قراءة فً كتاب العمق االستراتٌجً موقع تركٌا ودورها فً الساحة الدولٌة ............... تألٌف :أحمد داوود أوغلو – موقع تركٌا ودورها فً الساحة الدولٌة . ترجمة محمد جابر ثلجً و طارق عبد الجلٌل – مركز الجزٌرة للدراسات
منذ وصول حزب العدالة والتنمٌة إلى السلطة فً تركٌا فً نهاٌة خرٌف 2002 ولغاٌة تدهور عالقات تركٌا مع إسرابٌل ،وانخراطها فً األزمة النووٌة اإلٌرانٌة، تسلك السٌاسة الخارجٌة التركٌة مسارات جدٌدة ،تعبر عن التحوالت العمٌقة التً تشهدها تركٌا خالل السنوات القلٌلة الماضٌة ،إذ اتخذت مواقف الفتة ونوعٌة من قضاٌا األزمات فً الشرق األوسط. لقد انتهج حزب العدالة والتنمٌة الحاكم فً تركٌا سٌاسة خارجٌة جدٌدة قوامها على النحو التالً :الحفاظ على التعاون مع الوالٌات المتحدة األمٌركٌة ،واالتحاد األوروبً ،وحلف شمال األطلسً ،من موقع القوة اإلقلٌمٌة الصاعدة التً ترٌد أن تحافظ على قدر من االستقاللٌة والمسافة مع الغرب ،وفً الوقت عٌنه تعمٌق الفجوة مع إسرابٌل فً سٌاق مسار تصادمً صعد إلٌه الطرفان التركً واإلسرابٌلً، وإعادة تموضع تركٌا فً مشهد جغرافً أوسع ،أي العودة إلى العالمٌن العربً واإلسالمًٌ ،مكن مالحظته منذ بداٌة األلفٌة الجدٌدة ،حتى صار الحدٌث عن تصاعد الدور اإلقلٌمً التركً ،وانبعاث ما ٌمكن تسمٌته بـ«العثمانٌة الجدٌدة» ملء األسماع فً أجهزة اإلعالم المربٌة والمكتوبة فً العالم الغربً. وٌقوم هذا المنظور الجدٌد للسٌاسة الخارجٌة التركٌة بصورة اساسٌة على ما ٌسمى بمبدأ "العمق االستراتٌجً" ،وهو المبدأ الذي صاغه البروفسور أحمد داود أوغلو أستاذ العالقات الدولٌة فً جامعة أنقرة ،فً كتاب نشر له سنة ،2002تحت عنوان: «العمق االستراتٌجً ..موقع تركٌا الدولً. أحمد داوود أوغلو : ولد عام 2151فً مدٌنة قونٌا فً قلب األناضول ،وتخرج من جامعة البوسفور التً تدرس موادها باللغة اإلنكلٌزٌة وتعتبر أهم المؤسسات الجامعٌة التركٌة ،فً عام ،2194من قسم العلوم السٌاسٌة ،لٌحصل الحقا ً على شهادة الدكتوراه فً العالقات الدولٌة .والحقا ً عمل فً أكثر من جامعة داخل تركٌا وخارجها كان أهمها الجامعة
اإلسالمٌة فً مالٌزٌا .وفً عام 2111حصل على مكانة بروفسور فً تدرجه األكادٌمً ،وكان آخر منصب جامعً تولى مسؤولٌته هو رباسة قسم العالقات الدولٌة فً جامعة «بً كانت» التركٌة الخاصة الراقٌة .وبسبب خبرته فً العالقات الدولٌة واطالعه األكادٌمً الغزٌر واهتمامه بتطبٌق النظرٌات على الواقع السٌاسً الٌومً ،استدعاه «جول» و «أردوغان» لإلشراف على مهام الرصد والتخطٌط والمشاركة فً عملٌة إطالق سٌاسة خارجٌة جدٌدة للبالد ،بعد تشكٌل حزب العدالة والتنمٌة ،ذي الجذور االسالمٌة ،للحكومة التركٌة ،وٌعتبر األستاذ الجامعً أحمد داود أوغلو ،الذي كان مستشاراً أساسٌا ً لربٌس الوزراء فً مجال السٌاسة الخارجٌة، إثر االنتصار المدوّ ي لحزب العدالة والتنمٌة AKPخالل انتخابات 3تشرٌن الثانً/نوفمبر ،2002ثم أضحى ابتدا ًء من أٌار 2001وزٌراً للخارجٌّة ،المنظر االستراتٌجً للدور اإلقلٌمً التركً .