اليد الواحدة تأليف :عبدالباسط أبوبكر محمد © جميع الحقوق محفوظة مجلة أسبوعية سياسية شاملة طبع في مايو 2015 مطابع األهرام جمهورية مصر العربية المدير الفني وتصميم الغالف :سامح الكاشف اإلخراج الفني والتنفيذ :أحمد نجدي
إلى تلك القصائد
التي ظلت تلح بمعاودة القراءة مر ًة تلو المرة
إلى أن كان هذا الكتاب.
المحتويات ـ مدخل أول9............................................................................
ٍ
ـ مدخل ثان 11.............................................................................
ـ مقدمة 13...................................................................................
ـ قصيد ٌة أم شاعر ؟! 19................................................................
ٍ
ٍ أفكار على الشجرة مقابل فكرة في اليد 29........................ عشر ـ ُ
نصوص ُملبد ٌة بالغيوم 41........................................................... ـ ٌ ـ عباء ُة اآلنا أو حاالت الذات 55..................................................
ِ
ن الذات الوثير67............................................................... ـ حض ُ مدخل 69..........................................................................
ـ السر ُد المحموم77..................................................................... مدخل 79..........................................................................
ـ ُمغامرة التجريب 87................................................................... مدخل 89..........................................................................
ـ القصيد ُة بلحاف األنثى 97.........................................................
ـ تعريف بالكاتب 105....................................................................
مدخل �أول وإلى أن تصبح الخوذة خط االستواء
ويصير المدفع الرشاش إنجيال
وتظل المشنقة
ويظل السيد الجالد
والقاضي
وحفار القبور
أبجديات على الفتة الموت
وتبقى الكلمات الصادقة
ً يحفر قبر الصادقين. معول ُ
...
الشاعر (محمد الشلطامي) 9
ثان مدخل ٍ لم تكن هذه القراءات إال محاولة صغيرة لمواكبة هذه التجربة الشعرية المتدفقة بقوة عبر مسارب النشر الورقي واإللكتروني.
هي نتيجة مكثفة لقراءات متواصلة لبعض التجارب الشابة في تجربة الشعر الليبي الحديث ،كنت أحاول أن أتوقف عند كل صوت ً صرا على القول أن هذه التجربة محاول رسم مسار تجربته الصغيرةُ ،م ً ٍ بشكل ما تجربة الشعر الليبي الحديث ،نتيج ًة لحضورها تُلخص المبهر على الفضاء اإللكتروني وانفتاحها على تجارب اآلخرين بقوة.
هذه القراءات الصغيرة ،كنت مدفو ًعا لها في ظل غياب النقد الذي ظل بعيدً ا عن هذه التجارب لفترة طويلة. كانت المقالة األولى التي تحمل عنوان (اليد الواحدة) ونشرت في صحيفة العرب اللندنية خالل عام .2003
من خالل نقاش مكثف مع الصديق الشاعر (عبدالدائم أكواص) الذي كان على تواصل يومي معي تلك الفترة. 11
كانت هذه القراءات تترصدُ مجموعة النصوص الشعرية التي تنشر عبر المواقع اإللكتروني والصحف والمجالت التي تصدر تلك الفترة ،قبل أن تترصد حضور المجموعات الشعرية األولى للشعراء الشباب.
12
مقدمة تنساب أي تجربة شعرية عبر مجموعة من الروافد تتشكل عبرها ومن هذه الروافد تبرز مؤثرات التراث والمؤثرات الغربية (التي ً مهما في أي تجربة شعرية) أصبحت تشكل هامشا ً وتأتى تجربة الشاعر الذاتية كشيء ملح ومهم في رسم أبعاد التجربة الشعرية عند أي شاعر.
تجربة الشعر الليبي التي نتلمسها اآلن تجيء عبر جزئيات متفاوتة ،لقد ظلت وعلى امتداد هذه الفترة الزمنية تجربة أصوات منفردة ،كل صوت يغرد بطريقته ،ويوظف تأثراته وقراءاته وتجاربه بالكيفية التي يراها تناسبه ،ويتضح في التجربة الليبية عمو ًما عدد كبير من المؤثرات (العربية والعالمية) وتتفاوت هذه المؤثرات ٍ شاعر إلى آخر. من
هذه التجربة التي تشكلت عبر تنوعات مختلفة منها القومية والوطنية والذاتية وعبرت كل تجربة عن الفترة التي عايشتها ،كما 13
علق الشاعر (مفتاح العماري) في كتابه (فعل القراءة والتأويل): (كانت تجربة الستينات على مستوى الموضوع والفكرة محمولة بهموم وطنية وقومية مع قلق وجودي مستتر وتحت تأثير مقوالت كبيرا في الممارسة الشعرية، االلتزام احتلت الموضوعية ً حيزا ً مما قلص مسألة االهتمام بتحديد أنساقها الفنية وبصورة خاصة تشكالتها اللغوية،وبدت تأنس إلى أنظمة شكلية جاهزة) .
مع خلو تجربة الستينات من ٍ تميز فعال ـ حيث إنها خرجت في أغلبها من تحت تأثيرات األجواء العربية المشرقية وتحت تأثير وسطوة الهم القومي ،حيث ظالل (السياب) و(البياتي) حاضرة وبقوة في أواخر الستينات ،وحيث حضور(القصيدة القومية) عبر شعر (درويش) و(سميح القاسم) في أوائل السبعينات.
هذا التأثير القومي بدأ يخف في أواخر السبعينات ،وتحت ضغط ظواهر مختلفة بدأت أصوات شعرية متميزة تنساب بهدوء له حضوره الخاص على صعيد التجربة الشعرية عمو ًما ،ونجد هنا أصوات متميزة استطاعت أن تواكب عقود قادمة منها( :محمد الفقيه صالح) و(الجيالني طريبشان) و(السنوسي حبيب). ٍ بمخاض عنيف وتحت طائلة صنع حالة عقد الثمانينات ،جاء متميزة تنفر من أي تأثرات (عربية أو غربية) ضاعت أغلب هذا األصوات في دائرة بحثها عن تميز لكنها بدأت تتجانس عبر مجموعة المعطيات إلى تنظيرات (أدونيس) وقصيدة (الماغوط) خصوصا في ظل حتى أن قراءتها للتراث انطلقت من هذا الباب، ً 14
غياب مرجعية تراثية لقصيدة النثر،وفي غياب حركة نقدية تحدد مسار تجربة كاملة ولهذا جاء نضج أغلب هذا األصوات (التي استمرت) عبر عقد التسعينات ،حيث بدأت الحالة الشعرية لدى ً شكل أغلب األصوات التي ظهرت في الثمانينات تتناسق وتأخذ مناس ًبا ،بل إنها قبضت في بعض األحيان على نمطية خاصة بها (تميز كل صوت عن اآلخر) باإلضافة إلى حضور أصوات رائدة حضورا وتختلف أسلو ًبا ورؤية ،وتظل هناك في درجات تتماثل ً خصوصية عند تجربة (مفتاح العماري) و(سالم العوكلي) في تقاربهما أسلو ًبا واختالفهما رؤية.
بل إن بعض األصوات ومنها (تجربة الشاعر على صدقي قادرا على خلق حالته الخاصة وعبر امتداد زمن عبدالقادر) ظل ً هائل وبزخم غير عادي من النتاج المتغير ،زادها في ذلك انفتاحها على التجربة الشعرية اإلنسانية ،وغايتها خلق حالة من الخصوصية في مسار تجربة الشعر الليبي ،لذلك لم تستقر هذه التجربة في وضع نمطي معين إال في نهاية التسعينات.
وعبر هذه السلسلة من التباينات جاءت األصوات الشعرية الجديدة ،يحمل كل صوت منها تفاعالته و تأثراته وأرائه الخاصة، وأيضا لم تكن كذلك فإن هذه التجربة لم تكن مقفلة على ذاتهاً ، كثيرا ،كانت تحاول قراءة ذاتها عبر استنطاق منفتحة على الغير ً الغير. ويتضح أن الساحة الليبية غنية باألنواع الشعرية ،فنقرأ القصيدة 15
العمودية بأصوات شعراء شباب ،ونجد التفعيلة بنغمها الطافح والتي تركن إلى مؤثرات تراثية وعربية كثيرة ،ونجد كذلك قصيدة النثر أيضا يستمد حضوره من عدة أرضيات كمنجز شعري آخر وهو ً محلية وعربية وعالمية. من خالل استنطاق هذه التجربة تبرز السمات التالية:
1ـ هذه األصوات أصوات منفردة ،ليس بينها أي قواسم مشتركة أو رؤية واحدة ،لكنها تتلمس طريقها كل على حده.
2ـ سعي كل صوت ليشكل بعدً ا في هذه التجربة.
3ـ تلمس الواقع من خالل بوابة الذات ـ في ٍ زمن باتت تسحقه مظاهر العولمة ،واضطهاد الفرد تحت نير الحاجة ،لذلك يرجع نكوصها إلى الداخل كأمر بديهي ال يحمل الكثير من األفكار الكبيرة بل هو تعبير عن كيان إنساني صغير. 4ـ يتقاطع كل صوت مع عدد من المؤثرات الفكرية والتراثية، فحالة البحث لديهم محمومة لخلق تجربة لها خصوصيتها.
لذلك يظل اإللمام بخصوصية كل صوت أمر له محاذيره وله مخاطره ،بل وتظل أي قراءة في نصوص معدودة للشاعر الواحد في ٍ أمرا ال يخلو من تناقض واضح ،وتظل هذه القراءة مجموعة شعرية ً نو ًعا من االجتهاد ،وليس من أهدافها وضع معايير جاهزة إليجاد قواسم مشتركة بين كل صوت وآخر. ظلت تجربة الشعر الليبي ك ٍ (يد واحدة) ال تحدث أي صوت 16
وتتابع نتاجها والتفاعل نتيج ًة لقصور النقد على ترصد خطواتها ُ معها.
كانت هذه القراءات بمثابة الصوت النقدي الغائب (اليد األخرى) التي تحدث صوتًا ،وتحاول أن تكمل عمل اليد األخرى (النتاج اإلبداعي).
17
ٌ ق�صيدة �أم �شاعر ؟!
قراري :أال أتخلى عن ذاتي أبدً ا ،أن أمضي إلى أقصى حدود
زيفت نفسي!! ذاتي ،ماذا يفيدني ساعة موتي ،أن أكون قد ُ هنري دو مونترالن
ما يعنينا في هذا الكالم هو خصوصيته ..هو هذا التلبس بالذات إلى أبعد الحدود ،خصوصيته في هذا التمسك بالذات إلى اللحظة األخيرة.
من هذا المدخل الصغير نحاول أن نقدم قراءة ولو صغيرة نوعا من نوعا ما ..إال إنها تحاول أن تخلق بكالمها عن العموم ً ً الشمول!! * * *
ٍ بشكل جيد، القصيدة الحديثة في ليبيا تتكيف حال ًيا مع الذات ٍ لمجموعة كبيرة من التجارب التي تنطوي الذات هنا قاسم مشترك تحت سقف الشعر الليبي إ ًذا القصيدة في ليبيا قصيدة ذات ..ذات مرهقة ..ذات منتهكة، 21
لكنها على الرغم من ِّ كل ذلك فهي ذات ساطعة الحضور عند الجميع، مركزا للعالم ،القصيدة هنا تعلن انحيازها تحاول أن تجعل الذات ً دائما إلى خصوصيتها. ً
ربما ألن كثيرين من شعراء هذه التجربة دخل باب الشعر مسكونًا بهم التجريب ،فإن كيان القصيدة كان الكيان األصعب على الدوام.
بينما ظل شعراء القصيدة العمودية والتفعيلة يراوحون بين عدة مستويات من التأثرات المختلفة ..وظل صدى اآلخر يتردد على في قصائدهم على طول الخط.
