مجلة الدوحة عدد غشت 2016

Page 1


‫ ‬

‫ ‬

‫سياسة التعميم العمياء‬ ‫رئيس التحرير‬

‫فـالــح بن حســـين الهـاجـــري‬ ‫مدير التحرير‬

‫خـــالد العــودة الفـضـــلي‬ ‫هيئة التحرير‬

‫محـســن العـتيقـي‬ ‫اإلخراج والتنفيذ‬

‫عمرو الكفراوي‬ ‫رشا أبوشوشة‬ ‫هـــنـد المنصوري‬ ‫فلوه الهاجري‬

‫جميــع المشــاركات ترســل باســم رئيــس‬ ‫التحريــر ويفضــل أن ترســل عبــر البريــد‬ ‫االلكترونــي للمجلــة أو علــى قــرص مدمــج‬ ‫فــي حــدود ‪ 1000‬كلمــة علــى العنــوان اآلتــي‪:‬‬ ‫تليفون ‪)+974( 44022295 :‬‬ ‫تليفون ‪ -‬فاكس ‪)+974( 44022690 :‬‬ ‫ص‪.‬ب‪ - 22404 :.‬الدوحة ‪ -‬قطر‬

‫البريد اإللكتروني‪:‬‬ ‫‪editor-mag@moc.gov.qa‬‬ ‫‪aldoha_magazine@yahoo.com‬‬

‫مكتب القاهرة‪:‬‬ ‫وحيد الطويلة‬ ‫البريد اإللكتروني‪:‬‬

‫‪aldoha.cairo@gmail.com‬‬

‫المــواد المنشــورة فــي المجلــة ُتعبِّــر عــن‬ ‫عبــر بالضــرورة عــن رأي‬ ‫آراء كتّابهــا وال ُت ِّ‬ ‫ـرد‬ ‫الــوزارة أو المجلــة‪ .‬وال تلتــزم المجلــة بـ ّ‬ ‫أصــول مــا ال تنشــره‪.‬‬

‫سياســـة التعميـــم التـــي حاولـــت أن تفـــرض نفســـها علـــى المجتمعـــات‬ ‫العربيـــة‪ ،‬لألســـف‪ ،‬سياســـة غيـــر صحيحـــة وباليـــة‪ ،‬وال تمثِّـــل الواقـــع‬ ‫بشـــكله الصحيـــح‪ِ ،‬إْذ كيـــف مـــن الممكـــن أن نحكـــم علـــى شـــعب مـــن خـــال‬ ‫عي ــن؟‬ ‫قي ــم س ــلوك ف ــرد ُ‬ ‫ونس ــقطه عل ــى مجتم ــع ُم َّ‬ ‫تص ـ ُّـرف ش ــخص؟ وكي ــف ُن ّ‬ ‫وكيـــف نـــرى ُكّل ذي هيئـــة خاصـــة بأنـــه ُيمثّـــل ُمعتقـــد ًا أو دينـــ ًا أو مجتمعـــ ًا‬ ‫كل م ــا ه ــو خ ــاص‬ ‫عم ــم ّ‬ ‫يعي ــش في ــه؟ وكي ــف تح ــاول بع ــض المجتمع ــات أن ُت ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ومبـــك فـــي الوقـــت نفســـه؟ حتـــى فـــي‬ ‫كل مـــا هـــو عـــام بشـــكل محـــزن‬ ‫علـــى ّ‬ ‫فس ــرها بم ــا يتناس ــب م ــع أه ــواء‬ ‫نجاح ــات اآلخري ــن هن ــاك َم ـ ْ‬ ‫ـن يح ــاول أن ُي ّ‬ ‫ومي ــول ومعتق ــدات خاص ــة ال تتناس ــب م ــع الواق ــع؛ وذل ــك لمحاول ــة الرب ــط‪-‬‬ ‫م ــن قري ــب أو بعي ــد‪ -‬له ــدف ُمح ـ َّـدد غي ــر صحي ــح أو غي ــر ُمرتب ــط بالواق ــع أو‬ ‫للتقليـــل مـــن قيمـــة هـــذا النجـــاح أو ذاك اإلنجـــاز!‬ ‫ولـــكل‬ ‫ولـــكل مجتمـــع ســـماته‪،‬‬ ‫لـــكل شـــخص حياتـــه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫نعلـــم ونعـــي أن ّ‬ ‫عنصـــر نجـــاح مقوماتـــه؛ لكـــن مـــن المفتـــرض أن ُنعطـــي اآلخريـــن حقوقهـــم‬ ‫وننســـب إليهـــم إنجازاتهـــم التـــي تخصهـــم وحدهـــم‪ّ ،‬‬ ‫وأل نســـقط علـــى‬ ‫اآلخريـــن فشـــل أو إســـاءة أفـــراد بعينهـــم‪ ،‬كمـــا ينبغـــي علـــى المجتمعـــات‬ ‫فـــرق بيـــن ســـلوك شـــخص ومجتمعـــه الـــذي ينتمـــي‬ ‫العربيـــة وأفرادهـــا أن ُت ِّ‬ ‫إليـــه والمجتمـــع الفعلـــي الـــذي ال يمثِّلـــه شـــخص بعينـــه؛ بـــل وأن تحـــاول‬ ‫العمـــل علـــى تمثيـــل نفســـها خيـــر تمثيـــل‪ ،‬خاصـــة أن المجتمعـــات العربيـــة‬ ‫متقارب ــة ومتش ــابهة إل ــى َح ـ ٍّـد ي ــراه البع ــض مش ــكلة جذري ــة ف ــي التأثي ــر عل ــى‬ ‫عامـــا‬ ‫اآلخريـــن وتشـــويه الصـــورة العامـــة لهـــم‪ ،‬وقـــد يـــراه البعـــض اآلخـــر‬ ‫ً‬ ‫مهمــ ًا وعنص ــر ًا قويــ ًا لمعرف ــة الخلفي ــة الثّقافي ــة للع ــرب‪ ،‬وم ــن َث ـ ّـم احترامه ــا‬ ‫والعمـــل علـــى االهتمـــام بهـــا‪.‬‬ ‫ـور الكبي ــر والهائ ــل ف ــي العال ــم م ــن خ ــال التواص ــل االجتماع ــي‬ ‫م ــع التط ـ ُّ‬ ‫قريـــة صغيـــرة جـــداً‪،‬‬ ‫والبـــث الفضائـــي واإلنترنـــت الـــذي جعـــل العالـــم‬ ‫ً‬ ‫أصبحـــت الثّقافـــات العالميـــة متقاربهـــا فيمـــا بينهـــا‪ ،‬وأصبـــح هـــذا التقـــارب‬ ‫ـــد مـــا كبيـــراً‪ ،‬باإلضافـــة إلـــى أن هنـــاك وعيـــ ًا واضحـــ ًا‬ ‫التقـــارب إلـــى َح ٍّ‬ ‫كل فئـــة عـــن األخـــرى‪ ،‬لكـــن‬ ‫التـــي‬ ‫الخصوصيـــات‬ ‫وملموســـ ًا فـــي‬ ‫تميـــز ّ‬ ‫ّ‬ ‫شـــوه صـــورة اآلخريـــن‬ ‫الخطـــورة تكمـــن فـــي محاولـــة َم ْ‬ ‫ـــن يســـعى إلـــى أن ُي ِّ‬ ‫تقمصـــه لشـــخصيات تكـــون مقاربـــة لهـــا أو مجتمعـــات ينتمـــي‬ ‫مـــن خـــال ّ‬ ‫إليهـــا والعمـــل علـــى التقليـــل منهـــا ومـــن مكانتهـــا‪ ،‬وهـــذا مـــا نلحظـــه فـــي‬ ‫ـــن يقومـــون بذلـــك ال‬ ‫الوقـــت األخيـــر‪ ،‬واألصعـــب واألدهـــى مـــن ذلـــك أن َم ْ‬ ‫يظهـــرون بأســـمائهم الحقيقيـــة وصورهـــم الواقعيـــة‪ ،‬وتكـــون أهدافهـــم‬ ‫خافيـــة‪ ،‬لكـــن مـــع األيـــام تنكشـــف؛ ألن الوعـــي المجتمعـــي أصبـــح حاضـــر ًا‬ ‫وبق ــوة ل ــدى الجمي ــع‪ ،‬وال ع ــذر ألح ــد ب ــأن تنطل ــي علي ــه بع ــض المح ــاوالت‬ ‫التافه ــة أو الرديئ ــة‪ ،‬ألن العق ــل البش ــري يس ــتطيع التميي ــز بي ــن م ــا ه ــو عل ــى‬ ‫النهـــج والمســـار الصحيـــح أو العكـــس‪.‬‬ ‫حاس ــب ش ــخص‬ ‫ي‬ ‫وال‬ ‫ـادح‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـأ‬ ‫ـ‬ ‫خط‬ ‫ـم‬ ‫مم ــا ال ش ــك في ــه أن سياس ــة التعمي ـ‬ ‫ُ َ‬ ‫بجريـــرة غيـــره حتـــى وإن كان أخـــاه‪ ،‬وال يمكـــن أن نحكـــم علـــى جماعـــة أو‬ ‫فردي ــة ال ُتمّث ــل ف ــي األخي ــر ّإل نفس ــها‪ ،‬وإن‬ ‫مجتم ــع أو ش ــعب م ــن‬ ‫تصرف ــات ّ‬ ‫ُّ‬ ‫فتأك ــدوا أنه ــا بس ــبب سياس ــة التعمي ــم العمي ــاء‪.‬‬ ‫ح ــدث ذل ــك ّ‬

‫رئيس التحرير‬


‫الغالف‪:‬‬

‫مجان ًا مع العدد‪:‬‬

‫ثــقــافـيـة شــــهــريــة‬

‫العدد‬

‫‪106‬‬

‫السنة التاســعة ‪ -‬العـدد مئة وستة‬ ‫شوال ‪- 1437‬أغسطس ‪2016‬‬

‫تصدر عن‬ ‫إدارة البحوث والدراسات الثقافية‬

‫وزارة الثقافة والرياضة‬ ‫الـــدوحــــة ‪ -‬قـــــطــــر‬

‫صدر العدد األول في نوفمبر ‪ ،1969‬وفي يناير ‪ 1976‬أخــذت توجهها العربي واستمرت‬ ‫فــي الــصــدور حــتــي يــنــايــر ع ــام ‪ 1986‬لتستأنف الــصــدور مــجــددًا فــي نوفمبر ‪.2007‬‬ ‫توالى على رئاسة تحريرالدوحة إبراهيم أبو ناب‪ ،‬د‪ .‬محمد إبراهيم الشوش و رجاء النقاش‪.‬‬

‫االشتراكات السنوية‬ ‫داخل دولة قطر‬ ‫األفراد ‬ ‫الدوائر الرســمية‬

‫‪ 120‬ريــا ًال‬ ‫‪ 240‬ريا ًال‬

‫خارج دولة قطر‬ ‫دول الخليــج العربــي‬

‫‪ 300‬ريال‬

‫باقــــــي الدول العربية‬

‫‪ 300‬ريال‬

‫دول االتحاد األوروبي‬

‫‪ 75‬يورو‬

‫أمـــــــــــــــــــيــــركـــــــا‬

‫‪ 100‬دوالر‬

‫كــــنــــدا وأسترالــــيا‬

‫‪ 150‬دوالرًا‬

‫الموقع اإللكتروني‪:‬‬ ‫‪www.aldohamagazine.com‬‬

‫لوحة غالف المجلة‪:‬‬ ‫ّان‬ ‫الفن‬ ‫الشرق‬ ‫ميرو‬ ‫خوان‬

‫د‪.‬زكي نجيب محمود‬

‫لوحة غالف الكتاب‪:‬‬ ‫صورة الشاعر غونار إيكيلوف‬

‫رسالة من المهجر‬

‫أكذوبة االندماج ‪( ...................................‬زالتسبورغ‪ :‬عبدالعزيز بركة ساكن)‬

‫التوزيع واالشتراكات‬

‫‪6‬‬

‫اقتصاد‬

‫تليفون ‪)+974( 44022338 :‬‬ ‫فـاكـس ‪)+974( 44022343 :‬‬

‫االقتصاد الصيني‪ ..‬متسابق شيوعي ِبِرئة ليبرالية! ‪( ..................‬جمال الموساوي)‬

‫‪10‬‬

‫تحقيق‬

‫البريد اإللكتروني‪:‬‬ ‫‪distribution-mag@moc.gov.qa‬‬ ‫‪doha.distribution@yahoo.com‬‬

‫الكّتاب المتسلِّلين ‪( ...................‬القاهرة‪ :‬بسمة عالء الدين‪ ،‬وياسمين عباس)‬ ‫دائرة ُ‬

‫الشؤون المالية واإلدارية‬

‫ريا أحمد)‬ ‫المبدع ومواقع التواصل االجتماعي ‪( .................................‬صنعاء‪ّ :‬‬

‫‪14‬‬

‫استطالع‬

‫‪finance-mag@moc.gov.qa‬‬

‫تقارير‬

‫ترســـل قـيمة االشـــتراك بموجـب حـــوالة‬ ‫مصــــرفية أو شــــيك بالريـال القــطــري‬ ‫باسـم وزارة الثقافـة والرياضـة علـى‬ ‫عنـوان المجلـة‪.‬‬

‫هل عاد الكاتب إلى الشأن المجتمعي؟ ‪( ..................‬الدار البيضاء‪ :‬عبدالحق ميفراني)‬ ‫خارج المعمعة وداخلها ‪( .............................................‬بون‪ :‬محمد األصفر)‬ ‫أعطني حدث ًا ُأ ِ‬ ‫عطك قصيدة! ‪( ...............................‬نواكشط‪ :‬عبداهلل ولد محمدو)‬ ‫الكاتب الجزائري المهاجر‪ ..‬درجات القرب ‪( ......................‬الجزائر‪ :‬نوارة لحرش)‬

‫الموزعون‬

‫‪18‬‬

‫‪26‬‬

‫مجتمع‬

‫وكيل التوزيع في دولة قطر‪:‬‬ ‫دار الشرق للطباعة والنشر والتوزيع ‪ -‬الدوحة ‪ -‬ت‪ 44557810 :‬فاكس‪44557819 :‬‬

‫الشاب كامل الهيقي‪ ..‬سيناتور العمل الخيري ‪( .........................‬غّزة‪ :‬سما حسن)‬ ‫ّ‬

‫وكالء التوزيع في الخارج‪:‬‬ ‫المملكة العربية السعودية ‪ -‬الشركة الوطنية الموحدة للتوزيع ‪ -‬الرياض‪ -‬ت‪0096614871262 :‬‬ ‫ فاكــس‪ /0096614870809 :‬مملكــة البحريــن ‪ -‬مؤسســة الهــال لتوزيع الصحــف ‪ -‬المنامة ‪-‬‬‫ت‪ - 007317480800 :‬فاكــس‪/007317480819 :‬دولــة اإلمارات العربية المتحدة ‪ -‬المؤسســة‬ ‫العربيــة للصحافــة واإلعــام ‪ -‬أبــو ظبــي ‪ -‬ت‪ - 4477999 :‬فاكس‪ /4475668 :‬ســلطنة ُعمان‬ ‫ مؤسســة ُعمان للصحافة واألنباء والنشــر واإلعالن ‪ -‬مســقط ‪ -‬ت‪ - 009682493356 :‬فاكس‪:‬‬‫‪ /0096824649379‬دولــة الكويــت ‪ -‬شــركةالمجموعة التســويقية للدعايــة واإلعــان ‪ -‬الكويت‬ ‫ ت‪ - 009651838281 :‬فاكــس‪ /0096524839487 :‬الجمهوريــة اللبنانيــة ‪ -‬مؤسســة‬‫نعنــوع الصحفيــة للتوزيــع ‪ -‬بيــروت ‪ -‬ت‪ - 009611666668 :‬فاكــس‪/009611653260 :‬‬ ‫الجمهوريــة اليمنيــة ‪ -‬محــات القائــد التجاريــة ‪ -‬صنعــاء ‪ -‬ت‪- 00967777745744 :‬‬ ‫فاكــس‪ / 009671240883 :‬جمهوريــة مصــر العربيــة ‪ -‬مؤسســة األهــرام ‪ -‬القاهــرة ‪ -‬ت‪:‬‬ ‫‪ - 002027704365‬فاكــس ‪/002027703196‬الجماهيريــة الليبية ‪ -‬دار الفكر الجديد الســتيراد‬ ‫ونشــر وتوزيــع المطبوعات ‪ -‬طرابلــس ‪ -‬ت‪ - 0021821333260 :‬فاكس‪00218213332610 :‬‬ ‫‪ /‬جمهورية السودان ‪ -‬دار الريان للثقافة والنشر والتوزيع ‪ -‬الخرطوم ‪ -‬ت‪0024915494770 :‬‬ ‫ فاكس‪ / 00249183242703 :‬المملكة المغربية ‪ -‬الشــركة العربية اإلفريقية للتوزيع والنشــر‬‫والصحافة‪ ،‬سبريس ‪ -‬الدار البيضاء ‪ -‬ت‪ - 00212522249200 :‬فاكس‪/00212522249214:‬‬ ‫الجمهورية العربية الســورية ‪ -‬مؤسســة الوحدة للصحافة والطباعة والنشــر والتوزيع ‪ -‬دمشق ‪-‬‬ ‫ت‪- 00963112127797 :‬فاكس‪00963112128664:‬‬

‫األسعار‬ ‫دولة قطر‬ ‫مملكة البحرين‬

‫‪ 10‬رياالت‬

‫الجمهورية اللبنانية‬

‫دينار واحد‬

‫الجمهورية العراقية‬

‫اإلمارات العربية المتحدة‬

‫‪ 10‬دراهم‬

‫سلطنة عمان‬

‫‪ 800‬بيسة‬

‫دولة الكويت‬ ‫المملكة العربية السعودية‬ ‫جمهورية مصر العربية‬ ‫الجماهيرية العربية الليبية‬ ‫الجمهورية التونسية‬ ‫الجمهورية الجزائرية‬ ‫المملكة المغربية‬ ‫الجمهورية العربية السورية‬

‫دينار واحد‬ ‫‪ 10‬رياالت‬ ‫‪ 3‬جنيهات‬ ‫‪ 3‬دنانير‬ ‫‪ 2‬دينار‬ ‫‪ 80‬دينارًا‬ ‫‪ 15‬درهم ًا‬ ‫‪ 80‬ليرة‬

‫‪4‬‬

‫المملكة األردنية الهاشمية‬ ‫الجمهورية اليمنية‬

‫‪ 3000‬ليرة‬ ‫‪ 3000‬دينار‬ ‫‪ 1.5‬دينار‬ ‫‪ 150‬ريا ًال‬

‫جمهورية السودان‬

‫‪ 1.5‬جنيه‬

‫موريتانيا‬

‫‪ 100‬أوقية‬

‫فلسطين‬

‫‪ 1‬دينار أردني‬

‫الصومال‬

‫‪ 1500‬شلن‬

‫بريطانيا‬

‫‪ 4‬جنيهات‬

‫دول االتحاد األوروبي‬

‫‪ 4‬يورو‬

‫الواليات المتحدة األميركية‬

‫‪ 4‬دوالرات‬

‫كندا واستراليا‬

‫‪ 5‬دوالرات‬

‫قضية‬

‫‪29‬‬

‫موسم‬ ‫تسريب‬ ‫االمتحانات‬

‫كمال مغيث‬

‫د‪ .‬آمنة بلعلى‬ ‫د‪ .‬موالي المصطفى البرجاوي‬ ‫عبدالسالم بنعبد العالي‬


‫‪44‬‬

‫خروج بريطانيا‬ ‫وأبواب البريكست‬ ‫واسعة!‬

‫مارك ليونارد‬ ‫محمد المزديوي‬ ‫خطيب بدلة‬ ‫منذر حلوم‬ ‫عبدالوهاب األنصاري‬ ‫عبده وازن‬ ‫فتحي المسكيني‬ ‫منى فياض‬

‫ملف‬

‫بروفايل‬

‫ترجمات‬

‫‪38‬‬

‫زينب المحمود‪ :‬الفصاحة ليست حكرًا على األدباء‪( ..........‬حوار‪:‬طه عبدالرحمن)‬

‫دراسة‬

‫فــراغ المرحلة االنتقالية ‪(.......................‬د‪ .‬حســين محمود)‬

‫لعب ــة الزم ــن ‪(...............................................‬ن ــورة ف ــرج) ‪116‬‬

‫واق ــع الفضائي ــات الديني ــة‪( ......................................‬د‪ .‬عبدالس ــام أندلوس ــي)‬

‫ترجمات‬

‫الضمير األخالقي واألدب‪( ........................... ...‬ترجمة‪ :‬محمد الجرطي)‬

‫إصدارات‬

‫‪106‬‬

‫حفريات اليمن السعيد ‪( ............................................‬أوراس زيباوي)‬ ‫ّ‬

‫هويـــة قلقـــة تبحـــث عـــن انتســـاب ‪( ............................‬إبراهيـــم أولحيـــان)‬ ‫ّ‬

‫غرابـــة فـــي عقـــل أورهـــان بامـــوق ‪( ..............................‬وائـــل ســـعيد)‬ ‫وزمانيـ ًا ‪( ...........................‬د‪.‬ناديــة هنــاوي ســعدون)‬ ‫مكانيـ ًا‬ ‫ّ‬ ‫ذوات متشـ ِّـظية ّ‬

‫ســيرة لويس أراغــون ‪( ...............................................‬ســعيد بوكرامي)‬

‫معارض‬

‫‪125‬‬

‫«جياكوميتي»‪ ..‬ألغاز ما يختفي من الجسم‪( ...................‬بنيونس عميروش )‬

‫عمارة‬

‫‪128‬‬

‫سينما‬

‫‪130‬‬

‫المَثـــل عنـــد شـــعب الموســـي‪(.........‬د‪ .‬وليـــاي كنـــدو) ‪118‬‬ ‫أدب َ‬ ‫ساراســين في اللغــات األوروبية‪(...........‬د‪ .‬طالل عبداللطيف الجســا) ‪122‬‬

‫‪92‬‬

‫عالـــم‬ ‫يضـــج بالرفض‪(...........................‬د‪.‬أمينـــة التيتـــون) ‪150‬‬ ‫ّ‬

‫إيف بونفوا‬ ‫أضاعته «نوبل»‬ ‫ولم يضيِّعها‬

‫بي ــروت‪ ..‬كم ــا عرفته ــا‪(.......................‬د‪ .‬عبدالعزي ــز المقال ــح) ‪147‬‬

‫نيفرالنــد ‪( ...............................................‬إيزابيــا كاميــرا)‬

‫التعايــش فــي القــدس ‪(.........................‬إبراهيــم صقــر الزعيــم) ‪154‬‬

‫محفوظ والعقّاد‪ ..‬عالقة ُّ‬ ‫توتر أم ســام؟ ‪(....‬محمد عبدالرحيم الخطيب) ‪158‬‬

‫رحيل‬

‫النـــص وِإحيـــاؤه ‪(...........................‬خالـــد الجبيلـــي) ‪160‬‬ ‫ِإماتـــة ّ‬

‫عبّاس‬ ‫كيارستمي‪..‬‬

‫ملف خا‬

‫ص‬

‫شاعر السينما‬ ‫اإليرانية‬

‫‪74‬‬

‫دانييـــل عربيـــد‪ :‬عالـــم جديـــد فـــي «باريســـية» ‪( ...............‬نديـــم جرجـــورة)‬ ‫«ســودان مايو» التاريخ ناطق ًا ‪( ..............................‬محمد محمود البشــتاوي)‬ ‫ـــع فـــي فرنســـا ‪( ..................................................‬أمجـــد جمـــال)‬ ‫ُصِن َ‬

‫«أنـــا‪ ،‬دانييـــل بليـــك» األمـــل فـــي عالـــم جديـــد‪( ....................‬ســـمير فريـــد)‬ ‫روبي ــر بريس ــون‪ ..‬باحثـ ـ ًا ع ــن مخرجي ــن ‪( .......................‬يوس ــف يوس ــف)‬

‫‪28‬‬

‫سجناء السيارة ‪( ......................................‬ستيفانو بيني) ‪152‬‬

‫تأثي ــث المدين ــة‪ ..‬دفاعــ ًا ع ــن اإلنس ــانية ‪( ..............................‬خال ــد الس ــلطاني)‬

‫أفـــام األزمـــة االقتصاديـــة ُمربحـــة أيضـــ ًا ‪( ..................‬أحمـــد ثامـــر جهـــاد)‬

‫‪90‬‬

‫نص ــوص َم ِّيت ــة ‪(......................................‬أمي ــر ت ــاج الس ــر) ‪105‬‬

‫‪40‬‬

‫‪92‬‬

‫مقاالت‬

‫‪130‬‬

‫علي عفيفي‬ ‫فتحي عبداهلل‬ ‫ريان‬ ‫د‪ .‬أمجد ّ‬ ‫القصاص‬ ‫جمال ّ‬ ‫علي الدكروري‬ ‫سلم‬ ‫رفعت ّ‬

‫بصمات‬ ‫علي‬ ‫قنديل‬


‫رسائل من المهجر‬

‫أُكذوب ُة االندماج!‬

‫عبد العزيز بركة ساكن‪( -‬زالتسبورغ‬ ‫ النمسا)‬‫أعمـل اآلن ُمتطوعـ ًا مـع بعـض الالجئيـن‬ ‫السـوريين والعراقيين كحلقة وصل بينهم‬ ‫وموظفي الرعاية االجتماعية النمساويين‪،‬‬ ‫حيـث إن الالجئيـن ال يتحّدثـون األلمانيـة‬ ‫بعـد‪ ،‬وال يحلـم الموظفـون النمسـاويون‬ ‫بتعلُّم العربية‪ .‬وبذلك تصبح المجموعتان‬ ‫تـواز تواصلي لغوي قد يمتد إلى ثالث‬ ‫فـي ٍ‬ ‫سـنوات‪ ،‬أو أحيانـ ًا إلـى عقـد مـن الزمـان‪.‬‬ ‫يظـن الموظفـون االجتماعيـون أن أطفـال‬ ‫الالجئين العرب لديهم مشاكل معقّدة‪ ،‬هذا ما‬ ‫فهمته عندما اتصلوا بي طالبين المساعدة‪،‬‬ ‫بالفعـل كنـت مرعوبـ ًا جـداً‪ ،‬ألن الموظفـة‬ ‫إلي‬ ‫كانـت مرعوبـة وهـي تحاورني ونقلـت ّ‬ ‫مخافاتها‪ .‬فاألطفال العرب الذين أعمل معهم‬ ‫ومع ُأسرهم جميع ًا جاءوا من مناطق كانت‬ ‫تسيطر عليها «داعش»‪ ،‬وقد شاهد الكثير من‬ ‫األطفال أفرادًا تنفصل رؤوسهم من أجسادهم‬ ‫بالسيف أو المدي وشاهدوا أيض ًا آلة الحرب‬ ‫وهـي تعمـل‪ ،‬والبعـض فقـد أعـزاءه وهـذا‬ ‫بالطبع يؤثر على نفسـيتهم وسلوكهم‪ .‬لذا‬ ‫كنت أتوقّع األسوأ‪ ،‬ولكن عندما اجتمعت مع‬ ‫المعلمين والموظفة االجتماعية واسـتمعت‬ ‫لنوع األفعال الشـائنة المنحرفة التي يقوم‬ ‫ثم أخذت أشرح‬ ‫بها األطفال العرب‪ ،‬ضحكت ّ‬ ‫لهـم األمر‪.‬‬ ‫تكن األعمال الشائنة سوى ما كنت أقوم‬ ‫لم ْ‬ ‫كل طفل‬ ‫بــه أنا فــي المدرســة ويقوم بــه ّ‬ ‫‪4‬‬

‫سوى السلوك في بالدنا‪ .‬قليل من الشغب‬ ‫ٍ‬ ‫كثير منه‪ ،‬الممازحة بالضربات الخفيفة‬ ‫أو ٌ‬ ‫علــى الرأس‪ ،‬الثرثرة مع األطفال اآلخرين‬ ‫في غياب المعلم عن الفصل‪ ،‬المشــاجرات‬ ‫وســبهم‬ ‫الصغيــرة الممتعة مع األصحاب‬ ‫ّ‬ ‫وعضهم أحياناً‪ ،‬نســيان حقيبة المدرســة‬ ‫ّ‬ ‫فــي مكان‪ ،‬عدم القبول بــأن يقوم األطفال‬ ‫األصغــر عمــرًا بشــرح الــدروس لألطفال‬ ‫العمر‪ ،‬الجري بسرعة‬ ‫الذين يكبرونهم في ُ‬ ‫صــر الوجه‬ ‫جنونيــة قصــوى بالدراجــة‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫لطفل إلرعابه‪ ،‬وأشياء من هذا القبيل‪ ،‬بل‬ ‫كنا نقوم بما هو أسوأ من ذلك مثالً‪ :‬أن ُندير‬ ‫معارك شرسة وفعلية مع أطفال المدارس‬ ‫األخــرى فــي الخــور أو عند شــاطئ النهر‬ ‫أو فــي غابة النبــق‪ ،‬وأحيان ًا في الطرقات‬ ‫الشاســعة عنــد عودتنــا من المدرســة‪ .‬لم‬ ‫يتهمنا أحٌد بالجنوح أو السلوك الفاضح‪،‬‬ ‫بل العكس قد يأخذوننا إلى الطبيب البلدي‬ ‫أو الشــيخ لفحصنــا إذا كنــا غيــر ذلــك‪،‬‬ ‫فالطفــل الذي ال يفعل كما األطفال اآلخرين‬ ‫البد من أن هنالك بعض الشياطين تسكنه‪.‬‬ ‫وصمته وهدوؤه قد يكونان عالمة الجنون‬ ‫الذي سوف ينفجر فجأة‪ .‬فحاولت أن أشرح‬ ‫للمعلمات ومديرة المدرسة المرعوبة‪ ،‬كما‬ ‫العاملة االجتماعية‪ ،‬سلوك األطفال العرب‬ ‫ليس بالســلوك الشــاذ وال يحتاجون إلى‬ ‫متخصصين‪ .‬المسألة هي‬ ‫أطباء نفسانيين‬ ‫ّ‬ ‫أشــكال فروق لها عالقــة بالمكان وثقافته‬ ‫وبما يراه الشخص صحيح ًا أو ما أسميه‪:‬‬ ‫لغة المكان‪.‬‬

‫فاألوروبــي نفســه ال يســتطيع أن يفهــم‬ ‫األوروبــي اآلخــر‪ .‬حكــى لــي صديقــي‬ ‫النمســاوي العجــوز (رودي راينر)‪ ،‬وهو‬ ‫أســتاذ األلمانيــات‪ -‬اآلن فــي المعــاش‪-‬‬ ‫عــن الصبــي الفرنســي الــذي جــاء ليقيم‬ ‫مع أســرتهم عن طريق التبــادل التربوى‬ ‫بيــن فرنســا والنمســا فــي ذلــك الوقــت‪.‬‬ ‫الــذي لــم يكــن ســعيدًا على اإلطــاق في‬ ‫النمســا‪ ،‬وكان ينزعج جــدًا لدرجة القرف‬ ‫عندمــا يشــاهد أفــراد أســرة رودي راينر‬ ‫يتناولــون «الفورتــس»‪ -‬وهــو الطعــام‬ ‫الشــعبي األلماني‪ -‬بأيديهم دون استخدام‬ ‫الشوكة والســكين‪ ،‬ولم يقنعه قول الجد‪:‬‬ ‫إن الملكــة البريطانيــة نفســها تناولــت‬ ‫الفورتس في النمســا بأصابعهــا الملكية‬ ‫الراقيــة المباركــة‪ ،‬فمن تكون أنــت؟! أيها‬ ‫الفرنســي الغر‪ .‬أما ما ُيثير جنونه بالفعل‬ ‫في أسلوب حياة األسر النمساوية‪ :‬تركهم‬ ‫البحيرات الصغيرة‬ ‫لألطفال يسبحون في ُ‬ ‫والحرية‬ ‫الراكــدة علــى ســفوح الجبــال‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫التشــرد والفقر‬ ‫التــي هــي أقــرب لحيــاة‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫واإلهمــال‪ ،‬الزي والبدانة وأشــياء أخرى‬ ‫ال ُتعّد‪ .‬لم يستطع الطفل الفرنسي الرقيق‬ ‫إتمام فترة المنحة وُأصيب باإلعياء وعاد‬ ‫جملــة‬ ‫مهــرو ًال لفرنســا‪ ،‬دون أن يتعلّــم‬ ‫ً‬ ‫واحدة صحيحة من اللّغــة األلمانية التي‬ ‫يبغض أهلها‪ .‬ولــو أن الجد قال له أيض ًاً‪:‬‬ ‫األســرة المالكــة في بريطانيــا أصلها من‬ ‫ألمانيــا‪ .‬مختصــرًا لــه عظمــة الجيرمان‪.‬‬ ‫«النمساويون من أصل جيرماني»‪.‬‬


‫لحّد الذهول مــا الحظته في‬ ‫ما أدهشــني َ‬ ‫باريــس‪ .‬عندمــا كنت أســتقل المترو إلى‬ ‫وســط المدينة من مطار شارلي ديجول‪.‬‬ ‫كل محطــة مــن محطــات المتــرو‬ ‫فــي ّ‬ ‫الكثيرة‪ ،‬كان ينزل فيها أشــخاص بنفس‬ ‫ســحنات الذيــن يصعدون مــن المحطات‬ ‫ذاتهــا‪ .‬بيــض أم صفــر‪ ،‬عــرب أم ســود‬ ‫مــن إفريقيا أو أميــركا الالتينية‪ .‬وهذا ما‬ ‫يؤكد أكذوبة االندمــاج الكبرى‪ ،‬فاألحياء‬ ‫ّ‬ ‫فــي باريس وغيرها من المدن الفرنســية‬ ‫الكبيــرة تنهض على فصل مكاني ولوني‬ ‫وجهــوي عميــق‪ .‬ليســت نتيجــة لتفرقة‬ ‫ُعنصريــة مخفية‪ ،‬ولكن نســبة للجيوب‬ ‫المتكونة طواعية‬ ‫الثّقافيــة والحضاريــة‬ ‫ّ‬ ‫بجاذبيــة المكان ومقاومــة االندماج ومن‬ ‫أجــل الحفاظ علــى الشــخصية الروحية‬ ‫والقوميــة المميزة لكل مهاجــر‪ ،‬ولم يتم‬ ‫التخطيط الفعلي لهــذا الفصل إنما حصل‬ ‫تدريجيــ ًا وتلقائيــ ًا بفعــل الزمــن وتأثير‬ ‫ثــم اإلقصاء ولــو أن الزواج‬ ‫األمكنــة األم ّ‬ ‫العابر للقوميــات واأللوان والجنســيات‬ ‫فــي فرنســا واضــح للعيــان‪ ،‬حيــث إن‬ ‫الحب وحــده الذي اســتطاع مقاومة عدم‬ ‫ُ‬ ‫يتجــول الشــخص في‬ ‫االندمــاج‪ .‬عندمــا‬ ‫ّ‬ ‫وســط باريــس‪ ،‬لــوال المعالــم البــارزة‬ ‫هنــاك لمــا اســتطاع أن يعــرف فــي أية‬ ‫يتجول الشــخص‬ ‫دولة هو‪ ،‬ولكن عندما‬ ‫ّ‬ ‫مــرة يظن أنه في‬ ‫في األحياء الســكنية‪ّ ،‬‬ ‫ومــرة فــي المغــرب العربي‪،‬‬ ‫الســنغال‪ّ ،‬‬ ‫ومرة في تركيا‪ ،‬أو الصين وفق ًا لقوميات‬ ‫ّ‬