فهو الذي صاغ التوجهات الجدٌدة للسٌاسة الخارجٌة التركٌة ،والعقل المدبر وراء التغٌٌر الجذري الذي طرأ على سٌاسة حزب العدالة والتنمٌة الحاكم فً عالقة تركٌا بدول الجوار العربً -اإلسالمً . التأثر بنظرٌة صراع الحضارات : وٌبدو المتأمل فً دراسة هذه السٌاسة الخارجٌة التركٌة الجدٌدة ،أو السٌاسة اإلقلٌمٌة للدولة التركٌة ،أن البروفسور أحمد داود أوغلو ،كان متأثراً بنظرٌة «صراع الحضارات» التً وضعها المفكر األمٌركً الراحل صموبٌل هانتنغتون فً بداٌة عقد التسعٌنات من القرن الماضً ،وما أثارته من جدل فكري وثقافً وحضاري بٌن الغربً. والعالم اإلسالمً، العربً العالمٌن
- 2إعادة صٌاغة الهوٌة الوطنٌة التركٌة :
كانت تركٌا الدولة العلمانٌة التً تملك روابط قوٌة مع أوروبا ،والمشاركة األساسٌة فً حلف شمال أألطلسً ،والمنتقلة منذ نهاٌة الحرب الباردة من الهامش إلى الواجهة فً موضوع األمن فً منطقة أوراسٌا ،تطمح إلى أن تصبح عضواً فً االتحاد األوروبً ،وأن تؤدي دوراً إقلٌمٌا ً فً جنوب شرق أوروبا ،والشرق األوسط، والقوقاز. بٌد أن تركٌا تعانً من أزمة فً هوٌتها الوطنٌة ،التً لم تكن محل إجماع فً البالد منذ إعالن الجمهورٌة التركٌة الحدٌثة عام 2123على ٌد مصطفى كمال أتاتورك وحتى الٌوم .وتعد الهوٌة باعتبارها مدركات الدولة لنفسها فً مواجهة محٌطها الجغرافً؛ «من أهم العوامل الحاكمة فً رسم السٌاسة اإلقلٌمٌة للدول .وبالرغم من دورها االنطالقً واألساسً فً رسم السٌاسات اإلقلٌمٌة والخارجٌة؛ فإن الهوٌة الوطنٌة ال ٌمكن حسابها بالطرق االعتٌادٌة المتبعة فً قٌاس قوة االقتصاد ومدى ارتباطه باالقتصاد العالمً ،أو قٌاس نسبة الصادرات إلى الواردات ،وغٌر ذلك من المعاٌٌر الثابتة .لذلك فمن الطبٌعً أن تختلف مدركات هذه الهوٌة من حزب إلى آخر ومن فصٌل سٌاسً إلى غٌره من الفصابل خصوصا ً فً دول العالم الثالث ،وهذا االختالف ٌقود إلى اعتماد البرنامج السٌاسً لألحزاب الحاكمة على رؤى بعٌنها فً القضاٌا المختلفة ومنها طبعا ً السٌاسات الداخلٌة واإلقلٌمٌة والخارجٌة. وال ٌمكن لتركٌا البلد العلمانً الكبٌر ،أن ٌشكل جسراً بٌن العالم الغربً والشرق األوسط ،جغرافٌا ً واقتصادٌا ً وثقافٌاً ،إال إذا تمكن من حل معضلة الهوٌة الوطنٌة بداللة الهوٌة التعددٌة القابمة على تأسٌس العالقة الممكنة بٌن اإلسالم والدٌمقراطٌة، وعلى القبول بمدنٌة السلطة والتعددٌة الدٌنٌة والفكرٌة والسٌاسٌة وحقوق األقلٌات والحرٌات العامة والخاصة ضمن السٌاق االجتماعً العام المقبول. لقد حولت المؤسسة العسكرٌة التركٌة التً سٌطرت على مقالٌد السلطة لمرحلة تارٌخٌة كبٌرة ،ورسمت السٌاسات اإلقلٌمٌة لتركٌا فً اتجاه االرتباط بالغرب األوروبً واألمٌركً على مستوى السٌاسات اإلقلٌمٌة والدولٌة ،العلمانٌة إلى أداة لنفً الدٌن ومحاربته ،بدالً من االكتفاء بالفصل بٌن المجالٌن الدٌنً السٌاسً كما هو الحال فً النظم الدٌموقراطٌة الغربٌة.