ظل شعراء قصيدة النثر (هذا النص المشاكس) يراوح بين مجموعة المؤثرات العربية واألجنبية ،كان النص النثري يستنسخ نفسه ..مخل ًفا إر ًثا شاس ًعا من نتاج متشابه في الكثير من الوجوه النمطية التي توفرت في هذه القصيدة في إحدى مراحلها ،فقصيدة النثر في ليبيا كتبت ٍ بروح واحدة وبأصوات متعددة،
لذلك أختار هؤالء الشعراء أن يقدموا قلوبهم الخفاقة التي تعبر كثيرا !! عن ذواتهم دون أن يعنوا باإلطار ً * * *
(إن المتتبع لسياق التجربة الشعرية الشابة في ليبيا سيالحظ أحيانًا فتنتها الشديدة إزاء مغامرة التجريب ،وأحيانًا تبدو كأنها تكتفي بنفسها وف ًقا لمتطلبات لحظتها وشروطها المحلية بحساسية خاصة) 22
ُيالحظ في تجربة الشعر الليبي إنها في حالة مخاض مستمر،األمر
الذي يتطابق مع كالم الشاعر (مفتاح العماري) هنا.
منبهرا بتجارب إذ كان النص الشعري الليبي في بدايته ُ كثيرا ـ ً يجنح ً غيره ـ نحو انفعاله الزائد ..كانت فترة الثمانينيات ُ تكبل النص أكثر
خصوصا في تجربة القصيدة النثرية ـ لذلك بدأ مما تطلق له العنان ـ ً يركن في بداية التسعينيات إلى هدوءه وبساطته ..واقترابه أكثر من اليومي والمعاش ..نستطيع أن نقول أنه أصبح يركن إلى الذات أكثر من اهتمامه باألشياء األخرى ..هذا االنهماك سخر للشاعر أن يقولب
عالقة هذه الذات بغيرها من األشياء.
نالحظ هنا تجربة الشاعر (على صدقي عبدالقادر) تجربة
استطاعت أن تكرس نفسها عبر امتداد زمني هائل ..وتركن في ٍ بطفولة مطلقة بداية التسعينات على نمطي شعري متميز يصوغ الذات وبأسلوب يتقرب من اللعب اللذيذ.
كبيرا ونالحظ كذلك أن نتاج شاعر مثل (مفتاح العماري) كان ً
جدً ا قبل أن يركن في أواخر الثمانينيات إلى خطوته الواثقة األولى
(قيامة الرمل) ليتوج ببساطة تجاربه الذاتية في مجموعة من الدواوين. مرورا بتجارب شعراء فاعلين في التجربة كانت فترة نضجهم ً
مرحلة التسعينيات ،وإن صح لنا القول هنا فإن تجربة الشعر الليبي
كانت تحاول إنتاج خصوصية من خالل إنتاج عالمات فارقة في
مسارها.
23
ونظرا (لخصوصية قصيدة النثر) كشكل شعري مغاير عند أغلب ً هؤالء الشعراء ،فإن هذه القصيدة ظلت المعيار الدائم لقياس الحركة الشعرية في ليبيا رغم وجود قامات في شعر (التفعيلة والعمودي)، خاصا لها في ظل فإن قصيدة النثر هنا ظلت تحاول أن تصنع إر ًثا ً غياب مرجعية تراثية ً أول ..وفي ظل حضور تجارب شعراء معاصرين مغايرا ثان ًيا. (عرب) حاولوا أن يجعلوا قصيدة النثر كيانًا ً
نالحظ هنا أن قصيدة النثر التي بدأت متعثرة في بداية الثمانينيات صنعت في منتصف التسعينيات تما ًما رصيدً ا مناس ًبا من التجربة ،ونتاج نستطيع أن نقول عنه أنه ينتمي إلى خصوصية ليبية. شعر التسعينيات الليبي يركن إلى ٍ قلق لطيف ،يحاول يطرح التخبط الذي صاحبه خالل عقد الثمانينات.
بينما يظل شعراء القصيدة الحديثة العمودية يبحثون عن ٍ شاعر بحجم كبير جدً ا ،يعطي التجربة غنى ضروري هي في أمس الحاجة إليه ،على الرغم من توفر الثقافة العالية والتمكن اللغوي والفكري العالي المستوى عند أغلب شعراء القصيدة العمودية الشباب. نحاول في ختام هذه المقدمة الصغيرة أن نلخص بعض سمات القصيدة الحديثة الليبية: ً أول :انفتاح الشعر الليبي على التجارب الشعرية العربية الرائدة، أعطاها االتساع ولم يعطيها العمق ،فهي أخذت من الشعر 24
العربي العديد من المزايا ،وحاولت القفز على العيوب، دائما ضفاف للتجربة العربية، فتجربة الشعر الليبي ظلت ً ولم تشارك في رسم الخطوط الرئيسية لها.
ثان ًيا :القصيدة الحديثة في ليبيا ال تركن إلى أساطير ذات خصوصية ليبية ،وال تستند على مخزون أسطوري كبير، لذلك نالحظ تناثر اإلشارات األسطورية المستوردة من أساطير عربية ( ...لقد تأثر شعراءنا بشعراء الشرق حد التناص سوا ًء على مستوى النصوص ،وفي نهاية الستينات يكتب أحد النقاد أن الشعر في ليبيا بعد انفلت خارج حدود الوزن والصورة الشعرية العربية تحول إلى شعر(نواقيس وصلبان))....
شاعرا ،أي بمفهوم ثال ًثا :الشعر في ليبيا ..ينتج قصيدة وليس ً ً متكامل، مشروعا شعر ًيا الشاعر الظاهرة ،الذي يتبنى ً فالغالب في شعراء ليبيا هو ممارسة الشعر ببعض النزق، فالغالب يظل في خانة الموهوب في تعامله مع نصه دون أن يدخل مرحلة االحتراف.
راب ًعا :القصيدة الحديثة (قصيدة الشباب) تتنوع بتنوع األصناف األدبية ،فالشعر العمودي موجود بجوار شعر التفعيلة وقصيدة النثر ،من هنا فالشعر يتجاور بكل أصنافه ..وتتداخل مع بعضها.
خامسا :في الشعر الليبي تنعدم التيارات واألجيال الشعرية التي ً 25
تستمد شرعيتها من واقع ثقافي متقارب،فتجربة الشعر شاعرا، الليبي تجربة تنتج نصوص أكثر من كونها تنتج ً كذلك تظل تجربة الشعر الليبي تجربة انقطاع وليس اتصال ،فاألجيال الحالية التي تمارس كتابة الشعر ،لم تستفيد من تجربة الجيل السابق ،بل تظل المؤثرات العربية هي الغالبة عند جميع األجيال ،فمن تأثيرات (السياب ونازك المالئكة ،والبياتي) على شعراء الستينات ،نجد خصوصا تأثر شعراء قصيدة النثر الليبيين بدرجات متفاوتة ً في بداية تعاطيهم للكتابة الشعر برواد قصيدة النثر في المشرق العربي.
كثيرا سادسا :القصيدة العمودية الحديثة في ليبيا ُ تقترب من الذات ً ً األمر الذي يجعل من أغراض الشعر العمودي السابقة تختفي وراء سطوع الذات الواضح ،وبالتالي تختفي بعض أغراض الشعر العمودي التقليدي (هجاء ،مديح، رثاء ،)..،نتيجة قرب التجربة الذاتية الكلي من المبدع. ساب ًعا :تسعينات القرن العشرين ،كانت مرحلة تطور نوعي في النص الليبي ،فبالدرجة األولى دخلت أصوات شابة جديدة مجال الكتابة الشعرية مسكونة بنشاط محموم، كذلك لوحظ نشاط ملحوظ ألصوات شعرية من عقود السبعينات والثمانينات توجت مشوارها الشعري خالل هذا العقد. 26
ثامنًا :النص الشعري الليبي الحالي نص ذاتي متناهي الشفافية ٍ بصورة مدهشة ال يركن إلى الغموض ،بل يقترب من المتلقي صرا على التفاعل مع اليومي ،وقصيدة المشاهدات التي ُم ً تحاكي الواقع. هوام�ش ( )1من كتاب (فعل القراءة والتأويل) ،مفتاح العماري. ( )2من مقالة (قصيدة النثر في ليبيا) ..رامز النويصري ..صحيفة المشهد. ( )3من مقالة (خارج السرب) قراءة في القصائد العمودية الحديثة في الشعر الليبي الحديث ـ عبدالباسط أبوبكر محمد ،مجلة غزالة الليبية.
27
فكرة في اليد ُ ع�شر �أفكا ٍر على ال�شجرة مقابل ٍ (قريبا من ناصية البئر والتحول) قراء ٌة في ديوان ً للشاعر (صالح عجينة)
في ٍ كثير من األحيان أحاول أن أصل في اللغة إلى صيغة أفترض أنها األقدر على التوصيل وإنها األجمل ،لست حريصا على جمالية اللغة كهيكل أو قيمة مستقلة ،لكن ً أحاول أن أفرغها من جمالها الذي يجب أن تتمتع به الروائي (عبدالرحمن منيف)
الكالم هنا ..وإن كان يتكلم عن خصوصية اللغة عند الروائي.. فإننا وبنظرة صغيرة نرى تطابق هذا الكالم على مختلف األصناف األدبية..إنه يستهدف الوصول إلى لغة تقدر على إيصال الفكرة إلى المتلقي ،ألنها في رأيه هي األجمل ،من هذا المفتتح نحاول الغوص هنا في ديوان الشاعر (صالح عجينة)(*) (قري ًبا من ناصية البئر والتحول) ،فالديوان ال يخلو من محاولة التوصل إلى لغة يراها ٍ درجة الشاعر مناسبة جدً ا إليصال تجربته الشعرية ،وكذلك يراها على من المغايرة واالختالف. بداي ًة أحب أن أشير إلى نقطتين مهمتين:
ً كثيرا عن غموضه وارتباكه أول :الشعر الليبي الحديث تخلى ً 31
في مقابل تجليه وسطوعه ،الشعر الليبي اآلن يتعامل مع اللغة بحذر شديد
كثيرا إلى تجارب الرواد السابقة، ثان ًيا :الشعراء الشباب لم يركنوا ً
ولهذا نجد أن تأثير التجربة الليبية على جيل الشباب ضئيل جدً ا ،في مقابل التجربة العربية بكل غناها
أيضا ممتلئة بارتباك قصيدة الشباب مسكونة بحيرتهاً ،
طافح تجاه كل شي ،االرتباك هو عنصرها األساسي، فالدخول في أفق النص الشعري يظل مخاطرة في حد
ذاته ،فالقصيدة مسكونة بالقلق ابتدا ًء من الفكرة التي
تبدو غير واضحة إلى اللغة التي يمارس الشاعر تجاهها
كل أساليب التجريب. خ�صو�صية ليبية
نقر ُأ في الديوان قصيدة (قصائد ليبية) لنرى بوضوح خصوصية
هذه القصيدة التي جعلت الشاعر يقدمها على أغلب القصائد:
1ـ 1القصيدة تمارس خصوصية ليبية صميمة من خالل تعاملها مع رموز ليبية لها وضعها االجتماعي أو والجغرافي والتاريخي
(سيدي الشعاب ،صخور تبستي ،ماركوس ،سبتموس)
2ـ 2القصيدة تنهض على أقدام فكرة غير واضحة ،فهي تبد ُأ 32
ٍ درجة بخصوصية ذاتية صرفة ،وتتشعب إلى شمول على
عالية من الغموض
لذلك تركن أغلب قصائد الديوان إلى ُمغامرة بالفكرة داخل إطار
األلفاظ ،فهي هنا تشذ على الشعر الليبي الحديث الذي يركن كما
قلنا لبساطته ..لنقرأ م ًعا:
انتزعيني من دمع الجداول
وأثالم األرض القاحلة وتفردي بي في محراب شهوتك ألكتنه لذتك في صخور تبستي
ِ عيناك حين تباع قافل ُة العبيد جاحظ ٌة وحين تأتي السفن بالرقيق
جاحظ ٌة ..ويتمتم ِ فمك بالنشيد غير أن الوقت ثدياه لم َيدُ َّرا الحروف بعد...
