مالمح المجتمع المسلم يوسف القرضاوي
تم تجميع الكتاب من موقع الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي http://www.qaradawi.net
عن طريق موقع http://www.y-ebooks.com
مقــــدمة الحمد هلل حمداً كثٌراً طٌبا ً مباركا ً فٌه ،والصبلة والسبلم على رسوله المبعوث رحمة للعالمٌن ،وعلى آله وصحبه أجمعٌن. أما بعد ،فقد عنى اإلسبلم بالمجتمع عناٌة بالفرد .فكل منهما ٌتؤثر باآلخر وٌإثر فٌه .وهل المجتمع إال مجموعة من األفراد ربطت بٌنهم روابط معٌنة .فكان صبلح الفرد الزما ً لصبلح المجتمع ،فالفرد أشبه باللبنة فً البنٌان ،وال صبلح للبنٌان إذا كانت لبناته ضعٌفة. كما ال صبلح للفرد إال فً مجتمع ٌساعده على النمو السلٌم ،والتكٌؾ الصحٌح ،والسلوك القوٌم. فالمجتمع هو التربة التً تبنت فٌها بذرة الفرد .وتنمو وتترعرع فً مناخها ،واالنتفاع بسمابها وهوابها وشمسها .وما كانت الهجرة النبوٌة إلى المدٌنة ،إال سعٌا ً إلى مجتمع مستقل تتجسد فٌه عقابد اإلسبلم وقٌمه وشعابره وشرابعه .وقد لمسنا فً عصرنا محنة الفرد المسلم فً المجتمعات التً ال تلتزم باإلسبلم منهاجا ً لحٌاتها ،ناهٌك بالمجتمعات التً تعادي شرٌعته ،وتطارد دعوته .وكٌؾ ٌعٌش هذا الفرد فً توتر وقلق وحٌرة ،نتٌجة لما ٌحس به من تناقض صارخ بٌن ما ٌإمن به من أوامر دٌنه و نواهٌه ،من جهة ،و م ا ٌعاٌشه وٌضؽط علٌه من أفكار المجتمع ومشاعره وتقالٌده وأنظمته وقوانٌنه، التً ٌراها مخالفة لتوجٌهات عقٌدته ،وأحكام شرٌعته ،وموارٌث ثقافته ،من جهة أخرى .اإلنسان -كما قال القدماء -مدنً بطبعه ,وكما قال المحدثون :حٌوان اجتماعً .أي أنه ال ٌستطٌع أن ٌعٌش وحده , بل ال بد أن ٌتعاون مع ؼٌره ,حتى تستقٌم حٌاته ,وتتحقق مطالبه ,وٌستمر نوعه .وقد قال الشاعر العربً :الناس للناس من بدو وحاضرة بعض لبعض -وان لم ٌشعروا -خدم واإلسبلم ال ٌصور اإلنسان وحده ،إنما ٌصوره فً مجمع ،ولهذا توجهت التكالٌؾ إلٌه بصٌؽة الجماعةٌ( :ا أٌها الذٌن آمنوا) ولم ٌجا فً القرآن (ٌا أٌها المإمن) وذلك أن تكالٌؾ اإلسبلم محتاج إلى التكاتؾ والتضامن فً حملها والقٌام بؤعبابهاٌ .ستوي فً ذلك العبادات والمعامبلت. فإذا نظرنا إلى فرٌضة كالصبلة وجدنا أنها ال ٌمكن أن تقام كما ٌرٌد اإلسبلم ,إال بمسجد ٌتعاون المجتمع على بنابه ،ومإذن ٌعلن الناس بمواقٌت الصبلة ,وإمام ٌإمهم ,وخطٌب بخطبهم ,ومعد ٌعلمهم, وهذا كله ال ٌقوم به الفرد ,وإنما ٌنظمه المجتمع. ّ وقد جعل القرآن أول أعمال الدولة المسلمة إذا مكن لها فً األرض :أن تقٌم الصبلة ,كما قال تعالى (: الذٌن إن مك ّناهم فً ألرض أقاموا الصبلة وآتوا الزكاة… اآلٌة). ومثل ذلك ٌقال فً فرٌضة الصوم ,وضرورة ترتٌب أمور الحٌاة فً رمضان ترتٌبا ٌعٌن على الصٌام والقٌام والسحور وؼٌرها .ومن باب أولى :الزكاة ,فاألصل فٌها أنها تنظٌم اجتماعً تشرؾ علٌه الدولة ,بواسطة( العاملٌن علٌها ) الذين نص علٌهم القرآن .وكذلك كل شعابر اإلسبلم وأركانه .أما األخبلق والمعامبلت فبل ٌتصور أن تقوم -كما ٌنشدها اإلسبلم -إال فً ظبلل مجتمع ملتزم باإلسبلم, ٌتعبد هلل بإقامة حٌاته على أساس اإلسبلم. وقد عم اإلسبلم المسلم أن ٌقول إذا ناجى ربه فً صبلته ( إٌاك نعبد وإٌاك نستعٌن) فهو ٌتكلم بلسان الجماعة ,وإن كان وحده ,وكذلك إذا دعا ربه دعا بصٌؽة الجمع( :اهدنا الصراط المستقٌم) فالجماعة حٌّة فً وجدانه ،حاضرة على لسانه .والمجتمع المسلم مجتمع متمٌز عن سابر المجتمعات بمكوناته وخصابصه ,فهو مجتمع ربانً ،إنسانً ,أخبلقً ,متوازن .والمسلمون مطالبون بإقامة هذا المجتمع,
حتى ٌمكنوا فٌه لدٌنهم ,وٌجسدوا فٌه شخصٌتهم ,وٌحٌوا فً ظله حٌاة إسبلمٌة متكاملة :حٌاة توجهها العقٌدة اإلسبلمٌة ,وتزكٌها العبادات اإلسبلمٌة ,وتقودها المفاهٌم اإلسبلمٌة ,وتحركها الشاعر اإلسبلمٌة ,وتضبطها األخبلق اإلسبلمٌة وتجملها اآلداب اإلسبلمٌة ,وتهٌمن علٌها القٌم اإلسبلمٌة, ومحكمها التشرٌعات اإلسبلمٌة ,وتوجه اقتصادها وفنونها وسٌاستها :التعالٌم اإلسبلمٌة. فلٌس المجتمع المسلم ,كما ٌتصوره أو ٌصوره الكثٌرون -هو -فقط -الذي ٌطبق الشرٌعة اإلسبلمٌة فً جانبها القانونً ,وخصوصا جانب الحدود والعقوبات ,فهذا تصور وتصوٌر قاصر ,بل ظالم لهذا المجتمع ,واختصار لكل مقوماته المتعددة فً مقوم واحد هو التشرٌع ,وفى جانب واحد من التشرٌع هو التشرٌع الجزابً ,أو الجنابً. لهذا كان من المهم هنا :هو إلقاء الضوء على المكونات أو البلمح األساسٌة لهذا المجتمع الذي ننشده, والذي قامت حركات وجماعات إسبلمٌة فً شتى أنحاء العالم العربً واإلسبلمً تدعو إلٌه ,لٌحل محل المجتمعات الحاضرة ,التً اختلط فٌها اإلسبلم بالجاهلٌة ,سواء أكانت جاهلٌة وافدة,مما ؼزانا به االستعمار الؽربً بشقٌه :الرأسمالً واالشتراكً ,أم جاهلٌة موروثة ,من رواسب عصور التخلؾ ,التً ساء فٌه ا فهم السلمٌن لدٌنهم ,كما ساء تطبٌقهم له ,حكاما ومحكومٌن .وقد صدر لً كتاب منذ سنٌن, هو( :ؼٌر المسلمٌن فً المجتمع اإلسبلمً ) وهو فً الحقٌقة جزء من هذا الكتاب. كما تركت موضوعا ً ٌتعلق بالدولة ونظام الحكم ,خشٌه م ن طول الكتاب على القارئ .وربما أهدره فً رسالة مستقلة ,أو ألحمه به فً طبعه أخرى .وعسى أن ٌكون فً هذه الفصول ما ٌساعد على كشؾ اللثام عن معالم هذا المجتمع الذي مرنو إلٌه األبصار ,وتشربب نحوه األعناق ,وتتعلق به القلوب. وعسى أن ٌزٌدنا ذلك إصراراً على السعً إلٌه ,والعمل على تحقٌقه فً الواقع ،كلما استطعنا إلى ذلك سبٌبل ,فً أي وطن -مهما صؽرت رقعته من دار اإلسبلم .فٌعلن والءه الكامل لئلسبلم ,عقٌدة وشرٌعة ومنهاج حٌاة ,وٌبنى حٌاته كلها :المادٌة والمعنوٌة ,وسٌاسته كلها :الداخلٌة والخارجٌة على اإلسبلم. ومن ناحٌة أخرى نقٌس المجتمعات القابمة الٌوم ,والتً تنتسب إلى اإلسبلم ,ألن سكانها مسلمون ,أو ألن دستورها ٌعلن أن دٌنها اإلسبلم ,أو أن الشرٌعة هً المصدر الربٌسً ,أو المصدر الوحٌد للقوانٌن :نقٌسها إلى هذا المجتمع فً صورته المثالٌة المنشودة ,لنعرؾ مدى قربها أو بعدها منه. ؾما أكثر الذٌن ٌتمسحون باإلسبلم ,وهم عنه صادون ,أو ٌتمسكون بشكلٌات منه ,وهم عن روحه معرضون ,أو ٌإمنون ببعض كتابه ,وهم بالبعض اآلخر كافرون ,أو ٌحتفلون بؤعٌاده ,وهم ألعدابه موالون ,ولدعاته معادون ,ولشرٌعته معارضون ! ( ربنا علٌك توكلنا وإلٌك أنبنا وإلٌك المصٌر ،ربنا ال تجعلنا فتنة للذٌن كفروا واؼفر لنا ،ربنا إنك أنت العزٌز الحكٌم). إن أول أساس ٌقوم علبه المجتمع السلم وٌقوم به هو العقٌدة :مقٌدة اإلسبلم.فمهمة المجتمع األولى هً حماٌة هذه العقٌدة ورماٌتها وتثبٌتها ,ومد نورهافً اآلفاق.وعقٌدة اإلسبلم تتمثل فً اإلٌمان باهلل ومبلبكته وكتبه ورسله والٌوم اآلخر (:آمن الرسول بما أنزل إلٌه من ربه والمإمنون ,كل آمن باللهومبلبكته وكتبه ورسله ال نفرق بٌن أحد من رسله ,وقالوا سمعناوأطعنا ,ؼفرانك ربنا وإلٌك المصٌر)فهً عقٌدة تبنى وال تهدم ,تجمع وال تؽرق ,ألنها تقوم على تراث الرساالتاإللهٌة كلها ,وعلى اإلٌمان برسل اله جمٌعا ( :ال نفرق بٌن أحد من رسله) . ولهذه العقٌدة عنوان ٌلخصها أو شعار ٌعبر عنها هو ( :شهادة أن ال إله إالاله وأن محمدا رسول اله ), هذه العقٌدة هً التً تمثل وجهة نظر السلمٌنإلى الكون ورب الكون ,وإلى الطبٌعة وما وراء الطبٌعة, والى الحٌاة وما بعدالحٌاة ,وإلى العالم المنظور والعالم ؼٌر المنظور ,وبعبارة أخرى :إلى الخلقوالخالق, إلى الدنٌا واآلخرة ,إلى عالم الشهادة وعالم الؽٌب.فهذا الكون بؤرضه وسمابه ,بجماده ونباته ,وحٌوانه وإنسانه ,وجنهومبلبكته ....هذا الكون لم ٌخلق من غٌر شا ,ولم ٌخلق نفسه ,فبل بد لهمن خالق علٌم
قدٌر عزٌز حكٌم ,خلقه فسواه ,وقد قدر كل شا فٌه تقدٌراً,فكل ذرة فٌه بمٌزان ,وكل حركة فٌه بمقدار وحسبان .وذلك الخالق هو هللا ,الذي تدل كل كلمه بل كل حرؾ فً كتاب الوجود على مشٌبته وقدرته, وعلمهوحكمه ( :تسبح له السموات السبع واألرض ومن فٌهن ,وإن من شا إال ٌسبح بحمده)هذا الخالً ال هو رب السموات واألرض ,رب العالمٌن ,رب كل شًء,واحد أحد ال شرٌك له فً ذاته وال فً صفاته ,وال فً أفعاله ,فهو وحدهالقدٌم األزلً وهو وحده الباقً األبدي ,وهو وحده الخالق البارئ المصور,له األسماء الحسنى ,والصفات العبل ,ال ند له وال ضد له ,وال ولد له ,والوالد ,وال شبٌه وال نظٌر (قل هو هللا أحد ،هللا الصمد ،لم ٌلد ولم ٌولد ،ولم ٌكن له كفواً أحد)هو األول واآلخر والظاهر والباطن ،وهو بكل شا علٌم) (لٌس كمثله شا ،وهو السمٌع البصٌر)كل ما فً هذا الكون العظم , علوٌه وسفلٌه ,صامته وناطقه ,مدل على أنعقبل واحدا ,هو الذي ٌدبر أمره ,وٌداً واحدة هً التً تدٌر رحاه ,وتوجه دفتهوإال الختل نظامه ,وافلت زمامه ,واضطرب مٌزانه ,وتهدم بنٌانه ,تبعا ً لماتقضً به الضرورة من اختبلؾ العقول المتباٌنة التً توجه ,واختبلؾ األيدٌالمتعددة التً تحرك . . وصدق اله العظم إذ ٌقول ( لو كان فٌهما آلهةإال هللا لفسدتا ,فسبحان هللا رب العرش عما ٌصفون) وقالجل شؤنه ( :ما اتخذ هللا من ولد وما كان معه من إله ,إذ لذهب كئلله بما خلق ولعبل بعضهم على بعض ,سبحان هللا عما ٌصفون )وٌقول ( :قل لو كان معه آلهة كما ٌقولون إذا البتؽوا إلى ذي العرشسبٌبلً ،سبحانه وتعالى عما ٌقولون عبلً كبٌرا ) . فالحقٌقة التً ال مراء فٌها :أن كل من فى السموات ومن فً األرض عبٌدله ,وكل ما فً السموات واألرض ملك له ,فلٌس أحد وال شا من العقبلءأو من ؼٌر العقبلء شرٌكا له ,أو ولدا له ,كما ٌقول الوثنٌٌن وأشباه الوثنٌٌن( ،وقالوا اتخذ هللا ولداً ،سبحانه ،بل له ما فً السموات وما فً األرض ،كل له قانتون ،بدٌع السموات واألرض وإذا قضى أمراً فإنما ٌقول له كن فٌكون)ومن ضل عن هذه الحقٌقه فً الدنٌا فسٌكشؾ عنه الؽطاء فً اآلخرة ,وٌرىالحقٌقة عارٌة واضحة وضوح الشمس فً الضحى ( :إن لكل من فٌالسموات واألرض إال آتى الرحمن عبدا أتى أحصاهم وعدهم عداً ،وكلهم آتٌة ٌوم القٌامة فرداً ) فبل عجب بعد ذلك أن ٌكون هذا الخالق العظٌم ,وهذا الرب ال هو وحدهالذي ٌستحق العبادة والطاعة المطلقة ,وبعبارة أخرىٌ ( :ستحق ؼاٌة الخضوعوؼاٌة الحب ,فالمعنى المركب من الخضوع كل الخضوع ,الممزوج بالحب كبللحب ,هو الذي نسمٌه العبادة ). وهذا هو معنى( ال إله إال هللا ) أي ال ٌستحق العبادة ؼٌره ..أو ال ٌستحقكل الخضوع وكل الحب إال هو..فهو وحده الذي تخضع ألمره الرقاب ,وتسجدلعظمته الجباه ,وتسبح بحمده األلسنة ,وتقاد لحكمه القلوب والعقول واألبدان .وهو وحده الذي تتجه إلٌه األفبدة بالحب كل الحب ,فهو المتفرد بالكمال كله,والكمال من شؤنه أن ٌحب وٌحب صاحبه ,وهو مصدر الجمال كله ,وما فٌالوجود من جمال فهو صاحب ,وهو واهب النقم كلها ,ومصدر اإلحسان كله ( ه مستمد منه ,والجمال من شؤنه أن ٌحب وٌحب وما بكم من نعمة فمن هللا )واإلحسان دابما ٌحب والنعمة دابما ً تحب وٌحب صاحبها.معنى « ال إله إال اله » هو رفض الخضوع والعبودٌة لسلطان ؼٌر سلطانه,وحكم ؼٌر حكمه وأمر ؼٌر أمره ,ورفض الوالء إال له ,والحب إال له وفٌه . و إذا أردنا أن نزٌد هذا المعنى إٌضاحا قلنا :إن عناصر التوحٌد كما جاء بهاالقرآن الكرٌم ,ثبلثة ذكرتها سورة األنعام ,وهى سورة عنٌت بتثبٌت أصول التوحٌد :أولها :أال تبؽً ؼٌر هللا ربا ً( :قل أؼٌر هللا أبؽً ربا ً وهو رب كل شا). وثانٌها :أال تتخذ ؼٌر هللا ولٌا ً ( :قل أؼٌر هللا اتخذ ولٌا ً فاطر السموات واألرض وهو ٌطعم والٌطعم). وثالثها :أال تبتؽً ؼٌر هللا حكما ً( :أفؽٌر هللا ابتؽً حكما ً وهو الذي أنزل إلٌكم الكتاب مفصبلً)
معنى العنصر األول ( أال تبتؽى ؼٌر هللا ربا ً ) :إبطال األرباب المزعومةالتً اتخذها الناس قدٌما ً وحدٌثا ً ,فً الشرق والؽرب ,سواء أكانت من الحجروالشجر أم من الفضة والتبر ,أم من الشمس والقمر ,أم من الجن والبشر ,معنى العنصر األول هو رفض لكل األرباب إال هللا وإعبلن الثورة علىالمتؤلهٌن فً األرض المستكبرٌن بؽٌر الحق ,الذٌن أرادوا أن ٌتخذوا عباد هللا عبٌداً لهم وخوالً (.ال إله إال هللا ) هو اإلعبلن العام لتحرٌر اإلنسان من الخضوع والعبودٌة,إال لخالقه وباربه .فبل ٌجوز أن تعنو الوجوه ,أو تطاطا الرإوس ,أو تنخفضالجباه ,أو تخشع القلوب ,إال لقٌوم األرض والسمواتولهذا كان النبً (صلى هللا علٌه وسلم) ٌختم رسابله إلى الملوك واألمراء ,والقٌاصرة من النصارىبهذه اآلٌة الكرٌمةٌ ( :ا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بٌنناوبٌنكم أال نعبد إال اله وال نشرك به ثسٌبا ً وال ٌتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون هللا ,فإن تولوا فقولوا اشهدوا بؤنا مسلمون) . وكانت كلمة ( ربنا هللا) إعبلنا ً بالعصٌان والتم رد على كل جبار فً األرض .ومن أجل هذا تعرض موسى للتهدٌد بالقتل ،وقام رجل مإمن من آل فرعون ٌدافع عنه وٌقول (:أتقتلون رجبلً ٌقول ربً هللا)ومن أجل ذلك تعرض رسولنا ( صلى هللا علٌه وسلم) وـؤصحابه لبلضطهاد واألذى واإلخراج من الدٌار واألموال (الذٌن أخرجوا من دٌاره م بؽٌر حق إال أن ٌقولوا ربنا هللا). ومعنى العنصر الثانً (أال تتخذ ؼٌر هللا ولٌا ً) :رفض الوالء لؽٌر هللا وحزبه ،فلٌس من التوحٌد أن ٌزعم زاعم أن ربه هو هللا ،وربما ألعداء هللا .قال تعالى (:ال ٌتخذ المإمنون الكافرٌن أولٌاء من دون المإمنٌن ،ومن ٌفعل ذلك فلٌس م ن هللا فً شا) إن حقٌقة التوحٌد لمن آمن بؤن ربه هو هللا :أن ٌخلص والءه له ولمن أمر اللهتعالى بمواالته ,كما قال سبحانه « :إنما ولٌكم هللا ورسوله والذٌن آمنواوالذٌن ٌقٌمون الصبلة وٌإتون الزكاة وهم راكعون ومن ٌتول اللهورسوله والذٌن آمنوا فإن حزب هللا هم الػالبون) . ومن هنا أنكر القرآن على المشركٌن أنهم قسموا قلوبهم بٌنه تعالى وبٌناألنداد التً اتخذوها من األصنام واألوثان ,فجعلوا لها من الحب والوالء مثلما جعلوا هلل ( .ومن الناس من ٌتخذ من دون هللا أنداداً ٌحبونهم كحب هللا والذٌن أمنوا أشد حبا ً هلل) .إن هللا تعلى ال ٌقبل الشركة فً قلوب عباده المإمنٌن ,فبل ٌجوز أن ٌكون بعض القلب هلل وبعضه للطاؼوتوأن ٌكون بعض والبه للخالق ,وبعضه للمخلوق .إن الوالء كله والقلب كلهٌجب أن ٌكون له ,صاحب الخلق كله ,واألمر كله ,وهذا هو الفرق بٌن المإمنوالمشرك ,المإمن سلم هلل ,خالص العبودٌة له ,والمشرك موزع بٌن هللا وبٌنؽٌر هللا (ضرب هللا مثبلً رجبلً فٌه شركاء متشاكسون ورجبل سلماًلرجل هل ٌستوٌان مثبل ,الحمد هلل ,بل أكثرهم ال ٌعلمون) . ومعنى العنصر الثالث ( :أال تبؽى ؼٌر هللا حكما ً :رفض الخضوع لكل حكمؽٌر حكم هللا ,وكل أمر ؼٌر أمر هللا ,وكل نظام ؼٌر نظام هللا ,وكل قانونؽٌر شرع هللا ,وكل وضع أو عرؾ أو تقلٌد أو منهج أو فكرة أو قٌمة لم ٌؤذنبها هللا .ومن قبل شٌبا ً من ذلك حاكما ً كان أو محكوما ً ,ببل إذن من اللهوسلطان ،فقد أبطل عنصراً أساسٌا من عناصر التوحٌد ,ألنه ابتؽى ؼٌر اللهحكما ً ,والحكم والتشرٌع من حق هللا وحده ,لهذا قال سبحانه ( :إن الحكمإال هلل أمر أال تعبدوا إال إٌاه ,ذلك الدٌن القٌم ولكن أكثر الناس ال ٌعلمون) .وهذا العنصر إنما هو فً الواقع مقتضى إفراد هللا تعالى بالربوبٌة واإللهٌة ,فإن من اتخذ أحدا من عباد هللا شارعا ً وحاكما ً ٌ ,ؤمر بما شاء ,وٌنهى مماشاء ,وٌحلل ما ٌرٌد وٌحرم ما ٌرٌد ,و أعطاه حق الطاعة فً ذلك ولو أحبللحرام ,كالزنا ,والربا ,والخمر ,والمٌسر ,وحرم الحبلل :كالطبلق ,وتعددالزوجات ,وأسقط الواجبات :كالخبلفة ,والجهاد ,والزكاة ,واألمر بالمعروفوالنهى من المنكر ,وإقامة حدود هللا و ؼٌرها ,من اتخذ مثل هذا حكما ً وشارعاًفقد جعله فً الحقٌقة ربا ٌطاع فً كل أمر ,وٌنقاد له فً كل ما شرع .وهذاما جاء به القرآن وفسرته السنة النبوٌة
..فقد جاء فً سورة التوبة عن أهبللكتاب قوله تعالى ( :اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون هللا هوالمسٌح ابن مرٌم وما أمروا إال لٌعبدوا إلها واحداً ,ال إله إال هوسبحانه عما ٌشركون ) . فكٌف اتخذوهم أربابا ً وهم لم ٌسجدوا لهم ولم ٌعبدوهم عبادة األوثان ؟ ٌجٌب عن ذلك رسول هللا وكان فٌما رواه اإلمام أحمد والترمذي وابن جرٌر منقصة إسبلم عدى بن حاتم الطابً ،وكان قد تنصر فً الجاهلٌة وقدم إلى المدٌنة ,وتحدث الناس بقدومه ,فدخل على رسول هللا (صلى هللا علٌه وسلم) وفى عنقه صلٌب من فضة ،وهو ٌقرأ هذه اآلٌة( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون هللا) قال عدى :فقلت :إنهم لم ٌعبدوهم فقال (صلى هللا علٌه وسلم)( :بلى إنهم حرّ موا علٌهم الحبلل وأحلوا لهم الحرام ،فاتبعوهم ،فذلك عبادتهم إٌاهم). قال ابن كثٌر :وهكذا قال حذٌفة بن الٌمان ،وابن عباس وؼٌرهما فً تفسٌر( :اتخذوا أحبارهم أربابا ً من دون هللا ) :أنهم اتبعوهم فٌما حللوا وحرموا ،وقال السدى :استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب هللا وراء ظهورهمـ ولهذا قال تعالى( ومت أمروا إال لٌعبدوا إلها واحداً) ،أي الذي إذا حرم الشًء فهو الحرام، وما حلله فهو الحبلل ،وما شرعه اتبع ،وما حكم به نفذ ،ال إله إال هو ،سبحانه عما ٌشركون. هذا هو مجمل معنى الكلمة األولى من كلمتً الشهادة .كلمة(ال إله إال هللا) ومقتضاه :أال تبؽى ؼٌر هللا ربا ،وال تتخذ ؼٌر هللا ولٌا ً .وال تبتؽً ؼٌر هللا حكماً ،كما نطق القرآن العظٌم فً صرٌح آٌاته المحكمات. وأما معنى الكلمة الثانٌة من كلمتً الشهادة التً ٌدخل بها المرء باب اإلسبلم فهً( :محمد رسول هللا) إن اإلقرار هلل تعالى بالوحدانٌة ،وإفراده سبحانه باإللهٌة ،والربوبٌة ،ال ٌؽنً ما لم ٌنضم إلٌها هذا الشطر الثانً( :محمد رسول هللا) .فإن هللا جل شؤنه قد اقتضت حكمته أال ٌدع الناس همبلً ،وال ٌتركهم سدىً ،فؤرسل إلٌهم ما بٌن حٌن وآخر مبلؽٌن عنهٌ ،هدون خلقه إلٌه ،وٌدلونهم علٌه وٌرشدونهم إلى مراضٌه ،وٌحذرونهم من مساخطه(..رسبلً مبشرٌن ومنذرٌن لببل ٌكون للناس على هللا حجة بعد الرسل) كما أن مهمة هإالء الرسل وضع القواعد والقٌم والموازٌن التً تضبط الحٌاة وتنظم المجتمع، نازعواـ فٌجدون فٌها الحق وتهدٌه للتً هً أقوم ،وٌحتكم الناس إلٌها إذا اختلفوا ،وٌفٌبون إلٌها إذا ت الذي ال باطل معه ،والعدل الذي ال ظلم فٌه ،والخٌر الذي ٌطرد الشر ،والفضٌلة التً تقاوم الرذٌلة، والفساد واالنحراؾ..قال تعالى ) لقد أرسلنا رسلنا بالبٌنات وأنزلنا معهم الكتاب والمٌزان لٌقوم الناس بالقسط) ،فهذا ما أنزل هللا على رسول الكتاب) وهو نصوص الوحً اإللهً المعصوم ،و(المٌزان) وهو القٌم والمعاٌٌر الربانٌة النً جاءت بها النبوات من المثل العلٌا والفضابل اإلنسانٌة التً تسٌر فً ضوء (الكتاب) ،ولوال هإالء الرسل لضل الناس السبٌل فً تصورهم لحقٌقٌة األلوهٌة ،وطرٌقهم إلى مرضاتها وواجبهم نحوها ..وابتدعوا طرابق قددا ،وسببل شتى ،وما أنزل هللا بها من سلطان .سببلً تفرق وال تجمع ،وتهدم وال تبنً ،وتضل وال تهدي .وخاتم هإالء الرسل هو محمد (صلى هللا علٌه وسلم) ،فهو المبلػ عن أمره وشرعه ،وبه عرفنا ما ٌرٌد هللا منا ،وما ٌرضاه لنا ،وما ٌؤمرنا به ،وما ٌنهانا عنه..وبه عرفنا ربنا..وعرفنا منشؤنا ومصٌرنا..وعرفنا طرٌقنا بٌن المنشؤ والمصٌر..عرفنا ما أحله ربنا وما حرمه..وما فرضه وأوجبه..ولواله (صلى هللا علٌه وسلم) لعشنا فً ظلمات وعماٌة ،ال نعرؾ لنا ؼاٌة ،وال نهتدي سبٌبل( :وقد جاءكم من هللا نور وكتاب مبٌنٌ ،هدي به هللا من اتبع رضوانه سبل السبلم وٌخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه وٌهدٌهم إلى صراط مستقٌم). به عرفنا أن وراء هذه الحٌاة حٌاة أخرى توفى فٌها كل نفس ما كسبت ،وتجزى بما عملت ،فٌجزى الذٌن أساءوا بما عملوا ،والذٌن أحسنوا بالحسنى .به عرفنا أن وراءنا حسابا ومٌزانا ً ،وثوابا ً وعقابا، وجنة ونار( :فمن ٌعمل مثقال ذرة خٌراً ٌره ،ومن ٌعمل مثقال ذرة شراً ٌره) .به عرفنا مبادئ الحق، وقواعد العدل ،ومعانً الخٌر ،فً شرٌعته ال تضل وال تنسى ،شرعها من ٌعلم السر وأخفى ،من ال
تخفى علٌه خافٌة ،من ٌعلم المفسد من المصلح(..أال ٌعلم من خلق وهو اللطٌؾ الخبٌر) .ومن ثم كانت كلمة( :محمد رسول هللا ) تتمة لكلمة( :ال إله إال هللا) ،فهذه معناها أال ٌعبد إال هللا .واألخرى معناها :أال ٌعبد هللا إال بما شرعه وأوحاه على لسان رسوله .وال عجب ـن كانت طاعة رسول هللا جزءاً من طاعة هللا (من ٌطع الرسول فقد أطاع هللا) ،وكان أتباعه من أمارات محبة هللا( :قل إن كنتم تحبون هللا فاتبعونً ٌحببكم هللا وٌؽفر لكم ذنوبكم ،وهللا ؼفور رحٌم) وكان الرضا بحكمه وشرعه جزءا ال ٌتجزأ من اإلٌمان باهلل تعالى ,وال ٌعد فً زمرة المإمنٌن من رفض أمرا وحكما حكم به رسول هللا (صلى هللا علٌه وسلم) ,مما أنزله علٌه من كتابه أو مما أوحاه إلٌه بٌانا لهذا الكتاب ,فقد أرسله مبٌنا للناس ما نزل إلٌهم .وهذا أمر بٌن ؼاٌة البٌان فً القرآن الكرٌم ,فلٌس بمإمن أبدا من احتكم إلى ؼٌر رسول اله ,أو رد حكمه ,أو تردد فٌه مجرد تردد . ٌقول القرآن العزٌز (:وما كان لمإمن وال مإمنة إذا قضى هللا ورسوله أمرا أن ٌكون لهم الخٌرة من أمرهم ،ومن ٌعص هللا ورسوله فقد ضل ضبلال مبٌنا ً) .وٌقول سبحانه مندداً بقوم من مرضى القلوب من المنافقٌن ( :وٌقولون آمنتا باهلل وبالرسول وأطعنا ثم ٌتولى فرٌق منهم من بعد ذلك ،وما أولبك با لمإمنٌن ،وإذا دعوا إلى هللا ورسوله لٌحكم بٌنهم إذا فرٌق منهم معرضون ،وإن ٌكن لهم الحق ٌؤتون إلٌه مذعنٌن ،أفً قلوبهم مرض أم ارتابوا أم ٌخافون أن ٌحٌؾ هللا علٌهم ورسوله ،بل أولبك هم الظالمون ،إنما كان قول المإمنٌن إذا دعوا إلى هللا ورسوله لٌحكم بٌنهم أن ٌقولوا سمعنا وأطعنا، وأولبك هم المفلحون) وٌقول مم شؤن من تردد فً قبول حكم رسول هللا(صلى هللا علٌه وسلم) ,ورضى االحتكام إلى آخرٌن من البشر ,قٌل إنهم بعض الٌهود ( ألم تر إلى الذٌن ٌزعمون أنهم آمنوا بما أنزل وق أمروا أن ٌكفروا به وٌرٌد الشطٌان أن إلٌك وما أنزل من قبلك ٌرٌدون أن ٌتحاكموا إلى الطاؼوت د ٌضلهم ضبلالً بعٌداً ،وإذا قٌل لهم تعالوا إلى ما أنزل هللا وإلى الرسول رأٌت المنافقٌن ٌصدون عنك صدوداً)..إلى أن قال مقسما ً ومإكداً ( :فبل وربك ال ٌإمنون حتى ٌحكموك فٌما شجر بٌنهم ثم ال ٌجدون فً أنفسهم حرجا ً مما قضٌت وٌسلموا تسلٌما ً) هذا هو شؤن المإمنٌن مع رسول هللا (صلى هللا علٌه وسلم) ,وحكم رسول هللا ,وشرع رسول هللا :إنهم ال ٌتردون لحظة فً قبول الحكم أو رفضه , وبعبارة أخرى -لٌس لهم الخٌرة من أمرهم ,وال ٌتولون عن االنقٌاد والطاعة ,كما ٌفعل المنافقون بل شعارهم ومبدإهم دابما « :سمعنا وأطعنا » . وهذا بخبلؾ المنافقٌن الذٌن ٌرضون االحتكام إلى ؼٌر هللا ورسوله -وكل ما سوى هللا ورسوله .فهو طاؼوت -ولهذا قال تعالى ٌ( :رٌدون أن ٌتحاكموا إلى الطاؼوت ) . .فهما حكمان ال ثالث لهما :إما هللا وإما الطاؼوت . لقد رسمت اآلٌات صورة المنافقٌن وموقفهم من شرع هللا وحكم رسوله ( :وإذا قٌل لهم تعالوا إلى ما أنزل هللا وإلى الرسول رأٌت المنافقٌن ٌصدون عنك صدودا) ونفت -بشدة -اإلٌمان عمن لم ٌحكم رسول هللا فً حٌاته ,وٌحكم بسنته بعد مماته .ولم ٌكتؾ بذلك فاشترط الرضا والسلم بهذا الحكم ,فهذه هً طبٌعة اإلٌمان وثمرته (:ثم ال ٌجدوا فً أنفسهم حرجا ً مما قضٌت وٌسلموا تسلٌما) فمن أعرض عن هذه النذر كلها ,وأصم أذنه عن هذه اآلٌات,وتلقى شرابعه وقوانٌنه ونظمه وتقالٌده ,وقٌمه وموازٌنه ومفاهٌمه وتصوراته عن ؼٌر طرٌق رسول هللا (صلى هللا علٌه وسلم) ،ورضً بأن ٌحكم فً هذه األمور الخطٌرة فبلسفة من الشرق أو الؽرب ،أو علماء أو حكماء ،أو مشرعٌن -سمهم كما تشاء- فقد ضاد هللا فٌما شرع ،وناصب هللا ورسوله العداء ،ومرق من الدٌن كما ٌمرق السهم من الرمٌة ،وال ؼرو أن حكم كتاب هللا بالكفر والظلم والفسوق على من لم ٌحكم بما أنزل هللا ،فقال فً سٌاق واحد من سورة المابدة( :ومن لم ٌحكم بما أنزل هللا فؤولبك هم الكافرون)( ،ومن لم ٌحكم بما أنزل هللا فؤولبك هم الظالمون)( ،ومن لم ٌحكم بما أنزل هللا فؤولبك هم الفاسقون) .واستعمال هذه األلفاظ فً القرآن الكرٌم ٌدل على أن معانٌها متقاربة .قال تعالى ( :والكافرون هم الظالمون) ( ،ومن كفر بعد ذلك فؤولبك هم
الفاسقون) ( ،وما ٌجحد بآٌاتنا إال الكافرون) فالذي ال ٌحكم بما أنزل هللا كافر أو ظالم أو فاسق ،أو جامع لهذه الصفات كلها .وخصوصا إذا اعتقد أن ما أنزل هللاٌ ،مثل الجمود والتخلؾ والرجعٌة ،وما شر ع الناس هو التطور والتقدم الذي ٌصلح به المجتمع وترتقى به الحٌاة! ومن التحرٌؾ الظالم آلٌات الخالق ,والسخرٌة الصارخة بعقول الخلق ,أن ٌقول قابل :إن هذه اآلٌات نزلت فً شؤن أهل الكتاب من الٌهود والنصارى ,ونسى هذا القابل الجريء -أو تناسى -أن هذه اآلٌات الحكمة -وان نزلت فً سٌاق خاص -قد جاءت بؤلفاظ عامة ,تتناول بحكمها جمٌع األفراد الذٌن ٌشملهم مدلولها وهم كل ( من لم ٌحكم بما أنزل اله ) ,فالمدار على عموم اللفظ ,ال على خصوص السبب كما قرر أبمة اإلسبلم . ومحال أن ٌدمػ هللا بالظلم والكفر والفسوق أهل الكتاب األول ,ألنهم طرحوا ما أنزل اله وراءهم ظهرٌا ,ولم ٌحكموا به ,ثم ٌبٌح ›للمسلمٌن وحدهم -وهم أهل الكتاب اآلخر الخاتم -أن ٌتخذوا كتاب اله مهجورا ,وٌتخذوا ؼٌره منهاجا ودستورا !! ما فابدة ذكر هذه اآلٌات فً سٌاق الحدٌث عن أهل الكتاب ,إن لم ٌكن المقصود منها تحذٌر السلمٌن أن ٌصنعوا مثل صنٌعهم ,وٌحكموا بؽٌر شرٌعة ربهم ,فٌدمؽوا بمثل ما دمؽوا به ,وهل علٌهم عذاب هللا وؼضبه ( :ومن ٌحلل عٌه ؼضبى فقد هوى ) .لماذا أنزل هللا للناس كتاب وبعث لهم رسول ,إذا كان من حق الناس أن ٌهملوا الكتاب وٌعصوا الرسول ؟) وقد قال تبارك وتعالى :إنا أنزلنا إلٌك الكتاب بالحق لتحكم بٌن الناس بما أراك هللا)( ،وما أرسلنا ن\من رسول إال لٌطاع بإذن هللا) ،ومن ثم خاطب هللا رسوله بعد أن ذكر اآلٌات السابقة( :وأنزلنا إلٌك المباب بالحق مصدقا ً لما بٌن ٌدٌه من الكتاب ومهٌمنا ً علٌه ،فاحكم بٌنهم بما أنزل هللا ،وال تبع أهواءهم عما جاءك من الحق) ،ثم ٌقول فً اآلٌة التالٌة( :وأن احكم بٌنهم هللا إلٌك ،فإن تولوا فاعلم إنما ٌرٌد هللا أن ٌصٌبهم ببعض ذنوبهم ،وإن كثٌراً من الناس لفاسقون ،أفحكم الجاهلٌة ٌبؽون الجاهلٌة ٌبؽون ،ومن أحسن منه هللا حكما ً لقوم ٌوقنون). هما حكمان ال ثالث لهما :إما اإلسبلم ،وإما الجاهلٌة .وهما حكمان ال ثالث لهما :إما هللا ،وإما ؾ الطاؼوت .فلٌختر امرإ لنفسه..ولٌختر قوم ألنفسهم :إما هللا واإلسبلم ،وإما الطاؼوت والجاهلٌة ..وال وسط دون ذلك. أما الذٌن آمنوا فلٌس لهم الخٌرة من أمرهم :إنهم مع حكم هللا ورسوله ،إنهم مع اإلسبلم..إنهم حرب على الطاؼوت والجاهلٌة .إن شعارهم إذا دعوا إلى هللا ورسوله لٌحكم بٌنهم (:سمعنا وأطعنا) .وأما الذٌن كفروا فهم دابما ً فً سبٌل الطاؼوت ،وهم دابما ً متردون فً حفر الجاهلٌة (والذٌن كفروا أولٌاإهم الطاؼوت ٌخرجونهم من النور إلى الظلمات ،أولبك أصحاب النار ،هم فٌها خالدون). وهنا مالحظتان مهمتان : األولى :أن الحكم بما أنزل اله فرٌضة محكمة ال ٌخالؾ فٌها مسلم ,وهى مساوٌة لما شاع فً ممرنا من تعبٌر ( الحاكمٌة هلل ) عز وجل .وهى تعنى :الحاكمٌة التشرٌعٌة اآلمرة الناهٌة ,المحللة والم حرمة ,المتفردة باإللزام والتكلٌؾ للخلق كافة . وقد توهم بعض الناس أن هذه الفكرة من مبتكرات المودودى فً باكستان ,أو سٌد قطب فً مصر . والواقع :أن هذه الفكرة مؤخوذة من علم ( أصول الفقه ) اإلسبلمً ,واألصولٌون ٌذكرون ذلك فً مبعث ( الحكم ) من مقدمات علم األصول ,وفى موضوع ( الحاكم ) من هو ؟ فكلهم متفقون على أن الحاكم هو هللا .أي صاحب الحق المطبق فً التشرٌع لخلقه .حتى المعتزلة ال ٌخالفون فً ذلك ,كما بٌنه شارح ( مسلم الثبوت ) من كتب األصول المشهورة. والدالبل على ثبوت هذا المبدأ من القرآن والسنة بٌنة واضحة .سقنا بعضها فً بٌان فرضٌة الحكم بما أنزل هللا . الثانٌة :أن الحاكمٌة أو الحكم بما أنزل اله تعالى ,ال ٌلؽى دور اإلنسان ,فاإلنسان هو الذي ٌفهم النصوص الوجهة إلٌه ,وٌستنبط منها ,وٌمبل الفراغ فٌما ال نص فٌه ,مما سمٌاه ( منطقة العفو) وهى
منطقة واسعة ,تركها الشارع قصداً ,رحمة بنا فٌر نسٌان ,فهنا ٌجول العقل المسلم وٌصول ,وٌجتهد فً ضوء النصوص واألصول .
معنى قيام المجتمع على عقيدة اإلسالم هذه هً العقٌدة التً ٌقوم علٌها المجتمع المسلم:عقٌدة ( ال إله إال هللا ,محمد رسول اله) ومعنى قٌام المجتمع المسلم على العقٌدة اإلسبلمٌة :أنه ٌقوم على احترام هذه المٌاه وتقدٌسها ,وٌعمل على تثبٌتها فً العقول والقلوب ٌ ,ربً ناشبة المسلمٌن علٌها ,وٌرد عنها أباطٌل المفترٌن ,وشبهات المضللٌن ,و ٌجلً فضابلها وآثارها فً حٌاة الفرد والمجتمع ,عن طرٌق األجهزة التوجٌهٌة التً تإثر فً سٌر المجتمع ,من المساجد والمدارس والصحافة واإلذاعة والتلٌفزٌون والمسرح والسٌنما واألدب بكل فنونه ,من شعر ونثر وقصص وتمثٌل .لٌس معنى قٌام المجتمع المسلم على العقٌدة اإلسبلمٌة إكراه ؼٌر المسلمٌن على التخلً عن عقابدهم ,كبل ,فذلك لم ٌخطر ببال السلم من قبل ,ولن ٌخطر من بعد ,ألن القرآن حسم هذه القضٌة من قدٌم ,حٌن أعلن بصرٌح العبارة أنه ( ال إكراه فً الدٌن ،قد تبٌن الرشد من ألؽً). وقد أثبت التارٌخ أن المجتمع اإلسبلمً ,فً عصور ازدهاره ,كان أكثر المجتمعات سماحة مع المخالفٌن له فً العقٌدة ,بشهادة األجانب أنفسهم . معنى قٌام المجتمع على العقٌدة اإلسبلمٌة ,أنه لٌس مجتمعا ساببا ,بل هو مجتمع ملتزم ..قد التزم عقٌدة اإلسبلم ,فلٌس مجتمعا مادٌا ,وال مجتمعا علمانٌا ( ال دٌنٌا ) ,وال مجتمعا وثنٌا ,وال مجتمعا ٌهودٌا أو نصرانٌا ,وال مجتمعا ً لٌبرالٌا رأسمالٌا ً ,وال مجتمعا ً اشتراكٌا ماركسٌا ً . إنما هو مجتمعا ٌدٌن بعقٌدة التوحٌد ,عقٌدة اإلسبلم ,وعقٌدة اإلسبلم تعلو وال تعلى ....عقٌدة اإلسبلم ال تقبل أن تكون على هامش الحٌاة فً المجتمع وأن تزاحمها عقٌدة أخرى تبدل نظرة الناس إلى هللا واإلنسان ,والكون والحٌاة . فلٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌختفً فً توجٌه اسم (هللا ) لٌحل اسم ( الطبٌعة) فاألنه ار من هبة الطبٌعة ,والؽابات منحة من الطبٌعة ،والطبٌعة هً التً أنشؤت هذا الشًء وطورت ذاك الشًء , ولٌس هو هللا خالق كل شًء ورب كل شًء ومدبر كل أمر . إن تصور المجتمع الؽربً لئللهٌة وعبلقتها بالكون :أن هللا خلق الكون وتركه ،فلٌس له إشراؾ علٌه، وال إحاطة به ،وال تدبٌر له ،وٌشبه أن ٌكون هذا مستمداً من تصور الفلسفة الٌونانٌة لئلله ،وخاصة فلسفة (أرسطو) الذي ال ٌعلم اإلله -عنده -شٌبا ً إال عن ذاته :أما الكون فبل ٌدبر فٌه أمراً ،وال ٌعرؾ عنه خٌراً وال شراً ،وأؼرب منه فلٌفة (أفلوطٌن) الذي ال ٌعلم اإلله عنده شٌبا ً حتى عن نفسه .أما تصور المجتمع المسلم لئلله ،فتعبر عنه هذه اآلٌات وأمثالها (:سبح هلل ما فً السموات واألرض ،وهو العزٌز الحكٌم ،له ملك السموات واألرضٌ ،حً وٌمٌت ،وهو على كل شًء قدٌر ،هو األول وآلخر والظاهر والباطن ،وهو بكل شًء علٌم ،هو الذي خلق السموات واألرض فً ستة أٌام ثم استوى على العرشٌ ،علم ما ٌلج فً األرض وما ٌخرج منها وما ٌنزل من السماء وما ٌعرج فٌها ،وهو معكم أٌن ما
كنتم ،وهللا بما تعملون بصٌر ،له ملك السموات واألرض ،وإلى هللا ترجع األمورٌ ،ولج اللٌل فً النهار وٌولج النهار فً اللٌل ،وهو علٌم بذات الصدور .و لٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌنكمش فٌه ( مفهوم اإلٌمان) باهلل ,والدار اآلخرة ,لٌحل محله اإلٌمان بالوجودٌة أو القومٌة أو الوطنٌة ,أو ؼٌر ذلك من األوثان التً عبدها أناس هنا وهناك ,من دون هللا أو مع هللا ,وان لم ٌسموها آلهة . ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌتوارى فٌه اسم ( محمد ) صلى هللا علٌه وسلم باعتباره الموجه المعصوم ،واألسوة المطاع ،لتبرز أسماء ( ماركس )و ( لٌنٌن) و ( ماو) وؼٌرهم من مفكري الشرق والؽرب . ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌهجر فٌه كتاب هللا « القرآن » بوصفه مصدر الهداٌة ,والتشرٌع ، والحكم ،لتظهر كتب أخرى ,تضفً علٌها القداسة ,وتإخذ منها مناهج الفكر والتشرٌع والسلوك ،أو ٌستمد منها القٌم والموازٌن والمثل. ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌسب فٌه هللا -جل شؤنه -وكتبه ورسله ,والناس سكوت على هذا الكفر البواح ,ال ٌستطٌعون أن ٌإدبوا مرتداً كافراً ,أو ٌزجروا زندٌقا فاجراً ,حتى اجترأ ملحد أفاك أن ٌنشر فً صحٌفة علنٌة :أن اإلنسان العربً الجدٌد هو الذي ٌعتقد أن اله واألدٌان دمى محنطة فً متحؾ التارٌخ. ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌسمح بعقٌدة أخرى تناوئ العقٌدة اإلسبلمٌة ,أو تزاحمها كالعقٌدة الشٌوعٌة ,أو االشتراكٌة ,أو القومٌة عند الؽبلة .وإن من الخطؤ أن ٌظن ظان أن االشتراكٌة ونحوها لٌست عقٌدة تناوئ اإلسبلم وإنما هً مذهب اقتصادي أو اجتماعً ٌ ,تخذ أسلوبا معٌنا ً فً تنظٌم شإون الحٌاة وعبلقاتها ,ولٌس له طابع دٌنً حتى ٌسمى ( عقٌدة) .والواقع أن االشتراكٌة العلمٌة -فً نظر أصحابها -فلسفة حٌاة كاملة ,وعقٌدة شاملة ,تتضمن وجهة نظر إلى العالم والى التارٌخ ,والى الحٌاة ,والى اإلنسان ,وإلى هللا ,تخالؾ وجهة اإلسبلم ,ولهذا أطلق علٌها وعلى أمثالها بعض المإلفٌن ( : أدٌان بؽٌر وحً ) .ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌجعل العقٌدة على هامش حٌاته ,فبل تؤخذ من مناهج التربٌة والتعلٌم ,وال من مناهج الثقافة والفكر ,وال من مناهجاإلعبلم واإلرشاد ,وال من أجهزة التوجٌه والتؤثٌر ,بصفة عامة ,إال حٌزا ضبٌبل ,وموضعا محدوداً ،فلٌس هً الموجه األول ,وال المحرك األول ,وال المإثر األول فً حٌاة األفراد ,واألسر والجماعات ,وإنما هً شا ثانوي ٌجا فً ذٌل القافلة ,وفى المكان األخٌر إن بقى له مكان .لقد كانت عقٌدة اإلسبلم فً المجتمع األول -الذي أنشؤه رسول هللا -صلى هللا علٌه وسلم ,وورثه من بعده صحابته ,ومن تبعهم بإحسان -هً الدافع األول ,والوجه األول « والمإثر األول ,فً حٌاتهم ,إن لم نقل األوحد . كانت العقٌدة هً مصدر التصور والفكر ,وكانت هً أساس الترابط والتجمع ,وكانت هً أساس الحكم والتشرٌع ,وكانت هً الدافع إلى الحركة واالنطبلق ....وكانت هً ٌنبوع الفضابل واألخبلق ...كانت هً صانعة البطوالت فً مٌادٌن الجهاد واالستشهاد ,ومجاالت البذل واإلٌثار . هكذا كانت العقٌدة وكان أثرها فً المجتمع السلم األول ,وهكذا ٌجب أن تكون ,وأن ٌكون تؤثٌرها فً كل مجتمع ٌرٌد أو ٌراد له أن ٌكون مسلما الٌوم أو ؼدا ...إن العقٌدة اإلسبلمٌة -بكل أركانها وخصابصها -هً األساس المكٌن ,ألي بنٌان اجتماعً متٌن .وأي بنٌان على ؼٌر عقٌدة فهو بنٌان على الرمال ٌ ,وشك أن ٌنهار . وأسوأ منه أن ٌراد بنا ,مجتمع ٌنتمً إلى اإلسبلم على ؼٌر عقٌدة اإلسبلم ,وإن كتب علٌه -زوراً - اسم اإلسبلم .إنه ؼش فً المواد األساسٌة للبناء ,ال ٌلبث أن ٌسقط البناء كله على من فٌه ( .أقمن أسس بنٌانه على تتقوى من هللا ورضوان خٌر أم من أسس بنٌانه على شفا جرؾ هار فانهار به فً نار
جهنم ,وهللا ال ٌهدى القوم الظالمٌن). لقد رأٌنا المجتمع الشٌوعً -أٌام ازدهاره وسلطانهٌ -جسد العقٌدة الماركسٌة وفلسفتها المادٌة .تمثل ذلك فً دستوره الذي ٌعلن :أن ال إله والحٌاة مادة .وفً تشرٌعه وقوانٌنه ،وفً تربٌته ،وتعلٌمه ،وفً ثقافته وإعبلمه ،وفً سابر أنظمته ومإسساته وسٌاساته .وهذا شؤن كل مجتمع عقابدي .فبل ؼرو أن ٌكون المجتمع المسلم مرآة تعكس عقٌدته وإٌمانه ،ونظرته إلى الكون واإلنسان والحٌاة ،وإلى رب الكون وبارئ اإلنسان ،وواهب الحٌاة.
المجتمع المسلم ومواجهة الردة أشد ما ٌواجه المسلم من األخطار :ما ٌهدد وجوده المعنوي ,أي ما ٌهدد عقٌدته ,ولهذا كانت الردة عن الدٌن -الكفر بعد اإلسبلم -أشد األخطار على المجتمع المسلم .وكان أعظم ما ٌكٌد له أعداإه أن ٌفتنوا أبناءه عن دٌنهم بالقوة والسبلح أو بالمكر والحًلة .كما قال تعالى ( :وال ٌزالون ٌقاتلونكم حتى ٌردوكم عن دٌنكم إن استطاعوا. وفى عصرنا تمرض المجتمع المسلم لؽزوات عنٌفة ,وهجمات شرسة ,تهدؾ إلى اقتبلعه من جذوره ,تمثلت فً الؽزو التنصٌرى ,الذي بدا مع االستعمار الؽربً ,والذي ال ٌزال ٌمارس نشاطه فً العالم اإلسبلمً ,وفى الجالٌات واألقلٌات اإلسبلمٌة ,ومن أهدافه :تنصٌر المسلمٌن فً العالم ,كما وضح ذلك فً مإتمر « كورادو »› الذي عقد هناك سنة . 1978وقدمت له أربعون دراسة حول اإلسبلم والمسلمٌن ,وكٌفٌة نشر النصرانٌة بٌنهم .ورصد لذلك ألؾ ملٌون دوالر ,وأسس لذلك معهد ( زوٌمر) لخرٌج المتخصصٌن فً تنصٌر المسلمٌن . كما تمثلت فً الؽزو الشٌوعً الذي اجتاح ببلداً إسبلمٌة كاملة فً آسٌا ,وفى أوروبا ,وعمل بكل جهد إلماتة اإلسبلم ,وإخراجه من الحٌاة نهابٌا ً ,وتنشبة أجٌال ال تعرؾ من اإلسبلم كثٌراً وال قلٌبلً. . وثالثة األثافً :الؽزو العلمانى البلدٌنى ,الذي ال ٌبرح ٌقوم بمهمته إلى الٌوم فً قلب دٌار اإلسبلم , ٌستعلن حٌنا ,وٌستخفى أحٌانا ٌ ,طارد اإلسبلم الحق ,وٌحتفى باإلسبلم الخرافً ,ولعل هذا الؽزو هو أخبث تلك األنواع وأشدها خطرا .وواجب المجتمع المسلم -لكً ٌحافظ على بقابه -أن ٌقاوم الردة من أي مصدر جاءت وبؤي صورة ظهرت ,وال ٌدع لها الفرصة ,حتى تمتد وتنتشر ,كما تنتشر النار فً الهشٌم . وهذا ما صنعه أبو بكر والصحابة -رضى هللا عنهم -معه ,حٌن قاتلوا أهل الردة ,الذٌن اتبعوا األنبٌاء الكذبة ,مسٌلمة وسجاح واألسدى والعنسى وكادوا ٌقضون على اإلسبلم فً مهده . ومن الخطر كل الخطر :أن ٌبتلى المجتمع المسلم بالمرتدٌن المارقٌن ,وتشٌع بٌن جنباته الردة ,وال ٌجد من ٌواجهها وٌقاومها .وهو ما عبر عنه أحد العلماء عن الردة التً ذاعت فً هذا العصر بقوله : ( ردة وال أبا بكر لها ) وال بد م ن مقاومة الردة الفردٌة وحصارها ,حتى ال تتفاقم وٌتطاٌر شررها وتؽدو ردة جماعٌة ,فمعظم النار من مستصؽر الشرر .
ومن ثم أجمع فقهاء اإلسبلم على عقوبة المرتد -وإن اختلفوا فً تحدٌدها -وجمهورهم على أنها القتل , وهو رأى الذاهب األربعة ,بل الثمانٌة . وفٌها وردت جملة أحادٌث صحٌحة عن عدد من الصحابة :عن ابن عباس وأبى موسى ومعاذ وعلً وعثمان وابن مسعود وعابشة وأنس وأبى هرٌرة ومعاوٌة بن حٌدة .وقد جاءت بصٌػ مختلفة ,مثل حدٌث ابن عباس ( :من بدل دٌنه فاقتلوه ) ( رواه الجماعة إال مسلما ً ,ومثله من أبى هرٌرة مند الطبرانى بإسناد حسن ,وعن معاوٌة بن حٌدة بإسناد رجاله ثقات) .وحدٌث ابن مسعود ( :ال ٌحل دم امرئ مسلم ٌشهد أن ال إله إال هللا ,وأنً رسول هللا إال بإحدى ثبلث :النفس بالنفس ,والثٌب الزانى , والتارك لدٌنه ,المفارق للجماعة ) ( رواه الجماعة ) .وفى بعض صٌؽه عن عثمان . . . . ( :رجل كفر بعد إسبلمه ,أو زنى بعد إحصانه ,أو قتل نفسا بؽٌر نفس ) ( رواه الترمذى وحسنه والنسابى وابن ماجه ,وقد صح هذا المعنى من رواٌة ابن عباس أٌضا وأبى هرٌرة وأنس ) .قال العبلمة ابن رجب :والقتل بكل واحدة من هذه الخصال متفق علٌه بٌن المسلمٌن. و قد نفذ علً كرم هللا وجهه عقوبة الردة فً قوم ادعوا ألوهٌته ,فحرقهم بالنار ,بعد أن استتابهم وزجرهم ,فلم ٌتوبوا ولم ٌزدجروا ,طرحهم فً النار وهو ٌقول: لما رأٌت األمر أمراً منكراً أججت ناري ،ودعوت قنبرا وقنبر هو خادمه وؼبلمه. وقد اعترض علٌه ابن عباس بالحدٌث اآلخر ( :ال تعذبوا بعذاب هللا) ورأى أن الواجب أن ٌقتلوا ال أن ٌحرقوا .فكان خبلؾ ابن عباس الوسٌلة ال فً المبدأ . وكذلك نفذ أبو موسى ومعاذ القتل فً ٌهودي فً الٌمن أسلم ثم ارتد .وقال معاذ :قضاء هللا ورسوله ( متفق علٌه ). ً وروى عبد الرزاق :أن ابن مسعود أخذ قوما ارتدوا عن اإلسبلم من أهل العراق ,فكتب فٌهم إلى عمر .فكتب إلٌه :أن اعرض علٌهم دٌن الحق ,وشهادة أن ال إله إال اله ,فإن قبلوها فخل عنهم ,وإذا لم ٌقبلوها فاقتلهم ..فقبلها بعضهم فتركه ,ولم ٌقبلها بعضهم فقتله . وروى عن أبى عمرو الشٌبانى أن المستورد العجلً تنصر بعد إسبلمه ,فبعث به عتبة بن فرقد إلى علً ,فاسستابه فلم ٌتب ،فقتله. ). وقد ذكر شٌخ اإلسبلم ابن تٌمٌة :أن النبً (صلى هللا علٌه وسلم) قبل توبة جماعة من المرتدٌن ,وأمر بقتل جماعة آخرٌن ,ضموا إلى الردة أموراً أخرى تتضمن األذى والضرر لئلسبلم والمسلمٌن .مثل أمره بقتل مقٌس بن حبابة ٌوم الفتح ,لما ضم إلى ردته قتل المسلم وأخذ المال ,ولم ٌتب قبل القدرة علٌه ,وأمر بقتل العرنٌٌن لما ضموا إلى ردتهم نحواً من ذلك .وكذلك أمر بقتل ابن خطل لما ضم إلى ردته السب وقتل المسلم .وأمر بقتل ابن أبى سرح ,لما ضم إلى ردته الطعن علٌه واالفتراء .وفرق ابن تٌمٌة بٌن النوعٌن :أن الردة المجردة تقبل معها التوبة ,والردة التً فٌها محاربة هللا ورسوله والسعً فً األرض بالفساد ال تقبل فٌها التوبة قبل القدرة . وقد قٌل :لم ٌنقل أن رسول هللا كان قتل مرتداً ,وما نقله ابن تٌمٌة ٌنقض هذه الدعوى .ولو صح ذلك فؤلن هذه الجرٌمة لم تظهر فً عهده .كما لم ٌعاقب أحداً عمل عمل قوم لوط .إذ لم تستعلن فً عهده (صلى هللا علٌه وسلم ). ومع أن الجمهور قالوا بقتل المرتد ,فقد ورد عن عمر بن الخطاب ما ٌخالؾ ذلك .روى عبد الرزاق والبٌهقى وابن حزم :أن أنسا ً عاد من ( تستر) فقدم على عمر ,فسؤله :ما فعل الستة الرهط من بكر بن وابل ,الذٌن ارتدوا من اإلسبلم ,ولحقوا بالمشركٌن ،قالٌ :ا أمٌر المإمنٌن ,قوم ارتدوا عن اإلسبلم ,ولحقوا بالمشركٌن ,قتلوا بالمعركة .فاسترجع عمر ( أي قال :إنا هلل وإنا إلٌه راجعون ) قال
أنس :وهل كان سبٌلهم إال القتل ؟ قال :نعم ,كنت أعرض علٌهم اإلسبلم ,فإن أبوا أودعتهم السجن) . وهذا هو قول إبراهٌم النخعى ,وكذلك قال الثوري :هذا الذي نؤخذ به .وفى لفظ له ٌ :إجل ما رجٌت توبته . والذي أراه :أن العلماء ,فرقوا فً أمر البدعة بٌن المؽلظة والمخففة ,كما فرقوا فً المبتدعٌن بٌن الداعٌة وؼٌر الداعٌة .وكذلك ٌجب أن نفرق فً أمر الردة بٌن الردة الؽلٌظة والخفٌفة ,وفى أمر المرتدٌن بٌن الدامٌة وؼٌر الداعٌة . فما كان من الردة مؽلظا ً -كردة سلمان رشدي -وكان المرتد دامٌة إلى بدعته بلسانه أو بقلمه ,فاألولى فً التؽلٌظ فً العقوبة ،واألخذ بقول جمهور األمة ,وظاهر األحادٌث ,استبصاالً للشر ,و سداً لباب الفتنة . وإال فٌمكن األخذ بقول النخعى الثوري وهو ما روى عن الفاروق عمر .إن المرتد الدامٌة إلى الردة لٌس مجرد كافر باإلسبلم ,بل هو حرب علٌه وعلى أمته ,فهو مندرج ضمن الذٌن ٌحاربون هللا ورسوله وٌسعون فً األرض فسادا .والمحاربة -كما قال ابن تٌمٌة -نوعان :محاربة بالٌد , ومحاربة باللسان ,والمحاربة باللسان فً باب الدٌن ,قد تكون أنكى من المحاربة بالٌد ,ولذا كان النبً علٌه الصبلة والسبلم ٌقتل من كان ٌحاربه باللسان ,مع استبقابه بعض من حاربه بالٌد .وكذلك اإلفساد قد ٌكون بالٌد ،وقد ٌكون باللسان ,وما ٌفسده اللسان من األدٌان أضعاؾ ما تفسده الٌد ..فثبت أن محاربة هللا ورسوله باللسان أشد ,والسعً فً األرض بالفساد باللسان أإكد .والقلم أحد اللسانٌن ,كما قال الحكماء ,بل ربما كان القلم أشد من اللسان وأنكى ,وال سٌما فً عصرنا ،إلمكان نشر ما ٌكتب على نطاق واسع . هذا إلى أن المرتد محكوم علٌه باإلعدام األدبً من الجماعة المسلمة ,فهو محروم من والبها وحبها ومعاونتها ,فاهلل تعالى ٌقول ( :ومن ٌتولهم منكم فإنه منهم ) ،وهذا أشد من القتل الحسً عند ذوى العقول والضمابر من الناس .
سر التشديد في عقوبة الردة وسر هذا التشدٌد فً مواجهة الردة :أن المجتمع المسلم ٌقوم -أول ما ٌقوم -على العقٌدة واإلٌمان , فالعقٌدة أساس هوٌته ,ومحور حٌاته ,ومحور وجوده ولهذا ال ٌسمح ألحد أن ٌنال من هذا األساس , أو ٌمس هذه الهوٌة .ومن هناكانت ( الردة المعلنة ) كبرى الجرابم فً نظر اإلسبلم ! ألنها خطر على شخصٌة المجتمع وكٌانه المعنوي ,وخطر على الضرورٌة األولى من الضرورٌات الخمس ( الدٌن والنفس والنسل والعقل والمال ) والدٌن أولها ,ألن المإمن ٌضحً بنفسه ووطنه وماله من أجل دٌنه . وإلسبلم ال ٌكره أحداً على الدخول فٌه ،وال الخروج من دٌنه إلى دٌن ما ،ألن اإلٌمان المعتد هو ما كان عن اختٌار واقتناع .وقد قال تعالى فً القرآن المكً( :أفؤنت تكره الناس حتى ٌكونوا مإمنٌن) ،وفً القرآن المدنً( :ال إكراه فً الدٌن ،قد تبٌن الرشد من الؽً). ً ولكنه ال ٌقبل أن ٌكون الدٌن ألعوبةٌ ،دخل فٌه الٌوم وٌخرج منه ؼدا ،على طرٌقة الٌهود الذٌن قالوا( : آمنوا بالذي أنزل على الذٌن آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم ٌرجعون). وال ٌعقاب اإلسبلم بالقتل المرتد الذي ال ٌجاهر بردته ،وال ٌدعو إلٌها ؼٌره ،وٌدع عقابه إلى اآلخرة إذا مات على كفره ،كما قال تعالى( :وم ن ٌرتدد منكم عن دٌنه فٌمت وهو كافر فؤولبك حبطت أعمالهم فً
الدنٌا واآلخرة ،وأولبك أصحاب لنار ،هم فٌها خالدون) .وقد ٌعاقبه عقوبة تعزٌرٌة مناسبة. إنما ٌعاقب المرتد المجاهر ،وبخاصة الداعٌة للردة ،حماٌة لهوٌة المجتمع ،وحفاظا ً على أسسه ووحدته، وال ٌوجد مجتمع فً الدنٌا إال وعنده أساسٌات ال ٌسمح بالنٌل منها ،مثل :الهوٌة واالنتماء والوالء ،فبل ٌقبل أي عمل لتؽٌٌر هوٌة المجتمع ،أو تحوٌل والبه ألعدابه ،وما شابه ذلك .ومن أجل هذا :اعتبرت الخٌانة للوطن ،ومواالة أعدابه -باإللقاء بالمودة إلٌهم ،وإفشاء األسرار لهم -جرٌمة كبرى .ولم ٌقل أحد بجواز إعطاء المواطن حق تؽٌٌر والبه الوطنً لمن ٌشاء ،ومتى شاء. والردة لٌست مجرد موقؾ عقلً ،ببل هً أٌضا ً تؽٌر للوالء ،وتبدٌل للهوٌة ،وتحوٌل لبلنتماء .فالمرتد ٌنقل والءه وانتماءه من أمة ألخرى ،ومن وطن إلى وطن آخر ،أي من دار اإلسبلم إلى دار أخرى. فهو ٌخلع نفسه من أمة اإلسبلم ،التً كان عضواً فٌجسدها ،وٌنضم بعقله وقلبه وإرادته إلى خصومها. وٌعبر عن ذلك الحدٌث النبوي بقوله ( :التارك لدٌنه ،المفارق للجماعة) .كما فً حٌث ابن مسعود المتفق علٌه .وكلمة (المفارق للجماعة) وصؾ كاشؾ ال منشا ،فكل مرتد عن دينه مفارق للجماعة. ومهما ٌكن من جرمه ،فنحن ال نشق عن قلبه ،وال نتسور علٌه بٌته ،وال نحاسبه إال على ما ٌعلنه جهرة :بلسانه أو قلمه أو فعله ،مما ٌكون كفراً بواحا ً صرٌحا ً ال مجال فٌه لتؤوٌل أو احتمال ،فؤي شك فً ذلك عقوب المرتد المعالن الداعٌةٌ ،عرض المجتمع كله للخطر، ة ٌفسر لمصلحة المتهم بالردة .إن التهاون فً ً وٌفتح علٌه باب فتنة ال ٌعلم عواقبها إال هللا سبحانه ،فبل ٌلبث المرتد أن ٌؽرر بؽٌره وخصوصا من الضعفاء والبسطاء من الناس وتتكون جماعة مناوبة لؤلمة تستبٌح لنفسها االستعانة بؤعداء األمة علٌها، وبذلك تقع صراع و تمزق فكري واجتماعً وسٌاسً ،قد ٌتطور إلى صاع دموي بل حرب أهلٌة تؤكل األخضر والٌابس .وهذا ما حدث بالفعل فً أفؽانستان :مجموعة محدودة مرقوا من دٌنهم ،واعتنقوا العقٌدة الشٌوعٌة بعد أن درسوا فً روسٌا ،وجندوا فً صفوؾ الحزب الشٌوعً ،وفً ؼفلة من الزمن وثبوا على الح كم ،وطفقوا ٌؽٌرون هوٌة المجتمع كله ،بما تحت أٌدٌهم من سلطان وإمكانات .ولم ٌسلم أبناء الشعب األفؽانً لهم ،بل قاوموا ثم قاوموا ،و اتسعت المقاومة التً كونت الجهاد األفؽانً الباسل ضد المرتدٌن الشٌوعٌٌن الذٌن لم ٌبالوا أن ٌستنصروا على أهلٌهم وقومهم بالروسٌ ،دكون وطنهم بالدبابات وٌقذفونه بالطابرات ،وٌدمرونه وكان ضحاٌا المبلٌٌن من القتلى والمعوقٌن والمصابٌن والٌتامى واألرامل والثكالى ،والخراب الذي أصاب الببلد وأهلك الزرع والضرع. كل هذا لم ٌكن إال أثراً للؽفلة عن المرتدٌن ،والتهاون فً أمرهم والسكوت على جرٌمتهم فً أول األمر .ولو عوقب هإالء المارقون الخونة ،قبل أٌ ،ستفحل أمرهم ،لوقً الشعب والوطن شرور هذه الحرب الضروس وآثارها المدمرة على الببلد والعباد.
أمور مهمة تجب مراعاتها والذي أرٌد أن أذكره هنا جملة أمور : األول :أن الحكم بردة مسلم عن دٌنه أمر خطٌر جداًٌ ،ترتب علٌه حرمانه من كل والء وارتباط باألسرة والمجتمع ،حتى إنه ٌفرق بٌنه وبٌن زوجة وأوالده ،إذ ال ٌحل لمسلمة أن تكون فً عصمة كافر ،كما أن أوالده لم ٌعد مإتمنا ً علٌهم ،فضبلً عن العقوبة المادٌة التً أجمع علٌها الفقهاء فً جملتها.
لهذا وجب االحتٌاط كل االحتٌاط عند الحكم بتكفٌر مسلم ثبت إسبلمه ألنه مسلم بٌقٌن ،فبل ٌزال الٌقٌن بالشك. ومن أشد األمور خطراً :تكفٌر من لٌس بكافر ،وقد حذرت من ذلك السنة النبوٌة ،أبلػ التحذٌر .وقد كتبت فً ذلك رسالة (ظاهرة الؽلو فً التكفٌر) لمقاومة تلك الموجة العاتٌة .التً انتشرت فً وقت ما: التوسع فً التكفٌر ،وال ٌزال ٌوجد من ٌعتنقها. الثانً :أن الذي ٌملك الفتوى بردة امرئ مسلم ،هم الراسخون فً العلم من أهل االختصاص الذٌن ٌمٌزون بٌن القطعً والظنً بٌن المحكم والمتشابه ،بٌن ما ٌقبل التؤوٌل وبٌن ما ال ٌقبل التؤوٌل ،فبل ٌكفرون إال بما ال ٌجدون له مخرجا ً مثل :إنكار المعلوم من الدٌن بالضرورة ،أو وضعه موضع السخرٌة من عقٌدة أو شرٌعة ،ومثل سب هللا تعالى ورسوله وكتابه عبلنٌة ،ونحو ذلك .مثال ذلك :ما أفتى به العلماء من ردة سلمان رشدي ،ومثله رشاد خلٌفة الذي بدأ بإنكار السنة ثم أنكر آٌتٌن من القرآن فً آخر سورة التوبة ثم ختم كفره بدعوى أنه رسول هللا ،قاببلً إن محمد (صلى هللا علٌه وسلم) خاتم النبٌٌن ،ولٌس خاتم المرسلٌن!! وقد صدر بذلك قرار من مجلس المجتمع الفقهً لرابطة العالم اإلسبلمً. وال ٌجوز ترك مثل هذا األمر إلى المتسرعٌن أو الؽبلة ،أو قلٌلً البضاعة من العالم ،لٌقولوا على هللا ما ال ٌعلمون. الثالث :أن الذي ٌنفذ هذا هو ولى األمر الشرعي ,بعد حكم القضاء اإلسبلمً المختص ,الذي ال ٌحتكم إال إلى شرع هللا عز وجل ,وال ٌرجع إال إلى المحكمات البٌنات من كتاب اله تعالى وسنة رسوله ( صلى هللا علٌه وسلم) ,وهما اللذان ٌرجع إلٌهما إذا اختلؾ الناس ( :فإن تنازعتم فً شا فردوه إلى هللا والرسول إن كنتم تإمنون باهلل والٌوم اآلخر ) . واألصل فً القاضً فً اإلسبلم أن ٌكون من أهل االجتهاد ,فإذا لم ٌتوافر فٌه ذلك استعان بؤهل االجتهاد ,حتى ٌبٌن له الحق .وال ٌقضى على جهل ,أو ٌقضى بالهوى ,فٌكون من قضاة النار . الرابع :أن جهور الفقهاء قالوا بوجوب استتابة المرتد ,قبل تنفٌذ العقوبة فٌه .بل قال شٌخ اإلسبلم ابن تٌمٌة فً كتاب (الصارم المسلول على شاتم الرسول ) :هو إجماع الصحابة رضً هللا عنهم ,وبعض الفقهاء حددها بثبلثة أٌام ,وبعضهم بؤقل ,وبعضهم بؤكثر ,ومنهم من قال ٌ :ستتاب أبداً . واستثنى بعضهم الزندٌق ,ألنه ٌظهر ؼٌر ما ٌبطن ,فبل توبة له ,وكذلك ساب الرسول ( صلى هللا علٌه وسلم) ,لحرمة رسول هللا وكرامته ,فبل تقبل منه توبة ,وألؾ ابن تٌمٌة كتابه فً ذلك . والمقصود بذلك إعطاإه الفرصة لٌراجع نفسه ,عسى أن تزول منه الشبهة ,وتقوم علٌه الحجة ,إن كان ٌطلب الحقٌقة بإخبلص ,وان كان له هوى ,أو ٌعمل لحساب آخرٌن ٌ ,ولٌه هللا ما تولى . ومن المعاصرٌن من قال :إن قبول التوبة إلى هللا ولٌس إلى اإلنسان ,ولكن هذا فً أحكام اآلخرة .أما فً أحكام الدنٌا فنحن نقبل التوبة الظاهرة ,ونقبل اإلسبلم الظاهر ,وال ننقب عن قلوب الخلق ,فقد أمرنا أن نحكم بالظاهر ,وهللا ٌتولى السرابر .وقد صح فً الحدٌث أن من قالوا ( :ال إله إال هللا ) عصموا دماءهم وأموالهم ,وحسابهم على هللا تعالى ٌ .عنى فٌما انعقدت قلوبهم .ومن هنا نقول :إن إعطاء عامة األفراد حق الحكم على شخص ما بالردة ,ثم الحكم علٌه باستحقاق العقوبة ,وتحدٌدها بؤنها القتل ال ؼٌر ,وتنفٌذ ذلك ببل هوادة ٌ -حمل خطورة شدٌدة على دماء الناس وأموالهم وأعراضهم ,ألن مقتضى هذا :أن ٌجمع الشخص العادي -الذي لٌس له علم أهل الفتوى ,وال حكمة أهل القضاء ,وال مسإولٌة أهل التنفٌذ -سلطات ثبلثا ً فً ٌده ٌ :فتى -وبعبارة أخرى ٌ :تهم -وٌحكم وٌنفذ ,فهو اإلفتاء واالدعاء والقضاء والشرطة جمٌعا !!
اعتراضات مردودة لبعض المعارضين ولقد اعترض بعض الكاتبٌن فً عصرنا -من ؼٌر أهل العلم الشرعً -على عقوبة الردة بؤنها لم ترد فً القرآن الكرٌم ،ولم ترد إال فً حدٌث من أحادٌث اآلحاد ،وحدٌث اآلحاد ال ٌإخذ به فً الحدود ،فهم لذلك ٌنكرونها. وهذا الكالم مردود من عدة أوجه : أوالً :أن السنة الصحٌحة مصدر لؤلحكام العملٌة باتفاق جمٌع المسلمٌن ،وقد قال تعالى (:قل أطٌعوا هللا وأطٌعوا الرسول) وقد صحت األحادٌث بقتل المرتد ,ونفذه الصحابة فً عهد الراشدٌن . والقول بؤن أحادٌث اآلحاد ال ٌإخذ بها فً الحدود ؼٌر مسلم ،فجمٌع المذاهب المتبوعة أخذت بؤحادٌث اآلحاد ,فً عقوبة شارب الخمر ,مع أن فً عقوبة الردة أصح وأوفر أؼزر مما ورد فً عقوبة شارب الخمر . ولو صح ما زعمه هإالء :أن أحادٌث اآلحاد ال ٌعمل بها فً األحكام ,لكان معناه :إلؽاء السنة من مصدرٌة التشرٌع اإلسبلمً .أو على األقل :إلؽاء - % 95إن لم نقل - %99منها .ولم ٌعد هناك معنى لقولنا :اتباع الكتاب و السنة . فمن المعروؾ لدى أهل العلم :أن أحادٌث اآلحاد هً الجمهرة العظمى من أحادٌث األحكام .والحدٌث المتواتر -الذي ٌقابل اآلحاد -نادراً جداً ،حتى زعم بعض أبمة الحدٌث أنه ال ٌكاد ٌوجد ،كما ذكر ذلك اإلمام ابن صبلح فً مقدمته الشهٌرة فً علوم الحدٌث. على أن كثٌراً ممن ٌتناولون هذا األمر ال ٌدركون معنى حدٌث اآلحاد وٌحسبون أنه الذي رواه واحد فقط ،وهذا خطؤ .فالمرتد بحدٌث اآلحاد :ما لم ٌبلػ درجة التواتر ،وقد ٌروٌه اثنان أ ,ثبلثة أو أربعة أو أكثر من الصحابة وأضعافهم من التابعٌن . ً وحدٌث قتل المرتد قد رواه جم ؼفٌر من الصحابة ،ذكرنا عددا منهم فهو من األحادٌث المستفٌضة المشهورة. ثانٌا ً :أن من مصادر التشرٌع المعتمدة :اإلجماع ,وكد أجمع فقهاء األمة من كل المذاهب ( السنٌة وؼًر السنٌة ) ,ومن خارج المذاهب ,على عقوبه المرتد ,وأوشكوا أن ٌتفقوا على أنها القتل ,إال ما روى عن عمر والنخعى والثورى ,ولكن العقوبة -فً الجملة -مجمع علٌها . ثالثا ً :أن من علماء السلؾ من قال :إن آٌة المحاربة المذكورة فً سورة المابدة تختص بالمرتدٌن , وهى قوله تعالى ( إنما جزاء الذٌن ٌحاربون هللا ورسوله وٌسعون فً األرض فسادا أن ٌقتلوا أو ٌصلبوا ) اآلٌة . وممن قال بؤن هذه اآلٌة فً المرتدٌن أبو قبلبة وؼٌره .وقد نقلنا من كبلم ابن تٌمٌة :أن محاربة هللا ي األرض .كما ٌزٌد ذلك :أن األحادٌث التً ورسوله باللسان أشد من المحاربة بالٌد ,وكذلك اإلفساد ؾ ً قررت استباحة دم المسلم بإحدى ثبلث ,ذكر بعضها ( ورجل خرج محاربا له ورسوله ,فإنه ٌقتل أو ٌصلب أو ٌنفى من األرض ) ,كما فً حدٌث عابشة بدالً من عبارة ( ارتد بعد إسبلم ) أو ( التارك لدٌنه ) ...إلخ .وهو ما ٌدل على أن اآلٌة تشمل فٌما تشمل المرتدٌن الداعٌن إلى ردتهم .
وفى القرآن ( ٌا أٌها الذٌن آمنوا من ٌرتد منكم عن دٌنه فسوؾ ٌؤتً هللا بقوم ٌحبهم وٌحبونه أذلة على المإمنٌن أعزة على الكافرٌن ٌجاهدون فً سبٌل هللا وال ٌخافون لومة البم ) .وهذا ٌدل على أن هللا هٌؤ للمرتدٌن م ن ٌقاومهم ,من المإمنٌن المجاهدٌن الذٌن وصفهم هللا بما وصفهم به ,مثل أبى بكر والمإمنٌن معه ,الذٌن أنقذوا اإلسبلم من فتنة الردة .وكذلك جاءت مجموعة من اآلٌات فً شؤن المنافقٌن ,تبٌن أنهم حموا أنفسهم من القتل بسبب كفرهم عن ط ٌق األٌمان الكاذبة ,والحلؾ الباطل إلرضاء المإمنٌن ,كما فً قوله تعالى ( :اتخذوا أٌمانهم جنة ) ٌ ( ,حلفون لكم لترضوا عنهم ) اآلٌة، ( ٌحلفون باهلل ما قالوا ولفد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسبلمهم ) اآلٌة ,فهم ٌنكرون أنهم كفروا , الكؾ ,فدل ذلك أن الكفر إذا ثبت علٌهم بالبٌنة وٌإكدون ذلك بؤٌمانهم ,وٌحلفون أنهم لم ٌتكلموا بكلمة ر ,فإن جنتهم تكون قد انخزمت ,وأٌمانهم الفاجرة لم تؽن عنهم شٌبا).
ردة السلطان وأخطر أنواع الردة :ردة السلطان ,ردة الحكم ,الذي ٌفترض فٌه أن ٌحرس عقٌدة األمة ,وٌقاوم الردة ,وٌطارد المرتدٌن ,وال ٌبقى لهم من باقٌة فً رحاب المجتمع المسلم ,فإذا هو نفسه ٌقود الردة , سراً وجهراً ,وٌنشر الفسوق سافراً ومقنعا ً ,وٌحمى المرتدٌن ,وٌفتح لهم النوافذ واألبواب ,وٌمنحهم األوسمة واأللقاب ,وٌصبح األمر كما قال المثل :ال( حامٌها حرامٌها ) ،أو كما قال الشاعر العربً : وراعى الشاة ٌحمى الذنب عنها فكٌؾ إذا الرعاة لها ذباب ؟!! نرى هذا الصنؾ من الحكام ,موالٌا ألعداء هللا ,معادٌا ً ألولٌاء هللا .مستهٌنا بالعقٌدة ,مستخفا بالشرٌعة ,ؼٌر موقر لؤلوامر والنواهً اإللهٌة والنبوٌة ,مهٌنا لكل مقدسات األمة ورموزها ,من الصحابة األبرار ,واآلل األطهار ,والخلفاء األخٌار ,واألبمة األعبلم ,وأبطال اإلسبلم ,وهإالء ٌعتبرون التمسك بفرابض اإلسبلم جرٌمة وتطرفا ً ,مثل الصبلة فً المساجد للرجال ,والحجاب للنساء .وال ٌكتفون بذلك ,بل ٌعملون وفق فلسفة ( تجفٌؾ المنابع ) التً جاهروا بها ,فً التعلٌم واإلعبلم والثقافة ,حتى ال تنشؤ عقلٌة مسلة ,وال نفسٌة مسلمة .وال ٌقفون عند هذا الحد ,بل ٌه ٌطاردون الدعاة الحقٌقٌٌن ,وٌؽلقون األبواب فً وجه كل دعوة أو حركة صادقة ,ترٌد أن ةتجدد الدٌن , وتنهض بالدنٌا على أساسه .والؽرٌب أن بعض هذه الفبات -مع هذه الردة الظاهرة -تحرص على أن ٌبقى لها عنوان اإلسبلم ,لتستؽله فً هدم اإلسبلم ,ولتعاملهم األمة على أنهم مسلمون ,وهم ٌقوضون بنٌانها من الداخل .وبعضها تجتهد أن تتمسح بالدٌن ,بتشجٌع التدٌن الزابؾ ,وتقرٌب الذٌن ٌحرقون لها البخور من رجاله ,ممن سماهم الناس ( علماء السلطة ,وعمبلء الشرطة ) وهنا ٌتعقد الموقؾ , فمن الذي ٌقٌم الحد على هإالء بل من الذي ٌفتى بكفرهم أوال ,وهو كفر بواح كما سماه الحدٌث , ، ومن الذٌن ٌحكم بردتهم وأجهزة اإلفتاء الرسمً والقضاء الرسمً فً أٌدٌهم ؟ لٌس هناك إال ( الرأي العام ) المسلم ,والضمٌر اإلسبلمً العام ,الذي ٌقود األحرار من العلماء والدعاة وأهل الفكر ,والذي ال ٌلبث .إذا سدت أمامه األبواب ,وقطعت دونه األسباب -أن ٌتحول إلى بركان ٌنفجر فً وجوه الطؽاة المرتدٌن .فلٌس من السهل أن ٌفرط المجتمع المسلم فً هوٌته ,أو ٌتنازل عن عقٌدته ورسالته ,التً هً مبرر وجوده ,وسر بقابه .
وقد جرب ذلك االستعمار الؽربً الفرنسً فً الجزابر ,واالستعمار الشرقً الروسً فً الجمهورٌات اإلسبلمٌة فً آسٌا ,ورؼم قسوة التجربة وطولها هنا وهناك ,لم تستطع اجتثاث جذور الهوٌة اإلسبلمٌة ,والشخصٌة اإلسبلمٌة ,وذهب االستعمار والطؽٌان ,وبقى اإلسبلم ,والشعب المسلم . ؼٌر أن الحرب التً شنت على اإلسبلم ودعاته من بعض الحكام ( الوطنٌٌن ) العلمانٌٌن والمتؽربٌن فً بعض األقطار -بعد استقبللها -كانت أحد عداوة ,وأشد ضراوة ,من حرب المستعمرٌن .
الردة المغلفة وال ٌفوتنا هنا أن ننبه على نوع من الردة ال ٌتبجح تبجح المرتدٌن المعالنٌن ,فهو أذكى من أن ٌعلن الكفر بواحا ً صراحا ً ,بل ٌؽلفه بؤؼلفة شتى ,وٌتسلل به إلى العقول تسلل األسقام فً األجسام ,ال تراه حٌن ٌؽزو الجسم ,ولكن بعد أن ٌبدو مرضه ,وٌظهر عرضه ,فهو ال ٌقتل بالرصاص ٌدوى ,بل بالسم البطًء ٌ ,ضعه فً العسل والحلوى .وهذا ٌدركه الراسخون فً العلم ,والبصراء فً الدٌن , ولكنهم ال ٌملكون أن ٌصنعوا شٌبا أمام مجرمٌن محترفٌن ,ال ٌم كنون من أنفسهم ,وال ٌدعون للقانون فرصة لٌمسك بخناقهم .فهإالء هم (المنافقون) الذٌن هم فً الدرك األسفل من النار . إنها ( الردة الفكرٌة) التً تطالعنا كل ٌوم آثارها ! فً صحؾ تنشر وكتب توزع ,ومجبلت تباع , وأحادٌث تذاع ,وبرامج تشاهد ,وتقالٌد تروج ,وقوانٌن تحكم .وهذه الردة المؽلفة -فً رأًٌ -أخطر من الردة المكشوفة ,ألنها تعمل باستمرار ,وعلى نطاق واسع ,وال تقاوم كما تقاوم الردة الصرٌحة, التً تحدث الضجٌج ,وتلفت األنظار ,وتثبر الجماهٌر .إن النفاق أشد خطراً من الكفر الصرٌح . ونفاق عبد هللا بن أبى ومن تبعه من منافقً المدٌنه ,أخطر على اإلسبلم من كفر أبى جهل ومن تبعه من مشركً مكة .ولهذا ذم القرآن فً أوابل سورة البقرة( :الذٌن كفروا ) أي المصرحٌن بالكفر فً آٌتٌن اثنتٌن فقط ,وذكر المنافقٌن فً ثبلث عشرة آٌه .إنها الردة التً تصاحبنا وتماسٌنا ,وراوحنا وتعادٌنا ,وال تجد من ٌقاومها .إنها -كما قال شٌخ اإلسبلم الندوى -ردة وال أبا بكر لها إن الفرٌضة المإكد هنا ,هً :محاربتهم بمثل أسلحتهم ,الفكر بالفكر حتى تسقط أوراقهم ,وتسقط أقنعهم ,وزال شبهاتهم بحجج أهل الحق .صحٌح أنهم ممكنون من أوسع المنابر اإلعبلمٌة :المروءة والمسموعة والمربٌة ,ولكن قوة الحق الذي معنا ,ورصٌد اإلٌمان فً قلوب شعوبنا وتؤٌٌد هللا تعلى لنا ،كلها كفٌلة أن تهدم باطلهم على رإوسهم ( :بل نقذؾ بالحق على الباطل فٌدمؽه فإذا هو زاهق) ( ،فؤما الزبد فٌذهب جفاء ،وأما ما ٌنفع الناس فٌمكث فً األرض)… وصدق هللا العظٌم.
إن أول أساس ٌقوم علبه المجتمع السلم وٌقوم به هو العقٌدة :مقٌدة اإلسبلم.فمهمة المجتمع األولى هً حماٌة هذه العقٌدة ورماٌتها وتثبٌتها ,ومد نورهافً اآلفاق.وعقٌدة اإلسبلم تتمثل فً اإلٌمان باهلل ومبلبكته وكتبه ورسله والٌوم اآلخر (:آمن الرسول بما أنزل إلٌه من ربه والمإمنون ,كل آمن رق بٌن أحد من رسله ,وقالوا سمعناوأطعنا ,ؼفرانك ربنا وإلٌك باللهومبلبكته وكتبه ورسله ال نؾ المصٌر)فهً عقٌدة تبنى وال تهدم ,تجمع وال تؽرق ,ألنها تقوم على تراث الرساالتاإللهٌة كلها ,وعلى اإلٌمان برسل اله جمٌعا ( :ال نفرق بٌن أحد من رسله) . ولهذه العقٌدة عنوان ٌلخصها أو شعار ٌعبر عنها هو ( :شهادة أن ال إله إالاله وأن محمدا رسول اله ), هذه العقٌدة هً التً تمثل وجهة نظر السلمٌنإلى الكون ورب الكون ,وإلى الطبٌعة وما وراء الطبٌعة, والى الحٌاة وما بعدالحٌاة ,وإلى العالم المنظور والعالم ؼٌر المنظور ,وبعبارة أخرى :إلى الخلقوالخالق, إلى الدنٌا واآلخرة ,إلى عالم الشهادة وعالم الؽٌب.فهذا الكون بؤرضه وسمابه ,بجماده ونباته ,وحٌوانه وإنسانه ,وجنهومبلبكته ....هذا الكون لم ٌخلق من ؼٌر شا ,ولم ٌخلق نفسه ,فبل بد لهمن خالق علٌم ٌه بمقدار قدٌر عزٌز حكٌم ,خلقه فسواه ,وقد قدر كل شا فٌه تقدٌراً,فكل ذرة فٌه بمٌزان ,وكل حركة ؾ وحسبان .وذلك الخالق هو هللا ,الذي تدل كل كلمه بل كل حرؾ فً كتاب الوجود على مشٌبته وقدرته, وعلمهوحكمه ( :تسبح له السموات السبع واألرض ومن فٌهن ,وإن من شا إال ٌسبح بحمده)هذا الخالً ال هو رب السموات واألرض ,رب العالمٌن ,رب كل شًء,واحد أحد ال شرٌك له فً ذاته وال فً صفاته ,وال فً أفعاله ,فهو وحدهالقدٌم األزلً وهو وحده الباقً األبدي ,وهو وحده الخالق البارئ المصور,له األسماء الحسنى ,والصفات العبل ,ال ند له وال ضد له ,وال ولد له ,والوالد ,وال شبٌه وال ول ٌكن له كفواً أحد)هو األول واآلخر والظاهر نظٌر (قل هو هللا أحد ،هللا الصمد ،لم ٌلد ولم ٌولد ،م والباطن ،وهو بكل شا علٌم) (لٌس كمثله شا ،وهو السمٌع البصٌر)كل ما فً هذا الكون العظم , علوٌه وسفلٌه ,صامته وناطقه ,مدل على أنعقبل واحدا ,هو الذي ٌدبر أمره ,وٌداً واحدة هً التً تدٌر رحاه ,وتوجه دفتهوإال الختل نظامه ,وافلت زمامه ,واضطرب مٌزانه ,وتهدم بنٌانه ,تبعا ً لماتقضً به الضرورة من اختبلؾ العقول المتباٌنة التً توجه ,واختبلؾ األٌدٌالمتعددة التً تحرك . . وصدق اله العظم إذ ٌقول ( لو كان فٌهما آلهةإال هللا لفسدتا ,فسبحان هللا رب العرش عما ٌصفون) وقالجل شؤنه ( :ما اتخذ هللا من ولد وما كان معه من إله ,إذ لذهب كئلله بما خلق ولعبل بعضهم على بعض ,سبحان هللا عما ٌصفون )وٌقول ( :قل لو كان معه آلهة كما ٌقولون إذا البتؽوا إلى ذي العرشسبٌبلً ،سبحانه وتعالى عما ٌقولون عبلً كبٌرا ) . فالحقٌقة التً ال مراء فٌها :أن كل من فى السموات ومن فً األرض عبٌدله ,وكل ما فً السموات واألرض ملك له ,فلٌس أحد وال شا من العقبلءأو من ؼٌر العقبلء شرٌكا له ,أو ولدا له ,كما ٌقول الوثنٌٌن وأشباه الوثنٌٌن( ،وقالوا اتخذ هللا ولداً ،سبحانه ،بل له ما فً السموات وما فً األرض ،كل له قانتون ،بدٌع السموات واألرض وإذا قضى أمراً فإنما ٌقول له كن فٌكون)ومن ضل عن هذه الحقٌقه فً الدنٌا فسٌكشؾ عنه الؽطاء فً اآلخرة ,وٌرىالحقٌقة عارٌة واضحة وضوح الشمس فً الضحى ( :إن لكل من فٌالسموات واألرض إال آتى الرحمن عبدا أتى أحصاهم وعدهم عداً ،وكلهم آتٌة ٌوم القٌامة فرداً ) فبل عجب بعد ذلك أن ٌكون هذا الخالق العظٌم ,وهذا الرب ال هو وحدهالذي ٌستحق العبادة والطاعة المطلقة ,وبعبارة أخرىٌ ( :ستحق ؼاٌة الخضوعوؼاٌة الحب ,فالمعنى المركب من الخضوع كل الخضوع ,الممزوج بالحب كل الحب ,هو الذي نسمٌه العبادة ). وهذا هو معنى( ال إله إال هللا ) أي ال ٌستحق العبادة ؼٌره ..أو ال ٌستحقكل الخضوع وكل الحب إال هو..فهو وحده الذي تخضع ألمره الرقاب ,وتسجدلعظمته الجباه ,وتسبح بحمده األلسنة ,وتقاد لحكمه
القلوب والعقول واألبدان .وهو وحده الذي تتجه إلٌه األفبدة بالحب كل الحب ,فهو المتفرد بالكمال كله,والكمال من شؤنه أن ٌحب وٌحب صاحبه ,وهو مصدر الجمال كله ,وما فٌالوجود من جمال فهو مستمد منه ,والجمال من شؤنه أن ٌحب وٌحب صاحبه ,وهو واهب النقم كلها ,ومصدر اإلحسان كله ( وما بكم من نعمة فمن هللا )واإلحسان دابما ٌحب والنعمة دابما ً تحب وٌحب صاحبها.معنى « ال إله إال اله » هو رفض الخضوع والعبودٌة لسلطان ؼٌر سلطانه,وحكم ؼٌر حكمه وأمر ؼٌر أمره ,ورفض الوالء إال له ,والحب إال له وفٌه . وإذا أردنا أن نزٌد هذا المعنى إٌضاحا قلنا :إن عناصر التوحٌد كما جاء بهاالقرآن الكرٌم ,ثبلثة ذكرتها سورة األنعام ,وهى سورة عنٌت بتثبٌت أصول التوحٌد :أولها :أال تبؽً ؼٌر هللا ربا ً( :قل أؼٌر هللا أبؽً ربا ً وهو رب كل شا). وثانٌها :أال تتخذ ؼٌر هللا ولٌا ً ( :قل أؼٌر هللا اتخذ ولٌا ً فاطر السموات واألرض وهو ٌطعم والٌطعم). وثالثها :أال تبتؽً ؼٌر هللا حكما ً( :أفؽٌر هللا ابتؽً حكما ً وهو الذي أنزل إلٌكم الكتاب مفصبلً) معنى العنصر األول ( أال تبتؽى ؼٌر هللا ربا ً ) :إبطال األرباب المزعومةالتً اتخذها الناس قدٌما ً وحدٌثا ً ,فً الشرق والؽرب ,سواء أكانت من الحجروالشجر أم من الفضة والتبر ,أم من الشمس والقمر ,أم من الجن والبشر,معنى العنصر األول هو رفض لكل األرباب إال هللا وإعبلن الثورة ً علىالمتؤلهٌن فً األرض المستكبرٌن بؽٌر الحق ,الذٌن أرادوا أن ٌتخذوا عباد هللا عبٌداً لهم وخوال (.ال إله إال هللا ) هو اإلعبلن العام لتحرٌر اإلنسان من الخضوع والعبودٌة,إال لخالقه وباربه .فبل ٌجوز أن تعنو الوجوه ,أو تطاطا الرإوس ,أو تنخفضالجباه ,أو تخشع القلوب ,إال لقٌوم األرض والسمواتولهذا كان النبً (صلى هللا علٌه وسلم) ٌختم رسابله إلى الملوك واألمراء ,والقٌاصرة من النصارىبهذه اآلٌة ثسًً وال ٌتخذ الكرٌمةٌ ( :ا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بٌنناوبٌنكم أال نعبد إال اله وال نشرك به با بعضنا بعضا أربابا من دون هللا ,فإن تولوا فقولوا اشهدوا بؤنا مسلمون) . وكانت كلمة ( ربنا هللا) إعبلنا ً بالعصٌان والتمرد على كل جبار فً األرض .ومن أجل هذا تعرض موسى للتهدٌد بالقتل ،وقام رجل مإمن من آل فرعون ٌدافع عنه وٌقول (:أتقتلون رجبلً ٌقول ربً هللا)ومن أجل ذلك تعرض رسولنا ( صلى هللا علٌه وسلم) وـؤصحابه لبلضطهاد واألذى واإلخراج من الدٌار واألموال ( الذٌن أخرجوا من دٌارهم بؽٌر حق إال أن ٌقولوا ربنا هللا). ومعنى العنصر الثانً (أال تتخذ ؼٌر هللا ولٌا ً) :رفض الوالء لؽٌر هللا وحزبه ،فلٌس من التوحٌد أن ٌزعم زاعم أن ربه هو هللا ،وربما ألعداء هللا .قال تعالى (:ال ٌتخذ المإمنون الكافرٌن أولٌاء من دون المإمنٌن ،ومن ٌفعل ذلك فلٌس من هللا فً شا) إن حقٌقة التوحٌد لمن آمن بؤن ربه هو هللا :أن ٌخلص والءه له ولمن أمر اللهتعالى بمواالته ,كما قال سبحانه « :إنما ولٌكم هللا ورسوله والذٌن آمنواوالذٌن ٌقٌمون الصبلة وٌإتون الزكاة وهم راكعون ومن ٌتول اللهورسوله والذٌن آمنوا فإن حزب هللا هم الؽالبون) . ومن هنا أنكر القرآن على المشركٌن أنهم قسموا قلوبهم بٌنه تعالى وبٌناألنداد التً اتخذوها من األصنام واألوثان ,فجعلوا لها من الحب والوالء مثلما جعلوا هلل ( .ومن الناس من ٌتخذ من دون هللا أنداداً ٌحبونهم كحب هللا والذٌن أمنوا أشد حبا ً هلل) .إن هللا تعلى ال ٌقبل الشركة فً قلوب عباده المإمنٌن ,فبل ٌجوز أن ٌكون بعض القلب هلل وبعضه للطاؼوتوأن ٌكون بعض والبه للخالق ,وبعضه للمخلوق .إن الوالء كله والقلب كلهٌجب أن ٌكون له ,صاحب الخلق كله ,واألمر كله ,وهذا هو الفرق بٌن
المإمنوالمشرك ,المإمن سلم هلل ,خالص العبودٌة له ,والمشرك موزع بٌن هللا وبٌنؽٌر هللا (ضرب هللا مثبلً رجبلً فٌه شركاء متشاكسون ورجبل سلماًلرجل هل ٌستوٌان مثبل ,الحمد هلل ,بل أكثرهم ال ٌعلمون) . ومعنى العنصر الثالث ( :أال تبؽى ؼٌر هللا حكما ً :رفض الخضوع لكل حكمؽٌر حكم هللا ,وكل أمر ؼٌر أمر هللا ,وكل نظام ؼٌر نظام هللا ,وكل قانونؽٌر شرع هللا ,وكل وضع أو عرؾ أو تقلٌد أو منهج أو فكرة أو قٌمة لم ٌؤذنبها هللا .ومن قبل شٌبا ً من ذلك حاكما ً كان أو محكوما ً ,ببل إذن من اللهوسلطان ،فقد أبطل عنصراً أساسٌا من عناصر التوحٌد ,ألنه ابتؽى ؼٌر اللهحكما ً ,والحكم والتشرٌع من حق هللا وحده ,لهذا قال سبحانه ( :إن الحكمإال هلل أمر أال تعبدوا إال إٌاه ,ذلك الدٌن القٌم ولكن أكثر الناس ال ٌعلمون) .وهذا العنصر إنما هو فً الواقع مقتضى إفراد هللا تعالى بالربوبٌة واإللهٌة ,فإن من اتخذ أحدا من عباد هللا شارعا ً وحاكما ً ٌ ,ؤمر بما شاء ,وٌنهى مماشاء ,وٌحلل ما ٌرٌد وٌحرم ما ٌرٌد ,و أعطاه حق الطاعة فً ذلك ولو أحبللحرام ,كالزنا ,والربا ,والخمر ,والمٌسر ,وحرم الحبلل :كالطبلق ,وتعددالزوجات ,وأسقط الواجبات :كالخبلفة ,والجهاد ,والزكاة ,واألمر بالمعروفوالنهى من المنكر ,وإقامة حدود هللا و ؼٌرها ,من اتخذ مثل هذا حكما ً وشارعاًفقد جعله فً الحقٌقة ربا ٌطاع فً كل أمر ,وٌنقاد له فً كل ما شرع .وهذاما جاء به القرآن وفسرته السنة النبوٌة ..فقد جاء فً سورة التوبة عن أهبللكتاب قوله تعالى ( :اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون هللا هوالمسٌح ابن مرٌم وما أمروا إال لٌعبدوا إلها واحداً ,ال إله إال هوسبحانه عما ٌشركون ) . فكٌف اتخذوهم أربابا ً وهم لم يسجدوا لهم ولم ٌعبدوهم عبادة األوثان ؟ ٌجٌب عن ذلك رسول هللا وكان فٌما رواه اإلمام أحمد والترمذي وابن جرٌر منقصة إسبلم عدى بن حاتم الطابً ،وكان قد تنصر فً الجاهلٌة وقدم إلى المدٌنة ,وتحدث الناس بقدومه ,فدخل على رسول هللا (صلى هللا علٌه وسلم) وفى عنقه صلٌب م ن فضة ،وهو ٌقرأ هذه اآلٌة( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون هللا) قال عدى :فقلت :إنهم لم ٌعبدوهم فقال (صلى هللا علٌه وسلم)( :بلى إنهم حرّ موا علٌهم الحبلل وأحلوا لهم الحرام ،فاتبعوهم ،فذلك عبادتهم إٌاهم). قال ابن كثٌر :وهكذا قال حذٌفة بن الٌمان ،وابن عباس وؼٌرهما فً تفسٌر( :اتخذوا أحبارهم أربابا ً من دون هللا ) :أنهم اتبعوهم فٌما حللوا وحرموا ،وقال السدى :استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب هللا وراء ظهورهمـ ولهذا قال تعالى( ومت أمروا إال لٌعبدوا إلها واحداً) ،أي الذي إذا حرم الشًء فهو الحرام، وما حلله فهو الحبلل ،وما شرعه اتبع ،وما حكم به نفذ ،ال إله إال هو ،سبحانه عما ٌشركون. هذا هو مجمل معنى الكلمة األولى من كلمتً الشهادة .كلمة(ال إله إال هللا) ومقتضاه :أال تبؽى ؼٌر هللا آٌات ربا ،وال تتخذ ؼٌر هللا ولٌا ً .وال تبتؽً ؼٌر هللا حكماً ،كما نطق القرآن العظٌم فً صرٌح ه المحكمات. وأما معنى الكلمة الثانٌة من كلمتً الشهادة التً ٌدخل بها المرء باب اإلسبلم فهً( :محمد رسول هللا) إن اإلقرار هلل تعالى بالوحدانٌة ،وإفراده سبحانه باإللهٌة ،والربوبٌة ،ال ٌؽنً ما لم ٌنضم إلٌها هذا الشطر الثانً( :محمد رسول هللا) .فإن هللا جل شؤنه قد اقتضت حكمته أال ٌدع الناس همبلً ،وال ٌتركهم سدىً ،فؤرسل إلٌهم ما بٌن حٌن وآخر مبلؽٌن عنهٌ ،هدون خلقه إلٌه ،وٌدلونهم علٌه وٌرشدونهم إلى مراضٌه ،وٌحذرونهم من مساخطه(..رسبلً مبشرٌن ومنذرٌن لببل ٌكون للناس على هللا حجة بعد الرسل) كما أن مهمة هإالء الرسل وضع القواعد والقٌم والموازٌن التً تضبط الحٌاة وتنظم المجتمع، وتهدٌه للتً هً أقوم ،وٌحتكم الناس إلٌها إذا اختلفوا ،وٌفٌبون إلٌها إذا تنازعواـ فٌجدون فٌها الحق الذي ال باطل معه ،والعدل الذي ال ظلم فٌه ،والخٌر الذي ٌطرد الشر ،والفضٌلة التً تقاوم الرذٌلة، والفساد واالنحراؾ..قال تعالى ) لقد أرسلنا رسلنا بالبٌنات وأنزلنا معهم الكتاب والمٌزان لٌقوم الناس
بالقسط) ،فهذا ما أنزل هللا على رسول الكتاب) وهو نصوص الوحً اإللهً المعصوم ،و(المٌزان) وهو القٌم والمعاٌٌر الربانٌة النً جاءت بها النبوات من المثل العلٌا والفضابل اإلنسانٌة التً تسٌر فً ضوء (الكتاب) ،ولوال هإالء الرسل لضل الناس السبٌل فً تصورهم لحقٌقٌة األلوهٌة ،وطرٌقهم إلى مرضاتها وواجبهم نحوها ..وابتدعوا طرابق قددا ،وسببل شتى ،وما أنزل هللا بها من سلطان .سببلً تفرق وال تجمع ،وتهدم وال تبنً ،وتضل وال تهدي .وخاتم هإالء الرسل هو محمد (صلى هللا علٌه وسلم) ،فهو المبلػ عن أمره وشرعه ،وبه عرفنا ما ٌرٌد هللا منا ،وما ٌرضاه لنا ،وما ٌؤمرنا به ،وما ٌنهانا عنه..وبه عرفنا ربنا..وعرفنا منشؤنا ومصٌرنا..وعرفنا طرٌقنا بٌن المنشؤ والمصٌر..عرفنا ما أحله ربنا وما حرمه..وما فرضه وأوجبه..ولواله (صلى هللا علٌه وسلم) لعشنا فً ظلمات وعماٌة ،ال نعرؾ لنا ؼاٌة ،وال نهتدي سبٌبل( :وقد جاءكم من هللا نور وكتاب مبٌنٌ ،هدي به هللا من اتبع رضوانه سبل السبلم وٌخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه وٌهدٌهم إلى صراط مستقٌم). به عرفنا أن وراء هذه الحٌاة حٌاة أخرى توفى فٌها كل نفس ما كسبت ،وتجزى بما عملت ،فٌجزى الذٌن أساءوا بما عملوا ،والذٌن أحسنوا بالحسنى .به عرفنا أن وراءنا حسابا ومٌزاناً ،وثوابا ً وعقابا، وجنة ونار( :فمن ٌعمل مثقال ذرة خٌراً ٌره ،ومن ٌعمل مثقال ذرة شراً ٌره) .به عرفنا مبادئ الحق، وقواعد العدل ،وم عانً الخٌر ،فً شرٌعته ال تضل وال تنسى ،شرعها من ٌعلم السر وأخفى ،من ال تخفى علٌه خافٌة ،من ٌعلم المفسد من المصلح(..أال ٌعلم من خلق وهو اللطٌؾ الخبٌر) .ومن ثم كانت كلمة( :محمد رسول هللا ) تتمة لكلمة( :ال إله إال هللا) ،فهذه معناها أال ٌعبد إال هللا .واألخرى معناها :أال ٌعبد هللا إال بما شرعه وأوحاه على لسان رسوله .وال عجب ـن كانت طاعة رسول هللا جزءاً من طاعة هللا (من ٌطع الرسول فقد أطاع هللا) ،وكان أتباعه من أمارات محبة هللا( :قل إن كنتم تحبون هللا فاتبعونً ٌحببكم هللا وٌؽفر لكم ذنوبكم ،وهللا ؼفور رحٌم) وكان الرضا بحكمه وشرعه جزءا ال ٌتجزأ من اإلٌمان باهلل تعالى ,وال ٌعد فً زمرة المإمنٌن من رفض أمرا وحكما حكم به رسول هللا (صلى هللا علٌه وسلم) ,مما أنزله علٌه من كتابه أو مما أوحاه إلٌه بٌانا لهذا الكتاب ,فقد أرسله مبٌنا للناس ما نزل إلٌهم .وهذا أمر بٌن ؼاٌة البٌان فً القرآن الكرٌم ,فلٌس بمإمن أبدا من احتكم إلى ؼٌر رسول اله ,أو رد حكمه ,أو تردد فٌه مجرد تردد . ٌقول القرآن العزٌز (:وما كان لمإمن وال مإمنة إذا قضى هللا ورسوله أمرا أن ٌكون لهم الخٌرة من أمرهم ،ومن ٌعص هللا ورسوله فقد ضل ضبلال مبٌنا ً) .وٌقول سبحانه مندداً بقوم من مرضى القلوب من المنافقٌن ( :وٌقولون آمنتا باهلل وبالرسول وأطعنا ثم ٌتولى فرٌق منهم من بعد ذلك ،وما أولبك بالمإمنٌن ،وإذا دعوا إلى هللا ورسوله لٌحكم بٌنهم إذا فرٌق منهم معرضون ،وإن ٌكن لهم الحق ٌؤتون إلٌه مذعنٌن ،أفً قلوبهم مرض أم ارتابوا أم ٌخافون أن ٌحٌؾ هللا علٌهم ورسوله ،بل أولبك هم الظالمون ،إنما كان قول المإمنٌن إذا دعوا إلى هللا ورسوله لٌحكم بٌنهم أن ٌقولوا سمعنا وأطعنا، وأولبك هم المفلحون) وٌقول مم شؤن من تردد فً قبول حكم رسول هللا(صلى هللا علٌه وسلم) ,ورضى االحتكام إلى آخرٌن م ن البشر ,قٌل إنهم بعض الٌهود ( ألم تر إلى الذٌن ٌزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إلٌك وما أنزل من قبلك ٌرٌدون أن ٌتحاكموا إلى الطاؼوت وقد أمروا أن ٌكفروا به وٌرٌد الشطٌان أن ٌضلهم ضبلالً بعٌداً ،وإذا قٌل لهم تعالوا إلى ما أنزل هللا وإلى الرسول رأٌت المنافقٌن ٌصدون عنك صدوداً)..إلى أن قال مقسما ً ومإكداً ( :فبل وربك ال ٌإمنون حتى ٌحكموك فٌما شجر بٌنهم ثم ال ٌجدون فً أنفسهم حرجا ً مما قضٌت وٌسلموا تسلٌما ً) هذا هو شؤن المإمنٌن مع رسول هللا (صلى هللا علٌه وسلم) ,وحكم رسول هللا ,وشرع رسول هللا :إنهم ال ٌتردون لحظة فً قبول الحكم أو رفضه , وبعبارة أخرى -لٌس لهم الخٌرة من أمرهم ,وال ٌتولون عن االنقٌاد والطاعة ,كما ٌفعل المنافقون بل شعارهم ومبدإهم دابما « :سمعنا وأطعنا » .