العلمانٌة فً تركٌا لم تنشأ ضمن صٌرورة ثورة دٌمقراطٌة تارٌخٌة تنقل المجتمع التركً من هدأة التأخر التارٌخً إلى عصر الحداثة ،بل تحولت إلى شعارٌ ،متلا كغٌره من الشعارات بمضامٌن أٌدٌولوجٌة ،وبشحنة من االستفزاز والتحدي، وأصبحت فً ظل سٌطرة المؤسسة العسكرٌة على السلطة بمنزلة المذهب أو العقٌدة األٌدٌولوجٌة تمارس سلطة الضبط والتدخل والحجر ،ومصادرة حرٌة العقل. فارتبطت بذلك العلمانٌة التركٌة باالستبداد ،وتحولت تدرٌجٌا إلى ما ٌشبه االٌدٌولوجٌا المقدسة أو الدٌن الجدٌد ،وقطعت تركٌا عن واقعها التارٌخً والحضاري اإلسالمً بعد أن عزلت الدولة التركٌة نفسها عن االندماج فً محٌطها اإلقلٌمً ،أي العالم العربً واإلسالمً ،حٌث تراكمت مشاكلها مع دول الجوار الجغرافً ،وسٌطرت علٌها النظرة من أنها محاطة بدول معادٌة ،األمر الذي جعلها دابما تدافع عن نفسها باستمرار فً وجهها . بٌنما تعتبر العلمانٌة المنفتحة الحل الحقٌقً لمسألة األقلٌات فً بلد مثل تركٌا متعدد األعراق ،والمدخل الحقٌقً للمواطنة وبناء الدولة -األمة ،الدولة الحدٌثة الدٌمقراطٌة ،دولة الحق والقانون التً ٌستقل فٌها الدٌن عن الدولة والدولة عن الدٌن . الشك أن هذا التطبٌق المٌكانٌكً والتسلطً للشعارات العلمانٌة لفترة زمنٌة طوٌلة فً تركٌا هو الذي «أوجد حالة من االغتراب الثقافً وخلق أزمة هوٌة شعرت بها مختلف الفبات االجتماعٌة ،خصوصا ً الطبقات الوسطى والكادحة ،وهو عامل ساعد على تولٌد آلٌات ضغط شعبً للمطالبة بتوسٌع نطاق الحرٌات الدٌنٌة والسماح لها بممارسة الشعابر اإلسالمٌة ،وال جدال فً أن وجود هذه الحال المجتمعٌة الرافضة لالغتراب والراغبة فً استعادة هوٌتها الثقافٌة والدٌنٌة مهد فً ما بعد لقٌام أحزاب سٌاسٌة ذات مرجعٌة إسالمٌة ،على رغم من أن هذه األحزاب لم تبدأ بالظهور إال عام 2190حٌن قام نجم الدٌن أربكان بتأسٌس «حزب النظام الوطنً» .ومعنى ذلك أن تٌار «اإلسالم السٌاسً» فً تركٌا ٌعد فً الواقع تٌاراً حدٌث النشأة إذا ما قورن بالدول العربٌة واإلسالمٌة األخرى ،وهو ما من شأنه طرح تساؤالت عدٌدة حول أسباب النجاح المذهل الذي حققه فً تلك الفترة الوجٌزة نسبٌا والتً ال تزٌد عن ثلث قرن .
- 2مرتكزات السٌاسة الخارجٌة التركٌة الجدٌدة: التحول النوعً فً السٌاسة الخارجٌة التركٌةٌ ،كمن فً استطاعة حزب العدالة والتنمٌة أن ٌدرك بشكل متمٌز الهوٌة الوطنٌة لتركٌا ،من حٌث هً أوروبٌة وشرق أوسطٌة أٌضاً ،وأن ٌبلور األسس الجدٌدة للسٌاسة الخارجٌة التركٌة ،التً تستند على الركابز المعروفة فً العلوم السٌاسٌة مثل :التحالفات الدولٌة والموقع الجغرافً واإلمكانات البشرٌة واالقتصادٌة ،إضافة إلى الروابط التارٌخٌة لتركٌا فً محٌطها األوراسً ،والعالم العربً واإلسالمً ،ودورها الكبٌر فً رسم السٌاسة اإلقلٌمٌة لتركٌا . ٌؤ ّكد السٌد أحمد داود أوغلو ،وزٌر الخارجٌة التركً« ،أنّ المسألة تتعلق أوالً برؤٌتنا لألمور» .