ملامح المجتمع المسلم

Page 1

‫مالمح المجتمع المسلم‬ ‫يوسف القرضاوي‬

‫تم تجميع الكتاب‬ ‫من موقع الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي‬ ‫‪http://www.qaradawi.net‬‬

‫عن طريق موقع‬ ‫‪http://www.y-ebooks.com‬‬


‫مقــــدمة‬ ‫الحمد هلل حمداً كثٌراً طٌبا ً مباركا ً فٌه‪ ،‬والصبلة والسبلم على رسوله المبعوث رحمة للعالمٌن‪ ،‬وعلى آله‬ ‫وصحبه أجمعٌن‪.‬‬ ‫أما بعد ‪ ،‬فقد عنى اإلسبلم بالمجتمع عناٌة بالفرد‪ .‬فكل منهما ٌتؤثر باآلخر وٌإثر فٌه‪ .‬وهل المجتمع إال‬ ‫مجموعة من األفراد ربطت بٌنهم روابط معٌنة‪ .‬فكان صبلح الفرد الزما ً لصبلح المجتمع‪ ،‬فالفرد أشبه‬ ‫باللبنة فً البنٌان‪ ،‬وال صبلح للبنٌان إذا كانت لبناته ضعٌفة‪.‬‬ ‫كما ال صبلح للفرد إال فً مجتمع ٌساعده على النمو السلٌم‪ ،‬والتكٌؾ الصحٌح‪ ،‬والسلوك القوٌم‪.‬‬ ‫فالمجتمع هو التربة التً تبنت فٌها بذرة الفرد‪ .‬وتنمو وتترعرع فً مناخها‪ ،‬واالنتفاع بسمابها وهوابها‬ ‫وشمسها‪ .‬وما كانت الهجرة النبوٌة إلى المدٌنة‪ ،‬إال سعٌا ً إلى مجتمع مستقل تتجسد فٌه عقابد اإلسبلم‬ ‫وقٌمه وشعابره وشرابعه‪ .‬وقد لمسنا فً عصرنا محنة الفرد المسلم فً المجتمعات التً ال تلتزم‬ ‫باإلسبلم منهاجا ً لحٌاتها‪ ،‬ناهٌك بالمجتمعات التً تعادي شرٌعته‪ ،‬وتطارد دعوته‪ .‬وكٌؾ ٌعٌش هذا‬ ‫الفرد فً توتر وقلق وحٌرة‪ ،‬نتٌجة لما ٌحس به من تناقض صارخ بٌن ما ٌإمن به من أوامر دٌنه و‬ ‫نواهٌه‪ ،‬من جهة‪ ،‬و م ا ٌعاٌشه وٌضؽط علٌه من أفكار المجتمع ومشاعره وتقالٌده وأنظمته وقوانٌنه‪،‬‬ ‫التً ٌراها مخالفة لتوجٌهات عقٌدته‪ ،‬وأحكام شرٌعته‪ ،‬وموارٌث ثقافته‪ ،‬من جهة أخرى‪ .‬اإلنسان ‪ -‬كما‬ ‫قال القدماء ‪ -‬مدنً بطبعه ‪ ,‬وكما قال المحدثون ‪ :‬حٌوان اجتماعً ‪ .‬أي أنه ال ٌستطٌع أن ٌعٌش وحده ‪,‬‬ ‫بل ال بد أن ٌتعاون مع ؼٌره ‪ ,‬حتى تستقٌم حٌاته ‪ ,‬وتتحقق مطالبه ‪ ,‬وٌستمر نوعه ‪ .‬وقد قال الشاعر‬ ‫العربً ‪ :‬الناس للناس من بدو وحاضرة بعض لبعض ‪ -‬وان لم ٌشعروا ‪ -‬خدم واإلسبلم ال ٌصور‬ ‫اإلنسان وحده ‪ ،‬إنما ٌصوره فً مجمع ‪ ،‬ولهذا توجهت التكالٌؾ إلٌه بصٌؽة الجماعة‪ٌ( :‬ا أٌها الذٌن‬ ‫آمنوا) ولم ٌجا فً القرآن (ٌا أٌها المإمن) وذلك أن تكالٌؾ اإلسبلم محتاج إلى التكاتؾ والتضامن فً‬ ‫حملها والقٌام بؤعبابها‪ٌ .‬ستوي فً ذلك العبادات والمعامبلت‪.‬‬ ‫فإذا نظرنا إلى فرٌضة كالصبلة وجدنا أنها ال ٌمكن أن تقام كما ٌرٌد اإلسبلم‪ ,‬إال بمسجد ٌتعاون‬ ‫المجتمع على بنابه‪ ،‬ومإذن ٌعلن الناس بمواقٌت الصبلة‪ ,‬وإمام ٌإمهم‪ ,‬وخطٌب بخطبهم‪ ,‬ومعد ٌعلمهم‪,‬‬ ‫وهذا كله ال ٌقوم به الفرد‪ ,‬وإنما ٌنظمه المجتمع‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وقد جعل القرآن أول أعمال الدولة المسلمة إذا مكن لها فً األرض‪ :‬أن تقٌم الصبلة‪ ,‬كما قال تعالى ‪(:‬‬ ‫الذٌن إن مك ّناهم فً ألرض أقاموا الصبلة وآتوا الزكاة… اآلٌة)‪.‬‬ ‫ومثل ذلك ٌقال فً فرٌضة الصوم‪ ,‬وضرورة ترتٌب أمور الحٌاة فً رمضان ترتٌبا ٌعٌن على الصٌام‬ ‫والقٌام والسحور وؼٌرها‪ .‬ومن باب أولى‪ :‬الزكاة‪ ,‬فاألصل فٌها أنها تنظٌم اجتماعً تشرؾ علٌه‬ ‫الدولة‪ ,‬بواسطة( العاملٌن علٌها ) الذين نص علٌهم القرآن ‪ .‬وكذلك كل شعابر اإلسبلم وأركانه‪ .‬أما‬ ‫األخبلق والمعامبلت فبل ٌتصور أن تقوم ‪ -‬كما ٌنشدها اإلسبلم ‪ -‬إال فً ظبلل مجتمع ملتزم باإلسبلم‪,‬‬ ‫ٌتعبد هلل بإقامة حٌاته على أساس اإلسبلم‪.‬‬ ‫وقد عم اإلسبلم المسلم أن ٌقول إذا ناجى ربه فً صبلته ( إٌاك نعبد وإٌاك نستعٌن) فهو ٌتكلم بلسان‬ ‫الجماعة‪ ,‬وإن كان وحده‪ ,‬وكذلك إذا دعا ربه دعا بصٌؽة الجمع‪( :‬اهدنا الصراط المستقٌم) فالجماعة‬ ‫حٌّة فً وجدانه‪ ،‬حاضرة على لسانه‪ .‬والمجتمع المسلم مجتمع متمٌز عن سابر المجتمعات بمكوناته‬ ‫وخصابصه‪ ,‬فهو مجتمع ربانً‪ ،‬إنسانً‪ ,‬أخبلقً‪ ,‬متوازن‪ .‬والمسلمون مطالبون بإقامة هذا المجتمع‪,‬‬


‫حتى ٌمكنوا فٌه لدٌنهم‪ ,‬وٌجسدوا فٌه شخصٌتهم‪ ,‬وٌحٌوا فً ظله حٌاة إسبلمٌة متكاملة‪ :‬حٌاة توجهها‬ ‫العقٌدة اإلسبلمٌة ‪ ,‬وتزكٌها العبادات اإلسبلمٌة ‪ ,‬وتقودها المفاهٌم اإلسبلمٌة‪ ,‬وتحركها الشاعر‬ ‫اإلسبلمٌة‪ ,‬وتضبطها األخبلق اإلسبلمٌة وتجملها اآلداب اإلسبلمٌة‪ ,‬وتهٌمن علٌها القٌم اإلسبلمٌة‪,‬‬ ‫ومحكمها التشرٌعات اإلسبلمٌة‪ ,‬وتوجه اقتصادها وفنونها وسٌاستها‪ :‬التعالٌم اإلسبلمٌة‪.‬‬ ‫فلٌس المجتمع المسلم‪ ,‬كما ٌتصوره أو ٌصوره الكثٌرون ‪ -‬هو ‪ -‬فقط ‪ -‬الذي ٌطبق الشرٌعة اإلسبلمٌة‬ ‫فً جانبها القانونً‪ ,‬وخصوصا جانب الحدود والعقوبات‪ ,‬فهذا تصور وتصوٌر قاصر‪ ,‬بل ظالم لهذا‬ ‫المجتمع‪ ,‬واختصار لكل مقوماته المتعددة فً مقوم واحد هو التشرٌع‪ ,‬وفى جانب واحد من التشرٌع هو‬ ‫التشرٌع الجزابً‪ ,‬أو الجنابً‪.‬‬ ‫لهذا كان من المهم هنا‪ :‬هو إلقاء الضوء على المكونات أو البلمح األساسٌة لهذا المجتمع الذي ننشده‪,‬‬ ‫والذي قامت حركات وجماعات إسبلمٌة فً شتى أنحاء العالم العربً واإلسبلمً تدعو إلٌه ‪ ,‬لٌحل محل‬ ‫المجتمعات الحاضرة‪ ,‬التً اختلط فٌها اإلسبلم بالجاهلٌة‪ ,‬سواء أكانت جاهلٌة وافدة‪,‬مما ؼزانا به‬ ‫االستعمار الؽربً بشقٌه‪ :‬الرأسمالً واالشتراكً‪ ,‬أم جاهلٌة موروثة‪ ,‬من رواسب عصور التخلؾ‪ ,‬التً‬ ‫ساء فٌه ا فهم السلمٌن لدٌنهم‪ ,‬كما ساء تطبٌقهم له‪ ,‬حكاما ومحكومٌن‪ .‬وقد صدر لً كتاب منذ سنٌن‪,‬‬ ‫هو‪( :‬ؼٌر المسلمٌن فً المجتمع اإلسبلمً ) وهو فً الحقٌقة جزء من هذا الكتاب‪.‬‬ ‫كما تركت موضوعا ً ٌتعلق بالدولة ونظام الحكم‪ ,‬خشٌه م ن طول الكتاب على القارئ‪ .‬وربما أهدره فً‬ ‫رسالة مستقلة‪ ,‬أو ألحمه به فً طبعه أخرى‪ .‬وعسى أن ٌكون فً هذه الفصول ما ٌساعد على كشؾ‬ ‫اللثام عن معالم هذا المجتمع الذي مرنو إلٌه األبصار‪ ,‬وتشربب نحوه األعناق‪ ,‬وتتعلق به القلوب‪.‬‬ ‫وعسى أن ٌزٌدنا ذلك إصراراً على السعً إلٌه‪ ,‬والعمل على تحقٌقه فً الواقع‪ ،‬كلما استطعنا إلى ذلك‬ ‫سبٌبل‪ ,‬فً أي وطن ‪ -‬مهما صؽرت رقعته من دار اإلسبلم‪ .‬فٌعلن والءه الكامل لئلسبلم‪ ,‬عقٌدة وشرٌعة‬ ‫ومنهاج حٌاة‪ ,‬وٌبنى حٌاته كلها‪ :‬المادٌة والمعنوٌة‪ ,‬وسٌاسته كلها‪ :‬الداخلٌة والخارجٌة على اإلسبلم‪.‬‬ ‫ومن ناحٌة أخرى نقٌس المجتمعات القابمة الٌوم‪ ,‬والتً تنتسب إلى اإلسبلم‪ ,‬ألن سكانها مسلمون‪ ,‬أو‬ ‫ألن دستورها ٌعلن أن دٌنها اإلسبلم‪ ,‬أو أن الشرٌعة هً المصدر الربٌسً‪ ,‬أو المصدر الوحٌد للقوانٌن‬ ‫‪ :‬نقٌسها إلى هذا المجتمع فً صورته المثالٌة المنشودة ‪ ,‬لنعرؾ مدى قربها أو بعدها منه‪.‬‬ ‫ؾما أكثر الذٌن ٌتمسحون باإلسبلم‪ ,‬وهم عنه صادون‪ ,‬أو ٌتمسكون بشكلٌات منه‪ ,‬وهم عن روحه‬ ‫معرضون‪ ,‬أو ٌإمنون ببعض كتابه‪ ,‬وهم بالبعض اآلخر كافرون‪ ,‬أو ٌحتفلون بؤعٌاده‪ ,‬وهم ألعدابه‬ ‫موالون‪ ,‬ولدعاته معادون‪ ,‬ولشرٌعته معارضون ! ( ربنا علٌك توكلنا وإلٌك أنبنا وإلٌك المصٌر ‪ ،‬ربنا‬ ‫ال تجعلنا فتنة للذٌن كفروا واؼفر لنا‪ ،‬ربنا إنك أنت العزٌز الحكٌم‪).‬‬ ‫إن أول أساس ٌقوم علبه المجتمع السلم وٌقوم به هو العقٌدة ‪ :‬مقٌدة اإلسبلم‪.‬فمهمة المجتمع األولى هً‬ ‫حماٌة هذه العقٌدة ورماٌتها وتثبٌتها ‪ ,‬ومد نورهافً اآلفاق‪.‬وعقٌدة اإلسبلم تتمثل فً اإلٌمان باهلل‬ ‫ومبلبكته وكتبه ورسله والٌوم اآلخر‪ (:‬آمن الرسول بما أنزل إلٌه من ربه والمإمنون‪ ,‬كل آمن‬ ‫باللهومبلبكته وكتبه ورسله ال نفرق بٌن أحد من رسله‪ ,‬وقالوا سمعناوأطعنا‪ ,‬ؼفرانك ربنا وإلٌك‬ ‫المصٌر)فهً عقٌدة تبنى وال تهدم‪ ,‬تجمع وال تؽرق‪ ,‬ألنها تقوم على تراث الرساالتاإللهٌة كلها‪ ,‬وعلى‬ ‫اإلٌمان برسل اله جمٌعا‪ ( :‬ال نفرق بٌن أحد من رسله) ‪.‬‬ ‫ولهذه العقٌدة عنوان ٌلخصها أو شعار ٌعبر عنها هو‪ ( :‬شهادة أن ال إله إالاله وأن محمدا رسول اله )‪,‬‬ ‫هذه العقٌدة هً التً تمثل وجهة نظر السلمٌنإلى الكون ورب الكون‪ ,‬وإلى الطبٌعة وما وراء الطبٌعة‪,‬‬ ‫والى الحٌاة وما بعدالحٌاة‪ ,‬وإلى العالم المنظور والعالم ؼٌر المنظور‪ ,‬وبعبارة أخرى‪ :‬إلى الخلقوالخالق‪,‬‬ ‫إلى الدنٌا واآلخرة‪ ,‬إلى عالم الشهادة وعالم الؽٌب‪.‬فهذا الكون بؤرضه وسمابه‪ ,‬بجماده ونباته‪ ,‬وحٌوانه‬ ‫وإنسانه‪ ,‬وجنهومبلبكته ‪ ....‬هذا الكون لم ٌخلق من غٌر شا‪ ,‬ولم ٌخلق نفسه‪ ,‬فبل بد لهمن خالق علٌم‬


‫قدٌر عزٌز حكٌم‪ ,‬خلقه فسواه‪ ,‬وقد قدر كل شا فٌه تقدٌراً‪,‬فكل ذرة فٌه بمٌزان‪ ,‬وكل حركة فٌه بمقدار‬ ‫وحسبان‪ .‬وذلك الخالق هو هللا‪ ,‬الذي تدل كل كلمه بل كل حرؾ فً كتاب الوجود على مشٌبته وقدرته‪,‬‬ ‫وعلمهوحكمه‪ ( :‬تسبح له السموات السبع واألرض ومن فٌهن‪ ,‬وإن من شا إال ٌسبح بحمده)هذا الخالً‬ ‫ال هو رب السموات واألرض‪ ,‬رب العالمٌن‪ ,‬رب كل شًء‪,‬واحد أحد ال شرٌك له فً ذاته وال فً‬ ‫صفاته‪ ,‬وال فً أفعاله‪ ,‬فهو وحدهالقدٌم األزلً وهو وحده الباقً األبدي‪ ,‬وهو وحده الخالق البارئ‬ ‫المصور‪,‬له األسماء الحسنى‪ ,‬والصفات العبل‪ ,‬ال ند له وال ضد له ‪ ,‬وال ولد له ‪ ,‬والوالد‪ ,‬وال شبٌه وال‬ ‫نظٌر (قل هو هللا أحد‪ ،‬هللا الصمد‪ ،‬لم ٌلد ولم ٌولد‪ ،‬ولم ٌكن له كفواً أحد)هو األول واآلخر والظاهر‬ ‫والباطن‪ ،‬وهو بكل شا علٌم) (لٌس كمثله شا‪ ،‬وهو السمٌع البصٌر)كل ما فً هذا الكون العظم ‪,‬‬ ‫علوٌه وسفلٌه ‪ ,‬صامته وناطقه ‪ ,‬مدل على أنعقبل واحدا ‪ ,‬هو الذي ٌدبر أمره ‪ ,‬وٌداً واحدة هً التً‬ ‫تدٌر رحاه ‪ ,‬وتوجه دفتهوإال الختل نظامه ‪ ,‬وافلت زمامه ‪ ,‬واضطرب مٌزانه ‪ ,‬وتهدم بنٌانه ‪ ,‬تبعا ً‬ ‫لماتقضً به الضرورة من اختبلؾ العقول المتباٌنة التً توجه ‪ ,‬واختبلؾ األيدٌالمتعددة التً تحرك ‪. .‬‬ ‫وصدق اله العظم إذ ٌقول ( لو كان فٌهما آلهةإال هللا لفسدتا ‪,‬فسبحان هللا رب العرش عما ٌصفون)‬ ‫وقالجل شؤنه ‪ ( :‬ما اتخذ هللا من ولد وما كان معه من إله ‪ ,‬إذ لذهب كئلله بما خلق ولعبل بعضهم على‬ ‫بعض ‪ ,‬سبحان هللا عما ٌصفون )وٌقول ‪ ( :‬قل لو كان معه آلهة كما ٌقولون إذا البتؽوا إلى ذي‬ ‫العرشسبٌبلً ‪ ،‬سبحانه وتعالى عما ٌقولون عبلً كبٌرا ) ‪.‬‬ ‫فالحقٌقة التً ال مراء فٌها‪ :‬أن كل من فى السموات ومن فً األرض عبٌدله‪ ,‬وكل ما فً السموات‬ ‫واألرض ملك له‪ ,‬فلٌس أحد وال شا من العقبلءأو من ؼٌر العقبلء شرٌكا له‪ ,‬أو ولدا له‪ ,‬كما ٌقول‬ ‫الوثنٌ​ٌن وأشباه الوثنٌ​ٌن‪( ،‬وقالوا اتخذ هللا ولداً‪ ،‬سبحانه‪ ،‬بل له ما فً السموات وما فً األرض‪ ،‬كل له‬ ‫قانتون‪ ،‬بدٌع السموات واألرض وإذا قضى أمراً فإنما ٌقول له كن فٌكون)ومن ضل عن هذه الحقٌقه فً‬ ‫الدنٌا فسٌكشؾ عنه الؽطاء فً اآلخرة ‪ ,‬وٌرىالحقٌقة عارٌة واضحة وضوح الشمس فً الضحى‪ ( :‬إن‬ ‫لكل من فٌالسموات واألرض إال آتى الرحمن عبدا أتى أحصاهم وعدهم عداً ‪،‬وكلهم آتٌة ٌوم القٌامة‬ ‫فرداً ) فبل عجب بعد ذلك أن ٌكون هذا الخالق العظٌم‪ ,‬وهذا الرب ال هو وحدهالذي ٌستحق العبادة‬ ‫والطاعة المطلقة‪ ,‬وبعبارة أخرى‪ٌ ( :‬ستحق ؼاٌة الخضوعوؼاٌة الحب‪ ,‬فالمعنى المركب من الخضوع‬ ‫كل الخضوع ‪ ,‬الممزوج بالحب كبللحب‪ ,‬هو الذي نسمٌه العبادة )‪.‬‬ ‫وهذا هو معنى( ال إله إال هللا ) أي ال ٌستحق العبادة ؼٌره ‪ ..‬أو ال ٌستحقكل الخضوع وكل الحب إال‬ ‫هو‪..‬فهو وحده الذي تخضع ألمره الرقاب‪ ,‬وتسجدلعظمته الجباه‪ ,‬وتسبح بحمده األلسنة ‪ ,‬وتقاد لحكمه‬ ‫القلوب والعقول واألبدان‪ .‬وهو وحده الذي تتجه إلٌه األفبدة بالحب كل الحب ‪ ,‬فهو المتفرد بالكمال‬ ‫كله‪,‬والكمال من شؤنه أن ٌحب وٌحب صاحبه‪ ,‬وهو مصدر الجمال كله‪ ,‬وما فٌالوجود من جمال فهو‬ ‫صاحب ‪,‬وهو واهب النقم كلها‪ ,‬ومصدر اإلحسان كله (‬ ‫ه‬ ‫مستمد منه‪ ,‬والجمال من شؤنه أن ٌحب وٌحب‬ ‫وما بكم من نعمة فمن هللا )واإلحسان دابما ٌحب والنعمة دابما ً تحب وٌحب صاحبها‪.‬معنى « ال إله إال‬ ‫اله » هو رفض الخضوع والعبودٌة لسلطان ؼٌر سلطانه‪,‬وحكم ؼٌر حكمه وأمر ؼٌر أمره‪ ,‬ورفض‬ ‫الوالء إال له‪ ,‬والحب إال له وفٌه ‪.‬‬ ‫و إذا أردنا أن نزٌد هذا المعنى إٌضاحا قلنا‪ :‬إن عناصر التوحٌد كما جاء بهاالقرآن الكرٌم‪ ,‬ثبلثة ذكرتها‬ ‫سورة األنعام‪ ,‬وهى سورة عنٌت بتثبٌت أصول التوحٌد ‪:‬أولها‪ :‬أال تبؽً ؼٌر هللا ربا ً‪( :‬قل أؼٌر هللا‬ ‫أبؽً ربا ً وهو رب كل شا)‪.‬‬ ‫وثانٌها‪ :‬أال تتخذ ؼٌر هللا ولٌا ً ‪( :‬قل أؼٌر هللا اتخذ ولٌا ً فاطر السموات واألرض وهو ٌطعم والٌطعم)‪.‬‬ ‫وثالثها‪ :‬أال تبتؽً ؼٌر هللا حكما ً‪( :‬أفؽٌر هللا ابتؽً حكما ً وهو الذي أنزل إلٌكم الكتاب مفصبلً)‬


‫معنى العنصر األول ( أال تبتؽى ؼٌر هللا ربا ً )‪ :‬إبطال األرباب المزعومةالتً اتخذها الناس قدٌما ً‬ ‫وحدٌثا ً‪ ,‬فً الشرق والؽرب‪ ,‬سواء أكانت من الحجروالشجر أم من الفضة والتبر‪ ,‬أم من الشمس‬ ‫والقمر‪ ,‬أم من الجن والبشر‪ ,‬معنى العنصر األول هو رفض لكل األرباب إال هللا وإعبلن الثورة‬ ‫علىالمتؤلهٌن فً األرض المستكبرٌن بؽٌر الحق ‪ ,‬الذٌن أرادوا أن ٌتخذوا عباد هللا عبٌداً لهم وخوالً‪ (.‬ال‬ ‫إله إال هللا ) هو اإلعبلن العام لتحرٌر اإلنسان من الخضوع والعبودٌة‪,‬إال لخالقه وباربه‪ .‬فبل ٌجوز أن‬ ‫تعنو الوجوه‪ ,‬أو تطاطا الرإوس ‪ ,‬أو تنخفضالجباه‪ ,‬أو تخشع القلوب‪ ,‬إال لقٌوم األرض والسمواتولهذا‬ ‫كان النبً (صلى هللا علٌه وسلم) ٌختم رسابله إلى الملوك واألمراء‪ ,‬والقٌاصرة من النصارىبهذه اآلٌة‬ ‫الكرٌمة‪ٌ ( :‬ا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بٌنناوبٌنكم أال نعبد إال اله وال نشرك به ثسٌبا ً وال ٌتخذ‬ ‫بعضنا بعضا أربابا من دون هللا‪ ,‬فإن تولوا فقولوا اشهدوا بؤنا مسلمون) ‪.‬‬ ‫وكانت كلمة ( ربنا هللا) إعبلنا ً بالعصٌان والتم رد على كل جبار فً األرض‪ .‬ومن أجل هذا تعرض‬ ‫موسى للتهدٌد بالقتل‪ ،‬وقام رجل مإمن من آل فرعون ٌدافع عنه وٌقول‪ (:‬أتقتلون رجبلً ٌقول ربً‬ ‫هللا)ومن أجل ذلك تعرض رسولنا ( صلى هللا علٌه وسلم) وـؤصحابه لبلضطهاد واألذى واإلخراج من‬ ‫الدٌار واألموال (الذٌن أخرجوا من دٌاره م بؽٌر حق إال أن ٌقولوا ربنا هللا)‪.‬‬ ‫ومعنى العنصر الثانً (أال تتخذ ؼٌر هللا ولٌا ً)‪ :‬رفض الوالء لؽٌر هللا وحزبه‪ ،‬فلٌس من التوحٌد أن‬ ‫ٌزعم زاعم أن ربه هو هللا‪ ،‬وربما ألعداء هللا‪ .‬قال تعالى‪ (:‬ال ٌتخذ المإمنون الكافرٌن أولٌاء من دون‬ ‫المإمنٌن‪ ،‬ومن ٌفعل ذلك فلٌس م ن هللا فً شا) إن حقٌقة التوحٌد لمن آمن بؤن ربه هو هللا ‪ :‬أن ٌخلص‬ ‫والءه له ولمن أمر اللهتعالى بمواالته ‪ ,‬كما قال سبحانه ‪ « :‬إنما ولٌكم هللا ورسوله والذٌن آمنواوالذٌن‬ ‫ٌقٌمون الصبلة وٌإتون الزكاة وهم راكعون ومن ٌتول اللهورسوله والذٌن آمنوا فإن حزب هللا هم‬ ‫الػالبون) ‪.‬‬ ‫ومن هنا أنكر القرآن على المشركٌن أنهم قسموا قلوبهم بٌنه تعالى وبٌناألنداد التً اتخذوها من األصنام‬ ‫واألوثان‪ ,‬فجعلوا لها من الحب والوالء مثلما جعلوا هلل ‪ ( .‬ومن الناس من ٌتخذ من دون هللا أنداداً‬ ‫ٌحبونهم كحب هللا والذٌن أمنوا أشد حبا ً هلل)‪ .‬إن هللا تعلى ال ٌقبل الشركة فً قلوب عباده المإمنٌن ‪ ,‬فبل‬ ‫ٌجوز أن ٌكون بعض القلب هلل وبعضه للطاؼوتوأن ٌكون بعض والبه للخالق ‪ ,‬وبعضه للمخلوق‪ .‬إن‬ ‫الوالء كله والقلب كلهٌجب أن ٌكون له ‪ ,‬صاحب الخلق كله‪ ,‬واألمر كله ‪ ,‬وهذا هو الفرق بٌن‬ ‫المإمنوالمشرك ‪ ,‬المإمن سلم هلل ‪ ,‬خالص العبودٌة له ‪ ,‬والمشرك موزع بٌن هللا وبٌنؽٌر هللا (ضرب‬ ‫هللا مثبلً رجبلً فٌه شركاء متشاكسون ورجبل سلماًلرجل هل ٌستوٌان مثبل ‪,‬الحمد هلل ‪ ,‬بل أكثرهم ال‬ ‫ٌعلمون) ‪.‬‬ ‫ومعنى العنصر الثالث‪ ( :‬أال تبؽى ؼٌر هللا حكما ً ‪ :‬رفض الخضوع لكل حكمؽٌر حكم هللا ‪ ,‬وكل أمر‬ ‫ؼٌر أمر هللا ‪ ,‬وكل نظام ؼٌر نظام هللا ‪ ,‬وكل قانونؽٌر شرع هللا ‪ ,‬وكل وضع أو عرؾ أو تقلٌد أو‬ ‫منهج أو فكرة أو قٌمة لم ٌؤذنبها هللا ‪ .‬ومن قبل شٌبا ً من ذلك حاكما ً كان أو محكوما ً ‪ ,‬ببل إذن من‬ ‫اللهوسلطان ‪ ،‬فقد أبطل عنصراً أساسٌا من عناصر التوحٌد‪ ,‬ألنه ابتؽى ؼٌر اللهحكما ً ‪ ,‬والحكم‬ ‫والتشرٌع من حق هللا وحده‪ ,‬لهذا قال سبحانه‪ ( :‬إن الحكمإال هلل أمر أال تعبدوا إال إٌاه‪ ,‬ذلك الدٌن القٌم‬ ‫ولكن أكثر الناس ال ٌعلمون)‪ .‬وهذا العنصر إنما هو فً الواقع مقتضى إفراد هللا تعالى بالربوبٌة واإللهٌة‬ ‫‪,‬فإن من اتخذ أحدا من عباد هللا شارعا ً وحاكما ً ‪ٌ ,‬ؤمر بما شاء‪ ,‬وٌنهى مماشاء‪ ,‬وٌحلل ما ٌرٌد وٌحرم‬ ‫ما ٌرٌد ‪ ,‬و أعطاه حق الطاعة فً ذلك ولو أحبللحرام ‪ ,‬كالزنا ‪ ,‬والربا ‪ ,‬والخمر ‪ ,‬والمٌسر ‪ ,‬وحرم‬ ‫الحبلل ‪ :‬كالطبلق ‪ ,‬وتعددالزوجات ‪ ,‬وأسقط الواجبات ‪ :‬كالخبلفة ‪ ,‬والجهاد ‪ ,‬والزكاة ‪ ,‬واألمر‬ ‫بالمعروفوالنهى من المنكر ‪ ,‬وإقامة حدود هللا و ؼٌرها ‪ ,‬من اتخذ مثل هذا حكما ً وشارعاًفقد جعله فً‬ ‫الحقٌقة ربا ٌطاع فً كل أمر ‪ ,‬وٌنقاد له فً كل ما شرع‪ .‬وهذاما جاء به القرآن وفسرته السنة النبوٌة‬


‫‪ ..‬فقد جاء فً سورة التوبة عن أهبللكتاب قوله تعالى‪ ( :‬اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون هللا‬ ‫هوالمسٌح ابن مرٌم وما أمروا إال لٌعبدوا إلها واحداً ‪ ,‬ال إله إال هوسبحانه عما ٌشركون ) ‪.‬‬ ‫فكٌف اتخذوهم أربابا ً وهم لم ٌسجدوا لهم ولم ٌعبدوهم عبادة األوثان ؟‬ ‫ٌجٌب عن ذلك رسول هللا وكان فٌما رواه اإلمام أحمد والترمذي وابن جرٌر منقصة إسبلم عدى بن‬ ‫حاتم الطابً‪ ،‬وكان قد تنصر فً الجاهلٌة وقدم إلى المدٌنة‪ ,‬وتحدث الناس بقدومه‪ ,‬فدخل على رسول‬ ‫هللا (صلى هللا علٌه وسلم) وفى عنقه صلٌب من فضة‪ ،‬وهو ٌقرأ هذه اآلٌة( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم‬ ‫أربابا من دون هللا) قال عدى‪ :‬فقلت‪ :‬إنهم لم ٌعبدوهم فقال (صلى هللا علٌه وسلم)‪( :‬بلى إنهم حرّ موا‬ ‫علٌهم الحبلل وأحلوا لهم الحرام‪ ،‬فاتبعوهم‪ ،‬فذلك عبادتهم إٌاهم)‪.‬‬ ‫قال ابن كثٌر‪ :‬وهكذا قال حذٌفة بن الٌمان‪ ،‬وابن عباس وؼٌرهما فً تفسٌر‪( :‬اتخذوا أحبارهم أربابا ً من‬ ‫دون هللا )‪ :‬أنهم اتبعوهم فٌما حللوا وحرموا‪ ،‬وقال السدى‪ :‬استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب هللا وراء‬ ‫ظهورهمـ ولهذا قال تعالى( ومت أمروا إال لٌعبدوا إلها واحداً)‪ ،‬أي الذي إذا حرم الشًء فهو الحرام‪،‬‬ ‫وما حلله فهو الحبلل‪ ،‬وما شرعه اتبع‪ ،‬وما حكم به نفذ‪ ،‬ال إله إال هو‪ ،‬سبحانه عما ٌشركون‪.‬‬ ‫هذا هو مجمل معنى الكلمة األولى من كلمتً الشهادة‪ .‬كلمة(ال إله إال هللا) ومقتضاه‪ :‬أال تبؽى ؼٌر هللا‬ ‫ربا‪ ،‬وال تتخذ ؼٌر هللا ولٌا ً‪ .‬وال تبتؽً ؼٌر هللا حكماً‪ ،‬كما نطق القرآن العظٌم فً صرٌح آٌاته‬ ‫المحكمات‪.‬‬ ‫وأما معنى الكلمة الثانٌة من كلمتً الشهادة التً ٌدخل بها المرء باب اإلسبلم فهً‪( :‬محمد رسول هللا)‬ ‫إن اإلقرار هلل تعالى بالوحدانٌة‪ ،‬وإفراده سبحانه باإللهٌة‪ ،‬والربوبٌة‪ ،‬ال ٌؽنً ما لم ٌنضم إلٌها هذا‬ ‫الشطر الثانً‪( :‬محمد رسول هللا)‪ .‬فإن هللا جل شؤنه قد اقتضت حكمته أال ٌدع الناس همبلً‪ ،‬وال ٌتركهم‬ ‫سدىً ‪ ،‬فؤرسل إلٌهم ما بٌن حٌن وآخر مبلؽٌن عنه‪ٌ ،‬هدون خلقه إلٌه‪ ،‬وٌدلونهم علٌه وٌرشدونهم إلى‬ ‫مراضٌه‪ ،‬وٌحذرونهم من مساخطه‪(..‬رسبلً مبشرٌن ومنذرٌن لببل ٌكون للناس على هللا حجة بعد‬ ‫الرسل) كما أن مهمة هإالء الرسل وضع القواعد والقٌم والموازٌن التً تضبط الحٌاة وتنظم المجتمع‪،‬‬ ‫نازعواـ فٌجدون فٌها الحق‬ ‫وتهدٌه للتً هً أقوم‪ ،‬وٌحتكم الناس إلٌها إذا اختلفوا‪ ،‬وٌفٌبون إلٌها إذا ت‬ ‫الذي ال باطل معه‪ ،‬والعدل الذي ال ظلم فٌه‪ ،‬والخٌر الذي ٌطرد الشر‪ ،‬والفضٌلة التً تقاوم الرذٌلة‪،‬‬ ‫والفساد واالنحراؾ‪..‬قال تعالى ) لقد أرسلنا رسلنا بالبٌنات وأنزلنا معهم الكتاب والمٌزان لٌقوم الناس‬ ‫بالقسط)‪ ،‬فهذا ما أنزل هللا على رسول الكتاب) وهو نصوص الوحً اإللهً المعصوم‪ ،‬و(المٌزان) وهو‬ ‫القٌم والمعاٌ​ٌر الربانٌة النً جاءت بها النبوات من المثل العلٌا والفضابل اإلنسانٌة التً تسٌر فً ضوء‬ ‫(الكتاب) ‪ ،‬ولوال هإالء الرسل لضل الناس السبٌل فً تصورهم لحقٌقٌة األلوهٌة‪ ،‬وطرٌقهم إلى‬ ‫مرضاتها وواجبهم نحوها‪ ..‬وابتدعوا طرابق قددا‪ ،‬وسببل شتى‪ ،‬وما أنزل هللا بها من سلطان‪ .‬سببلً‬ ‫تفرق وال تجمع‪ ،‬وتهدم وال تبنً‪ ،‬وتضل وال تهدي‪ .‬وخاتم هإالء الرسل هو محمد (صلى هللا علٌه‬ ‫وسلم) ‪ ،‬فهو المبلػ عن أمره وشرعه‪ ،‬وبه عرفنا ما ٌرٌد هللا منا‪ ،‬وما ٌرضاه لنا‪ ،‬وما ٌؤمرنا به‪ ،‬وما‬ ‫ٌنهانا عنه‪..‬وبه عرفنا ربنا‪..‬وعرفنا منشؤنا ومصٌرنا‪..‬وعرفنا طرٌقنا بٌن المنشؤ والمصٌر‪..‬عرفنا ما‬ ‫أحله ربنا وما حرمه‪..‬وما فرضه وأوجبه‪..‬ولواله (صلى هللا علٌه وسلم) لعشنا فً ظلمات وعماٌة‪ ،‬ال‬ ‫نعرؾ لنا ؼاٌة‪ ،‬وال نهتدي سبٌبل‪( :‬وقد جاءكم من هللا نور وكتاب مبٌن‪ٌ ،‬هدي به هللا من اتبع رضوانه‬ ‫سبل السبلم وٌخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه وٌهدٌهم إلى صراط مستقٌم)‪.‬‬ ‫به عرفنا أن وراء هذه الحٌاة حٌاة أخرى توفى فٌها كل نفس ما كسبت‪ ،‬وتجزى بما عملت‪ ،‬فٌجزى‬ ‫الذٌن أساءوا بما عملوا‪ ،‬والذٌن أحسنوا بالحسنى‪ .‬به عرفنا أن وراءنا حسابا ومٌزانا ً‪ ،‬وثوابا ً وعقابا‪،‬‬ ‫وجنة ونار‪( :‬فمن ٌعمل مثقال ذرة خٌراً ٌره‪ ،‬ومن ٌعمل مثقال ذرة شراً ٌره)‪ .‬به عرفنا مبادئ الحق‪،‬‬ ‫وقواعد العدل‪ ،‬ومعانً الخٌر‪ ،‬فً شرٌعته ال تضل وال تنسى‪ ،‬شرعها من ٌعلم السر وأخفى‪ ،‬من ال‬


‫تخفى علٌه خافٌة‪ ،‬من ٌعلم المفسد من المصلح‪(..‬أال ٌعلم من خلق وهو اللطٌؾ الخبٌر)‪ .‬ومن ثم كانت‬ ‫كلمة‪( :‬محمد رسول هللا ) تتمة لكلمة‪( :‬ال إله إال هللا)‪ ،‬فهذه معناها أال ٌعبد إال هللا‪ .‬واألخرى معناها‪ :‬أال‬ ‫ٌعبد هللا إال بما شرعه وأوحاه على لسان رسوله‪ .‬وال عجب ـن كانت طاعة رسول هللا جزءاً من طاعة‬ ‫هللا (من ٌطع الرسول فقد أطاع هللا)‪ ،‬وكان أتباعه من أمارات محبة هللا‪( :‬قل إن كنتم تحبون هللا‬ ‫فاتبعونً ٌحببكم هللا وٌؽفر لكم ذنوبكم‪ ،‬وهللا ؼفور رحٌم) وكان الرضا بحكمه وشرعه جزءا ال ٌتجزأ‬ ‫من اإلٌمان باهلل تعالى‪ ,‬وال ٌعد فً زمرة المإمنٌن من رفض أمرا وحكما حكم به رسول هللا (صلى هللا‬ ‫علٌه وسلم) ‪ ,‬مما أنزله علٌه من كتابه أو مما أوحاه إلٌه بٌانا لهذا الكتاب ‪ ,‬فقد أرسله مبٌنا للناس ما‬ ‫نزل إلٌهم ‪ .‬وهذا أمر بٌن ؼاٌة البٌان فً القرآن الكرٌم ‪ ,‬فلٌس بمإمن أبدا من احتكم إلى ؼٌر رسول‬ ‫اله ‪ ,‬أو رد حكمه ‪ ,‬أو تردد فٌه مجرد تردد ‪.‬‬ ‫ٌقول القرآن العزٌز‪ (:‬وما كان لمإمن وال مإمنة إذا قضى هللا ورسوله أمرا أن ٌكون لهم الخٌرة من‬ ‫أمرهم‪ ،‬ومن ٌعص هللا ورسوله فقد ضل ضبلال مبٌنا ً)‪ .‬وٌقول سبحانه مندداً بقوم من مرضى القلوب‬ ‫من المنافقٌن ‪ ( :‬وٌقولون آمنتا باهلل وبالرسول وأطعنا ثم ٌتولى فرٌق منهم من بعد ذلك‪ ،‬وما أولبك‬ ‫با لمإمنٌن‪ ،‬وإذا دعوا إلى هللا ورسوله لٌحكم بٌنهم إذا فرٌق منهم معرضون‪ ،‬وإن ٌكن لهم الحق ٌؤتون‬ ‫إلٌه مذعنٌن‪ ،‬أفً قلوبهم مرض أم ارتابوا أم ٌخافون أن ٌحٌؾ هللا علٌهم ورسوله‪ ،‬بل أولبك هم‬ ‫الظالمون‪ ،‬إنما كان قول المإمنٌن إذا دعوا إلى هللا ورسوله لٌحكم بٌنهم أن ٌقولوا سمعنا وأطعنا‪،‬‬ ‫وأولبك هم المفلحون) وٌقول مم شؤن من تردد فً قبول حكم رسول هللا(صلى هللا علٌه وسلم) ‪ ,‬ورضى‬ ‫االحتكام إلى آخرٌن من البشر‪ ,‬قٌل إنهم بعض الٌهود ( ألم تر إلى الذٌن ٌزعمون أنهم آمنوا بما أنزل‬ ‫وق أمروا أن ٌكفروا به وٌرٌد الشطٌان أن‬ ‫إلٌك وما أنزل من قبلك ٌرٌدون أن ٌتحاكموا إلى الطاؼوت د‬ ‫ٌضلهم ضبلالً بعٌداً‪ ،‬وإذا قٌل لهم تعالوا إلى ما أنزل هللا وإلى الرسول رأٌت المنافقٌن ٌصدون عنك‬ ‫صدوداً)‪..‬إلى أن قال مقسما ً ومإكداً‪ ( :‬فبل وربك ال ٌإمنون حتى ٌحكموك فٌما شجر بٌنهم ثم ال ٌجدون‬ ‫فً أنفسهم حرجا ً مما قضٌت وٌسلموا تسلٌما ً) هذا هو شؤن المإمنٌن مع رسول هللا (صلى هللا علٌه‬ ‫وسلم) ‪ ,‬وحكم رسول هللا ‪ ,‬وشرع رسول هللا ‪ :‬إنهم ال ٌتردون لحظة فً قبول الحكم أو رفضه ‪,‬‬ ‫وبعبارة أخرى ‪ -‬لٌس لهم الخٌرة من أمرهم ‪ ,‬وال ٌتولون عن االنقٌاد والطاعة ‪ ,‬كما ٌفعل المنافقون بل‬ ‫شعارهم ومبدإهم دابما ‪ « :‬سمعنا وأطعنا » ‪.‬‬ ‫وهذا بخبلؾ المنافقٌن الذٌن ٌرضون االحتكام إلى ؼٌر هللا ورسوله ‪ -‬وكل ما سوى هللا ورسوله ‪ .‬فهو‬ ‫طاؼوت ‪ -‬ولهذا قال تعالى ‪ٌ( :‬رٌدون أن ٌتحاكموا إلى الطاؼوت ) ‪ . .‬فهما حكمان ال ثالث لهما ‪ :‬إما‬ ‫هللا وإما الطاؼوت ‪.‬‬ ‫لقد رسمت اآلٌات صورة المنافقٌن وموقفهم من شرع هللا وحكم رسوله ‪( :‬وإذا قٌل لهم تعالوا إلى ما‬ ‫أنزل هللا وإلى الرسول رأٌت المنافقٌن ٌصدون عنك صدودا) ونفت ‪ -‬بشدة ‪ -‬اإلٌمان عمن لم ٌحكم‬ ‫رسول هللا فً حٌاته ‪ ,‬وٌحكم بسنته بعد مماته ‪ .‬ولم ٌكتؾ بذلك فاشترط الرضا والسلم بهذا الحكم ‪ ,‬فهذه‬ ‫هً طبٌعة اإلٌمان وثمرته ‪(:‬ثم ال ٌجدوا فً أنفسهم حرجا ً مما قضٌت وٌسلموا تسلٌما) فمن أعرض‬ ‫عن هذه النذر كلها ‪ ,‬وأصم أذنه عن هذه اآلٌات‪,‬وتلقى شرابعه وقوانٌنه ونظمه وتقالٌده ‪ ,‬وقٌمه‬ ‫وموازٌنه ومفاهٌمه وتصوراته عن ؼٌر طرٌق رسول هللا (صلى هللا علٌه وسلم)‪ ،‬ورضً بأن ٌحكم فً‬ ‫هذه األمور الخطٌرة فبلسفة من الشرق أو الؽرب‪ ،‬أو علماء أو حكماء‪ ،‬أو مشرعٌن ‪-‬سمهم كما تشاء‪-‬‬ ‫فقد ضاد هللا فٌما شرع‪ ،‬وناصب هللا ورسوله العداء‪ ،‬ومرق من الدٌن كما ٌمرق السهم من الرمٌة‪ ،‬وال‬ ‫ؼرو أن حكم كتاب هللا بالكفر والظلم والفسوق على من لم ٌحكم بما أنزل هللا‪ ،‬فقال فً سٌاق واحد من‬ ‫سورة المابدة‪( :‬ومن لم ٌحكم بما أنزل هللا فؤولبك هم الكافرون)‪( ،‬ومن لم ٌحكم بما أنزل هللا فؤولبك هم‬ ‫الظالمون)‪( ،‬ومن لم ٌحكم بما أنزل هللا فؤولبك هم الفاسقون)‪ .‬واستعمال هذه األلفاظ فً القرآن الكرٌم‬ ‫ٌدل على أن معانٌها متقاربة‪ .‬قال تعالى‪ ( :‬والكافرون هم الظالمون)‪ ( ،‬ومن كفر بعد ذلك فؤولبك هم‬


‫الفاسقون) ‪ ( ،‬وما ٌجحد بآٌاتنا إال الكافرون) فالذي ال ٌحكم بما أنزل هللا كافر أو ظالم أو فاسق‪ ،‬أو‬ ‫جامع لهذه الصفات كلها‪ .‬وخصوصا إذا اعتقد أن ما أنزل هللا‪ٌ ،‬مثل الجمود والتخلؾ والرجعٌة‪ ،‬وما‬ ‫شر ع الناس هو التطور والتقدم الذي ٌصلح به المجتمع وترتقى به الحٌاة! ومن التحرٌؾ الظالم آلٌات‬ ‫الخالق ‪ ,‬والسخرٌة الصارخة بعقول الخلق ‪ ,‬أن ٌقول قابل ‪ :‬إن هذه اآلٌات نزلت فً شؤن أهل الكتاب‬ ‫من الٌهود والنصارى ‪ ,‬ونسى هذا القابل الجريء ‪ -‬أو تناسى ‪ -‬أن هذه اآلٌات الحكمة ‪ -‬وان نزلت فً‬ ‫سٌاق خاص ‪ -‬قد جاءت بؤلفاظ عامة ‪ ,‬تتناول بحكمها جمٌع األفراد الذٌن ٌشملهم مدلولها وهم كل ( من‬ ‫لم ٌحكم بما أنزل اله ) ‪ ,‬فالمدار على عموم اللفظ ‪ ,‬ال على خصوص السبب كما قرر أبمة اإلسبلم ‪.‬‬ ‫ومحال أن ٌدمػ هللا بالظلم والكفر والفسوق أهل الكتاب األول ‪ ,‬ألنهم طرحوا ما أنزل اله وراءهم‬ ‫ظهرٌا ‪ ,‬ولم ٌحكموا به ‪ ,‬ثم ٌبٌح ›للمسلمٌن وحدهم ‪ -‬وهم أهل الكتاب اآلخر الخاتم ‪ -‬أن ٌتخذوا كتاب‬ ‫اله مهجورا ‪ ,‬وٌتخذوا ؼٌره منهاجا ودستورا !! ما فابدة ذكر هذه اآلٌات فً سٌاق الحدٌث عن أهل‬ ‫الكتاب ‪ ,‬إن لم ٌكن المقصود منها تحذٌر السلمٌن أن ٌصنعوا مثل صنٌعهم ‪ ,‬وٌحكموا بؽٌر شرٌعة‬ ‫ربهم ‪ ,‬فٌدمؽوا بمثل ما دمؽوا به ‪ ,‬وهل علٌهم عذاب هللا وؼضبه ‪ ( :‬ومن ٌحلل عٌه ؼضبى فقد هوى‬ ‫) ‪ .‬لماذا أنزل هللا للناس كتاب وبعث لهم رسول ‪ ,‬إذا كان من حق الناس أن ٌهملوا الكتاب وٌعصوا‬ ‫الرسول ؟) وقد قال تبارك وتعالى ‪ :‬إنا أنزلنا إلٌك الكتاب بالحق لتحكم بٌن الناس بما أراك هللا)‪( ،‬وما‬ ‫أرسلنا ن\من رسول إال لٌطاع بإذن هللا) ‪،‬ومن ثم خاطب هللا رسوله بعد أن ذكر اآلٌات السابقة‪( :‬وأنزلنا‬ ‫إلٌك المباب بالحق مصدقا ً لما بٌن ٌدٌه من الكتاب ومهٌمنا ً علٌه‪ ،‬فاحكم بٌنهم بما أنزل هللا‪ ،‬وال تبع‬ ‫أهواءهم عما جاءك من الحق)‪ ،‬ثم ٌقول فً اآلٌة التالٌة‪( :‬وأن احكم بٌنهم هللا إلٌك‪ ،‬فإن تولوا فاعلم إنما‬ ‫ٌرٌد هللا أن ٌصٌبهم ببعض ذنوبهم‪ ،‬وإن كثٌراً من الناس لفاسقون‪ ،‬أفحكم الجاهلٌة ٌبؽون الجاهلٌة‬ ‫ٌبؽون‪ ،‬ومن أحسن منه هللا حكما ً لقوم ٌوقنون)‪.‬‬ ‫هما حكمان ال ثالث لهما‪ :‬إما اإلسبلم‪ ،‬وإما الجاهلٌة‪ .‬وهما حكمان ال ثالث لهما‪ :‬إما هللا‪ ،‬وإما‬ ‫ؾ‬ ‫الطاؼوت‪ .‬فلٌختر امرإ لنفسه‪..‬ولٌختر قوم ألنفسهم‪ :‬إما هللا واإلسبلم‪ ،‬وإما الطاؼوت والجاهلٌة‪ ..‬وال‬ ‫وسط دون ذلك‪.‬‬ ‫أما الذٌن آمنوا فلٌس لهم الخٌرة من أمرهم‪ :‬إنهم مع حكم هللا ورسوله‪ ،‬إنهم مع اإلسبلم‪..‬إنهم حرب على‬ ‫الطاؼوت والجاهلٌة‪ .‬إن شعارهم إذا دعوا إلى هللا ورسوله لٌحكم بٌنهم ‪ (:‬سمعنا وأطعنا)‪ .‬وأما الذٌن‬ ‫كفروا فهم دابما ً فً سبٌل الطاؼوت‪ ،‬وهم دابما ً متردون فً حفر الجاهلٌة (والذٌن كفروا أولٌاإهم‬ ‫الطاؼوت ٌخرجونهم من النور إلى الظلمات‪ ،‬أولبك أصحاب النار‪ ،‬هم فٌها خالدون)‪.‬‬ ‫وهنا مالحظتان مهمتان ‪:‬‬ ‫األولى ‪ :‬أن الحكم بما أنزل اله فرٌضة محكمة ال ٌخالؾ فٌها مسلم ‪ ,‬وهى مساوٌة لما شاع فً ممرنا‬ ‫من تعبٌر ( الحاكمٌة هلل ) عز وجل ‪ .‬وهى تعنى ‪ :‬الحاكمٌة التشرٌعٌة اآلمرة الناهٌة ‪ ,‬المحللة‬ ‫والم حرمة ‪ ,‬المتفردة باإللزام والتكلٌؾ للخلق كافة ‪.‬‬ ‫وقد توهم بعض الناس أن هذه الفكرة من مبتكرات المودودى فً باكستان ‪ ,‬أو سٌد قطب فً مصر ‪.‬‬ ‫والواقع ‪ :‬أن هذه الفكرة مؤخوذة من علم ( أصول الفقه ) اإلسبلمً ‪ ,‬واألصولٌون ٌذكرون ذلك فً‬ ‫مبعث ( الحكم ) من مقدمات علم األصول ‪ ,‬وفى موضوع ( الحاكم ) من هو ؟ فكلهم متفقون على أن‬ ‫الحاكم هو هللا ‪ .‬أي صاحب الحق المطبق فً التشرٌع لخلقه ‪ .‬حتى المعتزلة ال ٌخالفون فً ذلك ‪ ,‬كما‬ ‫بٌنه شارح ( مسلم الثبوت ) من كتب األصول المشهورة‪.‬‬ ‫والدالبل على ثبوت هذا المبدأ من القرآن والسنة بٌنة واضحة ‪ .‬سقنا بعضها فً بٌان فرضٌة الحكم بما‬ ‫أنزل هللا ‪.‬‬ ‫الثانٌة ‪ :‬أن الحاكمٌة أو الحكم بما أنزل اله تعالى ‪ ,‬ال ٌلؽى دور اإلنسان ‪ ,‬فاإلنسان هو الذي ٌفهم‬ ‫النصوص الوجهة إلٌه ‪ ,‬وٌستنبط منها ‪ ,‬وٌمبل الفراغ فٌما ال نص فٌه ‪ ,‬مما سمٌاه ( منطقة العفو) وهى‬


‫منطقة واسعة ‪ ,‬تركها الشارع قصداً ‪ ,‬رحمة بنا فٌر نسٌان ‪ ,‬فهنا ٌجول العقل المسلم وٌصول ‪ ,‬وٌجتهد‬ ‫فً ضوء النصوص واألصول ‪.‬‬

‫معنى قيام المجتمع على عقيدة اإلسالم‬ ‫هذه هً العقٌدة التً ٌقوم علٌها المجتمع المسلم‪:‬عقٌدة ( ال إله إال هللا‪ ,‬محمد رسول اله) ومعنى قٌام‬ ‫المجتمع المسلم على العقٌدة اإلسبلمٌة ‪ :‬أنه ٌقوم على احترام هذه المٌاه وتقدٌسها ‪ ,‬وٌعمل على تثبٌتها‬ ‫فً العقول والقلوب ‪ٌ ,‬ربً ناشبة المسلمٌن علٌها ‪ ,‬وٌرد عنها أباطٌل المفترٌن ‪ ,‬وشبهات المضللٌن‪ ,‬و‬ ‫ٌجلً فضابلها وآثارها فً حٌاة الفرد والمجتمع ‪ ,‬عن طرٌق األجهزة التوجٌهٌة التً تإثر فً سٌر‬ ‫المجتمع ‪ ,‬من المساجد والمدارس والصحافة واإلذاعة والتلٌفزٌون والمسرح والسٌنما واألدب بكل فنونه‬ ‫‪ ,‬من شعر ونثر وقصص‬ ‫وتمثٌل ‪ .‬لٌس معنى قٌام المجتمع المسلم على العقٌدة اإلسبلمٌة إكراه ؼٌر المسلمٌن على التخلً عن‬ ‫عقابدهم ‪ ,‬كبل ‪ ,‬فذلك لم ٌخطر ببال السلم من قبل ‪ ,‬ولن ٌخطر من بعد ‪ ,‬ألن القرآن حسم هذه القضٌة‬ ‫من قدٌم ‪ ,‬حٌن أعلن بصرٌح العبارة أنه ( ال إكراه فً الدٌن‪ ،‬قد تبٌن الرشد من ألؽً)‪.‬‬ ‫وقد أثبت التارٌخ أن المجتمع اإلسبلمً ‪ ,‬فً عصور ازدهاره ‪ ,‬كان أكثر المجتمعات سماحة مع‬ ‫المخالفٌن له فً العقٌدة ‪ ,‬بشهادة األجانب أنفسهم ‪.‬‬ ‫معنى قٌام المجتمع على العقٌدة اإلسبلمٌة ‪ ,‬أنه لٌس مجتمعا ساببا ‪ ,‬بل هو مجتمع ملتزم ‪ ..‬قد التزم‬ ‫عقٌدة اإلسبلم ‪ ,‬فلٌس مجتمعا مادٌا ‪ ,‬وال مجتمعا علمانٌا ( ال دٌنٌا ) ‪ ,‬وال مجتمعا وثنٌا ‪ ,‬وال مجتمعا‬ ‫ٌهودٌا أو نصرانٌا ‪ ,‬وال مجتمعا ً لٌبرالٌا رأسمالٌا ً‪ ,‬وال مجتمعا ً اشتراكٌا ماركسٌا ً ‪.‬‬ ‫إنما هو مجتمعا ٌدٌن بعقٌدة التوحٌد‪ ,‬عقٌدة اإلسبلم ‪ ,‬وعقٌدة اإلسبلم تعلو وال تعلى ‪ ....‬عقٌدة اإلسبلم‬ ‫ال تقبل أن تكون على هامش الحٌاة فً المجتمع وأن تزاحمها عقٌدة أخرى تبدل نظرة الناس إلى هللا‬ ‫واإلنسان ‪ ,‬والكون والحٌاة ‪.‬‬ ‫فلٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌختفً فً توجٌه اسم (هللا ) لٌحل اسم ( الطبٌعة) فاألنه ار من هبة‬ ‫الطبٌعة ‪ ,‬والؽابات منحة من الطبٌعة‪ ،‬والطبٌعة هً التً أنشؤت هذا الشًء وطورت ذاك الشًء ‪,‬‬ ‫ولٌس هو هللا خالق كل شًء ورب كل شًء ومدبر كل أمر ‪.‬‬ ‫إن تصور المجتمع الؽربً لئللهٌة وعبلقتها بالكون‪ :‬أن هللا خلق الكون وتركه‪ ،‬فلٌس له إشراؾ علٌه‪،‬‬ ‫وال إحاطة به‪ ،‬وال تدبٌر له‪ ،‬وٌشبه أن ٌكون هذا مستمداً من تصور الفلسفة الٌونانٌة لئلله‪ ،‬وخاصة‬ ‫فلسفة (أرسطو) الذي ال ٌعلم اإلله ‪-‬عنده‪ -‬شٌبا ً إال عن ذاته‪ :‬أما الكون فبل ٌدبر فٌه أمراً‪ ،‬وال ٌعرؾ‬ ‫عنه خٌراً وال شراً‪ ،‬وأؼرب منه فلٌفة (أفلوطٌن) الذي ال ٌعلم اإلله عنده شٌبا ً حتى عن نفسه‪ .‬أما‬ ‫تصور المجتمع المسلم لئلله‪ ،‬فتعبر عنه هذه اآلٌات وأمثالها‪ (:‬سبح هلل ما فً السموات واألرض‪ ،‬وهو‬ ‫العزٌز الحكٌم‪ ،‬له ملك السموات واألرض‪ٌ ،‬حً وٌمٌت‪ ،‬وهو على كل شًء قدٌر‪ ،‬هو األول وآلخر‬ ‫والظاهر والباطن‪ ،‬وهو بكل شًء علٌم‪ ،‬هو الذي خلق السموات واألرض فً ستة أٌام ثم استوى على‬ ‫العرش‪ٌ ،‬علم ما ٌلج فً األرض وما ٌخرج منها وما ٌنزل من السماء وما ٌعرج فٌها‪ ،‬وهو معكم أٌن ما‬


‫كنتم‪ ،‬وهللا بما تعملون بصٌر‪ ،‬له ملك السموات واألرض‪ ،‬وإلى هللا ترجع األمور‪ٌ ،‬ولج اللٌل فً النهار‬ ‫وٌولج النهار فً اللٌل‪ ،‬وهو علٌم بذات الصدور‪ .‬و لٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌنكمش فٌه ( مفهوم‬ ‫اإلٌمان) باهلل ‪ ,‬والدار اآلخرة ‪ ,‬لٌحل محله اإلٌمان بالوجودٌة أو القومٌة أو الوطنٌة ‪ ,‬أو ؼٌر ذلك من‬ ‫األوثان التً عبدها أناس هنا وهناك ‪ ,‬من دون هللا أو مع هللا ‪ ,‬وان لم ٌسموها آلهة ‪.‬‬ ‫ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌتوارى فٌه اسم ( محمد ) صلى هللا علٌه وسلم باعتباره الموجه المعصوم‬ ‫‪ ،‬واألسوة المطاع ‪ ،‬لتبرز أسماء ( ماركس )و ( لٌنٌن) و ( ماو) وؼٌرهم من مفكري الشرق والؽرب ‪.‬‬ ‫ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌهجر فٌه كتاب هللا « القرآن » بوصفه مصدر الهداٌة ‪ ,‬والتشرٌع ‪،‬‬ ‫والحكم ‪ ،‬لتظهر كتب أخرى‪ ,‬تضفً علٌها القداسة ‪ ,‬وتإخذ منها مناهج الفكر والتشرٌع والسلوك ‪ ،‬أو‬ ‫ٌستمد منها القٌم والموازٌن والمثل‪.‬‬ ‫ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌسب فٌه هللا ‪ -‬جل شؤنه‪ -‬وكتبه ورسله ‪ ,‬والناس سكوت على هذا الكفر‬ ‫البواح ‪ ,‬ال ٌستطٌعون أن ٌإدبوا مرتداً كافراً ‪ ,‬أو ٌزجروا زندٌقا فاجراً ‪ ,‬حتى اجترأ ملحد أفاك أن‬ ‫ٌنشر فً صحٌفة علنٌة‪ :‬أن اإلنسان العربً الجدٌد هو الذي ٌعتقد أن اله واألدٌان دمى محنطة فً‬ ‫متحؾ التارٌخ‪.‬‬ ‫ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌسمح بعقٌدة أخرى تناوئ العقٌدة اإلسبلمٌة ‪ ,‬أو تزاحمها كالعقٌدة‬ ‫الشٌوعٌة ‪ ,‬أو االشتراكٌة ‪ ,‬أو القومٌة عند الؽبلة ‪ .‬وإن من الخطؤ أن ٌظن ظان أن االشتراكٌة ونحوها‬ ‫لٌست عقٌدة تناوئ اإلسبلم وإنما هً مذهب اقتصادي أو اجتماعً ‪ٌ ,‬تخذ أسلوبا معٌنا ً فً تنظٌم شإون‬ ‫الحٌاة وعبلقاتها ‪ ,‬ولٌس له طابع دٌنً حتى ٌسمى ( عقٌدة) ‪ .‬والواقع أن االشتراكٌة العلمٌة ‪ -‬فً نظر‬ ‫أصحابها ‪ -‬فلسفة حٌاة كاملة ‪ ,‬وعقٌدة شاملة ‪ ,‬تتضمن وجهة نظر إلى العالم والى التارٌخ ‪ ,‬والى الحٌاة‬ ‫‪ ,‬والى اإلنسان ‪ ,‬وإلى هللا ‪ ,‬تخالؾ وجهة اإلسبلم ‪ ,‬ولهذا أطلق علٌها وعلى أمثالها بعض المإلفٌن ‪( :‬‬ ‫أدٌان بؽٌر وحً )‪ .‬ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌجعل العقٌدة على هامش حٌاته ‪ ,‬فبل تؤخذ من مناهج‬ ‫التربٌة والتعلٌم ‪ ,‬وال من مناهج الثقافة والفكر ‪ ,‬وال من مناهجاإلعبلم واإلرشاد ‪ ,‬وال من أجهزة‬ ‫التوجٌه والتؤثٌر ‪ ,‬بصفة عامة ‪ ,‬إال حٌزا ضبٌبل ‪ ,‬وموضعا محدوداً ‪ ،‬فلٌس هً الموجه األول ‪ ,‬وال‬ ‫المحرك األول ‪ ,‬وال المإثر األول فً حٌاة األفراد ‪ ,‬واألسر والجماعات ‪ ,‬وإنما هً شا ثانوي ٌجا‬ ‫فً ذٌل القافلة ‪ ,‬وفى المكان األخٌر إن بقى له مكان ‪ .‬لقد كانت عقٌدة اإلسبلم فً المجتمع األول ‪ -‬الذي‬ ‫أنشؤه رسول هللا ‪-‬صلى هللا علٌه وسلم ‪ ,‬وورثه من بعده صحابته ‪ ,‬ومن تبعهم بإحسان ‪ -‬هً الدافع‬ ‫األول ‪ ,‬والوجه األول « والمإثر األول ‪ ,‬فً حٌاتهم ‪ ,‬إن لم نقل األوحد ‪.‬‬ ‫كانت العقٌدة هً مصدر التصور والفكر ‪ ,‬وكانت هً أساس الترابط والتجمع ‪ ,‬وكانت هً أساس‬ ‫الحكم والتشرٌع ‪ ,‬وكانت هً الدافع إلى الحركة واالنطبلق ‪ ....‬وكانت هً ٌنبوع الفضابل واألخبلق‬ ‫‪ ...‬كانت هً صانعة البطوالت فً مٌادٌن الجهاد واالستشهاد ‪ ,‬ومجاالت البذل واإلٌثار ‪.‬‬ ‫هكذا كانت العقٌدة وكان أثرها فً المجتمع السلم األول ‪ ,‬وهكذا ٌجب أن تكون ‪ ,‬وأن ٌكون تؤثٌرها فً‬ ‫كل مجتمع ٌرٌد أو ٌراد له أن ٌكون مسلما الٌوم أو ؼدا ‪...‬إن العقٌدة اإلسبلمٌة ‪ -‬بكل أركانها‬ ‫وخصابصها ‪ -‬هً األساس المكٌن ‪ ,‬ألي بنٌان اجتماعً متٌن ‪ .‬وأي بنٌان على ؼٌر عقٌدة فهو بنٌان‬ ‫على الرمال ‪ٌ ,‬وشك أن ٌنهار ‪.‬‬ ‫وأسوأ منه أن ٌراد بنا‪ ,‬مجتمع ٌنتمً إلى اإلسبلم على ؼٌر عقٌدة اإلسبلم ‪ ,‬وإن كتب علٌه ‪ -‬زوراً ‪-‬‬ ‫اسم اإلسبلم ‪ .‬إنه ؼش فً المواد األساسٌة للبناء ‪ ,‬ال ٌلبث أن ٌسقط البناء كله على من فٌه ‪ ( .‬أقمن‬ ‫أسس بنٌانه على تتقوى من هللا ورضوان خٌر أم من أسس بنٌانه على شفا جرؾ هار فانهار به فً نار‬


‫جهنم ‪ ,‬وهللا ال ٌهدى القوم الظالمٌن)‪.‬‬ ‫لقد رأٌنا المجتمع الشٌوعً ‪-‬أٌام ازدهاره وسلطانه‪ٌ -‬جسد العقٌدة الماركسٌة وفلسفتها المادٌة‪ .‬تمثل ذلك‬ ‫فً دستوره الذي ٌعلن‪ :‬أن ال إله والحٌاة مادة‪ .‬وفً تشرٌعه وقوانٌنه‪ ،‬وفً تربٌته‪ ،‬وتعلٌمه‪ ،‬وفً ثقافته‬ ‫وإعبلمه‪ ،‬وفً سابر أنظمته ومإسساته وسٌاساته‪ .‬وهذا شؤن كل مجتمع عقابدي‪ .‬فبل ؼرو أن ٌكون‬ ‫المجتمع المسلم مرآة تعكس عقٌدته وإٌمانه‪ ،‬ونظرته إلى الكون واإلنسان والحٌاة‪ ،‬وإلى رب الكون‬ ‫وبارئ اإلنسان‪ ،‬وواهب الحٌاة‪.‬‬

‫المجتمع المسلم ومواجهة الردة‬ ‫أشد ما ٌواجه المسلم من األخطار ‪ :‬ما ٌهدد وجوده المعنوي ‪ ,‬أي ما ٌهدد عقٌدته ‪ ,‬ولهذا كانت الردة‬ ‫عن الدٌن ‪ -‬الكفر بعد اإلسبلم ‪ -‬أشد األخطار على المجتمع المسلم ‪ .‬وكان أعظم ما ٌكٌد له أعداإه أن‬ ‫ٌفتنوا أبناءه عن دٌنهم بالقوة والسبلح أو بالمكر والحًلة ‪ .‬كما قال تعالى ‪ ( :‬وال ٌزالون ٌقاتلونكم حتى‬ ‫ٌردوكم عن دٌنكم إن استطاعوا‪.‬‬ ‫وفى عصرنا تمرض المجتمع المسلم لؽزوات عنٌفة ‪ ,‬وهجمات شرسة ‪ ,‬تهدؾ إلى اقتبلعه من جذوره‬ ‫‪ ,‬تمثلت فً الؽزو التنصٌرى ‪ ,‬الذي بدا مع االستعمار الؽربً ‪ ,‬والذي ال ٌزال ٌمارس نشاطه فً العالم‬ ‫اإلسبلمً ‪ ,‬وفى الجالٌات واألقلٌات اإلسبلمٌة ‪ ,‬ومن أهدافه ‪ :‬تنصٌر المسلمٌن فً العالم ‪ ,‬كما وضح‬ ‫ذلك فً مإتمر « كورادو »› الذي عقد هناك سنة ‪ . 1978‬وقدمت له أربعون دراسة حول اإلسبلم‬ ‫والمسلمٌن ‪ ,‬وكٌفٌة نشر النصرانٌة بٌنهم ‪ .‬ورصد لذلك ألؾ ملٌون دوالر ‪ ,‬وأسس لذلك معهد (‬ ‫زوٌمر) لخرٌج المتخصصٌن فً تنصٌر المسلمٌن ‪.‬‬ ‫كما تمثلت فً الؽزو الشٌوعً الذي اجتاح ببلداً إسبلمٌة كاملة فً آسٌا ‪ ,‬وفى أوروبا ‪ ,‬وعمل بكل جهد‬ ‫إلماتة اإلسبلم ‪ ,‬وإخراجه من الحٌاة نهابٌا ً ‪ ,‬وتنشبة أجٌال ال تعرؾ من اإلسبلم كثٌراً وال قلٌبلً‪. .‬‬ ‫وثالثة األثافً ‪ :‬الؽزو العلمانى البلدٌنى ‪ ,‬الذي ال ٌبرح ٌقوم بمهمته إلى الٌوم فً قلب دٌار اإلسبلم ‪,‬‬ ‫ٌستعلن حٌنا ‪ ,‬وٌستخفى أحٌانا ‪ٌ ,‬طارد اإلسبلم الحق ‪ ,‬وٌحتفى باإلسبلم الخرافً ‪ ,‬ولعل هذا الؽزو هو‬ ‫أخبث تلك األنواع وأشدها خطرا ‪ .‬وواجب المجتمع المسلم ‪ -‬لكً ٌحافظ على بقابه ‪ -‬أن ٌقاوم الردة من‬ ‫أي مصدر جاءت وبؤي صورة ظهرت ‪ ,‬وال ٌدع لها الفرصة ‪ ,‬حتى تمتد وتنتشر ‪ ,‬كما تنتشر النار فً‬ ‫الهشٌم ‪.‬‬ ‫وهذا ما صنعه أبو بكر والصحابة ‪ -‬رضى هللا عنهم ‪ -‬معه ‪ ,‬حٌن قاتلوا أهل الردة ‪ ,‬الذٌن اتبعوا‬ ‫األنبٌاء الكذبة ‪ ,‬مسٌلمة وسجاح واألسدى والعنسى وكادوا ٌقضون على اإلسبلم فً مهده ‪.‬‬ ‫ومن الخطر كل الخطر ‪ :‬أن ٌبتلى المجتمع المسلم بالمرتدٌن المارقٌن ‪ ,‬وتشٌع بٌن جنباته الردة ‪ ,‬وال‬ ‫ٌجد من ٌواجهها وٌقاومها ‪ .‬وهو ما عبر عنه أحد العلماء عن الردة التً ذاعت فً هذا العصر بقوله ‪:‬‬ ‫( ردة وال أبا بكر لها ) وال بد م ن مقاومة الردة الفردٌة وحصارها ‪ ,‬حتى ال تتفاقم وٌتطاٌر شررها‬ ‫وتؽدو ردة جماعٌة ‪ ,‬فمعظم النار من مستصؽر الشرر ‪.‬‬


‫ومن ثم أجمع فقهاء اإلسبلم على عقوبة المرتد ‪ -‬وإن اختلفوا فً تحدٌدها‪ -‬وجمهورهم على أنها القتل ‪,‬‬ ‫وهو رأى الذاهب األربعة ‪ ,‬بل الثمانٌة ‪.‬‬ ‫وفٌها وردت جملة أحادٌث صحٌحة عن عدد من الصحابة‪ :‬عن ابن عباس وأبى موسى ومعاذ وعلً‬ ‫وعثمان وابن مسعود وعابشة وأنس وأبى هرٌرة ومعاوٌة بن حٌدة‪ .‬وقد جاءت بصٌػ مختلفة ‪ ,‬مثل‬ ‫حدٌث ابن عباس ‪ ( :‬من بدل دٌنه فاقتلوه ) ( رواه الجماعة إال مسلما ً ‪ ,‬ومثله من أبى هرٌرة مند‬ ‫الطبرانى بإسناد حسن ‪ ,‬وعن معاوٌة بن حٌدة بإسناد رجاله ثقات) ‪ .‬وحدٌث ابن مسعود ‪ ( :‬ال ٌحل دم‬ ‫امرئ مسلم ٌشهد أن ال إله إال هللا ‪ ,‬وأنً رسول هللا إال بإحدى ثبلث ‪ :‬النفس بالنفس ‪ ,‬والثٌب الزانى ‪,‬‬ ‫والتارك لدٌنه ‪ ,‬المفارق للجماعة ) ( رواه الجماعة ) ‪ .‬وفى بعض صٌؽه عن عثمان ‪ . . . . ( :‬رجل‬ ‫كفر بعد إسبلمه ‪ ,‬أو زنى بعد إحصانه ‪ ,‬أو قتل نفسا بؽٌر نفس ) ( رواه الترمذى وحسنه والنسابى‬ ‫وابن ماجه ‪ ,‬وقد صح هذا المعنى من رواٌة ابن عباس أٌضا وأبى هرٌرة وأنس ) ‪ .‬قال العبلمة ابن‬ ‫رجب ‪ :‬والقتل بكل واحدة من هذه الخصال متفق علٌه بٌن المسلمٌن‪.‬‬ ‫و قد نفذ علً كرم هللا وجهه عقوبة الردة فً قوم ادعوا ألوهٌته ‪ ,‬فحرقهم بالنار ‪ ,‬بعد أن استتابهم‬ ‫وزجرهم ‪ ,‬فلم ٌتوبوا ولم ٌزدجروا ‪ ,‬طرحهم فً النار وهو ٌقول‪:‬‬ ‫لما رأٌت األمر أمراً منكراً أججت ناري‪ ،‬ودعوت قنبرا‬ ‫وقنبر هو خادمه وؼبلمه‪.‬‬ ‫وقد اعترض علٌه ابن عباس بالحدٌث اآلخر‪ ( :‬ال تعذبوا بعذاب هللا) ورأى أن الواجب أن ٌقتلوا ال أن‬ ‫ٌحرقوا ‪ .‬فكان خبلؾ ابن عباس الوسٌلة ال فً المبدأ ‪.‬‬ ‫وكذلك نفذ أبو موسى ومعاذ القتل فً ٌهودي فً الٌمن أسلم ثم ارتد ‪ .‬وقال معاذ ‪ :‬قضاء هللا ورسوله (‬ ‫متفق علٌه )‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وروى عبد الرزاق ‪ :‬أن ابن مسعود أخذ قوما ارتدوا عن اإلسبلم من أهل العراق ‪ ,‬فكتب فٌهم إلى عمر‬ ‫‪ .‬فكتب إلٌه ‪ :‬أن اعرض علٌهم دٌن الحق ‪ ,‬وشهادة أن ال إله إال اله ‪ ,‬فإن قبلوها فخل عنهم ‪ ,‬وإذا لم‬ ‫ٌقبلوها فاقتلهم ‪ ..‬فقبلها بعضهم فتركه ‪ ,‬ولم ٌقبلها بعضهم فقتله ‪.‬‬ ‫وروى عن أبى عمرو الشٌبانى أن المستورد العجلً تنصر بعد إسبلمه‪ ,‬فبعث به عتبة بن فرقد إلى‬ ‫علً‪ ,‬فاسستابه فلم ٌتب‪ ،‬فقتله‪. ).‬‬ ‫وقد ذكر شٌخ اإلسبلم ابن تٌمٌة ‪ :‬أن النبً (صلى هللا علٌه وسلم) قبل توبة جماعة من المرتدٌن ‪ ,‬وأمر‬ ‫بقتل جماعة آخرٌن ‪ ,‬ضموا إلى الردة أموراً أخرى تتضمن األذى والضرر لئلسبلم والمسلمٌن ‪ .‬مثل‬ ‫أمره بقتل مقٌس بن حبابة ٌوم الفتح ‪ ,‬لما ضم إلى ردته قتل المسلم وأخذ المال ‪ ,‬ولم ٌتب قبل القدرة‬ ‫علٌه ‪ ,‬وأمر بقتل العرنٌ​ٌن لما ضموا إلى ردتهم نحواً من ذلك ‪ .‬وكذلك أمر بقتل ابن خطل لما ضم إلى‬ ‫ردته السب وقتل المسلم ‪ .‬وأمر بقتل ابن أبى سرح ‪ ,‬لما ضم إلى ردته الطعن علٌه واالفتراء ‪ .‬وفرق‬ ‫ابن تٌمٌة بٌن النوعٌن ‪ :‬أن الردة المجردة تقبل معها التوبة ‪ ,‬والردة التً فٌها محاربة هللا ورسوله‬ ‫والسعً فً األرض بالفساد ال تقبل فٌها التوبة قبل القدرة ‪.‬‬ ‫وقد قٌل‪ :‬لم ٌنقل أن رسول هللا كان قتل مرتداً‪ ,‬وما نقله ابن تٌمٌة ٌنقض هذه الدعوى ‪ .‬ولو صح ذلك‬ ‫فؤلن هذه الجرٌمة لم تظهر فً عهده ‪ .‬كما لم ٌعاقب أحداً عمل عمل قوم لوط ‪ .‬إذ لم تستعلن فً عهده‬ ‫(صلى هللا علٌه وسلم )‪.‬‬ ‫ومع أن الجمهور قالوا بقتل المرتد ‪ ,‬فقد ورد عن عمر بن الخطاب ما ٌخالؾ ذلك ‪ .‬روى عبد الرزاق‬ ‫والبٌهقى وابن حزم ‪ :‬أن أنسا ً عاد من ( تستر) فقدم على عمر ‪ ,‬فسؤله ‪ :‬ما فعل الستة الرهط من بكر‬ ‫بن وابل ‪ ,‬الذٌن ارتدوا من اإلسبلم ‪ ,‬ولحقوا بالمشركٌن‪ ،‬قال‪ٌ :‬ا أمٌر المإمنٌن ‪ ,‬قوم ارتدوا عن‬ ‫اإلسبلم ‪ ,‬ولحقوا بالمشركٌن ‪ ,‬قتلوا بالمعركة ‪ .‬فاسترجع عمر ( أي قال ‪ :‬إنا هلل وإنا إلٌه راجعون ) قال‬


‫أنس‪ :‬وهل كان سبٌلهم إال القتل ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ,‬كنت أعرض علٌهم اإلسبلم ‪ ,‬فإن أبوا أودعتهم السجن) ‪.‬‬ ‫وهذا هو قول إبراهٌم النخعى‪ ,‬وكذلك قال الثوري ‪ :‬هذا الذي نؤخذ به ‪ .‬وفى لفظ له ‪ٌ :‬إجل ما رجٌت‬ ‫توبته ‪.‬‬ ‫والذي أراه ‪ :‬أن العلماء ‪ ,‬فرقوا فً أمر البدعة بٌن المؽلظة والمخففة ‪ ,‬كما فرقوا فً المبتدعٌن بٌن‬ ‫الداعٌة وؼٌر الداعٌة‪ .‬وكذلك ٌجب أن نفرق فً أمر الردة بٌن الردة الؽلٌظة والخفٌفة ‪ ,‬وفى أمر‬ ‫المرتدٌن بٌن الدامٌة وؼٌر الداعٌة ‪.‬‬ ‫فما كان من الردة مؽلظا ً ‪-‬كردة سلمان رشدي ‪ -‬وكان المرتد دامٌة إلى بدعته بلسانه أو بقلمه ‪ ,‬فاألولى‬ ‫فً التؽلٌظ فً العقوبة‪ ،‬واألخذ بقول جمهور األمة ‪ ,‬وظاهر األحادٌث ‪ ,‬استبصاالً للشر‪ ,‬و سداً لباب‬ ‫الفتنة ‪.‬‬ ‫وإال فٌمكن األخذ بقول النخعى الثوري وهو ما روى عن الفاروق عمر ‪ .‬إن المرتد الدامٌة إلى الردة‬ ‫لٌس مجرد كافر باإلسبلم ‪ ,‬بل هو حرب علٌه وعلى أمته ‪ ,‬فهو مندرج ضمن الذٌن ٌحاربون هللا‬ ‫ورسوله وٌسعون فً األرض فسادا ‪ .‬والمحاربة ‪ -‬كما قال ابن تٌمٌة ‪ -‬نوعان ‪ :‬محاربة بالٌد ‪,‬‬ ‫ومحاربة باللسان ‪ ,‬والمحاربة باللسان فً باب الدٌن ‪ ,‬قد تكون أنكى من المحاربة بالٌد ‪ ,‬ولذا كان النبً‬ ‫علٌه الصبلة والسبلم ٌقتل من كان ٌحاربه باللسان ‪ ,‬مع استبقابه بعض من حاربه بالٌد ‪ .‬وكذلك اإلفساد‬ ‫قد ٌكون بالٌد ‪ ،‬وقد ٌكون باللسان ‪ ,‬وما ٌفسده اللسان من األدٌان أضعاؾ ما تفسده الٌد ‪ ..‬فثبت أن‬ ‫محاربة هللا ورسوله باللسان أشد ‪ ,‬والسعً فً األرض بالفساد باللسان أإكد‪ .‬والقلم أحد اللسانٌن ‪ ,‬كما‬ ‫قال الحكماء ‪ ,‬بل ربما كان القلم أشد من اللسان وأنكى ‪ ,‬وال سٌما فً عصرنا ‪ ،‬إلمكان نشر ما ٌكتب‬ ‫على نطاق واسع ‪.‬‬ ‫هذا إلى أن المرتد محكوم علٌه باإلعدام األدبً من الجماعة المسلمة ‪ ,‬فهو‬ ‫محروم من والبها وحبها ومعاونتها ‪ ,‬فاهلل تعالى ٌقول ‪ ( :‬ومن ٌتولهم منكم فإنه منهم )‪ ،‬وهذا أشد من‬ ‫القتل الحسً عند ذوى العقول والضمابر من الناس ‪.‬‬

‫سر التشديد في عقوبة الردة‬ ‫وسر هذا التشدٌد فً مواجهة الردة ‪ :‬أن المجتمع المسلم ٌقوم ‪ -‬أول ما ٌقوم ‪ -‬على العقٌدة واإلٌمان ‪,‬‬ ‫فالعقٌدة أساس هوٌته ‪ ,‬ومحور حٌاته ‪ ,‬ومحور وجوده ولهذا ال ٌسمح ألحد أن ٌنال من هذا األساس ‪,‬‬ ‫أو ٌمس هذه الهوٌة ‪ .‬ومن هناكانت ( الردة المعلنة ) كبرى الجرابم فً نظر اإلسبلم ! ألنها خطر على‬ ‫شخصٌة المجتمع وكٌانه المعنوي ‪ ,‬وخطر على الضرورٌة األولى من الضرورٌات الخمس ( الدٌن‬ ‫والنفس والنسل والعقل والمال ) والدٌن أولها ‪ ,‬ألن المإمن ٌضحً بنفسه ووطنه وماله من أجل دٌنه ‪.‬‬ ‫وإلسبلم ال ٌكره أحداً على الدخول فٌه‪ ،‬وال الخروج من دٌنه إلى دٌن ما‪ ،‬ألن اإلٌمان المعتد هو ما كان‬ ‫عن اختٌار واقتناع‪ .‬وقد قال تعالى فً القرآن المكً‪( :‬أفؤنت تكره الناس حتى ٌكونوا مإمنٌن)‪ ،‬وفً‬ ‫القرآن المدنً‪( :‬ال إكراه فً الدٌن‪ ،‬قد تبٌن الرشد من الؽً)‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ولكنه ال ٌقبل أن ٌكون الدٌن ألعوبة‪ٌ ،‬دخل فٌه الٌوم وٌخرج منه ؼدا‪ ،‬على طرٌقة الٌهود الذٌن قالوا‪( :‬‬ ‫آمنوا بالذي أنزل على الذٌن آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم ٌرجعون)‪.‬‬ ‫وال ٌعقاب اإلسبلم بالقتل المرتد الذي ال ٌجاهر بردته‪ ،‬وال ٌدعو إلٌها ؼٌره‪ ،‬وٌدع عقابه إلى اآلخرة إذا‬ ‫مات على كفره‪ ،‬كما قال تعالى‪( :‬وم ن ٌرتدد منكم عن دٌنه فٌمت وهو كافر فؤولبك حبطت أعمالهم فً‬


‫الدنٌا واآلخرة‪ ،‬وأولبك أصحاب لنار‪ ،‬هم فٌها خالدون)‪ .‬وقد ٌعاقبه عقوبة تعزٌرٌة مناسبة‪.‬‬ ‫إنما ٌعاقب المرتد المجاهر‪ ،‬وبخاصة الداعٌة للردة‪ ،‬حماٌة لهوٌة المجتمع‪ ،‬وحفاظا ً على أسسه ووحدته‪،‬‬ ‫وال ٌوجد مجتمع فً الدنٌا إال وعنده أساسٌات ال ٌسمح بالنٌل منها‪ ،‬مثل ‪ :‬الهوٌة واالنتماء والوالء‪ ،‬فبل‬ ‫ٌقبل أي عمل لتؽٌ​ٌر هوٌة المجتمع‪ ،‬أو تحوٌل والبه ألعدابه‪ ،‬وما شابه ذلك‪ .‬ومن أجل هذا ‪ :‬اعتبرت‬ ‫الخٌانة للوطن‪ ،‬ومواالة أعدابه ‪ -‬باإللقاء بالمودة إلٌهم‪ ،‬وإفشاء األسرار لهم ‪ -‬جرٌمة كبرى‪ .‬ولم ٌقل‬ ‫أحد بجواز إعطاء المواطن حق تؽٌ​ٌر والبه الوطنً لمن ٌشاء‪ ،‬ومتى شاء‪.‬‬ ‫والردة لٌست مجرد موقؾ عقلً‪ ،‬ببل هً أٌضا ً تؽٌر للوالء‪ ،‬وتبدٌل للهوٌة‪ ،‬وتحوٌل لبلنتماء‪ .‬فالمرتد‬ ‫ٌنقل والءه وانتماءه من أمة ألخرى‪ ،‬ومن وطن إلى وطن آخر‪ ،‬أي من دار اإلسبلم إلى دار أخرى‪.‬‬ ‫فهو ٌخلع نفسه من أمة اإلسبلم‪ ،‬التً كان عضواً فٌجسدها‪ ،‬وٌنضم بعقله وقلبه وإرادته إلى خصومها‪.‬‬ ‫وٌعبر عن ذلك الحدٌث النبوي بقوله‪ ( :‬التارك لدٌنه‪ ،‬المفارق للجماعة)‪ .‬كما فً حٌث ابن مسعود‬ ‫المتفق علٌه‪ .‬وكلمة (المفارق للجماعة) وصؾ كاشؾ ال منشا‪ ،‬فكل مرتد عن دينه مفارق للجماعة‪.‬‬ ‫ومهما ٌكن من جرمه‪ ،‬فنحن ال نشق عن قلبه‪ ،‬وال نتسور علٌه بٌته‪ ،‬وال نحاسبه إال على ما ٌعلنه جهرة‬ ‫‪ :‬بلسانه أو قلمه أو فعله‪ ،‬مما ٌكون كفراً بواحا ً صرٌحا ً ال مجال فٌه لتؤوٌل أو احتمال‪ ،‬فؤي شك فً ذلك‬ ‫عقوب المرتد المعالن الداعٌة‪ٌ ،‬عرض المجتمع كله للخطر‪،‬‬ ‫ة‬ ‫ٌفسر لمصلحة المتهم بالردة‪ .‬إن التهاون فً‬ ‫ً‬ ‫وٌفتح علٌه باب فتنة ال ٌعلم عواقبها إال هللا سبحانه‪ ،‬فبل ٌلبث المرتد أن ٌؽرر بؽٌره وخصوصا من‬ ‫الضعفاء والبسطاء من الناس وتتكون جماعة مناوبة لؤلمة تستبٌح لنفسها االستعانة بؤعداء األمة علٌها‪،‬‬ ‫وبذلك تقع صراع و تمزق فكري واجتماعً وسٌاسً‪ ،‬قد ٌتطور إلى صاع دموي بل حرب أهلٌة تؤكل‬ ‫األخضر والٌابس‪ .‬وهذا ما حدث بالفعل فً أفؽانستان‪ :‬مجموعة محدودة مرقوا من دٌنهم‪ ،‬واعتنقوا‬ ‫العقٌدة الشٌوعٌة بعد أن درسوا فً روسٌا‪ ،‬وجندوا فً صفوؾ الحزب الشٌوعً‪ ،‬وفً ؼفلة من الزمن‬ ‫وثبوا على الح كم‪ ،‬وطفقوا ٌؽٌرون هوٌة المجتمع كله‪ ،‬بما تحت أٌدٌهم من سلطان وإمكانات‪ .‬ولم ٌسلم‬ ‫أبناء الشعب األفؽانً لهم‪ ،‬بل قاوموا ثم قاوموا‪ ،‬و اتسعت المقاومة التً كونت الجهاد األفؽانً الباسل‬ ‫ضد المرتدٌن الشٌوعٌ​ٌن الذٌن لم ٌبالوا أن ٌستنصروا على أهلٌهم وقومهم بالروس‪ٌ ،‬دكون وطنهم‬ ‫بالدبابات وٌقذفونه بالطابرات‪ ،‬وٌدمرونه وكان ضحاٌا المبلٌ​ٌن من القتلى والمعوقٌن والمصابٌن‬ ‫والٌتامى واألرامل والثكالى‪ ،‬والخراب الذي أصاب الببلد وأهلك الزرع والضرع‪.‬‬ ‫كل هذا لم ٌكن إال أثراً للؽفلة عن المرتدٌن‪ ،‬والتهاون فً أمرهم والسكوت على جرٌمتهم فً أول‬ ‫األمر‪ .‬ولو عوقب هإالء المارقون الخونة‪ ،‬قبل أ‪ٌ ،‬ستفحل أمرهم‪ ،‬لوقً الشعب والوطن شرور هذه‬ ‫الحرب الضروس وآثارها المدمرة على الببلد والعباد‪.‬‬

‫أمور مهمة تجب مراعاتها‬ ‫والذي أرٌد أن أذكره هنا جملة أمور ‪:‬‬ ‫األول‪ :‬أن الحكم بردة مسلم عن دٌنه أمر خطٌر جداً‪ٌ ،‬ترتب علٌه حرمانه من كل والء وارتباط‬ ‫باألسرة والمجتمع‪ ،‬حتى إنه ٌفرق بٌنه وبٌن زوجة وأوالده‪ ،‬إذ ال ٌحل لمسلمة أن تكون فً عصمة‬ ‫كافر‪ ،‬كما أن أوالده لم ٌعد مإتمنا ً علٌهم‪ ،‬فضبلً عن العقوبة المادٌة التً أجمع علٌها الفقهاء فً جملتها‪.‬‬


‫لهذا وجب االحتٌاط كل االحتٌاط عند الحكم بتكفٌر مسلم ثبت إسبلمه ألنه مسلم بٌقٌن‪ ،‬فبل ٌزال الٌقٌن‬ ‫بالشك‪.‬‬ ‫ومن أشد األمور خطراً‪ :‬تكفٌر من لٌس بكافر‪ ،‬وقد حذرت من ذلك السنة النبوٌة‪ ،‬أبلػ التحذٌر‪ .‬وقد‬ ‫كتبت فً ذلك رسالة (ظاهرة الؽلو فً التكفٌر) لمقاومة تلك الموجة العاتٌة‪ .‬التً انتشرت فً وقت ما‪:‬‬ ‫التوسع فً التكفٌر‪ ،‬وال ٌزال ٌوجد من ٌعتنقها‪.‬‬ ‫الثانً‪ :‬أن الذي ٌملك الفتوى بردة امرئ مسلم‪ ،‬هم الراسخون فً العلم من أهل االختصاص الذٌن‬ ‫ٌمٌزون بٌن القطعً والظنً بٌن المحكم والمتشابه‪ ،‬بٌن ما ٌقبل التؤوٌل وبٌن ما ال ٌقبل التؤوٌل‪ ،‬فبل‬ ‫ٌكفرون إال بما ال ٌجدون له مخرجا ً مثل ‪ :‬إنكار المعلوم من الدٌن بالضرورة‪ ،‬أو وضعه موضع‬ ‫السخرٌة من عقٌدة أو شرٌعة‪ ،‬ومثل سب هللا تعالى ورسوله وكتابه عبلنٌة‪ ،‬ونحو ذلك‪ .‬مثال ذلك‪ :‬ما‬ ‫أفتى به العلماء من ردة سلمان رشدي‪ ،‬ومثله رشاد خلٌفة الذي بدأ بإنكار السنة ثم أنكر آٌتٌن من القرآن‬ ‫فً آخر سورة التوبة ثم ختم كفره بدعوى أنه رسول هللا‪ ،‬قاببلً إن محمد (صلى هللا علٌه وسلم) خاتم‬ ‫النبٌ​ٌن ‪ ،‬ولٌس خاتم المرسلٌن!! وقد صدر بذلك قرار من مجلس المجتمع الفقهً لرابطة العالم‬ ‫اإلسبلمً‪.‬‬ ‫وال ٌجوز ترك مثل هذا األمر إلى المتسرعٌن أو الؽبلة‪ ،‬أو قلٌلً البضاعة من العالم‪ ،‬لٌقولوا على هللا‬ ‫ما ال ٌعلمون‪.‬‬ ‫الثالث ‪ :‬أن الذي ٌنفذ هذا هو ولى األمر الشرعي ‪ ,‬بعد حكم القضاء اإلسبلمً المختص ‪ ,‬الذي ال‬ ‫ٌحتكم إال إلى شرع هللا عز وجل ‪ ,‬وال ٌرجع إال إلى المحكمات البٌنات من كتاب اله تعالى وسنة‬ ‫رسوله ( صلى هللا علٌه وسلم) ‪ ,‬وهما اللذان ٌرجع إلٌهما إذا اختلؾ الناس ‪ ( :‬فإن تنازعتم فً شا‬ ‫فردوه إلى هللا والرسول إن كنتم تإمنون باهلل والٌوم اآلخر ) ‪.‬‬ ‫واألصل فً القاضً فً اإلسبلم أن ٌكون من أهل االجتهاد ‪ ,‬فإذا لم ٌتوافر فٌه ذلك استعان بؤهل‬ ‫االجتهاد ‪ ,‬حتى ٌبٌن له الحق ‪ .‬وال ٌقضى على جهل ‪ ,‬أو ٌقضى بالهوى ‪ ,‬فٌكون من قضاة النار ‪.‬‬ ‫الرابع ‪ :‬أن جهور الفقهاء قالوا بوجوب استتابة المرتد ‪ ,‬قبل تنفٌذ العقوبة فٌه ‪ .‬بل قال شٌخ اإلسبلم ابن‬ ‫تٌمٌة فً كتاب (الصارم المسلول على شاتم الرسول ) ‪ :‬هو إجماع الصحابة رضً هللا عنهم ‪ ,‬وبعض‬ ‫الفقهاء حددها بثبلثة أٌام ‪ ,‬وبعضهم بؤقل ‪ ,‬وبعضهم بؤكثر ‪ ,‬ومنهم من قال ‪ٌ :‬ستتاب أبداً ‪.‬‬ ‫واستثنى بعضهم الزندٌق ‪ ,‬ألنه ٌظهر ؼٌر ما ٌبطن ‪ ,‬فبل توبة له ‪ ,‬وكذلك ساب الرسول ( صلى هللا‬ ‫علٌه وسلم) ‪ ,‬لحرمة رسول هللا وكرامته ‪ ,‬فبل تقبل منه توبة ‪ ,‬وألؾ ابن تٌمٌة كتابه فً ذلك ‪.‬‬ ‫والمقصود بذلك إعطاإه الفرصة لٌراجع نفسه ‪ ,‬عسى أن تزول منه الشبهة ‪ ,‬وتقوم علٌه الحجة ‪ ,‬إن‬ ‫كان ٌطلب الحقٌقة بإخبلص ‪ ,‬وان كان له هوى ‪ ,‬أو ٌعمل لحساب آخرٌن ‪ٌ ,‬ولٌه هللا ما تولى ‪.‬‬ ‫ومن المعاصرٌن من قال ‪ :‬إن قبول التوبة إلى هللا ولٌس إلى اإلنسان ‪ ,‬ولكن هذا فً أحكام اآلخرة ‪ .‬أما‬ ‫فً أحكام الدنٌا فنحن نقبل التوبة الظاهرة ‪ ,‬ونقبل اإلسبلم الظاهر ‪ ,‬وال ننقب عن قلوب الخلق ‪ ,‬فقد‬ ‫أمرنا أن نحكم بالظاهر ‪ ,‬وهللا ٌتولى السرابر ‪ .‬وقد صح فً الحدٌث أن من قالوا ‪ ( :‬ال إله إال هللا )‬ ‫عصموا دماءهم وأموالهم ‪ ,‬وحسابهم على هللا تعالى ‪ٌ .‬عنى فٌما انعقدت قلوبهم ‪ .‬ومن هنا نقول‪ :‬إن‬ ‫إعطاء عامة األفراد حق الحكم على شخص ما بالردة ‪ ,‬ثم الحكم علٌه باستحقاق العقوبة ‪ ,‬وتحدٌدها‬ ‫بؤنها القتل ال ؼٌر ‪ ,‬وتنفٌذ ذلك ببل هوادة ‪ٌ -‬حمل خطورة شدٌدة على دماء الناس وأموالهم وأعراضهم‬ ‫‪ ,‬ألن مقتضى هذا ‪ :‬أن ٌجمع الشخص العادي ‪ -‬الذي لٌس له علم أهل الفتوى ‪ ,‬وال حكمة أهل القضاء‬ ‫‪ ,‬وال مسإولٌة أهل التنفٌذ ‪ -‬سلطات ثبلثا ً فً ٌده ‪ٌ :‬فتى ‪ -‬وبعبارة أخرى ‪ٌ :‬تهم ‪ -‬وٌحكم وٌنفذ ‪ ,‬فهو‬ ‫اإلفتاء واالدعاء والقضاء والشرطة جمٌعا !!‬


‫اعتراضات مردودة لبعض المعارضين‬ ‫ولقد اعترض بعض الكاتبٌن فً عصرنا ‪ -‬من ؼٌر أهل العلم الشرعً ‪ -‬على عقوبة الردة بؤنها لم ترد‬ ‫فً القرآن الكرٌم‪ ،‬ولم ترد إال فً حدٌث من أحادٌث اآلحاد‪ ،‬وحدٌث اآلحاد ال ٌإخذ به فً الحدود‪ ،‬فهم‬ ‫لذلك ٌنكرونها‪.‬‬ ‫وهذا الكالم مردود من عدة أوجه ‪:‬‬ ‫أوالً‪ :‬أن السنة الصحٌحة مصدر لؤلحكام العملٌة باتفاق جمٌع المسلمٌن‪ ،‬وقد قال تعالى ‪ (:‬قل أطٌعوا هللا‬ ‫وأطٌعوا الرسول) وقد صحت األحادٌث بقتل المرتد ‪ ,‬ونفذه الصحابة فً عهد الراشدٌن ‪.‬‬ ‫والقول بؤن أحادٌث اآلحاد ال ٌإخذ بها فً الحدود ؼٌر مسلم ‪ ،‬فجمٌع المذاهب المتبوعة أخذت بؤحادٌث‬ ‫اآلحاد ‪ ,‬فً عقوبة شارب الخمر ‪ ,‬مع أن فً عقوبة الردة أصح وأوفر أؼزر مما ورد فً عقوبة‬ ‫شارب الخمر ‪.‬‬ ‫ولو صح ما زعمه هإالء ‪ :‬أن أحادٌث اآلحاد ال ٌعمل بها فً األحكام ‪ ,‬لكان معناه ‪ :‬إلؽاء السنة من‬ ‫مصدرٌة التشرٌع اإلسبلمً ‪ .‬أو على األقل ‪ :‬إلؽاء‪ - % 95‬إن لم نقل ‪ - %99‬منها ‪ .‬ولم ٌعد هناك‬ ‫معنى لقولنا ‪ :‬اتباع الكتاب و السنة ‪.‬‬ ‫فمن المعروؾ لدى أهل العلم‪ :‬أن أحادٌث اآلحاد هً الجمهرة العظمى من أحادٌث األحكام‪ .‬والحدٌث‬ ‫المتواتر ‪ -‬الذي ٌقابل اآلحاد‪ -‬نادراً جداً‪ ،‬حتى زعم بعض أبمة الحدٌث أنه ال ٌكاد ٌوجد‪ ،‬كما ذكر ذلك‬ ‫اإلمام ابن صبلح فً مقدمته الشهٌرة فً علوم الحدٌث‪.‬‬ ‫على أن كثٌراً ممن ٌتناولون هذا األمر ال ٌدركون معنى حدٌث اآلحاد وٌحسبون أنه الذي رواه واحد‬ ‫فقط‪ ،‬وهذا خطؤ‪ .‬فالمرتد بحدٌث اآلحاد ‪ :‬ما لم ٌبلػ درجة التواتر‪ ،‬وقد ٌروٌه اثنان أ‪ ,‬ثبلثة أو أربعة أو‬ ‫أكثر من الصحابة وأضعافهم من التابعٌن ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وحدٌث قتل المرتد قد رواه جم ؼفٌر من الصحابة‪ ،‬ذكرنا عددا منهم فهو من األحادٌث المستفٌضة‬ ‫المشهورة‪.‬‬ ‫ثانٌا ً‪ :‬أن من مصادر التشرٌع المعتمدة ‪ :‬اإلجماع ‪ ,‬وكد أجمع فقهاء األمة من كل المذاهب ( السنٌة‬ ‫وؼًر السنٌة ) ‪ ,‬ومن خارج المذاهب ‪ ,‬على عقوبه المرتد‪ ,‬وأوشكوا أن ٌتفقوا على أنها القتل ‪ ,‬إال ما‬ ‫روى عن عمر والنخعى والثورى ‪ ,‬ولكن العقوبة ‪ -‬فً الجملة ‪ -‬مجمع علٌها ‪.‬‬ ‫ثالثا ً ‪ :‬أن من علماء السلؾ من قال ‪ :‬إن آٌة المحاربة المذكورة فً سورة المابدة تختص بالمرتدٌن ‪,‬‬ ‫وهى قوله تعالى ( إنما جزاء الذٌن ٌحاربون هللا ورسوله وٌسعون فً األرض فسادا أن ٌقتلوا أو‬ ‫ٌصلبوا ) اآلٌة ‪.‬‬ ‫وممن قال بؤن هذه اآلٌة فً المرتدٌن أبو قبلبة وؼٌره ‪ .‬وقد نقلنا من كبلم ابن تٌمٌة ‪ :‬أن محاربة هللا‬ ‫ي األرض ‪ .‬كما ٌزٌد ذلك ‪ :‬أن األحادٌث التً‬ ‫ورسوله باللسان أشد من المحاربة بالٌد ‪ ,‬وكذلك اإلفساد ؾ‬ ‫ً‬ ‫قررت استباحة دم المسلم بإحدى ثبلث ‪ ,‬ذكر بعضها ( ورجل خرج محاربا له ورسوله ‪ ,‬فإنه ٌقتل أو‬ ‫ٌصلب أو ٌنفى من األرض ) ‪ ,‬كما فً حدٌث عابشة بدالً من عبارة ( ارتد بعد إسبلم ) أو ( التارك‬ ‫لدٌنه ) ‪ ...‬إلخ ‪ .‬وهو ما ٌدل على أن اآلٌة تشمل فٌما تشمل المرتدٌن الداعٌن إلى ردتهم ‪.‬‬


‫وفى القرآن ( ٌا أٌها الذٌن آمنوا من ٌرتد منكم عن دٌنه فسوؾ ٌؤتً هللا بقوم ٌحبهم وٌحبونه أذلة على‬ ‫المإمنٌن أعزة على الكافرٌن ٌجاهدون فً سبٌل هللا وال ٌخافون لومة البم )‪ .‬وهذا ٌدل على أن هللا هٌؤ‬ ‫للمرتدٌن م ن ٌقاومهم ‪ ,‬من المإمنٌن المجاهدٌن الذٌن وصفهم هللا بما وصفهم به ‪ ,‬مثل أبى بكر‬ ‫والمإمنٌن معه ‪ ,‬الذٌن أنقذوا اإلسبلم من فتنة الردة‪ .‬وكذلك جاءت مجموعة من اآلٌات فً شؤن‬ ‫المنافقٌن ‪ ,‬تبٌن أنهم حموا أنفسهم من القتل بسبب كفرهم عن ط ٌق األٌمان الكاذبة ‪ ,‬والحلؾ الباطل‬ ‫إلرضاء المإمنٌن ‪ ,‬كما فً قوله تعالى ‪ ( :‬اتخذوا أٌمانهم جنة ) ‪ٌ ( ,‬حلفون لكم لترضوا عنهم ) اآلٌة‪،‬‬ ‫( ٌحلفون باهلل ما قالوا ولفد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسبلمهم ) اآلٌة ‪ ,‬فهم ٌنكرون أنهم كفروا ‪,‬‬ ‫الكؾ ‪ ,‬فدل ذلك أن الكفر إذا ثبت علٌهم بالبٌنة‬ ‫وٌإكدون ذلك بؤٌمانهم ‪ ,‬وٌحلفون أنهم لم ٌتكلموا بكلمة ر‬ ‫‪ ,‬فإن جنتهم تكون قد انخزمت ‪ ,‬وأٌمانهم الفاجرة لم تؽن عنهم شٌبا)‪.‬‬

‫ردة السلطان‬ ‫وأخطر أنواع الردة ‪ :‬ردة السلطان ‪ ,‬ردة الحكم ‪ ,‬الذي ٌفترض فٌه أن ٌحرس عقٌدة األمة ‪ ,‬وٌقاوم‬ ‫الردة ‪ ,‬وٌطارد المرتدٌن ‪ ,‬وال ٌبقى لهم من باقٌة فً رحاب المجتمع المسلم ‪ ,‬فإذا هو نفسه ٌقود الردة ‪,‬‬ ‫سراً وجهراً ‪ ,‬وٌنشر الفسوق سافراً ومقنعا ً ‪ ,‬وٌحمى المرتدٌن ‪ ,‬وٌفتح لهم النوافذ واألبواب ‪ ,‬وٌمنحهم‬ ‫األوسمة واأللقاب ‪ ,‬وٌصبح األمر كما قال المثل ‪ :‬ال( حامٌها حرامٌها ) ‪ ،‬أو كما قال الشاعر العربً ‪:‬‬ ‫وراعى الشاة ٌحمى الذنب عنها فكٌؾ إذا الرعاة لها ذباب ؟!!‬ ‫نرى هذا الصنؾ من الحكام ‪ ,‬موالٌا ألعداء هللا ‪ ,‬معادٌا ً ألولٌاء هللا ‪ .‬مستهٌنا بالعقٌدة ‪ ,‬مستخفا‬ ‫بالشرٌعة ‪ ,‬ؼٌر موقر لؤلوامر والنواهً اإللهٌة والنبوٌة ‪ ,‬مهٌنا لكل مقدسات األمة ورموزها ‪ ,‬من‬ ‫الصحابة األبرار ‪ ,‬واآلل األطهار ‪ ,‬والخلفاء األخٌار ‪ ,‬واألبمة األعبلم ‪ ,‬وأبطال اإلسبلم ‪ ,‬وهإالء‬ ‫ٌعتبرون التمسك بفرابض اإلسبلم جرٌمة وتطرفا ً ‪ ,‬مثل الصبلة فً المساجد للرجال ‪ ,‬والحجاب للنساء‬ ‫‪ .‬وال ٌكتفون بذلك ‪ ,‬بل ٌعملون وفق فلسفة ( تجفٌؾ المنابع ) التً جاهروا بها ‪ ,‬فً التعلٌم واإلعبلم‬ ‫والثقافة ‪ ,‬حتى ال تنشؤ عقلٌة مسلة ‪ ,‬وال نفسٌة مسلمة ‪ .‬وال ٌقفون عند هذا الحد ‪ ,‬بل ٌه ٌطاردون‬ ‫الدعاة الحقٌقٌ​ٌن ‪ ,‬وٌؽلقون األبواب فً وجه كل دعوة أو حركة صادقة ‪ ,‬ترٌد أن ةتجدد الدٌن ‪,‬‬ ‫وتنهض بالدنٌا على أساسه‪ .‬والؽرٌب أن بعض هذه الفبات ‪ -‬مع هذه الردة الظاهرة ‪ -‬تحرص على أن‬ ‫ٌبقى لها عنوان اإلسبلم ‪ ,‬لتستؽله فً هدم اإلسبلم ‪ ,‬ولتعاملهم األمة على أنهم مسلمون ‪ ,‬وهم ٌقوضون‬ ‫بنٌانها من الداخل ‪ .‬وبعضها تجتهد أن تتمسح بالدٌن ‪ ,‬بتشجٌع التدٌن الزابؾ ‪ ,‬وتقرٌب الذٌن ٌحرقون‬ ‫لها البخور من رجاله ‪ ,‬ممن سماهم الناس ( علماء السلطة ‪ ,‬وعمبلء الشرطة ) وهنا ٌتعقد الموقؾ ‪,‬‬ ‫فمن الذي ٌقٌم الحد على هإالء بل من الذي ٌفتى بكفرهم أوال ‪ ,‬وهو كفر بواح كما سماه الحدٌث ‪, ،‬‬ ‫ومن الذٌن ٌحكم بردتهم وأجهزة اإلفتاء الرسمً والقضاء الرسمً فً أٌدٌهم ؟ لٌس هناك إال ( الرأي‬ ‫العام ) المسلم ‪ ,‬والضمٌر اإلسبلمً العام ‪ ,‬الذي ٌقود األحرار من العلماء والدعاة وأهل الفكر ‪ ,‬والذي‬ ‫ال ٌلبث ‪ .‬إذا سدت أمامه األبواب ‪ ,‬وقطعت دونه األسباب ‪ -‬أن ٌتحول إلى بركان ٌنفجر فً وجوه‬ ‫الطؽاة المرتدٌن ‪ .‬فلٌس من السهل أن ٌفرط المجتمع المسلم فً هوٌته ‪ ,‬أو ٌتنازل عن عقٌدته ورسالته‬ ‫‪ ,‬التً هً مبرر وجوده ‪ ,‬وسر بقابه ‪.‬‬


‫وقد جرب ذلك االستعمار الؽربً الفرنسً فً الجزابر ‪ ,‬واالستعمار الشرقً الروسً فً الجمهورٌات‬ ‫اإلسبلمٌة فً آسٌا ‪ ,‬ورؼم قسوة التجربة وطولها هنا وهناك ‪ ,‬لم تستطع اجتثاث جذور الهوٌة‬ ‫اإلسبلمٌة ‪ ,‬والشخصٌة اإلسبلمٌة ‪ ,‬وذهب االستعمار والطؽٌان ‪ ,‬وبقى اإلسبلم ‪ ,‬والشعب المسلم ‪.‬‬ ‫ؼٌر أن الحرب التً شنت على اإلسبلم ودعاته من بعض الحكام ( الوطنٌ​ٌن ) العلمانٌ​ٌن والمتؽربٌن‬ ‫فً بعض األقطار ‪ -‬بعد استقبللها ‪ -‬كانت أحد عداوة ‪ ,‬وأشد ضراوة ‪ ,‬من حرب المستعمرٌن ‪.‬‬

‫الردة المغلفة‬ ‫وال ٌفوتنا هنا أن ننبه على نوع من الردة ال ٌتبجح تبجح المرتدٌن المعالنٌن ‪ ,‬فهو أذكى من أن ٌعلن‬ ‫الكفر بواحا ً صراحا ً ‪ ,‬بل ٌؽلفه بؤؼلفة شتى ‪ ,‬وٌتسلل به إلى العقول تسلل األسقام فً األجسام ‪ ,‬ال تراه‬ ‫حٌن ٌؽزو الجسم ‪ ,‬ولكن بعد أن ٌبدو مرضه ‪ ,‬وٌظهر عرضه ‪ ,‬فهو ال ٌقتل بالرصاص ٌدوى ‪ ,‬بل‬ ‫بالسم البطًء ‪ٌ ,‬ضعه فً العسل والحلوى ‪ .‬وهذا ٌدركه الراسخون فً العلم ‪ ,‬والبصراء فً الدٌن ‪,‬‬ ‫ولكنهم ال ٌملكون أن ٌصنعوا شٌبا أمام مجرمٌن محترفٌن ‪ ,‬ال ٌم كنون من أنفسهم ‪ ,‬وال ٌدعون للقانون‬ ‫فرصة لٌمسك بخناقهم ‪ .‬فهإالء هم (المنافقون) الذٌن هم فً الدرك األسفل من النار ‪.‬‬ ‫إنها ( الردة الفكرٌة) التً تطالعنا كل ٌوم آثارها ! فً صحؾ تنشر وكتب توزع ‪ ,‬ومجبلت تباع ‪,‬‬ ‫وأحادٌث تذاع ‪ ,‬وبرامج تشاهد ‪ ,‬وتقالٌد تروج ‪ ,‬وقوانٌن تحكم ‪ .‬وهذه الردة المؽلفة ‪ -‬فً رأًٌ ‪ -‬أخطر‬ ‫من الردة المكشوفة ‪ ,‬ألنها تعمل باستمرار ‪ ,‬وعلى نطاق واسع ‪ ,‬وال تقاوم كما تقاوم الردة الصرٌحة‪,‬‬ ‫التً تحدث الضجٌج ‪ ,‬وتلفت األنظار ‪ ,‬وتثبر الجماهٌر ‪ .‬إن النفاق أشد خطراً من الكفر الصرٌح ‪.‬‬ ‫ونفاق عبد هللا بن أبى ومن تبعه من منافقً المدٌنه ‪ ,‬أخطر على اإلسبلم من كفر أبى جهل ومن تبعه‬ ‫من مشركً مكة‪ .‬ولهذا ذم القرآن فً أوابل سورة البقرة‪( :‬الذٌن كفروا ) أي المصرحٌن بالكفر فً‬ ‫آٌتٌن اثنتٌن فقط ‪ ,‬وذكر المنافقٌن فً ثبلث عشرة آٌه ‪ .‬إنها الردة التً تصاحبنا وتماسٌنا ‪ ,‬وراوحنا‬ ‫وتعادٌنا ‪ ,‬وال تجد من ٌقاومها‪ .‬إنها ‪ -‬كما قال شٌخ اإلسبلم الندوى ‪ -‬ردة وال أبا بكر لها إن الفرٌضة‬ ‫المإكد هنا ‪ ,‬هً ‪ :‬محاربتهم بمثل أسلحتهم ‪ ,‬الفكر بالفكر حتى تسقط أوراقهم ‪ ,‬وتسقط أقنعهم ‪ ,‬وزال‬ ‫شبهاتهم بحجج أهل الحق ‪ .‬صحٌح أنهم ممكنون من أوسع المنابر اإلعبلمٌة ‪ :‬المروءة والمسموعة‬ ‫والمربٌة ‪ ,‬ولكن قوة الحق الذي معنا ‪ ,‬ورصٌد اإلٌمان فً قلوب شعوبنا وتؤٌ​ٌد هللا تعلى لنا‪ ،‬كلها كفٌلة‬ ‫أن تهدم باطلهم على رإوسهم‪ ( :‬بل نقذؾ بالحق على الباطل فٌدمؽه فإذا هو زاهق) ‪( ،‬فؤما الزبد‬ ‫فٌذهب جفاء‪ ،‬وأما ما ٌنفع الناس فٌمكث فً األرض)…‬ ‫وصدق هللا العظٌم‪.‬‬


‫إن أول أساس ٌقوم علبه المجتمع السلم وٌقوم به هو العقٌدة ‪ :‬مقٌدة اإلسبلم‪.‬فمهمة المجتمع األولى هً‬ ‫حماٌة هذه العقٌدة ورماٌتها وتثبٌتها ‪ ,‬ومد نورهافً اآلفاق‪.‬وعقٌدة اإلسبلم تتمثل فً اإلٌمان باهلل‬ ‫ومبلبكته وكتبه ورسله والٌوم اآلخر‪ (:‬آمن الرسول بما أنزل إلٌه من ربه والمإمنون‪ ,‬كل آمن‬ ‫رق بٌن أحد من رسله‪ ,‬وقالوا سمعناوأطعنا‪ ,‬ؼفرانك ربنا وإلٌك‬ ‫باللهومبلبكته وكتبه ورسله ال نؾ‬ ‫المصٌر)فهً عقٌدة تبنى وال تهدم‪ ,‬تجمع وال تؽرق‪ ,‬ألنها تقوم على تراث الرساالتاإللهٌة كلها‪ ,‬وعلى‬ ‫اإلٌمان برسل اله جمٌعا‪ ( :‬ال نفرق بٌن أحد من رسله) ‪.‬‬ ‫ولهذه العقٌدة عنوان ٌلخصها أو شعار ٌعبر عنها هو‪ ( :‬شهادة أن ال إله إالاله وأن محمدا رسول اله )‪,‬‬ ‫هذه العقٌدة هً التً تمثل وجهة نظر السلمٌنإلى الكون ورب الكون‪ ,‬وإلى الطبٌعة وما وراء الطبٌعة‪,‬‬ ‫والى الحٌاة وما بعدالحٌاة‪ ,‬وإلى العالم المنظور والعالم ؼٌر المنظور‪ ,‬وبعبارة أخرى‪ :‬إلى الخلقوالخالق‪,‬‬ ‫إلى الدنٌا واآلخرة‪ ,‬إلى عالم الشهادة وعالم الؽٌب‪.‬فهذا الكون بؤرضه وسمابه‪ ,‬بجماده ونباته‪ ,‬وحٌوانه‬ ‫وإنسانه‪ ,‬وجنهومبلبكته ‪ ....‬هذا الكون لم ٌخلق من ؼٌر شا‪ ,‬ولم ٌخلق نفسه‪ ,‬فبل بد لهمن خالق علٌم‬ ‫ٌه بمقدار‬ ‫قدٌر عزٌز حكٌم‪ ,‬خلقه فسواه‪ ,‬وقد قدر كل شا فٌه تقدٌراً‪,‬فكل ذرة فٌه بمٌزان‪ ,‬وكل حركة ؾ‬ ‫وحسبان‪ .‬وذلك الخالق هو هللا‪ ,‬الذي تدل كل كلمه بل كل حرؾ فً كتاب الوجود على مشٌبته وقدرته‪,‬‬ ‫وعلمهوحكمه‪ ( :‬تسبح له السموات السبع واألرض ومن فٌهن‪ ,‬وإن من شا إال ٌسبح بحمده)هذا الخالً‬ ‫ال هو رب السموات واألرض‪ ,‬رب العالمٌن‪ ,‬رب كل شًء‪,‬واحد أحد ال شرٌك له فً ذاته وال فً‬ ‫صفاته‪ ,‬وال فً أفعاله‪ ,‬فهو وحدهالقدٌم األزلً وهو وحده الباقً األبدي‪ ,‬وهو وحده الخالق البارئ‬ ‫المصور‪,‬له األسماء الحسنى‪ ,‬والصفات العبل‪ ,‬ال ند له وال ضد له ‪ ,‬وال ولد له ‪ ,‬والوالد‪ ,‬وال شبٌه وال‬ ‫ول ٌكن له كفواً أحد)هو األول واآلخر والظاهر‬ ‫نظٌر (قل هو هللا أحد‪ ،‬هللا الصمد‪ ،‬لم ٌلد ولم ٌولد‪ ،‬م‬ ‫والباطن‪ ،‬وهو بكل شا علٌم) (لٌس كمثله شا‪ ،‬وهو السمٌع البصٌر)كل ما فً هذا الكون العظم ‪,‬‬ ‫علوٌه وسفلٌه ‪ ,‬صامته وناطقه ‪ ,‬مدل على أنعقبل واحدا ‪ ,‬هو الذي ٌدبر أمره ‪ ,‬وٌداً واحدة هً التً‬ ‫تدٌر رحاه ‪ ,‬وتوجه دفتهوإال الختل نظامه ‪ ,‬وافلت زمامه ‪ ,‬واضطرب مٌزانه ‪ ,‬وتهدم بنٌانه ‪ ,‬تبعا ً‬ ‫لماتقضً به الضرورة من اختبلؾ العقول المتباٌنة التً توجه ‪ ,‬واختبلؾ األٌدٌالمتعددة التً تحرك ‪. .‬‬ ‫وصدق اله العظم إذ ٌقول ( لو كان فٌهما آلهةإال هللا لفسدتا ‪,‬فسبحان هللا رب العرش عما ٌصفون)‬ ‫وقالجل شؤنه ‪ ( :‬ما اتخذ هللا من ولد وما كان معه من إله ‪ ,‬إذ لذهب كئلله بما خلق ولعبل بعضهم على‬ ‫بعض ‪ ,‬سبحان هللا عما ٌصفون )وٌقول ‪ ( :‬قل لو كان معه آلهة كما ٌقولون إذا البتؽوا إلى ذي‬ ‫العرشسبٌبلً ‪ ،‬سبحانه وتعالى عما ٌقولون عبلً كبٌرا ) ‪.‬‬ ‫فالحقٌقة التً ال مراء فٌها‪ :‬أن كل من فى السموات ومن فً األرض عبٌدله‪ ,‬وكل ما فً السموات‬ ‫واألرض ملك له‪ ,‬فلٌس أحد وال شا من العقبلءأو من ؼٌر العقبلء شرٌكا له‪ ,‬أو ولدا له‪ ,‬كما ٌقول‬ ‫الوثنٌ​ٌن وأشباه الوثنٌ​ٌن‪( ،‬وقالوا اتخذ هللا ولداً‪ ،‬سبحانه‪ ،‬بل له ما فً السموات وما فً األرض‪ ،‬كل له‬ ‫قانتون‪ ،‬بدٌع السموات واألرض وإذا قضى أمراً فإنما ٌقول له كن فٌكون)ومن ضل عن هذه الحقٌقه فً‬ ‫الدنٌا فسٌكشؾ عنه الؽطاء فً اآلخرة ‪ ,‬وٌرىالحقٌقة عارٌة واضحة وضوح الشمس فً الضحى‪ ( :‬إن‬ ‫لكل من فٌالسموات واألرض إال آتى الرحمن عبدا أتى أحصاهم وعدهم عداً ‪،‬وكلهم آتٌة ٌوم القٌامة‬ ‫فرداً ) فبل عجب بعد ذلك أن ٌكون هذا الخالق العظٌم‪ ,‬وهذا الرب ال هو وحدهالذي ٌستحق العبادة‬ ‫والطاعة المطلقة‪ ,‬وبعبارة أخرى‪ٌ ( :‬ستحق ؼاٌة الخضوعوؼاٌة الحب‪ ,‬فالمعنى المركب من الخضوع‬ ‫كل الخضوع ‪ ,‬الممزوج بالحب كل الحب‪ ,‬هو الذي نسمٌه العبادة )‪.‬‬ ‫وهذا هو معنى( ال إله إال هللا ) أي ال ٌستحق العبادة ؼٌره ‪ ..‬أو ال ٌستحقكل الخضوع وكل الحب إال‬ ‫هو‪..‬فهو وحده الذي تخضع ألمره الرقاب‪ ,‬وتسجدلعظمته الجباه‪ ,‬وتسبح بحمده األلسنة ‪ ,‬وتقاد لحكمه‬


‫القلوب والعقول واألبدان‪ .‬وهو وحده الذي تتجه إلٌه األفبدة بالحب كل الحب ‪ ,‬فهو المتفرد بالكمال‬ ‫كله‪,‬والكمال من شؤنه أن ٌحب وٌحب صاحبه‪ ,‬وهو مصدر الجمال كله‪ ,‬وما فٌالوجود من جمال فهو‬ ‫مستمد منه‪ ,‬والجمال من شؤنه أن ٌحب وٌحب صاحبه ‪,‬وهو واهب النقم كلها‪ ,‬ومصدر اإلحسان كله (‬ ‫وما بكم من نعمة فمن هللا )واإلحسان دابما ٌحب والنعمة دابما ً تحب وٌحب صاحبها‪.‬معنى « ال إله إال‬ ‫اله » هو رفض الخضوع والعبودٌة لسلطان ؼٌر سلطانه‪,‬وحكم ؼٌر حكمه وأمر ؼٌر أمره‪ ,‬ورفض‬ ‫الوالء إال له‪ ,‬والحب إال له وفٌه ‪.‬‬ ‫وإذا أردنا أن نزٌد هذا المعنى إٌضاحا قلنا‪ :‬إن عناصر التوحٌد كما جاء بهاالقرآن الكرٌم‪ ,‬ثبلثة ذكرتها‬ ‫سورة األنعام‪ ,‬وهى سورة عنٌت بتثبٌت أصول التوحٌد ‪:‬أولها‪ :‬أال تبؽً ؼٌر هللا ربا ً‪( :‬قل أؼٌر هللا‬ ‫أبؽً ربا ً وهو رب كل شا)‪.‬‬ ‫وثانٌها‪ :‬أال تتخذ ؼٌر هللا ولٌا ً ‪( :‬قل أؼٌر هللا اتخذ ولٌا ً فاطر السموات واألرض وهو ٌطعم والٌطعم)‪.‬‬ ‫وثالثها‪ :‬أال تبتؽً ؼٌر هللا حكما ً‪( :‬أفؽٌر هللا ابتؽً حكما ً وهو الذي أنزل إلٌكم الكتاب مفصبلً)‬ ‫معنى العنصر األول ( أال تبتؽى ؼٌر هللا ربا ً )‪ :‬إبطال األرباب المزعومةالتً اتخذها الناس قدٌما ً‬ ‫وحدٌثا ً‪ ,‬فً الشرق والؽرب‪ ,‬سواء أكانت من الحجروالشجر أم من الفضة والتبر‪ ,‬أم من الشمس‬ ‫والقمر‪ ,‬أم من الجن والبشر‪,‬معنى العنصر األول هو رفض لكل األرباب إال هللا وإعبلن الثورة‬ ‫ً‬ ‫علىالمتؤلهٌن فً األرض المستكبرٌن بؽٌر الحق ‪ ,‬الذٌن أرادوا أن ٌتخذوا عباد هللا عبٌداً لهم وخوال‪ (.‬ال‬ ‫إله إال هللا ) هو اإلعبلن العام لتحرٌر اإلنسان من الخضوع والعبودٌة‪,‬إال لخالقه وباربه‪ .‬فبل ٌجوز أن‬ ‫تعنو الوجوه‪ ,‬أو تطاطا الرإوس ‪ ,‬أو تنخفضالجباه‪ ,‬أو تخشع القلوب‪ ,‬إال لقٌوم األرض والسمواتولهذا‬ ‫كان النبً (صلى هللا علٌه وسلم) ٌختم رسابله إلى الملوك واألمراء‪ ,‬والقٌاصرة من النصارىبهذه اآلٌة‬ ‫ثسً​ً وال ٌتخذ‬ ‫الكرٌمة‪ٌ ( :‬ا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بٌنناوبٌنكم أال نعبد إال اله وال نشرك به با‬ ‫بعضنا بعضا أربابا من دون هللا‪ ,‬فإن تولوا فقولوا اشهدوا بؤنا مسلمون) ‪.‬‬ ‫وكانت كلمة ( ربنا هللا) إعبلنا ً بالعصٌان والتمرد على كل جبار فً األرض‪ .‬ومن أجل هذا تعرض‬ ‫موسى للتهدٌد بالقتل‪ ،‬وقام رجل مإمن من آل فرعون ٌدافع عنه وٌقول‪ (:‬أتقتلون رجبلً ٌقول ربً‬ ‫هللا)ومن أجل ذلك تعرض رسولنا ( صلى هللا علٌه وسلم) وـؤصحابه لبلضطهاد واألذى واإلخراج من‬ ‫الدٌار واألموال ( الذٌن أخرجوا من دٌارهم بؽٌر حق إال أن ٌقولوا ربنا هللا)‪.‬‬ ‫ومعنى العنصر الثانً (أال تتخذ ؼٌر هللا ولٌا ً)‪ :‬رفض الوالء لؽٌر هللا وحزبه‪ ،‬فلٌس من التوحٌد أن‬ ‫ٌزعم زاعم أن ربه هو هللا‪ ،‬وربما ألعداء هللا‪ .‬قال تعالى‪ (:‬ال ٌتخذ المإمنون الكافرٌن أولٌاء من دون‬ ‫المإمنٌن‪ ،‬ومن ٌفعل ذلك فلٌس من هللا فً شا) إن حقٌقة التوحٌد لمن آمن بؤن ربه هو هللا ‪ :‬أن ٌخلص‬ ‫والءه له ولمن أمر اللهتعالى بمواالته ‪ ,‬كما قال سبحانه ‪ « :‬إنما ولٌكم هللا ورسوله والذٌن آمنواوالذٌن‬ ‫ٌقٌمون الصبلة وٌإتون الزكاة وهم راكعون ومن ٌتول اللهورسوله والذٌن آمنوا فإن حزب هللا هم‬ ‫الؽالبون) ‪.‬‬ ‫ومن هنا أنكر القرآن على المشركٌن أنهم قسموا قلوبهم بٌنه تعالى وبٌناألنداد التً اتخذوها من األصنام‬ ‫واألوثان‪ ,‬فجعلوا لها من الحب والوالء مثلما جعلوا هلل ‪ ( .‬ومن الناس من ٌتخذ من دون هللا أنداداً‬ ‫ٌحبونهم كحب هللا والذٌن أمنوا أشد حبا ً هلل)‪ .‬إن هللا تعلى ال ٌقبل الشركة فً قلوب عباده المإمنٌن ‪ ,‬فبل‬ ‫ٌجوز أن ٌكون بعض القلب هلل وبعضه للطاؼوتوأن ٌكون بعض والبه للخالق ‪ ,‬وبعضه للمخلوق‪ .‬إن‬ ‫الوالء كله والقلب كلهٌجب أن ٌكون له ‪ ,‬صاحب الخلق كله‪ ,‬واألمر كله ‪ ,‬وهذا هو الفرق بٌن‬


‫المإمنوالمشرك ‪ ,‬المإمن سلم هلل ‪ ,‬خالص العبودٌة له ‪ ,‬والمشرك موزع بٌن هللا وبٌنؽٌر هللا (ضرب‬ ‫هللا مثبلً رجبلً فٌه شركاء متشاكسون ورجبل سلماًلرجل هل ٌستوٌان مثبل ‪,‬الحمد هلل ‪ ,‬بل أكثرهم ال‬ ‫ٌعلمون) ‪.‬‬ ‫ومعنى العنصر الثالث‪ ( :‬أال تبؽى ؼٌر هللا حكما ً ‪ :‬رفض الخضوع لكل حكمؽٌر حكم هللا ‪ ,‬وكل أمر‬ ‫ؼٌر أمر هللا ‪ ,‬وكل نظام ؼٌر نظام هللا ‪ ,‬وكل قانونؽٌر شرع هللا ‪ ,‬وكل وضع أو عرؾ أو تقلٌد أو‬ ‫منهج أو فكرة أو قٌمة لم ٌؤذنبها هللا ‪ .‬ومن قبل شٌبا ً من ذلك حاكما ً كان أو محكوما ً ‪ ,‬ببل إذن من‬ ‫اللهوسلطان ‪ ،‬فقد أبطل عنصراً أساسٌا من عناصر التوحٌد‪ ,‬ألنه ابتؽى ؼٌر اللهحكما ً ‪ ,‬والحكم‬ ‫والتشرٌع من حق هللا وحده‪ ,‬لهذا قال سبحانه‪ ( :‬إن الحكمإال هلل أمر أال تعبدوا إال إٌاه‪ ,‬ذلك الدٌن القٌم‬ ‫ولكن أكثر الناس ال ٌعلمون)‪ .‬وهذا العنصر إنما هو فً الواقع مقتضى إفراد هللا تعالى بالربوبٌة واإللهٌة‬ ‫‪,‬فإن من اتخذ أحدا من عباد هللا شارعا ً وحاكما ً ‪ٌ ,‬ؤمر بما شاء‪ ,‬وٌنهى مماشاء‪ ,‬وٌحلل ما ٌرٌد وٌحرم‬ ‫ما ٌرٌد ‪ ,‬و أعطاه حق الطاعة فً ذلك ولو أحبللحرام ‪ ,‬كالزنا ‪ ,‬والربا ‪ ,‬والخمر ‪ ,‬والمٌسر ‪ ,‬وحرم‬ ‫الحبلل ‪ :‬كالطبلق ‪ ,‬وتعددالزوجات ‪ ,‬وأسقط الواجبات ‪ :‬كالخبلفة ‪ ,‬والجهاد ‪ ,‬والزكاة ‪ ,‬واألمر‬ ‫بالمعروفوالنهى من المنكر ‪ ,‬وإقامة حدود هللا و ؼٌرها ‪ ,‬من اتخذ مثل هذا حكما ً وشارعاًفقد جعله فً‬ ‫الحقٌقة ربا ٌطاع فً كل أمر ‪ ,‬وٌنقاد له فً كل ما شرع‪ .‬وهذاما جاء به القرآن وفسرته السنة النبوٌة‬ ‫‪ ..‬فقد جاء فً سورة التوبة عن أهبللكتاب قوله تعالى‪ ( :‬اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون هللا‬ ‫هوالمسٌح ابن مرٌم وما أمروا إال لٌعبدوا إلها واحداً ‪ ,‬ال إله إال هوسبحانه عما ٌشركون ) ‪.‬‬ ‫فكٌف اتخذوهم أربابا ً وهم لم يسجدوا لهم ولم ٌعبدوهم عبادة األوثان ؟‬ ‫ٌجٌب عن ذلك رسول هللا وكان فٌما رواه اإلمام أحمد والترمذي وابن جرٌر منقصة إسبلم عدى بن‬ ‫حاتم الطابً‪ ،‬وكان قد تنصر فً الجاهلٌة وقدم إلى المدٌنة‪ ,‬وتحدث الناس بقدومه‪ ,‬فدخل على رسول‬ ‫هللا (صلى هللا علٌه وسلم) وفى عنقه صلٌب م ن فضة‪ ،‬وهو ٌقرأ هذه اآلٌة( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم‬ ‫أربابا من دون هللا) قال عدى‪ :‬فقلت‪ :‬إنهم لم ٌعبدوهم فقال (صلى هللا علٌه وسلم)‪( :‬بلى إنهم حرّ موا‬ ‫علٌهم الحبلل وأحلوا لهم الحرام‪ ،‬فاتبعوهم‪ ،‬فذلك عبادتهم إٌاهم)‪.‬‬ ‫قال ابن كثٌر‪ :‬وهكذا قال حذٌفة بن الٌمان‪ ،‬وابن عباس وؼٌرهما فً تفسٌر‪( :‬اتخذوا أحبارهم أربابا ً من‬ ‫دون هللا )‪ :‬أنهم اتبعوهم فٌما حللوا وحرموا‪ ،‬وقال السدى‪ :‬استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب هللا وراء‬ ‫ظهورهمـ ولهذا قال تعالى( ومت أمروا إال لٌعبدوا إلها واحداً)‪ ،‬أي الذي إذا حرم الشًء فهو الحرام‪،‬‬ ‫وما حلله فهو الحبلل‪ ،‬وما شرعه اتبع‪ ،‬وما حكم به نفذ‪ ،‬ال إله إال هو‪ ،‬سبحانه عما ٌشركون‪.‬‬ ‫هذا هو مجمل معنى الكلمة األولى من كلمتً الشهادة‪ .‬كلمة(ال إله إال هللا) ومقتضاه‪ :‬أال تبؽى ؼٌر هللا‬ ‫آٌات‬ ‫ربا‪ ،‬وال تتخذ ؼٌر هللا ولٌا ً‪ .‬وال تبتؽً ؼٌر هللا حكماً‪ ،‬كما نطق القرآن العظٌم فً صرٌح ه‬ ‫المحكمات‪.‬‬ ‫وأما معنى الكلمة الثانٌة من كلمتً الشهادة التً ٌدخل بها المرء باب اإلسبلم فهً‪( :‬محمد رسول هللا)‬ ‫إن اإلقرار هلل تعالى بالوحدانٌة‪ ،‬وإفراده سبحانه باإللهٌة‪ ،‬والربوبٌة‪ ،‬ال ٌؽنً ما لم ٌنضم إلٌها هذا‬ ‫الشطر الثانً‪( :‬محمد رسول هللا)‪ .‬فإن هللا جل شؤنه قد اقتضت حكمته أال ٌدع الناس همبلً‪ ،‬وال ٌتركهم‬ ‫سدىً ‪ ،‬فؤرسل إلٌهم ما بٌن حٌن وآخر مبلؽٌن عنه‪ٌ ،‬هدون خلقه إلٌه‪ ،‬وٌدلونهم علٌه وٌرشدونهم إلى‬ ‫مراضٌه‪ ،‬وٌحذرونهم من مساخطه‪(..‬رسبلً مبشرٌن ومنذرٌن لببل ٌكون للناس على هللا حجة بعد‬ ‫الرسل) كما أن مهمة هإالء الرسل وضع القواعد والقٌم والموازٌن التً تضبط الحٌاة وتنظم المجتمع‪،‬‬ ‫وتهدٌه للتً هً أقوم‪ ،‬وٌحتكم الناس إلٌها إذا اختلفوا‪ ،‬وٌفٌبون إلٌها إذا تنازعواـ فٌجدون فٌها الحق‬ ‫الذي ال باطل معه‪ ،‬والعدل الذي ال ظلم فٌه‪ ،‬والخٌر الذي ٌطرد الشر‪ ،‬والفضٌلة التً تقاوم الرذٌلة‪،‬‬ ‫والفساد واالنحراؾ‪..‬قال تعالى ) لقد أرسلنا رسلنا بالبٌنات وأنزلنا معهم الكتاب والمٌزان لٌقوم الناس‬


‫بالقسط)‪ ،‬فهذا ما أنزل هللا على رسول الكتاب) وهو نصوص الوحً اإللهً المعصوم‪ ،‬و(المٌزان) وهو‬ ‫القٌم والمعاٌ​ٌر الربانٌة النً جاءت بها النبوات من المثل العلٌا والفضابل اإلنسانٌة التً تسٌر فً ضوء‬ ‫(الكتاب) ‪ ،‬ولوال هإالء الرسل لضل الناس السبٌل فً تصورهم لحقٌقٌة األلوهٌة‪ ،‬وطرٌقهم إلى‬ ‫مرضاتها وواجبهم نحوها‪ ..‬وابتدعوا طرابق قددا‪ ،‬وسببل شتى‪ ،‬وما أنزل هللا بها من سلطان‪ .‬سببلً‬ ‫تفرق وال تجمع‪ ،‬وتهدم وال تبنً‪ ،‬وتضل وال تهدي‪ .‬وخاتم هإالء الرسل هو محمد (صلى هللا علٌه‬ ‫وسلم) ‪ ،‬فهو المبلػ عن أمره وشرعه‪ ،‬وبه عرفنا ما ٌرٌد هللا منا‪ ،‬وما ٌرضاه لنا‪ ،‬وما ٌؤمرنا به‪ ،‬وما‬ ‫ٌنهانا عنه‪..‬وبه عرفنا ربنا‪..‬وعرفنا منشؤنا ومصٌرنا‪..‬وعرفنا طرٌقنا بٌن المنشؤ والمصٌر‪..‬عرفنا ما‬ ‫أحله ربنا وما حرمه‪..‬وما فرضه وأوجبه‪..‬ولواله (صلى هللا علٌه وسلم) لعشنا فً ظلمات وعماٌة‪ ،‬ال‬ ‫نعرؾ لنا ؼاٌة‪ ،‬وال نهتدي سبٌبل‪( :‬وقد جاءكم من هللا نور وكتاب مبٌن‪ٌ ،‬هدي به هللا من اتبع رضوانه‬ ‫سبل السبلم وٌخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه وٌهدٌهم إلى صراط مستقٌم)‪.‬‬ ‫به عرفنا أن وراء هذه الحٌاة حٌاة أخرى توفى فٌها كل نفس ما كسبت‪ ،‬وتجزى بما عملت‪ ،‬فٌجزى‬ ‫الذٌن أساءوا بما عملوا‪ ،‬والذٌن أحسنوا بالحسنى‪ .‬به عرفنا أن وراءنا حسابا ومٌزاناً‪ ،‬وثوابا ً وعقابا‪،‬‬ ‫وجنة ونار‪( :‬فمن ٌعمل مثقال ذرة خٌراً ٌره‪ ،‬ومن ٌعمل مثقال ذرة شراً ٌره)‪ .‬به عرفنا مبادئ الحق‪،‬‬ ‫وقواعد العدل‪ ،‬وم عانً الخٌر‪ ،‬فً شرٌعته ال تضل وال تنسى‪ ،‬شرعها من ٌعلم السر وأخفى‪ ،‬من ال‬ ‫تخفى علٌه خافٌة‪ ،‬من ٌعلم المفسد من المصلح‪(..‬أال ٌعلم من خلق وهو اللطٌؾ الخبٌر)‪ .‬ومن ثم كانت‬ ‫كلمة‪( :‬محمد رسول هللا ) تتمة لكلمة‪( :‬ال إله إال هللا)‪ ،‬فهذه معناها أال ٌعبد إال هللا‪ .‬واألخرى معناها‪ :‬أال‬ ‫ٌعبد هللا إال بما شرعه وأوحاه على لسان رسوله‪ .‬وال عجب ـن كانت طاعة رسول هللا جزءاً من طاعة‬ ‫هللا (من ٌطع الرسول فقد أطاع هللا)‪ ،‬وكان أتباعه من أمارات محبة هللا‪( :‬قل إن كنتم تحبون هللا‬ ‫فاتبعونً ٌحببكم هللا وٌؽفر لكم ذنوبكم‪ ،‬وهللا ؼفور رحٌم) وكان الرضا بحكمه وشرعه جزءا ال ٌتجزأ‬ ‫من اإلٌمان باهلل تعالى‪ ,‬وال ٌعد فً زمرة المإمنٌن من رفض أمرا وحكما حكم به رسول هللا (صلى هللا‬ ‫علٌه وسلم) ‪ ,‬مما أنزله علٌه من كتابه أو مما أوحاه إلٌه بٌانا لهذا الكتاب ‪ ,‬فقد أرسله مبٌنا للناس ما‬ ‫نزل إلٌهم ‪ .‬وهذا أمر بٌن ؼاٌة البٌان فً القرآن الكرٌم ‪ ,‬فلٌس بمإمن أبدا من احتكم إلى ؼٌر رسول‬ ‫اله ‪ ,‬أو رد حكمه ‪ ,‬أو تردد فٌه مجرد تردد ‪.‬‬ ‫ٌقول القرآن العزٌز‪ (:‬وما كان لمإمن وال مإمنة إذا قضى هللا ورسوله أمرا أن ٌكون لهم الخٌرة من‬ ‫أمرهم‪ ،‬ومن ٌعص هللا ورسوله فقد ضل ضبلال مبٌنا ً)‪ .‬وٌقول سبحانه مندداً بقوم من مرضى القلوب‬ ‫من المنافقٌن ‪ ( :‬وٌقولون آمنتا باهلل وبالرسول وأطعنا ثم ٌتولى فرٌق منهم من بعد ذلك‪ ،‬وما أولبك‬ ‫بالمإمنٌن‪ ،‬وإذا دعوا إلى هللا ورسوله لٌحكم بٌنهم إذا فرٌق منهم معرضون‪ ،‬وإن ٌكن لهم الحق ٌؤتون‬ ‫إلٌه مذعنٌن‪ ،‬أفً قلوبهم مرض أم ارتابوا أم ٌخافون أن ٌحٌؾ هللا علٌهم ورسوله‪ ،‬بل أولبك هم‬ ‫الظالمون‪ ،‬إنما كان قول المإمنٌن إذا دعوا إلى هللا ورسوله لٌحكم بٌنهم أن ٌقولوا سمعنا وأطعنا‪،‬‬ ‫وأولبك هم المفلحون) وٌقول مم شؤن من تردد فً قبول حكم رسول هللا(صلى هللا علٌه وسلم) ‪ ,‬ورضى‬ ‫االحتكام إلى آخرٌن م ن البشر‪ ,‬قٌل إنهم بعض الٌهود ( ألم تر إلى الذٌن ٌزعمون أنهم آمنوا بما أنزل‬ ‫إلٌك وما أنزل من قبلك ٌرٌدون أن ٌتحاكموا إلى الطاؼوت وقد أمروا أن ٌكفروا به وٌرٌد الشطٌان أن‬ ‫ٌضلهم ضبلالً بعٌداً‪ ،‬وإذا قٌل لهم تعالوا إلى ما أنزل هللا وإلى الرسول رأٌت المنافقٌن ٌصدون عنك‬ ‫صدوداً)‪..‬إلى أن قال مقسما ً ومإكداً‪ ( :‬فبل وربك ال ٌإمنون حتى ٌحكموك فٌما شجر بٌنهم ثم ال ٌجدون‬ ‫فً أنفسهم حرجا ً مما قضٌت وٌسلموا تسلٌما ً) هذا هو شؤن المإمنٌن مع رسول هللا (صلى هللا علٌه‬ ‫وسلم) ‪ ,‬وحكم رسول هللا ‪ ,‬وشرع رسول هللا ‪ :‬إنهم ال ٌتردون لحظة فً قبول الحكم أو رفضه ‪,‬‬ ‫وبعبارة أخرى ‪ -‬لٌس لهم الخٌرة من أمرهم ‪ ,‬وال ٌتولون عن االنقٌاد والطاعة ‪ ,‬كما ٌفعل المنافقون بل‬ ‫شعارهم ومبدإهم دابما ‪ « :‬سمعنا وأطعنا » ‪.‬‬


