدمة‬ ‫ألن هللا غيب‪ ..‬وألن املستقبل غيب‪ ..‬وألن اآلخرة غيب‪ ..‬وألن من يذهب إلى القبر ال يعود‪..‬‬ ‫راجت بضاعة اإللحاد‪ ..‬وسادت األفكار املادية‪ ..‬وعبد الناس أنفسهم واستسلموا لشهواتهم‬ ‫وانكبوا على الدنيا يتقاتلون على منافعها‪ ..‬وظن أكثرهم أن ليس وراء الدنيا ش يء وليس بعد‬ ‫الحياة ش يء‪ ..‬وتقاتلت الدول الكبرى على ذهب األرض وخيراتها‪ ..‬وأصبح للكفر نظريات‬ ‫وللمادية فلسفات ولإلنكار محاريب وسدنة وللمنكرين كعبة يتعلقون بأهدابها ويحجون إليها‬ ‫في حلهم وترحالهم‪ ..‬كعبة مهيبة يسمونها "العلم"‪..‬‬ ‫وحينما ظهر أمر "الجينوم البشري" ذلك الكتيب الصغير من خمسة ماليين صفحة في‬ ‫خاليا كل منا واملدون في حيز خلوي ميكروسكوبي في ثالثة مليارات من الحروف الكيميائية‬ ‫عن قدر كل منا ومواطن قوته ومواطن ضعفه وصحته وأمراضه‪ ..‬أفاق العالم كله كأنما‬ ‫بصدمة كهرباية‪ ..‬كيف؟‪ ..‬ومتى؟‪ ..‬وبأي قلم غير مرئي كتب هذا "السفر" الدقيق عن‬ ‫مستقبل لم يأت بعد‪ ..‬ومن الذي كتب كل تلك املعلومات‪ ..‬وبأي وسيلة‪ ..‬ومن الذي يستطيع‬ ‫أن يدون مثل تلك املدونات‪.‬‬ ‫ورأينا كلينتون رئيس أكبر دولة في العالم يطالعنا في التلفزيون ليقول في نبرات خاشعة‪:‬‬ ‫أخيرا أمكن جمع املعلومات الكاملة عن الجينوم البشري وأوشك العلماء أن يفضوا الشفرة‬ ‫التي كتب هللا بها أقدارنا‪..‬‬ ‫هكذا ذكر "هللا" باالسم في بيانه‪..‬‬ ‫نعم‪ ..‬كانت صحوة مؤقتة‪ ..‬أعقبها جدل‪ ..‬وضجيج‪ ..‬وعجيج‪ ..‬وتكلم الكثير‪ ..‬باسم الدين‪..‬‬ ‫وباسم العلم‪ ..‬واختلفوا‪..‬‬ ‫وعادت األسئلة القديمة عن حرية اإلنسان‪..‬‬ ‫مسير أم َّ‬ ‫وهل هو َّ‬ ‫مخير‪..‬‬ ‫وإذا كان هللا ّ‬ ‫قدر علينا أفعالنا فلماذا يحاسبنا‪..‬‬ ‫وملاذا خلق هللا البشر‪..‬‬ ‫‪3‬‬


‫وما ذنب الذي لم يصله قرآن‪..‬‬ ‫وما موقف الدين من التطور‪ ..‬وملاذا نقول باستحالة أن يكون القرآن مؤلفا‪..‬‬ ‫وعاد ذلك الحوار القديم مع صديقي امللحد ليتردد‪ ..‬وعادت موضوعاته‪ ..‬عن الجبر‬ ‫واالختيار‪ ..‬والبعث‪ ..‬واملصير‪ ..‬والحساب‪ ..‬لتصبح مواضيع الساعة‪..‬‬ ‫وتعود هذه الطبعة الجديدة في وقتها وميعادها‪ ..‬لتشارك في حل هذا اللغز‪ ..‬ولتعود لتثير‬ ‫املوضوع من منطلق العلم الثابت واإلشارات القرآنية‪ ..‬واليقين اإللهي الذي ال يتزلزل‪.‬‬ ‫جاء كتابنا مرة أخرى‪ ..‬في ميعاده‪..‬‬ ‫ومرحبا مرة أخرى بالحوار الهادئ البناء‪.‬‬

‫مصطفى محمود‬

‫‪4‬‬


‫الفصل األول‪ :‬مل يلـد ومل يولـد‬ ‫صديقي رجل يحب الجدل ويهوى الكالم‪ ..‬وهو يعتقد أننا ‪-‬نحن املؤمنين السذج‪ -‬نقتات‬ ‫باألوهام ونضحك على أنفسنا بالجنة والحور العين وتفوتنا لذات الدنيا ومفاتنها‪ ..‬وصديقي‬ ‫بهذه املناسبة تخرج في فرنسا وحصل على دكتوراه‪ ..‬وعاش مع الهيبز وأصبح ينكر كل ش يء‪.‬‬ ‫قال لي ساخرا‪:‬‬ ‫أنتم تقولون‪ :‬إن هللا موجود‪ ..‬وعمدة براهينكم هو قانون "السببية" الذي ينص على أن‬ ‫لكل صنعة صانعا‪ ..‬ولكل خلق خالقا‪ ..‬ولكل وجود موجدا‪ ..‬النسيج يدل على ّ‬ ‫النساج‪ ..‬والرسم‬ ‫الرسام‪ ..‬والنقش يدل على ّ‬ ‫يدل على ّ‬ ‫النقاش‪ ..‬والكون بهذا املنطق أبلغ دليل على اإلله القدير‬ ‫الذي خلقه‪..‬‬ ‫صدقنا ّ‬ ‫ّ‬ ‫وآمنا بهذا الخالق‪ ..‬أال يحق لنا بنفس املنطق أن نسأل‪ ..‬ومن خلق الخالق‪ ..‬من خلق‬ ‫هللا الذي تحدثوننا عنه‪ ..‬أال تقودنا نفس استدالالتكم إلى هذا‪ ..‬وتبعا لنفس قانون السببية‪..‬‬ ‫ما رأيكم في هذا املطب دام فضلكم؟‬ ‫ّ‬ ‫ونحن نقول له‪ :‬سؤالك فاسد‪ ..‬وال مطب وال حاجة فأنت تسلم بأن هللا خالق ثم تقول َمن‬ ‫خلقه؟! فتجعل منه خالقا ومخلوقا ًفي نفس الجملة وهذا تناقض‪..‬‬ ‫والوجه اآلخر لفساد السؤال أنك تتصور خضوع الخالق لقوانين مخلوقاته‪ ..‬فالسببية‬ ‫قانوننا نحن أبناء الزمان واملكان‪.‬‬ ‫وهللا الذي خلق الزمان واملكان هو بالضرورة فوق الزمان واملكان وال يصح لنا أن نتصوره‬ ‫مقيدا بالزمان واملكان‪ ..‬وال بقوانين الزمان واملكان‪.‬‬ ‫وهللا هو الذي خلق قانون السببية‪ ..‬فال يجوز أن نتصوره خاضعا لقانون السببية الذي‬ ‫خلقه‪.‬‬ ‫وأنت بهذه السفسطة أشبه بالعرائس التي تتحرك بزمبلك‪ ..‬وتتصور أن اإلنسان الذي‬ ‫صنعها ال بد هو اآلخر يتحرك بزمبلك‪ ..‬فإذا قلنا لها بل هو يتحرك من تلقاء نفسه‪ ..‬قالت‪:‬‬ ‫مستحيل أن يتحرك ش يء من تلقاء نفسه‪ ..‬إني أرى في عالمي كل ش يء يتحرك بزمبلك‪.‬‬ ‫‪5‬‬


‫وأنت باملثل ال تتصور أن هللا موجود بذاته بدون موجد‪ ..‬ملجرد أنك ترى كل ش يء حولك في‬ ‫حاجة إلى موجد‪.‬‬ ‫وأنت كمن يظن أن هللا محتاج إلى براشوت لينزل على البشر ومحتاج إلى أتوبيس سريع‬ ‫ليصل إلى أنبيائه‪ ..‬سبحانه وتعالى عن هذه األوصاف ّ‬ ‫علوا كبيرا‪..‬‬ ‫و"عمانويل كانت" الفيلسوف األملاني في كتابه "نقد العقل الخالص" أدرك أن العقل ال‬ ‫يستطيع أن يحيط بكنه األشياء وأنه ُم ّهيأ بطبيعته إلدراك الجزئيات والظواهر فقط‪ ..‬في‬ ‫حين أنه عاجز عن إدراك املاهيات املجردة مثل الوجود اإللهي‪ ..‬وإنما عرفنا هللا بالضمير‬ ‫وليس بالعقل‪ ..‬شوقنا إلى العدل كان دليلنا على وجود العادل‪ ..‬كما أن ظمأنا إلى املاء هو‬ ‫دليلنا على وجود املاء‪..‬‬ ‫أما أرسطو فقد استطرد في تسلسل األسباب قائال‪ :‬إن الكرس ي من الخشب والخشب من‬ ‫الشجرة‪ ..‬والشجرة من البذرة‪ ..‬والبذرة من الزارع‪ ..‬واضطر إلى القول بأن هذا االستطراد‬ ‫املتسلسل في الزمن الالنهائي البد أن ينتهي بنا في البدء األول إلى سبب في غير حاجة إلى سبب‪..‬‬ ‫سبب أول أو محرك أول في غير حاجة إلى من يحركه‪ ..‬خالق في غير حاجة إلى خالق‪ ..‬وهو‬ ‫نفس ما نقوله عن هللا‪..‬‬ ‫أما ابن عربي فكان رده على هذا السؤال "سؤال َمن خلق الخالق"‪ ..‬بأنه سؤال ال يرد إال على‬ ‫عقل فاسد‪ ..‬فاهلل هو الذي يبرهن على الوجود وال يصح أن نتخذ من الوجود برهانا على هللا‪..‬‬ ‫تماما كما نقول إن النور يبرهن على النهار‪ ..‬ونعكس اآلية لو قلنا إن النهار يبرهن على النور‪..‬‬ ‫يقول هللا في حديث قدس ي‪" :‬أنا ُيستدل بي‪ ..‬أنا ال ُيستدل ّ‬ ‫علي"‪..‬‬ ‫فاهلل هو الدليل الذي ال يحتاج إلى دليل‪ ..‬ألنه هللا الحق الواضح بذاته‪ ..‬وهو الحجة على‬ ‫كل ش يء‪ ..‬هللا ظاهر في النظام والدقة والجمال واإلحكام‪ ..‬في ورقة الشجر‪ ..‬في ريشة‬ ‫الطاووس‪ ..‬في جناح الفراش‪ ..‬في عطر الورد‪ ..‬في صدح البلبل‪ ..‬في ترابط النجوم والكواكب‪..‬‬ ‫في هذا القصيد السيمفوني الذي اسمه الكون‪..‬‬ ‫لو قلنا إن كل هذا جاء مصادفة‪ ..‬لكنا كمن يتصور أن إلقاء حروف مطبعة في الهواء يمكن‬ ‫أن يؤدي إلى تجمعها تلقائيا على شكل قصيدة شعر لشكسبير بدون شاعر وبدون مؤلف‪.‬‬ ‫‪6‬‬


‫والقرآن يغنينا عن هذه املجادالت بكلمات قليلة وبليغة فيقول بوضوح قاطع ودون‬ ‫ُ ُ َ َّ ُ َ‬ ‫اّلل أ َحد * هللا الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد))‬ ‫تفلسف‪(( :‬قل هو‬ ‫[اإلخالص‪.]1:‬‬ ‫ويسألنا صاحبنا ساخرا‪ :‬وملاذا تقولون إن هللا واحد‪ ..‬؟ ملاذا ال يكون اآللهة متعددين‪ ..‬؟‬ ‫يتوزعون بينهم االختصاصات؟‬ ‫وسوف نرد عليه باملنطق الذي يعترف به‪ ..‬بالعلم وليس بالقرآن‪..‬‬ ‫سوف نقول له إن الخالق واحد‪ ،‬ألن الكون كله مبني من خامة واحدة وبخطة واحدة‪ ..‬فمن‬ ‫األيدروجين تألفت العناصر االثنان والتسعون التي في جدول "مندليف" بنفس الطريقة‪..‬‬ ‫"باالدماج" وإطالق الطاقة الذرية التي تتأجج بها النجوم وتشتعل الشموس في فضاء الكون‪.‬‬ ‫كما أن الحياة كلها بنيت من مركبات الكربون "جميع صنوف الحياة تتفحم باالحتراق"‬ ‫وعلى مقتض ى خطة تشريحية واحدة‪ ..‬تشريح الضفدعة‪ ،‬واألرنب‪ ،‬والحمامة‪ ،‬والتمساح‪،‬‬ ‫والزرافة‪ ،‬والحوت‪ ،‬يكشف عن خطة تشريحية واحدة‪ ،‬نفس الشرايين واألوردة وغرفات‬ ‫القلب‪ ،‬ونفس العظام‪ ،‬كل عظمة لها نظيرتها‪ ..‬الجناح في الحمامة هو الذراع في الضفدعة‪..‬‬ ‫نفس العظام مع تحور طفيف‪ ..‬والعنق في الزرافة على طوله نجد فيه نفس الفقرات السبع‬ ‫التي تجدها في عنق القنفذ‪ ..‬والجهاز العصبي هو هو في الجميع‪ ،‬يتألف من مخ وحبل شوكي‬ ‫وأعصاب حس وأعصاب حركة‪ ..‬والجهاز الهضمي من معدة واثني عشر‪ ،‬وأمعاء دقيقة‬ ‫وأمعاء غليظة والجهاز التناسلي نفس املبيض والرحم والخصية وقنواتها‪ ..‬والجهاز البولي‬ ‫الكلية والحالب‪ ،‬وحويصلة البول‪ ..‬ثم الوحدة التشريحية في الجميع هي الخلية‪ ..‬وهي في‬ ‫النبات كما في الحيوان كما في اإلنسان‪ ،‬بنفس املواصفات‪ ،‬تتنفس وتتكاثر وتموت وتولد‬ ‫بنفس الطريقة‪..‬‬ ‫فأية غرابة بعد هذا أن نقول إن الخالق واحد؟‪ ..‬أال تدل على ذلك وحدة األساليب‪.‬‬ ‫وملاذا يتعدد الكامل‪ ..‬؟ وهل به نقص ليحتاج إلى من يكمله؟‪ ..‬إنما يتعدد الناقصون‪.‬‬ ‫ولو تعدد اآللهة الختلفوا‪ ،‬ولذهب كل إله بما خلق‪ ،‬ولفسدت السماوات واألرض ‪ ,‬وهللا له‬ ‫الكبرياء والجبروت وهذه صفات ال تحتمل الشركة‪..‬‬ ‫‪7‬‬


‫ويسخر صاحبنا من معنى الربوبية كما نفهمه‪ ..‬ويقول أليس عجيبا ذلك الرب الذي يتدخل‬ ‫في كل صغيرة وكبيرة‪ ،‬فيأخذ بناصية الدابة‪ ،‬ويوحي إلى النحل أن تتخذ من الجبال بيوتا‪ ،‬وما‬ ‫ّ‬ ‫تسقط من ورقة إال يعلمها‪ ،‬وما تخرج من ثمرات من أكمامها إال أحصاها عددا‪ ،‬وما تحمل‬ ‫من أنثى وال تضع إال بعلمه‪ ..‬وإذا عثرت قدم في حفرة فهو الذي أعثرها‪ ..‬وإذا سقطت ذبابة في‬ ‫طعام فهو الذي أسقطها‪ ..‬وإذا تعطلت الحرارة في تليفون فهو الذي عطلها‪ ..‬وإذا امتنع املطر‬ ‫فهو الذي منعه‪ ،‬وإذا هطل فهو الذي أهطله‪ ..‬أال تشغلون إلهكم بالكثير التافه من األمور‬ ‫بهذا الفهم‪..‬‬ ‫وال أفهم أيكون الرب في نظر السائل أجدر بالربوبية لو أنه أعفى نفسه من هذه املسئوليات‬ ‫وأخذ إجازة وأدار ظهره للكون الذي خلقه وتركه يأكل بعضه بعضا!‬ ‫هل الرب الجدير في نظره هو رب عاطل مغمى عليه ال يسمع وال يرى وال يستجيب وال يعتني‬ ‫بمخلوقاته؟‪ ..‬ثم من أين للسائل بالعلم بأن موضوعا ما تافه ال يستحق تدخل اإلله‪،‬‬ ‫وموضوعا آخر مهما وخطير الشأن؟‬ ‫إن الذبابة التي تبدو تافهة في نظر السائل ال يهم في نظره أن تسقط في الطعام أو ال تسقط‪،‬‬ ‫هذه الذبابة يمكن أن ّ‬ ‫تغير التاريخ بسقوطها التافه ذلك‪ ..‬فإنها يمكن أن تنقل الكوليرا إلى‬ ‫جيش وتكسب معركة لطرف آخر‪ ،‬تتغير بعدها موازين التاريخ كله‪.‬‬ ‫ألم تقتل اإلسكندر األكبر بعوضة؟‬ ‫إن أتفه املقدمات ممكن أن تؤدي إلى أخطر النتائج‪ ..‬وأخطر املقدمات ممكن أن تنتهي إلى‬ ‫ال ش يء‪ ..‬وعالم الغيب وحده هو الذي يعلم قيمة كل ش يء‪.‬‬ ‫تقدس ّ‬ ‫وصيا على هللا يحدد له اختصاصاته‪ّ ..‬‬ ‫وهل تصور السائل نفسه ّ‬ ‫وتنزه ربنا عن هذا‬ ‫التصور الساذج‪.‬‬ ‫إنما اإلله الجدير باأللوهية هنا هو اإلله الذي أحاط بكل ش يء علما‪ ..‬ال يعزب عنه مثقال‬ ‫ذرة في األرض وال في السماء‪.‬‬ ‫اإلله السميع املجيب‪ ،‬املعتني بمخلوقاته‪.‬‬

‫‪8‬‬


‫َّ‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬إذا كان اهلل قدر علي أفعايل فلماذا حياسبني؟‬

‫قال صديقي في شماتة وقد ّ‬ ‫تصور أنه أمسكني من عنقي وأنه ال مهرب لي هذه املرة‪:‬‬ ‫أنتم تقولون إن هللا ُيجري كل ش يء في مملكته بقضاء وقدر‪ ،‬وإن هللا َّ‬ ‫قدر علينا أفعالنا‪،‬‬ ‫فإذا كان هذا هو حالي‪ ،‬وأن أفعالي كلها ّ‬ ‫مقدرة عنده فلماذا يحاسبني عليها؟‬ ‫َّ‬ ‫ال تقل لي كعادتك‪ ..‬أنا مخيـر‪ ..‬فليس هناك فرية أكبر من هذه الفرية ودعني أسألك‪:‬‬ ‫هل ُخ ّـي ُ‬ ‫رت في ميالدي وجنس ي وطولي وعرض ي ولوني ووطني؟‬ ‫هل باختياري تشرق الشمس ويغرب القمر؟‬ ‫هل باختياري ينزل َّ‬ ‫علي القضاء ويفاجئني املوت وأقع في املأساة فال أجد مخرجا إال‬ ‫الجريمة‪ ..‬ملاذا ُيكرهني هللا على فعل ثم يؤاخذني عليه؟‬ ‫وإذا قلت إنك حر‪ ،‬وإن لك مشيئة إلى جوار مشيئة هللا أال تشرك بهذا الكالم وتقع في القول‬ ‫بتعدد املشيئات؟‬ ‫ثم ما قولك في حكم البيئة والظروف‪ ،‬وفي الحتميات التي يقول بها املاديون التاريخيون؟‬ ‫أطلق صاحبي هذه الرصاصات ثم راح يتنفس الصعداء في راحة وقد َّ‬ ‫تصور أني توفيت‬ ‫وانتهيت‪ ،‬ولم يبق أمامه إال استحضار الكفن‪..‬‬ ‫قلت له في هدوء‪:‬‬ ‫أنت واقع في عدة مغالطات‪ ..‬فأفعالك معلومة عند هللا في كتابه‪ ،‬ولكنها ليست مقدورة‬ ‫مقد ة في علمه فقط‪ ..‬كما ّ‬ ‫تقدر أنت بعلمك أن ابنك سوف يزني‪ ..‬ثم‬ ‫عليك باإلكراه‪ ..‬إنها َّ ر‬ ‫ِّ‬ ‫يحدث أن يزني بالفعل‪ ..‬فهل أكرهته‪ ..‬أو كان هذا تقديرا في العلم وقد أصاب علمك‪..‬‬ ‫أما كالمك عن الحرية بأنها فرية‪ ،‬وتدليلك على ذلك بأنك لم َّ‬ ‫تخير في ميالدك وال في جنسك‬ ‫وال في طولك وال في لونك وال في موطنك‪ ،‬وأنك ال تملك نقل الشمس من مكانها‪ ..‬هو تخليط‬ ‫آخر‪..‬‬ ‫َّ‬ ‫تتصور الحرية بالطريقة غير تلك التي نتصورها نحن‬ ‫وسبب التخليط هذه املرة أنك‬ ‫املؤمنين‪..‬‬ ‫‪9‬‬


‫أنت تتكلم عن حرية مطلقة‪ ..‬فتقول‪ ..‬أكنت أستطيع أن أخلق نفس ي أبيض أو أسود أو‬ ‫طويال أو قصيرا‪ ..‬هل بإمكاني أن أنقل الشمس من مكانها أو أوقفها في مدارها‪ ..‬أين حريتي؟‬ ‫ونحن نقول له‪ :‬أنت تسأل عن حرية مطلقة‪ ..‬حرية التصرف في الكون وهذه ملك هلل وحده‪..‬‬ ‫َ َ ُّ َ َ ُ ُ َ َ َ َ َ َ ُ َ َ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ان ل ُه ُم ال ِّخ َي َرة))‬ ‫نحن أيضا ال نقول بهذه الحرية ((وربك يخلق ما يشاء ويختار ما ك‬ ‫[القصص‪.]25:‬‬ ‫ليس ألحد الخيرة في مسألة الخلق‪ ،‬ألن هللا هو الذي يخلق ما يشاء ويختار‪..‬‬ ‫ولن يحاسبك هللا على ق َ‬ ‫صرك ولن يعاتبك على طولك ولن يعاقبك ألنك لم توقف الشمس‬ ‫ِّ‬ ‫في مدارها‪ ،‬ولكن مجال املساءلة هو مجال التكليف‪ ..‬وأنت في هذا املجال حر‪ ..‬وهذه هي‬ ‫الحدود التي نتكلم فيها‪..‬‬ ‫أنت حر في أن تقمع شهوتك وتلجم غضبك وتقاوم نفسك وتزجر نياتك الشريرة وتشجع‬ ‫ميولك الخيرة‪..‬‬ ‫أنت تستطيع أن تجود بمالك ونفسك‪..‬‬ ‫أنت تستطيع أن تصدق وأن تكذب‪..‬‬ ‫وتستطيع أن تكف يدك عن املال الحرام‪..‬‬ ‫وتستطيع أن تكف بصرك عن عورات اآلخرين‪..‬‬ ‫وتستطيع أن تمسك لسانك عن السباب والغيبة والنميمة‪..‬‬ ‫في هذا املجال نحن أحرار‪..‬‬ ‫ُ َ ُ‬ ‫حاسب ونسأل‪..‬‬ ‫وفي هذا املجال ن‬ ‫الحرية التي يدور حولها البحث هي الحرية النسبية وليست الحرية املطلقة حرية اإلنسان‬ ‫في مجال التكليف‪..‬‬ ‫وهذه الحرية حقيقة ودليلنا عليها هو شعورنا الفطري بها في داخلنا فنحن نشعر‬ ‫باملسئولية وبالندم على الخطأ‪ ،‬وبالراحة للعمل الطيب‪ ..‬ونحن نشعر في كل لحظة أننا نختار‬ ‫ونوازن بين احتماالت متعددة‪ ،‬بل إن وظيفة عقلنا األولى هي الترجيح واالختيار بين البديالت‪..‬‬

‫‪01‬‬


‫ونحن نفرق بشكل واضح وحاسم بين يدنا وهي ترتعش بالحمى‪ ،‬ويدنا وهي تكتب خطابا‪..‬‬ ‫فنقول إن حركة األولى جبرية قهرية‪ ،‬والحركة الثانية حرة اختيارية‪ ..‬ولو كنا مسيرين في‬ ‫الحالتين ملا استطعنا التفرقة‪..‬‬ ‫ويؤكد هذه الحرية ما نشعر به من استحالة إكراه القلب على ش يء ال يرضاه تحت أي‬ ‫ُ‬ ‫ضغط‪ ..‬فيمكنك أن تكره امرأة بالتهديد والضرب على أن تخلع ثيابها‪ ..‬ولكنك ال تستطيع بأي‬ ‫ضغط أو تهديد أن تجعلها تحبك من قلبها ومعنى هذا أن هللا أعتق قلوبنا من كل صنوف‬ ‫اإلكراه واإلجبار‪ ،‬وأنه فطرها حرة‪..‬‬ ‫ولهذا جعل هللا القلب والنية عمدة األحكام‪ ،‬فاملؤمن الذي ينطق بعبارة الشرك والكفر‬ ‫تحت التهديد والتعذيب ال يحاسب على ذلك طاملا أن قلبه من الداخل مطمئن باإليمان‪ ،‬وقد‬ ‫استثناه هللا من املؤاخذة في قوله تعالى‪(( :‬إ َّال َمن ُأكر َه َو َقل ُب ُه ُمط َِّ‬ ‫اإل َيم ِّان)) [النحل‪.]102:‬‬ ‫ب‬ ‫ن‬ ‫ئ‬ ‫م‬ ‫ِّ ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫والوجه اآلخر من الخلط في هذه املسألة أن بعض الناس يفهم حرية اإلنسان بأنها علو على‬ ‫املشيئة‪ ،‬وانفراد باألمر‪ ،‬فيتهم القائلين بالحرية بأنهم أشركوا باهلل وجعلوا له أندادا يأمرون‬ ‫كأمره‪ ،‬ويحكمون كحكمه‪ ،‬وهذا ما فهمته أنت أيضا‪ ..‬فقلت بتعدد املشيئات‪ ..‬وهو فهم‬ ‫خاطئ‪ ..‬فالحرية اإلنسانية ال تعلو على املشيئة اإللهية‪..‬‬ ‫إن اإلنسان قد يفعل بحريته ما ينافي الرضا اإللهي ولكنه ال يستطيع أن يفعل ما ينافي‬ ‫املشيئة‪..‬‬ ‫هللا أعطانا الحرية أن نعلو على رضاه "فنعصيه"‪ ،‬ولكن لم يعط أحدا الحرية في أن يعلو على‬ ‫مشيئته‪ ..‬وهنا وجه آخر من وجوه نسبية الحرية اإلنسانية‪..‬‬ ‫وكل ما يحدث منا داخل في املشيئة اإللهية وضمنها‪ ،‬وإن خالف الرضا اإللهي وجانب‬ ‫الشريعة‪..‬‬ ‫وحريتنا ذاتها كانت منحة إلهية وهبة منحها لنا الخالق باختياره‪ ..‬ولم نأخذها منه كرها وال‬ ‫غصبا‪..‬‬ ‫إن حريتنا كانت عين مشيئته‪..‬‬ ‫َ‬ ‫ومن هنا معنى اآلية‪َ (( :‬و َما َت َش ُاؤو َن إال أن َي َشاء َّ ُ‬ ‫اّلل)) [اإلنسان‪.]30:‬‬ ‫ِّ‬ ‫‪00‬‬


‫ألن مشيئتنا ضمن مشيئته‪ ،‬ومنحة منه‪ ،‬وهبة من كرمه وفضله‪ ،‬فهي ضمن إرادته ال ثنائية‬ ‫وال تناقض‪ ،‬وال منافسة منا ألمر هللا وحكمه‪..‬‬ ‫والقول بالحرية بهذا املعنى ال ينافي التوحيد‪ ،‬وال يجعل هلل أندادا يحكمون كحكمه ويأمرون‬ ‫كأمره‪ ..‬فإن حرياتنا كانت عين أمره ومشيئته وحكمه‪..‬‬ ‫والوجه الثالث للخلط أن بعض من تناولوا مسألة القضاء والقدر والتسيير والتخيير‪..‬‬ ‫فهموا القضاء والقدر بأنه إكراه لإلنسان على غير طبعه وطبيعته وهذا خطأ وقعت فيه أنت‬ ‫أيضا‪ ..‬وقد نفى هللا عن نفسه اإلكراه بآيات صريحة‪(( :‬إن َّن َشأ ُن َن ّزل َع َليهم ّمن َّ‬ ‫الس َماء َآية‬ ‫ِّ ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫َ َ َّ َ َ ُ ُ َ َ َ‬ ‫اض ِّع َين)) [الشعراء‪..]6:‬‬ ‫خ‬ ‫فظلت أعناقهم لها ِّ‬ ‫ُ‬ ‫واملعنى واضح‪ ..‬أنه كان من املمكن أن نكره الناس على اإليمان باآليات امللزمة‪ ،‬ولكننا لم‬ ‫نفعل‪ ..‬ألنه ليس في سنتنا اإلكراه‪..‬‬ ‫َ‬ ‫(( َال إك َر َاه في ّ‬ ‫الدين َقد َّت َب َّي َن ُّ‬ ‫الرش ُد ِّم َن الغ ّ ِّي)) [البقرة‪.]252:‬‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ ِّ ِّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫آلم َن َمن في األ ض كل ُهم َجميعا أفأ َ‬ ‫نت تكر ُه َّ‬ ‫(( َو َلو شاء َرُّب َك َ‬ ‫الن َ‬ ‫اس َح َّتى َيكونوا ُمؤ ِّم ِّن َين))‬ ‫ر‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫[يونس‪.]77:‬‬ ‫ليس في ُسنة هللا اإلكراه‪..‬‬ ‫والقضاء والقدر ال يصح أن ُيفهم على أنه إكراه للناس على غير طبائعهم‪ ..‬وإنما على‬ ‫العكس‪..‬‬ ‫هللا يقض ي على كل إنسان من جنس نيته‪ ..‬ويشاء له من جنس مشيئته‪ ،‬ويريد له من جنس‬ ‫إرادته‪ ،‬ال ثنائية‪ ..‬تسيير هللا هو عين تخيير العبد‪ ،‬ألنه هللا ّ‬ ‫يسير كل امرئ على هوى قلبه وعلى‬ ‫ِّ‬ ‫مقتض ى نياته‪..‬‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َ ُ ُ َ َ ُّ ُ‬ ‫(( َمن َك َ‬ ‫الدن َيا نؤ ِّت ِّه ِّمن َها))‬ ‫ان ُي ِّر ُيد َحرث اآل ِّخ َر ِّة ن ِّزد ل ُه ِّفي َحرِّث ِّه ومن كان ي ِّريد حرث‬ ‫[الشورى‪.]20:‬‬ ‫((في ُق ُلوبهم َّم َرض َف َز َاد ُه ُم ّ ُ‬ ‫اّلل َم َرضا)) [البقرة‪.]10:‬‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ ِّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫(( َوالذ َ‬ ‫ين اهتدوا َز َاد ُهم ُهدى)) [محمد‪.]17:‬‬ ‫ِّ‬

‫‪02‬‬


‫ُ َ ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ َ ُّ ُ​ُ ُ َ‬ ‫اّلل ِّفي قل ِّوبكم خيرا ُيؤ ِّتكم خيرا ِّّم َّما أ ِّخذ ِّمنكم))‬ ‫وهو يخاطب األسرى في القرآن‪ِّ (( :‬إن يعل ِّم‬ ‫[األنفال‪.]70:‬‬ ‫هللا يقض ي ّ‬ ‫ويقدر‪ ،‬ويجري قضاءه وقدره على مقتض ى النية والقلب‪ ..‬إن شرا فشر وإن خيرا‬ ‫ِّ‬ ‫فخير‪..‬‬ ‫ومعنى هذا أنه ال ثنائية‪ ..‬التسيير هو عين التخيير‪ ..‬وال ثنائية وال تناقض‪..‬‬ ‫هللا ّ‬ ‫يسيرنا إلى ما اخترناه بقلوبنا ونياتنا‪ ،‬فال ظلم وال إكراه وال جبر‪ ،‬وال قهر لنا على غير‬ ‫ِّ‬ ‫طبائعنا‪..‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫(( َف َأ َّما َمن َأع َطى َو َّات َقى * َو َ‬ ‫ص َّد َق ِّبال ُحس َنى * ف َس ُن َي ِّ ّس ُر ُه ِّلل ُيس َرى * َوأ َّما َمن َب ِّخ َل َواس َتغ َنى *‬ ‫َ‬ ‫َ َّ‬ ‫َوكذ َب ِّبال ُحس َنى * ف َس ُن َي ِّ ّس ُر ُه ِّلل ُعس َرى)) [الليل‪..]5:‬‬ ‫(( َو َما َر َمي َت إذ َر َمي َت َو َلك َّن ّ َ‬ ‫اّلل َر َمى)) [األنفال‪.]17:‬‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫هنا تلتقي رمية العبد والرمية َّ‬ ‫املقدرة من الرب‪ ،‬فتكون رمية واحدة‪ ..‬وهذا مفتاح لغز‬ ‫القضاء والقدر‪ ..‬على العبد النية‪ ،‬وعلى هللا التمكين‪ ،‬إن خيرا فخير‪ ،‬وإن شرا فشر‪..‬‬ ‫والحرية اإلنسانية ليست مقدارا ثابتا‪ ،‬ولكنها قدرة نسبية قابلة للزيادة‪..‬‬ ‫اإلنسان يستطيع أن يزيد من حريته بالعلم‪ ..‬باختراع الوسائل واألدوات واملواصالت‬ ‫استطاع اإلنسان أن يطوي األرض‪ ،‬ويهزم املسافات‪ ،‬ويخترق قيود الزمان واملكان‪ ..‬وبدراسة‬ ‫قوانين البيئة استطاع أن يتحكم فيها ويسخرها لخدمته‪ ،‬وعرف كيف يهزم الحر والبرد‬ ‫والظالم‪ ،‬وبذلك يضاعف من حرياته في مجال الفعل‪..‬‬ ‫العلم كان وسيلة إلى كسر القيود واألغالل وإطالق الحرية‪..‬‬ ‫أما الوسيلة الثانية فكانت الدين‪ ..‬االستمداد من هللا بالتقرب منه‪ ..‬واألخذ عنه بالوحي‬ ‫والتلقي والتأييد‪ ..‬وهذه وسيلة األنبياء ومن في دربهم‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫سخر سليمان الجن وركب الريح وكلم الطير بمعونة هللا ومدده‪..‬‬ ‫وشق موس ى البحر‪ ..‬وأحيا املسيح املوتى‪ ..‬ومش ى على املاء‪ ..‬وأبرأ األكمه واألبرص واألعمى‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫ونقرأ عن األولياء أصحاب الكرامات الذين تطوى لهم األرض وتكشف لهم املغيبات‪..‬‬

‫‪03‬‬


‫وهي درجات من الحرية اكتسبوها باالجتهاد في العبادة والتقرب إلى هللا والتحبب إليه‪..‬‬ ‫فأفاض عليهم من علمه املكنون‪..‬‬ ‫إنه العلم مرة أخرى‪..‬‬ ‫ولكنه هذه املرة العلم "اللدني"‪..‬‬ ‫َّ‬ ‫ولهذا ُيلخص أبو حامد الغزالي مشكلة َّ‬ ‫واملسير قائال في كلمتين‪:‬‬ ‫املخير‬ ‫اإلنسان َّ‬ ‫مخير فيما يعلم‪..‬‬ ‫َّ‬ ‫مسير فيما ال يعلم‪..‬‬ ‫وهو يعني بهذا أنه كلما اتسع علمه اتسع مجال حريته‪ ..‬سواء كان العلم املقصود هو العلم‬ ‫ّ‬ ‫اللدني‪..‬‬ ‫املوضوعي أو العلم ِّ‬ ‫ويخطئ املفكرون املاديون أشد الخطأ حينما يتصورون اإلنسان أسير الحتميات التاريخية‬ ‫والطبقية‪ ..‬ويجعلون منه حلقة في سلسلة من الحلقات ال فكاك له‪ ،‬وال مهرب من الخضوع‬ ‫لقوانين االقتصاد وحركة املجتمع‪ ،‬كأنما هو قشة في تيار بال ذراعين وبال إرادة‪..‬‬ ‫والكلمة التي يرددونها وال يتعبون من ترديدها وكأنها قانون‪" :‬حتمية الصراع الطبقي" وهي‬ ‫كلمة خاطئة في التحليل العلمي‪ ،‬ألنه ال حتميات في املجال اإلنساني‪ ،‬وإنما على األكثر‬ ‫ترجيحات واحتماالت‪ ..‬وهذا هو الفرق بين اإلنسان‪ ،‬وبين التروس‪ ،‬واآلالت واألجسام‬ ‫املادية‪ ..‬فيمكن التنبوء بخسوف الشمس بالدقيقة والثانية‪ ،‬ويمكن التنبؤ بحركاتها‬ ‫املستقبلة على مدى أيام وسنين‪ ..‬أما اإلنسان فال يمكن أن يعلم أحد ماذا ُيضمر وماذا ُيخبئ‬ ‫في نياته‪ ،‬وماذا يفعل غدا أو بعد غد‪ ..‬وال يمكن معرفة هذا إال على سبيل االحتمال والترجيح‬ ‫والتخمين‪ ،‬وذلك على فرض توفر املعلومات الكافية للحكم‪..‬‬ ‫وقد أخطأت جميع تنبؤات كارل ماركس‪ ،‬فلم تبدأ الشيوعية في بلد متقدم كما تنبأ‪ ،‬بل في‬ ‫بلد متخلف‪ ،‬ولم يتفاقم الصراع بين الرأسمالية والشيوعية‪ ،‬بل تقارب االثنان إلى حالة من‬ ‫التعايش السلمي‪ ،‬وأكثر من هذا فتحت البالد الشيوعية أبوابها لرأس املال األمريكي‪ ..‬ولم‬ ‫تتصاعد التناقضات في املجتمع الرأسمالي إلى اإلفالس الذي توقعه كارل ماركس‪ ،‬بل على‬