ورؤٌته لٌست ضٌّقة :فهو إذ ٌرٌد السالم واألمن فً المنطقة، ٌعتبر أنّ بالده ،العضو فً الوقت نفسه فً مجموعة الدول العشرٌن G20وفً ّ منظمة حلف شمال األطلسً ، NATOتحت ّل موقعا ً ٌخوّ لها المساهمة فً تحقٌق ذلك. والسٌد داود أوغلو هو مهندس سٌاسة أنقرة الجدٌدة؛ تلك القابمة على مبدأ "صفر مشاكل مع الجٌران" وعلى "القوّ ة الهادبة "التً ترتكز على اإلقناع والتفاوض . لقد أصبحت السٌاسة الخارجٌة التركٌة خالل العقدٌن األخٌرٌن لمرحلة ما بعد نهاٌة ّ محط العدٌد الحرب الباردة ،أي مرحلة عودة انطالق الدور اإلقلٌمً إلى الخارج، من النقاشات والجداالت فً الغرب وفً تركٌا والعالم العربً. عن الكتـــــاب : ٌقع الكتاب فً 644صفحةٌ ،بدأ بتمهٌد ثر وجمٌل عن أهمٌة ومنهجٌة الدراسات اإلنسانٌة وعلى رأسها العالقات الدولٌة .ثم جزء أول :اإلطار المفاهٌمً النظري عن معادلة قوة الدول ،وخطورة قصور النظرٌة االستراتٌجٌة ،واإلرث التارٌخً لتركٌا
ودورها فً الساحة الدولٌة خالل الحرب الباردة .ثم الجزء الثانً :اإلطار النظري: االستراتٌجٌة المرحلٌة والسٌاسات المرتبطة بالمناطق الجغرافٌة ،ثم الجزء الثالث: مجاالت التطبٌق :الوسابل االستراتٌجٌة والسٌاسات اإلقلٌمٌة ،ثم خاتمة. و فً الترجمة العربٌة أضاف الكاتب فصالً حول ما حققته تركٌا ما بعد الكتاب وحتى عام .2020 تكمن أهمٌة الكتاب أنه نشر قبل تأسٌس العدالة والتنمٌة ،بٌنما نلحظ أن العدالة والتنمٌة سار على كثٌر من نظرٌات الكتاب ،وهو ما أعطى داود أوغلو لقب "مهندس السٌاسة الخارجٌة التركٌة" ،وهذه زاوٌة اخرى تعطً أهمٌة كبٌرة للكتاب، إذ جمع كاتبه بٌن النظرٌة والتطبٌق. الكتاب ذو لغة اكادٌمٌة عمٌقة وصعبة ،وثري بالمواضٌع والمواد ،وال ٌقتصر على عنوانه (تركٌا) ،بل ٌستفاد منه فً فهم الكثٌر من األحداث التارٌخٌة والنظرٌات السٌاسٌة/الدولٌة والتطورات الحالٌة. بٌن طـــــٌات الكتـــــاب : فً كتابه الذي ٌحمل العنوان اآلتً« :العمق االستراتٌجً ..مكانة تركٌا الدولٌة» بنى البروفسور أوغلو تحلٌالته من خالل التركٌز على األبعاد الجٌوسٌاسٌة ،والسٌما على المكونٌن اللذٌن ٌشكالن أساس «العمق االستراتٌجً» - ،وهما" :العمق الجغرافً" و"العمق التارٌخً " فٌما ٌتعلق بالعمق الجغرافًٌ ،عتبر أوغلو تركٌا دولة "مركزٌة" ،والحال هذه ال ٌجوز النظر إلٌها كدولة "جسر " تربط نقطتٌن فحسب ،أو كدولة "طرفٌة" ،أو حتى كدولة عادٌة تقع على تخوم العالم اإلسالمً أو الغرب ،حسب تعبٌر أوغلو نفسه . وٌرجع أوغلو كون تركٌا دولة «مركزٌة» إلى موقعها الجغرافً الفرٌد ،عندما ٌقول« :جغرافٌا تركٌا تعطٌها حال دولة مركزٌة فرٌدة تختلف عن الدول المركزٌة األخرى .فعلى سبٌل المثال تعتبر ألمانٌا دولة مركزٌة فً أوروبا ولكنها بعٌدة
جغرافٌا ً عن إفرٌقٌا وآسٌا .وروسٌا أٌضا دولة مركزٌة فً أوروبا ولكنها بعٌدة جغرافٌا عن إفرٌقٌا ،وإٌران دولة مركزٌة فً آسٌا لكنها بعٌدة جغرافٌا عن أوروبا وإفرٌقٌا .وبنظرة أوسع ،فإن تركٌا تحتفظ بالموقع األفضل فٌما ٌتعلق بكونها دولة أوروبٌة وآسٌوٌة فً الوقت عٌنه .كما أنها قرٌبة من افرٌقٌا أٌضا ً عبر شرق البحر المتوسط .ومن ثم فإن دولة مركزٌة تحتفظ بموقع متمٌز هكذا ال ٌمكن لها أن تعرف نفسها من خالل سلوك ،وال ٌجب النظر إلٌها كدولة ممر تربط نقطتٌن فحسب ،وال دولة طرفٌة ،أو كدولة عادٌة تقع على تخوم العالم اإلسالمً أو الغرب ». «العمق الجغرافً» و«العمق التارٌخً»ٌ ،شكالن اإلرث التارٌخً الذي ورثته تركٌا من اإلمبراطورٌة العثمانٌة بوصفها أحد مراكز الجذب العالمٌة ،حٌث كانت استانبول عاصمتها التارٌخٌة ،بعد أن كانت تارٌخٌا ً عاصمة اإلمبراطورٌات الرومانٌة والبٌزنطٌة .