وهذا بخبلؾ المنافقٌن الذٌن ٌرضون االحتكام إلى ؼٌر هللا ورسوله -وكل ما سوى هللا ورسوله .فهو طاؼوت -ولهذا قال تعالى ٌ( :رٌدون أن ٌتحاكموا إلى الطاؼوت ) . .فهما حكمان ال ثالث لهما :إما هللا وإما الطاؼوت . لقد رسمت اآلٌات صورة المنافقٌن وموقفهم من شرع هللا وحكم رسوله ( :وإذا قٌل لهم تعالوا إلى ما أنزل هللا وإلى الرسول رأٌت المنافقٌن ٌصدون عنك صدودا) ونفت -بشدة -اإلٌمان عمن لم ٌحكم رسول هللا فً حٌاته ,وٌحكم بسنته بعد مماته .ولم ٌكتؾ بذلك فاشترط الرضا والسلم بهذا الحكم ,فهذه هً طبٌعة اإلٌمان وثمرته (:ثم ال ٌجدوا فً أنفسهم حرجا ً مما قضٌت وٌسلموا تسلٌما) فمن أعرض عن هذه النذر كلها ,وأصم أذنه عن هذه اآلٌات,وتلقى شرابعه وقوانٌنه ونظمه وتقالٌده ,وقٌمه وموازٌنه ومفاهٌمه وتصوراته عن ؼٌر طرٌق رسول هللا (صلى هللا علٌه وسلم) ،ورضً بؤن ٌحكم فً هذه األمور الخطٌرة فبلسفة من الشرق أو الؽرب ،أو علماء أو حكماء ،أو مشرعٌن -سمهم كما تشاء- فقد ضاد هللا فٌما شرع ،ونا صب هللا ورسوله العداء ،ومرق من الدٌن كما ٌمرق السهم من الرمٌة ،وال ؼرو أن حكم كتاب هللا بالكفر والظلم والفسوق على من لم ٌحكم بما أنزل هللا ،فقال فً سٌاق واحد من سورة المابدة( :ومن لم ٌحكم بما أنزل هللا فؤولبك هم الكافرون)( ،ومن لم ٌحكم بما أنزل هللا فؤولبك هم الظالمون)( ،ومن لم ٌحكم بما أنزل هللا فؤولبك هم الفاسقون) .واستعمال هذه األلفاظ فً القرآن الكرٌم ٌدل على أن معانٌها متقاربة .قال تعالى ( :والكافرون هم الظالمون) ( ،ومن كفر بعد ذلك فؤولبك هم الفاسقون) ( ،وما ٌجحد بآٌاتنا إال الكافرون) فالذي ال ٌحكم بما أنزل هللا كافر أو ظالم أو فاسق ،أو جامع لهذه الصفات كلها .وخصوصا إذا اعتقد أن ما أنزل هللاٌ ،مثل الجمود والتخلؾ والرجعٌة ،وما شرع الناس هو التطور والتقدم الذي ٌصلح به المجتمع وترتقى به الحٌاة! ومن التحرٌؾ الظالم آلٌات الخالق ,والسخرٌة الصارخة بعقول الخلق ,أن ٌقول قابل :إن هذه اآلٌات نزلت فً شؤن أهل الكتاب من الٌهود والنصارى ,ونسى هذا القابل الجريء -أو تناسى -أن هذه اآلٌات الحكمة -وان نزلت فً سٌاق خاص -قد جاءت بؤلفاظ عامة ,تتناول بحكمها جمٌع األفراد الذٌن ٌشملهم مدلولها وهم كل ( من لم ٌحكم بما أنزل اله ) ,فالمدار على عموم اللفظ ,ال على خصوص السبب كما قرر أبمة اإلسبلم . ومحال أن ٌدمػ هللا بالظلم والكفر والفسوق أهل الكتاب األول ,ألنهم طرحوا ما أنزل اله وراءهم ظهرٌا ,ولم ٌحكموا به ,ثم ٌبٌح ›للمسلمٌن وحدهم -وهم أهل الكتاب اآلخر الخاتم -أن ٌتخذوا كتاب اله مهجورا ,وٌتخذوا ؼٌره منهاجا ودستورا !! ما فابدة ذكر هذه اآلٌات فً سٌاق الحدٌث عن أهل الكتاب ,إن لم ٌكن المقصود منها تحذٌر السلمٌن أن ٌصنعوا مثل صنٌعهم ,وٌحكموا بؽٌر شرٌعة ربهم ,فٌدمؽوا بمثل ما دمؽوا به ,وهل علٌهم عذاب هللا وؼضبه ( :ومن ٌحلل عٌه ؼضبى فقد هوى ) .لماذا أنزل هللا للناس كتاب وبعث لهم رسول ,إذا كان من حق الناس أن ٌهملوا الكتاب وٌعصوا الرسول ؟) وقد قال تبارك وتعالى :إنا أنزلنا إلٌك الكتاب بالحق لتحكم بٌن الناس بما أراك هللا)( ،وما أرسلنا ن\من رسول إال لٌطاع بإذن هللا)،ومن ثم خاطب هللا رسوله بعد أن ذكر اآلٌات السابقة( :وأنزلنا إلٌك المباب بالحق مصدقا ً لما بٌن ٌدٌه من الكتاب ومهٌمنا ً علٌه ،فاحكم بٌنهم بما أنزل هللا ،وال تبع أهواءهم عما جاءك من الحق) ،ثم ٌقول فً اآلٌة التالٌة( :وأن احكم بٌنهم هللا إلٌك ،فإن تولوا فاعلم إنما ٌرٌد هللا أن ٌصٌبهم ببعض ذنوبهم ،وإن كثٌراً من الناس لفاسقون ،أفحكم الجاهلٌة ٌبؽون الجاهلٌة ٌبؽون ،ومن أحسن منه هللا حكما ً لقوم ٌوقنون). فهما حكمان ال ثالث لهما :إما اإلسبلم ،وإما الجاهلٌة .وهما حكمان ال ثالث لهما :إما هللا ،وإما الطاؼوت .فلٌختر امرإ لنفسه..ولٌختر قوم ألنفسهم :إما هللا واإلسبلم ،وإما الطاؼوت والجاهلٌة ..وال وسط دون ذلك. أما الذٌن آمنوا فلٌس لهم الخٌرة من أمرهم :إنهم مع حكم هللا ورسوله ،إنهم مع اإلسبلم..إنهم حرب على الطاؼوت والجاهلٌة .إن شعارهم إذا دعوا إلى هللا ورسوله لٌحكم بٌنهم (:سمعنا وأطعنا) .وأما الذٌن
كفروا فهم دابما ً فً سبٌل الطاؼوت ،وهم دابما ً متردون فً حفر الجاهلٌة (والذٌن كفروا أولٌاإهم الطاؼوت ٌخرجونهم من النور إلى الظلمات ،أولبك أصحاب النار ،هم فٌها خالدون). وهنا مالحظتان مهمتان : األولى :أن الحكم بما أنزل اله فرٌضة محكمة ال ٌخالؾ فٌها مسلم ,وهى مساوٌة لما شاع فً ممرنا من تعبٌر ( الحاكمٌة هلل ) عز وجل .وهى تعنى :الحاكمٌة التشرٌعٌة اآلمرة الناهٌة ,المحللة والمحرمة ,المتفردة باإللزام والتكلٌؾ للخلق كافة . وقد توهم بعض الناس أن هذه الفكرة من مبتكرات المودودى فً باكستان ,أو سٌد قطب فً مصر . والواقع :أن هذه الفكرة مؤخوذة من علم ( أصول الفقه ) اإلسبلمً ,واألصولٌون ٌذكرون ذلك فً مبعث ( الحكم ) من مقدمات علم األصول ,وفى موضوع ( الحاكم ) من هو ؟ فكلهم متفقون على أن الحاكم هو هللا .أي صاحب الحق المطبق فً التشرٌع لخلقه .حتى المعتزلة ال ٌخالفون فً ذلك ,كما بٌنه شارح ( مسلم الثبوت ) من كتب األصول المشهورة. والدالبل على ثبوت هذا المبدأ من القرآن والسنة بٌنة واضحة .سقنا بعضها فً بٌان فرضٌة الحكم بما أنزل هللا . الثانٌة :أن الحاكمٌة أو الحكم بما أنزل اله تعالى ,ال ٌلؽى دور اإلنسان ,فاإلنسان هو الذي ٌفهم النصوص الوجهة إلٌه ,وٌستنبط منها ,وٌمبل الفراغ فٌما ال نص فٌه ,مما سمٌاه ( منطقة العفو) وهى منطقة واسعة ,تركها الشارع قصداً ,رحمة بنا فٌر نسٌان ,فهنا ٌجول العقل المسلم وٌصول ,وٌجتهد فً ضوء النصوص واألصول .
معنى قيام المجتمع على عقيدة اإلسالم هذه هً العقٌدة التً ٌقوم علٌها المجتمع المسلم:عقٌدة ( ال إله إال هللا ,محمد رسول اله) ومعنى قٌام المجتمع المسلم على العقٌدة اإلسبلمٌة :أنه ٌقوم على احترام هذه المٌاه وتقدٌسها ,وٌعمل على تثبٌتها فً العقول والقلوب ٌ ,ربً ناشبة المسلمٌن علٌها ,وٌرد عنها أباطٌل المفترٌن ,وشبهات المضللٌن ,و ٌجلً فضابلها وآثارها فً حٌاة الفرد والمجتمع ,عن طرٌق األجهزة التوجٌهٌة التً تإثر فً سٌر المجتمع ,من المساجد والمدارس والصحافة واإلذاعة والتلٌفزٌون والمسرح والسٌنما واألدب بكل فنونه ,من شعر ونثر وقصص وتمثٌل .لٌس معنى قٌام المجتمع المسلم على العقٌدة اإلسبلمٌة إكراه ؼٌر المسلمٌن على التخلً عن عقابدهم ,كبل ,فذلك لم ٌخطر ببال السلم من قبل ,ولن ٌخطر من بعد ,ألن القرآن حسم هذه القضٌة من قدٌم ,حٌن أعلن بصرٌح العبارة أنه ( ال إكراه فً الدٌن ،قد تبٌن الرشد من ألؽً). وقد أثبت التارٌخ أن المجتمع اإلسبلمً ,فً عصور ازدهاره ,كان أكثر المجتمعات سماحة مع المخالفٌن له فً العقٌدة ,بشهادة األجانب أنفسهم . معنى قٌام المجتمع على العقٌدة اإلسبلمٌة ,أنه لٌس مجتمعا ساببا ,بل هو مجتمع ملتزم ..قد التزم عقٌدة اإلسبلم ,فلٌس مجتمعا مادٌا ,وال مجتمعا علمانٌا ( ال دٌنٌا ) ,وال مجتمعا وثنٌا ,وال مجتم عا
ٌهودٌا أو نصرانٌا ,وال مجتمعا ً لٌبرالٌا رأسمالٌا ً ,وال مجتمعا ً اشتراكٌا ماركسٌا ً . إنما هو مجتمعا ٌدٌن بعقٌدة التوحٌد ,عقٌدة اإلسبلم ,وعقٌدة اإلسبلم تعلو وال تعلى ....عقٌدة اإلسبلم ال تقبل أن تكون على هامش الحٌاة فً المجتمع وأن تزاحمها عقٌدة أخرى تبدل نظرة الناس إلى هللا واإلنسان ,والكون والحٌاة . فلٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌختفً فً توجٌه اسم (هللا ) لٌحل اسم ( الطبٌعة) فاألنهار من هبة الطبٌعة ,والؽابات منحة من الطبٌعة ،والطبٌعة هً التً أنشؤت هذا الشًء وطورت ذاك الشًء , ولٌس هو هللا خالق كل شًء ورب كل شًء ومدبر كل أمر . إن تصور المجتمع الؽربً لئللهٌة وعبلقتها بالكون :أن هللا خلق الكون وتركه ،فلٌس له إشراؾ علٌه، وال إحاطة به ،وال تدبٌر له ،وٌشبه أن ٌكون هذا مستمداً من تصور الفلسفة الٌونانٌة لئلله ،وخاصة فلسفة (أرسطو) الذي ال ٌعلم اإلله -عنده -شٌبا ً إال عن ذاته :أما الكون فبل ٌدبر فٌه أمراً ،وال ٌعرؾ عنه خٌراً وال شراً ،وأؼرب منه فلٌفة (أفلوطٌن) الذي ال ٌعلم اإلله عنده شٌبا ً حتى عن نفسه .أما تصور المجتمع المسلم لئلله ،فتعبر عنه هذه اآلٌات وأمثالها (:سبح هلل ما فً السموات واألرض ،وهو العزٌز الحكٌم ،له ملك السموات واألرضٌ ،حً وٌمٌت ،وهو على كل شًء قدٌر ،هو األول وآلخر والظاهر والباطن ،وهو بكل شًء علٌم ،هو الذي خلق السموات واألرض فً ستة أٌام ثم استوى على العرشٌ ،علم ما ٌلج فً األرض وما ٌخرج منها وما ٌنزل من السماء وما ٌعرج فٌها ،وهو معكم أٌن ما كنتم ،وهللا بما تعملون بصٌر ،له ملك السموات واألرض ،وإلى هللا ترجع األمورٌ ،ولج اللٌل فً النهار وٌولج النهار فً اللٌل ،وهو علٌم بذات الصدور .ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌنكمش فٌه ( مفهوم اإلٌمان) باهلل ,والدار اآلخرة ,لٌحل محله اإلٌمان بالوجودٌة أو القومٌة أو الوطنٌة ,أو ؼٌر ذلك من األوثان التً عبدها أناس هنا وهناك ,من دون هللا أو مع هللا ,وان لم ٌسموها آلهة . ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌتوارى فٌه اسم ( محمد ) صلى هللا علٌه وسلم باعتباره الموجه المعصوم ،واألسوة المطاع ،لتبرز أسماء ( ماركس )و ( لٌنٌن) و ( ماو) وؼٌرهم من مفكري الشرق والؽرب . ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌهجر فٌه كتاب هللا « القرآن » بوصفه مصدر الهداٌة ,والتشرٌع ، والحكم ،لتظهر كتب أخرى ,تضفً علٌها القداسة ,وتإخذ منها مناهج الفكر والتشرٌع والسلوك ،أو ٌستمد منها القٌم والموازٌن والمثل. ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌسب فٌه هللا -جل شؤنه -وكتبه ورسله ,والناس سكوت على هذا الكفر البواح ,ال ٌستطٌعون أن ٌإدبوا مرتداً كافراً ,أو ٌزجروا زندٌقا فاجراً ,حتى اجترأ ملحد أفاك أن ي ٌنشر فً صحٌفة علنٌة :أن اإلنسان العربً الجدٌد هو الذي ٌعتقد أن اله واألدٌان دمى محنطة ؾ متحؾ التارٌخ. ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌسمح بعقٌدة أخرى تناوئ العقٌدة اإلسبلمٌة ,أو تزاحمها كالعقٌدة الشٌوعٌة ,أو االشتراكٌة ,أو القومٌة عند الؽبلة .وإن من الخطؤ أن ٌظن ظان أن االشتراكٌة ونحوها لٌست عقٌدة تناوئ اإلسبلم وإنما هً مذهب اقتصادي أو اجتماعً ٌ ,تخذ أسلوبا معٌنا ً فً تنظٌم شإون الحٌاة وعبلقاتها ,ولٌس له طابع دٌنً حتى ٌسمى ( عقٌدة) .والواقع أن االشتراكٌة العلمٌة -فً نظر أصحابها -فلسفة حٌاة كاملة ,وعقٌدة شاملة ,تتضمن وجهة نظر إلى العالم والى التارٌخ ,والى الحٌاة ,والى اإلنسان ,وإلى هللا ,تخالؾ وجهة اإلسبلم ,ولهذا أطلق علٌها وعلى أمثالها بعض المإلفٌن ( : أدٌان بؽٌر وحً ) .ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌجعل العقٌدة على هامش حٌاته ,فبل تؤخذ من مناهج التربٌة والتعلٌم ,وال من مناهج الثقافة والفكر ,وال من مناهجاإلعبلم واإلرشاد ,وال من أجهزة التوجٌه والتؤثٌر ,بصفة عامة ,إال حٌزا ضبٌبل ,وموضعا محدوداً ،فلٌس هً الموجه األول ,وال
المحرك األول ,وال المإثر األول فً حٌاة األفراد ,واألسر والجماعات ,وإنما هً شا ثانوي ٌجا فً ذٌل القافلة ,وفى المكان األخٌر إن بقى له مكان .لقد كانت عقٌدة اإلسبلم فً المجتمع األول -الذي أنشؤه رسول هللا -صلى هللا علٌه وسلم ,وورثه من بعده صحابته ,ومن تبعهم بإحسان -هً الدافع األول ,والوجه األول « والمإثر األول ,فً حٌاتهم ,إن لم نقل األوحد . كانت العقٌدة هً مصدر التصور والفكر ,وكانت هً أساس الترابط والتجمع ,وكانت هً أساس الحكم والتشرٌع ,وكانت هً الدافع إلى الحركة واالنطبلق ....وكانت هً ٌنبوع الفضابل واألخبلق ...كانت هً صانعة البطوالت فً مٌادٌن الجهاد واالستشهاد ,ومجاالت البذل واإلٌثار . هكذا كانت العقٌدة وكان أثرها فً المجتمع السلم األول ,وهكذا ٌجب أن تكون ,وأن ٌكون تؤثٌرها فً كل مجتمع ٌرٌد أو ٌراد له أن ٌكون مسلما الٌوم أو ؼدا ...إن العقٌدة اإلسبلمٌة -بكل أركانها وخصابصها -هً األساس المكٌن ,ألي بنٌان اجتماعً متٌن .وأي بنٌان على ؼٌر عقٌدة فهو بنٌان على الرمال ٌ ,وشك أن ٌنهار . وأسوأ منه أن ٌراد بنا ,مجتمع ٌنتمً إلى اإلسبلم على ؼٌر عقٌدة اإلسبلم ,وإن كتب علٌه -زوراً - اسم اإلسبلم .إنه ؼش فً المواد األساسٌة للبناء ,ال ٌلبث أن ٌسقط البناء كله على من فٌه ( .أقمن أسس بنٌانه على تتقوى من هللا ورضوان خٌر أم من أسس بنٌانه على شفا جرؾ هار فانهار به فً نار جهنم ,وهللا ال ٌهدى القوم الظالمٌن). لقد رأٌنا المجتمع الشٌوعً -أٌام ازدهاره وسلطانهٌ -جسد العقٌدة الماركسٌة وفلسفتها المادٌة .تمثل ذلك فً دستوره الذي ٌعلن :أن ال إله والحٌاة مادة .وفً تشرٌعه وقوانٌنه ،وفً تربٌته ،وتعلٌمه ،وفً ثقافته وإعبلمه ،وفً سابر أنظمته ومإسساته وسٌاساته .وهذا شؤن كل مجتمع عقابدي .فبل ؼرو أن ٌكون المجتمع المسلم مرآة تعكس عقٌدته وإٌمانه ،ونظرته إلى الكون واإلنسان والحٌاة ،وإلى رب الكون وبارئ اإلنسان ،وواهب الحٌاة.
المجتمع المسلم ومواجهة الردة أشد ما ٌواجه المسلم من األخطار :ما ٌهدد وجوده المعنوي ,أي ما ٌهدد عقٌدته ,ولهذا كانت الردة عن الدٌن -الكفر بعد اإلسبلم -أشد األخطار على المجتمع المسلم .وكان أعظم ما ٌكٌد له أعداإه أن ٌفتنوا أبناءه عن دٌنهم بالقوة والسبلح أو بالمكر والحٌلة .كما قال تعالى ( :وال ٌزالون ٌقاتلونكم حتى ٌردوكم عن دٌنكم إن استطاعوا. وفى عصرنا تمرض المجتمع المسلم لؽزوات عنٌفة ,وهجمات شرسة ,تهدؾ إلى اقتبلعه من جذوره ,تمثلت فً الؽزو التنصٌرى ,الذي بدا مع االستعمار الؽربً ,والذي ال ٌزال ٌمارس نشاطه فً العالم اإلسبلمً ,وفى الجالٌات واألقلٌات اإلسبلمٌة ,ومن أهدافه :تنصٌر المسلمٌن فً العالم ,كما وضح ذلك فً مإتمر « كورادو »› الذي عقد هناك سنة . 1978وقدمت له أربعون دراسة حول اإلسبلم والمسلمٌن ,وكٌفٌة نشر النصرانٌة بٌنهم .ورصد لذلك ألؾ ملٌون دوالر ,وأسس لذلك معهد ( زوٌمر) لخرٌج المتخصصٌن فً تنصٌر المسلمٌن .
كما تمثلت فً الؽزو الشٌوعً الذي اجتاح ببلداً إسبلمٌة كاملة فً آسٌا ,وفى أوروبا ,وعمل بكل جهد إلماتة اإلسبلم ,وإخراجه من الحٌاة نهابٌا ً ,وتنشبة أجٌال ال تعرؾ من اإلسبلم كثٌراً وال قلٌبلً. . وثالثة األثافً :الؽزو العلمانى البلدٌنى ,الذي ال ٌبرح ٌقوم بمهمته إلى الٌوم فً قلب دٌار اإلسبلم , ٌستعلن حٌنا ,وٌستخفى أحٌانا ٌ ,طارد اإلسبلم الحق ,وٌحتفى باإلسبلم الخرافً ,ولعل هذا الؽزو هو أخبث تلك األنواع وأشدها خطرا .وواجب المجتمع المسلم -لكً ٌحافظ على بقابه -أن ٌقاوم الردة من أي مصدر جاءت وبؤي صورة ظهرت ,وال ٌدع لها الفرصة ,حتى تمتد وتنتشر ,كما تنتشر النار فً الهشٌم . وهذا ما صنعه أبو بكر والصحابة -رضى هللا عنهم -معه ,حٌن قاتلوا أهل الردة ,الذٌن اتبعوا األنبٌاء الكذبة ,مسٌلمة وسجاح واألسدى والعنسى وكادوا ٌقضون على اإلسبلم فً مهده . ومن الخطر كل الخطر :أن ٌبتلى المجتمع المسلم بالمرتدٌن المارقٌن ,وتشٌع بٌن جنباته الردة ,وال ٌجد من ٌواجهها وٌقاومها .وهو ما عبر عنه أحد العلماء عن الردة التً ذاعت فً هذا العصر بقوله : ( ردة وال أبا بكر لها ) وال بد من مقاومة الردة الفردٌة وحصارها ,حتى ال تتفاقم وٌتطاٌر شررها وتؽدو ردة جماعٌة ,فمعظم النار من مستصؽر الشرر . ومن ثم أجمع فقهاء اإلسبلم على عقوبة المرتد -وإن اختلفوا فً تحدٌدها -وجمهورهم على أنها القتل , وهو رأى الذاهب األربعة ,بل الثمانٌة . وفٌها وردت جملة أحادٌث صحٌحة عن عدد من الصحابة :عن ابن عباس وأبى موسى ومعاذ وعلً وعثمان وابن مسعود وعابشة وأنس وأبى هرٌرة ومعاوٌة بن حٌدة .وقد جاءت بصٌػ مختلفة ,مثل حدٌث ابن عباس ( :من بدل دٌنه فاقتلوه ) ( رواه الجماعة إال مسلما ً ,ومثله من أبى هرٌرة مند الطبرانى بإسناد حسن ,وعن معاوٌة بن حٌدة بإسناد رجاله ثقات) .وحدٌث ابن مسعود ( :ال ٌحل دم امرئ مسلم ٌشهد أن ال إله إال هللا ,وأنً رسول هللا إال بإحدى ثبلث :النفس بالنفس ,والثٌب الزانى , والتارك لدٌنه ,المفارق للجماعة ) ( رواه الجماعة ) .وفى بعض صٌؽه عن عثمان . . . . ( :رجل كفر بعد إسبلمه ,أو زنى بعد إحصانه ,أو قتل نفسا بؽٌر نفس ) ( رواه الترمذى وحسنه والنسابى وابن ماجه ,وقد صح هذا المعنى من رواٌة ابن عباس أٌضا وأبى هرٌرة وأنس ) .قال العبلمة ابن رجب :والقتل بكل واحدة من هذه الخصال متفق علٌه بٌن المسلمٌن. وقد نفذ علً كرم هللا وجهه عقوبة الردة فً قوم ادعوا ألوهٌته ,فحرقهم بالنار ,بعد أن استتابهم وزجرهم ,فلم ٌتوبوا ولم ٌزدجروا ,طرحهم فً النار وهو ٌقول: لما رأٌت األمر أمراً منكراً أججت ناري ،ودعوت قنبرا وقنبر هو خادمه وؼبلمه. وقد اعترض علٌه ابن عباس بالحدٌث اآلخر ( :ال تعذبوا بعذاب هللا) ورأى أن الواجب أن ٌقتلوا ال أن ٌحرقوا .فكان خبلؾ ابن عباس الوسٌلة ال فً المبدأ . وكذلك نفذ أبو موسى ومعاذ القتل فً ٌهودي فً الٌمن أسلم ثم ارتد .وقال معاذ :قضاء هللا ورسوله ( متفق علٌه ). وروى عبد الرزاق :أن ابن مسعود أخذ قوما ً ارتدوا عن اإلسبلم من أهل العراق ,فكتب فٌهم إلى عمر .فكتب إلٌه :أن اعرض علٌهم دٌن الحق ,وشهادة أن ال إله إال اله ,فإن قبلوها فخل عنهم ,وإذا لم ٌقبلوها فاقتلهم ..فقبلها بعضهم فتركه ,ولم ٌقبلها بعضهم فقتله .
وروى عن أبى عمرو الشٌبانى أن المستورد العجلً تنصر بعد إسبلمه ,فبعث به عتبة بن فرقد إلى علً ,فاسستابه فلم ٌتب ،فقتله. ). وقد ذكر شٌخ اإلسبلم ابن تٌمٌة :أن النبً (صلى هللا علٌه وسلم) قبل توبة جماعة من المرتدٌن ,وأمر بقتل جماعة آخرٌن ,ضموا إلى الردة أموراً أخرى تتضمن األذى والضرر لئلسبلم والمسلمٌن .مثل أمره بقتل مقٌس بن حبابة ٌوم الفتح ,لما ضم إلى ردته قتل المسلم وأخذ المال ,ولم ٌتب قبل القدرة علٌه ,وأمر بقتل العرنٌٌن لما ضموا إلى ردتهم نحواً من ذلك .وكذلك أمر بقتل ابن خطل لما ضم إلى ردته السب وقتل المسلم .وأمر بقتل ابن أبى سرح ,لما ضم إلى ردته الطعن علٌه واالفتراء .وفرق ابن تٌمٌة بٌن النوعٌن :أن الردة المجردة تقبل معها التوبة ,والردة التً فٌها محاربة هللا ورسوله والسعً فً األرض بالفساد ال تقبل فٌها التوبة قبل القدرة . وقد قٌل :لم ٌنقل أن رسول هللا كان قتل مرتداً ,وما نقله ابن تٌمٌة ٌنقض هذه الدعوى .ولو صح ذلك فؤلن هذه الجرٌمة لم تظهر فً عهده .كما لم ٌعاقب أحداً عمل عمل قوم لوط .إذ لم تستعلن فً عهده (صلى هللا علٌه وسلم ). ومع أن الجمهور قالوا بقتل المرتد ,فقد ورد عن عمر بن الخطاب ما ٌخالؾ ذلك .روى عبد الرزاق والبٌهقى وابن حزم :أن أنسا ً عاد من ( تستر) فقدم على عمر ,فسؤله :ما فعل الستة الرهط من بكر بن وابل ,الذٌن ارتدوا من اإلسبلم ,ولحقوا بالمشركٌن ،قالٌ :ا أمٌر المإمنٌن ,قوم ارتدوا عن اإلسبلم ,ولحقوا بالمشركٌن ,قتلوا بالمعركة .فاسترجع عمر ( أي قال :إنا هلل وإنا إلٌه راجعون ) قال أنس :وهل كان سبٌلهم إال القتل ؟ قال :نعم ,كنت أعرض علٌهم اإلسبلم ,فإن أبوا أودعتهم السجن) . وهذا هو قول إبراهٌم النخعى ,وكذلك قال الثوري :هذا الذي نؤخذ به .وفى لفظ له ٌ :إجل ما رجٌت توبته . والذي أراه :أن العلماء ,فرقوا فً أمر البدعة بٌن المؽلظة والمخففة ,كما فرقوا فً المبتدعٌن بٌن الداعٌة وؼٌر الداعٌة .وكذلك ٌجب أن نفرق فً أمر الردة بٌن الردة الؽلٌظة والخفٌفة ,وفى أمر المرتدٌن بٌن الدامٌة وؼٌر الداعٌة . فما كان من الردة مؽلظا ً -كردة سلمان رشدي -وكان المرتد دامٌة إلى بدعته بلسانه أو بقلمه ,فاألولى فً التؽلٌظ فً العقوبة ،واألخذ بقول جمهور األمة ,وظاهر األحادٌث ,استبصاالً للشر ,و سداً لباب الفتنة . وإال فٌمكن األ خذ بقول النخعى الثوري وهو ما روى عن الفاروق عمر .إن المرتد الدامٌة إلى الردة لٌس مجرد كافر باإلسبلم ,بل هو حرب علٌه وعلى أمته ,فهو مندرج ضمن الذٌن ٌحاربون هللا ورسوله وٌسعون فً األرض فسادا .والمحاربة -كما قال ابن تٌمٌة -نوعان :محاربة بالٌد , ومحارب باللسان ,والمحاربة باللسان فً باب الدٌن ,قد تكون أنكى من المحاربة بالٌد ,ولذا كان النبً ة علٌه الصبلة والسبلم ٌقتل من كان ٌحاربه باللسان ,مع استبقابه بعض من حاربه بالٌد .وكذلك اإلفساد قد ٌكون بالٌد ،وقد ٌكون باللسان ,وما ٌفسده اللسان من األدٌان أضعاؾ ما تفسده الٌد ..فثبت أن محاربة هللا ورسوله باللسان أشد ,والسعً فً األرض بالفساد باللسان أإكد .والقلم أحد اللسانٌن ,كما قال الحكماء ,بل ربما كان القلم أشد من اللسان وأنكى ,وال سٌما فً عصرنا ،إلمكان نشر ما ٌكتب على نطاق واسع . هذا إلى أن المرتد محكوم علٌه باإلعدام األدبً من الجماعة المسلمة ,فهو محروم من والبها وحبها ومعاونتها ,فاهلل تعالى ٌقول ( :ومن ٌتولهم منكم فإنه منهم ) ،وهذا أشد من القتل الحسً عند ذوى العقول والضمابر من الناس .
سر التشديد في عقوبة الردة وسر هذا التشدٌد فً مواجهة الردة :أن المجتمع المسلم ٌقوم -أول ما ٌقوم -على العقٌدة واإلٌمان , فالعقٌدة أساس هوٌته ,ومحور حٌاته ,ومحور وجوده ولهذا ال ٌسمح ألحد أن ٌنال من هذا األساس , أو ٌمس هذه الهوٌة .ومن هناكانت ( الردة المعلنة ) كبرى الجرابم فً نظر اإلسبلم ! ألنها خطر على شخصٌة المجتمع وكٌانه المعنوي ,وخطر على الضرورٌة األولى من الضرورٌات الخمس ( الدٌن والنفس والنسل والعقل والمال ) والدٌن أولها ,ألن المإمن ٌضحً بنفسه ووطنه وماله من أجل دٌنه . وإلسبلم ال ٌكره أحداً على الدخول فٌه ،وال الخروج من دٌنه إلى دٌن ما ،ألن اإلٌمان المعتد هو ما كان عن اختٌار واقتناع .وقد قال تعالى فً القرآن المكً( :أفؤنت تكره الناس حتى ٌكونوا مإمنٌن) ،وفً القرآن المدنً( :ال إكراه فً الدٌن ،قد تبٌن الرشد من الؽً). ً ولكنه ال ٌقبل أن ٌكون الدٌن ألعوبةٌ ،دخل فٌه الٌوم وٌخرج منه ؼدا ،على طرٌقة الٌهود الذٌن قالوا( : آمنوا بالذي أنزل على الذٌن آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم ٌرجعون). وال ٌعقاب اإلسبلم بالقتل المرتد الذي ال ٌجاهر بردته ،وال ٌدعو إلٌها ؼٌره ،وٌدع عقابه إلى اآلخرة إذا مات على كفره ،كما قال تعالى( :ومن ٌرتدد منكم عن دٌنه فٌمت وهو كافر فؤولبك حبطت أعمالهم فً الدنٌا واآلخرة ،وأولبك أصحاب لنار ،هم فٌها خالدون) .وقد ٌعاقبه عقوبة تعزٌرٌة مناسبة. إنما ٌعاقب المرتد المجاهر ،وبخاصة الداعٌة للردة ،حماٌة لهوٌة المجتمع ،وحفاظا ً على أسسه ووحدته، وال ٌوجد مجتمع فً الدنٌا إال وعنده أساسٌات ال ٌسمح بالنٌل منها ،مثل :الهوٌة واالنتماء والوالء ،فبل ٌقبل أي عمل لتؽٌٌر هوٌة المجتمع ،أو تحوٌل والبه ألعدابه ،وما شابه ذلك .ومن أجل هذا :اعتبرت الخٌانة للوطن ،ومواالة أعدابه -باإللقاء بالمودة إلٌهم ،وإفشاء األسرار لهم -جرٌمة كبرى .ولم ٌقل أحد بجواز إعطاء المواطن حق تؽٌٌر والبه الوطنً لمن ٌشاء ،ومتى شاء. والردة لٌست مجرد موقؾ عقلً ،ببل هً أٌضا ً تؽٌر للوالء ،وتبدٌل للهوٌة ،وتحوٌل لبلنتماء .فالمرتد ٌنقل والءه وانتماءه من أمة ألخرى ،ومن وطن إلى وطن آخر ،أي من دار اإلسبلم إلى دار أخرى. فهو ٌخلع نفسه من أمة اإلسبلم ،التً كان عضواً فٌجسدها ،وٌنضم بعقله وقلبه وإرادته إلى خصومها. وٌعبر عن ذلك الحدٌث النبوي بقوله ( :التارك لدٌنه ،المفارق للجماعة) .كما فً حٌث ابن مسعود المتفق علٌه .وكلمة (المفارق للجماعة) وصؾ كاشؾ ال منشا ،فكل مرتد عن دٌنه مفارق للجماعة. ومهما ٌكن من جرمه ،فنحن ال نشق عن قلبه ،وال نتسور علٌه بٌته ،وال نحاسبه إال على ما ٌعلنه جهرة :بلسانه أو قلم ه أو فعله ،مما ٌكون كفراً بواحا ً صرٌحا ً ال مجال فٌه لتؤوٌل أو احتمال ،فؤي شك فً ذلك ٌفسر لمصلحة المتهم بالردة .إن التهاون فً عقوبة المرتد المعالن الداعٌةٌ ،عرض المجتمع كله للخطر، وٌفتح علٌه باب فتنة ال ٌعلم عواقبها إال هللا سبحانه ،فبل ٌلبث المرتد أن ٌؽرر بؽٌره وخصوصا ً من الضعفاء والبسطاء من الناس وتتكون جماعة مناوبة لؤلمة تستبٌح لنفسها االستعانة بؤعداء األمة علٌها، وبذلك تقع صراع وتمزق فكري واجتماعً وسٌاسً ،قد ٌتطور إلى صاع دموي بل حرب أهلٌة تؤكل األخضر والٌابس .وهذا ما حدث بالفعل فً أفؽانستان :مجموعة محدودة مرقوا من دٌنهم ،واعتنقوا العقٌدة الشٌوعٌة بعد أن درسوا فً روسٌا ،وجندوا فً صفوؾ الحزب الشٌوعً ،وفً ؼفلة من الزمن وثبوا على الحكم ،وطفقوا ٌؽٌرون هوٌة المجتمع كله ،بما تحت أٌدٌهم من سلطان وإمكانات .ولم ٌسلم أبناء الشعب األفؽانً لهم ،بل قاوموا ثم قاوموا ،و اتسعت المقاومة التً كونت الجهاد األفؽانً الباسل ضد المرتدٌن الشٌوعٌٌن الذٌن لم ٌبالوا أن ٌستنصروا على أهلٌهم وقومهم بالروسٌ ،دكون وطنهم بالدبابات وٌقذفونه بالطابرات ،وٌدمرونه وكان ضحاٌا المبلٌٌن من القتلى والمعوقٌن والمصابٌن
والٌتامى واألرامل والثكالى ،والخراب الذي أصاب الببلد وأهلك الزرع والضرع. كل هذا لم ٌكن إال أثراً للؽفلة عن المرتدٌن ،والتهاون فً أمرهم والسكوت على جرٌمتهم فً أول األمر .ولو عوقب هإالء المارقون الخونة ،قبل أٌ ،ستفحل أمرهم ،لوقً الشعب والوطن شرور هذه الحرب الضروس وآثارها المدمرة على الببلد والعباد.
أمور مهمة تجب مراعاتها والذي أرٌد أن أذكره هنا جملة أمور : األول :أن الحكم بردة مسلم عن دٌنه أمر خطٌر جداًٌ ،ترتب علٌه حرمانه من كل والء وارتباط باألسرة والمجتمع ،حتى إنه ٌفرق بٌنه وبٌن زوجة وأوالده ،إذ ال ٌحل لمسلمة أن تكون فً عصمة كافر ،كما أن أوالده لم ٌعد مإتمنا ً علٌهم ،فضبلً عن العقوبة المادٌة التً أجمع علٌها الفقهاء فً جملتها. لهذا وجب االحتٌاط كل االحتٌاط عند الحكم بتكفٌر مسلم ثبت إسبلمه ألنه مسلم بٌقٌن ،فبل ٌزال الٌقٌن بالشك. ومن أشد األمور خطراً :تكفٌر من لٌس بكافر ،وقد حذرت من ذلك السنة النبوٌة ،أبلػ التحذٌر .وقد كتبت فً ذلك رسالة (ظاهرة الؽلو فً التكفٌر) لمقاومة تلك الموجة العاتٌة .التً انتشرت فً وقت ما: التوسع فً التكفٌر ،وال ٌزال ٌوجد من ٌعتنقها. الثانً :أن الذي ٌملك الفتوى بردة امرئ مسلم ،هم الراسخون فً العلم من أهل االختصاص الذٌن ٌمٌزون بٌن القطعً والظنً بٌن المحكم والمتشابه ،بٌن ما ٌقبل التؤوٌل وبٌن ما ال ٌقبل التؤوٌل ،فبل ٌكفرون إال بما ال ٌجدون له مخرجا ً مثل :إنكار المعلوم من الدٌن بالضرورة ،أو وضعه موضع السخرٌة من عقٌدة أو شرٌعة ،ومثل سب هللا تعالى ورسوله وكتابه عبلنٌة ،ونحو ذلك .مثال ذلك :ما أفتى به العلماء من ردة سلمان رشدي ،ومثله رشاد خلٌفة الذي بدأ بإنكار السنة ثم أنكر آٌتٌن من القرآن فً آخر سورة التوبة ثم ختم كفره بدعوى أنه رسول هللا ،قاببلً إن محمد (صلى هللا علٌه وسلم) خاتم النبٌٌن ،ولٌس خاتم المرسلٌن!! وقد صدر بذلك قرار من مجلس المجتمع الفقهً لرابطة العالم اإلسبلمً. وال ٌجوز ترك مثل هذا األمر إلى المتسرعٌن أو الؽبلة ،أو قلٌلً البضاعة من العالم ،لٌقولوا على هللا ما ال ٌعلمون. الثالث :أن الذي ٌنفذ هذا هو ولى األمر الشرعً ,بعد حكم القضاء اإلسبلمً المختص ,الذي ال ٌحتكم إال إلى شرع هللا عز وجل ,وال ٌرجع إال إلى المحكمات البٌنات من كتاب اله تعالى وسنة رسوله ( صلى هللا علٌه وسلم) ,وهما اللذان ٌرجع إلٌهما إذا اختلؾ الناس ( :فإن تنازعتم فً شا فردوه إلى هللا والرسول إن كنتم تإمنون باهلل والٌوم اآلخر ) . واألصل فً القاضً فً اإلسبلم أن ٌكون من أهل االجتهاد ,فإذا لم ٌتوافر فٌه ذلك استعان بؤهل االجتهاد ,حتى ٌبٌن له الحق .وال ٌقضى على جهل ,أو ٌقضى بالهوى ,فٌكون من قضاة النار .
الرابع :أن جهور الفقهاء قالوا بوجوب استتابة المرتد ,قبل تنفٌذ العقوبة فٌه .بل قال شٌخ اإلسبلم ابن تٌمٌة فً كتاب (الصارم المسلول على شاتم الرسول ) :هو إجماع الصحابة رضً هللا عنهم ,وبعض الفقهاء حددها بثبلثة أٌام ,وبعضهم بؤقل ,وبعضهم بؤكثر ,ومنهم من قال ٌ :ستتاب أبداً . واستثنى بعضهم الزندٌق ,ألنه ٌظهر ؼٌر ما ٌبطن ,فبل توبة له ,وكذلك ساب الرسول ( صلى هللا علٌه وسلم) ,لحرمة رسول هللا وكرامته ,فبل تقبل منه توبة ,وألؾ ابن تٌمٌة كتابه فً ذلك . والمقصود بذلك إعطاإه الفرصة لٌراجع نفسه ,عسى أن تزول منه الشبهة ,وتقوم علٌه الحجة ,إن كان ٌطلب الحقٌقة بإخبلص ,وان كان له هوى ,أو ٌعمل لحساب آخرٌن ٌ ,ولٌه هللا ما تولى . ومن المعاصرٌن من قال :إن قبول التوبة إلى هللا ولٌس إلى اإلنسان ,ولكن هذا فً أحكام اآلخرة .أما فً أحكام الدنٌا فنحن نقبل التوبة الظاهرة ,ونقبل اإلسبلم الظاهر ,وال ننقب عن قلوب الخلق ,فقد أمرنا أن نحكم بالظاهر ,وهللا ٌتولى السرابر .وقد صح فً الحدٌث أن من قالوا ( :ال إله إال هللا ) عصموا دماءهم وأموالهم ,وحسابهم على هللا تعالى ٌ .عنى فٌما انعقدت قلوبهم .ومن هنا نقول :إن إعطاء عامة األفراد حق الحكم على شخص ما بالردة ,ثم الحكم علٌه باستحقاق العقوبة ,وتحدٌدها بؤنها القتل ال ؼٌر ,وتنفٌذ ذلك ببل هوادة ٌ -حمل خطورة شدٌدة على دماء الناس وأموالهم وأعراضهم ,ألن مقتضى هذا :أن ٌجمع الشخص العادي -الذي لٌس له علم أهل الفتوى ,وال حكمة أهل القضاء ,وال مسإولٌة أهل التنفٌذ -سلطات ثبلثا ً فً ٌده ٌ :فتى -وبعبارة أخرى ٌ :تهم -وٌحكم وٌنفذ ,فهو اإلفتاء واالدعاء والقضاء والشرطة جمٌعا !!
اعتراضات مردودة لبعض المعارضين ولقد اعترض بعض الكاتبٌن فً عصرنا -من ؼٌر أهل العلم الشرعً -على عقوبة الردة بؤنها لم ترد فً القرآن الكرٌم ،ولم ترد إال فً حدٌث من أحادٌث اآلحاد ،وحدٌث اآلحاد ال ٌإخذ به فً الحدود ،فهم لذلك ٌنكرونها. وهذا الكالم مردود من عدة أوجه : أوالً :أن السنة الصحٌحة مصدر لؤلحكام العملٌة باتفاق جمٌع المسلمٌن ،وقد قال تعالى (:قل أطٌعوا هللا وأطٌعوا الرسول) وقد صحت األحادٌث بقتل المرتد ,ونفذه الصحابة فً عهد الراشدٌن . والقول بؤن أحادٌث اآلحاد ال ٌإخذ بها فً الحدود ؼٌر مسلم ،فجمٌع المذاهب المتبوعة أخذت بؤحادٌث اآلحاد ,فً عقوبة شارب الخمر ,مع أن فً عقوبة الردة أصح وأوفر أؼزر مما ورد فً عقوبة شارب الخمر . ولو صح ما زعمه هإالء :أن أحادٌث اآلحاد ال ٌعمل بها فً األحكام ,لكان معناه :إلؽاء السنة من مصدرٌة التشرٌع اإلسبلمً .أو على األقل :إلؽاء - % 95إن لم نقل - %99منها .ولم ٌعد هناك معنى لقولنا :اتباع الكتاب و السنة . فمن المعروؾ لدى أهل العلم :أن أحادٌث اآلحاد هً الجمهرة العظمى من أحادٌث األحكام .والحدٌث المتواتر -الذي ٌقابل اآلحاد -نادراً جداً ،حتى زعم بعض أبمة الحدٌث أنه ال ٌكاد ٌوجد ،كما ذكر ذلك اإلمام ابن صبلح فً مقدمته الشهٌرة فً علوم الحدٌث. على أن كثٌراً ممن ٌتناولون هذا األمر ال ٌدركون معنى حدٌث اآلحاد وٌحسبون أنه الذي رواه واحد
فقط ،وهذا خطؤ .فالمرتد بحدٌث اآلحاد :ما لم ٌبلػ درجة التواتر ،وقد ٌروٌه اثنان أ ,ثبلثة أو أربعة أو أكثر من الصحابة وأضعافهم من التابعٌن . وحدٌث قتل المرتد قد رواه جم ؼفٌر من الصحابة ،ذكرنا عدداً منهم فهو من األحادٌث المستفٌضة المشهورة. ثانٌا ً :أن من مصادر التشرٌع المعتمدة :اإلجماع ,وكد أجمع فقهاء األمة من كل المذاهب ( السنٌة وؼٌر السنٌة ) ,ومن خارج المذاهب ,على عقوبه المرتد ,وأوشكوا أن ٌتفقوا على أنها القتل ,إال ما روى عن عمر والنخعى والثورى ,ولكن العقوبة -فً الجملة -مجمع علٌها . ثالثا ً :أن من علماء السلؾ من قال :إن آٌة المحاربة المذكورة فً سورة المابدة تختص بالمرتدٌن , وهى قوله تعالى ( إنما جزاء الذٌن ٌحاربون هللا ورسوله وٌسعون فً األرض فسادا أن ٌقتلوا أو ٌصلبوا ) اآلٌة . وممن قال بؤن هذه اآلٌة فً المرتدٌن أبو قبلبة وؼٌره .وقد نقلنا من كبلم ابن تٌمٌة :أن محاربة هللا ورسوله باللسان أشد من المحاربة بالٌد ,وكذلك اإلفساد فً األرض .كما ٌزٌد ذلك :أن األحادٌث التً قررت استباحة دم المسلم بإحدى ثبلث ,ذكر بعضها ( ورجل خرج محاربا ً له ورسوله ,فإنه ٌقتل أو ٌصلب أو ٌنفى من األرض ) ,كما فً حدٌث عابشة بدالً من عبارة ( ارتد بعد إسبلم ) أو ( التارك لدٌنه ) ...إلخ .وهو ما ٌدل على أن اآلٌة تشمل فٌما تشمل المرتدٌن الداعٌن إلى ردتهم . وفى القرآن ( ٌا أٌها الذٌن آمنوا من ٌرتد منكم عن دٌنه فسوؾ ٌؤتً هللا بقوم يحبهم وٌحبونه أذلة على المإمنٌن أعزة على الكافرٌن ٌجاهدون فً سبٌل هللا وال ٌخافون لومة البم ) .وهذا ٌدل على أن هللا هٌؤ للمرتدٌن من ٌقاومهم ,من المإمنٌن المجاهدٌن الذٌن وصفهم هللا بما وصفهم به ,مثل أبى بكر والمإمنٌن معه ,الذٌن أنقذوا اإلسبلم من فتنة الردة .وكذلك جاءت مجموعة من اآلٌات فً شؤن المنافقٌن ,تبٌن أنهم حموا أنفسهم من القتل بسبب كفرهم عن ط ٌق األٌمان الكاذبة ,والحلؾ الباطل إلرضاء المإمنٌن ,كما فً قوله تعالى ( :اتخذوا أٌمانهم جنة ) ٌ ( ,حلفون لكم لترضوا عنهم ) اآلٌة، ولؾ قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسبلمهم ) اآلٌة ,فهم ٌنكرون أنهم كفروا , ( ٌحلفون باهلل ما قالوا د وٌإكدون ذلك بؤٌمانهم ,وٌحلفون أنهم لم ٌتكلموا بكلمة الكفر ,فدل ذلك أن الكفر إذا ثبت علٌهم بالبٌنة ,فإن جنتهم تكون قد انخزمت ,وأٌمانهم الفاجرة لم تؽن عنهم شٌبا).
ردة السلطان وأخطر أنواع الردة :ردة السلطان ,ردة الحكم ,الذي ٌفترض فٌه أن ٌحرس عقٌدة األمة ,وٌقاوم الردة ,وٌطارد المرتدٌن ,وال ٌبقى لهم من باقٌة فً رحاب المجتمع المسلم ,فإذا هو نفسه ٌقود الردة , سراً وجهراً ,وٌنشر الفسوق سافراً ومقنعا ً ,وٌحمى المرتدٌن ,وٌفتح لهم النوافذ واألبواب ,وٌمنحهم األوسمة واأللقاب ,وٌصبح األمر كما قال المثل :ال( حامٌها حرامٌها ) ،أو كما قال الشاعر العربً : وراعى الشاة ٌحمى الذنب عنها فكٌؾ إذا الرعاة لها ذباب ؟!!
نرى هذا الصنؾ من الحكام ,موالٌا ألعداء هللا ,معادٌا ً ألولٌاء هللا .مستهٌنا بالعقٌدة ,مستخفا بالشرٌعة ,ؼٌر موقر لؤلوامر والنواهً اإللهٌة والنبوٌة ,مهٌنا لكل مقدسات األمة ورموزها ,من الصحابة األبرار ,واآلل األطهار ,والخلفاء األخٌار ,واألبمة األعبلم ,وأبطال اإلسبلم ,وهإالء ٌعتبرون التمسك بفرابض اإلسبلم جرٌمة وتطرفا ً ,مثل الصبلة فً المساجد للرجال ,والحجاب للنساء .وال ٌكتفون بذلك ,بل ٌعملون وفق فلسفة ( تجفٌؾ المنابع ) التً جاهروا بها ,فً التعلٌم واإلعبلم والثقافة ,حتى ال تنشؤ عقلٌة مسلة ,وال نفسٌة مسلمة .وال ٌقفون عند هذا الحد ,بل ٌه ٌطاردون الدعاة الحقٌقٌٌن ,وٌؽلقون األبواب فً وجه كل دعوة أو حركة صادقة ,ترٌد أن ةتجدد الدٌن , وتنهض بالدنٌا على أساسه .والؽرٌب أن بعض هذه الفبات -مع هذه الردة الظاهرة -تحرص على أن ٌبقى لها عنوان اإلسبلم ,لتستؽله فً هدم اإلسبلم ,ولتعاملهم األمة على أنهم مسلمون ,وهم ٌقوضون بنٌانها من الداخل .وبعضها تجتهد أن تتمسح بالدٌن ,بتشجٌع التدٌن الزابؾ ,وتقرٌب الذٌن ٌحرقون لها البخور من رجاله ,ممن سماهم الناس ( علماء السلطة ,وعمبلء الشرطة ) وهنا ٌتعقد الموقؾ , فمن الذي ٌقٌم الحد على هإالء بل من الذي ٌفتى بكفرهم أوال ,وهو كفر بواح كما سماه الحدٌث , ، ومن الذٌن ٌحكم بردتهم وأجهزة اإلفتاء الرسمً والقضاء الرسمً فً أٌدٌهم ؟ لٌس هناك إال ( الرأي العام ) المسلم ,والضمٌر اإلسبلمً العام ,الذي ٌقود األحرار من العلماء والدعاة وأهل الفكر ,والذي ال ٌلبث .إذا سدت أمامه األبواب ,وقطعت دونه األسباب -أن ٌتحول إلى بركان ٌنفجر فً وجوه الطؽاة المرتدٌن .فلٌس من السهل أن ٌفرط المجتمع المسلم فً هوٌته ,أو ٌتنازل عن عقٌدته ورسالته ,التً هً مبرر وجوده ,وسر بقابه . وقد جرب ذلك االستعمار الؽربً الفرنسً فً الجزابر ,واالستعمار الشرقً الروسً فً الجمهورٌات اإلسبلمٌة فً آسٌا ,ورؼم قسوة التجربة وطولها هنا وهناك ,لم تستطع اجتثاث جذور الهوٌة اإلسبلمٌة ,والشخصٌة اإلسبلمٌة ,وذهب االستعمار والطؽٌان ,وبقى اإلسبلم ,والشعب المسلم . ؼٌر أن الحرب التً شنت على اإلسبلم ودعاته من بعض الحكام ( الوطنٌٌن ) العلمانٌٌن والمتؽربٌن فً بعض األقطار -بعد استقبللها -كانت أحد عداوة ,وأشد ضراوة ,من حرب المستعمرٌن .
الردة المغلفة وال ٌفوتنا هنا أن ننبه على نوع من الردة ال ٌتبجح تبجح المرتدٌن المعالنٌن ,فهو أذكى من أن ٌعلن الكفر بواحا ً صراحا ً ,بل ٌؽلفه بؤؼلفة شتى ,وٌتسلل به إلى العقول تسلل األسقام فً األجسام ,ال تراه حٌن ٌؽزو الجسم ,ولكن بعد أن ٌبدو مرضه ,وٌظهر عرضه ,فهو ال ٌقتل بالرصاص ٌدوى ,بل بالسم البطًء ٌ ,ضعه فً العسل والحلوى .وهذا ٌدركه الراسخون فً العلم ,والبصراء فً الدٌن , ولكنهم ال ٌملكون أن ٌصنعوا شٌبا أمام مجرمٌن محترفٌن ,ال ٌمكنون من أنفسهم ,وال ٌدعون للقانون فرصة لٌمسك بخناقهم .فهإالء هم (المنافقون) الذٌن هم فً الدرك األسفل من النار . إنها ( الردة الفكرٌة) التً تطالعنا كل ٌوم آثارها ! فً صحؾ تنشر وكتب توزع ,ومجبلت تباع , وأحادٌث تذاع ,وبرامج تشاهد ,وتقالٌد تروج ,وقوانٌن تحكم .وهذه الردة المؽلفة -فً رأًٌ -أخطر من الردة المكشوفة ,ألنها تعمل باستمرار ,وعلى نطاق واسع ,وال تقاوم كما تقاوم الردة الصرٌحة, التً تحدث الضجٌج ,وتلفت األنظار ,وتثبر الجماهٌر .إن النفاق أشد خطراً من الكفر الصرٌح .
ونفاق عبد هللا بن أبى ومن تبعه من منافقً المدٌنه ,أخطر على اإلسبلم من كفر أبى جهل ومن تبعه من مشركً مكة .ولهذا ذم القرآن فً أوابل سورة البقرة( :الذٌن كفروا ) أي المصرحٌن بالكفر فً آٌتٌن اثنتٌن فقط ,وذكر المنافقٌن فً ثبلث عشرة آٌه .إنها الردة التً تصاحبنا وتماسٌنا ,وراوحنا وتعادٌنا ,وال تجد من ٌقاومها .إنها -كما قال شٌخ اإلسبلم الندوى -ردة وال أبا بكر لها إن الفرٌضة المإكد هنا ,هً :محاربتهم بمثل أسلحتهم ,الفكر بالفكر حتى تسقط أوراقهم ,وتسقط أقنعهم ,وزال شبهاتهم بحجج أهل الحق .صحٌح أنهم ممكنون من أوسع المنابر اإلعبلمٌة :المروءة والمسموعة والمربٌة ,ولكن قوة الحق الذي معنا ,ورصٌد اإلٌمان فً قلوب شعوبنا وتؤٌٌد هللا تعلى لنا ،كلها كفٌلة أن تهدم باطلهم على رإوسهم ( :بل نقذؾ بالحق على الباطل فٌدمؽه فإذا هو زاهق) ( ،فؤما الزبد فٌذهب جفاء ،وأما ما ٌنفع الناس فٌمكث فً األرض)… وصدق هللا العظٌم.
والمقوم الثانً للمجتمع المسلم -بعد العقٌدة -هو الشعابر التً فرضها هللا على المسلمٌن ,وكلفهم القٌام بها ,لٌتقربوا بها إلٌه ,وٌبتؽوا بها رضوانه ,وٌربحوا مثوبته ,وٌعبروا بها عن حقٌقة إٌمانهم به , وٌقٌنهم بلقابه وحسابه . وأظهر هذه الشعابر هً الفرابض األربع التً عرفت بؤنها -مع الشهادتٌن -أركان اإلسبلم ومبانٌه العظام ,والتً خصها الفقها ء باسم « العبادات » . وفى التنوٌه بؤمرها جاء الحدٌث المشهور ( :بنى اإلسبلم على خمس :شهادة أن ال إله إال هللا وأن محمد -رسول هللا ,وإقام الصبلة ,وإٌتاء الزكاة ,وصوم رمضان ,وحج البٌت لمن استطاع إلٌه سبٌبل ) وأكدها حدٌث جبرٌل وؼٌره . ولكنى أضٌؾ إلى هذه األربع فرٌضتٌن أساسٌتٌن أكد اإلسبلم أمرهما ,وشدد الحدث علٌهما ,ونوّ ه بمنزلتهما عند هللا ,فهما جدٌرتان أن تقدا من دعابم اإلسبلم وشعابره الكبرى .وهما :فرٌضة األمر بالمعروؾ والنهى عن المنكر , وفرٌضة الجهاد فً سبٌل هللا . ً وبذلك تكون الفرابض األساسٌة والشعابر الكبرى العملٌة ستا ,وهى : .1 .2 .3 .4 .5 .6
إقامة الصالة . إٌتاء الزكاة . صوم رمضان . حج البٌت . األمر بالمعروف والنهى عن المنكر . الجهاد فً سبٌل هللا .
وإنما سمٌت هذه الفرابض شعابر ,ألنها عبلمات فارقة ,وظاهرة ,تتمٌز بهاحٌاة الفرد المسلم من ؼٌر المسلم ,كما تتمٌز بها حٌاة المجتمع المسلم من ؼٌر المسلم . وإقامة هذه الشعابر وتعظٌمها دلٌل على قوة العقٌدة فً القلوب ,واستقرارها فً حناٌا الصدور .قال تعالى ( :ذلك ومن ٌعظم شعابر هللا فإنها من تقوى القلوب) .وسؤكتفً هنا بالحدٌث عن ثبلث من هذه العبادات أو الفرابض ,وهى :الصبلة والزكاة ,واألمر بالمعروؾ والنهى عن المنكر .فلٌس المراد هنا هو االستقصاء .
الصــالة أولى هذه الفرابض والشعابر هً الصبلة ,فهً عمود اإلسبلم ,وفرٌضته الٌومٌة المتكررة ,وأول ما ٌحاسب المإمن علٌه ٌوم القٌامة ,وهى الفٌصل األول بٌن اإلسبلم والكفر ,وبٌن المإمنٌن والكفار . وهذا ما أكده الرسول -صلى هللا علٌه وسلم -فً أحادٌثه ( :بٌن الرجل وبٌن الكفر ترك الصبلة )، (العهد الذي بٌننا وبٌنهم :الصبلة ,فمن تركها فقد كفر ) .وكان هذا المعنى واضحا ً تمام الوضوح لدى الصحابة رضوان هللا علٌهم ,قال عبد هللا بن شقٌق العقٌلى ( :كان أصحاب رسول هللا -ال ٌرون شٌبا من األعمال تركه كفر ؼٌر الصبلة ) .وال ؼرو أن جعل القرآن الصبلة فاتحة خصال المإمنٌن المفلحٌن وخاتمتها ,فهو فً البدء ٌقول ( قد أفلح المإمنون ،الذٌن هم فً صبلتهم خاشعون ) ,وفى الختام ٌقول ( :والذٌن هم على صلواتهم ٌحافظون) داللة على مكانة الصبلة فً حٌاة الفرد المسلم والمجتمع المسلم .كما جعل القرآن إضاعة الصبلة من صفات المجتمعات الضالة المنحرفة ,وأما التمرد علٌها والسخرٌة بها ,فهو من سمات المجتمع الكافر ٌ .قول سبحانه ( :فخلؾ من بعدهم خلؾ أضاعوا الصبلة واتبعوا الشهوات ,فسوؾ ٌلقون ؼٌا ً) ,وٌقول فً شؤن الكفرة المكذبٌن › -وإذا -قٌل لهم اركعوا ال ٌركعون ,وفى آٌة أخرى (:وإذا نادٌتم إلى الصبلة اتخذوها هزوا ولعبا ,وذلك بؤنهم قوم ال ٌعقلون) .إن المجتمع المسلم مجتمع ربانً الؽاٌة والوجهة ,كما أنه رمانً النشؤة والمصدر .مجتمع موصول الحبال باهلل ,مرتبط بعروته الوثقى ,والصبلة هً العبادة الٌومٌة التً تجعل المسلم دابما ً على موعد مع هللا ,كلما ؼرق فً لجج الحٌاة جاءت الصبلة فانتشلته ,وكلما أنسته مشاؼل الدنٌا ربه جاءت الصبلة فذكرته ,وكلما ؼشٌه دنس الذنوب ,أو ؼٌر قلبه تراب الؽفلة ,جاءت الصبلة فطهرته ,فهً ( الحمام) الروحً الذي تؽتسل فٌه األرواح ,وتتطهر فٌه القلوب كل ٌوم خمسً مرات ,فبل ٌبقى من درنها شا . روى ابن مسعود عن النبً -صلى هللا علٌه وسلم ( : -تحترقون تحترقون ,فإذا صلٌتم الصبح ؼسلتها , ثم تحترقون تحترقون ,فإذا صلٌتم الظهر ؼسلتها ,ثم تحترقون تحترقون ,فإذا صلٌتم 1لعصر ؼسلتها ,ثم تحترقون تحترقون ,فإذا صلٌتم المؽرب ؼسلتها ,ثم تحترقون تحترقون ,فإذا صلٌتم العشاء ؼسلتها ,ثم تنامون فبل تكتب علٌكم حتى تستٌقظوا . وامتازت الصبلة اإلسبلمٌة بالجماعة ,كما امتازت باألذان .فالجماعة فً الصبلة إما فرض كفاٌة , كما ٌقول أكثر األبمة ,وإما فرض عٌن كما ٌقول اإلمام أحمد .وألهمٌة الجماعة هم النبً -صلى هللا علٌه وسلم , -أن ٌحرق على قوم بٌوتهم بالنار ,ألنهم كانوا ٌتخلفون عن الجماعات وٌصلون فً بٌوتهم .وقال ابن مسعود فً الجماعة ( :لقد رأٌتنا وما ٌتخلؾ عنها إال مرٌض أو منافق معلوم النفاق ) .وألهمٌه صبلة الجماعة حرص اإلسبلم على إقامتها ولو فً أثناء الحرب . فشرع ( صبلة الخوؾ) وهى صبلة خاصة بالحرب والمعارك ,تإدى خلؾ إمام واحد على مرحلتٌن : تصلى فً المرحلة األولى طابفة من المقاتلٌن ركعة وراء اإلمام ثم تنصرؾ إلى مواقعها العسكرٌة ,
وتكمل صبلتها هناك ,ثم تؤت الطابفة التً كانت فً مواجهة العدو فتصلى بقٌة الصبلة خلؾ اإلمام . كل هذا مع لبس السبلح وأخذ الحذر .ولم هذا كله ؟ لببل ٌفوت أحدا من المجاهدٌن فضل الجماعة التً ٌحرص علٌها اإلسبلم ,فلم ٌبال بتقسٌم الصبلة وإباحة كثٌر من الحركات والمشً من أجل الحفاظ لتقم طابفة منهم علٌها .وقد جاءت هذه الصبلة فً القرآن الكرٌم ( :وإذا كنت فٌهم فؤقمت لهم الصبلة ؾ معك وما أخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فٌكونوا من ورابكم ولتؤت طابفة أخرى لم ٌصلوا فلٌصلوا معك ولٌؤخذوا حذرهم وأسلحتهم ,ود الذٌن كفروا لو تؽفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فٌمٌلون علٌكم مٌلة واحدة ,وال جناح علٌكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم ,وخذوا حذركم, إن هللا أعد للكافرٌن عذابا ً مهٌنا ً) . وهذا كما ٌدلنا على منزلة الجماعة ٌ ,دلنا على منزلة الصبلة نفسها ,فاستعار المعارك ,وتربص العدو ,واالشتؽال بالجهاد فً سبٌل هللا ,ال ٌسقطالصبلة أو ٌشؽل عنها ,وإنما ٌجب أن تإدى بالصورة المستطاعة ,ولو ببل ركوع وال سجود ,وال استقبال قبله ,عند االلتحام ,وٌكفى عند الضرورة النٌة وما ٌمكن من التبلوة واإلشارة والذكر ,قال تعالى ( :حافظوا على الصلوات والصبلة الوسطى وقوموا هلل قانتٌن ،فإن خفتم فرجاالً أو ركبانا ,فإذا أمنتم فاذكروا هللا كما علمكم ما لم تكونوا تعلون) ,ومعنى ( :فرجاالً أو ركبانا ) :أي صلوا مشاة أو راكبٌن ,مستقبلٌن القبلة أو ؼٌر مستقبلٌها كٌؾ استطعتم . وٌنطبق هذا على راكبً الطابرات والدبابات والمصفحات ونحوها . ب األصوات كل ٌوم خمس مرات وامتازت الصبلة اإلسبلمٌة باألذان :ذلك النداء الربانً ,الذي ترتفع ه ,معلمة بدخول وقت الصبلة معلنة بالعقابد الربٌسٌة والمبادئ األساسٌة لئلسبلم ( :هللا أكبر -أربع مرات ,أشهد أن ال إله إال هللا ,أشهد أن محمدا رسول هللا -مرتٌن ,حً على الصبلة -مرتٌن ,على الفبلح -مرتٌن ,هللا أكبر -مرتٌن ,ال إله إال هللا ) . هذا األذان بمنزلة النشٌد القومً ألمة اإلسبلم ,تعلو به صٌحات المإذنٌن فٌجاوبهم المإمنون فً كل مكان ,فٌرددون معهم ألفاظ األذان ذاتها ,تؤكٌدالمعانٌها فً األنفس ,وتثبٌتا لها فً العقول والقلوب . والصبلة -كما شرعها اإلسبلم -لٌست مجرد صلة روحٌة فً حٌاة المسلم . إنها -بما سن لها من األذان واإلقامة ,وما شرع لها من التجمع واالنتظام وما أقٌم لها من بٌوت هللا ، وما اشترط لها من النظافة والطهارة ,وأخذ الزٌنة ,واستقبال القبلة ,وتحدٌد المواقٌت ,وما رجب فٌها من حركات وتبلوة وأقوال وأفعال ,تفتتح بالتكبٌر وتختتم بالتسلٌم -بهذا كله أصبحت أكثر من عبادة مجردة ,إنها نظام حٌاة ,ومنهج تربٌة وتعلٌم متكامل ٌ .شمل األبدان والعقول والقلوب . . . فاألبدان تنظؾ وتنشط ,والعقول تتعلم وتتثقؾ ,والقلوب تتزكى وتتطهر .الصبلة تطٌق عملً لمبادئ السٌاسً واالجتماعٌة المثلى ,فتحت المسجد تتجلى معانً اإلخاء ,والمساواة والحرٌة ,وتبرز ة اإلسبلم معانً الجندٌة المإمنة ,والطاعة المبصرة ,والنظام الجمٌل . ٌقول اإلمام الشهٌد حسن البنا مبٌنا أثر أثرها الروحً ( :وال ٌقؾ أثر الصبلة عند هذا الحد الفردي , بل إن الصبلة كما وصفها اإلسبلم بؤعمالها الظاهرة ,وحقٌقتها الباطنة ,منهاج كامل لتربٌة األمة الكاملة :فهً بؤعمالها البدنٌة وأوقاتها المنتظمة خٌر ما ٌفٌد البدن ,وهى بآثارها الروحٌة وأذكارها وتبلوتها وأدمٌتها خٌر ما ٌهذب النفس وٌرقق الوجدان ,وهى باشتراط القراءة فٌها -والقرآن الكرٌم منهاج ثقافة مالٌة شامل -تؽذى العقل وقد الفكر بكثٌر من حقابق العلوم والمعارؾ ,فٌخرج المصلى المتقن وقد صح بدنه ,ورق شعوره ,وؼذى عقله ,فؤي كمال فً التربٌة اإلنسانٌة الفردٌة بعد هذا ؟ ثم هً باشتراط الجمعة والجماعة تجمع األمة خمس مرات فً كل ٌوم ,ومرة فً كل أسبوع علً المعانً االجتماعٌة الصالحة من الطاعة والنظام والحب واإلخاء والمساواة بٌن ٌدي هللا العلً الكبٌر ,فؤي كمال فً المجتمع أتم من أن ٌقوم على هذه الدعابم ,وٌشٌد على هذه المثل العالٌة ؟ إن الصبلة اإلسبلمٌة تربٌة للفرد كاملة ,وبناء لؤلمة مشٌد ,ولقد خطر لً وأنا أستعرض المبادئ االجتماعٌة العصرٌة أن الصبلة اإلسبلمٌة أخذت بؽٌر ما فٌها وطرحت نقابصها ومساوٌها :فؤخذت من ( الشٌوعٌة ) معنى المساواةوالتآخً ,بجمع الناس فً صعٌد واحد ال ٌملكه إال هللا وهو المسجد .والتآخً
بجمع الناس فً صعٌد واحد ال ٌم لكه إال اله وهو المسجد .وأخذت من ( الدٌكتاتورٌة ) النظام والحزم بإلزام الجماعة اتباع اإلمام فً كل حركة وسكون ومن شذ شذ فً النار ,وأخذت من ( الدٌمقراطٌة) النصح والشورى ووجوب رد اإلمام إلى الصواب إذا أخطؤ كابنا ً من كان ,وطرحت كل ما سوى ذلك : من فوضى الشٌوعٌة ،واستمداد الدٌكتاتورٌة ,وإباحٌة الدٌمقراطٌة ,لكانت عصارة سابؽة من الخٌر ال كدر فٌها وال التواء . ومن أجل هذا كله عنى المجتمع المسلم فً عصور السلؾ الصالح بؤمر الصبلة . حتى سموها ( المٌزان ) بها توزن أقدار األشخاص ,وتقاس منازلهم ودرجاتهم ,فإذا أرادوا أن ٌعرفوا دٌن رجل ومدى استقامته ,سؤلوا عن صبلته ,ومقدار محافظته علٌها وإحسانه لها . .وهذا مصداق الحدٌث النبوي (:إذا رأٌتم الرجل ٌعتاد المساجد فاشهدوا له باإلٌمان ) ,ثم تبل ( :إنما ٌعمر مساجد هللا من آمن باهلل والٌوم اآلخر وأقام الصبلة وآتى الزكاة ولم ٌخشى إال هللا ,فعسى أولبك أن ٌكونوا من المهتدٌن) . ومن هنا كانت أول مإسسة أنشؤها الرسول -صلى هللا علٌه وسلم , -بعد أن هاجر إلى المدٌنة هً المسجد النبوي ,الذي كان جامعا للعبادة ,ومدرسة للعلم ,وبرلمانا ً للتفاهم . وأجمع األبمة على أن من تركها جحوداً لها واستخفافا ً بها فقد كفر ,واختلفوا فٌمن تركها عمداً كسبل ً, فمنهم من حكم علٌه بالكفر واستحقاق القتل ,كؤحمد وإسحاق .ومنهم من حكم علٌه بالفسق واستحقاق القتل كمالك والشافعى ,ومنهم من حكم علٌه بالفسق واستحقاق التعزٌر والتؤدٌب بالضرب والحبس حتى ٌتوب وٌصلى كؤبى حنٌفة . .ولم ٌقل أحد منهم :إن الصبلة متروكة لضمٌر المسلم إن شاء أداها ،وإن شاء تركها ,وحسابه على هللا ,بل أجمعوا على أن من واجب الحاكم أو الدولة المسلمة أن تتدخل بالزجر والتؤدٌب لكل مصر على ترك الصبلة .فلٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌدع المنتسبٌن لإلسبلم دون أن ٌركعوا له ركعة ,وال ٌتعرض لهم بعقاب وال تؤدٌب ,بدعوى أن الناس أحرار فٌما ٌفعلون . ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌسوى بٌن المصلٌن وؼٌر المصلٌن ء بله أن ٌقدم تاركً الصبلة وٌضعهم فً موضع القادة والموجهٌن . ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي تنشا دواوٌنه ومإسساته وشركاته ومدارسه ولٌس فٌها مساجد تقام فٌها الصبلة ,وٌرتفع اآلذان .ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌقوم نظام العمل فٌه على أن ال وقت للصبلة , ومن خالؾ ذلك من الموظفٌن والعاملٌن عوقب بما ٌناسب المقام ,ولفت نظره إلى هذا الخطؤ الجسٌم : ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي تقام فٌه الندوات واألحفال واالجتماعات والمحاضرات وٌدخل وقت الصبلة وٌنتهً ,وال أذان ٌسمع وال صبلة تقام .قبل ذلك كله :لٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ال ٌؤخذ أبناءه وبناته بتعلٌم الصبلة ,فً المدارس والبٌوت ,منذ نعومة األظفار ,فٌإمرون بها لسبع , وٌضربون علٌها لعشر . ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ال تحتل الصبلة من برامجه التعلٌمٌة والثقافٌة واإلعبلمٌة مكانا ٌلٌق بؤهمٌتها فً دٌن هللا ،وفى حٌاة المسلمٌن .
الزكاة والزكاة هً الشعٌرة الثانٌة فً اإلسبلم ,والركن المالً االجتماعً من أركان .العظام ,وهى شقٌقة الصبلة فً القرآن والسنة ,قرنت بها فً كتاب هللا ثمانٌة وعشرٌن مرة ،تارة بصٌػة األمر ،مثل قوله تعالى ( وأقٌموا الصبلة وآتوا الزكاة) وتارة بصٌؽة الخبر مثل قوله ( :إن الذٌن آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصبلة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم وال خوؾ علٌهم وال هم ٌحزنون).
وطوراً تؤتً الزكاة مقرونة بالصبلة فً صورة الشرط للدخول فً دٌن اإلسبلم أو فً مجتمع المسلمٌن، قال تعالى فً سورة التوبة فً شؤن المشركٌن المحاربٌن: ( فإن تابوا وأقاموا الصبلة وآتوا الزكاة فخلوا سبٌلهم ,إن هللا ؼفور رحٌم ) ,وقال بعد بضع آٌات من نفس السورة ( :فإن تابوا وأقاموا الصبلة وآتوا الزكاة فإخوانكم فً الدٌن ) .فلم ٌعترؾ لمشرك بالدخول ؾ اإلسبلم ,وال باالنتساب إلى المجتمع المسلم ,واكتساب أخوة أبنابه إال بالتوبة من الكفر , وإقام الصبلة وإٌتاء الزكاة .وهى عبادة قدٌمة -كالصبلة -جاءت بها النبوات ,وحث علٌها األنبٌاء , وكانت فً طلٌعة وصاٌا هللا لهم ,وفى طلٌعة وصاٌاهم إلى أممهم .أثنى هللا على أبى األنبٌاء إبراهٌم وعلى إسحاق وٌعقوب فقال لهم ( :وجعلناهم أبمة ٌهدون بؤمرنا وأوحٌنا إلٌهم فعل الخٌرات وإقام الصبلة وإٌتاء الزكاة ,وكانوا لنا عابدٌن ) . وأثنى على إسماعٌل بقوله (:وكان ٌؤمر أهله بالصبلة والزكاة وكان عند ربه مرضٌا ً) . وجاء فً خطابه لموسى ( :ورحمتً وسعت كل شا ,فسؤكتبها للذٌن ٌتقون وٌإتون الزكاة والذٌن هم بآٌاتنا ٌإمنون ) . وذكر فً بٌانه لبنى إسرابٌل ( و ال تعبدون إال هللا وبالولدٌن إحسانا وذي القربى والٌتامى والمساكٌن وقولوا للناس حسنا وأقٌموا الصبلة وآتوا الزكاة ) .وقال على لسان عٌسى فً المهد( :وأوصانً بالصبلة والزكاة ما دمت حٌا ً) وقال فً ألهل الكتاب ( :وما أمروا إال لٌعبدوا هللا مخلصٌن له الدٌن حنٌفا وٌقٌموا الصبلة وٌإتوا الزكاة ,وذلك دٌن القٌمة ) . وفً مجمل هذه اآلٌات نرى الزكاة قرٌنة الصبلة ،فهما -كلتاه ما -شعٌرتان وفرٌضتان وعبادتان. الصبلة عبادة بدنٌة روحٌة ,والزكاة عبادة مالٌة اجتماعٌة ,ولكونها عبادة وقربة إلى هللا اشترطت الشرٌعة فٌها النٌة واإلخبلص ,فبل تقبل زكاة إال بنٌة التقرب إلى هللا .وهذا بعض ما ٌمٌزها من الضرٌبة الوضعٌة .بٌد أنا نإكد هنا :أن الزكاة التً فرضها اإلسبلم -وان اشتركت فً األصل واالسم مع الزكاة فً الدٌانات السابقة -هً فً الواقع نظام جدٌد فرٌد ,لم ٌسبق إلٌه دٌن سماوي ,وال قانون أرضى .إنها لٌست مجرد إحسان موكول إلى إٌمان الفرد وضمٌره ,ولكنها ضرٌبة وعبادة ٌحرسها إٌمان الفرد ,ورقابة الجماعة ,وسلطان الدولة . فاألمل فً اإلسبلم أن تإخذ الزكاة بواسطة اإلمام والسلطات الشرعٌة ,وبعبارة أجزى بواسطة الدولة المسلمة ,عن طرٌق الجهاز اإلداري الذي نص علٌه القرآن فً صراحة وسماه ( :العاملٌن علٌها ) وجعل لهم سهما ً من مصارؾ الزكاة ,داللة على استقبلل مٌزانٌتها من األبواب األخرى فً المٌزانٌة , حتى ال تذوب حصٌلتها فً مصارؾ الدولة المتنوعة ,وال ٌدرك المستحقون منها شٌبا ً ٌذكر ,ومن ثم قال القرآن ( :خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكٌهم بها) وجاء ,فً الحدٌث من الزكاة ( :أنها تإخذ من أؼنٌابهم فترد على فقرابهم ) ,فهً -إذن -فرٌضة تإخذ أخذاً ,ولٌست تبرعا ً اختٌارٌا متروكا ً لضمابر األشخاص. وال نعجب بعد ذلك إذا حدثنا التارٌخ الصادق أن الخلٌفة األول لرسول هللا ,أبا بكر الصدٌق ,جٌش الجٌوش ,وبعث الكتابب ,وأعلن الحرب على أقوام من العرب امتنعوا عن أداء الزكاة ,وقالوا :نقٌم الصبلة وال نإتى الزكاة ,فؤبى الصدٌق أن ٌهادنهم فً شًء مما أوجب هللا ,وقال كلمته الشهٌرة (: وهللا ألقاتلن من فرق بٌن الصبلة والزكاة ,وهللا لو منعونً عناقا ً -أي عنزة صؽرة ,وفى رواٌة :عقاالً كانوا ٌإدون لرسول هللا لقاتلهم علٌه) .ولم ٌفرق أبو بكر بٌن المرتدٌن الذٌن اتبعوا أدعٌاء ,النبوة ,وبٌن الممتنعٌن من إٌتاء ,الزكاة وقاتل أولك وهإالء . ولما كانت الزكاة ضرٌبة تتولى الدولة المسلمة جباٌتها من أربابها ,وتوزٌعها على مستحقٌها ,حدد اإلسبلم مقادٌرها ونصبها والنسب الواجبة فٌها ,والمصارؾ التً توضع فٌها ,ولم ٌدعها لضمابر المإمنٌن وحدها فً مقدارها ونسبتها ومواردها ومصارفها .
األمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذه هً الفرٌضة أو الشعٌرة من فرابض اإلسبلم وشعابره،وهً سٌاج الشعابر السابقة وحارستها. وربما استؽرب بعض الناس أن تكون هذه ضمن الفرابض األساسٌة فً اإلسبلم ,فالمؤلوؾ والشابع هو األربع التً سلؾ ذكرها .ولكن المتتبع للقرآن والسنة ٌجد ذلك أوضح من فلق الصباح . فالقرآن ٌجعل األمر بالمعروؾ والنهى عن المنكر هو الخصٌصة األولى التً تمٌزت بها هذه األمة المسلمة ,وفاقت بها أمم األرض ( :كنتم خٌر أمة أخرجت للناس تؤمرون بالمعروؾ وتنهون عن المنكر وتإمنون باهلل) . قدم األمر بالمعروؾ والنهى عن المنكر فً الذكر على اإلٌمان ,مع أن اإلٌمان هو األساس ,ألن اإلٌمان باهلل قدر مشترك بٌن األمم الكتابٌة جمٌعا ,ولكن األمر والنهى فضٌلة هذه األمة ,التً لم تخرج للوجود من نفسها كالنبات الصحراوي ,بل أخرجها هللا إخراجا ,ولم ٌخرجها لتعٌش لنفسها ,فحسب , بل أخرجت للناس ,للبشرٌة كلها ,فهً أمة دعوة ورسالة ,همها أن تشٌع المعروؾ وتثبته ،وأن تزٌل المنكر وتمنعه .وقبل اآلٌة المذكورة ببضع آٌات جاء قوله تبارك وتعالى ولتكن منكم أمة ٌدعون إلى الخٌر وٌؤمرون بالمعروؾ وٌنهون عن المنكر ،وأولبك هم المفلحون ) .واآلٌة الكرٌمة( :ولتكن منكم أمة ) تحتمل معنٌٌن :األول أن تكون ( من) للتجرٌد كما تقول :لٌكن لً منك الصدٌق الوفً ,ولٌكن منك المسلم المعاهد فً سبٌل هللا ,ؾ ( من ) هنا لٌست للتبعٌض بل للتبرٌد ,أي كن الصدٌق الوفً وكن المسلم المجاهد ,وكذلك ٌكون معنى اآلٌة :كونوا أمة ٌدعون إلى الخٌر . . .إلخ .ولعل مما ٌإٌد هذا المعنى حصر الفبلح فً هإالء .دون ؼٌرهم ,كما ٌفٌد قوله تعالى ( :وأولبك هم المفلحون ) . ومقتضى هذا التفسٌر :أن تكون األمة كلها داعٌة إلى الخٌر ,آمرة بالمعروؾ ناهٌة عن المنكر ,كل بحسب م كانته وطاقته ,حتى تكون من أهل الفبلح .والمعنى الثانً :أن تكون ( من ) فً ( منكم) للتبعٌض كما هو الشابع المتبادر ,ومقتضى هذا أن ٌكون فً المجتمع المسلم طابفة قادرة ,متمكنة , معدة اإلعداد المبلبم ,لتقوم بواجب الدعوة واألمر والنهى ,والمخاطب بهذا األمر اإللهً -إٌجاد الطابفة المذكورة -هم جماعة المسلمٌن كافة وأولو األمر خاصة ,فعلٌهم تهٌبة األسباب لوجودها , وإعانتها مادٌا وأدبٌا لتقوم برسالتها ,فإذا لم توجد هذه األمة أو هذه الطابفة المنشودة ,عم اإلثم جمٌع المسلمٌن ,ككل فرض كفابً ٌترك وٌهمل . وال ٌكفى أن يوجد أفراد متناثرون ٌقومون بالوعظ واإلرشاد ,فً دولة تدٌر لهم ظهرها ,ومجتمع ٌنؤى منهم بجانبه ,فالقرآن لم ٌرد ذلك ,إنا أراد وجود ( أمة ) ,فاألفراد المتناثرون ال ٌكونون ( أمة ) ,كما ٌفترض أن تكون لهذه األمة حرٌة الدعوة إلى الخٌر ,وأعظم بواب الخٌر هو اإلسالم .وأن تكون قادرة على أن تؤمر وتنهى ,واألمر والنهى شا أخص وأكبر من الوعظ والتذكٌر ,فكل ذي لسان قادر على أن ٌعظ وٌذكر ,ولٌس قادرا دابما ً أن ٌؤمر وٌنهى ,والذي طالبت به اآلٌة الكرٌمة إنا هو إٌجاد أمة تدعو وتؤمر وتنهى .وفى بٌان السمات العامة لمجتمع المإمنٌن ,والتً ٌتمٌز بها عن مجتمع المنافقٌن ٌقول القرآن فً سورة التوبة ( :والمإمنون والمإمنات بعضهم أولٌا ء بعض ٌ ,ؤمرون بالمعروؾ وٌنهون عن المنكر وٌقٌمون الصبلة وٌإتون الزكاة وٌطٌعون هللا ورسوله ,أولبك سٌرحمهم هللا ,إن هللا عزٌز حكٌم ) ,ومن الجمٌل فً اآلٌة أنها قرنت المإمنات بالمإمنٌن ,وجعلت الجمٌع بعضهم أولٌاء بعض ,وحملتهم -رجاال ونساء -تبعه األمر بالمعروؾ والنهى عن المنكر ,وهذه شعٌرة األمر بالمعروؾ والنهى عن المنكر على الصبلة والزكاة ,ألنها السمة األولى للمجتمع المسلم , وألفراد المجمع المسلم ,فاإل سبلم ال ٌكفى منهم أن ٌصلحوا فً أنفسهم حتى ٌعملوا على إصبلح ؼٌرهم ,وفى هذا أٌضا جاءت سورة العصر ( :والعصر ،إن اإلنسان لفً خسر ،إال الذٌن آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) ,فلم ٌكؾ اإلٌمان والعمل الصالح ,لنجاتهم من الخسران والهبلك حتى ٌضموا إلى ذلك التواصً بالحق والتواصً بالصبر ,
وبعبارة أخرى :حتى ٌشتؽلوا بإصبلح ؼٌرهم ,وٌشٌع فً المجتمع معنى التناصح والدعوة إلى التمسك بالحق والصبر علٌه ,وٌصبح ذلك من مقومات المجتمع كاإلٌمان وعمل الصالحات .وفى سورة التوبة أٌضا ,بٌان ألوصاؾ المإمنٌن الذٌن اشترى هللا منهم أنفسهم وأموالهم بؤن لهم الجنة ,وذلك قوله ( : التاببون العابدون الحامدون السابحون الراكعون الساجدون اآلمرون بالمعروؾ والناهون عن المنكر والحافظون لحدود هللا ,وبشر المإمنٌن) .وفى سورة الحج ذكر القرآن أهم واجبات األمة المسلمة حٌن هللا لها فً األرض ,وٌكون لها دولة وسلطان ,فقال ( :ولٌنصرن هللا من ٌنصره ,إن هللا لقوى عزٌز ،إن الذٌن إن مكناهم فً األرض أقاموا الصبلة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروؾ ونهوا عن المنكر ,وهلل عاقبة األمور) .فاألمر بالمعروؾ والنهى عن المنكر -إلى جانب الصبلة والزكاة -أهم ما تقوم به دولة اإلسبلم بعد أن ٌمكن هللا لها وٌنصرها على عدوها ,بل هً ال تستحق نصر هللا ,إال بهذا ,كما بٌنت اآلٌتان الكرٌمتان .هذه هً فرٌضة األمر بالمعروؾ والنهى من المنكر فً القرآن ,إنها تمم على وجوب التكافل األدبً بٌن المسلمٌن ,كما أن الزكاة علم على وجوب التكافل المادي بٌنهم. وجاء الحدٌث النبوي فصور هذا التكافل األدبً أبلػ ما ٌكون التصوٌر وأروعه وأصدقه .وذلك فٌما رواه البخاري وؼٌره عن النعمان بن بشٌر : ( مثل القابم على حدود هللا والواقع فٌها ,كمثل قوم استهموا على سفٌنة , فصار بعضهم أعبلها ,وبعضهم أسفلها ,وكان الذٌن فً أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم ,فقالوا :لو أنا خرقنا فً نصٌبنا خرقا ,ولم نإذ من فوقنا ! فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جمٌعا ,وان أخذوا على أٌدٌهم نجبوا ،ونجبوا جمٌعا ) إن أسوا ما ٌصٌب المجتمعات أن ٌؽرس الطؽٌان أو الخوؾ فٌها األلسنة ,فبل تعلن بكلمة حق ,وال تجهر بدعوة وال نصٌحة ,وال أمر وال نهى .وبذلك تتهدم منابر اإلصبلح وتختفً معانً القوة ,وتذوى شجرة الخٌر ,وٌجترئ الشر ودعاته على الطهور واالنتشار ,فتنعق سوق الفساد ,وتروج بضامة إبلٌس ,وجنوده ,من ؼٌر أن عبد مقاومة وال مقاطعة .وحٌنبذ ٌستوجب المجتمع نقمة هللا وعذابه ,فٌصب الببلء والنكبات على المقترفٌن للمنكر والساكتٌن علٌه ,قال تعالى ( :واتقوا فتنة ال تصٌبن الذٌن ظلموا منكم خاصة ,واعلموا أن هللا شدٌد العقاب ) . وقال صلى هللا علٌه وسلم ( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم ٌؤخذوا على ٌدٌه أوشك أن ٌعمهم هللا بعذاب من عنده ). وفً حدٌث آخر (:إذا رأٌت أمتً تهاب فبل تقول للظالمٌ :ا ظالم ،فقد تودع منهم) إن هللا لعن بنى إسرابٌل على لسان أنبٌابه ,وضرب قلوب بعضهم ببعض ,وسلط علٌهم من ال ٌرحمهم ,النتشار المنكرات بٌنهم دون أن تجد من ٌؽٌرها أو ٌنهى عنها .قال تعالى ( :لعن الذٌن كفروا من بنى إسرابٌل عن لسان داود وعٌسى ابن مرٌم ,ذلك بما عصوا وكانوا ٌعتدون و كانوا ال ٌتناهون عن منكر فعلوه , لببس ما كانوا ٌفعلون ) .وأسوا مما ذكرنا أن ٌموت الضمٌر االجتماعً لؤلمة أو ٌمرض على األقل , بعد طول اإللؾ للمنكر والسكوت علٌه -فٌفقد المجتمع حسه الدٌنً واألخبلقً ,الذي ٌعرؾ به المعروؾ من المنكر ,وٌفقد العقل البصٌر الذي ٌمٌز الخبٌث من ,والحبلل من الحرام ,والرشد من الؽً ,وعند ذلك تختل موازٌن المجتمع وتضبط مقاٌٌسه ,فٌرى ألسنة بدعة ,والبدعة سنة ,أو ٌرى ما نحسه ونلمسه فً عصرنا عند كثٌرٌن من أبناء المسلمٌن ,من اعتبار التدٌن رجعٌه ,واالستقامة تزمتا ً ,واالحشام جموداً ,والفجور فنا ً ,واإللحاد تحرراً ,وما ال نعلم ,وبعبارة موجزة واالنحبلل تقدما ,واالنتفاع بتراث السلؾ م خلفا فً التفكٌر ..إلى آخر ما نعلم وما ال نعلم ،وبعبارة موجزة: ٌصبح المعروؾ منكرا ,والمنكر معروفا ! وأسوا من هذا وذاك :أن ٌخفت صوت الحق ,وتتعالى صٌحات الباطل ,تتجاوب بها األرجاء داعٌه إلى الفساد ,آمره بالمنكر ,ناهٌه عن المعروؾ , صٌحات الذٌن وصفهم الحدٌث الشرٌؾ بؤنهم ( :دعاة على أبواب جهنم ,من أجابهم إلٌها قذفوه فٌها ) .هذا هو شؤن مجتمع المنافقٌن الذٌن جعلهم القرآن فً الدرك األسفل من النار ,وهو المجتمع الذي حددت معالمه اآلٌة الكرٌمة ( :المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض ٌ ,ؤمرون بالمنكر وٌنهون عن
المعروؾ وٌقبضون أٌدٌهم ,نسوا هللا فنسٌهم ,إن المنافقٌن هم الفاسقون ) .وهذه الخصال مناقضة تمام المناقضة لمجتمع المإمنٌن ,كما صورته آٌة ( :والمإمنون والمإمنات بعضهم أولٌاء بعض , ٌؤمرون بالمعروؾ وٌنهون عن المنكر ) ,والذي ٌعنٌنا هنا أنه مجتمع منكوس على رأسه ٌ ,ؤمر بالمنكر وٌنهى عن المعروؾ .فإذا ارتفع فٌه للحق صوت ٌدعو إلى هللا ,وٌؤمر بالقسط ,وٌنهى عن الفساد والظلم ,كان جزاإه الموت جهارا على حبل المشنقة فً وضح النهار ,أو االؼتٌال خفٌه - بالرصاص أو بسٌاط التعذٌب -فً جنح اللٌل .كما صنع بنو إسرابٌل بؤنبٌابهم حٌن قتلوهم بؽٌر حق . فمنهم من ذبحوه بالسكٌن ,ومنهم من نشروه بالمنشار ,ومنهم من تآمروا على قتله وصلبه ,فرفعه هللا إلٌه .وهو على مله األنبٌاء والدعاة إلى هللا قوله سبحنه ( :إن الذٌن من ٌكفرون بآٌات هللا وٌقتلون النبٌٌن بؽٌر حق وٌقتلون الذٌن ٌؤمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب ألٌم ،أولبك الذٌن حبطت أعماهم فً الدنٌا واآلخرة وما لهم من ناصرٌن ) .إن هذه المراحل المتدرجة فً االنحطاط والفساد , ٌؤخذ بعضها بحجز بعض ,وٌجر بعضها إلى بعض ,فالشبهات تجر إلى صؽابر المحرمات , والصؽابر تجر إلى الكبابر ,والكبائر تجر إلى الكفر ,والعٌاذ باهلل .ومن أروع األحادٌث التً وضحت هذا التنزل فً دركات الشر والمعصٌة ,ما رواه أبو أمامة مرفوعا ً ( :كٌؾ أنتم إذا طؽى نساإكم , وفسق شبانكم ,وتركتم جهادكم )؟! قالوا :وان ذلك لكابن ٌا رسول هللا ؟ قال ( :نعم ,والذي نفسً بٌده ,وأشد منه سٌكون ) ! قالوا :وما أشد منه ٌا رسول هللا ؟ قال ( :كٌؾ أنتم إذا لم تؤمروا بمعروؾ ولم تنهوا عن منكر ) ؟! .قالوا :وكابن ذلك ٌا رسول هللا ؟ :قال ( :نعم ,والذي نفسً بٌده ,وأشد منه سٌكون ! ! قالوا :وما أشد منه ٌا رسول هللا ؟! قال ( :كٌؾ أنتم إذا رأٌتم المعروؾ منكرا ,والمنكر معروفا ً ) ؟! قالوا :وكابن ذلك ٌا رسول هللا ؟! قال ( :نعم ,والذي نفسً بٌده ,وأشد منه سٌكون ) ! قالوا :وما أشد منه ٌا رسول هللا ؟! قال ( :كٌؾ أنتم إذا أمرتم بالمنكر ,ونهٌتم عن المعروؾ ) ؟! قالوا :وكابن ذلك ٌا رسول هللا ؟! قال ( :نعم ,والذي نفسً بٌده ,وأشد منه سٌكون ! ٌقول هللا تعالى :بً حلفت ألتٌحن لهم فتنة ٌصٌر الحلٌم فٌها حٌران ) . وٌبدو أن الكثٌر مما حذر منه هذا الحدٌث مد وقع ,متى ؼدا المعروؾ منكرا ,والمنكر معروفا , وأصبحت الدعوة إلى اإلسبلم وشرٌعته وكؤنها جرٌمة ,وأمسى الداعً إلى اإلسبلم «« أصولٌا ً » مكانه قفص االتهام ! ولكن الدعاة إلى هللا ,اآلمرٌن بالمعروؾ والناهٌن عن المنكر ,والحراس األٌقاظ لدٌن هللا ،لم ٌزل صوتهم قوٌا ً بالحق ,وان تعالت من حولهم أصوات الباطل .المهم هو تؤكٌد هذه الفرٌضة العظٌمة وإحٌاإها ,وإحٌاء وظٌفة ( المحتسب ) الذي جسا هذه الشعٌرة فً الحٌاة العملٌة , وكانله شؤن خطٌر فً مجتمع المسلمٌن .وإذا كان بعض الناس فً عصرنا ٌتحدثون عن « الرأي العام » وأثره فً الرقابة على رعاٌة مبادئ األمة وأخبلقها وآدابها ومصالحها ,وتقوٌم ما ٌعوج من شبون حٌاتها ,فإ ن فرٌضة األمر والنهى كفٌلة بؤن تنشا الرأي العام الواعً البصٌر ,المستند إلى أقوم المعاٌٌر األخبلقٌة واألدبٌة وأعدلها وأخلدها وا ثبتها ,ألنها معاٌٌر مستمدة من الحق األزلً األبدي , من هللا عز وجل .
كما ٌتمٌز المجتمع المسلم بعقابده وشعابرهٌ ،تمٌز كذلك بؤفكاره ومفاهٌمه وتصوراته فالمجتمع المسلم تسوده أفكار ومفاهٌم تحدد وجهة نظره إلى األشٌاء و األحداث واألشخاص والمواقؾ ,والقٌم والعبلقات .فهو ٌحكم على هذه األمور كلها من زاوٌة اإلسبلم ,وهو ال ٌستمد حكمه ,وٌستقً وجهة نظره إال من مصادر اإلسبلم النقٌة ,المصفاة من الشوابب والزوابد ,التً تمثل رواسب العصور ,
وتإكد التحور من ؼلو الؽالٌن ,وتقصٌر المقصرٌن ,وانتحال المبطلٌن ,وتؤوٌل الجاهلٌن . لقد حرص اإلسبلم منذ طلوع فجره على أن ٌصحح مفاهٌم أبنابه ,حتى تستقٌم نظرتهم إلى األمور والواقؾ ,وٌتحد تصورهم العام لؤلشٌاء والقٌم .فلم ٌدعهم لشطحات الفكر ,وال انحرافات الهوى , فٌزٌؽوا عن ا.لقصد ,وٌضلوا عن سواء الصراط ,وتتفرق بهم سبل الباطل عن سبٌل الحق .ولهذا دأب القرآن ,كما د أبت السنة ,على تصحٌح المفاهٌم المؽلوطة واألفكار الخاطبة ,والتصورات المنحرفة ,التً تشٌع فً أذهان الناس .فهم بعض األعراب أن اإلذعان مجرد إعبلن وتظاهر ،فنزل القرآن ٌصح ح هذا المفهوم ٌقول (:قالت األعراب آمنا ،قل لم تإمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما ٌدخل اإلٌمان فً قلوبكم) ..إلى أن قال (:إنما المإمنون الذٌن آمنوا باهلل ورسوله ثم لم ٌرتابوا وجاهدوا بؤموالهم وأنفسهم فً سبٌل هللا ،أولبك هم الصادقون) وأشاع بعض أهل الكتاب من الٌهود :أن البر أو التقوى هو االهتمام برسوم معٌنة ،وشكلٌات خاصة ،ولهذا أقاموا الدنٌا وأٌقعدوها حٌن تحول الرسول من بٌت المقدس إلى الكعبة ،وجعلها هللا له قبله ،فنزلل القرآن ٌبٌن حقٌقة البر والتقوى والدٌن الحق فقال (:لٌس البر أ ،تولوا وجوهكم قبل المشرق والمؽرب ولكن البر من آمن باهلل والٌوم اآلخر والمبلبكة والكتاب والنبٌٌن وآتى المال على حبه ذوي القربى والٌتامى والمساكٌن وابن السبٌل والسابلٌن وفً الرقاب وأقام الصبلة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ،والصابرٌن فً البؤساء والضراء وحٌن البؤس ،أولبك الذٌن صدقوا ،وأولبك هم المتقون). وحسب بعض الناس أن طرٌق اإلٌمان إلى الجنة مفروش باألزهار والرٌاحٌن ال فتنة فٌه وال اضطهاد وال عذاب ،فنزل القرآن ٌدرأ هذا الوهم ،وٌخطا هذا الفهم إذ ٌقول (:آلم ،أحسب الناس أن ٌتركوا أن ٌقولوا آمنا وهم ال ٌفتنون ،ولقد فتنا الذٌن من قبلهم ،فلٌعلمن هللا الذٌن صدقوا ولٌعلمن الكاذبٌن).. وٌقول (:أم حسبتم أ ،تدخلوا الجنة ولما ٌعلم هللا الذٌن جاهدوا منكم وٌعلم الصابرٌن) ( ..أم حسبتم أ، تدخلوا الجنة ولما ٌؤتكم مثل الذٌن خلوا من قبلكم ،مستهم البؤساء والضراء وزلزلوا حتى ٌقول الرسول والذٌن آمنوا معه متى نصر هللا ،أال إن نصر هللا قرٌب). وتصور بعض الناس أن من قتل فً سبٌل هللا قد مات ،كما ٌموت اآلخرون من البشر فٌنفً القرآن هذا الحسبان وٌضع مفهوما ً جدٌداً إذ ٌقول (:وال تقولوا لمن ٌقتل فً سبٌل هللا أموات بل أحٌاء ولكن ال تشعرون) ( ،وال تحسبن الذٌن قتلوا فً سبٌل هللا أمواتا ً بل أحٌاء عند ربهم ٌرزقون) .ومن الناس من ٌحسب أن التؽٌٌر المادي سبب التؽٌٌر فً عالم النفس ,فٌقرر القرآن عكس ذلك ,وٌبٌن أن التؽٌٌر الروحً والمعنوي هو األصل واألساس ( :إن هللا ال ٌؽٌر ما بقوم حتى ٌؽٌروا ما بؤنفسهم ) .وٌصحح القرآن فكرة الناس عن الفوز والفبلح والخسران ,فٌنقلها من دابرتها الضٌقة فً عقول جماهٌر الناس : الدابرة المادٌة الدنٌوٌة العاجلة إلى دابرة أرحب وأخلد وأبقى ,فٌقول ( :فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ,وما الحٌاة الدنٌا إال متاع الؽرور) ( ،قد أفلح من تزكى ،وذكر اسم ربه فصلى) ( ،قل إن الخاسرٌن الذٌن خسروا أ،فسهم وأهلٌهم ٌوم القٌامة ،أال ذلك هو الخسران المبٌن) .وٌظن فرٌق من البشر أن النساء شٌاطٌن خلقن لؽواٌة الرجال ,وأن المرأة لعنة مجسمة وفتنة تمشى على األرض , فٌنفى القرآن هذا الظن ,وٌقول ( :ومن آٌاته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إلٌها وجعل بٌنكم مودة ورحمة ,إن فً ذلك آلٌات لقوم ٌتفكرون ). وٌعتقد فبة من الناس أن الظلمة والنور أثران إللهٌن مختلفٌن ٌصطرعان حتى تكون الؽلبة فً النهاٌة ألحدهما ,فٌبٌن القرآن أنهما أثران لخالق واحد واله واحد (خلق السموات واألرض وجعل الظلمات والنور)( ،وجعلنا اللٌل لباساً ،وجعلنا النهار معاشا ً) (،قل أرأٌتم إن جعل هللا علٌكم اللٌل سرمداً إلى ٌوم القٌامة من إله ؼٌر هللا ٌؤتٌكم بضٌاء ،أفبل تسمعون) .وهكذا ظل القرآن الكرٌم 23عاما ً ٌبٌن الحقابق وٌزٌؾ األباطٌل ،وٌصحح التصورات والمفاهٌم .وجا ءت السنة النبوٌة فكانت البٌان والتفسٌر النظري
والعملً للقرآن ،وظل الرسول الكرٌم (صلى هللا علٌه وسلم) ٌصحح وٌوضح ،وٌبنً وٌهدم حتى استقام للمجتمع المسلم تصوره ،واتضحت مفاهٌمه وأصبح على بٌنة من ربه وبصٌرة من أمره ،كما خاطب هللا تعالى رسوله( صلى هللا علٌه وسلم) (:قل هذه سبلً أدعوا إلى هللا ،على بصٌرة أنا ومن اتبعنً، وسبحان هللا وما أنا من المشركٌن) .وصحح النبً (صلى هللا علٌه وسلم) مفاهٌم كثٌرة جداً لعل أهمها مفهوم اإلٌمان ،فلٌس اإلٌمان بالتمنً ولكن ما وقر فً القلب وصدقه العمل" :ال ٌإمن أحدكم حتى ٌحب ألخٌه ما ٌحب لنفسه" " ،ال ٌإمن أحدكم حتى ٌكون هواه تبعا ً لما جبت به" " ،لٌس بمإمن من بات شبعان وجارة جابع" " ،اإلٌمان بضع وسبعون شعبة والحٌاء شعبة من اإلٌمان" إلى أحادٌث كثٌرة جمعها أحد األبمة ( البٌهقى ) فً مإلؾ ضخم باسم " شعب اإلٌمان " ,وٌضع اإلسبلم مفهوما ً جدٌداً فً قبول األعمال ,فً فٌربطها بمقاصدها ونٌاتها الباعثة علٌها وٌجل موضع نظره هو القلب ال الجوارح ( :إنما األعمال بالنٌات وإنما لكل امرئ ما نوى ) ( ,إن هللا ال ٌنظر إلى صوركم وأجسامكم ولكن ٌنظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) ( ,أال إن فً الجسد مضؽة إذا صلحت صلح الجسد كله ,وإذا فسدت فسد الجسد كله ,أال وهى القلب ) . وٌبٌن حقٌقة الؽنى فٌقول ( :لٌس الؽنى عن كثرة العرض ,إنما الؽنى ؼنى النفس ) .وحقٌقة القوة , فٌردها إلى قوة النفس ال إلى قوة الجسم ( :لٌس الشدٌد بالصرعة ,إنما الشدٌد الذي ٌملك نفسه عند الؽضب ) .وحقٌقة المسكنة والمسكٌن ,وٌنفى الصورة الفاشٌة عند جمهور الناس عن المسكٌن فٌقول : ( لٌس المسكٌن الذي ترده التمرة والتمرتان ,وال اللقمة وال اللقمتان ,إنما المسكٌن الذي ال ٌجد عن بقٌة وال ٌنظر له فٌتصدق علٌه ,وال ٌقوم فٌسؤل الناس ) .وفى رواٌة ( :إنما المسكٌن المتعفؾ ) . واقرءوا إن شبتم ( :ال ٌسؤلون الناس إلحافا ً ) .وٌبٌن الرسول ( صلى هللا علٌه وسلم) مقٌاس التفاضل بٌن الناس أفرادا´ وجماعات ,حصرة فً اإلٌمان والتقوى والعمل الصالح .ورد المفاهٌم الشابعة ,من اعتبار الزٌنة ,والجاه أو المال والؽنى ,أو الجنس والنسب ,أو الضخامة والفخامة ,أو ما شابه ذلك من مقاٌٌس مادٌة دنٌوٌة ( ,فرب أشعث مدفوع باألبواب ,لو أقسم على هللا ألبره ) ,ورب فقٌر خٌر من ملا األرض من ؼنى مشهور ( ,وال فضل لعربً على أعجمً ,وال ألحمر على أسود إال بالتقوى ) ( ,ومن بطؤ به عمله لم ٌسرع به نسبه ) ٌ ( ,ؤتً الرجل العظٌم السمٌن عندي ٌوم القٌامة فبل ٌزن عند هللا جناح بعوضة ) .وٌبٌن الرسول (صلى هللا علٌه وسلم) اختبلل المقاٌٌس فً آخر الزمان فٌقول ٌ ( :ؤتً على الناس زمان ٌقال للرجل فٌه :ما أظرفه ,وما أعقله ,وما أجلده ,وما فً قلبه مثقال حبة من إٌمان ) .أفكار اإلسبلم ومفاهٌمه وتصوراته هً التً تعمل وحدها فً المجتمع المسلم ,وتسٌطر على عقول بنٌه ,وتوجه أدبه وفنه ,وثقافته وإعبلمه ,وتربٌته و تعلٌمه .فكرة اإلسبلم عن اإلنسان , وعن الحٌاة والدنٌا ,وعن المال والؽنى والفقر ,وعن التدٌن والبر والتقوى ,وعن العدل واإلحسان , وعن التقدم والتؤخر ,وعن التحضر والتخلؾ ,وعن الزهد والقناعة ,وعن الصبر والرضا . فكرة اإلسبلم عن الرجل والمرأة والعبلقة بٌنهما . فكرة اإلسبلم عن الؽنً والفقٌر والعبلقة بٌنهما . فكرة اإلسبلم عن الحاكم والمحكوم والعبلقة بٌنهما . فكرة اإلسبلم عن الفرد والمجتمع والعبلقة بٌنهما . هذه األفكار وما شابهها ٌجب أن تكون هً الموجهة للمجتمع المسلم ,المهٌمنة علٌه ,دون ؼٌرها من األفكار والتصورات .وذلك ألن أفكار اإلسبلم ومفاهٌمه هً وحدها المستقاة من المصدر اإللهً المعصوم فمصدرها ( كتاب أحكم ت آٌاته ثم فصلت من لدن حكٌم خبٌر) وسنة رسول ال ٌنطق عن الهوى ( إن هو إال وحً ٌوحى ) .
