قراءة في كتاب العمق الاستراتيجي لمؤلفه أحمد داوود أوغلو

Page 1


‫قراءة فً كتاب العمق االستراتٌجً‬ ‫موقع تركٌا ودورها فً الساحة الدولٌة‬ ‫‪...............‬‬ ‫تألٌف ‪ :‬أحمد داوود أوغلو – موقع تركٌا ودورها فً الساحة الدولٌة ‪.‬‬ ‫ترجمة محمد جابر ثلجً و طارق عبد الجلٌل – مركز الجزٌرة للدراسات‬


‫منذ وصول حزب العدالة والتنمٌة إلى السلطة فً تركٌا فً نهاٌة خرٌف ‪2002‬‬ ‫ولغاٌة تدهور عالقات تركٌا مع إسرابٌل‪ ،‬وانخراطها فً األزمة النووٌة اإلٌرانٌة‪،‬‬ ‫تسلك السٌاسة الخارجٌة التركٌة مسارات جدٌدة‪ ،‬تعبر عن التحوالت العمٌقة التً‬ ‫تشهدها تركٌا خالل السنوات القلٌلة الماضٌة‪ ،‬إذ اتخذت مواقف الفتة ونوعٌة من‬ ‫قضاٌا األزمات فً الشرق األوسط‪.‬‬ ‫لقد انتهج حزب العدالة والتنمٌة الحاكم فً تركٌا سٌاسة خارجٌة جدٌدة قوامها على‬ ‫النحو التالً‪ :‬الحفاظ على التعاون مع الوالٌات المتحدة األمٌركٌة‪ ،‬واالتحاد‬ ‫األوروبً‪ ،‬وحلف شمال األطلسً‪ ،‬من موقع القوة اإلقلٌمٌة الصاعدة التً ترٌد أن‬ ‫تحافظ على قدر من االستقاللٌة والمسافة مع الغرب‪ ،‬وفً الوقت عٌنه تعمٌق الفجوة‬ ‫مع إسرابٌل فً سٌاق مسار تصادمً صعد إلٌه الطرفان التركً واإلسرابٌلً‪،‬‬ ‫وإعادة تموضع تركٌا فً مشهد جغرافً أوسع‪ ،‬أي العودة إلى العالمٌن العربً‬ ‫واإلسالمً‪ٌ ،‬مكن مالحظته منذ بداٌة األلفٌة الجدٌدة‪ ،‬حتى صار الحدٌث عن تصاعد‬ ‫الدور اإلقلٌمً التركً‪ ،‬وانبعاث ما ٌمكن تسمٌته بـ«العثمانٌة الجدٌدة» ملء األسماع‬ ‫فً أجهزة اإلعالم المربٌة والمكتوبة فً العالم الغربً‪.‬‬ ‫وٌقوم هذا المنظور الجدٌد للسٌاسة الخارجٌة التركٌة بصورة اساسٌة على ما ٌسمى‬ ‫بمبدأ "العمق االستراتٌجً"‪ ،‬وهو المبدأ الذي صاغه البروفسور أحمد داود أوغلو‬ ‫أستاذ العالقات الدولٌة فً جامعة أنقرة‪ ،‬فً كتاب نشر له سنة ‪ ،2002‬تحت عنوان‪:‬‬ ‫«العمق االستراتٌجً‪ ..‬موقع تركٌا الدولً‪.‬‬ ‫أحمد داوود أوغلو ‪:‬‬ ‫ولد عام ‪ 2151‬فً مدٌنة قونٌا فً قلب األناضول‪ ،‬وتخرج من جامعة البوسفور التً‬ ‫تدرس موادها باللغة اإلنكلٌزٌة وتعتبر أهم المؤسسات الجامعٌة التركٌة‪ ،‬فً عام‬ ‫‪ ،2194‬من قسم العلوم السٌاسٌة‪ ،‬لٌحصل الحقا ً على شهادة الدكتوراه فً العالقات‬ ‫الدولٌة‪ .‬والحقا ً عمل فً أكثر من جامعة داخل تركٌا وخارجها كان أهمها الجامعة‬


‫اإلسالمٌة فً مالٌزٌا‪ .‬وفً عام ‪ 2111‬حصل على مكانة بروفسور فً تدرجه‬ ‫األكادٌمً‪ ،‬وكان آخر منصب جامعً تولى مسؤولٌته هو رباسة قسم العالقات‬ ‫الدولٌة فً جامعة «بً كانت» التركٌة الخاصة الراقٌة‪ .‬وبسبب خبرته فً العالقات‬ ‫الدولٌة واطالعه األكادٌمً الغزٌر واهتمامه بتطبٌق النظرٌات على الواقع السٌاسً‬ ‫الٌومً‪ ،‬استدعاه «جول» و «أردوغان» لإلشراف على مهام الرصد والتخطٌط‬ ‫والمشاركة فً عملٌة إطالق سٌاسة خارجٌة جدٌدة للبالد‪ ،‬بعد تشكٌل حزب العدالة‬ ‫والتنمٌة‪ ،‬ذي الجذور االسالمٌة‪ ،‬للحكومة التركٌة‪ ،‬وٌعتبر األستاذ الجامعً أحمد‬ ‫داود أوغلو‪ ،‬الذي كان مستشاراً أساسٌا ً لربٌس الوزراء فً مجال السٌاسة الخارجٌة‪،‬‬ ‫إثر االنتصار المدوّ ي لحزب العدالة والتنمٌة ‪ AKP‬خالل انتخابات ‪ 3‬تشرٌن‬ ‫الثانً‪/‬نوفمبر ‪ ،2002‬ثم أضحى ابتدا ًء من أٌار ‪ 2001‬وزٌراً للخارجٌّة‪ ،‬المنظر‬ ‫االستراتٌجً للدور اإلقلٌمً التركً‪ .‬فهو الذي صاغ التوجهات الجدٌدة للسٌاسة‬ ‫الخارجٌة التركٌة‪ ،‬والعقل المدبر وراء التغٌ​ٌر الجذري الذي طرأ على سٌاسة حزب‬ ‫العدالة والتنمٌة الحاكم فً عالقة تركٌا بدول الجوار العربً ‪ -‬اإلسالمً ‪.‬‬ ‫التأثر بنظرٌة صراع الحضارات ‪:‬‬ ‫وٌبدو المتأمل فً دراسة هذه السٌاسة الخارجٌة التركٌة الجدٌدة‪ ،‬أو السٌاسة اإلقلٌمٌة‬ ‫للدولة التركٌة‪ ،‬أن البروفسور أحمد داود أوغلو‪ ،‬كان متأثراً بنظرٌة «صراع‬ ‫الحضارات» التً وضعها المفكر األمٌركً الراحل صموبٌل هانتنغتون فً بداٌة‬ ‫عقد التسعٌنات من القرن الماضً‪ ،‬وما أثارته من جدل فكري وثقافً وحضاري بٌن‬ ‫الغربً‪.‬‬ ‫والعالم‬ ‫اإلسالمً‪،‬‬ ‫العربً‬ ‫العالمٌن‬