‫ســاكني تلك األمكنة‪ .‬والجميع يتحّدثون‬ ‫الفرنســية بطالقــة‪ ،‬ومثلهــم تمامــ ًا مثل‬ ‫الفرنســيين يرفضــون تعلُّــم أيــة لغــة‬ ‫أية‬ ‫أخرى‪ ،‬فالفرنسي ال يرغب في ُّ‬ ‫تحدث ّ‬ ‫لغــة أخرى غير الفرنســية‪ ،‬وهذا يقودنا‬ ‫إلــى نقطــة اللّغــة‪ ،‬فاإلنجليــزي أيض ًا ال‬ ‫التحدث غير اإلنجليزية ويفترض‬ ‫يرغــب‬ ‫ُّ‬ ‫كل شــخص أن‬ ‫أنها اللّغة العالمية وعلى ّ‬ ‫خيار واحد‪:‬‬ ‫المهاجر‬ ‫يتحّدثها‪ .‬يبقى أمام‬ ‫ٌ‬ ‫يتحمل أكذوبــة االندماج وحده‪،‬‬ ‫وهو أن ّ‬ ‫ولو أن ذلك جزئياً‪ -‬كما ذكرنا‪ -‬ألســباب‬ ‫عمليــة بحتــة‪ ،‬إذا أراد العيــش والعمــل‬ ‫والبقــاء فــي المجتمــع الجديــد عليــه أن‬ ‫يّدعي بأنه مندمج وأنه متسامح والمكان‬ ‫الجديــد‪ ،‬ويفترض هــو أيض ًا ويصّدق أن‬ ‫يرحب به ويندمج فيه أيضاً‪.‬‬ ‫المكان ّ‬ ‫أجيــال المهاجريــن المولــودة فــي دول‬ ‫المهجــر الذيــن تلقــوا تعليمهــم هنــاك‪،‬‬ ‫وحتــى الذيــن تزوجــوا وتزوجــن مــن‬ ‫ســكان المــكان‪ ،‬الكثير منهــم يعاني من‬ ‫كذبــة االندماج‪ .‬قال لي صديق من أنغوال‬ ‫متزوج من نمســاوية‪ ،‬وله طفلة جميلة‪،‬‬ ‫يقيم في قرية على األلب في مسكن أسرة‬ ‫زوجتــه‪ ،‬إنــه يريــد طفلتــه أن تتحــّدث‬ ‫اللّغــة البرتغالية التي يعتبرها لغة ُأمه‪،‬‬ ‫ثــم األلمانية بعد ذلــك‪ ،‬قال إن ابنته هي‬ ‫ّ‬ ‫ابنتــه هو‪ ،‬وهي تنتمــي له‪ ،‬وهو ينتمي‬ ‫ألنغــوال‪ ،‬وينتمي لجده البرتغالي أيضاً‪.‬‬ ‫إن اإلنســان من‬ ‫فهــل نســتطيع أن نقول َّ‬ ‫طبيعتــه مقــاوم لالندمــاج بوعيــه أو‬

‫دون وعيــه‪ .‬ويصبح مصطلــح االندماج‬ ‫مصطلحــ ًا سياســي ًا اقتصاديــ ًا بحتــاً‪ ،‬ال‬ ‫عالقة له بإنســانية اإلنســان أو بالمكان‬ ‫الــذي يشــكله؟! ولكــن فــي المقابــل‪ ،‬في‬ ‫بعــض االســتفتاءات التــي ُأجريــت على‬ ‫األجيــال الالحقــة مــن أبنــاء المهاجرين‬ ‫الذين ُولدوا في المهاجر‪ ،‬في سؤال ما إذا‬ ‫كانوا يفضلون العيش في مسقط رأسهم‬ ‫أم العــودة لبــاد أجدادهــم‪ ،‬تقريبــاً‪،‬‬ ‫جميعهــم فضلوا الحياة في المهجر‪ ،‬وهذا‬ ‫غيــب عنا ســؤا ًال مهمــاً‪« :‬لماذا ‪% 99‬‬ ‫ال َي ُ‬ ‫من الذيــن يقومون بالعمليــات اإلرهابية‬ ‫فــي أوروبا وأميــركا‪ ،‬نتيجــة النتمائهم‬ ‫المتطرفــة التــي أصولها في‬ ‫للتنظيمــات‬ ‫ّ‬ ‫بالدهــم األم أو تأثرهــم بخطاباتهــا‪ ،‬هم‬ ‫من أبناء وبنــات المهاجريــن المولودين‬ ‫فــي ِ‬ ‫المهجــر؟!»‪ ،‬أال يفضح ذلــك أكذوبة‬ ‫االندماج؟! أما بالنســبة لي شــخصياً‪ ،‬ال‬ ‫أعتبر مهجري غير منفى مؤقت‪ .‬قد أنتقل‬ ‫منــه إلى منفى آخر‪ ،‬وقــد أموت في أحد‬ ‫وسأظل حتى في عمق ظالمات‬ ‫المنافي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫قبري ســوداني ًا من مدينة «خشم القربة»‬ ‫يقــاوم االندماج بوعي وغير وعي أيضاً‪.‬‬ ‫أقصد بطبيعتي البشــرية‪ .‬أكذوبة المنفى‬ ‫هــي ذاتهــا أكذوبــة اإلنســان العالمــي‪،‬‬ ‫ثم‬ ‫فاإلنســان هو المكان فــي المقام األول ّ‬ ‫القيم العالمية والمحلية األخرى‪.‬‬ ‫ملحوظة مهمة‪ :‬معرفة لغة بالد المهجر ال‬ ‫تعني بالضرورة االندماج‪.‬‬ ‫‪5‬‬


‫اقتصاد‬

‫االقتصاد الصيني‪:‬‬ ‫متسابق شيوعي برئة ليبرالية‪! ‬‬ ‫جمال الموساوي‬ ‫فـي الوقـت الـذي كانـت فيـه الواليـات‬ ‫المتحدة األميركية واالتحاد السوفياتي‬ ‫مشغولين بحرب النجوم‪ ،‬كانت الصين‬ ‫قد حسمت أمرها‪ .‬وكان ماو تسي تونغ‬ ‫المؤسـس ألكبـر دولـة شـيوعية‬ ‫األب‬ ‫ِّ‬ ‫قـد رحـل‪ .‬هكذا‪ ،‬لم تكـن الصين مهتمة‬ ‫كثيـرًا بتصديـر األيديولوجيـا بقـدر مـا‬ ‫ِّر‬ ‫التفتـت إلـى أمـر أكثـر أهميـة‪ :‬أن ُت َوفَ‬ ‫الشـغل والطعـام ألكثـر مـن مليـار‬ ‫َ‬ ‫مواطـن‪ .‬وهـو أمـر ال يمكـن القيـام بـه‬ ‫‪6‬‬

‫فقـط بتصديـر األفكار‪ ،‬بل باالسـتثمار‬ ‫التحـول‬ ‫الـذي يعنـي الرأسـمال‪ .‬هـذا‬ ‫ُّ‬ ‫كاملا‪ ،‬بل إن‬ ‫تحـو ًال‬ ‫ً‬ ‫لـم يكـن بالتأكيـد ُّ‬ ‫مكن من إيجاد نوع من‬ ‫اإلبداع الصيني َّ‬ ‫المتحكـم فيـه‪ .‬اقتصاد‬ ‫الح ّـر‬ ‫ِّ‬ ‫االقتصـاد ُ‬ ‫ليبرالي في ِظّل نظام حكم يستند إلى‬ ‫المبـادئ الشـيوعية فـي إدارة الدولة‪.‬‬ ‫«الموجهـة» تهـم‪ ،‬على‬ ‫هـذه الليبراليـة‬ ‫ّ‬ ‫ا َأل ّقـل‪ ،‬العالقـات مـع باقـي العالـم في‬ ‫مجاالت التجارة واالستثمارات وكذلك‬ ‫الهجرة‪ .‬لقد بقيت الجمهورية الشعبية‬ ‫بلـدًا منغلقـ ًا علـى نفسـه‪ ،‬علـى ِغـرار‬

‫بلدان المعسكر الشيوعي سابقاً‪ ،‬لكنها‬ ‫تأملـت تجربـة‬ ‫بـدأت تدريجيـاً‪ ،‬وقـد‬ ‫ْ‬ ‫الحلفـاء األيديولوجييـن ومآالتهـم‪،‬‬ ‫فـي إبـداء نـوع مـن المرونـة والرغبـة‬ ‫فـي االنفتـاح علـى العالـم اقتصاديـاً‪،‬‬ ‫لالسـتفادة من المكاسـب التي يتيحها‬ ‫نظام السـوق‪.‬‬ ‫الصين‬ ‫المبهـر‬ ‫حـول هـذا االبتـكار‬ ‫لقـد ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫إلـى بلـٍد مؤثـر فـي االقتصـاد الدولي‪،‬‬ ‫باإلضافة إلى موقعه السياسي الوازن‬ ‫من خالل العضوية الدائمة في مجلس‬ ‫يخولـه لـه ذلك مـن تأثير‬ ‫األمـن‪ ،‬ومـا ّ‬


‫في مجريات السياسة الدولية‪ ،‬وضبط‬ ‫موازيـن القـوى لتغطيـة الفـراغ الـذي‬ ‫تركه االتحاد السوفياتي بعد أن أنهكته‬ ‫الحرب الباردة‪ ،‬وفتته البروسترويكا‪.‬‬ ‫أصبـح االقتصاد الصينـي ثاني أقوى‬ ‫اقتصـاد فـي العالـم بعـد الواليـات‬ ‫ـل طيلـة ثالثيـن‬ ‫المتحـدة‪ ،‬بعـد أن َظ ّ‬ ‫سـنة تقريب ًا يحقّق نسـب نمو سـنوية‬ ‫تتجـاوز الــ ‪ 10‬في المئة‪ ،‬وهي وتيرة‬ ‫يتـأت ألي دولـة‬ ‫منتظمـة ربمـا لـم‬ ‫َّ‬ ‫تحقيقهـا فـي السـابق‪.‬‬ ‫إن مـا يمثـل ميـزة صينيـة أصيلـة هو‬

‫المتغيـرات التـي‬ ‫حسـن التفاعـل مـع‬ ‫ّ‬ ‫شـهدها العالـم‪ ،‬وذلـك انطالقـ ًا مـن‬ ‫مبكـر بـأن االعتماد على شـركاء‬ ‫وعـي ّ‬ ‫المنظومـة األيديولوجيـة التـي أبـدت‬ ‫حماسـ ًا في البداية لدعم ثورة ‪،1949‬‬ ‫ليـس مضمونـ ًا فـي الزمـن‪ .‬وقـد تجلّى‬ ‫التحـوالت التـي طـرأت‬ ‫ذلـك أكثـر فـي‬ ‫ُّ‬ ‫علـى القيـادة السـوفياتية بعـد مـوت‬ ‫سـتالين‪ ،‬عندما وجدت الصين نفسـها‬ ‫مدعوة إلدانة الحقبة الستالينية‪ ،‬وهو‬ ‫أمر لم تفعله‪ ،‬مما أدى‪ ،‬بجانب عوامل‬ ‫أخـرى‪ ،‬إلـى ردود فعـل قاسـية علـى‬ ‫اقتصادها الذي كان في تلك الفترة من‬ ‫بناء الدولة الصينية الشيوعية معتمدًا‬ ‫باألساس على المبادالت مع المعسكر‬ ‫الشـرقي وعلـى اإلعانـات والقـروض‬ ‫والدعـم التقنـي لالتحاد السـوفياتي‪.‬‬ ‫المبكـر بضـرورة االنكباب‬ ‫هـذا الوعـي ّ‬ ‫علـى بنـاء االقتصـاد باالعتمـاد علـى‬ ‫س‬ ‫المؤهلات المتوافـرة داخليـاً‪َ ،‬ت َك َّـر َ‬ ‫أكثـر بعـد انهيـار االتحاد السـوفياتي‪،‬‬ ‫وانتصـار النمـوذج الغربي (حتى اآلن‬ ‫قـل) فـي التدبيـر االقتصـادي‬ ‫علـى ا َأل ّ‬ ‫والسياسـي‪ .‬لهـذا ال يمكـن النظـر إلـى‬ ‫تطور‬ ‫مـا حقّقتـه الصيـن‪ ،‬حاليـاً‪ ،‬مـن ُّ‬ ‫هائـل فـي المجـال االقتصـادي بمعـزل‬ ‫عـن الهـزات وأحيانـ ًا «التخبـط» الـذي‬ ‫َو َس َـم مسـار الجمهوريـة الشـعبية‬ ‫منـذ ‪ 1949‬علـى الخصـوص‪ ،‬بمـا فـي‬ ‫ذلك‪ ،‬إضافة إلى ما ذكر‪ ،‬المناوشات‬ ‫الحربية مع كوريا والهند‪ ،‬التي كلفتها‬ ‫إبانها خسائر فعلية وحصارًا اقتصادي ًا‬ ‫غربيـ ًا أبطأ انطالقتهـا بعيدًا عن الدعم‬ ‫السوفياتي‪ ،‬وإضافة أيض ًا إلى النتائج‬ ‫الكارثية لما يعرف بالقفزة الكبرى إلى‬ ‫األمـام‪ ،‬والتـي أودت بحيـاة المالييـن‬ ‫مـن الصينيين نتيجة المجاعة وسـوء‬ ‫المعاملة‪ ،‬وأثّرت بشكل أو بآخر على‬ ‫وتيـرة التنمية‪.‬‬ ‫لـم تكـن هـذه القـراءة االختزاليـة‬ ‫مـرت بها الصين‪ ،‬منذ‬ ‫ُّ‬ ‫للتحـوالت التـي ّ‬ ‫الثـورة الشـيوعية إلـى غايـة نهايـة‬ ‫السـبعينيات مـن القـرن العشـرين‪،‬‬ ‫اعتباطيـة بقـدر مـا تمثّـل مفتاحـ ًا‬ ‫ضروريـ ًا لفهـم وضعيـة االقتصـاد‬

‫الصينـي كثانـي قـوة اقتصاديـة فـي‬ ‫التربع‬ ‫الوقـت الراهـن‬ ‫ً‬ ‫مدفوعة بطموح ُّ‬ ‫علـى عـرش االقتصـاد العالمـي فـي‬ ‫السـنوات القليلـة المقبلـة‪ ،‬علمـ ًا بـأن‬ ‫ال‬ ‫مقومـات ِعـّدة تجعل هذا الطموح قاب ً‬ ‫للتحقّـق ‪.‬‬

‫اقتصاد ليبرالي بشكل‬ ‫كامل‪ ...‬تقريب ًا!‬ ‫عـل أكبـر المقومـات التـي توافـرت‬ ‫َل ّ‬ ‫للمسـؤولين الصينييـن لتطويـر‬ ‫نموذجهـم االقتصـادي لمـا بعـد‬ ‫اإلصالحـات‪ ،‬يتمثّـل فـي العـدد الكبير‬ ‫للسـكان الـذي َت ّـم اسـتغالله لتوفير يد‬ ‫قـل مقارنـة مع مناطق‬ ‫عاملـة بتكلفـة َأ ّ‬ ‫أخرى من العالم‪ .‬وهو ما ساهم‪ ،‬إلى‬ ‫جانـب تحفيـزات حكوميـة أخـرى فـي‬ ‫مجـاالت الضرائـب والعقـار والسـماح‬ ‫للخواص بالعمل وعمليات الخوصصة‬ ‫التدريجيـة واالسـتثمار فـي البنيـات‬ ‫التحتيـة األساسـية‪ ،‬فـي اسـتقطاب‬ ‫وحول‬ ‫مكثّف لالسـتثمارات األجنبية‪َّ ،‬‬ ‫ـل اقتصـاده مرتكـزًا‬ ‫الصيـن مـن بلـٍد َظ ّ‬ ‫باألسـاس على الزراعة طيلة المرحلة‬ ‫صناعـي بطاقـة‬ ‫الماويـة إلـى بلـد‬ ‫ّ‬ ‫إنتاجيـة هائلـة‪ ،‬وبرغبـة جامحـة في‬ ‫غـزو أسـواق العالـم‪.‬‬ ‫في سـنة ‪ ،2014‬وحسـب إحصائيات‬ ‫مؤتمر األمم المتحدة للتجارة والتنمية‬ ‫(أونكتـاد)‪ ،‬باتـت الصيـن علـى رأس‬ ‫الدول المستقبلة لالستثمارات األجنبية‬ ‫المباشـرة بمبلغ ‪ 129‬مليار دوالر بعد‬ ‫تراجع الواليات المتحدة األميركية إلى‬ ‫شكل‬ ‫‪ 92‬مليار دوالر‪ .‬هذه الوضعية ُت ّ‬ ‫انقالب ًا جذري ًا في توجهات المستثمرين‬ ‫األجانـب فـي العالـم‪ ،‬فعلـى سـبيل‬ ‫المقارنـة‪ ،‬وبالعـودة إلـى إحصائيات‬ ‫نفس المنظمة في التقرير الصادر سنة‬ ‫‪ ،2001‬لم تستقطب الصين سوى ‪41‬‬ ‫مليـار دوالر مقابـل ‪ 281‬مليـار دوالر‬ ‫للواليات المتحدة‪.‬‬ ‫حـول زخم االسـتثمارات الخاصة‬ ‫لقـد ّ‬ ‫(األجنبية والمحلية) الصين إلى فاعل‬ ‫رئيسي في التجارة الدولية خاصة بعد‬ ‫‪7‬‬


‫انضمامهـا فـي أواخـر سـنة ‪ 2001‬إلى‬ ‫متجـاوزة‬ ‫المنظمـة العالميـة للتجـارة‬ ‫ً‬ ‫بذلـك تحفظاتهـا المتعلّقـة بالتحريـر‬ ‫الكامـل القتصادهـا ورفـع القيـود عـن‬ ‫التطورات أصبحت‬ ‫مبادالتها‪ .‬تبع ًا لهذه‬ ‫ُّ‬ ‫الجمهورية الشعبية أكبر قوة تجارية‬ ‫فـي العالـم سـنة ‪ 2013‬متفوقـة علـى‬ ‫الواليـات المتحـدة األميركيـة نفسـها‪،‬‬ ‫وذلـك وفـق إحصائيـات‪ ،‬متاحـة فـي‬ ‫تقاريـر صحافيـة مختلفـة‪ ،‬لكتابـة‬ ‫الدولـة األميركيـة فـي التجـارة‪ .‬خلال‬ ‫هذه السـنة بلغت صادرات الصين من‬ ‫السـلع ‪ 2210‬مليـارات دوالر مقابـل‬ ‫‪ 1590‬مليـارًا لألميركييـن‪.‬‬ ‫لقـد تمتعـت المنتوجـات الصينيـة‬ ‫بقـوة تنافسـية كبيـرة‪ ،‬فـي األسـواق‬ ‫العالميـة‪ ،‬مقابـل المنتوجـات القادمة‬ ‫مـن القـوى الصناعيـة التقليديـة‪،‬‬ ‫خاصة من أميركا واالتحاد األوروبي‪،‬‬ ‫بفضـل اليـد العاملـة الرخيصـة مـن‬ ‫جهـة‪ ،‬وبفضـل إجـراءات وممارسـات‬ ‫يتـم عـادة اتهـام الصيـن باللجـوء‬ ‫إليهـا لتشـجيع اإلنتـاج والتصديـر‬ ‫مثـل المسـاعدات المقّدمـة للشـركات‬ ‫المحلية ضدًا على ما سطرته المنظمة‬ ‫العالميـة للتجارة والقرصنة‪ ،‬وكذلك‬ ‫التغاضـي عـن عـدم احتـرام هـذه‬ ‫الشـركات لمسـتلزمات األمـن المهنـي‬ ‫ومعاييـر المحافظـة علـى البيئـة‪.‬‬ ‫ال إضافياً‪ ،‬في غاية‬ ‫بيد أن هناك عام ً‬ ‫عـزز هـذه التنافسـية يتمثّل‬ ‫األهميـة‪َّ ،‬‬ ‫فـي حاجـة دول العالـم الثالـث التـي‬ ‫يعانـي سـكانها مـن الفقـر وضعـف‬ ‫الدخـل إلـى منتوجـات بأسـعار‬ ‫رخيصـة (جـداً) لتأميـن حاجيـات‬ ‫هـؤالء مـن األلبسـة والتجهيـزات‬ ‫المنزليـة ومـواد التجميـل وغيـر ذلك‬ ‫من السلع‪ ،‬بغض النظر عن جودتها‪.‬‬ ‫أمـن للشـركات الصينيـة‬ ‫هـذا العامـل َّ‬ ‫المسـتقرة في الصين سوق ًا كبيرة‬ ‫أو‬ ‫ّ‬ ‫ممتـدة عبـر العالـم ال ينافسـها فيهـا‬ ‫سـوى شـركات بلـدان شـرق آسـيا‬ ‫ـل طاقتها اإلنتاجية‬ ‫تظ ّ‬ ‫الناشـئة التي َ‬ ‫قـل‪.‬‬ ‫والتصديريـة َأ ّ‬

‫‪8‬‬

‫الحاجة إلى الصين‬ ‫تصدر فقط المنتوجات‬ ‫لكن الصين‪ ،‬ال ِّ‬ ‫المصنعـة‪ ،‬بـل إن ممـا يجعلهـا بلـدًا‬ ‫مؤثـراً‪ ،‬تسـعى ِعـّدة بلدان لكسـب وده‬ ‫كونـه سـوق ًا سـياحية هائلـة‪ ،‬بفضـل‬ ‫تراكـم الثـروة المتحقّقة للصينيين من‬ ‫الطفـرة االقتصاديـة التـي يعيشـونها‬ ‫منـذ نحـو أربعيـن سـنة‪ .‬فإحصائيات‬ ‫وزارة التجـارة الصينيـة تقـّدر أن عدد‬ ‫المسـافرين إلـى الخـارج تجـاوز ‪100‬‬ ‫مليون سنة ‪ ،2014‬وأن نفقاتهم بلغت‬ ‫ما يناهز ‪ 163‬مليار دوالر‪ .‬وهذا يمثل‬ ‫تطـورًا كبيـرًا مقارنـة فقـط مـع ‪2011‬‬ ‫ُّ‬ ‫على سبيل المثال بمجموع نفقات بلغ‬ ‫‪ 73‬مليار دوالر حسب المنظمة العالمية‬ ‫للسـياحة‪ ،‬إلـى َحّد اعتبـاره‪ ،‬في ذلك‬ ‫ال‬ ‫العام‪ ،‬من طرف رئيس المنظمة عام ً‬ ‫سيسـاهم في تغيير المشـهد السياحي‬ ‫العالمـي‪ ،‬مؤكـدًا بذلـك حجـم التأثيـر‬ ‫الـذي يمكـن أن يحدثـه نجـاح النمـوذج‬ ‫االقتصـادي الصينـي حتى اآلن‪.‬‬ ‫شكل االستثمارات‬ ‫باإلضافة إلى ذلك‪ُ ،‬ت ّ‬ ‫الصينيـة فـي الخـارج مجـا ًال آخـر‬ ‫يعكـس حاجـة العالـم إلـى الصيـن‬ ‫ومـن َث ّـم إمكانية تأثيرها في مجريات‬ ‫األحـداث التـي يمكـن أن تمتـد خـارج‬ ‫االقتصـاد إلى السياسـة وإلى القضايا‬ ‫االسـتراتيجية اإلقليميـة أو الدوليـة‬ ‫خاصـة فـي الظرفيـات المتأزمـة كمـا‬ ‫هو الشـأن حالياً‪ .‬في هذا اإلطار بلغت‬ ‫االستثمارات الصينية في الخارج سنة‬ ‫‪ 2013‬أزيد من ‪ 90‬مليار دوالر‪ ،‬و‪102‬‬ ‫مليـار دوالر سـنة ‪ 2014‬مـع تسـجيل‬ ‫ارتفـاع مهـم في المبالـغ الموجهة نحو‬ ‫االتحـاد األوروبـي والواليات المتحدة‬ ‫األميركيـة‪ ،‬حسـب اإلحصائيـات‬ ‫الحكوميـة الصينيـة‪.‬‬ ‫بيـد أن قـوة الصيـن كفاعـل اقتصـادي‬ ‫الحـّد‪ ،‬بـل إنهـا‬ ‫مؤثّـر ال تقـف عنـد هـذا َ‬ ‫تشـكل مطلـب ود للشـركات العالميـة‬ ‫ّ‬ ‫باعتبارهـا سـوق ًا هائلـة‪ ،‬خاصـة‬ ‫بعـد االنضمـام إلـى المنظمـة العالميـة‬ ‫للتجـارة ومـا تلا ذلـك مـن إجـراءات‬ ‫مثـل تخفيـض التعرفـات الجمركيـة‬

‫علـى الـواردات‪ .‬فسـواء تعلّـق األمـر‬ ‫الموجهـة لالسـتهالك النهائي‬ ‫بالمـواد‬ ‫ّ‬ ‫أو لقطـاع التصنيـع كمـواد أوليـة أو‬ ‫وسـيطة‪ ،‬باتـت الصيـن رقم ًا أساسـي ًا‬ ‫في حركة التجارة الدولية وفي تقلّبات‬ ‫األسعار صعودًا وهبوط ًا للمواد األكثر‬ ‫حيوية مثل البترول والحديد والصوف‬ ‫والخشـب‪.‬‬ ‫سـجل‬ ‫وعلـى سـبيل اإلضـاءة‪ ،‬فقـد ّ‬ ‫المعدل السـنوي لسـعر البترول منحى‬ ‫تصاعديـ ًا مـع ارتفـاع الطلـب الصينـي‬ ‫ابتداء من سنة ‪ 2003‬إلى‬ ‫بشكل مكثّف‬ ‫ً‬ ‫غايـة ‪ ،2013‬مـن نحـو ‪ 28‬دوالرًا إلى‬ ‫مـا يقـارب ‪ 110‬دوالرات‪ّ ،‬إل أن األزمة‬ ‫التـي َمّر بها االقتصـاد الصيني أعادت‬ ‫هـذا المعـدل سـنة ‪ 2015‬إلـى حوالـي‬ ‫قـل ممـا تـم‬ ‫‪ 35‬دوالرًا للبرميـل وهـو َأ ّ‬ ‫تسجيله سنة ‪ 2004‬التي تجاوز فيها‬ ‫‪ 38‬دوالرًا بقليـل‪.‬‬

‫إعادة نظر‬ ‫إن مـا حقّقتـه الصيـن مـن مكانـة‬ ‫وسـط االقتصـادات العالميـة الكبـرى‬ ‫بفضـل ابتكارهـا القائم على «التوجيه‬ ‫واالنفتاح» في الوقت نفسـه‪ ،‬لم يمنع‬ ‫من ظهور أزمات واختناقات اقتصادية‬ ‫كمـا حـدث أخيـرًا مـع أزمـة األسـهم‬ ‫الصينية‪ ،‬وكذلك آثار األزمة العالمية‬ ‫المتواصلـة منـذ أواخـر سـنة ‪2007‬‬ ‫بشـكل غير مباشـر من خالل شـركائها‬ ‫الغربييـن الذيـن تقلّـص طلبهـم علـى‬ ‫المنتوجـات الصينيـة‪ .‬هـذه «الهـزات»‬ ‫تمثل نتاج ًا طبيعي ًا لالنخراط المتزايد‬ ‫فـي االقتصـاد العالمـي المعولـم‪.‬‬ ‫فـي سـياق مماثـل‪ ،‬سـيكون علـى‬ ‫الصيـن مراجعـة توجهـات سياسـاتها‬ ‫االقتصاديـة فـي السـنوات المقبلـة‬ ‫لمواجهـة تباطؤ النمو الذي ستكرسـه‬ ‫بالتحـول مـن‬ ‫هـذه الوضعيـة‪ ،‬وذلـك‬ ‫ُّ‬ ‫موجـه للصـادرات‬ ‫اقتصـاد صناعـي ّ‬ ‫إلـى اقتصـاد اسـتهالكي يركـز أكثـر‬ ‫على اسـتثمار اإلمكانيات التي تتيحها‬ ‫السـوق المحلية الواسـعة‪ .‬وكما وعت‬ ‫الصيـن مـن قبل بعدم إمكانية االعتماد‬


‫الكلـي علـى الشـركاء األيديولوجييـن‬ ‫تقدمهـا‪ ،‬فـإن التعامـل مـع‬ ‫فـي دعـم ُّ‬ ‫التطورات الراهنة يعكس بشكل واضح‬ ‫ُّ‬ ‫انشـغال الصين بتأميـن اقتصادها من‬ ‫هـزات االقتصـاد العالمـي‪ .‬بمعنـى أن‬ ‫تعويض تراجع الطلب الخارجي يمر‪،‬‬ ‫بالضرورة‪ ،‬عبر زيادة الطلب الداخلي‬ ‫بسياسات تستهدف التقليص من ادخار‬ ‫األسـر وتحفيـز االسـتهالك‪ ،‬وإيلاء‬ ‫اهتمـام أكثـر لتنميـة قطاعـات جديـدة‬ ‫كالخدمـات علـى اختالفهـا السـتيعاب‬ ‫أعـداد أكبـر مـن اليـد العاملـة المهاجرة‬ ‫مـن القرى أو المسـتغنى عنهـا من ِقَب ِل‬ ‫الشـركات والمعامـل الصناعية بسـبب‬ ‫تأثيرات أزمة االقتصاد العالمي‪ ،‬ومن‬ ‫َث ّـم لخلـق دخـول جديـدة تسـاهم فـي‬ ‫تنشـيط الـدورة االقتصاديـة‪.‬‬ ‫التحول إلى مجتمع اسـتهالكي‬ ‫بيد أن‬ ‫ُّ‬ ‫واسـع يتطلّـب‪ ،‬باإلضافـة إلـى تغيير‬ ‫أكبر في ثقافة اإلدخار واإلنفاق الحذر‬ ‫تشـبع بهـا الصينيـون على مدى‬ ‫التـي َّ‬ ‫عقـود ِعـّدة‪ ،‬العمـل كذلـك علـى مزيـد‬ ‫مـن تحسـين المسـتوى العـام لعيـش‬ ‫يشـكل تحّديـ ًا كبيرًا في‬ ‫هـؤالء‪ .‬إن هذا ّ‬ ‫َحـّد ذاتـه للمرحلة القادمة التي يتطلع‬ ‫إليهـا االقتصـاد الصينـي‪ .‬فبالرغـم‬ ‫مـن المكانـة التـي بـات يحتلهـا ضمـن‬ ‫االقتصـادات الكبـرى فـي العالـم‪ ،‬ال‬ ‫تـزال الصيـن مصنفـة كأكبـر البلـدان‬ ‫الناميـة‪ .‬هـذا التصنيف وإن كان يتيح‬ ‫االسـتفادة مـن بعـض االمتيازات على‬

‫صعيد التجارة الدولية أو على صعيد‬ ‫التحّديـات البيئيـة مقارنـة مـع الـدول‬ ‫المتقّدمـة‪ ،‬علـى سـبيل المثـال‪ ،‬فإنـه‬ ‫يعكـس وجهـ ًا آخر يمثّل بـدوره تحدي ًا‬ ‫عالميـ ًا هـو محاربـة الفقـر وتقليـص‬ ‫الهـوة بيـن األكثـر غنـى واألكثـر فقـراً‪.‬‬ ‫يوجـد فـي الصيـن‪ -‬وفـق إحصائيـات‬ ‫رسمية تتعلّق بسنة ‪ - 2014‬ما يفوق‬ ‫‪ 82‬مليون نسمة تحت خط الفقر‪ ،‬بينما‬ ‫يعيش نصف السكان تقريبا (‪)% 47.3‬‬ ‫فـي المناطـق الريفيـة وهي في األغلب‬ ‫مناطـق فقيـرة مقارنـة مـع الحواضـر‬ ‫التـي تحتضـن أنشـطة صناعيـة أو‬ ‫خدماتية‪ .‬كما أن حصة الفرد الصيني‬ ‫مـن الناتج الداخلـي اإلجمالي (حوالي‬ ‫‪ 4000‬دوالر سـنوياً) مازالـت بعيـدة‬ ‫عن المعدل العالمي المقدر بنحو ‪9000‬‬ ‫ال مكثّف ًا‬ ‫دوالر‪ .‬هذا التحّدي يقتضي عم ً‬ ‫لتنمية القدرة الشرائية للسكان بشكل‬ ‫يجعلهم قادرين على الرفع من النفقات‬ ‫االسـتهالكية‪ .‬وقـد طـرح المسـؤولون‬ ‫الصينيـون‪ ،‬منـذ ‪ ،2008‬أفكارًا كثيرة‬ ‫بهـذا الشـأن تتعلّق بالرفـع من المبالغ‬ ‫التـي يحصـل عليهـا محـدودو الدخـل‪،‬‬ ‫وتخفيض أسعار الفائدة على قروض‬ ‫األسـر ومراجعة الضرائـب‪ ،‬بالموازاة‬ ‫مـع االهتمـام بمجـاالت حيويـة مثـل‬ ‫التعليم والصحة‪.‬‬ ‫يبـدو االقتصـاد الصينـي حتـى اآلن‬ ‫متماسـك ًا بالرغـم مـن آثـار االرتجـاج‬ ‫الذي يطبع االقتصاد العالمي مند نحو‬

‫عقـد مـن الزمن‪ّ .‬إل أن هذا التماسـك قد‬ ‫ينهار في أي لحظة بالرغم من القراءة‬ ‫الجيـدة للمشـهد االقتصـادي العالمـي‪،‬‬ ‫وبالرغم من وعي الصينيين بضرورة‬ ‫الوصـول إلـى تحقيـق نمـو متـوازن‬ ‫يخـص مسـاهمات القطاعـات‬ ‫فـي مـا‬ ‫ّ‬ ‫يخـص‬ ‫اإلنتاجيـة مـن جهـة‪ ،‬وفـي مـا‬ ‫ّ‬ ‫مسـاهمة الطلـب الخارجـي والطلـب‬ ‫الداخلـي مـن جهـة ثانيـة‪.‬‬ ‫إذن علـى الصينييـن‪ ،‬للحفـاظ علـى‬ ‫يتحـرروا بسـرعة‬ ‫هـذا التماسـك‪ ،‬أن‬ ‫ّ‬ ‫مـن االعتمـاد الكبيـر علـى ديناميـة‬ ‫الصـادرات إلى الخـارج‪ ،‬وأن ينجحوا‬ ‫فـي التحـّدي المرتبـط بتقريـب الفجوة‬ ‫بيـن مختلـف فئـات السـكان‪ ،‬أي بيـن‬ ‫األغنيـاء والفقـراء‪ ،‬وبيـن المناطـق‬ ‫القرويـة الفقيـرة والحضريـة الغنيـة‪،‬‬ ‫وأن يخلصـوا نمـو الناتـج الداخلـي‬ ‫اإلجمالـي من االرتهـان لمصدر بعينه‪،‬‬ ‫سـيمكنه‪ ،‬مـع مـرور الوقـت‪ ،‬مـن‬ ‫ممـا‬ ‫ّ‬ ‫أسـباب االسـتقرار واالسـتدامة‪.‬‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫مراجع‪:‬‬