ونتٌجة لذلك كانت هذه األفكار وحدها هً التً تتسم بالشمول والعمق والتوازن فً تقوٌمها لؤلمور , ونظرتها إلى جمٌع العبلقات .ففكرة اإلسبلم عن الحٌاة هً الفكرة المتوازنة المعتدلة ,التً تجعل الدنٌا مزرعة لآلخرة ,وطرٌقا إلى دار الخلود ,والطرٌق ٌجب أال ٌشؽل عن الؽاٌة التً إلٌها تشد الرحال , ولكنه ٌجب أن ٌكون مرٌحا مزدانا باألشجار والظبلل ,حتى ٌهون اجتٌازه بمراحله على المسافرٌن . لعن ,وان العالم شر ,و ٌنبؽً التعجٌل بفنابه بالتبتل فلٌست هً الفكرة المتشابمة القابلة :إن الحٌاة ة والرهبانٌة واالنقطاع عن الزواج ,وعن الطٌبات ,كما ٌقول المذهب المانوي فً فارس ,وكما مارس ذلك رجال الرهبانٌة ,فً النصرانٌة ,والفقراء فً الهندوسٌة .ولٌست هً الفكرة الدهرٌة الملحدة , التً مضمونها ( :ما ه ي إال حٌاتنا الدنٌا نموت ونحٌا وما ٌهلكنا إال الدهر ) ,أرحام تدفع وأرض تبلع , ولٌس وراء ذلك بعث وال حساب وال جزا ء .وفكرة اإلسبلم عن اإلنسان هً الفكرة المتوازنة المعتدلة ,التً تنظر إلٌه على أنه مخلوق مكرم ذو طبٌعة مزدوجة ,فهو جسم وروح ,أو هو روح ٌسكن فً ؼبلؾ من الجسم ,كما قال تعالى فً خلق اإلنسان األول ( :إنً خالق بشراً من طٌن فإذا سوٌته ونفخت فٌه من روحً فقعوا له ساجدٌن) وٌجب أن ٌعطى الجسم حقه ،والروح حقه من شرٌعة اإلسبلم. فلٌست هً الفكرة المادٌة القابلة :إن اإلنسان لٌس إال هذا الجسم بؤجهزته وأعضابه ،بلحمه ودمه وأعصابه وؼرابزه ودوافعه ،ولٌس وراء الجسم شًء آخر ،فهً تنظر إلى اإلنسان كما تنظر إلً العالم ،فالعالم مادي وال إله له ،واإلنسان مادي وال روح فٌه .ولٌست هً الفكرة الروحٌة المسرفة التً ؾ نجاة لئلنسان ،وال تقول :إن الجسم شر ورجس ،وإن الروح وحدها هً محل الطهر والسمو ،ال خبلص إال بتعذٌب النفس وحرمانه لٌتسنى للروح أن تصفو وتترقى وتتزكى .فلٌس بمجتمع مسلم صحٌح اإلسبلم إذن :ذلك المجتمع الذي ٌشٌع فٌه مفهوم الحٌاة ،كما هو عند الؽربٌٌن ،وال كما هو عند البوذٌٌن .ولٌس هو الذي ٌتصور اإلنسان تصور الروحٌٌن المتشائمٌن ،وال تصور المادٌن المسرفٌن. ولٌس بمجتمع مسلم صحٌح ذلك الذي ٌفهم التقوى على أنها ترقع ،ولحٌة تعفً ومسبحة تدار فً الٌد.. وإن لم ٌكن وراءها علم نافع وال قلب خاشع وال عمل صالح .ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌفهم التدٌن على أ،ه مجرد أداء الشعابر من صبلة وصٌام وحج وعمرة..وإلن كان ٌتعامل بالربا فً تجارته ،أو ٌدع المرء فٌه زوجته مكشوفة الذراعٌن والساقٌن ،أو ٌدع أوالده فً المدارس التبشٌر والتنصٌر ،أ, ٌتركهم فرٌسة للمربٌات الكافرات أو الفاسقات .أو ٌرى المنكر ضاربا ً أطنابه فً كل مكان ،والفساد ناشراً ظبلمه على كل وضع .وهو ٌقول :نفسً نفسً! مؽفبلً فرٌضة األمر بالمعروؾ والنهً عن المنكر ،والجهاد لمقاومة الباطل .ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌشٌع فٌه مفهوم العدل االجتماعً على أ،ه نهب القناطر المقنطرة ،ثم التصدق بدرٌهمات أ ,دوانق على بعض الفقراء والمحتاجٌن ,مما جعل بعضهم ٌفهم خطؤ عدالة اإلسبلم فٌطلق علٌها اسم " اشتراكٌة الصدقات ". ولٌس العدل أٌضا هو نهب األموال المملوكة -ملكٌة مشروعة من أصحابها األؼنٌاء -بزعم إعطابها للفقراء ,وإن لم ٌصل إلى الفقراء منها نقٌر وال قطمٌر ,فهذا المفهوم -كذلك -للعدل االجتماعً مفهوم خاطا دخٌل على فكرة اإلسبلم . ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌنظر إلى الفقٌر والؽنى نظر الصوفى القابل ( :إذا رأٌت الفقر مقببلً فقل :مرحبا ً بشعار الصالحٌن ,وإذا رأٌت الؽنى مقببلً فقل :ذنب عجلت عقوبته )! ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌنظر إلى المرأة على أنها أحبولة الشٌطانو وأخت إبلٌس ,وأنها هً التً أخرجت آدم من الجنة -كما تزعم التوراة ,وكما ٌعتقد الٌهود والنصارى -وكما ٌظن لؤلسؾ كثٌر من المسلمٌن بحكم الثقافة المسمومة التً تلقوها فً المدارس أو من أجهزة اإلعبلم . ولٌس هو أٌضا الذي ٌشٌع فٌه ذلك المفهوم الخاطا عن مساواة الرجل بالمرأة مع أن فطرة هللا خالفت
بٌنهما ,وجعلت للرجل القوامة ,والمسإولٌة ( :الرجال قوامون على النساء بما فضل هللا بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ) . إن األفكار والمفاهٌم التً تشٌع فً المجتمعات المنتسبة إلى اإلسبلم الٌوم ألوان وأنواع شتى : ( ا ) بعضها من بقاٌا القٌم والتعالٌم اإلسبلمٌة الصحٌحة ,التً ال ٌزال لها أثرها فً كثٌر من األنفس والعقول ,وخصوصا ً بعد أن قام لئلسبلم دعاة واعون فً ببلد شتى ٌ ,شرحون رسالته شرحا ٌرد إلٌها فطرٌتها وشمولها ,وٌدرا الشبهات عنها . ( ب ) وبعضها من رواسب العصور األخٌرة التً تخؾ فٌها الفكر اإلسبلمً فً مختلؾ المجاالت , ففقد األصالة واإلبداع ,وأؼلق باب االجتهاد ,وأصٌب المسلمون بسوء الفهم لئلسبلم ,كما ابتلوا بسوء التطبٌق له كذلك . ( ج )زحفت على دٌار اإلسبلم ,مع االستعمار ,الذي كان وبعضها من الروافد األجنبٌة التً أكبر همه أن ٌؽٌر أفكار المسلمٌن وتصورا تهم وأذواقهم ,لٌسهل علٌه بعد ذلك لً زمامهم إلى الوجهة التً ٌرٌد . وواجب المجتمع المسلم أن ٌطارد كل المفاهٌم التً ال تستمد من اإلسبلم الصحٌح ,سواء أكانت من رواسب التخلؾ واالنحراؾ عن اإلسبلم أم من األفكار الؽازٌة الوافدة مع المستعمر الؽربً . فمن النوع األول فكرة كثٌر من المسلمٌن فً كثٌر من األقطار عن المرأة وعبلقتها بالرجل ,ونظرتهم إلٌها باعتبارها مخلوقا ناقصا أو خطرا ٌ ,جب أن تظل حبٌسة البٌت حتى ٌإوٌها القبر ,ال ترى رجبل , وال ٌراها رجل ,وال تخرج لعبادة أو عمل صالح أو علم نافع . ومن النوع الثانً فكرة كثٌر من المسلمٌن ,العصرٌٌن الذٌن تثقفوا بثقافة الؽرب ,بطرٌق مباشر أو ؼٌر مباشر ,فاعتبروا خروج المرأة على فطرتها ووظٌفتها ,من الحقوق المشروعة ,وٌعدون اختبلطها بالرجال األجانب -بؽٌر قٌد وال تحفظ -من الحرٌة المطلوبة .وٌعتبرون القول بؽٌر ذلك ضربا من الرجعٌة فً التفكٌر ,والتطرؾ فً السلوك ! واألفكار األجنبٌة الدخٌلة اآلن هً التً تقلب وتسود لدى جمهور المتعلمٌن من خرٌجً الجامعات وؼٌرها .ومن أخطر المفاهٌم التً لقنها إٌاهم الؽزو الثقافً هو :مفهوم ( الدٌن ) كما ٌتصوره الؽربٌون . فمفهوم اإلسبلم عن ( الدٌن ) دابرته ومداه ,ؼٌر المفهوم السابد عند الؽربٌٌن حتى المتدٌنٌن منهم ,إنه عندما مجرد عبلقة بٌن ضمٌر اإلنسان وربه ,ال عبلقة له بشإون الدولة وأنظمة المجتمع ,ولهذا قامت الحٌاة الحدٌثة هناك على أساس الفصل بٌن الدولة والدٌن . أما اإل سبلم فهو فً نظر المسلمٌن منهج شامل ٌنظم شإون الحٌاة كلها :من قضاء الحاجة إلى قٌام الدولة ,ومن أدب األكل والشرب إلى نظام االقتصاد وسٌاسة الحكم ,ومن الصبلة والصٌام إلى شإون الحرب والسلم والعبلقات الدولٌة . والشرٌعة اإلسبلمٌة هً الحاكمة على جمٌع أفعال المكلفٌن ,ال ٌفرج قول وال عمل عن سلطانها ,وكل عمل صادر عن مكلؾ ال بد أن تعطٌه الشرٌعة حكمه من الوجوب ,أو االستحباب أو الحرمة ,الكرامة أو اإلباحة ,ومهمة الشرٌعة هً إخراج المكلؾ من اتباع داعٌة هواه إلى التقٌد بؤحكام هللا .
ومصادر الشرٌعة فٌها الوفاء كل الوؾاء بتؽطٌة جمٌع الوقابع واألحداث التً تمر بالبشر ,بحسب ما احتوت من أصول وقواعد ونصوص ( ..ونزلنا علٌك الكتاب تبٌانا لكل شًء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمٌن ) . وقد كان الواقع التطبٌقً لئلسبلم شاهداً على معه هذه الفكرة ,فكان الرسول (صلى هللا علٌه وسلم) هو المبلػ عن هللا ,والقابم بؤمر الدٌن ,وهو إمام السلمٌن وربٌس دولتهم ,والقاضً فً خصوماتهم ,ولم ٌكن معه ملك أو حاكم ٌقوم بؤمور السٌاسة ,كما كان ٌحدث ذلك فً بنى إسرابٌل الذٌن قالوا لنبٌهم ( : ابعث لنا ملكا ً نقاتل فً سبٌل هللا ) (وقال لهم نبٌهم إن هللا قد بعث طالوت ملكا ً ). وكان الخلفاء ,الراشدون ورسول هللا (صلى هللا علٌه وسلم) ,هم أبمة المسلمٌن فً الصبلة ورإساإهم فً اإلدارة والسٌاسة ,وكذلك كان من بعدهم من خلفاء بنى أمٌة والعباس .ولهذا عرؾ العلماء , الخبلفة بؤنها :نٌابة عامة من رسول هللا فً حراسة الدٌن وسٌاسة الدنٌا به . وهذا المفهوم اإلسبلمً المسٌح من ( الدٌن ) ٌجب أن ٌسود مشٌع فً المجتمع المسلم ,حتى ٌمكن بعدها محاكمة كل مسلم إلى دٌنه الذي ألزمه وآمن به و رضٌه هللا له ,و رضٌه عدما قٌاس كل االعتبارات والتصورات واألقوال واألعمال بمقٌاس الدٌن ,الذي ال ٌخطا وال ٌضل وال ٌنسى.
نوعان من المفاهيم خطر على المجتمع نوعان من المفاهٌم هما خطر على المجتمع والمجتمع المسلم الٌوم ٌجب أن ٌتحرر من نوعٌن من المفاهٌم الدخٌلة علٌه ،سٌطر كل نوع منهما على عدد من الناس :بعضها سٌطر على العامة ,واآلخر سٌطر على العامة ,أو النخبة . النوع األول :المفاهٌم التً دخلت على اإلسبلم وعلى مجتمعاته فً عصور التخلؾ وسوء الفهم لئلسبلم .مثل المفاهٌم إلى شاعت وسادت من التوكل بؤنه التواكل ,ومن الزهد بؤنه ترك الحٌاة لؽٌر المإمنٌن , وعن اإلٌمان بالقدر بؤنه ضرب من الجبرٌة ,وعن الفقه بؤنه نقل ما قاله األقدمون ,وعن االجتهاد بؤنه باب قد أؼلق ,وعن العقل بؤنه نقٌض النقل ,وعن المرأة بؤنها أحبولة الشٌطان ,وعن بركة القرآن أنها فً تعلٌقه للحفظ من العٌن أو من الجان ,وعن بركة السنة أنها فً قراءة البخاري عند األزمات ,وعن األولٌاء والكرامات وما شاع حولها من اعتقادات وأفكار تناقض سنن هللا فً األنفس واآلفاق .إلى ؼٌر ذلك من المفاه ٌم التً سادت فً زمن الركود العلمً ,والجمود الفكري ,والتقلٌد الفقهً ,واالجترار الكبلمً ,واالنحراؾ الصوفً ,واالستبداد السٌاسً ,واالنتكاس الحضاري . والنوع الثانً :المفاهٌم التً زحفت على مجتمعاتنا ,مع زحؾ االستعمار ،فدخلت من بابه ،وسارت فً ركابه ،واتخذت الؽرب لها قبلة وإماماً ،ولم ٌكن لنا بها عهد وال خطرت لنا ببال .إنها المفاهٌم المتعلقة بالدٌن والدنٌا ,والرجل والمرأة ,وبالفضٌلة والرذٌلة ,بالتحرر والجمود ,وبالتقدم والرجعٌة , وبالحبلل والحرام . المفاهٌم المتعلقة بالحدود الفاصلة بٌن حرٌة الفكر ,وحرٌة الكفر ,بٌن حرٌة الحقوق ,وحرٌة الفسوق ,بٌن العلمٌة والعلمانٌة ,بٌن الدولة الدٌنٌة والدولة اإلسبلمٌة .إنها المفاهٌم الؽزو الفكري ,التً تعتبر اإلٌمان بالؽٌب تخلفنا ,والتمسك بالسلوك الدٌنً تزمتا ً ,والدعوة إلى تحكٌم الشرٌعة تطرفا ,واألمر
بالمعروؾ والنهى عن المنكر تدخبلً فً شإون اآلخرٌن ,واختبلط الرجل بالمرأة -ببل قٌود -تحرراً , وعودة المرأة المسلمة إلى الحجاب الشرعً رجعٌة ,واالنتفاع بالتراث تعصبا ,واعتبار علما ء الدٌن حرس التخلؾ ,ودعاة ( التؽرٌب ) أعبلم (التنوٌر) . كرٌن اإلسبلمٌٌن أن ٌقدموا األفكار والمفاهٌم الشرعٌة اإلسبلمٌة والواجب على الدعاة والعلماء والمؾ ً ً الصحٌحة األصٌلة لتحل محل األفكار والمفاهٌم الؽربٌة الدخٌلة ,سواء دخلت قدٌما أم حدٌثا .فكلتاهما ال تمثل اإلسبلم الصحٌح :األفكار القدٌمة المتعفنة ,واألفكار المستوردة الؽازٌة المدمرة ,أو -بتعبٌر األستاذ هالك بن نبً : -األفكار المٌتة ,واألفكار الممٌتة . ومن ناحٌة أخرى إذا نظرنا إلى القضٌة فً ضوء الوسطٌة والتطرؾ ,فعلٌنا أن نتبنى مفاهٌم التٌار الوسطى ,الذي تحدثنا عنه فً كتب أخرى ,ونرفض التطرؾ ,سواء أكان إلى الؽلو واإلفراط ,الذي تمثله بعض الفضابل اإلسبلمٌة أم إلى التقصٌر والتفرٌط الذي تمثله الشرابح العلمانٌة والمؽتربة فً أوطاننا ,وهى متفاوتة فً تؤثرها بالعلمانٌة والتؽرٌب ,بعضها قرٌب جدا ,وبعضها بعٌد جداً , وبعضها بٌن بٌن . لقد ذكرت ثمانٌة عشر مفهوما ً أساسٌا عن اإلسبلم فً كتابً ( اإلسبلم والعلمانٌة ) أردت بها تحدٌد مبلمح اإلسبلم الذي ندعو إلٌه ,حتى ال ٌزعم زاعم إننا ندعو إلى إسبلم ؼامض ,أو مجهول ,أو ( هبلمً ) قابل ,ألن ٌفسر( من شاء) كما شاء! وقدمت مجموعة إسبلمٌة مستنٌرة رإٌة إسبلمٌة معتدلة صاؼها األستاذ الدكتور أحمد كمال أبو المجد ,وأنا موافق علٌها فً جملتها ,وان كنت قد أخالؾ فً بعض التفصٌبلت . وهذا الكتاب ذاته ٌقدم مبلمح عن المجتمع المسلم الذي ننشده فً ضره مفاهٌم المدرسة الوسطٌة التً تراخى بٌن العقل والنقل ,وتربط بٌن الدٌن والدنٌا ,وتوفق بٌن محكمات الشرع ومقتضٌات العصر , وتوازن بًن الثوابت والمتؽٌرات وتجمع بٌن السلفٌة والتجدٌد ,وتستلهم الحاضر ,وتستشرؾ المستقبل ,وتزمن باالنفتاح فً ؼٌر ذوبان ,والتسامح فً ؼٌر تهاون .
كما تمٌز المجتمع المسلم بما ٌسوده من أفكار ومفاهٌمٌ ،تمٌز أٌضا ً بما ٌسوده من مشاعر وعواطؾ. فهناك مجتمعات تسودها مشاعر الحقد الطبقً ،ومجتمعات تسودها مشاعر التمٌز العنصري، ومجتمعات تسودها مشاعر العصبٌة القومٌة .ونجد المجتمعات تتفاوت كذلك فً مشاعر الوالء والعداء، وعواطؾ الحب وابؽض وأحاسٌس الؽضب والرضا .والمجتمع المسلم قد جعل والءه لئلسبلم وأهله وأنصاره ،كما جعل عداءه ألعداء اإلسبلم ومحاربٌه ،وهذا مبنى على فكرة الوالء هلل ورسوله ،ومن اتخذ هللا ولٌا ً فقد اتخذ عدوه عدواً .والمجتمع اإلسبلمً ٌتمٌز بما ٌسوده من عاطفة اإلخاء الوثٌق والحب العمٌق بٌن أبنابه ،أعنً أبناء اإلسبلم جمٌعاً ،مهما تناءت بهم الدٌار ،وتفرقت بهم األوطان، واختلفت منهم األجناس واأللوان وتفاوتت بٌنهم المراكز والطبقات. إن هللا سبحا نه قد امتن على المسلمٌن بنعمة اإلخاء كما امتن علٌهم بنعمة اإلٌمان ،قال تعالى ) واذكروا نعمت هللا علٌكم إذ كنتم أعداء فؤلؾ بٌن قلوبكم فؤصبحت بنعمته إخوانا ً) ،وقال ٌخاطب رسوله( :هو الذي أٌدك بنصره وبالمإمنٌن ،وألؾ بٌن قلوبهم لو أنفقت ما فً األرض جمٌعا ً ما ألفت بٌن قلوبهم
ولكن هللا ألؾ بٌنهم ،إنه عزٌز حكٌم) .أنه ال مجال فً المجتمع اإلسبلمً الحق لمشاعر الحقد والصراع بٌن الطبقات ،وال مشاعر الكبر والتمٌٌز بٌن األجناس واأللوان .وال مشاعر العصبٌة لرقعة من دار اإلسبلم -الوطن اإلسبلمً -دون رقعة .وال لقوم من أهل اإلسبلم ،وقم المسلم هم أهل اإلسبلم. لقد كان مسجد النبً -صلى هللا علٌه وسلم) فً المدٌنة ٌضم تحت سقفه أجناسا ً وألوانا ً وطبقات .لم ٌحسوا بؽٌر شعور األخوة الجامعة ،ولم ٌشعروا بؤي تفرقة أو تماٌز بٌنهم ،منهم الفارسً كسلمان والرومً كصهٌب والحبشً كببلل ،والؽنً كعثمان ابن عفان ،وعبد الرحمن بن عوؾ ،والفقٌر كؤبً ذر وعمار ،وفٌهم البدوي والحضري ،والمتعلم واألمً ،واألبٌض واألسود ،والرجل والمرأة، والضعٌؾ والقوي ،والرقٌق والحر :كلهم أخوة فً ظل اإلسبلم ،وتحت راٌة القرآن. واإلخاء اإلسبلمً لٌس أمراً على هامش اإلسبلم ،ولكنه أحد مبادبه األساسٌة ،التً تقرن إلى الشهادة هلل نعهالى ،بالوحدانٌة ،ولمحمد (صلى هللا علٌه وسلم) بالرسالة ،ألنه أثر اإلٌمان ومقتضاه( :إنما المإمنون إخوة). روى أحمد وأبو داوود أن النبً (صلى هللا علٌه وسلم) كان ٌدعو دبر كل صبلة بهذا الدعاء الرابع الفرٌد Lة اللهم ربنا ورب كل شًء وملٌكه أنا شهٌد أنك هللا وحدك وال شرٌك لك) ( اللهم ربنا ورب كل شًء وملٌكه أنا شهٌد أن محمداً عبدك ورسولك) (اللهم ربنا ورب كل شًء وملٌكه أنا شهٌد أن العباد كلهم أخوة) فهذا هو محمد رسول هللا ٌشسهد وٌشهد هللا رب كل شًء :أن العباد كل العباد إخوته، وهذا هو إخاء اإلسبلم ،إخاء بٌن الناس وبٌن المسلمٌن خاصة. وٌجعل النبً (صلى هللا علٌه وسلم) اإلخاء والحب شرطا ً لئلٌمان÷ الذي هو شرط لدخول الجنة فٌقول ) والذي نفسً بٌده لن تدخلوا الجنة حتى تإمنوا ،ولن تإمنوا حتى تحابوا)( ،ال ٌإمن أحدكم حتى ٌحب ألخٌه ما ٌحب لنفسه) وبٌن عبلقة المسلم بالمسلم ،فٌقول ( المسلم أخو المسلم ،ال ٌظلمه وال ٌسلمه وال ٌحقره وال ٌخذله ،بحسب امرئ من الشر أن ٌحقر أخاه المسلم). الرابطة الفذة التً ٌعرؾ بها اإلسبلم هً رابطة اإلخاء بٌن أبنابه ،دون أٌة رابطة أخرى ،فقد حارب اإلسبلم العصبٌة بكل أنو اعها ومظاهرها ،العصبٌة للقبٌلة أو للجنس أو للون أو للوطن أو للطبقة أو للحزب ..أو لؽٌر ذلك مما ٌتعصب الناس له إال للحق الذي نزل به الوحً ،وقامت به السموات واألرض. ٌقول رسول هللا (صلى هللا علٌه وسلم) ( :لٌس منا من دعا إلى عصبٌة ،ولٌس منا من قاتل على عصبٌة ،ولٌس منا من مات على عصبٌة) .ولقد صور النبً (صلى هللا علٌه وسلم) المجتمع المسلم وما ٌسوده من مشاعر التواد والتعاطؾ والتراحم فقال فً حدٌثه المشهور( :ترى المإمنٌن فً توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد ،إذا اشتكى منه عضو تدعى له سابر األعضاء بالحمى والسهر) .فالمجتمع الذي ٌعٌش فٌه كل فرد لنفسه ،وال ٌؤسى آلالم اآلخرٌن وال ٌحس بؤحزانهم ،وال ٌفرح لفرحهم ،ولٌس هو بالمجتمع المسلم. المجتمع الذي ٌطؽى فٌه القوي على الضعٌؾ ،وٌقسو فٌه الؽنً على الفقٌر ،وٌشح فٌه الواجد على المحروم ،لٌس هو بالمجتمع المسلم.
مهمة المجتمع مع المشاعر اإلسالمية إن دور المجتمع المسلم مع المشاعر اإلسبلمٌة ٌتمثل فٌما ٌلً: .1تثبٌت هذه المشاعر وتقوٌمها ،وإشاعتها بكل الوسابل اإلعبلمٌة والتربوٌة :المسجد ،المدرسة ، الكتاب ،الصحٌفة ،اإلذاعة ،التلفاز ،الخٌالة ،وكل وسٌلة تعٌن على تحقٌق هذه الؽاٌة. لقد رأٌنا النبً ( صلى هللا علٌه وسلم) لكً ٌثبت مشاعر اإلخاء بٌن المسلمٌن ٌقول دبر كل صبلة: ( اللهم ربنا ورب كل شًء وملكٌه ،أنا شهٌد أن العباد كله أخوه) تثبٌتا ً لهذا المعنى الكبٌر. ومن حسن حظ المسلمٌن أن األفكار والمشاعر التً جاء بها دٌنهم لم ٌدعها مجرد أشٌاء مثالٌة مجنحة، بل ربطها بشعابرها وآدابه الٌومٌة ،فإذا نظرنا إلى الصبلة اإلسبلمٌة وجدنا فٌها تثبٌتا ً مستمراً لما ٌدعوا إلٌه اإلسبلم من التعارؾ واإلخاء والمحبة والمساواة .كذلك الصٌام والحج ،وكذلك أدب التحٌة وتشمٌت العاطس وعٌادة المرٌض ،وؼٌرها من اآلداب االجتماعٌة التً حث علٌها اإلسبلم. .2تجسٌد هذه المشاعر اإلسبلمٌة فً واقع ملموس وأوضاع عملٌة. فمشاعر التراحم والمودة بٌن ذوي القربى ٌجب أن تتجسد فً تواصل وتزاور وتكافلٌ .تمثل فً نظام "النفقات" فً اإلسبلم ،حٌث ٌجب على القرٌب الموسر أن ٌنفق على قرٌبه المحتاج كما قال تعالى ( وآت ذا القربى حقه)( ،وأولو األرحام بعضهم أولى ببعض فً كتاب هللا) ،ومثله نظام المٌراث( للرجال نصٌب مما ترك الوالدان واألقربون وللنساء نصٌب مما ترك الوالدان و األقربون مما قل منه أو كثر، نصٌبا ً مفروضا) .ومشاعر اإلخاء والمحبة بٌن المسلمٌن ٌجب تتجسد فً صورة تكافل معاشً وتضامن عسكري ،واتحاد سٌاسً ،وتعاون اقتصادي ،بمعنى أن ٌتجسد هذا اإلخاء فً مثل "الزكاة" تإخذ من أؼنٌابهم ،لترد على فقرابهم ،وفً مثل الجهاد الذي ٌوجب على المسلمٌن -بالتضامن -أن ٌدفعوا عن كل أرض إلسبلمٌة دنستها أقدام العدو الكافر .وفً مثل "الخبلفة" التً نفرض على المسلمٌن وحدة القٌادة ،المنبثقة عن وحدة العقٌدة ووحدة الفكر ،ووحدة السلوك ،ووحدة الوطن. لهذا رأٌنا النبً (صلى هللا علٌه وسلم) أول من قدومه إلى المدٌنة بعد الهجرة ٌإاخً بٌن المهاجرٌن واألنصار مإاخاة عاطفٌة عملٌة ،جعلتهم ٌتقاسمون السراء والضراء ،حتى روى أنهم كانوا ٌتوارثون بهذا اإلخاء. ً ولما انتهى هذا اإلخاء الخاص بقً اإلخاء العام ٌسود المجتمع اإلسبلمً وٌحكمه متمثبل فً نظام التكافل الفرٌد ،بشتى أقسامه وألوانه ،والتعاون الشامل بٌن كافة أفراده وجماعاته ،ذلك التعاون الذي مثله النبً (صلى هللا علٌه وسلم) خٌر تمثٌل كالبنٌان ٌشد بعضه بعضا ً. .3أال ٌسمح للمشاعر المضادة اإلسبلمٌة بالظهور والتؤثٌر فً المجتمع المسلم ،بل ٌجتث جذورها حتى ال تظهر ،ويطاردها إذا ظهرت بحٌث تموت فً مهدها ولهذا رأٌناه (صلى هللا علٌه وسلم) ٌبرأ العصبٌة -المنافٌة لؤلخوة اإلسبلمٌة -وٌقاومها بصراحة وجبلء خشٌة على المجتمع اإلسبلمً الولٌد أن تمزقه الجاهلٌة التً سادته دهراً طوٌبلًـ وجعلت الرجل ٌؽضب البن قبٌلته محقا ً كان أ ,مبطبلً ،ظالما ً أو مظلوما ً .وفً هذا جاء الحدٌث الشرٌؾ ٌبرأ من كل من دعى إلى عصبٌة ،أو قاتل إلى عصبٌة ،أو مات على عصبٌة ،وٌقول: ولما استطاع رجل من خبثاء الٌهود أن ٌحٌى مشاعر العصبٌة الجاهلٌة بٌن األوس والخزرج ٌ ،وما ً أطفؤ رسول هللا نار الفتنة بنور اإلٌمان ,وردهم إلى أخوة اإلسبلم .فقد ذكر المفسرون عن محمد بن إسحاق وؼٌره :أن رجبل من الٌهود مر بمؤل من األوس والخزرج فساءه ما هم علٌه من االتفاق واأللفة
.فبعث رجبل معه ,وأمره أن ٌجلس بٌنهم وٌذكرهم ما كان من حروبهم ٌوم ( بعاث ) وؼٌره من أٌام الجاهلٌة ,ففعل ,فلم يزل ذلك دأبه حتى حمٌت نفوس القوم ،وؼضب بعضهم على بعض ,وتثاوروا ونادوا بشعارهم ٌ :ا لؤلوس وٌا للخزرج ,وطلبوا أسلحتهم وتواعدوا إلى ( الحرة ) ,فبلػ ذلك النبً (صلى هللا علٌه وسلم) فؤتاهم بمن معه من المهاجرٌن من أصحابه فقال ٌ ( :ا معشر المسلمٌن ! هللا , هللا ! أبدعوى الجاهلٌة وأنا بٌن أظهركم ؟! .بعد أن هداكم هللا إلى اإلسبلم ,وأكرمكم به ,وقطع عنكم أمر الجاهلٌة ,واستنقذكم به من الكفر ,وألؾ بٌن قلوبكم ترجعون إلى ما كنتم علٌه كفارا ) ؟! فعرؾ القوم أنها نزؼة من الشٌطان وكٌد لهم من عدوهم ,فؤلقوا السبلح من أٌديهم ,وبكوا ,وعانق الرجال بعضهم بعضا ,ثم انصرفوا مع رسول هللا (صلى هللا علٌه وسلم) سامعٌن مطٌعٌن ) . وهكذا ٌجب أن ٌكون المجتمع المسلم متنبها ً إلى هذه المداخل التً ٌدخل منها الشٌطان لٌفسد بها قلوب المسلمٌن ,وٌثٌر بٌنهم نزؼات الجاهلٌة .ومن هنا ٌجب أن ٌتحرر المجتمع المسلم فً عصرنا من ؼلو النزؼات العصبٌة العنصرٌة ( القومٌة ) واإلقلٌمٌة ( الوطنٌة ) التً تتسرب إلى حٌاة المسلمٌن لتحل محل األخوة اإلسبلمٌة والوحدة اإلسبلمٌة ,وتقؾ منها موقؾ العداء . ال جناح على المسلم أن ٌوجه اهتمام أكبر إلى قومه األقربٌن ,وإلى وطنه الخاص ،فهذا أمر فطرى , ولكن فً دابرة انتمابه الكلى لئلسبلم وأمته . .4أن ٌسد النوافذ التً تهب منها رٌح البؽضاء والخصومة والفرقة ,وٌقضً على العوامل التً تدمر معانً اإلخاء اإلسبلمً ,وتهدم الشاعر اإلسبلمٌة . وهذا هو السر فً تحرٌم اإلسبلم للؽٌبة والنمٌمة والسخرٌة بالخلق ,وؼٌرها من الرذابل التً تمزق العرا ,وتقتل روح المحبة بٌن الناس . ٌقول النبً (صلى هللا علٌه وسلم) ( :إن أحبكم إلى وأقربكم منى فً اآلخرة :أحاسنكم أخبلقا ,وإن أبؽضكم إلى وأبعدكم منى فً اآلخرة :أساوبكم أخبلقا ،الثرثارون المتفٌهقون المتشدقون) . ومن هنا -أٌضا ٌ -نكر اإلسبلم التفاوت الفاحش بٌن األفراد والطبقات بحٌث ٌوجد الفقر المدقع إلى جنب الثراء العرٌض ,والترؾ المسرؾ إلى جوار الحرمان البابس ,إذ ال ٌتصور قٌام أخوة بٌن مترؾ ؼارق فً النعٌم إلى أذقانه ,وبٌن محروم ٌشكو سؽب البطن وجفاؾ الرٌق .
ليس بمجتمع مسلم لٌس بمجتمع مسلم -إذن -ذلك الذي تسوده مشاعر الحقد الطبقً ,ألن هذا الحقد إما أن ٌكون نتٌجة تظالم اجتماعً وبؽى بعض الناس على بعض ,وهذا ال ٌقر اإلسبلم وجوده فً مجتمعه ,وإما أن ٌكون نتٌجة لعوامل خارجٌة تعمل على تقسٌم المجتمع تقسٌما طبقٌا ,وتإجج نار الصراع بٌن طوابفه وفباته ,فالعمال والفبلحون فبة أو طبقة مدللة فً الظاهر ,وان تكن فً الواقع أداة تستخدم ألؼراض شٌطانٌة خبٌثة . .وأما سابر الفبات من المبلك والتجار والمثقفٌن والطبلب وأصحاب الوظابؾ واألعمال المختلفة ,فهم الفبات ( البرجوازٌة ) المؽضوب علٌها والتً تعٌش فً الدرجة الثانٌة ,إن سمح لها بالبقاء وهذا كله ال ٌقره اإلسبلم أٌضا ً ,فاإلسبلم ٌسمى الحسد والبؽضاء : ( داء األمم )ٌ ،قول عن البؽضاء ( :إنها الحالقة ,ال تحلق الشعر ولكن تحلق الدٌن ) ! ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي تتقدم فٌه العصبٌة الوطنٌة ,أو القومٌة على األخوة اإلسبلمٌة ,حتى ٌقول المسلم :وطنً قبل دٌنً ,أو ٌقول المسلم العربً: عروبتً قبل إسبلمً ,أو ٌقول المسلم الهندي أو الفارسً ,أو النٌجٌري ,أو الصومالً :قومٌتً قبل عقٌدتً ،وٌبلػ األمر ببعض الناس أن ٌجعلوا مثلهم ال قول الشاعر القروي :
بالدك قدمها على كل ملة ومن أجلها أفطر ومن أجلها صم هبونً دٌنا ً ٌمنح العرب وحدة وسبروا بجثمانً على دٌن ( برهم ) سالم على كفر ٌوحد بٌننا وأهال وسهال بعده بجهنم ! فاألخوة اإلسبلمٌة فوق العصبٌات ,ورابطة العقٌدة فوق كل الروابط ,ودار اإلسبلم فوق كل األوطان .لٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي تتخذ فٌه األوطان والقومٌات ( أوثان) تعبد من دون هللا ,تجند لتقدٌسها األقبلم واأللسنة وجمٌع أجهزة التؤثٌر والتوجٌه واإلعبلم ,وتجسد حولها المشاعر والعواطؾ ,وٌوجه لها الحب والوالء ,إلى درجة العبادة بالفعل ,وان لم ٌعبروا عنها باللفظ . .إنها وثنٌة من نوع جدٌد ظهرت فً بلدان شتى ,ثم انتقل وباإها وسرت عدواها إلى ببلد اإلسبلم ,حتى لفت ذلك أنظار الباحثٌن والمراقبٌن من ؼٌر المسلمٌن :أن تنبعث من أرض التوحٌد وثنٌة من طراز جدٌد .ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌعادى المسلمٌن ،وٌوالى أعدا ء اإلسبلم ،أو ٌستوي بٌن المسلمٌن والمشركٌن أو الملحدٌن فً المعاملة ,فمشاعر الوالء لئلسبلم وأهله هً التً تقود المجتمع المسلم ,وكذلك مشاعر البؽض ألعداء اإلسبلم الذٌن ٌكٌدون ألهله ,وٌصدون عن سبٌله ,فؤوثق عرا اإلٌمان :الحب فً هللا , والبؽض فً هللا ,والوالء هلل ,والعداوة فً هللا . ومن هنا تكرر فً القرآن الكرٌم مثل هذا النداء اإللهً ٌ ( :ا أٌها الذٌن آمنوا ال تتخذوا الكافرٌن أولٌاء من دون المإمنٌن ،أترٌدون أن تجعلوا هلل علٌكم سلطانا ً مبٌنا ) ؟! ( ٌا أٌها الذٌن آمنوا ال تتخذوا عدوى وعدوكم أولٌاء تلقون إلٌهم بالمودة)ٌ ( ،ا أٌها الذٌن آمنوا ال تتولوا قوما ؼضب هللا علٌهم ) ٌ ( ,ا أٌها الذٌن آمنوا ال تتخذوا الٌهود والنصارى أولٌا ء بعضهم أولٌا ء بعض ,ومن ٌتولهم منكم فإنه منهم ,إن هللا ال ٌهدى القوم الظالمٌن ) ٌ ( ،ا أٌها الذٌن آمنوا ال تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولٌاء إن استحبوا الكفر على اإلٌمان ,ومن ٌتولهم منكم فؤولبك هم الظالمون ). وهكذا ٌدمػ القرآن من اتخذوا أعدا ء هللا أولٌاء لهم وأحباء بؤنهم منهم ،وأنهم ظالمون ,وأنهم ضلوا سواء السبٌل ,وأنهم جعلوا هلل علٌهم سلطان مبٌن ،كما جعل ذلك فً آٌة أخرى من صفات المنافقٌن : ( بشر المنافقٌن بؤن لهم عذابا ً ألٌما ،و الذٌن ٌتخذون الكافرٌن أولٌاء ء من دون المإمنٌن ,أٌبتؽون عندهم العزة فإن هلل جمٌعا ً ) .ونفى عنهم اإلٌمان فً آٌة أخرى فقال ( :ال تجد قوما ً مإمنون باهلل والٌوم اآلخر ٌوادون من حاد هللا ورسوله ولو كانوا آباءهم أ ,أبناءهم أو إخوانكم أو عشٌرتهم) .وفً آٌة ثالثة جعلهم لٌسوا من هللا فً شًء ،قال تعالى( :ال ٌتخذ المإمنون الكافرٌن أولٌاء من دون المإمنٌن، ومن ٌفعل ذلك فلٌس من هللا فً شًء إال أن تتقوا منهم تقا ًة ،و ٌحذركم هللا نفسه ،وإلى هللا المصٌر) المجتمع المسلم ال ٌنظر إلى الناس من خبلل األرض أو اللون ,أو العنصر ,أو الطبقة ,بل م ن خبلل العقٌدة بالنسبة للمسلمٌن ،ومن خبلل الرابطة اإلنسانٌة بالنسبة لؽٌر المسلمٌن . فالوالء هلل ولرسوله وللمإمنٌن .والبر والقسط لكل الناس ما لم ٌقاتلوا المسلمٌن أو ٌظاهروا علٌهم ( : ال ٌنهاكم هللا عن الذٌن لم ٌقاتلوكم فً الدٌن ولم ٌخرجوكم من دٌاركم أن تبروهم وتقسطوا إلٌهم ,إن هللا ٌحب المقسطٌن ) . والرحمة لكل مخلوقات هللا ,حتى البهابم العجماوات ,والقطط والكبلب ,فبل ٌجوز الخلط بٌن الوالء وؼٌره من البر والرحمة .فتخصص الوالء للمسلمٌن ال ٌنفى البر والعدل والرحمة باآلخرٌن . ٌقول برنارد لوٌس ( :فؤساس التقسٌم عند المسلمٌن والذي ٌفرق إنسان عن آخر ,وٌمٌز بٌن األخ واألجنبً ,هو اإلٌمان ,واالنتساب أو عدمه إلى أمة اإلسبلم ..والذي قصدنا باإلٌمان عند المسلمٌن ٌعنى الدٌن ,وٌعنى أٌضا ً القوة االجتماعٌة فً األمة والمقٌاس الوحٌد لهوٌتها ,والبإرة التً ٌتجمع حولها والء الجماعة .ففً المجتمع اإلسبلمً العالمً كل مسلم أخ لكل مسلم آخر ( على األقل نظرٌا ً)مهما كانت لؽته واصله وسبللته وببلده ,فهو أقرب له من مواطنه الذي قد ٌتكلم لؽته وٌنحدر من نفس سبللته ،ولكنه ال ٌدٌن بنفس عقٌدته ،حتى إن المسلم المإمن ٌرفض أي صلة بؤسبلفه القدامى فً العهود الجاهلٌة ،ألنه ال ٌحس أن بٌنه وبٌنهم أي رابطة من هوٌة عقابدٌة أو صلة روحٌة ،وإهمال
المسلمٌن لعلم اآلثار وعدم اهتمامهم به فً الشرق األوسط المسلم ،ال ٌعنً أن المسلمٌن جهلة برابرة، ال ٌستطٌعون فهم أهمٌة هذه األشٌاء..كبل ..فعلى العكس من ذلك أنهم قوم حضارة سامٌة .وإحساس قوي مرهؾ بالتارٌخ ومكانتهم ،إال أن تارٌخ المسلمٌن بدأ بظهور اإلسبلم وسلفهم الصالح هم أوابل المسلمٌن عند قبلة اإلسبلم ،فً قلب جزٌرة العرب ،فقدماء المصرٌٌن من المشركٌن والبابلٌون وؼٌرهم من الشعوب القدٌمة ،هم ؼرباء أجانب عنهم ،على الرؼم من الصلة الوطنٌة فً الدم والتراب) .
كما ٌتمٌز المجتمع المسلم بعقابده وشعابره ,ومفاهٌمه ومشاعره ٌ ,تمٌز أٌضا بؤخبلقه وفضابله . فاألخبلق والفضابل جزء أصٌل من كٌان هذا المجتمع ,فهو مجتمع العدل واإلحسان والبر والرحمة , والصدق واألمانة ,والصبر والوفاء ,والحٌاء والعفاؾ ,والعزة والتواضع ,والسخاء والشجاعة , واإلباء والشرؾ ,والبذل والتضحٌة ,والمروءة والنجدة ,والنظافة والتجمل ,والقصد واالعتدال , والسماحة والحلم ء والنصٌحة والتعاون ,والؽٌرة على الحرمات ,واالستعبلء على الشهوات , والؽضب للحق ,والرؼبة فً الخٌر ,واإلٌثار للؽٌر ,واإلحسان إلى الخلق كافة ,وبخاصة بر الوالدٌن ,وصلة األرحام ,وإكرام الجار ,ودعوة الناس إلى الخٌر ,واألمر بالمعروؾ ,والنهى عن المنكر . . وكل خصال الخٌر ,وخبلل المكرمات ,ومكارم األخبلق .وأولها :اإلخبلص له ,والتوبة إلٌه , والتوكل علٌه ,والخشٌة منه والرجاء فً رحمته ,والتعظٌم لشعابره ,والحرص على مرضاته , والحذر من مساخطه ,إلى ؼٌر ذلك من المعانً الربانٌة التً ٌؽفلها كثٌر من الناس حٌن ٌتحدثون عن األخبلق فً اإلسبلم ,فلٌست األخبلق ما ٌتعلق بما بٌن اإلنسان واإلنسان فحسب ,وإنما تشمل ما بٌن اإلنسان وخالقه أٌضا .وهو فً الجانب السلبً ٌحرم كل الرذابل ,واألخبلق الردٌبة ,وٌشتد فً تحرٌم بعضها ء فٌجعلها فً مرتبة الكبابر .فٌحرم الخمر والمٌسر ,وٌعدهما رجسا من عمل الشٌطان , وٌحرم الزنى وكل ما ٌقرب أو ٌعٌن علٌه ,ومثل ذلك الشذوذ الجنسً الذي هو عبلمة على انتكاس الفطرة وانهٌار الرجولة ,وٌحرم الربا ,وأكل أم وال الناس بالباطل وخاصة إذا كانوا ضعفا ء كالٌتامى ,وٌحرم عقوق الوالدٌن وقطٌعة األرحام ,واإلساءة إلى الجار ,وإٌذاء اآلخرٌن ,بالٌا أو اللسان , وٌجعل من خصال النفاق :الكذب والخٌانة والؽدر وإخبلؾ الوعد والفجور فً الخصومة . وكل رذٌلة منكرها الفطر السلٌمة ,والعقول الراشدة جاء اإلسبلم فؤنكرها وألح فً إنكارها كما أن كل األخبلق الفاضلة التً تعرفها الفطر والعقول وٌسعد بسٌادتها األفراد والجماعات قد أقرها وأمر بها وحث علٌها .والذي ٌتلو كتاب هللا تعالى ,أو ٌقرا أحادٌث رسول هللا (صلى هللا علٌه وسلم) , ٌرى أن هذ ه األخبلق والفضابل من المقومات الذاتٌة للمجتمع المسلم ,ولٌست من األعراض الطاربة علٌه ,وال من األمور الهامشٌة فً حٌاته ,فهً فً القرآن من الصفات األساسٌة للمإمنٌن والمتقٌن الذٌن ال ٌدخل الجنة ؼٌرهم ,وال ٌنجو من النار ؼٌرهم ,وال ٌسعد بالحٌاة الدنٌا ؼٌرهم ..وهً فً السنة من شعب اإلٌمان ,ال ٌتم اإلٌمان إال بالتحلً بها ,والتخلً عن أضدادها .ومن أعرض عنها فقد جانب أوصاؾ المإمنٌن ,وتعرض لسخط هللا ولعنته ,وبربت منه ذمة هللا وذمة رسوله . ونعرض بعض ( اللوحات ) القرآنٌة لؤلخبلق اإلسبلمٌة تصورها النماذج األمٌة حسب ترتٌب المصحؾ : ( .1لٌس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمؽرب ولكن البر من آمن باهلل والٌوم اآلخر والمبلبكة والكتاب والنبٌٌن وآتى المال على حبه ذوي القربى والٌتامى والمساكٌن وابن السبٌل
والسابلٌن وفً الرقاب وأقام الصبلة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ،والصابرٌن فً البؤساء والضراء وحٌن البؤس ،أولبك الذٌن صدقوا ،وأولبك هم المتقون). مزجت اآلٌة الكرٌمة بٌن العقابد من اإلٌمان باهلل والٌوم اآلخر والمبلبكة والكتب والنبٌٌن وبٌن الشعابر امى ..إلخ ,والوفاء بالعهد من الصبلة والزكاة ,واألخبلق من إٌتاء المال على حبه ذوى القربى والٌت والصبر على البؤساء والضراء وحٌن البؤس .وجعلت هذا المزٌج الناس هو حقٌقة البر ,وحقٌقة التدٌن وحقٌقة التقوى كما ٌرٌدها هللا. ( .2إنما ٌتذكر أولو األلباب ،الذٌن ٌوفون بعهد هللا وال ٌنقضون المٌثاق ،والذٌن ٌصلون ما أمر هللا به أن ٌوصل وٌخشون ربهم وٌخافون سوء الحساب ،والذٌن صبروا ابتؽاء وجه ربهم وأقاموا الصبلة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعبلنٌة وٌدرءون بالحسنة السٌبة أولبك لهم عقبى الدار) تمٌزت هذه اللوحة األخبلقٌة بالمزج بٌن األخبلق الربانٌة كخشٌة هللا وخوؾ سوء الحساب ,واألخبلق اإلنسانً من الوفاء والصبر والصلة واإلنفاق ودرء السٌبة بالحسنة ,إن صح هذا التمٌٌز .فإن المتؤمل ة فً اآلٌة ٌجدها قد وصلت األخبلق كلها بالربانٌة ,فالوفاء وفاء بعهد هللا ,والصلة هً لما أمر هللا به أن ٌوصل ,والصبر إنما هو ابتؽاء وجه هللا ,واإلنفاق هو مما رزق هللا ,فهً كلها أخبلق ربانه موصولة باهلل ,ولهذا قرنت بإقامة الصبلة ,ألنها جمٌعا ضرب من العبادة ٌ ,تقرب به المإمنون إلى هللا ,وٌتلقون به ما عند هللا . ( .3قد أفلح المإمنون ،الذٌن هم فً صبلتهم خاشعون ،والذٌن هم عن اللؽو معرضون ،والذٌن هم للزكاة فاعلون ،والذٌن هم لفروجهم حافظون ،إال على أزواجهم أو ما ملكت أٌمانهم فإنهم ؼٌر ملومٌن ،فمن ابتؽى وراء ذلك فؤولبك هم العادون ،والذٌن هم ألماناتهم وعهدهم راعون، والذٌن هم على صلواتهم ٌحافظون ،أولبك هم الوارثون ،الذٌن ٌرثون الفردوس هم فٌها خالدون) فً هذه اللوحة نجد الخشوع فً الصبلة ،والفعل للزكاة ،والمحافظة على الصلوات -وهً معدودة فً إطار الشعابر والعبادات -جنبا ً إلى جنب مع اإلعراض عن اللؽو ،وحفظ الفروج عن الحرام ،ورعاٌة األمانات والعهود. ( .4وعباد الرحمن الذٌن ٌمشون على األرض هونا ً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سبلماً ،والذٌن ٌبًتون لربهم سجداً وقٌاماً ،والذٌن ٌقولون ربنا اصرؾ عنا عذاب جهنم ،إن عذابها كان ؼراماً ،إنها ساءت مستقراً ومقاماً ،والذٌن إذا أنفقوا لم ٌسرفوا ولم ٌقتروا وكان بٌن ذلك قواماً، والذٌن إذا أنفقوا لم ٌسرفوا ولم ٌقتروا وكان بٌن ذلك قواماً ،والذٌن ال ٌدعون مع هللا إلها ً آخر وال ٌقتلون النفس التً حرم هللا إال بالحق وال ٌزنون ،ومن ٌفعل ذلك ٌلق أثاماًٌ ،ضاعؾ له العذاب ٌوم القٌامة وٌخلد فٌه مهاناً ،إال من تاب وآمن وعمل عمبلً صالحا ً فؤولبك ٌبدل هللا سٌباتهم حسنات ،وكان هللا ؼفوراً رحٌماً ،ومن تاب وعمل صالحا ً فإنه ٌتوب إلى هللا متاباً، والذٌن ال ٌشهدون الزور وإذا أمروا باللؽو مروا كراماً ،والذٌن إذا ذكروا بآٌات ربهم لم ٌخروا علٌها صما ً وعمٌاناً ،والذٌن ٌقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرٌاتنا قرة أعٌن واجعلنا للمتقٌن إماماً ،أولبك ٌجزون الؽرفة بما صبروا وٌلقون فٌها تحٌة وسبلماً ،خالدٌن فٌها مستقراً ومقاما ً) ( .5فما أوتٌتم من شًء فمتاع الحٌاة الدنٌا ،وما عند هللا خٌر وأبقى للذٌن آمنوا وعلى ربهم ٌتوكلون ،والذٌن ٌجتنبون كبابر اإلثم والفواحش وإذا ما ؼضبوا هم ٌفؽرون ،والذٌن استجابوا لربهم وأقاموا الصبلة وأمرهم شورى بٌنهم ومما رزقناهم ٌنفقون ،والذٌن إذا أصابهم البؽً هم ٌنتصرون ،وجزاء سٌبة سٌبة مثلها ،فمن عفا وأصلح فؤجره على هللا ،إنه ال ٌحب الظالمٌن). والجدٌد فً هذه اللوحة أو الباقة آمران فً ؼاٌة األهمٌة بالنظر إلى المجتمع المسلم :
األول :تقرٌر مبدأ الشورى باعتباره عنصرا من العناصر األساسٌة المكونة لشخصٌة المجتمع المسلم , ولهذا وضعت الشورى بٌن إقامة الصبلة وإٌتاء الزكاة المعبر عنه هنا بكلمة اإلنفاق مما رزق هللا ,وال ٌخفى على أحد مكانة الصبلة والزكاة فً دٌن اإلسبلم ,فما ٌوضع بٌنهما ال ٌكون من األمور الثانوٌة أو الهٌنة فً دٌن هللا . واألمر الثانً :هو االنتصار إذا أصابهم البؽً ,فلٌسر من شؤن المسلم الخضوع للبؽً أو االنحناء للظلم والعدوان .بل مقابلته بمثله لٌزجر وٌرتدع ,إال من عفا عن قدرة فؤجره على هللا . من هذه اللوحات أو الباقات التً قدمناها ٌتبٌن لنا منزلة األخبلق فً اإلسبلم ,ومكانها فً تكوٌن المجتمع المسلم .ولٌست هذه كل ما فً القرآن الكرٌم عن األخبلق والفضابل ,فالقرآن -مكٌة ومدنٌه - ملا باآلٌات واللوحات التً تقدم لنا نماذج خلقٌة كرٌمة ,تجمع بٌن المثالٌة والواقعٌة وتمزج بام ,لم تعرفهما من قبل -وال من بعده شرٌعة الروحانٌات بالمادٌات أو الدٌن بالدنٌا ,فً اتساق والت وال نظام . وٌستطٌع القارئ المسلم أن ٌرجع إلى سورة األنعام فٌقرأ فٌها الوصاٌا العشر من أواخرها ( :قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عٌكم ,أال تشركوا به شٌبا ,وبالوالدٌن إحسانا .) . .اآلٌات أو ٌرجع إلى سورة اإلسراء فٌقرا الوصاٌا السبع عشرة ( :وقضى ربك أال تعبدوا إال إٌاه وبالوالدٌن إحسانا ) ..اآلٌات . أو ٌرجع إلى سورة لقمان وٌقرأ وصٌته البنه . .أو ٌرجع إلى سورة الدهر وٌتلو فٌها أوصاؾ األبرار ٌ ( :وفون بالنذر وٌخافون ٌوما كان شره مستطٌرا ،وٌطعمون الطعام على حبه مسكًنا وٌتٌما وأسٌرا ) . . .اآلٌات. أو ٌرجع إلى سورة البقرة وٌقرأ فً أواخرها آٌات هللا فً تحرٌم الربا ونذره ألكلة الربا ,وكٌؾ آذنهم بحرب من هللا ورسوله إن لم ٌتوبوا وٌكتفوا برإوس أموالهم . أو ٌرجع إلى سورة النسا ء ,وكٌؾ أوصت بالمرأة خٌرا ٌ ( :ا أٌها الذٌن آمنوا ال ٌحل لكم أن ترثوا النسا ء كرها ,وال تعضلوهن (… . . .اآلٌة . أو ٌقرأ فً نفس السورة آٌة الحقوق العشرة ( :واعبدوا هللا وال تشركوا به شٌبا ً ,وبالوالدٌن إحسانا ً وبذي القربى والٌتامى والمساكٌن والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبٌل وما ملكت أٌمانكم ) . . .اآلٌة أو ٌقرأ فً سورة المابدة ٌ ( :ا أٌها الذٌن آمنوا إنما الخمر والمٌسر واألنصاب واألزالم رجس من عمل الشٌطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ) ,وكلمة ( االجتناب ) ال ٌستعملها القرآن إال مع الشرك وكبابر اإلثم . وٌطول بنا الحدٌث لو أردنا أن نتتبع موارد األخبلق فً آٌات القرآن العظٌم ,فإن جل أوامر القرآن ونواهٌه تتعلق بهذا الجانب الخطٌر من حٌاة الناس :جانب األخبلق . وربما ٌخالفنا بعض الناس فً تسمٌة هذه األمور ( أخبلقا ً) وإنما ٌسمٌها أوامر ونواهً ,وهذا خبلؾ فً االصطبلح والتسمٌة ال فً الموضوع نفسه إثباتا ً ونفٌا ً .وقد قال علماإنا قدٌما :ال مشاحة فً االصطبلح ,وال ٌضر الخبلؾ فً األسماء متى وضحت المسمٌات .وإنما اخترنا تسمٌة هذه األمور التً جاء بها القرآن والسنة ( أخبلقا ً ) ألن تعرٌؾ األخبلق ٌنطبق علٌها تمام االنطباق .
مهمة المجتمع المسلم مع األخالق إن مهمة المجتمع بالنظر إلى األخبلق والفضابل ,كمهمته بالنظر إلى العقٌدة والمفاهٌم والشعابر والعواطؾ . إنها مهمة ذات ثبلث شعب : - 1التوجٌه - 2 .التثبٌت - 3 .الحماٌة . فالتوجٌه ٌكون بالنشر والدعاٌة ومختلؾ وسابل اإلعبلم والتثقٌؾ ,والدعوة واإلرشاد .والتثبٌت ٌكون بالتعلٌم الطوٌل المدى ,والتربٌة العمٌقة الجذور ,على مستوى األسرة والمدرسة والجامعة . والحماٌة تكون بؤمرٌن : .1برقابة الرأي العام الٌقظ الذي ٌؤمر بالمعروؾ وٌنهى عن المنكر و ٌكره الفساد وٌنفر من االنحراؾ. .2وبالتشرٌع الذي ٌمنع الفساد قبل وقوعه ,وٌعاقب علٌه بعد وقوعه ،زجرا للمنحرؾ وتؤدٌبا ً للمستهتر ,وتطهٌراً لجو الجماعة من التلوث . وبهذه األمور من التوجٌه والتثبٌت والحماٌة تسود أخبلق اإلسبلم ,تسرى فضابله فً حٌاة المجتمع سرٌان العصارة الحٌة فً الؽصون واألوراق .فلٌس إذن بمجتمع مسلم ذلك الذي تختفً فٌه أخبلق المإمنٌن ,لتبرز أخبلق الفجار . ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي تموت فٌه أخبلق القوة ,فتحٌا وتنمو أخبلق الضعؾ .ولٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌشٌع فٌه خلق القسوة على الضعفاء ,والخضوع لؤلقوٌاء . لٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي تضمر فٌه تقوى هللا ,ومراقبته تعالى ,والخوؾ من حسابه ,فنرى الناس ٌتصرفون وكؤنما هم آلهة أنفسهم ,وٌنطلقون وكؤنما لٌس هناك حساب ٌنتظرهم ,وإنما هم فً ؼفلة معرضون ,وفً ؼمرة ساهون . لٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌسوده التواكل والعجز والسلبٌة ,فً مواجهة األمور وإلقاء األوزار على كاهل األقدار لٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌهان فٌه الصالحون ,وٌكرم الفاسقون ,وٌكرم أهل الفجور ,وٌإخر أهل القوى . فً المحق ,وٌحابى فٌه المبطل ,وٌقال فٌه للمضروب :ال تصرخ، لٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌظلم ه وال ٌقال للضارب :كؾ ٌدك . لٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي تفسد فٌه الذمم ,وتشترى فٌه الضمابر ,وٌقضى فٌه كل أمر بالرشوة. لٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ال ٌوقر فٌه الكبٌر وال ٌرحم فٌه الصؽٌر ,وال ٌعرؾ الذي فضل فضله . لٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي تتمٌع فٌه األخبلق ,فٌتشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال . لٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي تشٌع فٌه الفاحشة ,وٌفقد فٌه الرجال الؽٌرة وتفقد النساء الحٌاء .. لٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ال ٌكاد الناس ٌتكلمون فٌه أو ٌعملون أو ٌتصرفون إال رٌا ًء ونفاقا ً ،وطلبا ً للشهرة والجاه ,وال تكاد ترى فٌه جندٌا ً مجهوالً ،من المخلصٌن البررة ,واألتقٌاء األخفٌاء ،الذٌن إذا حضروا لم ٌعرفوا ,وإذا ؼابوا لم ٌفتقدوا . لٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي تسوده أخبلق المنافقٌن من كل من حدث فكذب ,ووعد فؤخلؾ ,وابتمن فخان ,وعاهد فؽدر ,وخاصم ففجر . لٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌهمل فٌه اآلباء األبناء ,وٌعق فٌه األبناء اآلباء ,وٌتجافى فٌه اإلخوان , وتتقطع فٌه األرحام ,وٌتناكر فٌه الجٌران ,وتنفق فٌه سوق الؽٌبة والنمٌمة وفساد ذات البٌن ,وٌنهزم
فٌه البذل واإلٌثار أمام الشح واألنانٌة وحب الذات .فالمجتمع المسلم -وال شك ( -مجتمع أخبلقً ) بكل ما تحمله كلمة ( األخبلق ) من شمول وسعة ,لٌس مجتمعا ً تسبره المنافع المادٌة ,أو األؼراض السٌاسٌة ,أو االعتبارات العسكرٌة وحدها .كبل . .بل هو مجتمع تحكمه فضابل ومثل علٌا ٌ ,لتزم بها ,وٌتقٌد بحدودها مهما ٌكلفه ذلك من مشقات وتضحٌات ,وال عجب فً ذلك فقد قال رسول هللا (صلى هللا علٌه وسلم ) ›« :إنما بعثت ألتمم مكارم األخبلق ) .فبل انفصال فً هذا المجتمع بٌن العلم واألخبلق ,وال بٌن الفن واألخبلق ,وال بٌن االقتصاد واألخبلق ,وال بٌن السٌاسة واألخبلق ,وال بٌن الحرب واألخبلق ,وإنما األخبلق عنصر ٌهٌمن على كل شإون الحٌاة وتصرفاتها ,صؽٌرها وكبٌرها ,فردٌها وجماعٌها .
وكما تمٌز المجتمع المسلم فً العقٌدة والشعابر ,واألفكار والمشاعر ,واألخبلق والفضابل ٌ ,تمٌز كذلك بآدابه وتقالٌده الخاصة به ,المصبوؼة بصبؽته ,النابعة من تلك األمور المذكورة :العقٌدة وما ٌتبعها ,وٌتفرع عنها .إن لهذا المجتمع آدابه وتقالٌده فً المؤكل والمشرب ,والزٌنة والملبس ,والنوم والٌقظة ,والسفر واإلقامة ,والزمالة والعشرة ,والعمل والراحة ,والصداقة والصحبة ,والزواج ٌه ,وفً العبلقة بٌن القرٌب والطبلق ,فً العبلقة بٌن الرجل والمرأة ,وفً العبلقة بٌن الولد وأب وقرٌبه ,وفً العبلقة بٌن الجار وجاره ,ونى العبلقة بٌن الكبٌر والصؽٌر ,وفً العبلقة بٌن الؽنً والفقٌر ,وفً العبلقة بٌن البابع والمشترى ,وفً العبلقة بٌن الربٌس والمرإوس ،وفً العبلقة بٌن الخادم والمخدوم .
من تقاليد المجتمع المسلم إن هذه التقالٌد واآلداب والعادات أنشؤها اإلسبلم فً المجتمع المسلم ,لتكون فً خدمة عقٌدته وشعابره ,ومفاهٌمه ومشاعره ,وأخبلقه وفضابله . ً فمن تقالٌد المجتمع المسلم :أنه ٌنام مبكراً ,وٌستٌقظ مبكرا ,فٌستمتع أفراده بالنوم الهادئ العمٌق ،فً اللٌل الذي جعله هللا لباسا ً ,وٌوفر صحة أبنابه وقوتهم التً ٌذبلها السهر الطوٌل ,وٌوفر مبلٌٌن الكٌلوات من الطاقة الكهربابٌة التً تستهلك فً السهر لؽٌر ضرورة ,وٌتمتع الناس بعد ذلك بوقت البكور المبارك ونسٌم الصباح المبكر ،وهذا التقلٌد الجمٌل المتمٌز إنما صنعته ( صبلة الفجر ) ووجوب االستٌقاظ لها ,وأدابها فً وقتها قبل أن تطلع الشمس . ومن هنا نتبٌن أن تقالٌد المجتمع المسلم ال انفصال بٌنها وبٌن مقوماته األخرى .ومن تقالٌد المجتمع المسلم :أن الرجل ال ٌجوز له أن ٌخلو بامرأة أجنبٌة دون حضور زوج وال محرم لها ,كما ال ٌجوز لها أن تسافر وحدها ,ببل زوج وال محرم ,وأن المرأة المسلمة ٌجب علٌها االحتشام والتصون ,فبل ٌجوز لها أن تبدى من زٌنتها إال ما ظهر منها كالوجه والكفٌن ,و ٌحرم علٌها أن تتبرج تبرج الجاهلٌة ,وأن تظهر ذراعها أو ساقها أو نحرها أو شعرها ,أو ؼٌر ذلك مما ٌفعله نسا ء العصر تقلٌداً للحضارة الجاهلٌة :حضارة الؽرب .إن هذا التقلٌد لٌس عبثا وال تحكما ,ولكنه مبنى على نظرة اإلسبلم إلى كل من الرجل والمرأة ,ونظرته إلى األخبلق فً المجتمع ،و قٌمة العفاؾ والتصوّ ن والحٌاء باعتبارها فضابل إنسانٌة رفٌعة ،واعتبار الزنا فاحشة وجرٌمة خطرة على الفرد وعلى األسرة ,وعلى بنا ء المجتمع كله ,إذا شاعت وتطاٌر شررها . فإن نتٌجتها طؽٌان الشهوات ,وفساد الشباب ,وانتشار الخٌانة ,والشك بٌن األزواج والزوجات ,
وشٌوع األمراض التناسلٌة ,وكثرة اللقطاء وأوالد الحرام ,واختبلط األنساب ,وانحبلل الروابط واألخبلق .وصدق هللا ( :وال تقربوا الزنا ،إنه كان فاحشة وساء سبٌبلً) . فإذا كان الزنى فاحشة وسبٌبلً سٌبا ً ,لم ٌكن بد من إؼبلق الطرق الموصلة إلٌه ,فجاءت آداب اإلسبلم وتقالٌده فً التصوّ ن ,واالحتشام ,ومنع التبرج واإلؼراء وسد الذرٌعة إلى الفتن ،ما ظهر منها وما بطن ( :قل للمإمنٌن ٌؽضوا من أبصارهم وٌحفظوا فروجهم ،ذلك أزكى لهم ,إن هللا خبٌر بما ٌصنعون ،وقل للمإمنات ٌؽضضن من أبصارهن وٌحفظن فروجهن و ال ٌبدٌن زٌنتهن إال ما ظهر منها, ولٌضربن بخمرهن على جٌوبهن وال ٌبدٌن زٌنتهن إال لبعولتهن أو آبابهن أو آباء بعولتهن أو أبنابهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن)..اآلٌة. ومن تقالٌد المجتمع المسلم :أن بٌن الولد وأبٌه رابطة أبدٌة مقدسة ,ال تنفصم عراها ببلوغ االبن رشده ،أو باستقبلله االقتصادي ,أو بزواجه ,كما هو عند الؽربٌٌن الذٌن ٌصبح االبن عندهم بعد أن ٌكبر وٌتزوج كؤنه شخص ؼرٌب عن أبوٌه ,ال ٌكاد ٌعرفهما إال فً المناسبات إن عرفهما ,بل إن اإلسبلم لٌوسع دابرة األسرة ,حتى تشمل األقارب من األصول والفروع والعصبة وكل ذي رحم محرم من الرجال والنساء ,فاألجداد والجدات واألحفاد واألسباط ,واألعمام والعمات ,واألخوال والخاالت وأوالدهم … كل هإالء أرحام ٌجب أن توصل ,وقرابة ٌجب أن ترعى ,ولها حقوق ٌجب أن تإدى , من الزٌارة والمودة واإلحسان ,إلى وجوب النفقة والرعاٌة بالمعروؾ ( :واتقوا هللا الذي تساءلون به واألرحام ,إن هللا كان علٌكم رقٌبا ً ) ( ،وأولوا ألرحام بعضهم أولى ببعض فً كتاب هللا) ( ،وآت ذا القربى حقه والمسكٌن وابن السبٌل ) . ومن آداب المجتمع المسلم وتقالٌده :أنه ال ٌؤكل المٌتة والدم ولحم الخنزٌر وما أهل لؽٌر هللا به ,وال ٌشرب الخمر والمسكرات ,وال ٌقدم شٌبا ً من ذلك على موابده .وهو ٌؤكل وٌشرب بالٌمٌن ،وٌبدأ طعامه باسم هللا ,وٌختمه بحمد هللا ,وال ٌؤكل أو ٌشرب فً إناء ذهب أو فضة .ومن آداب المجتمع المسلم :إفشاء السبلم ,وهو تحٌة السلمٌن فٌما بٌنهم ,وإلقاإه سنة ,ورده فرض كفاٌة ,وقد أؼناهم هللا به عن تحاٌا الجاهلٌة من فعل كالسجود واالنحناء ,أو قول كـ( عم صباحا ) ,أو ( عم مساء ) ،وقد وضع الرسول لهذه لتحٌة قواعد ضابطة ,حتى ال ٌتواكل الناس فً البدء بها إذا تبلقوا .فٌسلم الصؽٌر على الكبٌر ,والقلٌل على الكثٌر ,والمار على الجالس ,وقال تعالى ( :وإذا حٌٌتم بتحٌة فحٌٌوا بؤحسن منها أو ردوها ) .ومن آدابه ما ذكره القرآن بقوله ٌ ( :ا أٌها الذٌن آمنوا ال تدخلوا بٌوتا ً ؼٌر بٌوتكم حتى تستؤنسوا وتسلموا على أهلها ,ذلكم خٌر لكم لعلكم تذكرون ،فإن لم تجدوا.فٌها أحداً فبل تدخلوها حتى ٌإذن لكم ,وإن قٌل لكم ارجعوا فارجعوا ,هو أزكى لكم ,وهللا بما تعملون علٌم ) ومن آداب المجتمع المسلم :اإلحسان إلى الجار ,وإكرام الضٌؾ ,وتشمٌت العاطس ,وعٌادة المرٌض ,وتشٌٌع جنازة المٌت ,وتعزٌة المصاب ,إلى ؼٌر ذلك من اآلداب والتقالٌد ,التً تتفاوت فً حكمها ما بٌن واجب مفروض ,ومستحب مندوب .
من آثار التقاليد اإلسالمية إن هذه اآلداب والتقالٌد اإلسبلمٌة تحقق فً المجتمع المسلم جملة من المزاٌا واآلثار الطٌبة ,نذكر منها :
.1التمٌز :فهذه اآلداب والتقالٌد تجعل للمجتمع المسلم شخصٌة متمٌزة المبلمح ,واضحة التقاسٌم ,وتمسكه أن ٌذوب وٌنصهر فً ؼٌره من المجتمعات فٌتقمص شخصٌتها ,وٌقتبس عاداتها , وٌنقل تقالٌدها ,دون تفرقة وال تمٌٌز بٌن ما ٌجوز وما ال ٌجوز ,وما ٌصلح وما ال ٌصلح , وهذا ما تورط فٌه أكثر الشعوب المسلمة الٌوم ,إذ انسلخت من ذاتٌتها ,واتبعت حضارة الؽرب وأخذت تقالٌده جملة ,بؽٌر تمحٌص .وهذا ما حذر منه ونبؤ به الرسول الكرٌم (صلى هللا علٌه وسلم) حٌن قال ( :لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشٌر ,وذراعا بذراع ,حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) ! قالوا :الٌهود والنصارى ٌا رسول هللا ؟ قال ( :فمن ) ؟ .2الوحدة العملٌة :إن هذه اآلداب والتقالٌد تنشا بٌن المسلمٌن -وان تناءت دٌارهم ،واختلفت ألسنتهم ,وتباٌنت عروقهم ,وتفاوتت مراكزهم وطبقاتهم -وحدة عملٌة واقعٌة ،بجوار الوحدة العقدٌة والفكرٌة والشعورٌة التً أنشؤها اتحاد العقٌدة والشعابر ,واألفكار والمشاعر .فحٌثما نزلت بٌن قوم مسلمٌن فً أي أرض كانت ،حٌوك بتحٌة اإلسبلم ( السبلم ) ,واستقبلوك باإلكرام والقرى ،تبعا ألدب اإلسبلم فً إكرام الضٌؾ ( :من كان ٌإمن باهلل والٌوم اآلخر فلٌكرم ضٌفه ) .فإذا تناولت طعامك معهم ,وجدتهم ٌبدأون طعامهم باسم هللا ,وٌؤكلون بالٌد الٌمنى ،وبختمون بالحمد هلل ,وال ٌقدمون لك خنزٌراً وال خمرا ُ .فهناك قدر مشترك من التقالٌد والعادات ٌشعر المسلم أنىّ ذهب أنه بٌن أهله وإخوانه وذوٌه ,ال ٌفترق عنهم ,إال فً جزبٌات تفصٌلٌة ,نتٌجة الختبلؾ البٌبات واألحوال . .3البساطة واالعتدال :فإن تقالٌد اإلسبلم وآدابه تقوم على مراعاة الفطرة ,واحترام البساطة والسر ,وتجنب التكلؾ والتعقٌد ،والبعد عن االختٌال واإلسراؾ . ومن شؤن هذه البساطة والقصد واالعتدال ,أن ٌٌسر األمور ,وٌقلل التكالٌؾ ,وٌخفؾ من بعثرة الجهود واألوقات ,واألموال ,فٌما ال ٌعود على المجتمع واقتصاده وأخبلقه ومثله إال بالضرر والخسران . ي اللبس والتزٌن للمرأة المسلمة ،تنافً هذا التهالك المحموم على كل بدع، إن تقالٌد المجتمع المسلم ؾ وهذا السباق الشعور على أقرب األزٌاء إلى اإلثارة ,وأقدرها على اإلؼراء ,وتناقض هذا اإلسراؾ المجنون ,فً التجمل والتجمٌل ,من وصل الشعر ( الباروكة ) ونمص الحواجب ,ووشر األسنان و (جراحات التجمٌل ) وؼٌر ذلك مما لعنه رسول هللا (صلى هللا علٌه وسلم) لما فٌه من تؽٌٌر خلق هللا . ولم ٌعد ٌكفى المرأة أن تقوم بتجمٌل نفسها ,فاحتاجت إلى من ٌجملها ,ولم ٌعد القابم بالتجمٌل امرأة تؤتى إلٌها فً بٌتها ,كما كان ٌحدث فً العصور السابقة أحٌانا .بل أصبحت المرأة هً التً تخرج من بٌتها لتذهب إلى محل رجل أجنبً ( كوافٌر ) ٌقوم بتجمٌلها وتزٌٌنها وٌتقاضى على ذلك أفحش األجور .
مهمة المجتمع المسلم مع اآلداب والتقاليد إن مهمة المجتمع المسلم هنا -كما هً مهمته دابما -أن ٌبث هذه اآلداب ,وٌربى علٌها أبناءه وبناته , وٌنشا علٌها تبلمٌذه وتلمٌذاته ،فً كل مراحل التعلٌم ومستوٌاته وأنواعه ,من الحضانة إلى الجامعة . .وٌحببها إلى الشعب بكل وسٌلة من وسابل التوجٌه واإلعبلم ,وبكل أسلوب من أسالٌب التؤثٌر والبٌان :بالمقالة والقصٌدة ,والقصة والمسرحٌة ,والنشرة والكتاب ,والمجلة والصحٌفة ,والنكتة والكارٌكاتٌر ,بالكلمة المقروءة والكلمة المسموعة والصورة المشاهدة .وأن تتعاون على ذلك كل المإسسات :الدٌنٌة كالمسجد ,والفنٌة كالمسرح ،والتربوٌة كالمدرسة ،واإلعبلمٌة كالتلفاز ،وال ٌجوز أن ٌبنى جهاز فً جانب ,وتهدم أجهزة أخرى فً جوانب ,كما قال الشاعر:
متى ٌبلػ البنٌان ٌوما تمامه إذا كنت تبنٌه وؼٌرك ٌهدم ؟ وقال آخر :فلو ألؾ بان خلفهم هادم كفى فكٌؾ ببان خلفه ألؾ هادم ؟ا وال سٌما أن الهدم فً عصرنا باأللؽام ال بالمعاول .وهذا ٌصدق فً المادٌات و المعنوٌات .وواجب المجتمع المسلم فً عصرنا أن ٌنقً آداب المجتمع وتقالٌده مما دخل علٌها من أمور ؼرٌبة عن طبٌعته المتواز نة المعتدلة ،سواء فً ذلك ما أدخلته عصور االنحطاط الفكري ,والتخلؾ الحضاري ,الذي أصاب العالم اإلسبلمً لعدة قرون .وما زحفت به علٌنا الحضارة الؽربٌة الحدٌثة من بدع منكرة فً األزٌاء واألثاث والمآكل والمشارب ,واألعراس ومختلؾ المناسبات والعبلقات بٌن الرجال والنساء , وؼٌر ذلك . ولهذا نجد المجتمع اإلسبلمً اآلن ٌضم فرٌقٌن من الناس ٌعٌشان على طرفً نقٌض . فإذا أخذنا موضوع األسرة مثبل .نجد هناك من ال ٌسمح لخاطب ابنته أن ٌراها مجرد رإٌة ,مع مخالفة ذلك لؤلحادٌث الصحٌحة ,بل فً بعض الببلد ال ٌرى الخاطب زوجته بعد أن ٌعقد علٌها العقد الشرعً ,وإنما ٌراها وتراه لٌلة الزفاؾ فقط ! وفى مقابل هإالء من ٌدع للمخطوبة الحبل على الؽارب ,لتخرج مع خاطبها وحدهما ,متؤبطا ً ذراعها ،ؼادٌن أو رابحٌن ,إلى المتنزهات أو السٌنمات ،سحابة النهار أو زلفا ً من اللٌل ,حتى ٌسبر ؼورها ,وٌعرفه ا معرفة مخالطة ومعاٌشة .وهناك من األزواج من ٌعامل امرأته كؤنها قطعة أثاث فً البٌت ,ال ٌستشٌرها فً أمر ,وال ٌعترؾ لها بحق ,وال ٌراعى لها شعورا ,وٌرى ذلك من الرجولة . وعكس ذلك من جعل زمامه فً ٌد امرأته ,فبل شخصٌة له ,وال أثر لقوامته على األسرة ,بل تؼدو الزوجة هً اآلمرة الناهٌة ,المتصرفة فً المال ,الموجهة لتربٌة األوالد ,المتحكمة فً عبلقات الزوج حتى بؤمه وأبٌه وذوى قرابته . وهناك فً مجال المٌراث :من ٌحرم البنات من مٌراثهن الشرعً الذي كتبه هللا لهن ,لٌخص بذلك عالى فً حكمه. أبناءه الذكور ،كؤنما ٌستدرك على هللا ت ً وعلى النقٌض من ذلك من ٌرٌد أن ٌسوى بٌن االبن والبنت ,حبلفا لما فرض هللا عز وجل فً كتابه، ناسٌا ً أن الشرع فاوت بٌنهما فً األنصبة ,ألنه فاوت بٌنهما فً األعباء والتكالٌؾ المالٌة .واألمثلة على ذلك كثٌرة .وحسبنا ما ذكرناه .ثم على المجتمع أن ٌحمى هذه اآلداب والتقالٌد بعد ذلك بالقانون والسرٌع ,فبل ٌترك الحبل على الؽارب للذٌن ٌرٌدون أن ٌفسدوا آداب األمة ,وٌمحوا معالم شخصٌتها ,وٌدمروا تقالٌدها ,التً تلقتها من وحً ربها ,وفرضها علٌها شرعها .فإذا تهاون المجتمع فً آدابه وتقالٌده ،وأطلق العنان للمخربٌن ٌفعلون ما ٌشاإون ,نفقد تخلى من رسالة المجتمع المسلم الحق . لٌس بمجتمع مسلم صادق اإلسبلم :ذلك الذي ٌنسلخ من تقالٌده العرٌقة ,وٌنفلت من آدابه األصٌلة , لٌتقبل تقالٌد دخٌلة ,وآدابا ً ؼرٌبة عنه ،فتذوب شخصٌته ,وتمحى ذاتٌته وٌصح ذٌبلً لؽٌره ،وقد جعله هللا رأسا ً .فترى أبناءه ٌؤكلون بالشمال وٌشربون بالشمال ,ورجاله ٌتحلون بخواتم الذهب ,ونسا ه ٌتشبهن بالكافرات فً كشؾ الشعور ,وتعرٌة الصدور ,وإبداء البطون والظهور . لٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌختلً فٌه الرجال بالنساء ببل زوج وال محرم وال رقٌب وال حسٌب . لٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي ٌختلط فٌه الفتٌان والفتٌات -اختبلط تماس واحتكاك والتصاق -فً المعاهد والجامعات ,والمعسكرات والرحبلت ,ووسابل المواصبلت . لٌس بمجتمع مسلم ذلك الذي تترك فٌه المإسسات المشبوهة :الصحفٌة والسٌنمابٌة واإلعبلمٌة ,تخرب كٌان األمة ،وتسلط علٌها رٌحا ً سموما ً فٌها عذاب ألٌم ،تدمر كل شا بؤمر سادتها من الصهاٌنة والمستعمرٌن والشٌوعٌٌن :بالمقاالت المضللة ،واألخبار الزابفة ،والقصص الماجنة ،والصور الفاجرة ,واألؼانً الخلٌعة ,والمسرحٌات الداعرة ،و ( األفبلم ) الهابطة ،والمسلسبلت المطعمة باألباطٌل . إنما المجتمع المسلم حقا ً :الذي ٌحامً عن آدابه األصٌلة ،وتقالٌده الثابتة ,كما ٌحامً عن أرضه أن تحتل ,وعن حرماته أن تنتهك ,وعن ثرواته أن تنتهب ,وعن كرامته أن تهان .
كما ٌقوم المجتمع المسلم على ( العقابد ) التً تحدد له فلسفته الكلٌة عن المبدأ ,والمصٌر ،والؽاٌة، وتجٌب اإلنسان عن أسبلته القدٌمة الجدٌدة :من أٌن ؟ وإلى أٌن ؟ ولم ؟ ..وبها ظهر أنه (مجتمع موحد) ال ٌشرك باهلل شٌبا ً .وٌقوم على الشعابر التً تجسد صلته باهلل تعالى فً أعمال ظاهرة ،وبها ظهر أنه (مجتمع متعبد) أهم وظابفه عبادة هللا تعالى .وٌقوم على األفكار والمفاهٌم الواضحة التً تجعله ٌقوّ م األعمال والمواقؾ واألشخاص والمذاهب من خبلل موازٌنه الخاصة ,التً ال تنسبه لٌمٌن أو ٌسار فهو ( مجتمع فكرى ) متمٌّز . وٌقوم على أخبلق وفضابل ٌإمن بها إٌمانه بدٌنه وشرٌعته ،فهً جزء منه ,باعتبارها أوامر ونواهً صادرة إلٌه من ربه سبحانه ,فهو ( مجتمع أخالقً ) .وٌقوم ذلك المجتمع على آداب وتقالٌد خاصة تجعله نسٌج وحده ،ؼٌر مقلد لؽٌره ،ممن بعد عنه زماناً ،أو بعد عنه مكانا ً .كما ٌقوم المجتمع على ذلك كلهٌ ،قوم كذلك على ( القٌم اإلنسانٌة) الرفٌعة ،التً تتطلع إلٌها البشرٌة الراقٌة. وأعنى بالقٌم اإلنسانٌة تلك التً تقوم على احترام كرامة اإلنسان وحرٌته وحرماته ،وحقوقه ،وصٌانة دمه وعرضه وماله وعقله ونسله ،بوصفه إنساناً ،وعضواً فً مجتمع. ونركز هنا على مجموعة من القٌم األساسٌة وهى : العلم ،والعمل ،والحرٌة ،والشورى ،والعدل ،واإلخاء
العلم العلم قٌمة من القٌم العلٌا ،التً جاء بها اإلسبلم وأقام علٌها حٌاة اإلنسان المعنوٌة والمادٌة ،األخروٌة والدنٌوٌة ،وجعله طرٌق اإلٌمان وداعً العمل ،وهو المرشح األول للخبلفة فً األرض ،وبه فضل آدم أبو البشر على المبلبكة ،الذٌن تطلعوا إلى منصب الخبلفة ! ألنهم أعبد هلل من الذٌن توقعوا منهم أن ٌفسدوا فً األرض وٌسفكوا الدماء ،فقال تعالى رداً علٌهم ( :إنً أعلم ما ال تعلمون ،وعلم آدم األسماء كلها ) . . .اآلٌات .إن اإلسبلم هو دٌن العلم ،والقرآن كتاب العلم ,وأول ما نزل منه على الرسول الكرٌم (:إقرأ باسم ربك الذي خلق ) والقراءة هً باب العلم .والقرآن ( :كتاب فصلت آٌاته قرآنا ً عربٌا ً لقوم ٌعلمون ) .والقرآن ٌجعل العلم أساس التفاضل بٌن الناس ( :قل هل ٌستوي الذٌن ٌعلمون والذٌن ال ٌعلمون ) .كما ٌجعل أهل العلم هم الشهداء هلل تعالى بالتوحٌد ،مع المبلبكة ( :أنه ال إله إال هو والمبلبكة وأولوا العلم قابما ً بالقسط ) .وأهل العلم كذلك هم المإهلون لخشٌه هللا تعالى وتقواه ( إنما ٌحشى هللا من عباده العلماء ) ,فبل بخشى هللا إال من عرفه ،وإنما ٌعرؾ هللا بآثار قدرته ورحمته فً خلقه ،ولهذا جاءت هذه الجملة فً سٌاق الحدٌث عن آٌات هللا تعالى فً الكون ( :ألم تر أن هللا أنزل من السماء ماء فؤخرجنا به ثمرات مختلفا ً ألوانها ،ومن الجبال جدد بٌض وحمر مختلؾ ألوانها وؼرابًب سود ،ومن الناس والدواب واألنعام مختلؾ ألوانه كذلك ،إنما ٌخشى هللا من عباده العلماء ) . والقرآن أعظم كتاب ٌنشا ( العقلٌة العلمٌة ) التً تنبذ الخرافة ،وتتمرد على التقلٌد األعمى ،لؤلجداد واآلباء أو للسادة والكبراء ،أو للعوام والدهماء ،وترفض الظنون واألهواء فً مقام البحث عن الحقابق والعقابد الٌقٌنٌة ،وال تقبل دعوى إال ببرهان قاطع ،من المشاهدة المإكدة فً الحسٌات ،ومن المنطق
السلٌم فً العقلٌات ،ومن النقل الموثق فً المروٌات .وٌعتبر القرآن النظر فرٌضة ،والتفكٌر عبادة، والبحث عن الحقٌقة قربة ،واستخدام أدوات المعرفة شكراً لنعم هللا ،وتعطٌلها سبٌبلً إلى جهنم . اقرأ هذه اآلٌات فً القرآن ،وهى ؼٌض من فٌض ( :وإذا قٌل لهم اتبعوا ما أنزل هللا قالوا بل نتبع ما ألفٌنا علٌه آباءنا ،أو لو كان آباإهم ال ٌعقلون شٌبا ً وال ٌهتدون ) ؟ ( .وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فؤضلونا السبٌبل ،ربنا آتهم ضعفٌن من العذاب والعنهم لعنا ً كبٌراً ) . ( قال لك َل ضعؾ ولكن ال تعلمون) . (وما لهم به من علم ،إن ٌتبعون إال الظن ،وإن الظن ال ٌؽنى من الحق شٌبا ً) ( إن ٌتبعون إال الظن وما تهوى األنفس ،ولقد جاءهم من ربهم الهدى) (وال تتبع الهوى فٌضلك عن سبٌل هللا) ً (وهللا أخرجكم من بطون أمهاتكم ال تعلمون شٌبا وجعل لكم السمع واألبصار واألفبدة لعلكم تشكرون) (وال تقؾ ما لٌس لك به علم ،إن السمع والبصر والفإاد كل أولبك كان عنه مسإوالً) (نببونً بعلم إن كنتم صادقٌن) (قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ،إن تتبعون إال الظن وإن أنتم إال تخرصون) ( ابتونً بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقٌن) (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقٌن) ( أو لم ٌنظروا فً ملكوت السموات واألرض وما خلق هللا من شًء) (قل انظروا ماذا فً السموات واألرض) (قل إنما أعظمكم بواحدة ،أن تقوموا هلل مثنى وفرادى ثم تتفكروا) وٌنوه القرآن فً كثٌر من آٌاته بـ( أولى األلباب) ،و (أولى النهى) ( ،وأولى األبصار) .والمراد بالبصر هنا :العقلً ال الحسً. وٌبٌن فً كتابه المسطور (القرآن) ،وكتابه المنظور (الكون) آٌات (لقوم ٌتفكرون) ،و(لقوم ٌعقلون)، و(لقوم ٌعلمون) .وكم فٌه من فواصل تنبه العقول الؽافلة مثل( :أفبل تعقلون)؟ ( ،أفبل تتفكرون)؟ . وعلماء اإلسبلم متفقون على أن طلب 1لعلم فرٌضة على كل مسلم ومسلمة ،وأن منه ما هو فرض عٌن ،ومنه ما هو فرض كفاٌة .ففرض العٌن ما ال بد للمسلم منه فً فهم دٌنه عقٌدة وعبادة وسلوكاً، وفً عمل دنٌاه ،حتى ٌكفً نفسه ،وأسرته ،وٌهم فً كفاٌة أمته .وفرض الكفاٌة كل ما به قوام الدٌن والدنٌا للجماعة المسلمة ،من علوم الدٌن وعلوم الدنٌا .ولهذا قرر علماء المسلمٌن أن تعلم الطب والهندسة وؼٌرهما من فروع العلم ،وكذلك تعلم الصناعات التً ال تقوم حٌاة الناس إال بها ،فرض كفاٌة على األمة ،فإذا وجد فٌها عدد كاؾ من العلماء والخبراء ،والفنٌٌن فً كل مجال ،بحٌث تسد به الثؽرات ،وتلبى الحاجات ،فقد أدت األمة واجبها ،وسقط اإلثم والحرج عنها ،وإذا قصرت األمة فً جانب من هذه الجوانب الدنٌوٌة ،وؼدت عالة على ؼٌرها كلٌا ً أو جزبٌا ً ،فاألمة كلها آثمة ،وبخاصة أولو األمر فٌها. وعلى ضوء هذه المعانً قامت حضارة إسبلمٌة رفٌعة البنٌان ،متٌنة األركان ،جامعة بٌن العلم واإلٌمان .ولم ٌعرؾ فً هذه الحضارة ما عرؾ فً أمم أخرى من الصراع بٌن العلم والدٌن ،أو بٌن الحكمة والشرٌعة ،أو بٌن العقل والنقل .بل كان كثٌر من علماء الشرع أطباء ورٌاضٌٌن وكٌمابٌٌن وفلكٌٌن وؼٌرهم ( ،مثل :ابن رشد والفخر الرازي والخوارزمً وابن النفٌس وابن خلدون وؼٌرهم ) . وقد بٌن اإلمام محمد عبده أن أصول اإلسبلم تتفق كل االتفاق مع العلم والمدنٌة ،وأقام على ذلك البراهٌن الناصعة من نصوص الدٌن ومن تارٌخ المسلمٌن ،وذلك فً كتابه القٌم ( اإلسبلم والنصرانٌة مع العلم والمدنٌة) .
العمل وهو ثمرة العلم ،ولهذا قٌل فً تراثنا :علم ببل عمل ،كشجر ببل ثمر ،أو سحاب ببل مطر .وهو أٌضا ثمرة اإلٌمان الحق ،إذ ال ٌتصور إٌمان ببل عمل .ومهما ٌختلؾ علماء الكبلم فً اعتبار العمل جزءاً ما ال رٌب فٌه أن اإلٌمان الصادق ال بد أن ٌثمر عمبلً . من حقٌقة اإلٌمان ،أو شرطا ً له ،أو أثراً له ،ؾ ولهذا قرن القرآن بٌن اإلٌمان والعمل فً عشرات من آٌاته ،ولهذا قال السلؾ :اإلٌمان ما وقر فً القلب ،وصدقه العمل. والعمل المطلوب هو :بذل الجهد الواعً لتحقٌق مقاصد الشارع من اإلنسان فوق هذه األرض .وهذه المقاصد -كما أشار إلٌها القرآن -تتحدد فً ثبلث ذكرها اإلمام الراؼب األصفهانى فً كتابه ( الذرٌعة إلى مكارم الشرٌعة ) وهى .1العبادة ،كما قال تعالى ( :وما خلقت الجن واإلنس إال لٌعبدون) .2الخالفة ،كما قال تعالى ( :إنً جاعل فً األرض خلٌفة)ٌ..عنً آدم وذرٌته. .3العمارة ،كما قال تعالى ( :هو أنشؤكم من األرض واستعمركم فٌها ) . وهذه الثبلثة متداخلة ومتبلزمة ،فالعمارة -عند أدابها بقصد ونٌة -جزء من العبادة ،وقٌام بحق الخبلفة .والعبادة بمعناها الواسع تشمل الخبلفة والعمارة ،وال خبلفة بؽٌر عبادة وعمارة .والعمل المنشود فً اإلسبلم هو ( عمل الصالحات ) ،والصالحات :تعبٌر قرآنً جامعٌ ،شمل كل ما ٌصلح به الدٌن والدنٌا ،وٌصلح به الفرد والمجتمع .فهو ٌضم العبادات والعامبلت ،أو عمل المعاش والمعاد ،كما ٌعبر علماإنا رحمهم هللا .ولقد بٌن القرآن أن هللا تعالى خلق السموات واألرض ،وخلق الموت والحٌاة، وجعل ما على األرض زٌنة لها ،لهدؾ واضح حدده بقوله سبحانه ( :لٌبلوكم أٌكم أحسن عمبلً )، وقوله( :لنبلوهم أٌهم أحسن عمبلً ) .ومعنى هذا :أن الخالق جل شؤنه ال ٌرٌد من الناس أي عمل ،وال مجرد العمل الحسن ،بل ٌرٌد منهم ( العمل األحسن) .فالسباق بًنهم لٌس بٌن العمل السٌا والحسن ،بل بٌن العمل الحسن واألحسن .وال ؼرو أن وجدنا من العبارات القرآنٌة المؤنوسة عبارة ( :التً هً أحسن) ،فالمسلم ٌجادل ( بالتً هً أحسن ) ،وبدفع ( بالتً هً أحسن) ،وٌستثمر مال الٌتٌم ( بالتً هً أحسن ) ،وٌتبع أحسن ما أنزل إلٌه من ربه ( :واتبعوا أحسن ما أنزل إلٌكم من ربكم) .فهو ٌرنو دابما ً إلى ما هو أحسن ،ولٌس إلى مجرد الحسن .والعمل االقتصادي بكل ،فروعه وأنواعه من أفضل القربات إلى هللا ،إذا صحت فٌه النٌة ،وأدى بإتقان ،والتزمت فٌه حدود هللا .وخصوصا ً العمل اإلنتاجً من زراعة وصناعة و حدٌد وتعدٌن .وقد توارث العرب من قدٌم احتقار العمل الٌدوي والحرفً ،وكان أحدهم ٌإثر أن ٌذهب إلى األمٌر أو شٌخ القبٌلةٌ ،سؤله المعونة ،على أن ٌبذل جهداً ٌكفل له عٌشا ً ٌبلبمه ،فبٌن لهم الرسول الكرٌم أن أي عمل لكسب العٌش وان قل دخله ،وكثر جهده -خٌر وأكرم من سإال الناس ،أعطوه أو منعوهٌ .قول علٌه الصبلة والسبلم ( :ألن ٌؤخذ أحدكم حبله على ظهر ،فٌؤتً بحزمة من الحطب فٌبٌعها ،فٌكؾ هللا بها وجهه ،خٌر من أن ٌسؤل الناس ،أعطوه أو منعوه ) .وفى الحث على االحتراؾ ٌقول ( :ما أكل أحد طعاما ً قط خٌراً من أن ٌؤكل من عمل ٌده ،وإن نبً هللا داود كان ٌؤكل من عمل ٌده ) .وفى الحث على الزرع والؽرس ٌقول ( :ما من مسلم ٌؽرس ؼرسا ً أو ٌزرع زرعا ً فٌؤكل منه طٌر أو إنسان أو بهٌمة إالكان له به صدقة ) .ومن أروع التوجٌهات النبوٌة فً بٌان قٌمة العمل :الحدٌث الذي ٌقول (:إن قامت الساعة وفى ٌد أحدكم فسٌلة ،فإن استطاع أال تقوم (
أي الساعة ) حتى ٌؽرسها فلٌؽرسها ) .والفسٌلة :النخلة الصغٌرة ،أي ما نسمٌه ( الشتلة ) . ولماذا ٌؽرسها والساعة قابمة ،وهو لن ٌنتفع بها ،وال أحد من بعده ؟! إنه دلٌل عملى أن العمل مطلوب لذاته ،وأن على المسلم أن ٌظل عامبلً منتجاً ،حتى تنفد آخر نقطة زٌت فً سراج الحٌاة ! إن العمل عبادة وقربة ،أكل الناس من ثمره أو لم ٌؤكلوا .ولو وعى المسلمون هذه التعلٌمات لفتح هللا علٌهم بركات من السماء ،واألرض ،وأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم .وكانت مجتمعاتهم فً طلٌعة مجتمعات العام إنتاجا ً وثراءً ،ولم ٌعٌشوا كبلً على ؼٌرهم من األمم ،حتى إنهم ال ٌكفون أنفسهم من القوت الٌومً الذي به عٌشهم وحٌاتهم ،وببلدهم ببلد زراعٌة ،وال من السبلح الذي ٌحتاجون إلٌه فً حماٌة حرماتهم وأرضهم وعرضهم ،فلو كؾ اآلخرون أٌدٌهم منهم لهلكوا مادٌا ً من الجوع ،وهلكوا معنوٌا ً من الذل.
الحرية ومن القٌم اإلنسانٌة التً عظم أمرها اإلسبلم :الحرٌة ،التً ترفع من اإلنسان كل ألوان الضؽط والقهر واإلكراه واإلذالل .وتجعله كما أراد هللا له :سٌداً فً الكون ،عبداً هلل وحده. وتشمل هذه الحرٌة :الحرٌة الدٌنٌة ،والحرٌة الفكرٌة ،والحرٌة السٌاسٌة ،والحرٌة المدنٌة ،وكل الحرٌات الحقٌقٌة. ونعنى بالحرٌة الدٌنٌة :حرٌة االعتقاد ،وحرٌة ممارسة الشعابر ،فبل ٌقبل اإلسبلم بحال أن ٌكره أحد على ترك دٌن رضٌه واعتنقه ،أو ٌجبر على اعتناق دٌن ال ٌرضاه .ونصوص القرآن الكرٌم مرٌحة فً ذلك كل الصراحة ،ففً القرآن المكً ٌقول تعالى ( :أفؤنت تكره الناس حتى ٌكونوا مإمنٌن ) ؟ وفً القرآن المدنً ٌقول سبحانه ( :ال إكراه فً الدٌن ،قد تبٌن الرشد من الؽً ) . ومن دخل فً ذمة المسلمٌن من أصحاب األدٌان األخرى ،فقد ؼدا ٌحمل (جنسٌة دار اإلسبلم) ،له ما للمسلمٌن ,وعلٌه ما علٌهم فً الجملة ،إال ما اقتضته طبٌعة التمٌز الدٌنً ،فبل ٌفرض علٌه كل ما ٌفرض على ا لمسلمٌن ،وال ٌحرم علٌه كل ما حرم على المسلمٌن .ومن الناس من كتب فً عصرنا ٌقول :إن التراث العربً واإلسبلمً لم ٌعرؾ الحرٌة بالمفهوم الحدٌث والمعاصر ،الذي نقل إلٌنا من الؽرب ،بعد الثورة الفرنسٌة .إنما ٌعرؾ الحرٌة بمعنى ( عدم الرق) فقط ،فالحر من لٌس عبدا، والحرٌة مقابل الرق والعبودٌة .فنحن حٌن نإمن بالحرٌة ،أو ننادى بالحرٌة عالة على فرنسا ،فقبلها لم نكن نعرؾ منها شٌا !! وإنً ألعجب أن ٌقول هذا أناس ٌزعمون -وٌزعم لهم -أنهم مثقفون وعلمٌون، وباحثون موضوعٌون ! ونظراً ألن بعض الناس قد ٌؽره هذا الكبلم المزوق ،وجب علٌنا أن نضع أمامهم بعض الحقابق تبصرة وتذكرة : أوال :ال ننكر أن األمل والحقٌقة اللؽوٌة فً معنى الحرٌة ،هو ما ٌقابل الرق الذي ٌعنى تحكم اإلنسان فً آخر وتسلطه علٌه .والحرٌة تعنً التخلص من هذا التحكم والتسلط ،وفكاك رقبته منه .ولكن لٌس هذا هو المعنى الوحٌد للكلمة . لقد اتسعت الكلمة لتشمل تخلص اإلنسان من كل تسلط علٌه بؽٌر حق ،من سلطة جابرة ،أو قوة قاهرة . وفى هذا جاءت كلمة عمر بن الخطاب لوالٌه على مصر عمرو بن العاص ،وهً كلمة محفورة فً ذاكرة التارٌخ ( :متى تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ) ؟ا وهى كلمة أصبحت تصدر بها اآلن الدساتٌر ومواثٌق حقوق اإلنسان .وبقول على بن أبى طالب فً وصٌته البنه ) :وال تكن عبد ؼٌرك وقد جعلك هللا حرا ) .وقد استعمل كثٌر من الشعراء كلمة (الحر) بمعنى اإلنسان العزٌز الكرٌم .كقول من قال :
العبد ٌقرع بالعصا والحر تكفٌه المبلمة ! وقال اآلخر :والحر من دان إنصافا ً كما دٌنا وقال ؼٌره فً وصؾ بعض الحسان العفٌفات : حور حرابر ما هممن برٌبة كظباء مكة صٌدهن حرام وفى أمثال العرب : ( تجوع الحرة وال تؤكل بثدٌٌها ) ! وقالوا : ( الصبر مر ،ال ٌتجرعه إال حر ). ثم إن عدم وجود لفظ أو مصطلح معٌن ٌدل على مفهوم أو مضمون نعرفه اآلن :ال ٌعنى بالضرورة عدم وجود هذا المدلول أو المضمون .فقد ٌوجد هذا المضمون أو المحتوى تحت لفظ أو مصطلح آخر. وقد ٌوجد منثورا تحت كلمات أو مصطلحات أخرى .فقد ال ٌجد الباحث فً تراثنا كلمة (المساواة) مستخدمة كما نستخدمها نحن اآلن .و لكنه بؤدنى بحث ٌجد مضمونها مبثوثا منتشرا ،فً آٌات القرآن الكرٌم ,وأحادٌث الرسول العظٌم ,وفى عبادات اإلسبلم وشعابره ،من الصبلة والصٌام والحج والعمرة ،وفى أحكام اإلسبلم وعقوباته التً ال تفرق بٌن الشرٌؾ والوضٌع .وفى مبادئ اإلسبلم التً تحطم الفوارق بٌن األجناس واأللوان والطبقات ،وتجعل الناس سواسٌة كؤسنان المشط ومثل ذلك : الحرٌة ،فقد ٌعبر عنها بالكرامة ( :ولقد كرمنا بنى آدم ) أو بالعزة ( :وهلل العزة ولرسوله وللمإمنٌن ) .أو بتحرٌم القهر والنهر ( :فؤما الٌتٌم فبل تقهر ،وأما السابل فبل تنهر ) .أو بتحرٌم اإلره اب والتروٌع ( :ال ٌحل لمسلم أن ٌروع مسلما ) .أو بتحرٌم الضرب والتعذٌب ( :من جرد ظهر مسلم بؽٌر حق لقً هللا وهو علٌه ؼضبان ) .أو بؽٌر ذلك من العبارات واألسالٌب . وأكثر من ذلك :أن اإلسبلم ٌحرض على القتال وإعبلن الحرب من أجل تحرٌر المستضعفٌن فً األرض من نٌر الطؽاة والمتجبرٌنٌ .قول تعالى ( :ومالكم ال تقاتلون فً سبٌل هللا والمستضعفٌن من الرجال والنسا ء والولدان الذٌن ٌقولون ربنا أخرجنا من هذه القرٌة الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولٌا ً واجعل لنا من دونك نصٌراً ) . وإذا لم ٌقدر الناس على مقاومة الطؽٌان واالستبداد ،فبل أقل من أن ٌهاجروا من دٌارهم ،وال ٌقبلوا على أنفسهم الهوان والبقاء تحت نٌر الظلم واالستعباد .وقد توعد القرآن الكرٌم بالوعٌد الشدٌد من رضً بهذه الحٌاة المهٌنة ،واستسلم لها طابعا ً فبل هو قاوم مع المقاومٌن ،وال هو هاجر مع المهاجرٌن ٌ .قول هللا عز وجل ( :إن الذٌن توفاهم المبلبكة ظالمً أنفسهم قالوا فٌم كنتم قالوا كنا مستضعفٌن فً األرض ،قالوا أم تكن أرض هللا واسعة فتهاجروا فٌها ،فؤولبك مؤواهم جهنم ،وساءت مصٌراً ،إال المستضعفٌن من الرجال والنساء والولدان ال ٌستطٌعون حٌلة وال ٌهتدون سبٌبلً ،فؤولبك عسى هللا أن ٌعفوا عنهم ،وكان هللا عفواً ؼفوراً ) .على أن الذي ٌعطى اإلسبلم حقه من الفهم والتدبرٌ ،جد أن جوهره هو التوحٌد ،فهو روح الوجود اإلسبلمً .والتوحٌد هو األساس العقلً والفلسفً لتحقٌق مبدأ الحرٌة ،بل لتحقٌق مبادئ الحرٌة واإلخاء والمساواة جمٌعا . وكلمة التوحٌد -كلمة ( ال إله إال هللا ) -تعنى إسقاط المتؤلهٌن والمتجبرٌن فً األرض ،وإنزالهم من عروش الربوبٌة المزٌفة ،واالستعبلء على الخلق ،إلى ساحة المشاركة للناس جمٌعا فً العبودٌة هلل , والبنوة آلدم .ولهذا كانت رسابل النبً (صلى هللا علٌه وسلم) إلى قٌصر وأمرا ء النصارى وملوكهم فً مصر والحبشة وؼٌرها مختومة بهذا النداء ٌ( :ا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بٌننا وبٌنكم أال نعبد إال هللا وال نشرك به شٌبا ً وال ٌتخذ بعضنا بعضا ً أربابا من دون هللا) . إن أعظم ما دمر حرٌة البشر ،وأتى على بنٌانها من القواعد ،اتخاذ بعض الناس بعضا ً أربابا ً من دون هللا .ولكً ٌسترد الناس حرمتهم وكرامتهم ٌجب تحطٌم هإالء األرباب األدعٌاء ،واآللهة المزورٌن، خصوصا ً فً أنفس الذٌن توهموهم أربابا ً حقاً ،وهم مخلوقون مثلهم ،ال ٌملكون ألنفسهم ضراً وال نفعا ً
وال موتا ً وال حٌا ًة وال نشوراً .ولقد وعى مشركو العرب هذه الحقٌقة منذ دعا النبً (صلى هللا علٌه وسلم) من أول ٌوم إلى التوحٌد ،وشهادة أن ال إله إال هللا ،وعلموا أن وراء هذه الكلمة انقبلبا ً فً الحٌاة االجتماعٌة والسٌاسٌة ،وأنها تإذن بمٌبلد جدٌد لبنى اإلنسان ،وال سٌما الفقراء والمستضعفٌن والمسحوقٌن ،فبل ؼرو أن وقفوا فً وجهها ،وجندوا كل قواهم لحرب كل من آمن بها ،واستجاب لندابها.
الشورى ومن القٌم اإلنسانٌة واالجتماعٌة التً جاء بها اإلسبلم :الشوري . ومعنى الشورى :أال ٌنفرد اإلنسان بالرأي وحده فً األمور التً تحتاج إلى مشاركة عقل آخر أو أكثر، فرأى االثنٌن أو الجماعة أدنى إلى إدراك الصواب من رأى الواحد . كما أن التشاور فً األمر ٌفتح مؽالٌقه ،وٌتٌح النظر إلٌه من مختلؾ زواٌاه ،بمقتضى اختبلؾ اهتمامات األفراد ،واختبلؾ مداركهم وثقافتهم ،وبهذا ٌكون الحكم على األمر مبنٌا ً على تصور شامل ،ودراسة مستوعبة. فاإلنسان بالشورى ٌضٌؾ إلى عقله عقول اآلخرٌن وإلى علمه علوم اآلخرٌن ،وفى هذا ٌقول الشاعر العربً : إذا بلػ الرأي المشورة فاستعن برأي نصٌح أو نصٌحة حازم وال تحسب الشورى علٌك ؼضاضة فإن الخوافً قوة للقوادم وقد دعا اإلسبلم إلى الشورى فً حٌاة الفرد ،وفى حٌاة األسرة ،وفى حٌاة المجتمع والدولة . الشورى في حياة الفرد: ففً حٌاة الفرد ٌربى اإلسبلم المسلم إذا أراد أن ٌقدم على أمر من األمور المهمة ،التً تختلؾ فٌها الوجهات ،وتتعارض اآلراء والرؼبات ،وٌتردد فٌها المرء بٌن اإلقدام واإلحجام ،أن ٌستعٌن بؤمرٌن ٌساندانه على اتخاذ القرار األصوب . أحد هذٌن األمرٌن :ربانً ،وهو استخارة هللا تعالى ،وهى صبلة ركعتٌن ٌعقبها دعاء مضمونه أن ٌختار هللا له خٌر األمرٌن فً دٌنه ودنٌاه ،ومعاشه ومعاده . والثانً :إنسانً ،وهو استشارة من ٌثق برأٌه وخبرته ونصحه وإخبلصه .وبهذا ٌجمع بٌن استخارة الخالق ،واستشارة الخلق .وقد حفظ المسلمون من تراثهم ( :ال خاب من استخار ،وال ندم من استشار) .وقد كان الصحابة رضً هللا عنهم ٌستشٌرون النبً (صلى هللا علٌه وسلم) فً كثٌر من أمورهم الخاصة ،فٌشٌر علٌهم بما ٌراه صوابا أو أصوب أو أفضل .كما رأٌنا حٌن استشارته فاطمة بنت قٌس فً أمر زواجها ،وقد أبدى الرؼبة فٌها رجبلن :معاوٌة وأبو جهم .فقال لها ( :أما معاوٌة فصعلوك ال مال له ،وأما أبو جهم فبل ٌضع عصاه عن عاتقه) ! أي ٌضرب النساء .واقترح علٌها أن تتزوج أسامة بن زٌد .وكان الرسول الكرٌم علٌه الصبلة والسبلم ٌستشٌر بعض أصحابه فً أموره الخاصة كذلك . فقد رأٌناه فً أزمة (حدٌث اإلفك) ٌستشٌر على بن أبى طالب ،وٌسؤل أسامة بن زٌد .