‫‪04‬‬


‫العكس‪ ،‬ازدهر االقتصاد الرأسمالي ووقع الشقاق والخالف بين أطراف املعسكر االشتراكي‬ ‫ذاته‪..‬‬ ‫أخطأت حسابات ماركس جميعها دالة بذلك على خطأ منهجه الحتمي‪ ..‬ورأينا صراع‬ ‫العصر الذي يحرك التاريخ هو الصراع الالطبقي بين الصين وروسيا‪ ،‬وليس الصراع الطبقي‬ ‫الذي جعله ماركس عنوان منهجه‪ ..‬وكلها شواهد على فشل الفكر املادي في فهم اإلنسان‬ ‫والتاريخ‪ ،‬وتخبطه في حساب املستقبل‪ ..‬وجاء كل ذلك نتيجة خطأ جوهري‪ ،‬هو أن الفكر‬ ‫املادي َّ‬ ‫تصور أن اإلنسان ذبابة في شبكة من الحتميات‪ ..‬ونس ي تماما ّأن اإلنسان حر‪ ..‬وأن‬ ‫حريته حقيقة‪..‬‬ ‫ّأما كالم املاديين عن حكم البيئة واملجتمع والظروف‪ ،‬وأن اإلنسان ال يعيش وحده وال‬ ‫تتحرك حريته في فراغ‪..‬‬ ‫نقول ر ّدا على هذا الكالم‪ :‬إن حكم البيئة واملجتمع والظروف كمقاومات للحرية الفردية‬ ‫إنما يؤكد املعنى الجدلي لهذه الحرية وال ينفيه‪ ..‬فالحرية الفردية‪ ..‬ال تؤكد ذاتها إال في وجه‬ ‫مقاومة تزحزحها‪..‬‬ ‫أما إذا كان اإلنسان يتحرك في فراغ بال مقاومة من أي نوع فإنه ال يكون حرا باملعنى املفهوم‬ ‫للحرية‪ ،‬ألنه لن تكون هناك عقبة يتغلب عليها ويؤكد حريته من خاللها‪..‬‬

‫‪05‬‬


‫الفصل الثالث‪ :‬ملاذا خلق اهلل الشر؟‬ ‫قال صاحبي ساخرا‪:‬‬ ‫كيف تزعمون أن إلهكم كامل ورحمن ورحيم وكريم ورءوف وهو قد خلق كل هذه الشرور‬ ‫في العالم‪ ..‬املرض والشيخوخة واملوت والزلزال والبركان وامليكروب والسم والحر والزمهرير‬ ‫وآالم السرطان التي ال تعفي الطفل الوليد وال الشيخ الطاعن‪.‬‬ ‫إذا كان هللا محبة وجماال وخيرا فكيف يخلق الكراهية والقبح والشر‪.‬‬ ‫واملشكلة التي أثارها صاحبي من املشاكل األساسية في الفلسفة وقد انقسمت حولها مدارس‬ ‫الفكر واختلفت حولها اآلراء‪.‬‬ ‫ونحن نقول أن هللا كله رحمة وكله خير وأنه لم يأمر بالشر ولكنه سمح به لحكمة‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ​َ َ َ ُ َ‬ ‫َّ ّ َ َ َ ُ ُ َ َ َ َ ُ ُ َن َ َ ّ‬ ‫اّلل َما ال تعل ُمون * قل أ َم َر َرِّ​ّبي ِّبال ِّقس ِّط َوأ ِّق ُيموا‬ ‫(( ِّإن اّلل ال يأمر ِّبالفحشاء أتقولو على ِّ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ ُ َ ُ‬ ‫ند ك ِّ ّل َمس ِّجد)) [األعراف‪.]27-25:‬‬ ‫وهكم ِّع‬ ‫وج‬ ‫هللا ال يأمر إال بالعدل واملحبة واإلحسان والعفو والخير وهو ال يرض ى إال بالطيب‪.‬‬ ‫فلماذا ترك الظالم يظلم والقاتل يقتل والسارق يسرق؟‬ ‫ألن هللا أرادنا أحرارا‪ ..‬والحرية اقتضت الخطأ وال معنى للحرية دون أن يكون لنا حق التجربة‬ ‫والخطأ والصواب‪ ..‬واالختيار الحر بين املعصية والطاعة‪.‬‬ ‫وكان في قدرة هللا أن يجعلنا جميعا أخيارا وذلك بأن يقهرنا على الطاعة قهرا وكان ذلك‬ ‫يقتض ي أن يسلبنا حرية االختيار‪.‬‬ ‫وفي دستور هللا وسنته أن الحرية مع األلم أكرم لإلنسان من العبودية مع السعادة‪ ..‬ولهذا‬ ‫تركنا نخطيء ونتألم ونتعلم وهذه هي الحكمة في سماحه بالشر‪.‬‬ ‫ومع ذلك فإن النظر املنصف املحايد سوف يكشف لنا أن الخير في الوجود هو القاعدة‬ ‫وأن الشر هو االستثناء‪..‬‬ ‫فالصحة هي القاعدة واملرض استثناء ونحن نقض ي معظم سنوات عمرنا في صحة وال‬ ‫يزورنا املرض إال أياما قليلة‪ ..‬وباملثل الزالزل هي في مجملها بضع دقائق في عمر الكرة األرضية‬ ‫‪06‬‬


‫الذي يحص ى بماليين السنين وكذلك البراكين وكذلك الحروب هي تشنجات قصيرة في حياة‬ ‫األمم بين فترات سالم طويلة ممتدة‪.‬‬ ‫ثم أننا نرى لكل ش يء وجه خير فاملرض يخلف وقاية واأللم يربي الصالبة والجلد والتحمل‬ ‫والزالزل تنفس عن الضغط املكبوت في داخل الكرة األرضية وتحمي القشرة األرضية من‬ ‫االنفجار وتعيد الجبال إلى أماكنها كأحزمة وثقاالت تثبت القشرة األرضية في مكانها‪ ،‬والبراكين‬ ‫تنفث املعادن والثروات الخبيثة الباطنة وتكسو األرض بتربة بركانية خصبة‪ ..‬والحروب تدمج‬ ‫األمم وتلقح بينها وتجمعها في كتل وأحالف ثم في عصبة أمم ثم في مجلس أمن هو بمثابة‬ ‫محكمة عاملية للتشاكي والتصالح‪ ..‬وأعظم االختراعات خرجت أثناء الحروب‪ ..‬البنسلين الذرة‬ ‫الصواريخ الطائرات النفاثة كلها خرجت من أتون الحروب‪.‬‬ ‫ومن سم الثعبان يخرج الترياق‪.‬‬ ‫ومن امليكروب نصنع اللقاح‪.‬‬ ‫ولوال أن أجدادنا ماتوا ملا كنا اآلن في مناصبنا‪ ،‬والشر في الكون كالظل في الصورة إذا اقتربت‬ ‫منه خيل إليك أنه عيب ونقص في الصورة‪ ..‬ولكن إذا ابتعدت ونظرت إلى الصورة ككل نظرة‬ ‫شاملة اكتشفت أنه ضروري وال غنى عنه وأنه يؤدي وظيفة جمالية في البناء العام للصورة‪.‬‬ ‫وهل كان يمكننا أن نعرف الصحة لوال املرض‪ ..‬إن الصحة تظل تاجا على رؤوسنا ال نراه وال‬ ‫نعرفه إال حينما نمرض‪.‬‬ ‫وباملثل ما كان ممكنا أن نعرف الجمال لوال القبح وال الوضع الطبيعي لوال االشاذ‪.‬‬ ‫ولهذا يقول الفيلسوف أبو حامد الغزالي‪ :‬إن نقص الكون هو عين كماله مثل اعوجاج القوس‬ ‫هو عين صالحيته ولو أنه استقام ملا رمى‪.‬‬ ‫وظيفة أخرى للمشقات واآلالم‪ ..‬أنها هي التي تفرز الناس وتكشف معادنهم‪.‬‬ ‫لوال املشقة ساد الناس كلهم‪ . ..‬الجود يفقر واإلقدام قتال‬ ‫إنها االمتحان الذي نعرف به أنفسنا‪ ..‬واالبتالء الذي تتحدد به مراتبنا عند هللا‪.‬‬ ‫ثم إن الدنيا كلها ليست سوى فصل واحد من رواية سوف تتعدد فصولها فاملوت ليس‬ ‫نهاية القص ولكن بدايتها‪.‬‬ ‫‪07‬‬


‫وال يجوز أن نحكم على مسرحية من فصل واحد وال أن نرفض كتابا ألن الصفحة األولى لم‬ ‫تعجبنا‪.‬‬ ‫الحكم هنا ناقص‪..‬‬ ‫وال يمكن استطالع الحكمة كلها إال في آخر املطاف‪ ..‬ثم ما هو البديل الذي يتصوره السائل‬ ‫الذي يسخر منا؟!‬ ‫هل يريد أن يعيش حياة بال موت بال مرض بال شيخوخة بال نقص بال عجز بال قيود بال‬ ‫أحزان بال آالم‪.‬‬ ‫هل يطلب كماال مطلقا؟!‬ ‫ولكن الكمال املطلق هلل‪.‬‬ ‫والكامل واحد ال يتعدد‪ ..‬وملاذا يتعدد‪ ..‬وماذا ينقصه ليجده في واحد آخر غيره؟!‬ ‫معنى هذا أن صاحبنا لن يرضيه إال أن يكون هو هللا ذاته وهو التطاول بعينه‪.‬‬ ‫ودعونا نسخر منه بدورنا‪ ..‬هو وأمثاله ممن ال يعجبهم ش يء‪.‬‬ ‫هؤالء الذين يريدونها جنة‪..‬‬ ‫ماذا فعلوا ليستحقونها جنة؟‬ ‫وماذا قدم صاحبنا لإلنسانية ليجعل من نفسه هللا الواحد القهار الذي يقول للش يء كن‬ ‫فيكون‪.‬‬ ‫إن جدتي أكثر ذكاء من األستاذ الدكتور املتخرج من فرنسا حينما تقول في بساطة‪" :‬خير‬ ‫من هللا شر من نفوسنا"‪.‬‬ ‫إنها كلمات قليلة ولكنها تلخيص أمين للمشكلة كلها‪..‬‬ ‫فاهلل أرسل الرياح وأجرى النهر ولكن ربان السفينة الجشع مأل سفينته بالناس والبضائع‬ ‫بأكثر مما تحتمل فغرقت فمض ى يسب هللا والقدر‪ ..‬وما ذنب هللا؟!‪ ..‬هللا أرسل الرياح رخاء‬ ‫وأجرى النهر خيرا‪ ..‬ولكن جشع النفوس وطمعها هو الذي قلب هذا الخير شرا‪.‬‬ ‫ما أصدقها من كلمات جميلة طيبة‪..‬‬ ‫"خير من هللا شر من نفوسنا"‪.‬‬ ‫‪08‬‬


‫الفصل الرابع‪ :‬وما ذنب الذي مل يصله قرآن؟‬ ‫هرش صاحبنا الدكتور رأسه‪..‬‬ ‫كان من الواضح أنه يبحث لي في الدكتوراه عن حفرة أو مطب يدق عنقي فيه‪ ..‬ثم قال في‬ ‫هدوء وهو يرتب كلماته‪:‬‬ ‫حسنا‪ ..‬وما رأيك في هذا اإلنسان الذي لم يصله قرآن ولم ينزل عليه كتاب‪ ..‬ولم يأته نبي‪..‬‬ ‫ما ذنبه‪ ..‬وما مصيره عندكم يوم الحساب‪ ..‬مثل اسكيمو في أقاص ي القطبين‪ ..‬أو زنجي في‬ ‫الغابات‪ ..‬ماذا يكون حظه بين يدي إلهكم يوم القيامة‪.‬‬ ‫قلت له‪:‬‬ ‫دعني أصحح معلوماتك أوال‪ ..‬فقد بنيت أسئلتك على مقدمة خاطئة‪ ..‬فاهلل أخبرنا بأنه لم‬ ‫يحرم أحدا من رحمته ووحيه وكلماته وآياته‪.‬‬ ‫ُ َّ َ‬ ‫َ‬ ‫(( َوِّإن ِّّمن أ َّمة ِّإال خال ِّف َيها ن ِّذير)) [فاطر‪.]26:‬‬ ‫ُ ُ‬ ‫َ​َ‬ ‫(( َولقد َب َعث َنا ِّفي ك ِّ ّل أ َّمة َّر ُسوال)) [النحل‪.]32:‬‬ ‫والرسل الذين جاء ذكرهم في القرآن ليسوا كل الرسل‪..‬‬ ‫وإنما هناك آالف غيرهم ال نعلم عنهم شيئا‪ ..‬وهللا يقول لنبيه عن الرسل‪:‬‬ ‫َ‬ ‫((من ُهم َّمن َق َ‬ ‫صص َنا َع َلي َك َومن ُهم َّمن َّلم َنق ُ‬ ‫صص َعلي َك)) [غافر‪.]75:‬‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫وهللا يوحي إلى كل ش يء حتى النحل‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َ ُّ َ َ‬ ‫َ ُ ُ َ َ َّ َ َ َّ َ ُ نَ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫((وأوحى ربك ِّإلى النح ِّل أ ِّن ات ِّخ ِّذي ِّمن ال ِّجب ِّال بيوتا و ِّمن الشج ِّر و ِّمما يع ِّرشو ))‬ ‫[النحل‪.]25:‬‬ ‫وقد يكون الوحي كتابا يلقيه جبريل‪ ..‬وقد يكون نورا يلقيه هللا في قلب العبد‪ ..‬وقد يكون‬ ‫انشراحا في الصدر‪ ..‬وقد يكون حكمة وقد يكون حقيقة وقد يكون فهما وقد يكون خشوعا‬ ‫ورهبة وتقوى‪.‬‬ ‫وما من أحد يرهف قلبه ويرهف سمعه إال ويتلقى من هللا فضال‪.‬‬ ‫أما الذين يصمون آذانهم وقلوبهم فال تنفعهم كتب وال رسل وال معجزات ولو كثرت‪.‬‬ ‫‪09‬‬


‫وهللا قال أنه يختص برحمته من يشاء‪ ..‬وأنه ال يسأل عما يفعل‪.‬‬ ‫وقد يريد هللا لحكمة أن ينذر أحدا وأن يعذر آخر فيقبل منه أهون اإليمان‪.‬‬ ‫ومن يدرينا‪ ..‬ربما كانت مجرد لفته من ذلك الزنجي البدائي إلى السماء في رهبة هي عند هللا‬ ‫منجية ومقبولة أكثر من صالتنا‪.‬‬ ‫على أن القراءة املتأملة ألديان هؤالء الزنوج البدائيين تدل على أنه كان لهم رسل ورساالت‬ ‫سماوية مثل رساالتنا‪.‬‬ ‫في قبيلة املاو ماو مثال نقرأ أنهم يؤمنون بإله يسمونه "موجايى" ويصفونه بأنه واحد أحد‬ ‫لم يلد ولم يولد وليس له كفو وال شبيه‪ ..‬وأنه ال يرى وال يعرف إال من آثاره وأفعاله‪ ..‬وأنه‬ ‫خالق رازق وهاب رحيم يشفي املريض وينجد املأزوم وينزل املطر ويسمع الدعاء ويصفونه‬ ‫بأن البرق خنجره والرعد وقع خطاه‪.‬‬ ‫أليس هذا الـ"موجايى" هو إلهنا بعينه‪ ..‬ومن أين جاءهم هذا العلم إال أن يكون في تاريخهم‬ ‫رسول ومبلغ جاء به‪ ..‬ثم تقادم عليه العهد كاملعتاد فدخلت الخرافات والشعوذات فشوهت‬ ‫هذا النقاء الديني‪.‬‬ ‫وفي قبيلة نيام نيام نقرأ أنهم يؤمنون بإله واحد يسمونه "مبولي" ويقولون أن كل ش يء في‬ ‫الغابة يتحرك بإرادة "مبولي" وأنه يسلط الصواعق على األشرار من البشر‪ ..‬ويكافئ األخيار‬ ‫بالرزق والبرة واألمان‪.‬‬ ‫وفي قبيلة الشيلوك يؤمنون بإله واحد يسمونه "جوك" ويصفونه بأنه خفي وظاهر‪ ..‬وأنه‬ ‫في السماء وفي كل مكان وأنه خالق كل ش يء‪.‬‬ ‫وفي قبيلة الدنكا يؤمنون بإله واحد يسمونه "نياالك" وهي كلمة ترجمتها الحرفية‪ ..‬الذي في‬ ‫السماء‪ ..‬أو األعلى‪.‬‬ ‫ماذا نسمي هذه العقائد إال أنها إسالم‪.‬‬ ‫وماذا تكون إال رساالت كان لها في تاريخ هؤالء األقوام رسل‪.‬‬ ‫إن الدين لواحد‪.‬‬

‫‪21‬‬


‫َّ َّ َ َ ُ َ َّ َ َ ُ َ َّ َ َ ى َ َّ َ َ َ َ َّ‬ ‫اّلل َوال َ‬ ‫اآلخ ِّر َو َع ِّم َل‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ي‬ ‫ِّ ِّ‬ ‫(( ِّإن ال ِّذين آمنوا وال ِّذين هادوا والنصار والص ِّاب ِّئين من آمن ِّب ِّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ َ‬ ‫صالحا َف َل ُهم َأج ُر ُهم ع َ‬ ‫َ‬ ‫ند َ ِّرّب ِّهم َوال خوف َعلي ِّهم َوال ُهم َيح َزنون)) [البقرة‪.]22:‬‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫حتى الصابئين الذين عبدوا الشمس على أنها آية من آيات هللا وآمنوا باهلل الواحد وباآلخرة‬ ‫والبعث والحساب وعملوا الصالحات فلهم أجرهم عند ربهم‪.‬‬ ‫ومعلوم أن رحمة هللا تتفاوت‪.‬‬ ‫وهناك من يولد أعمى وهناك من يولد مبصرا وهناك من عاش أيام موس ى ورآه رأي العين‬ ‫وهو يشق البحر بعصاه‪ ..‬وهناك من عاش أيام املسيح ورآه يحيى املوتى‪ ..‬أما نحن فال نعلم‬ ‫عن هذه اآليات إال سمعا‪ ..‬وليس الخبر كالعيان‪ ..‬وليس من رأي كمن سمع‪.‬‬ ‫ومع ذلك فاإليمان وعدمه ليس رهنا باملعجزات‪.‬‬ ‫واملكابرون املعاندون يرون العجب من أنبيائهم فال يزيد قولهم على أن هذا ((سحر‬ ‫مفترى))‪.‬‬ ‫وال شك أن صاحبنا الدكتور القادم من فرنسا قد بلغه من الكتب ثالثة‪ ..‬توراة وإنجيل‬ ‫وقرآن وبلغته‪ ..‬فلم تزده هذه الكتب إال إغراقا في الجدل‪ ..‬وحتى يهرب من املوقف كله أحاله‬ ‫على شخص مجهول في الغابات لم ينزل عليه كتاب‪ ..‬وراح يسألنا‪ ..‬وما بالكم بهذا الرجل الذي‬ ‫لم يصله قرآن ولم ينزل عليه كتاب‪ ..‬ملتمسا بذلك ثغرة في العدل اإللهي أو موهما نفسه بأن‬ ‫املسألة كلها عبث‪.‬‬ ‫وهو لذلك يسألنا‪ :‬وملاذا تتفاوت رحمة هللا‪ ..‬ملاذا يشهد هللا واحدا على آياته‪ ..‬وال يدري آخر‬ ‫بتلك اآليات إال سمعا‪.‬‬ ‫ونحن نقول أنها قد ال تكون رحمة بل نقمة ألم يقل هللا ألتباع املسيح الذين طلبوا نزول‬ ‫ّ ُ َ ُّ َ َ َ ُ َ َ َ ُ َ ُ ُ‬ ‫نكم َفإ ّني ُأ َع ّذ ُب ُه َع َذابا َّال ُأ َع ّذ ُبهُ‬ ‫مائدة من السماء محذرا‪ِّ (( :‬إ ِّني من ِّزلها عليكم فمن يكفر بعد ِّم‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ ِّ‬ ‫َ َ ّ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫أحدا ِّمن الع ِّاملين)) [املائدة‪.]115:‬‬ ‫ذلك ألنه مع نزول املعجزات يأتي دائما تشديد العذاب ملن يكفر‪.‬‬ ‫وطوبى ملن آمن بالسماع ودون أن يرى معجزة‪.‬‬ ‫والويل للذين شاهدوا ولم يؤمنوا‪.‬‬ ‫‪20‬‬


‫فالقرآن في يدك حجة عليك ونذير‪ ..‬ويوم الحساب يصبح نقمة ال رحمة‪.‬‬ ‫وعدم إقامة هذه الحجة البينة على االسكيمو ساكن القطبين قد يكون إعفاء وتخفيفا‬ ‫ورحمة ومغفرة يوم الحساب‪ ..‬وقد تكون لفتة إلى السماء من هذا االسكيمو الجاهل ذات‬ ‫ساعة في عمره‪ ..‬عند هللا كافية لقبوله مؤمنا مخلصا‪.‬‬ ‫أما ملاذا يرحم هللا واحدا أكثر مما يرحم آخر فهو أمر يؤسسه هللا على علمه بالقلوب‪..‬‬ ‫َ َ َ َ َّ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ​َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫((ف َع ِّل َم َما ِّفي ُقل ِّوب ِّهم فأنزل‬ ‫الس ِّك َينة َعلي ِّهم َوأث َاب ُهم فتحا ق ِّريبا)) [الفتح‪.]15:‬‬ ‫وعلم هللا بنا وبقلوبنا يمتد إلى ما قبل نزولنا في األرحام حينما كنا عنده أرواحا حول عرشه‪..‬‬ ‫فمنا من التف حول نوره‪ ..‬ومنا من انصرف عنه مستمتعا بامللكوت وغافال عن جمال خالقه‪..‬‬ ‫فاستحق الرتبة الدنيا من ذلك اليوم وسبق عليه القول‪ ..‬هذا كالم أهل املشاهدة‪.‬‬ ‫وما نراه من تاريخنا القصير في الدنيا ليس كل ش يء‪..‬‬ ‫ومعرفة الحكمة من كل ألم وحرمان أمر ال يعلمه إال العليم‪.‬‬ ‫والذي يسألني‪ ..‬ملاذا خلق هللا الخنزير خنزيرا‪ ..‬ال أملك إال أن أجيبه بأن هللا اختار له ثوبا‬ ‫خنزيريا ألن نفسه خنزيرية وأن خلقه هكذا حق وعدل‪.‬‬ ‫وكل ما نرى حولنا من استحقاقات هي عدل لكن معرفة الحكمة الكلية وإماطة اللثام عن‬ ‫هذا العدل أمر ليس في مقدور كل واحد‪.‬‬ ‫ولعل لهذا السبب هناك آخرة‪ ..‬ويوم تنصب فيه املوازين وينبئنا العليم بكل ما اختلفنا فيه‪.‬‬ ‫ومع هذا فسوف أريحك بالكلمة الفصل‪ ..‬فقد قال هللا في كتابه أنه لن يعذب إال من أنذرهم‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ّ‬ ‫بالرسل‪َ (( ..‬و َما ك َّنا ُم َع ِّذ ِّب َين َح َّتى نب َعث َر ُسوال)) [اإلسراء‪.]15:‬‬ ‫هل أرحت واسترحت‪..‬‬ ‫ثم دعني أقول لك يا صاحبي‪..‬‬ ‫إن أعجب ما في سؤالك أن ظاهره يوهم باإليمان واإلشفاق على الزنجي املسكين الذي فاته‬ ‫ما في القرآن من نور ورحمة وهدى‪ ..‬مع أن حقيقتك هي الكفر بالقرآن وبنوره ورحمته‬ ‫وهداه‪ ..‬فسؤالك أقرب ما يكون إلى االستدراج واملخادعة وفيه مناقضة للنفس هي "اللكاعة"‬ ‫بعينها‪ ..‬فأنت تحاول أن تقيم علينا حجة هي عندك ليس لها أي حجة‪.‬‬ ‫‪22‬‬


‫أال ترى معي يا صاحبي أن جهاز املنطق عندك في حاجة إلى إصالح‪.‬‬

‫‪23‬‬


‫الفصل اخلامس‪ :‬اجلنة والنار‬ ‫كان صديقنا الدكتور واثقا من نفسه كل الثقة هذه املرة وهو يلوك الكلمات ببطء ليلقي‬ ‫بالقنبلة‪:‬‬ ‫كيف يعذبنا هللا وهو الرحمن الرحيم على ذنب محدود في الزمن بعذاب ال محدود في األبد‬ ‫((النار خالدين فيها أبدا))‪.‬‬ ‫ومن نحن وماذا نساوي بالنسبة لعظمة هللا حتى ينتقم منا هذا االنتقام‪..‬‬ ‫وما اإلنسان إال ذرة أو هبأة في الكون وهو بالنسبة لجالل هللا أهون من ذلك بكثير‪ ..‬بل هو‬ ‫الالش يء بعينه‪.‬‬ ‫ونحن نصحح معلومات الدكتور فنقول‪:‬‬ ‫إننا لسنا ذرة وال هبأة في الكون‪ ..‬وإن شأننا عند هللا ليس هينا بل عظيما‪..‬‬ ‫ألم ينفخ فينا من روحه‪..‬‬ ‫ألم يسجد لنا املالئكة‪..‬‬ ‫ألم يعدنا بميراث السماوات واألرض ويقول عنا‪(( :‬ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر‬ ‫والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيال))‪.‬‬ ‫إن فينا إذا من روح هللا‪.‬‬ ‫ونحن بالنسبة للكون لسنا ذرة وال هبأة‪..‬‬ ‫إننا نبدو بالنظر إلى أجسادنا كذرة أو هبأة بالنسبة للكون الفسيح الواسع‪.‬‬ ‫ولكن أال نحتوي على هذا الكون ونستوعبه بعقلنا وندرك قوانينه وأفالكه ونرسم لكل‬ ‫كوكب مداره‪ ..‬ثم ينزل رائد الفضاء على القمر فيكتشف أن كل ما استوعبناه بعقلنا على‬ ‫األرض كان صحيحا‪ ..‬وكل ما رسمناه كان دقيقا‪.‬‬ ‫أال يدل هذا على أننا بالنظر إلى روحنا أكبر من الكون وأننا نحتوي عليه وأن الشاعر كان‬ ‫على حق حينما خاطب اإلنسان قائال‪:‬‬ ‫وفيك انطوى العالم األكبر‬ ‫وتحسب أنك جرم صغير‬ ‫‪24‬‬


‫وإن اإلنسان كما يقول الصوفية هو الكتاب الجامع والكون صفحاته‪.‬‬ ‫إذا اإلنسان عظيم الشأن كبير الخطر‪.‬‬ ‫وهو من روح هللا‪.‬‬ ‫وأعماله تستوجب املحاسبة‪.‬‬ ‫أما عن الذنب املحدود في الزمان الذي يحاسبنا هللا عليه بعذاب الالمحدود في األبد‪..‬‬ ‫فمغالطة أخرى وقع فيها الدكتور العزيز الواثق من نفسه‪.‬‬ ‫فاهلل يقول عن هؤالء املخلدين في النار حينما يطلبون العودة إلى الدنيا ليعملوا غير ما‬ ‫عملوا‪..‬‬ ‫يقول سبحانه‪(( :‬ولو ردوا لعادوا ملا نهوا عنه وإنهم لكاذبون))‪.‬‬ ‫أي أن ذنبهم ليس ذنبا محدودا في الزمان بل هو خصلة ثابتة سوف تتكرر في كل زمان‪ ..‬ولو‬ ‫ردوا لعادوا إلى ذنبهم وإنهم لكاذبون‪.‬‬ ‫هي إذن صفحة مؤبدة في النفس وليست سقطة عارضة في ظرف عارض في الدنيا‪.‬‬ ‫وهو يقول عنهم في مكان آخر‪(( :‬يوم يبعثهم هللا جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم‬ ‫ويحسبون أنهم على ش يء‪ ..‬أال إنهم هم الكاذبون))‪.‬‬ ‫هنا لون آخر من اإلصرار والتحدي يصل إلى أنهم يواجهون هللا بالكذب والحلف الكذب‬ ‫وهم بين يديه يوم املوقف العظيم يوم ترفع الحجب وينكشف الغطاء‪..‬‬ ‫وهذا غاية الجبروت والصلف‪.‬‬ ‫ولسنا هنا أمام ذنب محدود في الزمان‪ .‬بل أمام ذنب مستمر في الزمان وبعد أن يطوى‬ ‫الزمان وكل زمان‪..‬‬ ‫نحن هنا أمام نفس تحمل معها شرها األبدي‪.‬‬ ‫ومن هنا كان تأبيد العذاب لهذه النفس عدال‪.‬‬ ‫ولهذا تقول عنهم اآلية في صراحة‪(( :‬وما هم بخارجين من النار))‪.‬‬ ‫ويقول ابن عربي‪ :‬إن الرحمة بالنسبة لهؤالء أنهم سوف يتعودون على النار‪ ..‬وتصبح تلك‬ ‫النار في اآلباد املؤبدة بيئتهم املالئمة‪.‬‬ ‫‪25‬‬


‫وال شك أن هناك مجانسة بين بعض النفوس املجرمة وبين النار‪..‬‬ ‫فبعض تلك النفوس هي في حقيقتها شعلة حسد وحقد وشهوة وغيرة وغل وضرام من‬ ‫الغضب والنقمة والثورة واملشاعر اإلجرامية املحتدمة وكأنها نار بالفعل‪.‬‬ ‫مثل تلك النفوس ال تستطيع أن تعيش في سالم‪ ..‬وال تستطيع أن تحيا ساعة دون أن تشعل‬ ‫حولها حربا‪ ..‬ودون أن تضرم حولها النيران‪ ..‬ألن النيران هي بيئتها وطبيعتها‪.‬‬ ‫ومثل تلك النفوس يكون قرارها في النار هو الحكم العدل ويكون هذا املصير من قبيل وضع‬ ‫الش يء في مكانه‪..‬‬ ‫فلو أنها أدخلت الجنة ملا تذوقتها‪.‬‬ ‫ألم تكن ترفض السالم في األرض؟‬ ‫وينبغي أن نفهم النار والجنة في اآلخرة فهما واسع األفق‪..‬‬ ‫فالنار في اآلخرة ليست شواية‪ .‬وليس ما يجري فيها هو الحريق باملعنى الدنيوي فاهلل يقول‬ ‫إن املذنبين يتكلمون ويتالعنون وأن النار فيها شجرة لها ثمر‪..‬‬ ‫هي شجرة الزقوم التي تخرج من أصل الجحيم‪ ..‬كما أن فيها ماء حميما يشرب منه املعذبون‪.‬‬ ‫مثل تلك النار التي فيها شجرة الزقوم وفيها ماء‪..‬‬ ‫ويتكلم فيها الناس فال بد أنها نار غير النار‪(( :‬كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا‬ ‫فيها جميعا قالت أخراهم ألوالهم ربنا هؤالء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل‬ ‫ضعف ولكن ال تعلمون))‪.‬‬ ‫إنهم يتكلمون وهم في النار وهي نار‪(( :‬وقودها الناس والحجارة))‪.‬‬ ‫هذه النار إذا من قبيل الغيب‪..‬‬ ‫وما ورد عنها إشارات‪.‬‬ ‫وال يجب أن يفهم من هذا الكالم أننا ننكر العذاب الحس ي ونقول بالعذاب املعنوي‪ ..‬فإن‬ ‫العذاب الحس ي صريح ال يجوز الشك فيه ونحن نؤمن بوجوده‪ ..‬وإنما نقول إن تفاصيل هذا‬ ‫العذاب وكيفيته‪ ..‬كما أن كيفية تلك النار وأوصافها التفصيلية‪ ..‬هي غيب مجهول‪ ..‬فهي على‬

‫‪26‬‬


‫ما يبدو في اإلشارات القرآنية‪ ..‬نار غير النار‪ ..‬كما أن أجسامنا في تحملها لتلك النار هي غير‬ ‫األجسام الترابية الهشة التي لنا اآلن‪. ..‬‬ ‫ونفس الش يء في الجنة‪ ..‬فهي ليست سوق خضار وبلح ورمان وعنب‪..‬‬ ‫وإنما تلك األوصاف القرآنية هي مجرد إشارات وضرب أمثلة وتقريب إلى األذهان‪(( ..‬مثل‬ ‫الجنة التي وعد املتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه))‪..‬‬ ‫"مثل الجنة"‪ ..‬أي أننا نضرب مثال يقرب فهم الجنة إليك‪ ،‬ولكن الحقيقة أن التفاصيل‬ ‫غيب‪..‬‬ ‫((فال تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون))‪..‬‬ ‫((جنة عرضها السموات واألرض))‪..‬‬ ‫فهي ال يمكن أن تكون مجرد حديقة‪..‬‬ ‫((وفاكهة كثيرة ال مقطوعة وال ممنوعة))‪..‬‬ ‫فهي غير فاكهتنا املقطوعة واملمنوعة‪ ..‬وخمر‪..‬‬ ‫((ال يصدعون عنها وال ينزفون))‪..‬‬ ‫فهي غير خمرنا التي تصدع الرأس وتنزف العقل‪..‬‬ ‫ويقول القرآن عن أهل الجنة‪..‬‬ ‫((ونزعنا ما في صدورهم من غل))‪..‬‬ ‫ها هنا نفوس طهرت بطريقة ال نعلمها‪.‬‬ ‫الجنة إذا هي األخرى غيب وليس في هذا الكالم أي إنكار للنعيم الحس ي فنحن نؤمن بأن‬ ‫الجنة نعيم حس ي ومعنوي معا كما أن النار عذاب حس ي ومعنوي ولكن ما نريد تأكيده أن‬ ‫تفاصيل هذا النعيم أو العذاب وكيفياته غيب‪.‬‬ ‫وأن الجنة ليست سوقا للفاكهة والخضار وال النار فرنا لشوي اللحم‪.‬‬ ‫وإن التعذيب في اآلخرة ليس تجبرا من هللا على عباده وإنما هو تطهير وتعريف وتقويم‬ ‫ورحمة‪.‬‬ ‫((ما يفعل هللا بعذابكم إن شكرتم وآمنتم))‪..‬‬ ‫‪27‬‬


‫فاألصل هو عدم العذاب‪..‬‬ ‫وهللا ال يعذب العارف املؤمن وإنما ينصب عذابه على الجاحد املنكر الذي فشلت معه كل‬ ‫وسائل الهداية والتعريف والتفهيم‪.‬‬ ‫((ولنذيقنهم من العذاب األدنى دون العذاب األكبر لعلهم يرجعون))‪..‬‬ ‫سنة هللا أن يذيق هؤالء من العذاب األصغر في الدنيا إليقاظهم من غفلتهم وإلزعاجهم من‬ ‫هذا املم والسبات‪(( ..‬لعلهم يرجعون))‪..‬‬ ‫فإذا لم تفلح كل الوسائل‪..‬‬ ‫وظل املنكر على إنكاره لم يبق إال مواجهته بالعذاب الحق لتعريفه‪..‬‬ ‫والتعريف بالحق هو عين الرحمة‪..‬‬ ‫ولو أن هللا تركهم على عماهم وجهلهم وأهملهم لكان في حقه ظلما‪..‬‬ ‫سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا‪ ..‬فالعرض على النار بالنسبة لهؤالء الجهال‪ ..‬عناية‪.‬‬ ‫وكل أفعال هللا رحمة‪..‬‬ ‫يرحم الجاهل بالجحيم تأديبا وتعليما‪.‬‬ ‫ويرحم العارف بالجنة فضال وكرامة‪.‬‬ ‫((عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل ش يء))‪.‬‬ ‫فجعل رحمته تسع كل ش يء حتى العذاب‪.‬‬ ‫ثم دعونا نسأل الدكتور‪..‬‬ ‫أيكون هللا أكثر عدال في نظره لو أنه ساوى بين الظاملين واملظلومين وبين السفاحين‬ ‫وضحاياهم فقدم لكل حفلة شاي في اآلخرة‪.‬‬ ‫وهل العدل في نظر الدكتور أن يستوي األبيض واألسود‪.‬‬ ‫وللذين يستبعدون عن هللا أن يعذب نقول‪ :‬أال يعذبنا هللا بالفعل في دنيانا؟‪..‬‬ ‫وماذا تكون الشيخوخة واملرض والسرطان إال العذاب بعينه‪.‬‬ ‫ومن خالق امليكروب‪ ..‬؟!!‬ ‫أليست جميعها إنذارات بأننا أمام إله يمكن أن يعذب‪.‬‬ ‫‪28‬‬


‫الفصل السادس‪ :‬حكاية اإلسالم مع املرأة‬ ‫قال صديقي الدكتور‪:‬‬ ‫أال توافقني أن اإلسالم كان موقفه رجعيا مع املرأة؟ ‪-‬وبدأ يعد على أصابعه‪ -‬حكاية تعدد‬ ‫الزوجات وبقاء املرأة في البيت‪ ..‬والحجاب والطالق في يد الرجل‪ ..‬والضرب والهجر في‬ ‫املضاجع‪ ..‬وحكاية ما ملكت أيمانكم‪ ..‬وحكاية الرجال قوامون على النساء‪ ..‬ونصيب الرجل‬ ‫املضاعف في امليراث‪.‬‬ ‫قلت له وأنا أستجمع نفس ي‪:‬‬ ‫التهم هذه املرة كثيرة‪ ..‬والكالم فيها يطول‪ ..‬ولنبدأ من البداية‪ ..‬من قبل اإلسالم‪ ..‬وأظنك‬ ‫تعرف تماما أن اإلسالم جاء على جاهلية‪ ،‬والبنت التي تولد نصيبها الوأد والدفن في الرمل‪،‬‬ ‫والرجل يتزوج العشرة والعشرين ويكره جواريه على البغاء ويقبض الثمن‪ ..‬فكان ما جاء به‬ ‫اإلسالم من إباحة الزواج بأربع تقييدا وليس تعديدا‪ ..‬وكان إنقاذ للمرأة من العار واملوت‬ ‫واالستعباد واملذلة‪.‬‬ ‫وهل املرأة اآلن في أوروبا أسعد حاال في االنحالل الشائع هناك وتعدد العشيقات الذي‬ ‫أصبح واقع األمر في أغلب الزيجات أليس أ كرم للمرأة أن تكون زوجة ثانية ملن تحب‪ ..‬لها‬ ‫حقوق الزوجة واحترامها من أن تكون عشيقة في السر تختلس املتعة من وراء الجدران‪.‬‬ ‫ومع ذلك فاإلسالم جعل من التعدد إباحة شبه معطلة وذلك بأن شرط شرطا صعب‬ ‫التحقيق وهو العدل بين النساء‪.‬‬ ‫((وإن خفتم أال تعدلوا فواحدة))‪..‬‬ ‫((ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم))‪..‬‬ ‫فنفى قدرة العدل حتى عن الحريص فلم يبق إال من هو أكثر من حريص كاألنبياء واألولياء‬ ‫ومن في دربهم‪.‬‬ ‫أما البقاء في البيوت فهو أمر وارد لزوجات النبي باعتبارهن مثال عليا‪..‬‬ ‫((وقرن في بيوتكن))‪.‬‬ ‫‪29‬‬