‫ االقتصـاد الصينـي‪ ،‬فرانسـواز لومـوان‪ ،‬ترجمة‪:‬‬‫د‪ .‬صبـاح ممـدوح كعـدان‪ .‬الهيئـة العامـة السـورية‬ ‫للكتـاب ‪.2010‬‬ ‫ الصيـن رؤيـة اقتصاديـة ‪ ،2014‬مجموعـة بنـك‬‫قطـر الوطنـي‪.‬‬ ‫ تقرير إحصائيات التجارة الدولية ‪ ،2015‬المنظمة‬‫العالمية للتجارة‪.‬‬ ‫ تقرير حول االستثمارات في العالم ‪ ،2015‬مؤتمر‬‫األمم المتحدة للتجارة والتنمية‪.‬‬ ‫‪9‬‬


‫تحقيق‬

‫«البيست سيلر» في مصر‬ ‫دائرة ُ‬ ‫الكتّاب المتسلّلين!‬

‫القاهرة‪:‬‬ ‫بسمة عالء الدين وياسمين عباس‬ ‫شهد اإلنتاج الروائي في مصر والعالم‬ ‫غزارة‬ ‫العربي خالل السنوات األخيرة‬ ‫ً‬ ‫الكّم الكبير‬ ‫غير مسـبوقة‪ ،‬ويطرح هذا َ‬ ‫مـن األعمـال الروائيـة المنشـورة‬ ‫الك ّـم‬ ‫تسـاؤالت عـن مـدى تأثيـر هـذا َ‬ ‫علـى قيمـة الروايـة المصريـة ومـدى‬ ‫تميزت بالريادة‬ ‫حضورهـا وهي التـي ّ‬ ‫علـى المسـتوى العربـي‪.‬‬ ‫تحرينـا مبيعـات قوائـم الروايـات‬ ‫لـو ّ‬ ‫«األكثر مبيعاً» في الشهور أو السنوات‬ ‫األخيـرة‪ ،‬هـل نحصـل علـى الرقـم‬ ‫الدقيـق والموثّـق؟ الجـواب‪ ،‬ال ّ‬ ‫شـك‬ ‫أنـه سـيكون عائمـاً‪ ،‬خاصـة أن دور‬ ‫النشـر «الكبيـرة»‪ ،‬ال تفـرج بسـهولة‬ ‫عـن أرقـام مبيعاتها‪ّ ،‬إل إذا تعلّق األمر‬ ‫بعـدد طبعـات هذه الرواية الناجحة أو‬ ‫تلك؛ وإن كان اإلفصاح عن عدد نسخ‬ ‫الطبعـات أشـبه بأسـرار أمنيـة!‪.‬‬ ‫هـذا التعتيـم ليـس جديـدًا علـى حقـل‬ ‫النشـر والتوزيـع فـي مصـر‪ ،‬وليـس‬ ‫محصـورًا فيـه وحده‪ ،‬إذ يخص العديد‬ ‫مـن المجـاالت الحيوية األخـرى‪ ،‬وهو‬ ‫يصعـب مهمـة الباحـث‪ ،‬فإنه ال‬ ‫إن كان ّ‬ ‫يمنع من محاولة فهم ظاهرة «البيست‬ ‫‪10‬‬

‫سـيلر» (الروايـات ذات المبيعـات‬ ‫الجماهيريـة الواسـعة)‪ ،‬الجديـدة‪،‬‬ ‫والتساؤل حول هذا األدب الجديد الذي‬ ‫«أصبـح ُيقـرأ خـارج قاعـدة المثقفيـن‬ ‫التقليديـة»‪.‬‬ ‫تســــمى بـ«البيســــت سـيلر» (‪Best‬‬ ‫‪ )seller‬أي الكتـب األكثـر مبيعـ ًا كمـا‬ ‫هـو معـروف‪ ،‬ألنهـا حقّقـت بالفعـل‬ ‫مبيعـات كبيـرة‪ .‬وال نملـك حاليـ ًا ّإل‬ ‫هـذا الدليـل علـى نجاحهـا‪ .‬وعندمـا‬ ‫يأخـذ النجـاح شـكل البيسـت سـيلر‬ ‫وتنـزل النعمـة علـى الكاتـب المنذهـل‬ ‫والناشـر المغتبـط‪ ،‬فإنهمـا يتحدثـان‬ ‫معـ ًا عـن مفهـوم المعجـزة الـذي يبـدو‬ ‫علـى األرجـح بالنسـبة لهمـا أنه سـبب‬ ‫هـذه الظاهـرة السـعيدة‪.‬‬ ‫فهل ظاهرة «األكثر مبيعاً» أفادت األدب‬ ‫المصري أم أضرته؟‬ ‫حجم سـوق الكتاب في العالم العربي‬ ‫محـدود جـداً‪ .‬األمـر الثانـي «البيسـت‬ ‫سـيلر» ظاهـرة ُو ِج َـد ْت وانتشـرت‬ ‫مـع ظهـور دور النشـر الخاصـة التـي‬ ‫استخدمت هذا األمر نوع ًا من الترويج‪.‬‬ ‫ومـن َث ّـم «البيسـت سـيلر» أو األكثـر‬ ‫مبيعـ ًا ظاهـرة ينبغـي الوقـوف أمامها‬ ‫بنـوع مـن التحفُّـظ ألنهـا مضللـة وال‬ ‫يمكـن القيـاس عليهـا أو التعامـل معها‬

‫كمـا فـي البلـدان المتقّدمـة أو البلـدان‬ ‫التـي تقـرأ‪.‬‬ ‫وقد تدعي بعض دور النشر أنها طبعت‬ ‫إلحـدى الروايـات عشـرات الطبعـات‬ ‫كل طبعـة ال تتجـاوز‬ ‫فـي حيـن أن ّ‬ ‫تـوزع علـى‬ ‫مئتـي نسـخة ويمكـن أن ّ‬ ‫أصدقـاء المؤلِّـف فقـط‪ ،‬هـذا إن كانـت‬ ‫هـذه االدعاءات صادقة من األسـاس‪،‬‬ ‫فهنـاك طبعـات ال يـدري عنهـا القـارئ‬ ‫أو المتابـع شـيئ ًا سـوى أقاويـل دور‬ ‫النشـر وتصريحـات القائميـن عليهـا‪.‬‬ ‫التقوالت في‬ ‫وال مجال للتيقُّن من هذه‬ ‫ُّ‬ ‫ـل غيـاب ثقافـة اإلحصـاءات وتوافر‬ ‫ِظ ّ‬ ‫المعلومـات والمراقبـة مـن الجهـات‬ ‫المؤسسـية المنضبطـة التـي تضطلـع‬ ‫ّ‬ ‫بتقارير صادقة عن حركة اإلصدارات‬ ‫والطبعـات وأعدادهـا ومـا ُو ِّز َع منهـا‬ ‫في فوضى التصريحات الدعائية لدور‬ ‫النشر‪.‬‬ ‫ومـن أهـم األسـباب التـي تسـهم فـي‬ ‫زيـادة توزيـع بعـض النصـوص‬ ‫الروائيـة تحويلهـا إلـى أعمـال درامية‬ ‫سينمائية وتلفزيونية‪ ،‬كما حدث مع‬ ‫روايـة «عمـارة يعقوبيـان» و«الفيـل‬ ‫األزرق» و«فورتيجـو»‪ ...‬كمـا تسـهم‬ ‫حركـة الترجمـة إلـى عـدد مـن اللغـات‬ ‫األجنبية في رواج أحد األعمال الروائية‬


‫علـى حسـاب مـا لـم يترجـم منهـا رغـم‬ ‫قل قيمة‬ ‫احتمـال كـون العمـل‬ ‫المترجم َأ ّ‬ ‫َ‬ ‫والفنّية‪ .‬وتسـهم‬ ‫من الناحية الجمالية َ‬ ‫الجوائـز أيضـ ًا فـي انتشـار النصـوص‬ ‫الروائيـة‪ ،‬رغم أن حصول النص على‬ ‫جائـزة ال يعنـي أنـه األفضـل َفنّيـ ًا فـي‬ ‫بعـض التصفيـات؛ فلجـان التحكيم قد‬ ‫توجههـا بعـض المصالـح والتوازنـات‬ ‫السياسـية أو الثقافيـة‪.‬‬ ‫إنهـا حقيقـة صادمـة أن يتـم اللعـب‬ ‫توصل إليـه الباحث‬ ‫باألرقـام‪ ،‬هـذا مـا ّ‬ ‫والمـؤرخ واألكاديمـي فريدريـك‬ ‫ّ‬ ‫روفيلـوا‪ ،‬الـذي قام بتأليـف كتاب مهم‬ ‫ومرجعـي حـول هـذه الظاهـرة‪ ،‬حيـث‬ ‫ومميزات‬ ‫يتوقّـف عنـد أرقام المبيعـات ّ‬ ‫الكتـب األكثـر مبيعـاً‪ ،‬لكنـه يكتشـف‬ ‫مزيفـة‪،‬‬ ‫أن األرقـام غالبـ ًا مـا تكـون ّ‬ ‫المميـزات ال يمكـن تحديدهـا‬ ‫كمـا أن‬ ‫ّ‬ ‫بموضوعيـة‪ ،‬ألن عوامـل كثيـرة‬ ‫تتدخـل لصالـح هذه الكتـب قد ال تكون‬ ‫أحيانـ ًا ذات صلـة بالكتـاب وقيمتـه‪.‬‬ ‫ويعيـد الباحـث تاريخ التعبير «بيسـت‬ ‫سـيلر» إلـى عـام ‪1889‬م فـي الواليات‬ ‫المتحـدة‪ ،‬حيـث كان الناشـرون وراء‬ ‫اختراع هذه الصفة أمام النجاح الكبير‬ ‫لبعـض الكتـب‪.‬‬ ‫‪...‬‬

‫للوقـوف عنـد هـذه الظاهـرة فـي مصر‬ ‫سـألنا د‪ .‬فاطمـة البـودي‪ ،‬رئيـس‬ ‫مجلـس إدارة دار العيـن للنشـر فـي‬ ‫القاهـرة‪ ،‬وصرحـت لنـا عـن أسـبابها‬ ‫«تـردي مسـتوى الروايـات لـه‬ ‫قائلـة‪ّ :‬‬ ‫أكثر من سبب‪ ،‬بينها الجوائز الكثيرة‪،‬‬ ‫ومـا يصاحبهـا مـن مكاسـب ماليـة‬ ‫وإعالمية‪ ،‬فقد لعبت هذه الجوائز دورًا‬ ‫الكّتاب يستعجل‬ ‫كبيرًا في جعل بعض ُ‬ ‫فـي كتاباتـه‪ ،‬وال يسـتعد االسـتعداد‬ ‫الالزم لتأليف رواية تستحق التقدير»‪.‬‬ ‫ويـرى الناقـد المصـري فـؤاد قنديـل‬ ‫أنـه «فـي مصـر وبعض الـدول العربية‬ ‫«تطبـع بعـض دور النشـر‪ -‬سـاكنة‬ ‫الجحـور‪ -‬مئتي نسـخة فـي البداية من‬ ‫قبيـل االحتيـاط حتى تتكشـف األمور‪،‬‬ ‫وقد تحتاج لطبع المزيد وعندئذ تكون‬ ‫قـد طبعـت طبعتين وكلمـا أضافت مئة‬ ‫مبـررًا لرفـع‬ ‫أو مئتيـن اعتبـرت ذلـك ّ‬ ‫عـدد الطبعـات بغرض إكمـال منظومة‬ ‫األوهـام»‪ .‬مضيفـاً‪« :‬لـو كانـت أعمـال‬ ‫محفـوظ وإدريـس وبهـاء والبسـاطي‬ ‫وخيـري وأصلان وزيـدان وغيرهـم‬ ‫الكّتـاب بيـن األكثـر مبيعـ ًا‬ ‫مـن كبـار ُ‬ ‫فهـذا شـيء طبيعـي‪ ،‬لكـن أعمالهـم‬ ‫لألسـف لـم تتسـلّل إلـى أيـة قائمـة‪،‬‬ ‫بينمـا يحتـل األكثـر مبيعـ ًا روايـات‬

‫لعصـام يوسـف مثـل «ربـع جـرام»‬ ‫وروايات أحالم مستغانمي عن الجسد‬ ‫والسـرير‪ ،‬وروايـات توصـف بالخفـة‬ ‫مثـل «عايـزة أتجـوز» وكتـاب الممثـل‬ ‫أحمـد حلمـى «‪ 28‬حـرف»‪ ،‬وتنافـس‬ ‫بقـوة كتـب األدب السـاخر الـذي يتدنى‬ ‫أحيانـ ًا ليحتـل صـدارة األدب التافـه‪..‬‬ ‫الحديـث إذن عـن األكثـر مبيعـ ًا إدانـة‬ ‫القـراء العـرب‪،‬‬ ‫واضحـة لـذوق أغلـب ّ‬ ‫وخاصـة المصرييـن‪ ،‬الذيـن أنفقـت‬ ‫الدولـة علـى مـدى خمسـين عامـ ًا مـا‬ ‫يتجـاوز تريليـون جنيـه ليصبحوا من‬ ‫المتعلميـن والمثقفيـن»‪.‬‬ ‫فيمـا يـرى الناقـد المصـري‪ ،‬د‪ .‬محمـد‬ ‫بـدوي‪ ،‬فـي مصطلـح «الروايـة األكثـر‬ ‫مبيعـاً» غموضـ ًا فـي المعنـى‪ ،‬فهـو‬ ‫يجمع بين أنماط متعّددة من الرواية‪،‬‬ ‫بيـن شـفرة دافنشـي البوليسـية وبين‬ ‫الفنّيـة‪ ،‬فكلتاهما‬ ‫مئـة عـام من العزلـة َ‬ ‫تصدرتـا المبيعـات‪ .‬أمـا عـن سـوق‬ ‫الكتـاب فـي مصـر‪ ،‬فيقـول إن وضعـه‬ ‫«يشـبه مـا عليـه في النصـف األول من‬ ‫القرن العشرين‪ ،‬حين كان العقاد وطه‬ ‫حسين يعيشان من الكتابة‪ّ ،‬إل أن تلك‬ ‫البدايـة المزدهـرة قد قضت عليها ثورة‬ ‫‪ ،1952‬التـي قلّصـت مـن رتبـة المثقف‬ ‫والثقافـة حتـى ال يشـاركها سـلطة‬ ‫‪11‬‬


‫الفضـاء المجتمعـي»‪ .‬ولفـت بدوي إلى‬ ‫أن ظهـور الترانزسـتور والتليفزيـون‬ ‫قـد أثّـر فـي انصـراف الجماهيـر عـن‬ ‫قـراءة األدب‪ ،‬باإلضافـة إلـى أن «جيل‬ ‫السـتينيات مـن األدبـاء قـد ابتعـد عـن‬ ‫معالجـة الواقـع السياسـي في أعماله‪.‬‬ ‫أما الناقد د‪ .‬شاكر عبد الحميد فيرى أن‬ ‫الروايـة المصريـة مزدهـرة َكّم ًا وليس‬ ‫َكْيفـاً‪ ،‬مشـيرًا إلـى أن الكثيـر مـن هـذه‬ ‫األعمـال ُيعـّد تجـارب أولـى‪ ،‬وهـي‬ ‫انطباعات ال عالقة لها بتقنية الكتابة‪،‬‬ ‫وتسـاءل أيـن هـي األعمـال الفـذة التي‬ ‫شـقّت طريقـ ًا جديـدًا للروايـة العربيـة‬ ‫مـن بيـن تلـك الروايات؟!‬ ‫وقـال عبـد الحميد في ختـام تصريحه‪:‬‬ ‫«تأخذ بعض الروايات شـهرة وتترجم‬ ‫فإذا قرأتها وجدت نفسـك تتحسر على‬ ‫غياب القيم وانفالت المعايير‪ ،‬أين هو‬ ‫الروائـي الفـذ صاحـب الخيـال الجامح‬ ‫واإلبداع المتجاوز للحدود»‪.‬‬ ‫‪...‬‬ ‫كمـا سـألنا علـي عطـا‪ ،‬الشـاعر‬ ‫والصحافـي عـن رأيـه حـول (البيسـت‬ ‫سيلر) فقال‪ :‬إن ظاهرة «األكثر مبيعاً»‬ ‫فـي عالم النشـر ظاهـرة قديمة تتجّدد‪،‬‬ ‫فـي شـكل طبيعـي مادامـت هنـاك ُكتب‬ ‫القـراء أكثـر مـن غيرهـا‪،‬‬ ‫يقبـل عليهـا ّ‬ ‫وجانـب منهـا ُيعـّد ظاهـرة إيجابيـة‬ ‫خصوصـ ًا فـي بلدنـا‪ ،‬فهنـاك شـكوى‬ ‫دائمـة من انحسـار القـراءة‪ ،‬خصوص ًا‬ ‫قـراءة الكتـب الورقيـة‪.‬‬ ‫‪12‬‬

‫بينمـا تـرى الكاتبـة وفاء شـهاب الدين‬ ‫بـأن الشـللية منـذ القـدم كان لهـا دور‬ ‫كبيـر فـي بـزوغ نجـم الكاتـب‪ ،‬وهناك‬ ‫مـن اسـتطاع توظيفهـا بصـورة جيـدة‬ ‫ليحصـل علـى مـردود هائـل‪ ،‬ففـي‬ ‫بالدنـا يجـب علـى الكاتـب أن يكتـب‬ ‫ويسـوق ويقـوم بالدعايـة‪،‬‬ ‫وينشـر‬ ‫ّ‬ ‫وهناك من يبرع في ذلك رغم تواضع‬ ‫الفنّـي واألدبـي‪ ،‬وهنـاك مـن‬ ‫مسـتواه َ‬ ‫تميـزه‪ ،‬وأعتقـد أنهـا‬ ‫رغـم‬ ‫يسـتطيع‬ ‫ال‬ ‫ّ‬ ‫ككل الظواهـر األخرى سـتأخد‬ ‫ظاهـرة ّ‬ ‫القراء‬ ‫حيـزًا مـن الوقـت إلى أن ينضـج ّ‬ ‫وإلى أن يكتشـفوا زيف «البورباجندا»‬ ‫تسـوق لهـم مـا ال يسـتحق‪ ،‬وقـد‬ ‫التـي ّ‬ ‫بـدأ ذلـك بالفعـل فظهـرت األصـوات‬ ‫التـي تنـادي بعـدم االنسـياق خلـف‬ ‫ادعـاءات بعـض دور النشـر والبحـث‬ ‫عـن األعمـال الجيـدة التـي ال تسـتهلك‬ ‫الوقـت والجهـد بلا طائـل‪ .‬لكـن ليـس‬ ‫كل كتـاب يبيـع أكثـر هـو بالضـرورة‬ ‫ّ‬ ‫أفضـل مـن غيـره‪ ،‬ففي الماضـي كانت‬ ‫كتـب إسـماعيل ولـي الديـن‪ ،‬وإحسـان‬ ‫توزع أكثر بكثير من‬ ‫عبد القدوس مث ً‬ ‫ال َّ‬ ‫كتـب نجيـب محفوظ‪ ،‬واآلن كتب أحمد‬ ‫مراد‪ ،‬وأحمد خالد توفيق‪ ،‬تنتشر مثل‬ ‫النار في الهشيم‪ ،‬وال يعني ذلك أنهما‬ ‫أفضـل مـن يكتب الرواية في مصر‪ ،‬ثم‬ ‫ينبغـي ّأل نغفـل أن الجوائـز األدبيـة‬ ‫عاملا أساسـي ًا فـي الترويـج‬ ‫باتـت‬ ‫ً‬ ‫للروايـات‪ ،‬حتـى أصبحنـا بالفعـل‬ ‫نعيـش فـي زمـن الروايـة‪.‬‬

‫وبـدوره يّتفـق الصحافـي إيهـاب‬ ‫مصطفـى مـع الـرأي القائـل بكـون‬ ‫ظاهرة «البيست سيلر» تخضع لبعض‬ ‫رؤى دور النشـر‪ ،‬مسـتثني ًا المكتبـات‬ ‫التـي ال تنتمـي إلـى دور نشـر‪ ،‬والتـي‬ ‫يصفها بالحيادية حيال البيست سيلر‪.‬‬ ‫ال تلـك المكتبات‬ ‫وتابـع ‪ :‬لـو كانـت فع ً‬ ‫لتغير وتذبذب منسوب البيست‬ ‫منصفة ّ‬ ‫سـيلر يومـ ًا عـن يـوم‪ ،‬ولكـن الحـال‬ ‫مثلا‬ ‫وصـل إلـى أن نجـد كاتبـ ًا واحـدًا ً‬ ‫(بيست سيلر) دائماً‪ ...‬وأنا عن نفسي‬ ‫ال أصـدق المكتبات بخصوص عرضها‬ ‫للبيست سيلر‪ ،‬واعتبره مجرد وسيلة‬ ‫للجـذب ال أكثـر‪.‬‬ ‫أما عن الشللية‪ ،‬فقال إيهاب مصطفى‪:‬‬ ‫الشللية لها دور في األوساط الثقافية‪،‬‬ ‫بحيـث يتـم الحديث عن العمل وتوجيه‬ ‫األنظـار إليـه‪ ،‬خاصـة لمـن يملكـون‬ ‫متابعيـن كثـرًا علـى مواقـع التواصـل‬ ‫االجتماعي‪ .‬أما الصحافيون الثقافيون‬ ‫الذيـن يمتلكـون القـدرة علـى الحكـم‬ ‫بجـودة العمـل مـن عدمـه‪ ،‬فلا أعتقـد‬ ‫بإمكانيـة اسـتغاللهم كلهـم‪ ،‬مـا دام‬ ‫للقـراء برسـالته‬ ‫يتوجـه‬ ‫الصحافـي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بكامـل المهنيـة‪.‬‬ ‫‪...‬‬ ‫من الواضح من خالل هذا االسـتطالع‬ ‫أن االسـتهالك السـريع بـات سـمة‬ ‫الروايـة الرائجـة فـي مصـر لسـهولة‬ ‫قراءتهـا وبسـاطة الموضوعـات التـي‬ ‫تتناولهـا‪ ،‬ومـن َث ّـم المتعـة اللحظيـة‬ ‫غير الغامضة‪ ،‬وسرعة االنتهاء منها‪،‬‬ ‫لغتهـا شـبه تقريريـة تعالج في معظم‬ ‫موضوعاتهـا اللعـب علـى الغرائـز ال‬ ‫القيـم الوجوديـة والفلسـفية‪ ،‬سـريعة‬ ‫التنـاول‪ ،‬ومن َث ّـم ينتهى المتلقّي منها‬ ‫بال جهد‪ ،‬كثوب يبلى بمجرد االرتداء‪،‬‬ ‫ويحتاج المستهلك أو القارئ لما بعدها‬ ‫مـن نصـوص‪ ،‬وهـو مـا يديـر ماكينات‬ ‫ويـروج لمبدعـي‬ ‫طباعـة دور النشـر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫والقـراء الباحثيـن‬ ‫أنصـاف المواهـب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫عن وجبات سـريعة للتسـلية ودغدغة‬ ‫المشـاعر‪ .‬روايـة الــ (البيسـت سـيلر)‬ ‫غالبـ ًا مـا تشـبه الموجـودات الهشـة‬ ‫والمسـطحة التـي ال تصمـد فـي الزمن‪،‬‬ ‫كل قراءة‬ ‫وال يستمر جمالها متدفق ًا عند ّ‬ ‫متجـّددة فـي التاريخ‪.‬‬


‫تصــريـح‬ ‫محمـد ناجي عبداهلل‬

‫(كاتـب وصاحب مكتبة)‪:‬‬

‫ظاهـرة «البيسـت سـيلر» موجـودة من زمـان في الغرب‪،‬‬ ‫بدايـة مـن صاحـب مكتبـة كبيـرة كان لديـه العديـد مـن‬ ‫ً‬ ‫الكتـب التـي َك َسـاها الغبـار‪ ،‬ولـم يقتـرب منهـا أحـد‪- ،‬‬ ‫ـل مـا يطمـح إليـه أن ُتبـاع بضاعتـه كاملـة‪ -‬ففكـر‬ ‫كان ُج ّ‬ ‫الكُتـب‪ ،‬والفتـة معلّقـة‬ ‫فـي أن يصنـع َرفَّـ ًا‬ ‫خاصـ ًا بتلـك ُ‬ ‫َّ‬ ‫«الكُتـب األكثـر مبيعـاً»‪ ...‬هـذا مبـدأ تجـاري أعرفـه‬ ‫عليهـا ُ‬ ‫تطـور فيمـا بعـد‬ ‫والـذي‬ ‫للتسـويق‪،‬‬ ‫دراسـتي‬ ‫جيـدًا مـن‬ ‫ّ‬ ‫«مختـارات الشـهر»‪ ،‬أو حتـى‬ ‫إلـى ُ‬ ‫«الكُتـب األكثـر َج َـدالً»‪ُ ،‬‬ ‫فـي صـاالت السـينما (أفلام للكبـار فقـط)‪ ،‬مـا أقصده أن‬ ‫تلـك الظاهـرة هـي باألصـل حيلـة تجاريـة قديمـة‪ ،‬ولكن‬ ‫فـي مصـر ظهـرت بازغـة فـي السـنوات األربـع األخيـرة‪.‬‬ ‫لتأثيـر هـذه الظاهـرة شـقَّان‪ ،‬أولهمـا وأكثرهمـا خطـورة‬ ‫«مستهلك» وليس «قارئ»‬ ‫«على المستهلك»‪ ،‬وأنا ُأ َس ِّميه ُ‬ ‫«مَثقَّـف» وليـس فـي ذلك إهانة‪ ،‬فمن يقبل على قراءة‬ ‫أو ُ‬ ‫كتـاب فقـط مـن رؤيتـه علـى رف يحمـل ُجملـة تجاريـة‬ ‫كــ «األكثـر مبيعـاً»‪ ،‬أو «األكثـر جـدالً» فهـو ينـوي شـراء‬ ‫انطَلت عليه‬ ‫«سـلعة» أي أنـه مسـتهلك بالدرجـة األولـى‪َ ،‬‬ ‫الحيلـة‪ ،‬وتأثيـر ذلـك علـى المسـتهلك أن سـوق األدب‬ ‫والكُتب صار مرهون ًا بـ«مدى قرابة صاحب الدار بصاحب‬ ‫ُ‬ ‫الكُتـب «األكثر مبيعـاً» باتت في أغلب‬ ‫المكتبـة»‪ ،‬حيـث إن ُ‬ ‫توضـع علـى تلـك األرفـف ألنهـا األكثـر مبيعـ ًا‬ ‫األحيـان ال َ‬ ‫برم ًا بين الطرفين‬ ‫م‬ ‫ا‬ ‫اتفاق‬ ‫هناك‬ ‫ألن‬ ‫بل‬ ‫بالفعل‪،‬‬ ‫وشهرة‬ ‫ُ‬ ‫ًُ َ‬ ‫الر ّف‪ ،‬فكثيرًا ما‬ ‫ذلك‬ ‫على‬ ‫نة‬ ‫عي‬ ‫م‬ ‫قائمة‬ ‫لوضع‬ ‫السابقين‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫نـرى اليـوم‪ ،‬روايـات وأعما ًال حازت علـى نوبل وغيرها‬ ‫بقبـور‪ ،‬ال بأرفـف‪،‬‬ ‫مدفونـة‪ -‬حرفيـ ًا ‪ -‬بزوايـا مجهولـة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫الكُتـب َثقيلـة العيـار‪ ...‬فأنَّـى‬ ‫تحـوي ُجَثَثـ ًا لمثيالتهـا مـن ُ‬ ‫بنظـام‬ ‫األفضـل‬ ‫ـد‬ ‫يج‬ ‫أن‬ ‫الحقيقـي‬ ‫للمسـتهلك أو القـارئ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫كهذا؟!‪..‬‬ ‫أمـا عـن ِ‬ ‫الشـق الثانـي‪ ،‬فيشـمل «مالـك المكتبـة»‪ ،‬فـإذا‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ـب‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫بيـع‬ ‫فـي‬ ‫ستتسـبب‬ ‫لـك‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫حيلـة‬ ‫أن‬ ‫المالـك‬ ‫مـا َعِل َـم‬ ‫ُ​ُ ٍ‬ ‫َ‬ ‫الع َجلة تدور»‬ ‫مركونة‪ ،‬أو أنها ِب َشكل أو بآخر «ستجعل َ‬ ‫فلا ُت َح ِّدِثنـي وقتهـا عـن «الثقافـة»‪ ...‬األمـر أو ًال وأخيـرًا‬ ‫وأختصـره بـ«المثير للجدل» ألن ما يحتوي على‬ ‫تجـارة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫المثيـر للجـدل‪ ،‬سياسـي ًا كان أم مبتـذ ًال أم فاضحـ ًا أم أي‬ ‫يتحكم في ظاهرة األكثر مبيعاً‪ ،‬فعلى أي‬ ‫شـيء‪ ،‬هو ما ّ‬ ‫إن‬ ‫سـتهلكيه‬ ‫م‬ ‫ب»‬ ‫ت‬ ‫الك‬ ‫«بائع‬ ‫سـيقابل‬ ‫أسـاس وبأي وجه‬ ‫ْ‬ ‫ُ​ُ ُ‬ ‫ِ‬ ‫الـرف لـم ُيثـر َجَدَلُهـم؟!‪ ..‬لـم يجدوا‬ ‫قـرأوا شـيئ ًا مـن ذلـك َّ‬ ‫يشـبع رغبتهـم وحماسـتهم القتنائه؟!‬ ‫فيـه مـا‬ ‫ُ‬ ‫يقـدم أدبـ ًا‬ ‫يبـاع كـ«بيسـت سـيلر» ال‬ ‫كل مـا‬ ‫ال أقـول إن ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫قـدر‬ ‫حقيقيـ ًا أو‬ ‫ً‬ ‫كـرة العمـل علـى ٍ‬ ‫قيمـة مـا‪ ،‬فقـد تكـون ِف ُ‬ ‫والمسـتهلك بمجرد قراءة االسـم‬ ‫القارئ‬ ‫يجذب‬ ‫من القوة‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أو حتـى معرفـة نبـذة مختصـرة‪ ،‬حتـى وإن كان العمـل‬ ‫متوسـط القيمـة‪ ،‬الفكـرة جزء ُمهِم جـداً‪ ،‬وحصول العمل‬ ‫علـى جائـزة مـا‪ ،‬أو تدعيمه بتحويله إلى فيلم سـينمائي‬ ‫يضيـف الكثيـر جـدًا لرصيـد العمل كـ«بيسـت سـيلر»‪.‬‬ ‫أمـر‬ ‫ُ‬ ‫يتغيـر أبطالها‬ ‫هـي حيلـة تجاريـة فـي أغلـب األحيان‪ ،‬قد ّ‬ ‫وروادهـا علـى حسـب عوامـل كثيـرة‪ ،‬لـو ُقلنـا إن أكثـر‬ ‫ّ‬ ‫مـن يحتلـون مراكـز «األكثـر مبيعـاً» اليـوم مـن الشـباب‪،‬‬ ‫تحولت رواياتهم ألفالم لتكون هي‬ ‫الختـرت‪ ،‬الفئـة التـي ّ‬ ‫األبـرز؛ هنـاك أحمـد مـراد عـن روايـة «الفيـل األزرق»‪،‬‬ ‫ومحمـد صـادق عـن روايـة «هيبتـا»‪ ،‬وعلاء األسـواني‬ ‫عـن أعمالـه‪ ،‬هـم أكثـر األمثلـة التـي أراهـا اليـوم بـارزة‬ ‫لك َّتـاب شـباب‪،‬‬ ‫جليـة‪ ،‬هنـاك أمثلـة أخـرى ُ‬ ‫وواضحـة ّ‬ ‫أسـبوع‬ ‫بين‬ ‫ٍ‬ ‫والقائمـة ّ‬ ‫تتغيـر بسـرعة فائقـة‪ ،‬وتتبـّدل مـا َ‬ ‫توثَّـق بأفالم‬ ‫أو‬ ‫بعـد‬ ‫ل‬ ‫ـو‬ ‫ح‬ ‫ت‬ ‫لـم‬ ‫أعمالهـم‬ ‫أن‬ ‫وآخـر طالمـا‬ ‫ُ َ َّ‬ ‫َ‬ ‫سـينما‪ ،‬أما الجيل القديم أيض ًا فال أزال أرى منه من هو‬ ‫«بيسـت سـيلر» حتـى‪ ،‬وإن لـم َيَن ْـل َك ّـم الدعايـة العجيـب‬ ‫كأعمال الشباب اليوم‪ ،‬منهم «رضوى عاشور»‪« ،‬نجيب‬ ‫محفـوظ»‪« ،‬أحمـد خالـد توفيـق»‪ ،‬والكثيـر ممـن أخشـى‬ ‫نسيانهم‪.‬‬ ‫تتحكم بالـ«بيسـت سـيلر»‪ ،‬والعالقة بين‬ ‫كما أن الشـللية ّ‬ ‫المَت َح ِّكم األول في‬ ‫هي‬ ‫المكتبة‬ ‫ومالك‬ ‫صاحب دار النشر‬ ‫ُ‬ ‫الكُت ِب واألعمال األكثر قوة َن ِجدها‬ ‫المعادلة كلها‪ ،‬فبعض ُ‬ ‫«مدفونة» كما ُقلت باألرفف الميتة‪َ ،‬عاِ‬ ‫بر‬ ‫س‪،‬‬ ‫ن‬ ‫تنتظر ِب َص ٍ‬ ‫ُ‬ ‫يلتفت إليها ِ‬ ‫حق قدرها‪.‬‬ ‫أن‬ ‫ويَق ِّد ُرها ّ‬ ‫ُ‬ ‫ناظ ٌر‪ُ ،‬‬ ‫«أية دعاية تحتاج إلى فريق كامل»‪ ،‬والصحافة طرف‬ ‫إن ّ‬ ‫بالغ األهمية في ظاهرة كالبيست سيلر‪« ،‬الكتاب الفالني‬ ‫أو الروايـة العالنيـة هـي األكثـر جـد ًال أو األكثـر مبيعـاً»‪،‬‬ ‫«محبوكـة» وتجاريـة من الدرجـة األولى‪ ،‬ولو‬ ‫هـي لعبـة َ‬ ‫ِ‬ ‫لقلت لك إنهـا أيض ًا لعبة‪،‬‬ ‫حـدث هـذا مـع إحـدى رواياتي ُ‬ ‫اسـتعملت تلـك الحيلة‬ ‫ولـن أنفـي عـن نفسـي وقتهـا أنـي‬ ‫ُ‬ ‫للترويـج عن أعمالي‪.‬‬ ‫كذلك ال أحد يجرؤ على القول بأن تلك الظاهرة ستنتهي‬ ‫أم ال‪ ،‬وأن البيسـت سـيلر‪ ،‬في نظري‪ ،‬ليسـت ُم َخصصة‬ ‫لكل ِ‬ ‫الفنّيـة‪ ،‬ومتى ما ُو ِجَدت‬ ‫السـَلع َ‬ ‫للكُتـب فحسـب‪ ،‬هـي ُ‬ ‫ُ‬ ‫وج َـدت أيضـا تلـك الحيلـة‪ ،‬ال أعتقد أنها‬ ‫ـن»‪ِ ،‬‬ ‫«تجـارة َ‬ ‫الف ّ‬ ‫الفّن ومسـتهِلُك ُوه‪.‬‬ ‫سـتزول إلى أن يزول َ‬ ‫‪13‬‬