الشورى في حياة األسرة:: وفى حٌاة األسرة ٌدعو اإلسبلم إلى أن تقوم الحٌاة األسرٌة على أساس من التشاور والتراضً .وذلك منذ بداٌة تكوٌن األسرة .ولهذا رفضت نصوص الشرٌعة أن ٌستبد األب بتزوٌج ابنته -ولو كانت بكرا دون أن ٌؤخذ رأٌها .وأوجب التوجٌه النبوي أن تستؤذن البكر ،وان كانت تستحٌى ،فجعل إذنهاصماتها .فإن سكوتها عند عرض األمر علٌها دلٌل على الرضا والقبول .وقد رد النبً (صلى هللا علٌه وسلم) بعض عقود الزواج التً تمت بؽٌر إرادة البنت ،ألن الشرع لم ٌجز ألحد أن ٌتصرؾ فً مالها وملكها بؽٌر إذنها ،فكٌؾ بمصٌرها ومستقبل حٌاتها ؟! بل رؼبت السنة آباء البنات أن ٌشاوروا أمهات بناتهن فً أمر زواجهن ،أي ٌشاور الرجل زوجته عند تروٌج ابنتهما ،وفى هذا جاء الحدٌث الذي رواه اإلمام أحمد ( :آمروا النساء فً بناتهن ) .وذلك أن األم أعلم بابنتها من األب ،فهً باعتبارها أنثى تعرؾ اتجاهها وعواطفها ،والبنت تبوح ألمها عن أسرارها ما ال تجرإ أن تبوح به لوالدها .وبعد بناء ٌنهما ،وفٌما ٌهم كل واحد منهما األسرة ٌنبؽً للزوجٌن ،ن ٌتفاهما وٌتشاورا فٌما ٌهم الحٌاة المشتركة ب على حدة ،وفٌما ٌهم حٌاة ذرٌتهما ومستقبلها .وال ٌجوز أن ٌستهان برأي المرأة هنا ،كما ٌشٌع عند بعض األمر ،فكم من امرأة كان رأٌها خٌراً وبركة على أهلها وقومها .وما كان أحصؾ رأي خدٌجة وموقفها فً أول ساعات الوحً ،ودورهما فً تثبٌت فإاد النبً ،والذهاب معه إلى ابن عمها ورقة بن نوفل ،لٌطمبنه وٌبشره .وكذلك رأي أم سلمة ٌوم الحدٌبٌة .وسٌؤتً الحدٌث عنه. ومن الروابع القرآنٌة :التنبٌه على ضرورة التشاور والتراضً بٌن الزوجٌن فٌما ٌتصل برضاع األوالد وفطامهم ،ولو بعد االنفصال بٌنهماٌ .قول تعالى (:والوالدات ٌرضعن أوالدهن حولٌن كاملٌن ،لمن أراد أن ٌتم الرضاعة ،وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروؾ ،) . . .إلى أن قال (:فإن أرادا فصاالً عن تراض منهما وتشاور فبل جناح علهما ) . الشورى في حياة المجتمع والدولة: أما الشورى فً حٌاة المجتمع والدولة المسلمة ،فقد جعلها القرآن من المكونات المهمة للجماعة المسلمة، وذلك فً القرآن آلمك الذي برس القواعد ،وٌضع األسس للحٌاة اإلسبلمٌة .فقد ذكر الشورى فً أوصاؾ المإمنٌن ،مقرونة بمجموعة م ن الصفات األساسٌة التً ال ٌتم إسبلم وال إٌمان إال بها .وهى: االستجابة هلل تعالى ،وإقام الصبلة ،واإلنفاق مما رزق هللا ،وهذا ما ذكر فً السورة التً تحمل اسم (الشورى) ٌقول تعالى ( وما عند هللا خٌر وأبقى للذٌن آمنوا وعلى ربهم ٌتوكلون) ،إلى أن قال ( : والذٌن استجابوا لربهم وأقاموا الصبلة وأمرهم شورى بٌنهم ومما رزقناهم ٌنفقون) .والمراد بقوله (وأمرهم) :األمر العام الذي ٌهم جماعتهم ،وٌإثر فً حٌاتهم المشتركة .وهو (األمر) الذي أمر هللا تعالى رسوله بالمشاورة فٌه .فقد قال تعالى فً سورة آل عمران من القرآن المدنً ( :وشاورهم فً األمر ) . وقد جاء هذا األمر من هللا ورسوله بعد ؼزوة ( أحد) ،التً شاور النبً فٌها أصحابه ،ونزل عن رأٌه إلى رأى أكثرٌتهم ،وكانت النتٌجة ما أصاب المسلمٌن من قرح ،وما اتخذه هللا من شهدا ء :سبعٌن من خٌار الصحابة ،منهم حمزة ومصعب وسعد بن الربٌع وؼٌرهم .ومع هذا أمر هللا رسوله بالمشاورة لهم ،ومعناه :استمر على مشاورتهم ,ففٌها خٌر وبركة ،وإن جاءت النتٌجة فً إحدى المرات على ؼٌر ما تحب ،فالعبرة بالعاقبة .وقد كان النبً (صلى هللا علٌه وسلم) أكثر الناس مشاورة ألصحابه: شاورهم فً ؼزوة ( بدر) ،قبل القتال ،وفى أثنابه ،وبعده .ولم ٌدخل المعركة إال بعد أن اطمؤن إلى رضا جمهورهم .وشاورهم فً (أحد) ،فنزل عن رأٌه إلى رأى األكثرٌة التً رأت الخروج إلى القوم، ال القتال داخل المدٌنة .وشاورهم فً (الخندق) ،وهم أن ٌصالح (ؼطفان) على شا من ثمار المدٌنة، لٌعزلهم عن قرٌش ،وأبى ممثلو األنصار ذلك ،فوقؾ عند رأٌهم .وفى ( الحدٌبٌة ) شاور أم سلمة فً امتناع أصحابه عن التحلل من إحرامهم بعد الصلح ،فقد عز علٌهم ذلك بعد نٌة العمرة .فؤشارت علٌه أم
سلمة أن ٌخرج إلٌهم ،وٌتحلل من إحرامه أمامهم دون أن ٌتكلم ،فما أن رأوه فعل ذلك ،حتى بادروا إلى االقتداء به .واإلسبلم كما ٌؤمر الحاكم أن ٌستشٌرٌ ،ؤمر األمة أن تنصح له ،كما جاء فً الحدٌث الصحٌح ( :الدٌن النصٌحة . . . . . . . .هلل ولرسوله ولكتابه وألبمة المسلمٌن وعامتهم ) .وفرٌضة األمر بالمعروؾ والنهى عن المنكر فرٌضة عامة ،تشمل الحكام والمحكومٌن كافة ،كذلك فرٌضة التواصً بالحق ،والتواصً بالصبر ،التً ال نجاة لئلنسان من خسران الدنٌا واآلخرة إال بها .فلٌس فً المسلمٌن أحد أكبر من أن ٌوصى وٌنصح ،وٌإمر وٌنهى .ولٌس فٌهم أحد أصؽر من أن ٌوصى وٌنصح وٌؤمر وٌنهى .وقد كان النبً (صلى هللا علٌه وسلم) ٌشار علٌه بالرأي مخالفا ً لرأٌه فٌؤخذ به، وٌدع رأٌه الشخصً . وقد بعث أبا هرٌرة ٌبشر الناس بؤن ( :من قال -ال إله إال هللا -دخل الجنة ) فخشً عمر أن ٌفهمها الناس فهما مؽلوطا ،وٌفصلوا الكلمة عن العمل ،ولذا أوقؾ أبا هرٌرة ،وبٌن للرسول خوفه من أن ٌتكل الناس على ذلك قاببلً :فخلهم ٌعملون ،فقال الرسول (صلى هللا علٌه وسلم) (:فخلهم ٌعملون) .وقال أبو بكر فً خطابه السٌاسً األول بعد تولٌه الخبلفةٌ ،بٌن منهجه فً الحكم ( :إن رأٌتمونً على حق فؤعٌنونً ،وإن رأٌتمونً على باطل فسدد ونى .أطٌعونً ما أطعت هللا فٌكم ،فإن عصٌته فبل طاعة إلى علٌكم ) .وقال عمر :أٌها الناس ،من رأى منكم فً اعوجاجا ً فلٌقومنً. فقال له أحدهم :لو رأٌنا فٌك اعوجاجا ً لقومناه بحد سٌوفنا ! فقال عمر :الحمد هلل الذي جعل فً رعٌة عمر من ٌقوّ م عمر بحد سٌفه ! وقال له بعضهم ٌوما ً :اتق هللا ٌا عمر ا فؤنكر علٌه بعض من عنده أن ٌقول ذلك ألمٌر المإمنٌن فقال عمر :دعه .ال خٌر فٌكم إذا لم تقولوها ،وال خٌر فٌنا إذا لم نسمعها . بل إن الرسول ٌشرع المعارضة المسلحة لؤلمٌر الفاجر بشرطٌن : األول :االنحراؾ البٌن عن منهج اإلسبلم فً عقٌدته أو شرٌعته ،وهو ما أطلق علٌه الحدٌث النبوي ( : الكفر البواح ) .فقد أوصى الرسول (صلى هللا علٌه وسلم) من باٌعه من أصحابه أن ٌصبروا على أمرابهم وإان استؤثروا ،بعض المكاسب الدنٌوٌة دونهم ،قال ( :إال أن تروا كفراً بواحا ً عندكم فٌه من هللا برهان). والثانً :أن تكون هناك قدرة على إزالة المنكر ،دون أن ٌترتب على إزالته منكر أكبر منه .وإال وجب تحمل المنكر األدنى مخافة وقوع المنكر ال .بنا ء على قاعدة ارتكاب أخؾ الضررٌن ،وأهون الشرٌن. وعند هذا الخوؾ تنتقل المعارضة من القتال بالٌد ،إلى السٌاسة باللسان والقلم ،ثم إلى اإلنكار بالقلب، وذلك أضعؾ اإلٌمان .وفى هذا جاء حدٌث ابن مسعود عن النبً (صلى هللا علٌه وسلم) ( :ما من نبً بعثه هللا فً أمة قبلً ،إال كان له من أمته حوارٌون وأصحاب ٌؤخذون بسنته ،وٌقتدون بؤمره ،ثم إنها ٌخلؾ من بعدهم خلوؾٌ ,قولون ما ال ٌفعلون ،وٌفعلون ما ال ٌإمرون .فمن جاهدهم بٌده فهو مإمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مإمن ،ومن جاهدهم بقلبه فهو مإمن ،ولٌس وراء ذلك من اإلٌمان حبة خردل ) .والقرآن الكرٌم ٌنقل لنا صورة طٌبة عن الحكم الذي ٌقوم على الشورى ،ممثبلً فً ملكة سبؤ التً فاجؤها كتاب سلٌمان علٌه السبلم ٌحمله الهدهد ،فجمعت قومها وقالتٌ ( :ا أٌها المؤل افتونً فً أمري م ا كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون ،قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بؤس شدٌد واألمر إلٌك فانظري ماذا تؤمرٌن ،قالت إن الملوك إذا دخلوا قرٌة أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة ،وكذلك ٌفعلون ،وإنً مرسلة إلٌهم بهدٌة فناظرة بم ٌرجع المرسلون … ) اآلٌات .وقد انتهى هذا السلوك الشورى الحكٌم بالملكة الرشٌدة إلى أن أسلمت مع سلٌمان هلل رب العالمٌن .فنجت ونجا معها قومها من حرب خاسرة ،وكسبت بذلك الدنٌا واآلخرة. وٌنقل القرآن صورة أخرى مظلمة عن الحكم الذي ٌقوم على التؤله والتسلط ،مثل حكم فرعون الذي قال للناس ( :أنا ربكم ال )( ،ما علم ت لكم من إله ؼٌري) ،والذي ال ٌستشٌر فً األمور الهامة إال بطانته الخاصة ،كما رأٌنا ذلك فً قصة فرعون مع موسى ،حٌن حاور فرعون فؤفحمه ،فهدده بالسجن ،فقال موسى ( :أو لو جبتك بشًء مبٌن ،قال فؤت به إن كنت من الصادقٌن ،فؤلقى عصاه فإذا هً ثعبان
مبٌن ونزع ٌده فإذا هً بٌضاء للناظرٌن ،قال للمبل حوله إن هذا لساحر علٌمٌ ،رٌد أن ٌخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تؤمرون ) .فهذه لٌست استشارة حقٌقٌة ،ألنها تخص ( المؤل حوله) فقط ،ثم هً استشارة موجهه ،فهو ال ٌؤخذ رأٌهم فً شؤن موسى وماذا تكون رسالته ،وما حقٌقة أمره؟ بل حكم علٌه قبل أن ٌسؤلهم الرأي ( :إن هذا لساحر علٌمٌ ،رٌد أن ٌخرجكم من أرضكم بسحره). وقد بٌن القرآن حقٌقة حكم فرعون ،وموقفه من رعٌته حٌن قال ( :إن فرعون عبل فً األرض وجعل أهلها شٌعا ً ٌستضعؾ طابفة منهم ٌذبح أبناءهم وٌستحً نساءهم ،إنه كان من المفسدٌن) .فهذا ( العلو) فً األرض هو ما نعبر عنه فً لؽة السٌاسة المعاصرة بكلمة (الطؽٌان) .وقد كرر القرآن ذلك فً وصؾ فرعون (:إنه كان عالٌا ً من المسرفٌن ) .ولم ٌكن علو فرعون وطؽٌانه على بنى إسرابٌل وحدهم ،بل على المصرٌٌن أٌضاً ،إذا خطر ألحدهم أو لفبة منهم أن ٌخرجوا عن خطة ،وٌتمردوا على ربوبٌته .وهذا ما تجلى واضحا فً موقفه من السحرة الذٌن جلبهم من كل صوب لٌنصروه على موسى،بعد أن تبٌن لهم ،حٌن آمنوا برب هارون وموسى ،بعد أن تبٌن لهم الحق من الباطل ( .قال آمنتم له قبل أن آذن لكم ،إنه لكبٌركم الذي علمكم السحر ،فؤلقطعن أٌدٌكم وأرجلكم من خبلؾ وألصلبنكم فً جذوع النخل ولتعلمن أٌنا أشد عذابا ً وأبقى) . وانظر إلى قوله ( :آمنتم له قبل أن آذن لكم ) إنه ٌرٌد أن ٌحجر على عقول الناس وقلوبهم ،فبل ٌجوز لعقل أن ٌقتنع بشًء وال لقلب أن ٌإمن بؤمر ،إال بإذنه وبعد تصرٌح منه !! لقد ذم القرآن فرعون ،وذم القوى الدنسة المتحالفة معه ،مثل ( قارون) الذي ٌمثل الرأسمالٌة البشعة الجشعة ،التً ال ترى ألحد علٌها حقا فٌما ٌملك من مال .كما جسدها قارون بقوله ( :إنما أوتٌته على علم عندي ) .ومثل هامان الذي ٌمثل السٌاسٌٌن النفعٌٌن الذٌن ٌضعون قدراتهم الذهنٌة والتنفٌذٌة فً خدمة الطاؼٌة األكبر .فهو عقله المفكر ،وساعده المنفذ ! كما شمل القرآن بالذم أموال الطؽاة من الجنود الذٌن ٌعتبرون أدوات فً أٌدٌهمٌ ،ستقدمونها لجلد الشعوب وقهرها ،ولهذا قال القرآن ( :إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطبٌن) .وٌقول عن فرعون ( :فؤخذناه وجنوده فنبذناهم فً الٌم ،فانظر كٌؾ كان عاقبة الظالمٌن ) .وكلمة ( الجنود) تشمل كل أعوان الطاؼٌة من عسكرٌٌن ومدنٌٌن . والقرآن ٌحارب الطؽٌان واالستبداد من عدة نواح: من ناحٌة الحملة على الطؽاة والمتجبرٌن فً األرض ( :كذلك ٌطبع هللا على كل قلب متكبر جبار) (واستفتحوا وخاب كل جبار عنٌد) . ومن ناحٌة الحملة على األعوان المباشرٌن من كبار مثل هامان وقارون أو صؽار مثل جنود فرعون. ومن ناحٌة ثالثة :الحملة على الشعوب التً تسلم قٌادها للطؽاة ،دون أن تسؤلهم ٌوما ً :لم ؟ أو كٌؾ؟ بله أن تقول :ال ،بملء فٌها !. لقد ذم القرآن قوم نوح على لسانه بقوله ( :رب إنهم عصونً واتبعوا من لم ٌزده ماله وولده إال خساراً ) .وذم عاداً قوم هود بقوله ( :واتبعوا أمر كل جبار عنٌد ،وأتبعوا فً هذه الدنٌا لعنة وٌوم القٌامة). وذم قوم فرعون بقوله ( :فاستخؾ قومه فؤطاعوه ،إنهم كانوا قوما ً فاسقٌن) .وعرض القرآن لنا صوراً جمة من مشاهد اآلخرة ،وفٌها ٌتبلوم السادة الكبراء المضلون ،وأتباعهم المضللون ،وٌتبرأ بعضهم من بعض ،وٌلعن بعضهم بعضاً ،وٌحاول كل فرٌق أن ٌلقى بالتبعة على اآلخر .ولكن هللا ٌحكم على الجمٌع بؤنهم من أهل النار ( .وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فؤضلونا السبٌبل ،ربنا آتهم ضعفٌن من العذاب والعنهم لعنا ً كبٌراً ) ( .إذ تبرأ الذٌن اتبعوا من الذٌن اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم األسباب، وقال الذٌن اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا ،كذلك ٌرٌهم هللا أعمالهم حسرات علٌهم، وما هم بخارجٌن من النار ) .إن أساس قبول القٌادة السٌاسٌة لؤلمة فً اإلسبلم هو :الرضا والبٌعة االختٌارٌة .فمن رضٌه المسلمون إماما ً إي أمٌراً وربٌسا ً لهم ،وباٌعوه على ذلك ،فهو الولً الشرعً الذي تجب طاعته فً المعروؾ .وتجب المناصحة له بالحق ،والمعاونة له على كل خٌر .واإلسبلم ال ٌحب أن ٌإم رجل الناس فً صبلة الجماعة وهم له كارهون ،فكٌؾ ٌقبل أن ٌقود رجل األمة كلها فً
شبونها العامة ،وهى له كارهة ،وبه ضابقة ،وعلٌه ساخطة؟ جاء فً الحدٌث الشرٌؾ ( :ثبلثة ال ترفع صبلتهم فوق رإوسهم شبراً :رجل أم قوم وهم له كارهون ،وامرأة باتت وزوجها علٌها ساخط، وأخوان متصارمان ).
العدل ومن القٌم اإلنسانٌة األساسٌة التً جاء بها اإلسبلم ،وجعلها من مقومات الحٌاة الفردٌة واألسرٌة واالجتماعٌة والسٌاسٌة ( :العدل) .حتى جعل القرآن إقامة القسط -أي العدل -بٌن الناس هو هدؾ الرساالت السماوٌة كلهاٌ .قول تعالى ( :لقد أرسلنا رسنا بالبٌنات وأنزلنا معهم الكتاب والمٌزان لٌقوم الناس بالقسط ) .ولٌس ثمة تنوٌه بقٌمة القسط أو العدل أعظم من أن ٌكون هو المقصود األول من إرسال هللا تعالى رسله ،وإنزاله كتبه .فبالعدل أنزلت الكتب ،وبعثت الرسل ،وبالعدل قامت السموات واألرض .والمراد بالعدل :أن ٌعطى كل ذي حق حقه ،سوء أكان ذو الحق فرداً أم جماعة أم شٌبا ً من األشٌاء أم معنى من المعانً ،ببل طؽٌان وال إخسار ،فبل ٌبخس حقه وال ٌجور على حق ؼٌره .فال تعالى ( :والسماء رفعها ووضع المٌزان ،أال تطؽوا فً المٌزان ،وأقٌموا الوزن بالقسط وال تخسروا المٌزان) .واإلسبلم ٌؤمر المسلم بالعدل مع النفس :بؤن ٌوازن بٌن حق نفسه ،وحق ربه ،وحقوق ؼٌره. كما قال علٌه الصبلة والسبلم لعبد هللا بن عمرو ،حٌن جار على حق نفسه بمداومة صٌام النهار وقٌام اللٌل ( :إن لبدنك علٌك ح ًقا ،وإن لعٌنك علٌك حقاً ،وإن ألهلك علٌك حقاً ،وإن لزورك علٌك حقا ً). وٌؤمر اإلسبلم بالعدل مع األسرة :مع الزوجة ،أو الزوجات ،مع األبناء والبناتٌ .قول تعالى ( :فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثبلث ورباع ،فإن خفتم أال تعدلوا فواحدة) .وٌقول الرسول (صلى هللا علٌه وسلم) ( :اتقوا هللا واعدلوا فً أوالدكم) ،وحٌن أراد بشٌر ابن سعد األنصاري أن ٌشهده (علٌه الصبلة والسبلم) على هبه معٌنه آثر بها بعض أوالده ،سؤله النبً ( :أكل أوالدك أعطٌتهم مثل هذا)؟ قال :ال .قال ( :أشهد على ذلك ؼٌري ،فإنً ال أشهد على جور ) .وٌؤمر اإلسبلم بالعدل مع الناس كل الناس :عدل المسلم مع من ٌحب ،وعدل المسلم مع من ٌكره ،ال تدفعه عاطفة الحب إلى المحاباة بالباطل ،وال تمنعه عاطفة الكره من اإلنصاؾ وإعطاء الحق لن ٌستحقٌ .قول تعالى فً العدل مع من نحبٌ :ا أٌها الذٌن آمنوا كونوا قوامٌن بالقسط شهداء له ولو على أنفسكم أو الوالدٌن واألقربٌن) .وٌقل سبحانه فً العدل مع من نعاديٌ ( :ا أٌها الذٌن آمنوا كونوا قوامٌن هلل شهداء بالقسط ،وال ٌجرمنكم شنآن قوم على أال تعدلوا ،واعدلوا هو أقرب للتقوى ،واتقوا هللا) .وكم حفل التارٌخ السٌاسً والقضابً فً اإلسبلم بمواقؾ رابعة ،حكم فٌها لؽٌر المسلمٌن ،ضد المسلمٌن ،وللرعٌة ضد الدعاة. ٌؤمر اإلسبلم بالعدل فً القول ،فبل ٌخرجه الؽضب عن قول الحق ،وال ٌدخله الرضا فً قول الباطل. ٌقول تعالى ( :وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ) .وٌؤمر بالعدل فً الشهادة ،فبل ٌشهد إال بما علم ،ال ٌزٌد وال ٌنقص ،وال ٌحرؾ ،وال ٌبدل .قال تعالى ( :وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقٌموا الشهادة هلل) ، (كونوا قوامٌن هلل شهداء بالقسط) .وٌؤمر اإلسبلم بالعدل فً الحكم .كما قال تعالى ( :إن هللا ٌؤمركم أن تإدوا األمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بٌن الناس أن تحكموا بالعدل) .وقد استفاضت األحادٌث فً فضل ( اإلمام العادل) فهو أحد السبعة الذٌن ٌظلهم هللا فً ظله ٌوم ال ظل إال ظله ،وأحد الثبلثة الذٌن ال ترد لهم دعوة . وبقدر ما أمر اإلسبلم بالعدل وحث علٌه ،حرم الظلم أشد التحرٌم ،وقاومه أشد المقاومة ،سواء ظلم النفس أم ظلم الؽٌر ،وبخاصة ظلم األقوٌاء للضعفاء ،وظلم األؼنٌاء للفقراء ،وظلم الحكام للمحكومٌن. وكلما اشتد ضعؾ اإلنسان كان ظلمه أشد إثما ًٌ .قول الرسول لمعاذ( :واتق دعوة المظلوم ،فلٌس بٌنها وبٌن هللا حجاب) .وقال ( :دعوة المظلوم ٌرفعها هللا فوق الؽمام ،وٌفتح لها أبواب السماء ،وٌقول الرب:
وعزتً ألنصرنك ولو بعد حٌن ) . ومن أبرز أنواع العدل ،الذي شدد فٌه اإلسبلم ما سمً فً عصرنا :العدل االجتماعً .وٌراد به :العدل فً توزٌع الثروة ،وإتاحة الفرص المتكافبة ألبنا ء األمة الواحدة ،وإعطاء العاملٌن ثمرة أعمالهم وجهودهم دون أن ٌسرقها القادرون وذوو النفوذ منهم ،وتقرٌب الفوارق الشاسعة بٌن األفراد والفبات بعضها وبعض ،بالحد من طؽٌان األؼنٌاء والعمل على رفع مستوى الفقراء .وهذا الجانب سبق فٌه اإلسبلم سبقا ً بعٌداً ،حتى إن القرآن منذ عهده المكً لم ٌؽفل هذا األمر الحٌوي ،بل إعطاء عناٌة بالؽة، ومساحة واسعة .فمن لم ٌطعم المسكٌن كان من أهل سقر المعذبٌن فً النار ( ،قالوا :لم نك من المصلٌن ،ولم نك نطعم المسكٌن) .وال ٌكفى أن تطعم المسكٌن ،بل ٌجب أن تحمل نصٌبك فً الدعوة إلى إطعامه ،والحض على رعاٌة ضروراته وحاجاته ( :أرأٌت الذي ٌكذب بالدٌن فذلك الذي ٌدع الٌتٌم ،وال ٌحض على طعام ). وإهمال هذا الحض ٌضعه القرآن جنبا ً إلى جنب مع الكفر باهلل تعالى ،الموجب للعذاب األلٌم ،وصلً الجحٌم ( :خذوه فؽلوه ،ثم الجحٌم صلوه ،ثم فً سلسلة ذرعها سبعون ذراعا ً فاسلكوه ،إنه كان ال ٌإمن باهلل العظٌم ،وال ٌحض على طعام المسكٌن) .والمجتمع الجاهلً مجتمع مذموم مسخوط علٌه من هللا تعالى ،لضٌاع الفبات الضعٌفة فٌه ،وانشؽال األقوٌاء ،بؤكل التراث وحب المال ( :كبلً بل ال تكرمون الٌتٌم ،وال تحاضون على طعام المسكٌن ،وتؤكلون التراث أكبلً لما ً وتحبون المال حبا ً جما ً ) .لقد اهتم اإلسبلم بالطبقات الضعٌفة فً المجتمع ،فشرع لهم من األحكام والوسابل ما ٌكفل لهم العمل المبلبم لكل عاطل ،واألجر العادل لكل عامل ،والطعام الكافً لكل جابع ،والعبلج الكافً لكل مرٌض ،والكساء المناسب لكل عرٌان .والكفاٌة التامة لكل محتاج .وتشمل هذه الكفاٌة :المؤكل والملبس والمسكن ،وكل ما ال بد له منه ،على ما ٌلٌق بحاله ،من ؼٌر إسراؾ وال تقتٌر ،لنفس الشخص ولمن ٌعوله .وهذا تعرٌؾ اإلمام النوى فً (المجموع) . وفرض لذلك اإلسبلم حقوقا ً مالٌة فً األموال األؼنٌاء ،أولها وأعظمها الزكاة .التً اعتبرها اإلسبلم ثالث أركانهٌ ،إدٌها المسلم طوعا ً واحتساباً ،وإال أخذت منه كرهاً ،ولو أن طابفة ذات شوكة امتنعت من أدابها قوتلت علٌها بحد السٌوؾ .تإخذ الزكاة من األؼنٌاء لترد على الفقراء .فهً من األمة والٌها. واألرجح أن ٌعطى الفقٌر من الزكاة كفاٌة العمر الؽالب ألمثاله ،متى اتسعت حصٌلة الزكاة لذلك. وبذلك بصبح فً العام القادم ٌداً معطٌة ال آخذة ،علٌا ال سفلى .وقد ألفت كتب فً ه ذا الموضوعٌ ،نبؽً أن تراجع .وفى كتابنا ( الصحوة اإلسبلمٌة وهموم الوطن العربً واإلسبلمً) خطوط عرٌضة مركزة لمقومات العدل االجتماعً فً اإلسبلمٌ ،حسن الرجوع إلٌها .
اإلخــــاء ومن القٌم اإلنسانٌة االجتماعٌة التً دعا إلٌها اإلسبلم :اإلخاء -أو األخوة -ومعناه :أن ٌعٌش الناس فً المجتمع متحابٌن مترابطٌن متناصرٌنٌ ،جمعهم شعور أبناء األسرة الواحدة ،التً ٌحب بعضها بعضاً، وٌشد بعضها أزر بعضٌ ،حس كل منها أن قوة أخٌه قوة له ،وأن ضعفه ضعؾ له ،وأنه قلٌل بنفسه كثٌر بإخوانه .وألهمٌة هذه القٌمة فً بناء المجتمع المسلم سنفصل فٌها بعض التفصٌل .والقران ٌجعل اإلخاء فً المجتمع المإمن صنو اإلٌمان ،وال ٌنفصل عنهٌ ،قول تعالى ( :إنما المإمنون إخوة) .وٌجعل القران األخوة نعمة من أعظم النعم ،فٌقول( :واذكروا نعمت هللا علٌكم عٌكم إذ كنتم أعداء فؤلؾ بٌن قلوبكم فؤصبحتم بنعمته إخوانا ً) .وٌقول فً سورة أخرى ممتنا ً على رسوله الكرٌم( :هو الذي أٌدك بنصره وبالمإمنٌن ،وألؾ بٌن قلوبكم ،لو أنفقت ما فً األرض جمٌعا ً ما ألفت بٌن قلوبهم ولكن هللا بٌنهم ،إنه عزٌز حكٌم) .وٌقول النبً (صلى هللا علٌه وسلم)( :المسلم أخو السلم ،ال ٌظلمه وال ٌسلمه ..
ال تحاسدوا ،وال تباؼضوا ،وال تناجشوا … وكونوا عباد هللا إخوانا ً) .وقد ذكرنا من قبل ما روى اإلمام أحمد من حدٌث زٌد بن أرقم :أن النبً (صلى هللا علٌه وسلم) كان ٌقول دبر كل صبلة : ( اللهم ربنا ورب كل شا وملٌكه أنا شهٌد أنك هللا وحدك ال شرٌك لك . ( اللهم ربنا ورب كل شا وملٌكه أنا شهٌد أن محمداً عبدك ورسولك . أن شهٌد أن العباد كلهم إخوة . ( اللهم ربنا ورب كل شا وملٌكه ا فجعل إقرار مبدأ (األخوة) بعد الشهادة هلل تعالى بالوحدانٌة ،ولمحمد بالعبودٌة والرسالة .وقوله( :إن العباد كلهم إخوة ) ٌحتمل معنٌٌن كبلهما صحٌح : األول :أن العباد هنا هم البشر كافة ،فهم أخوة بعضهم لبعض ،بحكم البنوة ألدم ،والعبودٌة له سبحانه. وهذه أخوة إنسانٌة عامة .وقد وصؾ هللا تعالى عددا ُ من الرسل فً القرآن بؤنهم إخوة ألقوامهم رؼم كفرهم برسالتهم ،الشتراكهم معهم فً الجنس واألصل ،كما فً قوله تعالى :وإلى عاد أخاهم هوداً)، (وإلى ثمود أخاهم صالحا ) ( ،وإلى مدٌن أخاهم شعٌبا ً ). الثاني :أن العباد هنا هم المسلمون خاصة ،بحكم اشتراكهم فً أمة واحدة ،تضمهم عقٌدة واحدة هً التوحٌد ،وقبلة واحدة هً الكعبة البٌت الحرام ،وكتاب واحد هو القرآن ،ورسول واحد هو محمد علٌه الصبلة والسبلم ،ومنهج واحد ،هو شرٌعة اإلسبلم. وهذه أخوة دٌنٌة خاصة ،ال تنافى األولى ،إذ ال تنافى بٌن الخاص والعام .كل ما فً األمر أن لهذه األخوة حقوقا ً أكثر ،بمقتضى وحدة العقٌدة والشرٌعة ،والفكر والسلوك.
المحبة ومراتبها ومن العناصر األساسٌة لهذه األخوة :المحبة ،وأدنى درجات المحبة سبلمة الصدور من الحسد والبؽضاء واألحقاد وأسباب العداوة والشحناء .والقرآن ٌعتبر العداوة والبؽضاء عقوبة قدرٌة ٌعاقب هللا بها من ٌكفرون برساالته ،ومنحرفون عن آٌاته ،كما قال تعالى إلى( :ومن الذٌن قالوا إنا نصارى أخذنا مٌثاقهم فنسوا حظا ً مما ذكروا به فؤؼرٌنا بٌنهم العداوة والبؽضاء إلى ٌوم القٌامة ،وسوؾ ٌنببهم هللا بما كانوا ٌصنعون ) . وٌتحدث القرآن عن الخمر والمٌسر وهما من الكبابر الموبقة فً نظر اإلسبلم ،فٌجعل العلة األولى فً تحرٌمهما ،الجدٌرة بالنص علٌها ،هً إٌقاع العداوة والبؽضاء فً المجتمع ،رؼم ما لهما من مضار ومساوئ أخرى ال تؽفى ،فٌقول تعالى ( :إنما ٌرٌد الشٌطان أن ٌوقع بٌنكم العداوة والبؽضاء فً الخمر و المٌسر وٌصدكم عن ذكر هللا وعن الصبلة) .وقد جاء فً الحدٌث تسمٌة هذه اآلفات( :داء األمم) . كما أن الحدٌث سماها :الحالقة ،حالقة الدٌن ال حالقة الشعر ،وذلك لخطرها على الجماعة وتماسكها المادي والمعنوي .وفً هذا ٌقول علٌه الصبلة والسبلم ( :دب إلٌكم داء األمم من قبلكم :الحسد والبؽضاء .والبػضاء هً الحالقة ،ال أقول :تحلق الشعر ،ولكن تحلق الدٌن) ( .أال أدلكم على أفضل من درجة الصبلة والصٌام والصدقة ؟ إصبلح ذات البٌن ،فإن فساد ذات البٌن هً الحالقة ) .وفى رواٌة( :ال أقول :تحلق الشعر ،ولكن تحلق الدٌن) ( .تفتح أبواب الجنة ٌوم االثنٌن والخمٌس ،فٌؽفر لكل عبد ال ٌشرك باهلل شٌباً ،إال رجل كان بٌنه وبٌن أخٌه شحناء ،فٌقال :انظروا هذٌن حتى ٌصطلحا، انظروا هذٌن حتى ٌصطلحا ،انظروا هذٌن حتى ٌصطلحا) . ( ال ٌحل لمسلم أن ٌهجر أخاه فوق ثبلثٌ ،لتقٌان فٌعرض هذا وٌعرض هذا وخٌرهما الذي ٌبدأ بالسبلم )( .ثبلثة ال ترتفع صبلتهم فوق رإوسهم شبرا :رجل أم قوما ً وهم له كارهون ،وامرأة باتت وزوجها علٌها ساخط ،وأخوان متصارمان)› أي متقاطعان .إن جو البؽضاء والشحناء جو عفن كرٌه ،تروج فٌه كل بضابع الشٌطان هن سوء الظن ،والتجسس ،والؽٌبة والنمٌمة ،وقول الزور ،والسب واللعن ،وقد
ٌنتهً إلى أن ٌقاتل األخوة بعضهم بعضا ً .وهذا هو الخطر ،الذي حذر منه النبً الكرٌم ،واعتبره من أثر الجاهلٌة ،وقال( :ال ترجعوا بعدي كفاراً ٌضرب بعضكم رقاب بعض )( .سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر ) .لهذا كان إصبلح ذات البٌن من أفضل األعمال والقربات إلى هللا تعالى ( :إنما المإمنون إخوة فؤصلحوا بٌن أخوٌكم واتقوا هللا لعلكم ترحمون)( .فاتقوا هللا وأصلحوا ذات بٌنكم ،وأطٌعوا هللا ورسوله إن كنتم مإمنٌن)( .ال خٌر فً كثٌر من نجواهم إال من أمر بصدقة أو معروؾ أو إصبلح بٌن الناس ،ومن ٌفعل ذلك ابتؽاء مرضات هللا فسوؾ نإتٌه أجراً عظٌما ً) .بل جعلت الشرٌعة سهما ً من حصٌلة الزكاة للؽارمٌن فً إصبلح ذات البٌن ،إعانة لهم على القٌام بهذه المكرمات ،التً كان ٌقوم بها أصحاب القلوب الكبٌرة والهمم العالٌة ،فٌتحملون ما بٌن القبابل المتخاصمة من دٌات ومؽارم وان ضاقت بذلك أموالهم .وألهمٌة إصبلح ذات البٌن ،رخص النبً (صلى هللا علٌه وسلم) لمن ٌقوم باإلصبلح أال ٌلتزم الصدق الكامل فً وصؾ موقؾ كل طرؾ من اآلخر ،فنقل بعض العبارات كما قٌلت ،قد ٌإجج نار الخصومة وال ٌطفبها ،فبل بؤس بشًء من التزٌٌن ،وشا من المعارٌض ،وفً هذا جاء الحدٌث الصحٌح ( :لٌس بكذاب من أصلح بٌن اثنٌن فقال خٌراً ,أو أنمى خٌراً) .و من هذه الدرجة درجة سبلمة الصدور من األحقاد والبؽضاء الدرجة التً عبر عنها الحدٌث الصحٌح الذي ٌقول ( :الٌإمن أحدكم حتى ٌحب ألخٌه ما ٌحب لنفسه) .وفى لفظ (:والذي نفسً بٌده ال ٌإمن عبد حتى ٌحب ألخٌه ما ٌحب لنفسه من الخٌر) .ومقتضى ذلك :أن ٌكره له ما ٌكره لنفسه .فإذا كان ٌحب لنفسه رؼد العٌش أحب ذلك لسابر الناس .وإذا كان ٌحب أن ٌوفق فً حٌاته الزوجٌة ،أحب للناس أن ٌكونوا سعداء موفقٌن .وإذا كان ٌحب أن ٌكون أوالده نجباء ،أحب ذلك لؽٌره .وإذا كان ال ٌحب أن ٌذكره أحد بسوء فً حضرته أ و ؼٌبته ،كان موجب اإلٌمان أال ٌحب ذلك للناس أجمعٌن .فهو ٌنزل إخوانه منزلة نفسه فً كل ما ٌحب وٌكره .
درجة اإليثار وثمت درجة من هذه وتلك :هً درجة اإلٌثار .ومعنى اإلٌثار :أن ٌقدم أخاه على نفسه فً كل ما ٌحب، فهو ٌجوع لٌشبع أخوه ،وٌظمؤ لٌرتوي ،وٌسهر لٌنام ،وٌجهد لٌرتاح ،وٌعرض صدره للرصاص لٌفدى أخاه .وقد عرض لنا القرآن صورة وضٌبة للمجتمع المسلم فً المدٌنةٌ ،تجلى فٌها معنى اإلٌثار والبذل من ؼٌر شح وال بخلٌ .قول تعالى ( :والذٌن تبوءوا الدار واإلٌمان من قبلهم ٌحبون من هاجر إلٌهم وال ٌجدون فً صدورهم حاجة مما أوتوا وٌإثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ،ومن ٌوق شح نفسه فؤولبك هم المفلحون) .وفى السنة نجد صورة أخرى تتمثل فٌما رواه البخاري :أن سعد بن الربٌع عرض على عبد الرحمن بن عوؾ -وقد آخى النبً بٌنهما -أن ٌتنازل عن شطر ماله ،وعن إحدى دارٌه ،وإحدى زوجتٌهٌ ،طلقها لٌتزوجها هو .فقال ابن عوؾ لسعد :بارك هللا لك فً أهلك ،وبارك هللا لك فً دارك ،وبارك لك فً مالك ،إنما أنا امرإ تاجر ،فدلونً على السوق) إٌثار نادر قل أن تعرؾ الدنٌا له نظٌراًٌ ،قابله تعفؾ كرٌم نبٌل ،وكبلهما ٌعطٌنا ملمحا ً من مبلمح المجتمع المسلم الذي أقامه الرسول الكرٌم فً المدٌنة ،والذي نرنو إلى مثله دابماً ،باعتباره مثبلً للمجتمعات .واإلسبلم ٌحرص كل الحرص على أن تسود المحبة واألخوة بٌن الناس جمٌعا :بٌن الشعوب بعضها وبعض ،ال ٌفرق بٌنهما اختبلؾ عنصر أو لون أو لؽة أو إقلٌم .وبٌن الطبقات بعضها وبعض ،فبل مجال لصراع أو حقد ،وان تفاوتوا فً الثروة والمنزلة ،وفضل هللا بعضهم على بعض فً الرزق .وبٌن الحكام والمحكومٌن ،فبل محل الستعبلء حاكم على محكوم ،فإن الحاكم هو وكٌل األمة بل أجٌرها ،وال لبؽض محكوم لحاكم ما دام ٌؤخذ حقه ،كما ٌإدى واجبه ،وفى الحدٌث(:خٌار أبمتكم الذٌن تحبونهم وٌحبونكم ،وتصلون علٌهم، وٌصلون علٌكم) أي تدعون لهم ،وٌدعون لكم ،فالصبلة هنا بمعناها اللؽوي وهو الدعاء.
ربط النظرية بالتطبيق واإلسبلم ال ٌحب أن تكون دعوته مجرد فكرة فً الرإوس ،أو حلما ً فً أخٌلة المصلحٌن ،بل ٌحب أن ٌربط الفكرة بالعمل ،والنظرٌة بالتطبٌق . .لهذا دعا إلى مجموعة من الشعابر واآلداب والتقالٌد من شؤنها أن توثق روابط المحبة بٌن الناس ،إذا عملوا بها ،وحافظوا علٌها .من ذلك إفشاء السبلم كلما لقً بعضهم بعضا ،وهذا ما نبه علٌه الحدٌث الصحٌح (:والذي نفسً بٌده ال تدخلوا الجنة حتى تإمنوا ،وال تإمنوا حتى تحابوا .أال أدلكم على شا إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السبلم بٌنكم) .ومن ذلك مجاملة الناس بعضهم لبعض ،فً التهنبة عند النعمة ،والتعزٌة عند المصٌبة ،وعٌادة المرٌض ،وتشمٌت العاطس. ومن ذلك :التهادي بٌن الناس فً المناسبات الطٌبة .وفً الحدٌث (:تهادوا تحابوا) .ومن ذلك :التبلقً، الذي به تتعارؾ الوجوه ،وتتصافح األٌدي ،وهذا ما شرعه اإلسبلم بصبلة الجماعة والجمعة والعٌدٌن. كما حرم اإلسبلم كل الرذابل الخلقٌة واالجتماعٌة التً تفضً إلى تقطع أواصر المحبة والمودة بٌن الناس ،ولهذا رأٌنا القرآن الكرٌم بعد أن قرر أن المإمنٌن إخوه :اتبع ذلك بالنهى عن مجموعه من الرذابل إلى تنافى األخوة ،وتعمل فً بنٌانها هدما ً .مثل السخرٌة واللمز والتنابز باأللقاب ،والتجسس على الناس ،وتتبع عوراتهم ،وسوء الظن بهم ،والحدٌث عنهم بسوء فً ؼٌبهم ،وذلك فً قوله تعالى( : ٌا أٌها الذٌن آمنوا ال ٌسخر قوم من قوم عسى أن ٌكونوا خٌراً منهم وال نساء من نساء عسى أن ٌكن ب خٌراً منهن ،وال تلمزوا أنفسكم وال تنابزوا باأللقاب ،ببس االسم الفسوق بعد اإلٌمان ،ومن لم ٌت فؤولبك هم الظالمونٌ ،ا أٌها الذٌن آمنوا اجتنبوا كثٌراً من الظن إن بعض الظن إثم ،وال تجسسوا وال ٌؽتب بعضكم بعضاً ،أٌحب أحدكم أن ٌؤكل لحم أخٌه مٌتا ً فكرهتموه ،واتقوا هللا إن هللا تواب رحٌم).
الوحدة من لوازم اإلخاء ومن لوازم األخوة ومظاهرها :الوحدة .ومما ٌضادها وٌنقضها :الفرقة .فالمجتمع المسلم المتآخً مجتمع واحد ،فً عقابده اإل ٌمانٌة ،وفً شعابره التعبدٌة ،وفى مفاهٌمه الفكرٌة ،وفى فضابله األخبلقٌة، وفى اتجاهاته النفسٌة ،وآدابه السلوكٌة ،وفى تقالٌده االجتماعٌة ،وفى قٌمه اإلنسانٌة ،وفً أسسه التشرٌعٌة .واحد من أهدافه التً تصل األرض بالسماء ,والدنٌا باآلخرة ،والخلق بالخالق ،وفً أسس م ناهجه التً تجمع بٌن المثالٌة والواقعٌة ،وتزازن بٌن اللثبات والتطور ،وبٌن استلهام التراث واالستفادة من العصر .واحد فً مصادره التً ٌستمد منها هداٌته ،وهى القرآن الكرٌم والسنة المطهرة، علً وسلم ) .فهو مجتمع وفى المثل ال الذي ٌستمد منه األسوة الحسنة ،وهو الرسول األعظم (صلى هللا ه ٌإمن برب واحد ،وكتاب واحد ،ورسول واحد ،وٌتجه إلى قبلة واحدة بشعابر واحدة ،وٌحتكم فً كل أموره إلى شرٌعة واحدة :ووالإه -حٌث كان -والء واحد ،هلل ولرسوله وألمة اإلسبلم .فً هللا ٌحب، وفٌه ٌبؽض ،وفٌه ٌصل ،وفٌه ٌقطع( :ال تجد قوما ً ٌإمنون باهلل والٌوم اآلخر ٌوادون من حاد هللا ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشٌرتهم) .ال ٌنبؽً أن ٌفرق هذا المجتمع ما ٌفرق المجتمعات األخرى من العصبٌة للجنس أو اللون أو الوطن أو اللؽة أو الطبقة أو المذهب ،أو ؼٌر ذلك مما ٌمزق الجماعات .فاألخوة اإلسبلم ٌة فوق كل العصبٌات أٌا كان اسمها ونوعها .والرسول الكرٌم - صلى هللا علٌه وسلم -برئ من كل العصبٌات (:لٌس منا من دعا إلى عصٌة ،ولٌس منا من قاتل على عصبٌة ،ولٌس منا من مات على عصبٌة) .والقرآن ٌحذر من دسابس ؼٌر المسلمٌن الذي ٌكٌدون لهم لٌفرقوا كلمتهم ،وٌمزقوا وحدتهم ،كما فعل ذلك الٌهود فً اإلٌقاع بٌن األوس والخزرج بعد أن جمعهم هللا على اإلسبلمٌ (:ا أٌها الذٌن آمنوا إن تطٌعوا فرٌقا ً من الذٌن أوتوا الكتاب ٌردوكم بعد إٌمانكم كافرٌن ،وكٌؾ تكفرون وأنتم تتلى علٌكم آٌات هللا وفٌكم رسوله ،ومن ٌعتصم باهلل فقد هدى إلى صراط
المستقٌم)..إلى أن قال( واعتصموا بحبل هللا جمٌعا وال تفرقوا ،واذكروا نعمت هللا علٌكم إذ كنتم أعداء فؤلؾ بٌن قلوبكم فؤصبحتم بنعمته إخوانا ً وكنتم على شفا حفرة من النار فؤنقذكم منها ،كذلك ٌبٌن هللا لكم آٌاته لعلكم تهتدون) .وفً هذا السٌاق حذر من التفرق واالختبلؾ فقال( وال تكونوا كالذٌن تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البٌنات ،وأولبك لهم عذاب عظٌم) .وبٌن آٌة األمر باالعتصام بحبل هللا وآٌة التحذٌر من التفوق واالختبلؾ ،ذكرت آٌة تكلٌؾ األمة بالدعوة واألمر والنهً(:ولتكن منكم أمة ٌدعون إلى الخٌر وٌؤمرون بالمعروؾ وينهون عن المنكر ،وأولبك هم المفلحون) وهذا ٌدلنا على أن الذي ٌوحد األمة وٌجمع شتاتها :وجود منهج موحد تعتصم به وترجع إلٌه ،وهو هنا حبل هللا :ووجود رسالة مشتركة تشتؽل بها ،اإلسبلم والقرآن ،وتجعلها أكبر همها ،وهً هنا الدعوة إلى الخٌر واألمر بالمعروؾ والنهى عن المنكر .أما إذا قعدت األمة عن الرسالة ،أو ففدت المنهج ،فإن السبل ستتفرق بها عن ٌمٌن وشمال ،والشٌاطٌن ستتجاذبها من شرق وؼرب ،وهو ما حذر منه القرآن بقوله ( :وأن هذا صراطً مستقٌما ً فاتبعوه ،وال تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبٌله ،ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) والوحدة المفروضة فً األمة المسلمة ال تعارض النوع الذي ٌقضٌه اختبلؾ البٌبات واألعراؾ بتؤثٌر الحضارات المختلفة ،والموارٌث الثقافٌة المتعددة .فهو تنوع فً إطار الوحدة الجامعة ،وهو أشبه بتنوع المواهب والمٌول واألفكار والتخصصات داخل األسرة الواحدة . .أو تنوع األزهار والثمار داخل الحدٌقة الواحدة ٌ( :سقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض فً األكل) ومن أهم ما جاء به اإلسبلم هنا :شرعٌة تعدد االجتهادات فً إطار القواعد الكلٌة والنصوص القطعٌة المتفق علها ،فبل ٌجوز أن ٌنكر مجتهد على مجتهد ،وإن اختلؾ معه فً المشرب ،ولكل وجهته ،ولكل أجره ،أصاب أم أخطؤ ،ما دام من أهل االجتهاد ،واختبلؾ اآلراء ال ٌجوز أن ٌكون سبب تفرق أو عداوة ،فقد اختلؾ الصحابة وتابعوهم بإحسان فً قضاٌا كثٌرة ،ولم ٌزدهم ذلك إلى التفرق ،بل وسع بعضهم بعضاً ،وصلى بعضهم وراء بعض .ومما ٌضٌق الخبلؾ أن أمر اإلمام أو حاكم الحاكم فً المسابل الخبلفٌة ٌرفع الخبلؾ، وٌحسم النزاع من الناحٌة العملٌة.
التعاون والتناصر والتراحم ومن لوازم اإلخاء فً اإلسبلم :التعاون والتراحم التناصر ،إذ ما قٌمة األخوة إذا لم تعاون أخاك عند الحاجة ،وتنصره عند الشدة ،وترحمه عند الضعؾ ؟ لقد صور الرسول الكرٌم مبلػ التعاون والترابط بٌن أبناء المجتمع المسلم بعضه وبعض هذا التصوٌر البلٌػ المعبر حٌن قال ( :المإمن للمإمن كالبنٌان، ٌشد بعضه بعضا ً) ،وشبك بٌن أصابعه ،فاللبنة وحدها ضعٌفة مهما تكن متانتها ،وآالؾ اللبنات المبعثرة المتناثرة ال تصنع شٌبا ،وال تكون بناء .إنما ٌتكون البناء القوى من اللبنات المتماسكة المتراصة فً صفوؾ منتظمة ،وفق قانون معلوم ،عندبذ ٌتكون من اللبنات جدار متٌن ،ومن مجموع الجدر بٌت مكٌنٌ ،صعب أن تنال منه أٌدي الهدامٌن .كما صور مبلػ تراحم المجتمع وتكامله ،وتعاطؾ بعضه مع بعض بقوله (:مثل المإمنٌن فً توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد ،إذا اشتكى منه عضو ،تداعى له سابر األعضاء بالحمى والسهر ) ،فهو ترابط عدوى ،ال ٌستؽنً فٌه جزء عن آخر، وال ٌنفصل عنه ،وال ٌحٌا بدونه ،فبل ٌستؽنً الجهاز التنفسً عن الجهاز الهضمً ،أو كبلهما عن الجهاز الدموي أو العصبً ،فكل جزء متمم لآلخر ،وبتعاون األجزاء وتبلحمها ٌحٌا الكل ،وٌستمر نماإه وعطاإه .وٌقول ( :المسلمون تتكافؤ دماإهمٌ ،سعى بذمتهم أدناهم ،وٌجٌر علٌهم أقصاهم ،وهم ٌد على من سواهمٌ ،رد مشدهم على مضعفهم ،ومسرعهم على قاعدهم) .وٌدخل فً نصرة المسلم للمسلم عنصرا جدٌداً حٌن ٌقول (:انصر أخاك ظالما ً أو مظلوما ً) ،قٌل :ننصره مظلوماً ،فكٌؾ ننصره ظالما ً ٌا رسول هللا؟ قال ( :تؤخذ فوق ٌدٌه ،أو تمنعه من الظلم فذلك نصر له) .والقرآن الكرٌم ٌوجب التعاون به و ٌؤمر به بشرط أن ٌكون تعاونا ً على البر التقوى ،وٌحرمه وٌنهى عنه إذا كان على اإلثم والعدوان.
ٌقول تعالى ( :وتعاونوا على البر والتقوى وال تعاونوا على اإلثم والعدوان) وٌجعل المإمنٌن أولٌاء بعضهم على بعض ،بمقتضى عقد اإلٌمان ،كما قال تعالى ( :والمإمنون والمإمنات بعضهم أولٌاء ء بعضٌ ،ؤمرون بالمعروؾ وٌنهون عن المنكر ) ،وهذا فً مقابلة وصؾ مجتمع المنافقٌن بقوله( : المنافقون والمنافقات بعضهم من بعضٌ ،ؤمرون بالمنكر وٌنهون عن المعروؾ وٌقبضون أٌدٌهم ) .كما وصؾ مجتمع الصحابة بؤنهم ( :أشداء على الكفار رحماء بٌنهم) ،فالتراحم سمة أولى من سمات المجتمع المسلم .ومقتضى ذلك أن ٌشد القوى أزر الضعٌؾ ،وأن ٌؤخذ الؽنى بٌد الفقٌر ،وأن ٌنٌر العالم الطرٌق للجاهل ،وأن ٌرحم الكبٌر الصؽًر ،كما ٌوقر الصؽٌر الكبٌر ،وٌعرؾ الجاهل للعالم حقه ،وأن ٌقؾ الجمٌع صفا ً واحداً فً الشدابد والمعارك العسكرٌة والسلمٌة ،كما قال تعالى ( :إن هللا ٌحب الذٌن ٌقاتلون فً سبٌله صفا ً كؤنهم بنٌان مرصوص) وفى قصص القرآن صورة حٌة التعاون الثمر البناء .من ذلك صورة التعاون بٌن موسى وأخٌه هارون ،وقد سؤل هللا أن ٌشد به أزره فً قٌامه برسالة (:واجعل لً وزٌراً من أهلً ،هارون أخً ،اشدد به أزرى ،واشركه فً أمري ،كً نسبحك كثراً ،ونذكرك كثٌراً ،إنك كنت بنا بصٌراً) وكان الجواب اإللهً (:قال سنشد عضدك بؤخٌك ونجعل لكما سلطانا ً) .وبهذا كان هارون معاون أخاه موسى فً حضرته ،وٌخلفه على قومه فً ؼٌبته .ومن صور التعاون ما قصه علٌنا القرآن من إقامة سد ذي القرنٌن العظٌم ،لٌقؾ حاجزاً ضد هجمات ٌؤجوع ومؤجوج المفسدٌن فً األرض .وكان ثمرة للتعاون بٌن الحاكم الصالح والشعب الخابؾ من بؽى األقوٌاء علٌه( :قالوا ٌا ذا القرنٌن إن ٌؤجوج ومؤجوج مفسدون فً األرض فهل نجعل لك خرجا ً على أن تجعل بٌننا وبٌنهم سداً، قال ما مكنً فٌه ربً خٌر فؤعٌنونً بقوة أجعل بٌنكم وبٌنهم ردماً ،آتونً زبر الحدٌد ،حتى إذا ساوى بٌن الصدفٌن قال انفخوا ،حتى إذا جعله ناراً قال آتونً أفرغ علٌه قطراً ،فما اسطاعوا أن ٌظهروه وما استطاعوا له نقبا ً).
التكافل المادي واألدبي ومن مظاهر هذا التعاون والتراحم التناصر :التكافل بٌن أبناء المجتمع المسلم ،وهو تكافل مادي ومعنوي ،اقتصادي وسٌاسً ،عسكري ومدنً ،اجتماعً وثقافًٌ .بدأ هذا التكافل بٌن األقارب بعضهم وبعض ،كما ٌفعل ذلك نظام النفقات فً شرٌعة اإلسبلم .فالقرٌب الموسر ٌنفق على قرٌبه المعسر وفق شروط وأحكام مفصلة فً الفقه اإلسبلمً ،كما قال هللا تعالى (:وألوا األرحام بعضهم أولى ببعض فً كتاب هللا) .ثم تتسع دابرة هذا التكافل لتشمل الجٌران وأبناء الحً الواحد فً البلد الواحد ،بمقتض حق الجوار ،الذي أكده اإلسبلم ،وفى الحدٌث ( :لٌس بمإم ن من بات شبعان وجاره إلى جنبه جابع ) .وفى الحدٌث اآلخر ( :أٌما أهل عرصة بات فٌهم امرإ جابع فقد بربت منهم ذمة هللا وذمة رسوله ) .ثم تتسع أكثر وأكثر بحٌث تشمل اإلقلٌم عن طرٌق الزكاة ،التً أمر الرسول الكرٌم (صلى هللا علٌه وسلم) أن تإخذ من أؼنٌاء كل إقلٌم لترد على فقرابه ،فوضع بذلك أساس التوزٌع المحلى ،على عكس ما كان ٌصنع فً الحضارات السابقة على اإلسبلم ،فقد كانت الضرابب تإخذ من مزارعً ومحترفً األقالٌم النابٌة والقرى البعٌدة ،لتوزع فً المدن الكبٌرة ،وال سٌما عاصمة الملك أو اإلمبراطور .ثم تزداد اتساعا ً لٌشمل التكافل المجتمع كله .ومنذ فجر الدعوة إلى اإلسبلم فً مكة ،والمسلمون أفراد معدودون مضطهدون ،لٌس لهم كٌان وال سلطان ،كان القرآن ٌدعو بقوة إلى هذا التكافل بجعل المجتمع كاألسرة الواحدةٌ ،صب الواجد فٌه على المحروم ،وٌحمل فٌه الؽنى الفقٌر .ولم ٌجعل القرآن ذلك شٌبا ً من نوافل الدٌنٌ ،قوم به من ترقى فً درجات اإلٌمان واإلحسان ،وال ٌطالب به الشخص العادي من الناس .بل اعتبره القرآن أمراً أساسٌا ً من دعابم الدٌن ،ال ٌحظى برضا هللا من لم ٌقم به ،وال ٌنجو من عذابه من فرط فٌه .إقرأ فً السورة المكٌة هذه اآلٌات (:فبل اقتحم العقبة ،وما أدراك ما العقبة ،فك رقبة ،أو إطعام فً ٌوم ذي مسبؽةٌ ،تٌما ً ذا مقربة ،أو مسكٌنا ً ذا متربة ،ثم كان من الذٌن آمنوا وتواصوا بالصبر
وتواصوا بالمرحبة) وقوله تعالى فً سورة أخرى(:كل نفس بما كسبت رهٌنة ،إال أصحاب الٌمٌن ،فً جنات ٌتساءلون عن المجرمٌن ،ما سلككم فً سقر ،قالوا لم نك من المصلٌن ،ولم نك نطعم المسكٌن).. . فجعل مصٌرهم النار :ألنهم أضاعوا حق هللا بإضاعة الصبلة ،وأضاعوا حق عباده ،إذ لم ٌطعموا المسكٌن .وإطعام المسكٌن كناٌة عن رعاٌة ضروراته وحاجاته ،إذ ال معنى ألن نطعم المسكٌن وندعه مشرداً ببل مؤوى ،أو عرٌانا ً ببل كسوة ،أو مرٌضا ً ببل عبلج .ولم ٌكتؾ القرآن بإٌجاب إطعام المسكٌن، بل زاد على ذلك فؤوجب الحض على إطعامه ،والحث على رعاٌته ،وجعل إهمال ذلك من دالبل الكفر والتكذٌب بالدٌن (:أرأٌت الذي ٌكذب بالدٌن ،فذلك الذي ٌدع الٌتٌم ،وال ٌحض على طعام المسكٌن) وٌجعل ذلك مع الكفر باهلل من موجبات العذاب األلم ،واصطبلء الجحٌم .فٌقول فً شؤن أصحاب الشمال ممن أطؽاه ماله وسلطانه ،فلم ٌؽن عنه من هللا ( :خذوه فؽلوه ،ثم الجحٌم صلوه ،ثم فً سلسلة ذرعها سبعون ذراعا ً فاسلكوه) ،ثم ٌذكر أسباب هذا الحكم الشدٌد فٌقول ( :إنه كان ال ٌإم ن باهلل العظٌم ،وال ٌحض على طعام المسكٌن) .وٌزٌد على ذلك فٌوجب فً المال حقا معلوماً ،لٌس بصدقة تطوعٌة ،وال بإحسان اختٌاري ،من شاء أداه ،ومن شاء تركه ،بل (حق) -أي (دٌن) -فً عنق المكلفٌن ،وحق معلوم ؼٌر مجهول ،كما فً قوله تعالى فً وصؾ المتقٌن ( :وفً أموالهم حق معلوم للسابل والمحروم) .وفى سورة أخرى ٌصؾ الحق بالمعلومٌة فٌقول ( :والذٌن فً أموالهم حق معلوم ،للسابل والمحروم) .وفى الحدٌث عن الزروع والثمار ،والجنات المعروشات وؼٌر المعروشاتٌ ،قول سبحانه: (كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه ٌوم حصاده) .وهذا الحق هو الزكاة ،التً فرضت فً مكة ؼٌر محددة وال مفصلة .كل هذا فً القرآن المكً ،فلما أصبح للمسلمٌن دولة وسلطان ،حددت أنصبة الزكاة ومقادٌرها بوضوح ،وبعث السعاة لٌجمعوها من أهلها ،وٌصرفوها فً محلها .وهم الذٌن سماهم القرآن: (العاملٌن علٌها) ،وجعل لهم نصٌبا ً من حصٌلة الزكاة نفسها ،ضمانا ً لحسن تحصٌلها وتوزٌعها .ووصل اإلسبلم بهذه الفرٌضة اآللٌة إلى درجات اإللزام الخلقً والتشرٌعً ،فجعلها ثالث أركان اإلسبلم، وأوجب أخذها كرهاً ،إن لم تدفع طوعاً ،ولم ٌتردد فً قتال من منعوها إذا كانوا ذوى شوكة وقوة . وهذا التكافل المادي أو المعٌشً لبس هو كل ما طلبه اإلسبلم فً هذا المجال ،بل هناك أنواع أخرى من التكافل ،ذكرها العبلمة الفقٌه الداعٌة الدكتورمصطفى السباعً -رحمه هللا -وجعلها بالتكافل المعٌشً عشرة كاملة ،فشملت :التكافل األدبً ،والعلمً ،والسٌاسً ،والدفاعً ،والجنابً ،واألخبلقً، واالقتصاد ي ،ولعبادي ،والحضاري ،والمعاشً ،الذي اختص الٌوم باسم ( التكافل االجتماعً).
أخوة لكل الفئات ال طبقية األخوة فً اإلسبلم تشمل كل فبات المجتمع ،فلٌس هناك فبة من الناس من أن تإاخً اآلخرٌن ،وال فبة أهون من أن ٌإاخٌها اآلخرون ،ال ٌجوز أن ٌكون المال أو المنصب أو النسب ،أو أي وضع اجتماعً أو مادي أو ؼٌر مادي سببا ً الستعبلء بعض الناس على بعض .فالحاكم أخو المحكوم ،والراعً أخ لرعٌته ،وفى الحدٌث ( :خٌار أبمتكم الذٌن تحبونهم وٌحبونكم ،وتصلون علٌهم ،وٌصلون علٌكم-،أي تدعون لهم ،وٌدعون لكم -وشرار أبمتكم الذٌن تبؽضونهم وٌبؽضونكم ،وتلعنونهم ،وٌلعنونكم) .والسٌد أخ لعبده ،وإن أوجبت ظروؾ خاصة أن ٌكون تحت ٌده .وفى الصحٌح ( :إخوانكم خولكم ( أي خدمكم) جعلهم هللا تحت أٌدٌكم ،ولو شاء جعلكم تحت أٌدٌهم ،فمن كان أخوه تحت ٌده ،فلٌطعمه مما ٌؤكل ،وٌلبسه مما ٌلبس ،وال تكلفوهم من العمل ما ال ٌطٌقون ،فإن كلفتموهم فؤعٌنوهم) .واألؼنٌاء والفقراء ،والعمال وأرباب العم ل ،والمبلك والمستؤجرون ،كلهم أخوة بعضهم لبعض ،فبل مجال -فً ضوء تعالٌم اإلسبلم -لصراع اجتماعً ،أو حقد طبقً .بل ال ٌوجد فً المجتمع اإلسبلمً طبقات ،كما عرؾ ذلك فً المجتمع الؽربً فً العصور الوسطى ،الذي عرؾ طبقات النببلء والفرسان ،ورجال
الدٌن وؼٌرهم ،وكانت هذ ه الطبقٌة تتوارث بحكم القٌم والتقالٌد والقوانٌن السابدة .وال زال بعض األمم إلى الٌوم ٌتوارث الطبقٌة ،بحكم عقابده وأعرافه وأنظمته ،كما فً الهند. ٌوجد فً اإلسبلم أؼنٌاء ،ولكنهم ال ٌكونون طبقة تتوارث الؽنى ،بلهم أفراد ٌجرى علٌهم ما ٌجرى على ؼٌرهم ،فالؽنً قد ٌفتقر ،كما أن الفقٌر قد ٌؽتنً ( :فإن مع العسر ٌسراً) .وٌوجد فً اإلسبلم (علما ء دٌن) ولكنهم ال ٌكونون طبقة تتوارث هذه المهنة ،بل هً وظٌفة مفتوحة لكل من حصل مإهبلتها من العلم والدراسة ،وهً على كل حال لٌست وظٌفة كهنوتٌة كوظابؾ القسس ورجال الدٌن فً األدٌان األخرى ،إنما هً وظٌفة تعلٌم ودعوة وإفتاء .فهم (علماء) ال (كهنة) ! وإذا كان هللا تعالى ٌخاطب رسوله (صلى هللا علٌه وسلم) بقوله ( :إنما أنت مذكر لست علٌهم بمصٌطر) ( ،ونحن أعلم بما ٌقولون، وما أنت علٌهم بجبار ،فذكر بالقرآن من ٌخاؾ وعٌد) ،فكٌؾ بورثته من العلماء؟ إنهم لن ٌكونوا - قطعا ً -مسٌطرٌن وال جبارٌن على الناس .إنما هم معلمون ومذكرون.
ومن مقومات المجتمع المسلم :التشرٌع ,أو القانونً الذي ٌحتكم إلى الشرٌعة وٌحكم بها .والشرٌعة هً المنهاج الذي وضعه هللا تعالى لتنظٌم الحٌاة اإلسبلمٌة على ضوء الكتاب المبٌن والسنة المطهرة، وال ٌكون المجتمع مجتمعا ً إسبلمٌا ً إال بتطبٌقها والرجوع إلٌها فً حٌاته كلها ،عبادات ومعامبلت ،فلٌس من المعقول آن ٌؤخذ المسلم من كتاب ربه( :كتب علٌكم الصٌام) ،وال ٌؤخذ منه( :كتب علٌكم القصاص) .وال ٌتصور أن ٌقبل آٌات إٌجاب الصبلة ،وٌرفض آٌات تحرٌم الربا. وسنتحدث عن هذا الموضوع فً النقاط التالٌة:
ضرورة التشريع الرباني للمجتمع أوالً :إن التشرٌع مقوم أساسً من مقومات المجتمع ،فبل بد ألي مجتمع من قانون ٌضبط عبلقاته، وٌعاقب من انحرؾ عن قواعده ،سواء أكان هذا القانون مما نزل من السماء ،أم مما خرج من األرض، فالضمابر والدوافع الذاتٌة ال تكفى وحدها لعموم الخلق ،والمحافظة على سالمة الجماعة ،وصٌانة كٌانها المادي والمعنوي ،وإقامة القسط بٌن الناس ،ولهذا أرسل هللا رسله وأنزل كتبه لضبط مسٌرة الحٌاة بالحق كما قال تعالى ( :لقد أرسلنا رسلنا بالبٌنات وأنزلنا معهم الكتاب والمٌزان لٌقوم الناس بالقسط) كذلك أنزل هللا كتابه الخالد لٌحكم بٌن الناس ،ال لٌتلى على األموات ،وال لتزٌن به الجدران. قال تعالى ( :إنا أنزلنا إلٌك الكتاب بالحق لتحكم بٌن الناس بما أراك هللا) .وآٌات القرآن صرٌحة فً وجوب الحكم بما أنزل هللاٌ .قول تعلى( :وأنزلنا إلٌك الكتاب بالحق مصدقا ً لما بٌن ٌدٌه من الكتاب ومهٌمنا ً علٌه ،ؾاحكم بٌنهم بما أنزل هللا ،وال تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق ،لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ،ولو شاء هللا لجعلكم ً أمة واحد ًة ولكن لٌبلوكم فً ما آتاكم ،فاستبقوا الخٌرات ،إلى هللا مرجعكم تتب أهواءهم واحذرهم أن ٌفتنوك جمٌعا ً فٌنببكم بما كنتم فٌه تختلفون ،وأن احكم بٌنهم بما أنزل هللا وال ع ً عن بعض ما أنزل هللا إلٌك ،فإن تولوا فاعلم أنما ٌرٌد هللا أن ٌصٌبهم ببعض ذنوبهم ،وإن كثٌرا من الناس لفاسقون ،أفحكم الجاهلٌة ٌبؽون ،ومن أحسن من هللا حكما ً لقوم ٌوقنون) وٌبلحظ فً هذه اآلٌات: أوالً :أنها جاءت بع اآلٌات التً تحدثت عن أهل الكتابٌن :التوراة واإلنجٌل ،وجاء فٌها قوله تعالى( : ومن لم ٌحكم بما أنزل هللا فؤولبك هم الكافرون) ،وقوله( :ومن لم ٌحكم بما أنزل هللا فؤولبك هم
الظالمون) ،وقوله( :ومن لم ٌحكم بما أنزل هللا فؤولبك هم الفاسقون) ،وما كان هللا تعالى لٌحكم على أهل الكتاب بالكفر ،أو الظلم ،أو الفسق ،أو بها جمٌعا ً إذا لم ٌحكموا بما أنزل هللا ،ثم ٌعفً المسلمٌن من ذلك ،فلٌس ما أنزل هللا على المسلمٌن ،دون ما أنزله على أهل الكتاب وعدل هللا واحد .وقد جاء الحكم القرآنً بلفظ عام .فبل مجال لمماحك ٌقول :إن اآلٌات جاءت فً أهل الكتاب ال فً المسلمٌن). ثانٌا ً :أنها لم تتسامح فً ترك جزء مما أنزل هللا إلى رسوله ،بل حذرت من ذلك بصٌؽة قوٌة( : واحذرهم أن ٌفتنوك عن بعض ما أنزل هللا إلٌك) . ثالثا ً :أن الناس بٌن حكمٌن ال ثالث لهما :إما حكم هللا ،أو حكم الجاهلٌة ..فمن لم ٌرض باألول وقع فً الثانً ال محالة ،وفى هذا ٌقول( :أفحكم الجاهلٌة ٌبؽون ،ومن أحسن من هللا حكما ً لقوم ٌوقنون ). إن التشرٌع هو الذي ٌنقل التوجٌهات الدٌنٌة واألخبلقٌة إلى قوانٌن ملزمة ،وٌعاقب على تركها .وحاجة البشر إلى تشرٌع ربانً -سالم من قصور البشر وأهوابهم -حاجة أساسٌة ،ال ٌحققها للبشر إال التشرٌع اإلسبلمً ،فهو الذي ٌحمل هداٌة هللا األخٌرة للبشر ،وال ٌوجد فً األرض تشرٌع ربانً آخر ،ألن كل المصادر السماوٌة قد أصابها التحرٌؾ والتبدٌل ،كما أثبت ذلك الدارسون المحققون من القدماء والمحدثٌن والمعاصرٌن بالنسبة للتوراة واإلنجٌل .المصدر السماوي الوحٌد الباقً ببل زٌادة وال نقص وال تحرٌؾ وال تؽٌٌر هو القرآن. إن البشر فً حاجة إلى توجٌه إلهً ٌجنبهم الضبلل فً الفكر ،والؽً فً السلوك .فكثٌراً ما زٌنت للبشر عقولهم القاصرة :جرابم بشعة ،وؼواٌات شنٌعة ،حتى وجدنا أهل اسبارطة قدٌما ً ٌقتلون األطفال الضعاؾ البنٌة ،والعرب فً الجاهلٌة ٌبدون البنات ،والهنود والرومان والفرس وؼٌرهم ٌقسمون الناس إلى طبقات ٌجوز لطبقة ما ال ٌجوز لؤلخرى ،وٌقتل بعضها عمداً فبل ٌقتص منه ،وٌقتل بعضها ألدنى األسباب ،وربما ببل سبب .ووجدنا فً عصرنا من ٌجٌز زواج الرجال بالرجال وتصدر بذلك قوانٌن، وٌبارك ذلك بعض رجال الدٌن فً الؽرب المتحضر المتقدم. ً ومع قصور العقل البشرى فً مقابلة العلم اإللهً :نجد أن البشر كثٌرا ما ٌتبٌن لهم الرشد من الؽً، والنافع من الضار ،ومع هذا تؽلبهم أهواإهم وشهواتهم ،أو أهواء ذوى النفوذ وأصحاب المصالح الخاصة منهم ،فٌحلون ما ٌجب أن ٌحرم ،وٌحرمون ما ٌنبؽً أن ٌباح. ولعل من أوضح األمثلة على ذلك :موقؾ الوالٌات المتحدة من تحرٌم الخمر ،وتراجعها عن التحرٌم، رؼم ثبوت ضرره على الفرد واألسر والمجتمع ،مادٌا ً ومعنوٌاً ،اتباعا ً لشهوات هواة السكر ،وتحقٌقا ً لمصالح المنتفعٌن من انتشار المسكرات.
ليس التشريع محصورًا في الحدود ثانٌا :لٌس التشرٌع فً اإلسبلم محصوراً فً الحدود والعقوبات كما ٌتصور بعض الناس أو ٌصوّ رون. إن التشرٌع فً اإلسبلم ٌنظم العبلقة بٌن اإلنسان وربه ،وبٌن اإلنسان وأسرته ،وبٌن اإلنسان ومجتمعه، وبٌن الحاكم والمحكوم ،وبٌن األؼنٌاء والفقراء ،والمبلك والمستؤجرٌن ،وبٌن الدولة اإلسبلمٌة وؼٌرها فً حالة السلم وحالة الحرب .فهو قانون مدنً و إداري ،ودستوري ودولً …… إلخ إلى جانب أنه قانون دٌنً .ولهذا اشتمل الفقه اإلسبلمً على العبادات والعامبلت ،واألنكحة والموارٌث ،واألقضٌة
والدعاوى ،والحدود والقصاص والتعازٌر ،والجهاد والمعاهدات ،والحبلل والحرام ،والسؾ واآلداب، فهو ٌنظم حٌاة اإلنسان من أدب قضا ء الحاجة للفرد إلى إقامة الخبلفة واإلمامة العظمى لؤلمة .إن الحدود هً السٌاج ،وهى اإلعبلن الناطق بؤن المجتمع المسلم ٌرفض جرابم معٌنة ،وال ٌسمح بها بحال من األحوال. والحدود -كما شرعها اإلسبلم -لٌست بالبشاعة التً ٌتصورها بعض الناس أو ٌصورها المبشرون والمستشرقون. إن الؽربٌٌن ٌستبشعون هذه العقوبات لسببٌن ذكرهما العبلمة المودودي فً حدٌثه عن حد الزنا فً كتابه (الحجاب) ،قال رحمه هللا ( :إن الضمٌر الؽربً ٌشمبز من عقوبة الجلدات المبة .والسبب فً ذلك ال ٌرجع إلى كونه ال ٌح ب إٌذاء اإلنسان فً جسده .بل السبب الحقٌقً أنه لم تكتمل بعد نشؤة شعوره الخلقً ،فهو بٌنما كان ٌعد الزنا من قبل عٌبا ً وهجنة إذ به اآلن ال ٌعتبره إال لعبا ً وسلوةٌ ،علل به شخصان نفسٌهما ساعة من الزمن! فهو ٌرٌد لذلك أن ٌسامح فً هذا الفعل وال ٌحاسب علٌه ،إال إذا أخل الزنا بحرٌة رجل آخر أو بحق من حقوقه القانونٌة .وحتى عند حصول هذا اإلخبلل ال ٌكون الزنا عنده إال من صؽار الجرابم التً ال تتؤثر بها إال حقوق شخص واحد ،فٌكفى المعاقبة علٌه بعقاب خفٌؾ أو تؽرٌم ! ( وبدٌهً أنه من كان هذا تصوره للزنا ال بد أن ٌرى حد المبة جلدة عقوبة ظالمة لهذا الفعل .ولكنه إذا ارتقى شعوره الخلقً واالجتماعً وعلم أن الزنا سواء كان بالرضا أو باإلكراه ،وكان بامرأة متزوجة أو باكرة ،جرٌمة اجتماعٌة فً كل حال تعود مضارها على المجتمع بؤسره ،فإنه ال بد أن تتبدل نظرته فً باب العقوبة ،وٌعترؾ بوجوب صون الم جتمع من تلك المضار ،وبما أن العوامل المحركة للمرء على الزنا متؤصلة جدا فً جبلته الحٌوانٌة ،ولٌس من الممكن قلع شؤفتها بمجرد عقوبات الحبس والؽرم ،فبل مندوحة لقمعه من استخدام التدابٌر الشدٌدة .ومما ال شك فٌه أن وقاٌة مبلٌٌن من الحؾّة والعمرانٌة بإٌذاء شخص أو شخصٌن إٌذا ًء شدٌداً خٌر من دفع ٌ الناس مما ال ٌحصى من المضار األذى عن الجناة ،وتعرٌض األمة كلها لمضار ال تنحصر فٌها ،بل تتوارثها أجٌالها القادمة أٌضا ً ببل ذنب لها. ( وهناك سبب آخر العتبارهم حد المبة جلدة من العقوبات الظالمةٌ ،فطن به المرء بسهولة إذا أنعم نظره فً أسس الحضارة الؽربٌة .وذلك أن حضارة الؽرب -كما أسلفنا -قد قامت على إعانة ( الفرد ) على ( الجماعة) وتركبت عناصرها بتصور مؽلو فٌه للحقوق الفردٌة .لذلك مهما كان من ظلم الفرد واعتدابه على الجموع ،فبل ٌنكره أهل الؽرب ،بل ٌحتملونه ؼالبا ً بطٌبة نفس ،ولكنه كلما امتدت إلى الفرد ٌد القانون حفظا ً لحقوق الجماعة ،اقشعرت منه جلودهم خوفا ً وفزعاً ،وأصبح كل نصحهم وتحمسهم بحق الفرد دون الجماعة. ( ثم إن مٌزة أبناء الجاهلٌة الؽربٌة -كؤهل الجاهلٌة فً كل زمان -أنهم ٌهتمون بالمحسوسات أكثر من اهتمامهم بالمعقوالت .ولهذا ٌستفظعون الضر الذي ٌنال الفرد لكونه ماثبلً أمام أعٌنهم بصورة مربٌة. ولكنهم ال ٌدركون خطورة الضرر العظٌم الذي ٌلحق المجتمع وأجٌاله القادمة جمٌعاً ،على نطاق واسع ،ألنهم ٌكادون ال ٌحسون به لسعته وعمق آثاره ). وأود أن أذكر هنا :أن اإلسبلم ٌشدد فً إثبات الجرٌمة تشدٌداً ؼٌر عادي ،وخصوصا ً فً جرٌمة الزنا، وهً لم تثبت فً عهد النبوة والراشدٌن إال باإلقرار ،كما أنه ٌفتح الباب للتوبة ،فمن صدقت توبتة سقط عنه الحد على الرأي الراجح .وسقوط الحد ال ٌعنى إسقاط العقوبة بالكلٌة ،فقد ٌنتقل إلى التعزٌر المناسب.
حرص اإلسالم على الستر والعفو في قضايا الحدود ثالثا ً :أود أن ألفت النظر هنا إلى حقٌقة مهمة فً أمر الحدود ،وهو :أن اإلسبلم ال ٌركض وراء إقامة الحد ،وال ٌتشوؾ إلى تنفٌذ العقوبة ،فٌمن اقترؾ ما ٌستحقها ،وال ٌضع أجهزة للتصنت على العصاة، أو ٌنصب لهم (كامٌرات) خفٌة تصورهم حٌن ارتكاب جرابمهم ،وال ٌسلط الشرطة الجنابٌة أو (المباحثٌة) تتجسس على الناس المخالفٌن للشرع حتى تقبض علٌهم متلبسٌن .بل نجد توجٌهات اإلسبلم هنا حاسمة كل الحسم فً صٌانة حرمات الناس الخاصة ،وتحرٌم التجسس علٌهم ،وتتبع عوراتهم ،ال من قبل األفراد ،وال من قبل السلطات الحاكمة .روى الحاكم عن عبد الرحمن بن عوؾ :أنه حرس لٌلة مع عر بالمدٌنة ،فبٌنم ا هم ٌمشون شب لهم سراج فً بٌت ،فانطلقوا ٌإمونه ( أي ٌقصدونه ) حتى إذا دنوا منه ،إذا باب مجاؾ ( أي مؽلق ) على قوم ،لهم فٌه أصوات مرتفعة ،فقال عمر -وأخذ بٌد عبد لرحمن :-أتدري بٌت من هذا؟ قال :ال ،قال :هذا بٌت ربٌعة بن أمٌة بن خلؾ ،وهم اآلن شرب ( أي ٌشربون الخمر ) فما ترى؟ قال عبد الرحمن :أرى أنا قد أتٌنا ما نهى هللا عنه :نهانا هللا عز وجل ،فقال: ( وال تجسسوا) ،فقد تحسسنا ! فانصرؾ عمر عنهم وتركهم ). وروى أبو داود والحاكم أٌضا ً عن زٌد بن وهب ،قال :أتى رجل ابن مسعود ،فقال :هل لك فً الولٌد بن عقبة ،ولحٌته تقطر خمراًًٍ ؟! فقال :إن رسول هللا (صلى هللا علٌه وسلم) نهانا من التجسس ،إن ٌطهر لنا نؤخذه .وروي أٌضا ً عن أربعة من الصحابة :جبٌر بن نفٌر ،وكثٌر بن مرة ،والمقدام بن معدٌكرب، وأبً أمامة الباهلً -رضً هللا عنهم -عن النبً (صلى هللا علٌه وسلم) قال ( :إن األمٌر إذا ابتؽى الرٌبة فً الناس أفسدهم) .بل نرى التعالٌم النبوٌة الصرٌحة ترؼب أبلػ الترؼٌب فً ستر المسلم على نفسه ،وعلى ؼٌره. وعن ابن عمر رضً هللا عنهما :أن رسول هللا (صلى هللا علٌه وسلم) بعد أن أقام الحد على ماعز األسلمً ،قام فقال( :اجتنبوا هذه القاذورة،التً نهى هللا عنها ،فمن أل ّم ( أي تورط فً شًء منها) فلٌستتر بستر هللا ،ولٌتب إلى هللا ،فإنه من ٌبد لنا منفعه ( أي ٌكشؾ عن جرٌمته ) نقم علٌه كتاب هللا) ٌعنً :حكم هللا .وكان الرسول الكرٌم قد أقام الحد على ماعز ،بعد أن جاء إلٌه أربع مرات مقراً بجرٌمته ،وبعد أن حاول النبي (صلى هللا علٌه وسلم) أن ٌبعد عنه التهمة ،وٌلقنه ما ٌدل على عدم استٌفاء أركان الجرٌمة ،ولكنه أمر .ومثله المرأة الؽامدٌة .وقد جاء عن أبى بردة عن أبٌه قال :كنا أصحاب محمد نتحدث لو أن ماعزاً وهذه المرأة ،لم ٌجٌبا فً الرابعة ،لم ٌطلبهما رسول هللا (صلى هللا علٌه وسلم) .وقال لهزال -الذي دفع ماعزاً لبلعتراؾ عند النبً (صلى هللا علٌه وسلم) :لو سترته لكان خٌراً لك) .وعن أبى هرٌرة قال :قال رسول هللا (صلى هللا علٌه وسلم) ( :من ستر أخاه المسلم فً الدنٌا ،ستره هللا فً الدنٌا واآلخرة) .وعنه عن النبً (صلى هللا علٌه وسلم) قال ( :ال ٌستر عبد عبداً فً الدنٌا إال ستره هللا ٌوم القٌامة .فإذا كان الحدٌث السابق فً مثوبة ستر ع المسلم ،فهذا الحدٌث عام فً ستر اإلنسان على اإلنسان :ستر أي عبد من عباد هللا على آخر .وعن كثٌر مولى عقبة بن عامر :أن رسول هللا (صلى هللا علٌه وسلم) قال ( :من رأى عورة فسترها ،كان كمن استحٌا موإودة من قبرها). وكذلك نجد التوجٌهات اإلسبلمٌة صرٌحة فً التحرٌض على العفو والصفح فٌما كان من الحدود متعلقا ً بحقوق العباد ،مثل السرقة ،بشرط أال تصل إلى سلطة القضاء .فهناك ال مجال لعفو وال شفاعة .وفً هذا جاء حدٌث عبد هللا بن عمر ( :تعافوا الحدود بٌنكم ،فما بلؽنً من حد فقد وجب). وقال ابن مسعود ( :إنً ألذكر أول رجل قطعه رسول هللا (صلى هللا علٌه وسلم) أتى بسارق ،فؤمر بقطعه ،وكؤنما أسؾ وجه رسول هللا (صلى هللا علٌه وسلم) ( أي بدا علٌه األسى) فقالواٌ :ا رسول هللا، كؤنك كرهت قطعه؟ قال ( :وما ٌمنعنً؟ ال تكونوا أعوانا ً للشٌطان على أخٌكم! إنه ال ٌنبؽً لئلمام إذا انتهى إلٌه حد إال أن ٌقٌمه ،إن هللا عفو ٌحب العفو ( :ولٌعفوا ولٌصفحوا ،أال تحبون أن ٌؽفر هللا لكم، وهللا ؼفور رحٌم) .وكان الرجل ٌؤتً إلى النبً (صلى هللا علٌه وسلم) ،فٌعترؾ بؤنه أتى ما ٌوجب الحد ،فبل ٌسؤله عن هذا الحد :ما هو؟ وكٌؾ اقترفه؟ بل ٌعتبر اعترافه هذا -الذي قد ٌعرضه للعقوبة -
توبة من ذنبه ،وندما ً على ما فرط منه ،فهو كفارة له .وال سٌما إذا أقام الصبلة مع رسول هللا (صلى هللا علٌه وسلم) .فقد روى أبو داود فً باب ( فً الرجل ٌعترؾ بحد وال ٌسمٌه) عن أبً أمامة :أن رجبلً أتى النبً (صلى هللا علٌه وسلم) فقالٌ :ا رسول هللا ،إنً أصبت حداً فؤقمه علً .قال ( :توضؤت حٌن أقبلت ) ؟ قال :نعم .قال ( :هل صلٌت معنا حٌن صلٌنا ) ؟ قال :نعم .قال ( :اذهب ،فإن هللا تعالى قد عفا عنك ) .ومن ثم ذهب من ذهب من علماء السلؾ إلى أن من حق اإلمام أو القاضً أن ٌسقط الحد بالتوبة إذا ظهرت أماراتها ،وهو ما رجحه شٌخ اإلسبلم ابن تٌمٌة والمحقق ابن القٌم .وهو ما أختاره حٌن (نقنن) عقوبات الحدود فً عصرنا.
درء الحدود بالشبهات رابعا ً :إن مما ٌلحق بما ذكرناه من حرص اإلسبلم على الستر والعفو فً قضاٌا الحدود :ما أصبح معروفا فً الفقه اإلسبلمً بمختلؾ مذاهبه المتبوعة ،وهو :درء الحدود بالشبهات .وقد جاء فً ذلك حدٌث رواه الحاكم وصححه ٌقول( :ادرأوا الحدود عن المسلمٌن ما استطعتم ،فإن وجدتم لمسلم مخرجا ً فخلوا سبٌله ،فإن اإلمام أن ٌخطا فً العفو خٌر من أن ٌخطا بالعقوبة) .نعم إن الحافظ الذهبً اعترض على تصح ٌح الحاكم للحدٌث ،ولكن األحادٌث التً سقناها من قبل تشد عضده .وكذلك ما صح عن الفاروق عمر بن الخطاب رضى هللا عنه من قوله ( :ادرأوا الحدود بالشبهات) .وما ثبت من فعله. من إٌقاؾ حد السرقة عام المجاعة ،لوجود شبهة الحاجة ،وموافقة الصحابة -وفٌهم الفقهاء وأهل العلم والفتوى -له فً ذلك ،ومثل هذا ٌعتبر نوعا ً من اإلجماع .فإنهم ال ٌسكتون جمٌعا ً على باطل ،وال ٌجمعون على ضبللة .وال ٌعتبر هذا إسقاطا ً للحد كما ٌذكر بعض الكاتبٌن ،بل إن الحد لم ٌجب أصبلً ! لعدم استفاء كل أركانه وشروطه. ومثل ذلك :ما روى من عدم إقامته الحد على الؽبلمٌن اللذٌن سرقا من سٌدهما؛ ألنه رأى أنهما لم ٌسرقا إال لظلم السٌد لهما ،وعدم إعطابهما ما ٌكفٌهما من الحاجات البلزمة لها .وال عجب أن سامحهما مقدراً ظروفهما ،ثم وجه تهدٌده إلى مخدومهما بؤنه سٌقطع ٌده هو ،إذا اضطرا إلى السرقة مرة أخرى ! ومن قرأ كتب الؾقه وجد فٌه أشٌاء كثٌرة ذكرها الفقهاء باعتبارها شبهات تمنع إقامة الحد .وبعضها ٌعتبر ضربا ً من التمحل أو االدعاء ،ولكنهم رأوا أن أدنى شك ٌفسر لصالح المتهم.
ال يبنى المجتمع بالتشريع وحده خامسا ً :إن اإلسبلم لٌس مجرد تشرٌع وقانون .إنه عقٌدة تفسر الوجود ،وعبادة تربً الروح ،وأخبلق تزكى النفس ،ومفاهٌم تصحح التصور ،وقٌم تسمو باإلنسان ،وآداب تجمل بها الحٌاة .وآمات األحكام التشرٌعٌة ال تبلػ عشر آٌات القرآن .وهً ممزوجة مزجا ً بالعقٌدة والضمٌر ،مقرونة بالوعد والوعٌد، مرتبطة ارتباطا ً عضوٌا ً بسابر توجٌهات القرآن .إقرأ مثبلً فً أحكام األسرة قوله تعالى( :الطبلق مرتان ،فإمساك بمعروؾ أو تسرٌح بإحسان ،وال ٌحل لكم أن تؤخذوا مما آتٌتموهن شٌبا ً إال أن ٌخافا أال
ٌقٌما حدود هللا ،فإن خفتم أال ٌقٌما حدود هللا فبل جناح علٌهما فٌما افتدت به ،تلك حدود هللا فبل تعتدوها، ومن ٌتعد حدود هللا فؤولبك هم الظالمون) .هذا لٌس تشرٌعا ً جافا ً كمواد القانون ،بل هو تشرٌع ودعوة وتوجٌه وتربٌة وترؼٌب وترهٌب .واقرأ فً أحكام الحدود قوله جل شؤنه( :والسارق والسارقة فاقطعوا أٌدٌهما جزاء بما كسبا نكاالً من هللا ،وهللا عزٌز حكٌم ،فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن هللا ٌتوب علٌه ،إن هللا ؼفور رحٌم ،ألم تعلم أن هللا له ملك السموات واألرض يعذب من ٌشاء وٌؽفر لمن ٌشاء، وهللا على كل شًء قدٌر) .هنا نجد كذلك التشرٌع الزاجر ،مقرونا ً بالوعد والوعٌد ،حامبلً التخوٌؾ والترجٌة ،والتوجٌه والتربٌة ،مرؼبا ً فً التوبة واإلصبلح ،مذكراً بؤسماء هللا الحسنى :العزٌز إذا أمر ونهى ،الحكٌم فٌما شرع ،والؽفور الرحٌم لمن تاب وأصلح .مالك الكون ،وصاحب الخلق واألمر ،وهو على كل شا قدٌر .هذا هو سٌاق التشرٌع فً القرآن ،ومثله فً السنة. فلٌس بالتشرٌع وحده ٌبنى المجتمع المسلم ،بل ال بد من وسٌلتٌن أخربٌن :الدعوة والتوعٌة ،ثم التعلٌم والتربٌة ،إلى جوار التشرٌع والقانون ،بل قبل التشرٌع والتقنٌن. ولهذا بدأ اإلسبلم بالمرحلة المكٌة -مرحلة الدعوة والتربٌة -قبل المرحلة المدنٌة ،مرحلة التشرٌع والتنظٌم ،وفى هذه المرحلة نرى التشرٌع ٌمتزج بالتربٌة أٌضا ً امتزاج الجسم بالروح .إن مجرد تؽٌٌر القوانٌن وحده ال ٌصنع المجتمع المسلم .إن تؽٌٌر ما باألنفس هو األساس .وأعظم ما ٌعٌن على تؽٌٌر ما باألنفس هو اإلٌمان الذي ٌنشا اإلنسان خلقا ً آخر ،بما ٌضع له من أهداؾ ،وما ٌمنحه من حوافز وضوابط ،وما ٌرتبه على عمله من جزاء فً الدنٌا واآلخرة .واإلسبلم كل ال ٌتجزأ .فإذا أردنا أن نحارب جرٌمة مما شرعت له الحدود ،فلٌست محاربتها بإقامة الحد فقط ،وال بالتشرٌع فقط ،بل الحد هو آخر الخطوات فً طرٌق اإلصبلح .إن العقاب إنما هو للمنحرفٌن من الناس ،وهإالء لٌسوا هم أال كثرٌن ،ولٌسوا هم القاعدة ،بل هم الشواذ عن القاعدة .واإلسبلم لم ٌجا فقط لعبلج المنحرفٌن ،بل لتوجٌه األسوٌاء ووقاٌتهم أن ٌنحرفوا .والعقوبة لٌست هً العامل األكبر فً معالجة الجرٌمة فً نظر اإلسبلم ،بل الوقاٌة منها بمنع أسبابها هو العامل األكبر ،فالوقاٌة دابما خٌر من العبلج .فإذا نظرنا إلى جرٌمة كالزنى نجد أن القرآن الكرٌم ذكر فً شؤن عقوبة الحد فٌها آٌة واحدة فً مطلع سورة النور، وهى قوله تعالى ( :الزانٌة والزانً ،فاجلدوا كل واحد منهما مابة جلدة ،وتؤخذكم بهما رأفة فً دٌن هللا إن كنتم تإمنون باهلل والٌوم اآلخر) ،ولكن السورة نفسها اشتملت على عشرات اآلٌات األخرى التً توجه إلى الوقاٌة من الجرٌمة .وحسبنا قوله تعالى ( :إن ا لذٌن ٌحبون أن تشٌع الفاحشة فً الذٌن آمنوا لهم عذاب ألٌم فً الدنٌا واآلخرة) .وقوله سبحانه فً تنظٌم التزاور وآدابه ،واحترام البٌوت ورعاٌة حرماتهاٌ ( :ا أٌها الذٌن آمنوا ال تدخلوا بٌوتا ً ؼٌر بٌوتكم حتى تستؤنسوا وتسلموا على أهلها ،ذلكم خٌر لكم لعلكم تذكرون) .و ٌدخل فٌها آداب االستبذان للخدم واألطفال الذٌن لم ٌبلؽوا الحلمٌ ( :ا أٌها الذٌن آمنوا لٌستؤذنكم الذٌن ملكت أٌمانكم والذٌن لم ٌبلؽوا الحلم منكم ثبلث مرات ،من قبل صبلة الفجر وحٌن تضعون ثٌابكم من الظهٌرة ومن بعد صبلة العشاء ،ثبلث عورات لكم) .وأهم من ذلك تربٌة المإمنٌن والمإمنات على خلق العفاؾ واإلحصان ،بؽض البصر وحفظ الفروج ،وذلك فً قوله جل شؤنه( :قل للمإمنٌن ٌؽضوا من أبصارهم وٌحفظوا فروجهم ،ذلك أزكى لهم ،إن هللا خبٌر بما ٌصنعون ،وقل للمإمنات ٌؽضضن من أبصارهن وٌحفظن فروجهن وال ٌبدٌن زٌنتهن إال ما ظهر منها ،ولٌضربن بخمرهن على جٌوبهن …اآلٌة ) .وهنا برز عنصر جدٌد فً الوقاٌة من الزنا وجرابم الجنس ،وهو منع النساء من الظهور بمظهر اإلؼراء والفتنة للرجال ،وإثارة ؼرابزهم وأخٌلتهم ،حتى جاء فً اآلٌة الكرٌمة قوله تعالى ( :وال ٌضربن بؤرجلهن لٌعلم ما ٌخفٌن من زٌنتهن ) ،ثم تختم اآلٌة بقوله سبحانه: ( وتوبوا إلى هللا جمٌعا أٌه المإمنون لعلكم تفلحون ). ومعنى هذا :وجوب تطهٌر المجتمع من أسباب اإلؼراء والفتنة ،وسد الذرابع إلى الفساد .وأهم من ذلك كله األمر بتزوٌج األٌامى من الرجال والنساء ،ومخاطبة المجتمع كله بذلك ،باعتباره مسإوالً مسإولٌة
تضامنٌة ( :وأنكحوا األٌامى منكم والصالحٌن من عبادكم وإمابكم ،إن ٌكونوا فقراء ٌؽنهم هللا من فضله ،وهللا واسع علٌم ) .ومسإولٌة المجتمع هنا -وعلى رأسه الحكام -تتمثل فً تٌسٌر أسباب االرتباط الحبلل ،إلى جوار سد أبواب الحرام ،وذلك بإزاحة العوابق المادٌة واالجتماعٌه أمام راؼبً الزواج ،من ؼبلء المهور ،واإلسراؾ فً الهدااٌا والدعوات والوالبم والتؤثٌث ،وما ٌتصل بذلك من شإون ،ومساعدتهم -مادٌا ً وأدبٌا ً -على تكوٌن بٌوت مسلمة .فلٌست إقامة الحد إذن هً التً تحل المشكلة ،والواقع أن الحد هنا ال ٌمكن أن ٌقام بشروطه الشرعٌة إال فً حالة اإلقرار فً مجلس القضاء ،أربع مرات ،على ما ٌراه عدد من األبمة ،أو شهادة أربعة شهود عدول برإٌة الجرٌمة رإٌة مباشرة أثناء وقوعها ،ومن الصعب أن ٌتاح ذلك .فكؤن القصد هنا هو منع المجاهرة بالجرٌمة .أما من ابتلى بها مستتراً فبل ٌقع تحت طابلة العقاب الدنٌوي وأمره فً اآلخرة إلى هللا سبحانه.
من حق المجتمع المسلم أن يحكم بشرع ربه سادسا ً :مما ال نزاع فٌه ،أن من حق كل مجتمع أن ٌحكم بالتشرٌع الذي ٌإمن بعدالته وتفوقه وسموه على ؼٌره من التشرٌعات .وبالنسبة للمجتمع المسلم ٌعتبر ذلك واجبا ً وفرضا ً علٌه ،ولٌس مجرد حق له .ولهذا ال ٌنبؽً أن ٌنكر أحد على المجتمعات المسلمة الٌوم تنادٌها بتحكٌم التشرٌع اإلسبلمً .فهو التشرٌع الفذ الذي ٌعبر عن عقابدها وقٌمها وآدابها وعن نظرتها إلى الكون وخالقه ،واإلنسان ومصٌره، والحٌاة ورسالتها ،بخبلؾ القوانٌن الوضعٌة األخرى ،التً قد تحل ما ٌحرمه اإلسبلم مثل الخمر والفجور والربا ،أو تحرم ما ٌحله مثل الطبلق وتعدد الزوجات ،أو تلؽً ما ٌوجبه وٌفرضه مثل إٌتاء الزكاة ،وإقامة الحدود ،واألمر بالمعروؾ والنهى عن المنكر ،أو تبدل بؤحكام هللا ورسوله أحكاما ً أخرى مستوردة من الؽرب أو الشرق .صحٌح أن التشرٌعات الوضعٌة الحالٌة -فً كثٌر من ببلد المسلمٌن لٌست كلها منافٌة للشرٌعة اإلسبلمٌة ،بل إن كثٌراً منها -كما ٌعرؾ الدارسون -اقتبس أساسا ً من الفقه اإلسبلمً ،وال سٌما الفقه المالكً .ولكن ٌجدر فً أن أنبه هنا على أمور أساسٌة : أولها :أن األشٌاء التً تخالؾ فٌها القوانٌن الوضعٌة األحكام الشرعٌة وان لم تكن كبٌرة فً مساحتها وكمها -هً فً ؼاٌة األهمٌة بالنظر إلى نوعها وكٌفها ووظٌفتها .مثل تحرٌم الربا -فً القانون المدنً الذي شدد القرآن وشددت السنة فً وعٌد من ارتكبه ،ومثل إقامة الحدود على جرابم معٌنة قدر لهاالشرع عقوبات منصوصا علٌها حقا له تعالى .وذلك ألن هذه األحكام وأشباهها هً التً تمٌز حضارة عن حضارة وأمة عن أمة .فتحرٌم الربا -كإٌتاء الزكاة -من أبرز ما ٌمٌز نظاما اقتصادٌا عن آخر، وهما بالفعل من أخص خصابص االقتصاد اإلسبلمً .وتحرٌم الزنا والفاحشة ما ظهر منها وما بطن، وكل ما ٌإدى إلى ذلك ،وتقرٌر العقوبة علٌه ،ومثله تحرٌم المسكرات :تعاطٌا ً واتحاراً وصنعاً ،وإٌجاب العقوبة علٌها … إلى ؼٌر ذلك مما جاءت الحدود عقابا ً علٌه مما ٌمٌز الحضارة اإلسبلمٌة عن ؼٌرها من الحضارات التً ال ترى بؤسا ً فً إباحة الزنا ما دام بالتراضً وإباحة الشذوذ الجنسً ،برؼم منافاته للفطرة السوٌة ،وللرجولة الكرٌمة ،وجوره على الجنس اآلخر .وكذلك إباحة الخمور والمسكرات ،مع ما ثبت بالقطع من أضرارها المادٌة والمعنوٌة على الفرد وعلى األسرة وعلى المجتمع. ثانٌها :أنه ال ٌكفى أن تكون القوانٌن الوضعٌة متفقة مع أحكام الشرٌعة اإلسبلمٌة .ألن مجرد هذا االتفاق -بالمصادفة -ال ٌمنح ها الصبؽة اإلسبلمٌة ،ال ٌضفً علٌها الشرٌعة اإلسبلمٌة .إنما الواجب أن
ترد إلى الشرٌعة ،وتنطلق منها ،بحٌث ترتبط بالفلسفة العامة لئلسبلم ،وبالمقاصد الكلٌة للشرٌعة، وتستند إلى األدلة الشرعٌة الجزبٌة فً مختلؾ مواد األحكام فً شتى القوانٌن ،وفق األصول المرعٌة عند فقهاء المسلمٌن جمٌعا ً .وبهذا ٌكون لهذه القوانٌن شرعٌتها وقدسٌتها لدى الفرد المسلم ،والمجتمع المسلم ،وٌنقاد لها طواعٌة واختٌاراً ،ألنه ٌتعبد له تبارك وتعالى بقبولها والخضوع لها .فخضوعه لها لٌس خضوعا ً لبرلمان وضعها ،وال لحكومة قررتها ،بل هو طاعة هلل الذي شرعها لخٌر عباده ،وانقٌاده لها تجسٌد إلٌمانه ورضاه بحكم هللا ورسوله ( :إنما كان قول المإمنٌن منٌن إذا دعوا إلى هللا ورسوله لٌحكم بٌنهم أن ٌقولوا سمعنا وأطعنا ،وأولبك هم المفلحون) وفرق كبٌر بٌن التزام المسلم بموجب العقد بناء على النظرٌة الفبلنٌة أو أن الفٌلسوؾ الفبلنً ٌقول :إن العقد شرٌعة المتعاقدٌن ،وبٌن التزامه بذلك ألن هللا تعالى ٌقولٌ ( :ا أٌها الذٌن آمنوا أوفوا بالعقود)(.وافوا بالعهد ،إن العهد كان مسإوالً) ولقد قٌل لؤلستاذ حسن الهضٌبى المرشد الثانً لئلخوان المسلمٌن ٌوما ً :لماذا تشددون النكٌر على القوانٌن الوضعٌة ،مع أنها -فً معظمها -شبٌهة باألحكام الشرعٌة ؟ فكان جوابه :ألننا مطالبون باألحكام الشرعٌة ال بما ٌشهها ،وقد قال تعالى ( :وأن احكم بما أنزل هللا). ثالثها :أن الشرٌعة اإلسبلمٌة كل ال ٌتجزأ ،وال ٌجوز أخذ بعضها وترك بعضها ،ولو كان هذا المتروك 0ا %أو %5أو حتى %1أو واحدا فً األلؾ. فقد قال هللا تعالى لرسوله ( :وأن احكم بٌنهم بما أنزل هللا وال تتبع أهواءهم واحذرهم أن ٌفتنوك عن بعض ما أنزل هللا إلٌك ) ،وذلك ألن الذي ٌتنازل عن البعض القلٌل ٌوشك أن ٌتنازل عن الجل ،بل عن الكل ! ومن تم أنكر القرآن أبلػ اإلنكار على بنى إسرابٌل فً تجزبتهم للدٌن ،وأخذهم لبعض أحكام كتابهم وإعراضهم عن البعض اآلخر ،فقال تعالى مقرعا ً لهم ( :أفتإمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض،فما جزاء من ٌفعل ذلك منكم إال خزي فً الحٌاة الدنٌا ،وٌوم القٌامة ٌردون إلى أشد العذب ،وما هللا بؽافل عما تعملون) .وكما ال ٌقبل من مسلم أن ٌرفض شٌبا -مهما ق ّل -من القرآن الكرٌم ،وٌعتبر بذلك كافراً ،فكذلك ال ٌقبل منه أن ٌرفض أي حكم قطعً ثابت من أحكام الشرٌعة مما علم من الدٌن بالضرورة ،ورفضه لهذا ٌعتبر كفراً باإلسبلم ٌخرجه من الملة ،وٌعزله عن األمة ،وٌستحق به عقوبة الردة ،ألنه ٌتضمن استدراكا ً على هللا تعالى وتعالما ً من العبد على ربه ،واتهاما ً له سبحانه بقصور علمه وحكمته أو بقصور جوده رحمته ،تعالى هللا عما ٌقولون علواً كبٌراً. رابعها :أن الببلد اإلسبلمٌة تتفاوت تفاوتا ً بعٌداً فً موقفها من التشرٌع اإلسبلمً .فهناك من ٌلتزم بتحكٌم الشرٌعة من ناحٌة المبدأ ،وإن كان علٌه مآخذ تكثر أو تقل من ناحٌة التطبٌق .وهناك من حاول أن ٌستمد قانونه المدنً من رحاب الشرٌعة وفقهها الرحب ،ولكن بقً قانونه الجزابً ؼربٌا ً وضعٌا ً. وهناك من اجترأوا على قوانٌن األسرة أو األحوال الشخصٌة ،وهى المنطقة التً بقٌت خالصة للشرٌعة فً أكثر األقطار المسلمة ،حتى وجدنا بلداً عربٌا ً ٌبٌح الزنى وال ٌعاقب علٌه ما دام بالتراض ،فى حٌن ٌعتبر الزواج من أخرى جرٌمة تستحق العقاب .وهذا ما جعل أحد األذكٌاء فً ذلك البلد العربً فً شمال إفرٌقٌة -وقد تزوج امرأة ثانٌة زواجا ً شرعٌاً ،ؼٌر موثق قانونٌا ً بطبٌعة الحال ،حٌن ضبط فً بٌت تلك الزوجة :أن ٌقول :إنها عشٌقتً ! فلم ٌسعهم إال أن ٌطلقوا سراحه متؤسفٌن ،فقد كانوا ٌظنونها زوجة له ! وقد جعل ذلك البلد الطبلق بٌد المرأة ،وؼٌّر قانون العقوبات ،فً شؤن من وجد امرأته تخونه فً بٌت الزوجٌة ،ووجد معها رجبلً أجنبٌا ً فً فراشه ،فؤخذته الؽٌرة وقتله .فقد كان ٌحكم علٌه قدٌما ً بخمس سنوات ،مراعاة لظروفه ،فؽٌرت العقوبة إلى الحكم باإلعدام.
تحكيم الشريعة يجسد أصالتنا وتحررنا سابعا ً :إذا كان التشرٌع عندنا نحن المسلمٌن جزءاً ال ٌتجزأ من دٌننا ،فبل ٌتم إٌماننا إال بالحكم به واالحتكام إلٌه ،وال خٌار لنا فً ذلك بعد التزامنا باإلسبلم ،والرضا به دٌنا ً وشرعة ومنهاجا ً ( :وما كان لمإمن وال مإمنة إذا قضى هللا ورسوله أمراً أن ٌكون لهم الخٌرة من أمرهم ،ومن ٌعص هللا ورسوله فقد ضل ضبلالً مبٌنا ً .فإن تحكٌم الشرٌعة فٌه معنى آخر ٌتصل بؤصالتنا وقومٌتنا ،فالقوانٌن الوضعٌة التً نحكم بمقتضاها فً ببلدنا العربٌة واإلسبلمٌة ،قوانٌن أجنبٌة عنا دخٌلة علٌنا ،لم تنبت فً أرضنا، ولم تستمد أحكامها من عقابدنا وقٌمنا وأعرافنا ومسلماتنا .ولهذا أحلت ما نعتقده حراماً ،وحرمت ما نعتقده حبلالً ،وأسقطت ما نعتقده واجبا ً .والعودة إلى أحكام الشرٌعة تعنً التحرر من بقاٌا االستعمار فً المجال التشرٌعً ،والرجوع إلى منابعنا األصٌلة ،نستقً منها ما ال نصلح بؽٌره ،ألن فٌه هداٌة ربنا ،وأصالة تراثنا ،المتجاوب مع أنفسنا وتطلعاتنا ،والمعبر عن حقٌقة اتجاهنا ،والمحقق ألهدافنا وحاجتنا .لقد كان دخول القوانٌن الوضعٌة إلى ببلدنا ،أشبه بدخول الٌهود إلى فلسطٌننا ،بدأ تسلبلً خفٌاً، ثم انتهى اؼتصابا ً علنٌا ً .إن الذي ٌقرأ كٌؾ دخل القانون الوضعً إلى بلد كمصر ،سبق ؼٌره فً ذلك لٌؤخذه العجب كل العجب .كٌؾ تم ذلك العدوان فً بساطة تثٌر ؼضب الحلٌم .وحسبك أن هذا القانون وضعه شخص ال تتعدى ثقافته العلمٌة أو المهنٌة درجة المتوسط .وهو محام أرمنً أتمه فً وقت أقل مما ٌستؽرقه وضع كتاب صؽٌر جداً .والحقٌقة أنه لم ٌضع قانوناً ،بل نقله بجملته نقبلً حرفٌاً ،كما قال األستاذ ( مسٌنا ) أحد المستشارٌن اإلٌطالٌٌن فً المحاكم المختلطة فً مصر .وقد وصؾ هذه القوانٌن بؤنها( :م جمعة من هنا وهناك على ؼٌر أصول وضع القوانٌن وفقا ً لحاجات الجماعة ومصالحها). وٌقول (مسٌنا) ( :وإن شبح زعٌم المدرسة التارٌخٌة ( سافٌنً ) لترتعد فرابصه من تصور استٌراد أو اقتراض أمة لتشرٌعاتها ) .ولكن هذه القوانٌن استوردت أو اقترضت دون حاجة إلٌها ،وال طلب لها، وال رؼبة فٌها ،ودون أن تستشار األمة فً شؤنها ،كؤن األمر ال ٌخصها وال ٌتعلق بحٌاتها .وما كان لهذه القوانٌن أن تدخل وتبقى ،لوال أن االحتبلل هو الذي أدخلها وحماها ،بؤسنة رماحه .والٌوم تطالب ها ،وهو أمر نادى به كبار رجال الشعوب العربٌة واإلسبلمٌة بإكمال استقبللها بالعودة إلى أحكام شرٌعت القانون الوضعً نفسه ،الذٌن أتٌح لهم أن ٌدرسوا فقه الشرٌعة ،وٌطلعوا على بعض كنوزه وأسراره. ومن أبرز هإالء عبلمة القانونٌٌن العرب الدكتور عبد الرزاق السنهوري ،الذي أشاد بقٌمة الفقه اإلسبلمً وأصالته وؼناه فً أكثر من كتاب وأكثر م ن مناسبة ،وخصوصا ً فً المراحل األخٌرة من عمره ،بعد أن تعمق أكثر فً قراءة مصادر الفقه ،و كتابه الشهٌر (مصادر الحق فً الفقه اإلسبلمً) ففً محاضرة له نشرتها األهرام فً (ٌ ) 1937/1/1قول ( .وإنً زعٌم لكم بؤن تجدوا فً ذخابر الشرٌعة اإلسبلمٌة من المبادئ والنظرٌات م ا ال ٌقل فً رقى الصٌاؼة وفً إحكام المصنعة ،عن أحدث المبادئ والنظرٌات وأكثرها تقدما ً فً الفقه العالمً).
الشريعة بمعناها الواسع ال مذهب بعينه ثامنا ً :إن التشرٌع اإلسبلمً المنشود ،ال ٌعنٌفقه مذهب من المذاهب فً عصر من العصور ،إنما ٌعنً القواعد واألحكام األساسٌة التً قررها القرآن والسنة ،ونشؤ فً رحابها فقه خصب ،منذ عهد الصحابة فمن بعدهم ،سجلته كتب المذاهب المختلفة ،وكتب السنن واآلثار والفقه المقارن. وهذ ه الثروة الهابلة من االجتهادات أساس قوي ال ٌستهان به ،وال ٌستؽنى عنه ألي اجتهاد معاصر قوٌم ،وال ٌقبل أن ٌبدأ اجتهاد جدٌد من المصفر ،ودون أن ٌبنى البلحق على السابق ،ولكن جزبٌات هذا الفقه لٌست ملزمة لنا إال بمقدار ما ٌسندها من أدلة الشرع المحكمة ،نصوصا ً وقواعد .ومن القواعد المقررة التً لم تعد موضع خبلؾ -من الناحٌة النظرٌة على األقل -أن الفتوى تتؽٌر بتؽٌر الزمان والمكان والحال والعرؾ ،كما أكد ذلك _عدد من المحققٌن من علماء المذاهب المتبوعة ،من أمثال: القرافً وابن القٌم وابن عابدٌن .ولهذه القاعدة أدلتها من القرآن والسنة وهدى الصحابة وعمل السلؾ ولها تطبٌقاتها الكثٌرة فً عصرنا ،كما فً مسؤلة أقصى مدة الحمل ،واختبلؾ الفقهاء فٌه ،حتى أوصلها بعضهم إلى أربع سنوات ،بل خمس ،بل سبع ! وذلك أنهم لم ٌكونوا ٌعرفون عن ( الحمل الكاذب ) الذي له أعراض الحمل الصحٌح .ومن ثم ال ٌجوز أن نحجر على أنفسنا واسعاً ،فنلتزم بمذهب واحد فً كل شإونا .وقد ٌكون هذا المذهب ضعٌؾ الحجة فً بعض القضاٌا ،أو ال ٌحقق مقاصد الشرع ومصالح الخلق .فبل جناح علٌنا أن ندعه إلى ساحة المذاهب األخرى ،وساحة الشرٌعة الكبرى .كما فً قضاٌا مثل :اإللزام بالوعد ،بٌع المرابحة ،زكاة الخارج من األرض ،زكاة المستؽبلت، الحلؾ بالطبلق ،طبلق السكران والؽضبان ،طبلق الثبلث فً لفظة واحدة .أقصى مدة الحمل.