‫وهي إشارة إلى أن الوضع األمثل للمرأة هي أن تكون أما وربة بيت تفرغ لبيتها وألوالدها‪.‬‬ ‫ويمكن أن نتصور حال أمة نساؤها في الشوارع واملكاتب وأطفالها في دور الحضانة واملالجئ‪..‬‬ ‫أتكون أحسن حاال أو أمة النساء فيها أمهات وربات بيوت واألطفال فيها يتربون في حضانة‬ ‫أمهاتهم واألسرة فيها متكاملة الخدمات‪.‬‬ ‫الرد واضح‪.‬‬ ‫ومع ذلك فاإلسالم لم يمنع املقتضيات التي تدعو إلى خروج املرأة وعملها‪ ..‬وقد كانت في‬ ‫اإلسالم فقيهات وشاعرات‪ ..‬وكانت النساء يخرجن في الحروب‪ ..‬ويخرجن للعلم‪.‬‬ ‫إنما توجهت اآلية إلى نساء النبي كمثل عليا‪ ،‬وبين املثال واملمكن والواقع درجات متعددة‬ ‫وقد خرجت نساء النبي مع النبي في غزواته‪.‬‬ ‫وينسحب على هذا أن الخروج ملعونة الزوج في كفاح شريف هو أمر ال غبار عليه‪.‬‬ ‫أما الحجاب فهو لصالح املرأة‪.‬‬ ‫وقد أباح اإلسالم كشف الوجه واليدين وأمر بستر ما عدا ذلك‪.‬‬ ‫ومعلوم أن املمنوع مرغوب وأن ستر مواطن الفتنة يزيدها جاذبية‪.‬‬ ‫وبين القبائل البدائية وبسبب العري الكامل يفتر الشوق تماما وينتهي الفضول ونرى الرجل‬ ‫ال يخالط زوجته إال مرة في الشهر وإذا حملت قاطعها سنتين‪.‬‬ ‫وعلى الشواطئ في الصيف حينما يتراكم اللحم العاري املباح للعيون يفقد الجسم العريان‬ ‫جاذبيته وطرافته وفتنته ويصبح أمرا عاديا ال يثير الفضول‪.‬‬ ‫وال شك أنه من صالح املرأة أن تكون مرغوبة أكثر وأال تتحول إلى ش يء عادي ال يثير‪.‬‬ ‫أما حق الرجل في الطالق فيقابله حق املرأة أيضا على الطرف اآلخر فيمكن للمرأة أن تطلب‬ ‫الطالق باملحكمة وتحصل عليه إذا أبدت املبررات الكافية‪.‬‬ ‫ويمكن للمرأة أن تشترط االحتفاظ بعصمتها عند العقد‪ ..‬وبذلك يكون لها حق الرجل في‬ ‫الطالق‪.‬‬ ‫واإلسالم يعطي الزوجة حقوقا ال تحصل عليها الزوجة في أوروبا‪ ..‬فالزوجة عندنا تأخذ مهرا‪،‬‬

‫‪31‬‬


‫وعندهم تدفع دوطة‪ ..‬والزوجة عندنا لها حق التصرف في أمالكها‪ ،‬وعندهم تفقد هذا الحق‬ ‫بمجرد الزواج ويصبح الزوج هو القيم على أمالكها‪.‬‬ ‫أما الضرب والهجر في املضاجع فهو معاملة املرأة الناشز فقط‪ ..‬أما املرأة السوية فلها عند‬ ‫الرجل املودة والرحمة‪.‬‬ ‫والضرب والهجر في املضاجع من معجزات القرآن في فهم النشوز‪ ..‬وهو يتفق مع أحدث ما‬ ‫وصل إليه علم النفس العصري في فهم املسلك املرض ي للمرأة‪.‬‬ ‫وكما تعلم يقسم علم النفس هذا املسلك املرض ي إلى نوعين‪:‬‬ ‫* "املسلك الخضوعي" وهو ما يسمى في االصطالح العلمي "ماسوشزم" ‪ masochism‬وهو‬ ‫ُ َ ُ َّ‬ ‫ضرب وتعذب وتكون الطرف الخاضع‪.‬‬ ‫تلك الحالة املرضية التي تلتذ فيها املرأة بأن ت‬ ‫والنوع الثاني هو‪" :‬املسلك التحكمي" وهو ما يسمى في االصطالح العلمي "سادزم" ‪sadism‬‬ ‫وهو تلك الحالة املرضية التي تلتذ فيها املرأة بأن تتحكم وتسيطر وتتجبر وتتسلط وتوقع‬ ‫األذى بالغير‪.‬‬ ‫ومثل هذه املرأة ال حل لها سوى انتزاع شوكتها وكسر سالحها التي تتحكم به‪ ،‬وسالح املرأة‬ ‫أنوثتها وذلك بهجرها في املضجع فال يعود لها سالح تتحكم به‪..‬‬ ‫أما املرأة األخرى التي ال تجد لذتها إال في الخضوع والضرب فإن الضرب لها عالج‪ ..‬ومن هنا‬ ‫كانت كلمة القرآن‪(( :‬واهجروهن في املضاجع واضربوهن))‪ .‬إعجازا علميا وتلخيصا في كلمتين‬ ‫لكل ما أتى به علم النفس في مجلدات عن املرأة الناشز وعالجها‪.‬‬ ‫أما حكاية "ما ملكت أيمانكم" التي أشار إليها السائل فإنها تجرنا إلى قضية الرق في اإلسالم‪..‬‬ ‫اتهام املستشرقين لإلسالم بأنه دعا إلى الرق‪ ..‬والحقيقة أن اإلسالم لم يدع إلى الرق‪ ..‬بل كان‬ ‫الدين الوحيد الذي دعا إلى تصفية الرق‪.‬‬ ‫ولو قرأنا اإلنجيل‪ ..‬وما قاله بولس الرسول في رسائله إلى أهل افسس وما أوص ى به العبيد‬ ‫لوجدناه يدعو العبيد دعوة صريحة إلى طاعة سادتهم كما الرب‪" :‬أيها العبيد‪ ..‬أطيعوا‬ ‫سادتكم بخوف ورعدة في بساطة قلوبكم كما الرب"‪.‬‬

‫‪30‬‬


‫ولم يأمر اإلنجيل بتصفية الرق كنظام وإنما أقص ى ما طالب به كان األمر باملحبة وحسن‬ ‫املعاملة بين العبيد وسادتهم‪.‬‬ ‫وفي التوراة املتداولة كان نصيب األحرار أسوأ من نصيب العبيد‪ ..‬ومن وصايا التوراة أن‬ ‫البلد التي تستسلم بال حرب يكون حظ أهلها أن يساقوا رقيقا وأسارى والتي تدافع عن نفسها‬ ‫بالسيف ثم تستسلم يعرض أهلها على السالح ويقتل شيوخها وشبابها ونساؤها وأطفالها‬ ‫ويذبحوا تذبيحا‪.‬‬ ‫كان االسترقاق إذا حقيقة ثابتة قبل مجيء اإلسالم وكانت األديان السابقة توص ي بوالء‬ ‫العبد لسيده‪.‬‬ ‫فنزل القرآن ليكون أول كتاب سماوي يتكلم عن فك الرقاب وعتق الرقاب‪.‬‬ ‫ولم يحرم القرآن الرق بالنص والصريح‪ ..‬ولم يأمر بتسريح الرقيق‪ ..‬ألن تسريحهم فجأة‬ ‫وبأمر قرآني في ذلك الوقت وهم مئات اآلالف بدون صناعة وبدون عمل اجتماعي وبدون‬ ‫توظيف يستوعبهم كان معناه كارثة اجتماعية وكان معناه خروج مئات األلوف من الشحاذين‬ ‫في الطرقات يستجدون الناس ويمارسون السرقة والدعارة ليجدوا اللقمة‪ .‬وهو أمر أسوأ من‬ ‫الرق‪ ،‬فكان الحل القرآني هو قفل باب الرق ثم تصفية املوجود منه‪ ..‬وكان مصدر الرق في‬ ‫ذلك العصر هو استرقاق األسرى في الحروب فأمر القرآن بأن يطلق األسير أو تؤخذ فيه فدية‬ ‫وبأن ال يؤخذ األسرى أرقاء‪.‬‬ ‫((فإما منا بعد‪ ..‬وإما فداء))‪.‬‬ ‫فإما أن تمن على األسير فتطلقه لوجه هللا‪ ..‬وإما تأخذ فيه فدية‪.‬‬ ‫أما الرقيق املوجود بالفعل فتكون تصفيته بالتدرج وذلك بجعل فك الرقاب وعتق الرقاب‬ ‫كفارة الذنوب صغيرها وكبيرها وبهذا ينتهي الرق بالتدريج‪.‬‬ ‫وإلى أن تأتي تلك النهاية فماذا تكون معاملة السيد ملا ملكت يمينه‪ ..‬أباح له اإلسالم أن‬ ‫يعاشرها كزوجته‪.‬‬ ‫وهذه حكاية "ما ملكت أيمانكم" التي أشار إليها السائل وال شك أن معاشرة املرأة الرقيق‬ ‫كالزوجة كان في تلك األيام تكريما ال إهانة‪.‬‬ ‫‪32‬‬


‫وينبغي أال ننس ى موقف اإلسالم من العبد الرقيق وكيف جعل منه أخا بعد أن كان عبدا‬ ‫يداس بالقدم‪.‬‬ ‫((إنما املؤمنون إخوة))‪.‬‬ ‫((هو الذي خلقكم من نفس واحدة))‪.‬‬ ‫((ال يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون هللا))‪.‬‬ ‫وقد ضرب محمد عليه الصالة والسالم املثل حينما تبنى عبدا رقيقا هو زيد بن حارثة‬ ‫فأعتقه وجعل منه ابنه‪ ..‬ثم زوجه من الحرة سليلة البيت الشريف زينب بنت جحش‪.‬‬ ‫كل هذا ليكسر هذه العنجهية والعصبية‪ ..‬وليجعل من تحرير العبيد موقفا يقتدى به‪..‬‬ ‫وليقول بالفعل وباملثال أن رسالته عتق الرقاب‪.‬‬ ‫أما أن الرجال قوامون على النساء فهي حقيقة في كل مكان في البالد اإلسالمية‪ .‬وفي البالد‬ ‫املسيحية‪ .‬وفي البالد التي ال تعرف إلها وال دينا‪.‬‬ ‫في موسكو امللحدة الحكام رجال من أيام لينين وستالين وخروشوف وبولجانين إلى اليوم‪،‬‬ ‫وفي فرنسا الحكام رجال‪ ،‬وفي لندن الحكام رجال‪ ،‬وفي كل مكان من األرض الرجال هم الذين‬ ‫يحكمون ويشرعون ويخترعون‪ ،‬وجميع األنبياء كانوا رجاال‪ ،‬وجميع الفالسفة كانوا رجاال‪،‬‬ ‫حتى امللحنين (مع أن التلحين صنعة خيال ال يحتاج إلى رجال)‪ ،‬وكما يقول العقاد ساخرا‪:‬‬ ‫حتى صناعة الطهي والحياكة واملوضة وهي تخصصات نسائية تفوق فيها الرجال ثم انفردوا‬ ‫بها‪.‬‬ ‫وهي ظواهر ال دخل للشريعة اإلسالمية فيها‪ ..‬فهي ظواهر عامة في كل بقاع الدنيا حيث ال‬ ‫تحكم شريعة إسالمية وال يحكم قرآن‪.‬‬ ‫إنما هي حقائق أن الرجل قوام على املرأة بحكم الطبيعة واللياقة والحاكمية التي خصه بها‬ ‫الخالق‪.‬‬ ‫وإذا ظهرت وزيرة أو زعيمة أو حاكمة فإنها تكون الطرافة التي تروى أخبارها واإلستثناء‬ ‫الذي يؤكد القاعدة‪.‬‬

‫‪33‬‬


‫واإلسالم لم يفعل أكثر من أنه سجل هذه القاعدة وهذا يفسر لنا بعد ذلك ملاذا أعطى‬ ‫القرآن الرجل ضعف النصيب في امليراث‪ ..‬ألنه هو الذي ينفق وألنه هو الذي يعول‪ ..‬وألنه هو‬ ‫الذي يعمل‪.‬‬ ‫كان موقف اإلسالم من املرأة هو العدل‪.‬‬ ‫وكانت سيرة النبي مع نسائه هي املحبة والحدب والحنان‪ ..‬الذي يؤثر عنه قوله‪" :‬حبب إلي‬ ‫من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصالة"‪.‬‬ ‫فذكر النساء مع الطيب والعطر والصالة وهذا غاية اإلعزاز‪ ،‬وكان آخر ما قاله في آخر‬ ‫خطبة له قبل موته هو التوصية بالنساء‪.‬‬ ‫وإذا كان هللا قد اختار املرأة للبيت والرجل للشارع فألنه عهد إلى الرجل أمانة التعمير والبناء‬ ‫واإلنشاء بينما عهد إلى املرأة أمانة أكبر وأعظم هي تنشئة اإلنسان نفسه‪.‬‬ ‫وإنه من األعظم لشأن املرأة أن تؤتمن على هذه األمانة‪.‬‬ ‫فهل ظلم اإلسالم النساء؟!!‬

‫‪34‬‬


‫الفصل السابع‪ :‬هل الدين أفيون‪ ..‬؟!‬ ‫قال لي صاحبي الدكتور وهو يغمز بعينيه‪:‬‬ ‫وما رأيك في الذين يقولون أن الدين أفيون‪ !!. ..‬وأنه يخدر الفقراء واملظلومين ليناموا على‬ ‫ظلمهم وفقرهم ويحلموا بالجنة والحور العين‪..‬‬ ‫في حين يثبت األغنياء على غناهم باعتبار أنه حق‪ ..‬وأن هللا خلق الناس درجات‪. ..‬؟‬ ‫وما رأيك في الذين يقولون أن الدين لم ينزل من عند هللا‪ ..‬وإنما هو طلع من األرض من‬ ‫الظروف والدواعي االجتماعية ليكون سالحا لطبقة على طبقة‪ ..‬؟‬ ‫وهو يشير بذلك إلى املاديين وأفكارهم‪..‬‬ ‫قلت‪:‬‬ ‫ليس ابعد من الخطأ القائل بان الدين افيون‪ ..‬فالدين في حقيقته اعباء وتكاليف وتبعات‪..‬‬ ‫وليس تخفيفا وتحلال‪ ..‬وبالتالي ليس مهربا من املسئوليات وليس افيونا‪..‬‬ ‫وديننا عمل وليس كسل‪(( ..‬وقل اعملوا فسيرى هللا عملكم))‪.‬‬ ‫ونحن نقول بالتوكل وليس التواكل‪..‬‬ ‫والتوكل يقتض ي عندنا العزم واستفراغ الوسع وبذل غاية الطاقة والحيلة‪ ،‬ثم التسليم بعد‬ ‫ذلك لقضاء هللا وحكمه‪.‬‬ ‫((فإذا عزمت فتوكل على هللا))‪..‬‬ ‫العزم أوال‪..‬‬ ‫والنبي يقول ملن أراد أن يترك ناقته سائبة توكال على حفظ هللا "اعقلها وتوكل"‪ ..‬أي ابذل‬ ‫وسعك أوال فثبتها في عقالها ثم توكل‪..‬‬ ‫والدين صحو وانتباه ويقظة‪ .‬ومحاسبة للنفس ومراقبة للضمير في كل فعل وفي كل كلمة‬ ‫وكل خاطر‪ .‬وليس هذا حال أكل األفيون‪ ..‬إنما أكل األفيون الحقيقي هو املادي الذي ينكر‬ ‫الدين هربا من تبعاته ومسئولياته‪ ،‬ويتصور أن لحظته ملكه‪ ،‬وأنه ال حسيب وال رقيب وال‬ ‫بعث بعد املوت‪ ..‬فيفعل ما يخطر على باله‪ .‬وأين هذا الرجل من املتدين املسلم الذي يعتبر‬ ‫‪35‬‬


‫نفسه مسئوال عن سابع جار‪ ..‬واذا جاع فرد في أمته أو ضربت دابة عاتب نفسه بأنه لم يقم‬ ‫بواجب الدين في عنقه‪..‬‬ ‫وليس صحيحا أن ديننا خرج من األرض‪ ..‬من الظروف والدواعي االجتماعية‪ ..‬ليكون سالحا‬ ‫لطبقة على طبقة وتثبيتا لغنى االغنياء وفقر الفقراء‪..‬‬ ‫والعكس هو الصحيح‪..‬‬ ‫فاإلسالم جاء ثورة على األغنياء والكانزين املال واملستغلين الظاملين‪ ..‬فأمر صراحة بأال‬ ‫يكون املال دولة بين األغنياء يحتكرونه ويتداولونه بينهم‪ ..‬وإنما يكون حقا للكل‪..‬‬ ‫((والذين يكنزون الذهب والفضة وال ينفقونها في سبيل هللا فبشرهم بعذاب أليم))‪.‬‬ ‫واإلنفاق يبدأ من زكاة اجبارية (‪ )2.5‬في املائة‪ ..‬ثم يتصاعد اختياريا إلى كل ما في الجيب وكل‬ ‫ما في اليد‪ .‬فال تبقي لنفسك إال خبزك‪ ..‬كفافك‪..‬‬ ‫((يسألونك ماذا ينفقون قل العفو))‪..‬‬ ‫والعفو هو كل ما زاد على الكفاف والحاجة‪..‬‬ ‫وبهذا جمع اإلسالم بين التكليف الجبري القانوني والتكليف االختياري القائم على الضمير‪..‬‬ ‫وهذا أكرم لالنسان من نزع أمالكه بالقهر واملصادرة‪..‬‬ ‫ووصل إلى اإلنفاق إلى ما فوق التسعين في املائة بدون إرهاق‪..‬‬ ‫ولم يأت اإلسالم ليثبت ظلم الظاملين‪ .‬بل جاء ثورة صريحة على كل الظاملين‪ ..‬وجاء سيفا‬ ‫وحربا على رقاب الطواغين واملستبدين‪..‬‬ ‫أما التهمة التي يسوقها املاديون بأن الدين رجعي وطبقي بدليل اآليات‪..‬‬ ‫((وهللا فضل بعضكم على بعض في الرزق))‪..‬‬ ‫((ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات))‪..‬‬ ‫فنحن نرد بأن هذه اآليات تنطبق على لندن وباريس وبرلين وموسكو‪ ..‬بمثل ما تنطبق على‬ ‫القاهرة ودمشق وجدة‪..‬‬ ‫وإذا مشينا في شوارع موسكو فسوف نجد من يسير على رجليه‪ ..‬ومن يركب بسكليت‪ .‬ومن‬ ‫يركب عربة موسكوفتش‪ ..‬ومن يركب عربة زيم فاخرة‪..‬‬ ‫‪36‬‬


‫وماذا يكون هذا إال التفاضل في الرزق بعينه والدرجات والرتب االقتصادية‪..‬‬ ‫والتفاوت بين الناس حقيقة جوهرية‪..‬‬ ‫ولم تستطع الشيوعية أن تلغي التفاوت‪..‬‬ ‫ولم يقل حتى غالة املادية والفوضوية باملساواة‪..‬‬ ‫واملساواة غير ممكنة فكيف نساوي بين غير متساويين‪..‬‬ ‫الناس يولدون من لحظة امليالد غير متساوين في الذكاء والقوة والجمال واملواهب‪ ..‬يولدون‬ ‫درجات في كل ش يء‪..‬‬ ‫وأقص ى ما طمعت فيه املذاهب االقتصادية هي املساواة في الفرص وليس املساواة بين‬ ‫الناس‪..‬‬ ‫أن يلقى كل واحد نفس الفرصة في التعليم والعالج والحد األدنى للمعيشة‪..‬‬ ‫وهو نفس ما تحض عليه األديان‪..‬‬ ‫أما إلغاء الدرجات وإلغاء التفاوت فهو الظلم بعينه واألمر الذي ينافي الطبيعة‪..‬‬ ‫والطبيعة تقوم كلها على أساس التفاضل والتفاوت والتنوع في ثمار األرض وفي البهائم وفي‬ ‫الناس‪..‬‬ ‫في القطن نجد طويل التيلة‪ .‬وقصير التيلة‪..‬‬ ‫وفي الحيوان واإلنسان نجد الرتب والدرجات والتفاوت أكثر‪..‬‬ ‫هذا هو قانون الوجود كله‪ ..‬التفاضل‪..‬‬ ‫وحكمة هذا القانون واضحة‪ ..‬فلو كان جميع الناس يولدون بخلقة واحدة وقالب واحد‬ ‫ونسخة واحدة‪ ..‬ملا كان هناك داع مليالدهم أصال‪ ..‬وكان يكفي أن نأتي بنسخة واحدة فتغني‬ ‫عن الكل‪..‬‬ ‫وكذلك الحال في كل ش يء‪..‬‬ ‫وال نتهي األمر إلى فقر الطبيعة وإفالسها‪ ..‬وإنما غنى الطبيعة وخصبها ال يظهر إال بالتنوع‬ ‫في ثمارها وغالتها والتفاوت في ألوانها واصنافها‪..‬‬

‫‪37‬‬


‫ومع ذلك فالدين لم يسكت على هذا التفاوت بين األغنياء والفقراء‪ ..‬بل أمر بتصحيح‬ ‫األوضاع وجعل للفقير نصيبا من مال الغني‪ ..‬وقال إن هذا التفاوت فتنة وامتحان‪..‬‬ ‫((وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون))‪..‬‬ ‫سوف نرى ماذا يفعل القوي بقوته‪..‬‬ ‫هل ينجد بها الضعفاء؟ أو يضرب ويقتل ويكون جبارا في االرض‪. ..‬؟‬ ‫وسوف نرى ماذا يفعل الغني بغناه‪..‬‬ ‫هل يسرف ويطغى؟ أو يعطف ويحسن‪ ..‬؟‬ ‫وسوف نرى ماذا يفعل الفقير بفقره‪..‬‬ ‫هل يحسد ويحقد ويسرق ويختلس؟‪ ..‬أو يعمل ويكد ويجتهد ليرفع مستوى معيشته بالشرع‬ ‫والعدل‪ ..‬؟‬ ‫وقد أمر الدين بالعدل وتصحيح األوضاع باملساواة بين الفرص‪..‬‬ ‫وهدد بعذاب االخرة وقال أن االخرة ستكون أيضا درجات أكثر تفاوتا لتصحيح ما لم يجر‬ ‫تصحيحه في األرض‪.‬‬ ‫((وللخرة أكبر درجات وأكبر تفضيال))‪..‬‬ ‫وللذين يتهمون اإلسالم بالرجعية السياسية نقول إن اإلسالم أتى بأكثر الشرائع تقدمية في‬ ‫نظم الحكم‪.‬‬ ‫احترام الفرد في اإلسالم بلغ الذروة‪ ..‬وسبق ميثاق حقوق اإلنسان وتفوق عليه‪ ..‬فماذا‬ ‫يساوي الفرد الواحد في اإلسالم‪ ..‬؟ إنه يساوي اإلنسانية كلها‪.‬‬ ‫((من قتل نفا بغير نفس أو فساد في األرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما‬ ‫أحيا الناس جميعا))‪.‬‬ ‫ال تغني املنجزات وال اإلصالحات املادية وال التعمير وال السدود وال املصانع‪ ..‬إذا قتل الحاكم‬ ‫فردا واحدا ظلما في سبيل هذا اإلصالح‪ ،‬فإنه يكون قد قتل الناس جميعا‪.‬‬

‫‪38‬‬


‫ذروة في احترام الفرد لم يصل إليها مذهب سياس ي قديم أو جديد‪ ..‬فالفرد في اإلسالم له‬ ‫قيمة مطلقة بينما في كل املذاهب السياسية له قيمة نسبية‪ ..‬والفرد في اإلسالم آمن في بيته‪..‬‬ ‫وفي أسراره (ال تجسس وال غيبة) آمن في ماله ورزقه وملكيته وحريته‪.‬‬ ‫كل ش يء حتى التحية حتى إفساح املجلس حتى الكلمة الطيبة لها مكان في القرآن‪.‬‬ ‫وقد نهى القرآن عن التجبر والطغيان واإلنفراد بالحكم‪.‬‬ ‫وقال هللا للنبي ‪-‬وهو من هو في كماله وصالحيته‪:-‬‬ ‫((وما أنت عليهم بجبار))‪.‬‬ ‫((فذكر إنما أنت مذكر‪ ..‬لست عليهم بمسيطر))‪.‬‬ ‫((إنما املؤمنون إخوة))‪.‬‬ ‫ونهى عن عبادة الحاكم وتأليه العظيم‪:‬‬ ‫((ال يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون هللا))‪.‬‬ ‫((وقض ى ربك أال تعبدوا إال إياه))‪.‬‬ ‫ونهى عن الغوغائية وتملق الدهماء والسوقة والجري وراء األغلبية املضللة وقال أن‪:‬‬ ‫((بل أكثر الناس ال يعلمون))‪..‬‬ ‫((بل أكثرهم ال يعقلون))‪..‬‬ ‫((أكثر الناس ال يؤمنون))‪..‬‬ ‫((إن يتبعون إال الظن وإن هم إال يخرصون))‪ .‬أي‪ :‬يكذبون‪.‬‬ ‫((إن هم إال كاألنعام بل هم أضل))‪..‬‬ ‫ونهى عن العنصرية والعرقية‪:‬‬ ‫((إن أكرمكم عند هللا أتقاكم))‪..‬‬ ‫((هو الذي خلقكم من نفس واحدة))‪..‬‬ ‫وباملعنى العلمي كان اإلسالم تركيبا جدليا جامعا بين مادية اليهودية وروحانية املسيحية‪،‬‬ ‫بين العدل الصارم الجاف الذي يقول‪ :‬السن بالسن والعين بالعين‪ .‬وبين املحبة والتسامح‬ ‫املتطرف الذي يقول‪ :‬من ضربك على خدك األيمن فأدر له األيسر‪.‬‬ ‫‪39‬‬


‫وجاء القرآن وسطا بين التوراة التي حرفت حتى أصبحت كتابا ماديا ليس فيه حرف واحد‬ ‫عن اآلخرة‪ ،‬وبين اإلنجيل الذي مال إلى رهبانية تامة‪ ،‬ونادى القرآن بناموس الرحمة الجامع‬ ‫بين العدل واملحبة فقال بشرعية الدفاع عن النفس ولكنه فضل العفو والصفح واملغفرة‪.‬‬ ‫((وملن صبر وغفر إن ذلك ملن عزم األمور))‪.‬‬ ‫وإذا كانت الرأسمالية أطلقت للفرد حرية الكسب إلى درجة استغالل اآلخرين‪ ..‬وإذا كانت‬ ‫الشيوعية سحقت هذه الحرية تماما‪ ..‬فإن اإلسالم قدم الحل الوسط‪.‬‬ ‫((للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن))‪.‬‬ ‫الفرد حر في الكسب ولكن ليس له أن يأخذ ثمرة أرباحه كلها‪ ..‬وإنما له فيها نصيب‪ ..‬وللفقير‬ ‫نصيب يؤخذ زكاة وإنفاقا من ‪ 2.5‬في املائة إلى ‪ %70‬جبرا واختيارا‪ ..‬وهذا النصيب ليس تصدقا‬ ‫وتفضال وإنما هو حق هللا في الربح‪ ..‬وبهذه املعادلة الجميلة حفظ اإلسالم للفرد حريته‬ ‫وللفقير حقه‪.‬‬ ‫ولهذا أصاب القرآن كل الصواب حينما خاطب أمة اإلسالم قائال‪:‬‬ ‫((وكذلك جعلناكم أمة وسطا))‪.‬‬ ‫فقد اختار اإلسالم الوسط العدل في كل ش يء‪.‬‬ ‫وهو ليس الوسط الحسابي وإنما الوسط الجدلي أو التركيب الذي يجمع النقيضين (اليمين‬ ‫واليسار) ويتجاوزهما ويزيد عليهما‪ ..‬ولذلك ليس في اإلسالم يمين ويسار وإنما فيه "صراط"‬ ‫االعتدال الوسط الذي نسميه الصراط املستقيم من خارج عنه باليمين أو اليسار فقد‬ ‫انحرف‪.‬‬ ‫ولم يقيدنا القرآن بدستور سياس ي محدد أو منهج مفصل للحكم لعلم هللا بأن الظروف‬ ‫تتغير بما يقتض ي االجتهاد في وضع دساتير متغيرة في األزمنة املتغيرة‪ ،‬وحتى يكون البا مفتوحا‬ ‫أمام املسلمين لألخذ والعطاء من املعارف املتاحة في كل عصر دون انغالق على دستور بعينه‪.‬‬ ‫ولهذا اكتفى القرآن بهذه التوصيات السياسية العامة السالفة كخصائص للحكم األمثل‪..‬‬ ‫ولم يكبلنا بنظرية وهذا سر من أسرار إعجازه وتفوقه وليس فقرا وال نقصا فيه‪.‬‬ ‫وتلك ملسة أخرى من تقديمة القرآن التي سبقت كل التقديمات‪.‬‬ ‫‪41‬‬


‫ونرد على القائلين بأن الدين جمود وتحجر‪ ..‬بأن اإلسالم لم يكن أبدا دين تجمد وتحجر‬ ‫وإنما كان دائما وأبدا دين نظر وفكر وتطوير وتغيير بدليل آياته الصريحة‪.‬‬ ‫((قل سيروا في األرض فانظروا كيف بدأ الخلق))‪..‬‬ ‫((فلينظر اإلنسان مم خلق‪ ..‬خلق من ماء دافق‪ ..‬يخرج من بين الصلب والترائب))‪..‬‬ ‫((أفال ينظرون إلى اإلبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى‬ ‫ألرض كيف سطحت))‪..‬‬ ‫أوامر صريحة بالنظر في خلق اإلنسان وفي خلق الحيوان وفي خلق الجبال وفي طبقات‬ ‫األرض وفي السماء وأفالكها‪ ..‬والتشريح والفسيولوجيا والبيولوجيا وعلم األجنة‪.‬‬ ‫أوامر صريحة بالسير في األرض وجمع الشواهد واستنباط األحكام والقوانين ومعرفة كيف‬ ‫بدأ الخلق‪ ..‬وهو ما نعرفه اآلن بعلوم التطور‪.‬‬ ‫وال خوف من الخطأ‪.‬‬ ‫فاإلسالم يكافئ الذي يجتهد ويخطئ بأجر والذي يجتهد ويصيب بأجرين‪.‬‬ ‫وليس صحيحا ما يقال من أننا تخلفنا بالدين وتدم الغرب باإللحاد‪ ..‬والحق أننا تخلفنا‬ ‫حينما هجرنا أوامر ديننا‪.‬‬ ‫وحينما كان املسلمون يأتمرون بهذه اآليات حقا كان هناك تقدم وكانت هناك دولة من‬ ‫املحيط إلى الخليج وعلماء مثل ابن سينا في الطب وابن رشد في الفلسفة وابن الهيثم في‬ ‫الرياضيات وابن النفيس في التشريح وجابر بن حيان في الكيمياء‪.‬‬ ‫وكانت الدنيا تأخذ عنا علومنا‪ ..‬وما زالت مجمعات النجوم وأبراجها تحتفظ إلى اآلن‬ ‫بأسمائها العربية في املعاجم األوروبية‪ ..‬وما زالوا يسمون جهاز التقطير بالفرنسية ‪imbique‬‬ ‫ومنه الفعل من كلمة أمبيق العربية ‪ Imbiquer‬ولم يتقدم الغرب باإللحاد بل بالعلم‪.‬‬ ‫وإنما وقع الخلط مما حدث في العصور الوسطى من طغيان الكنيسة ومحاكم التفتيش‬ ‫وحجرها على العلم والعلماء وما حدث من سجن غاليليو وحرق جيوردانو برونو‪.‬‬

‫‪40‬‬


‫حينما حكمت الكنيسة وانحرف بها البابوات عن أهدافها النبيلة فكانت عنصر تأخر‪..‬‬ ‫فتصور النقاد السطحيون أن هذا ينسحب أيضا على اإلسالم وهو خطأ‪ ..‬فاإلسالم ليس‬ ‫بابوية وال كهنوت‪..‬‬ ‫هللا لم يقم بينه وبين املسلمين أوصياء وال وسطاء‪.‬‬ ‫وحينما حكم اإلسالم بالفعل كان عنصر تقدم كما شرحنا وكما يقول التاريخ مكذبا هذه‬ ‫املزاعم السطحية‪.‬‬ ‫وآيات القرآن الصريحة تحض على العلم وتأمر بالعلم وال تقيم بين العلم والدين أي‬ ‫تناقض‪:‬‬ ‫((وقل رب زدني علما))‪..‬‬ ‫((هل يستوي الذين يعلمون والذين ال يعلمون))‪..‬‬ ‫((شهد هللا أنه ال إله إال هو واملالئكة وأولو العلم))‪..‬‬ ‫جعل هللا املالئكة وأولي العلم في اآلية مقترنين بشرف اسمه ونسبته‪.‬‬ ‫وأول آية في القران وأول كلمة كانت "اقرأ" والعلماء في القرآن موعودون بأرفع الدرجات‪:‬‬ ‫((يرفع هللا الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات))‪..‬‬ ‫وتتكرر كلمة العلم ومشتقاته في القرآن نحوا من ثمانمائة وخمسين مرة‪.‬‬ ‫فكيف يتكلم بعد هذا متكلم عن تناقض بين الدين والعلم أو حجر من الدين على العلم‪.‬‬ ‫والنظر في الدين وتطوير فهمه مطلوب‪ ،‬وتاريخ اإلسالم كله حركات إحياء وتطوير‪ ..‬والقرآن‬ ‫بريء من تهمة التحجير على الناس وكل ش يء في ديننا يقبل التطوير‪ ..‬ما عدا جوهر العقيدة‬ ‫وصلب الشريعة‪ ..‬ألن هللا واحد ولن يتطور إلى اثنين أو ثالثة‪ ..‬هذا أمر مطلق‪ ..‬وكذلك الشر‬ ‫شر والخير خير‪ ..‬لن يصبح القتل فضيلة وال السرقة حسنة وال الكذب حلية يتحلى بها‬ ‫الصالحون‪.‬‬ ‫وفيما عدا ذلك فالدين مفتوح للفكر واالجتهاد واإلضافة والتطوير‪.‬‬ ‫وجوهر اإلسالم عقالني منطقي يقبل الجدل والحوار ويحض على استخدام العقل‬ ‫واملنطق‪.‬‬ ‫‪42‬‬


‫وفي أكثر من مكان وفي أكثر من صفحة في القرآن نعثر على التساؤل‪" ..‬أفال يعقلون"‪" ..‬أفال‬ ‫يفقهون"‪.‬‬ ‫وأهل الدين عندنا هم "أولو األلباب"‪.‬‬ ‫((شر الدواب عند هللا الصم البكم الذين ال يعقلون))‪.‬‬ ‫((أفلم يسيروا في األرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها))‪.‬‬ ‫احترام العقل في لب وصميم الديانة‪..‬‬ ‫واإليجابية عصبها‪..‬‬ ‫والثورة روحها‪..‬‬ ‫لم يكن اإلسالم أبدا خانعا وال سلبيا‪..‬‬ ‫((وقاتلوا في سبيل هللا الذين يقاتلونكم))‪..‬‬ ‫((إن هللا يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص))‪..‬‬ ‫والجهاد بالنفس واملال واألوالد‪ ..‬والقتال والثبات وعدم النكوص على األعقاب‪ ،‬ومواجهة‬ ‫اليأس واملصابة واملرابطة في صلب ديننا‪.‬‬ ‫فكيف يمكن لدين بهذه املرونة والعقالنية والعلمية واإليجابية والثورة أن يتهم بالتحجر‬ ‫والجمود إلى من صديق عزيز مثل الدكتور القادم من فرنسا ال يعرف من أوليات دينه شيئا‬ ‫ولم يقرأ في قرآنه حرفا‪.‬‬