‫استطالع‬

‫تحتــل مواقــع التواصل االجتماعي بمختلف مســمياتها موقع الصدارة من حيــث تبادل األفكار‬ ‫والنقاشــات على مختلف األصعدة‪ .‬المجال األدبي‪ ،‬بدوره‪ ،‬ينتعش من هذه المنصات الرقمية‬ ‫المستحدثة باستمرار‪ ،‬حيث تكثر الصفحات األدبية والثّقافية على موقع فيسبوك والتغريدات‬ ‫األدبيــة علــى موقع تويتر‪ ،‬كما ينشــأ يوميــ ًا العديد من المجموعــات األدبية والثّقافيــة على واتس آب‪،‬‬ ‫سناب شات‪ ،‬تليجرام وغيرها من مواقع التواصل االجتماعي‪...‬‬ ‫الكّتاب والمبدعيــن‪ ،‬لنتوقّف على حدود‬ ‫فــي هذا االســتطالع الذي أعّدته «الدوحة» نســائل مجموعة مــن ُ‬ ‫استغالل المبدع العربي لمنصات التواصل االجتماعي لتسويق نتاجه اإلبداعي وتكريس اسمه في المشهد‬ ‫القراء‪...‬‬ ‫اإلبداعي وبين ّ‬

‫مواقع التواصل االجتماعي‬ ‫ما مدى استغالل المبدع العربي إلمكاناتها؟‬ ‫استطالع‪ :‬ريـِّـا أحمد ‪ -‬اليمن‬ ‫تغييـر نظرية التلقّي!‬ ‫فـي البداية يـرى الكاتب والناقد اليمني‬ ‫د‪.‬فـارس البيل بأن‪ :‬منصات التواصل‬ ‫فضـاء جديـداً‪،‬‬ ‫االجتماعـي خلقـت‬ ‫ً‬ ‫ومسـاحة تفاعليـة نوعيـة ومختلفـة‪..‬‬ ‫تشـكل‪ ،‬فـي نظـره‪ ،‬ثـورة فـي مجـال‬ ‫ّ‬ ‫التلقّـي والتفاعـل‪ ،‬بحيـث بـات اإلبـداع‬ ‫تشاركي ًا وآني ًا في الوقت نفسه بعد أن‬ ‫كان المبدع معزو ًال عن متلقيه‪ ،‬ال صلة‬ ‫بينـه وبينهـم وال ردات فعـل متبادلـة‬ ‫ـل وجـود وسـائط كالمطبعـة أو‬ ‫فـي ِظ ّ‬ ‫اإلعلام التقليـدي‪ .‬لكن اليـوم‪ ،‬يضيف‬ ‫فـارس البيـل‪ :‬تمـارس الشـبكات دور‬ ‫القـراء فـي‬ ‫الوسـيط التفاعلـي‪ ،‬حيـث ّ‬ ‫مواجهـة المبدع‪ ،‬والمبدع يتلقّى ردودًا‬ ‫تتطور‬ ‫في الحال حول إبداعه‪ ،‬ولذلك‬ ‫ّ‬ ‫نظريـة التلقّـي اليـوم وهـي تبحـث هذا‬ ‫التفاعل األثير وتحاول أن تسبر غوره‪.‬‬ ‫التغير في نظر فارس البيل‬ ‫بيد أن هذا‬ ‫ُّ‬ ‫ينطـوي علـى كثيـر مـن المثالـب ليـس‬ ‫أوالهـا رداءة اإلنتـاج وليـس ُأخراهـا‬ ‫كل مـن يسـتخدم هـذه الشـبكات‬ ‫أن ّ‬ ‫صـار بمثابـة المبـدع‪ .‬وهـذا ما يضعف‬ ‫‪14‬‬

‫الجودة ويشـيع الرداءة‪ ..‬لكن‪ ،‬وعلى‬ ‫تمكن األديب‬ ‫الرغم من هذه المثالب فقد ّ‬ ‫العربـي‪ ،‬نوعـ ًا مـا‪ ،‬مـن االنتشـار عبـر‬ ‫فضلا عـن أفضالهـا في‬ ‫هـذه الوسـائل‬ ‫ً‬ ‫خلـق تقـارب بيـن المبدعين في الوطن‬ ‫العربـي بفضـل هـذه الشـبكات التـي‬ ‫كسـرت الحـدود واختزلـت المسـافات‬ ‫الجغرافية والزمنية‪ .‬وإن كان االنتشار‬ ‫قل من‬ ‫خارج المنطقة العربية خافت ًا وَأ ّ‬ ‫المطلوب لعوامل ِعّدة منها اللّغة وكسل‬ ‫الترجمـة ونوعيـة اإلنتاج‪.‬‬

‫تحطيم المركزية اإلبداعية‬ ‫والحديـث عـن ثـورة وسـائل االتصـال‬ ‫االجتماعـي فـي نظـر القـاص اليمنـي‬ ‫هايل المذابي حديث ذو شجون‪ .‬وبرأيه‬ ‫فـإن أهـم مـا يمكـن الحديـث عنـه بهـذا‬ ‫الصـدد هـو تحطيم المركزيـة اإلبداعية‬ ‫بفضـل (السوشـيال ميديـا) ومـا خلقـه‬ ‫مـن أدب تفاعلـي‪ ،‬ويحيلنـا المذابـي‬ ‫فـي هـذا السـياق علـى المخضرميـن‬ ‫ـن‬ ‫أدبيـ ًا واصفـ ًا إياهـم بكونهـم أكثـر َم ْ‬ ‫يسـتطيع وصـف ذلـك بدقـة‪ .‬مضيفـاً‪:‬‬ ‫فـي عصر المركزيـة كان األديب يعاني‬

‫الكثيـر من أجل إيصال صوته وإبداعه‬ ‫والكّتاب لم‬ ‫لآلخرين‪ ،‬وكثير من األدباء ُ‬ ‫يحالفهـم الحـظ في وصـول نتاجهم ّإل‬ ‫بعد موتهم‪ ،‬أما في عصر (السوشـيال‬ ‫ميديا) فقد توافر لألدباء فرصة النشـر‬ ‫والـرواج الكبيـر ولمـس أثـر ذلـك فـي‬ ‫حياتهم وبسـهولة‪..‬‬ ‫في مقابل ذلك يتسـاءل هايل المذابي‪:‬‬ ‫مـا هـو الثمـن الـذي دفعـه األدب مقابـل‬ ‫سـهولة النشـر والترويـج؟ إجابـة عـن‬ ‫ذلـك يفتـرض صاحب «سـفر الحديقة»‬ ‫أن (السوشـيال ميديـا) خدمـت اللّغـة‬ ‫العربية وأنقذتها من الغرق! لكنها كما‬ ‫خلقـت األدب التفاعلـي وسـاعدت على‬ ‫تحطيـم المجالـس األدبيـة بالمجالـس‬ ‫االفتراضية‪ ...‬فإن ذلك َتّم على حساب‬ ‫تميـز بهـا أدب الجيـل‬ ‫الجـودة التـي ّ‬ ‫السـابق الـذي لـم يعـرف التكنولوجيـا‬ ‫الرقميـة‪ ،‬واليـوم بوجـود هـذه التقنية‬ ‫فقد األدب الكثير من هيبته كما انعدمت‬ ‫وتهمش دور النقاد كثيرًا وفقد‬ ‫الرقابـة ّ‬ ‫الـذوق العـام مكانتـه وتغلَّـب الـرديء‬ ‫على الجيد بسـبب سـهولة النشـر‪.‬‬ ‫قـر المذابـي بأن هـذه الطفرة العظيمة‬ ‫ُي ّ‬ ‫للتكنولوجيا شيء رائع وعظيم‪ ،‬لكن‬


‫رغـم هـذا فمـا يزال العـرب‪ ،‬في نظره‪،‬‬ ‫غيـر قادريـن علـى عيش هـذه الفعالية‬ ‫والتعايـش معهـا‪ ،‬فال توجد إرشـادات‬ ‫متخصصـة‬ ‫واضحـة وال توجـد ورش‬ ‫ّ‬ ‫للحـّد مـن سـلبيات (السوشـيال ميديا)‬ ‫وكيفيـة تعامل األدبـاء معها‪...‬‬

‫شهرة في وقت وجيز‬ ‫وحسـب رأي الروائيـة المصريـة هاجر‬ ‫عبـد الصمـد فـإن مواقـع التواصـل‬ ‫االجتماعـي خلقـت نوعـ ًا جديـدًا مـن‬ ‫التسـويق فـي جميـع المجـاالت‪ ،‬مـن‬ ‫فالكتـاب‪ -‬خاصة‬ ‫بينهـا عالـم اإلبـداع‪ُ ،‬‬ ‫منهـم الشـباب‪ -‬اسـتفادوا مـن هـذه‬ ‫المواقـع فـي تسـويق ونشـر أعمالهـم‪.‬‬ ‫وتضيف‪ :‬بالنسبة لي شخصي ًا أرى أن‬ ‫(السوشـيال ميديـا) أداة إعالمية قوية‬ ‫وقـد أفادتنـي كثيـرًا فـي نشـر روايتـي‬ ‫األولى ما أدى إلى انتشار اسمي ككاتبة‬ ‫فـي خلال شـهور معـدودة‪ .‬وحتـى‬ ‫بالنسبة للوصول إلى العالمية‪ :‬أعتقد‬ ‫أيض ًا أن هذا ليس باألمر الصعب‪ ،‬لكن‬ ‫بالطبـع البـّد مـن ترجمـة تلـك األعمـال‬ ‫األدبيـة أوالً‪.‬‬

‫فرص سهلة‬ ‫وتعتقـد القاصة اليمنية حفصة مجلي‬ ‫أن وسائل التواصل االجتماعية خدمت‬ ‫الكتـاب بشـكل كبيـر من ناحيـة تجاوز‬ ‫لـكل مـكان‪ ...‬كمـا‬ ‫المحليـة والوصـول ّ‬ ‫والكّتاب‬ ‫المبتدئين‬ ‫خدمت بشكل خاص‬ ‫ُ‬ ‫الجـدد فـي الحصـول علـى فرصـة‬ ‫سـهلة فـي النشـر والتعلُّـم والتواصـل‬ ‫والقراءة‪ ...‬مثالً؛ يمكنني أن أقرأ لكاتب‬ ‫نصوصـ ًا لـن تصلنـي ورقيـ ًا بسـهولة‬ ‫لكّتاب رائعين لم ينشروا بعد‪..‬‬ ‫وحتى ُ‬ ‫أعتقـد أننـا محظوظـون جـدًا بتواجدها‬ ‫أيـ ًا تكـن سـلبياتها كسـرقة النصـوص‬ ‫وانتشـار األدب الـرديء لكـن يبقـى‬ ‫للقـارئ الذكـي ذائقـة التمييز‪..‬‬

‫دائرة العجلة‬ ‫ويقول الشاعر والناقد اليمني د‪.‬إبراهيم‬ ‫أبو طالب‪ :‬بال ّ‬ ‫شك أن الوسائط الحديثة‬ ‫حرّيـة التعبيـر‬ ‫فـي‬ ‫ا‬ ‫كثيـر‬ ‫قـد سـاعدت‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫وانطلاق األفـكار وتوصيـل المحتـوى‬ ‫بلا قيـد رقابـي أو مقـص سياسـي أو‬ ‫ضيـق ممـا يسـاعد األديب‬ ‫أيديولوجـي ّ‬

‫علـى تجـاوز قيـود المصـادرة ألدبـه‪:‬‬ ‫قصـة أو قصيـدة أو غيرهـا‪،‬‬ ‫روايـة أو‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫يظـل اإلشـكال فـي المتلقّـي هـذا‬ ‫ولكـن ّ‬ ‫المعول والمراد‪ ،‬فهل ساعد‬ ‫الذي عليه‬ ‫ّ‬ ‫هذا األفق المفتوح على وجود المتلقّي‬ ‫النوعـي الواعـي؟ أم أنـه أصبح متلقي ًا‬ ‫سـطحي ًا غلـب عليـه الوقوع فـي دائرة‬ ‫العجلـة‪ ،‬والقلـق‪ ،‬والبريـق الزائـف‪،‬‬ ‫والدعاية المسـطحة؟‪.‬‬ ‫ويتسـاءل صاحـب كتـاب «فـي األدب‬ ‫الشعبي اليمني»‪ :‬هل أفق (السوشيال‬ ‫ميديا) وجد المستقبل النوعي الناضج‬ ‫أو أنه ال يظفر سـوى بالعجلة الالهثة‬ ‫وراء حركة اإلصبع النزقة للبحث عما‬ ‫بعـده أو عـن الصـورة المثيـرة وسـط‬ ‫تبلّد الثّقافة المستعجلة؟‪ ،‬وبشكل آخر‬ ‫قـد يقـود إلـى المتلقّـي العالمـي الذي ال‬ ‫يبتعـد كثيـرًا عن المتلقّـي العربي‪ ،‬وال‬ ‫َّ‬ ‫شـك أنـه يريـد الترجمة األكثـر واقعية‬ ‫ِ‬ ‫فيـة ليصـل إلـى مبتغـاه‪ ،‬وتلكـم‬ ‫وحَر َّ‬ ‫هـي المشـكلة الجوهريـة والتـي تتمثّل‬ ‫ومؤسسـاتها الغائبة عن‬ ‫فـي الترجمـة‬ ‫ّ‬ ‫المتنوع‬ ‫إيصـال اإلبـداع العربـي بأفقـه‬ ‫ّ‬ ‫النابض والمسـؤول‪.‬‬ ‫ويالحـظ د‪.‬إبراهيـم أبـو طالـب بأنـه‪:‬‬ ‫‪15‬‬


‫التطـور فـإن المتـداول عبـر‬ ‫رغـم هـذا‬ ‫ُّ‬ ‫المنافـذ التقنيـة ال يعـدو أن يكـون مـا‬ ‫يرتبـط باإلثـارة بأنواعهـا المختلفة أو‬ ‫العنف السياسي أو المهاترات المؤلمة‬ ‫أو لحظـات الحيـاة اليوميـة الفارغـة‬ ‫أحيان ًا ّإل من أصحابها العاديين الذين‬ ‫إرضـاء لذواتهم‬ ‫وجـدوا فـي هـذا األفـق‬ ‫ً‬ ‫البسيطة‪ّ ،‬‬ ‫وإل كم من األعمال الناضجة‬ ‫أو األدب الرصين نجد على تلك المنافذ؟‬ ‫سـواء لألدبـاء أنفسـهم بجهدهـم أو‬ ‫قيمة‬ ‫لمحبيهـم الذين ينشـرون ما يمثِّل ً‬ ‫ِّ‬ ‫حقيقيـة ألدبهـم وإضافاتهـم للمشـهد‬ ‫األدبـي العربـي والعالمي‪.‬‬

‫اختصار الوقت بعصا سحرية‬ ‫وتنطلق الشاعرة اليمنية نبيلة الشيخ‬ ‫مـن كـون (السوشـيال ميديـا) أصبحـت‬ ‫ليسـت عصـب التواصـل التجـاري‬ ‫واالقتصـادي والسياسـي‪ ،‬بـل وعصب‬ ‫التواصل األدبي‪ ،‬واصفة إياها بالعصا‬ ‫السـحرية التـي بإمكانهـا أن تفعـل مـا‬ ‫قصـر الدهـر فـي فعلـه‪ ،‬طـوال ما مضى‬ ‫َّ‬ ‫مـن الوقـت‪ ،‬أمـام أولئـك الذيـن كانـوا‬ ‫موهوبيـن‪ ،‬بـل وعباقـرة‪ ،‬لكنهـم لـم‬ ‫يستطيعوا إيصال إبداعهم وعبقرياتهم‬ ‫فطويـت مواهبهـم مـع آخـر‬ ‫إلـى أحـد‪ُ ،‬‬ ‫صفحـة في كتاب حياتهـم‪ .‬لكن‪ ،‬تقول‬ ‫صاحبـة ديـوان «آخر العطر» بأن األمر‬ ‫يختلـف اليـوم‪ ،‬وفـي مـا يلـي تصـرح‬ ‫الكل يستطيع‬ ‫الشـيخ للمجلّة‪« :‬اليوم‪ّ ،‬‬ ‫أن يصل‪ ،‬يستطيع أن ينشر‪ ،‬يستطيع‬ ‫أن يشارك في المسابقات‪ ،‬في الفعاليات‬ ‫وجد‬ ‫والمؤتمرات األدبية‪ ،‬يستطيع أن ُي ِ‬ ‫قـل جمهـورًا فـي صفحتـه‪،‬‬ ‫لـه علـى ا َأل ّ‬ ‫يسـتطيع أن يطبـع بمبالـغ زهيـدة‪ ،‬أو‬ ‫حتـى مجانـاً‪ ،‬عبـر دور النشـر الكثيـرة‬ ‫في طول وعرض صفحات (السوشيال‬ ‫مديـا)‪ ،‬أصبحـت المطبوعـات أوفـر‬ ‫والفـرص أغـزر‪ ،‬والمسـابقات وفيـرة‪،‬‬ ‫والصفحات الشخصية مكتظة‪ ،‬ومن َثّم‬ ‫ظهـرت الكثيـر مـن المواهـب الحقيقية‪،‬‬ ‫وسطعت تلك العبقرية‪ ،‬وتبوأت أماكن‬ ‫الصدارة‪ ،‬أصبح هناك تنافس حقيقي‬ ‫وجـاد‪ ،‬مـن خلال االطلاع علـى مزيـد‬ ‫المتنوعة‪ ،‬والتي‬ ‫مـن التجارب األدبيـة‬ ‫ّ‬ ‫لكل أنواع الكتابة األدبية‪،‬‬ ‫تقـدم مزيج ًا ّ‬ ‫بأيديولوجياتها المختلفة‪ ،‬وبأجناسها‬ ‫‪16‬‬

‫المتنوعة‪ ،‬أصبحت (السوشيال مديا)‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تختصـر الوقت والمدارس والنظريات‪،‬‬ ‫وتقـّدم تجـارب حقيقية عمليـة‪ ،‬يختار‬ ‫األديـب منهـا مـا يريـد‪ ،‬ويتـرك منهـا ما‬ ‫يتشـكل‬ ‫يريـد‪ ،‬ويضيـف ما يريد‪ ،‬وبهذا‬ ‫ّ‬ ‫وعـي جمعـي واسـع وعميـق‪ ،‬يحافـظ‬ ‫المتميـزون فيـه علـى اسـتقالليتهم وال‬ ‫ّ‬ ‫يكـررون أنفسـهم‪ ،‬وال يتأثـرون ّإل‬ ‫ّ‬ ‫بالشـرر األول‪،‬‬ ‫النـار‬ ‫قـادح‬ ‫يتأثـر‬ ‫كمـا‬ ‫ّ‬ ‫الـذي يشـعله أديـب مـا‪ ،‬فيلهمـه لقـدح‬ ‫شـرارته الخاصـة بـه‪ ،‬ومـن قداحتـه‬ ‫التـي ال يشـبهها أحـد‪ ،‬أمـا أولئـك الذين‬ ‫ويكررون‪ ،‬وال يبتكرون شيئاً‪،‬‬ ‫يقلدون ّ‬ ‫فسـيظلون حبيسـي قوالبهـم الجامـدة‪،‬‬ ‫وسـيتجاوزهم الجميع‪ ،‬فهذه الوسائل‬ ‫تسـابق الزمـن وتختصـر القـرون‪،‬‬ ‫وتعطي خيالك أقصى مدى وفسحة من‬ ‫اإلبحار‪ ،‬وهكذا نجد أن هذه التكنولوجيا‬ ‫قـد خدمـت كثيـرًا األدب واألدبـاء‪ ،‬لكنها‬ ‫أيضـ ًا قـد سـاهمت فـي خلـق مسـاحة‬ ‫واسـعة أيضـ ًا من التكـرار والتقليد‪ ،‬بل‬ ‫كل واحد رقيب نفسـه‬ ‫والرداءة‪ ،‬فحيث ّ‬ ‫وال رقيـب لـه‪ ،‬وجدنـا هنـاك الكثيـر من‬ ‫اإلسـفاف واإلجحاف والنكوص األدبي‬ ‫والثّقافـي‪ ،‬ربمـا بنسـبة أكبـر مـن تلـك‬ ‫والمميـزة‪ ،‬ربمـا ألن‬ ‫البقعـة المضيئـة‬ ‫ّ‬ ‫التميـز أن يكـون دومـ ًا محـدوداً‪،‬‬ ‫قـدر ّ‬ ‫تظل هذه التكنولوجيا ملحة‬ ‫ومـع ذلك ّ‬ ‫جـداً‪ ،‬وداعمـة لألدبـاء‪ ،‬وملهمـة لهـم‪،‬‬ ‫لـكل جديـد‪،‬‬ ‫ألنهـا جسـر سـريع وبديـع ّ‬ ‫وال ّ‬ ‫شـك أن هـذا التالقـح يسـتطيع أن‬ ‫يوصـل األديب المحلي عربي ًا من خالل‬ ‫دور النشـر ومعـارض الكتاب والتبادل‬ ‫الثّقافي من خالل الندوات وورش العمل‬ ‫والمؤتمـرات‪ ،‬ومـن البديهـي أن يصـل‬ ‫عالميـاً‪ ،‬إذا مـا أتقـن السـير وسـط هـذا‬ ‫السيل التكنولوجي الجرار‪ ،‬عبر الترجمة‬ ‫ترشـح العمل‬ ‫وعبر دور النشـر التي قد ّ‬ ‫إلـى جائـزة عالميـة أو دولية‪ ،‬أو حتى‬ ‫بـدون جوائـز‪ ،‬فيكفـي أن يترجم عملك‬ ‫وتصبـح مقـروءًا فـي الخـارج‪ ،‬ومن َثّم‬ ‫أديب ًا عالميـاً‪.»..‬‬

‫الجميع في معرفة عن‬ ‫الجميع‪..‬‬ ‫أمـا القـاص السـعودي هانـي الحجي‪،‬‬ ‫فيبرز وجهة نظره حول الموضوع من‬

‫خالل المقارنة بين الماضي والحاضر‪.‬‬ ‫صاحـب «نسـاء خشـبيات» يـرى بـأن‬ ‫المبـدع العربـي كان قبـل أعـوام قريبـة‬ ‫يتخـذ مـن وسـائل اإلعلام المقـروءة‬ ‫مثـل الصحـف والمجلات والكتـب‪ ،‬أو‬ ‫المرئية مثل التلفاز‪ ،‬أو المسموعة مثل‬ ‫البرامـج اإلذاعيـة أو المنبريـة ميدانـ ًا‬ ‫لنشـر إنتاجـه األدبـي وقنـوات تعمـل‬ ‫علـى إيصـال مـا يبدعـه مـن أدب إلـى‬ ‫المثقفيـن فـي منطقتـه؛ وفـي المناطق‬ ‫العربية المجاورة‪ .‬فكان يحقّق انتشارًا‬ ‫تسوق فيه‬ ‫محدودًا حسـب المكان الذي ّ‬ ‫تلـك المقـروءات أو المسـموعات أو‬ ‫المرئيـات‪ ..‬ويضيـف هانـي الحجـي‪:‬‬ ‫تطـورت وسـائل االتصـاالت‬ ‫ومـا أن ّ‬ ‫ومذهلا حتـى‬ ‫تطـورًا سـريع ًا‬ ‫ً‬ ‫الحديثـة ّ‬ ‫تطـور وسـائل‬ ‫فـي‬ ‫ثـورة‬ ‫لحقتهـا‬ ‫ّ‬ ‫التواصـل االجتماعـي بيـن بني البشـر‬ ‫وكادت (السوشـيال ميديـا) أن ُتذيـب‬ ‫المسـافات المكانيـة الشاسـعة التـي‬ ‫تفصـل بيـن النـاس في العالـم وتجعل‬ ‫مـن الكـرة األرضيـة قريـة صغيـرة من‬ ‫حيـث تواصـل النـاس وكأنمـا تقاربـت‬ ‫وطويـت المحيطـات وبـات‬ ‫القـارات ُ‬ ‫الجميـع فـي معرفـة عـن الجميـع‪..‬‬ ‫وبصفتـه مشـرف ًا علـى ملتقـى القصـة‬ ‫القصيـرة بـادر هانـي الحجي وحاولنا‬ ‫االسـتفادة مـن هـذه التقنيـة مـن خالل‬ ‫تأسـيس جـروب عبـر الواتس مختص‬ ‫بالقصة القصيرة وجمع عددًا من ُكّتاب‬ ‫كل‬ ‫القصـة مـن أنحـاء الوطـن لتنـاول ّ‬ ‫مـا يتعلّق بالقصـة من إبداع وفعاليات‬ ‫وأنشـطة وإقامـة أمسـيات إلكترونيـة‬ ‫ونجـح فـي إيجـاد حلقـة وصـل بيـن‬ ‫النقّـاد المختصيـن بالسـرد والمبدعيـن‬ ‫مـن ُكّتـاب القصـة القصيرة‪..‬‬

‫وفرة العالقات‬ ‫ويحـدد األديـب والباحـث اليمني بشـير‬ ‫ِّ‬ ‫زنـدال عمليـة تسـويق اإلنتـاج األدبـي‬ ‫في عاملين‪ :‬الجوائز‪ ،‬كالبوكر وغيرها‬ ‫وهي‪ ،‬في نظره‪ ،‬كفيلة بتسـويق دائم‬ ‫وكّتاب‬ ‫لألديـب‪ ،‬ثم العالقات مـع أدباء ُ‬ ‫ونقّاد من مختلف الدول العربية وهو ما‬ ‫تحقّق اليوم «السوشيال ميديا»‪ .‬وبدوره‬ ‫يعقـد المقارنـة‪ :‬كان تواصل األدباء مع‬ ‫بعضهـم البعـض متعبـ ًا جـدًا ومتقطعـ ًا‬


‫جـدًا قبـل وجـود وسـائط التواصـل‬ ‫االجتماعـي‪ ،‬ومـع ظهورهـا اسـتطاع‬ ‫األديـب التواصـل السـريع مـع الكثيـر‬ ‫والكّتاب والنقّاد‪ ،‬وفتحت له‬ ‫من األدباء ُ‬ ‫للتعرف إلى أسماء‬ ‫مصراعيه‬ ‫الباب على‬ ‫ّ‬ ‫جديدة وتسويق اسمه ونصوصه بشكل‬ ‫أسرع‪ .‬ويضيف بشير زندال‪ :‬لو تخيلنا‬ ‫أن الكاتب حين ينشر في صحيفة محلية‬ ‫قراءه لن يتجاوزوا المئات ألن ليس‬ ‫فإن ّ‬ ‫كل مـن يشـتري الصحيفـة سـيقرأ نص‬ ‫ّ‬ ‫األديـب الفالنـي‪ ،‬بينمـا فـي الفيسـبوك‬ ‫هنـاك بعـض األدباء وصـل متابعوهم‬ ‫إلـى عشـرات اآلالف‪ ،‬وحينمـا ينشـر‬ ‫جميلا فبالتأكيـد سـيقرأه اآلالف‬ ‫نصـ ًا‬ ‫ً‬ ‫وسـيضاف إلـى قائمـة متابعيـه عـدة‬ ‫مئـات إضافيين‪.‬‬

‫داخل الحدود فقط‬ ‫ألننـا نتحـّدث عـن منتجـات أدبيـة البّد‬ ‫أن نضع في االعتبار أنها على العموم‬ ‫تعانـي مـن فقـر جماهيـري ألسـباب‬ ‫تحتـاج معالجتهـا لجهود كبيـرة‪ ،‬هكذا‬ ‫يصـف الكاتـب والشـاعر اليمنـي زيـاد‬ ‫ّلا وصفـه‬ ‫القحـم المشـهد األدبـي‪ ،‬معل ً‬ ‫بكـون‪ :‬األديـب عمومـ ًا يعانـي إمـا مـن‬ ‫نـدرة الجمهـور المتابـع لـه‪ ،‬أو مـن‬ ‫تنوعهـم‪ ..‬حيـث يقتصـرون فـي‬ ‫عـدم ّ‬ ‫حـاالت كثيـرة علـى أعـداد بسـيطة من‬ ‫المتخصصين‪ ،‬وإذا قارنا المنتج األدبي‬ ‫بغيـره مـن األعمـال الثّقافيـة كالفنـون‬ ‫(غنـاء‪ -‬موسـيقى‪ -‬دراما) نجـد الفارق‬ ‫الخـارق فـي أعـداد المتلقيـن‪ .‬وبصـدد‬ ‫الحديـث عـن دور وسـائط التواصـل‬ ‫االجتماعـي فـي توسـيع القاعـدة‬ ‫الجماهيرية لألديب فإن هذه الوسائط‪،‬‬ ‫قليلا من‬ ‫فـي نظـر الشـاعر‪ ،‬قـد خفّفـت‬ ‫ً‬ ‫غربـة األديـب‪ ،‬ولكنهـا لـم تتمكـن مـن‬ ‫القضـاء علـى هـذه الغربـة‪ ..‬بعبـارة‬ ‫أخرى يقول‪ :‬أصبح من السهل أن يصل‬ ‫النـص إلـى بيئـات أخـرى غيـر البيئـة‬ ‫المحلية للكاتب‪ ،‬ولكن هذا النص يصل‬ ‫إلـى هنـاك ليعانـي مجّددًا فـي البيئات‬ ‫الجديدة من نفس المشكلة السابقة التي‬ ‫واجههـا فـي بيئتـه األصليـة؛ جمهـور‬ ‫ينحصـر في المتخصصين والمتذوقين‬ ‫واألدباء الذين يشبهون صاحب النص‬ ‫فـي المعانـاة مـن المشـكلة ذاتهـا‪...‬‬

‫ويبقـى دور اسـتعمال هـذه الوسـائط‬ ‫عاجزًا عن إخراج المنتج األدبي خارج‬ ‫الحـدود العربيـة؛ ألن هـذا المنتـج فـي‬ ‫حاجـة للمزيـد من االشـتغال والتجويد‬ ‫حتى يكون صالح ًا ومناسب ًا للمتلقين‬ ‫خـارج النطـاق العربـي‪ ..‬أقصـد أن‬ ‫التجـاوز إلـى العالميـة تخدمـه نوعيـة‬ ‫المنتـج أكثـر مـن طريقـة التوصيـل‪.‬‬

‫تجاوز اإلعالم التقليدي‬ ‫أما الشـاعر اليمني وليد الشـرفي فيرى‬ ‫أن اإلعالم الجديد‪ ،‬القائم على وسائط‬ ‫الميديـا الجديـدة‪ ،‬ينافـس اإلعلام‬ ‫كل مجال‪ ،‬حيث اسـتطاع‬ ‫التقليدي في ّ‬ ‫بعـض المثقفيـن العـرب أن يصلـوا‬ ‫بنتاجهـم الفكـري واألدبـي إلـى الوطن‬ ‫وقليل منهم تجاوز ذلك‬ ‫العربي الكبير‬ ‫ٌ‬ ‫لنشـر منتوجـه ِ‬ ‫بعـّدة لغـات أجنبيـة‪.‬‬ ‫الحرّيـة هذه‬ ‫ويرجـع الشـرفي مسـاحة ّ‬ ‫التـي وفرتهـا التقنيـات الجديـدة إلـى‬ ‫كرسـه «الربيـع العربـي»‬ ‫الوعـي الـذي ّ‬ ‫كأبـرز المحطـات وأهمهـا فـي اإلعلام‬ ‫الجديـد‪ ،‬حيـث بـرز خلال أحـداث‬ ‫«الربيـع العربـي» العديـد مـن المثقفين‬ ‫واإلعالميين الذين مألوا الدنيا ضجيج ًا‬ ‫ومـا زالـوا‪.‬‬

‫في اليمن ال يستغل المبدع‬ ‫وسائط الميديا‬ ‫علـى عكـس مـا سـبق مـن تصريحـات‬ ‫يذهـب القـاص والباحـث اليمنـي زيـد‬ ‫الفقيـه إلـى القـول بـأن هذه الوسـائط‬ ‫بإمكانهـا أن توصـل صـوت المبـدع‬ ‫اليمنـي إلـى العالـم‪ ،‬ولكـن األديـب‬ ‫فـي اليمـن ال يسـتغل هـذه الوسـائط‬ ‫همومـا كثيـرة تشـغله عـن هـذه‬ ‫ألن‬ ‫ً‬ ‫الوسـائط‪ ،‬فهـو مهمـوم بأولويـات‬ ‫بالتفـرغ‬ ‫حياتيـة يوميـة ال تسـمح لـه‬ ‫ّ‬ ‫لتطويـع هـذه الوسـائط الحديثـة‪،‬‬ ‫ورغـم ذلـك فقد وصـل الكاتـب اليمني‬ ‫إلـى العالم عن طريق النشـر الورقي‪،‬‬ ‫فقد ُتْر ِجَم ْت بعض األعمال اليمنية إلى‬ ‫عـدد مـن اللّغـات منهـا‪ :‬اإلنجليزيـة‪،‬‬ ‫والفرنسية‪ ،‬واإليطالية‪ .‬رغم الظروف‬ ‫القاسية التي يعيشها المبدع في اليمن‬ ‫حاليـاً‪.‬‬