‫وهذا بخبلؾ المنافقٌن الذٌن ٌرضون االحتكام إلى ؼٌر هللا ورسوله ‪ -‬وكل ما سوى هللا ورسوله ‪ .‬فهو‬ ‫طاؼوت ‪ -‬ولهذا قال تعالى ‪ٌ( :‬رٌدون أن ٌتحاكموا إلى الطاؼوت ) ‪ . .‬فهما حكمان ال ثالث لهما ‪ :‬إما‬ ‫هللا وإما الطاؼوت ‪.‬‬ ‫لقد رسمت اآلٌات صورة المنافقٌن وموقفهم من شرع هللا وحكم رسوله ‪( :‬وإذا قٌل لهم تعالوا إلى ما‬ ‫أنزل هللا وإلى الرسول رأٌت المنافقٌن ٌصدون عنك صدودا) ونفت ‪ -‬بشدة ‪ -‬اإلٌمان عمن لم ٌحكم‬ ‫رسول هللا فً حٌاته ‪ ,‬وٌحكم بسنته بعد مماته ‪ .‬ولم ٌكتؾ بذلك فاشترط الرضا والسلم بهذا الحكم ‪ ,‬فهذه‬ ‫هً طبٌعة اإلٌمان وثمرته ‪(:‬ثم ال ٌجدوا فً أنفسهم حرجا ً مما قضٌت وٌسلموا تسلٌما) فمن أعرض‬ ‫عن هذه النذر كلها ‪ ,‬وأصم أذنه عن هذه اآلٌات‪,‬وتلقى شرابعه وقوانٌنه ونظمه وتقالٌده ‪ ,‬وقٌمه‬ ‫وموازٌنه ومفاهٌمه وتصوراته عن ؼٌر طرٌق رسول هللا (صلى هللا علٌه وسلم)‪ ،‬ورضً بؤن ٌحكم فً‬ ‫هذه األمور الخطٌرة فبلسفة من الشرق أو الؽرب‪ ،‬أو علماء أو حكماء‪ ،‬أو مشرعٌن ‪-‬سمهم كما تشاء‪-‬‬ ‫فقد ضاد هللا فٌما شرع‪ ،‬ونا صب هللا ورسوله العداء‪ ،‬ومرق من الدٌن كما ٌمرق السهم من الرمٌة‪ ،‬وال‬ ‫ؼرو أن حكم كتاب هللا بالكفر والظلم والفسوق على من لم ٌحكم بما أنزل هللا‪ ،‬فقال فً سٌاق واحد من‬ ‫سورة المابدة‪( :‬ومن لم ٌحكم بما أنزل هللا فؤولبك هم الكافرون)‪( ،‬ومن لم ٌحكم بما أنزل هللا فؤولبك هم‬ ‫الظالمون)‪( ،‬ومن لم ٌحكم بما أنزل هللا فؤولبك هم الفاسقون)‪ .‬واستعمال هذه األلفاظ فً القرآن الكرٌم‬ ‫ٌدل على أن معانٌها متقاربة‪ .‬قال تعالى‪ ( :‬والكافرون هم الظالمون)‪ ( ،‬ومن كفر بعد ذلك فؤولبك هم‬ ‫الفاسقون) ‪ ( ،‬وما ٌجحد بآٌاتنا إال الكافرون) فالذي ال ٌحكم بما أنزل هللا كافر أو ظالم أو فاسق‪ ،‬أو‬ ‫جامع لهذه الصفات كلها‪ .‬وخصوصا إذا اعتقد أن ما أنزل هللا‪ٌ ،‬مثل الجمود والتخلؾ والرجعٌة‪ ،‬وما‬ ‫شرع الناس هو التطور والتقدم الذي ٌصلح به المجتمع وترتقى به الحٌاة! ومن التحرٌؾ الظالم آلٌات‬ ‫الخالق ‪ ,‬والسخرٌة الصارخة بعقول الخلق ‪ ,‬أن ٌقول قابل ‪ :‬إن هذه اآلٌات نزلت فً شؤن أهل الكتاب‬ ‫من الٌهود والنصارى ‪ ,‬ونسى هذا القابل الجريء ‪ -‬أو تناسى ‪ -‬أن هذه اآلٌات الحكمة ‪ -‬وان نزلت فً‬ ‫سٌاق خاص ‪ -‬قد جاءت بؤلفاظ عامة ‪ ,‬تتناول بحكمها جمٌع األفراد الذٌن ٌشملهم مدلولها وهم كل ( من‬ ‫لم ٌحكم بما أنزل اله ) ‪ ,‬فالمدار على عموم اللفظ ‪ ,‬ال على خصوص السبب كما قرر أبمة اإلسبلم ‪.‬‬ ‫ومحال أن ٌدمػ هللا بالظلم والكفر والفسوق أهل الكتاب األول ‪ ,‬ألنهم طرحوا ما أنزل اله وراءهم‬ ‫ظهرٌا ‪ ,‬ولم ٌحكموا به ‪ ,‬ثم ٌبٌح ›للمسلمٌن وحدهم ‪ -‬وهم أهل الكتاب اآلخر الخاتم ‪ -‬أن ٌتخذوا كتاب‬ ‫اله مهجورا ‪ ,‬وٌتخذوا ؼٌره منهاجا ودستورا !! ما فابدة ذكر هذه اآلٌات فً سٌاق الحدٌث عن أهل‬ ‫الكتاب ‪ ,‬إن لم ٌكن المقصود منها تحذٌر السلمٌن أن ٌصنعوا مثل صنٌعهم ‪ ,‬وٌحكموا بؽٌر شرٌعة‬ ‫ربهم ‪ ,‬فٌدمؽوا بمثل ما دمؽوا به ‪ ,‬وهل علٌهم عذاب هللا وؼضبه ‪ ( :‬ومن ٌحلل عٌه ؼضبى فقد هوى‬ ‫) ‪ .‬لماذا أنزل هللا للناس كتاب وبعث لهم رسول ‪ ,‬إذا كان من حق الناس أن ٌهملوا الكتاب وٌعصوا‬ ‫الرسول ؟) وقد قال تبارك وتعالى ‪ :‬إنا أنزلنا إلٌك الكتاب بالحق لتحكم بٌن الناس بما أراك هللا)‪( ،‬وما‬ ‫أرسلنا ن\من رسول إال لٌطاع بإذن هللا)‪،‬ومن ثم خاطب هللا رسوله بعد أن ذكر اآلٌات السابقة‪( :‬وأنزلنا‬ ‫إلٌك المباب بالحق مصدقا ً لما بٌن ٌدٌه من الكتاب ومهٌمنا ً علٌه‪ ،‬فاحكم بٌنهم بما أنزل هللا‪ ،‬وال تبع‬ ‫أهواءهم عما جاءك من الحق)‪ ،‬ثم ٌقول فً اآلٌة التالٌة‪( :‬وأن احكم بٌنهم هللا إلٌك‪ ،‬فإن تولوا فاعلم إنما‬ ‫ٌرٌد هللا أن ٌصٌبهم ببعض ذنوبهم‪ ،‬وإن كثٌراً من الناس لفاسقون‪ ،‬أفحكم الجاهلٌة ٌبؽون الجاهلٌة‬ ‫ٌبؽون‪ ،‬ومن أحسن منه هللا حكما ً لقوم ٌوقنون)‪.‬‬ ‫فهما حكمان ال ثالث لهما‪ :‬إما اإلسبلم‪ ،‬وإما الجاهلٌة‪ .‬وهما حكمان ال ثالث لهما‪ :‬إما هللا‪ ،‬وإما‬ ‫الطاؼوت‪ .‬فلٌختر امرإ لنفسه‪..‬ولٌختر قوم ألنفسهم‪ :‬إما هللا واإلسبلم‪ ،‬وإما الطاؼوت والجاهلٌة‪ ..‬وال‬ ‫وسط دون ذلك‪.‬‬ ‫أما الذٌن آمنوا فلٌس لهم الخٌرة من أمرهم‪ :‬إنهم مع حكم هللا ورسوله‪ ،‬إنهم مع اإلسبلم‪..‬إنهم حرب على‬ ‫الطاؼوت والجاهلٌة‪ .‬إن شعارهم إذا دعوا إلى هللا ورسوله لٌحكم بٌنهم ‪ (:‬سمعنا وأطعنا)‪ .‬وأما الذٌن‬


‫كفروا فهم دابما ً فً سبٌل الطاؼوت‪ ،‬وهم دابما ً متردون فً حفر الجاهلٌة (والذٌن كفروا أولٌاإهم‬ ‫الطاؼوت ٌخرجونهم من النور إلى الظلمات‪ ،‬أولبك أصحاب النار‪ ،‬هم فٌها خالدون)‪.‬‬ ‫وهنا مالحظتان مهمتان ‪:‬‬ ‫األولى ‪ :‬أن الحكم بما أنزل اله فرٌضة محكمة ال ٌخالؾ فٌها مسلم ‪ ,‬وهى مساوٌة لما شاع فً ممرنا‬ ‫من تعبٌر ( الحاكمٌة هلل ) عز وجل ‪ .‬وهى تعنى ‪ :‬الحاكمٌة التشرٌعٌة اآلمرة الناهٌة ‪ ,‬المحللة‬ ‫والمحرمة ‪ ,‬المتفردة باإللزام والتكلٌؾ للخلق كافة ‪.‬‬ ‫وقد توهم بعض الناس أن هذه الفكرة من مبتكرات المودودى فً باكستان ‪ ,‬أو سٌد قطب فً مصر ‪.‬‬ ‫والواقع ‪ :‬أن هذه الفكرة مؤخوذة من علم ( أصول الفقه ) اإلسبلمً ‪ ,‬واألصولٌون ٌذكرون ذلك فً‬ ‫مبعث ( الحكم ) من مقدمات علم األصول ‪ ,‬وفى موضوع ( الحاكم ) من هو ؟ فكلهم متفقون على أن‬ ‫الحاكم هو هللا ‪ .‬أي صاحب الحق المطبق فً التشرٌع لخلقه ‪ .‬حتى المعتزلة ال ٌخالفون فً ذلك ‪ ,‬كما‬ ‫بٌنه شارح ( مسلم الثبوت ) من كتب األصول المشهورة‪.‬‬ ‫والدالبل على ثبوت هذا المبدأ من القرآن والسنة بٌنة واضحة ‪ .‬سقنا بعضها فً بٌان فرضٌة الحكم بما‬ ‫أنزل هللا ‪.‬‬ ‫الثانٌة ‪ :‬أن الحاكمٌة أو الحكم بما أنزل اله تعالى ‪ ,‬ال ٌلؽى دور اإلنسان ‪ ,‬فاإلنسان هو الذي ٌفهم‬ ‫النصوص الوجهة إلٌه ‪ ,‬وٌستنبط منها ‪ ,‬وٌمبل الفراغ فٌما ال نص فٌه ‪ ,‬مما سمٌاه ( منطقة العفو) وهى‬ ‫منطقة واسعة ‪ ,‬تركها الشارع قصداً ‪ ,‬رحمة بنا فٌر نسٌان ‪ ,‬فهنا ٌجول العقل المسلم وٌصول ‪ ,‬وٌجتهد‬ ‫فً ضوء النصوص واألصول ‪.‬‬

‫معنى قيام المجتمع على عقيدة اإلسالم‬ ‫هذه هً العقٌدة التً ٌقوم علٌها المجتمع المسلم‪:‬عقٌدة ( ال إله إال هللا‪ ,‬محمد رسول اله) ومعنى قٌام‬ ‫المجتمع المسلم على العقٌدة اإلسبلمٌة ‪ :‬أنه ٌقوم على احترام هذه المٌاه وتقدٌسها ‪ ,‬وٌعمل على تثبٌتها‬ ‫فً العقول والقلوب ‪ٌ ,‬ربً ناشبة المسلمٌن علٌها ‪ ,‬وٌرد عنها أباطٌل المفترٌن ‪ ,‬وشبهات المضللٌن‪ ,‬و‬ ‫ٌجلً فضابلها وآثارها فً حٌاة الفرد والمجتمع ‪ ,‬عن طرٌق األجهزة التوجٌهٌة التً تإثر فً سٌر‬ ‫المجتمع ‪ ,‬من المساجد والمدارس والصحافة واإلذاعة والتلٌفزٌون والمسرح والسٌنما واألدب بكل فنونه‬ ‫‪ ,‬من شعر ونثر وقصص‬ ‫وتمثٌل ‪ .‬لٌس معنى قٌام المجتمع المسلم على العقٌدة اإلسبلمٌة إكراه ؼٌر المسلمٌن على التخلً عن‬ ‫عقابدهم ‪ ,‬كبل ‪ ,‬فذلك لم ٌخطر ببال السلم من قبل ‪ ,‬ولن ٌخطر من بعد ‪ ,‬ألن القرآن حسم هذه القضٌة‬ ‫من قدٌم ‪ ,‬حٌن أعلن بصرٌح العبارة أنه ( ال إكراه فً الدٌن‪ ،‬قد تبٌن الرشد من ألؽً)‪.‬‬ ‫وقد أثبت التارٌخ أن المجتمع اإلسبلمً ‪ ,‬فً عصور ازدهاره ‪ ,‬كان أكثر المجتمعات سماحة مع‬ ‫المخالفٌن له فً العقٌدة ‪ ,‬بشهادة األجانب أنفسهم ‪.‬‬ ‫معنى قٌام المجتمع على العقٌدة اإلسبلمٌة ‪ ,‬أنه لٌس مجتمعا ساببا ‪ ,‬بل هو مجتمع ملتزم ‪ ..‬قد التزم‬ ‫عقٌدة اإلسبلم ‪ ,‬فلٌس مجتمعا مادٌا ‪ ,‬وال مجتمعا علمانٌا ( ال دٌنٌا ) ‪ ,‬وال مجتمعا وثنٌا ‪ ,‬وال مجتم عا‬


‫ٌهودٌا أو نصرانٌا ‪ ,‬وال مجتمعا ً لٌبرالٌا رأسمالٌا ً‪ ,‬وال مجتمعا ً اشتراكٌا ماركسٌا ً ‪.‬‬ ‫إنما هو مجتمعا ٌدٌن بعقٌدة التوحٌد‪ ,‬عقٌدة اإلسبلم ‪ ,‬وعقٌدة اإلسبلم تعلو وال تعلى ‪ ....‬عقٌدة اإلسبلم‬ ‫ال تقبل أن تكون على هامش الحٌاة فً المجتمع وأن تزاحمها عقٌدة أخرى تبدل نظرة الناس إلى هللا‬ ‫واإلنسان ‪ ,‬والكون والحٌاة ‪.‬‬ ‫فلٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌختفً فً توجٌه اسم (هللا ) لٌحل اسم ( الطبٌعة) فاألنهار من هبة‬ ‫الطبٌعة ‪ ,‬والؽابات منحة من الطبٌعة‪ ،‬والطبٌعة هً التً أنشؤت هذا الشًء وطورت ذاك الشًء ‪,‬‬ ‫ولٌس هو هللا خالق كل شًء ورب كل شًء ومدبر كل أمر ‪.‬‬ ‫إن تصور المجتمع الؽربً لئللهٌة وعبلقتها بالكون‪ :‬أن هللا خلق الكون وتركه‪ ،‬فلٌس له إشراؾ علٌه‪،‬‬ ‫وال إحاطة به‪ ،‬وال تدبٌر له‪ ،‬وٌشبه أن ٌكون هذا مستمداً من تصور الفلسفة الٌونانٌة لئلله‪ ،‬وخاصة‬ ‫فلسفة (أرسطو) الذي ال ٌعلم اإلله ‪-‬عنده‪ -‬شٌبا ً إال عن ذاته‪ :‬أما الكون فبل ٌدبر فٌه أمراً‪ ،‬وال ٌعرؾ‬ ‫عنه خٌراً وال شراً‪ ،‬وأؼرب منه فلٌفة (أفلوطٌن) الذي ال ٌعلم اإلله عنده شٌبا ً حتى عن نفسه‪ .‬أما‬ ‫تصور المجتمع المسلم لئلله‪ ،‬فتعبر عنه هذه اآلٌات وأمثالها‪ (:‬سبح هلل ما فً السموات واألرض‪ ،‬وهو‬ ‫العزٌز الحكٌم‪ ،‬له ملك السموات واألرض‪ٌ ،‬حً وٌمٌت‪ ،‬وهو على كل شًء قدٌر‪ ،‬هو األول وآلخر‬ ‫والظاهر والباطن‪ ،‬وهو بكل شًء علٌم‪ ،‬هو الذي خلق السموات واألرض فً ستة أٌام ثم استوى على‬ ‫العرش‪ٌ ،‬علم ما ٌلج فً األرض وما ٌخرج منها وما ٌنزل من السماء وما ٌعرج فٌها‪ ،‬وهو معكم أٌن ما‬ ‫كنتم‪ ،‬وهللا بما تعملون بصٌر‪ ،‬له ملك السموات واألرض‪ ،‬وإلى هللا ترجع األمور‪ٌ ،‬ولج اللٌل فً النهار‬ ‫وٌولج النهار فً اللٌل‪ ،‬وهو علٌم بذات الصدور‪ .‬ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌنكمش فٌه ( مفهوم‬ ‫اإلٌمان) باهلل ‪ ,‬والدار اآلخرة ‪ ,‬لٌحل محله اإلٌمان بالوجودٌة أو القومٌة أو الوطنٌة ‪ ,‬أو ؼٌر ذلك من‬ ‫األوثان التً عبدها أناس هنا وهناك ‪ ,‬من دون هللا أو مع هللا ‪ ,‬وان لم ٌسموها آلهة ‪.‬‬ ‫ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌتوارى فٌه اسم ( محمد ) صلى هللا علٌه وسلم باعتباره الموجه المعصوم‬ ‫‪ ،‬واألسوة المطاع ‪ ،‬لتبرز أسماء ( ماركس )و ( لٌنٌن) و ( ماو) وؼٌرهم من مفكري الشرق والؽرب ‪.‬‬ ‫ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌهجر فٌه كتاب هللا « القرآن » بوصفه مصدر الهداٌة ‪ ,‬والتشرٌع ‪،‬‬ ‫والحكم ‪ ،‬لتظهر كتب أخرى‪ ,‬تضفً علٌها القداسة ‪ ,‬وتإخذ منها مناهج الفكر والتشرٌع والسلوك ‪ ،‬أو‬ ‫ٌستمد منها القٌم والموازٌن والمثل‪.‬‬ ‫ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌسب فٌه هللا ‪ -‬جل شؤنه‪ -‬وكتبه ورسله ‪ ,‬والناس سكوت على هذا الكفر‬ ‫البواح ‪ ,‬ال ٌستطٌعون أن ٌإدبوا مرتداً كافراً ‪ ,‬أو ٌزجروا زندٌقا فاجراً ‪ ,‬حتى اجترأ ملحد أفاك أن‬ ‫ي‬ ‫ٌنشر فً صحٌفة علنٌة‪ :‬أن اإلنسان العربً الجدٌد هو الذي ٌعتقد أن اله واألدٌان دمى محنطة ؾ‬ ‫متحؾ التارٌخ‪.‬‬ ‫ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌسمح بعقٌدة أخرى تناوئ العقٌدة اإلسبلمٌة ‪ ,‬أو تزاحمها كالعقٌدة‬ ‫الشٌوعٌة ‪ ,‬أو االشتراكٌة ‪ ,‬أو القومٌة عند الؽبلة ‪ .‬وإن من الخطؤ أن ٌظن ظان أن االشتراكٌة ونحوها‬ ‫لٌست عقٌدة تناوئ اإلسبلم وإنما هً مذهب اقتصادي أو اجتماعً ‪ٌ ,‬تخذ أسلوبا معٌنا ً فً تنظٌم شإون‬ ‫الحٌاة وعبلقاتها ‪ ,‬ولٌس له طابع دٌنً حتى ٌسمى ( عقٌدة) ‪ .‬والواقع أن االشتراكٌة العلمٌة ‪ -‬فً نظر‬ ‫أصحابها ‪ -‬فلسفة حٌاة كاملة ‪ ,‬وعقٌدة شاملة ‪ ,‬تتضمن وجهة نظر إلى العالم والى التارٌخ ‪ ,‬والى الحٌاة‬ ‫‪ ,‬والى اإلنسان ‪ ,‬وإلى هللا ‪ ,‬تخالؾ وجهة اإلسبلم ‪ ,‬ولهذا أطلق علٌها وعلى أمثالها بعض المإلفٌن ‪( :‬‬ ‫أدٌان بؽٌر وحً )‪ .‬ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌجعل العقٌدة على هامش حٌاته ‪ ,‬فبل تؤخذ من مناهج‬ ‫التربٌة والتعلٌم ‪ ,‬وال من مناهج الثقافة والفكر ‪ ,‬وال من مناهجاإلعبلم واإلرشاد ‪ ,‬وال من أجهزة‬ ‫التوجٌه والتؤثٌر ‪ ,‬بصفة عامة ‪ ,‬إال حٌزا ضبٌبل ‪ ,‬وموضعا محدوداً ‪ ،‬فلٌس هً الموجه األول ‪ ,‬وال‬


‫المحرك األول ‪ ,‬وال المإثر األول فً حٌاة األفراد ‪ ,‬واألسر والجماعات ‪ ,‬وإنما هً شا ثانوي ٌجا‬ ‫فً ذٌل القافلة ‪ ,‬وفى المكان األخٌر إن بقى له مكان ‪ .‬لقد كانت عقٌدة اإلسبلم فً المجتمع األول ‪ -‬الذي‬ ‫أنشؤه رسول هللا ‪-‬صلى هللا علٌه وسلم ‪ ,‬وورثه من بعده صحابته ‪ ,‬ومن تبعهم بإحسان ‪ -‬هً الدافع‬ ‫األول ‪ ,‬والوجه األول « والمإثر األول ‪ ,‬فً حٌاتهم ‪ ,‬إن لم نقل األوحد ‪.‬‬ ‫كانت العقٌدة هً مصدر التصور والفكر ‪ ,‬وكانت هً أساس الترابط والتجمع ‪ ,‬وكانت هً أساس‬ ‫الحكم والتشرٌع ‪ ,‬وكانت هً الدافع إلى الحركة واالنطبلق ‪ ....‬وكانت هً ٌنبوع الفضابل واألخبلق‬ ‫‪ ...‬كانت هً صانعة البطوالت فً مٌادٌن الجهاد واالستشهاد ‪ ,‬ومجاالت البذل واإلٌثار ‪.‬‬ ‫هكذا كانت العقٌدة وكان أثرها فً المجتمع السلم األول ‪ ,‬وهكذا ٌجب أن تكون ‪ ,‬وأن ٌكون تؤثٌرها فً‬ ‫كل مجتمع ٌرٌد أو ٌراد له أن ٌكون مسلما الٌوم أو ؼدا ‪...‬إن العقٌدة اإلسبلمٌة ‪ -‬بكل أركانها‬ ‫وخصابصها ‪ -‬هً األساس المكٌن ‪ ,‬ألي بنٌان اجتماعً متٌن ‪ .‬وأي بنٌان على ؼٌر عقٌدة فهو بنٌان‬ ‫على الرمال ‪ٌ ,‬وشك أن ٌنهار ‪.‬‬ ‫وأسوأ منه أن ٌراد بنا‪ ,‬مجتمع ٌنتمً إلى اإلسبلم على ؼٌر عقٌدة اإلسبلم ‪ ,‬وإن كتب علٌه ‪ -‬زوراً ‪-‬‬ ‫اسم اإلسبلم ‪ .‬إنه ؼش فً المواد األساسٌة للبناء ‪ ,‬ال ٌلبث أن ٌسقط البناء كله على من فٌه ‪ ( .‬أقمن‬ ‫أسس بنٌانه على تتقوى من هللا ورضوان خٌر أم من أسس بنٌانه على شفا جرؾ هار فانهار به فً نار‬ ‫جهنم ‪ ,‬وهللا ال ٌهدى القوم الظالمٌن)‪.‬‬ ‫لقد رأٌنا المجتمع الشٌوعً ‪-‬أٌام ازدهاره وسلطانه‪ٌ -‬جسد العقٌدة الماركسٌة وفلسفتها المادٌة‪ .‬تمثل ذلك‬ ‫فً دستوره الذي ٌعلن‪ :‬أن ال إله والحٌاة مادة‪ .‬وفً تشرٌعه وقوانٌنه‪ ،‬وفً تربٌته‪ ،‬وتعلٌمه‪ ،‬وفً ثقافته‬ ‫وإعبلمه‪ ،‬وفً سابر أنظمته ومإسساته وسٌاساته‪ .‬وهذا شؤن كل مجتمع عقابدي‪ .‬فبل ؼرو أن ٌكون‬ ‫المجتمع المسلم مرآة تعكس عقٌدته وإٌمانه‪ ،‬ونظرته إلى الكون واإلنسان والحٌاة‪ ،‬وإلى رب الكون‬ ‫وبارئ اإلنسان‪ ،‬وواهب الحٌاة‪.‬‬

‫المجتمع المسلم ومواجهة الردة‬ ‫أشد ما ٌواجه المسلم من األخطار ‪ :‬ما ٌهدد وجوده المعنوي ‪ ,‬أي ما ٌهدد عقٌدته ‪ ,‬ولهذا كانت الردة‬ ‫عن الدٌن ‪ -‬الكفر بعد اإلسبلم ‪ -‬أشد األخطار على المجتمع المسلم ‪ .‬وكان أعظم ما ٌكٌد له أعداإه أن‬ ‫ٌفتنوا أبناءه عن دٌنهم بالقوة والسبلح أو بالمكر والحٌلة ‪ .‬كما قال تعالى ‪ ( :‬وال ٌزالون ٌقاتلونكم حتى‬ ‫ٌردوكم عن دٌنكم إن استطاعوا‪.‬‬ ‫وفى عصرنا تمرض المجتمع المسلم لؽزوات عنٌفة ‪ ,‬وهجمات شرسة ‪ ,‬تهدؾ إلى اقتبلعه من جذوره‬ ‫‪ ,‬تمثلت فً الؽزو التنصٌرى ‪ ,‬الذي بدا مع االستعمار الؽربً ‪ ,‬والذي ال ٌزال ٌمارس نشاطه فً العالم‬ ‫اإلسبلمً ‪ ,‬وفى الجالٌات واألقلٌات اإلسبلمٌة ‪ ,‬ومن أهدافه ‪ :‬تنصٌر المسلمٌن فً العالم ‪ ,‬كما وضح‬ ‫ذلك فً مإتمر « كورادو »› الذي عقد هناك سنة ‪ . 1978‬وقدمت له أربعون دراسة حول اإلسبلم‬ ‫والمسلمٌن ‪ ,‬وكٌفٌة نشر النصرانٌة بٌنهم ‪ .‬ورصد لذلك ألؾ ملٌون دوالر ‪ ,‬وأسس لذلك معهد (‬ ‫زوٌمر) لخرٌج المتخصصٌن فً تنصٌر المسلمٌن ‪.‬‬


‫كما تمثلت فً الؽزو الشٌوعً الذي اجتاح ببلداً إسبلمٌة كاملة فً آسٌا ‪ ,‬وفى أوروبا ‪ ,‬وعمل بكل جهد‬ ‫إلماتة اإلسبلم ‪ ,‬وإخراجه من الحٌاة نهابٌا ً ‪ ,‬وتنشبة أجٌال ال تعرؾ من اإلسبلم كثٌراً وال قلٌبلً‪. .‬‬ ‫وثالثة األثافً ‪ :‬الؽزو العلمانى البلدٌنى ‪ ,‬الذي ال ٌبرح ٌقوم بمهمته إلى الٌوم فً قلب دٌار اإلسبلم ‪,‬‬ ‫ٌستعلن حٌنا ‪ ,‬وٌستخفى أحٌانا ‪ٌ ,‬طارد اإلسبلم الحق ‪ ,‬وٌحتفى باإلسبلم الخرافً ‪ ,‬ولعل هذا الؽزو هو‬ ‫أخبث تلك األنواع وأشدها خطرا ‪ .‬وواجب المجتمع المسلم ‪ -‬لكً ٌحافظ على بقابه ‪ -‬أن ٌقاوم الردة من‬ ‫أي مصدر جاءت وبؤي صورة ظهرت ‪ ,‬وال ٌدع لها الفرصة ‪ ,‬حتى تمتد وتنتشر ‪ ,‬كما تنتشر النار فً‬ ‫الهشٌم ‪.‬‬ ‫وهذا ما صنعه أبو بكر والصحابة ‪ -‬رضى هللا عنهم ‪ -‬معه ‪ ,‬حٌن قاتلوا أهل الردة ‪ ,‬الذٌن اتبعوا‬ ‫األنبٌاء الكذبة ‪ ,‬مسٌلمة وسجاح واألسدى والعنسى وكادوا ٌقضون على اإلسبلم فً مهده ‪.‬‬ ‫ومن الخطر كل الخطر ‪ :‬أن ٌبتلى المجتمع المسلم بالمرتدٌن المارقٌن ‪ ,‬وتشٌع بٌن جنباته الردة ‪ ,‬وال‬ ‫ٌجد من ٌواجهها وٌقاومها ‪ .‬وهو ما عبر عنه أحد العلماء عن الردة التً ذاعت فً هذا العصر بقوله ‪:‬‬ ‫( ردة وال أبا بكر لها ) وال بد من مقاومة الردة الفردٌة وحصارها ‪ ,‬حتى ال تتفاقم وٌتطاٌر شررها‬ ‫وتؽدو ردة جماعٌة ‪ ,‬فمعظم النار من مستصؽر الشرر ‪.‬‬ ‫ومن ثم أجمع فقهاء اإلسبلم على عقوبة المرتد ‪ -‬وإن اختلفوا فً تحدٌدها‪ -‬وجمهورهم على أنها القتل ‪,‬‬ ‫وهو رأى الذاهب األربعة ‪ ,‬بل الثمانٌة ‪.‬‬ ‫وفٌها وردت جملة أحادٌث صحٌحة عن عدد من الصحابة‪ :‬عن ابن عباس وأبى موسى ومعاذ وعلً‬ ‫وعثمان وابن مسعود وعابشة وأنس وأبى هرٌرة ومعاوٌة بن حٌدة‪ .‬وقد جاءت بصٌػ مختلفة ‪ ,‬مثل‬ ‫حدٌث ابن عباس ‪ ( :‬من بدل دٌنه فاقتلوه ) ( رواه الجماعة إال مسلما ً ‪ ,‬ومثله من أبى هرٌرة مند‬ ‫الطبرانى بإسناد حسن ‪ ,‬وعن معاوٌة بن حٌدة بإسناد رجاله ثقات) ‪ .‬وحدٌث ابن مسعود ‪ ( :‬ال ٌحل دم‬ ‫امرئ مسلم ٌشهد أن ال إله إال هللا ‪ ,‬وأنً رسول هللا إال بإحدى ثبلث ‪ :‬النفس بالنفس ‪ ,‬والثٌب الزانى ‪,‬‬ ‫والتارك لدٌنه ‪ ,‬المفارق للجماعة ) ( رواه الجماعة ) ‪ .‬وفى بعض صٌؽه عن عثمان ‪ . . . . ( :‬رجل‬ ‫كفر بعد إسبلمه ‪ ,‬أو زنى بعد إحصانه ‪ ,‬أو قتل نفسا بؽٌر نفس ) ( رواه الترمذى وحسنه والنسابى‬ ‫وابن ماجه ‪ ,‬وقد صح هذا المعنى من رواٌة ابن عباس أٌضا وأبى هرٌرة وأنس ) ‪ .‬قال العبلمة ابن‬ ‫رجب ‪ :‬والقتل بكل واحدة من هذه الخصال متفق علٌه بٌن المسلمٌن‪.‬‬ ‫وقد نفذ علً كرم هللا وجهه عقوبة الردة فً قوم ادعوا ألوهٌته ‪ ,‬فحرقهم بالنار ‪ ,‬بعد أن استتابهم‬ ‫وزجرهم ‪ ,‬فلم ٌتوبوا ولم ٌزدجروا ‪ ,‬طرحهم فً النار وهو ٌقول‪:‬‬ ‫لما رأٌت األمر أمراً منكراً أججت ناري‪ ،‬ودعوت قنبرا‬ ‫وقنبر هو خادمه وؼبلمه‪.‬‬ ‫وقد اعترض علٌه ابن عباس بالحدٌث اآلخر‪ ( :‬ال تعذبوا بعذاب هللا) ورأى أن الواجب أن ٌقتلوا ال أن‬ ‫ٌحرقوا ‪ .‬فكان خبلؾ ابن عباس الوسٌلة ال فً المبدأ ‪.‬‬ ‫وكذلك نفذ أبو موسى ومعاذ القتل فً ٌهودي فً الٌمن أسلم ثم ارتد ‪ .‬وقال معاذ ‪ :‬قضاء هللا ورسوله (‬ ‫متفق علٌه )‪.‬‬ ‫وروى عبد الرزاق ‪ :‬أن ابن مسعود أخذ قوما ً ارتدوا عن اإلسبلم من أهل العراق ‪ ,‬فكتب فٌهم إلى عمر‬ ‫‪ .‬فكتب إلٌه ‪ :‬أن اعرض علٌهم دٌن الحق ‪ ,‬وشهادة أن ال إله إال اله ‪ ,‬فإن قبلوها فخل عنهم ‪ ,‬وإذا لم‬ ‫ٌقبلوها فاقتلهم ‪ ..‬فقبلها بعضهم فتركه ‪ ,‬ولم ٌقبلها بعضهم فقتله ‪.‬‬


‫وروى عن أبى عمرو الشٌبانى أن المستورد العجلً تنصر بعد إسبلمه‪ ,‬فبعث به عتبة بن فرقد إلى‬ ‫علً‪ ,‬فاسستابه فلم ٌتب‪ ،‬فقتله‪. ).‬‬ ‫وقد ذكر شٌخ اإلسبلم ابن تٌمٌة ‪ :‬أن النبً (صلى هللا علٌه وسلم) قبل توبة جماعة من المرتدٌن ‪ ,‬وأمر‬ ‫بقتل جماعة آخرٌن ‪ ,‬ضموا إلى الردة أموراً أخرى تتضمن األذى والضرر لئلسبلم والمسلمٌن ‪ .‬مثل‬ ‫أمره بقتل مقٌس بن حبابة ٌوم الفتح ‪ ,‬لما ضم إلى ردته قتل المسلم وأخذ المال ‪ ,‬ولم ٌتب قبل القدرة‬ ‫علٌه ‪ ,‬وأمر بقتل العرنٌ​ٌن لما ضموا إلى ردتهم نحواً من ذلك ‪ .‬وكذلك أمر بقتل ابن خطل لما ضم إلى‬ ‫ردته السب وقتل المسلم ‪ .‬وأمر بقتل ابن أبى سرح ‪ ,‬لما ضم إلى ردته الطعن علٌه واالفتراء ‪ .‬وفرق‬ ‫ابن تٌمٌة بٌن النوعٌن ‪ :‬أن الردة المجردة تقبل معها التوبة ‪ ,‬والردة التً فٌها محاربة هللا ورسوله‬ ‫والسعً فً األرض بالفساد ال تقبل فٌها التوبة قبل القدرة ‪.‬‬ ‫وقد قٌل‪ :‬لم ٌنقل أن رسول هللا كان قتل مرتداً‪ ,‬وما نقله ابن تٌمٌة ٌنقض هذه الدعوى ‪ .‬ولو صح ذلك‬ ‫فؤلن هذه الجرٌمة لم تظهر فً عهده ‪ .‬كما لم ٌعاقب أحداً عمل عمل قوم لوط ‪ .‬إذ لم تستعلن فً عهده‬ ‫(صلى هللا علٌه وسلم )‪.‬‬ ‫ومع أن الجمهور قالوا بقتل المرتد ‪ ,‬فقد ورد عن عمر بن الخطاب ما ٌخالؾ ذلك ‪ .‬روى عبد الرزاق‬ ‫والبٌهقى وابن حزم ‪ :‬أن أنسا ً عاد من ( تستر) فقدم على عمر ‪ ,‬فسؤله ‪ :‬ما فعل الستة الرهط من بكر‬ ‫بن وابل ‪ ,‬الذٌن ارتدوا من اإلسبلم ‪ ,‬ولحقوا بالمشركٌن‪ ،‬قال‪ٌ :‬ا أمٌر المإمنٌن ‪ ,‬قوم ارتدوا عن‬ ‫اإلسبلم ‪ ,‬ولحقوا بالمشركٌن ‪ ,‬قتلوا بالمعركة ‪ .‬فاسترجع عمر ( أي قال ‪ :‬إنا هلل وإنا إلٌه راجعون ) قال‬ ‫أنس‪ :‬وهل كان سبٌلهم إال القتل ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ,‬كنت أعرض علٌهم اإلسبلم ‪ ,‬فإن أبوا أودعتهم السجن) ‪.‬‬ ‫وهذا هو قول إبراهٌم النخعى‪ ,‬وكذلك قال الثوري ‪ :‬هذا الذي نؤخذ به ‪ .‬وفى لفظ له ‪ٌ :‬إجل ما رجٌت‬ ‫توبته ‪.‬‬ ‫والذي أراه ‪ :‬أن العلماء ‪ ,‬فرقوا فً أمر البدعة بٌن المؽلظة والمخففة ‪ ,‬كما فرقوا فً المبتدعٌن بٌن‬ ‫الداعٌة وؼٌر الداعٌة‪ .‬وكذلك ٌجب أن نفرق فً أمر الردة بٌن الردة الؽلٌظة والخفٌفة ‪ ,‬وفى أمر‬ ‫المرتدٌن بٌن الدامٌة وؼٌر الداعٌة ‪.‬‬ ‫فما كان من الردة مؽلظا ً ‪-‬كردة سلمان رشدي ‪ -‬وكان المرتد دامٌة إلى بدعته بلسانه أو بقلمه ‪ ,‬فاألولى‬ ‫فً التؽلٌظ فً العقوبة‪ ،‬واألخذ بقول جمهور األمة ‪ ,‬وظاهر األحادٌث ‪ ,‬استبصاالً للشر‪ ,‬و سداً لباب‬ ‫الفتنة ‪.‬‬ ‫وإال فٌمكن األ خذ بقول النخعى الثوري وهو ما روى عن الفاروق عمر ‪ .‬إن المرتد الدامٌة إلى الردة‬ ‫لٌس مجرد كافر باإلسبلم ‪ ,‬بل هو حرب علٌه وعلى أمته ‪ ,‬فهو مندرج ضمن الذٌن ٌحاربون هللا‬ ‫ورسوله وٌسعون فً األرض فسادا ‪ .‬والمحاربة ‪ -‬كما قال ابن تٌمٌة ‪ -‬نوعان ‪ :‬محاربة بالٌد ‪,‬‬ ‫ومحارب باللسان ‪ ,‬والمحاربة باللسان فً باب الدٌن ‪ ,‬قد تكون أنكى من المحاربة بالٌد ‪ ,‬ولذا كان النبً‬ ‫ة‬ ‫علٌه الصبلة والسبلم ٌقتل من كان ٌحاربه باللسان ‪ ,‬مع استبقابه بعض من حاربه بالٌد ‪ .‬وكذلك اإلفساد‬ ‫قد ٌكون بالٌد ‪ ،‬وقد ٌكون باللسان ‪ ,‬وما ٌفسده اللسان من األدٌان أضعاؾ ما تفسده الٌد ‪ ..‬فثبت أن‬ ‫محاربة هللا ورسوله باللسان أشد ‪ ,‬والسعً فً األرض بالفساد باللسان أإكد‪ .‬والقلم أحد اللسانٌن ‪ ,‬كما‬ ‫قال الحكماء ‪ ,‬بل ربما كان القلم أشد من اللسان وأنكى ‪ ,‬وال سٌما فً عصرنا ‪ ،‬إلمكان نشر ما ٌكتب‬ ‫على نطاق واسع ‪.‬‬ ‫هذا إلى أن المرتد محكوم علٌه باإلعدام األدبً من الجماعة المسلمة ‪ ,‬فهو‬ ‫محروم من والبها وحبها ومعاونتها ‪ ,‬فاهلل تعالى ٌقول ‪ ( :‬ومن ٌتولهم منكم فإنه منهم )‪ ،‬وهذا أشد من‬ ‫القتل الحسً عند ذوى العقول والضمابر من الناس ‪.‬‬


‫سر التشديد في عقوبة الردة‬ ‫وسر هذا التشدٌد فً مواجهة الردة ‪ :‬أن المجتمع المسلم ٌقوم ‪ -‬أول ما ٌقوم ‪ -‬على العقٌدة واإلٌمان ‪,‬‬ ‫فالعقٌدة أساس هوٌته ‪ ,‬ومحور حٌاته ‪ ,‬ومحور وجوده ولهذا ال ٌسمح ألحد أن ٌنال من هذا األساس ‪,‬‬ ‫أو ٌمس هذه الهوٌة ‪ .‬ومن هناكانت ( الردة المعلنة ) كبرى الجرابم فً نظر اإلسبلم ! ألنها خطر على‬ ‫شخصٌة المجتمع وكٌانه المعنوي ‪ ,‬وخطر على الضرورٌة األولى من الضرورٌات الخمس ( الدٌن‬ ‫والنفس والنسل والعقل والمال ) والدٌن أولها ‪ ,‬ألن المإمن ٌضحً بنفسه ووطنه وماله من أجل دٌنه ‪.‬‬ ‫وإلسبلم ال ٌكره أحداً على الدخول فٌه‪ ،‬وال الخروج من دٌنه إلى دٌن ما‪ ،‬ألن اإلٌمان المعتد هو ما كان‬ ‫عن اختٌار واقتناع‪ .‬وقد قال تعالى فً القرآن المكً‪( :‬أفؤنت تكره الناس حتى ٌكونوا مإمنٌن)‪ ،‬وفً‬ ‫القرآن المدنً‪( :‬ال إكراه فً الدٌن‪ ،‬قد تبٌن الرشد من الؽً)‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ولكنه ال ٌقبل أن ٌكون الدٌن ألعوبة‪ٌ ،‬دخل فٌه الٌوم وٌخرج منه ؼدا‪ ،‬على طرٌقة الٌهود الذٌن قالوا‪( :‬‬ ‫آمنوا بالذي أنزل على الذٌن آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم ٌرجعون)‪.‬‬ ‫وال ٌعقاب اإلسبلم بالقتل المرتد الذي ال ٌجاهر بردته‪ ،‬وال ٌدعو إلٌها ؼٌره‪ ،‬وٌدع عقابه إلى اآلخرة إذا‬ ‫مات على كفره‪ ،‬كما قال تعالى‪( :‬ومن ٌرتدد منكم عن دٌنه فٌمت وهو كافر فؤولبك حبطت أعمالهم فً‬ ‫الدنٌا واآلخرة‪ ،‬وأولبك أصحاب لنار‪ ،‬هم فٌها خالدون)‪ .‬وقد ٌعاقبه عقوبة تعزٌرٌة مناسبة‪.‬‬ ‫إنما ٌعاقب المرتد المجاهر‪ ،‬وبخاصة الداعٌة للردة‪ ،‬حماٌة لهوٌة المجتمع‪ ،‬وحفاظا ً على أسسه ووحدته‪،‬‬ ‫وال ٌوجد مجتمع فً الدنٌا إال وعنده أساسٌات ال ٌسمح بالنٌل منها‪ ،‬مثل ‪ :‬الهوٌة واالنتماء والوالء‪ ،‬فبل‬ ‫ٌقبل أي عمل لتؽٌ​ٌر هوٌة المجتمع‪ ،‬أو تحوٌل والبه ألعدابه‪ ،‬وما شابه ذلك‪ .‬ومن أجل هذا ‪ :‬اعتبرت‬ ‫الخٌانة للوطن‪ ،‬ومواالة أعدابه ‪ -‬باإللقاء بالمودة إلٌهم‪ ،‬وإفشاء األسرار لهم ‪ -‬جرٌمة كبرى‪ .‬ولم ٌقل‬ ‫أحد بجواز إعطاء المواطن حق تؽٌ​ٌر والبه الوطنً لمن ٌشاء‪ ،‬ومتى شاء‪.‬‬ ‫والردة لٌست مجرد موقؾ عقلً‪ ،‬ببل هً أٌضا ً تؽٌر للوالء‪ ،‬وتبدٌل للهوٌة‪ ،‬وتحوٌل لبلنتماء‪ .‬فالمرتد‬ ‫ٌنقل والءه وانتماءه من أمة ألخرى‪ ،‬ومن وطن إلى وطن آخر‪ ،‬أي من دار اإلسبلم إلى دار أخرى‪.‬‬ ‫فهو ٌخلع نفسه من أمة اإلسبلم‪ ،‬التً كان عضواً فٌجسدها‪ ،‬وٌنضم بعقله وقلبه وإرادته إلى خصومها‪.‬‬ ‫وٌعبر عن ذلك الحدٌث النبوي بقوله‪ ( :‬التارك لدٌنه‪ ،‬المفارق للجماعة)‪ .‬كما فً حٌث ابن مسعود‬ ‫المتفق علٌه‪ .‬وكلمة (المفارق للجماعة) وصؾ كاشؾ ال منشا‪ ،‬فكل مرتد عن دٌنه مفارق للجماعة‪.‬‬ ‫ومهما ٌكن من جرمه‪ ،‬فنحن ال نشق عن قلبه‪ ،‬وال نتسور علٌه بٌته‪ ،‬وال نحاسبه إال على ما ٌعلنه جهرة‬ ‫‪ :‬بلسانه أو قلم ه أو فعله‪ ،‬مما ٌكون كفراً بواحا ً صرٌحا ً ال مجال فٌه لتؤوٌل أو احتمال‪ ،‬فؤي شك فً ذلك‬ ‫ٌفسر لمصلحة المتهم بالردة‪ .‬إن التهاون فً عقوبة المرتد المعالن الداعٌة‪ٌ ،‬عرض المجتمع كله للخطر‪،‬‬ ‫وٌفتح علٌه باب فتنة ال ٌعلم عواقبها إال هللا سبحانه‪ ،‬فبل ٌلبث المرتد أن ٌؽرر بؽٌره وخصوصا ً من‬ ‫الضعفاء والبسطاء من الناس وتتكون جماعة مناوبة لؤلمة تستبٌح لنفسها االستعانة بؤعداء األمة علٌها‪،‬‬ ‫وبذلك تقع صراع وتمزق فكري واجتماعً وسٌاسً‪ ،‬قد ٌتطور إلى صاع دموي بل حرب أهلٌة تؤكل‬ ‫األخضر والٌابس‪ .‬وهذا ما حدث بالفعل فً أفؽانستان‪ :‬مجموعة محدودة مرقوا من دٌنهم‪ ،‬واعتنقوا‬ ‫العقٌدة الشٌوعٌة بعد أن درسوا فً روسٌا‪ ،‬وجندوا فً صفوؾ الحزب الشٌوعً‪ ،‬وفً ؼفلة من الزمن‬ ‫وثبوا على الحكم‪ ،‬وطفقوا ٌؽٌرون هوٌة المجتمع كله‪ ،‬بما تحت أٌدٌهم من سلطان وإمكانات‪ .‬ولم ٌسلم‬ ‫أبناء الشعب األفؽانً لهم‪ ،‬بل قاوموا ثم قاوموا‪ ،‬و اتسعت المقاومة التً كونت الجهاد األفؽانً الباسل‬ ‫ضد المرتدٌن الشٌوعٌ​ٌن الذٌن لم ٌبالوا أن ٌستنصروا على أهلٌهم وقومهم بالروس‪ٌ ،‬دكون وطنهم‬ ‫بالدبابات وٌقذفونه بالطابرات‪ ،‬وٌدمرونه وكان ضحاٌا المبلٌ​ٌن من القتلى والمعوقٌن والمصابٌن‬


‫والٌتامى واألرامل والثكالى‪ ،‬والخراب الذي أصاب الببلد وأهلك الزرع والضرع‪.‬‬ ‫كل هذا لم ٌكن إال أثراً للؽفلة عن المرتدٌن‪ ،‬والتهاون فً أمرهم والسكوت على جرٌمتهم فً أول‬ ‫األمر‪ .‬ولو عوقب هإالء المارقون الخونة‪ ،‬قبل أ‪ٌ ،‬ستفحل أمرهم‪ ،‬لوقً الشعب والوطن شرور هذه‬ ‫الحرب الضروس وآثارها المدمرة على الببلد والعباد‪.‬‬

‫أمور مهمة تجب مراعاتها‬ ‫والذي أرٌد أن أذكره هنا جملة أمور ‪:‬‬ ‫األول‪ :‬أن الحكم بردة مسلم عن دٌنه أمر خطٌر جداً‪ٌ ،‬ترتب علٌه حرمانه من كل والء وارتباط‬ ‫باألسرة والمجتمع‪ ،‬حتى إنه ٌفرق بٌنه وبٌن زوجة وأوالده‪ ،‬إذ ال ٌحل لمسلمة أن تكون فً عصمة‬ ‫كافر‪ ،‬كما أن أوالده لم ٌعد مإتمنا ً علٌهم‪ ،‬فضبلً عن العقوبة المادٌة التً أجمع علٌها الفقهاء فً جملتها‪.‬‬ ‫لهذا وجب االحتٌاط كل االحتٌاط عند الحكم بتكفٌر مسلم ثبت إسبلمه ألنه مسلم بٌقٌن‪ ،‬فبل ٌزال الٌقٌن‬ ‫بالشك‪.‬‬ ‫ومن أشد األمور خطراً‪ :‬تكفٌر من لٌس بكافر‪ ،‬وقد حذرت من ذلك السنة النبوٌة‪ ،‬أبلػ التحذٌر‪ .‬وقد‬ ‫كتبت فً ذلك رسالة (ظاهرة الؽلو فً التكفٌر) لمقاومة تلك الموجة العاتٌة‪ .‬التً انتشرت فً وقت ما‪:‬‬ ‫التوسع فً التكفٌر‪ ،‬وال ٌزال ٌوجد من ٌعتنقها‪.‬‬ ‫الثانً‪ :‬أن الذي ٌملك الفتوى بردة امرئ مسلم‪ ،‬هم الراسخون فً العلم من أهل االختصاص الذٌن‬ ‫ٌمٌزون بٌن القطعً والظنً بٌن المحكم والمتشابه‪ ،‬بٌن ما ٌقبل التؤوٌل وبٌن ما ال ٌقبل التؤوٌل‪ ،‬فبل‬ ‫ٌكفرون إال بما ال ٌجدون له مخرجا ً مثل ‪ :‬إنكار المعلوم من الدٌن بالضرورة‪ ،‬أو وضعه موضع‬ ‫السخرٌة من عقٌدة أو شرٌعة‪ ،‬ومثل سب هللا تعالى ورسوله وكتابه عبلنٌة‪ ،‬ونحو ذلك‪ .‬مثال ذلك‪ :‬ما‬ ‫أفتى به العلماء من ردة سلمان رشدي‪ ،‬ومثله رشاد خلٌفة الذي بدأ بإنكار السنة ثم أنكر آٌتٌن من القرآن‬ ‫فً آخر سورة التوبة ثم ختم كفره بدعوى أنه رسول هللا‪ ،‬قاببلً إن محمد (صلى هللا علٌه وسلم) خاتم‬ ‫النبٌ​ٌن ‪ ،‬ولٌس خاتم المرسلٌن!! وقد صدر بذلك قرار من مجلس المجتمع الفقهً لرابطة العالم‬ ‫اإلسبلمً‪.‬‬ ‫وال ٌجوز ترك مثل هذا األمر إلى المتسرعٌن أو الؽبلة‪ ،‬أو قلٌلً البضاعة من العالم‪ ،‬لٌقولوا على هللا‬ ‫ما ال ٌعلمون‪.‬‬ ‫الثالث ‪ :‬أن الذي ٌنفذ هذا هو ولى األمر الشرعً ‪ ,‬بعد حكم القضاء اإلسبلمً المختص ‪ ,‬الذي ال‬ ‫ٌحتكم إال إلى شرع هللا عز وجل ‪ ,‬وال ٌرجع إال إلى المحكمات البٌنات من كتاب اله تعالى وسنة‬ ‫رسوله ( صلى هللا علٌه وسلم) ‪ ,‬وهما اللذان ٌرجع إلٌهما إذا اختلؾ الناس ‪ ( :‬فإن تنازعتم فً شا‬ ‫فردوه إلى هللا والرسول إن كنتم تإمنون باهلل والٌوم اآلخر ) ‪.‬‬ ‫واألصل فً القاضً فً اإلسبلم أن ٌكون من أهل االجتهاد ‪ ,‬فإذا لم ٌتوافر فٌه ذلك استعان بؤهل‬ ‫االجتهاد ‪ ,‬حتى ٌبٌن له الحق ‪ .‬وال ٌقضى على جهل ‪ ,‬أو ٌقضى بالهوى ‪ ,‬فٌكون من قضاة النار ‪.‬‬


‫الرابع ‪ :‬أن جهور الفقهاء قالوا بوجوب استتابة المرتد ‪ ,‬قبل تنفٌذ العقوبة فٌه ‪ .‬بل قال شٌخ اإلسبلم ابن‬ ‫تٌمٌة فً كتاب (الصارم المسلول على شاتم الرسول ) ‪ :‬هو إجماع الصحابة رضً هللا عنهم ‪ ,‬وبعض‬ ‫الفقهاء حددها بثبلثة أٌام ‪ ,‬وبعضهم بؤقل ‪ ,‬وبعضهم بؤكثر ‪ ,‬ومنهم من قال ‪ٌ :‬ستتاب أبداً ‪.‬‬ ‫واستثنى بعضهم الزندٌق ‪ ,‬ألنه ٌظهر ؼٌر ما ٌبطن ‪ ,‬فبل توبة له ‪ ,‬وكذلك ساب الرسول ( صلى هللا‬ ‫علٌه وسلم) ‪ ,‬لحرمة رسول هللا وكرامته ‪ ,‬فبل تقبل منه توبة ‪ ,‬وألؾ ابن تٌمٌة كتابه فً ذلك ‪.‬‬ ‫والمقصود بذلك إعطاإه الفرصة لٌراجع نفسه ‪ ,‬عسى أن تزول منه الشبهة ‪ ,‬وتقوم علٌه الحجة ‪ ,‬إن‬ ‫كان ٌطلب الحقٌقة بإخبلص ‪ ,‬وان كان له هوى ‪ ,‬أو ٌعمل لحساب آخرٌن ‪ٌ ,‬ولٌه هللا ما تولى ‪.‬‬ ‫ومن المعاصرٌن من قال ‪ :‬إن قبول التوبة إلى هللا ولٌس إلى اإلنسان ‪ ,‬ولكن هذا فً أحكام اآلخرة ‪ .‬أما‬ ‫فً أحكام الدنٌا فنحن نقبل التوبة الظاهرة ‪ ,‬ونقبل اإلسبلم الظاهر ‪ ,‬وال ننقب عن قلوب الخلق ‪ ,‬فقد‬ ‫أمرنا أن نحكم بالظاهر ‪ ,‬وهللا ٌتولى السرابر ‪ .‬وقد صح فً الحدٌث أن من قالوا ‪ ( :‬ال إله إال هللا )‬ ‫عصموا دماءهم وأموالهم ‪ ,‬وحسابهم على هللا تعالى ‪ٌ .‬عنى فٌما انعقدت قلوبهم ‪ .‬ومن هنا نقول‪ :‬إن‬ ‫إعطاء عامة األفراد حق الحكم على شخص ما بالردة ‪ ,‬ثم الحكم علٌه باستحقاق العقوبة ‪ ,‬وتحدٌدها‬ ‫بؤنها القتل ال ؼٌر ‪ ,‬وتنفٌذ ذلك ببل هوادة ‪ٌ -‬حمل خطورة شدٌدة على دماء الناس وأموالهم وأعراضهم‬ ‫‪ ,‬ألن مقتضى هذا ‪ :‬أن ٌجمع الشخص العادي ‪ -‬الذي لٌس له علم أهل الفتوى ‪ ,‬وال حكمة أهل القضاء‬ ‫‪ ,‬وال مسإولٌة أهل التنفٌذ ‪ -‬سلطات ثبلثا ً فً ٌده ‪ٌ :‬فتى ‪ -‬وبعبارة أخرى ‪ٌ :‬تهم ‪ -‬وٌحكم وٌنفذ ‪ ,‬فهو‬ ‫اإلفتاء واالدعاء والقضاء والشرطة جمٌعا !!‬

‫اعتراضات مردودة لبعض المعارضين‬ ‫ولقد اعترض بعض الكاتبٌن فً عصرنا ‪ -‬من ؼٌر أهل العلم الشرعً ‪ -‬على عقوبة الردة بؤنها لم ترد‬ ‫فً القرآن الكرٌم‪ ،‬ولم ترد إال فً حدٌث من أحادٌث اآلحاد‪ ،‬وحدٌث اآلحاد ال ٌإخذ به فً الحدود‪ ،‬فهم‬ ‫لذلك ٌنكرونها‪.‬‬ ‫وهذا الكالم مردود من عدة أوجه ‪:‬‬ ‫أوالً‪ :‬أن السنة الصحٌحة مصدر لؤلحكام العملٌة باتفاق جمٌع المسلمٌن‪ ،‬وقد قال تعالى ‪ (:‬قل أطٌعوا هللا‬ ‫وأطٌعوا الرسول) وقد صحت األحادٌث بقتل المرتد ‪ ,‬ونفذه الصحابة فً عهد الراشدٌن ‪.‬‬ ‫والقول بؤن أحادٌث اآلحاد ال ٌإخذ بها فً الحدود ؼٌر مسلم ‪ ،‬فجمٌع المذاهب المتبوعة أخذت بؤحادٌث‬ ‫اآلحاد ‪ ,‬فً عقوبة شارب الخمر ‪ ,‬مع أن فً عقوبة الردة أصح وأوفر أؼزر مما ورد فً عقوبة‬ ‫شارب الخمر ‪.‬‬ ‫ولو صح ما زعمه هإالء ‪ :‬أن أحادٌث اآلحاد ال ٌعمل بها فً األحكام ‪ ,‬لكان معناه ‪ :‬إلؽاء السنة من‬ ‫مصدرٌة التشرٌع اإلسبلمً ‪ .‬أو على األقل ‪ :‬إلؽاء‪ - % 95‬إن لم نقل ‪ - %99‬منها ‪ .‬ولم ٌعد هناك‬ ‫معنى لقولنا ‪ :‬اتباع الكتاب و السنة ‪.‬‬ ‫فمن المعروؾ لدى أهل العلم‪ :‬أن أحادٌث اآلحاد هً الجمهرة العظمى من أحادٌث األحكام‪ .‬والحدٌث‬ ‫المتواتر ‪ -‬الذي ٌقابل اآلحاد‪ -‬نادراً جداً‪ ،‬حتى زعم بعض أبمة الحدٌث أنه ال ٌكاد ٌوجد‪ ،‬كما ذكر ذلك‬ ‫اإلمام ابن صبلح فً مقدمته الشهٌرة فً علوم الحدٌث‪.‬‬ ‫على أن كثٌراً ممن ٌتناولون هذا األمر ال ٌدركون معنى حدٌث اآلحاد وٌحسبون أنه الذي رواه واحد‬


‫فقط‪ ،‬وهذا خطؤ‪ .‬فالمرتد بحدٌث اآلحاد ‪ :‬ما لم ٌبلػ درجة التواتر‪ ،‬وقد ٌروٌه اثنان أ‪ ,‬ثبلثة أو أربعة أو‬ ‫أكثر من الصحابة وأضعافهم من التابعٌن ‪.‬‬ ‫وحدٌث قتل المرتد قد رواه جم ؼفٌر من الصحابة‪ ،‬ذكرنا عدداً منهم فهو من األحادٌث المستفٌضة‬ ‫المشهورة‪.‬‬ ‫ثانٌا ً‪ :‬أن من مصادر التشرٌع المعتمدة ‪ :‬اإلجماع ‪ ,‬وكد أجمع فقهاء األمة من كل المذاهب ( السنٌة‬ ‫وؼٌر السنٌة ) ‪ ,‬ومن خارج المذاهب ‪ ,‬على عقوبه المرتد‪ ,‬وأوشكوا أن ٌتفقوا على أنها القتل ‪ ,‬إال ما‬ ‫روى عن عمر والنخعى والثورى ‪ ,‬ولكن العقوبة ‪ -‬فً الجملة ‪ -‬مجمع علٌها ‪.‬‬ ‫ثالثا ً ‪ :‬أن من علماء السلؾ من قال ‪ :‬إن آٌة المحاربة المذكورة فً سورة المابدة تختص بالمرتدٌن ‪,‬‬ ‫وهى قوله تعالى ( إنما جزاء الذٌن ٌحاربون هللا ورسوله وٌسعون فً األرض فسادا أن ٌقتلوا أو‬ ‫ٌصلبوا ) اآلٌة ‪.‬‬ ‫وممن قال بؤن هذه اآلٌة فً المرتدٌن أبو قبلبة وؼٌره ‪ .‬وقد نقلنا من كبلم ابن تٌمٌة ‪ :‬أن محاربة هللا‬ ‫ورسوله باللسان أشد من المحاربة بالٌد ‪ ,‬وكذلك اإلفساد فً األرض ‪ .‬كما ٌزٌد ذلك ‪ :‬أن األحادٌث التً‬ ‫قررت استباحة دم المسلم بإحدى ثبلث ‪ ,‬ذكر بعضها ( ورجل خرج محاربا ً له ورسوله ‪ ,‬فإنه ٌقتل أو‬ ‫ٌصلب أو ٌنفى من األرض ) ‪ ,‬كما فً حدٌث عابشة بدالً من عبارة ( ارتد بعد إسبلم ) أو ( التارك‬ ‫لدٌنه ) ‪ ...‬إلخ ‪ .‬وهو ما ٌدل على أن اآلٌة تشمل فٌما تشمل المرتدٌن الداعٌن إلى ردتهم ‪.‬‬ ‫وفى القرآن ( ٌا أٌها الذٌن آمنوا من ٌرتد منكم عن دٌنه فسوؾ ٌؤتً هللا بقوم يحبهم وٌحبونه أذلة على‬ ‫المإمنٌن أعزة على الكافرٌن ٌجاهدون فً سبٌل هللا وال ٌخافون لومة البم )‪ .‬وهذا ٌدل على أن هللا هٌؤ‬ ‫للمرتدٌن من ٌقاومهم ‪ ,‬من المإمنٌن المجاهدٌن الذٌن وصفهم هللا بما وصفهم به ‪ ,‬مثل أبى بكر‬ ‫والمإمنٌن معه ‪ ,‬الذٌن أنقذوا اإلسبلم من فتنة الردة‪ .‬وكذلك جاءت مجموعة من اآلٌات فً شؤن‬ ‫المنافقٌن ‪ ,‬تبٌن أنهم حموا أنفسهم من القتل بسبب كفرهم عن ط ٌق األٌمان الكاذبة ‪ ,‬والحلؾ الباطل‬ ‫إلرضاء المإمنٌن ‪ ,‬كما فً قوله تعالى ‪ ( :‬اتخذوا أٌمانهم جنة ) ‪ٌ ( ,‬حلفون لكم لترضوا عنهم ) اآلٌة‪،‬‬ ‫ولؾ قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسبلمهم ) اآلٌة ‪ ,‬فهم ٌنكرون أنهم كفروا ‪,‬‬ ‫( ٌحلفون باهلل ما قالوا د‬ ‫وٌإكدون ذلك بؤٌمانهم ‪ ,‬وٌحلفون أنهم لم ٌتكلموا بكلمة الكفر ‪ ,‬فدل ذلك أن الكفر إذا ثبت علٌهم بالبٌنة‬ ‫‪ ,‬فإن جنتهم تكون قد انخزمت ‪ ,‬وأٌمانهم الفاجرة لم تؽن عنهم شٌبا)‪.‬‬

‫ردة السلطان‬ ‫وأخطر أنواع الردة ‪ :‬ردة السلطان ‪ ,‬ردة الحكم ‪ ,‬الذي ٌفترض فٌه أن ٌحرس عقٌدة األمة ‪ ,‬وٌقاوم‬ ‫الردة ‪ ,‬وٌطارد المرتدٌن ‪ ,‬وال ٌبقى لهم من باقٌة فً رحاب المجتمع المسلم ‪ ,‬فإذا هو نفسه ٌقود الردة ‪,‬‬ ‫سراً وجهراً ‪ ,‬وٌنشر الفسوق سافراً ومقنعا ً ‪ ,‬وٌحمى المرتدٌن ‪ ,‬وٌفتح لهم النوافذ واألبواب ‪ ,‬وٌمنحهم‬ ‫األوسمة واأللقاب ‪ ,‬وٌصبح األمر كما قال المثل ‪ :‬ال( حامٌها حرامٌها ) ‪ ،‬أو كما قال الشاعر العربً ‪:‬‬ ‫وراعى الشاة ٌحمى الذنب عنها فكٌؾ إذا الرعاة لها ذباب ؟!!‬


‫نرى هذا الصنؾ من الحكام ‪ ,‬موالٌا ألعداء هللا ‪ ,‬معادٌا ً ألولٌاء هللا ‪ .‬مستهٌنا بالعقٌدة ‪ ,‬مستخفا‬ ‫بالشرٌعة ‪ ,‬ؼٌر موقر لؤلوامر والنواهً اإللهٌة والنبوٌة ‪ ,‬مهٌنا لكل مقدسات األمة ورموزها ‪ ,‬من‬ ‫الصحابة األبرار ‪ ,‬واآلل األطهار ‪ ,‬والخلفاء األخٌار ‪ ,‬واألبمة األعبلم ‪ ,‬وأبطال اإلسبلم ‪ ,‬وهإالء‬ ‫ٌعتبرون التمسك بفرابض اإلسبلم جرٌمة وتطرفا ً ‪ ,‬مثل الصبلة فً المساجد للرجال ‪ ,‬والحجاب للنساء‬ ‫‪ .‬وال ٌكتفون بذلك ‪ ,‬بل ٌعملون وفق فلسفة ( تجفٌؾ المنابع ) التً جاهروا بها ‪ ,‬فً التعلٌم واإلعبلم‬ ‫والثقافة ‪ ,‬حتى ال تنشؤ عقلٌة مسلة ‪ ,‬وال نفسٌة مسلمة ‪ .‬وال ٌقفون عند هذا الحد ‪ ,‬بل ٌه ٌطاردون‬ ‫الدعاة الحقٌقٌ​ٌن ‪ ,‬وٌؽلقون األبواب فً وجه كل دعوة أو حركة صادقة ‪ ,‬ترٌد أن ةتجدد الدٌن ‪,‬‬ ‫وتنهض بالدنٌا على أساسه‪ .‬والؽرٌب أن بعض هذه الفبات ‪ -‬مع هذه الردة الظاهرة ‪ -‬تحرص على أن‬ ‫ٌبقى لها عنوان اإلسبلم ‪ ,‬لتستؽله فً هدم اإلسبلم ‪ ,‬ولتعاملهم األمة على أنهم مسلمون ‪ ,‬وهم ٌقوضون‬ ‫بنٌانها من الداخل ‪ .‬وبعضها تجتهد أن تتمسح بالدٌن ‪ ,‬بتشجٌع التدٌن الزابؾ ‪ ,‬وتقرٌب الذٌن ٌحرقون‬ ‫لها البخور من رجاله ‪ ,‬ممن سماهم الناس ( علماء السلطة ‪ ,‬وعمبلء الشرطة ) وهنا ٌتعقد الموقؾ ‪,‬‬ ‫فمن الذي ٌقٌم الحد على هإالء بل من الذي ٌفتى بكفرهم أوال ‪ ,‬وهو كفر بواح كما سماه الحدٌث ‪, ،‬‬ ‫ومن الذٌن ٌحكم بردتهم وأجهزة اإلفتاء الرسمً والقضاء الرسمً فً أٌدٌهم ؟ لٌس هناك إال ( الرأي‬ ‫العام ) المسلم ‪ ,‬والضمٌر اإلسبلمً العام ‪ ,‬الذي ٌقود األحرار من العلماء والدعاة وأهل الفكر ‪ ,‬والذي‬ ‫ال ٌلبث ‪ .‬إذا سدت أمامه األبواب ‪ ,‬وقطعت دونه األسباب ‪ -‬أن ٌتحول إلى بركان ٌنفجر فً وجوه‬ ‫الطؽاة المرتدٌن ‪ .‬فلٌس من السهل أن ٌفرط المجتمع المسلم فً هوٌته ‪ ,‬أو ٌتنازل عن عقٌدته ورسالته‬ ‫‪ ,‬التً هً مبرر وجوده ‪ ,‬وسر بقابه ‪.‬‬ ‫وقد جرب ذلك االستعمار الؽربً الفرنسً فً الجزابر ‪ ,‬واالستعمار الشرقً الروسً فً الجمهورٌات‬ ‫اإلسبلمٌة فً آسٌا ‪ ,‬ورؼم قسوة التجربة وطولها هنا وهناك ‪ ,‬لم تستطع اجتثاث جذور الهوٌة‬ ‫اإلسبلمٌة ‪ ,‬والشخصٌة اإلسبلمٌة ‪ ,‬وذهب االستعمار والطؽٌان ‪ ,‬وبقى اإلسبلم ‪ ,‬والشعب المسلم ‪.‬‬ ‫ؼٌر أن الحرب التً شنت على اإلسبلم ودعاته من بعض الحكام ( الوطنٌ​ٌن ) العلمانٌ​ٌن والمتؽربٌن‬ ‫فً بعض األقطار ‪ -‬بعد استقبللها ‪ -‬كانت أحد عداوة ‪ ,‬وأشد ضراوة ‪ ,‬من حرب المستعمرٌن ‪.‬‬

‫الردة المغلفة‬ ‫وال ٌفوتنا هنا أن ننبه على نوع من الردة ال ٌتبجح تبجح المرتدٌن المعالنٌن ‪ ,‬فهو أذكى من أن ٌعلن‬ ‫الكفر بواحا ً صراحا ً ‪ ,‬بل ٌؽلفه بؤؼلفة شتى ‪ ,‬وٌتسلل به إلى العقول تسلل األسقام فً األجسام ‪ ,‬ال تراه‬ ‫حٌن ٌؽزو الجسم ‪ ,‬ولكن بعد أن ٌبدو مرضه ‪ ,‬وٌظهر عرضه ‪ ,‬فهو ال ٌقتل بالرصاص ٌدوى ‪ ,‬بل‬ ‫بالسم البطًء ‪ٌ ,‬ضعه فً العسل والحلوى ‪ .‬وهذا ٌدركه الراسخون فً العلم ‪ ,‬والبصراء فً الدٌن ‪,‬‬ ‫ولكنهم ال ٌملكون أن ٌصنعوا شٌبا أمام مجرمٌن محترفٌن ‪ ,‬ال ٌمكنون من أنفسهم ‪ ,‬وال ٌدعون للقانون‬ ‫فرصة لٌمسك بخناقهم ‪ .‬فهإالء هم (المنافقون) الذٌن هم فً الدرك األسفل من النار ‪.‬‬ ‫إنها ( الردة الفكرٌة) التً تطالعنا كل ٌوم آثارها ! فً صحؾ تنشر وكتب توزع ‪ ,‬ومجبلت تباع ‪,‬‬ ‫وأحادٌث تذاع ‪ ,‬وبرامج تشاهد ‪ ,‬وتقالٌد تروج ‪ ,‬وقوانٌن تحكم ‪ .‬وهذه الردة المؽلفة ‪ -‬فً رأًٌ ‪ -‬أخطر‬ ‫من الردة المكشوفة ‪ ,‬ألنها تعمل باستمرار ‪ ,‬وعلى نطاق واسع ‪ ,‬وال تقاوم كما تقاوم الردة الصرٌحة‪,‬‬ ‫التً تحدث الضجٌج ‪ ,‬وتلفت األنظار ‪ ,‬وتثبر الجماهٌر ‪ .‬إن النفاق أشد خطراً من الكفر الصرٌح ‪.‬‬


‫ونفاق عبد هللا بن أبى ومن تبعه من منافقً المدٌنه ‪ ,‬أخطر على اإلسبلم من كفر أبى جهل ومن تبعه‬ ‫من مشركً مكة‪ .‬ولهذا ذم القرآن فً أوابل سورة البقرة‪( :‬الذٌن كفروا ) أي المصرحٌن بالكفر فً‬ ‫آٌتٌن اثنتٌن فقط ‪ ,‬وذكر المنافقٌن فً ثبلث عشرة آٌه ‪ .‬إنها الردة التً تصاحبنا وتماسٌنا ‪ ,‬وراوحنا‬ ‫وتعادٌنا ‪ ,‬وال تجد من ٌقاومها‪ .‬إنها ‪ -‬كما قال شٌخ اإلسبلم الندوى ‪ -‬ردة وال أبا بكر لها إن الفرٌضة‬ ‫المإكد هنا ‪ ,‬هً ‪ :‬محاربتهم بمثل أسلحتهم ‪ ,‬الفكر بالفكر حتى تسقط أوراقهم ‪ ,‬وتسقط أقنعهم ‪ ,‬وزال‬ ‫شبهاتهم بحجج أهل الحق ‪ .‬صحٌح أنهم ممكنون من أوسع المنابر اإلعبلمٌة ‪ :‬المروءة والمسموعة‬ ‫والمربٌة ‪ ,‬ولكن قوة الحق الذي معنا ‪ ,‬ورصٌد اإلٌمان فً قلوب شعوبنا وتؤٌ​ٌد هللا تعلى لنا‪ ،‬كلها كفٌلة‬ ‫أن تهدم باطلهم على رإوسهم‪ ( :‬بل نقذؾ بالحق على الباطل فٌدمؽه فإذا هو زاهق) ‪( ،‬فؤما الزبد‬ ‫فٌذهب جفاء‪ ،‬وأما ما ٌنفع الناس فٌمكث فً األرض)…‬ ‫وصدق هللا العظٌم‪.‬‬

‫والمقوم الثانً للمجتمع المسلم ‪ -‬بعد العقٌدة ‪ -‬هو الشعابر التً فرضها هللا على المسلمٌن ‪ ,‬وكلفهم القٌام‬ ‫بها ‪ ,‬لٌتقربوا بها إلٌه ‪ ,‬وٌبتؽوا بها رضوانه ‪ ,‬وٌربحوا مثوبته ‪ ,‬وٌعبروا بها عن حقٌقة إٌمانهم به ‪,‬‬ ‫وٌقٌنهم بلقابه وحسابه ‪.‬‬ ‫وأظهر هذه الشعابر هً الفرابض األربع التً عرفت بؤنها ‪ -‬مع الشهادتٌن‪ -‬أركان اإلسبلم ومبانٌه‬ ‫العظام ‪ ,‬والتً خصها الفقها ء باسم « العبادات » ‪.‬‬ ‫وفى التنوٌه بؤمرها جاء الحدٌث المشهور ‪ ( :‬بنى اإلسبلم على خمس ‪ :‬شهادة أن ال إله إال هللا وأن‬ ‫محمد‪ -‬رسول هللا ‪ ,‬وإقام الصبلة ‪ ,‬وإٌتاء الزكاة ‪ ,‬وصوم رمضان ‪ ,‬وحج البٌت لمن استطاع إلٌه سبٌبل‬ ‫) وأكدها حدٌث جبرٌل وؼٌره ‪.‬‬ ‫ولكنى أضٌؾ إلى هذه األربع فرٌضتٌن أساسٌتٌن أكد اإلسبلم أمرهما ‪ ,‬وشدد الحدث علٌهما ‪ ,‬ونوّ ه‬ ‫بمنزلتهما عند هللا ‪ ,‬فهما جدٌرتان أن تقدا من دعابم‬ ‫اإلسبلم وشعابره الكبرى ‪ .‬وهما ‪ :‬فرٌضة األمر بالمعروؾ والنهى عن المنكر ‪,‬‬ ‫وفرٌضة الجهاد فً سبٌل هللا ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وبذلك تكون الفرابض األساسٌة والشعابر الكبرى العملٌة ستا ‪ ,‬وهى ‪:‬‬ ‫‪.1‬‬ ‫‪.2‬‬ ‫‪.3‬‬ ‫‪.4‬‬ ‫‪.5‬‬ ‫‪.6‬‬

‫إقامة الصالة ‪.‬‬ ‫إٌتاء الزكاة ‪.‬‬ ‫صوم رمضان ‪.‬‬ ‫حج البٌت ‪.‬‬ ‫األمر بالمعروف والنهى عن المنكر ‪.‬‬ ‫الجهاد فً سبٌل هللا ‪.‬‬


‫وإنما سمٌت هذه الفرابض شعابر ‪ ,‬ألنها عبلمات فارقة ‪ ,‬وظاهرة ‪ ,‬تتمٌز بهاحٌاة الفرد المسلم من ؼٌر‬ ‫المسلم ‪ ,‬كما تتمٌز بها حٌاة المجتمع المسلم من ؼٌر المسلم ‪.‬‬ ‫وإقامة هذه الشعابر وتعظٌمها دلٌل على قوة العقٌدة فً القلوب ‪ ,‬واستقرارها فً حناٌا الصدور ‪ .‬قال‬ ‫تعالى ‪ ( :‬ذلك ومن ٌعظم شعابر هللا فإنها من تقوى القلوب) ‪ .‬وسؤكتفً هنا بالحدٌث عن ثبلث من هذه‬ ‫العبادات أو الفرابض ‪ ,‬وهى ‪ :‬الصبلة والزكاة ‪ ,‬واألمر بالمعروؾ والنهى عن المنكر ‪ .‬فلٌس المراد‬ ‫هنا هو االستقصاء ‪.‬‬

‫الصــالة‬ ‫أولى هذه الفرابض والشعابر هً الصبلة ‪ ,‬فهً عمود اإلسبلم ‪ ,‬وفرٌضته الٌومٌة المتكررة ‪ ,‬وأول ما‬ ‫ٌحاسب المإمن علٌه ٌوم القٌامة ‪ ,‬وهى الفٌصل األول بٌن اإلسبلم والكفر ‪ ,‬وبٌن المإمنٌن والكفار ‪.‬‬ ‫وهذا ما أكده الرسول ‪-‬صلى هللا علٌه وسلم‪ -‬فً أحادٌثه ‪ ( :‬بٌن الرجل وبٌن الكفر ترك الصبلة )‪،‬‬ ‫(العهد الذي بٌننا وبٌنهم ‪ :‬الصبلة ‪ ,‬فمن تركها فقد كفر ) ‪ .‬وكان هذا المعنى واضحا ً تمام الوضوح لدى‬ ‫الصحابة رضوان هللا علٌهم ‪ ,‬قال عبد هللا بن شقٌق العقٌلى ‪ ( :‬كان أصحاب رسول هللا ‪ -‬ال ٌرون شٌبا‬ ‫من األعمال تركه كفر ؼٌر الصبلة ) ‪ .‬وال ؼرو أن جعل القرآن الصبلة فاتحة خصال المإمنٌن‬ ‫المفلحٌن وخاتمتها ‪ ,‬فهو فً البدء ٌقول ( قد أفلح المإمنون ‪،‬الذٌن هم فً صبلتهم خاشعون ) ‪ ,‬وفى‬ ‫الختام ٌقول‪ ( :‬والذٌن هم على صلواتهم ٌحافظون) داللة على مكانة الصبلة فً حٌاة الفرد المسلم‬ ‫والمجتمع المسلم ‪ .‬كما جعل القرآن إضاعة الصبلة من صفات المجتمعات الضالة المنحرفة ‪ ,‬وأما‬ ‫التمرد علٌها والسخرٌة بها ‪ ,‬فهو من سمات المجتمع الكافر ‪ٌ .‬قول سبحانه ‪( :‬فخلؾ من بعدهم خلؾ‬ ‫أضاعوا الصبلة واتبعوا الشهوات ‪ ,‬فسوؾ ٌلقون ؼٌا ً) ‪ ,‬وٌقول فً شؤن الكفرة المكذبٌن › ‪ -‬وإذا‪ -‬قٌل‬ ‫لهم اركعوا ال ٌركعون‪ ,‬وفى آٌة أخرى ‪(:‬وإذا نادٌتم إلى الصبلة اتخذوها هزوا ولعبا‪ ,‬وذلك بؤنهم قوم‬ ‫ال ٌعقلون) ‪ .‬إن المجتمع المسلم مجتمع ربانً الؽاٌة والوجهة ‪ ,‬كما أنه رمانً النشؤة والمصدر ‪ .‬مجتمع‬ ‫موصول الحبال باهلل ‪ ,‬مرتبط بعروته الوثقى ‪ ,‬والصبلة هً العبادة الٌومٌة التً تجعل المسلم دابما ً على‬ ‫موعد مع هللا ‪ ,‬كلما ؼرق فً لجج الحٌاة جاءت الصبلة فانتشلته ‪ ,‬وكلما أنسته مشاؼل الدنٌا ربه جاءت‬ ‫الصبلة فذكرته ‪ ,‬وكلما ؼشٌه دنس الذنوب ‪ ,‬أو ؼٌر قلبه تراب الؽفلة ‪ ,‬جاءت الصبلة فطهرته ‪ ,‬فهً (‬ ‫الحمام) الروحً الذي تؽتسل فٌه األرواح ‪ ,‬وتتطهر فٌه القلوب كل ٌوم خمسً مرات ‪ ,‬فبل ٌبقى من‬ ‫درنها شا ‪.‬‬ ‫روى ابن مسعود عن النبً ‪-‬صلى هللا علٌه وسلم‪ ( : -‬تحترقون تحترقون ‪ ,‬فإذا صلٌتم الصبح ؼسلتها ‪,‬‬ ‫ثم تحترقون تحترقون ‪ ,‬فإذا صلٌتم الظهر ؼسلتها ‪ ,‬ثم تحترقون تحترقون ‪ ,‬فإذا صلٌتم ‪ 1‬لعصر ؼسلتها‬ ‫‪ ,‬ثم تحترقون تحترقون ‪ ,‬فإذا صلٌتم المؽرب ؼسلتها ‪ ,‬ثم تحترقون تحترقون ‪ ,‬فإذا صلٌتم العشاء‬ ‫ؼسلتها ‪ ,‬ثم تنامون فبل تكتب علٌكم حتى تستٌقظوا ‪.‬‬ ‫وامتازت الصبلة اإلسبلمٌة بالجماعة ‪ ,‬كما امتازت باألذان ‪ .‬فالجماعة فً الصبلة إما فرض كفاٌة ‪,‬‬ ‫كما ٌقول أكثر األبمة ‪ ,‬وإما فرض عٌن كما ٌقول اإلمام أحمد ‪ .‬وألهمٌة الجماعة هم النبً ‪-‬صلى هللا‬ ‫علٌه وسلم‪ , -‬أن ٌحرق على قوم بٌوتهم بالنار ‪ ,‬ألنهم كانوا ٌتخلفون عن الجماعات وٌصلون فً بٌوتهم‬ ‫‪ .‬وقال ابن مسعود فً الجماعة ‪ ( :‬لقد رأٌتنا وما ٌتخلؾ عنها إال مرٌض أو منافق معلوم النفاق )‬ ‫‪ .‬وألهمٌه صبلة الجماعة حرص اإلسبلم على إقامتها ولو فً أثناء الحرب ‪.‬‬ ‫فشرع ( صبلة الخوؾ) وهى صبلة خاصة بالحرب والمعارك ‪ ,‬تإدى خلؾ إمام واحد على مرحلتٌن ‪:‬‬ ‫تصلى فً المرحلة األولى طابفة من المقاتلٌن ركعة وراء اإلمام ثم تنصرؾ إلى مواقعها العسكرٌة ‪,‬‬


‫وتكمل صبلتها هناك ‪ ,‬ثم تؤت الطابفة التً كانت فً مواجهة العدو فتصلى بقٌة الصبلة خلؾ اإلمام ‪.‬‬ ‫كل هذا مع لبس السبلح وأخذ الحذر ‪ .‬ولم هذا كله ؟ لببل ٌفوت أحدا من المجاهدٌن فضل الجماعة التً‬ ‫ٌحرص علٌها اإلسبلم ‪ ,‬فلم ٌبال بتقسٌم الصبلة وإباحة كثٌر من الحركات والمشً من أجل الحفاظ‬ ‫لتقم طابفة منهم‬ ‫علٌها ‪ .‬وقد جاءت هذه الصبلة فً القرآن الكرٌم ‪ ( :‬وإذا كنت فٌهم فؤقمت لهم الصبلة ؾ‬ ‫معك وما أخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فٌكونوا من ورابكم ولتؤت طابفة أخرى لم ٌصلوا فلٌصلوا معك‬ ‫ولٌؤخذوا حذرهم وأسلحتهم‪ ,‬ود الذٌن كفروا لو تؽفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فٌمٌلون علٌكم مٌلة‬ ‫واحدة‪ ,‬وال جناح علٌكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم‪ ,‬وخذوا حذركم‪,‬‬ ‫إن هللا أعد للكافرٌن عذابا ً مهٌنا ً) ‪.‬‬ ‫وهذا كما ٌدلنا على منزلة الجماعة ‪ٌ ,‬دلنا على منزلة الصبلة نفسها ‪ ,‬فاستعار المعارك ‪ ,‬وتربص العدو‬ ‫‪ ,‬واالشتؽال بالجهاد فً سبٌل هللا ‪ ,‬ال ٌسقطالصبلة أو ٌشؽل عنها ‪ ,‬وإنما ٌجب أن تإدى بالصورة‬ ‫المستطاعة ‪ ,‬ولو ببل ركوع وال سجود ‪ ,‬وال استقبال قبله ‪ ,‬عند االلتحام ‪ ,‬وٌكفى عند الضرورة النٌة‬ ‫وما ٌمكن من التبلوة واإلشارة والذكر ‪ ,‬قال تعالى ‪ ( :‬حافظوا على الصلوات والصبلة الوسطى وقوموا‬ ‫هلل قانتٌن ‪ ،‬فإن خفتم فرجاالً أو ركبانا ‪ ,‬فإذا أمنتم فاذكروا هللا كما علمكم ما لم تكونوا تعلون) ‪ ,‬ومعنى‬ ‫‪ ( :‬فرجاالً أو ركبانا ) ‪ :‬أي صلوا مشاة أو راكبٌن ‪ ,‬مستقبلٌن القبلة أو ؼٌر مستقبلٌها كٌؾ استطعتم ‪.‬‬ ‫وٌنطبق هذا على راكبً الطابرات والدبابات والمصفحات ونحوها ‪.‬‬ ‫ب األصوات كل ٌوم خمس مرات‬ ‫وامتازت الصبلة اإلسبلمٌة باألذان ‪ :‬ذلك النداء الربانً ‪ ,‬الذي ترتفع ه‬ ‫‪ ,‬معلمة بدخول وقت الصبلة معلنة بالعقابد الربٌسٌة والمبادئ األساسٌة لئلسبلم ‪ ( :‬هللا أكبر ‪ -‬أربع‬ ‫مرات ‪ ,‬أشهد أن ال إله إال هللا ‪ ,‬أشهد أن محمدا رسول هللا ‪ -‬مرتٌن ‪ ,‬حً على الصبلة ‪ -‬مرتٌن ‪ ,‬على‬ ‫الفبلح ‪ -‬مرتٌن ‪ ,‬هللا أكبر ‪ -‬مرتٌن ‪ ,‬ال إله إال هللا ) ‪.‬‬ ‫هذا األذان بمنزلة النشٌد القومً ألمة اإلسبلم ‪ ,‬تعلو به صٌحات المإذنٌن فٌجاوبهم المإمنون فً كل‬ ‫مكان ‪ ,‬فٌرددون معهم ألفاظ األذان ذاتها ‪ ,‬تؤكٌدالمعانٌها فً األنفس ‪ ,‬وتثبٌتا لها فً العقول والقلوب ‪.‬‬ ‫والصبلة ‪ -‬كما شرعها اإلسبلم ‪ -‬لٌست مجرد صلة روحٌة فً حٌاة المسلم ‪.‬‬ ‫إنها ‪ -‬بما سن لها من األذان واإلقامة ‪ ,‬وما شرع لها من التجمع واالنتظام وما أقٌم لها من بٌوت هللا ‪،‬‬ ‫وما اشترط لها من النظافة والطهارة ‪ ,‬وأخذ الزٌنة ‪ ,‬واستقبال القبلة ‪ ,‬وتحدٌد المواقٌت ‪ ,‬وما رجب‬ ‫فٌها من حركات وتبلوة وأقوال وأفعال ‪ ,‬تفتتح بالتكبٌر وتختتم بالتسلٌم‪ -‬بهذا كله أصبحت أكثر من‬ ‫عبادة مجردة ‪ ,‬إنها نظام حٌاة ‪ ,‬ومنهج تربٌة وتعلٌم متكامل ‪ٌ .‬شمل األبدان والعقول والقلوب ‪. . .‬‬ ‫فاألبدان تنظؾ وتنشط ‪ ,‬والعقول تتعلم وتتثقؾ ‪ ,‬والقلوب تتزكى وتتطهر ‪ .‬الصبلة تطٌق عملً لمبادئ‬ ‫السٌاسً واالجتماعٌة المثلى ‪ ,‬فتحت المسجد تتجلى معانً اإلخاء ‪ ,‬والمساواة والحرٌة ‪ ,‬وتبرز‬ ‫ة‬ ‫اإلسبلم‬ ‫معانً الجندٌة المإمنة ‪ ,‬والطاعة المبصرة ‪ ,‬والنظام الجمٌل ‪.‬‬ ‫ٌقول اإلمام الشهٌد حسن البنا مبٌنا أثر أثرها الروحً ‪ ( :‬وال ٌقؾ أثر الصبلة عند هذا الحد الفردي ‪,‬‬ ‫بل إن الصبلة كما وصفها اإلسبلم بؤعمالها الظاهرة ‪ ,‬وحقٌقتها الباطنة ‪ ,‬منهاج كامل لتربٌة األمة‬ ‫الكاملة ‪ :‬فهً بؤعمالها البدنٌة وأوقاتها المنتظمة خٌر ما ٌفٌد البدن ‪ ,‬وهى بآثارها الروحٌة وأذكارها‬ ‫وتبلوتها وأدمٌتها خٌر ما ٌهذب النفس وٌرقق الوجدان ‪ ,‬وهى باشتراط القراءة فٌها ‪ -‬والقرآن الكرٌم‬ ‫منهاج ثقافة مالٌة شامل ‪ -‬تؽذى العقل وقد الفكر بكثٌر من حقابق العلوم والمعارؾ ‪ ,‬فٌخرج المصلى‬ ‫المتقن وقد صح بدنه ‪ ,‬ورق شعوره ‪ ,‬وؼذى عقله ‪ ,‬فؤي كمال فً التربٌة اإلنسانٌة الفردٌة بعد هذا ؟ ثم‬ ‫هً باشتراط الجمعة والجماعة تجمع األمة خمس مرات فً كل ٌوم ‪ ,‬ومرة فً كل أسبوع علً المعانً‬ ‫االجتماعٌة الصالحة من الطاعة والنظام والحب واإلخاء والمساواة بٌن ٌدي هللا العلً الكبٌر ‪ ,‬فؤي‬ ‫كمال فً المجتمع أتم من أن ٌقوم على هذه الدعابم ‪ ,‬وٌشٌد على هذه المثل العالٌة ؟ إن الصبلة‬ ‫اإلسبلمٌة تربٌة للفرد كاملة ‪ ,‬وبناء لؤلمة مشٌد ‪ ,‬ولقد خطر لً وأنا أستعرض المبادئ االجتماعٌة‬ ‫العصرٌة أن الصبلة اإلسبلمٌة أخذت بؽٌر ما فٌها وطرحت نقابصها ومساوٌها ‪ :‬فؤخذت من (‬ ‫الشٌوعٌة ) معنى المساواةوالتآخً‪ ,‬بجمع الناس فً صعٌد واحد ال ٌملكه إال هللا وهو المسجد‪ .‬والتآخً‬


‫بجمع الناس فً صعٌد واحد ال ٌم لكه إال اله وهو المسجد ‪ .‬وأخذت من ( الدٌكتاتورٌة ) النظام والحزم‬ ‫بإلزام الجماعة اتباع اإلمام فً كل حركة وسكون ومن شذ شذ فً النار ‪ ,‬وأخذت من ( الدٌمقراطٌة)‬ ‫النصح والشورى ووجوب رد اإلمام إلى الصواب إذا أخطؤ كابنا ً من كان ‪ ,‬وطرحت كل ما سوى ذلك ‪:‬‬ ‫من فوضى الشٌوعٌة ‪ ،‬واستمداد الدٌكتاتورٌة‪ ,‬وإباحٌة الدٌمقراطٌة ‪ ,‬لكانت عصارة سابؽة من الخٌر ال‬ ‫كدر فٌها وال التواء ‪.‬‬ ‫ومن أجل هذا كله عنى المجتمع المسلم فً عصور السلؾ الصالح بؤمر الصبلة ‪.‬‬ ‫حتى سموها ( المٌزان ) بها توزن أقدار األشخاص ‪ ,‬وتقاس منازلهم ودرجاتهم ‪ ,‬فإذا أرادوا أن ٌعرفوا‬ ‫دٌن رجل ومدى استقامته ‪ ,‬سؤلوا عن صبلته ‪ ,‬ومقدار محافظته علٌها وإحسانه لها ‪ . .‬وهذا مصداق‬ ‫الحدٌث النبوي ‪ (:‬إذا رأٌتم الرجل ٌعتاد المساجد فاشهدوا له باإلٌمان ) ‪ ,‬ثم تبل ‪ ( :‬إنما ٌعمر مساجد هللا‬ ‫من آمن باهلل والٌوم اآلخر وأقام الصبلة وآتى الزكاة ولم ٌخشى إال هللا ‪ ,‬فعسى أولبك أن ٌكونوا من‬ ‫المهتدٌن) ‪.‬‬ ‫ومن هنا كانت أول مإسسة أنشؤها الرسول ‪-‬صلى هللا علٌه وسلم‪ , -‬بعد أن هاجر إلى المدٌنة هً‬ ‫المسجد النبوي ‪ ,‬الذي كان جامعا للعبادة ‪ ,‬ومدرسة للعلم ‪ ,‬وبرلمانا ً للتفاهم ‪.‬‬ ‫وأجمع األبمة على أن من تركها جحوداً لها واستخفافا ً بها فقد كفر ‪ ,‬واختلفوا فٌمن تركها عمداً كسبل ‪ً,‬‬ ‫فمنهم من حكم علٌه بالكفر واستحقاق القتل ‪ ,‬كؤحمد وإسحاق ‪ .‬ومنهم من حكم علٌه بالفسق واستحقاق‬ ‫القتل كمالك والشافعى ‪ ,‬ومنهم من حكم علٌه بالفسق واستحقاق التعزٌر والتؤدٌب بالضرب والحبس‬ ‫حتى ٌتوب وٌصلى كؤبى حنٌفة ‪ . .‬ولم ٌقل أحد منهم ‪ :‬إن الصبلة متروكة لضمٌر المسلم إن شاء أداها‬ ‫‪ ،‬وإن شاء تركها ‪ ,‬وحسابه على هللا ‪ ,‬بل أجمعوا على أن من واجب الحاكم أو الدولة المسلمة أن تتدخل‬ ‫بالزجر والتؤدٌب لكل مصر على ترك الصبلة ‪ .‬فلٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌدع المنتسبٌن لإلسبلم‬ ‫دون أن ٌركعوا له ركعة ‪ ,‬وال ٌتعرض لهم بعقاب وال تؤدٌب ‪ ,‬بدعوى أن الناس أحرار فٌما ٌفعلون ‪.‬‬ ‫ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌسوى بٌن المصلٌن وؼٌر المصلٌن ء بله أن ٌقدم تاركً الصبلة‬ ‫وٌضعهم فً موضع القادة والموجهٌن ‪.‬‬ ‫ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي تنشا دواوٌنه ومإسساته وشركاته ومدارسه ولٌس فٌها مساجد تقام فٌها‬ ‫الصبلة ‪ ,‬وٌرتفع اآلذان ‪ .‬ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌقوم نظام العمل فٌه على أن ال وقت للصبلة ‪,‬‬ ‫ومن خالؾ ذلك من الموظفٌن والعاملٌن عوقب بما ٌناسب المقام ‪ ,‬ولفت نظره إلى هذا الخطؤ الجسٌم ‪:‬‬ ‫ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي تقام فٌه الندوات واألحفال واالجتماعات والمحاضرات وٌدخل وقت‬ ‫الصبلة وٌنتهً ‪ ,‬وال أذان ٌسمع وال صبلة تقام ‪ .‬قبل ذلك كله ‪ :‬لٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ال ٌؤخذ‬ ‫أبناءه وبناته بتعلٌم الصبلة ‪ ,‬فً المدارس والبٌوت ‪ ,‬منذ نعومة األظفار ‪ ,‬فٌإمرون بها لسبع ‪,‬‬ ‫وٌضربون علٌها لعشر ‪.‬‬ ‫ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ال تحتل الصبلة من برامجه التعلٌمٌة والثقافٌة واإلعبلمٌة مكانا ٌلٌق‬ ‫بؤهمٌتها فً دٌن هللا ‪ ،‬وفى حٌاة المسلمٌن ‪.‬‬

‫الزكاة‬ ‫والزكاة هً الشعٌرة الثانٌة فً اإلسبلم ‪ ,‬والركن المالً االجتماعً من أركان ‪ .‬العظام ‪ ,‬وهى شقٌقة‬ ‫الصبلة فً القرآن والسنة ‪ ,‬قرنت بها فً كتاب هللا‬ ‫ثمانٌة وعشرٌن مرة‪ ،‬تارة بصٌػة األمر‪ ،‬مثل قوله تعالى ( وأقٌموا الصبلة وآتوا الزكاة) وتارة بصٌؽة‬ ‫الخبر مثل قوله‪ ( :‬إن الذٌن آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصبلة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم‬ ‫وال خوؾ علٌهم وال هم ٌحزنون)‪.‬‬


‫وطوراً تؤتً الزكاة مقرونة بالصبلة فً صورة الشرط للدخول فً دٌن اإلسبلم أو فً مجتمع المسلمٌن‪،‬‬ ‫قال تعالى فً سورة التوبة فً شؤن المشركٌن المحاربٌن‪:‬‬ ‫( فإن تابوا وأقاموا الصبلة وآتوا الزكاة فخلوا سبٌلهم ‪ ,‬إن هللا ؼفور رحٌم ) ‪ ,‬وقال بعد بضع آٌات من‬ ‫نفس السورة ‪ ( :‬فإن تابوا وأقاموا الصبلة وآتوا الزكاة فإخوانكم فً الدٌن ) ‪ .‬فلم ٌعترؾ لمشرك‬ ‫بالدخول ؾ اإلسبلم ‪ ,‬وال باالنتساب إلى المجتمع المسلم ‪ ,‬واكتساب أخوة أبنابه إال بالتوبة من الكفر ‪,‬‬ ‫وإقام الصبلة وإٌتاء الزكاة ‪ .‬وهى عبادة قدٌمة ‪ -‬كالصبلة ‪ -‬جاءت بها النبوات ‪ ,‬وحث علٌها األنبٌاء ‪,‬‬ ‫وكانت فً طلٌعة وصاٌا هللا لهم ‪ ,‬وفى طلٌعة وصاٌاهم إلى أممهم ‪ .‬أثنى هللا على أبى األنبٌاء إبراهٌم‬ ‫وعلى إسحاق وٌعقوب فقال لهم ‪ ( :‬وجعلناهم أبمة ٌهدون بؤمرنا وأوحٌنا إلٌهم فعل الخٌرات وإقام‬ ‫الصبلة وإٌتاء الزكاة ‪ ,‬وكانوا لنا عابدٌن ) ‪.‬‬ ‫وأثنى على إسماعٌل بقوله ‪ (:‬وكان ٌؤمر أهله بالصبلة والزكاة وكان عند ربه مرضٌا ً) ‪.‬‬ ‫وجاء فً خطابه لموسى ‪ ( :‬ورحمتً وسعت كل شا ‪ ,‬فسؤكتبها للذٌن ٌتقون وٌإتون الزكاة والذٌن هم‬ ‫بآٌاتنا ٌإمنون ) ‪.‬‬ ‫وذكر فً بٌانه لبنى إسرابٌل ( و ال تعبدون إال هللا وبالولدٌن إحسانا وذي القربى والٌتامى والمساكٌن‬ ‫وقولوا للناس حسنا وأقٌموا الصبلة وآتوا الزكاة )‪ .‬وقال على لسان عٌسى فً المهد‪( :‬وأوصانً‬ ‫بالصبلة والزكاة ما دمت حٌا ً) وقال فً ألهل الكتاب‪ ( :‬وما أمروا إال لٌعبدوا هللا مخلصٌن له الدٌن‬ ‫حنٌفا وٌقٌموا الصبلة وٌإتوا الزكاة ‪ ,‬وذلك دٌن القٌمة ) ‪.‬‬ ‫وفً مجمل هذه اآلٌات نرى الزكاة قرٌنة الصبلة‪ ،‬فهما ‪-‬كلتاه ما‪ -‬شعٌرتان وفرٌضتان وعبادتان‪.‬‬ ‫الصبلة عبادة بدنٌة روحٌة ‪ ,‬والزكاة عبادة مالٌة اجتماعٌة ‪ ,‬ولكونها عبادة وقربة إلى هللا اشترطت‬ ‫الشرٌعة فٌها النٌة واإلخبلص ‪ ,‬فبل تقبل زكاة إال بنٌة التقرب إلى هللا ‪ .‬وهذا بعض ما ٌمٌزها من‬ ‫الضرٌبة الوضعٌة ‪ .‬بٌد أنا نإكد هنا ‪ :‬أن الزكاة التً فرضها اإلسبلم ‪ -‬وان اشتركت فً األصل‬ ‫واالسم مع الزكاة فً الدٌانات السابقة ‪ -‬هً فً الواقع نظام جدٌد فرٌد ‪ ,‬لم ٌسبق إلٌه دٌن سماوي ‪ ,‬وال‬ ‫قانون أرضى ‪ .‬إنها لٌست مجرد إحسان موكول إلى إٌمان الفرد وضمٌره ‪ ,‬ولكنها ضرٌبة وعبادة‬ ‫ٌحرسها إٌمان الفرد ‪ ,‬ورقابة الجماعة ‪ ,‬وسلطان الدولة ‪.‬‬ ‫فاألمل فً اإلسبلم أن تإخذ الزكاة بواسطة اإلمام والسلطات الشرعٌة ‪ ,‬وبعبارة أجزى بواسطة الدولة‬ ‫المسلمة ‪ ,‬عن طرٌق الجهاز اإلداري الذي نص علٌه القرآن فً صراحة وسماه‪ ( :‬العاملٌن علٌها )‬ ‫وجعل لهم سهما ً من مصارؾ الزكاة ‪ ,‬داللة على استقبلل مٌزانٌتها من األبواب األخرى فً المٌزانٌة ‪,‬‬ ‫حتى ال تذوب حصٌلتها فً مصارؾ الدولة المتنوعة ‪ ,‬وال ٌدرك المستحقون منها شٌبا ً ٌذكر ‪ ,‬ومن ثم‬ ‫قال القرآن ‪ ( :‬خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكٌهم بها) وجاء ‪ ,‬فً الحدٌث من الزكاة‪ ( :‬أنها تإخذ‬ ‫من أؼنٌابهم فترد على فقرابهم )‪ ,‬فهً ‪ -‬إذن ‪ -‬فرٌضة تإخذ أخذاً ‪ ,‬ولٌست تبرعا ً اختٌارٌا متروكا ً‬ ‫لضمابر األشخاص‪.‬‬ ‫وال نعجب بعد ذلك إذا حدثنا التارٌخ الصادق أن الخلٌفة األول لرسول هللا ‪ ,‬أبا بكر الصدٌق ‪ ,‬جٌش‬ ‫الجٌوش ‪ ,‬وبعث الكتابب ‪ ,‬وأعلن الحرب على أقوام من العرب امتنعوا عن أداء الزكاة ‪ ,‬وقالوا‪ :‬نقٌم‬ ‫الصبلة وال نإتى الزكاة ‪ ,‬فؤبى الصدٌق أن ٌهادنهم فً شًء مما أوجب هللا‪ ,‬وقال كلمته الشهٌرة ‪(:‬‬ ‫وهللا ألقاتلن من فرق بٌن الصبلة والزكاة ‪ ,‬وهللا لو منعونً عناقا ً‪ -‬أي عنزة صؽرة ‪ ,‬وفى رواٌة ‪ :‬عقاالً‬ ‫ كانوا ٌإدون لرسول هللا لقاتلهم علٌه) ‪ .‬ولم ٌفرق أبو بكر بٌن المرتدٌن الذٌن اتبعوا أدعٌاء ‪ ,‬النبوة ‪,‬‬‫وبٌن الممتنعٌن من إٌتاء‪ ,‬الزكاة وقاتل أولك وهإالء ‪.‬‬ ‫ولما كانت الزكاة ضرٌبة تتولى الدولة المسلمة جباٌتها من أربابها ‪ ,‬وتوزٌعها على مستحقٌها ‪ ,‬حدد‬ ‫اإلسبلم مقادٌرها ونصبها والنسب الواجبة فٌها ‪ ,‬والمصارؾ التً توضع فٌها ‪ ,‬ولم ٌدعها لضمابر‬ ‫المإمنٌن وحدها فً مقدارها ونسبتها ومواردها ومصارفها ‪.‬‬


‫األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‬ ‫وهذه هً الفرٌضة أو الشعٌرة من فرابض اإلسبلم وشعابره‪،‬وهً سٌاج الشعابر السابقة وحارستها‪.‬‬ ‫وربما استؽرب بعض الناس أن تكون هذه ضمن الفرابض األساسٌة فً اإلسبلم ‪ ,‬فالمؤلوؾ والشابع هو‬ ‫األربع التً سلؾ ذكرها ‪ .‬ولكن المتتبع للقرآن والسنة ٌجد ذلك أوضح من فلق الصباح ‪.‬‬ ‫فالقرآن ٌجعل األمر بالمعروؾ والنهى عن المنكر هو الخصٌصة األولى التً تمٌزت بها هذه األمة‬ ‫المسلمة ‪ ,‬وفاقت بها أمم األرض ‪ ( :‬كنتم خٌر أمة أخرجت للناس تؤمرون بالمعروؾ وتنهون عن‬ ‫المنكر وتإمنون باهلل) ‪.‬‬ ‫قدم األمر بالمعروؾ والنهى عن المنكر فً الذكر على اإلٌمان ‪ ,‬مع أن اإلٌمان هو األساس ‪ ,‬ألن‬ ‫اإلٌمان باهلل قدر مشترك بٌن األمم الكتابٌة جمٌعا ‪ ,‬ولكن األمر والنهى فضٌلة هذه األمة ‪ ,‬التً لم تخرج‬ ‫للوجود من نفسها كالنبات الصحراوي ‪ ,‬بل أخرجها هللا إخراجا ‪ ,‬ولم ٌخرجها لتعٌش لنفسها ‪ ,‬فحسب ‪,‬‬ ‫بل أخرجت للناس ‪ ,‬للبشرٌة كلها ‪ ,‬فهً أمة دعوة ورسالة ‪ ,‬همها أن تشٌع المعروؾ وتثبته‪ ،‬وأن تزٌل‬ ‫المنكر وتمنعه‪ .‬وقبل اآلٌة المذكورة ببضع آٌات جاء قوله تبارك وتعالى ولتكن منكم أمة ٌدعون إلى‬ ‫الخٌر وٌؤمرون بالمعروؾ وٌنهون عن المنكر‪ ،‬وأولبك هم المفلحون )‪ .‬واآلٌة الكرٌمة‪( :‬ولتكن منكم‬ ‫أمة ) تحتمل معنٌ​ٌن‪ :‬األول أن تكون ( من) للتجرٌد كما تقول ‪ :‬لٌكن لً منك الصدٌق الوفً ‪ ,‬ولٌكن‬ ‫منك المسلم المعاهد فً سبٌل هللا ‪ ,‬ؾ ( من ) هنا لٌست للتبعٌض بل للتبرٌد ‪ ,‬أي كن الصدٌق الوفً‬ ‫وكن المسلم المجاهد ‪ ,‬وكذلك ٌكون معنى اآلٌة ‪ :‬كونوا أمة ٌدعون إلى الخٌر ‪ . . .‬إلخ ‪ .‬ولعل مما ٌإٌد‬ ‫هذا المعنى حصر الفبلح فً هإالء‪ .‬دون ؼٌرهم ‪ ,‬كما ٌفٌد قوله تعالى ‪ ( :‬وأولبك هم المفلحون ) ‪.‬‬ ‫ومقتضى هذا التفسٌر ‪ :‬أن تكون األمة كلها داعٌة إلى الخٌر ‪ ,‬آمرة بالمعروؾ ناهٌة عن المنكر ‪ ,‬كل‬ ‫بحسب م كانته وطاقته ‪ ,‬حتى تكون من أهل الفبلح ‪ .‬والمعنى الثانً ‪ :‬أن تكون ( من ) فً ( منكم)‬ ‫للتبعٌض كما هو الشابع المتبادر ‪ ,‬ومقتضى هذا أن ٌكون فً المجتمع المسلم طابفة قادرة‪ ,‬متمكنة ‪,‬‬ ‫معدة اإلعداد المبلبم ‪ ,‬لتقوم بواجب الدعوة واألمر والنهى ‪ ,‬والمخاطب بهذا األمر اإللهً ‪-‬إٌجاد‬ ‫الطابفة المذكورة ‪ -‬هم جماعة المسلمٌن كافة وأولو األمر خاصة ‪ ,‬فعلٌهم تهٌبة األسباب لوجودها ‪,‬‬ ‫وإعانتها مادٌا وأدبٌا لتقوم برسالتها ‪ ,‬فإذا لم توجد هذه األمة أو هذه الطابفة المنشودة ‪ ,‬عم اإلثم جمٌع‬ ‫المسلمٌن ‪ ,‬ككل فرض كفابً ٌترك وٌهمل ‪.‬‬ ‫وال ٌكفى أن يوجد أفراد متناثرون ٌقومون بالوعظ واإلرشاد ‪ ,‬فً دولة تدٌر لهم ظهرها ‪ ,‬ومجتمع‬ ‫ٌنؤى منهم بجانبه ‪ ,‬فالقرآن لم ٌرد ذلك ‪ ,‬إنا أراد وجود ( أمة )‪ ,‬فاألفراد المتناثرون ال ٌكونون ( أمة )‬ ‫‪ ,‬كما ٌفترض أن تكون لهذه األمة حرٌة الدعوة إلى الخٌر ‪ ,‬وأعظم بواب الخٌر هو اإلسالم ‪ .‬وأن‬ ‫تكون قادرة على أن تؤمر وتنهى ‪ ,‬واألمر والنهى شا أخص وأكبر من الوعظ والتذكٌر‪ ,‬فكل ذي لسان‬ ‫قادر على أن ٌعظ وٌذكر ‪ ,‬ولٌس قادرا دابما ً أن ٌؤمر وٌنهى ‪ ,‬والذي طالبت به اآلٌة الكرٌمة إنا هو‬ ‫إٌجاد أمة تدعو وتؤمر وتنهى ‪ .‬وفى بٌان السمات العامة لمجتمع المإمنٌن ‪ ,‬والتً ٌتمٌز بها عن مجتمع‬ ‫المنافقٌن ٌقول القرآن فً سورة التوبة ‪ ( :‬والمإمنون والمإمنات بعضهم أولٌا ء بعض ‪ٌ ,‬ؤمرون‬ ‫بالمعروؾ وٌنهون عن المنكر وٌقٌمون الصبلة وٌإتون الزكاة وٌطٌعون هللا ورسوله ‪ ,‬أولبك سٌرحمهم‬ ‫هللا ‪ ,‬إن هللا عزٌز حكٌم ) ‪ ,‬ومن الجمٌل فً اآلٌة أنها قرنت المإمنات بالمإمنٌن ‪ ,‬وجعلت الجمٌع‬ ‫بعضهم أولٌاء بعض ‪ ,‬وحملتهم ‪ -‬رجاال ونساء‪ -‬تبعه األمر بالمعروؾ والنهى عن المنكر ‪ ,‬وهذه‬ ‫شعٌرة األمر بالمعروؾ والنهى عن المنكر على الصبلة والزكاة ‪ ,‬ألنها السمة األولى للمجتمع المسلم ‪,‬‬ ‫وألفراد المجمع المسلم ‪ ,‬فاإل سبلم ال ٌكفى منهم أن ٌصلحوا فً أنفسهم حتى ٌعملوا على إصبلح‬ ‫ؼٌرهم‪ ,‬وفى هذا أٌضا جاءت سورة العصر ‪ ( :‬والعصر‪ ،‬إن اإلنسان لفً خسر ‪ ،‬إال الذٌن آمنوا‬ ‫وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) ‪ ,‬فلم ٌكؾ اإلٌمان والعمل‬ ‫الصالح ‪ ,‬لنجاتهم من الخسران والهبلك حتى ٌضموا إلى ذلك التواصً بالحق والتواصً بالصبر ‪,‬‬


‫وبعبارة أخرى ‪ :‬حتى ٌشتؽلوا بإصبلح ؼٌرهم ‪ ,‬وٌشٌع فً المجتمع معنى التناصح والدعوة إلى التمسك‬ ‫بالحق والصبر علٌه ‪ ,‬وٌصبح ذلك من مقومات المجتمع كاإلٌمان وعمل الصالحات ‪ .‬وفى سورة التوبة‬ ‫أٌضا ‪ ,‬بٌان ألوصاؾ المإمنٌن الذٌن اشترى هللا منهم أنفسهم وأموالهم بؤن لهم الجنة ‪ ,‬وذلك قوله ‪( :‬‬ ‫التاببون العابدون الحامدون السابحون الراكعون الساجدون اآلمرون بالمعروؾ والناهون عن المنكر‬ ‫والحافظون لحدود هللا ‪ ,‬وبشر المإمنٌن) ‪ .‬وفى سورة الحج ذكر القرآن أهم واجبات األمة المسلمة حٌن‬ ‫هللا لها فً األرض ‪ ,‬وٌكون لها دولة وسلطان ‪ ,‬فقال ‪ ( :‬ولٌنصرن هللا من ٌنصره ‪ ,‬إن هللا لقوى عزٌز‬ ‫‪ ،‬إن الذٌن إن مكناهم فً األرض أقاموا الصبلة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروؾ ونهوا عن المنكر‪ ,‬وهلل‬ ‫عاقبة األمور) ‪ .‬فاألمر بالمعروؾ والنهى عن المنكر ‪ -‬إلى جانب الصبلة والزكاة ‪ -‬أهم ما تقوم به‬ ‫دولة اإلسبلم بعد أن ٌمكن هللا لها وٌنصرها على عدوها ‪ ,‬بل هً ال تستحق نصر هللا ‪ ,‬إال بهذا ‪ ,‬كما‬ ‫بٌنت اآلٌتان الكرٌمتان ‪ .‬هذه هً فرٌضة األمر بالمعروؾ والنهى من المنكر فً القرآن ‪ ,‬إنها تمم على‬ ‫وجوب التكافل األدبً بٌن المسلمٌن ‪ ,‬كما أن الزكاة علم على وجوب التكافل المادي بٌنهم‪.‬‬ ‫وجاء الحدٌث النبوي فصور هذا التكافل األدبً أبلػ ما ٌكون التصوٌر وأروعه وأصدقه ‪ .‬وذلك فٌما‬ ‫رواه البخاري وؼٌره عن النعمان بن بشٌر ‪:‬‬ ‫( مثل القابم على حدود هللا والواقع فٌها ‪ ,‬كمثل قوم استهموا على سفٌنة ‪,‬‬ ‫فصار بعضهم أعبلها ‪ ,‬وبعضهم أسفلها ‪ ,‬وكان الذٌن فً أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من‬ ‫فوقهم ‪ ,‬فقالوا‪ :‬لو أنا خرقنا فً نصٌبنا خرقا ‪ ,‬ولم نإذ من فوقنا ! فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جمٌعا‬ ‫‪ ,‬وان أخذوا على أٌدٌهم نجبوا ‪ ،‬ونجبوا جمٌعا ) إن أسوا ما ٌصٌب المجتمعات أن ٌؽرس الطؽٌان أو‬ ‫الخوؾ فٌها األلسنة ‪ ,‬فبل تعلن بكلمة حق ‪ ,‬وال تجهر بدعوة وال نصٌحة ‪ ,‬وال أمر وال نهى ‪ .‬وبذلك‬ ‫تتهدم منابر اإلصبلح وتختفً معانً القوة ‪ ,‬وتذوى شجرة الخٌر ‪ ,‬وٌجترئ الشر ودعاته على الطهور‬ ‫واالنتشار ‪ ,‬فتنعق سوق الفساد ‪ ,‬وتروج بضامة إبلٌس ‪ ,‬وجنوده ‪ ,‬من ؼٌر أن عبد مقاومة وال مقاطعة‬ ‫‪ .‬وحٌنبذ ٌستوجب المجتمع نقمة هللا وعذابه ‪ ,‬فٌصب الببلء والنكبات على المقترفٌن للمنكر والساكتٌن‬ ‫علٌه ‪ ,‬قال تعالى ‪ ( :‬واتقوا فتنة ال تصٌبن الذٌن ظلموا منكم خاصة ‪ ,‬واعلموا أن هللا شدٌد العقاب ) ‪.‬‬ ‫وقال صلى هللا علٌه وسلم ( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم ٌؤخذوا على ٌدٌه أوشك أن ٌعمهم هللا بعذاب‬ ‫من عنده )‪.‬‬ ‫وفً حدٌث آخر‪ (:‬إذا رأٌت أمتً تهاب فبل تقول للظالم‪ٌ :‬ا ظالم‪ ،‬فقد تودع منهم) إن هللا لعن بنى‬ ‫إسرابٌل على لسان أنبٌابه ‪ ,‬وضرب قلوب بعضهم ببعض ‪ ,‬وسلط علٌهم من ال ٌرحمهم ‪ ,‬النتشار‬ ‫المنكرات بٌنهم دون أن تجد من ٌؽٌرها أو ٌنهى عنها ‪ .‬قال تعالى ‪ ( :‬لعن الذٌن كفروا من بنى إسرابٌل‬ ‫عن لسان داود وعٌسى ابن مرٌم ‪ ,‬ذلك بما عصوا وكانوا ٌعتدون و كانوا ال ٌتناهون عن منكر فعلوه ‪,‬‬ ‫لببس ما كانوا ٌفعلون )‪ .‬وأسوا مما ذكرنا أن ٌموت الضمٌر االجتماعً لؤلمة أو ٌمرض على األقل ‪,‬‬ ‫بعد طول اإللؾ للمنكر والسكوت علٌه ‪ -‬فٌفقد المجتمع حسه الدٌنً واألخبلقً ‪ ,‬الذي ٌعرؾ به‬ ‫المعروؾ من المنكر ‪ ,‬وٌفقد العقل البصٌر الذي ٌمٌز الخبٌث من ‪ ,‬والحبلل من الحرام ‪ ,‬والرشد من‬ ‫الؽً ‪ ,‬وعند ذلك تختل موازٌن المجتمع وتضبط مقاٌ​ٌسه ‪ ,‬فٌرى ألسنة بدعة ‪ ,‬والبدعة سنة ‪ ,‬أو ٌرى‬ ‫ما نحسه ونلمسه فً عصرنا عند كثٌرٌن من أبناء المسلمٌن ‪ ,‬من اعتبار التدٌن رجعٌه ‪ ,‬واالستقامة‬ ‫تزمتا ً ‪ ,‬واالحشام جموداً ‪ ,‬والفجور فنا ً ‪ ,‬واإللحاد تحرراً ‪ ,‬وما ال نعلم ‪ ,‬وبعبارة موجزة واالنحبلل‬ ‫تقدما ‪ ,‬واالنتفاع بتراث السلؾ م خلفا فً التفكٌر ‪ ..‬إلى آخر ما نعلم وما ال نعلم‪ ،‬وبعبارة موجزة‪:‬‬ ‫ٌصبح المعروؾ منكرا ‪ ,‬والمنكر معروفا ! وأسوا من هذا وذاك ‪ :‬أن ٌخفت صوت الحق ‪ ,‬وتتعالى‬ ‫صٌحات الباطل ‪ ,‬تتجاوب بها األرجاء داعٌه إلى الفساد ‪ ,‬آمره بالمنكر ‪ ,‬ناهٌه عن المعروؾ ‪,‬‬ ‫صٌحات الذٌن وصفهم الحدٌث الشرٌؾ بؤنهم ‪ ( :‬دعاة على أبواب جهنم ‪ ,‬من أجابهم إلٌها قذفوه فٌها )‬ ‫‪ .‬هذا هو شؤن مجتمع المنافقٌن الذٌن جعلهم القرآن فً الدرك األسفل من النار ‪ ,‬وهو المجتمع الذي‬ ‫حددت معالمه اآلٌة الكرٌمة‪ ( :‬المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض ‪ٌ ,‬ؤمرون بالمنكر وٌنهون عن‬


‫المعروؾ وٌقبضون أٌدٌهم ‪ ,‬نسوا هللا فنسٌهم ‪ ,‬إن المنافقٌن هم الفاسقون ) ‪ .‬وهذه الخصال مناقضة‬ ‫تمام المناقضة لمجتمع المإمنٌن ‪ ,‬كما صورته آٌة ‪ ( :‬والمإمنون والمإمنات بعضهم أولٌاء بعض ‪,‬‬ ‫ٌؤمرون بالمعروؾ وٌنهون عن المنكر ) ‪ ,‬والذي ٌعنٌنا هنا أنه مجتمع منكوس على رأسه ‪ٌ ,‬ؤمر‬ ‫بالمنكر وٌنهى عن المعروؾ ‪ .‬فإذا ارتفع فٌه للحق صوت ٌدعو إلى هللا ‪ ,‬وٌؤمر بالقسط ‪ ,‬وٌنهى عن‬ ‫الفساد والظلم ‪ ,‬كان جزاإه الموت جهارا على حبل المشنقة فً وضح النهار ‪ ,‬أو االؼتٌال خفٌه ‪-‬‬ ‫بالرصاص أو بسٌاط التعذٌب ‪ -‬فً جنح اللٌل ‪ .‬كما صنع بنو إسرابٌل بؤنبٌابهم حٌن قتلوهم بؽٌر حق ‪.‬‬ ‫فمنهم من ذبحوه بالسكٌن ‪ ,‬ومنهم من نشروه بالمنشار ‪ ,‬ومنهم من تآمروا على قتله وصلبه ‪ ,‬فرفعه هللا‬ ‫إلٌه ‪ .‬وهو على مله األنبٌاء والدعاة إلى هللا قوله سبحنه ‪ ( :‬إن الذٌن من ٌكفرون بآٌات هللا وٌقتلون‬ ‫النبٌ​ٌن بؽٌر حق وٌقتلون الذٌن ٌؤمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب ألٌم ‪ ،‬أولبك الذٌن حبطت‬ ‫أعماهم فً الدنٌا واآلخرة وما لهم من ناصرٌن ) ‪ .‬إن هذه المراحل المتدرجة فً االنحطاط والفساد ‪,‬‬ ‫ٌؤخذ بعضها بحجز بعض ‪ ,‬وٌجر بعضها إلى بعض ‪ ,‬فالشبهات تجر إلى صؽابر المحرمات ‪,‬‬ ‫والصؽابر تجر إلى الكبابر ‪ ,‬والكبائر تجر إلى الكفر ‪ ,‬والعٌاذ باهلل ‪ .‬ومن أروع األحادٌث التً وضحت‬ ‫هذا التنزل فً دركات الشر والمعصٌة ‪ ,‬ما رواه أبو أمامة مرفوعا ً ‪ ( :‬كٌؾ أنتم إذا طؽى نساإكم ‪,‬‬ ‫وفسق شبانكم ‪ ,‬وتركتم جهادكم )؟! قالوا ‪ :‬وان ذلك لكابن ٌا رسول هللا ؟ قال ‪ ( :‬نعم ‪ ,‬والذي نفسً‬ ‫بٌده ‪ ,‬وأشد منه سٌكون ) ! قالوا ‪ :‬وما أشد منه ٌا رسول هللا ؟ قال ‪( :‬كٌؾ أنتم إذا لم تؤمروا بمعروؾ‬ ‫ولم تنهوا عن منكر ) ؟! ‪ .‬قالوا ‪ :‬وكابن ذلك ٌا رسول هللا ؟‪ :‬قال ‪ ( :‬نعم ‪ ,‬والذي نفسً بٌده ‪ ,‬وأشد منه‬ ‫سٌكون ! ! قالوا ‪ :‬وما أشد منه ٌا رسول هللا ؟! قال ‪ ( :‬كٌؾ أنتم إذا رأٌتم المعروؾ منكرا ‪ ,‬والمنكر‬ ‫معروفا ً ) ؟! قالوا ‪ :‬وكابن ذلك ٌا رسول هللا ؟! قال ‪ ( :‬نعم ‪ ,‬والذي نفسً بٌده ‪ ,‬وأشد منه سٌكون ) !‬ ‫قالوا ‪ :‬وما أشد منه ٌا رسول هللا ؟! قال ‪( :‬كٌؾ أنتم إذا أمرتم بالمنكر ‪ ,‬ونهٌتم عن المعروؾ ) ؟! قالوا‬ ‫‪ :‬وكابن ذلك ٌا رسول هللا ؟! قال ‪ ( :‬نعم ‪ ,‬والذي نفسً بٌده ‪ ,‬وأشد منه سٌكون ! ٌقول هللا تعالى ‪ :‬بً‬ ‫حلفت ألتٌحن لهم فتنة ٌصٌر الحلٌم فٌها حٌران ) ‪.‬‬ ‫وٌبدو أن الكثٌر مما حذر منه هذا الحدٌث مد وقع ‪ ,‬متى ؼدا المعروؾ منكرا ‪ ,‬والمنكر معروفا ‪,‬‬ ‫وأصبحت الدعوة إلى اإلسبلم وشرٌعته وكؤنها جرٌمة ‪ ,‬وأمسى الداعً إلى اإلسبلم «« أصولٌا ً »‬ ‫مكانه قفص االتهام ! ولكن الدعاة إلى هللا ‪ ,‬اآلمرٌن بالمعروؾ والناهٌن عن المنكر ‪ ,‬والحراس األٌقاظ‬ ‫لدٌن هللا ‪ ،‬لم ٌزل صوتهم قوٌا ً بالحق‪ ,‬وان تعالت من حولهم أصوات الباطل‪ .‬المهم هو تؤكٌد هذه‬ ‫الفرٌضة العظٌمة وإحٌاإها ‪ ,‬وإحٌاء وظٌفة ( المحتسب ) الذي جسا هذه الشعٌرة فً الحٌاة العملٌة ‪,‬‬ ‫وكانله شؤن خطٌر فً مجتمع المسلمٌن ‪ .‬وإذا كان بعض الناس فً عصرنا ٌتحدثون عن « الرأي العام‬ ‫» وأثره فً الرقابة على رعاٌة مبادئ األمة وأخبلقها وآدابها ومصالحها ‪ ,‬وتقوٌم ما ٌعوج من شبون‬ ‫حٌاتها ‪ ,‬فإ ن فرٌضة األمر والنهى كفٌلة بؤن تنشا الرأي العام الواعً البصٌر ‪ ,‬المستند إلى أقوم‬ ‫المعاٌ​ٌر األخبلقٌة واألدبٌة وأعدلها وأخلدها وا ثبتها ‪ ,‬ألنها معاٌ​ٌر مستمدة من الحق األزلً األبدي ‪,‬‬ ‫من هللا عز وجل ‪.‬‬

‫كما ٌتمٌز المجتمع المسلم بعقابده وشعابره‪ٌ ،‬تمٌز كذلك بؤفكاره ومفاهٌمه وتصوراته فالمجتمع المسلم‬ ‫تسوده أفكار ومفاهٌم تحدد وجهة نظره إلى األشٌاء و األحداث واألشخاص والمواقؾ ‪ ,‬والقٌم‬ ‫والعبلقات ‪ .‬فهو ٌحكم على هذه األمور كلها من زاوٌة اإلسبلم ‪ ,‬وهو ال ٌستمد حكمه ‪ ,‬وٌستقً وجهة‬ ‫نظره إال من مصادر اإلسبلم النقٌة ‪ ,‬المصفاة من الشوابب والزوابد ‪ ,‬التً تمثل رواسب العصور ‪,‬‬


‫وتإكد التحور من ؼلو الؽالٌن ‪ ,‬وتقصٌر المقصرٌن ‪ ,‬وانتحال المبطلٌن ‪ ,‬وتؤوٌل الجاهلٌن ‪.‬‬ ‫لقد حرص اإلسبلم منذ طلوع فجره على أن ٌصحح مفاهٌم أبنابه ‪ ,‬حتى تستقٌم نظرتهم إلى األمور‬ ‫والواقؾ‪ ,‬وٌتحد تصورهم العام لؤلشٌاء والقٌم ‪ .‬فلم ٌدعهم لشطحات الفكر ‪ ,‬وال انحرافات الهوى ‪,‬‬ ‫فٌزٌؽوا عن ا‪.‬لقصد ‪ ,‬وٌضلوا عن سواء الصراط ‪ ,‬وتتفرق بهم سبل الباطل عن سبٌل الحق ‪ .‬ولهذا‬ ‫دأب القرآن ‪ ,‬كما د أبت السنة ‪ ,‬على تصحٌح المفاهٌم المؽلوطة واألفكار الخاطبة‪ ,‬والتصورات‬ ‫المنحرفة ‪ ,‬التً تشٌع فً أذهان الناس ‪ .‬فهم بعض األعراب أن اإلذعان مجرد إعبلن وتظاهر‪ ،‬فنزل‬ ‫القرآن ٌصح ح هذا المفهوم ٌقول ‪ (:‬قالت األعراب آمنا‪ ،‬قل لم تإمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما ٌدخل‬ ‫اإلٌمان فً قلوبكم) ‪..‬إلى أن قال‪ (:‬إنما المإمنون الذٌن آمنوا باهلل ورسوله ثم لم ٌرتابوا وجاهدوا‬ ‫بؤموالهم وأنفسهم فً سبٌل هللا‪ ،‬أولبك هم الصادقون) وأشاع بعض أهل الكتاب من الٌهود‪ :‬أن البر أو‬ ‫التقوى هو االهتمام برسوم معٌنة‪ ،‬وشكلٌات خاصة‪ ،‬ولهذا أقاموا الدنٌا وأٌقعدوها حٌن تحول الرسول‬ ‫من بٌت المقدس إلى الكعبة‪ ،‬وجعلها هللا له قبله‪ ،‬فنزلل القرآن ٌبٌن حقٌقة البر والتقوى والدٌن الحق‬ ‫فقال‪ (:‬لٌس البر أ‪ ،‬تولوا وجوهكم قبل المشرق والمؽرب ولكن البر من آمن باهلل والٌوم اآلخر والمبلبكة‬ ‫والكتاب والنبٌ​ٌن وآتى المال على حبه ذوي القربى والٌتامى والمساكٌن وابن السبٌل والسابلٌن وفً‬ ‫الرقاب وأقام الصبلة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا‪ ،‬والصابرٌن فً البؤساء والضراء وحٌن‬ ‫البؤس‪ ،‬أولبك الذٌن صدقوا‪ ،‬وأولبك هم المتقون)‪.‬‬ ‫وحسب بعض الناس أن طرٌق اإلٌمان إلى الجنة مفروش باألزهار والرٌاحٌن ال فتنة فٌه وال اضطهاد‬ ‫وال عذاب‪ ،‬فنزل القرآن ٌدرأ هذا الوهم‪ ،‬وٌخطا هذا الفهم إذ ٌقول‪ (:‬آلم‪ ،‬أحسب الناس أن ٌتركوا أن‬ ‫ٌقولوا آمنا وهم ال ٌفتنون‪ ،‬ولقد فتنا الذٌن من قبلهم‪ ،‬فلٌعلمن هللا الذٌن صدقوا ولٌعلمن الكاذبٌن)‪..‬‬ ‫وٌقول‪ (:‬أم حسبتم أ‪ ،‬تدخلوا الجنة ولما ٌعلم هللا الذٌن جاهدوا منكم وٌعلم الصابرٌن)‪ ( ..‬أم حسبتم أ‪،‬‬ ‫تدخلوا الجنة ولما ٌؤتكم مثل الذٌن خلوا من قبلكم‪ ،‬مستهم البؤساء والضراء وزلزلوا حتى ٌقول الرسول‬ ‫والذٌن آمنوا معه متى نصر هللا‪ ،‬أال إن نصر هللا قرٌب)‪.‬‬ ‫وتصور بعض الناس أن من قتل فً سبٌل هللا قد مات‪ ،‬كما ٌموت اآلخرون من البشر فٌنفً القرآن هذا‬ ‫الحسبان وٌضع مفهوما ً جدٌداً إذ ٌقول‪ (:‬وال تقولوا لمن ٌقتل فً سبٌل هللا أموات بل أحٌاء ولكن ال‬ ‫تشعرون)‪ ( ،‬وال تحسبن الذٌن قتلوا فً سبٌل هللا أمواتا ً بل أحٌاء عند ربهم ٌرزقون)‪ .‬ومن الناس من‬ ‫ٌحسب أن التؽٌ​ٌر المادي سبب التؽٌ​ٌر فً عالم النفس ‪,‬فٌقرر القرآن عكس ذلك ‪ ,‬وٌبٌن أن التؽٌ​ٌر‬ ‫الروحً والمعنوي هو األصل واألساس ‪ ( :‬إن هللا ال ٌؽٌر ما بقوم حتى ٌؽٌروا ما بؤنفسهم ) ‪ .‬وٌصحح‬ ‫القرآن فكرة الناس عن الفوز والفبلح والخسران ‪ ,‬فٌنقلها من دابرتها الضٌقة فً عقول جماهٌر الناس ‪:‬‬ ‫الدابرة المادٌة الدنٌوٌة العاجلة إلى دابرة أرحب وأخلد وأبقى ‪ ,‬فٌقول ‪ ( :‬فمن زحزح عن النار وأدخل‬ ‫الجنة فقد فاز ‪ ,‬وما الحٌاة الدنٌا إال متاع الؽرور) ‪ ( ،‬قد أفلح من تزكى‪ ،‬وذكر اسم ربه فصلى)‪ ( ،‬قل‬ ‫إن الخاسرٌن الذٌن خسروا أ‪،‬فسهم وأهلٌهم ٌوم القٌامة‪ ،‬أال ذلك هو الخسران المبٌن)‪ .‬وٌظن فرٌق من‬ ‫البشر أن النساء شٌاطٌن خلقن لؽواٌة الرجال ‪ ,‬وأن المرأة لعنة مجسمة وفتنة تمشى على األرض ‪,‬‬ ‫فٌنفى القرآن هذا الظن ‪ ,‬وٌقول ‪ ( :‬ومن آٌاته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إلٌها وجعل بٌنكم‬ ‫مودة ورحمة ‪ ,‬إن فً ذلك آلٌات لقوم ٌتفكرون )‪.‬‬ ‫وٌعتقد فبة من الناس أن الظلمة والنور أثران إللهٌن مختلفٌن ٌصطرعان حتى تكون الؽلبة فً النهاٌة‬ ‫ألحدهما ‪ ,‬فٌبٌن القرآن أنهما أثران لخالق واحد واله واحد (خلق السموات واألرض وجعل الظلمات‬ ‫والنور)‪( ،‬وجعلنا اللٌل لباساً‪ ،‬وجعلنا النهار معاشا ً) ‪ (،‬قل أرأٌتم إن جعل هللا علٌكم اللٌل سرمداً إلى ٌوم‬ ‫القٌامة من إله ؼٌر هللا ٌؤتٌكم بضٌاء‪ ،‬أفبل تسمعون)‪ .‬وهكذا ظل القرآن الكرٌم ‪ 23‬عاما ً ٌبٌن الحقابق‬ ‫وٌزٌؾ األباطٌل‪ ،‬وٌصحح التصورات والمفاهٌم‪ .‬وجا ءت السنة النبوٌة فكانت البٌان والتفسٌر النظري‬


‫والعملً للقرآن‪ ،‬وظل الرسول الكرٌم (صلى هللا علٌه وسلم) ٌصحح وٌوضح‪ ،‬وٌبنً وٌهدم حتى استقام‬ ‫للمجتمع المسلم تصوره‪ ،‬واتضحت مفاهٌمه وأصبح على بٌنة من ربه وبصٌرة من أمره‪ ،‬كما خاطب‬ ‫هللا تعالى رسوله( صلى هللا علٌه وسلم) ‪ (:‬قل هذه سبلً أدعوا إلى هللا ‪ ،‬على بصٌرة أنا ومن اتبعنً‪،‬‬ ‫وسبحان هللا وما أنا من المشركٌن)‪ .‬وصحح النبً (صلى هللا علٌه وسلم) مفاهٌم كثٌرة جداً لعل أهمها‬ ‫مفهوم اإلٌمان‪ ،‬فلٌس اإلٌمان بالتمنً ولكن ما وقر فً القلب وصدقه العمل‪" :‬ال ٌإمن أحدكم حتى ٌحب‬ ‫ألخٌه ما ٌحب لنفسه"‪ " ،‬ال ٌإمن أحدكم حتى ٌكون هواه تبعا ً لما جبت به"‪ " ،‬لٌس بمإمن من بات‬ ‫شبعان وجارة جابع"‪ " ،‬اإلٌمان بضع وسبعون شعبة والحٌاء شعبة من اإلٌمان" إلى أحادٌث كثٌرة‬ ‫جمعها أحد األبمة ( البٌهقى ) فً مإلؾ ضخم باسم " شعب اإلٌمان " ‪ ,‬وٌضع اإلسبلم مفهوما ً جدٌداً‬ ‫فً قبول األعمال ‪ ,‬فً فٌربطها بمقاصدها ونٌاتها الباعثة علٌها وٌجل موضع نظره هو القلب ال‬ ‫الجوارح ‪ ( :‬إنما األعمال بالنٌات وإنما لكل امرئ ما نوى ) ‪ ( ,‬إن هللا ال ٌنظر إلى صوركم وأجسامكم‬ ‫ولكن ٌنظر إلى قلوبكم وأعمالكم )‪ ( ,‬أال إن فً الجسد مضؽة إذا صلحت صلح الجسد كله ‪ ,‬وإذا فسدت‬ ‫فسد الجسد كله ‪ ,‬أال وهى القلب ) ‪.‬‬ ‫وٌبٌن حقٌقة الؽنى فٌقول ‪ ( :‬لٌس الؽنى عن كثرة العرض ‪ ,‬إنما الؽنى ؼنى النفس ) ‪ .‬وحقٌقة القوة ‪,‬‬ ‫فٌردها إلى قوة النفس ال إلى قوة الجسم ‪ ( :‬لٌس الشدٌد بالصرعة ‪ ,‬إنما الشدٌد الذي ٌملك نفسه عند‬ ‫الؽضب ) ‪ .‬وحقٌقة المسكنة والمسكٌن ‪ ,‬وٌنفى الصورة الفاشٌة عند جمهور الناس عن المسكٌن فٌقول ‪:‬‬ ‫( لٌس المسكٌن الذي ترده التمرة والتمرتان ‪ ,‬وال اللقمة وال اللقمتان ‪ ,‬إنما المسكٌن الذي ال ٌجد عن‬ ‫بقٌة وال ٌنظر له فٌتصدق علٌه ‪ ,‬وال ٌقوم فٌسؤل الناس ) ‪ .‬وفى رواٌة ‪ ( :‬إنما المسكٌن المتعفؾ ) ‪.‬‬ ‫واقرءوا إن شبتم ‪ ( :‬ال ٌسؤلون الناس إلحافا ً ) ‪ .‬وٌبٌن الرسول ( صلى هللا علٌه وسلم) مقٌاس التفاضل‬ ‫بٌن الناس أفرادا´ وجماعات ‪ ,‬حصرة فً اإلٌمان والتقوى والعمل الصالح ‪ .‬ورد المفاهٌم الشابعة ‪ ,‬من‬ ‫اعتبار الزٌنة ‪ ,‬والجاه أو المال والؽنى ‪ ,‬أو الجنس والنسب ‪ ,‬أو الضخامة والفخامة ‪ ,‬أو ما شابه ذلك‬ ‫من مقاٌ​ٌس مادٌة دنٌوٌة ‪ ( ,‬فرب أشعث مدفوع باألبواب ‪ ,‬لو أقسم على هللا ألبره ) ‪ ,‬ورب فقٌر خٌر‬ ‫من ملا األرض من ؼنى مشهور ‪ ( ,‬وال فضل لعربً على أعجمً ‪ ,‬وال ألحمر على أسود إال بالتقوى‬ ‫) ‪ ( ,‬ومن بطؤ به عمله لم ٌسرع به نسبه ) ‪ٌ ( ,‬ؤتً الرجل العظٌم السمٌن عندي ٌوم القٌامة فبل ٌزن‬ ‫عند هللا جناح بعوضة ) ‪ .‬وٌبٌن الرسول (صلى هللا علٌه وسلم) اختبلل المقاٌ​ٌس فً آخر الزمان فٌقول‬ ‫‪ٌ ( :‬ؤتً على الناس زمان ٌقال للرجل فٌه ‪ :‬ما أظرفه ‪ ,‬وما أعقله ‪ ,‬وما أجلده ‪ ,‬وما فً قلبه مثقال حبة‬ ‫من إٌمان ) ‪ .‬أفكار اإلسبلم ومفاهٌمه وتصوراته هً التً تعمل وحدها فً المجتمع المسلم ‪ ,‬وتسٌطر‬ ‫على عقول بنٌه ‪ ,‬وتوجه أدبه وفنه ‪ ,‬وثقافته وإعبلمه ‪ ,‬وتربٌته و تعلٌمه ‪ .‬فكرة اإلسبلم عن اإلنسان ‪,‬‬ ‫وعن الحٌاة والدنٌا ‪ ,‬وعن المال والؽنى والفقر ‪ ,‬وعن التدٌن والبر والتقوى ‪ ,‬وعن العدل واإلحسان ‪,‬‬ ‫وعن التقدم والتؤخر ‪ ,‬وعن التحضر والتخلؾ ‪ ,‬وعن الزهد والقناعة ‪ ,‬وعن الصبر والرضا ‪.‬‬ ‫فكرة اإلسبلم عن الرجل والمرأة والعبلقة بٌنهما ‪.‬‬ ‫فكرة اإلسبلم عن الؽنً والفقٌر والعبلقة بٌنهما ‪.‬‬ ‫فكرة اإلسبلم عن الحاكم والمحكوم والعبلقة بٌنهما ‪.‬‬ ‫فكرة اإلسبلم عن الفرد والمجتمع والعبلقة بٌنهما ‪.‬‬ ‫هذه األفكار وما شابهها ٌجب أن تكون هً الموجهة للمجتمع المسلم ‪ ,‬المهٌمنة علٌه ‪ ,‬دون ؼٌرها من‬ ‫األفكار والتصورات ‪ .‬وذلك ألن أفكار اإلسبلم ومفاهٌمه هً وحدها المستقاة من المصدر اإللهً‬ ‫المعصوم فمصدرها ( كتاب أحكم ت آٌاته ثم فصلت من لدن حكٌم خبٌر) وسنة رسول ال ٌنطق عن‬ ‫الهوى ( إن هو إال وحً ٌوحى ) ‪.‬‬


‫ونتٌجة لذلك كانت هذه األفكار وحدها هً التً تتسم بالشمول والعمق والتوازن فً تقوٌمها لؤلمور ‪,‬‬ ‫ونظرتها إلى جمٌع العبلقات ‪ .‬ففكرة اإلسبلم عن الحٌاة هً الفكرة المتوازنة المعتدلة ‪ ,‬التً تجعل الدنٌا‬ ‫مزرعة لآلخرة ‪ ,‬وطرٌقا إلى دار الخلود ‪ ,‬والطرٌق ٌجب أال ٌشؽل عن الؽاٌة التً إلٌها تشد الرحال ‪,‬‬ ‫ولكنه ٌجب أن ٌكون مرٌحا مزدانا باألشجار والظبلل ‪ ,‬حتى ٌهون اجتٌازه بمراحله على المسافرٌن ‪.‬‬ ‫لعن ‪ ,‬وان العالم شر ‪ ,‬و ٌنبؽً التعجٌل بفنابه بالتبتل‬ ‫فلٌست هً الفكرة المتشابمة القابلة ‪ :‬إن الحٌاة ة‬ ‫والرهبانٌة واالنقطاع عن الزواج ‪ ,‬وعن الطٌبات ‪ ,‬كما ٌقول المذهب المانوي فً فارس ‪ ,‬وكما مارس‬ ‫ذلك رجال الرهبانٌة ‪ ,‬فً النصرانٌة ‪ ,‬والفقراء فً الهندوسٌة ‪ .‬ولٌست هً الفكرة الدهرٌة الملحدة ‪,‬‬ ‫التً مضمونها ‪( :‬ما ه ي إال حٌاتنا الدنٌا نموت ونحٌا وما ٌهلكنا إال الدهر ) ‪ ,‬أرحام تدفع وأرض تبلع ‪,‬‬ ‫ولٌس وراء ذلك بعث وال حساب وال جزا ء ‪ .‬وفكرة اإلسبلم عن اإلنسان هً الفكرة المتوازنة المعتدلة‬ ‫‪ ,‬التً تنظر إلٌه على أنه مخلوق مكرم ذو طبٌعة مزدوجة ‪ ,‬فهو جسم وروح ‪ ,‬أو هو روح ٌسكن فً‬ ‫ؼبلؾ من الجسم ‪ ,‬كما قال تعالى فً خلق اإلنسان األول ‪ ( :‬إنً خالق بشراً من طٌن فإذا سوٌته‬ ‫ونفخت فٌه من روحً فقعوا له ساجدٌن) وٌجب أن ٌعطى الجسم حقه‪ ،‬والروح حقه من شرٌعة‬ ‫اإلسبلم‪.‬‬ ‫فلٌست هً الفكرة المادٌة القابلة‪ :‬إن اإلنسان لٌس إال هذا الجسم بؤجهزته وأعضابه‪ ،‬بلحمه ودمه‬ ‫وأعصابه وؼرابزه ودوافعه‪ ،‬ولٌس وراء الجسم شًء آخر‪ ،‬فهً تنظر إلى اإلنسان كما تنظر إلً‬ ‫العالم‪ ،‬فالعالم مادي وال إله له‪ ،‬واإلنسان مادي وال روح فٌه‪ .‬ولٌست هً الفكرة الروحٌة المسرفة التً‬ ‫ؾ نجاة لئلنسان‪ ،‬وال‬ ‫تقول‪ :‬إن الجسم شر ورجس‪ ،‬وإن الروح وحدها هً محل الطهر والسمو‪ ،‬ال‬ ‫خبلص إال بتعذٌب النفس وحرمانه لٌتسنى للروح أن تصفو وتترقى وتتزكى‪ .‬فلٌس بمجتمع مسلم‬ ‫صحٌح اإلسبلم إذن‪ :‬ذلك المجتمع الذي ٌشٌع فٌه مفهوم الحٌاة‪ ،‬كما هو عند الؽربٌ​ٌن‪ ،‬وال كما هو عند‬ ‫البوذٌ​ٌن‪ .‬ولٌس هو الذي ٌتصور اإلنسان تصور الروحٌ​ٌن المتشائمٌن‪ ،‬وال تصور المادٌن المسرفٌن‪.‬‬ ‫ولٌس بمجتمع مسلم صحٌح ذلك الذي ٌفهم التقوى على أنها ترقع‪ ،‬ولحٌة تعفً ومسبحة تدار فً الٌد‪..‬‬ ‫وإن لم ٌكن وراءها علم نافع وال قلب خاشع وال عمل صالح‪ .‬ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌفهم التدٌن‬ ‫على أ‪،‬ه مجرد أداء الشعابر من صبلة وصٌام وحج وعمرة‪..‬وإلن كان ٌتعامل بالربا فً تجارته‪ ،‬أو‬ ‫ٌدع المرء فٌه زوجته مكشوفة الذراعٌن والساقٌن ‪ ،‬أو ٌدع أوالده فً المدارس التبشٌر والتنصٌر‪ ،‬أ‪,‬‬ ‫ٌتركهم فرٌسة للمربٌات الكافرات أو الفاسقات‪ .‬أو ٌرى المنكر ضاربا ً أطنابه فً كل مكان‪ ،‬والفساد‬ ‫ناشراً ظبلمه على كل وضع‪ .‬وهو ٌقول‪ :‬نفسً نفسً! مؽفبلً فرٌضة األمر بالمعروؾ والنهً عن‬ ‫المنكر‪ ،‬والجهاد لمقاومة الباطل‪ .‬ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌشٌع فٌه مفهوم العدل االجتماعً على‬ ‫أ‪،‬ه نهب القناطر المقنطرة‪ ،‬ثم التصدق بدرٌهمات أ‪ ,‬دوانق على بعض الفقراء والمحتاجٌن ‪ ,‬مما جعل‬ ‫بعضهم ٌفهم خطؤ عدالة اإلسبلم فٌطلق علٌها اسم " اشتراكٌة الصدقات "‪.‬‬ ‫ولٌس العدل أٌضا هو نهب األموال المملوكة ‪ -‬ملكٌة مشروعة من أصحابها األؼنٌاء ‪ -‬بزعم إعطابها‬ ‫للفقراء ‪ ,‬وإن لم ٌصل إلى الفقراء منها نقٌر وال قطمٌر ‪ ,‬فهذا المفهوم ‪ -‬كذلك ‪ -‬للعدل االجتماعً‬ ‫مفهوم خاطا دخٌل على فكرة اإلسبلم ‪.‬‬ ‫ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌنظر إلى الفقٌر والؽنى نظر الصوفى القابل ‪ ( :‬إذا رأٌت الفقر مقببلً فقل‬ ‫‪ :‬مرحبا ً بشعار الصالحٌن ‪ ,‬وإذا رأٌت الؽنى مقببلً فقل ‪ :‬ذنب عجلت عقوبته )! ولٌس بمجتمع مسلم‬ ‫ذلك الذي ٌنظر إلى المرأة على أنها أحبولة الشٌطانو وأخت إبلٌس ‪ ,‬وأنها هً التً أخرجت آدم من‬ ‫الجنة ‪ -‬كما تزعم التوراة ‪ ,‬وكما ٌعتقد الٌهود والنصارى ‪ -‬وكما ٌظن لؤلسؾ كثٌر من المسلمٌن بحكم‬ ‫الثقافة المسمومة التً تلقوها فً المدارس أو من أجهزة اإلعبلم ‪.‬‬ ‫ولٌس هو أٌضا الذي ٌشٌع فٌه ذلك المفهوم الخاطا عن مساواة الرجل بالمرأة مع أن فطرة هللا خالفت‬


