توطئة : أهم القضايا التي تشغل عقول الصفوة من العلماء إن من ّ والمفكرين ،وتستقطب اهتمام المشتغلين بالدراسات المستقبلية، والمهتمين بمصير التدافع الحضاري على جميع مستوياته ،قضية التعايش بين األديان ،بما تطرحه من مسائل تتشعب عنها ،وبما تحديات َّ تتخطى في معظمها ،النطاق الديني والحضاري تفرضه من ّ والثقافي ،إلى مجاالت من الفكر والرأي أوسع ،ومساحات من ردود الفعل أرحب. ولما كانت قضية التعايش بين األديان بهذا القدر من التأثير في الواقع اإلنساني ،لزم أن يكون للفكر اإلسالمي ٌ محدد إزاءها، موقف ّ ويحدد المعالم، يستند إلى رأي حصيف بشأنها ،يجلّي الحقائق، ّ بعد أن يُزيل الشبهات ويدحضها ،ويُف ّند المغالطات ويبطلها. ومن هنا تأتي أهمي ُة هذه الدراسة التي ستتناول اإلسالم حد ذاته، والتعايش بين األديان ،وموقف اإلسالم من التعايش في ّ بحسبانه قيم ًة راقي ًة من القيم اإلنسانية ،وموقفه من التعايش مع األديان ،باعتبار أنه قضية بالغة األهمية ،تستحق منا النظر والتأ ّمل يعبر في حقيقته عن حضارتنا، واالنتهاء فيها إلى موقف واضحّ ، ويتالءم في جوهره مع رسالتنا ،ويعكس بطبيعته إرادتنا في التعامل العادل مع األديان والثقافات والحضارات جميعاً. - 11 -
يف مفهوم التعايش : ال يستقيم لنا األمر في بحث العالقة بين اإلسالم والتعايش نحدد بد ّقة ،مفهوم التعايش اصطالحاً ،باعتبار بين األديان ،ما لم ّ الرئيس للقضية موضوع الدراسة برمتها. المحور أن التعايش هو ُ ُ بالرجوع إلى الداللة اللغوية للتعايش ،التي هي األصل في اشتقاق اإلصطالح ،نجد في (املعجم الوسيط) ،تعايشوا :عاشوا عىل األلفة واملو ّدة ،ومنه التعايش السلمي ،و َعايَشَ ه :عاش معه .والعيش معناه الحياة ،وما تكون به الحياة من املطعم واملرشب والدخل(((. وإذا د ّققنا في مدلوالت مصطلح التعايش ()COEXISTENCE رواجه مع ظهور الصراع الذي شاع في هذا العصر ،والذي ابتدأ ُ بين الكتلتين الشرقية والغربية اللتين كانتا تقسمان العالم إلى معسكرين متناحرين ،قبل سقوط سور برلين وانهيار االتحاد السوفياتي ،ـ نجد أن البحث في مدلول هذا المصطلح يقودنا إلى بمفاهيم تتضارب فيما بينها ،ولكن جمل ٍة من المعاني ُم َح َّمل ٍة َ يمكن تصني ُفها إلى مستويات ثالثة : الحد من املستوى األول :سياسي ،إيديولوجي ،يحمل معنى ّ الصراع ،أو ترويض الخالف العقائدي بين المعسكرين االشتراكي ُّ التحكم والرأسمالي في المرحلة السابقة ،أو العمل على احتوائه ،أو في إدارة هذا الصراع ،بما يفتح قنوات لالتصال ،وللتعامل الذي ((( "املعجم الوسيط" ،مجمع اللغة العربية بالقاهرة ،الجزء ،2ص ،640 - 639 :طبعة دار الفكر.
- 12 -
تقتضيه ضرورات الحياة المدنية والعسكرية .وقد ُعرف التعايش، أول ما ُعرف ،على هذا المستوى األول. املستوى الثاين :اقتصادي ،يرمز إلى عالقات التعاون بين الحكومات والشعوب فيما له صل ٌة بالمسائل القانونية واالقتصادية والتجارية ،من قريب أو بعيد. املستوى الثالث :ديني ،ثقافي ،حضاري ،وهو األحدث ،ويشمل ـ تحديداً ـ معنى التعايش الديني ،أو التعايش الحضاري .والمرا ُد به أن تلتقي إراد ُة أتباع األديان السماوية والحضارات المختلفة، األمن والسالم العالم ،وحتى تعيش في العمل من أجل أن يسود ُ يعم اإلنسانية في ج ّو من اإلخاء والتعاون على ما فيه الخير الذي ّ ُ بني البشر جميعاً ،من دون استثناء. المحدد وعلى هذا المستوى الثالث ،وعلى ضوء المفهوم َّ الذي نستخلصه منه ،نتعامل مع مصطلح التعايش ،وننظر في أبعاده ومراميه. التعايش لقد وضح لنا من تأ ّملنا في هذه الدالالت جميعاً ،أن َ أدق ،التعايش بين أتباع األديان ،يستند إلى الديني ،أو بعبارة ّ َّ أسس أربعة ،هي : الحرة المشتركة ،بحيث تكون الرغب ُة في األساس األول :اإلرادة ّ التعايش نابع ًة من الذات ،وليست مفروض ًة تحت ضغوط ،أيّا كان مصدرها ،أو مرهون ًة بشروط ،مهما تكن مسبباتها. - 13 -