البد من اجتهاد معاصر منضبط تاسعا ً :إن التشرٌع اإلسبلمً المنشود هو الذي ٌقوم على أساس اجتهاد عصري سلٌم ،سواء أكان اجتهاداً انتقابٌا ً أم إنشابٌا ً .وقد تحدثت عن معالم هذا االجتهاد وضوابطه فً مجال آخر .ولكن ال بد لً أن أحذر ها من فبتٌن من الناس :فبة الذٌن ٌرٌدون أن ٌطوعوا اإلسبلم للعصر ،وٌجعلوه عجنٌة لٌنة قابلة للتشكٌل فً أي صورة ،وال ٌرٌدون أن ٌتفقوا عند قرآن وال سنة وال إجماع وال قٌاس ،كالذٌن ٌحاولون الٌوم تحلٌل فوابد البنوك مع اتفاق كل المجامع والمإتمرات العلمٌة اإلسبلمٌة على تحرٌمها. وفبة الذٌن ٌرٌدون أن ٌجمدوا اإلسبلم فً قوالب حجرٌة ،صنعتها عقول من قبلنا مناسبة لزمانهم ،ولم تعد مناسبة لزماننا .وهإالء نوعان: .1مذهبٌون مقلدون متعصبون لمذاهبهم ال ٌرون الخروج منها قٌد شعرة ،وخصوصا ً أقوال المتؤخرٌن. .2ال مذهبٌون حرفٌون ،ممن اسمٌهم ( الظاهرٌة الجدد ). وهإالء وأولبك هم الذٌن ٌشهرون سٌؾ اإلرهاب على كل عالم رأى رأٌا جدٌا ً أو مخالفا ً لمن كان قبله، وان كان من كبار العلماء ،وأساطٌن الشٌوخ ،الذٌن قضوا أعمارهم سباحٌن وؼواصٌن فً بحار العلوم
اإلسبلمٌة ،وكان لهم إنتاجهم وشهرتهم التً طبقت اآلفاق. وأذكر أن فقٌها ً مثل الشٌخ اإلمام محمد أبو زهرة رحمه هللا وقؾ فً إحدى الندوات ٌعلن عن رأى فقهً جدٌد له ،قال :إنً كتمته منذ عشرٌن عاما ً أو أكثر ،واآلن أبرئ ذمتً ،وأبوح به .ولٌس المهم أن ٌكون رأٌه هذا صوابا ً أو خطؤً ،إنما المهم هنا والمإلم حقا ً :أن ٌكتم هذا العالم الكبٌر رأٌه ،وٌخفً اجتهاده عشرٌن عاماً ،وال ٌجد الفرصة أو الجرأة ،لٌكتبه تحرٌراً ،أو ٌلقٌه شفاهاً ،خشٌة من هٌاج الهابجٌن ،وتطاول المتطاولٌن ،الذٌن ٌملكون النصال الحادة ،والسهام الجارحة ،وٌصوبونها بسرعة البرق إلى كل ذي رأي ٌخالؾ ما ألؽوه ! وبهذا تموت اآلراء فً صدور أصحابها ،وال تعرؾ إلى الظهور سبٌبلً. اجتهاد ال فوضى ،وتجديد ال تبديد: إن الدعوة إلى االجتهاد لعصرنا ال تعنً الفوضى ،وفتح الباب على مصراعٌه لكل مدع متطاول ،وإن لم ٌحصل شروط االجتهاد األساسٌة .إن بعض دعاة (التجدٌد) أو (التطور)ٌ ،رٌدون أن ٌطوروا اإلسبلم ذاته حتى ٌوافق أهواءهم (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات واألرض ومن فٌهن) ، وأهواإهم إنما كونتها المعارؾ التً تسولوها من موابد الثقافة الؽربٌة ،مع معرفة ضحلة أو مشوشة باإلسبلم ،أو جهل مطبق به فً بعض األحٌان .فهم لهذا ال ٌفرقون بٌن الجانب الذي له صفة الثبات والخلود فً أحكام اإلسبلم وتوجٌهاته ،والجانب المرن المتطور الذي ٌتؽٌر بتؽٌر الزمان والمكان والحال .فهم ٌنقدون الفقه وٌعتبرونه مجرد وجهة نظر تمثل رأى شخص معٌن فً بٌبة معٌنة فً عصر ؼٌرت األشخاص كان الواجب علٌهم أن ٌنشبوا فقها ً جدٌدا معٌن .فإذا تؽٌر العصر ،وتؽٌرت البٌبة ،وت ٌمثلهم وبعبر عنهم زمانا ً ومكانا ً وحاالً. وهذا صحٌح بالنظر إلى جزبٌات األقوال واآلراء التً قال بها الفقهاء فً شتى مجاالت االجتهاد .ولكنه لٌس صحٌحا ً بالنسبة إلى مجموع الفقه ،الذي ٌمثل ثروة تشرٌعٌة ضخمة شاركت فً إنشابها وتنمٌتها شوامخ العقول اإلسبلمٌة ،ابتداء من الصحابة فمن بعدهم على توالى القرون ،مهتدٌن بالقرآن الكرٌم والسنة المطهرة. وال أعرؾ -وال أحسب أحداً ٌعرؾ -أمة من األمم طرحت تراثها القانونً الوضعً وراءها ظهرٌاً، وبدأت من الصفر تشرع لٌومها وؼدها ،دون أن تستفٌد من روابع أمسها ،فكٌؾ بتراث فقهً أساسه ربانً ؟ :ولو أننا سلمنا لهإالء ،فٌما ٌتعلق بالفقه والفقهاء،وجدناهم ٌقفزون قفزة أخرىٌ ،ردون بها رفض السنة النبوٌة ،التً هً بٌان القرآن النظري وشرحه العملً ،وقد أوجب هللا طاعته وطاعة رسوله جمٌعا ً ( :قل أطٌعوا هللا وأطٌعوا الرسول )،وجعل طاعة رسوله من طاعته( :من ٌطع الرسول فقد أطاع هللا) .وال عجب أن نجد فٌهم من ٌدعو إلى االكتفاء بالقرآن ،وإلؽاء السنة كلها ! أو من ٌدعو إلى األخذ بالسنة المتواترة ،وٌلؽً سنن اآلحاد ،وهً جمهرة السنة .أو من ٌدعو إلى األخذ بالسنة العملٌة ،وإخراج األحادٌث القولٌة ،وعلٌها مدار السنة .وجهل هإالء أنهم بهذا ٌخالفون القرآن نفسه، وٌخرجون عن إجماع األمة ،وٌنكرون العلوم من الدٌن بالضرورة .فإذا تنازلنا لهإالء -على سبٌل االفتراض -وقبلنا كبلمهم المردود عن السنة ،فسرعان ما نجدهم ٌخطون خطوة أخرى أجرأ وأوقح، وهً التطاول على القرآن نفسه ،وعلى أحكام القرآن الثابتة القطعٌة. وال ؼرو أن نجد منهم من ٌكتب -ببل وجل وال خجل ٌ -رٌد أن ٌعطل الحدود وٌعطل األوامر ،وٌحل الحرام ،وٌحرم الحبلل ،كل ذلك بدعوى التطور والتجدٌد والمحافظة على روح اإلسبلم ال شكله ! .إن واحداً من هإالء القوالٌن المتقولٌن -ممن فتحت لهم بعض الصحؾ والمجبلت ذراعٌها لٌكتب ما ٌشاء ٌقول فً تبجح ( :إن القرآن لم ٌنزل لتنظٌم عصر الفضاء ! بل لتنظٌم مجتمع بدابً جاهلً ) إنه ٌتهمهللا الجلٌل بقصور العلم ،وإنه لم ٌكن ٌعلم ماذا تكون علٌه مخلوقاته بعد مدة من الزمن .وآخر ٌقول: (إن آٌة( :والسارق والسارقة فاقطعوا أٌدٌهما ) إنما نزلت لردع من ٌسرق ناقة العربً فً صحراء الجزٌرة ،وفٌها كل متاعه وحٌاته !! ولو كان عند هذا المدعى شا من المعرفة بتارٌخ العرب فً عصر النبوة لعلم أن النوق لم تكن تسرق فً ذلك العهد ،بل كانت تترك وال تلتقط إذا وجدت فً البرٌة ،فمعها
حذاإها وسقاإها .وحوادث السرقة التً ثبتت فً ذلك العصر لم ٌكن واحد منها متعلقا ً بسرقة ناقة أو جمل ! نحن ندعو إلى االجتهاد ال الفوضى ،وإلى التجدٌد ال التبدٌد ! إلى فقه األصبلء ،ال تطاول األدعٌاء.
اإلسالم ليس مادة هالمية عاشراً :إن األصول العامة التً ندعو إلٌها واضحة بٌنة ،حددنا معالمها فً مباحث وكتب أخرى .ولقد أوهم بعض الذٌن كتبوا مشككٌن أو معارضٌن للدعوة إلى تطبٌق الشرٌعة ،أوهموا أن الشرٌعة المدعو إلى تطبٌقها مادة ( هبلمٌة ) رجراجة ؼٌر محددة وال منضبطةٌ ،ستطٌع كل حاكم أو كل فرٌق أن ٌفسرها كما ٌشاء .حتى وجدنا من ٌقول :أي إسبلم تدعوننا إلٌه ،وتطالبوننا بتحكٌمه ؟ فقد رأٌنا اإلسبلم الذي ادعى بعض الحكام تطبٌقه الٌوم ٌختلؾ من بلد إلى آخر .فهناك إسبلم السودان ،وإسبلم إٌران، وإسبلم باكستان ،وإسبلم لٌبٌا !! أو كما عبر أحدهم بصراحة :إسبلم النمٌري ،أم إسبلم الخمٌنً ،أم إسبلم ضٌاء الحق ،أم إسبلم القذافً؟ ونقول لهإالء :إن اإلسبلم هو اإلسبلم ،ؼٌر مضاؾ إلى أحد إال إلى من شرعه أو من بلؽه .فهو إسبلم القرآن والسنة ،وال ٌرتبط باسم شخص إال باسم محمد (صلى هللا علٌه وسلم) الذي بعثه هللا بشٌرً ونذٌراً ،وداعٌا ً إلى هللا بإذنه وسراجا ً منٌراً .ومهما اختلفت التفسٌرات، أو اختلفت التطبٌقات لشرٌعة اإلسبلم ،فستظل هناك دابرة ؼٌر ضٌقة وال هٌنة ،تمثل الوحدة االعتقادٌة والفكرٌة والشعورٌة والسلوكٌة لؤلمة .تلك هً دابرة ( القطعٌات ) التً أجمعت علٌها األمة فكراً وعمبلً ،ورسخت فً عقولها وقلوبها وحٌاتها على امتداد القرون األربعة عشر ،التً قطعتها هذه األمة . هناك قطعٌات فً العقٌدة والفكر ..وقطعٌات فً العبادة والشعابر ،وقطعٌات فً الشرٌعة والنظم، وقطعٌات فً األخبلق واآلداب ..وكلها مما ال ٌختلؾ فٌه اثنان ،وال ٌنتطح فٌها عنزان ،كما ٌقولون. وهذه القطعٌات وحدها هً أساس التشرٌع ،ومحوره ،وهى التً تحدد االتجاه واألهداؾ ،وترسم النهج والطرٌق ،وتمٌز المبلمح والقسمات .وأما ما عدا القطعٌات من أحكام وأنظمة ،فهو لم ٌترك لعبث األهواء المتسلطة ،أو شطحات األفكار الجامحة ،أو الستبداد السلطات المتحكمة ،تفهمه كما ترٌد، وتفسره كما ٌحلو لها ،دون أصل تستند إلٌه ،وال برهان تعول علٌه .كبل ..بل هناك ( أصول ) و ( قواعد ) وضعها أبمة اإلسبلم ،لبلستٌثاق من ثبوت النص الشرعً أوالً ،ثم لفهم داللته ثانٌا ً ،ثم لبلستنباط فٌما ال نص فٌه ثالثا ً. ومن ثم وجد علم أصول الفقه ،وقواعد الفقه ،وأصول الحدٌث ،وأصول التفسٌر ،ونحوها من المعٌنات البلزمة للفهم واالستنباط .وال بؤس أن تتعدد المدارس فً الفهم واالستنباط ،على أن ٌقوم ذلك على أصول منهجٌة علمٌة مبنٌة على الدلٌل ،ال على الهوى أو التقلٌد .وربما كان هذا الخبلؾ مصدر إثراء للفكر اإلسبلمً ،والعمل اإلسبلمً ،إذا وضع فً إطاره الصحًح.
سنة التدرج حادي عشر :إن التدرج سنة من سنن هللا فً خلقه ،وشرعه ،فقد خلق اإلنسان أطواراً :علقة ،فمضؽة، فعظاما ً … .إلخ ,وخلق الدنٌا فً ستة أٌام ،هللا أعلم بكل ٌوم منها كم هو؟ كما أنه فرض الفرابض وحرم المحرمات على مراحل ،وفق سنة التدرج ،مراعاة لضعؾ البشر ورحمة بهم .والشرٌعة قد اكتملت ببل شك ،ولكن تطبٌقها فً عصرنا ٌحتاج إلى تهًبة وإعداد لتحوٌل المجتمع إلى االلتزام اإلسبلمً الصحٌح ،بعد عصر االؼتراب والتؽرٌب .وقد تم بعض هذا فً بعض الببلد ،وبقً بعض،
وهو ٌحتاج إلى بذل الجهود ،إلزالة العوابق ،ومنع الهزات ،وإٌجاد البدابل ،وتربٌة طبلبع المنفذٌن الثقات ،الذٌن ٌجمعون بٌن القوة واألمانة ،واجتماعهما فً الناس قلٌل ،طالما شكا منه األقدمون حتى قال عمر ( :اللهم إنً أشكو إلٌك عجز الثقة وجلد الفاجر) .ولهذا ال مانع من التدرج فً التطبٌق ،رعاٌة لحال الناس ،واتباعا ً للتوجٌه النبوي الكرٌم ( :إن هللا ٌحب الرفق فً األمر كله ) ،وكما نهج ذلك الخلٌفة الراشد عمر بن عبد العزٌز رضً هللا عنه .فقد روى المإرخون عن عمر بن عبد العزٌز :أن ابنه عبد الملك -وكان أفضل أبنابه -قال له ٌوما ًٌ :ا أبت :مالك ال تنفذ األمور ؟! فوهللا ما أبالً لو أن القدور فلت بً وبك فً الحقٌ .رٌد الشاب التقً المتحمس من أبٌه -وقد واله هللا إمارة المإمنٌن -أن ٌقضً على المظالم وآثار الفساد دفعة واحدة ،دون ترٌث وال أناة ،ولٌكن بعد ذلك ما ٌكون ! فماذا كان جواب األب الصالح ،والخلٌفة الراشد ،والفقٌه المجتهد ؟ قال عمر :ال تعجل ٌا بنً ،فإن هللا ذم الخمر فً القرآن مرتٌن ،وحرمها فً الثالثة .وإنً أخاؾ أن أحمل الحق على الناس جملة ،فٌدفعوه جملة، وٌكون من ذا فتةٌ .عنً أنه ٌرٌد أن ٌسقٌهم الحق جرعة جرعة ،وٌحملهم على طرٌقه خطوة خطوة. ومرة أخرىٌ ،دخل علٌه ابنه المإمن المتوقد حماسة وؼٌرة ،وٌقول عاتبا ً أو ؼاضبا ًٌ ( :ا أمٌر المإمنٌن :ما أنت قابل لربك ؼداً إذا سؤلك فقال :رأٌت بدعة فلم تمتها ،أو سنة فلم تحٌها ؟ فقال أبوه: رحمك هللا وجزاك من ولد خٌراً ! ٌا بنى :إن قومك قد شدوا هذا األمر عقدة عقدة ،وعروة عروة ،ومتى أردت مكابرتهم على انتزاع ما فً أٌدٌهم لم آمن أن ٌفتقوا علًّ فتقا ً ٌكثر فٌه الدماء ،وهللا لزوال الدنٌا أهون علً من أن ٌراق فً سببً محجمة من دم ! أو ما ترضى أن ال ٌؤتً على أبٌك ٌوم من أٌام الدنٌا ،إال وهو ٌمٌت بدعة ،وٌحً فٌه سنه ؟ .فالتدرج بهذا المعنى مقبول ،وهو سنة كونٌة ،وسنة شرعٌة .كل ما نإكده هنا :أال ٌكون هذا مجرد تكؤة لتؤجٌل العمل بالشرٌعة ،وتموٌت الموضوع بمرور الزمن ،باسم التدرج والتهٌبة ! إنما الواجب اتباع سٌاسة ابن عبد العزٌز :أال ٌمر ٌوم إال وتموت فٌهبدعة ،وتحً سنة ،وبهذا ٌتحقق التدرج المطلوب .فالتدرج ٌعنى :تحدٌد الهدؾ ،وتهٌبة الخطة، وتعٌٌن المراحل ،وحشد الطاقات فً خدمة الؽرض المنشود .ولهذا نطالب بوضع الخطة لئلمداد والتؽٌٌر ،تعلٌمٌا ً وإعبلمٌاً ،وثقافٌا ً واجتماعٌاً ،بادبٌن بما ال ٌحتاج إلى تدرج وال تهٌبة ،وإنما ٌحتاج إلى صدق التوجه ،ومعه العزٌمة ،وإذا صدق العزم وضح السبٌل.
ال يطبق الشريعة حقًا إال من يؤمن بها ثانً عشر :إن الشرٌعة ال ٌمكن أن تطبق تطٌقا ً حقٌقٌا ً إال إذا قام على تطبٌقها أناس ٌإمنون بقدسٌتها، وربانٌة مصدرها ،و عدالة أحكامها ،وسمو أهدافها ،وٌتعبدون هلل بتنفٌذها ،وهذا ٌجعلهم ٌحرصون على فهمها فهما ً دقٌقاً ،وعلى فقه أحكامها ومقاصدها فقها ً عمٌقاً ،وٌتفانون فً تذلٌل العقبات أمامها ،كما ٌحرصون على أن ٌكونوا صورة طٌبة لمبادبها ،وأسوة حسنة لؽٌر المقتنعٌن بهاٌ ،راهم اآلخرون فً إٌمانهم وأخبلقهم وسلوكهم ،فٌحبون الشرٌعة ال ٌرون من أثرها فً حٌاتهم .وهكذا كان الصحابة والمسلمون األوابل -رضً هللا عنهم -أحب الناس اإلسبلم بحبهم ،ودخلوا فٌه أفواجاً ،متؤثرٌن بؤخبلقهم وإخبلصهم ،فقد كان كل منهم قرآنا ً حٌا ً ٌسعى بٌن الناس على قدمٌن .إن عٌب كثٌر من التجارب العامرة لتطبٌق الشرٌعة اإلسبلمٌة ،التً كانت موضع المإاخذة والتندٌد من الناقدٌن والمراقبٌن :أنها نفذت بؤٌدي ؼٌر أهلها ،أعنً ؼٌر دعاتها ورعاتها .أي على أٌدي أناس كانوا من قبل فً صؾ المناوبٌن لها ،أو على األقل ،من الؽافلٌن عنها ،ؼٌر المتحمسٌن لها ،والملتزمٌن بها .إن الرساالت الكبٌرة تحتاج إلى حراس أقوٌا ,من رجالها وأنصارها ٌكونوا هم المسبولٌن األوابل عن وضع قٌمها وتعالٌمها النظرٌة موضع التنفٌذ .وبؽٌر هذا ٌكون التطبٌق أمراً صورٌا ً ال ٌؽٌر الحٌاة من جذورها ،وال ٌنفذ باإلصبلح إلى أعماقها.
الشريعة للشعوب كما هي للحكام ثالث عشر :إن تطبٌق الشرٌعة لٌس عمل الحكام وحدهم ،وإن كانوا هم أول من ٌطالب بها ،باعتبار ما فً أٌدٌهم من سلطات تمكنهم من عمل الكثٌر من األشٌاء التً ال ٌقدر علٌها ؼٌرهم ،وقد كان بعض السلؾ ٌقولون :لو كانت لنا دعوة مستجابة لدعوناها للسلطان ،فإن هللا ٌصلح بصبلحه خلقا ً كثٌراً .وهذا كان فً عصر لم ٌكن زمام التعلٌم ،واإلعبلم ،والتثقٌؾ ،والتوجٌه ،والترفٌه بٌد السلطان كما هو الٌوم. ومع هذا نقول :إن على الشعب مسإولٌة تطبٌق الشرٌعة فً كثٌر من األمور التً ال تحتاج إلى سلطان رد، الدولة وتدخل الحكام .إن كثٌراً من أحكام الحبلل والحرام ،واألحكام التً تضبط عبلقة الفرد بالؾ والفرد باألسرة ،والفرد بالمجتمع ،قد أهملها المسلمون أو خالفوا فٌها من أمر هللا ،وتعدوا حدود هللا، ولن ٌملح حالهم إال إذا وقفوا فٌها عند حدود هللا تعالى ،والتزموا بؤمره ونهٌه بوازع من أنفسهم، وشعورهم برقابة ربهم علبهم .وٌجب على الدعاة والمفكرٌن والمربٌن أن ٌبذلوا جهودهم لتقوم الشعوب بواجبها فً تطبٌق ما ٌخصها من شرع هللا ،وال ٌكون كل همها مطالبة الحكام بتطبٌق الشرٌعة ،وكؤنهم بمجرد أن ٌرفعوا أصواتهم بهذه المطالبة قد أدوا كل ما علٌهم.
لكل مجتمع مذهب اقتصادي خاص ،تتمثل فٌه فلسته وعقابده ومثله ،ونظرته إلى الفرد والمجتمع ،وإلى المال ووظٌفته ،وفكرته عن الدٌن والدنٌا ،والؽنى والفقر ،فٌإثر ذلك كله فً عبلقته بإنتاج الثروة، وطرابق تداولها وتوزٌعها واستهبلكها ،ومن ذلك ٌنشؤ نظامه االقتصادي .والحدٌث من االقتصاد اإلسبلمً ٌطول ،وقد ألفت فٌه وفً نواح منه بحوث شتى ،وكتب جمة ،وقدمت عشرات الرسابل العلمٌة للماجستٌر والدكتوراه .وحسبنا هنا أن نؤخذ فكرة من القواعد األساسٌة التً ٌقوم علٌها بناء االقتصاد فً المجتمع اإلسبلمً ،وأهم هذه القواعد هً: .1اعتبار المال خٌراً ونعمة فً ٌد األخٌار. .2المال مال هللا واإلنسان مستخلؾ فٌه. .3الدعوة إلى العمل والكسب الطٌب ،واعتباره عبادة وجهاداً. .4تحرٌم موارد الكسب الخبٌث. .5إقرار الملكٌة الفردٌة وحماٌتها. .6منع األفراد من تملك األشٌاء الضرورٌة للجماعة. .7منع المالك من األضرار بؽٌره. .8تنمٌة المال بما ال ٌضر األخبلق والمصلحة الهامة. .9تحقٌق االكتفاء الذاتً لؤلمة. .10االعتدال فً اإلنفاق. .11إٌجاب التكافل بٌن أبناء المجتمع. .12تقرٌب الفوارق بٌن الطبقات.
اعتبار المال خيرًا ونعمة في يد الصالحين إن القاعدة ا ألولى فً بناء االقتصاد اإلسبلمً ،هً تقدٌر قٌمة المال ومنزلته فً الحٌاة ،فقد عرفت البشرٌة قبل اإلسبلم أدٌانا ً ومذاهب ،تعتبر المال شراً والفقر خٌراً ،بل تعد كل ما ٌتصل براحة الجسد وتمتعه بالطٌبات ،تلوٌثا ً للروح ،وتعوٌقا ً لرقٌها وسموها. عرؾ ذلك فً الفلسفة البرهمٌة فً الهند ،وفً المذهب المانوي فً فارس ،كما عرؾ ذلك فً المسٌحٌة من األدٌان 1لكتابٌه ،وتحلت هذه النزعة بوضوح فً نظام الرهبانٌة. ٌروي أصحاب األناجٌل -متى ومرقص ولوقا -عن المسٌح :أن شابا ً ؼنٌا ً أراد أن ٌتبع 1لمسٌح، وٌدخل فً دٌنه ،فقال له ( :بع أمبلكك ثم اعط ثمنها للفقراء ،وتعال اتبعنً ،فلما ثقل ذلك على الشاب قال المسٌحٌ :عسر أن ٌدخل ؼنً ملكوت السموات .أقول لكم أٌضا ً ( :إن دخول جمل فً ثقب إبرة أٌسر من أن ٌدخل ؼٌى ملكوت هللا ) !!. أما المذاهب 1لحدٌثة من رأسمالٌة وشٌوعٌة ،فتجعل االقتصاد محور الحٌاة وتجعل من المال (إله ) األفراد والجماعة. ولكن اإلسبلم لم ٌنظر إلى المال وإلى الطٌبات تلك النظرة المتشابمة القاتمة ،وال هذه النظرة المادٌة المسرفة ،ولكنه: (أ) اعتبر المال قوام المعٌشة ،وعصب الحٌاةٌ .قول تعالى ( :وال تإتوا السفهاء أموالكم التً جعل هللا لكم قٌاما ً ). (ب) وسمى المال خٌراً فً مواضع من القرآن ( :وإنه لحب الخٌر لشدٌد ) .قل ما أنفقتم من خٌر فللوالدٌن واألقربٌن( .كتب علٌكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خٌراً الوصٌة ). (ج) واعتبر الؽنى نعمة ٌمتن هللا بها على رسوله ،وعلى المإمنٌن المتقٌن من عباده( :ووجدك عاببلً فؤؼنى )( .وان خفتم عٌلة فسوؾ ٌؽنٌكم هللا من فضله إن شاء ) ( .ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا علٌهم بركات من السماء واألرض ) ( وٌمددكم بؤموال وبنٌن ). (د) واعتبر الفقر ببلء وعقوبة ٌصٌب به هللا من ٌنحرؾ عنه وٌكفر بنعمته ( .وضرب هللا مثبلً قرٌة كانت آمنة مطمبنة ٌؤتٌها رزقها رؼداً من كل مكان فكفرت بؤنعم هللا فؤذاقها هللا لباس الجوع والخوؾ بما كانوا ٌصنعون ). (هـ) وحدد النبً (صلى هللا علٌه وسلم) نظرته إلى المال بهذه الكلمة الموجزة الجامعة( :نعم المال الصالح للرجل الصالح ). فلٌس المال خٌراً مطلعاً ،وال شراً مطلقا ً فً ذاته ،بل هو أداة وسبلحٌ :كون خٌراً فً ٌد األخٌار ،وشراً فً ٌد األشرار .ذلك أن المال هو وسٌلة إشباع الحاجات ،والعون على أداء كثٌر من الواجبات، كالصدقة والحج والجهاد ،والعدة الضرورٌة لعمارة األرض .وكل ما ٌرٌده اإلسبلم أال ٌصبح المال صنما ً ٌعبده الناس من دون هللا ،وأال ٌفتن الناس به فٌصٌر ؼاٌة فً حد ذاته ،وقد خلق لٌكون وسٌلة، وأال ٌإدى بصاحبه إلى نسٌان ربه ،والطؽٌان على خلقه ،فهذه هً فتنة المال التً حذر منها اإلسبلم، ٌقول تعالى( :واعلموا أنما أموالكم وأوالدكم فتنة وأن هللا عنده أجر عظٌم ) ( .اي أٌها الذٌن آمنوا ال تلهكم أموالكم وال أوالدكم عن ذكر هللا ،ومن ٌفعل ذلك فؤولبك هم الخاسرون ) ( .المال والبنون زٌنة الحٌاة الدنٌا ،والباقٌات الصالحات خٌر عند ربك ثوابا ً وخٌر أمبلً) ( .كبل إن اإلنسان لٌطؽى أن رآه استؽنى ). بٌن النص الكرٌم أن الطؽٌان ال ٌنشؤ من مجرد الؽنى ،بل من رإٌة اإلنسان نفسه مستؽنٌا ً عن ؼٌره، وربما توهم أنه ٌستؽنً عن ربه عز وجل.
المال مال هللا واإلنسان مستخلف فيه والقاعدة الثانٌة ،التً ٌقوم علٌها االقتصاد فً المجتمع اإلسبلمً ،هً اعتبار المال -فً الحقٌقة -مال هللا ،واعتبار اإلنسان أمٌنا ً علٌه ،أو مستخلفا ً فٌه ،كما عبر القرآن الكرٌم :إذ قال ( :آمنوا باهلل ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستحلفٌن فٌه ) .فاهلل هو مالك المال ،ألنه خالقه وخالق مصادر إنتاجه ،ومٌسر وسابل اكتسابه ،بل هو خالق اإلنسان والكون كله( :وهلل ما فً السموات و ما فً األرض) (أال إن له من فً السموات ومن فً األرض ). ( أفرأٌتم ما تحرثون و ءأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون )… اآلٌات .ولهذا ٌقول القرآن ( :وآتوهم من مال هللا الذي آتاكم) .وٌقول ( :وال ٌحسبن الذٌن ٌبخلون بما آتاهم هللا من فضله هو خٌر لهم ) .وما آتاهم هللا من فضل هو المال ،فٌد اإلنسان على المال إذن هً ٌد النابب والوكٌل ،ال ٌد المالك األصٌل . وإذا كان اإلنسان أمٌ ًنا على المال ووكٌبلً فٌه ،فبل ٌجوز له أن ٌنسبه لنفسه وفضله وحده فً اكتسابه، وٌقول مقاله اإلنسان الكفور ( :هذا لً )! أو ٌقول ما قال قارون ( :إنما أوتٌته على علم عندي). كما ال ٌحوز أن ٌخص نفسه بالمال دون عال مالكه الحقٌقً -والخلق كلهم عٌال هللا -ؼافبلً عن وضعه الوظٌفً فً المالٌ .قول اإلمام الرازي فً تفسٌره( :إن الفقراء عٌال هللا ،واألؼنٌاء ّ خزان هللا، ألن األموال التً فً أٌدٌهم أموال هللا ،ولوال أن هللا تعالى ألقاها فً أٌدٌهم لما ملكوا منها حبة ،فلٌس بمستبعد أن ٌقول الملك لخازنه( :اصرؾ طابفة مما فً تلك الخزانة إلى المحتاجٌن من عبٌدي ) . وٌجب علٌه أن ٌتقٌد بؤوامر المالك ،وٌنزل على حكمه ،وٌخضع لتوجٌهاته فً حفظه وتنمٌته ،وإنفاقه وتوزٌعه ،وال ٌقول ما قال ( آهل مدٌن ) لشعٌب علٌه السبلم ( :أصبلتك تؤمرك أن نترك ما ٌعبد آباإنا أو أن نفعل فً أموالنا ما نشاء ) .وذلك حٌن قال لهم شعٌبٌ ( :ا قوم اعبدوا هللا ما لكم من إله ؼٌره، وال تنقصوا المكٌال والمٌزان ،إنً أراكم بخٌر وإنً أخاؾ علٌكم عذاب ٌوم محٌط ،وٌا قوم أوفوا المكٌال والمٌزان بالقسط ،وال تبخسوا الناس أشٌاءهم وال تعثوا فً األرض مفسدٌن). ظنوا أن ملكٌة المال تجٌز لهم حرٌة الصرؾ فٌه بما ٌشاإون ،ولو كان ذلك مما تنكره األخبلق ،أو تؤباه مصلحة المجتمع ،وحجتهم أنها ( :أموالنا ،نفعل فٌها ما نشاء ) واإلسبلم ٌقرر أنها أموال هللا ،آتاها من شاء من عباده ،واستخلفهم فٌها ،لٌنظر كٌؾ ٌعملون ،فإذا لم ٌلتزموا أوام ر هللا فقد تجاوزوا حدود الوكالة ،فؤخذت منهم الحقوق قهراً ،أو ؼلّت أٌدٌهم بالحجر. وبهذه القاعدة الذهبٌة سبق اإلسبلم -بقرون طوٌلة -ما نادى به بعض علماء االجتماع من الؽربٌٌن، من أن :المكٌة وظٌفة اجتماعٌة ،وأن الؽنً موظؾ فً النظام االجتماعً -وإن كان هذا القول ال ٌرقى إلى ما جاء به القرآن الكرٌم.
الدعوة إلى العمل والكسب الطيب و هذه القاعدة متفرعة من القاعدة األولى ،ومبنٌة علٌها ،فإذا كان المال فً نظر اإلسبلم وسٌلة المعٌشة الطٌبة ،وأداة البر واإلنفاق فً سبٌل هللا وخٌر المجتمع ،فبل بد من السعً إلى تحصٌله وكسبه ،وفق سنة هللا تعالى فً ربط المسببات بؤسبابها. ولهذا دعا اإلسبلم إلى السعً والعمل ،وحذر من البطالة والكسل .قال تعالى ( :هو الذي جعل لكم األرض ذلوالً فامشوا فً مناكبها وكلوا من رزقه )( .فإذا قضٌت الصبلة فانتشروا فً األرض وابتؽوا من فضل هللا) وقال الرسول (صلى هللا علٌه وسلم) ( :ما أكل أحد طعاما ً قط خٌراً من أن ٌؤكل من عمل ٌده) .وٌنفر من سإال الناس تنفٌراً كبٌراً فٌقول ( :ما ٌزال الرجل ٌسؤل الناس حتى ٌؤتً ٌوم القٌامة
ولٌس فً وجهه مزعة لحم ) .وال ٌكتفى بالدعوة إلى العمل الدنٌوي ،بل ٌضفً علٌه صفة العبادة والقربة إلى هللا ،إذا صحت فٌه النٌة ،وروعٌت حدود هللا .فً الحدٌث ( :إن كان خرج ٌسعى على ولده صؽاراً فهو فً سبٌل هللا ،وان كان خرج ٌسعى على أبوٌن شٌخٌن كبٌرٌن فهو فً سبٌل هللا ،وان كان خرج ٌسعى على نفسه ٌعفها فهو فً سبٌل هللا ) .وفى الحث على الزراعة ٌقول ( :ما من مسلم ٌزرع زرعا ً أو ٌؽرس ؼرساً ،فٌؤكل منه طٌر أو إنسان أو بهٌمة إال كان هل به صدقة ) .وفى التجارة ٌقول( : التاجر الصدوق األمٌن مع النبٌٌن والصدٌقٌن والشهداء ) .وفً الرعً ٌقول ( :ما بعث هللا نبٌا ً إال رعى الؽنم ،وأنا كنت أرعاها ألهل مكة بالقرارٌط ) .وفى الصناعة بضرب لهم المثل ب ( داود )، الذي أالن هللا فً ٌدٌه الحدٌد ،لٌصنع منه الدروع السابؽات ( :إن نبً هللا داود كان ال ٌؤكل إال من عمل ٌده ). وٌحارب النبً (صلى هللا علٌه وسلم) ما شاع عند العرب من احتقار الحرؾ واألعمال الٌدوٌة ،واتكال بعضهم على سإال كبراء القوم وزعماء العشابر ،فبٌّن لهم أن كل عمل نافع هو عمل شرٌؾ كرٌم، مهما تكن ضآ لة الربح من ورابه ،ومهما تكن نظرة الناس إلٌه فٌقول ( :ألن ٌؤخذ أحدكم حبله فٌؤتً بحزمة الحطب على ظهره ،فٌبٌعها ،فٌكؾ هللا بها وجهه ،خٌر من أن ٌسؤل الناس ،أعطوه أو منعوه) ومن فروض الكفاٌة على المسلمٌن ،أن ٌهٌنوا العدد المدرب الكافً ،لكل صناعة أو مهنة ٌحتاج إلٌها المجتمع حتى ٌكتفً المسلمون اكتفا ًء ذاتٌاً ،فٌؤكلوا مما ٌزرعون ،وٌلبسوا مما ٌنسجون ،وٌسلحوا جٌوشهم بما ٌصنعون ،مهتدٌن بقول هللا تعالى ( :وأنزلنا الحدٌد فٌه بؤس شدٌد للناس) ،وعبارة( :بؤس شدٌد) تشٌر إلى الصناعات الحربٌة ،وعبارة( :ومنافع للناس) تشٌر إلى الصناعات المدنٌة ،وما لم ٌتم ذلك فالمسلمون آثمون ،وبخاصة أولو األمر منهم. ومن جمٌل ما نبه علٌه بعض حكماء المسلمٌن :أنالعمل والتكسب ،وإن كان مباحا ً من وجه ،فهو واجب من وجهٌ .قول اإلمام الراؼب فً كتابه القٌم ( الذرٌعة إلى مكارم الشرٌعة ). التكسب فً الدنٌا ،وإن كان معدوداً من المباحات من وجه ،فإنه من الواجبات من وجه ،وذلك أنه لما لم ٌكن لئلنسان االستقبلل بالعبادة إال بإزالة ضرورٌات حٌاته ،فإزالتها واجبة ،ألن كل ما ال ٌتم الواجب ؾ بد إال به فواجب كوجوبه .وإذا لم ٌكن له إلى إزالة ضروراته سبٌل إال بؤخذ تعب من الناس ،ال إذن أن ٌعوضهم تعبا ً من عمله ،وإال كان ظالماً ،فمن توسع فً تناول عمل ؼٌره فً مؤكله وملبسه ومسكنه وؼٌر ذلك ،فبل بد أن ٌعمل لهم عمبلً بقدر ما ٌتناوله منهم ،وإال كان ظالما ً لهم ،سواء قصدوا إفادته أو لم ٌقصدوها ،فمن رضً بقلٌل من عملهم فلم ٌتناول من دنٌاه م إال قلٌبلًٌ ،رمى منه بقلٌل من العمل … ومن أخذ منهم المنافع ولم ٌعطهم نفعاً ،فإنه لم ٌؤتمر هلل تعالى فً قوله ( :وتعاونوا على البر والتقوى ) ،ولم ٌدخل فً عموم قوله ( :والمإمنون والمإمنات بعضهم أولٌاء بعض) .ولذا ذم من ٌدعً التصوؾ فٌتعطل عن المكاسب ،ولم ٌكن له علم ٌإخذ منه ،وال عمل صالح فً الدٌن ٌقتدي به .فإنه ٌؤخذ منافع الناس وٌضٌق علٌهم معاشهم ،وال ٌرد إلٌهم نفعاً ،فبل طابل فً مثلهم إال بؤن ٌكدروا المشارع ( المٌاه) ,وٌؽلوا األسعار. ومن الداللة على قبح فعل من هذا صنٌعه :أن هللا تعالى ذم من ٌؤكل مال نفسه إسرافا ً وبداراً ،فما حال من ٌؤكل مال ؼٌره على ذلك ،وال ٌنٌلهم عوضاً ،وال ٌرد علٌهم بدالً .ومن واجب والء األمر أن ٌهٌبوا لكل قادر -العمل الذي ٌبلبمه ،وٌكتسب منه ما ٌكفٌه وٌكفى أسرته ،وأن ٌٌسر له من التعلٌموالتدرٌب ما ٌإهله لهذا العمل .إن اإلسبلم ٌحث على العمل الدنٌوي وٌباركه ،وكل ما ٌطلبه من المسلم فً هذا األمر ،هو التوازن بٌن عمله لمعاشه ،وعمله لمعاده ،بٌن أمر دنٌاه وأمر دٌنه ،بٌن مطالب جسمه وأشواق قلبه ،فبل تلهٌه األولى عن اآلخرة ،وال المادة عن الروح. ومد وصؾ هللا تعالى الصالحٌن من عباده الذٌن مرتادون الساجد بقولهٌ ( :سبح له فٌها بالؽدو واآلصال ،رجال ال تلهٌهم تجارة وال بٌع عن ذكر هللا وإقام الصبلة وإٌتاء الزكاة ٌخافون ٌوما ً تتقلب فٌه القلوب واألبصار ) .والواجب على العامل أن ٌإدى عمله بؤمانة وإتقان ،فإحسان العمل فرٌضة دٌنٌة
كإحسان العبادة سواء ،كما فً الحدٌث الصحٌح ( :إن هللا كتب اإلحسان على كل شا) .وفً الحدٌث اآلخر ( :إن هللا ٌحب من أحدكم إذا عمل عمبلً أن ٌتقنه ) .كما على المجتمع المسلم أن ٌعمل على توفٌة كل عامل أجره العادل ،وال ٌبخسه حقه ،وال ٌإخر علٌه أجره .وفً الحدٌث ( :أعطوا األجٌر أجره قبل عرق ) .وفى الحدٌث القدسً عند البخاري ( :ثبلثة أنا خصمهم ٌوم القٌامة …… وفٌهم( : ه أن ٌجؾ رجل استؤجر أجٌراً ،فاستوفى منه ،ولم ٌوفه أجره ).
تحريم موارد الكسب الخبيث وهذه القاعدة سٌاج للقاعدة التً قبلها ،وتكمٌل لها ،فالكسب الذي ٌرحب به اإلسبلم ،وٌعترؾ بآثاره ،هو الكسب الطٌب المشروع .أما الكسب الخبٌث فقد حظره اإلسبلم الذي جاء ٌحل الطٌبات وٌحرم الخبابث. والكسب الخبٌث ،ما جاء عن طرٌق الظلم ،وأخذ مال الؽٌر بؽٌر حق ،كالؽصب ،والسرقة ،والؽش، وتطفٌؾ الكٌل والمٌزان ،واالحتكار ،واستؽبلل حاجة المحتاج ،وبخس الناس أشٌاءهم ،ونحوها .أو كان بؽٌر مقابل من جهد أو مشاركة ،كالربا والقمار -ومنه الٌانصٌب -ونحوه ا .أو كان عوضا ً لعٌن محرمة كثمن الخمر ،والخنزٌر ،واألصنام ،والتماثٌل ،واألوانً والتحؾ المحرمة ،والكبلب الممنوعة … .ونحوها .أو كان عوضا ً لمنفعة ؼٌر معتبرة شرعاً ،كؤجور الدجالٌن من العرافٌن والكهان والمنجمٌن ،وكتبة الربا ( ،والعاملٌن فً الحانات والمراقص والمالهً المحرمة … .ونحوها .وٌنذر الرسول كل آكل للحرام بالنار فٌقول ( :كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به) .وال ٌقٌم اإلسبلم وزنا لحسن النٌة ،وشرؾ الؽاٌة إذا كان طرٌق الكسب محرما ً .فالذي ٌؤكل الربا لٌبنً به جامعاً ،أو ٌإسس به مدرسة لؤلٌتام أو نحو ذلك ،ال ٌعتد به اإلسبلم ،فقد جاء فً الصحٌح ( :إن هللا طٌب ال ٌقبل إال طٌبا ً ) .وفى حدٌث آخر ( :إن الخبٌث ال ٌمحو الخبٌث ) .والحرام حرام فً نظر اإلسبلم ،ولو حكم القاضً بحله حسب الظاهر له من البٌناتٌ .قول تعالى ( :وال تؤكلوا أموالكم بٌنكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتؤكلوا فرٌقا من أموال الناس باإلثم وأنتم تعلمون ) .وفً هذا جاء حدٌث النبً (صلى هللا علٌه وسلم): ( إنكم تختصمون إلً ،ولعل بعضكم أن ٌكون ألحن بحجته من بعض ،فؤقضً له على نحو ما أسمع، فمن قضٌت له من حق أخٌه بشًء ،فإنما هً قطعة من نار ،فلٌؤخذها أو لٌدعها ) .حتى ولو كان القاضً هو رسول هللا (صلى هللا علٌه وسلم)! ألنه قضى حسبما ظهر له .وبهذا أقام اإلسبلم من ضمٌر المسلم وتقواه حارسا على حٌاته االقتصادٌة .فإذا كان القاضً ٌحكم بالظواهر ،فإن هللا -الذي ٌراقبه المسلم وٌخشاه -مطلع على الحقابق والسرابر .وأشد ما حذر منه اإلسبلم :هو استؽبلل األقوٌاء للضعفاء ! كؤكل األوصٌاء ألموال الٌتامى ،وأكل الرجال ألموال النساء ،وأكل الحكام ألموال الرعٌة ،وأكل أرباب العمل لحقوق العمال ,وأكل أصحاب األرض لعرق الفبلحٌن. ومما حذر منه اإلسبلم أشد التحذٌر :أخذ المال العام بؽٌر حق .ألن لكل واحد م ن أبناء الشعب فٌه حقاً، فإذا اختلس شٌبا ً أو انتهبه دونهم ،فقد ظلمهم جمٌعا ً .وأمسوا كلهم خصمابه ٌوم القٌامة. ومن هنا جاء التشدٌد وسوء الوعٌد فٌمن ؼل من الؽنٌمة ( أي أخذ منها خفٌة ) .وفً القرآن ( :ومن ٌؽلل ٌؤت بما ؼل ٌوم القٌامة ،ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم ال ٌظلمون ) .والمال العام محرم على الوالة الكبار ،كما هو محرم على الموظفٌن الصؽار ،فبل ٌجوز لهم أن ٌؤخذوا درهما ً أو دانقا ً منه بؽٌر حق .كما ال ٌجوز لهم أن ٌستؽلوا مناصبهم فً اإلثراء باسم العموالت أو الهداٌا ،فقد علم كل ذي عقل وذي ضمٌر أنها رشاوى مق ّنعة ،بل سافرة .وقد أهدى بعضهم لعمر بن عبد العزٌز شٌباً ،فرفضه ،فقال له المهدي :إن رسول هللا (صلى هللا علٌه وسلم) قبل الهدٌة .فقال رضً هللا عنه :كانت الهدٌة لرسول هللا هدٌة ،أما لنا فهً رشوة .ولقد اشتد ؼضب النبً علٌه الصبلة والسبلم على عامل له ٌعرؾ بابن اللتبٌّة حٌن جاء بعد رجوعه من مهمته فً جباٌة الزكاة ،ببعض األموال ،فقال :هذا لكم ،وهذا أهدي
إلً .فقال النبً (صلى هللا علٌه وسلم) مستنكراً ( :هبل قعد فً بٌت أبٌه وبٌت أمه ،حتى ٌنظر :أٌهدى إلٌه أم ال )؟!! أي أن الهدٌة لم تؤته لشخصه ،وال لصداقة أو قرابة سابقة بٌنه وبٌن المهدي .بل أتته بسبب المنصب فقط ،فبل حق له فٌها .ولهذا كان اإلسبلم أول من طبق على الوالة والحكام قانون (من أٌن لك هذا ) ؟ أو الكسب ؼٌر المشروع .وقد حقق اإلسبلم بتحرٌمه موارد الكسب الخبٌث عدة أهداؾ اجتماعٌة واقتصادٌة: أولها :إقامة العبلبق بٌن الناس على أساس من العدالة واألخوة ورماٌة الحرمات ،وإعطاء كل ذي حق حقه. ثانٌها :قضى على أهم عامل ٌإدي إلى توسٌع الفوارق االقتصادٌة بٌن األفراد والطبقات ،فإن األرباح الفاحشة ،والمكاسب الضخمة ،ؼالباً ،تؤتً من ارتكاب الطرق المشروعة فً الكسب ،بخبلؾ التزام الطرق المشروعة ،فإنها قلما ٌنتج عنها إال الربح المعتدل والكسب العقول. ثالثها :دفع الناس إلى العمل والكدح ،حٌث لم ٌجز أكل المال بالباطل :أي بؽٌر مقابل من جهد وال عوض وال مشاركة فً الؽنم والؽرم ،كالقمار والربا ونحوهما ،وفى هذا نفع اقتصادي ال شك فٌه.
إقرار الملكية الفردية وحمايتها إن اإلسبلم هو دٌن الفطرة ،فلٌس فٌه مبدأ ٌضاد الفطرة أو ٌكبتها ،وإنما فٌه ما ٌبلبمها وٌهذبها وٌسمو بها .ومن الفطرة التً فطر هللا الناس علٌها :حب التملك الذي نشاهده حتى عند األطفال ببل تعلٌم وال تلقٌن ،وإنما زود هللا اإلنسان بهذه الؽرٌزة لتكون دافعا قوٌاٌ ،حفز اإلنسان على الحركة واإلجادة واإلتقان ،إذا عرؾ أنه ٌملك ثمرة كسبه وجهده فً النهاٌة ،فتزدهر الحٌاة ،وٌنمو العمران ،وٌزداد اإلنتاج .والمكٌة من خصابص الحرٌة ،فالعبد ال ٌملك ،والحر هو الذي ٌملك ،بل هً من خصابص اإلنسانٌة ،فالحٌوان ال ٌملك ،واإلنسان هو الذي ٌملك .ولهذا أقر اإلسبلم حق ( الملكٌة الفردٌة) ألنه دٌن جاء ٌحترم الفطرة ،وٌحترم الحرٌة ،وٌحترم اإلنسانٌة .كما أنه لٌس من العدل أن تحرم اإلنسان ثمرة سعٌه وكسبه لتمنحها لؽٌره من القاعدٌن والخاملٌن. إنما العدل واإلحسان أن تتٌح الفرصة للجمٌع لٌكسبوا وٌتملكوا ،فإذا تمٌز فرد بذكابه وجده وإتقانه ومثابرته ،استحق من الجزاء ما يكافا عمله ( :هل جزاء اإلحسان إال اإلحسان )( ،ولكل درجات مما عملوا ). ومن هنا ٌبٌح اإلسبلم التملك ،ولو أفضى بصاحبه إلى درجة كبٌرة من الؽنى والثروة ما دام محافظا ً على كسب المال من حله ،وإنفاقه فً حقه ،ؼٌر متناول لحرام ،وال مسرؾ فً مباح ،وال شحٌح بحق، وال ظا لم ألحد ،وال آكل حق ؼٌره ،كما هو مقتضى نظرٌة ( االستخبلؾ ) اإلسبلمٌة .ولعل أبرز مثل على ذلك ،عبد الرحمن بن عوؾ رضى هللا عنه ،فهو أحد السابقٌن األولٌن وأحد العشرة المبشرٌن بالجنة ،وأحد الستة أصحاب الشورى .وقد خرج من مكة -كبقٌة إخوانه المهاجرٌن -ببل دار وال مال، وآخى الرسول بٌنه وبٌن سعد بن الربٌع ,،فعرض علٌه أن ٌشاطره ماله وأن ٌطلق له إحدى زوجتٌه لٌتزوجها بعد العدة ،فقال له :بارك هللا لك فً أهلك وفى مالك ،دلنً على السوق. وذهب عبد الرحمن ٌضرب فً األرض ،وٌبتؽى من فضل هللا ،فً أسواق كان ٌسٌطر علٌها من قبل ٌه ود الدٌنة ،فؽدا وراح ،واجتهد وشمر ،وكان عقلٌة اقتصادٌة كبٌرة ،فما هً إال سنوات حتى أصبح أكبر أثرٌاه المسلمٌن ،ولم ٌمت حتى ترك ثروة كان فٌها ذهب قطع بالفإوس،كما روى ابن سعد فً طبقاته ( :وصولحت إحدى نسابه األربع على نصٌبها من التركة -وهو ربع الثمن ( )32/1فكان ( 000ر )80ثمانٌن ألفا ً )
إن اإلسبلم لم ٌحرم هذا الؽنى ،ولم ٌقؾ فً سبٌله ،ألنه جمع من حله ،ببل ضرر وال ضرار ،وأنفق فً محله ببل بخل وال إسراؾ .باع عبد الرحمن أرضا ً له ٌوما ً بؤربعٌن ألؾ دٌنار ،فقسم ذلك المال فً أقاربه من بنى زهرة ،وفى فقراء ،المسلمٌن وأمهات المإمنٌن .وجاءت قافلة له من الشام إلى المدٌنة، وهً سبعمابة راحلة ،محمل من كل شًء ،فتبرع بها كلها وبما تحمله كله فً سبٌل هللا ،وقبل وفاته أوصى بخمسٌن ألؾ دٌنار فً سبٌل هللا ،ولكل رجل ممن بقى من أهل بدر بؤربعمابة دٌنار ،ومن قبل ذلك طالما أنفق وبذل ،فضبلً من إٌتاء ،الزكاة المفروضة ،والنفقات الواجبة .فهذا هو المال الصالح فً ٌد الرجل الصالح ،ونعم المال ونعم الرجل ( .وما روى :أنه ٌدخل الجنة حبواً فلم ٌصح ) .إن اإلسبلم ٌبٌح لكل فرد أن ٌتملك ،بل ٌدعوا إلى أن ٌتملك ،وٌحمً له ملكٌته وٌورثها ذرٌته من بعده ،لٌعطٌه بذلك حافزاً قوٌا على الجد والدأب ،ومواصلة السعً والكد ،ولٌشعر األفراد بالسٌادة والقدرة ،كلما تذوقوا نعمة المكٌة ،ولم ٌجعلهم عبٌداً فً ٌد الدولة التً قد ٌسٌطر علٌها حفنة من الناس ،تستذل الرقاب ،وتلؽً الدٌن واألخبلق ،وال تجد من ٌقدر على مقاومتها ،ألنها تملك كل شًء ،وال ٌملك جمهور الناس شٌبا ً. وفً إقرار اإلسبلم للمكٌة الفردٌة وحماٌته لها ،خٌر لؤلمة ،والقتصادها كله ،فقد ثبت أن الحوافز الفردٌة هً التً تحقق أكبر قدر من اإلنتاج ،بخبلؾ األمبلك والمإسسات الجماعٌة ،وما ٌسمى بالقطاع العام ،حٌث ٌقل اإلنتاج وٌسوء ،لعدم وجود الحوافز وقوة الرقابة ،الناشبة عن الملكٌة الخاصة .ؼٌر أن اإلسبلم ٌشترط لحماٌة الملكٌة الفردٌة شرطٌن: أوالٌ :تحقق أنها اكتسبت من طرقها المشروعة ،ووسابلها المباحة ،وإال ال ٌعترؾ اإلسبلم أن بها ،وإن طال علٌها األمد فً ٌد من حازها بؽٌر حق .وهنا تختلؾ شرٌعة اإلسبلم ،من القوانٌن الوضعٌة ،التً تقر الملكٌة المحرمة إذا مضى علٌها زمن معٌن ،مثل خمسة عشر عاماً ،ونحو ذلك ،فإن نظرٌة اإلسبلم أن مضى الزمن ال ٌجعل الحرام حبلالً ،مادامت حرمته ثابتة ومعروفة. ثانٌا ً :أال تتعارض مع مصلحة عامة للمجتمع ،وإال نزعت من صاحبها بالرضا ،أو بالقهر ،وعوض عنها تعوٌضا ً عادالً .ألن مصلحة المجموع مقدمة على مصلحة الفرد .وقد حدث فً عهد عمر رضً هللا عنه ،أنه أراد توسعة المسجد الحرام ،لما كثر الناس وضاق بهم ،فاشترى بعض الدور المحدقة بهم، وأبى أصحاب الدور األخرى أن ٌبٌعوها ،وأصروا على امتناعهم ،فؤخذها منهم قسراً ،وأدخلها فً المسجد ،ووضع القٌمة فً خزانة الكعبة ،حتى أخذها أصحابها بعد حٌن .ومثل ذلك حدث فً عهد عثمان رضى هللا عنه .وكذلك إذا قضت الضرورة أو الحاجة بتحدٌد موضع معٌن إلقامة مستشفى ،أو مصنع أو مطار أو مدرسة ،أو نحو ذلك مما فٌه مصلحة عامة ،فلٌس لصاحب الملك أن ٌرفض بٌعها، بثمن المثل ،فإن أبى أجبره ولً األمر على القبول ،بناء على حكم المحكمة المختصة التً تفصل بٌن الدولة والشعب فً حالة النزاع.
منع األفراد من تملك األشياء الضرورية للمجتمع إن أبرز ما ٌمٌز بٌن النظم االقتصادٌة المختلفة ،هو موقفها من الملكٌة الفردٌة ،فالشٌوعٌة تعادي المكٌة الفردٌة على اإلطبلق ،إال فً بعض األشٌاء التافهة ،كاألمتعة والمنقوالت .واالشتراكٌة -وبخاصة الثورٌة منها -ال تجٌز ملكٌة وسابل اإلنتاج ،من األراضً والمصانع ونحوها ،وتعمل على تؤمٌمها ،أي مصادرتها من أٌدي األفراد ،ونقل ملكٌتها إلى الدولة ،ما استطاعت إلى ذلك سبٌبلً .والرأسمالٌة تفر الملكً فً جمٌع األشٌاء ،وال تكاد تفرض علٌها قٌوداً تحد من طؽٌان أربابها .واإلسبلم ٌقؾ وسطا ً ة عدالً ،بٌن هذه األنظمة المتناقضة ،فهو ٌجٌز الملكٌة الفردٌة للعقارات والمنقوالت ،ولوسابل اإلنتاج وؼٌرها ،ولكنه ٌخرج من دابرة المكٌة الفردٌة كل األشٌاء الضرورٌة لجموع الناس ،فؤوجب أن ٌكون
ملكها للجماعة ،حتى ال ٌستبد بها فرد أو مجموعة أفراد ،فٌتحكموا فٌها ،وٌحتكروا منافعها ألنفسهم، وٌمنعوا سابر الناس عنها إال بعوض ال ٌستحقونه ،وبهذا ٌقع الضرر على المجتمع كله. ومن أمثلة هذه الضرورٌات ما ذكره النبً (صلى هللا علٌه وسلم) بقوله ( :الناس شركاء فً ثبلث: الماء والكؤل والنار ) ،وزادت بعض األحادٌث :الملح .فكل إنسان له حق االستفادة من هذه الموارد الطبٌعٌة ،وال ٌجوز ألحد احتكارها .وإنما خصت األحادٌث هذه الثبلثة أو األربعة بهذا الحكم ،ألنها كانت أظهر الضرورٌات ،فً حٌاة البٌبة العربٌة حٌن ذاك ،وٌمكن أن ٌقاس علٌها ما هو مثلها فً ضرورة الجماعة إلٌه .ولهذا ٌرى المالكٌة -فً أشهر أقوالهم -أن المعادن المستخرجة من باطن األرض ال ٌباح لؤلفراد أن ٌتملكوها ،وإن ظهرت فً أرض مملوكة ألحدهم ،لببل تإدى حاجة الجمهور إلٌها ،واحتجاز اآلخرٌن لها ،إلى أنواع من التظالم ،والصراع الذي ٌزعزع كٌان الجماعة المسلمة. ومثل ذلك عند الشافعٌة -كل عٌن ظاهرة كنفط أو قار أو كبرٌت أو حجارة ظاهرة ،فً ؼٌر ملك ألحد ،فلٌس ألحد أن ٌحتجزها دون ؼٌره ،وال لسلطان أن ٌمنعها لنفسه ،وال لخاص من الناس. وكذلك عند الحنابلة -كل معدن ظاهر ٌنتابه الناس وٌنتفعون به ،وٌتوصل إلٌه من ؼٌر مإونة كبٌرة ،ال ٌجوز ملكه وال تملٌكه لؤلفراد ،ألن فٌه إضراراً بالمسلمٌن وتضٌٌقا ً علٌهم ،وألن النبً (صلى هللا علٌه وسلم) أقطع ( أبٌض بن حمال ) معدن الملح ،فلما قٌل له إنه بمنزلة الماء الع ّد ،استرده منه.
منع المالك من اإلضرار بغيره على أن اإلسبلم الذي أباح لؤلفراد أن ٌتملكوا بالحبلل ما شاإوا ،مما لٌس ضرورٌا ً لجموع الناس ،وال ٌضر الجماعة احتجاز بعض األفراد له ،قد وضع قٌودا على حق التملك ،تضمن بقاءه فً إطار مصلحة المجتمع ،وخدمة الحق والخٌر. ومن هذه القٌود منع المالك من اإلضرار بؽٌره .ذلك أن حق التملك ال ٌمنح صاحبه حرٌة استخدام ملكه كم ا ٌشاء ولو أضر باآلخرٌن ،وإنما هو مقٌد فً ملكه بؤال ٌسا استعمال حقه ،بما ٌإدى إلى ضرر فرد آخر ،أو أفراد آخرٌن ،أو ضرر عام بالمجتمع فهذا الضرر ،والضرار حرام على المسلم الذي ٌفرض دٌنه علٌه أن ٌكون مصدراً من مصادر النفع ،ال عامبلً من عوامل الضرر .قال علٌه الصالة والسبلم : ( ال ضرر وال ضرار ) ومن حق الحاكم المسلم -بل ومن واجبه -أن ٌمنع صاحب الملك من كل تصرؾ أنانً ٌإدى إلى ضرر خاص أو عام ولو اقتضى ذلك نزع ملكه جزاء على تعسفه ومضارته إذا لم ٌجد الحاكم عبلجا ً إال هذه الطرٌقة .وهذا المبدأ الذي ٌظن بعض رجال القانون أنه من ثمار العصر الحدٌث ،قد طبقه النبً (صلى هللا علٌه وسلم) ،منذ أربعة عشر قرناً ،وطبقه بعده الخلفاء الراشدون .كان لسمرة بن جندب نخل فً حابط بستان رجل من األنصار ،فكان ٌدخل علٌه هو وأهله، فٌإذى ذلك صاحب الحابط فشكا ذلك األنصاري لرسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ما ٌلقاه من سمرة، فقال النبً (صلى هللا علٌه وسلم) لسمرة ( :بعه نخلك ) فؤبى .قال ( :فاقلعه ) -أي لتؽرسه فً مكان آخر -فؤبى ،قال ( :هبه لً ولك مثلها فً الجنة ) فؤبى .وٌبدو أنه فهم أن الرسول إنما ٌقول له ذلك من باب اإلرشاد أو المصالحة ،ال على سبٌل اإللزام .فقال له الرسول (صلى هللا علٌه وسلم) ( :أنت مضار ) ،وقال لؤلنصاري ( :اذهب فاقلع نخله ) ،ولم ٌبال الرسول بالضرر الصؽٌر الذي ٌصٌب سمرة بإزاء، الضرر الكبٌر الذي ٌصٌب صاحبه ،من بقاء هذه النخبلت القلٌلة فً وسط بستانه .لقد كان بوسع سمرة أن ٌبٌع لصاحبه نخبلته المعدودات ،وٌؤخذ عنها العوض العادل ،وكان بوسعه أن ٌقلعها ،لٌؽرسها فً موضع آخر ،ال ٌإذى فٌه أحداً ،ولكنه تعنت وأبى أن ٌرٌح صاحبه بطرٌقة ودٌّة ،فلم ٌسع الرسول (صلى هللا علٌه وسلم) إال أن ٌحكم علٌه بقلع نخله ،رضى أو سخط .وفى عهد عمر ،كان للضحاك بن خلٌفة األنصار ي أرض ،ال ٌصل إلٌها الماء ،إال إذا مر بؤرض محمد بن مسلمة ،فؤراد الضحاك أن ٌحفر خلٌجا ً ٌوصل إلٌها الماء ،فؤبى محمد ،فشكاه الضحاك إلى عمر ،فدعا محمد بن مسلمة ،وكلمه فً
األمر ،فؤصر على موقفه ،فقال له ( :لم تمنع أخاك ما ٌنفعه وهو لك نافع ،تسقً أوالً وآخراً ،وه و ال ٌضرك ) ؟ فقال محمد :ال وهللا .فقال له عمر ( :وهللا لٌمرن ولو على بطنك ) .وأمر الضحاك بالتنفٌذ. ومن هنا تقرر أن صاحب الملك ال ٌجوز له التعنت مع جٌرانه وشركابه ،ومن لهم عبلقة بملكه بدعوى أنه حر التصرؾ فٌما ٌملك ،فإن هذه الحرٌة مقٌّدة بمبدأ( :ال ضرر وال ضرار) .ومن الضرار أن ٌمنع منفعة لؽٌره ال ٌناله من ورابها ضرر ،فقد نهى عن ذلك الرسول الكرٌم ( :ال ٌمنعن جار جاره أن ٌؽرز خشبة فً جداره ).
تنمية المال بما ال يضر األخالق والمصلحة العامة وٌدعو اإلسبلم أرباب األموال إلى تنمٌة أموالهم وتثمٌرها ،وٌنهاهم عن تجمٌدها وتعطٌلها ،فبل ٌجوز لصاحب األرض أن ٌعطل أرضه من الزراعة ،إذا كان المجتمع فً حاجة إلى ما تخرجه من زرع وثمر ،ومثل ذلك صاحب المصنع ،الذي ٌحتاج الناس إلى منتجاته ،وهو مناؾ لمبدأ (االستخبلؾ ). وكذلك ال ٌجوز ألرباب النقود كنزها وحبسها عن التداول ،مع حاجة األمة إلى توظٌفها فً مشروعات نافعة ،تمتص عدداً من العاطلٌن ،وتنعش الحركة االقتصادٌة ،وترفع من مستوى المعٌشة ،وال عجب أن أنذر القرآن الكافزٌن األنانٌٌن بهذا الوعٌد الشدٌد ،فقال ( :والذٌن ٌكنزون الذهب والفضة وال ٌنفقونها فً سبٌل هللا فبشرهم بعذاب ألٌمٌ ،وم ٌحمى علٌها فً نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ،هذا ما كنزتم ألنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون ). ولكن اإلسبلم ٌقٌد مبلك المال فً تثمٌره وتنمٌته ،بالطرق المشروعة ،التً ال تتنافى مع األخبلق والقٌم العلٌا ،وال مع المصلحة االجتماعٌة ،إذ ال انفصال فً اإلسبلم بٌن االقتصاد واألخبلق ،فلٌس رأس المال حراً كما هو فً الرأسمالٌة ،وكما زعم قوم شعٌب قدٌما ً :أن لهم أن ٌفعلوا فً أموالهم ما ٌشاإون. من أجل ذلك حرّ م اإلسبلم الوسابل اآلتٌة فً تثمٌر رأس المال: (أ) الربا: ففٌه ٌستؽل المرابً حاجة المستقرض إلى المال ،وٌفرض علٌه زٌادة ٌؤخذها بؽٌر مقابل من جهد وال مخاطرة ،فٌزداد الؽنً ؼنى ،والفقٌر فقًراً ،وتوجد طبقة أشبه بالعلق ,الذي ٌمتص دماء الكادحٌن والعاملٌن ،فهً ال تعمل شٌباً ،ولكن تعود إلٌها ثمرات كل شا ،وبهذا تتسع الفروق االقتصادٌة بٌن الطبقات ،وتتؤجج نار الحقد والصراع والبؽضاء .لهذا شدد اإلسبلم فً تحرٌم الربا ،وجعله من الكبابر والموبقات ،وتوعد علٌه بؤعظم الوعٌدٌ ( :ا أٌها الذٌن آمنوا اتقوا هللا وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مإمنٌن ،فإن لم تفعلوا فؤذنوا بحرب من هللا ورسوله ) .ولعن رسول اإلسبلم (صلى هللا علٌه وسلم) آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهدٌه. (ب) االحتكار: فقد جاء فً الحدٌث الصحٌح ( :ال ٌحتكر إال خاطا ) أي آثم ،وفى حدٌث آخر رواه أحمد ( :من احتكر طعاما ً أربعٌن ٌوما فقد برئ من هللا وبرئ هللا منه) .وإنما جاء هذا الوعٌد ،ألن المحتكر ٌرٌد أن ٌبنى نفسه على أنقاض اآلخرٌن ،وال ٌهمه جاع الناس أو عروا ،ما دام فً ذلك دراهم أو دنانٌر ترتد إلى خزانته ،وكلما رأى الناس أشد حاجة إلى سلعته زاد فً إخفابها،واشتد سروره بؽبلبها ،ولهذا روى فً الحدٌث ( :ببس العبد المحتكر ،إن سمع برخص ساءه ،وإن سمع بؽبلء فرح) .وقد اختلؾ الفقهاء فً تحدٌد األشٌاء التً ٌحرم احتكارها ،أهً األقوات ؟ أم هً كل ما هو ضروري للناس؟ والصحٌح ما قاله اإلمام أبو ٌوسؾ ( :كل ما أضر بالناس حبسه فهو احتكار). (ج) الؽش: فً أي صورة من صوره ،وفى الحدٌث ( :من ؼش فلٌس منا) ( ،البٌعان بالخٌار ما لم ٌتفرقا ،فإن
صدقا وبٌنا بورك لهما فً بٌعهما ،وإن كتما وكذبا محقت بركة بٌعهما ) .ومن الؽش تطفٌؾ الكٌل والوزن ،الذي أنزل هللا فٌه قرآنا ٌتلى ( :وٌل للمطففٌن ،الذٌن إذا اكتالوا على الناس ٌستوفون ،وإذا كالوهم أو وزنوهم ٌخسرون ) .وقد ذكر القرآن قصة شعٌب مرات عدٌدة وهو ٌدعو قومه بإخبلص وإصرار ( :أوفوا الكٌل وال تكونوا من المخسرٌن ،و وزنوا بالقسطاس المستقٌم). (د) التجارة فً المحرمات: كالخمر والمخدرات والخنزٌر واألدوات المحرمة ،كؤوانً الذهب والفضة ،واألصنام والتماثٌل، واألؼذٌة الفاسدة ،فإن هللا إذا حرّ م شٌبا ً حرّ م ثمنه. (هـ) وكل ما ٌتنافى مع الخلق الكرٌم ،أو ٌبعد عن الدٌن القوٌم ،أو ٌضر بصالح المجتمع ،فهو منكر ٌحاربه اإلسبلم ،وٌرفضه االقتصاد اإلسبلمً.
تحقيق االكتفاء الذاتي لألمة ومن القواعد الهام ة فً االقتصاد اإلسبلمً :العمل على تحقٌق االكتفاء الذاتً لؤلمة .بمعنى أنها ٌجب أن ٌكون لدٌها من الخبرات والكفاٌات والوسابل واألدوات ،ما ٌجعلها قادرة على أن تنتج ما ٌفً بحاجاتها المادٌة والمعنوٌة ،وٌسد ثؽراتها المدنٌة والعسكرٌة ،عن طرٌق ما ٌسمٌه الفقهاء (فروض الكفاٌة) ،وهى تشمل كل علم أو عمل أو صناعة أو مهارة ٌقوم بها أمر الناس فً دٌنهم أو دنٌاهم، فالواجب علٌهم حٌنبذ تعلمها وتعلٌمها وإتقانها حتى ال ٌكون المسلمون عالة على ؼٌرهم ،وال ٌتحكم فٌهم سواهم من األمم األخرى .وبؽٌر هذا االستؽناء واالكتفاء لن ٌتحقق لهم العزة التً كتب هللا لهم فً كتابه ( :وهلل العزة ولرسوله والمإمنٌن ) .وبؽٌره لن ٌتحقق لهم االستقبلل والسٌادة الحقٌقٌة ،وهو ما ذكره القرآن :ولن ٌجعل هللا للكافرٌن على المإمنٌن سبٌبلً )( . حانه( :وكذلك جعلناكم ولن ٌتحقق لهم مكان األستاذٌة والشهادة على األمم ،وهو المذكور فً قوله سب أمة وسطا ً لتكونوا شهداء عل الناس وٌكون الرسول علٌكم شهٌداً) فبل عزة ألمة ٌكون سبلحها من صنع ؼٌرهاٌ ،بٌعها منه ما ٌشاء ،متى ٌشاء ،بالشروط التً ٌشاء، وٌكؾ ٌده عنها أنىّ شاء ،وكٌؾ ٌشاء .وال سٌادة حقٌقٌة ألمة تعتمد على خبراء أجانب عنها فً أخص أمورها ،وأدق شإونها ،وأخطر أسرارها .وال استقبلل ألمة ال تملك زراعة قوتها شفى أرضها ،وال تجد الدواء ،لمرضاها ،وال تقدر على النهوض بصناعة ثقٌلة ،إال باستٌراد اآللة والخبرة من ؼٌرها. وال أستاذٌة ألمة ،ال تستطٌع أن تبلػ دعوتها عن طرٌق الكلمة المقروءة أو المسموعة ،أو المصورة المربٌة إال بشرابها من أهلها القادرٌن علٌها .ما دامت ال تصنع مطبعة ،وال محطة إذاعة وال تلفاز ،وال أقماراً صناعٌة. سبيل االكتفاء وإنما ٌتم ذلك االكتفاء بعدة أمور نجملها فٌما ٌلً:
ضرورة التخطٌط:
.1ال بد من التخطٌط القابم على اإلحصاء الدقٌق ،واألرقام الحقٌقٌة ،والمعرفة البلزمة بالحاجات المطلوبة ومراتبها ومدى أهمٌتها ،واإلمكانات الموجودة ،ومدى القدرة على تنمٌتها ،والوسابل المٌسورة لتلبٌة الحاجات ،والتطلع إلى الطموحات.
وقد ذكر لنا القرآن الكرٌم نموذجا ً من التخطٌط امتد لخمسة عشر عاماً ،قام به رسول كرٌم من رسل هللا .هو ٌوسؾ الص ّدٌق علٌه السبلم ،وبهذا التخطٌط -الذي شمل اإلنتاج واالدخار واالستهبلك والتوزٌع -واجه أزمة المجاعة ،والسنوات العجاؾ التً حلت بمصر ،وما حولها .كما قص ذلك علٌنا القرآن الكرٌم فً سورة ٌوسؾ.
تهٌبة الطاقات البشرٌة وحسن توزٌعها:
ٌ .2جب على األمة أن تطور نظامها التعلٌمً والتدرٌبً ،بحٌث ٌهٌا لها الطاقات والكفاٌات البشرٌة المتنوعة فً كل مجال تحتاج إلٌه ،وأن تطور نظامها اإلداري والمالً بحٌث تنمً هذه الطاقات ،وتحسن تجنٌدها ،وتوزٌعها على شتى االختصاصات بالعدل ،اهتداء بقوله تعالى: ( وما كان المإمنون لٌنفروا كافة ،فوال نفر من كل فرقة منهم طابفة لٌتفقهوا فً الدٌن ولٌنذروا قومهم إذا رجعوا إلٌهم لعلهم ٌحذرون ) ،وملء الثؽرات التً تهمل -عادة أو ؼفلة -بالحوافز أو بااللتزام .ووضع كل إنسان فً الكان المناسب له ،والحذر من إسناد األمر لؽٌر أهله ( :إذا وسد األمر إلى ؼٌر أهله فانتظر الساعة ) .ومن ثم كان حرص اإلسبلم على الثروة البشرٌة، والمحافظة علٌها والعمل على تنمٌتها :جسمٌا ً وعقلٌا ً وروحٌا ً وعلمٌا ً ومهنٌاً ،وكانت الموازنة بٌن الدٌن والدنٌا دون طؽٌان أو إخسار.
حسن استؽبلل الموارد المتاحة:
.3حسن استؽبلل الموارد االقتصادٌة واإلمكانات المادٌة ،بحٌث ال نهدر شٌبا منها ،والمحافظة ع لٌها باعتبارها أمانة ٌجب أن ترعى ،ونعمه ٌجب أن ٌشكر هللا تعالى باستخدامها أحسن استخدام ،وأمثله .ومن أجل هذا لفت القرآن أفكارنا إلى ما سخر هللا لنا مما فً السموات واألرض ء وما فً البر والبحر .وحمل بشدة على الذٌن ٌهدرون أجزاء من الثروة الحٌوانٌة، أو الزراعٌة اتباعا ً ألقاوٌل ما أنزل هللا بها من سلطان ،فحرموا ما رزقهم هللا افتراء على هللا، وناقشت ذلك سوره (األنعام) مناقشة مفصله ( :وقالوا هذه أنعام وحرث حجر ال ٌطعمها إال من نشاء بزعمهم وأنعام حرّ مت ظهورها وأنعام ال ٌذكرون اسم هللا علٌها افتراء علٌه ،سٌجزٌهم بما كانوا ٌفترون ) .إلى أن قال ( :قد خسر الذٌن قتلوا أوالدهم سفها ً بؽٌر علم وحرّ موا ما رزقهم هللا افتراء على هللا ،قد ضلوا وما كانوا مهتدٌن ) .ونبه الرسول الكرٌم على وجوب االنتفاع بؤي مادة خام ،وعدم إهدارها وتضٌٌعها ،وإن استهان الناس بها. فقد مر على شاة مٌتة ،فسؤل عنها فقالوا :إنها شاة لموالة لمٌمونة ( أم المإمنٌن ) فقال ( :هبل أخذتم إهابها فانتفعتم به ؟.إنما حرم أكلها ) .بل إن النبً (صلى هللا علٌه وسلم) لٌحذر من التفرٌط حتى فً اللقمة تسقط من آكلها ،فٌنبؽً أن ٌمٌط عنها األذى وٌؤكلها ،وال ٌدعها للشٌطان .كما ٌنبؼً له أن ٌلعق الصحفة أو ٌلعقها ،وال ٌدع الفضبلت تلقى فً القمامات .ومما ٌجدر التنبٌه علٌه هنا :توجٌه النبً (صلى هللا علٌه وسلم) إلى زراعة األرض لمن ٌقدر أن ٌزرعها بنفسه ،أو بإمارتها لمسلم آخر ٌستطٌع أن ٌزرعها .وفى هذا جاء الحدٌث ( :من كانت له أرض فلٌزرعها أو لٌمنحها أخاه ) .وإذا تٌسر له المزارعة علٌها بجزء شابع من ؼلتها فهو حسن أٌضاً ،من باب التعاون بٌن مالك األرض والفبلح المزارع ،أشبه بالمضاربة التً ٌعاون فٌها رأس المال والجهد .وقد زارع النبً (صلى هللا علٌه وسلم)
الٌهود على أرض خٌبر بالشطر مما ٌخرج منها .وقال عمر بن عبد العزٌز ( :زارعوا على األرض بنصفها ،بثلثها ،بربعها … إلى عشرها ،وال تدعوا األرض خرابا ً ) .وأنكر الرسول (صلى هللا علٌه وسلم) بشدة على من قتل عصفوراً عبثاً ،وأخبر أنه سٌشكو إلى هللا قاتله ٌوم القٌامة قاببل ٌ( :ا رب: قتلنً عبثا ً ولم ٌقتلنً منفعة ). وٌلحق بالعصفور كل المباحات التً ٌعمل علٌها بالصٌد ونحوه ،من ثروة برٌة أو بحرٌة ،فبل ٌجوز العبث بها وال المساس بها بؽٌر ما فٌه منفعة المسلمٌن .كما أنكر النبً علٌه الصبلة والسبلم فً حدٌث آخر :استخدام الشًء فً ؼٌر ما خلق له بالفطرة أو بالعادة .فقد جاء فً الصحٌح :أن رجبلً ركب بقرة فتكلمت ،فقالت :ما لهذا خلقت ! إنما خلقت للحرث .فهل تكلمت بلسان الحال ،وقد ٌكون ابلػ من لسان المقال ؟ أو هو كبلم حقٌقً من باب الخوارق وهو الظاهر من سٌاق الحدٌث ،وما ذلك على هللا بعزٌز. المهم هنا ما ٌشٌر إلٌه الحدٌث من الحث على استخدام الشًء فٌما خلق له . وٌحسن بنا ها أن نشٌر إلى قوله تعالى فً الوصٌة بمال الٌتٌم ( :وال تقربوا مال الٌتٌم إال بالتً هً أحسن حتى ٌبلػ أشده) .وقد تكرر ذلك فً القرآن بهذه الصٌؽة نفسها ،فلم ٌكتؾ القرآن منا أن نقرب مال الٌتٌم بطرٌقة حسنة وحسب ،بل بالتً هً أحسن ،فإذا كانت هناك طرٌقتان لتنمٌة مال الٌتٌم والمحافظة علٌه :إحداهما حسنة جٌدة ،واألخرى أحسن منها وأجود ،كان الواجب علٌنا أن نستخدم التً هً أحسن وأجود ،بل حرام علٌنا أال نستخدم إال التً هً أحسن ،كما هو مفهوم التعبٌر بالنهً وأسلوب القصر .ومال األمة فً مجموعه أشبه بمال الٌتٌم ،والدولة التً ترعاه ومإسساتها المسإولة عنه أشبه بولً الٌتٌم ،كما شبه عمر نفسه مع بٌت المال بولً الٌتٌم :إن استؽنى استعؾّ ،وان افتقر أكل بالمعروؾ .ولهذا ٌجب أن نحافظ علٌه وننمٌه بالتً هً أحسن.
التنسٌق بٌن فروع االنتاج:
.4ومن البلزم هنا -لكً تكتفً األمة إكتفاء ذاتٌا ً -أن ٌتم التنسٌق بٌن جوانب اإلنتاج المختلفة، فبل ٌطؽى فرع على فرع ،وال ٌهمل جانب لحساب جانب آخر ،فبل ٌجسن أن توجه العناٌة إلى الزراعة مثبلً ،فً حٌن ٌهمل أمر الصناعة ،أو العكس ،أو ٌوجه التعلٌم لتخرٌج أطباء ،وٌنسى المهندسون ،أو العكس ،أو ٌهتم بالهندسة المدنٌة أو المٌكانٌكٌة ،وتؽفل الهندسة اإللكترونٌة أو النووٌة ..أو ٌعنى بالجوانب النظرٌة ،والكفاٌات العقلٌة العالٌة ،وتؽفل الجوانب العملٌة، والمهار ات الٌدوٌة ،والخبرات المتوسطة والدنٌا … وهكذا . لهذا أكدنا ضرورة التخطٌط القابم على الدراسة واإلحصاء لمعرفة حاجات المجتمع من كل تخصص للعمل على تلبٌتها ،والتعرؾ على أوجه النقص الستكمالها. وفً حدٌث ( :إذا تباٌعتم بالعٌنة ،ورمٌتم بالزرع ،وتبعتم أذناب البقر ،وتركتم الجهاد فً سبٌل هللا .سلط هللا علٌكم ذالً ال ٌنزعه عنكم،حتى تراجعوا دٌنكم ) ،ما ٌشٌر إلى أن االكتفاء بالزراعة وحدها ،وما ٌتبعها من اإلخبلد إلى الحٌاة الخاصة المعبر عنها باتباع أذناب البقر ،وترك الجهاد فً سبٌل هللا وما ٌتطلبه من إعداد القوةٌ ،عرض األمة لخطر الذل واالستعمار ،وهذا بالضرورة ٌحتاج إلى نوع من الصناعات ال بد أن ٌتوافر فً األمة ،إذ ما ال ٌتم الواجب إال به فهو واجب. وحسب المإمنٌن هنا أن هللا أنزل علٌهم سورة سمٌت( سورة الحدٌد ) تنبٌها ً على أهمٌة هذا المعدن الخطٌر ،وقال فٌها ( :وأنزلنا الحدٌد فٌه بؤس شدٌد ومنافع للناس) .ففً قوله ( :فٌه بؤس شدٌد ) إشارة إلى الصناعات الحربٌة ،وفى وقوله ( :ومنافع للناس ) إشارة إلى الصناعات المدنٌة .وبهذا تكتمل قوة األمة فً سلمها وحربها .وإن كان الذي ٌإسؾ له :أن أمة سورة الحدٌد لم تتقن صناعة الحدٌد ،ال فً
المجال العسكري ،وال فً المجال المدنً ! وٌجب فً مٌدان اإلنتاج تقدٌم األهم على المهم ،والمهم على ؼٌر المهم .أو -على حد تعبٌر األصولٌٌن -تقدٌم ( الضرورٌات ) التً ال تقوم الحٌاة إال بها ،على (الحاجٌات) التً تكون الحٌاة بدونها شاقة وعسٌرة ،وتقدٌم ( الحاجٌات) على (التحسٌنات) ،أو ما نسمٌه بلؽة العصر ( الكمالٌات ) .فبل ٌجوز لمجتمع أن ٌزرع الفواكه الؽالٌة الثمن ،التً ال تهم ؼٌر األثرٌاء والمترفٌن ،فً حٌن ٌهمل زراعة القمح أو الذرة أو األرز ،التً هً القوت الٌومً للجماهٌر. وال ٌجوز االهتمام بصناعة العطور وأدوات الزٌنة و (الم كٌاج) فً حٌن ال تتجه الهمة إلى صناعة أدوات الزراعة ،أو الري ،أو السٌارات ،أو صناعة السبلح الضروري للدفاع عن الحوزة .أما إنتاج ما ٌضر بالفرد أو بالمجتمع ،مادٌا ً أو معنوٌاً ،جسمٌا ً أو روحٌاً ،فهو مرفوض حتماً ،ومحظور شرعا ً .مثل زراعة الكروم لتعصر خمراً ،أو زر اعة الخشخاش أو الحشٌش وؼٌره من مصادر المخدرات ،أو زراعة التبػ أو القات ونحوها ،مما فٌه استخدام نعم هللا تعالى فً معصٌة هللا أو ضرر خلقه.
تشؽٌل الثروة النقدٌة:
.5ومن الواجب على المجتمع المسلم :أن ٌخرج بالنقود من قمقم (الكنز) إلى باحة الحركة، ً والعمل ،فإن النقود لم تخلق لتحبس وتكتنز ،إنما خلقت لتتداول ،وتتقل من ٌد إلى ٌد :ثمنا لبٌع، أو أجراً لعمل ،أو عٌن ٌنتفع بها ،أو رأس مال لشركة أو مضاربة ،فهً وسٌلة ألؼراض شتى، ولٌست هً فرضا ً فً ذاتها .وال ٌجوز أن ٌحولها الناس إلى وثن ٌعبدونه وٌطوفون به ،فهذا سبب التعاسة والشقاء ( :تعس عبد الدٌنار ،تعس عبد الدرهم ) .ولقد تحدث اإلمام الؽزالً فً ( اإلحٌاء ) عن وظٌفة النقود فً الحٌاة االقتصادٌة ،حدٌثا ً سبق به فبلسفة االقتصاد فً العصر الحدٌث .فقد ذكر أن هللا تعالى خلق الدراهم والدنانٌر ( ٌعنى النقود ) لتتداولهما األٌدي، ولٌكونا حاكمٌن متوسطٌن بٌن األموال بالعدل .ولحكمة أخرى ،وهى :التوسل بهما إلى سابر األشٌاء ،ألنهما عزٌزان فً أنفسهما ،وال ؼرض فً أعٌانهما ،ونسبتهما إلى سابر األشٌاء واحدة ,فمن ملكها فكؤنه ملك كل شا ،ال كمن ملك ثوبا ً فإنه لم ملك إال الثوب … فكل من عمل فٌهما عمبلً ال ٌلٌق بالحكم بل ٌخالؾ الؽرض المقصود بالحكم ( أي بٌن األموال ) فقد كفر نعمة هللا فٌهما .فإذن من كنزهما فقد ظلمهما ،وأبطل الحكمة فٌهما ،وكان كمن حبس حاكم المسلمٌن فً سجن ٌمتنع علٌه الحكم بسببه … فؤخبر هللا تعالى الذٌن ٌعجزون من قراءة األسطر اإللهٌة ،المكتوبة على صفحات الموجودات ،بكبلم سمعوه حتى وصل إلٌهم المعنى بواسطة الحرؾ والصوت ،فقال تعالى ( :والذٌن ٌكنزون الذهب والفضة وال ٌنفقونها فً سبٌل هللا ،فبشرهم بعذاب ألٌم) .وقد فرض هللا الزكاة على النقود فً كل حول ،نماما مالكها أم لم ٌنمها ،لتكون حافزاً قوٌا ً ٌدفعه إلى تنمٌتها وتحرٌكها ،حتى ال تؤكلها الزكاة بمرور األعوام. وهذا ما أمر به الحدٌث األوصٌاء على أموال الٌتامى أمراً صرٌحا ً :أن ٌبتؽوا فً أموال الٌتامى وٌتجروا فٌها حتى ال تؤكلها الزكاة.
االعتدال في اإلنفاق ومما ٌتمم ما ذكرناه :ما عنى به اإلسبلم من ترشٌد االستهبلك ،والحث على االعتدال فً اإلنفاق ،وهو ما وصؾ هللا به عباد الرحمن المقربٌن إلٌه ( :والذٌن إذا أنفقوا لم ٌسرفوا ولم ٌقتروا وكان بٌن ذلك
قواما ً ) .وما أمر به فً وصاٌا الحكمة من سورة اإلسراء ( :وال تجعل ٌدك مؽلولة إلى عنقك وال تبسطها كل البسط فتقعد ملوما ً محسوراً ) .وٌتحتم ذلك وٌتؤكد إذا قلت الموارد كما فً أٌام القحط الخصب ة والمجاعات ،وهو ما أشار إلٌه القرآن فً قصة ٌوسؾ ،من تقلٌل االستهبلك فً السنوات السبع حتى ٌكون هناك مجال لبلدخار ( :فما حصدتم فذروه فً سنبله إال قلٌبلً مما تؤكلون ) .ثم تقلٌل االستهبلك مرة أخرى فً السنوات السبع العجاؾ ،بحكم الضرورة وتوزٌع المدخر على سنوات األزمة جمٌعا ً ( :ثم ٌؤتى من بعد ذلك سبع شداد ٌؤكلن ما قدمتهم لهن إال قلٌبلً مما تحصنون ) ،وفى التعبٌر بقوله ( :ما قدمتم لهن) ما ٌدل على أن ما ٌستهلك إنما ٌتم بحساب وتقدٌر ،فهم الذٌن ٌقدمون ،وهذا دلٌل القصد. وقد هم أمٌر المإمنٌن عمر الفاروق فً عام المجاعة ،أن ٌضٌؾ إلى كل بٌت عندهم بقاٌا الخصب مثلهم فً العدد ،ممن ساء حالهم ،ونضبت مواردهم ،وقال( :إن الناس ال ٌهلكون على أنصاؾ بطونهم ) .وهو ما أومؤ إلٌه الحدٌث النبوي ( :طعام الواحد ٌكفى االثنٌن ،وطعام االثنٌن ٌكفً األربعة ) .إن قاعدة ( االستخبلؾ ) التً ذكرناها من قبل تجعل المسلم مقٌداً فً استهبلكه وإنفاقه للمال ،كما قٌدته فً تثمٌره وتنمٌته .إن اإلسبلم ال ٌحرم على المسلم طٌبات الحٌاة ،كما حرمتها بعض الدٌانات والفلسفات، كالبرهمٌة الهندٌه ،والمانوٌة الفارسٌة ،والرواقٌة الٌونانٌة ،والرواقٌة النصرانٌة .إنما ٌحرم االعتداء فً االستمتاع بها ،أو اإلسراؾ فً تناولهاٌ .قول تعالىٌ ( :ا أٌها الذٌن آمنوا ال تحرموا طٌبات ما أحل هللا لكم وال تعتدوا ،إن ال ٌحب المعتدٌن) .وٌقول عز وجل ( :وآت ذا القربى حقه والمسكٌن وابن السبٌل وال تبذر تبذٌراً ،إن المبذرٌن كانوا إخوان الشٌاطٌن ،وكان الشٌطان لربه كفوراً) .والفرق بٌن التبذٌر واإلسراؾ :أن اإلسراؾ تجاوز الحد فً الحبلل ،والتبذٌر :اإلنفاق فً الحرام ،ولو كان درهما ً واحداً. ومن هنا ٌجب مراعاة المبادئ التالٌة فً النفقة: اإلنفاق على النفس واألهل: (أ) فبل ٌجوز لصاحب المال أن ٌؽل ٌده عن اإلنفاق الواجب على نفسه وأهله شحا ً وبخبلً ،أو تقشفا ً وتزهداً،فاإلسبلم ٌنهى عن الشح وٌحذر منه ،وٌجعله مصدراً لفساد عرٌض ،وفً الحدٌث (:إٌاكم والشح ،فإنما هلك من كان قبلكم بالشح :أمرهم بالقطٌعة فقطعوا ،وأمرهم بالبخل فبخلوا ،وأمرهم بالفجور ففجروا) .كما ٌهٌا من الرهبة وتحرٌم المتعة الحبلل ،وٌسمى المبلبس الجمٌلة ونحوها( :زٌنة هللا التً أخرج لعباده ) .كما ٌسمى المآكل والمشارب :الطٌبات من الرزق .وهى تسمٌة ٌكنى بها عن المدح والرضا ،وٌنكر أشد اإلنكار على من حرمها على نفسه أو ؼٌره (:قل من حرم زٌنة هللا التً أخرج لعباده والطٌبات من الرزق)ٌ( .ا بنً آدم خذوا زٌنتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا وال تسرفوا، إنه ال ٌحب المسرفٌن) .وقال صلى هللا علٌه وسلم ( :إن هللا ٌحب أن ٌرى أثر نعمته على عبده ) .ولما سؤله أحد الصحابة :أنه أولع بالجمال .وٌحب أن ٌكون ثوبه حسناً ،ونعله حسنه ،فهل هذا من الكبر ؟ قال ( :ال ،إن هللا جمٌل ٌحب الجمال ،الكبر بطر الحق ،وؼمط الناس) لزوم اإلنفاق فً الحقوق الواجبة: (ب) وال ٌجوز له أن ٌبخل بالحقوق الواجبة علٌه فً ماله ،سواء ،أكانت حقوقا ً ثابتة ،كالزكاة ونفقات الوالدٌن واألقارب الفقراء ،أم حقوقا ً عارضة ،كقرى الضٌؾ ،وإعارة الماعون ،وإؼاثة المضطر، واإلعطاء فً النوازل التً تنزل باألمة أو ببلد هو فٌها ،كالحروب والمجاعات والحرٌق ،وكفاٌة فقراء، بلده بما ال بد لهم منه من حاجات المعٌشة ،من مطعم وملبس ومسكن وعبلج ،ونحو ذلك .واإلسبلم ٌإكد أهمٌة هذه الحقوق ،حتى إنه لٌجٌز شهر السبلح من أجلها ،وقد قاتل أبو بكر ومعه الصحابة من أجل حق الزكاة ،وأباح النبً (صلى هللا علٌه وسلم) للضٌؾ أن ٌؤخذ حق القرى كن نزل بهم ولو بالقوة ،وعلى المسلمٌن أن ٌشدوا أزره فً ذلك .قال( :أٌما ضٌؾ نزل بقوم فؤصبح الضٌؾ محروماً،
فله أن ٌؤخذ بقدر قراه ،وال حرج علٌه) .وأباح عامة الفقهاء للمضطر إلى الماء والقوت ،أن ٌقاتل من منعهما عنه بؽٌر حق. الموازنة بٌن الدخل واإلنفاق: (ج) كما ٌجب علٌه أن ٌوازن بٌن دخله وإنفاقه ،فبل ٌنفق عشرة ودخله ثمانٌة ،فٌضطر إلى االستقراض ،وتحمل منة الدابن ،والدٌن ه ّم باللٌل ومذلة بالنهار ،وكان النبًٌ ،ستعٌذ باهلل من المؽرم ( الدٌن) ،معلبلً ذلك بؤن الرجل إذا ؼرم ح ّدث فكذب ،ووعد فؤخلؾ ،كما فً صحٌح البخاري .فإنفاق المرء أكثر مما تطٌقه ثروته ودخله ،هو من اإلسراؾ المذموم ،قال تعالى( :وال تسرفوا ،إنه ال ٌحب المسرفٌن) .وفى الحدٌث ( :كلوا واشربوا ( والبسوا ) وتص ّدقوا ،ما لم ٌخالطه إسراؾ وال مخٌلة ). رواه النسابً وابن ماجه عن عمرو بن شعٌب عن أبٌه عن جده .وهذا فً اإلنفاق على المباحات .أما المحرمات فكل درهم ٌنفق فٌها ٌدخل فً باب التبذٌر .وأما الطاعات كالصدقة والجهاد والمشروعات الخٌرٌة ،فبل إسراؾ فٌها ما لم ٌضٌع حقا ً أوجب منها ،كحق عٌاله أو ؼرٌمه ،أو نفقة واجبة علٌه ،أو نحو ذلك .ولهذا حٌن قٌل لبعض األسخٌاء المنفقٌن فً الصالحات :ال خٌر فً اإلسراؾ ،كان جوابه :ال إسراؾ فً الخٌر. واإلسبلم ٌعطً الحاكم الحق فً (الحجر) على كل سفٌه متبلؾٌ ،بعثر المال فً ؼٌر وجهه ،ألن لؤلمة حقا ً فً هذا المال ،فحظه ٌعود علٌها بالمنافع ،واضاعته ٌرجع علٌها بالضرر ،ولهذا أضاؾ هللا أموال السفهاء إلى األمة فقال( :وال تإتوا السفهاء أموالكم التً جعل هللا لكم قٌاما ً) حرب على الترؾ والمترفٌن: (د) وهناك نوع من اإلسراؾ ٌحرمه اإلسبلم ،وٌشتد فً تحرٌمه ومقاومته ،لما فٌه من إفساد حٌاة الفرد ،وحٌاة الجماعة ،ذلك هو ما سماه اإلسبلم (الترؾ) وهو التوسع فً ألوان التنعم ،وأسباب الرفاهٌة ،مما ٌمؤل البطون من مطاعم ومشارب ،وما ٌؽشى األبدان من حلى وحلل ،وما ٌؽمر البٌوت من أثاث ورٌاش ،وتحؾ وتماثٌل ،وأدوات فضٌة وذهبٌة وؼٌر ذلك. باع الحق ،ألن الترؾ لم ٌدع إن القرآن ٌعتبر الترؾ أول المعوقات التً تحول بٌن الناس وبٌن ات ألصحابه متسعا ً لؽٌر شهواتهم ،ومتعهم ،فمن دعاهم إلى ؼٌر ذلك ،عادوه وقاوموه ،قال تعالى ( :وما أرسلنا فً قرٌة من نذٌر إال قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون ). والترؾ له لوازمه من اللهو والعبث والمجون ،وله تؤثٌره فً إشاعة المٌوعة والطراوة فً أبناء األمة، مما ٌإدي بعد حٌن إلى انحبلل أخبلقها وتفسخ روابطها ،واتساع الهوة بٌن أبنابها ،نتٌجة لحرمان األكثرٌة من الضرورٌات وتمتع األقلٌة بما ال عٌن رأت وال أذن سمعت ،من الكمالٌات وما بعد الكمالٌات ،ومن هنا تستحق الجماعة كلها الهبلك والعذاب ،المترفون لترفهم ،واآلخرون لسكوتهم أو مماألتهم ( :وإذا أردنا أن نهلك قرٌة أمرنا مترفٌها ففسقوا فٌها فحق علٌها القول فدمرناها تدمراً ) .إن القرآن ٌحدثنا أن الترؾ كان هو المسإول األول عما أصاب كثٌرً ا من األمم من عقاب وببلبه ،فحرمت من النصر ،وحقت علٌها كلمة العذاب ( :حتى إذا أخذنا مترفٌهم بالعذاب إذا هم ٌجؤرون الٌوم ،إنكم منا ال تنصرون) ( ،و كم قصمنا من قرٌة كانت ظالمة وأنشؤنا بعدها قوما ً آخرٌن ،فلما أحسوا بؤسنا إذا هم منها ٌركضون ،ال تركضوا وارجعوا إلى نا أتبلرفتم فٌه ومساكنكم لعلكم تسؤلون) االعتدال فً النفقات الحكومٌة: وإذا كان االعتدال مطلوبا ً فً نفقة الفرد على نفسه ،فهو مطلوب كذلك فً النفقات الحكومٌة ،ابتداء من ربٌس الدولة فمن دونه .بل ٌنبؽً على إمام المسلمٌن -أمٌرهم وربٌسهم -أن ٌكون أسوة لهم فً التعفؾ عن مال الدولة ،والتقلٌل من مظاهر النعٌم واألبهة .وقد كان النبً (صلى هللا علٌه وسلم) -وهو إمام
المسلمٌن -أول من ٌجوع وآخر من ٌشبع .قال أبو هرٌرة ( :خرج رسول هللا (صلى هللا علٌه وسلم) من الدنٌا ولم ٌشبع من خبز الشعٌر ) .وقالت عابشة ( :ما شبع رسول هللا(صلى هللا علٌه وسلم)ثبلثة أٌام متوالٌة ،ولو شبنا لشبعا ،ولكنه كان ٌإثر على نفسه ) .ورفض أن ٌتخذ فراشاً ،وكانت وسادته حشوها لٌؾ ،ونام على الحصٌر حتى أثر فً جنبه ،وتوفى وهو ٌلبس كساء ملبداً وإزاراً ؼلٌظا ً .وكذلك كان أبو بكر وعمر وعلً -رضً هللا عنهم -حتى قال عمر :ما أنا وهذا المال -مال الدولة -إال كولً الٌتٌم ،إن استؼنٌت استعففت ،وإن افتقرت أكلت بالمعروؾ. وال نرٌد من رإسابنا وأمرابنا أن ٌكونوا مثل أولبك األكابر ،ولكن نرٌد منهم أن ٌتقوا هللا فً المال العام ،وال ٌحابوا به األقارب واألصهار والموالٌن وأبواق النفاق .إن كثٌراً من الملوك والرإساء واألمراء فً دٌارنا ٌحسبون أن مال الدولة ملك لهم ،ومن حقهم أن ٌتصرفوا فٌه كٌؾ ٌشاإون .وقلما ٌوجد من ٌحاسبهم .حتى الببلد التً توجد فٌها هٌبات برلمانٌة ورقابٌة ومحاسبٌة ،ال تستطٌع أن تمس ما ٌتعلق بربٌس الدولة ،أو بجهاز مخابراته ،وأجهزة أمنه ،أو بالجٌش وما ٌنفق علٌه. وهناك جهات ٌنفق فًها المال بؽٌر حساب ،وبدون تقٌّد ،وال ٌكاد ٌسابلها أحد ،مثل اإلعبلم والرٌاضة وأمن الدولة ،أي أمن الحاكم ونظامه وجماعته .على حٌن ٌقتر كل التقتٌر ،وٌضٌق أشد التضٌٌق على جهات أخرى ،مثل التعلٌم والصحة والمواصبلت والخدمات األساسٌة لجمهور الناس. إن الشرع ٌوجب الموازنة بٌن المصالح بعضها وبعض ،وتقدٌم الضروري منها على الحاجً ،وتقدٌم الحاجً على التحسٌنً ،وتقدٌم ما ٌخدم الجمهور األعظم من الناس على ما ٌخدم فبة محدودة .وما فٌه مصلحة الفقراء والمستضعفٌن على ما فٌه مصلحة الكبراء والموسرٌن.
إيجاب التكافل االجتماعي لقد قلنا :إن اإلسبلم ٌطالب كل قادر على العمل أن ٌعمل ،وأن ٌعان على عمله ،لٌكفً نفسه وأسرته. ولكن فً الناس العاجزون ،الذٌن ال ٌستطٌعون العمل ،وال مورد لهم .وفٌهم القادرون ،الذٌن ال ٌجدون عمبل ٌتعٌشون منه ،ولم تسطع الدولة تٌسٌر عمل مناسب لهم ،وفٌهم العاملون ،الذٌن ال ٌكفٌهم دخلهم لتحقٌق معٌشة إنسانٌة البقة ،لقلة الدخل ،أو لكثرة العٌال ،أو لؽبلء األسعار ،أو ؼٌر ذلك من األسباب. فما موقؾ نظام اإلسبلم من هإالء ؟ هل ٌدعهم ألنٌاب الفاقة والحاجة تفترسهم ؟ أو ٌقدم حبل لمشكلتهم ؟ الحق أن اإلسبلم لم ٌترك هإالء للفاقة والضٌاع ،بل كفل لهم المعٌشة المبلبمة بالطرق اآلتٌة:
نفقات األقارب:
فقد أوجب اإلسبلم 8على القرٌب الموسر أن ٌنفق على قرٌبه المحتاج ،صلة لرحمه ،وأدا ًء لحقه ،كما قال تعالى ( :وآت ذا القربى حقه والمسكٌن وابن السبٌل) .ومن لم ٌقم بهذا الواجب من نفسه لقرٌبه، ألزمه القضاء ،اإلسبلمً بذلك .وللفقهاء تفصٌل كثٌر فً شروط الفقه ،ومقادٌرها ،ولمن تجب وعلى من تجب ،وٌكن الرجوع إلٌها فً أبواب النفقات من كتب الفقه. فرٌضة الزكاة: (أ) وهً الفرٌضة المالٌة االجتماعٌة ،التً تعد الركن الثالث من أركان اإلسبلم ،ومبانٌه العظام ،من منعها بخبلً بها عزر ،وأخذت منه قهراً ،وإن كان ذا شوكة قوتل علٌها ،حتى ٌإدٌها ،وإن أنكر وجوبها- ولم ٌكن حدٌث عهد باإلسبلم -حكم بردته ،وخرج من دٌن اإلسبلم.
(ب) وهً لٌست هبة ٌتفضل بها الؽنً على الفقٌر ،بل هً حق معلوم ،تقوم الدولة على جباٌته، وصرفه على مستحقٌه ،بواسطة موظفً الزكاة. العاملٌن علٌها -ولهذا وصؾ النبً (صلى هللا علٌه وسلم) الزكاة بقوله ( :تإخذ من أؼنٌابهم فترد إلىفقرابهم ) ،فهً ضرٌبة تإخذ ،ولٌست تطوعا ً ٌوهب. (ج) إنها تخالؾ كثٌراً من الضرابب ،التً تإخذ من الكادحٌن المتعبٌن من العمال ،وصؽار التجار والموظفٌن ،لتنفق فً أبهة الحكام ،وعلى أتباعهم والمروجٌن لهم ،حتى ٌمكنك أن تقول فٌها :إنها تإخذ من الفقراء لترد على األؼنٌاء. (د) والعبٌر النبوي الكرٌم ( :تإخذ من أؼنٌابهم فترد على فقرابهم) ٌوحً بؤن الزكاة لٌست إال صرؾ بعض أموال األمة ،ممثلة فً أؼنٌابها ،إلى األمة نفسها ،ممثلة فً فقرابها .فهً من األمة والٌها ،من الٌد المستخلفة فً المال ،إلى الٌد المحتاجة إلٌه ،وهاتان الٌدان -المعطٌة واآلخذة -هما ٌدان لشخصٌة واحدة هً شخصٌة األمة المسلمة. (هـ) والزكاة تجب فً كل مال نام أو معد للنماء ،بلػ نصاباً ،وحال علٌه الحول ،وسلم من الدٌن ،وذلك فً سابمة األنعام والنقود ،وعروض التجارة .وفى الزروع ،والثمارٌ ،جب الحق عند الحصاد ،وفى المعدن والركاز عند وجدانه .ولم ٌجعل اإلسبلم نصابها كبٌرا ،لٌشترك جمهور األمة فً أدابها ،وجعل نسبها معتدلة من (5ر )%2فً النقود والتجارة ،إلى ( )%5فً الزرع المسقى باآلالت ،إلى (0ا)% فٌما سقى بؽٌر آلة ،إلى ( )%2 0فً الركاز ( المعادن ) وفٌما ٌعثر علٌه من الكنوز ،فكلما كان جهد اإلنسان أكبر كانت النسبة أخؾ. موارد الدولة األخرى: وإذا لم تكؾ الزكاة جمٌع الفقراء ،ففً جمٌع موارد الدولة اإلسبلمٌة متسع لكفاٌتهم ،بؤمٌن حاجاتهم من خمس الؽنابم ،ومن الفًء والخراج ونحوهاٌ .قول هللا تعالى ( :واعملوا أنما ؼنمتم من شًء فؤن هللا خمسه وللرسول ولذي القربى والٌتامى والمساكٌن وابن السبٌل) .وٌقول فً الفًء( :ما أفاء هللا على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى والٌتامى والمساكٌن وابن السبٌل كً ال ٌكون دولة بٌن األؼنٌاء منكم) ومن ذلك :ما تملك الدولة من النفط والمعادن واألراضً الزراعٌة والعقارات ونحوها ،مما ٌندر علٌها دخوالً وإٌرادات ضخمة. والدولة فً اإلسبلم لٌست مسإولة عن الحماٌة واألمن فقط ،بل هً مسإولة كذلك عن رعاٌة العاجزٌن والمحتاجٌن ،وكفالة العٌش الكرٌم لهم .كما فً الحدٌث الصحٌح( :كلكم راع ،وكلكم مسإول عن رعٌته ..فاإلمام راع ومسإول عن رعٌته …) وهكذا بٌّن لنا (صلى هللا علٌه وسلم) بوصفه إمام المسلمٌن -أنه مسإول عن الجمٌع ،وأنه أولى بالمإمنٌن من أنفسهم ،فمن ترك منهم ماالً فهو لورثته ،ومن ترك دٌنا ً أو ضٌعة ( أوالداً صؽاراً معرضٌن للضٌاع لفقرهم وٌتمهم ) فإلٌه وعلٌه .وٌقول عمر عن مال الدولة ( :ما من أحد إال وله فً هذا المال حق ) .وقد فرض عمر من بٌت المال راتبا ً لٌهودي رآه ٌسؤل على األبواب .كما فرض لكل مولود فً اإلسبلم عطاء ٌزداد كلما نما وكبر. الحقوق األخرى فً المال: وإذا لم تؾ الزكاة ،وال سابر الموارد األخرى ،بضمان العٌش للفقراء ،فعلى الموسرٌن فً المجتمع أن ٌقوموا بكفاٌتهم ،فلٌس بمإمن من بات شبعان وجاره جابع ،ولٌس بمإمن من ال ٌحب ألخٌه ما ٌحب لنفسه ،فإن قاموا بذلك مختارٌن ،بدافع اإلٌمان والتقوى فهذا خٌر وأبقى ،كما حدثنا النبً (صلى هللا علٌه وسلم) عن األشعرٌٌن فقال ( :إن األشعرٌٌن إذا أرملوا فً الؽزو ،أو قل طعام عالهم فً المدٌنة، جمعوا ما كان عندهم فً ثوب واحد ،ثم اقتسموا بٌنهم فً إناء واحد بالسوٌة ،فهم منى وأنا منهم ).