‫‪ - 2‬إعادة صٌاغة الهوٌة الوطنٌة التركٌة ‪:‬‬


‫كانت تركٌا الدولة العلمانٌة التً تملك روابط قوٌة مع أوروبا‪ ،‬والمشاركة األساسٌة‬ ‫فً حلف شمال أألطلسً‪ ،‬والمنتقلة منذ نهاٌة الحرب الباردة من الهامش إلى الواجهة‬ ‫فً موضوع األمن فً منطقة أوراسٌا‪ ،‬تطمح إلى أن تصبح عضواً فً االتحاد‬ ‫األوروبً‪ ،‬وأن تؤدي دوراً إقلٌمٌا ً فً جنوب شرق أوروبا‪ ،‬والشرق األوسط‪،‬‬ ‫والقوقاز‪.‬‬ ‫بٌد أن تركٌا تعانً من أزمة فً هوٌتها الوطنٌة‪ ،‬التً لم تكن محل إجماع فً البالد‬ ‫منذ إعالن الجمهورٌة التركٌة الحدٌثة عام ‪ 2123‬على ٌد مصطفى كمال أتاتورك‬ ‫وحتى الٌوم‪ .‬وتعد الهوٌة باعتبارها مدركات الدولة لنفسها فً مواجهة محٌطها‬ ‫الجغرافً؛ «من أهم العوامل الحاكمة فً رسم السٌاسة اإلقلٌمٌة للدول‪ .‬وبالرغم من‬ ‫دورها االنطالقً واألساسً فً رسم السٌاسات اإلقلٌمٌة والخارجٌة؛ فإن الهوٌة‬ ‫الوطنٌة ال ٌمكن حسابها بالطرق االعتٌادٌة المتبعة فً قٌاس قوة االقتصاد ومدى‬ ‫ارتباطه باالقتصاد العالمً‪ ،‬أو قٌاس نسبة الصادرات إلى الواردات‪ ،‬وغٌر ذلك من‬ ‫المعاٌ​ٌر الثابتة‪ .‬لذلك فمن الطبٌعً أن تختلف مدركات هذه الهوٌة من حزب إلى آخر‬ ‫ومن فصٌل سٌاسً إلى غٌره من الفصابل خصوصا ً فً دول العالم الثالث‪ ،‬وهذا‬ ‫االختالف ٌقود إلى اعتماد البرنامج السٌاسً لألحزاب الحاكمة على رؤى بعٌنها فً‬ ‫القضاٌا المختلفة ومنها طبعا ً السٌاسات الداخلٌة واإلقلٌمٌة والخارجٌة‪.‬‬ ‫وال ٌمكن لتركٌا البلد العلمانً الكبٌر‪ ،‬أن ٌشكل جسراً بٌن العالم الغربً والشرق‬ ‫األوسط‪ ،‬جغرافٌا ً واقتصادٌا ً وثقافٌاً‪ ،‬إال إذا تمكن من حل معضلة الهوٌة الوطنٌة‬ ‫بداللة الهوٌة التعددٌة القابمة على تأسٌس العالقة الممكنة بٌن اإلسالم والدٌمقراطٌة‪،‬‬ ‫وعلى القبول بمدنٌة السلطة والتعددٌة الدٌنٌة والفكرٌة والسٌاسٌة وحقوق األقلٌات‬ ‫والحرٌات العامة والخاصة ضمن السٌاق االجتماعً العام المقبول‪.‬‬ ‫لقد حولت المؤسسة العسكرٌة التركٌة التً سٌطرت على مقالٌد السلطة لمرحلة‬ ‫تارٌخٌة كبٌرة‪ ،‬ورسمت السٌاسات اإلقلٌمٌة لتركٌا فً اتجاه االرتباط بالغرب‬ ‫األوروبً واألمٌركً على مستوى السٌاسات اإلقلٌمٌة والدولٌة‪ ،‬العلمانٌة إلى أداة‬ ‫لنفً الدٌن ومحاربته‪ ،‬بدالً من االكتفاء بالفصل بٌن المجالٌن الدٌنً السٌاسً كما هو‬ ‫الحال فً النظم الدٌموقراطٌة الغربٌة‪.‬‬