‫‪43‬‬


‫الفصل الثامن‪ :‬الروح‬ ‫قال صديقي الدكتور وهو يعلم هذه املرة أن اإلشكال سيكون عسيرا‪:‬‬ ‫ما دليلك على أن اإلنسان له روح وأنه يبعث بعد موت وأنه ليس مجرد الجسد الذي ينتهي‬ ‫إلى تراب‪ ..‬وماذا يقول دينكم في تحضير األرواح؟‬ ‫قلت بعد برهة تفكير‪:‬‬ ‫ال شك أن السؤال اليوم صعب والكالم عن الروح ضرب في تيه والحقائق املوجودة قليلة‬ ‫ولكنها مع ذلك في صفنا نحن وليست ي صفكم‪.‬‬ ‫ومضيت برهة أغرقت فيها في التفكير ثم قلت مردفا‪:‬‬ ‫فكر معي قليال‪ ..‬إن أول املؤشرات التي تساعدنا على التدليل على وجود الروح‪ ..‬أن اإلنسان‬ ‫ذو طبيعة مزدوجة‪.‬‬ ‫اإلنسان له طبيعتان‪:‬‬ ‫طبيعة خارجية ظاهرة مشهودة هي جسده تتصف بكل صفات املادة‪ ،‬فهي قابلة للوزن‬ ‫والقياس متحيزة في املكان متزمنة بالزمان دائمة التغير والحركة والصيرورة من حال إلى حال‬ ‫ومن لحظة إلى لحظة فالجسد تتداول عليه األحوال من صحة إلى مرض إلى سمنة إلى هزال‬ ‫إلى تورد إلى شحوب إلى نشاط إلى كسل إلى نوم إلى يقظة إلى جوع إلى شبع‪ ،‬وملحق بهذه‬ ‫الطبيعة الجسدية شريط من االنفعاالت والعواطف والغرائز واملخاوف ال يكف لحظة عن‬ ‫الجريان في الدماغ‪.‬‬ ‫وألن هذه الطبيعة واالنفعاالت امللحقة بها تتصف بخواص املادة نقول إن جسد اإلنسان‬ ‫ونفسه الحيوانية هما من املادة‪.‬‬ ‫ولكن هناك طبيعة أخرى مخالفة تماما لألولى ومغايرة لها في داخل اإلنسان‪ ..‬طبيعة من‬ ‫نوع آخر تتصف بالسكون والالزمان والالمكان والديمومة‪ ..‬هي العقل بمعاييره الثابتة‬ ‫وأقيسته ومقوالته‪ ..‬والضمير بأحكامه‪ ،‬والحس الجمالي‪ ،‬وال أنا التي تحمل كل تلك الصفات‬ ‫(من عقل وضمير وحس جمالي وحس أخالقي)‪.‬‬ ‫‪44‬‬


‫والـ"أنا" غير الجسد تماما وغير النفس الحيوانية التي تلتهب بالجوع والشبق‪.‬‬ ‫الـ"أنا" هي الذات العميقة املطلقة وعن طريق هذه الذات والكينونة والشخوص واملثول في‬ ‫العالم‪ ..‬وبأنه هنا وبأنه كان دائما هنا‪ ..‬وهو شعور ثابت ممتد ال يطرأ عليه التغير ال يسمن‬ ‫وال يهزل وال يمرض وال يتصف بالزمان‪ ..‬وليس فيه ماض وحاضر ومستقبل‪ ..‬إنما هو "آن"‬ ‫مستمر ال ينصرم كما ينصرم املاض ي‪ ..‬وإنما يتمثل في شعور بالدوام‪ ..‬بالديمومة‪.‬‬ ‫هناك نوع آخر من الوجود ال يتصف بصفات املادة فال هو يطرأ عليه التغير وال هو يتحيز‬ ‫في املكان أو يتزمن بالزمان وال هو يقبل الوزن والقياس‪ ..‬بالعكس نجد أن هذا الوجود هو‬ ‫الثابت الذي نقيس به املتغيرات واملطلق الذي نعرف به كل ما هو نسبي في عالم املادة‪.‬‬ ‫وأصدق ما نصف به هذا الوجود أنه روحي وأن طبيعته روحية‪.‬‬ ‫ولنا أن نسأل بعد ذلك‪ ..‬أي الطبيعتين هي اإلنسان حقا؟‪ ..‬هل اإلنسان بالحقيقة هو‬ ‫جسده أو روحه؟‪..‬‬ ‫ولنعرف الجواب علينا أن نبحث أي الطبيعتين هي الحاكمة على األخرى‪.‬‬ ‫يقول لنا املاديون أن اإلنسان هو جسده‪ ،‬وأن الجسد هو الحاكم وأن كل ما ذكرت من‬ ‫عقل ومنطق وحس جمالي وحس أخالقي وضمير وهذه "التخريفة" التي اسمها الذات أو الـ"أنا"‬ ‫كل هذه ملحق بالجسد ثانوي عليه تابع له يأتمر بأمره ويقوم على خدمته ويتولى إشباع‬ ‫شهواته وأهوائه‪.‬‬ ‫هذا كالم إخواننا املاديين وهو خطأ‪ ،‬فالحقيقة أن الجسد تابع وليس متبوعا مأمور وليس‬ ‫آمرا أال يجوع الجسد فنرفض إمداده بالطعام ألننا قررنا أن نصوم هذا اليوم هلل‪ ..‬أال يتحرك‬ ‫بشهوة فنزجره؟!‬ ‫أال نصحوا في الصباح فيبدأ الجسد تلقائيا في تنفيذ خطة عمل وضعها العقل وصنف‬ ‫بنودها بندا بندا‪ ..‬من ساعة إلى ساعة من التابع هنا ومن املتبوع؟‬ ‫ولحظة التضحية بالنفس حينما يضع الفدائي حزام الديناميت حول جسده ويتقدم‬ ‫ليحطم الدبابة ومن فيها‪ ..‬أين جسده هنا‪ ..‬أين املصلحة املادية التي يحققها بموته‪ ..‬ومن الذي‬ ‫يأمر اآلخر‪ ..‬إن الروح تقرر إعدام الجسد في لحظة مثالية تماما ال يمكن أن يفسرها مذهب‬ ‫‪45‬‬


‫مادي بأي مكسب مادي والجسد ال يستطيع أن يقاوم هذا األمر‪ ..‬وال يملك أي قوة ملواجهته‪،‬‬ ‫ال يملك إال أن يتالش ى تماما‪ ..‬وهنا يظهر أي الوجودين هو األعلى‪ ..‬وأي الطبيعتين هي اإلنسان‬ ‫حقا‪.‬‬ ‫وعندنا اليوم أكثر من دليل على أن الجسد هو الوجود الثانوي‪ ..‬ما يجري اآلن من حوادث‬ ‫البتر واالستبدال وزرع األعضاء‪ ..‬وما نقرأه عن القلب اإللكتروني والكلية الصناعية وبنك‬ ‫الدم وبنك العيون ومخازن اإلكسسوار البشري حيث يجري تركيب السيقان واألذرع‬ ‫والقلوب‪.‬‬ ‫ولن تكون نكتة أن يدخل العريس على عروسه سنة ‪ 2000‬فيجدها تخلع طقم األسنان‬ ‫والباروكة والنهود الكاوتشوك والعين الصناعية والساق الخشبية فال يتبقى منها إال هيكل‬ ‫مثل شاسيه السيارة بعد نزع الجلد والكراس ي واألبواب‪.‬‬ ‫إلى هذه الدرجة يجري فك الجسم وتركيبه واستبداله دون أن يحدث ش يء للشخصية ألن‬ ‫هذه الذراع أو تلك الساق أو ذلك الشعر أو العين أو النهد كل هذه األشياء ليست هي‬ ‫اإلنسان‪ ..‬فها هي تنقل وتستبدل وتوضع مكانها بطاريات ومسامير وقطع من األلومنيوم دون‬ ‫أن يحدث ش يء‪ ..‬فاإلنسان ليس هذه األعضاء وإنما هو الروح الجالسة على عجلة القيادة‬ ‫لتدير هذه املاكينة التي اسمها الجسد‪.‬‬ ‫إنها اإلدارة التي يمثلها مجلس إدارة من خاليا املخ‪ ..‬ولكنها ليست املخ‪ ..‬فاملخ مثله مثل خاليا‬ ‫الجسد يصدع باألوامر التي تصدر إليه ويعبر عنها ولكنه في النهاية ليس أكثر من قفاز لها‪..‬‬ ‫قفاز تلبسه هذه اليد الخفية التي اسمها الروح وتتصرف به في العالم املادي‪.‬‬ ‫نفهم من هذه الشواهد كلها أن اإلنسان له طبيعتان‪:‬‬ ‫ طبيعة جوهرية حاكمة هي روحه‪.‬‬‫ وطبيعة ثانوية زائلة هي جسده‪.‬‬‫وما يحدث باملوت أن الطبيعة الزائلة تلتحق بالزوال والطبيعة الخالدة تلتحق بالخلود‬ ‫فيلتحق الجسد بالتراب وتلتحق الروح بعاملها الباقي‪.‬‬

‫‪46‬‬


‫ولعشاق الفلسفة نقدم دليال آخر على وجود الروح من الخاصية التي تتميز بها الحركة‪.‬‬ ‫فالحركة ال يمكن رصدها إال من خارجها‪.‬‬ ‫ال يمكن أن تدرك الحركة وأن تتحرك معها في نفس الفلك وإنما ال بد من عتبة خارجية‬ ‫تقف تقف عليها لترصدها‪ ..‬ولهذا تأتي عليك لحظة وأنت في أسانسير متحرك ال تستطيع أن‬ ‫تعرف هل هو واقف أم متحرك ألنك أصبحت قطعة واحدة معه في حركته‪ ..‬ال تستطيع‬ ‫ادراك هذه الحركة إال إذا نظرت من باب األسانسير إلى الرصيف الثابت في الخارج‪.‬‬ ‫ونفس الحالة في قطار يسير بنعومة على القضبان‪ ..‬ال تدرك حركة مثل هذا القطار وأنت‬ ‫فيه إال لحظة شروعه في الوقوف أو لحظة إطاللك من النافذة على الرصيف الثابت في‬ ‫الخارج‪.‬‬ ‫وباملثل ال يمكنك رصد الشمس وأنت فوقها ولكن يمكنك رصدها من القمر أو األرض‪ ..‬كما‬ ‫ال يمكنك رصد األرض وأنت تسكن عليها وإنما تستطيع رصدها من القمر‪.‬‬ ‫ال تستطيع أن تحيط بحالة إال إذا خرجت خارجها‪.‬‬ ‫ولهذا ما كنا نستطيع إدراك مرور الزمن لوال أن الجزء املدرك فينا يقف على عتبة منفصلة‬ ‫وخارجة عن هذا املرور الزمني املستمر (أي على عتبة خلود)‪ ..‬ولو كان إدراكنا يقفز مع عقرب‬ ‫الثواني كل لحظة ملا استطعنا أن ندرك هذه الثواني أبدا‪ ،‬وال نصرم إدراكنا كما تنصرم‬ ‫الثواني بدون أن يالحظ شيئا‪.‬‬ ‫وهي نتيجة مذهلة تعني أن هناك جزءا من وجودنا خارجا عن إطار املرور الزمني (أي خالد)‬ ‫هو الذي يالحظ الزمن من عتبة سكون ويدركه دون أن يتورط فيه ولهذا ال يكبر وال يشيخ‬ ‫وال يهرم وال ينصرم‪ ..‬ويوم يسقط الجسد ترابا سوف يظل هذا الجزء على حاله حيا حياته‬ ‫الخاصة غير الزمنية هذا الجز هو الروح‪.‬‬ ‫وكل منا يستطيع أن يحس بداخله هذا الوجود الروحي على صورة حضور وديمومة‬ ‫وشخوص وكينونة مغايرة تماما للوجود املادي املتغير املتقلب النابض مع الزمن خارجه‪.‬‬

‫‪47‬‬


‫هذه الحالة الداخلية التي ندركها في لحظات الصحو الباطني والتي أسميتها حالة حضور‪..‬‬ ‫هي املفتاح الذي يقودنا إلى الوجود الروحي بداخلنا ويضع يدنا على هذا اللغز الذي اسمه‬ ‫الروح‪..‬‬ ‫ودليل آخر على طبيعتنا الروحية هو شعورنا الفطري بالحرية‪ ،‬ولو كنا أجساما مادية‬ ‫ضمن إطار حياة مادية تكمنا القوانين املادية الحتمية ملا كان هناك معنى لهذا الشعور‬ ‫الفطري بالحرية‪.‬‬ ‫لنا الروح إذا تعلو على الزمن وتتخطى املوت وتتخطى الحتميات املادية‪.‬‬ ‫ماذا عن البعث إذا‪ ..‬؟‬ ‫لم يعد أحد بعد املوت ليخبرنا ماذا جرى له‪.‬‬ ‫ولم يأت يوم البعث لنقدم دليال ملموسا أو شاهد عيان‪.‬‬ ‫وكل ما يمكن قوله في موضوع البعث أنه حقيقة دينية يرجحها العقل والعلم‪.‬‬ ‫ملاذا يرجحها العقل والعلم؟‬ ‫ألن شواهد الوجود وظواهره تشير جميعها إلى أن هناك عودا على بدء ودورة لكل ش يء‪..‬‬ ‫بعد النهار يأتي الليل ثم يعود من جديد فيأتي النهار‪ ،‬والشمس تشرق ثم تغرب ثم تعود‬ ‫فتشرق‪.‬‬ ‫الصيف والخريف والشتاء والربيع ثم تعود فتتكرر الدورة من جديد فيأتي الصيف ثم‬ ‫الخريف ثم الشتاء الخ‪ ..‬بعد اليقظة ونوم الليل نعود فنستيقظ من جديد‪ ..‬وهذا يرجح أنه‬ ‫بعد رقود املوت هناك صحوة بعث‪ ..‬ألن هناك عودا لكل ش يء‪ ..‬وهللا يسمي نفسه في القرآن‬ ‫املبدئ املعيد‪.‬‬ ‫((كما بدأكم تعودون))‪..‬‬ ‫((يبدأ الخلق ثم يعيده))‪..‬‬ ‫أال يدور كل ش يء في فلك من الذرة إلى املجرة‪ ،‬حتى الحضارات لها دورات والتاريخ له دورات‪.‬‬ ‫الدليل اآلخر على البعث هو النظام املحكم الذي ليس فيه بادرة خلل واحدة من أكبر‬ ‫املجرات حتى أصغر الذرات حتى اإللكترون الذي ال ُيرى نجد النظام والقانون يهيمن على كل‬ ‫‪48‬‬


‫ش يء‪ ..‬حتى اإللكترون املتناهي في الصغر ال يستطيع أن ينتقل من فلك إلى فلك في الذرة إال‬ ‫إذا أعطى أو أخذ مقدارا من الطاقة يساوي حركته‪ ..‬وكأنه راكب قطار ال يستطيع أن يصل‬ ‫أي مكان بدون تذكرة‪ ..‬فكيف نتصور في هذا النظام أن يهرب قاتل أو يفر ظالم من الجزاء‬ ‫ملجرد أنه ضلل‪.‬‬ ‫إن العقل يتصور أنه البد سيلقى جزاءه حتما‪ ،‬وإن هناك البد عاملا آخر يسوى فيه‬ ‫الحساب‪ ..‬هكذا يقول العدل‪.‬‬ ‫ونحن مفطورون على تحري العدل وعلى حب العدل والبحث عن العدل ومحاولة تحقيق‬ ‫العدل‪.‬‬ ‫ومع ذلك فالعدل في الدنيا غير موجود‪.‬‬ ‫وكما يقول أهل الفكر إذا كان الظمأ إلى املاء يدل على وجود املاء‪ ..‬فال بد أن الظمأ إلى العدل‬ ‫يدل على وجود العدل‪ ..‬فإن لم يكن موجودا في دنيانا فال بد أن له يوما وساعة تنصب فيها‬ ‫موازينه‪.‬‬ ‫كل هذه مؤشرات تشير وترجح أن هناك بعثا وحسابا وعاملا آخر‪.‬‬ ‫واملؤمن الذي يصدق القرآن في غير حاجة إلى هذه االستدالالت ألنه آمن بقلبه وأراح نفسه‬ ‫من الجدل‪.‬‬ ‫يبقى بعد ذلك أن نسأل‪ :‬وما الروح؟‪..‬‬ ‫((ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إال قليال))‪..‬‬ ‫هي لغز وال أحد يعلم عنها شيئا‪.‬‬ ‫والعجيب أنه كلما جاء ذكر الروح في القرآن ذكرت معها كلمة من أمر ربي‪.‬‬ ‫((يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده))‪..‬‬ ‫((ينزل املالئكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده))‪..‬‬ ‫((تنزل املالئكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر))‪..‬‬ ‫((وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا))‪..‬‬ ‫دائما كلمة "من أمرنا"‪" ..‬من أمره"‪" ..‬من أمر ربي"‪ ..‬كلما ذكرت الروح‪.‬‬ ‫‪49‬‬


‫أيكون أمر هللا روحا؟‬ ‫وكلمة هللا روحا؟‬ ‫ألم يقل هللا عن املسيح عليه السالم أنه‪:‬‬ ‫((كلمة منه اسمه املسيح عيس ى بن مريم))‪..‬‬ ‫وأنه‪:‬‬ ‫((كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه))‪..‬‬ ‫الكلمة‪ ..‬األمر‪ ..‬الروح‪ ..‬هل هي ألفاظ مترادفة ملعنى واحد‪..‬‬ ‫هي مجرد إشارات‪..‬‬ ‫وال أحد يعلم الحقيقة إال العليم‪..‬‬ ‫يبقى بعد ذلك سؤالك عن تحضير األرواح‪.‬‬ ‫وتحضير األرواح عندنا أمر مشكوك فيه‪.‬‬ ‫مشكوك فيه أنه ظواهر الغرفة املظلمة سببها حضور روح فالن أو عالن‪.‬‬ ‫ومفكر كبير مثل هنري سودر يقول‪ :‬إن تلك الظواهر مصدرها العقل الباطن للوسيط‬ ‫والقوى‬ ‫الروحية للوسيط ذاته‪ ..‬وال ش يء يحضر باملرة‪.‬‬ ‫ويقول املفكرون الهنود‪ :‬إن الذي يتلبس الوسيط أثناء التحضير هي أرواح سفلية تعرف‬ ‫بعض األشياء عن املوتى وتستخدمها في السخرية بعقول املوجودين والضحك عليهم‪.‬‬ ‫ويقول الصوفية املسلمون إن الذي يحضر في تلك الجلسات ليس الروح ولكن القرين‪،‬‬ ‫وهو الجن الذي كان يصاحب امليت أثناء حياته‪ ..‬وهو بحكم هذه الصحبة يعرف أسراره‪..‬‬ ‫وألن الجن معمر فإنه يبقى حيا بعد موت صاحبه‪ ..‬وهو الذي يحضر الجلسات ويفش ي أسرار‬ ‫صاحبه ويقلد صوته وعاداته ليسخر من املوجودين على عادة الجن في عدائهم لإلنسان‪.‬‬ ‫وهم يقولون‪ :‬إننا إذا دققنا جرس املكتب فإن الذي يحضر هو الخادم‪ ..‬أما السادة فإنهم‬ ‫ال يتركون عاملهم ويحضرون بهذه السذاجة وباملثل في عالم األرواح‪ ..‬فالذي يحضر في‬ ‫الجلسات ويهرج على املوجودين هي األرواح السفلية والجن ومن في مستواهم‪.‬‬ ‫‪51‬‬


‫أما األرواح البشرية فهي في عالم آخر هو عالم البرزخ وال يمكن استحضارها‪ ..‬ولكنها قد‬ ‫تتصل بمن تحب في الحلم أو في اليقظة إذا توفرت الظروف املالئمة‪.‬‬ ‫ومن الجلسات الكثيرة التي حضرناها ومما جمعنا من خبرة خاصة في هذا املوضوع نقول‪:‬أنه‬ ‫ال يوجد دليل واحد على أن ظواهر الغرفة املظلمة سببها حضور الروح املطلوبة‪.‬‬ ‫وربما كان رأي الصوفية املسلمين أكثر اآلراء تفسيرا ملا يحدث‪.‬‬ ‫واملسألة ما زالت قيد البحث‪.‬‬ ‫ولألسف الشعوذات في هذا املوضوع أكثر من الحقائق‪ ..‬والكلمة األخيرة لم تقل بعد‪.‬‬ ‫ال شك أنك سوف تضحك على كلمات مثل الجن واألرواح السفلية‪ ..‬والقرين‪.‬‬ ‫ولك عذرك‪ ..‬فإذا كنت ال تؤمن بروحك أنت فكيف يتوقع منك أن تؤمن بجني‪..‬‬ ‫وإذا كنت ال تؤمن باهلل فكيف ينتظر منك أن تؤمن بشياطينه‪.‬‬ ‫ومع ذلك لو كنت ولدت منذ مئة سنة وجاءك رجل يحدثك عن أشعة غير منظورة تخرق‬ ‫الحديد‪ ،‬صور تنتقل في الهواء عبر املحيطات في أقل من ثانية‪ ،‬ورائد فضاء يمش ي على تراب‬ ‫القمر‪ ..‬ألم تكن تضحك وتقهقه وتستلقي على قفاك أضعاف ما تضحك اآلن‪ ..‬وتقول‬ ‫لنفسك‪ ..‬هذا رجل هارب من مستشفى املجاذيب ومع ذلك فيا لها من حقائق ملء السمع‬ ‫والبصر اآلن‪.‬‬

‫‪50‬‬


‫الفصل التاسع‪ :‬الضـمـري‬ ‫قال صاحبي‪:‬‬ ‫أنتم تتكلمون عن الضمير في تقديس كما لو كان شيئا مطلقا مع أنه أحد املصنوعات‬ ‫االجتماعية‪ ،‬عملة نحاسية ال أكثر صكت ودمغت وسبكت في فرن التعامالت االجتماعية وهو‬ ‫عندنا ش يء تتغير أحكامه وضوابطه وفق املصالح الجارية والقيمة التي تفيد نقول عنها خيرا‬ ‫والقيمة التي تضر نقول عنها شرا ولو كانت هذه القيمة هي العفة التي تتمسكون بها كعيونكم‪.‬‬ ‫قلت له في هدوء‪:‬‬ ‫نعم‪ ..‬هذا هو رأي الفلسفة املادية على ما أسمع‪ ..‬أن الضمير سلطة زجر وردع نبتت من‬ ‫الدواعى االجتماعية‪ ..‬مجرد تحصيل خبرة تتفاوت بين شخص وشخص وبين عصر وعصر‬ ‫وبين أمة وأمة‪.‬‬ ‫هذا كالمكم‪ ..‬ولكن الحقيقة غير ذلك‪..‬‬ ‫الحقيقة أن الضمير نور وضعه هللا في الفطرة ومؤشر ودليل وبوصلة نولد بها‪ ..‬تهدينا إلى‬ ‫الحقائق وكل دور االكتساب االجتماعى أنه يجلو مرآة هذه البوصلة ويصقل زجاجها‪.‬‬ ‫ولنا على ذلك براهين تؤيدنا وتشجب كالمكم‪..‬‬ ‫انظر إلى عالم الحيوان حيث ال مجتمع‪ ،‬ترى القطة تتبرز ثم تستدير لتغطى فضالتها‬ ‫بالتراب‪ ،‬في أي مجتمع قططى تعلمت القطة هذا الوازع؟‬ ‫وكيف ميزت بين القذارة والنظافة؟‬ ‫وأنت ترى القطة تسرق السمكة فإذا ضبطتها وضربتها على رأسها طأطأت ونكست بصرها‬ ‫في إحساس واضح بالذنب‪ ..‬وتراها تلهو مع األطفال في البيت فتكسر فازة أثناء اللعب‪ ..‬فماذا‬ ‫يحدث‪ ،‬إنها تجرى في فزع وتختبيء تحت الكراس ى وقد أدركت أنها أخطأت‪.‬‬ ‫كل هذه شواهد ومالمح ضمير‪.‬‬ ‫وليس في مملكة القطط دواع لنشأة هذه املشاعر‪ ..‬وال نرى حتى مجتمعا قططيا من‬ ‫األساس‪.‬‬ ‫‪52‬‬


‫وتقاليد الوفاء الزوجى في الحمام‪..‬‬ ‫ونبل الحصان في ارتباطه بصاحبه حتى املوت‪..‬‬ ‫وكبرياء األسد وترفعه عن الهجوم على فريسته من الخلف‪ ..‬وخجل الجمل وتوقفه عن‬ ‫مضاجعة أنثاه إذا وجد أن هناك عينا ترقبه‪..‬‬ ‫ثم تلك الحادثة البليغة التي رآها جمهور املشاهدين في السيرك القومى بالقاهرة‪ ..‬حينما‬ ‫قفز األسد على املدرب محمد الحلو من الخلف وأنشب مخالبه في كتفه وأصابه بجرج قاتل‪..‬‬ ‫وبقية الحادثة يرويها موظفو السيرك‪ ..‬كيف امتنع األسد عن الطعام‪ ..‬وحبس نفسه في‬ ‫زنزانته ال يبرحها‪ ..‬وكيف نقلوه إلى حديقة الحيوان وقدموا له أنثى لتروح عنه فضربها‬ ‫وطردها‪ ..‬وظل على صيامه ورفضه للطعام ثم انقض على يده اآلثمة وظل يمزقها حتى نزف‬ ‫ومات‪.‬‬ ‫حيوان ينتحر ندما وتكفيرا عن جريمته‪..‬‬ ‫من أي مجتمع في دنيا السباع أخذ األسد هذه التقاليد‪ ..‬هل في مجتمع السباع أن افتراس‬ ‫اإلنسان جريمة تدعو إلى االنتحار‪.‬‬ ‫نحن هنا أمام نبل وخلق وضمير ال نجده في بشر‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املادي وللتصور‬ ‫املادي لحقيقة الضمير‪.‬‬ ‫ونحن أمام فشل كامل للتفسير‬ ‫وال تفسير ملا نراه سوى ما يقوله الدين‪ ..‬من أن الضمير هو نور وضعه هللا في الفطرة وأن‬ ‫كل دور االكتساب االجتماعي أن يجلو صدأ النفس فتشف عن هذا النور االلهي‪.‬‬ ‫وهذا هو ما حدث بين األسد ومدربه‪ ..‬املعاشرة واملحبة واملصاحبة صقلت تلك النفس‬ ‫الحيوانية فأيقظت ذلك القبس الرحمانى‪ ..‬فإذا باألسد يحزن ويندم وينتحر كمدا كالبشر‪.‬‬ ‫"الحالل ّبين والحرام ّبين"‪ . ..‬كما قال نبينا عليه الصالة والسالم‪.‬‬ ‫"استفت قلبك وإن أفتاك الناس"‪.‬‬ ‫لسنا في حاجة إلى كلية شريعة لنعرف الخطأ من الصواب والحرام من الحالل‪ ..‬فقد وضع‬ ‫هللا في قلب كل منا كلية شريعة‪ ..‬وميزانا ال يخطئ‪ ..‬وكل ما نحن مطالبون به أن نجلو نفوسنا‬

‫‪53‬‬


‫من غواش ى املادة ومن كثافة الشهوات فنبصر ونرى ونعرف ونميز بدون عكاز (الخبرة‬ ‫االجتماعية) وذلك بنور هللا الذي اسمه الضمير‪.‬‬ ‫َّ ُ ُ َ‬ ‫ين َآم ُنوا َإن َت َّت ُقوا ّ َ‬ ‫((يا َأ ُّي َها َّالذ َ‬ ‫اّلل َيج َعل لكم فرقانا)) [ األنفال اآلية ‪.]27‬‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫يقول هللا في الحديث القدس ي للصوفي محمد بن عبد الجبار‪" :‬كيف تيأس ّ‬ ‫مني وفي قلبك‬ ‫سفيري ومتحدثي"‪.‬‬ ‫الضمير حقيقة ثابتة والقيم األخالقية األساسية هي باملثل ثابتة فقتل البريء لن يصبح‬ ‫يوما ما فضيلة وكذا السرقة والكذب وإيذاء اآلخرين والفحشاء والفجور والبذاءة والغلظة‬ ‫والقسوة والنفاق والخيانة كل هذه نقائض خلقية‪ ،‬وسوف تظل هكذا إلى أن يرث هللا األرض‬ ‫ومن عليها‪.‬‬ ‫وكذلك سوف تظل املحبة والرحمة والصدق والحلم والعفو واإلحسان فضائل‪ ..‬ولن‬ ‫تتحول إلى جرائم إال إذا فسدت السماوات واألرض وساد الجنون وانتهى العقل‪.‬‬

‫‪54‬‬


‫الفصل العاشر‪ :‬هل مناسك احلج وثنية؟‬ ‫قال صاحبي ‪-‬وهو يفرك يديه ارتياحا ويبتسم ابتسامة خبيثة تبدي نواجذه وقد ملعت عيناه‬ ‫بذلك البريق الذي يبدو في وجه املالكم حينما يتأهب لتوجيه ضربة قاضية‪:-‬‬ ‫أال تالحظ معي أن مناسك الحج عندكم هي وثنية صريحة‪ .‬ذلك البناء الحجري الذي‬ ‫تسمونه الكعبة وتتمسحون به وتطوفون حوله‪ ،‬ورجم الشيطان‪ ..‬والهرولة بين الصفا‬ ‫واملروة‪ ،‬وتقبيل الحجر األسود‪ ..‬وحكاية السبع طوفات والسبع رجمات والسبع هروالت وهي‬ ‫بقايا من خرافة األرقام الطلسمية في الشعوذات القديمة‪ ،‬وثوب اإلحرام الذي تلبسونه على‬ ‫اللحم‪..‬‬ ‫ال تؤاخذني إذا كنت أجرحك بهذه الصراحة ولكن ال حياء في العلم‪.‬‬ ‫وراح ينفث دخان سيجارته ببطء ويراقبني من وراء نظارته‪.‬‬ ‫قلت في هدوء‪:‬‬ ‫أال تالحظ معي أنت أيضا أن في قوانين املادة التي درستها أن األصغر يطوف حول األكبر‪،‬‬ ‫اإللكترون في الذرة يدور حول النواة‪ ،‬والقمر حول األرض‪ ،‬واألرض حول الشمس‪ ،‬والشمس‬ ‫حول املجرة‪ ،‬واملجرة حول مجرة أكبر‪ ،‬إلى أن نصل إلى "األكبر مطلقا" وهو هللا‪ ..‬أال نقول "هللا‬ ‫أكبر"‪ ..‬أي أكبر من كل ش يء‪..‬‬ ‫وأنت اآلن تطوف حوله ضمن مجموعتك الشمسية رغم أنفك وال تملك إال أن تطوف فال‬ ‫ش يء ثابت في الكون إال هللا هو الصمد الصامد الساكن والكل في حركة حوله‪..‬‬ ‫وهذا هو قانون األصغر واألكبر الذي تعلمته في الفيزياء‪..‬‬ ‫أما نحن فنطوف باختيارنا حول بيت هللا‪..‬‬ ‫وهو أول بيت اتخذه اإلنسان لعبادة هللا‪..‬‬ ‫فأصبح من ذلك التاريخ السحيق رمزا وبيتا هلل‪..‬‬

‫‪55‬‬


‫أال تطوفون أنتم حول رجل محنط في الكرملين تعظمونه وتقولون أنه أفاد البشرية‪ ،‬ولو‬ ‫عرفتم لشكسبير قبرا لتسابقتم إلى زيارته بأكثر مما نتسابق إلى زيارة محمد عليه الصالة‬ ‫والسالم‪..‬‬ ‫أال تضعون باقة ورد على نصب حجري وتقولون أنه يرمز للجندي املجهول فلماذا تلوموننا‬ ‫ألننا نلقي حجرا على نصب رمزي نقول أنه يرمز إلى الشيطان‪..‬‬ ‫أال تعيش في هرولة من ميالدك إلى موتك ثم بعد موتك يبدأ ابنك الهرولة من جديد وهي‬ ‫نفس الرحلة الرمزية من الصفا (الصفاء أو الخواء أو الفراغ رمز للعدم) إلى املروة وهي النبع‬ ‫الذي يرمز إلى الحياة و الوجود‪..‬‬ ‫من العدم إلى الوجود ثم من الوجود إلى العدم‪..‬‬ ‫أليست هذه هي الحركة البندولية لكل املخلوقات‪..‬‬ ‫أال ترى في مناسك الحج تلخيصا رمزيا عميقا لكل هذه األسرار‪..‬‬ ‫ورقم ‪ 7‬الذي تسخر منه‪ ..‬دعني أسألك ما السر في أن درجات السلم املوسيقي ‪( 7‬صول ال‬ ‫س ي دو ري مي فا) ثم بعد املقام السابع يأتي جواب الصول من جديد‪ ..‬فال نجد ‪ 5‬وإنما نعود‬ ‫إلى سبع درجات أخرى وهلم جر‪ ،‬وكذلك درجات الطيف الضوئي ‪ 7‬وكذلك تدور اإللكترونات‬ ‫حول نواة الذرة في نطاقات ‪ 7‬والجنين ال يكتمل إال في الشهر ‪ 7‬وإذا ولد قبل ذلك يموت وأيام‬ ‫األسبوع عندنا وعند جميع أفراد الجنس البشري ‪ 7‬وضعوها كذلك دون أن يجلسوا ويتفقوا‪..‬‬ ‫أال يدل ذلك على ش يء‪ ..‬أم أن كل هذه العلوم هي األخرى شعوذات طلسمية‪.‬‬ ‫أال تقبل خطابا من حبيبتك‪ ..‬هل أنت وثني؟ فلماذا تلومنا إذا قبلنا ذلك الحجر األسود‬ ‫الذي حمله نبينا محمد عليه الصالة والسالم في ثوبه وقبله‪ .‬ال وثنية في ذلك باملرة‪ ..‬ألننا ال‬ ‫نتجه بمناسك العبادة نحو الحجارة ذاتها‪ ..‬وإنما نحو املعاني العميقة والرموز والذكريات‪.‬‬ ‫إن مناك الحج هي عدة مناسبات لتحريك الفكر وبعث املشاعر وإثارة التقوى في القلب‪ .‬أما‬ ‫ثوب اإلحرام الذي نلبسه على اللحم ونشترط أال يكون مخيطا فهو رمز للخروج من زينة‬ ‫الدنيا وللتجرد التام أمام حضرة الخالق‪ ..‬تماما كما نأتي إلى الدنيا في اللفة ونخرج من الدنيا‬ ‫في لفة وندخل القبر في لفة‪..‬‬ ‫‪56‬‬


‫أال تشترطون أنتم لبس البدل الرسمية ملقابلة امللك ونحن نقول‪ :‬إنه ال ش يء يليق بجاللة‬ ‫هللا إال التجرد وخلع جميع الزينة ألنه أعظم من جميع امللوك وألنه ال يصلح في الوقفة أمامه‬ ‫إال التواضع التام والتجرد‪ ..‬وألن هذا الثوب البسيط الذي يلبسه الغني والفقير واملهراجا‬ ‫واملليونير أمام هللا فيه معنى آخر لألخوة رغم تفاوت املراتب والثروات‪.‬‬ ‫والحج عندنا اجتماع عظيم ومؤتمر سنوي‪..‬‬ ‫ومثله صالة الجمعة وهي املؤتمر الصغير الذي نلتقي فيه كل أسبوع‪.‬‬ ‫هي كلها معان جميلة ملن يفكر ويتأمل‪ ..‬وهي أبعد ما تكون عن الوثنية‪.‬‬ ‫ولو وقفت معي في عرفة بين عدة ماليين يقولون "هللا أكبر" ويتلون القرآن بأكثر من عشرين‬ ‫لغة ويهتفون لبيك اللهم لبيك ويبكون ويذوبون شوقا وحبا‪ ،‬لبكيت أنت أيضا دون أن تدري‬ ‫وتذوب في الجمع الغفير من الخلق‪ ..‬وأحسست بذلك الفناء والخشوع أمام اإلله العظيم‬ ‫مالك امللك الذي بيده مقاليد كل ش يء‪.‬‬

‫‪57‬‬


‫الفصل احلادي عشر‪ :‬ملاذا ال يكون القرآن من تأليف حممد؟‬ ‫قال صاحبي وهو ينتقى عباراته‪:‬‬ ‫ال أريد أن أجرحك فأنا أعلم اعتزازك بالقرآن وأنا معك في أنه كتاب قيم‪ ..‬ولكن ملاذا ال يكون‬ ‫من تأليف محمد؟‪ ..‬إن رجال في عظمة محمد ال يستغرب منه أن يضع كتابا في عظمة القرآن‪..‬‬ ‫سوف يكون هذا منطقيا أكثر من أن نقول إن هللا أنزله‪ .‬فإنا لم نر هللا ينزل من السماء شيئا‪..‬‬ ‫ونحن في عصر من الصعب أن نقنع فيه إنسانا بأن هناك مالكا اسمه جبريل نزل بن السماء‬ ‫بكتاب ليوحى به إلى أحد‪.‬‬ ‫قلت في هدوء‪:‬‬ ‫بل نحن في عصر يسهل فيه تماما أن نصدق بأن هناك مالئكة ال ترى‪ ،‬وبأن الحقائق يمكن‬ ‫أن تلقى إلى اإلنسان وحيا‪ ..‬فهم يتكلمون اليوم عن أطباق طائرة تنزل على األرض‪ .‬كواكب‬ ‫بعيدة وأشعة غير منظورة تقتل‪ ،‬وأمواج ال سلكية تحدد األهداف وتضربها‪ ..‬وصور تتحول‬ ‫إلى ذبذبات في الهواء ثم تستقبل في أجهزة صغيرة كعلب التبغ‪ ..‬وكاميرات تصور األشباح‪..‬‬ ‫وعيون ترى في الظالم‪ ..‬ورجل يمش ى على القمر‪ ..‬وسفينة تنزل على املريخ‪ ..‬لم يعد غريبا أن‬ ‫نسمع أن هللا أرسل ملكا خفيا من مالئكته‪ ..‬وأنه ألقى بوحيه على أحد أنبيائه‪ ..‬لقد أصبح‬ ‫وجود جبريل اليوم حقيقة من الدرجة الثانية‪ ..‬وأقل عجبا وغرابة مما نرى ونسمع كل يوم‪.‬‬ ‫أما ملاذا ال نقول إن القرآن من تأليف محمد عليه الصالة والسالم‪ ..‬فألن القران بشكله‬ ‫وعباراته وحروفه وما احتوى عليه من علوم ومعارف وأسرار وجمال بالغى ودقة لغوية هو‬ ‫مما ال يدخل في قدرة بشر أن يؤلفه‪ ..‬فإذا أضفنا الى ذلك أن محمدا عليه الصالة والسالم‬ ‫كان أميا‪ ،‬ال يقرأ وال يكتب ولم يتعلم في مدرسة ولم يختلط بحضارة‪ ،‬ولم يبرح شبه الجزيرة‬ ‫العربية‪ ،‬فإن احتمال الشك واحتمال إلقاء هذا السؤال يغدو مستحيال‪ ..‬وهللا يتحدى‬ ‫املنكرين ممن زعموا أن القرآن مؤلف‪(( ..‬قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون‬ ‫هللا))‪ ..‬استعينوا بالجن واملالئكة وعباقرة اإلنس وأتوا بسورة من مثله وما زال التحدى قائما‬ ‫ولم يأت أحد بش يء‪ . ..‬إال ببعض عبارات مسجوعة ساذجة سموها "سورة من مثله"‪ . ..‬أتى‬ ‫‪58‬‬