‫لم ّ‬ ‫أحقق قبل ظهور‬ ‫أي انتشار‬ ‫السوشيال ميديا ّ‬ ‫محلي‬ ‫ويروي القاص السعودي أحمد إسماعيل‬ ‫زيـن تجربتـه مـع مواقـع التواصـل‬ ‫االجتماعي قائالً‪« :‬لي تسـعة وعشـرون‬ ‫عام ًا أكتب القصة القصيرة‪ ،‬ومحاوالت‬ ‫عديـدة للكتابـة المسـرحية‪ ،‬وأنتجـت‬ ‫خاللها ثالث مجاميع قصصية‪ ،‬نشرت‬ ‫منها رسمي ًا اثنتين‪ ،‬والثالثة في المطبعة‬ ‫تنتظـر الصـدور والنشـر‪ .‬لـم أحقّق قبل‬ ‫أي انتشار محلي‬ ‫ظهور السوشيال ميديا ّ‬ ‫أو عربـي يذكـر لظـروف تلـك الفتـرة‬ ‫الزمنية‪ ،‬ولكن بداية االنتشـار الحقيقي‬ ‫المحلي‪ ،‬والعربي لنتاجي األدبي كانت‬ ‫بعد ظهور السوشيال ميديا‪ ،‬وبالتحديد‬ ‫عن طريق (المواقع اإللكترونية) األدبية‬ ‫المتخصصة‪ ،‬والتي مكنتني من خاللها‬ ‫مـن عـرض نتاجـي األدبـي عربيـ ًا قبـل‬ ‫المحلـي‪ ،‬وعلى جمهـور‪ ،‬وأدبـاء ونقّاد‬ ‫من العراق‪ ،‬وسورية‪ ،‬ومصر‪ ،‬ولبنان‪،‬‬ ‫وحقّقت لي اسـم ًا منتشرًا محلي ًا بعدها‪.‬‬ ‫تطـور السوشـيال ميديا المسـتمر‬ ‫ومـع ّ‬ ‫بالفيسـبوك‪ ،‬وتويتـر‪ ،‬والواتـس آب‪،‬‬ ‫كل الحواجز‪ ،‬وتحقّق‬ ‫وجدت أنها تكسر ّ‬ ‫لي المزيد من االنتشار العربي بالوصول‬ ‫وتطوي المسافات‬ ‫لدول المغرب العربي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الشاسـعة بالوصـول لجمهـور وأدبـاء‬ ‫ونقّـاد المغـرب‪ ،‬وتونـس‪ ،‬والجزائـر‪،‬‬ ‫وليبيا‪ ،‬باإلضافة إلى اليمن‪ ،‬والسودان‪.‬‬ ‫وهذا األمر المذكور في السـابق بالنسـبة‬ ‫لـي‪ ،‬ولمـن ُهـم مثلـي‪ ،‬هـو أكبـر شـاهد‬ ‫أقّدمـه علـى اسـتغالل األديـب العربـي‬ ‫لتسـويق نتاجـه األدبـي مـن خلال‬ ‫السوشـيال ميديا خارج ا ُألطر المحلية‪،‬‬ ‫واالنتشـار عربياً‪.»..‬‬ ‫ويخلص صاحب المجموعة القصصية‬ ‫تمكـن‬ ‫«زامـر الليـل»‪ :‬مـن السـهولة أن ّ‬ ‫ُ‬ ‫تلـك األدوات التـي جعلـت مـن العالـم‬ ‫مصغرة من إيصال اإلبداع‬ ‫قريـة كونية ّ‬ ‫العربي عالمياً‪ ،‬ولكن بشروط صارمة‬ ‫أهمهـا‪ :‬اللّغة‪ ،‬والرعاية الرسـمية‪،‬‬ ‫مـن ّ‬ ‫(وحمايـة الحقـوق الفكريـة) للمبـدع‬ ‫العربـي! ألن (السوشـيال ميديـا) كمـا‬ ‫لهـا مـن هذه األفضـال العظيمة لتحقيق‬ ‫االنتشـار‪ ،‬هـي ّأيضـ ًا مجـال خصـب‪،‬‬ ‫وفسـيح وواسـع للسـرقات األدبيـة‪.‬‬ ‫‪17‬‬


‫تقارير‬

‫َّ‬ ‫المثقف إلى الشأن‬ ‫هل عاد‬ ‫المجتمعي المغربي؟‬

‫الدار البيضاء‪ :‬عبدالحق ميفراني‬ ‫التحـوالت الجديـدة‪ ،‬إلـى‬ ‫هـل سـاهمت‬ ‫ُّ‬ ‫عـودة تدريجيـة للمثقّـف المغربـي‬ ‫لالنشـغال بالقضايـا المرتبطة بالشـأن‬ ‫االجتماعـي؟ مـرد هـذا السـؤال‪ ،‬هـو‬ ‫الحلحلة التي الحظها المتتبعون للشأن‬ ‫مست في العمق‬ ‫الثّقافي المغربي والتي ّ‬ ‫طبيعـة وظيفـة المثقّـف علـى ضـوء‬ ‫الكتابـات والبيانـات واللقـاءات التـي‬ ‫عرفها المشهد الثقّافي في المغرب األشهر‬ ‫األخيـرة‪ .‬وبعيـدًا عـن تصنيـف طبيعـة‬ ‫مست‬ ‫االحتجاجات أو االلتباسـات التي ّ‬ ‫بعـض المواقـف‪ ،‬فـإن الحـدث المركزي‬ ‫ميز هـذا الخروج للمثقّف المغربي‬ ‫الـذي ّ‬ ‫من انشغاالته المعتادة‪ ،‬قد أعاد للسؤال‬ ‫المجتمعي وللقضايا المرتبطة بالمواطن‬ ‫وبقضاياه وبانشغاالته اليومية حرارته‬ ‫المعتـادة واسـتطاع المثقّـف أن ُيعيـد‬ ‫التصالـح مـع المجتمع‪.‬‬ ‫وبعيـدًا عـن تلـك التصنيفـات‪ ،‬التـي‬ ‫طالـت المثقّـف المغربـي فـي السـنوات‬ ‫األخيـرة‪ ،‬فـإن تكـرار صـدور كتابـات‬ ‫وكّتـاب‬ ‫مـن نقّـاد وسوسـيولوجيين ُ‬ ‫وشعراء وفنّانين‪ ..‬يرتبط في معظمه‬ ‫بالشـأن االجتماعي وطبيعة الممارسة‬ ‫السياسية‪ .‬هذا النزوح الجديد والعودة‬ ‫إلـى القضايـا المجتمعيـة فـي الوسـط‬ ‫قل بحكم‬ ‫يبرره على ا َأل ّ‬ ‫المغربي‪ ،‬له ما ّ‬ ‫ِ‬ ‫الحـراك الالفـت للمشـهد السياسـي مما‬ ‫جعلـه يغطـي علـى الكثيـر مـن حضور‬ ‫‪18‬‬

‫عل تراجع النخب‬ ‫المثقّفين أنفسـهم‪ .‬وَل ّ‬ ‫السياسـية نفسـها فـي إفـراز مواقـف‬ ‫جذريـة والفتـة‪ ،‬وفـي العديـد مـن‬ ‫ميزت الوضع المغربي‬ ‫المحطات التي ّ‬ ‫دفـع بالعديـد مـن اإلطـارات الثقّافيـة‬ ‫والمثقّفين أنفسهم إلى االنخراط مجّددًا‬ ‫فـي ديـدن هـذا ِ‬ ‫الحـراك‪.‬‬ ‫تغيـر فـي‬ ‫إلـى‬ ‫الوضـع‬ ‫فهـل دفـع هـذا‬ ‫ُّ‬ ‫وظيفـة المثقّـف المغربي اليوم؟ وكيف‬ ‫يمكـن أن نتمثّـل وظيفـة المثقّـف فـي‬ ‫مجتمع أضحى ال يهمه أن تلعب بعض‬ ‫الفئـات أدوارهـا الطليعيـة المعتـادة؟‪.‬‬ ‫يـرى الكاتـب المغربـي يوسـف بـورة‬ ‫بـأن هنـاك حاجـة دائمـة إلـى المثقّف‪،‬‬ ‫ّلا ذلـك بكـون الكثيـر مـن القضايـا‬ ‫معل ً‬ ‫والتحـوالت والرهانـات تعتمـل فـي‬ ‫ُّ‬ ‫جميع مناحي حياة المجتمع المغربي‪.‬‬ ‫وتتطلّـب وعيـ ًا عميقـ ًا بمداخلهـا وقدرة‬ ‫علـى االسـتيعاب واالبتـكار واإلبـداع‬ ‫إليجاد الحلول واإلجابات لها‪ .‬ويضيف‪:‬‬ ‫«فـي حمـأة هـذا الصـراع الداخلـي ومـا‬ ‫تطـورات عالميـة كان‬ ‫أحـاط بـه مـن‬ ‫ُّ‬ ‫صـوت المثقّـف وأدواره النقديـة‬ ‫التنويريـة هـو أول هيـكل تنـال منـه‬ ‫معـاول الهدم والتخريب‪ ،‬سـواء بأيدي‬ ‫المثقّفين أنفسهم‪ ،‬من خالل اصطفافهم‬ ‫المصلحـي واحتوائهـم قلبـ ًا وقالبـ ًا مـن‬ ‫طرف السلطة‪ ،‬أو بيد هذه األخيرة من‬ ‫خالل التضييق على المثقّفين الرافضين‬ ‫للقولبـة السـلطوية وتهميشـهم وخنق‬ ‫أصواتهـم بطريقـة أو بأخـرى‪ .‬وهكـذا‬

‫يـرى الكاتـب بـورة أن األمـل بعـودة‬ ‫المثقّـف إلـى أدواره فـي المنظـور مـن‬ ‫األيام ليس مستحيالً‪ ،‬رغم أن «جيوب‬ ‫التوجه تعمل بشراسـة‪،‬‬ ‫مقاومـة» هـذا‬ ‫ّ‬ ‫ومن داخل األوسـاط الثقّافية نفسـها‪،‬‬ ‫على إدامة وضع «الالثقافة» وتعميقه‬ ‫وتوسـيع قاعدتـه بشـتى الوسـائل‪،‬‬ ‫تتحكم في‬ ‫خصوص ًا أن تلك «الجيوب» ّ‬ ‫مفاصـل قنوات التواصل الجماهيري‪،‬‬ ‫لكـن هـذا ال يعنـي عدم وجـود «مقاومة‬ ‫مضـادة» متشـبثة باسـتقاللية المثقّف‬ ‫التطور»‪.‬‬ ‫ومقتنعة بمحورية دوره في‬ ‫ُّ‬ ‫شـهد المغـرب خلال األشـهر األخيـرة‬ ‫إطلاق حملـة للتضامـن مـع الفئـات‬ ‫«العاملـة»‪ ،‬مـن طـرف العديـد مـن‬ ‫والكّتـاب المغاربـة‪ .‬وهـي‬ ‫المثقّفيـن ُ‬ ‫المحطـة التـي تقاطـع فيهـا الحـس‬ ‫النقابـي مـع السياسـي مـع الثقّافـي‪،‬‬ ‫رغـم أن الكتابـات التـي تالحقـت فيمـا‬ ‫بعد‪ ،‬أكدت على ضرورة عودة المثقّف‬ ‫لالنخـراط فـي القضايـا المرتبطـة‬ ‫بالمجتمـع‪ .‬طبعـ ًا ال يمكـن نسـيان‬ ‫ارتباط العديد من المحطات التاريخية‬ ‫بدور ووظيفة المثقّف المغربي‪ ،‬سواء‬ ‫فـي مرحلـة الدعـوة لالسـتقالل مـن‬ ‫االسـتعمار‪ ،‬أو بنـاء الدولـة الحديثـة‬ ‫وإبـان مرحلـة االحتقـان السياسـي‪.‬‬ ‫ويـرى الكاتـب والناقـد شـعيب حليفي‬ ‫أنـه «فـي سـياق احتجـاج المثقّفيـن‬ ‫المغاربـة‪ ،‬فالدعـوة للمشـاركة فـي‬ ‫مسيرة دفاع ًا عن مجتمع الديموقراطية‬


‫والحرّية هي دعوة للوقوف ضدًا على‬ ‫ّ‬ ‫«ثقافـة األتبـاع والرعايـا»‪ .‬وهـو مـا‬ ‫يؤشـر إلـى تجديـد تفعيـل دور المثقّف‬ ‫فـي المجتمـع‪ ،‬وتفعيـل الحاجة لوعيه‬ ‫النقـدي»‪.‬‬ ‫عـل الناقـد محمد الدوهـو‪ ،‬وهو ُيثير‬ ‫وَل ّ‬ ‫مسـألة غايـة فـي األهميـة فـي تأكيـده‬ ‫علـى أن «أيسـر مدخـل لفهـم مجتمـع‬ ‫مـا هـو نوعية الشـعارات التـي يرفعها‬ ‫مثقفـو هـذا المجتمـع‪ ..‬هـذه األطروحة‬ ‫التاريخيـة تنطبـق علـى المثقّـف‬ ‫ـل وما يزال مهووسـ ًا‬ ‫المغربـي الـذي َظ ّ‬ ‫بسـؤال الحداثة السياسـية والتاريخية‬ ‫فـي عالقتهـا بالصيـرورة التاريخيـة‬ ‫والسياسية واالجتماعية واالقتصادية‬ ‫للمجتمـع المغربـي»‪.‬‬ ‫المثقّـف المغربـي اليومـي‪ ،‬بالنسـبة‬ ‫للدوهـو‪ ،‬هـو «هـذا الكائـن الـذي‬ ‫يكتـب عـن المنسـي‪ ...‬ينفـض الغبـار‪،‬‬ ‫غبـار التمويـه‪ ،‬عـن الحلـول العميقـة‬ ‫و«الحقيقية» القابعة في أقبية النسيان‬ ‫المظلمـة‪ ،‬أمام بالغة القول السياسـي‬ ‫لنخـب سياسـية ال تمتلـك الجـرأة‬

‫السياسـية والتاريخيـة فـي تسـمية‬ ‫األشـياء بمسـمياتها»‪.‬‬ ‫تتجـّدد الدعـوة إذن ألهميـة المثقّـف‬ ‫المغربـي اليوم‪ ،‬لالنخراط والمسـاهمة‬ ‫في تأهيل المجتمع للعبور إلى سيرورة‬ ‫عل هـذا الرهان هو‬ ‫االندمـاج الفعلـي‪ .‬وَل ّ‬ ‫مـا يفـرض ترسـيخ قيـم جديـدة‪ ،‬ضمن‬ ‫المنظومـة المجتمعيـة‪ ،‬أبرزهـا التربية‬ ‫علـى ثقافـة اإلنسـان وحاجتـه الدائمـة‬ ‫وينبـه الكاتـب عبـد‬ ‫لوظيفـة المثقّـف‪ّ .‬‬ ‫الرحيـم جيـران‪ ،‬إلى «ضـرورة االنتباه‬ ‫التحـوالت الجذريـة التـي يشـهدها‬ ‫إلـى‬ ‫ُّ‬ ‫العالـم اليـوم فـي عالقـات االّتصـال‬ ‫كل الخشـية ّأل‬ ‫ووسـائله‪ ،‬والخشـية ّ‬ ‫التحول‬ ‫هذا‬ ‫حدثه‬ ‫يسـتوعب المثقّف ما ُي‬ ‫ُّ‬ ‫من انعطاف أساسي في تشكيل إنسان‬ ‫الفكـري‪ ،‬وما يقتضيه من‬ ‫الغـد‪ ،‬وأفقـه‬ ‫ّ‬ ‫تغييـر فـي األسـلوب والرؤيـة‪ ،‬ومـن‬ ‫إيجابـي فـي العالـم القـادم بمـا‬ ‫انخـراط‬ ‫ّ‬ ‫تكيفـات‪ ،‬ومـن حضـور‬ ‫مـن‬ ‫يفرضـه‬ ‫ّ‬ ‫وازن»‪.‬‬ ‫أمـا الباحـث إبراهيـم أزوغ فيـرى فـي‬ ‫مفهـوم المثقّـف أنـه «ال يتحـّدد بمـدى‬

‫إنتاجـه فـي حقـل المعرفـة والفلسـفة‬ ‫والفّن واألدب فقط‪ ،‬بل إن الذي يجعل‬ ‫َ‬ ‫مـن الفيلسـوف أو العالـم أو الفقيـه أو‬ ‫األديـب مثقفـاً‪ ،‬وبالدرجـة األولـى‪ ،‬هو‬ ‫مدى ارتباطه وانهمامه بقضايا المجتمع‬ ‫وتحوالته التاريخية‪ .‬وال يكون‬ ‫وأزماته‬ ‫ُّ‬ ‫كذلـك مـا لـم تكـن لـه‪ ،‬باإلضافـة إلـى‬ ‫رؤيتـه العميقة فـي التحليل والمواكبة‬ ‫ولتحوالت المجتمع‬ ‫لقضايـا اإلنسـان‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫فـي كليتهـا وتفاصيلها وفي سـياقاتها‬ ‫المحليـة والعالمية‪ ،‬جرأة واضحة في‬ ‫النقـد واالعتـراض والمخالفـة في وجه‬ ‫أي سـلطة كانـت سياسـية أو دينيـة‪،‬‬ ‫ومهمـا كانت النتائـج التي يقوده إليها‬ ‫نقـده ومعارضته»‪.‬‬ ‫ضمـن سـياق هـذه الشـهادات‪ ،‬تتأكـد‬ ‫ـس الخطـاب‬ ‫طبيعـة‬ ‫ُّ‬ ‫التحـول الـذي َم ّ‬ ‫اليوم حول وظيفة المثقّف في المغرب‬ ‫ودوره فـي هـذا ِ‬ ‫الحـراك‪ .‬إلـى أي حـد‬ ‫يترسـخ مـع‬ ‫أن‬ ‫الـدور‬ ‫يسـتطيع هـذا‬ ‫ّ‬ ‫الوقـت؟ وإلـى أي مدى يمكن أن تصبح‬ ‫هـذه الثقّافـة حاضـرة ضمـن المشـهد‬ ‫الثقّافـي فـي المغـرب؟‬ ‫‪19‬‬


‫َّ‬ ‫المثقف الليبي‬ ‫خارج المعمعة وداخلها‬

‫بون‪ :‬محمد األصفـر‬ ‫فـي الوقـت الـذي تعيـش فيـه البلاد‬ ‫الليبيـة أسـوأ أوضاعهـا‪ ،‬يتواصـل‬ ‫غيـاب المثقّـف الليبـي عـن المشـاركة‬ ‫فـي الشـأن العـام‪ ،‬والنـأي بنفسـه‬ ‫سـواء بالصمـت أو الهجـرة إلـى خارج‬ ‫‪20‬‬

‫البلاد عبـر طلـب اللجـوء‪ ،‬أو االنتظار‬ ‫فـي دول الجـوار‪ ،‬مصـر أو تونـس‪،‬‬ ‫أو حتـى األردن وتركيـا ومالطـا‪ ،‬لمـن‬ ‫يمتلـك اإلمكانـات الماديـة‪.‬‬ ‫ومتنوعة‪ ،‬منها‬ ‫وأسـباب النأي عديدة‬ ‫ّ‬ ‫برأي‬ ‫الخوف من االختطاف‪ ،‬إن صدح ٍ‬ ‫ال ُيعجـب أحـد األطـراف المتصارعـة‬

‫حاليـاً‪ ،‬ومنهـا أنـه ال يريـد أن يضـع‬ ‫نفسـه وسـط المتصّدريـن للمشـهد‪،‬‬ ‫والذيـن يخرجـون فـي الفضائيـات‬ ‫كمحلليـن سياسـيين وغيـر ذلـك‪،‬‬ ‫والذيـن غالبـ ًا ما يقومـون بالتحريض‬ ‫أو الترويـج السياسـي‪ .‬ولـو تطلّعنـا‬ ‫للوضـع الحالـي الـذي تعيشـه ليبيـا‪،‬‬


‫لوجدنـا أن األمـر غيـر مشـجع إطالقـ ًا‬ ‫علـى المشـاركة فـي ِ‬ ‫الحراك مـن موقع‬ ‫المسـتقل‪.‬‬ ‫معظـم المثقّفيـن حاليـ ًا صامتـون أو‬ ‫يكتبون ألنفسهم دون نشر‪ ،‬أو يكتبون‬ ‫تتطـرق لواقـع الحـال وال‬ ‫كتابـات ال‬ ‫ّ‬ ‫تنتقـده‪ ،‬يراقبـون المشـهد عـن كثب أو‬ ‫عن بعد‪ ،‬والمشـاركة في الشـأن العام‬ ‫الحالي قد تصنفك تابع ًا ألحد التيارات‬ ‫المتصارعـة حالياً‪ ،‬والتي وصلت إلى‬ ‫طريـق الالعـودة‪ ،‬والتصنيـف يعنـي‬ ‫أنـك سـتكون مطلوب ًا للجهـة األخرى‪،‬‬ ‫وسـتعجز عـن الحركـة أحيانـ ًا ليـس‬ ‫بيـن مدينـة ليبيـة وأخـرى‪ ،‬بـل بيـن‬ ‫حـي وحـي آخر داخل المدينة نفسـها‪،‬‬ ‫ورغـم أن الصحافـة فـي ليبيـا شـبه‬ ‫متوقّفـة‪ ،‬فلا جرائـد تصـدر بانتظـام‪،‬‬ ‫وجرائـد الغـرب ال تصـل إلـى الشـرق‪،‬‬ ‫والعكـس‪ ،‬وكذلـك ال توجـد مجلات‪،‬‬ ‫ومـا يصـدر مـن صحـف حاليـ ًا عبـارة‬ ‫عن بعض الصحف المحلية‪ .‬وأي شيء‬ ‫ُينشر عبر برامج التواصل االجتماعي‪،‬‬ ‫يعنـي بدايـة المتابعـة‪ ،‬والتهديـدات‪.‬‬ ‫ومـن األسـباب األخـرى التـي أدت إلى‬ ‫عـزوف المثقّـف الليبـي عـن المشـاركة‬ ‫فـي قضايـا الشـأن العـام بالمناقشـة‬ ‫والتحليـل واقتـراح الحلول للمشـاكل‪،‬‬ ‫يتحسسـون البنـادق كلمـا‬ ‫أن البعـض‬ ‫ّ‬ ‫سـمعوا كلمـة مثقّـف‪ ،‬فهـذا اآلخـر إمـا‬ ‫علمانـي كافـر ُمرتـّد‪ ،‬أو ديموقراطـي‬ ‫بالحرّيـة ويسـلب السـلطة‪.‬‬ ‫ينـادى‬ ‫ّ‬ ‫ومـن هنـا‪ ،‬البـاب الـذي يجلـب الريـح‬ ‫مـن األفضـل سـّده‪.‬‬ ‫تقدم‬ ‫السنوسي‬ ‫صالح‬ ‫الروائي الليبي‬ ‫َّ‬ ‫منـذ ثلاث سـنوات للترشـح للمؤتمـر‬ ‫الوطنـي‪ ،‬وهـو شـخصية مؤهلـة‬ ‫للعمـل السياسـي‪ ،‬فهو أسـتاذ اقتصاد‬ ‫وعلوم سياسـية خريج فرنسا ويقوم‬ ‫بالتدريس في جامعة بنغازي‪ ،‬وكاتب‬ ‫له وجهة نظر سياسية‪ ،‬ويثري المشهد‬ ‫السياسـي العربي بمقاالت شهرية في‬ ‫منابـر مهمة مثل «الجزيرة نت»‪ ،‬ولكن‬ ‫لألسـف لـم ينجـح فـي االنتخابـات‪،‬‬ ‫ونجح آخرون بسبب أصوات القبيلة‪،‬‬ ‫ال كفـاءة لهـم وال شـهادات جامعيـة‪،‬‬ ‫وينسـحب األمـر أيضـ ًا علـى البرلمـان‬ ‫ولجنـة الدسـتور والسـفارات وكل‬ ‫الوظائـف المفصليـة التـي بإمكانها لو‬

‫تقلدتهـا الكفـاءات لعبـرت بالبالد نحو‬ ‫السلام والرخاء‪.‬‬ ‫لكـن فـرج نجـم األسـتاذ الجامعـي‬ ‫والناشـط فـي ِ‬ ‫الحـراك المدنـي كتـب‬ ‫يقـول‪« :‬لألسـف فـي ليبيـا لدينـا ُكّتاب‬ ‫ومفكرون على مستوى الوطن‬ ‫وأدباء‬ ‫ِّ‬ ‫فضلوا الغوص‬ ‫العربـي‪ ،‬لكـن لألسـف ّ‬ ‫فـي أدبياتهـم ونـأوا بأنفسـهم عـن‬ ‫تشخيص الحالة الليبية وممارسة دور‬ ‫المثقّـف فـي إيصـال الصـورة للشـارع‬ ‫العربـي والدولـي وللمواطـن الليبـي‬ ‫الـذي ضاعـت منـه البوصلـة وتـاه في‬ ‫مختلـف االتجاهـات»‪.‬‬ ‫ويضيف نجم‪ :‬لقد فضلوا ممارسة دور‬ ‫مهرج السـيرك الذي يحاول أن ُيمسـك‬ ‫العصا من المنتصف حتى يحافظ على‬ ‫توازنه لكي ال يسقط من أعلى الحبل‪.‬‬ ‫أمـا الكاتب عبد اللطيف اطلوبة فيعلّق‬ ‫ـن ينأى‬ ‫ً‬ ‫قائلا‪« :‬بصراحـة قـد ال ألـوم َم ْ‬ ‫بنفسـه عن المشـاركة‪ ،‬ألننا في وسط‬ ‫فتنـة الشـك والحركـة فيهـا كالحركـة‬ ‫علـى َحـّد السـيف‪ ،‬ألن الـرأي البـد أن‬ ‫غير‬ ‫ينتج عن قناعة ومن الصعب أن ُن ّ‬ ‫قناعـة أحد»‪.‬‬ ‫ويضيـف اطلوبـة‪ :‬ليـس هنـاك مثقّـف‬ ‫قـل هو منحـاز للوطن‬ ‫محايـد‪ ،‬علـى ا َأل ّ‬ ‫ضـد أعـداء الوطـن‪ ،‬وهـذا في َحـّد ذاته‬ ‫انحيـاز‪ ،‬صحيـح نحـن نـراه انحيـازًا‬ ‫سـيظل منحـازاً‪،‬‬ ‫إيجابيـاً‪ ،‬لكنـه‬ ‫ّ‬ ‫والمنحـاز ال رأي لـه‪ ،‬بـل يتبـع هـواه‬ ‫الوطني‪ ،‬على هذا السياق فإن بعضهم‬ ‫يرون في بعض األطراف جهات وطنية‬ ‫ويعتقدون أنها تستحق الوقوف معها؛‬ ‫أتحّدث عن مثقّف ينحاز لجهة باقتناع‪،‬‬ ‫أما من يعمل بمقابل وبدون قناعة فهو‬ ‫مجـرد بوق اسـتخدم موهبتـه لوظيفة‬ ‫ما‪ ،‬ويجب ّأل ُيحسب ضمن المثقّفين‪..‬‬ ‫لكـن ال يمكنـك أن تلـوم أحـدًا إن كان‬ ‫مقتنعـ ًا بمـا يكتـب مـن آراء‪ ..‬وأعتقـد‬ ‫ٍ‬ ‫طـرف‬ ‫أن االسـتقرار لـن يكـون بتغلُّـب‬ ‫علـى آخـر‪ ،‬فالوطـن ال ُيبنـى بإقصـاء‬ ‫أي طرف‪.‬‬ ‫الكّتـاب المعروفيـن‬ ‫وهنـاك بعـض ُ‬ ‫والمخضرمين‪ ،‬يشـاركون في مناقشة‬ ‫وتحليـل الشـأن العام‪ ،‬لكـن من خارج‬ ‫ليبيـا‪ ،‬وغالبـ ًا مـا يقومـون عبـر‬ ‫كتاباتهـم‪ ،‬بدعـم طـرف أو تيـار ضـد‬ ‫آخـر‪ ،‬حسـب قناعاتهـم‪ ،‬والكتابـة مـن‬

‫خـارج الوطـن تمنـح الكاتـب طمأنينـة‬ ‫وأمانـاً‪ ،‬وأقصـى ما يمكـن أن يفعل له‬ ‫هـو إيقـاف مرتبـه إن سـيطرت الجهـة‬ ‫الموجـه لهـا االنتقـاد علـى وزارة‬ ‫الخارجيـة أو البنـك المركـزي‪.‬‬ ‫«الجيـل الجديـد مـن المثقّفيـن يسـاهم‬ ‫ـل‬ ‫كثيـرًا فـي الشـأن العـام‪ ،‬ولكـن ُج ّ‬ ‫اهتماماتهـم وإبداعاتهـم‪ ،‬لهـا عالقـة‬ ‫بالميديـا‪ ،‬فبعضهـم قـد أنتـج أشـرطة‬ ‫سـينمائية قصيـرة‪ ،‬تتنـاول معانـاة‬ ‫النـاس مـن تداعيات الحـرب‪ ،‬النزوح‪،‬‬ ‫التفـكك األسـرى‪ ،‬مأسـاة الجرحـى‬ ‫ُّ‬ ‫والمبتوريـن‪ ،‬وبعضهم له الجرأة بأن‬ ‫يكـون وسـط جبهـات القتـال‪ ،‬لينتـج‬ ‫أفالم ًا عن الحرب‪ ،‬بالطبع هذه األفالم‬ ‫تنحـاز للطـرف الذي ُس ِـم َح لـه بدخول‬ ‫محـاور القتـال والتصويـر‪.‬‬ ‫وحـول اهتمـام الجيـل الشـاب باإلبداع‬ ‫المصـور والمسـموع‪ ،‬واالبتعـاد عـن‬ ‫ّ‬ ‫كتابـة القصـص والروايـات والقصائـد‬ ‫يقـول أنـس بـن غـزي وهـو مصـور‬ ‫تربـى‬ ‫ومخـرج شـاب‪« :‬الجيـل الجديـد ّ‬ ‫على الصورة‪ ،‬اإلنترنت‪ ،‬التليفزيون‪،‬‬ ‫الفضائيات‪ ،‬ووجدنا أنفسـنا في أتون‬ ‫ومصورين‬ ‫الحرب‪ ،‬وصرنا مراسـلين‬ ‫ّ‬ ‫عفويـة‪ ،‬فقـد كانـت صورنـا‬ ‫بطريقـة‬ ‫ّ‬ ‫مطلوبـة مـن وكاالت األنبـاء العالميـة‬ ‫فـي بدايـة ثـورات الربيـع العربـي عام‬ ‫‪2011‬م‪ ،‬أي أننـا ال وقـت لدينـا لقـراءة‬ ‫«األخـوة كارمـازوف» أو «الجريمـة‬ ‫والعقـاب» أو «البؤسـاء»‪ ،‬وال وقـت‬ ‫لدينا لتأمل لوحة بيكاسـو عن الحرب‬ ‫األهليـة اإلسـبانية «الجيرينيـكا» التـي‬ ‫نعيشـها حالي ًا في ليبيا‪ ،‬نحن نتعامل‬ ‫عبـر عنـا‬ ‫مـع التقنيـة‪ ،‬ووجدنـا أنهـا ُت ّ‬ ‫وبطريقـة أسـهل وأسـرع‪ ..‬ويضيـف‬ ‫بـن غزي مبتسـماً‪ :‬عندما تضع الحرب‬ ‫ويحل السلام‪،‬‬ ‫وقّل يارب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أوزارهـا‪َ ،‬‬ ‫سـنضع الكاميـرا جانبـ ًا وسـنعتذر‬ ‫بتمعـن وعمق ولذة‪،‬‬ ‫للكتـاب‪ ،‬ونقـرأه ُّ‬ ‫ٍ‬ ‫آه َكْم أتمنى أن يكون هناك قطار حياة‬ ‫يربـط شـرق ليبيـا بغربهـا بجنوبهـا‪،‬‬ ‫أجلـس فيـه وأقـرأ وأقـرأ وأقـرأ حتـى‬ ‫أسـقط‪ ،‬كمـا يقول الصـادق النيهوم»‪.‬‬ ‫‪21‬‬


‫الشاعر الموريتاني‪:‬‬ ‫أعطني حدث ًا أ ُ ِ‬ ‫عطك قصيدة!‬

‫نواكشوط‪ :‬عبداهلل ولد محمدو‬ ‫يبـدو أن الشـعر الموريتانـي بـدأ رحلة‬ ‫التكيـف مـع زمـن‬ ‫البحـث عـن ُسـبل‬ ‫ّ‬ ‫تغيـرت نظرة‬ ‫فقـد‬ ‫واللمحـة‪،‬‬ ‫الومضـة‬ ‫ّ‬ ‫نصـه الطويـل بعـد‬ ‫الشـاعر إلـى رتابـة ّ‬ ‫عشـرته صفحات التواصل االجتماعي‬ ‫ْ‬ ‫ومعانقته اليوميـة لألحداث المتدفقة‪،‬‬ ‫فاحتار ‪ -‬وهو يتابع سـيلها المتالحق‬ ‫باهتمام ‪ -‬بين أن يساير ومضة الحدث‬ ‫بومضـة شـعرية تناسـبها‪ ،‬وبيـن أن‬ ‫ينتقـي منهـا مـا تتسـع لـه رحابة صدر‬ ‫القصيـدة الشـعرية المطولـة ُمعرضـ ًا‬ ‫عـن أحـداث كثيـرة‪ ،‬يصعـب التغاضي‬ ‫لـكل منهـا‬ ‫عنهـا‪ ،‬خاصـة حيـن يكـون ّ‬ ‫حـظ مـن وجدانـه‪ ،‬فلا يسـعه التغافـل‬ ‫أن كفّـة الخيـار األول قـد‬ ‫عنـه‪ ..‬ويبـدو ّ‬ ‫الشعراء‬ ‫رجحت في ِظّل سعي كثير من ّ‬ ‫الفاعليـن علـى صفحـات اإلنترنـت‬ ‫والمتفاعليـن مـع أحداثهـا الدافقـة إلـى‬ ‫التخلّي عن القصيدة التقليدية الطويلة‬ ‫واسـتعاضتها بتوقيعـات شـعرية‬ ‫قصيرة‪ ،‬تكاد ال تتعّدى البيت والبيتين‬ ‫والرباعيـة فـي ‪ ‬تجربـة منتـج إبداعـي‬ ‫«سـريع» يزامـن الشـاعر فيـه نفسـه‬ ‫‪22‬‬

‫التوقيعات الشعرية وسيلة تفاعل الشاعر‬ ‫الموريتاني مع عالمه االفتراضي‬

‫مـع عولمـة العصـر‪ ،‬ويطـرح همومـه‬ ‫الثّقافيـة‪ ،‬ويبـدي رؤيتـه مـن قضايـا‬ ‫«الراهـن» المتدفـق‪.‬‬ ‫ليـس الشـعر دائمـ ًا تلـك القصيـدة‬ ‫المطولـة التـي تملأ الصفحـات‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫وليـس الشـاعر دائمـ ًا ذلـك المتسـمر‬ ‫مسترسلا فـي اإلنشـاد‬ ‫أمـام جمهـوره‬ ‫ً‬ ‫لحـّد السـأم‪ ،‬هذه‬ ‫ا‬ ‫أحيانـ‬ ‫لفتـرة ممتـدة‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫الصورة النمطية للشعر حاول الشاعر‬ ‫الموريتانـي منـذ القـدم تغييرها‪ ،‬حيث‬ ‫نجـد للشـاعر الموريتانـي القديـم محمد‬ ‫ولـد أحمـد يـوره ديوانـ ًا شـعري ًا تـكاد‬ ‫نصوصـه تنحصـر فـي مقطوعـات‬ ‫شـعرية قصيـرة‪ ،‬تميـل كلّهـا إلـى‬ ‫الظرف والطرافة والخفة‪ ،‬ومنذ مطلع‬ ‫سـبعينيات القـرن الماضـي نهـج هـذه‬ ‫أبرزهم محمـد فال ولد‬ ‫السـبيل‬ ‫َ‬ ‫شـعراء ُ‬ ‫ُ‬ ‫عبـد اللطيـف الـذي صـدر لـه ديـوان‬ ‫يسجل في مقّدمة‬ ‫(الجذاذات)‪ ،‬والشاعر ّ‬