يتضح من هنا أن الفكرة الغير واضحة هي التي تلقي بظاللها
على النصوص ،دون أن تتوقف عند مؤشر صغير يقود إلى وضوح..ال يشذ عن هذه القصائد إال قصيدة (حالمان) التي
تصوغ تفاصيلها الذاتية الصغيرة ..ويعطيها انسياب السرد
وضوحا مناس ًبا: ً
33
على صراط الوجع
تحلمان ،تحتسيان القهوة
ونادلة القهوة الوافدة
ٍ سؤال وتوجس تبحث في غربتكما في
ال تنتبهان ..تضحك نهديها
ال تنتبهان..
تجعل أنوثتها قيامة...
من هنا تظهر جراءة استخدام اللغة في مقابل هذا الغموض الذي يلقي بحيرته على القصائد ..فالقصائد تنتفض على اللغة الشاعرية الرقيقة التي تستعمل عاد ًة في أغلب القصائد ..لذلك يواجهك قاموس شعري مغاير (دمامل ،ضفادع ،قمل ،الجراد ،برغوث ،البصق ،أذناب)....
ُّ كل هذا ُيفقدُ القصيدة الكثير من بريقها ..ويقودها إلى ضبابية ت ُ خطرا على أغلب قصائد الديوان،لذلك عندما ننظر إلى أغلب ُشكل ً النصوص التي كتبت بحرفية عالية ..نرى االنفراج الذي يحدث في النصوص على مستوى الفكرة واللغة..تحت هذا البند يضع (صالح عجينه) مجموعة القصائد التي يسميها (كتاب الجدل) اللغة هنا من البساطة في مختلف النصوص مقارن ًة بالقصائد األخرى ،فهي تركز على صياغة عالئق جديدة بين األشياء ،أو وضع تعاريف جديدة، وتركز على تفاعل الكلمات مع بعضها: 34
الحب رغبة
تحتجز قبضة الضوء
الحلم رغبة الضوء
في جدائل الفصول
الحب خيط ضوء
وتراكم اللذة باألفق امتزاج
الحلم يتأبط الحب
الحب امتزاج
الحلم انصهار......
هكذا ينهض نص متشابك ..يتولد من خالل تشابك لفظي وفكري ..لذلك يغلب على هذه النوعية من النصوص تفعيل دور ُ تشكل وحدة مستقلة تحاول أن تعطي للقصيدة الجملة الشعرية التي نوع من المغايرة. بعدً ا فيه ٌ اللغة ال�صوفية
من هنا يتضح دور الجدل الذي أطلقه الشاعر على مجموعة هذه القصائد ..هذا الجدل الذي يدلل له الشاعر بكالم (صالح ستيتيه): (كثيرون هم أبناء األرض الذين يفكرون بأن اللغة الحقة لم تنشأ، وبأن اللغة لم يتحدثها أحد بعد). 35
من هنا (فالتلقي حاسة األذن والحقيقة مغامرة العين ـ الشعرية قانون النظر والغنائية طموح األذن ـ كائنات الضوء قصائد وكائنات السمع ٍ أغان). هنا وبإضافة حرف العطف (واو) نرى كم هي مثقلة الجملة ٍ بحساسية خاصة السابقة بحشو فالعالقة بين الكلمات ظلت تمنح الجمل السابقة راب ً طا يغنيها عن حروف العطف أو أي زوائد أخرى. هنا يتضح أسلوب مناسب جدً ا في الكتابة ..بل يكاد يكون وضوحا في ديوان الشاعر..أال وهو االستفادة من األسلوب األكثر ً اإلرث اللغوي الصوفي في تحريك اللغة الشعرية يتضح ذلك في ٍ بشكل خاص. (كتاب الجدل) التقمص حالة يكتبها التاريخ فضاء االختالف في التاريخ فوضى في السياق
الفضاء تحرير المفردة بين (إلى) و (نحو).
هنا يظهر المنجز اللغوي النغمي الذي استمده الشاعر من واضحا..وتعامل معها بأسلوب مقارب حتى على الكالم الصوفي ً المستوى الفكري كتاب الجدل ديوان لوحده ..يخلق الشاعر من خالله ً جدل بين 36
الكلمات ويحاول أن يقرأ الحياة بمغايرة مختلفة كل ًيا( :شيمة المعنى عبث ..المعنى دون إسناد عبثي ..جمود) ال�شكل في ق�صيدة النثر
أمر آخر يبرز بشكل واضح ،هو تعامل الشاعر مع شكل قصيدته، فشكل الكتابة في قصيدة النثر أمر يخص الشاعر وحده ..فتنسيق القصيدة يختلف من شاعر إلى آخر
نأخذ هنا تقطيع الجمل في قصيدة النثر كإحدى الجزئيات المهمة التي يعتمد عليها الشاعر إليصال فكرته،كونها ترسم ً خاصا بكل شكل ً شاعر (وتقنية تقطيع الجمل هي أحد آليات قصيدة النثر في خلق إيقاعها أو خلقها نو ًعا من التواتر ،فإيقاع قصيدة النثر ينتج عن وحدات إيقاعية غير منتظمة وليس بينها أي عالقة ،إنها تنتج إيقاعها من مجرد تواتر األسطر في شكل الجمل الموزعة ،وما تحققه المفردات من تواتر.)1()... ٍ كجزء من إضافة إلى الكالم السابق الذي يتبنى تقطيع الجمل إنتاج اإليقاع في قصيدة النثر ،فإننا هنا نتناول تقطيع الجمل كإحدى دالالت إكمال المعنى في القصيدة ،لذلك يظل الشكل الخاص بكل مهما في الكتابة ..لنقرأ م ًعا: أمرا ً شاعر ً الشعرية
حالة تكافؤ بين جزئيات
اللغة والحياة
37
اللغة والشعرية أسلوبان
األول تعبيري
الثاني تفسيري
اللغة المحملة بأساليب قالب الشعرية في التصوف
هامش
المتن انفعال الكينونة في كائن اللغة
التصوف في الشعرية
استدعاء.
شكل يراه الشاعر ُي ُ الشكل الوارد هنا كما جاء في الديوانٌ ، كمل داللة ساهم مساهم ًة كبيرة في خلق رد فعل مناسب عند القارئ ،لذلك المعنى ،بل ُي ُ فإن نهاية كل سطر تقود إلى بداية السطر اآلخر ،وهكذا تحقق القصيدة نو ًعا من التكامل اللفظي ،ينتجه الشكل كإحدى الجزئيات المناسبة ..فالكالم الوارد جاء بتقطيع مناسب ،إال أن ً خالل يظهر في إحدى الشطرات وهي (اللغة المحملة بأساليب قالب) فتنتج للوهلة األولى معنى غير المراد ولو كتبها الشاعر بهذا الشكل: اللغة المحملة بأساليب قالب
38
تب ًعا لشكل الجملة السابقة فإن المعنى الذي أراده الشاعر سيظهر جل ًيا من القراءة األولى ،الذي يرتبك نو ًعا ما لو اتصلت الجملة مع بعضها في ٍ سطر واحد. وبعد:
واضحا أن اللغة مهزومة مع إيقاعها العصري ،ولم (هنا يبدو ً تشهد أي مغامرة أو خطاب بالمستوى الذي ما من شأنه يمكن أن يقدم مدلوالت وترميز يتماشى وضرورات الواقع المعيشي واليومي)(.)2
جزئياتها،وأيضا إذا القصيدة عند (صالح عجينة) مغامرة في جميع ً فيها مساحات واسعة من التعاطي مع الواقع بعيون مختلفة إال أن مساحة التجريب الواسعة التي يقترحها الشاعر في ديوانه تظل مسكونة ببذور ارتباكها وتظهر كجزء واضح في أغلب تفاصيله.
أيضا جرأ ٌة على مستوى تعامل الشاعر مع لغة القصيدة.. هنا نلمس ً فاللغة التي كتب بها الشاعر يراها األقدر على إيصال فكرته ،بل ويراها تصنع ُخصوصية مناسبة لقصيدته ُ
الشاعر ُي ُ همل الفكرة المتاحة التي تقدمها القصيدة ،بل يظل ٍ دائما في حالة كتابة القصيدة ،األمر مسكون بأفكار قصائد أخرى ً ٍ بشكل عام. الذي يضعف أفكار قصائده الديوان يذكرني بدواوين رواد الحداثة األوائل ،حيث تم التعاطي مع الصنف الجديد ببعض االرتباك سوا ًء على مستوى اللغة أو 39
األفكار ،ويظل أقرب إلى الشاعر (شوقي أبي شقرا)،حيث القصيدة الغير براقة التي تحتوي على مغامرة على جميع المستويات الشاعر (صالح عجينة)في ديوان (قري ًبا من ناصية البئر والتحول) ً ومهمل فكر ًة ُمتاح ًة دائما أن ُيطارد عشرة أفكار على الشجرة يصر ً ُ في اليد!!
هوام�ش (*) شاعر وكاتب ليبي. ( )1رامز النويصري( .حدود الشعر ،حدود القصة) مجلة المؤتمر .العدد السابع عشر. ( )2مقالة (بطاقة تعارف تسعينية) للشاعر صالح عجينة .صحيفة الشمس العدد .3184
40
ن�صو�ص ُم ٌ لبدة بالغيوم ٌ قراء ٌة في (زقزقةِ الغراب فوق رأس الحسين) للشاعر خالد درويش
مأخوذ ٌة بالبريد المكتوم
ُ توشك النصوص أن تتلبد ُغ ُيومها
تنوح ريشة الصائغ في هدأة العريشة ُ تضرع تحت شبابيك القرائن ُ
منعطفات القرب وحانة النسل...
المنجز الذي وصلت إليه قصيدة النثر عبر تجربتها القصيرة نسب ًيا، ً مجال واس ًعا للتجريب والمغامرة. منح الشعراء المتعاملين معها
وعمو ًما ُ تظل األفضلية التي تمنحها قصيدة النثر للشاعر هي هذا
المقيد ،الواسع الضيق على كافة المستويات ،األمر الذي جعل التحرر ُ ٍ دائما ملبدة بأفكار قاتمة تجعل القصيدة نصوص النثر بشكل عام ً تراوح بين الشرعية واإلنكار.
الشاعر (خالد درويش) يتواصل هنا عبر مجموعة من النقاط
المهمة كاآلتي:
1ـ الشكل السردي الطويل الغالب في هذا الكتاب. 43
2ـ التنوع الفني في التعبير مع غلبة قصيدة النثر.
3ـ الكتاب جاء خال ًيا من أية إشارة أن كاتبه شاعر بالدرجة األولى.
وعبر النقاط الرئيسية السابقة نبدأ مناقشة الديوان كاآلتي: � ً أول :داللة العنوان
ُ يحمل العنوان دالالت متنوعة ،فالعنوان يقحمك في شخصيتين تاريخيتين ،األولى هي شخصية الغراب الذي ع ّلم أبناء آدم كيفية الدفن ،ويكمل هذه الصورة اإلهداء الذي جاء ٍ بشكل مباشر إلى هذه الشخصية( :إلى الغراب ..معلم موجها ً البشرية األول الذي علمنا كيف نطمر الدم وندس الجريمة ،فكان شاهدً ا على أول جرم ارتكبته البشر ،فأهنا أيها الشاهد األول بما رأيت يا معلم) والشخصية الثانية :شخصية الحسين ..وهي شخصية بمحاذير مختلفة ..وتعتبر أكثر الشخصيات التاريخية حير ًة فيما يتعلق بتعامل المؤرخين معها.