فالجزء األكبر من تركٌا أي نحو 1975فً المبة من مساحتها ٌقع فً آسٌا ،فً حٌن تقع النسبة الباقٌة فً أوروبا .وكانت قسطنطٌنوبولٌس مدٌنة مسٌحٌة بٌزنطٌة قبل أن ٌفتحها السلطان العثمانً محمد ،والذي ذهب فً التارٌخ باعتباره «محمد الفاتح» بسبب ضمه استانبول إلى إمبراطورٌة العثمانٌٌن ،لٌتبدل اسم المدٌنة إلى اآلستانة التً أصبحت حاضرة الشرق الكبرى وعاصمة الدولة العلٌّة العثمانٌة .استعمل السلطان محمد الفاتح ألول مرة فً التارٌخ المدافع ذات القطر الكبٌر عند فتحه المدٌنة العرٌقة ،فً تطبٌق عملً للعالقة العضوٌة بٌن امتالك ناصٌة العلوم والمعارف التقنٌة والنجاحات العسكرٌة والسٌاسٌة. لقد جمع البروفسور أوغلو بٌن المعٌارٌن «العمق الجغرافً» االستراتٌجً، و«العمق التارٌخً» الثقافً لتركٌا تحت اسم واحد هو «العمق االستراتٌجً»، ونتاج تشكل تركٌا ذاتها من موزاٌٌك فرٌد من األعراق (أتراك ،أكراد ،عرب، أرمن ،شركس ،الز) والطوابف (السنة والعلوٌٌن والمسٌحٌٌن األرثوذكس والٌهود)، فإنها من وجهة نظر أوغلو ،تركٌا دولة ذات هوٌات إقلٌمٌة متعددة ،أي أنها تنتمً إلى مناطق الشرق األوسط ،والبلقان ،والقوقاز ،وآسٌا الوسطى ،وبحر قزوٌن، والبحر األسود ،والبحر المتوسط ،وال ٌمكن حصرها فً هوٌة واحدة.
والحال هذه ،على تركٌا ،حسب وجهة نظر أوغلو« :أن تعتبر كونها دولة طرفٌة هً جزء من الماضً ،وتدشٌن سٌاسة خارجٌة جدٌدة تقوم على توفٌر االستقرار لٌس لنفسها فحسب ،ولكن لجٌرانها فً مناطق نفوذها .وعلى تركٌا أٌضا ً أن تضمن أمنها القومً واستقرارها عبر تطوٌر دور أكثر فاعلٌة وبناء لتوفٌر النظام واألمن واالستقرار فً النظم المحٌطة بها. وفقا لهذا المنظور ،بلور حزب العدالة والتنمٌة األسس الجدٌدة للسٌاسة الخارجٌة التركٌة الموجهة لكل منطقة ،مع التكامل بٌن أبعادها .وتقوم هذه األسس على ضرورة تعدد أبعاد السٌاسة الخارجٌة التركٌة بما ٌتفق وطبٌعة تركٌا كدولة ذات «عمق استراتٌجً» مستمد من وقوعها فً قلب منطقة أفروأوراسٌا . شرعت تركٌا مع بداٌة العقد الحالً فً تطوٌر رؤٌتها وسٌاستها على نحو ٌتواكب مع المستجدات فً القرن الحادي والعشرٌن ،وبذلت جهودها إلرساء رؤٌتها على أرضٌة صلبة توظف فٌها موروثاتها التارٌخٌة والجغرافٌة التوظٌف األمثل. من أجل ذلك تعٌن على تركٌا االلتزام بستة مبادئ حتى ٌتسنى لها تطبٌق سٌاسة خارجٌة إٌجابٌة فعالة: المبدأ األول :هو التوازن السلٌم بٌن الحرٌة واألمن» .والحقٌقة أنه ما لم تحرص دولة من الدول على إقامة ذلك التوازن بٌن الحرٌة واألمن بداخلها ،فإنها ستكون عاجزة عن التأثٌر فً محٌطها .كما ان مشروعٌة النظم السٌاسٌة ٌمكنها ان تتحقق عندما توفر هذه النظم األمن لشعوبها ،مع عدم تقلٌص حرٌاتها فً مقابل ذلك .وما نعنٌه هو ان االنظمة التً توفر األمن لشعوبها وتحرمها فً مقابل ذلك من الحرٌة، تتحول مع الوقت انظمة سلطوٌة ،وكذلك االنظمة التً تضحً باألمن بدعوى انها ستمنح الكثٌر من الحرٌات ،ستصاب بحالة من االضطراب المخٌف .واذ اتجه العالم من بعد احداث الحادي عشر من اٌلول عام 2002الى تقلٌص الحرٌات بدعوى