‫بها أناس يعتقدون أن القرآن مجرد كالم مسجوع‪ ..‬ولكن سورة من مثله‪ ..‬أي بها نفس‬ ‫اإلعجاز البالغي و العلمي‪..‬‬ ‫وإذا نظرنا إلى القرآن في حياد وموضوعية فسوف نستبعد تماما أن يكون محمد عليه‬ ‫الصالة والسالم هو مؤلفه‪.‬‬ ‫ أوال‪ :‬ألنه لو كان مؤلفه لبث فيه همومه وأشجانه‪ ،‬ونحن نراه في عام واحد يفقد زوجه‬‫خديجة وعمه أبا طالب وال سند له في الحياة غيرهما‪ ..‬وفجيعته فيهما ال تقدر‪ ..‬ومع ذلك ال‬ ‫يأتي لهما ذكر في القرآن وال بكلمة‪ ..‬وكذلك يموت ابنه إبراهيم ويبكيه‪ ،‬وال يأقى لذلك خبر في‬ ‫القرآن‪ ..‬القرآن معزول تماما عن الذات املحمدية‪.‬‬ ‫بل إن اآلية لتأتى مناقضة ملا يفعله محمد وما يفكر فيه‪ ..‬وأحيانا تنزل اآلية معاتبة له كما‬ ‫حدث بصدد األعمى الذي انصرف عنه النبي إلى أشراف قريش‪(( :‬عبس وتولى * أن جاءه‬ ‫األعمى * وما يدريك لعله يزكى * أو يذكر فتنفعه الذكرى)) [عبس‪.]6-1:‬‬ ‫وأحيانا تنزل اآلية فتنقض عمال من أعمال النبي‪(( :‬ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن‬ ‫في األرض تريدون عرض الدنيا وهللا يريد اآلخرة وهللا عزيز حكيم * لوال كتاب من هللا سبق‬ ‫ملسكم فيما أخذتم عذاب عظيم)) [األنفال‪.]25-27:‬‬ ‫وأحيانا يأمر القرآن محمد بأن يقول ألتباعه ما ال يمكن أن يقوله لو أنه كان يؤلف الكالم‬ ‫تأليفا‪(( :‬قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدرى ما يفعل بي وال بكم)) [األحقاف‪.]7:‬‬ ‫ال يوجد نبي يتطوع من تلقاء نفسه ليقول ألتباعه"ال أدرى ما يفعل بي وال بكم"‪ ..‬ال أملك‬ ‫لنفس ي ضرا وال نفعا‪ ..‬وال أملك لكم ضرا وال نفعا‪ .‬فإن هذا يؤدى إلى أن ينفض عنه أتباعه‪.‬‬ ‫وهذا ما حدث فقد اتخذ اليهود هذه اآلية عذرا ليقولوا‪ ..‬ما نفع هذا النبي الذي ال يدري‬ ‫ماذا يفعل به وال بنا‪ ..‬هذا رجل ال جدوى فيه‪ .‬مثل هذه اآليات ما كان يمكن أن يؤلفها النبي‬ ‫لو كان يضع القرآن من عند نفسه‪.‬‬ ‫ ثانيا‪ :‬لو نظرنا بعد ذلك في العبارة القرآنية لوجدنا أنها جديدة منفردة في رصفها وبنائها‬‫ومعمارها ليس اال شبيه فيما سبق من أدب العرب وال شبيه فيما أتى الحقا بعد ذلك‪ ..‬حتى‬ ‫لتكاد اللغة تنقسم إلى شعر ونثر وقرآن‪ ..‬فنحن أمام كالم هو نسيج وحده ال هو بالنثر وال‬ ‫‪59‬‬


‫بالشعر‪ .‬فموسيقى الشعر تأتى من الوزن ومن التقفية فنسمع الشاعر ابن األبرص األسدى‬ ‫ينشد‪:‬‬ ‫فليس يبدى وال يعيد‬ ‫أقفر من أهله عبيد‬ ‫هنا املوسيقى تخرج من التشطير ومن التقفية على الدال املمدودة‪ ،‬فهي موسيقى خارجية‪..‬‬ ‫أما موسيقى القران فهي موسيقى داخلية‪(( :‬والضحى * والليل إذ ا سجى)) [الضحى‪.]2-1:‬‬ ‫ال تشطير وال تقفية في هذه العبارة البسيطة‪ ،‬ولكن املوسيقى تقطر منها‪ ..‬من أين؟ إنها‬ ‫موسيقى داخلية‪.‬‬ ‫اسمع هذه اآليات‪ (( :‬ب إني وهن العظم ّ‬ ‫مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب‬ ‫ر‬ ‫شقيا)) [مريم‪.]6:‬‬ ‫وهذه اآليات‪(( :‬طه * ما انزلنا عليك القران لتشقى * إال تذكرة ملن يخش ى * تنزيال ممن خلق‬ ‫األرض والسموات العلى * الرحمن على العرش استوى)) [طه‪.]5-1:‬‬ ‫فإذا تناولت اآليات تهديدا تحول بناء العبارة ونحتها إلى جالميد صخر‪ ..‬وأصبح لإليقاع‬ ‫صلصلة نحاسية تصخ السمع‪(( :‬إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر * تنزع‬ ‫الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر)) [القمر‪..]20-17:‬‬ ‫كلمات مثل "صرصرا"‪ ..‬و"منقعر"‪ ..‬كل كلمة كأنها جلمود صخر‪ .‬فإذا جاءت اآلية لتروى‬ ‫خبرا هائال كما في نهاية الطوفان تقاصرت العبارات وكأنها إشارات "مورس" التلغرافية‪.‬‬ ‫وأصبحت اآلية كلها كأنها تلغراف مقتضب له وقع هائل‪(( :‬وقيل يأرض ابلعي ماءك ويا سماء‬ ‫أقلعى وغيض املاء وقض ى األمر)) [هود‪.]66:‬‬ ‫هذا التلون في نحت األلفاظ وفي بناء العبارة وفي إيقاع الكلمات مع املعاني واملشاعر‪ ..‬يبلغ‬ ‫في القرآن الذروة ويأتي دائما منسابا ال تكلف فيه والتعمل‪.‬‬ ‫ ثالثا‪ :‬إذا مضينا في التحليل أكثر فإنا سنكتشف الدقة البالغة واإلحكام املذهل‪ ..‬كل حرف‬‫في مكانه ال تقديم وال تأخير‪ ..‬ال تستطيع أن تضع كلمة مكان كلمة‪ ،‬وال حرفا مكان حرف‪ ..‬كل‬ ‫لفظة تم اختيارها من مليون لفظة بميزان دقيق‪ ..‬وسنرى أن هذه الدقة البالغة ال مثيل لها‬ ‫في التأليف‪.‬‬ ‫‪61‬‬


‫انظر إلى هذه الكلمة "لواقح" في اآلية‪(( :‬وأرسلنا الرياح لواقح)) [الحجر‪.]22:‬‬ ‫وكانوا يفسرونها في املاض ي على املعنى املجازى بمعنى أن الرياح تثير السحب فتسقط املطر‬ ‫فيلقح األرض بمعنى "يخصبها" ثم عرفنا اليوم أن الرياح تسوق السحب إيجابية التكهرب‬ ‫وتلقى بها في أحضان السحب سالبة التكهرب فيحدث البرق والرعد واملطر‪ ..‬وهي بهذا املعنى‬ ‫"لواقح" أيضا‪ ،‬ونعرف اآلن أيضا أن الرياح تنقل حبوب اللقاح من زهرة إلى زهرة فتلقحها‬ ‫باملعنى الحرفي‪ ،‬ونعرف أخيرا أن املطر ال يسقط إال بتلقيح قطيرات املاء بذرات الغبار فتنمو‬ ‫القطيرات حول هذه األنوية من الغبار وتسقط مطرا‪ .‬كها نحن أوالء أمام كلمة صادقة مجازيا‬ ‫وحرفيا وعلميا‪ ،‬ثم هي بعد ذلك جميلة فنيا وأدبيا وذات إيقاع حلو‪.‬‬ ‫هنا نرى منتهى الدقة في انتقاء اللفظة ونحتها‪ ،‬وفي آية أخرى‪(( :‬وال تأكلوا أموالكم بينكم‬ ‫بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس باإلثم وأنتم تعلمون))‬ ‫[البقرة‪.]155:‬‬ ‫كلمة "تدلوا"!!‪ ..‬مع أن الحاكم الذي تلقى إليه األموال في األعلى وليس في األسفل!‪..‬‬ ‫ال‪ ،‬إن القران يصحح الوضع‪ ،‬فاليد التي تأخذ الرشوة هي اليد السفلى ولو كانت يد‬ ‫الحاكم‪ ..‬ومن هنا جاءته كلمة "تدلوا بها إلى الحكام" لتعبر في بالغة المثيل اال عن دناءة‬ ‫املرتش ى وسفله‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫وفي آية الجهاد‪(( :‬ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل هللا اثاقلتم إلى األرض)) [التوبة‪.]35:‬‬ ‫َّ‬ ‫القرآن يستعمل كلمة "اثاقلتم" بدال من تثاقلتم‪ ..‬يدمج الحروف إدماجا‪ ،‬ويلصقها إلصاقا‬ ‫ليعبر عن جبن الجبناء الذين يلتصقون باألرض و"يتربسون" فيها من الخوف إذا دعوا إلى‬ ‫القتال‪ ،‬فجاءت حروف الكلمة باملثل "متربسة"‪.‬‬ ‫وفي آية قتل األوالد من الفقر نراها جاءت على صورتين‪:‬‬ ‫((وال تقتلوا أوالدكم من إمالق نحن نرزقكم وإياهم)) [األ نعام‪.]151:‬‬ ‫((وال تقتلوا أوالدكم خشية إمالق نحن نرزقهم وإياكم)) [اإلسر اء‪.]31:‬‬ ‫والفرق بين اآليتين لم يأت اعتباطا‪ ،‬وإنما جاء ألسباب محسوبة‪ ..‬فحينما يكون القتل من‬ ‫إمالق فإن معناه أن األهل فقراء في الحاضر‪ ،‬فيقول‪ :‬نحن "نرزقكم" وإياهم‪ .‬وحينما يكون‬ ‫‪60‬‬


‫قتل األوالد خشية إمالق فإن معناه أن الفقر هو احتمال في املستقبل ولذا تشير اآلية إلى‬ ‫األبناء فتقول نحن "نرزقهم" وإياكم‪ .‬مثل هذه الفروق ال يمكن أن تخطر على بال مؤلف‪.‬‬ ‫وفي حاالت التقديم والتأخير نجد دائما أنه لحكمة‪ ،‬نجد أن السارق مقدم على السارقة في‬ ‫آية السرقة‪ ،‬في حين أن الزانية مقدمة على الزانى في آية الزنى‪ ..‬وذلك لسبب واضح‪ ،‬أن الرجل‬ ‫أكثر إيجابية في السرقة‪ ..‬أما في الزنى فاملرأة هي التي تأخذ املبادرة‪ ،‬من لحظة وقوفها أمام‬ ‫املرآة تضع "البارفان" وملسات "التواليت" وتختار الفستان أعلى الركبة فإنها تنصب الفخاخ‬ ‫للرجل املوعود‪.‬‬ ‫((الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة)) [النور‪.]2:‬‬ ‫((والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما)) [املائدة‪.]35:‬‬ ‫وباملثل تقديم السمع على البصر في أكثر من ‪ 12‬مكانا‪..‬‬ ‫((وجعل لكم السمع واألبصار واألفئدة)) [النحل‪.]75:‬‬ ‫((وجعلنا لكم سمعا وأبصارا وأفئدة)) [األحقاف‪.]22:‬‬ ‫((أسمع بهم وأبصر)) [مريم‪.]35:‬‬ ‫((إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئوال)) [اإلسراء‪.]32:‬‬ ‫((وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم وال أبصاركم)) [فصلت‪.]22:‬‬ ‫((ليس كمثله ش يء وهو السميع البصير)) [الشورى‪.]11:‬‬ ‫دائما السمع أوال‪..‬‬ ‫وال شك أن السمع أكثر إرهافا وكماال من البصر‪ ..‬إننا نسمع الجن وال نراه‪ ،‬واألنبياء سمعوا‬ ‫هللا وكلموه ولم يره أحد‪.‬‬ ‫وقد تلقى محمد القرآن سمعا‪ .‬واألم تميز بكاء ابنها في الزحام وال تستطيع أن تميز وجهه‪.‬‬ ‫والسمع يصاحب اإلنسان أثناء النوم فيظل صاحيا في حين تنام عيناه‪ ،‬ومن حاول تشريح‬ ‫جهاز السمع يعلم أنه أعظم دقة وإرهافا من جهاز البصر‪.‬‬ ‫وباملثل تقديم املال على الولد‪:‬‬ ‫((يوم الينفع مال وال بنون‪ .‬إال من أتى هللا بقلب سليم)) [الشعراء‪.]57-55:‬‬ ‫‪62‬‬


‫((إنما أموالكم وأوالدكم فتنة‪ ،‬وهللا عنده أجر عظيم)) [التغابن‪.]15:‬‬ ‫((لن تغنى عنكم أموالكم وال أوالدهم من هللا شيئا‪ ،‬وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون))‬ ‫[آل عمران‪.]12:‬‬ ‫((أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين * نسارع لهم في الخيرات بل ال يشعرون))‬ ‫[املؤمنون‪.]52-55:‬‬ ‫((فال تعجبك أموالهم وال أوالدهم إنما يريد أهلل ليعذبهم بها في الحياة الدنيا)) [التو بة‪.]55:‬‬ ‫((اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في األموال واألوالد كمثل‬ ‫غيث أعجب الكفار نباته)) [الحديد‪.]20:‬‬ ‫واألمثلة على هذا التقديم كثيرة والسر أن املال عند أكثر الناس أعز من الولد‪.‬‬ ‫ثم الدقة والخفاء واللطف في اإلعراب‪ .‬انظر إلى هذه اآلية‪(( :‬وإن طائفتان من املؤمنين‬ ‫اقتتلوا فأصلحوا بينهما)) [الحجرات‪.]7:‬‬ ‫مرة عوملت الطائفتان على أنهما جمع "اقتتلوا" ومرة على أنهما مثنى "فأصلحوا بينهما"‬ ‫والسر لطيف‪.‬‬ ‫فالطائفتان في القتال تلتحمان وتصبحان جمعا من األذرع املتضاربة‪ ..‬في حين أنهما في‬ ‫الصلح تتفصالن إلى اثنين‪ ..‬وترسل كل واحدة عنها مندوبا‪ ،‬ومن هنا قال‪:‬‬ ‫وإن طائفتان من املؤمنين "اقتتلوا" فأصلحوا "بينهما"!‬ ‫حتى حروف الجر والوصل والعطف تأتى وتمتنع في القرآن ألسباب عميقة‪ ،‬وبحساب دقيق‬ ‫محكم‪.‬‬ ‫مثال تأتي كلمة "يسألونك" في أماكن عديدة من القرآن‪:‬‬ ‫((يسألونك ماذا ينفقون قل العفو)) [البقرة‪.]217:‬‬ ‫((يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي)) [اإلسراء‪.]55:‬‬ ‫((يسألونك عن األهلة قل هي مواقيت للناس والحج)) [البقرة‪.]157:‬‬ ‫دائما الجواب بكلمة "قل"‪ ..‬ولكنها حين تأتى عن الجبال‪:‬‬ ‫((ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا)) [طه‪.]105:‬‬ ‫‪63‬‬


‫هنا ألول مرة جاءت "فقل" بدال من "قل"‪.‬‬ ‫والسبب ان كل األسئلة السابقة كانت قد سئلت بالفعل‪ ،‬اما سؤال الجبال فلم يكن قد‬ ‫سئل بعد‪ ،‬ألنه من أسرار القيامة‪ ،‬وكأنما يقول هللا‪ :‬فإذا سألوك عن الجبال "فقل"‪ ..‬فجاءت‬ ‫الفاء زاندة لسبب محسوب‪.‬‬ ‫أما في اآلية‪(( :‬وإذا سألك عبادى عنى فإني قريب أجيب دعوة الداع)) [البقرة‪.]152:‬‬ ‫هنا ال ترد كلمة "قل" ألن السؤال عن ذات هللا‪ ..‬وهللا أولى باإلجابة عن نفسه‪..‬‬ ‫كذلك الضمير "أنا" و"نحن"‪.‬‬ ‫يتكلم هللا بضمير الجمع حيثما يكون التعبير عن "فعل" إلهي تشترك فيه جميع الصفات‬ ‫اإللهية كالخلق‪ ،‬وإنزال القرآن وحفظه‪:‬‬ ‫((إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)) [الحجر‪.]7:‬‬ ‫((نحن خلقناكم فلوال تصدقون)) [الواقعة‪.]57:‬‬ ‫((إنا أنزلناه في ليلة القدر)) [القدر‪.]1:‬‬ ‫((أفرأيتم ما تمنون‪ .‬أأنتم تخلقونه أم نحن الحالقون)) [الواقعة‪.]57-55:‬‬ ‫((نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالم تبديال)) [اإلنسان‪.]25:‬‬ ‫و"نحن" هنا تعبر عن جمعية الصفات اإللهية وهي تعمل في إبداع عظيم مثل عملية الخلق‪.‬‬ ‫أما إذا جاءت اآلية في مقام مخاطبة بين هللا وعبده كما في موقف املكاملة مع موس ى‪ ..‬تأتي‬ ‫اآلية بضمير املفرد‪(( :‬إنني أنا هللا ال إله إال أنا فاعبدني وأقم الصالة لذكري)) [طه‪.]16:‬‬ ‫هللا يقول "أنا" ألن الحضرة هنا حضرة ذات‪ ،‬وتنبيها منه سبحانه على مسألة التوحيد‬ ‫والوحدانية في العبادة‪.‬‬ ‫ونجد مثل هذه الدقة الشديدة في آيتين متشابهتين عن الصبر تفترق الواحدة عن األخرى‬ ‫في حرف الالم‪.‬‬ ‫يقول لقمان لولده‪(( :‬واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم األمور)) [لقمان‪]17:‬‬ ‫وفي آية أخرى عن الصبر نقرأ‪(( :‬وملن صبر وغفر إن ذلك ملن عزم األمور)) [الشورى‪.]63:‬‬

‫‪64‬‬


‫الصبر في األولى "من عزم األمور" وفي الثانية "ملن عزم األمور"‪ ..‬وسر التوكيد بالالم في الثانية‬ ‫أنه صبر مضاعف‪ ،‬ألنه صبر على عدوان بشري لك فيه غريم‪ ،‬وأنت مطالب فيه بالصبر‬ ‫واملغفرة وهو أمر اشد على النفس من الصبر على القضاء اإللهي الذي ال حيلة فيه‪.‬‬ ‫ونفس هذه املالحظة عن "الالم" نجدها مرة أخرى في آيتين عن إنزال املطر وإنبات الزرع‪:‬‬ ‫((أفرأيتم املاء الذي تشربون * أأنتم أنزلتموه من املزن أم نحن املنزلون * لو نشاء جعلناه‬ ‫أجاجا)) [الواقعة‪ ،]70-25:‬أي مالحا‪ ،‬وفي آية ثانية‪((:‬أفرأيتم ما تحرثون * أأنتم تزرعونه أم‬ ‫نحن الزارعون * لو نشاء لجعلناه حطاما)) [الواقعة‪ ]25-23:‬في اآلية األولى "جعلناه" أجاجا‪..‬‬ ‫وفي اآلية الثانية "لجعلناه" حطاما‪ ..‬والالم جاءت في الثانية لضرورة التوكيد‪ ،‬ألن هناك من‬ ‫سوف يدعى بأنه يستطيع أن يتلف الزرع كما يتلفه الخالق‪ ،‬ويجعله حطاما‪ .‬في حين لن‬ ‫يستطيع أحد من البشر أن يدعى أن في إمكانه أن ينزل من سحب السماء مطرا مالحا فال‬ ‫حاجة إلى توكيد بالالم‪.‬‬ ‫ونفس هذه الدقة نجدها في وصف إبراهيم لربه في القرآن بأنه‪:‬‬ ‫((الذي يميتنى ثم يحيين)) [الشعراء‪.]51:‬‬ ‫((والذي هو يطعمنى ويسقين)) [الشعراء‪.]77:‬‬ ‫فجاء بكلمة "هو" جينما تكلم عن "اإلطعام" ليؤكد الفعل اإللهي‪ ،‬ألنه سوف يدعى الكل‬ ‫أنهم يطعمونه‪ .‬ويسقونه‪ ،‬على حين لن يدعى أحد بأنه يميته ومجييه كما يميته هللا ويجييه‪.‬‬ ‫ونجد هذه الدقة أيضا حينما يخاطب القرآن املسلمين قائال‪(( :‬اذكروني أذكركم))‬ ‫[البقرة‪.]152:‬‬ ‫ويخاطب اليهود قائال‪(( :‬اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم)) [البقرة‪..]60:‬‬ ‫فاليهود ماديون ال يذكرون هللا إال في النعمة والفاندة واملصلحة واملسلمون أكثر شفافية‬ ‫ويفهمون معنى أن يذكر هللا لذاته ال ملصلحة‪..‬‬ ‫وبنفس املعنى يقول هللا للخاصة من أولى األلباب‪(( :‬اتقون يا أولى األلباب)) [البقرة‪.]177:‬‬ ‫ويقول للعوام‪(( :‬اتقوا النار التي وقود ها الناس والحجارة)) [البقرة‪.]26:‬‬

‫‪65‬‬


‫ألن العوام ال يردعهم إال النار‪ ،‬أما الخاصة فهم يعلمون أن هللا أقوى من كل نار‪ ،‬وأنه‬ ‫يستطيع أن يجعل النار بردا وسالما إن شاء‪.‬‬ ‫ونجد مثل هذه الدقة البالغة في اختيار اللفظ في كالم إبليس حينما أقسم على ربه قائال‪:‬‬ ‫((فبعزتك ألغوينهم أجمعين)) [ص‪.]52:‬‬ ‫أقسم إبليس بالعزة اإللهية ولم يقسم بغيرها‪ ،‬فأثبت بذلك علمه وذكاءه‪ ،‬ألن هذه العزة‬ ‫اإللهية هي التي اقتضت استغناء هللا عن خلقه‪ ،‬فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر‪ ،‬ولن‬ ‫يضروا هللا شيئا‪ ،‬فهو العزيز عن خلقه‪ ،‬الغز عن العاملين‪.‬‬ ‫ويقول هللا في حديثه القدس ي‪" :‬هؤالء في النار وال أبالي‪ ،‬وهؤالء في الجنة وال أبالي"‪.‬‬ ‫وهذا مقتض ى العزة اإللهية‪.‬‬ ‫وهي الثغرة الوحيدة التي يدخل منها إبليس‪ ،‬فهو بها يستطيع أن يضل ويوسوس‪ ،‬ألن هللا‬ ‫لن يقهر أحدا اختار الكفر على اإليمان‪ ..‬ولهذا قال ((فبعزتك ألغوينهم أجمعين))‪.‬‬ ‫((ألقعدن لهم صراطك املستقيم‪ .‬ثم آلتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن‬ ‫شمائلهم)) [األعراف‪.]17-12:‬‬ ‫ذكر الجهات األربع‪ ،‬ولم يذكر من فوقهم وال من تحتهم‪ .‬ألن "فوق" الربوبية‪" ،‬وتحت"‬ ‫تواضع العبودية‪ ..‬ومن لزم مكانه األدنى من ربه األعلى لن يستطيع الشيطان أن يدخل عليه‪.‬‬ ‫ثم ذكر إبليس أن مقعده املفضل لإلغواء سوف يكون الصراط املستقيم‪ ..‬على طريق الخير‬ ‫وعلى سجادة الصالة‪ ،‬ألن تارك الصالة والسكير والعربيد ليس في حاجة إلى إبليس ليضله‪،‬‬ ‫فقد تكفلت نفسه بإضالله‪ ،‬إنه إنسان خرب‪ ..‬وإبليس لص ذكى‪ ،‬ال يحب أن يضيع وقته بأن‬ ‫يحوم حول البيوت الخربة‪.‬‬ ‫مثال آخر من أمثلة الدقة القرآنية نجده في سبق املغفرة على العذاب والرحمة على‬ ‫الغضب في القرآن‪ ..‬فاهلل في "الفاتحة" هو الرحمن الرحيم قبل أن يكون مالك يوم الدين‪..‬‬ ‫وهو دائما يوصف بأنه يغفر ملن يشاء ويعذب من يشاء‪ . ..‬تأتى املغفرة أوال قبل العذاب إال‬ ‫في مكانين‪..‬‬

‫‪66‬‬


‫في آية قطع اليد‪(( :‬يعذب من يشاء ويغفرملن يشاء)) [املائدة‪ ..]60:‬ألن العقوبة بقطع اليد‬ ‫عذاب دنيوى‪ ..‬تليه مغفرة أخروية‪..‬‬ ‫وفي كالم عيس ى يوم القيامة عن املشركين الذين عبدوه من دون هللا‪ ..‬فيقول لربه‪(( :‬إن‬ ‫تعذبهم فإنهم عبادك‪ ،‬وإن تغفر الم فإنك أنت العزيز الحكيم))‪ ..‬فال يقول "فإنك أنت‬ ‫الغفور الرحيم" تأدبا‪ ..‬ويذكر ألم العذاب قبل املغفرة‪ ..‬لعظم اإلثم الذي وقعوا فيه‪.‬‬ ‫ونجد هذه الدقة القرانية مرة أخرى في تناول القرآن للزمن‪ ..‬فاملستقبل يأتي ذكره على‬ ‫لسان الخالق على أنه ماض‪ ..‬فأحداث يوم القيامة ترد كلها على أنها ماض‪:‬‬ ‫((ونفخ في الصور)) [الكهف‪.]77:‬‬ ‫((وانشقت السماء فهي يومئذ واهية)) [الحاقة‪.]12:‬‬ ‫((وبرزت الجحيم للغاوين)) [الشعراء‪.]71:‬‬ ‫((وعرضوا على ربك صفا)) [الكهف‪.]65:‬‬ ‫والسر في ذلك أن كل األحداث حاضرها ومستقبلها قد حدثت في علم هللا وليس عند هللا‬ ‫زمن يحجب عنه املستقبل‪ ،‬فهو سبحانه فوق الزمان واملكان‪ ،‬ولذا نقرأ العبارة القرآنية‬ ‫أحيانا فنجد أنها تتحدث عن زمانين نحتلفين‪ ،‬وتبدو في ظاهرها متناقضة مثل‪:‬‬ ‫((أتى أمر هللا فال تستعجلوه)) [النحل‪.]1:‬‬ ‫فاألمر قد أتى وحدث في املاض ي‪ .‬لكن هللا يخاطب الناس بأال يستعجلوه كا لو كان مستقبال‬ ‫لم يحدث بعد‪ ..‬والسر كما شرحنا أنه حدث في علم هللا‪ ،‬لكنه لم يحدث بعد في علم الناس‪،‬‬ ‫وال تناقض‪ ..‬وإنما دقة وإحكام‪ ،‬وخفاء واستسرار‪ ،‬وصدق في املعافي العميقة‪.‬‬ ‫هذه بعض األمثلة للدقة البالغة والنحت املحكم في بناء العبارة القرآنية وفي اختيار‬ ‫األلفاظ واستخدام الحروف ال زيادة وال نقص‪ ،‬وال تقديم وال تأخير‪ ،‬إال بحساب وميزان‪ ،‬وال‬ ‫نعرف لذلك مثيال في تأليف أو كتاب مؤلف‪ ،‬وال نجده إال في القرآن‪.‬‬ ‫أما ملحات العلم في القران وعجائب اآليات الكونية التي أتت باألسرار والخفايا التي لم‬ ‫تكتشف إال في عصرنا‪ ،‬والتي لم يعرفها محمد! وال عصره فهي موضوع آخر يطول‪ ،‬وله جلسة‬ ‫أخرى‪.‬‬ ‫‪67‬‬


‫الفصل الثاني عشر‪ :‬القرآن ال ميكن أن يكون مؤلفا‬ ‫قلت لصديقي‪:‬‬ ‫ربما كان حديث اليوم عن ملحات العلم في القرآن أكثر إثارة لعقلك العلمي من جلستنا‬ ‫السابقة‪ ..‬فما كان الفلك الحديث‪ ،‬وال علوم الذ ّرة‪ ،‬وال علوم البيولوجيا والتشريح معروفة‬ ‫حينما نزلت اآليات الكونية في القرآن منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة لتتكلم عن السماوات‬ ‫واألرض والنجوم والكواكب‪ ،‬وخلق الجنين وتكوين اإلنسان بما يتفق مع أحداث العلوم التي‬ ‫جاء بها عصرنا‪.‬‬ ‫ولم يتعرض القرآن لهذه املوضوعات بتفصيل الكتاب العلمي املتخصص‪ ،‬ألنه جاء في‬ ‫املقام األول كتاب عقيدة ومنهج وتشريع‪..‬‬ ‫ولو أنه تعرض لتلك املوضوعات بتفصيل ووضوح لصدم العرب بما ال يفهمونه‪ ..‬ولهذا لجأ‬ ‫إلى أسلوب اإلشارة واللمحة والومضة لتفسرها علوم املستقبل وكشوفه بعد ذلك بمئات‬ ‫السنين‪ ..‬وتظهر للناس جيال بعد جيل كآيات ومعجزات على صدق نزول القرآن من هللا‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫الحق‪َ (( ..‬سن ِّر ِّيهم َآيا ِّت َنا ِّفي اآلف ِّاق َو ِّفي أ ُنف ِّس ِّهم َح َّتى َيت َب َّي َن ل ُهم أ َّن ُه ال َح ُّق أ َولم َيك ِّف ِّب َرِّ​ّب َك أ َّن ُه َعلى‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ك ِّ ّل ش يء ش ِّهيد)) [فصلت‪..]53:‬‬ ‫ألنهم لم يكتفوا بشهادة هللا على كتابه‪ ..‬فأصبح من الضروري أن نريهم ذلك باآليات‬ ‫الكاشفة‪..‬‬ ‫هكذا يقول هللا في كتابه‪..‬‬ ‫وما زال القرآن يكشف لنا يوما بعد يوم مزيدا من تلك اآليات العجيبة‪ ..‬وحول كروية األرض‬ ‫جاءت هذه اآليات الصريحة التي تستخدم لفظ التكوير لتصف انزالق الليل والنهار كنصفي‬ ‫َ َّ‬ ‫ُ َ ّ ُ َّ‬ ‫الن َهار َو ُي َك ّو ُر َّ‬ ‫اللي َل َع َلى َّ‬ ‫كرة‪(( :‬يك ِّور‬ ‫الن َه َار َعلى اللي ِّل)) [الزمر‪.]5:‬‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫األر َ‬ ‫ض َبع َد ذ ِّل َك َد َح َاها)) [النازعات‪..]30:‬‬ ‫ثم اآلية التي تصف دحو األرض‪(( ..‬و‬ ‫ودحا هي الكلمة الوحيدة في القاموس التي تعني البسط والتكوير معا‪ ..‬واألرض كما هو‬ ‫معلوم مبسوطة في الظاهر ومكورة في الحقيقة‪ ،‬بل هي أشبه بالدحية "البيضة" في تكويرها‪..‬‬ ‫‪68‬‬


‫ثم نقرأ إشارة أخرى صريحة عن أن الجبال تسبح في الفضاء‪ ،‬وبالتالي فاألرض كلها تسبح‬ ‫َ َ َ َ ُ َ َ َ َ َ َ ُ ُّ َ َّ َّ َ‬ ‫َ​َ​َ‬ ‫اب‬ ‫بجبالها حيث َهي والجبال كتلة واحدة‪(( :‬وترى ال ِّجبال تحسبها ج ِّامدة و ِّهي تمر مر السح ِّ‬ ‫ُ َ َّ َّ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫اّلل ال ِّذي أتق َن ك َّل ش يء)) [النمل‪.]55:‬‬ ‫صنع ِّ‬ ‫فالجبال التي تبدو جامدة ساكنة هي في الواقع سابحة في الفضاء‪ ..‬وتشبيه الجبال بالسحب‬ ‫فيه ملحة أخرى عن التكوين الهش للمادة‪ ..‬التي نعرف اآلن أنها مؤلفة من ذ ّرات‪ ،‬كما أن‬ ‫السحب مؤلفة من قطيرات‪.‬‬ ‫ثم الكالم عن تواقت الليل والنهار بدون أن يسبق أحدهما اآلخر من مبدأ الخلق إلى نهايته‪..‬‬ ‫َ َّ ُ َ َ َ َ َ ُ َ َ َ َ َ َ َّ‬ ‫اللي ُل َساب ُق َّ‬ ‫الن َه ِّار)) [يـس‪ ..]60:‬إشارة أخرى إلى‬ ‫((ال الشمس ينب ِّغي لها أن تد ِّرك القمر وال‬ ‫ِّ‬ ‫كروية األرض‪ ..‬حيث بدأ الليل والنهار معا وفي وقت واحد منذ بدء الخليقة كنصفي كرة‪ ،‬ولو‬ ‫كانت األرض مسطحة لتعاقب النهار والليل الواحد بعد اآلخر بالضرورة‪.‬‬ ‫َ َ َ َ‬ ‫ثم تأتي القيامة واألرض في ليل ونهار في وقت واحد كما كانت في البدء‪َ (( ..‬ح َّت َى ِّإذا أخذ ِّت‬ ‫َ َ​َ َ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُ َ َ‬ ‫َ‬ ‫األر ُ‬ ‫ض ُزخ ُرف َها َوا َّزَّينت َوظ َّن أهل َها أ َّن ُهم ق ِّاد ُرو َن َعلي َهآ أت َاها أم ُرنا ليال أو َن َهارا ف َج َعل َن َاها َح ِّصيدا‬ ‫َ َ َّ َ َ َ‬ ‫س)) [يونس‪..]26:‬‬ ‫م‬ ‫األ‬ ‫كأن لم تغن ِّب ِّ‬ ‫وفي قوله تعالى ((ليال أو نهارا))‪ ..‬تأكيد لهذا التواقت الذي ال تفسير له إال أن نصف األرض‬ ‫محجوب عن الشمس ومظلم‪ ،‬واآلخر مواجه للشمس ومض يء بحكم كونها كروية‪ ،‬ولو كانت‬ ‫َ َ َّ‬ ‫اللي ُل َساب ُق َّ‬ ‫الن َه ِّار))‬ ‫مسطحة لكان لها في كل وقت وجه واحد‪ ،‬وملا صح أن نقول‪(( :‬وال‬ ‫ِّ‬ ‫[يـس‪.]60:‬‬ ‫ثم تعدد املشارق واملغارب في القرآن فاهلل ُي َ‬ ‫وصف‪:‬‬ ‫َ​َ‬ ‫َ​َ‬ ‫(( ِّب َر ِّ ّب املش ِّار ِّق َواملغا ِّر ِّب)) [املعارج‪.]60:‬‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫(( َر ُّب املش ِّرقي ِّن َو َر ُّب املغ ِّرَبي ِّن)) [الرحمن‪.]17:‬‬ ‫ولو كانت األرض مسطحة لكان هناك مشرق واحد ومغرب واحد‪ ،‬يقول اإلنسان لشيطانه‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫يوم القيامة‪َ (( :‬يا لي َت َبي ِّني َو َبي َن َك ُبع َد املش ِّرقي ِّن)) [الزخرف‪.]35:‬‬ ‫وال تكون املسافة على األرض أبعد ما تكون بين مشرقين إال إذا كانت األرض كروية‪..‬‬

‫‪69‬‬


‫َ َّ َ َ‬ ‫ات ال ُح ُب ِّك))‬ ‫ذ‬ ‫ثم الكالم عن السماء بأن فيها مسارات ومجاالت وطرقا‪(( :‬والسماء ِّ‬ ‫[الذاريات‪ ..]7:‬والحبك هي املسارات‪..‬‬ ‫َ َّ َ َ‬ ‫ات َّ‬ ‫الرج ِّع)) [الطارق‪ ..]11:‬أي أنها ترجع كل ما يرتفع فيها إلى األرض‪ ..‬ترجع بخار‬ ‫ذ‬ ‫((والسماء ِّ‬ ‫املاء مطرا‪ ..‬وترجع األجسام بالجاذبية األرضية‪..‬‬ ‫وترجع األمواج الالسلكية بانعكاسها من طبقة األيونوسفير‪ ..‬كما ترجع األشعة الحرارية‬ ‫تحت الحمراء معكوسة إلى األرض بنفس الطريقة فتدفئها في الليل‪..‬‬ ‫وكما تعكس السماء ما ينقذف إليها من األرض كذلك تمتص وتعكس وتشتت ما ينقذف‬ ‫إليها من العالم الخارجي‪ ،‬وبذلك تحمي األرض من قذائف األشعة الكونية املميتة‪ ،‬واألشعة‬ ‫فوق البنفسجية القاتلة‪ ..‬فهي تتصرف كأنها سقف‪..‬‬ ‫(( َو َج َعل َنا َّ‬ ‫الس َماء َسقفا َّمح ُفوظا)) [األنبياء‪.]32:‬‬ ‫َ‬ ‫َ َّ َ َ َ َ َ َ َ َّ َ ُ‬ ‫وس ُعون)) [الذاريات‪.]67:‬‬ ‫((والسماء بنيناها ِّبأيد وِّإنا مل ِّ‬ ‫وهو ما يعرف اآلن باسم تمدد الكون املطرد‪..‬‬ ‫وكان مثقال الذرة يعرف في تلك األيام بأنه أصغر مثقال‪ ،‬وكانت الذرة توصف بأنها جوهر‬ ‫فرد ال ينقسم‪ ،‬فجاء القرآن ليقول بمثاقيل أصغر تنقسم إليها الذرة‪ ..‬وكان أول كتاب يذكر‬ ‫َّ َ َ َ َ‬ ‫َ َ ُ ُ َ ُ َ ُ َ‬ ‫َ َ​َ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ض وال أصغر ِّمن‬ ‫األ‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ال‬ ‫و‬ ‫ات‬ ‫او‬ ‫م‬ ‫الس‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ة‬ ‫ذ‬ ‫شيئا‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫أصغر من الذرة‪(( :‬ال يعزب عنه ِّمثقال ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ذ ِّل َك َوال أك َب ُر)) [سبأ‪.]3:‬‬ ‫كل هذه ملحات كاشفة قاطعة عن حقائق مذهلة مثل كروية األرض‪ ،‬وطبيعة السماء‬ ‫والذرة‪ ..‬وهي حقائق لم تكن تخطر على بال عاقل أو مجنون في ذلك العصر البائد الذي نزل‬ ‫فيه القرآن‪..‬‬ ‫ثم بصيرة القرآن في تكوين اإلنسان وكالمه عن النطفة املنوية وانفرادها بتحديد جنس‬ ‫َ َ َّ ُ َ َ‬ ‫َّ َ َ َ ُ َ‬ ‫ُّ َ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫املولود‪(( :‬وأنه خلق الزوجي ِّن الذكر واألنثى * ِّمن نطفة ِّإذا تمنى)) [النجم‪.]62-65:‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫إال هذا الزمان‪ ..‬ونحن نقول اآلن إن رأس الحيوان املنوي‬ ‫وهي حقيقة بيولوجية لم تعرف‬ ‫هو وحده الذي يحتوي على عوامل تحديد الجنس ‪.Sex Determination Factor‬‬

