أسامة رضا
عناقيد الذاكرة
إن الظل م الزاحف على النسانية يخيفني ..
-توفيق الحكيم -
2
– 1996في العاشر من نيسان بدأ عدوان إسرائيلي على الجنوب، البقاع الغربي وبيروت ...ولم ينتِه .
كنا نحّس بأّن السيارات القليلة العابرة في الحي ،تحرك الهواء الراكد، فتكسر بحر الرتابة اللزج ..بنسمة جديدة ..في حين جلست مع أصحاٍب لي نمارُس لعبة ورق بلهاء ..على الشرفة المطلة على شارع بدأ يتثاءب
من قلة الحركة .إجتاحني شعوُر خفٌي بالقلق ..تسرب هذا الشعور ص ةة واتسعت دائرةٌ من واضحًا إلى حركات يدي ..اختلجت في صدري غ ّ خو ٍ ف غريزي تزايدت شيئاً فشيئًا ثم امتد المفعول ذاته إلى زملئي في
الجلسة . ت أوراقي ضغطت على شفتي وكأني أضغطُ فجأة ..نهض كل منا ..رمي ُ أعصابي كي ل تنفلت منها صرخة رعب عارم ..واندفعت غير مباٍل نحو ت عن ولدي ابن الداخل -كأني أحتمي من قضاء ل مفر منه – فتش ُ الستة عشر شه ًار ..كان قبل لحظات يطلق ضحكاته المتحولة الن
صرخات هلٍع . ل وعنيفاً لدرجة أني كان جدار الصوت المخترق من طيران العدو ،مزلز ً ت لو كان قصفاً . تمني ُ ....سكت جدي ملتقطاً أنفاسه .سكن في عالمه الغيبي وراح يفتش في ذاكرته عن باقي الخيط ليتابع .. 3
كنت جالسة على الرض قرب الكانون ..كان الفصل شتاًء والمطُر ب عنيفاً من السماء مصحوباً ببر ٍ ق يضيء ليَلنا المعتم منهم ارً ينسك ُ
ورعٍد يهدُر فوق رؤوِس ننا والنور مقطوع كالعادة ..تابع جدي : -
إفتحوا التلفزيون :صرخنا ! " ُبعيَد غارة بالطيران على أحد
التجمعات السكنية راح رجل يمسُح الغبار الذي عفره ويصلح جدا اًر تهاوى بفعل القصف ،في حين كانت إمرأته تجاهد لعادة سريان
الحياة إلى مدخل الدار ،طلب الرجل من زوجته أن تشغل له جهاز الراديو لمعرفة مكان وقوع الغارة " -
-
...نكتة هذه يا جدي ؟؟..
نعم يا جدي نكتة ..نكتة .كنا نراقب عند العصر الطائرات السرائيلية وهي تطلق بالوناتها الح اررية محومة باستمرار – كالشائعات – في الجو وكنت أرصد تراقصها البهلواني ودورانها المتوالي )مثل هندي يصهل حول ناره المقدسة( .
-
سألته ببراءة وعفوية ..لماذا ل يوقفون إطل قن النار ونستريح ؟ )استعملت نون الجماعة وانا اظهر اهتماماً بمتابعة قصته التي ب صارت جزءاً من ذاكرتي ..فكرت طوي ً ل وأنا القي بالسؤال وأجي ُ
عليه في نفس الوقت ) كأن المر بيده ( .
4
قة نظر جدي إلّي طوي ً ل ثم أردف :استيقظت صباحاً ،كان هناك طْر ٌ على الباب .. كان شقيقي الصغر :ستبقى ؟ ...سألني كنت أِح ّ ك عيني متنفساً من رقاٍد عمي ٍ ق لم تؤثر فيه كة مؤخرتي وأفر ُ ّ أحلُم الطي ارِن الليلي - :ما المر ؟! ...صباح الخير -
ت ؟ ة " ...عاد يسألني بصوت متهدج " . إستيقظ ُ -
أخبرني ؟
تهديُد إثنتي عشرة قرية في قضاء صور بالقصف عند الساعة الحادية
ت أذكر ؟ وامتد النذار عشرة .إرتفع العدد إلى عشرين أو أربعين ! لس ُ
حتى الواحدة ثم امتد حتى الثالثة ثم السادسة مساًء .