تحقٌق األمن ازاء التهدٌدات االرهابٌة ،فان نجاح تركٌا فً تحقٌق هذه المعادلة الصعبة بتوسٌعها مساحة الحرٌة دون ان تغامر بأمنها لهً نقطة جدٌرة بالمالحظة واالنتباه. المبدأ الثانً" :فً تصفٌة المشكالت" مع دول الجوار ،وهو مبدأ بدت نتابجه االٌجابٌة واضحة بجالء لكل متابع ،فعند مقارنة وضع تركٌا اآلن ،بما كانت علٌه قبل اربعة أو خمسة اعوام ،سنجد ان عالقات تركٌا مع كل دولها المجاورة باتت وطٌدة الى اكبر درجة .وابرز االمثلة على ذلك عالقاتها مع سورٌا التً توّ جت بإبرام عدد من اتفاقات التجارة الحرة بٌن البلدٌن ،وفتحت الطرٌق امام عالقات اقتصادٌة ضخمة .ارتقى مستوى عالقات تركٌا بسورٌا اآلن الى حد ٌمكن ان ٌوصف باالنقالب فً المسار الدٌبلوماسً مقارنة بما كانت علٌه قبل عشرة أو خمسة عشر عاما ،وحتى عند بداٌة الثورة حاولت تركٌا أن ٌبقى البٌت الداخلً السوري مستقرا وطالبت النظام السوري بتطبٌق اإلصالحات التً من شأنها أن تعزز السلطة السٌاسٌة ،عمال بهذا المبدأ . المبدأ الثالثٌ :قوم على التأثٌر فً االقالٌم الداخلٌة والخارجٌة لدول الجوار ،وٌمكن هنا التحدث عن تأثٌر تركٌا فً البلقان والشرق االوسط والقوقاز وآسٌا الوسطى. اهتمت الخارجٌة التركٌة فً عقد التسعٌنات من القرن المنصرم اهتماما ً جادا ومؤثرا بالبلقان ،والسٌما فً أزمتً البوسنة والهرسك وكوسوفو ،وهو اهتمام ٌرتكز على اسس راسخة .وظلت قدرة تركٌا على النفاذ الى الشرق االوسط محدودة ،مقارنة بما تتمتع به تركٌا من تأثٌر داخل البلقان والقوقاز ...وتأطرت هذه الصورة السلبٌة فً عقل االتراك ان العرب قد خانوا الدولة العثمانٌة وطعنوها فً ظهرها ،وفً المقابل اعتقد العرب أن االتراك قد احتلوا العرب ألربعة قرون .ومن ثم كان ذلك الحاجز النفسً هو العقبة الكؤود امام انفتاح كال الطرفٌن على اآلخر .بٌد ان الضرورات البراغماتٌة التً تولدت عن الحاجة الى الدعم الدٌبلوماسً المتبادل قد فتحت الطرٌق امام هذه العالقات ،وحطمت تلك الحواجز التارٌخٌة /النفسٌة ،وهو ما جعل تركٌا اكثر ارتباطا بسٌاساتها الشرق اوسطٌة الفعالة التً انتهجتها منذ عام». 2002
ٌرتكز المبدأ الرابع" :السٌاسة الخارجٌة المتعددة البعد" ،على ان العالقات مع الالعبٌن الدولٌٌن لٌست بدٌلة من بعضها البعض ،وانما متممة لها .وهو مبدأ ٌسعى البراز عالقات تركٌا االستراتٌجٌة مع الوالٌات المتحدة األمٌركٌة فً اطار ارتباطها بالحلف االطلسً (الناتو) وتحت مفهوم العالقات الثنابٌة ،وكذلك لطرح جهود تركٌا لالنضمام إلى االتحاد األوروبً ،وكذلك سٌاستها مع روسٌا وأوراسٌا على الوتٌرة ذاتها من التزامن باعتبارها عالقات تجري كلها فً اطار التكامل ،ولٌست عالقات متضادة أو بدٌلة من بعضها البعض .وان ما نقصده هنا ونود التأكٌد علٌه هو ان السٌاسة المتعددة البعد التً تنتهجها تركٌا منذ سبع سنوات لم تتضارب أو تتناقض مع بعضها البعض ،ولذلك اضحت سٌاسات مؤسسٌة راسخة. أما المبدأ الخامس :فهو "الدٌبلوماسٌة المتناغمة" ،اذ عند النظر الى اداء تركٌا الدٌبلوماسً من زاوٌة عضوٌتها فً المنظمات الدولٌة ،واستضافتها للمؤتمرات والقمم الدولٌة نجد تطورات مهمة وجادة ،فً حال ما قورنت بأدابها الدٌبلوماسً قبل عام ،2003استضافت تركٌا قمة الناتو ،وقمة منظمة المؤتمر االسالمً فضال عن استضافتها معظم المنتدٌات الدولٌة .