‫‪71‬‬


‫وتسوية البنان بما فيه من رسوم البصمات التي أوردها هللا في مجال التحدي عن البعث‬ ‫َ ُ َ َّ َ َ َ َ َ ُ َ َ َ َ َ َ ُّ‬ ‫َ‬ ‫والتجسيد‪َ (( :‬أ َيح َس ُ‬ ‫ين َعلى أن ن َس ّ ِّو َي َب َنان ُه))‬ ‫ب‬ ‫اإلنسان ألن نجمع ِّعظامه * بلى ق ِّاد ِّر‬ ‫ِّ‬ ‫[القيامة‪.]6-3:‬‬ ‫بل سوف نجسد حتى ذلك البنان ونسويه كما كان‪ ..‬وفي ذلك لفتة إلى اإلعجاز امللحوظ في‬ ‫تسوية البنان بحيث ال يتشابه فيه اثنان‪..‬‬ ‫وأوهن البيوت في القرآن هو بيت العنكبوت‪ ..‬لم يقل هللا خيط العنكبوت بل قال بيت‬ ‫العنكبوت‪..‬‬ ‫وخيط العنكبوت كما هو معلوم أقوى من مثيله من الصلب أربع مرات‪ ..‬إنما الوهن في البيت‬ ‫ال في الخيط‪ ..‬حيث يكون البيت أسوأ ملجأ ملن يحتمي فيه‪ ..‬فهو مصيدة ملن يقع فيه من‬ ‫الزوار الغرباء‪ ..‬وهو مقتل حتى ألهله‪ ..‬فالعنكبوت األنثى تأكل زوجها بعد التلقيح‪ ..‬وتأكل‬ ‫أوالدها عند الفقس‪ ،‬واألوالد يأكل بعضهم بعض‪.‬‬ ‫إن بيت العنكبوت هو أبلغ مثال يضرب عن سوء امللجأ وسوء املصير‪ ..‬وهكذا حال من يلجأ‬ ‫َّ َ َ َ َ َ َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫لغير هللا‪ ..‬وهنا بالغة اآلية‪َ (( :‬م َث ُل َّالذ َ‬ ‫ين َّات َخ ُذوا من ُ‬ ‫ُ‬ ‫ن‬ ‫وت ا َّتخذت‬ ‫ب‬ ‫نك‬ ‫ع‬ ‫ال‬ ‫ل‬ ‫ث‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫اء‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫أ‬ ‫اّلل‬ ‫و‬ ‫د‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ ِّ ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫َ َ َّ َ َ َ ُ ُ َ َ ُ َ َ ُ َ َ ُ َ َ ُ نَ‬ ‫وت لو كانوا يعلمو )) [العنكبوت‪.]61:‬‬ ‫وت لبيت العنكب ِّ‬ ‫بيتا وِّإن أوهن البي ِّ‬ ‫وجاءت خاتمة اآلية عبارة‪(( ..‬لو كانوا يعلمون))‪ ..‬إشارة إلى أنه علم لن يظهر إال متأخرا‪..‬‬ ‫ومعلوم أن هذه األسرار البيولوجية لم تظهر إال متأخرة‪..‬‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ​َ َ َ‬ ‫كذلك نجد في سورة "الكهف"‪َ (( ..‬ول ِّبثوا ِّفي كه ِّف ِّهم ثالث ِّمائة ِّس ِّن َين َواز َد ُادوا ِّتسعا))‬ ‫[الكهف‪ ..]25:‬ونعرف اآلن أن ثالثمائة سنة بالتقويم الشمس ي تساوي ثالثمائة وتسعا‬ ‫بالتقويم القمري باليوم والدقيقة والثانية‪..‬‬ ‫وفي سورة "مريم" يحكي هللا تبارك وتعالى عن مريم وكيف جاءها املخاض فأوت إلى جذع‬ ‫النخلة وهي تتمنى املوت‪ ،‬فناداها املنادي أن تهز بجذع النخلة وتأكل ما يتساقط من رطب‬ ‫َّ َ َ َ َ َ‬ ‫َ​َ َ َ َ​َ ُ َ‬ ‫ُّ َ َ َ َ َ ُ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫نسيا *‬ ‫جنى‪(( :‬فأجاءها املخاض ِّإلى ِّجذ ِّع النخل ِّة قالت يا ليت ِّني ِّمت قبل هذا وكنت نسيا م ِّ‬ ‫َ َ َ َّ َ َ َ َ َ َ َ ُّ َ َ َ ً َ ُ ّ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ف َن َاد َاها ِّمن تح ِّتها أال تحزِّني قد جعل رب ِّك تحت ِّك س ِّريا * وه ِّزي ِّإلي ِّك ِّب ِّجذ ِّع النخل ِّة تسا ِّقط‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َُ‬ ‫َعلي ِّك ُرطبا َج ِّن ًيا * فك ِّلي َواش َرِّبي َوق ّ ِّري َعينا)) [مريم‪.]22-23:‬‬ ‫‪70‬‬


‫وملـاذا الرطـب؟!!‬ ‫إن أحدث بحث علمي عن الرطب يقول‪ :‬إن فيه مادة قابضة للرحم تساعد على الوالدة‪،‬‬ ‫وتساعد على منع النزيف بعد الوالدة‪ ،‬مثل مادة ‪ ،Oxytocin‬وأن فيه مادة ملينة‪ ..‬ومعلوم‬ ‫طبيا أن امللينات النباتية تفيد في تسهيل وتأمين عملية الوالدة بتنظيفها للقولون‪..‬‬ ‫إن الحكمة العلمية لوصف الرطب وتوقيت تناول الرطب مع مخاض الوالدة فيه دقة‬ ‫علمية واضحة‪.‬‬ ‫هذه األمثلة من الصدق العلمي والصدق املجازي والصدق الحرفي هو ما أشار إليه هللا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫سبحانه واصفا القرآن بأنه‪َ (( :‬ال َيأتيه ال َ‬ ‫اط ُل ِّمن َبي ِّن َي َدي ِّه َوال ِّمن خل ِّف ِّه)) [فصلت‪..]62:‬‬ ‫ب‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ ِّ‬ ‫َ ّ َ‬ ‫َ َ‬ ‫وبأنه‪َ (( :‬و َلو َك َ‬ ‫اّلل ل َو َج ُدوا ِّف ِّيه اخ ِّتالفا ك ِّثيرا)) [النساء‪ ..]52:‬اختالفا بين اآليات‬ ‫ر‬ ‫ي‬ ‫غ‬ ‫ند‬ ‫ع‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ان‬ ‫ِّ ِّ ِّ ِّ ِّ‬ ‫وبين بعضها بمعنى تناقضها‪ ..‬واختالفا عن الحقائق الثابتة التي سوف تكشفها العلوم‪..‬‬ ‫وكال االختالفين نجده دائما في الكتب املؤلفة‪ ..‬ولهذا يحرص املؤلف على أن يضيف أو‬ ‫يحذف أو يعدل كلما أصدر طبعة جديدة من كتبه‪ ..‬ونرى النظريات تتلو بعضها البعض‬ ‫مكذبة بعضها البعض‪ ..‬ونرى املؤلف مهما راعى الدقة يقع في التناقض‪ ..‬وهي عيوب ال نجدها‬ ‫في القرآن‪.‬‬ ‫وهو بعد ذلك معجزة‪ ،‬ألنه يخبرك عن ماض لم يؤرخ ويتنبأ بمستقبل لم يأت‪..‬‬ ‫وقد صدقت نبوءات القرآن املتعددة عن انتصار الروم بعد هزيمتهم‪ُ (( :‬غ ِّل َب ِّت ُّ‬ ‫الرو ُم‪ِّ .‬في‬ ‫َ َ َ َ ُ ّ َ َ َ َ َ ُ نَ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ّلل)) [الروم‪.]6-2:‬‬ ‫ض وهم ِّمن بع ِّد غل ِّب ِّهم سيغ ِّلبو ‪ِّ .‬في ِّبض ِّع ِّس ِّنين ِّ ِّ‬ ‫أدنى األر ِّ‬ ‫و"بضع" في اللغة هي ما بين ثالث وتسع‪ ..‬وقد جاء انتصار الروم بعد سنين‪.‬‬ ‫وعن انتصار بدر‪َ (( :‬س ُيه َز ُم ال َجم ُع َو ُي َو ُّلو َن ُّ‬ ‫الد ُب َر)) [القمر‪.]65:‬‬ ‫َ ُ​ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ص َد َق َّ ُ‬ ‫وعن رؤيا دخول مكة‪َ (( :‬ل َقد َ‬ ‫اّلل َر ُس َول ُه ُّ‬ ‫الرؤ َيا ِّبال َح ِّ ّق ل َتدخل َّن املس ِّج َد ال َح َر َام ِّإن شاء‬ ‫صر َ‬ ‫َّ ُ‬ ‫اّلل آمني َن ُم َح ّلق َين ُر ُؤ َ‬ ‫وس ُكم َو ُم َق ّ‬ ‫ين)) [الفتح‪ ..]27:‬وقد كان‪..‬‬ ‫ِّ ِّ‬ ‫ِّ ِّ‬ ‫ِّ ِّ‬ ‫وما الت في القرآن نبوءات تتحقق أمام أعيننا‪ ..‬فهذا إبراهيم يدعو به‪َّ َّ (( :‬ب َنا إ ّني َأس َكنتُ‬ ‫ز‬ ‫ر ر ِّ ِّ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ ُ‬ ‫من ُذ ّ َّيتي ب َواد َغير ذي َ‬ ‫الص َال َة َفاج َعل أفئ َدة ّم َن ا َّ‬ ‫امل َح َّرم َرَّب َنا ل ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ر‬ ‫اس‬ ‫لن‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫يم‬ ‫ق‬ ‫ي‬ ‫ك‬ ‫ت‬ ‫ي‬ ‫ب‬ ‫ند‬ ‫ع‬ ‫ع‬ ‫ز‬ ‫ِّ ِّ‬ ‫ِّ ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ ِّر ِّ ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫َ َ ُ ُ ّ َ َّ َ َ َ َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ات ل َعل ُهم َيشك ُرو َن)) [إبراهيم‪.]37:‬‬ ‫ته ِّوي ِّإلي ِّهم وارزقهم ِّمن الثمر ِّ‬ ‫‪72‬‬


‫لقد دعا بالرزق لهذا الوادي الجديب‪..‬‬ ‫ثم جاء وعد هللا ألهل مكة بالرخاء والغنى حينما أمرهم بمنع املشركين من زيارة البيت‬ ‫فخافوا البوار االقتصادي والكساد‪ ،‬وكان أهل مكة يعتمدون في رواجهم على حج البيت‬ ‫َ‬ ‫ُ َ َ َ َ َ ُ ُ‬ ‫يك ُم ّ ُ‬ ‫اّلل ِّمن فض ِّل ِّه)) [التوبة‪..]25:‬‬ ‫فقال ليطمئنهم‪َ (( :‬وِّإن ِّخفتم عيلة فسوف يغ ِّن‬ ‫وهو وعد نراه اآلن يتحقق أمامنا في البترول الذي يتدفق من الصحراء بال حساب وترتفع‬ ‫أسعاره‬ ‫في جنون يوما بعد يوم‪ ..‬ثم في كنوز اليورانيوم التي تخفيها تلك الصحاري بما يضمن لها‬ ‫الرخاء‬ ‫إلى نهاية الزمان‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫ثم نرى القرآن يحدثنا عن الغيب املطلسم في أسرار الجن واملالئكة مما لم يكشف إال لقلة‬ ‫من املخصوصين من أهل التصوف‪ ..‬فإذا رأي هؤالء فهم ال يرون إال ما يوافق كلمة القرآن‪..‬‬ ‫وإذا طالعوا ال يطالعون إال ما يطابق أسراره‪.‬‬ ‫ثم هو يقدم لنا الكلمة األخيرة في السياسة واألخالق‪ ،‬ونظم الحكم‪ ،‬والحرب والسلم‪،‬‬ ‫واالقتصاد‬ ‫واملجتمع‪ ،‬والزواج واملعاشرة‪ ،‬ويشرع لنا من محكم الشرائع ما يسبق به ميثاق حقوق‬ ‫اإلنسان‪..‬‬ ‫كل ذلك في أسلوب منفرد وعبارة شامخة وبنيان جمالي وبالغي هو نسيج وحده في تاريخ اللغة‪.‬‬ ‫سألوا ابن عربي عن سر إعجاز القرآن فأجاب بكلمة واحدة هي‪" :‬الصدق املطلق"‪..‬‬ ‫فكلمات القرآن صادقة صدقا مطلقا‪ ،‬في حين أقص ى ما يستطيعه مؤلف هو أن يصل إلى‬ ‫صدق نسبي‪ ،‬وأقص ى ما يطمع فيه كاتب هو أن يكون صادقا حسب رؤيته‪ ..‬ومساحة الرؤية‬ ‫دائما محدودة ومتغيرة من عصر إلى عصر‪ ..‬كل واحد منا يحيط بجانب من الحقيقة وتفوته‬ ‫جوانب‪ ،‬ينظر من زاوية وتفوته زوايا‪..‬‬

‫‪73‬‬


‫وما يصل إليه من صدق دائما صدق نسبي‪ ..‬أما صاحب العلم املحيط والبصر الشامل‬ ‫فهو هللا وحده‪ ..‬وهو وحده القادر على الصدق املطلق‪ ..‬ولهذا نقول على القرآن إنه من عند‬ ‫هللا‪ ،‬ألنه أصاب الصدق املطلق في كل ش يء‪.‬‬ ‫سألوا محمدا عليه الصالة والسالم عن القرآن فقال‪" :‬فيه نبأ ما قبلكم‪ ،‬وفصل ما بينكم‪،‬‬ ‫وخبر ما بعدكم‪ ،‬وهو الفصل ليس بالهزل‪ ،‬وهو الذكر الحكيم‪ ،‬وهو حبل هللا املتين‪ ،‬وهو‬ ‫الصراط املستقيم‪ ،‬من تركه من جبار قصمه هللا‪ ،‬ومن ابتغى الهدى في غيره أضله هللا‪ ،‬وهو‬ ‫الذي ال تلتبس به األلسن‪ ،‬وال تزيغ به العقول‪ ،‬وال يخلق على كثرة الرد‪ ،‬وال يشبع منه العلماء‪،‬‬ ‫وال تنقض ي عجائبه"‪..‬‬ ‫عن انفجار شمسنا ونهاية الحياة على األرض وقيام القيامة يقول ربنا في سورة "الرحمن"‪:‬‬ ‫َّ َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َُ ّ‬ ‫َ َ َ‬ ‫الس َماء َف َك َانت َور َدة َك ّ‬ ‫انش َّ‬ ‫َّ‬ ‫الد َه ِّان * ف ِّبأ ّ ِّي آالء َرِّ​ّبك َما تك ِّذ َب ِّان * ف َيو َم ِّئذ ال ُيسأ ُل َعن‬ ‫ت‬ ‫ق‬ ‫((ف ِّإذا‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ َ ُ ُ‬ ‫َذنبه إنس َوَال َجان * َفب َأ ّي َآالء َرّب ُك َما ُت َك ّذ َ‬ ‫املجر ُمو َن بس َيم ُاهم َف ُيؤ َخ ُذ بال َّن َ‬ ‫اص ي‬ ‫و‬ ‫ف‬ ‫ر‬ ‫ع‬ ‫ي‬ ‫*‬ ‫ان‬ ‫ب‬ ‫ِّ ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ َ ِّ ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫َ َ َ ِّ ُ ِّ َ ِّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َواألق َد ِّام * ف ِّبأ ّ ِّي آالء َرِّ​ّبك َما تك ِّذ َب ِّان * َه ِّذ ِّه َج َه َّن ُم ال ِّتي ُيك ِّذ ُب ِّب َها املج ِّر ُمون * َيطوفون َبي َن َها َو َبي َن‬ ‫َح ِّميم آن)) [الرحمن‪..]66-37:‬‬ ‫وتأتينا علوم الفلك اآلن وبعد ألف وأربعمائة سنة من نزول القرآن‪ ..‬بأن هذه نهاية النجوم‬ ‫التي تمأل السماء بألوانها املبهرة‪ ..‬بل ويطلق الفلكيون على بعض هذه النجوم املنفجرة اسم‬ ‫‪ Rosetta‬أي وردة‪..‬‬ ‫من أي مصدر جاءت هذه النبوءات للرسول منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام‪..‬‬ ‫إال أن تكون من رب الكون نفسه‪ ..‬ويستطيع أي قارئ أن يرى هذه العجائب على اإلنترنت‬ ‫موقع ‪ NASA‬باب ‪ Astronomical picture of the day‬بعنوان ‪ Cats eye‬وهذا كالمهم وليس‬ ‫كالمنا‪..‬‬ ‫وهذا هو كتابنا يا صديقــي‪..‬‬ ‫ولهذه الصفات مجتمعة ال يمكن أن يكون مؤلفا‪..‬‬

‫‪74‬‬


‫الفصل الثالث عشر‪ :‬شكوك‬ ‫قال صاحبي‪:‬‬ ‫تقول إن القرآن ال يتناقض مع نفسه فما بالك بهذه اآلية‪(( :‬فمن شاء فليؤمن ومن شاء‬ ‫فليكفر)) [الكهف‪ .]37:‬واآلية األخرى التي تنقضها‪(( :‬وما تشاءون إال أن يشاء هللا))‬ ‫[اإلنسان‪.]30:‬‬ ‫ثم نجد القرآن يقول عن حساب املذنبين إنهم سوف يسألون‪(( :‬ستكتب شهادتهم‬ ‫ويسألون)) [الزخرف‪(( ،]17:‬وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون)) [الزخرف‪ ..]66:‬ومرة‬ ‫أخرى يقول‪(( :‬وال يسأل عن ذنوبهم املجرمون)) [القصص‪ ،]75:‬وأنهم سوف يعرفون‬ ‫بسيماهم‪(( :‬فيؤخذ بالنواص ى واألقدام)) [الرحمن‪ ،]61:‬ومرة يقول إنه ال أحد سوف يشد‬ ‫وثاق املجرم‪(( :‬وال يوثق وثاقه أحد)) [الفجر‪ ]22:‬بمعنى أن كل واحد سوف يتكفل بتعذيب‬ ‫نفسه‪(( ..‬كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا)) [اإلسراء‪ ،]16:‬ومرة يقول‪(( :‬ثم في سلسلة ذرعها‬ ‫سبعون ذراعا فاسلكوه)) [الحاقة‪.]32:‬‬ ‫قلت له‪:‬‬ ‫هذه ليست تناقضات‪ ..‬ولنفكر فيها معا‪..‬‬ ‫((فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر))‪ ..‬آية صريحة تشير إلى حرية العبد واختياره‪ ..‬ولكن‬ ‫هذه الحرية لم نأخذها من هللا غصبا وغالبا‪ ..‬وإنما أعطاها إيانا بمشيئته‪ ..‬فتأتي اآلية الثانية‬ ‫لتشرح دلك فتقول‪(( :‬وما تشاءون إال أن يشاء هللا)) [اإلنسان‪ ..]30:‬أي أن حرية العبد ضمن‬ ‫مشيئة الرب وليست ضدها‪ ..‬أي أن حرية العبد يمكن أن تناقض الرضا اإللهي فتختار‬ ‫املعصية ولكنها ال يمكن أن تناقض املشيئة‪ ..‬فهي تظل دائما ضمن املشيئة‪ ،‬ولو خالفت‬ ‫الرضا‪ ..‬وهي نقطة دقيقة‪ ..‬وقلنا إن التسيير اإللهي هو عين التخيبر‪ ،‬ألن هللا يختار للعبد من‬ ‫جنس نيته وقلبه‪ ..‬ومعنى ذلك أنه يريد للعبد نفس ما أراد العبد لنفسه بنيته واختيار قلبه‪..‬‬ ‫‪ .‬أي أن العبد مسير إلى ما اختار‪ ..‬ومعنى ذلك أنه ال إكراه و أنه ال ثنائية وال تناقض‪ ..‬وأن‬

‫‪75‬‬


‫التسيير هو عين التخيير‪ .‬وهي مسألة من أدق املسائل في فهم لغز املخير واملسير‪ ..‬وما تسميه‬ ‫أنت تناقضا هو في الحقيقة جالء ذلك السر‪.‬‬ ‫أما اآليات الواردة عن الحساب فإن كل آية تعنى طائفة مختلفة‪ ،‬فهناك من سوف يسأل‬ ‫وتطلب شهادته‪ ،‬وهناك من ستكون ذنوبه من الكثرة بحيث تطفح على وجهه‪ ،‬وهؤالء هم‬ ‫الذين سوف يعرفون بسيماهم فيؤخذون بالنواص ى واألقدام‪ ،‬وهناك املعاند املنكر الذي‬ ‫سوف تشهد عليه يداه ورجاله‪(( :‬اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما‬ ‫كانوا يكسبون)) [يس‪..]25:‬‬ ‫وهناك من سيكون حسيبا على نفسه يعذبها بالندم ويشد وثاقها بالحسرة‪ ..‬وهو الذي ال‬ ‫يوثق وثاقه أحد‪.‬‬ ‫وهناك أكابر املجرمين الجبارين الذين سوف يكذبون على هللا‪ ،‬وهم يواجهونه ويحلفون‬ ‫الكذب وهم في املوقف العظيم‪(( :‬يوم يبعثهم هللا جميعا فيحلفون له كما يجلفون لكم‬ ‫ويجسبون أنهم على ش يء أال إنهم هم الكاذبون)) [املجادلة‪.]15:‬‬ ‫وهؤالء هم الذين سوف يسحبون على وجوههم ويوثقون في السالسل‪ ..‬وأبو حامد الغزالي‬ ‫يفسر هذه السالسل بأنها سالسل األسباب‪.‬‬ ‫قال‪:‬‬ ‫وما رأيك في كالم القرآن عن العلم اإللهي‪:‬‬ ‫((إن هللا عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في األرحام وما تدرى نفس ماذا تكسب‬ ‫غدا وما تدرى نفس بأي أرض تموت)) [لقمان‪.]36:‬‬ ‫يقول القرآن إن هللا اختص نفسه بهذا العلم ال يعلمه غير‪:‬‬ ‫((وعنده مفاتح الغيب ال يعلمها إال هو)) [األنعام‪.]51:‬‬ ‫فما بالك اآلن بالطبيب الذي يستطيع أن يعلم ما باألرحام‪ ،‬ويستطيع أن يتنبأ إن كان ذكرا‬ ‫أم أنثى‪ ..‬وما بالك بالعلماء الذين أنزلوا املطر الصناعي باألساليب الكيماوية‪.‬‬

‫‪76‬‬


‫لم يتكلم القرآن عن إنزال املطر وإنما عن إنزال الغيث‪ ،‬وهو املطر الغزير الكثيف الذي‬ ‫ينزل بكميات تكفى لتغيير مصير أمة وإغاثتها ونقلها من حال الجدب إلى حال الخصب‬ ‫والرخاء‪ ..‬واملطر بهذه الكميات ال يمكن إنزاله بتجربة‪.‬‬ ‫قلت له‪:‬‬ ‫أما علم هللا ملا في األرحام فهو علم كلى محيط وليس فقط علما بجنس املولود هل هو ذكر‬ ‫أو أنثى‪ ،‬وإنما علم بمن يكون ذلك املولود وما شأنه وماذا سيفعل في الدنيا‪ ،‬وما تاريخه من‬ ‫يوم يولد إلى يوم يموت‪ :‬وهو أمر ال يستطيع أن يعلمه طبيب‪.‬‬ ‫ وما حكاية كرس ى هللا الذي تقولون إنه وسع السموات واألرض‪ ..‬وعرش هللا الذي يحمله‬‫ثمانية‪.‬‬ ‫ إن عقلك يسع السموات واألرض وأنت البشر الذي ال تذكر‪ ..‬فكيف ال يسعها كرس ى هللا‪..‬‬‫واألرض والشمس والكواكب والنجوم واملجرات محمولة بقوة هللا في الفضاء‪ ..‬فكيف‬ ‫تعجب لحمل عرش‪..‬‬ ‫ وما هو الكرس ي وما العرش؟‬‫ قل لي ما اإللكترون أقل لك ما الكرس ي؟ قل لي ما الكهرباء؟ قل لي ما الجاذبية؟ قل لي ما‬‫الزمان؟ إنك ال تعرف ماهية أي ش يء لتسألني ما الكرس ي وما العرش؟ إن العالم مملوء‬ ‫باألسرار وهذه بعض أسراره‪.‬‬ ‫ والنملة التي تكلمت في القرآن وحذرت بقية النمل من قدوم سليمان وجيشه‪(( :‬قالت نملة‬‫يأيها النمل ادخلوا مساكنكم ال يحطمنكم سليمان وجنوده)) [النمل‪.]15:‬‬ ‫ لو قرأت القليل عن علم الحشرات اآلن ملا سألت هذا السؤال‪ ..‬إن علم الحشرات حافل‬‫بدراسات مستفيضة عن لغة النمل ولغة النحل‪ .‬ولغة النمل اآلن حقيقة مؤكدة‪ ..‬فا كان من‬ ‫املمكن أن تتوزع الوظائف في خلية من مئات األلوف ويتم التنظيم وتنقل األوامر والتعليمات‬ ‫بين هذا الحشد الحاشد لوال أن هناك لغة للتفاهم‪ ،‬وال محل للعجب في أن نملة عرفت‬ ‫سليمان‪ ..‬ألم يعرف اإلنسان هللا؟‬

‫‪77‬‬


‫ وكيف يمحو هللا ما يكتب في لوح قضائه‪(( :‬يمحو هللا ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب))‬‫[الرعد‪ ..]35:‬أيخطى ربكم كما نخطى في الحساب فنمحو ونثبت‪ ..‬أم يراجع نفسه كما نراجع‬ ‫أنفسنا‪.‬‬ ‫ هللا يمحو السيئة بأن يلهمك بالحسنة ويقول في كتابه‪(( :‬إن الحسنات يذهبن السيئات))‬‫[هود‪.]116:‬‬ ‫ويقول عن عباده الصالحين‪(( :‬وأوحينا إليهم فعل الخيرات و إقام الصالة وإيتاء الزكاة))‬ ‫[األنبياء‪.]73:‬‬ ‫وبذلك يمحو هللا دون أن يمحو وهذا سر اآلية ‪ 37‬من سورة "الرعد" التي ذكرتها‪.‬‬ ‫ وما رأيك في اآلية‪(( ..‬وما خلقت الجن واإلنس إال ليعبدون)) [الذاريات‪ ..]52:‬هل كان هللا‬‫في حاجة لعبادتنا؟!‬ ‫ بل نحن املحتاجون لعبادته‪.‬‬‫أتعبد املرأة الجميلة حبا بأمر تكليف‪ ،‬أم أنك تلتذ بهذا الحب وتنتش ى وتسعد لتذوقك‬ ‫لجمالها؟ كذلك هللا وهو األجمل من كل جميل إذا عرفت جالله وجماله وقدره عبدته‪،‬‬ ‫ووجدت في عبادتك له غاية السعادة والنشوة‪ .‬إن العبادة عندنا ال تكون إال عن معرفة‪ ..‬وهللا‬ ‫ال يعبد إال بالعلم‪..‬‬ ‫ومعرفة هللا هي ذروة املعارف كلها‪ ،‬ونهاية رحلة طويلة من املعارف تبدأ منذ امليالد وأول ما‬ ‫يعرف الطفل عند ميالده هو ثدي أمه‪ ،‬وتلك أول لذة‪ ،‬ثم يتعرف على أمه وأبيه وعائلته‬ ‫ومجتمعه وبيئته‪ ،‬ثم يبدأ في استغالل هذه البيئة ملنفعته‪ ،‬فإذا هي ثدي آخر كبير يدر عليه‬ ‫الثراء واملغانم وامللذات‪ ،‬فهو يخرج من األرض الذهب واملاس‪ ،‬ومن البحر الللئ‪ ،‬ومن الزرع‬ ‫الفواكه والثمار‪ ،‬وتلك هي اللذة الثانية في رحلة املعرفة‪.‬‬ ‫ثم ينتقل من معرفته لبيئته االرضية ليخرج إلى السموات ويضع رجله على القمر‪ ،‬وبطلق‬ ‫سفائنه إلى املريخ في مالحة نحو املجهول ليستمتع بلذة أخرى أكبر هي لذة استطالع الكون‪،‬‬ ‫ثم يرجع ذلك املالح ليسأل نفسه‪ :‬ومن أنا الذي عرفت هذا كله؟‪ ..‬ليبدأ رحلة معرفة جديدة‬

‫‪78‬‬


‫إلى نفسه‪ ..‬بهدف معرفة نفسه والتحكم في طاقاتها وإدارتها لصالحه وصالح اآلخرين‪ ،‬وتلك‬ ‫لذة أخرى‪ .‬ثم تكون ذروة املعارف بعد معرفة النفس هي معرفة الرب الذي خلق تلك النفس‪.‬‬ ‫وبهذه املعرفة األخيرة يبلغ اإلنسان ذروة السعادات‪ ،‬ألنه يلتقى بالكامل املتعال األجمل من‬ ‫كل جميل‪ ..‬تلك هي رحلة العابد على طريق العبادة‪ ..‬وكلها ورود ومسرات‪.‬‬ ‫وإذا كانت في الحياة مشقة‪ ،‬فألن قاطف الورود البد أن تدمى يديه األشواك‪ ..‬والطامع في‬ ‫ذرى الالنهاية البد أن يكدح إليها‪ ..‬ولكن وصول العابد إلى معرفة ربه وانكشاف الغطاء عن‬ ‫عينيه‪ ..‬ما أروعه‪ ..‬يقول الصوفي البس الخرقة‪" :‬نحن في لذة لو عرفها امللوك لقاتلونا عليها‬ ‫بالسيوف"‪ ..‬تلك هي لذة العبادة الحقة‪ ..‬وهي من نصيب العابد‪..‬‬ ‫ولكن هللا في غنى عنها وعن العاملين‪ ..‬ونحن ال نعبده بأمر تكليف ولكنا نعبده ألننا عرفنا‬ ‫جماله وجالله‪ ..‬ونحن ال نجد في عبادته ذال بل تحررا وكرامة‪ ..‬تحررا من كل عبوديات الدنيا‪..‬‬ ‫تحررا من الشهوات رالغرائز واألطماع واملال‪ ..‬ونحن نخاف هللا فال نعود نخاف أحدا بعده‬ ‫وال نعود نعبأ باحد‪ ..‬خوف هللا شجاعة‪ ..‬وعبادته حرية‪ ..‬والذل له كرامة‪ ..‬ومعرفته يقين وتلك‬ ‫هي العبادة‪..‬‬ ‫حن الذين نجنى أرباحها ومسراتها‪ ..‬أما هللا فهو الغنى عن كل ش يء‪ ..‬إنما خلقنا هللا ليعطينا‬ ‫ال ليأخذ منا‪ ..‬خلقنا ليخلع علينا من كماالته فهو السميع البصير‪ ،‬وقد أعطانا سمعا وبصرا‬ ‫وهو العليم الخبير‪ ،‬وقد أعطانا العقل لنتزود من علمه‪ ،‬والحواس لنتزود من خبرته وهو‬ ‫يقول لعبده املقرب في الحديث القدس ى‪" :‬عبد أطعنى أجعلك ربانيا تقول للش يء كن فيكون"‪.‬‬ ‫ألم يفعل هذا لعيس ى عليه السالم‪ ..‬فكان عيس ى يحي املوتى بإذنه ويخلق من الطين طيرا‬ ‫بإذنه ويشفى األعمى واألبرص بإذنه‪.‬‬ ‫العبودية هلل إذن هي عكس العبودية في مفهومنا‪ ..‬فالعبودية في مفهومنا هي أن يأخذ السيد‬ ‫خير العبد‪ ،‬أما العبودية هلل فهي على العكس‪ ،‬أن يعطى السيد عبده ما ال خدود له من‬ ‫النعم‪ ،‬ويخلع عليه ما ال نهاية من الكماالت‪..‬‬

‫‪79‬‬


‫فحينما يقول هللا‪(( :‬وما خلقت الجن واإلنس إال ليعبدون)) [الذاريات‪ ..]52:‬فمعناها‬ ‫الباطن ما خلقت الجن واإلنس إال ألعطيهم وأمنحهم حبا وخيرا‪ ،‬وكرامة وعزة‪ ،‬وأخلع عليهم‬ ‫ثوب التشريف والخالفة‪.‬‬ ‫فالسيد الرب غنى مستغن عن عبادتنا‪ ..‬ونحن املحتاجون إلى هذه العبادة والشرف‪،‬‬ ‫واملواهب والخيرات التي ال حد لها‪.‬‬ ‫فاهلل الكريم سمح لنا أن ندخل عليه في أي وقت بال ميعاد‪ ،‬ونبقى في حضرته ما شئنا‬ ‫وندعوه ما وسعنا‪ ..‬بمجرد أن نبسط سجادة الصالة ونقول "هللا أكبر" نصبح في حضرته‬ ‫نطلب منه ما نشاء‪.‬‬ ‫أين هو امللك الذي نستطيع أن ندخل عليه بال ميعاد و نلبث في حضرته ما نشاء؟!‬ ‫وفي ذلك يقول موالنا العبد الصالح الشيخ محمد متولي الشعراوي في شعر جميل‪:‬‬ ‫يحتفي بي بال مواعيد رب‬ ‫حسب نفس ي عزا أنني عبد‬ ‫أن ـ ـا ألقى متى وحين أحـ ـ ـب‬ ‫ه ـو في قدس ـ ـ ـه األعـز ولك ـن‬ ‫ويقول‪ :‬أرونى صنعة تعرض على صانعها خمس مرات في اليوم (يقصد الصلوات الخمس)‬ ‫وتتعرض للتلف وهذه بعض املعاني الباطنة في اآلية التي أثارت شكوكك‪(( :‬وما خلقت الجن‬ ‫واإلنس إال ليعبدون))‪ ،‬ولو تأملتها ملا أثارت فيك إال الذهول واإلعجاب‪.‬‬

‫‪81‬‬


‫الفصل الرابع عشر‪ :‬موقـف الـدين من التطــور‬ ‫قال صاحبي‪:‬‬ ‫موقفك اليوم سيكون صعبا‪ ،‬فعليك أن تثبت أن خلق اإلنسان جاء على طريقة "جال جال"‪..‬‬ ‫أمسك الخالق قطعة طين ثم عجنها في يده ونفخ فيها فإذا بها آدم‪ ،‬وهو كالم تخالفك فيه‬ ‫بشدة علوم التطور التي تقول‪ :‬إن صاحبك آدم جاء نتيجة سلسلة من األطوار الحيوانية‬ ‫السابقة‪ ،‬وإنه ليس مقطوع الصلة بأفراد عائلته من الحيوانات‪ ،‬وإنه والقرود أوالد عمومة‬ ‫يلتقون معا في سابع جد‪ ..‬وإن التشابه األكيد في تفاصيل البنية التشريحية للجميع يدل على‬ ‫أنهم جميعا أفراد أسرة واحدة‪.‬‬ ‫قلت وأنا أستعد ملعركة علمية دسمة‪:‬‬ ‫دعني أصحح معلوماتك أوال فأقول لك إن هللا لم يخلق آدم على طريقة "جال جال"‪..‬‬ ‫ها هنا قطعة طين ننفخ فيها فتكون آدم‪ ..‬فالقرآن يروي قصة مختلفة تماما عن خلق آدم‪،‬‬ ‫قصة يتم فيه الخلق على مراحل وأطوار وزمن إلهي مديد‪ ،‬والقرآن يقول إن اإلنسان لم‬ ‫نس َ‬ ‫يخرج من الطين مباشرة‪ ،‬وإنما خرج من ساللة جاءت من الطين‪َ (( :‬و َل َقد َخ َلق َنا اإل َ‬ ‫ان ِّمن‬ ‫ِّ‬ ‫َ َ‬ ‫ُساللة ِّّمن ِّطين)) [املؤمنون‪.]12:‬‬ ‫َ َ​َ َ​َ‬ ‫ّ َ َّ َ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫اإلنس ِّان ِّحين ِّمن الده ِّر لم يكن‬ ‫وأن اإلنسان في البدء لم يكن شيئا يذكر‪(( ..‬هل أتى على ِّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫شيئا َّمذكورا)) [اإلنسان‪.]1:‬‬ ‫وأن خلقه جاء على أطوار‪..‬‬ ‫َ‬ ‫َّ َ ُ َ َ ُ َ َّ َ‬ ‫َ َ​َ​َ ُ‬ ‫ّلل َوقارا * َوقد خلقكم أط َوارا)) [نوح‪.]16-13:‬‬ ‫((ما لكم ال ترجون ِّ ِّ‬ ‫ص َّور َن ُاكم ُث َّم ُقل َنا لل َملئ َكة اس ُج ُدوا َ‬ ‫(( َو َل َقد َخ َلق َن ُاكم ُث َّم َ‬ ‫آلد َم َف َس َج ُدوا إ َّال إب ِّل َ‬ ‫يس))‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ ِّ‬ ‫[األعراف‪.]11:‬‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ّ َ‬ ‫َ​َ‬ ‫َ​َ‬ ‫((إذ َق َ‬ ‫ال َرُّب َك ِّلل َمال ِّئك ِّة ِّإ ِّني خ ِّالق َبشرا ِّمن ِّطين * ف ِّإذا َس َّوي ُت ُه َونفخ ُت ِّف ِّيه ِّمن ُّرو ِّحي فق ُعوا‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل ُه َس ِّاج ِّدين)) [ص‪.]72-71:‬‬ ‫معنى ذلك أن هناك مراحل بدأت بالخلق ثم التصوير‪ ..‬ثم التسوية ثم النفخ‪..‬‬ ‫‪80‬‬