‫بٌنهما ‪ ,‬وجعلت للرجل القوامة ‪ ,‬والمسإولٌة ‪ ( :‬الرجال قوامون على النساء بما فضل هللا بعضهم على‬ ‫بعض وبما أنفقوا من أموالهم ) ‪.‬‬ ‫إن األفكار والمفاهٌم التً تشٌع فً المجتمعات المنتسبة إلى اإلسبلم الٌوم ألوان وأنواع شتى ‪:‬‬ ‫( ا ) بعضها من بقاٌا القٌم والتعالٌم اإلسبلمٌة الصحٌحة ‪ ,‬التً ال ٌزال لها أثرها فً كثٌر من األنفس‬ ‫والعقول ‪ ,‬وخصوصا ً بعد أن قام لئلسبلم دعاة واعون فً ببلد شتى ‪ٌ ,‬شرحون رسالته شرحا ٌرد إلٌها‬ ‫فطرٌتها وشمولها ‪ ,‬وٌدرا الشبهات عنها ‪.‬‬ ‫( ب ) وبعضها من رواسب العصور األخٌرة التً تخؾ فٌها الفكر اإلسبلمً فً مختلؾ المجاالت ‪,‬‬ ‫ففقد األصالة واإلبداع ‪ ,‬وأؼلق باب االجتهاد ‪ ,‬وأصٌب المسلمون بسوء الفهم لئلسبلم ‪ ,‬كما ابتلوا بسوء‬ ‫التطبٌق له كذلك ‪.‬‬ ‫( ج )زحفت على دٌار اإلسبلم ‪ ,‬مع االستعمار ‪ ,‬الذي كان وبعضها من الروافد األجنبٌة التً أكبر همه‬ ‫أن ٌؽٌر أفكار المسلمٌن وتصورا تهم وأذواقهم ‪ ,‬لٌسهل علٌه بعد ذلك لً زمامهم إلى الوجهة التً ٌرٌد‬ ‫‪.‬‬ ‫وواجب المجتمع المسلم أن ٌطارد كل المفاهٌم التً ال تستمد من اإلسبلم الصحٌح ‪ ,‬سواء أكانت من‬ ‫رواسب التخلؾ واالنحراؾ عن اإلسبلم أم من األفكار الؽازٌة الوافدة مع المستعمر الؽربً ‪.‬‬ ‫فمن النوع األول فكرة كثٌر من المسلمٌن فً كثٌر من األقطار عن المرأة وعبلقتها بالرجل ‪ ,‬ونظرتهم‬ ‫إلٌها باعتبارها مخلوقا ناقصا أو خطرا ‪ٌ ,‬جب أن تظل حبٌسة البٌت حتى ٌإوٌها القبر ‪ ,‬ال ترى رجبل ‪,‬‬ ‫وال ٌراها رجل ‪ ,‬وال تخرج لعبادة أو عمل صالح أو علم نافع ‪.‬‬ ‫ومن النوع الثانً فكرة كثٌر من المسلمٌن ‪ ,‬العصرٌ​ٌن الذٌن تثقفوا بثقافة الؽرب ‪ ,‬بطرٌق مباشر أو‬ ‫ؼٌر مباشر ‪ ,‬فاعتبروا خروج المرأة على فطرتها ووظٌفتها ‪ ,‬من الحقوق المشروعة ‪ ,‬وٌعدون‬ ‫اختبلطها بالرجال األجانب ‪ -‬بؽٌر قٌد وال تحفظ ‪ -‬من الحرٌة المطلوبة ‪ .‬وٌعتبرون القول بؽٌر ذلك‬ ‫ضربا من الرجعٌة فً التفكٌر ‪ ,‬والتطرؾ فً السلوك ! واألفكار األجنبٌة الدخٌلة اآلن هً التً تقلب‬ ‫وتسود لدى جمهور المتعلمٌن من خرٌجً الجامعات وؼٌرها ‪ .‬ومن أخطر المفاهٌم التً لقنها إٌاهم‬ ‫الؽزو الثقافً هو ‪ :‬مفهوم ( الدٌن ) كما ٌتصوره الؽربٌون ‪.‬‬ ‫فمفهوم اإلسبلم عن ( الدٌن ) دابرته ومداه ‪ ,‬ؼٌر المفهوم السابد عند الؽربٌ​ٌن حتى المتدٌنٌن منهم ‪ ,‬إنه‬ ‫عندما مجرد عبلقة بٌن ضمٌر اإلنسان وربه ‪ ,‬ال عبلقة له بشإون الدولة وأنظمة المجتمع ‪ ,‬ولهذا‬ ‫قامت الحٌاة الحدٌثة هناك على أساس الفصل بٌن الدولة والدٌن ‪.‬‬ ‫أما اإل سبلم فهو فً نظر المسلمٌن منهج شامل ٌنظم شإون الحٌاة كلها ‪ :‬من قضاء الحاجة إلى قٌام‬ ‫الدولة ‪ ,‬ومن أدب األكل والشرب إلى نظام االقتصاد وسٌاسة الحكم ‪ ,‬ومن الصبلة والصٌام إلى شإون‬ ‫الحرب والسلم والعبلقات الدولٌة ‪.‬‬ ‫والشرٌعة اإلسبلمٌة هً الحاكمة على جمٌع أفعال المكلفٌن ‪ ,‬ال ٌفرج قول وال عمل عن سلطانها ‪ ,‬وكل‬ ‫عمل صادر عن مكلؾ ال بد أن تعطٌه الشرٌعة حكمه من الوجوب ‪ ,‬أو االستحباب أو الحرمة ‪ ,‬الكرامة‬ ‫أو اإلباحة ‪ ,‬ومهمة الشرٌعة هً إخراج المكلؾ من اتباع داعٌة هواه إلى التقٌد بؤحكام هللا ‪.‬‬


‫ومصادر الشرٌعة فٌها الوفاء كل الوؾاء بتؽطٌة جمٌع الوقابع واألحداث التً تمر بالبشر ‪ ,‬بحسب ما‬ ‫احتوت من أصول وقواعد ونصوص ‪ ( ..‬ونزلنا علٌك الكتاب تبٌانا لكل شًء وهدى ورحمة وبشرى‬ ‫للمسلمٌن ) ‪.‬‬ ‫وقد كان الواقع التطبٌقً لئلسبلم شاهداً على معه هذه الفكرة ‪ ,‬فكان الرسول (صلى هللا علٌه وسلم) هو‬ ‫المبلػ عن هللا ‪ ,‬والقابم بؤمر الدٌن ‪ ,‬وهو إمام السلمٌن وربٌس دولتهم ‪ ,‬والقاضً فً خصوماتهم ‪ ,‬ولم‬ ‫ٌكن معه ملك أو حاكم ٌقوم بؤمور السٌاسة ‪ ,‬كما كان ٌحدث ذلك فً بنى إسرابٌل الذٌن قالوا لنبٌهم ‪( :‬‬ ‫ابعث لنا ملكا ً نقاتل فً سبٌل هللا ) (وقال لهم نبٌهم إن هللا قد بعث طالوت ملكا ً )‪.‬‬ ‫وكان الخلفاء ‪ ,‬الراشدون ورسول هللا (صلى هللا علٌه وسلم) ‪ ,‬هم أبمة المسلمٌن فً الصبلة ورإساإهم‬ ‫فً اإلدارة والسٌاسة ‪ ,‬وكذلك كان من بعدهم من خلفاء بنى أمٌة والعباس ‪ .‬ولهذا عرؾ العلماء ‪,‬‬ ‫الخبلفة بؤنها ‪ :‬نٌابة عامة من رسول هللا فً حراسة الدٌن وسٌاسة الدنٌا به ‪.‬‬ ‫وهذا المفهوم اإلسبلمً المسٌح من ( الدٌن ) ٌجب أن ٌسود مشٌع فً المجتمع المسلم ‪ ,‬حتى ٌمكن‬ ‫بعدها محاكمة كل مسلم إلى دٌنه الذي ألزمه وآمن به و رضٌه هللا له ‪,‬و رضٌه عدما قٌاس كل‬ ‫االعتبارات والتصورات واألقوال واألعمال بمقٌاس الدٌن ‪ ,‬الذي ال ٌخطا وال ٌضل وال ٌنسى‪.‬‬

‫نوعان من المفاهيم خطر على المجتمع‬ ‫نوعان من المفاهٌم هما خطر على المجتمع والمجتمع المسلم الٌوم ٌجب أن ٌتحرر من نوعٌن من‬ ‫المفاهٌم الدخٌلة علٌه‪ ،‬سٌطر كل نوع منهما على عدد من الناس ‪ :‬بعضها سٌطر على العامة ‪ ,‬واآلخر‬ ‫سٌطر على العامة ‪ ,‬أو النخبة ‪.‬‬ ‫النوع األول‪ :‬المفاهٌم التً دخلت على اإلسبلم وعلى مجتمعاته فً عصور التخلؾ وسوء الفهم لئلسبلم‬ ‫‪ .‬مثل المفاهٌم إلى شاعت وسادت من التوكل بؤنه التواكل ‪ ,‬ومن الزهد بؤنه ترك الحٌاة لؽٌر المإمنٌن ‪,‬‬ ‫وعن اإلٌمان بالقدر بؤنه ضرب من الجبرٌة ‪ ,‬وعن الفقه بؤنه نقل ما قاله األقدمون ‪ ,‬وعن االجتهاد بؤنه‬ ‫باب قد أؼلق ‪ ,‬وعن العقل بؤنه نقٌض النقل ‪ ,‬وعن المرأة بؤنها أحبولة الشٌطان ‪ ,‬وعن بركة القرآن أنها‬ ‫فً تعلٌقه للحفظ من العٌن أو من الجان ‪ ,‬وعن بركة السنة أنها فً قراءة البخاري عند األزمات ‪ ,‬وعن‬ ‫األولٌاء والكرامات وما شاع حولها من اعتقادات وأفكار تناقض سنن هللا فً األنفس واآلفاق‪ .‬إلى ؼٌر‬ ‫ذلك من المفاه ٌم التً سادت فً زمن الركود العلمً ‪ ,‬والجمود الفكري ‪ ,‬والتقلٌد الفقهً ‪ ,‬واالجترار‬ ‫الكبلمً ‪ ,‬واالنحراؾ الصوفً ‪ ,‬واالستبداد السٌاسً ‪ ,‬واالنتكاس الحضاري ‪.‬‬ ‫والنوع الثانً‪ :‬المفاهٌم التً زحفت على مجتمعاتنا ‪ ,‬مع زحؾ االستعمار‪ ،‬فدخلت من بابه‪ ،‬وسارت فً‬ ‫ركابه‪ ،‬واتخذت الؽرب لها قبلة وإماماً‪ ،‬ولم ٌكن لنا بها عهد وال خطرت لنا ببال‪ .‬إنها المفاهٌم المتعلقة‬ ‫بالدٌن والدنٌا ‪ ,‬والرجل والمرأة ‪ ,‬وبالفضٌلة والرذٌلة ‪ ,‬بالتحرر والجمود ‪ ,‬وبالتقدم والرجعٌة ‪,‬‬ ‫وبالحبلل والحرام ‪.‬‬ ‫المفاهٌم المتعلقة بالحدود الفاصلة بٌن حرٌة الفكر ‪ ,‬وحرٌة الكفر ‪ ,‬بٌن حرٌة الحقوق ‪ ,‬وحرٌة الفسوق‬ ‫‪ ,‬بٌن العلمٌة والعلمانٌة ‪ ,‬بٌن الدولة الدٌنٌة والدولة اإلسبلمٌة ‪ .‬إنها المفاهٌم الؽزو الفكري ‪ ,‬التً تعتبر‬ ‫اإلٌمان بالؽٌب تخلفنا ‪ ,‬والتمسك بالسلوك الدٌنً تزمتا ً ‪ ,‬والدعوة إلى تحكٌم الشرٌعة تطرفا ‪ ,‬واألمر‬


‫بالمعروؾ والنهى عن المنكر تدخبلً فً شإون اآلخرٌن ‪ ,‬واختبلط الرجل بالمرأة ‪ -‬ببل قٌود‪ -‬تحرراً ‪,‬‬ ‫وعودة المرأة المسلمة إلى الحجاب الشرعً رجعٌة ‪ ,‬واالنتفاع بالتراث تعصبا ‪ ,‬واعتبار علما ء الدٌن‬ ‫حرس التخلؾ ‪ ,‬ودعاة ( التؽرٌب ) أعبلم (التنوٌر) ‪.‬‬ ‫كرٌن اإلسبلمٌ​ٌن أن ٌقدموا األفكار والمفاهٌم الشرعٌة اإلسبلمٌة‬ ‫والواجب على الدعاة والعلماء والمؾ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الصحٌحة األصٌلة لتحل محل األفكار والمفاهٌم الؽربٌة الدخٌلة ‪ ,‬سواء دخلت قدٌما أم حدٌثا ‪ .‬فكلتاهما‬ ‫ال تمثل اإلسبلم الصحٌح ‪ :‬األفكار القدٌمة المتعفنة ‪ ,‬واألفكار المستوردة الؽازٌة المدمرة ‪ ,‬أو ‪ -‬بتعبٌر‬ ‫األستاذ هالك بن نبً ‪ : -‬األفكار المٌتة ‪ ,‬واألفكار الممٌتة ‪.‬‬ ‫ومن ناحٌة أخرى إذا نظرنا إلى القضٌة فً ضوء الوسطٌة والتطرؾ ‪ ,‬فعلٌنا أن نتبنى مفاهٌم التٌار‬ ‫الوسطى ‪ ,‬الذي تحدثنا عنه فً كتب أخرى ‪ ,‬ونرفض التطرؾ ‪ ,‬سواء أكان إلى الؽلو واإلفراط ‪ ,‬الذي‬ ‫تمثله بعض الفضابل اإلسبلمٌة أم إلى التقصٌر والتفرٌط الذي تمثله الشرابح العلمانٌة والمؽتربة فً‬ ‫أوطاننا ‪ ,‬وهى متفاوتة فً تؤثرها بالعلمانٌة والتؽرٌب ‪ ,‬بعضها قرٌب جدا ‪ ,‬وبعضها بعٌد جداً ‪,‬‬ ‫وبعضها بٌن بٌن ‪.‬‬ ‫لقد ذكرت ثمانٌة عشر مفهوما ً أساسٌا عن اإلسبلم فً كتابً ( اإلسبلم والعلمانٌة ) أردت بها تحدٌد‬ ‫مبلمح اإلسبلم الذي ندعو إلٌه ‪ ,‬حتى ال ٌزعم زاعم إننا ندعو إلى إسبلم ؼامض ‪ ,‬أو مجهول ‪ ,‬أو (‬ ‫هبلمً ) قابل ‪ ,‬ألن ٌفسر( من شاء) كما شاء! وقدمت مجموعة إسبلمٌة مستنٌرة رإٌة إسبلمٌة معتدلة‬ ‫صاؼها األستاذ الدكتور أحمد كمال أبو المجد ‪ ,‬وأنا موافق علٌها فً جملتها ‪ ,‬وان كنت قد أخالؾ فً‬ ‫بعض التفصٌبلت ‪.‬‬ ‫وهذا الكتاب ذاته ٌقدم مبلمح عن المجتمع المسلم الذي ننشده فً ضره مفاهٌم المدرسة الوسطٌة التً‬ ‫تراخى بٌن العقل والنقل ‪ ,‬وتربط بٌن الدٌن والدنٌا ‪ ,‬وتوفق بٌن محكمات الشرع ومقتضٌات العصر ‪,‬‬ ‫وتوازن بًن الثوابت والمتؽٌرات وتجمع بٌن السلفٌة والتجدٌد ‪ ,‬وتستلهم الحاضر ‪ ,‬وتستشرؾ المستقبل‬ ‫‪ ,‬وتزمن باالنفتاح فً ؼٌر ذوبان ‪ ,‬والتسامح فً ؼٌر تهاون ‪.‬‬

‫كما تمٌز المجتمع المسلم بما ٌسوده من أفكار ومفاهٌم‪ٌ ،‬تمٌز أٌضا ً بما ٌسوده من مشاعر وعواطؾ‪.‬‬ ‫فهناك مجتمعات تسودها مشاعر الحقد الطبقً‪ ،‬ومجتمعات تسودها مشاعر التمٌز العنصري‪،‬‬ ‫ومجتمعات تسودها مشاعر العصبٌة القومٌة‪ .‬ونجد المجتمعات تتفاوت كذلك فً مشاعر الوالء والعداء‪،‬‬ ‫وعواطؾ الحب وابؽض وأحاسٌس الؽضب والرضا‪ .‬والمجتمع المسلم قد جعل والءه لئلسبلم وأهله‬ ‫وأنصاره‪ ،‬كما جعل عداءه ألعداء اإلسبلم ومحاربٌه‪ ،‬وهذا مبنى على فكرة الوالء هلل ورسوله‪ ،‬ومن‬ ‫اتخذ هللا ولٌا ً فقد اتخذ عدوه عدواً‪ .‬والمجتمع اإلسبلمً ٌتمٌز بما ٌسوده من عاطفة اإلخاء الوثٌق‬ ‫والحب العمٌق بٌن أبنابه‪ ،‬أعنً أبناء اإلسبلم جمٌعاً‪ ،‬مهما تناءت بهم الدٌار‪ ،‬وتفرقت بهم األوطان‪،‬‬ ‫واختلفت منهم األجناس واأللوان وتفاوتت بٌنهم المراكز والطبقات‪.‬‬ ‫إن هللا سبحا نه قد امتن على المسلمٌن بنعمة اإلخاء كما امتن علٌهم بنعمة اإلٌمان‪ ،‬قال تعالى ) واذكروا‬ ‫نعمت هللا علٌكم إذ كنتم أعداء فؤلؾ بٌن قلوبكم فؤصبحت بنعمته إخوانا ً)‪ ،‬وقال ٌخاطب رسوله‪( :‬هو‬ ‫الذي أٌدك بنصره وبالمإمنٌن‪ ،‬وألؾ بٌن قلوبهم لو أنفقت ما فً األرض جمٌعا ً ما ألفت بٌن قلوبهم‬


‫ولكن هللا ألؾ بٌنهم‪ ،‬إنه عزٌز حكٌم)‪ .‬أنه ال مجال فً المجتمع اإلسبلمً الحق لمشاعر الحقد‬ ‫والصراع بٌن الطبقات‪ ،‬وال مشاعر الكبر والتمٌ​ٌز بٌن األجناس واأللوان‪ .‬وال مشاعر العصبٌة لرقعة‬ ‫من دار اإلسبلم ‪-‬الوطن اإلسبلمً‪ -‬دون رقعة‪ .‬وال لقوم من أهل اإلسبلم‪ ،‬وقم المسلم هم أهل اإلسبلم‪.‬‬ ‫لقد كان مسجد النبً ‪-‬صلى هللا علٌه وسلم) فً المدٌنة ٌضم تحت سقفه أجناسا ً وألوانا ً وطبقات‪ .‬لم‬ ‫ٌحسوا بؽٌر شعور األخوة الجامعة‪ ،‬ولم ٌشعروا بؤي تفرقة أو تماٌز بٌنهم‪ ،‬منهم الفارسً كسلمان‬ ‫والرومً كصهٌب والحبشً كببلل‪ ،‬والؽنً كعثمان ابن عفان‪ ،‬وعبد الرحمن بن عوؾ‪ ،‬والفقٌر كؤبً‬ ‫ذر وعمار‪ ،‬وفٌهم البدوي والحضري‪ ،‬والمتعلم واألمً‪ ،‬واألبٌض واألسود‪ ،‬والرجل والمرأة‪،‬‬ ‫والضعٌؾ والقوي‪ ،‬والرقٌق والحر‪ :‬كلهم أخوة فً ظل اإلسبلم‪ ،‬وتحت راٌة القرآن‪.‬‬ ‫واإلخاء اإلسبلمً لٌس أمراً على هامش اإلسبلم‪ ،‬ولكنه أحد مبادبه األساسٌة‪ ،‬التً تقرن إلى الشهادة هلل‬ ‫نعهالى‪ ،‬بالوحدانٌة‪ ،‬ولمحمد (صلى هللا علٌه وسلم) بالرسالة‪ ،‬ألنه أثر اإلٌمان ومقتضاه‪( :‬إنما المإمنون‬ ‫إخوة)‪.‬‬ ‫روى أحمد وأبو داوود أن النبً (صلى هللا علٌه وسلم) كان ٌدعو دبر كل صبلة بهذا الدعاء الرابع‬ ‫الفرٌد‪ L‬ة اللهم ربنا ورب كل شًء وملٌكه أنا شهٌد أنك هللا وحدك وال شرٌك لك) ( اللهم ربنا ورب‬ ‫كل شًء وملٌكه أنا شهٌد أن محمداً عبدك ورسولك) (اللهم ربنا ورب كل شًء وملٌكه أنا شهٌد أن‬ ‫العباد كلهم أخوة) فهذا هو محمد رسول هللا ٌشسهد وٌشهد هللا رب كل شًء‪ :‬أن العباد كل العباد إخوته‪،‬‬ ‫وهذا هو إخاء اإلسبلم‪ ،‬إخاء بٌن الناس وبٌن المسلمٌن خاصة‪.‬‬ ‫وٌجعل النبً (صلى هللا علٌه وسلم) اإلخاء والحب شرطا ً لئلٌمان÷ الذي هو شرط لدخول الجنة فٌقول‬ ‫) والذي نفسً بٌده لن تدخلوا الجنة حتى تإمنوا‪ ،‬ولن تإمنوا حتى تحابوا)‪( ،‬ال ٌإمن أحدكم حتى ٌحب‬ ‫ألخٌه ما ٌحب لنفسه) وبٌن عبلقة المسلم بالمسلم ‪ ،‬فٌقول ( المسلم أخو المسلم‪ ،‬ال ٌظلمه وال ٌسلمه وال‬ ‫ٌحقره وال ٌخذله‪ ،‬بحسب امرئ من الشر أن ٌحقر أخاه المسلم)‪.‬‬ ‫الرابطة الفذة التً ٌعرؾ بها اإلسبلم هً رابطة اإلخاء بٌن أبنابه‪ ،‬دون أٌة رابطة أخرى‪ ،‬فقد حارب‬ ‫اإلسبلم العصبٌة بكل أنو اعها ومظاهرها‪ ،‬العصبٌة للقبٌلة أو للجنس أو للون أو للوطن أو للطبقة أو‬ ‫للحزب‪ ..‬أو لؽٌر ذلك مما ٌتعصب الناس له إال للحق الذي نزل به الوحً‪ ،‬وقامت به السموات‬ ‫واألرض‪.‬‬ ‫ٌقول رسول هللا (صلى هللا علٌه وسلم)‪ ( :‬لٌس منا من دعا إلى عصبٌة‪ ،‬ولٌس منا من قاتل على‬ ‫عصبٌة‪ ،‬ولٌس منا من مات على عصبٌة)‪ .‬ولقد صور النبً (صلى هللا علٌه وسلم) المجتمع المسلم وما‬ ‫ٌسوده من مشاعر التواد والتعاطؾ والتراحم فقال فً حدٌثه المشهور‪( :‬ترى المإمنٌن فً توادهم‬ ‫وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد‪ ،‬إذا اشتكى منه عضو تدعى له سابر األعضاء بالحمى‬ ‫والسهر)‪ .‬فالمجتمع الذي ٌعٌش فٌه كل فرد لنفسه‪ ،‬وال ٌؤسى آلالم اآلخرٌن وال ٌحس بؤحزانهم‪ ،‬وال‬ ‫ٌفرح لفرحهم‪ ،‬ولٌس هو بالمجتمع المسلم‪.‬‬ ‫المجتمع الذي ٌطؽى فٌه القوي على الضعٌؾ‪ ،‬وٌقسو فٌه الؽنً على الفقٌر‪ ،‬وٌشح فٌه الواجد على‬ ‫المحروم‪ ،‬لٌس هو بالمجتمع المسلم‪.‬‬


‫مهمة المجتمع مع المشاعر اإلسالمية‬ ‫إن دور المجتمع المسلم مع المشاعر اإلسبلمٌة ٌتمثل فٌما ٌلً‪:‬‬ ‫‪ .1‬تثبٌت هذه المشاعر وتقوٌمها‪ ،‬وإشاعتها بكل الوسابل اإلعبلمٌة والتربوٌة‪ :‬المسجد‪ ،‬المدرسة ‪،‬‬ ‫الكتاب‪ ،‬الصحٌفة‪ ،‬اإلذاعة‪ ،‬التلفاز‪ ،‬الخٌالة‪ ،‬وكل وسٌلة تعٌن على تحقٌق هذه الؽاٌة‪.‬‬ ‫لقد رأٌنا النبً ( صلى هللا علٌه وسلم) لكً ٌثبت مشاعر اإلخاء بٌن المسلمٌن ٌقول دبر كل صبلة‪:‬‬ ‫( اللهم ربنا ورب كل شًء وملكٌه‪ ،‬أنا شهٌد أن العباد كله أخوه) تثبٌتا ً لهذا المعنى الكبٌر‪.‬‬ ‫ومن حسن حظ المسلمٌن أن األفكار والمشاعر التً جاء بها دٌنهم لم ٌدعها مجرد أشٌاء مثالٌة مجنحة‪،‬‬ ‫بل ربطها بشعابرها وآدابه الٌومٌة‪ ،‬فإذا نظرنا إلى الصبلة اإلسبلمٌة وجدنا فٌها تثبٌتا ً مستمراً لما ٌدعوا‬ ‫إلٌه اإلسبلم من التعارؾ واإلخاء والمحبة والمساواة‪ .‬كذلك الصٌام والحج‪ ،‬وكذلك أدب التحٌة وتشمٌت‬ ‫العاطس وعٌادة المرٌض‪ ،‬وؼٌرها من اآلداب االجتماعٌة التً حث علٌها اإلسبلم‪.‬‬ ‫‪ .2‬تجسٌد هذه المشاعر اإلسبلمٌة فً واقع ملموس وأوضاع عملٌة‪.‬‬ ‫فمشاعر التراحم والمودة بٌن ذوي القربى ٌجب أن تتجسد فً تواصل وتزاور وتكافل‪ٌ .‬تمثل فً نظام‬ ‫"النفقات" فً اإلسبلم‪ ،‬حٌث ٌجب على القرٌب الموسر أن ٌنفق على قرٌبه المحتاج كما قال تعالى (‬ ‫وآت ذا القربى حقه)‪( ،‬وأولو األرحام بعضهم أولى ببعض فً كتاب هللا)‪ ،‬ومثله نظام المٌراث( للرجال‬ ‫نصٌب مما ترك الوالدان واألقربون وللنساء نصٌب مما ترك الوالدان و األقربون مما قل منه أو كثر‪،‬‬ ‫نصٌبا ً مفروضا)‪ .‬ومشاعر اإلخاء والمحبة بٌن المسلمٌن ٌجب تتجسد فً صورة تكافل معاشً‬ ‫وتضامن عسكري‪ ،‬واتحاد سٌاسً‪ ،‬وتعاون اقتصادي‪ ،‬بمعنى أن ٌتجسد هذا اإلخاء فً مثل "الزكاة"‬ ‫تإخذ من أؼنٌابهم‪ ،‬لترد على فقرابهم‪ ،‬وفً مثل الجهاد الذي ٌوجب على المسلمٌن ‪-‬بالتضامن‪ -‬أن‬ ‫ٌدفعوا عن كل أرض إلسبلمٌة دنستها أقدام العدو الكافر‪ .‬وفً مثل "الخبلفة" التً نفرض على‬ ‫المسلمٌن وحدة القٌادة‪ ،‬المنبثقة عن وحدة العقٌدة ووحدة الفكر‪ ،‬ووحدة السلوك ‪ ،‬ووحدة الوطن‪.‬‬ ‫لهذا رأٌنا النبً (صلى هللا علٌه وسلم) أول من قدومه إلى المدٌنة بعد الهجرة ٌإاخً بٌن المهاجرٌن‬ ‫واألنصار مإاخاة عاطفٌة عملٌة‪ ،‬جعلتهم ٌتقاسمون السراء والضراء‪ ،‬حتى روى أنهم كانوا ٌتوارثون‬ ‫بهذا اإلخاء‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ولما انتهى هذا اإلخاء الخاص بقً اإلخاء العام ٌسود المجتمع اإلسبلمً وٌحكمه متمثبل فً نظام‬ ‫التكافل الفرٌد‪ ،‬بشتى أقسامه وألوانه‪ ،‬والتعاون الشامل بٌن كافة أفراده وجماعاته‪ ،‬ذلك التعاون الذي‬ ‫مثله النبً (صلى هللا علٌه وسلم) خٌر تمثٌل كالبنٌان ٌشد بعضه بعضا ً‪.‬‬ ‫‪ .3‬أال ٌسمح للمشاعر المضادة اإلسبلمٌة بالظهور والتؤثٌر فً المجتمع المسلم‪ ،‬بل ٌجتث جذورها‬ ‫حتى ال تظهر‪ ،‬ويطاردها إذا ظهرت بحٌث تموت فً مهدها‬ ‫ولهذا رأٌناه (صلى هللا علٌه وسلم) ٌبرأ العصبٌة ‪ -‬المنافٌة لؤلخوة اإلسبلمٌة‪ -‬وٌقاومها بصراحة وجبلء‬ ‫خشٌة على المجتمع اإلسبلمً الولٌد أن تمزقه الجاهلٌة التً سادته دهراً طوٌبلًـ وجعلت الرجل ٌؽضب‬ ‫البن قبٌلته محقا ً كان أ‪ ,‬مبطبلً‪ ،‬ظالما ً أو مظلوما ً‪ .‬وفً هذا جاء الحدٌث الشرٌؾ ٌبرأ من كل من دعى‬ ‫إلى عصبٌة‪ ،‬أو قاتل إلى عصبٌة‪ ،‬أو مات على عصبٌة‪ ،‬وٌقول‪:‬‬ ‫ولما استطاع رجل من خبثاء الٌهود أن ٌحٌى مشاعر العصبٌة الجاهلٌة بٌن األوس والخزرج ‪ٌ ،‬وما ً‬ ‫أطفؤ رسول هللا نار الفتنة بنور اإلٌمان ‪ ,‬وردهم إلى أخوة اإلسبلم ‪ .‬فقد ذكر المفسرون عن محمد بن‬ ‫إسحاق وؼٌره ‪ :‬أن رجبل من الٌهود مر بمؤل من األوس والخزرج فساءه ما هم علٌه من االتفاق واأللفة‬


‫‪ .‬فبعث رجبل معه ‪ ,‬وأمره أن ٌجلس بٌنهم وٌذكرهم ما كان من حروبهم ٌوم ( بعاث ) وؼٌره من أٌام‬ ‫الجاهلٌة ‪ ,‬ففعل ‪ ,‬فلم يزل ذلك دأبه حتى حمٌت نفوس القوم‪ ،‬وؼضب بعضهم على بعض ‪ ,‬وتثاوروا‬ ‫ونادوا بشعارهم ‪ٌ :‬ا لؤلوس وٌا للخزرج ‪ ,‬وطلبوا أسلحتهم وتواعدوا إلى ( الحرة ) ‪ ,‬فبلػ ذلك النبً‬ ‫(صلى هللا علٌه وسلم) فؤتاهم بمن معه من المهاجرٌن من أصحابه فقال ‪ٌ ( :‬ا معشر المسلمٌن ! هللا ‪,‬‬ ‫هللا ! أبدعوى الجاهلٌة وأنا بٌن أظهركم ؟!‪ .‬بعد أن هداكم هللا إلى اإلسبلم ‪ ,‬وأكرمكم به ‪ ,‬وقطع عنكم‬ ‫أمر الجاهلٌة ‪ ,‬واستنقذكم به من الكفر ‪ ,‬وألؾ بٌن قلوبكم ترجعون إلى ما كنتم علٌه كفارا ) ؟! فعرؾ‬ ‫القوم أنها نزؼة من الشٌطان وكٌد لهم من عدوهم ‪ ,‬فؤلقوا السبلح من أٌديهم ‪ ,‬وبكوا ‪ ,‬وعانق الرجال‬ ‫بعضهم بعضا ‪ ,‬ثم انصرفوا مع رسول هللا (صلى هللا علٌه وسلم) سامعٌن مطٌعٌن ) ‪.‬‬ ‫وهكذا ٌجب أن ٌكون المجتمع المسلم متنبها ً إلى هذه المداخل التً ٌدخل منها الشٌطان لٌفسد بها قلوب‬ ‫المسلمٌن ‪ ,‬وٌثٌر بٌنهم نزؼات الجاهلٌة ‪ .‬ومن هنا ٌجب أن ٌتحرر المجتمع المسلم فً عصرنا من ؼلو‬ ‫النزؼات العصبٌة العنصرٌة ( القومٌة ) واإلقلٌمٌة ( الوطنٌة ) التً تتسرب إلى حٌاة المسلمٌن لتحل‬ ‫محل األخوة اإلسبلمٌة والوحدة اإلسبلمٌة ‪ ,‬وتقؾ منها موقؾ العداء ‪.‬‬ ‫ال جناح على المسلم أن ٌوجه اهتمام أكبر إلى قومه األقربٌن ‪ ,‬وإلى وطنه الخاص‪ ،‬فهذا أمر فطرى ‪,‬‬ ‫ولكن فً دابرة انتمابه الكلى لئلسبلم وأمته ‪.‬‬ ‫‪ .4‬أن ٌسد النوافذ التً تهب منها رٌح البؽضاء والخصومة والفرقة ‪ ,‬وٌقضً على العوامل التً‬ ‫تدمر معانً اإلخاء اإلسبلمً ‪ ,‬وتهدم الشاعر اإلسبلمٌة ‪.‬‬ ‫وهذا هو السر فً تحرٌم اإلسبلم للؽٌبة والنمٌمة والسخرٌة بالخلق ‪ ,‬وؼٌرها من الرذابل التً تمزق‬ ‫العرا ‪ ,‬وتقتل روح المحبة بٌن الناس ‪.‬‬ ‫ٌقول النبً (صلى هللا علٌه وسلم) ‪ ( :‬إن أحبكم إلى وأقربكم منى فً اآلخرة ‪ :‬أحاسنكم أخبلقا ‪ ,‬وإن‬ ‫أبؽضكم إلى وأبعدكم منى فً اآلخرة ‪ :‬أساوبكم أخبلقا ‪ ،‬الثرثارون المتفٌهقون المتشدقون) ‪.‬‬ ‫ومن هنا ‪ -‬أٌضا ‪ٌ -‬نكر اإلسبلم التفاوت الفاحش بٌن األفراد والطبقات بحٌث ٌوجد الفقر المدقع إلى‬ ‫جنب الثراء العرٌض ‪ ,‬والترؾ المسرؾ إلى جوار الحرمان البابس ‪ ,‬إذ ال ٌتصور قٌام أخوة بٌن‬ ‫مترؾ ؼارق فً النعٌم إلى أذقانه ‪ ,‬وبٌن محروم ٌشكو سؽب البطن وجفاؾ الرٌق ‪.‬‬

‫ليس بمجتمع مسلم‬ ‫لٌس بمجتمع مسلم ‪ -‬إذن ‪ -‬ذلك الذي تسوده مشاعر الحقد الطبقً ‪ ,‬ألن هذا الحقد إما أن ٌكون نتٌجة‬ ‫تظالم اجتماعً وبؽى بعض الناس على بعض ‪ ,‬وهذا ال ٌقر اإلسبلم وجوده فً مجتمعه ‪ ,‬وإما أن‬ ‫ٌكون نتٌجة لعوامل خارجٌة تعمل على تقسٌم المجتمع تقسٌما طبقٌا ‪ ,‬وتإجج نار الصراع بٌن طوابفه‬ ‫وفباته ‪ ,‬فالعمال والفبلحون فبة أو طبقة مدللة فً الظاهر ‪ ,‬وان تكن فً الواقع أداة تستخدم ألؼراض‬ ‫شٌطانٌة خبٌثة ‪ . .‬وأما سابر الفبات من المبلك والتجار والمثقفٌن والطبلب وأصحاب الوظابؾ‬ ‫واألعمال المختلفة ‪ ,‬فهم الفبات ( البرجوازٌة ) المؽضوب علٌها والتً تعٌش فً الدرجة الثانٌة ‪ ,‬إن‬ ‫سمح لها بالبقاء وهذا كله ال ٌقره اإلسبلم أٌضا ً ‪ ,‬فاإلسبلم ٌسمى الحسد والبؽضاء ‪:‬‬ ‫( داء األمم )‪ٌ ،‬قول عن البؽضاء ‪ ( :‬إنها الحالقة ‪ ,‬ال تحلق الشعر ولكن تحلق الدٌن ) ! ولٌس بمجتمع‬ ‫مسلم ذلك الذي تتقدم فٌه العصبٌة الوطنٌة ‪ ,‬أو القومٌة على‬ ‫األخوة اإلسبلمٌة ‪ ,‬حتى ٌقول المسلم ‪ :‬وطنً قبل دٌنً ‪ ,‬أو ٌقول المسلم العربً‪:‬‬ ‫عروبتً قبل إسبلمً ‪ ,‬أو ٌقول المسلم الهندي أو الفارسً ‪ ,‬أو النٌجٌري ‪ ,‬أو الصومالً ‪ :‬قومٌتً قبل‬ ‫عقٌدتً ‪ ،‬وٌبلػ األمر ببعض الناس أن ٌجعلوا مثلهم ال قول الشاعر القروي ‪:‬‬


‫بالدك قدمها على كل ملة ومن أجلها أفطر ومن أجلها صم‬ ‫هبونً دٌنا ً ٌمنح العرب وحدة وسبروا بجثمانً على دٌن ( برهم )‬ ‫سالم على كفر ٌوحد بٌننا وأهال وسهال بعده بجهنم !‬ ‫فاألخوة اإلسبلمٌة فوق العصبٌات ‪ ,‬ورابطة العقٌدة فوق كل الروابط ‪ ,‬ودار اإلسبلم فوق كل األوطان‬ ‫‪ .‬لٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي تتخذ فٌه األوطان والقومٌات ( أوثان) تعبد من دون هللا ‪ ,‬تجند لتقدٌسها‬ ‫األقبلم واأللسنة وجمٌع أجهزة التؤثٌر والتوجٌه واإلعبلم ‪ ,‬وتجسد حولها المشاعر والعواطؾ ‪ ,‬وٌوجه‬ ‫لها الحب والوالء ‪ ,‬إلى درجة العبادة بالفعل ‪ ,‬وان لم ٌعبروا عنها باللفظ ‪ . .‬إنها وثنٌة من نوع جدٌد‬ ‫ظهرت فً بلدان شتى ‪ ,‬ثم انتقل وباإها وسرت عدواها إلى ببلد اإلسبلم ‪ ,‬حتى لفت ذلك أنظار‬ ‫الباحثٌن والمراقبٌن من ؼٌر المسلمٌن ‪ :‬أن تنبعث من أرض التوحٌد وثنٌة من طراز جدٌد ‪ .‬ولٌس‬ ‫بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌعادى المسلمٌن ‪ ،‬وٌوالى أعدا ء اإلسبلم‪ ،‬أو ٌستوي بٌن المسلمٌن والمشركٌن‬ ‫أو الملحدٌن فً المعاملة ‪ ,‬فمشاعر الوالء لئلسبلم وأهله هً التً تقود المجتمع المسلم ‪ ,‬وكذلك مشاعر‬ ‫البؽض ألعداء اإلسبلم الذٌن ٌكٌدون ألهله ‪ ,‬وٌصدون عن سبٌله ‪ ,‬فؤوثق عرا اإلٌمان ‪ :‬الحب فً هللا ‪,‬‬ ‫والبؽض فً هللا ‪ ,‬والوالء هلل ‪ ,‬والعداوة فً هللا ‪.‬‬ ‫ومن هنا تكرر فً القرآن الكرٌم مثل هذا النداء اإللهً ‪ٌ ( :‬ا أٌها الذٌن آمنوا ال تتخذوا الكافرٌن أولٌاء‬ ‫من دون المإمنٌن‪ ،‬أترٌدون أن تجعلوا هلل علٌكم سلطانا ً مبٌنا ) ؟! ( ٌا أٌها الذٌن آمنوا ال تتخذوا عدوى‬ ‫وعدوكم أولٌاء تلقون إلٌهم بالمودة)‪ٌ ( ،‬ا أٌها الذٌن آمنوا ال تتولوا قوما ؼضب هللا علٌهم ) ‪ٌ ( ,‬ا أٌها‬ ‫الذٌن آمنوا ال تتخذوا الٌهود والنصارى أولٌا ء بعضهم أولٌا ء بعض ‪ ,‬ومن ٌتولهم منكم فإنه منهم ‪ ,‬إن‬ ‫هللا ال ٌهدى القوم الظالمٌن ) ‪ٌ ( ،‬ا أٌها الذٌن آمنوا ال تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولٌاء إن استحبوا الكفر‬ ‫على اإلٌمان ‪ ,‬ومن ٌتولهم منكم فؤولبك هم الظالمون )‪.‬‬ ‫وهكذا ٌدمػ القرآن من اتخذوا أعدا ء هللا أولٌاء لهم وأحباء بؤنهم منهم‪ ،‬وأنهم ظالمون ‪ ,‬وأنهم ضلوا‬ ‫سواء السبٌل ‪ ,‬وأنهم جعلوا هلل علٌهم سلطان مبٌن ‪ ،‬كما جعل ذلك فً آٌة أخرى من صفات المنافقٌن ‪:‬‬ ‫( بشر المنافقٌن بؤن لهم عذابا ً ألٌما‪ ،‬و الذٌن ٌتخذون الكافرٌن أولٌاء ء من دون المإمنٌن ‪ ,‬أٌبتؽون‬ ‫عندهم العزة فإن هلل جمٌعا ً ) ‪ .‬ونفى عنهم اإلٌمان فً آٌة أخرى فقال ‪ ( :‬ال تجد قوما ً مإمنون باهلل‬ ‫والٌوم اآلخر ٌوادون من حاد هللا ورسوله ولو كانوا آباءهم أ‪ ,‬أبناءهم أو إخوانكم أو عشٌرتهم)‪ .‬وفً آٌة‬ ‫ثالثة جعلهم لٌسوا من هللا فً شًء‪ ،‬قال تعالى‪( :‬ال ٌتخذ المإمنون الكافرٌن أولٌاء من دون المإمنٌن‪،‬‬ ‫ومن ٌفعل ذلك فلٌس من هللا فً شًء إال أن تتقوا منهم تقا ًة ‪ ،‬و ٌحذركم هللا نفسه‪ ،‬وإلى هللا المصٌر)‬ ‫المجتمع المسلم ال ٌنظر إلى الناس من خبلل األرض أو اللون ‪ ,‬أو العنصر ‪ ,‬أو الطبقة ‪ ,‬بل م ن خبلل‬ ‫العقٌدة بالنسبة للمسلمٌن‪ ،‬ومن خبلل الرابطة اإلنسانٌة بالنسبة لؽٌر المسلمٌن ‪.‬‬ ‫فالوالء هلل ولرسوله وللمإمنٌن ‪ .‬والبر والقسط لكل الناس ما لم ٌقاتلوا المسلمٌن أو ٌظاهروا علٌهم ‪( :‬‬ ‫ال ٌنهاكم هللا عن الذٌن لم ٌقاتلوكم فً الدٌن ولم ٌخرجوكم من دٌاركم أن تبروهم وتقسطوا إلٌهم ‪ ,‬إن‬ ‫هللا ٌحب المقسطٌن ) ‪.‬‬ ‫والرحمة لكل مخلوقات هللا ‪ ,‬حتى البهابم العجماوات ‪ ,‬والقطط والكبلب ‪ ,‬فبل ٌجوز الخلط بٌن الوالء‬ ‫وؼٌره من البر والرحمة ‪ .‬فتخصص الوالء للمسلمٌن ال ٌنفى البر والعدل والرحمة باآلخرٌن ‪.‬‬ ‫ٌقول برنارد لوٌس ‪ ( :‬فؤساس التقسٌم عند المسلمٌن والذي ٌفرق إنسان عن آخر ‪ ,‬وٌمٌز بٌن األخ‬ ‫واألجنبً ‪ ,‬هو اإلٌمان ‪ ,‬واالنتساب أو عدمه إلى أمة اإلسبلم ‪ ..‬والذي قصدنا باإلٌمان عند المسلمٌن‬ ‫ٌعنى الدٌن ‪ ,‬وٌعنى أٌضا ً القوة االجتماعٌة فً األمة والمقٌاس الوحٌد لهوٌتها ‪ ,‬والبإرة التً ٌتجمع‬ ‫حولها والء الجماعة‪ .‬ففً المجتمع اإلسبلمً العالمً كل مسلم أخ لكل مسلم آخر ( على األقل‬ ‫نظرٌا ً)مهما كانت لؽته واصله وسبللته وببلده ‪ ,‬فهو أقرب له من مواطنه الذي قد ٌتكلم لؽته وٌنحدر‬ ‫من نفس سبللته‪ ،‬ولكنه ال ٌدٌن بنفس عقٌدته‪ ،‬حتى إن المسلم المإمن ٌرفض أي صلة بؤسبلفه القدامى‬ ‫فً العهود الجاهلٌة‪ ،‬ألنه ال ٌحس أن بٌنه وبٌنهم أي رابطة من هوٌة عقابدٌة أو صلة روحٌة‪ ،‬وإهمال‬


‫المسلمٌن لعلم اآلثار وعدم اهتمامهم به فً الشرق األوسط المسلم‪ ،‬ال ٌعنً أن المسلمٌن جهلة برابرة‪،‬‬ ‫ال ٌستطٌعون فهم أهمٌة هذه األشٌاء‪..‬كبل‪ ..‬فعلى العكس من ذلك أنهم قوم حضارة سامٌة‪ .‬وإحساس‬ ‫قوي مرهؾ بالتارٌخ ومكانتهم‪ ،‬إال أن تارٌخ المسلمٌن بدأ بظهور اإلسبلم وسلفهم الصالح هم أوابل‬ ‫المسلمٌن عند قبلة اإلسبلم‪ ،‬فً قلب جزٌرة العرب‪ ،‬فقدماء المصرٌ​ٌن من المشركٌن والبابلٌون وؼٌرهم‬ ‫من الشعوب القدٌمة‪ ،‬هم ؼرباء أجانب عنهم‪ ،‬على الرؼم من الصلة الوطنٌة فً الدم والتراب‪) .‬‬

‫كما ٌتمٌز المجتمع المسلم بعقابده وشعابره ‪ ,‬ومفاهٌمه ومشاعره ‪ٌ ,‬تمٌز أٌضا بؤخبلقه وفضابله ‪.‬‬ ‫فاألخبلق والفضابل جزء أصٌل من كٌان هذا المجتمع ‪ ,‬فهو مجتمع العدل واإلحسان والبر والرحمة ‪,‬‬ ‫والصدق واألمانة ‪ ,‬والصبر والوفاء ‪ ,‬والحٌاء والعفاؾ ‪ ,‬والعزة والتواضع ‪ ,‬والسخاء والشجاعة ‪,‬‬ ‫واإلباء والشرؾ ‪ ,‬والبذل والتضحٌة ‪ ,‬والمروءة والنجدة ‪ ,‬والنظافة والتجمل ‪ ,‬والقصد واالعتدال ‪,‬‬ ‫والسماحة والحلم ء والنصٌحة والتعاون ‪ ,‬والؽٌرة على الحرمات ‪ ,‬واالستعبلء على الشهوات ‪,‬‬ ‫والؽضب للحق ‪ ,‬والرؼبة فً الخٌر ‪ ,‬واإلٌثار للؽٌر ‪ ,‬واإلحسان إلى الخلق كافة ‪ ,‬وبخاصة بر الوالدٌن‬ ‫‪ ,‬وصلة األرحام ‪ ,‬وإكرام الجار‪ ,‬ودعوة الناس إلى الخٌر ‪ ,‬واألمر بالمعروؾ ‪ ,‬والنهى عن المنكر ‪. .‬‬ ‫وكل خصال الخٌر ‪ ,‬وخبلل المكرمات ‪ ,‬ومكارم األخبلق ‪ .‬وأولها ‪ :‬اإلخبلص له ‪ ,‬والتوبة إلٌه ‪,‬‬ ‫والتوكل علٌه ‪ ,‬والخشٌة منه والرجاء فً رحمته ‪ ,‬والتعظٌم لشعابره ‪ ,‬والحرص على مرضاته ‪,‬‬ ‫والحذر من مساخطه ‪ ,‬إلى ؼٌر ذلك من المعانً الربانٌة التً ٌؽفلها كثٌر من الناس حٌن ٌتحدثون عن‬ ‫األخبلق فً اإلسبلم ‪ ,‬فلٌست األخبلق ما ٌتعلق بما بٌن اإلنسان واإلنسان فحسب ‪ ,‬وإنما تشمل ما بٌن‬ ‫اإلنسان وخالقه أٌضا ‪ .‬وهو فً الجانب السلبً ٌحرم كل الرذابل ‪ ,‬واألخبلق الردٌبة ‪ ,‬وٌشتد فً تحرٌم‬ ‫بعضها ء فٌجعلها فً مرتبة الكبابر ‪ .‬فٌحرم الخمر والمٌسر ‪ ,‬وٌعدهما رجسا من عمل الشٌطان ‪,‬‬ ‫وٌحرم الزنى وكل ما ٌقرب أو ٌعٌن علٌه ‪ ,‬ومثل ذلك الشذوذ الجنسً الذي هو عبلمة على انتكاس‬ ‫الفطرة وانهٌار الرجولة ‪ ,‬وٌحرم الربا ‪ ,‬وأكل أم وال الناس بالباطل وخاصة إذا كانوا ضعفا ء كالٌتامى‬ ‫‪ ,‬وٌحرم عقوق الوالدٌن وقطٌعة األرحام ‪ ,‬واإلساءة إلى الجار ‪ ,‬وإٌذاء اآلخرٌن ‪ ,‬بالٌا أو اللسان ‪,‬‬ ‫وٌجعل من خصال النفاق ‪ :‬الكذب والخٌانة والؽدر وإخبلؾ الوعد والفجور فً الخصومة ‪.‬‬ ‫وكل رذٌلة منكرها الفطر السلٌمة ‪ ,‬والعقول الراشدة جاء اإلسبلم فؤنكرها وألح فً إنكارها‬ ‫كما أن كل األخبلق الفاضلة التً تعرفها الفطر والعقول وٌسعد بسٌادتها األفراد والجماعات قد أقرها‬ ‫وأمر بها وحث علٌها ‪ .‬والذي ٌتلو كتاب هللا تعالى ‪ ,‬أو ٌقرا أحادٌث رسول هللا (صلى هللا علٌه وسلم) ‪,‬‬ ‫ٌرى أن هذ ه األخبلق والفضابل من المقومات الذاتٌة للمجتمع المسلم ‪ ,‬ولٌست من األعراض الطاربة‬ ‫علٌه ‪ ,‬وال من األمور الهامشٌة فً حٌاته ‪ ,‬فهً فً القرآن من الصفات األساسٌة للمإمنٌن والمتقٌن‬ ‫الذٌن ال ٌدخل الجنة ؼٌرهم ‪ ,‬وال ٌنجو من النار ؼٌرهم ‪ ,‬وال ٌسعد بالحٌاة الدنٌا ؼٌرهم ‪ ..‬وهً فً‬ ‫السنة من شعب اإلٌمان ‪ ,‬ال ٌتم اإلٌمان إال بالتحلً بها ‪ ,‬والتخلً عن أضدادها ‪ .‬ومن أعرض عنها فقد‬ ‫جانب أوصاؾ المإمنٌن ‪ ,‬وتعرض لسخط هللا ولعنته ‪ ,‬وبربت منه ذمة هللا وذمة رسوله ‪.‬‬ ‫ونعرض بعض ( اللوحات ) القرآنٌة لؤلخبلق اإلسبلمٌة تصورها النماذج األمٌة حسب ترتٌب‬ ‫المصحؾ ‪:‬‬ ‫‪ ( .1‬لٌس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمؽرب ولكن البر من آمن باهلل والٌوم اآلخر‬ ‫والمبلبكة والكتاب والنبٌ​ٌن وآتى المال على حبه ذوي القربى والٌتامى والمساكٌن وابن السبٌل‬


‫والسابلٌن وفً الرقاب وأقام الصبلة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا‪ ،‬والصابرٌن فً‬ ‫البؤساء والضراء وحٌن البؤس‪ ،‬أولبك الذٌن صدقوا‪ ،‬وأولبك هم المتقون)‪.‬‬ ‫مزجت اآلٌة الكرٌمة بٌن العقابد من اإلٌمان باهلل والٌوم اآلخر والمبلبكة والكتب والنبٌ​ٌن وبٌن الشعابر‬ ‫امى ‪ ..‬إلخ ‪ ,‬والوفاء بالعهد‬ ‫من الصبلة والزكاة ‪ ,‬واألخبلق من إٌتاء المال على حبه ذوى القربى والٌت‬ ‫والصبر على البؤساء والضراء وحٌن البؤس ‪ .‬وجعلت هذا المزٌج الناس هو حقٌقة البر ‪ ,‬وحقٌقة التدٌن‬ ‫وحقٌقة التقوى كما ٌرٌدها هللا‪.‬‬ ‫‪ ( .2‬إنما ٌتذكر أولو األلباب‪ ،‬الذٌن ٌوفون بعهد هللا وال ٌنقضون المٌثاق‪ ،‬والذٌن ٌصلون ما أمر هللا‬ ‫به أن ٌوصل وٌخشون ربهم وٌخافون سوء الحساب‪ ،‬والذٌن صبروا ابتؽاء وجه ربهم وأقاموا‬ ‫الصبلة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعبلنٌة وٌدرءون بالحسنة السٌبة أولبك لهم عقبى الدار)‬ ‫تمٌزت هذه اللوحة األخبلقٌة بالمزج بٌن األخبلق الربانٌة كخشٌة هللا وخوؾ سوء الحساب ‪ ,‬واألخبلق‬ ‫اإلنسانً من الوفاء والصبر والصلة واإلنفاق ودرء السٌبة بالحسنة ‪ ,‬إن صح هذا التمٌ​ٌز ‪ .‬فإن المتؤمل‬ ‫ة‬ ‫فً اآلٌة ٌجدها قد وصلت األخبلق كلها بالربانٌة ‪ ,‬فالوفاء وفاء بعهد هللا ‪ ,‬والصلة هً لما أمر هللا به‬ ‫أن ٌوصل ‪ ,‬والصبر إنما هو ابتؽاء وجه هللا ‪ ,‬واإلنفاق هو مما رزق هللا ‪ ,‬فهً كلها أخبلق ربانه‬ ‫موصولة باهلل ‪ ,‬ولهذا قرنت بإقامة الصبلة ‪ ,‬ألنها جمٌعا ضرب من العبادة ‪ٌ ,‬تقرب به المإمنون إلى‬ ‫هللا ‪ ,‬وٌتلقون به ما عند هللا ‪.‬‬ ‫‪ ( .3‬قد أفلح المإمنون‪ ،‬الذٌن هم فً صبلتهم خاشعون‪ ،‬والذٌن هم عن اللؽو معرضون‪ ،‬والذٌن هم‬ ‫للزكاة فاعلون‪ ،‬والذٌن هم لفروجهم حافظون‪ ،‬إال على أزواجهم أو ما ملكت أٌمانهم فإنهم ؼٌر‬ ‫ملومٌن‪ ،‬فمن ابتؽى وراء ذلك فؤولبك هم العادون‪ ،‬والذٌن هم ألماناتهم وعهدهم راعون‪،‬‬ ‫والذٌن هم على صلواتهم ٌحافظون‪ ،‬أولبك هم الوارثون‪ ،‬الذٌن ٌرثون الفردوس هم فٌها‬ ‫خالدون)‬ ‫فً هذه اللوحة نجد الخشوع فً الصبلة‪ ،‬والفعل للزكاة‪ ،‬والمحافظة على الصلوات‪ -‬وهً معدودة فً‬ ‫إطار الشعابر والعبادات‪ -‬جنبا ً إلى جنب مع اإلعراض عن اللؽو‪ ،‬وحفظ الفروج عن الحرام‪ ،‬ورعاٌة‬ ‫األمانات والعهود‪.‬‬ ‫‪ ( .4‬وعباد الرحمن الذٌن ٌمشون على األرض هونا ً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سبلماً‪ ،‬والذٌن‬ ‫ٌبًتون لربهم سجداً وقٌاماً‪ ،‬والذٌن ٌقولون ربنا اصرؾ عنا عذاب جهنم‪ ،‬إن عذابها كان‬ ‫ؼراماً‪ ،‬إنها ساءت مستقراً ومقاماً‪ ،‬والذٌن إذا أنفقوا لم ٌسرفوا ولم ٌقتروا وكان بٌن ذلك قواماً‪،‬‬ ‫والذٌن إذا أنفقوا لم ٌسرفوا ولم ٌقتروا وكان بٌن ذلك قواماً‪ ،‬والذٌن ال ٌدعون مع هللا إلها ً آخر‬ ‫وال ٌقتلون النفس التً حرم هللا إال بالحق وال ٌزنون‪ ،‬ومن ٌفعل ذلك ٌلق أثاماً‪ٌ ،‬ضاعؾ له‬ ‫العذاب ٌوم القٌامة وٌخلد فٌه مهاناً‪ ،‬إال من تاب وآمن وعمل عمبلً صالحا ً فؤولبك ٌبدل هللا‬ ‫سٌباتهم حسنات‪ ،‬وكان هللا ؼفوراً رحٌماً‪ ،‬ومن تاب وعمل صالحا ً فإنه ٌتوب إلى هللا متاباً‪،‬‬ ‫والذٌن ال ٌشهدون الزور وإذا أمروا باللؽو مروا كراماً‪ ،‬والذٌن إذا ذكروا بآٌات ربهم لم ٌخروا‬ ‫علٌها صما ً وعمٌاناً‪ ،‬والذٌن ٌقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرٌاتنا قرة أعٌن واجعلنا للمتقٌن‬ ‫إماماً‪ ،‬أولبك ٌجزون الؽرفة بما صبروا وٌلقون فٌها تحٌة وسبلماً‪ ،‬خالدٌن فٌها مستقراً ومقاما ً)‬ ‫‪ ( .5‬فما أوتٌتم من شًء فمتاع الحٌاة الدنٌا‪ ،‬وما عند هللا خٌر وأبقى للذٌن آمنوا وعلى ربهم‬ ‫ٌتوكلون‪ ،‬والذٌن ٌجتنبون كبابر اإلثم والفواحش وإذا ما ؼضبوا هم ٌفؽرون‪ ،‬والذٌن استجابوا‬ ‫لربهم وأقاموا الصبلة وأمرهم شورى بٌنهم ومما رزقناهم ٌنفقون‪ ،‬والذٌن إذا أصابهم البؽً هم‬ ‫ٌنتصرون‪ ،‬وجزاء سٌبة سٌبة مثلها‪ ،‬فمن عفا وأصلح فؤجره على هللا‪ ،‬إنه ال ٌحب الظالمٌن)‪.‬‬ ‫والجدٌد فً هذه اللوحة أو الباقة آمران فً ؼاٌة األهمٌة بالنظر إلى المجتمع المسلم ‪:‬‬


‫األول ‪ :‬تقرٌر مبدأ الشورى باعتباره عنصرا من العناصر األساسٌة المكونة لشخصٌة المجتمع المسلم ‪,‬‬ ‫ولهذا وضعت الشورى بٌن إقامة الصبلة وإٌتاء الزكاة المعبر عنه هنا بكلمة اإلنفاق مما رزق هللا ‪ ,‬وال‬ ‫ٌخفى على أحد مكانة الصبلة والزكاة فً دٌن اإلسبلم ‪ ,‬فما ٌوضع بٌنهما ال ٌكون من األمور الثانوٌة‬ ‫أو الهٌنة فً دٌن هللا ‪.‬‬ ‫واألمر الثانً ‪ :‬هو االنتصار إذا أصابهم البؽً ‪ ,‬فلٌسر من شؤن المسلم الخضوع للبؽً أو االنحناء‬ ‫للظلم والعدوان ‪ .‬بل مقابلته بمثله لٌزجر وٌرتدع ‪ ,‬إال من عفا عن قدرة فؤجره على هللا ‪.‬‬ ‫من هذه اللوحات أو الباقات التً قدمناها ٌتبٌن لنا منزلة األخبلق فً اإلسبلم ‪ ,‬ومكانها فً تكوٌن‬ ‫المجتمع المسلم ‪ .‬ولٌست هذه كل ما فً القرآن الكرٌم عن األخبلق والفضابل ‪ ,‬فالقرآن ‪ -‬مكٌة ومدنٌه ‪-‬‬ ‫ملا باآلٌات واللوحات التً تقدم لنا نماذج خلقٌة كرٌمة ‪ ,‬تجمع بٌن المثالٌة والواقعٌة وتمزج‬ ‫بام ‪ ,‬لم تعرفهما من قبل ‪ -‬وال من بعده شرٌعة‬ ‫الروحانٌات بالمادٌات أو الدٌن بالدنٌا ‪ ,‬فً اتساق والت‬ ‫وال نظام ‪.‬‬ ‫وٌستطٌع القارئ المسلم أن ٌرجع إلى سورة األنعام فٌقرأ فٌها الوصاٌا العشر من أواخرها ‪ ( :‬قل تعالوا‬ ‫أتل ما حرم ربكم عٌكم ‪ ,‬أال تشركوا به شٌبا ‪ ,‬وبالوالدٌن إحسانا ‪ .) . .‬اآلٌات أو ٌرجع إلى سورة‬ ‫اإلسراء فٌقرا الوصاٌا السبع عشرة ‪ ( :‬وقضى ربك أال تعبدوا إال إٌاه وبالوالدٌن إحسانا ) ‪ ..‬اآلٌات ‪.‬‬ ‫أو ٌرجع إلى سورة لقمان وٌقرأ وصٌته البنه ‪ . .‬أو ٌرجع إلى سورة الدهر وٌتلو فٌها أوصاؾ األبرار‬ ‫‪ٌ ( :‬وفون بالنذر وٌخافون ٌوما كان شره مستطٌرا ‪ ،‬وٌطعمون الطعام على حبه مسكًنا وٌتٌما وأسٌرا‬ ‫)‪ . . .‬اآلٌات‪.‬‬ ‫أو ٌرجع إلى سورة البقرة وٌقرأ فً أواخرها آٌات هللا فً تحرٌم الربا ونذره ألكلة الربا ‪ ,‬وكٌؾ آذنهم‬ ‫بحرب من هللا ورسوله إن لم ٌتوبوا وٌكتفوا برإوس أموالهم ‪.‬‬ ‫أو ٌرجع إلى سورة النسا ء ‪ ,‬وكٌؾ أوصت بالمرأة خٌرا ‪ٌ ( :‬ا أٌها الذٌن آمنوا ال ٌحل لكم أن ترثوا‬ ‫النسا ء كرها ‪ ,‬وال تعضلوهن ‪ (… . . .‬اآلٌة ‪.‬‬ ‫أو ٌقرأ فً نفس السورة آٌة الحقوق العشرة ‪ ( :‬واعبدوا هللا وال تشركوا به شٌبا ً ‪ ,‬وبالوالدٌن إحسانا ً‬ ‫وبذي القربى والٌتامى والمساكٌن والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبٌل وما‬ ‫ملكت أٌمانكم ‪ ) . . .‬اآلٌة‬ ‫أو ٌقرأ فً سورة المابدة ‪ٌ ( :‬ا أٌها الذٌن آمنوا إنما الخمر والمٌسر واألنصاب واألزالم رجس من عمل‬ ‫الشٌطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ) ‪ ,‬وكلمة ( االجتناب ) ال ٌستعملها القرآن إال مع الشرك وكبابر اإلثم ‪.‬‬ ‫وٌطول بنا الحدٌث لو أردنا أن نتتبع موارد األخبلق فً آٌات القرآن العظٌم ‪ ,‬فإن جل أوامر القرآن‬ ‫ونواهٌه تتعلق بهذا الجانب الخطٌر من حٌاة الناس ‪ :‬جانب األخبلق ‪.‬‬ ‫وربما ٌخالفنا بعض الناس فً تسمٌة هذه األمور ( أخبلقا ً) وإنما ٌسمٌها أوامر ونواهً ‪ ,‬وهذا خبلؾ‬ ‫فً االصطبلح والتسمٌة ال فً الموضوع نفسه إثباتا ً ونفٌا ً ‪ .‬وقد قال علماإنا قدٌما ‪ :‬ال مشاحة فً‬ ‫االصطبلح ‪ ,‬وال ٌضر الخبلؾ فً األسماء متى وضحت المسمٌات ‪ .‬وإنما اخترنا تسمٌة هذه األمور‬ ‫التً جاء بها القرآن والسنة ( أخبلقا ً ) ألن تعرٌؾ األخبلق ٌنطبق علٌها تمام االنطباق ‪.‬‬


‫مهمة المجتمع المسلم مع األخالق‬ ‫إن مهمة المجتمع بالنظر إلى األخبلق والفضابل ‪ ,‬كمهمته بالنظر إلى العقٌدة والمفاهٌم والشعابر‬ ‫والعواطؾ ‪.‬‬ ‫إنها مهمة ذات ثبلث شعب ‪:‬‬ ‫‪ - 1‬التوجٌه ‪ - 2 .‬التثبٌت ‪ - 3 .‬الحماٌة ‪.‬‬ ‫فالتوجٌه ٌكون بالنشر والدعاٌة ومختلؾ وسابل اإلعبلم والتثقٌؾ ‪ ,‬والدعوة واإلرشاد ‪ .‬والتثبٌت ٌكون‬ ‫بالتعلٌم الطوٌل المدى ‪ ,‬والتربٌة العمٌقة الجذور ‪ ,‬على مستوى األسرة والمدرسة والجامعة ‪.‬‬ ‫والحماٌة تكون بؤمرٌن ‪:‬‬ ‫‪ .1‬برقابة الرأي العام الٌقظ الذي ٌؤمر بالمعروؾ وٌنهى عن المنكر و ٌكره الفساد وٌنفر من‬ ‫االنحراؾ‪.‬‬ ‫‪ .2‬وبالتشرٌع الذي ٌمنع الفساد قبل وقوعه ‪ ,‬وٌعاقب علٌه بعد وقوعه‪ ،‬زجرا للمنحرؾ وتؤدٌبا ً‬ ‫للمستهتر ‪ ,‬وتطهٌراً لجو الجماعة من التلوث ‪.‬‬ ‫وبهذه األمور من التوجٌه والتثبٌت والحماٌة تسود أخبلق اإلسبلم ‪ ,‬تسرى فضابله فً حٌاة المجتمع‬ ‫سرٌان العصارة الحٌة فً الؽصون واألوراق ‪ .‬فلٌس إذن بمجتمع مسلم ذلك الذي تختفً فٌه أخبلق‬ ‫المإمنٌن ‪ ,‬لتبرز أخبلق الفجار ‪.‬‬ ‫ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي تموت فٌه أخبلق القوة ‪ ,‬فتحٌا وتنمو أخبلق الضعؾ ‪ .‬ولٌس بمجتمع‬ ‫مسلم ذلك الذي ٌشٌع فٌه خلق القسوة على الضعفاء ‪ ,‬والخضوع لؤلقوٌاء ‪.‬‬ ‫لٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي تضمر فٌه تقوى هللا ‪ ,‬ومراقبته تعالى ‪ ,‬والخوؾ من حسابه ‪ ,‬فنرى الناس‬ ‫ٌتصرفون وكؤنما هم آلهة أنفسهم ‪ ,‬وٌنطلقون وكؤنما لٌس هناك حساب ٌنتظرهم ‪ ,‬وإنما هم فً ؼفلة‬ ‫معرضون ‪ ,‬وفً ؼمرة ساهون ‪.‬‬ ‫لٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌسوده التواكل والعجز والسلبٌة ‪ ,‬فً مواجهة األمور وإلقاء األوزار على‬ ‫كاهل األقدار‬ ‫لٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌهان فٌه الصالحون ‪ ,‬وٌكرم الفاسقون ‪ ,‬وٌكرم أهل الفجور ‪ ,‬وٌإخر أهل‬ ‫القوى ‪.‬‬ ‫فً المحق ‪ ,‬وٌحابى فٌه المبطل ‪ ,‬وٌقال فٌه للمضروب‪ :‬ال تصرخ‪،‬‬ ‫لٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌظلم ه‬ ‫وال ٌقال للضارب ‪ :‬كؾ ٌدك ‪.‬‬ ‫لٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي تفسد فٌه الذمم ‪ ,‬وتشترى فٌه الضمابر ‪ ,‬وٌقضى فٌه كل أمر بالرشوة‪.‬‬ ‫لٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ال ٌوقر فٌه الكبٌر وال ٌرحم فٌه الصؽٌر ‪ ,‬وال ٌعرؾ الذي فضل فضله ‪.‬‬ ‫لٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي تتمٌع فٌه األخبلق ‪ ,‬فٌتشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال ‪.‬‬ ‫لٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي تشٌع فٌه الفاحشة ‪ ,‬وٌفقد فٌه الرجال الؽٌرة وتفقد النساء الحٌاء ‪..‬‬ ‫لٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ال ٌكاد الناس ٌتكلمون فٌه أو ٌعملون أو ٌتصرفون إال رٌا ًء ونفاقا ً ‪ ،‬وطلبا ً‬ ‫للشهرة والجاه ‪ ,‬وال تكاد ترى فٌه جندٌا ً مجهوالً‪ ،‬من المخلصٌن البررة ‪ ,‬واألتقٌاء األخفٌاء ‪ ،‬الذٌن إذا‬ ‫حضروا لم ٌعرفوا ‪ ,‬وإذا ؼابوا لم ٌفتقدوا ‪.‬‬ ‫لٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي تسوده أخبلق المنافقٌن من كل من حدث فكذب ‪ ,‬ووعد فؤخلؾ ‪ ,‬وابتمن‬ ‫فخان ‪ ,‬وعاهد فؽدر ‪ ,‬وخاصم ففجر ‪.‬‬ ‫لٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌهمل فٌه اآلباء األبناء ‪ ,‬وٌعق فٌه األبناء اآلباء ‪ ,‬وٌتجافى فٌه اإلخوان ‪,‬‬ ‫وتتقطع فٌه األرحام ‪ ,‬وٌتناكر فٌه الجٌران ‪ ,‬وتنفق فٌه سوق الؽٌبة والنمٌمة وفساد ذات البٌن ‪ ,‬وٌنهزم‬


‫فٌه البذل واإلٌثار أمام الشح واألنانٌة وحب الذات‪ .‬فالمجتمع المسلم ‪ -‬وال شك ‪ ( -‬مجتمع أخبلقً ) بكل‬ ‫ما تحمله كلمة ( األخبلق ) من شمول وسعة ‪ ,‬لٌس مجتمعا ً تسبره المنافع المادٌة ‪ ,‬أو األؼراض‬ ‫السٌاسٌة ‪ ,‬أو االعتبارات العسكرٌة وحدها ‪ .‬كبل ‪ . .‬بل هو مجتمع تحكمه فضابل ومثل علٌا ‪ٌ ,‬لتزم بها‬ ‫‪ ,‬وٌتقٌد بحدودها مهما ٌكلفه ذلك من مشقات وتضحٌات ‪ ,‬وال عجب فً ذلك فقد قال رسول هللا (صلى‬ ‫هللا علٌه وسلم )‪ ›« :‬إنما بعثت ألتمم مكارم األخبلق ) ‪ .‬فبل انفصال فً هذا المجتمع بٌن العلم‬ ‫واألخبلق ‪ ,‬وال بٌن الفن واألخبلق ‪ ,‬وال بٌن االقتصاد واألخبلق ‪ ,‬وال بٌن السٌاسة واألخبلق ‪ ,‬وال بٌن‬ ‫الحرب واألخبلق ‪ ,‬وإنما األخبلق عنصر ٌهٌمن على كل شإون الحٌاة وتصرفاتها ‪ ,‬صؽٌرها وكبٌرها‬ ‫‪ ,‬فردٌها وجماعٌها ‪.‬‬

‫وكما تمٌز المجتمع المسلم فً العقٌدة والشعابر ‪ ,‬واألفكار والمشاعر ‪ ,‬واألخبلق والفضابل ‪ٌ ,‬تمٌز‬ ‫كذلك بآدابه وتقالٌده الخاصة به ‪ ,‬المصبوؼة بصبؽته ‪ ,‬النابعة من تلك األمور المذكورة ‪ :‬العقٌدة وما‬ ‫ٌتبعها ‪ ,‬وٌتفرع عنها ‪ .‬إن لهذا المجتمع آدابه وتقالٌده فً المؤكل والمشرب ‪ ,‬والزٌنة والملبس ‪ ,‬والنوم‬ ‫والٌقظة ‪ ,‬والسفر واإلقامة ‪ ,‬والزمالة والعشرة ‪ ,‬والعمل والراحة ‪ ,‬والصداقة والصحبة ‪ ,‬والزواج‬ ‫ٌه ‪ ,‬وفً العبلقة بٌن القرٌب‬ ‫والطبلق ‪ ,‬فً العبلقة بٌن الرجل والمرأة ‪ ,‬وفً العبلقة بٌن الولد وأب‬ ‫وقرٌبه ‪ ,‬وفً العبلقة بٌن الجار وجاره ‪ ,‬ونى العبلقة بٌن الكبٌر والصؽٌر ‪ ,‬وفً العبلقة بٌن الؽنً‬ ‫والفقٌر ‪ ,‬وفً العبلقة بٌن البابع والمشترى ‪ ,‬وفً العبلقة بٌن الربٌس والمرإوس‪ ،‬وفً العبلقة بٌن‬ ‫الخادم والمخدوم ‪.‬‬

‫من تقاليد المجتمع المسلم‬ ‫إن هذه التقالٌد واآلداب والعادات أنشؤها اإلسبلم فً المجتمع المسلم ‪ ,‬لتكون فً خدمة عقٌدته وشعابره‬ ‫‪ ,‬ومفاهٌمه ومشاعره ‪ ,‬وأخبلقه وفضابله ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫فمن تقالٌد المجتمع المسلم ‪ :‬أنه ٌنام مبكراً ‪ ,‬وٌستٌقظ مبكرا ‪ ,‬فٌستمتع أفراده بالنوم الهادئ العمٌق ‪ ،‬فً‬ ‫اللٌل الذي جعله هللا لباسا ً ‪ ,‬وٌوفر صحة أبنابه وقوتهم التً ٌذبلها السهر الطوٌل ‪ ,‬وٌوفر مبلٌ​ٌن‬ ‫الكٌلوات من الطاقة الكهربابٌة التً تستهلك فً السهر لؽٌر ضرورة ‪ ,‬وٌتمتع الناس بعد ذلك بوقت‬ ‫البكور المبارك ونسٌم الصباح المبكر ‪ ،‬وهذا التقلٌد الجمٌل المتمٌز إنما صنعته ( صبلة الفجر )‬ ‫ووجوب االستٌقاظ لها ‪ ,‬وأدابها فً وقتها قبل أن تطلع الشمس ‪.‬‬ ‫ومن هنا نتبٌن أن تقالٌد المجتمع المسلم ال انفصال بٌنها وبٌن مقوماته األخرى ‪ .‬ومن تقالٌد المجتمع‬ ‫المسلم ‪ :‬أن الرجل ال ٌجوز له أن ٌخلو بامرأة أجنبٌة دون حضور زوج وال محرم لها ‪ ,‬كما ال ٌجوز‬ ‫لها أن تسافر وحدها ‪ ,‬ببل زوج وال محرم ‪ ,‬وأن المرأة المسلمة ٌجب علٌها االحتشام والتصون ‪ ,‬فبل‬ ‫ٌجوز لها أن تبدى من زٌنتها إال ما ظهر منها كالوجه والكفٌن ‪ ,‬و ٌحرم علٌها أن تتبرج تبرج الجاهلٌة‬ ‫‪ ,‬وأن تظهر ذراعها أو ساقها أو نحرها أو شعرها ‪ ,‬أو ؼٌر ذلك مما ٌفعله نسا ء العصر تقلٌداً‬ ‫للحضارة الجاهلٌة ‪ :‬حضارة الؽرب ‪ .‬إن هذا التقلٌد لٌس عبثا وال تحكما ‪ ,‬ولكنه مبنى على نظرة‬ ‫اإلسبلم إلى كل من الرجل والمرأة ‪ ,‬ونظرته إلى األخبلق فً المجتمع‪ ،‬و قٌمة العفاؾ والتصوّ ن‬ ‫والحٌاء باعتبارها فضابل إنسانٌة رفٌعة‪ ،‬واعتبار الزنا فاحشة وجرٌمة خطرة على الفرد وعلى األسرة‬ ‫‪ ,‬وعلى بنا ء المجتمع كله ‪ ,‬إذا شاعت وتطاٌر شررها ‪.‬‬ ‫فإن نتٌجتها طؽٌان الشهوات ‪ ,‬وفساد الشباب ‪ ,‬وانتشار الخٌانة ‪ ,‬والشك بٌن األزواج والزوجات ‪,‬‬


‫وشٌوع األمراض التناسلٌة ‪ ,‬وكثرة اللقطاء وأوالد الحرام ‪ ,‬واختبلط األنساب ‪ ,‬وانحبلل الروابط‬ ‫واألخبلق ‪ .‬وصدق هللا ‪( :‬وال تقربوا الزنا‪ ،‬إنه كان فاحشة وساء سبٌبلً) ‪.‬‬ ‫فإذا كان الزنى فاحشة وسبٌبلً سٌبا ً ‪ ,‬لم ٌكن بد من إؼبلق الطرق الموصلة إلٌه ‪ ,‬فجاءت آداب اإلسبلم‬ ‫وتقالٌده فً التصوّ ن ‪ ,‬واالحتشام ‪ ,‬ومنع التبرج واإلؼراء وسد الذرٌعة إلى الفتن‪ ،‬ما ظهر منها وما‬ ‫بطن ‪ ( :‬قل للمإمنٌن ٌؽضوا من أبصارهم وٌحفظوا فروجهم‪ ،‬ذلك أزكى لهم ‪ ,‬إن هللا خبٌر بما‬ ‫ٌصنعون‪ ،‬وقل للمإمنات ٌؽضضن من أبصارهن وٌحفظن فروجهن و ال ٌبدٌن زٌنتهن إال ما ظهر منها‪,‬‬ ‫ولٌضربن بخمرهن على جٌوبهن وال ٌبدٌن زٌنتهن إال لبعولتهن أو آبابهن أو آباء بعولتهن أو أبنابهن أو‬ ‫أبناء بعولتهن أو إخوانهن‪)..‬اآلٌة‪.‬‬ ‫ومن تقالٌد المجتمع المسلم ‪ :‬أن بٌن الولد وأبٌه رابطة أبدٌة مقدسة ‪ ,‬ال تنفصم عراها ببلوغ االبن‬ ‫رشده‪ ،‬أو باستقبلله االقتصادي ‪ ,‬أو بزواجه ‪ ,‬كما هو عند الؽربٌ​ٌن الذٌن ٌصبح االبن عندهم بعد أن‬ ‫ٌكبر وٌتزوج كؤنه شخص ؼرٌب عن أبوٌه ‪ ,‬ال ٌكاد ٌعرفهما إال فً المناسبات إن عرفهما ‪ ,‬بل إن‬ ‫اإلسبلم لٌوسع دابرة األسرة ‪ ,‬حتى تشمل األقارب من األصول والفروع والعصبة وكل ذي رحم محرم‬ ‫من الرجال والنساء ‪ ,‬فاألجداد والجدات واألحفاد واألسباط ‪ ,‬واألعمام والعمات ‪ ,‬واألخوال والخاالت‬ ‫وأوالدهم … كل هإالء أرحام ٌجب أن توصل ‪ ,‬وقرابة ٌجب أن ترعى ‪ ,‬ولها حقوق ٌجب أن تإدى ‪,‬‬ ‫من الزٌارة والمودة واإلحسان ‪ ,‬إلى وجوب النفقة والرعاٌة بالمعروؾ ‪ ( :‬واتقوا هللا الذي تساءلون به‬ ‫واألرحام ‪ ,‬إن هللا كان علٌكم رقٌبا ً )‪ ( ،‬وأولوا ألرحام بعضهم أولى ببعض فً كتاب هللا)‪ ( ،‬وآت ذا‬ ‫القربى حقه والمسكٌن وابن السبٌل ) ‪.‬‬ ‫ومن آداب المجتمع المسلم وتقالٌده ‪ :‬أنه ال ٌؤكل المٌتة والدم ولحم الخنزٌر وما أهل لؽٌر هللا به ‪ ,‬وال‬ ‫ٌشرب الخمر والمسكرات ‪ ,‬وال ٌقدم شٌبا ً من ذلك على موابده ‪ .‬وهو ٌؤكل وٌشرب بالٌمٌن‪ ،‬وٌبدأ‬ ‫طعامه باسم هللا ‪ ,‬وٌختمه بحمد هللا ‪ ,‬وال ٌؤكل أو ٌشرب فً إناء ذهب أو فضة ‪ .‬ومن آداب المجتمع‬ ‫المسلم ‪ :‬إفشاء السبلم ‪ ,‬وهو تحٌة السلمٌن فٌما بٌنهم ‪ ,‬وإلقاإه سنة ‪ ,‬ورده فرض كفاٌة ‪ ,‬وقد أؼناهم هللا‬ ‫به عن تحاٌا الجاهلٌة من فعل كالسجود واالنحناء ‪ ,‬أو قول كـ( عم صباحا ) ‪ ,‬أو ( عم مساء )‪ ،‬وقد‬ ‫وضع الرسول لهذه لتحٌة قواعد ضابطة ‪ ,‬حتى ال ٌتواكل الناس فً البدء بها إذا تبلقوا ‪.‬فٌسلم الصؽٌر‬ ‫على الكبٌر‪ ,‬والقلٌل على الكثٌر ‪ ,‬والمار على الجالس ‪ ,‬وقال تعالى ‪ ( :‬وإذا حٌ​ٌتم بتحٌة فحٌ​ٌوا بؤحسن‬ ‫منها أو ردوها ) ‪ .‬ومن آدابه ما ذكره القرآن بقوله ‪ٌ ( :‬ا أٌها الذٌن آمنوا ال تدخلوا بٌوتا ً ؼٌر بٌوتكم‬ ‫حتى تستؤنسوا وتسلموا على أهلها ‪ ,‬ذلكم خٌر لكم لعلكم تذكرون‪ ،‬فإن لم تجدوا‪.‬فٌها أحداً فبل تدخلوها‬ ‫حتى ٌإذن لكم ‪ ,‬وإن قٌل لكم ارجعوا فارجعوا ‪ ,‬هو أزكى لكم ‪ ,‬وهللا بما تعملون علٌم )‬ ‫ومن آداب المجتمع المسلم ‪ :‬اإلحسان إلى الجار ‪ ,‬وإكرام الضٌؾ ‪ ,‬وتشمٌت العاطس ‪ ,‬وعٌادة المرٌض‬ ‫‪ ,‬وتشٌ​ٌع جنازة المٌت ‪ ,‬وتعزٌة المصاب ‪ ,‬إلى ؼٌر ذلك من اآلداب والتقالٌد ‪ ,‬التً تتفاوت فً حكمها‬ ‫ما بٌن واجب مفروض ‪ ,‬ومستحب مندوب ‪.‬‬

‫من آثار التقاليد اإلسالمية‬ ‫إن هذه اآلداب والتقالٌد اإلسبلمٌة تحقق فً المجتمع المسلم جملة من المزاٌا واآلثار الطٌبة ‪ ,‬نذكر منها‬ ‫‪:‬‬


‫‪ .1‬التمٌز ‪ :‬فهذه اآلداب والتقالٌد تجعل للمجتمع المسلم شخصٌة متمٌزة المبلمح ‪ ,‬واضحة التقاسٌم‬ ‫‪ ,‬وتمسكه أن ٌذوب وٌنصهر فً ؼٌره من المجتمعات فٌتقمص شخصٌتها ‪ ,‬وٌقتبس عاداتها ‪,‬‬ ‫وٌنقل تقالٌدها ‪ ,‬دون تفرقة وال تمٌ​ٌز بٌن ما ٌجوز وما ال ٌجوز ‪ ,‬وما ٌصلح وما ال ٌصلح ‪,‬‬ ‫وهذا ما تورط فٌه أكثر الشعوب المسلمة الٌوم ‪ ,‬إذ انسلخت من ذاتٌتها ‪ ,‬واتبعت حضارة‬ ‫الؽرب وأخذت تقالٌده جملة ‪ ,‬بؽٌر تمحٌص ‪ .‬وهذا ما حذر منه ونبؤ به الرسول الكرٌم (صلى‬ ‫هللا علٌه وسلم) حٌن قال ‪ ( :‬لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشٌر ‪ ,‬وذراعا بذراع ‪ ,‬حتى لو دخلوا‬ ‫جحر ضب لدخلتموه ) ! قالوا ‪ :‬الٌهود والنصارى ٌا رسول هللا ؟ قال ‪ ( :‬فمن ) ؟‬ ‫‪ .2‬الوحدة العملٌة ‪ :‬إن هذه اآلداب والتقالٌد تنشا بٌن المسلمٌن ‪ -‬وان تناءت دٌارهم‪ ،‬واختلفت‬ ‫ألسنتهم ‪ ,‬وتباٌنت عروقهم ‪ ,‬وتفاوتت مراكزهم وطبقاتهم ‪ -‬وحدة عملٌة واقعٌة‪ ،‬بجوار الوحدة‬ ‫العقدٌة والفكرٌة والشعورٌة التً أنشؤها اتحاد العقٌدة والشعابر ‪ ,‬واألفكار والمشاعر‪ .‬فحٌثما‬ ‫نزلت بٌن قوم مسلمٌن فً أي أرض كانت‪ ،‬حٌوك بتحٌة اإلسبلم ( السبلم ) ‪ ,‬واستقبلوك‬ ‫باإلكرام والقرى‪ ،‬تبعا ألدب اإلسبلم فً إكرام الضٌؾ ‪ ( :‬من كان ٌإمن باهلل والٌوم اآلخر‬ ‫فلٌكرم ضٌفه ) ‪ .‬فإذا تناولت طعامك معهم ‪ ,‬وجدتهم ٌبدأون طعامهم باسم هللا ‪ ,‬وٌؤكلون بالٌد‬ ‫الٌمنى‪ ،‬وبختمون بالحمد هلل ‪ ,‬وال ٌقدمون لك خنزٌراً وال خمرا ُ ‪ .‬فهناك قدر مشترك من التقالٌد‬ ‫والعادات ٌشعر المسلم أنىّ ذهب أنه بٌن أهله وإخوانه وذوٌه ‪ ,‬ال ٌفترق عنهم ‪ ,‬إال فً‬ ‫جزبٌات تفصٌلٌة ‪ ,‬نتٌجة الختبلؾ البٌبات واألحوال ‪.‬‬ ‫‪ .3‬البساطة واالعتدال ‪ :‬فإن تقالٌد اإلسبلم وآدابه تقوم على مراعاة الفطرة ‪ ,‬واحترام البساطة‬ ‫والسر ‪ ,‬وتجنب التكلؾ والتعقٌد‪ ،‬والبعد عن االختٌال واإلسراؾ ‪.‬‬ ‫ومن شؤن هذه البساطة والقصد واالعتدال ‪ ,‬أن ٌ​ٌسر األمور ‪ ,‬وٌقلل التكالٌؾ ‪ ,‬وٌخفؾ من‬ ‫بعثرة الجهود واألوقات ‪ ,‬واألموال ‪ ,‬فٌما ال ٌعود على المجتمع واقتصاده وأخبلقه ومثله إال‬ ‫بالضرر والخسران ‪.‬‬ ‫ي اللبس والتزٌن للمرأة المسلمة‪ ،‬تنافً هذا التهالك المحموم على كل بدع‪،‬‬ ‫إن تقالٌد المجتمع المسلم ؾ‬ ‫وهذا السباق الشعور على أقرب األزٌاء إلى اإلثارة ‪ ,‬وأقدرها على اإلؼراء ‪ ,‬وتناقض هذا اإلسراؾ‬ ‫المجنون ‪ ,‬فً التجمل والتجمٌل ‪ ,‬من وصل الشعر ( الباروكة ) ونمص الحواجب ‪ ,‬ووشر األسنان و‬ ‫(جراحات التجمٌل ) وؼٌر ذلك مما لعنه رسول هللا (صلى هللا علٌه وسلم) لما فٌه من تؽٌ​ٌر خلق هللا ‪.‬‬ ‫ولم ٌعد ٌكفى المرأة أن تقوم بتجمٌل نفسها ‪ ,‬فاحتاجت إلى من ٌجملها ‪ ,‬ولم ٌعد القابم بالتجمٌل امرأة‬ ‫تؤتى إلٌها فً بٌتها ‪ ,‬كما كان ٌحدث فً العصور السابقة أحٌانا ‪ .‬بل أصبحت المرأة هً التً تخرج من‬ ‫بٌتها لتذهب إلى محل رجل أجنبً ( كوافٌر ) ٌقوم بتجمٌلها وتزٌ​ٌنها وٌتقاضى على ذلك أفحش األجور‬ ‫‪.‬‬

‫مهمة المجتمع المسلم مع اآلداب والتقاليد‬ ‫إن مهمة المجتمع المسلم هنا ‪ -‬كما هً مهمته دابما ‪ -‬أن ٌبث هذه اآلداب ‪ ,‬وٌربى علٌها أبناءه وبناته ‪,‬‬ ‫وٌنشا علٌها تبلمٌذه وتلمٌذاته‪ ،‬فً كل مراحل التعلٌم ومستوٌاته وأنواعه ‪ ,‬من الحضانة إلى الجامعة ‪.‬‬ ‫‪ .‬وٌحببها إلى الشعب بكل وسٌلة من وسابل التوجٌه واإلعبلم ‪ ,‬وبكل أسلوب من أسالٌب التؤثٌر والبٌان‬ ‫‪ :‬بالمقالة والقصٌدة ‪ ,‬والقصة والمسرحٌة ‪ ,‬والنشرة والكتاب ‪ ,‬والمجلة والصحٌفة ‪ ,‬والنكتة‬ ‫والكارٌكاتٌر ‪ ,‬بالكلمة المقروءة والكلمة المسموعة والصورة المشاهدة ‪ .‬وأن تتعاون على ذلك كل‬ ‫المإسسات ‪ :‬الدٌنٌة كالمسجد ‪ ,‬والفنٌة كالمسرح‪ ،‬والتربوٌة كالمدرسة‪ ،‬واإلعبلمٌة كالتلفاز‪ ،‬وال ٌجوز‬ ‫أن ٌبنى جهاز فً جانب ‪ ,‬وتهدم أجهزة أخرى فً جوانب ‪ ,‬كما قال الشاعر‪:‬‬


‫متى ٌبلػ البنٌان ٌوما تمامه إذا كنت تبنٌه وؼٌرك ٌهدم ؟‬ ‫وقال آخر ‪ :‬فلو ألؾ بان خلفهم هادم كفى فكٌؾ ببان خلفه ألؾ هادم ؟ا‬ ‫وال سٌما أن الهدم فً عصرنا باأللؽام ال بالمعاول ‪ .‬وهذا ٌصدق فً المادٌات و المعنوٌات ‪ .‬وواجب‬ ‫المجتمع المسلم فً عصرنا أن ٌنقً آداب المجتمع وتقالٌده مما دخل علٌها من أمور ؼرٌبة عن طبٌعته‬ ‫المتواز نة المعتدلة‪ ،‬سواء فً ذلك ما أدخلته عصور االنحطاط الفكري ‪ ,‬والتخلؾ الحضاري ‪ ,‬الذي‬ ‫أصاب العالم اإلسبلمً لعدة قرون ‪ .‬وما زحفت به علٌنا الحضارة الؽربٌة الحدٌثة من بدع منكرة فً‬ ‫األزٌاء واألثاث والمآكل والمشارب ‪ ,‬واألعراس ومختلؾ المناسبات والعبلقات بٌن الرجال والنساء ‪,‬‬ ‫وؼٌر ذلك ‪.‬‬ ‫ولهذا نجد المجتمع اإلسبلمً اآلن ٌضم فرٌقٌن من الناس ٌعٌشان على طرفً نقٌض ‪.‬‬ ‫فإذا أخذنا موضوع األسرة مثبل ‪ .‬نجد هناك من ال ٌسمح لخاطب ابنته أن ٌراها مجرد رإٌة ‪ ,‬مع‬ ‫مخالفة ذلك لؤلحادٌث الصحٌحة ‪ ,‬بل فً بعض الببلد ال ٌرى الخاطب زوجته بعد أن ٌعقد علٌها العقد‬ ‫الشرعً ‪ ,‬وإنما ٌراها وتراه لٌلة الزفاؾ فقط ! وفى مقابل هإالء من ٌدع للمخطوبة الحبل على الؽارب‬ ‫‪ ,‬لتخرج مع خاطبها وحدهما ‪ ,‬متؤبطا ً ذراعها‪ ،‬ؼادٌن أو رابحٌن ‪ ,‬إلى المتنزهات أو السٌنمات‪ ،‬سحابة‬ ‫النهار أو زلفا ً من اللٌل ‪ ,‬حتى ٌسبر ؼورها ‪ ,‬وٌعرفه ا معرفة مخالطة ومعاٌشة ‪ .‬وهناك من األزواج‬ ‫من ٌعامل امرأته كؤنها قطعة أثاث فً البٌت ‪ ,‬ال ٌستشٌرها فً أمر ‪ ,‬وال ٌعترؾ لها بحق ‪ ,‬وال ٌراعى‬ ‫لها شعورا ‪ ,‬وٌرى ذلك من الرجولة ‪.‬‬ ‫وعكس ذلك من جعل زمامه فً ٌد امرأته ‪ ,‬فبل شخصٌة له ‪ ,‬وال أثر لقوامته على األسرة ‪ ,‬بل تؼدو‬ ‫الزوجة هً اآلمرة الناهٌة ‪ ,‬المتصرفة فً المال ‪ ,‬الموجهة لتربٌة األوالد ‪ ,‬المتحكمة فً عبلقات‬ ‫الزوج حتى بؤمه وأبٌه وذوى قرابته ‪.‬‬ ‫وهناك فً مجال المٌراث‪ :‬من ٌحرم البنات من مٌراثهن الشرعً الذي كتبه هللا لهن ‪ ,‬لٌخص بذلك‬ ‫عالى فً حكمه‪.‬‬ ‫أبناءه الذكور‪ ،‬كؤنما ٌستدرك على هللا ت‬ ‫ً‬ ‫وعلى النقٌض من ذلك من ٌرٌد أن ٌسوى بٌن االبن والبنت ‪ ,‬حبلفا لما فرض هللا عز وجل فً كتابه‪،‬‬ ‫ناسٌا ً أن الشرع فاوت بٌنهما فً األنصبة ‪ ,‬ألنه فاوت بٌنهما فً األعباء والتكالٌؾ المالٌة ‪ .‬واألمثلة‬ ‫على ذلك كثٌرة ‪ .‬وحسبنا ما ذكرناه ‪ .‬ثم على المجتمع أن ٌحمى هذه اآلداب والتقالٌد بعد ذلك بالقانون‬ ‫والسرٌع ‪ ,‬فبل ٌترك الحبل على الؽارب للذٌن ٌرٌدون أن ٌفسدوا آداب األمة ‪ ,‬وٌمحوا معالم شخصٌتها‬ ‫‪ ,‬وٌدمروا تقالٌدها ‪ ,‬التً تلقتها من وحً ربها ‪ ,‬وفرضها علٌها شرعها ‪ .‬فإذا تهاون المجتمع فً آدابه‬ ‫وتقالٌده‪ ،‬وأطلق العنان للمخربٌن ٌفعلون ما ٌشاإون ‪ ,‬نفقد تخلى من رسالة المجتمع المسلم الحق ‪.‬‬ ‫لٌس بمجتمع مسلم صادق اإلسبلم ‪ :‬ذلك الذي ٌنسلخ من تقالٌده العرٌقة ‪ ,‬وٌنفلت من آدابه األصٌلة ‪,‬‬ ‫لٌتقبل تقالٌد دخٌلة ‪ ,‬وآدابا ً ؼرٌبة عنه‪ ،‬فتذوب شخصٌته ‪ ,‬وتمحى ذاتٌته وٌصح ذٌبلً لؽٌره‪ ،‬وقد جعله‬ ‫هللا رأسا ً‪ .‬فترى أبناءه ٌؤكلون بالشمال وٌشربون بالشمال ‪ ,‬ورجاله ٌتحلون بخواتم الذهب ‪ ,‬ونسا ه‬ ‫ٌتشبهن بالكافرات فً كشؾ الشعور ‪ ,‬وتعرٌة الصدور ‪ ,‬وإبداء البطون والظهور ‪.‬‬ ‫لٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌختلً فٌه الرجال بالنساء ببل زوج وال محرم وال رقٌب وال حسٌب ‪.‬‬ ‫لٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌختلط فٌه الفتٌان والفتٌات ‪ -‬اختبلط تماس واحتكاك والتصاق ‪ -‬فً‬ ‫المعاهد والجامعات ‪ ,‬والمعسكرات والرحبلت ‪ ,‬ووسابل المواصبلت ‪.‬‬ ‫لٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي تترك فٌه المإسسات المشبوهة ‪ :‬الصحفٌة والسٌنمابٌة واإلعبلمٌة ‪ ,‬تخرب‬ ‫كٌان األمة‪ ،‬وتسلط علٌها رٌحا ً سموما ً فٌها عذاب ألٌم‪ ،‬تدمر كل شا بؤمر سادتها من الصهاٌنة‬ ‫والمستعمرٌن والشٌوعٌ​ٌن ‪ :‬بالمقاالت المضللة‪ ،‬واألخبار الزابفة‪ ،‬والقصص الماجنة‪ ،‬والصور الفاجرة‬ ‫‪ ,‬واألؼانً الخلٌعة ‪ ,‬والمسرحٌات الداعرة‪ ،‬و ( األفبلم ) الهابطة‪ ،‬والمسلسبلت المطعمة باألباطٌل ‪.‬‬ ‫إنما المجتمع المسلم حقا ً ‪ :‬الذي ٌحامً عن آدابه األصٌلة‪ ،‬وتقالٌده الثابتة ‪ ,‬كما ٌحامً عن أرضه أن‬ ‫تحتل ‪ ,‬وعن حرماته أن تنتهك ‪ ,‬وعن ثرواته أن تنتهب ‪ ,‬وعن كرامته أن تهان ‪.‬‬


‫كما ٌقوم المجتمع المسلم على ( العقابد ) التً تحدد له فلسفته الكلٌة عن المبدأ ‪ ,‬والمصٌر‪ ،‬والؽاٌة‪،‬‬ ‫وتجٌب اإلنسان عن أسبلته القدٌمة الجدٌدة ‪ :‬من أٌن ؟ وإلى أٌن ؟ ولم ؟ ‪ ..‬وبها ظهر أنه (مجتمع‬ ‫موحد) ال ٌشرك باهلل شٌبا ً ‪ .‬وٌقوم على الشعابر التً تجسد صلته باهلل تعالى فً أعمال ظاهرة‪ ،‬وبها‬ ‫ظهر أنه (مجتمع متعبد) أهم وظابفه عبادة هللا تعالى ‪ .‬وٌقوم على األفكار والمفاهٌم الواضحة التً‬ ‫تجعله ٌقوّ م األعمال والمواقؾ واألشخاص والمذاهب من خبلل موازٌنه الخاصة ‪ ,‬التً ال تنسبه لٌمٌن‬ ‫أو ٌسار فهو ( مجتمع فكرى ) متمٌّز ‪.‬‬ ‫وٌقوم على أخبلق وفضابل ٌإمن بها إٌمانه بدٌنه وشرٌعته‪ ،‬فهً جزء منه ‪ ,‬باعتبارها أوامر ونواهً‬ ‫صادرة إلٌه من ربه سبحانه ‪ ,‬فهو ( مجتمع أخالقً ) ‪ .‬وٌقوم ذلك المجتمع على آداب وتقالٌد خاصة‬ ‫تجعله نسٌج وحده‪ ،‬ؼٌر مقلد لؽٌره‪ ،‬ممن بعد عنه زماناً‪ ،‬أو بعد عنه مكانا ً‪ .‬كما ٌقوم المجتمع على ذلك‬ ‫كله‪ٌ ،‬قوم كذلك على ( القٌم اإلنسانٌة) الرفٌعة‪ ،‬التً تتطلع إلٌها البشرٌة الراقٌة‪.‬‬ ‫وأعنى بالقٌم اإلنسانٌة تلك التً تقوم على احترام كرامة اإلنسان وحرٌته وحرماته‪ ،‬وحقوقه‪ ،‬وصٌانة‬ ‫دمه وعرضه وماله وعقله ونسله‪ ،‬بوصفه إنساناً‪ ،‬وعضواً فً مجتمع‪.‬‬ ‫ونركز هنا على مجموعة من القٌم األساسٌة وهى ‪:‬‬ ‫العلم‪ ،‬والعمل‪ ،‬والحرٌة‪ ،‬والشورى‪ ،‬والعدل‪ ،‬واإلخاء‬

‫العلم‬ ‫العلم قٌمة من القٌم العلٌا‪ ،‬التً جاء بها اإلسبلم وأقام علٌها حٌاة اإلنسان المعنوٌة والمادٌة‪ ،‬األخروٌة‬ ‫والدنٌوٌة‪ ،‬وجعله طرٌق اإلٌمان وداعً العمل‪ ،‬وهو المرشح األول للخبلفة فً األرض‪ ،‬وبه فضل آدم‬ ‫أبو البشر على المبلبكة‪ ،‬الذٌن تطلعوا إلى منصب الخبلفة ! ألنهم أعبد هلل من الذٌن توقعوا منهم أن‬ ‫ٌفسدوا فً األرض وٌسفكوا الدماء‪ ،‬فقال تعالى رداً علٌهم ‪ ( :‬إنً أعلم ما ال تعلمون‪ ،‬وعلم آدم األسماء‬ ‫كلها ‪ ) . . .‬اآلٌات‪ .‬إن اإلسبلم هو دٌن العلم‪ ،‬والقرآن كتاب العلم ‪ ,‬وأول ما نزل منه على الرسول‬ ‫الكرٌم ‪ (:‬إقرأ باسم ربك الذي خلق ) والقراءة هً باب العلم ‪ .‬والقرآن ‪ ( :‬كتاب فصلت آٌاته قرآنا ً‬ ‫عربٌا ً لقوم ٌعلمون ) ‪ .‬والقرآن ٌجعل العلم أساس التفاضل بٌن الناس ‪ ( :‬قل هل ٌستوي الذٌن ٌعلمون‬ ‫والذٌن ال ٌعلمون ) ‪ .‬كما ٌجعل أهل العلم هم الشهداء هلل تعالى بالتوحٌد‪ ،‬مع المبلبكة ‪( :‬أنه ال إله إال‬ ‫هو والمبلبكة وأولوا العلم قابما ً بالقسط ) ‪ .‬وأهل العلم كذلك هم المإهلون لخشٌه هللا تعالى وتقواه ( إنما‬ ‫ٌحشى هللا من عباده العلماء ) ‪ ,‬فبل بخشى هللا إال من عرفه‪ ،‬وإنما ٌعرؾ هللا بآثار قدرته ورحمته فً‬ ‫خلقه‪ ،‬ولهذا جاءت هذه الجملة فً سٌاق الحدٌث عن آٌات هللا تعالى فً الكون ‪ ( :‬ألم تر أن هللا أنزل‬ ‫من السماء ماء فؤخرجنا به ثمرات مختلفا ً ألوانها‪ ،‬ومن الجبال جدد بٌض وحمر مختلؾ ألوانها‬ ‫وؼرابًب سود‪ ،‬ومن الناس والدواب واألنعام مختلؾ ألوانه كذلك‪ ،‬إنما ٌخشى هللا من عباده العلماء ) ‪.‬‬ ‫والقرآن أعظم كتاب ٌنشا ( العقلٌة العلمٌة ) التً تنبذ الخرافة‪ ،‬وتتمرد على التقلٌد األعمى‪ ،‬لؤلجداد‬ ‫واآلباء أو للسادة والكبراء‪ ،‬أو للعوام والدهماء‪ ،‬وترفض الظنون واألهواء فً مقام البحث عن الحقابق‬ ‫والعقابد الٌقٌنٌة‪ ،‬وال تقبل دعوى إال ببرهان قاطع‪ ،‬من المشاهدة المإكدة فً الحسٌات‪ ،‬ومن المنطق‬


‫السلٌم فً العقلٌات‪ ،‬ومن النقل الموثق فً المروٌات ‪ .‬وٌعتبر القرآن النظر فرٌضة‪ ،‬والتفكٌر عبادة‪،‬‬ ‫والبحث عن الحقٌقة قربة‪ ،‬واستخدام أدوات المعرفة شكراً لنعم هللا‪ ،‬وتعطٌلها سبٌبلً إلى جهنم ‪.‬‬ ‫اقرأ هذه اآلٌات فً القرآن‪ ،‬وهى ؼٌض من فٌض ‪ ( :‬وإذا قٌل لهم اتبعوا ما أنزل هللا قالوا بل نتبع ما‬ ‫ألفٌنا علٌه آباءنا‪ ،‬أو لو كان آباإهم ال ٌعقلون شٌبا ً وال ٌهتدون ) ؟‪ ( .‬وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا‬ ‫وكبراءنا فؤضلونا السبٌبل‪ ،‬ربنا آتهم ضعفٌن من العذاب والعنهم لعنا ً كبٌراً ) ‪.‬‬ ‫( قال لك َل ضعؾ ولكن ال تعلمون) ‪.‬‬ ‫(وما لهم به من علم‪ ،‬إن ٌتبعون إال الظن‪ ،‬وإن الظن ال ٌؽنى من الحق شٌبا ً)‬ ‫( إن ٌتبعون إال الظن وما تهوى األنفس‪ ،‬ولقد جاءهم من ربهم الهدى)‬ ‫(وال تتبع الهوى فٌضلك عن سبٌل هللا)‬ ‫ً‬ ‫(وهللا أخرجكم من بطون أمهاتكم ال تعلمون شٌبا وجعل لكم السمع واألبصار واألفبدة لعلكم تشكرون)‬ ‫(وال تقؾ ما لٌس لك به علم‪ ،‬إن السمع والبصر والفإاد كل أولبك كان عنه مسإوالً)‬ ‫(نببونً بعلم إن كنتم صادقٌن)‬ ‫(قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا‪ ،‬إن تتبعون إال الظن وإن أنتم إال تخرصون)‬ ‫( ابتونً بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقٌن)‬ ‫(قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقٌن)‬ ‫( أو لم ٌنظروا فً ملكوت السموات واألرض وما خلق هللا من شًء)‬ ‫(قل انظروا ماذا فً السموات واألرض)‬ ‫(قل إنما أعظمكم بواحدة‪ ،‬أن تقوموا هلل مثنى وفرادى ثم تتفكروا)‬ ‫وٌنوه القرآن فً كثٌر من آٌاته بـ( أولى األلباب) ‪ ،‬و (أولى النهى) ‪( ،‬وأولى األبصار)‪ .‬والمراد‬ ‫بالبصر هنا‪ :‬العقلً ال الحسً‪.‬‬ ‫وٌبٌن فً كتابه المسطور (القرآن)‪ ،‬وكتابه المنظور (الكون) آٌات (لقوم ٌتفكرون)‪ ،‬و(لقوم ٌعقلون)‪،‬‬ ‫و(لقوم ٌعلمون)‪ .‬وكم فٌه من فواصل تنبه العقول الؽافلة مثل‪( :‬أفبل تعقلون)؟ ‪( ،‬أفبل تتفكرون)؟ ‪.‬‬ ‫وعلماء اإلسبلم متفقون على أن طلب ‪ 1‬لعلم فرٌضة على كل مسلم ومسلمة‪ ،‬وأن منه ما هو فرض‬ ‫عٌن‪ ،‬ومنه ما هو فرض كفاٌة‪ .‬ففرض العٌن ما ال بد للمسلم منه فً فهم دٌنه عقٌدة وعبادة وسلوكا‪ً،‬‬ ‫وفً عمل دنٌاه‪ ،‬حتى ٌكفً نفسه‪ ،‬وأسرته‪ ،‬وٌهم فً كفاٌة أمته‪ .‬وفرض الكفاٌة كل ما به قوام الدٌن‬ ‫والدنٌا للجماعة المسلمة‪ ،‬من علوم الدٌن وعلوم الدنٌا ‪ .‬ولهذا قرر علماء المسلمٌن أن تعلم الطب‬ ‫والهندسة وؼٌرهما من فروع العلم‪ ،‬وكذلك تعلم الصناعات التً ال تقوم حٌاة الناس إال بها‪ ،‬فرض كفاٌة‬ ‫على األمة‪ ،‬فإذا وجد فٌها عدد كاؾ من العلماء والخبراء‪ ،‬والفنٌ​ٌن فً كل مجال‪ ،‬بحٌث تسد به‬ ‫الثؽرات‪ ،‬وتلبى الحاجات‪ ،‬فقد أدت األمة واجبها‪ ،‬وسقط اإلثم والحرج عنها‪ ،‬وإذا قصرت األمة فً‬ ‫جانب من هذه الجوانب الدنٌوٌة‪ ،‬وؼدت عالة على ؼٌرها كلٌا ً أو جزبٌا ً‪ ،‬فاألمة كلها آثمة‪ ،‬وبخاصة‬ ‫أولو األمر فٌها‪.‬‬ ‫وعلى ضوء هذه المعانً قامت حضارة إسبلمٌة رفٌعة البنٌان‪ ،‬متٌنة األركان‪ ،‬جامعة بٌن العلم‬ ‫واإلٌمان‪ .‬ولم ٌعرؾ فً هذه الحضارة ما عرؾ فً أمم أخرى من الصراع بٌن العلم والدٌن‪ ،‬أو بٌن‬ ‫الحكمة والشرٌعة‪ ،‬أو بٌن العقل والنقل‪ .‬بل كان كثٌر من علماء الشرع أطباء ورٌاضٌ​ٌن وكٌمابٌ​ٌن‬ ‫وفلكٌ​ٌن وؼٌرهم‪ ( ،‬مثل ‪ :‬ابن رشد والفخر الرازي والخوارزمً وابن النفٌس وابن خلدون وؼٌرهم ) ‪.‬‬ ‫وقد بٌن اإلمام محمد عبده أن أصول اإلسبلم تتفق كل االتفاق مع العلم والمدنٌة‪ ،‬وأقام على ذلك‬ ‫البراهٌن الناصعة من نصوص الدٌن ومن تارٌخ المسلمٌن‪ ،‬وذلك فً كتابه القٌم ( اإلسبلم والنصرانٌة‬ ‫مع العلم والمدنٌة) ‪.‬‬


‫العمل‬ ‫وهو ثمرة العلم‪ ،‬ولهذا قٌل فً تراثنا ‪ :‬علم ببل عمل‪ ،‬كشجر ببل ثمر‪ ،‬أو سحاب ببل مطر‪ .‬وهو أٌضا‬ ‫ثمرة اإلٌمان الحق‪ ،‬إذ ال ٌتصور إٌمان ببل عمل ‪ .‬ومهما ٌختلؾ علماء الكبلم فً اعتبار العمل جزءاً‬ ‫ما ال رٌب فٌه أن اإلٌمان الصادق ال بد أن ٌثمر عمبلً ‪.‬‬ ‫من حقٌقة اإلٌمان‪ ،‬أو شرطا ً له‪ ،‬أو أثراً له‪ ،‬ؾ‬ ‫ولهذا قرن القرآن بٌن اإلٌمان والعمل فً عشرات من آٌاته‪ ،‬ولهذا قال السلؾ ‪ :‬اإلٌمان ما وقر فً‬ ‫القلب‪ ،‬وصدقه العمل‪.‬‬ ‫والعمل المطلوب هو ‪ :‬بذل الجهد الواعً لتحقٌق مقاصد الشارع من اإلنسان فوق هذه األرض ‪ .‬وهذه‬ ‫المقاصد ‪ -‬كما أشار إلٌها القرآن ‪ -‬تتحدد فً ثبلث ذكرها اإلمام الراؼب األصفهانى فً كتابه ( الذرٌعة‬ ‫إلى مكارم الشرٌعة ) وهى‬ ‫‪ .1‬العبادة‪ ،‬كما قال تعالى ‪ ( :‬وما خلقت الجن واإلنس إال لٌعبدون)‬ ‫‪ .2‬الخالفة‪ ،‬كما قال تعالى ‪ ( :‬إنً جاعل فً األرض خلٌفة)‪ٌ..‬عنً آدم وذرٌته‪.‬‬ ‫‪ .3‬العمارة‪ ،‬كما قال تعالى ‪ ( :‬هو أنشؤكم من األرض واستعمركم فٌها ) ‪.‬‬ ‫وهذه الثبلثة متداخلة ومتبلزمة‪ ،‬فالعمارة ‪ -‬عند أدابها بقصد ونٌة ‪ -‬جزء من العبادة‪ ،‬وقٌام بحق‬ ‫الخبلفة‪ .‬والعبادة بمعناها الواسع تشمل الخبلفة والعمارة‪ ،‬وال خبلفة بؽٌر عبادة وعمارة ‪ .‬والعمل‬ ‫المنشود فً اإلسبلم هو ( عمل الصالحات )‪ ،‬والصالحات ‪ :‬تعبٌر قرآنً جامع‪ٌ ،‬شمل كل ما ٌصلح به‬ ‫الدٌن والدنٌا‪ ،‬وٌصلح به الفرد والمجتمع‪ .‬فهو ٌضم العبادات والعامبلت‪ ،‬أو عمل المعاش والمعاد‪ ،‬كما‬ ‫ٌعبر علماإنا رحمهم هللا ‪ .‬ولقد بٌن القرآن أن هللا تعالى خلق السموات واألرض‪ ،‬وخلق الموت والحٌاة‪،‬‬ ‫وجعل ما على األرض زٌنة لها‪ ،‬لهدؾ واضح حدده بقوله سبحانه ‪( :‬لٌبلوكم أٌكم أحسن عمبلً )‪،‬‬ ‫وقوله‪( :‬لنبلوهم أٌهم أحسن عمبلً ) ‪ .‬ومعنى هذا ‪ :‬أن الخالق جل شؤنه ال ٌرٌد من الناس أي عمل‪ ،‬وال‬ ‫مجرد العمل الحسن‪ ،‬بل ٌرٌد منهم ( العمل األحسن) ‪ .‬فالسباق بًنهم لٌس بٌن العمل السٌا والحسن‪ ،‬بل‬ ‫بٌن العمل الحسن واألحسن ‪ .‬وال ؼرو أن وجدنا من العبارات القرآنٌة المؤنوسة عبارة ‪ ( :‬التً هً‬ ‫أحسن)‪ ،‬فالمسلم ٌجادل ( بالتً هً أحسن )‪ ،‬وبدفع ( بالتً هً أحسن)‪ ،‬وٌستثمر مال الٌتٌم ( بالتً هً‬ ‫أحسن )‪ ،‬وٌتبع أحسن ما أنزل إلٌه من ربه ‪ ( :‬واتبعوا أحسن ما أنزل إلٌكم من ربكم) ‪ .‬فهو ٌرنو دابما ً‬ ‫إلى ما هو أحسن‪ ،‬ولٌس إلى مجرد الحسن ‪ .‬والعمل االقتصادي بكل‪ ،‬فروعه وأنواعه من أفضل‬ ‫القربات إلى هللا‪ ،‬إذا صحت فٌه النٌة‪ ،‬وأدى بإتقان‪ ،‬والتزمت فٌه حدود هللا‪ .‬وخصوصا ً العمل اإلنتاجً‬ ‫من زراعة وصناعة و حدٌد وتعدٌن ‪ .‬وقد توارث العرب من قدٌم احتقار العمل الٌدوي والحرفً‪ ،‬وكان‬ ‫أحدهم ٌإثر أن ٌذهب إلى األمٌر أو شٌخ القبٌلة‪ٌ ،‬سؤله المعونة‪ ،‬على أن ٌبذل جهداً ٌكفل له عٌشا ً‬ ‫ٌبلبمه‪ ،‬فبٌن لهم الرسول الكرٌم أن أي عمل لكسب العٌش وان قل دخله‪ ،‬وكثر جهده ‪ -‬خٌر وأكرم من‬ ‫سإال الناس‪ ،‬أعطوه أو منعوه‪ٌ .‬قول علٌه الصبلة والسبلم ‪ ( :‬ألن ٌؤخذ أحدكم حبله على ظهر‪ ،‬فٌؤتً‬ ‫بحزمة من الحطب فٌبٌعها‪ ،‬فٌكؾ هللا بها وجهه‪ ،‬خٌر من أن ٌسؤل الناس‪ ،‬أعطوه أو منعوه ) ‪ .‬وفى‬ ‫الحث على االحتراؾ ٌقول ‪ ( :‬ما أكل أحد طعاما ً قط خٌراً من أن ٌؤكل من عمل ٌده‪ ،‬وإن نبً هللا داود‬ ‫كان ٌؤكل من عمل ٌده ) ‪ .‬وفى الحث على الزرع والؽرس ٌقول ‪ ( :‬ما من مسلم ٌؽرس ؼرسا ً أو‬ ‫ٌزرع زرعا ً فٌؤكل منه طٌر أو إنسان أو بهٌمة إالكان له به صدقة ) ‪ .‬ومن أروع التوجٌهات النبوٌة فً‬ ‫بٌان قٌمة العمل ‪ :‬الحدٌث الذي ٌقول ‪(:‬إن قامت الساعة وفى ٌد أحدكم فسٌلة‪ ،‬فإن استطاع أال تقوم (‬


‫أي الساعة ) حتى ٌؽرسها فلٌؽرسها ) ‪ .‬والفسٌلة ‪ :‬النخلة الصغٌرة‪ ،‬أي ما نسمٌه ( الشتلة ) ‪.‬‬ ‫ولماذا ٌؽرسها والساعة قابمة‪ ،‬وهو لن ٌنتفع بها‪ ،‬وال أحد من بعده ؟!‬ ‫إنه دلٌل عملى أن العمل مطلوب لذاته‪ ،‬وأن على المسلم أن ٌظل عامبلً منتجاً‪ ،‬حتى تنفد آخر نقطة‬ ‫زٌت فً سراج الحٌاة ! إن العمل عبادة وقربة‪ ،‬أكل الناس من ثمره أو لم ٌؤكلوا‪ .‬ولو وعى المسلمون‬ ‫هذه التعلٌمات لفتح هللا علٌهم بركات من السماء‪ ،‬واألرض‪ ،‬وأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم‪ .‬وكانت‬ ‫مجتمعاتهم فً طلٌعة مجتمعات العام إنتاجا ً وثراءً‪ ،‬ولم ٌعٌشوا كبلً على ؼٌرهم من األمم‪ ،‬حتى إنهم ال‬ ‫ٌكفون أنفسهم من القوت الٌومً الذي به عٌشهم وحٌاتهم‪ ،‬وببلدهم ببلد زراعٌة‪ ،‬وال من السبلح الذي‬ ‫ٌحتاجون إلٌه فً حماٌة حرماتهم وأرضهم وعرضهم‪ ،‬فلو كؾ اآلخرون أٌدٌهم منهم لهلكوا مادٌا ً من‬ ‫الجوع‪ ،‬وهلكوا معنوٌا ً من الذل‪.‬‬

‫الحرية‬ ‫ومن القٌم اإلنسانٌة التً عظم أمرها اإلسبلم‪ :‬الحرٌة‪ ،‬التً ترفع من اإلنسان كل ألوان الضؽط والقهر‬ ‫واإلكراه واإلذالل‪ .‬وتجعله كما أراد هللا له ‪ :‬سٌداً فً الكون‪ ،‬عبداً هلل وحده‪.‬‬ ‫وتشمل هذه الحرٌة ‪ :‬الحرٌة الدٌنٌة‪ ،‬والحرٌة الفكرٌة‪ ،‬والحرٌة السٌاسٌة‪ ،‬والحرٌة المدنٌة‪ ،‬وكل‬ ‫الحرٌات الحقٌقٌة‪.‬‬ ‫ونعنى بالحرٌة الدٌنٌة‪ :‬حرٌة االعتقاد‪ ،‬وحرٌة ممارسة الشعابر‪ ،‬فبل ٌقبل اإلسبلم بحال أن ٌكره أحد‬ ‫على ترك دٌن رضٌه واعتنقه‪ ،‬أو ٌجبر على اعتناق دٌن ال ٌرضاه‪ .‬ونصوص القرآن الكرٌم مرٌحة‬ ‫فً ذلك كل الصراحة‪ ،‬ففً القرآن المكً ٌقول تعالى ‪ ( :‬أفؤنت تكره الناس حتى ٌكونوا مإمنٌن ) ؟‬ ‫وفً القرآن المدنً ٌقول سبحانه ‪ ( :‬ال إكراه فً الدٌن‪ ،‬قد تبٌن الرشد من الؽً ) ‪.‬‬ ‫ومن دخل فً ذمة المسلمٌن من أصحاب األدٌان األخرى‪ ،‬فقد ؼدا ٌحمل (جنسٌة دار اإلسبلم)‪ ،‬له ما‬ ‫للمسلمٌن ‪ ,‬وعلٌه ما علٌهم فً الجملة‪ ،‬إال ما اقتضته طبٌعة التمٌز الدٌنً‪ ،‬فبل ٌفرض علٌه كل ما‬ ‫ٌفرض على ا لمسلمٌن‪ ،‬وال ٌحرم علٌه كل ما حرم على المسلمٌن ‪ .‬ومن الناس من كتب فً عصرنا‬ ‫ٌقول ‪ :‬إن التراث العربً واإلسبلمً لم ٌعرؾ الحرٌة بالمفهوم الحدٌث والمعاصر‪ ،‬الذي نقل إلٌنا من‬ ‫الؽرب‪ ،‬بعد الثورة الفرنسٌة‪ .‬إنما ٌعرؾ الحرٌة بمعنى ( عدم الرق) فقط‪ ،‬فالحر من لٌس عبدا‪،‬‬ ‫والحرٌة مقابل الرق والعبودٌة‪ .‬فنحن حٌن نإمن بالحرٌة‪ ،‬أو ننادى بالحرٌة عالة على فرنسا‪ ،‬فقبلها لم‬ ‫نكن نعرؾ منها شٌا !! وإنً ألعجب أن ٌقول هذا أناس ٌزعمون ‪ -‬وٌزعم لهم‪ -‬أنهم مثقفون وعلمٌون‪،‬‬ ‫وباحثون موضوعٌون ! ونظراً ألن بعض الناس قد ٌؽره هذا الكبلم المزوق‪ ،‬وجب علٌنا أن نضع‬ ‫أمامهم بعض الحقابق تبصرة وتذكرة ‪:‬‬ ‫أوال‪ :‬ال ننكر أن األمل والحقٌقة اللؽوٌة فً معنى الحرٌة‪ ،‬هو ما ٌقابل الرق الذي ٌعنى تحكم اإلنسان‬ ‫فً آخر وتسلطه علٌه‪ .‬والحرٌة تعنً التخلص من هذا التحكم والتسلط‪ ،‬وفكاك رقبته منه‪ .‬ولكن لٌس‬ ‫هذا هو المعنى الوحٌد للكلمة ‪.‬‬ ‫لقد اتسعت الكلمة لتشمل تخلص اإلنسان من كل تسلط علٌه بؽٌر حق‪ ،‬من سلطة جابرة‪ ،‬أو قوة قاهرة ‪.‬‬ ‫وفى هذا جاءت كلمة عمر بن الخطاب لوالٌه على مصر عمرو بن العاص‪ ،‬وهً كلمة محفورة فً‬ ‫ذاكرة التارٌخ ‪ ( :‬متى تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ) ؟ا‬ ‫وهى كلمة أصبحت تصدر بها اآلن الدساتٌر ومواثٌق حقوق اإلنسان ‪ .‬وبقول على بن أبى طالب فً‬ ‫وصٌته البنه ‪ ) :‬وال تكن عبد ؼٌرك وقد جعلك هللا حرا )‪ .‬وقد استعمل كثٌر من الشعراء كلمة (الحر)‬ ‫بمعنى اإلنسان العزٌز الكرٌم‪ .‬كقول من قال ‪:‬‬


‫العبد ٌقرع بالعصا والحر تكفٌه المبلمة !‬ ‫وقال اآلخر ‪ :‬والحر من دان إنصافا ً كما دٌنا‬ ‫وقال ؼٌره فً وصؾ بعض الحسان العفٌفات ‪:‬‬ ‫حور حرابر ما هممن برٌبة كظباء مكة صٌدهن حرام‬ ‫وفى أمثال العرب ‪:‬‬ ‫( تجوع الحرة وال تؤكل بثدٌ​ٌها ) !‬ ‫وقالوا ‪:‬‬ ‫( الصبر مر‪ ،‬ال ٌتجرعه إال حر )‪.‬‬ ‫ثم إن عدم وجود لفظ أو مصطلح معٌن ٌدل على مفهوم أو مضمون نعرفه اآلن ‪ :‬ال ٌعنى بالضرورة‬ ‫عدم وجود هذا المدلول أو المضمون ‪ .‬فقد ٌوجد هذا المضمون أو المحتوى تحت لفظ أو مصطلح آخر‪.‬‬ ‫وقد ٌوجد منثورا تحت كلمات أو مصطلحات أخرى ‪ .‬فقد ال ٌجد الباحث فً تراثنا كلمة (المساواة)‬ ‫مستخدمة كما نستخدمها نحن اآلن ‪ .‬و لكنه بؤدنى بحث ٌجد مضمونها مبثوثا منتشرا‪ ،‬فً آٌات القرآن‬ ‫الكرٌم ‪ ,‬وأحادٌث الرسول العظٌم ‪ ,‬وفى عبادات اإلسبلم وشعابره‪ ،‬من الصبلة والصٌام والحج‬ ‫والعمرة‪ ،‬وفى أحكام اإلسبلم وعقوباته التً ال تفرق بٌن الشرٌؾ والوضٌع ‪ .‬وفى مبادئ اإلسبلم التً‬ ‫تحطم الفوارق بٌن األجناس واأللوان والطبقات‪ ،‬وتجعل الناس سواسٌة كؤسنان المشط ومثل ذلك ‪:‬‬ ‫الحرٌة‪ ،‬فقد ٌعبر عنها بالكرامة ‪ ( :‬ولقد كرمنا بنى آدم ) أو بالعزة ‪( :‬وهلل العزة ولرسوله وللمإمنٌن )‬ ‫‪ .‬أو بتحرٌم القهر والنهر ‪ ( :‬فؤما الٌتٌم فبل تقهر‪ ،‬وأما السابل فبل تنهر )‪ .‬أو بتحرٌم اإلره اب والتروٌع‬ ‫‪ ( :‬ال ٌحل لمسلم أن ٌروع مسلما ) ‪ .‬أو بتحرٌم الضرب والتعذٌب ‪ ( :‬من جرد ظهر مسلم بؽٌر حق‬ ‫لقً هللا وهو علٌه ؼضبان )‪ .‬أو بؽٌر ذلك من العبارات واألسالٌب ‪.‬‬ ‫وأكثر من ذلك ‪ :‬أن اإلسبلم ٌحرض على القتال وإعبلن الحرب من أجل تحرٌر المستضعفٌن فً‬ ‫األرض من نٌر الطؽاة والمتجبرٌن‪ٌ .‬قول تعالى ‪( :‬ومالكم ال تقاتلون فً سبٌل هللا والمستضعفٌن من‬ ‫الرجال والنسا ء والولدان الذٌن ٌقولون ربنا أخرجنا من هذه القرٌة الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولٌا ً‬ ‫واجعل لنا من دونك نصٌراً ) ‪.‬‬ ‫وإذا لم ٌقدر الناس على مقاومة الطؽٌان واالستبداد‪ ،‬فبل أقل من أن ٌهاجروا من دٌارهم‪ ،‬وال ٌقبلوا على‬ ‫أنفسهم الهوان والبقاء تحت نٌر الظلم واالستعباد‪ .‬وقد توعد القرآن الكرٌم بالوعٌد الشدٌد من رضً‬ ‫بهذه الحٌاة المهٌنة‪ ،‬واستسلم لها طابعا ً فبل هو قاوم مع المقاومٌن‪ ،‬وال هو هاجر مع المهاجرٌن ‪ٌ .‬قول‬ ‫هللا عز وجل ‪ ( :‬إن الذٌن توفاهم المبلبكة ظالمً أنفسهم قالوا فٌم كنتم قالوا كنا مستضعفٌن فً‬ ‫األرض‪ ،‬قالوا أم تكن أرض هللا واسعة فتهاجروا فٌها‪ ،‬فؤولبك مؤواهم جهنم‪ ،‬وساءت مصٌراً‪ ،‬إال‬ ‫المستضعفٌن من الرجال والنساء والولدان ال ٌستطٌعون حٌلة وال ٌهتدون سبٌبلً‪ ،‬فؤولبك عسى هللا أن‬ ‫ٌعفوا عنهم‪ ،‬وكان هللا عفواً ؼفوراً ) ‪ .‬على أن الذي ٌعطى اإلسبلم حقه من الفهم والتدبر‪ٌ ،‬جد أن‬ ‫جوهره هو التوحٌد‪ ،‬فهو روح الوجود اإلسبلمً‪ .‬والتوحٌد هو األساس العقلً والفلسفً لتحقٌق مبدأ‬ ‫الحرٌة‪ ،‬بل لتحقٌق مبادئ الحرٌة واإلخاء والمساواة جمٌعا ‪.‬‬ ‫وكلمة التوحٌد ‪ -‬كلمة ( ال إله إال هللا ) ‪ -‬تعنى إسقاط المتؤلهٌن والمتجبرٌن فً األرض‪ ،‬وإنزالهم من‬ ‫عروش الربوبٌة المزٌفة‪ ،‬واالستعبلء على الخلق‪ ،‬إلى ساحة المشاركة للناس جمٌعا فً العبودٌة هلل ‪,‬‬ ‫والبنوة آلدم‪ .‬ولهذا كانت رسابل النبً (صلى هللا علٌه وسلم) إلى قٌصر وأمرا ء النصارى وملوكهم فً‬ ‫مصر والحبشة وؼٌرها مختومة بهذا النداء ‪ٌ( :‬ا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بٌننا وبٌنكم أال نعبد‬ ‫إال هللا وال نشرك به شٌبا ً وال ٌتخذ بعضنا بعضا ً أربابا من دون هللا) ‪.‬‬ ‫إن أعظم ما دمر حرٌة البشر‪ ،‬وأتى على بنٌانها من القواعد‪ ،‬اتخاذ بعض الناس بعضا ً أربابا ً من دون‬ ‫هللا‪ .‬ولكً ٌسترد الناس حرمتهم وكرامتهم ٌجب تحطٌم هإالء األرباب األدعٌاء‪ ،‬واآللهة المزورٌن‪،‬‬ ‫خصوصا ً فً أنفس الذٌن توهموهم أربابا ً حقاً‪ ،‬وهم مخلوقون مثلهم‪ ،‬ال ٌملكون ألنفسهم ضراً وال نفعا ً‬


‫وال موتا ً وال حٌا ًة وال نشوراً ‪ .‬ولقد وعى مشركو العرب هذه الحقٌقة منذ دعا النبً (صلى هللا علٌه‬ ‫وسلم) من أول ٌوم إلى التوحٌد‪ ،‬وشهادة أن ال إله إال هللا‪ ،‬وعلموا أن وراء هذه الكلمة انقبلبا ً فً الحٌاة‬ ‫االجتماعٌة والسٌاسٌة‪ ،‬وأنها تإذن بمٌبلد جدٌد لبنى اإلنسان‪ ،‬وال سٌما الفقراء والمستضعفٌن‬ ‫والمسحوقٌن‪ ،‬فبل ؼرو أن وقفوا فً وجهها‪ ،‬وجندوا كل قواهم لحرب كل من آمن بها‪ ،‬واستجاب‬ ‫لندابها‪.‬‬

‫الشورى‬ ‫ومن القٌم اإلنسانٌة واالجتماعٌة التً جاء بها اإلسبلم ‪ :‬الشوري ‪.‬‬ ‫ومعنى الشورى ‪ :‬أال ٌنفرد اإلنسان بالرأي وحده فً األمور التً تحتاج إلى مشاركة عقل آخر أو أكثر‪،‬‬ ‫فرأى االثنٌن أو الجماعة أدنى إلى إدراك الصواب من رأى الواحد ‪.‬‬ ‫كما أن التشاور فً األمر ٌفتح مؽالٌقه‪ ،‬وٌتٌح النظر إلٌه من مختلؾ زواٌاه‪ ،‬بمقتضى اختبلؾ اهتمامات‬ ‫األفراد‪ ،‬واختبلؾ مداركهم وثقافتهم‪ ،‬وبهذا ٌكون الحكم على األمر مبنٌا ً على تصور شامل‪ ،‬ودراسة‬ ‫مستوعبة‪.‬‬ ‫فاإلنسان بالشورى ٌضٌؾ إلى عقله عقول اآلخرٌن وإلى علمه علوم اآلخرٌن‪ ،‬وفى هذا ٌقول الشاعر‬ ‫العربً ‪:‬‬ ‫إذا بلػ الرأي المشورة فاستعن برأي نصٌح أو نصٌحة حازم‬ ‫وال تحسب الشورى علٌك ؼضاضة فإن الخوافً قوة للقوادم‬ ‫وقد دعا اإلسبلم إلى الشورى فً حٌاة الفرد‪ ،‬وفى حٌاة األسرة‪ ،‬وفى حٌاة المجتمع والدولة ‪.‬‬ ‫الشورى في حياة الفرد‪:‬‬ ‫ففً حٌاة الفرد ٌربى اإلسبلم المسلم إذا أراد أن ٌقدم على أمر من األمور المهمة‪ ،‬التً تختلؾ فٌها‬ ‫الوجهات‪ ،‬وتتعارض اآلراء والرؼبات‪ ،‬وٌتردد فٌها المرء بٌن اإلقدام واإلحجام‪ ،‬أن ٌستعٌن بؤمرٌن‬ ‫ٌساندانه على اتخاذ القرار األصوب ‪.‬‬ ‫أحد هذٌن األمرٌن ‪ :‬ربانً‪ ،‬وهو استخارة هللا تعالى‪ ،‬وهى صبلة ركعتٌن ٌعقبها دعاء مضمونه أن‬ ‫ٌختار هللا له خٌر األمرٌن فً دٌنه ودنٌاه‪ ،‬ومعاشه ومعاده ‪.‬‬ ‫والثانً‪ :‬إنسانً‪ ،‬وهو استشارة من ٌثق برأٌه وخبرته ونصحه وإخبلصه‪ .‬وبهذا ٌجمع بٌن استخارة‬ ‫الخالق‪ ،‬واستشارة الخلق‪ .‬وقد حفظ المسلمون من تراثهم ‪ ( :‬ال خاب من استخار‪ ،‬وال ندم من استشار)‬ ‫‪ .‬وقد كان الصحابة رضً هللا عنهم ٌستشٌرون النبً (صلى هللا علٌه وسلم) فً كثٌر من أمورهم‬ ‫الخاصة‪ ،‬فٌشٌر علٌهم بما ٌراه صوابا أو أصوب أو أفضل‪ .‬كما رأٌنا حٌن استشارته فاطمة بنت قٌس‬ ‫فً أمر زواجها‪ ،‬وقد أبدى الرؼبة فٌها رجبلن ‪ :‬معاوٌة وأبو جهم‪ .‬فقال لها ‪ ( :‬أما معاوٌة فصعلوك ال‬ ‫مال له‪ ،‬وأما أبو جهم فبل ٌضع عصاه عن عاتقه) ! أي ٌضرب النساء‪ .‬واقترح علٌها أن تتزوج أسامة‬ ‫بن زٌد ‪ .‬وكان الرسول الكرٌم علٌه الصبلة والسبلم ٌستشٌر بعض أصحابه فً أموره الخاصة كذلك ‪.‬‬ ‫فقد رأٌناه فً أزمة (حدٌث اإلفك) ٌستشٌر على بن أبى طالب‪ ،‬وٌسؤل أسامة بن زٌد ‪.‬‬


‫الشورى في حياة األسرة‪::‬‬ ‫وفى حٌاة األسرة ٌدعو اإلسبلم إلى أن تقوم الحٌاة األسرٌة على أساس من التشاور والتراضً‪ .‬وذلك‬ ‫منذ بداٌة تكوٌن األسرة ‪ .‬ولهذا رفضت نصوص الشرٌعة أن ٌستبد األب بتزوٌج ابنته ‪ -‬ولو كانت بكرا‬ ‫ دون أن ٌؤخذ رأٌها‪ .‬وأوجب التوجٌه النبوي أن تستؤذن البكر‪ ،‬وان كانت تستحٌى‪ ،‬فجعل إذنها‬‫صماتها‪ .‬فإن سكوتها عند عرض األمر علٌها دلٌل على الرضا والقبول ‪ .‬وقد رد النبً (صلى هللا علٌه‬ ‫وسلم) بعض عقود الزواج التً تمت بؽٌر إرادة البنت‪ ،‬ألن الشرع لم ٌجز ألحد أن ٌتصرؾ فً مالها‬ ‫وملكها بؽٌر إذنها‪ ،‬فكٌؾ بمصٌرها ومستقبل حٌاتها ؟! بل رؼبت السنة آباء البنات أن ٌشاوروا أمهات‬ ‫بناتهن فً أمر زواجهن‪ ،‬أي ٌشاور الرجل زوجته عند تروٌج ابنتهما‪ ،‬وفى هذا جاء الحدٌث الذي رواه‬ ‫اإلمام أحمد ‪ ( :‬آمروا النساء فً بناتهن )‪ .‬وذلك أن األم أعلم بابنتها من األب‪ ،‬فهً باعتبارها أنثى‬ ‫تعرؾ اتجاهها وعواطفها‪ ،‬والبنت تبوح ألمها عن أسرارها ما ال تجرإ أن تبوح به لوالدها‪ .‬وبعد بناء‬ ‫ٌنهما‪ ،‬وفٌما ٌهم كل واحد منهما‬ ‫األسرة ٌنبؽً للزوجٌن ‪،‬ن ٌتفاهما وٌتشاورا فٌما ٌهم الحٌاة المشتركة ب‬ ‫على حدة‪ ،‬وفٌما ٌهم حٌاة ذرٌتهما ومستقبلها ‪ .‬وال ٌجوز أن ٌستهان برأي المرأة هنا‪ ،‬كما ٌشٌع عند‬ ‫بعض األمر‪ ،‬فكم من امرأة كان رأٌها خٌراً وبركة على أهلها وقومها‪ .‬وما كان أحصؾ رأي خدٌجة‬ ‫وموقفها فً أول ساعات الوحً‪ ،‬ودورهما فً تثبٌت فإاد النبً‪ ،‬والذهاب معه إلى ابن عمها ورقة بن‬ ‫نوفل‪ ،‬لٌطمبنه وٌبشره‪ .‬وكذلك رأي أم سلمة ٌوم الحدٌبٌة‪ .‬وسٌؤتً الحدٌث عنه‪.‬‬ ‫ومن الروابع القرآنٌة ‪ :‬التنبٌه على ضرورة التشاور والتراضً بٌن الزوجٌن فٌما ٌتصل برضاع األوالد‬ ‫وفطامهم‪ ،‬ولو بعد االنفصال بٌنهما‪ٌ .‬قول تعالى‪ (:‬والوالدات ٌرضعن أوالدهن حولٌن كاملٌن‪ ،‬لمن أراد‬ ‫أن ٌتم الرضاعة‪ ،‬وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروؾ ‪ ،) . . .‬إلى أن قال ‪ (:‬فإن أرادا‬ ‫فصاالً عن تراض منهما وتشاور فبل جناح علهما ) ‪.‬‬ ‫الشورى في حياة المجتمع والدولة‪:‬‬ ‫أما الشورى فً حٌاة المجتمع والدولة المسلمة‪ ،‬فقد جعلها القرآن من المكونات المهمة للجماعة المسلمة‪،‬‬ ‫وذلك فً القرآن آلمك الذي برس القواعد‪ ،‬وٌضع األسس للحٌاة اإلسبلمٌة‪ .‬فقد ذكر الشورى فً‬ ‫أوصاؾ المإمنٌن‪ ،‬مقرونة بمجموعة م ن الصفات األساسٌة التً ال ٌتم إسبلم وال إٌمان إال بها‪ .‬وهى‪:‬‬ ‫االستجابة هلل تعالى‪ ،‬وإقام الصبلة‪ ،‬واإلنفاق مما رزق هللا‪ ،‬وهذا ما ذكر فً السورة التً تحمل اسم‬ ‫(الشورى) ٌقول تعالى ( وما عند هللا خٌر وأبقى للذٌن آمنوا وعلى ربهم ٌتوكلون)‪ ،‬إلى أن قال ‪( :‬‬ ‫والذٌن استجابوا لربهم وأقاموا الصبلة وأمرهم شورى بٌنهم ومما رزقناهم ٌنفقون)‪ .‬والمراد بقوله‬ ‫(وأمرهم)‪ :‬األمر العام الذي ٌهم جماعتهم‪ ،‬وٌإثر فً حٌاتهم المشتركة ‪ .‬وهو (األمر) الذي أمر هللا‬ ‫تعالى رسوله بالمشاورة فٌه‪ .‬فقد قال تعالى فً سورة آل عمران من القرآن المدنً ‪ ( :‬وشاورهم فً‬ ‫األمر ) ‪.‬‬ ‫وقد جاء هذا األمر من هللا ورسوله بعد ؼزوة ( أحد) ‪ ،‬التً شاور النبً فٌها أصحابه‪ ،‬ونزل عن رأٌه‬ ‫إلى رأى أكثرٌتهم‪ ،‬وكانت النتٌجة ما أصاب المسلمٌن من قرح‪ ،‬وما اتخذه هللا من شهدا ء‪ :‬سبعٌن من‬ ‫خٌار الصحابة‪ ،‬منهم حمزة ومصعب وسعد بن الربٌع وؼٌرهم ‪ .‬ومع هذا أمر هللا رسوله بالمشاورة‬ ‫لهم‪ ،‬ومعناه ‪ :‬استمر على مشاورتهم ‪ ,‬ففٌها خٌر وبركة‪ ،‬وإن جاءت النتٌجة فً إحدى المرات على‬ ‫ؼٌر ما تحب‪ ،‬فالعبرة بالعاقبة‪ .‬وقد كان النبً (صلى هللا علٌه وسلم) أكثر الناس مشاورة ألصحابه‪:‬‬ ‫شاورهم فً ؼزوة ( بدر)‪ ،‬قبل القتال‪ ،‬وفى أثنابه‪ ،‬وبعده‪ .‬ولم ٌدخل المعركة إال بعد أن اطمؤن إلى‬ ‫رضا جمهورهم ‪ .‬وشاورهم فً (أحد) ‪ ،‬فنزل عن رأٌه إلى رأى األكثرٌة التً رأت الخروج إلى القوم‪،‬‬ ‫ال القتال داخل المدٌنة‪ .‬وشاورهم فً (الخندق)‪ ،‬وهم أن ٌصالح (ؼطفان) على شا من ثمار المدٌنة‪،‬‬ ‫لٌعزلهم عن قرٌش‪ ،‬وأبى ممثلو األنصار ذلك‪ ،‬فوقؾ عند رأٌهم‪ .‬وفى ( الحدٌبٌة ) شاور أم سلمة فً‬ ‫امتناع أصحابه عن التحلل من إحرامهم بعد الصلح‪ ،‬فقد عز علٌهم ذلك بعد نٌة العمرة‪ .‬فؤشارت علٌه أم‬