سكت جدي وطلب مني أن أصّب له الشاي في كوبه الصغير .. ت كلماته . إرتش َ ف الشاي بمتعٍة ثم إرتشف ُ تابَع ... ت النهاَر بطوِله في قارب النتظار – إنتظار إنتهاء النذار – لم عبر ُ
أكن وحدي :كنا أشلء عائلة تفرقت نزوحاً نحو الشمال ..أو لم يطلب
بيان الذاعة ذلك ؟
5
ل الولى – تشعر أنك في الليلة الولى للهجرة الجنوبية – هل هي فع ً وحدك في الكون وأن الرض ..الحجارة ..الهواء ..الطير .. السماء ..كلها موجودة ومنعدمة ..حاضرة ومتغيبة ..حتى الحياة تجمدت وانعدم النبض في شرايينها . أرفع صوت التلفزيون ..ملحق /على الشاشات واقعٌ معاش على حافة
الموت ...كلمات متتالية سريعة عن أمكنة القصف المستهدفة :مواقع مدنية ،ملجئ ،مشافي ،سيارات إسعاف ..كنت أسأل نفسي لماذا هذا القصف المتكرر على أماكن بحد عينها . ت وأنا س َِتن ؟ أجب ُ ت على يِد جدي تَُر ّبن ُ إستيقظ ُ ت على كتفي ..نع ْ ف مستيقظة :ل يا جدي واصل حديثك إنما أنا كنت أحلم به !! نص ُ ت قوًل قرأته في كتاب اللغة العربية شّك لن جواباً عن سؤال جدي تذكر ُ السابق :
ص ّمنانءِ قد أَثّْر "نن في الصخرِة ال ّ أردف جدي ...
"أما ترى الماَء بتك ارِرِه
بانتظار أن يداهمنا َش ْية ٌء ة مجهول ،تظل نقطتان سوداوان معلقتان في الزرقة ...تستجمان في العراء ..هناك على ارتفاع غير مبال على مدى النظر ..تستفزانك هاتان المروحيتان بموقعهما الثابت طيلة بعد ظهر هادئ ل يكسر رتابته إل الملحق الخباري ،كتنيٍن فاغٍر فاهُ ... يقذف ما هو أقوى من النار .
6
يتعانق الناس على الشاشات ،وتبكي طفلة تسترجع في وجع أغنية متغبرة لجنوب وتراب وناس . يمتد نار الوجع كبقعة زيت تتشربها صفحة الرض وتحاصرنا جميعًا، وننزلق كلنا نحو الهاوية. لقد سموا عدوانهم " عناقيد الغضب" . أصبحت الطريق نحو الشمال مقطوعة بفعل القصف المركز على اي منتقل في التجاهين .البعض كان يكسر قانون السير المفروض – هذا ويسقط في فخ الموت المنصوب شهيَد إغلق شرايين الحياة ودروبالوطن.
الطيران المعادي لم يتوقف ،يتابعنا الملحق / غارة اسرائيلية على مدينة النبطية وقع فيها تسعة شهداء .بينهم أطفال أصغرهم في الثالثة من عمره ...أو في الرابعة أو الخامسة ،ما هّم !
من يزايد في عمر طفل صار في المقلب الخر؟ .
...والطائرات تخترق جدار الصوت ..متى يخترق صوتنا جدا اًر ؟؟؟؟ . في المنصوري سبقنا الموت في سيارة إسعاف كنا ننتظر كل يوم المعجزة أو الموت!