وإذا لم ٌقم الناس من تلقاء أنفسهم برعاٌة فقرابهم ،فلئلمام أن ٌفرض على األؼنٌاء ما ٌقوم بكفاٌة الفقراء ،فقد روى عن النبً (صلى هللا علٌه وسلم) ( :إن فً المال حقا ً سوى الزكاة) ،وفً القرآن ما ٌدل على ذل ،فقد قال تعالى ( :ولكن البر من آمن باهلل والٌوم اآلخر والمبلبكة والكتاب والنبٌٌن وآتى المال على حبه ذوي القربى والٌتامى والمساكٌن وابن السبٌل والسابلٌن وفً الرقاب ،وأقام الصبلة وآتى الزكاة) .ففرقت اآلٌة الكرٌمة بٌن إٌتاء المال على حبه ذوى القربى … إلخ ،وبٌن إٌتاء الزكاة، وهذا ٌدل على أنهما حقان فً المال .وإنما الزكاة هً الحق الدوري الثابت المحدد .أما الحقوق األخرى فهً حقوق طاربة ،تفرضها الح اجة والمصلحة ،ولٌس لها مقدار معٌن ،وال وقت محدود .وإذا لم ٌقم الناس بؤداء الحقوق اختٌاراً ،أجبروا ملها إجباراً ،وقد قال عثمان رضً هللا عنه ( :إن هللا ٌزع بالسلطان ما ال ٌزع بالقرآن). الصدقات المستحبة : وال ٌقتصر اإلسبلم فً تقرر التكافل على القوانٌن الملزم ة ،وال الحقوق الواجبة ،بل ٌربً المسلم على البذل وان لم ٌطلب منه ،واإلنفاق وإن لم ٌجب علٌه ،وٌهون علٌه المال والدنٌا ،وٌحذر من الشح والبخل ،وٌحبب إلٌه النفقة فً السراء والضراء ،باللٌل والنهار ،سراً وعبلنٌة ،ومعده بالخلؾ والفضل ي اآلخرة ( :الشٌطان ٌعدكم الفقر وٌؤمركم بالفحشاء ،وهللا ٌعدكم مؽفرة منه فً الدنٌا ،والمثوبة عند هللا ؾ وفضبلً )( .وما أنفقتم من شًء فهو ٌخلفه ،وهو خٌر الرازقٌن ) ( .الذٌن ٌنفقون أموالهم باللٌل والنهار سراً وعبلنٌة فلهم أجرهم عند ربهم وال خوؾ علٌهم وال هم ٌحزنون ). الوقف الخٌري والصدقة ا لجارٌة : ومن أعظم ما رؼب فٌه اإلسبلم :الصدقة الجارٌة ( أي الدابمة بعد موت المتصدق) ،كما ٌتضح ذلك فً نظام الوقؾ الخٌري ،وهو الذي ٌخرج فٌه المال من ملك األفراد ،لتجس ثمراته ومنافعه على جهة من جهات الخٌر ،ابتؽاء مثوبة هللا تعالى .وقد أشار الرسول (صلى هللا علٌه وسلم) على عمر بوقؾ ماله بخٌبر ،ولم ٌكن أحد من الصحابة ذا مقدرة إال وقؾ .والذي ٌقرأ بعض ما أبقاه لنا التارٌخ من حجج الوقؾ ،وشروط الواقؾٌ ،تبٌن حقٌقة الكافل فً المجتمع المسلم ،وٌقؾ على أصالة عواطؾ الخٌر، ومشاعر الرحمة والبر ،وشٌوع المعانً اإلنسانٌة الكرٌمة فً أعماق هذه األمة ،حتى إن برها لم ٌقتصر على دابرة اإلنسان ،بل تجاوزه إلى الحٌوانات. التكافل بٌن األجٌال وهناك لون من التكافل لم ٌلتفت إلٌه الباحثون ،وقد نبهنا علٌه فً عدد من كتبنا ،وهو :التكافل بٌن أجٌال األمة بعضها وبعض ،وهو ٌكمل التكافل بٌن أقطار األمة بعضها وبعض ،فهو تكافل زمانً، بجوار التكافل المكانً .ومعنى تكافل األجٌال :أال ٌستؤثر جٌل بخٌرات األرض المذخورة والمنشورة، وٌحلب درها ،حتى ال ٌترك فً ضرعها قطرة لمن بعده .بل ٌجب على الجٌل الحاضر أن ٌحسب حساب الجٌل المقبل ،وأن ٌصنع صنٌع األب الرحٌم البصٌر ،الذي ٌحرص على أن ٌدع ذرٌته فً حال اكتفاء واستؽناء ،وأن ٌقتصد فً إنفاقه واستهبلكه ،حتى ٌترك لهم شٌبا ٌنفعهم ،وقد قال علٌه الصبلة والسبلم ( :إنك أن تذر ورثتك أؼنٌاء خٌر من أن تذرهم عالة ٌتكففون الناس ) .وقد جاء عن أبى بكر رضى هللا عنه ( :ال ٌعجبنً الرجل ٌؤكل رزق أٌام فً ٌوم واحد)! ومثل ذلك ٌقال للمجتمع الذي ٌؤكل رزق أجٌال فً جٌل واحد. وهذا ما جعل الفاروق عمر بن الخطاب ٌؤبى تقسٌم سواد العراق على الفاتحٌن ،وهو ثروة هابلة ٌستمتع بها جٌل الفتح ،وال تجد األجٌال القادمة الدافعة عن حرمات األمة ،وبٌضة الملّه ،ما ٌصرفون عنه، إلعداد عدتهم ،وقضاء حوابجهم .ولهذا كان عمر ٌقول لمعارضٌه ( :أترٌدون أن ٌؤتً آخر الناس ولٌس لهم شا ) ؟ .ا وكان على رأٌه من فقهاء الصحابة أمثال على ومعاذ رضً هللا عنهم .وقال معلنا ً عن وجهته ووجهة من أٌّده( :إنً أرٌد أمراً ٌسع أول الناس وآخرهم ) .وجد فً آٌات سورة الحشر ما أٌد توجهه ،حٌث جعلت توزٌع الفًء على الجٌل الحاضر من المهاجرٌن واألنصار ،ثم أشركت معهم
الجٌل القادم ،وذلك فً قوله تعالى ( :والذٌن جاءوا من بعدهم ٌقولون ربنا اؼفر لنا وإلخواننا الذٌن سبقونا باإلٌمان) .وبهذا تتضامن األجٌال وتتواصل ،وٌدعو البلحق للسابق ،بدل ـن ٌلعن آخر األمة أولها ،حٌن ٌقول :أخذوا كل شا ولم ٌبقوا لنا شٌبا ً .وهذا ما أخشى أن تقوله األجٌال اآلتٌة فً ببلد النفط ،حٌث استهلكوه فً الزٌنة والمتاع والتوسع فً االستهبلك ،وأسرفوا فً استخراجه ،حتى كثر فً سوق العرض ،فباعوه بؤرخص األسعار .ولو نظروا إلى حق األجٌال المستقبلة القتصدوا وعفوا. واعتدلوا ولم ٌسرفوا ،فإن هللا ال ٌحب المسرفٌن.
تقريب الفوارق بين الطبقات أقر اإلسبلم التفاوت بٌن الناس فً الملكٌات واألرزاق ،ألن فطرة هللا فاوتت بٌنهم فٌما هو أؼلى من ذلك وأعظم :فً الذكاء والجمال وقوة البنٌة ،وسابر المواهب والقدرات الخاصة ،فبل ؼرابة أن ٌتفاضل الناس فً المال والؽنى ،وهو دون هذه األشٌاء ببل رٌب ،قال تعالى ( :وهللا فضل بعضكم على بعض فً الرزق). ولم ٌكن هذا التفاوت أو التفاضل عبثا ً أو سفهاً ،بل هو مقتضى الحكمة التً تستقٌم بها الحٌاة ،وتنتظم شبون المعاش ،كما قال تعالى ( :نحن قسمنا بٌنهم معٌشتهم فً الحٌاة الدنٌا ،ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات لٌتخذ بعضهم بعضا ً سخرٌا ً ) .ولٌس المراد بهذا التسخٌر ،تسخٌر القهر واإلذالل ،بل تسخٌر النظام واإلدارة .فالحٌاة كمصنع كبٌر ،فٌه الربٌس والمرإوس ،والمهندس والعامل ،والحارس والخادم، وكل منهم له مهمته ،وكلهم الزم ومهم لٌدور المصنع وٌنتج .ومع إقرار اإلسبلم لمبدأ التفاضل فً الرزق ،والتفاوت فً الؽنى والفقر ،نراه ٌعمل على تقرٌب الفوارق بٌن الطبقات ،فٌحد من طؽٌان األؼنٌاء ،وٌرفع من مستوى الفقراء ,تحقٌقا ً للتوازن ،وتفادٌا ً ألسباب الصراع والعداوة ،بٌن أبناء المجتمع الواحد .ذلك أن اإلسبلم ٌكره تكدس الثروة فً أٌد معدودة ،تتداولها فٌما بٌنها ،مع بقاء األؼلبٌة محرومة منها .فهو ٌحرص على أال ٌكون المال (دولة بٌن األؼنٌاء) وحدهم .ولئلسبلم فً ذلك وسابل عدٌدة منها: .1إلزام الؽنى أال ٌنمى ثروته بالطرق المحرمة،كالربا واالحتكار والؽش ،والتجارة فً المحظورات ،ونحوها مما ذكرناه من قبل. وهذا التضٌٌق فً تثمٌر المالٌ ،سد الطرٌق إلى الثراء الفاحش إلى حد كبٌر. .2إٌجاب الزكاة فً أموال األؼنٌاء لترد على الفقراء ،فهً أخذ من أولبك ،وإعطاء لهإالء. والزكاة كما شرعها اإلسبلم -ما هً إال وسٌلة لتملٌك الفقراء ما ٌؽنٌهم وٌقوم بكفاٌتهم ،إما بصفة دورٌة سنوٌة ،أو ٌؽنٌهم بصفة دابمةٌ .قول اإلمام النووي وؼٌره من أبمة الشافعٌة: ٌعطى الفقٌر والمسكٌن ما تزول به حاجتهما ،وتحصل به كفاٌتهما على الدوام ،وٌختلؾ ذلك باختبلؾ الناس والنواحً ،فالمحترؾ الذي ال ٌجد آلة حرفته ٌعطى ما ٌشترٌها به ،قلت قٌمتها أو كثرت ،والتاجر ٌعطى رأس مال لٌشترى ما ٌحسن التجارة فٌه .وٌكون ذلك قدر ما ٌفً ربحه بكفاٌته ؼالباً ،ومن ال ٌحسن الكسب بحرفة وال تجارة ٌعطى كفاٌة العمر الؽالب ألمثاله، وطرٌقه أن ٌعطى ما ٌشترى به عقاراً ٌستؽل منه كفاٌته .فالزكاة بهذا تعمل على تكثٌر عدد المبلك من الفقراء ،ألنها تملك المحترؾ أدوات حرفته -أي من أدوات اإلنتاج -جهازاً أو مصنعا ً أو جزءاً من مصنع ،وتملك الزارع مزرعة أو جزءاً منهاٌ ،تملكها مع ؼٌره ،وتملك التاجر متجراً وما ٌلزمه ،وتملك ؼٌرهم عقاراً أو نحوه ،مما ٌدر دخبلً منتظماًٌ ،قوم بتمام كفاٌة مالكه ،وكفاٌة من ٌعوله .على أن تشرؾ مإسسة الزكاة على حسن رعاٌة هإالء لما تحت أٌدٌهم.
.3إٌجاب حقوق بعد الزكاة على األؼنٌاء ,مثل نفقات األقارب ،والنذور والكفارات ،واألضحٌة ( وهى واجب فً مذهب أبً حنٌفة ) وحقوق الجوار والرحم ،وقرى الضٌؾ ،وإطعام الجابع، وإؼاثة الملهوؾ ،وفك األسٌر ،وعبلج المرٌض ،والمساعدة فً الطوارئ التً تنزلل باألمة، كالحروب والمجاعات ونحوها .وفى الحدٌث ( :ما آمن بً من بات شبعانا ً وجاره جابع إلى جنبه،وهو ٌعلم ). .4المٌراث الذي شرعه اإلسبلم ،وجعله لؤلوالد والوالدٌن ،واألزواج والعصبات ،وذوى الرحم، بشروط معروفة ،وهو عامل كبٌر فً تفتٌت الثروة وتوزٌعها -بعد موت الموروث -على عدد كبٌر من ورثته ،على عكس بعض األنظمة ،التً تحصر التركة فً االبن األكبر ،وما شابه ذلك .وٌلعق بالمٌراث :الوصٌة لؽٌر الوارثٌن ،وقد أوجبها بعض السلؾ ،بناء على قول هللا تعالى ( :كتب علٌكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خٌراً الوصٌة للوالدٌن واألقربٌن بالمعروؾ ،حقا ً على المتقٌن) .ومن ذلك استمد قانون ( الوصٌة الواجبة ) الذي حاول عبلج حرمان األحفاد إذا مات آباإهم فً حٌاة أجدادهم. .5حق ولً األمر الشرعً فً إعادة التوازن إذا اختل ،عن طرٌق المال العام كالفًء ونحوه ،ال عن طرٌق المصادرة للملكٌات المشروعة ،التً ٌلتزم أصحابها حدود اإلسبلم ،وهذا ما فعله النبً (صلى هللا علٌه وسلم) فى توزٌع فًء بنى النضٌر ،حٌث وزعه على المهاجرٌن خاصة، دون إخوانهم األنصار ،إال رجلٌن منهم كانت بهما فاقة وحاجة .وسر ذلك :أن الهاجرٌن أخرجوا من دٌارهم وأموالهم ،فكان الفرق بٌنهم وبٌن إخوانهم األنصار كبٌراً ،فهإالء ٌملكون األرض والعقار ،والمهاجرون ال ٌكادون ٌملكون شٌباً ،على الرؼم من أن األنصار كانوا مثبلً رابعا ً فً إٌوابهم وإكرامهم ،وإٌثارهم على أنفسهم ،ولكن التوازن الذي ينشده اإلسبلم ،جعل النبً (صلى هللا علٌه وسلم) ٌعالج األمر عند أول فرصة سنحت له ،وجاء القرآن ٌإٌد هذا التصرؾ النبوي الكرٌم ،وٌعلل حكمة توزٌع الفًء على الفبات المحتاجة ،من الٌتامى والمساكٌن وأبناء السبٌل ،بقوله تعالى( :كً ال ٌكون دولة بٌن األؼنٌاء منكم ). وإ ن فً هذه السابقة من عمل الرسول الكرٌم ،ما ٌعطى الحق للحاكم المسلم -وهو الذي ٌحكم بما أنزل هللا -أن ٌخص الفقراء من مال الدولة بما ٌقلل الفروق الفاحشة بٌنهم وبٌن األؼنٌاء ،وما ٌحقق التوازن االقتصادي فً المجتمع المسلم.
اإلسالم واألنظمة االقتصادية المعاصرة عرفنا من القواعد السابقة التً قام علٌها بناء االقتصاد اإلسبلمً ،أنه اقتصاد متٌز مما ٌعرفه الناس الٌوم ،من مذاهب وأنظمة تتجه إلى الٌمٌن أو إلى الٌسار ،مما ٌسمى بالرأسمالٌة أو الشٌوعٌة ،فهو ٌخالؾ كبلً منهما على حدة ،وٌخالفهما جمٌعا ً فً أمور مشتركة ،فضبلً على أنه سبقهما فً الظهور، بؤكثر من اثنً عشر قرنا ً من الزمان. اإلسبلم والرأسمالٌة: تقوم الرأسمالٌة على تقدٌس حرٌة الفرد ،وإطبلق العنان له ،لٌمتلك ما شاء ،وٌنمً ما ملك بما شاء، وٌنفقه كما شاء ،دون قٌود تذكر ،على وسابل تملكه وتنمٌته وإنفاقه .أما حق المجتمع علٌه فً ماله وفً مراقبته ،ومحاسبته على تملكه وتثمٌره وإنفاقه ،فحق ضعٌؾ ٌشبه المعدوم ،وال ٌجد من داخله رقابة ذاتٌة تجعله ٌحترم هذا الحق وٌرعاه ،بل ٌحتال علٌه لٌتخلص منه تحت سمع القانون وبصره ،ما استطاع.
أما اإلسبلم فقد رأٌناه ٌضع قٌوداً على التملك والتكسب ،وقٌوداً على التثمٌر والتنمٌة ،وقٌوداً على االستهبلك واإلنفاق ،وٌفرض حقوقا ً على المالك ،بعضها دابم ،وبعضها مإقت ،فهو ٌلؽً اعتبار الملكٌة المحرمة ،وٌحظر الربا واالحتكار والؽش ،وؼٌرها ،من كل ما ٌنافً األخبلق ،وٌناقض مصلحة جمهور الناس .وٌجعل ضمٌر المسلم -الذي ٌراقب الخالق قبل الخلق -هو الحارس األول على رعاٌة تلك الحقوق ،المفروضة من قبل مالك المال الحقٌقً ،وهو هللا تبارك وتعالى .وٌعطً اإلسبلم الحاكم الشرعً -الذي ٌحكم بما أنزل هللا -الحق فً انتزاع ملكٌة الفرد ،إذا تعارضت مع مصلحة عامة للجماعة ،كما ٌعطٌه الحق فً الحجر على السفهاء والمبذرٌن ،وؼ ّل ٌدهم من التصرؾ فً أموالهم ،التً هً فً الواقع أموال الجماعة ،أو أموال هللا حسب مبدأ ( االستخبلؾ ) الذي شرحناه.
اإلسبلم والشٌوعٌة: وإذا كانت الرأسمالٌة تقدس حرٌة الفرد -إلى الحد الذي ذكرنا -فإن للشٌوعٌة نظرة أخرى: (أ) إنها تهدر قٌمة الفرد وحرٌته وتعتبره ( ترسا ً ) فً جهاز الدولة ،وتقدٌسها إنما هو للمجتمع الذي تمثله الدولة .أما الفرد فلٌس له أن ٌتملك أرضا ً أو مصنعا ً أو عقاراً ،أو ؼٌر ذلك من وسابل اإلنتاج .بل ٌجب علٌه أن ٌعمل أجٌراً للدولة ،التً تملك كل مصادر اإلنتاج وتدٌرها ،وتحرم علٌه أن ٌحوز رأس مال وإن كان حبلالً .أما اإلسبلم فقد عرفنا أنه ٌحترم الملكٌة الفردٌة ،ألنها من مقتضٌات الفطرة ،ومن خصابص الحر ٌة ،بل من خصابص اإلنسانٌة ،وألنها أقوى دافع لزٌادة اإلنتاج وتحسٌنه ،وال ٌفرق اإلسبلم بٌن وسابل اإلنتاج وؼٌرها ،وال بٌن الملكٌة الكبٌرة والصؽٌرة ،ما دامت قد جاءت بالطرق الشرعٌة. تها على حرب (ب) ثم إن الشٌوعٌة ،أو ما ٌعبر عنه باالشتراكٌة العلمٌة أو الماركسٌة ،تقوم فلسؾ الطبقات ،وتؤجٌج نٌران الصراع ،بٌن بعضها وبعض ،واستخدام وسابل العنؾ الدموٌة ،حتى تتحطم فً النهاٌة جمٌع الطبقات ،باستثناء طبقة واحدة هً ( البرولٌتارٌا ) .أي العمال .والحق أن الذي ٌنتصر لٌس طبقة العمال ،بل مجموعة من االنتهازٌٌن والمحترفٌن الحزبًٌّن والعسكرٌٌن ،الذٌن ٌسٌطرون باسم العمال على كل شا ،وٌحرمون جمهور المواطنٌن من أي شًء .ولهذا كان ختام بٌان ماركس( : ٌا عمال العالم اتحدوا ) أي ضد الطبقات األخرى .أما اإلسبلم فٌقوم نظامه وفلسفته على بث اإلخاء بٌن الناس ،واعتبارهم جمٌعا ً أسرة واحدة ،وإصبلح ذات بٌنهم إذا فسدت ،واعتبار ذلك أفضل من التطوع بالصبلة والصٌام .وفرق بٌن من ٌوجه نداءه إلى العمال لٌتحدوا ضد ؼٌرهم ،وبٌن من ٌوجه نداءه إلى الناس كافة لٌتآخوا وٌتحابوا ( :وكونوا عباد هللا إخوانا ). (ج) واالشتراكٌة العلمٌة أو الماركسٌة ٌصاحبها دابما الضؽط السٌاسً ،واإلرهاب الفكري ،والحجر على الحرٌات ،وكتم أنفاس المعارضٌن ،واتهام كل معارض للحكم بؤنه رجعً ،أو عمٌل ،أو خابن ،أو ؼٌر ذلك ،من ( األكلٌشٌهات ) المحفوظة عن الشٌوعٌٌن ،من عهد ( لٌنٌن) إلى الٌوم .وقد كتب ( لٌنٌن الثة أرباع العالم ،لٌكون الربع الباقً اشتراكٌا ً ) .أما ) إلى أحد أصدقابه ٌقول ( :إنه ال بؤس بقتل ث اإلسبلم فٌقوم على الشورى ،وٌجعل النصٌحة للحكام من لباب الدٌن ،وٌربً أبناء المجتمع على انتقاد المسًء بالرفق ،واألمر بالمعروؾ والنهى عن المنكر ،وٌنذر األمة إذا رأت الظالم فلم تؤخذ على ٌدٌه، أن ٌعمها هللا بعقاب من عنده.
ؼاٌة االقتصاد اإلسبلمً ومهمته:
على أن اإلسبل م ٌخالؾ تلك األنظمة الوضعٌة ،فٌما هو أعمق من حرٌة الفرد ومنفعة المجتمع ،إنه ٌخالفها جمٌعا ً فً الروح واألساس ،وفى الؽاٌة واالتجاه ،وفى الهمة والوظٌفة: (أ) إن أساس النظام اإلسبلمً لٌس من ومع بشر ،وال من مع فبة من الناس ،إنه شرع هللا الذي ٌعلم المفسد من الصلح ،والذي ٌرٌد لعباده الٌسر وال ٌرٌد لهم الٌسر. إنه سبحانه رب الجمٌع ،ومن ٌشرع للجمٌع ،ببل جور وال محاباة ،فهو رب األؼنٌاء والفقراء ،ورب العمال وأصحاب العمل ،ورب المبلك والمستؤجرٌن ،وهم جمٌعا ً عباده وعٌاله ،ومن أرحم بهم من الوالدة بولدها ،فإذا شرع لهم نظاماً فلٌس أعدل منه وال أكمل وال أمثل ،بخبلؾ األنظمة األخرى ،فكلها من وضع البشر القاصرٌن الذٌن ٌحكمهم النقص البشري .وٌؽلبهم الهوى كثٌراً. (ب) إن تلك األنظمة مادٌة صرؾ ،تجعل االقتصاد ؼاٌتها ،والمال معبودها ،والدنٌا كل همها .إن الرفاهٌة المادٌة هً هدفها األخٌر ،وفردوسها المنشود. أما اإلسبلم فٌجعل االقتصاد وسٌلة إلى ؼاٌة كبرى :أال ٌشتؽل الناس بهم العٌش ومعركة الخبز ،من معرفة هللا وحسن الصلة به ،والتطلع إلى حٌاة أخرى هً خٌر وأبقى .فإن الناس إذا توافرت لهم الكفاٌة واألمن ،اطمؤنوا فً أنفسهم ،واتجهوا بالعبادة الخاشعة إلى ربهم ( الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوؾ ) ،فشعروا بروابط اإلخاء الوثٌق بٌنهم وبٌن اآلخرٌن من عباد هللا .وهذا هو هدؾ االقتصاد فً اإلسبلم. (ج) إن االقتصاد فً تلك األنظمة المادٌة الوضعٌة ،مفصول عن األخبلق ،والمثل العلٌا .وإنما هم تلك األنظمة زٌادة اإل نتاج ،وتنمٌة الثروة الفردٌة أو الجماعٌة بؤي طرٌق. أما اإلسبلم ..فاالقتصاد عنده خادم للقٌم اإلسبلمٌة ،والعقٌدة اإلسبلمٌة ،واألخبلق اإلسبلمٌة ،فإذا تعارضت األؼراض االقتصادٌة لؤلفراد أو المجتمع ،مع تلك القٌم واألخبلق ،لم ٌبال اإلسبلم بتلك األؼراض ،وضحى بها قرٌر العٌن ،فً سبٌل الحفاظ على مبادبه وأهدافه وفضابله. ومن هنا حرّ م اإلسبلم حج المشركٌن ،وطوافهم بالبٌت عراٌا ،برؼم ما كانت تجلب هذه السٌاحة الدٌنٌة من منافع مادٌة ألهل مكة ومن حولهم ،ولكن القرآن أهدر ذلك ووعدهم أن ٌعوضهم هللا خٌراً مما فات علٌهمٌ .قول تعالىٌ ( :ا أٌها الذٌن آمنوا إنما المشركون نجس فبل ٌقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا، وإن خفتم عٌلة ،فسوؾ ٌؽنٌكم هللا من فضله إن شاء) فإذا كان افتتاح ناد للمٌسر أو الرقص ،أو حانة لبٌع الخمر ٌحقق منفعة اقتصادٌة ،كتشجٌع السٌاحة ،والحصول على عمله أجنبٌة ،أو نحو ذلك ،فان هذه المنفعة ؼٌر معتبرة فً نظر اإلسبلم ! ألنها تتعارض مع مبادبه ،فً الحفاظ على سبلمة العقول واألبدان واألخبلق والعقابد والعبلقات .ولهذا حرم القرآن الخمر والمٌسر ،لما فٌهما من إثم كبٌر ،ولم ٌعتبر ما فٌهما من منافع اقتصادٌة لبعض الناسٌ ( :سؤلونك عن الخمر والمٌسر ،قل فهما إثم كبٌر ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما). وبهذا ٌضح لنا أن نظام اإلسبلم نسٌج وحده. انه ٌخالؾ الرأسمالٌة التً تسرؾ فً تدلٌل الفرد ،وإعطابه من الحقوق حتى تضخم وطؽى ،وٌخالؾ الشٌوعٌة إلى تسرؾ فً تحطٌم الفرد ،وإثقاله بالواجبات ،حتى ضمر وانكمش .إن األولى تحابى الفرد على حساب مصلحه المجتمع ،والثانٌة تحابً المجتمع على حساب حرٌة الفرد .وكبل النظامٌن ٌسرؾ فً إعطاء الدنٌا على حساب اآلخرة ،وإعطاء الجسم على حساب الروح واإلسبلم وحده هو الذي برئ من ؼلو الفرٌقٌن ،وجنوحهما إلى طرؾ اإلفراط أو التفرٌط. إنه النظام العدل الوسط ،الذي ٌوازن بٌن الحقوق والواجبات ،وبٌن الفرد والمجتمع ،و بٌن الروح والجسم ،وبٌن الدنٌا واآلخرة ،ببل طؽٌان وال إخسار .كما قال تعالى ( :أال تطؽوا فً المٌزان و وأقٌموا الوزن بالقسط وال تخسروا المٌزان).
وما ذلك إال ألنه شرٌعة هللا التً ال تجوز ،وحكمه الذي ال ٌظلم(..ومن أحسن من هللا حكما ً لقوم ٌوقنون).
غياب الحقيقة بين الغلو والتفريط لعل أؼمض الموضوعات وأعقدها فٌما ٌتعلق بالمجتمع المسلم :اللهو والفنون . وذلك أن أكثر الناس وقعوا فً هذا األمر بٌن طرفً الؽلو والتفرٌط .نظرا ألنه أمر ٌتصل بالشعور والوجدان ,أكثر مما ٌتصل بالعقل والفكر ,وما كان شؤنه كذلك فهو أكثر قبوال للتطرؾ واإلسراؾ من ناحٌة ,فً مقابلة التشدد والتزمت من ناحٌة أخرى . فهناك من ٌتصورون المجتمع اإلسبلمً مجتمع عبادة ونسك ,ومجتمع جد وعمل ,فبل مجال فٌه لمن ٌلهو وٌلعب ,أو ٌضحك وٌمرح ,أو ٌؽنى وٌطرب .ال ٌجوز لشفة فٌه أن تبتسم ,وال لسن أن تضحك ,وال لقلب أن ٌفرح ,وال لبهجة أن ترتسم على وجوه الناس !! وربما ساعدهم على ذلك سلوك بعض المتدٌنٌن ,الذٌن ال ترى أحدهم إال عابس الوجه ,مقطب الجبٌن ,كاشر الناب ,وذلك ألنه إنسان ٌابس أو فاشل أو مرٌض بالعقد وااللتواءات النفسٌة ,ولكنه برر ذلك السلوك العٌب باسم الدٌن ,أي أنه فرض طبٌعته المنقبضة المتوجسة على الدٌن ,والدٌن ال ذنب له , إال سوء فهم هإالء له ,وأخذهم ببعض نصوصه دون بعض. وقد ٌجوز لهإالء أن ٌشددوا على أنفسهم إذا اقتنعوا بذلك ,ولكن الخطر هنا :أن ٌعمموا هذا التشدٌد على المجتمع كله ,وٌلزموه برأي رأوه ,فً أمر عمت به البلوى ,وٌمس حٌاة الناس كافة . وعلى العكس من هإالء :الذٌن أطلقوا العنان لشهوات أنفسهم ,فجعلوا الحٌاة كلها لهواً ولعبا ً ,وأذابوا الحواجز بٌن المشروع والممنوع . .بٌن المفروض والمرفوض . .بٌن الحبلل والحرام . فتراهم ٌدعون إلى االنحبلل ,وٌروجون اإلباحٌة وٌشٌعون الفواحش ما ظهر منها وما بطن باسم الفن , أو التروٌح ,ونسوا أن العبرة بالمسمٌات والمضامٌن ,ال باألسماء والعناوٌن .واألمور بمقاصدها . لهذا كان ال بد من نظرة منصفة إلى الموضوع -بعٌدا عن إفراط هإالء ,وتفرٌط أولبك -فً ضوء النصوص الصحٌحة الثبوت ,الصرٌحة الداللة ,وفى ضوء مقاصد الشرٌعة وقواعد الفقه المقررة كذلك . وال أستطٌع فً هذا المجال التفصٌل ,فقد كتبت فً مفردات الموضوع فً أكثر من كتاب لً. وخصوصا ً فً « الحبلل والحرام فً اإلسبلم » ,و « فتاوى معاصرة » الجزء األول والجزء الثانً . .وعلى األخص الثانً .
واقعية اإلسالم في التعامل مع اإلنسان كله
والخبلصة التً أود أن أذكرها هنا تتمثل فً هذه المبادئ أو الحقابق : إن اإلسبلم دٌن واقعً ,فهو ٌتعامل مع اإلنسان كله :جسمه وروحه وعقله ووجدانه ,وٌطالبه أن ٌؽذٌها جمٌعا ً ,بما ٌشبع حاجتها ,فً حدود االعتدال ,الذي هو صفة « عباد الرحمن » ( :الذٌن إذا أنفقوا لم ٌسرفوا ولم ٌقتروا وكان بٌن ذلك قوما ) ,ولٌس هذا خلقهم فً أمر المال فقط ,بل هو خلق أساسً عام فً كل األمور ,هو المنهج الوسط لؤلمة الوسط . وإذا كانت الرٌاضة تؽذى الجسم ,والعبادة تؽذى الروح ,والعلم ٌؽذى العقل ,فإن الفن ٌؽذى الوجدان. ونرٌد بالفن :النوع الراقً الذي ٌسمو باإلنسان ,ال الذي ٌهبط به .
القراّن ينبه على عنصري المنفعة والجمال في الكون وإذا كانت روح الفن هً اإلحساس بالجمال وتذوقه ,فهذا ما عنى القرآن بالتنبٌه علٌه وتؤكٌده فً أكثر من موضع . فهو ٌلفت النظر بقوة إلى عنصري « الحسن » أو « الجمال » الذي أودعه هللا فً كل ما خلق ,إلى جوار عنصري « النفع » أو « الفابدة » فٌها . كما أنه شرع لئلنسان االستمتاع بالجمال أو « الزٌنة » مع المنفعة أٌضا . ٌقول هللا تعالى فً معرض االمتنان باألنعام (:واألنعام خلقها ,لكم فٌها دؾء ومنافع ومنها تؤكلون ), وفى هذا تنبٌه على جانب المنفعة والفابدة ,ثم ٌقول ( :ولكم فٌها جمال حٌن ترٌحون وحٌن تسرحون ) ,فهذا تنبٌه على الجانب الجمالً ,حٌث ٌلفتنا إلى هذه اللوحة الربانٌة الرابعة ,التً لم ترسمها ٌد فنان مخلوق ,بل رسمتها ٌد الخالق سبحانه . وفى نفس السٌاق ٌقول سبحانه ( والخٌل والبؽال والحمٌر لتركبوها وزٌنة ) ,فالركوب ٌحقق منفعة مادٌة مإكدة ,أما الزٌنة فهً متعة جمالٌة فنٌة ,بها ٌتحقق التكامل للوفاء بحاجات اإلنسان كل اإلنسان . وفى هذا السٌاق من نفس السورة امتن هللا تعالى بتسخٌر البحر فقال ( :وهو الذي سخر البحر لتؤكلوا منه لحما ً طرٌا ً وتستخرجوا منه حلٌة تلبسونها ) فلم ٌقصر فابدة البحر على العنصر المادي المتمثل فً اللحم الطري الذي ٌإكل ,فٌنتفع به الجسم ,بل ضم إلٌه الحلٌة التً تلبس للزٌنة ,فتستمتع بها العٌن س. والنؾ وهذا التوجٌه القرآنً تكرر فً أكثر من مجال ,ومن ذلك :مجال النبات والزرع والنخٌل واألعناب والزٌتون والرمان متشابها وؼٌر متشابه ٌ ,قول تعالى فً موضع من سورة األنعام ( :كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه ٌوم حصاده وال تسرفوا ) . وفى موضع آخر من نفس السور ة ٌقول بعد ذكر الزرع وجنات النخٌل والعنب ( :انظروا إلى ثمره إذا أثمر وٌنعه ,إن فً ذلكم آلٌات لقوم ٌإمنون ) . فكما أن الجسم فً حاجة إلى األكل من الثمر إذا أثمر ,فإن النفس فً حاجة إلى االستمتاع بالنظر إلى ثمره إذا أثمر وٌنعه .وبهذا ٌرتفع اإلنسان أن ٌكون همه األول أو األوحد هو هم البطن ! ومثل ذلك قوله تعالى ٌ ( :ا بنى آدم خذوا زٌنتكم عند كل مسجد وكلوا اشربوا وال تسرفوا ,انه ال ٌحب
المسرفٌن * قل من حرم زٌنة هللا التً أخرج لعباده والطٌبات من الرزق ) . فؤخذ الزٌنة لحاجة الوجدان ,واألكل والشرب لحاجة الجثمان ,وكبلهما مطلوب . وكذلك نجد االستفهام اإلنكاري فً اآلٌة الثانٌة ٌنصب على أمرٌن :تحرٌم « زٌنة هللا » التً أخرج لعباد« ,وتحرٌم « الطٌبات » من الرزق ,و « زٌنة هللا » ,تجسد عنصر الجمال الذي هٌؤه هللا لعباده ,بجوار عنصر المنفعة الذي ٌتمثل فً « الطٌبات من الرزق » .وتؤمل هذه اإلضافة -إضافة كلمة «زٌنة » -إلى لفظ الجبللة « زٌنة هللا » ففٌها تشرؾ لهذه الزٌنة وتنوٌه بها .وفى هذا السٌاق جاء قبل هاتٌن اآلٌتٌن قوله تعالى فً شؤن اللباس : ً ( ٌا بنى آدم قد أنزلنا علٌكم لباسا ً ٌوارى سوءاتكم ورٌشا ,ولباس التقوى ذلك خٌر) ,فقد جعلت اآلٌة اللباس -الذي امتن هللا تعالى بإنزاله -أنواعا ً ,وإن شبت قلت :جعلت له مقاصد ومهمات :مقصد « الستر » المعبر عنه بقوله ٌ « :واري سوءاتكم » ,ومقصد « التجمل والزٌنة » المعبر عنه بقوله « : ورٌشا ً » ومقصد « الوقاٌة » من الحر والبرد ,المعبر عنه بقوله « :ولباس التقوى » .
المؤمن عميق اإلحساس بالجمال في الكون والحياة واإلنسان إن المتجول فً رٌاض القرآن ٌرى بوضوح :أنه ٌرٌد أن ٌؽرس فً عقل كل مإمن وقلبه الشعور بالجمال المبثوث فً أجزاء الكون من فوقه ومن تحته ومن حوله :فً السماء ,واألرض ,والنبات , والحٌوان ,واإلنسان . فً جمال السماء ٌقرأ قوله تعالى ( :أفلم ٌنظروا إلى السماء فوقهم كٌؾ بنٌناها وزٌناها وما لها من فروج ) ( ,ولقد جعلنا فً السماء بروجا ً وزٌناها للناظرٌن ) . وفى جمال األرض ونباتها ٌقرأ ( :واألرض مددناها وألقٌنا فٌها رواسً وأنبتنا فٌها من كل زوج بهٌج ) ( .وأنزل لكم من السماء ما ًء فؤنبتنا به حدابق ذات بهجة ) . وفى جمال الحٌوان ٌقرا ما ذكرناه قبل عن األنعام ( :ولكم فٌها جمال حٌن ترٌحون وحٌن تسرحون ) . وفى جمال اإلنسان ٌقرأ ( :وصوركم فؤحسن صوركم ) (,الذي خلقك فسواك فعدلك فً أي صورة ما شاء ركبك ) . إن المإمن ٌرى ٌد هللا المبدعة فً كل ما يشاهده فً هذا الكون البدٌع ,وٌبصر جمال هللا فً جمال ما خلق وصور ٌ ,رى فٌه ( صنع هللا الذي أتقن كل شًء ) ( ,الذي أحسن كل شًء خلقه ) . وبهذا ٌحب المإمن الجمال فً كل مظاهر الوجود من حوله ؛ ألنه أثر جمال هللا جل وعبل . وهو ٌحب الجمال كذلك ؛ ألن « الجمٌل » ا سم من أسمابه تعالى الحسنى وصفة من صفاته العبل . وهو ٌحب الجمال أٌضا ,ألن ربه ٌحبه ,فهو جمٌل ٌحب الجمال .
إن هللا جميل يحب الجمال وهذا ما علمه النبً صلى هللا علٌه وسلم ألصحابه ,وقد توهم بعضهم أن الولع بالجمال ٌنافً اإلٌمان , أو ٌدخل صاحبه فً دابرة الكبر المقٌت عند هللا وعند الناس . روى ابن مسعود أن رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم قال « :ال ٌدخل الجنة من كان فً قلبه مثقال ذرة من كبر» ,فقال رجل :إن الرجل ٌحب أن ٌكون ثوبه حسنا ,ونعله حسنة .قال « :إن هللا جمٌل ٌحب الجمال ,الكبر بطر الحق وؼمط الناس » .
القرآن معجزة جمالية والقرآن الكرٌم آٌة اإلسبلم الكبرى ,ومعجزة الرسول العظمى ٌ :عتبر معجزة جمالٌة ,إضافة إلى أنه معجزة عقلٌة ,فقد أعجز العرب بجمال بٌانه ,وروعة نظمه وأسلوبه ,وتفرد لحنه وموسٌقاه ,حتى سماه بعضهم :سحراً . وقد بٌن علماء الببلؼة وأدباء العربٌة وجه اإلعجاز البٌانً أو الجمالً فً هذا الكتاب ,منذ عبد القاهر إلى الرافعً وسٌد قطب وبنت الشاطا وؼٌرهم فً عصرنا . ومن المطلوب ؾي تبلوة القرآن أن ٌنضم جمال الصوت واألداء إلى جمال البٌان والنظم .ولهذا قال تعالى ( :ورتل القرآن ترتٌبل ) . وقال الرسول صلى هللا علٌه وسلم « :زٌنوا القرآن بؤصواتكم » ,وفى لفظ آخر « :فإن الصوت الحسن ٌزٌد القرآن حسنا ً » . وقال « :لٌس منا من لم ٌتؽن بالقرآن » ولكن التؽنً المطلوب ال ٌعنً التبلعب أو التحرٌؾ. وقال علٌه الصبلة والسبلم ألبى موسى «:لو رأٌتنً وأنا أستمع قراءتك البارحة ! لقد أوتٌت مزمارا من مزامٌر آل داود » ! فقال أبو موسى :لو علمت ذلك لحبرته لك تحبٌرا » !! ٌعنى :زدت فً تجوٌده وإتقانه وتحسٌن الصوت به . وقال « :ما أذن هللا لشًء ,ما أذن لنبً حسن الصوت ٌتؽنى بالقرآن ٌ ,جهر به » ولقد سمعت شٌخنا الدكتور محمد عبد هللا دراز رحمه هللا ٌحكً لنا عن موقؾ له فً المجلس ال لئلذاعة ,وقد كان عضواً فٌه :أنهم أرادوا أن ٌجعلوا وقت قراءة القرآن فً االفتتاح والختام وبعض الفترات محسوبا على نصٌب الدٌن فقط ,فقال لهم :إن سماع القرآن لٌس دٌنا فقط .إنه استمتاع أٌضا بالفن والجمال المودع فً القرآن ,والمإدى بؤحسن األصوات . وهذا صحٌح ,فالقرآن دٌن وعلم وأدب وفن معا ً .فهو ٌؽذي الروح ,وٌقنع العقل ,وٌوقظ الضمٌر , وٌمتع العاطفة ,وٌصقل اللسان .
التعبير عن الجمال وإذا كان اإلسبلم قد دعا إلى اإلحساس بالجمال وتذوقه وحبه ,فإنه قد شرع التعبٌر عن هذا اإلحساس والتذوق والحب بما هو جمال أٌضا ً .
فنون القول واألدب وأبرز ما ٌتجلى ذلك فً فنون القول من الشعر والنثر والمقامة والقصة والملحمة ,وسابر فنون األدب ,وقد استمع النبً صلى هللا علٌه وسلم إلى الشعر وتؤثر به ,ومنه قصٌدة كعب بن زهٌر الشهٌرة « ٌها من الؽزل ما هو معروؾ ,وقصٌدة النابؽة الجعدي ,ودعا له ,ووظؾ الشعر فً بانت سعاد » وؾ خدمة الدعوة والدفاع عنها ,كما صنع مع حسان .واستشهد بالشعر كما فً قوله « :أصدق كلمة قالها شاعر :كلمة لبٌد :أال كل شا ما خبل هللا باطل » واستشهد أصحابه بالشعر ,وفسروا به معانً القرآن ,بل منهم من قاله ,وأجاد فٌه ,كما ٌروى عن على كرم هللا وجهه .وهناك عدد كبٌر من الصحابة كانوا شعرا ء . وكثٌر من األبمة الكبار كانوا شعرا ء ,مثل اإلمام عبد اله بن المبارك ,واإلمام محمد بن إدرٌس الشافعً وؼٌرهما . وقال صلى هللا علٌه وسلم « إن من الشعر حكمة » « ,إن من البٌان لسحراً »« إن من البٌان سحرا , وان من الشعر حكما ». ومفهوم الحدٌث أن من الشعر ما هو بعٌد عن الحكمة بل هو نقٌضها ,مثل شعر المدٌح بالباطل , األخبلقً والمثل ة والفخر الكاذب والهجاء المتعدى ,والؽزل المكشوؾ ,ونحو ذلك مما ال ٌتفق مع القٌم العلٌا . ولهذا ذم القرآن الشعراء الزابفٌن والمزٌفٌن ,الذٌن ال ٌتورعون عن شا ,والذٌن تكذب أفعالهم أقوالهم .وذلك فً قوله تعالى ( :والشعراء ٌتبعهم الؽاوون *ألم تر أنهم فً كل واد ٌهٌمون * وأنهم ٌقولون ما ال ٌفعلون * إال الذٌن آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا هللا كثٌراًًً وانتصروا من بعد ما ظلموا . ) . . . فالشعر -واألدب عامة ,والفن بوجه أعم -له هدؾ ووظٌفة ,ولٌس ساببا ,فهو شعر ملتزم ,وأدب ملتزم ,وفن ملتزم . ٌبلبمن مما عند ا أما القوالب التً ٌظهر فٌها الشعر أو األدب فبل مانع من تؽٌرها وتطورها ,واقتباس ما ؼٌرنا .المهم هو الهدؾ والمضمون والوظٌفة . اخترع العرب قدٌما قوالب فً الشعر كالموشحات ,وؼٌرها .ولهذا ال بؤس من قبول القوالب الجدٌدة
فً الشعر المعاصر .كالشعر الحر . كذلك ابتكر العرب فً العصور اإلسبلمٌة قوالب أدبٌة كالمقامات ,والقصص الخٌالٌة ,كما فً « رسالة الؽفران » ,و « ألؾ لٌلة ولٌلة » وترجموا مثل « كلٌلة ودمنة » ,وألؾ المتؤخرون المبلحم الشعبٌة مثل قصة « عنترة » ,وسٌرة « بنى هبلل » إلى ؼٌر ذلك من القوالب . وفى عصرنا ٌمكننا أن نستحدث من القوالب ما شبنا ,وأن نقتبس من ؼٌرنا ما ٌنفعنا ,كالمسرحٌة والرواٌة والقصة القصٌرة . والذي نود تؤكٌده هنا هو ضرورة االلتزام بالعربٌة الفصحى ,والحذر من المحاوالت المشبوهة لتروٌج اللهجات العامٌة المختلفة للشعوب العربٌة ,فإنها تهدؾ إلى المباعدة بٌنها وبٌن القرآن والسنة ,كما تهدؾ إلى تثبٌت الفرقة والتجزبة اإلقلٌمٌة ,التً تحرص على بقابها القوى المعادٌة للعروبة واإلسبلم . وٌؽنً عن ذلك اللؽة السهلة التً تفهم الجماهٌر العربٌة بها نشرات األخبار فً اإلذاعة والتلفاز ,وتفهم بها الصحؾ التً تطالعها كل ٌوم . كما أن الفصحى هً التً تقرب بٌن العرب وسابر أبناء اإلسبلم ممن ٌتعلمون العربٌة ,فإنهم ال ٌتعلمون إال الفصحى ,وال ٌستطٌعون التفاهم مع الجمٌع إال بها . وقد وجهت إلً فً أكثر من مكان أسبلة حول شرعٌة بعض القوالب اإلسبلمٌة األدبٌة كالمسرحٌة والقصة ,حٌث ٌخترع القصاص أو المإلؾ المسرحً شخصٌات ,وٌنطقها بؤقوال وأمور لم تحدث فً الواقع ,فهل ٌدخل هذا فً دابرة الكذب المحرم شرعا ً ؟ وكان جوابً :أن هذا ال ٌدخل فً الكذب المحظور :ألن السامع ٌعرؾ جٌدا أن المقصود لٌس هو إخبار القارئ بوقابع حدثت بالفعل .إنما هو أشبه بالكبلم الذي ٌحكى على ألسنة الطٌور والحٌوانات , فهو من باب ا لتصوٌر الفنً واستنطاق األشخاص بما ٌمكن أن ٌنطقوا به فً هذا الموقؾ .كما حكى القرآن عما تكلمت به « النملة » أو نطق به « الهدهد » أمام سلٌمان علٌه السبلم .فمن المإكد أنهما لم ٌتحدثا بهذا الكبلم العربً المبٌن ,إنما ترجم القرآن عما ٌمكن أن ٌكون قولهما فً هذا الوقت ,وذلك الموقؾ . ً وقد شاركت شخصٌا فً التؤلٌؾ المسرحً بعملٌن : أحدهما :مسرحٌة شعرٌة عن « ٌوسؾ الصدٌق » علٌه السبلم .وذلك فً مطلع حٌاتً األدبٌة ,وأنا فً السنة األولى من المرحلة الثانوٌة ,وكنت متؤثراً فً ذلك بمسرحٌات شوقً الشهٌرة . والثانً :مسرحٌة تارٌخٌة عن سعٌد بن جبٌر والحجاج بن ٌوسؾ ,سمٌتها «عالم وطاؼٌة» وقد مثلت فً أكثر من بلد ,والقت قبوال حسنا .بخبلؾ األولى ! ألنها تتعلق بقصة نبً مرسل ,واالتفاق بٌن علماء العصر منعقد على أن األنبٌاء ال ٌمثلون .
فن الجـمال المســـموع ( الغناء والموسيقى ) لقد تبٌن لنا فٌما ذكرناه من خبلل النصوص :عناٌة اإلسبلم بالجمال ,وحرصه على تربٌة تلك الحاسة التً تجعل اإلنسان ٌشعر بالجمال وٌتذوقه فً مجاالته المتنوعة . ومن الجمال ما ٌتجلى لحاسة السمع ,ومنه ما ٌتجلى لحاسة البصر ,ومنه ما ٌتجلى لحواس أخرى .
ونرٌد هنا أن نتحدث عن « الجمال المسموع » وبعبارة أخرى :عن الؽناء سواء أكان بآلة موسٌقٌة أم بؽٌر آلة ,وٌلزمنا أن نجٌب عن هذا السإال الكبٌر :ما حكم اإلسبلم فً الؽناء والموسٌقى ؟ ما حكم اإلسالم في الغناء والموسيقى ؟ سإال ٌتردد على ألسنة كثٌرٌن فً مجاالت مختلفة وأحٌان شتى . سإال اختلؾ جمهور المسلمٌن الٌوم فً اإلجابة علٌه ,واختلؾ سلوكهم تبعا الختبلؾ أجوبتهم ,فمنهم من ٌفتح أذنٌه لكل نوع من أنواع الؽناء ,ولكل لون من ألوان الموسٌقى مدعٌا ً أن ذلك حبلل طٌب من طٌبات الحٌاة التً أباح هللا لعباد . ومنهم من ٌؽلق الرادٌو أو ٌؽلق أذنٌه عند سماع أٌة أؼنٌة قاببل :إن الؽناء مزمار الشٌطان ,ولهو الحدٌث وٌصد عن ذكر هللا وعن الصبلة وخاصة إذا كان المؽنً امرأة ,فالمرأة -عندهم -صوتها عورة بؽٌر الؽناء ,فكٌؾ بالؽناء ؟ وٌستدلون لذلك بآٌات وأحادٌث وأقوال . ومن هإالء من ٌرفض أي نوع من أنواع الموسٌقى ,حتى المصاحبة لمقدمات نشرات األخبار . ووقؾ فرٌق ثالث متردداً بٌن الفرٌقٌن ؛ ٌنحاز إلى هإالء تارة ,والى أولبك طورا ٌ ,نتظر القول الفصل والجواب الشافً من علماء اإلسبلم فً هذا الموضوع الخطٌر ,الذي ٌتعلق بعواطؾ الناس وحٌاتهم الٌومٌة ,وخصوصا بعد أن دخلت اإلذاعة -المسموعة والمربٌة -على الناس بٌوتهم ,بجدها وهزلها ,وجذبت إلٌها أسماعهم بؤؼانٌها وموسٌقاها طوعا وكرها . والؽناء بآلة -أي مع الموسٌقى -وبؽٌر آلة :مسؤلة ثار فٌها الجدل والكبلم بٌن علماء اإلسبلم منذ العصور األولى ,فاتفقوا فً مواضع واختلفوا فً أخرى . اتفقوا على تحرٌم كل ؼناء ٌشتمل على فحش أو فسق أو تحرٌض على معصٌة ,إذ الؽناء لٌس إال كبلما ,فحسنه حسن ,وقبٌحه قبٌح ,وكل قول ٌشتمل على حرام فهو حرام ,فما بالك إذا اجتمع له الوزن والنؽم والتؤثٌر ؟ واتفقوا على إباحة ما خبل من ذلك من الؽناء الفطري الخالً من اآلالت واإلثارة ,وذلك فً مواطن السرور الم شروعة ,كالعرس وقدوم الؽابب ,وأٌام األعٌاد . . .ونحوها ,بشرط أال ٌكون المؽنً امرأة فً حضرة أجانب منها . وقد وردت فً ذلك نصوص صرٌحة -سنذكرها فٌما بعد . واختلفوا فٌما عدا ذلك اختبلفا بٌنا :فمنهم من أجاز كل ؼناء بآلة وبؽٌر آلة ,بل اعتبره مستحبا ,ومنهم من منعه بآلة وأجازه بؽٌر آلة ,ومنهم من منعه منعا باتا ً بآله وبؽٌر آلة ,وعده حراما ,بل ربما ارتقى به إلى درجة « الكبٌرة » . وألهمٌة الموضوع نرى لزاما علٌنا أن نفصل فٌه بعض التفصٌل ,ونلقً علٌه أضواء كاشفة لجوانبه المختلفة ,حتى ٌتبٌن المسلم الحبلل فٌه من الحرام ,متبعا للدلٌل الناصع ,ال مقلدا قول قابل ,وبذلك ٌكون على بٌنة من أمره ,وبصٌرة من دٌنه .
األصل في األشياء اإلباحة : قرر علماء اإلسبلم أن األصل فً األشٌاء اإلباحة لقوله تعالى ( :هو الذي خلق لكم ما فً األرض جمٌعا ً ) ,وال تحرٌم إال بنص صحٌح صرٌح من كتاب هللا تعالى ,أو سنة رسوله صلى هللا علٌه وسلم أو إجماع ثابت متٌقن ,ؾإذا لم ٌرد نص وال إجماع .أو ورد نص صرٌح ؼٌر صحٌح ,أو صحٌح ؼٌر
صرٌح ,بتحرٌم شا من األشٌاء ,لم ٌإثر ذلك فً حله ,وبقى فً دابرة العفو الواسعة ,قال تعالى ( : وقد فصل لكم ما حرم علٌكم إال ما اضطررتم إلٌه ) . وقال رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم « :ما أحل هللا فً كتابه فهو حبلل ,وما حرم فهو حرام ,وما سكت عنه فهو عفو ,فاقبلوا من هللا عافٌته ,فإن هللا لم ٌكن لٌنسى شٌبا ً » ,وتبل ( :وما كان ربك نسٌا ً ) ( رواه الحاكم عن أبى الدرداء وصححه ,وأخرجه البزار ) . وقال « :إن هللا فرض فرابض فبل تضٌعوها ,وحد حدوداً فبل تعتدوها ,وسكت عن أشٌاء رحمة بكم ؼٌر نسٌان فبل تبحثوا عنها » ( أخرجه الدارقطنى عن أبً ثعلبة الخشنى .وحسنه الحافظ أبو بكر السمعانى فً أمالٌه ,والنووي فً األربعٌن ) . وإذا كانت هذه هً القاعدة فما هً النصوص واألدلة التً استند إلٌها القابلون بتحرٌم الؽناء ,وما موقؾ المجٌزٌن منها ؟
أدلة المحرمين للغناء ومناقشتها : ( أ ) استدل الم حرمون بما روى عن ابن مسعود وابن عباس وبعض التابعٌن :أنهم حرموا الؽناء محتجٌن بقول هللا تعالى ( :ومن الناس من ٌشتري لهو الحدٌث لٌضل عن سبٌل هللا بؽٌر علم وٌتخذها هزواً ,أولبك لهم عذاب مهٌن ) وفسروا لهو الحدٌث بالؽناء . قال ابن حزم :وال حجة فً هذا لوجوه : أحدها :أنه ال حجه ألحد دون رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم . والثانً :أنه قد خالؾ ؼٌرهم من الصحابة والتابعٌن . والثالث :أن نص اآلٌة ٌبطل احتجاجهم بها ! ألن فٌها ( :ومن الناس من ٌشتري لهو الحدٌث لٌضل علها كان كافراً ببل خبلؾ ,إذا اتخذ سبٌل هللا عن سبٌل هللا بؽٌر علم وٌتخذها هزوا ) وهذه صفة من ؾ هزواً .قال : « ولو أن امرءاً اشترى مصحفا لٌضل به عن سبٌل هللا ,وٌتخذه هزواً ,لكان كافراً ؛ فهذا هو الذي ذم هللا تعالى ,وما ذم قط -عز وجل -من اشترى لهو الحدٌث لٌتلهى به وٌروح نفسه ,ال لٌضل عن سبٌل هللا تعالى .فبطل تعلقهم بقول هإالء ,وكذلك من اشتؽل عامداً عن الصبلة بقراءة القرآن ,أو بقراءة السنن ,أو بحدٌث ٌتحدث به ,أو بؽناء أو بؽٌر ذلك ,فهو فاسق عاص هلل تعالى ,ومن لم ٌضٌع شٌبا من الفرابض اشتؽاال بما ذكرنا فهو محسن » . ( ب ) واستدلوا بقوله تعالى فً مدح المإمنٌن ( :وإذا سمعوا اللؽو أعرضوا عنه ) ,والؽناء من اللؽو فوجب اإلعراض عنه . وٌجاب بؤن الظاهر من اآلٌة أن اللؽو :سفه القول من السب والشتم ونحو ذلك ,وبقٌة اآلٌة تنطق بذلك .قال تعالى ( :وإذا سمعوا اللؽو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سالم علٌكم ال نبتؽً الجاهلٌن ) ,فهً شبٌهة بقوله تعالى فً وصؾ عباد الرحمن ( :وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سبلما ) . ولو سلمنا أن اللؽو فً اآلٌة ٌشمل الؽناء لوجدنا اآلٌة تستحب اإلعراض عن سماعه وتمدحه ,ولٌس فٌها ما ٌوجب ذلك . ً وكلمة « اللؽو » ككلمة « الباطل » تعنى ما ال فابدة فٌه ,وسماع ما ال فابدة فٌه لٌس محرما ما لم ٌضٌع حقا ,أو ٌشؽل من واجب . روى عن ابن جرٌج :أنه كان ٌرخص فً السماع فقٌل له :أٌإتى به ٌوم القٌامة فً جملة حسناتك أو سٌباتك ؟ فقال :ال فً الحسنات وال فً السٌبات :ألنه شبٌه باللؽو ,قال تعالى ( :ال ٌإاخذكم هللا
باللؽو فً أٌمانكم ) . قال اإلمام الؽزالً « :إذا كان ذكر اسم هللا تعالى على الشًء على طرٌق القسم من ؼٌر عقد علٌه وال تصمٌم ,والمخالفة فٌه -مع أنه ال فابدة فٌه -ال ٌإاخذ به ,فكٌؾ ٌإاخذ بالشعر والرقص » ؟! . على أننا نقول :لٌس كل ؼناء لؽواً :إنه ٌؤخذ حكمه وفق نٌة صاحبه ,فالنٌة الصالحة تحٌل اللهو قربة ,والمزح طاعة ,والنٌة الخبٌثة تحبط العمل الذي ظاهره العبادة وباطنه الرٌاء « :إن هللا ال ٌنظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ٌنظر إلى قلوبكم وأعمالكم » . ً وننقل هنا كلمة جٌدة قالها ابن حزم فً « المحلى » ردا على الذٌن ٌمنعون الؽناء قال « :احتجوا فقالوا :من الحق الؽناء أم من ؼٌر الحق ؟ وال سبٌل إلى قسم ثالث ,وقد قال هللا تعالى ( :فماذا بعد الحق إال الضبلل ) فجوابنا -وباهلل التوفٌق : -أن رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم قال « :إنما األعمال بالنٌات وإنما لكل امرئ ما نوى » فمن نوى باستماع الؽناء عونا على معصٌة هللا فهو فاسق ,وكذلك كل شا ؼٌر الؽناء ,ومن نوى به تروٌح نفسه ,لٌقوى بذلك على طاعة هللا عز وجل ,وٌنشط نفسه معصً فهو لؽو معفو ة بذلك على البر فهو مطٌع محسن ,وفعله هذا من الحق .ومن لم ٌنو طاعة وال عنه ,كخروج اإلنسان إلى بستانه ,وقعوده على باب داره متفرجا ,وصبؽه ثوبه الزوردٌا ً أو أخضر أو ؼٌر ذلك ,ومد ساقه وقبضها ,وسابر أفعاله . ( جـ ) واستدلوا بالحدٌث « :كل لهو ٌلهو به المإمن فهو باطل إال ثبلثة :مبلعبة الرجل أهله , وتؤدٌبه فرسه ,ورمٌه عن قوسه » ( رواه أصحاب السلؾ األربعة ,وفٌه اضطراب ) . .والؽناء خارج عن هذه الثبلثة . وأجاب المجوزون بضعؾ الحدٌث ,ولو صح لما كان فٌه حجة ,فإن قوله « :فهو باطل » ال ٌدل على التحرٌم بل ٌدل على عدم الفابدة .فقد ورد عن أبى الدرداء قوله « :إنً ألستجم نفسً بالشًء من الباطل لٌكون أقوى لها على الحق .على أن الحصر فً الثبلثة ؼٌر مراد ,فإن التلهً بالنظر إلى الحبشة وهم ٌرقصون فً المسجد النبوي خارج عن تلك األمور الثبلثة ,وقد ثبت فً الصحٌح .وال شك أن التفرج فً البساتٌن وسماع أصوات الطٌور ,وأنواع المداعبات مما ٌلهو به الرجل ,ال ٌحرم علٌه شا منها وان جاز وصفه بؤنه باطل . ( د ) واستدلوا بالحدٌث الذي رواه البخاري -معلقا -عن أبى مالك أو أبى عامر األشعري -شك من الراوي -عن النبً علٌه الصبلة والسبلم قال « :لٌكونن قوم من أمتً ٌستحلون الحر والحرٌر والخمر والمعازؾ » .والمعازؾ :المبلهً ,أو آالت العزؾ . والحدٌث وان كان فً صحٌح البخاري ,إال أنه من « المعلقات » ال من « السندات المتصلة » ولذلك رده ابن حزم النقطاع سنده ,ومع التعلٌق فقد قالوا :إن سنده ومتنه لم ٌسلما من االضطراب . وقد اجتهد الحافظ ابن حجر لوصل الحدٌث ,ووصله بالفعل من تسع لحرق ,ولكنها جمٌعا تدور على راو تكلم فٌه عدد من األبمة النقاد ,أال وهو :هشام ابن عمار .وهو -وان كان خطٌب دمشق ومقربها ومحدثها وعالمها ,ووثقه ابن معٌن والعجلى -فقد قال عنه أبو داود :حدث بؤربعمابة حدٌث ال أصل لها . وقال أبو حاتم :صدوق وقد تؽٌر ,فكان كل ما دفع إلٌه قرأه ,وكل ما لقنه تلقن .وكذلك قال ابن سٌار . وقال اإلمام أحمد :طٌاش خفٌؾ . وقال النسابً :ال بؤس به ( وهذا لٌس بتوثٌق مطلق ) . ورؼم دفاع الحافظ الذهبً عنه قال :صدوق مكثر له ما ٌنكر .وأنكروا علٌه أنه لم ٌكن ٌحدث إال بؤجر ! ومثل هذا ال ٌقبل حدٌثه فً مواطن النزاع ,وخصوصا فً أمر عمت به البلوى . ورؼم ما فً ثبوته من الكبلم ,ففً داللته كبلم آخر ! فكلمة « المعازؾ » لم ٌتفق على معناها بالتحدٌد :ما هو ؟ فقد قٌل :المبلهً ,وهذه مجملة ,وقٌل :آالت العزؾ .
ولو سلمنا بؤن معناها :آالت الطرب المعروفة بآالت الموسٌقى .فلفظ الحدٌث المعلق فً البخاري ؼٌر صرٌح فً إفادة حرمة « العازؾ » ألن عبارة « ٌستحلون » كما ذكر ابن العربً لها معنٌان : أحدهما ٌ :عتقدون أن ذلك حبلل ,والثانً :أن تكون مجازاً عن االسترسال فً استعمال تلك األمور ! إذ لو كان المقصود باالستحبلل :المعنى الحقٌقً ,لكان كفراً ,فإن استحبلل الحرام المقطوع به -مثل الخمر والزنى المعبر عنه ب « الحر » -كفر باإلجماع . ولو سلمنا بداللتها على الحرمة ,فهل ٌستفاد منها تحرٌم المجموع المذكور من الحر والحرٌر والخمر والم عازؾ ,أو كل فرد منها على حدة ؟ واألول هو الراجح .فإن الحدٌث فً الواقع ٌنعى على أخبلق طابفة من الناس :انؽمسوا فً الترؾ واللٌالً الحمراء ,وشرب الخمور .فهم بٌن خمر ونسا ء ,ولهو وؼناء ,وخز وحرٌر .ولذا روى ابن ماجه هذا الحدٌث عن أبى مالك األشعري بلفظ « :لٌشربن أناس من أمتً الخمر ٌسمونها بؽٌر اسمها ٌ ,عزؾ على رإوسهم بالمعازؾ والمؽنٌات ٌ ,خسؾ هللا بهم األرض وٌجعل منهم القردة والخنازٌر » ,وكذلك رواه ابن حبان فً صحٌحه ,والبخاري فً تارٌخه . وكل من روى الحدٌث من طرٌق ؼٌر طرٌق هشام بن عمار ,جعل الوعٌد على شرب الخمر ,وما المعازؾ إال مكملة وتابعة . ( هـ ) واستدلوا بحدٌث عابشة « :إن هللا تعالى حرم القٌنة ( أي الجارٌة ) وبٌعها وثمنها ,وتعلٌمها » . والجواب عن ذلك : أوال :أن الحدٌث ضعٌؾ ,وكل ما جاء فً تحرٌم بٌع القٌان ضعٌؾ . ثانٌا :قال الؽزالً :المراد بالقٌنة الجارٌة التً تؽنً للرجال فً مجلس الشرب ,وؼناء األجنبٌة للفساق ومن ٌخاؾ علٌهم الفتنة حرام ,وهم ال ٌقصدون بالفتنة إال ما هو محذور .فؤما ؼناء الجارٌة لمالكها ,فبل ٌفهم تحرٌمه من هذا الحدٌث .بل لؽٌر مالكها سماعها عند عدم الفتنة ,بدلٌل ما روى فً ا لصحٌحٌن من ؼناء الجارٌتٌن فً بٌت عابشة رضى هللا تعالى عنها ,وسٌؤتً . ثالثا :كان هإالء القٌان المؽنٌات ٌكون عنصراًًَ هاما ً من نظام الرقٌق ,الذي جاء اإلسبلم بتصفٌته تدرٌجٌا ,فلم ٌكن ٌتفق وهذه الحكمة :إقرار بقا ء هذه الطبقة فً المجتمع اإلسبلمً ,فإذا جاء حدٌث بالنعً على امتبلك « القٌنة » وبٌعها ,والمنع منه ,فذلك لهدم ركن من بناء « نظام الرق » العتٌد . ( و ) واستدلوا بما روى نافع :أن ابن عمر سمع صوت زمارة راع فوضع إصبعٌه فً أذنٌه ,وعدل راحلته عن الطرٌق ,وهو ٌقول ٌ :ا نافع ,أتسمع ؟ فؤقول :نعم ,فٌمضى ,حتى قلت :ال .فرفع ٌده وعدل راحلته إلى الطرٌق وقال « :رأٌت رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ٌسمع زمارة راع فصنع مثل هذا ( رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه ) . والحدٌث قال عنه أبو داود :حدٌث منكر . ولو صح لكان حجة على المحرمٌن ال لهم .فلو كان سماع المزمار حراما ما أباح النبً صلى هللا علٌه وسلم البن عمر سماعه ,ولو كان عند ابن عمر حراما ما أباح لنافع سماعه ,وألمر علٌه السبلم بمنع وتؽٌٌر هذا المنكر ,فإقرار النبً صلى هللا علٌه وسلم البن عمر دلٌل على أنه حبلل . وإنما تجنب -علٌه السبلم -سماعه كتجنبه أكثر المباح من أمور الدنٌا كتجنبه األكل متكبا وأن ٌبٌت عنده دٌنار أو درهم . . . .الخ . ( ز ) واستدلوا أٌضا بما روى « :إن الؽناء ٌنبت النفاق فً القلب » ولم ٌثبت هذا حدٌثا عن النبً صلى هللا علٌه وسلم ,وإنما ثبت قوال لبعض الصحابة أو التابعٌن ,فهو رأى لؽٌر معصوم خالفه فٌه ؼٌره .فمن الناس من قال -وبخاصة الصوفٌة : -إن الؽناء ٌرقق القلب ,وٌبعث الحزن والندم على المعصٌة ,وٌهٌج الشوق إلى هللا تعالى ,ولهذا اتخذوه وسٌلة لتجدد نفوسهم ,وتنشٌط عزابمهم ,وإثارة أشواقهم .قالوا :وهذا أمر ال ٌعرؾ إال بالذوق والتجربة والممارسة ,ومن ذاق عرؾ ,ولٌس الخبر كالعٌان .ا على أن اإلمام الؽزالً جعل حكم هذه الكلمة بالنسبة للمؽنً ال للسامع ,إذ كان ؼرض المؽنً أن
ٌعرض نفسه على ؼٌره ,وٌروج صوته علٌه ,وال ٌزال ٌنافق وٌتودد إلى الناس لٌرؼبوا فً ؼنابه . ومع هذا قال الؽزالً :وذلك ال ٌوجب تحرٌما ,فإن لبس الثٌاب الجمٌلة ,وركوب الخٌل المهملجة , وسابر أنواع الزٌنة ,والتفاخر بالحرث واألنعام والزرع وؼٌر ذلك ٌ ,نبت النفاق فً القلب ,وال ٌطلق القول بتحرٌم ذلك كله ,فلٌس السبب فً ظهور النفاق فً القلب :المعاصً ,بل إن المباحات ,التً هً مواقع نظر الخلق ,أكثر تؤثٌرا. ( ح ) واستدلوا على تحرٌم ؼناء المرأة خاصة ,بما شاع عند بعض الناس من أن صوت المرأة عورة .ولٌس هناك دلٌل وال شبه دلٌل من دٌن هللا على أن صوت المرأة عورة ,وقد كان النساء ٌسؤلن رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم فً مؤل من أصحابه ,وكان الصحابة ٌذهبون إلى أمهات المإمنٌن وٌستفتونهن وٌفتٌنهم وٌحدثنهم ,ولم ٌقل أحد :إن هذا من عابشة أو ؼٌرها كشؾ لعورة ٌجب أن تستر .مع أن نساء النبً علٌهن من التؽلٌظ ما لٌس على ؼٌرهن .وقال تعالى ( :وقلن قوال معروفا ). ي الؽناء ,قلنا :روى الصحٌحان أن النبً صلى هللا علٌه وسلم فإن قالوا :هذا فً الحدٌث العادي ال ؾ سمع ؼناء الجارٌتٌن ولم ٌنكر علٌهما ,وقال ألبى بكر :دعهما .وقد سمع ابن جعفر وؼٌره من الصحابة والتابعٌن الجواري ٌؽنٌن . ( ط ) واستدلوا بحدٌث الترمذي عن علً مرفوعا ً « :إذا فعلت أمتً خمس عشرة خصلة ,هل بها الببلء… » ,وذكر منها « :واتخذت القٌنات والمعازؾ » ,والحدٌث متفق على ضعفه ,فبل حجة فٌه . والخبلصة :أن النصوص التً استدل بها القابلون بالتحرٌم إما صحٌح ؼٌر صرٌح ,أو صرٌح ؼٌر صحٌح .ولم ٌسلم حدٌث واحد مرفوع إلى رسول هللا ٌصلح دلٌبلً للتحرٌم ,وكل أحادٌثهم ضعفها جماعة من الظاهرٌة والمالكٌة والحنابلة والشافعٌة . قال القاضً أبو بكر بن العربً فً كتاب « األحكام » :لم ٌصح فً التحرٌم شا . وكذا قال الؽزالً وابن النحوي فً العمدة . وقال ابن طاهر فً كتابه فً « السماع » :لم ٌصح منها حرؾ واحد . وقال ابن حزم :وال ٌصح فً هذا الباب شا ,وكل ما فٌه فموضوع .ووهللا لو أسند جمٌعه ,أو واحد منه فاكثر ,من طرٌق الثقات إلى رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ,لما ترددنا فً األخذ به .
أدلة المجيزين للغناء : تلك هً أدلة المحرمٌن ,وقد سقطت واحدا بعد اآلخر ,ولم ٌقؾ دلٌل منها على قدمٌه .وإذا انتفت أدلة التحرٌم بقى حكم الؽناء على أمل اإلباحة ببل شك ,ولو لم ٌكن معنا نص أو دلٌل واحد على ذلك ؼٌر سقوط أدلة التحرٌم .فكٌؾ ومعنا نصوص اإلسبلم الصحٌحة الصرٌحة ,وروحه السمحة ,وقواعده العامة ,ومبادبه الكلٌة ؟ وهاك بٌانها : أوال ً -من حيث النصوص : استدلوا بعدد من األحادٌث الصحٌحة ,منها :حدٌث ؼناء الجارٌتٌن فً بٌت النبً صلى هللا علٌه وسلم عند عابشة ,وانتهار أبى بكر لهما ,وقوله :مزمار الشٌطان فً بٌت النبً صلى هللا علٌه وسلم ,وهذا ٌدل على أنهما لم تكونا صؽٌرتٌن كما زعم بعضهم ,فلو صح ذلك لم تستحقا ؼضب أبى بكر إلى هذا الحد . والمعول علٌه هنا هو رد ا لنبً صلى هللا علٌه وسلم على أبى بكر رضى هللا عنه وتعلٌله :أنه ٌرٌد أن
ٌعلم الٌهود أن فً دٌننا فسحة ,وأنه بعث بحنٌفٌة سمحة .وهو ٌدل على وجوب رعاٌة تحسٌن صورة اإلسبلم لدى اآلخرٌن ,وإظهار جانب الٌسر والسماحة فٌه . وقد روى البخاري وأحمد عن عابشة أنها زفت امرأة إلى رجل من األنصار فقال النبً صلى هللا علٌه وسلم ٌ « :ا عابشة ,ما كان معهم من لهو ؟ فإن األنصار ٌعجبهم اللهو » . وروى ابن ماجه عن ابن عباس قال :أنكحت عابشة ذات قرابة لها من األنصار ,فجاء رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم فقال «‹ :أهدٌتم الفتاة » ؟ قالوا :نعم .قال « :أرسلتم معها من ٌؽنى » ؟ قالت : ال .فقال رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم « :إن األنصار قوم فٌهم ؼزل ,فلو بعثتم معها من ٌقول : أتٌناكم أتٌناكم ..فحٌانا وحٌاكم ؟! وهذا الحدٌث ٌدل على رعاٌة أعراؾ األقوام المختلفة ,واتجاههم المزاجً ,وال ٌحكم المرء مزاجه هو فً حٌاة كل الناس . وروى النسابً والحاكم وصححه عن عامر بن سعد قال :دخلت على قرظة بن كعب وأبى مسعود األنصاري فً عرس ,وإذا جوار ٌؽنٌن .فقلت :أي صاحبً رسول هللا أهل بدر ٌفعل هذا عندكم ؟! فقاال :اجلس إن شبت فاستمع معنا ,وان شبت فاذهب ,فإنه قد رخص لنا اللهو عند العرس . وروى ابن حزم بسند« عن ابن سٌرٌن :أن رجبلً قدم المدٌنة بجوار فؤتى عبد هللا ابن جعفر فعرضهن علٌه ,فؤمر جارٌة منهن فؽنت ,وابن عمر ٌسمع ,فاشتراها ابن جعفر بعد مساومة ,ثم جاء الرجل إلى ابن عمر فقال ٌ :ا أبا عبد الرحمن ,ؼبن بسبعمابة درهم ! فؤتى ابن عمر إلى عبد هللا بن جعفر فقال له :إنه ؼبن بسبعمابة درهم ,فإما أن تعطٌها إٌاه ,وإما أن ترد علٌه بٌعه ,فقال :بل نعطٌه إٌاها .قال ابن حزم :فهذا ابن عمر قد سمع الؽناء وسعى فً بٌع المؽنٌة ,وهذا إسناد صحٌح ,ال تلك الملفقات الموضوعة . واستدلوا بقوله تعالى ( :وإذا رأوا تجار ًة أو لهواً انفضوا إلٌها وتركوك قابما ,قل ما عند هللا خٌر من اللهو ومن التجارة ,وهللا خٌر الرازقٌن ) . فقرن اللهو بالتجارة -وهى حبلل بٌقٌن , -ولم ٌذمهما إال من حٌث شؽل الصحابة بهما -بمناسبة قدوم القافلة وضرب الدفوؾ فرحا بها -من خطبة النبً صلى هللا علٌه وسلم ,وتركه قابما . واستدلوا بما جاء عن عدد من الصحابة رضً هللا عنهم :أنهم باشروا السماع بالفعل أو أقروه وهم القوم ٌقتدى بهم فٌهتدى .واستدلوا بما نقله ؼٌر واحد من اإلجماع على إباحة السماع ,كما سنذكره بعد . وثانيًا من حيث روح اإلسالم وقواعده : ( أ ) ال شا فً الؽناء إال أنه من طٌبات الدنٌا التً تستلذها األنفس ,وتستطٌبها العقول ,وتستحسنها الفطر ,وتشتهٌها األسماع ,فهو لذة األذن ,كما أن الطعام الهنًء لذة المعدة ,والمنظر الجمٌل لذة العٌن ,والرابحة الذكٌة لذة الشم … .الخ ,فهل الطٌبات -أي المستلذات -حرام فً اإلسبلم أم حبلل ؟ من المعروؾ أن هللا تعالى كان قد حرم على بنً إسرابٌل بعض طٌبات الدنٌا عقوبة لهم على سوء ما صنعوا ,كما قال تعالى ( :فبظلم من الذٌن هادوا حرمنا علٌهم طٌبات أحلت لهم وبصدهم عن سبٌل هللا كثٌراً * وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل ) ,فلما بعث هللا محمدا صلى هللا علٌه وسلم جعل عنوان رسالته فً كتب األولٌن أنه ٌ ( :ؤمرهم بالمعروؾ وٌنهاهم عن المنكر وٌحل لهم الطٌبات وٌحرم علٌهم الخبابث وٌضع عنهم إصرهم واألؼبلل التً كانت علٌهم ) .فلم ٌبق فً اإلسبلم شًء طٌب -أي تستطٌبه األنفس والعقول السلٌمة -إال أحله هللا ,رحمة بهذه األمة لعموم رسالتها وخلودها .قال تعالى ٌ ( :سؤلونك ماذا أحل لهم ,قل أحل لكم الطٌبات ) . شًا ً من الطٌبات مما رزق هللا ,مهما ولم ٌبح هللا لواحد من الناس أن ٌحرم على نفسه أو على ؼٌره ب ٌكن صبلح نٌته أو ابتؽاء وجه هللا فٌه ,فإن التحلٌل والتحرٌم من حق هللا وحده ,ولٌس من شؤن عباده, قال تعالى ( :قل أرأٌتم ما أنزل هللا لكم من رزق فجعلتم منه حراما ً وحبلالً قل ءآهلل أذن لكم ,أم على
هللا تفترون ) ,وجعل سبح انه تحرٌم ما أحله من الطٌبات كإحبلل ما حرم من المنكرات ,كبلهما ٌجلب سخط هللا وعذابه ,وٌردي صاحبه فً هاوٌة الخسران المبٌن ,والضبلل البعٌد ,قال جل شؤنه ٌنعى على من فعل ذلك من أهل الجاهلٌة ( :قد خسر الذٌن قتلوا أوالدهم سفها ً بؽٌر علم وحرموا ما رزقهم هللا افتراء على هللا ,قد ضلوا وما كانوا مهتدٌن ) . ( ب ) ولو تؤملنا لوجدنا حب الؽناء والطرب للصوت الحسن ٌكاد ٌكون ؼرٌزة إنسانٌة وفطرة بشرٌة , حتى إننا لنشاهد الصبً الرضٌع فً مهده ٌسكته الصوت الطٌب عن بكابه ,وتنصرؾ نفسه عما ٌبكٌه إلى اإلصؽاء إلٌه .ولذا تعودت األمهات والمرضعات والمربٌات الؽناء لؤلطفال منذ زمن قدٌم .بل نقول :إن الطٌور والبهابم تتؤثر بحسن الصوت والنؽمات الموزونة حتى قال الؽزالً فً اإلحٌاء « : من لم ٌحركه السماع فهو ناقص مابل عن االعتدال ,بعٌد عن الروحانٌة ,زابد فً ؼلظ الطبع وكثافته على الجم ال والطٌور وجمٌع البهابم ,إذ الجمل -مع ببلدة طبعه ٌ -تؤثر بالحداء تؤثراً ٌستخؾ معه األحمال الثقٌلة ,وٌستقصر -لقوة نشاطه فً سماعه -المسافات الطوٌلة ,وٌنبعث فٌه من النشاط ما ٌسكره وٌولهه .فترى اإلبل إذا سمعت الحادي تمد أعناقها ,وتصؽً إلٌه ناصبة آذانها ,وتسرع فً سٌرها ,حتى تتزعزع علٌها أحمالها ومحاملها » . وإذا كان حب الؽناء ؼرٌزة وفطرة فهل جاء الدٌن لمحاربة الؽرابز والفطر والتنكٌل بها ؟ كبل ,إنما جاء لتهذٌبها والسمو بها ,وتوجٌهها التوجٌه القوٌم .قال اإلمام ابن تٌمٌة رحمه هللا :إن األنبٌاء قد بعثوا بتكمٌل الفطرة وتقرٌرها ال بتبدٌلها وتؽٌٌرها . ومصداق ذلك أن رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم قدم المدٌنة ولهم ٌومان ٌلعبون فٌهما ,فقال « :ما هذان الٌومان »؟ قالوا :كنا نلعب فٌهما فً الجاهلٌة .فقال علٌه السبلم « :إن هللا قد أبدلكم بهما خٌراً منهما :يوم األضحى وٌوم الفطر » ( رواه أحمد وأبو داود والنسابً ) . وقالت عابشة « :لقد رأٌت النبً ٌسترنً بردابه ,وأنا أنظر إلى الحبشة ٌلعبون فً المسجد ,حتى أكون أنا التً أسؤمه -أي اللعب -فاقدروا قدر الجارٌة الحدٌثة السن الحرٌصة على اللهو » . وإذا كان الؽناء لهواً ولعبا فلٌس اللهو واللعب حراما ,فاإلنسان ال صبر له على الجد المطلق والصرامة الدابمة . قال النبً صلى هللا علٌه وسلم لحنظلة -حٌن ظن نفسه قد نافق لمداعبته زوجه وولده ,وتؽٌر حاله فً بٌته عن حاله مع رسول هللا صلى هللا علٌه وسلمٌ « :ا حنظلة ,ساعة وساعة » (رواه مسلم ) . وقال علً بن أبى طالب :روحوا القلوب ساعة بعد ساعة ,فإن القلوب إذا أكرهت عمٌت . وقال كرم هللا وجهه :إن القلوب تمل كما تمل األبدان ,فابتؽوا لها طرابؾ الحكمة . وقال أبو الدرداء :إنً ألستجم نفسً بالشًء من اللهو لٌكون أقوى لها على الحق . وقد أجاب اإلمام الؽزالً ممن قال :إن الؽناء لهو ولعب بقوله « :هو كذلك ,ولكن الدنٌا كلها لهو ولعب . . .وجمٌع المداعبة مع النساء لهو ,إال الحراثة التً هً سبب وجود الولد ,كذلك المزح الذي ال فحش فٌه حبلل ,نقل ذلك عن رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم وعن الصحابة . وأي لهو ٌزٌد على لهو الحبشة والزنوج فً لعبهم ,فقد ثبت بالنص إباحته .على أنً أقول :اللهو مروح القلب ,ومخفؾ أعباء الفكر ,والقلوب إذا أكرهت عمٌت ,وتروٌحها إعانة لها على الجد , فالمواظب على التفقه مثبلً ٌنبؽً أن ٌتعطل ٌوم الجمعة :ألن عطلة ٌوم تساعد على النشاط فً سابر األٌام ,والمواظب على نوافل الصلوات فً سابر األوقات ٌنبؽً أن ٌعطل فً بعض األوقات ,وألجله كرهت الصبلة فً بعض األوقات ,فالعطلة معونة على العمل ,واللهو معٌن على الجد ,وال ٌصبر على الجد المحض ,والحق المر ,إال نفوس األنبٌاء ,علٌهم السبلم . فاللهو دواء ,القلب من داء اإلعٌاء والمبلل ,فٌنبؽً أن ٌكون مباحا ً ,ولكن ال ٌنبؽً أن ٌستكثر ,كما ال ٌستكثر من الدواء .فإذن اللهو على هذه النٌة ٌصٌر قربه ,هذا فً حق من ال ٌحرك السماع من قلبه صفة محمودة ٌطلب تحرٌكها ,بل لٌس له إال اللذة واالستراحة المحضة ,فٌنبؽً أن ٌستحب له ذلك , لٌتوصل به إلى المقصود الذي ذكرناه .نعم هذا ٌدل على نقصان عن ذروة الكمال ,فإن الكامل هو
الذي ال ٌحتاج أن ٌروح نفسه بؽٌر الحق ,ولكن حسنات األبرار سٌبات المقربٌن ,ومن أحاط بعلم عبلج القلوب ,ووجوه التلطؾ بها ,وسٌاقاتها إلى الحق ,علم قطعا أن تروٌحها بؤمثال هذه األمور دواء نافع ال ؼنى عنه » . .انتهى كبلم الؽزالً ,وهو كبلم نفٌس ٌعبر عن روح اإلسبلم الحق .
القائلون بإجازة الغناء : تلك هً األدلة المبٌحة للؽناء من نصوص اإلسبلم وقواعده ,فٌها الكفاٌة كل الكفاٌة ولو لم ٌقل بموجبها قابل ,ولم ٌذهب إلى ذلك فقٌه ,فكٌؾ وقد قال بموجبها الكثٌرون من صحابة وتابعٌن وأتباع وفقهاء ؟ وحسبنا أن أهل المدٌنة -على ورعهم -والظاهرٌة -على حرفٌتهم وتمسكهم بظواهر النصوص - والصوفٌة -على تشددهم وأخذهم بالعزابم دون الرخص -روى عنهم إباحة الؽناء . قال اإلمام الشوكانً فً « نٌل األوطار » « :ذهب أهل المدٌنة ومن وافقهم من علماء الظاهر , وجماعة الصوفٌة ,إلى الترخٌص فً الؽناء ,ولو مع العود والٌراع » . وحكى األستاذ أبو منصور البؽدادي الشافعً فً مإلفه فً السماع :أن عبد هللا بن جعفر كان ال ٌرى بالؽناء بؤسا ً ,وٌصوغ األلحان لجوارٌه ,وٌسمعها منهن على أوتاره .وكان ذلك فً زمن أمٌر المإمنٌن علً رضى هللا عنه . وحكى األستاذ المذكور مثل ذلك أٌضا عن القاضً شرٌح ,وسعٌد بن المسٌب ,وعطاء بن أبى رباح , والزهرى ,والشعبى . وقال إمام الحرمٌن فً النهاٌة ,وابن أبً الدنٌا :نقل األثبات من المإرخٌن :أن عبد هللا بن الزبٌر كان له جوار عوادات ,وأن ابن عمر دخل إلٌه والى جنبه عود ,فقال :ما هذا ٌا صاحب رسول هللا ؟.ا فناوله إٌاه ,فتؤمله ابن عمر فقال :هذا مٌزان شامً ؟ قال ابن الزبٌر ٌ :وزن به العقول ! ً وروى الحافظ أبو محمد بن حزم فً رسالته فً السماع بسنده إلى ابن سٌرٌن قال « :إن رجبل قدم المدٌنة بجوار فنزل على ابن عمر ,وفٌهن جارٌة تضرب .فجاء رجل فساومه ,فلم ٌهو فٌهن شٌبا . قال :انطلق إلى رجل هو أمثل لك بٌعا من هذا .قال :من هو ؟ قال :عبد هللا بن جعفر . .فعرضهن ث جاء إلى ابن عمر . . . . علٌه ,فؤمر جارٌة منهن ,فقال لها :خذي العود ,فؤخذته ,فؽنت ,فباٌعه م إلى آخر القصة . وروى صاحب « العقد » العبلمة األدٌب أبو عمر األندلسً :أن عبد هللا بن عمر دخل على ابن جعفر فوجد عنده جارٌة فً حجرها عود ,ثم قال البن عمر :هل ترى بذلك بؤسا ً ؟ قال :ال بؤس بهذا . وحكى الماوردى عن معاوٌة وعمرو بن العاص :أنهما سمعا العود عند ابن جعفر . وروى أبو الفرج األصبهانى :أن حسان بن ثابت سمع من عزة المٌبلء الؽناء بالمزهر بشعر من شعره . وذكر أبو العباس المبرد نحو ذلك .والمزهر عند أهل اللؽة :العود . وذكر األدفوى :أن عمر بن عبد العزٌز كان ٌسمع جوارٌه قبل الخبلفة .ونقل ابن السمعانى الترخٌص عن طاووس ,ونقله ابن قتٌبة وصاحب « اإلمتاع » عن قاضى المدٌنة سعد بن إبراهٌم بن عبد الرحمن الزهري من التابعٌن .ونقله أبو ٌعلى الخلٌلى فً « اإلرشاد » عن عبد العزٌز بن سلمة الماجشون مفتً المدٌنة . وحكى الروٌانى عن القفال :أن مذهب مالك بن أنس إباحة الؽناء بالمعازؾ ,وحكى األستاذ أبو منصور الفورانى عن مالك جواز العود ,وذكر أبو طالب المكً فً « قوت القلوب » عن شعبة :أنه سمع طنبوراً فً بٌت المنهال بن عمرو المحدث المشهور .
وحكى أبو الفضل بن طاهر فً مإلفه فً « السماع » :أنه ال خبلؾ بٌن أهل المدٌنة فً إباحة العود . قال ابن النحوي فً « العمدة » :وقال ابن طاهر :هو إجماع أهل المدٌنة . قال ابن طاهر :والٌه ذهبت الظاهرٌة قاطبة .قال األدفوى :لم ٌختلؾ النقلة فً نسبة الضرب إلى إبراهٌم بن سعد المتقدم الذكر ,وهو ممن أخرج له الجماعة كلهم ( ٌعنى بالجماعة :أصحاب الكتب الستة ,من الصحٌحٌن والسنن ) . وحكى الماوردى إباحة العود عن بعض الشافعٌة ,وحكاه أبو الفضل بن طاهر عن أبى إسحاق الشٌرازي ,وحكاه األسنوى فً « المهمات » عن الروٌانى والماوردى ,ورواه ابن النحوي عن األستاذ أبى منصور ,وحكاه ابن الملقن فً « العمدة » عن ابن طاهر ,وحكاه األدفوى عن الشٌخ عز الدٌن بن عبد السبلم ,وحكاه صاحب « اإلمتاع » عن أبى بكر بن العربً ,وجزم باإلباحة األدفوى . هإالء جمٌعا قالوا بتحلٌل السماع ,مع آلة من اآلالت المعروفة -أي آالت الموسٌقى . وأما مجرد الؽناء من ؼٌر آلة ,فقال األدفوى فً « اإلمتاع » :إن الؽزالً فً بعض تآلٌفه الفقهٌة نقل االتفاق على حله ,ونقل ابن طاهر إجماع الصحابة والتابعٌن علٌه ,ونقل التاج الفزارى وابن قتٌبة إجماع أهل الحرمٌن علٌه ,ونقل ابن طامر وابن قتٌبة أٌضا إجماع أهل المدٌنة علٌه ,وقال الماوردى :لم ٌزل أهل الحجاز ٌرخصون فٌه فً أفضل أٌام السنة المؤمور فٌها بالعبادة والذكر . قال ابن النحوي فً « العمدة » :وقد روى الؽناء وسماعه عن جماعة من الصحابة والتابعٌن ,فمن الصحابة عمر -كما رواه ابن عبد البر وؼٌر -وعثمان -كما نقله الماوردى وصاحب البٌان والرافعى وعبد الرحمن بن عوؾ كما رواه ابن أبى شٌبة -وأبو عبٌدة بن الجراح -كما أخرجه البٌهقى -وسعدبن أبى وقاص -كما أخرجه ابن قتٌبة -وأبو مسعود األنصاري -كما أخرجه البٌهقى -وببلل وعبد هللا أٌض -وحمزة كما فً الصحٌح -وابن عمر -كما ا بن األرقم وأسامة بن زٌد -كما أخرجه البٌهقى أخرجه ابن طاهر -والبراء بن مالك -كما أخرجه أبو نعٌم -وعبد هللا بن جعفر -كما رواه ابن عبد البر -وعبد هللا بن الزبٌر -كما نقل أبو طالب المكى -وحسان -كما رواه أبو الفرج األصبهانى - وعبد هللا بن عمرو -كما رواه الزبٌر بٌن بكار -وقرظة بن كعب -كما رواه ابن قتٌبة -وخوات بن جبٌر ورباح المعترؾ كما أخرجه صاحب األؼانً -والمؽٌرة بن شعبة -كما حكاه أبو طالب المكى- وعمرو بن العاص -كما حكاه الماوردى -وعابشة والربٌع -كما فً صحٌح البخاري وؼٌره . وأما التابعون فسعٌد بن المسٌب ,وسالم بن عبد هللا بن عمر ,وابن حسان ,وخارجة بن زٌد ,وشرٌح القاضى ,وسعٌد بن جبٌر ,وعامر الشعبً ,وعبد هللا ابن أبى عتٌق ,وعطاء بن أبى رباح ,ومحمد بن شهاب الزهري ,وعمر بن عبد العزٌز ,وسعد بن إبراهٌم الزهري . وأما تابعوهم ,فخلق ال ٌحصون ,منهم :األبمة األربعة ,وابن عٌٌنة ,وجمهور الشافعٌة » .انتهى كبلم ابن النحوي .هذا كله ذكره الشوكانى فً « نٌل األوطار »
قيود وشروط ال بد من مراعاتها : وال ننسى أن نضٌؾ إلى هذا الحكم :قٌوداً ال بد من مراعاتها فً سماع الؽناء : .1نإكد ما أشرنا إلٌه أنه لٌس كل ؼناء مباحا ً ,فبل بد أن ٌكون موضوعه متفقا ً مع أدب اإلسبلم وتعالٌمه . فبل ٌجوز التؽنً بقول أبى نواس : دع عنك لومً ,فإن اللوم إؼراء وداونً بالتً كانت هً الداء !
وال بقول شوقً : رمضان ولى هاتها ٌا ساقً مشتاقة تسعى إلى مشتاق وأخطر منها :قول إٌلٌا أبى ماضً فً قصٌدته « الطبلسم » : جبـت ال أعلــم مـن أٌـن ,ولكنً أتٌـت ! ولقــد أبصـرت قدامـى طـرٌقـا ً فمـشٌت ! كٌؾ جبت ا كٌؾ أبصرت طرٌقً ؟ لست أدرى ! ألنها تشكٌك فً أصول اإلٌمان :المبدأ ,والمعاد ,والنبوة . ومثلها :ما عبر عنه بالعامٌة فً أؼنٌة « من ؼٌر لٌه » ا ولٌست أكثر من ترجمة شك أبى ماضً إلى العامٌة ,لٌصبح تؤثٌرها أوسع دابرة . ومثل ذلك األؼنٌة التً تقول « :الدنٌا سٌجارة وكاس » .فكل هذه مخالفة لتعالٌم اإلسبلم الذي ٌجعل الخمر رجسا ً من عمل الشٌطان ,وٌلعن شارب « الكاس » وعاصرها وبابعها وحاملها وكل من أعان فٌها بعمل .والتدخٌن أٌضا آفة لٌس وراءها إال ضرر الجسم والنفس والمال . واألؼانً التً تمدح الظلمة والطؽاة والفسقة من الحكام الذٌن ابتلٌت بهم أمتنا ,مخالفة لتعالٌم اإلسبلم , الذي ٌلعن الظالمٌن ,وكل من ٌعٌنهم ,بل من ٌسكت علٌهم ,فكٌؾ بمن ٌمجدهم ؟ا واألؼنٌة التً تمجد صاحب العٌون الجرٌبة أو صاحبة العٌون الجرٌبة أؼنٌة تخالؾ أدب اإلسبلم الذي ٌنادي كتابه ( :قل للمإمنٌن ٌؽضوا من أبصارهم … ( , ) ..وقل للمإمنات ٌؽضضن من أبصارهن ) , وٌقول صلى هللا علٌه وسلم ٌ « :ا علً ,ال تتبع النظرة النظر» ,فإن لك األولى ولٌست لك اآلخرة». .2ثم إن طرٌقة األداء لها أهمٌتها ,فقد ٌكون الموضوع ال بؤس به وال ؼبار علٌه ,ولكن طرٌقة المؽنً أو المؽنٌة فً أدابه بالتكسر فً القول ,وتعمد اإلثارة ,والقصد إلى إٌقاظ الؽرابز الهاجعة , وإؼراء القلوب المرٌضة ٌنقل األؼنٌة من دابرة اإلباحة إلى دابرة الحرمة أو الشبهة أو الكراهة من مثل ما ٌذاع على الناس وٌطلبه الم ستمعون والمستمعات من األؼانً التً تلح على جانب واحد ,هو جانب الؽرٌزة الجنسٌة وما ٌتصل بها من الحب والؽرام ,وإشعالها بكل أسالٌب اإلثارة والتهٌج ,وخصوصا لدى الشباب والشابات . إن القرآن ٌخاطب نساء النبً فٌقول ( :فبل تخضعن بالقول فٌطمع الذي فً قلبه مرض ) .فكٌؾ إذا كان مع الخضوع فً القول الوزن والنؽم والتطرٌب والتؤثٌر . .3ومن ناحٌة ثالثة ٌجب أال ٌقترن الؽناء بشًء محرم ,كشرب الخمر أو التبرج أو االختبلط الماجن بٌن الرجال والنساء ,ببل قٌود وال حدود ,وهذا هو المؤلوؾ فً مجالس الؽناء والطرب من قدٌم . وهى الصورة الماثلة فً األذهان عندما ٌذكر الؽناء ,وبخاصة ؼناء الجواري والنساء . وهذا ما ٌدل علٌه الحدٌث الذي رواه ابن ماجه وؼٌره « :لٌشربن ناس من أمتً الخمر ٌ ,سمونها بؽٌر اسمها ٌ ,عزؾ على رإوسهم بالمعازؾ والمؽنٌات ٌ ,خسؾ هللا بهم األرض وٌجعل منهم القردة والخنازٌر » . وأود أن أنبه هنا على قضٌة مهمة ,وهى :أن االستماع إلى الؽناء فً األزمنة الماضٌة كان ٌقتضً حضور مجلس الؽناء ,ومخالطة المؽنٌٌن والمؽنٌات وحواشٌهم ,وقلما كانت تسلم هذه المجالس من أشٌاء ٌنكرها الشرع ,وٌكرهها الدٌن . أما الٌوم فٌستطٌع المرء أن ٌستمع إلى األؼانً وهو بعٌد عن أهلها ومجالسها ,وهذا ال رٌب عنصر مخفؾ فً القضٌة ,وٌمٌل بها إلى جانب اإلذن والتٌسٌر .
.4الؽناء -ككل المباحات ٌ -جب أن ٌقٌد بعدم اإلسراؾ فٌه ,وبخاصة الؽناء ,العاطفً ,الذي ٌتحدث عن الحب والشوق ,فاإلنسان لٌس عاطفة فحسب ,والعاطفة لٌست حبا فقط ,والحب ال ٌختص بالمرأة وحدها ,والمرأة لٌست جسدا وشهوة ال ؼٌر ,لهذا ٌجب أن نقلل من هذا السٌل الؽامر من األؼانً العاطفٌة الؽرامٌة ,وأن ٌكون لدٌنا من أؼانٌنا وبرامجنا وحٌاتنا كلها توزٌع عادل ,وموازنة مقسطة الدنً بٌن حق الفرد وحقوق المجتمع ,وفى الفرد بٌن عقله وعاطفته ,وفى ا بٌن الدٌن والدنٌا ,وفى مجال العاطفة بٌن العواطؾ اإلنسانٌة كلها من حب وكره وؼٌرة وحماسة وأبوة وأمومة وبنوة واخوة وصداقة . . .الخ ,فلكل عاطفة حقها. أما الؽلو واإلسراؾ والمبالؽة فً إبراز عاطفة خاصة ,فذلك على حساب العواطؾ األخرى ,وعلى حساب عقل الفرد وروحه وإرادته ,وعلى حساب المجتمع وخصابصه ومقوماته ,وعلى حساب الدٌن ومثله وتوجٌهاته . إن الدٌن حرم الؽلو واإلسراؾ فً كل شا حتى فً العبادة ,فما بالك باإلسراؾ فً اللهو ,وشؽل الوقت به ولو كان مباحا ؟! إن هذا دلٌل على ؾراغ العقل والقلب من الواجبات الكبٌرة ,واألهداؾ العظٌمة ,ودلٌل على إهدار حقوق كثٌرة كان ٌجب أن تؤخذ حظها من وقت اإلنسان المحدود وعمره القصٌر ,وما أصدق وأعمق ما قال ابن المقفع « :ما رأٌت إسراؾ إال وبجانبه حق مضٌع » ,وفً الحدٌث « :ال ٌكون العاقل ظاعنا ً إال لثبلث :مرمة لمعاش ,أو تزود لمعاد ,أو لذة فً ؼٌر محرم » ,فلنقسم أوقاتنا بٌن هذه الثبلثة بالقسط ,ولنعلم أن هللا سابل كل إنسان عن عمره :فٌم أفناه ,وعن شبابه :فٌم أببله ؟ .5وبعد هذا اإلٌضاح تبقى هناك أشٌاء ٌكون كل مستمع فٌها فقٌه نفسه ومفتٌها ,ؾإذا كان الؽناء أو نوع خاص منه ٌستثٌر ؼرٌزته ,وٌؽرٌه بالفتنة ,وٌسبح به فً شطحات الخٌال ,وٌطؽى فٌه الجانب الحٌوانً على الجانب الروحانً ,فعلٌه أن ٌتجنبه حٌنبذ ,وٌسد الباب الذي تهب منه رٌاح الفتنة على قلبه ودٌنه وخلقه ,فٌسترٌح وٌرٌح .
الغناء والطرب في واقع المسلمين : ومن نظر فً أحوال المسلمٌن ,وتؤمل فً واقعهم المعٌش ,لم ٌجد خصومة بٌن المسلم المتدٌن وبٌن االستمتاع بطٌب السماع . إن أذن المسلم العادي موصولة بـ« طٌبات السماع » تلتذ بها ,وتتؽذى علٌها كل ٌوم . من خبلل القرآن الكرٌم الذي تسمعه مرتبل ومجودا ومزٌنا بؤحسن األصوات ,من أحسن القراء . ومن خبلل األذان ,الذي تطرب لسماعه كل ٌوم خمس مرات بالصوت الجمٌل .وهو مٌراث من عهد النبوة ,فقد قال النبً صلى هللا علٌه وسلم للصحابً الذي كشؾ له عن ألفاظ األذان فً رإٌا صادقة : علمه ببلال ,فإنه أندى منك صوتا ً . ومن خبلل االبتهاالت الدٌنٌة ,التً تنشد بؤعذب األلحان ,وأرق األصوات ,فتطرب لها األفبدة , وتهتز لها الشاعر . ومن خبلل المدابح النبوٌة التً توارثها المسلمون منذ سمعوا ذلك النشٌد الحلو من بنات األنصار . ترحٌبا بمقدم الرسول الكرٌم : طلع البـدر علٌنا من ثنٌـات الوداع
وجب الشكر علٌنا مـا دعـا هلل داع وأذكر أنً منذ نحو عشرٌن سنة سمعت ه ذا النشٌد من تلمٌذات مدرسة إسبلمٌة فً إندونٌسٌا ٌ ,ؽنٌنه بلحن جماعً مإثر رقٌق ,وكنا وفداً من دولة قطر .فرقت له قلوبنا ,وسالت أدمعنا على خدودنا من فرط الرقة والتؤثر . ً وفً األعصر الماضٌة استطاع المسلمون أن ٌنشبوا ألنفسهم ألوانا من « طٌبات السماع » ٌروحون بها أنفسهم ,وٌجملون بها حٌاتهم ,وخصوصا ً فً القرى والرٌؾ .وقد أدركنا ذلك فً عهد الصبا ومطالع الشباب .وكلها ألوان فطرٌة نابعة من البٌبة ,معبرة عن قٌمها ,وال ؼبار علٌها . من ذلك :فن المواوٌل ٌ ,تؽنى بها الناس فً أنفسهم ,أو ٌجتمعون على سماعها ,ممن كان حسن الصوت منهم ,وأكثرهم ٌتحدث عن الحب والهٌام والوصل والهجران ,وبعضها ٌتحدث عن الدنٌا ومتاعها ,وٌشكو من ظلم الناس واألٌام . . .الخ . وأكثرهم كان ٌتؽنى بها بؽٌر آلة ,وبعضهم مع « األرؼول » ,ومن هإالء الفنانٌن الفطرٌٌن :من كان ٌإلؾ « الموال » وٌلحنه وٌؽنٌه فً وقت واحد . ومنها :القصص المنظومة ,التً تتؽنى ببطوالت بعض األبطال الشعبٌٌن ,أبطال الكفاح ,أو أبطال الصبر ٌ ,سمعها الناس ,فٌطربون بها ,وٌرددونها ,وٌكادون ٌحفظونها عن ظهر قلب .مثل قصة « أدهم الشرقاوي » ,و « شفٌقة ومتولً » ,و « أٌوب المصري » ,و « سعد الٌتٌم » وؼٌرها . ومنها :المبلحم الشعبٌة لؤلبطال المعروفٌن ,مثل « أبى زٌد الهبللً » ,والتً كان ٌجتمع لها الناس , لٌسمعوا القصة ,وٌستمعوا معها إلى أشعار أبطالها على نؽمات « الربابة » من « الشاعر الشعبً » الذي تخصص فً هذا اللون ,وكانت هذه المبلحم لها عشاقها وتقوم مقام « المسلسبلت » فً هذا العصر . ومنها :أؼانً األعٌاد واألفراح والمناسبات السارة ,مثل :العرس ,ووالدة المولود ,وختان الصبً , وقدوم الؽابب ,وشفا ء المرٌض ,وعودة الحاج . . .ونحوها . وقد ابتكر الناس أؼانً وأهازٌج لحنوها وؼنوها بؤنفسهم فً أحوال ومناسبات مختلفة ,مثل جنى الثمار أو القطن وؼٌرها .ومثل :أهازٌج العمال والفعلة ,الذٌن ٌعملون فً البناء وحمل األثقال ونحوها , مثل « :هٌبل ,هٌبل . .صل على النبً » . .وهذا له أصل شرعً من عمل الصحابة ,وهم ٌبنون المسجد النبوي ,وٌحملون أحجاره على مناكبهم .وهم ٌنشدون : اللهم إن العٌش عٌش اآلخرة فاؼفر لؤلنصار والمهاجرة حتى األمهات ,حٌن ٌهدهدن أطفالهن ,وٌهٌبنهم للنوم ٌ ,ستخدمن الؽناء ,ولهن كلمات مشهورة ,مثل ٌ « :ارب ٌنام ٌ ,ارب ٌنام . » . . . . وال زلت أذكر « المسحراتٌة » فً شهر رمضان المبارك ,وهم ٌوقظون الناس بعد منتصؾ اللٌل بمنظومات ٌلذ سماعها منؽمة مع دقات طبولهم . ومن جمٌل ما ٌذكر هنا :ما اخترعه الباعة فً األسواق ,والباعة المتجولون : من النداء على سلعهم بعبارات منظومة موزونة ٌ .تنافسون فً التؽنً بها ,مثل بابع العرقسوس , وباعة الفواكه والخضروات ,وؼٌرهم . وهكذا نجد هذا الفن -فن الؽناء ٌ -تخلل الحٌاة كلها ,دٌنٌة ودنٌوٌة ,وٌتجاوب الناس معه بتلقابٌة وفطرٌة ,وال ٌجدون فً تعالٌم دٌنهم ما ٌعوقهم عن ذلك .ولم ٌر علماإهم فً هذه األلوان الشعبٌة ما ٌجب أن ٌنكر .بل أكثر من ذلك نجدها جمٌعا ممزوجة بالدٌن ومعانً اإلٌمان والقٌم الروحٌة ,والمثل األخبلقٌة ,امتزاج الجسم بالروح :من التوحٌد وذكر هللا والدعاء والصبلة على النبً صلى هللا علٌه وسلم ,وما شابهها .
وهذا الذي الحظته فً مصر ,وجدت مثله فً ببلد الشام ,وفى ببلد المؽرب ,وؼٌرها من ببلد العرب .
لم شدد المتأخرون في أمر الغناء ؟ ٌبلحظ أن المتؤخرٌن من أهل الفقه أكثر تشدٌدا فً منع الؽناء -وخصوصا مع اآلالت -من الفقها ء المتقدمٌن .وذلك ألسباب : األخذ باألحوط ال األيسر : - 1إن المتقدمٌن كانوا أكثر أخذاً باألٌسر ,والمتؤخرٌن أكثر أخذا باألحوط ,واألحوط ٌعنى :األثقل توى منذ عهد الصحابة فمن بعدهم ٌجد ذلك واضحا ,واألمثلة واألشد .ومن تتبع الخط البٌانً للفقه والؾ علٌه ال تحصر . االغترار باألحاديث الضعيفة والموضوعة : - 2إن كثٌراً من الفقهاء ,المتؤخرٌن أرهبهم سٌل األحادٌث الضعٌفة والموضوعة ,التً امتؤلت بها الكتب ,ولم ٌكونوا من أهل تمحٌص الرواٌات ,وتحقٌق األسانٌد ,فراجت لدٌهم هذه األحادٌث ,وال سٌما مع شٌوع القول بؤن تعدد الطرق الضعٌفة ٌقوى بعضها بعضا . ضغط الواقع الغنائي : - 3ضؽط الواقع الؽنابً بما ٌبلبسه من انحراؾ وتجاوز ,كان له أثره فً ترجٌح المنع والتحرٌم . وهذا الواقع له صورتان أثرت كل واحدة منهما على جماعة من الفقهاء . غناء المجون والخالعة : الصورة األولى :صورة « الؽناء الماجن » الذي ؼدا جزءا ال ٌتجزأ من حٌاة الطبقة المترفة ,التً ؼرقت فً الملذات ,وأضاعت الصلوات ,واتبعت الشهوات ,واختلط فٌها الؽناء بمبلبسة الفجور , وشرب الخمور ,وقول الزور ,وتبلعب الجواري الحسان المؽنٌات ( القٌان ) بعقول الحضور ,كما شاع ذلك فً حقب معروفة فً العصر العباسً . وكان سماع الؽناء ٌقتضً شهود هذه المجالس بما فٌها من خبلعة ومجانة وفسوق عن أمر هللا . ومن المإسؾ أن البٌبة الفنٌة -كما ٌسمونها الٌوم -ال زالت مشربة بهذه الروح ,ملوثة بهذا الوباء . وهذا ما ٌضطر كل عابد أو عابدة إلى هللا ,من الفانٌن والفنانات -الذٌن أكرمهم هللا بالهداٌة والتوبة - أن ٌنسحب من ذلك الوسط ,وٌفر بدٌنه بعٌداً عنه . غناء الصوفية :
والصورة الثانٌة :صورة « الؽناء الدٌنً » الذي اتخذه الصوفٌة وسًلة إلثارة األشواق ,وتحرٌك القلوب فً السٌر إلى هللا ,مثلما ٌفعل الحداة مع اإلبل ,فٌنشطونها وٌستحثون خطاها ,حٌن تسمع نؽم الحداء الموزون بصوت جمٌل ,فتستخؾ الحمل الثقٌل ,وتستقصر الطرٌق الطوٌل ,وهم ٌعتبرون ذلك السماع عبادة وقربة إلى هللا ,أو -على األقل -عونا على العبادة والقربة . وهذا ما أنكره علٌهم أمثال شٌخ اإلسبلم ابن تٌمٌة ,وتلمٌذه اإلمام ابن القٌم ,اللذٌن شنا على الؽناء هجوما عنٌفا حادا ,وخصوصا ابن القٌم فً « إؼاثة اللهفان » الذي شحذ كل أسلحته ,وأجلب بخٌله ورجله لتحرٌم الؽناء ,واضح -على ؼٌر عادته -بؽٌر الصحٌح ,وؼٌر الصرٌح ,إذ كان نصب عٌنٌه ذاك النوع من الؽناء ,وقد رأى فٌه هو وشٌخه أنه تقرب إلى هللا بما لم ٌشرعه ,وإحداث أمر فً الدٌن لم ٌكن على عهد النبوة ,وال عهد الصحابة .وربما البسه بعض البدع ,وال سٌما إذا وقع فً المساجد .أنشد ابن القٌم مشنعا علٌهم : تلً الكتاب فؤطرقوا ال خٌفة لكنـه إطراق اله ساهً ! وأتى الؽناء فكالحمٌر تناهقوا وهللا ما رقصوا ألجل هللا ! دؾ ومزمار ,ونؽمة شادن فمتى رأٌت عبادة بمبلهً ؟ وفى بعض فتاوى ابن تٌمٌة ما ٌجٌز الؽناء إذا كان لرفع الحرج والتروٌح .