‫سلمة أن ٌخرج إلٌهم‪ ،‬وٌتحلل من إحرامه أمامهم دون أن ٌتكلم‪ ،‬فما أن رأوه فعل ذلك‪ ،‬حتى بادروا إلى‬ ‫االقتداء به ‪ .‬واإلسبلم كما ٌؤمر الحاكم أن ٌستشٌر‪ٌ ،‬ؤمر األمة أن تنصح له‪ ،‬كما جاء فً الحدٌث‬ ‫الصحٌح ‪( :‬الدٌن النصٌحة ‪ . . . . . . . .‬هلل ولرسوله ولكتابه وألبمة المسلمٌن وعامتهم )‪ .‬وفرٌضة‬ ‫األمر بالمعروؾ والنهى عن المنكر فرٌضة عامة‪ ،‬تشمل الحكام والمحكومٌن كافة‪ ،‬كذلك فرٌضة‬ ‫التواصً بالحق‪ ،‬والتواصً بالصبر‪ ،‬التً ال نجاة لئلنسان من خسران الدنٌا واآلخرة إال بها ‪ .‬فلٌس فً‬ ‫المسلمٌن أحد أكبر من أن ٌوصى وٌنصح‪ ،‬وٌإمر وٌنهى‪ .‬ولٌس فٌهم أحد أصؽر من أن ٌوصى‬ ‫وٌنصح وٌؤمر وٌنهى ‪ .‬وقد كان النبً (صلى هللا علٌه وسلم) ٌشار علٌه بالرأي مخالفا ً لرأٌه فٌؤخذ به‪،‬‬ ‫وٌدع رأٌه الشخصً ‪.‬‬ ‫وقد بعث أبا هرٌرة ٌبشر الناس بؤن ‪ ( :‬من قال ‪ -‬ال إله إال هللا ‪ -‬دخل الجنة ) فخشً عمر أن ٌفهمها‬ ‫الناس فهما مؽلوطا‪ ،‬وٌفصلوا الكلمة عن العمل‪ ،‬ولذا أوقؾ أبا هرٌرة‪ ،‬وبٌن للرسول خوفه من أن ٌتكل‬ ‫الناس على ذلك قاببلً ‪ :‬فخلهم ٌعملون‪ ،‬فقال الرسول (صلى هللا علٌه وسلم) ‪ (:‬فخلهم ٌعملون)‪ .‬وقال أبو‬ ‫بكر فً خطابه السٌاسً األول بعد تولٌه الخبلفة‪ٌ ،‬بٌن منهجه فً الحكم ‪ ( :‬إن رأٌتمونً على حق‬ ‫فؤعٌنونً‪ ،‬وإن رأٌتمونً على باطل فسدد ونى‪ .‬أطٌعونً ما أطعت هللا فٌكم‪ ،‬فإن عصٌته فبل طاعة إلى‬ ‫علٌكم ) ‪ .‬وقال عمر ‪ :‬أٌها الناس‪ ،‬من رأى منكم فً اعوجاجا ً فلٌقومنً‪.‬‬ ‫فقال له أحدهم ‪ :‬لو رأٌنا فٌك اعوجاجا ً لقومناه بحد سٌوفنا !‬ ‫فقال عمر ‪ :‬الحمد هلل الذي جعل فً رعٌة عمر من ٌقوّ م عمر بحد سٌفه !‬ ‫وقال له بعضهم ٌوما ً ‪ :‬اتق هللا ٌا عمر ا فؤنكر علٌه بعض من عنده أن ٌقول ذلك ألمٌر المإمنٌن فقال‬ ‫عمر ‪ :‬دعه‪ .‬ال خٌر فٌكم إذا لم تقولوها‪ ،‬وال خٌر فٌنا إذا لم نسمعها ‪.‬‬ ‫بل إن الرسول ٌشرع المعارضة المسلحة لؤلمٌر الفاجر بشرطٌن ‪:‬‬ ‫األول‪ :‬االنحراؾ البٌن عن منهج اإلسبلم فً عقٌدته أو شرٌعته‪ ،‬وهو ما أطلق علٌه الحدٌث النبوي ‪( :‬‬ ‫الكفر البواح )‪ .‬فقد أوصى الرسول (صلى هللا علٌه وسلم) من باٌعه من أصحابه أن ٌصبروا على‬ ‫أمرابهم وإان استؤثروا‪ ،‬بعض المكاسب الدنٌوٌة دونهم‪ ،‬قال ‪ ( :‬إال أن تروا كفراً بواحا ً عندكم فٌه من‬ ‫هللا برهان)‪.‬‬ ‫والثانً‪ :‬أن تكون هناك قدرة على إزالة المنكر‪ ،‬دون أن ٌترتب على إزالته منكر أكبر منه‪ .‬وإال وجب‬ ‫تحمل المنكر األدنى مخافة وقوع المنكر ال‪ .‬بنا ء على قاعدة ارتكاب أخؾ الضررٌن‪ ،‬وأهون الشرٌن‪.‬‬ ‫وعند هذا الخوؾ تنتقل المعارضة من القتال بالٌد‪ ،‬إلى السٌاسة باللسان والقلم‪ ،‬ثم إلى اإلنكار بالقلب‪،‬‬ ‫وذلك أضعؾ اإلٌمان‪ .‬وفى هذا جاء حدٌث ابن مسعود عن النبً (صلى هللا علٌه وسلم)‪ ( :‬ما من نبً‬ ‫بعثه هللا فً أمة قبلً‪ ،‬إال كان له من أمته حوارٌون وأصحاب ٌؤخذون بسنته‪ ،‬وٌقتدون بؤمره‪ ،‬ثم إنها‬ ‫ٌخلؾ من بعدهم خلوؾ‪ٌ ,‬قولون ما ال ٌفعلون‪ ،‬وٌفعلون ما ال ٌإمرون‪ .‬فمن جاهدهم بٌده فهو مإمن‪،‬‬ ‫ومن جاهدهم بلسانه فهو مإمن‪ ،‬ومن جاهدهم بقلبه فهو مإمن‪ ،‬ولٌس وراء ذلك من اإلٌمان حبة خردل‬ ‫)‪ .‬والقرآن الكرٌم ٌنقل لنا صورة طٌبة عن الحكم الذي ٌقوم على الشورى‪ ،‬ممثبلً فً ملكة سبؤ التً‬ ‫فاجؤها كتاب سلٌمان علٌه السبلم ٌحمله الهدهد‪ ،‬فجمعت قومها وقالت‪ٌ ( :‬ا أٌها المؤل افتونً فً أمري‬ ‫م ا كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون‪ ،‬قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بؤس شدٌد واألمر إلٌك فانظري ماذا‬ ‫تؤمرٌن ‪ ،‬قالت إن الملوك إذا دخلوا قرٌة أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة‪ ،‬وكذلك ٌفعلون‪ ،‬وإنً مرسلة‬ ‫إلٌهم بهدٌة فناظرة بم ٌرجع المرسلون … ) اآلٌات‪ .‬وقد انتهى هذا السلوك الشورى الحكٌم بالملكة‬ ‫الرشٌدة إلى أن أسلمت مع سلٌمان هلل رب العالمٌن ‪ .‬فنجت ونجا معها قومها من حرب خاسرة‪ ،‬وكسبت‬ ‫بذلك الدنٌا واآلخرة‪.‬‬ ‫وٌنقل القرآن صورة أخرى مظلمة عن الحكم الذي ٌقوم على التؤله والتسلط‪ ،‬مثل حكم فرعون الذي قال‬ ‫للناس ‪ ( :‬أنا ربكم ال )‪( ،‬ما علم ت لكم من إله ؼٌري) ‪ ،‬والذي ال ٌستشٌر فً األمور الهامة إال بطانته‬ ‫الخاصة‪ ،‬كما رأٌنا ذلك فً قصة فرعون مع موسى‪ ،‬حٌن حاور فرعون فؤفحمه‪ ،‬فهدده بالسجن‪ ،‬فقال‬ ‫موسى‪ ( :‬أو لو جبتك بشًء مبٌن ‪ ،‬قال فؤت به إن كنت من الصادقٌن‪ ،‬فؤلقى عصاه فإذا هً ثعبان‬


‫مبٌن ونزع ٌده فإذا هً بٌضاء للناظرٌن‪ ،‬قال للمبل حوله إن هذا لساحر علٌم‪ٌ ،‬رٌد أن ٌخرجكم من‬ ‫أرضكم بسحره فماذا تؤمرون ) ‪ .‬فهذه لٌست استشارة حقٌقٌة‪ ،‬ألنها تخص ( المؤل حوله) فقط‪ ،‬ثم هً‬ ‫استشارة موجهه‪ ،‬فهو ال ٌؤخذ رأٌهم فً شؤن موسى وماذا تكون رسالته‪ ،‬وما حقٌقة أمره؟ بل حكم علٌه‬ ‫قبل أن ٌسؤلهم الرأي‪ ( :‬إن هذا لساحر علٌم‪ٌ ،‬رٌد أن ٌخرجكم من أرضكم بسحره)‪.‬‬ ‫وقد بٌن القرآن حقٌقة حكم فرعون‪ ،‬وموقفه من رعٌته حٌن قال‪ ( :‬إن فرعون عبل فً األرض وجعل‬ ‫أهلها شٌعا ً ٌستضعؾ طابفة منهم ٌذبح أبناءهم وٌستحً نساءهم‪ ،‬إنه كان من المفسدٌن) ‪ .‬فهذا ( العلو)‬ ‫فً األرض هو ما نعبر عنه فً لؽة السٌاسة المعاصرة بكلمة (الطؽٌان)‪ .‬وقد كرر القرآن ذلك فً‬ ‫وصؾ فرعون ‪ (:‬إنه كان عالٌا ً من المسرفٌن )‪ .‬ولم ٌكن علو فرعون وطؽٌانه على بنى إسرابٌل‬ ‫وحدهم‪ ،‬بل على المصرٌ​ٌن أٌضاً‪ ،‬إذا خطر ألحدهم أو لفبة منهم أن ٌخرجوا عن خطة‪ ،‬وٌتمردوا على‬ ‫ربوبٌته‪ .‬وهذا ما تجلى واضحا فً موقفه من السحرة الذٌن جلبهم من كل صوب لٌنصروه على‬ ‫موسى‪،‬بعد أن تبٌن لهم‪ ،‬حٌن آمنوا برب هارون وموسى‪ ،‬بعد أن تبٌن لهم الحق من الباطل‪ ( .‬قال آمنتم‬ ‫له قبل أن آذن لكم‪ ،‬إنه لكبٌركم الذي علمكم السحر‪ ،‬فؤلقطعن أٌدٌكم وأرجلكم من خبلؾ وألصلبنكم فً‬ ‫جذوع النخل ولتعلمن أٌنا أشد عذابا ً وأبقى) ‪.‬‬ ‫وانظر إلى قوله‪ ( :‬آمنتم له قبل أن آذن لكم ) إنه ٌرٌد أن ٌحجر على عقول الناس وقلوبهم‪ ،‬فبل ٌجوز‬ ‫لعقل أن ٌقتنع بشًء وال لقلب أن ٌإمن بؤمر‪ ،‬إال بإذنه وبعد تصرٌح منه !! لقد ذم القرآن فرعون‪ ،‬وذم‬ ‫القوى الدنسة المتحالفة معه‪ ،‬مثل ( قارون) الذي ٌمثل الرأسمالٌة البشعة الجشعة‪ ،‬التً ال ترى ألحد‬ ‫علٌها حقا فٌما ٌملك من مال‪ .‬كما جسدها قارون بقوله‪ ( :‬إنما أوتٌته على علم عندي )‪ .‬ومثل هامان‬ ‫الذي ٌمثل السٌاسٌ​ٌن النفعٌ​ٌن الذٌن ٌضعون قدراتهم الذهنٌة والتنفٌذٌة فً خدمة الطاؼٌة األكبر‪ .‬فهو‬ ‫عقله المفكر‪ ،‬وساعده المنفذ !‬ ‫كما شمل القرآن بالذم أموال الطؽاة من الجنود الذٌن ٌعتبرون أدوات فً أٌدٌهم‪ٌ ،‬ستقدمونها لجلد‬ ‫الشعوب وقهرها‪ ،‬ولهذا قال القرآن‪ ( :‬إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطبٌن)‪ .‬وٌقول عن‬ ‫فرعون‪ ( :‬فؤخذناه وجنوده فنبذناهم فً الٌم‪ ،‬فانظر كٌؾ كان عاقبة الظالمٌن ) ‪ .‬وكلمة ( الجنود) تشمل‬ ‫كل أعوان الطاؼٌة من عسكرٌ​ٌن ومدنٌ​ٌن ‪.‬‬ ‫والقرآن ٌحارب الطؽٌان واالستبداد من عدة نواح‪:‬‬ ‫من ناحٌة الحملة على الطؽاة والمتجبرٌن فً األرض‪ ( :‬كذلك ٌطبع هللا على كل قلب متكبر جبار)‬ ‫(واستفتحوا وخاب كل جبار عنٌد) ‪.‬‬ ‫ومن ناحٌة الحملة على األعوان المباشرٌن من كبار مثل هامان وقارون أو صؽار مثل جنود فرعون‪.‬‬ ‫ومن ناحٌة ثالثة‪ :‬الحملة على الشعوب التً تسلم قٌادها للطؽاة‪ ،‬دون أن تسؤلهم ٌوما ً‪ :‬لم ؟ أو كٌؾ؟ بله‬ ‫أن تقول ‪ :‬ال‪ ،‬بملء فٌها !‪.‬‬ ‫لقد ذم القرآن قوم نوح على لسانه بقوله ‪ ( :‬رب إنهم عصونً واتبعوا من لم ٌزده ماله وولده إال خساراً‬ ‫) ‪ .‬وذم عاداً قوم هود بقوله ‪ ( :‬واتبعوا أمر كل جبار عنٌد‪ ،‬وأتبعوا فً هذه الدنٌا لعنة وٌوم القٌامة)‪.‬‬ ‫وذم قوم فرعون بقوله ‪ ( :‬فاستخؾ قومه فؤطاعوه‪ ،‬إنهم كانوا قوما ً فاسقٌن)‪ .‬وعرض القرآن لنا صوراً‬ ‫جمة من مشاهد اآلخرة‪ ،‬وفٌها ٌتبلوم السادة الكبراء المضلون‪ ،‬وأتباعهم المضللون‪ ،‬وٌتبرأ بعضهم من‬ ‫بعض‪ ،‬وٌلعن بعضهم بعضاً‪ ،‬وٌحاول كل فرٌق أن ٌلقى بالتبعة على اآلخر‪ .‬ولكن هللا ٌحكم على الجمٌع‬ ‫بؤنهم من أهل النار‪ ( .‬وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فؤضلونا السبٌبل‪ ،‬ربنا آتهم ضعفٌن من‬ ‫العذاب والعنهم لعنا ً كبٌراً )‪ ( .‬إذ تبرأ الذٌن اتبعوا من الذٌن اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم األسباب‪،‬‬ ‫وقال الذٌن اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا‪ ،‬كذلك ٌرٌهم هللا أعمالهم حسرات علٌهم‪،‬‬ ‫وما هم بخارجٌن من النار )‪ .‬إن أساس قبول القٌادة السٌاسٌة لؤلمة فً اإلسبلم هو‪ :‬الرضا والبٌعة‬ ‫االختٌارٌة‪ .‬فمن رضٌه المسلمون إماما ً إي أمٌراً وربٌسا ً لهم‪ ،‬وباٌعوه على ذلك‪ ،‬فهو الولً الشرعً‬ ‫الذي تجب طاعته فً المعروؾ‪ .‬وتجب المناصحة له بالحق‪ ،‬والمعاونة له على كل خٌر‪ .‬واإلسبلم ال‬ ‫ٌحب أن ٌإم رجل الناس فً صبلة الجماعة وهم له كارهون‪ ،‬فكٌؾ ٌقبل أن ٌقود رجل األمة كلها فً‬


‫شبونها العامة‪ ،‬وهى له كارهة‪ ،‬وبه ضابقة‪ ،‬وعلٌه ساخطة؟ جاء فً الحدٌث الشرٌؾ ‪ ( :‬ثبلثة ال ترفع‬ ‫صبلتهم فوق رإوسهم شبراً ‪ :‬رجل أم قوم وهم له كارهون‪ ،‬وامرأة باتت وزوجها علٌها ساخط‪،‬‬ ‫وأخوان متصارمان )‪.‬‬

‫العدل‬ ‫ومن القٌم اإلنسانٌة األساسٌة التً جاء بها اإلسبلم‪ ،‬وجعلها من مقومات الحٌاة الفردٌة واألسرٌة‬ ‫واالجتماعٌة والسٌاسٌة ‪( :‬العدل)‪ .‬حتى جعل القرآن إقامة القسط ‪ -‬أي العدل ‪ -‬بٌن الناس هو هدؾ‬ ‫الرساالت السماوٌة كلها‪ٌ .‬قول تعالى ‪ ( :‬لقد أرسلنا رسنا بالبٌنات وأنزلنا معهم الكتاب والمٌزان لٌقوم‬ ‫الناس بالقسط )‪ .‬ولٌس ثمة تنوٌه بقٌمة القسط أو العدل أعظم من أن ٌكون هو المقصود األول من‬ ‫إرسال هللا تعالى رسله‪ ،‬وإنزاله كتبه‪ .‬فبالعدل أنزلت الكتب‪ ،‬وبعثت الرسل‪ ،‬وبالعدل قامت السموات‬ ‫واألرض ‪ .‬والمراد بالعدل‪ :‬أن ٌعطى كل ذي حق حقه‪ ،‬سوء أكان ذو الحق فرداً أم جماعة أم شٌبا ً من‬ ‫األشٌاء أم معنى من المعانً‪ ،‬ببل طؽٌان وال إخسار‪ ،‬فبل ٌبخس حقه وال ٌجور على حق ؼٌره ‪ .‬فال‬ ‫تعالى‪ ( :‬والسماء رفعها ووضع المٌزان‪ ،‬أال تطؽوا فً المٌزان‪ ،‬وأقٌموا الوزن بالقسط وال تخسروا‬ ‫المٌزان)‪ .‬واإلسبلم ٌؤمر المسلم بالعدل مع النفس ‪ :‬بؤن ٌوازن بٌن حق نفسه‪ ،‬وحق ربه‪ ،‬وحقوق ؼٌره‪.‬‬ ‫كما قال علٌه الصبلة والسبلم لعبد هللا بن عمرو‪ ،‬حٌن جار على حق نفسه بمداومة صٌام النهار وقٌام‬ ‫اللٌل‪ ( :‬إن لبدنك علٌك ح ًقا‪ ،‬وإن لعٌنك علٌك حقاً‪ ،‬وإن ألهلك علٌك حقاً‪ ،‬وإن لزورك علٌك حقا ً)‪.‬‬ ‫وٌؤمر اإلسبلم بالعدل مع األسرة‪ :‬مع الزوجة‪ ،‬أو الزوجات‪ ،‬مع األبناء والبنات‪ٌ .‬قول تعالى‪ ( :‬فانكحوا‬ ‫ما طاب لكم من النساء مثنى وثبلث ورباع‪ ،‬فإن خفتم أال تعدلوا فواحدة)‪ .‬وٌقول الرسول (صلى هللا‬ ‫علٌه وسلم)‪ ( :‬اتقوا هللا واعدلوا فً أوالدكم)‪ ،‬وحٌن أراد بشٌر ابن سعد األنصاري أن ٌشهده (علٌه‬ ‫الصبلة والسبلم) على هبه معٌنه آثر بها بعض أوالده‪ ،‬سؤله النبً‪ ( :‬أكل أوالدك أعطٌتهم مثل هذا)؟‬ ‫قال‪ :‬ال‪ .‬قال‪ ( :‬أشهد على ذلك ؼٌري‪ ،‬فإنً ال أشهد على جور )‪ .‬وٌؤمر اإلسبلم بالعدل مع الناس كل‬ ‫الناس‪ :‬عدل المسلم مع من ٌحب‪ ،‬وعدل المسلم مع من ٌكره‪ ،‬ال تدفعه عاطفة الحب إلى المحاباة‬ ‫بالباطل‪ ،‬وال تمنعه عاطفة الكره من اإلنصاؾ وإعطاء الحق لن ٌستحق‪ٌ .‬قول تعالى فً العدل مع من‬ ‫نحب‪ٌ :‬ا أٌها الذٌن آمنوا كونوا قوامٌن بالقسط شهداء له ولو على أنفسكم أو الوالدٌن واألقربٌن)‪ .‬وٌقل‬ ‫سبحانه فً العدل مع من نعادي‪ٌ ( :‬ا أٌها الذٌن آمنوا كونوا قوامٌن هلل شهداء بالقسط‪ ،‬وال ٌجرمنكم شنآن‬ ‫قوم على أال تعدلوا‪ ،‬واعدلوا هو أقرب للتقوى‪ ،‬واتقوا هللا)‪ .‬وكم حفل التارٌخ السٌاسً والقضابً فً‬ ‫اإلسبلم بمواقؾ رابعة‪ ،‬حكم فٌها لؽٌر المسلمٌن‪ ،‬ضد المسلمٌن‪ ،‬وللرعٌة ضد الدعاة‪.‬‬ ‫ٌؤمر اإلسبلم بالعدل فً القول‪ ،‬فبل ٌخرجه الؽضب عن قول الحق‪ ،‬وال ٌدخله الرضا فً قول الباطل‪.‬‬ ‫ٌقول تعالى‪ ( :‬وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى )‪ .‬وٌؤمر بالعدل فً الشهادة‪ ،‬فبل ٌشهد إال بما علم‪ ،‬ال‬ ‫ٌزٌد وال ٌنقص‪ ،‬وال ٌحرؾ‪ ،‬وال ٌبدل‪ .‬قال تعالى ‪ ( :‬وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقٌموا الشهادة هلل) ‪،‬‬ ‫(كونوا قوامٌن هلل شهداء بالقسط)‪ .‬وٌؤمر اإلسبلم بالعدل فً الحكم‪ .‬كما قال تعالى ‪ ( :‬إن هللا ٌؤمركم أن‬ ‫تإدوا األمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بٌن الناس أن تحكموا بالعدل) ‪ .‬وقد استفاضت األحادٌث فً فضل‬ ‫( اإلمام العادل) فهو أحد السبعة الذٌن ٌظلهم هللا فً ظله ٌوم ال ظل إال ظله‪ ،‬وأحد الثبلثة الذٌن ال ترد‬ ‫لهم دعوة ‪.‬‬ ‫وبقدر ما أمر اإلسبلم بالعدل وحث علٌه‪ ،‬حرم الظلم أشد التحرٌم‪ ،‬وقاومه أشد المقاومة‪ ،‬سواء ظلم‬ ‫النفس أم ظلم الؽٌر‪ ،‬وبخاصة ظلم األقوٌاء للضعفاء‪ ،‬وظلم األؼنٌاء للفقراء‪ ،‬وظلم الحكام للمحكومٌن‪.‬‬ ‫وكلما اشتد ضعؾ اإلنسان كان ظلمه أشد إثما ً‪ٌ .‬قول الرسول لمعاذ‪( :‬واتق دعوة المظلوم‪ ،‬فلٌس بٌنها‬ ‫وبٌن هللا حجاب) ‪ .‬وقال‪ ( :‬دعوة المظلوم ٌرفعها هللا فوق الؽمام‪ ،‬وٌفتح لها أبواب السماء‪ ،‬وٌقول الرب‪:‬‬


‫وعزتً ألنصرنك ولو بعد حٌن ) ‪.‬‬ ‫ومن أبرز أنواع العدل‪ ،‬الذي شدد فٌه اإلسبلم ما سمً فً عصرنا‪ :‬العدل االجتماعً‪ .‬وٌراد به‪ :‬العدل‬ ‫فً توزٌع الثروة‪ ،‬وإتاحة الفرص المتكافبة ألبنا ء األمة الواحدة‪ ،‬وإعطاء العاملٌن ثمرة أعمالهم‬ ‫وجهودهم دون أن ٌسرقها القادرون وذوو النفوذ منهم‪ ،‬وتقرٌب الفوارق الشاسعة بٌن األفراد والفبات‬ ‫بعضها وبعض‪ ،‬بالحد من طؽٌان األؼنٌاء والعمل على رفع مستوى الفقراء‪ .‬وهذا الجانب سبق فٌه‬ ‫اإلسبلم سبقا ً بعٌداً‪ ،‬حتى إن القرآن منذ عهده المكً لم ٌؽفل هذا األمر الحٌوي‪ ،‬بل إعطاء عناٌة بالؽة‪،‬‬ ‫ومساحة واسعة‪ .‬فمن لم ٌطعم المسكٌن كان من أهل سقر المعذبٌن فً النار‪ ( ،‬قالوا‪ :‬لم نك من‬ ‫المصلٌن‪ ،‬ولم نك نطعم المسكٌن)‪ .‬وال ٌكفى أن تطعم المسكٌن‪ ،‬بل ٌجب أن تحمل نصٌبك فً الدعوة‬ ‫إلى إطعامه‪ ،‬والحض على رعاٌة ضروراته وحاجاته‪ ( :‬أرأٌت الذي ٌكذب بالدٌن فذلك الذي ٌدع‬ ‫الٌتٌم‪ ،‬وال ٌحض على طعام )‪.‬‬ ‫وإهمال هذا الحض ٌضعه القرآن جنبا ً إلى جنب مع الكفر باهلل تعالى‪ ،‬الموجب للعذاب األلٌم‪ ،‬وصلً‬ ‫الجحٌم‪ ( :‬خذوه فؽلوه‪ ،‬ثم الجحٌم صلوه‪ ،‬ثم فً سلسلة ذرعها سبعون ذراعا ً فاسلكوه‪ ،‬إنه كان ال ٌإمن‬ ‫باهلل العظٌم‪ ،‬وال ٌحض على طعام المسكٌن)‪ .‬والمجتمع الجاهلً مجتمع مذموم مسخوط علٌه من هللا‬ ‫تعالى‪ ،‬لضٌاع الفبات الضعٌفة فٌه‪ ،‬وانشؽال األقوٌاء‪ ،‬بؤكل التراث وحب المال‪ ( :‬كبلً بل ال تكرمون‬ ‫الٌتٌم‪ ،‬وال تحاضون على طعام المسكٌن‪ ،‬وتؤكلون التراث أكبلً لما ً وتحبون المال حبا ً جما ً ) ‪ .‬لقد اهتم‬ ‫اإلسبلم بالطبقات الضعٌفة فً المجتمع‪ ،‬فشرع لهم من األحكام والوسابل ما ٌكفل لهم العمل المبلبم لكل‬ ‫عاطل‪ ،‬واألجر العادل لكل عامل‪ ،‬والطعام الكافً لكل جابع‪ ،‬والعبلج الكافً لكل مرٌض‪ ،‬والكساء‬ ‫المناسب لكل عرٌان‪ .‬والكفاٌة التامة لكل محتاج‪ .‬وتشمل هذه الكفاٌة‪ :‬المؤكل والملبس والمسكن‪ ،‬وكل ما‬ ‫ال بد له منه‪ ،‬على ما ٌلٌق بحاله‪ ،‬من ؼٌر إسراؾ وال تقتٌر‪ ،‬لنفس الشخص ولمن ٌعوله‪ .‬وهذا تعرٌؾ‬ ‫اإلمام النوى فً (المجموع) ‪.‬‬ ‫وفرض لذلك اإلسبلم حقوقا ً مالٌة فً األموال األؼنٌاء‪ ،‬أولها وأعظمها الزكاة‪ .‬التً اعتبرها اإلسبلم‬ ‫ثالث أركانه‪ٌ ،‬إدٌها المسلم طوعا ً واحتساباً‪ ،‬وإال أخذت منه كرهاً‪ ،‬ولو أن طابفة ذات شوكة امتنعت‬ ‫من أدابها قوتلت علٌها بحد السٌوؾ‪ .‬تإخذ الزكاة من األؼنٌاء لترد على الفقراء‪ .‬فهً من األمة والٌها‪.‬‬ ‫واألرجح أن ٌعطى الفقٌر من الزكاة كفاٌة العمر الؽالب ألمثاله‪ ،‬متى اتسعت حصٌلة الزكاة لذلك‪.‬‬ ‫وبذلك بصبح فً العام القادم ٌداً معطٌة ال آخذة‪ ،‬علٌا ال سفلى‪ .‬وقد ألفت كتب فً ه ذا الموضوع‪ٌ ،‬نبؽً‬ ‫أن تراجع‪ .‬وفى كتابنا ( الصحوة اإلسبلمٌة وهموم الوطن العربً واإلسبلمً) خطوط عرٌضة مركزة‬ ‫لمقومات العدل االجتماعً فً اإلسبلم‪ٌ ،‬حسن الرجوع إلٌها ‪.‬‬

‫اإلخــــاء‬ ‫ومن القٌم اإلنسانٌة االجتماعٌة التً دعا إلٌها اإلسبلم‪ :‬اإلخاء ‪ -‬أو األخوة ‪ -‬ومعناه‪ :‬أن ٌعٌش الناس فً‬ ‫المجتمع متحابٌن مترابطٌن متناصرٌن‪ٌ ،‬جمعهم شعور أبناء األسرة الواحدة‪ ،‬التً ٌحب بعضها بعضاً‪،‬‬ ‫وٌشد بعضها أزر بعض‪ٌ ،‬حس كل منها أن قوة أخٌه قوة له‪ ،‬وأن ضعفه ضعؾ له‪ ،‬وأنه قلٌل بنفسه‬ ‫كثٌر بإخوانه ‪ .‬وألهمٌة هذه القٌمة فً بناء المجتمع المسلم سنفصل فٌها بعض التفصٌل ‪ .‬والقران ٌجعل‬ ‫اإلخاء فً المجتمع المإمن صنو اإلٌمان‪ ،‬وال ٌنفصل عنه‪ٌ ،‬قول تعالى‪ ( :‬إنما المإمنون إخوة)‪ .‬وٌجعل‬ ‫القران األخوة نعمة من أعظم النعم‪ ،‬فٌقول‪( :‬واذكروا نعمت هللا علٌكم عٌكم إذ كنتم أعداء فؤلؾ بٌن‬ ‫قلوبكم فؤصبحتم بنعمته إخوانا ً)‪ .‬وٌقول فً سورة أخرى ممتنا ً على رسوله الكرٌم‪( :‬هو الذي أٌدك‬ ‫بنصره وبالمإمنٌن‪ ،‬وألؾ بٌن قلوبكم‪ ،‬لو أنفقت ما فً األرض جمٌعا ً ما ألفت بٌن قلوبهم ولكن هللا‬ ‫بٌنهم‪ ،‬إنه عزٌز حكٌم)‪ .‬وٌقول النبً (صلى هللا علٌه وسلم)‪( :‬المسلم أخو السلم‪ ،‬ال ٌظلمه وال ٌسلمه ‪..‬‬


‫ال تحاسدوا‪ ،‬وال تباؼضوا‪ ،‬وال تناجشوا … وكونوا عباد هللا إخوانا ً)‪ .‬وقد ذكرنا من قبل ما روى اإلمام‬ ‫أحمد من حدٌث زٌد بن أرقم‪ :‬أن النبً (صلى هللا علٌه وسلم) كان ٌقول دبر كل صبلة ‪:‬‬ ‫( اللهم ربنا ورب كل شا وملٌكه أنا شهٌد أنك هللا وحدك ال شرٌك لك ‪.‬‬ ‫( اللهم ربنا ورب كل شا وملٌكه أنا شهٌد أن محمداً عبدك ورسولك ‪.‬‬ ‫أن شهٌد أن العباد كلهم إخوة ‪.‬‬ ‫( اللهم ربنا ورب كل شا وملٌكه ا‬ ‫فجعل إقرار مبدأ (األخوة) بعد الشهادة هلل تعالى بالوحدانٌة‪ ،‬ولمحمد بالعبودٌة والرسالة‪ .‬وقوله‪( :‬إن‬ ‫العباد كلهم إخوة ) ٌحتمل معنٌ​ٌن كبلهما صحٌح ‪:‬‬ ‫األول‪ :‬أن العباد هنا هم البشر كافة‪ ،‬فهم أخوة بعضهم لبعض‪ ،‬بحكم البنوة ألدم‪ ،‬والعبودٌة له سبحانه‪.‬‬ ‫وهذه أخوة إنسانٌة عامة‪ .‬وقد وصؾ هللا تعالى عددا ُ من الرسل فً القرآن بؤنهم إخوة ألقوامهم رؼم‬ ‫كفرهم برسالتهم‪ ،‬الشتراكهم معهم فً الجنس واألصل‪ ،‬كما فً قوله تعالى‪ :‬وإلى عاد أخاهم هوداً)‪،‬‬ ‫(وإلى ثمود أخاهم صالحا )‪ ( ،‬وإلى مدٌن أخاهم شعٌبا ً )‪.‬‬ ‫الثاني‪ :‬أن العباد هنا هم المسلمون خاصة‪ ،‬بحكم اشتراكهم فً أمة واحدة‪ ،‬تضمهم عقٌدة واحدة هً‬ ‫التوحٌد‪ ،‬وقبلة واحدة هً الكعبة البٌت الحرام‪ ،‬وكتاب واحد هو القرآن‪ ،‬ورسول واحد هو محمد علٌه‬ ‫الصبلة والسبلم‪ ،‬ومنهج واحد‪ ،‬هو شرٌعة اإلسبلم‪.‬‬ ‫وهذه أخوة دٌنٌة خاصة‪ ،‬ال تنافى األولى‪ ،‬إذ ال تنافى بٌن الخاص والعام ‪ .‬كل ما فً األمر أن لهذه‬ ‫األخوة حقوقا ً أكثر‪ ،‬بمقتضى وحدة العقٌدة والشرٌعة‪ ،‬والفكر والسلوك‪.‬‬

‫المحبة ومراتبها‬ ‫ومن العناصر األساسٌة لهذه األخوة‪ :‬المحبة‪ ،‬وأدنى درجات المحبة سبلمة الصدور من الحسد‬ ‫والبؽضاء واألحقاد وأسباب العداوة والشحناء‪ .‬والقرآن ٌعتبر العداوة والبؽضاء عقوبة قدرٌة ٌعاقب هللا‬ ‫بها من ٌكفرون برساالته‪ ،‬ومنحرفون عن آٌاته‪ ،‬كما قال تعالى إلى‪( :‬ومن الذٌن قالوا إنا نصارى أخذنا‬ ‫مٌثاقهم فنسوا حظا ً مما ذكروا به فؤؼرٌنا بٌنهم العداوة والبؽضاء إلى ٌوم القٌامة‪ ،‬وسوؾ ٌنببهم هللا بما‬ ‫كانوا ٌصنعون ) ‪.‬‬ ‫وٌتحدث القرآن عن الخمر والمٌسر وهما من الكبابر الموبقة فً نظر اإلسبلم‪ ،‬فٌجعل العلة األولى فً‬ ‫تحرٌمهما‪ ،‬الجدٌرة بالنص علٌها‪ ،‬هً إٌقاع العداوة والبؽضاء فً المجتمع‪ ،‬رؼم ما لهما من مضار‬ ‫ومساوئ أخرى ال تؽفى‪ ،‬فٌقول تعالى‪ ( :‬إنما ٌرٌد الشٌطان أن ٌوقع بٌنكم العداوة والبؽضاء فً الخمر‬ ‫و المٌسر وٌصدكم عن ذكر هللا وعن الصبلة)‪ .‬وقد جاء فً الحدٌث تسمٌة هذه اآلفات‪( :‬داء األمم) ‪.‬‬ ‫كما أن الحدٌث سماها‪ :‬الحالقة‪ ،‬حالقة الدٌن ال حالقة الشعر‪ ،‬وذلك لخطرها على الجماعة وتماسكها‬ ‫المادي والمعنوي‪ .‬وفً هذا ٌقول علٌه الصبلة والسبلم ‪( :‬دب إلٌكم داء األمم من قبلكم‪ :‬الحسد‬ ‫والبؽضاء‪ .‬والبػضاء هً الحالقة‪ ،‬ال أقول ‪ :‬تحلق الشعر‪ ،‬ولكن تحلق الدٌن)‪ ( .‬أال أدلكم على أفضل‬ ‫من درجة الصبلة والصٌام والصدقة ؟ إصبلح ذات البٌن‪ ،‬فإن فساد ذات البٌن هً الحالقة )‪ .‬وفى‬ ‫رواٌة‪( :‬ال أقول‪ :‬تحلق الشعر‪ ،‬ولكن تحلق الدٌن)‪ ( .‬تفتح أبواب الجنة ٌوم االثنٌن والخمٌس‪ ،‬فٌؽفر لكل‬ ‫عبد ال ٌشرك باهلل شٌباً‪ ،‬إال رجل كان بٌنه وبٌن أخٌه شحناء‪ ،‬فٌقال‪ :‬انظروا هذٌن حتى ٌصطلحا‪،‬‬ ‫انظروا هذٌن حتى ٌصطلحا‪ ،‬انظروا هذٌن حتى ٌصطلحا) ‪.‬‬ ‫( ال ٌحل لمسلم أن ٌهجر أخاه فوق ثبلث‪ٌ ،‬لتقٌان فٌعرض هذا وٌعرض هذا وخٌرهما الذي ٌبدأ بالسبلم‬ ‫)‪( .‬ثبلثة ال ترتفع صبلتهم فوق رإوسهم شبرا‪ :‬رجل أم قوما ً وهم له كارهون‪ ،‬وامرأة باتت وزوجها‬ ‫علٌها ساخط‪ ،‬وأخوان متصارمان)› أي متقاطعان‪ .‬إن جو البؽضاء والشحناء جو عفن كرٌه‪ ،‬تروج فٌه‬ ‫كل بضابع الشٌطان هن سوء الظن‪ ،‬والتجسس‪ ،‬والؽٌبة والنمٌمة‪ ،‬وقول الزور‪ ،‬والسب واللعن‪ ،‬وقد‬


‫ٌنتهً إلى أن ٌقاتل األخوة بعضهم بعضا ً‪ .‬وهذا هو الخطر‪ ،‬الذي حذر منه النبً الكرٌم‪ ،‬واعتبره من‬ ‫أثر الجاهلٌة‪ ،‬وقال‪( :‬ال ترجعوا بعدي كفاراً ٌضرب بعضكم رقاب بعض )‪( .‬سباب المسلم فسوق‪،‬‬ ‫وقتاله كفر )‪ .‬لهذا كان إصبلح ذات البٌن من أفضل األعمال والقربات إلى هللا تعالى‪ ( :‬إنما المإمنون‬ ‫إخوة فؤصلحوا بٌن أخوٌكم واتقوا هللا لعلكم ترحمون)‪( .‬فاتقوا هللا وأصلحوا ذات بٌنكم‪ ،‬وأطٌعوا هللا‬ ‫ورسوله إن كنتم مإمنٌن)‪( .‬ال خٌر فً كثٌر من نجواهم إال من أمر بصدقة أو معروؾ أو إصبلح بٌن‬ ‫الناس‪ ،‬ومن ٌفعل ذلك ابتؽاء مرضات هللا فسوؾ نإتٌه أجراً عظٌما ً)‪ .‬بل جعلت الشرٌعة سهما ً من‬ ‫حصٌلة الزكاة للؽارمٌن فً إصبلح ذات البٌن‪ ،‬إعانة لهم على القٌام بهذه المكرمات‪ ،‬التً كان ٌقوم بها‬ ‫أصحاب القلوب الكبٌرة والهمم العالٌة‪ ،‬فٌتحملون ما بٌن القبابل المتخاصمة من دٌات ومؽارم وان‬ ‫ضاقت بذلك أموالهم ‪ .‬وألهمٌة إصبلح ذات البٌن‪ ،‬رخص النبً (صلى هللا علٌه وسلم) لمن ٌقوم‬ ‫باإلصبلح أال ٌلتزم الصدق الكامل فً وصؾ موقؾ كل طرؾ من اآلخر‪ ،‬فنقل بعض العبارات كما‬ ‫قٌلت‪ ،‬قد ٌإجج نار الخصومة وال ٌطفبها‪ ،‬فبل بؤس بشًء من التزٌ​ٌن‪ ،‬وشا من المعارٌض‪ ،‬وفً هذا‬ ‫جاء الحدٌث الصحٌح‪ ( :‬لٌس بكذاب من أصلح بٌن اثنٌن فقال خٌراً‪ ,‬أو أنمى خٌراً)‪ .‬و من هذه الدرجة‬ ‫ درجة سبلمة الصدور من األحقاد والبؽضاء الدرجة التً عبر عنها الحدٌث الصحٌح الذي ٌقول‪ ( :‬ال‬‫ٌإمن أحدكم حتى ٌحب ألخٌه ما ٌحب لنفسه)‪ .‬وفى لفظ ‪(:‬والذي نفسً بٌده ال ٌإمن عبد حتى ٌحب‬ ‫ألخٌه ما ٌحب لنفسه من الخٌر)‪ .‬ومقتضى ذلك ‪ :‬أن ٌكره له ما ٌكره لنفسه‪ .‬فإذا كان ٌحب لنفسه رؼد‬ ‫العٌش أحب ذلك لسابر الناس‪ .‬وإذا كان ٌحب أن ٌوفق فً حٌاته الزوجٌة‪ ،‬أحب للناس أن ٌكونوا سعداء‬ ‫موفقٌن‪ .‬وإذا كان ٌحب أن ٌكون أوالده نجباء‪ ،‬أحب ذلك لؽٌره‪ .‬وإذا كان ال ٌحب أن ٌذكره أحد بسوء‬ ‫فً حضرته أ و ؼٌبته‪ ،‬كان موجب اإلٌمان أال ٌحب ذلك للناس أجمعٌن‪ .‬فهو ٌنزل إخوانه منزلة نفسه‬ ‫فً كل ما ٌحب وٌكره ‪.‬‬

‫درجة اإليثار‬ ‫وثمت درجة من هذه وتلك‪ :‬هً درجة اإلٌثار‪ .‬ومعنى اإلٌثار‪ :‬أن ٌقدم أخاه على نفسه فً كل ما ٌحب‪،‬‬ ‫فهو ٌجوع لٌشبع أخوه‪ ،‬وٌظمؤ لٌرتوي‪ ،‬وٌسهر لٌنام‪ ،‬وٌجهد لٌرتاح‪ ،‬وٌعرض صدره للرصاص لٌفدى‬ ‫أخاه‪ .‬وقد عرض لنا القرآن صورة وضٌبة للمجتمع المسلم فً المدٌنة‪ٌ ،‬تجلى فٌها معنى اإلٌثار والبذل‬ ‫من ؼٌر شح وال بخل‪ٌ .‬قول تعالى‪ ( :‬والذٌن تبوءوا الدار واإلٌمان من قبلهم ٌحبون من هاجر إلٌهم وال‬ ‫ٌجدون فً صدورهم حاجة مما أوتوا وٌإثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة‪ ،‬ومن ٌوق شح نفسه‬ ‫فؤولبك هم المفلحون)‪ .‬وفى السنة نجد صورة أخرى تتمثل فٌما رواه البخاري‪ :‬أن سعد بن الربٌع‬ ‫عرض على عبد الرحمن بن عوؾ ‪ -‬وقد آخى النبً بٌنهما ‪ -‬أن ٌتنازل عن شطر ماله‪ ،‬وعن إحدى‬ ‫دارٌه‪ ،‬وإحدى زوجتٌه‪ٌ ،‬طلقها لٌتزوجها هو‪ .‬فقال ابن عوؾ لسعد‪ :‬بارك هللا لك فً أهلك‪ ،‬وبارك هللا‬ ‫لك فً دارك‪ ،‬وبارك لك فً مالك‪ ،‬إنما أنا امرإ تاجر‪ ،‬فدلونً على السوق) إٌثار نادر قل أن تعرؾ‬ ‫الدنٌا له نظٌراً‪ٌ ،‬قابله تعفؾ كرٌم نبٌل‪ ،‬وكبلهما ٌعطٌنا ملمحا ً من مبلمح المجتمع المسلم الذي أقامه‬ ‫الرسول الكرٌم فً المدٌنة‪ ،‬والذي نرنو إلى مثله دابماً‪ ،‬باعتباره مثبلً للمجتمعات‪ .‬واإلسبلم ٌحرص كل‬ ‫الحرص على أن تسود المحبة واألخوة بٌن الناس جمٌعا‪ :‬بٌن الشعوب بعضها وبعض‪ ،‬ال ٌفرق بٌنهما‬ ‫اختبلؾ عنصر أو لون أو لؽة أو إقلٌم‪ .‬وبٌن الطبقات بعضها وبعض‪ ،‬فبل مجال لصراع أو حقد‪ ،‬وان‬ ‫تفاوتوا فً الثروة والمنزلة‪ ،‬وفضل هللا بعضهم على بعض فً الرزق‪ .‬وبٌن الحكام والمحكومٌن‪ ،‬فبل‬ ‫محل الستعبلء حاكم على محكوم‪ ،‬فإن الحاكم هو وكٌل األمة بل أجٌرها‪ ،‬وال لبؽض محكوم لحاكم ما‬ ‫دام ٌؤخذ حقه‪ ،‬كما ٌإدى واجبه‪ ،‬وفى الحدٌث‪(:‬خٌار أبمتكم الذٌن تحبونهم وٌحبونكم‪ ،‬وتصلون علٌهم‪،‬‬ ‫وٌصلون علٌكم) أي تدعون لهم‪ ،‬وٌدعون لكم‪ ،‬فالصبلة هنا بمعناها اللؽوي وهو الدعاء‪.‬‬


‫ربط النظرية بالتطبيق‬ ‫واإلسبلم ال ٌحب أن تكون دعوته مجرد فكرة فً الرإوس‪ ،‬أو حلما ً فً أخٌلة المصلحٌن‪ ،‬بل ٌحب أن‬ ‫ٌربط الفكرة بالعمل‪ ،‬والنظرٌة بالتطبٌق ‪ . .‬لهذا دعا إلى مجموعة من الشعابر واآلداب والتقالٌد من‬ ‫شؤنها أن توثق روابط المحبة بٌن الناس‪ ،‬إذا عملوا بها‪ ،‬وحافظوا علٌها‪ .‬من ذلك إفشاء السبلم كلما لقً‬ ‫بعضهم بعضا‪ ،‬وهذا ما نبه علٌه الحدٌث الصحٌح‪ (:‬والذي نفسً بٌده ال تدخلوا الجنة حتى تإمنوا‪ ،‬وال‬ ‫تإمنوا حتى تحابوا‪ .‬أال أدلكم على شا إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السبلم بٌنكم)‪ .‬ومن ذلك مجاملة الناس‬ ‫بعضهم لبعض‪ ،‬فً التهنبة عند النعمة‪ ،‬والتعزٌة عند المصٌبة‪ ،‬وعٌادة المرٌض‪ ،‬وتشمٌت العاطس‪.‬‬ ‫ومن ذلك‪ :‬التهادي بٌن الناس فً المناسبات الطٌبة‪ .‬وفً الحدٌث‪ (:‬تهادوا تحابوا)‪ .‬ومن ذلك‪ :‬التبلقً‪،‬‬ ‫الذي به تتعارؾ الوجوه‪ ،‬وتتصافح األٌدي‪ ،‬وهذا ما شرعه اإلسبلم بصبلة الجماعة والجمعة والعٌدٌن‪.‬‬ ‫كما حرم اإلسبلم كل الرذابل الخلقٌة واالجتماعٌة التً تفضً إلى تقطع أواصر المحبة والمودة بٌن‬ ‫الناس‪ ،‬ولهذا رأٌنا القرآن الكرٌم بعد أن قرر أن المإمنٌن إخوه‪ :‬اتبع ذلك بالنهى عن مجموعه من‬ ‫الرذابل إلى تنافى األخوة‪ ،‬وتعمل فً بنٌانها هدما ً‪ .‬مثل السخرٌة واللمز والتنابز باأللقاب‪ ،‬والتجسس‬ ‫على الناس‪ ،‬وتتبع عوراتهم‪ ،‬وسوء الظن بهم‪ ،‬والحدٌث عنهم بسوء فً ؼٌبهم‪ ،‬وذلك فً قوله تعالى‪( :‬‬ ‫ٌا أٌها الذٌن آمنوا ال ٌسخر قوم من قوم عسى أن ٌكونوا خٌراً منهم وال نساء من نساء عسى أن ٌكن‬ ‫ب‬ ‫خٌراً منهن‪ ،‬وال تلمزوا أنفسكم وال تنابزوا باأللقاب‪ ،‬ببس االسم الفسوق بعد اإلٌمان‪ ،‬ومن لم ٌت‬ ‫فؤولبك هم الظالمون‪ٌ ،‬ا أٌها الذٌن آمنوا اجتنبوا كثٌراً من الظن إن بعض الظن إثم‪ ،‬وال تجسسوا وال‬ ‫ٌؽتب بعضكم بعضاً‪ ،‬أٌحب أحدكم أن ٌؤكل لحم أخٌه مٌتا ً فكرهتموه‪ ،‬واتقوا هللا إن هللا تواب رحٌم)‪.‬‬

‫الوحدة من لوازم اإلخاء‬ ‫ومن لوازم األخوة ومظاهرها ‪ :‬الوحدة‪ .‬ومما ٌضادها وٌنقضها‪ :‬الفرقة‪ .‬فالمجتمع المسلم المتآخً‬ ‫مجتمع واحد‪ ،‬فً عقابده اإل ٌمانٌة‪ ،‬وفً شعابره التعبدٌة‪ ،‬وفى مفاهٌمه الفكرٌة‪ ،‬وفى فضابله األخبلقٌة‪،‬‬ ‫وفى اتجاهاته النفسٌة‪ ،‬وآدابه السلوكٌة‪ ،‬وفى تقالٌده االجتماعٌة‪ ،‬وفى قٌمه اإلنسانٌة‪ ،‬وفً أسسه‬ ‫التشرٌعٌة‪ .‬واحد من أهدافه التً تصل األرض بالسماء‪ ,‬والدنٌا باآلخرة‪ ،‬والخلق بالخالق‪ ،‬وفً أسس‬ ‫م ناهجه التً تجمع بٌن المثالٌة والواقعٌة‪ ،‬وتزازن بٌن اللثبات والتطور‪ ،‬وبٌن استلهام التراث‬ ‫واالستفادة من العصر‪ .‬واحد فً مصادره التً ٌستمد منها هداٌته‪ ،‬وهى القرآن الكرٌم والسنة المطهرة‪،‬‬ ‫علً وسلم )‪ .‬فهو مجتمع‬ ‫وفى المثل ال الذي ٌستمد منه األسوة الحسنة‪ ،‬وهو الرسول األعظم (صلى هللا ه‬ ‫ٌإمن برب واحد‪ ،‬وكتاب واحد‪ ،‬ورسول واحد‪ ،‬وٌتجه إلى قبلة واحدة بشعابر واحدة‪ ،‬وٌحتكم فً كل‬ ‫أموره إلى شرٌعة واحدة‪ :‬ووالإه ‪-‬حٌث كان ‪ -‬والء واحد‪ ،‬هلل ولرسوله وألمة اإلسبلم‪ .‬فً هللا ٌحب‪،‬‬ ‫وفٌه ٌبؽض‪ ،‬وفٌه ٌصل‪ ،‬وفٌه ٌقطع‪( :‬ال تجد قوما ً ٌإمنون باهلل والٌوم اآلخر ٌوادون من حاد هللا‬ ‫ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشٌرتهم)‪ .‬ال ٌنبؽً أن ٌفرق هذا المجتمع ما ٌفرق‬ ‫المجتمعات األخرى من العصبٌة للجنس أو اللون أو الوطن أو اللؽة أو الطبقة أو المذهب‪ ،‬أو ؼٌر ذلك‬ ‫مما ٌمزق الجماعات‪ .‬فاألخوة اإلسبلم ٌة فوق كل العصبٌات أٌا كان اسمها ونوعها‪ .‬والرسول الكرٌم ‪-‬‬ ‫صلى هللا علٌه وسلم ‪ -‬برئ من كل العصبٌات‪ (:‬لٌس منا من دعا إلى عصٌة‪ ،‬ولٌس منا من قاتل على‬ ‫عصبٌة‪ ،‬ولٌس منا من مات على عصبٌة)‪ .‬والقرآن ٌحذر من دسابس ؼٌر المسلمٌن الذي ٌكٌدون لهم‬ ‫لٌفرقوا كلمتهم‪ ،‬وٌمزقوا وحدتهم‪ ،‬كما فعل ذلك الٌهود فً اإلٌقاع بٌن األوس والخزرج بعد أن جمعهم‬ ‫هللا على اإلسبلم‪ٌ (:‬ا أٌها الذٌن آمنوا إن تطٌعوا فرٌقا ً من الذٌن أوتوا الكتاب ٌردوكم بعد إٌمانكم‬ ‫كافرٌن‪ ،‬وكٌؾ تكفرون وأنتم تتلى علٌكم آٌات هللا وفٌكم رسوله‪ ،‬ومن ٌعتصم باهلل فقد هدى إلى صراط‬


‫المستقٌم)‪..‬إلى أن قال( واعتصموا بحبل هللا جمٌعا وال تفرقوا‪ ،‬واذكروا نعمت هللا علٌكم إذ كنتم أعداء‬ ‫فؤلؾ بٌن قلوبكم فؤصبحتم بنعمته إخوانا ً وكنتم على شفا حفرة من النار فؤنقذكم منها‪ ،‬كذلك ٌبٌن هللا لكم‬ ‫آٌاته لعلكم تهتدون)‪ .‬وفً هذا السٌاق حذر من التفرق واالختبلؾ فقال( وال تكونوا كالذٌن تفرقوا‬ ‫واختلفوا من بعد ما جاءهم البٌنات‪ ،‬وأولبك لهم عذاب عظٌم)‪ .‬وبٌن آٌة األمر باالعتصام بحبل هللا وآٌة‬ ‫التحذٌر من التفوق واالختبلؾ‪ ،‬ذكرت آٌة تكلٌؾ األمة بالدعوة واألمر والنهً‪(:‬ولتكن منكم أمة ٌدعون‬ ‫إلى الخٌر وٌؤمرون بالمعروؾ وينهون عن المنكر‪ ،‬وأولبك هم المفلحون) وهذا ٌدلنا على أن الذي‬ ‫ٌوحد األمة وٌجمع شتاتها‪ :‬وجود منهج موحد تعتصم به وترجع إلٌه‪ ،‬وهو هنا حبل هللا‪ :‬ووجود رسالة‬ ‫مشتركة تشتؽل بها‪ ،‬اإلسبلم والقرآن‪ ،‬وتجعلها أكبر همها‪ ،‬وهً هنا الدعوة إلى الخٌر واألمر‬ ‫بالمعروؾ والنهى عن المنكر‪ .‬أما إذا قعدت األمة عن الرسالة‪ ،‬أو ففدت المنهج‪ ،‬فإن السبل ستتفرق بها‬ ‫عن ٌمٌن وشمال‪ ،‬والشٌاطٌن ستتجاذبها من شرق وؼرب‪ ،‬وهو ما حذر منه القرآن بقوله ‪ ( :‬وأن هذا‬ ‫صراطً مستقٌما ً فاتبعوه‪ ،‬وال تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبٌله‪ ،‬ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) والوحدة‬ ‫المفروضة فً األمة المسلمة ال تعارض النوع الذي ٌقضٌه اختبلؾ البٌبات واألعراؾ بتؤثٌر‬ ‫الحضارات المختلفة‪ ،‬والموارٌث الثقافٌة المتعددة‪ .‬فهو تنوع فً إطار الوحدة الجامعة‪ ،‬وهو أشبه بتنوع‬ ‫المواهب والمٌول واألفكار والتخصصات داخل األسرة الواحدة ‪ . .‬أو تنوع األزهار والثمار داخل‬ ‫الحدٌقة الواحدة ‪ٌ( :‬سقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض فً األكل) ومن أهم ما جاء به اإلسبلم‬ ‫هنا‪ :‬شرعٌة تعدد االجتهادات فً إطار القواعد الكلٌة والنصوص القطعٌة المتفق علها‪ ،‬فبل ٌجوز أن‬ ‫ٌنكر مجتهد على مجتهد‪ ،‬وإن اختلؾ معه فً المشرب‪ ،‬ولكل وجهته‪ ،‬ولكل أجره‪ ،‬أصاب أم أخطؤ‪ ،‬ما‬ ‫دام من أهل االجتهاد‪ ،‬واختبلؾ اآلراء ال ٌجوز أن ٌكون سبب تفرق أو عداوة‪ ،‬فقد اختلؾ الصحابة‬ ‫وتابعوهم بإحسان فً قضاٌا كثٌرة‪ ،‬ولم ٌزدهم ذلك إلى التفرق‪ ،‬بل وسع بعضهم بعضاً‪ ،‬وصلى بعضهم‬ ‫وراء بعض‪ .‬ومما ٌضٌق الخبلؾ أن أمر اإلمام أو حاكم الحاكم فً المسابل الخبلفٌة ٌرفع الخبلؾ‪،‬‬ ‫وٌحسم النزاع من الناحٌة العملٌة‪.‬‬

‫التعاون والتناصر والتراحم‬ ‫ومن لوازم اإلخاء فً اإلسبلم‪ :‬التعاون والتراحم التناصر‪ ،‬إذ ما قٌمة األخوة إذا لم تعاون أخاك عند‬ ‫الحاجة‪ ،‬وتنصره عند الشدة‪ ،‬وترحمه عند الضعؾ ؟ لقد صور الرسول الكرٌم مبلػ التعاون والترابط‬ ‫بٌن أبناء المجتمع المسلم بعضه وبعض هذا التصوٌر البلٌػ المعبر حٌن قال‪ ( :‬المإمن للمإمن كالبنٌان‪،‬‬ ‫ٌشد بعضه بعضا ً) ‪ ،‬وشبك بٌن أصابعه‪ ،‬فاللبنة وحدها ضعٌفة مهما تكن متانتها‪ ،‬وآالؾ اللبنات المبعثرة‬ ‫المتناثرة ال تصنع شٌبا‪ ،‬وال تكون بناء‪ .‬إنما ٌتكون البناء القوى من اللبنات المتماسكة المتراصة فً‬ ‫صفوؾ منتظمة‪ ،‬وفق قانون معلوم‪ ،‬عندبذ ٌتكون من اللبنات جدار متٌن‪ ،‬ومن مجموع الجدر بٌت‬ ‫مكٌن‪ٌ ،‬صعب أن تنال منه أٌدي الهدامٌن‪ .‬كما صور مبلػ تراحم المجتمع وتكامله‪ ،‬وتعاطؾ بعضه مع‬ ‫بعض بقوله ‪ (:‬مثل المإمنٌن فً توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد‪ ،‬إذا اشتكى منه‬ ‫عضو‪ ،‬تداعى له سابر األعضاء بالحمى والسهر )‪ ،‬فهو ترابط عدوى‪ ،‬ال ٌستؽنً فٌه جزء عن آخر‪،‬‬ ‫وال ٌنفصل عنه‪ ،‬وال ٌحٌا بدونه‪ ،‬فبل ٌستؽنً الجهاز التنفسً عن الجهاز الهضمً‪ ،‬أو كبلهما عن‬ ‫الجهاز الدموي أو العصبً‪ ،‬فكل جزء متمم لآلخر‪ ،‬وبتعاون األجزاء وتبلحمها ٌحٌا الكل‪ ،‬وٌستمر‬ ‫نماإه وعطاإه‪ .‬وٌقول‪ ( :‬المسلمون تتكافؤ دماإهم‪ٌ ،‬سعى بذمتهم أدناهم‪ ،‬وٌجٌر علٌهم أقصاهم‪ ،‬وهم ٌد‬ ‫على من سواهم‪ٌ ،‬رد مشدهم على مضعفهم‪ ،‬ومسرعهم على قاعدهم)‪ .‬وٌدخل فً نصرة المسلم للمسلم‬ ‫عنصرا جدٌداً حٌن ٌقول‪ (:‬انصر أخاك ظالما ً أو مظلوما ً)‪ ،‬قٌل‪ :‬ننصره مظلوماً‪ ،‬فكٌؾ ننصره ظالما ً ٌا‬ ‫رسول هللا؟ قال‪ ( :‬تؤخذ فوق ٌدٌه‪ ،‬أو تمنعه من الظلم فذلك نصر له)‪ .‬والقرآن الكرٌم ٌوجب التعاون به‬ ‫و ٌؤمر به بشرط أن ٌكون تعاونا ً على البر التقوى‪ ،‬وٌحرمه وٌنهى عنه إذا كان على اإلثم والعدوان‪.‬‬


‫ٌقول تعالى ‪( :‬وتعاونوا على البر والتقوى وال تعاونوا على اإلثم والعدوان) وٌجعل المإمنٌن أولٌاء‬ ‫بعضهم على بعض‪ ،‬بمقتضى عقد اإلٌمان‪ ،‬كما قال تعالى‪ ( :‬والمإمنون والمإمنات بعضهم أولٌاء ء‬ ‫بعض‪ٌ ،‬ؤمرون بالمعروؾ وٌنهون عن المنكر )‪ ،‬وهذا فً مقابلة وصؾ مجتمع المنافقٌن بقوله‪( :‬‬ ‫المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض‪ٌ ،‬ؤمرون بالمنكر وٌنهون عن المعروؾ وٌقبضون أٌدٌهم )‪ .‬كما‬ ‫وصؾ مجتمع الصحابة بؤنهم‪ ( :‬أشداء على الكفار رحماء بٌنهم)‪ ،‬فالتراحم سمة أولى من سمات‬ ‫المجتمع المسلم‪ .‬ومقتضى ذلك أن ٌشد القوى أزر الضعٌؾ‪ ،‬وأن ٌؤخذ الؽنى بٌد الفقٌر‪ ،‬وأن ٌنٌر العالم‬ ‫الطرٌق للجاهل‪ ،‬وأن ٌرحم الكبٌر الصؽًر‪ ،‬كما ٌوقر الصؽٌر الكبٌر‪ ،‬وٌعرؾ الجاهل للعالم حقه‪ ،‬وأن‬ ‫ٌقؾ الجمٌع صفا ً واحداً فً الشدابد والمعارك العسكرٌة والسلمٌة‪ ،‬كما قال تعالى‪ ( :‬إن هللا ٌحب الذٌن‬ ‫ٌقاتلون فً سبٌله صفا ً كؤنهم بنٌان مرصوص) وفى قصص القرآن صورة حٌة التعاون الثمر البناء‪ .‬من‬ ‫ذلك صورة التعاون بٌن موسى وأخٌه هارون‪ ،‬وقد سؤل هللا أن ٌشد به أزره فً قٌامه برسالة‪ (:‬واجعل‬ ‫لً وزٌراً من أهلً‪ ،‬هارون أخً‪ ،‬اشدد به أزرى‪ ،‬واشركه فً أمري‪ ،‬كً نسبحك كثراً‪ ،‬ونذكرك كثٌراً‬ ‫‪ ،‬إنك كنت بنا بصٌراً) وكان الجواب اإللهً‪ (:‬قال سنشد عضدك بؤخٌك ونجعل لكما سلطانا ً)‪ .‬وبهذا‬ ‫كان هارون معاون أخاه موسى فً حضرته‪ ،‬وٌخلفه على قومه فً ؼٌبته‪ .‬ومن صور التعاون ما قصه‬ ‫علٌنا القرآن من إقامة سد ذي القرنٌن العظٌم‪ ،‬لٌقؾ حاجزاً ضد هجمات ٌؤجوع ومؤجوج المفسدٌن فً‬ ‫األرض‪ .‬وكان ثمرة للتعاون بٌن الحاكم الصالح والشعب الخابؾ من بؽى األقوٌاء علٌه‪( :‬قالوا ٌا ذا‬ ‫القرنٌن إن ٌؤجوج ومؤجوج مفسدون فً األرض فهل نجعل لك خرجا ً على أن تجعل بٌننا وبٌنهم سدا‪ً،‬‬ ‫قال ما مكنً فٌه ربً خٌر فؤعٌنونً بقوة أجعل بٌنكم وبٌنهم ردماً‪ ،‬آتونً زبر الحدٌد‪ ،‬حتى إذا ساوى‬ ‫بٌن الصدفٌن قال انفخوا‪ ،‬حتى إذا جعله ناراً قال آتونً أفرغ علٌه قطراً‪ ،‬فما اسطاعوا أن ٌظهروه وما‬ ‫استطاعوا له نقبا ً)‪.‬‬

‫التكافل المادي واألدبي‬ ‫ومن مظاهر هذا التعاون والتراحم التناصر‪ :‬التكافل بٌن أبناء المجتمع المسلم‪ ،‬وهو تكافل مادي‬ ‫ومعنوي‪ ،‬اقتصادي وسٌاسً‪ ،‬عسكري ومدنً‪ ،‬اجتماعً وثقافً‪ٌ .‬بدأ هذا التكافل بٌن األقارب بعضهم‬ ‫وبعض‪ ،‬كما ٌفعل ذلك نظام النفقات فً شرٌعة اإلسبلم‪ .‬فالقرٌب الموسر ٌنفق على قرٌبه المعسر وفق‬ ‫شروط وأحكام مفصلة فً الفقه اإلسبلمً‪ ،‬كما قال هللا تعالى‪ (:‬وألوا األرحام بعضهم أولى ببعض فً‬ ‫كتاب هللا)‪ .‬ثم تتسع دابرة هذا التكافل لتشمل الجٌران وأبناء الحً الواحد فً البلد الواحد‪ ،‬بمقتض حق‬ ‫الجوار‪ ،‬الذي أكده اإلسبلم‪ ،‬وفى الحدٌث‪ ( :‬لٌس بمإم ن من بات شبعان وجاره إلى جنبه جابع ) ‪ .‬وفى‬ ‫الحدٌث اآلخر‪ ( :‬أٌما أهل عرصة بات فٌهم امرإ جابع فقد بربت منهم ذمة هللا وذمة رسوله )‪ .‬ثم تتسع‬ ‫أكثر وأكثر بحٌث تشمل اإلقلٌم عن طرٌق الزكاة‪ ،‬التً أمر الرسول الكرٌم (صلى هللا علٌه وسلم) أن‬ ‫تإخذ من أؼنٌاء كل إقلٌم لترد على فقرابه‪ ،‬فوضع بذلك أساس التوزٌع المحلى‪ ،‬على عكس ما كان‬ ‫ٌصنع فً الحضارات السابقة على اإلسبلم‪ ،‬فقد كانت الضرابب تإخذ من مزارعً ومحترفً األقالٌم‬ ‫النابٌة والقرى البعٌدة‪ ،‬لتوزع فً المدن الكبٌرة‪ ،‬وال سٌما عاصمة الملك أو اإلمبراطور‪ .‬ثم تزداد‬ ‫اتساعا ً لٌشمل التكافل المجتمع كله‪ .‬ومنذ فجر الدعوة إلى اإلسبلم فً مكة‪ ،‬والمسلمون أفراد معدودون‬ ‫مضطهدون‪ ،‬لٌس لهم كٌان وال سلطان‪ ،‬كان القرآن ٌدعو بقوة إلى هذا التكافل بجعل المجتمع كاألسرة‬ ‫الواحدة‪ٌ ،‬صب الواجد فٌه على المحروم‪ ،‬وٌحمل فٌه الؽنى الفقٌر‪ .‬ولم ٌجعل القرآن ذلك شٌبا ً من نوافل‬ ‫الدٌن‪ٌ ،‬قوم به من ترقى فً درجات اإلٌمان واإلحسان‪ ،‬وال ٌطالب به الشخص العادي من الناس‪ .‬بل‬ ‫اعتبره القرآن أمراً أساسٌا ً من دعابم الدٌن‪ ،‬ال ٌحظى برضا هللا من لم ٌقم به‪ ،‬وال ٌنجو من عذابه من‬ ‫فرط فٌه‪ .‬إقرأ فً السورة المكٌة هذه اآلٌات‪ (:‬فبل اقتحم العقبة‪ ،‬وما أدراك ما العقبة‪ ،‬فك رقبة‪ ،‬أو‬ ‫إطعام فً ٌوم ذي مسبؽة‪ٌ ،‬تٌما ً ذا مقربة‪ ،‬أو مسكٌنا ً ذا متربة‪ ،‬ثم كان من الذٌن آمنوا وتواصوا بالصبر‬


‫وتواصوا بالمرحبة) وقوله تعالى فً سورة أخرى‪(:‬كل نفس بما كسبت رهٌنة‪ ،‬إال أصحاب الٌمٌن‪ ،‬فً‬ ‫جنات ٌتساءلون عن المجرمٌن‪ ،‬ما سلككم فً سقر‪ ،‬قالوا لم نك من المصلٌن‪ ،‬ولم نك نطعم المسكٌن‪)..‬‬ ‫‪.‬‬ ‫فجعل مصٌرهم النار‪ :‬ألنهم أضاعوا حق هللا بإضاعة الصبلة‪ ،‬وأضاعوا حق عباده‪ ،‬إذ لم ٌطعموا‬ ‫المسكٌن‪ .‬وإطعام المسكٌن كناٌة عن رعاٌة ضروراته وحاجاته‪ ،‬إذ ال معنى ألن نطعم المسكٌن وندعه‬ ‫مشرداً ببل مؤوى‪ ،‬أو عرٌانا ً ببل كسوة‪ ،‬أو مرٌضا ً ببل عبلج‪ .‬ولم ٌكتؾ القرآن بإٌجاب إطعام المسكٌن‪،‬‬ ‫بل زاد على ذلك فؤوجب الحض على إطعامه‪ ،‬والحث على رعاٌته‪ ،‬وجعل إهمال ذلك من دالبل الكفر‬ ‫والتكذٌب بالدٌن‪ (:‬أرأٌت الذي ٌكذب بالدٌن‪ ،‬فذلك الذي ٌدع الٌتٌم‪ ،‬وال ٌحض على طعام المسكٌن)‬ ‫وٌجعل ذلك مع الكفر باهلل من موجبات العذاب األلم‪ ،‬واصطبلء الجحٌم‪ .‬فٌقول فً شؤن أصحاب الشمال‬ ‫ممن أطؽاه ماله وسلطانه‪ ،‬فلم ٌؽن عنه من هللا‪ ( :‬خذوه فؽلوه‪ ،‬ثم الجحٌم صلوه‪ ،‬ثم فً سلسلة ذرعها‬ ‫سبعون ذراعا ً فاسلكوه) ‪ ،‬ثم ٌذكر أسباب هذا الحكم الشدٌد فٌقول‪ ( :‬إنه كان ال ٌإم ن باهلل العظٌم‪ ،‬وال‬ ‫ٌحض على طعام المسكٌن)‪ .‬وٌزٌد على ذلك فٌوجب فً المال حقا معلوماً‪ ،‬لٌس بصدقة تطوعٌة‪ ،‬وال‬ ‫بإحسان اختٌاري‪ ،‬من شاء أداه‪ ،‬ومن شاء تركه‪ ،‬بل (حق) ‪ -‬أي (دٌن) ‪ -‬فً عنق المكلفٌن‪ ،‬وحق‬ ‫معلوم ؼٌر مجهول‪ ،‬كما فً قوله تعالى فً وصؾ المتقٌن‪ ( :‬وفً أموالهم حق معلوم للسابل‬ ‫والمحروم)‪ .‬وفى سورة أخرى ٌصؾ الحق بالمعلومٌة فٌقول‪ ( :‬والذٌن فً أموالهم حق معلوم‪ ،‬للسابل‬ ‫والمحروم)‪ .‬وفى الحدٌث عن الزروع والثمار‪ ،‬والجنات المعروشات وؼٌر المعروشات‪ٌ ،‬قول سبحانه‪:‬‬ ‫(كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه ٌوم حصاده)‪ .‬وهذا الحق هو الزكاة‪ ،‬التً فرضت فً مكة ؼٌر‬ ‫محددة وال مفصلة‪ .‬كل هذا فً القرآن المكً‪ ،‬فلما أصبح للمسلمٌن دولة وسلطان‪ ،‬حددت أنصبة الزكاة‬ ‫ومقادٌرها بوضوح‪ ،‬وبعث السعاة لٌجمعوها من أهلها‪ ،‬وٌصرفوها فً محلها‪ .‬وهم الذٌن سماهم القرآن‪:‬‬ ‫(العاملٌن علٌها)‪ ،‬وجعل لهم نصٌبا ً من حصٌلة الزكاة نفسها‪ ،‬ضمانا ً لحسن تحصٌلها وتوزٌعها‪ .‬ووصل‬ ‫اإلسبلم بهذه الفرٌضة اآللٌة إلى درجات اإللزام الخلقً والتشرٌعً‪ ،‬فجعلها ثالث أركان اإلسبلم‪،‬‬ ‫وأوجب أخذها كرهاً‪ ،‬إن لم تدفع طوعاً‪ ،‬ولم ٌتردد فً قتال من منعوها إذا كانوا ذوى شوكة وقوة ‪.‬‬ ‫وهذا التكافل المادي أو المعٌشً لبس هو كل ما طلبه اإلسبلم فً هذا المجال‪ ،‬بل هناك أنواع أخرى من‬ ‫التكافل‪ ،‬ذكرها العبلمة الفقٌه الداعٌة الدكتورمصطفى السباعً ‪ -‬رحمه هللا ‪ -‬وجعلها بالتكافل المعٌشً‬ ‫عشرة كاملة‪ ،‬فشملت ‪ :‬التكافل األدبً‪ ،‬والعلمً‪ ،‬والسٌاسً‪ ،‬والدفاعً‪ ،‬والجنابً‪ ،‬واألخبلقً‪،‬‬ ‫واالقتصاد ي‪ ،‬ولعبادي‪ ،‬والحضاري‪ ،‬والمعاشً‪ ،‬الذي اختص الٌوم باسم ( التكافل االجتماعً)‪.‬‬

‫أخوة لكل الفئات ال طبقية‬ ‫األخوة فً اإلسبلم تشمل كل فبات المجتمع‪ ،‬فلٌس هناك فبة من الناس من أن تإاخً اآلخرٌن‪ ،‬وال فبة‬ ‫أهون من أن ٌإاخٌها اآلخرون‪ ،‬ال ٌجوز أن ٌكون المال أو المنصب أو النسب‪ ،‬أو أي وضع اجتماعً‬ ‫أو مادي أو ؼٌر مادي سببا ً الستعبلء بعض الناس على بعض‪ .‬فالحاكم أخو المحكوم‪ ،‬والراعً أخ‬ ‫لرعٌته‪ ،‬وفى الحدٌث‪ ( :‬خٌار أبمتكم الذٌن تحبونهم وٌحبونكم‪ ،‬وتصلون علٌهم‪ ،‬وٌصلون علٌكم‪-،‬أي‬ ‫تدعون لهم‪ ،‬وٌدعون لكم ‪ -‬وشرار أبمتكم الذٌن تبؽضونهم وٌبؽضونكم‪ ،‬وتلعنونهم‪ ،‬وٌلعنونكم)‪ .‬والسٌد‬ ‫أخ لعبده‪ ،‬وإن أوجبت ظروؾ خاصة أن ٌكون تحت ٌده‪ .‬وفى الصحٌح‪ ( :‬إخوانكم خولكم ( أي‬ ‫خدمكم) جعلهم هللا تحت أٌدٌكم‪ ،‬ولو شاء جعلكم تحت أٌدٌهم‪ ،‬فمن كان أخوه تحت ٌده‪ ،‬فلٌطعمه مما‬ ‫ٌؤكل‪ ،‬وٌلبسه مما ٌلبس‪ ،‬وال تكلفوهم من العمل ما ال ٌطٌقون‪ ،‬فإن كلفتموهم فؤعٌنوهم)‪ .‬واألؼنٌاء‬ ‫والفقراء‪ ،‬والعمال وأرباب العم ل‪ ،‬والمبلك والمستؤجرون‪ ،‬كلهم أخوة بعضهم لبعض‪ ،‬فبل مجال ‪ -‬فً‬ ‫ضوء تعالٌم اإلسبلم ‪ -‬لصراع اجتماعً‪ ،‬أو حقد طبقً‪ .‬بل ال ٌوجد فً المجتمع اإلسبلمً طبقات‪ ،‬كما‬ ‫عرؾ ذلك فً المجتمع الؽربً فً العصور الوسطى‪ ،‬الذي عرؾ طبقات النببلء والفرسان‪ ،‬ورجال‬


‫الدٌن وؼٌرهم‪ ،‬وكانت هذ ه الطبقٌة تتوارث بحكم القٌم والتقالٌد والقوانٌن السابدة ‪ .‬وال زال بعض األمم‬ ‫إلى الٌوم ٌتوارث الطبقٌة‪ ،‬بحكم عقابده وأعرافه وأنظمته‪ ،‬كما فً الهند‪.‬‬ ‫ٌوجد فً اإلسبلم أؼنٌاء‪ ،‬ولكنهم ال ٌكونون طبقة تتوارث الؽنى‪ ،‬بلهم أفراد ٌجرى علٌهم ما ٌجرى على‬ ‫ؼٌرهم‪ ،‬فالؽنً قد ٌفتقر‪ ،‬كما أن الفقٌر قد ٌؽتنً‪ ( :‬فإن مع العسر ٌسراً)‪ .‬وٌوجد فً اإلسبلم (علما ء‬ ‫دٌن) ولكنهم ال ٌكونون طبقة تتوارث هذه المهنة‪ ،‬بل هً وظٌفة مفتوحة لكل من حصل مإهبلتها من‬ ‫العلم والدراسة‪ ،‬وهً على كل حال لٌست وظٌفة كهنوتٌة كوظابؾ القسس ورجال الدٌن فً األدٌان‬ ‫األخرى‪ ،‬إنما هً وظٌفة تعلٌم ودعوة وإفتاء‪ .‬فهم (علماء) ال (كهنة) ! وإذا كان هللا تعالى ٌخاطب‬ ‫رسوله (صلى هللا علٌه وسلم) بقوله‪ ( :‬إنما أنت مذكر لست علٌهم بمصٌطر) ‪( ،‬ونحن أعلم بما ٌقولون‪،‬‬ ‫وما أنت علٌهم بجبار‪ ،‬فذكر بالقرآن من ٌخاؾ وعٌد) ‪ ،‬فكٌؾ بورثته من العلماء؟ إنهم لن ٌكونوا ‪-‬‬ ‫قطعا ً ‪ -‬مسٌطرٌن وال جبارٌن على الناس‪ .‬إنما هم معلمون ومذكرون‪.‬‬

‫ومن مقومات المجتمع المسلم ‪ :‬التشرٌع ‪ ,‬أو القانونً الذي ٌحتكم إلى الشرٌعة وٌحكم بها ‪ .‬والشرٌعة‬ ‫هً المنهاج الذي وضعه هللا تعالى لتنظٌم الحٌاة اإلسبلمٌة على ضوء الكتاب المبٌن والسنة المطهرة‪،‬‬ ‫وال ٌكون المجتمع مجتمعا ً إسبلمٌا ً إال بتطبٌقها والرجوع إلٌها فً حٌاته كلها‪ ،‬عبادات ومعامبلت‪ ،‬فلٌس‬ ‫من المعقول آن ٌؤخذ المسلم من كتاب ربه‪( :‬كتب علٌكم الصٌام)‪ ،‬وال ٌؤخذ منه‪( :‬كتب علٌكم‬ ‫القصاص)‪ .‬وال ٌتصور أن ٌقبل آٌات إٌجاب الصبلة‪ ،‬وٌرفض آٌات تحرٌم الربا‪.‬‬ ‫وسنتحدث عن هذا الموضوع فً النقاط التالٌة‪:‬‬

‫ضرورة التشريع الرباني للمجتمع‬ ‫أوالً‪ :‬إن التشرٌع مقوم أساسً من مقومات المجتمع‪ ،‬فبل بد ألي مجتمع من قانون ٌضبط عبلقاته‪،‬‬ ‫وٌعاقب من انحرؾ عن قواعده‪ ،‬سواء أكان هذا القانون مما نزل من السماء‪ ،‬أم مما خرج من األرض‪،‬‬ ‫فالضمابر والدوافع الذاتٌة ال تكفى وحدها لعموم الخلق‪ ،‬والمحافظة على سالمة الجماعة‪ ،‬وصٌانة‬ ‫كٌانها المادي والمعنوي‪ ،‬وإقامة القسط بٌن الناس‪ ،‬ولهذا أرسل هللا رسله وأنزل كتبه لضبط مسٌرة‬ ‫الحٌاة بالحق كما قال تعالى‪ ( :‬لقد أرسلنا رسلنا بالبٌنات وأنزلنا معهم الكتاب والمٌزان لٌقوم الناس‬ ‫بالقسط) كذلك أنزل هللا كتابه الخالد لٌحكم بٌن الناس‪ ،‬ال لٌتلى على األموات‪ ،‬وال لتزٌن به الجدران‪.‬‬ ‫قال تعالى‪ ( :‬إنا أنزلنا إلٌك الكتاب بالحق لتحكم بٌن الناس بما أراك هللا)‪ .‬وآٌات القرآن صرٌحة فً‬ ‫وجوب الحكم بما أنزل هللا‪ٌ .‬قول تعلى‪( :‬وأنزلنا إلٌك الكتاب بالحق مصدقا ً لما بٌن ٌدٌه من الكتاب‬ ‫ومهٌمنا ً علٌه‪ ،‬ؾاحكم بٌنهم بما أنزل هللا‪ ،‬وال تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق‪ ،‬لكل جعلنا منكم شرعة‬ ‫ومنهاجاً‪ ،‬ولو شاء هللا لجعلكم ً‬ ‫أمة واحد ًة ولكن لٌبلوكم فً ما آتاكم‪ ،‬فاستبقوا الخٌرات‪ ،‬إلى هللا مرجعكم‬ ‫تتب أهواءهم واحذرهم أن ٌفتنوك‬ ‫جمٌعا ً فٌنببكم بما كنتم فٌه تختلفون‪ ،‬وأن احكم بٌنهم بما أنزل هللا وال ع‬ ‫ً‬ ‫عن بعض ما أنزل هللا إلٌك‪ ،‬فإن تولوا فاعلم أنما ٌرٌد هللا أن ٌصٌبهم ببعض ذنوبهم‪ ،‬وإن كثٌرا من‬ ‫الناس لفاسقون‪ ،‬أفحكم الجاهلٌة ٌبؽون‪ ،‬ومن أحسن من هللا حكما ً لقوم ٌوقنون)‬ ‫وٌبلحظ فً هذه اآلٌات‪:‬‬ ‫أوالً‪ :‬أنها جاءت بع اآلٌات التً تحدثت عن أهل الكتابٌن‪ :‬التوراة واإلنجٌل‪ ،‬وجاء فٌها قوله تعالى‪( :‬‬ ‫ومن لم ٌحكم بما أنزل هللا فؤولبك هم الكافرون) ‪ ،‬وقوله‪( :‬ومن لم ٌحكم بما أنزل هللا فؤولبك هم‬


‫الظالمون) ‪ ،‬وقوله‪( :‬ومن لم ٌحكم بما أنزل هللا فؤولبك هم الفاسقون) ‪ ،‬وما كان هللا تعالى لٌحكم على‬ ‫أهل الكتاب بالكفر‪ ،‬أو الظلم‪ ،‬أو الفسق‪ ،‬أو بها جمٌعا ً إذا لم ٌحكموا بما أنزل هللا‪ ،‬ثم ٌعفً المسلمٌن من‬ ‫ذلك‪ ،‬فلٌس ما أنزل هللا على المسلمٌن‪ ،‬دون ما أنزله على أهل الكتاب وعدل هللا واحد‪ .‬وقد جاء الحكم‬ ‫القرآنً بلفظ عام‪ .‬فبل مجال لمماحك ٌقول‪ :‬إن اآلٌات جاءت فً أهل الكتاب ال فً المسلمٌن)‪.‬‬ ‫ثانٌا ً‪ :‬أنها لم تتسامح فً ترك جزء مما أنزل هللا إلى رسوله‪ ،‬بل حذرت من ذلك بصٌؽة قوٌة‪( :‬‬ ‫واحذرهم أن ٌفتنوك عن بعض ما أنزل هللا إلٌك) ‪.‬‬ ‫ثالثا ً‪ :‬أن الناس بٌن حكمٌن ال ثالث لهما‪ :‬إما حكم هللا‪ ،‬أو حكم الجاهلٌة ‪ ..‬فمن لم ٌرض باألول وقع فً‬ ‫الثانً ال محالة‪ ،‬وفى هذا ٌقول‪( :‬أفحكم الجاهلٌة ٌبؽون‪ ،‬ومن أحسن من هللا حكما ً لقوم ٌوقنون )‪.‬‬ ‫إن التشرٌع هو الذي ٌنقل التوجٌهات الدٌنٌة واألخبلقٌة إلى قوانٌن ملزمة‪ ،‬وٌعاقب على تركها‪ .‬وحاجة‬ ‫البشر إلى تشرٌع ربانً ‪ -‬سالم من قصور البشر وأهوابهم ‪ -‬حاجة أساسٌة‪ ،‬ال ٌحققها للبشر إال التشرٌع‬ ‫اإلسبلمً‪ ،‬فهو الذي ٌحمل هداٌة هللا األخٌرة للبشر‪ ،‬وال ٌوجد فً األرض تشرٌع ربانً آخر‪ ،‬ألن كل‬ ‫المصادر السماوٌة قد أصابها التحرٌؾ والتبدٌل‪ ،‬كما أثبت ذلك الدارسون المحققون من القدماء‬ ‫والمحدثٌن والمعاصرٌن بالنسبة للتوراة واإلنجٌل‪ .‬المصدر السماوي الوحٌد الباقً ببل زٌادة وال نقص‬ ‫وال تحرٌؾ وال تؽٌ​ٌر هو القرآن‪.‬‬ ‫إن البشر فً حاجة إلى توجٌه إلهً ٌجنبهم الضبلل فً الفكر‪ ،‬والؽً فً السلوك‪ .‬فكثٌراً ما زٌنت للبشر‬ ‫عقولهم القاصرة‪ :‬جرابم بشعة‪ ،‬وؼواٌات شنٌعة‪ ،‬حتى وجدنا أهل اسبارطة قدٌما ً ٌقتلون األطفال‬ ‫الضعاؾ البنٌة‪ ،‬والعرب فً الجاهلٌة ٌبدون البنات‪ ،‬والهنود والرومان والفرس وؼٌرهم ٌقسمون الناس‬ ‫إلى طبقات ٌجوز لطبقة ما ال ٌجوز لؤلخرى‪ ،‬وٌقتل بعضها عمداً فبل ٌقتص منه‪ ،‬وٌقتل بعضها ألدنى‬ ‫األسباب‪ ،‬وربما ببل سبب‪ .‬ووجدنا فً عصرنا من ٌجٌز زواج الرجال بالرجال وتصدر بذلك قوانٌن‪،‬‬ ‫وٌبارك ذلك بعض رجال الدٌن فً الؽرب المتحضر المتقدم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ومع قصور العقل البشرى فً مقابلة العلم اإللهً‪ :‬نجد أن البشر كثٌرا ما ٌتبٌن لهم الرشد من الؽً‪،‬‬ ‫والنافع من الضار‪ ،‬ومع هذا تؽلبهم أهواإهم وشهواتهم‪ ،‬أو أهواء ذوى النفوذ وأصحاب المصالح‬ ‫الخاصة منهم ‪ ،‬فٌحلون ما ٌجب أن ٌحرم‪ ،‬وٌحرمون ما ٌنبؽً أن ٌباح‪.‬‬ ‫ولعل من أوضح األمثلة على ذلك‪ :‬موقؾ الوالٌات المتحدة من تحرٌم الخمر‪ ،‬وتراجعها عن التحرٌم‪،‬‬ ‫رؼم ثبوت ضرره على الفرد واألسر والمجتمع‪ ،‬مادٌا ً ومعنوٌاً‪ ،‬اتباعا ً لشهوات هواة السكر‪ ،‬وتحقٌقا ً‬ ‫لمصالح المنتفعٌن من انتشار المسكرات‪.‬‬

‫ليس التشريع محصورًا في الحدود‬ ‫ثانٌا‪ :‬لٌس التشرٌع فً اإلسبلم محصوراً فً الحدود والعقوبات كما ٌتصور بعض الناس أو ٌصوّ رون‪.‬‬ ‫إن التشرٌع فً اإلسبلم ٌنظم العبلقة بٌن اإلنسان وربه‪ ،‬وبٌن اإلنسان وأسرته‪ ،‬وبٌن اإلنسان ومجتمعه‪،‬‬ ‫وبٌن الحاكم والمحكوم‪ ،‬وبٌن األؼنٌاء والفقراء‪ ،‬والمبلك والمستؤجرٌن‪ ،‬وبٌن الدولة اإلسبلمٌة وؼٌرها‬ ‫فً حالة السلم وحالة الحرب‪ .‬فهو قانون مدنً و إداري‪ ،‬ودستوري ودولً …… إلخ إلى جانب أنه‬ ‫قانون دٌنً‪ .‬ولهذا اشتمل الفقه اإلسبلمً على العبادات والعامبلت‪ ،‬واألنكحة والموارٌث‪ ،‬واألقضٌة‬


‫والدعاوى‪ ،‬والحدود والقصاص والتعازٌر‪ ،‬والجهاد والمعاهدات‪ ،‬والحبلل والحرام‪ ،‬والسؾ واآلداب‪،‬‬ ‫فهو ٌنظم حٌاة اإلنسان من أدب قضا ء الحاجة للفرد إلى إقامة الخبلفة واإلمامة العظمى لؤلمة‪ .‬إن‬ ‫الحدود هً السٌاج‪ ،‬وهى اإلعبلن الناطق بؤن المجتمع المسلم ٌرفض جرابم معٌنة‪ ،‬وال ٌسمح بها بحال‬ ‫من األحوال‪.‬‬ ‫والحدود ‪ -‬كما شرعها اإلسبلم ‪ -‬لٌست بالبشاعة التً ٌتصورها بعض الناس أو ٌصورها المبشرون‬ ‫والمستشرقون‪.‬‬ ‫إن الؽربٌ​ٌن ٌستبشعون هذه العقوبات لسببٌن ذكرهما العبلمة المودودي فً حدٌثه عن حد الزنا فً‬ ‫كتابه (الحجاب)‪ ،‬قال رحمه هللا‪ ( :‬إن الضمٌر الؽربً ٌشمبز من عقوبة الجلدات المبة‪ .‬والسبب فً ذلك‬ ‫ال ٌرجع إلى كونه ال ٌح ب إٌذاء اإلنسان فً جسده‪ .‬بل السبب الحقٌقً أنه لم تكتمل بعد نشؤة شعوره‬ ‫الخلقً‪ ،‬فهو بٌنما كان ٌعد الزنا من قبل عٌبا ً وهجنة إذ به اآلن ال ٌعتبره إال لعبا ً وسلوة‪ٌ ،‬علل به‬ ‫شخصان نفسٌهما ساعة من الزمن! فهو ٌرٌد لذلك أن ٌسامح فً هذا الفعل وال ٌحاسب علٌه‪ ،‬إال إذا‬ ‫أخل الزنا بحرٌة رجل آخر أو بحق من حقوقه القانونٌة‪ .‬وحتى عند حصول هذا اإلخبلل ال ٌكون الزنا‬ ‫عنده إال من صؽار الجرابم التً ال تتؤثر بها إال حقوق شخص واحد‪ ،‬فٌكفى المعاقبة علٌه بعقاب خفٌؾ‬ ‫أو تؽرٌم ! ( وبدٌهً أنه من كان هذا تصوره للزنا ال بد أن ٌرى حد المبة جلدة عقوبة ظالمة لهذا‬ ‫الفعل‪ .‬ولكنه إذا ارتقى شعوره الخلقً واالجتماعً وعلم أن الزنا سواء كان بالرضا أو باإلكراه‪ ،‬وكان‬ ‫بامرأة متزوجة أو باكرة‪ ،‬جرٌمة اجتماعٌة فً كل حال تعود مضارها على المجتمع بؤسره‪ ،‬فإنه ال بد‬ ‫أن تتبدل نظرته فً باب العقوبة‪ ،‬وٌعترؾ بوجوب صون الم جتمع من تلك المضار‪ ،‬وبما أن العوامل‬ ‫المحركة للمرء على الزنا متؤصلة جدا فً جبلته الحٌوانٌة‪ ،‬ولٌس من الممكن قلع شؤفتها بمجرد عقوبات‬ ‫الحبس والؽرم‪ ،‬فبل مندوحة لقمعه من استخدام التدابٌر الشدٌدة‪ .‬ومما ال شك فٌه أن وقاٌة مبلٌ​ٌن من‬ ‫الحؾّة والعمرانٌة بإٌذاء شخص أو شخصٌن إٌذا ًء شدٌداً خٌر من دفع‬ ‫ٌ‬ ‫الناس مما ال ٌحصى من المضار‬ ‫األذى عن الجناة‪ ،‬وتعرٌض األمة كلها لمضار ال تنحصر فٌها‪ ،‬بل تتوارثها أجٌالها القادمة أٌضا ً ببل‬ ‫ذنب لها‪.‬‬ ‫( وهناك سبب آخر العتبارهم حد المبة جلدة من العقوبات الظالمة‪ٌ ،‬فطن به المرء بسهولة إذا أنعم‬ ‫نظره فً أسس الحضارة الؽربٌة‪ .‬وذلك أن حضارة الؽرب ‪ -‬كما أسلفنا‪ -‬قد قامت على إعانة ( الفرد )‬ ‫على ( الجماعة) وتركبت عناصرها بتصور مؽلو فٌه للحقوق الفردٌة‪ .‬لذلك مهما كان من ظلم الفرد‬ ‫واعتدابه على الجموع‪ ،‬فبل ٌنكره أهل الؽرب‪ ،‬بل ٌحتملونه ؼالبا ً بطٌبة نفس‪ ،‬ولكنه كلما امتدت إلى‬ ‫الفرد ٌد القانون حفظا ً لحقوق الجماعة‪ ،‬اقشعرت منه جلودهم خوفا ً وفزعاً‪ ،‬وأصبح كل نصحهم‬ ‫وتحمسهم بحق الفرد دون الجماعة‪.‬‬ ‫( ثم إن مٌزة أبناء الجاهلٌة الؽربٌة ‪ -‬كؤهل الجاهلٌة فً كل زمان ‪ -‬أنهم ٌهتمون بالمحسوسات أكثر من‬ ‫اهتمامهم بالمعقوالت‪ .‬ولهذا ٌستفظعون الضر الذي ٌنال الفرد لكونه ماثبلً أمام أعٌنهم بصورة مربٌة‪.‬‬ ‫ولكنهم ال ٌدركون خطورة الضرر العظٌم الذي ٌلحق المجتمع وأجٌاله القادمة جمٌعاً‪ ،‬على نطاق‬ ‫واسع‪ ،‬ألنهم ٌكادون ال ٌحسون به لسعته وعمق آثاره )‪.‬‬ ‫وأود أن أذكر هنا‪ :‬أن اإلسبلم ٌشدد فً إثبات الجرٌمة تشدٌداً ؼٌر عادي‪ ،‬وخصوصا ً فً جرٌمة الزنا‪،‬‬ ‫وهً لم تثبت فً عهد النبوة والراشدٌن إال باإلقرار‪ ،‬كما أنه ٌفتح الباب للتوبة‪ ،‬فمن صدقت توبتة سقط‬ ‫عنه الحد على الرأي الراجح‪ .‬وسقوط الحد ال ٌعنى إسقاط العقوبة بالكلٌة‪ ،‬فقد ٌنتقل إلى التعزٌر‬ ‫المناسب‪.‬‬


‫حرص اإلسالم على الستر والعفو في قضايا الحدود‬ ‫ثالثا ً‪ :‬أود أن ألفت النظر هنا إلى حقٌقة مهمة فً أمر الحدود‪ ،‬وهو‪ :‬أن اإلسبلم ال ٌركض وراء إقامة‬ ‫الحد‪ ،‬وال ٌتشوؾ إلى تنفٌذ العقوبة‪ ،‬فٌمن اقترؾ ما ٌستحقها‪ ،‬وال ٌضع أجهزة للتصنت على العصاة‪،‬‬ ‫أو ٌنصب لهم (كامٌرات) خفٌة تصورهم حٌن ارتكاب جرابمهم‪ ،‬وال ٌسلط الشرطة الجنابٌة أو‬ ‫(المباحثٌة) تتجسس على الناس المخالفٌن للشرع حتى تقبض علٌهم متلبسٌن‪ .‬بل نجد توجٌهات اإلسبلم‬ ‫هنا حاسمة كل الحسم فً صٌانة حرمات الناس الخاصة‪ ،‬وتحرٌم التجسس علٌهم‪ ،‬وتتبع عوراتهم‪ ،‬ال‬ ‫من قبل األفراد‪ ،‬وال من قبل السلطات الحاكمة‪ .‬روى الحاكم عن عبد الرحمن بن عوؾ‪ :‬أنه حرس لٌلة‬ ‫مع عر بالمدٌنة‪ ،‬فبٌنم ا هم ٌمشون شب لهم سراج فً بٌت‪ ،‬فانطلقوا ٌإمونه ( أي ٌقصدونه ) حتى إذا‬ ‫دنوا منه‪ ،‬إذا باب مجاؾ ( أي مؽلق ) على قوم‪ ،‬لهم فٌه أصوات مرتفعة‪ ،‬فقال عمر ‪ -‬وأخذ بٌد عبد‬ ‫لرحمن‪ :-‬أتدري بٌت من هذا؟ قال‪ :‬ال‪ ،‬قال‪ :‬هذا بٌت ربٌعة بن أمٌة بن خلؾ‪ ،‬وهم اآلن شرب ( أي‬ ‫ٌشربون الخمر ) فما ترى؟ قال عبد الرحمن‪ :‬أرى أنا قد أتٌنا ما نهى هللا عنه‪ :‬نهانا هللا عز وجل‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫( وال تجسسوا) ‪ ،‬فقد تحسسنا ! فانصرؾ عمر عنهم وتركهم )‪.‬‬ ‫وروى أبو داود والحاكم أٌضا ً عن زٌد بن وهب‪ ،‬قال‪ :‬أتى رجل ابن مسعود‪ ،‬فقال‪ :‬هل لك فً الولٌد بن‬ ‫عقبة‪ ،‬ولحٌته تقطر خمراًٍ​ً ؟! فقال‪ :‬إن رسول هللا (صلى هللا علٌه وسلم) نهانا من التجسس‪ ،‬إن ٌطهر‬ ‫لنا نؤخذه‪ .‬وروي أٌضا ً عن أربعة من الصحابة‪ :‬جبٌر بن نفٌر‪ ،‬وكثٌر بن مرة‪ ،‬والمقدام بن معدٌكرب‪،‬‬ ‫وأبً أمامة الباهلً ‪ -‬رضً هللا عنهم ‪ -‬عن النبً (صلى هللا علٌه وسلم) قال‪ ( :‬إن األمٌر إذا ابتؽى‬ ‫الرٌبة فً الناس أفسدهم)‪ .‬بل نرى التعالٌم النبوٌة الصرٌحة ترؼب أبلػ الترؼٌب فً ستر المسلم على‬ ‫نفسه‪ ،‬وعلى ؼٌره‪.‬‬ ‫وعن ابن عمر رضً هللا عنهما ‪ :‬أن رسول هللا (صلى هللا علٌه وسلم) بعد أن أقام الحد على ماعز‬ ‫األسلمً‪ ،‬قام فقال‪( :‬اجتنبوا هذه القاذورة‪،‬التً نهى هللا عنها‪ ،‬فمن أل ّم ( أي تورط فً شًء منها)‬ ‫فلٌستتر بستر هللا‪ ،‬ولٌتب إلى هللا‪ ،‬فإنه من ٌبد لنا منفعه ( أي ٌكشؾ عن جرٌمته ) نقم علٌه كتاب هللا)‬ ‫ٌعنً‪ :‬حكم هللا‪ .‬وكان الرسول الكرٌم قد أقام الحد على ماعز‪ ،‬بعد أن جاء إلٌه أربع مرات مقراً‬ ‫بجرٌمته‪ ،‬وبعد أن حاول النبي (صلى هللا علٌه وسلم) أن ٌبعد عنه التهمة‪ ،‬وٌلقنه ما ٌدل على عدم‬ ‫استٌفاء أركان الجرٌمة‪ ،‬ولكنه أمر‪ .‬ومثله المرأة الؽامدٌة‪ .‬وقد جاء عن أبى بردة عن أبٌه قال‪ :‬كنا‬ ‫أصحاب محمد نتحدث لو أن ماعزاً وهذه المرأة‪ ،‬لم ٌجٌبا فً الرابعة‪ ،‬لم ٌطلبهما رسول هللا (صلى هللا‬ ‫علٌه وسلم)‪ .‬وقال لهزال ‪ -‬الذي دفع ماعزاً لبلعتراؾ عند النبً (صلى هللا علٌه وسلم)‪ :‬لو سترته لكان‬ ‫خٌراً لك)‪ .‬وعن أبى هرٌرة قال‪ :‬قال رسول هللا (صلى هللا علٌه وسلم)‪ ( :‬من ستر أخاه المسلم فً‬ ‫الدنٌا‪ ،‬ستره هللا فً الدنٌا واآلخرة)‪ .‬وعنه عن النبً (صلى هللا علٌه وسلم) قال‪ ( :‬ال ٌستر عبد عبداً فً‬ ‫الدنٌا إال ستره هللا ٌوم القٌامة ‪ .‬فإذا كان الحدٌث السابق فً مثوبة ستر ع المسلم‪ ،‬فهذا الحدٌث عام فً‬ ‫ستر اإلنسان على اإلنسان‪ :‬ستر أي عبد من عباد هللا على آخر‪ .‬وعن كثٌر مولى عقبة بن عامر‪ :‬أن‬ ‫رسول هللا (صلى هللا علٌه وسلم) قال‪ ( :‬من رأى عورة فسترها‪ ،‬كان كمن استحٌا موإودة من قبرها)‪.‬‬ ‫وكذلك نجد التوجٌهات اإلسبلمٌة صرٌحة فً التحرٌض على العفو والصفح فٌما كان من الحدود متعلقا ً‬ ‫بحقوق العباد‪ ،‬مثل السرقة‪ ،‬بشرط أال تصل إلى سلطة القضاء‪ .‬فهناك ال مجال لعفو وال شفاعة‪ .‬وفً‬ ‫هذا جاء حدٌث عبد هللا بن عمر‪ ( :‬تعافوا الحدود بٌنكم‪ ،‬فما بلؽنً من حد فقد وجب)‪.‬‬ ‫وقال ابن مسعود‪ ( :‬إنً ألذكر أول رجل قطعه رسول هللا (صلى هللا علٌه وسلم) أتى بسارق‪ ،‬فؤمر‬ ‫بقطعه‪ ،‬وكؤنما أسؾ وجه رسول هللا (صلى هللا علٌه وسلم) ( أي بدا علٌه األسى) فقالوا‪ٌ :‬ا رسول هللا‪،‬‬ ‫كؤنك كرهت قطعه؟ قال‪ ( :‬وما ٌمنعنً؟ ال تكونوا أعوانا ً للشٌطان على أخٌكم! إنه ال ٌنبؽً لئلمام إذا‬ ‫انتهى إلٌه حد إال أن ٌقٌمه‪ ،‬إن هللا عفو ٌحب العفو‪ ( :‬ولٌعفوا ولٌصفحوا‪ ،‬أال تحبون أن ٌؽفر هللا لكم‪،‬‬ ‫وهللا ؼفور رحٌم)‪ .‬وكان الرجل ٌؤتً إلى النبً (صلى هللا علٌه وسلم)‪ ،‬فٌعترؾ بؤنه أتى ما ٌوجب‬ ‫الحد‪ ،‬فبل ٌسؤله عن هذا الحد‪ :‬ما هو؟ وكٌؾ اقترفه؟ بل ٌعتبر اعترافه هذا ‪ -‬الذي قد ٌعرضه للعقوبة ‪-‬‬


‫توبة من ذنبه‪ ،‬وندما ً على ما فرط منه‪ ،‬فهو كفارة له‪ .‬وال سٌما إذا أقام الصبلة مع رسول هللا (صلى هللا‬ ‫علٌه وسلم)‪ .‬فقد روى أبو داود فً باب ( فً الرجل ٌعترؾ بحد وال ٌسمٌه) عن أبً أمامة‪ :‬أن رجبلً‬ ‫أتى النبً (صلى هللا علٌه وسلم) فقال‪ٌ :‬ا رسول هللا‪ ،‬إنً أصبت حداً فؤقمه علً‪ .‬قال ‪ ( :‬توضؤت حٌن‬ ‫أقبلت ) ؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ ( :‬هل صلٌت معنا حٌن صلٌنا ) ؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قال ‪ ( :‬اذهب‪ ،‬فإن هللا تعالى قد‬ ‫عفا عنك )‪ .‬ومن ثم ذهب من ذهب من علماء السلؾ إلى أن من حق اإلمام أو القاضً أن ٌسقط الحد‬ ‫بالتوبة إذا ظهرت أماراتها‪ ،‬وهو ما رجحه شٌخ اإلسبلم ابن تٌمٌة والمحقق ابن القٌم‪ .‬وهو ما أختاره‬ ‫حٌن (نقنن) عقوبات الحدود فً عصرنا‪.‬‬

‫درء الحدود بالشبهات‬ ‫رابعا ً‪ :‬إن مما ٌلحق بما ذكرناه من حرص اإلسبلم على الستر والعفو فً قضاٌا الحدود‪ :‬ما أصبح‬ ‫معروفا فً الفقه اإلسبلمً بمختلؾ مذاهبه المتبوعة‪ ،‬وهو‪ :‬درء الحدود بالشبهات‪ .‬وقد جاء فً ذلك‬ ‫حدٌث رواه الحاكم وصححه ٌقول‪( :‬ادرأوا الحدود عن المسلمٌن ما استطعتم‪ ،‬فإن وجدتم لمسلم مخرجا ً‬ ‫فخلوا سبٌله‪ ،‬فإن اإلمام أن ٌخطا فً العفو خٌر من أن ٌخطا بالعقوبة)‪ .‬نعم إن الحافظ الذهبً‬ ‫اعترض على تصح ٌح الحاكم للحدٌث‪ ،‬ولكن األحادٌث التً سقناها من قبل تشد عضده‪ .‬وكذلك ما صح‬ ‫عن الفاروق عمر بن الخطاب رضى هللا عنه من قوله‪ ( :‬ادرأوا الحدود بالشبهات)‪ .‬وما ثبت من فعله‪.‬‬ ‫من إٌقاؾ حد السرقة عام المجاعة‪ ،‬لوجود شبهة الحاجة‪ ،‬وموافقة الصحابة ‪ -‬وفٌهم الفقهاء وأهل العلم‬ ‫والفتوى ‪ -‬له فً ذلك‪ ،‬ومثل هذا ٌعتبر نوعا ً من اإلجماع‪ .‬فإنهم ال ٌسكتون جمٌعا ً على باطل‪ ،‬وال‬ ‫ٌجمعون على ضبللة‪ .‬وال ٌعتبر هذا إسقاطا ً للحد كما ٌذكر بعض الكاتبٌن‪ ،‬بل إن الحد لم ٌجب أصبلً !‬ ‫لعدم استفاء كل أركانه وشروطه‪.‬‬ ‫ومثل ذلك‪ :‬ما روى من عدم إقامته الحد على الؽبلمٌن اللذٌن سرقا من سٌدهما؛ ألنه رأى أنهما لم‬ ‫ٌسرقا إال لظلم السٌد لهما‪ ،‬وعدم إعطابهما ما ٌكفٌهما من الحاجات البلزمة لها‪ .‬وال عجب أن سامحهما‬ ‫مقدراً ظروفهما‪ ،‬ثم وجه تهدٌده إلى مخدومهما بؤنه سٌقطع ٌده هو‪ ،‬إذا اضطرا إلى السرقة مرة أخرى‬ ‫! ومن قرأ كتب الؾقه وجد فٌه أشٌاء كثٌرة ذكرها الفقهاء باعتبارها شبهات تمنع إقامة الحد‪ .‬وبعضها‬ ‫ٌعتبر ضربا ً من التمحل أو االدعاء‪ ،‬ولكنهم رأوا أن أدنى شك ٌفسر لصالح المتهم‪.‬‬

‫ال يبنى المجتمع بالتشريع وحده‬ ‫خامسا ً‪ :‬إن اإلسبلم لٌس مجرد تشرٌع وقانون‪ .‬إنه عقٌدة تفسر الوجود‪ ،‬وعبادة تربً الروح‪ ،‬وأخبلق‬ ‫تزكى النفس‪ ،‬ومفاهٌم تصحح التصور‪ ،‬وقٌم تسمو باإلنسان‪ ،‬وآداب تجمل بها الحٌاة‪ .‬وآمات األحكام‬ ‫التشرٌعٌة ال تبلػ عشر آٌات القرآن‪ .‬وهً ممزوجة مزجا ً بالعقٌدة والضمٌر‪ ،‬مقرونة بالوعد والوعٌد‪،‬‬ ‫مرتبطة ارتباطا ً عضوٌا ً بسابر توجٌهات القرآن‪ .‬إقرأ مثبلً فً أحكام األسرة قوله تعالى‪( :‬الطبلق‬ ‫مرتان‪ ،‬فإمساك بمعروؾ أو تسرٌح بإحسان‪ ،‬وال ٌحل لكم أن تؤخذوا مما آتٌتموهن شٌبا ً إال أن ٌخافا أال‬


‫ٌقٌما حدود هللا‪ ،‬فإن خفتم أال ٌقٌما حدود هللا فبل جناح علٌهما فٌما افتدت به‪ ،‬تلك حدود هللا فبل تعتدوها‪،‬‬ ‫ومن ٌتعد حدود هللا فؤولبك هم الظالمون)‪ .‬هذا لٌس تشرٌعا ً جافا ً كمواد القانون‪ ،‬بل هو تشرٌع ودعوة‬ ‫وتوجٌه وتربٌة وترؼٌب وترهٌب‪ .‬واقرأ فً أحكام الحدود قوله جل شؤنه‪( :‬والسارق والسارقة فاقطعوا‬ ‫أٌدٌهما جزاء بما كسبا نكاالً من هللا‪ ،‬وهللا عزٌز حكٌم‪ ،‬فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن هللا ٌتوب‬ ‫علٌه‪ ،‬إن هللا ؼفور رحٌم‪ ،‬ألم تعلم أن هللا له ملك السموات واألرض يعذب من ٌشاء وٌؽفر لمن ٌشاء‪،‬‬ ‫وهللا على كل شًء قدٌر)‪ .‬هنا نجد كذلك التشرٌع الزاجر‪ ،‬مقرونا ً بالوعد والوعٌد‪ ،‬حامبلً التخوٌؾ‬ ‫والترجٌة‪ ،‬والتوجٌه والتربٌة‪ ،‬مرؼبا ً فً التوبة واإلصبلح‪ ،‬مذكراً بؤسماء هللا الحسنى‪ :‬العزٌز إذا أمر‬ ‫ونهى‪ ،‬الحكٌم فٌما شرع‪ ،‬والؽفور الرحٌم لمن تاب وأصلح‪ .‬مالك الكون‪ ،‬وصاحب الخلق واألمر‪ ،‬وهو‬ ‫على كل شا قدٌر‪ .‬هذا هو سٌاق التشرٌع فً القرآن‪ ،‬ومثله فً السنة‪.‬‬ ‫فلٌس بالتشرٌع وحده ٌبنى المجتمع المسلم‪ ،‬بل ال بد من وسٌلتٌن أخربٌن‪ :‬الدعوة والتوعٌة‪ ،‬ثم التعلٌم‬ ‫والتربٌة ‪ ،‬إلى جوار التشرٌع والقانون‪ ،‬بل قبل التشرٌع والتقنٌن‪.‬‬ ‫ولهذا بدأ اإلسبلم بالمرحلة المكٌة ‪ -‬مرحلة الدعوة والتربٌة ‪ -‬قبل المرحلة المدنٌة‪ ،‬مرحلة التشرٌع‬ ‫والتنظٌم‪ ،‬وفى هذه المرحلة نرى التشرٌع ٌمتزج بالتربٌة أٌضا ً امتزاج الجسم بالروح‪ .‬إن مجرد تؽٌ​ٌر‬ ‫القوانٌن وحده ال ٌصنع المجتمع المسلم‪ .‬إن تؽٌ​ٌر ما باألنفس هو األساس‪ .‬وأعظم ما ٌعٌن على تؽٌ​ٌر‬ ‫ما باألنفس هو اإلٌمان الذي ٌنشا اإلنسان خلقا ً آخر‪ ،‬بما ٌضع له من أهداؾ‪ ،‬وما ٌمنحه من حوافز‬ ‫وضوابط‪ ،‬وما ٌرتبه على عمله من جزاء فً الدنٌا واآلخرة‪ .‬واإلسبلم كل ال ٌتجزأ‪ .‬فإذا أردنا أن‬ ‫نحارب جرٌمة مما شرعت له الحدود‪ ،‬فلٌست محاربتها بإقامة الحد فقط‪ ،‬وال بالتشرٌع فقط‪ ،‬بل الحد‬ ‫هو آخر الخطوات فً طرٌق اإلصبلح‪ .‬إن العقاب إنما هو للمنحرفٌن من الناس‪ ،‬وهإالء لٌسوا هم أال‬ ‫كثرٌن‪ ،‬ولٌسوا هم القاعدة‪ ،‬بل هم الشواذ عن القاعدة‪ .‬واإلسبلم لم ٌجا فقط لعبلج المنحرفٌن‪ ،‬بل‬ ‫لتوجٌه األسوٌاء ووقاٌتهم أن ٌنحرفوا‪ .‬والعقوبة لٌست هً العامل األكبر فً معالجة الجرٌمة فً نظر‬ ‫اإلسبلم‪ ،‬بل الوقاٌة منها بمنع أسبابها هو العامل األكبر‪ ،‬فالوقاٌة دابما خٌر من العبلج‪ .‬فإذا نظرنا إلى‬ ‫جرٌمة كالزنى نجد أن القرآن الكرٌم ذكر فً شؤن عقوبة الحد فٌها آٌة واحدة فً مطلع سورة النور‪،‬‬ ‫وهى قوله تعالى‪ ( :‬الزانٌة والزانً‪ ،‬فاجلدوا كل واحد منهما مابة جلدة‪ ،‬وتؤخذكم بهما رأفة فً دٌن هللا‬ ‫إن كنتم تإمنون باهلل والٌوم اآلخر) ‪ ،‬ولكن السورة نفسها اشتملت على عشرات اآلٌات األخرى التً‬ ‫توجه إلى الوقاٌة من الجرٌمة‪ .‬وحسبنا قوله تعالى‪ ( :‬إن ا لذٌن ٌحبون أن تشٌع الفاحشة فً الذٌن آمنوا‬ ‫لهم عذاب ألٌم فً الدنٌا واآلخرة)‪ .‬وقوله سبحانه فً تنظٌم التزاور وآدابه‪ ،‬واحترام البٌوت ورعاٌة‬ ‫حرماتها‪ٌ ( :‬ا أٌها الذٌن آمنوا ال تدخلوا بٌوتا ً ؼٌر بٌوتكم حتى تستؤنسوا وتسلموا على أهلها‪ ،‬ذلكم خٌر‬ ‫لكم لعلكم تذكرون)‪ .‬و ٌدخل فٌها آداب االستبذان للخدم واألطفال الذٌن لم ٌبلؽوا الحلم‪ٌ ( :‬ا أٌها الذٌن‬ ‫آمنوا لٌستؤذنكم الذٌن ملكت أٌمانكم والذٌن لم ٌبلؽوا الحلم منكم ثبلث مرات‪ ،‬من قبل صبلة الفجر وحٌن‬ ‫تضعون ثٌابكم من الظهٌرة ومن بعد صبلة العشاء‪ ،‬ثبلث عورات لكم)‪ .‬وأهم من ذلك تربٌة المإمنٌن‬ ‫والمإمنات على خلق العفاؾ واإلحصان‪ ،‬بؽض البصر وحفظ الفروج‪ ،‬وذلك فً قوله جل شؤنه‪( :‬قل‬ ‫للمإمنٌن ٌؽضوا من أبصارهم وٌحفظوا فروجهم‪ ،‬ذلك أزكى لهم‪ ،‬إن هللا خبٌر بما ٌصنعون‪ ،‬وقل‬ ‫للمإمنات ٌؽضضن من أبصارهن وٌحفظن فروجهن وال ٌبدٌن زٌنتهن إال ما ظهر منها‪ ،‬ولٌضربن‬ ‫بخمرهن على جٌوبهن …اآلٌة )‪ .‬وهنا برز عنصر جدٌد فً الوقاٌة من الزنا وجرابم الجنس‪ ،‬وهو منع‬ ‫النساء من الظهور بمظهر اإلؼراء والفتنة للرجال‪ ،‬وإثارة ؼرابزهم وأخٌلتهم‪ ،‬حتى جاء فً اآلٌة‬ ‫الكرٌمة قوله تعالى‪ ( :‬وال ٌضربن بؤرجلهن لٌعلم ما ٌخفٌن من زٌنتهن ) ‪ ،‬ثم تختم اآلٌة بقوله سبحانه‪:‬‬ ‫( وتوبوا إلى هللا جمٌعا أٌه المإمنون لعلكم تفلحون )‪.‬‬ ‫ومعنى هذا‪ :‬وجوب تطهٌر المجتمع من أسباب اإلؼراء والفتنة‪ ،‬وسد الذرابع إلى الفساد‪ .‬وأهم من ذلك‬ ‫كله األمر بتزوٌج األٌامى من الرجال والنساء‪ ،‬ومخاطبة المجتمع كله بذلك‪ ،‬باعتباره مسإوالً مسإولٌة‬


‫تضامنٌة‪ ( :‬وأنكحوا األٌامى منكم والصالحٌن من عبادكم وإمابكم‪ ،‬إن ٌكونوا فقراء ٌؽنهم هللا من‬ ‫فضله‪ ،‬وهللا واسع علٌم )‪ .‬ومسإولٌة المجتمع هنا ‪-‬وعلى رأسه الحكام ‪ -‬تتمثل فً تٌسٌر أسباب‬ ‫االرتباط الحبلل‪ ،‬إلى جوار سد أبواب الحرام‪ ،‬وذلك بإزاحة العوابق المادٌة واالجتماعٌه أمام راؼبً‬ ‫الزواج‪ ،‬من ؼبلء المهور‪ ،‬واإلسراؾ فً الهدااٌا والدعوات والوالبم والتؤثٌث‪ ،‬وما ٌتصل بذلك من‬ ‫شإون‪ ،‬ومساعدتهم‪ -‬مادٌا ً وأدبٌا ً ‪ -‬على تكوٌن بٌوت مسلمة‪ .‬فلٌست إقامة الحد إذن هً التً تحل‬ ‫المشكلة‪ ،‬والواقع أن الحد هنا ال ٌمكن أن ٌقام بشروطه الشرعٌة إال فً حالة اإلقرار فً مجلس‬ ‫القضاء‪ ،‬أربع مرات‪ ،‬على ما ٌراه عدد من األبمة‪ ،‬أو شهادة أربعة شهود عدول برإٌة الجرٌمة رإٌة‬ ‫مباشرة أثناء وقوعها‪ ،‬ومن الصعب أن ٌتاح ذلك‪ .‬فكؤن القصد هنا هو منع المجاهرة بالجرٌمة‪ .‬أما من‬ ‫ابتلى بها مستتراً فبل ٌقع تحت طابلة العقاب الدنٌوي وأمره فً اآلخرة إلى هللا سبحانه‪.‬‬

‫من حق المجتمع المسلم أن يحكم بشرع ربه‬ ‫سادسا ً‪ :‬مما ال نزاع فٌه‪ ،‬أن من حق كل مجتمع أن ٌحكم بالتشرٌع الذي ٌإمن بعدالته وتفوقه وسموه‬ ‫على ؼٌره من التشرٌعات‪ .‬وبالنسبة للمجتمع المسلم ٌعتبر ذلك واجبا ً وفرضا ً علٌه‪ ،‬ولٌس مجرد حق‬ ‫له‪ .‬ولهذا ال ٌنبؽً أن ٌنكر أحد على المجتمعات المسلمة الٌوم تنادٌها بتحكٌم التشرٌع اإلسبلمً‪ .‬فهو‬ ‫التشرٌع الفذ الذي ٌعبر عن عقابدها وقٌمها وآدابها وعن نظرتها إلى الكون وخالقه‪ ،‬واإلنسان ومصٌره‪،‬‬ ‫والحٌاة ورسالتها‪ ،‬بخبلؾ القوانٌن الوضعٌة األخرى‪ ،‬التً قد تحل ما ٌحرمه اإلسبلم مثل الخمر‬ ‫والفجور والربا‪ ،‬أو تحرم ما ٌحله مثل الطبلق وتعدد الزوجات‪ ،‬أو تلؽً ما ٌوجبه وٌفرضه مثل إٌتاء‬ ‫الزكاة‪ ،‬وإقامة الحدود‪ ،‬واألمر بالمعروؾ والنهى عن المنكر‪ ،‬أو تبدل بؤحكام هللا ورسوله أحكاما ً أخرى‬ ‫مستوردة من الؽرب أو الشرق‪ .‬صحٌح أن التشرٌعات الوضعٌة الحالٌة ‪ -‬فً كثٌر من ببلد المسلمٌن‬ ‫لٌست كلها منافٌة للشرٌعة اإلسبلمٌة‪ ،‬بل إن كثٌراً منها ‪ -‬كما ٌعرؾ الدارسون ‪ -‬اقتبس أساسا ً من الفقه‬ ‫اإلسبلمً‪ ،‬وال سٌما الفقه المالكً‪ .‬ولكن ٌجدر فً أن أنبه هنا على أمور أساسٌة ‪:‬‬ ‫أولها‪ :‬أن األشٌاء التً تخالؾ فٌها القوانٌن الوضعٌة األحكام الشرعٌة وان لم تكن كبٌرة فً مساحتها‬ ‫وكمها ‪ -‬هً فً ؼاٌة األهمٌة بالنظر إلى نوعها وكٌفها ووظٌفتها‪ .‬مثل تحرٌم الربا ‪ -‬فً القانون المدنً‬ ‫ الذي شدد القرآن وشددت السنة فً وعٌد من ارتكبه‪ ،‬ومثل إقامة الحدود على جرابم معٌنة قدر لها‬‫الشرع عقوبات منصوصا علٌها حقا له تعالى‪ .‬وذلك ألن هذه األحكام وأشباهها هً التً تمٌز حضارة‬ ‫عن حضارة وأمة عن أمة‪ .‬فتحرٌم الربا ‪ -‬كإٌتاء الزكاة ‪ -‬من أبرز ما ٌمٌز نظاما اقتصادٌا عن آخر‪،‬‬ ‫وهما بالفعل من أخص خصابص االقتصاد اإلسبلمً‪ .‬وتحرٌم الزنا والفاحشة ما ظهر منها وما بطن‪،‬‬ ‫وكل ما ٌإدى إلى ذلك‪ ،‬وتقرٌر العقوبة علٌه‪ ،‬ومثله تحرٌم المسكرات‪ :‬تعاطٌا ً واتحاراً وصنعاً‪ ،‬وإٌجاب‬ ‫العقوبة علٌها … إلى ؼٌر ذلك مما جاءت الحدود عقابا ً علٌه مما ٌمٌز الحضارة اإلسبلمٌة عن ؼٌرها‬ ‫من الحضارات التً ال ترى بؤسا ً فً إباحة الزنا ما دام بالتراضً وإباحة الشذوذ الجنسً‪ ،‬برؼم منافاته‬ ‫للفطرة السوٌة‪ ،‬وللرجولة الكرٌمة‪ ،‬وجوره على الجنس اآلخر‪ .‬وكذلك إباحة الخمور والمسكرات‪ ،‬مع‬ ‫ما ثبت بالقطع من أضرارها المادٌة والمعنوٌة على الفرد وعلى األسرة وعلى المجتمع‪.‬‬ ‫ثانٌها‪ :‬أنه ال ٌكفى أن تكون القوانٌن الوضعٌة متفقة مع أحكام الشرٌعة اإلسبلمٌة‪ .‬ألن مجرد هذا‬ ‫االتفاق ‪ -‬بالمصادفة ‪ -‬ال ٌمنح ها الصبؽة اإلسبلمٌة‪ ،‬ال ٌضفً علٌها الشرٌعة اإلسبلمٌة‪ .‬إنما الواجب أن‬


‫ترد إلى الشرٌعة‪ ،‬وتنطلق منها‪ ،‬بحٌث ترتبط بالفلسفة العامة لئلسبلم‪ ،‬وبالمقاصد الكلٌة للشرٌعة‪،‬‬ ‫وتستند إلى األدلة الشرعٌة الجزبٌة فً مختلؾ مواد األحكام فً شتى القوانٌن‪ ،‬وفق األصول المرعٌة‬ ‫عند فقهاء المسلمٌن جمٌعا ً‪ .‬وبهذا ٌكون لهذه القوانٌن شرعٌتها وقدسٌتها لدى الفرد المسلم‪ ،‬والمجتمع‬ ‫المسلم‪ ،‬وٌنقاد لها طواعٌة واختٌاراً‪ ،‬ألنه ٌتعبد له تبارك وتعالى بقبولها والخضوع لها‪ .‬فخضوعه لها‬ ‫لٌس خضوعا ً لبرلمان وضعها‪ ،‬وال لحكومة قررتها‪ ،‬بل هو طاعة هلل الذي شرعها لخٌر عباده‪ ،‬وانقٌاده‬ ‫لها تجسٌد إلٌمانه ورضاه بحكم هللا ورسوله‪ ( :‬إنما كان قول المإمنٌن منٌن إذا دعوا إلى هللا ورسوله‬ ‫لٌحكم بٌنهم أن ٌقولوا سمعنا وأطعنا‪ ،‬وأولبك هم المفلحون) وفرق كبٌر بٌن التزام المسلم بموجب العقد‬ ‫بناء على النظرٌة الفبلنٌة أو أن الفٌلسوؾ الفبلنً ٌقول‪ :‬إن العقد شرٌعة المتعاقدٌن‪ ،‬وبٌن التزامه بذلك‬ ‫ألن هللا تعالى ٌقول‪ٌ ( :‬ا أٌها الذٌن آمنوا أوفوا بالعقود)‪(.‬وافوا بالعهد‪ ،‬إن العهد كان مسإوالً) ولقد قٌل‬ ‫لؤلستاذ حسن الهضٌبى المرشد الثانً لئلخوان المسلمٌن ٌوما ً‪ :‬لماذا تشددون النكٌر على القوانٌن‬ ‫الوضعٌة‪ ،‬مع أنها ‪ -‬فً معظمها ‪ -‬شبٌهة باألحكام الشرعٌة ؟ فكان جوابه‪ :‬ألننا مطالبون باألحكام‬ ‫الشرعٌة ال بما ٌشهها‪ ،‬وقد قال تعالى‪ ( :‬وأن احكم بما أنزل هللا)‪.‬‬ ‫ثالثها‪ :‬أن الشرٌعة اإلسبلمٌة كل ال ٌتجزأ‪ ،‬وال ٌجوز أخذ بعضها وترك بعضها‪ ،‬ولو كان هذا المتروك‬ ‫‪0‬ا‪ %‬أو ‪ %5‬أو حتى‪ %1‬أو واحدا فً األلؾ‪.‬‬ ‫فقد قال هللا تعالى لرسوله‪ ( :‬وأن احكم بٌنهم بما أنزل هللا وال تتبع أهواءهم واحذرهم أن ٌفتنوك عن‬ ‫بعض ما أنزل هللا إلٌك ) ‪ ،‬وذلك ألن الذي ٌتنازل عن البعض القلٌل ٌوشك أن ٌتنازل عن الجل‪ ،‬بل عن‬ ‫الكل ! ومن تم أنكر القرآن أبلػ اإلنكار على بنى إسرابٌل فً تجزبتهم للدٌن‪ ،‬وأخذهم لبعض أحكام‬ ‫كتابهم وإعراضهم عن البعض اآلخر‪ ،‬فقال تعالى مقرعا ً لهم‪ ( :‬أفتإمنون ببعض الكتاب وتكفرون‬ ‫ببعض‪،‬فما جزاء من ٌفعل ذلك منكم إال خزي فً الحٌاة الدنٌا‪ ،‬وٌوم القٌامة ٌردون إلى أشد العذب‪ ،‬وما‬ ‫هللا بؽافل عما تعملون)‪ .‬وكما ال ٌقبل من مسلم أن ٌرفض شٌبا ‪ -‬مهما ق ّل ‪ -‬من القرآن الكرٌم‪ ،‬وٌعتبر‬ ‫بذلك كافراً‪ ،‬فكذلك ال ٌقبل منه أن ٌرفض أي حكم قطعً ثابت من أحكام الشرٌعة مما علم من الدٌن‬ ‫بالضرورة‪ ،‬ورفضه لهذا ٌعتبر كفراً باإلسبلم ٌخرجه من الملة‪ ،‬وٌعزله عن األمة‪ ،‬وٌستحق به عقوبة‬ ‫الردة‪ ،‬ألنه ٌتضمن استدراكا ً على هللا تعالى وتعالما ً من العبد على ربه‪ ،‬واتهاما ً له سبحانه بقصور علمه‬ ‫وحكمته أو بقصور جوده رحمته‪ ،‬تعالى هللا عما ٌقولون علواً كبٌراً‪.‬‬ ‫رابعها‪ :‬أن الببلد اإلسبلمٌة تتفاوت تفاوتا ً بعٌداً فً موقفها من التشرٌع اإلسبلمً‪ .‬فهناك من ٌلتزم‬ ‫بتحكٌم الشرٌعة من ناحٌة المبدأ‪ ،‬وإن كان علٌه مآخذ تكثر أو تقل من ناحٌة التطبٌق‪ .‬وهناك من حاول‬ ‫أن ٌستمد قانونه المدنً من رحاب الشرٌعة وفقهها الرحب‪ ،‬ولكن بقً قانونه الجزابً ؼربٌا ً وضعٌا ً‪.‬‬ ‫وهناك من اجترأوا على قوانٌن األسرة أو األحوال الشخصٌة‪ ،‬وهى المنطقة التً بقٌت خالصة للشرٌعة‬ ‫فً أكثر األقطار المسلمة‪ ،‬حتى وجدنا بلداً عربٌا ً ٌبٌح الزنى وال ٌعاقب علٌه ما دام بالتراض‪ ،‬فى حٌن‬ ‫ٌعتبر الزواج من أخرى جرٌمة تستحق العقاب‪ .‬وهذا ما جعل أحد األذكٌاء فً ذلك البلد العربً فً‬ ‫شمال إفرٌقٌة ‪ -‬وقد تزوج امرأة ثانٌة زواجا ً شرعٌاً‪ ،‬ؼٌر موثق قانونٌا ً بطبٌعة الحال‪ ،‬حٌن ضبط فً‬ ‫بٌت تلك الزوجة‪ :‬أن ٌقول‪ :‬إنها عشٌقتً ! فلم ٌسعهم إال أن ٌطلقوا سراحه متؤسفٌن‪ ،‬فقد كانوا ٌظنونها‬ ‫زوجة له !‬ ‫وقد جعل ذلك البلد الطبلق بٌد المرأة‪ ،‬وؼٌّر قانون العقوبات‪ ،‬فً شؤن من وجد امرأته تخونه فً بٌت‬ ‫الزوجٌة‪ ،‬ووجد معها رجبلً أجنبٌا ً فً فراشه‪ ،‬فؤخذته الؽٌرة وقتله‪ .‬فقد كان ٌحكم علٌه قدٌما ً بخمس‬ ‫سنوات‪ ،‬مراعاة لظروفه‪ ،‬فؽٌرت العقوبة إلى الحكم باإلعدام‪.‬‬


‫تحكيم الشريعة يجسد أصالتنا وتحررنا‬ ‫سابعا ً‪ :‬إذا كان التشرٌع عندنا نحن المسلمٌن جزءاً ال ٌتجزأ من دٌننا‪ ،‬فبل ٌتم إٌماننا إال بالحكم به‬ ‫واالحتكام إلٌه‪ ،‬وال خٌار لنا فً ذلك بعد التزامنا باإلسبلم‪ ،‬والرضا به دٌنا ً وشرعة ومنهاجا ً‪ ( :‬وما كان‬ ‫لمإمن وال مإمنة إذا قضى هللا ورسوله أمراً أن ٌكون لهم الخٌرة من أمرهم‪ ،‬ومن ٌعص هللا ورسوله‬ ‫فقد ضل ضبلالً مبٌنا ً‪ .‬فإن تحكٌم الشرٌعة فٌه معنى آخر ٌتصل بؤصالتنا وقومٌتنا‪ ،‬فالقوانٌن الوضعٌة‬ ‫التً نحكم بمقتضاها فً ببلدنا العربٌة واإلسبلمٌة‪ ،‬قوانٌن أجنبٌة عنا دخٌلة علٌنا‪ ،‬لم تنبت فً أرضنا‪،‬‬ ‫ولم تستمد أحكامها من عقابدنا وقٌمنا وأعرافنا ومسلماتنا‪ .‬ولهذا أحلت ما نعتقده حراماً‪ ،‬وحرمت ما‬ ‫نعتقده حبلالً‪ ،‬وأسقطت ما نعتقده واجبا ً‪ .‬والعودة إلى أحكام الشرٌعة تعنً التحرر من بقاٌا االستعمار‬ ‫فً المجال التشرٌعً‪ ،‬والرجوع إلى منابعنا األصٌلة‪ ،‬نستقً منها ما ال نصلح بؽٌره‪ ،‬ألن فٌه هداٌة‬ ‫ربنا‪ ،‬وأصالة تراثنا‪ ،‬المتجاوب مع أنفسنا وتطلعاتنا‪ ،‬والمعبر عن حقٌقة اتجاهنا‪ ،‬والمحقق ألهدافنا‬ ‫وحاجتنا‪ .‬لقد كان دخول القوانٌن الوضعٌة إلى ببلدنا‪ ،‬أشبه بدخول الٌهود إلى فلسطٌننا‪ ،‬بدأ تسلبلً خفٌا‪ً،‬‬ ‫ثم انتهى اؼتصابا ً علنٌا ً‪ .‬إن الذي ٌقرأ كٌؾ دخل القانون الوضعً إلى بلد كمصر‪ ،‬سبق ؼٌره فً ذلك‬ ‫لٌؤخذه العجب كل العجب‪ .‬كٌؾ تم ذلك العدوان فً بساطة تثٌر ؼضب الحلٌم‪ .‬وحسبك أن هذا القانون‬ ‫وضعه شخص ال تتعدى ثقافته العلمٌة أو المهنٌة درجة المتوسط‪ .‬وهو محام أرمنً أتمه فً وقت أقل‬ ‫مما ٌستؽرقه وضع كتاب صؽٌر جداً‪ .‬والحقٌقة أنه لم ٌضع قانوناً‪ ،‬بل نقله بجملته نقبلً حرفٌاً‪ ،‬كما قال‬ ‫األستاذ ( مسٌنا ) أحد المستشارٌن اإلٌطالٌ​ٌن فً المحاكم المختلطة فً مصر‪ .‬وقد وصؾ هذه القوانٌن‬ ‫بؤنها‪( :‬م جمعة من هنا وهناك على ؼٌر أصول وضع القوانٌن وفقا ً لحاجات الجماعة ومصالحها)‪.‬‬ ‫وٌقول (مسٌنا)‪ ( :‬وإن شبح زعٌم المدرسة التارٌخٌة ( سافٌنً ) لترتعد فرابصه من تصور استٌراد أو‬ ‫اقتراض أمة لتشرٌعاتها )‪ .‬ولكن هذه القوانٌن استوردت أو اقترضت دون حاجة إلٌها‪ ،‬وال طلب لها‪،‬‬ ‫وال رؼبة فٌها‪ ،‬ودون أن تستشار األمة فً شؤنها‪ ،‬كؤن األمر ال ٌخصها وال ٌتعلق بحٌاتها‪ .‬وما كان‬ ‫لهذه القوانٌن أن تدخل وتبقى‪ ،‬لوال أن االحتبلل هو الذي أدخلها وحماها‪ ،‬بؤسنة رماحه‪ .‬والٌوم تطالب‬ ‫ها‪ ،‬وهو أمر نادى به كبار رجال‬ ‫الشعوب العربٌة واإلسبلمٌة بإكمال استقبللها بالعودة إلى أحكام شرٌعت‬ ‫القانون الوضعً نفسه‪ ،‬الذٌن أتٌح لهم أن ٌدرسوا فقه الشرٌعة‪ ،‬وٌطلعوا على بعض كنوزه وأسراره‪.‬‬ ‫ومن أبرز هإالء عبلمة القانونٌ​ٌن العرب الدكتور عبد الرزاق السنهوري‪ ،‬الذي أشاد بقٌمة الفقه‬ ‫اإلسبلمً وأصالته وؼناه فً أكثر من كتاب وأكثر م ن مناسبة‪ ،‬وخصوصا ً فً المراحل األخٌرة من‬ ‫عمره‪ ،‬بعد أن تعمق أكثر فً قراءة مصادر الفقه‪ ،‬و كتابه الشهٌر (مصادر الحق فً الفقه اإلسبلمً)‬ ‫ففً محاضرة له نشرتها األهرام فً (‪ٌ ) 1937/1/1‬قول‪ ( .‬وإنً زعٌم لكم بؤن تجدوا فً ذخابر‬ ‫الشرٌعة اإلسبلمٌة من المبادئ والنظرٌات م ا ال ٌقل فً رقى الصٌاؼة وفً إحكام المصنعة‪ ،‬عن أحدث‬ ‫المبادئ والنظرٌات وأكثرها تقدما ً فً الفقه العالمً)‪.‬‬


‫الشريعة بمعناها الواسع ال مذهب بعينه‬ ‫ثامنا ً ‪ :‬إن التشرٌع اإلسبلمً المنشود‪ ،‬ال ٌعنٌفقه مذهب من المذاهب فً عصر من العصور‪ ،‬إنما ٌعنً‬ ‫القواعد واألحكام األساسٌة التً قررها القرآن والسنة‪ ،‬ونشؤ فً رحابها فقه خصب‪ ،‬منذ عهد الصحابة‬ ‫فمن بعدهم‪ ،‬سجلته كتب المذاهب المختلفة‪ ،‬وكتب السنن واآلثار والفقه المقارن‪.‬‬ ‫وهذ ه الثروة الهابلة من االجتهادات أساس قوي ال ٌستهان به‪ ،‬وال ٌستؽنى عنه ألي اجتهاد معاصر‬ ‫قوٌم‪ ،‬وال ٌقبل أن ٌبدأ اجتهاد جدٌد من المصفر‪ ،‬ودون أن ٌبنى البلحق على السابق‪ ،‬ولكن جزبٌات هذا‬ ‫الفقه لٌست ملزمة لنا إال بمقدار ما ٌسندها من أدلة الشرع المحكمة‪ ،‬نصوصا ً وقواعد‪ .‬ومن القواعد‬ ‫المقررة التً لم تعد موضع خبلؾ ‪ -‬من الناحٌة النظرٌة على األقل ‪ -‬أن الفتوى تتؽٌر بتؽٌر الزمان‬ ‫والمكان والحال والعرؾ‪ ،‬كما أكد ذلك _عدد من المحققٌن من علماء المذاهب المتبوعة‪ ،‬من أمثال‪:‬‬ ‫القرافً وابن القٌم وابن عابدٌن‪ .‬ولهذه القاعدة أدلتها من القرآن والسنة وهدى الصحابة وعمل السلؾ‬ ‫ولها تطبٌقاتها الكثٌرة فً عصرنا‪ ،‬كما فً مسؤلة أقصى مدة الحمل‪ ،‬واختبلؾ الفقهاء فٌه‪ ،‬حتى‬ ‫أوصلها بعضهم إلى أربع سنوات‪ ،‬بل خمس‪ ،‬بل سبع ! وذلك أنهم لم ٌكونوا ٌعرفون عن ( الحمل‬ ‫الكاذب ) الذي له أعراض الحمل الصحٌح‪ .‬ومن ثم ال ٌجوز أن نحجر على أنفسنا واسعاً‪ ،‬فنلتزم‬ ‫بمذهب واحد فً كل شإونا‪ .‬وقد ٌكون هذا المذهب ضعٌؾ الحجة فً بعض القضاٌا‪ ،‬أو ال ٌحقق‬ ‫مقاصد الشرع ومصالح الخلق‪ .‬فبل جناح علٌنا أن ندعه إلى ساحة المذاهب األخرى‪ ،‬وساحة الشرٌعة‬ ‫الكبرى‪ .‬كما فً قضاٌا مثل‪ :‬اإللزام بالوعد‪ ،‬بٌع المرابحة‪ ،‬زكاة الخارج من األرض‪ ،‬زكاة المستؽبلت‪،‬‬ ‫الحلؾ بالطبلق‪ ،‬طبلق السكران والؽضبان‪ ،‬طبلق الثبلث فً لفظة واحدة‪ .‬أقصى مدة الحمل‪.‬‬

‫البد من اجتهاد معاصر منضبط‬ ‫تاسعا ً‪ :‬إن التشرٌع اإلسبلمً المنشود هو الذي ٌقوم على أساس اجتهاد عصري سلٌم‪ ،‬سواء أكان‬ ‫اجتهاداً انتقابٌا ً أم إنشابٌا ً‪ .‬وقد تحدثت عن معالم هذا االجتهاد وضوابطه فً مجال آخر‪ .‬ولكن ال بد لً‬ ‫أن أحذر ها من فبتٌن من الناس‪ :‬فبة الذٌن ٌرٌدون أن ٌطوعوا اإلسبلم للعصر‪ ،‬وٌجعلوه عجنٌة لٌنة‬ ‫قابلة للتشكٌل فً أي صورة‪ ،‬وال ٌرٌدون أن ٌتفقوا عند قرآن وال سنة وال إجماع وال قٌاس‪ ،‬كالذٌن‬ ‫ٌحاولون الٌوم تحلٌل فوابد البنوك مع اتفاق كل المجامع والمإتمرات العلمٌة اإلسبلمٌة على تحرٌمها‪.‬‬ ‫وفبة الذٌن ٌرٌدون أن ٌجمدوا اإلسبلم فً قوالب حجرٌة‪ ،‬صنعتها عقول من قبلنا مناسبة لزمانهم‪ ،‬ولم‬ ‫تعد مناسبة لزماننا‪ .‬وهإالء نوعان‪:‬‬ ‫‪ .1‬مذهبٌون مقلدون متعصبون لمذاهبهم ال ٌرون الخروج منها قٌد شعرة‪ ،‬وخصوصا ً أقوال‬ ‫المتؤخرٌن‪.‬‬ ‫‪ .2‬ال مذهبٌون حرفٌون‪ ،‬ممن اسمٌهم ( الظاهرٌة الجدد )‪.‬‬ ‫وهإالء وأولبك هم الذٌن ٌشهرون سٌؾ اإلرهاب على كل عالم رأى رأٌا جدٌا ً أو مخالفا ً لمن كان قبله‪،‬‬ ‫وان كان من كبار العلماء‪ ،‬وأساطٌن الشٌوخ‪ ،‬الذٌن قضوا أعمارهم سباحٌن وؼواصٌن فً بحار العلوم‬