‫ديوانه بأسلوبه الساخر أن ليس فيه‬ ‫ما يتوقّع القارئ من الدواوين الشعرية‬ ‫قائلا‪« :‬بين‬ ‫المألوفـة فـي تلـك الحقبة‬ ‫ً‬ ‫أيديكـم ديـوان شـعر جديـد‪ ،‬ليـس فيه‬ ‫مـا يخـدم القضايـا المصيريـة الكبـرى‬ ‫التـي تشـغل بال النـاس وال تعبير عن‬ ‫مشـاعر سامية وال أحاسيس إنسانية‬ ‫وال انشـغاالت فلسـفية وال فيه وصف‬ ‫بديـع للطبيعـة بمناظرهـا وطيورهـا‬ ‫وأغانيهـا‪ ...‬ال‪ .‬ليـس فيـه شـيء‬ ‫مـن ذلـك‪ .‬إنـه مجموعـة مـن القطـع‬ ‫الشـعرية الشـكل‪ ،‬الصالحـة «لألكل»‪،‬‬ ‫ال يزيـد غالبهـا علـى العشـرة األبيات‪،‬‬ ‫جاءت بها القريحة عفوًا أيام الدراسـة‬ ‫والتدريبات واإلبحار في خضم الحياة‬ ‫المهنيـة في دواليب اإلدارة ومشـاغلها‬ ‫اليومية في أواخر السبعينيات وأوائل‬ ‫الثمانينيـات مـن القـرن الماضـي»‪.‬‬ ‫يحـرص كثيـر من الشـعراء اليوم على‬ ‫نشر قصائدهم الطوال على صفحاتهم‬ ‫اإللكترونية‪ ،‬بل وتنزيل دواوينهم على‬ ‫الشـبكة على شـاكلة ما نجد في موقع‬ ‫والكّتاب الموريتانيين‪،‬‬ ‫اتحـاد األدبـاء ُ‬ ‫ولكـن الظاهـرة البـارزة هـي لجـوء‬ ‫بعض هؤالء الشعراء إلى التعبير عن‬


‫هل سينحصر إلقاء القصائد الطوال على األماسي الشعرية ؟‬

‫مواقفهـم من الحوادث اليومية العابرة‬ ‫بأبيـات قصيـرة هـي أشـبه بمـا يعرف‬ ‫فـي أدبنـا العربـي القديـم بالتوقيعـات‬ ‫الشـعرية‪ ،‬إنهـا قصيـدة اللحظـة أو‬ ‫الخاطرة الشعرية العاجلة‪ ،‬وهي أكثر‬ ‫من ذلك تنسجم مع عالم السرعة ؛ إذ ال‬ ‫المتعجل عن قراءتها‪،‬‬ ‫يقصر المتصفح‬ ‫ِّ‬ ‫وغالبـ ًا ما تتخـذ طابع الخفة والطرافة‬ ‫ويصرح‬ ‫فـي تنـاول األحـداث ونقدهـا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫قـي ولـد الشـيخ بميلـه إلـى‬ ‫الشـاعر الّت ّ‬ ‫قصيـر األشـعار‪ ،‬ففـي حسـن الشـعر‬ ‫القليـل كفايـة‪ ،‬وإن ضعـف فلا حاجـة‬ ‫لكثيـره‪ ،‬يقول‪:‬‬

‫هو الشعر يدري أنني ال ُأطيله ‬

‫وال ُّ‬ ‫نصـه وذمـيـ ُله‬ ‫يطبـيـني ُّ‬

‫فإن قليل الشعر يشفي جمي ُله ‬

‫وإن رديء الشعر يكفي قلي ُله‬

‫مجلـة «الدوحـة» فـي اسـتطالع آلراء‬ ‫شـعراء وأدبـاء حـول هـذه الظاهـرة‬ ‫التقـت األديـب والناقـد محمـد األميـن‬ ‫ولـد الكويـري فأبـدى أهميـة اللجـوء‬ ‫مسـايرة‬ ‫إلـى الموجـزة الشـعرية‬ ‫ً‬

‫لكل من القراءات الشعرية والتوقيعات الشعرية جمهوره الخاص‬

‫للواقـع‪ ،‬وهـو يـرى أن مـن آيـة براعـة‬ ‫عبـر عـن تجربتـه وموقفه‬ ‫الشـاعر أن ُي ِّ‬ ‫بأبيات شـعرية قليلـة تختزل األحداث‬ ‫المتسـارعة وتسـايرها‪ ،‬إذ تكمـن مزية‬ ‫هـذا النـوع مـن األشـعار فـي جاذبيتـه‬ ‫وقدرتـه علـى اقتنـاص قـارئ لـم يعـد‬ ‫لديـه نفـس طويـل لمتابعـة مطـوالت‪،‬‬ ‫فـي همومـه الجمـة شـاغل عنهـا‪.‬‬ ‫ويذهـب النبهانـي ولـد المحبوبـي إلـى‬ ‫بـروز هـذه الظاهـرة أخيـرًا فـي المشـهد‬ ‫الثّقافي‪ ،‬خاصة منه ما يتصل بالعولمة‬ ‫كاإلنترنـت‪ ،‬حيث يتجلّى حضورها في‬ ‫المجالس والصالونات األدبية والثّقافية‪،‬‬ ‫وهي في نظره نوع من مواكبة األحداث‬ ‫بصفة تالئم ذوق المتلقّي المعاصر‪ ،‬فهو‬ ‫مشـحون بالهمـوم واالنشـغاالت التـي‬ ‫لـكل رسـالة ثقافيـة‬ ‫تجعلـه أكثـر‬ ‫تقبلا ّ‬ ‫ً‬ ‫ويسجل ولد المحبوبي تنامي‬ ‫موجزة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫هـذه الظاهـرة لدى شـعراء موريتانيين‬ ‫عديديـن‪ ،‬منهـم على سـبيل المثـال‪ :‬أبو‬ ‫بكـر ولـد المامـي‪ ،‬ومحمـد ولـد إدومـو‪،‬‬ ‫والشـيخ ولـد بلعمش لما تمتـاز به هذه‬ ‫المقطوعـات الشـعرية القصيـرة مـن‬ ‫انسجام مع العولمة الثّقافية ومقتضيات‬ ‫عصر السـرعة‪.‬‬

‫الشعر في قلب الحدث‬ ‫والكّتاب الموريتانيون‬ ‫يواكب الشـعراء ُ‬ ‫األحـداث الوطنيـة والدوليـة عبـر‬ ‫صفحاتهم‪ ،‬معلّقين عليها شعرًا أو نثرًا‬ ‫تنـزع فـي أغلبهـا إلـى اإليجـاز‬ ‫تعليقـات ْ‬ ‫باستثناء بعض الشعراء الذين دأبوا على‬ ‫عل من أبرز من‬ ‫نشر قصائدهم الطوال‪ ،‬وَل ّ‬ ‫يتابع الحدث معلّق ًا عليه أو مبدي ًا رؤيته‬ ‫الشـاعر الشـيخ ولد بلعمش‪.‬‬ ‫فـي نمـاذج شـعرية متناغمـة مـع عصر‬ ‫يقـرب الشـاعر‬ ‫الومضـات الخاطفـة‪ّ ،‬‬ ‫الموريتانـي َفنّـه مـن عصـر األحـداث‬ ‫الّدافقـة‪ ،‬سـعي ًا إلـى مجاراتهـا‪ ،‬لكـن‬ ‫الشـاعر الـذي يوقّـع علـى صفحات‬ ‫هـذا ّ‬ ‫الّتواصـل االجتماعي بالبيت أو البيتين‬ ‫ال يـزال ينشـد القصائـد الطـوال فـي‬ ‫األماسـي اإلنشـادية‪ ،‬وهو بهذا الصنيع‬ ‫يسـاهم فـي إعـادة الشـعر إلـى واجهـة‬ ‫اهتمام متلقّين مختلفي الذائقة متعّددي‬ ‫يهتـز‬ ‫االتجـاه‪ ،‬إذا كان بعضهـم ال يـزال ّ‬ ‫الخليلية فإن‬ ‫مطـوالت القصائـد‬ ‫ّ‬ ‫لسـماع ّ‬ ‫كثيرين منهم أصبحوا يضيقون ذرع ًا بما‬ ‫ستطابة‬ ‫الم‬ ‫الشـذرات ّ‬ ‫زاد على ّ‬ ‫الش ّ‬ ‫َ‬ ‫ـعرية ُ‬ ‫ستطرفة‪.‬‬ ‫الم‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫‪23‬‬


‫هموم أدب المهجر‬ ‫متتبِّع الجزائري‬ ‫في نظر ال ُ‬

‫نوارة لحــرش‬ ‫الجزائر‪ّ :‬‬ ‫ّـت كتابـة المنفـى أو المهجـر‪ ،‬محور‬ ‫َظل ْ‬ ‫أسـئلة خجولـة وخافتـة‪ ،‬أو األصـح‪،‬‬ ‫ّـت منطقـة غيـر مطروقة في خارطة‬ ‫َظل ْ‬ ‫المـرات القليلة‬ ‫األدب الجزائـري‪ ،‬وفـي ّ‬ ‫التـي َت ّـم تناولهـا فـي مؤتمـرات أو‬ ‫دراسـات نـادرة‪َ ،‬ت ّـم تناولها بخلفيات‬ ‫أيديولوجيـة‪ ،‬ومقاربـات ُمربكـة غيـر‬ ‫للـب الموضـوع وإشـكاالته‬ ‫منتبهـة ّ‬ ‫الحقيقيـة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫عـن أدب وكتابـة المنفـى والمهجـر‬ ‫والهوية واالنتماء‪ ،‬كان هذا االستطالع‬ ‫ّ‬ ‫الكّتـاب الجزائرييـن‪:‬‬ ‫مـن‬ ‫نخبـة‬ ‫مـع‬ ‫ُ‬ ‫عميـر‬ ‫بـوداود‬ ‫والمترجـم‬ ‫الكاتـب‬ ‫يـرى‬ ‫ّ‬ ‫أنـه‪« :‬بصـرف النظر عن لغـة الكتابة‪،‬‬ ‫ال شك أن االنفصال عن الجذور أو عن‬ ‫األصلي‪ ،‬واقع نتلمسه جلي ًا لدى‬ ‫الوطن‬ ‫ّ‬ ‫ُكّتاب المهجر في نصوصهم وكتاباتهم‪،‬‬ ‫خاصة المنتمين منهم لألجيال األخيرة‬ ‫ّ‬ ‫التي ُوِلَد ْت وترعرعت في فرنسا‪ ،‬أو ما‬ ‫ُاصطلح على تسميته بالجيلين الثاني‬ ‫والثالـث‪ ،‬أتحـّدث خاصة عن األسـئلة‬ ‫أو التيمـات المتناولـة فـي نصوصهم‪،‬‬ ‫‪24‬‬

‫والتـي بطبيعـة الحـال تبـدو مختلفـة‪،‬‬ ‫بـل ومتعارضـة أحيانـ ًا مـع واقـع‬ ‫بلدانهـم األصليـة‪ ،‬اقتضاهـا ربما واقع‬ ‫الكّتاب المغتربون الذين يقفون‬ ‫يعيشه ُ‬ ‫غالبـ ًا علـى طرفـي نقيـض مـن واقعنـا‬ ‫والثقافي»‪.‬‬ ‫االجتماعي‬ ‫السياسـي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ويواصـل المتحـّدث فـي هـذا السـياق‪:‬‬ ‫«مـن المفيـد طبعـ ًا أن ينصـب اهتمـام‬ ‫ُكّتـاب المهجـر علـى قضايـا البلـد الـذي‬ ‫يحتضنهـم‪ ،‬السـيما قضايـا البطالـة‬ ‫والعنصريـة وأسـئلة أخـرى تتعلّـق‬ ‫بعوائـق االندمـاج فـي المجتمعـات‬ ‫الهوية‪ ،‬وهي قضايا‬ ‫الغربية‪ ،‬وصراع ّ‬ ‫الكّتاب‬ ‫من‬ ‫فئة‬ ‫خاصة‬ ‫تتميـز بتناولهـا‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫المهاجريـن المولوديـن فـي األراضـي‬ ‫شـكلت نصوصهـم‬ ‫األوروبيـة‪ ،‬وقـد ّ‬ ‫والتفـرد اتجاهـ ًا أدبيـ ًا‬ ‫بفعـل التراكـم‬ ‫ُّ‬ ‫قائمـ ًا بذاته في فرنسـا‪ ،‬يعـود تأريخه‬ ‫إلـى مطلـع الثمانينيـات بـات ُيصطلح‬ ‫عليـه ‪ la littérature beure‬والـذي‬ ‫ينحـدر ُكّتابـه فـي أغلبهـم مـن الجيـل‬ ‫الثاني للمهاجرين المغاربيين‪ .‬في حين‬ ‫تتميـز‪ -‬حسـب بـوداود دائمـاً‪ -‬تجربـة‬ ‫ّ‬ ‫الكّتـاب المولوديـن فـي الجزائـر أكثـر‪،‬‬ ‫ُ‬

‫والذين اختاروا اإلقامة لسبب أو آلخر‬ ‫في أوروبا وفرنسا تحديداً‪ ،‬مثل آسيا‬ ‫جبار‪ ،‬سليم باشي‪ ،‬بوعالم صلصال‪،‬‬ ‫ياسمينة خضرا‪ ،‬مليكة مقدم وغيرهم‪.‬‬ ‫وحـول طبيعـة نصـوص هـذه الفئـة‬ ‫يقـول بـوداود‪« :‬إضافـة إلـى تناولهـم‬ ‫تتطرق إلـى معاناة المهاجرين‬ ‫قضايـا ّ‬ ‫الهويـة واالنتمـاء‪ ،‬يطرحون‬ ‫وصـراع ّ‬ ‫أيضـ ًا همـوم وطنهـم األم وتطلعـات‬ ‫شعوبهم‪ ،‬باعتبارهم جزءًا من مكونات‬ ‫هـذا المجتمـع‪ ،‬يهمهـم مصيـر وطنهـم‬ ‫ومسـتقبله فـي كنـف معالجـة أدبيـة‬ ‫ال تخلـو مـن وجهـات نظـر ُمتعارضـة‬ ‫أحيانـاً‪ ،‬يحفزهـم فـي ذلـك امتالكهـم‬ ‫ولـو بشـكل متفـاوت أدوات التواصـل‬ ‫مـع أفـراد مجتمعاتهـم»‪.‬‬ ‫عل ِكتابات‬ ‫مؤكداً‪َ« :‬ل ّ‬ ‫وخُلص المتحّدث ِّ‬ ‫الفئـة الثانيـة هـي األقـرب‪ ،‬فيمـا يبدو‬ ‫مـن مالمسـة الواقـع الجزائري‪ ،‬والتي‬ ‫تـردد فـي‬ ‫نسـتطيع أن نضعهـا دون ّ‬ ‫خانـة األدب الجزائـري بغـض النظـر‬ ‫عـن إقامـة ولغـة كاتبها»‪.‬‬ ‫مـن جهتـه يـرى الباحـث والمحاضـر‬ ‫األكاديمـي محمد األمين بحري‪ ،‬أن من‬


‫محمد تحريشي‬

‫عمير‬ ‫بوداود ّ‬

‫بين أبرز أسـئلة ِكتابة المنفى‪ :‬سـؤال‬ ‫تجليات‬ ‫الهوية»‪ ،‬والبحث عبر ّ‬ ‫«التباس ّ‬ ‫هـذه الكتابـة عـن كينونـة جديـدة؟‪« .‬إذ‬ ‫أعتبرهـا بمثابـة «والدة ثانيـة» تنشـأ‬ ‫من رحم إشكالية االنتماء التي تعانيها‬ ‫الذات المرتحلة التي ال تنفك عن رسـم‬ ‫مالمـح وطـن بديـل‪ ،‬ولـو علـى فضـاء‬ ‫غير إحداثيات الجغرافيا‬ ‫التخييل الذي ُي ّ‬ ‫والواقع‪ ،‬فينزاح الوطن من كونه تلك‬ ‫الرقعـة الجغرافيـة التـي نسـكنها‪ ،‬إلـى‬ ‫نشـيدها‬ ‫فكرة يوتوبية تسـكننا‪ ،‬فكرة ّ‬ ‫وتتشـكل‬ ‫فـي أعماقنـا‪ ،‬فترتحـل معنا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫علـى مقـاس أفكارنـا‪ ،‬فنتعصـب لهـا‪،‬‬ ‫نختلـف حولهـا‪ ،‬ونقتتل مـن أجلها»‪.‬‬ ‫وأضاف موضحاً‪« :‬من سـؤال التباس‬ ‫الهويـة ولـدت (نجمـة) كاتـب ياسـين‬ ‫ّ‬ ‫صانعـة من التشـوه جمالية مالمحها‪،‬‬ ‫ومن التشـتت مقومات خطابها الثائر‪،‬‬ ‫تفجـرت القوميـة‬ ‫ومـن سـؤال االنتمـاء‬ ‫ّ‬ ‫فـي ثالثيـة محمـد ديب بـكل محموالتها‬ ‫ومكبوتاتهـا الحضاريـة‪ ،‬بشـكل لـم‬ ‫يسـبق لـه مثيـل فـي أدب األنـا وال فـي‬ ‫أدب اآلخـر»‪.‬‬ ‫«نفهـم مـن هـذه النمـاذج‪ ،‬كمـا يضيـف‬ ‫المتحـّدث‪ ،‬بـأن االغتـراب مهمـا كان‬ ‫نمطـه‪ ،‬ال يمثـل انفصـا ًال وقطيعـة مـع‬ ‫الجـذور بقـدر مـا يعمـل علـى إعـادة‬ ‫وفنّيـ ًا عبـر كتابة‬ ‫التموقـع منهـا فكريـ ًا َ‬ ‫تفـكك المفاهيـم التقليديـة الموروثـة‬ ‫ّ‬ ‫لالنتمـاء‪ ،‬وترشـحها مـن جديـد وفـق‬ ‫عالقات منفتحة على اآلخرين‪ ،‬فتصبح‬ ‫الكتابة عن الوطن واالنتماء آلية عبور‬ ‫للهويات والكينونات من الذات وإليها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مركـزي للعالقات‪،‬‬ ‫طـرد‬ ‫آليـة‬ ‫وليسـت‬ ‫ّ‬

‫لونيس بن علي‬

‫فاتخذت من مفاهيم الهجرة واالغتراب‬ ‫مفاتيـح لخطابهـا‪ ،‬ومـن ثنائيـات‪،‬‬ ‫والهنـاك‪ ،‬واألنـا واآلخـر‪ ،‬معالم‬ ‫الهنـا ُ‬ ‫ُ‬ ‫النصيـة‪ .‬ومنطلقـات فكريـة‬ ‫لثيماتهـا‬ ‫ّ‬ ‫لطـرح بدائلهـا لمـا فككتـه مـن مفاهيـم‬ ‫تخـص انتماءهـا»‪.‬‬ ‫وفـي خالصـة تصريحـه‪ ،‬قـال بحـري‬ ‫مسـتطرداً‪« :‬لقـد أضحـت كتابـة المنفى‬ ‫بهـذا الطـرح آليـة تفكيكيـة تنحـو إلـى‬ ‫تغييـر إحداثيـات الوجـود المـوروث‬ ‫الـذي مـا انفـك يعتـاش علـى ترسـبات‬ ‫ثقافيـة محليـة متمركـزة حـول ثوابـت‬ ‫قومية ال دور لإلنسان فيها ّإل حراسة‬ ‫ِقالعهـا العتيـدة‪ .‬وبالمقابل تطرح هذه‬ ‫الهوية‬ ‫الكتابـة بدائلهـا التي تجعـل من ّ‬ ‫طاقـة تتقـوى باالنفتـاح والحـوار مـع‬ ‫القوميـة ممارسـة‪،‬‬ ‫اآلخريـن‪ ،‬ومـن‬ ‫ّ‬ ‫يتكـرس بالخشـية من‬ ‫ً‬ ‫وفعلا تقدميـ ًا ال ّ‬ ‫اآلخـر والحـذر مـن اكتشـافاته للـذات‪،‬‬ ‫بـل بمـد جسـور المثاقفـة معـه‪ ،‬لتأمين‬ ‫العبـور من حاالت التمركز واالنغالق‪،‬‬ ‫للهوية التي‬ ‫إلـى أشـكال أكثـر انفتاحـ ًا‬ ‫ّ‬ ‫فضاء‬ ‫المنافي‬ ‫أضحت في منظور ُكّتاب‬ ‫ً‬ ‫يحيا بالفعل والتفاعل‪ ،‬وليس موروث ًا‬ ‫متحفي ًا هش ًا ُيخشى عليه من التالشي‬ ‫كلمـا اقتـرب مـن اآلخر»‪.‬‬ ‫أمـا الكاتـب والناقـد محمـد تحريشـي‪،‬‬ ‫فيـرى أن كتابـة المهجـر أو المنفـى‬ ‫ُتتيح «االحتكاك بين الثقافات وتبادل‬ ‫التجـارب والخبـرات واكتسـاب ُق ّـراء‬ ‫تمكـن الكاتـب‬ ‫جـدد‪ ،‬وفـي الوقـت ذاتـه ّ‬ ‫والقـارئ علـى َح ٍّـد سـواء مـن تجـاوز‬ ‫المألـوف والمعتـاد»‪.‬‬ ‫مضيفـاً‪« :‬إن أدب المنفـى والهجـرة قـد‬

‫محمد األمين بحري‪ ‬‬

‫عبر عن صدمة ثقافية بين حضارتين‪،‬‬ ‫ُي ّ‬ ‫تجسـدت هـذه الصدمـة فـي الكثيـر‬ ‫وقـد ّ‬ ‫من األعمال األدبية والروائية مما جعل‬ ‫البعض منها يظهر بمسحة من الحزن‪،‬‬ ‫توجـه نحـو النزعـة‬ ‫وبعضهـا اآلخـر ّ‬ ‫اإلنسانية من باب التجديد والتجريب‪،‬‬ ‫الكّتاب هجر لغته ليكتب بلغة‬ ‫وبعض ُ‬ ‫المهجر أو المنفى حتى قال مالك حداد‬ ‫قولته المشـهورة (لغتي منفاي)‪ ،‬وهو‬ ‫يقصـد الكتابـة باللغـة الفرنسـية‪ .‬فـي‬ ‫األخيـر‪ ،‬قـد تتجلّـى الكتابـة إلـى أن‬ ‫تصبـح ترميم ًا للـذات والذاكرة»‪.‬‬ ‫أمـا الناقـد األدبـي لونيـس بـن علـي‪،‬‬ ‫تحولـت فـي‬ ‫فيـرى أن كتابـة المنفـى ّ‬ ‫الكثيـر مـن األحيـان إلـى كتابـة منفية‪.‬‬ ‫إذ قال في هذا الشـأن‪« :‬يزداد شـعورنا‬ ‫فـي هـذا الزمـن المرتبـك بالغربـة‪،‬‬ ‫ـب لهـا أن تعيـش فـي‬ ‫بأننـا كائنـات ُكِت َ‬ ‫ٍ‬ ‫منـاف أنطولوجيـة بالدرجـة األولـى‪.‬‬ ‫هـو إحسـاس بتراجيديـا الحيـاة فـي‬ ‫مجتمعـات تنهـار فيهـا قيـم اإلنسـان‪،‬‬ ‫وتسـحب مـن خلفهـا بجثتـه المغتالـة‬ ‫بألـف طريقـة»‪.‬‬ ‫يتسـاءل بـن علـي فيجيـب‪« :‬مـن هـو‬ ‫الكاتـب المنفـي؟»‪« ،‬ليـس بالضـرورة‬ ‫المتسـكع فـي أوطـان غيـره‪ ،‬بـل‬ ‫ذلـك‬ ‫ّ‬ ‫يتسـكع فـي وطنه‪ ،‬لكن‬ ‫الذي‬ ‫ذلك‬ ‫هـو‬ ‫ّ‬ ‫دون أن يتخلّـص مـن أوزار اإلحسـاس‬ ‫بالغربـة وهـو يجـول ويصـول بيـن‬ ‫جنبـات وطنـه‪ .‬الكاتـب المنفـي هـو‬ ‫الـذي يبحـث عـن شـكل يسـتوعب قلـق‬ ‫االنتماء في حياته‪ ،‬هو الباحث األبدي‬ ‫عـن سلام ُيـدرك فـي قـرارة نفسـه أنه‬ ‫سلام مسـتحيل»‪.‬‬ ‫‪25‬‬


‫مجتمع‬

‫ِّ‬ ‫«فكر بغيرك» وأنشأ سوق ًا للفقراء‬ ‫قاد حملة‬

‫كامل الهيقي‪..‬‬ ‫سيناتور العمل الخيري في غزّة‬

‫غزة‪ :‬سما حسن‬ ‫ّ‬ ‫ـن منّـا يتـرك العيـش الرغـد المرتـاح‬ ‫َم ْ‬ ‫قـرر أن يعيـش مـع الفقـراء ومـن‬ ‫وي ّ‬ ‫ُ‬ ‫أجلهـم‪ ،‬يسـهر علـى راحتهـم‪ ،‬ويجوب‬ ‫البلاد بحثـ ًا عنهـم ليمسـح دموعهـم‬ ‫ويواسيهم ويرسم البسمة على وجوه‬ ‫صغارهـم‪ ،‬ويمـّد يـد العـون لهـم أينمـا‬ ‫كانـوا‪ ،‬ويتجشـم المشـاق والتنقـل من‬ ‫كل الصعـاب مـن‬ ‫مـكان آلخـر‬ ‫ويتحمـل ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫أجـل أن يوفـر لهـم حيـاة كريمـة‪ ،‬مـن‬ ‫مـأوى أو كسـاء أو طعـام‪.‬‬ ‫فئـة نـادرة فـي مجتمعاتنـا مـن تقـوم‬ ‫بهـذا العمـل ومـن هـؤالء النادريـن‬ ‫الغزي كامل محسن‬ ‫الشاب الفلسطيني ّ‬ ‫الهيقـي‪ ،‬والـذي شـعر بالفقـراء وجعل‬ ‫همهـم رسـالته فـي الحيـاة فتـرك ثـراء‬ ‫عائلتـه والراحـة التي من المفترض أن‬ ‫وقرر أن يسـتحق بالفعل لقب‬ ‫يعيشـها ّ‬ ‫«سـيناتور العمـل اإلنسـاني والخيـري‬ ‫غـزة»‪ ،‬والـذي حـازه مؤخـرًا مـن‬ ‫فـي ّ‬ ‫المنظمـة الدوليـة لحقـوق اإلنسـان‬ ‫التابعـة لألمـم المتحـدة‪.‬‬ ‫بدأ كامل الهيقي عمله الخيري اإلنساني‬ ‫‪26‬‬

‫الغـزي قبل حوالي‬ ‫فـي خدمة المجتمع ّ‬ ‫ثالث سنوات‪ ،‬وتحديدًا خالل العدوان‬ ‫غـزة‪ ،‬حيـث أطلـق كامـل‬ ‫األخيـر علـى ّ‬ ‫«فكـر بغيرك» من خالل‬ ‫حملـة بعنـوان ِّ‬ ‫صفحة خاصة على «الفيسبوك» تحمل‬ ‫االسم نفسه‪ ،‬وقبل ذلك بسبع سنوات‬ ‫مؤسسات‬ ‫بدأ الهيقي عمله كناشط في ّ‬ ‫العمل المدني‪.‬‬ ‫قرر مجموعة من الشـباب‬ ‫ففـي البدايـة ّ‬ ‫المتطوعيـن الخـروج إلـى‬ ‫المسـتقلّين‬ ‫ّ‬ ‫الشـارع الفلسـطيني وبحـث حـاالت‬ ‫النـاس عن كثـب ونبش أوضاعهم وما‬ ‫أخفـوه وراء الجـدران مـن فقـر ومرض‬ ‫وحاجة‪ ،‬وكان على رأسهم كامل الذي‬ ‫المؤسس الحقيقي والفعلي لحملة‬ ‫ُيعّد‬ ‫ّ‬ ‫«فكـر بغيـرك» ليبـدأ بمسـاعدة فريقـه‬ ‫ِّ‬ ‫بإزاحـة السـتار عـن أوجـاع مخفيـة ال‬ ‫يشـعر بهـا أحد‪.‬‬

‫مشاريع نوعية‬ ‫خلال السـنوات الثلاث التـي بـدأ بهـا‬ ‫مشـروعه الخيري قام كامل الهيقي من‬ ‫بمؤسسـات‬ ‫خلال حملتـه وباالتصـال‬ ‫ّ‬

‫غـزة والضفـة‬ ‫خيريـة وإنسـانية فـي ّ‬ ‫الغربيـة وخـارج فلسـطين بتنفيـذ‬ ‫المميزة‪،‬‬ ‫الكثير من المشاريع اإلغاثية ّ‬ ‫والتـي كانـت األولـى مـن نوعهـا فـي‬ ‫غـزة المحاصـرة منـذ عشـر سـنوات‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫وعملا بالمثـل الصينـي «ال تطعمنـي‬ ‫ً‬ ‫سـمكة‪ ،‬بـل علمنـي كيـف اصطـاد»‪،‬‬ ‫فقـد اسـتطاع كامـل وفريقـه مسـاعده‬ ‫شـاب صغيـر مـن رفح جنـوب القطاع‬ ‫كـون‬ ‫علـى افتتـاح مشـروع بسـيط ُم ّ‬ ‫مـن «بسـطة» أو «فـرش» علـى ناصية‬ ‫شارع في المخيم ووضع عليه بعض‬ ‫البضائـع الرخيصـة والبسـيطة مثـل‬ ‫البسكويت وأكياس شرائح البطاطس‬ ‫(الشيبس) والشكوالته وعلب المبردات‬ ‫(الجيالتـي)‪ ،‬المحليـة الصنع‪ ،‬وبذلك‬ ‫وضـع كامـل قـدم هذا الشـاب على أول‬ ‫طـرق األمـل بعـد أن عانى سـنوات من‬ ‫البطالـة والفقـر والحاجـة‪.‬‬

‫سوق للفقراء‬ ‫مـن أنجـح األفـكار وأكثرها‪ ‬روعـة‬ ‫فكـر بهـا‬ ‫التـي َظ ّ‬ ‫ـل كامـل الهيقـي ُي ِّ‬


‫لفتـرة طويلـة قبـل أن تصبـح علـى‬ ‫أرض الواقـع إنشـاء سـوق خيريـة‬ ‫لألسر الفقيرة‪ ،‬وقد ُأعجب الفقراء بهذا‬ ‫العمل اإلنساني‪ ،‬والذي َتّم افتتاحه في‬ ‫محافظتـي خـان يونـس ورفـح‪ ،‬حيـث‬ ‫بكل‬ ‫يدخل الشخص المستفيد ويشتري ّ‬ ‫حرّية (اللحوم الطازجة‪ ،‬الخضراوات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الفواكـه‪ ،‬المـواد الغذائية‪ ،‬والمعلبات)‬ ‫بأسعار رمزية يتم تسديدها عنه الحق ًا‬ ‫مـن متبرعيـن يحفظـون لـه مـاء وجهه‬ ‫ويصونـون كرامتـه وإنسـانيته‪.‬‬ ‫ومـن المشـاريع األخـرى التـي قـام بها‬ ‫«فكـر بغيـرك»‬ ‫كامـل بمسـاعدة فريـق ِّ‬ ‫وبتبرعـات سـخية مـن مواطنيـن‬ ‫يرفضـون ذكـر أسـمائهم مشـروع حفـر‬ ‫آبـار ميـاه صالحة للشـرب في األماكن‬ ‫البعيـدة المهمشـة وغيـر المطروقـة‬ ‫وتوفيـر المـاء علـى جنبـات الطـرق‬ ‫الوعـرة والبعيدة عن العمران‪ ،‬وكذلك‬ ‫بنـاء بيـوت وترميم البيوت المتصّدعة‬ ‫بسـبب الحـروب واألحـوال الجويـة‪،‬‬ ‫كالمنخفضـات التـي تتلـف البيـوت في‬ ‫الشـتاء وإنشـاء المشـاريع البسـيطة‬ ‫اإلنتاجيـة‪ ،‬ومسـاعدة األطفـال فـي‬

‫المستشفيات وتقديم الهدايا والمالبس‪،‬‬ ‫إضافة لمساعدة كبار السن والمعاقين‪.‬‬

‫ّ‬ ‫حل مشكلة الفقر بأيدينا‬ ‫يقـول كامـل الهيقـي فـي رده عـن‬ ‫لحـل مشـكلة الفقر‬ ‫الحلـول المطروحـة ّ‬ ‫غـزة‪ :‬لـو أن أغنيـاء‬ ‫المسـتفحلة فـي ّ‬ ‫غزة أخرجوا زكاة مالهم على فقرائها؛‬ ‫ّ‬ ‫غـزة سـائل وال‬ ‫قطـاع‬ ‫فـي‬ ‫يبقـى‬ ‫لـن‬ ‫ّ‬ ‫فغـزة مـن المناطـق التـي ال‬ ‫محـروم‪ّ ،‬‬ ‫زالـت تعتـرف بمفهـوم األسـرة الممتدة‬ ‫والترابط األسري ال زال قوياً‪ ،‬وهناك‬ ‫عائلات كبيـرة ومشـهورة تعيـش فـي‬ ‫منطقـة واحـدة‪ ،‬ولكن لألسـف تنقسـم‬ ‫هـذه العائلات مـن ناحيـة المسـتوى‬ ‫االقتصادي‪ ،‬فهناك أغنياء وفقراء‪ ،‬ولو‬ ‫قـام األغنيـاء بإنشـاء مشـاريع لفقـراء‬ ‫غزة‪،‬‬ ‫عائالتهم لما بقي فقير واحد في ّ‬ ‫ولحلّت مشكلة الفقر دون الحاجة ألحد‬ ‫ُ‬ ‫والختفـت المشـاكل الناتجـة عنه‪ ،‬مثل‬ ‫القتـل والسـرقة‪ ،‬والتـي بـدأت تطفـو‬ ‫علـى السـطح كظاهـرة غريبـة وغيـر‬ ‫الغـزي‪ .‬ويـرى‬ ‫معتـادة فـي المجتمـع ّ‬