فقه اإلمام الغزالي في القضية : وأعتقد أن موقؾ اإلمام الؽزالً من قضٌة الؽناء ,ومناقشته الفقهٌة العمٌقة لحجج القابلٌن بتحرٌم السماع ,والجواب عنها باإلجابات الشافٌة ,ونصرته ألدلة المجٌزٌن ,وتحدٌده للعوارض التً تعرض للسماع المباح ,فتنقله إلى دابرة الحرمة ٌ ..عتبر من أعدل المواقؾ المعبرة عن وسطٌة الشرٌعة , وسماحتها ,وصبلحٌتها لكل البٌبات واألعصار . والحق أن فقه الؽزالً فً « اإلحٌاء » -بصفة عامة -فقه تحرر من قٌود المذهبٌة ,فهو لم ٌعد شافعٌا ً مقٌداً ,بل مجتهداً طلٌقا ً ٌ ,نظر إلى الشرٌعة من أفق واسع .وقد تجلى هذا فً مواضع كثٌرة ,تحتاج إلى دراسة خاصة ,تصلح ألطروحة جامعٌة . العوارض التي تنقل السماع المباح إلى الحرمة : ذكر الؽزالً عوارض خمسة تجعل السماع المباح محظوراً ,تتحدد فٌما ٌلً : .1عارض فً المسمع بؤن ٌكون امرأة ال ٌحل النظر إلٌها ,وتخشى الفتنة من سماعها .والحرمة فٌه لخوؾ الفتنة ال لذات الؽناء . ورجح الؽزالً قصر التحرٌم على مظنة خوؾ الفتنة ..وأٌد ذلك بحدٌث الجارٌتٌن المؽنٌتٌن فً بٌت عابشة ,إذ ٌعلم أنه صلى هللا علٌه وسلم كان ٌسمع أصواتهما ,ولم ٌحترز منه .ولكن لم تكن الفتنة مخوفة علٌه ,فلذلك لم ٌحترز .فإذن ٌختلؾ هذا بؤحوال المرأة ,وأحوال الرجل فً كونه شابا وشٌخا ,
وال ٌبعد أن ٌخ تلؾ األمر فً مثل هذا باألحوال ,فإنا نقول :للشٌخ أن ٌقبل زوجته ,وهو صابم , ولٌس للشاب ذلك . .2عارض فً اآللة بؤن تكون من شعار أهل الشرب أو المخنثٌن ,وهً :المزامٌر واألوتار وطبل الكوبة .فهذه ثبلثة أنواع ممنوعة ,وما عدا ذلك ٌبقى على أصل اإلباحة ,كالدؾ ,وان كان فٌه الجبلجل ,وكالطبل والشاهٌن ,والضرب بالقضٌب وسابر اآلالت . .3عارض فً نظم الصوت ,وهو الشعر ,فإن كان فٌه شا من الخنا والفحش والهجر ,أو ما هو كذب على هللا تعالى وعلى رسوله ,أو على الصحابة ,كما رتبه الروافض فً هجاء ,الصحابة وؼٌرهم ,فسم اع ذلك حرام ,بؤلحان وؼٌر ألحان ,والمستمع شرٌك للقابل .وكذلك ما فٌه وصؾ امرأة بعٌنها ,فإنه ال ٌجوز وصؾ المرأة بٌن ٌدي الرجال . .فؤما التشبٌب بوصؾ الخدود والقد والقامة . .وسابر أوصاؾ النساء ,فالصحٌح أنه ال ٌحرم نظمه وإنشاده ,بلحن وبؽٌر لحن ,وعلى المستمع أال ٌنزله على امرأة معٌنة ,فإن نزله فلٌنزله على من تحل له ,فإن نزله على أجنبٌة ,فهو العاصً بالتنزٌل ,واجالة الفكر فٌه .ومن هذا وصفه , فٌنبؽً أن ٌجتنب السماع رأسا . . . .4عارض فً المستمع ,وهو أن تكون الشهوة ؼالبة علٌه ,وكان فً ؼرة الشباب ,وكانت هذه الصفة أؼلب علٌه من ؼٌرها ,فالسماع حرام علٌه ,سواء ؼلب على قلبه حب شخص معٌن أم لم ٌؽلب ,فإنه كٌفما كان ,فبل ٌسمع وصؾ الصدغ والخد ,والفراق والوصال ,إال وٌحرك ذلك شهوته , وٌنزله على صورة معٌنة ٌ ,نفخ الشٌطان بها فً قلبه ,فتشتعل نار الشهوة ,وتمتد بواعث الشر . . .5أن ٌكون الشخص من عوام الخلق ,ولم ٌؽلب علٌه حب هللا تعالى ,فٌكون السماع له محبوبا ً ,وال ؼلبت علٌه شهوة ,فٌكون فً حقه محظوراً ,ولكنه أبٌح فً حقه كسابر أنواع اللذات المباحة ,إال أنه إذا اتخذه دٌدنه وهجٌراه ,وقصر علٌه أكثر أوقاته ,فهذا هو السفٌه الذي ترد شهادته ,فإن المواظبة على اللهو جناٌة ,وكما أن الصؽٌرة باإلصرار والمداومة تصٌر كبٌرة ,فكذلك بعض المباحات بالمداومة ٌصٌر صؽٌرة . . .ومن هذا القبٌل :اللعب بالشطرنج ,فإنه مباح ,ولكن المواظبة علٌه مكروهة كراهٌة شدٌدة . .وما كل مباح ٌباح كثٌره .بل الخبز مباح ,واالستكثار منه حرام ,كسابر المباحات . وٌبلحظ فً هذه العوارض التً ذكرها الؽزالً :أنه اعتبر األوتار والمزامٌر من عوارض التحرٌم , بناء على أن الشرع ورد بالمنع منها . وقد اجتهد فً تعلٌل هذا المنع ,فؤبدع وأجاد فً التعلٌل والتفسٌر ,إذ قال : إن الشرع لم ٌمنع منها للذاتها ؛ إذ لو كان للذة لقٌس علٌها كل ما ٌلتذ به اإلنسان ,ولكن حرمت الخمور ,واقتضت ضراوة الناس بها المبالؽة فً الفطام عنها ,حتى انتهى األمر فً االبتداء إلى كسر الدنان ,فحرم معها كل ما هو من شعار أهل الشرب ,وهى األوتار والمزامٌر فقط ,وكان تحرٌمها من قبل االتباع ,كما حرمت الخلوة باألجنبٌة ؛ ألنها مقدمة الجماع ,وحرم النظر إلى الفخذ ,التصاله بالسوأتٌن ,وحرم قلٌل الخمر ,وان كان ال ٌسكر؛ ألنه ٌدعو إلى السكر ,وما من حرام إال وله حرٌم ٌطٌؾ به ,وحكم الحرمة ٌنسحب على حرٌمه ,لٌكون حمى للحرام ووقاٌة له ,وخطاراً مانعا ً حوله . فهً ( أي األوتار والمزامٌر ) محرمة تبعا لتحرٌم الخمر لثبلث علل : إحداها :أنها تدعو إلى شرب الخمر ,فإن اللذات الحاصلة بها إنما تتم بالخمر . . . الثانٌة :أنها فً حق قرٌب العهد بشرب الخمر تذكر مجالس األنس بالشرب . . .والذكر سبب انبعاث الشوق ,وهو سبب اإلقدام . . .
الثالثة :االجتماع علٌها ,لما أن صار من عادة أهل الفسق ,فٌمنع من التشبه بهم ؛ ألن من تشبه بقوم فهو منهم . . . وبعد كبلم وتحلٌل جٌد ,قال الؽزالً :وبهذا نتبٌن أنه لٌست العلة فً تحريمها :مجرد اللذة الطٌبة ,بل القٌاس تحلٌل الطٌبات كلها ,إال ما فً تحلٌله فساد .قال هللا تعالى ( :قل من حرم زٌنة هللا التً أخرج لعباده والطٌبات من الرزق ) ؟ . ورحم هللا اإلمام الؽزالً ,فالحقٌقة :أنه لم ٌرد نص صحٌح الثبوت صرٌح الداللة ٌ ,منع من هذه األوتار والمزامٌر كما ظن ,ولكنه -رضى هللا عنه -أخذ األحادٌث المروٌة فً الموضوع قضٌة مسلمة ,ثم حاول تفسٌرها بما ذكرناه ,ولو عرؾ وهن أسانٌد المروٌات فً هذا األمر ,ما جشم نفسه عناء هذا التعلٌل .وهو على كل حال تعلٌل مفٌد لمن ال ٌسلم بضعؾ هذه األحادٌث .
تحذير من التساهل في إطالق التحريم : ونختم بحثنا هذا بكلمة أخٌرة نوجهها إلى السادة العلماء الذٌن ٌستخفون بكلمة « حرام » وٌطلقون لها العنان فً فتاواهم إذا أفتوا ,وفى بحوثهم إذا كتبوا ,علٌهم أن ٌراقبوا هللا فً قولهم ,وٌعلموا أن هذه الكلمة « حرام » كلمة خطٌرة :إنها تعنى عقوبة هللا على الفعل ,وهذا أمر ال ٌعرؾ بالتخمٌن وال بموافقة المزاج ,وال باألحادٌث الضعٌفة ,وال بمجرد النص علٌه فً كتاب قدٌم ,إنما ٌعرؾ من نص ثابت صرٌح ,أو إجماع معتبر صحٌح ,وإال فدابرة العفو واإلباحة واسعة ,ولهم فً السلؾ الصالح أسوة حسنة . قال اإلمام مالك رضى هللا عنه :ما شا أشد علً من أن أسؤل عن مسؤلة من الحبلل والحرام؛ ألن هذا هو القطع فً حكم هللا ,ولقد أدركت أهل العلم والفقه ببلدنا ,وان أحدهم إذا سبل عن مسؤلة كؤن الموت أشرؾ علٌه ,ورأٌت أهل زماننا هذا ٌشتهون الكبلم فً الفتٌا ,ولو وقفوا على ما ٌصٌرون إلٌه ؼدا لقللوا من هذا ,وان عمر بن الخطاب وعلٌا ً وعامة خًار الصحابة كانت ترد علٌهم المسابل -وهم خٌر القرون الذٌن بعث فٌهم النبً صلى هللا علٌه وسلم -فكانوا ٌجمعون أصحاب النبً صلى هللا علٌه وسلم وٌسؤلون ,ثم حٌنبذ ٌفتون فٌها ,وأهل زماننا هذا قد صار فخرهم ,فبقدر ذلك ٌفتح لهم من العلم قال : ولم ٌكن من أمر الناس وال من مضى من سلفنا الذٌن ٌقتدى بهم ,ومعول اإلسبلم علٌهم ,أن ٌقولوا : هذا حبلل وهذا حرام ,ولكن ٌقول :أنا أكره كذا وأرى كذا ,وأما « حبلل » و « حرام » فهذا االفتراء على هللا .أما سمعت قول هللا تعالى ( :قل أرأٌتم ما أنزل هللا لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحبلالً قل ءآهلل أذن لكم ,أم على هللا تفترون) ؛ ألن الحبلل ما حله هللا ورسوله ,والحرام ما حرماه . ونقل اإلمام الشافعً فً « األم » عن اإلمام أبى ٌوسؾ صاحب أبى حنٌفة قال « :أدركت مشاٌخنا من أهل العلم ٌكرمون فً الفتٌا أن ٌقولوا :هذا حبلل وهذا حرام ,إال ما كان فً كتاب هللا عز وجل بٌنا ببل تفسٌر . وحدثنا ابن السابب عن الربٌع بن خٌثم -وكان أفضل التابعٌن -أنه قال :إٌاكم أن ٌقول الرجل :إن هللا أحل هذا أو رضٌه ,فٌقول هللا له :لم أحل هذا ولم أرضه ! وٌقول :إن هللا حرم هذا ,فٌقول هللا : كذبت لم أحرمه ولم أنه عنه ! وحدثنا بعض أصحابنا عن إبراهٌم النخعى أنه حدث عن أصحابه :أنهم كانوا إذا أفتوا بشًء أو نهوا عنه ,قالوا :هذا مكروه ,وهذا ال بؤس به ,فؤما أن ٌقول :هذا حبلل وهذا حرام , .فما أعظم هذا » .
فن الجمال المرئي ( الرسم والتصوير والزخرفة ) التصوير في القرآن : عرض القرآن الكرٌم للتصوٌر على أنه عمل من أعمال هللا تبارك وتعالى ,الذي ٌبدع الصور الجمٌلة , وخصوصا صور الكابنات الحٌة ,وفً مقدمتها اإلنسان ( :هو الذي ٌصوركم فً األرحام كٌؾ ٌشاء ) ( .وصوركم فؤحسن صوركم ) ( .الذي خلقك فسواك فعدلك * فً أي صورة ما شاء ركبك ) . وذكر القرآن أن من أسماء هللا الحسنى :اسم « المصور » .كما فً قوله تعالى ( :هو هللا الخالق البارئ المصور ,له األسماء الحسنى ) .كما عرض القرآن للتماثٌل فً موضعٌن : أحدهما :فً موضع الذم واإلنكار ,وذلك على لسان الخلٌل إبراهٌم علٌه السبلم ,حٌث اتخذها قومه أصناما ,أي آلهة تعبد ,فؤنكر علٌهم ذلك قاببل ( :ما هذه التماثٌل التً أنتم لها عاكفون * قالوا وجدنا آباءنا لها عابدون ) . والثانً :ذكرها القرآن فً معرض االمتنان واإلنعام على سلٌمان علٌه السبلم ,حٌث سخر له الرٌح , وسخر له الجن ٌعملون بٌن ٌدٌه بإذن ربه ( ٌعملون له ما ٌشاء من محارٌب وتماثٌل وجفان كالجواب وقدور راسٌات ,اعملوا آل داود شكراً ) .
التصوير في السنة : أما السنة . .فقد حفلت بؤحادٌث كثٌرة صحٌحة ,معظمها ٌذم التصوٌر والمصورٌن ,وبعضها ٌشدد ؼاٌة التشدد فً منع التصوٌر وتحرٌمه والوعٌد علٌه .كما ٌنكر اقتناء الصور ,أو تعلٌقها فً البٌت , وٌعلن :أن المبلبكة ال تدخل بٌتا فٌه صورة . والمبلبكة هم مظهر رحمة هللا تعالى ورضاه وبركته ,فإذا منعت من الدخول فً بٌت ,فمعناه أنه محروم من الرحمة والرضا والبركة . والمتؤمل فً معانً األحادٌث الواردة فً التصوٌر أو اقتناء الصور ,وفى سٌاقاتها ومبلبساتها ,وٌقارن
بٌن بعضها وبعض ٌ ,تبٌن له :أن النهى والتحرٌم والوعٌد فً تلك األحادٌث لم ٌكن اعتباطا ً وال تحكما ,بل كان وراءها علل ومقاصد ٌهدؾ الشرع إلى رعاٌتها وتحقٌقها .
تصوير ما يعظم ويقدس : ( أ ) فبعض التصوٌر كان ٌقصد به تعظٌم المصور ,وهذا التعظٌم ٌتفاوت ,حتى ٌصل إلى درجة التقدٌس ,بل العبادة . وتارٌخ الوثنٌات ٌدل على أنها بدأت بالتصوٌر للتذكرة ,وانتهت بالتقدٌس والعبادة . ذكر المفسرون فً قوله تعالى على لسان قوم نوح ( :وقالوا ال تذرن آلهتكم وال تذرن وداً وال سواعا ً وال ٌؽوث وٌعوق ونسراً ) أن أسماء هذه األصنام المذكورة ,كانت أسماء رجال صالحٌن ,فلما ماتوا أوحى الشطان إلى قومهم :أن انصبوا إلى مجالسهم التً كانوا ٌجلسون إلٌها أنصابا ً ,وسموها بؤسمابهم ففعلوا ,فلم تعبد ..حتى إذا هلك أولبك ,ونسى العلم ,عبدت ( .رواه البخاري وؼٌره عن ابن عباس ) . وعن عابشة قالت :لما اشتكى النبً صلى هللا علٌه وسلم ,ذكر بعض نسابه كنٌسة ٌقال لها « مارٌة » ,وكانت أم سلمه وأم حبٌبة ,أتتا أرض الحبشة ,فذكرتا من حسنها وتصاوٌر فٌها ,فرفع رأسه فقال : « أولبك إذا مات فٌهم الرجل الصالح ,بنوا على قبره مسجداً ,ثم صوروا فٌه تلك الصور ,أولبك شرار خلق هللا » (متفق علٌه ) . ومن المعروؾ أن الصور والتماثل أروج ما تكون فً رحاب الوثنٌة ,كما عرؾ ذلك عند قوم إبراهٌم ,وعند المصرٌٌن القدماء ,والٌونان والرومان ,وعند الهنود -إلى الٌوم -وؼٌرهم . والنصرانٌة حٌنما « ترومت » على ٌد قسطنطٌن إمبراطور الروم -دخلها كثٌر مما كان عند الرومان من مظاهر الوثنٌة . الشدي على التصوٌر ٌقصد به الذٌن ٌنحتون اآللهة المزعومة, د ولعل بعض ما ورد من الوعٌد والمعبودات المتنوعة عند األمم المختلفة :وذلك مثل حدٌث ابن مسعود مرفوعا « :إن أشد الناس عذابا عند هللا :المصورون » ( متفق علٌه ) . قال النووي :قل :هً محمولة على من فعل الصورة لتعبد ,وهو صانع األصنام ونحوها ,فهذا كافر , وهو أشد عذابا ً ,وقٌل :هً فٌمن قصد المعنى الذي فً الحدٌث من مضاهاة خلق هللا تعالى ,واعتقد ذلك ,فهذا كافر ,له من أشد العذاب ما للكفار ,وٌزٌد عذابه بزٌادة قبح كفره . وإنما ذكر النووي ذلك ,وهو من أشد المشددٌن فً تحرٌم التصوٌر واتخاذ الصور ؛ ألنه ال ٌتصور - بحسب مقاصد الشرع -أن ٌكون المصور العادي أشد عذابا من القاتل والزانً وشارب الخمر والمرابً وشاهد الزور . . .وؼٌرهم من مرتكبً الكبابر والموبقات . وقد روى مسروق حدٌث ابن مسعود المذكور بمناسبة دخوله -هو وصاحب له -بٌتا فٌه تماثٌل ,فقال مسروق :هذا تماثٌل كسرى ؟ قال صاحبه :هذا تماثٌل مرٌم . .فروى مسروق الحدٌث .
تصوير ما يعتبر من شعائر دين آخر :
( ب ) وقرٌب من هذا اللون من التصوٌر ما كان ٌعبر عن شعابر دٌن معٌن ؼٌر دٌن اإلسبلم ,وأبرز مثل لذلك « الصلٌب » عند النصارى .فما كان من الصور مشتمبل على الصلٌب فهو محرم ببل رٌب ,وٌجب على المسلم نقضه وإزالته . وفى هذا روى البخاري عن عابشة « :أن النبً صلى هللا علٌه وسلم لم ٌكن ٌترك فً بٌته شٌبا فٌه تصالٌب إال نقضه »
المضاهاة بخلق هللا : ( جـ ) مضاهاة خلق هللا عز وجل ,بدعوى أنه ٌبدع وٌخلق كما ٌخلق هللا سبحانه .وٌبدو أن هذا أمر ٌتعلق بقصد المصور ونٌته ,وان كان هناك من ٌرى أن كل مصور مضاه لخلق هللا . وفى هذا جاء حدٌث عابشة عن النبً صلى هللا علٌه وسلم « :أشد الناس عذابا ً ٌوم القٌامة :الذٌن ٌضاهون بخلق هللا » ( متفق علٌه ) . فهذا الوعٌد الؽلٌظ ٌوحً بؤنهم ٌقصدون إلى مضاهاة خلق هللا ,وهو ما نقله اإلمام النووي فً شرح مسلم ,إذ ال ٌقصد ذلك إال كافر . وٌدل علٌه حدٌث أبى هرٌرة الصحٌح قال :سمعت رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ٌقول « :قال هللا تعالى :ومن أظلم ممن ذهب ٌخلق كخلقً ,فلٌخلقوا ذرة ,ولٌخلقوا حبة ,أو لٌخلقوا شعٌرة » ( متفق علٌه ) . فقوله « :ذهب ٌخلق كخلقً » ٌدل على القصد والتعمد .ولعل هذا هو سر التحدي اإللهً لهم ٌوم القٌامة ,حٌث ٌقال لهم « :أحٌوا ما خلقتم » وهو « أمر تعجٌز » كما ٌقول األصولٌون .
دخول الصور في مظاهر الترف : ( د ) أن تكون جزءا من أدوات الترؾ ومظاهره .وهذا ما ٌظهر من كراهٌة النبً صلى هللا علٌه وسلم لبعض الصور فً بٌته ,فقد روت عابشة أنه علٌه الصبلة والسبلم خرج فً ؼزاة ,قالت :فؤخذت نمطا ً ( نوعا من البسط اللطٌفة أو الستابر ) فسترته على الباب ,فلما قدم ,فرأى النمط ,فجذبه حتى هتكه ,ثم قال « :إن هللا لم ٌؤمرنا أن نكسو الحجارة والطٌن » قالت :فقطعنا منه وسادتٌن , وحشوتهما لٌفا ,فلم ٌعب ذلك على » ( متفق علٌه ) . والنص بهذه الصٌؽة « -إن هللا لم ٌؤمرنا » ٌ -قتضً أنه لٌس بواجب وال مندوب ,فهو ال ٌدل على أكثر من الكراهة التنزٌهٌة ,كما قال اإلمام النووي ,ولكن بٌت النبوة ٌ ,نبؽً أن ٌكون أسوة ومثبلً للناس فً الترفع على زخرؾ الدنٌا وزٌنتها . ٌإكد هذا حدٌث عابشة اآلخر ,قالت :كان لنا ستر فٌه تمثال طابر ,وكان الداخل إذا دخل استقبله ,
فقال لً رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم « :حولً هذا ,فإنً كلما دخلت فرأٌته ,ذكرت الدنٌا » ( رواه مسلم ) . ومثله :ما رواه القاسم بن محمد عنها رضى هللا عنها :أنه كان لها ثوب فٌه تصاوٌر ,ممدود إلى سهوة ,فكان النبً صلى هللا علٌه وسلم ٌصلً إلٌه ,فقال « .أخرٌه عنً قالت :فؤخرته فجعلته وسابد ». وفى رواٌة عند ؼٌر مسلم « :أخرٌه عنً ,فإن تصاوٌره تعرض لً فً صبلتً ». فهذا كله من زٌادة الترفه والتنعم ,وهو من وادي الكراهٌة ,ال من وادي التحرٌم .ولكن النووي قال : هذا محمول على أنه كان قبل تحرٌم اتخاذ ما فٌه صورة ,فلهذا كان ٌدخل وٌراه وال ٌنكره . ومعنى هذا :أنه ٌرى األحادٌث التً ظاهرها التحرٌم ناسخة لهذا الحدٌث وما فً معناه .ولكن النسخ ال ٌثبت بمجرد االحتمال .فإثبات مثل هذا النسخ ٌستلزم أمرٌن : أولهما :التحقق من تعارض النصٌن ,بحٌث ال ٌمكن الجمع بٌنهما .مع أن الجمع ممكن بحمل أحاديث التحرٌم على قصد مضاهاة خلق هللا ,أو بقصرها على المجسم ( أي ما له ظل ). وثانٌهما :معرفة المتؤخر من النصٌن .وال دلٌل على أن التحرٌم هو المتؤخر ,بل الذي رآه اإلمام الطحاوي فً « مشكل اآلثار » هو العكس ,فقد شدد اإلسبلم فً شؤن الصور فً أول األمر ,لقرب عهده بالوثنٌة ,ثم رخص فً المسطحات من الصور .أي ما كان رقما ً فً ثوب ,ونحوه . وقد روى هذا الحدٌث عن عابشة بصٌؽة أخرى ,تدل على شدة الكراهٌة من النبً صلى هللا علٌه وسلم . فعن عابشة :أنها اشترت تمرقة ( وسادة صؽٌرة ) فٌها تصاوٌر ,فلما رآها رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ,قام على الباب ,فلم ٌدخل ,فعرفت فً وجهه الكراهٌة ,قالت :فقلت ٌ :ا رسول هللا ,أتوب إلى هللا ,وإلى رسوله ,ما أذنبت ؟ فقال « :ما بال هذه النمرقة » قلت :اشترٌتها لك لتقعد علٌها وتوسدها .فقال رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم « :إن أصحاب هذه الصور ٌعذبون ٌوم القٌامة ,وٌقال لهم :أحٌوا ما خلقتم » . وقال « :إن البٌت الذي فٌه الصورة ال تدخله المبلبكة » ( متفق علٌه ) .
نظرات في فقه األحاديث : فً هذا الجو الذي كان ٌحٌط بفن التصوٌر والصور فً عصر النبوة ,ورد معظم األحادٌث المحرمة . وال ؼرو أن شددت األحادٌث النبوٌة فً هذا األمر ,وان كان تشدٌدها فً صنعة التصوٌر أكثر من تشدٌده ا فً اقتناء الصورة ,فبعض ما ٌحرم تصوٌره ٌجوز اقتناإه فٌما ٌمتهن مثل البسط والوسابد ونحوها مما ٌبتذل باالستعمال ,كما رأٌنا فً حدٌث عابشة . ومن أشد ما روى فً منع التصوٌر :ما جاء فً الصحٌحٌن عن ابن عباس مرفوعا ً « :كل مصور فً النار ٌ ,جعل له بكل صورة صوره ا نفسا ,فٌعذبه فً جهنم » . وفى رواٌة للبخاري عن سعٌد بن أبى الحسن قال :كنت عند ابن عباس ,إذ جاءه رجل ,فقال ٌ :ا بن عباس ,إنً رجل إنما معٌشتً من صنعة ٌدي ,وإنً أصنع هذه التصاوٌر .فقال ابن عباس :ال أحدثك إال ما سمعت من رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم .سمعته ٌقول « :من صور صورة فإن هللا معذبه حتى ٌنفخ فٌها الروح ,ولٌس بنافخ فٌها أبداً » .فربا الرجل ربوة شدٌدة ( أي انتفخ ؼٌظا
وضٌقا ً ) فقال « :وٌحك ؛ إن أبٌت إال أن تصنع ,فعلٌك بهذا الشجر ,وكل شا لٌس فٌه روح » . وروى مسلم من حٌان بن حصٌن قال « :قال لً علً بن أبى طالب رضً هللا عنه :أال أبعثك على ما بعثنً علٌه رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ؟ أال تدع صورة إال طمستها ,وال قبراً مشرفا إال سوٌته » . وروى مسلم عن عابشة أنها قالت :واعد رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم جبرٌل علٌه السبلم ,فً ساعة ٌؤتٌه فٌها ,فجاءت تلك الساعة ,ولم ٌؤته ,وفً ٌده عصا ً ,فؤلقاها من ٌده ,وقال « :ما ٌخلؾ هللا وعده وال رسله » ! ثم التفت ,فإذا جرو كلب تحت سرٌره ,فقال ٌ « :ا عابشة ,متى دخل هذا الكلب ههنا ؟ » فقالت :وهللا ما درٌت ! فؤمر به ,فؤخرج ,فجاء جبرٌل ,فقال رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم « :واعدتنً ,فجلست لك ,فلم تؤت » ! فقال :منعنً الكلب الذي كان فً بٌتك .إنا ال ندخل بٌتا فٌه كلب وال صورة » . وبهذا نرى أن عدد األحادٌث التً وردت فً شؤن التصوٌر والصور ,لٌس قلٌبل ,كما زعم بعض من كتب فً ذلك ,فقد رواها جمع من الصحابة منهم :ابن مسعود ,وابن عمر ,وابن عباس ,وعابشة , وعلً ,وأبو هرٌرة ,وأبو طلحة .وكلها فً الصحاح . وقد اختلفت آراء الفقهاء فً قضٌة التصوٌر فً ضوء هذه األحادٌث ,وكان من أشدهم فً ذلك اإلمام النووي الذي حرم تصوٌر كل ما فٌه روح من إنسان أو حٌوان ,مجسما ( له ظل ) أو ؼٌر مجسم , ممتهنا أو ؼٌر ممتهن ,ولكنه أجاز استعمال ما ٌمتهن ,وان كان تصوٌره حراما ,كالمصور فً البسط والوسابد ونحوها . ً ولكن بعض فقهاء السلؾ قصر التحرٌم على المجسم ( الذي له ظل ) وهو ما نطلق علٌه عرفا ( التماثٌل ) فهً أوؼل فً مشابهة الوثنٌة ,وهً التً ٌظهر فٌها مضاهاة خلق هللا ,ألن خلق هللا وتصوٌره مجسم ( :هو الذي ٌصوركم فً األرحام كٌؾ ٌشاء ) . وفً الحدٌث القدسً « :ومن أظلم ممن ذهب ٌخلق كخلقً » ,وخلق هللا تعالى مجسم ,وهو الذي ٌمكن قبول نفخ الروح فٌه ,إذ المسطح لٌس قاببل لذلك ,وألنها ادخل فً الترؾ والسرؾ ,وال سٌما ما كان من المعادن الثمٌنة . وهذا مذهب بعض السلؾ .. وقد قال النووي إن هذا مذهب باطل ,فتعقبه الحافظ ابن حجر بؤنه مذهب القاسم بن محمد ,ولعله أخذ بعموم قوله صلى هللا علٌه وسلم « :إال رقما ً فً ثوب » وسنذكر نص هذا الحدٌث. والقاسم بن محمد بن أبى بكر ,أحد الفقهاء السبعة بالمدٌنة ,ومن أفضل أهل زمانه ,وابن أخً عابشة ,وراوي حدٌث النمرقة عنها .وٌحتج له بالحدٌث التالً .. ففً الصحٌح عن بسر بن سعٌد عن زٌد بن خالد الجهنى عن أبى طلحة صاحب رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم أنه قال :إن رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم قال « :إن المبلبكة ال تدخل بٌتا فٌه صورة . قال بسر :ثم اشتكى زٌد بعد ,فعدناه ,فإذا على بابه ستر فٌه صورة ,قال :فقلت لعبٌد هللا الخوالنى ربٌب مٌمونة زوج النبً صلى هللا علٌه وسلم :ألم ٌخبرنا زٌد عن الصور ٌوم األول ؟ فقال :ألم تسمعه حٌن قال « :إال رقما فً ثوب » وأكد ذلك ما رواه الترمذي أن سهل بن حنٌؾ رافق أبا طلحة على هذا االستثناء « :إال رقما فً ثوب ». وتؤوٌل هذا بؤن المراد به :ما كان لؽٌر ذي روح ٌ ,عارضه حدٌث تمثال الطابر الذي كان فً بٌت عابشة ,وقول النبً لها « :حولي هذا ,فإنً كلما رأٌته ذكرت الدنٌا » أو « :فإن تصاوٌره تعرض لً فً صبلتً » . فاألرجح قصر التحرٌم على المجسم ,وأما صور اللوحات المسطحة على الورق ,أو الجدران ,أو الخشب ونحوها ,فؤقصى ما فٌها الكراهة التنزٌهٌة ,كما ذكر اإلمام الخطابً ,إال ما كان فٌه ؼلو وإسراؾ ,كالصور التً تباع بالمبلٌٌن ونحوها.
وٌستثنى من المجسم المحرم :لعب األطفال ,من الدمى والعرابس والقطط والكبلب والقرود ونحوها , مما ٌتلهى به األطفال ,ألن مثله ال ٌظهر فٌه قصد التعظٌم ,واألطفال ٌعبثون بها . البنات ( العرابس ) وأن صواحب لها كن ٌجبن إلٌها فٌلعب ودلٌل ذلك حدٌث عابشة أنها كانت تلعب ب معها .وكان الرسول الكرٌم ٌسر لمجٌبهن إلٌها . ومثل ذلك :التماثٌل والعرابس التً تصنع من الحلوى وتباع فً بعض المناسبات ,ثم ال تلبث أن تإكل . كما ٌستثنى من الحظر :التماثٌل التً تشوه بقطع رأسها ,أو نحو ذلك منها ,كما جاء فً الحدٌث أن جبرٌل قال للرسول صلى هللا علٌه وسلم « :مر برأس التمثال فلٌقطع حتى ٌصٌر كهٌبة الشجرة » . وأما التماثٌل النصفٌة التً تنصب فً المٌادٌن ونحوها للملوك والزعماء ,فبل ٌخرجها من دابرة الحظر ,ألنها ال تزال تعظم . ونهج اإلسبلم ؾي تخلٌد العظماء واألبطال ٌخالؾ نهج الؽربٌٌن ,فهو ٌخلدهم بالذكر الحسن ,والسٌرة الطٌبة ٌ ,تناقلها الخلؾ عن السلؾ , وٌتمثلونها ,وٌؤتسون بها ,وبهذا خد األنبٌاء والصحابة واألبمة واألبطال والربانٌون ,فؤحبتهم القلوب ,ودعت لهم األلسنة ,وان لم ترسم لهم صورة ,وال نصب لهم تمثال . وكم من تماثٌل قابمة ال ٌعرؾ الناس شٌبا عن أصحابها ,كتمثال « الظوؼلً » فً قلب القاهرة ,وكم من تماثٌل ٌمر الناس علٌها فٌلعنون أصحابها .
الصور الفوتوغرافية : ومما ال خفاء فٌه أن كل ما ورد فً التصوٌر والصور ,إنما ٌعنى الصور التً تنحت أو ترسم على حسب ما ذكرنا . أما الصور الشمسٌة -التً تإخذ بآلة الفوتوؼرافٌا -فهً شا مستحدث لم ٌكن فً عصر الرسول ,وال سلؾ المسلمٌن ,فهل ٌنطبق علٌه ما ورد فً التصوٌر والمصورٌن ؟ أما الذٌن ٌقصرون التحرٌم على التماثٌل ( المجسمة ) فبل ٌرون شٌبا ً فً هذه الصور ,وخصوصا ً إذا لم تكن كاملة . وأما على رأي اآلخرٌن فهل تقاس هذه الصور الشمسٌة على تلك التً تبدعها رٌشة الرسام ؟ أم أن العلة التً نصت علٌها بعض األحادٌث فً عذاب المصورٌن -وهى أنهم ٌضاهون خلق هللا -ال تتحقق هنا فً الصورة الفوتوؼرافٌة ؟ وحٌث عدمت العلة عدم المعلول كما ٌقول األصولٌون ؟ إن الواضح هنا ما أفتى به المؽفور له الشٌخ محمد بخٌت مفتى مصر « :أن أخذ الصورة بالفوتوؼرافٌا -الذي هو عبارة عن حبس الظل بالوسابط المعلومة ألرباب هذه الصناعة -لٌس من التصوٌر المنهً عنه فً شا ,ألن التصوٌر المنهً عنه هو إٌجاد صورة وصنع صورة لم تكن موجودة وال مصنوعة من قبل ٌ ,ضاهى بها حٌوانا خلقه هللا تعالى ,ولٌس هذا المعنى موجوداً فً أخذ الصورة بتلك اآللة » ٌ ( .إكد هذا تسمٌة أهل الخلٌج الصورة ( عكسا ) والمصور ( عكاسا ً ) ) . هذا . .ومن المقرر أن لموضوع الصورة أثراً فً الحكم بالحرمة أو ؼٌرها .وال ٌخالؾ مسلم فً تحرٌم الصورة إذا كان موضوعها مخالؾ لعقابد اإلسبلم ,أو شرابعه وآدابه ,فتصوٌر النساء عارٌات ,أو شبه عارٌات ,وإبراز مواضع األنوثة والفتنة منهن ,ورسمهن أو تصوٌرهن فً أوضاع مثٌرة للشهوات ,موقظة للؽرابز الدنٌا ,كما نرى ذلك واضحا فً بعض المجبلت والصحؾ ,ودور « السٌنما » كل ذلك مما ال شك فً حرمته وحرمة تصوٌره ,وحرمة نشره على الناس ,وحرمة اقتنابه
واتخاذه فً البٌوت أو المكاتب والمجبلت ,وتعلٌقه على الجدران ,وحرمة القصد إلى رإٌته ومشاهدته . ومثل هذا صور الكفار والظلمة والفساق ,الذٌن ٌجب على المسلم أن ٌعادٌهم هلل وٌبؽضهم فً هللا ,فبل ٌحل لمسلم أن ٌ ,صور أن ٌقتنً صورة لزعٌم ملحد ٌنكر وجود هللا ,أو وثنً ٌشرك مع هللا البقر أو النار ,أو ؼٌرها ,أو ٌهودي أو نصرانً ٌجحد نبوة محمد صلى هللا علٌه وسلم ,أو مدع لئلسبلم وهو ٌحكم بؽٌر ما أنزل هللا ,أو ٌشٌع الفاحشة والفساد فً المجتمع .ومثل هذا ,الصور التً تعبر عن الوثنٌة أو شعابر بعض األدٌان التً ال ٌرضاها اإلسبلم كاألصنام وما شابهها .
خالصة ألحكام الصور والمصورين : ونستطٌع أن نجمل أحكام الصور والمصورٌن فً الخبلصة التالٌة : ( أ ) أشد أنواع الصور فً الحرمة واإلثم صور ما ٌعبد من دون هللا ,فهذه تإدى بمصورها إلى الكفر إن كان عارفا بذلك قاصداً له . والمجسم فً هذه الصور أشد إثما ونكراً .وكل من روج هذه الصور أو عظمها بوجه من الوجوه داخل فً هذا اإلثم بقدر مشاركته . ( ب ) وٌلٌه فً اإلثم من صور ما ال ٌعبد ,ولكنه قصد مضاهاة خلق هللا ,أي ادعى أنه ٌبدع وٌخلق كما ٌخلق هللا ,فهو بهذا ٌقارب الكفر .وهذا أمر ٌتعلق بنٌة المصور وحده . ( جـ ) ودون ذلك الصور المجسمة لما ال ٌعبد ,ولكنها مما ٌعظم كصور الملوك والقادة والزعماء وؼٌرهم عن ٌزعمون تخلٌدهم بإقامة التماثٌل لهم ,ونصبها فً المٌادٌن ونحوها .وٌستوي فً ذلك أن ٌكون التمثال كامبل أو نصفٌا ً . ( د ) ودونها الصور المجسمة لكل ذي روح مما ال ٌقدس وال ٌعظم ,فإنه متفق على حرمتهٌ ,ستثنى من ذلك ما ٌمتهن ,كلعب األطفال ,ومثلها ما ٌإكل من تماثٌل الحلوى . ( هـ ) وبعدها الصور ؼٌر المجسمة -اللوحات الفنٌة -التً ٌعظم أصحابها ,كصور الحكام والزعماء وؼٌرهم ,وخاصة إذا نصبت وعلقت .وتتؤكد الحرمة إذا كان هإالء من الظلمة والفسقة والملحدٌن , فإن تعظٌمهم هدم لئلسبلم . ( و ) ودون ذلك أن تكون الصورة ؼٌر المجسمة لذي روح ال ٌعظم ,ولكن تعد من مظاهر الترؾ , والتنعم كؤن تستر بها الجدر ونحوها ,فهذا من المكروهات فحسب .
( ز ) أما صور ؼٌر ذي الروح من الشجر والنخٌل والبحار والسفن والجبال والنجوم والسحب ونحوها من المناظر الطبٌعٌة ,فبل جناح على من صورها أو اقتناها ,ما لم تشؽل عن طاعة أو تإد إلى ترؾ فتكره . ( ح ) وأما الصور الشمسٌة ( الفوتوؼرافٌة ) فاألصل فٌها اإلباحة ,ما لم ٌشتمل موضوع الصورة على محرم ,كتقدٌس صاحبها تقدٌسا دٌنٌا ,أو تعظٌمه تعظٌما دنٌوٌا ,وخاصة إذا كان المعظم من أهل الكفر أو الفساق كالوثنٌٌن والشٌوعٌٌن والفنانٌن المنحرفٌن . ( ط ) وأخٌرا . .إن التماثٌل والصور الحرمة أو المكروهة إذا شوهت أو امتهنت ,انتقلت من دابرة الحرمة والكراهة إلى دابرة الحل ,كصور البسط التً تدوسها األقدام والنعال ونحوها .
تأويالت : ومن المعلوم أن هناك بعض العلماء حاولوا أن ٌإولوا األحادٌث الصحاح الواردة فً تحرٌم التصوٌر واقتناء الصور لٌقولوا بإباحة الصور كلها حتى المجسمة منها . مثل ما حكاه أبو علً الفارسً فً تفسٌره عمن حمل كلمة « المصورٌن » فً الحدٌث على من جعل هلل صورة ٌ ,عنى :المجسمة والمشبهة الذي شبهوا هللا تعالى بخلقه ,واعتبروه جسما ً وصورة ,وهو تعالى لٌس كمثله شا . ذكر هذا أبو علً الفارسً فً كتابه « الحجة » وهو تكلؾ واعتساؾ ال تساعده األلفاظ الثابتة فً األحادٌث . ومثل من استند إلى ما أبٌح لسلٌمان علٌه السبلم ,وذكره القرآن فً سور« سبؤ » ٌ ( :عملون له ما ٌشاء م ن محارٌب وتماثل ) ولم ٌقولوا بنسخه فً شرٌعتنا .وهذا الرأي ذكره أبو جعفر النحاس , وحكاه بعده مكً فً تفسٌره « الهداٌة إلى بلوغ النهاٌة » . ومثل من حمل المنع على مجرد الكراهة ,وأن هذا التشدٌد كان فً ذلك الزمان لقرب عهد الناس بعبادة األوثان ,وقد تؽٌر الحال فً العصور التالٌة ( .هذا مع أن الوثنٌة ال زال ٌدٌن بها آالؾ المبلٌٌن ) . وهذا قاله بعضهم من قبل ,ورد علٌهم اإلمام ابن دقٌق العٌد ,بؤن هذا القول باطل قطعا ً ,ألن هذا مناؾ للعلة إلى ذكرها الشارع ,وهى أنهم ٌضاهون أو ٌشبهون بخلق هللا . قال :وهذه علة عامة مستقٌمة مناسبة ,ال تخص زمانا دون زمان .ولٌس لنا أن نتصرؾ فً النصوص المتظاهرة المتضافرة بمعنى خٌالً . والثابت الواضح أن هذه األقوال لم تقنع العقل المسلم ,وبالتالً لم تإثر فً المجرى العام للحضارة اإلسبلمٌة ,والحٌاة اإلسبلمٌة ,وان عمل بها بعض الناس فً بعض البلدان ,كما رأٌنا فً أسود قصر الحمراء بؽرناطة فً األندلس ,وبعض ما حكاه اإلمام القرافً فً كتابه « نفابس األصول فً شرح المحصول » عن شمعدان وضع للملك الكامل ,كلما مضى من اللٌل ساعة انفتح باب منه وخرج منه شخص فً خدمة الملك . . .الخ .وأن القرافً نفسه عمل شمعدانا ً زاد فٌه :أن الشمعة ٌتؽٌر لونها كل ساعة ,وفٌه أسد تتؽٌر عٌناه من السواد الشدٌد إلى البٌاض الشدٌد ,إلى الحمرة الشدٌدة ,وٌسقط حصانان من طابرٌن ,وٌدخل شخص ,وٌخرج شخص ؼٌره ,وٌؽلق باب وٌفتح باب ,فً كل ساعة لها لون .وإذا طلع الفجر طلع الشخص على الشمعدان ,وإصبعه فً أذنه ٌ ,شٌر إلى األذان ,قال القرافً :ؼٌر أنً عجزت عن صنعة الكبلم ) .
وقرٌب من ذلك ما حكاه ابن جبٌر فً رحلته عن وصؾ الساعة التً كانت بجامع دمشق ,وفٌها تمثال صقور . . .الخ .
المزاج العام للحضارة اإلسالمية : ولكن المإكد أن المزاج العام للحضارة اإلسبلمٌة لم ٌرحب بصور اإلنسان والحٌوان ,وخصوصا المجسمة منها ,وؼلب علٌه التجرٌد ,البلبق بعقٌدة التوحٌد ,ال التجسٌم البلبق بالوثنٌات على اختبلؾ درجاتها . ومن هنا اتجه الفن « التشكٌلً » فً حضارتنا إلى أمور أخرى أبدع فٌها أٌما إبداع ,وترك فٌها آثارا رابعة الجمال . تجلت فً الزخارؾ التً تفنن فٌها عقل الفنان المسلم وٌده ورٌشته ,وتجلى ذلك فً المساجد والمصاحؾ والقصور والمنازل وؼٌرها :على الجدران والسقوؾ ,واألبواب والنوافذ ,وعلى األرضٌات أحٌانا ً ,وفً األدوات المنزلٌة ,وفً األثاث ,والتحؾ والبسط والثٌاب والسٌوؾ . واستخدمت المواد المختلفة من الحجارة والرخام والخشب ,والخزؾ والجلد والزجاج ,والورق , والحدٌد والنحاس ,والمعادن المتنوعة . ودخل فً الزخرفة :الخط العربً بؤنواعه المختلفة من الثلث والنسخ والرقعة والفارسً والدٌوانً والكوفً وؼٌرها ,وافتن الخطاطون فً ذلك كل االفتنان ,وخلفوا لنا لوحات فً ؼاٌة الحسن واإلبداع . وأكثر ما تجلى الفنان « الخط والزخرفة » فً المصاحؾ والجوامع .أما الجوامع فبل زلنا نشها منها آٌات فً الجمال ,كما فً المسجد النبوي ,ومسجد قبة الصخرة ,والجامع األموي بدمشق ,وجامع السلطان أحمد والسلٌمانٌة باستانبول ,وجامع السلطان حسن وجامع محمد علً بالقاهرة ,وؼٌرها وؼٌرها فً أنحاء العالم اإلسبلمً . وأبرز ما تجلى فٌه الفن اإلسبلمً إنما كان فً العمارة ,وقد قال مإرخو الحضارة :إن فن البناء أحسن معبر عن الفن اإلسبلمً ,وقد ظهر ذلك فً روابع كثٌرة فً أقطار عدة ,لعل أبرزها فً الهند ي تلك الرابعة الهندسٌة الجمالٌة « :تاج محل » . :إحدى عجابب الدنٌا المتمثلة ؾ وهكذا كان منع التصوٌر والنحت سببا لفتح أبواب أخرى فً عالم الفنون ,جعلت للعالم اإلسبلمً تمٌزه الخاص ,ومثالٌته المتفردة .
فن الجمال المرئي ( الرسم والتصوير والزخرفة ) التصوير في القرآن :
عرض القرآن الكرٌم للتصوٌر على أنه عمل من أعمال هللا تبارك وتعالى ,الذي ٌبدع الصور الجمٌلة , وخصوصا صور الكابنات الحٌة ,وفً مقدمتها اإلنسان ( :هو الذي ٌصوركم فً األرحام كٌؾ ٌشاء ) ( .وصوركم فؤحسن صوركم ) ( .الذي خلقك فسواك فعدلك * فً أي صورة ما شاء ركبك ) . وذكر القرآن أن من أسماء هللا الحسنى :اسم « المصور » .كما فً قوله تعالى ( :هو هللا الخالق البارئ المصور ,له األسماء الحسنى ) .كما عرض القرآن للتماثٌل فً موضعٌن : أحدهما :فً موضع الذم واإلنكار ,وذلك على لسان الخلٌل إبراهٌم علٌه السبلم ,حٌث اتخذها قومه أصناما ,أي آلهة تعبد ,فؤنكر علٌهم ذلك قاببل ( :ما هذه التماثٌل التً أنتم لها عاكفون * قالوا وجدنا آباءنا لها عابدون ) . والثانً :ذكرها القرآن فً معرض االمتنان واإلنعام على سلٌمان علٌه السبلم ,حٌث سخر له الرٌح , وسخر له الجن ٌعملون بٌن ٌدٌه بإذن ربه ( ٌعملون له ما ٌشاء من محارٌب وتماثٌل وجفان كالجواب وقدور راسٌات ,اعملوا آل داود شكراً ) .
التصوير في السنة : أما السنة . .فقد حفلت بؤحادٌث كثٌرة صحٌحة ,معظمها ٌذم التصوٌر والمصورٌن ,وبعضها ٌشدد ؼاٌة التشدد فً منع التصوٌر وتحرٌمه والوعٌد علٌه .كما ٌنكر اقتناء الصور ,أو تعلٌقها فً البٌت , وٌعلن :أن المبلبكة ال تدخل بٌتا فٌه صورة . والمبلبكة هم مظهر رحمة هللا تعالى ورضاه وبركته ,فإذا منعت من الدخول فً بٌت ,فمعناه أنه محروم من الرحمة والرضا والبركة . والمتؤمل فً معانً األحادٌث الواردة فً التصوٌر أو اقتناء الصور ,وفى سٌاقاتها ومبلبساتها ,وٌقارن بٌن بعضها وبعض ٌ ,تبٌن له :أن النهى والتحرٌم والوعٌد فً تلك األحادٌث لم ٌكن اعتباطا ً وال تحكما ,بل كان وراءها علل ومقاصد ٌهدؾ الشرع إلى رعاٌتها وتحقٌقها .
تصوير ما يعظم ويقدس : ( أ ) فبعض التصوٌر كان ٌقصد به تعظٌم المصور ,وهذا التعظٌم ٌتفاوت ,حتى ٌصل إلى درجة التقدٌس ,بل العبادة . وتارٌخ الوثنٌات ٌدل على أنها بدأت بالتصوٌر للتذكرة ,وانتهت بالتقدٌس والعبادة . ذكر المفسرون فً قوله تعالى على لسان قوم نوح ( :وقالوا ال تذرن آلهتكم وال تذرن وداً وال سواعا ً وال ٌؽوث وٌعوق ونسراً ) أن أسماء هذه األصنام المذكورة ,كانت أسماء رجال صالحٌن ,فلما ماتوا أوحى الشطان إلى قومهم :أن انصبوا إلى مجالسهم التً كانوا ٌجلسون إلٌها أنصابا ً ,وسموها بؤسمابهم ففعلوا ,فلم تعبد ..حتى إذا هلك أولبك ,ونسى العلم ,عبدت ( .رواه البخاري وؼٌره عن ابن عباس ) . وعن عابشة قالت :لما اشتكى النبً صلى هللا علٌه وسلم ,ذكر بعض نسابه كنٌسة ٌقال لها « مارٌة » ,وكانت أم سلمه وأم حبٌبة ,أتتا أرض الحبشة ,فذكرتا من حسنها وتصاوٌر فٌها ,فرفع رأسه فقال :
« أولبك إذا مات فٌهم الرجل الصالح ,بنوا على قبره مسجداً ,ثم صوروا فٌه تلك الصور ,أولبك شرار خلق هللا » (متفق علٌه ) . ومن المعروؾ أن الصور والتماثل أروج ما تكون فً رحاب الوثنٌة ,كما عرؾ ذلك عند قوم إبراهٌم ,وعند المصرٌٌن القدماء ,والٌونان والرومان ,وعند الهنود -إلى الٌوم -وؼٌرهم . والنصرانٌة حٌنما « ترومت » على ٌد قسطنطٌن إمبراطور الروم -دخلها كثٌر مما كان عند الرومان من مظاهر الوثنٌة . ولعل بعض ما ورد من الوعٌد الشدٌد على التصوٌر ٌقصد به الذٌن ٌنحتون اآللهة المزعومة, وعا « :إن أشد الناس والمعبودات المتنوعة عند األمم المختلفة :وذلك مثل حدٌث ابن مسعود مرؾ عذابا عند هللا :المصورون » ( متفق علٌه ) . قال النووي :قل :هً محمولة على من فعل الصورة لتعبد ,وهو صانع األصنام ونحوها ,فهذا كافر , وهو أشد عذابا ً ,وقٌل :هً فٌمن قصد المعنى الذي فً الحدٌث من مضاهاة خلق هللا تعالى ,واعتقد ذلك ,فهذا كافر ,له من أشد العذاب ما للكفار ,وٌزٌد عذابه بزٌادة قبح كفره . وإنما ذكر النووي ذلك ,وهو من أشد المشددٌن فً تحرٌم التصوٌر واتخاذ الصور ؛ ألنه ال ٌتصور - بحسب مقاصد الشرع -أن ٌكون المصور العادي أشد عذابا من القاتل والزانً وشارب الخمر والمرابً وشاهد الزور . . .وؼٌرهم من مرتكبً الكبابر والموبقات . وقد روى مسروق حدٌث ابن مسعود المذكور بمناسبة دخوله -هو وصاحب له -بٌتا فٌه تماثٌل ,فقال مسروق :هذا تماثٌل كسرى ؟ قال صاحبه :هذا تماثٌل مرٌم . .فروى مسروق الحدٌث .
تصوير ما يعتبر من شعائر دين آخر : ( ب ) وقرٌب من هذا اللون من التصوٌر ما كان ٌعبر عن شعابر دٌن معٌن ؼٌر دٌن اإلسبلم ,وأبرز مثل لذلك « الصلٌب » عند النصارى .فما كان من الصور مشتمبل على الصلٌب فهو محرم ببل رٌب ,وٌجب على المسلم نقضه وإزالته . وفى هذا روى البخاري عن عابشة « :أن النبً صلى هللا علٌه وسلم لم ٌكن ٌترك فً بٌته شٌبا فٌه تصالٌب إال نقضه »
المضاهاة بخلق هللا : ( جـ ) مضاهاة خلق هللا عز وجل ,بدعوى أنه ٌبدع وٌخلق كما ٌخلق هللا سبحانه .وٌبدو أن هذا أمر ٌتعلق بقصد المصور ونٌته ,وان كان هناك من ٌرى أن كل مصور مضاه لخلق هللا . وفى هذا جاء حدٌث عابشة عن النبً صلى هللا علٌه وسلم « :أشد الناس عذابا ً ٌوم القٌامة :الذٌن ٌضاهون بخلق هللا » ( متفق علٌه ) . فهذا الوعٌد الؽلٌظ ٌوحً بؤنهم ٌقصدون إلى مضاهاة خلق هللا ,وهو ما نقله اإلمام النووي فً شرح مسلم ,إذ ال ٌقصد ذلك إال كافر . وٌدل علٌه حدٌث أبى هرٌرة الصحٌح قال :سمعت رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ٌقول « :قال هللا
تعالى :ومن أظلم ممن ذهب ٌخلق كخلقً ,فلٌخلقوا ذرة ,ولٌخلقوا حبة ,أو لٌخلقوا شعٌرة » ( متفق علٌه ) . فقوله « :ذهب ٌخلق كخلقً » ٌدل على القصد والتعمد .ولعل هذا هو سر التحدي اإللهً لهم ٌوم القٌامة ,حٌث ٌقال لهم « :أحٌوا ما خلقتم » وهو « أمر تعجٌز » كما ٌقول األصولٌون .
دخول الصور في مظاهر الترف : ( د ) أن تكون جزءا من أدوات الترؾ ومظاهره .وهذا ما ٌظهر من كراهٌة النبً صلى هللا علٌه وسلم لبعض الصور فً بٌته ,فقد رو ت عابشة أنه علٌه الصبلة والسبلم خرج فً ؼزاة ,قالت :فؤخذت نمطا ً ( نوعا من البسط اللطٌفة أو الستابر ) فسترته على الباب ,فلما قدم ,فرأى النمط ,فجذبه حتى هتكه ,ثم قال « :إن هللا لم ٌؤمرنا أن نكسو الحجارة والطٌن » قالت :فقطعنا منه وسادتٌن , وحشوتهما لٌفا ,فلم ٌعب ذلك على » ( متفق علٌه ) . والنص بهذه الصٌؽة « -إن هللا لم ٌؤمرنا » ٌ -قتضً أنه لٌس بواجب وال مندوب ,فهو ال ٌدل على أكثر من الكراهة التنزٌهٌة ,كما قال اإلمام النووي ,ولكن بٌت النبوة ٌ ,نبؽً أن ٌكون أسوة ومثبلً للناس فً الترفع على زخرؾ الدنٌا وزٌنتها . ٌإكد هذا حدٌث عابشة اآلخر ,قالت :كان لنا ستر فٌه تمثال طابر ,وكان الداخل إذا دخل استقبله , فقال لً رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم « :حولً هذا ,فإنً كلما دخلت فرأٌته ,ذكرت الدنٌا » ( رواه مسلم ) . ومثله :ما رواه القاسم بن محمد عنها رضى هللا عنها :أنه كان لها ثوب فٌه تصاوٌر ,ممدود إلى سهوة ,فكان النبً صلى هللا علٌه وسلم ٌصلً إلٌه ,فقال « .أخرٌه عنً قالت :فؤخرته فجعلته وسابد ». وفى رواٌة عند ؼٌر مسلم « :أخرٌه عنً ,فإن تصاوٌره تعرض لً فً صبلتً ». فهذا كله من زٌادة الترفه والتنعم ,وهو من وادي الكراهٌة ,ال من وادي التحرٌم .ولكن النووي قال : هذا محمول على أنه كان قبل تحرٌم اتخاذ ما فٌه صورة ,فلهذا كان ٌدخل وٌراه وال ٌنكره . ومعنى هذا :أنه ٌرى األحادٌث التً ظاهرها التحرٌم ناسخة لهذا الحدٌث وما فً معناه .ولكن النسخ ال ٌثبت بمجرد االحتمال .فإثبات مثل هذا النسخ ٌستلزم أمرٌن : أولهما :التحقق من تعارض النصٌن ,بحٌث ال ٌمكن الجمع بٌنهما .مع أن الجمع ممكن بحمل أحادٌث التحرٌم على قصد مضاهاة خلق هللا ,أو بقصرها على المجسم ( أي ما له ظل ). وثانٌهما :معرفة المتؤخر من النصٌن .وال دلٌل على أن التحرٌم هو المتؤخر ,بل الذي رآه اإلمام الطحاوي فً « مشكل اآلثار » هو العكس ,فقد شدد اإلسبلم فً شؤن الصور فً أول األمر ,لقرب عهده بالوثنٌة ,ثم رخص فً المسطحات من الصور .أي ما كان رقما ً فً ثوب ,ونحوه . وقد روى هذا الحدٌث عن عابشة بصٌؽة أخرى ,تدل على شدة الكراهٌة من النبً صلى هللا علٌه وسلم . فعن عابشة :أنها اشترت تمرقة ( وسادة صؽٌرة ) فٌها تصاوٌر ,فلما رآها رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ,قام على الباب ,فلم ٌدخل ,فعرفت فً وجهه الكراهٌة ,قالت :فقلت ٌ :ا رسول هللا ,أتوب رسول ,ما أذنبت ؟ فقال « :ما بال هذه النمرقة » قلت :اشترٌتها لك لتقعد علٌها ه إلى هللا ,وإلى
وتوسدها .فقال رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم « :إن أصحاب هذه الصور ٌعذبون ٌوم القٌامة ,وٌقال لهم :أحٌوا ما خلقتم » . وقال « :إن البٌت الذي فٌه الصورة ال تدخله المبلبكة » ( متفق علٌه ) .
نظرات في فقه األحاديث : فً هذا الجو الذي كان ٌحٌط بفن التصوٌر والصور فً عصر النبوة ,ورد معظم األحادٌث المحرمة . وال ؼرو أن شددت األحادٌث النبوٌة فً هذا األمر ,وان كان تشدٌدها فً صنعة التصوٌر أكثر من تشدٌدها فً اقتناء الصورة ,فبعض ما ٌحرم تصوٌره ٌجوز اقتناإه فٌما ٌمتهن مثل البسط والوسابد رأٌن فً حدٌث عابشة . ونحوها مما ٌبتذل باالستعمال ,كما ا ً ومن أشد ما روى فً منع التصوٌر :ما جاء فً الصحٌحٌن عن ابن عباس مرفوعا « :كل مصور فً النار ٌ ,جعل له بكل صورة صورها نفسا ,فٌعذبه فً جهنم » . وفى رواٌة للبخاري عن سعٌد بن أبى الحسن قال :كنت عند ابن عباس ,إذ جاءه رجل ,فقال ٌ :ا بن عباس ,إنً رجل إنما معٌشتً من صنعة ٌدي ,وإنً أصنع هذه التصاوٌر .فقال ابن عباس :ال أحدثك إال ما سمعت من رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم .سمعته ٌقول « :من صور صورة فإن هللا خ ؼٌظا معذبه حتى ٌنفخ فٌها الروح ,ولٌس بنافخ فٌها أبداً » .فربا الرجل ربوة شدٌدة ( أي انتؾ وضٌقا ً ) فقال « :وٌحك ؛ إن أبٌت إال أن تصنع ,فعلٌك بهذا الشجر ,وكل شا لٌس فٌه روح » . وروى مسلم من حٌان بن حصٌن قال « :قال لً علً بن أبى طالب رضً هللا عنه :أال أبعثك على ما بعثنً علٌه رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ؟ أال تدع صورة إال طمستها ,وال قبراً مشرفا إال سوٌته » . وروى مسلم عن عابشة أنها قالت :واعد رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم جبرٌل علٌه السبلم ,فً ساعة ٌؤتٌه فٌها ,فجاءت تلك الساعة ,ولم ٌؤته ,وفً ٌده عصا ً ,فؤلقاها من ٌده ,وقال « :ما ٌخلؾ هللا وعده وال رسله » ! ثم التفت ,فإذا جرو كلب تحت سرٌره ,فقال ٌ « :ا عابشة ,متى دخل هذا الكلب ههنا ؟ » فقالت :وهللا ما درٌت ! فؤمر به ,فؤخرج ,فجاء جبرٌل ,فقال رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم « :واعدتنً ,فجلست لك ,فلم تؤت » ! فقال :منعنً الكلب الذي كان فً بٌتك .إنا ال ندخل بٌتا فٌه كلب وال صورة » . وبهذا نرى أن عدد األحادٌث التً وردت فً شؤن التصوٌر والصور ,لٌس قلٌبل ,كما زعم بعض من كتب فً ذلك ,فقد رواها جمع من الصحابة منهم :ابن مسعود ,وابن عمر ,وابن عباس ,وعابشة , وعلً ,وأبو هرٌرة ,وأبو طلحة .وكلها فً الصحاح . قهاء فً قضٌة التصوٌر فً ضوء هذه األحادٌث ,وكان من أشدهم فً ذلك اإلمام وقد اختلفت آراء الؾ النووي الذي حرم تصوٌر كل ما فٌه روح من إنسان أو حٌوان ,مجسما ( له ظل ) أو ؼٌر مجسم , ممتهنا أو ؼٌر ممتهن ,ولكنه أجاز استعمال ما ٌمتهن ,وان كان تصوٌره حراما ,كالمصور فً البسط والوسائ ونحوها . د ولكن بعض فقهاء السلؾ قصر التحرٌم على المجسم ( الذي له ظل ) وهو ما نطلق علٌه عرفا ً ( التماثٌل ) فهً أوؼل فً مشابهة الوثنٌة ,وهً التً ٌظهر فٌها مضاهاة خلق هللا ,ألن خلق هللا وتصوٌره مجسم ( :هو الذي ٌصوركم فً األرحام كٌؾ ٌشاء ) . وفً الحدٌث القدسً « :ومن أظلم ممن ذهب ٌخلق كخلقً » ,وخلق هللا تعالى مجسم ,وهو الذي ٌمكن قبول نفخ الروح فٌه ,إذ المسطح لٌس قاببل لذلك ,وألنها ادخل فً الترؾ والسرؾ ,وال سٌما
ما كان من المعادن الثمٌنة . وهذا مذهب بعض السلؾ .. وقد قال النووي إن هذا مذهب باطل ,فتعقبه الحافظ ابن حجر بؤنه مذهب القاسم بن محمد ,ولعله أخذ بعموم قوله صلى هللا علٌه وسلم « :إال رقما ً فً ثوب » وسنذكر نص هذا الحدٌث. والقاسم بن محمد بن أبى بكر ,أحد الفقهاء السبعة بالمدٌنة ,ومن أفضل أهل زمانه ,وابن أخً عابشة ,وراوي حدٌث النمرقة عنها .ويحتج له بالحدٌث التالً .. ففً الصحٌح عن بسر بن سعٌد عن زٌد بن خالد الجهنى عن أبى طلحة صاحب رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم أنه قال :إن رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم قال « :إن المبلبكة ال تدخل بٌتا فٌه صورة . باب ستر فٌه صورة ,قال :فقلت لعبٌد هللا الخوالنى قال بسر :ثم اشتكى زٌد بعد ,فعدناه ,فإذا على ه ربٌب مٌمونة زوج النبً صلى هللا علٌه وسلم :ألم ٌخبرنا زٌد عن الصور ٌوم األول ؟ فقال :ألم تسمعه حٌن قال « :إال رقما فً ثوب » وأكد ذلك ما رواه الترمذي أن سهل بن حنٌؾ رافق أبا طلحة على هذا االستثناء « :إال رقما فً ثوب ». وتؤوٌل هذا بؤن المراد به :ما كان لؽٌر ذي روح ٌ ,عارضه حدٌث تمثال الطابر الذي كان فً بٌت عابشة ,وقول النبً لها « :حولً هذا ,فإنً كلما رأٌته ذكرت الدنٌا » أو « :فإن تصاوٌره تعرض لً فً صبلتً » . فاألرجح قصر التحرٌم على المجسم ,وأما صور اللوحات المسطحة على الورق ,أو الجدران ,أو الخشب ونحوها ,فؤقصى ما فٌها الكراهة التنزٌهٌة ,كما ذكر اإلمام الخطابً ,إال ما كان فٌه ؼلو وإسراؾ ,كالصور التً تباع بالمبلٌٌن ونحوها. وٌستثنى من المجسم المحرم :لعب األطفال ,من الدمى والعرابس والقطط والكبلب والقرود ونحوها , مما ٌتلهى به األطفال ,ألن مثله ال ٌظهر فٌه قصد التعظٌم ,واألطفال ٌعبثون بها . ودلٌل ذلك حدٌث عابشة أنها كانت تلعب بالبنات ( العرابس ) وأن صواحب لها كن ٌجبن إلٌها فٌلعب معها .وكان الرسول الكرٌم ٌسر لمجٌبهن إلٌها . ومثل ذلك :التماثٌل والعرابس التً تصنع من الحلوى وتباع فً بعض المناسبات ,ثم ال تلبث أن تإكل . كما ٌستثنى من الحظر :التماثٌل التً تشوه بقطع رأسها ,أو نحو ذلك منها ,كما جاء فً الحدٌث أن جبرٌل قال للرسول صلى هللا علٌه وسلم « :مر برأس التمثال فلٌقطع حتى ٌصٌر كهٌبة الشجرة » . وأما التماثٌل النصفٌة التً تنصب فً المٌادٌن ونحوها للملوك والزعماء ,فبل ٌخرجها من دابرة الحظر ,ألنها ال تزال تعظم . ونهج اإلسبلم فً تخلٌد العظماء واألبطال ٌخالؾ نهج الؽربٌٌن ,فهو ٌخلدهم بالذكر الحسن ,والسٌرة الطٌبة ٌ ,تناقلها الخلؾ عن السلؾ , وٌتمثلونها ,وٌؤتسون بها ,وبهذا خد األنبٌاء والصحابة واألبمة واألبطال والربانٌون ,فؤحبتهم القلوب ,ودعت لهم األلسنة ,وان لم ترسم لهم صورة ,وال نصب لهم تمثال . وكم من تماثٌل قابمة ال ٌعرؾ الناس شٌبا عن أصحابها ,كتمثال « الظوؼلً » فً قلب القاهرة ,وكم من تما ثٌل ٌمر الناس علٌها فٌلعنون أصحابها .
الصور الفوتوغرافية :
ومما ال خفاء فٌه أن كل م ا ورد فً التصوٌر والصور ,إنما ٌعنى الصور التً تنحت أو ترسم على حسب ما ذكرنا . أما الصور الشمسٌة -التً تإخذ بآلة الفوتوؼرافٌا -فهً شا مستحدث لم ٌكن فً عصر الرسول ,وال سلؾ المسلمٌن ,فهل ٌنطبق علٌه ما ورد فً التصوٌر والمصورٌن ؟ أما الذٌن ٌقصرون التحرٌم على التماثٌل ( المجسمة ) فبل ٌرون شٌبا ً فً هذه الصور ,وخصوصا ً إذا لم تكن كاملة . وأما على رأي اآلخرٌن فهل تقاس هذه الصور الشمسٌة على تلك التً تبدعها رٌشة الرسام ؟ أم أن العلة التً نصت علٌها بعض األحادٌث فً عذاب المصورٌن -وهى أنهم ٌضاهون خلق هللا -ال تتحقق هنا فً الصورة الفوتوؼرافٌة ؟ وحٌث عدمت العلة عدم المعلول كما ٌقول األصولٌون ؟ إن الواضح هنا ما أفتى به المؽفور له الشٌخ محمد بخٌت مفتى مصر « :أن أخذ الصورة بالفوتوؼرافٌا -الذي هو عبارة عن حبس الظل بالوسابط المعلومة ألرباب هذه الصناعة -لٌس من التصوير المنهً عنه فً شا ,ألن التصوٌر المنهً عنه هو إٌجاد صورة وصنع صورة لم تكن موجودة وال مصنوعة من قبل ٌ ,ضاهى بها حٌوانا خلقه هللا تعالى ,ولٌس هذا المعنى موجوداً فً أخذ الصورة بتلك اآللة » ٌ ( .إكد هذا تسمٌة أهل الخلٌج الصورة ( عكسا ) والمصور ( عكاسا ً ) ) . هذا . .ومن المقرر أن لموضوع الصورة أثراً فً الحكم بالحرمة أو ؼٌرها .وال ٌخالؾ مسلم فً تحرٌم الصورة إذا كان موضوعها مخالؾ لعقابد اإلسبلم ,أو شرابعه وآدابه ,فتصوٌر النساء عارٌات ,أو شبه عارٌات ,وإبراز مواضع األنوثة والفتنة منهن ,ورسمهن أو تصوٌرهن فً أوضاع مثٌرة للشهوات ,موقظة للؽرابز الدنٌا ,كما نرى ذلك واضحا فً بعض المجبلت والصحؾ ,ودور « السٌنما » كل ذلك مما ال شك فً حرمته وحرمة تصوٌره ,وحرمة نشره على الناس ,وحرمة اقتنابه واتخاذه فً البٌوت أو المكاتب والمجبلت ,وتعلٌقه على الجدران ,وحرمة القصد إلى رإٌته ومشاهدته . ومثل هذا صور الكفار والظلمة والفساق ,الذٌن ٌجب على المسلم أن ٌعادٌهم هلل وٌبؽضهم فً هللا ,فبل ٌحل لمسلم أن ٌ ,صور أن ٌقتنً صورة لزعٌم ملحد ٌنكر وجود هللا ,أو وثنً ٌشرك مع هللا البقر أو النار ,أو ؼٌرها ,أو ٌهودي أو نصرانً ٌجحد نبوة محمد صلى هللا علٌه وسلم ,أو مدع لئلسبلم وهو ٌحكم بؽٌر ما أنزل هللا ,أو ٌشٌع الفاحشة والفساد فً المجتمع .ومثل هذا ,الصور التً تعبر عن الوثنٌة أو شعابر بعض األدٌان التً ال ٌرضاها اإلسبلم كاألصنام وما شابهها .
خالصة ألحكام الصور والمصورين : ونستطٌع أن نجمل أحكام الصور والمصورٌن فً الخبلصة التالٌة : ( أ ) أشد أنواع الصور فً الحرمة واإلثم صور ما ٌعبد من دون هللا ,فهذه تإدى بمصورها إلى الكفر إن كان عارفا بذلك قاصداً له . والمجسم فً هذه الصور أشد إثما ونكراً .وكل من روج هذه الصور أو عظمها بوجه من الوجوه داخل فً هذا اإلثم بقدر مشاركته .
( ب ) وٌلٌه فً اإلثم من صور ما ال ٌعبد ,ولكنه قصد مضاهاة خلق هللا ,أي ادعى أنه ٌبدع وٌخلق كما ٌخلق هللا ,فهو بهذا ٌقارب الكفر .وهذا أمر ٌتعلق بنٌة المصور وحده . ( جـ ) ودون ذلك الصور المجسمة لما ال ٌعبد ,ولكنها مما ٌعظم كصور الملوك والقادة والزعماء وؼٌرهم عن ٌزعمون تخلٌدهم بإقامة التماثٌل لهم ,ونصبها فً المٌادٌن ونحوها .وٌستوي فً ذلك أن ٌكون التمثال كامبل أو نصفٌا ً . ( د ) ودونها الصور المجسمة لكل ذي روح مما ال ٌقدس وال ٌعظم ,فإنه متفق على حرمتهٌ ,ستثنى من ذلك ما ٌمتهن ,كلعب األطفال ,ومثلها ما ٌإكل من تماثٌل الحلوى . ( هـ ) وبعدها الصور ؼٌر المجسمة -اللوحات الفنٌة -التً ٌعظم أصحابها ,كصور الحكام والزعماء وؼٌرهم ,وخاصة إذا نصبت وعلقت .وتتؤكد الحرمة إذا كان هإالء من الظلمة والفسقة والملحدٌن , فإن تعظٌمهم هدم لئلسبلم . ( و ) ودون ذلك أن تكون الصورة ؼٌر المجسمة لذي روح ال ٌعظم ,ولكن تعد م ن مظاهر الترؾ , والتنعم كؤن تستر بها الجدر ونحوها ,فهذا من المكروهات فحسب . ( ز ) أما صور ؼٌر ذي الروح من الشجر والنخٌل والبحار والسفن والجبال والنجوم والسحب ونحوها من المناظر الطبٌعٌة ,فبل جناح على من صورها أو اقتناها ,ما لم تشؽل عن طاعة أو تإد إلى ترؾ فتكره . ( ح ) وأما الصور الشمسٌة ( الفوتوؼرافٌة ) فاألصل فٌها اإلباحة ,ما لم ٌشتمل موضوع الصورة على محرم ,كتقدٌس صاحبها تقدٌسا دٌنٌا ,أو تعظٌمه تعظٌما دنٌوٌا ,وخاصة إذا كان المعظم من أهل الكفر أو الفساق كالوثنٌٌن والشٌوعٌٌن والفنانٌن المنحرفٌن . ( ط ) وأخٌرا . .إن التماثٌل والصور الحرمة أو المكروهة إذا شوهت أو امتهنت ,انتقلت من دابرة الحرمة والكراهة إلى دابرة الحل ,كصور البسط التً تدوسها األقدام والنعال ونحوها .
تأويالت : ومن المعلوم أن هناك بعض العلماء حاولوا أن ٌإولوا األحادٌث الصحاح الواردة فً تحرٌم التصوٌر واقتناء الصور لٌقولوا بإباحة الصور كلها حتى المجسمة منها . مثل ما حكاه أبو علً الفارسً فً تفسٌره عمن حمل كلمة « المصورٌن » فً الحدٌث على من جعل هلل صورة ٌ ,عنى :المجسمة والمشبهة الذي شبهوا هللا تعالى بخلقه ,واعتبروه جسما ً وصورة ,وهو تعالى لٌس كمثله شا . ذكر هذا أبو علً الفارسً فً كتابه « الحجة » وهو تكلؾ واعتساؾ ال تساعده األلفاظ الثابتة فً األحادٌث . ومثل من استند إلى ما أبٌح لسلٌمان علٌه السبلم ,وذكره القرآن فً سور« سبؤ » ٌ ( :عملون له ما ٌشاء من محارٌب وتماثل ) ولم ٌقولوا بنسخه فً شرٌعتنا .وهذا الرأي ذكره أبو جعفر النحاس ,
وحكاه بعده مكً فً تفسٌره « الهداٌة إلى بلوغ النهاٌة » . ومثل من حمل المنع على مجرد الكراهة ,وأن هذا التشدٌد كان فً ذلك الزمان لقرب عهد الناس بعبادة األوثان ,وقد تؽٌر الحال فً العصور التالٌة ( .هذا مع أن الوثنٌة ال زال ٌدٌن بها آالؾ المبلٌٌن ) . وهذا قاله بعضهم من قبل ,ورد علٌهم اإلمام ابن دقٌق العٌد ,بؤن هذا القول باطل قطعا ً ,ألن هذا مناؾ للعلة إلى ذكرها الشارع ,وهى أنهم ٌضاهون أو ٌشبهون بخلق هللا . قال :وهذه علة عامة مستقٌمة مناسبة ,ال تخص زمانا دون زمان .ولٌس لنا أن نتصرؾ فً النصوص المتظاهرة المتضافرة بمعنى خٌالً . والثابت الواضح أن هذه األقوال لم تقنع العقل المسلم ,وبالتالً لم تإثر فً المجرى العام للحضارة اإلسبلمٌة ,والحٌاة اإلسبلمٌة ,وان عمل بها بعض الناس فً بعض البلدان ,كما رأٌنا فً أسود قصر الحمراء بؽرناطة فً األندلس ,وبعض ما حكاه اإلمام القرافً فً كتابه « نفابس األصول فً شرح المحصول » عن شمعدان وضع للملك الكامل ,كلما مضى من اللٌل ساعة انفتح باب منه وخرج منه شخص فً خدمة الملك . . .الخ .وأن القرافً نفسه عمل شمعدانا ً زاد فٌه :أن الشمعة ٌتؽٌر لونها كل ساعة ,وفٌه أسد تتؽٌر عٌناه من السواد الشدٌد إلى البٌاض الشدٌد ,إلى الحمرة الشدٌدة ,وٌسقط حصانان من طابرٌن ,وٌدخل شخص ,وٌخرج شخص ؼٌره ,وٌؽلق باب وٌفتح باب ,فً كل ساعة لها لون .وإذا طلع الفجر طلع الشخص على الشمعدان ,وإصبعه فً أذنه ٌ ,شٌر إلى األذان ,قال القرافً :ؼٌر أنً عجزت عن صنعة الكبلم ) . وقرٌب من ذلك ما حكاه ابن جبٌر فً رحلته عن وصؾ الساعة التً كانت بجامع دمشق ,وفٌها تمثال صقور . . .الخ .
المزاج العام للحضارة اإلسالمية : ولكن المإكد أن المزاج العام للحضارة اإلسبلمٌة لم ٌرحب بصور اإلنسان والحٌوان ,وخصوصا المجسمة منها ,وؼلب علٌه التجرٌد ,البلبق بعقٌدة التوحٌد ,ال التجسٌم البلبق بالوثنٌات على اختبلؾ درجاتها . ومن هنا اتجه الفن « التشكٌلً » فً حضارتنا إلى أمور أخرى أبدع فٌها أٌما إبداع ,وترك فٌها آثارا رابعة الجمال . تجلت فً الزخارؾ التً تفنن فٌها عقل الفنان المسلم وٌده ورٌشته ,وتجلى ذلك فً المساجد والمصاحؾ والقصور والمنازل وؼٌرها :على الجدران والسقوؾ ,واألبواب والنوافذ ,وعلى األرضٌات أحًانا ً ,وفً األدوات المنزلٌة ,وفً األثاث ,والتحؾ والبسط والثٌاب والسٌوؾ . واستخدمت المواد المختلفة من الحجارة والرخام والخشب ,والخزؾ والجلد والزجاج ,والورق , والحدٌد والنحاس ,والمعادن المتنوعة . ودخل فً الزخرفة :الخط العربً بؤنواعه المختلفة من الثلث والنسخ والرقعة والفارسً والدٌوانً والكوفً وؼٌرها ,وافتن الخطاطون فً ذلك كل االفتنان ,وخلفوا لنا لوحات فً ؼاٌة الحسن واإلبداع . وأكثر ما تجلى الفنان « الخط والزخرفة » فً المصاحؾ والجوامع .أما الجوامع فبل زلنا نشها منها آٌات فً الجمال ,كما فً المسجد النبوي ,ومسجد قبة الصخرة ,والجامع األموي بدمشق ,وجامع السلطان أحمد والسلٌمانٌة باستانبول ,وجامع السلطان حسن وجامع محمد علً بالقاهرة ,وؼٌرها وؼٌرها فً أنحاء العالم اإلسبلمً .
وأبرز ما تجلى فٌه الفن اإلسبلمً إنما كان فً العمارة ,وقد قال مإرخو الحضارة :إن فن البناء أحسن معبر عن الفن اإلسبلمً ,وقد ظهر ذلك فً روابع كثٌرة فً أقطار عدة ,لعل أبرزها فً الهند :إحدى عجابب الدنٌا المتمثلة فً تلك الرابعة الهندسٌة الجمالٌة « :تاج محل » . وهكذا كان منع التصوٌر والنحت سببا لفتح أبواب أخرى فً عالم الفنون ,جعلت للعالم اإلسبلمً تمٌزه الخاص ,ومثالٌته المتفردة .
فن الفكاهة والمرح ( الكوميديا ) الحٌاة رحلة شاقة ,حافلة بالمتاعب واآلالم ,وال ٌسلم امرإ فٌها من تجرع لون أو ألوان من ؼصصها ,ومكابدة آالمها ,وان ولد وفً فمه ملعقة من ذهب ,كما ٌقولون . وقد أشار القرآن إلى ذلك حٌن قال ( :لقد خلقنا اإلنسان فً كبد ) .وأهل اإلٌمان أكثر تعرضا لببلء الدنٌا من ؼٌرهم ,نظراً لخطورة مطلبهم ,من ناحٌة ,وكثرة من ٌعارضهم وٌقطع علٌهم طرٌقهم من ناحٌة أخرى . حتى ورد فً بعض اآلثار « :المإمن بٌن خمس شدابد :مسلم ٌحسده ,ومنافق ٌبؽضه ,وكافر ٌقاتله ,وشٌطان ٌضله ,ونفس تنازعه » . وثبت فً الحدٌث أن أشد الناس ببلء :األنبٌاء ثم األمثل فاألمثل .لهذا كان الناس -كل الناس -فً حاجة إلى واحات فً طرٌقهم تخفؾ عنهم بعض عناء رحلة الحٌاة ,وكان ال بد لهم من أشٌاء ٌروحون بها أنفسهم ,حتى ٌضحكوا وٌفرحوا وٌمرحوا ,وال ٌؽلب علٌهم الؽم والحزن والنكد ,فٌنؽص علٌهم عٌشهم ,وٌكدر علًهم صفوهم . وكان من تلك األدوات :الؽناء ,وقد تحدثنا عنه .ومنها :الفكاهة والمرح ,وكل ما ٌستخرج الضحك من اإلنسان ,وٌطارد الحزن من قلبه ,والعبوس من وجهه ,والكآبة من حٌاته .فهل ٌرحب الدٌن بهذا الفن « الكومٌدي » أو ٌضٌق به ؟ هل ٌحله أو ٌحرمه ؟ الفكاهة والمرح في واقع المسلمين : ولقد رأٌت الناس -بفطرتهم -وعلى قدر ما سمحت به إمكاناتهم ,وفً ضوء ما عرفوه من سماحة دٌنهم -قد ابتكروا ألوانا ً من الوسابل واألدوات التً تقوم بوظٌفة التروٌح واإلضحاك لهم . من ذلك « :النكت » التً برع فٌها المصرٌون ,واشتهروا به ا بٌن الشعوب ,وهً أنواع مختلفة , ولها مهمات متعددة ,ومنها « :النكت السٌاسٌة » التً تهزأ بالحكام وأعوانهم ,وخصوصا فً أوقات التسلط واالستبداد السٌاسً . وال ٌكاد ٌجلس الناس بعضهم إلى بعض إال حكوا من هذه النكت ما ٌضحكهم وٌسري عنهم بعض ما ٌعانون .أحٌانا يسندونها إلى أسماء معروفة ,مثل جحا ,أو أبى نواس ,أو ؼٌرهما ,وأحٌانا ال ٌنسبونها إلى معٌن . وهناك أناس ال ٌقتصرون على حكاٌة النكت عن ؼٌرهم ,بل هم ٌنشبون نكت على البدٌهة ,وهذا شؤن الشخصٌات الفكهة ,مثل « أشعب » قدٌما ,ومثل الشٌخ « عبد العزٌز البشري » حدٌثا فً مصر . وكانت فً مصر بعض المجبلت المتخصصة فً هذا اللون ,أشهرها مجلة « البعكوكة » .وٌلحق
بذلك فن « القفشات » وما ٌسمٌه المصرٌون « الدخول فً قافٌة » وهو لون من استخدام المجاز والتورٌة حول موضوع واحد ٌ ,تطارح فٌه الطرفان . ومن ذلك :ألوان من األلعاب التً تدعو إلى الضحك والمرح ,مثل لعبة « األراجوز » .ومثله « خٌال الظل » الذي كان ٌعتبر نوعا ً من التمثٌل الشعبً الفكاهً .ومن ذلك :األلؽاز واألحاجً ,أو ما ٌسمى فً لؽة العامة « الفوازٌر » .ومن ذلك :القصص الفكاهٌة ,أو ما ٌسمٌه العوام « الحوادٌت » المسلٌة والمرفهة . ً ومن ذلك « :األمثال الشعبٌة » التً كثٌرا ما تتضمن أفكارا أو تعبٌرات تبعث علً الضحك والمرح , إلى ؼٌر ذلك من األلوان ,التً تخترعها الشعوب بوساطة فنانٌن معروفٌن أو مجهولٌن ؼالبا ً ,مبلبمة لكل بٌبة وما ٌسودها من قٌم ومفاهٌم ,وما تمر به من ظروؾ وأحوال . وكل عصر ٌضٌؾ أشٌاء جدٌدة ,وٌطور األشٌاء القدٌمة ,وقد ٌستؽنً عن بعضها . كما نرى فً عصرنا فن « الكارٌكاتٌر » الذي حول النكتة من مجرد كلمة تقال ,إلى صورة معبرة , مصحوبة ببعض الكبلم ,أو ؼٌر مصحوبة . كاهة ,نظراً لما ٌبدو على بعض المتدٌنٌن من وقد سبلت عن موقؾ الدٌن من الضحك والمرح والؾ العبوس والتجهم ,فٌكادون ال ٌضحكون ,وال ٌمزحون ,حتى حسب بعض الناس أن هذه هً طبٌعة الدٌن والتدٌن . وكان جوابً :أن الضحك من خصابص اإلنسان ,فالحٌوانات ال تضحك ؛ ألن الضحك ٌؤتً بعد نوع من الفهم والمعرفة لقول ٌسمعه ,أو موقؾ ٌراه» ,فٌضحك منه . ولهذا قٌل :اإلنسان حٌوان ضاحك ,وٌصدق القول هنا :أنا أضحك ,إذن أنا إنسان . واإلسبلم -بوصفه دٌن الفطرة -ال ٌتصور منه أو ٌصادر نزوع اإلنسان الفطري إلى الضحك واالنبساط ,بل هو على العكس ٌرحب بكل ما ٌجعل الحٌاة باسمة طٌبة ,وٌحب للمسلم أن تكون شخصٌته متفابلة باشة ,وٌكره الشخصٌة المكتببة المتطٌرة ,التً ال تنظر إلى الحٌاة والناس إال من خبلل منظار قاتم أسود . وأسوة المسلمٌن فً ذلك هو رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ,فقد كان -برؼم همومه الكثٌرة والمتنوعة ٌمزح وال ٌقول إال حقا ,وٌحٌا مع أصحابه حٌاة فطرٌة عادٌة ٌ ,شاركهم فً ضحكهم ولعبهمومزاحهم ,كما ٌشاركهم آالمهم وأحزانهم ومصاببهم . ٌقول زٌد بن ثابت ,وقد طلب إلٌه أن ٌحدثهم عن حال رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم فقال « :كنت جاره ,فكان إذا نزل علٌه الوحً بعث إلً فكتبته له ,فكان إذا ذكرنا الدنٌا ذكرها معنا ,وإذا ذكرنا اآلخرة ذكرها معنا ,وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا ,قال :فكل هذا أحدثكم عن رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم » . وقد وصفه أصحابه بؤنه كان من أفكه الناس .وقد رأٌناه فً بٌته -صلى هللا علٌه وسلم ٌ -مازح زوجاته وٌداعبهن ,وٌستمع إلى أقاصٌصهن ,كما فً حدٌث أم زرع الشهٌر فً صحٌح البخاري . وكما رأٌنا فً تسابقه مع عابشة رضً هللا عنها ,حٌث سبقته مرة ,وبعد مدة تسابقا فسبقها ,فقال لها : هذه بتلك ! وقد روى أنه وطؤ ظهره لسبطٌه الحسن والحسٌن ,فً طفولتهما لٌركبا ,وٌستمتعا دون تزمت وال تحرج ,وقد دخل علٌه أحد الصحابة ورأى هذا المشهد فقال :نعم المركب ركبتما ,فقال علٌه الصبلة والسبلم « :ونعم الفارسان هما » ! ورأٌناه ٌمزح مع تلك المرأة العجوز التً جاءت تقول له :ادع هللا أن ٌدخلنً الجنة ,فقال لها ٌ « :ا أم فبلن ,إن الجنة ال ٌدخلها عجوز » ا فبكت المرأة ,حٌث أخذت الكبلم على ظاهره ,فؤفهمها :أنها حٌن تدخل الجنة لن تدخلها عجوزا ,بل شابة حسناء ,وتبل علٌها قول هللا تعالى فً نساء الجنة ( :إنا أنشؤناهن إنشا ًء * فجعلناهن أبكاراً * عربا ً أترابا ً ) . وجاء رجل ٌسؤله أن ٌحمله على بعٌر ,فقال له علٌه الصبلة والسبلم « :ال أحملك إال على ولد الناقة
» فقال ٌ :ا رسول هللا ,وماذا أصنع بولد الناقة ؟! -انصرؾ ذهنه إلى الحوار الصؽٌر -فقال « : وهل تلد اإلبل إال النوق » ؟ . وقال زٌد بن أسلم :إن امرأة ٌقال لها أم أٌمن جاءت إلى النبً صلى هللا علٌه وسلم فقالت :إن زوجً ٌدعوك ,قال «‹ :ومن هو؟ أهو الذي بعٌنه بٌاض » ؟ قالت :وهللا ما بعٌنه بٌاض فقال « :بلى إن بعٌنه بٌاضا » فقالت :ال وهللا ,فقال صلى هللا علٌه وسلم « :ما من أحد إال بعٌنه بٌاض » ,وأراد به البٌاض المحٌط بالحدقة . وقال أنس :كان ألبً طلحة ابن ٌقال له أبو عمٌر ,وكان رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ٌؤتٌهم وٌقول ٌ « :ا أبا عمٌر ما فعل النؽٌر » ؟ لنؽٌر كان ٌلعب به وهو فرخ العصفور . وقالت عابشة رضى هللا عنها :كان عندي رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم وسودة بنت زمعة فصنعت حرٌرة -دقٌق يطبخ بلبن أو دسم -وجبت به ,فقلت لسودة :كلً ,فقالت :ال أحبه ,فقلت :وهللا لتؤكلن أو أللطخن به وجهك ,فقالت :ما أنا بذابقته ,فؤخذت بٌدي من الصحفة شٌبا منه فلطخت به وجهها ,ورسول هللا صلى هللا علٌه وسلم جالس بٌنً وبٌنها ,فخفض لها رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ركبتٌه لتستقٌد منً ,فتناولت من الصفحة شٌبا فمسحت به وجهً وجعل رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ٌضحك . وروى أن الضحاك بن سفٌان الكبلبً كان رجبل دمٌما قبٌحا ,فلما باٌعه النبً صلى هللا علٌه وسلم قال :إن عندي امرأتٌن أحسن من هذه الحمٌراء -وذلك قبل أن تنزل آٌة الحجاب -أفبل أنزل لك عن إحداهما فتتزوجها ! ,وعابشة جالسة تسمع ,فقالت :أهً أحسن أم أنت ؟ فقال :بل أنا أحسن منها وأكرم ,فضحك رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم من سإالها إٌاه ! ألنه كان دمٌما ً . وكان صلى هللا علٌه وسلم ٌحب إشاعة السرور والبهجة فً حًاة الناس ,وخصوصا فً المناسبات مثل األعٌاد واألعراس . ولما أنكر الصدٌق أبو بكر رضى هللا عنه ؼناء الجارٌتٌن ٌوم العٌد فً بٌته وانتهرهما ,قال له « : دعهما ٌا أبا بكر ,فإنها أٌام عٌد » ! وفى بعض الرواٌات « :حتى ٌعلم ٌهود أن فً دٌننا فسحة » . وقد أذن للح بشة أن ٌلعبوا بحرابهم فً مسجده علٌه الصبلة والسبلم فً أحد أٌام األعٌاد ,وكان ٌحرضهم وٌقول « :دونكم ٌا بنى أرفدة » ! وأتاح لعابشة أن تنظر إلٌهم من خلفه ,وهم ٌلعبون وٌرقصون ,ولم ٌر فً ذلك بؤسا وال حرجا . واستنكر ٌوما أن تزؾ فتاة إلى زوجها زفافا صامتا ,لم ٌصحبه لهو وال ؼناء , ,وقال « :هبل كان معها لهو ؟ فإن األنصار ٌعجبهم اللهو ,أو الؽزل » . وفى بعض الرواٌات « :هبل بعثتم معها من تؽنً وتقول :أتٌناكم أتٌناكم فحٌونا نحٌٌكم » وكان أصحاب النبً صلى هللا علٌه وسلم ومن تبعهم بإحسان فً خٌر قرون األمة ٌضحكون وٌمزحون ,اقتداء بنبٌهم صلى هللا علٌه وسلم ,واهتداء بهدٌه .حتى إن رجبل مثل عمر بن الخطاب -على ما عرؾ عنه من الصرامة والشدة ٌ -روى عنه أنه مازح جارٌة له ,فقال لها :خلقنً خالق الكرام , وخلقك خالق اللبام ! فلما رآها ابتؤست من هذا القول ,قال لها مبٌنا :وهل خالق الكرام واللبام إال هللا عز وجل ؟ ؟ وقد عرؾ بعضهم بذلك فً حٌاته صلى هللا علٌه وسلم ,وأقره علٌه ,واستمر على ذلك من بعده , وقبله الصحابة ,ولم ٌعدوا فٌه ما ٌنكر ,برؼم أن بعض الوقابع المروٌة فً ذلك لو حدثت الٌوم ألنكرها معظم المتدٌنٌن أشد اإلنكار ,وعدوا فاعلها من الفاسقٌن أو المنحرفٌن! من هإالء المعروفٌن بروح المرح والفكاهة والمٌل إلى الضحك والمزاح :النعٌمان بن عمر األنصاري رضى هللا عنه ,الذي روٌت عنه فً ذلك نوادر عجٌبة وؼرٌبة . وقد ذكروا أنه كان ممن شهد العقبة األخٌرة ,وشهد بدراً وأحداً ,والخندق ,والمشاهد كلها . روى عنه الزبٌر بن بكار عدداً من النوادر الطرٌفة فً كتابه « الفكاهة والمرح » نذكر بعضا منها . .
. قال :وكان ال ٌدخل المدٌنة لحرفة إال اشترى منها ,ثم جاء بها إلى النبً صلى هللا علٌه وسلم فٌقول : هذا أهدٌته لك ,فإذا جاء صاحبها ٌطلب نعٌمان بثمنها ,أحضره إلى النبً صلى هللا علٌه وسلم ,قاببلً :أعط هذا ثمن متاعه ,فٌقول « :أو لم تهده لً » ؟ فٌقول :إنه وهللا لم ٌكن عندي ثمنه ,ولقد أحببت أن تؤكله ! فٌضحك ,وٌؤمر لصاحبه بثمنه . وأخرج الزبٌر قصة أخرى من طرٌق ربٌعة بن عثمان قال :دخل أعرابً على النبً صلى هللا علٌه وسلم ,وأناخ ناقته بفنابه ,فقال بعض الصحابة للنعٌمان األنصاري :لو عقرتها فؤكلناها ,فإنا قد قرمنا إلى اللحم ؟ ففعل ,فخرج األعرابً وصاح :واعقراه ٌا محمد ! فخرج النبً صلى هللا علٌه وسلم فقال « :من فعل هذا » ؟ فقالوا :النعٌمان ,فؤتبعه ٌسؤل عنه حتى وجده قد دخل دار ضباعة بنت الزبٌر بن عبد المطلب ,واستخفى تحت سرب لها فوقه جرٌد ,فؤشار رجل إلى النبً صلى هللا علٌه وسلم حٌث هو فؤخرجه فقال له « :ما حملك على ما صنعت » ؟ قال :الذٌن دلوك علً ٌا رسول هللا هم الذٌن أمرونً بذلك قال :ؾجعل ٌمسح التراب عن وجهه وٌضحك ,ثم ؼرمها لؤلعرابً . وقال الزبٌر أٌضا :حدثنً عمً عن جدي قال :كان مخرمة بن نوفل قد بلػ مابة وخمس عشرة سنة , فقام فً المسجد ٌرٌد أن ٌبول ,فصاح به الناس ,المسجد المسجد ,فؤخذه نعٌمان بن عمرو بٌده , وتنحى به ,ثم أجلسه فً ناحٌة أخرى من المسجد فقال له :بل هنا قال :فصاح به الناس فقال :وٌحكم ,فمن أتى بً إلى هذا الموضع ؟! قالوا :نعٌمان ,قال :أما إن هلل على إن ظفرت به أن أضربه بعصاي هذه ضربة تبلػ منه ما بلؽت ! فبلػ ذلك نعٌمان ,فمكث ما شاء هللا ,ثم أتاه ٌوما ,وعثمان قابم ٌصلً فً ناحٌة المسجد ,فقال لمخرمة :هل لك فً نعٌمان ؟ قال :نعم ,قال :فؤخذه بٌده حتى أوقفه على عثمان ,وكان إذا صلى ال ٌلتفت فقال :دونك هذا نعٌمان ,فجمع ٌده بعصاه ,فضرب عثمان فشجه ,فصاحوا به :ضربت أمٌر المإمنٌن ! فذكر بقٌة القصة ) . ومن الطرابؾ أن صحابٌا آخر من أهل الفكاهة والمزاح ,استطاع أن ٌوقع نعٌمان فً بعض ما أوقع فٌه ؼٌره من « المقالب » كما فً قصة سوٌبط بن حرملة معه ,وكان ممن شهد بدرا أٌضا ,قال ابن عبد البر فً « االستٌعاب » فً ترجمة سوٌبط رضى هللا عنه :وكان مزاحا ٌفرط فً الدعابة ,وله قصة ظرٌفة مع نعٌمان وأبى بكر الصدٌق رضى هللا عنهم ,نذكرها لما فٌها من الظرؾ ,وحسن الخلق . وروى عن أم سلمة قالت :خرج أبو بكر الصدٌق رضى هللا عنه فً تجارة إلى بصرى قبل موت النبً صلى هللا علٌه وسلم بعام ,ومعه نعٌمان وسوٌبط بن حرملة ,وكانا قد شهدا بدراً ,وكان نعٌمان على الزاد ,فقال له سوٌبط -وكان رجبل مزاحا : -أطعمنً فقال :ال حتى ٌجا أبو بكر رضى هللا عنه , فقال :أما وهللا ألؼٌظنك ,فمروا بقوم فقال لهم سوٌبط :تشترون منى عبداً ؟ قالوا :نعم ,قال :إنه عبد له كبلم ,وهو قابل لكم :إنً حر ,فإن كنتم إذا قال لكم هذه المقالة تركتموه ,فبل تفسدوا علً عبدي ,قالوا :بل نشترٌه منك ,قال :فاشتروه منه بعشر قبلبص ,قال :فجاءوا فوضعوا فً عنقه عمامة أو حببل ,فقال نعٌمان :إن هذا ٌستهزئ بكم ,وإنً حر ,لست بعبد ,قالوا :قد أخبرنا خبرك , فانطلقوا به ,فجاء أبو بكر رضً هللا عنه ,فؤخبره سوٌبط فؤتبعهم ,فرد علٌهم القبلبص ,وأخذه ,فلما قدموا على النبً صلى هللا علٌه وسلم أخبروه قال :فضحك النبً صلى هللا علٌه وسلم وأصحابه منها حوال .
موقف المتشددين :
وال رٌب أن هناك من الحكماء ,واألدباء ,والشعراء من ذم المزاح ,وحذر من سوء عاقبته ,ونظر إلى جانب الخطر والضرر فٌه ,وأقفل الجوانب األخرى . ولكن ما جاء عن رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم وأصحابه أحق أن ٌتبع ,وهو ٌمل التوازن واالعتدال .وقد قال لحنظة حٌن فزع من تؽٌر حاله فً بٌته عن حاله مع رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ,واتهم المبلبك فً ة نفسه بالنفاق ٌ « :ا حنظة ؛ لو دمتم على الحال التً تكونون علٌها عندي لصافحتكم الطرقات ,ولكن ٌا حنظلة ساعة وساعة » ,وهذه« هً الفطرة ,وهذا هو العدل . روى ابن أبً شٌبة عن أبً سلمة بن عبد الرحمن قال :لم ٌكن أصحاب رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم متحزقٌن وال متماوتٌن .كانوا ٌتناشدون األشعار ,وٌذكرون أمر جاهلٌتهم ,فإذا أرٌد أحدهم على شا من أمر دٌنه دارت حمالٌق عٌنٌه كؤنه مجنون . والتحزق كما ٌقول اإلمام الخطابً :التجمع وشدة التقبض . وفى النهاٌة البن األثٌر :متحزقٌن :أي منقبضٌن ومجتمعٌن . وسبل ابن سٌرٌن عن الصحابة :هل كانوا ٌتمازحون ؟ فقال :ما كانوا إال كالناس .كان ابن عمر ٌم زح وٌنشد الشعر . وبهذا ٌكون موقؾ أولبك النفر من المتدٌنٌن أو المتحمسٌن للدٌن ,وعبوسهم وتجهمهم الذي ظنه البعض من صمٌم الدٌن ,ال ٌمثل حقٌقة الدٌن فً شا ,وال ٌتفق مع هدي الرسول الكرٌم وأصحابه . إنما ٌرجع إلى سوء فهمهم لئلسبلم ,أو لطبٌعتهم الشخصٌة ,أو لظروؾ نشؤتهم وتربٌتهم .وعلى كل حال ,ال ٌجهل مسلم أن اإلسبلم ال ٌإخذ من سلوك فرد أو مجموعة من الناس ٌ ,خطبون وٌصٌبون . واإلسبلم حجة علٌهم ,ولٌسوا هم حجة على اإلسبلم ,إنما ٌإخذ اإلسبلم من القرآن والسنة الثابتة .
حدود المشروعية في الضحك والمزاح : إن الضحك والمرح والمزاح أمر مشروع فً اإلسبلم ,كما دلت على ذلك النصوص القولٌة , والمواقؾ العملٌة للرسول الكرٌم صلى هللا علٌه وسلم وأصحابه رضى هللا عنهم . وما ذلك إال لحاجة الفطرة اإلنسانٌة إلى شا من التروٌح ٌخفؾ عنها ألواء ,الحٌاة وقسوتها ,وتشعب همومها وأعبابها . كما أن هذا الضرب من اللهو والترفٌه ٌقوم بمهمة التنشٌط للنفس ,حتى تستطٌع مواصلة السٌر والمضً فً طرٌق العمل الطوٌل ,كما ٌرٌح اإلنسان دابته فً السفر ,حتى ال تنقطع به . فمشروعٌة الضحك والمرح والمزاح ال شك فٌها فً األصل ,ولكنها مقٌدة بقٌود وشروط ال بد أن تراعى : ي أول إبرٌل -نٌسان أولها :أال ٌكون الكذب واالختبلق أداة اإلضحاك للناس ,كما ٌفعل بعض الناس ؾ فٌما ٌسمونه « كذبة إبرٌل » .ولهذا قال صلى هللا علٌه وسلم « :وٌل للذي ٌحدث فٌكذب لٌضحك القوم ,وٌل له ,وٌل له ,وٌل له » وقد كان صلى هللا علٌه وسلم ٌمزح وال ٌقول إال حقا ً . ثانٌا ً :أال ٌشتمل على تحقٌر إلنسان آخر ,أو استهزاء به وسخرٌة منه ,إال إذا أذن بذلك ورضى . قال تعالى ٌ ( :ا أٌها الذٌن آمنوا ال ٌسخر قوم من قوم عسى أن ٌكونوا خٌراً منهم وال نساء من نساء عسى أن ٌكن خٌراً منهن وال تلمزوا أنفسكم وال تنابزوا باأللقاب ,ببس االسم الفسوق بعد اإلٌمان ) . وجاء فً صحٌح مسلم « :بحسب امرئ من الشر أو ٌحقر أخاه المسلم » . وذكرت عابشة أمام النبً صلى هللا علٌه وسلم إحدى ضرابرها ,فوصفتها بالقصر تعٌبها به ,فقال « .
ٌا عابشة ,لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته » قالت :وحكٌت له إنسانا -أي قلدته فً حركته أو صوته أو نحو ذلك فقال « :ما أحب أنى حكٌت إنسانا وأن لً كذا وكذا » ثالثا ً :أال ٌترتب علٌه تفزٌع وتروٌع لمسلم . فقد روى أبو داود عن عبد الرحمن بن أبى لٌلى قال :حدثنا أصحاب محمد صلى هللا علٌه وسلم ,أنهم كانوا ٌسٌرون مع النبً صلى هللا علٌه وسلم فقام رجل منهم ,فانطلق بعضهم إلى حبل معه فؤخذه , ففزع فقال رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم « :ال ٌحل لرجل أن ٌروع مسلما ً » . وعن النعمان بن بشٌر قال :كنا مع رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم فً مسٌر ,فخفق رجل على راحلته -أي نعس -فؤخذ رجل سهما من كنانته فانتبه الرجل ,ففزع ,فقال رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم « :ال ٌحل لرجل أن ٌروع مسلما ً » ( رواه الطبرانى فً الكبٌر ورواته ثقات ) .والسٌاق ٌدل على أن الذي فعل ذلك كان ٌمازحه . وقد جاء فً الحدٌث اآلخر « :ال ٌؤخذ أحدكم متاع أخٌه العبا وال جادا » ( .رواه الترمذى وحسنه ) . رابعا ً :أال ٌهزل فً موضع الجد ,وال ٌضحك فً مجال ٌستوجب البكاء ,فلكل شا أوانه ,ولكل أمر مكانه ,ولكل مقام مقال .والحكمة وضع الشًء فً موضعه المناسب . ومن ممادح الشعراء : إذا جد عند الجد أرضاك جده وذو باطل إن شبت ألهاك باطله ! والباطل هنا ٌقصد به اللهو والمرح . وقال آخر : أه ازل حٌث الهزل ٌحسن بالفتى إنـً إذا جد الرجال لذو جد ! وروى األصمعً أنه رأى امرأة بالبادٌة تصلى على سجادتها خاشعة ضارعة فلما فرؼت ,وقفت أمام المرآة تتجمل وتتزٌن ,فقال لها :أٌن هذه من تلك ؟ فؤنشدت تقول : وله منى جانب ال أضٌعه وللهو منى والبطالة جانب ! قال :فعرفت أنها امرأة عابدة لها زوج تتجمل له . وقد عاب هللا تعالى على المشركٌن أنهم كانوا ٌضحكون عند سماع القرآن وكان أولى بهم أن ٌبكوا , فقال تعالى ( :أفمن هذا الحدٌث تعجبون * وتضحكون وال تبكون * وأنتم سامدون ). خامسا ً :أن ٌكون ذلك بقدر معقول ,وفى حدود االعتدال والتوازن ,الذي تقبله الفطرة السلٌمة , وٌرضاه العقل الرشٌد ,وٌبلبم المجتمع اإلٌجابً العامل . واإلسبلم ٌكره الؽلو واإلسراؾ فً كل شا ,ولو فً العبادة ,فكٌؾ باللهو والمرح ؟! ولهذا كان التوجٌه النبوي « :وال تكثر من الضحك فإن كثرة الضحك تمٌت القلب » فالمنهً عنه هو اإلكثار والمبالؽة . وقد ورد عن على رضى هللا عنه قوله « :أعط الكبلم من المزح ,بمقدار ما تعطى الطعام من الملح » . وهو قول حكٌم ٌ ,دل على عدم االستؽناء عن المزح ,كما ٌدل على ضرر اإلفراط فٌه .وخٌر األمور هو الوسط دابما ,وهو نهج اإلسبلم وخصٌصته الكبرى ,ومناط فضل أمته على ؼٌرها .
فن اللعب الحاجة إلى اللعب : كما عرفت الشعوب فن الؽناء تشنؾ به اآلذان ,وفن الرسم والتصوٌر تنعم به األعٌن ,وفن الفكاهة والمرح تضحك له األفواه .فهناك فنون أخرى عرفها الناس ,تدفع عن الحٌاة الرتابة ,وعن النفوس المبللة ,وهً تتمثل فً أنواع األلعاب المختلفة ,مما عرفنا وما لم نعرفه ,مما ٌشؽل أوقات الفراغ من ناحٌة ,وال ٌؽلو من بعض الفوابد من ناحٌة أخرى .