‫اإلسبلمٌة‪ ،‬وكان لهم إنتاجهم وشهرتهم التً طبقت اآلفاق‪.‬‬ ‫وأذكر أن فقٌها ً مثل الشٌخ اإلمام محمد أبو زهرة رحمه هللا وقؾ فً إحدى الندوات ٌعلن عن رأى‬ ‫فقهً جدٌد له‪ ،‬قال‪ :‬إنً كتمته منذ عشرٌن عاما ً أو أكثر‪ ،‬واآلن أبرئ ذمتً‪ ،‬وأبوح به‪ .‬ولٌس المهم أن‬ ‫ٌكون رأٌه هذا صوابا ً أو خطؤً‪ ،‬إنما المهم هنا والمإلم حقا ً‪ :‬أن ٌكتم هذا العالم الكبٌر رأٌه‪ ،‬وٌخفً‬ ‫اجتهاده عشرٌن عاماً‪ ،‬وال ٌجد الفرصة أو الجرأة‪ ،‬لٌكتبه تحرٌراً‪ ،‬أو ٌلقٌه شفاهاً‪ ،‬خشٌة من هٌاج‬ ‫الهابجٌن‪ ،‬وتطاول المتطاولٌن‪ ،‬الذٌن ٌملكون النصال الحادة‪ ،‬والسهام الجارحة‪ ،‬وٌصوبونها بسرعة‬ ‫البرق إلى كل ذي رأي ٌخالؾ ما ألؽوه ! وبهذا تموت اآلراء فً صدور أصحابها‪ ،‬وال تعرؾ إلى‬ ‫الظهور سبٌبلً‪.‬‬ ‫اجتهاد ال فوضى‪ ،‬وتجديد ال تبديد‪:‬‬ ‫إن الدعوة إلى االجتهاد لعصرنا ال تعنً الفوضى‪ ،‬وفتح الباب على مصراعٌه لكل مدع متطاول‪ ،‬وإن‬ ‫لم ٌحصل شروط االجتهاد األساسٌة‪ .‬إن بعض دعاة (التجدٌد) أو (التطور)‪ٌ ،‬رٌدون أن ٌطوروا‬ ‫اإلسبلم ذاته حتى ٌوافق أهواءهم (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات واألرض ومن فٌهن) ‪،‬‬ ‫وأهواإهم إنما كونتها المعارؾ التً تسولوها من موابد الثقافة الؽربٌة‪ ،‬مع معرفة ضحلة أو مشوشة‬ ‫باإلسبلم‪ ،‬أو جهل مطبق به فً بعض األحٌان‪ .‬فهم لهذا ال ٌفرقون بٌن الجانب الذي له صفة الثبات‬ ‫والخلود فً أحكام اإلسبلم وتوجٌهاته‪ ،‬والجانب المرن المتطور الذي ٌتؽٌر بتؽٌر الزمان والمكان‬ ‫والحال‪ .‬فهم ٌنقدون الفقه وٌعتبرونه مجرد وجهة نظر تمثل رأى شخص معٌن فً بٌبة معٌنة فً عصر‬ ‫ؼٌرت األشخاص كان الواجب علٌهم أن ٌنشبوا فقها ً جدٌدا‬ ‫معٌن‪ .‬فإذا تؽٌر العصر‪ ،‬وتؽٌرت البٌبة‪ ،‬وت‬ ‫ٌمثلهم وبعبر عنهم زمانا ً ومكانا ً وحاالً‪.‬‬ ‫وهذا صحٌح بالنظر إلى جزبٌات األقوال واآلراء التً قال بها الفقهاء فً شتى مجاالت االجتهاد‪ .‬ولكنه‬ ‫لٌس صحٌحا ً بالنسبة إلى مجموع الفقه‪ ،‬الذي ٌمثل ثروة تشرٌعٌة ضخمة شاركت فً إنشابها وتنمٌتها‬ ‫شوامخ العقول اإلسبلمٌة‪ ،‬ابتداء من الصحابة فمن بعدهم على توالى القرون‪ ،‬مهتدٌن بالقرآن الكرٌم‬ ‫والسنة المطهرة‪.‬‬ ‫وال أعرؾ ‪ -‬وال أحسب أحداً ٌعرؾ ‪ -‬أمة من األمم طرحت تراثها القانونً الوضعً وراءها ظهرٌاً‪،‬‬ ‫وبدأت من الصفر تشرع لٌومها وؼدها‪ ،‬دون أن تستفٌد من روابع أمسها‪ ،‬فكٌؾ بتراث فقهً أساسه‬ ‫ربانً ؟‪ :‬ولو أننا سلمنا لهإالء‪ ،‬فٌما ٌتعلق بالفقه والفقهاء‪،‬وجدناهم ٌقفزون قفزة أخرى‪ٌ ،‬ردون بها‬ ‫رفض السنة النبوٌة‪ ،‬التً هً بٌان القرآن النظري وشرحه العملً‪ ،‬وقد أوجب هللا طاعته وطاعة‬ ‫رسوله جمٌعا ً‪ ( :‬قل أطٌعوا هللا وأطٌعوا الرسول )‪،‬وجعل طاعة رسوله من طاعته‪( :‬من ٌطع الرسول‬ ‫فقد أطاع هللا)‪ .‬وال عجب أن نجد فٌهم من ٌدعو إلى االكتفاء بالقرآن‪ ،‬وإلؽاء السنة كلها ! أو من ٌدعو‬ ‫إلى األخذ بالسنة المتواترة‪ ،‬وٌلؽً سنن اآلحاد‪ ،‬وهً جمهرة السنة‪ .‬أو من ٌدعو إلى األخذ بالسنة‬ ‫العملٌة‪ ،‬وإخراج األحادٌث القولٌة‪ ،‬وعلٌها مدار السنة ‪ .‬وجهل هإالء أنهم بهذا ٌخالفون القرآن نفسه‪،‬‬ ‫وٌخرجون عن إجماع األمة‪ ،‬وٌنكرون العلوم من الدٌن بالضرورة‪ .‬فإذا تنازلنا لهإالء ‪ -‬على سبٌل‬ ‫االفتراض ‪ -‬وقبلنا كبلمهم المردود عن السنة‪ ،‬فسرعان ما نجدهم ٌخطون خطوة أخرى أجرأ وأوقح‪،‬‬ ‫وهً التطاول على القرآن نفسه‪ ،‬وعلى أحكام القرآن الثابتة القطعٌة‪.‬‬ ‫وال ؼرو أن نجد منهم من ٌكتب ‪ -‬ببل وجل وال خجل ‪ٌ -‬رٌد أن ٌعطل الحدود وٌعطل األوامر‪ ،‬وٌحل‬ ‫الحرام‪ ،‬وٌحرم الحبلل‪ ،‬كل ذلك بدعوى التطور والتجدٌد والمحافظة على روح اإلسبلم ال شكله !‪ .‬إن‬ ‫واحداً من هإالء القوالٌن المتقولٌن ‪ -‬ممن فتحت لهم بعض الصحؾ والمجبلت ذراعٌها لٌكتب ما ٌشاء‬ ‫ ٌقول فً تبجح‪ ( :‬إن القرآن لم ٌنزل لتنظٌم عصر الفضاء ! بل لتنظٌم مجتمع بدابً جاهلً ) إنه ٌتهم‬‫هللا الجلٌل بقصور العلم‪ ،‬وإنه لم ٌكن ٌعلم ماذا تكون علٌه مخلوقاته بعد مدة من الزمن‪ .‬وآخر ٌقول‪:‬‬ ‫(إن آٌة‪( :‬والسارق والسارقة فاقطعوا أٌدٌهما ) إنما نزلت لردع من ٌسرق ناقة العربً فً صحراء‬ ‫الجزٌرة‪ ،‬وفٌها كل متاعه وحٌاته !! ولو كان عند هذا المدعى شا من المعرفة بتارٌخ العرب فً عصر‬ ‫النبوة لعلم أن النوق لم تكن تسرق فً ذلك العهد‪ ،‬بل كانت تترك وال تلتقط إذا وجدت فً البرٌة‪ ،‬فمعها‬


‫حذاإها وسقاإها‪ .‬وحوادث السرقة التً ثبتت فً ذلك العصر لم ٌكن واحد منها متعلقا ً بسرقة ناقة أو‬ ‫جمل ! نحن ندعو إلى االجتهاد ال الفوضى‪ ،‬وإلى التجدٌد ال التبدٌد ! إلى فقه األصبلء‪ ،‬ال تطاول‬ ‫األدعٌاء‪.‬‬

‫اإلسالم ليس مادة هالمية‬ ‫عاشراً‪ :‬إن األصول العامة التً ندعو إلٌها واضحة بٌنة‪ ،‬حددنا معالمها فً مباحث وكتب أخرى‪ .‬ولقد‬ ‫أوهم بعض الذٌن كتبوا مشككٌن أو معارضٌن للدعوة إلى تطبٌق الشرٌعة‪ ،‬أوهموا أن الشرٌعة المدعو‬ ‫إلى تطبٌقها مادة ( هبلمٌة ) رجراجة ؼٌر محددة وال منضبطة‪ٌ ،‬ستطٌع كل حاكم أو كل فرٌق أن‬ ‫ٌفسرها كما ٌشاء‪ .‬حتى وجدنا من ٌقول‪ :‬أي إسبلم تدعوننا إلٌه‪ ،‬وتطالبوننا بتحكٌمه ؟ فقد رأٌنا اإلسبلم‬ ‫الذي ادعى بعض الحكام تطبٌقه الٌوم ٌختلؾ من بلد إلى آخر‪ .‬فهناك إسبلم السودان‪ ،‬وإسبلم إٌران‪،‬‬ ‫وإسبلم باكستان‪ ،‬وإسبلم لٌبٌا !! أو كما عبر أحدهم بصراحة‪ :‬إسبلم النمٌري‪ ،‬أم إسبلم الخمٌنً‪ ،‬أم‬ ‫إسبلم ضٌاء الحق‪ ،‬أم إسبلم القذافً؟ ونقول لهإالء‪ :‬إن اإلسبلم هو اإلسبلم‪ ،‬ؼٌر مضاؾ إلى أحد إال‬ ‫إلى من شرعه أو من بلؽه‪ .‬فهو إسبلم القرآن والسنة‪ ،‬وال ٌرتبط باسم شخص إال باسم محمد (صلى هللا‬ ‫علٌه وسلم) الذي بعثه هللا بشٌرً ونذٌراً‪ ،‬وداعٌا ً إلى هللا بإذنه وسراجا ً منٌراً‪ .‬ومهما اختلفت التفسٌرات‪،‬‬ ‫أو اختلفت التطبٌقات لشرٌعة اإلسبلم‪ ،‬فستظل هناك دابرة ؼٌر ضٌقة وال هٌنة‪ ،‬تمثل الوحدة االعتقادٌة‬ ‫والفكرٌة والشعورٌة والسلوكٌة لؤلمة‪ .‬تلك هً دابرة ( القطعٌات ) التً أجمعت علٌها األمة فكراً‬ ‫وعمبلً‪ ،‬ورسخت فً عقولها وقلوبها وحٌاتها على امتداد القرون األربعة عشر‪ ،‬التً قطعتها هذه األمة ‪.‬‬ ‫هناك قطعٌات فً العقٌدة والفكر ‪ ..‬وقطعٌات فً العبادة والشعابر‪ ،‬وقطعٌات فً الشرٌعة والنظم‪،‬‬ ‫وقطعٌات فً األخبلق واآلداب ‪ ..‬وكلها مما ال ٌختلؾ فٌه اثنان‪ ،‬وال ٌنتطح فٌها عنزان‪ ،‬كما ٌقولون‪.‬‬ ‫وهذه القطعٌات وحدها هً أساس التشرٌع‪ ،‬ومحوره‪ ،‬وهى التً تحدد االتجاه واألهداؾ‪ ،‬وترسم النهج‬ ‫والطرٌق‪ ،‬وتمٌز المبلمح والقسمات‪ .‬وأما ما عدا القطعٌات من أحكام وأنظمة‪ ،‬فهو لم ٌترك لعبث‬ ‫األهواء المتسلطة‪ ،‬أو شطحات األفكار الجامحة‪ ،‬أو الستبداد السلطات المتحكمة‪ ،‬تفهمه كما ترٌد‪،‬‬ ‫وتفسره كما ٌحلو لها‪ ،‬دون أصل تستند إلٌه‪ ،‬وال برهان تعول علٌه‪ .‬كبل ‪ ..‬بل هناك ( أصول ) و (‬ ‫قواعد ) وضعها أبمة اإلسبلم‪ ،‬لبلستٌثاق من ثبوت النص الشرعً أوالً‪ ،‬ثم لفهم داللته ثانٌا ً‪ ،‬ثم‬ ‫لبلستنباط فٌما ال نص فٌه ثالثا ً‪.‬‬ ‫ومن ثم وجد علم أصول الفقه‪ ،‬وقواعد الفقه‪ ،‬وأصول الحدٌث‪ ،‬وأصول التفسٌر‪ ،‬ونحوها من المعٌنات‬ ‫البلزمة للفهم واالستنباط‪ .‬وال بؤس أن تتعدد المدارس فً الفهم واالستنباط‪ ،‬على أن ٌقوم ذلك على‬ ‫أصول منهجٌة علمٌة مبنٌة على الدلٌل‪ ،‬ال على الهوى أو التقلٌد‪ .‬وربما كان هذا الخبلؾ مصدر إثراء‬ ‫للفكر اإلسبلمً‪ ،‬والعمل اإلسبلمً‪ ،‬إذا وضع فً إطاره الصحًح‪.‬‬

‫سنة التدرج‬ ‫حادي عشر‪ :‬إن التدرج سنة من سنن هللا فً خلقه‪ ،‬وشرعه‪ ،‬فقد خلق اإلنسان أطواراً‪ :‬علقة‪ ،‬فمضؽة‪،‬‬ ‫فعظاما ً …‪ .‬إلخ ‪ ,‬وخلق الدنٌا فً ستة أٌام‪ ،‬هللا أعلم بكل ٌوم منها كم هو؟ كما أنه فرض الفرابض‬ ‫وحرم المحرمات على مراحل‪ ،‬وفق سنة التدرج‪ ،‬مراعاة لضعؾ البشر ورحمة بهم‪ .‬والشرٌعة قد‬ ‫اكتملت ببل شك‪ ،‬ولكن تطبٌقها فً عصرنا ٌحتاج إلى تهًبة وإعداد لتحوٌل المجتمع إلى االلتزام‬ ‫اإلسبلمً الصحٌح‪ ،‬بعد عصر االؼتراب والتؽرٌب‪ .‬وقد تم بعض هذا فً بعض الببلد‪ ،‬وبقً بعض‪،‬‬


‫وهو ٌحتاج إلى بذل الجهود‪ ،‬إلزالة العوابق‪ ،‬ومنع الهزات‪ ،‬وإٌجاد البدابل‪ ،‬وتربٌة طبلبع المنفذٌن‬ ‫الثقات‪ ،‬الذٌن ٌجمعون بٌن القوة واألمانة‪ ،‬واجتماعهما فً الناس قلٌل‪ ،‬طالما شكا منه األقدمون حتى‬ ‫قال عمر‪ ( :‬اللهم إنً أشكو إلٌك عجز الثقة وجلد الفاجر)‪ .‬ولهذا ال مانع من التدرج فً التطبٌق‪ ،‬رعاٌة‬ ‫لحال الناس‪ ،‬واتباعا ً للتوجٌه النبوي الكرٌم‪ ( :‬إن هللا ٌحب الرفق فً األمر كله ) ‪ ،‬وكما نهج ذلك‬ ‫الخلٌفة الراشد عمر بن عبد العزٌز رضً هللا عنه‪ .‬فقد روى المإرخون عن عمر بن عبد العزٌز‪ :‬أن‬ ‫ابنه عبد الملك ‪ -‬وكان أفضل أبنابه ‪ -‬قال له ٌوما ً‪ٌ :‬ا أبت‪ :‬مالك ال تنفذ األمور ؟! فوهللا ما أبالً لو أن‬ ‫القدور فلت بً وبك فً الحق‪ٌ .‬رٌد الشاب التقً المتحمس من أبٌه ‪ -‬وقد واله هللا إمارة المإمنٌن ‪ -‬أن‬ ‫ٌقضً على المظالم وآثار الفساد دفعة واحدة‪ ،‬دون ترٌث وال أناة‪ ،‬ولٌكن بعد ذلك ما ٌكون ! فماذا كان‬ ‫جواب األب الصالح‪ ،‬والخلٌفة الراشد‪ ،‬والفقٌه المجتهد ؟ قال عمر‪ :‬ال تعجل ٌا بنً‪ ،‬فإن هللا ذم الخمر‬ ‫فً القرآن مرتٌن‪ ،‬وحرمها فً الثالثة‪ .‬وإنً أخاؾ أن أحمل الحق على الناس جملة‪ ،‬فٌدفعوه جملة‪،‬‬ ‫وٌكون من ذا فتة‪ٌ .‬عنً أنه ٌرٌد أن ٌسقٌهم الحق جرعة جرعة‪ ،‬وٌحملهم على طرٌقه خطوة خطوة‪.‬‬ ‫ومرة أخرى‪ٌ ،‬دخل علٌه ابنه المإمن المتوقد حماسة وؼٌرة‪ ،‬وٌقول عاتبا ً أو ؼاضبا ً‪ٌ ( :‬ا أمٌر‬ ‫المإمنٌن‪ :‬ما أنت قابل لربك ؼداً إذا سؤلك فقال‪ :‬رأٌت بدعة فلم تمتها‪ ،‬أو سنة فلم تحٌها ؟ فقال أبوه‪:‬‬ ‫رحمك هللا وجزاك من ولد خٌراً ! ٌا بنى‪ :‬إن قومك قد شدوا هذا األمر عقدة عقدة‪ ،‬وعروة عروة‪ ،‬ومتى‬ ‫أردت مكابرتهم على انتزاع ما فً أٌدٌهم لم آمن أن ٌفتقوا علًّ فتقا ً ٌكثر فٌه الدماء‪ ،‬وهللا لزوال الدنٌا‬ ‫أهون علً من أن ٌراق فً سببً محجمة من دم ! أو ما ترضى أن ال ٌؤتً على أبٌك ٌوم من أٌام‬ ‫الدنٌا‪ ،‬إال وهو ٌمٌت بدعة‪ ،‬وٌحً فٌه سنه ؟‪ .‬فالتدرج بهذا المعنى مقبول‪ ،‬وهو سنة كونٌة‪ ،‬وسنة‬ ‫شرعٌة‪ .‬كل ما نإكده هنا‪ :‬أال ٌكون هذا مجرد تكؤة لتؤجٌل العمل بالشرٌعة‪ ،‬وتموٌت الموضوع بمرور‬ ‫الزمن‪ ،‬باسم التدرج والتهٌبة ! إنما الواجب اتباع سٌاسة ابن عبد العزٌز‪ :‬أال ٌمر ٌوم إال وتموت‬ ‫فٌهبدعة‪ ،‬وتحً سنة‪ ،‬وبهذا ٌتحقق التدرج المطلوب‪ .‬فالتدرج ٌعنى‪ :‬تحدٌد الهدؾ‪ ،‬وتهٌبة الخطة‪،‬‬ ‫وتعٌ​ٌن المراحل‪ ،‬وحشد الطاقات فً خدمة الؽرض المنشود‪ .‬ولهذا نطالب بوضع الخطة لئلمداد‬ ‫والتؽٌ​ٌر‪ ،‬تعلٌمٌا ً وإعبلمٌاً‪ ،‬وثقافٌا ً واجتماعٌاً‪ ،‬بادبٌن بما ال ٌحتاج إلى تدرج وال تهٌبة‪ ،‬وإنما ٌحتاج إلى‬ ‫صدق التوجه‪ ،‬ومعه العزٌمة‪ ،‬وإذا صدق العزم وضح السبٌل‪.‬‬

‫ال يطبق الشريعة حقًا إال من يؤمن بها‬ ‫ثانً عشر‪ :‬إن الشرٌعة ال ٌمكن أن تطبق تطٌقا ً حقٌقٌا ً إال إذا قام على تطبٌقها أناس ٌإمنون بقدسٌتها‪،‬‬ ‫وربانٌة مصدرها‪ ،‬و عدالة أحكامها‪ ،‬وسمو أهدافها‪ ،‬وٌتعبدون هلل بتنفٌذها‪ ،‬وهذا ٌجعلهم ٌحرصون على‬ ‫فهمها فهما ً دقٌقاً‪ ،‬وعلى فقه أحكامها ومقاصدها فقها ً عمٌقاً‪ ،‬وٌتفانون فً تذلٌل العقبات أمامها‪ ،‬كما‬ ‫ٌحرصون على أن ٌكونوا صورة طٌبة لمبادبها‪ ،‬وأسوة حسنة لؽٌر المقتنعٌن بها‪ٌ ،‬راهم اآلخرون فً‬ ‫إٌمانهم وأخبلقهم وسلوكهم‪ ،‬فٌحبون الشرٌعة ال ٌرون من أثرها فً حٌاتهم‪ .‬وهكذا كان الصحابة‬ ‫والمسلمون األوابل ‪ -‬رضً هللا عنهم ‪ -‬أحب الناس اإلسبلم بحبهم‪ ،‬ودخلوا فٌه أفواجاً‪ ،‬متؤثرٌن‬ ‫بؤخبلقهم وإخبلصهم‪ ،‬فقد كان كل منهم قرآنا ً حٌا ً ٌسعى بٌن الناس على قدمٌن‪ .‬إن عٌب كثٌر من‬ ‫التجارب العامرة لتطبٌق الشرٌعة اإلسبلمٌة‪ ،‬التً كانت موضع المإاخذة والتندٌد من الناقدٌن‬ ‫والمراقبٌن‪ :‬أنها نفذت بؤٌدي ؼٌر أهلها‪ ،‬أعنً ؼٌر دعاتها ورعاتها‪ .‬أي على أٌدي أناس كانوا من قبل‬ ‫فً صؾ المناوبٌن لها‪ ،‬أو على األقل‪ ،‬من الؽافلٌن عنها‪ ،‬ؼٌر المتحمسٌن لها‪ ،‬والملتزمٌن بها‪ .‬إن‬ ‫الرساالت الكبٌرة تحتاج إلى حراس أقوٌا ‪ ,‬من رجالها وأنصارها ٌكونوا هم المسبولٌن األوابل عن‬ ‫وضع قٌمها وتعالٌمها النظرٌة موضع التنفٌذ‪ .‬وبؽٌر هذا ٌكون التطبٌق أمراً صورٌا ً ال ٌؽٌر الحٌاة من‬ ‫جذورها‪ ،‬وال ٌنفذ باإلصبلح إلى أعماقها‪.‬‬


‫الشريعة للشعوب كما هي للحكام‬ ‫ثالث عشر‪ :‬إن تطبٌق الشرٌعة لٌس عمل الحكام وحدهم‪ ،‬وإن كانوا هم أول من ٌطالب بها‪ ،‬باعتبار ما‬ ‫فً أٌدٌهم من سلطات تمكنهم من عمل الكثٌر من األشٌاء التً ال ٌقدر علٌها ؼٌرهم‪ ،‬وقد كان بعض‬ ‫السلؾ ٌقولون‪ :‬لو كانت لنا دعوة مستجابة لدعوناها للسلطان‪ ،‬فإن هللا ٌصلح بصبلحه خلقا ً كثٌراً‪ .‬وهذا‬ ‫كان فً عصر لم ٌكن زمام التعلٌم‪ ،‬واإلعبلم‪ ،‬والتثقٌؾ‪ ،‬والتوجٌه‪ ،‬والترفٌه بٌد السلطان كما هو الٌوم‪.‬‬ ‫ومع هذا نقول‪ :‬إن على الشعب مسإولٌة تطبٌق الشرٌعة فً كثٌر من األمور التً ال تحتاج إلى سلطان‬ ‫رد‪،‬‬ ‫الدولة وتدخل الحكام‪ .‬إن كثٌراً من أحكام الحبلل والحرام‪ ،‬واألحكام التً تضبط عبلقة الفرد بالؾ‬ ‫والفرد باألسرة‪ ،‬والفرد بالمجتمع‪ ،‬قد أهملها المسلمون أو خالفوا فٌها من أمر هللا‪ ،‬وتعدوا حدود هللا‪،‬‬ ‫ولن ٌملح حالهم إال إذا وقفوا فٌها عند حدود هللا تعالى‪ ،‬والتزموا بؤمره ونهٌه بوازع من أنفسهم‪،‬‬ ‫وشعورهم برقابة ربهم علبهم‪ .‬وٌجب على الدعاة والمفكرٌن والمربٌن أن ٌبذلوا جهودهم لتقوم الشعوب‬ ‫بواجبها فً تطبٌق ما ٌخصها من شرع هللا‪ ،‬وال ٌكون كل همها مطالبة الحكام بتطبٌق الشرٌعة‪ ،‬وكؤنهم‬ ‫بمجرد أن ٌرفعوا أصواتهم بهذه المطالبة قد أدوا كل ما علٌهم‪.‬‬

‫لكل مجتمع مذهب اقتصادي خاص‪ ،‬تتمثل فٌه فلسته وعقابده ومثله‪ ،‬ونظرته إلى الفرد والمجتمع‪ ،‬وإلى‬ ‫المال ووظٌفته‪ ،‬وفكرته عن الدٌن والدنٌا‪ ،‬والؽنى والفقر‪ ،‬فٌإثر ذلك كله فً عبلقته بإنتاج الثروة‪،‬‬ ‫وطرابق تداولها وتوزٌعها واستهبلكها‪ ،‬ومن ذلك ٌنشؤ نظامه االقتصادي‪ .‬والحدٌث من االقتصاد‬ ‫اإلسبلمً ٌطول‪ ،‬وقد ألفت فٌه وفً نواح منه بحوث شتى‪ ،‬وكتب جمة‪ ،‬وقدمت عشرات الرسابل‬ ‫العلمٌة للماجستٌر والدكتوراه‪ .‬وحسبنا هنا أن نؤخذ فكرة من القواعد األساسٌة التً ٌقوم علٌها بناء‬ ‫االقتصاد فً المجتمع اإلسبلمً‪ ،‬وأهم هذه القواعد هً‪:‬‬ ‫‪ .1‬اعتبار المال خٌراً ونعمة فً ٌد األخٌار‪.‬‬ ‫‪ .2‬المال مال هللا واإلنسان مستخلؾ فٌه‪.‬‬ ‫‪ .3‬الدعوة إلى العمل والكسب الطٌب‪ ،‬واعتباره عبادة وجهاداً‪.‬‬ ‫‪ .4‬تحرٌم موارد الكسب الخبٌث‪.‬‬ ‫‪ .5‬إقرار الملكٌة الفردٌة وحماٌتها‪.‬‬ ‫‪ .6‬منع األفراد من تملك األشٌاء الضرورٌة للجماعة‪.‬‬ ‫‪ .7‬منع المالك من األضرار بؽٌره‪.‬‬ ‫‪ .8‬تنمٌة المال بما ال ٌضر األخبلق والمصلحة الهامة‪.‬‬ ‫‪ .9‬تحقٌق االكتفاء الذاتً لؤلمة‪.‬‬ ‫‪ .10‬االعتدال فً اإلنفاق‪.‬‬ ‫‪ .11‬إٌجاب التكافل بٌن أبناء المجتمع‪.‬‬ ‫‪ .12‬تقرٌب الفوارق بٌن الطبقات‪.‬‬


‫اعتبار المال خيرًا ونعمة في يد الصالحين‬ ‫إن القاعدة ا ألولى فً بناء االقتصاد اإلسبلمً‪ ،‬هً تقدٌر قٌمة المال ومنزلته فً الحٌاة‪ ،‬فقد عرفت‬ ‫البشرٌة قبل اإلسبلم أدٌانا ً ومذاهب‪ ،‬تعتبر المال شراً والفقر خٌراً‪ ،‬بل تعد كل ما ٌتصل براحة الجسد‬ ‫وتمتعه بالطٌبات‪ ،‬تلوٌثا ً للروح‪ ،‬وتعوٌقا ً لرقٌها وسموها‪.‬‬ ‫عرؾ ذلك فً الفلسفة البرهمٌة فً الهند‪ ،‬وفً المذهب المانوي فً فارس‪ ،‬كما عرؾ ذلك فً المسٌحٌة‬ ‫من األدٌان ‪ 1‬لكتابٌه‪ ،‬وتحلت هذه النزعة بوضوح فً نظام الرهبانٌة‪.‬‬ ‫ٌروي أصحاب األناجٌل ‪ -‬متى ومرقص ولوقا ‪ -‬عن المسٌح‪ :‬أن شابا ً ؼنٌا ً أراد أن ٌتبع ‪1‬لمسٌح‪،‬‬ ‫وٌدخل فً دٌنه‪ ،‬فقال له‪ ( :‬بع أمبلكك ثم اعط ثمنها للفقراء‪ ،‬وتعال اتبعنً‪ ،‬فلما ثقل ذلك على الشاب‬ ‫قال المسٌح‪ٌ :‬عسر أن ٌدخل ؼنً ملكوت السموات‪ .‬أقول لكم أٌضا ً‪ ( :‬إن دخول جمل فً ثقب إبرة‬ ‫أٌسر من أن ٌدخل ؼٌى ملكوت هللا ) !!‪.‬‬ ‫أما المذاهب ‪ 1‬لحدٌثة من رأسمالٌة وشٌوعٌة‪ ،‬فتجعل االقتصاد محور الحٌاة وتجعل من المال (إله )‬ ‫األفراد والجماعة‪.‬‬ ‫ولكن اإلسبلم لم ٌنظر إلى المال وإلى الطٌبات تلك النظرة المتشابمة القاتمة‪ ،‬وال هذه النظرة المادٌة‬ ‫المسرفة‪ ،‬ولكنه‪:‬‬ ‫(أ) اعتبر المال قوام المعٌشة‪ ،‬وعصب الحٌاة‪ٌ .‬قول تعالى‪ ( :‬وال تإتوا السفهاء أموالكم التً جعل هللا‬ ‫لكم قٌاما ً )‪.‬‬ ‫(ب) وسمى المال خٌراً فً مواضع من القرآن‪ ( :‬وإنه لحب الخٌر لشدٌد )‪ .‬قل ما أنفقتم من خٌر‬ ‫فللوالدٌن واألقربٌن‪( .‬كتب علٌكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خٌراً الوصٌة )‪.‬‬ ‫(ج) واعتبر الؽنى نعمة ٌمتن هللا بها على رسوله‪ ،‬وعلى المإمنٌن المتقٌن من عباده‪( :‬ووجدك عاببلً‬ ‫فؤؼنى )‪( .‬وان خفتم عٌلة فسوؾ ٌؽنٌكم هللا من فضله إن شاء )‪ ( .‬ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا‬ ‫لفتحنا علٌهم بركات من السماء واألرض ) ( وٌمددكم بؤموال وبنٌن )‪.‬‬ ‫(د) واعتبر الفقر ببلء وعقوبة ٌصٌب به هللا من ٌنحرؾ عنه وٌكفر بنعمته‪ ( .‬وضرب هللا مثبلً قرٌة‬ ‫كانت آمنة مطمبنة ٌؤتٌها رزقها رؼداً من كل مكان فكفرت بؤنعم هللا فؤذاقها هللا لباس الجوع والخوؾ‬ ‫بما كانوا ٌصنعون )‪.‬‬ ‫(هـ) وحدد النبً (صلى هللا علٌه وسلم) نظرته إلى المال بهذه الكلمة الموجزة الجامعة‪( :‬نعم المال‬ ‫الصالح للرجل الصالح )‪.‬‬ ‫فلٌس المال خٌراً مطلعاً‪ ،‬وال شراً مطلقا ً فً ذاته‪ ،‬بل هو أداة وسبلح‪ٌ :‬كون خٌراً فً ٌد األخٌار‪ ،‬وشراً‬ ‫فً ٌد األشرار‪ .‬ذلك أن المال هو وسٌلة إشباع الحاجات‪ ،‬والعون على أداء كثٌر من الواجبات‪،‬‬ ‫كالصدقة والحج والجهاد‪ ،‬والعدة الضرورٌة لعمارة األرض‪ .‬وكل ما ٌرٌده اإلسبلم أال ٌصبح المال‬ ‫صنما ً ٌعبده الناس من دون هللا‪ ،‬وأال ٌفتن الناس به فٌصٌر ؼاٌة فً حد ذاته‪ ،‬وقد خلق لٌكون وسٌلة‪،‬‬ ‫وأال ٌإدى بصاحبه إلى نسٌان ربه‪ ،‬والطؽٌان على خلقه‪ ،‬فهذه هً فتنة المال التً حذر منها اإلسبلم‪،‬‬ ‫ٌقول تعالى‪( :‬واعلموا أنما أموالكم وأوالدكم فتنة وأن هللا عنده أجر عظٌم )‪ ( .‬اي أٌها الذٌن آمنوا ال‬ ‫تلهكم أموالكم وال أوالدكم عن ذكر هللا‪ ،‬ومن ٌفعل ذلك فؤولبك هم الخاسرون )‪ ( .‬المال والبنون زٌنة‬ ‫الحٌاة الدنٌا‪ ،‬والباقٌات الصالحات خٌر عند ربك ثوابا ً وخٌر أمبلً)‪ ( .‬كبل إن اإلنسان لٌطؽى أن رآه‬ ‫استؽنى )‪.‬‬ ‫بٌن النص الكرٌم أن الطؽٌان ال ٌنشؤ من مجرد الؽنى‪ ،‬بل من رإٌة اإلنسان نفسه مستؽنٌا ً عن ؼٌره‪،‬‬ ‫وربما توهم أنه ٌستؽنً عن ربه عز وجل‪.‬‬


‫المال مال هللا واإلنسان مستخلف فيه‬ ‫والقاعدة الثانٌة‪ ،‬التً ٌقوم علٌها االقتصاد فً المجتمع اإلسبلمً‪ ،‬هً اعتبار المال ‪ -‬فً الحقٌقة‪ -‬مال‬ ‫هللا‪ ،‬واعتبار اإلنسان أمٌنا ً علٌه‪ ،‬أو مستخلفا ً فٌه‪ ،‬كما عبر القرآن الكرٌم‪ :‬إذ قال‪ ( :‬آمنوا باهلل ورسوله‬ ‫وأنفقوا مما جعلكم مستحلفٌن فٌه )‪ .‬فاهلل هو مالك المال‪ ،‬ألنه خالقه وخالق مصادر إنتاجه‪ ،‬ومٌسر‬ ‫وسابل اكتسابه‪ ،‬بل هو خالق اإلنسان والكون كله‪( :‬وهلل ما فً السموات و ما فً األرض) (أال إن له‬ ‫من فً السموات ومن فً األرض )‪.‬‬ ‫( أفرأٌتم ما تحرثون و ءأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون )… اآلٌات‪ .‬ولهذا ٌقول القرآن‪ ( :‬وآتوهم من‬ ‫مال هللا الذي آتاكم) ‪ .‬وٌقول‪ ( :‬وال ٌحسبن الذٌن ٌبخلون بما آتاهم هللا من فضله هو خٌر لهم ) ‪ .‬وما‬ ‫آتاهم هللا من فضل هو المال‪ ،‬فٌد اإلنسان على المال إذن هً ٌد النابب والوكٌل‪ ،‬ال ٌد المالك األصٌل ‪.‬‬ ‫وإذا كان اإلنسان أمٌ ًنا على المال ووكٌبلً فٌه‪ ،‬فبل ٌجوز له أن ٌنسبه لنفسه وفضله وحده فً اكتسابه‪،‬‬ ‫وٌقول مقاله اإلنسان الكفور‪ ( :‬هذا لً )! أو ٌقول ما قال قارون‪ ( :‬إنما أوتٌته على علم عندي)‪.‬‬ ‫كما ال ٌحوز أن ٌخص نفسه بالمال دون عال مالكه الحقٌقً ‪ -‬والخلق كلهم عٌال هللا ‪ -‬ؼافبلً عن‬ ‫وضعه الوظٌفً فً المال‪ٌ .‬قول اإلمام الرازي فً تفسٌره‪( :‬إن الفقراء عٌال هللا‪ ،‬واألؼنٌاء ّ‬ ‫خزان هللا‪،‬‬ ‫ألن األموال التً فً أٌدٌهم أموال هللا‪ ،‬ولوال أن هللا تعالى ألقاها فً أٌدٌهم لما ملكوا منها حبة‪ ،‬فلٌس‬ ‫بمستبعد أن ٌقول الملك لخازنه‪( :‬اصرؾ طابفة مما فً تلك الخزانة إلى المحتاجٌن من عبٌدي ) ‪.‬‬ ‫وٌجب علٌه أن ٌتقٌد بؤوامر المالك‪ ،‬وٌنزل على حكمه‪ ،‬وٌخضع لتوجٌهاته فً حفظه وتنمٌته‪ ،‬وإنفاقه‬ ‫وتوزٌعه‪ ،‬وال ٌقول ما قال ( آهل مدٌن ) لشعٌب علٌه السبلم‪ ( :‬أصبلتك تؤمرك أن نترك ما ٌعبد آباإنا‬ ‫أو أن نفعل فً أموالنا ما نشاء )‪ .‬وذلك حٌن قال لهم شعٌب‪ٌ ( :‬ا قوم اعبدوا هللا ما لكم من إله ؼٌره‪،‬‬ ‫وال تنقصوا المكٌال والمٌزان‪ ،‬إنً أراكم بخٌر وإنً أخاؾ علٌكم عذاب ٌوم محٌط‪ ،‬وٌا قوم أوفوا‬ ‫المكٌال والمٌزان بالقسط‪ ،‬وال تبخسوا الناس أشٌاءهم وال تعثوا فً األرض مفسدٌن)‪.‬‬ ‫ظنوا أن ملكٌة المال تجٌز لهم حرٌة الصرؾ فٌه بما ٌشاإون‪ ،‬ولو كان ذلك مما تنكره األخبلق‪ ،‬أو‬ ‫تؤباه مصلحة المجتمع‪ ،‬وحجتهم أنها‪ ( :‬أموالنا‪ ،‬نفعل فٌها ما نشاء )‬ ‫واإلسبلم ٌقرر أنها أموال هللا‪ ،‬آتاها من شاء من عباده‪ ،‬واستخلفهم فٌها‪ ،‬لٌنظر كٌؾ ٌعملون‪ ،‬فإذا لم‬ ‫ٌلتزموا أوام ر هللا فقد تجاوزوا حدود الوكالة‪ ،‬فؤخذت منهم الحقوق قهراً‪ ،‬أو ؼلّت أٌدٌهم بالحجر‪.‬‬ ‫وبهذه القاعدة الذهبٌة سبق اإلسبلم ‪ -‬بقرون طوٌلة ‪ -‬ما نادى به بعض علماء االجتماع من الؽربٌ​ٌن‪،‬‬ ‫من أن‪ :‬المكٌة وظٌفة اجتماعٌة‪ ،‬وأن الؽنً موظؾ فً النظام االجتماعً ‪ -‬وإن كان هذا القول ال ٌرقى‬ ‫إلى ما جاء به القرآن الكرٌم‪.‬‬

‫الدعوة إلى العمل والكسب الطيب‬ ‫و هذه القاعدة متفرعة من القاعدة األولى‪ ،‬ومبنٌة علٌها‪ ،‬فإذا كان المال فً نظر اإلسبلم وسٌلة المعٌشة‬ ‫الطٌبة‪ ،‬وأداة البر واإلنفاق فً سبٌل هللا وخٌر المجتمع‪ ،‬فبل بد من السعً إلى تحصٌله وكسبه‪ ،‬وفق‬ ‫سنة هللا تعالى فً ربط المسببات بؤسبابها‪.‬‬ ‫ولهذا دعا اإلسبلم إلى السعً والعمل‪ ،‬وحذر من البطالة والكسل‪ .‬قال تعالى‪ ( :‬هو الذي جعل لكم‬ ‫األرض ذلوالً فامشوا فً مناكبها وكلوا من رزقه )‪( .‬فإذا قضٌت الصبلة فانتشروا فً األرض وابتؽوا‬ ‫من فضل هللا) وقال الرسول (صلى هللا علٌه وسلم)‪ ( :‬ما أكل أحد طعاما ً قط خٌراً من أن ٌؤكل من عمل‬ ‫ٌده)‪ .‬وٌنفر من سإال الناس تنفٌراً كبٌراً فٌقول‪ ( :‬ما ٌزال الرجل ٌسؤل الناس حتى ٌؤتً ٌوم القٌامة‬


‫ولٌس فً وجهه مزعة لحم )‪ .‬وال ٌكتفى بالدعوة إلى العمل الدنٌوي‪ ،‬بل ٌضفً علٌه صفة العبادة‬ ‫والقربة إلى هللا‪ ،‬إذا صحت فٌه النٌة‪ ،‬وروعٌت حدود هللا‪ .‬فً الحدٌث‪ ( :‬إن كان خرج ٌسعى على ولده‬ ‫صؽاراً فهو فً سبٌل هللا‪ ،‬وان كان خرج ٌسعى على أبوٌن شٌخٌن كبٌرٌن فهو فً سبٌل هللا‪ ،‬وان كان‬ ‫خرج ٌسعى على نفسه ٌعفها فهو فً سبٌل هللا )‪ .‬وفى الحث على الزراعة ٌقول‪ ( :‬ما من مسلم ٌزرع‬ ‫زرعا ً أو ٌؽرس ؼرساً‪ ،‬فٌؤكل منه طٌر أو إنسان أو بهٌمة إال كان هل به صدقة )‪ .‬وفى التجارة ٌقول‪( :‬‬ ‫التاجر الصدوق األمٌن مع النبٌ​ٌن والصدٌقٌن والشهداء )‪ .‬وفً الرعً ٌقول‪ ( :‬ما بعث هللا نبٌا ً إال‬ ‫رعى الؽنم‪ ،‬وأنا كنت أرعاها ألهل مكة بالقرارٌط )‪ .‬وفى الصناعة بضرب لهم المثل ب ( داود )‪،‬‬ ‫الذي أالن هللا فً ٌدٌه الحدٌد‪ ،‬لٌصنع منه الدروع السابؽات‪ ( :‬إن نبً هللا داود كان ال ٌؤكل إال من عمل‬ ‫ٌده )‪.‬‬ ‫وٌحارب النبً (صلى هللا علٌه وسلم) ما شاع عند العرب من احتقار الحرؾ واألعمال الٌدوٌة‪ ،‬واتكال‬ ‫بعضهم على سإال كبراء القوم وزعماء العشابر‪ ،‬فبٌّن لهم أن كل عمل نافع هو عمل شرٌؾ كرٌم‪،‬‬ ‫مهما تكن ضآ لة الربح من ورابه‪ ،‬ومهما تكن نظرة الناس إلٌه فٌقول‪ ( :‬ألن ٌؤخذ أحدكم حبله فٌؤتً‬ ‫بحزمة الحطب على ظهره‪ ،‬فٌبٌعها‪ ،‬فٌكؾ هللا بها وجهه‪ ،‬خٌر من أن ٌسؤل الناس‪ ،‬أعطوه أو منعوه)‬ ‫ومن فروض الكفاٌة على المسلمٌن‪ ،‬أن ٌهٌنوا العدد المدرب الكافً‪ ،‬لكل صناعة أو مهنة ٌحتاج إلٌها‬ ‫المجتمع حتى ٌكتفً المسلمون اكتفا ًء ذاتٌاً‪ ،‬فٌؤكلوا مما ٌزرعون‪ ،‬وٌلبسوا مما ٌنسجون‪ ،‬وٌسلحوا‬ ‫جٌوشهم بما ٌصنعون‪ ،‬مهتدٌن بقول هللا تعالى‪ ( :‬وأنزلنا الحدٌد فٌه بؤس شدٌد للناس)‪ ،‬وعبارة‪( :‬بؤس‬ ‫شدٌد) تشٌر إلى الصناعات الحربٌة‪ ،‬وعبارة‪( :‬ومنافع للناس) تشٌر إلى الصناعات المدنٌة‪ ،‬وما لم ٌتم‬ ‫ذلك فالمسلمون آثمون‪ ،‬وبخاصة أولو األمر منهم‪.‬‬ ‫ومن جمٌل ما نبه علٌه بعض حكماء المسلمٌن‪ :‬أنالعمل والتكسب‪ ،‬وإن كان مباحا ً من وجه‪ ،‬فهو واجب‬ ‫من وجه‪ٌ .‬قول اإلمام الراؼب فً كتابه القٌم ( الذرٌعة إلى مكارم الشرٌعة )‪.‬‬ ‫التكسب فً الدنٌا‪ ،‬وإن كان معدوداً من المباحات من وجه‪ ،‬فإنه من الواجبات من وجه‪ ،‬وذلك أنه لما لم‬ ‫ٌكن لئلنسان االستقبلل بالعبادة إال بإزالة ضرورٌات حٌاته‪ ،‬فإزالتها واجبة‪ ،‬ألن كل ما ال ٌتم الواجب‬ ‫ؾ بد‬ ‫إال به فواجب كوجوبه‪ .‬وإذا لم ٌكن له إلى إزالة ضروراته سبٌل إال بؤخذ تعب من الناس‪ ،‬ال‬ ‫إذن أن ٌعوضهم تعبا ً من عمله‪ ،‬وإال كان ظالماً‪ ،‬فمن توسع فً تناول عمل ؼٌره فً مؤكله وملبسه‬ ‫ومسكنه وؼٌر ذلك‪ ،‬فبل بد أن ٌعمل لهم عمبلً بقدر ما ٌتناوله منهم‪ ،‬وإال كان ظالما ً لهم‪ ،‬سواء قصدوا‬ ‫إفادته أو لم ٌقصدوها‪ ،‬فمن رضً بقلٌل من عملهم فلم ٌتناول من دنٌاه م إال قلٌبلً‪ٌ ،‬رمى منه بقلٌل من‬ ‫العمل … ومن أخذ منهم المنافع ولم ٌعطهم نفعاً‪ ،‬فإنه لم ٌؤتمر هلل تعالى فً قوله‪ ( :‬وتعاونوا على البر‬ ‫والتقوى )‪ ،‬ولم ٌدخل فً عموم قوله‪ ( :‬والمإمنون والمإمنات بعضهم أولٌاء بعض)‪ .‬ولذا ذم من ٌدعً‬ ‫التصوؾ فٌتعطل عن المكاسب‪ ،‬ولم ٌكن له علم ٌإخذ منه‪ ،‬وال عمل صالح فً الدٌن ٌقتدي به‪ .‬فإنه‬ ‫ٌؤخذ منافع الناس وٌضٌق علٌهم معاشهم‪ ،‬وال ٌرد إلٌهم نفعاً‪ ،‬فبل طابل فً مثلهم إال بؤن ٌكدروا‬ ‫المشارع ( المٌاه) ‪ ,‬وٌؽلوا األسعار‪.‬‬ ‫ومن الداللة على قبح فعل من هذا صنٌعه‪ :‬أن هللا تعالى ذم من ٌؤكل مال نفسه إسرافا ً وبداراً‪ ،‬فما حال‬ ‫من ٌؤكل مال ؼٌره على ذلك‪ ،‬وال ٌنٌلهم عوضاً‪ ،‬وال ٌرد علٌهم بدالً‪ .‬ومن واجب والء األمر أن ٌهٌبوا‬ ‫ لكل قادر ‪ -‬العمل الذي ٌبلبمه‪ ،‬وٌكتسب منه ما ٌكفٌه وٌكفى أسرته‪ ،‬وأن ٌ​ٌسر له من التعلٌم‬‫والتدرٌب ما ٌإهله لهذا العمل‪ .‬إن اإلسبلم ٌحث على العمل الدنٌوي وٌباركه‪ ،‬وكل ما ٌطلبه من المسلم‬ ‫فً هذا األمر‪ ،‬هو التوازن بٌن عمله لمعاشه‪ ،‬وعمله لمعاده‪ ،‬بٌن أمر دنٌاه وأمر دٌنه‪ ،‬بٌن مطالب‬ ‫جسمه وأشواق قلبه‪ ،‬فبل تلهٌه األولى عن اآلخرة‪ ،‬وال المادة عن الروح‪.‬‬ ‫ومد وصؾ هللا تعالى الصالحٌن من عباده الذٌن مرتادون الساجد بقوله‪ٌ ( :‬سبح له فٌها بالؽدو‬ ‫واآلصال‪ ،‬رجال ال تلهٌهم تجارة وال بٌع عن ذكر هللا وإقام الصبلة وإٌتاء الزكاة ٌخافون ٌوما ً تتقلب فٌه‬ ‫القلوب واألبصار )‪ .‬والواجب على العامل أن ٌإدى عمله بؤمانة وإتقان‪ ،‬فإحسان العمل فرٌضة دٌنٌة‬


‫كإحسان العبادة سواء‪ ،‬كما فً الحدٌث الصحٌح‪ ( :‬إن هللا كتب اإلحسان على كل شا)‪ .‬وفً الحدٌث‬ ‫اآلخر‪ ( :‬إن هللا ٌحب من أحدكم إذا عمل عمبلً أن ٌتقنه )‪ .‬كما على المجتمع المسلم أن ٌعمل على توفٌة‬ ‫كل عامل أجره العادل‪ ،‬وال ٌبخسه حقه‪ ،‬وال ٌإخر علٌه أجره‪ .‬وفً الحدٌث‪ ( :‬أعطوا األجٌر أجره قبل‬ ‫عرق )‪ .‬وفى الحدٌث القدسً عند البخاري‪ ( :‬ثبلثة أنا خصمهم ٌوم القٌامة …… وفٌهم‪( :‬‬ ‫ه‬ ‫أن ٌجؾ‬ ‫رجل استؤجر أجٌراً‪ ،‬فاستوفى منه‪ ،‬ولم ٌوفه أجره )‪.‬‬

‫تحريم موارد الكسب الخبيث‬ ‫وهذه القاعدة سٌاج للقاعدة التً قبلها‪ ،‬وتكمٌل لها‪ ،‬فالكسب الذي ٌرحب به اإلسبلم‪ ،‬وٌعترؾ بآثاره‪ ،‬هو‬ ‫الكسب الطٌب المشروع‪ .‬أما الكسب الخبٌث فقد حظره اإلسبلم الذي جاء ٌحل الطٌبات وٌحرم الخبابث‪.‬‬ ‫والكسب الخبٌث‪ ،‬ما جاء عن طرٌق الظلم‪ ،‬وأخذ مال الؽٌر بؽٌر حق‪ ،‬كالؽصب‪ ،‬والسرقة‪ ،‬والؽش‪،‬‬ ‫وتطفٌؾ الكٌل والمٌزان‪ ،‬واالحتكار‪ ،‬واستؽبلل حاجة المحتاج‪ ،‬وبخس الناس أشٌاءهم‪ ،‬ونحوها‪ .‬أو كان‬ ‫بؽٌر مقابل من جهد أو مشاركة‪ ،‬كالربا والقمار ‪ -‬ومنه الٌانصٌب ‪ -‬ونحوه ا‪ .‬أو كان عوضا ً لعٌن‬ ‫محرمة كثمن الخمر‪ ،‬والخنزٌر‪ ،‬واألصنام‪ ،‬والتماثٌل‪ ،‬واألوانً والتحؾ المحرمة‪ ،‬والكبلب الممنوعة‬ ‫…‪ .‬ونحوها‪ .‬أو كان عوضا ً لمنفعة ؼٌر معتبرة شرعاً‪ ،‬كؤجور الدجالٌن من العرافٌن والكهان‬ ‫والمنجمٌن‪ ،‬وكتبة الربا‪ ( ،‬والعاملٌن فً الحانات والمراقص والمالهً المحرمة …‪ .‬ونحوها‪ .‬وٌنذر‬ ‫الرسول كل آكل للحرام بالنار فٌقول‪ ( :‬كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به)‪ .‬وال ٌقٌم اإلسبلم وزنا‬ ‫لحسن النٌة‪ ،‬وشرؾ الؽاٌة إذا كان طرٌق الكسب محرما ً‪ .‬فالذي ٌؤكل الربا لٌبنً به جامعاً‪ ،‬أو ٌإسس‬ ‫به مدرسة لؤلٌتام أو نحو ذلك‪ ،‬ال ٌعتد به اإلسبلم‪ ،‬فقد جاء فً الصحٌح‪ ( :‬إن هللا طٌب ال ٌقبل إال طٌبا ً‬ ‫)‪ .‬وفى حدٌث آخر‪ ( :‬إن الخبٌث ال ٌمحو الخبٌث )‪ .‬والحرام حرام فً نظر اإلسبلم‪ ،‬ولو حكم القاضً‬ ‫بحله حسب الظاهر له من البٌنات‪ٌ .‬قول تعالى‪ ( :‬وال تؤكلوا أموالكم بٌنكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام‬ ‫لتؤكلوا فرٌقا من أموال الناس باإلثم وأنتم تعلمون )‪ .‬وفً هذا جاء حدٌث النبً (صلى هللا علٌه وسلم)‪:‬‬ ‫( إنكم تختصمون إلً‪ ،‬ولعل بعضكم أن ٌكون ألحن بحجته من بعض‪ ،‬فؤقضً له على نحو ما أسمع‪،‬‬ ‫فمن قضٌت له من حق أخٌه بشًء‪ ،‬فإنما هً قطعة من نار‪ ،‬فلٌؤخذها أو لٌدعها )‪ .‬حتى ولو كان‬ ‫القاضً هو رسول هللا (صلى هللا علٌه وسلم)! ألنه قضى حسبما ظهر له‪ .‬وبهذا أقام اإلسبلم من ضمٌر‬ ‫المسلم وتقواه حارسا على حٌاته االقتصادٌة‪ .‬فإذا كان القاضً ٌحكم بالظواهر‪ ،‬فإن هللا ‪ -‬الذي ٌراقبه‬ ‫المسلم وٌخشاه ‪-‬مطلع على الحقابق والسرابر‪ .‬وأشد ما حذر منه اإلسبلم‪ :‬هو استؽبلل األقوٌاء للضعفاء‬ ‫! كؤكل األوصٌاء ألموال الٌتامى‪ ،‬وأكل الرجال ألموال النساء‪ ،‬وأكل الحكام ألموال الرعٌة‪ ،‬وأكل‬ ‫أرباب العمل لحقوق العمال ‪ ,‬وأكل أصحاب األرض لعرق الفبلحٌن‪.‬‬ ‫ومما حذر منه اإلسبلم أشد التحذٌر‪ :‬أخذ المال العام بؽٌر حق‪ .‬ألن لكل واحد م ن أبناء الشعب فٌه حقاً‪،‬‬ ‫فإذا اختلس شٌبا ً أو انتهبه دونهم‪ ،‬فقد ظلمهم جمٌعا ً‪ .‬وأمسوا كلهم خصمابه ٌوم القٌامة‪.‬‬ ‫ومن هنا جاء التشدٌد وسوء الوعٌد فٌمن ؼل من الؽنٌمة ( أي أخذ منها خفٌة )‪ .‬وفً القرآن‪ ( :‬ومن‬ ‫ٌؽلل ٌؤت بما ؼل ٌوم القٌامة‪ ،‬ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم ال ٌظلمون )‪ .‬والمال العام محرم على‬ ‫الوالة الكبار‪ ،‬كما هو محرم على الموظفٌن الصؽار‪ ،‬فبل ٌجوز لهم أن ٌؤخذوا درهما ً أو دانقا ً منه بؽٌر‬ ‫حق‪ .‬كما ال ٌجوز لهم أن ٌستؽلوا مناصبهم فً اإلثراء باسم العموالت أو الهداٌا‪ ،‬فقد علم كل ذي عقل‬ ‫وذي ضمٌر أنها رشاوى مق ّنعة‪ ،‬بل سافرة‪ .‬وقد أهدى بعضهم لعمر بن عبد العزٌز شٌباً‪ ،‬فرفضه‪ ،‬فقال‬ ‫له المهدي‪ :‬إن رسول هللا (صلى هللا علٌه وسلم) قبل الهدٌة‪ .‬فقال رضً هللا عنه‪ :‬كانت الهدٌة لرسول‬ ‫هللا هدٌة‪ ،‬أما لنا فهً رشوة‪ .‬ولقد اشتد ؼضب النبً علٌه الصبلة والسبلم على عامل له ٌعرؾ بابن‬ ‫اللتبٌّة حٌن جاء بعد رجوعه من مهمته فً جباٌة الزكاة‪ ،‬ببعض األموال‪ ،‬فقال‪ :‬هذا لكم‪ ،‬وهذا أهدي‬


‫إلً‪ .‬فقال النبً (صلى هللا علٌه وسلم) مستنكراً‪ ( :‬هبل قعد فً بٌت أبٌه وبٌت أمه‪ ،‬حتى ٌنظر‪ :‬أٌهدى‬ ‫إلٌه أم ال )؟!! أي أن الهدٌة لم تؤته لشخصه‪ ،‬وال لصداقة أو قرابة سابقة بٌنه وبٌن المهدي‪ .‬بل أتته‬ ‫بسبب المنصب فقط‪ ،‬فبل حق له فٌها‪ .‬ولهذا كان اإلسبلم أول من طبق على الوالة والحكام قانون (من‬ ‫أٌن لك هذا ) ؟ أو الكسب ؼٌر المشروع‪ .‬وقد حقق اإلسبلم بتحرٌمه موارد الكسب الخبٌث عدة أهداؾ‬ ‫اجتماعٌة واقتصادٌة‪:‬‬ ‫أولها‪ :‬إقامة العبلبق بٌن الناس على أساس من العدالة واألخوة ورماٌة الحرمات‪ ،‬وإعطاء كل ذي حق‬ ‫حقه‪.‬‬ ‫ثانٌها‪ :‬قضى على أهم عامل ٌإدي إلى توسٌع الفوارق االقتصادٌة بٌن األفراد والطبقات‪ ،‬فإن األرباح‬ ‫الفاحشة‪ ،‬والمكاسب الضخمة‪ ،‬ؼالباً‪ ،‬تؤتً من ارتكاب الطرق المشروعة فً الكسب‪ ،‬بخبلؾ التزام‬ ‫الطرق المشروعة‪ ،‬فإنها قلما ٌنتج عنها إال الربح المعتدل والكسب العقول‪.‬‬ ‫ثالثها‪ :‬دفع الناس إلى العمل والكدح‪ ،‬حٌث لم ٌجز أكل المال بالباطل‪ :‬أي بؽٌر مقابل من جهد وال‬ ‫عوض وال مشاركة فً الؽنم والؽرم‪ ،‬كالقمار والربا ونحوهما‪ ،‬وفى هذا نفع اقتصادي ال شك فٌه‪.‬‬

‫إقرار الملكية الفردية وحمايتها‬ ‫إن اإلسبلم هو دٌن الفطرة‪ ،‬فلٌس فٌه مبدأ ٌضاد الفطرة أو ٌكبتها‪ ،‬وإنما فٌه ما ٌبلبمها وٌهذبها وٌسمو‬ ‫بها‪ .‬ومن الفطرة التً فطر هللا الناس علٌها‪ :‬حب التملك الذي نشاهده حتى عند األطفال ببل تعلٌم وال‬ ‫تلقٌن‪ ،‬وإنما زود هللا اإلنسان بهذه الؽرٌزة لتكون دافعا قوٌا‪ٌ ،‬حفز اإلنسان على الحركة واإلجادة‬ ‫واإلتقان‪ ،‬إذا عرؾ أنه ٌملك ثمرة كسبه وجهده فً النهاٌة‪ ،‬فتزدهر الحٌاة‪ ،‬وٌنمو العمران‪ ،‬وٌزداد‬ ‫اإلنتاج‪ .‬والمكٌة من خصابص الحرٌة‪ ،‬فالعبد ال ٌملك‪ ،‬والحر هو الذي ٌملك‪ ،‬بل هً من خصابص‬ ‫اإلنسانٌة‪ ،‬فالحٌوان ال ٌملك‪ ،‬واإلنسان هو الذي ٌملك‪ .‬ولهذا أقر اإلسبلم حق ( الملكٌة الفردٌة) ألنه‬ ‫دٌن جاء ٌحترم الفطرة‪ ،‬وٌحترم الحرٌة‪ ،‬وٌحترم اإلنسانٌة‪ .‬كما أنه لٌس من العدل أن تحرم اإلنسان‬ ‫ثمرة سعٌه وكسبه لتمنحها لؽٌره من القاعدٌن والخاملٌن‪.‬‬ ‫إنما العدل واإلحسان أن تتٌح الفرصة للجمٌع لٌكسبوا وٌتملكوا‪ ،‬فإذا تمٌز فرد بذكابه وجده وإتقانه‬ ‫ومثابرته‪ ،‬استحق من الجزاء ما يكافا عمله‪ ( :‬هل جزاء اإلحسان إال اإلحسان )‪( ،‬ولكل درجات مما‬ ‫عملوا )‪.‬‬ ‫ومن هنا ٌبٌح اإلسبلم التملك‪ ،‬ولو أفضى بصاحبه إلى درجة كبٌرة من الؽنى والثروة ما دام محافظا ً‬ ‫على كسب المال من حله‪ ،‬وإنفاقه فً حقه‪ ،‬ؼٌر متناول لحرام‪ ،‬وال مسرؾ فً مباح‪ ،‬وال شحٌح بحق‪،‬‬ ‫وال ظا لم ألحد‪ ،‬وال آكل حق ؼٌره‪ ،‬كما هو مقتضى نظرٌة ( االستخبلؾ ) اإلسبلمٌة‪ .‬ولعل أبرز مثل‬ ‫على ذلك‪ ،‬عبد الرحمن بن عوؾ رضى هللا عنه‪ ،‬فهو أحد السابقٌن األولٌن وأحد العشرة المبشرٌن‬ ‫بالجنة‪ ،‬وأحد الستة أصحاب الشورى‪ .‬وقد خرج من مكة ‪ -‬كبقٌة إخوانه المهاجرٌن ‪ -‬ببل دار وال مال‪،‬‬ ‫وآخى الرسول بٌنه وبٌن سعد بن الربٌع‪ ,،‬فعرض علٌه أن ٌشاطره ماله وأن ٌطلق له إحدى زوجتٌه‬ ‫لٌتزوجها بعد العدة‪ ،‬فقال له‪ :‬بارك هللا لك فً أهلك وفى مالك‪ ،‬دلنً على السوق‪.‬‬ ‫وذهب عبد الرحمن ٌضرب فً األرض‪ ،‬وٌبتؽى من فضل هللا‪ ،‬فً أسواق كان ٌسٌطر علٌها من قبل‬ ‫ٌه ود الدٌنة‪ ،‬فؽدا وراح‪ ،‬واجتهد وشمر‪ ،‬وكان عقلٌة اقتصادٌة كبٌرة‪ ،‬فما هً إال سنوات حتى أصبح‬ ‫أكبر أثرٌاه المسلمٌن‪ ،‬ولم ٌمت حتى ترك ثروة كان فٌها ذهب قطع بالفإوس‪،‬كما روى ابن سعد فً‬ ‫طبقاته‪ ( :‬وصولحت إحدى نسابه األربع على نصٌبها من التركة ‪ -‬وهو ربع الثمن (‪ )32/1‬فكان (‬ ‫‪000‬ر‪ )80‬ثمانٌن ألفا ً )‬


‫إن اإلسبلم لم ٌحرم هذا الؽنى‪ ،‬ولم ٌقؾ فً سبٌله‪ ،‬ألنه جمع من حله‪ ،‬ببل ضرر وال ضرار‪ ،‬وأنفق فً‬ ‫محله ببل بخل وال إسراؾ‪ .‬باع عبد الرحمن أرضا ً له ٌوما ً بؤربعٌن ألؾ دٌنار‪ ،‬فقسم ذلك المال فً‬ ‫أقاربه من بنى زهرة‪ ،‬وفى فقراء‪ ،‬المسلمٌن وأمهات المإمنٌن‪ .‬وجاءت قافلة له من الشام إلى المدٌنة‪،‬‬ ‫وهً سبعمابة راحلة‪ ،‬محمل من كل شًء‪ ،‬فتبرع بها كلها وبما تحمله كله فً سبٌل هللا‪ ،‬وقبل وفاته‬ ‫أوصى بخمسٌن ألؾ دٌنار فً سبٌل هللا‪ ،‬ولكل رجل ممن بقى من أهل بدر بؤربعمابة دٌنار‪ ،‬ومن قبل‬ ‫ذلك طالما أنفق وبذل‪ ،‬فضبلً من إٌتاء‪ ،‬الزكاة المفروضة‪ ،‬والنفقات الواجبة‪ .‬فهذا هو المال الصالح فً‬ ‫ٌد الرجل الصالح‪ ،‬ونعم المال ونعم الرجل‪ ( .‬وما روى‪ :‬أنه ٌدخل الجنة حبواً فلم ٌصح )‪ .‬إن اإلسبلم‬ ‫ٌبٌح لكل فرد أن ٌتملك‪ ،‬بل ٌدعوا إلى أن ٌتملك‪ ،‬وٌحمً له ملكٌته وٌورثها ذرٌته من بعده‪ ،‬لٌعطٌه‬ ‫بذلك حافزاً قوٌا على الجد والدأب‪ ،‬ومواصلة السعً والكد‪ ،‬ولٌشعر األفراد بالسٌادة والقدرة‪ ،‬كلما‬ ‫تذوقوا نعمة المكٌة‪ ،‬ولم ٌجعلهم عبٌداً فً ٌد الدولة التً قد ٌسٌطر علٌها حفنة من الناس‪ ،‬تستذل‬ ‫الرقاب‪ ،‬وتلؽً الدٌن واألخبلق‪ ،‬وال تجد من ٌقدر على مقاومتها‪ ،‬ألنها تملك كل شًء‪ ،‬وال ٌملك‬ ‫جمهور الناس شٌبا ً‪.‬‬ ‫وفً إقرار اإلسبلم للمكٌة الفردٌة وحماٌته لها‪ ،‬خٌر لؤلمة‪ ،‬والقتصادها كله‪ ،‬فقد ثبت أن الحوافز‬ ‫الفردٌة هً التً تحقق أكبر قدر من اإلنتاج‪ ،‬بخبلؾ األمبلك والمإسسات الجماعٌة‪ ،‬وما ٌسمى بالقطاع‬ ‫العام‪ ،‬حٌث ٌقل اإلنتاج وٌسوء‪ ،‬لعدم وجود الحوافز وقوة الرقابة‪ ،‬الناشبة عن الملكٌة الخاصة‪ .‬ؼٌر أن‬ ‫اإلسبلم ٌشترط لحماٌة الملكٌة الفردٌة شرطٌن‪:‬‬ ‫أوال‪ٌ :‬تحقق أنها اكتسبت من طرقها المشروعة‪ ،‬ووسابلها المباحة‪ ،‬وإال ال ٌعترؾ اإلسبلم أن بها‪ ،‬وإن‬ ‫طال علٌها األمد فً ٌد من حازها بؽٌر حق‪ .‬وهنا تختلؾ شرٌعة اإلسبلم‪ ،‬من القوانٌن الوضعٌة‪ ،‬التً‬ ‫تقر الملكٌة المحرمة إذا مضى علٌها زمن معٌن‪ ،‬مثل خمسة عشر عاماً‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬فإن نظرٌة‬ ‫اإلسبلم أن مضى الزمن ال ٌجعل الحرام حبلالً‪ ،‬مادامت حرمته ثابتة ومعروفة‪.‬‬ ‫ثانٌا ً‪ :‬أال تتعارض مع مصلحة عامة للمجتمع‪ ،‬وإال نزعت من صاحبها بالرضا‪ ،‬أو بالقهر‪ ،‬وعوض‬ ‫عنها تعوٌضا ً عادالً‪ .‬ألن مصلحة المجموع مقدمة على مصلحة الفرد‪ .‬وقد حدث فً عهد عمر رضً‬ ‫هللا عنه‪ ،‬أنه أراد توسعة المسجد الحرام‪ ،‬لما كثر الناس وضاق بهم‪ ،‬فاشترى بعض الدور المحدقة بهم‪،‬‬ ‫وأبى أصحاب الدور األخرى أن ٌبٌعوها‪ ،‬وأصروا على امتناعهم‪ ،‬فؤخذها منهم قسراً‪ ،‬وأدخلها فً‬ ‫المسجد‪ ،‬ووضع القٌمة فً خزانة الكعبة‪ ،‬حتى أخذها أصحابها بعد حٌن‪ .‬ومثل ذلك حدث فً عهد‬ ‫عثمان رضى هللا عنه‪ .‬وكذلك إذا قضت الضرورة أو الحاجة بتحدٌد موضع معٌن إلقامة مستشفى‪ ،‬أو‬ ‫مصنع أو مطار أو مدرسة‪ ،‬أو نحو ذلك مما فٌه مصلحة عامة‪ ،‬فلٌس لصاحب الملك أن ٌرفض بٌعها‪،‬‬ ‫بثمن المثل‪ ،‬فإن أبى أجبره ولً األمر على القبول‪ ،‬بناء على حكم المحكمة المختصة التً تفصل بٌن‬ ‫الدولة والشعب فً حالة النزاع‪.‬‬

‫منع األفراد من تملك األشياء الضرورية للمجتمع‬ ‫إن أبرز ما ٌمٌز بٌن النظم االقتصادٌة المختلفة‪ ،‬هو موقفها من الملكٌة الفردٌة‪ ،‬فالشٌوعٌة تعادي المكٌة‬ ‫الفردٌة على اإلطبلق‪ ،‬إال فً بعض األشٌاء التافهة‪ ،‬كاألمتعة والمنقوالت‪ .‬واالشتراكٌة ‪ -‬وبخاصة‬ ‫الثورٌة منها ‪ -‬ال تجٌز ملكٌة وسابل اإلنتاج‪ ،‬من األراضً والمصانع ونحوها‪ ،‬وتعمل على تؤمٌمها‪ ،‬أي‬ ‫مصادرتها من أٌدي األفراد‪ ،‬ونقل ملكٌتها إلى الدولة‪ ،‬ما استطاعت إلى ذلك سبٌبلً‪ .‬والرأسمالٌة تفر‬ ‫الملكً فً جمٌع األشٌاء‪ ،‬وال تكاد تفرض علٌها قٌوداً تحد من طؽٌان أربابها‪ .‬واإلسبلم ٌقؾ وسطا ً‬ ‫ة‬ ‫عدالً‪ ،‬بٌن هذه األنظمة المتناقضة‪ ،‬فهو ٌجٌز الملكٌة الفردٌة للعقارات والمنقوالت‪ ،‬ولوسابل اإلنتاج‬ ‫وؼٌرها‪ ،‬ولكنه ٌخرج من دابرة المكٌة الفردٌة كل األشٌاء الضرورٌة لجموع الناس‪ ،‬فؤوجب أن ٌكون‬


‫ملكها للجماعة‪ ،‬حتى ال ٌستبد بها فرد أو مجموعة أفراد‪ ،‬فٌتحكموا فٌها‪ ،‬وٌحتكروا منافعها ألنفسهم‪،‬‬ ‫وٌمنعوا سابر الناس عنها إال بعوض ال ٌستحقونه‪ ،‬وبهذا ٌقع الضرر على المجتمع كله‪.‬‬ ‫ومن أمثلة هذه الضرورٌات ما ذكره النبً (صلى هللا علٌه وسلم) بقوله‪ ( :‬الناس شركاء فً ثبلث‪:‬‬ ‫الماء والكؤل والنار )‪ ،‬وزادت بعض األحادٌث‪ :‬الملح‪ .‬فكل إنسان له حق االستفادة من هذه الموارد‬ ‫الطبٌعٌة‪ ،‬وال ٌجوز ألحد احتكارها‪ .‬وإنما خصت األحادٌث هذه الثبلثة أو األربعة بهذا الحكم‪ ،‬ألنها‬ ‫كانت أظهر الضرورٌات‪ ،‬فً حٌاة البٌبة العربٌة حٌن ذاك‪ ،‬وٌمكن أن ٌقاس علٌها ما هو مثلها فً‬ ‫ضرورة الجماعة إلٌه‪ .‬ولهذا ٌرى المالكٌة ‪ -‬فً أشهر أقوالهم ‪ -‬أن المعادن المستخرجة من باطن‬ ‫األرض ال ٌباح لؤلفراد أن ٌتملكوها‪ ،‬وإن ظهرت فً أرض مملوكة ألحدهم‪ ،‬لببل تإدى حاجة الجمهور‬ ‫إلٌها‪ ،‬واحتجاز اآلخرٌن لها‪ ،‬إلى أنواع من التظالم‪ ،‬والصراع الذي ٌزعزع كٌان الجماعة المسلمة‪.‬‬ ‫ومثل ذلك عند الشافعٌة ‪ -‬كل عٌن ظاهرة كنفط أو قار أو كبرٌت أو حجارة ظاهرة‪ ،‬فً ؼٌر ملك‬ ‫ألحد‪ ،‬فلٌس ألحد أن ٌحتجزها دون ؼٌره‪ ،‬وال لسلطان أن ٌمنعها لنفسه‪ ،‬وال لخاص من الناس‪.‬‬ ‫وكذلك عند الحنابلة ‪ -‬كل معدن ظاهر ٌنتابه الناس وٌنتفعون به‪ ،‬وٌتوصل إلٌه من ؼٌر مإونة كبٌرة‪ ،‬ال‬ ‫ٌجوز ملكه وال تملٌكه لؤلفراد‪ ،‬ألن فٌه إضراراً بالمسلمٌن وتضٌ​ٌقا ً علٌهم‪ ،‬وألن النبً (صلى هللا علٌه‬ ‫وسلم) أقطع ( أبٌض بن حمال ) معدن الملح‪ ،‬فلما قٌل له إنه بمنزلة الماء الع ّد‪ ،‬استرده منه‪.‬‬

‫منع المالك من اإلضرار بغيره‬ ‫على أن اإلسبلم الذي أباح لؤلفراد أن ٌتملكوا بالحبلل ما شاإوا‪ ،‬مما لٌس ضرورٌا ً لجموع الناس‪ ،‬وال‬ ‫ٌضر الجماعة احتجاز بعض األفراد له‪ ،‬قد وضع قٌودا على حق التملك‪ ،‬تضمن بقاءه فً إطار‬ ‫مصلحة المجتمع‪ ،‬وخدمة الحق والخٌر‪.‬‬ ‫ومن هذه القٌود منع المالك من اإلضرار بؽٌره‪ .‬ذلك أن حق التملك ال ٌمنح صاحبه حرٌة استخدام ملكه‬ ‫كم ا ٌشاء ولو أضر باآلخرٌن‪ ،‬وإنما هو مقٌد فً ملكه بؤال ٌسا استعمال حقه‪ ،‬بما ٌإدى إلى ضرر فرد‬ ‫آخر‪ ،‬أو أفراد آخرٌن‪ ،‬أو ضرر عام بالمجتمع فهذا الضرر‪ ،‬والضرار حرام على المسلم الذي ٌفرض‬ ‫دٌنه علٌه أن ٌكون مصدراً من مصادر النفع‪ ،‬ال عامبلً من عوامل الضرر‪ .‬قال علٌه الصالة والسبلم ‪:‬‬ ‫( ال ضرر وال ضرار ) ومن حق الحاكم المسلم ‪ -‬بل ومن واجبه ‪ -‬أن ٌمنع صاحب الملك من كل‬ ‫تصرؾ أنانً ٌإدى إلى ضرر خاص أو عام ولو اقتضى ذلك نزع ملكه جزاء على تعسفه ومضارته‬ ‫إذا لم ٌجد الحاكم عبلجا ً إال هذه الطرٌقة‪ .‬وهذا المبدأ الذي ٌظن بعض رجال القانون أنه من ثمار‬ ‫العصر الحدٌث‪ ،‬قد طبقه النبً (صلى هللا علٌه وسلم)‪ ،‬منذ أربعة عشر قرناً‪ ،‬وطبقه بعده الخلفاء‬ ‫الراشدون‪ .‬كان لسمرة بن جندب نخل فً حابط بستان رجل من األنصار‪ ،‬فكان ٌدخل علٌه هو وأهله‪،‬‬ ‫فٌإذى ذلك صاحب الحابط فشكا ذلك األنصاري لرسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ما ٌلقاه من سمرة‪،‬‬ ‫فقال النبً (صلى هللا علٌه وسلم) لسمرة‪ ( :‬بعه نخلك ) فؤبى‪ .‬قال‪ ( :‬فاقلعه ) ‪ -‬أي لتؽرسه فً مكان‬ ‫آخر ‪ -‬فؤبى‪ ،‬قال‪ ( :‬هبه لً ولك مثلها فً الجنة ) فؤبى‪ .‬وٌبدو أنه فهم أن الرسول إنما ٌقول له ذلك من‬ ‫باب اإلرشاد أو المصالحة‪ ،‬ال على سبٌل اإللزام‪ .‬فقال له الرسول (صلى هللا علٌه وسلم)‪ ( :‬أنت مضار‬ ‫)‪ ،‬وقال لؤلنصاري‪ ( :‬اذهب فاقلع نخله ) ‪،‬ولم ٌبال الرسول بالضرر الصؽٌر الذي ٌصٌب سمرة بإزاء‪،‬‬ ‫الضرر الكبٌر الذي ٌصٌب صاحبه‪ ،‬من بقاء هذه النخبلت القلٌلة فً وسط بستانه‪ .‬لقد كان بوسع سمرة‬ ‫أن ٌبٌع لصاحبه نخبلته المعدودات‪ ،‬وٌؤخذ عنها العوض العادل‪ ،‬وكان بوسعه أن ٌقلعها‪ ،‬لٌؽرسها فً‬ ‫موضع آخر‪ ،‬ال ٌإذى فٌه أحداً‪ ،‬ولكنه تعنت وأبى أن ٌرٌح صاحبه بطرٌقة ودٌّة‪ ،‬فلم ٌسع الرسول‬ ‫(صلى هللا علٌه وسلم) إال أن ٌحكم علٌه بقلع نخله‪ ،‬رضى أو سخط‪ .‬وفى عهد عمر‪ ،‬كان للضحاك بن‬ ‫خلٌفة األنصار ي أرض‪ ،‬ال ٌصل إلٌها الماء‪ ،‬إال إذا مر بؤرض محمد بن مسلمة‪ ،‬فؤراد الضحاك أن‬ ‫ٌحفر خلٌجا ً ٌوصل إلٌها الماء‪ ،‬فؤبى محمد‪ ،‬فشكاه الضحاك إلى عمر‪ ،‬فدعا محمد بن مسلمة‪ ،‬وكلمه فً‬


‫األمر‪ ،‬فؤصر على موقفه‪ ،‬فقال له‪ ( :‬لم تمنع أخاك ما ٌنفعه وهو لك نافع‪ ،‬تسقً أوالً وآخراً‪ ،‬وه و ال‬ ‫ٌضرك ) ؟ فقال محمد‪ :‬ال وهللا‪ .‬فقال له عمر‪ ( :‬وهللا لٌمرن ولو على بطنك )‪ .‬وأمر الضحاك بالتنفٌذ‪.‬‬ ‫ومن هنا تقرر أن صاحب الملك ال ٌجوز له التعنت مع جٌرانه وشركابه‪ ،‬ومن لهم عبلقة بملكه بدعوى‬ ‫أنه حر التصرؾ فٌما ٌملك‪ ،‬فإن هذه الحرٌة مقٌّدة بمبدأ‪( :‬ال ضرر وال ضرار)‪ .‬ومن الضرار أن ٌمنع‬ ‫منفعة لؽٌره ال ٌناله من ورابها ضرر‪ ،‬فقد نهى عن ذلك الرسول الكرٌم‪ ( :‬ال ٌمنعن جار جاره أن‬ ‫ٌؽرز خشبة فً جداره )‪.‬‬

‫تنمية المال بما ال يضر األخالق والمصلحة العامة‬ ‫وٌدعو اإلسبلم أرباب األموال إلى تنمٌة أموالهم وتثمٌرها‪ ،‬وٌنهاهم عن تجمٌدها وتعطٌلها‪ ،‬فبل ٌجوز‬ ‫لصاحب األرض أن ٌعطل أرضه من الزراعة‪ ،‬إذا كان المجتمع فً حاجة إلى ما تخرجه من زرع‬ ‫وثمر‪ ،‬ومثل ذلك صاحب المصنع‪ ،‬الذي ٌحتاج الناس إلى منتجاته‪ ،‬وهو مناؾ لمبدأ (االستخبلؾ )‪.‬‬ ‫وكذلك ال ٌجوز ألرباب النقود كنزها وحبسها عن التداول‪ ،‬مع حاجة األمة إلى توظٌفها فً مشروعات‬ ‫نافعة‪ ،‬تمتص عدداً من العاطلٌن‪ ،‬وتنعش الحركة االقتصادٌة‪ ،‬وترفع من مستوى المعٌشة‪ ،‬وال عجب‬ ‫أن أنذر القرآن الكافزٌن األنانٌ​ٌن بهذا الوعٌد الشدٌد‪ ،‬فقال‪ ( :‬والذٌن ٌكنزون الذهب والفضة وال‬ ‫ٌنفقونها فً سبٌل هللا فبشرهم بعذاب ألٌم‪ٌ ،‬وم ٌحمى علٌها فً نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم‬ ‫وظهورهم‪ ،‬هذا ما كنزتم ألنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون )‪.‬‬ ‫ولكن اإلسبلم ٌقٌد مبلك المال فً تثمٌره وتنمٌته‪ ،‬بالطرق المشروعة‪ ،‬التً ال تتنافى مع األخبلق والقٌم‬ ‫العلٌا‪ ،‬وال مع المصلحة االجتماعٌة‪ ،‬إذ ال انفصال فً اإلسبلم بٌن االقتصاد واألخبلق‪ ،‬فلٌس رأس‬ ‫المال حراً كما هو فً الرأسمالٌة‪ ،‬وكما زعم قوم شعٌب قدٌما ً‪ :‬أن لهم أن ٌفعلوا فً أموالهم ما ٌشاإون‪.‬‬ ‫من أجل ذلك حرّ م اإلسبلم الوسابل اآلتٌة فً تثمٌر رأس المال‪:‬‬ ‫(أ) الربا‪:‬‬ ‫ففٌه ٌستؽل المرابً حاجة المستقرض إلى المال‪ ،‬وٌفرض علٌه زٌادة ٌؤخذها بؽٌر مقابل من جهد وال‬ ‫مخاطرة‪ ،‬فٌزداد الؽنً ؼنى‪ ،‬والفقٌر فقًراً‪ ،‬وتوجد طبقة أشبه بالعلق ‪ ,‬الذي ٌمتص دماء الكادحٌن‬ ‫والعاملٌن‪ ،‬فهً ال تعمل شٌباً‪ ،‬ولكن تعود إلٌها ثمرات كل شا‪ ،‬وبهذا تتسع الفروق االقتصادٌة بٌن‬ ‫الطبقات‪ ،‬وتتؤجج نار الحقد والصراع والبؽضاء‪ .‬لهذا شدد اإلسبلم فً تحرٌم الربا‪ ،‬وجعله من الكبابر‬ ‫والموبقات‪ ،‬وتوعد علٌه بؤعظم الوعٌد‪ٌ ( :‬ا أٌها الذٌن آمنوا اتقوا هللا وذروا ما بقى من الربا إن كنتم‬ ‫مإمنٌن‪ ،‬فإن لم تفعلوا فؤذنوا بحرب من هللا ورسوله )‪ .‬ولعن رسول اإلسبلم (صلى هللا علٌه وسلم) آكل‬ ‫الربا وموكله وكاتبه وشاهدٌه‪.‬‬ ‫(ب) االحتكار‪:‬‬ ‫فقد جاء فً الحدٌث الصحٌح‪ ( :‬ال ٌحتكر إال خاطا ) أي آثم‪ ،‬وفى حدٌث آخر رواه أحمد‪ ( :‬من احتكر‬ ‫طعاما ً أربعٌن ٌوما فقد برئ من هللا وبرئ هللا منه)‪ .‬وإنما جاء هذا الوعٌد‪ ،‬ألن المحتكر ٌرٌد أن ٌبنى‬ ‫نفسه على أنقاض اآلخرٌن‪ ،‬وال ٌهمه جاع الناس أو عروا‪ ،‬ما دام فً ذلك دراهم أو دنانٌر ترتد إلى‬ ‫خزانته‪ ،‬وكلما رأى الناس أشد حاجة إلى سلعته زاد فً إخفابها‪،‬واشتد سروره بؽبلبها‪ ،‬ولهذا روى فً‬ ‫الحدٌث‪ ( :‬ببس العبد المحتكر‪ ،‬إن سمع برخص ساءه‪ ،‬وإن سمع بؽبلء فرح)‪ .‬وقد اختلؾ الفقهاء فً‬ ‫تحدٌد األشٌاء التً ٌحرم احتكارها‪ ،‬أهً األقوات ؟ أم هً كل ما هو ضروري للناس؟ والصحٌح ما‬ ‫قاله اإلمام أبو ٌوسؾ‪ ( :‬كل ما أضر بالناس حبسه فهو احتكار)‪.‬‬ ‫(ج) الؽش‪:‬‬ ‫فً أي صورة من صوره‪ ،‬وفى الحدٌث‪ ( :‬من ؼش فلٌس منا)‪ ( ،‬البٌعان بالخٌار ما لم ٌتفرقا‪ ،‬فإن‬


‫صدقا وبٌنا بورك لهما فً بٌعهما‪ ،‬وإن كتما وكذبا محقت بركة بٌعهما )‪ .‬ومن الؽش تطفٌؾ الكٌل‬ ‫والوزن‪ ،‬الذي أنزل هللا فٌه قرآنا ٌتلى‪ ( :‬وٌل للمطففٌن‪ ،‬الذٌن إذا اكتالوا على الناس ٌستوفون‪ ،‬وإذا‬ ‫كالوهم أو وزنوهم ٌخسرون )‪ .‬وقد ذكر القرآن قصة شعٌب مرات عدٌدة وهو ٌدعو قومه بإخبلص‬ ‫وإصرار‪ ( :‬أوفوا الكٌل وال تكونوا من المخسرٌن‪ ،‬و وزنوا بالقسطاس المستقٌم)‪.‬‬ ‫(د) التجارة فً المحرمات‪:‬‬ ‫كالخمر والمخدرات والخنزٌر واألدوات المحرمة‪ ،‬كؤوانً الذهب والفضة‪ ،‬واألصنام والتماثٌل‪،‬‬ ‫واألؼذٌة الفاسدة‪ ،‬فإن هللا إذا حرّ م شٌبا ً حرّ م ثمنه‪.‬‬ ‫(هـ) وكل ما ٌتنافى مع الخلق الكرٌم ‪،‬أو ٌبعد عن الدٌن القوٌم‪ ،‬أو ٌضر بصالح المجتمع‪ ،‬فهو منكر‬ ‫ٌحاربه اإلسبلم‪ ،‬وٌرفضه االقتصاد اإلسبلمً‪.‬‬

‫تحقيق االكتفاء الذاتي لألمة‬ ‫ومن القواعد الهام ة فً االقتصاد اإلسبلمً ‪ :‬العمل على تحقٌق االكتفاء الذاتً لؤلمة‪ .‬بمعنى أنها ٌجب‬ ‫أن ٌكون لدٌها من الخبرات والكفاٌات والوسابل واألدوات‪ ،‬ما ٌجعلها قادرة على أن تنتج ما ٌفً‬ ‫بحاجاتها المادٌة والمعنوٌة‪ ،‬وٌسد ثؽراتها المدنٌة والعسكرٌة‪ ،‬عن طرٌق ما ٌسمٌه الفقهاء (فروض‬ ‫الكفاٌة) ‪ ،‬وهى تشمل كل علم أو عمل أو صناعة أو مهارة ٌقوم بها أمر الناس فً دٌنهم أو دنٌاهم‪،‬‬ ‫فالواجب علٌهم حٌنبذ تعلمها وتعلٌمها وإتقانها حتى ال ٌكون المسلمون عالة على ؼٌرهم‪ ،‬وال ٌتحكم‬ ‫فٌهم سواهم من األمم األخرى‪ .‬وبؽٌر هذا االستؽناء واالكتفاء لن ٌتحقق لهم العزة التً كتب هللا لهم فً‬ ‫كتابه‪ ( :‬وهلل العزة ولرسوله والمإمنٌن )‪ .‬وبؽٌره لن ٌتحقق لهم االستقبلل والسٌادة الحقٌقٌة‪ ،‬وهو ما‬ ‫ذكره القرآن‪ :‬ولن ٌجعل هللا للكافرٌن على المإمنٌن سبٌبلً )‪( .‬‬ ‫حانه‪( :‬وكذلك جعلناكم‬ ‫ولن ٌتحقق لهم مكان األستاذٌة والشهادة على األمم‪ ،‬وهو المذكور فً قوله سب‬ ‫أمة وسطا ً لتكونوا شهداء عل الناس وٌكون الرسول علٌكم شهٌداً)‬ ‫فبل عزة ألمة ٌكون سبلحها من صنع ؼٌرها‪ٌ ،‬بٌعها منه ما ٌشاء‪ ،‬متى ٌشاء‪ ،‬بالشروط التً ٌشاء‪،‬‬ ‫وٌكؾ ٌده عنها أنىّ شاء‪ ،‬وكٌؾ ٌشاء‪ .‬وال سٌادة حقٌقٌة ألمة تعتمد على خبراء أجانب عنها فً أخص‬ ‫أمورها‪ ،‬وأدق شإونها‪ ،‬وأخطر أسرارها‪ .‬وال استقبلل ألمة ال تملك زراعة قوتها شفى أرضها‪ ،‬وال‬ ‫تجد الدواء‪ ،‬لمرضاها‪ ،‬وال تقدر على النهوض بصناعة ثقٌلة‪ ،‬إال باستٌراد اآللة والخبرة من ؼٌرها‪.‬‬ ‫وال أستاذٌة ألمة‪ ،‬ال تستطٌع أن تبلػ دعوتها عن طرٌق الكلمة المقروءة أو المسموعة‪ ،‬أو المصورة‬ ‫المربٌة إال بشرابها من أهلها القادرٌن علٌها‪ .‬ما دامت ال تصنع مطبعة‪ ،‬وال محطة إذاعة وال تلفاز‪ ،‬وال‬ ‫أقماراً صناعٌة‪.‬‬ ‫سبيل االكتفاء‬ ‫وإنما ٌتم ذلك االكتفاء بعدة أمور نجملها فٌما ٌلً‪:‬‬ ‫‪‬‬

‫ضرورة التخطٌط‪:‬‬

‫‪ .1‬ال بد من التخطٌط القابم على اإلحصاء الدقٌق‪ ،‬واألرقام الحقٌقٌة‪ ،‬والمعرفة البلزمة بالحاجات‬ ‫المطلوبة ومراتبها ومدى أهمٌتها‪ ،‬واإلمكانات الموجودة‪ ،‬ومدى القدرة على تنمٌتها‪ ،‬والوسابل‬ ‫المٌسورة لتلبٌة الحاجات‪ ،‬والتطلع إلى الطموحات‪.‬‬


‫وقد ذكر لنا القرآن الكرٌم نموذجا ً من التخطٌط امتد لخمسة عشر عاماً‪ ،‬قام به رسول كرٌم من رسل‬ ‫هللا‪ .‬هو ٌوسؾ الص ّدٌق علٌه السبلم‪ ،‬وبهذا التخطٌط ‪ -‬الذي شمل اإلنتاج واالدخار واالستهبلك‬ ‫والتوزٌع ‪ -‬واجه أزمة المجاعة‪ ،‬والسنوات العجاؾ التً حلت بمصر‪ ،‬وما حولها‪ .‬كما قص ذلك علٌنا‬ ‫القرآن الكرٌم فً سورة ٌوسؾ‪.‬‬

‫‪‬‬

‫تهٌبة الطاقات البشرٌة وحسن توزٌعها‪:‬‬

‫‪ٌ .2‬جب على األمة أن تطور نظامها التعلٌمً والتدرٌبً‪ ،‬بحٌث ٌهٌا لها الطاقات والكفاٌات‬ ‫البشرٌة المتنوعة فً كل مجال تحتاج إلٌه‪ ،‬وأن تطور نظامها اإلداري والمالً بحٌث تنمً‬ ‫هذه الطاقات‪ ،‬وتحسن تجنٌدها‪ ،‬وتوزٌعها على شتى االختصاصات بالعدل‪ ،‬اهتداء بقوله تعالى‪:‬‬ ‫( وما كان المإمنون لٌنفروا كافة‪ ،‬فوال نفر من كل فرقة منهم طابفة لٌتفقهوا فً الدٌن ولٌنذروا‬ ‫قومهم إذا رجعوا إلٌهم لعلهم ٌحذرون ) ‪ ،‬وملء الثؽرات التً تهمل ‪ -‬عادة أو ؼفلة ‪ -‬بالحوافز‬ ‫أو بااللتزام‪ .‬ووضع كل إنسان فً الكان المناسب له‪ ،‬والحذر من إسناد األمر لؽٌر أهله‪ ( :‬إذا‬ ‫وسد األمر إلى ؼٌر أهله فانتظر الساعة )‪ .‬ومن ثم كان حرص اإلسبلم على الثروة البشرٌة‪،‬‬ ‫والمحافظة علٌها والعمل على تنمٌتها‪ :‬جسمٌا ً وعقلٌا ً وروحٌا ً وعلمٌا ً ومهنٌاً‪ ،‬وكانت الموازنة‬ ‫بٌن الدٌن والدنٌا دون طؽٌان أو إخسار‪.‬‬

‫‪‬‬

‫حسن استؽبلل الموارد المتاحة‪:‬‬

‫‪ .3‬حسن استؽبلل الموارد االقتصادٌة واإلمكانات المادٌة‪ ،‬بحٌث ال نهدر شٌبا منها‪ ،‬والمحافظة‬ ‫ع لٌها باعتبارها أمانة ٌجب أن ترعى‪ ،‬ونعمه ٌجب أن ٌشكر هللا تعالى باستخدامها أحسن‬ ‫استخدام‪ ،‬وأمثله‪ .‬ومن أجل هذا لفت القرآن أفكارنا إلى ما سخر هللا لنا مما فً السموات‬ ‫واألرض ء وما فً البر والبحر‪ .‬وحمل بشدة على الذٌن ٌهدرون أجزاء من الثروة الحٌوانٌة‪،‬‬ ‫أو الزراعٌة اتباعا ً ألقاوٌل ما أنزل هللا بها من سلطان‪ ،‬فحرموا ما رزقهم هللا افتراء على هللا‪،‬‬ ‫وناقشت ذلك سوره (األنعام) مناقشة مفصله‪ ( :‬وقالوا هذه أنعام وحرث حجر ال ٌطعمها إال من‬ ‫نشاء بزعمهم وأنعام حرّ مت ظهورها وأنعام ال ٌذكرون اسم هللا علٌها افتراء علٌه‪ ،‬سٌجزٌهم‬ ‫بما كانوا ٌفترون )‪ .‬إلى أن قال‪ ( :‬قد خسر الذٌن قتلوا أوالدهم سفها ً بؽٌر علم وحرّ موا ما‬ ‫رزقهم هللا افتراء على هللا‪ ،‬قد ضلوا وما كانوا مهتدٌن )‪ .‬ونبه الرسول الكرٌم على وجوب‬ ‫االنتفاع بؤي مادة خام‪ ،‬وعدم إهدارها وتضٌ​ٌعها‪ ،‬وإن استهان الناس بها‪.‬‬ ‫فقد مر على شاة مٌتة‪ ،‬فسؤل عنها فقالوا‪ :‬إنها شاة لموالة لمٌمونة ( أم المإمنٌن ) فقال‪ ( :‬هبل أخذتم‬ ‫إهابها فانتفعتم به ؟‪.‬إنما حرم أكلها )‪ .‬بل إن النبً (صلى هللا علٌه وسلم) لٌحذر من التفرٌط حتى فً‬ ‫اللقمة تسقط من آكلها‪ ،‬فٌنبؽً أن ٌمٌط عنها األذى وٌؤكلها‪ ،‬وال ٌدعها للشٌطان‪ .‬كما ٌنبؼً له أن ٌلعق‬ ‫الصحفة أو ٌلعقها‪ ،‬وال ٌدع الفضبلت تلقى فً القمامات‪ .‬ومما ٌجدر التنبٌه علٌه هنا‪ :‬توجٌه النبً‬ ‫(صلى هللا علٌه وسلم) إلى زراعة األرض لمن ٌقدر أن ٌزرعها بنفسه‪ ،‬أو بإمارتها لمسلم آخر ٌستطٌع‬ ‫أن ٌزرعها‪ .‬وفى هذا جاء الحدٌث‪ ( :‬من كانت له أرض فلٌزرعها أو لٌمنحها أخاه )‪ .‬وإذا تٌسر له‬ ‫المزارعة علٌها بجزء شابع من ؼلتها فهو حسن أٌضاً‪ ،‬من باب التعاون بٌن مالك األرض والفبلح‬ ‫المزارع‪ ،‬أشبه بالمضاربة التً ٌعاون فٌها رأس المال والجهد‪ .‬وقد زارع النبً (صلى هللا علٌه وسلم)‬


‫الٌهود على أرض خٌبر بالشطر مما ٌخرج منها‪ .‬وقال عمر بن عبد العزٌز‪ ( :‬زارعوا على األرض‬ ‫بنصفها‪ ،‬بثلثها‪ ،‬بربعها … إلى عشرها‪ ،‬وال تدعوا األرض خرابا ً )‪ .‬وأنكر الرسول (صلى هللا علٌه‬ ‫وسلم) بشدة على من قتل عصفوراً عبثاً‪ ،‬وأخبر أنه سٌشكو إلى هللا قاتله ٌوم القٌامة قاببل ‪ٌ( :‬ا رب‪:‬‬ ‫قتلنً عبثا ً ولم ٌقتلنً منفعة )‪.‬‬ ‫وٌلحق بالعصفور كل المباحات التً ٌعمل علٌها بالصٌد ونحوه‪ ،‬من ثروة برٌة أو بحرٌة‪ ،‬فبل ٌجوز‬ ‫العبث بها وال المساس بها بؽٌر ما فٌه منفعة المسلمٌن‪ .‬كما أنكر النبً علٌه الصبلة والسبلم فً حدٌث‬ ‫آخر‪ :‬استخدام الشًء فً ؼٌر ما خلق له بالفطرة أو بالعادة‪ .‬فقد جاء فً الصحٌح‪ :‬أن رجبلً ركب بقرة‬ ‫فتكلمت‪ ،‬فقالت‪ :‬ما لهذا خلقت ! إنما خلقت للحرث‪ .‬فهل تكلمت بلسان الحال‪ ،‬وقد ٌكون ابلػ من لسان‬ ‫المقال ؟ أو هو كبلم حقٌقً من باب الخوارق وهو الظاهر من سٌاق الحدٌث‪ ،‬وما ذلك على هللا بعزٌز‪.‬‬ ‫المهم هنا ما ٌشٌر إلٌه الحدٌث من الحث على استخدام الشًء فٌما خلق له ‪.‬‬ ‫وٌحسن بنا ها أن نشٌر إلى قوله تعالى فً الوصٌة بمال الٌتٌم ‪ ( :‬وال تقربوا مال الٌتٌم إال بالتً هً‬ ‫أحسن حتى ٌبلػ أشده)‪ .‬وقد تكرر ذلك فً القرآن بهذه الصٌؽة نفسها‪ ،‬فلم ٌكتؾ القرآن منا أن نقرب‬ ‫مال الٌتٌم بطرٌقة حسنة وحسب‪ ،‬بل بالتً هً أحسن‪ ،‬فإذا كانت هناك طرٌقتان لتنمٌة مال الٌتٌم‬ ‫والمحافظة علٌه‪ :‬إحداهما حسنة جٌدة‪ ،‬واألخرى أحسن منها وأجود‪ ،‬كان الواجب علٌنا أن نستخدم التً‬ ‫هً أحسن وأجود‪ ،‬بل حرام علٌنا أال نستخدم إال التً هً أحسن‪ ،‬كما هو مفهوم التعبٌر بالنهً وأسلوب‬ ‫القصر‪ .‬ومال األمة فً مجموعه أشبه بمال الٌتٌم‪ ،‬والدولة التً ترعاه ومإسساتها المسإولة عنه أشبه‬ ‫بولً الٌتٌم‪ ،‬كما شبه عمر نفسه مع بٌت المال بولً الٌتٌم‪ :‬إن استؽنى استعؾّ ‪ ،‬وان افتقر أكل‬ ‫بالمعروؾ‪ .‬ولهذا ٌجب أن نحافظ علٌه وننمٌه بالتً هً أحسن‪.‬‬

‫‪‬‬

‫التنسٌق بٌن فروع االنتاج‪:‬‬

‫‪ .4‬ومن البلزم هنا ‪ -‬لكً تكتفً األمة إكتفاء ذاتٌا ً ‪ -‬أن ٌتم التنسٌق بٌن جوانب اإلنتاج المختلفة‪،‬‬ ‫فبل ٌطؽى فرع على فرع‪ ،‬وال ٌهمل جانب لحساب جانب آخر‪ ،‬فبل ٌجسن أن توجه العناٌة إلى‬ ‫الزراعة مثبلً‪ ،‬فً حٌن ٌهمل أمر الصناعة‪ ،‬أو العكس‪ ،‬أو ٌوجه التعلٌم لتخرٌج أطباء‪ ،‬وٌنسى‬ ‫المهندسون‪ ،‬أو العكس‪ ،‬أو ٌهتم بالهندسة المدنٌة أو المٌكانٌكٌة‪ ،‬وتؽفل الهندسة اإللكترونٌة أو‬ ‫النووٌة‪ ..‬أو ٌعنى بالجوانب النظرٌة‪ ،‬والكفاٌات العقلٌة العالٌة‪ ،‬وتؽفل الجوانب العملٌة‪،‬‬ ‫والمهار ات الٌدوٌة‪ ،‬والخبرات المتوسطة والدنٌا … وهكذا ‪.‬‬ ‫لهذا أكدنا ضرورة التخطٌط القابم على الدراسة واإلحصاء لمعرفة حاجات المجتمع من كل تخصص‬ ‫للعمل على تلبٌتها‪ ،‬والتعرؾ على أوجه النقص الستكمالها‪.‬‬ ‫وفً حدٌث‪ ( :‬إذا تباٌعتم بالعٌنة‪ ،‬ورمٌتم بالزرع‪ ،‬وتبعتم أذناب البقر‪ ،‬وتركتم الجهاد فً سبٌل هللا‪ .‬سلط‬ ‫هللا علٌكم ذالً ال ٌنزعه عنكم‪،‬حتى تراجعوا دٌنكم ) ‪ ،‬ما ٌشٌر إلى أن االكتفاء بالزراعة وحدها‪ ،‬وما‬ ‫ٌتبعها من اإلخبلد إلى الحٌاة الخاصة المعبر عنها باتباع أذناب البقر‪ ،‬وترك الجهاد فً سبٌل هللا وما‬ ‫ٌتطلبه من إعداد القوة‪ٌ ،‬عرض األمة لخطر الذل واالستعمار‪ ،‬وهذا بالضرورة ٌحتاج إلى نوع من‬ ‫الصناعات ال بد أن ٌتوافر فً األمة‪ ،‬إذ ما ال ٌتم الواجب إال به فهو واجب‪.‬‬ ‫وحسب المإمنٌن هنا أن هللا أنزل علٌهم سورة سمٌت( سورة الحدٌد ) تنبٌها ً على أهمٌة هذا المعدن‬ ‫الخطٌر‪ ،‬وقال فٌها ‪ ( :‬وأنزلنا الحدٌد فٌه بؤس شدٌد ومنافع للناس)‪ .‬ففً قوله‪ ( :‬فٌه بؤس شدٌد ) إشارة‬ ‫إلى الصناعات الحربٌة‪ ،‬وفى وقوله‪ ( :‬ومنافع للناس ) إشارة إلى الصناعات المدنٌة‪ .‬وبهذا تكتمل قوة‬ ‫األمة فً سلمها وحربها‪ .‬وإن كان الذي ٌإسؾ له‪ :‬أن أمة سورة الحدٌد لم تتقن صناعة الحدٌد‪ ،‬ال فً‬


‫المجال العسكري‪ ،‬وال فً المجال المدنً ! وٌجب فً مٌدان اإلنتاج تقدٌم األهم على المهم‪ ،‬والمهم على‬ ‫ؼٌر المهم‪ .‬أو ‪ -‬على حد تعبٌر األصولٌ​ٌن ‪ -‬تقدٌم ( الضرورٌات ) التً ال تقوم الحٌاة إال بها‪ ،‬على‬ ‫(الحاجٌات) التً تكون الحٌاة بدونها شاقة وعسٌرة‪ ،‬وتقدٌم ( الحاجٌات) على (التحسٌنات)‪ ،‬أو ما‬ ‫نسمٌه بلؽة العصر ( الكمالٌات )‪ .‬فبل ٌجوز لمجتمع أن ٌزرع الفواكه الؽالٌة الثمن‪ ،‬التً ال تهم ؼٌر‬ ‫األثرٌاء والمترفٌن‪ ،‬فً حٌن ٌهمل زراعة القمح أو الذرة أو األرز‪ ،‬التً هً القوت الٌومً للجماهٌر‪.‬‬ ‫وال ٌجوز االهتمام بصناعة العطور وأدوات الزٌنة و (الم كٌاج) فً حٌن ال تتجه الهمة إلى صناعة‬ ‫أدوات الزراعة‪ ،‬أو الري‪ ،‬أو السٌارات‪ ،‬أو صناعة السبلح الضروري للدفاع عن الحوزة‪ .‬أما إنتاج ما‬ ‫ٌضر بالفرد أو بالمجتمع‪ ،‬مادٌا ً أو معنوٌاً‪ ،‬جسمٌا ً أو روحٌاً‪ ،‬فهو مرفوض حتماً‪ ،‬ومحظور شرعا ً‪ .‬مثل‬ ‫زراعة الكروم لتعصر خمراً‪ ،‬أو زر اعة الخشخاش أو الحشٌش وؼٌره من مصادر المخدرات‪ ،‬أو‬ ‫زراعة التبػ أو القات ونحوها‪ ،‬مما فٌه استخدام نعم هللا تعالى فً معصٌة هللا أو ضرر خلقه‪.‬‬

‫‪‬‬

‫تشؽٌل الثروة النقدٌة‪:‬‬

‫‪ .5‬ومن الواجب على المجتمع المسلم‪ :‬أن ٌخرج بالنقود من قمقم (الكنز) إلى باحة الحركة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫والعمل‪ ،‬فإن النقود لم تخلق لتحبس وتكتنز‪ ،‬إنما خلقت لتتداول‪ ،‬وتتقل من ٌد إلى ٌد‪ :‬ثمنا لبٌع‪،‬‬ ‫أو أجراً لعمل‪ ،‬أو عٌن ٌنتفع بها‪ ،‬أو رأس مال لشركة أو مضاربة‪ ،‬فهً وسٌلة ألؼراض شتى‪،‬‬ ‫ولٌست هً فرضا ً فً ذاتها‪ .‬وال ٌجوز أن ٌحولها الناس إلى وثن ٌعبدونه وٌطوفون به‪ ،‬فهذا‬ ‫سبب التعاسة والشقاء‪ ( :‬تعس عبد الدٌنار‪ ،‬تعس عبد الدرهم )‪ .‬ولقد تحدث اإلمام الؽزالً فً (‬ ‫اإلحٌاء ) عن وظٌفة النقود فً الحٌاة االقتصادٌة‪ ،‬حدٌثا ً سبق به فبلسفة االقتصاد فً العصر‬ ‫الحدٌث‪ .‬فقد ذكر أن هللا تعالى خلق الدراهم والدنانٌر ( ٌعنى النقود ) لتتداولهما األٌدي‪،‬‬ ‫ولٌكونا حاكمٌن متوسطٌن بٌن األموال بالعدل‪ .‬ولحكمة أخرى‪ ،‬وهى‪ :‬التوسل بهما إلى سابر‬ ‫األشٌاء‪ ،‬ألنهما عزٌزان فً أنفسهما‪ ،‬وال ؼرض فً أعٌانهما‪ ،‬ونسبتهما إلى سابر األشٌاء‬ ‫واحدة ‪ ,‬فمن ملكها فكؤنه ملك كل شا‪ ،‬ال كمن ملك ثوبا ً فإنه لم ملك إال الثوب … فكل من‬ ‫عمل فٌهما عمبلً ال ٌلٌق بالحكم بل ٌخالؾ الؽرض المقصود بالحكم ( أي بٌن األموال ) فقد‬ ‫كفر نعمة هللا فٌهما‪ .‬فإذن من كنزهما فقد ظلمهما‪ ،‬وأبطل الحكمة فٌهما‪ ،‬وكان كمن حبس حاكم‬ ‫المسلمٌن فً سجن ٌمتنع علٌه الحكم بسببه … فؤخبر هللا تعالى الذٌن ٌعجزون من قراءة‬ ‫األسطر اإللهٌة‪ ،‬المكتوبة على صفحات الموجودات‪ ،‬بكبلم سمعوه حتى وصل إلٌهم المعنى‬ ‫بواسطة الحرؾ والصوت‪ ،‬فقال تعالى‪ ( :‬والذٌن ٌكنزون الذهب والفضة وال ٌنفقونها فً سبٌل‬ ‫هللا‪ ،‬فبشرهم بعذاب ألٌم)‪ .‬وقد فرض هللا الزكاة على النقود فً كل حول‪ ،‬نماما مالكها أم لم‬ ‫ٌنمها‪ ،‬لتكون حافزاً قوٌا ً ٌدفعه إلى تنمٌتها وتحرٌكها‪ ،‬حتى ال تؤكلها الزكاة بمرور األعوام‪.‬‬ ‫وهذا ما أمر به الحدٌث األوصٌاء على أموال الٌتامى أمراً صرٌحا ً‪ :‬أن ٌبتؽوا فً أموال‬ ‫الٌتامى وٌتجروا فٌها حتى ال تؤكلها الزكاة‪.‬‬

‫االعتدال في اإلنفاق‬ ‫ومما ٌتمم ما ذكرناه‪ :‬ما عنى به اإلسبلم من ترشٌد االستهبلك‪ ،‬والحث على االعتدال فً اإلنفاق‪ ،‬وهو‬ ‫ما وصؾ هللا به عباد الرحمن المقربٌن إلٌه‪ ( :‬والذٌن إذا أنفقوا لم ٌسرفوا ولم ٌقتروا وكان بٌن ذلك‬


‫قواما ً )‪ .‬وما أمر به فً وصاٌا الحكمة من سورة اإلسراء‪ ( :‬وال تجعل ٌدك مؽلولة إلى عنقك وال‬ ‫تبسطها كل البسط فتقعد ملوما ً محسوراً )‪ .‬وٌتحتم ذلك وٌتؤكد إذا قلت الموارد كما فً أٌام القحط‬ ‫الخصب‬ ‫ة‬ ‫والمجاعات‪ ،‬وهو ما أشار إلٌه القرآن فً قصة ٌوسؾ‪ ،‬من تقلٌل االستهبلك فً السنوات السبع‬ ‫حتى ٌكون هناك مجال لبلدخار‪ ( :‬فما حصدتم فذروه فً سنبله إال قلٌبلً مما تؤكلون )‪ .‬ثم تقلٌل‬ ‫االستهبلك مرة أخرى فً السنوات السبع العجاؾ‪ ،‬بحكم الضرورة وتوزٌع المدخر على سنوات األزمة‬ ‫جمٌعا ً‪ ( :‬ثم ٌؤتى من بعد ذلك سبع شداد ٌؤكلن ما قدمتهم لهن إال قلٌبلً مما تحصنون )‪ ،‬وفى التعبٌر‬ ‫بقوله‪ ( :‬ما قدمتم لهن) ما ٌدل على أن ما ٌستهلك إنما ٌتم بحساب وتقدٌر‪ ،‬فهم الذٌن ٌقدمون‪ ،‬وهذا دلٌل‬ ‫القصد‪.‬‬ ‫وقد هم أمٌر المإمنٌن عمر الفاروق فً عام المجاعة‪ ،‬أن ٌضٌؾ إلى كل بٌت عندهم بقاٌا الخصب‬ ‫مثلهم فً العدد‪ ،‬ممن ساء حالهم‪ ،‬ونضبت مواردهم‪ ،‬وقال‪( :‬إن الناس ال ٌهلكون على أنصاؾ بطونهم‬ ‫)‪ .‬وهو ما أومؤ إلٌه الحدٌث النبوي‪ ( :‬طعام الواحد ٌكفى االثنٌن‪ ،‬وطعام االثنٌن ٌكفً األربعة )‪ .‬إن‬ ‫قاعدة ( االستخبلؾ ) التً ذكرناها من قبل تجعل المسلم مقٌداً فً استهبلكه وإنفاقه للمال‪ ،‬كما قٌدته فً‬ ‫تثمٌره وتنمٌته‪ .‬إن اإلسبلم ال ٌحرم على المسلم طٌبات الحٌاة‪ ،‬كما حرمتها بعض الدٌانات والفلسفات‪،‬‬ ‫كالبرهمٌة الهندٌه‪ ،‬والمانوٌة الفارسٌة‪ ،‬والرواقٌة الٌونانٌة‪ ،‬والرواقٌة النصرانٌة‪ .‬إنما ٌحرم االعتداء فً‬ ‫االستمتاع بها‪ ،‬أو اإلسراؾ فً تناولها‪ٌ .‬قول تعالى‪ٌ ( :‬ا أٌها الذٌن آمنوا ال تحرموا طٌبات ما أحل هللا‬ ‫لكم وال تعتدوا‪ ،‬إن ال ٌحب المعتدٌن)‪ .‬وٌقول عز وجل‪ ( :‬وآت ذا القربى حقه والمسكٌن وابن السبٌل‬ ‫وال تبذر تبذٌراً‪ ،‬إن المبذرٌن كانوا إخوان الشٌاطٌن‪ ،‬وكان الشٌطان لربه كفوراً) ‪ .‬والفرق بٌن التبذٌر‬ ‫واإلسراؾ‪ :‬أن اإلسراؾ تجاوز الحد فً الحبلل‪ ،‬والتبذٌر‪ :‬اإلنفاق فً الحرام‪ ،‬ولو كان درهما ً واحداً‪.‬‬ ‫ومن هنا ٌجب مراعاة المبادئ التالٌة فً النفقة‪:‬‬ ‫‪ ‬اإلنفاق على النفس واألهل‪:‬‬ ‫(أ) فبل ٌجوز لصاحب المال أن ٌؽل ٌده عن اإلنفاق الواجب على نفسه وأهله شحا ً وبخبلً‪ ،‬أو تقشفا ً‬ ‫وتزهداً‪،‬فاإلسبلم ٌنهى عن الشح وٌحذر منه‪ ،‬وٌجعله مصدراً لفساد عرٌض‪ ،‬وفً الحدٌث ‪(:‬إٌاكم‬ ‫والشح‪ ،‬فإنما هلك من كان قبلكم بالشح‪ :‬أمرهم بالقطٌعة فقطعوا‪ ،‬وأمرهم بالبخل فبخلوا‪ ،‬وأمرهم‬ ‫بالفجور ففجروا)‪ .‬كما ٌهٌا من الرهبة وتحرٌم المتعة الحبلل‪ ،‬وٌسمى المبلبس الجمٌلة ونحوها‪( :‬زٌنة‬ ‫هللا التً أخرج لعباده )‪ .‬كما ٌسمى المآكل والمشارب‪ :‬الطٌبات من الرزق‪ .‬وهى تسمٌة ٌكنى بها عن‬ ‫المدح والرضا‪ ،‬وٌنكر أشد اإلنكار على من حرمها على نفسه أو ؼٌره‪ (:‬قل من حرم زٌنة هللا التً‬ ‫أخرج لعباده والطٌبات من الرزق)‪ٌ( .‬ا بنً آدم خذوا زٌنتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا وال تسرفوا‪،‬‬ ‫إنه ال ٌحب المسرفٌن)‪ .‬وقال صلى هللا علٌه وسلم‪ ( :‬إن هللا ٌحب أن ٌرى أثر نعمته على عبده )‪ .‬ولما‬ ‫سؤله أحد الصحابة‪ :‬أنه أولع بالجمال‪ .‬وٌحب أن ٌكون ثوبه حسناً‪ ،‬ونعله حسنه‪ ،‬فهل هذا من الكبر ؟‬ ‫قال‪ ( :‬ال‪ ،‬إن هللا جمٌل ٌحب الجمال‪ ،‬الكبر بطر الحق‪ ،‬وؼمط الناس)‬ ‫‪ ‬لزوم اإلنفاق فً الحقوق الواجبة‪:‬‬ ‫(ب) وال ٌجوز له أن ٌبخل بالحقوق الواجبة علٌه فً ماله‪ ،‬سواء‪ ،‬أكانت حقوقا ً ثابتة‪ ،‬كالزكاة ونفقات‬ ‫الوالدٌن واألقارب الفقراء‪ ،‬أم حقوقا ً عارضة‪ ،‬كقرى الضٌؾ‪ ،‬وإعارة الماعون‪ ،‬وإؼاثة المضطر‪،‬‬ ‫واإلعطاء فً النوازل التً تنزل باألمة أو ببلد هو فٌها‪ ،‬كالحروب والمجاعات والحرٌق‪ ،‬وكفاٌة فقراء‪،‬‬ ‫بلده بما ال بد لهم منه من حاجات المعٌشة‪ ،‬من مطعم وملبس ومسكن وعبلج‪ ،‬ونحو ذلك‪ .‬واإلسبلم‬ ‫ٌإكد أهمٌة هذه الحقوق‪ ،‬حتى إنه لٌجٌز شهر السبلح من أجلها‪ ،‬وقد قاتل أبو بكر ومعه الصحابة من‬ ‫أجل حق الزكاة‪ ،‬وأباح النبً (صلى هللا علٌه وسلم) للضٌؾ أن ٌؤخذ حق القرى كن نزل بهم ولو‬ ‫بالقوة‪ ،‬وعلى المسلمٌن أن ٌشدوا أزره فً ذلك‪ .‬قال‪( :‬أٌما ضٌؾ نزل بقوم فؤصبح الضٌؾ محروماً‪،‬‬


‫فله أن ٌؤخذ بقدر قراه‪ ،‬وال حرج علٌه)‪ .‬وأباح عامة الفقهاء للمضطر إلى الماء والقوت‪ ،‬أن ٌقاتل من‬ ‫منعهما عنه بؽٌر حق‪.‬‬ ‫‪ ‬الموازنة بٌن الدخل واإلنفاق‪:‬‬ ‫(ج) كما ٌجب علٌه أن ٌوازن بٌن دخله وإنفاقه‪ ،‬فبل ٌنفق عشرة ودخله ثمانٌة‪ ،‬فٌضطر إلى‬ ‫االستقراض‪ ،‬وتحمل منة الدابن‪ ،‬والدٌن ه ّم باللٌل ومذلة بالنهار‪ ،‬وكان النبً‪ٌ ،‬ستعٌذ باهلل من المؽرم (‬ ‫الدٌن)‪ ،‬معلبلً ذلك بؤن الرجل إذا ؼرم ح ّدث فكذب‪ ،‬ووعد فؤخلؾ‪ ،‬كما فً صحٌح البخاري‪ .‬فإنفاق‬ ‫المرء أكثر مما تطٌقه ثروته ودخله‪ ،‬هو من اإلسراؾ المذموم‪ ،‬قال تعالى‪( :‬وال تسرفوا‪ ،‬إنه ال ٌحب‬ ‫المسرفٌن)‪ .‬وفى الحدٌث‪ ( :‬كلوا واشربوا ( والبسوا ) وتص ّدقوا‪ ،‬ما لم ٌخالطه إسراؾ وال مخٌلة )‪.‬‬ ‫رواه النسابً وابن ماجه عن عمرو بن شعٌب عن أبٌه عن جده‪ .‬وهذا فً اإلنفاق على المباحات‪ .‬أما‬ ‫المحرمات فكل درهم ٌنفق فٌها ٌدخل فً باب التبذٌر‪ .‬وأما الطاعات كالصدقة والجهاد والمشروعات‬ ‫الخٌرٌة‪ ،‬فبل إسراؾ فٌها ما لم ٌضٌع حقا ً أوجب منها‪ ،‬كحق عٌاله أو ؼرٌمه‪ ،‬أو نفقة واجبة علٌه‪ ،‬أو‬ ‫نحو ذلك‪ .‬ولهذا حٌن قٌل لبعض األسخٌاء المنفقٌن فً الصالحات‪ :‬ال خٌر فً اإلسراؾ‪ ،‬كان جوابه‪ :‬ال‬ ‫إسراؾ فً الخٌر‪.‬‬ ‫واإلسبلم ٌعطً الحاكم الحق فً (الحجر) على كل سفٌه متبلؾ‪ٌ ،‬بعثر المال فً ؼٌر وجهه‪ ،‬ألن لؤلمة‬ ‫حقا ً فً هذا المال‪ ،‬فحظه ٌعود علٌها بالمنافع‪ ،‬واضاعته ٌرجع علٌها بالضرر‪ ،‬ولهذا أضاؾ هللا أموال‬ ‫السفهاء إلى األمة فقال‪( :‬وال تإتوا السفهاء أموالكم التً جعل هللا لكم قٌاما ً)‬ ‫‪ ‬حرب على الترؾ والمترفٌن‪:‬‬ ‫(د) وهناك نوع من اإلسراؾ ٌحرمه اإلسبلم‪ ،‬وٌشتد فً تحرٌمه ومقاومته‪ ،‬لما فٌه من إفساد حٌاة‬ ‫الفرد‪ ،‬وحٌاة الجماعة‪ ،‬ذلك هو ما سماه اإلسبلم (الترؾ) وهو التوسع فً ألوان التنعم‪ ،‬وأسباب‬ ‫الرفاهٌة‪ ،‬مما ٌمؤل البطون من مطاعم ومشارب‪ ،‬وما ٌؽشى األبدان من حلى وحلل‪ ،‬وما ٌؽمر البٌوت‬ ‫من أثاث ورٌاش‪ ،‬وتحؾ وتماثٌل‪ ،‬وأدوات فضٌة وذهبٌة وؼٌر ذلك‪.‬‬ ‫باع الحق‪ ،‬ألن الترؾ لم ٌدع‬ ‫إن القرآن ٌعتبر الترؾ أول المعوقات التً تحول بٌن الناس وبٌن ات‬ ‫ألصحابه متسعا ً لؽٌر شهواتهم‪ ،‬ومتعهم‪ ،‬فمن دعاهم إلى ؼٌر ذلك‪ ،‬عادوه وقاوموه‪ ،‬قال تعالى‪ ( :‬وما‬ ‫أرسلنا فً قرٌة من نذٌر إال قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون )‪.‬‬ ‫والترؾ له لوازمه من اللهو والعبث والمجون‪ ،‬وله تؤثٌره فً إشاعة المٌوعة والطراوة فً أبناء األمة‪،‬‬ ‫مما ٌإدي بعد حٌن إلى انحبلل أخبلقها وتفسخ روابطها‪ ،‬واتساع الهوة بٌن أبنابها‪ ،‬نتٌجة لحرمان‬ ‫األكثرٌة من الضرورٌات وتمتع األقلٌة بما ال عٌن رأت وال أذن سمعت‪ ،‬من الكمالٌات وما بعد‬ ‫الكمالٌات‪ ،‬ومن هنا تستحق الجماعة كلها الهبلك والعذاب‪ ،‬المترفون لترفهم‪ ،‬واآلخرون لسكوتهم أو‬ ‫مماألتهم‪ ( :‬وإذا أردنا أن نهلك قرٌة أمرنا مترفٌها ففسقوا فٌها فحق علٌها القول فدمرناها تدمراً )‪ .‬إن‬ ‫القرآن ٌحدثنا أن الترؾ كان هو المسإول األول عما أصاب كثٌرً ا من األمم من عقاب وببلبه‪ ،‬فحرمت‬ ‫من النصر‪ ،‬وحقت علٌها كلمة العذاب‪ ( :‬حتى إذا أخذنا مترفٌهم بالعذاب إذا هم ٌجؤرون الٌوم‪ ،‬إنكم منا‬ ‫ال تنصرون) ‪( ،‬و كم قصمنا من قرٌة كانت ظالمة وأنشؤنا بعدها قوما ً آخرٌن‪ ،‬فلما أحسوا بؤسنا إذا هم‬ ‫منها ٌركضون‪ ،‬ال تركضوا وارجعوا إلى نا أتبلرفتم فٌه ومساكنكم لعلكم تسؤلون)‬ ‫‪ ‬االعتدال فً النفقات الحكومٌة‪:‬‬ ‫وإذا كان االعتدال مطلوبا ً فً نفقة الفرد على نفسه‪ ،‬فهو مطلوب كذلك فً النفقات الحكومٌة‪ ،‬ابتداء من‬ ‫ربٌس الدولة فمن دونه‪ .‬بل ٌنبؽً على إمام المسلمٌن‪ -‬أمٌرهم وربٌسهم ‪ -‬أن ٌكون أسوة لهم فً التعفؾ‬ ‫عن مال الدولة‪ ،‬والتقلٌل من مظاهر النعٌم واألبهة‪ .‬وقد كان النبً (صلى هللا علٌه وسلم) ‪ -‬وهو إمام‬


‫المسلمٌن‪ -‬أول من ٌجوع وآخر من ٌشبع‪ .‬قال أبو هرٌرة‪ ( :‬خرج رسول هللا (صلى هللا علٌه وسلم) من‬ ‫الدنٌا ولم ٌشبع من خبز الشعٌر )‪ .‬وقالت عابشة‪ ( :‬ما شبع رسول هللا(صلى هللا علٌه وسلم)ثبلثة أٌام‬ ‫متوالٌة‪ ،‬ولو شبنا لشبعا‪ ،‬ولكنه كان ٌإثر على نفسه )‪ .‬ورفض أن ٌتخذ فراشاً‪ ،‬وكانت وسادته حشوها‬ ‫لٌؾ‪ ،‬ونام على الحصٌر حتى أثر فً جنبه‪ ،‬وتوفى وهو ٌلبس كساء ملبداً وإزاراً ؼلٌظا ً‪ .‬وكذلك كان‬ ‫أبو بكر وعمر وعلً ‪ -‬رضً هللا عنهم ‪ -‬حتى قال عمر‪ :‬ما أنا وهذا المال ‪ -‬مال الدولة ‪ -‬إال كولً‬ ‫الٌتٌم‪ ،‬إن استؼنٌت استعففت‪ ،‬وإن افتقرت أكلت بالمعروؾ‪.‬‬ ‫وال نرٌد من رإسابنا وأمرابنا أن ٌكونوا مثل أولبك األكابر‪ ،‬ولكن نرٌد منهم أن ٌتقوا هللا فً المال‬ ‫العام‪ ،‬وال ٌحابوا به األقارب واألصهار والموالٌن وأبواق النفاق‪ .‬إن كثٌراً من الملوك والرإساء‬ ‫واألمراء فً دٌارنا ٌحسبون أن مال الدولة ملك لهم‪ ،‬ومن حقهم أن ٌتصرفوا فٌه كٌؾ ٌشاإون‪ .‬وقلما‬ ‫ٌوجد من ٌحاسبهم‪ .‬حتى الببلد التً توجد فٌها هٌبات برلمانٌة ورقابٌة ومحاسبٌة‪ ،‬ال تستطٌع أن تمس‬ ‫ما ٌتعلق بربٌس الدولة‪ ،‬أو بجهاز مخابراته‪ ،‬وأجهزة أمنه‪ ،‬أو بالجٌش وما ٌنفق علٌه‪.‬‬ ‫وهناك جهات ٌنفق فًها المال بؽٌر حساب‪ ،‬وبدون تقٌّد‪ ،‬وال ٌكاد ٌسابلها أحد‪ ،‬مثل اإلعبلم والرٌاضة‬ ‫وأمن الدولة‪ ،‬أي أمن الحاكم ونظامه وجماعته‪ .‬على حٌن ٌقتر كل التقتٌر‪ ،‬وٌضٌق أشد التضٌ​ٌق على‬ ‫جهات أخرى‪ ،‬مثل التعلٌم والصحة والمواصبلت والخدمات األساسٌة لجمهور الناس‪.‬‬ ‫إن الشرع ٌوجب الموازنة بٌن المصالح بعضها وبعض‪ ،‬وتقدٌم الضروري منها على الحاجً‪ ،‬وتقدٌم‬ ‫الحاجً على التحسٌنً‪ ،‬وتقدٌم ما ٌخدم الجمهور األعظم من الناس على ما ٌخدم فبة محدودة‪ .‬وما فٌه‬ ‫مصلحة الفقراء والمستضعفٌن على ما فٌه مصلحة الكبراء والموسرٌن‪.‬‬

‫إيجاب التكافل االجتماعي‬ ‫لقد قلنا‪ :‬إن اإلسبلم ٌطالب كل قادر على العمل أن ٌعمل‪ ،‬وأن ٌعان على عمله‪ ،‬لٌكفً نفسه وأسرته‪.‬‬ ‫ولكن فً الناس العاجزون‪ ،‬الذٌن ال ٌستطٌعون العمل‪ ،‬وال مورد لهم‪ .‬وفٌهم القادرون‪ ،‬الذٌن ال ٌجدون‬ ‫عمبل ٌتعٌشون منه‪ ،‬ولم تسطع الدولة تٌسٌر عمل مناسب لهم‪ ،‬وفٌهم العاملون‪ ،‬الذٌن ال ٌكفٌهم دخلهم‬ ‫لتحقٌق معٌشة إنسانٌة البقة‪ ،‬لقلة الدخل‪ ،‬أو لكثرة العٌال‪ ،‬أو لؽبلء األسعار‪ ،‬أو ؼٌر ذلك من األسباب‪.‬‬ ‫فما موقؾ نظام اإلسبلم من هإالء ؟ هل ٌدعهم ألنٌاب الفاقة والحاجة تفترسهم ؟ أو ٌقدم حبل لمشكلتهم‬ ‫؟‬ ‫الحق أن اإلسبلم لم ٌترك هإالء للفاقة والضٌاع‪ ،‬بل كفل لهم المعٌشة المبلبمة بالطرق اآلتٌة‪:‬‬ ‫‪‬‬

‫نفقات األقارب‪:‬‬

‫فقد أوجب اإلسبلم ‪8‬على القرٌب الموسر أن ٌنفق على قرٌبه المحتاج‪ ،‬صلة لرحمه‪ ،‬وأدا ًء لحقه‪ ،‬كما‬ ‫قال تعالى‪ ( :‬وآت ذا القربى حقه والمسكٌن وابن السبٌل) ‪ .‬ومن لم ٌقم بهذا الواجب من نفسه لقرٌبه‪،‬‬ ‫ألزمه القضاء‪ ،‬اإلسبلمً بذلك‪ .‬وللفقهاء تفصٌل كثٌر فً شروط الفقه‪ ،‬ومقادٌرها‪ ،‬ولمن تجب وعلى‬ ‫من تجب‪ ،‬وٌكن الرجوع إلٌها فً أبواب النفقات من كتب الفقه‪.‬‬ ‫‪ ‬فرٌضة الزكاة‪:‬‬ ‫(أ) وهً الفرٌضة المالٌة االجتماعٌة‪ ،‬التً تعد الركن الثالث من أركان اإلسبلم‪ ،‬ومبانٌه العظام‪ ،‬من‬ ‫منعها بخبلً بها عزر‪ ،‬وأخذت منه قهراً‪ ،‬وإن كان ذا شوكة قوتل علٌها‪ ،‬حتى ٌإدٌها‪ ،‬وإن أنكر وجوبها‪-‬‬ ‫ولم ٌكن حدٌث عهد باإلسبلم ‪ -‬حكم بردته‪ ،‬وخرج من دٌن اإلسبلم‪.‬‬


‫(ب) وهً لٌست هبة ٌتفضل بها الؽنً على الفقٌر‪ ،‬بل هً حق معلوم‪ ،‬تقوم الدولة على جباٌته‪،‬‬ ‫وصرفه على مستحقٌه‪ ،‬بواسطة موظفً الزكاة‪.‬‬ ‫العاملٌن علٌها‪ -‬ولهذا وصؾ النبً (صلى هللا علٌه وسلم) الزكاة بقوله‪ ( :‬تإخذ من أؼنٌابهم فترد إلى‬‫فقرابهم )‪ ،‬فهً ضرٌبة تإخذ‪ ،‬ولٌست تطوعا ً ٌوهب‪.‬‬ ‫(ج) إنها تخالؾ كثٌراً من الضرابب‪ ،‬التً تإخذ من الكادحٌن المتعبٌن من العمال‪ ،‬وصؽار التجار‬ ‫والموظفٌن‪ ،‬لتنفق فً أبهة الحكام‪ ،‬وعلى أتباعهم والمروجٌن لهم‪ ،‬حتى ٌمكنك أن تقول فٌها‪ :‬إنها تإخذ‬ ‫من الفقراء لترد على األؼنٌاء‪.‬‬ ‫(د) والعبٌر النبوي الكرٌم‪ ( :‬تإخذ من أؼنٌابهم فترد على فقرابهم) ٌوحً بؤن الزكاة لٌست إال صرؾ‬ ‫بعض أموال األمة‪ ،‬ممثلة فً أؼنٌابها‪ ،‬إلى األمة نفسها‪ ،‬ممثلة فً فقرابها‪ .‬فهً من األمة والٌها‪ ،‬من‬ ‫الٌد المستخلفة فً المال‪ ،‬إلى الٌد المحتاجة إلٌه‪ ،‬وهاتان الٌدان ‪ -‬المعطٌة واآلخذة ‪ -‬هما ٌدان لشخصٌة‬ ‫واحدة هً شخصٌة األمة المسلمة‪.‬‬ ‫(هـ) والزكاة تجب فً كل مال نام أو معد للنماء‪ ،‬بلػ نصاباً‪ ،‬وحال علٌه الحول‪ ،‬وسلم من الدٌن‪ ،‬وذلك‬ ‫فً سابمة األنعام والنقود‪ ،‬وعروض التجارة‪ .‬وفى الزروع‪ ،‬والثمار‪ٌ ،‬جب الحق عند الحصاد‪ ،‬وفى‬ ‫المعدن والركاز عند وجدانه‪ .‬ولم ٌجعل اإلسبلم نصابها كبٌرا‪ ،‬لٌشترك جمهور األمة فً أدابها‪ ،‬وجعل‬ ‫نسبها معتدلة من (‪5‬ر‪ )%2‬فً النقود والتجارة‪ ،‬إلى (‪ )%5‬فً الزرع المسقى باآلالت‪ ،‬إلى (‪0‬ا‪)%‬‬ ‫فٌما سقى بؽٌر آلة‪ ،‬إلى (‪ )%2 0‬فً الركاز ( المعادن ) وفٌما ٌعثر علٌه من الكنوز‪ ،‬فكلما كان جهد‬ ‫اإلنسان أكبر كانت النسبة أخؾ‪.‬‬ ‫‪ ‬موارد الدولة األخرى‪:‬‬ ‫وإذا لم تكؾ الزكاة جمٌع الفقراء‪ ،‬ففً جمٌع موارد الدولة اإلسبلمٌة متسع لكفاٌتهم‪ ،‬بؤمٌن حاجاتهم من‬ ‫خمس الؽنابم‪ ،‬ومن الفًء والخراج ونحوها‪ٌ .‬قول هللا تعالى‪ ( :‬واعملوا أنما ؼنمتم من شًء فؤن هللا‬ ‫خمسه وللرسول ولذي القربى والٌتامى والمساكٌن وابن السبٌل)‪ .‬وٌقول فً الفًء‪( :‬ما أفاء هللا على‬ ‫رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى والٌتامى والمساكٌن وابن السبٌل كً ال ٌكون دولة‬ ‫بٌن األؼنٌاء منكم) ومن ذلك‪ :‬ما تملك الدولة من النفط والمعادن واألراضً الزراعٌة والعقارات‬ ‫ونحوها‪ ،‬مما ٌندر علٌها دخوالً وإٌرادات ضخمة‪.‬‬ ‫والدولة فً اإلسبلم لٌست مسإولة عن الحماٌة واألمن فقط‪ ،‬بل هً مسإولة كذلك عن رعاٌة العاجزٌن‬ ‫والمحتاجٌن‪ ،‬وكفالة العٌش الكرٌم لهم‪ .‬كما فً الحدٌث الصحٌح‪( :‬كلكم راع‪ ،‬وكلكم مسإول عن رعٌته‬ ‫‪ ..‬فاإلمام راع ومسإول عن رعٌته …)‬ ‫وهكذا بٌّن لنا (صلى هللا علٌه وسلم) بوصفه إمام المسلمٌن‪ -‬أنه مسإول عن الجمٌع‪ ،‬وأنه أولى‬ ‫بالمإمنٌن من أنفسهم‪ ،‬فمن ترك منهم ماالً فهو لورثته‪ ،‬ومن ترك دٌنا ً أو ضٌعة ( أوالداً صؽاراً‬ ‫معرضٌن للضٌاع لفقرهم وٌتمهم ) فإلٌه وعلٌه‪ .‬وٌقول عمر عن مال الدولة‪ ( :‬ما من أحد إال وله فً‬ ‫هذا المال حق )‪ .‬وقد فرض عمر من بٌت المال راتبا ً لٌهودي رآه ٌسؤل على األبواب‪ .‬كما فرض لكل‬ ‫مولود فً اإلسبلم عطاء ٌزداد كلما نما وكبر‪.‬‬ ‫‪ ‬الحقوق األخرى فً المال‪:‬‬ ‫وإذا لم تؾ الزكاة‪ ،‬وال سابر الموارد األخرى‪ ،‬بضمان العٌش للفقراء‪ ،‬فعلى الموسرٌن فً المجتمع أن‬ ‫ٌقوموا بكفاٌتهم‪ ،‬فلٌس بمإمن من بات شبعان وجاره جابع‪ ،‬ولٌس بمإمن من ال ٌحب ألخٌه ما ٌحب‬ ‫لنفسه‪ ،‬فإن قاموا بذلك مختارٌن‪ ،‬بدافع اإلٌمان والتقوى فهذا خٌر وأبقى‪ ،‬كما حدثنا النبً (صلى هللا‬ ‫علٌه وسلم) عن األشعرٌ​ٌن فقال‪ ( :‬إن األشعرٌ​ٌن إذا أرملوا فً الؽزو‪ ،‬أو قل طعام عالهم فً المدٌنة‪،‬‬ ‫جمعوا ما كان عندهم فً ثوب واحد‪ ،‬ثم اقتسموا بٌنهم فً إناء واحد بالسوٌة‪ ،‬فهم منى وأنا منهم )‪.‬‬


‫وإذا لم ٌقم الناس من تلقاء أنفسهم برعاٌة فقرابهم‪ ،‬فلئلمام أن ٌفرض على األؼنٌاء ما ٌقوم بكفاٌة‬ ‫الفقراء‪ ،‬فقد روى عن النبً (صلى هللا علٌه وسلم)‪ ( :‬إن فً المال حقا ً سوى الزكاة)‪ ،‬وفً القرآن ما‬ ‫ٌدل على ذل ‪ ،‬فقد قال تعالى‪ ( :‬ولكن البر من آمن باهلل والٌوم اآلخر والمبلبكة والكتاب والنبٌ​ٌن وآتى‬ ‫المال على حبه ذوي القربى والٌتامى والمساكٌن وابن السبٌل والسابلٌن وفً الرقاب‪ ،‬وأقام الصبلة‬ ‫وآتى الزكاة)‪ .‬ففرقت اآلٌة الكرٌمة بٌن إٌتاء المال على حبه ذوى القربى … إلخ‪ ،‬وبٌن إٌتاء الزكاة‪،‬‬ ‫وهذا ٌدل على أنهما حقان فً المال‪ .‬وإنما الزكاة هً الحق الدوري الثابت المحدد‪ .‬أما الحقوق األخرى‬ ‫فهً حقوق طاربة‪ ،‬تفرضها الح اجة والمصلحة‪ ،‬ولٌس لها مقدار معٌن‪ ،‬وال وقت محدود‪ .‬وإذا لم ٌقم‬ ‫الناس بؤداء الحقوق اختٌاراً‪ ،‬أجبروا ملها إجباراً‪ ،‬وقد قال عثمان رضً هللا عنه‪ ( :‬إن هللا ٌزع‬ ‫بالسلطان ما ال ٌزع بالقرآن)‪.‬‬ ‫‪ ‬الصدقات المستحبة ‪:‬‬ ‫وال ٌقتصر اإلسبلم فً تقرر التكافل على القوانٌن الملزم ة‪ ،‬وال الحقوق الواجبة‪ ،‬بل ٌربً المسلم على‬ ‫البذل وان لم ٌطلب منه‪ ،‬واإلنفاق وإن لم ٌجب علٌه‪ ،‬وٌهون علٌه المال والدنٌا‪ ،‬وٌحذر من الشح‬ ‫والبخل‪ ،‬وٌحبب إلٌه النفقة فً السراء والضراء‪ ،‬باللٌل والنهار‪ ،‬سراً وعبلنٌة‪ ،‬ومعده بالخلؾ والفضل‬ ‫ي اآلخرة‪ ( :‬الشٌطان ٌعدكم الفقر وٌؤمركم بالفحشاء‪ ،‬وهللا ٌعدكم مؽفرة منه‬ ‫فً الدنٌا‪ ،‬والمثوبة عند هللا ؾ‬ ‫وفضبلً )‪( .‬وما أنفقتم من شًء فهو ٌخلفه‪ ،‬وهو خٌر الرازقٌن )‪ ( .‬الذٌن ٌنفقون أموالهم باللٌل والنهار‬ ‫سراً وعبلنٌة فلهم أجرهم عند ربهم وال خوؾ علٌهم وال هم ٌحزنون )‪.‬‬ ‫الوقف الخٌري والصدقة ا لجارٌة ‪:‬‬ ‫ومن أعظم ما رؼب فٌه اإلسبلم‪ :‬الصدقة الجارٌة ( أي الدابمة بعد موت المتصدق)‪ ،‬كما ٌتضح ذلك فً‬ ‫نظام الوقؾ الخٌري‪ ،‬وهو الذي ٌخرج فٌه المال من ملك األفراد‪ ،‬لتجس ثمراته ومنافعه على جهة من‬ ‫جهات الخٌر‪ ،‬ابتؽاء مثوبة هللا تعالى‪ .‬وقد أشار الرسول (صلى هللا علٌه وسلم) على عمر بوقؾ ماله‬ ‫بخٌبر‪ ،‬ولم ٌكن أحد من الصحابة ذا مقدرة إال وقؾ‪ .‬والذي ٌقرأ بعض ما أبقاه لنا التارٌخ من حجج‬ ‫الوقؾ‪ ،‬وشروط الواقؾ‪ٌ ،‬تبٌن حقٌقة الكافل فً المجتمع المسلم‪ ،‬وٌقؾ على أصالة عواطؾ الخٌر‪،‬‬ ‫ومشاعر الرحمة والبر‪ ،‬وشٌوع المعانً اإلنسانٌة الكرٌمة فً أعماق هذه األمة‪ ،‬حتى إن برها لم‬ ‫ٌقتصر على دابرة اإلنسان‪ ،‬بل تجاوزه إلى الحٌوانات‪.‬‬ ‫التكافل بٌن األجٌال‬ ‫وهناك لون من التكافل لم ٌلتفت إلٌه الباحثون‪ ،‬وقد نبهنا علٌه فً عدد من كتبنا‪ ،‬وهو‪ :‬التكافل بٌن‬ ‫أجٌال األمة بعضها وبعض‪ ،‬وهو ٌكمل التكافل بٌن أقطار األمة بعضها وبعض‪ ،‬فهو تكافل زمانً‪،‬‬ ‫بجوار التكافل المكانً‪ .‬ومعنى تكافل األجٌال‪ :‬أال ٌستؤثر جٌل بخٌرات األرض المذخورة والمنشورة‪،‬‬ ‫وٌحلب درها‪ ،‬حتى ال ٌترك فً ضرعها قطرة لمن بعده‪ .‬بل ٌجب على الجٌل الحاضر أن ٌحسب‬ ‫حساب الجٌل المقبل‪ ،‬وأن ٌصنع صنٌع األب الرحٌم البصٌر‪ ،‬الذي ٌحرص على أن ٌدع ذرٌته فً حال‬ ‫اكتفاء واستؽناء‪ ،‬وأن ٌقتصد فً إنفاقه واستهبلكه‪ ،‬حتى ٌترك لهم شٌبا ٌنفعهم‪ ،‬وقد قال علٌه الصبلة‬ ‫والسبلم‪ ( :‬إنك أن تذر ورثتك أؼنٌاء خٌر من أن تذرهم عالة ٌتكففون الناس )‪ .‬وقد جاء عن أبى بكر‬ ‫رضى هللا عنه‪ ( :‬ال ٌعجبنً الرجل ٌؤكل رزق أٌام فً ٌوم واحد)! ومثل ذلك ٌقال للمجتمع الذي ٌؤكل‬ ‫رزق أجٌال فً جٌل واحد‪.‬‬ ‫وهذا ما جعل الفاروق عمر بن الخطاب ٌؤبى تقسٌم سواد العراق على الفاتحٌن‪ ،‬وهو ثروة هابلة ٌستمتع‬ ‫بها جٌل الفتح‪ ،‬وال تجد األجٌال القادمة الدافعة عن حرمات األمة‪ ،‬وبٌضة الملّه‪ ،‬ما ٌصرفون عنه‪،‬‬ ‫إلعداد عدتهم‪ ،‬وقضاء حوابجهم‪ .‬ولهذا كان عمر ٌقول لمعارضٌه‪ ( :‬أترٌدون أن ٌؤتً آخر الناس ولٌس‬ ‫لهم شا ) ؟‪ .‬ا وكان على رأٌه من فقهاء الصحابة أمثال على ومعاذ رضً هللا عنهم‪ .‬وقال معلنا ً عن‬ ‫وجهته ووجهة من أٌّده‪( :‬إنً أرٌد أمراً ٌسع أول الناس وآخرهم )‪ .‬وجد فً آٌات سورة الحشر ما أٌد‬ ‫توجهه‪ ،‬حٌث جعلت توزٌع الفًء على الجٌل الحاضر من المهاجرٌن واألنصار‪ ،‬ثم أشركت معهم‬


‫الجٌل القادم‪ ،‬وذلك فً قوله تعالى‪ ( :‬والذٌن جاءوا من بعدهم ٌقولون ربنا اؼفر لنا وإلخواننا الذٌن‬ ‫سبقونا باإلٌمان) ‪ .‬وبهذا تتضامن األجٌال وتتواصل‪ ،‬وٌدعو البلحق للسابق‪ ،‬بدل ـن ٌلعن آخر األمة‬ ‫أولها‪ ،‬حٌن ٌقول‪ :‬أخذوا كل شا ولم ٌبقوا لنا شٌبا ً‪ .‬وهذا ما أخشى أن تقوله األجٌال اآلتٌة فً ببلد‬ ‫النفط‪ ،‬حٌث استهلكوه فً الزٌنة والمتاع والتوسع فً االستهبلك‪ ،‬وأسرفوا فً استخراجه‪ ،‬حتى كثر فً‬ ‫سوق العرض‪ ،‬فباعوه بؤرخص األسعار‪ .‬ولو نظروا إلى حق األجٌال المستقبلة القتصدوا وعفوا‪.‬‬ ‫واعتدلوا ولم ٌسرفوا‪ ،‬فإن هللا ال ٌحب المسرفٌن‪.‬‬