‫العلمانٌة فً تركٌا لم تنشأ ضمن صٌرورة ثورة دٌمقراطٌة تارٌخٌة تنقل المجتمع‬ ‫التركً من هدأة التأخر التارٌخً إلى عصر الحداثة‪ ،‬بل تحولت إلى شعار‪ٌ ،‬متلا‬ ‫كغٌره من الشعارات بمضامٌن أٌدٌولوجٌة‪ ،‬وبشحنة من االستفزاز والتحدي‪،‬‬ ‫وأصبحت فً ظل سٌطرة المؤسسة العسكرٌة على السلطة بمنزلة المذهب أو العقٌدة‬ ‫األٌدٌولوجٌة تمارس سلطة الضبط والتدخل والحجر‪ ،‬ومصادرة حرٌة العقل‪.‬‬ ‫فارتبطت بذلك العلمانٌة التركٌة باالستبداد‪ ،‬وتحولت تدرٌجٌا إلى ما ٌشبه‬ ‫االٌدٌولوجٌا المقدسة أو الدٌن الجدٌد‪ ،‬وقطعت تركٌا عن واقعها التارٌخً‬ ‫والحضاري اإلسالمً بعد أن عزلت الدولة التركٌة نفسها عن االندماج فً محٌطها‬ ‫اإلقلٌمً‪ ،‬أي العالم العربً واإلسالمً‪ ،‬حٌث تراكمت مشاكلها مع دول الجوار‬ ‫الجغرافً‪ ،‬وسٌطرت علٌها النظرة من أنها محاطة بدول معادٌة‪ ،‬األمر الذي جعلها‬ ‫دابما تدافع عن نفسها باستمرار فً وجهها ‪.‬‬ ‫بٌنما تعتبر العلمانٌة المنفتحة الحل الحقٌقً لمسألة األقلٌات فً بلد مثل تركٌا متعدد‬ ‫األعراق‪ ،‬والمدخل الحقٌقً للمواطنة وبناء الدولة ‪ -‬األمة‪ ،‬الدولة الحدٌثة‬ ‫الدٌمقراطٌة‪ ،‬دولة الحق والقانون التً ٌستقل فٌها الدٌن عن الدولة والدولة عن‬ ‫الدٌن ‪.‬‬ ‫الشك أن هذا التطبٌق المٌكانٌكً والتسلطً للشعارات العلمانٌة لفترة زمنٌة طوٌلة‬ ‫فً تركٌا هو الذي «أوجد حالة من االغتراب الثقافً وخلق أزمة هوٌة شعرت بها‬ ‫مختلف الفبات االجتماعٌة‪ ،‬خصوصا ً الطبقات الوسطى والكادحة‪ ،‬وهو عامل ساعد‬ ‫على تولٌد آلٌات ضغط شعبً للمطالبة بتوسٌع نطاق الحرٌات الدٌنٌة والسماح لها‬ ‫بممارسة الشعابر اإلسالمٌة‪ ،‬وال جدال فً أن وجود هذه الحال المجتمعٌة الرافضة‬ ‫لالغتراب والراغبة فً استعادة هوٌتها الثقافٌة والدٌنٌة مهد فً ما بعد لقٌام أحزاب‬ ‫سٌاسٌة ذات مرجعٌة إسالمٌة‪ ،‬على رغم من أن هذه األحزاب لم تبدأ بالظهور إال‬ ‫عام ‪ 2190‬حٌن قام نجم الدٌن أربكان بتأسٌس «حزب النظام الوطنً»‪ .‬ومعنى ذلك‬ ‫أن تٌار «اإلسالم السٌاسً» فً تركٌا ٌعد فً الواقع تٌاراً حدٌث النشأة إذا ما قورن‬ ‫بالدول العربٌة واإلسالمٌة األخرى‪ ،‬وهو ما من شأنه طرح تساؤالت عدٌدة حول‬ ‫أسباب النجاح المذهل الذي حققه فً تلك الفترة الوجٌزة نسبٌا والتً ال تزٌد عن ثلث‬ ‫قرن ‪.‬‬


‫‪ - 2‬مرتكزات السٌاسة الخارجٌة التركٌة الجدٌدة‪:‬‬ ‫التحول النوعً فً السٌاسة الخارجٌة التركٌة‪ٌ ،‬كمن فً استطاعة حزب العدالة‬ ‫والتنمٌة أن ٌدرك بشكل متمٌز الهوٌة الوطنٌة لتركٌا‪ ،‬من حٌث هً أوروبٌة وشرق‬ ‫أوسطٌة أٌضاً‪ ،‬وأن ٌبلور األسس الجدٌدة للسٌاسة الخارجٌة التركٌة‪ ،‬التً تستند على‬ ‫الركابز المعروفة فً العلوم السٌاسٌة مثل‪ :‬التحالفات الدولٌة والموقع الجغرافً‬ ‫واإلمكانات البشرٌة واالقتصادٌة‪ ،‬إضافة إلى الروابط التارٌخٌة لتركٌا فً محٌطها‬ ‫األوراسً‪ ،‬والعالم العربً واإلسالمً‪ ،‬ودورها الكبٌر فً رسم السٌاسة اإلقلٌمٌة‬ ‫لتركٌا ‪.‬‬ ‫ٌؤ ّكد السٌد أحمد داود أوغلو‪ ،‬وزٌر الخارجٌة التركً‪« ،‬أنّ المسألة تتعلق أوالً‬ ‫برؤٌتنا لألمور»‪ .‬ورؤٌته لٌست ضٌّقة‪ :‬فهو إذ ٌرٌد السالم واألمن فً المنطقة‪،‬‬ ‫ٌعتبر أنّ بالده‪ ،‬العضو فً الوقت نفسه فً مجموعة الدول العشرٌن ‪ G20‬وفً‬ ‫ّ‬ ‫منظمة حلف شمال األطلسً‪ ، NATO‬تحت ّل موقعا ً ٌخوّ لها المساهمة فً تحقٌق ذلك‪.‬‬ ‫والسٌد داود أوغلو هو مهندس سٌاسة أنقرة الجدٌدة؛ تلك القابمة على مبدأ "صفر‬ ‫مشاكل مع الجٌران" وعلى "القوّ ة الهادبة "التً ترتكز على اإلقناع والتفاوض ‪.‬‬ ‫لقد أصبحت السٌاسة الخارجٌة التركٌة خالل العقدٌن األخٌرٌن لمرحلة ما بعد نهاٌة‬ ‫ّ‬ ‫محط العدٌد‬ ‫الحرب الباردة‪ ،‬أي مرحلة عودة انطالق الدور اإلقلٌمً إلى الخارج‪،‬‬ ‫من النقاشات والجداالت فً الغرب وفً تركٌا والعالم العربً‪.‬‬ ‫عن الكتـــــاب ‪:‬‬ ‫ٌقع الكتاب فً ‪ 644‬صفحة‪ٌ ،‬بدأ بتمهٌد ثر وجمٌل عن أهمٌة ومنهجٌة الدراسات‬ ‫اإلنسانٌة وعلى رأسها العالقات الدولٌة‪ .‬ثم جزء أول‪ :‬اإلطار المفاهٌمً النظري عن‬ ‫معادلة قوة الدول‪ ،‬وخطورة قصور النظرٌة االستراتٌجٌة‪ ،‬واإلرث التارٌخً لتركٌا‬