ُ ملخصا لمجموعة من األفكار واآلراء يجعل الديوان األمر الذي ً يتعلق بالهامش المقموع. خصوصا فيما تجاه التاريخ العربي، ُ ً
وضمن هذا اإلطار الذي يرسمه العنوان للكتاب ،يختار (درويش) أن يبدأ الكتابة ..،الكتاب ُة إ ًذا ستكون في طريق شائك ممتلئ بالفخاخ واألشواك ،والكثير من القراءات الناقصة. 44
ثان ًيا :ال�شكل الإخراجي
ٍ كجزء حيوي ومهم في تأكيد الشكل الفني، تبرز الطباعة الحديثة ُ فالكتاب عمو ًما جاء في ( )6مقطوعات تمتاز بالطول النسبي، فأقصرها جاء في أربع صفحات ،وأطولها جاء في عشر صفحات. يقترب من الشكل الذي تكتب به الروايات وشكل الكتابة ُ والقصص القصيرة كأسلوب غالب في كتابة النصوص ،األمر الذي يوحي بأن النصوص تحتوي جرعة هائلة من التدافع سوا ًء على مستوى الفكرة أو األلفاظ. ً ثالثا� :أفكار الن�صو�ص
وكما هو الحال في نصوص (درويش) النثرية الطويلة ،فإن األفكار دائما بعيدة عن المتلقي ،فالشاعر يناوئ القارئ بأفكاره ،فأفكار ً يغلب عليها االرتباك أمام الكم الهائل من التدافع اللفظي القصائد ُ والنغمي والتاريخي. فليس هناك فكرة واضحة تجمع االتساع اللغوي ،الفكرة ضبابية أساسا ..أو انه يبحث عن ومتناثرة وكأن الشاعر يبحث عن الفكرة ً نص يؤكد خصوصيته ككاتب ..األمر الذي جعل الفكرة تفلت من أيض ًا. يد الكاتب وتفلت من القارئ ً
المثال األول :النص المعنون ب (زقزقة الغراب فوق رأس يطلق أي دالالت مؤثرة في النص ،فكل الحسين) نرى الشاعر ال ُ 45
إطارا عا ًما للقصيدة كتعليق على الحدث ،وينتبه القارئ همه أن يرسم ً إلى قول الحسين قبل موته(:أما بعد ،أيها الناس فانسبوني ،فانظروا من أنا ،ثم أرجعوا إلى أنفسكم ،هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي ٍ بقتيل منكم قتلته أو ٍ وسبي بناتي ،أتطلبونني ٍ كداللة مال لكم استهلكته) على أن القصيدة تتناول شخصية الحسين ،دون أن يكون لباقي النص أي لمسة فنية ذات داللة في توصيل الفكرة. ٍ مقبرة يوقنون) :وفي المثال الثاني :نص (حكايا ابن جبير أو بأي هذا النص يضعنا الشاعر أمام الحادثة الشهيرة المتمثلة في (ليس لمستكرة طالق) ..ويظل باقي النص حالة تعليق خاصة بالشاعر ُ يحوي رؤيته الفنية تجاه الحدث. هذه الخيوط المتناثرة داخل النصوص هي التي تجعل للفكرة بعض الصلة بالنص ،رؤية الشاعر في نصوصه أكثر حيرة تجاه حوادث التاريخ العربي.
أيضا هامش ومتن ،حيث المتن هو الحادثة كما أوردتها كتب هنا ً التاريخ ،والهامش هو التعليق الفني الخاص بالشاعر. األمر الذي يستدعي السؤال :ماذا يريد الكاتب أن يقول؟!
هل يريد محاكمة التراث والتاريخ العربي عبر استنطاق مجموعة من الحوادث التاريخية المعروفة والتي تبدو واضحة في الكتاب؟! هل يريد الكاتب أن يعيد فهم واقعه في ضوء تراث معبد بالقمع وقطع الرؤوس وسفك الدماء؟! 46
ال تخلو النصوص من أسئلة منتفخة ،تراوح بين واقع يكشر عن وتكرارا ،وبين تاريخ ال يخلو مرارا ً أنيابه ويجبر الكاتب على العودة ً من هموم ومؤامرات ودسائس ويجبره على إمعان النظر والقراءة ٍ بشكل مختلف. وضوحا هو غرام الكاتب بالهامش الضيق الصغير الشيء األكثر ً الذي هربته كتب التراث (الهامش المتن) على حد قوله.
نتوقف مع سؤال صغير :هل يفيد هذا االنهماك المسترسل النصوص الموجودة في الديوان؟!
نرى أن الشاعر تعامل مع اللغة بسخاء ،لم يقيد نفسه بقيود معينة، لم يستلهم الفكرة لتقييد اللغة الفاتنة ،بل ذهب وراء إغواء اللغة بعيدً ا.
كأن النصوص في مجملها تمارين خاصة للكتابة ،األمر الذي نتج عنه اختالط التعليق على الحدث التاريخي بالحدث في أغلب النصوص ..وكأن الشاعر شاهد معاصر للحدث فقد تركيزه نتيج ًة لهول الحادثة. راب ًعا:الر�ؤية الفنية للتاريخ
جاءت أغلب النصوص في تعامل واضح مع التراث والتاريخ ٍ وخصوصا فيما يتعلق باألحداث المنتفخة والممتلئ بشكل مباشر، ً باألسئلة ،وعمو ًما جاء التعامل مع التراث والتاريخ العربي عبر أسلوبين مهمين: 47
األسلوب األول :استفاد الشاعر من المخزون اللغوي والنغمي ٍ بشكل عام عبر مجموعة الذي يمنحه التراث من الحكايات والقصص واألمثال واألقوال المأثورة التي مازالت تحتفظ بتنو ٍع نغمي ساحر يمكن توظيفه. األسلوب الثاني :استفاد من األحداث التاريخية ،أو األحداث التي ألبسها المؤرخون نو ًعا من األسطورة في تحميل القصيدة بمجموعة من األسئلة التي تحاكي الواقع.
فاألسلوب األول تمثل في مجموعة من االستلهمات النغمية لمجموعة من القرآن الكريم األقوال المأثورة واألمثال والشعر العربي مثل: ال غالب إال أنت.
قذى بالعين وعوار بالقلب.
قال كبيرهم الذي علمهم السحر.
بيدي ال بيد عمرو. ِ أبك مثل النساء ملكًا مضا ًعا لم تحافظ عليه مثل الرجال.
اللهم أحصهم عد ًدا ،واقتلهم بد ًدا وال ِ تبق منهم أحدً ا.
من يعيرني عينه أبكي بها.
48
ويستفيد الشاعر من أسلوب النثر العربي الذي تطور في العصر العباسي ،في تفعيل مستوى النغم وعرض الفكرة كما في نص ٍ مقبرة يوقنون)( :بلغني أيها الملك (حكايا ابن جبير أو بأي السعيد أن األقداح غدرت بالمؤنة ،وان األسماء أمحت من حجارة النفور ،فارتدت لغة كسيحة الصلوات ،مدانة بين دفتيها دافقة). واألسلوب الثاني تمثل في مناقشة مجموعة من الحوادث التاريخية التي تشكل نقاط منتفخة قي التاريخ العربي مثل:
حادثة موت الحسين.
سقوط غرناطة وما تبعها من حوادث.
ويعجز الشاعر هنا في استنطاق الحوادث ،األمر الذي يجعل نوعا من الرؤية المعتمة الحائرة تجاه الحوادث تحتوي ً خصوصا فيما يتعلق بنص (سفر غرناطة أو ما الحوادث، ً حدث بعد بيعة المفاتيح)
فالنص يحتوي فكرة مشوشة ،وتعامل الشاعر مع بعض ً مباشرا األمر الذي جعل تعامل الحوادث الفرعية داخل النص ً النص يحتوي حوادث تاريخية دون رؤية فنية مثل قوله(:كان واضحا بمنع الزواج بين المسلمين والنصارى واعتبار القرار ً أيضا ال يتزوج من وكفرا ،وأنه من تنصر من العرب ً ذلك هرقطة ً نصارى اإلسبان ،وكان قرار القسيس (فرانسيسكو خمينيس) 49
الذي اقنع الملكة بضرورة تنصير أهالي غرناطة ،وأنه ال مجال سرا).... للتهاون مع الذين يمارسون هرقطاتهم ً
ً جمال من حيث التعامل الفني ،واقعة وتظل أكثر وقائع التاريخ حلم المهدي التي أوردها الطبري( :حلم المهدي ذات ليلة أنه أعطى البنيه قضيبين ،فأورق أحدهما ،ولم ُيورق اآلخر، فقام فز ًعا) والتي ينجح (درويش) في التعامل معها أحسن تعامل ،ويعلق أعطيت لهذا سي ًفا من نار ،ولهذا در ًعا من على الحادثة( :كأني ُ ثلج ،أيهما يصل الشاطئُ ، يورق أخوان بفرعين ،ويكسر ثلج األحزان بنيران الصلح)...
خام�سا :الواقع القريب ً
تجاه الواقع يظل الشاعر أكثر حيرةً ،حيث الوقائع الدامية المنقولة مباشرةً ،التي تحتوي قل ًقا وفجيعة مركزة ،فواقع الشاعر أكثر حير ًة ودموية ٍ وعن ًفا من التاريخ ،لذلك كان تعامل الشاعر مع واقعه ً بدرجة ثانية، تعامل وكأن التعامل مع التاريخ كان نو ًعا من الهروب المبتكر وإن كان الهروب مسكونًا بدموية التاريخ ففيها نوع من الكشف ولذة والمتعة.
ويبرز الواقع القريب للشاعر في نص (مفتتح أخير لحشرجة الموت) ،والنص يحتوي نو ًعا من المرونة والبساطة دون أن يكون لعبء استرجاع التاريخ أي تأثير مباشر على النص ،األمر الذي يجعل النص يحتوي شفافية ساحرة ذات وقع خاص. 50
�ساد�سا :الذات المفتتة ً
ُ تطل عبر هذا النص الطويل والمسترسل ،ذات خجولة قلقة ،تنجو من مخالب الفكرة العامة المسيطرة ،لتتسرب عبر ثنايا النص ،لغة هذه الذات بسيطة ،وهي أكثر داللة من نصوص (درويش) المغلقة، دائما في شعر درويش. وهذه القطع الصغيرة هي ما يتوهج ً ـ (ترى أأستطيع بمفردي أن اشق البحر ،أن امخر أحشاءه ،أتستطيع سمكة صغيرة ..ناتئة التضاريس أن تلعن البحر بجبروته وعنفه وجالوزته)
ـ (هنالك مدن كالنساء ..تهزمك أسماؤها مسب ًقا ..تغريك، تربكك ،تملؤك ،تفرغك ،وتجردك ذاكرتك من كل مشاريعك، ليصبح الحب كل برنامجك ،هنالك مدن لم تخلق لتزورها بمفردك)
ـ (كان موعدنا المطر ،كل مطر وأنت بخير ،كل مطر وأنت حبيبتي، كل مطر وجمالك أروع ،يا سحر الممالك ..وذبالة الروح، تفوحين داخلي كأنك أنت ..وتشرقين في سمائي كأني احبك) ندي وآسر /هو حضورك /وكما االبتسامة روح ـ (وكما البوح ٌّ الغض /ويفتك ترفرف /ذاك القميص وهو يداعب الجسد َّ بالبشرة البضة)
هذه الذات الصغيرة هي التي تنجو من النصوص الكبيرة الطويلة المستغرقة في قراءة التاريخ العربي الممتلئ بسفك الدماء 51
واالغتياالت والحروب والقتل الجماعي ،وهي أكثر دف ًئا من ِّ كل النصوص األخرى ،وتعكس صورة مدهشة للشاعر.
�ساب ًعا :ال�شكل العام
ُ نصا واحدً ا ،فالنصوص مجموع ُة النصوص في مجملها تشكل ً
متقاربة في اللغة والصور واالستلهمات النغمية واللفظية من التراث
تأخذ ً العربي،وكذلك الصياغة الفنية األمر الذي يجعلها ُ شكل أقرب
إلى نص طويل تتوزعه عدة مقطوعات.
تسيطر عليه فكرة واحدة حاول الشاعر أن أمر آخر :النصوص ُ ٌ
يستوعبها وهي فكرة القمع في التاريخ العربي ،األمر الذي يجعل
نسيجا متماسكًا ،وينجح الشاعر النصوص قريب ًة من بعضها وتشكل ً هنا في إعطاء الكتاب وحدة ساحرة ومدهشة. وبعد
(يصنع المر ُء القول ثم ينظر فيه ،فال يفيق من أثره ،يعجب ُ
كيف أوتي هذه القدرة ،وبخيل إليه أنه رهين ما أبتدعه .يظن أنه
يسيطر على القول ،ولكن القول يعود فيقتص لنفسه أو يسيطر على صاحبه)()1
الكال ُم هنا ُ يأخذ جه ًة مغايرة ،هي فتنة القول (الكتابة) وهو السؤال
إلحاحا في تاريخ األدب العربي يعود للظهور مجد ًدا عند األكثر ً 52
(درويش)ُ ،م ً تمثل في فتنة التاريخ هو ما يجعل الفكرة تخفي رأسها
خلف ركام الوقائع المختلفة.