‫تقريب الفوارق بين الطبقات‬ ‫أقر اإلسبلم التفاوت بٌن الناس فً الملكٌات واألرزاق‪ ،‬ألن فطرة هللا فاوتت بٌنهم فٌما هو أؼلى من‬ ‫ذلك وأعظم‪ :‬فً الذكاء والجمال وقوة البنٌة‪ ،‬وسابر المواهب والقدرات الخاصة‪ ،‬فبل ؼرابة أن ٌتفاضل‬ ‫الناس فً المال والؽنى‪ ،‬وهو دون هذه األشٌاء ببل رٌب‪ ،‬قال تعالى‪ ( :‬وهللا فضل بعضكم على بعض‬ ‫فً الرزق)‪.‬‬ ‫ولم ٌكن هذا التفاوت أو التفاضل عبثا ً أو سفهاً‪ ،‬بل هو مقتضى الحكمة التً تستقٌم بها الحٌاة‪ ،‬وتنتظم‬ ‫شبون المعاش‪ ،‬كما قال تعالى‪ ( :‬نحن قسمنا بٌنهم معٌشتهم فً الحٌاة الدنٌا‪ ،‬ورفعنا بعضهم فوق بعض‬ ‫درجات لٌتخذ بعضهم بعضا ً سخرٌا ً )‪ .‬ولٌس المراد بهذا التسخٌر‪ ،‬تسخٌر القهر واإلذالل‪ ،‬بل تسخٌر‬ ‫النظام واإلدارة‪ .‬فالحٌاة كمصنع كبٌر‪ ،‬فٌه الربٌس والمرإوس‪ ،‬والمهندس والعامل‪ ،‬والحارس والخادم‪،‬‬ ‫وكل منهم له مهمته‪ ،‬وكلهم الزم ومهم لٌدور المصنع وٌنتج‪ .‬ومع إقرار اإلسبلم لمبدأ التفاضل فً‬ ‫الرزق‪ ،‬والتفاوت فً الؽنى والفقر‪ ،‬نراه ٌعمل على تقرٌب الفوارق بٌن الطبقات‪ ،‬فٌحد من طؽٌان‬ ‫األؼنٌاء‪ ،‬وٌرفع من مستوى الفقراء ‪ ,‬تحقٌقا ً للتوازن‪ ،‬وتفادٌا ً ألسباب الصراع والعداوة‪ ،‬بٌن أبناء‬ ‫المجتمع الواحد‪ .‬ذلك أن اإلسبلم ٌكره تكدس الثروة فً أٌد معدودة‪ ،‬تتداولها فٌما بٌنها‪ ،‬مع بقاء األؼلبٌة‬ ‫محرومة منها‪ .‬فهو ٌحرص على أال ٌكون المال (دولة بٌن األؼنٌاء) وحدهم‪ .‬ولئلسبلم فً ذلك وسابل‬ ‫عدٌدة منها‪:‬‬ ‫‪ .1‬إلزام الؽنى أال ٌنمى ثروته بالطرق المحرمة‪،‬كالربا واالحتكار والؽش‪ ،‬والتجارة فً‬ ‫المحظورات‪ ،‬ونحوها مما ذكرناه من قبل‪.‬‬ ‫وهذا التضٌ​ٌق فً تثمٌر المال‪ٌ ،‬سد الطرٌق إلى الثراء الفاحش إلى حد كبٌر‪.‬‬ ‫‪ .2‬إٌجاب الزكاة فً أموال األؼنٌاء لترد على الفقراء‪ ،‬فهً أخذ من أولبك‪ ،‬وإعطاء لهإالء‪.‬‬ ‫والزكاة كما شرعها اإلسبلم ‪ -‬ما هً إال وسٌلة لتملٌك الفقراء ما ٌؽنٌهم وٌقوم بكفاٌتهم‪ ،‬إما‬ ‫بصفة دورٌة سنوٌة‪ ،‬أو ٌؽنٌهم بصفة دابمة‪ٌ .‬قول اإلمام النووي وؼٌره من أبمة الشافعٌة‪:‬‬ ‫ٌعطى الفقٌر والمسكٌن ما تزول به حاجتهما‪ ،‬وتحصل به كفاٌتهما على الدوام‪ ،‬وٌختلؾ ذلك‬ ‫باختبلؾ الناس والنواحً‪ ،‬فالمحترؾ الذي ال ٌجد آلة حرفته ٌعطى ما ٌشترٌها به‪ ،‬قلت قٌمتها‬ ‫أو كثرت‪ ،‬والتاجر ٌعطى رأس مال لٌشترى ما ٌحسن التجارة فٌه‪ .‬وٌكون ذلك قدر ما ٌفً‬ ‫ربحه بكفاٌته ؼالباً‪ ،‬ومن ال ٌحسن الكسب بحرفة وال تجارة ٌعطى كفاٌة العمر الؽالب ألمثاله‪،‬‬ ‫وطرٌقه أن ٌعطى ما ٌشترى به عقاراً ٌستؽل منه كفاٌته‪ .‬فالزكاة بهذا تعمل على تكثٌر عدد‬ ‫المبلك من الفقراء‪ ،‬ألنها تملك المحترؾ أدوات حرفته ‪-‬أي من أدوات اإلنتاج ‪ -‬جهازاً أو‬ ‫مصنعا ً أو جزءاً من مصنع‪ ،‬وتملك الزارع مزرعة أو جزءاً منها‪ٌ ،‬تملكها مع ؼٌره‪ ،‬وتملك‬ ‫التاجر متجراً وما ٌلزمه‪ ،‬وتملك ؼٌرهم عقاراً أو نحوه‪ ،‬مما ٌدر دخبلً منتظماً‪ٌ ،‬قوم بتمام كفاٌة‬ ‫مالكه‪ ،‬وكفاٌة من ٌعوله‪ .‬على أن تشرؾ مإسسة الزكاة على حسن رعاٌة هإالء لما تحت‬ ‫أٌدٌهم‪.‬‬


‫‪ .3‬إٌجاب حقوق بعد الزكاة على األؼنٌاء ‪ ,‬مثل نفقات األقارب‪ ،‬والنذور والكفارات‪ ،‬واألضحٌة (‬ ‫وهى واجب فً مذهب أبً حنٌفة ) وحقوق الجوار والرحم‪ ،‬وقرى الضٌؾ‪ ،‬وإطعام الجابع‪،‬‬ ‫وإؼاثة الملهوؾ‪ ،‬وفك األسٌر‪ ،‬وعبلج المرٌض‪ ،‬والمساعدة فً الطوارئ التً تنزلل باألمة‪،‬‬ ‫كالحروب والمجاعات ونحوها‪ .‬وفى الحدٌث‪ ( :‬ما آمن بً من بات شبعانا ً وجاره جابع إلى‬ ‫جنبه‪،‬وهو ٌعلم )‪.‬‬ ‫‪ .4‬المٌراث الذي شرعه اإلسبلم‪ ،‬وجعله لؤلوالد والوالدٌن‪ ،‬واألزواج والعصبات‪ ،‬وذوى الرحم‪،‬‬ ‫بشروط معروفة‪ ،‬وهو عامل كبٌر فً تفتٌت الثروة وتوزٌعها ‪ -‬بعد موت الموروث ‪ -‬على عدد‬ ‫كبٌر من ورثته‪ ،‬على عكس بعض األنظمة‪ ،‬التً تحصر التركة فً االبن األكبر‪ ،‬وما شابه‬ ‫ذلك‪ .‬وٌلعق بالمٌراث‪ :‬الوصٌة لؽٌر الوارثٌن‪ ،‬وقد أوجبها بعض السلؾ‪ ،‬بناء على قول هللا‬ ‫تعالى‪ ( :‬كتب علٌكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خٌراً الوصٌة للوالدٌن واألقربٌن‬ ‫بالمعروؾ‪ ،‬حقا ً على المتقٌن)‪ .‬ومن ذلك استمد قانون ( الوصٌة الواجبة ) الذي حاول عبلج‬ ‫حرمان األحفاد إذا مات آباإهم فً حٌاة أجدادهم‪.‬‬ ‫‪ .5‬حق ولً األمر الشرعً فً إعادة التوازن إذا اختل‪ ،‬عن طرٌق المال العام كالفًء ونحوه‪ ،‬ال‬ ‫عن طرٌق المصادرة للملكٌات المشروعة‪ ،‬التً ٌلتزم أصحابها حدود اإلسبلم‪ ،‬وهذا ما فعله‬ ‫النبً (صلى هللا علٌه وسلم) فى توزٌع فًء بنى النضٌر‪ ،‬حٌث وزعه على المهاجرٌن خاصة‪،‬‬ ‫دون إخوانهم األنصار‪ ،‬إال رجلٌن منهم كانت بهما فاقة وحاجة‪ .‬وسر ذلك‪ :‬أن الهاجرٌن‬ ‫أخرجوا من دٌارهم وأموالهم‪ ،‬فكان الفرق بٌنهم وبٌن إخوانهم األنصار كبٌراً‪ ،‬فهإالء ٌملكون‬ ‫األرض والعقار‪ ،‬والمهاجرون ال ٌكادون ٌملكون شٌباً‪ ،‬على الرؼم من أن األنصار كانوا مثبلً‬ ‫رابعا ً فً إٌوابهم وإكرامهم‪ ،‬وإٌثارهم على أنفسهم‪ ،‬ولكن التوازن الذي ينشده اإلسبلم‪ ،‬جعل‬ ‫النبً (صلى هللا علٌه وسلم) ٌعالج األمر عند أول فرصة سنحت له‪ ،‬وجاء القرآن ٌإٌد هذا‬ ‫التصرؾ النبوي الكرٌم‪ ،‬وٌعلل حكمة توزٌع الفًء على الفبات المحتاجة‪ ،‬من الٌتامى‬ ‫والمساكٌن وأبناء السبٌل‪ ،‬بقوله تعالى‪( :‬كً ال ٌكون دولة بٌن األؼنٌاء منكم )‪.‬‬ ‫وإ ن فً هذه السابقة من عمل الرسول الكرٌم‪ ،‬ما ٌعطى الحق للحاكم المسلم ‪ -‬وهو الذي ٌحكم بما أنزل‬ ‫هللا ‪ -‬أن ٌخص الفقراء من مال الدولة بما ٌقلل الفروق الفاحشة بٌنهم وبٌن األؼنٌاء‪ ،‬وما ٌحقق التوازن‬ ‫االقتصادي فً المجتمع المسلم‪.‬‬

‫اإلسالم واألنظمة االقتصادية المعاصرة‬ ‫عرفنا من القواعد السابقة التً قام علٌها بناء االقتصاد اإلسبلمً‪ ،‬أنه اقتصاد متٌز مما ٌعرفه الناس‬ ‫الٌوم‪ ،‬من مذاهب وأنظمة تتجه إلى الٌمٌن أو إلى الٌسار‪ ،‬مما ٌسمى بالرأسمالٌة أو الشٌوعٌة‪ ،‬فهو‬ ‫ٌخالؾ كبلً منهما على حدة‪ ،‬وٌخالفهما جمٌعا ً فً أمور مشتركة‪ ،‬فضبلً على أنه سبقهما فً الظهور‪،‬‬ ‫بؤكثر من اثنً عشر قرنا ً من الزمان‪.‬‬ ‫‪ ‬اإلسبلم والرأسمالٌة‪:‬‬ ‫تقوم الرأسمالٌة على تقدٌس حرٌة الفرد‪ ،‬وإطبلق العنان له‪ ،‬لٌمتلك ما شاء‪ ،‬وٌنمً ما ملك بما شاء‪،‬‬ ‫وٌنفقه كما شاء‪ ،‬دون قٌود تذكر‪ ،‬على وسابل تملكه وتنمٌته وإنفاقه‪ .‬أما حق المجتمع علٌه فً ماله وفً‬ ‫مراقبته‪ ،‬ومحاسبته على تملكه وتثمٌره وإنفاقه‪ ،‬فحق ضعٌؾ ٌشبه المعدوم‪ ،‬وال ٌجد من داخله رقابة‬ ‫ذاتٌة تجعله ٌحترم هذا الحق وٌرعاه‪ ،‬بل ٌحتال علٌه لٌتخلص منه تحت سمع القانون وبصره‪ ،‬ما‬ ‫استطاع‪.‬‬


‫أما اإلسبلم فقد رأٌناه ٌضع قٌوداً على التملك والتكسب‪ ،‬وقٌوداً على التثمٌر والتنمٌة‪ ،‬وقٌوداً على‬ ‫االستهبلك واإلنفاق‪ ،‬وٌفرض حقوقا ً على المالك‪ ،‬بعضها دابم‪ ،‬وبعضها مإقت‪ ،‬فهو ٌلؽً اعتبار‬ ‫الملكٌة المحرمة‪ ،‬وٌحظر الربا واالحتكار والؽش‪ ،‬وؼٌرها‪ ،‬من كل ما ٌنافً األخبلق‪ ،‬وٌناقض‬ ‫مصلحة جمهور الناس‪ .‬وٌجعل ضمٌر المسلم ‪ -‬الذي ٌراقب الخالق قبل الخلق‪ -‬هو الحارس األول على‬ ‫رعاٌة تلك الحقوق‪ ،‬المفروضة من قبل مالك المال الحقٌقً‪ ،‬وهو هللا تبارك وتعالى‪ .‬وٌعطً اإلسبلم‬ ‫الحاكم الشرعً ‪ -‬الذي ٌحكم بما أنزل هللا ‪ -‬الحق فً انتزاع ملكٌة الفرد‪ ،‬إذا تعارضت مع مصلحة‬ ‫عامة للجماعة‪ ،‬كما ٌعطٌه الحق فً الحجر على السفهاء والمبذرٌن‪ ،‬وؼ ّل ٌدهم من التصرؾ فً‬ ‫أموالهم‪ ،‬التً هً فً الواقع أموال الجماعة‪ ،‬أو أموال هللا حسب مبدأ ( االستخبلؾ ) الذي شرحناه‪.‬‬

‫‪ ‬اإلسبلم والشٌوعٌة‪:‬‬ ‫وإذا كانت الرأسمالٌة تقدس حرٌة الفرد ‪ -‬إلى الحد الذي ذكرنا‪ -‬فإن للشٌوعٌة نظرة أخرى‪:‬‬ ‫(أ) إنها تهدر قٌمة الفرد وحرٌته وتعتبره ( ترسا ً ) فً جهاز الدولة‪ ،‬وتقدٌسها إنما هو للمجتمع الذي‬ ‫تمثله الدولة‪ .‬أما الفرد فلٌس له أن ٌتملك أرضا ً أو مصنعا ً أو عقاراً‪ ،‬أو ؼٌر ذلك من وسابل اإلنتاج‪ .‬بل‬ ‫ٌجب علٌه أن ٌعمل أجٌراً للدولة‪ ،‬التً تملك كل مصادر اإلنتاج وتدٌرها‪ ،‬وتحرم علٌه أن ٌحوز رأس‬ ‫مال وإن كان حبلالً‪ .‬أما اإلسبلم فقد عرفنا أنه ٌحترم الملكٌة الفردٌة‪ ،‬ألنها من مقتضٌات الفطرة‪ ،‬ومن‬ ‫خصابص الحر ٌة‪ ،‬بل من خصابص اإلنسانٌة‪ ،‬وألنها أقوى دافع لزٌادة اإلنتاج وتحسٌنه‪ ،‬وال ٌفرق‬ ‫اإلسبلم بٌن وسابل اإلنتاج وؼٌرها‪ ،‬وال بٌن الملكٌة الكبٌرة والصؽٌرة‪ ،‬ما دامت قد جاءت بالطرق‬ ‫الشرعٌة‪.‬‬ ‫تها على حرب‬ ‫(ب) ثم إن الشٌوعٌة‪ ،‬أو ما ٌعبر عنه باالشتراكٌة العلمٌة أو الماركسٌة‪ ،‬تقوم فلسؾ‬ ‫الطبقات‪ ،‬وتؤجٌج نٌران الصراع‪ ،‬بٌن بعضها وبعض‪ ،‬واستخدام وسابل العنؾ الدموٌة‪ ،‬حتى تتحطم‬ ‫فً النهاٌة جمٌع الطبقات‪ ،‬باستثناء طبقة واحدة هً ( البرولٌتارٌا )‪ .‬أي العمال‪ .‬والحق أن الذي ٌنتصر‬ ‫لٌس طبقة العمال‪ ،‬بل مجموعة من االنتهازٌ​ٌن والمحترفٌن الحزبًٌّن والعسكرٌ​ٌن‪ ،‬الذٌن ٌسٌطرون‬ ‫باسم العمال على كل شا‪ ،‬وٌحرمون جمهور المواطنٌن من أي شًء‪ .‬ولهذا كان ختام بٌان ماركس‪( :‬‬ ‫ٌا عمال العالم اتحدوا ) أي ضد الطبقات األخرى‪ .‬أما اإلسبلم فٌقوم نظامه وفلسفته على بث اإلخاء بٌن‬ ‫الناس‪ ،‬واعتبارهم جمٌعا ً أسرة واحدة‪ ،‬وإصبلح ذات بٌنهم إذا فسدت‪ ،‬واعتبار ذلك أفضل من التطوع‬ ‫بالصبلة والصٌام‪ .‬وفرق بٌن من ٌوجه نداءه إلى العمال لٌتحدوا ضد ؼٌرهم‪ ،‬وبٌن من ٌوجه نداءه إلى‬ ‫الناس كافة لٌتآخوا وٌتحابوا‪ ( :‬وكونوا عباد هللا إخوانا )‪.‬‬ ‫(ج) واالشتراكٌة العلمٌة أو الماركسٌة ٌصاحبها دابما الضؽط السٌاسً‪ ،‬واإلرهاب الفكري‪ ،‬والحجر‬ ‫على الحرٌات‪ ،‬وكتم أنفاس المعارضٌن‪ ،‬واتهام كل معارض للحكم بؤنه رجعً‪ ،‬أو عمٌل‪ ،‬أو خابن‪ ،‬أو‬ ‫ؼٌر ذلك‪ ،‬من ( األكلٌشٌهات ) المحفوظة عن الشٌوعٌ​ٌن‪ ،‬من عهد ( لٌنٌن) إلى الٌوم‪ .‬وقد كتب ( لٌنٌن‬ ‫الثة أرباع العالم‪ ،‬لٌكون الربع الباقً اشتراكٌا ً )‪ .‬أما‬ ‫) إلى أحد أصدقابه ٌقول‪ ( :‬إنه ال بؤس بقتل ث‬ ‫اإلسبلم فٌقوم على الشورى‪ ،‬وٌجعل النصٌحة للحكام من لباب الدٌن‪ ،‬وٌربً أبناء المجتمع على انتقاد‬ ‫المسًء بالرفق‪ ،‬واألمر بالمعروؾ والنهى عن المنكر‪ ،‬وٌنذر األمة إذا رأت الظالم فلم تؤخذ على ٌدٌه‪،‬‬ ‫أن ٌعمها هللا بعقاب من عنده‪.‬‬

‫‪‬‬

‫ؼاٌة االقتصاد اإلسبلمً ومهمته‪:‬‬


‫على أن اإلسبل م ٌخالؾ تلك األنظمة الوضعٌة‪ ،‬فٌما هو أعمق من حرٌة الفرد ومنفعة المجتمع‪ ،‬إنه‬ ‫ٌخالفها جمٌعا ً فً الروح واألساس‪ ،‬وفى الؽاٌة واالتجاه‪ ،‬وفى الهمة والوظٌفة‪:‬‬ ‫(أ) إن أساس النظام اإلسبلمً لٌس من ومع بشر‪ ،‬وال من مع فبة من الناس‪ ،‬إنه شرع هللا الذي ٌعلم‬ ‫المفسد من الصلح‪ ،‬والذي ٌرٌد لعباده الٌسر وال ٌرٌد لهم الٌسر‪.‬‬ ‫إنه سبحانه رب الجمٌع‪ ،‬ومن ٌشرع للجمٌع‪ ،‬ببل جور وال محاباة‪ ،‬فهو رب األؼنٌاء والفقراء‪ ،‬ورب‬ ‫العمال وأصحاب العمل‪ ،‬ورب المبلك والمستؤجرٌن‪ ،‬وهم جمٌعا ً عباده وعٌاله‪ ،‬ومن أرحم بهم من‬ ‫الوالدة بولدها‪ ،‬فإذا شرع لهم نظاماً فلٌس أعدل منه وال أكمل وال أمثل‪ ،‬بخبلؾ األنظمة األخرى‪ ،‬فكلها‬ ‫من وضع البشر القاصرٌن الذٌن ٌحكمهم النقص البشري‪ .‬وٌؽلبهم الهوى كثٌراً‪.‬‬ ‫(ب) إن تلك األنظمة مادٌة صرؾ‪ ،‬تجعل االقتصاد ؼاٌتها‪ ،‬والمال معبودها‪ ،‬والدنٌا كل همها‪ .‬إن‬ ‫الرفاهٌة المادٌة هً هدفها األخٌر‪ ،‬وفردوسها المنشود‪.‬‬ ‫أما اإلسبلم فٌجعل االقتصاد وسٌلة إلى ؼاٌة كبرى‪ :‬أال ٌشتؽل الناس بهم العٌش ومعركة الخبز‪ ،‬من‬ ‫معرفة هللا وحسن الصلة به‪ ،‬والتطلع إلى حٌاة أخرى هً خٌر وأبقى‪ .‬فإن الناس إذا توافرت لهم الكفاٌة‬ ‫واألمن‪ ،‬اطمؤنوا فً أنفسهم‪ ،‬واتجهوا بالعبادة الخاشعة إلى ربهم ( الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من‬ ‫خوؾ ) ‪ ،‬فشعروا بروابط اإلخاء الوثٌق بٌنهم وبٌن اآلخرٌن من عباد هللا‪ .‬وهذا هو هدؾ االقتصاد فً‬ ‫اإلسبلم‪.‬‬ ‫(ج) إن االقتصاد فً تلك األنظمة المادٌة الوضعٌة‪ ،‬مفصول عن األخبلق‪ ،‬والمثل العلٌا‪ .‬وإنما هم تلك‬ ‫األنظمة زٌادة اإل نتاج‪ ،‬وتنمٌة الثروة الفردٌة أو الجماعٌة بؤي طرٌق‪.‬‬ ‫أما اإلسبلم ‪ ..‬فاالقتصاد عنده خادم للقٌم اإلسبلمٌة‪ ،‬والعقٌدة اإلسبلمٌة‪ ،‬واألخبلق اإلسبلمٌة‪ ،‬فإذا‬ ‫تعارضت األؼراض االقتصادٌة لؤلفراد أو المجتمع‪ ،‬مع تلك القٌم واألخبلق‪ ،‬لم ٌبال اإلسبلم بتلك‬ ‫األؼراض‪ ،‬وضحى بها قرٌر العٌن‪ ،‬فً سبٌل الحفاظ على مبادبه وأهدافه وفضابله‪.‬‬ ‫ومن هنا حرّ م اإلسبلم حج المشركٌن‪ ،‬وطوافهم بالبٌت عراٌا‪ ،‬برؼم ما كانت تجلب هذه السٌاحة الدٌنٌة‬ ‫من منافع مادٌة ألهل مكة ومن حولهم‪ ،‬ولكن القرآن أهدر ذلك ووعدهم أن ٌعوضهم هللا خٌراً مما فات‬ ‫علٌهم‪ٌ .‬قول تعالى‪ٌ ( :‬ا أٌها الذٌن آمنوا إنما المشركون نجس فبل ٌقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا‪،‬‬ ‫وإن خفتم عٌلة‪ ،‬فسوؾ ٌؽنٌكم هللا من فضله إن شاء) فإذا كان افتتاح ناد للمٌسر أو الرقص‪ ،‬أو حانة‬ ‫لبٌع الخمر ٌحقق منفعة اقتصادٌة‪ ،‬كتشجٌع السٌاحة‪ ،‬والحصول على عمله أجنبٌة‪ ،‬أو نحو ذلك‪ ،‬فان‬ ‫هذه المنفعة ؼٌر معتبرة فً نظر اإلسبلم ! ألنها تتعارض مع مبادبه‪ ،‬فً الحفاظ على سبلمة العقول‬ ‫واألبدان واألخبلق والعقابد والعبلقات‪ .‬ولهذا حرم القرآن الخمر والمٌسر‪ ،‬لما فٌهما من إثم كبٌر‪ ،‬ولم‬ ‫ٌعتبر ما فٌهما من منافع اقتصادٌة لبعض الناس‪ٌ ( :‬سؤلونك عن الخمر والمٌسر‪ ،‬قل فهما إثم كبٌر‬ ‫ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما)‪.‬‬ ‫وبهذا ٌضح لنا أن نظام اإلسبلم نسٌج وحده‪.‬‬ ‫انه ٌخالؾ الرأسمالٌة التً تسرؾ فً تدلٌل الفرد‪ ،‬وإعطابه من الحقوق حتى تضخم وطؽى‪ ،‬وٌخالؾ‬ ‫الشٌوعٌة إلى تسرؾ فً تحطٌم الفرد‪ ،‬وإثقاله بالواجبات‪ ،‬حتى ضمر وانكمش‪ .‬إن األولى تحابى الفرد‬ ‫على حساب مصلحه المجتمع‪ ،‬والثانٌة تحابً المجتمع على حساب حرٌة الفرد‪ .‬وكبل النظامٌن ٌسرؾ‬ ‫فً إعطاء الدنٌا على حساب اآلخرة‪ ،‬وإعطاء الجسم على حساب الروح واإلسبلم وحده هو الذي برئ‬ ‫من ؼلو الفرٌقٌن‪ ،‬وجنوحهما إلى طرؾ اإلفراط أو التفرٌط‪.‬‬ ‫إنه النظام العدل الوسط‪ ،‬الذي ٌوازن بٌن الحقوق والواجبات‪ ،‬وبٌن الفرد والمجتمع‪ ،‬و بٌن الروح‬ ‫والجسم‪ ،‬وبٌن الدنٌا واآلخرة‪ ،‬ببل طؽٌان وال إخسار‪ .‬كما قال تعالى‪ ( :‬أال تطؽوا فً المٌزان و وأقٌموا‬ ‫الوزن بالقسط وال تخسروا المٌزان)‪.‬‬


‫وما ذلك إال ألنه شرٌعة هللا التً ال تجوز‪ ،‬وحكمه الذي ال ٌظلم‪(..‬ومن أحسن من هللا حكما ً لقوم‬ ‫ٌوقنون)‪.‬‬

‫غياب الحقيقة بين الغلو والتفريط‬ ‫لعل أؼمض الموضوعات وأعقدها فٌما ٌتعلق بالمجتمع المسلم ‪ :‬اللهو والفنون ‪.‬‬ ‫وذلك أن أكثر الناس وقعوا فً هذا األمر بٌن طرفً الؽلو والتفرٌط ‪ .‬نظرا ألنه أمر ٌتصل بالشعور‬ ‫والوجدان ‪ ,‬أكثر مما ٌتصل بالعقل والفكر ‪ ,‬وما كان شؤنه كذلك فهو أكثر قبوال للتطرؾ واإلسراؾ من‬ ‫ناحٌة ‪ ,‬فً مقابلة التشدد والتزمت من ناحٌة أخرى ‪.‬‬ ‫فهناك من ٌتصورون المجتمع اإلسبلمً مجتمع عبادة ونسك ‪ ,‬ومجتمع جد وعمل ‪ ,‬فبل مجال فٌه لمن‬ ‫ٌلهو وٌلعب ‪ ,‬أو ٌضحك وٌمرح ‪ ,‬أو ٌؽنى وٌطرب ‪ .‬ال ٌجوز لشفة فٌه أن تبتسم ‪ ,‬وال لسن أن تضحك‬ ‫‪ ,‬وال لقلب أن ٌفرح ‪ ,‬وال لبهجة أن ترتسم على وجوه الناس !!‬ ‫وربما ساعدهم على ذلك سلوك بعض المتدٌنٌن ‪ ,‬الذٌن ال ترى أحدهم إال عابس الوجه ‪ ,‬مقطب الجبٌن‬ ‫‪ ,‬كاشر الناب ‪ ,‬وذلك ألنه إنسان ٌابس أو فاشل أو مرٌض بالعقد وااللتواءات النفسٌة ‪ ,‬ولكنه برر ذلك‬ ‫السلوك العٌب باسم الدٌن ‪ ,‬أي أنه فرض طبٌعته المنقبضة المتوجسة على الدٌن ‪ ,‬والدٌن ال ذنب له ‪,‬‬ ‫إال سوء فهم هإالء له ‪ ,‬وأخذهم ببعض نصوصه دون بعض‪.‬‬ ‫وقد ٌجوز لهإالء أن ٌشددوا على أنفسهم إذا اقتنعوا بذلك ‪ ,‬ولكن الخطر هنا ‪ :‬أن ٌعمموا هذا التشدٌد‬ ‫على المجتمع كله ‪ ,‬وٌلزموه برأي رأوه ‪ ,‬فً أمر عمت به البلوى ‪ ,‬وٌمس حٌاة الناس كافة ‪.‬‬ ‫وعلى العكس من هإالء ‪ :‬الذٌن أطلقوا العنان لشهوات أنفسهم ‪ ,‬فجعلوا الحٌاة كلها لهواً ولعبا ً‪ ,‬وأذابوا‬ ‫الحواجز بٌن المشروع والممنوع ‪ . .‬بٌن المفروض والمرفوض ‪ . .‬بٌن الحبلل والحرام ‪.‬‬ ‫فتراهم ٌدعون إلى االنحبلل ‪ ,‬وٌروجون اإلباحٌة وٌشٌعون الفواحش ما ظهر منها وما بطن باسم الفن ‪,‬‬ ‫أو التروٌح ‪ ,‬ونسوا أن العبرة بالمسمٌات والمضامٌن ‪ ,‬ال باألسماء والعناوٌن ‪ .‬واألمور بمقاصدها ‪.‬‬ ‫لهذا كان ال بد من نظرة منصفة إلى الموضوع ‪ -‬بعٌدا عن إفراط هإالء ‪ ,‬وتفرٌط أولبك ‪ -‬فً ضوء‬ ‫النصوص الصحٌحة الثبوت ‪ ,‬الصرٌحة الداللة ‪ ,‬وفى ضوء مقاصد الشرٌعة وقواعد الفقه المقررة‬ ‫كذلك ‪.‬‬ ‫وال أستطٌع فً هذا المجال التفصٌل ‪ ,‬فقد كتبت فً مفردات الموضوع فً أكثر من كتاب لً‪.‬‬ ‫وخصوصا ً فً « الحبلل والحرام فً اإلسبلم » ‪ ,‬و « فتاوى معاصرة » الجزء األول والجزء الثانً ‪.‬‬ ‫‪ .‬وعلى األخص الثانً ‪.‬‬

‫واقعية اإلسالم في التعامل مع اإلنسان كله‬


‫والخبلصة التً أود أن أذكرها هنا تتمثل فً هذه المبادئ أو الحقابق ‪:‬‬ ‫إن اإلسبلم دٌن واقعً ‪ ,‬فهو ٌتعامل مع اإلنسان كله ‪ :‬جسمه وروحه وعقله ووجدانه ‪ ,‬وٌطالبه أن‬ ‫ٌؽذٌها جمٌعا ً ‪ ,‬بما ٌشبع حاجتها ‪ ,‬فً حدود االعتدال ‪ ,‬الذي هو صفة « عباد الرحمن » ‪ ( :‬الذٌن إذا‬ ‫أنفقوا لم ٌسرفوا ولم ٌقتروا وكان بٌن ذلك قوما ) ‪ ,‬ولٌس هذا خلقهم فً أمر المال فقط ‪ ,‬بل هو خلق‬ ‫أساسً عام فً كل األمور ‪ ,‬هو المنهج الوسط لؤلمة الوسط ‪.‬‬ ‫وإذا كانت الرٌاضة تؽذى الجسم ‪ ,‬والعبادة تؽذى الروح ‪ ,‬والعلم ٌؽذى العقل ‪ ,‬فإن الفن ٌؽذى الوجدان‪.‬‬ ‫ونرٌد بالفن ‪ :‬النوع الراقً الذي ٌسمو باإلنسان ‪ ,‬ال الذي ٌهبط به ‪.‬‬

‫القراّن ينبه على عنصري المنفعة والجمال في الكون‬ ‫وإذا كانت روح الفن هً اإلحساس بالجمال وتذوقه ‪ ,‬فهذا ما عنى القرآن بالتنبٌه علٌه وتؤكٌده فً أكثر‬ ‫من موضع ‪.‬‬ ‫فهو ٌلفت النظر بقوة إلى عنصري « الحسن » أو « الجمال » الذي أودعه هللا فً كل ما خلق‪ ,‬إلى‬ ‫جوار عنصري « النفع » أو « الفابدة » فٌها ‪.‬‬ ‫كما أنه شرع لئلنسان االستمتاع بالجمال أو « الزٌنة » مع المنفعة أٌضا ‪.‬‬ ‫ٌقول هللا تعالى فً معرض االمتنان باألنعام ‪ (:‬واألنعام خلقها ‪ ,‬لكم فٌها دؾء ومنافع ومنها تؤكلون )‪,‬‬ ‫وفى هذا تنبٌه على جانب المنفعة والفابدة ‪ ,‬ثم ٌقول ‪ ( :‬ولكم فٌها جمال حٌن ترٌحون وحٌن تسرحون )‬ ‫‪ ,‬فهذا تنبٌه على الجانب الجمالً ‪ ,‬حٌث ٌلفتنا إلى هذه اللوحة الربانٌة الرابعة ‪ ,‬التً لم ترسمها ٌد فنان‬ ‫مخلوق ‪ ,‬بل رسمتها ٌد الخالق سبحانه ‪.‬‬ ‫وفى نفس السٌاق ٌقول سبحانه ( والخٌل والبؽال والحمٌر لتركبوها وزٌنة ) ‪ ,‬فالركوب ٌحقق منفعة‬ ‫مادٌة مإكدة ‪ ,‬أما الزٌنة فهً متعة جمالٌة فنٌة ‪ ,‬بها ٌتحقق التكامل للوفاء بحاجات اإلنسان كل اإلنسان‬ ‫‪.‬‬ ‫وفى هذا السٌاق من نفس السورة امتن هللا تعالى بتسخٌر البحر فقال ‪ ( :‬وهو الذي سخر البحر لتؤكلوا‬ ‫منه لحما ً طرٌا ً وتستخرجوا منه حلٌة تلبسونها ) فلم ٌقصر فابدة البحر على العنصر المادي المتمثل فً‬ ‫اللحم الطري الذي ٌإكل ‪ ,‬فٌنتفع به الجسم ‪ ,‬بل ضم إلٌه الحلٌة التً تلبس للزٌنة ‪ ,‬فتستمتع بها العٌن‬ ‫س‪.‬‬ ‫والنؾ‬ ‫وهذا التوجٌه القرآنً تكرر فً أكثر من مجال ‪ ,‬ومن ذلك ‪ :‬مجال النبات والزرع والنخٌل واألعناب‬ ‫والزٌتون والرمان متشابها وؼٌر متشابه ‪ٌ ,‬قول تعالى فً موضع من سورة األنعام ‪ ( :‬كلوا من ثمره‬ ‫إذا أثمر وآتوا حقه ٌوم حصاده وال تسرفوا ) ‪.‬‬ ‫وفى موضع آخر من نفس السور ة ٌقول بعد ذكر الزرع وجنات النخٌل والعنب ‪ ( :‬انظروا إلى ثمره إذا‬ ‫أثمر وٌنعه ‪ ,‬إن فً ذلكم آلٌات لقوم ٌإمنون ) ‪.‬‬ ‫فكما أن الجسم فً حاجة إلى األكل من الثمر إذا أثمر ‪ ,‬فإن النفس فً حاجة إلى االستمتاع بالنظر إلى‬ ‫ثمره إذا أثمر وٌنعه ‪ .‬وبهذا ٌرتفع اإلنسان أن ٌكون همه األول أو األوحد هو هم البطن !‬ ‫ومثل ذلك قوله تعالى ‪ٌ ( :‬ا بنى آدم خذوا زٌنتكم عند كل مسجد وكلوا اشربوا وال تسرفوا ‪ ,‬انه ال ٌحب‬


‫المسرفٌن * قل من حرم زٌنة هللا التً أخرج لعباده والطٌبات من الرزق ) ‪.‬‬ ‫فؤخذ الزٌنة لحاجة الوجدان ‪ ,‬واألكل والشرب لحاجة الجثمان ‪ ,‬وكبلهما مطلوب ‪.‬‬ ‫وكذلك نجد االستفهام اإلنكاري فً اآلٌة الثانٌة ٌنصب على أمرٌن ‪ :‬تحرٌم « زٌنة هللا » التً أخرج‬ ‫لعباد« ‪ ,‬وتحرٌم « الطٌبات » من الرزق ‪ ,‬و « زٌنة هللا » ‪ ,‬تجسد عنصر الجمال الذي هٌؤه هللا لعباده‬ ‫‪ ,‬بجوار عنصر المنفعة الذي ٌتمثل فً « الطٌبات من الرزق » ‪ .‬وتؤمل هذه اإلضافة ‪ -‬إضافة كلمة‬ ‫«زٌنة » ‪ -‬إلى لفظ الجبللة « زٌنة هللا » ففٌها تشرؾ لهذه الزٌنة وتنوٌه بها‪ .‬وفى هذا السٌاق جاء قبل‬ ‫هاتٌن اآلٌتٌن قوله تعالى فً شؤن اللباس ‪:‬‬ ‫ً‬ ‫( ٌا بنى آدم قد أنزلنا علٌكم لباسا ً ٌوارى سوءاتكم ورٌشا ‪ ,‬ولباس التقوى ذلك خٌر) ‪ ,‬فقد جعلت اآلٌة‬ ‫اللباس ‪ -‬الذي امتن هللا تعالى بإنزاله ‪ -‬أنواعا ً ‪ ,‬وإن شبت قلت ‪ :‬جعلت له مقاصد ومهمات ‪ :‬مقصد «‬ ‫الستر » المعبر عنه بقوله ‪ٌ « :‬واري سوءاتكم » ‪ ,‬ومقصد « التجمل والزٌنة » المعبر عنه بقوله ‪« :‬‬ ‫ورٌشا ً » ومقصد « الوقاٌة » من الحر والبرد ‪ ,‬المعبر عنه بقوله ‪ « :‬ولباس التقوى » ‪.‬‬

‫المؤمن عميق اإلحساس بالجمال في الكون والحياة واإلنسان‬ ‫إن المتجول فً رٌاض القرآن ٌرى بوضوح ‪ :‬أنه ٌرٌد أن ٌؽرس فً عقل كل مإمن وقلبه الشعور‬ ‫بالجمال المبثوث فً أجزاء الكون من فوقه ومن تحته ومن حوله ‪ :‬فً السماء ‪ ,‬واألرض ‪ ,‬والنبات ‪,‬‬ ‫والحٌوان ‪ ,‬واإلنسان ‪.‬‬ ‫فً جمال السماء ٌقرأ قوله تعالى ‪ ( :‬أفلم ٌنظروا إلى السماء فوقهم كٌؾ بنٌناها وزٌناها وما لها من‬ ‫فروج ) ‪ ( ,‬ولقد جعلنا فً السماء بروجا ً وزٌناها للناظرٌن ) ‪.‬‬ ‫وفى جمال األرض ونباتها ٌقرأ ‪ ( :‬واألرض مددناها وألقٌنا فٌها رواسً وأنبتنا فٌها من كل زوج بهٌج‬ ‫) ‪ ( .‬وأنزل لكم من السماء ما ًء فؤنبتنا به حدابق ذات بهجة ) ‪.‬‬ ‫وفى جمال الحٌوان ٌقرا ما ذكرناه قبل عن األنعام ‪ ( :‬ولكم فٌها جمال حٌن ترٌحون وحٌن تسرحون )‬ ‫‪.‬‬ ‫وفى جمال اإلنسان ٌقرأ ‪ ( :‬وصوركم فؤحسن صوركم ) ‪ (,‬الذي خلقك فسواك فعدلك فً أي صورة ما‬ ‫شاء ركبك ) ‪.‬‬ ‫إن المإمن ٌرى ٌد هللا المبدعة فً كل ما يشاهده فً هذا الكون البدٌع ‪ ,‬وٌبصر جمال هللا فً جمال ما‬ ‫خلق وصور ‪ٌ ,‬رى فٌه ( صنع هللا الذي أتقن كل شًء ) ‪ ( ,‬الذي أحسن كل شًء خلقه ) ‪.‬‬ ‫وبهذا ٌحب المإمن الجمال فً كل مظاهر الوجود من حوله ؛ ألنه أثر جمال هللا جل وعبل ‪.‬‬ ‫وهو ٌحب الجمال كذلك ؛ ألن « الجمٌل » ا سم من أسمابه تعالى الحسنى وصفة من صفاته العبل ‪.‬‬ ‫وهو ٌحب الجمال أٌضا ‪ ,‬ألن ربه ٌحبه ‪ ,‬فهو جمٌل ٌحب الجمال ‪.‬‬


‫إن هللا جميل يحب الجمال‬ ‫وهذا ما علمه النبً صلى هللا علٌه وسلم ألصحابه ‪ ,‬وقد توهم بعضهم أن الولع بالجمال ٌنافً اإلٌمان ‪,‬‬ ‫أو ٌدخل صاحبه فً دابرة الكبر المقٌت عند هللا وعند الناس ‪.‬‬ ‫روى ابن مسعود أن رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم قال‪ « :‬ال ٌدخل الجنة من كان فً قلبه مثقال ذرة‬ ‫من كبر» ‪ ,‬فقال رجل ‪ :‬إن الرجل ٌحب أن ٌكون ثوبه حسنا ‪ ,‬ونعله حسنة ‪ .‬قال ‪ « :‬إن هللا جمٌل‬ ‫ٌحب الجمال ‪ ,‬الكبر بطر الحق وؼمط الناس » ‪.‬‬

‫القرآن معجزة جمالية‬ ‫والقرآن الكرٌم آٌة اإلسبلم الكبرى ‪ ,‬ومعجزة الرسول العظمى ‪ٌ :‬عتبر معجزة جمالٌة ‪ ,‬إضافة إلى أنه‬ ‫معجزة عقلٌة ‪ ,‬فقد أعجز العرب بجمال بٌانه ‪ ,‬وروعة نظمه وأسلوبه ‪ ,‬وتفرد لحنه وموسٌقاه ‪ ,‬حتى‬ ‫سماه بعضهم ‪ :‬سحراً ‪.‬‬ ‫وقد بٌن علماء الببلؼة وأدباء العربٌة وجه اإلعجاز البٌانً أو الجمالً فً هذا الكتاب ‪ ,‬منذ عبد القاهر‬ ‫إلى الرافعً وسٌد قطب وبنت الشاطا وؼٌرهم فً عصرنا ‪.‬‬ ‫ومن المطلوب ؾي تبلوة القرآن أن ٌنضم جمال الصوت واألداء إلى جمال البٌان والنظم ‪ .‬ولهذا قال‬ ‫تعالى ‪ ( :‬ورتل القرآن ترتٌبل ) ‪.‬‬ ‫وقال الرسول صلى هللا علٌه وسلم ‪ « :‬زٌنوا القرآن بؤصواتكم » ‪ ,‬وفى لفظ آخر ‪ « :‬فإن الصوت‬ ‫الحسن ٌزٌد القرآن حسنا ً » ‪.‬‬ ‫وقال ‪ « :‬لٌس منا من لم ٌتؽن بالقرآن » ولكن التؽنً المطلوب ال ٌعنً التبلعب أو التحرٌؾ‪.‬‬ ‫وقال علٌه الصبلة والسبلم ألبى موسى ‪ «:‬لو رأٌتنً وأنا أستمع قراءتك البارحة ! لقد أوتٌت مزمارا‬ ‫من مزامٌر آل داود » ! فقال أبو موسى ‪ :‬لو علمت ذلك لحبرته لك تحبٌرا » !! ٌعنى‪ :‬زدت فً‬ ‫تجوٌده وإتقانه وتحسٌن الصوت به ‪.‬‬ ‫وقال ‪ « :‬ما أذن هللا لشًء ‪ ,‬ما أذن لنبً حسن الصوت ٌتؽنى بالقرآن ‪ٌ ,‬جهر به »‬ ‫ولقد سمعت شٌخنا الدكتور محمد عبد هللا دراز رحمه هللا ٌحكً لنا عن موقؾ له فً المجلس ال‬ ‫لئلذاعة ‪ ,‬وقد كان عضواً فٌه ‪ :‬أنهم أرادوا أن ٌجعلوا وقت قراءة القرآن فً االفتتاح والختام وبعض‬ ‫الفترات محسوبا على نصٌب الدٌن فقط ‪ ,‬فقال لهم ‪ :‬إن سماع القرآن لٌس دٌنا فقط ‪ .‬إنه استمتاع أٌضا‬ ‫بالفن والجمال المودع فً القرآن ‪ ,‬والمإدى بؤحسن األصوات ‪.‬‬ ‫وهذا صحٌح ‪ ,‬فالقرآن دٌن وعلم وأدب وفن معا ً ‪ .‬فهو ٌؽذي الروح ‪ ,‬وٌقنع العقل ‪ ,‬وٌوقظ الضمٌر ‪,‬‬ ‫وٌمتع العاطفة ‪ ,‬وٌصقل اللسان ‪.‬‬


‫التعبير عن الجمال‬ ‫وإذا كان اإلسبلم قد دعا إلى اإلحساس بالجمال وتذوقه وحبه ‪ ,‬فإنه قد شرع التعبٌر عن هذا اإلحساس‬ ‫والتذوق والحب بما هو جمال أٌضا ً ‪.‬‬

‫فنون القول واألدب‬ ‫وأبرز ما ٌتجلى ذلك فً فنون القول من الشعر والنثر والمقامة والقصة والملحمة ‪ ,‬وسابر فنون األدب‬ ‫‪ ,‬وقد استمع النبً صلى هللا علٌه وسلم إلى الشعر وتؤثر به ‪ ,‬ومنه قصٌدة كعب بن زهٌر الشهٌرة «‬ ‫ٌها من الؽزل ما هو معروؾ ‪ ,‬وقصٌدة النابؽة الجعدي ‪ ,‬ودعا له ‪ ,‬ووظؾ الشعر فً‬ ‫بانت سعاد » وؾ‬ ‫خدمة الدعوة والدفاع عنها ‪ ,‬كما صنع مع حسان ‪ .‬واستشهد بالشعر كما فً قوله ‪ « :‬أصدق كلمة قالها‬ ‫شاعر ‪ :‬كلمة لبٌد ‪ :‬أال كل شا ما خبل هللا باطل »‬ ‫واستشهد أصحابه بالشعر ‪ ,‬وفسروا به معانً القرآن ‪ ,‬بل منهم من قاله ‪ ,‬وأجاد فٌه ‪ ,‬كما ٌروى عن‬ ‫على كرم هللا وجهه ‪ .‬وهناك عدد كبٌر من الصحابة كانوا شعرا ء ‪.‬‬ ‫وكثٌر من األبمة الكبار كانوا شعرا ء ‪ ,‬مثل اإلمام عبد اله بن المبارك ‪ ,‬واإلمام محمد بن إدرٌس‬ ‫الشافعً وؼٌرهما ‪.‬‬ ‫وقال صلى هللا علٌه وسلم « إن من الشعر حكمة » ‪ « ,‬إن من البٌان لسحراً »« إن من البٌان سحرا ‪,‬‬ ‫وان من الشعر حكما »‪.‬‬ ‫ومفهوم الحدٌث أن من الشعر ما هو بعٌد عن الحكمة بل هو نقٌضها ‪ ,‬مثل شعر المدٌح بالباطل ‪,‬‬ ‫األخبلقً والمثل‬ ‫ة‬ ‫والفخر الكاذب والهجاء المتعدى ‪ ,‬والؽزل المكشوؾ ‪ ,‬ونحو ذلك مما ال ٌتفق مع القٌم‬ ‫العلٌا ‪.‬‬ ‫ولهذا ذم القرآن الشعراء الزابفٌن والمزٌفٌن ‪ ,‬الذٌن ال ٌتورعون عن شا ‪ ,‬والذٌن تكذب أفعالهم أقوالهم‬ ‫‪ .‬وذلك فً قوله تعالى ‪ ( :‬والشعراء ٌتبعهم الؽاوون *ألم تر أنهم فً كل واد ٌهٌمون * وأنهم ٌقولون ما‬ ‫ال ٌفعلون * إال الذٌن آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا هللا كثٌراً​ً​ً وانتصروا من بعد ما ظلموا ‪. ) . . .‬‬ ‫فالشعر ‪ -‬واألدب عامة ‪ ,‬والفن بوجه أعم ‪ -‬له هدؾ ووظٌفة ‪ ,‬ولٌس ساببا ‪ ,‬فهو شعر ملتزم‪ ,‬وأدب‬ ‫ملتزم ‪ ,‬وفن ملتزم ‪.‬‬ ‫ٌبلبمن مما عند‬ ‫ا‬ ‫أما القوالب التً ٌظهر فٌها الشعر أو األدب فبل مانع من تؽٌرها وتطورها ‪ ,‬واقتباس ما‬ ‫ؼٌرنا ‪ .‬المهم هو الهدؾ والمضمون والوظٌفة ‪.‬‬ ‫اخترع العرب قدٌما قوالب فً الشعر كالموشحات ‪ ,‬وؼٌرها ‪ .‬ولهذا ال بؤس من قبول القوالب الجدٌدة‬


‫فً الشعر المعاصر ‪ .‬كالشعر الحر ‪.‬‬ ‫كذلك ابتكر العرب فً العصور اإلسبلمٌة قوالب أدبٌة كالمقامات ‪ ,‬والقصص الخٌالٌة ‪ ,‬كما فً «‬ ‫رسالة الؽفران » ‪ ,‬و « ألؾ لٌلة ولٌلة » وترجموا مثل « كلٌلة ودمنة » ‪ ,‬وألؾ المتؤخرون المبلحم‬ ‫الشعبٌة مثل قصة « عنترة » ‪ ,‬وسٌرة « بنى هبلل » إلى ؼٌر ذلك من القوالب ‪.‬‬ ‫وفى عصرنا ٌمكننا أن نستحدث من القوالب ما شبنا ‪ ,‬وأن نقتبس من ؼٌرنا ما ٌنفعنا ‪ ,‬كالمسرحٌة‬ ‫والرواٌة والقصة القصٌرة ‪.‬‬ ‫والذي نود تؤكٌده هنا هو ضرورة االلتزام بالعربٌة الفصحى ‪ ,‬والحذر من المحاوالت المشبوهة لتروٌج‬ ‫اللهجات العامٌة المختلفة للشعوب العربٌة ‪ ,‬فإنها تهدؾ إلى المباعدة بٌنها وبٌن القرآن والسنة ‪ ,‬كما‬ ‫تهدؾ إلى تثبٌت الفرقة والتجزبة اإلقلٌمٌة ‪ ,‬التً تحرص على بقابها القوى المعادٌة للعروبة واإلسبلم ‪.‬‬ ‫وٌؽنً عن ذلك اللؽة السهلة التً تفهم الجماهٌر العربٌة بها نشرات األخبار فً اإلذاعة والتلفاز ‪ ,‬وتفهم‬ ‫بها الصحؾ التً تطالعها كل ٌوم ‪.‬‬ ‫كما أن الفصحى هً التً تقرب بٌن العرب وسابر أبناء اإلسبلم ممن ٌتعلمون العربٌة ‪ ,‬فإنهم ال‬ ‫ٌتعلمون إال الفصحى ‪ ,‬وال ٌستطٌعون التفاهم مع الجمٌع إال بها ‪.‬‬ ‫وقد وجهت إلً فً أكثر من مكان أسبلة حول شرعٌة بعض القوالب اإلسبلمٌة األدبٌة كالمسرحٌة‬ ‫والقصة ‪ ,‬حٌث ٌخترع القصاص أو المإلؾ المسرحً شخصٌات ‪ ,‬وٌنطقها بؤقوال وأمور لم تحدث فً‬ ‫الواقع ‪ ,‬فهل ٌدخل هذا فً دابرة الكذب المحرم شرعا ً ؟‬ ‫وكان جوابً ‪ :‬أن هذا ال ٌدخل فً الكذب المحظور ‪ :‬ألن السامع ٌعرؾ جٌدا أن المقصود لٌس هو‬ ‫إخبار القارئ بوقابع حدثت بالفعل ‪ .‬إنما هو أشبه بالكبلم الذي ٌحكى على ألسنة الطٌور والحٌوانات ‪,‬‬ ‫فهو من باب ا لتصوٌر الفنً واستنطاق األشخاص بما ٌمكن أن ٌنطقوا به فً هذا الموقؾ ‪ .‬كما حكى‬ ‫القرآن عما تكلمت به « النملة » أو نطق به « الهدهد » أمام سلٌمان علٌه السبلم ‪ .‬فمن المإكد أنهما لم‬ ‫ٌتحدثا بهذا الكبلم العربً المبٌن ‪ ,‬إنما ترجم القرآن عما ٌمكن أن ٌكون قولهما فً هذا الوقت ‪ ,‬وذلك‬ ‫الموقؾ ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وقد شاركت شخصٌا فً التؤلٌؾ المسرحً بعملٌن ‪:‬‬ ‫أحدهما ‪ :‬مسرحٌة شعرٌة عن « ٌوسؾ الصدٌق » علٌه السبلم ‪ .‬وذلك فً مطلع حٌاتً األدبٌة ‪ ,‬وأنا‬ ‫فً السنة األولى من المرحلة الثانوٌة ‪ ,‬وكنت متؤثراً فً ذلك بمسرحٌات شوقً الشهٌرة ‪.‬‬ ‫والثانً ‪ :‬مسرحٌة تارٌخٌة عن سعٌد بن جبٌر والحجاج بن ٌوسؾ ‪ ,‬سمٌتها «عالم وطاؼٌة» وقد مثلت‬ ‫فً أكثر من بلد ‪ ,‬والقت قبوال حسنا ‪ .‬بخبلؾ األولى ! ألنها تتعلق بقصة نبً مرسل ‪ ,‬واالتفاق بٌن‬ ‫علماء العصر منعقد على أن األنبٌاء ال ٌمثلون ‪.‬‬

‫فن الجـمال المســـموع‬ ‫( الغناء والموسيقى )‬ ‫لقد تبٌن لنا فٌما ذكرناه من خبلل النصوص ‪ :‬عناٌة اإلسبلم بالجمال ‪ ,‬وحرصه على تربٌة تلك الحاسة‬ ‫التً تجعل اإلنسان ٌشعر بالجمال وٌتذوقه فً مجاالته المتنوعة ‪.‬‬ ‫ومن الجمال ما ٌتجلى لحاسة السمع ‪ ,‬ومنه ما ٌتجلى لحاسة البصر ‪ ,‬ومنه ما ٌتجلى لحواس أخرى ‪.‬‬


‫ونرٌد هنا أن نتحدث عن « الجمال المسموع » وبعبارة أخرى ‪ :‬عن الؽناء سواء أكان بآلة موسٌقٌة أم‬ ‫بؽٌر آلة ‪ ,‬وٌلزمنا أن نجٌب عن هذا السإال الكبٌر ‪ :‬ما حكم اإلسبلم فً الؽناء والموسٌقى ؟‬ ‫ما حكم اإلسالم في الغناء والموسيقى ؟‬ ‫سإال ٌتردد على ألسنة كثٌرٌن فً مجاالت مختلفة وأحٌان شتى ‪.‬‬ ‫سإال اختلؾ جمهور المسلمٌن الٌوم فً اإلجابة علٌه ‪ ,‬واختلؾ سلوكهم تبعا الختبلؾ أجوبتهم‪ ,‬فمنهم‬ ‫من ٌفتح أذنٌه لكل نوع من أنواع الؽناء ‪ ,‬ولكل لون من ألوان الموسٌقى مدعٌا ً أن ذلك حبلل طٌب من‬ ‫طٌبات الحٌاة التً أباح هللا لعباد ‪.‬‬ ‫ومنهم من ٌؽلق الرادٌو أو ٌؽلق أذنٌه عند سماع أٌة أؼنٌة قاببل ‪ :‬إن الؽناء مزمار الشٌطان ‪ ,‬ولهو‬ ‫الحدٌث وٌصد عن ذكر هللا وعن الصبلة وخاصة إذا كان المؽنً امرأة ‪ ,‬فالمرأة ‪-‬عندهم ‪ -‬صوتها‬ ‫عورة بؽٌر الؽناء ‪ ,‬فكٌؾ بالؽناء ؟ وٌستدلون لذلك بآٌات وأحادٌث وأقوال ‪.‬‬ ‫ومن هإالء من ٌرفض أي نوع من أنواع الموسٌقى ‪ ,‬حتى المصاحبة لمقدمات نشرات األخبار ‪.‬‬ ‫ووقؾ فرٌق ثالث متردداً بٌن الفرٌقٌن ؛ ٌنحاز إلى هإالء تارة ‪ ,‬والى أولبك طورا ‪ٌ ,‬نتظر القول‬ ‫الفصل والجواب الشافً من علماء اإلسبلم فً هذا الموضوع الخطٌر ‪ ,‬الذي ٌتعلق بعواطؾ الناس‬ ‫وحٌاتهم الٌومٌة ‪ ,‬وخصوصا بعد أن دخلت اإلذاعة ‪ -‬المسموعة والمربٌة ‪ -‬على الناس بٌوتهم ‪ ,‬بجدها‬ ‫وهزلها ‪ ,‬وجذبت إلٌها أسماعهم بؤؼانٌها وموسٌقاها طوعا وكرها ‪.‬‬ ‫والؽناء بآلة ‪ -‬أي مع الموسٌقى ‪ -‬وبؽٌر آلة ‪ :‬مسؤلة ثار فٌها الجدل والكبلم بٌن علماء اإلسبلم منذ‬ ‫العصور األولى ‪ ,‬فاتفقوا فً مواضع واختلفوا فً أخرى ‪.‬‬ ‫اتفقوا على تحرٌم كل ؼناء ٌشتمل على فحش أو فسق أو تحرٌض على معصٌة ‪ ,‬إذ الؽناء لٌس إال‬ ‫كبلما ‪ ,‬فحسنه حسن ‪ ,‬وقبٌحه قبٌح ‪ ,‬وكل قول ٌشتمل على حرام فهو حرام ‪ ,‬فما بالك إذا اجتمع له‬ ‫الوزن والنؽم والتؤثٌر ؟‬ ‫واتفقوا على إباحة ما خبل من ذلك من الؽناء الفطري الخالً من اآلالت واإلثارة ‪ ,‬وذلك فً مواطن‬ ‫السرور الم شروعة ‪ ,‬كالعرس وقدوم الؽابب ‪ ,‬وأٌام األعٌاد ‪ . . .‬ونحوها ‪ ,‬بشرط أال ٌكون المؽنً‬ ‫امرأة فً حضرة أجانب منها ‪.‬‬ ‫وقد وردت فً ذلك نصوص صرٌحة ‪ -‬سنذكرها فٌما بعد ‪.‬‬ ‫واختلفوا فٌما عدا ذلك اختبلفا بٌنا ‪ :‬فمنهم من أجاز كل ؼناء بآلة وبؽٌر آلة ‪ ,‬بل اعتبره مستحبا ‪ ,‬ومنهم‬ ‫من منعه بآلة وأجازه بؽٌر آلة ‪ ,‬ومنهم من منعه منعا باتا ً بآله وبؽٌر آلة ‪ ,‬وعده حراما ‪ ,‬بل ربما ارتقى‬ ‫به إلى درجة « الكبٌرة » ‪.‬‬ ‫وألهمٌة الموضوع نرى لزاما علٌنا أن نفصل فٌه بعض التفصٌل ‪ ,‬ونلقً علٌه أضواء كاشفة لجوانبه‬ ‫المختلفة ‪ ,‬حتى ٌتبٌن المسلم الحبلل فٌه من الحرام ‪ ,‬متبعا للدلٌل الناصع ‪ ,‬ال مقلدا قول قابل ‪ ,‬وبذلك‬ ‫ٌكون على بٌنة من أمره ‪ ,‬وبصٌرة من دٌنه ‪.‬‬

‫األصل في األشياء اإلباحة ‪:‬‬ ‫قرر علماء اإلسبلم أن األصل فً األشٌاء اإلباحة لقوله تعالى ‪ ( :‬هو الذي خلق لكم ما فً األرض‬ ‫جمٌعا ً ) ‪ ,‬وال تحرٌم إال بنص صحٌح صرٌح من كتاب هللا تعالى ‪ ,‬أو سنة رسوله صلى هللا علٌه وسلم‬ ‫أو إجماع ثابت متٌقن ‪ ,‬ؾإذا لم ٌرد نص وال إجماع ‪ .‬أو ورد نص صرٌح ؼٌر صحٌح ‪ ,‬أو صحٌح ؼٌر‬


‫صرٌح ‪ ,‬بتحرٌم شا من األشٌاء ‪ ,‬لم ٌإثر ذلك فً حله ‪ ,‬وبقى فً دابرة العفو الواسعة ‪ ,‬قال تعالى ‪( :‬‬ ‫وقد فصل لكم ما حرم علٌكم إال ما اضطررتم إلٌه ) ‪.‬‬ ‫وقال رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ‪ « :‬ما أحل هللا فً كتابه فهو حبلل ‪ ,‬وما حرم فهو حرام ‪ ,‬وما‬ ‫سكت عنه فهو عفو ‪ ,‬فاقبلوا من هللا عافٌته ‪ ,‬فإن هللا لم ٌكن لٌنسى شٌبا ً » ‪ ,‬وتبل ‪( :‬وما كان ربك نسٌا ً‬ ‫) ( رواه الحاكم عن أبى الدرداء وصححه ‪ ,‬وأخرجه البزار ) ‪.‬‬ ‫وقال ‪ « :‬إن هللا فرض فرابض فبل تضٌعوها‪ ,‬وحد حدوداً فبل تعتدوها ‪ ,‬وسكت عن أشٌاء رحمة بكم‬ ‫ؼٌر نسٌان فبل تبحثوا عنها » ( أخرجه الدارقطنى عن أبً ثعلبة الخشنى ‪ .‬وحسنه الحافظ أبو بكر‬ ‫السمعانى فً أمالٌه ‪ ,‬والنووي فً األربعٌن ) ‪.‬‬ ‫وإذا كانت هذه هً القاعدة فما هً النصوص واألدلة التً استند إلٌها القابلون بتحرٌم الؽناء ‪ ,‬وما‬ ‫موقؾ المجٌزٌن منها ؟‬

‫أدلة المحرمين للغناء ومناقشتها ‪:‬‬ ‫( أ ) استدل الم حرمون بما روى عن ابن مسعود وابن عباس وبعض التابعٌن ‪ :‬أنهم حرموا الؽناء‬ ‫محتجٌن بقول هللا تعالى ‪ ( :‬ومن الناس من ٌشتري لهو الحدٌث لٌضل عن سبٌل هللا بؽٌر علم وٌتخذها‬ ‫هزواً ‪ ,‬أولبك لهم عذاب مهٌن ) وفسروا لهو الحدٌث بالؽناء ‪.‬‬ ‫قال ابن حزم ‪ :‬وال حجة فً هذا لوجوه ‪:‬‬ ‫أحدها ‪ :‬أنه ال حجه ألحد دون رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ‪.‬‬ ‫والثانً ‪ :‬أنه قد خالؾ ؼٌرهم من الصحابة والتابعٌن ‪.‬‬ ‫والثالث ‪ :‬أن نص اآلٌة ٌبطل احتجاجهم بها ! ألن فٌها ‪ ( :‬ومن الناس من ٌشتري لهو الحدٌث لٌضل‬ ‫علها كان كافراً ببل خبلؾ ‪ ,‬إذا اتخذ سبٌل هللا‬ ‫عن سبٌل هللا بؽٌر علم وٌتخذها هزوا ) وهذه صفة من ؾ‬ ‫هزواً ‪ .‬قال ‪:‬‬ ‫« ولو أن امرءاً اشترى مصحفا لٌضل به عن سبٌل هللا ‪ ,‬وٌتخذه هزواً ‪ ,‬لكان كافراً ؛ فهذا هو الذي ذم‬ ‫هللا تعالى ‪ ,‬وما ذم قط ‪ -‬عز وجل ‪ -‬من اشترى لهو الحدٌث لٌتلهى به وٌروح نفسه ‪ ,‬ال لٌضل عن‬ ‫سبٌل هللا تعالى ‪ .‬فبطل تعلقهم بقول هإالء ‪ ,‬وكذلك من اشتؽل عامداً عن الصبلة بقراءة القرآن ‪ ,‬أو‬ ‫بقراءة السنن ‪ ,‬أو بحدٌث ٌتحدث به ‪ ,‬أو بؽناء أو بؽٌر ذلك ‪ ,‬فهو فاسق عاص هلل تعالى‪ ,‬ومن لم ٌضٌع‬ ‫شٌبا من الفرابض اشتؽاال بما ذكرنا فهو محسن » ‪.‬‬ ‫( ب ) واستدلوا بقوله تعالى فً مدح المإمنٌن ‪ ( :‬وإذا سمعوا اللؽو أعرضوا عنه ) ‪ ,‬والؽناء من اللؽو‬ ‫فوجب اإلعراض عنه ‪.‬‬ ‫وٌجاب بؤن الظاهر من اآلٌة أن اللؽو ‪ :‬سفه القول من السب والشتم ونحو ذلك ‪ ,‬وبقٌة اآلٌة تنطق بذلك‬ ‫‪ .‬قال تعالى ‪ ( :‬وإذا سمعوا اللؽو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سالم علٌكم ال نبتؽً‬ ‫الجاهلٌن ) ‪ ,‬فهً شبٌهة بقوله تعالى فً وصؾ عباد الرحمن ‪ ( :‬وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سبلما ) ‪.‬‬ ‫ولو سلمنا أن اللؽو فً اآلٌة ٌشمل الؽناء لوجدنا اآلٌة تستحب اإلعراض عن سماعه وتمدحه ‪ ,‬ولٌس‬ ‫فٌها ما ٌوجب ذلك ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وكلمة « اللؽو » ككلمة « الباطل » تعنى ما ال فابدة فٌه ‪ ,‬وسماع ما ال فابدة فٌه لٌس محرما ما لم‬ ‫ٌضٌع حقا ‪ ,‬أو ٌشؽل من واجب ‪.‬‬ ‫روى عن ابن جرٌج ‪ :‬أنه كان ٌرخص فً السماع فقٌل له ‪ :‬أٌإتى به ٌوم القٌامة فً جملة حسناتك أو‬ ‫سٌباتك ؟ فقال ‪ :‬ال فً الحسنات وال فً السٌبات ‪ :‬ألنه شبٌه باللؽو ‪ ,‬قال تعالى ‪ ( :‬ال ٌإاخذكم هللا‬


‫باللؽو فً أٌمانكم ) ‪.‬‬ ‫قال اإلمام الؽزالً ‪ « :‬إذا كان ذكر اسم هللا تعالى على الشًء على طرٌق القسم من ؼٌر عقد علٌه وال‬ ‫تصمٌم ‪ ,‬والمخالفة فٌه ‪ -‬مع أنه ال فابدة فٌه ‪ -‬ال ٌإاخذ به ‪ ,‬فكٌؾ ٌإاخذ بالشعر والرقص » ؟! ‪.‬‬ ‫على أننا نقول ‪ :‬لٌس كل ؼناء لؽواً ‪ :‬إنه ٌؤخذ حكمه وفق نٌة صاحبه ‪ ,‬فالنٌة الصالحة تحٌل اللهو قربة‬ ‫‪ ,‬والمزح طاعة ‪ ,‬والنٌة الخبٌثة تحبط العمل الذي ظاهره العبادة وباطنه الرٌاء ‪ « :‬إن هللا ال ٌنظر إلى‬ ‫صوركم وأموالكم ولكن ٌنظر إلى قلوبكم وأعمالكم » ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وننقل هنا كلمة جٌدة قالها ابن حزم فً « المحلى » ردا على الذٌن ٌمنعون الؽناء قال ‪ « :‬احتجوا‬ ‫فقالوا ‪ :‬من الحق الؽناء أم من ؼٌر الحق ؟ وال سبٌل إلى قسم ثالث ‪ ,‬وقد قال هللا تعالى ‪ ( :‬فماذا بعد‬ ‫الحق إال الضبلل ) فجوابنا ‪ -‬وباهلل التوفٌق ‪ : -‬أن رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم قال ‪ « :‬إنما األعمال‬ ‫بالنٌات وإنما لكل امرئ ما نوى » فمن نوى باستماع الؽناء عونا على معصٌة هللا فهو فاسق ‪ ,‬وكذلك‬ ‫كل شا ؼٌر الؽناء ‪ ,‬ومن نوى به تروٌح نفسه ‪ ,‬لٌقوى بذلك على طاعة هللا عز وجل ‪ ,‬وٌنشط نفسه‬ ‫معصً فهو لؽو معفو‬ ‫ة‬ ‫بذلك على البر فهو مطٌع محسن ‪ ,‬وفعله هذا من الحق ‪ .‬ومن لم ٌنو طاعة وال‬ ‫عنه ‪ ,‬كخروج اإلنسان إلى بستانه ‪ ,‬وقعوده على باب داره متفرجا ‪ ,‬وصبؽه ثوبه الزوردٌا ً أو أخضر‬ ‫أو ؼٌر ذلك ‪ ,‬ومد ساقه وقبضها ‪ ,‬وسابر أفعاله ‪.‬‬ ‫( جـ ) واستدلوا بالحدٌث ‪ « :‬كل لهو ٌلهو به المإمن فهو باطل إال ثبلثة ‪ :‬مبلعبة الرجل أهله ‪,‬‬ ‫وتؤدٌبه فرسه ‪ ,‬ورمٌه عن قوسه » ( رواه أصحاب السلؾ األربعة ‪ ,‬وفٌه اضطراب ) ‪ . .‬والؽناء‬ ‫خارج عن هذه الثبلثة ‪.‬‬ ‫وأجاب المجوزون بضعؾ الحدٌث ‪ ,‬ولو صح لما كان فٌه حجة ‪ ,‬فإن قوله ‪ « :‬فهو باطل » ال ٌدل‬ ‫على التحرٌم بل ٌدل على عدم الفابدة ‪ .‬فقد ورد عن أبى الدرداء قوله ‪ « :‬إنً ألستجم نفسً بالشًء‬ ‫من الباطل لٌكون أقوى لها على الحق ‪ .‬على أن الحصر فً الثبلثة ؼٌر مراد ‪ ,‬فإن التلهً بالنظر إلى‬ ‫الحبشة وهم ٌرقصون فً المسجد النبوي خارج عن تلك األمور الثبلثة ‪ ,‬وقد ثبت فً الصحٌح ‪ .‬وال‬ ‫شك أن التفرج فً البساتٌن وسماع أصوات الطٌور ‪ ,‬وأنواع المداعبات مما ٌلهو به الرجل ‪ ,‬ال ٌحرم‬ ‫علٌه شا منها وان جاز وصفه بؤنه باطل ‪.‬‬ ‫( د ) واستدلوا بالحدٌث الذي رواه البخاري ‪ -‬معلقا ‪ -‬عن أبى مالك أو أبى عامر األشعري ‪ -‬شك من‬ ‫الراوي ‪ -‬عن النبً علٌه الصبلة والسبلم قال ‪ « :‬لٌكونن قوم من أمتً ٌستحلون الحر والحرٌر والخمر‬ ‫والمعازؾ » ‪ .‬والمعازؾ ‪ :‬المبلهً‪ ,‬أو آالت العزؾ ‪.‬‬ ‫والحدٌث وان كان فً صحٌح البخاري ‪ ,‬إال أنه من « المعلقات » ال من « السندات المتصلة » ولذلك‬ ‫رده ابن حزم النقطاع سنده ‪ ,‬ومع التعلٌق فقد قالوا ‪ :‬إن سنده ومتنه لم ٌسلما من االضطراب ‪.‬‬ ‫وقد اجتهد الحافظ ابن حجر لوصل الحدٌث ‪ ,‬ووصله بالفعل من تسع لحرق ‪ ,‬ولكنها جمٌعا تدور على‬ ‫راو تكلم فٌه عدد من األبمة النقاد ‪ ,‬أال وهو ‪ :‬هشام ابن عمار ‪ .‬وهو ‪ -‬وان كان خطٌب دمشق ومقربها‬ ‫ومحدثها وعالمها ‪ ,‬ووثقه ابن معٌن والعجلى ‪ -‬فقد قال عنه أبو داود ‪ :‬حدث بؤربعمابة حدٌث ال أصل‬ ‫لها ‪.‬‬ ‫وقال أبو حاتم ‪ :‬صدوق وقد تؽٌر ‪ ,‬فكان كل ما دفع إلٌه قرأه ‪ ,‬وكل ما لقنه تلقن ‪ .‬وكذلك قال ابن سٌار‬ ‫‪.‬‬ ‫وقال اإلمام أحمد ‪ :‬طٌاش خفٌؾ ‪.‬‬ ‫وقال النسابً ‪ :‬ال بؤس به ( وهذا لٌس بتوثٌق مطلق ) ‪.‬‬ ‫ورؼم دفاع الحافظ الذهبً عنه قال ‪ :‬صدوق مكثر له ما ٌنكر‪ .‬وأنكروا علٌه أنه لم ٌكن ٌحدث إال بؤجر‬ ‫!‬ ‫ومثل هذا ال ٌقبل حدٌثه فً مواطن النزاع ‪ ,‬وخصوصا فً أمر عمت به البلوى ‪.‬‬ ‫ورؼم ما فً ثبوته من الكبلم ‪ ,‬ففً داللته كبلم آخر ! فكلمة « المعازؾ » لم ٌتفق على معناها بالتحدٌد‬ ‫‪ :‬ما هو ؟ فقد قٌل ‪ :‬المبلهً ‪ ,‬وهذه مجملة ‪ ,‬وقٌل ‪ :‬آالت العزؾ ‪.‬‬


‫ولو سلمنا بؤن معناها ‪ :‬آالت الطرب المعروفة بآالت الموسٌقى ‪ .‬فلفظ الحدٌث المعلق فً البخاري ؼٌر‬ ‫صرٌح فً إفادة حرمة « العازؾ » ألن عبارة « ٌستحلون » كما ذكر ابن العربً لها معنٌان ‪:‬‬ ‫أحدهما ‪ٌ :‬عتقدون أن ذلك حبلل ‪ ,‬والثانً ‪ :‬أن تكون مجازاً عن االسترسال فً استعمال تلك األمور !‬ ‫إذ لو كان المقصود باالستحبلل ‪ :‬المعنى الحقٌقً ‪ ,‬لكان كفراً ‪ ,‬فإن استحبلل الحرام المقطوع به ‪ -‬مثل‬ ‫الخمر والزنى المعبر عنه ب « الحر » ‪ -‬كفر باإلجماع ‪.‬‬ ‫ولو سلمنا بداللتها على الحرمة ‪ ,‬فهل ٌستفاد منها تحرٌم المجموع المذكور من الحر والحرٌر والخمر‬ ‫والم عازؾ ‪ ,‬أو كل فرد منها على حدة ؟ واألول هو الراجح ‪ .‬فإن الحدٌث فً الواقع ٌنعى على أخبلق‬ ‫طابفة من الناس ‪ :‬انؽمسوا فً الترؾ واللٌالً الحمراء ‪ ,‬وشرب الخمور ‪ .‬فهم بٌن خمر ونسا ء ‪ ,‬ولهو‬ ‫وؼناء ‪ ,‬وخز وحرٌر ‪ .‬ولذا روى ابن ماجه هذا الحدٌث عن أبى مالك األشعري بلفظ ‪ « :‬لٌشربن أناس‬ ‫من أمتً الخمر ٌسمونها بؽٌر اسمها ‪ٌ ,‬عزؾ على رإوسهم بالمعازؾ والمؽنٌات ‪ٌ ,‬خسؾ هللا بهم‬ ‫األرض وٌجعل منهم القردة والخنازٌر » ‪ ,‬وكذلك رواه ابن حبان فً صحٌحه ‪ ,‬والبخاري فً تارٌخه ‪.‬‬ ‫وكل من روى الحدٌث من طرٌق ؼٌر طرٌق هشام بن عمار ‪ ,‬جعل الوعٌد على شرب الخمر ‪ ,‬وما‬ ‫المعازؾ إال مكملة وتابعة ‪.‬‬ ‫( هـ ) واستدلوا بحدٌث عابشة ‪ « :‬إن هللا تعالى حرم القٌنة ( أي الجارٌة ) وبٌعها وثمنها ‪ ,‬وتعلٌمها »‬ ‫‪.‬‬ ‫والجواب عن ذلك ‪:‬‬ ‫أوال ‪ :‬أن الحدٌث ضعٌؾ ‪ ,‬وكل ما جاء فً تحرٌم بٌع القٌان ضعٌؾ ‪.‬‬ ‫ثانٌا ‪ :‬قال الؽزالً ‪ :‬المراد بالقٌنة الجارٌة التً تؽنً للرجال فً مجلس الشرب ‪ ,‬وؼناء األجنبٌة‬ ‫للفساق ومن ٌخاؾ علٌهم الفتنة حرام ‪ ,‬وهم ال ٌقصدون بالفتنة إال ما هو محذور ‪ .‬فؤما ؼناء الجارٌة‬ ‫لمالكها ‪ ,‬فبل ٌفهم تحرٌمه من هذا الحدٌث ‪ .‬بل لؽٌر مالكها سماعها عند عدم الفتنة ‪ ,‬بدلٌل ما روى فً‬ ‫ا لصحٌحٌن من ؼناء الجارٌتٌن فً بٌت عابشة رضى هللا تعالى عنها‪ ,‬وسٌؤتً ‪.‬‬ ‫ثالثا ‪ :‬كان هإالء القٌان المؽنٌات ٌكون عنصراًَ​ً هاما ً من نظام الرقٌق ‪ ,‬الذي جاء اإلسبلم بتصفٌته‬ ‫تدرٌجٌا ‪ ,‬فلم ٌكن ٌتفق وهذه الحكمة ‪ :‬إقرار بقا ء هذه الطبقة فً المجتمع اإلسبلمً ‪ ,‬فإذا جاء حدٌث‬ ‫بالنعً على امتبلك « القٌنة » وبٌعها ‪ ,‬والمنع منه ‪ ,‬فذلك لهدم ركن من بناء « نظام الرق » العتٌد ‪.‬‬ ‫( و ) واستدلوا بما روى نافع ‪ :‬أن ابن عمر سمع صوت زمارة راع فوضع إصبعٌه فً أذنٌه ‪ ,‬وعدل‬ ‫راحلته عن الطرٌق ‪ ,‬وهو ٌقول ‪ٌ :‬ا نافع ‪ ,‬أتسمع ؟ فؤقول ‪ :‬نعم ‪ ,‬فٌمضى ‪ ,‬حتى قلت ‪ :‬ال ‪ .‬فرفع ٌده‬ ‫وعدل راحلته إلى الطرٌق وقال ‪ « :‬رأٌت رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ٌسمع زمارة راع فصنع مثل‬ ‫هذا ( رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه ) ‪.‬‬ ‫والحدٌث قال عنه أبو داود ‪ :‬حدٌث منكر ‪.‬‬ ‫ولو صح لكان حجة على المحرمٌن ال لهم ‪ .‬فلو كان سماع المزمار حراما ما أباح النبً صلى هللا علٌه‬ ‫وسلم البن عمر سماعه ‪ ,‬ولو كان عند ابن عمر حراما ما أباح لنافع سماعه ‪ ,‬وألمر علٌه السبلم بمنع‬ ‫وتؽٌ​ٌر هذا المنكر ‪ ,‬فإقرار النبً صلى هللا علٌه وسلم البن عمر دلٌل على أنه حبلل ‪.‬‬ ‫وإنما تجنب ‪ -‬علٌه السبلم ‪ -‬سماعه كتجنبه أكثر المباح من أمور الدنٌا كتجنبه األكل متكبا وأن ٌبٌت‬ ‫عنده دٌنار أو درهم ‪ . . . .‬الخ ‪.‬‬ ‫( ز ) واستدلوا أٌضا بما روى ‪ « :‬إن الؽناء ٌنبت النفاق فً القلب » ولم ٌثبت هذا حدٌثا عن النبً‬ ‫صلى هللا علٌه وسلم ‪ ,‬وإنما ثبت قوال لبعض الصحابة أو التابعٌن ‪ ,‬فهو رأى لؽٌر معصوم خالفه فٌه‬ ‫ؼٌره ‪ .‬فمن الناس من قال ‪ -‬وبخاصة الصوفٌة ‪ : -‬إن الؽناء ٌرقق القلب ‪ ,‬وٌبعث الحزن والندم على‬ ‫المعصٌة ‪ ,‬وٌهٌج الشوق إلى هللا تعالى ‪ ,‬ولهذا اتخذوه وسٌلة لتجدد نفوسهم ‪ ,‬وتنشٌط عزابمهم ‪ ,‬وإثارة‬ ‫أشواقهم ‪ .‬قالوا ‪ :‬وهذا أمر ال ٌعرؾ إال بالذوق والتجربة والممارسة ‪ ,‬ومن ذاق عرؾ ‪ ,‬ولٌس الخبر‬ ‫كالعٌان ‪.‬ا‬ ‫على أن اإلمام الؽزالً جعل حكم هذه الكلمة بالنسبة للمؽنً ال للسامع ‪ ,‬إذ كان ؼرض المؽنً أن‬


‫ٌعرض نفسه على ؼٌره ‪ ,‬وٌروج صوته علٌه ‪ ,‬وال ٌزال ٌنافق وٌتودد إلى الناس لٌرؼبوا فً ؼنابه ‪.‬‬ ‫ومع هذا قال الؽزالً ‪ :‬وذلك ال ٌوجب تحرٌما ‪ ,‬فإن لبس الثٌاب الجمٌلة ‪ ,‬وركوب الخٌل المهملجة ‪,‬‬ ‫وسابر أنواع الزٌنة ‪ ,‬والتفاخر بالحرث واألنعام والزرع وؼٌر ذلك ‪ٌ ,‬نبت النفاق فً القلب ‪ ,‬وال ٌطلق‬ ‫القول بتحرٌم ذلك كله ‪ ,‬فلٌس السبب فً ظهور النفاق فً القلب ‪ :‬المعاصً ‪ ,‬بل إن المباحات ‪ ,‬التً‬ ‫هً مواقع نظر الخلق ‪ ,‬أكثر تؤثٌرا‪.‬‬ ‫( ح ) واستدلوا على تحرٌم ؼناء المرأة خاصة ‪ ,‬بما شاع عند بعض الناس من أن صوت المرأة عورة‬ ‫‪ .‬ولٌس هناك دلٌل وال شبه دلٌل من دٌن هللا على أن صوت المرأة عورة ‪ ,‬وقد كان النساء ٌسؤلن‬ ‫رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم فً مؤل من أصحابه ‪ ,‬وكان الصحابة ٌذهبون إلى أمهات المإمنٌن‬ ‫وٌستفتونهن وٌفتٌنهم وٌحدثنهم ‪ ,‬ولم ٌقل أحد ‪ :‬إن هذا من عابشة أو ؼٌرها كشؾ لعورة ٌجب أن تستر‬ ‫‪ .‬مع أن نساء النبً علٌهن من التؽلٌظ ما لٌس على ؼٌرهن ‪ .‬وقال تعالى ‪ ( :‬وقلن قوال معروفا )‪.‬‬ ‫ي الؽناء ‪ ,‬قلنا ‪ :‬روى الصحٌحان أن النبً صلى هللا علٌه وسلم‬ ‫فإن قالوا ‪ :‬هذا فً الحدٌث العادي ال ؾ‬ ‫سمع ؼناء الجارٌتٌن ولم ٌنكر علٌهما ‪ ,‬وقال ألبى بكر ‪ :‬دعهما ‪ .‬وقد سمع ابن جعفر وؼٌره من‬ ‫الصحابة والتابعٌن الجواري ٌؽنٌن ‪.‬‬ ‫( ط ) واستدلوا بحدٌث الترمذي عن علً مرفوعا ً ‪ « :‬إذا فعلت أمتً خمس عشرة خصلة ‪ ,‬هل بها‬ ‫الببلء… » ‪ ,‬وذكر منها ‪ « :‬واتخذت القٌنات والمعازؾ » ‪ ,‬والحدٌث متفق على ضعفه ‪ ,‬فبل حجة فٌه‬ ‫‪.‬‬ ‫والخبلصة ‪ :‬أن النصوص التً استدل بها القابلون بالتحرٌم إما صحٌح ؼٌر صرٌح ‪ ,‬أو صرٌح ؼٌر‬ ‫صحٌح ‪ .‬ولم ٌسلم حدٌث واحد مرفوع إلى رسول هللا ٌصلح دلٌبلً للتحرٌم ‪ ,‬وكل أحادٌثهم ضعفها‬ ‫جماعة من الظاهرٌة والمالكٌة والحنابلة والشافعٌة ‪.‬‬ ‫قال القاضً أبو بكر بن العربً فً كتاب « األحكام » ‪ :‬لم ٌصح فً التحرٌم شا ‪.‬‬ ‫وكذا قال الؽزالً وابن النحوي فً العمدة ‪.‬‬ ‫وقال ابن طاهر فً كتابه فً « السماع » ‪ :‬لم ٌصح منها حرؾ واحد ‪.‬‬ ‫وقال ابن حزم ‪ :‬وال ٌصح فً هذا الباب شا ‪ ,‬وكل ما فٌه فموضوع ‪ .‬ووهللا لو أسند جمٌعه ‪ ,‬أو واحد‬ ‫منه فاكثر ‪ ,‬من طرٌق الثقات إلى رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ‪ ,‬لما ترددنا فً األخذ به ‪.‬‬

‫أدلة المجيزين للغناء ‪:‬‬ ‫تلك هً أدلة المحرمٌن ‪ ,‬وقد سقطت واحدا بعد اآلخر ‪ ,‬ولم ٌقؾ دلٌل منها على قدمٌه ‪ .‬وإذا انتفت أدلة‬ ‫التحرٌم بقى حكم الؽناء على أمل اإلباحة ببل شك ‪ ,‬ولو لم ٌكن معنا نص أو دلٌل واحد على ذلك ؼٌر‬ ‫سقوط أدلة التحرٌم ‪ .‬فكٌؾ ومعنا نصوص اإلسبلم الصحٌحة الصرٌحة ‪ ,‬وروحه السمحة ‪ ,‬وقواعده‬ ‫العامة ‪ ,‬ومبادبه الكلٌة ؟‬ ‫وهاك بٌانها ‪:‬‬ ‫أوال ً ‪ -‬من حيث النصوص ‪:‬‬ ‫استدلوا بعدد من األحادٌث الصحٌحة ‪ ,‬منها ‪ :‬حدٌث ؼناء الجارٌتٌن فً بٌت النبً صلى هللا علٌه وسلم‬ ‫عند عابشة ‪ ,‬وانتهار أبى بكر لهما ‪ ,‬وقوله ‪ :‬مزمار الشٌطان فً بٌت النبً صلى هللا علٌه وسلم ‪ ,‬وهذا‬ ‫ٌدل على أنهما لم تكونا صؽٌرتٌن كما زعم بعضهم ‪ ,‬فلو صح ذلك لم تستحقا ؼضب أبى بكر إلى هذا‬ ‫الحد ‪.‬‬ ‫والمعول علٌه هنا هو رد ا لنبً صلى هللا علٌه وسلم على أبى بكر رضى هللا عنه وتعلٌله ‪ :‬أنه ٌرٌد أن‬


‫ٌعلم الٌهود أن فً دٌننا فسحة ‪ ,‬وأنه بعث بحنٌفٌة سمحة ‪ .‬وهو ٌدل على وجوب رعاٌة تحسٌن صورة‬ ‫اإلسبلم لدى اآلخرٌن ‪ ,‬وإظهار جانب الٌسر والسماحة فٌه ‪.‬‬ ‫وقد روى البخاري وأحمد عن عابشة أنها زفت امرأة إلى رجل من األنصار فقال النبً صلى هللا علٌه‬ ‫وسلم ‪ٌ « :‬ا عابشة ‪ ,‬ما كان معهم من لهو ؟ فإن األنصار ٌعجبهم اللهو » ‪.‬‬ ‫وروى ابن ماجه عن ابن عباس قال ‪ :‬أنكحت عابشة ذات قرابة لها من األنصار ‪ ,‬فجاء رسول هللا‬ ‫صلى هللا علٌه وسلم فقال ‪ «‹ :‬أهدٌتم الفتاة » ؟ قالوا ‪ :‬نعم ‪ .‬قال ‪ « :‬أرسلتم معها من ٌؽنى » ؟ قالت ‪:‬‬ ‫ال ‪ .‬فقال رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ‪ « :‬إن األنصار قوم فٌهم ؼزل ‪ ,‬فلو بعثتم معها من ٌقول ‪:‬‬ ‫أتٌناكم أتٌناكم ‪ ..‬فحٌانا وحٌاكم ؟!‬ ‫وهذا الحدٌث ٌدل على رعاٌة أعراؾ األقوام المختلفة ‪ ,‬واتجاههم المزاجً ‪ ,‬وال ٌحكم المرء مزاجه‬ ‫هو فً حٌاة كل الناس ‪.‬‬ ‫وروى النسابً والحاكم وصححه عن عامر بن سعد قال ‪ :‬دخلت على قرظة بن كعب وأبى مسعود‬ ‫األنصاري فً عرس ‪ ,‬وإذا جوار ٌؽنٌن ‪ .‬فقلت ‪ :‬أي صاحبً رسول هللا أهل بدر ٌفعل هذا عندكم ؟!‬ ‫فقاال ‪ :‬اجلس إن شبت فاستمع معنا ‪ ,‬وان شبت فاذهب ‪ ,‬فإنه قد رخص لنا اللهو عند العرس ‪.‬‬ ‫وروى ابن حزم بسند« عن ابن سٌرٌن ‪ :‬أن رجبلً قدم المدٌنة بجوار فؤتى عبد هللا ابن جعفر فعرضهن‬ ‫علٌه ‪ ,‬فؤمر جارٌة منهن فؽنت ‪ ,‬وابن عمر ٌسمع ‪ ,‬فاشتراها ابن جعفر بعد مساومة ‪ ,‬ثم جاء الرجل‬ ‫إلى ابن عمر فقال ‪ٌ :‬ا أبا عبد الرحمن ‪ ,‬ؼبن بسبعمابة درهم ! فؤتى ابن عمر إلى عبد هللا بن جعفر‬ ‫فقال له ‪ :‬إنه ؼبن بسبعمابة درهم ‪ ,‬فإما أن تعطٌها إٌاه ‪ ,‬وإما أن ترد علٌه بٌعه ‪ ,‬فقال ‪ :‬بل نعطٌه إٌاها‬ ‫‪ .‬قال ابن حزم ‪ :‬فهذا ابن عمر قد سمع الؽناء وسعى فً بٌع المؽنٌة ‪ ,‬وهذا إسناد صحٌح ‪ ,‬ال تلك‬ ‫الملفقات الموضوعة ‪.‬‬ ‫واستدلوا بقوله تعالى ‪ ( :‬وإذا رأوا تجار ًة أو لهواً انفضوا إلٌها وتركوك قابما ‪ ,‬قل ما عند هللا خٌر من‬ ‫اللهو ومن التجارة ‪ ,‬وهللا خٌر الرازقٌن ) ‪.‬‬ ‫فقرن اللهو بالتجارة ‪ -‬وهى حبلل بٌقٌن ‪ , -‬ولم ٌذمهما إال من حٌث شؽل الصحابة بهما ‪ -‬بمناسبة قدوم‬ ‫القافلة وضرب الدفوؾ فرحا بها ‪ -‬من خطبة النبً صلى هللا علٌه وسلم ‪ ,‬وتركه قابما ‪.‬‬ ‫واستدلوا بما جاء عن عدد من الصحابة رضً هللا عنهم ‪ :‬أنهم باشروا السماع بالفعل أو أقروه وهم‬ ‫القوم ٌقتدى بهم فٌهتدى ‪ .‬واستدلوا بما نقله ؼٌر واحد من اإلجماع على إباحة السماع ‪ ,‬كما سنذكره بعد‬ ‫‪.‬‬ ‫وثانيًا من حيث روح اإلسالم وقواعده ‪:‬‬ ‫( أ ) ال شا فً الؽناء إال أنه من طٌبات الدنٌا التً تستلذها األنفس ‪ ,‬وتستطٌبها العقول ‪ ,‬وتستحسنها‬ ‫الفطر ‪ ,‬وتشتهٌها األسماع ‪ ,‬فهو لذة األذن ‪ ,‬كما أن الطعام الهنًء لذة المعدة ‪ ,‬والمنظر الجمٌل لذة‬ ‫العٌن ‪ ,‬والرابحة الذكٌة لذة الشم …‪ .‬الخ ‪ ,‬فهل الطٌبات ‪ -‬أي المستلذات ‪ -‬حرام فً اإلسبلم أم حبلل ؟‬ ‫من المعروؾ أن هللا تعالى كان قد حرم على بنً إسرابٌل بعض طٌبات الدنٌا عقوبة لهم على سوء ما‬ ‫صنعوا ‪ ,‬كما قال تعالى ‪ ( :‬فبظلم من الذٌن هادوا حرمنا علٌهم طٌبات أحلت لهم وبصدهم عن سبٌل‬ ‫هللا كثٌراً * وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل ) ‪ ,‬فلما بعث هللا محمدا صلى هللا‬ ‫علٌه وسلم جعل عنوان رسالته فً كتب األولٌن أنه ‪ٌ ( :‬ؤمرهم بالمعروؾ وٌنهاهم عن المنكر وٌحل‬ ‫لهم الطٌبات وٌحرم علٌهم الخبابث وٌضع عنهم إصرهم واألؼبلل التً كانت علٌهم ) ‪ .‬فلم ٌبق فً‬ ‫اإلسبلم شًء طٌب ‪ -‬أي تستطٌبه األنفس والعقول السلٌمة ‪ -‬إال أحله هللا ‪ ,‬رحمة بهذه األمة لعموم‬ ‫رسالتها وخلودها ‪ .‬قال تعالى ‪ٌ ( :‬سؤلونك ماذا أحل لهم ‪ ,‬قل أحل لكم الطٌبات ) ‪.‬‬ ‫شًا ً من الطٌبات مما رزق هللا ‪ ,‬مهما‬ ‫ولم ٌبح هللا لواحد من الناس أن ٌحرم على نفسه أو على ؼٌره ب‬ ‫ٌكن صبلح نٌته أو ابتؽاء وجه هللا فٌه ‪ ,‬فإن التحلٌل والتحرٌم من حق هللا وحده ‪ ,‬ولٌس من شؤن عباده‪,‬‬ ‫قال تعالى ‪ ( :‬قل أرأٌتم ما أنزل هللا لكم من رزق فجعلتم منه حراما ً وحبلالً قل ءآهلل أذن لكم ‪ ,‬أم على‬


‫هللا تفترون ) ‪ ,‬وجعل سبح انه تحرٌم ما أحله من الطٌبات كإحبلل ما حرم من المنكرات ‪ ,‬كبلهما ٌجلب‬ ‫سخط هللا وعذابه ‪ ,‬وٌردي صاحبه فً هاوٌة الخسران المبٌن ‪ ,‬والضبلل البعٌد ‪ ,‬قال جل شؤنه ٌنعى‬ ‫على من فعل ذلك من أهل الجاهلٌة ‪ ( :‬قد خسر الذٌن قتلوا أوالدهم سفها ً بؽٌر علم وحرموا ما رزقهم‬ ‫هللا افتراء على هللا ‪ ,‬قد ضلوا وما كانوا مهتدٌن ) ‪.‬‬ ‫( ب ) ولو تؤملنا لوجدنا حب الؽناء والطرب للصوت الحسن ٌكاد ٌكون ؼرٌزة إنسانٌة وفطرة بشرٌة ‪,‬‬ ‫حتى إننا لنشاهد الصبً الرضٌع فً مهده ٌسكته الصوت الطٌب عن بكابه ‪ ,‬وتنصرؾ نفسه عما ٌبكٌه‬ ‫إلى اإلصؽاء إلٌه ‪ .‬ولذا تعودت األمهات والمرضعات والمربٌات الؽناء لؤلطفال منذ زمن قدٌم ‪ .‬بل‬ ‫نقول ‪ :‬إن الطٌور والبهابم تتؤثر بحسن الصوت والنؽمات الموزونة حتى قال الؽزالً فً اإلحٌاء ‪« :‬‬ ‫من لم ٌحركه السماع فهو ناقص مابل عن االعتدال ‪ ,‬بعٌد عن الروحانٌة ‪ ,‬زابد فً ؼلظ الطبع وكثافته‬ ‫على الجم ال والطٌور وجمٌع البهابم ‪ ,‬إذ الجمل ‪ -‬مع ببلدة طبعه ‪ٌ -‬تؤثر بالحداء تؤثراً ٌستخؾ معه‬ ‫األحمال الثقٌلة ‪ ,‬وٌستقصر ‪ -‬لقوة نشاطه فً سماعه ‪ -‬المسافات الطوٌلة ‪ ,‬وٌنبعث فٌه من النشاط ما‬ ‫ٌسكره وٌولهه ‪ .‬فترى اإلبل إذا سمعت الحادي تمد أعناقها ‪ ,‬وتصؽً إلٌه ناصبة آذانها ‪ ,‬وتسرع فً‬ ‫سٌرها ‪ ,‬حتى تتزعزع علٌها أحمالها ومحاملها » ‪.‬‬ ‫وإذا كان حب الؽناء ؼرٌزة وفطرة فهل جاء الدٌن لمحاربة الؽرابز والفطر والتنكٌل بها ؟ كبل ‪ ,‬إنما‬ ‫جاء لتهذٌبها والسمو بها ‪ ,‬وتوجٌهها التوجٌه القوٌم ‪ .‬قال اإلمام ابن تٌمٌة رحمه هللا ‪ :‬إن األنبٌاء قد‬ ‫بعثوا بتكمٌل الفطرة وتقرٌرها ال بتبدٌلها وتؽٌ​ٌرها ‪.‬‬ ‫ومصداق ذلك أن رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم قدم المدٌنة ولهم ٌومان ٌلعبون فٌهما ‪ ,‬فقال ‪ « :‬ما‬ ‫هذان الٌومان »؟ قالوا ‪ :‬كنا نلعب فٌهما فً الجاهلٌة ‪ .‬فقال علٌه السبلم ‪ « :‬إن هللا قد أبدلكم بهما خٌراً‬ ‫منهما ‪ :‬يوم األضحى وٌوم الفطر » ( رواه أحمد وأبو داود والنسابً ) ‪.‬‬ ‫وقالت عابشة ‪ « :‬لقد رأٌت النبً ٌسترنً بردابه ‪ ,‬وأنا أنظر إلى الحبشة ٌلعبون فً المسجد ‪ ,‬حتى‬ ‫أكون أنا التً أسؤمه ‪ -‬أي اللعب ‪ -‬فاقدروا قدر الجارٌة الحدٌثة السن الحرٌصة على اللهو » ‪.‬‬ ‫وإذا كان الؽناء لهواً ولعبا فلٌس اللهو واللعب حراما ‪ ,‬فاإلنسان ال صبر له على الجد المطلق والصرامة‬ ‫الدابمة ‪.‬‬ ‫قال النبً صلى هللا علٌه وسلم لحنظلة ‪ -‬حٌن ظن نفسه قد نافق لمداعبته زوجه وولده ‪ ,‬وتؽٌر حاله فً‬ ‫بٌته عن حاله مع رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم‪ٌ « :‬ا حنظلة ‪ ,‬ساعة وساعة » (رواه مسلم ) ‪.‬‬ ‫وقال علً بن أبى طالب ‪ :‬روحوا القلوب ساعة بعد ساعة ‪ ,‬فإن القلوب إذا أكرهت عمٌت ‪.‬‬ ‫وقال كرم هللا وجهه ‪ :‬إن القلوب تمل كما تمل األبدان ‪ ,‬فابتؽوا لها طرابؾ الحكمة ‪.‬‬ ‫وقال أبو الدرداء ‪ :‬إنً ألستجم نفسً بالشًء من اللهو لٌكون أقوى لها على الحق ‪.‬‬ ‫وقد أجاب اإلمام الؽزالً ممن قال ‪ :‬إن الؽناء لهو ولعب بقوله ‪ « :‬هو كذلك ‪ ,‬ولكن الدنٌا كلها لهو‬ ‫ولعب ‪ . . .‬وجمٌع المداعبة مع النساء لهو ‪ ,‬إال الحراثة التً هً سبب وجود الولد ‪ ,‬كذلك المزح الذي‬ ‫ال فحش فٌه حبلل ‪ ,‬نقل ذلك عن رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم وعن الصحابة ‪.‬‬ ‫وأي لهو ٌزٌد على لهو الحبشة والزنوج فً لعبهم ‪ ,‬فقد ثبت بالنص إباحته ‪ .‬على أنً أقول ‪ :‬اللهو‬ ‫مروح القلب ‪ ,‬ومخفؾ أعباء الفكر ‪ ,‬والقلوب إذا أكرهت عمٌت ‪ ,‬وتروٌحها إعانة لها على الجد ‪,‬‬ ‫فالمواظب على التفقه مثبلً ٌنبؽً أن ٌتعطل ٌوم الجمعة ‪ :‬ألن عطلة ٌوم تساعد على النشاط فً سابر‬ ‫األٌام ‪ ,‬والمواظب على نوافل الصلوات فً سابر األوقات ٌنبؽً أن ٌعطل فً بعض األوقات ‪ ,‬وألجله‬ ‫كرهت الصبلة فً بعض األوقات ‪ ,‬فالعطلة معونة على العمل ‪ ,‬واللهو معٌن على الجد ‪ ,‬وال ٌصبر‬ ‫على الجد المحض ‪ ,‬والحق المر ‪ ,‬إال نفوس األنبٌاء ‪ ,‬علٌهم السبلم ‪.‬‬ ‫فاللهو دواء ‪ ,‬القلب من داء اإلعٌاء والمبلل ‪ ,‬فٌنبؽً أن ٌكون مباحا ً ‪ ,‬ولكن ال ٌنبؽً أن ٌستكثر ‪ ,‬كما‬ ‫ال ٌستكثر من الدواء‪ .‬فإذن اللهو على هذه النٌة ٌصٌر قربه ‪ ,‬هذا فً حق من ال ٌحرك السماع من قلبه‬ ‫صفة محمودة ٌطلب تحرٌكها ‪ ,‬بل لٌس له إال اللذة واالستراحة المحضة ‪ ,‬فٌنبؽً أن ٌستحب له ذلك ‪,‬‬ ‫لٌتوصل به إلى المقصود الذي ذكرناه ‪ .‬نعم هذا ٌدل على نقصان عن ذروة الكمال ‪ ,‬فإن الكامل هو‬


‫الذي ال ٌحتاج أن ٌروح نفسه بؽٌر الحق ‪ ,‬ولكن حسنات األبرار سٌبات المقربٌن ‪ ,‬ومن أحاط بعلم‬ ‫عبلج القلوب ‪ ,‬ووجوه التلطؾ بها ‪ ,‬وسٌاقاتها إلى الحق ‪ ,‬علم قطعا أن تروٌحها بؤمثال هذه األمور‬ ‫دواء نافع ال ؼنى عنه » ‪ . .‬انتهى كبلم الؽزالً ‪ ,‬وهو كبلم نفٌس ٌعبر عن روح اإلسبلم الحق ‪.‬‬

‫القائلون بإجازة الغناء ‪:‬‬ ‫تلك هً األدلة المبٌحة للؽناء من نصوص اإلسبلم وقواعده ‪ ,‬فٌها الكفاٌة كل الكفاٌة ولو لم ٌقل بموجبها‬ ‫قابل ‪ ,‬ولم ٌذهب إلى ذلك فقٌه ‪ ,‬فكٌؾ وقد قال بموجبها الكثٌرون من صحابة وتابعٌن وأتباع وفقهاء ؟‬ ‫وحسبنا أن أهل المدٌنة ‪ -‬على ورعهم ‪ -‬والظاهرٌة ‪ -‬على حرفٌتهم وتمسكهم بظواهر النصوص ‪-‬‬ ‫والصوفٌة ‪ -‬على تشددهم وأخذهم بالعزابم دون الرخص ‪ -‬روى عنهم إباحة الؽناء ‪.‬‬ ‫قال اإلمام الشوكانً فً « نٌل األوطار » ‪ « :‬ذهب أهل المدٌنة ومن وافقهم من علماء الظاهر ‪,‬‬ ‫وجماعة الصوفٌة ‪ ,‬إلى الترخٌص فً الؽناء ‪ ,‬ولو مع العود والٌراع » ‪.‬‬ ‫وحكى األستاذ أبو منصور البؽدادي الشافعً فً مإلفه فً السماع ‪ :‬أن عبد هللا بن جعفر كان ال ٌرى‬ ‫بالؽناء بؤسا ً ‪ ,‬وٌصوغ األلحان لجوارٌه ‪ ,‬وٌسمعها منهن على أوتاره ‪ .‬وكان ذلك فً زمن أمٌر‬ ‫المإمنٌن علً رضى هللا عنه ‪.‬‬ ‫وحكى األستاذ المذكور مثل ذلك أٌضا عن القاضً شرٌح ‪ ,‬وسعٌد بن المسٌب ‪ ,‬وعطاء بن أبى رباح ‪,‬‬ ‫والزهرى ‪ ,‬والشعبى ‪.‬‬ ‫وقال إمام الحرمٌن فً النهاٌة ‪ ,‬وابن أبً الدنٌا ‪ :‬نقل األثبات من المإرخٌن ‪ :‬أن عبد هللا بن الزبٌر كان‬ ‫له جوار عوادات ‪ ,‬وأن ابن عمر دخل إلٌه والى جنبه عود ‪ ,‬فقال ‪ :‬ما هذا ٌا صاحب رسول هللا ؟‪.‬ا‬ ‫فناوله إٌاه ‪ ,‬فتؤمله ابن عمر فقال ‪ :‬هذا مٌزان شامً ؟ قال ابن الزبٌر ‪ٌ :‬وزن به العقول !‬ ‫ً‬ ‫وروى الحافظ أبو محمد بن حزم فً رسالته فً السماع بسنده إلى ابن سٌرٌن قال ‪ « :‬إن رجبل قدم‬ ‫المدٌنة بجوار فنزل على ابن عمر ‪ ,‬وفٌهن جارٌة تضرب ‪ .‬فجاء رجل فساومه ‪ ,‬فلم ٌهو فٌهن شٌبا ‪.‬‬ ‫قال ‪ :‬انطلق إلى رجل هو أمثل لك بٌعا من هذا ‪ .‬قال ‪ :‬من هو ؟ قال ‪ :‬عبد هللا بن جعفر ‪ . .‬فعرضهن‬ ‫ث جاء إلى ابن عمر ‪. . . .‬‬ ‫علٌه ‪ ,‬فؤمر جارٌة منهن ‪ ,‬فقال لها ‪ :‬خذي العود ‪ ,‬فؤخذته ‪ ,‬فؽنت ‪ ,‬فباٌعه م‬ ‫إلى آخر القصة ‪.‬‬ ‫وروى صاحب « العقد » العبلمة األدٌب أبو عمر األندلسً ‪ :‬أن عبد هللا بن عمر دخل على ابن جعفر‬ ‫فوجد عنده جارٌة فً حجرها عود ‪ ,‬ثم قال البن عمر ‪ :‬هل ترى بذلك بؤسا ً ؟ قال ‪ :‬ال بؤس بهذا ‪.‬‬ ‫وحكى الماوردى عن معاوٌة وعمرو بن العاص ‪ :‬أنهما سمعا العود عند ابن جعفر ‪.‬‬ ‫وروى أبو الفرج األصبهانى ‪ :‬أن حسان بن ثابت سمع من عزة المٌبلء الؽناء بالمزهر بشعر من شعره‬ ‫‪.‬‬ ‫وذكر أبو العباس المبرد نحو ذلك ‪ .‬والمزهر عند أهل اللؽة ‪ :‬العود ‪.‬‬ ‫وذكر األدفوى ‪ :‬أن عمر بن عبد العزٌز كان ٌسمع جوارٌه قبل الخبلفة ‪ .‬ونقل ابن السمعانى الترخٌص‬ ‫عن طاووس ‪ ,‬ونقله ابن قتٌبة وصاحب « اإلمتاع » عن قاضى المدٌنة سعد بن إبراهٌم بن عبد‬ ‫الرحمن الزهري من التابعٌن ‪ .‬ونقله أبو ٌعلى الخلٌلى فً « اإلرشاد » عن عبد العزٌز بن سلمة‬ ‫الماجشون مفتً المدٌنة ‪.‬‬ ‫وحكى الروٌانى عن القفال ‪ :‬أن مذهب مالك بن أنس إباحة الؽناء بالمعازؾ ‪ ,‬وحكى األستاذ أبو‬ ‫منصور الفورانى عن مالك جواز العود ‪ ,‬وذكر أبو طالب المكً فً « قوت القلوب » عن شعبة ‪ :‬أنه‬ ‫سمع طنبوراً فً بٌت المنهال بن عمرو المحدث المشهور ‪.‬‬


‫وحكى أبو الفضل بن طاهر فً مإلفه فً « السماع » ‪ :‬أنه ال خبلؾ بٌن أهل المدٌنة فً إباحة العود ‪.‬‬ ‫قال ابن النحوي فً « العمدة » ‪ :‬وقال ابن طاهر ‪ :‬هو إجماع أهل المدٌنة ‪.‬‬ ‫قال ابن طاهر ‪ :‬والٌه ذهبت الظاهرٌة قاطبة ‪ .‬قال األدفوى ‪ :‬لم ٌختلؾ النقلة فً نسبة الضرب إلى‬ ‫إبراهٌم بن سعد المتقدم الذكر ‪ ,‬وهو ممن أخرج له الجماعة كلهم ( ٌعنى بالجماعة ‪ :‬أصحاب الكتب‬ ‫الستة ‪ ,‬من الصحٌحٌن والسنن ) ‪.‬‬ ‫وحكى الماوردى إباحة العود عن بعض الشافعٌة ‪ ,‬وحكاه أبو الفضل بن طاهر عن أبى إسحاق‬ ‫الشٌرازي ‪ ,‬وحكاه األسنوى فً « المهمات » عن الروٌانى والماوردى ‪ ,‬ورواه ابن النحوي عن‬ ‫األستاذ أبى منصور ‪ ,‬وحكاه ابن الملقن فً « العمدة » عن ابن طاهر ‪ ,‬وحكاه األدفوى عن الشٌخ عز‬ ‫الدٌن بن عبد السبلم ‪ ,‬وحكاه صاحب « اإلمتاع » عن أبى بكر بن العربً ‪ ,‬وجزم باإلباحة األدفوى ‪.‬‬ ‫هإالء جمٌعا قالوا بتحلٌل السماع ‪ ,‬مع آلة من اآلالت المعروفة ‪ -‬أي آالت الموسٌقى ‪.‬‬ ‫وأما مجرد الؽناء من ؼٌر آلة ‪ ,‬فقال األدفوى فً « اإلمتاع » ‪ :‬إن الؽزالً فً بعض تآلٌفه الفقهٌة نقل‬ ‫االتفاق على حله ‪ ,‬ونقل ابن طاهر إجماع الصحابة والتابعٌن علٌه ‪ ,‬ونقل التاج الفزارى وابن قتٌبة‬ ‫إجماع أهل الحرمٌن علٌه ‪ ,‬ونقل ابن طامر وابن قتٌبة أٌضا إجماع أهل المدٌنة علٌه ‪ ,‬وقال الماوردى‬ ‫‪ :‬لم ٌزل أهل الحجاز ٌرخصون فٌه فً أفضل أٌام السنة المؤمور فٌها بالعبادة والذكر ‪.‬‬ ‫قال ابن النحوي فً « العمدة » ‪ :‬وقد روى الؽناء وسماعه عن جماعة من الصحابة والتابعٌن ‪ ,‬فمن‬ ‫الصحابة عمر ‪ -‬كما رواه ابن عبد البر وؼٌر‪ -‬وعثمان ‪ -‬كما نقله الماوردى وصاحب البٌان والرافعى‬ ‫ وعبد الرحمن بن عوؾ كما رواه ابن أبى شٌبة ‪ -‬وأبو عبٌدة بن الجراح ‪ -‬كما أخرجه البٌهقى‪ -‬وسعد‬‫بن أبى وقاص ‪ -‬كما أخرجه ابن قتٌبة ‪ -‬وأبو مسعود األنصاري ‪ -‬كما أخرجه البٌهقى ‪ -‬وببلل وعبد هللا‬ ‫أٌض ‪ -‬وحمزة كما فً الصحٌح ‪ -‬وابن عمر ‪ -‬كما‬ ‫ا‬ ‫بن األرقم وأسامة بن زٌد ‪ -‬كما أخرجه البٌهقى‬ ‫أخرجه ابن طاهر ‪ -‬والبراء بن مالك ‪ -‬كما أخرجه أبو نعٌم ‪ -‬وعبد هللا بن جعفر ‪ -‬كما رواه ابن عبد‬ ‫البر ‪ -‬وعبد هللا بن الزبٌر ‪ -‬كما نقل أبو طالب المكى ‪ -‬وحسان ‪ -‬كما رواه أبو الفرج األصبهانى ‪-‬‬ ‫وعبد هللا بن عمرو ‪ -‬كما رواه الزبٌر بٌن بكار ‪ -‬وقرظة بن كعب ‪ -‬كما رواه ابن قتٌبة ‪ -‬وخوات بن‬ ‫جبٌر ورباح المعترؾ كما أخرجه صاحب األؼانً ‪ -‬والمؽٌرة بن شعبة ‪ -‬كما حكاه أبو طالب المكى‪-‬‬ ‫وعمرو بن العاص ‪ -‬كما حكاه الماوردى ‪ -‬وعابشة والربٌع ‪ -‬كما فً صحٌح البخاري وؼٌره ‪.‬‬ ‫وأما التابعون فسعٌد بن المسٌب ‪ ,‬وسالم بن عبد هللا بن عمر ‪ ,‬وابن حسان ‪ ,‬وخارجة بن زٌد ‪ ,‬وشرٌح‬ ‫القاضى ‪ ,‬وسعٌد بن جبٌر ‪ ,‬وعامر الشعبً ‪ ,‬وعبد هللا ابن أبى عتٌق ‪ ,‬وعطاء بن أبى رباح ‪ ,‬ومحمد‬ ‫بن شهاب الزهري ‪ ,‬وعمر بن عبد العزٌز ‪ ,‬وسعد بن إبراهٌم الزهري ‪.‬‬ ‫وأما تابعوهم ‪ ,‬فخلق ال ٌحصون ‪ ,‬منهم ‪ :‬األبمة األربعة ‪ ,‬وابن عٌ​ٌنة ‪ ,‬وجمهور الشافعٌة »‪ .‬انتهى‬ ‫كبلم ابن النحوي ‪ .‬هذا كله ذكره الشوكانى فً « نٌل األوطار »‬

‫قيود وشروط ال بد من مراعاتها ‪:‬‬ ‫وال ننسى أن نضٌؾ إلى هذا الحكم ‪ :‬قٌوداً ال بد من مراعاتها فً سماع الؽناء ‪:‬‬ ‫‪ .1‬نإكد ما أشرنا إلٌه أنه لٌس كل ؼناء مباحا ً ‪ ,‬فبل بد أن ٌكون موضوعه متفقا ً مع أدب اإلسبلم‬ ‫وتعالٌمه ‪.‬‬ ‫فبل ٌجوز التؽنً بقول أبى نواس ‪:‬‬ ‫دع عنك لومً ‪ ,‬فإن اللوم إؼراء وداونً بالتً كانت هً الداء !‬


‫وال بقول شوقً ‪:‬‬ ‫رمضان ولى هاتها ٌا ساقً مشتاقة تسعى إلى مشتاق‬ ‫وأخطر منها ‪ :‬قول إٌلٌا أبى ماضً فً قصٌدته « الطبلسم » ‪:‬‬ ‫جبـت ال أعلــم مـن أٌـن ‪ ,‬ولكنً أتٌـت !‬ ‫ولقــد أبصـرت قدامـى طـرٌقـا ً فمـشٌت !‬ ‫كٌؾ جبت ا كٌؾ أبصرت طرٌقً ؟ لست أدرى !‬ ‫ألنها تشكٌك فً أصول اإلٌمان ‪ :‬المبدأ ‪ ,‬والمعاد ‪ ,‬والنبوة ‪.‬‬ ‫ومثلها ‪ :‬ما عبر عنه بالعامٌة فً أؼنٌة « من ؼٌر لٌه » ا ولٌست أكثر من ترجمة شك أبى ماضً إلى‬ ‫العامٌة ‪ ,‬لٌصبح تؤثٌرها أوسع دابرة ‪.‬‬ ‫ومثل ذلك األؼنٌة التً تقول ‪ « :‬الدنٌا سٌجارة وكاس » ‪ .‬فكل هذه مخالفة لتعالٌم اإلسبلم الذي ٌجعل‬ ‫الخمر رجسا ً من عمل الشٌطان ‪ ,‬وٌلعن شارب « الكاس » وعاصرها وبابعها وحاملها وكل من أعان‬ ‫فٌها بعمل ‪ .‬والتدخٌن أٌضا آفة لٌس وراءها إال ضرر الجسم والنفس والمال ‪.‬‬ ‫واألؼانً التً تمدح الظلمة والطؽاة والفسقة من الحكام الذٌن ابتلٌت بهم أمتنا ‪ ,‬مخالفة لتعالٌم اإلسبلم ‪,‬‬ ‫الذي ٌلعن الظالمٌن ‪ ,‬وكل من ٌعٌنهم ‪ ,‬بل من ٌسكت علٌهم ‪ ,‬فكٌؾ بمن ٌمجدهم ؟ا‬ ‫واألؼنٌة التً تمجد صاحب العٌون الجرٌبة أو صاحبة العٌون الجرٌبة أؼنٌة تخالؾ أدب اإلسبلم الذي‬ ‫ٌنادي كتابه ‪ ( :‬قل للمإمنٌن ٌؽضوا من أبصارهم …‪ ( , ) ..‬وقل للمإمنات ٌؽضضن من أبصارهن ) ‪,‬‬ ‫وٌقول صلى هللا علٌه وسلم ‪ٌ « :‬ا علً ‪ ,‬ال تتبع النظرة النظر» ‪ ,‬فإن لك األولى ولٌست لك اآلخرة»‪.‬‬ ‫‪ .2‬ثم إن طرٌقة األداء لها أهمٌتها ‪ ,‬فقد ٌكون الموضوع ال بؤس به وال ؼبار علٌه ‪ ,‬ولكن طرٌقة‬ ‫المؽنً أو المؽنٌة فً أدابه بالتكسر فً القول ‪ ,‬وتعمد اإلثارة ‪ ,‬والقصد إلى إٌقاظ الؽرابز الهاجعة ‪,‬‬ ‫وإؼراء القلوب المرٌضة ٌنقل األؼنٌة من دابرة اإلباحة إلى دابرة الحرمة أو الشبهة أو الكراهة من مثل‬ ‫ما ٌذاع على الناس وٌطلبه الم ستمعون والمستمعات من األؼانً التً تلح على جانب واحد ‪ ,‬هو جانب‬ ‫الؽرٌزة الجنسٌة وما ٌتصل بها من الحب والؽرام ‪ ,‬وإشعالها بكل أسالٌب اإلثارة والتهٌج ‪ ,‬وخصوصا‬ ‫لدى الشباب والشابات ‪.‬‬ ‫إن القرآن ٌخاطب نساء النبً فٌقول ‪ ( :‬فبل تخضعن بالقول فٌطمع الذي فً قلبه مرض ) ‪ .‬فكٌؾ إذا‬ ‫كان مع الخضوع فً القول الوزن والنؽم والتطرٌب والتؤثٌر ‪.‬‬ ‫‪ .3‬ومن ناحٌة ثالثة ٌجب أال ٌقترن الؽناء بشًء محرم ‪ ,‬كشرب الخمر أو التبرج أو االختبلط الماجن‬ ‫بٌن الرجال والنساء ‪ ,‬ببل قٌود وال حدود ‪ ,‬وهذا هو المؤلوؾ فً مجالس الؽناء والطرب من قدٌم ‪.‬‬ ‫وهى الصورة الماثلة فً األذهان عندما ٌذكر الؽناء ‪ ,‬وبخاصة ؼناء الجواري والنساء ‪.‬‬ ‫وهذا ما ٌدل علٌه الحدٌث الذي رواه ابن ماجه وؼٌره ‪ « :‬لٌشربن ناس من أمتً الخمر ‪ٌ ,‬سمونها بؽٌر‬ ‫اسمها ‪ٌ ,‬عزؾ على رإوسهم بالمعازؾ والمؽنٌات ‪ٌ ,‬خسؾ هللا بهم األرض وٌجعل منهم القردة‬ ‫والخنازٌر » ‪.‬‬ ‫وأود أن أنبه هنا على قضٌة مهمة ‪ ,‬وهى ‪ :‬أن االستماع إلى الؽناء فً األزمنة الماضٌة كان ٌقتضً‬ ‫حضور مجلس الؽناء ‪ ,‬ومخالطة المؽنٌ​ٌن والمؽنٌات وحواشٌهم ‪ ,‬وقلما كانت تسلم هذه المجالس من‬ ‫أشٌاء ٌنكرها الشرع ‪ ,‬وٌكرهها الدٌن ‪.‬‬ ‫أما الٌوم فٌستطٌع المرء أن ٌستمع إلى األؼانً وهو بعٌد عن أهلها ومجالسها ‪ ,‬وهذا ال رٌب عنصر‬ ‫مخفؾ فً القضٌة ‪ ,‬وٌمٌل بها إلى جانب اإلذن والتٌسٌر ‪.‬‬


‫‪ .4‬الؽناء ‪ -‬ككل المباحات ‪ٌ -‬جب أن ٌقٌد بعدم اإلسراؾ فٌه ‪ ,‬وبخاصة الؽناء ‪ ,‬العاطفً ‪ ,‬الذي ٌتحدث‬ ‫عن الحب والشوق ‪ ,‬فاإلنسان لٌس عاطفة فحسب ‪ ,‬والعاطفة لٌست حبا فقط ‪ ,‬والحب ال ٌختص بالمرأة‬ ‫وحدها ‪ ,‬والمرأة لٌست جسدا وشهوة ال ؼٌر ‪ ,‬لهذا ٌجب أن نقلل من هذا السٌل الؽامر من األؼانً‬ ‫العاطفٌة الؽرامٌة ‪ ,‬وأن ٌكون لدٌنا من أؼانٌنا وبرامجنا وحٌاتنا كلها توزٌع عادل ‪ ,‬وموازنة مقسطة‬ ‫الدنً بٌن حق الفرد وحقوق المجتمع ‪ ,‬وفى الفرد بٌن عقله وعاطفته ‪ ,‬وفى‬ ‫ا‬ ‫بٌن الدٌن والدنٌا ‪ ,‬وفى‬ ‫مجال العاطفة بٌن العواطؾ اإلنسانٌة كلها من حب وكره وؼٌرة وحماسة وأبوة وأمومة وبنوة واخوة‬ ‫وصداقة ‪ . . .‬الخ ‪ ,‬فلكل عاطفة حقها‪.‬‬ ‫أما الؽلو واإلسراؾ والمبالؽة فً إبراز عاطفة خاصة ‪ ,‬فذلك على حساب العواطؾ األخرى ‪ ,‬وعلى‬ ‫حساب عقل الفرد وروحه وإرادته ‪ ,‬وعلى حساب المجتمع وخصابصه ومقوماته ‪ ,‬وعلى حساب الدٌن‬ ‫ومثله وتوجٌهاته ‪.‬‬ ‫إن الدٌن حرم الؽلو واإلسراؾ فً كل شا حتى فً العبادة ‪ ,‬فما بالك باإلسراؾ فً اللهو ‪ ,‬وشؽل‬ ‫الوقت به ولو كان مباحا ؟!‬ ‫إن هذا دلٌل على ؾراغ العقل والقلب من الواجبات الكبٌرة ‪ ,‬واألهداؾ العظٌمة ‪ ,‬ودلٌل على إهدار‬ ‫حقوق كثٌرة كان ٌجب أن تؤخذ حظها من وقت اإلنسان المحدود وعمره القصٌر ‪ ,‬وما أصدق وأعمق‬ ‫ما قال ابن المقفع ‪ « :‬ما رأٌت إسراؾ إال وبجانبه حق مضٌع » ‪ ,‬وفً الحدٌث ‪ « :‬ال ٌكون العاقل‬ ‫ظاعنا ً إال لثبلث ‪ :‬مرمة لمعاش ‪ ,‬أو تزود لمعاد ‪ ,‬أو لذة فً ؼٌر محرم » ‪ ,‬فلنقسم أوقاتنا بٌن هذه‬ ‫الثبلثة بالقسط ‪ ,‬ولنعلم أن هللا سابل كل إنسان عن عمره ‪ :‬فٌم أفناه ‪ ,‬وعن شبابه ‪ :‬فٌم أببله ؟‬ ‫‪ .5‬وبعد هذا اإلٌضاح تبقى هناك أشٌاء ٌكون كل مستمع فٌها فقٌه نفسه ومفتٌها ‪ ,‬ؾإذا كان الؽناء أو‬ ‫نوع خاص منه ٌستثٌر ؼرٌزته ‪ ,‬وٌؽرٌه بالفتنة ‪ ,‬وٌسبح به فً شطحات الخٌال ‪ ,‬وٌطؽى فٌه الجانب‬ ‫الحٌوانً على الجانب الروحانً ‪ ,‬فعلٌه أن ٌتجنبه حٌنبذ ‪ ,‬وٌسد الباب الذي تهب منه رٌاح الفتنة على‬ ‫قلبه ودٌنه وخلقه ‪ ,‬فٌسترٌح وٌرٌح ‪.‬‬

‫الغناء والطرب في واقع المسلمين ‪:‬‬ ‫ومن نظر فً أحوال المسلمٌن ‪ ,‬وتؤمل فً واقعهم المعٌش ‪ ,‬لم ٌجد خصومة بٌن المسلم المتدٌن وبٌن‬ ‫االستمتاع بطٌب السماع ‪.‬‬ ‫إن أذن المسلم العادي موصولة بـ« طٌبات السماع » تلتذ بها ‪ ,‬وتتؽذى علٌها كل ٌوم ‪.‬‬ ‫من خبلل القرآن الكرٌم الذي تسمعه مرتبل ومجودا ومزٌنا بؤحسن األصوات ‪ ,‬من أحسن القراء ‪.‬‬ ‫ومن خبلل األذان ‪ ,‬الذي تطرب لسماعه كل ٌوم خمس مرات بالصوت الجمٌل ‪ .‬وهو مٌراث من عهد‬ ‫النبوة ‪ ,‬فقد قال النبً صلى هللا علٌه وسلم للصحابً الذي كشؾ له عن ألفاظ األذان فً رإٌا صادقة ‪:‬‬ ‫علمه ببلال ‪ ,‬فإنه أندى منك صوتا ً ‪.‬‬ ‫ومن خبلل االبتهاالت الدٌنٌة ‪ ,‬التً تنشد بؤعذب األلحان ‪ ,‬وأرق األصوات ‪ ,‬فتطرب لها األفبدة ‪,‬‬ ‫وتهتز لها الشاعر ‪.‬‬ ‫ومن خبلل المدابح النبوٌة التً توارثها المسلمون منذ سمعوا ذلك النشٌد الحلو من بنات األنصار ‪.‬‬ ‫ترحٌبا بمقدم الرسول الكرٌم ‪:‬‬ ‫طلع البـدر علٌنا من ثنٌـات الوداع‬


‫وجب الشكر علٌنا مـا دعـا هلل داع‬ ‫وأذكر أنً منذ نحو عشرٌن سنة سمعت ه ذا النشٌد من تلمٌذات مدرسة إسبلمٌة فً إندونٌسٌا ‪ٌ ,‬ؽنٌنه‬ ‫بلحن جماعً مإثر رقٌق ‪ ,‬وكنا وفداً من دولة قطر ‪ .‬فرقت له قلوبنا ‪ ,‬وسالت أدمعنا على خدودنا من‬ ‫فرط الرقة والتؤثر ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وفً األعصر الماضٌة استطاع المسلمون أن ٌنشبوا ألنفسهم ألوانا من « طٌبات السماع » ٌروحون بها‬ ‫أنفسهم ‪ ,‬وٌجملون بها حٌاتهم ‪ ,‬وخصوصا ً فً القرى والرٌؾ ‪ .‬وقد أدركنا ذلك فً عهد الصبا ومطالع‬ ‫الشباب ‪ .‬وكلها ألوان فطرٌة نابعة من البٌبة ‪ ,‬معبرة عن قٌمها ‪ ,‬وال ؼبار علٌها ‪.‬‬ ‫من ذلك ‪ :‬فن المواوٌل ‪ٌ ,‬تؽنى بها الناس فً أنفسهم ‪ ,‬أو ٌجتمعون على سماعها ‪ ,‬ممن كان حسن‬ ‫الصوت منهم ‪ ,‬وأكثرهم ٌتحدث عن الحب والهٌام والوصل والهجران ‪ ,‬وبعضها ٌتحدث عن الدنٌا‬ ‫ومتاعها ‪ ,‬وٌشكو من ظلم الناس واألٌام ‪ . . .‬الخ ‪.‬‬ ‫وأكثرهم كان ٌتؽنى بها بؽٌر آلة ‪ ,‬وبعضهم مع « األرؼول » ‪ ,‬ومن هإالء الفنانٌن الفطرٌ​ٌن‪ :‬من كان‬ ‫ٌإلؾ « الموال » وٌلحنه وٌؽنٌه فً وقت واحد ‪.‬‬ ‫ومنها ‪ :‬القصص المنظومة ‪ ,‬التً تتؽنى ببطوالت بعض األبطال الشعبٌ​ٌن ‪ ,‬أبطال الكفاح ‪ ,‬أو أبطال‬ ‫الصبر ‪ٌ ,‬سمعها الناس ‪ ,‬فٌطربون بها ‪ ,‬وٌرددونها ‪ ,‬وٌكادون ٌحفظونها عن ظهر قلب‪ .‬مثل قصة «‬ ‫أدهم الشرقاوي » ‪ ,‬و « شفٌقة ومتولً » ‪ ,‬و « أٌوب المصري » ‪ ,‬و « سعد الٌتٌم » وؼٌرها ‪.‬‬ ‫ومنها ‪ :‬المبلحم الشعبٌة لؤلبطال المعروفٌن ‪ ,‬مثل « أبى زٌد الهبللً » ‪ ,‬والتً كان ٌجتمع لها الناس ‪,‬‬ ‫لٌسمعوا القصة ‪ ,‬وٌستمعوا معها إلى أشعار أبطالها على نؽمات « الربابة » من « الشاعر الشعبً »‬ ‫الذي تخصص فً هذا اللون ‪ ,‬وكانت هذه المبلحم لها عشاقها وتقوم مقام « المسلسبلت » فً هذا‬ ‫العصر ‪.‬‬ ‫ومنها ‪ :‬أؼانً األعٌاد واألفراح والمناسبات السارة ‪ ,‬مثل ‪ :‬العرس ‪ ,‬ووالدة المولود ‪ ,‬وختان الصبً ‪,‬‬ ‫وقدوم الؽابب ‪ ,‬وشفا ء المرٌض ‪ ,‬وعودة الحاج ‪ . . .‬ونحوها ‪.‬‬ ‫وقد ابتكر الناس أؼانً وأهازٌج لحنوها وؼنوها بؤنفسهم فً أحوال ومناسبات مختلفة ‪ ,‬مثل جنى الثمار‬ ‫أو القطن وؼٌرها ‪ .‬ومثل ‪ :‬أهازٌج العمال والفعلة ‪ ,‬الذٌن ٌعملون فً البناء وحمل األثقال ونحوها ‪,‬‬ ‫مثل ‪ « :‬هٌبل ‪ ,‬هٌبل ‪ . .‬صل على النبً » ‪ . .‬وهذا له أصل شرعً من عمل الصحابة ‪ ,‬وهم ٌبنون‬ ‫المسجد النبوي ‪ ,‬وٌحملون أحجاره على مناكبهم ‪ .‬وهم ٌنشدون ‪:‬‬ ‫اللهم إن العٌش عٌش اآلخرة فاؼفر لؤلنصار والمهاجرة‬ ‫حتى األمهات ‪ ,‬حٌن ٌهدهدن أطفالهن ‪ ,‬وٌهٌبنهم للنوم ‪ٌ ,‬ستخدمن الؽناء ‪ ,‬ولهن كلمات مشهورة ‪ ,‬مثل‬ ‫‪ٌ « :‬ارب ٌنام ‪ٌ ,‬ارب ٌنام ‪. » . . . .‬‬ ‫وال زلت أذكر « المسحراتٌة » فً شهر رمضان المبارك ‪ ,‬وهم ٌوقظون الناس بعد منتصؾ اللٌل‬ ‫بمنظومات ٌلذ سماعها منؽمة مع دقات طبولهم ‪.‬‬ ‫ومن جمٌل ما ٌذكر هنا ‪ :‬ما اخترعه الباعة فً األسواق ‪ ,‬والباعة المتجولون ‪:‬‬ ‫من النداء على سلعهم بعبارات منظومة موزونة ‪ٌ .‬تنافسون فً التؽنً بها ‪ ,‬مثل بابع العرقسوس ‪,‬‬ ‫وباعة الفواكه والخضروات ‪ ,‬وؼٌرهم ‪.‬‬ ‫وهكذا نجد هذا الفن ‪ -‬فن الؽناء ‪ٌ -‬تخلل الحٌاة كلها ‪ ,‬دٌنٌة ودنٌوٌة ‪ ,‬وٌتجاوب الناس معه بتلقابٌة‬ ‫وفطرٌة ‪ ,‬وال ٌجدون فً تعالٌم دٌنهم ما ٌعوقهم عن ذلك ‪ .‬ولم ٌر علماإهم فً هذه األلوان الشعبٌة ما‬ ‫ٌجب أن ٌنكر ‪ .‬بل أكثر من ذلك نجدها جمٌعا ممزوجة بالدٌن ومعانً اإلٌمان والقٌم الروحٌة ‪ ,‬والمثل‬ ‫األخبلقٌة ‪ ,‬امتزاج الجسم بالروح ‪ :‬من التوحٌد وذكر هللا والدعاء والصبلة على النبً صلى هللا علٌه‬ ‫وسلم ‪ ,‬وما شابهها ‪.‬‬


‫وهذا الذي الحظته فً مصر ‪ ,‬وجدت مثله فً ببلد الشام ‪ ,‬وفى ببلد المؽرب ‪ ,‬وؼٌرها من ببلد العرب‬ ‫‪.‬‬

‫لم شدد المتأخرون في أمر الغناء ؟‬ ‫ٌبلحظ أن المتؤخرٌن من أهل الفقه أكثر تشدٌدا فً منع الؽناء ‪ -‬وخصوصا مع اآلالت ‪ -‬من الفقها ء‬ ‫المتقدمٌن ‪ .‬وذلك ألسباب ‪:‬‬ ‫األخذ باألحوط ال األيسر ‪:‬‬ ‫‪ - 1‬إن المتقدمٌن كانوا أكثر أخذاً باألٌسر ‪ ,‬والمتؤخرٌن أكثر أخذا باألحوط ‪ ,‬واألحوط ٌعنى ‪ :‬األثقل‬ ‫توى منذ عهد الصحابة فمن بعدهم ٌجد ذلك واضحا ‪ ,‬واألمثلة‬ ‫واألشد ‪ .‬ومن تتبع الخط البٌانً للفقه والؾ‬ ‫علٌه ال تحصر ‪.‬‬ ‫االغترار باألحاديث الضعيفة والموضوعة ‪:‬‬ ‫‪ - 2‬إن كثٌراً من الفقهاء ‪ ,‬المتؤخرٌن أرهبهم سٌل األحادٌث الضعٌفة والموضوعة ‪ ,‬التً امتؤلت بها‬ ‫الكتب ‪ ,‬ولم ٌكونوا من أهل تمحٌص الرواٌات ‪ ,‬وتحقٌق األسانٌد ‪ ,‬فراجت لدٌهم هذه األحادٌث ‪ ,‬وال‬ ‫سٌما مع شٌوع القول بؤن تعدد الطرق الضعٌفة ٌقوى بعضها بعضا ‪.‬‬ ‫ضغط الواقع الغنائي ‪:‬‬ ‫‪ - 3‬ضؽط الواقع الؽنابً بما ٌبلبسه من انحراؾ وتجاوز ‪ ,‬كان له أثره فً ترجٌح المنع والتحرٌم ‪.‬‬ ‫وهذا الواقع له صورتان أثرت كل واحدة منهما على جماعة من الفقهاء ‪.‬‬ ‫غناء المجون والخالعة ‪:‬‬ ‫الصورة األولى ‪ :‬صورة « الؽناء الماجن » الذي ؼدا جزءا ال ٌتجزأ من حٌاة الطبقة المترفة‪ ,‬التً‬ ‫ؼرقت فً الملذات ‪ ,‬وأضاعت الصلوات ‪ ,‬واتبعت الشهوات ‪ ,‬واختلط فٌها الؽناء بمبلبسة الفجور ‪,‬‬ ‫وشرب الخمور ‪ ,‬وقول الزور ‪ ,‬وتبلعب الجواري الحسان المؽنٌات ( القٌان ) بعقول الحضور ‪ ,‬كما‬ ‫شاع ذلك فً حقب معروفة فً العصر العباسً ‪.‬‬ ‫وكان سماع الؽناء ٌقتضً شهود هذه المجالس بما فٌها من خبلعة ومجانة وفسوق عن أمر هللا ‪.‬‬ ‫ومن المإسؾ أن البٌبة الفنٌة ‪ -‬كما ٌسمونها الٌوم ‪ -‬ال زالت مشربة بهذه الروح ‪ ,‬ملوثة بهذا الوباء ‪.‬‬ ‫وهذا ما ٌضطر كل عابد أو عابدة إلى هللا ‪ ,‬من الفانٌن والفنانات ‪ -‬الذٌن أكرمهم هللا بالهداٌة والتوبة ‪-‬‬ ‫أن ٌنسحب من ذلك الوسط ‪ ,‬وٌفر بدٌنه بعٌداً عنه ‪.‬‬ ‫غناء الصوفية ‪:‬‬


‫والصورة الثانٌة ‪ :‬صورة « الؽناء الدٌنً » الذي اتخذه الصوفٌة وسًلة إلثارة األشواق ‪ ,‬وتحرٌك‬ ‫القلوب فً السٌر إلى هللا ‪ ,‬مثلما ٌفعل الحداة مع اإلبل ‪ ,‬فٌنشطونها وٌستحثون خطاها‪ ,‬حٌن تسمع نؽم‬ ‫الحداء الموزون بصوت جمٌل ‪ ,‬فتستخؾ الحمل الثقٌل ‪ ,‬وتستقصر الطرٌق الطوٌل ‪ ,‬وهم ٌعتبرون‬ ‫ذلك السماع عبادة وقربة إلى هللا ‪ ,‬أو ‪ -‬على األقل ‪ -‬عونا على العبادة والقربة ‪.‬‬ ‫وهذا ما أنكره علٌهم أمثال شٌخ اإلسبلم ابن تٌمٌة ‪ ,‬وتلمٌذه اإلمام ابن القٌم ‪ ,‬اللذٌن شنا على الؽناء‬ ‫هجوما عنٌفا حادا ‪ ,‬وخصوصا ابن القٌم فً « إؼاثة اللهفان » الذي شحذ كل أسلحته ‪ ,‬وأجلب بخٌله‬ ‫ورجله لتحرٌم الؽناء ‪ ,‬واضح ‪ -‬على ؼٌر عادته ‪ -‬بؽٌر الصحٌح ‪ ,‬وؼٌر الصرٌح ‪ ,‬إذ كان نصب‬ ‫عٌنٌه ذاك النوع من الؽناء ‪ ,‬وقد رأى فٌه هو وشٌخه أنه تقرب إلى هللا بما لم ٌشرعه ‪ ,‬وإحداث أمر فً‬ ‫الدٌن لم ٌكن على عهد النبوة ‪ ,‬وال عهد الصحابة ‪ .‬وربما البسه بعض البدع ‪ ,‬وال سٌما إذا وقع فً‬ ‫المساجد ‪ .‬أنشد ابن القٌم مشنعا علٌهم ‪:‬‬ ‫تلً الكتاب فؤطرقوا ال خٌفة لكنـه إطراق اله ساهً !‬ ‫وأتى الؽناء فكالحمٌر تناهقوا وهللا ما رقصوا ألجل هللا !‬ ‫دؾ ومزمار ‪ ,‬ونؽمة شادن فمتى رأٌت عبادة بمبلهً ؟‬ ‫وفى بعض فتاوى ابن تٌمٌة ما ٌجٌز الؽناء إذا كان لرفع الحرج والتروٌح ‪.‬‬

‫فقه اإلمام الغزالي في القضية ‪:‬‬ ‫وأعتقد أن موقؾ اإلمام الؽزالً من قضٌة الؽناء ‪ ,‬ومناقشته الفقهٌة العمٌقة لحجج القابلٌن بتحرٌم‬ ‫السماع ‪ ,‬والجواب عنها باإلجابات الشافٌة ‪ ,‬ونصرته ألدلة المجٌزٌن ‪ ,‬وتحدٌده للعوارض التً تعرض‬ ‫للسماع المباح ‪ ,‬فتنقله إلى دابرة الحرمة ‪ٌ ..‬عتبر من أعدل المواقؾ المعبرة عن وسطٌة الشرٌعة ‪,‬‬ ‫وسماحتها ‪ ,‬وصبلحٌتها لكل البٌبات واألعصار ‪.‬‬ ‫والحق أن فقه الؽزالً فً « اإلحٌاء » ‪ -‬بصفة عامة ‪ -‬فقه تحرر من قٌود المذهبٌة ‪ ,‬فهو لم ٌعد شافعٌا ً‬ ‫مقٌداً ‪ ,‬بل مجتهداً طلٌقا ً ‪ٌ ,‬نظر إلى الشرٌعة من أفق واسع ‪ .‬وقد تجلى هذا فً مواضع كثٌرة ‪ ,‬تحتاج‬ ‫إلى دراسة خاصة ‪ ,‬تصلح ألطروحة جامعٌة ‪.‬‬ ‫العوارض التي تنقل السماع المباح إلى الحرمة ‪:‬‬ ‫ذكر الؽزالً عوارض خمسة تجعل السماع المباح محظوراً ‪ ,‬تتحدد فٌما ٌلً ‪:‬‬ ‫‪ .1‬عارض فً المسمع بؤن ٌكون امرأة ال ٌحل النظر إلٌها ‪ ,‬وتخشى الفتنة من سماعها ‪ .‬والحرمة فٌه‬ ‫لخوؾ الفتنة ال لذات الؽناء ‪.‬‬ ‫ورجح الؽزالً قصر التحرٌم على مظنة خوؾ الفتنة ‪ ..‬وأٌد ذلك بحدٌث الجارٌتٌن المؽنٌتٌن فً بٌت‬ ‫عابشة ‪ ,‬إذ ٌعلم أنه صلى هللا علٌه وسلم كان ٌسمع أصواتهما ‪ ,‬ولم ٌحترز منه ‪ .‬ولكن لم تكن الفتنة‬ ‫مخوفة علٌه ‪ ,‬فلذلك لم ٌحترز ‪ .‬فإذن ٌختلؾ هذا بؤحوال المرأة ‪ ,‬وأحوال الرجل فً كونه شابا وشٌخا ‪,‬‬


‫وال ٌبعد أن ٌخ تلؾ األمر فً مثل هذا باألحوال ‪ ,‬فإنا نقول ‪ :‬للشٌخ أن ٌقبل زوجته ‪ ,‬وهو صابم ‪,‬‬ ‫ولٌس للشاب ذلك ‪.‬‬ ‫‪ .2‬عارض فً اآللة بؤن تكون من شعار أهل الشرب أو المخنثٌن ‪ ,‬وهً ‪ :‬المزامٌر واألوتار وطبل‬ ‫الكوبة ‪ .‬فهذه ثبلثة أنواع ممنوعة ‪ ,‬وما عدا ذلك ٌبقى على أصل اإلباحة ‪ ,‬كالدؾ ‪ ,‬وان كان فٌه‬ ‫الجبلجل ‪ ,‬وكالطبل والشاهٌن ‪ ,‬والضرب بالقضٌب وسابر اآلالت ‪.‬‬ ‫‪ .3‬عارض فً نظم الصوت ‪ ,‬وهو الشعر ‪ ,‬فإن كان فٌه شا من الخنا والفحش والهجر ‪ ,‬أو ما هو‬ ‫كذب على هللا تعالى وعلى رسوله ‪ ,‬أو على الصحابة ‪ ,‬كما رتبه الروافض فً هجاء ‪ ,‬الصحابة‬ ‫وؼٌرهم ‪ ,‬فسم اع ذلك حرام ‪ ,‬بؤلحان وؼٌر ألحان ‪ ,‬والمستمع شرٌك للقابل ‪ .‬وكذلك ما فٌه وصؾ‬ ‫امرأة بعٌنها ‪ ,‬فإنه ال ٌجوز وصؾ المرأة بٌن ٌدي الرجال ‪ . .‬فؤما التشبٌب بوصؾ الخدود والقد‬ ‫والقامة ‪ . .‬وسابر أوصاؾ النساء ‪ ,‬فالصحٌح أنه ال ٌحرم نظمه وإنشاده‪ ,‬بلحن وبؽٌر لحن ‪ ,‬وعلى‬ ‫المستمع أال ٌنزله على امرأة معٌنة ‪ ,‬فإن نزله فلٌنزله على‬ ‫من تحل له ‪ ,‬فإن نزله على أجنبٌة ‪ ,‬فهو العاصً بالتنزٌل ‪ ,‬واجالة الفكر فٌه ‪ .‬ومن هذا وصفه ‪,‬‬ ‫فٌنبؽً أن ٌجتنب السماع رأسا ‪. . .‬‬ ‫‪ .4‬عارض فً المستمع ‪ ,‬وهو أن تكون الشهوة ؼالبة علٌه ‪ ,‬وكان فً ؼرة الشباب ‪ ,‬وكانت هذه‬ ‫الصفة أؼلب علٌه من ؼٌرها ‪ ,‬فالسماع حرام علٌه ‪ ,‬سواء ؼلب على قلبه حب شخص معٌن أم لم ٌؽلب‬ ‫‪ ,‬فإنه كٌفما كان ‪ ,‬فبل ٌسمع وصؾ الصدغ والخد ‪ ,‬والفراق والوصال ‪ ,‬إال وٌحرك ذلك شهوته ‪,‬‬ ‫وٌنزله على صورة معٌنة ‪ٌ ,‬نفخ الشٌطان بها فً قلبه ‪ ,‬فتشتعل نار الشهوة ‪ ,‬وتمتد بواعث الشر ‪. .‬‬ ‫‪ .5‬أن ٌكون الشخص من عوام الخلق ‪ ,‬ولم ٌؽلب علٌه حب هللا تعالى ‪ ,‬فٌكون السماع له محبوبا ً ‪ ,‬وال‬ ‫ؼلبت علٌه شهوة ‪ ,‬فٌكون فً حقه محظوراً ‪ ,‬ولكنه أبٌح فً حقه كسابر أنواع اللذات المباحة ‪ ,‬إال أنه‬ ‫إذا اتخذه دٌدنه وهجٌراه ‪ ,‬وقصر علٌه أكثر أوقاته ‪ ,‬فهذا هو السفٌه الذي ترد شهادته ‪ ,‬فإن المواظبة‬ ‫على اللهو جناٌة ‪ ,‬وكما أن الصؽٌرة باإلصرار والمداومة تصٌر كبٌرة ‪ ,‬فكذلك بعض المباحات‬ ‫بالمداومة ٌصٌر صؽٌرة ‪ . . .‬ومن هذا القبٌل ‪ :‬اللعب بالشطرنج ‪ ,‬فإنه مباح ‪ ,‬ولكن المواظبة علٌه‬ ‫مكروهة كراهٌة شدٌدة ‪ . .‬وما كل مباح ٌباح كثٌره ‪ .‬بل الخبز مباح ‪ ,‬واالستكثار منه حرام ‪ ,‬كسابر‬ ‫المباحات ‪.‬‬ ‫وٌبلحظ فً هذه العوارض التً ذكرها الؽزالً ‪ :‬أنه اعتبر األوتار والمزامٌر من عوارض التحرٌم ‪,‬‬ ‫بناء على أن الشرع ورد بالمنع منها ‪.‬‬ ‫وقد اجتهد فً تعلٌل هذا المنع ‪ ,‬فؤبدع وأجاد فً التعلٌل والتفسٌر ‪ ,‬إذ قال ‪:‬‬ ‫إن الشرع لم ٌمنع منها للذاتها ؛ إذ لو كان للذة لقٌس علٌها كل ما ٌلتذ به اإلنسان ‪ ,‬ولكن حرمت‬ ‫الخمور ‪ ,‬واقتضت ضراوة الناس بها المبالؽة فً الفطام عنها ‪ ,‬حتى انتهى األمر فً االبتداء إلى كسر‬ ‫الدنان ‪ ,‬فحرم معها كل ما هو من شعار أهل الشرب ‪ ,‬وهى األوتار والمزامٌر فقط ‪ ,‬وكان تحرٌمها من‬ ‫قبل االتباع ‪ ,‬كما حرمت الخلوة باألجنبٌة ؛ ألنها مقدمة الجماع ‪ ,‬وحرم النظر إلى الفخذ ‪ ,‬التصاله‬ ‫بالسوأتٌن ‪ ,‬وحرم قلٌل الخمر ‪ ,‬وان كان ال ٌسكر؛ ألنه ٌدعو إلى السكر ‪ ,‬وما من حرام إال وله حرٌم‬ ‫ٌطٌؾ به ‪ ,‬وحكم الحرمة ٌنسحب على حرٌمه ‪ ,‬لٌكون حمى للحرام ووقاٌة له ‪ ,‬وخطاراً مانعا ً حوله ‪.‬‬ ‫فهً ( أي األوتار والمزامٌر ) محرمة تبعا لتحرٌم الخمر لثبلث علل ‪:‬‬ ‫إحداها ‪ :‬أنها تدعو إلى شرب الخمر ‪ ,‬فإن اللذات الحاصلة بها إنما تتم بالخمر ‪. . .‬‬ ‫الثانٌة ‪ :‬أنها فً حق قرٌب العهد بشرب الخمر تذكر مجالس األنس بالشرب ‪ . . .‬والذكر سبب انبعاث‬ ‫الشوق ‪ ,‬وهو سبب اإلقدام ‪. . .‬‬