‫ودورها فً الساحة الدولٌة خالل الحرب الباردة‪ .‬ثم الجزء الثانً‪ :‬اإلطار النظري‪:‬‬ ‫االستراتٌجٌة المرحلٌة والسٌاسات المرتبطة بالمناطق الجغرافٌة‪ ،‬ثم الجزء الثالث‪:‬‬ ‫مجاالت التطبٌق‪ :‬الوسابل االستراتٌجٌة والسٌاسات اإلقلٌمٌة‪ ،‬ثم خاتمة‪.‬‬ ‫و فً الترجمة العربٌة أضاف الكاتب فصالً حول ما حققته تركٌا ما بعد الكتاب‬ ‫وحتى عام ‪.2020‬‬ ‫تكمن أهمٌة الكتاب أنه نشر قبل تأسٌس العدالة والتنمٌة‪ ،‬بٌنما نلحظ أن العدالة‬ ‫والتنمٌة سار على كثٌر من نظرٌات الكتاب‪ ،‬وهو ما أعطى داود أوغلو لقب‬ ‫"مهندس السٌاسة الخارجٌة التركٌة"‪ ،‬وهذه زاوٌة اخرى تعطً أهمٌة كبٌرة للكتاب‪،‬‬ ‫إذ جمع كاتبه بٌن النظرٌة والتطبٌق‪.‬‬ ‫الكتاب ذو لغة اكادٌمٌة عمٌقة وصعبة‪ ،‬وثري بالمواضٌع والمواد‪ ،‬وال ٌقتصر على‬ ‫عنوانه (تركٌا)‪ ،‬بل ٌستفاد منه فً فهم الكثٌر من األحداث التارٌخٌة والنظرٌات‬ ‫السٌاسٌة‪/‬الدولٌة والتطورات الحالٌة‪.‬‬ ‫بٌن طـــــٌات الكتـــــاب ‪:‬‬ ‫فً كتابه الذي ٌحمل العنوان اآلتً‪« :‬العمق االستراتٌجً‪ ..‬مكانة تركٌا الدولٌة» بنى‬ ‫البروفسور أوغلو تحلٌالته من خالل التركٌز على األبعاد الجٌوسٌاسٌة‪ ،‬والسٌما على‬ ‫المكونٌن اللذٌن ٌشكالن أساس «العمق االستراتٌجً»‪ - ،‬وهما‪" :‬العمق الجغرافً"‬ ‫و"العمق التارٌخً "‬ ‫فٌما ٌتعلق بالعمق الجغرافً‪ٌ ،‬عتبر أوغلو تركٌا دولة "مركزٌة" ‪ ،‬والحال هذه ال‬ ‫ٌجوز النظر إلٌها كدولة "جسر " تربط نقطتٌن فحسب‪ ،‬أو كدولة "طرفٌة" ‪ ،‬أو حتى‬ ‫كدولة عادٌة تقع على تخوم العالم اإلسالمً أو الغرب‪ ،‬حسب تعبٌر أوغلو نفسه ‪.‬‬ ‫وٌرجع أوغلو كون تركٌا دولة «مركزٌة» إلى موقعها الجغرافً الفرٌد‪ ،‬عندما‬ ‫ٌقول‪« :‬جغرافٌا تركٌا تعطٌها حال دولة مركزٌة فرٌدة تختلف عن الدول المركزٌة‬ ‫األخرى‪ .‬فعلى سبٌل المثال تعتبر ألمانٌا دولة مركزٌة فً أوروبا ولكنها بعٌدة‬