دائما ؟! سؤال آخر :هل يصلح التاريخ والتراث للتناول فن ًيا ً
(يلهث المبدع الكتشاف ذلك الواقع المستتر الرمزي الذي
يخفيه الواقع الظاهري الواقع اليومي وعندما يعجز ال يجد غير
الفرار إلى التاريخ وخيار التاريخ ليس غايته تحقيق بعد في زمان
ومكان تشترطها طبيعة العمل اإلبداعي ولكن اللجوء إلى حرم
التاريخ يكمن في سحر التاريخ وسحر التاريخ مستعار من ينابيع
الوطن األسطوري والوصول إلى ينابيع الوطن األسطوري هو
غاية المبدع)()2
نستند هنا على كالم الروائي (إبراهيم الكوني) مع االختالف
الواضح بين الجنسين األدبيين (الرواية والشعر) في مالحظة هاجس
التاريخ المسيطر.
يظل هم (خالد درويش) األكبر هو جاذبية التاريخ ووقعها ُ يفضل أن يتخلى عن توهج نصه المدهش في النفوس ،لهذا مقابل سحر وجاذبية التاريخ ،لكن الكتاب يظل النقاش الشعري
الليبي األول ـ حسب علمي ـ للتاريخ العربي وحوادثه رغم كل
ما يقال عنه.
البحث المتواصل عن مجال للكتابة ..هو ما يجعل النصوص 53
ٍ بشكل عام تحمل داخلها عبء هذا البحث ،فاغلب النصوص مصابة
بلوثة البحث عن موضوع وملبدة بأفكار قاتمة ،مما يجعلها بعيدة كل البعد عن المتلقي الذي يبحث قبل أي شيء أخر عن فكرة كاملة السطوع. هوام�ش ( )1محاورات النثر العربي ،د .مصطفى ناصف. ( )2شهادة الروائي إبراهيم الكوني في مؤتمر الرواية العربية في القاهرة .1998
54
عباء ُة الآنا �أو حاالت الذات قراءة في ديوان (جدوى المواربة) للشاعرة :سميرة البوزيدي
أرى حالتين لنفسي: أنا حين أبكي أنا..أو أنا أنا ـ ال أنا ـ حين تبكي السطور (عبدالدائم أكواص)
ما يفسره (أكواص) هنا من حاالت الذات عنده ،سيكون مفتاح الولوج في حديثنا عن ديوان (جدوى المواربة) للشاعرة (سميرة البوزيدي)
نتطرق في حديثنا هنا ،عن الكيفية التي تناولت بها الشاعرة الذات، وإن كان مفتتح (أكواص) جاء غن ًيا بدالالته الشعرية ،إال أنه تضمن حالتين نحاول أن ن َ ُحيط بهما قبل الكالم عن الديوان: اآلنا بصورتها المباشرة وتفاصيلها القريبة الحميمة (أنا حين أبكي أنا) اآلنا بصورته األخرى الغير المباشرة وفي أطوارها المختلفة ٍ ٍ داللة السطور) ُمتور ًطا في نفيها ،في (أنا ـ ال أنا ـ حين تبكي ُعبر عنه ،وكأنه يقدم ً واضحا عنها. تنازل ً منه على أنها ال ت ُ * * * 57
ُ تحمل داخلها أغلب األبعاد الذات حسب رؤية الشعر الحديث ُ كثيرا في الشعرية ،من هنا فالشاعر الحديث يعول على هذه الذات ً ٍ ٍ درجة عالية من تناوله لموضوعاتها الخاصة أو لمشاكل أخرى على العموم والشمول.
فالذات أصبحت بوابة للعبور إلى كافة الموضوعات الشعرية، تحاول أن تأقلم نفسها ،حسب تحوالت الشعر المختلفة (عمودية، تفعيلة ،وقصيدة نثر) بل أصبحت ت ً ُشكل التنوع األكبر في خارطة الشعر العربي كونها البراح األكثر قر ًبا للشاعر. أكتب أحدً ا: ال ُ
ٍ درجات تهتم (سميرة البوزيدي) في ديوانها هذا بالذات على ُ متنوعة ،وعلى قدر هذا االهتمام يأتي التنوع في القصائد ففي قصيدتها (جدوى المواربة) تقول: ُ منذ قريب
كنت ال أكتب أحدً ا
ألتف بعباءة أناي
وأنظر بنصف عين
إلى حزن رفيق
واآلن عن ماذا أتحدث ؟!
ٍ كبراح أول للقصيدة ،لذلك تعيدنا بسؤالها تقترح اآلنا هي هنا ُ األخير إلى حاالت (عبدالدائم أكواص) 58
تظهر في أيضا نستطيع تتبع حاالت الذات التي من هذه النقطة ً ُ ُ تتشكل في الحاالت التالية: الديوان وهي الحالة الأولى :الذات المكتفية
وهي ذات همها األوحد الغوص في التفاصيل القريبة الحميمة، وال تعنى بأي شيء آخر ،فهي ال ُتفعل الجهات األخرى ،غايتها دائما بصيغة المفرد. الوحيدة الذات،لذلك تأتي ً ٍ بهدوء خجول عن ٍ ذات ُمتأهبة.. القصيد ُة في هذه الحالة تُعل ُن تهتم برصد تفاصيل المكتفية ُ ُمتحفزة ،لذلك فإن أغلب هذه النصوص ُ كثيرا من الذاتُ ،منغمسة كل االنغماس في مراقبة شؤونها ،تقترب ً صوفية شفافة ساحرة: هذا امتالئي
أواسيه بجبل من األخطاء ٍ بسخرية متحفزة
بستائر وردية
أو:
تتطاير مثل أشباح مرحة !! أكتفي بي
أمنح دفئي ُ 59
لبعضي
وأعلن واهم ًة
أن الوقت متسع.
ُلخص هذه الذات المكتفية وتمنح وتظهر هنا (ياء المخاطبة) التي ت ُ النص إيقاعها الذاتي الخاص جدً ا
ٍ بشكل آخر هنا ،اآلنا التي تعتمد على البوح تظهر اآلنا المكتفية ُ الذاتي المسترسل المتضخم بوجود كلمة (أنا) في القصيدة باإلضافة إلى وجود (ياء المخاطبة): ٍ بسكون أنا الضاجة ال يشبهني
أزرر ثوب المعنى
على احتشاد الصفات....
الحالة الثانية :الذات الجماعية
الشاعرة في بعض قصائد الديوان تتنازل جزئ ًيا عن الذات كغاية، لتصوغ قصيدة بهم جماعي ،تحاول أن تصنع من خاللها حالة جديدة، وإبهارا من الحالة السابقة ألنها تتكلم بلسان وإن كانت أقل دهشة ً الجماعة. الذات هنا بصيغة الجمع ،لكن هذه الذات الجماعية تخفي ذاتًا ُ 60
مرهف ًة ،مرهقة ،ويبدو أن الشاعرة هنا اتخذت من صيغة الجمع أداة تعبير عن حالة مغايرة لذاتها ،فاإلطار التعبيري تغير نو ًعا ما ،لكن المحتوى ظل يحتفظ بإيقاعه السابق: نضر ُم الحكاية
في بياض الليلة
ونتبادل كؤوس
االبتسامات الغابرة فمن يعيرنا
سمع قلبه؟!
نسير أو نتوقف ..ال فرق...
وتستخدم الشاعرة هنا الفعل المضارع بصيغة الجماعية (نضرم، ٍ محاولة منها إلضفاء بعض الشمول على نتبادل،نسير ،نتوقف) في قصيدتها.
وقد تستخد ُم الشاعرة في بعض القصائد (نا الدالة على الفاعلين) في محاولة منها لتنويع هذه الحالة: يباغتنا المطر
ويعترينا الخصب
ولو يغيب ً قليل
61
يذيبنا الفقد وتمزقنا األسئلة عال ًيا ينثر فجيعتنا حين يخبر عنا
الشجون القديمة.... ُ الم�شاهدة الحالة الثالثة: الذات ُ
وهذه الحالة أقل من الحاالت السابقة وتتوزع كشذرات متفرقة
تلعب دور المشاهد وال تشارك في في أرجاء الديوان ،وهذه الذات ُ ٍ مسار القصيدة ،همها الوحيد هو رسم صورة أو نقل مشهد، صياغة الذات هنا محايدة:
مثل األغاني القديمة جاء شار ًدا
يزجي ضحك ًة مبتورة ويبعث بمعجزاته الصغيرة عصا ضريرة.....
نالحظ هنا أن حضور الذات كان لغرض النقل (نقل مشهد أو
صورة شعرية) فقط دون أن تتورط في تماس مباشر مع النص. 62
ٍ ُ حالة أخرى داخل هذه الحالة تتجسد في تلجأ إلى لكنها قد الكالم عن الذات من خالل ضمير الغائب محاول ًة نقل الذات إلى ٍ حالة مغايرة أو تغيير مجال الرؤية: ولما نأت الشقة بينها وبينها
صار التلكؤ
خطوها
والنبض القافز
مجالها الحيوي...
�إح�صائية الحاالت
جاء الديوان في ثمانية عشر قصيدة توزعت حسب التصنيف السابق كاآلتي:
1ـ الذات المكتفية :وردت في الديوان في خمس قصائد هي (مراكب ،إيقاع الدخان ،مهجة البلور ،جدوى المواربة، أخطاء الئقة)
2ـ الذات الجماعية :وردت في خمس قصائد هي (قيامة الهراء، وكأن السحاب صديقه ،الحكاية ،خرائب رقمية ،وماال نقوله) ٍ قصيدة واحدة هي (القصيدة) المشاهدة :وردت في 3ـ الذات ُ 63
جاءت بعض القصائد محتوية على تنوعات في حاالت الذات ولم ترد كل حالة في قصيدة بمفردها وهي كاآلتي:
المشاهدة :وردت في ثالث قصائد 4ـ الذات المكتفية +الذات ُ هي (ظل ،هل يصغي أحد ،أشياء الشرود) 5ـ الذات المكتفية +الذات الجماعية :وردت في الديوان في محتجا) قصيدتين (قوارب ،النهار يصرخ ً
المشاهدة :وردت المكتفية +الذات الجماعية +الذات ُ 6ـ الذات ُ في قصيدتين (بحر ،في قبو الذاكرة) ال�شكل العام
ً مشتمل الديوان على ما به من تنوع في حاالت الذات جاء مجموعة من النقاط:
يرسم حالة إنسانية عامة ،ويبتعدُ عن كونه ً تمثيل لحالة 1ـ الديوان ُ ترسم ذاتًا األنثى عند الشاعرة ،فالقصائد على امتداد الديوان ُ عامة أكثر من كونه يتحدث عن حالة أنثوية خاصة.