‫كامـل الهيقـي أن دولـة قطـر الشـقيقة‬ ‫هـي اليـد العليـا فـي تقديـم المسـاعدات‬ ‫غـزة‪ ،‬حيـث‬ ‫للشـعب الفلسـطيني فـي ّ‬ ‫فعـال‬ ‫بشـكل‬ ‫سـاهمت اللجنـة القطريـة‬ ‫ّ‬ ‫فـي تطويـر البنيـة التحتيـة وإعـادة‬ ‫والمؤسسـات التـي دمرتهـا‬ ‫البيـوت‬ ‫ّ‬ ‫لمؤسسة‬ ‫الحروب اإلسرائيلية‪ .‬كما أن ّ‬ ‫«قطـر الخيريـة» و«راف» القطريـة‪،‬‬ ‫السلات‬ ‫الفضـل الكبيـر فـي توفيـر‬ ‫ّ‬ ‫الغذائية وترميم بيوت الفقراء‪ ،‬وكفالة‬ ‫أيتام القطاع‪ ،‬إضافة لتدشين مشاريع‬ ‫لتسديد ديون الغارمين المتراكمة عليهم‬ ‫بسـبب سـوء األوضـاع االقتصاديـة‬ ‫وخسـارة الكثيـر منهـم لمشـاريعهم‬ ‫التجاريـة‪.‬‬ ‫ويقـول كامـل فـي ختـام تصريحـه‬ ‫لـ«الدوحة»‪ :‬إنه يحلم بأن يكون سفيرًا‬ ‫ال لوطنه وهو ابن‬ ‫للنوايا الحسـنة ممث ً‬ ‫غـزة الـذي عـاش مآسـيها وحروبهـا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ولكنـه قـادر بأفكاره وجهـوده أن ُيقّدم‬ ‫خدمـات لإلنسـانية خـارج فلسـطين‪،‬‬ ‫خاصـة مـع تزايـد الالجئيـن وضحايـا‬ ‫الحـروب فـي العالـم العربـي‪.‬‬ ‫‪27‬‬


‫بين ضفتين‬

‫ايزابيلال كاميرا دافليتو‬

‫نيفرالند‬ ‫«نيفرالنــد» هــي جزيــرة خيالية‪ ،‬كثيــرًا مــا حلم بهــا األطفــال من‬ ‫ِعـّدة أجيــال‪ .‬وهــي معروفة لــدى الغالبيــة بجزيــرة «بيتر بــان»‪،‬‬ ‫ذلــك الصبــي الــذي لــن يكبــر‪ ،‬ومعــه وينــدي الجميلــة أو الجنية‬ ‫تينكربيــل أو جزيــرة القراصنــة الشرســين‪ ،‬والذيــن هــم أبعــد‬ ‫مــا يكونــون عــن الشراســة‪ ،‬مثــل الكابتــن هــوك‪ ،‬الــذي يتســم‬ ‫بالدعــة واللطــف‪ .‬هــي إذًا جزيــرة ال يعرفهــا أحــد‪ ،‬فلــم يذهــب‬ ‫خيلــة مبدعهــا‪ ،‬جيمــس‬ ‫إليهــا أحــد‪ ،‬وليســت موجــودة ّإل فــي ُم ِّ‬ ‫ماثيــو بــاري‪ ،‬الــذي ابتــدع فــي ‪ 1904‬شــخصية وهميــة باســم‬ ‫بيتــر بــان‪ ،‬الطفــل األبــدي الــذي يرتــدي مالبــس غريبــة باللــون‬ ‫األخضــر‪ ،‬ويمثــل رغبتنــا فــي الصبــا األبــدي‪.‬‬ ‫خطــرت هــذه الجزيــرة علــى ذهنــي عندمــا ســمعت قبــل أســابيع‬ ‫عــن فكــرة مجنونــة وعبثيــة لبعــض أعضــاء البرلمــان اإليطالــي‬ ‫(ينتمــون إلــى أحــزاب تشــتهر بمعــاداة األجانــب والعنصريــة‬ ‫كل مــا هــو جنوبــي علــى األرض‪ ،‬بمــا فــي ذلــك جنــوب‬ ‫تجــاه ّ‬ ‫إيطاليــا)‪ ،‬لبنــاء جزيــرة أمــام الســواحل اإليطاليــة‪ ،‬أو بمعنــى‬ ‫أصــح منصــة صناعيــة عازلــة‪ ،‬ال نعــرف حتــى اآلن أيــن‬ ‫يزمعــون بناءهــا‪ .‬ولكــن فيمــا يمكــن أن يفيــد بنــاء جزيــرة‬ ‫اصطناعيــة؟ هــذا الســر تــم كشــفه مؤخــراً‪ ،‬فالمشــروع يقضــي‬ ‫ببنــاء مــا يشــبه منصــة بتروليــة عائمــة‪ ،‬ولكنهــا مجهــزة بمــا‬ ‫يشــبه بمعســكر اعتقال أو ســجن‪ ،‬يوضــع فيــه آالف المهاجرين‬ ‫الذيــن يعبــرون البحــر المتوســط يوميـ ًا للوصــول من الســواحل‬ ‫اإلفريقيــة إلــى شــواطئنا اإليطاليــة واألوروبيــة‪ .‬والبــد‪ ،‬على ما‬ ‫يبــدو‪ ،‬أن هنــاك ِعـّدة منصــات بتروليــة لم تعــد قيد االســتخدام‪،‬‬ ‫ويمكــن إعــادة اســتخدامها وتكييفهــا لهــذا الغــرض‪.‬‬ ‫كل هــؤالء الفقراء‬ ‫فكــرة هــؤالء السياســيين المجنونــة هــي منــع ّ‬ ‫الذين يخوضــون رحلــة بحريــة بالغــة الخطــورة‪ ،‬مــن الوصول‬ ‫الــى قارتنــا األوروبيــة التــي يرونهــا مثاليــة‪ ،‬ثــم ســجنهم فــي‬ ‫مراكــز عائمــة ومنعهــم مــن الهبــوط علــى شــواطئنا‪ ،‬وهــم بهــذا‬ ‫كل أمــل لهــم فــي تغييــر حياتهــم‪ ،‬بــل وفــي كثيــر‬ ‫يقضــون علــى ّ‬ ‫مــن الحــاالت يقضــون علــى األمــل فــي الحيــاة نفســها‪ ،‬ألن‬ ‫الكثيريــن يهاجــرون‪ ،‬كمــا نعلــم‪ ،‬هرب ـ ًا مــن أوضــاع مأســاوية‬ ‫للغايــة‪ .‬والفكــرة هــي أن تحتفــظ بـ«الضيــوف» (رجــا ًال ونســاء‬ ‫‪28‬‬

‫وأطفــاالً) فــي نــوع مــن «الســجن المؤقــت»‪ ،‬إلــى أن يتــم تحديــد‬ ‫وضعهــم‪.‬‬ ‫عندمــا أطلــق زعيــم حــزب رابطــة الشــمال (حــزب كاره لألجانــب‬ ‫للمــرة األولــى هــذا االقتــراح‪ ،‬فــي أغســطس‪/‬‬ ‫وعنصــري)‬ ‫ّ‬ ‫آب ‪ ،2015‬أثــار جــد ًال واســع ًا فــي الصحافــة وغيرهــا مــن‬ ‫المؤسســات السياســية واالجتماعيــة والدينيــة التــي حاولــت‬ ‫ّ‬ ‫علــى مــدار الســنين التعامــل مــع مشــكلة الهجــرة الكثيفــة‬ ‫بإنســانية عظيمــة‪ ،‬حتــى أننــا نســتطيع أن نقــول بحــق إن‬ ‫إيطاليــا‪ ،‬فــي هــذه المأســاة اإلنســانية‪ ،‬قــد أثبتــت أنهــا بلــد‬ ‫معطــاء للغايــة‪ ،‬مفتــوح الصــدر‪ ،‬فــي حــدود إمكانياتهــا‪.‬‬ ‫وبالطبــع ثــار ضــد هــذه الفكــرة غيــر الصحيــة فــي العــام‬ ‫الحــل‬ ‫الماضــي جــدل غاضــب‪ ،‬ثــم عــدت هــذا العــام ألرى هــذا‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫غيــر الالئــق لمشــكلة الهجــرة يكتســب زخمــ ًا جديــدًا مــن قَب ِ‬ ‫ــل‬ ‫نــواب آخريــن‪ ،‬بــدأوا مـّـرة أخــرى الحديــث عــن إنشــاء «منصــة‬ ‫هويــة‬ ‫أوروبيــة» فــي عــرض البحــر‪ ،‬ولكــن فقــط لتحديــد ّ‬ ‫ـق فــي تقديــم طلــب للجــوء‬ ‫المهاجريــن‪ .‬أولئــك الذيــن لديهــم الحـ ّ‬ ‫ســيتم إنزالهــم وتوزيعهــم علــى المــدن اإليطاليــة واألوروبيــة‬ ‫األخــرى‪ ،‬فيما سـُـيعاد اآلخــرون إلــى بلدانهــم األصليــة‪ ،‬دون أن‬ ‫يلمســوا األرض اإليطاليــة‪ .‬ولكــن فــي أي عالم نعيــش؟ غني عن‬ ‫القــول إن هــذا المقتــرح‪ ،‬الــذي لــم يقبــل بعــد‪ ،‬أذهلنــا وأخرســنا‬ ‫جميعــاً‪ .‬بهــذي الطريقــة نبــدأ فــي تمييــز واضطهــاد بشــر لــم‬ ‫يرتكبــوا خطــ ًأ‪ ،‬ســوى أنهــم رغبــوا فــي الهــروب مــن الحــرب‬ ‫نرحــب بهــم نغلــق‬ ‫والقمــع ومــا إلــى ذلــك‪ .‬ونحــن بــد ًال مــن أن ّ‬ ‫فــي وجوههــم البحــر دون أن نســمح لهــم بــأن تمــس أقدامهــم‬ ‫األرض! أمــر محــزن حقــاً‪ ،‬يأمــل الكثيــر منــا ّأل يتحقّــق أبــداً‪.‬‬ ‫فكرت مـّـرة أخــرى في جزيــرة «نيفرالنــد» الشــهيرة‪ ،‬وأنهــا كانت‬ ‫بمثابــة الخيــال المجــازي لوصــف بلــد رائــع يقــع بيــن الحلــم‬ ‫كل شــيء فيــه بشــكل طيــب دائمــاً‪ ،‬المدينــة‬ ‫والواقــع‪ ،‬ينتهــى ّ‬ ‫الفاضلة التــي ال يريــد أي منــا أن يحــرم منهــا‪ .‬إننا نريــد الحفاظ‬ ‫علــى الحلــم‪ ،‬مثــل بيتــر بــان‪ ،‬بــأن يصبــح العالــم الــذي تمثلــه‬ ‫هــذه الجزيــرة حقيقي ـاً‪ .‬عالــم ودود ومضيــاف‪ ،‬حتــى ولــو كان‬ ‫عاصف ـ ًا فــي بعــض األحيــان‪.‬‬


‫قضية‬

‫موسم تسريب‬ ‫االمتحانات‬

‫غرد أحدهم‪ :‬أســـوأ‬ ‫تحت هاشـــتاغ (فضايـــح بكالوريـــا ‪َّ )2016 -‬‬ ‫مـــرت في التاريـــخ‪ ،‬صار ِ‬ ‫ـــش مثل صبـــاح الخير‪.‬‬ ‫الغ ّ‬ ‫باكالوريـــا ّ‬ ‫كل نهاية موســـم دراســـي‪ ،‬حيث‬ ‫فـــي الســـنوات األخيرة‪ ،‬ومـــع ّ‬ ‫يمتحـــن طـــاب األقســـام الثانويـــة‪ ،‬تطفو على الســـطح ظاهرة تســـريب‬ ‫االمتحانـــات عبر مواقـــع التواصـــل االجتماعي‪ ،‬لتصير الشـــغل الشـــاغل‬ ‫للطلبـــة وأوليـــاء أمورهـــم وصـــو ًال إلـــى وزارات التعليـــم إلـــى أن تصل‬ ‫القضيـــة إلـــى البرلمانـــات‪َ ،‬علَّها تجد تشـــريعات وحلـــو ًال جذرية‪.‬‬ ‫فبعـــد تســـريب االمتحانـــات بداية يونيو‪/‬حزيـــران الماضـــي‪ُ ،‬أجبر نصف‬ ‫عـــدد الطالب في الجزائر علـــى إعادة امتحان الثانوية‪ ،‬مع حجب وســـائل‬ ‫التواصـــل االجتماعي خالل االمتحـــان‪ ،‬واعتقال مســـؤولين بعد تحقيقات‬ ‫ُأجريـــت حول التســـريب‪ .‬وفي مصـــر كانت عناويـــن الصحف أكثـــر إثارة‬ ‫مـــن قبيـــل‪« :‬ضربة أمنيـــة ناجحـــة لضبـــط المتورطين وكشـــف الحقائق‬ ‫فـــي واقعة تســـريب امتحانـــات الثانوية العامـــة»‪ .‬أما في المغـــرب فقد َتّم‬ ‫تخصيـــص مصلحة تابعـــة لألمن الوطنـــي مهمتها مكافحـــة وزجر عمليات‬ ‫تســـريب امتحانات البكالوريا‪.‬‬ ‫المؤسســـات التعليمية‪ ،‬أو أصحاب مطابع‪.‬‬ ‫المسربون إما مســـؤولون في‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫تلبس بجريمة كاملة األركان على ما‬ ‫وبالنســـبة ّ‬ ‫للغشـــاش المتصل!‪ ،‬فهو ُم ِّ‬ ‫يبدو‪ ،‬أدواتـــه معدات معلوماتية متصلة بشـــبكة اإلنترنـــت‪ ،‬هواتف نقّالة‬ ‫وســـماعات الصقـــة‪ ...‬فهل بمجـــرد إجـــراءات زجرية يمكـــن القضاء على‬ ‫هـــذه الظاهرة الموســـمية؟ أم أن منظومة االمتحانـــات والمناهج التعليمية‬ ‫عاجـــزة عن مواكبـــة الجيل المتصل؟‬ ‫باتت‬ ‫ً‬

‫‪29‬‬


‫تسريب‬ ‫ممنهج وعنيد‬ ‫د‪ .‬كامل مغيث (القاهرة)‬

‫المركز القومي للبحوث التربوية‬

‫ّ‬ ‫تسـرب امتحانـات‬ ‫الشـك أن لظاهـرة‬ ‫ُّ‬ ‫الثانويـة العامـة في مصر‪ ،‬دالالت علمية‬ ‫وفنّيـة ‪ -‬سـنتناولها فيما بعد ‪-‬‬ ‫وتربويـة َ‬ ‫ولكـن مـن المهـم أن نشـير هنـا إلـى ثالث‬ ‫دالالت اجتماعيـة وثقافيـة‪ :‬أوالهـا‪ :‬أنـه‬ ‫غبـة‬ ‫قـد آن اآلوان لكـي‬ ‫تتحمـل الدولـة َم ّ‬ ‫ّ‬ ‫إهمالهـا لتطويـر مرفـق التعليم منذ عقود‬ ‫طويلـة‪ ،‬علـى الرغـم ممـا يعتمـل فـي‬ ‫واقـع المعلوماتيـة واإلنترنـت واألوعيـة‬ ‫المعرفية المختلفة والمتعّددة من تحديث‬ ‫وتطـور ألقـى بظالله علـى مختلف أوجه‬ ‫ُّ‬ ‫وظـل‬ ‫الحيـاة االقتصاديـة واالجتماعيـة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫التطـورات علـى‬ ‫التعليـم بعيـدًا عـن تلـك‬ ‫ّ‬ ‫الرغم مما كان يمكن أن تتيحه من إمكانية‬ ‫توفير الوقت والجهد والنفقات والتجارب‬ ‫ظل تعليمنـا المصري كما‬ ‫الناجحـة؛ وقـد ّ‬ ‫كان منـذ عقـود بنفـس الطـرق واآلليـات‬ ‫والنسـق والمناهـج ونظـم االمتحانـات‬ ‫‪30‬‬

‫والتقويم واإلدارة‪ ،‬ولم تعد تلك اآلليات‬ ‫العتيقة تستطيع أن تصمد في وجه تلك‬ ‫المتغيـرات اإللكترونيـة والمعلوماتيـة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وهكـذا أصبحـت الدولـة أمام مسـؤوليتها‬ ‫الحتميـة فـي تطويـر نظـام التعليـم الـذي‬ ‫عفَّـى عليـه الزمن‪.‬‬ ‫وثانيتهـا‪ :‬إن مـا يحـدث مـن تسـريب‬ ‫المنظم والممنهج‬ ‫لالمتحانات‪ ،‬بهذا الشكل ّ‬ ‫يعبـر فـي‬ ‫والـدؤوب والعنيـد والمتحـدي ّ‬ ‫جانـب منـه عـن حركـة احتجـاج واسـعة‬ ‫تجتـاح المعلمين والطلاب وغيرهم ممن‬ ‫يحتجـون علـى نظـام تعليمـي عبثـي ال‬ ‫يعلـم شـيئ ًا حقيقيـاً‪ ،‬وفـي مـدارس بلا‬ ‫طالب وبال معلمين‪ ،‬ومع هذا فإنه يرهق‬ ‫الطالب واألسـر اجتماعي ًا ونفسي ًا ومالي ًا‬ ‫لسـنوات طويلة‪.‬‬ ‫المنظـم‬ ‫وثالثتهـا‪ :‬هـذا التسـريب‬ ‫ّ‬ ‫مؤسسـة‬ ‫لالمتحـان ّ‬ ‫يعبـر عـن صـراع في ّ‬ ‫التعليـم المصرية بيـن عقليتين‪ ،‬العقلية‬ ‫المؤسسـة‬ ‫األولـى للقائميـن علـى إدارة‬ ‫ّ‬ ‫واالمتحانـات ومـا يصحبهـا مـن تنظيـم‪،‬‬ ‫وهي عقلية تنتمي إلى عهد الخمسينيات‬ ‫والسـتينيات مـن القـرن السـابق‪ ،‬وهـي‬

‫التحكـم‬ ‫عقليـة ال تعـرف سـوى طـرق‬ ‫ّ‬ ‫الورقيـة البيروقراطيـة‪ ،‬من أرقام سـرية‬ ‫وأختـام وشـمع أحمـر ومطبعـة وغرفـة‬ ‫سـرية‪ ،‬وبعـض التهديـد بالغرامـة‬ ‫والسـجن لمـن يخـرج عـن هـذا النظـام‪،‬‬ ‫تخـص شـبابنا ممـن‬ ‫والعقليـة الثانيـة‬ ‫ّ‬ ‫هـم دون العشـرين‪ ،‬والذيـن يسـتطيعون‬ ‫أن يتعاملـوا بسـهولة وبسـاطة مـع‬ ‫التكنولوجيـا وأدواتهـا فيسـتطيعون‬ ‫اختـراق الحواجـز واقتنـاص المعلومـات‬ ‫ونقلهـا فـي لمـح البصـر مـن مـكان آلخر‪.‬‬ ‫هذه هي األبعاد الثّقافية واالجتماعية‬ ‫تسرب االمتحانات‪ ،‬ولكنها تزداد‬ ‫لظاهرة ُّ‬ ‫تسـرب‬ ‫تفاقمـ ًا عامـ ًا بعـد عـام‪ ،‬فظاهـرة‬ ‫ُّ‬ ‫االمتحانـات تعـود لعقود سـبقت‪ ،‬فهناك‬ ‫للتسـرب واحدة سنة‬ ‫حادثتان شـهيرتان‬ ‫ُّ‬ ‫‪ ،1960‬والثانيـة سـنة ‪ ،1967‬حيـث‬ ‫تسـربت بعـض أوراق األسـئلة ووصلـت‬ ‫َّ‬ ‫بوسـيلة أو بأخـرى إلـى إسـرائيل التـي‬ ‫أذاعتهـا عبـر إذاعتهـا الناطقـة بالعربيـة‬ ‫فـي محاولـة منهـا للكيـد وإربـاك النظـام‬ ‫الناصـري‪ ،‬ولكـن وألن االمتحانـات كلها‬ ‫كانت تعتمد على الوسـائل البيروقراطية‬


‫التقليديـة فقـد أمكن معرفة المسـؤول عن‬ ‫تسـريب االمتحـان وتقديمـه للمحاكمـة‪،‬‬ ‫وكان مـن السـهل أن تقـوم الدولـة بعـدم‬ ‫تسـربت‬ ‫عقـد االمتحـان فـي المـواد التـي‬ ‫َّ‬ ‫أسـئلتها‪ ،‬أو إعـادة االمتحـان إذا كانـت‬ ‫الواقعـة لـم تكتشـف ّإل بعـد أداء الطلاب‬ ‫لالمتحـان‪ ،‬وظلّـت عمليات التسـريب تتم‬ ‫التحكـم فيـه‬ ‫بشـكل بيروقراطـي يمكـن‬ ‫ّ‬ ‫وتحديد مصدره ونطاقه‪ ،‬ومن َثّم يسـهل‬ ‫التعامـل معـه وتالفـي آثـاره‪.‬‬ ‫أما التسريب الذي يتم اليوم بالوسائل‬ ‫الغش الذي‬ ‫اإللكترونية فهو أخطر ظواهر ّ‬ ‫عرفـه نظـام التعليـم المصـري الحديـث‬ ‫منـذ تأسيسـه علـى يد محمـد علي (‪1805‬‬ ‫ ‪)1848‬؛ وتعـود خطورتـه ألسـباب‬‫متعـّددة منهـا‪ :‬أنـه يتـم عبـر وسـائل‬ ‫وأدوات التواصـل االجتماعـي الحديثـة‬ ‫واألدوات اإللكترونيـة التـي أصبحـت‬ ‫بيـن يـدي الطلاب والمعلميـن‪ ،‬ومـن َث ّـم‬ ‫التحكـم فيـه أو معرفـة‬ ‫ال يسـتطيع أحـد‬ ‫ّ‬ ‫نطاقـه أو عـدد الطلاب الذيـن اسـتفادوا‬ ‫منـه أو مـكان لجانهـم‪ ،‬ومـن َث ّـم التعامـل‬ ‫مـع آثـاره السـلبية‪.‬‬

‫ومـن تلـك األسـباب أيضـاً‪ :‬أنـه مـن‬ ‫الواضـح أن محـاوالت الحكومـة مواجهة‬ ‫ظاهـرة التسـريب اإللكترونـي قـد بـاءت‬ ‫بالفشل‪ ،‬فلقد مأل وزير التربية والتعليم‬ ‫تؤكد أن التعليم‬ ‫الدنيا بالتصريحات التي ّ‬ ‫المصـري لـن يشـهد هـذا العـام‪ -‬مطلقـاً‪-‬‬ ‫ظاهرة التسريب اإللكتروني لالمتحانات‪،‬‬ ‫ومـع هـذا فقبـل بداية امتحـان أول مادة‪،‬‬ ‫وهـي مـادة التربيـة الدينيـة‪ ،‬كانـت قـد‬ ‫تسـربت قبـل بدايـة وقـت االمتحـان ممـا‬ ‫َّ‬ ‫اضطـر الـوزارة إلـى تأجيـل امتحـان‬ ‫تسـرب‬ ‫المادة إلى موعد آخر‪ ،‬ومع ذلك‬ ‫َّ‬ ‫مرة ثانية‪ ،‬ولليوم لم تسـتطع‬ ‫االمتحان ّ‬ ‫الـوزارة وال أجهـزة الدولـة تقديم تفسـير‬ ‫التسـرب وكيـف يحـدث‬ ‫حقيقـي لذلـك‬ ‫ُّ‬ ‫ومـن المسـؤول عنـه؟! ولقـد أصبحـت‬ ‫تسـمى «شـاومينج» علـى‬ ‫الصفحـة التـي ّ‬ ‫مواقـع التواصـل االجتماعي أشـهر وأهم‬ ‫الصفحات لدى جميع الطالب والمتابعين‪.‬‬ ‫وأخيـرًا فـإن هذا التسـريب لالمتحانات ال‬ ‫ـن المسـؤول عنه‪.‬‬ ‫عـرف كيـف يتـم وال َم ْ‬ ‫ُي َ‬ ‫إن االمتحـان‪ ،‬لكـي يسـتحق هـذا‬ ‫معبرًا عن مستوى‬ ‫الوصف‪ ،‬ولكي يكون ّ‬

‫الطالب‪ ،‬ولكي نثق بدرجات الطالب التي‬ ‫تسفر عنها االمتحانات البد أن يتوافر فيه‬ ‫شـرطان‪ :‬األول هـو العدالـة والثانـي هـو‬ ‫تكافـؤ الفـرص بيـن جميـع الطلاب‪ ،‬أمـا‬ ‫إذا كنا ال نستطيع توفير هذين الشرطين‬ ‫فيصبـح االمتحـان فاقـدًا لقيمته ومعناه‪،‬‬ ‫وال ّ‬ ‫شك أن هذا كله سيلقي بظالل قاتمة‬ ‫على النظام التعليمي كلّه وعلى مصداقية‬ ‫الدولـة فـي حمايـة المعاييـر التـي تحكـم‬ ‫التعليـم قبل الجامعي والتعليم الجامعي‬ ‫بالضرورة‪.‬‬ ‫باإلضافـة إلـى مـا سـبق ذكـره‪ ،‬يمكن‬ ‫تسـرب االمتحانـات فـي‬ ‫إجمـال أسـباب‬ ‫ُّ‬ ‫عدم قدرة الجامعة على اسـتيعاب جميع‬ ‫الناجحيـن فـي الثانويـة العامـة‪ ،‬وقـد‬ ‫وصـل عـدد طلاب الثانويـة العامـة هـذا‬ ‫العـام ‪ 2016/2015‬إلـى ‪ 498‬ألفـ ًا مـن‬ ‫الطلاب‪ ،‬وقـد أدى هـذا التنافـس الشـديد‬ ‫مـن الطلاب علـى األماكـن المحـدودة فـي‬ ‫الجامعات إلى ارتفاع درجات قبولهم في‬ ‫الكليـات المختلفـة إلـى الحـّد الـذي جعـل‬ ‫الطالـب الحاصـل على مجموع ‪ % 98‬من‬ ‫الدرجـات ال يسـتطيع دخـول كليـة الطـب‬ ‫‪31‬‬


‫مثلا وهـو األمـر الذي جعل مـن الحصول‬ ‫ً‬ ‫علـى الدرجـات هدفـ ًا غاليـ ًا وإن كانـت‬ ‫بوسـائل مشـينة وغيـر مشـروعة‪.‬‬ ‫تسرب االمتحانات أيض ًا‬ ‫ومن أسـباب ُّ‬ ‫أن امتحاناتنـا ال تقيـس وال تختبـر ّإل‬ ‫المستويات الدنيا من القدرات العقلية‪ ،‬أي‬ ‫التذكـر والحفظ للمعلومات‪،‬‬ ‫القـدرة على ُّ‬ ‫أمـا القـدرات العقليـة العليـا‪ ،‬كاإلدراك‬ ‫والنقـد والتحليـل واإلبـداع‪ ،‬فاالمتحانات‬ ‫ال تهتـم بهـا مـن األسـاس‪ ،‬ومـن هنـا‬ ‫أصبحت المعلومات التي تتطلبها اإلجابة‬ ‫عـن االمتحـان ذات قيمـة عظيمـة لمـن‬ ‫يسـتطيع سـرقتها وإرسـالها إلى الطالب‬ ‫تسـرب‬ ‫الممتحنين‪ .‬ويضاف إلى أسـباب‬ ‫ُّ‬ ‫االمتحانات وجود بعض الفاسدين الذين‬ ‫يمكنهم الحصول على مبالغ مالية كبيرة‬ ‫تمكنـوا مـن تسـريب أسـئلة مـادة مـن‬ ‫لـو ّ‬ ‫مـواد االمتحان‪.‬‬ ‫شكل التسريب اإللكتروني لالمتحانات‬ ‫َّ‬ ‫هائلا أمـام الدولة المصرية‪ ،‬التي‬ ‫تحّديـ ًا‬ ‫ً‬ ‫ال تعـرف حتـى اآلن كيـف يمكنهـا تجـاوز‬ ‫‪32‬‬

‫أهـم مفصـل مـن‬ ‫هـذه األزمـة الكبيـرة فـي ّ‬ ‫مفاصـل التعليـم‪ ،‬فـي حيـن أعلـن بعض‬ ‫المسـؤولين‪ ،‬عـن اسـتبدال اختبـارات‬ ‫القبـول للجامعـات بمجمـوع الدرجـات‬ ‫للطلاب عنـد الدخـول للجامعـة‪ ،‬ويبقـى‬ ‫السـؤال‪ :‬هـل هنـاك جامعات تهمـل تمام ًا‬ ‫مجمـوع وتاريـخ الطالـب العلمـي قبـل‬ ‫االلتحاق بها؟ وهل اعتادت جامعاتنا على‬ ‫تتميز بالمصداقية‬ ‫إجـراء اختبارات قبول ّ‬ ‫والشـفافية والبعـد عـن مظاهـر الفسـاد؟‬ ‫تسـريب االمتحـان هـو التحـّدي األكبـر‬ ‫الـذي يواجهـه نظـام التعليـم المصـري‪،‬‬ ‫وقـد آن للدولـة أن تدفـع ثمـن إهمالهـا‬ ‫لتطويـر التعليـم‪ ،‬وهـو ما يعنـي‪ :‬زيادة‬ ‫مرتبـات المعلميـن ليكونـوا معلميـن‬ ‫مهنييـن متفرغيـن لعملهـم‪ ،‬قادريـن على‬ ‫إدارة عمليـة تعليميـة تتسـم بالكفـاءة‬ ‫بمـا فـي ذلـك تقييـم الطلاب‪ ،‬كمـا البـد‬ ‫مـن تقزيـم دور الكتـاب المقـرر وجعـل‬ ‫العلـم ‪ -‬المطلـوب دراسـته ‪ -‬هـو محـور‬ ‫العمليـة التعليميـة‪ ،‬كما البد من أن تكون‬

‫القدرات العقلية العليا‪ ،‬كالفهم والمقارنة‬ ‫والتحليـل واإلبـداع‪ ،‬هـي محـور اهتمـام‬ ‫طـرق التدريـس واالمتحان وليس الحفظ‬ ‫والتذكـر‪ ،‬وأخيـرًا العمـل علـى التقويـم‬ ‫ُّ‬ ‫المسـتمر داخـل قاعـات الـدرس وعلـى‬ ‫مـدار العـام الدراسـي‪ ،‬بحيـث يحظـى‬ ‫امتحان نهاية العام بجزء محدود جدًا من‬ ‫المجمـوع الكلـي لدرجات الطالب‪ ،‬ويمكن‬ ‫فـي هـذه الحالـة تطويـر نظـام القبـول‬ ‫فـي الجامعـات‪ ،‬بحيـث تتـم المفاضلـة‬ ‫بيـن الطلاب علـى أسـاس المجمـوع‬ ‫الكلـي للدرجـات فـي الثانويـة العامـة‪،‬‬ ‫باإلضافـة إلـى مـادة مـن مـواد المسـتوى‬ ‫الرفيـع‪ ،‬ثـم اختبـار قبـول تعـّده الكليـة‬ ‫التـي يرغـب الطالـب فـي دخولهـا‪ ،‬بحيث‬ ‫والتأكد من‬ ‫تكـون اختبـارات َتّم تجريبهـا‬ ‫ُّ‬ ‫مصداقيتهـا وثباتهـا واسـتعصائها علـى‬ ‫والتدخـل الشـخصي‪.‬‬ ‫الفسـاد‬ ‫ُّ‬ ‫هـذه هـي خبرة النظـم التعليمية التي‬ ‫أخذت بيد شـعوبها إلى المسـتقبل‪.‬‬


‫االمتحانات في الجزائر‬ ‫ّ‬ ‫الغش‬ ‫ما وراء‬ ‫والتسريبات‬

‫د‪ .‬آمنة بلعىل (الجزائر)‬ ‫تعاني المنظومة التربوية في الجزائر‬ ‫منذ االستقالل حالة من اإلرهاق المستمر‪،‬‬ ‫من الصعب التنبؤ بإمكانية الخروج منها‪.‬‬ ‫فقـد تجـذّرت هـذه الحالـة من خلال حركة‬ ‫التعريـب التـي َتّم اعتمادها‪ ،‬وسـرعان ما‬ ‫بدأ التراجع عنها لعطب كان ينخر فيها من‬ ‫الداخـل‪ ،‬وفـي مرحلـة الحقة‪َ ،‬ت ّـم تجريب‬ ‫المدرسة األساسية‪ ،‬لتكون رافدًا لتوترات‬ ‫عميقـة‪ ،‬اسـتدعت إصالحـات عميقـة‪،‬‬ ‫ارتبطـت بدورهـا بتوتـرات سياسـية‪،‬‬ ‫الهوّيـة‪،‬‬ ‫وبموقـع قوتيـن تصارعتـا علـى ّ‬ ‫وعلى لغة التعليم وعلى طبيعة البرامج‬ ‫وأهـداف التعليـم‪ ،‬وتوجهـات المؤطريـن‬ ‫ومسـتوياتهم‪ ،‬األمـر الذي كانت له نتائج‬ ‫الغش‬ ‫وخيمة على مستوى التعليم‪ ،‬وكاد ّ‬ ‫يصبح خيارًا اسـتراتيجي ًا لكال الطرفين‪،‬‬ ‫حيـث اسـتطاع القائمـون علـى السياسـة‬ ‫التربويـة‪ ،‬واسـتنادًا إلـى تسـويغات‬