‫جغرافٌا ً عن إفرٌقٌا وآسٌا‪ .‬وروسٌا أٌضا دولة مركزٌة فً أوروبا ولكنها بعٌدة‬ ‫جغرافٌا عن إفرٌقٌا‪ ،‬وإٌران دولة مركزٌة فً آسٌا لكنها بعٌدة جغرافٌا عن أوروبا‬ ‫وإفرٌقٌا‪ .‬وبنظرة أوسع‪ ،‬فإن تركٌا تحتفظ بالموقع األفضل فٌما ٌتعلق بكونها دولة‬ ‫أوروبٌة وآسٌوٌة فً الوقت عٌنه‪ .‬كما أنها قرٌبة من افرٌقٌا أٌضا ً عبر شرق البحر‬ ‫المتوسط‪ .‬ومن ثم فإن دولة مركزٌة تحتفظ بموقع متمٌز هكذا ال ٌمكن لها أن تعرف‬ ‫نفسها من خالل سلوك‪ ،‬وال ٌجب النظر إلٌها كدولة ممر تربط نقطتٌن فحسب‪ ،‬وال‬ ‫دولة طرفٌة‪ ،‬أو كدولة عادٌة تقع على تخوم العالم اإلسالمً أو الغرب ‪».‬‬ ‫«العمق الجغرافً» و«العمق التارٌخً»‪ٌ ،‬شكالن اإلرث التارٌخً الذي ورثته‬ ‫تركٌا من اإلمبراطورٌة العثمانٌة بوصفها أحد مراكز الجذب العالمٌة‪ ،‬حٌث كانت‬ ‫استانبول عاصمتها التارٌخٌة‪ ،‬بعد أن كانت تارٌخٌا ً عاصمة اإلمبراطورٌات‬ ‫الرومانٌة والبٌزنطٌة‪ .‬فالجزء األكبر من تركٌا أي نحو ‪ 1975‬فً المبة من مساحتها‬ ‫ٌقع فً آسٌا‪ ،‬فً حٌن تقع النسبة الباقٌة فً أوروبا‪ .‬وكانت قسطنطٌنوبولٌس مدٌنة‬ ‫مسٌحٌة بٌزنطٌة قبل أن ٌفتحها السلطان العثمانً محمد‪ ،‬والذي ذهب فً التارٌخ‬ ‫باعتباره «محمد الفاتح» بسبب ضمه استانبول إلى إمبراطورٌة العثمانٌ​ٌن‪ ،‬لٌتبدل‬ ‫اسم المدٌنة إلى اآلستانة التً أصبحت حاضرة الشرق الكبرى وعاصمة الدولة العلٌّة‬ ‫العثمانٌة‪ .‬استعمل السلطان محمد الفاتح ألول مرة فً التارٌخ المدافع ذات القطر‬ ‫الكبٌر عند فتحه المدٌنة العرٌقة‪ ،‬فً تطبٌق عملً للعالقة العضوٌة بٌن امتالك‬ ‫ناصٌة العلوم والمعارف التقنٌة والنجاحات العسكرٌة والسٌاسٌة‪.‬‬ ‫لقد جمع البروفسور أوغلو بٌن المعٌارٌن «العمق الجغرافً» االستراتٌجً‪،‬‬ ‫و«العمق التارٌخً» الثقافً لتركٌا تحت اسم واحد هو «العمق االستراتٌجً»‪،‬‬ ‫ونتاج تشكل تركٌا ذاتها من موزاٌ​ٌك فرٌد من األعراق (أتراك‪ ،‬أكراد‪ ،‬عرب‪،‬‬ ‫أرمن‪ ،‬شركس‪ ،‬الز) والطوابف (السنة والعلوٌ​ٌن والمسٌحٌ​ٌن األرثوذكس والٌهود)‪،‬‬ ‫فإنها من وجهة نظر أوغلو‪ ،‬تركٌا دولة ذات هوٌات إقلٌمٌة متعددة‪ ،‬أي أنها تنتمً‬ ‫إلى مناطق الشرق األوسط‪ ،‬والبلقان‪ ،‬والقوقاز‪ ،‬وآسٌا الوسطى‪ ،‬وبحر قزوٌن‪،‬‬ ‫والبحر األسود‪ ،‬والبحر المتوسط‪ ،‬وال ٌمكن حصرها فً هوٌة واحدة‪.‬‬


‫والحال هذه‪ ،‬على تركٌا‪ ،‬حسب وجهة نظر أوغلو‪« :‬أن تعتبر كونها دولة طرفٌة هً‬ ‫جزء من الماضً‪ ،‬وتدشٌن سٌاسة خارجٌة جدٌدة تقوم على توفٌر االستقرار لٌس‬ ‫لنفسها فحسب‪ ،‬ولكن لجٌرانها فً مناطق نفوذها‪ .‬وعلى تركٌا أٌضا ً أن تضمن أمنها‬ ‫القومً واستقرارها عبر تطوٌر دور أكثر فاعلٌة وبناء لتوفٌر النظام واألمن‬ ‫واالستقرار فً النظم المحٌطة بها‪.‬‬ ‫وفقا لهذا المنظور‪ ،‬بلور حزب العدالة والتنمٌة األسس الجدٌدة للسٌاسة الخارجٌة‬ ‫التركٌة الموجهة لكل منطقة‪ ،‬مع التكامل بٌن أبعادها‪ .‬وتقوم هذه األسس على‬ ‫ضرورة تعدد أبعاد السٌاسة الخارجٌة التركٌة بما ٌتفق وطبٌعة تركٌا كدولة ذات‬ ‫«عمق استراتٌجً» مستمد من وقوعها فً قلب منطقة أفروأوراسٌا ‪.‬‬ ‫شرعت تركٌا مع بداٌة العقد الحالً فً تطوٌر رؤٌتها وسٌاستها على نحو ٌتواكب‬ ‫مع المستجدات فً القرن الحادي والعشرٌن‪ ،‬وبذلت جهودها إلرساء رؤٌتها على‬ ‫أرضٌة صلبة توظف فٌها موروثاتها التارٌخٌة والجغرافٌة التوظٌف األمثل‪.‬‬ ‫من أجل ذلك تعٌن على تركٌا االلتزام بستة مبادئ حتى ٌتسنى لها تطبٌق سٌاسة‬ ‫خارجٌة إٌجابٌة فعالة‪:‬‬ ‫المبدأ األول‪ :‬هو التوازن السلٌم بٌن الحرٌة واألمن»‪ .‬والحقٌقة أنه ما لم تحرص‬ ‫دولة من الدول على إقامة ذلك التوازن بٌن الحرٌة واألمن بداخلها‪ ،‬فإنها ستكون‬ ‫عاجزة عن التأثٌر فً محٌطها‪ .‬كما ان مشروعٌة النظم السٌاسٌة ٌمكنها ان تتحقق‬ ‫عندما توفر هذه النظم األمن لشعوبها‪ ،‬مع عدم تقلٌص حرٌاتها فً مقابل ذلك‪ .‬وما‬ ‫نعنٌه هو ان االنظمة التً توفر األمن لشعوبها وتحرمها فً مقابل ذلك من الحرٌة‪،‬‬ ‫تتحول مع الوقت انظمة سلطوٌة‪ ،‬وكذلك االنظمة التً تضحً باألمن بدعوى انها‬ ‫ستمنح الكثٌر من الحرٌات‪ ،‬ستصاب بحالة من االضطراب المخٌف‪ .‬واذ اتجه العالم‬ ‫من بعد احداث الحادي عشر من اٌلول عام ‪ 2002‬الى تقلٌص الحرٌات بدعوى‬