2ـ في القصائد التي تمتزج فيها حاالت الذات الثالثة ،نالحظ تقترب من كونها هنا أن الزمام يفلت من الشاعرة ،فالقصيدة ُ قطع مزركشة مجتمعة تحت إطار القصيدة ،لذلك فالقصيدة عندها أقرب إلى لوحات شعرية متنوعة ،ويظل الرابط بين هذه اللوحات ضعي ًفا جدً ا. 64
3ـ في أغلب قصائد الديوان تأتي الصورة على حساب الفكرة ُ يربك أفكار (حالة عامة في الشعر الحديث) األمر الذي ٍ بصفة عامة ،وإن كان يمنح القصائد زخرف ًة مناسبة الديوان
نوعا ما ،إال أنه يضر بسالسة وتسلسل الفكرة في القصائد، ً لذلك يرتبك المعنى في بعض القصائد ،وإن كان في بعض قصائدها مثل (قيامة الهراء ،خرائب رقمية ،وإيقاع الدخان) تتناول حالة شعرية تتكامل فيها جميع العناصر (فكر ًة وطرحا) ً
4ـ الشاعرة ترصدُ القصيدة كشأن مهم من شؤونها ،وتراها حالة إنسانية مهمة جدً ا،من هذه القصائد (جدوى المواربة، كأن السحاب صديقه ،القصيدة ،ماال نقوله) ففي قصيدة (ما ال نقوله) ً تقف عند خصوصية الشكل الشعري الذي مثل ُ تكتب به وهو(قصيدة النثر) وبعد
التنوع الذي تصنعه الشاعرة في حاالت الذات لديها يمر من خالله عمق تجربتها ،التي ال تخلو من هم وثقافة شعرية عالية نراها واضحة في عناية الشاعرة بنصوصها من ناحية اللغة والصور. أمرا بخطورة متعاظمة لكن الذات كحالة شعرية عامة يظل ً فالقصيدة الذاتية تستدير أحيانًا على قائلها ،فالقصيدة الحديثة ربما تكون أكثر عن ًفا من أي قصيدة أخرى إال أنها تظل خلي ًطا من 65
الطالسم واأللغاز تأتي في الغالب معجون ٌة بمجموعة متنوعة من المؤثرات،فالذات هنا ليست نقية نقا ًء تا ًما ،بل ذات منصهرة تجتمع فيها عدة عوالم وتفقد بنا ًء على ذلك الكثير من تلقائيتها وسطوعها وأيضا الكثير من براءتها !! ً
66
ُ الذات الوثير ح�ضن ِ قراء ٌة في ديوان (آثار طفل في الرمال) للشاعر (عبدالدائم أكواص)
مدخل وجدت اآلخرين فتشت عن نفسي وكلما ُ ُ فتشت عنهم لم أجد فيهم وكلما ُ سوى نفسي الغريبة هل أنا الفر ُد الحشو ُد ؟!
(الشاعر محمود درويش)
بهذا المقطع من جدارية الشاعر (محمود درويش) الذي يضعه الشاعر في بداية الديوان ،يضعنا الشاعر (عبدالدائم أكواص) في الجزئية التي أريد مناقشتها في هذه الدراسة.
لعل أغلب الشعراء يبحث عن هذه التميمة السحرية التي يقترحها مفتتحا لديوانه، (درويش) في جداريته ،ويفضل (أكواص) أن يضعها ً دائما خيار بين اآلنا واآلخرين ،لكن أغلب الشعراء ُيفضل أن هناك ً يذيب اآلخرين في قصيدته الذاتية البسيطة أو يجعل من ذاته الصغيرة 69
ٍ بشكل عام ملجأ لآلخرين ،تبدو هذه الجزئية هي الفكرة المسيطرة على أغلب قصائد الديوان.
وأحب أن أشير ً يكتب قصيدة التفعيلة وبحرفية أول إلى أن الشاعر ُ عالية جدً ا وبتواتر منسجم مع أغلب القصائد العربية والليبية في هذا أثما في زمن طوفان قصيدة النثر، الخصوص ،لذلك فهو ُ يرتكب ً والرهان على الصور الشعرية ،زمن القفز على مختلف األطر. ويفضل (عبدالدائم أكواص) أن يضعنا في اتجاهين عامين للديوان كاآلتي: االتجاه الأول
حاور الشاعر مجموع ًة وهو االتجاه القريب جدً ا من ذات الشاعرُ ،ي ُ ِ ً مشغول بهمومه ،بعيدً ا عن أي مشاغله واهتماماته الخاصة جدً ا، من ٍ بهدوء كبير هذه المشاغل في إطار نغمي، شعارات جوفاء ،يصو ُغ ٍ وبلغة بسيطة ،وبأفكار واضحة ،بل بصور غاية في الدهشة والسالسة: فلتسرعي
عمري وعمرك للتآكل
ناضجا ولتحضري خبز التشوق ً
ولتنثري ملح التواصل بيننا
ملح التواصل ولتهتفي :مرحى لنا ُ 70
الجب ولتجهري بالحب ملء ِّ
ملء أسماع القبائل...
نظرا ونالحظ هنا أن قصائد هذا االتجاه، ُ يغلب عليها البساطة ً لتعبيرها عن ذاته البسيطة واقترابها من شؤونه الخاصة ،لذلك فهي ٍ بشكل عام بنغم وصور غاية في الوضوح. قصائد مزركشة خاصا عنه كشاعر رومانسي بالدرجة األولى، وهي تعطي انطبا ًعا ً متمكن من قصيدة التفعيلة.
ويتضح هذا االتجاه في مجموعة من القصائد( :ساكن حدس الهواء ،مالك ،ثالثية الصعود ،أنا أسير ..أنا أسير ،يا زرقة البوح ُ يخجل منه المدُّ ،أطيافها ،نشيد الهطول، الجميل ،وبر البراءة ،طموح نسيت أحالم كائن ماضوي ،مزق الحنين ،اسحب سماءك والجدار، ُ قلبي حولك ،قصيدة اإلصغاء ،نزهة الغبار بين فوهات الدموع ،ترك الغريق حذاءه ،ابتهالية البرتقال العصي ،نزيف النفق) ويغلب على هذه القصائد صيغة المخاطب واآلنا ،حيث الشاعر ُ ُ يستغرق في قراءة ذاته وشؤونه ـ كما قلنا ـ يا مهج ًة تهفو إليها مشاعري
يا شرف ًة منها ُّ أطل على المدى
وعلى عيوبي
يسكن خافقي النصل ُ 71
ِ ُ النشوب والشوق محتمل أنزف ماض ًيا اآلن ُ
اآلن تفضحني ندوبي.
ويشذ عن هذه المجموعة قصيدة (نزهة الغبار بين فوهات الدموع)، رغم قربها من الشاعر وعدم سيطرة أفكار كبيرة على النص ،إال أنها نظرا لهدوء المسيطر عليها، قصيدة تندرج تحت االتجاه السابق ً وبساطة فكرة النص واأللفاظ: ِ يصطاف الغبار الصمت في ُ ُيلقي عباءته الثقيلة فوق وجه الماء ،ويمضي
لخلوته الحميمة حاف ًيا،
ُيهدي قذاه لكل ٍ عين ال تنامُ ..يعيدُ توزيع الزُّحار ُ احتفاء يمتطيها.. تصهل الريح ً
ويلف بين أزقة الرغبات ..في لغة الشكوك.
كذلك قصيد (اسحب سماءك والجدار) التي تأتي بصيغة األمر، لكنها ال تبتعد عن دائرة الذات القريبة ،فالشاعر في هذه القصيدة يتوجه باألمر إلى نفسه قبل أي أحد آخر: أشهر غيابك في وجوه الصامتين ،وال تمر ٍ مهجورة ..أو ال تمر كالغيم فوق مدين ًة 72
ماء على جذب الحكاية ،وانحدر ً
في درب نفسك سيدً اُ ..ح ًرا وحر
واسحب جدارك من ظالل الميتين
وتظل في هذا االتجاه (قصيدة اإلصغاء) التي ُي ُ فعل الشاعر خاللها
فعل (أصغي) في كتابة القصيدة ،حيث يختارها لبداية المقاطع في
كل مرة ،وكأن القصيدة قصيدة دائرية ورغم أن ا االتجاه الذاتي هو الطاغي في القصيدة ،إال أن الشاعر هنا يحاول أن ال يكون محايدً ا على الدوام ،حتى وإن كان في موقف المتفرج ،هو مشغول بقضايا أخرى يصغي إليها بهدوء:
أصغي ألطفال التجارب
ٍ جيش نائ ٍم وأللف
من ألف عا ٍم لم يحارب. االتجاه الثاني
ويغلب على االتجاه اهتمام الشاعر بقضايا غيره ،قضايا خارج ُ
نطاق ذاته القريبة جدً ا ،الشاعر في هذا االتجاه يضع نفسه في إطار جماعي ،يحاول أن يجد سياق له داخل الجماعةُ ،ي ُ حاول أن يكون على صله بقضايا أمته المعاصرة ،لذلك نجده يضحي بكثير من توهج
القصيدة مقابل هذا الحضور:
73
(عادوا إلى جبل النبؤة وادعين ،متعمدين ،ملمعين نيوبهم ،مستنسخين دروبهم من طين حاضرنا ،ما سر حرف الشين في أسمائهم ؟ قال العجوز: «ألنهم كانوا شهو ًدا في شفير شقاقنا أو أنهم كانوا شواهد رمسنا») ٍ مجموعة من القصائد وهي (سفر الرجوع، ويظهر هذا االتجاه في ُ كتاب التثاؤب ،سفر الرماد) القصائد هنا تتشكل عبر هم جماعي ،يريد الشاعر من خاللها بيان يغلب على هذه القصائد عدم درجة انشغاله بمجموعة من القضايا، ُ ٍ بشكل عام ،األمر الذي يلفها بدرجة من الغموض،ويغلب وضوح أفكارها على هذه القصائد الخطاب الجماعي ،وصيغة الفعل الماضي: ناموا لكيال يجرحوا إحساس قاتلهم ..وناموا
ليبرروا في نومهم مأساة (جلجامش)
أو ر ّبما ناموا لكي يتأكدوا من صحو كذبتهم !!
القصيدة في هذا االتجاه تظل على حالة تواصل مع مجموعة من االستدعاءات التاريخية لمجموعة من الشخوص الدينية واألسطورية في ٍ محاولة من الشاعر لخلق نص مختلف يتحاور من خالله الواقع والتاريخ. ويمكن تلخيص الرموز المستخدمة في هذا االتجاه في( :طير الفنيق ـ إيزيس ـ يوسف ـ العزيز ـ الهكسوس ـ جلجامش ـ قابيل ـ نابليون ـ إيفا أدولف ـ السامري ـ رومل ـ لورانس ـ االوشفيتيز) ومن خالل هذا االستدعاءات لهذه الرموز ،ترتبك و تغيب أغلب 74
أفكار النصوص رغم غطاء النغم الطافح ،فالقصيدة ال تقدم تجربة ذاتية بسيطة ،بل تقدم قضايا كبيرة تحوى الكثير من األفكار والتشعبات
التي تحتاج في صياغتها إلى مستوى متمكن.
وكذلك ما يصاحب هذه الرموز األسطورية من جوانب يكون
حاضرا عند الشاعر األمر الذي يحدث إرباكًا أغلبها غائ ًبا عن القارئ ً
كبيرا في فهمها. ً
وتظهر في هذا االتجاه قصيدة (سفر الرماد) حيث تمتلئ بالرموز ُ
ويسيطر على القصيدة فكرة عامة مشوشة: ومن الرماد إلى الرماد
(لورانس) أمضى ليله متقل ًبا ،لما يقم
لم تنفجر سكك الحديد ..وال جديد: (بيروت) تسجن نفسها في أمسها (عمان) تدفن أمسها في نفسها (بغداد) تحت االنتداب..
من اليباب إلى اليباب
ُ ُالحظ هنا قلة القصائد في هذا االتجاه مقابل االتجاه السابق، ون
دائما أكثر قر ًبا للشاعر من وربما يرجع ذلك إلى أن قصائد الذات ً غيرها ،لذلك ُي ُ فضل الشاعر التعاطي معها بكثرة. 75
الديوان في �إطاره العام
ويظهر هناك اهتمام واضح عند الشاعر لكتابة القصيدة الملحمة، ُ ذلك جل ًيا في تعامله مع أغلب القصائد ،وباألخص القصائد الطويلة نو ًعا ما ،حيث يفضل الشاعر أن يصنع حوار واضح داخل النص (عالقة أخذ وعطاء) ويتجلى ذلك بوضوح في قصائد (سفر الرجوع ،ابتهالية العصيِ ،سفر الرماد ،نزيف النفق) لذلك تظهر القصائد موشاة البرتقال ّ ٍ ٍ درجة عالية من الكثافة والنضج. بمجموعة من الصور التي تأتي على ٍ يشكل مباشر اهتمام الشاعر واضح بقصائده ،األمر الذي ينعكس على أفكار القصائد من حيث وضوحها ،كذلك على عنايته بصور أغلب القصائد. يغلب عليها اإليقاع ،كذلك تنطبق أغلب أفكار قصائد الديوان ُ القصائد على األلفاظ بدون أي حشو أو زوائد.