ألوان اللعب لدى الشعوب : وبعض هذه األلعاب ٌدخل فٌما ٌعرؾ فً عصرنا بؤنواع « الرٌاضة البدنٌة » مثل السباحة ,والعدو , والوثب بؤنواعه ,وألعاب القوى وما بمس « الجمباز » ,وألعاب الكرة بؤنواعها .والتزحلق على الجلٌد . وبعضها أقرب إلى الفنون العسكرٌة مثل :الرماٌة واللعب بالحراب والسٌوؾ ,وركوب الخٌل . وبعضها ألعاب تسلٌة ,ونزجٌة للوقت ,ومنها :ما فٌه شحذ للعقل مثل الشطرنج ,و« السٌجا » ,و « الدومٌنو » ونحوها ,ومنه ما ٌقوم على الحظ مثل « النرد » . ومن هذه األلعاب :ما ٌإدى فردٌا ً ,ومنه ما ال بد له من العبٌن ,كالمصارعة والمبلكمة .ومنه ما ٌحتاج إلى فرٌقٌن ,مثل :لعبة شد الحبل ,وهى لعبة شعبٌة قدٌمة ,ومثلها ألعاب الكرة . ومنه :ما ٌدخل فٌه السباق :بٌن فردٌن ,أو فرٌقٌن ,أو مجموعة أفراد ,أو مجموعة فرق . ومنه :األلعاب السحرٌة ,التً تقوم على الشعوذة وخفة الٌد ,أو على السحر بالفعل . ومنه :األلعاب البهلوانٌة ,كالتً تقدم فً « السٌرك » وتدهش النظارة بما فٌها من مهارات فابقة وقدرات شبه خارقة . ومنه :ما ٌستخدم اإلنسان فٌه الطٌور والحٌوانات ,مثل .اللعب بالحمام ,والتحرٌش بٌن الدٌوك بعضها وبعض ,أو بٌن الكباش بعضها وبعض .وقرٌب منها :مصارعة الثٌران .ومن هذا الباب : اللعب بالقرود والدببة ( جمع دب ) عن طرٌق تدرٌبها على أعمال تعجب وتدهش . وكذلك :ترقٌص الخٌل ,واستخدام الفٌلة .وأعجب منه :تروٌض األسود والفهود والنمور . وفى المهرجانات الشعبٌة فً بلد كمصر ,فً األعٌاد والموالد والمناسبات ٌ ,شاهد الجمهور كثٌرا من األلعاب التً توارثها الناس ,وهى ألوان مختلفة ,ومعروضات متنوعة . ولدى كل الشعوب أمثال هذه األلعاب ,بعضها مما توارثوه ,وبعضها مما ابتكروه . والباب مفتوح للتجدٌد واالبتكار فً هذا المجال ,كالذي نشاهده فً التلٌفزٌون بٌن بعض األندٌة األلمانٌة وبعض من مسابقات تعتبر ؼاٌة فً الطرافة واستخراج الضحك من اإلنسان . وقد نافسهم الٌابانٌون فً ذلك ,وابتكروا أشٌاء مماثلة أٌضا ً . والسإال الكبٌر هنا :ما موقؾ اإلسبلم من ذلك كله ؟
موقف اإلسالم : وموقؾ اإلسبلم من هذه األلوان المختلفة من اللعب أو األلعاب ٌتضح فٌما ٌلً : ما يجيزه اإلسالم من اللعب : ال ٌمنع اإلسبلم من اللهو بمختلؾ « األلعاب » ,بل ٌرى ذلك أمرا مشروعا ٌ ,حتاج إلٌه الفرد , وتحتاج إلٌه الجماعة .ولو لم ٌكن الهدؾ منها إال التسلٌة ,أو التروٌح ,أو اإلضحاك .وما ذكرناه فً شرعٌة الضحك ,وشرعٌة الؽناء ,وما نقلناه عن الؽزالً وابن حزم وؼٌرهما ٌذكر هنا أٌضا . بل هناك بعض أنواع من األلعاب ٌ ,حث اإلسبلم علٌها ,مثل األلعاب التً تدخل فً فنون الرٌاضة , أو الفنون العسكرٌة ,لما فٌها من تقوٌة األجسام ,واكتساب المهارات ,وتنمٌة القدرات . وقد جاء فً السنة :الحث على الرماٌة ,وركوب الخٌل ,والمإمن القوى خٌر وأحب إلى هللا من المإمن الضعٌؾ . وقد شرع اإلسبلم عٌدي الفطر واألضحى ,بدٌلٌن لٌومٌن كان ٌلعب فٌهما األنصار فً الجاهلٌة . وقد أذن النبً صلى هللا علٌه وسلم للحبشة أن ٌرقصوا بحرابهم وأسلحتهم فً مسجده الشرٌؾ فً ٌوم عٌد ,وكان ٌحثهم وٌقول « :دونكم ٌا بنى أرفدة » ..وقد سبق ذلك . ما يمنعه اإلسالم من ألوان اللعب : إنما ٌتحفظ اإلسبلم على بعض ألعاب تتنافى مع مقاصده وأحكامه ,مثل : ( أ ) األلعاب التً تقوم على المخاطرة الشدٌدة دون ضرورة إلٌها ,مثل :المبلكمة ,لما فٌها من شدة إٌذاء النفس والؽٌر ,ببل حاجة . ( ب ) األلعاب التً تظهر فًها أجسام النساء -أي ما ال ٌحل رإٌته منها -أمام الرجال األجانب ,كما فً حاالت السباحة والجمباز ونحوها ,وٌنبؽً أن ٌكون لهن مسابح ومبلعب خاصة ,ال ٌدخلها الرجال . ( جـ ) األلعاب التً تقوم على السحر الحقٌقً ,فإنه من « السبع الموبقات » وٌحرم تعلٌمه أو ترويجه فً الناس . ( د ) األلعاب التً تقوم على الخداع واالحتٌال على الناس ,ألكل أموالهم بالباطل ,كالذي ٌسمٌه الناس فً مصر « الثبلث ورقات » ! ( هـ ) األلعاب التً تعرض الحٌوانات أو الطٌور لئلٌذاء ,مثل صراع الدٌوك أو الكباش .وقد ثبت النهى عن التحرٌش بٌن البهابم .فبل ٌجوز لئلنسان أن ٌتلهى بمنظر الدماء تسٌل من هذه العجماوات , ومن ال ٌرحم ال ٌرحم . ( و ) األلعاب التً تقوم على الحظ وحده ,مثل لعب النرد ,وهو الذي ٌسمٌه أهل مصر « الطاولة » بخبلؾ ما ٌقوم على إعمال الذهن مثل الشطرنج ,فالراجح جوازه بشروط ,وقد ذكرتها فً « الحبلل والحرام » وفصلتها فً الجزء الثانً من « فتاوى معاصرة » . ( ز ) األلعاب التً ٌدخل فٌها المٌسر ( القمار ) فإنه قرٌن الخمر فً كتاب هللا ,وهو رجس من عمل الشٌطان . ( ح ) األلعاب التً فٌها استخفاؾ بكرامة اإلنسان ,أو السخرٌة به ,أو جعله أضحوكة أو « مسخرة »
لآلخرٌن ,سواء أكان شخصا معٌنا أم فبة من المجتمع ,كالعمٌان أو العرجان ,أو ذوى اللون األسود , أو أصحاب مهنة معٌنة .إال فً حدود ما ٌجٌزه العرؾ العام ( ٌا آٌها الذٌن أمنوا ال ٌسخر قوم من قوم عسى آن ٌكونوا خٌراً منهم ) . ( ط ) المبالؽة فً اللعب ,على حساب أمور أخرى ,فإن اللعب من « التحسٌنٌات » فبل ٌنبؽً أن تطؽى على الحاجٌات ,فكٌؾ بالضرورٌات ؟ . وكل المباحات مقٌدة بعدم اإلسراؾ ,فإن هللا ال ٌحب المسرفٌن ,ومشروطة بؤال تشؽل عن واجب دٌنً أو دنٌوي .والمطلوب من المجتمع المسلم -كما هو مطلوب من الفرد المسلم -أن ٌوازن بٌن المطالب ,وأن ٌعطً كل ذي حق حقه . ولهذا ال ٌقبل فً مٌزان اإلسبلم :أن تطؽى لعبة واحدة مثل « كرة القدم » على كل األلعاب والرٌاضات ,وما هو أهم من ذلك كله من عبادة هللا ,وعمارة األرض ,ورعاٌة حقوق الخلق حتى ؼدت فً بعض الببلد ,وبعض األحٌان ,وكؤنها وثن ٌعبد وأصبح العب الكرة « ٌباع » بمبات اآلالؾ ,وربما بالمبلٌٌن ,وبعض أهل الفكر والعلم ال ٌكادون ٌجدون قوتهم ,ألن موهبة القدم أهم من موهبة الرأس فاإلنسان بؤسفله ال بؤعبله !
المرأة باعتبارها إنسانًا جاء اإلسبلم وبعض الناس ٌنكرون إنسانٌة المرأة ,وآخرون ٌرتابون فٌها .وؼٌرهم ٌعترؾ بإنسانٌتها ,ولكنه ٌعتبرها مخلوقا ً خلق لخدمة الرجل . فكان من فضل اإلسبلم أنه كرم المرأة ,وأكد إنسانٌتها ,وأهلٌتها للتكلٌؾ والمسبولٌة والجزاء ودخول الجنة ,واعتبرها إنسانا ً كرٌما ً ,له كل ما للرجل من حقوق إنسانٌة .ألنهما فرعان من شجرة واحدة , وأخوان ولدهما أب واحد هو آدم ,وأم واحدة هً حواء . فه ما متساوٌان فً أصل النشؤة ,متساوٌان فً الخصابص اإلنسانٌة العامة ,متساوٌان فً التكالٌؾ والمسبولٌة ,متساوٌان فً الجزاء والمصٌر . وفً ذلك ٌقول القرآن ٌ ( :ا أٌها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجاالً كثٌراً ونسا ًء واتقوا هللا الذي تساءلون به واألرحام ,إن هللا كان علٌكم رقٌبا ً ) . وإذا كان الناس -كل الناس -رجاال ونساء ,خلقهم ربهم من نفس واحدة ,وجعل من هذه النفس زوجا تكملها وتكتمل بها كما قال فً آٌة أخرى ( :وجعل منها زوجها لٌسكن إلٌها ) وبث من هذه األسرة الواحدة رجاالً كثٌراً ونسا ًء ,كلهم عباد لرب واحد ,وأوالد ألب واحد وأم واحدة ,فاألخوة تجمعهم . ولهذا أمرت اآلٌة الناس بتقوى هللا -ربهم -ورعاٌة الرحم الواشجة بٌنهم ( :واتقوا هللا الذي تساءلون به واألرحام ) . ي هذا قال الرسول صلى هللا علٌه وسلم : فالرجل -بهذا النص -أخ المرأة ,والمرأة شقٌقة الرجل .وؾ « إنما النساء شقابق الرجال » . وفى مساواة المرأة للرجل فً التكلٌؾ والتدٌن والعبادة ٌ ,قول القرآن ( :إن المسلمٌن والمسلمات والمإمنٌن والمإمنات والقانتٌن والقانتات والصادقٌن والصادقات والصابرٌن والصابرات والخاشعٌن والخا شعات والمتصدقٌن والمتصدقات والصابمٌن والصابمات والحافظٌن فروجهم والحافظات والذاكرٌن هللا كثٌراً والذاكرات أعد هللا لهم مؽفر ًة وأجراً عظٌما ً ) . وفً التكالٌؾ الدٌنٌة واالجتماعٌة األساسٌة ٌسوي القرآن بٌن الجنسٌن بقوله تعالى ( :والمإمنون والمإمنات بعضهم أولًاء بعض ٌ ,ؤمرون بالمعروؾ وٌنهون عن المنكر وٌقٌمون الصبلة وٌإتون
الزكاة وٌطٌعون هللا ورسوله ,أولبك سٌرحمهم هللا ) وفً قصة آدم توجه التكلٌؾ اإللهً إلٌه والى زوجه سواء ٌ ( :ا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكبل منها رؼداً حٌث شبتما وال تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمٌن ) . ولكن الجدٌد فً هذه القصة -كما ذكرها القرآن -أنها نسبت اإلؼواء إلى الشٌطان ال إلى حواء -كما فعلت التوراة ( -فؤزلهما الشٌطان عنها فؤخرجهما مما كانا فٌه ) . ً ولم تنفرد حواء باألكل من الشجرة وال كانت البادبة ,بل كان الخطؤ منهما معا ,كما كان الندم والتوبة منهما جمٌعا ( :قاال ربنا ظلمنا أنفسنا وان لم تؽفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرٌن ). بل فً بعض اآلٌات نسبة الخطؤ إلى آدم بالذات وباألصالة ( :ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما ً) … ( فوسوس إلٌه الشٌطان قال ٌا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك ال ٌبلى ) … ( وعصى آدم ربه فؽوى ) .كما نسب إلٌه التوبة وحده أٌضا ( :ثم اجتباه ربه فتاب علٌه وهدى ) مما ٌفٌد أنه األصل فً المعصٌة ,والمرأة له تبع . ومهما ٌكن األمر فإن خطٌبة حواء ال ٌحمل تبعتها إال هً ,وبناتها براء من إثمها ,وال تزر وازرة وزر أخرى ( :تلك أمه قد خلت ,لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ,وال تسبلون عما كانوا ٌعملون ) . وفى مساواة المرأة للرجل فً الجزاء ودخول الجنة ٌقول هللا تعالى ( :فاستجاب لهم ربهم أنً ال أضٌع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى ,بعضكم من بعض ) ,فنص القرآن فً صراحة على أن األعمال ال تضٌع عند هللا ,سواء أكان العامل ذكراً أم أنثى ,فالجمٌع بعضهم من بعض ,من طٌنة واحدة , وطبٌعة واحدة .وٌقول ( :من عمل صالحا ً من ذكر أو أنثى وهو مإمن فلنحٌٌنه حٌاة طٌبة , ولنجزٌنهم أجرهم بؤحسن ما كانوا ٌعملون ) ( ,ومن ٌعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مإمن فؤولبك ٌدخلون الجنة وال ٌظلمون نقٌرا ) . وفى الحقوق المالٌة للمرأة ,أبطل اإلسبلم ما كان علٌه كثٌر من األمم -عربا ً وعجما ً -من حرمان النساء ,من التملك والمٌراث ,أو التضٌٌق علٌهن فً التصرؾ فٌما ٌملكن ,واستبداد األزواج بؤموال المتزوجات منهن ,فؤثبت لهن حق الملك بؤنواعه وفروعه ,وحق التصرؾ بؤنواعه المشروعة .فشرع الوصٌة واإلرث لهن كالرجال ,وأعطاهن حق البٌع والشراء ,واإلجارة والهبة واإلعارة والوقؾ والصدقة والكفالة والحوالة والرهن . . . .وؼٌر ذلك من العقود واألعمال . وٌتبع ذلك حقوق الدفاع عن مالها -كالدفاع عن نفسها -بالتقاضً وؼٌره من األعمال المشروعة .
شبهات مردودة وهنا تعرض لبعض الناس شبهات ,وتدور فً خواطرهم أسبلة : إذا كان اإلسبلم قد اعتبر إنسانٌة المرأة مساوٌة إلنسانٌة الرجل ,فما باله فضل الرجل علٌها فً بعض المواقؾ واألحوال .كما فً الشهادة ,والمٌراث ,والدٌة ,وقوامة المنزل ,ورٌاسة الدولة ,وبعض األحكام الجزبٌة األخرى ؟ والواقع أن تمٌٌز الرجل عن المرأة فً هذه األحكام ,لٌس ألن جنس الرجل أكرم عند هللا وأقرب إلٌه من جنس المرأة .فإن أكرم الناس عند هللا أتقاهم -رجبل كان أو امرأة -ولكن هذا التمٌٌز اقتضته الوظٌفة التً خصصتها الفطرة السلٌمة لكل من الرجل والمرأة .كما سنوضح ذلك فٌما ٌلً : الشهادة :
جاء فً القرآن فً آٌة المدٌنة التً أمر هللا فٌها بكتابة الدٌن واالحتٌاط له ( :واستشهدوا شهٌدٌن من رجالكم ,فإن لم ٌكونا رجلٌن فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما األخرى ,وال ٌؤب الشهداء إذا ما دعوا ) . وبهذا جعل القرآن شهادة الرجل تساوى شهادة امرأتٌن .كما قرر الفقهاء أن شهادة النساء ال تقبل فً الحدود والقصاص . والحمد هلل أن هذا التفاوت لٌس لنقص إنسانٌة المرأة أو كرامتها .بل ألنها -بفطرتها واختصاصها -ال تشتؽل عادة باألمور المالٌة والمعامبلت المدنٌة .إنما ٌشؽلها ما ٌشؽل النساء -عادة -من شبون البٌت إن كانت زوجة ,واألوالد إن كانت أما ,والتفكٌر فً الزواج إن كانت أٌما ً .ومن ثم تكون ذاكرتها أضعؾ فً شبون المعامبلت .لهذا أمر هللا تعالى أصحاب الدٌن إذا أرادوا االستٌثاق لدٌونهم أن ٌشهدوا علٌها رجلٌن أو رجبلً وامرأتٌن .وعلل القرآن ذلك بقوله ( :أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما األخرى ). ومثل ذلك ما ذهب إلٌه كثٌر من الفقهاء ,الذٌن لم ٌعتبروا شهادة النساء ,فً الحدود والقصاص . . بعداً بالمرأة عن مجاالت االحتكاك ,ومواطن الجرابم .والعدوان على األنفس واألعراض واألموال . فهً إن شهدت هذه الجرابم كثٌرا ما تؽمض عٌنها ,وتهرب صابحة مولولة ,وٌصعب علٌها أن تصؾ هذه الجرابم بدقة ووضوح ,ألن أعصابها ال تحتمل التدقٌق فً مثل هذه الحال . ولهذا ٌرى هإالء الفقهاء أنفسهم األخذ بشهادة المرأة -ولو منفردة -فٌما هو من شؤنها واختصاصها , كشهادتها فً الرضاع والبكارة والثٌوبة والحٌض والوالدة ,ونحو ذلك مما كان ٌختص بمعرفته النساء ,فً العصور السابقة . على أن هذا الحكم ؼٌر مجمع علٌه ,فمذهب عطاء -من أبمة التابعٌن -األخذ بشهادة النساء. ومن الفقهاء من ٌرى األخذ بشهادة النساء ,فً الجناٌات فً المجتمعات التً ال ٌكون فٌها الرجال عادة مثل حمامات النساء ,واألعراس ,وؼٌر ذلك مما اعتاد الناس أن ٌجعلوا فٌه للنساء أماكن خاصة ,فإذا اعتدت إحداهن على أخرى بقتل أو جرح أو كسر ,وشهد علٌها شهود منهن ,فهل تهدر شهادتهن لمجرد أنهن إناث ؟ أو تطلب شهادة الرجال فً مجتمع ال ٌحضرون فٌه عادة ؟ الصحٌح أن تعتبر شهادتهن ما دمن عادالت ضابطات واعٌات .
الميراث : أما التفاوت فً المٌراث بٌن الرجل والمرأة ,فالواضح أنه نتٌجة للتفاوت بٌنهما فً األعباء ,والتكالٌؾ المالٌة المفروضة على كل منهما شرعا . ً فلو افترضنا أبا مات ,وترك وراءه ابنا وبنتا ,فاالبن ٌتزوج فٌدفع مهرا ,وٌدخل بالزوجة فٌدفع نفقتها ,على حٌن تتزوج البنت فتؤخذ مهراً ,ثم ٌدخل بها زوجها ,فٌلتزم بنفقتها ,وال ٌكلفها فلسا ً ,وان كانت من أؼنى الناس . فإذا كان قد ترك لهما مابة وخمسٌن ألفا مثبلً ,أخذ االبن منها مابة وأخته خمسٌن .فعندما ٌتزوج االبن قد ٌدفع مهراً وهداٌا نقدرها مثبل بخمسة وعشرٌن ألفا .فٌنقص نصٌبه لٌصبح ( ) 75000خمسة وسبعٌن ألفا ً .فً حٌن تتزوج أخته فتقبض مهراً وهداٌا نقدرها بما قدرنا به ما دفع أخوها لمثلها .فهنا ٌزٌد نصٌبها فٌصبح ( ) 75000خمسة وسبعٌن ألفا .فتساوٌا .
الدية : وأما الدٌة فلٌس فًها حدٌث متفق على صحته ,وال إجماع مستٌقن بل ذهب ابن علٌة واألصم -من فقهاء السلؾ -إلى التسوٌة بٌن الرجل والمرأة فً الدٌة ,وهو الذي ٌتفق مع عموم النصوص القرآنٌة والنبوٌة الصحٌحة وإطبلقها .ولو ذهب إلى ذلك ذاهب الٌوم ,ما كان علٌه من حرج ,فالفتوى تؽٌر بتػٌر الزمان والمكان .إذا كانت تتمشى مع النصوص الجزبٌة والمقاصد الكلٌة ؟
القوامة : وأما القوامة ,فإنما جعلها هللا للرجل بنص القرآن ألمرٌن : .1ما فضله هللا به من التبصر فً العواقب ,والنظر فً األمور بعقبلنٌة أكثر من المرأة التً جهزها بجهاز عاطفً دفاق من أجل األمومة . .2أن الرجل هو الذي ٌنفق الكثٌر على تؤسٌس األسرة .فلو انهدمت ستنهدم على أم رأسه .لهذا سٌفكر ألؾ مرة قبل أن ٌتخذ قرار تفكٌكها .
المناصب القضائية والسياسية : وأما مناصب القضاء ,والسٌاسة ,فقد أجاز أبو حنٌفة أن تتولى القضاء ,فٌما تجوز شهادتها فٌه ,أي فً ؼٌر األمور الجنابٌة ,وأجاز الطبري وابن حزم أن تتولى القضاء ,فً األم وال وفً الجناٌات وؼٌرها . وجواز ذلك ال ٌعنى وجوبه ولزومه ,بل ٌنظر لؤلمر فً ضوء مصلحة المرأة ,ومصلحة األسرة , ومصلحة المجتمع ,ومصلحة اإلسبلم ,وقد ٌإدي ذلك إلى اختٌار بعض النساء المتمٌزات فً سن معٌنة ,للقضاء فً أمور معٌنة ,وفً ظروؾ معٌنة . وأما منعها م ن رباسة الدولة وما فً حكمها ,فؤلن طاقة المرأة -ؼالبا -ال تحتمل الصراع الذي تقتضٌه تلك المسإولٌة الجسٌمة .وإنما قلنا « :ؼالبا » ,ألنه قد ٌوجد من النساء من ٌكن أقدر من بعض الرجال ,مثل ملكة سبؤ ,التً قص هللا علٌنا قصتها فً القرآن ,ولكن األحكام ال تبنى على النادر ,بل على األعم األؼلب ,ولهذا قال علماإنا :النادر ال حكم له . وأما أن تكون مدٌرة أو عمٌدة ,أو ربٌسة مإسسة ,أو عضواً فً مجلس نٌابً .أو نحو ذلك ,فبل حرج إذا اقتضته المصلحة ,وقد فصلنا ذلك بؤدلته فً الجزء الثانً من كتابنا « فتاوى معاصرة ».
المرأة باعتبارها أمًا
ال ٌعرؾ التارٌخ دٌنا وال نظاما كرم المرأة باعتبارها أما ,و من مكانتها ,مثل اإلسبلم . لقد أكد الوصٌة بها وجعلها تالٌة للوصٌة بتوحٌد هللا وعبادته ,وجعل برها من أصول الفضابل ,كما تحملت من مشاق الحمل والوضع واإلرضاع والتربٌة .وهذا ما ه جعل حقها أوكد من حق األب ,لما ٌقرره القرآن وٌكرره فً أكثر من سورة لٌثبته فً أذهان األبناء ونفوسهم .وذلك فً مثل قوله تعالى : ( ووصٌنا اإلنسان بوالدٌه حملته أمه وهنا ً على وهن وفصاله فً عامٌن أن اشكر لً ولوالدٌك إلً المصٌر ) ( ,ووصٌنا اإلنسان بوالدٌه إحسانا ,حملته أمه كرها ووضعته كرها ,وحمله وفصاله ثبلثون شهراً ) . وجاء رجل إلى النبً صلى هللا علٌه وسلم ٌسؤله :من أحق الناس بصحابتً ؟ قال «:أمك » .قال :ثم من ؟ قال « :أمك » .قال :ثم من ؟ قال « :أمك » .قال :ثم من ؟ قال « :أبوك ». وٌروي البزار أن رجبلً كان بالطواؾ حامبل أمه ٌطوؾ بها ,فسؤل النبً صلى هللا علٌه وسلم هل أدٌت حقها ؟ قال « :ال ,وال بزفرة واحدة » ! ..أي من زفرات الطلق والوضع ونحوها . وبرها ٌعنً :إحسان عشرتها ,وتوقٌرها ,وخفض الجناح لها ,وطاعتها فً ؼٌر المعصٌة ,والتماس رضاها فً كل أمر ,حتى الجهاد ,إذا كان فرض كفاٌة ال ٌجوز إال بإذنها ,فإن برها ضرب من الجهاد . جاء رجل إلى النبً صلى هللا علٌه وسلم فقال ٌ :ا رسول هللا ,أردت أن أؼزو ,وقد جبت أستشٌرك , فقال «:هل لك من أم » ؟ قال :نعم .قال « :فالزمها فإن الجنة عند رجلٌها ». وكانت بعض الشرابع تهمل قرابة األم ,وال تجعل لها اعتباراً ,فجاء اإلسبلم ٌوصى باألخوال والخاالت ,كما أوصى باألعمام والعمات . أتى النبً صلى هللا علٌه وسلم رجل فقال :إنً أذنبت ,فهل لً من توبة ؟ فقال « :هل لك من أم » ؟ قال :ال .قال « :فهل لك من خالة » ؟ قال :نعم .قال « :فبرها » . ومن عجٌب ما جاء به اإلسبلم أنه أمر ببر األم وان كانت مشركة ,فقد سؤلت أسماء بنت أبى بكر النبً صلى هللا علٌه وسلم عن صلة أمها المشركة ,وكانت قدمت علٌها ,فقال لها « :نعم ,صلً أمك » ومن رعاٌة اإلسبلم لؤلمومة وحقها وعواطفها :أنه جعل األم المطلقة أحق بحضانة أوالدها ,وأولى بهم من األب . قالت امرأة ٌ :ا رسول هللا ,إن أبنً هذا ,كان :بطنً له وعاء ,وثدًٌ له سقاء ,وحجري له حواء , وان أباه طلقنً ,وأراد أن ٌنتزعه منً ! فقال لها النبً صلى هللا علٌه وسلم « :أنت أحق به ما لم تنكحً ». واختصم عمر وزوجته المطلقة إلى أبى بكر فً شؤن ابنه عاصم ,فقضى به ألمه ,وقال لعمر « : رٌحها وشمها ولفظها خٌر له منك » .وقرابة األم أولى من قرابة األب فً باب الحضانة . واألم التً عنى بها اإلسبلم كل هذه العناٌة ,وقرر لها كل هذه الحقوق ,علٌها واجب :أن تحسن تربٌة أبنابها ,فتؽرس فٌهم الفضابل ,وتبؽضهم فً الرذابل ,وتعودهم طاعة هللا ,وتشجعهم على نصرة الحق ,وال تثبطهم عن الجهاد ,استجابة لعاطفة األمومة فً صدرها ,بل تؽلب نداء الحق على نداء العاطفة . ولقد رأٌنا أما مإمنة كالخنساء ,فً معركة القادسٌة تحرض بنٌها األربعة ,وتوصٌهم باإلقدام والثبات فً كلمات بلٌؽة رابعة ,وما أن انتهت المعركة حتى نعوا إلٌها جمٌعا ,فما ولولت وال صاحت ,بل قالت فً رضا وٌقٌن :الحمد هلل الذي شرفنً بقتلهم فً سبٌله !!
أمهات خالدات ومن توجٌهات القرآن :أنه وضع أمام المإمنٌن والمإمنات أمثله فارعة ألمهات صالحات .كان لهن أثر ومكان فً تارٌخ اإلٌمان . فؤم موسى تستجٌب إلى وحً هللا وإلهامه ,وتلقى ولدها وفلذة كبدها فً الٌم ,مطمبنة إلى وعد ربها ( : وأوحٌنا إلى أم موسى أن أرضعٌه ,فإذا خفت علٌه فؤلقٌه فً الٌم وال تخافً وال تحزنً ,إنا رادوه إلٌك وجاعلوه من المرسلٌن ) . وأم مرٌم التً نذرت ما فً بطنها محررا هلل ,خالصا من كل شرك أو عبودٌة لؽٌره ,داعٌة هللا أن ٌتقبل منها نذرها ( :فتقبل منً ,انك أنت السمٌع العلٌم ) . فلما كان المولود أنثى -على ؼٌر ما كانت تتوقع -لم ٌمنعها ذلك من الوفاء بنذرها ,سابلة هللا أن ٌحفظها من كل سوء ( :وأنً أعٌذها بك وذرٌتها من الشٌطان الرجٌم ) . ومرٌم ابنة عمران أم المسٌح عٌسى ,جعلها القرآن آٌة فً الطهر والقنوت هلل ,والتصدٌق بكلماته ( : ومرٌم ابنت عمران التً أحصنت فرجها فنفخنا فٌه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتٌن) .
المرأة باعتبارها بنتًا كان العرب فً الجاهلٌة ٌتشاتمون بمٌبلد البنات ,وٌضٌقون به ,حتى قال أحد اآلباء -وقد بشر بؤن زوجه ولدت أنثى « : -وهللا ما هً بنعم الولد ,نصرها بكاء ,وبرها سرقة »! ٌرٌد أنها ال تستطٌع أن تنصر أباها وأهلها إال بالصراخ والبكاء ال بالقتال ,وال أن تبرهم إال بؤن تؤخذ من مال زوجها ألهلها . وكانت التقالٌد المتوارثة عندهم تبٌح لؤلب أن يبد ابنته ٌ -دفنها حٌة -خشٌة من فقر قد ٌقع ,أو من عار قد تجلبه حٌن تكبر على قومها . وفً ذلك ٌقول القرآن منكراً علٌهم ومقرعا ً لهم ( :وإذا الموءودة سبلت * بؤي ذنب قتلت ) .وٌصؾ حال اآلباء عند والدة البنات ( :وإذا بشر أحدهم باألنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظٌم * ٌتوارى من القوم من سوء ما بشر به ,أٌمسكه على هون أم ٌدسه فً التراب ,أال ساء ما ٌحكمون ) . وكانت بعض الشرابع القدٌمة تعطً األب الحق فً بٌع ابنته إذا شاء ,وبعضها اآلخر -كشرٌعة حمورابً -تجٌز له أن ٌسلمها إلى رجل آخر لٌقتلها أو ٌملكها إذا قتل األب ابنه الرجل اآلخر . جاء اإلسبلم فاعتبر البنت -كاالبن -هبة من هللا ونعمة ٌ -هبها لمن ٌشاء من عباده ٌ ( :هب لمن ٌشاء إناثا وٌهب لمن ٌشاء الذكور * أو ٌزوجهم ذكرانا ً وإناثا ً ,وٌجعل من ٌشاء عقٌما ,إنه علٌم قدٌر ) . وبٌن القرآن فً قصصه أن بعض البنات قد تكون أعظم أثراً وأخلد ذكراً ,من كثٌر من األبناء الذكور , كما فً قصة مرٌم ابنة عمران التً اصطفاها هللا وطهرها واصطفاها على نساء العالمٌن ,وقد كانت أمها عندما حملت بها تتمنى أن تكون ذكراً ٌخدم الهٌكل ,وٌكون من الصالحٌن ( .إذ قالت امرأة عمران رب إنً نذرت لك ما فً بطني محرراً فتقبل منً ,انك أنت السمٌع العلٌم * فلما وضعتها قالت رب إنً وضعتها أنثى وهللا أعلم بما وضعت ولٌس الذكر كاألنثى ,وإنً سمٌتها مرٌم وإنً أعٌذها بك وذرٌتها من الشٌطان الرجٌم * فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا ً حسنا ً …) وحمل القرآن -حملة شعواء -على أولبك القساة الذٌن ٌقتلون أوالدهم -إناثا ً كانوا أو ذكوراً -فقال تعالى ( :قد خسر الذٌن قتلوا أوالدهم سفها ً بؽٌر علم ) وقال « .وال تقتلوا أوالدكم خشٌة إمبلق ,نحن
نرزقهم وإٌاكم ,إن قتلهم كان خطبا ً كبٌراً ) . وجعل رسول اإلسبلم الجنة جزاء كل أب ٌحسن صحبة بناته ,وٌصبر على تربٌتهن وحسن تؤدٌبهن , ورعاٌة حق هللا فٌهن ,حتى ٌبلؽن أو ٌموت عنهن ,وجعل منزلته بجواره -صلى هللا علٌه وسلم -فً دار النعٌم المقٌم . روى مسلم عن أنس عنه -صلى هللا علٌه وسلم -أنه قال « :من عال جارٌتٌن حتى تبلؽا ,جاء ٌوم القٌامة أنا وهو … ..وضم أصابعه » ,ورواه الترمذي بلفظ « :من عال جارٌتٌن دخلت أنا وهو الجنة كهاتٌن … » ,وأشار بإصبعه السبابة والتً تلٌها . وروى ابن عباس عنه -صلى هللا علٌه وسلم « أنه قال « :ما من مسلم له ابنتان فٌحسن إلٌهما ما صحبتاه -أو صحبهما -إال أدخلتاه الجنة » . ونصت بعض األحادٌث على أن هذا الجزاء -دخول الجنة -لؤلخ الذي ٌعول أخواته أو أختٌه أٌضا ً . كما نص بعض آخر على أن هذه المكافآت اإللهٌة ,لمن أحسن إلى جنس البنات ولو كانت واحدة . ففً حدٌث أبى هرٌرة « :من كان له ثبلث بنات ,فصبر على ألوابهن وضرابهن وسرابهن ,أدخله هللا الجنة برحمته إٌاهن » .فقال رجل :واثنتان ٌا رسول هللا ؟ قال « :واثنتان » .قال رجل ٌ :ا رسول هللا ,وواحدة ؟ قال « :وواحدة » . وروى ابن عباس مرفوعا ً « من كانت له أنثى فلم ٌبدها ولم ٌهنها ,ولم ٌإثر ولده ٌ -عنً الذكور - علٌها ,أدخله هللا الجنة » . وفى حدٌث عابشة الذي رواه الشٌخان أن رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم قال « :من ابتلى من هذه البنات بشًء ,فؤحسن إلٌهن كن له ستراً من النار » . وبهذه النصوص الصحٌحة الصرٌحة ,والبشارات المكررة المإكدة ,لم تعد والدة البنت عببا ٌخاؾ منه ,وال طالع نحس ٌتطٌر به ,بل نعمة تشكر ,ورحمة ترجى وتطلب ,لما وراءها من فضل هللا تعالى ,وجزٌل مثوبته . وبهذا أبطل اإلسبلم عادة الوأد إلى األبد ,وأصبح للبنت فً قلب أبٌها مكان عمٌق ٌ ,تمثل فً قول النبً صلى هللا علٌه وسلم فً ابنته فاطمة « :فاطمة بضعة منً ٌ ,رٌبنً م ا رابها » . ونلمس أثر ذلك فً األدب اإلسبلمً فً مثل قول الشاعر : لـوال بنٌـات كزؼب القطا رددن من بعـض إلى بعض لكان لً مضطرب واسع فً األرض ذات الطول والعرض وإنمـا أوالدنـا بٌننـا أكبادنـا تمشــً على األرض ! إن هـبت الرٌح على بعضهم امتنعت عـٌنً عن الؽمض وأما سلطان األب على ابنته فبل ٌتجاوز حدود التؤدٌب والرعاٌة والتهذٌب الدٌنً والخلقً ,شؤنها شؤن إخوانها الذكور ,فٌؤمرها بالصبلة إذا بلؽت سبع سنٌن ,وٌضربها علٌها إذا بلؽت عشراً ,وٌفرق حٌنبذ بٌنها وبٌن إخوتها فً المضجع ,وٌلزمها أدب اإلسبلم فً اللباس والزٌنة والخروج والكبلم . ونفقته علٌها واجبة دٌنا ً وقضا ًء حتى تتزوج . ولٌس له سلطة بٌعها أو تملٌكها لرجل أخر بحال من األحوال ,فقد أبطل اإلسبلم بٌع الحر -ذكراً كان أو أنثى -بكل وجه من الوجوه . ولو أن رجبلً حراً اشترى أو ملك ابنة له كانت رقٌقة عند ؼٌره ,فإنها تعتق علٌه بمجرد تملكها ,شاء أم أبى ,بحكم قانون اإلسبلم . وإذا كان للبنت مال خاص بها ,فلٌس لؤلب إال حسن القٌام علٌه بالمعروؾ . .وال ٌجوز له أن ٌزوجها
لرجل آخر ,على أن ٌزوجه األخر ابنته ,على طرٌقة التبادل ,وهو المسمى فً الفقه بـ « نكاح الشؽار » وذلك لخلو الزواج من المهر الذي هو حق البنت ال حق أبٌها . ولٌس لؤلب حق تزوٌج ابنته البالؽة ممن تكرهه وال ترضاه .وعلٌه أن ٌؤخذ رأٌها فٌمن تتزوجه : أتقبله أم ترفضه .فإذا كانت ثٌبا فبل بد أن تعلن موافقتها بصرٌح العبارة ,وان كانت بكراً ٌؽلبها حٌاء العذراء اكتفى بسكوتها ,فالسكوت عبلمة الرضا ,فإن قالت :ال . .فلٌس له سلطة إجبارها على الزواج بمن ال ترٌد . روى الجماعة عن أبى هرٌرة مرفوعا «:ال تنكح األٌم حتى تستؤمر وال البكر حتى تستؤذن » .قالوا : ٌا رسول هللا ,وكٌؾ إذنها ؟ قال « :أن تسكت » . وروى الشٌخان عن عابشة قالت :قال رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم « :البكر تستؤذن .قلت :إن البكر تستؤذن وتستحً ! قال « :إذنها صماتها » ,ولهذا قال العلماء ٌ :نبؽً إعبلم البكر بؤن سكوتها إذن . وعن خنساء بنت خدام األنصارٌة « :أن أباها زوجها وهً ثٌب فكرهت ذلك ,فؤتت رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم فرد نكاحها » . وعن ابن عباس :أن جارٌة بكراً أتت رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهً كارهة ,فخٌرها النبً صلى هللا علٌه وسلم . وفً هذا دلٌل على أن األب ال ٌتمٌز عن ؼٌره فً وجوب استبذان البكر ,وضرورة الحصول على موافقتها .وفى صحٌح مسلم وؼٌره « :والبكر ٌستؤمرها أبوها » أي ٌطلب أمرها وإذنها . وعن عابشة :أن فتاة دخلت علٌها ,فقالت :إن أبً زوجنً من ابن أخٌه ,لٌرفع بً خسٌسته ,وأنا كارهة .قالت :اجلسً حتى ٌؤتً النبً صلى هللا علٌه وسلم ,فؤخبرته ,فؤرسل إلى أبٌها ,فدعاه , فجعل األمر إلٌها .فقالت ٌ :ا رسول هللا :قد أجزت ما صنع أبً ,ولكن أردت أن أعلم :أللنساء من األمر شًء » ؟ . وظاهر األحادٌث ٌدل على أن استبذان البكر والثٌب شرط فً صحة العقد ,فإن زوج األب أو الولً الثٌب بؽٌر إذنها فالعقد باطل مردود ,كما فً قصة خنساء بنت خدام ..وفً البكر :هً صاحبة الخٌار إن شاءت أجازت ,وان شاءت أبت ,فٌبطل العقد كما فً قصة الجارٌة . ومن جمٌل ما جاء به اإلسبلم :أنه أمر باستشارة األم فً زواج ابنتها ,حتى ٌتم الزواج برضا األطراؾ المعنٌة كلها .فعن ابن عمر أن النبً صلى هللا علٌه وسلم قال « :آمروا النساء فً بناتهن » . وإذا كان األب ال ٌحق له تزوٌج ابنته ممن ال ترضاه .كان من حقه علٌها أال تزوج نفسها إال بإذنه لحدٌث « :ال نكاح إال بولً » . ورأى أبو حنٌفة وأصحابه أن من حق الفتاة أن تزوج نفسها ,ولو بؽٌر إذن أبٌها وولٌها ,بشرط أن ٌكون الزوج كفبا ً لها .ولم ٌثبت عندهم الحدٌث المذكور . واألولى أن ٌتم الزواج بموافقة األب واألم واالبنة .حتى ال ٌكون هناك مجال للقٌل والقال ,والخصومة والشحناء ,وقد شرع هللا الزواج مجلبة للمودة والرحمة . ها ,وأن ٌكون همه الخلق والمطلوب من األب أن ٌتخٌر البنته الرجل الصالح الذي ٌسعدها وٌسعد ب والدٌن ,ال المادة والطٌن ,وأال ٌعوق زواجها إذا حضر كفإها .وفى الحدٌث « :إذا أتاكم من ترضون خلقه ودٌنه فزوجوه .إال تفعلوا تكن فتنة فً األرض وفساد عرٌض » .وبهذا علم اإلسبلم األب أن ابنته « إنسان » قبل كل شًء ,فهً تطلب إنسانا ً مثلها ,ولٌست « سلعة » تعرض وتعطى لمن ٌدفع نقوداً أكثر ,كما هو شؤن كثٌر من اآلباء الجاهلٌن والطامعٌن إلى الٌوم .وفى الحدٌث « : أعظم النكاح بركة أٌسره مبونة » .
المرأة باعتبارها زوجة كانت بعض الدٌانات والمذاهب تعتبر المرأة رجسا ً من عمل الشٌطان ٌ ,جب الفرار منه واللجوء إلى حٌاة التبتل والرهبنة . وبعضها اآلخر كان ٌعتبر الزوجة مجرد آلة متاع للرجل ,أو طاه لطعامه ,أو خادم لمنزله .فجاء اإلسبلم ٌعلن بطبلن الرهبانٌة وٌنهى عن التبتل ,وٌحث على الزواج ,وٌعتبر الزوجٌة آٌة من آٌات هللا فً الكون ( :ومن آٌاته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا ً لتسكنوا إلٌها وجعل بٌنكم مودة ورحمة ,إن فً ذلك آلٌات لقوم ٌتفكرون ) . وحٌن أراد جماعة من الصحابة أن ٌتبتلوا وٌنقطعوا للعبادة ,صابمٌن النهار ,قابمٌن اللٌل ,معتزلٌن النساء ,أنكر علٌهم النبً صلى هللا علٌه وسلم ذلك قاببلً « :أما أنا فؤصوم وأفطر ,وأقوم وأنام , وأتزوج النساء ,فمن رؼب عن سنتً فلٌس منً » . وجعل اإلسبلم الزوجة الصالحة للرجل أفضل ثروة ٌكتنزها من دنٌاه -بعد اإلٌمان باهلل وتقواه -وعدها أحد أسباب السعادة ,وفً الحدٌث « :ما استفاد المإمن بعد تقوى هللا عز وجل خٌراً من زوجة صالحة ,إن أمرها أطاعته ,وان نظر إلٌها سرته ,وان أقسم علٌها أبرته ,وان ؼاب عنها حفظته فً نفسها وماله » . وقال علٌه الصبلة والسبلم « :الدنٌا متاع وخٌر متاعها المرأة الصالحة » . وقال « :من سعادة ابن آدم المرأة الصالحة ,والمسكن الصالح ,والمركب الصالح » . ورفع اإلسبلم من قٌمة المرأة باعتبارها زوجة ,وجعل قٌامها بحقوق الزوجٌة جهاداً فً سبٌل هللا. جاءت امرأة النبً صلى هللا علٌه وسلم فقالت ٌ :ا رسول هللا ,إنً رسول النساء إلٌك ,وما منهن امرأة علمت أو لم تعلم -إال وهً تهوى مخرجً إلٌك .ثم عرضت قضٌتها فقالت :هللا رب الرجالوالنساء وإلههن ,وأنت رسول هللا إلى الرجال والنساء ,كتب هللا الجهاد على الرجال ,فإن أصابوا أجروا وان استشهدوا كانوا أحٌاء عند ربهم ٌرزقون ,فما ٌعدل ذلك من أعمالهم من الطاعة ؟ قال « : طاعة أزواجهن والقٌام بحقوقهم ,وقلٌل منكن من ٌفعله » . وقرر اإلسبلم للزوجة حقوقا ً على زوجها ,ولم ٌجعلها مجرد حبر على ورق ,بل جعل علٌها أكثر من حافظ ورقٌب :من إٌمان المسلم وتقواه أوالً ,ومن ضمٌر المجتمع وٌقظته ثانٌا ً ,ومن حكم الشرع وإلزامه ثالثا ً . وأول هذه الحقوق هو « الصداق » الذي أوجبه اإلسبلم للمرأة على الرجل إشعارا منه برؼبته فٌها وإرادته لها .قال تعالى ( :وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ,فإن طبن لكم عن شًء منه نفسا فكلوه هنٌبا مرٌبا ) . فؤٌن هذا من المرأة التً نجدها فً مدنٌات أخرى :تدفع هً للرجل بعض مالها ! مع أن فطرة هللا جعلت المرأة مطلوبة ال طالبة ؟ وثانً هذه الحقوق ,هو « النفقة » .فالرجل مكلؾ بتوفٌر المؤكل والملبس والمسكن والعبلج المرأته . قال علٌه الصبلة والسبلم فً بٌان حقوق النساء « :ولهن علٌكم رزقهن وكسوتهن بالمعروؾ » , والمعروؾ هو ما ٌتعارؾ علٌه أهل الدٌن والفضل من الناس ببل إسراؾ وال تقتر ,قال تعالى ( : لٌنفق ذو سعة من سعته ,ومن قدر علٌه رزقه فلٌنفق مما آتاه هللا ,ال ٌكلؾ هللا نفسا ً إال ما آتاها ) . وثالث الحقوق ,هو « المعاشرة بالمعروؾ » .قال تعالى ( :وعاشروهن بالمعروؾ ) . وهو حق جامع ٌتضمن إحسان العاملة فً كل عبلقة بٌن المرء وزوجه ,من حسن الخلق ,ولٌن سها بالممازحة والترفٌه عنها ٌ ,قول الرسول الجانب ,وطٌب الكبلم ,وبشاشة الوجه ,وتطٌٌب نؾ صلى هللا علٌه وسلم « :أكمل المإمنٌن إٌمانا ً أحسنهم خلقا ً وألطفهم بؤهله » .
وروى ابن حبان عن عابشة أنه صلى هللا علٌه وسلم قال « :خٌركم خٌركم ألهله ,وأنا خٌركم ألهلً » وقد أثبتت السٌرة النبوٌة العملٌة لطفه -علٌه الصبلة والسبلم -بؤهله ,وحسن خلقه مع أزواجه , حتى إنه كان ٌساعدهن فً أعمال البٌت أحٌانا ً ,وبلػ من مبلطفته لهن أنه سابق عابشة مرتٌن ,فسبقته مرة وسبقها أخرى ,فقال لها « :هذه بتلك » . وفى مقابل هذه الحقوق أوجب علٌها طاعة الزوج -فً ؼٌر معصٌة طبعا -والمح افظة على ماله ,فبل تنفق منه إال بإذنه ,وعلى بٌته ,فبل تدخل فٌه أحداً إال برضاه ولو كان من أهلها .وهذه الواجبات لٌست كثٌرة وال ظالمة فً مقابل ما على الرجل من حقوق ,فمن المقرر أن كل حق ٌقابله واجب , ومن عدل اإلسبلم أنه لم ٌجعل الواجبات على المرأة وحدها ,وال على الرجل وحده ,بل قال تعالى ( : ولهن مثل الذي علٌهن بالمعروؾ ) فللنساء من الحقوق مثل ما علٌهن من الواجبات . ومن جمٌل ما ٌروى أن ابن عباس وقؾ أمام المرآة ٌصلح من هٌبته ,وٌعدل من زٌنته ,فلما سبل فً ذلك قال :أتزٌن المرأتً كما تتزٌن لً امرأتً .ثم تال اآلٌة الكرٌمة ( :ولهن مثل الذي علٌهن بالمعروؾ ) .وهذا من أظهر األدلة على عمٌق فقه الصحابة رضً هللا عنهم للقرآن الكرٌم .
استقالل الزوجة لم ٌهدر اإلسبلم شخصٌة المرأة بزواجها ,ولم ٌذبها فً شخصٌة زوجها ,كما هو الشؤن فً التقالٌد الؽربٌة ,التً تجعل المرأة تابعة لرجلها ,فبل تعرؾ باسمها ونسبها ولقبها العابلً ,بل بؤنها زوجة فبلن . أما اإلسبلم فقد أبقى للمرأة شخصٌتها المستقلة المتمٌزة ,ولهذا عرفنا زوجات الرسول بؤسمابهن وأنسابهن .فخدٌجة بنت خوٌلد ,وعابشة بنت أبى بكر ,وحفصة بنت عمر ,ومٌمونة بنت الحارث , وصفٌة بنت حٌى ,وكان أبوها ٌهودٌا محاربا ً للرسول صلى هللا علٌه وسلم . كما أن شخصٌتها المدنٌة ال تنقص بالزواج ,وال تفقد أهلٌتها للعقود والمعامبلت وسابر التصرفات , فلها أن تبٌع وتشتري ,وتإجر أمبلكها وتستؤجر وتهب من مالها وتتصدق وتوكل وتخاصم .وهذا أمر لم تصل إلٌه المرأة الؽربٌة إال حدٌثا ً ,وال زالت فً بعض الببلد مقٌدة إلى حد ما بإرادة الزوج .
المرأة باعتبارها أنثى قدر اإلسبلم أنوثة المرأة ,واعتبرها -لهذا الوصؾ -عنصراً مكمبلً للرجل ,كما أنه مكمل لها ,فلٌس أحدهما خصما ً لآلخر ,وال نداً له وال منافسا ً ,بل عونا له على كمال شخصه ونوعه . فقد اقتضت سنة هللا فً المخلوقات ,أن ٌكون االزدواج من خصابصها فنرى الذكورة واألنوثة فً عالم اإلنسان والحًوان والنبات ,ونرى الموجب والسالب فً عالم الجمادات من الكهرباء ,والمؽناطٌس وؼٌرها حتى الذرة ,فٌها الشحنة الكهربابٌة الموجبة ,والشحنة السالبة ( اإللكترون والبروتون ) .
والى ذلك أشار القرآن منذ أربعة عشر قرنا ً فقال ( :ومن كل شًء خلقنا زوجٌن لعلكم تذكرون ) . فالذكر واألنثى كالعلبة وؼطابها ,والشًء والزمه ,ال ؼنى ألحدهما عن اآلخر . ومنذ خلق هللا النفس البشرٌة األولى -آدم -خلق منها زوجها -حواء -لٌسكن إلٌها ,ولم ٌتركه وحده , حتى ولو كانت هذه الوحدة فً الجنة ,وكان الخطاب اإللهً لهما معا ,أمراً ونهٌا ً ( :اسكن أنت وزوجك الجنة وكبل منها رؼداً حٌث شبتما وال تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمٌن ) . فالمرأة -بهذا -ؼٌر الرجل ,ألنها تكمله وٌكملها ,والشًء ال ٌكمل نفسه ,والقرآن الكرٌم ٌقول ( : ولٌس الذكر كاألنثى ) .كما أن الموجب ؼٌر السالب ,والسالب ؼٌر الموجب . ومع هذا لم تخلق لتكون نداً له وال خصما ,بل هً منه وله ( :بعضكم من بعض ) ( ,وهللا جعل لكم من أنفسكم أزواجا ) . واقتضت حكمة هللا أن ٌكون التكوٌن العضوي والنفسً للمرأة ٌحمل عناصر الجاذبٌة للرجل وقابلٌة االنجذاب إلٌه . وركب هللا فً كل من الرجل والمرأة شهوة ؼرٌزٌة فطرٌة قوٌة تسوقهما إلى التجاذب واللقاء حتى تستمر الحٌاة وٌبقى النوع . ومن ثم ٌرفض اإلسبلم كل نظام ٌصادم هذه الفطرة وٌعطلها ,كنظام الرهبنة .ولكنه حظر كل تصرٌؾ لهذه الطاقة على ؼٌر ما شرعه هللا ورضٌه من الزواج الذي هو أساس األسرة ,ولهذا حرم الزنى ,كما حرمته األدٌان السماوٌة كلها ,ونهى عن الفواحش ,ما ظهر منها وما بطن ,وسد كل منفذ ٌإدي إلى هذه الفواحش ,حماٌة للرجل والمرأة من عوامل اإلثارة وبواعث الفتنة واإلؼراء . وعلى هذا األساس من النظر إلى فطرة المرأة ,وما ٌجب أن تكون علٌه فً عبلقتها بالرجل ٌ ,عامل اإلسبلم المرأة ,وٌقٌم كل نظمه وتوجٌهاته وأحكامه . إنه ٌرعى أنوثتها الفطرٌة ,وٌعترؾ بمقتضٌاتها فبل ٌكبتها وال ٌصادرها ,ولكنه ٌحول بٌنها وبٌن الطرٌق الذي ٌإدي إلى ابتذالها ,وامتهان أنوثتها ,وٌحمٌها من ذباب البشر ,وكبلب الصٌد ,التً تخطؾ بنات حواء ,لتنهشها نهشا ً ,وتستمتع بها لحما ً ,ثم ترمٌها عظما ً . ونستطٌع أن نحدد موقؾ اإلسبلم من أنوثة المرأة فٌما ٌلً : .1إنه ٌحافظ على أنوثتها ,حتى تظل ٌنبوعا ً لعواطؾ الحنان والرقة والجمال ,ولهذا أحل لها بعض ما حرم على الرجال ,بما تقتضٌه طبٌعة األنثى ووظٌفتها ,كالتحلً بالذهب ,ولبس الحرٌر الخالص , فقد جاء فً الحدٌث « :إن هذٌن حرام على ذكور أمتً حل إلناثهم » . كما أنه حرم علٌها كل ما ٌجافً هذه األنوثة ,من التشبه بالرجال فً الزي والحركة والسلوك وؼٌرها ,فنهى أن تلبس المرأة لبسة الرجل ,كما نهى الرجل أن يلبس لبسة المرأة ,ولعن المتشبهات من النساء بالرجال ,مثلما لعن المتشبهٌن من الرجال بالنساء ,وفً الحدٌث « :ثبلثة ال ٌدخلون الجنة وال ٌنظر هللا إلٌهم ٌوم القٌامة :العاق لوالدٌه ,والمرأة المترجلة -المتشبهة بالرجال -والدٌوث » .والدٌوث : الذي ال ٌبالً من دخل على أهله . .2وهو ٌحمً هذه األنوثة وٌرعى ضعفها ,فٌجعلها أبداً فً ظل رجل ,مكفولة النفقات ,مكفٌة الحاجات ,فهً فً كنؾ أبٌها أو زوجها أو أوالدها أو أخوتها ٌ ,جب علٌهم نفقتها ,وفق شرٌعة اإلسبلم ,فبل تضطرها الحاجة إلى الخوض فً لجج الحٌاة وصراعها ومزاحمة الرجال بالمناكب . .3وهو ٌحافظ على خلقها وحٌابها ,وٌحرص على سمعتها وكرامتها ,وٌصون عفافها من خواطر السوء ,وألسنة السوء -فضبلً من أٌدي السوء -أن تمتد إلٌها . ولهذا ٌوجب اإلسبلم علٌها : ( أ ) الؽض من بصرها والمحافظة على عفتها ونظافتها ( :وقل للمإمنات ٌؽضضن من أبصارهن وٌحفظن فروجهن ) . ( ب ) االحتشام والتستر فً لباسها وزٌنتها دون إعنات لها .وال تضٌٌق علٌها ( :وال ٌبدٌن زٌنتهن إال ما ظهر منها ,ولٌضربن بخمرهن على جٌوبهن ) .وقد فسر ( :ما ظهر منها ) بالكحل والخاتم ,
وبالوجه والكفٌن ,وزاد بعضهم :القدمٌن . ( جـ ) أال تبدي زٌنتها الخفٌة -كالشعر والعنق والنحر والذراعٌن والساقٌن -إال لزوجها ومحارمها الذٌن ٌشق علٌها أن تستتر منهم استتارها من األجانب ( :وال ٌبدٌن زٌنتهن إال لبعولتهن أو آبابهن أو آباء بعولتهن أو أبنابهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بنً إخوانهن أو بنً أخواتهن أو نسابهن أو ما ملكت أٌمانهن أو التابعٌن ؼٌر أولً اإلربة من الرجال أو الطفل الذٌن لم ٌظهروا على عورات النساء ) . ( د ) أن تتوقر فً مشٌتها وكبلمها ( :وال ٌضربن بؤرجلهن لٌعلم ما ٌخفٌن من زٌنتهن ) ( .فبل تخضعن بالقول فٌطمع الذي فً قلبه مرض وقلن قوالً معروفا ً ) .فلٌست ممنوعة من الكبلم ,ولٌس صوتها عوره ,بل هً مؤمورة أن تقول قوالً معروفا ً . ( هـ ) أن تتجنب كل ما ٌجذب انتباه الرجل إلٌها ,وٌؽرٌه بها ,من تبرج الجاهلٌة األولى أو األخٌرة , فهذا لٌس من خلق المرأة العفٌفة .وفً الحدٌث « :أٌما امرأة استعطرت ثم خرجت من بٌتها لٌشم الناس رٌحها فهً زانٌة » أي تفعل فعلها ,وان لم تكن كذلك ,فٌجب أن تتنزه عن هذا السلوك . ( و ) أن تمتنع عن الخلوة بؤي رجل لٌس زوجها وال محرما ً لها ,صونا ً لنفسها ونفسه من هواجس اإلثم ,ولسمعتها من ألسنة الزور « :ال ٌخلون رجل بامرأة إال مع ذي محرم » . ( ز ) أال تختلط بمجتمع الرجال األجانب إال لحاجة داعٌة ,ومصلحة معتبرة ,وبالقدر البلزم , كالصبلة فً المسجد ,وطلب العلم ,والتعاون على البر والتقوى ,بحٌث ال تحرم المرأة من المشاركة فً خدمة مجتمعها ,وال تنسى الحدود الشرعٌة فً لقاء الرجال . إن اإلسبلم بهذه األحكام ٌحمً أنوثة المرأة من أنٌاب المفترسٌن من ناحٌة ,وٌحفظ علٌها حٌاءها وعفافها بالبعد عن عوامل االنحراؾ والتضلٌل من ناحٌة ثانٌة ,وٌصون عرضها من ألسنة المفترٌن والمرجفٌن من ناحٌة ثالثة ,وهو -مع هذا كله ٌ -حافظ على نفسها وأعصابها من التوتر والقلق ,ومن الهزات واالضطرابات ,نتٌجة لجموح الخٌال ,وانشؽال القلب ,وتوزع عواطفه بٌن شتى المثٌرات والمهٌجات . وهو أٌضا -بهذه األحكام والتشرٌعات ٌ -حمً الرجل من عوامل االنحراؾ والقلق ,وٌحمً المجتمع كله من عوامل السقوط واالنحبلل .
االختالط المشروع دخلت معجمنا الحدٌث كلمات أصبح لها دالالت لم تكن لها من قبل .من ذلك كلمة « االختبلط » بٌن الرجل والمرأة .فقد كانت المرأة المسلمة -فً عصر النبوة وعصر الصحابة والتابعٌن -تلقى الرجل , وكان الرجل ٌلقى المرأة ,فً مناسبات مختلفة ,دٌنٌة ودنٌوٌة ,ولم ٌك ذلك ممنوعا ً بإطبلق ,بل كان مشروعا ً إذا وجدت أسبابه ,وتوافرت ضوابطه ,ولم ٌكونوا ٌسمون ذلك « اختبلطا ً » . ثم شاعت هذه الكلمة فً العصر الحدٌث -وال أدري متى بدأ استعمالها -بما لها من إٌحاء ٌ ,نفر منه حس المسلم والمسلمة ؛ ألن خلط شًء بشًء ٌعنً إذابته فٌه ,كخلط الملح أو السكر بالماء . المهم أن نإكد هنا أن لٌس كل اختبلط ممنوعا ً ,كما ٌتصور ذلك وٌصوره دعاة التشدٌد والتضٌٌق , ولٌس كذلك كل اختبلط مشروعا ً ,كما ٌروج لذلك دعاة التبعٌة والتؽرٌب . ولقد تعرضت لهذا الموضوع مجٌبا عن عدة أسبلة فً الجزء الثانً من كتابً « فتاوى معاصرة » منها :ما ٌتعلق باالختبلط ,وما ٌتصل بإلقاء السبلم على النساء ,وبالمصافحة ,وعٌادة الرجال للنساء
,والنساء للرجال … الخ . والذي أود أن أذكره هنا :أن الواجب علٌنا أن نلتزم بخٌر الهدي ,وهو هدي محمد صلى هللا علٌه وسلم ,وهدي خلفابه الراشدٌن ,وأصحابه المهدٌٌن ,بعٌداً عن نهج الؽرب المتحلل ,ونهج الشرق المتشدد . والمتؤمل فً خٌر الهدي ٌرى أن المرأة لم تكن كما حدث ذلك فً عصور تخلؾ المسلمٌن .فقد كانت امرأة تشهد الجماعة والجمعة ,فً مسجد رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ,وكان علٌه الصبلة والسبلم ٌحثهن على أن ٌتخذن مكانهن فً الصفوؾ األخٌرة خلؾ صفوؾ الرجال ,وكلما كان الصؾ أقرب إلى المإخرة كان أفضل ,خشٌة أن ٌظهر من عورات الرجال شًء ,وكان أكثرهم ال ٌعرفون السراوٌل ,ولم ٌكن بٌن الرجال والنساء أي حابل من بناء أو خشب أو نسٌج ,أو ؼٌر … وكانوا فً أول األمر ٌدخل الرجال والنساء من أي باب اتفق لهم ,فٌحدث نوع من التزاحم عند الدخول والخروج ,فقال علٌه الصبلة والسبلم « :لو أنكم جعلتم هذا الباب للنساء » .فخصصوه بعد ذلك لهن ,وصار ٌعرؾ إلى الٌوم باسم « باب النساء » . وكان النساء فً عصر النبوة ٌحضرن الجمعة ,وٌسمعن الخطبة ,حتى إن إحداهن حفظت سورة « ق » من فً رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم من طول ما سمعتها من فوق منبر الجمعة . وكان النساء ٌحضرن كذلك صبلة العٌدٌن ,وٌشاركن فً هذا المهرجان اإلسبلمً الكبٌر ,الذي ٌضم الكبار والصؽار ,والرجال والنساء ,فً الخبلء مهللٌن مكبرٌن . روى مسلم عن أم عطٌة قالت « :كنا نإمر بالخروج فً العٌدٌن ,والمخبؤة والبكر » . وفى رواٌة قالت :أمرنا رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم أن نخرجهن فً الفطر واألضحى : العواتق والحٌض وذوات الخدور ,فؤما الحٌض فٌعتزلن الصبلة ,وٌشهدن الخٌر ودعوة المسلمٌن , قلت ٌ :ا رسول هللا ,إحدانا ال ٌكون لها جلباب ,قال « :لتلبسها أختها من جلبابها » . وهذه سنة أماتها المسلمون فً جل البلدان أو فً كلها ,إال ما قام به مإخراً شباب الصحوة اإلسبلمٌة الذي أحٌوا بعض ما مات من السنن ,مثل سنة االعتكاؾ فً العشر األواخر من رمضان ,وسنة شهود النساء صبلة العٌد . وكان النساء ٌحضرن دروس العلم ,مع الرجال عند النبً صلى هللا علٌه وسلم ,وٌسؤلن عن أمر دٌنهن مما قد ٌستحً منه الكثٌرات الٌوم ,حتى أثنت عابشة على نساء األنصار ,أنهن لم ٌمنعهن الحٌاء أن ٌتفقهن فً الدٌن ,فطالما سؤلن عن الجنابة واالحتبلم واالؼتسال والحٌض واالستحاضة ونحوها . ولم ٌشبع ذلك نهمهن لمزاحمة الرجال واستبثارهم برسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ,فطلبن أن ٌجعل لهن ٌوما ٌكون لهن خاصة ,ال ٌؽالبهن الرجال وال ٌزاحمونهم وقلن فً ذلك صراحة ٌ « :ا رسول هللا ,قد ؼلبنا علٌك الرجال ,فاجعل لنا ٌوما من نفسك » فوعدهن ٌوما ,فلقٌهن فٌه ووعظهن وأمرهن . وتجاوز هذا النشاط النسابً إلى المشاركة فً المجهود الحربً فً خدمة الجٌش والمجاهدٌن ,بما ٌقدرن علٌه وٌحسن القٌام به ,من التمرٌض واإلسعاؾ ,ورعاٌة الجرحى والمصابٌن ,بجوار الخدمات األخرى من الطهً والسقً وإعداد ما ٌحتاج إلٌه المجاهدون من أشٌاء مدنٌة. عن أم عطٌة قالت « :ؼزوت مع رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ,سبع ؼزوات ,أخلفهم فً رحالهم , فؤصنع لهم الطعام وأداوى الجرحى ,وأقوم على المرضى » . وروى مسلم عن أنس « :أن عابشة وأم سلٌم ,كانتا فً ٌوم « أحد » مشمرتٌن ,تنقبلن القرب على متونهما ( ظهورهما ) ثم تفرؼانها فً أفواه القوم ,ثم ترجعان فتمآلنها » ,ووجود عابشة هنا -وهى فً العقد الثانً من عمرها ٌ -رد على الذٌن ادعوا أن االشتراك فً الؽزوات والمعارك كان مقصوراً على العجابز والمتقدمات فً السن ,فهذا ؼٌر مسلم .وماذا تؽنً العجابز فً مثل هذه المواقؾ التً تتطلب القدرة البدنٌة والنفسٌة معا ً ؟ وروى اإلمام أحمد :أن ست نسوة من نساء المإمنٌن كن مع الجٌش الذي حاصر « خٌبر » ٌ :تناولن
السهام ,وٌسقٌن السوٌق ,وٌداوٌن الجرحى ,وٌؽزلن الشعر ,وٌعن فً سبٌل هللا ,وقد أعطاهن النبً صلى هللا علٌه وسلم نصٌبا من الؽنٌمة . بل صح أن نساء بعض الصحابة شاركن فً بعض الؽزوات والمعارك اإلسبلمٌة بحمل السبلح ,عندما أتٌحت لهن الفرصة .ومعروؾ ما قامت به أم عمارة نسٌبة بنت كعب ٌوم « أحد » ,حتى قال عنها صلى هللا علٌه وسلم « :لمقامها خٌر من مقام فبلن وفبلن » . وكذلك اتخذت أم سلٌم خنجرا ٌوم « حنٌن » ,تبقر به بطن من ٌقترب منها .روى مسلم عن أنس ابنها :أن أم سلٌم اتخذت ٌوم « حنٌن » خنجراً ,فكان معها ,فرآها أبو طلحة ( زوجها ) فقال ٌ :ا رسول هللا ؛ هذه أم سلٌم معها خنجر ! فقال لها رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم « :ما هذا الخنجر » ؟ قالت : اتخذته ,إن دنا منً أحد المشركٌن بقرت به بطنه ! فجعل رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ٌضحك . وقد عقد البخاري بابا ً فً صحٌحه فً ؼزو النساء وقتالهن . ولم ٌقؾ طموح المرأة المسلمة فً عهد النبوة والصحابة للمشاركة فً الؽزو عند المعارك المجاورة والقرٌبة فً األرض العربٌة كخٌبر وحنٌن .بل طمحن إلى ركوب البحار ,واإلسهام فً فتح األقطار البعٌدة إلببلؼها رسالة اإلسبلم . ففً صحٌح البخاري ومسلم عن أنس :أن رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم قال ( أي نام وسط النهار ) عند أم حرام بنت ملحان ( خالة أنس ) ٌوما ً ,ثم استٌقظ وهو ٌضحك ,فقالت :ما ٌضحكك ٌا رسول هللا ؟ قال « :ناس من أمتً عرضوا علً ؼزاة فً سبٌل هللا ٌ ,ركبون ثبج هذا البحر ,ملوكا ً على األسرة -أو مثل الملوك على األسرة » ,قالت :فقلت ٌ :ا رسول هللا :ادع هللا أن ٌجعلنً منهم ,فدعا لها … فركبت أم حرام البحر فً زمن عثمان ,مع زوجها عبادة بن الصامت إلى قبرص ,فصرعت عن دابتها هناك ,فتوفٌت ودفنت هناك ,كما ذكر أهل السٌر والتارٌخ . وفى الحٌاة االجتماعٌة شاركت المرأة داعٌة إلى الخٌر ,آمرة بالمعروؾ ,ناهٌة عن المنكر ,كما قال تعالى ( :والمإمنون والمإمنات بعضهم أولٌاء بعض ٌ ,ؤمرون بالمعروؾ وٌنهون عن المنكر ) . . . ومن الوقابع المشهورة رد إحدى المسلمات على عمر فً المسجد فً قضٌة المهور ,ورجوعه إلى رأٌها علنا ً ,وقوله « :أصابت المرأة وأخطؤ عمر » .وقد ذكرها ابن كثٌر فً تفسٌر سورة النساء , وقال :إسنادها جٌد . وقد عٌن عمر فً خبلفته الشفاء بنت عبد هللا العدوٌة محتسبة على السوق .والمتؤمل فً القرآن الكرٌم وحدٌثه عن المرأة فً مختلؾ العصور ,وفً حٌاة الرسل واألنبٌاء ال ٌشعر بهذا الستار الحدٌدي الذي وضعه بعض الناس بٌن الرجل والمرأة . فنجد موسى -وهو فً رٌعان شبابه وقوته ٌ -ح ادث الفتاتٌن ابنتً الشٌخ الكبٌر ,وٌسؤلهما وتجٌبانه ببل تؤثم وال حرج ,وٌعاونهما فً شهامة ومروءة ,وتؤتٌه إحداهما بعد ذلك مرسلة من أبٌها تدعوه أن ٌذهب معها إلى والدها ,ثم تقترح إحداهما على أبٌها بعد ذلك أن ٌستخدمه عنده ؛ لما لمست فٌه من قوة وأمانة . لنقرأ فً ذلك ما جاء فً سورة القصص ( :ولما ورد ماء مدٌن وجد علٌه أمة من الناس ٌسقون ووجد من دونهم امرأتٌن تذودان ,قال ما خطبكما ,قالتا ال نسقً حتى ٌصدر الرعاء ,وأبونا شٌخ كبٌر * فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إنً لما أنزلت إلً من خٌر فقٌر * فجاءته إحداهم ا تمشً على استحٌاء قالت إن أبً ٌدعوك لٌجزٌك أجر ما سقٌت لنا ,فلما جاءه وقص علٌه القصص قال ال تخؾ , نجوت من القوم الظالمٌن * قالت إحداهما ٌ ,ا أبت استؤجره ,إن خٌر من استؤجرت القوى األمٌن ) . وفى قضٌه مرٌم نجد زكرٌا ٌدخل علٌها المحراب ,وٌسؤلها عن الرزق الذي ٌجده عندها ( :كلما دخل علٌها زكرٌا المحراب وجد عندها رزقا ً ,قال ٌا مرٌم أنى لك هذا ,قالت هو من عند هللا ,إن هللا ٌرزق من ٌشاء بؽٌر حساب ) . وفً قصة ملكة سبؤ نراها تجمع قومها تستشٌرهم فً أمر سلٌمان ( :قالت ٌا أٌها الملإا أفتونً فً ً قاطعة أمراً حتى تشهدون * قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بؤس شدٌد واألمر إلٌك فانظري أمري ما كنت
ماذا تؤمرٌن * قالت إن الملوك إذا دخلوا قرٌة أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة ,وكذلك ٌفعلون ) . وكذلك تحدثت مع سلٌمان علٌه السبلم وتحدث معها ( :فلما جاءت قٌل أهكذا عرشك ,قالت كؤنه ه و , وأوتٌنا العلم من قبلها وكنا مسلمٌن * وصدها ما كانت تعبد من دون هللا ,إنها كانت من قوم كافرٌن * قٌل لها ادخلً الصرح ,فما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقها ,قال انه صرح ممرد من قوارٌر , قالت رب إنً ظلمت نفسً وأسلمت مع سلٌمان هلل رب العالمٌن ) . وال ٌقال :إن هذا شرع من قبلنا فبل ٌلزمنا ؛ فإن القرآن لم ٌذكره لنا إال ألن فٌه هداٌة وذكرى وعبرة ألولً األلباب ,ولهذا كان القول الصحٌح :أن شرع من قبلنا المذكور فً القرآن والسنة هو شرع لنا ما لم ٌرد فً شرعنا ما ٌنسخه .وقد قال تعالى لرسوله ( :أولبك الذٌن هدى هللا ,فبهداهم اقتده ) . إن إمساك المرأة فً البٌت ,وإبقاءها بٌن جدرانه األربعة ال تخرج منه اعتبره القرآن -فً مرحلة من مراحل تدرج التشرٌع قبل النص على حد الزنى المعروؾ -عقوبة بالؽة لمن ترتكب الفاحشة من نساء المسلمٌن ,وفً هذا ٌقول تعالى فً سورة النساء ( :وا لبلتً ٌؤتٌن الفاحشة من نسابكم فاستشهدوا ً أربعة منكم ,فإن شهدوا فؤمسكوهن فً البٌوت حتى ٌتوفاهن الموت أو ٌجعل هللا لهن سبٌبلً ) . علٌهن وقد جعل هللا لهن سبٌبلً بعد ذلك حٌنما شرع الحد ,وهو العقوبة المقدرة فً الشرع حقا ً هلل تعالى ,وهً الجلد الذي جاء به القرآن لؽٌر المحصن ,والرجم الذي جاءت به السنة للمحصن . فكٌؾ ٌستقٌم فً منطق القرآن واإلسبلم أن ٌجعل الحبس فً البٌت صفة مبلزمة للمسلمة الملتزمة المحتشمة ,كؤننا بهذا نعاقبها عقوبة دابمة وهً لم تقترؾ إثما ً ؟ والخبلصة :أن اللقاء بٌن الرجال والنساء فً ذاته إذن لًس محرما ,بل هو جابز أو مطلوب إذا كان القصد منه المشاركة فً هدؾ نبٌل ,من علم نافع أو عمل صالح ,أو مشروع خٌر ,أو جهاد الزم , أو ؼٌر ذلك مما ٌتطلب جهوداً متضافرة من الجنسٌن ,وٌتطلب تعاونا مشتركا بٌنهما فً التخطٌط والتوجٌه والتنفٌذ .
شبهات أنصار االختالط المفتوح هذا هو موقؾ اإلسبلم ,وتلك وجهته فً عبلقة الرجل بالمرأة ,ولقابهما على البر والمعروؾ .وهو ما عبرنا عنه بـ « االختبلط المشروع » . ولكن االستعمار الفكري صنع فً ببلدنا قوما ً ٌصمون آذانهم عن حكم هللا ورسوله ,وٌدعوننا إلى أن ندع للمرأة حبلها على ؼاربها ,حتى تثبت وجودها ,وتبرز شخصٌتها ,وتستمتع بحٌاتها وأنوثتها ! تختلط بالرجل ببل تحفظ ,وتخبره عن كثب ,فتخلو به ,وتسافر معه ,وتصحبه إلى السٌنما وتسهر معه إلى منتصؾ اللٌل ,وتراقصه على نؽمات الموسٌقى ,وتعرؾ فً تجوالها -بالتجربة ال بالسماع - الرجل الذي ٌصلح لها وتصلح له ,من بٌن من عرفتهم من األصدقاء والمعجبٌن ,وبهذا تستقر الحٌاة الزوجٌة ,وتصمد فً وجه العواصؾ واألعاصٌر ! وٌقول هإالء الذٌن ٌزعمون أنهم مبلبكة مطهرون :ال تخافوا على المرأة وال على الرجل من هذا االتصال المهذب ,والصداقة البرٌبة ,واللقاء الشرٌؾ ,فإن صوت الشهوة -لكثرة التبلقً -سٌخفت , وحدتها ستفتر ,وجذوتها ستخبو ,وٌجد كل من الذكر واألنثى لذته فً مجرد اللقاء واالستمتاع بالنظر والحدٌث ,فإن زاد على ذلك فمراقصة ,هً ضرب من التعبٌر الفنً الرفٌع ! أما المتعة الحسٌة فلن ٌصبح لها مكان ,إنه التصرٌؾ النظٌؾ للطاقة ال ؼٌر وكذلك ٌفعل الؽربٌون المتقدمون بعد أن فكوا عقدة الكبت والحرمان .
الرد على أنصار االختالط المفتوح : وردنا على هذه الدعوى من جهتٌن : أوالً :إننا مسلمون قبل كل شًء ,وال نبٌع دٌننا اتباعا ً لهوى الؽربٌٌن أو الشرقٌٌن ,ودٌننا ٌحرم علٌنا هذا االختبلط بتبرجه وفتنته وإؼوابه ( :ثم جعلناك على شرٌعة من األمر فاتبعها وال تتبع أهواء الذٌن ال ٌعلمون * إنهم لن ٌؽنوا عنك من هللا شٌبا ً ,وان الظالمٌن بعضهم أولٌاء بعض ,وهللا ولً المتقٌن ) . ثانٌا ً :إن الؽرب الذي ٌقتدون به ٌشكو الٌوم من آثار هذا التحرر أو التحلل ,الذي أفسد بناته وبنٌه , وأصبح ٌهدد حضارته بالخراب واالنهٌار ,ففً أمرٌكا والسوٌد وؼٌرهما من ببلد الحرٌة الجنسٌة , أثبتت اإلحصاءات أن السعار الشهوانً لم ٌنطفا بحرٌة اللقاء والحدٌث ,وال بما بعد اللقاء والحدٌث , بل صار الناس كلما ازدادوا منه عبا ً ,ازدادوا عطشا ً . وعلٌنا أن نبحث :ماذا كان أثر هذا التحرر أو التطور ,أو التحلل من الفضابل والتقالٌد ,فً المجتمعات الؽربٌة المتحضرة ؟
أثر االختالط المطلق في المجتمعات الغربية : إن األرقام والوقابع التً تفٌض بها اإلحصاءات والتقارٌر ,هً التً تتكلم وتبٌن فً هذا المجال ,لقد ظهر أثر االنطبلق الجنسً ,الذي زالت به الحواجز بٌن الذكر واألنثى فٌما ٌلً: .1انحبلل األخبلق : فانحبلل األخبلق وطؽٌان الشهوات ,وانتصار الحٌوانٌة على اإلنسانٌة ,وضٌاع الحٌاء والعفاؾ بٌن النساء والرجال ,واضطراب المجتمع كله نتٌجة ذلك . ولقد قال الربٌس الراحل « كنٌدي » فً تصرٌح مشهور له ,تناقلته الصحؾ ووكاالت األنباء عام « : 1962إن الشباب األمرٌكً مابع مترؾ منحل ,ؼارق فً الشهوات ,وان من بٌن كل سبعة شبان ٌتقدمون للتجنٌد ٌوجد ستة ؼٌر صالحٌن ,بسبب انهماكهم فً الشهوات » .وأنذر بؤن هذا الشباب خطر على مستقبل أمرٌكا . وفً كتاب لمدٌر مركز البحوث بجامعة هارفارد بعنوان « الثورة الجنسٌة » ٌقرر المإلؾ ,أن أمرٌكا سابرة إلى كارثة فً الفوضوٌة الجنسٌة ,وأنها تتجه إلى نفس االتجاه ,الذي أدى إلى سقوط الحضارتٌن اإلؼرٌقٌة والرومانٌة فً الزمن القدٌم ,وٌقول « :إننا محاصرون من جمٌع الجهات بتٌار خطر من الجنس ٌ ,ؽرق كل ؼرفة من بناء ثقافتنا ,وكل قطاع من حٌاتنا العامة » . ومع أن الشٌوعٌٌن قلٌلو التحدث عن مثل هذه األمور الجنسٌة ,ومع عدم السماح ألجهزة اإلعبلم والتوجٌه أن تتناولها ,إال أنه فً عام 1962صدر تصرٌح للزعٌم الروسً خروتشوؾ ,أعلن فٌه أن الشباب قد انحرؾ وأفسده الترؾ ,وهدد بؤن معسكرات جدٌدة قد تفتح فً سٌبٌرٌا للتخلص من الشباب المنحرؾ ,ألنه خطر على مستقبل روسٌا ! .2فً انتشار األبناء ؼٌر الشرعٌٌن : وهى ظاه رة الزمة النطبلق الؽرابز ,وذوبان الحواجز بٌن الفتٌان والفتٌات ,وقد قامت بعض المإسسات فً أمرٌكا ,بعمل إحصاء للحبالى من طالبات المدارس الثانوٌة ,فكانت النسبة مخٌفة جدا ً. ولننظر ما تقوله أحدث اإلحصاءات بهذا الصدد ..تقول : « إن أكثر من ثلث موالٌد عام 1983فً نٌوٌورك هم « أطفال ؼٌر شرعٌٌن » أي أنهم ولدوا خارج نطاق الزواج ,وأكثرهم ولدوا لفتٌات فً التاسعة عشرة من العمر وما دونها ,وعددهم (353ر) 112
طفبلً أي %37من مجموع موالٌد نٌوٌورك » !! . .3كثرة العوانس بٌن الفتٌات والعزاب من الشباب : ً فإن وجود السبل الم ٌسرة لقضاء الشهوة ,بؽٌر تحمل تبعة الزواج وبناء األسرة ,جعل كثٌرا من الشباب ٌختارون الطرٌق األسهل ,وٌقضون أٌام شبابهم بٌن هذه وتلك ,متمتعٌن بلذة التنوٌع ,دون التقٌد بالحٌاة المتشابهة المتكررة كما ٌزعمون ! ودون التزام بتكالٌؾ الزوجٌة المسإولة ,واألبوة الراعٌة . وكان من نتٌجة ذلك وجود كثرة هابلة من الفتٌات ,تقضى شبابها محرومة من زوج تسكن إلٌه وٌسكن إلٌها ,إال العابثٌن الذٌن ٌتخذونها أداة للمتعة الحرام ,وٌقابل هإالء الفتٌات كثرة من الشباب العزاب المحرومٌن من الحٌاة الزوجٌة ,كما تدل على ذلك أحدث اإلحصاءات ,فقد صرح مدٌر مصلحة اإلحصاء األمرٌكٌة فً 22من ذي القعدة 1402هـ ( الموافق 10سبتمبر -أٌلول 1982-م ) « : أنه ألول مرة منذ بداٌة هذا القرن تصبح أؼلبٌة سكان مدٌنة سان فرانسٌسكو من العزاب » . وأوضح « بروس شامبمان » فً مإتمر صحفً نظمته الجمعٌة االجتماعٌة األمرٌكٌة أنه « وفقا ألرقام آخر تعداد فإن %53من سكان سان فرانسٌسكو ؼٌر متزوجٌن » وأعرب عن اعتقاده بؤن هذه األرقام ٌمكن أن تكون مإشراً على أفول األنموذج العابلً التقلٌدي !!. وأضاؾ شامبمان « :إن هذه التؽٌٌرات االجتماعٌة مبلبمة لتحقٌق الرفاهٌة فً المدٌنة التً زاد عدد سكانها من الشباب بٌن 25و 34سنة بمقدار (4ر ) %40خبلل العشر سنوات األخٌرة » . وقال « :إن التعداد لم ٌشمل عدد المصابٌن بالشذوذ الجنسً الذٌن ٌقطنون المدٌنة والذٌن ٌشكلون 15 %من السكان تقرٌبا » . وال عجب بعد ذلك أن نقرأ فً الصحؾ مثل هذا الخبر « :خرجت النساء السوٌدٌات فً مظاهرة عامة ,تشمل أنحاء السوٌد ,احتجاجا على إطبلق الحرٌات الجنسٌة فً السوٌد ,اشتركت فً المظاهرة ( 000ر ) 100امرأة ,وسوؾ ٌقدمن عرٌضة موقعة منهن إلى الحكومة ,تعلن العرٌضة االحتجاج على تدهور القٌم األخبلقٌة » . إن فطرة المرأة وحرصها على مصلحتها ومستقبلها ,هو الذي دفع هذا العدد الهابل إلى التظاهر واالحتجاج . .4كثرة الطبلق وتدمٌر البٌوت ألتفه األسباب : فإذا كان دون الزواج هناك عقبات وعقبات ,فإن هذا الزواج ,بعد تحققه ؼٌر مضمون البقاء , فسرعان ما تتحطم األسرة ,وتنفصم الروابط ألدنى األسباب . ففً أمرٌكا تزداد نسبة الطبلق عاما ً بعد عام إلى حد مفزع .والذي ٌقال عن أمرٌكا ٌ ,قال عن معظم الببلد الؽربٌة . .5انتشار األمراض الفتاكة : انتشار األمراض السرٌة ,والعصبٌة ,والعقلٌة ,والنفسٌة ,وكثرة العقد واالضطرابات التً ٌعد ضحاٌاها بماات األلوؾ . ً ً ومن أشد األمراض خطرا :ما اكتشؾ أخٌرا وعرؾ باسم « اإلٌدز » الذي ٌفقد المناعة من الجسم وٌعرضه للتهلكة وؼدا ٌهدد المبلٌٌن فً أوروبا وأمرٌكا بؤخطر العواقب ,كما دلت على ذلك التقارٌر الطبٌة واإلحصاءات الرسمٌة التً نشرتها مجبلت وصحؾ فً العالم كله ,وصدق بهذا ما حذر منه رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم حٌث قال فً حدٌثه « :لم تظهر الفاحشة فً قوم قط حتى ٌعلنوا بها إال فشا فٌهم الطاعون واألوجاع التً لم تكن مضت فً أسبلفهم الذٌن مضوا » . هذا ؼٌر األمراض العصبٌة والنفسٌة التً انتشرت عندهم انتشار النار فً الهشٌم ,وامتؤلت بمرضاها المستشفٌات والمصحات . فهل ٌرٌد دعاة االختبلط أن ٌنقلوا هذه العلل واألمراض إلى مجتمعاتنا وقد كفانا هللا شرها وأعاذنا منها
؟! أم أن هذه األرقام واإلحصاءات ؼاببة من أذهانهم ؟! لقد زعم « فروٌد » ومن تبعه من علماء النفس أن رفع القٌود التقلٌدٌة عن الؽرٌزة الجنسٌة ٌرٌح األعصاب ,وٌحل عقد النفوس ,وٌمنحها الهدوء واالطمبنان . ها هً القٌود قد رفعت ,وها هً الؽرابز قد أطلقت ,فلم تزد النفوس إال تعقٌداً ,ولم تزد األعصاب إال توتراً ,وأصبح القلق النفسً هو مرض العصر هناك ,ولم تؽن آالؾ العٌادات النفسٌة عنهم شٌبا ً .
المرأة باعتبارها عضوًا في المجتمع ٌشٌع بعض المؽرضٌن أن اإلسبلم حكم على المرأة بالسجن داخل البٌت ,فبل تخرج منه إال إلى القبر ! فهل لهذا الحكم سند صحٌح من القرآن والسنة ؟ ومن تارٌخ المسلمات فً القرون الثبلثة األولى ,التً هً خٌر القرون ؟ ال . .ثم ال . فالقرآن ٌجعل الرجل والمرأة شرٌكٌن ,فً تحمل أعظم المسإولٌات فً الحٌاة اإلسبلمٌة ,وهً مسإولٌة األمر بالمعروؾ والنهً عن المنكر . ٌقول تعالى ( :والمإمنون والمإمنات بعضهم أولٌاء بعض ٌ ,ؤمرون بالمعروؾ وٌنهون عن المنكر وٌقٌمون الصبلة وٌإتون الزكاة وٌطٌعون هللا ورسوله ) . وتطبٌقا لهذا المبدأ وجدنا امرأة فً المسجد ترد على أمٌر المإمنٌن عمر الفاروق وهو ٌتحدث فوق المنبر على مؤل من الناس ,فٌرجع عن رأٌه إلى رأٌها وٌقول بصراحة « :أصابت امرأة وأخطؤ عمر ». والنبً صلى هللا علٌه وسلم ٌقول « :طلب العلم فرٌضة على كل مسلم » . فٌجمع علماء المسلمٌن على أن المسلمة أٌضا داخلة فً معنى الحدٌث ففرض علٌها أن تطلب من العلم ما ٌصحح عقٌدتها ,وٌقوم عبادتها ,وٌضبط سلوكها بؤدب اإلسبلم فً اللباس والزٌنة وؼٌرها ,وٌقفها عند حدود هللا فً الحبلل والحرام ,والحقوق والواجبات .وٌمكنها أن تترقى فً العلم حتى تبلػ درجة االجتهاد . ولٌس لزوجها أن ٌمنعها من طلب العلم الواجب علٌها ,إذا لم ٌكن هو قادراً على تعلٌمها ,أو مقصراً فٌه . فقد كان نساء الصحابة ٌذهبن إلى النبً صلى هللا علٌه وسلم ٌسؤلنه فٌما ٌعرض لهن من شإون ,ولم ٌمنعهن الحٌاء أن ٌتفقهن فً الدٌن . وصبلة الجماعة لٌست مطلوبة من المرأة ,طلبها من الرجل ,فإن صبلتها فً بٌتها قد تكون أفضل لظروفها ورسالتها ,ولكن لٌس للرجل منعها إذا رؼبت فً صبلة الجماعة بالمسجد ,قال علٌه الصبلة والسبلم « :ال تمنعوا إماء هللا مساجد هللا » . وللمرأة أن تخرج من بٌتها ,لقضاء حاجة لها أو لزوجها وأوالدها ,فً الحقل أو السوق ,كما كانت تفعل ذات النطاقٌن أسماء بنت أبى بكر ,فقد قالت « :كنت أنقل النوى على رأسً من أرض الزبٌر - زوجها -وهً من المدٌنة على ثلثً فرسخ » . وللمرأة أن تخرج مع الجٌش ,لتقوم بؤعمال اإلسعاؾ والتمرٌض وما شابه ذلك من الخدمات المبلبمة لفطرتها ولقدراتها .
روى أحمد والبخاري عن الربٌع بنت معوذ األنصارٌة قالت « :كنا نؽزو مع رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم نسقً القوم ونخدمه ونرد القتلى والجرحى إلى المدٌنة » . وروى أحمد ومسلم عن أم عطٌة قالت « :ؼزوت مع رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ,سبع ؼزوات ,أخلفهم فً رحالهم ,وأصنع لهم الطعام ,وأداوي الجرحى ,وأقوم على الزمنى » . فهذه هً األعمال البلبقة بطبٌعة المرأة ووظٌفتها ,أما أن تحمل السبلح وتقاتل وتقود الكتابب فلًس ذلك من شؤنها ,إال أن تدعو لذلك حاجة ,فعند ذلك تشارك الرجال فً جهاد األعداء بما تستطٌع ,وقد اتخذت أم سلٌم ٌوم « حنٌن » خنجراً ,فلما سؤلها زوجها أبو طلحة عنه قالت « :اتخذته إن دنا منً أحد من المشركٌن بقرت بطنه » . ً حسن فً القتال ٌوم « أحد » ,حتى أثنى علٌها النبً صلى هللا علٌه ا وقد أبلت أم عمارة األنصارٌة ببل ًء وسلم ,وفى حروب الردة شهدت المعارك بنفسها ,حتى إذا قتل مسٌلمة الكذاب عادت وبها عشر جراحات . فإذا شاع فً بعض العصور حبس المرأة عن العلم ,وعزلها عن الحٌاة ,وتركها فً البٌت كؤنها قطعة من أثاثه ,ال ٌعلمها الزوج ,وال ٌتٌح لها أن تتعلم -حتى إن الخروج إلى المسجد أصبح علٌها محرما َ - إذا شاعت هذه الصورة ٌوما فمنشإها الجهل والؽلو واالنحراؾ عن هدي اإلسبلم ,واتباع تقالٌد مبالؽة فً التزمت ,لم ٌؤذن بها هللا ,واإلسبلم لٌس مسإوال عن هذه التقالٌد المبتدعة باألمس ,كما أنه لٌس مسإوال عن تقالٌد أخرى مسرفة ابتدعت الٌوم .إن طبٌعة اإلسبلم هً التوازن المقسط ,فً كل ما ٌشرعه وٌدعو إلٌه من أحكام وآداب ,فهو ال ٌعطً شٌبا لٌحرم آخر ,وال ٌضخم ناحٌة على حساب أخرى ,وال ٌسرؾ فً إعطاء الحقوق ,وال فً طلب الواجبات . و لهذا لم ٌكن من هم اإلسبلم تدلٌل المرأة على حساب الرجل ,وال ظلمها من أجله ,ولم ٌكن همه إرضاء نزواتها على حساب رسالتها ,وال إرضاء الرجل على حساب كرامتها ,وإنما نجد أن موقؾ اإلسبلم تجاه المرأة ٌتمثل فٌما ٌلً : ( أ ) إنه ٌحافظ -كما قلنا -على طبٌعتها وأنوثتها التً فطرها هللا علٌها وٌحرسها من أنٌاب المفترسٌن الذٌن ٌرٌدون التهامها حراما ,ومن جشع المستؽلٌن الذٌن ٌرٌدون أن ٌتخذوا من أنوثتها ,أداة للتجارة والربح الحرام . ( ب ) إنه ٌحترم وظٌفتها السامٌة التً تهٌؤت لها بفطرتها ,واختارها لها خالقها ,الذي خصها بنصٌب أوفر من نصٌب الرجل ,فً جانب الحنان والعاطفة ,ورقة اإلحساس ,وسرعة االنفعال ,لٌعدها بذلك لرسالة األمومة الحانٌة ,التً تشرؾ على أعظم صناعة فً األمة ,وهً صناعة أجٌال الؽد . هً زوجة الرجل , ( جـ ) إنه ٌعتبر البٌت مملكة المرأة العظٌمة ,هً ربته ومدٌرته وقطب رحاه ,ؾ وشرٌكة حٌاته ,ومإنس وحدته ,وأم أوالده ,وهو ٌعد عمل المرأة فً تدبٌر البٌت ,ورعاٌة شإون الزوج ,وحسن تربٌة األوالد ,عباد ًة وجهاداً ,ولهذا ٌقاوم كل مذهب أو نظام ٌعوقها عن رسالتها ,أو ٌضر بحسن أدابها لها ,أو ٌخرب علٌها عشها . إن كل مذهب أو نظام ٌحاول إجبلء المرأة عن مملكتها ,وٌخطفها من زوجها ,وٌنتزعها من فلذات أكبادها -باسم الحرٌة ,أو العمل ,أو الفن ,أو ؼٌر ذلك -هو فً الحقٌقة عدو للمرأة ٌ ,رٌد أن ٌسلبها كل شًء ,وال ٌعطٌها لقاء ذلك شٌبا ٌذكر ,فبل ؼرو أن ٌرفضه اإلسبلم . ( د ) إنه ٌرٌد أن ٌبنً البٌوت السعٌدة ,التً هً أساس المجتمع السعٌد .والبٌوت السعٌدة إنما تبنى على الثقة والٌقٌن ,ال على الشك والرٌبة ,واألسرة التً قوامها زوجان ٌتبادالن الشكوك والمخاوؾ , أسرة مبنٌة على شفٌر هار ,والحٌاة فً داخلها جحٌم ال ٌطاق . ( هـ ) إنه ٌؤذن لها أن تعمل خارج البٌت فٌما ٌبلبمها من األعمال التً تناسب طبٌعتها واختصاصها وقدراتها ,وال ٌسحق أنوثتها ,فعملها مشروع فً حدود وبشروط .وخصوصا ً عندما تكون هً أو أسرتها فً حاجة إلى العمل الخارجً ,أو ٌكون المجتمع نفسه فً حاجة إلى عملها خاصة .ولٌست
الحاجة إلى العمل محصورة فً الناحٌة المادٌة فحسب ,فقد تكون حاجة نفسٌة ,كحاجة المتعلمة المتخصصة التً لم تتزوج ,والمتزوجة التً لم تنجب ,والشعور بالفراغ الطوٌل ,والملل القاتل . ولٌس األمر كما ٌدعٌه أنصار عمل المرأة دون قٌود وال ضوابط ,وسنتناول هذا الموضوع بشًء من التفصٌل فً الصفحات القادمة إن شاء هللا .
أنصار المغاالة في عمل المرأة وشبهاتهم ولكن كما دعا أسرى الؽزو الفكري إلى اختبلط المرأة بالرجل ,وتذوٌب الحواجز بٌن الجنسٌن , رأٌناهم ٌدعون أٌضا إلى تشؽٌل المرأة فً كل مجال ,سواء أكان لها حاجة إلى العمل أم ال ,وسواء أكان المجتمع فً حاجة إلى هذا العمل أم ال ,فهذا األمر مكمل لؤلم ر األول ,فهو من تمام االختبلط وذوبان الفوارق ,والتحرر من ظلم العصور الوسطى وظبلمها ,كما ٌقال ! ومن مكرهم ودهابهم أنهم -فً كثٌر من األحٌان -ال ٌعلنون صراحة أنهم ٌرٌدون للمرأة أن تتمرد على فطرتها ,وتخرج من حدود أنوثتها ,وأنهم ٌرٌدون استؽبلل أنوثتها للمتعة الحرام ,أو الكسب الحرام ,بل ٌظهرون فً صورة األطهار المخلصٌن ,الذٌن ال ٌرٌدون إال المصلحة ,فهم ٌإٌدون رأٌهم فً تشؽٌل المرأة بؤدلة مبعثرة ,نجمع شتاتها فٌما ٌلً : .1إن الؽرب وهو أكثر منا تقدما ً ورقٌا ً فً مضمار الحضارة قد سبقنا إلى تشؽٌل المرأة ,فإذا أردنا الرقً مثله فلنحذ حذوه فً كل شا فإن الحضارة ال تتجزأ . .2إن المرأة نصؾ المجتمع ,وإبقاإها فً البٌت ببل عمل تعطٌل لهذا النصؾ ,وضرر على االقتصاد القومً ,فمصلحة المجتمع تقضً بعمل المرأة . .3ومصلحة األسرة كذلك تقضى بعملها ,فإن تكالٌؾ الحٌاة قد تزاٌدت فً هذا العصر ,وعمل المرأة ٌزٌد من دخل األسرة وٌعاون الرجل على أعباء المعٌشة ,وخصوصا فً البٌبات المحدودة الدخل . .4ومصلحة المرأة نفسها تدعو إلى العمل ,فإن االحتكاك بالناس وبالحٌاة وبالمجتمع خارج البٌت ٌصقل شخصٌتها ,وٌمدها بخبرات وتجارب ,ما كان لها أن تحصل علٌها داخل الجدران األربعة . .5كما أن العمل سبلح فً ٌدها ضد عوادي الزمن ,فقد ٌموت أبوها أو ٌطلقها زوجها ,أو ٌهملها أوالدها ,فبل تذلها الفاقة والحاجة .وال سٌما فً زمن ؼلبت فٌه األنانٌة ,وشاع فٌه العقوق ,وقطٌعة األرحام ,وقول كل امرئ :نفسً نفسً . الرد على هذه الشبهات : .1أما االحتجاج بالؽرب فهو احتجاج باطل ,لؤلسباب اآلتٌة : ( أ ) ألن الؽرب لٌس حجة علٌنا ,ولسنا مكلفٌن أن نتخذ الؽرب إلها ٌعبد وال قدوة تتبع ( :لكم دٌنكم ولً دٌن ) . ورة ال مختارة ,تسوقها الحاجة ( ب ) إن المرأة فً الؽرب خرجت إلى المصنع والمتجر وؼٌرهما مجب إلى القوت ,واالضطرار إلى لقمة العٌش ,بعد أن نكل الرجل عن إعالتها ,فً مجتمع قاس ال ٌرحم صؽٌراً لصؽره ,وال أنثى ألنوثتها ,وقد أؼنانا هللا بنظام النفقات فً شرٌعتنا عن مثل هذا .
ي كتابه « اإلسبلم وحاجة اإلنسانٌة إلٌه » أثناء وقد ذكر أستاذنا محمد ٌوسؾ -رحمه هللا تعالى -ؾ حدٌثه عن عناٌة اإلسبلم باألسرة قال « :ولعل من الخٌر أن أذكر هنا أنى حٌن إقامتً بفرنسا كانت تخدم األسرة التً نزلت فً بٌتها فترة من الزمن فتاة ٌظهر علٌها مخاٌل كرم األصل ,فسؤلت ربة البٌت :لماذا تخدم هذه الفتاة ؟ ألٌس لها قرٌب ٌجنبها هذا العمل ,وٌوفر لها ما تقٌم به حٌاتها ؟ فكان جوابها :أنها من أسرة طٌبة فً البلدة ,وعمها ؼنً موفور الؽنى ,ولكنه ال ٌعنى بها وال ٌهتم بؤمرها .فسؤلت :لماذا ال ترفع األمر للقضاء ,لٌحكم لها علٌه بالنفقة ؟ فدهشت السٌدة من هذا القول , وعرفتنً أن ذلك ال ٌجوز لها قانونا .وحٌنبذ أفهمتها حكم اإلسبلم فً هذه الناحٌة ,فقالت :ومن لنا بمثل هذا التشرٌع ؟ لو أن هذا جابز قانونا عندنا لما وجدت فتاة أو سٌدة تخرج من بٌتها للعمل فً شركة أو مصنع أو معمل أو دٌوان من دواوٌن الحكومة » .تعنً :أن خوفهن من الجوع والضٌاع هو الذي دفع تلك الجٌوش من النساء إلى العمل بحكم الضرورة . ( جـ ) إن الؽرب الذي ٌقتدون به أصبح الٌوم ٌشكو من عمل المرأة وما جره من آثار ,وأصبحت المرأة نفسها هناك تشكو من هذا الببلء ,الذي لم ٌكن لها فٌه خٌار ,تقول الكاتبة الشهٌرة « آنا رود » فً مقالة نشرتها فً جرٌدة « االسترن مٌل » « :ألن تشتؽل بناتنا فً البٌوت خوادم أو كالخوادم خٌر وأخؾ ببل ًء من اشتؽالهن فً المعامل ,حٌث تصبح البنت ملوثة بؤدران تذهب برونق حٌاتها إلى األبد . « أال لٌت ببلدنا كببلد المسلمٌن فٌها الحشمة والعفاؾ والطهر ردا ًء ,الخادمة والرقٌق ٌتنعمان بؤرؼد عٌش ,وٌعامبلن كما ٌعامل أوالد البٌت ,وال تمس األعراض بسوء . .نعم إنه لعار على ببلد اإلنجلٌز أن نجعل بناتها مثبلً للرذابل بكثرة مخالطة الرجال ,فما بالنا ال نسعى وراء ما ٌجعل البنت تعمل بما ٌوافق فطرتها الطبٌعٌة من القٌام بالبٌت وترك أعمال الرجال للرجال سبلمة لشرفها » . ( د ) إن مصلحة المجتمع لٌست فً أن تدع المرأة رسالتها األولى فً البٌت ,لتعمل مهندسة أو محامٌة أو ناببة أو قاضٌة أو عاملة فً مصنع ,بل مصلحته أن تعمل فً مجال تخصصها الذي هٌؤتها له الفطرة :مجال الزوجٌة واألمومة -وهو ال ٌقل -بل ٌزٌد -خطراً عن العمل فً المتاجر والمعامل والمإسسات ,وقد قٌل لنابلٌون :أي حصون فرنسا أمنع ؟ فقال :األمهات الصالحات !! والذٌن ٌزعمون أن المرأة فً البٌت عاطلة ٌ ,جهلون أو ٌتجاهلون ,ما تشكو منه فضلٌات النساء ,من كثرة األعمال واألعباء المنزلٌة ,التً تستنفد وقتها وجهدها كله ,وال ٌكاد ٌكفً ,فإن كان عند بعض النساء فضل وقت فلنعلمها قضاءه فً الخٌاطة والتطرٌز ,وما ٌلٌق بها من األعمال ,التً ال تتعارض مع واجبها فً البٌت ( وٌمكن أن تعمل هذا بؤجر لبعض المإسسات ,وهً فً البٌت ) أو فً خدمة مجتمعها وبنات جنسها ,واإلسهام فً مقاومة الفقر والجهل والمرض والرذٌلة . والواقع أن كثٌراً من النساء العامبلت ٌستخدمن نساء أخرٌات للعمل مربٌات ألوالدهن أو شؽاالت فً بٌوتهن .ومعنى هذا أن البٌت فً حاجة إلى امرأة ترعى شبونه ,وأولى الناس بذلك ربته وملكته ,بدل المرأة الؽرٌبة ,والتً كثٌراً ما تكون ؼرٌبة الدار والخلق والدٌن واللؽة واألفكار والعادات -كما هو شابع فً مجتمعات الخلٌج من المربٌات والخادمات المستوردات من الشرق األقصى -وخطورة هذا األمر ال تخفى على عاقل . ( هـ ) كما أن سعادة األسرة لٌست فً مجرد زٌادة الدخل ,الذي ٌنفق معظمه فً أدوات الزٌنة ,وثٌاب الخروج ,وتكالٌؾ الحٌاة المختلطة ,التً تقوم على التكلؾ والتصنع وسباق األزٌاء ,و « المودات » وما إلى ذلك ,وٌقابل هذه الزٌادة فً الدخل حرمان البٌت من السكٌنة واألنس ,الذي تشٌعه المرأة فً جو األسرة ,أم ا المرأة العاملة فهً مكدودة الجسم ,مرهقة األعصاب ,وهً نفسها فً حاجة إلى من ٌروح عنها ,وفاقد الشًء ال ٌعطٌه . ( و ) إن مصلحة المرأة لٌست فً إخراجها عن فطرتها واختصاصها وإلزامها أن تعمل عمل الذكر , وقد خلقها هللا أنثى ,فهذا كذب على المرأة وعلى الواقع ,و قد تفقد المرأة من هذا الصنؾ أنوثتها بالتدرٌج ,حتى أطلق علٌها بعض الكتاب اإلنجلٌز « الجنس الثالث » ,وهذا ما اعترؾ به كثٌر من النساء من ذوات الشجاعة األدبٌة .
( ز ) وما ٌدعى من أن العمل سبلح فً ٌد المرأة ,إن صح فً الؽرب فبل ٌصح عندنا نحن المسلمٌن , ألن المرأة فً اإلسبلم مكفٌة الحاجات بحكم النفقة الواجبة شرعا على أبٌها ,أو زوجها ,أو أبنابها أو أخٌها ,أو ؼٌرهم من العصبات واألقارب ,وان كان تقلٌد الؽرب بدأ ٌفقدنا خصابصنا شٌبا فشٌبا !
مضار اشتغال المرأة بعمل الرجال وبهذا نعلم أن اشتؽال المرأة فً أعمال الرجال وانهماكها فٌها بؽٌر قٌود وال حدود ,مضرة ال شك فٌها ,من جوانب شتى : .1مضرة على المرأة نفسها :ألنها تفقد أنوثتها وخصابصها ,وتحرم من بٌتها وأوالدها ,حتى إن كثٌراً من النساء أصبن بالعقم .وبعضهم سماهن « الجنس الثالث » أي الذي ال هو رجل وال هو امرأة ! .2مضرة على الزوج :ألنه ٌحرم من نبع سخً كان ٌفٌض علٌه باألنس والبهجة ,فلم ٌعد ٌفٌض علٌه إال الجدل ,والشكوى من مشكبلت العمل ,ومنافسة الزمٌبلت والزمبلء ,فضبلً على أن الرجل ٌفقد كثٌراً من سلطانه وقوامته علٌها ,لشعورها بؤنها مستؽنٌة بعملها عنه ,وربما كان راتبها أكبر من راتبه ,فتشعر باالستعبلء علٌه .هذا إلى ما ٌشعر به كثٌر من األزواج من عذاب الؽٌرة والشك . .3مضرة على األوالد :ألن حنان األم ,وقلب األم ,وإشراؾ األم ,ال ٌؽنً عنه ؼٌره من خادم أو مدرسة ,وكٌؾ ٌستفٌد األوالد من أم تقضً نهارها فً عملها ,فإذا عادت إلى البٌت عادت متعبة مهدودة ,متوترة ,فبل حالتها الجسمٌة وال النفسٌة تسمح بحسن التربٌة وسبلمة التوجٌه . .4مضرة على جنس الرجال :ألن كل امرأة عاملة ,تؤخذ مكان رجل صالح للعمل ,فما دام فً المجتمع رجال متعطلون ,فعمل المرأة إضرار بهم . .5مضرة على العمل نفسه :ألن المرأة كثٌرة التخلؾ والؽٌاب عن العمل ,لكثرة العوارض الطبٌعٌة التً ال تملك دفعها ,من حٌض وحمل ووضع وإرضاع وما شابه ذلك ,وهذا كله على حساب انتظام العمل وحسن اإلنتاج فٌه . .6مضرة على األخبلق :أخبلق المرأة إذا فقدت حٌاء النساء ,وأخبلق الرجل إذا فقد ؼٌرة الرجال , وأخبلق الجٌل إذا فقد حسن التربٌة والتهذٌب منذ نعومة األظفار ,وأخبلق المجتمع كله إذا أصبح كسب المال وزٌادة الدخل هو الهدؾ األكبر ,الذي ٌسعى إلٌه الناس ,ولو على حساب القٌم الرفٌعة ,والمثل العلٌا . .7مضرة على الحٌاة االجتماعٌة :ألن الخروج على الفطرة ,ووضع الشًء فً ؼٌر موضعه الذي طرة ٌ ,فسد الحٌاة نفسها ,وٌصٌبها بالخلل والتخبط واالضطراب . اقتضته هذه الؾ
متى يجوز للمرأة أن تعمل
هل ٌفهم من هذا أن عمل المرأة حرام أو ممنوع شرعا بكل حال ؟ كبل ,وٌنبؽً أن نبٌن هنا إلى أي مدى ,وفى أي مجال ,تجٌز الشرٌعة للمرأة أن تعمل . هذا ما نحدده بإٌجاز ووضوح أٌضا ,حتى ال ٌلتبس الحق بالباطل فً هذه القضٌة الحساسة .إن عمل المرأة األول واألعظم الذي ال ٌنازعها فٌه منازع ,وال ٌنافسها فٌه منافس ,هو تربٌة األجٌال ,الذي هٌؤها هللا له بدنٌا ً ,ونفسٌا ً ,وٌجب أال ٌشؽلها عن هذه الرسالة الجلٌلة شاؼل مادي أو أدبً مهما كان , فإن أحداً ال ٌستطٌع أن ٌقوم مقام المرأة فً هذا العمل الكبٌر ,الذي علٌه ٌتوقؾ مستقبل األمة ,وبه تتكون أعظم ثرواتها ,وهً الثروة البشرٌة . ورحم هللا شاعر النٌل حافظ إبراهٌم حٌن قال : األم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا ً طٌب األعراق وهذا ال ٌعنى أن عمل المرأة خارج بٌتها محرم شرعا ً ,فلٌس ألحد أن ٌحرم بؽٌر نص شرعً صحٌح الثبوت ,صرٌح الداللة ,واألصل فً األشٌاء والتصرفات العادٌة اإلباحة كما هو معلوم . وعلى هذا األساس نقول :إن عمل المرأة فً ذاته جابز ,وقد ٌكون مطلوبا ً إذا احتاجت إلٌه ,كؤن تكون أرملة أو مطلقة ,أو لم توفق للزواج أصبلً ,وال مورد لها وال عابل ,وهً قادرة على نوع من الكسب ٌكفٌها ذل السإال أو المنة . وقد تكون األسرة هً التً تحتاج إلى عملها كؤن تعاون زوجها ,أو تربً أوالدها ,أو إخوتها الصؽار ,أو تساعد أباها فً شٌخوخته ,كما فً قصة ابنتً الشٌخ الكبٌر التً ذكرها القرآن الكرٌم فً سورة القصص ,وكانتا تقومان على ؼنم أبٌهما ,قال تعالى ( :ولما ورد ماء مدٌن وجد علٌه أمة من الناس ٌسقون ووجد من دونهم امرأتٌن تذودان ,قال ما خطبكما ,قالتا ال نسقً حتى ٌصدر الرعاء ,وأبونا شٌخ كبٌر) . وقد ٌكون المجتمع نفسه فً حاجة إلى عمل المرأة ,كما فً تطبٌب النساء وتمرٌضهن ,وتعلٌم البنات ,ونحو ذلك من كل ما ٌختص بالمرأة .فاألولى أن تتعامل المرأة مع امرأة مثلها ,ال مع رجل ,وقبول الرجل فً بعض األحوال ٌكون من باب الضرورة التً ٌنبؽً أن تقدر بقدرها ,وال تصبح قاعدة ثابتة .ومثل ذلك إذا احتاج المجتمع ألٌد عاملة ,لضرورة التنمٌة . أجزن عمل المرأة ,فالواجب أن ٌكون مقٌداً بعدة شروط : ا وإذا .1أن ٌكون العمل فً ذاته مشروعا ً ,بمعنى أال ٌكون عملها حراما ً فً نفسه ,أو مفضٌا ً إلى ارتكاب حرام ,كالتً تعمل خادما ً لرجل أعزب ,أو سكرتٌرة خاصة لمدٌر تقتضً وظٌفتها أن ٌخلو بها وتخلو به ,أو راقصة تثٌر الشهوات والؽرابز الدنٌا ,أو عاملة فً « بار » تقدم الخمر التً لعن رسول هللا صلى هللا علٌه وسلم ساقٌها وحاملها وبابعها ..أو مضٌفة فً طابرة ٌوجب علٌها عملها التزام زي ؼٌر شرعً ,وتقدٌم ما ال ٌباح شرعا ً للركاب ,والتعرض للخطر بسبب السفر البعٌد بؽٌر محرم ,بما ٌلزمه من المبٌت وحدها فً ببلد الؽربة ,وبعضها ببلد ؼٌر مؤمونة ,أو ؼٌر ذلك من األعمال التً حرمها اإلسبلم على النساء خاصة أو على الرجل والنساء جمٌعا . .2أن تلتزم أدب المرأة المسلمة إذا خرجت من بٌتها :فً الزي والمشً والكبلم والحركة ( :وال ٌبدٌن زٌنتهن إال ما ظهر منها ) ( ,وال ٌضربن بؤرجلهن لٌعلم ما ٌخفٌن من زٌنتهن ) ( ,فبل تخضعن بالقول فٌطمع الذي فً قلبه مرض وقلن قوالً معروفا ً ) . .3أال ٌكون عملها على حساب واجبات أخرى ال ٌجوز لها إهمالها كواجبها نحو زوجها وأوالدها وهو واجبها األول وعملها األساسً . والمطلوب من المجتمع المسلم :أن ٌرتب األمور ,وٌهٌا األسباب ,بحٌث تستطٌع المرأة المسلمة أن تعمل -إذا اقتضت ذلك مصلحتها أو مصلحة أسرتها ,أو مصلحة مجتمعها -دون أن ٌخدش ذلك ً حٌاءها ,أو ٌتعارض مع التزامها بواجبها نحو ربها ونفسها وبٌتها ,وأن ٌكون المناخ العام مساعدا لها
على أن تإدى ما علٌها ,وتؤخذ ما لها .وٌمكن أن ٌرتب لها نصؾ عمل بنصؾ أجر ( ثبلثة أٌام فً األسبوع مثبلً ) .كما ٌنبؽً أن ٌمنحها إجازات كافٌة فً أول الزواج ,وكذلك إجازات الوالدة واإلرضاع . ومن ذلك :إنشاء مدارس وكلٌات وجامعات للبنات خاصة ٌ ,ستطعن فٌها ممارسة الرٌاضات واأللعاب المبلبمة لهن ,وأن ٌكون لهن الكثٌر من الحرٌة فً التحرك وممارسة األنشطة المختلفة . ومن ذلك :إنشاء أقسام أو أماكن مخصصة للعامبلت من النساء فً الوزارات والمإسسات والبنوك , بعداً عن مظان الخلوة والفتنة . إلى ؼٌر ذلك من الوسابل التً تتنوع وتتجدد ,وال ٌسهل حصرها . وهللا ٌقول الحق ,وهو ٌهدي السبٌل .