األساس الثاين :التفاهم حول األهداف والغايات ،حتى ال يكون التعايش فارغاً من أي مدلول عملي ،أو ال يح ّقق الفائدة الرئيس من التعايش ،هو خدم َة القصد للطرفين ،بحيث يكون ُ ُ وتحقيق المصالح البشرية العليا ،وفي األهداف اإلنسانية السامية َ استتباب األمن والسلم في األرض ،والحيلول ُة دون قيام مقدمتها ُ وردع العدوان والظلم واالضطهاد الذي أسباب الحروب والنزاعاتُ ، واستنكار ِّ كل السياسات والممارسات يلحق باألفراد والجماعات، ُ حقوق الشعوب ،على أي مستوى من المستويات، التي تُهضم فيها ُ ومحارب ُة العنصرية والعرقية واستعالء جنس على جنس ،تحت أية دعوى من مثل هذه الدعاوى المتهافتة المردودة الباطلة. األساس الثالث :التعاون على العمل المشترك من أجل تحقيق األهداف المتفق عليها ،و َوفقاً لخطط التنفيذ التي يضعها الطرفان المصممان عليه. الراغبان في التعايش، ِّ األساس الرابع :صيانة هذا التعايش بسياج من االحترام المتبادل ،ومن الثقة المتبادلة أيضاً ،حتى ال ينحرف التعايش عن الخط المرسوم ،ألي سبب من األسباب ،وحتى ال تُغلَّب مصلح ُة ٍ طرف على مصلحة الطرف الثاني ،مهما تكن الدواعي والضغوط، يتم االحتكام دائماً إلى القواسم المشتركة ،وإلى القدر وذلك بأن َّ المشترك من القيم والمثل والمبادئ التي ال خالف عليها وال نزاع النزوع االلتزا ُم من الجانبين بما اجتمعت عليه عزز هذا حولها ،يُ ِّ َ إراد ُة المجتمع الدولي ،من مبادئ قانونية استوحاها تط ّور الفكر - 14 -
السياسي اإلنساني من قيم األديان السماوية عبر تراكم المعرفة طوال حقب التاريخ. لقد عرف ،في السياسة الدولية ،مصطلح (التعايش السلمي) أساس من التفاهم الذي يعني قيام تعاون بين دول العالم على ِ وتبادل المصالح االقتصادية والتجارية .وقد ظهر هذا المصطلح بعد الحرب العالمية الثانية وانقسام العالم إلى معسكرين راحا يتناحران على أساس عقائدي .ومما ساعد على إبراز الدعوة إلى الفزع َّ الذري بعد أن أصبحت القنبلة سياسة (التعايش السلمي)، ُ النوويّة ،وهي أداة الدمار الشامل ،مشاع ًة بين دول المعسكرين. وبعد قيام الجبهة الثالثة ،وهي مجموعة دول الحياد اإليجابي، السلمي هو أو عدم االنحياز ،أكدت الرغب َة في أن يكون التعايش ّ السبيل إلى تنسيق العالقات الدولية في العالم ،وإلى نبذ الحرب معدات الدمار الباردة وسياسة حافة الهاوية ،والتلويح باستخدام ّ الشامل(((. وتذهب (املوسوعة السياسية) إلى أن أول من أطلق شعار التعايش السلمي ( ،)PEACIFUL COEXISTENCEهو نيكيتا تراجع بلده االتحاد السوفياتي خروتشوف ،الذي كان ال يعني به َ عن تحقيق أهدافه المعلنة ،بقدرما كان يعني به محاولته تحقيق التغيرات التي طرأت تلك األهداف بطريقة تنسجم مع مقتضيات ّ على المسرح الدولي ،كوجود ما يُعرف بتوازن الرعب ،كما تذهب ((( أحمد عطية اللّه ،القاموس السيايس ،ص ،310 :الطبعة الثالثة 1968م ،دار النهضة العربية ،القاهرة .
- 15 -
الموسوعة إلى أن الغرب يُ ْؤث ُِر أن يكون المقصود بالتعايش السلمي غيك يَ ِع ْش أيضاً)(((. هو ما يُطلق عليه ِ ( :ع ْش َو َد ْع َ مغاير للمفهوم األول ،من حيث وهذا المفهوم ،كما يبدو، ٌ الهدف السياسي والمذهبي في المقام األول. غير أننا إذا استندنا إلى المفهوم األول ،ونقلناه إلى مجال التعاون بين أتباع األديان ،أمكن لنا أن نقول إن التعايش بين تم في حدود هذه المستويات ،وقام على هذه أتباع األديان ،إذا َّ األسس ،كان ضرور ًة من ضرورات الحياة على هذه األرض ،تستجيب وتلبى نداء للدواعي الملحة لقاعدة جلب المنافع ودرء المفاسدّ ، الفطرة اإلنسانية السويّة للعيش في أمن وسالم وطمأنينة ،حتى اإلنسان في دعة وسكينة ،إلى تعمير األرض ،بالمعنى ينصرف ُ الحضاري واإلنساني الواسع لهذا التعمير. اتفاق فالتعايش ،بهذا الفهم الموضوعي لطبيعته ولرسالته ،هو ُ ّ الطرفين على تنظيم وسائل العيش ـ أي الحياة ـ فيما بينهما يحددانها ،وتمهيد السبل المؤ ّدية إليه ،إذ أن هناك وفق قاعدة ّ فارقاً بين أن يعيش اإلنسان مع نفسه ،وبين أن يتعايش مع غيره، يقرر المرء أن يدخل في عملية ت ََبا ُدل َِي ٍة مع ففي الحالة الثانية ّ ثان ،أو مع أطراف أخرى ،تقوم على التوافق حول مصالح ،أو طرف ٍ أهداف ،أو ضرورات مشتركة. ((( "املوسوعة السياسية" ،ص ،108 :املؤسسة العربية للدراسات والنرش ،الطبعة األوىل بريوت1974 ،م .
- 16 -