‫تحقٌق األمن ازاء التهدٌدات االرهابٌة‪ ،‬فان نجاح تركٌا فً تحقٌق هذه المعادلة‬ ‫الصعبة بتوسٌعها مساحة الحرٌة دون ان تغامر بأمنها لهً نقطة جدٌرة بالمالحظة‬ ‫واالنتباه‪.‬‬ ‫المبدأ الثانً‪" :‬فً تصفٌة المشكالت" مع دول الجوار‪ ،‬وهو مبدأ بدت نتابجه‬ ‫االٌجابٌة واضحة بجالء لكل متابع‪ ،‬فعند مقارنة وضع تركٌا اآلن‪ ،‬بما كانت علٌه‬ ‫قبل اربعة أو خمسة اعوام‪ ،‬سنجد ان عالقات تركٌا مع كل دولها المجاورة باتت‬ ‫وطٌدة الى اكبر درجة‪ .‬وابرز االمثلة على ذلك عالقاتها مع سورٌا التً توّ جت‬ ‫بإبرام عدد من اتفاقات التجارة الحرة بٌن البلدٌن‪ ،‬وفتحت الطرٌق امام عالقات‬ ‫اقتصادٌة ضخمة‪ .‬ارتقى مستوى عالقات تركٌا بسورٌا اآلن الى حد ٌمكن ان‬ ‫ٌوصف باالنقالب فً المسار الدٌبلوماسً مقارنة بما كانت علٌه قبل عشرة أو خمسة‬ ‫عشر عاما‪ ،‬وحتى عند بداٌة الثورة حاولت تركٌا أن ٌبقى البٌت الداخلً السوري‬ ‫مستقرا وطالبت النظام السوري بتطبٌق اإلصالحات التً من شأنها أن تعزز السلطة‬ ‫السٌاسٌة ‪ ،‬عمال بهذا المبدأ ‪.‬‬ ‫المبدأ الثالث‪ٌ :‬قوم على التأثٌر فً االقالٌم الداخلٌة والخارجٌة لدول الجوار‪ ،‬وٌمكن‬ ‫هنا التحدث عن تأثٌر تركٌا فً البلقان والشرق االوسط والقوقاز وآسٌا الوسطى‪.‬‬ ‫اهتمت الخارجٌة التركٌة فً عقد التسعٌنات من القرن المنصرم اهتماما ً جادا ومؤثرا‬ ‫بالبلقان‪ ،‬والسٌما فً أزمتً البوسنة والهرسك وكوسوفو‪ ،‬وهو اهتمام ٌرتكز على‬ ‫اسس راسخة‪ .‬وظلت قدرة تركٌا على النفاذ الى الشرق االوسط محدودة‪ ،‬مقارنة بما‬ ‫تتمتع به تركٌا من تأثٌر داخل البلقان والقوقاز‪ ...‬وتأطرت هذه الصورة السلبٌة فً‬ ‫عقل االتراك ان العرب قد خانوا الدولة العثمانٌة وطعنوها فً ظهرها‪ ،‬وفً المقابل‬ ‫اعتقد العرب أن االتراك قد احتلوا العرب ألربعة قرون‪ .‬ومن ثم كان ذلك الحاجز‬ ‫النفسً هو العقبة الكؤود امام انفتاح كال الطرفٌن على اآلخر‪ .‬بٌد ان الضرورات‬ ‫البراغماتٌة التً تولدت عن الحاجة الى الدعم الدٌبلوماسً المتبادل قد فتحت الطرٌق‬ ‫امام هذه العالقات‪ ،‬وحطمت تلك الحواجز التارٌخٌة‪ /‬النفسٌة‪ ،‬وهو ما جعل تركٌا‬ ‫اكثر ارتباطا بسٌاساتها الشرق اوسطٌة الفعالة التً انتهجتها منذ عام‪». 2002‬‬


‫ٌرتكز المبدأ الرابع‪" :‬السٌاسة الخارجٌة المتعددة البعد"‪ ،‬على ان العالقات مع‬ ‫الالعبٌن الدولٌ​ٌن لٌست بدٌلة من بعضها البعض‪ ،‬وانما متممة لها‪ .‬وهو مبدأ ٌسعى‬ ‫البراز عالقات تركٌا االستراتٌجٌة مع الوالٌات المتحدة األمٌركٌة فً اطار ارتباطها‬ ‫بالحلف االطلسً (الناتو) وتحت مفهوم العالقات الثنابٌة‪ ،‬وكذلك لطرح جهود تركٌا‬ ‫لالنضمام إلى االتحاد األوروبً‪ ،‬وكذلك سٌاستها مع روسٌا وأوراسٌا على الوتٌرة‬ ‫ذاتها من التزامن باعتبارها عالقات تجري كلها فً اطار التكامل‪ ،‬ولٌست عالقات‬ ‫متضادة أو بدٌلة من بعضها البعض‪ .‬وان ما نقصده هنا ونود التأكٌد علٌه هو ان‬ ‫السٌاسة المتعددة البعد التً تنتهجها تركٌا منذ سبع سنوات لم تتضارب أو تتناقض‬ ‫مع بعضها البعض‪ ،‬ولذلك اضحت سٌاسات مؤسسٌة راسخة‪.‬‬ ‫أما المبدأ الخامس‪ :‬فهو "الدٌبلوماسٌة المتناغمة"‪ ،‬اذ عند النظر الى اداء تركٌا‬ ‫الدٌبلوماسً من زاوٌة عضوٌتها فً المنظمات الدولٌة‪ ،‬واستضافتها للمؤتمرات‬ ‫والقمم الدولٌة نجد تطورات مهمة وجادة‪ ،‬فً حال ما قورنت بأدابها الدٌبلوماسً قبل‬ ‫عام ‪ ،2003‬استضافت تركٌا قمة الناتو‪ ،‬وقمة منظمة المؤتمر االسالمً فضال عن‬ ‫استضافتها معظم المنتدٌات الدولٌة‪ .‬واصبحت عضوا مراقبا فً منظمة االتحاد‬ ‫اإلفرٌقً عام ‪ ،2009‬وهو ما ٌمكن ان ٌفسر باعتباره نتٌجة طبٌعٌة لسٌاسة تركٌا‬ ‫فً االنفتاح على إفرٌقٌا منذ عام ‪ ،2005‬فضال عن مشاركة ربٌس الوزراء رجب‬ ‫طٌب أردوغان فً قمة االتحاد اإلفرٌقً األوروبً التً انعقدت فً مدرٌد‪ ،‬وهً‬ ‫المشاركة التً هٌأت لتركٌا ان تصبح العبا ً مؤثرا فً العالقات بٌن االتحاد االفرٌقً‬ ‫وأوروبا‪ .‬وبدعوة من جامعة الدول العربٌة شاركت تركٌا على مستوى وزراء‬ ‫الخارجٌة وعلى مستوى رؤساء الوزراء على حد سواء‪ .‬كما وقعت مع جامعة الدول‬ ‫العربٌة على اتفاقٌة خاصة على خلفٌة اجتماع دول جوار العراق‪ ،‬وذلك خالل الفترة‬ ‫التً تصاعدت فٌها االزمة بٌن العراق وحزب العمال الكردستانً‪ ،‬حٌث قضت‬ ‫االتفاقٌة بتأسٌس عالقات مؤسسٌة وتشكٌل المنتدى التركً العربً‪.‬‬ ‫المبدأ السادس واألخٌر‪" :‬أسلوب دٌبلوماسً جدٌد" لفترة طوٌلة من التارٌخ كانت‬