7
حدقُت في وجهه المتراقص خياًل على ضوء الشموع كنت أحس
ت بين الحين والحين على بالمان وأنا راقدة في جواره .كانت يده ترب ُ رأسي وتمسح وجهي بحنو في حين تنفلت الكلمات من شفتيه وهو
يدمدُم ... ت رعبي في بسمة بلهاء وأنا أواجه العائلة المنكسرة برجاء . إعتصر ُ
كانوا يتابعون تفاصيل الخبر في الملحق /
أن نلملم أشلء الكلمات لن ِ ث ..أهوُن من لملمِة الجساد فة ة ما حد َ ص َ
في قانا .كالمشدوه كنت اراقب تفاصيل المجزرة باللون الحمر والكلم
يتوالى ..تعليقات لمن حولي ولهجات مختلفة ول أفهم ..أنظُر إلى
ت السمع – قلت في نفسي. الصور والوجوه والجساد ول أفهم – فقد ُ ت فّك مخارج الحروف ورموز الصور دون جدوى – إنهم ل حاول ُ
ت نابعٌ من داخلي . يتكلمون العربية – قال صو ٌ
في الخارج كان الكّل يصيح ويتحرك ويصرخ وينشج ... كان الذهول طاغيًا في الشارع غطى الجدران والنوافذ والمداخل والبواب .الشارع الذي كان اصلً هامد الحركة نائمًا .للحظة توقف النمل عن الدبيب وسكنت رفرفة الفراشات وخُر َسة حفيف الوراق . توقف الطريق عن استقبال المارة حدادًا ولف الجماد كل الحي ،البنية ق ما والعصافير حتى الهواء توقف عن التنفس .وحده كان التلفزيون يدل ُ 8
في أحشائه .وحده كان الطيران المعادي يحاول أن يعزف لحناً جنائزياً لم يسمع ... سرحت في كلمات جدي ..لماذا قال لي إنه بات ل يفهم كلمهم أو صورهم لماذا فقد السمع رغم أنه ل يزال يتابع الملحق وينقل عنه ما يشاهده لماذا وصف ما حصل بهذه العبارات المتقطعة هل ما حدث ي ؟إلى هذه الدرجة أم أنه لم يجد عني ٌ ف ؟ مريعٌ ؟ مؤلٌم ؟ مأساو ٌ الوصف المناسب فعجز وبرر قوله بفقدان السمع .أيفقدنا ال لنم معنى الحدث ،أم أن العنف يصبح هو المسيطر على شعورنا فنصف كل ما نعجز عن فهمه به .أم أن المأساة تصبح سلوكاً طبيعياً للبشر فيأكلون ويتنفسون المآسي على مدى سنين أعمارهم القصيرة . تجسدت هذه الفكرة في مخيلتي وساهمت مرويات جدي في مّد جذورها ..كنت أصبحت أرضاً خصبة انزرعت قصته هذه ،في أعماق ذاكرتي ذات ليلة ماطرة . استزدته بشوق طاردة نعاساً بدأ يداعب َع ْينننّي . كانت مجزرة قانا فاتحة نهاية القصة – بل قولي بداية القصة – كانت عملية جراحية دقيقة – كما أعلن عنها العدو – لمعاء الوطن وشرايينه تة فيه الطائرات والمدافع وكانت النتيجة جراحة من نوع متقدم إسُتخِد َمة ْ ل بعمر الربيع ماتوا ليحيا الوطن ... أطفا ً
.......................................... 9
"خدني ازرعني بارض لبنان " كان صوتها يصلي مناجياً – من بعيد – كاس ًار رتابة وقف اطلق النار تة شيئاً عند الرابعة صباحاً .استيقظنا على الشاشة – إياها – َس َرة ْ فشيئًا حركة في الجماد .انبعثت العربات في شرايين المدينة ..
ل مترهلة ..كانت مواكب العائدين محملة كقوافل وتضخمت أرتا ً
ض هةةا ببع ٍ ض : الحجيج .إزدحام في النفوس والكلمات المتداخِل بع ُ -
-
الحمد ال على السلمة .
سلمات – كيف الحال والصحة ...؟ نعم مّر زمٌن لم نسألعنها هي الخرى كانت نازحة .
عادت أبواق السيارات تتنافس وتغطي الجواء ،وأصوات الباعة .. عجقة عمال الكهرباء والصيانة ،مداخل الحي تتمدد وكل الماكن عادت مأهولة ..إنعدم العدم وجُم دة الجماد وأوسَع للحركة والزحمة. عادت الحياة ...وعاد للوطن عناقيده .
واليوم ،أين أنت يا جدي؟ انحسر العدو مع انسحابه الشهير العام 2000 لم يعد له وجود إل خروقات وتحرشات )كعادته( ..ثم جاءت حرب العام ت الحرب ؟! أم علّي أن أقوَل شيئاً آخ ارً ... .. 2006هل قل ُ ) قيامة ...زلزال ...مشفى أمراض عقلية (...لم أكن منذ البداية أتحاشى الكلمة ولكن كنت افتش عن التعبير ال ننسب. ببساطة كانت حرباً ..لم تعشها يا جدي ولكن كانت كلماتك تعشش في
ذاكرتي كالعناقيد وكنت من خل لن أيامها استعيد أوصافك وتعابيرك واعيش 10
ما اختزلته في ذاكرتك من كلمات كانت تتجسد متوالية أحداثها ثل ثنة وثل ثنين يوماً من عمري الصغير. كنت أكبر معها ..مع اليام أليست هي استم ارراً لذاكرتنا
الجماعية؟؟ .
11