‫َ​َ‬ ‫َ َ‬ ‫و"ثم" بالزمن اإللهي معناها ماليين السنين‪(( :‬إ َّن َيوما ع َ‬ ‫ند َرِّ​ّب َك كأل ِّف َس َنة ِّّم َّما ت ُع ُّدون))‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫[الحج‪.]67:‬‬ ‫َ‬ ‫انظر إلى هذه املراحل الزمنية للخلق في سورة "السجدة"‪ ..‬يقول هللا سبحانه إنه‪َ (( :‬و َب َدأ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ​َ َ‬ ‫َخل َق اإل َ‬ ‫نس ِّان ِّمن ِّطين * ث َّم َج َع َل نسل ُه ِّمن ُساللة ِّّمن َّماء َّم ِّهين * ث َّم َس َّو ُاه َونفخ ِّف ِّيه ِّمن‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫السم َع َواألب َ‬ ‫ُّرو ِّح ِّه َو َج َع َل لك ُم َّ‬ ‫ص َار َواألف ِّئ َدة ق ِّليال َّما تشك ُرو َن)) [السجدة‪.]7-7:‬‬ ‫في البدء كان الطين‪ ،‬ثم جاءت ساللة من ماء مهين هي البدايات األولى لإلنسان التي لم تكن‬ ‫شيئا مذكورا‪ ،‬ثم التسوية والتصوير‪ ،‬ثم نفخ الروح التي بها أصبح لإلنسان سمع وبصر‬ ‫وفؤاد‪ ..‬وأصبح آدم‪ ..‬فآدم إذن نهاية سلسلة من األطوار وليس بدءا مطلقا على طريقة "جال‬ ‫جال"‪..‬‬ ‫َ َّ ُ َ َ َ ُ ّ َ َ َ‬ ‫ض ن َباتا)) [نوح‪.]17:‬‬ ‫((واّلل أنبتكم ِّمن األر ِّ‬ ‫هنا عملية إنبات بكل ما في اإلنبات من أطوار ومراحل وزمن‪..‬‬ ‫ولكن اللغز الحقيقي هو‪ ..‬ماذا كانت تلك املراحل بالضبط‪ ،‬وماذا كانت تلك األطوار؟‬ ‫هل كل شجرة الحياة من أب واحد‪..‬‬ ‫هي كلها من الطين بحكم التركيب الكيميائي‪ ..‬وكلها تنتهي باملوت إلى أصلها الترابي‪ ..‬هذه‬ ‫حقيقة‪ ..‬ولكننا نقصد من كلمة أب شيئا أكثر من األصل الطيني‪..‬‬ ‫والسؤال هو هل تولدت من الطين خلية أولى تعددت وأنجبت كل تلك األنواع والفصائل‬ ‫النباتية‬ ‫والحيوانية بما في ذلك اإلنسان؟ أم أنه كانت هناك بدايات متعددة‪ ..‬بداية تطورت إلى‬ ‫نباتات‪ ،‬وبداية تطورت إلى فرع من فروع الحيوان‪ ،‬كاإلسفنج مثال‪ ،‬وبداية أخرى خرج منها‬ ‫فرع آخر كاألسماك‪ ،‬وبداية خرجت منها الزواحف‪ ،‬وبداية خرجت منها الطيور‪ ،‬وبداية‬ ‫خرجت منها الثدييات‪ ،‬وبداية خرج منها اإلنسان‪ ،‬وبذلك يكون لإلنسان جد منفصل‪ ،‬ويكون‬ ‫لكل نوع جد خاص به؟‬

‫‪82‬‬


‫إن التشابه التشريحي للفروع واألنواع والفصائل ال ينفي خروج كل نوع من بداية خاصة‪،‬‬ ‫وإنما يدل هذا التشابه التشريحي في الجميع على وحدة الخالق‪ ،‬وأن صانعها جميعا واحد‪،‬‬ ‫ألنه خلقها جميعا من خامة واحدة وبأسلوب واحد وبخطة واحدة‪ ..‬هذه هي النتيجة الحتمية‪.‬‬ ‫ولكن خروجها كلها من أب واحد ليس نتيجة محتمة لتشابهها التشريحي‪ ..‬فوسائل‬ ‫املواصالت تتشابه فيما بينها العربة والقطار والترام والديزل كلها تقوم على أسس هندسية‬ ‫وتركيبة متشابهة‪ ،‬دالة بذلك على أنها جميعا من اختراع العقل البشري‪ ..‬ولكن هذا ال يمنع‬ ‫أن كل صنف منها جاء من أب مستقل ومن فكرة هندسية مستقلة‪..‬‬ ‫كما أننا ال يصح أن نقول إن عربة اليد تطورت تلقائيا بحكم القوانين الباطنة فيها إلى عربة‬ ‫حنطور‪ ،‬ثم إلى عربة فورد ثم إلى قطار‪ ،‬ثم إلى ديزل‪.‬‬ ‫فالواقع غير ذلك‪ ..‬وهو أن كل طور من هذه األطوار جاء بطفرة ذهنية في عقل املخترع‪،‬‬ ‫وقفزة إبداع في عقل املهندس‪ ،‬لم يخرج نوع من آخر‪ ..‬مع أن الترتيب الزمني قد يؤيد فكرة‬ ‫خروج نوع من نوع‪..‬‬ ‫ولكن ما حدث كان غير ذلك فكل نوع جاء بطفرة إبداعية من العقل املخترع‪ ،‬وبدأ مستقال‪.‬‬ ‫وهذه هي أخطاء داروين واملطبات والثغرات التي وقع فيها حينما صاغ نظريته‪.‬‬ ‫ودعنا نتذكر معا ما قال داروين في كتابه "أصل األنواع"‪..‬‬ ‫كان أول ما اكتشفه داروين في أثناء رحلته بالسفينة "بيجل" هي الخطة التشريحية الواحدة‬ ‫التي بنيت عليها كل الفصائل الحيوانية‪..‬‬ ‫فالهيكل العظمي واحد في أغلب الحيوانات الفقرية‪ :‬الذراع في القرد هو نفس الجناح في‬ ‫الطائر‪ ،‬هو نفس الجناح في الخفاش‪ ،‬كل عظمة هنا تقابلها عظمة تناظرها هناك مع‬ ‫تحورات طفيفة‪ ،‬لتالئم الوظيفة‪ ،‬فالعظام في الطيور رقيقة وخفيفة ومجوفة وهي مغطاة‬ ‫بالريش‪ ..‬ثم نجد رقبة الزرافة الطويلة بها سبع فقرات‪ ،‬ورقبة اإلنسان سبع فقرات‪ ،‬ورقبة‬ ‫القنفذ التي ال تذكر من فرط قصرها هي األخرى بها سبع فقرات‪ ،‬وهناك خمس أصابع في يد‬ ‫اإلنسان‪ ،‬ونجد نفس التخميس في أصابع القرد‪ ،‬واألرنب‪ ،‬والضفدعة‪ ،‬والسحلية‪ ،‬وفترة‬ ‫الحمل في الحوت والقرد واإلنسان تسعة أشهر‪ ،‬وفترة اإلرضاع في الجميع سنتان‪ ،‬وفقرات‬ ‫‪83‬‬


‫الذيل في القرد نجدها في اإلنسان متدامجة ملتصقة فيما يسمى بالعصعص‪ ،‬ونجد عضالت‬ ‫الذيل قد تحورت في اإلنسان إلى قاع متين للحوض‪ ،‬ثم نجد القلب بغرفه األربع في الحصان‬ ‫والحمار واألرنب والحمامة واإلنسان‪ ،‬ونفس الخطة في تفرع الشرايين واألوردة‪ ،‬ثم نجد نفس‬ ‫الخطة في الجهاز الهضمي‪ :‬البلعوم ثم املعدة‪ ..‬ثم "االثنى عشر"‪ ..‬ثم األمعاء الدقيقة‪ ..‬ثم‬ ‫األمعاء الغليظة‪ ..‬ثم الشرج والجهاز التناسلي‪ :‬نفس الخصية‪ ،‬واملبيض‪ ،‬وقنوات الخصية‪،‬‬ ‫وقنوات املبيض‪ ..‬وكذلك الجهاز البولي‪ :‬نفس الكلية‪ ،‬والحالب‪ ،‬وحويصلة البول‪ ..‬والجهاز‬ ‫التنفس ي‪ :‬القصبة الهوائية والرئتين‪ ،‬ونجد أن الرئة في البرمائيات هي نفس كيس العوم في‬ ‫السمكة‪.‬‬ ‫كان طبيعيا بعد هذا أن يتصور داروين أن الحيوانات كلها أفراد أسرة واحدة تفرقت بهم‬ ‫البيئات فتكيفت كل فصيلة مع بيئتها‪..‬‬ ‫الحوت في املنطقة الجليدية لبس معطفا من الشحم‪ ..‬والدببة لبست الفراء‪ ..‬وإنسان‬ ‫ّ‬ ‫أسود جلده فأصبح كاملظلة الواقية ليقيه الشمس‪ ..‬وسحالي‬ ‫الغابة في الشمس االستوائية‬ ‫الكهوف ضمرت عيونها ألنها ال تجد لها فائدة في الظالم فأصبحت عمياء في حين نجد سحالي‬ ‫البراري مبصرة‪ ..‬والحيوانات التي نزلت املاء طورت أطرافها إلى زعانف‪ ..‬والتي غزت الجو‬ ‫طورت أطرافها إلى أجنحة‪ ..‬وزواحف األرض طورت أطرافها إلى أرجل‪.‬‬ ‫ثم أال يحكي الجنين القصة؟ ففي مرحلة من مراحل نموه نراه يتنفس بالخياشيم ثم تضمر‬ ‫الخياشيم وتظهر فيه الرئتان‪ ،‬وفي مرحلة نجد له ذيال يضمر الذيل ويختفي‪ ،‬وفي مرحلة نراه‬ ‫يكتس ي بالشعر ثم ينحسر بعد ذلك الشعر عن جسمه‪.‬‬ ‫ثم أال تحكي لنا طبقات الصخور بما حفظت لنا من حفريات قصة متسلسلة الحلقات عن‬ ‫ظهور واختفاء هذه األنواع الواحد بعد اآلخر من الحيوانات البسيطة وحيدة الخلية‪ ،‬إلى‬ ‫عديدة الخاليا‪ ،‬إلى الرخويات‪ ،‬إلى القشريات‪ ،‬إلى األسماك‪ ،‬إلى البرمائيات‪ ،‬إلى الزواحف‪ ،‬إلى‬ ‫الطيور‪ ،‬إلى الثدييات‪ ..‬وأخيرا إلى اإلنسان‪..‬‬ ‫ولقد أصاب داروين وأبدع حينما وضع هذه املقدمة القيمة في التشابه التشريحي بين‬ ‫الحيوانات وأصاب حينما قال بالتطور‪.‬‬ ‫‪84‬‬


‫ولكنه أخطأ حينما حاول أن يفسر عملية االرتقاء‪ ،‬وأخطأ حينما حاول أن يتصور مراحل‬ ‫هذا االرتقاء وتفاصيله‪.‬‬ ‫كان تفسير داروين لعملية االرتقاء أنه يتم بالعوامل املادية التلقائية وحدها‪ ،‬حيث تتقاتل‬ ‫الحيوانات بالناب واملخلب في صراع الحياة الدموي الرهيب فيموت الضعيف ويكون البقاء‬ ‫دائما لألصلح‪..‬‬ ‫تلك الحرب الناشبة في الطبيعة هي التي تفرز الصالح والقوي وتشجعه‪ ..‬وتبقي على نسله‪..‬‬ ‫وتفسح أمامه سبل الحياة‪..‬‬ ‫وإذا كانت هذه النظرية تفسر لنا بقاء األقوى فإنما ال تفسر لنا بقاء األجمل‪ ،‬فإن الجناح‬ ‫املنقوش ال يمتاز بأي صالحيات مادية أو معاشية عن الجناح األبيض‪ ،‬وليس أكفأ منه في‬ ‫الطيران‪..‬‬ ‫وإذا قلنا إن الذكر يفضل الجناح املنقوش‪ ،‬في التزاوج‪ ،‬فسوف نسأل وملاذا؟‪ ..‬ما دام هذا‬ ‫النقش ال يمثل أي مزيد من الكفاءة؟‬ ‫وإذا دخل تفضيل األجمل في الحساب فإن النظرية املادية تنهار من أساسها‪..‬‬ ‫وتبقى النظرية بعد ذلك عاجزة عن تفسير ملاذا خرج من عائلة الحمار ش يء كالحصان‪..‬‬ ‫وملاذا خرج من عائلة الوعل ش يء رقيق مرهف وجميل كالغزال‪ ..‬مع أنه أقل قوة وأقل‬ ‫احتماال‪ ..‬كيف نفسر جناح الهدهد وريشة الطاووس وموديالت الفراش بألوانها البديعة‬ ‫ونقوشها املذهلة‪ ..‬ونحن هنا أمام يد مصور فنان يتفنن ويبدع‪ ..‬ولسنا أمام عملية غليظة‬ ‫كصراع البقاء وحرب املخلب والناب‪..‬‬ ‫والخطأ الثاني في نظرية التطور جاء بعد ذلك من أصحاب نظرية الطفرة‪..‬‬ ‫والطفرات هي الصفات الجديدة املفاجئة التي تظهر في النسل نتيجة تغيرات غير محسوبة‬ ‫في عملية تزاوج الخلية األنثوية والخلية الذكرية ولقاء الكروموسومات لتحديد الصفات‬ ‫الوراثية‪ ..‬وأحيانا تكون هذه الصفات الجديدة صفات ضارة كاملسوخ والتشوهات‪ ،‬وأحيانا‬ ‫تكون طفرات مفيدة للبيئة الجديدة للحيوان كأن تظهر للحيوان الذي ينزل املاء أرجل‬ ‫مبططة‪ ..‬فتكون صفة جديدة مفيدة‪ ..‬ألن األرجل املبططة أنسب للسباحة‪ ،‬فتشجع‬ ‫‪85‬‬


‫الطبيعة هذه الصفة وتنقلها إلى األجيال الجديدة‪ ،‬وتقض ي على الصفة القديمة لعدم‬ ‫صالحيتها‪ ،‬وبذلك يحدث االرتقاء وتتطور األرجل العادية إلى أرجل غشائية‪..‬‬ ‫وخطأ هذه النظرية أنها أقامت التطور على أساس الطفرات واألخطاء العشوائية‪..‬‬ ‫وأسقطت عملية التدبير واإلبداع تماما‪..‬‬ ‫وال يمكن أن تصلح هذه الطفرات العشوائية أساسا ملا نرى حولنا من دقة وإبداع وإحكام‬ ‫في كل ش يء‪..‬‬ ‫إن البعوضة تضع بيضها في املستنقع‪ ..‬وكل بيضة تأتي إلى الوجود مزودة بكيسين للطفو‪..‬‬ ‫من أين تعلمت البعوضة قوانين أرشميدس لتزود بيضها بهذه األكياس الطافية؟‬ ‫وأشجار الصحارى تنتج بذورا مجنحة تطير مع الرياح أمياال وتنتثر في مساحات واسعة بال‬ ‫حدود‪..‬‬ ‫من أين تعلمت أشجار الصحارى قوانين الحمل الهوائي لتصنع لنفسها هذه البذور‬ ‫املجنحة‪ ،‬التي تطير مئات األميال بحثا عن أراض مالئمة لإلنبات؟‬ ‫وهذه النباتات املفترسة التي تصطنع لنفسها الفخاخ والشراك الخداعية العجيبة لتصيد‬ ‫الحشرات وتهضمها وتأكلها بأي عقل استطاعت أن تصطنع تلك الحيل؟‬ ‫نحن هنا أمام عقل كلي يفكر ويبتكر ملخلوقاته ويبدع لها أسباب الحيل‪ ..‬ال يمكن تصور‬ ‫َ َ ُ ُ‬ ‫َّ َ َ ُ َّ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫حدوث االرتقاء بدون هذا العقل املبدع‪(( :‬ال ِّذي أعطى كل ش يء خلقه ثم هدى)) [طه‪.]50:‬‬ ‫والعقبة الثالثة أمام نظرية داروين‪ ..‬هي ما اكتشفناه اآلن باسم الخريطة الكروموسومية‪..‬‬ ‫أو خريطة الجينات‪ ..‬ونحن نعلم اآلن أن لكل نوع حيواني خريطة كروموسومية خاصة به‪،‬‬ ‫ويستحيل أن يخرج نوع من نوع بسبب اختالف هذه الخريطة الكروموسومية‪.‬‬ ‫نخلص من هذا إلى أن نظرية داروين تعثرت‪ ..‬وإذا كان التشابه التشريحي بين الحيوانات‬ ‫حقيقة متفق عليها‪ ،‬وإذا كان التطور أيضا حقيقة‪ ،‬فإن مراحل هذا التطور وكيفياته ما زالت‬ ‫لغزا‪..‬‬ ‫هل كانت هناك بدايات مستقلة أم أن بعض الفروع تلتقي عند أصول واحدة؟‬

‫‪86‬‬


‫والتطور وارد باللفظ الصريح في القرآن‪ ..‬كما أن مراحل الخلق والتصوير والتسوية ونفخ‬ ‫واردة‪..‬‬ ‫الروح‬ ‫ولكن لم يستقر العلم على نظرية ثابتة لتلك املراحل بعد‪ ..‬وإذا عدنا لسورة "السجدة" التي‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫تحكي عن هللا أنه‪َ (( :‬و َب َد َأ َخل َق اإل َ‬ ‫نس ِّان ِّمن ِّطين‪ .‬ث َّم َج َع َل نسل ُه ِّمن ُساللة ِّّمن َّماء َّم ِّهين‪ .‬ث َّم‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫السم َع َواألب َ‬ ‫َس َّو ُاه َو َن َف َخ ِّف ِّيه من ُّرو ِّح ِّه َو َج َع َل لك ُم َّ‬ ‫ص َار َواألف ِّئ َدة ق ِّليال َّما تشك ُرو َن))‬ ‫ِّ‬ ‫[السجدة‪ ..]7-7:‬فإن معنى اآلية صريح في أن البدايات األولى لإلنسان التي جاء منها آدم فيما‬ ‫بعد‪ ،‬وهي تلك التي جاء نسلها من ماء مهين‪ ،‬لم يكن لها سمع وال أبصار وال أفئدة‪..‬‬ ‫وإنما جاءت هذه األبصار واألسماع واألفئدة بعد نفخ الروح وهي آخر مراحل خلق آدم‪..‬‬ ‫َ‬ ‫هي إذن بدايات أشبه بالحياة الحيوانية املتخلفة‪َ (( :‬هل َأ َتى َع َلى اإل َ‬ ‫نس ِّان ِّحين ِّّم َن ا َّلده ِّر لم‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫َيكن شيئا َّمذكورا)) [اإلنسان‪..]1:‬‬ ‫هو تفسير ال يختلف كثيرا عن العلوم التي تتحدث عنها‪ ..‬ولكن نفس اآلية قد تعني معنى‬ ‫آخر هو أطوار الجنين داخل الرحم وكيف يتخلق من بدايات ال سمع فيها وال بصر ثم يأتي‬ ‫نفخ الروح في هذه املضغة في الشهر الرابع فتستوي خلقا آخر‪ ..‬آيات الخلق إذن متشابهات‬ ‫والقرآن يحمل أكثر من وجه من وجوه التفسير‪ ..‬والحقيقة بعد هذا ما زالت لغزا‪ ..‬وال‬ ‫يستطيع أحد أن يدعي أنه كشف الحقيقة‪ ..‬والسؤال ما زال مفتوحا للبحث‪ ،‬وكل ما جاء به‬ ‫العلم فروض‪..‬‬ ‫َّ‬ ‫َ َ َ َ َ َ َّ َ َ َ‬ ‫اك ف َع َدل َك‪ِّ .‬في أ ِّي‬ ‫وربما كانت أرجح اآلراء أن التسوية املذكورة في القرآن ((خلقك فسو‬ ‫َ َّ‬ ‫ُ‬ ‫صو َرة َّما شاء َرك َب َك)) [االنفطار‪.]5-7:‬‬ ‫كانت تسوية ساللية بش يء أشبه بالهندسة الوراثية وأن األمر ليس تطورا كما يقول داروين‬ ‫ولكنه تطوير يحدث بتدخل وفعل إلهي إلعداد الحشوة الحية (وهي في أصل املنشأ من الطين)‬ ‫لتستقبل نفخة الروح وحلول النفس فيها لتكون آدم‪..‬‬ ‫ثم النفس وحكايتها هي سؤال آخر أكثر ألغازا‪..‬‬ ‫هل يكون للنفس تصوير في القوالب الطينية فتكون لها تجسدات متعداة وتاريخ وتطور هي‬ ‫األخرى؟ أم أنها على حالها من علم هللا بها منذ األزل‪ ..‬هللا أعلم‪ ..‬واملوضوع كله عماء‪..‬‬ ‫‪87‬‬


‫ّ‬ ‫وربما كان أفضل فهم لعملية التطور أنها كانت تطويرا بفعل فاعل وبذات مبدعة خالقة‬ ‫ولم تكن تطورا تلقائيا كما تصورها داروين وصحبه ولم تكن مراحل متروكة للصدفة‪ ..‬وإنما‬ ‫كانت تخليقا مرادا ومخططا خالق قادر حكيم‪ ..‬وإنها هندسة وراثية ملهندس عظيم ليس‬ ‫كمثله ش يء‪..‬‬ ‫وما جاء في القرآن هو أصدق صورة ملا حدث‪..‬‬ ‫والقطع في هذه القضية مستحيل‪..‬‬ ‫وما زال القرآن يفرض نفسه بال بديل‪..‬‬

‫‪88‬‬


‫الفصل اخلامس عشر‪ :‬كلمة "ال إله إال اهلل"‬ ‫قال صاحبي‪:‬‬ ‫ألست معي في أنكم تبالغون كثيرا في استخدام كلمة "ال إله إال هللا" وكأنها مفتاح لكل باب‪..‬‬ ‫تشيعون بها امليت وتستقبلون الوليد وتطبعونها على األختام وتنقشونها على القالئد وتصكون‬ ‫بها العمالت وتعلقونها على الجدران‪ ..‬من ينطق بها منكم تقولون أن جسمه أعتق من النار‪..‬‬ ‫فإذا نطق بها مائة ألف مرة دخل الجنة وكأنها طلسم سحري أو تعويذة لطرد الجن أو قمقم‬ ‫لحبس املردة‪ ..‬ثم هذه الحروف التي ال تعرفون لها معنى‪" ..‬الم"‪" ..‬كهيعص"‪" ..‬طسم"‪" ..‬حم"‪..‬‬ ‫"الر"‪.‬‬ ‫هل أنجو من العذاب إذا قلت "ال إله إال هللا"‪ ..‬إذن فإنى أقولها وأشهدك وأشهد الحضور‬ ‫على ذلك‪ ..‬ال إله إال هللا‪ ..‬هل انتهي األمر؟!‪.‬‬ ‫قلت له‪:‬‬ ‫بل أنت لم تقل شيئـا‪.‬‬ ‫إن "ال إله إال هللا" ملن يعمل بها وليست ملن يشقشق بها لسانه‪" ..‬ال إله إال هللا" منهج عمل‬ ‫وخطة حياة وليست مجرد حروف‪ ..‬ودعنا نفكر قليال في معناها‪..‬‬ ‫إننا حينما نقول "ال إله إال هللا" نعنى أنه ال معبود إال هللا‪ ..‬وبين ال وإال بين النفي واإلثبات‬ ‫في العبارة بين هاتين الدفتين تقع العقيدة كلها ال النافية تنفي األلوهية عن كل ش يء‪ ..‬عن كل‬ ‫ما نعبد من مشتهيات في الدنيا‪ ،‬عن املال والجاه والسلطان واللذات وترف العيش والنساء‬ ‫الباهرات والعز الفاره‪ ..‬لكل هذا نقول "ال"‪ ..‬ال نعبدك‪ ..‬لست إلها‪ ..‬ثم نقول ال لنفوسنا التي‬ ‫تشتهي تلك األشياء ألن اإلنسان يعبد نفسه في العادة ويعبد رأيه ويعبد هواه واختياره‬ ‫ومزاجه ويعبد ذكاءه ومواهبه وشهرته ويتصور أن بيده مقاليد األمور وأقدار الناس‬ ‫واملجتمع‪ ..‬ويجعل من نفسه إلها دون أن يدرى‪ ..‬لهذه النفس نحن نقول "ال"‪ ..‬ال نعبدك‪..‬‬ ‫لست إلها‪.‬‬ ‫نقول "ال" للمدير والرئيس والحاكم‪ ..‬ال لست إلها‪.‬‬ ‫‪89‬‬


‫ومعنى كلمة "إله" أي فاعل‪ ..‬والفاعل بحق عندنا هو هللا‪ ،‬أما كل هذه األشياء فوسائط‬ ‫وأسباب‪ ،‬املدير والوزير والرئيس واملال والجاه والسلطان والنفس بذكائها ومواهبها‪ ..‬لكل هذا‬ ‫نقول ال‪ ..‬لست إلها‪.‬‬ ‫"إال"‪ ..‬واحد نستثنيه ونثبت له تلك الفاعلية والقدرة هو هللا‪.‬‬ ‫وبين ال وإال بين هذا النفي وهذا اإلثبات تقع العقيدة كلها فمن كان مشغوال بجمع املال‬ ‫وتكديس الثروات وتملق السلطان والتزلف للرؤساء وتحرى اللذات واتباع هوى نفسه‬ ‫وتعشق رأيه والتعصب لوجهة نظره‪ ..‬فهو لم يقل ال لكل هــذه املعبودات وهو ساجد في‬ ‫محرابها دون أن يدرى وحينما يقول ال إله إال هللا فهو يقولها كاذبا‪ ..‬يقول بلسانه ما ال يفعل‬ ‫بيديه ورجليه‪.‬‬ ‫ومعنى "ال إله إال هللا" أنه ال حسيب وال رقيب إال هللا‪ ..‬هو وحده الجدير بالخشية والخوف‬ ‫واملراقبة‪ ..‬فمن كان يخاف املرض ومن كان يخاف امليكروب ومن كان يخاف عصا الشرطي‬ ‫وجند الحاكم فإنه لم يقل "ال"‪ ..‬لكل تلك اآللهة الوهمية‪ ..‬وإنما هو ما زال ساجدا لها وقد‬ ‫أشرك مع خالقه كل تلك اآللهة املزيفة‪ ..‬فهو كاذب في كلمة "ال إله إال هللا"‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن "ال إله إال هللا" عهد ودستور ومنهج حياة‪.‬‬ ‫واملقصود بها‪ ..‬العمل بها‪.‬‬ ‫فمن عمل بها كانت له طلسما بالفعل يفتح له كل األبواب العصية‪ ..‬وكانت نجاة في الدنيا‬ ‫واآلخرة ومدخال إال الجنة‪.‬‬ ‫أما نطق اللسان بدون تصديق القلب وعمل الجوارح‪ ..‬فإنه ال يغنى‪.‬‬ ‫و"ال إله إال هللا" تعنى أكثر من هذا موقفا فلسفيا‪.‬‬ ‫يقول الدكتور زكى نجيب محمود أن "شهادة أن ال إله إال هللا" تتضمن اإلقرار بثالث‬ ‫حقائق‪ ..‬أن الشاهد موجود واملشهود موجود‪ ..‬والحضور الذين تلقى أمامهم الشهادة‬ ‫موجودون أيضا أي أنها إقرار صريح بأن الذات وهللا واآلخرين لهم جميعا وجود حقيقي‪.‬‬ ‫وبهذا يرفض اإلسالم الفلسفة املثالية كما يرفض الفلسفة املادية في ذات الوقت‪ ..‬يرفض‬ ‫اليمين واليسار معا ويختار موقفـا وسطا‪.‬‬ ‫‪91‬‬


‫يرفض املثالية الفلسفية‪ ..‬ألن املثالية الفلسفية ال تعترف بوجود اآلخرين وال بوجود العالم‬ ‫املوضوعي كحقيقة خارجية مستقلة عن العقل‪ ..‬وإنما كل ش يء في نظر الفلسفة املثالية‬ ‫يجرى كأنه حلم في دماغ‪ ..‬أو أفكار في عقل‪ ..‬أنت والراديو والشارع واملجتمع والصحيفة‬ ‫والحرب كلها حوادث ومرائى وأحالم تجرى في ّ‬ ‫عقلي‪ ..‬ال وجود حقيقي للعــالم الخارجى‪.‬‬ ‫وهذا املوقف املثالى املتطرف يرفضه اإلسالم وترفضه الشهادة ألنها كما قلنا إقرار صريح‬ ‫بان الشاهد واملشهود والحضور الذين تلقى أمامهم الشهادة أي الذات وهللا واآلخرين حقائق‬ ‫مقررة‪.‬‬ ‫كما يرفض اإلسالم أيضا الفلسفة املادية ألن الفلسفة املادية تعترف بالعالم املوضوعي‬ ‫ولكنها تنكر ما وراءه‪ ..‬تنكر الغيب وهللا‪.‬‬ ‫واإلسالم بهذا يقدم فلسفة واقعية وفكرا واقعيا فيعترف بالعالم املوضوعي ثم يضيف إلى‬ ‫هذا العالم كل الثراء الذي يتضمنه الوجود اإللهي الغيبي‪ ..‬ويقدم تركيبا جدليا جامعا بين‬ ‫فكر اليمين وفكر اليسار في فلسفة جامعة ما زالت تتحدى كل اجتهاد املفكرين فتسبق ما‬ ‫سطروا من نظريات ظنية ال تقوم على يقين‪.‬‬ ‫شهادة "الإله إال هللا" تعنى إذن منهج حياة وموقفا فلسفيا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫املادي الذي اخترت موقفـا فلسف ـيـا ماديـا وأنت تنطق‬ ‫ولهذا فأنت تكذب وأنت الرجل‬ ‫بالشهادة كذبتين‪:‬‬ ‫الكذبة األولى‪ :‬أنك تشهد بما ينافي فلسفتك‪.‬‬ ‫والكذبة الثانية‪ :‬أنك ال تعمل بهذه الشهادة في حياتك قدر خردلة‪.‬‬ ‫أما حكاية "الم" و"كهيعص" و"حم" و"الر"‪ ،‬فدعنى أسألك‪ ..‬وما حكـاية (س ص) ولوغاريتم‬ ‫ومعادلة الطاقة (طاقة = كتلة × سرعة‪ )2‬وهي ألغاز وطالسم بالنســبة ملن ال يعرف شيئـا في‬ ‫الحساب والجبر والرياضيات‪ ..‬وعند العاملين لها معانى خطيرة‪.‬‬ ‫كذلك هذه الحروف حينما يكشف لنا عن معناها‪.‬‬ ‫قال صاحبي في سخرية‪:‬‬ ‫وهل كشف لك عن معناها؟‬ ‫‪90‬‬


‫قلت وأنا ألقى بالقنبلة‪:‬‬ ‫هذه موضوع مثير يحتاج إلى كالم آخر طويل سوف يدهشك‪.‬‬

‫‪92‬‬


‫الفصل السادس عشر‪ :‬كـــهـــيــعــص‬ ‫قلت لصديقي امللحد‪:‬‬ ‫ال شك أن هذه الحروف املقطعة في أوائل السور قد صدمتك حينما طالعتها ألول مرة‪ ..‬هذه‬ ‫الـ"حم"‪" ،‬طسم"‪" ،‬الم"‪" ،‬كهيعص"‪" ،‬ق"‪" ،‬ص"‪ ..‬ترى ماذا قلت لنفسك وأنت تقرأها؟‬ ‫اكتفى بأن يمط شفتيه في ال مباالة ويقول في غمغمة مبتورة‪ :‬يعنى‪.‬‬ ‫ يعنى ماذا‪.‬‬‫ يعنى‪ ..‬أي كالم يضحك به النبي عليكم‪.‬‬‫ حسنـا دعنا نختبر هذا الكالم الذي تدعى أنه كالم فارغ والذي تصورت أن النبي يضحك‬‫به علينا‪.‬‬ ‫ودعنا نأخذ سورة صغيرة بسيطة من هذه السور‪ ..‬سورة "ق" مثال‪ ..‬ونجرى تجربة‪ ..‬فنعد‬ ‫ما فيها من قافات وسنجد أن فيها ‪ 57‬قافـا‪ ..‬ثم نأخذ السورة التالية وهي سورة "الشورى"‬ ‫وهي ضعفها في الطول وفي فواتحها حرف ق أيضـا‪ ..‬وسنجد أن فيها عى األخرى ‪ 57‬قافـا‪.‬‬ ‫هل هي صدفة‪ ..‬لنجمع ‪ 116 = 57 + 57‬عدد سور القرآن‪ ..‬هل تذكر كيف تبدأ سورة "ق"‪..‬‬ ‫َ​َّ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫يد)) وفي ختامها‪(( ..‬فذ ِّكر ِّبال ُقر ِّآن َمن َيخاف‬ ‫وكيف تختتم‪ ..‬في بدايتها ((ق والقر ِّآن امل ِّج ِّ‬ ‫َ‬ ‫يد))‪ ..‬وكأنما هي إشارات بأن "ق" ترمز للقرآن‪( ..‬ومجموع القافات ‪ 116‬وهي مجموع سور‬ ‫و ِّع ِّ‬ ‫القرآن)‪.‬‬ ‫قال صاحبي في ال مباالة‪ :‬هذه أمور من قبيل الصدف‪.‬‬ ‫قلت في هدوء‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫لكتروني ونسأله أن يقدم لنا احصائية‬ ‫سنمض ى في التجربة ونضع سور القرآن في العقل اإل‬ ‫بمعدالت توارد حرف القاف في جميع السور‪.‬‬ ‫قال وقد توترت أعصابه وتيقظ تمامـا‪ :‬وهل فعلوها؟‬ ‫قلت في هدوء‪ :‬نعم فعلوها‪.‬‬ ‫ وماذا كانت النتيجة؟‬‫‪93‬‬


‫ّ‬ ‫لكتروني أن أعلى املتوسطات واملعدالت موجودة في سورة "ق" وأن هذه‬ ‫ قال لنا العقل اإل‬‫السورة قد تفوقت حسابيـا على كل املصحف في هذا الحرف‪ ..‬هل هي صدفة أخرى؟‬ ‫ غريب‪.‬‬‫ّ‬ ‫لكتروني احصائية بتوارد هذه‬ ‫ وسورة "الرعد" تبدأ بالحروف "املر" قدم لنا العقل اإل‬‫الحروف في داخل السور كاآلتى‪:‬‬ ‫(ا) ترد ‪ 225‬مرة‪.‬‬ ‫(ل) ترد ‪ 677‬مرة‪.‬‬ ‫(م) ترد ‪ 220‬مرة‪.‬‬ ‫(ر) ترد ‪ 137‬مرة‪.‬‬ ‫هكذا وفي ترتيب تنازلى (ا) ثم (ل) ثم (م) ثم (ر)‪ ..‬بنفس الترتيب الذي كتبت به "املر" تنازليـا‬ ‫ّ‬ ‫لكتروني بإحصاء معدالت توارد هذه الحروف في املصحف كله‪ ..‬وألقى إلينا‬ ‫ثم قام العقل اإل‬ ‫بالقنبلة الثانية‪ ..‬أن أعلى املعدالت واملتوسطات لهذه الحروف هي في سورة "الرعد"‪ ..‬وأن‬ ‫هذه السورة تفوقت حسابيـا في هذه الحروف على جميع املصحف‪.‬‬ ‫نفس الحكاية في "الم" البقرة‪.‬‬ ‫(ا) وردت ‪ 6572‬مرة‪.‬‬ ‫(ل) وردت ‪ 3206‬مرات‪.‬‬ ‫(م) وردت ‪ 2175‬مرة‪.‬‬ ‫بنفس الترتيب التنازلى "الم"‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫لكتروني أن هذه الحروف الثالثة لها تفوق حسابي على باقي الحروف‬ ‫ثم يقول لنا العقل اإل‬ ‫في داخل سورة "البقرة"‪.‬‬ ‫نفس الحكاية في "الم" آل عمران‪.‬‬ ‫(ا) وردت ‪ 2575‬مرة‪.‬‬ ‫(ل) وردت ‪ 1555‬مرة‪.‬‬ ‫(م) وردت ‪ 1251‬مرة‪.‬‬ ‫‪94‬‬