‫تركٌا فً نظر العالم دولة جسرٌة‪ ،‬لٌس لها رسالة سوى ان تكون معبراً بٌن‬ ‫االطراف الكبرى‪ .‬والمقصود من ذلك الدور هو ان تركٌا دولة تنقل طرفا الى طرف‬ ‫آخر دون ان تكون فاعال بٌن الطرفٌن‪ .‬ولذا بدت تركٌا لدى الشرقً دولة غربٌة‪،‬‬ ‫ولدى الغربً دولة شرقٌة‪ ،‬ومن ثم كان من الضروري رسم خرٌطة جدٌدة لتركٌا‬ ‫تجعلها مرشحة ألداء دور مركزي‪ :‬وأن تكون دولة قادرة على انتاج االفكار‬ ‫والحلول فً محافل الشرق ومنتدٌاته‪ ،‬رافعة هوٌتها الشرقٌة دون امتعاض‪ ،‬ودولة‬ ‫قادرة على مناقشة مستقبل أوروبا داخل محافل أوروبا ومنتدٌاتها من خالل نظرتها‬ ‫األوروبٌة‪ .‬وهذه الرؤٌة لٌست موجهة للدٌبلوماسٌ​ٌن والسٌاسٌ​ٌن وحدهم بل للمثقفٌن‬ ‫أٌضاً‪ ،‬اذ ان الوصول الى نتابج اٌجابٌة فً هذه الرؤٌة ٌعد أمراً مستحٌالً دون اعادة‬ ‫تهٌبة المثقف وتطوٌره فً نموذج جدٌد‪».‬‬ ‫من هنا‪ ،‬شكلت المقاربة الجدٌدة للسٌاسة الخارجٌة التركٌة خروجا ً عن اإلطار القدٌم‬ ‫المألوف زمن الحرب الباردة‪ ،‬الذي تسود فٌه سٌاسة خارجٌة منغلقة‪ ،‬فتركٌا تتصرف‬ ‫للمرة األولى من خالل بسٌكولوجٌا وفهم وثقة تعكس حقابق مرحلة ما بعد الحرب‬ ‫الباردة‪ .‬وإذا كانت هناك شعوب وبلدان ال تزال تعٌش فً عالم الدٌنامٌات‬ ‫والتوازنات التً كانت سابدة فً مرحلة الحرب الباردة‪ ،‬فإن تركٌا تنطلق بسرعة‬ ‫كبٌرة جداً فً القرن الحادي والعشرٌن‪ ،‬لجهة اعتمادها على تنوٌع سٌاستها الخارجٌة‬ ‫المتحركة فً ا ّتجاهات متع ّددة بحسب ما تملٌه علٌها جغرافٌتها وتارٌخها‪ ،‬والمنطلقة‬ ‫أٌضا ً من خدمة مصالحها الوطنٌة مصالحها االقتصادٌة واألمنٌة واإلقلٌمٌة ‪.‬‬ ‫و هكذا تختلف جداً فكرة «العمق االستراتٌجً» وسٌاسة «صفر مشاكل» عن سٌاسة‬ ‫الجمهورٌة التركٌة خالل الحرب الباردة‪ .‬وتختلف أٌضا ً عن سٌاستها فً أغلب‬ ‫سنوات ما بعد نهاٌة الحرب‪ ،‬حٌث كانت السٌاسة التقلٌدٌة للجمهورٌة التركٌة تقوم‬ ‫على االنغالق داخال مع التأكٌد على احترام الوضع الراهن وحماٌة حدودها فً آسٌا‬ ‫الصغرى‪ ،‬والسبب األساسً لهذه السٌاسة كان ٌكمن فً مخاوف األتراك من أن‬ ‫تحاول الدول العظمى العمل مجدداً على تقسٌم اإلقلٌم التركً‪ ،‬وهً مخاوف‬ ‫مشروعة بات معظمها ظاهرا للعٌان خالل سنوات الثورة السورٌة ‪ ،‬ومحاولة الغرب‬ ‫تألٌب األكراد فً سورٌة ضد الدولة التركٌة‪.‬‬