‫الثالثة ‪ :‬االجتماع علٌها ‪ ,‬لما أن صار من عادة أهل الفسق ‪ ,‬فٌمنع من التشبه بهم ؛ ألن من تشبه بقوم‬ ‫فهو منهم ‪. . .‬‬ ‫وبعد كبلم وتحلٌل جٌد ‪ ,‬قال الؽزالً ‪ :‬وبهذا نتبٌن أنه لٌست العلة فً تحريمها ‪ :‬مجرد اللذة الطٌبة ‪ ,‬بل‬ ‫القٌاس تحلٌل الطٌبات كلها ‪,‬إال ما فً تحلٌله فساد ‪ .‬قال هللا تعالى ‪ ( :‬قل من حرم زٌنة هللا التً أخرج‬ ‫لعباده والطٌبات من الرزق ) ؟ ‪.‬‬ ‫ورحم هللا اإلمام الؽزالً ‪ ,‬فالحقٌقة ‪ :‬أنه لم ٌرد نص صحٌح الثبوت صرٌح الداللة ‪ٌ ,‬منع من هذه‬ ‫األوتار والمزامٌر كما ظن ‪ ,‬ولكنه ‪ -‬رضى هللا عنه ‪ -‬أخذ األحادٌث المروٌة فً الموضوع قضٌة‬ ‫مسلمة ‪ ,‬ثم حاول تفسٌرها بما ذكرناه ‪ ,‬ولو عرؾ وهن أسانٌد المروٌات فً هذا األمر ‪ ,‬ما جشم نفسه‬ ‫عناء هذا التعلٌل ‪ .‬وهو على كل حال تعلٌل مفٌد لمن ال ٌسلم بضعؾ هذه األحادٌث ‪.‬‬

‫تحذير من التساهل في إطالق التحريم ‪:‬‬ ‫ونختم بحثنا هذا بكلمة أخٌرة نوجهها إلى السادة العلماء الذٌن ٌستخفون بكلمة « حرام » وٌطلقون لها‬ ‫العنان فً فتاواهم إذا أفتوا ‪ ,‬وفى بحوثهم إذا كتبوا ‪ ,‬علٌهم أن ٌراقبوا هللا فً قولهم ‪ ,‬وٌعلموا أن هذه‬ ‫الكلمة « حرام » كلمة خطٌرة ‪ :‬إنها تعنى عقوبة هللا على الفعل ‪ ,‬وهذا أمر ال ٌعرؾ بالتخمٌن وال‬ ‫بموافقة المزاج ‪ ,‬وال باألحادٌث الضعٌفة ‪ ,‬وال بمجرد النص علٌه فً كتاب قدٌم ‪ ,‬إنما ٌعرؾ من نص‬ ‫ثابت صرٌح ‪ ,‬أو إجماع معتبر صحٌح ‪ ,‬وإال فدابرة العفو واإلباحة واسعة ‪ ,‬ولهم فً السلؾ الصالح‬ ‫أسوة حسنة ‪.‬‬ ‫قال اإلمام مالك رضى هللا عنه ‪ :‬ما شا أشد علً من أن أسؤل عن مسؤلة من الحبلل والحرام؛ ألن هذا‬ ‫هو القطع فً حكم هللا ‪ ,‬ولقد أدركت أهل العلم والفقه ببلدنا ‪ ,‬وان أحدهم إذا سبل عن مسؤلة كؤن الموت‬ ‫أشرؾ علٌه ‪ ,‬ورأٌت أهل زماننا هذا ٌشتهون الكبلم فً الفتٌا ‪ ,‬ولو وقفوا على ما ٌصٌرون إلٌه ؼدا‬ ‫لقللوا من هذا ‪ ,‬وان عمر بن الخطاب وعلٌا ً وعامة خًار الصحابة كانت ترد علٌهم المسابل ‪ -‬وهم خٌر‬ ‫القرون الذٌن بعث فٌهم النبً صلى هللا علٌه وسلم ‪ -‬فكانوا ٌجمعون أصحاب النبً صلى هللا علٌه وسلم‬ ‫وٌسؤلون ‪ ,‬ثم حٌنبذ ٌفتون فٌها ‪ ,‬وأهل زماننا هذا قد صار فخرهم ‪ ,‬فبقدر ذلك ٌفتح لهم من العلم قال ‪:‬‬ ‫ولم ٌكن من أمر الناس وال من مضى من سلفنا الذٌن ٌقتدى بهم ‪ ,‬ومعول اإلسبلم علٌهم ‪ ,‬أن ٌقولوا ‪:‬‬ ‫هذا حبلل وهذا حرام ‪ ,‬ولكن ٌقول ‪ :‬أنا أكره كذا وأرى كذا ‪ ,‬وأما « حبلل » و « حرام » فهذا‬ ‫االفتراء على هللا ‪ .‬أما سمعت قول هللا تعالى ‪ ( :‬قل أرأٌتم ما أنزل هللا لكم من رزق فجعلتم منه حراما‬ ‫وحبلالً قل ءآهلل أذن لكم ‪ ,‬أم على هللا تفترون) ؛ ألن الحبلل ما حله هللا ورسوله ‪ ,‬والحرام ما حرماه ‪.‬‬ ‫ونقل اإلمام الشافعً فً « األم » عن اإلمام أبى ٌوسؾ صاحب أبى حنٌفة قال ‪ « :‬أدركت مشاٌخنا‬ ‫من أهل العلم ٌكرمون فً الفتٌا أن ٌقولوا ‪ :‬هذا حبلل وهذا حرام ‪ ,‬إال ما كان فً كتاب هللا عز وجل‬ ‫بٌنا ببل تفسٌر ‪.‬‬ ‫وحدثنا ابن السابب عن الربٌع بن خٌثم ‪ -‬وكان أفضل التابعٌن ‪ -‬أنه قال ‪ :‬إٌاكم أن ٌقول الرجل ‪ :‬إن هللا‬ ‫أحل هذا أو رضٌه ‪ ,‬فٌقول هللا له ‪ :‬لم أحل هذا ولم أرضه ! وٌقول ‪ :‬إن هللا حرم هذا ‪ ,‬فٌقول هللا ‪:‬‬ ‫كذبت لم أحرمه ولم أنه عنه !‬ ‫وحدثنا بعض أصحابنا عن إبراهٌم النخعى أنه حدث عن أصحابه ‪ :‬أنهم كانوا إذا أفتوا بشًء أو نهوا‬ ‫عنه ‪ ,‬قالوا ‪ :‬هذا مكروه ‪ ,‬وهذا ال بؤس به ‪ ,‬فؤما أن ٌقول ‪ :‬هذا حبلل وهذا حرام ‪ , .‬فما أعظم هذا » ‪.‬‬


‫فن الجمال المرئي‬ ‫( الرسم والتصوير والزخرفة )‬ ‫التصوير في القرآن ‪:‬‬ ‫عرض القرآن الكرٌم للتصوٌر على أنه عمل من أعمال هللا تبارك وتعالى ‪ ,‬الذي ٌبدع الصور الجمٌلة ‪,‬‬ ‫وخصوصا صور الكابنات الحٌة ‪ ,‬وفً مقدمتها اإلنسان ‪ ( :‬هو الذي ٌصوركم فً األرحام كٌؾ ٌشاء )‬ ‫‪ ( .‬وصوركم فؤحسن صوركم ) ‪ ( .‬الذي خلقك فسواك فعدلك * فً أي صورة ما شاء ركبك ) ‪.‬‬ ‫وذكر القرآن أن من أسماء هللا الحسنى ‪ :‬اسم « المصور » ‪ .‬كما فً قوله تعالى ‪ ( :‬هو هللا الخالق‬ ‫البارئ المصور ‪ ,‬له األسماء الحسنى ) ‪ .‬كما عرض القرآن للتماثٌل فً موضعٌن ‪:‬‬ ‫أحدهما ‪ :‬فً موضع الذم واإلنكار ‪ ,‬وذلك على لسان الخلٌل إبراهٌم علٌه السبلم ‪ ,‬حٌث اتخذها قومه‬ ‫أصناما ‪ ,‬أي آلهة تعبد ‪ ,‬فؤنكر علٌهم ذلك قاببل ‪ ( :‬ما هذه التماثٌل التً أنتم لها عاكفون * قالوا وجدنا‬ ‫آباءنا لها عابدون ) ‪.‬‬ ‫والثانً ‪ :‬ذكرها القرآن فً معرض االمتنان واإلنعام على سلٌمان علٌه السبلم ‪ ,‬حٌث سخر له الرٌح ‪,‬‬ ‫وسخر له الجن ٌعملون بٌن ٌدٌه بإذن ربه ( ٌعملون له ما ٌشاء من محارٌب وتماثٌل وجفان كالجواب‬ ‫وقدور راسٌات ‪ ,‬اعملوا آل داود شكراً ) ‪.‬‬

‫التصوير في السنة ‪:‬‬ ‫أما السنة ‪ . .‬فقد حفلت بؤحادٌث كثٌرة صحٌحة ‪ ,‬معظمها ٌذم التصوٌر والمصورٌن ‪ ,‬وبعضها ٌشدد‬ ‫ؼاٌة التشدد فً منع التصوٌر وتحرٌمه والوعٌد علٌه ‪ .‬كما ٌنكر اقتناء الصور ‪ ,‬أو تعلٌقها فً البٌت ‪,‬‬ ‫وٌعلن ‪ :‬أن المبلبكة ال تدخل بٌتا فٌه صورة ‪.‬‬ ‫والمبلبكة هم مظهر رحمة هللا تعالى ورضاه وبركته ‪ ,‬فإذا منعت من الدخول فً بٌت ‪ ,‬فمعناه أنه‬ ‫محروم من الرحمة والرضا والبركة ‪.‬‬ ‫والمتؤمل فً معانً األحادٌث الواردة فً التصوٌر أو اقتناء الصور ‪ ,‬وفى سٌاقاتها ومبلبساتها‪ ,‬وٌقارن‬


‫بٌن بعضها وبعض ‪ٌ ,‬تبٌن له ‪ :‬أن النهى والتحرٌم والوعٌد فً تلك األحادٌث لم ٌكن اعتباطا ً وال تحكما‬ ‫‪ ,‬بل كان وراءها علل ومقاصد ٌهدؾ الشرع إلى رعاٌتها وتحقٌقها ‪.‬‬

‫تصوير ما يعظم ويقدس ‪:‬‬ ‫( أ ) فبعض التصوٌر كان ٌقصد به تعظٌم المصور ‪ ,‬وهذا التعظٌم ٌتفاوت ‪ ,‬حتى ٌصل إلى درجة‬ ‫التقدٌس ‪ ,‬بل العبادة ‪.‬‬ ‫وتارٌخ الوثنٌات ٌدل على أنها بدأت بالتصوٌر للتذكرة ‪ ,‬وانتهت بالتقدٌس والعبادة ‪.‬‬ ‫ذكر المفسرون فً قوله تعالى على لسان قوم نوح ‪ ( :‬وقالوا ال تذرن آلهتكم وال تذرن وداً وال سواعا ً‬ ‫وال ٌؽوث وٌعوق ونسراً ) أن أسماء هذه األصنام المذكورة ‪ ,‬كانت أسماء رجال صالحٌن ‪ ,‬فلما ماتوا‬ ‫أوحى الشطان إلى قومهم ‪ :‬أن انصبوا إلى مجالسهم التً كانوا ٌجلسون إلٌها أنصابا ً ‪ ,‬وسموها بؤسمابهم‬ ‫ففعلوا ‪ ,‬فلم تعبد ‪ ..‬حتى إذا هلك أولبك ‪ ,‬ونسى العلم ‪ ,‬عبدت‪ ( .‬رواه البخاري وؼٌره عن ابن عباس )‬ ‫‪.‬‬ ‫وعن عابشة قالت ‪ :‬لما اشتكى النبً صلى هللا علٌه وسلم ‪ ,‬ذكر بعض نسابه كنٌسة ٌقال لها « مارٌة »‬ ‫‪ ,‬وكانت أم سلمه وأم حبٌبة ‪ ,‬أتتا أرض الحبشة ‪ ,‬فذكرتا من حسنها وتصاوٌر فٌها ‪ ,‬فرفع رأسه فقال ‪:‬‬ ‫« أولبك إذا مات فٌهم الرجل الصالح ‪ ,‬بنوا على قبره مسجداً ‪ ,‬ثم صوروا فٌه تلك الصور ‪ ,‬أولبك‬ ‫شرار خلق هللا » (متفق علٌه ) ‪.‬‬ ‫ومن المعروؾ أن الصور والتماثل أروج ما تكون فً رحاب الوثنٌة ‪ ,‬كما عرؾ ذلك عند قوم إبراهٌم‬ ‫‪ ,‬وعند المصرٌ​ٌن القدماء ‪ ,‬والٌونان والرومان ‪ ,‬وعند الهنود ‪ -‬إلى الٌوم ‪ -‬وؼٌرهم ‪.‬‬ ‫والنصرانٌة حٌنما « ترومت » على ٌد قسطنطٌن إمبراطور الروم ‪ -‬دخلها كثٌر مما كان عند الرومان‬ ‫من مظاهر الوثنٌة ‪.‬‬ ‫الشدي على التصوٌر ٌقصد به الذٌن ٌنحتون اآللهة المزعومة‪,‬‬ ‫د‬ ‫ولعل بعض ما ورد من الوعٌد‬ ‫والمعبودات المتنوعة عند األمم المختلفة ‪ :‬وذلك مثل حدٌث ابن مسعود مرفوعا ‪ « :‬إن أشد الناس‬ ‫عذابا عند هللا ‪ :‬المصورون » ( متفق علٌه ) ‪.‬‬ ‫قال النووي ‪ :‬قل ‪ :‬هً محمولة على من فعل الصورة لتعبد ‪ ,‬وهو صانع األصنام ونحوها ‪ ,‬فهذا كافر ‪,‬‬ ‫وهو أشد عذابا ً ‪ ,‬وقٌل ‪ :‬هً فٌمن قصد المعنى الذي فً الحدٌث من مضاهاة خلق هللا تعالى ‪ ,‬واعتقد‬ ‫ذلك ‪ ,‬فهذا كافر ‪ ,‬له من أشد العذاب ما للكفار ‪ ,‬وٌزٌد عذابه بزٌادة قبح كفره ‪.‬‬ ‫وإنما ذكر النووي ذلك ‪ ,‬وهو من أشد المشددٌن فً تحرٌم التصوٌر واتخاذ الصور ؛ ألنه ال ٌتصور ‪-‬‬ ‫بحسب مقاصد الشرع ‪ -‬أن ٌكون المصور العادي أشد عذابا من القاتل والزانً وشارب الخمر‬ ‫والمرابً وشاهد الزور ‪ . . .‬وؼٌرهم من مرتكبً الكبابر والموبقات ‪.‬‬ ‫وقد روى مسروق حدٌث ابن مسعود المذكور بمناسبة دخوله ‪ -‬هو وصاحب له ‪ -‬بٌتا فٌه تماثٌل ‪ ,‬فقال‬ ‫مسروق ‪ :‬هذا تماثٌل كسرى ؟ قال صاحبه ‪ :‬هذا تماثٌل مرٌم ‪ . .‬فروى مسروق الحدٌث ‪.‬‬

‫تصوير ما يعتبر من شعائر دين آخر ‪:‬‬


‫( ب ) وقرٌب من هذا اللون من التصوٌر ما كان ٌعبر عن شعابر دٌن معٌن ؼٌر دٌن اإلسبلم ‪ ,‬وأبرز‬ ‫مثل لذلك « الصلٌب » عند النصارى ‪ .‬فما كان من الصور مشتمبل على الصلٌب فهو محرم ببل رٌب‬ ‫‪ ,‬وٌجب على المسلم نقضه وإزالته ‪.‬‬ ‫وفى هذا روى البخاري عن عابشة ‪ « :‬أن النبً صلى هللا علٌه وسلم لم ٌكن ٌترك فً بٌته شٌبا فٌه‬ ‫تصالٌب إال نقضه »‬

‫المضاهاة بخلق هللا ‪:‬‬ ‫( جـ ) مضاهاة خلق هللا عز وجل ‪ ,‬بدعوى أنه ٌبدع وٌخلق كما ٌخلق هللا سبحانه ‪ .‬وٌبدو أن هذا أمر‬ ‫ٌتعلق بقصد المصور ونٌته ‪ ,‬وان كان هناك من ٌرى أن كل مصور مضاه لخلق هللا ‪.‬‬ ‫وفى هذا جاء حدٌث عابشة عن النبً صلى هللا علٌه وسلم ‪ « :‬أشد الناس عذابا ً ٌوم القٌامة ‪ :‬الذٌن‬ ‫ٌضاهون بخلق هللا » ( متفق علٌه ) ‪.‬‬ ‫فهذا الوعٌد الؽلٌظ ٌوحً بؤنهم ٌقصدون إلى مضاهاة خلق هللا ‪ ,‬وهو ما نقله اإلمام النووي فً شرح‬ ‫مسلم ‪ ,‬إذ ال ٌقصد ذلك إال كافر ‪.‬‬ ‫وٌدل علٌه حدٌث أبى هرٌرة الصحٌح قال ‪ :‬سمعت رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ٌقول ‪ « :‬قال هللا‬ ‫تعالى ‪ :‬ومن أظلم ممن ذهب ٌخلق كخلقً ‪ ,‬فلٌخلقوا ذرة ‪ ,‬ولٌخلقوا حبة ‪ ,‬أو لٌخلقوا شعٌرة » ( متفق‬ ‫علٌه ) ‪.‬‬ ‫فقوله ‪ « :‬ذهب ٌخلق كخلقً » ٌدل على القصد والتعمد ‪ .‬ولعل هذا هو سر التحدي اإللهً لهم ٌوم‬ ‫القٌامة ‪ ,‬حٌث ٌقال لهم ‪ « :‬أحٌوا ما خلقتم » وهو « أمر تعجٌز » كما ٌقول األصولٌون ‪.‬‬

‫دخول الصور في مظاهر الترف ‪:‬‬ ‫( د ) أن تكون جزءا من أدوات الترؾ ومظاهره ‪ .‬وهذا ما ٌظهر من كراهٌة النبً صلى هللا علٌه‬ ‫وسلم لبعض الصور فً بٌته ‪ ,‬فقد روت عابشة أنه علٌه الصبلة والسبلم خرج فً ؼزاة‪ ,‬قالت ‪ :‬فؤخذت‬ ‫نمطا ً ( نوعا من البسط اللطٌفة أو الستابر ) فسترته على الباب ‪ ,‬فلما قدم ‪ ,‬فرأى النمط ‪ ,‬فجذبه حتى‬ ‫هتكه ‪ ,‬ثم قال ‪ « :‬إن هللا لم ٌؤمرنا أن نكسو الحجارة والطٌن » قالت ‪ :‬فقطعنا منه وسادتٌن ‪,‬‬ ‫وحشوتهما لٌفا ‪ ,‬فلم ٌعب ذلك على » ( متفق علٌه ) ‪.‬‬ ‫والنص بهذه الصٌؽة ‪ « -‬إن هللا لم ٌؤمرنا » ‪ٌ -‬قتضً أنه لٌس بواجب وال مندوب ‪ ,‬فهو ال ٌدل على‬ ‫أكثر من الكراهة التنزٌهٌة ‪ ,‬كما قال اإلمام النووي ‪ ,‬ولكن بٌت النبوة ‪ٌ ,‬نبؽً أن ٌكون أسوة ومثبلً‬ ‫للناس فً الترفع على زخرؾ الدنٌا وزٌنتها ‪.‬‬ ‫ٌإكد هذا حدٌث عابشة اآلخر ‪ ,‬قالت ‪ :‬كان لنا ستر فٌه تمثال طابر ‪ ,‬وكان الداخل إذا دخل استقبله ‪,‬‬


‫فقال لً رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ‪ « :‬حولً هذا ‪ ,‬فإنً كلما دخلت فرأٌته ‪ ,‬ذكرت الدنٌا » (‬ ‫رواه مسلم ) ‪.‬‬ ‫ومثله ‪ :‬ما رواه القاسم بن محمد عنها رضى هللا عنها ‪ :‬أنه كان لها ثوب فٌه تصاوٌر ‪ ,‬ممدود إلى‬ ‫سهوة ‪ ,‬فكان النبً صلى هللا علٌه وسلم ٌصلً إلٌه ‪ ,‬فقال ‪ « .‬أخرٌه عنً قالت ‪ :‬فؤخرته فجعلته وسابد‬ ‫»‪.‬‬ ‫وفى رواٌة عند ؼٌر مسلم ‪ « :‬أخرٌه عنً ‪ ,‬فإن تصاوٌره تعرض لً فً صبلتً »‪.‬‬ ‫فهذا كله من زٌادة الترفه والتنعم ‪ ,‬وهو من وادي الكراهٌة ‪ ,‬ال من وادي التحرٌم ‪ .‬ولكن النووي قال ‪:‬‬ ‫هذا محمول على أنه كان قبل تحرٌم اتخاذ ما فٌه صورة ‪ ,‬فلهذا كان ٌدخل وٌراه وال ٌنكره ‪.‬‬ ‫ومعنى هذا ‪ :‬أنه ٌرى األحادٌث التً ظاهرها التحرٌم ناسخة لهذا الحدٌث وما فً معناه ‪ .‬ولكن النسخ‬ ‫ال ٌثبت بمجرد االحتمال ‪ .‬فإثبات مثل هذا النسخ ٌستلزم أمرٌن ‪:‬‬ ‫أولهما ‪ :‬التحقق من تعارض النصٌن‪ ,‬بحٌث ال ٌمكن الجمع بٌنهما ‪ .‬مع أن الجمع ممكن بحمل أحاديث‬ ‫التحرٌم على قصد مضاهاة خلق هللا ‪ ,‬أو بقصرها على المجسم ( أي ما له ظل )‪.‬‬ ‫وثانٌهما ‪ :‬معرفة المتؤخر من النصٌن ‪ .‬وال دلٌل على أن التحرٌم هو المتؤخر ‪ ,‬بل الذي رآه اإلمام‬ ‫الطحاوي فً « مشكل اآلثار » هو العكس ‪ ,‬فقد شدد اإلسبلم فً شؤن الصور فً أول األمر ‪ ,‬لقرب‬ ‫عهده بالوثنٌة ‪ ,‬ثم رخص فً المسطحات من الصور ‪ .‬أي ما كان رقما ً فً ثوب ‪ ,‬ونحوه ‪.‬‬ ‫وقد روى هذا الحدٌث عن عابشة بصٌؽة أخرى ‪ ,‬تدل على شدة الكراهٌة من النبً صلى هللا علٌه وسلم‬ ‫‪.‬‬ ‫فعن عابشة ‪ :‬أنها اشترت تمرقة ( وسادة صؽٌرة ) فٌها تصاوٌر ‪ ,‬فلما رآها رسول هللا صلى هللا علٌه‬ ‫وسلم ‪ ,‬قام على الباب ‪ ,‬فلم ٌدخل ‪ ,‬فعرفت فً وجهه الكراهٌة ‪ ,‬قالت ‪ :‬فقلت ‪ٌ :‬ا رسول هللا ‪ ,‬أتوب‬ ‫إلى هللا ‪ ,‬وإلى رسوله ‪ ,‬ما أذنبت ؟ فقال ‪ « :‬ما بال هذه النمرقة » قلت ‪ :‬اشترٌتها لك لتقعد علٌها‬ ‫وتوسدها ‪ .‬فقال رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ‪ « :‬إن أصحاب هذه الصور ٌعذبون ٌوم القٌامة ‪ ,‬وٌقال‬ ‫لهم ‪ :‬أحٌوا ما خلقتم » ‪.‬‬ ‫وقال ‪ « :‬إن البٌت الذي فٌه الصورة ال تدخله المبلبكة » ( متفق علٌه ) ‪.‬‬

‫نظرات في فقه األحاديث ‪:‬‬ ‫فً هذا الجو الذي كان ٌحٌط بفن التصوٌر والصور فً عصر النبوة ‪ ,‬ورد معظم األحادٌث المحرمة ‪.‬‬ ‫وال ؼرو أن شددت األحادٌث النبوٌة فً هذا األمر ‪ ,‬وان كان تشدٌدها فً صنعة التصوٌر أكثر من‬ ‫تشدٌده ا فً اقتناء الصورة ‪ ,‬فبعض ما ٌحرم تصوٌره ٌجوز اقتناإه فٌما ٌمتهن مثل البسط والوسابد‬ ‫ونحوها مما ٌبتذل باالستعمال ‪ ,‬كما رأٌنا فً حدٌث عابشة ‪.‬‬ ‫ومن أشد ما روى فً منع التصوٌر ‪ :‬ما جاء فً الصحٌحٌن عن ابن عباس مرفوعا ً ‪ « :‬كل مصور فً‬ ‫النار ‪ٌ ,‬جعل له بكل صورة صوره ا نفسا ‪ ,‬فٌعذبه فً جهنم » ‪.‬‬ ‫وفى رواٌة للبخاري عن سعٌد بن أبى الحسن قال ‪ :‬كنت عند ابن عباس ‪ ,‬إذ جاءه رجل ‪ ,‬فقال ‪ٌ :‬ا بن‬ ‫عباس ‪ ,‬إنً رجل إنما معٌشتً من صنعة ٌدي ‪ ,‬وإنً أصنع هذه التصاوٌر ‪ .‬فقال ابن عباس ‪ :‬ال‬ ‫أحدثك إال ما سمعت من رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ‪ .‬سمعته ٌقول ‪ « :‬من صور صورة فإن هللا‬ ‫معذبه حتى ٌنفخ فٌها الروح ‪ ,‬ولٌس بنافخ فٌها أبداً » ‪ .‬فربا الرجل ربوة شدٌدة ( أي انتفخ ؼٌظا‬


‫وضٌقا ً ) فقال ‪ « :‬وٌحك ؛ إن أبٌت إال أن تصنع ‪ ,‬فعلٌك بهذا الشجر ‪ ,‬وكل شا لٌس فٌه روح » ‪.‬‬ ‫وروى مسلم من حٌان بن حصٌن قال ‪ « :‬قال لً علً بن أبى طالب رضً هللا عنه ‪ :‬أال أبعثك على ما‬ ‫بعثنً علٌه رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ؟ أال تدع صورة إال طمستها ‪ ,‬وال قبراً مشرفا إال سوٌته »‬ ‫‪.‬‬ ‫وروى مسلم عن عابشة أنها قالت ‪ :‬واعد رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم جبرٌل علٌه السبلم‪ ,‬فً ساعة‬ ‫ٌؤتٌه فٌها ‪ ,‬فجاءت تلك الساعة ‪ ,‬ولم ٌؤته ‪ ,‬وفً ٌده عصا ً ‪ ,‬فؤلقاها من ٌده ‪ ,‬وقال ‪ « :‬ما ٌخلؾ هللا‬ ‫وعده وال رسله » ! ثم التفت ‪ ,‬فإذا جرو كلب تحت سرٌره ‪ ,‬فقال ‪ٌ « :‬ا عابشة ‪ ,‬متى دخل هذا الكلب‬ ‫ههنا ؟ » فقالت ‪ :‬وهللا ما درٌت ! فؤمر به ‪ ,‬فؤخرج ‪ ,‬فجاء جبرٌل ‪ ,‬فقال رسول هللا صلى هللا علٌه‬ ‫وسلم ‪ « :‬واعدتنً ‪ ,‬فجلست لك ‪ ,‬فلم تؤت » ! فقال ‪ :‬منعنً الكلب الذي كان فً بٌتك ‪ .‬إنا ال ندخل بٌتا‬ ‫فٌه كلب وال صورة » ‪.‬‬ ‫وبهذا نرى أن عدد األحادٌث التً وردت فً شؤن التصوٌر والصور ‪ ,‬لٌس قلٌبل ‪ ,‬كما زعم بعض من‬ ‫كتب فً ذلك ‪ ,‬فقد رواها جمع من الصحابة منهم ‪ :‬ابن مسعود ‪ ,‬وابن عمر ‪ ,‬وابن عباس ‪ ,‬وعابشة ‪,‬‬ ‫وعلً ‪ ,‬وأبو هرٌرة ‪ ,‬وأبو طلحة ‪ .‬وكلها فً الصحاح ‪.‬‬ ‫وقد اختلفت آراء الفقهاء فً قضٌة التصوٌر فً ضوء هذه األحادٌث ‪ ,‬وكان من أشدهم فً ذلك اإلمام‬ ‫النووي الذي حرم تصوٌر كل ما فٌه روح من إنسان أو حٌوان ‪ ,‬مجسما ( له ظل ) أو ؼٌر مجسم ‪,‬‬ ‫ممتهنا أو ؼٌر ممتهن ‪ ,‬ولكنه أجاز استعمال ما ٌمتهن ‪ ,‬وان كان تصوٌره حراما ‪ ,‬كالمصور فً البسط‬ ‫والوسابد ونحوها ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ولكن بعض فقهاء السلؾ قصر التحرٌم على المجسم ( الذي له ظل ) وهو ما نطلق علٌه عرفا (‬ ‫التماثٌل ) فهً أوؼل فً مشابهة الوثنٌة ‪ ,‬وهً التً ٌظهر فٌها مضاهاة خلق هللا ‪ ,‬ألن خلق هللا‬ ‫وتصوٌره مجسم ‪ ( :‬هو الذي ٌصوركم فً األرحام كٌؾ ٌشاء ) ‪.‬‬ ‫وفً الحدٌث القدسً ‪ « :‬ومن أظلم ممن ذهب ٌخلق كخلقً » ‪ ,‬وخلق هللا تعالى مجسم ‪ ,‬وهو الذي‬ ‫ٌمكن قبول نفخ الروح فٌه ‪ ,‬إذ المسطح لٌس قاببل لذلك ‪ ,‬وألنها ادخل فً الترؾ والسرؾ ‪ ,‬وال سٌما‬ ‫ما كان من المعادن الثمٌنة ‪.‬‬ ‫وهذا مذهب بعض السلؾ ‪..‬‬ ‫وقد قال النووي إن هذا مذهب باطل ‪ ,‬فتعقبه الحافظ ابن حجر بؤنه مذهب القاسم بن محمد ‪ ,‬ولعله أخذ‬ ‫بعموم قوله صلى هللا علٌه وسلم ‪ « :‬إال رقما ً فً ثوب » وسنذكر نص هذا الحدٌث‪.‬‬ ‫والقاسم بن محمد بن أبى بكر ‪ ,‬أحد الفقهاء السبعة بالمدٌنة ‪ ,‬ومن أفضل أهل زمانه ‪ ,‬وابن أخً عابشة‬ ‫‪ ,‬وراوي حدٌث النمرقة عنها ‪ .‬وٌحتج له بالحدٌث التالً ‪..‬‬ ‫ففً الصحٌح عن بسر بن سعٌد عن زٌد بن خالد الجهنى عن أبى طلحة صاحب رسول هللا صلى هللا‬ ‫علٌه وسلم أنه قال ‪ :‬إن رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم قال ‪ « :‬إن المبلبكة ال تدخل بٌتا فٌه صورة ‪.‬‬ ‫قال بسر ‪ :‬ثم اشتكى زٌد بعد ‪ ,‬فعدناه ‪ ,‬فإذا على بابه ستر فٌه صورة‪ ,‬قال ‪ :‬فقلت لعبٌد هللا الخوالنى‬ ‫ربٌب مٌمونة زوج النبً صلى هللا علٌه وسلم ‪ :‬ألم ٌخبرنا زٌد عن الصور ٌوم األول ؟ فقال ‪ :‬ألم‬ ‫تسمعه حٌن قال ‪ « :‬إال رقما فً ثوب »‬ ‫وأكد ذلك ما رواه الترمذي أن سهل بن حنٌؾ رافق أبا طلحة على هذا االستثناء ‪ « :‬إال رقما فً ثوب‬ ‫»‪.‬‬ ‫وتؤوٌل هذا بؤن المراد به ‪ :‬ما كان لؽٌر ذي روح ‪ٌ ,‬عارضه حدٌث تمثال الطابر الذي كان فً بٌت‬ ‫عابشة ‪ ,‬وقول النبً لها ‪ « :‬حولي هذا ‪ ,‬فإنً كلما رأٌته ذكرت الدنٌا » أو ‪ « :‬فإن تصاوٌره تعرض‬ ‫لً فً صبلتً » ‪.‬‬ ‫فاألرجح قصر التحرٌم على المجسم ‪ ,‬وأما صور اللوحات المسطحة على الورق ‪ ,‬أو الجدران ‪ ,‬أو‬ ‫الخشب ونحوها ‪ ,‬فؤقصى ما فٌها الكراهة التنزٌهٌة ‪ ,‬كما ذكر اإلمام الخطابً ‪ ,‬إال ما كان فٌه ؼلو‬ ‫وإسراؾ ‪ ,‬كالصور التً تباع بالمبلٌ​ٌن ونحوها‪.‬‬


‫وٌستثنى من المجسم المحرم ‪ :‬لعب األطفال ‪ ,‬من الدمى والعرابس والقطط والكبلب والقرود ونحوها ‪,‬‬ ‫مما ٌتلهى به األطفال ‪ ,‬ألن مثله ال ٌظهر فٌه قصد التعظٌم ‪ ,‬واألطفال ٌعبثون بها ‪.‬‬ ‫البنات ( العرابس ) وأن صواحب لها كن ٌجبن إلٌها فٌلعب‬ ‫ودلٌل ذلك حدٌث عابشة أنها كانت تلعب ب‬ ‫معها ‪ .‬وكان الرسول الكرٌم ٌسر لمجٌبهن إلٌها ‪.‬‬ ‫ومثل ذلك ‪ :‬التماثٌل والعرابس التً تصنع من الحلوى وتباع فً بعض المناسبات ‪ ,‬ثم ال تلبث أن تإكل‬ ‫‪.‬‬ ‫كما ٌستثنى من الحظر ‪ :‬التماثٌل التً تشوه بقطع رأسها ‪ ,‬أو نحو ذلك منها ‪ ,‬كما جاء فً الحدٌث أن‬ ‫جبرٌل قال للرسول صلى هللا علٌه وسلم ‪ « :‬مر برأس التمثال فلٌقطع حتى ٌصٌر كهٌبة الشجرة » ‪.‬‬ ‫وأما التماثٌل النصفٌة التً تنصب فً المٌادٌن ونحوها للملوك والزعماء ‪ ,‬فبل ٌخرجها من دابرة الحظر‬ ‫‪ ,‬ألنها ال تزال تعظم ‪.‬‬ ‫ونهج اإلسبلم ؾي تخلٌد العظماء واألبطال ٌخالؾ نهج الؽربٌ​ٌن ‪ ,‬فهو ٌخلدهم بالذكر الحسن ‪ ,‬والسٌرة‬ ‫الطٌبة ‪ٌ ,‬تناقلها الخلؾ عن السلؾ ‪,‬‬ ‫وٌتمثلونها ‪ ,‬وٌؤتسون بها ‪ ,‬وبهذا خد األنبٌاء والصحابة واألبمة واألبطال والربانٌون ‪ ,‬فؤحبتهم القلوب‬ ‫‪ ,‬ودعت لهم األلسنة ‪ ,‬وان لم ترسم لهم صورة ‪ ,‬وال نصب لهم تمثال ‪.‬‬ ‫وكم من تماثٌل قابمة ال ٌعرؾ الناس شٌبا عن أصحابها ‪ ,‬كتمثال « الظوؼلً » فً قلب القاهرة ‪ ,‬وكم‬ ‫من تماثٌل ٌمر الناس علٌها فٌلعنون أصحابها ‪.‬‬

‫الصور الفوتوغرافية ‪:‬‬ ‫ومما ال خفاء فٌه أن كل ما ورد فً التصوٌر والصور ‪ ,‬إنما ٌعنى الصور التً تنحت أو ترسم على‬ ‫حسب ما ذكرنا ‪.‬‬ ‫أما الصور الشمسٌة ‪ -‬التً تإخذ بآلة الفوتوؼرافٌا ‪ -‬فهً شا مستحدث لم ٌكن فً عصر الرسول ‪ ,‬وال‬ ‫سلؾ المسلمٌن ‪ ,‬فهل ٌنطبق علٌه ما ورد فً التصوٌر والمصورٌن ؟‬ ‫أما الذٌن ٌقصرون التحرٌم على التماثٌل ( المجسمة ) فبل ٌرون شٌبا ً فً هذه الصور ‪ ,‬وخصوصا ً إذا‬ ‫لم تكن كاملة ‪.‬‬ ‫وأما على رأي اآلخرٌن فهل تقاس هذه الصور الشمسٌة على تلك التً تبدعها رٌشة الرسام ؟ أم أن‬ ‫العلة التً نصت علٌها بعض األحادٌث فً عذاب المصورٌن ‪ -‬وهى أنهم ٌضاهون خلق هللا ‪ -‬ال تتحقق‬ ‫هنا فً الصورة الفوتوؼرافٌة ؟ وحٌث عدمت العلة عدم المعلول كما ٌقول األصولٌون ؟‬ ‫إن الواضح هنا ما أفتى به المؽفور له الشٌخ محمد بخٌت مفتى مصر ‪ « :‬أن أخذ الصورة‬ ‫بالفوتوؼرافٌا ‪ -‬الذي هو عبارة عن حبس الظل بالوسابط المعلومة ألرباب هذه الصناعة ‪ -‬لٌس من‬ ‫التصوٌر المنهً عنه فً شا ‪ ,‬ألن التصوٌر المنهً عنه هو إٌجاد صورة وصنع صورة لم تكن‬ ‫موجودة وال مصنوعة من قبل ‪ٌ ,‬ضاهى بها حٌوانا خلقه هللا تعالى ‪ ,‬ولٌس هذا المعنى موجوداً فً أخذ‬ ‫الصورة بتلك اآللة » ‪ٌ ( .‬إكد هذا تسمٌة أهل الخلٌج الصورة ( عكسا ) والمصور ( عكاسا ً ) ) ‪.‬‬ ‫هذا ‪ . .‬ومن المقرر أن لموضوع الصورة أثراً فً الحكم بالحرمة أو ؼٌرها ‪ .‬وال ٌخالؾ مسلم فً‬ ‫تحرٌم الصورة إذا كان موضوعها مخالؾ لعقابد اإلسبلم ‪ ,‬أو شرابعه وآدابه ‪ ,‬فتصوٌر النساء عارٌات‬ ‫‪ ,‬أو شبه عارٌات ‪ ,‬وإبراز مواضع األنوثة والفتنة منهن ‪ ,‬ورسمهن أو تصوٌرهن فً أوضاع مثٌرة‬ ‫للشهوات ‪ ,‬موقظة للؽرابز الدنٌا ‪ ,‬كما نرى ذلك واضحا فً بعض المجبلت والصحؾ ‪ ,‬ودور «‬ ‫السٌنما » كل ذلك مما ال شك فً حرمته وحرمة تصوٌره ‪ ,‬وحرمة نشره على الناس ‪ ,‬وحرمة اقتنابه‬


‫واتخاذه فً البٌوت أو المكاتب والمجبلت ‪ ,‬وتعلٌقه على الجدران ‪ ,‬وحرمة القصد إلى رإٌته ومشاهدته‬ ‫‪.‬‬ ‫ومثل هذا صور الكفار والظلمة والفساق ‪ ,‬الذٌن ٌجب على المسلم أن ٌعادٌهم هلل وٌبؽضهم فً هللا ‪ ,‬فبل‬ ‫ٌحل لمسلم أن ‪ٌ ,‬صور أن ٌقتنً صورة لزعٌم ملحد ٌنكر وجود هللا ‪ ,‬أو وثنً ٌشرك مع هللا البقر أو‬ ‫النار ‪ ,‬أو ؼٌرها ‪ ,‬أو ٌهودي أو نصرانً ٌجحد نبوة محمد صلى هللا علٌه وسلم ‪ ,‬أو مدع لئلسبلم وهو‬ ‫ٌحكم بؽٌر ما أنزل هللا ‪ ,‬أو ٌشٌع الفاحشة والفساد فً المجتمع ‪ .‬ومثل هذا ‪ ,‬الصور التً تعبر عن‬ ‫الوثنٌة أو شعابر بعض األدٌان التً ال ٌرضاها‬ ‫اإلسبلم كاألصنام وما شابهها ‪.‬‬

‫خالصة ألحكام الصور والمصورين ‪:‬‬ ‫ونستطٌع أن نجمل أحكام الصور والمصورٌن فً الخبلصة التالٌة ‪:‬‬ ‫( أ ) أشد أنواع الصور فً الحرمة واإلثم صور ما ٌعبد من دون هللا ‪ ,‬فهذه تإدى بمصورها إلى الكفر‬ ‫إن كان عارفا بذلك قاصداً له ‪.‬‬ ‫والمجسم فً هذه الصور أشد إثما ونكراً ‪ .‬وكل من روج هذه الصور أو عظمها بوجه من الوجوه داخل‬ ‫فً هذا اإلثم بقدر مشاركته ‪.‬‬ ‫( ب ) وٌلٌه فً اإلثم من صور ما ال ٌعبد ‪ ,‬ولكنه قصد مضاهاة خلق هللا ‪ ,‬أي ادعى أنه ٌبدع وٌخلق‬ ‫كما ٌخلق هللا ‪ ,‬فهو بهذا ٌقارب الكفر ‪ .‬وهذا أمر ٌتعلق بنٌة المصور وحده ‪.‬‬ ‫( جـ ) ودون ذلك الصور المجسمة لما ال ٌعبد ‪ ,‬ولكنها مما ٌعظم كصور الملوك والقادة والزعماء‬ ‫وؼٌرهم عن ٌزعمون تخلٌدهم بإقامة التماثٌل لهم ‪ ,‬ونصبها فً المٌادٌن ونحوها ‪ .‬وٌستوي فً ذلك أن‬ ‫ٌكون التمثال كامبل أو نصفٌا ً ‪.‬‬ ‫( د ) ودونها الصور المجسمة لكل ذي روح مما ال ٌقدس وال ٌعظم ‪ ,‬فإنه متفق على حرمته‪ٌ ,‬ستثنى‬ ‫من ذلك ما ٌمتهن ‪ ,‬كلعب األطفال ‪ ,‬ومثلها ما ٌإكل من تماثٌل الحلوى ‪.‬‬ ‫( هـ ) وبعدها الصور ؼٌر المجسمة ‪ -‬اللوحات الفنٌة ‪ -‬التً ٌعظم أصحابها ‪ ,‬كصور الحكام والزعماء‬ ‫وؼٌرهم ‪ ,‬وخاصة إذا نصبت وعلقت ‪ .‬وتتؤكد الحرمة إذا كان هإالء من الظلمة والفسقة والملحدٌن ‪,‬‬ ‫فإن تعظٌمهم هدم لئلسبلم ‪.‬‬ ‫( و ) ودون ذلك أن تكون الصورة ؼٌر المجسمة لذي روح ال ٌعظم ‪ ,‬ولكن تعد من مظاهر الترؾ ‪,‬‬ ‫والتنعم كؤن تستر بها الجدر ونحوها ‪ ,‬فهذا من المكروهات فحسب ‪.‬‬


‫( ز ) أما صور ؼٌر ذي الروح من الشجر والنخٌل والبحار والسفن والجبال والنجوم والسحب ونحوها‬ ‫من المناظر الطبٌعٌة ‪ ,‬فبل جناح على من صورها أو اقتناها ‪ ,‬ما لم تشؽل عن طاعة أو تإد إلى ترؾ‬ ‫فتكره ‪.‬‬ ‫( ح ) وأما الصور الشمسٌة ( الفوتوؼرافٌة ) فاألصل فٌها اإلباحة ‪ ,‬ما لم ٌشتمل موضوع الصورة‬ ‫على محرم ‪ ,‬كتقدٌس صاحبها تقدٌسا دٌنٌا ‪ ,‬أو تعظٌمه تعظٌما دنٌوٌا ‪ ,‬وخاصة إذا كان المعظم من‬ ‫أهل الكفر أو الفساق كالوثنٌ​ٌن والشٌوعٌ​ٌن والفنانٌن المنحرفٌن ‪.‬‬ ‫( ط ) وأخٌرا ‪ . .‬إن التماثٌل والصور الحرمة أو المكروهة إذا شوهت أو امتهنت ‪ ,‬انتقلت من دابرة‬ ‫الحرمة والكراهة إلى دابرة الحل ‪ ,‬كصور البسط التً تدوسها األقدام والنعال ونحوها ‪.‬‬

‫تأويالت ‪:‬‬ ‫ومن المعلوم أن هناك بعض العلماء حاولوا أن ٌإولوا األحادٌث الصحاح الواردة فً تحرٌم التصوٌر‬ ‫واقتناء الصور لٌقولوا بإباحة الصور كلها حتى المجسمة منها ‪.‬‬ ‫مثل ما حكاه أبو علً الفارسً فً تفسٌره عمن حمل كلمة « المصورٌن » فً الحدٌث على من جعل‬ ‫هلل صورة ‪ٌ ,‬عنى ‪ :‬المجسمة والمشبهة الذي شبهوا هللا تعالى بخلقه ‪ ,‬واعتبروه جسما ً وصورة ‪ ,‬وهو‬ ‫تعالى لٌس كمثله شا ‪.‬‬ ‫ذكر هذا أبو علً الفارسً فً كتابه « الحجة » وهو تكلؾ واعتساؾ ال تساعده األلفاظ الثابتة فً‬ ‫األحادٌث ‪.‬‬ ‫ومثل من استند إلى ما أبٌح لسلٌمان علٌه السبلم ‪ ,‬وذكره القرآن فً سور« سبؤ » ‪ٌ ( :‬عملون له ما‬ ‫ٌشاء م ن محارٌب وتماثل ) ولم ٌقولوا بنسخه فً شرٌعتنا ‪ .‬وهذا الرأي ذكره أبو جعفر النحاس ‪,‬‬ ‫وحكاه بعده مكً فً تفسٌره « الهداٌة إلى بلوغ النهاٌة » ‪.‬‬ ‫ومثل من حمل المنع على مجرد الكراهة ‪ ,‬وأن هذا التشدٌد كان فً ذلك الزمان لقرب عهد الناس بعبادة‬ ‫األوثان ‪ ,‬وقد تؽٌر الحال فً العصور التالٌة ‪ ( .‬هذا مع أن الوثنٌة ال زال ٌدٌن بها آالؾ المبلٌ​ٌن ) ‪.‬‬ ‫وهذا قاله بعضهم من قبل ‪ ,‬ورد علٌهم اإلمام ابن دقٌق العٌد ‪ ,‬بؤن هذا‬ ‫القول باطل قطعا ً ‪ ,‬ألن هذا مناؾ للعلة إلى ذكرها الشارع ‪ ,‬وهى أنهم ٌضاهون أو ٌشبهون بخلق هللا ‪.‬‬ ‫قال ‪ :‬وهذه علة عامة مستقٌمة مناسبة ‪ ,‬ال تخص زمانا دون زمان ‪ .‬ولٌس لنا أن نتصرؾ فً‬ ‫النصوص المتظاهرة المتضافرة بمعنى خٌالً ‪.‬‬ ‫والثابت الواضح أن هذه األقوال لم تقنع العقل المسلم ‪ ,‬وبالتالً لم تإثر فً المجرى العام للحضارة‬ ‫اإلسبلمٌة ‪ ,‬والحٌاة اإلسبلمٌة ‪ ,‬وان عمل بها بعض الناس فً بعض البلدان ‪ ,‬كما رأٌنا فً أسود قصر‬ ‫الحمراء بؽرناطة فً األندلس ‪ ,‬وبعض ما حكاه اإلمام القرافً فً كتابه « نفابس األصول فً شرح‬ ‫المحصول » عن شمعدان وضع للملك الكامل ‪ ,‬كلما مضى من اللٌل ساعة انفتح باب منه وخرج منه‬ ‫شخص فً خدمة الملك ‪ . . .‬الخ ‪ .‬وأن القرافً نفسه عمل شمعدانا ً زاد فٌه ‪ :‬أن الشمعة ٌتؽٌر لونها كل‬ ‫ساعة ‪ ,‬وفٌه أسد تتؽٌر عٌناه من السواد الشدٌد إلى البٌاض الشدٌد ‪ ,‬إلى الحمرة الشدٌدة ‪ ,‬وٌسقط‬ ‫حصانان من طابرٌن ‪ ,‬وٌدخل شخص ‪ ,‬وٌخرج شخص ؼٌره ‪ ,‬وٌؽلق باب وٌفتح باب ‪ ,‬فً كل ساعة‬ ‫لها لون ‪ .‬وإذا طلع الفجر طلع الشخص على الشمعدان ‪ ,‬وإصبعه فً أذنه ‪ٌ ,‬شٌر إلى األذان ‪ ,‬قال‬ ‫القرافً‪ :‬ؼٌر أنً عجزت عن صنعة الكبلم ) ‪.‬‬


‫وقرٌب من ذلك ما حكاه ابن جبٌر فً رحلته عن وصؾ الساعة التً كانت بجامع دمشق ‪ ,‬وفٌها تمثال‬ ‫صقور ‪ . . .‬الخ ‪.‬‬

‫المزاج العام للحضارة اإلسالمية ‪:‬‬ ‫ولكن المإكد أن المزاج العام للحضارة اإلسبلمٌة لم ٌرحب بصور اإلنسان والحٌوان ‪ ,‬وخصوصا‬ ‫المجسمة منها ‪ ,‬وؼلب علٌه التجرٌد ‪ ,‬البلبق بعقٌدة التوحٌد ‪ ,‬ال التجسٌم البلبق بالوثنٌات على اختبلؾ‬ ‫درجاتها ‪.‬‬ ‫ومن هنا اتجه الفن « التشكٌلً » فً حضارتنا إلى أمور أخرى أبدع فٌها أٌما إبداع ‪ ,‬وترك فٌها آثارا‬ ‫رابعة الجمال ‪.‬‬ ‫تجلت فً الزخارؾ التً تفنن فٌها عقل الفنان المسلم وٌده ورٌشته ‪ ,‬وتجلى ذلك فً المساجد‬ ‫والمصاحؾ والقصور والمنازل وؼٌرها ‪ :‬على الجدران والسقوؾ ‪ ,‬واألبواب والنوافذ ‪ ,‬وعلى‬ ‫األرضٌات أحٌانا ً ‪ ,‬وفً األدوات المنزلٌة ‪ ,‬وفً األثاث ‪ ,‬والتحؾ والبسط والثٌاب والسٌوؾ ‪.‬‬ ‫واستخدمت المواد المختلفة من الحجارة والرخام والخشب ‪ ,‬والخزؾ والجلد والزجاج ‪ ,‬والورق ‪,‬‬ ‫والحدٌد والنحاس ‪ ,‬والمعادن المتنوعة ‪.‬‬ ‫ودخل فً الزخرفة ‪ :‬الخط العربً بؤنواعه المختلفة من الثلث والنسخ والرقعة والفارسً والدٌوانً‬ ‫والكوفً وؼٌرها ‪ ,‬وافتن الخطاطون فً ذلك كل االفتنان ‪ ,‬وخلفوا لنا لوحات فً ؼاٌة الحسن واإلبداع‬ ‫‪.‬‬ ‫وأكثر ما تجلى الفنان « الخط والزخرفة » فً المصاحؾ والجوامع ‪ .‬أما الجوامع فبل زلنا نشها منها‬ ‫آٌات فً الجمال ‪ ,‬كما فً المسجد النبوي ‪ ,‬ومسجد قبة الصخرة ‪ ,‬والجامع األموي بدمشق ‪ ,‬وجامع‬ ‫السلطان أحمد والسلٌمانٌة باستانبول ‪ ,‬وجامع السلطان حسن وجامع محمد علً بالقاهرة ‪ ,‬وؼٌرها‬ ‫وؼٌرها فً أنحاء العالم اإلسبلمً ‪.‬‬ ‫وأبرز ما تجلى فٌه الفن اإلسبلمً إنما كان فً العمارة ‪ ,‬وقد قال مإرخو الحضارة ‪ :‬إن فن البناء‬ ‫أحسن معبر عن الفن اإلسبلمً ‪ ,‬وقد ظهر ذلك فً روابع كثٌرة فً أقطار عدة ‪ ,‬لعل أبرزها فً الهند‬ ‫ي تلك الرابعة الهندسٌة الجمالٌة ‪ « :‬تاج محل » ‪.‬‬ ‫‪ :‬إحدى عجابب الدنٌا المتمثلة ؾ‬ ‫وهكذا كان منع التصوٌر والنحت سببا لفتح أبواب أخرى فً عالم الفنون ‪ ,‬جعلت للعالم اإلسبلمً تمٌزه‬ ‫الخاص ‪ ,‬ومثالٌته المتفردة ‪.‬‬

‫فن الجمال المرئي‬ ‫( الرسم والتصوير والزخرفة )‬ ‫التصوير في القرآن ‪:‬‬


‫عرض القرآن الكرٌم للتصوٌر على أنه عمل من أعمال هللا تبارك وتعالى ‪ ,‬الذي ٌبدع الصور الجمٌلة ‪,‬‬ ‫وخصوصا صور الكابنات الحٌة ‪ ,‬وفً مقدمتها اإلنسان ‪ ( :‬هو الذي ٌصوركم فً األرحام كٌؾ ٌشاء )‬ ‫‪ ( .‬وصوركم فؤحسن صوركم ) ‪ ( .‬الذي خلقك فسواك فعدلك * فً أي صورة ما شاء ركبك ) ‪.‬‬ ‫وذكر القرآن أن من أسماء هللا الحسنى ‪ :‬اسم « المصور » ‪ .‬كما فً قوله تعالى ‪ ( :‬هو هللا الخالق‬ ‫البارئ المصور ‪ ,‬له األسماء الحسنى ) ‪ .‬كما عرض القرآن للتماثٌل فً موضعٌن ‪:‬‬ ‫أحدهما ‪ :‬فً موضع الذم واإلنكار ‪ ,‬وذلك على لسان الخلٌل إبراهٌم علٌه السبلم ‪ ,‬حٌث اتخذها قومه‬ ‫أصناما ‪ ,‬أي آلهة تعبد ‪ ,‬فؤنكر علٌهم ذلك قاببل ‪ ( :‬ما هذه التماثٌل التً أنتم لها عاكفون * قالوا وجدنا‬ ‫آباءنا لها عابدون ) ‪.‬‬ ‫والثانً ‪ :‬ذكرها القرآن فً معرض االمتنان واإلنعام على سلٌمان علٌه السبلم ‪ ,‬حٌث سخر له الرٌح ‪,‬‬ ‫وسخر له الجن ٌعملون بٌن ٌدٌه بإذن ربه ( ٌعملون له ما ٌشاء من محارٌب وتماثٌل وجفان كالجواب‬ ‫وقدور راسٌات ‪ ,‬اعملوا آل داود شكراً ) ‪.‬‬

‫التصوير في السنة ‪:‬‬ ‫أما السنة ‪ . .‬فقد حفلت بؤحادٌث كثٌرة صحٌحة ‪ ,‬معظمها ٌذم التصوٌر والمصورٌن ‪ ,‬وبعضها ٌشدد‬ ‫ؼاٌة التشدد فً منع التصوٌر وتحرٌمه والوعٌد علٌه ‪ .‬كما ٌنكر اقتناء الصور ‪ ,‬أو تعلٌقها فً البٌت ‪,‬‬ ‫وٌعلن ‪ :‬أن المبلبكة ال تدخل بٌتا فٌه صورة ‪.‬‬ ‫والمبلبكة هم مظهر رحمة هللا تعالى ورضاه وبركته ‪ ,‬فإذا منعت من الدخول فً بٌت ‪ ,‬فمعناه أنه‬ ‫محروم من الرحمة والرضا والبركة ‪.‬‬ ‫والمتؤمل فً معانً األحادٌث الواردة فً التصوٌر أو اقتناء الصور ‪ ,‬وفى سٌاقاتها ومبلبساتها‪ ,‬وٌقارن‬ ‫بٌن بعضها وبعض ‪ٌ ,‬تبٌن له ‪ :‬أن النهى والتحرٌم والوعٌد فً تلك األحادٌث لم ٌكن اعتباطا ً وال تحكما‬ ‫‪ ,‬بل كان وراءها علل ومقاصد ٌهدؾ الشرع إلى رعاٌتها وتحقٌقها ‪.‬‬

‫تصوير ما يعظم ويقدس ‪:‬‬ ‫( أ ) فبعض التصوٌر كان ٌقصد به تعظٌم المصور ‪ ,‬وهذا التعظٌم ٌتفاوت ‪ ,‬حتى ٌصل إلى درجة‬ ‫التقدٌس ‪ ,‬بل العبادة ‪.‬‬ ‫وتارٌخ الوثنٌات ٌدل على أنها بدأت بالتصوٌر للتذكرة ‪ ,‬وانتهت بالتقدٌس والعبادة ‪.‬‬ ‫ذكر المفسرون فً قوله تعالى على لسان قوم نوح ‪ ( :‬وقالوا ال تذرن آلهتكم وال تذرن وداً وال سواعا ً‬ ‫وال ٌؽوث وٌعوق ونسراً ) أن أسماء هذه األصنام المذكورة ‪ ,‬كانت أسماء رجال صالحٌن ‪ ,‬فلما ماتوا‬ ‫أوحى الشطان إلى قومهم ‪ :‬أن انصبوا إلى مجالسهم التً كانوا ٌجلسون إلٌها أنصابا ً ‪ ,‬وسموها بؤسمابهم‬ ‫ففعلوا ‪ ,‬فلم تعبد ‪ ..‬حتى إذا هلك أولبك ‪ ,‬ونسى العلم ‪ ,‬عبدت‪ ( .‬رواه البخاري وؼٌره عن ابن عباس )‬ ‫‪.‬‬ ‫وعن عابشة قالت ‪ :‬لما اشتكى النبً صلى هللا علٌه وسلم ‪ ,‬ذكر بعض نسابه كنٌسة ٌقال لها « مارٌة »‬ ‫‪ ,‬وكانت أم سلمه وأم حبٌبة ‪ ,‬أتتا أرض الحبشة ‪ ,‬فذكرتا من حسنها وتصاوٌر فٌها ‪ ,‬فرفع رأسه فقال ‪:‬‬


‫« أولبك إذا مات فٌهم الرجل الصالح ‪ ,‬بنوا على قبره مسجداً ‪ ,‬ثم صوروا فٌه تلك الصور ‪ ,‬أولبك‬ ‫شرار خلق هللا » (متفق علٌه ) ‪.‬‬ ‫ومن المعروؾ أن الصور والتماثل أروج ما تكون فً رحاب الوثنٌة ‪ ,‬كما عرؾ ذلك عند قوم إبراهٌم‬ ‫‪ ,‬وعند المصرٌ​ٌن القدماء ‪ ,‬والٌونان والرومان ‪ ,‬وعند الهنود ‪ -‬إلى الٌوم ‪ -‬وؼٌرهم ‪.‬‬ ‫والنصرانٌة حٌنما « ترومت » على ٌد قسطنطٌن إمبراطور الروم ‪ -‬دخلها كثٌر مما كان عند الرومان‬ ‫من مظاهر الوثنٌة ‪.‬‬ ‫ولعل بعض ما ورد من الوعٌد الشدٌد على التصوٌر ٌقصد به الذٌن ٌنحتون اآللهة المزعومة‪,‬‬ ‫وعا ‪ « :‬إن أشد الناس‬ ‫والمعبودات المتنوعة عند األمم المختلفة ‪ :‬وذلك مثل حدٌث ابن مسعود مرؾ‬ ‫عذابا عند هللا ‪ :‬المصورون » ( متفق علٌه ) ‪.‬‬ ‫قال النووي ‪ :‬قل ‪ :‬هً محمولة على من فعل الصورة لتعبد ‪ ,‬وهو صانع األصنام ونحوها ‪ ,‬فهذا كافر ‪,‬‬ ‫وهو أشد عذابا ً ‪ ,‬وقٌل ‪ :‬هً فٌمن قصد المعنى الذي فً الحدٌث من مضاهاة خلق هللا تعالى ‪ ,‬واعتقد‬ ‫ذلك ‪ ,‬فهذا كافر ‪ ,‬له من أشد العذاب ما للكفار ‪ ,‬وٌزٌد عذابه بزٌادة قبح كفره ‪.‬‬ ‫وإنما ذكر النووي ذلك ‪ ,‬وهو من أشد المشددٌن فً تحرٌم التصوٌر واتخاذ الصور ؛ ألنه ال ٌتصور ‪-‬‬ ‫بحسب مقاصد الشرع ‪ -‬أن ٌكون المصور العادي أشد عذابا من القاتل والزانً وشارب الخمر‬ ‫والمرابً وشاهد الزور ‪ . . .‬وؼٌرهم من مرتكبً الكبابر والموبقات ‪.‬‬ ‫وقد روى مسروق حدٌث ابن مسعود المذكور بمناسبة دخوله ‪ -‬هو وصاحب له ‪ -‬بٌتا فٌه تماثٌل ‪ ,‬فقال‬ ‫مسروق ‪ :‬هذا تماثٌل كسرى ؟ قال صاحبه ‪ :‬هذا تماثٌل مرٌم ‪ . .‬فروى مسروق الحدٌث ‪.‬‬

‫تصوير ما يعتبر من شعائر دين آخر ‪:‬‬ ‫( ب ) وقرٌب من هذا اللون من التصوٌر ما كان ٌعبر عن شعابر دٌن معٌن ؼٌر دٌن اإلسبلم ‪ ,‬وأبرز‬ ‫مثل لذلك « الصلٌب » عند النصارى ‪ .‬فما كان من الصور مشتمبل على الصلٌب فهو محرم ببل رٌب‬ ‫‪ ,‬وٌجب على المسلم نقضه وإزالته ‪.‬‬ ‫وفى هذا روى البخاري عن عابشة ‪ « :‬أن النبً صلى هللا علٌه وسلم لم ٌكن ٌترك فً بٌته شٌبا فٌه‬ ‫تصالٌب إال نقضه »‬

‫المضاهاة بخلق هللا ‪:‬‬ ‫( جـ ) مضاهاة خلق هللا عز وجل ‪ ,‬بدعوى أنه ٌبدع وٌخلق كما ٌخلق هللا سبحانه ‪ .‬وٌبدو أن هذا أمر‬ ‫ٌتعلق بقصد المصور ونٌته ‪ ,‬وان كان هناك من ٌرى أن كل مصور مضاه لخلق هللا ‪.‬‬ ‫وفى هذا جاء حدٌث عابشة عن النبً صلى هللا علٌه وسلم ‪ « :‬أشد الناس عذابا ً ٌوم القٌامة ‪ :‬الذٌن‬ ‫ٌضاهون بخلق هللا » ( متفق علٌه ) ‪.‬‬ ‫فهذا الوعٌد الؽلٌظ ٌوحً بؤنهم ٌقصدون إلى مضاهاة خلق هللا ‪ ,‬وهو ما نقله اإلمام النووي فً شرح‬ ‫مسلم ‪ ,‬إذ ال ٌقصد ذلك إال كافر ‪.‬‬ ‫وٌدل علٌه حدٌث أبى هرٌرة الصحٌح قال ‪ :‬سمعت رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ٌقول ‪ « :‬قال هللا‬


‫تعالى ‪ :‬ومن أظلم ممن ذهب ٌخلق كخلقً ‪ ,‬فلٌخلقوا ذرة ‪ ,‬ولٌخلقوا حبة ‪ ,‬أو لٌخلقوا شعٌرة » ( متفق‬ ‫علٌه ) ‪.‬‬ ‫فقوله ‪ « :‬ذهب ٌخلق كخلقً » ٌدل على القصد والتعمد ‪ .‬ولعل هذا هو سر التحدي اإللهً لهم ٌوم‬ ‫القٌامة ‪ ,‬حٌث ٌقال لهم ‪ « :‬أحٌوا ما خلقتم » وهو « أمر تعجٌز » كما ٌقول األصولٌون ‪.‬‬

‫دخول الصور في مظاهر الترف ‪:‬‬ ‫( د ) أن تكون جزءا من أدوات الترؾ ومظاهره ‪ .‬وهذا ما ٌظهر من كراهٌة النبً صلى هللا علٌه‬ ‫وسلم لبعض الصور فً بٌته ‪ ,‬فقد رو ت عابشة أنه علٌه الصبلة والسبلم خرج فً ؼزاة‪ ,‬قالت ‪ :‬فؤخذت‬ ‫نمطا ً ( نوعا من البسط اللطٌفة أو الستابر ) فسترته على الباب ‪ ,‬فلما قدم ‪ ,‬فرأى النمط ‪ ,‬فجذبه حتى‬ ‫هتكه ‪ ,‬ثم قال ‪ « :‬إن هللا لم ٌؤمرنا أن نكسو الحجارة والطٌن » قالت ‪ :‬فقطعنا منه وسادتٌن ‪,‬‬ ‫وحشوتهما لٌفا ‪ ,‬فلم ٌعب ذلك على » ( متفق علٌه ) ‪.‬‬ ‫والنص بهذه الصٌؽة ‪ « -‬إن هللا لم ٌؤمرنا » ‪ٌ -‬قتضً أنه لٌس بواجب وال مندوب ‪ ,‬فهو ال ٌدل على‬ ‫أكثر من الكراهة التنزٌهٌة ‪ ,‬كما قال اإلمام النووي ‪ ,‬ولكن بٌت النبوة ‪ٌ ,‬نبؽً أن ٌكون أسوة ومثبلً‬ ‫للناس فً الترفع على زخرؾ الدنٌا وزٌنتها ‪.‬‬ ‫ٌإكد هذا حدٌث عابشة اآلخر ‪ ,‬قالت ‪ :‬كان لنا ستر فٌه تمثال طابر ‪ ,‬وكان الداخل إذا دخل استقبله ‪,‬‬ ‫فقال لً رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ‪ « :‬حولً هذا ‪ ,‬فإنً كلما دخلت فرأٌته ‪ ,‬ذكرت الدنٌا » (‬ ‫رواه مسلم ) ‪.‬‬ ‫ومثله ‪ :‬ما رواه القاسم بن محمد عنها رضى هللا عنها ‪ :‬أنه كان لها ثوب فٌه تصاوٌر ‪ ,‬ممدود إلى‬ ‫سهوة ‪ ,‬فكان النبً صلى هللا علٌه وسلم ٌصلً إلٌه ‪ ,‬فقال ‪ « .‬أخرٌه عنً قالت ‪ :‬فؤخرته فجعلته وسابد‬ ‫»‪.‬‬ ‫وفى رواٌة عند ؼٌر مسلم ‪ « :‬أخرٌه عنً ‪ ,‬فإن تصاوٌره تعرض لً فً صبلتً »‪.‬‬ ‫فهذا كله من زٌادة الترفه والتنعم ‪ ,‬وهو من وادي الكراهٌة ‪ ,‬ال من وادي التحرٌم ‪ .‬ولكن النووي قال ‪:‬‬ ‫هذا محمول على أنه كان قبل تحرٌم اتخاذ ما فٌه صورة ‪ ,‬فلهذا كان ٌدخل وٌراه وال ٌنكره ‪.‬‬ ‫ومعنى هذا ‪ :‬أنه ٌرى األحادٌث التً ظاهرها التحرٌم ناسخة لهذا الحدٌث وما فً معناه ‪ .‬ولكن النسخ‬ ‫ال ٌثبت بمجرد االحتمال ‪ .‬فإثبات مثل هذا النسخ ٌستلزم أمرٌن ‪:‬‬ ‫أولهما ‪ :‬التحقق من تعارض النصٌن‪ ,‬بحٌث ال ٌمكن الجمع بٌنهما ‪ .‬مع أن الجمع ممكن بحمل أحادٌث‬ ‫التحرٌم على قصد مضاهاة خلق هللا ‪ ,‬أو بقصرها على المجسم ( أي ما له ظل )‪.‬‬ ‫وثانٌهما ‪ :‬معرفة المتؤخر من النصٌن ‪ .‬وال دلٌل على أن التحرٌم هو المتؤخر ‪ ,‬بل الذي رآه اإلمام‬ ‫الطحاوي فً « مشكل اآلثار » هو العكس ‪ ,‬فقد شدد اإلسبلم فً شؤن الصور فً أول األمر ‪ ,‬لقرب‬ ‫عهده بالوثنٌة ‪ ,‬ثم رخص فً المسطحات من الصور ‪ .‬أي ما كان رقما ً فً ثوب ‪ ,‬ونحوه ‪.‬‬ ‫وقد روى هذا الحدٌث عن عابشة بصٌؽة أخرى ‪ ,‬تدل على شدة الكراهٌة من النبً صلى هللا علٌه وسلم‬ ‫‪.‬‬ ‫فعن عابشة ‪ :‬أنها اشترت تمرقة ( وسادة صؽٌرة ) فٌها تصاوٌر ‪ ,‬فلما رآها رسول هللا صلى هللا علٌه‬ ‫وسلم ‪ ,‬قام على الباب ‪ ,‬فلم ٌدخل ‪ ,‬فعرفت فً وجهه الكراهٌة ‪ ,‬قالت ‪ :‬فقلت ‪ٌ :‬ا رسول هللا ‪ ,‬أتوب‬ ‫رسول ‪ ,‬ما أذنبت ؟ فقال ‪ « :‬ما بال هذه النمرقة » قلت ‪ :‬اشترٌتها لك لتقعد علٌها‬ ‫ه‬ ‫إلى هللا ‪ ,‬وإلى‬


‫وتوسدها ‪ .‬فقال رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ‪ « :‬إن أصحاب هذه الصور ٌعذبون ٌوم القٌامة ‪ ,‬وٌقال‬ ‫لهم ‪ :‬أحٌوا ما خلقتم » ‪.‬‬ ‫وقال ‪ « :‬إن البٌت الذي فٌه الصورة ال تدخله المبلبكة » ( متفق علٌه ) ‪.‬‬

‫نظرات في فقه األحاديث ‪:‬‬ ‫فً هذا الجو الذي كان ٌحٌط بفن التصوٌر والصور فً عصر النبوة ‪ ,‬ورد معظم األحادٌث المحرمة ‪.‬‬ ‫وال ؼرو أن شددت األحادٌث النبوٌة فً هذا األمر ‪ ,‬وان كان تشدٌدها فً صنعة التصوٌر أكثر من‬ ‫تشدٌدها فً اقتناء الصورة ‪ ,‬فبعض ما ٌحرم تصوٌره ٌجوز اقتناإه فٌما ٌمتهن مثل البسط والوسابد‬ ‫رأٌن فً حدٌث عابشة ‪.‬‬ ‫ونحوها مما ٌبتذل باالستعمال ‪ ,‬كما ا‬ ‫ً‬ ‫ومن أشد ما روى فً منع التصوٌر ‪ :‬ما جاء فً الصحٌحٌن عن ابن عباس مرفوعا ‪ « :‬كل مصور فً‬ ‫النار ‪ٌ ,‬جعل له بكل صورة صورها نفسا ‪ ,‬فٌعذبه فً جهنم » ‪.‬‬ ‫وفى رواٌة للبخاري عن سعٌد بن أبى الحسن قال ‪ :‬كنت عند ابن عباس ‪ ,‬إذ جاءه رجل ‪ ,‬فقال ‪ٌ :‬ا بن‬ ‫عباس ‪ ,‬إنً رجل إنما معٌشتً من صنعة ٌدي ‪ ,‬وإنً أصنع هذه التصاوٌر ‪ .‬فقال ابن عباس ‪ :‬ال‬ ‫أحدثك إال ما سمعت من رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ‪ .‬سمعته ٌقول ‪ « :‬من صور صورة فإن هللا‬ ‫خ ؼٌظا‬ ‫معذبه حتى ٌنفخ فٌها الروح ‪ ,‬ولٌس بنافخ فٌها أبداً » ‪ .‬فربا الرجل ربوة شدٌدة ( أي انتؾ‬ ‫وضٌقا ً ) فقال ‪ « :‬وٌحك ؛ إن أبٌت إال أن تصنع ‪ ,‬فعلٌك بهذا الشجر ‪ ,‬وكل شا لٌس فٌه روح » ‪.‬‬ ‫وروى مسلم من حٌان بن حصٌن قال ‪ « :‬قال لً علً بن أبى طالب رضً هللا عنه ‪ :‬أال أبعثك على ما‬ ‫بعثنً علٌه رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ؟ أال تدع صورة إال طمستها ‪ ,‬وال قبراً مشرفا إال سوٌته »‬ ‫‪.‬‬ ‫وروى مسلم عن عابشة أنها قالت ‪ :‬واعد رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم جبرٌل علٌه السبلم‪ ,‬فً ساعة‬ ‫ٌؤتٌه فٌها ‪ ,‬فجاءت تلك الساعة ‪ ,‬ولم ٌؤته ‪ ,‬وفً ٌده عصا ً ‪ ,‬فؤلقاها من ٌده ‪ ,‬وقال ‪ « :‬ما ٌخلؾ هللا‬ ‫وعده وال رسله » ! ثم التفت ‪ ,‬فإذا جرو كلب تحت سرٌره ‪ ,‬فقال ‪ٌ « :‬ا عابشة ‪ ,‬متى دخل هذا الكلب‬ ‫ههنا ؟ » فقالت ‪ :‬وهللا ما درٌت ! فؤمر به ‪ ,‬فؤخرج ‪ ,‬فجاء جبرٌل ‪ ,‬فقال رسول هللا صلى هللا علٌه‬ ‫وسلم ‪ « :‬واعدتنً ‪ ,‬فجلست لك ‪ ,‬فلم تؤت » ! فقال ‪ :‬منعنً الكلب الذي كان فً بٌتك ‪ .‬إنا ال ندخل بٌتا‬ ‫فٌه كلب وال صورة » ‪.‬‬ ‫وبهذا نرى أن عدد األحادٌث التً وردت فً شؤن التصوٌر والصور ‪ ,‬لٌس قلٌبل ‪ ,‬كما زعم بعض من‬ ‫كتب فً ذلك ‪ ,‬فقد رواها جمع من الصحابة منهم ‪ :‬ابن مسعود ‪ ,‬وابن عمر ‪ ,‬وابن عباس ‪ ,‬وعابشة ‪,‬‬ ‫وعلً ‪ ,‬وأبو هرٌرة ‪ ,‬وأبو طلحة ‪ .‬وكلها فً الصحاح ‪.‬‬ ‫قهاء فً قضٌة التصوٌر فً ضوء هذه األحادٌث ‪ ,‬وكان من أشدهم فً ذلك اإلمام‬ ‫وقد اختلفت آراء الؾ‬ ‫النووي الذي حرم تصوٌر كل ما فٌه روح من إنسان أو حٌوان ‪ ,‬مجسما ( له ظل ) أو ؼٌر مجسم ‪,‬‬ ‫ممتهنا أو ؼٌر ممتهن ‪ ,‬ولكنه أجاز استعمال ما ٌمتهن ‪ ,‬وان كان تصوٌره حراما ‪ ,‬كالمصور فً البسط‬ ‫والوسائ ونحوها ‪.‬‬ ‫د‬ ‫ولكن بعض فقهاء السلؾ قصر التحرٌم على المجسم ( الذي له ظل ) وهو ما نطلق علٌه عرفا ً (‬ ‫التماثٌل ) فهً أوؼل فً مشابهة الوثنٌة ‪ ,‬وهً التً ٌظهر فٌها مضاهاة خلق هللا ‪ ,‬ألن خلق هللا‬ ‫وتصوٌره مجسم ‪ ( :‬هو الذي ٌصوركم فً األرحام كٌؾ ٌشاء ) ‪.‬‬ ‫وفً الحدٌث القدسً ‪ « :‬ومن أظلم ممن ذهب ٌخلق كخلقً » ‪ ,‬وخلق هللا تعالى مجسم ‪ ,‬وهو الذي‬ ‫ٌمكن قبول نفخ الروح فٌه ‪ ,‬إذ المسطح لٌس قاببل لذلك ‪ ,‬وألنها ادخل فً الترؾ والسرؾ ‪ ,‬وال سٌما‬


‫ما كان من المعادن الثمٌنة ‪.‬‬ ‫وهذا مذهب بعض السلؾ ‪..‬‬ ‫وقد قال النووي إن هذا مذهب باطل ‪ ,‬فتعقبه الحافظ ابن حجر بؤنه مذهب القاسم بن محمد ‪ ,‬ولعله أخذ‬ ‫بعموم قوله صلى هللا علٌه وسلم ‪ « :‬إال رقما ً فً ثوب » وسنذكر نص هذا الحدٌث‪.‬‬ ‫والقاسم بن محمد بن أبى بكر ‪ ,‬أحد الفقهاء السبعة بالمدٌنة ‪ ,‬ومن أفضل أهل زمانه ‪ ,‬وابن أخً عابشة‬ ‫‪ ,‬وراوي حدٌث النمرقة عنها ‪ .‬ويحتج له بالحدٌث التالً ‪..‬‬ ‫ففً الصحٌح عن بسر بن سعٌد عن زٌد بن خالد الجهنى عن أبى طلحة صاحب رسول هللا صلى هللا‬ ‫علٌه وسلم أنه قال ‪ :‬إن رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم قال ‪ « :‬إن المبلبكة ال تدخل بٌتا فٌه صورة ‪.‬‬ ‫باب ستر فٌه صورة ‪ ,‬قال ‪ :‬فقلت لعبٌد هللا الخوالنى‬ ‫قال بسر ‪ :‬ثم اشتكى زٌد بعد ‪ ,‬فعدناه ‪ ,‬فإذا على ه‬ ‫ربٌب مٌمونة زوج النبً صلى هللا علٌه وسلم ‪ :‬ألم ٌخبرنا زٌد عن الصور ٌوم األول ؟ فقال ‪ :‬ألم‬ ‫تسمعه حٌن قال ‪ « :‬إال رقما فً ثوب »‬ ‫وأكد ذلك ما رواه الترمذي أن سهل بن حنٌؾ رافق أبا طلحة على هذا االستثناء ‪ « :‬إال رقما فً ثوب‬ ‫»‪.‬‬ ‫وتؤوٌل هذا بؤن المراد به ‪ :‬ما كان لؽٌر ذي روح ‪ٌ ,‬عارضه حدٌث تمثال الطابر الذي كان فً بٌت‬ ‫عابشة ‪ ,‬وقول النبً لها ‪ « :‬حولً هذا ‪ ,‬فإنً كلما رأٌته ذكرت الدنٌا » أو ‪ « :‬فإن تصاوٌره تعرض‬ ‫لً فً صبلتً » ‪.‬‬ ‫فاألرجح قصر التحرٌم على المجسم ‪ ,‬وأما صور اللوحات المسطحة على الورق ‪ ,‬أو الجدران ‪ ,‬أو‬ ‫الخشب ونحوها ‪ ,‬فؤقصى ما فٌها الكراهة التنزٌهٌة ‪ ,‬كما ذكر اإلمام الخطابً ‪ ,‬إال ما كان فٌه ؼلو‬ ‫وإسراؾ ‪ ,‬كالصور التً تباع بالمبلٌ​ٌن ونحوها‪.‬‬ ‫وٌستثنى من المجسم المحرم ‪ :‬لعب األطفال ‪ ,‬من الدمى والعرابس والقطط والكبلب والقرود ونحوها ‪,‬‬ ‫مما ٌتلهى به األطفال ‪ ,‬ألن مثله ال ٌظهر فٌه قصد التعظٌم ‪ ,‬واألطفال ٌعبثون بها ‪.‬‬ ‫ودلٌل ذلك حدٌث عابشة أنها كانت تلعب بالبنات ( العرابس ) وأن صواحب لها كن ٌجبن إلٌها فٌلعب‬ ‫معها ‪ .‬وكان الرسول الكرٌم ٌسر لمجٌبهن إلٌها ‪.‬‬ ‫ومثل ذلك ‪ :‬التماثٌل والعرابس التً تصنع من الحلوى وتباع فً بعض المناسبات ‪ ,‬ثم ال تلبث أن تإكل‬ ‫‪.‬‬ ‫كما ٌستثنى من الحظر ‪ :‬التماثٌل التً تشوه بقطع رأسها ‪ ,‬أو نحو ذلك منها ‪ ,‬كما جاء فً الحدٌث أن‬ ‫جبرٌل قال للرسول صلى هللا علٌه وسلم ‪ « :‬مر برأس التمثال فلٌقطع حتى ٌصٌر كهٌبة الشجرة » ‪.‬‬ ‫وأما التماثٌل النصفٌة التً تنصب فً المٌادٌن ونحوها للملوك والزعماء ‪ ,‬فبل ٌخرجها من دابرة الحظر‬ ‫‪ ,‬ألنها ال تزال تعظم ‪.‬‬ ‫ونهج اإلسبلم فً تخلٌد العظماء واألبطال ٌخالؾ نهج الؽربٌ​ٌن ‪ ,‬فهو ٌخلدهم بالذكر الحسن ‪ ,‬والسٌرة‬ ‫الطٌبة ‪ٌ ,‬تناقلها الخلؾ عن السلؾ ‪,‬‬ ‫وٌتمثلونها ‪ ,‬وٌؤتسون بها ‪ ,‬وبهذا خد األنبٌاء والصحابة واألبمة واألبطال والربانٌون ‪ ,‬فؤحبتهم القلوب‬ ‫‪ ,‬ودعت لهم األلسنة ‪ ,‬وان لم ترسم لهم صورة ‪ ,‬وال نصب لهم تمثال ‪.‬‬ ‫وكم من تماثٌل قابمة ال ٌعرؾ الناس شٌبا عن أصحابها ‪ ,‬كتمثال « الظوؼلً » فً قلب القاهرة ‪ ,‬وكم‬ ‫من تما ثٌل ٌمر الناس علٌها فٌلعنون أصحابها ‪.‬‬

‫الصور الفوتوغرافية ‪:‬‬


‫ومما ال خفاء فٌه أن كل م ا ورد فً التصوٌر والصور ‪ ,‬إنما ٌعنى الصور التً تنحت أو ترسم على‬ ‫حسب ما ذكرنا ‪.‬‬ ‫أما الصور الشمسٌة ‪ -‬التً تإخذ بآلة الفوتوؼرافٌا ‪ -‬فهً شا مستحدث لم ٌكن فً عصر الرسول ‪ ,‬وال‬ ‫سلؾ المسلمٌن ‪ ,‬فهل ٌنطبق علٌه ما ورد فً التصوٌر والمصورٌن ؟‬ ‫أما الذٌن ٌقصرون التحرٌم على التماثٌل ( المجسمة ) فبل ٌرون شٌبا ً فً هذه الصور ‪ ,‬وخصوصا ً إذا‬ ‫لم تكن كاملة ‪.‬‬ ‫وأما على رأي اآلخرٌن فهل تقاس هذه الصور الشمسٌة على تلك التً تبدعها رٌشة الرسام ؟ أم أن‬ ‫العلة التً نصت علٌها بعض األحادٌث فً عذاب المصورٌن ‪ -‬وهى أنهم ٌضاهون خلق هللا ‪ -‬ال تتحقق‬ ‫هنا فً الصورة الفوتوؼرافٌة ؟ وحٌث عدمت العلة عدم المعلول كما ٌقول األصولٌون ؟‬ ‫إن الواضح هنا ما أفتى به المؽفور له الشٌخ محمد بخٌت مفتى مصر ‪ « :‬أن أخذ الصورة‬ ‫بالفوتوؼرافٌا ‪ -‬الذي هو عبارة عن حبس الظل بالوسابط المعلومة ألرباب هذه الصناعة ‪ -‬لٌس من‬ ‫التصوير المنهً عنه فً شا ‪ ,‬ألن التصوٌر المنهً عنه هو إٌجاد صورة وصنع صورة لم تكن‬ ‫موجودة وال مصنوعة من قبل ‪ٌ ,‬ضاهى بها حٌوانا خلقه هللا تعالى ‪ ,‬ولٌس هذا المعنى موجوداً فً أخذ‬ ‫الصورة بتلك اآللة » ‪ٌ ( .‬إكد هذا تسمٌة أهل الخلٌج الصورة ( عكسا ) والمصور ( عكاسا ً ) ) ‪.‬‬ ‫هذا ‪ . .‬ومن المقرر أن لموضوع الصورة أثراً فً الحكم بالحرمة أو ؼٌرها ‪ .‬وال ٌخالؾ مسلم فً‬ ‫تحرٌم الصورة إذا كان موضوعها مخالؾ لعقابد اإلسبلم ‪ ,‬أو شرابعه وآدابه ‪ ,‬فتصوٌر النساء عارٌات‬ ‫‪ ,‬أو شبه عارٌات ‪ ,‬وإبراز مواضع األنوثة والفتنة منهن ‪ ,‬ورسمهن أو تصوٌرهن فً أوضاع مثٌرة‬ ‫للشهوات ‪ ,‬موقظة للؽرابز الدنٌا ‪ ,‬كما نرى ذلك واضحا فً بعض المجبلت والصحؾ ‪ ,‬ودور «‬ ‫السٌنما » كل ذلك مما ال شك فً حرمته وحرمة تصوٌره ‪ ,‬وحرمة نشره على الناس ‪ ,‬وحرمة اقتنابه‬ ‫واتخاذه فً البٌوت أو المكاتب والمجبلت ‪ ,‬وتعلٌقه على الجدران ‪ ,‬وحرمة القصد إلى رإٌته ومشاهدته‬ ‫‪.‬‬ ‫ومثل هذا صور الكفار والظلمة والفساق ‪ ,‬الذٌن ٌجب على المسلم أن ٌعادٌهم هلل وٌبؽضهم فً هللا ‪ ,‬فبل‬ ‫ٌحل لمسلم أن ‪ٌ ,‬صور أن ٌقتنً صورة لزعٌم ملحد ٌنكر وجود هللا ‪ ,‬أو وثنً ٌشرك مع هللا البقر أو‬ ‫النار ‪ ,‬أو ؼٌرها ‪ ,‬أو ٌهودي أو نصرانً ٌجحد نبوة محمد صلى هللا علٌه وسلم ‪ ,‬أو مدع لئلسبلم وهو‬ ‫ٌحكم بؽٌر ما أنزل هللا ‪ ,‬أو ٌشٌع الفاحشة والفساد فً المجتمع ‪ .‬ومثل هذا ‪ ,‬الصور التً تعبر عن‬ ‫الوثنٌة أو شعابر بعض األدٌان التً ال ٌرضاها‬ ‫اإلسبلم كاألصنام وما شابهها ‪.‬‬

‫خالصة ألحكام الصور والمصورين ‪:‬‬ ‫ونستطٌع أن نجمل أحكام الصور والمصورٌن فً الخبلصة التالٌة ‪:‬‬ ‫( أ ) أشد أنواع الصور فً الحرمة واإلثم صور ما ٌعبد من دون هللا ‪ ,‬فهذه تإدى بمصورها إلى الكفر‬ ‫إن كان عارفا بذلك قاصداً له ‪.‬‬ ‫والمجسم فً هذه الصور أشد إثما ونكراً ‪ .‬وكل من روج هذه الصور أو عظمها بوجه من الوجوه داخل‬ ‫فً هذا اإلثم بقدر مشاركته ‪.‬‬


‫( ب ) وٌلٌه فً اإلثم من صور ما ال ٌعبد ‪ ,‬ولكنه قصد مضاهاة خلق هللا ‪ ,‬أي ادعى أنه ٌبدع وٌخلق‬ ‫كما ٌخلق هللا ‪ ,‬فهو بهذا ٌقارب الكفر ‪ .‬وهذا أمر ٌتعلق بنٌة المصور وحده ‪.‬‬ ‫( جـ ) ودون ذلك الصور المجسمة لما ال ٌعبد ‪ ,‬ولكنها مما ٌعظم كصور الملوك والقادة والزعماء‬ ‫وؼٌرهم عن ٌزعمون تخلٌدهم بإقامة التماثٌل لهم ‪ ,‬ونصبها فً المٌادٌن ونحوها ‪ .‬وٌستوي فً ذلك أن‬ ‫ٌكون التمثال كامبل أو نصفٌا ً ‪.‬‬ ‫( د ) ودونها الصور المجسمة لكل ذي روح مما ال ٌقدس وال ٌعظم ‪ ,‬فإنه متفق على حرمته‪ٌ ,‬ستثنى‬ ‫من ذلك ما ٌمتهن ‪ ,‬كلعب األطفال ‪ ,‬ومثلها ما ٌإكل من تماثٌل الحلوى ‪.‬‬ ‫( هـ ) وبعدها الصور ؼٌر المجسمة ‪ -‬اللوحات الفنٌة ‪ -‬التً ٌعظم أصحابها ‪ ,‬كصور الحكام والزعماء‬ ‫وؼٌرهم ‪ ,‬وخاصة إذا نصبت وعلقت ‪ .‬وتتؤكد الحرمة إذا كان هإالء من الظلمة والفسقة والملحدٌن ‪,‬‬ ‫فإن تعظٌمهم هدم لئلسبلم ‪.‬‬ ‫( و ) ودون ذلك أن تكون الصورة ؼٌر المجسمة لذي روح ال ٌعظم ‪ ,‬ولكن تعد م ن مظاهر الترؾ ‪,‬‬ ‫والتنعم كؤن تستر بها الجدر ونحوها ‪ ,‬فهذا من المكروهات فحسب ‪.‬‬ ‫( ز ) أما صور ؼٌر ذي الروح من الشجر والنخٌل والبحار والسفن والجبال والنجوم والسحب ونحوها‬ ‫من المناظر الطبٌعٌة ‪ ,‬فبل جناح على من صورها أو اقتناها ‪ ,‬ما لم تشؽل عن طاعة أو تإد إلى ترؾ‬ ‫فتكره ‪.‬‬ ‫( ح ) وأما الصور الشمسٌة ( الفوتوؼرافٌة ) فاألصل فٌها اإلباحة ‪ ,‬ما لم ٌشتمل موضوع الصورة‬ ‫على محرم ‪ ,‬كتقدٌس صاحبها تقدٌسا دٌنٌا ‪ ,‬أو تعظٌمه تعظٌما دنٌوٌا ‪ ,‬وخاصة إذا كان المعظم من‬ ‫أهل الكفر أو الفساق كالوثنٌ​ٌن والشٌوعٌ​ٌن والفنانٌن المنحرفٌن ‪.‬‬ ‫( ط ) وأخٌرا ‪ . .‬إن التماثٌل والصور الحرمة أو المكروهة إذا شوهت أو امتهنت ‪ ,‬انتقلت من دابرة‬ ‫الحرمة والكراهة إلى دابرة الحل ‪ ,‬كصور البسط التً تدوسها األقدام والنعال ونحوها ‪.‬‬

‫تأويالت ‪:‬‬ ‫ومن المعلوم أن هناك بعض العلماء حاولوا أن ٌإولوا األحادٌث الصحاح الواردة فً تحرٌم التصوٌر‬ ‫واقتناء الصور لٌقولوا بإباحة الصور كلها حتى المجسمة منها ‪.‬‬ ‫مثل ما حكاه أبو علً الفارسً فً تفسٌره عمن حمل كلمة « المصورٌن » فً الحدٌث على من جعل‬ ‫هلل صورة ‪ٌ ,‬عنى ‪ :‬المجسمة والمشبهة الذي شبهوا هللا تعالى بخلقه ‪ ,‬واعتبروه جسما ً وصورة ‪ ,‬وهو‬ ‫تعالى لٌس كمثله شا ‪.‬‬ ‫ذكر هذا أبو علً الفارسً فً كتابه « الحجة » وهو تكلؾ واعتساؾ ال تساعده األلفاظ الثابتة فً‬ ‫األحادٌث ‪.‬‬ ‫ومثل من استند إلى ما أبٌح لسلٌمان علٌه السبلم ‪ ,‬وذكره القرآن فً سور« سبؤ » ‪ٌ ( :‬عملون له ما‬ ‫ٌشاء من محارٌب وتماثل ) ولم ٌقولوا بنسخه فً شرٌعتنا ‪ .‬وهذا الرأي ذكره أبو جعفر النحاس ‪,‬‬


‫وحكاه بعده مكً فً تفسٌره « الهداٌة إلى بلوغ النهاٌة » ‪.‬‬ ‫ومثل من حمل المنع على مجرد الكراهة ‪ ,‬وأن هذا التشدٌد كان فً ذلك الزمان لقرب عهد الناس بعبادة‬ ‫األوثان ‪ ,‬وقد تؽٌر الحال فً العصور التالٌة ‪ ( .‬هذا مع أن الوثنٌة ال زال ٌدٌن بها آالؾ المبلٌ​ٌن ) ‪.‬‬ ‫وهذا قاله بعضهم من قبل ‪ ,‬ورد علٌهم اإلمام ابن دقٌق العٌد ‪ ,‬بؤن هذا‬ ‫القول باطل قطعا ً ‪ ,‬ألن هذا مناؾ للعلة إلى ذكرها الشارع ‪ ,‬وهى أنهم ٌضاهون أو ٌشبهون بخلق هللا ‪.‬‬ ‫قال ‪ :‬وهذه علة عامة مستقٌمة مناسبة ‪ ,‬ال تخص زمانا دون زمان ‪ .‬ولٌس لنا أن نتصرؾ فً‬ ‫النصوص المتظاهرة المتضافرة بمعنى خٌالً ‪.‬‬ ‫والثابت الواضح أن هذه األقوال لم تقنع العقل المسلم ‪ ,‬وبالتالً لم تإثر فً المجرى العام للحضارة‬ ‫اإلسبلمٌة ‪ ,‬والحٌاة اإلسبلمٌة ‪ ,‬وان عمل بها بعض الناس فً بعض البلدان ‪ ,‬كما رأٌنا فً أسود قصر‬ ‫الحمراء بؽرناطة فً األندلس ‪ ,‬وبعض ما حكاه اإلمام القرافً فً كتابه « نفابس األصول فً شرح‬ ‫المحصول » عن شمعدان وضع للملك الكامل ‪ ,‬كلما مضى من اللٌل ساعة انفتح باب منه وخرج منه‬ ‫شخص فً خدمة الملك ‪ . . .‬الخ ‪ .‬وأن القرافً نفسه عمل شمعدانا ً زاد فٌه ‪ :‬أن الشمعة ٌتؽٌر لونها كل‬ ‫ساعة ‪ ,‬وفٌه أسد تتؽٌر عٌناه من السواد الشدٌد إلى البٌاض الشدٌد ‪ ,‬إلى الحمرة الشدٌدة ‪ ,‬وٌسقط‬ ‫حصانان من طابرٌن ‪ ,‬وٌدخل شخص ‪ ,‬وٌخرج شخص ؼٌره ‪ ,‬وٌؽلق باب وٌفتح باب ‪ ,‬فً كل ساعة‬ ‫لها لون ‪ .‬وإذا طلع الفجر طلع الشخص على الشمعدان ‪ ,‬وإصبعه فً أذنه ‪ٌ ,‬شٌر إلى األذان ‪ ,‬قال‬ ‫القرافً‪ :‬ؼٌر أنً عجزت عن صنعة الكبلم ) ‪.‬‬ ‫وقرٌب من ذلك ما حكاه ابن جبٌر فً رحلته عن وصؾ الساعة التً كانت بجامع دمشق ‪ ,‬وفٌها تمثال‬ ‫صقور ‪ . . .‬الخ ‪.‬‬

‫المزاج العام للحضارة اإلسالمية ‪:‬‬ ‫ولكن المإكد أن المزاج العام للحضارة اإلسبلمٌة لم ٌرحب بصور اإلنسان والحٌوان ‪ ,‬وخصوصا‬ ‫المجسمة منها ‪ ,‬وؼلب علٌه التجرٌد ‪ ,‬البلبق بعقٌدة التوحٌد ‪ ,‬ال التجسٌم البلبق بالوثنٌات على اختبلؾ‬ ‫درجاتها ‪.‬‬ ‫ومن هنا اتجه الفن « التشكٌلً » فً حضارتنا إلى أمور أخرى أبدع فٌها أٌما إبداع ‪ ,‬وترك فٌها آثارا‬ ‫رابعة الجمال ‪.‬‬ ‫تجلت فً الزخارؾ التً تفنن فٌها عقل الفنان المسلم وٌده ورٌشته ‪ ,‬وتجلى ذلك فً المساجد‬ ‫والمصاحؾ والقصور والمنازل وؼٌرها ‪ :‬على الجدران والسقوؾ ‪ ,‬واألبواب والنوافذ ‪ ,‬وعلى‬ ‫األرضٌات أحًانا ً ‪ ,‬وفً األدوات المنزلٌة ‪ ,‬وفً األثاث ‪ ,‬والتحؾ والبسط والثٌاب والسٌوؾ ‪.‬‬ ‫واستخدمت المواد المختلفة من الحجارة والرخام والخشب ‪ ,‬والخزؾ والجلد والزجاج ‪ ,‬والورق ‪,‬‬ ‫والحدٌد والنحاس ‪ ,‬والمعادن المتنوعة ‪.‬‬ ‫ودخل فً الزخرفة ‪ :‬الخط العربً بؤنواعه المختلفة من الثلث والنسخ والرقعة والفارسً والدٌوانً‬ ‫والكوفً وؼٌرها ‪ ,‬وافتن الخطاطون فً ذلك كل االفتنان ‪ ,‬وخلفوا لنا لوحات فً ؼاٌة الحسن واإلبداع‬ ‫‪.‬‬ ‫وأكثر ما تجلى الفنان « الخط والزخرفة » فً المصاحؾ والجوامع ‪ .‬أما الجوامع فبل زلنا نشها منها‬ ‫آٌات فً الجمال ‪ ,‬كما فً المسجد النبوي ‪ ,‬ومسجد قبة الصخرة ‪ ,‬والجامع األموي بدمشق ‪ ,‬وجامع‬ ‫السلطان أحمد والسلٌمانٌة باستانبول ‪ ,‬وجامع السلطان حسن وجامع محمد علً بالقاهرة ‪ ,‬وؼٌرها‬ ‫وؼٌرها فً أنحاء العالم اإلسبلمً ‪.‬‬


‫وأبرز ما تجلى فٌه الفن اإلسبلمً إنما كان فً العمارة ‪ ,‬وقد قال مإرخو الحضارة ‪ :‬إن فن البناء‬ ‫أحسن معبر عن الفن اإلسبلمً ‪ ,‬وقد ظهر ذلك فً روابع كثٌرة فً أقطار عدة ‪ ,‬لعل أبرزها فً الهند‬ ‫‪ :‬إحدى عجابب الدنٌا المتمثلة فً تلك الرابعة الهندسٌة الجمالٌة ‪ « :‬تاج محل » ‪.‬‬ ‫وهكذا كان منع التصوٌر والنحت سببا لفتح أبواب أخرى فً عالم الفنون ‪ ,‬جعلت للعالم اإلسبلمً تمٌزه‬ ‫الخاص ‪ ,‬ومثالٌته المتفردة ‪.‬‬

‫فن الفكاهة والمرح‬ ‫( الكوميديا )‬ ‫الحٌاة رحلة شاقة ‪ ,‬حافلة بالمتاعب واآلالم ‪ ,‬وال ٌسلم امرإ فٌها من تجرع لون أو ألوان من ؼصصها‬ ‫‪ ,‬ومكابدة آالمها ‪ ,‬وان ولد وفً فمه ملعقة من ذهب ‪ ,‬كما ٌقولون ‪.‬‬ ‫وقد أشار القرآن إلى ذلك حٌن قال ‪ ( :‬لقد خلقنا اإلنسان فً كبد ) ‪ .‬وأهل اإلٌمان أكثر تعرضا لببلء‬ ‫الدنٌا من ؼٌرهم ‪ ,‬نظراً لخطورة مطلبهم ‪ ,‬من ناحٌة ‪ ,‬وكثرة من ٌعارضهم وٌقطع علٌهم طرٌقهم من‬ ‫ناحٌة أخرى ‪.‬‬ ‫حتى ورد فً بعض اآلثار ‪ « :‬المإمن بٌن خمس شدابد ‪ :‬مسلم ٌحسده ‪ ,‬ومنافق ٌبؽضه ‪ ,‬وكافر ٌقاتله‬ ‫‪ ,‬وشٌطان ٌضله ‪ ,‬ونفس تنازعه » ‪.‬‬ ‫وثبت فً الحدٌث أن أشد الناس ببلء ‪ :‬األنبٌاء ثم األمثل فاألمثل ‪ .‬لهذا كان الناس ‪ -‬كل الناس ‪ -‬فً‬ ‫حاجة إلى واحات فً طرٌقهم تخفؾ عنهم بعض عناء رحلة الحٌاة ‪ ,‬وكان ال بد لهم من أشٌاء ٌروحون‬ ‫بها أنفسهم ‪ ,‬حتى ٌضحكوا وٌفرحوا وٌمرحوا ‪ ,‬وال ٌؽلب علٌهم الؽم والحزن والنكد ‪ ,‬فٌنؽص علٌهم‬ ‫عٌشهم ‪ ,‬وٌكدر علًهم صفوهم ‪.‬‬ ‫وكان من تلك األدوات ‪ :‬الؽناء ‪ ,‬وقد تحدثنا عنه ‪ .‬ومنها ‪ :‬الفكاهة والمرح ‪ ,‬وكل ما ٌستخرج الضحك‬ ‫من اإلنسان ‪ ,‬وٌطارد الحزن من قلبه ‪ ,‬والعبوس من وجهه ‪ ,‬والكآبة من حٌاته ‪ .‬فهل ٌرحب الدٌن بهذا‬ ‫الفن « الكومٌدي » أو ٌضٌق به ؟ هل ٌحله أو ٌحرمه ؟‬ ‫الفكاهة والمرح في واقع المسلمين ‪:‬‬ ‫ولقد رأٌت الناس ‪ -‬بفطرتهم ‪ -‬وعلى قدر ما سمحت به إمكاناتهم ‪ ,‬وفً ضوء ما عرفوه من سماحة‬ ‫دٌنهم ‪ -‬قد ابتكروا ألوانا ً من الوسابل واألدوات التً تقوم بوظٌفة التروٌح واإلضحاك لهم ‪.‬‬ ‫من ذلك ‪ « :‬النكت » التً برع فٌها المصرٌون ‪ ,‬واشتهروا به ا بٌن الشعوب ‪ ,‬وهً أنواع مختلفة ‪,‬‬ ‫ولها مهمات متعددة ‪ ,‬ومنها ‪ « :‬النكت السٌاسٌة » التً تهزأ بالحكام وأعوانهم ‪ ,‬وخصوصا فً أوقات‬ ‫التسلط واالستبداد السٌاسً ‪.‬‬ ‫وال ٌكاد ٌجلس الناس بعضهم إلى بعض إال حكوا من هذه النكت ما ٌضحكهم وٌسري عنهم بعض ما‬ ‫ٌعانون ‪ .‬أحٌانا يسندونها إلى أسماء معروفة ‪ ,‬مثل جحا ‪ ,‬أو أبى نواس ‪ ,‬أو ؼٌرهما‪ ,‬وأحٌانا ال‬ ‫ٌنسبونها إلى معٌن ‪.‬‬ ‫وهناك أناس ال ٌقتصرون على حكاٌة النكت عن ؼٌرهم ‪ ,‬بل هم ٌنشبون نكت على البدٌهة ‪ ,‬وهذا شؤن‬ ‫الشخصٌات الفكهة ‪ ,‬مثل « أشعب » قدٌما ‪ ,‬ومثل الشٌخ « عبد العزٌز البشري » حدٌثا فً مصر ‪.‬‬ ‫وكانت فً مصر بعض المجبلت المتخصصة فً هذا اللون ‪ ,‬أشهرها مجلة « البعكوكة » ‪ .‬وٌلحق‬


‫بذلك فن « القفشات » وما ٌسمٌه المصرٌون « الدخول فً قافٌة » وهو لون من استخدام المجاز‬ ‫والتورٌة حول موضوع واحد ‪ٌ ,‬تطارح فٌه الطرفان ‪.‬‬ ‫ومن ذلك ‪ :‬ألوان من األلعاب التً تدعو إلى الضحك والمرح ‪ ,‬مثل لعبة « األراجوز » ‪ .‬ومثله «‬ ‫خٌال الظل » الذي كان ٌعتبر نوعا ً من التمثٌل الشعبً الفكاهً ‪ .‬ومن ذلك ‪ :‬األلؽاز واألحاجً ‪ ,‬أو ما‬ ‫ٌسمى فً لؽة العامة « الفوازٌر » ‪ .‬ومن ذلك ‪ :‬القصص الفكاهٌة ‪ ,‬أو ما ٌسمٌه العوام « الحوادٌت »‬ ‫المسلٌة والمرفهة ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ومن ذلك ‪ « :‬األمثال الشعبٌة » التً كثٌرا ما تتضمن أفكارا أو تعبٌرات تبعث علً الضحك والمرح ‪,‬‬ ‫إلى ؼٌر ذلك من األلوان ‪ ,‬التً تخترعها الشعوب بوساطة فنانٌن معروفٌن أو مجهولٌن ؼالبا ً ‪ ,‬مبلبمة‬ ‫لكل بٌبة وما ٌسودها من قٌم ومفاهٌم ‪ ,‬وما تمر به من ظروؾ وأحوال ‪.‬‬ ‫وكل عصر ٌضٌؾ أشٌاء جدٌدة ‪ ,‬وٌطور األشٌاء القدٌمة ‪ ,‬وقد ٌستؽنً عن بعضها ‪.‬‬ ‫كما نرى فً عصرنا فن « الكارٌكاتٌر » الذي حول النكتة من مجرد كلمة تقال ‪ ,‬إلى صورة معبرة ‪,‬‬ ‫مصحوبة ببعض الكبلم ‪ ,‬أو ؼٌر مصحوبة ‪.‬‬ ‫كاهة ‪ ,‬نظراً لما ٌبدو على بعض المتدٌنٌن من‬ ‫وقد سبلت عن موقؾ الدٌن من الضحك والمرح والؾ‬ ‫العبوس والتجهم ‪ ,‬فٌكادون ال ٌضحكون ‪ ,‬وال ٌمزحون ‪ ,‬حتى حسب بعض الناس أن هذه هً طبٌعة‬ ‫الدٌن والتدٌن ‪.‬‬ ‫وكان جوابً ‪ :‬أن الضحك من خصابص اإلنسان ‪ ,‬فالحٌوانات ال تضحك ؛ ألن الضحك ٌؤتً بعد نوع‬ ‫من الفهم والمعرفة لقول ٌسمعه ‪ ,‬أو موقؾ ٌراه» ‪ ,‬فٌضحك منه ‪.‬‬ ‫ولهذا قٌل ‪ :‬اإلنسان حٌوان ضاحك ‪ ,‬وٌصدق القول هنا ‪ :‬أنا أضحك ‪ ,‬إذن أنا إنسان ‪.‬‬ ‫واإلسبلم ‪ -‬بوصفه دٌن الفطرة ‪ -‬ال ٌتصور منه أو ٌصادر نزوع اإلنسان الفطري إلى الضحك‬ ‫واالنبساط ‪ ,‬بل هو على العكس ٌرحب بكل ما ٌجعل الحٌاة باسمة طٌبة ‪ ,‬وٌحب للمسلم أن تكون‬ ‫شخصٌته متفابلة باشة ‪ ,‬وٌكره الشخصٌة المكتببة المتطٌرة ‪ ,‬التً ال تنظر إلى الحٌاة والناس إال من‬ ‫خبلل منظار قاتم أسود ‪.‬‬ ‫وأسوة المسلمٌن فً ذلك هو رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ‪ ,‬فقد كان ‪ -‬برؼم همومه الكثٌرة والمتنوعة‬ ‫ ٌمزح وال ٌقول إال حقا ‪ ,‬وٌحٌا مع أصحابه حٌاة فطرٌة عادٌة ‪ٌ ,‬شاركهم فً ضحكهم ولعبهم‬‫ومزاحهم ‪ ,‬كما ٌشاركهم آالمهم وأحزانهم ومصاببهم ‪.‬‬ ‫ٌقول زٌد بن ثابت ‪ ,‬وقد طلب إلٌه أن ٌحدثهم عن حال رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم فقال ‪ « :‬كنت‬ ‫جاره ‪ ,‬فكان إذا نزل علٌه الوحً بعث إلً فكتبته له ‪ ,‬فكان إذا ذكرنا الدنٌا ذكرها معنا ‪ ,‬وإذا ذكرنا‬ ‫اآلخرة ذكرها معنا ‪ ,‬وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا ‪ ,‬قال ‪ :‬فكل هذا أحدثكم عن رسول هللا صلى هللا‬ ‫علٌه وسلم » ‪.‬‬ ‫وقد وصفه أصحابه بؤنه كان من أفكه الناس ‪ .‬وقد رأٌناه فً بٌته ‪ -‬صلى هللا علٌه وسلم ‪ٌ -‬مازح‬ ‫زوجاته وٌداعبهن ‪ ,‬وٌستمع إلى أقاصٌصهن ‪ ,‬كما فً حدٌث أم زرع الشهٌر فً صحٌح البخاري ‪.‬‬ ‫وكما رأٌنا فً تسابقه مع عابشة رضً هللا عنها ‪ ,‬حٌث سبقته مرة ‪ ,‬وبعد مدة تسابقا فسبقها ‪ ,‬فقال لها ‪:‬‬ ‫هذه بتلك !‬ ‫وقد روى أنه وطؤ ظهره لسبطٌه الحسن والحسٌن ‪ ,‬فً طفولتهما لٌركبا ‪ ,‬وٌستمتعا دون تزمت وال‬ ‫تحرج ‪ ,‬وقد دخل علٌه أحد الصحابة ورأى هذا المشهد فقال ‪ :‬نعم المركب ركبتما‪ ,‬فقال علٌه الصبلة‬ ‫والسبلم ‪ « :‬ونعم الفارسان هما » !‬ ‫ورأٌناه ٌمزح مع تلك المرأة العجوز التً جاءت تقول له ‪ :‬ادع هللا أن ٌدخلنً الجنة ‪ ,‬فقال لها ‪ٌ « :‬ا أم‬ ‫فبلن ‪ ,‬إن الجنة ال ٌدخلها عجوز » ا فبكت المرأة ‪ ,‬حٌث أخذت الكبلم على ظاهره‪ ,‬فؤفهمها ‪ :‬أنها حٌن‬ ‫تدخل الجنة لن تدخلها عجوزا ‪ ,‬بل شابة حسناء ‪ ,‬وتبل علٌها قول هللا تعالى فً نساء الجنة ‪ ( :‬إنا‬ ‫أنشؤناهن إنشا ًء * فجعلناهن أبكاراً * عربا ً أترابا ً ) ‪.‬‬ ‫وجاء رجل ٌسؤله أن ٌحمله على بعٌر ‪ ,‬فقال له علٌه الصبلة والسبلم ‪ « :‬ال أحملك إال على ولد الناقة‬


‫» فقال ‪ٌ :‬ا رسول هللا ‪ ,‬وماذا أصنع بولد الناقة ؟! ‪ -‬انصرؾ ذهنه إلى الحوار الصؽٌر ‪ -‬فقال ‪« :‬‬ ‫وهل تلد اإلبل إال النوق » ؟ ‪.‬‬ ‫وقال زٌد بن أسلم ‪ :‬إن امرأة ٌقال لها أم أٌمن جاءت إلى النبً صلى هللا علٌه وسلم فقالت ‪ :‬إن زوجً‬ ‫ٌدعوك ‪ ,‬قال ‪ «‹ :‬ومن هو؟ أهو الذي بعٌنه بٌاض » ؟ قالت ‪ :‬وهللا ما بعٌنه بٌاض فقال ‪ « :‬بلى إن‬ ‫بعٌنه بٌاضا » فقالت ‪ :‬ال وهللا ‪ ,‬فقال صلى هللا علٌه وسلم ‪ « :‬ما من أحد إال بعٌنه بٌاض » ‪ ,‬وأراد به‬ ‫البٌاض المحٌط بالحدقة ‪.‬‬ ‫وقال أنس ‪ :‬كان ألبً طلحة ابن ٌقال له أبو عمٌر ‪ ,‬وكان رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ٌؤتٌهم وٌقول‬ ‫‪ٌ « :‬ا أبا عمٌر ما فعل النؽٌر » ؟ لنؽٌر كان ٌلعب به وهو فرخ العصفور ‪.‬‬ ‫وقالت عابشة رضى هللا عنها ‪ :‬كان عندي رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم وسودة بنت زمعة فصنعت‬ ‫حرٌرة ‪ -‬دقٌق يطبخ بلبن أو دسم ‪ -‬وجبت به ‪ ,‬فقلت لسودة ‪ :‬كلً ‪ ,‬فقالت ‪ :‬ال أحبه ‪ ,‬فقلت ‪ :‬وهللا‬ ‫لتؤكلن أو أللطخن به وجهك ‪ ,‬فقالت ‪ :‬ما أنا بذابقته ‪ ,‬فؤخذت بٌدي من الصحفة شٌبا منه فلطخت به‬ ‫وجهها ‪ ,‬ورسول هللا صلى هللا علٌه وسلم جالس بٌنً وبٌنها ‪ ,‬فخفض لها رسول هللا صلى هللا علٌه‬ ‫وسلم ركبتٌه لتستقٌد منً ‪ ,‬فتناولت من الصفحة شٌبا فمسحت به وجهً وجعل رسول هللا صلى هللا‬ ‫علٌه وسلم ٌضحك ‪.‬‬ ‫وروى أن الضحاك بن سفٌان الكبلبً كان رجبل دمٌما قبٌحا ‪ ,‬فلما باٌعه النبً صلى هللا علٌه وسلم قال‬ ‫‪ :‬إن عندي امرأتٌن أحسن من هذه الحمٌراء ‪ -‬وذلك قبل أن تنزل آٌة الحجاب ‪ -‬أفبل أنزل لك عن‬ ‫إحداهما فتتزوجها ! ‪ ,‬وعابشة جالسة تسمع ‪ ,‬فقالت ‪ :‬أهً أحسن أم أنت ؟ فقال ‪ :‬بل أنا أحسن منها‬ ‫وأكرم ‪ ,‬فضحك رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم من سإالها إٌاه ! ألنه كان دمٌما ً ‪.‬‬ ‫وكان صلى هللا علٌه وسلم ٌحب إشاعة السرور والبهجة فً حًاة الناس ‪ ,‬وخصوصا فً المناسبات مثل‬ ‫األعٌاد واألعراس ‪.‬‬ ‫ولما أنكر الصدٌق أبو بكر رضى هللا عنه ؼناء الجارٌتٌن ٌوم العٌد فً بٌته وانتهرهما ‪ ,‬قال له ‪« :‬‬ ‫دعهما ٌا أبا بكر ‪ ,‬فإنها أٌام عٌد » !‬ ‫وفى بعض الرواٌات ‪ « :‬حتى ٌعلم ٌهود أن فً دٌننا فسحة » ‪.‬‬ ‫وقد أذن للح بشة أن ٌلعبوا بحرابهم فً مسجده علٌه الصبلة والسبلم فً أحد أٌام األعٌاد ‪ ,‬وكان‬ ‫ٌحرضهم وٌقول ‪ « :‬دونكم ٌا بنى أرفدة » ! وأتاح لعابشة أن تنظر إلٌهم من خلفه ‪ ,‬وهم ٌلعبون‬ ‫وٌرقصون ‪ ,‬ولم ٌر فً ذلك بؤسا وال حرجا ‪.‬‬ ‫واستنكر ٌوما أن تزؾ فتاة إلى زوجها زفافا صامتا ‪ ,‬لم ٌصحبه لهو وال ؼناء‪ , ,‬وقال ‪ « :‬هبل كان‬ ‫معها لهو ؟ فإن األنصار ٌعجبهم اللهو ‪ ,‬أو الؽزل » ‪.‬‬ ‫وفى بعض الرواٌات ‪ « :‬هبل بعثتم معها من تؽنً وتقول ‪ :‬أتٌناكم أتٌناكم فحٌونا نحٌ​ٌكم »‬ ‫وكان أصحاب النبً صلى هللا علٌه وسلم ومن تبعهم بإحسان فً خٌر قرون األمة ٌضحكون وٌمزحون‬ ‫‪ ,‬اقتداء بنبٌهم صلى هللا علٌه وسلم ‪ ,‬واهتداء بهدٌه ‪ .‬حتى إن رجبل مثل عمر بن الخطاب ‪ -‬على ما‬ ‫عرؾ عنه من الصرامة والشدة ‪ٌ -‬روى عنه أنه مازح جارٌة له ‪ ,‬فقال لها ‪ :‬خلقنً خالق الكرام ‪,‬‬ ‫وخلقك خالق اللبام ! فلما رآها ابتؤست من هذا القول ‪ ,‬قال لها مبٌنا‪ :‬وهل خالق الكرام واللبام إال هللا عز‬ ‫وجل ؟ ؟‬ ‫وقد عرؾ بعضهم بذلك فً حٌاته صلى هللا علٌه وسلم ‪ ,‬وأقره علٌه ‪ ,‬واستمر على ذلك من بعده ‪,‬‬ ‫وقبله الصحابة ‪ ,‬ولم ٌعدوا فٌه ما ٌنكر ‪ ,‬برؼم أن بعض الوقابع المروٌة فً ذلك لو حدثت الٌوم‬ ‫ألنكرها معظم المتدٌنٌن أشد اإلنكار ‪ ,‬وعدوا فاعلها من الفاسقٌن أو المنحرفٌن!‬ ‫من هإالء المعروفٌن بروح المرح والفكاهة والمٌل إلى الضحك والمزاح ‪ :‬النعٌمان بن عمر األنصاري‬ ‫رضى هللا عنه ‪ ,‬الذي روٌت عنه فً ذلك نوادر عجٌبة وؼرٌبة ‪.‬‬ ‫وقد ذكروا أنه كان ممن شهد العقبة األخٌرة ‪ ,‬وشهد بدراً وأحداً ‪ ,‬والخندق ‪ ,‬والمشاهد كلها ‪.‬‬ ‫روى عنه الزبٌر بن بكار عدداً من النوادر الطرٌفة فً كتابه « الفكاهة والمرح » نذكر بعضا منها ‪. .‬‬


‫‪.‬‬ ‫قال ‪ :‬وكان ال ٌدخل المدٌنة لحرفة إال اشترى منها ‪ ,‬ثم جاء بها إلى النبً صلى هللا علٌه وسلم فٌقول ‪:‬‬ ‫هذا أهدٌته لك ‪ ,‬فإذا جاء صاحبها ٌطلب نعٌمان بثمنها ‪ ,‬أحضره إلى النبً صلى هللا علٌه وسلم ‪ ,‬قاببلً‬ ‫‪ :‬أعط هذا ثمن متاعه ‪ ,‬فٌقول ‪ « :‬أو لم تهده لً » ؟ فٌقول ‪ :‬إنه وهللا لم ٌكن عندي ثمنه ‪ ,‬ولقد أحببت‬ ‫أن تؤكله ! فٌضحك ‪ ,‬وٌؤمر لصاحبه بثمنه ‪.‬‬ ‫وأخرج الزبٌر قصة أخرى من طرٌق ربٌعة بن عثمان قال ‪ :‬دخل أعرابً على النبً صلى هللا علٌه‬ ‫وسلم ‪ ,‬وأناخ ناقته بفنابه ‪ ,‬فقال بعض الصحابة للنعٌمان األنصاري ‪ :‬لو عقرتها فؤكلناها ‪ ,‬فإنا قد قرمنا‬ ‫إلى اللحم ؟ ففعل ‪ ,‬فخرج األعرابً وصاح ‪ :‬واعقراه ٌا محمد ! فخرج النبً صلى هللا علٌه وسلم فقال‬ ‫‪ « :‬من فعل هذا » ؟ فقالوا ‪ :‬النعٌمان ‪ ,‬فؤتبعه ٌسؤل عنه حتى وجده قد دخل دار ضباعة بنت الزبٌر بن‬ ‫عبد المطلب ‪ ,‬واستخفى تحت سرب لها فوقه جرٌد ‪ ,‬فؤشار رجل إلى النبً صلى هللا علٌه وسلم حٌث‬ ‫هو فؤخرجه فقال له ‪ « :‬ما حملك على ما صنعت » ؟ قال ‪ :‬الذٌن دلوك علً ٌا رسول هللا هم الذٌن‬ ‫أمرونً بذلك قال ‪ :‬ؾجعل ٌمسح التراب عن وجهه وٌضحك ‪ ,‬ثم ؼرمها لؤلعرابً ‪.‬‬ ‫وقال الزبٌر أٌضا ‪ :‬حدثنً عمً عن جدي قال ‪ :‬كان مخرمة بن نوفل قد بلػ مابة وخمس عشرة سنة ‪,‬‬ ‫فقام فً المسجد ٌرٌد أن ٌبول ‪ ,‬فصاح به الناس ‪ ,‬المسجد المسجد ‪ ,‬فؤخذه نعٌمان بن عمرو بٌده ‪,‬‬ ‫وتنحى به ‪ ,‬ثم أجلسه فً ناحٌة أخرى من المسجد فقال له ‪ :‬بل هنا قال ‪ :‬فصاح به الناس فقال ‪ :‬وٌحكم‬ ‫‪ ,‬فمن أتى بً إلى هذا الموضع ؟! قالوا ‪ :‬نعٌمان ‪ ,‬قال ‪ :‬أما إن هلل على إن ظفرت به أن أضربه‬ ‫بعصاي هذه ضربة تبلػ منه ما بلؽت ! فبلػ ذلك نعٌمان ‪ ,‬فمكث ما شاء هللا ‪ ,‬ثم أتاه ٌوما ‪ ,‬وعثمان قابم‬ ‫ٌصلً فً ناحٌة المسجد ‪ ,‬فقال لمخرمة ‪ :‬هل لك فً نعٌمان ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ,‬قال ‪ :‬فؤخذه بٌده حتى أوقفه‬ ‫على عثمان ‪ ,‬وكان إذا صلى ال ٌلتفت فقال ‪ :‬دونك هذا نعٌمان ‪ ,‬فجمع ٌده بعصاه ‪ ,‬فضرب عثمان‬ ‫فشجه ‪ ,‬فصاحوا به ‪ :‬ضربت أمٌر المإمنٌن ! فذكر بقٌة القصة ) ‪.‬‬ ‫ومن الطرابؾ أن صحابٌا آخر من أهل الفكاهة والمزاح ‪ ,‬استطاع أن ٌوقع نعٌمان فً بعض ما أوقع‬ ‫فٌه ؼٌره من « المقالب » كما فً قصة سوٌبط بن حرملة معه ‪ ,‬وكان ممن شهد بدرا أٌضا ‪ ,‬قال ابن‬ ‫عبد البر فً « االستٌعاب » فً ترجمة سوٌبط رضى هللا عنه ‪ :‬وكان مزاحا ٌفرط فً الدعابة ‪ ,‬وله‬ ‫قصة ظرٌفة مع نعٌمان وأبى بكر الصدٌق رضى هللا عنهم ‪ ,‬نذكرها لما فٌها من الظرؾ ‪ ,‬وحسن‬ ‫الخلق ‪.‬‬ ‫وروى عن أم سلمة قالت ‪ :‬خرج أبو بكر الصدٌق رضى هللا عنه فً تجارة إلى بصرى قبل موت النبً‬ ‫صلى هللا علٌه وسلم بعام ‪ ,‬ومعه نعٌمان وسوٌبط بن حرملة ‪ ,‬وكانا قد شهدا بدراً‪ ,‬وكان نعٌمان على‬ ‫الزاد ‪ ,‬فقال له سوٌبط ‪ -‬وكان رجبل مزاحا ‪ : -‬أطعمنً فقال ‪ :‬ال حتى ٌجا أبو بكر رضى هللا عنه ‪,‬‬ ‫فقال ‪ :‬أما وهللا ألؼٌظنك ‪ ,‬فمروا بقوم فقال لهم سوٌبط ‪ :‬تشترون منى عبداً ؟ قالوا ‪ :‬نعم ‪ ,‬قال ‪ :‬إنه‬ ‫عبد له كبلم ‪ ,‬وهو قابل لكم ‪ :‬إنً حر ‪ ,‬فإن كنتم إذا قال لكم هذه المقالة تركتموه ‪ ,‬فبل تفسدوا علً‬ ‫عبدي ‪ ,‬قالوا ‪ :‬بل نشترٌه منك ‪ ,‬قال ‪ :‬فاشتروه منه بعشر قبلبص ‪ ,‬قال ‪ :‬فجاءوا فوضعوا فً عنقه‬ ‫عمامة أو حببل ‪ ,‬فقال نعٌمان ‪ :‬إن هذا ٌستهزئ بكم ‪ ,‬وإنً حر ‪ ,‬لست بعبد ‪ ,‬قالوا ‪ :‬قد أخبرنا خبرك ‪,‬‬ ‫فانطلقوا به ‪ ,‬فجاء أبو بكر رضً هللا عنه ‪ ,‬فؤخبره سوٌبط فؤتبعهم ‪ ,‬فرد علٌهم القبلبص ‪ ,‬وأخذه ‪ ,‬فلما‬ ‫قدموا على النبً صلى هللا علٌه وسلم أخبروه قال ‪ :‬فضحك النبً صلى هللا علٌه وسلم وأصحابه منها‬ ‫حوال ‪.‬‬

‫موقف المتشددين ‪:‬‬


‫وال رٌب أن هناك من الحكماء ‪ ,‬واألدباء ‪ ,‬والشعراء من ذم المزاح ‪ ,‬وحذر من سوء عاقبته ‪ ,‬ونظر‬ ‫إلى جانب الخطر والضرر فٌه ‪ ,‬وأقفل الجوانب األخرى ‪.‬‬ ‫ولكن ما جاء عن رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم وأصحابه أحق أن ٌتبع ‪ ,‬وهو ٌمل التوازن واالعتدال‬ ‫‪ .‬وقد قال لحنظة حٌن فزع من تؽٌر حاله فً بٌته عن حاله مع رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم‪ ,‬واتهم‬ ‫المبلبك فً‬ ‫ة‬ ‫نفسه بالنفاق ‪ٌ « :‬ا حنظة ؛ لو دمتم على الحال التً تكونون علٌها عندي لصافحتكم‬ ‫الطرقات ‪ ,‬ولكن ٌا حنظلة ساعة وساعة » ‪ ,‬وهذه« هً الفطرة‪ ,‬وهذا هو العدل ‪.‬‬ ‫روى ابن أبً شٌبة عن أبً سلمة بن عبد الرحمن قال ‪ :‬لم ٌكن أصحاب رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم‬ ‫متحزقٌن وال متماوتٌن ‪ .‬كانوا ٌتناشدون األشعار ‪ ,‬وٌذكرون أمر جاهلٌتهم ‪ ,‬فإذا أرٌد أحدهم على شا‬ ‫من أمر دٌنه دارت حمالٌق عٌنٌه كؤنه مجنون ‪.‬‬ ‫والتحزق كما ٌقول اإلمام الخطابً ‪ :‬التجمع وشدة التقبض ‪.‬‬ ‫وفى النهاٌة البن األثٌر ‪ :‬متحزقٌن ‪ :‬أي منقبضٌن ومجتمعٌن ‪.‬‬ ‫وسبل ابن سٌرٌن عن الصحابة ‪ :‬هل كانوا ٌتمازحون ؟ فقال ‪ :‬ما كانوا إال كالناس ‪ .‬كان ابن عمر‬ ‫ٌم زح وٌنشد الشعر ‪.‬‬ ‫وبهذا ٌكون موقؾ أولبك النفر من المتدٌنٌن أو المتحمسٌن للدٌن ‪ ,‬وعبوسهم وتجهمهم الذي ظنه‬ ‫البعض من صمٌم الدٌن ‪ ,‬ال ٌمثل حقٌقة الدٌن فً شا ‪ ,‬وال ٌتفق مع هدي الرسول الكرٌم وأصحابه ‪.‬‬ ‫إنما ٌرجع إلى سوء فهمهم لئلسبلم ‪ ,‬أو لطبٌعتهم الشخصٌة ‪ ,‬أو لظروؾ نشؤتهم وتربٌتهم ‪ .‬وعلى كل‬ ‫حال ‪ ,‬ال ٌجهل مسلم أن اإلسبلم ال ٌإخذ من سلوك فرد أو مجموعة من الناس ‪ٌ ,‬خطبون وٌصٌبون ‪.‬‬ ‫واإلسبلم حجة علٌهم ‪ ,‬ولٌسوا هم حجة على اإلسبلم ‪ ,‬إنما ٌإخذ اإلسبلم من القرآن والسنة الثابتة ‪.‬‬

‫حدود المشروعية في الضحك والمزاح ‪:‬‬ ‫إن الضحك والمرح والمزاح أمر مشروع فً اإلسبلم ‪ ,‬كما دلت على ذلك النصوص القولٌة ‪,‬‬ ‫والمواقؾ العملٌة للرسول الكرٌم صلى هللا علٌه وسلم وأصحابه رضى هللا عنهم ‪.‬‬ ‫وما ذلك إال لحاجة الفطرة اإلنسانٌة إلى شا من التروٌح ٌخفؾ عنها ألواء ‪ ,‬الحٌاة وقسوتها ‪ ,‬وتشعب‬ ‫همومها وأعبابها ‪.‬‬ ‫كما أن هذا الضرب من اللهو والترفٌه ٌقوم بمهمة التنشٌط للنفس ‪ ,‬حتى تستطٌع مواصلة السٌر‬ ‫والمضً فً طرٌق العمل الطوٌل ‪ ,‬كما ٌرٌح اإلنسان دابته فً السفر ‪ ,‬حتى ال تنقطع به ‪.‬‬ ‫فمشروعٌة الضحك والمرح والمزاح ال شك فٌها فً األصل ‪ ,‬ولكنها مقٌدة بقٌود وشروط ال بد أن‬ ‫تراعى ‪:‬‬ ‫ي أول إبرٌل ‪ -‬نٌسان‬ ‫أولها ‪ :‬أال ٌكون الكذب واالختبلق أداة اإلضحاك للناس ‪ ,‬كما ٌفعل بعض الناس ؾ‬ ‫ فٌما ٌسمونه « كذبة إبرٌل » ‪.‬‬‫ولهذا قال صلى هللا علٌه وسلم ‪ « :‬وٌل للذي ٌحدث فٌكذب لٌضحك القوم ‪ ,‬وٌل له ‪ ,‬وٌل له ‪ ,‬وٌل له‬ ‫» وقد كان صلى هللا علٌه وسلم ٌمزح وال ٌقول إال حقا ً ‪.‬‬ ‫ثانٌا ً ‪ :‬أال ٌشتمل على تحقٌر إلنسان آخر ‪ ,‬أو استهزاء به وسخرٌة منه ‪ ,‬إال إذا أذن بذلك ورضى ‪.‬‬ ‫قال تعالى ‪ٌ ( :‬ا أٌها الذٌن آمنوا ال ٌسخر قوم من قوم عسى أن ٌكونوا خٌراً منهم وال نساء من نساء‬ ‫عسى أن ٌكن خٌراً منهن وال تلمزوا أنفسكم وال تنابزوا باأللقاب ‪ ,‬ببس االسم الفسوق بعد اإلٌمان ) ‪.‬‬ ‫وجاء فً صحٌح مسلم ‪ « :‬بحسب امرئ من الشر أو ٌحقر أخاه المسلم » ‪.‬‬ ‫وذكرت عابشة أمام النبً صلى هللا علٌه وسلم إحدى ضرابرها ‪ ,‬فوصفتها بالقصر تعٌبها به‪ ,‬فقال ‪« .‬‬


‫ٌا عابشة ‪ ,‬لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته » قالت ‪ :‬وحكٌت له إنسانا ‪ -‬أي قلدته فً‬ ‫حركته أو صوته أو نحو ذلك فقال ‪ « :‬ما أحب أنى حكٌت إنسانا وأن لً كذا وكذا »‬ ‫ثالثا ً ‪ :‬أال ٌترتب علٌه تفزٌع وتروٌع لمسلم ‪.‬‬ ‫فقد روى أبو داود عن عبد الرحمن بن أبى لٌلى قال ‪ :‬حدثنا أصحاب محمد صلى هللا علٌه وسلم ‪ ,‬أنهم‬ ‫كانوا ٌسٌرون مع النبً صلى هللا علٌه وسلم فقام رجل منهم ‪ ,‬فانطلق بعضهم إلى حبل معه فؤخذه ‪,‬‬ ‫ففزع فقال رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ‪ « :‬ال ٌحل لرجل أن ٌروع مسلما ً » ‪.‬‬ ‫وعن النعمان بن بشٌر قال ‪ :‬كنا مع رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم فً مسٌر ‪ ,‬فخفق رجل‬ ‫على راحلته ‪ -‬أي نعس ‪ -‬فؤخذ رجل سهما من كنانته فانتبه الرجل ‪ ,‬ففزع ‪ ,‬فقال رسول هللا صلى هللا‬ ‫علٌه وسلم ‪ « :‬ال ٌحل لرجل أن ٌروع مسلما ً » ( رواه الطبرانى فً الكبٌر ورواته ثقات ) ‪ .‬والسٌاق‬ ‫ٌدل على أن الذي فعل ذلك كان ٌمازحه ‪.‬‬ ‫وقد جاء فً الحدٌث اآلخر ‪ « :‬ال ٌؤخذ أحدكم متاع أخٌه العبا وال جادا » ‪ ( .‬رواه الترمذى وحسنه )‬ ‫‪.‬‬ ‫رابعا ً ‪ :‬أال ٌهزل فً موضع الجد ‪ ,‬وال ٌضحك فً مجال ٌستوجب البكاء ‪ ,‬فلكل شا أوانه ‪ ,‬ولكل أمر‬ ‫مكانه ‪ ,‬ولكل مقام مقال ‪ .‬والحكمة وضع الشًء فً موضعه المناسب ‪.‬‬ ‫ومن ممادح الشعراء ‪:‬‬ ‫إذا جد عند الجد أرضاك جده وذو باطل إن شبت ألهاك باطله !‬ ‫والباطل هنا ٌقصد به اللهو والمرح ‪.‬‬ ‫وقال آخر ‪:‬‬ ‫أه ازل حٌث الهزل ٌحسن بالفتى إنـً إذا جد الرجال لذو جد !‬ ‫وروى األصمعً أنه رأى امرأة بالبادٌة تصلى على سجادتها خاشعة ضارعة فلما فرؼت ‪ ,‬وقفت أمام‬ ‫المرآة تتجمل وتتزٌن ‪ ,‬فقال لها ‪ :‬أٌن هذه من تلك ؟‬ ‫فؤنشدت تقول ‪:‬‬ ‫وله منى جانب ال أضٌعه وللهو منى والبطالة جانب !‬ ‫قال ‪ :‬فعرفت أنها امرأة عابدة لها زوج تتجمل له ‪.‬‬ ‫وقد عاب هللا تعالى على المشركٌن أنهم كانوا ٌضحكون عند سماع القرآن وكان أولى بهم أن ٌبكوا ‪,‬‬ ‫فقال تعالى ‪ ( :‬أفمن هذا الحدٌث تعجبون * وتضحكون وال تبكون * وأنتم سامدون )‪.‬‬ ‫خامسا ً ‪ :‬أن ٌكون ذلك بقدر معقول ‪ ,‬وفى حدود االعتدال والتوازن ‪ ,‬الذي تقبله الفطرة السلٌمة ‪,‬‬ ‫وٌرضاه العقل الرشٌد ‪ ,‬وٌبلبم المجتمع اإلٌجابً العامل ‪.‬‬ ‫واإلسبلم ٌكره الؽلو واإلسراؾ فً كل شا ‪ ,‬ولو فً العبادة ‪ ,‬فكٌؾ باللهو والمرح ؟!‬ ‫ولهذا كان التوجٌه النبوي ‪ « :‬وال تكثر من الضحك فإن كثرة الضحك تمٌت القلب » فالمنهً عنه هو‬ ‫اإلكثار والمبالؽة ‪.‬‬ ‫وقد ورد عن على رضى هللا عنه قوله ‪ « :‬أعط الكبلم من المزح ‪ ,‬بمقدار ما تعطى الطعام من الملح »‬ ‫‪.‬‬ ‫وهو قول حكٌم ‪ٌ ,‬دل على عدم االستؽناء عن المزح ‪ ,‬كما ٌدل على ضرر اإلفراط فٌه‪ .‬وخٌر األمور‬ ‫هو الوسط دابما ‪ ,‬وهو نهج اإلسبلم وخصٌصته الكبرى ‪ ,‬ومناط فضل أمته على ؼٌرها ‪.‬‬


‫فن اللعب‬ ‫الحاجة إلى اللعب ‪:‬‬ ‫كما عرفت الشعوب فن الؽناء تشنؾ به اآلذان ‪ ,‬وفن الرسم والتصوٌر تنعم به األعٌن ‪ ,‬وفن الفكاهة‬ ‫والمرح تضحك له األفواه ‪ .‬فهناك فنون أخرى عرفها الناس ‪ ,‬تدفع عن الحٌاة الرتابة‪ ,‬وعن النفوس‬ ‫المبللة ‪ ,‬وهً تتمثل فً أنواع األلعاب المختلفة ‪ ,‬مما عرفنا وما لم نعرفه ‪ ,‬مما ٌشؽل أوقات الفراغ من‬ ‫ناحٌة ‪ ,‬وال ٌؽلو من بعض الفوابد من ناحٌة أخرى ‪.‬‬

‫ألوان اللعب لدى الشعوب ‪:‬‬ ‫وبعض هذه األلعاب ٌدخل فٌما ٌعرؾ فً عصرنا بؤنواع « الرٌاضة البدنٌة » مثل السباحة ‪ ,‬والعدو ‪,‬‬ ‫والوثب بؤنواعه ‪ ,‬وألعاب القوى وما بمس « الجمباز » ‪ ,‬وألعاب الكرة بؤنواعها ‪ .‬والتزحلق على‬ ‫الجلٌد ‪.‬‬ ‫وبعضها أقرب إلى الفنون العسكرٌة مثل ‪ :‬الرماٌة واللعب بالحراب والسٌوؾ ‪ ,‬وركوب الخٌل ‪.‬‬ ‫وبعضها ألعاب تسلٌة ‪ ,‬ونزجٌة للوقت ‪ ,‬ومنها ‪ :‬ما فٌه شحذ للعقل مثل الشطرنج ‪ ,‬و« السٌجا » ‪ ,‬و «‬ ‫الدومٌنو » ونحوها ‪ ,‬ومنه ما ٌقوم على الحظ مثل « النرد » ‪.‬‬ ‫ومن هذه األلعاب ‪ :‬ما ٌإدى فردٌا ً ‪ ,‬ومنه ما ال بد له من العبٌن ‪ ,‬كالمصارعة والمبلكمة ‪ .‬ومنه ما‬ ‫ٌحتاج إلى فرٌقٌن ‪ ,‬مثل ‪ :‬لعبة شد الحبل ‪ ,‬وهى لعبة شعبٌة قدٌمة ‪ ,‬ومثلها ألعاب الكرة ‪.‬‬ ‫ومنه ‪ :‬ما ٌدخل فٌه السباق ‪ :‬بٌن فردٌن ‪ ,‬أو فرٌقٌن ‪ ,‬أو مجموعة أفراد ‪ ,‬أو مجموعة فرق ‪.‬‬ ‫ومنه ‪ :‬األلعاب السحرٌة ‪ ,‬التً تقوم على الشعوذة وخفة الٌد ‪ ,‬أو على السحر بالفعل ‪.‬‬ ‫ومنه ‪ :‬األلعاب البهلوانٌة ‪ ,‬كالتً تقدم فً « السٌرك » وتدهش النظارة بما فٌها من مهارات فابقة‬ ‫وقدرات شبه خارقة ‪.‬‬ ‫ومنه ‪ :‬ما ٌستخدم اإلنسان فٌه الطٌور والحٌوانات ‪ ,‬مثل ‪ .‬اللعب بالحمام ‪ ,‬والتحرٌش بٌن الدٌوك‬ ‫بعضها وبعض ‪ ,‬أو بٌن الكباش بعضها وبعض ‪ .‬وقرٌب منها ‪ :‬مصارعة الثٌران ‪ .‬ومن هذا الباب ‪:‬‬ ‫اللعب بالقرود والدببة ( جمع دب ) عن طرٌق تدرٌبها على أعمال تعجب وتدهش ‪.‬‬ ‫وكذلك ‪ :‬ترقٌص الخٌل ‪ ,‬واستخدام الفٌلة ‪ .‬وأعجب منه ‪ :‬تروٌض األسود والفهود والنمور ‪.‬‬ ‫وفى المهرجانات الشعبٌة فً بلد كمصر ‪ ,‬فً األعٌاد والموالد والمناسبات ‪ٌ ,‬شاهد الجمهور كثٌرا من‬ ‫األلعاب التً توارثها الناس ‪ ,‬وهى ألوان مختلفة ‪ ,‬ومعروضات متنوعة ‪.‬‬ ‫ولدى كل الشعوب أمثال هذه األلعاب ‪ ,‬بعضها مما توارثوه ‪ ,‬وبعضها مما ابتكروه ‪.‬‬ ‫والباب مفتوح للتجدٌد واالبتكار فً هذا المجال ‪ ,‬كالذي نشاهده فً التلٌفزٌون بٌن بعض األندٌة‬ ‫األلمانٌة وبعض من مسابقات تعتبر ؼاٌة فً الطرافة واستخراج الضحك من اإلنسان ‪.‬‬ ‫وقد نافسهم الٌابانٌون فً ذلك ‪ ,‬وابتكروا أشٌاء مماثلة أٌضا ً ‪.‬‬ ‫والسإال الكبٌر هنا ‪ :‬ما موقؾ اإلسبلم من ذلك كله ؟‬


‫موقف اإلسالم ‪:‬‬ ‫وموقؾ اإلسبلم من هذه األلوان المختلفة من اللعب أو األلعاب ٌتضح فٌما ٌلً ‪:‬‬ ‫ما يجيزه اإلسالم من اللعب ‪:‬‬ ‫ال ٌمنع اإلسبلم من اللهو بمختلؾ « األلعاب » ‪ ,‬بل ٌرى ذلك أمرا مشروعا ‪ٌ ,‬حتاج إلٌه الفرد ‪,‬‬ ‫وتحتاج إلٌه الجماعة ‪ .‬ولو لم ٌكن الهدؾ منها إال التسلٌة ‪ ,‬أو التروٌح ‪ ,‬أو اإلضحاك ‪ .‬وما ذكرناه فً‬ ‫شرعٌة الضحك ‪ ,‬وشرعٌة الؽناء ‪ ,‬وما نقلناه عن الؽزالً وابن حزم وؼٌرهما ٌذكر هنا أٌضا ‪.‬‬ ‫بل هناك بعض أنواع من األلعاب ‪ٌ ,‬حث اإلسبلم علٌها ‪ ,‬مثل األلعاب التً تدخل فً فنون الرٌاضة ‪,‬‬ ‫أو الفنون العسكرٌة ‪ ,‬لما فٌها من تقوٌة األجسام ‪ ,‬واكتساب المهارات ‪ ,‬وتنمٌة القدرات ‪.‬‬ ‫وقد جاء فً السنة ‪ :‬الحث على الرماٌة ‪ ,‬وركوب الخٌل ‪ ,‬والمإمن القوى خٌر وأحب إلى هللا من‬ ‫المإمن الضعٌؾ ‪.‬‬ ‫وقد شرع اإلسبلم عٌدي الفطر واألضحى ‪ ,‬بدٌلٌن لٌومٌن كان ٌلعب فٌهما األنصار فً الجاهلٌة ‪.‬‬ ‫وقد أذن النبً صلى هللا علٌه وسلم للحبشة أن ٌرقصوا بحرابهم وأسلحتهم فً مسجده الشرٌؾ فً ٌوم‬ ‫عٌد ‪ ,‬وكان ٌحثهم وٌقول ‪ « :‬دونكم ٌا بنى أرفدة » ‪ ..‬وقد سبق ذلك ‪.‬‬ ‫ما يمنعه اإلسالم من ألوان اللعب ‪:‬‬ ‫إنما ٌتحفظ اإلسبلم على بعض ألعاب تتنافى مع مقاصده وأحكامه ‪ ,‬مثل ‪:‬‬ ‫( أ ) األلعاب التً تقوم على المخاطرة الشدٌدة دون ضرورة إلٌها ‪ ,‬مثل ‪ :‬المبلكمة ‪ ,‬لما فٌها من شدة‬ ‫إٌذاء النفس والؽٌر ‪ ,‬ببل حاجة ‪.‬‬ ‫( ب ) األلعاب التً تظهر فًها أجسام النساء ‪ -‬أي ما ال ٌحل رإٌته منها ‪ -‬أمام الرجال األجانب ‪ ,‬كما‬ ‫فً حاالت السباحة والجمباز ونحوها ‪ ,‬وٌنبؽً أن ٌكون لهن مسابح ومبلعب خاصة ‪ ,‬ال ٌدخلها‬ ‫الرجال ‪.‬‬ ‫( جـ ) األلعاب التً تقوم على السحر الحقٌقً ‪ ,‬فإنه من « السبع الموبقات » وٌحرم تعلٌمه أو ترويجه‬ ‫فً الناس ‪.‬‬ ‫( د ) األلعاب التً تقوم على الخداع واالحتٌال على الناس ‪ ,‬ألكل أموالهم بالباطل ‪ ,‬كالذي ٌسمٌه الناس‬ ‫فً مصر « الثبلث ورقات » !‬ ‫( هـ ) األلعاب التً تعرض الحٌوانات أو الطٌور لئلٌذاء ‪ ,‬مثل صراع الدٌوك أو الكباش ‪ .‬وقد ثبت‬ ‫النهى عن التحرٌش بٌن البهابم ‪ .‬فبل ٌجوز لئلنسان أن ٌتلهى بمنظر الدماء تسٌل من هذه العجماوات ‪,‬‬ ‫ومن ال ٌرحم ال ٌرحم ‪.‬‬ ‫( و ) األلعاب التً تقوم على الحظ وحده ‪ ,‬مثل لعب النرد ‪ ,‬وهو الذي ٌسمٌه أهل مصر « الطاولة »‬ ‫بخبلؾ ما ٌقوم على إعمال الذهن مثل الشطرنج ‪ ,‬فالراجح جوازه بشروط ‪ ,‬وقد ذكرتها فً « الحبلل‬ ‫والحرام » وفصلتها فً الجزء الثانً من « فتاوى معاصرة » ‪.‬‬ ‫( ز ) األلعاب التً ٌدخل فٌها المٌسر ( القمار ) فإنه قرٌن الخمر فً كتاب هللا ‪ ,‬وهو رجس من عمل‬ ‫الشٌطان ‪.‬‬ ‫( ح ) األلعاب التً فٌها استخفاؾ بكرامة اإلنسان ‪ ,‬أو السخرٌة به ‪ ,‬أو جعله أضحوكة أو « مسخرة »‬