‫بنفس الترتيب التنازلى "الم" وهي تتوارد في السورة بمعدالت أعلى من باقي الحروف‪.‬‬ ‫نفس الحكاية في "الم" سورة "العنكبوت"‪.‬‬ ‫(ا) وردت ‪ 756‬مرة‪.‬‬ ‫(ل) وردت ‪ 556‬مرة‪.‬‬ ‫(م) وردت ‪ 366‬مرة‪.‬‬ ‫بنفس الترتيب التنازلى "الم" وهي تتوارد في السورة بمعدالت أعلى من باقي الحروف‪.‬‬ ‫نفس الحكاية في "الم" سورة "الروم"‪.‬‬ ‫(ا) وردت ‪ 567‬مرة‪.‬‬ ‫(ل) وردت ‪ 372‬مرة‪.‬‬ ‫(م) وردت ‪ 315‬مرة‪.‬‬ ‫بنفس الترتيب "الم" ثم هي تتوارد في السورة بمعدالت أعلى من باقي الحروف‪.‬‬ ‫وفي جميع السور التي ابتدأت بالحروف "الم" نجد أن السور املكية تتفوق حسابيـا في‬ ‫معدالتها على باقي السور املكية‪ ،‬واملدنية تتفوق حسابيـا في معدالتها من هذه الحروف على‬ ‫باقي السور املدنية‪.‬‬ ‫وباملثل في "املص" سورة "األعراف"‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫لكتروني أن معدالت هذه الحروف هي أعلى ما تكون في سورة "األعراف"‪،‬‬ ‫يقول لنا العقل اإل‬ ‫وأنها تتفوق حسابيـا على كل السور املكية في املصحف‪.‬‬ ‫وفي سورة "طـه" نجد أن الحرف (ط) والحرف (هـ) يتواردان فيها بمعدالت تتفوق على كل‬ ‫السور املكية‪ ..‬وكذلك في كهيعص مريم ترتفع معدالت هذه الحروف على كل السور املكية في‬ ‫املصحف‪.‬‬ ‫كما نجد أن جميع السور التي افتتحت بالحروف حـم‪ ..‬إذا ضمت إلى بعضها فإن معدالت‬ ‫توارد الحرف (ح) والحرف (م) تتفوق على كل السور املكية في املصحف‪.‬‬

‫‪95‬‬


‫وباملثل السورتان اللتان افتتحتا بحرف "ص" وهما سورة "ص" و"األعراف" (املص)‬ ‫ويالحظ أنهما نزلتا متتابعتين في الوحي‪ ..‬إذا ضمتا معـا تفوقتا حسابيـا في هذه الحروف على‬ ‫باقي املصحف‪.‬‬ ‫وكذلك السور التي افتتحت بالحروف "الر" وهي إبراهيم ويونس وهود ويوسف والحجر‬ ‫وأربع منها جاءت متتابعة في تواريخ الوحي‪ ..‬إذا ضمت لبعضها‪ ..‬أعطانا العقل اإللكت ّ‬ ‫روني أعلى‬ ‫معدالت في نسبة توارد حروفها "الر" على كل السور املكية في املصحف‪.‬‬ ‫أما في سورة "يـس" فإننا نالحظ أن الداللة موجودة ولكنها انعكست‪ ..‬ألن ترتيب الحروف‬ ‫انعكس؛ فالياء في األول "يـس" (بعكس الترتيب األبجدي)‪.‬‬ ‫ولهذا نرى أن توارد الحرف (ي) والحرف (س) هو أقل من توارده في جميع املصحف مدنيـا‬ ‫ومكـيا‪.‬‬ ‫فالداللة اإلحصائية هنا موجودة ولكنها انعكست‪.‬‬ ‫كان صاحبي قد سكت تمامـا‪.‬‬ ‫قلت وأنا أطمئنه‪:‬‬ ‫أنا ال أقول هذا الكالم من عند نفس ي وإنما هي دراسة قام بها عالم مصر ّي في أمريكا هو‬ ‫الدكتور رشاد خليفة‪..‬‬ ‫وهذا الكتاب الذي بين يديك يقدم لك هذه الدراسة مفصلة‪.Miracle of Quran :‬‬ ‫وقدمت إليه كتابا إنجليزيا مطبوعا في أمريكا للمؤلف‪.‬‬ ‫أخذ صاحبي يقلب الكتاب في صمت‪.‬‬ ‫قلت‪:‬‬ ‫لم تعد املسألة صدفة‪ ..‬وإنما نحن أمام قوانين محكمـة وحروف محسوبة كل حرف وضع‬ ‫َّ ُ َّ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫بميزان ورحت أتلو عليه من سورة "الشورى"‪(( :‬اّلل ال ِّذي أنزل ال ِّكتاب ِّبالح ِّق و ِّامليزان))‬ ‫[الشورى‪.]17:‬‬ ‫وأي مي ـزان‪ ..‬نحن هنا أمام ميزان يدق حتى يزن الشعرة والحرف‪..‬‬

‫‪96‬‬


‫أظن أن فكرة النبي الذي يؤلف القرآن ويقول لنفسه سلفـا سوف أؤلف ســورة "الرعد" من‬ ‫حروف "املر" وأورد بها أعلى معدالت من هذه الحروف على باقي الكتاب وهو لم يؤلف بعد‬ ‫الكتاب مثل هذا الظن لم يعد جائزا‪..‬‬ ‫وأين هذا الذي يحص ى له هذه املعدالت وهي مهمة ال يستطيع أن يقوم بها إال عقل إلكتروني‬ ‫ولو تكفل هو بها فإنه سيقض ى بضع سنين ليحص ى الحروف في سورة واحدة يجمع ويطرح‬ ‫بعلوم عصره وهو ال يعرف حتى علوم عصره وهو سيؤلف أو يشتغل عدادا للحروف‪.‬‬ ‫نحن هنا أمام استحالة‪.‬‬ ‫فإذا عرفنا أن القرآن نزل مفرقـا ومقطعا على‪ 23‬سنة‪..‬‬ ‫فإنا سوف نعرف أن وضع معدالت إحصائية مسبقة بحروفه هي استحالة أخرى‪ ..‬وأمر ال‬ ‫يمكن أن يعرفه إال العليم الذي يعلم كل ش يء قبل حدوثه‪ ،‬والذي يحص ى بأسرع وأدق من‬ ‫كل العقول اإللكترونية‪ ..‬هللا الذي أحاط بكل ش يء علما‪ ..‬وما هذه الحروف املقطعة في فواتح‬ ‫السور إال رموز علمه بثها في تضاعيف كتابه لنكشفها نحن على مدى الزمان‪.‬‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫(( َسن ِّر ِّيهم َآيا ِّت َنا ِّفي اآلف ِّاق َو ِّفي أ ُنف ِّس ِّهم َح َّتى َيت َب َّي َن ل ُهم أ َّن ُه ال َح ُّق)) [فصلت‪.]53:‬‬ ‫وال أقول أن هذه كل أسرار الحروف‪ ..‬بل هي مجرد بداية ال أحد يدرى إلى أي آفاق سوف‬ ‫توصلنا‪.‬‬ ‫وهذه الحروف بهذه الداللة الجديدة تنفي نفيا باتا شبهة التأليف‪.‬‬ ‫ثم هي تضعنا أمام موازين دقيقة ودالالت عميقة لكل حرف فال يجرؤ أحدنا أن يقول أنه‬ ‫أمام‪ ..‬أي كالم‪ ..‬أال ترى يا صاحبي أنك أمام كالم ال يمكن أن يكون أي كالم‪.‬‬ ‫ولم يجب صاحبي‪ ،‬وإنما ظل يقلب الكتاب اإلنجليزى ويتصفحه ثم يعود يقلبه دون أن‬ ‫ينطق بحرف‪.‬‬

‫‪97‬‬


‫الفصل السابع عشر‪ :‬املعجزة‬ ‫قال صاحبي‪:‬‬ ‫ال أفهم كيف يجوز للرب الرحيم الذي تصفونه بأنه رءوف ودود كريم عفو غفور‪ ..‬كيف‬ ‫يأمر هذا الرب نبيه الخليل املقرب إبراهيم بأن يذبح ولده‪ ..‬أال ترى معي أن هذه مسألة صعبة‬ ‫التصديق؟‬ ‫قلت له‪:‬‬ ‫القصة تدل من سياقها وأحداثها على أن مراد هللا من إبراهيم لم يكن ذبح ابنه‪ ،‬بدليل أن‬ ‫الذبح لم يحدث وإنما كان املراد أن يذبح إبراهيم شغفه الزائد بابنه‪ ..‬ومحبته الزائدة البنه‪..‬‬ ‫وتعلقه الزائد بابنه إذ ال يجوز أن يكون في قلب النبي تعلق بغير هللا‪ ..‬ال دنيا وال ولد وال جاه‬ ‫وال سلطان‪ ..‬كل هذه األمور ال يصح أن يتعلق بها قلب النبي‪ ..‬وكما هو معلوم كان إسماعيل‬ ‫قد جاء ألبيه إبراهيم على كبر وعلى شيخوخة‪ ..‬فشغف به الشيخ وتعلق به‪ ..‬فجاء امتحان‬ ‫هللا لنبيه ضروريا ‪ ..‬وما حدث في القصة يدل على سالمة هذا التفسير‪ ..‬فما إن صدع النبي‬ ‫ألمر ربه وأشرع سكينه ليذبح ولده حتى جاء أمر السماء بالفداء‪.‬‬ ‫ وما رأيك في معجزات إبراهيم العجيبة ودخوله النار دون أن يحترق‪ ..‬وما فعله موس ى من‬‫بعده‬ ‫حينما أخرج من عصاه ثعبانا ثم حينما شق بهذه العصا البحر‪ ،‬ثم حينما أخرج يده من تحت‬ ‫إبطه فإذا هي بيضاء‪ ..‬أال تبدو هذه األمور وكأنها عرض بهلواني في سيرك‪ ..‬وكيف يدلل هللا على‬ ‫قدرته وعظمته بهذه البهلوانيات التي هي في حد ذاتها صنوف من الال معقول‪ ..‬وأمثلة من خرق‬ ‫النظام‪..‬‬ ‫أال يبدو أن البرهان األقوى على عظمة هللا هو النظام والعقل واالنضباط والقوانين في‬ ‫سريانها الجميل في الكون دون أن تخرق‪..‬‬ ‫ لقد فهمت املعجزة خطأ وتصورتها خطأ‪..‬‬‫املعجزة في تصورك عمل بهلواني وخرق للقانون‪ ،‬وال معقول‪ ،‬ولكن الحقيقة غير ذلك‪..‬‬ ‫‪98‬‬


‫َ‬ ‫ّ‬ ‫أقرب املوضوع إلى ذهنك بمثل‪..‬‬ ‫ودعني ِّ‬ ‫ُ‬ ‫لو أنه ق ِّ​ّدر لك أن تعود ثالثة آالف سنة إلى الوراء‪ ،‬ثم تدخل على فرعون مصر في ذلك‬ ‫الزمن البائد ومعك ترانزستور في حجم علبة الثقاب يتكلم ويغني من تلقاء نفسه‪ ..‬ترى ماذا‬ ‫سيكون حال فرعون وحاشيته؟‪ ..‬سيهتفون في ذهول بال شك معجزة‪ ،‬سحر‪ ،‬ال معقول‪ ،‬خرق‬ ‫لجميع القوانين‪ ..‬ولكننا نعلم اآلن أنه ال إعجاز في املوضوع وال سحر‪ ،‬وال خرق ألي قانون‪..‬‬ ‫بل إن ما يحدث في داخل الترانزستور هو أمر يجري حسب قوانين في علم اإللكترونيات‪ ..‬وإنه‬ ‫معقول تماما‪..‬‬ ‫وسيكون األمر أعجب لو أنك دخلت على ملك بابل وفي يدك تليفزيون ينقل الصور من بالد‬ ‫الروم‪..‬‬ ‫وسوف يصفق ملك آشور عجبا لو أنك أدرت له أسطوانة بالستيك فتكلمت‪.‬‬ ‫بل إن التاريخ ليحفظ لنا قصة مماثلة حينما نزل املستعمرون أفريقيا‪ ..‬وحطت أول طائرة‬ ‫لهم في الغابة وسط البدائيين‪ ..‬ماذا حدث؟ سجد الزنوج العراة على وجوههم ودقوا الطبول‬ ‫وذبحوا القرابين وظنوا أن هللا نزل من سماواته وتصوروا فيما يحدث خرقا لجميع القوانين‪..‬‬ ‫مع أننا نعلم اآلن أن الطائرة تطير بقانون وتنزل بقانون‪ ..‬وأنها مصممة حسب القوانين‬ ‫الهندسية املحكمة‪ ،‬وأن طيرانها أمر معقول تماما‪ ،‬وأنها ال تخرق قانون الجاذبية‪ ،‬وإنما‬ ‫تتجاوز هذا القانون بقانون آخر هو قانون الفعل ورد الفعل‪..‬‬ ‫نحن إذن أمام تفاضل قوانين وليس أمام خرق قوانين‪..‬‬ ‫واملاء يصعد في ساق النخلة ضد الجاذبية ليس بخرق هذه الجاذبية وإنما بمجموعة قوانين‬ ‫فسيولوجية تتفاضل معها‪ ..‬هي قانون تماسك العمود املائي وقانون الخاصة الشعرية‪،‬‬ ‫وقانون الضغط األزموزي‪ ،‬وهي جميعها قوانين تؤدي إلى شد املاء إلى أعلى‪.‬‬ ‫نحن دائما ال نخرج عن العقل وال عن املعقول‪ ،‬وما حدث لم يكن بهلوانيات‪ ..‬وإنما كانت‬ ‫دهشة الزنوج البدائيين مردها جهلهم بهذه القوانين‪ ..‬وكذلك دهشتك أمام شق موس ى للبحر‬ ‫وإخراجه للثعبان من العصا‪ ،‬وإحياء عيس ى للموتى‪ ،‬ودخول إبراهيم للنار بدون أن يحترق‪..‬‬ ‫تصورت أنها ال معقول وخرق للقوانين‪ ،‬وبهلوانيات‪ ..‬في حين أنها تجري جميعها على وفاق‬ ‫‪99‬‬


‫املشيئة اإللهية التي تتفاضل مع جميع القوانين التي نعرفها‪ ..‬وهي إذن صنوف من النظام‪..‬‬ ‫ومن املعقول‪ ..‬ولكن أعلى من مداركنا وهللا ال يهدم النظام بهذه املعجزات‪ ،‬وإنما يشهدنا على‬ ‫نظام أعلى‪ ،‬وقوانين أعلى‪ ،‬وعقل أكبر من استيعابنا‪ ،‬ومشيئة أعلى من ذلك كله‪.‬‬ ‫وقد وقع البهائيون في نفس غلطتك حينما رفضوا املعجزات‪ ،‬وتصوروا أن قبولها فيه امتهان‬ ‫للعقل‪ ،‬وازدراء بالعقل‪ ،‬فتحايلوا على القرآن ّ‬ ‫وحرفوا معانيه عن ظاهرها‪ ..‬فموس ى لم يشق‬ ‫البحر بعصاه‪ ،‬وإنما كانت عصاه هي الشريعة التي فرقت الحق من الباطل‪ ،‬وباملثل كانت يده‬ ‫البيضاء هي رمز ليد الخير‪ ..‬وباملثل أحيا عيس ى النفوس ولم يحي األجساد‪ ..‬وفتح العقول ولم‬ ‫يفتح العيون العمى‪ ..‬وبهذا أخرجوا القرآن عن معانيه الحرفية إلى تأويالت وتفسيرات مجازية‬ ‫ورمزية كلما اصطدموا بش يء لم يعقلوه‪..‬‬ ‫وكان هذا ألنهم أخطأوا فهم املعجزة وتصوروا أنها ال معقول‪ ،‬وخرق للقانون‪ ،‬وهدم‬ ‫للنظام‪ ،‬وهو نفس ما وقعت فيه‪.‬‬ ‫والحق أننا نعيش في عصر لم تعد تستغرب فيه املعجزات‪.‬‬ ‫وقد رأينا العلم يأخذ بيدنا إلى سطح القمر‪ ،‬وإذا كان العلم البشري أعطانا كل هذا‬ ‫السلطان‪ ،‬فالعلم اإللهي اللدني ال شك يمكن أن يمدنا بسلطان أكبر‪ ..‬استمع إلى هذه اآلية‬ ‫َّ َ َ َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ ُ َ َ ُ ُ‬ ‫الجميلة‪َ (( :‬يا َمع َش َر الج ّن َ‬ ‫ض‬ ‫األ‬ ‫و‬ ‫ات‬ ‫او‬ ‫م‬ ‫الس‬ ‫ار‬ ‫ط‬ ‫ق‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫وا‬ ‫ذ‬ ‫نف‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫م‬ ‫ت‬ ‫ع‬ ‫ط‬ ‫ت‬ ‫اس‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫نس‬ ‫اإل‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ ِّ ِّ ِّ ِّ ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ ُ َ َ ُ َ َّ‬ ‫انفذوا ال ت ُنفذون ِّإال ِّب ُسلطان)) [الرحمن‪.]33:‬‬ ‫ف‬ ‫وهذا هو السلطان‪ ..‬العلم البشري‪ ..‬وأعظم منه العلم اإللهي‪.‬‬

‫‪011‬‬


‫الفصل الثامن عشر‪ :‬معىن الدين‬ ‫قال صاحبي‪:‬‬ ‫اسمع‪ ..‬إذا كانت عندكم جنة كما تقولون‪ ..‬فأنا أول واحد سوف يدخلها فأنا أكثر دينا من‬ ‫كثير من دعاتكم من أصحاب اللحى واملسابح إياهم‪..‬‬ ‫تساءلت‪:‬‬ ‫ أكثر دينا؟!‪ ..‬ماذا تعني بهذا؟!‬‫ أعني أني ال أؤذي أحدا وال أسرق‪ ،‬وال أقتل‪ ،‬وال أرتش ي‪ ،‬وال أحسد‪ ،‬وال أحقد‪ ،‬وال أضمر‬‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫سوءا ملخلوق‪ ،‬وال أنوي إال الخير‪ ،‬وال أهدف إال إلى النفع العام‪ ..‬أصحو وأنام بضمير مستريح‬ ‫وشعار حياتي هو اإلصالح ما استطعت‪ ..‬أليس هذا هو الدين؟ أال تقولون عندكم إن الدين‬ ‫املعاملة؟‪..‬‬ ‫ هذا ش يء له اسم آخر‪ ..‬اسمه حسن السير والسلوك‪ ..‬وهو من مقتضيات الدين ولكنه‬‫ليس الدين‪ ،‬إنك تخلط بين الدين وبين مقتضايته‪ ..‬والدين ليس له إال معنى واحد هو معرفة‬ ‫اإلله‪ ..‬أن تعرف إلهك حق املعرفة‪ ،‬ويكون بينك وبين هذا اإلله سلوك ومعاملة‪ ..‬أن تعرف‬ ‫إلهك عظيما جليال قريبا مجيبا يسمع ويرى فتدعوه راكعا ساجدا خاشعا خشوع العبد‬ ‫للرب‪ ..‬هذه املعاملة الخاصة بينك وبين الرب هي الدين‪ ..‬أما حسن معاملتك إلخوانك فهي‬ ‫من مقتضيات هذا التدين وهي في حقيقة األمر معاملة للرب أيضا‪ ..‬يقول نبينا عليه الصالة‬ ‫والسالم‪" :‬إن الصدقة تقع في يد هللا قبل أن تقع في يد السائل"‪ ..‬فمن أحب هللا أحب‬ ‫مخلوقاته وأحسن إليها‪ ..‬أما إذا اقتصرت معامالتك على الناس ال تعترف إال بهم وال ترى‬ ‫غيرهم‪ ..‬وال ترى غير الدنيا فأنت كافر تماما وإن أحسنت السير والسلوك مع هؤالء الناس‪..‬‬ ‫إنما يدل حسن سيرك وسلوكك على الفطانة والسياسة والكياسة والطبع اللبيب وليس على‬ ‫الدين فأنت تريد أن تكسب الناس لتنجح في حياتك‪ ،‬وحسن سيرك وسلوكك ذريعة إلى كسب‬ ‫الدنيا فحسب‪ ..‬وهذه طباع أكثر الكفار أمثالك‪.‬‬ ‫ صدقني أنا أشعر أحيانا بأن هناك قوة‪..‬‬‫‪010‬‬


‫ قوة!‬‫ نعم‪ ..‬ثمة قوة مجهولة وراء الكون‪ ..‬أنا أؤمن تماما بأن هناك قوة‪..‬‬‫ وما تصورك لهذه القوة‪ ..‬أتتصورها كائنا يسمع ويرى ويعقل ويتعهد مخلوقاته بالرعاية‬‫والهداية‪ ،‬وينزل لهم الكتب ويبعث لهم الرسل ويستجيب لصرخاتهم وتوسالتهم؟‬ ‫ بصراحة أنا ال أصدق هذا الكالم وال أتصوره‪ ،‬وأكثر من هذا أراه ساذجا ال يليق بهذه‬‫القوة العظيمة‪..‬‬ ‫ إذن فهي قوة كهرمغنطيسية عمياء تسوق الكون في عبثية ال خالق لها‪ ..‬وهذه هي الصفة‬‫التي تليق بقوتك العظيمة‪..‬‬ ‫ ربما‪..‬‬‫ بئس ما تصورت إلهك‪ ..‬خلق لك البصر فتصورته أعمى‪ ..‬وخلق لك الرشد فتصورته‬‫عابثا أخرق‪ ..‬وهللا إنك الكافر بعينه‪ ،‬ولو أحسنت السير والسلوك مدى الدهر‪ّ ..‬‬ ‫وإن أعمالك‬ ‫الصالحة مصيرها اإلحباط يوم الحساب وأن تتبدد هباء منثورا‪..‬‬ ‫ أال يكون هذا ظلما‪ ..‬؟‬‫ بل هو عين العدل‪ ..‬فقد تصورت هذه األعمال من ذاتك ليس وراءها الهادي الذي هداك‬‫والرشيد الذي أرشدك فظلمت إلهك‪ ..‬أنكرت فضله‪ ..‬وهذا هو الفرق بين طيبات املؤمن‬ ‫وطيبات الكافر‪ ،‬إذا استوى االثنان في حسن السير والسلوك الظاهر‪ ..‬فكالهما قد يبني‬ ‫مستشفى لعالج املرض ى‪ ..‬فيقول الكافر‪ :‬أنا بنيت هذا املستشفى العظيم للناس‪ ..‬ويقول‬ ‫املؤمن‪ :‬وفقني ربي إلى بناء هذا املستشفى للناس وما كنت إال واسطة خير‪..‬‬ ‫وما أكبر الفرق‪ ..‬واحد أسند الفضل لصاحب الفضل ولم يبق لنفسه فضال إال مجرد‬ ‫الوساطة وحتى هذه يشكر عليها هللا ويقول‪ :‬أحمدك يا ربي أن جعلتني سببا‪ ..‬واآلخر أسند‬ ‫الفضل لنفسه وراح يقول‪ :‬أنا‪ ..‬أنا‪ ..‬أنا كل ش يء‪ ..‬فارق كبير بين الكبرياء والتواضع‪ ..‬وبين‬ ‫العلو وخفض الجناح‪ ..‬بين الجبروت والوداعة‪ ..‬ولهذا فأنتم في ديانتكم الوثنية وإيمانكم‬ ‫بهذه القوة الكهرمغنطيسية العمياء ال تصلون وال تسجدون‪..‬‬

‫‪012‬‬


‫ وملاذا نصلي وملن نصلي‪ ..‬؟ إني ال أرى لصالتكم هذه أي حكمة‪ ..‬وملاذا كل تلك الحركات أما‬‫كان يكفي الخشوع‪ ..‬؟‬ ‫ حكمة الصالة أن يتحطم هذا الكبرياء املزيف الذي تعيش فيه لحظة سجودك ومالمسة‬‫جبهتك التراب وقولك بلسانك وقلبك‪" :‬سبحان ربي األعلى"‪ ..‬وقد عرفت مكانك أخيرا وأنك‬ ‫أنت األدنى وهو األعلى‪ ..‬وأنك تراب على التراب‪ ..‬وهو ذات منزهة من فوق سبع سماوات‪..‬‬ ‫أما ملاذا الحركات في الصالة‪ ،‬وملاذا ال نكتفي بالخشوع القلبي فإني أسألك بدوري‪:‬‬ ‫وملاذا خلق لك الجسد أصال‪ ..‬وملاذا ال تكتفي بالحب الشفوي فتريد أن تعانق وتقبل‪..‬‬ ‫ملاذا ال تكتفي بالكرم الشفوي فتجود باليد واملال‪ ..‬بل خلق هللا لك الجسد إذا كان‬ ‫خشوعك صادقا فاض على جسدك فركعت وسجدت‪ ..‬وإن كان خشوعك زائفا لم يتعد‬ ‫لسانك‪..‬‬ ‫ هل تعتقد أنك ستدخل الجنة‪ ..‬؟‬‫سنر ُد النار‪ ..‬ثم ينجي هللا الذين اتقوا‪ ..‬وال أعرف هل اتقيت أم ال؟‪ ..‬يعلم هذا عالم‬ ‫ كلنا ِّ‬‫القلوب‪ ..‬وكل عملي ‪-‬لألسف‪ -‬حبر على ورق‪ ..‬وقد يسلم العمل وال تسلم النية‪ ..‬وقد تسلم‬ ‫النية وال يسلم اإلخالص‪ ..‬فنظن الواحد منا أنه يعمل الخير لوجه هللا وهو يعمله للشهرة‬ ‫والدنيا والجاه بين الناس‪ ..‬وما أكثر ما يخدع الواحد منا في نفسه ويدخل عليه التلبيس‬ ‫وحسن الظن واالطمئنان الكاذب من حيث ال يدري‪ ..‬نسأل هللا السالمة‪..‬‬ ‫ وهل يستطيع اإلنسان أن يكون مخلصا؟‬‫ ال يملك ذلك من تلقاء نفسه‪ ..‬وإنما هللا هو الذي يخلص القلوب‪ ..‬ولهذا يتكلم القرآن في‬‫َ‬ ‫املخلصين بكسر الالم‪ ..‬ولكن هللا وعد بأن‬ ‫وليس‬ ‫‬‫الالم‬ ‫بفتح‬ ‫‬‫صين‬ ‫املخل‬ ‫أكثر اآليات عن‬ ‫ِّ‬ ‫((يهدي إليه من ينيب)) أي كل من يؤوب ويرجع إليه‪ ..‬فعليك بالرجوع إليه‪ ..‬وعليه الباقي‪..‬‬

‫‪013‬‬


‫الفصل التاسع عشر‪ :‬فزنا بسعادة الدنيا وفزمت باألوهام‬ ‫قال صاحبي‪ ..‬وكانت في نبرته فرحة رجل منتصر‪:‬‬ ‫مهما اختلفنا ومهما طال بنا الجدل فال شك أننا خرجنا من معركتنا معكم منتصرين فقد‬ ‫فزنا بسعادة الدنيا وخرجتم أنتم ببضعة أوهام في رؤوسكم‪ ..‬وماذا يجدي الكالم وقد خرجنا‬ ‫من الدنيا بنصيب األسد‪ ..‬فلنا السهرة والسكرة والنساء الباهرات والنعيم الباذخ واللذات‬ ‫التي ال يعكرها خوف الحرام‪ ..‬ولكم الصيام والصالة والتسابيح وخوف الحساب‪ ..‬من الذي‬ ‫ربح؟‬ ‫رددت قائال‪:‬‬ ‫هذا لو كان ما ربحتموه هو السعادة‪ ..‬ولكن لو فكرنا معا في هدوء ملا وجدنا هذه الصورة‬ ‫التي وصفتها عن السهرة والسكرة والنساء الباهرات والنعيم الباذخ واللذات التي ال يعكرها‬ ‫خوف الحرام‪ ..‬ملا وجدنا هذه الصورة إال الشقاء بعينه‪.‬‬ ‫ الشقاء‪ ..‬وكيف؟‬‫ ألنها في حقيقتها عبودية لغرائز ال تشبع حتى تجوع‪ ،‬وإذا أتخمتها أصابها الضجر واملالل‬‫وأصابك أنت البالدة والخمول‪..‬‬ ‫هل تصلح أحضان امرأة لتكون مستقر سعادة‪ ،‬والقلوب تتقلب والهوى ال يستقر على حال‬ ‫والغواني يغرهن الثناء‪ ..‬وما قرأنا في قصص العشاق إال التعاسة فإذا تزوجوا كانت التعاسة‬ ‫أكبر وخيبة األمل أكبر ألن كال من الطرفين سوف يفتقد في اآلخر الكمال املعبود الذي كان‬ ‫يتخيله‪ ..‬وبعد قضاء الوطر وفتور الشهوة يرى كل واحد عيوب اآلخر بعدسة مكبرة‪..‬‬ ‫وهل الثراء الفاحش إال عبودية إذ يضع الغنى نفسه في خدمة أمواله وفي خدمة تكثيرها‬ ‫وتجميعها وحراستها فيصبح عبدها بعد أن كانت خادمته‪..‬‬ ‫وهل السلطة والجاه إال مزلق إلى الغرور والكبر والطغيان‪ ..‬وهل راكب السلطان إال كراكب‬ ‫األسد يوما هو راكبه ويوما هو مأكوله‪..‬‬

‫‪014‬‬


‫وهل الخمر والسكر واملخدرات والقمار والعربدة والجنس بعيدا عن العيون وبعيدا عن‬ ‫خوف الحرام سعادة‪ ..‬وهل هي إال أنواع من الهروب من العقل والضمير وعطش الروح‬ ‫ومسئولية اإلنسان باإلغراق في ضرام الشهوة وسعار الرغبات‪ ..‬وهل هو ارتقاء أم هبوط إلى‬ ‫حياة القرود وتسافد البهائم وتناكح السوائم‪..‬‬ ‫َ َ َ َّ ُ َ َ َ ُ ُ َ َ َ َ ُ ُ َ‬ ‫األن َع ُام َو َّ‬ ‫الن ُار َمثوى‬ ‫صدق القرآن إذ يقول عن الكفار‪ ..‬أنهم ((يتمتعون ويأكلون كما تأكل‬ ‫َّ‬ ‫ل ُهم)) [محمد‪.]12:‬‬ ‫فهو لم ينكر أنهم يتمتعون‪ ،‬ولكن كما تتمتع األنعام‪ ،‬وكما ترعى السوائم‪ ..‬وهل هذه‬ ‫سعادة؟! وهل حياة الشهوة تلك إال سلسلة من الشبق والتوترات والجوع األكال والتخمة‬ ‫الخانقة ال تمت إلى السعادة الحقة بسبب‪ ..‬وهل تكون السعادة الحقة إال حالة من السالم‬ ‫والسكينة النفسية والتحرر الروحي من كافة العبوديات‪ ..‬وهل هي في تعريفها النهائى إال حالة‬ ‫صلح بين اإلنسان ونفسه وبين اإلنسان واآلخرين وبين اإلنسان وهللا‪ ..‬وهذه املصالحة‬ ‫والسالم واألمن النفس ي ال تتحقق إال بالعمل‪ ..‬بأن يضع اإلنسان قوته وماله وصحته في‬ ‫خدمة اآلخرين وبأن يحيا حياة الخير والبر نية وعمال وأن تتصل العالقة بينه وبين هللا صالة‬ ‫وخشوعا فيزيده هللا سكينة ومددا ونورا‪ ..‬وهل هذه السعادة إال الدين بعينه‪ ..‬ألم يقل‬ ‫الصوفي البس الخرقة‪" :‬نحن في لذة لو عرفها امللوك لقاتلونا عليها بالسيوف"‪ ..‬والذين عرفوا‬ ‫تلك اللذة‪ ..‬لذة الصلة باهلل والصلح مع النفس‪ ..‬يعلمون أن كالم الصوفي على حق‪.‬‬ ‫ ألم تكن مثلنا من سنوات تسكر كما نسكر وتلهو كما نلهو وتسعد هذه السعادة‬‫الحيوانية التي نسعدها وتكتب الكفر بعينه في كتابك "هللا واإلنسان" فتسبق به إلحاد‬ ‫املالحدة فماذا غيرك من النقيض إلى النقيض؟‬ ‫ سبحانه يغير وال يتغير‪.‬‬‫ أعلم أنك تقول أن كل ش يء بفضل هللا‪ ..‬ولكن ماذا كان دورك‪ ..‬وماذا كان سعيك؟‬‫ نظرت حولى فرأيت أن املوت ثم التراب نكتة وعبثـا وهزال ورأيت العالم حولى كله محكما‬‫دقيقـا منضبطـا ال مكان فيه للهزل وال للعبث‪ ..‬ولو كانت حياتي عبثا كما تصور العابثون‬

‫‪015‬‬


‫ونهايتها ال ش يء‪ ..‬فلماذا أبكى وملاذا أندم وملا أتحرق وألتهب شوقـا على الحق والعدل وأفتدى‬ ‫هذه القيم بالدم والحياة‪.‬‬ ‫رأيت النجوم تجرى في أفالكها بقانون‪..‬‬ ‫ورأيت الحشرات االجتماعية تتكلم والنباتات ترى وتسمع وتحس‪..‬‬ ‫ورأيت الحيوانات لها أخالق‪..‬‬ ‫ورأيت املخ البشرى عجيبة العجائب يتألف من عشرة آالف مليون خط عصبي تعمل كلها‬ ‫في وقت واحد في كمال معجز‪ ..‬ولو حدث بها عطل هنا أوهناك لجاء في أثره الشلل والعمى‬ ‫والخرس والتخليط والهذيان وهي أمور ال تحدث إال استثناء‪ ..‬فما الذي يحفظ لهذه اآللة‬ ‫الهائلة سالمتها ومن الذي زودها بكل تلك الكماالت‪.‬‬ ‫ورأيت الجمال في ورقة الشجر وفي ريشة الطاووس وجناح الفراش وسمعت املوسيقى في‬ ‫صدح البالبل وسقسقة العصافير وحيثما وجهت عينى رأيت رسم رسام وتصميم مصمم‬ ‫وإبداع يد مبدعة‪.‬‬ ‫ورأيت الطبيعة بناء محكما متكامال تستحيل فيها الصدفة والعشوائية‪ ..‬بل كل ش يء يكاد‬ ‫يصرخ‪ ..‬دبرنى مدبر‪ ..‬وخلقنى مبدع قدير‪.‬‬ ‫وقرأت القرآن فكان له في سمعي رنين وإيقاع ليس في مألوف اللغة وكان له في ع ّ‬ ‫قلي انبهار‪..‬‬ ‫فهو يأتى بالكلمة األخيرة في كل ما يتعرض له من أمور السياسة واألخالق والتشريع والكون‬ ‫والحياة والنفس واملجتمع رغم تقادم العهد على نزوله أكثر من ألف وثالثمائة سنة‪ ..‬وهو‬ ‫يوافق كل ما يستجد من علوم رغم أنه أتى على يد رجل بدوى َّ‬ ‫أمي ال يقرأ وال يكتب في أمة‬ ‫متخلفة بعيدة عن نور الحضارات‪..‬‬ ‫وقرأت سيرة هذا الرجل وما صنع‪ ..‬فقلت‪ ..‬بل هو نبي‪ ..‬وال يمكن أن يكون إال نبي‪ ..‬وال يمكن‬ ‫لهذا الكون البديع إال أن يكون صنع هللا القدير الذي وصفه القرآن‪ ..‬ووصف أفعاله‪.‬‬ ‫قال صاحبي ‪-‬بعد أن أصغى باهتمام إلى كل ما قلت‪ ،‬وراح يتلمس الثغرة األخيرة‪:-‬‬ ‫فماذا يكون الحال لو أخطأت حساباتك وانتهيت بعد عمر طويل إلى موت وتراب ليس بعده‬ ‫ش يء؟‬ ‫‪016‬‬


‫قلت في هدوء‪:‬‬ ‫لن أكون قد خسرت شيئـا فقد عشت حياتي كأعرض وأسعد وأحفل ما تكون الحياة‪..‬‬ ‫ولكنكم أنتم سوف تخسرون كثيرا لو أصابت حساباتى وصدقت توقعاتى‪ ..‬وإنها لصادقة‬ ‫سوف تكون مفاجئة هائلة يا صاحبي‪.‬‬ ‫ونظرت في عمق عينيه وأنا أتكلم فرأيت ألول مرة بحيرة من الرعب تنداح في كل عين ورأيت‬ ‫أجفانه تطرف وتختلج‪.‬‬ ‫كانت لحظة عابرة من الرعب‪ ..‬ما لبث أن استعاد بعدها توازنه‪ ..‬ولكنها كانت لحظة كافية‬ ‫ألدرك أنه بكل غروره وعناده ومكابرته واقف على جرف من الشك والخواء والفراغ وممسك‬ ‫بال ش يء‪.‬‬ ‫قال لي بنبرة حاول أن يشحنها باليقين‪ :‬سوف ترى أن التراب هو كل ما ينتظرك وينتظرنا‪.‬‬ ‫سئلته‪ :‬هل أنت متأكد؟‬ ‫وللمرة الثانية انداحت في عينيه تلك البحيرة من الرعب‪.‬‬ ‫قال وهو يضغط على الحروف وكأنما يخش ى أن تخونه نبراته‪ :‬نعم‪..‬‬ ‫قلت‪ :‬كذبت‪ ..‬فهذا أمر ال يمكن أن نتأكد منه أبدا‪.‬‬ ‫وحينما كنت أعود وحدى تلك الليلة بعد حوارنا الطويل كنت أعلم أنى قد نكأت في نفسه‬ ‫جرحا‪ ..‬وحفرت تحت فلسفته املتهاوية حفرة سوف تتسع على األيام ولن يستطيع منطقه‬ ‫املتهافت أن يردمها‪.‬‬ ‫قلت في نفس ي وأنا أدعو له‪ ..‬لعل هذا الرعب ينجيه‪ ..‬فمن َس َّد على نفسه كل منافذ الحق‬ ‫بعناده ال يبقى له إال الرعب منفذا‪.‬‬ ‫َ‬ ‫وكنت أعلم أنى ال أملك هدايته‪ ..‬ألم يقل هللا لنبيه‪(( ..‬إ َّن َك َال َتهدي َمن أح َبب َت َو َلك َّن َّ َ‬ ‫اّلل‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫َيه ِّدي َمن َيشاء)) [القصص‪.]52:‬‬ ‫ولكنى كنت أتمنى له الهداية وأدعو له بها فليس أسوأ من الكفر ذنبا وال مصيرا‪.‬‬

‫‪017‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.