واصبحت عضوا مراقبا فً منظمة االتحاد اإلفرٌقً عام ،2009وهو ما ٌمكن ان ٌفسر باعتباره نتٌجة طبٌعٌة لسٌاسة تركٌا فً االنفتاح على إفرٌقٌا منذ عام ،2005فضال عن مشاركة ربٌس الوزراء رجب طٌب أردوغان فً قمة االتحاد اإلفرٌقً األوروبً التً انعقدت فً مدرٌد ،وهً المشاركة التً هٌأت لتركٌا ان تصبح العبا ً مؤثرا فً العالقات بٌن االتحاد االفرٌقً وأوروبا .وبدعوة من جامعة الدول العربٌة شاركت تركٌا على مستوى وزراء الخارجٌة وعلى مستوى رؤساء الوزراء على حد سواء .كما وقعت مع جامعة الدول العربٌة على اتفاقٌة خاصة على خلفٌة اجتماع دول جوار العراق ،وذلك خالل الفترة التً تصاعدت فٌها االزمة بٌن العراق وحزب العمال الكردستانً ،حٌث قضت االتفاقٌة بتأسٌس عالقات مؤسسٌة وتشكٌل المنتدى التركً العربً. المبدأ السادس واألخٌر" :أسلوب دٌبلوماسً جدٌد" لفترة طوٌلة من التارٌخ كانت
تركٌا فً نظر العالم دولة جسرٌة ،لٌس لها رسالة سوى ان تكون معبراً بٌن االطراف الكبرى .والمقصود من ذلك الدور هو ان تركٌا دولة تنقل طرفا الى طرف آخر دون ان تكون فاعال بٌن الطرفٌن .ولذا بدت تركٌا لدى الشرقً دولة غربٌة، ولدى الغربً دولة شرقٌة ،ومن ثم كان من الضروري رسم خرٌطة جدٌدة لتركٌا تجعلها مرشحة ألداء دور مركزي :وأن تكون دولة قادرة على انتاج االفكار والحلول فً محافل الشرق ومنتدٌاته ،رافعة هوٌتها الشرقٌة دون امتعاض ،ودولة قادرة على مناقشة مستقبل أوروبا داخل محافل أوروبا ومنتدٌاتها من خالل نظرتها األوروبٌة .وهذه الرؤٌة لٌست موجهة للدٌبلوماسٌٌن والسٌاسٌٌن وحدهم بل للمثقفٌن أٌضاً ،اذ ان الوصول الى نتابج اٌجابٌة فً هذه الرؤٌة ٌعد أمراً مستحٌالً دون اعادة تهٌبة المثقف وتطوٌره فً نموذج جدٌد». من هنا ،شكلت المقاربة الجدٌدة للسٌاسة الخارجٌة التركٌة خروجا ً عن اإلطار القدٌم المألوف زمن الحرب الباردة ،الذي تسود فٌه سٌاسة خارجٌة منغلقة ،فتركٌا تتصرف للمرة األولى من خالل بسٌكولوجٌا وفهم وثقة تعكس حقابق مرحلة ما بعد الحرب الباردة .وإذا كانت هناك شعوب وبلدان ال تزال تعٌش فً عالم الدٌنامٌات والتوازنات التً كانت سابدة فً مرحلة الحرب الباردة ،فإن تركٌا تنطلق بسرعة كبٌرة جداً فً القرن الحادي والعشرٌن ،لجهة اعتمادها على تنوٌع سٌاستها الخارجٌة المتحركة فً ا ّتجاهات متع ّددة بحسب ما تملٌه علٌها جغرافٌتها وتارٌخها ،والمنطلقة أٌضا ً من خدمة مصالحها الوطنٌة مصالحها االقتصادٌة واألمنٌة واإلقلٌمٌة . و هكذا تختلف جداً فكرة «العمق االستراتٌجً» وسٌاسة «صفر مشاكل» عن سٌاسة الجمهورٌة التركٌة خالل الحرب الباردة .وتختلف أٌضا ً عن سٌاستها فً أغلب سنوات ما بعد نهاٌة الحرب ،حٌث كانت السٌاسة التقلٌدٌة للجمهورٌة التركٌة تقوم على االنغالق داخال مع التأكٌد على احترام الوضع الراهن وحماٌة حدودها فً آسٌا الصغرى ،والسبب األساسً لهذه السٌاسة كان ٌكمن فً مخاوف األتراك من أن تحاول الدول العظمى العمل مجدداً على تقسٌم اإلقلٌم التركً ،وهً مخاوف مشروعة بات معظمها ظاهرا للعٌان خالل سنوات الثورة السورٌة ،ومحاولة الغرب تألٌب األكراد فً سورٌة ضد الدولة التركٌة.