‫لآلخرٌن ‪ ,‬سواء أكان شخصا معٌنا أم فبة من المجتمع ‪ ,‬كالعمٌان أو العرجان ‪ ,‬أو ذوى اللون األسود ‪,‬‬ ‫أو أصحاب مهنة معٌنة ‪ .‬إال فً حدود ما ٌجٌزه العرؾ العام ( ٌا آٌها الذٌن أمنوا ال ٌسخر قوم من قوم‬ ‫عسى آن ٌكونوا خٌراً منهم ) ‪.‬‬ ‫( ط ) المبالؽة فً اللعب ‪ ,‬على حساب أمور أخرى ‪ ,‬فإن اللعب من « التحسٌنٌات » فبل ٌنبؽً أن‬ ‫تطؽى على الحاجٌات ‪ ,‬فكٌؾ بالضرورٌات ؟ ‪.‬‬ ‫وكل المباحات مقٌدة بعدم اإلسراؾ ‪ ,‬فإن هللا ال ٌحب المسرفٌن ‪ ,‬ومشروطة بؤال تشؽل عن واجب دٌنً‬ ‫أو دنٌوي ‪ .‬والمطلوب من المجتمع المسلم ‪ -‬كما هو مطلوب من الفرد المسلم ‪ -‬أن ٌوازن بٌن المطالب‬ ‫‪ ,‬وأن ٌعطً كل ذي حق حقه ‪.‬‬ ‫ولهذا ال ٌقبل فً مٌزان اإلسبلم ‪ :‬أن تطؽى لعبة واحدة مثل « كرة القدم » على كل األلعاب‬ ‫والرٌاضات ‪ ,‬وما هو أهم من ذلك كله من عبادة هللا ‪ ,‬وعمارة األرض ‪ ,‬ورعاٌة حقوق الخلق حتى‬ ‫ؼدت فً بعض الببلد ‪ ,‬وبعض األحٌان ‪ ,‬وكؤنها وثن ٌعبد وأصبح العب الكرة « ٌباع » بمبات‬ ‫اآلالؾ ‪ ,‬وربما بالمبلٌ​ٌن ‪ ,‬وبعض أهل الفكر والعلم ال ٌكادون ٌجدون قوتهم ‪ ,‬ألن موهبة القدم أهم من‬ ‫موهبة الرأس فاإلنسان بؤسفله ال بؤعبله !‬

‫المرأة باعتبارها إنسانًا‬ ‫جاء اإلسبلم وبعض الناس ٌنكرون إنسانٌة المرأة ‪ ,‬وآخرون ٌرتابون فٌها ‪ .‬وؼٌرهم ٌعترؾ بإنسانٌتها‬ ‫‪ ,‬ولكنه ٌعتبرها مخلوقا ً خلق لخدمة الرجل ‪.‬‬ ‫فكان من فضل اإلسبلم أنه كرم المرأة ‪ ,‬وأكد إنسانٌتها ‪ ,‬وأهلٌتها للتكلٌؾ والمسبولٌة والجزاء ودخول‬ ‫الجنة ‪ ,‬واعتبرها إنسانا ً كرٌما ً ‪ ,‬له كل ما للرجل من حقوق إنسانٌة ‪ .‬ألنهما فرعان من شجرة واحدة ‪,‬‬ ‫وأخوان ولدهما أب واحد هو آدم ‪ ,‬وأم واحدة هً حواء ‪.‬‬ ‫فه ما متساوٌان فً أصل النشؤة ‪ ,‬متساوٌان فً الخصابص اإلنسانٌة العامة ‪ ,‬متساوٌان فً التكالٌؾ‬ ‫والمسبولٌة ‪ ,‬متساوٌان فً الجزاء والمصٌر ‪.‬‬ ‫وفً ذلك ٌقول القرآن ‪ٌ ( :‬ا أٌها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث‬ ‫منهما رجاالً كثٌراً ونسا ًء واتقوا هللا الذي تساءلون به واألرحام ‪ ,‬إن هللا كان علٌكم رقٌبا ً ) ‪.‬‬ ‫وإذا كان الناس ‪ -‬كل الناس ‪ -‬رجاال ونساء ‪ ,‬خلقهم ربهم من نفس واحدة ‪ ,‬وجعل من هذه النفس زوجا‬ ‫تكملها وتكتمل بها كما قال فً آٌة أخرى ‪ ( :‬وجعل منها زوجها لٌسكن إلٌها ) وبث من هذه األسرة‬ ‫الواحدة رجاالً كثٌراً ونسا ًء ‪ ,‬كلهم عباد لرب واحد ‪ ,‬وأوالد ألب واحد وأم واحدة ‪ ,‬فاألخوة تجمعهم ‪.‬‬ ‫ولهذا أمرت اآلٌة الناس بتقوى هللا ‪ -‬ربهم ‪ -‬ورعاٌة الرحم الواشجة بٌنهم ‪ ( :‬واتقوا هللا الذي تساءلون‬ ‫به واألرحام ) ‪.‬‬ ‫ي هذا قال الرسول صلى هللا علٌه وسلم ‪:‬‬ ‫فالرجل ‪ -‬بهذا النص ‪ -‬أخ المرأة ‪ ,‬والمرأة شقٌقة الرجل ‪ .‬وؾ‬ ‫« إنما النساء شقابق الرجال » ‪.‬‬ ‫وفى مساواة المرأة للرجل فً التكلٌؾ والتدٌن والعبادة ‪ٌ ,‬قول القرآن ‪ ( :‬إن المسلمٌن والمسلمات‬ ‫والمإمنٌن والمإمنات والقانتٌن والقانتات والصادقٌن والصادقات والصابرٌن والصابرات والخاشعٌن‬ ‫والخا شعات والمتصدقٌن والمتصدقات والصابمٌن والصابمات والحافظٌن فروجهم والحافظات‬ ‫والذاكرٌن هللا كثٌراً والذاكرات أعد هللا لهم مؽفر ًة وأجراً عظٌما ً ) ‪.‬‬ ‫وفً التكالٌؾ الدٌنٌة واالجتماعٌة األساسٌة ٌسوي القرآن بٌن الجنسٌن بقوله تعالى ‪ ( :‬والمإمنون‬ ‫والمإمنات بعضهم أولًاء بعض ‪ٌ ,‬ؤمرون بالمعروؾ وٌنهون عن المنكر وٌقٌمون الصبلة وٌإتون‬


‫الزكاة وٌطٌعون هللا ورسوله ‪ ,‬أولبك سٌرحمهم هللا )‬ ‫وفً قصة آدم توجه التكلٌؾ اإللهً إلٌه والى زوجه سواء ‪ٌ ( :‬ا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكبل‬ ‫منها رؼداً حٌث شبتما وال تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمٌن ) ‪.‬‬ ‫ولكن الجدٌد فً هذه القصة ‪ -‬كما ذكرها القرآن ‪ -‬أنها نسبت اإلؼواء إلى الشٌطان ال إلى حواء ‪ -‬كما‬ ‫فعلت التوراة ‪ ( -‬فؤزلهما الشٌطان عنها فؤخرجهما مما كانا فٌه ) ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ولم تنفرد حواء باألكل من الشجرة وال كانت البادبة ‪ ,‬بل كان الخطؤ منهما معا ‪ ,‬كما كان الندم والتوبة‬ ‫منهما جمٌعا ‪ ( :‬قاال ربنا ظلمنا أنفسنا وان لم تؽفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرٌن )‪.‬‬ ‫بل فً بعض اآلٌات نسبة الخطؤ إلى آدم بالذات وباألصالة ‪ ( :‬ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم‬ ‫نجد له عزما ً) … ( فوسوس إلٌه الشٌطان قال ٌا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك ال ٌبلى ) … (‬ ‫وعصى آدم ربه فؽوى ) ‪ .‬كما نسب إلٌه التوبة وحده أٌضا ‪ ( :‬ثم اجتباه ربه فتاب علٌه وهدى ) مما‬ ‫ٌفٌد أنه األصل فً المعصٌة ‪ ,‬والمرأة له تبع ‪.‬‬ ‫ومهما ٌكن األمر فإن خطٌبة حواء ال ٌحمل تبعتها إال هً ‪ ,‬وبناتها براء من إثمها ‪ ,‬وال تزر وازرة‬ ‫وزر أخرى ‪ ( :‬تلك أمه قد خلت ‪ ,‬لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ‪ ,‬وال تسبلون عما كانوا ٌعملون ) ‪.‬‬ ‫وفى مساواة المرأة للرجل فً الجزاء ودخول الجنة ٌقول هللا تعالى ‪ ( :‬فاستجاب لهم ربهم أنً ال أضٌع‬ ‫عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى ‪ ,‬بعضكم من بعض ) ‪ ,‬فنص القرآن فً صراحة على أن األعمال ال‬ ‫تضٌع عند هللا ‪ ,‬سواء أكان العامل ذكراً أم أنثى ‪ ,‬فالجمٌع بعضهم من بعض ‪ ,‬من طٌنة واحدة ‪,‬‬ ‫وطبٌعة واحدة ‪ .‬وٌقول ‪ ( :‬من عمل صالحا ً من ذكر أو أنثى وهو مإمن فلنحٌ​ٌنه حٌاة طٌبة ‪,‬‬ ‫ولنجزٌنهم أجرهم بؤحسن ما كانوا ٌعملون ) ‪ ( ,‬ومن ٌعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مإمن‬ ‫فؤولبك ٌدخلون الجنة وال ٌظلمون نقٌرا ) ‪.‬‬ ‫وفى الحقوق المالٌة للمرأة ‪ ,‬أبطل اإلسبلم ما كان علٌه كثٌر من األمم ‪ -‬عربا ً وعجما ً ‪ -‬من حرمان‬ ‫النساء ‪ ,‬من التملك والمٌراث ‪ ,‬أو التضٌ​ٌق علٌهن فً التصرؾ فٌما ٌملكن ‪ ,‬واستبداد األزواج بؤموال‬ ‫المتزوجات منهن ‪ ,‬فؤثبت لهن حق الملك بؤنواعه وفروعه ‪ ,‬وحق التصرؾ بؤنواعه المشروعة ‪ .‬فشرع‬ ‫الوصٌة واإلرث لهن كالرجال ‪ ,‬وأعطاهن حق البٌع والشراء ‪ ,‬واإلجارة والهبة واإلعارة والوقؾ‬ ‫والصدقة والكفالة والحوالة والرهن ‪ . . . .‬وؼٌر ذلك من العقود واألعمال ‪.‬‬ ‫وٌتبع ذلك حقوق الدفاع عن مالها ‪ -‬كالدفاع عن نفسها ‪ -‬بالتقاضً وؼٌره من األعمال المشروعة ‪.‬‬

‫شبهات مردودة‬ ‫وهنا تعرض لبعض الناس شبهات ‪ ,‬وتدور فً خواطرهم أسبلة ‪:‬‬ ‫إذا كان اإلسبلم قد اعتبر إنسانٌة المرأة مساوٌة إلنسانٌة الرجل ‪ ,‬فما باله فضل الرجل علٌها فً بعض‬ ‫المواقؾ واألحوال ‪ .‬كما فً الشهادة ‪ ,‬والمٌراث ‪ ,‬والدٌة ‪ ,‬وقوامة المنزل ‪ ,‬ورٌاسة الدولة ‪ ,‬وبعض‬ ‫األحكام الجزبٌة األخرى ؟‬ ‫والواقع أن تمٌ​ٌز الرجل عن المرأة فً هذه األحكام ‪ ,‬لٌس ألن جنس الرجل أكرم عند هللا وأقرب إلٌه‬ ‫من جنس المرأة ‪ .‬فإن أكرم الناس عند هللا أتقاهم ‪ -‬رجبل كان أو امرأة ‪ -‬ولكن هذا التمٌ​ٌز اقتضته‬ ‫الوظٌفة التً خصصتها الفطرة السلٌمة لكل من الرجل والمرأة ‪ .‬كما سنوضح ذلك فٌما ٌلً ‪:‬‬ ‫الشهادة ‪:‬‬


‫جاء فً القرآن فً آٌة المدٌنة التً أمر هللا فٌها بكتابة الدٌن واالحتٌاط له ‪ ( :‬واستشهدوا شهٌدٌن من‬ ‫رجالكم ‪ ,‬فإن لم ٌكونا رجلٌن فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر‬ ‫إحداهما األخرى ‪ ,‬وال ٌؤب الشهداء إذا ما دعوا ) ‪.‬‬ ‫وبهذا جعل القرآن شهادة الرجل تساوى شهادة امرأتٌن ‪ .‬كما قرر الفقهاء أن شهادة النساء ال تقبل فً‬ ‫الحدود والقصاص ‪.‬‬ ‫والحمد هلل أن هذا التفاوت لٌس لنقص إنسانٌة المرأة أو كرامتها ‪ .‬بل ألنها ‪ -‬بفطرتها واختصاصها ‪ -‬ال‬ ‫تشتؽل عادة باألمور المالٌة والمعامبلت المدنٌة ‪ .‬إنما ٌشؽلها ما ٌشؽل النساء ‪ -‬عادة ‪ -‬من شبون البٌت‬ ‫إن كانت زوجة ‪ ,‬واألوالد إن كانت أما ‪ ,‬والتفكٌر فً الزواج إن كانت أٌما ً ‪ .‬ومن ثم تكون ذاكرتها‬ ‫أضعؾ فً شبون المعامبلت ‪ .‬لهذا أمر هللا تعالى أصحاب الدٌن إذا أرادوا االستٌثاق لدٌونهم أن ٌشهدوا‬ ‫علٌها رجلٌن أو رجبلً وامرأتٌن ‪ .‬وعلل القرآن ذلك بقوله ‪ ( :‬أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما األخرى‬ ‫)‪.‬‬ ‫ومثل ذلك ما ذهب إلٌه كثٌر من الفقهاء ‪ ,‬الذٌن لم ٌعتبروا شهادة النساء ‪ ,‬فً الحدود والقصاص ‪. .‬‬ ‫بعداً بالمرأة عن مجاالت االحتكاك ‪ ,‬ومواطن الجرابم ‪ .‬والعدوان على األنفس واألعراض واألموال ‪.‬‬ ‫فهً إن شهدت هذه الجرابم كثٌرا ما تؽمض عٌنها ‪ ,‬وتهرب صابحة مولولة ‪ ,‬وٌصعب علٌها أن تصؾ‬ ‫هذه الجرابم بدقة ووضوح ‪ ,‬ألن أعصابها ال تحتمل التدقٌق فً مثل هذه الحال ‪.‬‬ ‫ولهذا ٌرى هإالء الفقهاء أنفسهم األخذ بشهادة المرأة ‪ -‬ولو منفردة ‪ -‬فٌما هو من شؤنها واختصاصها ‪,‬‬ ‫كشهادتها فً الرضاع والبكارة والثٌوبة والحٌض والوالدة ‪ ,‬ونحو ذلك مما كان ٌختص بمعرفته النساء‬ ‫‪ ,‬فً العصور السابقة ‪.‬‬ ‫على أن هذا الحكم ؼٌر مجمع علٌه‪ ,‬فمذهب عطاء ‪ -‬من أبمة التابعٌن ‪ -‬األخذ بشهادة النساء‪.‬‬ ‫ومن الفقهاء من ٌرى األخذ بشهادة النساء ‪ ,‬فً الجناٌات فً المجتمعات التً ال ٌكون فٌها الرجال عادة‬ ‫مثل حمامات النساء ‪ ,‬واألعراس ‪ ,‬وؼٌر ذلك مما اعتاد الناس أن ٌجعلوا فٌه للنساء أماكن خاصة ‪ ,‬فإذا‬ ‫اعتدت إحداهن على أخرى بقتل أو جرح أو كسر ‪ ,‬وشهد علٌها شهود منهن ‪ ,‬فهل تهدر شهادتهن‬ ‫لمجرد أنهن إناث ؟ أو تطلب شهادة الرجال فً مجتمع ال ٌحضرون فٌه عادة ؟‬ ‫الصحٌح أن تعتبر شهادتهن ما دمن عادالت ضابطات واعٌات ‪.‬‬

‫الميراث ‪:‬‬ ‫أما التفاوت فً المٌراث بٌن الرجل والمرأة ‪ ,‬فالواضح أنه نتٌجة للتفاوت بٌنهما فً األعباء‪ ,‬والتكالٌؾ‬ ‫المالٌة المفروضة على كل منهما شرعا ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫فلو افترضنا أبا مات ‪ ,‬وترك وراءه ابنا وبنتا ‪ ,‬فاالبن ٌتزوج فٌدفع مهرا ‪ ,‬وٌدخل بالزوجة فٌدفع نفقتها‬ ‫‪ ,‬على حٌن تتزوج البنت فتؤخذ مهراً ‪ ,‬ثم ٌدخل بها زوجها ‪ ,‬فٌلتزم بنفقتها ‪ ,‬وال ٌكلفها فلسا ً ‪ ,‬وان‬ ‫كانت من أؼنى الناس ‪.‬‬ ‫فإذا كان قد ترك لهما مابة وخمسٌن ألفا مثبلً ‪ ,‬أخذ االبن منها مابة وأخته خمسٌن ‪ .‬فعندما ٌتزوج االبن‬ ‫قد ٌدفع مهراً وهداٌا نقدرها مثبل بخمسة وعشرٌن ألفا ‪ .‬فٌنقص نصٌبه لٌصبح ( ‪ ) 75000‬خمسة‬ ‫وسبعٌن ألفا ً ‪ .‬فً حٌن تتزوج أخته فتقبض مهراً وهداٌا نقدرها بما قدرنا به ما دفع أخوها لمثلها ‪ .‬فهنا‬ ‫ٌزٌد نصٌبها فٌصبح ( ‪ ) 75000‬خمسة وسبعٌن ألفا ‪ .‬فتساوٌا ‪.‬‬


‫الدية ‪:‬‬ ‫وأما الدٌة فلٌس فًها حدٌث متفق على صحته ‪ ,‬وال إجماع مستٌقن بل ذهب ابن علٌة واألصم ‪ -‬من‬ ‫فقهاء السلؾ ‪ -‬إلى التسوٌة بٌن الرجل والمرأة فً الدٌة ‪ ,‬وهو الذي ٌتفق مع عموم النصوص القرآنٌة‬ ‫والنبوٌة الصحٌحة وإطبلقها ‪ .‬ولو ذهب إلى ذلك ذاهب الٌوم ‪ ,‬ما كان علٌه من حرج ‪ ,‬فالفتوى تؽٌر‬ ‫بتػٌر الزمان والمكان ‪ .‬إذا كانت تتمشى مع النصوص الجزبٌة والمقاصد الكلٌة ؟‬

‫القوامة ‪:‬‬ ‫وأما القوامة ‪ ,‬فإنما جعلها هللا للرجل بنص القرآن ألمرٌن ‪:‬‬ ‫‪ .1‬ما فضله هللا به من التبصر فً العواقب ‪ ,‬والنظر فً األمور بعقبلنٌة أكثر من المرأة التً جهزها‬ ‫بجهاز عاطفً دفاق من أجل األمومة ‪.‬‬ ‫‪ .2‬أن الرجل هو الذي ٌنفق الكثٌر على تؤسٌس األسرة ‪ .‬فلو انهدمت ستنهدم على أم رأسه ‪ .‬لهذا سٌفكر‬ ‫ألؾ مرة قبل أن ٌتخذ قرار تفكٌكها ‪.‬‬

‫المناصب القضائية والسياسية ‪:‬‬ ‫وأما مناصب القضاء ‪ ,‬والسٌاسة ‪ ,‬فقد أجاز أبو حنٌفة أن تتولى القضاء ‪ ,‬فٌما تجوز شهادتها فٌه ‪ ,‬أي‬ ‫فً ؼٌر األمور الجنابٌة ‪ ,‬وأجاز الطبري وابن حزم أن تتولى القضاء ‪ ,‬فً األم وال وفً الجناٌات‬ ‫وؼٌرها ‪.‬‬ ‫وجواز ذلك ال ٌعنى وجوبه ولزومه ‪ ,‬بل ٌنظر لؤلمر فً ضوء مصلحة المرأة ‪ ,‬ومصلحة األسرة ‪,‬‬ ‫ومصلحة المجتمع ‪ ,‬ومصلحة اإلسبلم ‪ ,‬وقد ٌإدي ذلك إلى اختٌار بعض النساء المتمٌزات فً سن‬ ‫معٌنة ‪ ,‬للقضاء فً أمور معٌنة ‪ ,‬وفً ظروؾ معٌنة ‪.‬‬ ‫وأما منعها م ن رباسة الدولة وما فً حكمها ‪ ,‬فؤلن طاقة المرأة ‪ -‬ؼالبا ‪ -‬ال تحتمل الصراع الذي‬ ‫تقتضٌه تلك المسإولٌة الجسٌمة ‪ .‬وإنما قلنا ‪ « :‬ؼالبا » ‪ ,‬ألنه قد ٌوجد من النساء من ٌكن أقدر من‬ ‫بعض الرجال ‪ ,‬مثل ملكة سبؤ ‪ ,‬التً قص هللا علٌنا قصتها فً القرآن ‪ ,‬ولكن األحكام ال تبنى على‬ ‫النادر ‪ ,‬بل على األعم األؼلب ‪ ,‬ولهذا قال علماإنا ‪ :‬النادر ال حكم له ‪.‬‬ ‫وأما أن تكون مدٌرة أو عمٌدة ‪ ,‬أو ربٌسة مإسسة ‪ ,‬أو عضواً فً مجلس نٌابً ‪ .‬أو نحو ذلك‪ ,‬فبل حرج‬ ‫إذا اقتضته المصلحة ‪ ,‬وقد فصلنا ذلك بؤدلته فً الجزء الثانً من كتابنا « فتاوى معاصرة »‪.‬‬

‫المرأة باعتبارها أمًا‬


‫ال ٌعرؾ التارٌخ دٌنا وال نظاما كرم المرأة باعتبارها أما ‪ ,‬و من مكانتها ‪ ,‬مثل اإلسبلم ‪.‬‬ ‫لقد أكد الوصٌة بها وجعلها تالٌة للوصٌة بتوحٌد هللا وعبادته ‪ ,‬وجعل برها من أصول الفضابل ‪ ,‬كما‬ ‫تحملت من مشاق الحمل والوضع واإلرضاع والتربٌة ‪ .‬وهذا ما‬ ‫ه‬ ‫جعل حقها أوكد من حق األب ‪ ,‬لما‬ ‫ٌقرره القرآن وٌكرره فً أكثر من سورة لٌثبته فً أذهان األبناء ونفوسهم ‪ .‬وذلك فً مثل قوله تعالى ‪:‬‬ ‫( ووصٌنا اإلنسان بوالدٌه حملته أمه وهنا ً على وهن وفصاله فً عامٌن أن اشكر لً ولوالدٌك إلً‬ ‫المصٌر ) ‪ ( ,‬ووصٌنا اإلنسان بوالدٌه إحسانا ‪ ,‬حملته أمه كرها ووضعته كرها ‪ ,‬وحمله وفصاله‬ ‫ثبلثون شهراً ) ‪.‬‬ ‫وجاء رجل إلى النبً صلى هللا علٌه وسلم ٌسؤله ‪ :‬من أحق الناس بصحابتً ؟ قال ‪ «:‬أمك »‪ .‬قال ‪ :‬ثم‬ ‫من ؟ قال ‪ « :‬أمك » ‪ .‬قال ‪ :‬ثم من ؟ قال ‪ « :‬أمك » ‪ .‬قال ‪ :‬ثم من ؟ قال ‪ « :‬أبوك »‪.‬‬ ‫وٌروي البزار أن رجبلً كان بالطواؾ حامبل أمه ٌطوؾ بها ‪ ,‬فسؤل النبً صلى هللا علٌه وسلم‬ ‫هل أدٌت حقها ؟ قال ‪ « :‬ال ‪ ,‬وال بزفرة واحدة » ! ‪ ..‬أي من زفرات الطلق والوضع ونحوها ‪.‬‬ ‫وبرها ٌعنً ‪ :‬إحسان عشرتها ‪ ,‬وتوقٌرها ‪ ,‬وخفض الجناح لها ‪ ,‬وطاعتها فً ؼٌر المعصٌة ‪ ,‬والتماس‬ ‫رضاها فً كل أمر ‪ ,‬حتى الجهاد ‪ ,‬إذا كان فرض كفاٌة ال ٌجوز إال بإذنها ‪ ,‬فإن برها ضرب من‬ ‫الجهاد ‪.‬‬ ‫جاء رجل إلى النبً صلى هللا علٌه وسلم فقال ‪ٌ :‬ا رسول هللا ‪ ,‬أردت أن أؼزو ‪ ,‬وقد جبت أستشٌرك ‪,‬‬ ‫فقال ‪ «:‬هل لك من أم » ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ .‬قال ‪ « :‬فالزمها فإن الجنة عند رجلٌها »‪.‬‬ ‫وكانت بعض الشرابع تهمل قرابة األم ‪ ,‬وال تجعل لها اعتباراً ‪ ,‬فجاء اإلسبلم ٌوصى باألخوال‬ ‫والخاالت ‪ ,‬كما أوصى باألعمام والعمات ‪.‬‬ ‫أتى النبً صلى هللا علٌه وسلم رجل فقال ‪ :‬إنً أذنبت ‪ ,‬فهل لً من توبة ؟ فقال ‪ « :‬هل‬ ‫لك من أم » ؟ قال ‪ :‬ال ‪ .‬قال ‪ « :‬فهل لك من خالة » ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ .‬قال ‪ « :‬فبرها » ‪.‬‬ ‫ومن عجٌب ما جاء به اإلسبلم أنه أمر ببر األم وان كانت مشركة ‪ ,‬فقد سؤلت أسماء بنت أبى بكر النبً‬ ‫صلى هللا علٌه وسلم عن صلة أمها المشركة ‪ ,‬وكانت قدمت علٌها ‪ ,‬فقال لها ‪ « :‬نعم ‪ ,‬صلً أمك »‬ ‫ومن رعاٌة اإلسبلم لؤلمومة وحقها وعواطفها ‪ :‬أنه جعل األم المطلقة أحق بحضانة أوالدها ‪ ,‬وأولى‬ ‫بهم من األب ‪.‬‬ ‫قالت امرأة ‪ٌ :‬ا رسول هللا ‪ ,‬إن أبنً هذا ‪ ,‬كان ‪ :‬بطنً له وعاء‪ ,‬وثدًٌ له سقاء‪ ,‬وحجري له حواء ‪,‬‬ ‫وان أباه طلقنً ‪ ,‬وأراد أن ٌنتزعه منً ! فقال لها النبً صلى هللا علٌه وسلم ‪ « :‬أنت أحق به ما لم‬ ‫تنكحً »‪.‬‬ ‫واختصم عمر وزوجته المطلقة إلى أبى بكر فً شؤن ابنه عاصم ‪ ,‬فقضى به ألمه ‪ ,‬وقال لعمر ‪« :‬‬ ‫رٌحها وشمها ولفظها خٌر له منك » ‪ .‬وقرابة األم أولى من قرابة األب فً باب الحضانة ‪.‬‬ ‫واألم التً عنى بها اإلسبلم كل هذه العناٌة ‪ ,‬وقرر لها كل هذه الحقوق ‪ ,‬علٌها واجب ‪ :‬أن تحسن تربٌة‬ ‫أبنابها ‪ ,‬فتؽرس فٌهم الفضابل ‪ ,‬وتبؽضهم فً الرذابل ‪ ,‬وتعودهم طاعة هللا ‪ ,‬وتشجعهم على نصرة‬ ‫الحق ‪ ,‬وال تثبطهم عن الجهاد ‪ ,‬استجابة لعاطفة األمومة فً صدرها ‪ ,‬بل تؽلب نداء الحق على نداء‬ ‫العاطفة ‪.‬‬ ‫ولقد رأٌنا أما مإمنة كالخنساء ‪ ,‬فً معركة القادسٌة تحرض بنٌها األربعة ‪ ,‬وتوصٌهم باإلقدام والثبات‬ ‫فً كلمات بلٌؽة رابعة ‪ ,‬وما أن انتهت المعركة حتى نعوا إلٌها جمٌعا ‪ ,‬فما ولولت وال صاحت ‪ ,‬بل‬ ‫قالت فً رضا وٌقٌن ‪ :‬الحمد هلل الذي شرفنً بقتلهم فً سبٌله !!‬


‫أمهات خالدات‬ ‫ومن توجٌهات القرآن ‪ :‬أنه وضع أمام المإمنٌن والمإمنات أمثله فارعة ألمهات صالحات ‪ .‬كان لهن‬ ‫أثر ومكان فً تارٌخ اإلٌمان ‪.‬‬ ‫فؤم موسى تستجٌب إلى وحً هللا وإلهامه ‪ ,‬وتلقى ولدها وفلذة كبدها فً الٌم ‪ ,‬مطمبنة إلى وعد ربها ‪( :‬‬ ‫وأوحٌنا إلى أم موسى أن أرضعٌه ‪ ,‬فإذا خفت علٌه فؤلقٌه فً الٌم وال تخافً وال تحزنً ‪ ,‬إنا رادوه‬ ‫إلٌك وجاعلوه من المرسلٌن ) ‪.‬‬ ‫وأم مرٌم التً نذرت ما فً بطنها محررا هلل ‪ ,‬خالصا من كل شرك أو عبودٌة لؽٌره ‪ ,‬داعٌة هللا أن‬ ‫ٌتقبل منها نذرها ‪ ( :‬فتقبل منً ‪ ,‬انك أنت السمٌع العلٌم ) ‪.‬‬ ‫فلما كان المولود أنثى ‪ -‬على ؼٌر ما كانت تتوقع ‪ -‬لم ٌمنعها ذلك من الوفاء بنذرها ‪ ,‬سابلة هللا أن‬ ‫ٌحفظها من كل سوء ‪ ( :‬وأنً أعٌذها بك وذرٌتها من الشٌطان الرجٌم ) ‪.‬‬ ‫ومرٌم ابنة عمران أم المسٌح عٌسى ‪ ,‬جعلها القرآن آٌة فً الطهر والقنوت هلل ‪ ,‬والتصدٌق بكلماته ‪( :‬‬ ‫ومرٌم ابنت عمران التً أحصنت فرجها فنفخنا فٌه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من‬ ‫القانتٌن) ‪.‬‬

‫المرأة باعتبارها بنتًا‬ ‫كان العرب فً الجاهلٌة ٌتشاتمون بمٌبلد البنات ‪ ,‬وٌضٌقون به ‪ ,‬حتى قال أحد اآلباء ‪ -‬وقد بشر بؤن‬ ‫زوجه ولدت أنثى ‪ « : -‬وهللا ما هً بنعم الولد ‪ ,‬نصرها بكاء‪ ,‬وبرها سرقة »! ٌرٌد أنها ال تستطٌع أن‬ ‫تنصر أباها وأهلها إال بالصراخ والبكاء ال بالقتال ‪ ,‬وال أن تبرهم إال بؤن تؤخذ من مال زوجها ألهلها ‪.‬‬ ‫وكانت التقالٌد المتوارثة عندهم تبٌح لؤلب أن يبد ابنته ‪ٌ -‬دفنها حٌة ‪ -‬خشٌة من فقر قد ٌقع ‪ ,‬أو من عار‬ ‫قد تجلبه حٌن تكبر على قومها ‪.‬‬ ‫وفً ذلك ٌقول القرآن منكراً علٌهم ومقرعا ً لهم ‪ ( :‬وإذا الموءودة سبلت * بؤي ذنب قتلت ) ‪ .‬وٌصؾ‬ ‫حال اآلباء عند والدة البنات ‪ ( :‬وإذا بشر أحدهم باألنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظٌم * ٌتوارى من‬ ‫القوم من سوء ما بشر به ‪ ,‬أٌمسكه على هون أم ٌدسه فً التراب ‪ ,‬أال ساء ما ٌحكمون ) ‪.‬‬ ‫وكانت بعض الشرابع القدٌمة تعطً األب الحق فً بٌع ابنته إذا شاء ‪ ,‬وبعضها اآلخر ‪ -‬كشرٌعة‬ ‫حمورابً ‪ -‬تجٌز له أن ٌسلمها إلى رجل آخر لٌقتلها أو ٌملكها إذا قتل األب ابنه الرجل اآلخر ‪.‬‬ ‫جاء اإلسبلم فاعتبر البنت ‪ -‬كاالبن ‪ -‬هبة من هللا ونعمة ‪ٌ -‬هبها لمن ٌشاء من عباده ‪ٌ ( :‬هب لمن ٌشاء‬ ‫إناثا وٌهب لمن ٌشاء الذكور * أو ٌزوجهم ذكرانا ً وإناثا ً ‪ ,‬وٌجعل من ٌشاء عقٌما ‪ ,‬إنه علٌم قدٌر ) ‪.‬‬ ‫وبٌن القرآن فً قصصه أن بعض البنات قد تكون أعظم أثراً وأخلد ذكراً ‪ ,‬من كثٌر من األبناء الذكور ‪,‬‬ ‫كما فً قصة مرٌم ابنة عمران التً اصطفاها هللا وطهرها واصطفاها على نساء العالمٌن ‪ ,‬وقد كانت‬ ‫أمها عندما حملت بها تتمنى أن تكون ذكراً ٌخدم الهٌكل ‪ ,‬وٌكون من الصالحٌن ‪( .‬إذ قالت امرأة‬ ‫عمران رب إنً نذرت لك ما فً بطني محرراً فتقبل منً ‪ ,‬انك أنت السمٌع العلٌم * فلما وضعتها قالت‬ ‫رب إنً وضعتها أنثى وهللا أعلم بما وضعت ولٌس الذكر كاألنثى ‪ ,‬وإنً سمٌتها مرٌم وإنً أعٌذها بك‬ ‫وذرٌتها من الشٌطان الرجٌم * فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا ً حسنا ً …)‬ ‫وحمل القرآن ‪ -‬حملة شعواء ‪ -‬على أولبك القساة الذٌن ٌقتلون أوالدهم ‪ -‬إناثا ً كانوا أو ذكوراً ‪ -‬فقال‬ ‫تعالى ‪ ( :‬قد خسر الذٌن قتلوا أوالدهم سفها ً بؽٌر علم ) وقال ‪ « .‬وال تقتلوا أوالدكم خشٌة إمبلق ‪ ,‬نحن‬


‫نرزقهم وإٌاكم ‪ ,‬إن قتلهم كان خطبا ً كبٌراً ) ‪.‬‬ ‫وجعل رسول اإلسبلم الجنة جزاء كل أب ٌحسن صحبة بناته ‪ ,‬وٌصبر على تربٌتهن وحسن تؤدٌبهن ‪,‬‬ ‫ورعاٌة حق هللا فٌهن ‪ ,‬حتى ٌبلؽن أو ٌموت عنهن ‪ ,‬وجعل منزلته بجواره ‪ -‬صلى هللا علٌه وسلم ‪ -‬فً‬ ‫دار النعٌم المقٌم ‪.‬‬ ‫روى مسلم عن أنس عنه ‪ -‬صلى هللا علٌه وسلم ‪ -‬أنه قال ‪ « :‬من عال جارٌتٌن حتى تبلؽا ‪ ,‬جاء ٌوم‬ ‫القٌامة أنا وهو …‪ ..‬وضم أصابعه » ‪ ,‬ورواه الترمذي بلفظ ‪ « :‬من عال جارٌتٌن دخلت أنا وهو الجنة‬ ‫كهاتٌن … » ‪ ,‬وأشار بإصبعه السبابة والتً تلٌها ‪.‬‬ ‫وروى ابن عباس عنه ‪ -‬صلى هللا علٌه وسلم « أنه قال ‪ « :‬ما من مسلم له ابنتان فٌحسن إلٌهما ما‬ ‫صحبتاه ‪ -‬أو صحبهما ‪ -‬إال أدخلتاه الجنة » ‪.‬‬ ‫ونصت بعض األحادٌث على أن هذا الجزاء ‪ -‬دخول الجنة ‪ -‬لؤلخ الذي ٌعول أخواته أو أختٌه أٌضا ً ‪.‬‬ ‫كما نص بعض آخر على أن هذه المكافآت اإللهٌة ‪ ,‬لمن أحسن إلى جنس البنات ولو كانت واحدة ‪.‬‬ ‫ففً حدٌث أبى هرٌرة ‪ « :‬من كان له ثبلث بنات ‪ ,‬فصبر على ألوابهن وضرابهن وسرابهن‪ ,‬أدخله هللا‬ ‫الجنة برحمته إٌاهن » ‪ .‬فقال رجل ‪ :‬واثنتان ٌا رسول هللا ؟ قال ‪ « :‬واثنتان » ‪ .‬قال رجل ‪ٌ :‬ا رسول‬ ‫هللا ‪ ,‬وواحدة ؟ قال ‪ « :‬وواحدة » ‪.‬‬ ‫وروى ابن عباس مرفوعا ً « من كانت له أنثى فلم ٌبدها ولم ٌهنها ‪ ,‬ولم ٌإثر ولده ‪ٌ -‬عنً الذكور ‪-‬‬ ‫علٌها ‪ ,‬أدخله هللا الجنة » ‪.‬‬ ‫وفى حدٌث عابشة الذي رواه الشٌخان أن رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم قال ‪ « :‬من ابتلى من هذه‬ ‫البنات بشًء ‪ ,‬فؤحسن إلٌهن كن له ستراً من النار » ‪.‬‬ ‫وبهذه النصوص الصحٌحة الصرٌحة ‪ ,‬والبشارات المكررة المإكدة ‪ ,‬لم تعد والدة البنت عببا ٌخاؾ‬ ‫منه ‪ ,‬وال طالع نحس ٌتطٌر به ‪ ,‬بل نعمة تشكر ‪ ,‬ورحمة ترجى وتطلب ‪ ,‬لما وراءها من فضل هللا‬ ‫تعالى ‪ ,‬وجزٌل مثوبته ‪.‬‬ ‫وبهذا أبطل اإلسبلم عادة الوأد إلى األبد ‪ ,‬وأصبح للبنت فً قلب أبٌها مكان عمٌق ‪ٌ ,‬تمثل فً قول‬ ‫النبً صلى هللا علٌه وسلم فً ابنته فاطمة ‪ « :‬فاطمة بضعة منً ‪ٌ ,‬رٌبنً م ا رابها » ‪.‬‬ ‫ونلمس أثر ذلك فً األدب اإلسبلمً فً مثل قول الشاعر ‪:‬‬ ‫لـوال بنٌـات كزؼب القطا رددن من بعـض إلى بعض‬ ‫لكان لً مضطرب واسع فً األرض ذات الطول والعرض‬ ‫وإنمـا أوالدنـا بٌننـا أكبادنـا تمشــً على األرض !‬ ‫إن هـبت الرٌح على بعضهم امتنعت عـٌنً عن الؽمض‬ ‫وأما سلطان األب على ابنته فبل ٌتجاوز حدود التؤدٌب والرعاٌة والتهذٌب الدٌنً والخلقً ‪ ,‬شؤنها شؤن‬ ‫إخوانها الذكور ‪ ,‬فٌؤمرها بالصبلة إذا بلؽت سبع سنٌن ‪ ,‬وٌضربها علٌها إذا بلؽت عشراً ‪ ,‬وٌفرق حٌنبذ‬ ‫بٌنها وبٌن إخوتها فً المضجع ‪ ,‬وٌلزمها أدب اإلسبلم فً اللباس والزٌنة والخروج والكبلم ‪.‬‬ ‫ونفقته علٌها واجبة دٌنا ً وقضا ًء حتى تتزوج ‪.‬‬ ‫ولٌس له سلطة بٌعها أو تملٌكها لرجل أخر بحال من األحوال ‪ ,‬فقد أبطل اإلسبلم بٌع الحر ‪ -‬ذكراً كان‬ ‫أو أنثى ‪ -‬بكل وجه من الوجوه ‪.‬‬ ‫ولو أن رجبلً حراً اشترى أو ملك ابنة له كانت رقٌقة عند ؼٌره ‪ ,‬فإنها تعتق علٌه بمجرد تملكها ‪ ,‬شاء‬ ‫أم أبى ‪ ,‬بحكم قانون اإلسبلم ‪.‬‬ ‫وإذا كان للبنت مال خاص بها ‪ ,‬فلٌس لؤلب إال حسن القٌام علٌه بالمعروؾ ‪ . .‬وال ٌجوز له أن ٌزوجها‬


‫لرجل آخر ‪ ,‬على أن ٌزوجه األخر ابنته ‪ ,‬على طرٌقة التبادل ‪ ,‬وهو المسمى فً الفقه بـ « نكاح‬ ‫الشؽار » وذلك لخلو الزواج من المهر الذي هو حق البنت ال حق أبٌها ‪.‬‬ ‫ولٌس لؤلب حق تزوٌج ابنته البالؽة ممن تكرهه وال ترضاه ‪ .‬وعلٌه أن ٌؤخذ رأٌها فٌمن تتزوجه ‪:‬‬ ‫أتقبله أم ترفضه ‪ .‬فإذا كانت ثٌبا فبل بد أن تعلن موافقتها بصرٌح العبارة ‪ ,‬وان كانت بكراً ٌؽلبها حٌاء‬ ‫العذراء اكتفى بسكوتها ‪ ,‬فالسكوت عبلمة الرضا ‪ ,‬فإن قالت ‪ :‬ال ‪ . .‬فلٌس له سلطة إجبارها على‬ ‫الزواج بمن ال ترٌد ‪.‬‬ ‫روى الجماعة عن أبى هرٌرة مرفوعا ‪ «:‬ال تنكح األٌم حتى تستؤمر وال البكر حتى تستؤذن » ‪ .‬قالوا ‪:‬‬ ‫ٌا رسول هللا ‪ ,‬وكٌؾ إذنها ؟ قال ‪ « :‬أن تسكت » ‪.‬‬ ‫وروى الشٌخان عن عابشة قالت ‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ‪ « :‬البكر تستؤذن ‪ .‬قلت ‪ :‬إن‬ ‫البكر تستؤذن وتستحً ! قال ‪ « :‬إذنها صماتها » ‪ ,‬ولهذا قال العلماء ‪ٌ :‬نبؽً إعبلم البكر بؤن سكوتها‬ ‫إذن ‪.‬‬ ‫وعن خنساء بنت خدام األنصارٌة ‪ « :‬أن أباها زوجها وهً ثٌب فكرهت ذلك ‪ ,‬فؤتت رسول هللا صلى‬ ‫هللا علٌه وسلم فرد نكاحها » ‪.‬‬ ‫وعن ابن عباس ‪ :‬أن جارٌة بكراً أتت رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهً‬ ‫كارهة ‪ ,‬فخٌرها النبً صلى هللا علٌه وسلم ‪.‬‬ ‫وفً هذا دلٌل على أن األب ال ٌتمٌز عن ؼٌره فً وجوب استبذان البكر ‪ ,‬وضرورة الحصول على‬ ‫موافقتها ‪ .‬وفى صحٌح مسلم وؼٌره ‪ « :‬والبكر ٌستؤمرها أبوها » أي ٌطلب أمرها وإذنها ‪.‬‬ ‫وعن عابشة ‪ :‬أن فتاة دخلت علٌها ‪ ,‬فقالت ‪ :‬إن أبً زوجنً من ابن أخٌه ‪ ,‬لٌرفع بً خسٌسته ‪ ,‬وأنا‬ ‫كارهة ‪ .‬قالت ‪ :‬اجلسً حتى ٌؤتً النبً صلى هللا علٌه وسلم ‪ ,‬فؤخبرته ‪ ,‬فؤرسل إلى أبٌها ‪ ,‬فدعاه ‪,‬‬ ‫فجعل األمر إلٌها ‪ .‬فقالت ‪ٌ :‬ا رسول هللا ‪ :‬قد أجزت ما صنع أبً ‪ ,‬ولكن أردت أن أعلم ‪ :‬أللنساء من‬ ‫األمر شًء » ؟ ‪.‬‬ ‫وظاهر األحادٌث ٌدل على أن استبذان البكر والثٌب شرط فً صحة العقد ‪ ,‬فإن زوج األب أو الولً‬ ‫الثٌب بؽٌر إذنها فالعقد باطل مردود ‪ ,‬كما فً قصة خنساء بنت خدام ‪ ..‬وفً البكر ‪ :‬هً صاحبة الخٌار‬ ‫إن شاءت أجازت ‪ ,‬وان شاءت أبت ‪ ,‬فٌبطل العقد كما فً قصة الجارٌة ‪.‬‬ ‫ومن جمٌل ما جاء به اإلسبلم ‪ :‬أنه أمر باستشارة األم فً زواج ابنتها ‪ ,‬حتى ٌتم الزواج برضا‬ ‫األطراؾ المعنٌة كلها ‪ .‬فعن ابن عمر أن النبً صلى هللا علٌه وسلم قال ‪ « :‬آمروا النساء فً بناتهن »‬ ‫‪.‬‬ ‫وإذا كان األب ال ٌحق له تزوٌج ابنته ممن ال ترضاه ‪ .‬كان من حقه علٌها أال تزوج نفسها إال بإذنه‬ ‫لحدٌث ‪ « :‬ال نكاح إال بولً » ‪.‬‬ ‫ورأى أبو حنٌفة وأصحابه أن من حق الفتاة أن تزوج نفسها ‪ ,‬ولو بؽٌر إذن أبٌها وولٌها ‪ ,‬بشرط أن‬ ‫ٌكون الزوج كفبا ً لها ‪ .‬ولم ٌثبت عندهم الحدٌث المذكور ‪.‬‬ ‫واألولى أن ٌتم الزواج بموافقة األب واألم واالبنة ‪ .‬حتى ال ٌكون هناك مجال للقٌل والقال ‪ ,‬والخصومة‬ ‫والشحناء ‪ ,‬وقد شرع هللا الزواج مجلبة للمودة والرحمة ‪.‬‬ ‫ها ‪ ,‬وأن ٌكون همه الخلق‬ ‫والمطلوب من األب أن ٌتخٌر البنته الرجل الصالح الذي ٌسعدها وٌسعد ب‬ ‫والدٌن ‪ ,‬ال المادة والطٌن ‪ ,‬وأال ٌعوق زواجها إذا حضر كفإها ‪ .‬وفى الحدٌث ‪ « :‬إذا أتاكم من‬ ‫ترضون خلقه ودٌنه فزوجوه‪ .‬إال تفعلوا تكن فتنة فً األرض وفساد عرٌض »‪ .‬وبهذا علم اإلسبلم‬ ‫األب أن ابنته « إنسان » قبل كل شًء ‪ ,‬فهً تطلب إنسانا ً مثلها ‪ ,‬ولٌست « سلعة » تعرض وتعطى‬ ‫لمن ٌدفع نقوداً أكثر ‪ ,‬كما هو شؤن كثٌر من اآلباء الجاهلٌن والطامعٌن إلى الٌوم ‪ .‬وفى الحدٌث ‪« :‬‬ ‫أعظم النكاح بركة أٌسره مبونة » ‪.‬‬


‫المرأة باعتبارها زوجة‬ ‫كانت بعض الدٌانات والمذاهب تعتبر المرأة رجسا ً من عمل الشٌطان ‪ٌ ,‬جب الفرار منه واللجوء إلى‬ ‫حٌاة التبتل والرهبنة ‪.‬‬ ‫وبعضها اآلخر كان ٌعتبر الزوجة مجرد آلة متاع للرجل ‪ ,‬أو طاه لطعامه ‪ ,‬أو خادم لمنزله ‪ .‬فجاء‬ ‫اإلسبلم ٌعلن بطبلن الرهبانٌة وٌنهى عن التبتل ‪ ,‬وٌحث على الزواج ‪ ,‬وٌعتبر الزوجٌة آٌة من آٌات هللا‬ ‫فً الكون ‪ ( :‬ومن آٌاته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا ً لتسكنوا إلٌها وجعل بٌنكم مودة ورحمة ‪ ,‬إن فً‬ ‫ذلك آلٌات لقوم ٌتفكرون ) ‪.‬‬ ‫وحٌن أراد جماعة من الصحابة أن ٌتبتلوا وٌنقطعوا للعبادة ‪ ,‬صابمٌن النهار ‪ ,‬قابمٌن اللٌل ‪ ,‬معتزلٌن‬ ‫النساء ‪ ,‬أنكر علٌهم النبً صلى هللا علٌه وسلم ذلك قاببلً ‪ « :‬أما أنا فؤصوم وأفطر ‪ ,‬وأقوم وأنام ‪,‬‬ ‫وأتزوج النساء ‪ ,‬فمن رؼب عن سنتً فلٌس منً » ‪.‬‬ ‫وجعل اإلسبلم الزوجة الصالحة للرجل أفضل ثروة ٌكتنزها من دنٌاه ‪ -‬بعد اإلٌمان باهلل وتقواه ‪ -‬وعدها‬ ‫أحد أسباب السعادة ‪ ,‬وفً الحدٌث ‪ « :‬ما استفاد المإمن بعد تقوى هللا عز وجل خٌراً من زوجة صالحة‬ ‫‪ ,‬إن أمرها أطاعته ‪ ,‬وان نظر إلٌها سرته ‪ ,‬وان أقسم علٌها أبرته ‪ ,‬وان ؼاب عنها حفظته فً نفسها‬ ‫وماله » ‪.‬‬ ‫وقال علٌه الصبلة والسبلم ‪ « :‬الدنٌا متاع وخٌر متاعها المرأة الصالحة » ‪.‬‬ ‫وقال ‪ « :‬من سعادة ابن آدم المرأة الصالحة ‪ ,‬والمسكن الصالح ‪ ,‬والمركب الصالح » ‪.‬‬ ‫ورفع اإلسبلم من قٌمة المرأة باعتبارها زوجة‪ ,‬وجعل قٌامها بحقوق الزوجٌة جهاداً فً سبٌل هللا‪.‬‬ ‫جاءت امرأة النبً صلى هللا علٌه وسلم فقالت ‪ٌ :‬ا رسول هللا ‪ ,‬إنً رسول النساء إلٌك ‪ ,‬وما منهن امرأة‬ ‫ علمت أو لم تعلم ‪ -‬إال وهً تهوى مخرجً إلٌك ‪ .‬ثم عرضت قضٌتها فقالت ‪ :‬هللا رب الرجال‬‫والنساء وإلههن ‪ ,‬وأنت رسول هللا إلى الرجال والنساء ‪ ,‬كتب هللا الجهاد على الرجال ‪ ,‬فإن أصابوا‬ ‫أجروا وان استشهدوا كانوا أحٌاء عند ربهم ٌرزقون ‪ ,‬فما ٌعدل ذلك من أعمالهم من الطاعة ؟ قال ‪« :‬‬ ‫طاعة أزواجهن والقٌام بحقوقهم ‪ ,‬وقلٌل منكن من ٌفعله » ‪.‬‬ ‫وقرر اإلسبلم للزوجة حقوقا ً على زوجها ‪ ,‬ولم ٌجعلها مجرد حبر على ورق ‪ ,‬بل جعل علٌها أكثر من‬ ‫حافظ ورقٌب ‪ :‬من إٌمان المسلم وتقواه أوالً ‪ ,‬ومن ضمٌر المجتمع وٌقظته ثانٌا ً ‪ ,‬ومن حكم الشرع‬ ‫وإلزامه ثالثا ً ‪.‬‬ ‫وأول هذه الحقوق هو « الصداق » الذي أوجبه اإلسبلم للمرأة على الرجل إشعارا منه برؼبته فٌها‬ ‫وإرادته لها ‪ .‬قال تعالى ‪ ( :‬وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ‪ ,‬فإن طبن لكم عن شًء منه نفسا فكلوه هنٌبا‬ ‫مرٌبا ) ‪.‬‬ ‫فؤٌن هذا من المرأة التً نجدها فً مدنٌات أخرى ‪ :‬تدفع هً للرجل بعض مالها ! مع أن فطرة هللا‬ ‫جعلت المرأة مطلوبة ال طالبة ؟‬ ‫وثانً هذه الحقوق ‪ ,‬هو « النفقة » ‪ .‬فالرجل مكلؾ بتوفٌر المؤكل والملبس والمسكن والعبلج المرأته ‪.‬‬ ‫قال علٌه الصبلة والسبلم فً بٌان حقوق النساء ‪ « :‬ولهن علٌكم رزقهن وكسوتهن بالمعروؾ » ‪,‬‬ ‫والمعروؾ هو ما ٌتعارؾ علٌه أهل الدٌن والفضل من الناس ببل إسراؾ وال تقتر ‪ ,‬قال تعالى ‪( :‬‬ ‫لٌنفق ذو سعة من سعته ‪ ,‬ومن قدر علٌه رزقه فلٌنفق مما آتاه هللا ‪ ,‬ال ٌكلؾ هللا نفسا ً إال ما آتاها ) ‪.‬‬ ‫وثالث الحقوق ‪ ,‬هو « المعاشرة بالمعروؾ » ‪ .‬قال تعالى ‪ ( :‬وعاشروهن بالمعروؾ ) ‪.‬‬ ‫وهو حق جامع ٌتضمن إحسان العاملة فً كل عبلقة بٌن المرء وزوجه ‪ ,‬من حسن الخلق ‪ ,‬ولٌن‬ ‫سها بالممازحة والترفٌه عنها ‪ٌ ,‬قول الرسول‬ ‫الجانب ‪ ,‬وطٌب الكبلم ‪ ,‬وبشاشة الوجه ‪ ,‬وتطٌ​ٌب نؾ‬ ‫صلى هللا علٌه وسلم ‪ « :‬أكمل المإمنٌن إٌمانا ً أحسنهم خلقا ً وألطفهم بؤهله » ‪.‬‬


‫وروى ابن حبان عن عابشة أنه صلى هللا علٌه وسلم قال ‪ « :‬خٌركم خٌركم ألهله ‪ ,‬وأنا خٌركم ألهلً‬ ‫» وقد أثبتت السٌرة النبوٌة العملٌة لطفه ‪ -‬علٌه الصبلة والسبلم ‪ -‬بؤهله ‪ ,‬وحسن خلقه مع أزواجه ‪,‬‬ ‫حتى إنه كان ٌساعدهن فً أعمال البٌت أحٌانا ً ‪ ,‬وبلػ من مبلطفته لهن أنه سابق عابشة مرتٌن ‪ ,‬فسبقته‬ ‫مرة وسبقها أخرى ‪ ,‬فقال لها ‪ « :‬هذه بتلك » ‪.‬‬ ‫وفى مقابل هذه الحقوق أوجب علٌها طاعة الزوج ‪ -‬فً ؼٌر معصٌة طبعا ‪ -‬والمح افظة على ماله ‪ ,‬فبل‬ ‫تنفق منه إال بإذنه ‪ ,‬وعلى بٌته ‪ ,‬فبل تدخل فٌه أحداً إال برضاه ولو كان من أهلها ‪ .‬وهذه الواجبات‬ ‫لٌست كثٌرة وال ظالمة فً مقابل ما على الرجل من حقوق ‪ ,‬فمن المقرر أن كل حق ٌقابله واجب ‪,‬‬ ‫ومن عدل اإلسبلم أنه لم ٌجعل الواجبات على المرأة وحدها ‪ ,‬وال على الرجل وحده ‪ ,‬بل قال تعالى ‪( :‬‬ ‫ولهن مثل الذي علٌهن بالمعروؾ ) فللنساء من الحقوق مثل ما علٌهن من الواجبات ‪.‬‬ ‫ومن جمٌل ما ٌروى أن ابن عباس وقؾ أمام المرآة ٌصلح من هٌبته ‪ ,‬وٌعدل من زٌنته ‪ ,‬فلما سبل فً‬ ‫ذلك قال ‪ :‬أتزٌن المرأتً كما تتزٌن لً امرأتً ‪ .‬ثم تال اآلٌة الكرٌمة ‪ ( :‬ولهن مثل الذي علٌهن‬ ‫بالمعروؾ )‪ .‬وهذا من أظهر األدلة على عمٌق فقه الصحابة رضً هللا عنهم للقرآن الكرٌم ‪.‬‬

‫استقالل الزوجة‬ ‫لم ٌهدر اإلسبلم شخصٌة المرأة بزواجها ‪ ,‬ولم ٌذبها فً شخصٌة زوجها ‪ ,‬كما هو الشؤن فً التقالٌد‬ ‫الؽربٌة ‪ ,‬التً تجعل المرأة تابعة لرجلها ‪ ,‬فبل تعرؾ باسمها ونسبها ولقبها العابلً ‪ ,‬بل بؤنها زوجة‬ ‫فبلن ‪.‬‬ ‫أما اإلسبلم فقد أبقى للمرأة شخصٌتها المستقلة المتمٌزة ‪ ,‬ولهذا عرفنا زوجات الرسول بؤسمابهن‬ ‫وأنسابهن ‪ .‬فخدٌجة بنت خوٌلد ‪ ,‬وعابشة بنت أبى بكر ‪ ,‬وحفصة بنت عمر ‪ ,‬ومٌمونة بنت الحارث ‪,‬‬ ‫وصفٌة بنت حٌى ‪ ,‬وكان أبوها ٌهودٌا محاربا ً للرسول صلى هللا علٌه وسلم ‪.‬‬ ‫كما أن شخصٌتها المدنٌة ال تنقص بالزواج ‪ ,‬وال تفقد أهلٌتها للعقود والمعامبلت وسابر التصرفات ‪,‬‬ ‫فلها أن تبٌع وتشتري ‪ ,‬وتإجر أمبلكها وتستؤجر وتهب من مالها وتتصدق وتوكل‬ ‫وتخاصم ‪ .‬وهذا أمر لم تصل إلٌه المرأة الؽربٌة إال حدٌثا ً ‪ ,‬وال زالت فً بعض الببلد مقٌدة إلى حد ما‬ ‫بإرادة الزوج ‪.‬‬

‫المرأة باعتبارها أنثى‬ ‫قدر اإلسبلم أنوثة المرأة ‪ ,‬واعتبرها ‪ -‬لهذا الوصؾ ‪ -‬عنصراً مكمبلً للرجل ‪ ,‬كما أنه مكمل لها ‪ ,‬فلٌس‬ ‫أحدهما خصما ً لآلخر‪ ,‬وال نداً له وال منافسا ً ‪ ,‬بل عونا له على كمال شخصه ونوعه ‪.‬‬ ‫فقد اقتضت سنة هللا فً المخلوقات ‪ ,‬أن ٌكون االزدواج من خصابصها فنرى الذكورة واألنوثة فً عالم‬ ‫اإلنسان والحًوان والنبات ‪ ,‬ونرى الموجب والسالب فً عالم الجمادات من الكهرباء ‪ ,‬والمؽناطٌس‬ ‫وؼٌرها حتى الذرة ‪ ,‬فٌها الشحنة الكهربابٌة الموجبة ‪ ,‬والشحنة السالبة ( اإللكترون والبروتون ) ‪.‬‬


‫والى ذلك أشار القرآن منذ أربعة عشر قرنا ً فقال ‪( :‬ومن كل شًء خلقنا زوجٌن لعلكم تذكرون ) ‪.‬‬ ‫فالذكر واألنثى كالعلبة وؼطابها ‪ ,‬والشًء والزمه ‪ ,‬ال ؼنى ألحدهما عن اآلخر ‪.‬‬ ‫ومنذ خلق هللا النفس البشرٌة األولى ‪ -‬آدم ‪ -‬خلق منها زوجها ‪ -‬حواء ‪ -‬لٌسكن إلٌها ‪ ,‬ولم ٌتركه وحده ‪,‬‬ ‫حتى ولو كانت هذه الوحدة فً الجنة ‪ ,‬وكان الخطاب اإللهً لهما معا ‪ ,‬أمراً ونهٌا ً ‪ ( :‬اسكن أنت‬ ‫وزوجك الجنة وكبل منها رؼداً حٌث شبتما وال تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمٌن ) ‪.‬‬ ‫فالمرأة ‪ -‬بهذا ‪ -‬ؼٌر الرجل ‪ ,‬ألنها تكمله وٌكملها ‪ ,‬والشًء ال ٌكمل نفسه ‪ ,‬والقرآن الكرٌم ٌقول ‪( :‬‬ ‫ولٌس الذكر كاألنثى ) ‪ .‬كما أن الموجب ؼٌر السالب ‪ ,‬والسالب ؼٌر الموجب ‪.‬‬ ‫ومع هذا لم تخلق لتكون نداً له وال خصما ‪ ,‬بل هً منه وله ‪ ( :‬بعضكم من بعض ) ‪ ( ,‬وهللا جعل لكم‬ ‫من أنفسكم أزواجا ) ‪.‬‬ ‫واقتضت حكمة هللا أن ٌكون التكوٌن العضوي والنفسً للمرأة ٌحمل عناصر الجاذبٌة للرجل وقابلٌة‬ ‫االنجذاب إلٌه ‪.‬‬ ‫وركب هللا فً كل من الرجل والمرأة شهوة ؼرٌزٌة فطرٌة قوٌة تسوقهما إلى التجاذب واللقاء حتى‬ ‫تستمر الحٌاة وٌبقى النوع ‪.‬‬ ‫ومن ثم ٌرفض اإلسبلم كل نظام ٌصادم هذه الفطرة وٌعطلها ‪ ,‬كنظام الرهبنة ‪ .‬ولكنه حظر كل‬ ‫تصرٌؾ لهذه الطاقة على ؼٌر ما شرعه هللا ورضٌه من الزواج الذي هو أساس األسرة ‪ ,‬ولهذا حرم‬ ‫الزنى ‪ ,‬كما حرمته األدٌان السماوٌة كلها ‪ ,‬ونهى عن الفواحش ‪ ,‬ما ظهر منها وما بطن ‪ ,‬وسد كل منفذ‬ ‫ٌإدي إلى هذه الفواحش ‪ ,‬حماٌة للرجل والمرأة من عوامل اإلثارة وبواعث الفتنة واإلؼراء ‪.‬‬ ‫وعلى هذا األساس من النظر إلى فطرة المرأة ‪ ,‬وما ٌجب أن تكون علٌه فً عبلقتها بالرجل ‪ٌ ,‬عامل‬ ‫اإلسبلم المرأة ‪ ,‬وٌقٌم كل نظمه وتوجٌهاته وأحكامه ‪.‬‬ ‫إنه ٌرعى أنوثتها الفطرٌة ‪ ,‬وٌعترؾ بمقتضٌاتها فبل ٌكبتها وال ٌصادرها ‪ ,‬ولكنه ٌحول بٌنها وبٌن‬ ‫الطرٌق الذي ٌإدي إلى ابتذالها ‪ ,‬وامتهان أنوثتها ‪ ,‬وٌحمٌها من ذباب البشر ‪ ,‬وكبلب الصٌد ‪ ,‬التً‬ ‫تخطؾ بنات حواء ‪ ,‬لتنهشها نهشا ً‪ ,‬وتستمتع بها لحما ً ‪ ,‬ثم ترمٌها عظما ً ‪.‬‬ ‫ونستطٌع أن نحدد موقؾ اإلسبلم من أنوثة المرأة فٌما ٌلً ‪:‬‬ ‫‪ .1‬إنه ٌحافظ على أنوثتها ‪ ,‬حتى تظل ٌنبوعا ً لعواطؾ الحنان والرقة والجمال ‪ ,‬ولهذا أحل لها بعض‬ ‫ما حرم على الرجال ‪ ,‬بما تقتضٌه طبٌعة األنثى ووظٌفتها ‪ ,‬كالتحلً بالذهب ‪ ,‬ولبس الحرٌر الخالص ‪,‬‬ ‫فقد جاء فً الحدٌث ‪ « :‬إن هذٌن حرام على ذكور أمتً حل إلناثهم » ‪.‬‬ ‫كما أنه حرم علٌها كل ما ٌجافً هذه األنوثة ‪ ,‬من التشبه بالرجال فً الزي والحركة والسلوك وؼٌرها‬ ‫‪ ,‬فنهى أن تلبس المرأة لبسة الرجل ‪ ,‬كما نهى الرجل أن يلبس لبسة المرأة ‪ ,‬ولعن المتشبهات من النساء‬ ‫بالرجال ‪ ,‬مثلما لعن المتشبهٌن من الرجال بالنساء ‪ ,‬وفً الحدٌث ‪ « :‬ثبلثة ال ٌدخلون الجنة وال ٌنظر‬ ‫هللا إلٌهم ٌوم القٌامة ‪ :‬العاق لوالدٌه ‪ ,‬والمرأة المترجلة ‪ -‬المتشبهة بالرجال ‪ -‬والدٌوث » ‪ .‬والدٌوث ‪:‬‬ ‫الذي ال ٌبالً من دخل على أهله ‪.‬‬ ‫‪ .2‬وهو ٌحمً هذه األنوثة وٌرعى ضعفها ‪ ,‬فٌجعلها أبداً فً ظل رجل ‪ ,‬مكفولة النفقات ‪ ,‬مكفٌة‬ ‫الحاجات ‪ ,‬فهً فً كنؾ أبٌها أو زوجها أو أوالدها أو أخوتها ‪ٌ ,‬جب علٌهم نفقتها ‪ ,‬وفق شرٌعة‬ ‫اإلسبلم ‪ ,‬فبل تضطرها الحاجة إلى الخوض فً لجج الحٌاة وصراعها ومزاحمة الرجال بالمناكب ‪.‬‬ ‫‪ .3‬وهو ٌحافظ على خلقها وحٌابها ‪ ,‬وٌحرص على سمعتها وكرامتها ‪ ,‬وٌصون عفافها من خواطر‬ ‫السوء ‪ ,‬وألسنة السوء ‪ -‬فضبلً من أٌدي السوء ‪ -‬أن تمتد إلٌها ‪.‬‬ ‫ولهذا ٌوجب اإلسبلم علٌها ‪:‬‬ ‫( أ ) الؽض من بصرها والمحافظة على عفتها ونظافتها ‪ ( :‬وقل للمإمنات ٌؽضضن من أبصارهن‬ ‫وٌحفظن فروجهن ) ‪.‬‬ ‫( ب ) االحتشام والتستر فً لباسها وزٌنتها دون إعنات لها ‪ .‬وال تضٌ​ٌق علٌها ‪ ( :‬وال ٌبدٌن زٌنتهن‬ ‫إال ما ظهر منها ‪ ,‬ولٌضربن بخمرهن على جٌوبهن ) ‪ .‬وقد فسر ‪ ( :‬ما ظهر منها ) بالكحل والخاتم ‪,‬‬


‫وبالوجه والكفٌن ‪ ,‬وزاد بعضهم ‪ :‬القدمٌن ‪.‬‬ ‫( جـ ) أال تبدي زٌنتها الخفٌة ‪ -‬كالشعر والعنق والنحر والذراعٌن والساقٌن ‪ -‬إال لزوجها ومحارمها‬ ‫الذٌن ٌشق علٌها أن تستتر منهم استتارها من األجانب ‪ ( :‬وال ٌبدٌن زٌنتهن إال لبعولتهن أو آبابهن أو‬ ‫آباء بعولتهن أو أبنابهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بنً إخوانهن أو بنً أخواتهن أو نسابهن أو ما‬ ‫ملكت أٌمانهن أو التابعٌن ؼٌر أولً اإلربة من الرجال أو الطفل الذٌن لم ٌظهروا على عورات النساء )‬ ‫‪.‬‬ ‫( د ) أن تتوقر فً مشٌتها وكبلمها ‪ ( :‬وال ٌضربن بؤرجلهن لٌعلم ما ٌخفٌن من زٌنتهن ) ‪ ( .‬فبل‬ ‫تخضعن بالقول فٌطمع الذي فً قلبه مرض وقلن قوالً معروفا ً ) ‪ .‬فلٌست ممنوعة من الكبلم ‪ ,‬ولٌس‬ ‫صوتها عوره ‪ ,‬بل هً مؤمورة أن تقول قوالً معروفا ً ‪.‬‬ ‫( هـ ) أن تتجنب كل ما ٌجذب انتباه الرجل إلٌها ‪ ,‬وٌؽرٌه بها ‪ ,‬من تبرج الجاهلٌة األولى أو األخٌرة ‪,‬‬ ‫فهذا لٌس من خلق المرأة العفٌفة ‪ .‬وفً الحدٌث ‪ « :‬أٌما امرأة استعطرت ثم خرجت من بٌتها لٌشم‬ ‫الناس رٌحها فهً زانٌة » أي تفعل فعلها ‪ ,‬وان لم تكن كذلك ‪ ,‬فٌجب أن تتنزه عن هذا السلوك ‪.‬‬ ‫( و ) أن تمتنع عن الخلوة بؤي رجل لٌس زوجها وال محرما ً لها ‪ ,‬صونا ً لنفسها ونفسه من هواجس‬ ‫اإلثم ‪ ,‬ولسمعتها من ألسنة الزور ‪ « :‬ال ٌخلون رجل بامرأة إال مع ذي محرم » ‪.‬‬ ‫( ز ) أال تختلط بمجتمع الرجال األجانب إال لحاجة داعٌة ‪ ,‬ومصلحة معتبرة ‪ ,‬وبالقدر البلزم ‪,‬‬ ‫كالصبلة فً المسجد ‪ ,‬وطلب العلم ‪ ,‬والتعاون على البر والتقوى ‪ ,‬بحٌث ال تحرم المرأة من المشاركة‬ ‫فً خدمة مجتمعها ‪ ,‬وال تنسى الحدود الشرعٌة فً لقاء الرجال ‪.‬‬ ‫إن اإلسبلم بهذه األحكام ٌحمً أنوثة المرأة من أنٌاب المفترسٌن من ناحٌة ‪ ,‬وٌحفظ علٌها حٌاءها‬ ‫وعفافها بالبعد عن عوامل االنحراؾ والتضلٌل من ناحٌة ثانٌة ‪ ,‬وٌصون عرضها من ألسنة المفترٌن‬ ‫والمرجفٌن من ناحٌة ثالثة ‪ ,‬وهو ‪ -‬مع هذا كله ‪ٌ -‬حافظ على نفسها وأعصابها من التوتر والقلق ‪ ,‬ومن‬ ‫الهزات واالضطرابات ‪ ,‬نتٌجة لجموح الخٌال ‪ ,‬وانشؽال القلب ‪ ,‬وتوزع عواطفه بٌن شتى المثٌرات‬ ‫والمهٌجات ‪.‬‬ ‫وهو أٌضا ‪ -‬بهذه األحكام والتشرٌعات ‪ٌ -‬حمً الرجل من عوامل االنحراؾ والقلق ‪ ,‬وٌحمً المجتمع‬ ‫كله من عوامل السقوط واالنحبلل ‪.‬‬

‫االختالط المشروع‬ ‫دخلت معجمنا الحدٌث كلمات أصبح لها دالالت لم تكن لها من قبل ‪ .‬من ذلك كلمة « االختبلط » بٌن‬ ‫الرجل والمرأة ‪ .‬فقد كانت المرأة المسلمة ‪ -‬فً عصر النبوة وعصر الصحابة والتابعٌن ‪ -‬تلقى الرجل ‪,‬‬ ‫وكان الرجل ٌلقى المرأة ‪ ,‬فً مناسبات مختلفة ‪ ,‬دٌنٌة ودنٌوٌة ‪ ,‬ولم ٌك ذلك ممنوعا ً بإطبلق ‪ ,‬بل كان‬ ‫مشروعا ً إذا وجدت أسبابه ‪ ,‬وتوافرت ضوابطه ‪ ,‬ولم ٌكونوا ٌسمون ذلك « اختبلطا ً » ‪.‬‬ ‫ثم شاعت هذه الكلمة فً العصر الحدٌث ‪ -‬وال أدري متى بدأ استعمالها ‪ -‬بما لها من إٌحاء ‪ٌ ,‬نفر منه‬ ‫حس المسلم والمسلمة ؛ ألن خلط شًء بشًء ٌعنً إذابته فٌه ‪ ,‬كخلط الملح أو السكر بالماء ‪.‬‬ ‫المهم أن نإكد هنا أن لٌس كل اختبلط ممنوعا ً ‪ ,‬كما ٌتصور ذلك وٌصوره دعاة التشدٌد والتضٌ​ٌق ‪,‬‬ ‫ولٌس كذلك كل اختبلط مشروعا ً ‪ ,‬كما ٌروج لذلك دعاة التبعٌة والتؽرٌب ‪.‬‬ ‫ولقد تعرضت لهذا الموضوع مجٌبا عن عدة أسبلة فً الجزء الثانً من كتابً « فتاوى معاصرة »‬ ‫منها ‪ :‬ما ٌتعلق باالختبلط ‪ ,‬وما ٌتصل بإلقاء السبلم على النساء ‪ ,‬وبالمصافحة ‪ ,‬وعٌادة الرجال للنساء‬


‫‪ ,‬والنساء للرجال … الخ ‪.‬‬ ‫والذي أود أن أذكره هنا ‪ :‬أن الواجب علٌنا أن نلتزم بخٌر الهدي ‪ ,‬وهو هدي محمد صلى هللا علٌه وسلم‬ ‫‪ ,‬وهدي خلفابه الراشدٌن ‪ ,‬وأصحابه المهدٌ​ٌن ‪ ,‬بعٌداً عن نهج الؽرب المتحلل ‪ ,‬ونهج الشرق المتشدد ‪.‬‬ ‫والمتؤمل فً خٌر الهدي ٌرى أن المرأة لم تكن كما حدث ذلك فً عصور تخلؾ المسلمٌن ‪ .‬فقد كانت‬ ‫امرأة تشهد الجماعة والجمعة ‪ ,‬فً مسجد رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ‪ ,‬وكان علٌه الصبلة والسبلم‬ ‫ٌحثهن على أن ٌتخذن مكانهن فً الصفوؾ األخٌرة خلؾ صفوؾ الرجال ‪ ,‬وكلما كان الصؾ أقرب‬ ‫إلى المإخرة كان أفضل ‪ ,‬خشٌة أن ٌظهر من عورات الرجال شًء ‪ ,‬وكان أكثرهم ال ٌعرفون‬ ‫السراوٌل ‪ ,‬ولم ٌكن بٌن الرجال والنساء أي حابل من بناء أو خشب أو نسٌج ‪ ,‬أو ؼٌر …‬ ‫وكانوا فً أول األمر ٌدخل الرجال والنساء من أي باب اتفق لهم ‪ ,‬فٌحدث نوع من التزاحم عند الدخول‬ ‫والخروج ‪ ,‬فقال علٌه الصبلة والسبلم ‪ « :‬لو أنكم جعلتم هذا الباب للنساء » ‪ .‬فخصصوه بعد ذلك لهن‬ ‫‪ ,‬وصار ٌعرؾ إلى الٌوم باسم « باب النساء » ‪.‬‬ ‫وكان النساء فً عصر النبوة ٌحضرن الجمعة ‪ ,‬وٌسمعن الخطبة ‪ ,‬حتى إن إحداهن حفظت سورة « ق‬ ‫» من فً رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم من طول ما سمعتها من فوق منبر الجمعة ‪.‬‬ ‫وكان النساء ٌحضرن كذلك صبلة العٌدٌن ‪ ,‬وٌشاركن فً هذا المهرجان اإلسبلمً الكبٌر ‪ ,‬الذي ٌضم‬ ‫الكبار والصؽار ‪ ,‬والرجال والنساء ‪ ,‬فً الخبلء مهللٌن مكبرٌن ‪.‬‬ ‫روى مسلم عن أم عطٌة قالت ‪ « :‬كنا نإمر بالخروج فً العٌدٌن ‪ ,‬والمخبؤة والبكر » ‪.‬‬ ‫وفى رواٌة قالت ‪ :‬أمرنا رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم أن نخرجهن فً الفطر واألضحى ‪:‬‬ ‫العواتق والحٌض وذوات الخدور ‪ ,‬فؤما الحٌض فٌعتزلن الصبلة ‪ ,‬وٌشهدن الخٌر ودعوة المسلمٌن ‪,‬‬ ‫قلت ‪ٌ :‬ا رسول هللا ‪ ,‬إحدانا ال ٌكون لها جلباب ‪ ,‬قال ‪ « :‬لتلبسها أختها من جلبابها » ‪.‬‬ ‫وهذه سنة أماتها المسلمون فً جل البلدان أو فً كلها ‪ ,‬إال ما قام به مإخراً شباب الصحوة اإلسبلمٌة‬ ‫الذي أحٌوا بعض ما مات من السنن ‪ ,‬مثل سنة االعتكاؾ فً العشر األواخر من رمضان ‪ ,‬وسنة شهود‬ ‫النساء صبلة العٌد ‪.‬‬ ‫وكان النساء ٌحضرن دروس العلم ‪ ,‬مع الرجال عند النبً صلى هللا علٌه وسلم ‪ ,‬وٌسؤلن عن‬ ‫أمر دٌنهن مما قد ٌستحً منه الكثٌرات الٌوم ‪ ,‬حتى أثنت عابشة على نساء األنصار ‪ ,‬أنهن لم ٌمنعهن‬ ‫الحٌاء أن ٌتفقهن فً الدٌن ‪ ,‬فطالما سؤلن عن الجنابة واالحتبلم واالؼتسال والحٌض واالستحاضة‬ ‫ونحوها ‪.‬‬ ‫ولم ٌشبع ذلك نهمهن لمزاحمة الرجال واستبثارهم برسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ‪ ,‬فطلبن أن‬ ‫ٌجعل لهن ٌوما ٌكون لهن خاصة ‪ ,‬ال ٌؽالبهن الرجال وال ٌزاحمونهم وقلن فً ذلك صراحة ‪ٌ « :‬ا‬ ‫رسول هللا ‪ ,‬قد ؼلبنا علٌك الرجال ‪ ,‬فاجعل لنا ٌوما من نفسك » فوعدهن ٌوما ‪ ,‬فلقٌهن فٌه ووعظهن‬ ‫وأمرهن ‪.‬‬ ‫وتجاوز هذا النشاط النسابً إلى المشاركة فً المجهود الحربً فً خدمة الجٌش والمجاهدٌن ‪ ,‬بما‬ ‫ٌقدرن علٌه وٌحسن القٌام به ‪ ,‬من التمرٌض واإلسعاؾ ‪ ,‬ورعاٌة الجرحى والمصابٌن ‪ ,‬بجوار‬ ‫الخدمات األخرى من الطهً والسقً وإعداد ما ٌحتاج إلٌه المجاهدون من أشٌاء مدنٌة‪.‬‬ ‫عن أم عطٌة قالت ‪ « :‬ؼزوت مع رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ‪ ,‬سبع ؼزوات ‪ ,‬أخلفهم فً رحالهم ‪,‬‬ ‫فؤصنع لهم الطعام وأداوى الجرحى ‪ ,‬وأقوم على المرضى » ‪.‬‬ ‫وروى مسلم عن أنس ‪ « :‬أن عابشة وأم سلٌم ‪ ,‬كانتا فً ٌوم « أحد » مشمرتٌن ‪ ,‬تنقبلن القرب على‬ ‫متونهما ( ظهورهما ) ثم تفرؼانها فً أفواه القوم ‪ ,‬ثم ترجعان فتمآلنها » ‪ ,‬ووجود عابشة هنا ‪ -‬وهى‬ ‫فً العقد الثانً من عمرها ‪ٌ -‬رد على الذٌن ادعوا أن االشتراك فً الؽزوات والمعارك كان مقصوراً‬ ‫على العجابز والمتقدمات فً السن ‪ ,‬فهذا ؼٌر مسلم ‪ .‬وماذا تؽنً العجابز فً مثل هذه المواقؾ التً‬ ‫تتطلب القدرة البدنٌة والنفسٌة معا ً ؟‬ ‫وروى اإلمام أحمد ‪ :‬أن ست نسوة من نساء المإمنٌن كن مع الجٌش الذي حاصر « خٌبر » ‪ٌ :‬تناولن‬


‫السهام ‪ ,‬وٌسقٌن السوٌق ‪ ,‬وٌداوٌن الجرحى ‪ ,‬وٌؽزلن الشعر ‪ ,‬وٌعن فً سبٌل هللا ‪ ,‬وقد أعطاهن النبً‬ ‫صلى هللا علٌه وسلم نصٌبا من الؽنٌمة ‪.‬‬ ‫بل صح أن نساء بعض الصحابة شاركن فً بعض الؽزوات والمعارك اإلسبلمٌة بحمل السبلح ‪ ,‬عندما‬ ‫أتٌحت لهن الفرصة ‪ .‬ومعروؾ ما قامت به أم عمارة نسٌبة بنت كعب ٌوم « أحد » ‪ ,‬حتى قال عنها‬ ‫صلى هللا علٌه وسلم ‪ « :‬لمقامها خٌر من مقام فبلن وفبلن » ‪.‬‬ ‫وكذلك اتخذت أم سلٌم خنجرا ٌوم « حنٌن » ‪ ,‬تبقر به بطن من ٌقترب منها ‪ .‬روى مسلم عن أنس ابنها‬ ‫‪ :‬أن أم سلٌم اتخذت ٌوم « حنٌن » خنجراً ‪ ,‬فكان معها ‪ ,‬فرآها أبو طلحة ( زوجها ) فقال ‪ٌ :‬ا رسول‬ ‫هللا ؛ هذه أم سلٌم معها خنجر ! فقال لها رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ‪ « :‬ما هذا الخنجر » ؟ قالت ‪:‬‬ ‫اتخذته ‪ ,‬إن دنا منً أحد المشركٌن بقرت به بطنه ! فجعل رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ٌضحك ‪.‬‬ ‫وقد عقد البخاري بابا ً فً صحٌحه فً ؼزو النساء وقتالهن ‪.‬‬ ‫ولم ٌقؾ طموح المرأة المسلمة فً عهد النبوة والصحابة للمشاركة فً الؽزو عند المعارك المجاورة‬ ‫والقرٌبة فً األرض العربٌة كخٌبر وحنٌن ‪ .‬بل طمحن إلى ركوب البحار ‪ ,‬واإلسهام فً فتح األقطار‬ ‫البعٌدة إلببلؼها رسالة اإلسبلم ‪.‬‬ ‫ففً صحٌح البخاري ومسلم عن أنس ‪ :‬أن رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم قال ( أي نام وسط النهار )‬ ‫عند أم حرام بنت ملحان ( خالة أنس ) ٌوما ً ‪ ,‬ثم استٌقظ وهو ٌضحك ‪ ,‬فقالت ‪ :‬ما ٌضحكك ٌا رسول‬ ‫هللا ؟ قال ‪ « :‬ناس من أمتً عرضوا علً ؼزاة فً سبٌل هللا ‪ٌ ,‬ركبون ثبج هذا البحر ‪ ,‬ملوكا ً على‬ ‫األسرة ‪ -‬أو مثل الملوك على األسرة » ‪ ,‬قالت ‪ :‬فقلت ‪ٌ :‬ا رسول هللا ‪ :‬ادع هللا أن ٌجعلنً منهم ‪ ,‬فدعا‬ ‫لها … فركبت أم حرام البحر فً زمن عثمان ‪ ,‬مع زوجها عبادة بن الصامت إلى قبرص ‪ ,‬فصرعت‬ ‫عن دابتها هناك ‪ ,‬فتوفٌت ودفنت هناك ‪ ,‬كما ذكر أهل السٌر والتارٌخ ‪.‬‬ ‫وفى الحٌاة االجتماعٌة شاركت المرأة داعٌة إلى الخٌر ‪ ,‬آمرة بالمعروؾ ‪ ,‬ناهٌة عن المنكر ‪ ,‬كما قال‬ ‫تعالى ‪ ( :‬والمإمنون والمإمنات بعضهم أولٌاء بعض ‪ٌ ,‬ؤمرون بالمعروؾ وٌنهون عن المنكر ‪) . . .‬‬ ‫ومن الوقابع المشهورة رد إحدى المسلمات على عمر فً المسجد فً قضٌة المهور ‪ ,‬ورجوعه إلى‬ ‫رأٌها علنا ً ‪ ,‬وقوله ‪ « :‬أصابت المرأة وأخطؤ عمر » ‪ .‬وقد ذكرها ابن كثٌر فً تفسٌر سورة النساء ‪,‬‬ ‫وقال ‪ :‬إسنادها جٌد ‪.‬‬ ‫وقد عٌن عمر فً خبلفته الشفاء بنت عبد هللا العدوٌة محتسبة على السوق ‪ .‬والمتؤمل فً القرآن الكرٌم‬ ‫وحدٌثه عن المرأة فً مختلؾ العصور ‪ ,‬وفً حٌاة الرسل واألنبٌاء ال ٌشعر بهذا الستار الحدٌدي الذي‬ ‫وضعه بعض الناس بٌن الرجل والمرأة ‪.‬‬ ‫فنجد موسى ‪ -‬وهو فً رٌعان شبابه وقوته ‪ٌ -‬ح ادث الفتاتٌن ابنتً الشٌخ الكبٌر ‪ ,‬وٌسؤلهما وتجٌبانه ببل‬ ‫تؤثم وال حرج ‪ ,‬وٌعاونهما فً شهامة ومروءة ‪ ,‬وتؤتٌه إحداهما بعد ذلك مرسلة من أبٌها تدعوه أن‬ ‫ٌذهب معها إلى والدها ‪ ,‬ثم تقترح إحداهما على أبٌها بعد ذلك أن ٌستخدمه عنده ؛ لما لمست فٌه من قوة‬ ‫وأمانة ‪.‬‬ ‫لنقرأ فً ذلك ما جاء فً سورة القصص ‪ ( :‬ولما ورد ماء مدٌن وجد علٌه أمة من الناس ٌسقون ووجد‬ ‫من دونهم امرأتٌن تذودان ‪ ,‬قال ما خطبكما ‪ ,‬قالتا ال نسقً حتى ٌصدر الرعاء ‪ ,‬وأبونا شٌخ كبٌر *‬ ‫فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إنً لما أنزلت إلً من خٌر فقٌر * فجاءته إحداهم ا تمشً على‬ ‫استحٌاء قالت إن أبً ٌدعوك لٌجزٌك أجر ما سقٌت لنا ‪ ,‬فلما جاءه وقص علٌه القصص قال ال تخؾ ‪,‬‬ ‫نجوت من القوم الظالمٌن * قالت إحداهما ‪ٌ ,‬ا أبت استؤجره ‪ ,‬إن خٌر من استؤجرت القوى األمٌن ) ‪.‬‬ ‫وفى قضٌه مرٌم نجد زكرٌا ٌدخل علٌها المحراب ‪ ,‬وٌسؤلها عن الرزق الذي ٌجده عندها ‪ ( :‬كلما دخل‬ ‫علٌها زكرٌا المحراب وجد عندها رزقا ً ‪ ,‬قال ٌا مرٌم أنى لك هذا ‪ ,‬قالت هو من عند هللا ‪ ,‬إن هللا ٌرزق‬ ‫من ٌشاء بؽٌر حساب ) ‪.‬‬ ‫وفً قصة ملكة سبؤ نراها تجمع قومها تستشٌرهم فً أمر سلٌمان ‪ ( :‬قالت ٌا أٌها الملإا أفتونً فً‬ ‫ً‬ ‫قاطعة أمراً حتى تشهدون * قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بؤس شدٌد واألمر إلٌك فانظري‬ ‫أمري ما كنت‬


‫ماذا تؤمرٌن * قالت إن الملوك إذا دخلوا قرٌة أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة ‪ ,‬وكذلك ٌفعلون ) ‪.‬‬ ‫وكذلك تحدثت مع سلٌمان علٌه السبلم وتحدث معها ‪ ( :‬فلما جاءت قٌل أهكذا عرشك ‪ ,‬قالت كؤنه ه و ‪,‬‬ ‫وأوتٌنا العلم من قبلها وكنا مسلمٌن * وصدها ما كانت تعبد من دون هللا ‪ ,‬إنها كانت من قوم كافرٌن *‬ ‫قٌل لها ادخلً الصرح ‪ ,‬فما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقها ‪ ,‬قال انه صرح ممرد من قوارٌر ‪,‬‬ ‫قالت رب إنً ظلمت نفسً وأسلمت مع سلٌمان هلل رب العالمٌن ) ‪.‬‬ ‫وال ٌقال ‪ :‬إن هذا شرع من قبلنا فبل ٌلزمنا ؛ فإن القرآن لم ٌذكره لنا إال ألن فٌه هداٌة وذكرى وعبرة‬ ‫ألولً األلباب ‪ ,‬ولهذا كان القول الصحٌح ‪ :‬أن شرع من قبلنا المذكور فً القرآن والسنة هو شرع لنا‬ ‫ما لم ٌرد فً شرعنا ما ٌنسخه ‪ .‬وقد قال تعالى لرسوله ‪ ( :‬أولبك الذٌن هدى هللا ‪ ,‬فبهداهم اقتده ) ‪.‬‬ ‫إن إمساك المرأة فً البٌت ‪ ,‬وإبقاءها بٌن جدرانه األربعة ال تخرج منه اعتبره القرآن ‪ -‬فً مرحلة من‬ ‫مراحل تدرج التشرٌع قبل النص على حد الزنى المعروؾ ‪ -‬عقوبة بالؽة لمن ترتكب الفاحشة من نساء‬ ‫المسلمٌن ‪ ,‬وفً هذا ٌقول تعالى فً سورة النساء ‪ ( :‬وا لبلتً ٌؤتٌن الفاحشة من نسابكم فاستشهدوا‬ ‫ً‬ ‫أربعة منكم ‪ ,‬فإن شهدوا فؤمسكوهن فً البٌوت حتى ٌتوفاهن الموت أو ٌجعل هللا لهن سبٌبلً ) ‪.‬‬ ‫علٌهن‬ ‫وقد جعل هللا لهن سبٌبلً بعد ذلك حٌنما شرع الحد ‪ ,‬وهو العقوبة المقدرة فً الشرع حقا ً هلل تعالى ‪ ,‬وهً‬ ‫الجلد الذي جاء به القرآن لؽٌر المحصن ‪ ,‬والرجم الذي جاءت به السنة للمحصن ‪.‬‬ ‫فكٌؾ ٌستقٌم فً منطق القرآن واإلسبلم أن ٌجعل الحبس فً البٌت صفة مبلزمة للمسلمة الملتزمة‬ ‫المحتشمة ‪ ,‬كؤننا بهذا نعاقبها عقوبة دابمة وهً لم تقترؾ إثما ً ؟‬ ‫والخبلصة ‪ :‬أن اللقاء بٌن الرجال والنساء فً ذاته إذن لًس محرما ‪ ,‬بل هو جابز أو مطلوب إذا كان‬ ‫القصد منه المشاركة فً هدؾ نبٌل ‪ ,‬من علم نافع أو عمل صالح ‪ ,‬أو مشروع خٌر ‪ ,‬أو جهاد الزم ‪,‬‬ ‫أو ؼٌر ذلك مما ٌتطلب جهوداً متضافرة من الجنسٌن ‪ ,‬وٌتطلب تعاونا مشتركا بٌنهما فً التخطٌط‬ ‫والتوجٌه والتنفٌذ ‪.‬‬

‫شبهات أنصار االختالط المفتوح‬ ‫هذا هو موقؾ اإلسبلم ‪ ,‬وتلك وجهته فً عبلقة الرجل بالمرأة ‪ ,‬ولقابهما على البر والمعروؾ‪ .‬وهو ما‬ ‫عبرنا عنه بـ « االختبلط المشروع » ‪.‬‬ ‫ولكن االستعمار الفكري صنع فً ببلدنا قوما ً ٌصمون آذانهم عن حكم هللا ورسوله ‪ ,‬وٌدعوننا إلى أن‬ ‫ندع للمرأة حبلها على ؼاربها ‪ ,‬حتى تثبت وجودها ‪ ,‬وتبرز شخصٌتها ‪ ,‬وتستمتع بحٌاتها وأنوثتها !‬ ‫تختلط بالرجل ببل تحفظ ‪ ,‬وتخبره عن كثب ‪ ,‬فتخلو به ‪ ,‬وتسافر معه ‪ ,‬وتصحبه إلى السٌنما وتسهر‬ ‫معه إلى منتصؾ اللٌل ‪ ,‬وتراقصه على نؽمات الموسٌقى ‪ ,‬وتعرؾ فً تجوالها ‪ -‬بالتجربة ال بالسماع ‪-‬‬ ‫الرجل الذي ٌصلح لها وتصلح له ‪ ,‬من بٌن من عرفتهم من األصدقاء والمعجبٌن ‪ ,‬وبهذا تستقر الحٌاة‬ ‫الزوجٌة ‪ ,‬وتصمد فً وجه العواصؾ واألعاصٌر !‬ ‫وٌقول هإالء الذٌن ٌزعمون أنهم مبلبكة مطهرون ‪ :‬ال تخافوا على المرأة وال على الرجل من هذا‬ ‫االتصال المهذب ‪ ,‬والصداقة البرٌبة ‪ ,‬واللقاء الشرٌؾ ‪ ,‬فإن صوت الشهوة ‪ -‬لكثرة التبلقً ‪ -‬سٌخفت ‪,‬‬ ‫وحدتها ستفتر ‪ ,‬وجذوتها ستخبو ‪ ,‬وٌجد كل من الذكر واألنثى لذته فً مجرد اللقاء واالستمتاع بالنظر‬ ‫والحدٌث ‪ ,‬فإن زاد على ذلك فمراقصة ‪ ,‬هً ضرب من التعبٌر الفنً الرفٌع ! أما المتعة الحسٌة فلن‬ ‫ٌصبح لها مكان ‪ ,‬إنه التصرٌؾ النظٌؾ للطاقة ال ؼٌر وكذلك ٌفعل الؽربٌون المتقدمون بعد أن فكوا‬ ‫عقدة الكبت والحرمان ‪.‬‬


‫الرد على أنصار االختالط المفتوح ‪:‬‬ ‫وردنا على هذه الدعوى من جهتٌن ‪:‬‬ ‫أوالً ‪ :‬إننا مسلمون قبل كل شًء ‪ ,‬وال نبٌع دٌننا اتباعا ً لهوى الؽربٌ​ٌن أو الشرقٌ​ٌن ‪ ,‬ودٌننا ٌحرم علٌنا‬ ‫هذا االختبلط بتبرجه وفتنته وإؼوابه ‪ ( :‬ثم جعلناك على شرٌعة من األمر فاتبعها وال تتبع أهواء الذٌن‬ ‫ال ٌعلمون * إنهم لن ٌؽنوا عنك من هللا شٌبا ً ‪ ,‬وان الظالمٌن بعضهم أولٌاء بعض ‪ ,‬وهللا ولً المتقٌن ) ‪.‬‬ ‫ثانٌا ً ‪ :‬إن الؽرب الذي ٌقتدون به ٌشكو الٌوم من آثار هذا التحرر أو التحلل ‪ ,‬الذي أفسد بناته وبنٌه ‪,‬‬ ‫وأصبح ٌهدد حضارته بالخراب واالنهٌار ‪ ,‬ففً أمرٌكا والسوٌد وؼٌرهما من ببلد الحرٌة الجنسٌة ‪,‬‬ ‫أثبتت اإلحصاءات أن السعار الشهوانً لم ٌنطفا بحرٌة اللقاء والحدٌث ‪ ,‬وال بما بعد اللقاء والحدٌث ‪,‬‬ ‫بل صار الناس كلما ازدادوا منه عبا ً ‪ ,‬ازدادوا عطشا ً ‪.‬‬ ‫وعلٌنا أن نبحث ‪ :‬ماذا كان أثر هذا التحرر أو التطور ‪ ,‬أو التحلل من الفضابل والتقالٌد ‪ ,‬فً‬ ‫المجتمعات الؽربٌة المتحضرة ؟‬

‫أثر االختالط المطلق في المجتمعات الغربية ‪:‬‬ ‫إن األرقام والوقابع التً تفٌض بها اإلحصاءات والتقارٌر ‪ ,‬هً التً تتكلم وتبٌن فً هذا المجال ‪ ,‬لقد‬ ‫ظهر أثر االنطبلق الجنسً ‪ ,‬الذي زالت به الحواجز بٌن الذكر واألنثى فٌما ٌلً‪:‬‬ ‫‪ .1‬انحبلل األخبلق ‪:‬‬ ‫فانحبلل األخبلق وطؽٌان الشهوات ‪ ,‬وانتصار الحٌوانٌة على اإلنسانٌة ‪ ,‬وضٌاع الحٌاء والعفاؾ بٌن‬ ‫النساء والرجال ‪ ,‬واضطراب المجتمع كله نتٌجة ذلك ‪.‬‬ ‫ولقد قال الربٌس الراحل « كنٌدي » فً تصرٌح مشهور له ‪ ,‬تناقلته الصحؾ ووكاالت األنباء عام‬ ‫‪ « : 1962‬إن الشباب األمرٌكً مابع مترؾ منحل ‪ ,‬ؼارق فً الشهوات ‪ ,‬وان من بٌن كل سبعة شبان‬ ‫ٌتقدمون للتجنٌد ٌوجد ستة ؼٌر صالحٌن ‪ ,‬بسبب انهماكهم فً الشهوات » ‪ .‬وأنذر بؤن هذا الشباب‬ ‫خطر على مستقبل أمرٌكا ‪.‬‬ ‫وفً كتاب لمدٌر مركز البحوث بجامعة هارفارد بعنوان « الثورة الجنسٌة » ٌقرر المإلؾ ‪ ,‬أن أمرٌكا‬ ‫سابرة إلى كارثة فً الفوضوٌة الجنسٌة ‪ ,‬وأنها تتجه إلى نفس االتجاه ‪ ,‬الذي أدى إلى سقوط‬ ‫الحضارتٌن اإلؼرٌقٌة والرومانٌة فً الزمن القدٌم ‪ ,‬وٌقول ‪ « :‬إننا محاصرون من جمٌع الجهات بتٌار‬ ‫خطر من الجنس ‪ٌ ,‬ؽرق كل ؼرفة من بناء ثقافتنا ‪ ,‬وكل قطاع من حٌاتنا العامة » ‪.‬‬ ‫ومع أن الشٌوعٌ​ٌن قلٌلو التحدث عن مثل هذه األمور الجنسٌة ‪ ,‬ومع عدم السماح ألجهزة اإلعبلم‬ ‫والتوجٌه أن تتناولها ‪ ,‬إال أنه فً عام ‪ 1962‬صدر تصرٌح للزعٌم الروسً خروتشوؾ ‪ ,‬أعلن فٌه أن‬ ‫الشباب قد انحرؾ وأفسده الترؾ ‪ ,‬وهدد بؤن معسكرات جدٌدة قد تفتح فً سٌبٌرٌا للتخلص من الشباب‬ ‫المنحرؾ ‪ ,‬ألنه خطر على مستقبل روسٌا !‬ ‫‪ .2‬فً انتشار األبناء ؼٌر الشرعٌ​ٌن ‪:‬‬ ‫وهى ظاه رة الزمة النطبلق الؽرابز ‪ ,‬وذوبان الحواجز بٌن الفتٌان والفتٌات ‪ ,‬وقد قامت بعض‬ ‫المإسسات فً أمرٌكا ‪ ,‬بعمل إحصاء للحبالى من طالبات المدارس الثانوٌة ‪ ,‬فكانت النسبة مخٌفة جدا ‪ً.‬‬ ‫ولننظر ما تقوله أحدث اإلحصاءات بهذا الصدد ‪ ..‬تقول ‪:‬‬ ‫« إن أكثر من ثلث موالٌد عام ‪ 1983‬فً نٌوٌورك هم « أطفال ؼٌر شرعٌ​ٌن » أي أنهم ولدوا خارج‬ ‫نطاق الزواج ‪ ,‬وأكثرهم ولدوا لفتٌات فً التاسعة عشرة من العمر وما دونها ‪ ,‬وعددهم (‪353‬ر‪) 112‬‬


‫طفبلً أي ‪ %37‬من مجموع موالٌد نٌوٌورك » !! ‪.‬‬ ‫‪ .3‬كثرة العوانس بٌن الفتٌات والعزاب من الشباب ‪:‬‬ ‫ً‬ ‫فإن وجود السبل الم ٌسرة لقضاء الشهوة ‪ ,‬بؽٌر تحمل تبعة الزواج وبناء األسرة ‪ ,‬جعل كثٌرا من‬ ‫الشباب ٌختارون الطرٌق األسهل ‪ ,‬وٌقضون أٌام شبابهم بٌن هذه وتلك ‪ ,‬متمتعٌن بلذة التنوٌع ‪ ,‬دون‬ ‫التقٌد بالحٌاة المتشابهة المتكررة كما ٌزعمون ! ودون التزام بتكالٌؾ الزوجٌة المسإولة ‪ ,‬واألبوة‬ ‫الراعٌة ‪.‬‬ ‫وكان من نتٌجة ذلك وجود كثرة هابلة من الفتٌات ‪ ,‬تقضى شبابها محرومة من زوج تسكن إلٌه وٌسكن‬ ‫إلٌها ‪ ,‬إال العابثٌن الذٌن ٌتخذونها أداة للمتعة الحرام ‪ ,‬وٌقابل هإالء الفتٌات كثرة من الشباب العزاب‬ ‫المحرومٌن من الحٌاة الزوجٌة ‪ ,‬كما تدل على ذلك أحدث اإلحصاءات ‪ ,‬فقد صرح مدٌر مصلحة‬ ‫اإلحصاء األمرٌكٌة فً ‪ 22‬من ذي القعدة ‪ 1402‬هـ ( الموافق ‪ 10‬سبتمبر ‪ -‬أٌلول ‪ 1982-‬م ) ‪« :‬‬ ‫أنه ألول مرة منذ بداٌة هذا القرن تصبح أؼلبٌة سكان مدٌنة سان فرانسٌسكو من العزاب » ‪.‬‬ ‫وأوضح « بروس شامبمان » فً مإتمر صحفً نظمته الجمعٌة االجتماعٌة األمرٌكٌة أنه « وفقا‬ ‫ألرقام آخر تعداد فإن ‪ %53‬من سكان سان فرانسٌسكو ؼٌر متزوجٌن » وأعرب عن اعتقاده بؤن هذه‬ ‫األرقام ٌمكن أن تكون مإشراً على أفول األنموذج العابلً التقلٌدي !!‪.‬‬ ‫وأضاؾ شامبمان ‪ « :‬إن هذه التؽٌ​ٌرات االجتماعٌة مبلبمة لتحقٌق الرفاهٌة فً المدٌنة التً زاد عدد‬ ‫سكانها من الشباب بٌن ‪ 25‬و ‪ 34‬سنة بمقدار (‪4‬ر‪ ) %40‬خبلل العشر سنوات األخٌرة » ‪.‬‬ ‫وقال ‪ « :‬إن التعداد لم ٌشمل عدد المصابٌن بالشذوذ الجنسً الذٌن ٌقطنون المدٌنة والذٌن ٌشكلون ‪15‬‬ ‫‪ %‬من السكان تقرٌبا » ‪.‬‬ ‫وال عجب بعد ذلك أن نقرأ فً الصحؾ مثل هذا الخبر ‪ « :‬خرجت النساء السوٌدٌات فً مظاهرة عامة‬ ‫‪ ,‬تشمل أنحاء السوٌد ‪ ,‬احتجاجا على إطبلق الحرٌات الجنسٌة فً السوٌد ‪ ,‬اشتركت فً المظاهرة‬ ‫(‪ 000‬ر‪ ) 100‬امرأة ‪ ,‬وسوؾ ٌقدمن عرٌضة موقعة منهن إلى الحكومة ‪ ,‬تعلن العرٌضة االحتجاج‬ ‫على تدهور القٌم األخبلقٌة » ‪.‬‬ ‫إن فطرة المرأة وحرصها على مصلحتها ومستقبلها ‪ ,‬هو الذي دفع هذا العدد الهابل إلى التظاهر‬ ‫واالحتجاج ‪.‬‬ ‫‪ .4‬كثرة الطبلق وتدمٌر البٌوت ألتفه األسباب ‪:‬‬ ‫فإذا كان دون الزواج هناك عقبات وعقبات ‪ ,‬فإن هذا الزواج ‪ ,‬بعد تحققه ؼٌر مضمون البقاء ‪,‬‬ ‫فسرعان ما تتحطم األسرة ‪ ,‬وتنفصم الروابط ألدنى األسباب ‪.‬‬ ‫ففً أمرٌكا تزداد نسبة الطبلق عاما ً بعد عام إلى حد مفزع ‪ .‬والذي ٌقال عن أمرٌكا ‪ٌ ,‬قال عن معظم‬ ‫الببلد الؽربٌة ‪.‬‬ ‫‪ .5‬انتشار األمراض الفتاكة ‪:‬‬ ‫انتشار األمراض السرٌة ‪ ,‬والعصبٌة ‪ ,‬والعقلٌة ‪ ,‬والنفسٌة ‪ ,‬وكثرة العقد واالضطرابات التً ٌعد‬ ‫ضحاٌاها بماات األلوؾ ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ومن أشد األمراض خطرا ‪ :‬ما اكتشؾ أخٌرا وعرؾ باسم « اإلٌدز » الذي ٌفقد المناعة من الجسم‬ ‫وٌعرضه للتهلكة وؼدا ٌهدد المبلٌ​ٌن فً أوروبا وأمرٌكا بؤخطر العواقب ‪ ,‬كما دلت على ذلك التقارٌر‬ ‫الطبٌة واإلحصاءات الرسمٌة التً نشرتها مجبلت وصحؾ فً العالم كله ‪ ,‬وصدق بهذا ما حذر منه‬ ‫رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم حٌث قال فً حدٌثه ‪ « :‬لم تظهر الفاحشة فً قوم قط حتى ٌعلنوا بها إال‬ ‫فشا فٌهم الطاعون واألوجاع التً لم تكن مضت فً أسبلفهم الذٌن مضوا » ‪.‬‬ ‫هذا ؼٌر األمراض العصبٌة والنفسٌة التً انتشرت عندهم انتشار النار فً الهشٌم ‪ ,‬وامتؤلت بمرضاها‬ ‫المستشفٌات والمصحات ‪.‬‬ ‫فهل ٌرٌد دعاة االختبلط أن ٌنقلوا هذه العلل واألمراض إلى مجتمعاتنا وقد كفانا هللا شرها وأعاذنا منها‬


‫؟! أم أن هذه األرقام واإلحصاءات ؼاببة من أذهانهم ؟!‬ ‫لقد زعم « فروٌد » ومن تبعه من علماء النفس أن رفع القٌود التقلٌدٌة عن الؽرٌزة الجنسٌة ٌرٌح‬ ‫األعصاب ‪ ,‬وٌحل عقد النفوس ‪ ,‬وٌمنحها الهدوء واالطمبنان ‪.‬‬ ‫ها هً القٌود قد رفعت ‪ ,‬وها هً الؽرابز قد أطلقت ‪ ,‬فلم تزد النفوس إال تعقٌداً ‪ ,‬ولم تزد األعصاب إال‬ ‫توتراً ‪ ,‬وأصبح القلق النفسً هو مرض العصر هناك ‪ ,‬ولم تؽن آالؾ العٌادات النفسٌة عنهم شٌبا ً ‪.‬‬

‫المرأة باعتبارها عضوًا في المجتمع‬ ‫ٌشٌع بعض المؽرضٌن أن اإلسبلم حكم على المرأة بالسجن داخل البٌت ‪ ,‬فبل تخرج منه إال إلى القبر !‬ ‫فهل لهذا الحكم سند صحٌح من القرآن والسنة ؟ ومن تارٌخ المسلمات فً القرون الثبلثة األولى ‪ ,‬التً‬ ‫هً خٌر القرون ؟‬ ‫ال ‪ . .‬ثم ال ‪.‬‬ ‫فالقرآن ٌجعل الرجل والمرأة شرٌكٌن ‪ ,‬فً تحمل أعظم المسإولٌات فً الحٌاة اإلسبلمٌة ‪ ,‬وهً‬ ‫مسإولٌة األمر بالمعروؾ والنهً عن المنكر ‪.‬‬ ‫ٌقول تعالى ‪ ( :‬والمإمنون والمإمنات بعضهم أولٌاء بعض ‪ٌ ,‬ؤمرون بالمعروؾ وٌنهون عن المنكر‬ ‫وٌقٌمون الصبلة وٌإتون الزكاة وٌطٌعون هللا ورسوله ) ‪.‬‬ ‫وتطبٌقا لهذا المبدأ وجدنا امرأة فً المسجد ترد على أمٌر المإمنٌن عمر الفاروق وهو ٌتحدث فوق‬ ‫المنبر على مؤل من الناس ‪ ,‬فٌرجع عن رأٌه إلى رأٌها وٌقول بصراحة ‪ « :‬أصابت امرأة وأخطؤ عمر‬ ‫»‪.‬‬ ‫والنبً صلى هللا علٌه وسلم ٌقول ‪ « :‬طلب العلم فرٌضة على كل مسلم » ‪.‬‬ ‫فٌجمع علماء المسلمٌن على أن المسلمة أٌضا داخلة فً معنى الحدٌث ففرض علٌها أن تطلب من العلم‬ ‫ما ٌصحح عقٌدتها ‪ ,‬وٌقوم عبادتها ‪ ,‬وٌضبط سلوكها بؤدب اإلسبلم فً اللباس والزٌنة وؼٌرها ‪ ,‬وٌقفها‬ ‫عند حدود هللا فً الحبلل والحرام ‪ ,‬والحقوق والواجبات ‪ .‬وٌمكنها أن تترقى فً العلم حتى تبلػ درجة‬ ‫االجتهاد ‪.‬‬ ‫ولٌس لزوجها أن ٌمنعها من طلب العلم الواجب علٌها ‪ ,‬إذا لم ٌكن هو قادراً على تعلٌمها ‪ ,‬أو مقصراً‬ ‫فٌه ‪.‬‬ ‫فقد كان نساء الصحابة ٌذهبن إلى النبً صلى هللا علٌه وسلم ٌسؤلنه فٌما ٌعرض لهن من شإون ‪ ,‬ولم‬ ‫ٌمنعهن الحٌاء أن ٌتفقهن فً الدٌن ‪.‬‬ ‫وصبلة الجماعة لٌست مطلوبة من المرأة ‪ ,‬طلبها من الرجل ‪ ,‬فإن صبلتها فً بٌتها قد تكون أفضل‬ ‫لظروفها ورسالتها ‪ ,‬ولكن لٌس للرجل منعها إذا رؼبت فً صبلة الجماعة بالمسجد ‪ ,‬قال علٌه الصبلة‬ ‫والسبلم ‪ « :‬ال تمنعوا إماء هللا مساجد هللا » ‪.‬‬ ‫وللمرأة أن تخرج من بٌتها ‪ ,‬لقضاء حاجة لها أو لزوجها وأوالدها ‪ ,‬فً الحقل أو السوق ‪ ,‬كما كانت‬ ‫تفعل ذات النطاقٌن أسماء بنت أبى بكر ‪ ,‬فقد قالت ‪ « :‬كنت أنقل النوى على رأسً من أرض الزبٌر ‪-‬‬ ‫زوجها ‪ -‬وهً من المدٌنة على ثلثً فرسخ » ‪.‬‬ ‫وللمرأة أن تخرج مع الجٌش ‪ ,‬لتقوم بؤعمال اإلسعاؾ والتمرٌض وما شابه ذلك من الخدمات المبلبمة‬ ‫لفطرتها ولقدراتها ‪.‬‬


‫روى أحمد والبخاري عن الربٌع بنت معوذ األنصارٌة قالت ‪ « :‬كنا نؽزو مع رسول هللا صلى هللا علٌه‬ ‫وسلم نسقً القوم ونخدمه ونرد القتلى والجرحى إلى المدٌنة » ‪.‬‬ ‫وروى أحمد ومسلم عن أم عطٌة قالت ‪ « :‬ؼزوت مع رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ‪ ,‬سبع‬ ‫ؼزوات ‪ ,‬أخلفهم فً رحالهم ‪ ,‬وأصنع لهم الطعام ‪ ,‬وأداوي الجرحى ‪ ,‬وأقوم على الزمنى » ‪.‬‬ ‫فهذه هً األعمال البلبقة بطبٌعة المرأة ووظٌفتها ‪ ,‬أما أن تحمل السبلح وتقاتل وتقود الكتابب فلًس ذلك‬ ‫من شؤنها ‪ ,‬إال أن تدعو لذلك حاجة ‪ ,‬فعند ذلك تشارك الرجال فً جهاد األعداء بما تستطٌع ‪ ,‬وقد‬ ‫اتخذت أم سلٌم ٌوم « حنٌن » خنجراً ‪ ,‬فلما سؤلها زوجها أبو طلحة عنه قالت ‪ « :‬اتخذته إن دنا منً‬ ‫أحد من المشركٌن بقرت بطنه » ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫حسن فً القتال ٌوم « أحد » ‪ ,‬حتى أثنى علٌها النبً صلى هللا علٌه‬ ‫ا‬ ‫وقد أبلت أم عمارة األنصارٌة ببل ًء‬ ‫وسلم ‪ ,‬وفى حروب الردة شهدت المعارك بنفسها ‪ ,‬حتى إذا قتل مسٌلمة الكذاب عادت وبها عشر‬ ‫جراحات ‪.‬‬ ‫فإذا شاع فً بعض العصور حبس المرأة عن العلم ‪ ,‬وعزلها عن الحٌاة ‪ ,‬وتركها فً البٌت كؤنها قطعة‬ ‫من أثاثه ‪ ,‬ال ٌعلمها الزوج ‪ ,‬وال ٌتٌح لها أن تتعلم ‪ -‬حتى إن الخروج إلى المسجد أصبح علٌها محرما َ ‪-‬‬ ‫إذا شاعت هذه الصورة ٌوما فمنشإها الجهل والؽلو واالنحراؾ عن هدي اإلسبلم ‪ ,‬واتباع تقالٌد مبالؽة‬ ‫فً التزمت ‪ ,‬لم ٌؤذن بها هللا ‪ ,‬واإلسبلم لٌس مسإوال عن هذه التقالٌد المبتدعة باألمس ‪ ,‬كما أنه لٌس‬ ‫مسإوال عن تقالٌد أخرى مسرفة ابتدعت الٌوم ‪ .‬إن طبٌعة اإلسبلم هً التوازن المقسط ‪ ,‬فً كل ما‬ ‫ٌشرعه وٌدعو إلٌه من أحكام وآداب ‪ ,‬فهو ال ٌعطً شٌبا لٌحرم آخر ‪ ,‬وال ٌضخم ناحٌة على حساب‬ ‫أخرى ‪ ,‬وال ٌسرؾ فً إعطاء الحقوق ‪ ,‬وال فً طلب الواجبات ‪.‬‬ ‫و لهذا لم ٌكن من هم اإلسبلم تدلٌل المرأة على حساب الرجل ‪ ,‬وال ظلمها من أجله ‪ ,‬ولم ٌكن همه‬ ‫إرضاء نزواتها على حساب رسالتها ‪ ,‬وال إرضاء الرجل على حساب كرامتها ‪ ,‬وإنما نجد أن موقؾ‬ ‫اإلسبلم تجاه المرأة ٌتمثل فٌما ٌلً ‪:‬‬ ‫( أ ) إنه ٌحافظ ‪ -‬كما قلنا ‪ -‬على طبٌعتها وأنوثتها التً فطرها هللا علٌها وٌحرسها من أنٌاب المفترسٌن‬ ‫الذٌن ٌرٌدون التهامها حراما ‪ ,‬ومن جشع المستؽلٌن الذٌن ٌرٌدون أن ٌتخذوا من أنوثتها ‪ ,‬أداة للتجارة‬ ‫والربح الحرام ‪.‬‬ ‫( ب ) إنه ٌحترم وظٌفتها السامٌة التً تهٌؤت لها بفطرتها ‪ ,‬واختارها لها خالقها ‪ ,‬الذي خصها بنصٌب‬ ‫أوفر من نصٌب الرجل ‪ ,‬فً جانب الحنان والعاطفة ‪ ,‬ورقة اإلحساس ‪ ,‬وسرعة االنفعال ‪ ,‬لٌعدها بذلك‬ ‫لرسالة األمومة الحانٌة ‪ ,‬التً تشرؾ على أعظم صناعة فً األمة ‪ ,‬وهً صناعة أجٌال الؽد ‪.‬‬ ‫هً زوجة الرجل ‪,‬‬ ‫( جـ ) إنه ٌعتبر البٌت مملكة المرأة العظٌمة ‪ ,‬هً ربته ومدٌرته وقطب رحاه ‪ ,‬ؾ‬ ‫وشرٌكة حٌاته ‪ ,‬ومإنس وحدته ‪ ,‬وأم أوالده ‪ ,‬وهو ٌعد عمل المرأة فً تدبٌر البٌت ‪ ,‬ورعاٌة شإون‬ ‫الزوج ‪ ,‬وحسن تربٌة األوالد ‪ ,‬عباد ًة وجهاداً ‪ ,‬ولهذا ٌقاوم كل مذهب أو نظام ٌعوقها عن رسالتها ‪ ,‬أو‬ ‫ٌضر بحسن أدابها لها ‪ ,‬أو ٌخرب علٌها عشها ‪.‬‬ ‫إن كل مذهب أو نظام ٌحاول إجبلء المرأة عن مملكتها ‪ ,‬وٌخطفها من زوجها ‪ ,‬وٌنتزعها من فلذات‬ ‫أكبادها ‪ -‬باسم الحرٌة ‪ ,‬أو العمل ‪ ,‬أو الفن ‪ ,‬أو ؼٌر ذلك ‪ -‬هو فً الحقٌقة عدو للمرأة ‪ٌ ,‬رٌد أن ٌسلبها‬ ‫كل شًء ‪ ,‬وال ٌعطٌها لقاء ذلك شٌبا ٌذكر ‪ ,‬فبل ؼرو أن ٌرفضه اإلسبلم ‪.‬‬ ‫( د ) إنه ٌرٌد أن ٌبنً البٌوت السعٌدة ‪ ,‬التً هً أساس المجتمع السعٌد ‪ .‬والبٌوت السعٌدة إنما تبنى‬ ‫على الثقة والٌقٌن ‪ ,‬ال على الشك والرٌبة ‪ ,‬واألسرة التً قوامها زوجان ٌتبادالن الشكوك والمخاوؾ ‪,‬‬ ‫أسرة مبنٌة على شفٌر هار ‪ ,‬والحٌاة فً داخلها جحٌم ال ٌطاق ‪.‬‬ ‫( هـ ) إنه ٌؤذن لها أن تعمل خارج البٌت فٌما ٌبلبمها من األعمال التً تناسب طبٌعتها واختصاصها‬ ‫وقدراتها ‪ ,‬وال ٌسحق أنوثتها ‪ ,‬فعملها مشروع فً حدود وبشروط ‪ .‬وخصوصا ً عندما تكون هً أو‬ ‫أسرتها فً حاجة إلى العمل الخارجً ‪ ,‬أو ٌكون المجتمع نفسه فً حاجة إلى عملها خاصة ‪ .‬ولٌست‬


‫الحاجة إلى العمل محصورة فً الناحٌة المادٌة فحسب ‪ ,‬فقد تكون حاجة نفسٌة ‪ ,‬كحاجة المتعلمة‬ ‫المتخصصة التً لم تتزوج ‪ ,‬والمتزوجة التً لم تنجب ‪ ,‬والشعور بالفراغ الطوٌل ‪ ,‬والملل القاتل ‪.‬‬ ‫ولٌس األمر كما ٌدعٌه أنصار عمل المرأة دون قٌود وال ضوابط ‪ ,‬وسنتناول هذا الموضوع بشًء من‬ ‫التفصٌل فً الصفحات القادمة إن شاء هللا ‪.‬‬

‫أنصار المغاالة في عمل المرأة وشبهاتهم‬ ‫ولكن كما دعا أسرى الؽزو الفكري إلى اختبلط المرأة بالرجل ‪ ,‬وتذوٌب الحواجز بٌن الجنسٌن ‪,‬‬ ‫رأٌناهم ٌدعون أٌضا إلى تشؽٌل المرأة فً كل مجال ‪ ,‬سواء أكان لها حاجة إلى العمل أم ال ‪ ,‬وسواء‬ ‫أكان المجتمع فً حاجة إلى هذا العمل أم ال ‪ ,‬فهذا األمر مكمل لؤلم ر األول ‪ ,‬فهو من تمام االختبلط‬ ‫وذوبان الفوارق ‪ ,‬والتحرر من ظلم العصور الوسطى وظبلمها ‪ ,‬كما ٌقال !‬ ‫ومن مكرهم ودهابهم أنهم ‪ -‬فً كثٌر من األحٌان ‪ -‬ال ٌعلنون صراحة أنهم ٌرٌدون للمرأة أن تتمرد‬ ‫على فطرتها ‪ ,‬وتخرج من حدود أنوثتها ‪ ,‬وأنهم ٌرٌدون استؽبلل أنوثتها للمتعة الحرام ‪ ,‬أو الكسب‬ ‫الحرام ‪ ,‬بل ٌظهرون فً صورة األطهار المخلصٌن ‪ ,‬الذٌن ال ٌرٌدون إال المصلحة ‪ ,‬فهم ٌإٌدون‬ ‫رأٌهم فً تشؽٌل المرأة بؤدلة مبعثرة ‪ ,‬نجمع شتاتها فٌما ٌلً ‪:‬‬ ‫‪ .1‬إن الؽرب وهو أكثر منا تقدما ً ورقٌا ً فً مضمار الحضارة قد سبقنا إلى تشؽٌل المرأة ‪ ,‬فإذا أردنا‬ ‫الرقً مثله فلنحذ حذوه فً كل شا فإن الحضارة ال تتجزأ ‪.‬‬ ‫‪ .2‬إن المرأة نصؾ المجتمع ‪ ,‬وإبقاإها فً البٌت ببل عمل تعطٌل لهذا النصؾ ‪ ,‬وضرر على االقتصاد‬ ‫القومً ‪ ,‬فمصلحة المجتمع تقضً بعمل المرأة ‪.‬‬ ‫‪ .3‬ومصلحة األسرة كذلك تقضى بعملها ‪ ,‬فإن تكالٌؾ الحٌاة قد تزاٌدت فً هذا العصر ‪ ,‬وعمل المرأة‬ ‫ٌزٌد من دخل األسرة وٌعاون الرجل على أعباء المعٌشة ‪ ,‬وخصوصا فً البٌبات المحدودة الدخل ‪.‬‬ ‫‪ .4‬ومصلحة المرأة نفسها تدعو إلى العمل ‪ ,‬فإن االحتكاك بالناس وبالحٌاة وبالمجتمع خارج البٌت‬ ‫ٌصقل شخصٌتها ‪ ,‬وٌمدها بخبرات وتجارب ‪ ,‬ما كان لها أن تحصل علٌها داخل الجدران األربعة ‪.‬‬ ‫‪ .5‬كما أن العمل سبلح فً ٌدها ضد عوادي الزمن ‪ ,‬فقد ٌموت أبوها أو ٌطلقها زوجها ‪ ,‬أو ٌهملها‬ ‫أوالدها ‪ ,‬فبل تذلها الفاقة والحاجة ‪ .‬وال سٌما فً زمن ؼلبت فٌه األنانٌة ‪ ,‬وشاع فٌه العقوق ‪ ,‬وقطٌعة‬ ‫األرحام ‪ ,‬وقول كل امرئ ‪ :‬نفسً نفسً ‪.‬‬ ‫الرد على هذه الشبهات ‪:‬‬ ‫‪ .1‬أما االحتجاج بالؽرب فهو احتجاج باطل ‪ ,‬لؤلسباب اآلتٌة ‪:‬‬ ‫( أ ) ألن الؽرب لٌس حجة علٌنا ‪ ,‬ولسنا مكلفٌن أن نتخذ الؽرب إلها ٌعبد وال قدوة تتبع ‪ ( :‬لكم دٌنكم‬ ‫ولً دٌن ) ‪.‬‬ ‫ورة ال مختارة ‪ ,‬تسوقها الحاجة‬ ‫( ب ) إن المرأة فً الؽرب خرجت إلى المصنع والمتجر وؼٌرهما مجب‬ ‫إلى القوت ‪ ,‬واالضطرار إلى لقمة العٌش ‪ ,‬بعد أن نكل الرجل عن إعالتها ‪ ,‬فً مجتمع قاس ال ٌرحم‬ ‫صؽٌراً لصؽره ‪ ,‬وال أنثى ألنوثتها ‪ ,‬وقد أؼنانا هللا بنظام النفقات فً شرٌعتنا عن مثل هذا ‪.‬‬


‫ي كتابه « اإلسبلم وحاجة اإلنسانٌة إلٌه » أثناء‬ ‫وقد ذكر أستاذنا محمد ٌوسؾ ‪ -‬رحمه هللا تعالى ‪ -‬ؾ‬ ‫حدٌثه عن عناٌة اإلسبلم باألسرة قال ‪ « :‬ولعل من الخٌر أن أذكر هنا أنى حٌن إقامتً بفرنسا كانت‬ ‫تخدم األسرة التً نزلت فً بٌتها فترة من الزمن فتاة ٌظهر علٌها مخاٌل كرم األصل ‪ ,‬فسؤلت ربة‬ ‫البٌت ‪ :‬لماذا تخدم هذه الفتاة ؟ ألٌس لها قرٌب ٌجنبها هذا العمل ‪ ,‬وٌوفر لها ما تقٌم به حٌاتها ؟ فكان‬ ‫جوابها ‪ :‬أنها من أسرة طٌبة فً البلدة ‪ ,‬وعمها ؼنً موفور الؽنى ‪ ,‬ولكنه ال ٌعنى بها وال ٌهتم بؤمرها‬ ‫‪ .‬فسؤلت ‪ :‬لماذا ال ترفع األمر للقضاء ‪ ,‬لٌحكم لها علٌه بالنفقة ؟ فدهشت السٌدة من هذا القول ‪,‬‬ ‫وعرفتنً أن ذلك ال ٌجوز لها قانونا ‪ .‬وحٌنبذ أفهمتها حكم اإلسبلم فً هذه الناحٌة ‪ ,‬فقالت ‪ :‬ومن لنا‬ ‫بمثل هذا التشرٌع ؟ لو أن هذا جابز قانونا عندنا لما وجدت فتاة أو سٌدة تخرج من بٌتها للعمل فً‬ ‫شركة أو مصنع أو معمل أو دٌوان من دواوٌن الحكومة » ‪ .‬تعنً ‪ :‬أن خوفهن من الجوع والضٌاع هو‬ ‫الذي دفع تلك الجٌوش من النساء إلى العمل بحكم الضرورة ‪.‬‬ ‫( جـ ) إن الؽرب الذي ٌقتدون به أصبح الٌوم ٌشكو من عمل المرأة وما جره من آثار ‪ ,‬وأصبحت‬ ‫المرأة نفسها هناك تشكو من هذا الببلء ‪ ,‬الذي لم ٌكن لها فٌه خٌار ‪ ,‬تقول الكاتبة الشهٌرة « آنا رود »‬ ‫فً مقالة نشرتها فً جرٌدة « االسترن مٌل » ‪ « :‬ألن تشتؽل بناتنا فً البٌوت خوادم أو كالخوادم خٌر‬ ‫وأخؾ ببل ًء من اشتؽالهن فً المعامل ‪ ,‬حٌث تصبح البنت ملوثة بؤدران تذهب برونق حٌاتها إلى األبد ‪.‬‬ ‫« أال لٌت ببلدنا كببلد المسلمٌن فٌها الحشمة والعفاؾ والطهر ردا ًء ‪ ,‬الخادمة والرقٌق ٌتنعمان بؤرؼد‬ ‫عٌش ‪ ,‬وٌعامبلن كما ٌعامل أوالد البٌت ‪ ,‬وال تمس األعراض بسوء ‪ . .‬نعم إنه لعار على ببلد اإلنجلٌز‬ ‫أن نجعل بناتها مثبلً للرذابل بكثرة مخالطة الرجال ‪ ,‬فما بالنا ال نسعى وراء ما ٌجعل البنت تعمل بما‬ ‫ٌوافق فطرتها الطبٌعٌة من القٌام بالبٌت وترك أعمال الرجال للرجال سبلمة لشرفها » ‪.‬‬ ‫( د ) إن مصلحة المجتمع لٌست فً أن تدع المرأة رسالتها األولى فً البٌت ‪ ,‬لتعمل مهندسة أو محامٌة‬ ‫أو ناببة أو قاضٌة أو عاملة فً مصنع ‪ ,‬بل مصلحته أن تعمل فً مجال تخصصها الذي هٌؤتها له‬ ‫الفطرة ‪ :‬مجال الزوجٌة واألمومة ‪ -‬وهو ال ٌقل ‪ -‬بل ٌزٌد ‪ -‬خطراً عن العمل فً المتاجر والمعامل‬ ‫والمإسسات ‪ ,‬وقد قٌل لنابلٌون ‪ :‬أي حصون فرنسا أمنع ؟ فقال ‪ :‬األمهات الصالحات !!‬ ‫والذٌن ٌزعمون أن المرأة فً البٌت عاطلة ‪ٌ ,‬جهلون أو ٌتجاهلون ‪ ,‬ما تشكو منه فضلٌات النساء ‪ ,‬من‬ ‫كثرة األعمال واألعباء المنزلٌة ‪ ,‬التً تستنفد وقتها وجهدها كله ‪ ,‬وال ٌكاد ٌكفً ‪ ,‬فإن كان عند بعض‬ ‫النساء فضل وقت فلنعلمها قضاءه فً الخٌاطة والتطرٌز ‪ ,‬وما ٌلٌق بها من األعمال ‪ ,‬التً ال تتعارض‬ ‫مع واجبها فً البٌت ( وٌمكن أن تعمل هذا بؤجر لبعض المإسسات ‪ ,‬وهً فً البٌت ) أو فً خدمة‬ ‫مجتمعها وبنات جنسها ‪ ,‬واإلسهام فً مقاومة الفقر والجهل والمرض والرذٌلة ‪.‬‬ ‫والواقع أن كثٌراً من النساء العامبلت ٌستخدمن نساء أخرٌات للعمل مربٌات ألوالدهن أو شؽاالت فً‬ ‫بٌوتهن ‪ .‬ومعنى هذا أن البٌت فً حاجة إلى امرأة ترعى شبونه ‪ ,‬وأولى الناس بذلك ربته وملكته ‪ ,‬بدل‬ ‫المرأة الؽرٌبة ‪ ,‬والتً كثٌراً ما تكون ؼرٌبة الدار والخلق والدٌن واللؽة واألفكار والعادات ‪ -‬كما هو‬ ‫شابع فً مجتمعات الخلٌج من المربٌات والخادمات المستوردات من الشرق األقصى ‪ -‬وخطورة هذا‬ ‫األمر ال تخفى على عاقل ‪.‬‬ ‫( هـ ) كما أن سعادة األسرة لٌست فً مجرد زٌادة الدخل ‪ ,‬الذي ٌنفق معظمه فً أدوات الزٌنة ‪ ,‬وثٌاب‬ ‫الخروج ‪ ,‬وتكالٌؾ الحٌاة المختلطة ‪ ,‬التً تقوم على التكلؾ والتصنع وسباق األزٌاء ‪ ,‬و « المودات »‬ ‫وما إلى ذلك ‪ ,‬وٌقابل هذه الزٌادة فً الدخل حرمان البٌت من السكٌنة واألنس ‪ ,‬الذي تشٌعه المرأة فً‬ ‫جو األسرة ‪ ,‬أم ا المرأة العاملة فهً مكدودة الجسم ‪ ,‬مرهقة األعصاب ‪ ,‬وهً نفسها فً حاجة إلى من‬ ‫ٌروح عنها ‪ ,‬وفاقد الشًء ال ٌعطٌه ‪.‬‬ ‫( و ) إن مصلحة المرأة لٌست فً إخراجها عن فطرتها واختصاصها وإلزامها أن تعمل عمل الذكر ‪,‬‬ ‫وقد خلقها هللا أنثى ‪ ,‬فهذا كذب على المرأة وعلى الواقع ‪ ,‬و قد تفقد المرأة من هذا الصنؾ أنوثتها‬ ‫بالتدرٌج ‪ ,‬حتى أطلق علٌها بعض الكتاب اإلنجلٌز « الجنس الثالث » ‪ ,‬وهذا ما اعترؾ به كثٌر من‬ ‫النساء من ذوات الشجاعة األدبٌة ‪.‬‬


‫( ز ) وما ٌدعى من أن العمل سبلح فً ٌد المرأة ‪ ,‬إن صح فً الؽرب فبل ٌصح عندنا نحن المسلمٌن ‪,‬‬ ‫ألن المرأة فً اإلسبلم مكفٌة الحاجات بحكم النفقة الواجبة شرعا على أبٌها ‪ ,‬أو زوجها ‪ ,‬أو أبنابها أو‬ ‫أخٌها ‪ ,‬أو ؼٌرهم من العصبات واألقارب ‪ ,‬وان كان تقلٌد الؽرب بدأ ٌفقدنا خصابصنا شٌبا فشٌبا !‬

‫مضار اشتغال المرأة بعمل الرجال‬ ‫وبهذا نعلم أن اشتؽال المرأة فً أعمال الرجال وانهماكها فٌها بؽٌر قٌود وال حدود ‪ ,‬مضرة ال شك فٌها‬ ‫‪ ,‬من جوانب شتى ‪:‬‬ ‫‪ .1‬مضرة على المرأة نفسها ‪ :‬ألنها تفقد أنوثتها وخصابصها ‪ ,‬وتحرم من بٌتها وأوالدها ‪ ,‬حتى إن‬ ‫كثٌراً من النساء أصبن بالعقم ‪ .‬وبعضهم سماهن « الجنس الثالث » أي الذي ال هو رجل وال هو امرأة‬ ‫!‬ ‫‪ .2‬مضرة على الزوج ‪ :‬ألنه ٌحرم من نبع سخً كان ٌفٌض علٌه باألنس والبهجة ‪ ,‬فلم ٌعد ٌفٌض علٌه‬ ‫إال الجدل ‪ ,‬والشكوى من مشكبلت العمل ‪ ,‬ومنافسة الزمٌبلت والزمبلء ‪ ,‬فضبلً على أن الرجل ٌفقد‬ ‫كثٌراً من سلطانه وقوامته علٌها ‪ ,‬لشعورها بؤنها مستؽنٌة بعملها عنه ‪ ,‬وربما كان راتبها أكبر من راتبه‬ ‫‪ ,‬فتشعر باالستعبلء علٌه ‪ .‬هذا إلى ما ٌشعر به كثٌر من األزواج من عذاب الؽٌرة والشك ‪.‬‬ ‫‪ .3‬مضرة على األوالد ‪ :‬ألن حنان األم ‪ ,‬وقلب األم ‪ ,‬وإشراؾ األم ‪ ,‬ال ٌؽنً عنه ؼٌره من خادم أو‬ ‫مدرسة ‪ ,‬وكٌؾ ٌستفٌد األوالد من أم تقضً نهارها فً عملها ‪ ,‬فإذا عادت إلى البٌت عادت متعبة‬ ‫مهدودة ‪ ,‬متوترة ‪ ,‬فبل حالتها الجسمٌة وال النفسٌة تسمح بحسن التربٌة وسبلمة التوجٌه ‪.‬‬ ‫‪ .4‬مضرة على جنس الرجال ‪ :‬ألن كل امرأة عاملة ‪ ,‬تؤخذ مكان رجل صالح للعمل ‪ ,‬فما دام فً‬ ‫المجتمع رجال متعطلون ‪ ,‬فعمل المرأة إضرار بهم ‪.‬‬ ‫‪ .5‬مضرة على العمل نفسه ‪ :‬ألن المرأة كثٌرة التخلؾ والؽٌاب عن العمل ‪ ,‬لكثرة العوارض الطبٌعٌة‬ ‫التً ال تملك دفعها ‪ ,‬من حٌض وحمل ووضع وإرضاع وما شابه ذلك ‪ ,‬وهذا كله على حساب انتظام‬ ‫العمل وحسن اإلنتاج فٌه ‪.‬‬ ‫‪ .6‬مضرة على األخبلق ‪ :‬أخبلق المرأة إذا فقدت حٌاء النساء ‪ ,‬وأخبلق الرجل إذا فقد ؼٌرة الرجال ‪,‬‬ ‫وأخبلق الجٌل إذا فقد حسن التربٌة والتهذٌب منذ نعومة األظفار ‪ ,‬وأخبلق المجتمع كله إذا أصبح كسب‬ ‫المال وزٌادة الدخل هو الهدؾ األكبر ‪ ,‬الذي ٌسعى إلٌه الناس ‪ ,‬ولو على حساب القٌم الرفٌعة ‪ ,‬والمثل‬ ‫العلٌا ‪.‬‬ ‫‪ .7‬مضرة على الحٌاة االجتماعٌة‪ :‬ألن الخروج على الفطرة ‪ ,‬ووضع الشًء فً ؼٌر موضعه الذي‬ ‫طرة ‪ٌ ,‬فسد الحٌاة نفسها ‪ ,‬وٌصٌبها بالخلل والتخبط واالضطراب ‪.‬‬ ‫اقتضته هذه الؾ‬

‫متى يجوز للمرأة أن تعمل‬


‫هل ٌفهم من هذا أن عمل المرأة حرام أو ممنوع شرعا بكل حال ؟‬ ‫كبل ‪ ,‬وٌنبؽً أن نبٌن هنا إلى أي مدى ‪ ,‬وفى أي مجال ‪ ,‬تجٌز الشرٌعة للمرأة أن تعمل ‪.‬‬ ‫هذا ما نحدده بإٌجاز ووضوح أٌضا ‪ ,‬حتى ال ٌلتبس الحق بالباطل فً هذه القضٌة الحساسة ‪ .‬إن عمل‬ ‫المرأة األول واألعظم الذي ال ٌنازعها فٌه منازع ‪ ,‬وال ٌنافسها فٌه منافس ‪ ,‬هو تربٌة األجٌال ‪ ,‬الذي‬ ‫هٌؤها هللا له بدنٌا ً ‪ ,‬ونفسٌا ً ‪ ,‬وٌجب أال ٌشؽلها عن هذه الرسالة الجلٌلة شاؼل مادي أو أدبً مهما كان ‪,‬‬ ‫فإن أحداً ال ٌستطٌع أن ٌقوم مقام المرأة فً هذا العمل الكبٌر ‪ ,‬الذي علٌه ٌتوقؾ مستقبل األمة ‪ ,‬وبه‬ ‫تتكون أعظم ثرواتها ‪ ,‬وهً الثروة البشرٌة ‪.‬‬ ‫ورحم هللا شاعر النٌل حافظ إبراهٌم حٌن قال ‪:‬‬ ‫األم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا ً طٌب األعراق‬ ‫وهذا ال ٌعنى أن عمل المرأة خارج بٌتها محرم شرعا ً ‪ ,‬فلٌس ألحد أن ٌحرم بؽٌر نص شرعً صحٌح‬ ‫الثبوت ‪ ,‬صرٌح الداللة ‪ ,‬واألصل فً األشٌاء والتصرفات العادٌة اإلباحة كما هو معلوم ‪.‬‬ ‫وعلى هذا األساس نقول ‪ :‬إن عمل المرأة فً ذاته جابز ‪ ,‬وقد ٌكون مطلوبا ً إذا احتاجت إلٌه ‪ ,‬كؤن‬ ‫تكون أرملة أو مطلقة ‪ ,‬أو لم توفق للزواج أصبلً ‪ ,‬وال مورد لها وال عابل ‪ ,‬وهً قادرة على نوع من‬ ‫الكسب ٌكفٌها ذل السإال أو المنة ‪.‬‬ ‫وقد تكون األسرة هً التً تحتاج إلى عملها كؤن تعاون زوجها ‪ ,‬أو تربً أوالدها ‪ ,‬أو إخوتها الصؽار‬ ‫‪ ,‬أو تساعد أباها فً شٌخوخته ‪ ,‬كما فً قصة ابنتً الشٌخ الكبٌر التً ذكرها القرآن الكرٌم فً سورة‬ ‫القصص ‪ ,‬وكانتا تقومان على ؼنم أبٌهما ‪ ,‬قال تعالى ‪ ( :‬ولما ورد ماء مدٌن وجد علٌه أمة من الناس‬ ‫ٌسقون ووجد من دونهم امرأتٌن تذودان ‪ ,‬قال ما خطبكما ‪ ,‬قالتا ال نسقً حتى ٌصدر الرعاء ‪ ,‬وأبونا‬ ‫شٌخ كبٌر) ‪.‬‬ ‫وقد ٌكون المجتمع نفسه فً حاجة إلى عمل المرأة ‪ ,‬كما فً تطبٌب النساء وتمرٌضهن ‪ ,‬وتعلٌم البنات‬ ‫‪ ,‬ونحو ذلك من كل ما ٌختص بالمرأة ‪ .‬فاألولى أن تتعامل المرأة مع امرأة مثلها ‪ ,‬ال مع رجل ‪ ,‬وقبول‬ ‫الرجل فً بعض األحوال ٌكون من باب الضرورة التً ٌنبؽً أن تقدر بقدرها ‪ ,‬وال تصبح قاعدة ثابتة‬ ‫‪ .‬ومثل ذلك إذا احتاج المجتمع ألٌد عاملة ‪ ,‬لضرورة التنمٌة ‪.‬‬ ‫أجزن عمل المرأة ‪ ,‬فالواجب أن ٌكون مقٌداً بعدة شروط ‪:‬‬ ‫ا‬ ‫وإذا‬ ‫‪ .1‬أن ٌكون العمل فً ذاته مشروعا ً ‪ ,‬بمعنى أال ٌكون عملها حراما ً فً نفسه ‪ ,‬أو مفضٌا ً إلى ارتكاب‬ ‫حرام ‪ ,‬كالتً تعمل خادما ً لرجل أعزب ‪ ,‬أو سكرتٌرة خاصة لمدٌر تقتضً وظٌفتها أن ٌخلو بها وتخلو‬ ‫به ‪ ,‬أو راقصة تثٌر الشهوات والؽرابز الدنٌا ‪ ,‬أو عاملة فً « بار » تقدم الخمر التً لعن رسول هللا‬ ‫صلى هللا علٌه وسلم ساقٌها وحاملها وبابعها ‪ ..‬أو مضٌفة فً طابرة ٌوجب علٌها عملها التزام زي ؼٌر‬ ‫شرعً ‪ ,‬وتقدٌم ما ال ٌباح شرعا ً للركاب ‪ ,‬والتعرض للخطر بسبب السفر البعٌد بؽٌر محرم ‪ ,‬بما‬ ‫ٌلزمه من المبٌت وحدها فً ببلد الؽربة ‪ ,‬وبعضها ببلد ؼٌر مؤمونة ‪ ,‬أو ؼٌر ذلك من األعمال التً‬ ‫حرمها اإلسبلم على النساء خاصة أو على الرجل والنساء جمٌعا ‪.‬‬ ‫‪ .2‬أن تلتزم أدب المرأة المسلمة إذا خرجت من بٌتها ‪ :‬فً الزي والمشً والكبلم والحركة ‪ ( :‬وال‬ ‫ٌبدٌن زٌنتهن إال ما ظهر منها ) ‪ ( ,‬وال ٌضربن بؤرجلهن لٌعلم ما ٌخفٌن من زٌنتهن ) ‪ ( ,‬فبل تخضعن‬ ‫بالقول فٌطمع الذي فً قلبه مرض وقلن قوالً معروفا ً ) ‪.‬‬ ‫‪ .3‬أال ٌكون عملها على حساب واجبات أخرى ال ٌجوز لها إهمالها كواجبها نحو زوجها وأوالدها وهو‬ ‫واجبها األول وعملها األساسً ‪.‬‬ ‫والمطلوب من المجتمع المسلم ‪ :‬أن ٌرتب األمور ‪ ,‬وٌهٌا األسباب ‪ ,‬بحٌث تستطٌع المرأة المسلمة أن‬ ‫تعمل ‪ -‬إذا اقتضت ذلك مصلحتها أو مصلحة أسرتها ‪ ,‬أو مصلحة مجتمعها ‪ -‬دون أن ٌخدش ذلك‬ ‫ً‬ ‫حٌاءها ‪ ,‬أو ٌتعارض مع التزامها بواجبها نحو ربها ونفسها وبٌتها ‪ ,‬وأن ٌكون المناخ العام مساعدا لها‬


‫على أن تإدى ما علٌها ‪ ,‬وتؤخذ ما لها ‪ .‬وٌمكن أن ٌرتب لها نصؾ عمل بنصؾ أجر ( ثبلثة أٌام فً‬ ‫األسبوع مثبلً ) ‪ .‬كما ٌنبؽً أن ٌمنحها إجازات كافٌة فً أول الزواج ‪ ,‬وكذلك إجازات الوالدة‬ ‫واإلرضاع ‪.‬‬ ‫ومن ذلك ‪ :‬إنشاء مدارس وكلٌات وجامعات للبنات خاصة ‪ٌ ,‬ستطعن فٌها ممارسة الرٌاضات واأللعاب‬ ‫المبلبمة لهن ‪ ,‬وأن ٌكون لهن الكثٌر من الحرٌة فً التحرك وممارسة األنشطة المختلفة ‪.‬‬ ‫ومن ذلك ‪ :‬إنشاء أقسام أو أماكن مخصصة للعامبلت من النساء فً الوزارات والمإسسات والبنوك ‪,‬‬ ‫بعداً عن مظان الخلوة والفتنة ‪.‬‬ ‫إلى ؼٌر ذلك من الوسابل التً تتنوع وتتجدد ‪ ,‬وال ٌسهل حصرها ‪.‬‬ ‫وهللا ٌقول الحق ‪ ,‬وهو ٌهدي السبٌل ‪.‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.