ختا ًما
على الرغم من أن الحضن الذي يفضله الشاعر هو حضن الذات، وثيرا من خالل معالجة الشاعر الفخمة ألغلب قصائده الذي يبدو ً الذاتية ،كذلك من خالل الصور المدهشة الذاتية التي ينسجها بهدوء، إال أن الشاعر أحيانًا ُي ُ فضل أن ُيحلق خارج هذا الحضن !!
76
ال�سر ُد المحموم ُ تهطل في القلب) قراء ٌة في ديوان (أراك للشاعرة نعيمة الز ّني
مدخل طالما أنك ال تستطيع أن تلغي األنا الملعون ،أقم على األقل عالقة أنيقة معه رافايل أرغو ّلول
قد تكون العالقة األنيقة هنا قصيدة ،القول هنا ٌ تسأل كبير عن ٍ بشكل عام، وخصوصا في التجربة اإلبداعية جدوى تجربة الذات، ً الذات هي الوجه األبرز واألقرب للمبدع في كل أحواله وحاالته، تتلبس ذات الشاعر) قد ال نقول جديدً ا، لذلك عندما نقول( :قصيد ٌة ُ لكن عندما تكون القصيدة مسكونة بك ٍم هائل من التداعيات الذي ُي ُ فعل قصيدة محمومة بسرد ذاتها إلى أبعد الحدود ،فإنها تكون قصيدة متلبسة بالذات ،لذلك فالقصيدة انهمار طويل ومتواصل متوتر ،وهي كذلك ال تتوقف عند نقطة معينة ،وال تنشغل بنسج عالقات وروابط بين أجزاء القصيدة ،حتى وإن وردت مقاطع صغيرة وسط القصيدة الكبيرة فإن تدافع السرد ُيعطيها طابع النسيج الواحد: 79
ُ يدخل من النافذة الغيم ُ
الحلم في خاصرة المدينة يغيب ُ ُ
يابسا عن ضحكتي يصبح ُ المساء ً ُ صباح أبله ما عاد يوقظني ٌ
يتسع لعيني وليل فضفاض ال ُ
فهل ُيحييك لي الله رصي ًفا آخر ؟!
قصيدة متداخلة فهي تقع تحت طائلة بوحها..وخاص ًة أن عنوان
كثيرا عندما تقترح القصيدة (أنا) لكنها في المقابل تطوع هذه األنا ً تقترح البداية مرتبك ًة إطارا واس ًعا للبوح وهو هنا المدينة ،لذلك فهي ُ ً
ً قليل ال تنبئ بما سيكون بعدها ،لكنها عندما تتخلص من البداية تركن
إلى األنا المشغولة بالتفاصيل ،تدرك أن المدينة تستوعب الشاعرة ٍ كحالة للبوح ،فهي عندما تقول( :فهي يحييك لي الله رصي ًفا آخر)
فإنها ترضى بالمدينة كبديل عن هذا الشخص ،المدينة إ ًذا حالة
أخرى للبوح:
فالليل ُة تختمر في القلب آخر القصائد ليتلعثم الهواء ألمتطي نزقي وأذهب لترتبك الشوارع بخطاي الواهية... 80
تتميز قصيدة (نعيمة الزني) بقصر الجمل المكونة للقصيدة.. من هنا فهي ت ُ ُفعل مساحة األفعال في بحث محموم عن صورة ُ كثيرا على اقتراح تسع حالة البوح الهائلة ..لذلك فهي تعول ً ٍ ُ يعول عليه كمساحة حقيقة للقصيدة( ..هذه الخاصية األفعال خصوصا شعراء قصيدة النثر ..األمر الذي الكثير من الشعراء ً يعطي القصائد صفة التشابه) قصيدة (نعيمة) ال تخرج عن ٍ كمساحة للبوح هذا اإلطار ،لذلك فهي عندما تقترح الفعل نوعا من الحركية أو الحياة في فهي تعطي الصور المستحدثة ً داخلها لنقرأ م ًعا: شيء يفقدُ شاعريته ٌ
يفقدُ جماله ..يرتمي في الالشيء
تخرج من عيونه عناكب ُ
وتسبح في فمه حكايات قديمة ُ
يرقدُ على قفاه
ُم ِ شر ًعا صدره آلالف النجوم
فاتحا قنينة البحر ً
ساك ًبا ألوانه الزرقاء في جدران الغرفة
يراقص ليلته العنيدة.... خاط ًفا بهجة فجر ُ
وهكذا تتوالي حركة األفعال في القصيدة محدث ًة نو ًعا من اللهاث 81
الجميل خلف التفاصيل ،ونالحظ في المقطع السابق إنه حتى وإن فاتحا (مشرعا غابت األفعال فمساحة الفعل مقترحة من خالل ً ً ساك ًبا خاط ًفا)
نقطة أخرى للنقاش في قصيدة نعيمة مساحة االختزال غير واردة، وحتى وإن وجدت مقاطع فهي مقاطع تخرج عن إطار االختزال لتقع تحت طائلة السرد ،الشاعرة مشغولة بإنجاز ذات مغايرة فضفاضة مترهلة إلى أبعد الحدود. فالمقاطع المختزلة لها سياق مغاير ،نجد قصيدة بعنوان (قصائد) وهي قصيدة مرتبة في مقاطع ُّ كل مقطع بعنوان مختلف ،لكنها في ُ نسيجا واحدً ا ،وبالنظر إلى المقاطع نجد أن الطول تشكل عمومها ً يغلب عليها ،عكس القصائد الحديثة المختزلة التي ُي ُ شكل اإليجاز جوهرها ،وبقراءة المقاطع تتشكل القصيدة كقصة: ذات صباح بلون الورد َّ أطل وجهه البريء
غامضاً .. مبلل بالشجن كان ً
وضعت يدي على قلبي ونظرت في عينيه ُ
شموسا ..ومدنًا ُمع َّلقة رأيت ُ ً ً وأطفال !!
82
هذا هو المقطع هو بداية القصيدة وهو بعنوان (لجوء) ،ننظر إلى المقطع الثاني الذي حمل عنوان (زهرة): في عينيه
دمع ٌة بحجم العشق
وفضاء يتسع لجنوني ٌ
قدمت له زهرة ُ فتردد
ثم ..التقطها بيده المرتعشة
فأزهرت يدي بستانًا.
نجد أن المقطع الثالث وهو بعنوان (اقتراب) يبد ُأ هكذا: يقترب أخذ ُ
قارب ُ يغرق في اليم كما ٌ يقترب ُ
الضجيج يبتعدُ ... تختنق.. المساف ُة ُ ُ
صغيرا بعنوان (خاتمة) وهذا وتضع في ختام هذه القصيدة مقط ًعا ً ٍ المقطع يلخص المقاطع السابقة ويأتي بدرجة من الدرجات ليعطي ُ تشكل كيانًا واحدً ا. االنطباع على أن المقاطع السابقة يتضح سياق القصيدة كقصة ،قصة تدور في فلك (اآلخر) هكذا ُ 83
الذي يستقطب الكالم ،وتوجه إليه الشاعرة كالمها ،فالذات هنا رغم كل ما تحمله القصيدة الحديثة من تعدد الدالالت هي ذات محايدة ما يعنيها هو المخاطب دون سواه ،وما يستقطبنا هو تعامل الشاعر مع هذا الذات،الشاعرة هنا حلقة صغيرة في سلسلة طويلة من الشعراء، تحاول أن تنجز عبر تجربتها صياغ ًة أخرى لتجربة الذات الشعرية ،لكن هذه القصيدة تظهر مستوى الشاعرة الحقيقي في تعاملها مع القصيدة كسياق للفكرة ،وكيفية تعامل الشاعر مع فكرتها أعطى القصيدة ً شكل ُ يحمل بذور اختالفه. ال نقول عنه إنه جديد ،لكنه القلب)(*)
ُ تهطل في في قصيدة أخرى وهي بعنوان (أراك وهي القصيدة التي ظهرت كعنوان للديوان ،تقترح نفس الخاصية ونفس سياق الطرح ،ومن خالل هذه القصيدة تظهر المدينة مر ًة أخرى كجانب مهم وفعال في القصيدة ،إنها تتعامل مع المدينة ً حذرا لكنه مسكون بقلقه ونالحظ هنا أن (المدينة) تعادل تعامل ً المخاطب تما ًما:
عند أول منعطف
ألمح مدينتي ُ
تهرب من سريرها
تتمشى على أطراف أصابعها
لتقابل عاش ًقا يقف هناك
يرتجف من البرد والعسس. 84
ختا ًما
قصيدة (نعيمة الزني) مسكون ٌة بهاجس السرد ،سرد محموم تُفعل ُه وينسجم معها انسجا ًما تا ًما ،القصيدة هنا آلية للبوح المتسع، الذات ُ وأيضا الكثير من تُجاهر الشاعرة من خالله بعواطفها و همومهاً ، تمردها !! هوام�ش (*) ديوان (أراك تهطل في القلب) ،مجلس الثقافة العام،عام .2006
85
ُمغامرة التجريب قراءة في ديوان
(التأويل الوردي لبياض الكوكب) للشاعر صالح قادربوه
مدخل فالمغامرة الشعرية ليست اقترا ًبا من الرؤيا بل هي اقتراب من
الحياة ومن روح اللعبة ،من السخرية العظيمة التي صنعت أرسطو فانيس وستصنعني ..الشعر هو كتابة كل واحد لنفسه
لكن بأدوات الحياة ..ليس هناك رؤيا ..فالشاعر ليس نب ًيا
وال عرا ًفا ،إنّه العب وحسب()1
إلى إي حد يتطابق كالم الشاعر (صالح قادربوه) هنا مع
تجربته الشعرية ؟!
ومرورا ابتدا ًء من ديوانه (اشتهاء مستحيل) الصادر في عام 2002 ً
بديوانه (تراتيل أسفل شرفة الوعد) الصادر 2004وانتها ًء بديوانه
(التأويل الوردي لبياض الكوكب) الصادر في .2006
نتوقف عند تجربة الشاعر(صالح قادربوه) الشعرية التي تمتلئ
بمجموعة من اإلشارات القوية على وجود مساحة هائلة من التجريب، 89
واضحا بمتابعة الخط الواصل بين المجموعات األربعة ويبرز ذلك ً وعبر فترة زمنية ثابتة نسبية. فمن النزعة الرومانسية الحالمة في ديوانه (اشتهاء مستحيل) حيث ٍ بشكل تسيطر الذات بأفقها القريب ،إلى االقتراب من األفق الصوفي
من األشكال في ديوانه (تراتيل أسفل شرفة الوعد)
وانتها ًء بمساحة هائلة يرى الشاعر أنها متاحة للتجريب في ديوانه (التأويل الوردي لبياض الكوكب) ومرورا باإلهداء (إلى اللون ..دون ريب)، ابتدا ًء من العنوان ً والمدخل الذي يستنطق الشاعر فيه مقولة من مقوالت الشاعر (اوكتافيو باث) نرى هنا بوضوح سعى الشاعر إلنتاج نص بمذاق خاص ،ربما ما يستدعى االنتباه هو توقف الشاعر عند جزئيات معينة منها: ً أول :تخلى الشاعر نهائ ًيا عن اإليقاع الذي كان بصورة واضحة ٍ بشكل مخفف في ديوانه الثاني. في ديوانه األول ،وظهوره ثان ًيا :تعامل الشاعر مع ذاته القريبة ،تعامل فيه الكثير من التعالي لم يغص في شؤون ذاته.
ثال ًثا :اهتمام الشاعر بصياغة قصيدته عبر إنتاج مجموعة من المغيب. الصور ،لتحل محل اإليقاع ُ
(قصيدة الغريب) هي أولى القصائد التي يتوقف عندها ،ويالحظ 90
القارئ أن الشاعر يتوقف عند لفظة (الغريب) ويفعل القصيدة من خاللها: الغريب الذي تلتف حوله مداخل الشوارع
الغريب الذي تلتف حوله أبواق العربات الباردة
الغريب الذي تلتف حوله واجهات الفنادق
الغريب الذي تلتف حوله صائدات العابرين ...........................................
والمالحظ على هذه القصيدة أن القصيدة هنا جرعة واحدة متصلة، غير قابلة للتجزئة ،فاكتمال فكرة النص مقرون باكتمال قراءة النص ً كامل.