‫وشكلت هذه السٌاسة الخارجٌة التقلٌدٌة لتركٌا فً معظم سنوات الجمهورٌة الترجمة‬ ‫الفعلٌة لمقولة كمال مصطفى (أتاتورك) المشهورة «السالم فً الداخل والسالم فً‬ ‫الخارج»‪ ،‬وتجنب التدخل فً األوضاع الداخلٌة للدول المجاورة‪ .‬والخروج الوحٌد‬ ‫عن سٌاسة حفظ الوضع الراهن خالل فترة الحرب الباردة كان تدخل تركٌا العسكري‬ ‫فً قبرص فً عام ‪. 2194‬‬ ‫هل ٌمكن فهم السٌاسة الخارجٌة الجدٌدة لتركٌا‪ ،‬اي سٌاسة «العمق االستراتٌجً»‬ ‫على أساس أنها تشكل قطٌعة مع السٌاسة الخارجٌة التً كانت سابدة فً عهد كمال‬ ‫أتاتورك ومرحلة الحرب الباردة؟‬ ‫تركٌا التً تقدم نفسها كقوة إقلٌمٌة قابدة فً العالمٌن العربً واإلسالمً‪ ،‬ال ٌمكن أن‬ ‫تحسن مكانتها هذه من دون أن تكون نصٌرة للقضٌة الفلسطٌنٌة فً عٌون العرب‬ ‫والمسلمٌن‪ ،‬وهً تستثمر بجدارة المأزق األمٌركً فً كل من العراق وأفغانستان‪،‬‬ ‫وظهور تع ّددٌة قطبٌة جدٌدة ت ّتسم بصعود قوى إقلٌمٌة قادرة على ممارسة تأثٌرها‬ ‫على الساحة العالمٌة‪ ،‬وحدوث فراغ فً القوى اإلقلٌمٌة العربٌة (مثل مصر‬ ‫والعراق) التً تراجع نفوذها كثٌرا بعد حرب الخلٌج الثانٌة‪ ،‬لكً تحقق اختراقا ً كبٌرا‬ ‫فً سٌاستها الخارجٌة الجدٌدة التً تقوم على االحتفاظ بعالقاتها مع الغرب‪ ،‬وبالعودة‬ ‫إلى إرثها اإلسالمً‪ ،‬وتقوٌة عالقاتها االقتصادٌة والسٌاسٌة والثقافٌة مع جٌرانها من‬ ‫الدول العربٌة واإلسالمٌة التً كانت تقع ضمن سٌطرة االمبراطورٌة العثمانٌة سابقا ً‪.‬‬ ‫بصرف النظر عن قوة اإلقناع التً ٌملكها أحمد داود أوغلو‪ ،‬فإن السٌاسة الخارجٌة‬ ‫التركٌة‪ ،‬التً تعكس اإلسالم السٌاسً المعتدل والتحدٌثً لحزب العدالة والتنمٌة الذي‬ ‫ٌحكم تركٌا منذ عام‪ ،2002‬وتسعى إلى استعمال قوة التجارة الناعمة إلى جانب‬ ‫الروابط التارٌخٌة لنشر االستقرار فً منطقة الشرق األوسط‪ ،‬تش ّكل منعطفا ً تارٌخٌا ً‬ ‫مهماً‪ ،‬والسٌما أن التجدٌد الدٌبلوماسً التركً ٌسعى إلى التصالح مع عمقه‬ ‫االستراتٌجً وتوسٌع نفوذه اإلقلٌمً نحو إٌران وروسٌا والدول العربٌة‪ ،‬بٌنما كانت‬ ‫تركٌا تعتبر نفسها حصنا ً شرقٌا ً لحلف شمال األطلسً (الناتو) فً حٌن كان جٌرانها‬


‫مثل سورٌا والعراق وإٌران ٌعت َبرون بأنهم ٌش ّكلون تهدٌداً ٌجب احتواؤه‪.‬‬ ‫ولم ٌكن هذا التحول فً السٌاسة الخارجٌة لٌحصل من دون حدوث التغٌ​ٌرات‬ ‫الدراماتٌكٌة فً تركٌا‪ ،‬وال سٌما بعد نهاٌة الحرب الباردة وانهٌار االتحاد السوفٌاتً‪،‬‬ ‫حٌث اتجهت روسٌا نحو تبنً الدٌمقراطٌة الغربٌة‪ ،‬وتغٌر االستراتٌجٌة األمٌركٌة‬ ‫فً عهد إدارة جورج بوش االبن حٌن حاولت فرض النظام اإلقلٌمً الشرق أوسطً‬ ‫الجدٌد‪ ،‬وهما كانا فً أساس التوجهات االستراتٌجٌة الجدٌدة لحكومة حزب العدالة‬ ‫والتنمٌة التً قامت بإعداد قوانٌن تراعً احترام حقوق اإلنسان وحقوق المرأة‪،‬‬ ‫وإبعاد العسكر عن السٌاسة‪ ،‬واضطرارهم إلى تغٌ​ٌر حقل اهتمامهم فً السٌاسة‬ ‫الخارجٌة التً باتت من اختصاص النخب المدنٌة حصرٌا ً‪.‬‬

‫كتاب‪ :‬العمق االستراتٌجً موقع تركٌا ودورها فً الساحة الدولٌة الكاتب‪ :‬أحمد داود‬ ‫أوغلو‪ ،‬ترجمه‪ :‬د‪ .‬محمد جابر ثلجً ود‪ .‬طارق عبد الجلٌل وقام بمراجعته كل من‪:‬‬ ‫د‪ .‬بشٌر نافع ود‪ .‬برهان كور وغلو‪ .‬الناشر‪ :‬الدار العربٌة للعلوم ناشرون ‪+‬مركز‬ ‫الجزٌرة للدراسات‪ ،‬أٌلول‪ 646 ،2020‬صفحة‪.‬‬

‫وهللا غالب على أمره‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.