وشكلت هذه السٌاسة الخارجٌة التقلٌدٌة لتركٌا فً معظم سنوات الجمهورٌة الترجمة الفعلٌة لمقولة كمال مصطفى (أتاتورك) المشهورة «السالم فً الداخل والسالم فً الخارج» ،وتجنب التدخل فً األوضاع الداخلٌة للدول المجاورة .والخروج الوحٌد عن سٌاسة حفظ الوضع الراهن خالل فترة الحرب الباردة كان تدخل تركٌا العسكري فً قبرص فً عام . 2194 هل ٌمكن فهم السٌاسة الخارجٌة الجدٌدة لتركٌا ،اي سٌاسة «العمق االستراتٌجً» على أساس أنها تشكل قطٌعة مع السٌاسة الخارجٌة التً كانت سابدة فً عهد كمال أتاتورك ومرحلة الحرب الباردة؟ تركٌا التً تقدم نفسها كقوة إقلٌمٌة قابدة فً العالمٌن العربً واإلسالمً ،ال ٌمكن أن تحسن مكانتها هذه من دون أن تكون نصٌرة للقضٌة الفلسطٌنٌة فً عٌون العرب والمسلمٌن ،وهً تستثمر بجدارة المأزق األمٌركً فً كل من العراق وأفغانستان، وظهور تع ّددٌة قطبٌة جدٌدة ت ّتسم بصعود قوى إقلٌمٌة قادرة على ممارسة تأثٌرها على الساحة العالمٌة ،وحدوث فراغ فً القوى اإلقلٌمٌة العربٌة (مثل مصر والعراق) التً تراجع نفوذها كثٌرا بعد حرب الخلٌج الثانٌة ،لكً تحقق اختراقا ً كبٌرا فً سٌاستها الخارجٌة الجدٌدة التً تقوم على االحتفاظ بعالقاتها مع الغرب ،وبالعودة إلى إرثها اإلسالمً ،وتقوٌة عالقاتها االقتصادٌة والسٌاسٌة والثقافٌة مع جٌرانها من الدول العربٌة واإلسالمٌة التً كانت تقع ضمن سٌطرة االمبراطورٌة العثمانٌة سابقا ً. بصرف النظر عن قوة اإلقناع التً ٌملكها أحمد داود أوغلو ،فإن السٌاسة الخارجٌة التركٌة ،التً تعكس اإلسالم السٌاسً المعتدل والتحدٌثً لحزب العدالة والتنمٌة الذي ٌحكم تركٌا منذ عام ،2002وتسعى إلى استعمال قوة التجارة الناعمة إلى جانب الروابط التارٌخٌة لنشر االستقرار فً منطقة الشرق األوسط ،تش ّكل منعطفا ً تارٌخٌا ً مهماً ،والسٌما أن التجدٌد الدٌبلوماسً التركً ٌسعى إلى التصالح مع عمقه االستراتٌجً وتوسٌع نفوذه اإلقلٌمً نحو إٌران وروسٌا والدول العربٌة ،بٌنما كانت تركٌا تعتبر نفسها حصنا ً شرقٌا ً لحلف شمال األطلسً (الناتو) فً حٌن كان جٌرانها
مثل سورٌا والعراق وإٌران ٌعت َبرون بأنهم ٌش ّكلون تهدٌداً ٌجب احتواؤه. ولم ٌكن هذا التحول فً السٌاسة الخارجٌة لٌحصل من دون حدوث التغٌٌرات الدراماتٌكٌة فً تركٌا ،وال سٌما بعد نهاٌة الحرب الباردة وانهٌار االتحاد السوفٌاتً، حٌث اتجهت روسٌا نحو تبنً الدٌمقراطٌة الغربٌة ،وتغٌر االستراتٌجٌة األمٌركٌة فً عهد إدارة جورج بوش االبن حٌن حاولت فرض النظام اإلقلٌمً الشرق أوسطً الجدٌد ،وهما كانا فً أساس التوجهات االستراتٌجٌة الجدٌدة لحكومة حزب العدالة والتنمٌة التً قامت بإعداد قوانٌن تراعً احترام حقوق اإلنسان وحقوق المرأة، وإبعاد العسكر عن السٌاسة ،واضطرارهم إلى تغٌٌر حقل اهتمامهم فً السٌاسة الخارجٌة التً باتت من اختصاص النخب المدنٌة حصرٌا ً.
كتاب :العمق االستراتٌجً موقع تركٌا ودورها فً الساحة الدولٌة الكاتب :أحمد داود أوغلو ،ترجمه :د .محمد جابر ثلجً ود .طارق عبد الجلٌل وقام بمراجعته كل من: د .بشٌر نافع ود .برهان كور وغلو .الناشر :الدار العربٌة للعلوم ناشرون +مركز الجزٌرة للدراسات ،أٌلول 646 ،2020صفحة.
وهللا غالب على أمره