ونالحظ هنا أن الشاعر يستهويه هذا الشكل في الكتابة فنراه يكرره مر ًة أخرى في قصيدة (ممنوع االبتسام): رائحة فاصوليا مطبوخة رائحة ماء قديم
رائحة زنزانة مجهولة النزالء
رائحة صوت بليد
رائحة قصة صغيرة مسحوقة على سكة حديد صدئة
رائحة نكتة ال تقال أمام العائلة
.............................. 91
يمكن أن نقف عند تجارب أخرى معاصرة ،لنرى إن (قادربوه) يتوقف عند أغلب التجارب العربية في محاولة لمواكبتها وتجاوزها، لنقرأ لشاعر تستهويه نفس هذه الطريقة في الكتابة ،أنه الشاعر (سعدي يوسف) في قصيدته (صباح الخير أيها العرب)(:)2 صباح الخير لألوالد صباح الخير للجالد
تنقلب صباح الخير للثورات ُ
صباح الخير للطقات مكتومة صباح الخير للرايات عشرا صباح الخير ً
للوحول تلطخ الرايات صباح الخير للشمراء
صباح الخير للرقباء
....................
نتوقف عند قصيدة (إيهام) لنرى أن الشاعر يعمد إلى صياغة ٍ بشكل فيه الكثير من التمويه من خالل تفعيل كلمتين (صوت) القصيدة و (بل) من ليكمل ليصل في النهاية إلى عنوان النص: صوت طرقات أصابعك على خشب الخزانة 92
صوت انزالق من أسفل إلى فوق
بل
صوت طرقات نقودك على خشب الخزانة
صوت انزالق أصابعك من أسفل إلى فوق
بل
صوت طرقات الخشب على نقود الخزانة صوت انزالق أسفل أصابعك إلى فوق
ثالثة احتماالت إللغاء وهم االستدراك
بل لإليهام باإللغاء ..................
نرى هنا أن الشاعر ذهب بعيدً ا للوصول إلى شيء قريب جدً ا منه، إنه يمارس اللعب بل هو مفتون جدً ا بهذا اللعب ،معتمدً ا على تبديل العالقات بين األلفاظ ،وتعتبر هذه القصيدة المثال األبرز هنا على ٍ كفكرة لها خصوصيته. تعامل الشاعر مع التجريب
نتوقف كذلك عند قصيدة (جرد سريع ألوهام المخيلة) لنرى أن الشاعر هنا يوقظ كلمة (نتصافح) ليدخل من خاللها إلى النص: نتصافح بالقرب من تقلب الماء
من تصادم نملتين على حبل العطش 93
نتصافح بالقرب من أكذوبة الصوت الخفيض وننتزع أصابع التقاليد في دوخة المصافحة ثم نتهيأ للجلوس على فكرة الفأر والمصيدة ........................................... نرى أن الشاعر يعتمد هذه الطريقة في أغلب نصوص الديوان، ً محاول التعاطي مع هذا الشكل في الكتابة أكثر من مرة ،ويمكن
مالحظة هذا األسلوب في قصيدة (المشبوهون) وقصيدة (أحالم ال تخص فرويد)
ويمكن النظر إلى قصيدتين: 1ـ قصيدة (التأويل الوردي لبياض الكوكب) :ويعتمد فيها الشاعر على مدخلين كونيين (حسب اقتراح الشاعر) والقصيدة
تبلغ ذروة التعقيد ،وأرى أنها تبلغ ذروة التجريب (حسب
اعتقادي) لذلك اختارها الشاعر عنوانًا لديوانه ،على الرغم من مغامرة الشاعر بفكرة النص (وهي سمة ظاهرة في هذا ٍ بشكل عام). الديوان
2ـ قصيدة (اسمك) :وهي حسب اعتقادي تعتبر من رصيد الشاعر السابق من عدة وجوه ،أو أنها كتبت بروح الدواوين السابقة ،وهذه القصيدة تشذ عن قصائد الديوان األخرى من
حيث وضوح الفكرة وترابطها وكذلك قربها من ذات الشاعر. 94
ختا ًما
الشاعر دائم الشطب سوا ًء على مستوى التجربة ككل من خالل إعالن إنكاره لتجاربه وإصدارته الشعرية السابقة ،أو من خالل ردته ٍ دائما الشطب على الشكل الشعري القديم بشكل عام ،الشاعر ً أيضا ً لنفسه من خالل كل قصيدة ،حيث كل قصيدة هي عبارة عن تجاوز دائما وشطب متكرر ،الشاعر كذلك ال يرى نفسه ابن لتجربة الشعر ً الليبي التي يراها متواضعة من جميع الوجوه لذلك فهو يشطب الجميع !!
ديوان (التأويل الوردي لبياض الكوكب) مغامرة يراها الشاعر أساسا (صالح قادربوه) ضرورية في سياق تجربته الشعرية التي تقوم ً على القفز على جميع تجاربه السابقة دون النظر إلى الوراء،القصيدة في نظره لعبة مفتوحة على التجريب إلى أبعد الحدود،وعلى جميع االتجاهات!! السؤال هنا :ماذا أضافت مغامرة التجريب لتجربة (قادربوه) الشعرية ؟! هوام�ش ( )1حوار للشاعر ،أجراه الشاعر وليد الزريبي. ( )2الشاعر سعدي يوسف ،األعمال الكاملة.
95
الق�صيد ُة بلحاف الأنثى قراءة في ديوان لحاف الضوء للشاعرة أم الخير الباروني
أتسلل خلف الحلم ألعانق ولعي بك يدركنا الصحو أرتبك..
تتوقف القصيدة الحديثة عند مفترقات كثيرة ،لعل أبرزها الوقوف
كثيرا على بوابة الذات ،ومحاولة صياغتها بأكثر من صيغة. ً
ديوان (لحاف الضوء) للشاعرة (أم الخير الباروني) يحتوي على
( 21قصيدة) كتبت قصائده عبر فترة امتدت من 1987إلى .2001 ما يعنينا عبر هذه القراءة هو اإلجابة على سؤال: كيف تعاملت ال�شاعرة مع كيان الأنثى عبر ق�صائدها ؟
القصيدة في ديوان (لحاف الضوء) تقع على مقربة من تفاصيل
الشاعرة األنثى ،الشاعرة هنا تصوغ حياتها عبر القصيدة. 99
ُ تهطل بأغواري بال غيم
بال سحب
تهطل!!
فالقصيدة بداية ال تتشكل عبر إطار معين ،فهي تمتلئ بالخروقات مهما كثيرا على الفكرة التي تشغل ً حيزا ً لكن الشاعرة هنا تعول ً ِ ٍ ٌ ُ بانفعال خاص، مسكون الذات خطاب حيث في قولبة القصيدة، ُ ومخاطبة بصيغة اآلخر أو بصيغة الجمع في محاولة من الشاعرة وأيضا القصيدة ال تركن إلى منجز ،فهي لصهر نفسها مع اآلخرينً ، دائما ،إضافة إلى اهتمامها بالتفاصيل إلى أبعد تقترح فضا ًء جديدً ا ً الحدود ،لذلك تداهمك الصور المنجزة وكأن الحياة تتجدد في كل قصيدة: تنتصب هياكل ونهارات
كانت منزوية ما بين ضفتي دفتر
يقلبه طفل حافي القدمين
يحصي الصفحات البيضاء ويفتتها
قوتًا لطيور تنقر أفكاره.
وال ندعي أن القصيدة لديها حالة استثنائية ،لكنها حالة تسلك طريق الشعر الحديث عامة ،تحمل قلقها وإحساسها المختلفة بالحياة، 100
ترتكب محاولة بحث المحمومة للخروج بحالة تميز ،لكنها تظل
محتفظة بمخاوفها ساطعة متوهجة وطازجة: غيما ..تمطر بأعماقي أتفيأك ً
فتخصب بكرو ٍم ونخيل وخمائل غبطة
فيما الظل يشخص ..يتشخص
يتخلل بصري.
ال تمضي بعيدً ا في أفكارها ،تميز القصيدة في وضوح فكرتها إنها ال تخاتل كثيرا ..إنها تسلك أقصر طريق للوصول ،لنقرأ هذا المقطع الذي القارئ ً يفيض بدهشته الصغيرة المستحدثة:
تحت وسادتي
حلم وشاطئ !! القصيدة التي تكتبها الشاعرات في ليبيا تنضح بكثير من ردود
الفعل الصغيرة المشاكسة ،لذلك تتميز هذه القصائد بتفجرها الجميل،
تحمل وقع اليوم في كثير من الدهشة ،وال تحمل الكثير من المفارقات كثيرا، اللغوية ،بعكس القصيدة التي يكتبها الشعراء ،إنها تميل للتعقيد ً
وتدخل من باب فكري عميق ،لذلك نراها تحسن التعبير عن نفسها كثيرا: جيدً ا، ُ وتتمترس بالذات ً البارحة
بعدما غادرتني 101
وعلي غير عادتي
لم أقرب الماء ..لم أشرب
خفت ..خفت أن ..أنطفئ !!
الفكرة الواضحة تمنح القصيدة قوة اإليجاز..لذلك تتجلى
القصيدة قدر اإلمكان في االقتصاد اللفظي،حيث الفكرة تشعل
أيضا عند (أم الخير النص بمقدار مناسب من الوقع الجميل ،الذات ً
الباروني) تنكشف بلطف ،وتتسرب من خالل لحظة البوح هذه هموم الشاعرة بشفافية حادة ومصحوبة بك ٍم هائل من الصور التي
تراها الشاعرة تخد ُم القصيدة مترافقة مع جرأة محببة ال تختفي
تحت قناع:
هذا المساء
ثرثار عجوز والمطر ٌ ُ يهمهم في خفوت
اشتهاء ألن نكون م ًعا يملؤني ً
وأنت بعيد
بعيدٌ كالغد
قريب كهمس الذكريات ٌ ........................
102
نتوقف هنا لنرى كيف تعاملت الشاعرة مع قصيدتها ،ونرى أنها تعاملت في خطين متوازيين: الخط األول :ويمكن تسميته (خط التداعي) وتعول الشاعرة هنا كثيرا. على جملة سردية تقتضب فيها ً
الخط الثاني :ويمكن تسميته (خط الصور) وتتوقف الشاعرة عند مجموعة من الصور التي تدعم الخط األول ،ونالحظ هنا اهتمام بصياغة مفارقة مدهشة بين من خالل إنجاز الصور ،األمر الذي يعطي القصيدة قدرة على المشاكسة: ويغلق نوافذه النوم يفرك نعاسه ُ السعة
تتدثر بلحافها وتضيق
الليل
يبكي معزوفة المطر فامضي
امتطي وهج الصبح واركض
فيسقط الغد من شرفة ذاكرتي
ً حقل من رماد..
................ 103
أيضا في إطارها الحديث قصيدة قلق متعاظم ،وتتوقف القصيدة ً كثيرا عند هذه النقطة ،ربما هو جزء من إحساسها الخاص الشاعرة ً بقلق كبير عصري يراه الشعراء كل من زاويته: هدهدة طحن العمر الماضي تلجم خيول الزمن اآلتي
وأنا متعبة
أنيني متحجر
عند بوابات صدئة
لمدائن الفرح
تصدني فأدير وجهي
واركض.. ..........
قصيدة (أم الخير الباروني) في الغالب ترسم في الغالب حدودها أيضا قصيدة هادئة ..هامسة تختبئ وراء ذات ومحيطها كأنثى ،وهي ً غير منجزة ..تراها الشاعرة كل ٍ مرة بشكل مغاير !!
104
تعريف بالكاتب ـ عبدالباسط أبوبكر محمد.
ـ مواليد ،1975الجبل األخضر.
�صدر له
ديوان (في متناول القلب) مجلة المؤتمر.2005
ديوان(أوقات خارج الوقت) مجلس الثقافة العام .2008 كتاب (خارج الحبر) وزارة الثقافة عام .2014
له مخطوطات
ديوان (بأكثر من وجه).
ديوان (الوقت جهة خامسة).
كتاب (تمارين شعرية).
كتاب (جغرافيا الروح).
البريد الألكتروني للكاتب: Ttfasel@yahoo.com