‫يحولـوا‬ ‫سياسـية أيديولوجيـة‪ ،‬أن‬ ‫ّ‬ ‫الغش‬ ‫التلميـذ إلـى رهينـة يسـوق رهانهـا ّ‬ ‫فـي توظيـف المعلّمين‪ ،‬وسـوء التوجيه‪،‬‬ ‫علـى الرغـم مـن سياسـة مجانيـة التعليم‬ ‫وفرضه على الجميع‪ ،‬التي لم تصمد أمام‬ ‫فتحولـت التربية‬ ‫حـاالت الفسـاد القيمـي‪ّ ،‬‬ ‫والتعليم إلى نكوصية فرضت على الكثير‬ ‫نبذ التعليم‪ ،‬وتجريب خيارات أخرى كان‬ ‫أقصاهـا اإلرهـاب‪ ،‬ولم تتفطن الدولة إلى‬ ‫هذا األمر ّإل بعد العشرية الدموية التي كان‬ ‫ووجهه‬ ‫وقودها شباب لم يحالفهم ّ‬ ‫الغش ّ‬ ‫التسـرب المدرسـي إلـى فتـاوى تبنـوا من‬ ‫خاللهـا إزهـاق أرواح الجزائريين‪.‬‬ ‫عاملا‬ ‫بالغـش‪ ،‬إذن‪،‬‬ ‫كانـت المتاجـرة‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫أسهم في استقطاب جيل مشمو ًال ظاهري ًا‬ ‫بمقاومـة ثقافيـة‪ ،‬وباطنيـ ًا بانتصـار إلى‬ ‫إحـدى اللّغتيـن (العربيـة أو الفرنسـية)‬ ‫ضارعتهـا جهـود إصالحيـة لـم تسـتطع‬ ‫مـرة الصمـود أمـام صـراع داخلي‬ ‫فـي ّ‬ ‫كل ّ‬ ‫الغـش‬ ‫الهوّيـة‪ ،‬وأصبـح‬ ‫علـى‬ ‫عميـق‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫معـو ًال لتثبيـت االنحيـاز‪ ،‬وكانـت نتائجه‬ ‫تسـريبات امتحـان بكالوريـا ‪ ،1992‬التي‬ ‫دفعـت بالوزير المحسـوب على المعربين‬ ‫إلى االستقالة‪ ،‬وتوجه أصابع االتهام إلى‬ ‫التيـار الفرانكوفونـي المحيـط به‪.‬‬ ‫الغش‬ ‫يصبح‬ ‫ومن هنا ال نستغرب أن‬ ‫ّ‬ ‫فـي الجزائـر‪ ،‬ظاهـرة مصاحبـة لعمليـة‬ ‫التعليـم والثّقافـة ومـن َث ّـم‪ ،‬فهـو ال يعني‬ ‫ظهـور ظاهـرة بقـدر مـا يعنـي سـقوط‬ ‫ظواهـر أخـرى‪ ،‬ولـوال سـقوطها لمـا كان‬ ‫له أن يظهر‪ ،‬إن سقوط قيم مثل اإلخالص‬ ‫للوطـن والوفـاء والصـدق والمـروءة‬ ‫واالجتهـاد وحـب المعرفـة واألمانـة‪،‬‬ ‫والسياسـة الرشـيدة‪ ،‬فتـح البـاب أمـام‬ ‫فالغـش ليـس‬ ‫أضدادهـا لتشـغل المـكان‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مجـرد سـلوكيات تقنيـة تتـم فـي سـرية‬ ‫وخجـل يمكـن تفسـيرها بسـوء اإلدارة‬ ‫والتسـيير واإلهمـال ونقـص الصرامـة‪،‬‬ ‫لكنه حالة أخالقية تتم في علن وبتفاخر‬ ‫ويتـم التحريـض عليهـا حتى مـن األولياء‬ ‫‪33‬‬


‫إجراءات‬

‫حول سـبل معالجة الظاهرة‪ ،‬سـألنا د‪ .‬موالي المصطفى البرجاوي وهو باحث في تحليل وتقييم نظم التربية والتكوين‪ -‬كلية‬ ‫علـوم التربيـة‪ -‬الرباط‪ ،‬فاقترح ما يلي‪:‬‬ ‫أوالً‪ :‬اتخـاذ إجـراءات تربويـة تنظيميـة؛ تتمثـل فـي تنظيـم حملات التحسـيس والتوعيـة بالـدور المهـم لالمتحانـات فـي تحديـد‬ ‫يبيـن‬ ‫مسـتوى المتعلّميـن والوقـوف علـى جوانـب الضعـف والقـوة فـي مسـارهم التعليمـي‪ ،‬وإظهـار كيـف أن‬ ‫ّ‬ ‫الغـش المدرسـي‪ ،‬ال ّ‬ ‫المسـتوى الحقيقـي للتلميـذ‪ ،‬بـل يؤثـر علـى مسـاره وقـد يوقفـه فـي محطة تعليميـة موالية‪ ،‬وذلك مـن خالل عرض بعـض التجارب‬ ‫الفاشـلة للطلبـة الذيـن لـم يسـتطيعوا مسـايرة أقرانهـم المجّدين‪.‬‬

‫ثانياً‪ :‬إعادة النظر في التقويم التربوي؛ إذ إن التركيز على االمتحانات اإلشـهادية األخيرة التي تحّدد نجاح أو رسـوب المتعلّم‬ ‫الغش‪ ،‬لهذا ينبغي‬ ‫مع التقليل من شـأن باقي األنشـطة التربوية التقويمية األخرى مثل المراقبة التربوية الرسـمية‪ ...‬يشـجع على ّ‬ ‫متسـاو بين التقويم اليومي والتقويم اإلشـهادي‪.‬‬ ‫تنويع التقويم وتوزيع‬ ‫ٍ‬ ‫ثالثـاً‪ :‬تركيـز النظـام التربـوي علـى التعليـم والتكويـن والتأهيـل بـدل التركيـز فقـط علـى التقويـم؛ إذ إن أغلـب النظـم التربويـة‬ ‫العربيـة تجعـل الهاجـس األكبـر للمتعلّميـن هـو النجاح في االمتحـان بدل التكوين والتعليم‪ ،‬مما يجعلهم فـي حالة توتر واضطراب‪،‬‬

‫والمربيـن‪ ،‬األمر الذي يؤشـر إلى سـقوط‬ ‫مدمـر‪ ،‬وينتقـل من كونـه ظاهرة‬ ‫أخالقـي ّ‬ ‫فردية محدودة وذات أهداف بسـيطة إلى‬ ‫مؤسسـاتية مركبـة ولهـا أهـداف‬ ‫عمليـة ّ‬ ‫المؤسسـة التعليميـة تطـال جهات‬ ‫خـارج‬ ‫ّ‬ ‫أخـرى‪.‬‬ ‫إن المجتمعـات العربيـة‪ ،‬وعلى الرغم‬ ‫مـن سـجالتها مـن القيـم الثاويـة فـي‬ ‫النصـوص الدينيـة والنصـوص األدبيـة‬ ‫واألخالقيـة‪ ،‬نراهـا‪ ،‬تشـهد بشـكل أبـرز‬ ‫الغـش والتسـريب والتحايـل‬ ‫ظواهـر‬ ‫ّ‬ ‫والتقويـم االعتباطـي للجهـود واالنحيـاز‬ ‫نحـو الـرداءة ومنتوجاتهـا‪ .‬إنـه الفسـاد‬ ‫الموجهـة‬ ‫الـذي يعنـي تحويـل اآلليـات‬ ‫ّ‬ ‫ومؤسسـاته إلى آليات لتحقيق‬ ‫للمجتمع‬ ‫ّ‬ ‫والجهوية‪،‬‬ ‫والعائليـة‬ ‫الفرديـة‬ ‫المصالـح‬ ‫ّ‬ ‫الغـش المقنّـن الـذي‬ ‫وبآليـات أخـرى مـن‬ ‫ّ‬ ‫المؤسسـات‪ ،‬مثـل فتـح التعليـم‬ ‫تمارسـه‬ ‫ّ‬ ‫المـوازي لمـن فشـل فـي مسـاره التعليمي‬ ‫ومنحـه شـهادة تعـادل الشـهادة التـي‬ ‫المؤسسـات األخـرى‪.‬‬ ‫تمنحهـا‬ ‫ّ‬ ‫تفسـره‬ ‫إن انتشـار‬ ‫ّ‬ ‫الغـش يمكـن أن ّ‬ ‫أيضاً‪ ،‬بسقوط قيمة المعرفة والعلم‪ ،‬فلم‬ ‫يعد للمعرفة تلك الفضيلة التقديسية‪ ،‬بل‬ ‫صـارت قيمـة ممتهنة إلى َح ٍّد كبير‪ ،‬بفعل‬ ‫ممارسـات سياسـية جعلـت المعرفـة فـي‬ ‫األماكن الخلفية‪ ،‬وقّدمت عليها قيم ًا أخرى‬ ‫كالجاه والمال والسلطة والقوة‪ ،‬وفي ِظّل‬ ‫يعشـش‬ ‫هـذا الصـراع المضمر‪ ،‬كان ّ‬ ‫الغش ّ‬ ‫في دواليب السلطة‪ ،‬ليصبح ثقافة دفعت‬ ‫‪34‬‬

‫المجتمع الجزائري إلى اإلسهام فيه‪ ،‬وبات‬ ‫الغـش فـي االمتحانـات‪،‬‬ ‫التحريـض علـى‬ ‫ّ‬ ‫ال لكثير‬ ‫كل المستويات وتسويغه‪ ،‬ح ً‬ ‫وفي ّ‬ ‫مـن األوليـاء والمعلّميـن الذيـن سـاهمت‬ ‫ظروفهـم االجتماعيـة‪ ،‬فـي دفـع التالميـذ‬ ‫إليـه طمعـ ًا فـي مكافـأة بنسـبة نجـاح‬ ‫عالية‪ ،‬أو دفع ًا لضرر يكون مستواه سبب ًا‬ ‫ـل غيـاب قوانين‬ ‫فيـه‪ ،‬وحصـل هـذا فـي ِظ ّ‬ ‫الغش مع آفات‬ ‫حـول ّ‬ ‫ردعيـة‪ ،‬األمـر الذي ّ‬ ‫اجتماعيـة أخـرى كالقرابـة والمحسـوبية‬ ‫والرشـوة إلـى ثقافـة يتغـذى منهـا الغنـي‬ ‫قبـل الفقيـر‪ ،‬وتقضـى بهـا مصالـح ذوي‬ ‫بالغش‬ ‫النفوذ‪ ،‬فشهدنا معلّمين يوظفون‬ ‫ّ‬ ‫وتالميـذ يحـوزون النتائـج الممتـازة‬ ‫بالغـش‪ ،‬وأصبحـت المنظومـة التربويـة‬ ‫ّ‬ ‫والتعليميـة فـي الجزائـر تعيـش لحظـة‬ ‫الوعـي المرتـد على نفسـه‪.‬‬ ‫ومـع ثـورة التكنولوجيـات الجديـدة‪،‬‬ ‫الغـش وآلياتـه تتضاعـف‬ ‫بـدأت وسـائط‬ ‫ّ‬ ‫وتتنوع وتتسع إلى الجامعة‪ ،‬وتقاوم ما‬ ‫ّ‬ ‫اعتقـد أنهـا إصالحات تعلـن عنها الوزارة‬ ‫مرة‪ ،‬غير أن هذه اإلصالحات َظّل‬ ‫في ّ‬ ‫كل ّ‬ ‫يتحكم فيها إرث من الوشائج مازال يشّد‬ ‫ّ‬ ‫الهوّية‬ ‫الجزائر إلى فرنسـا(‪ )1‬ونزوع إلى ّ‬ ‫الناجزة المستوردة من المشرق‪ .‬وفي ِظّل‬ ‫الغـش‪ ،‬فـي‬ ‫هـذا الصـراع‪ ،‬توالـت حـاالت‬ ‫ّ‬ ‫االمتحانات‪ ،‬وأصبحت جزءًا من المنظومة‬ ‫الفكريـة لكثيـر مـن الجزائرييـن‪ ،‬وبـات‬ ‫الغـش فـي االمتحـان مـن أجـل النجـاح‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الغـش فـي‬ ‫أو الوظيفـة ال يختلـف عـن‬ ‫ّ‬

‫ويتحـول‬ ‫اإلدارة والتجـارة والسياسـة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تسـريب امتحانـات البكالوريـا فـي مايو‪/‬‬ ‫أيـار ‪ 2016‬إلـى فضيحـة‪ ،‬اعتقد أصحاب‬ ‫القـرار أنهـا تهديد لألمـن الوطني ووصمة‬ ‫عـار‪ ،‬وفسـرها البعـض على أنهـا مؤامرة‬ ‫خارجيـة‪ ،‬ولم تسـلم الوزيرة المحسـوبة‬ ‫على التيار الفرانكوفوني من االنتقادات‪،‬‬ ‫وتحميلها المسؤولية‪ ،‬نتيجة اإلصالحات‬ ‫الغش‬ ‫التـي باشـرتها‪ ،‬سـعي ًا إلـى إيقـاف ّ‬ ‫فـي التوظيـف‪ ،‬وفـي االمتحانـات‪،‬‬ ‫ووجهـت أصابـع االتهـام إلـى األصوليين‬ ‫والمعربيـن‪ ،‬ومـا يـدور خلفهـم من صراع‬ ‫علـى لغـة التعليـم وأولويـة لغـة أجنبيـة‬ ‫على لغة رسمية‪ ،‬وأخرى وطنية أصبحت‬ ‫رسـمية‪ ،‬وصـراع علـى النصـوص وعلى‬ ‫التأريـخ‪ ،‬والـذي لـم يكـن سـوى صـراع‬ ‫مصالـح قوى سياسـية‪.‬‬ ‫تسهم وسائل اإلعالم والتكنولوجيات‬ ‫الغش‬ ‫الجديـدة‪ ،‬اليـوم‪ ،‬ليـس فـي تمريـر ّ‬ ‫فحسـب‪ ،‬بـل فـي التعبيـر عـن الحالـة‬ ‫الراهنـة للتعليـم والثّقافـة فـي الجزائـر‪،‬‬ ‫للغـش وتمكيـن‬ ‫ال كثيـرة‬ ‫ّ‬ ‫يسـرت سـب ً‬ ‫فقـد ّ‬ ‫الطلبـة مـن تجـاوز الطـرق التقليديـة‬ ‫فـي التحايـل‪ ،‬للحصـول علـى النجـاج‪،‬‬ ‫ونقلتهـم مـن اعتمـاد وسـائل تقليديـة‬ ‫يصرفـون فيهـا جهـد التحضيـر‪ ،‬وجهـد‬ ‫اسـتعمالها أثنـاء االمتحـان‪ ،‬إلـى اعتمـاد‬ ‫وسـائل مبتكرة توفرها التقنية‪ ،‬وتسـّهل‬ ‫لهـم اإلجـراءات‪ ،‬وتخفّـف اآلثـار النفسـية‬ ‫الغـش‬ ‫المرتبطـة باسـتعمالها‪ .‬وإذا كان‬ ‫ّ‬


‫تبرر الوسـيلة»‪.‬‬ ‫وهنـا يضطـر المتعلّـم إلـى اسـتعمال مـا ُيسـمى بالعنـف الوسـيلي قصـد ّ‬ ‫الغش فـي االمتحان؛ امتثـا ًال للمبـدأ‪« :‬الغاية ّ‬

‫الحّد من الظاهرة؛ (المرئية والمسموعة والمكتوبة) في التحسيس والتحذير من مغبة استعمال‬ ‫رابعاً‪ :‬تسخير وسائل اإلعالم في َ‬ ‫الغش المدرسي‪.‬‬ ‫الوسائل التكنولوجية (األلواح الرقمية) السماعات والهواتف النقالة في ّ‬ ‫خامسـاً‪ :‬تفعيـل دور المرشـد التربـوي والنفسـي واالجتماعـي فـي إعـداد المتعلّميـن نفسـي ًا لالمتحانـات وعلـى أسـلوب التعامـل‬ ‫المخصـص لالختبـار دون ارتبـاك‪...‬‬ ‫الصحيـح وتنظيـم الوقـت‬ ‫ّ‬

‫كل أشـكال التالعب‬ ‫سادسـاً‪ :‬اإلجـراءات القانونيـة؛ كإصـدار نصـوص تشـريعية قانونيـة صارمـة مـع تفعيلها؛ وذلـك للقطع مع ّ‬ ‫يتعـرض للتهديـد والترهيـب مـن طـرف المتعلّم أو والـده أو أحد‬ ‫واالسـتهتار باالمتحـان‪ ،‬باإلضافـة إلـى حمايـة األسـتاذ المراقـب الـذي ّ‬ ‫تورط في تسريب االمتحانات قبل موعدها‪ ،‬للحفاظ على مبدأ تكافؤ الفرص‪ .‬وأيض ًا معاقبة المدرسين‬ ‫أفراد أسرته‪ .‬ومعاقبة ّ‬ ‫كل من َّ‬ ‫يزوده بطرائق ومنهجية‬ ‫يميزون بين صنفين من التالميـذ‪ :‬الصنف األول ّ‬ ‫الذيـن ال يتحلّـون بأخالقيـات مهنـة التدريـس؛ خاصـة الذين ّ‬ ‫كل هذه االمتيازات‬ ‫التعامل مع االمتحانات بحكم تلقيه للدروس الخصوصية بالمقابل المادي‪ .‬في حين أن الصنف الثاني محروم من ّ‬ ‫حتـى يجبرهـم على أخذ هذه الـدروس اإلضافية‪.‬‬

‫فـي االمتحانات‪ ،‬في الدول المتقّدمة‪ُ ،‬يعّد‬ ‫جنحة يعاقب عليها القانون بالسجن ودفع‬ ‫غرامـة ماليـة‪ ،‬مـع بطلان مـا يحتمـل مـن‬ ‫نجـاح فـي المبـاراة أو االمتحـان المرتكـب‬ ‫فيـه الخـداع(‪ )2‬فقد بـات الجزائري مقتنع ًا‬ ‫أنـه بوسـعه أن ينجـح أو يتقلّـد منصبـاً‪،‬‬ ‫بقليـل مـن الجهـد‪ ،‬وبكثيـر مـن احترافيـة‬ ‫الغش‪ ،‬وتمكن من اسـتعمال وسـائل‬ ‫فـي ّ‬ ‫التكنولوجيـات الجديـدة‪.‬‬ ‫وهـا نحـن أمام سـردية كبرى تشـتغل‬ ‫وتفـكك منظومـة القيـم‬ ‫كظاهـرة ثقافيـة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫اإليجابيـة‪ ،‬وتعلـن عـن اسـتحالة تحقّـق‬ ‫المفكـر مالك بن نبـي التي جعلها‬ ‫معادلـة‬ ‫ِّ‬ ‫شـروط ًا للنهضـة الثّقافيـة‪ ،‬وهـي ثالثيـة‬ ‫(اإلنسـان والوقت والتـراب)‪ ،‬والتي تدعو‬ ‫اإلنسـان إلـى إمكانيـة تحسـين عالقتـه‬ ‫بطاقاتـه الداخليـة‪ ،‬وأهمهـا العمـل‪،‬‬ ‫واستغالل عامل الوقت‪ ،‬واإليمان بالتراب‬ ‫الـذي ينتمـي إليـه‪.‬‬ ‫الغـش‬ ‫إن تحريـر التلميـذ مـن آفـة‬ ‫ّ‬ ‫فـي الوقـت الحالـي تشـوبه معوقـات‪ ،‬ال‬ ‫يمكـن أن تـزول ّإل بتضافـر ثالـوث العلـم‬ ‫والسياسة واألخالق‪ ،‬ولكي يتم ذلك ال بد‬ ‫مـن تجاوز الوطنية الملتبسـة‪ ،‬والقومية‬ ‫هوّيـة‬ ‫الملتبسـة‪ ،‬التـي ال تكتفـي بتأكيـد ّ‬ ‫كانـت ذات يوم غيـر مكتملة ومقموعة(‪)3‬‬ ‫ويجب ترميمها بواسطة منظومة التربية‬ ‫والتعليـم؛ ألن اصطفـاف القائميـن علـى‬ ‫هوّيـة مرممة‪ ،‬أي ًا كان‬ ‫هـذه المنظومـة مع ّ‬ ‫مصدرها ومسوغاتها‪ ،‬سيتغذى حتم ًا على‬

‫الغش‪ ،‬ويصبح آلية عنف وعنف مضاد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫من أجل تحقيق مقاصد نافعة بوسـيلة ال‬ ‫أخالقيـة تغتصـب فيهـا حقـوق اآلخرين‪،‬‬ ‫ويهـون علـى النـاس أمرها‪..‬‬ ‫الغـش فـي االمتحانـات مجـرد‬ ‫ليـس‬ ‫ّ‬ ‫تعرض لضغوطات‬ ‫طفل‬ ‫من‬ ‫بريء‬ ‫سلوك‬ ‫ّ‬ ‫مـن أسـرته‪ ،‬أو تحقيقـ ًا ألمنيـة أب فقيـر‬ ‫يريـد بأيـة وسـيلة أن يـرى ابنـه ذا مكانة‬ ‫فـي المجتمـع‪ ،‬إنـه آلية مقنعة مـن آليات‬ ‫المؤسسة السياسية‬ ‫الهيمنة التي تمارسها‬ ‫ّ‬ ‫ومراكـز النفـوذ‪ ،‬نتيجـة سـريان أنسـاق‬ ‫سـردية‪ ،‬تاريخية وسياسـية متضاربة‪،‬‬ ‫تجـر‬ ‫يهـدف الذيـن يتخـذون منـه ورقـة‪ّ ،‬‬ ‫الخالف‪ ،‬وتوظف المدرسـة والتلميذ‪ ،‬بل‬ ‫وتحولـه إلى شـيء أو‬ ‫المجتمـع بأسـره‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫سـلعة‪ ،‬تخفي صورة المجتمع المنسـجم‬ ‫اختفـاء كليـاّ‪ ،‬إنـه انفصـام للوعـي الذاتي‬ ‫عن عالم األشياء(‪ )4‬الذي تضمحل وراءه‬ ‫القيمـة الثّقافيـة للتربيـة والتعليـم‪ .‬وهي‬ ‫قيمـة مرتبطـة ارتباطـ ًا وثيقـ ًا بالعالقـة‬ ‫المتبادلـة بيـن سـلوك الفـرد وأسـلوب‬ ‫الحيـاة فـي المجتمع‪ ،‬وبما أن الثّقافة هي‬ ‫التعبير الحسـي عن عالقـة الفرد بالمجال‬ ‫ينمـي فيـه‬ ‫الروحـي ‪ Noosphère‬الـذي ّ‬ ‫وجـوده النفسـي السـوي‪ ،‬فإنه مـا إذا فقد‬ ‫التلميـذ والفـرد عامـة صلته بهـذا المجال‪،‬‬ ‫فـإن موتـه الثّقافـي حاصـل ال محالة(‪،)5‬‬ ‫الغش‪ ،‬وإذا ما‬ ‫عبر عنه بأسلوب ّ‬ ‫وهو ما ُي ّ‬ ‫كل أطياف المجتمع بدءًا‬ ‫طال هذا السلوك ّ‬ ‫من هرم السلطة‪ ،‬فإن المجتمع يفقد شبكة‬

‫عالقاتـه القيميـة التـي تجعل منه مجتمع ًا‬ ‫لـه القابليـة لالسـتعمار‪ ،‬واالسـتدمار‬ ‫الذاتـي‪ ،‬ويصبـح سـلوك أفـراده في حكم‬ ‫العقـل الشـرطي الـذي حـّدده بافلـوف‪ ،‬ال‬ ‫يستطيع توجيه فكره وعمله وفق طاقاته‬ ‫وباختيـاره‪ ،‬طبقـ ًا لمقاييـس يحّددهـا‬ ‫الغـش‬ ‫عقلـه ويعيهـا ضميـره(‪ )6‬وليـس‬ ‫ّ‬ ‫سـوى اسـتجابة لفقـدان العالقـة القيميـة‬ ‫الغـش‬ ‫والمعرفيـة‪ ،‬فكيـف يمكـن محاربـة‬ ‫ّ‬ ‫الغش؟!‬ ‫فـي مجتمـع قائـم علـى ّ‬ ‫كان يمكن للتكنولوجيا أن تساعد على‬ ‫تنمية القدرات العلمية والكفاءات التعليمية‬ ‫لو استثمرت في المجتمعات التي ما تزال‬ ‫تحكمها القيم‪ ،‬غير أنها اليوم تزيح الستار‬ ‫عن عيوب المجتمعات العربية‪.‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫هوامش‬

‫‪ - 1‬يراجـع إدوارد سـعيد‪ ،‬الثّقافـة واإلمبريالـة‬ ‫ص ‪.329‬‬ ‫‪ - 2‬جريـدة االتحـاد‪ ،‬ملحـق بجريـدة االتحـاد‪،‬‬ ‫الغـش اإللكترونـي فـي االمتحانـات‬ ‫دبـي‪-‬‬ ‫ّ‬ ‫«وبـاء» يجتـاح مـدارس العالـم‪ ،‬تاريـخ النشـر‪:‬‬ ‫األحد‪ 17 ‬يونيو‪/‬حزيـران ‪.2012‬‬ ‫‪http://www.alittihad.ae/details. ‬‬ ‫‪.php?id=59000&y=2012‬‬ ‫‪ - 3‬الثّقافة واإلمبريالية ص ‪.333‬‬ ‫‪ - 4‬يراجع إدوارد سعيد ‪.326‬‬ ‫‪ - 5‬يراجع مالك بن نبي مشكلة الثّقافة ص ‪.50‬‬ ‫‪ - 6‬يراجع وجهة العالم اإلسالمي ص ‪.22‬‬ ‫‪35‬‬


‫ّ‬ ‫غش‬ ‫أم أسلوب احتجاج؟‬ ‫إنـــــــاء»‪.‬‬ ‫«أن ُتعـلِّــــــم هو أن توقـــــد نـــــاراً‪ ،‬وليـــس أن تمـــــأل‬ ‫ً‬ ‫مونـتـيـني‬

‫عبد السالم بنعبد العايل‬ ‫مـاض‬ ‫ال يتعلّـق األمـر بالّتباكـي علـى ٍ‬ ‫مجيـد‪ّ ،‬إل أننـي مازلـت أذكـر النّظرة التي‬ ‫كنّـا ننظـر بهـا‪ ،‬ونحـن تالميـذ األقسـام‬ ‫الثانويـة‪ ،‬إلـى التلميـذ الـذي يضبطـه‬ ‫الغـش فـي‬ ‫غـش‪ .‬كان‬ ‫ّ‬ ‫المعلّـم فـي حالـة ّ‬ ‫االمتحـان وقتهـا بمثابـة جريمـة حقيقيـة‬ ‫ُتثيـر اسـتياء الجميـع‪ :‬اسـتياء المعلّـم‬ ‫وغضبه‪ ،‬واسـتهزاء التالميذ ودهشـتهم‪،‬‬ ‫لكـن أيضـ ًا ندم المقترف ورغبته الجامحة‬ ‫الشـعور‬ ‫فـي أن يغيـب عـن األنظـار‪ .‬هـذا ّ‬ ‫بالنّـدم هـو بالضبـط مـا لم نعـد نلفيه عند‬ ‫الغـش اليـوم عندمـا ينكشـف‬ ‫أصحـاب‬ ‫ّ‬ ‫الغش لم يعد يطرح بتات ًا‬ ‫أمرهم‪ .‬ذلك أن ّ‬ ‫فـي مسـتوى أخالقـي‪ .‬وال يقـف األمر عند‬ ‫كـون صاحبـه يعـّده «انتصـاراً» و«حقّـاً»‬ ‫من الحقوق‪ ،‬ووسـيلة مشـروعة «ينتزع»‬ ‫عـن طريقهـا حقّـه فـي النّجاح‪ ،‬المدرسـي‬ ‫واالجتماعي‪ ،‬بل إن األمر يتعّدى ذلك إلى‬ ‫ما يجده الغشاش من تواطؤ عند زمالئه‪،‬‬ ‫بل ربما إلى ما قد يلمسه من مساندة حتى‬ ‫عنـد ذويـه وأهله‪.‬‬ ‫الغش في حكم النّادر من الحاالت‪،‬‬ ‫كان ّ‬ ‫ولـم يكـن ليصـدر ّإل عـن بعـض التالميـذ‬ ‫المعدوديـن علـى رؤوس األصابـع داخـل‬ ‫برمتها‪ ،‬وهو لم يكن‬ ‫المؤسسة التعليمية ّ‬ ‫ّ‬ ‫يلحـق مـواد الدراسـة جميعهـا‪ .‬أمـا اليـوم‬ ‫‪36‬‬

‫تحـول إلـى ظاهـرة تتعـّدى‬ ‫فيبـدو أنـه قـد ّ‬ ‫األفـراد وتشـمل مـواد االمتحـان بأكملهـا‪،‬‬ ‫وهـي ظاهـرة جماعيـة ال تقتصر على فئة‬ ‫تخـص بلـدًا بذاتـه‪ ،‬وإنما تكاد‬ ‫بعينهـا وال‬ ‫ّ‬ ‫تمتّد عبر العالم‪ ،‬شـماله وجنوبه‪ ،‬شرقه‬ ‫وغربه‪.‬‬ ‫ال يبـدو إذًا أن المقاربـة األخالقيـة مـا‬ ‫زالت كفيلة بمعالجة الظاهرة ومحاربتها‪،‬‬ ‫والظاهـر أن غضـب المعلِّـم واسـتهزاء‬ ‫الزمالء‪ ،‬اللَذْين كانا يكفيان لزجر المتعلِّم‬ ‫وثنيه عن تكرار فعلته‪ ،‬لم يعد لهما جدوى‬ ‫أمـام ذيـوع الظاهـرة و«عولمتهـا»‪ ،‬بل إن‬ ‫الممتحنين في‬ ‫العمليـة أصبحـت تتم بيـن‬ ‫َ‬ ‫جو من المرح العام‪ ،‬والّتشجيع المتبادل‬ ‫ّ‬ ‫على تحقيق «االنتصار» واجتياز االمتحان‬ ‫مهما كانت الوسـائل‪.‬‬ ‫تمكنت الظاهرة‪ ،‬وسنّت لها طرقها‬ ‫لقد ّ‬ ‫كل‬ ‫ووسـائل اسـتمرارها وتأقلمهـا مـع ّ‬ ‫المسـتجدات‪ .‬لـذا أصبحنـا نـرى أن أغلـب‬ ‫المتعلّميـن ُيولـون كبير االهتمام للتهييء‬ ‫الغش أكثر مما ينصرفون إلعداد‬ ‫لعمليات ّ‬ ‫دروسـهم‪ .‬ال عجـب إذًا أن نلحـظ‪ ،‬أيامـ ًا‬ ‫بيـل االمتحانـات‪ ،‬ازدهـار نشـاط‬ ‫قليلـة ُق ْ‬ ‫تجـاري حقيقـي يهـدف إلـى أن يوفّـر‬ ‫المتنوعة‪،‬‬ ‫الغـش وسـائله‬ ‫للراغبيـن فـي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ويمكنهـم مـن أنجـع األسـاليب وأضمنهـا‬ ‫ّ‬

‫الجتيـاز االمتحانـات‪ .‬لـم يعـد األمـر‬ ‫ودسـها‬ ‫يقتصـر علـى استنسـاخ الـدروس ّ‬ ‫فـي الجيـوب (وليـس فـي العقـول وال في‬ ‫الصدور)‪ ،‬وإنما صار يتخذ أشكا ًال ال تخلو‬ ‫مـن دالالت‪ ،‬كأن يعمـل أصحـاب دكاكيـن‬ ‫صغرة‬ ‫اإلنترنـت علـى تصويـر الـدروس ُم ّ‬ ‫علـى شـكل أشـرطة ورقيـة أصبحت تباع‬ ‫حسب أطوالها‪ ،‬بحيث يقتني التلميذ مترًا‬ ‫من دروس الفلسـفة‪ ،‬وخمسين سنتيمترًا‬ ‫مـن دروس التاريخ‪ ،‬وثالثين من دروس‬ ‫الجغرافيا‪ ،‬وعشرين من دروس البالغة‪...‬‬ ‫عندمـا دخلـت الوسـائط الجديـدة علـى‬ ‫الخـط أخذنـا نلحـظ تفنّنـ ًا فـي أسـاليب‬ ‫الغش‪ ،‬وتطويرًا البتكارات لم تكن لتخطر‬ ‫ّ‬ ‫على بال نظرًا لما تسمح به تلك الوسائط‬ ‫كل أشـكال‬ ‫مـن نقـل للمعلومـات يتحـّدى ّ‬ ‫الحراسـة‪ ،‬ويختـرق جميـع الحواجـز‪،‬‬ ‫غير عابئ ال باحترام المعايير وال مراعاة‬ ‫الضوابط‪.‬‬ ‫لـذا أصبحنـا نلحـظ اتسـاع ًا مهـو ًال‬ ‫وتحـو ًال عميقـ ًا لدالالتها‪ ،‬حيث‬ ‫للظاهـرة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تمس قيمة االمتحانات ومصداقية‬ ‫لـم تعـد ّ‬ ‫الشـهادات فحسـب‪ ،‬بل أصبحـت تمتد إلى‬ ‫الطعـن فـي مصداقيـة الـدول ورسـوخ‬ ‫الغش‬ ‫مؤسسـاتها‪ .‬واألدهـى مـن ذلـك أن ّ‬ ‫ّ‬ ‫أصبـح يتغـذى علـى الفسـاد االجتماعـي‬ ‫العـام‪ ،‬ولـم يعـد عمليـة يقترفهـا المتعلِّـم‬ ‫أثناء االمتحان وداخل الفصل‪ ،‬بل أصبح‬ ‫يعنـي شـبكة معقـدة مـن الفاعليـن الذيـن‬ ‫يعملـون على «اقتناص» أسـئلة االمتحان‬ ‫وتسـريبها إلغـراء الممتحنيـن باقتنـاء‬ ‫األجوبة حتى قبل ولوج قاعات االمتحان‪.‬‬ ‫ال غرابـة إذًا أن تأخـذ كثيـر مـن الـدول‬ ‫المسـألة مأخـذًا جديـاً‪ ،‬وأن تعمـل علـى‬ ‫مقاومـة هـذه الظاهـرة المسـتفحلة‪ ،‬بـدءًا‬ ‫من إلغاء وسائط االتصال وإيقاف عملها‪،‬‬ ‫إلـى التشـّدد فـي طـرق الزجر التـي لم تعد‬ ‫تقتصـر علـى مجـرد حرمان المتعلّـم الذي‬ ‫الغش من المشـاركة في‬ ‫ثبتت عليه حالة ّ‬ ‫االمتحان عددًا من السنوات‪ ،‬كي تبلغ حّد‬ ‫المطالبة بإيداعه السجن كما حدث مؤخرًا‬ ‫في البرلمـان المغربي‪.‬‬ ‫وهكـذا لـم تعـد المقاربـة البيداغوجيـة‬ ‫نفسها قادرة على إيجاد الحلول للمعضلة‪،‬‬ ‫ولم يعد اتهام المتمدرسين بالكسل وعدم‬ ‫القدرة على التحصيل‪ ،‬وبكونهم ال يتوانون‬


‫عن اسـتخدام أي وسـيلة لبلـوغ أهدافهم‪،‬‬ ‫كافي ًا لفهم الظاهرة وال لمعالجتها‪ ،‬بل إن‬ ‫البعـض لم يعد يوجـه أصابع االتهام إلى‬ ‫المتعلّمين أنفسهم‪ ،‬وإنما أصبح يرى بأن‬ ‫المسـألة ال تتعلّـق أساسـ ًا بالمتمدرسـين‬ ‫«األبريـاء»‪ ،‬مـا دمنـا ال نسـتطيع أن نزعم‬ ‫بأنهـم جميعهـم ال أخالقيـون وفـي جميـع‬ ‫أنحاء المعمورة‪ ،‬منبه ًا أن الفساد التربوي‬ ‫ليـس ّإل امتـدادًا للفسـاد االجتماعـي‪ .‬بـل‬ ‫إن هؤالء يذهبون حتى تبريء الوسـائط‬ ‫الجديـدة‪ ،‬وهـم يـرون أن هذه الوسـائط‪،‬‬ ‫حتى وإن كانت تفتح األبواب أمام ِحيل ما‬ ‫ّ‬ ‫لتسـّهل طرق تلقّي المعلومة‬ ‫تنفك تتجّدد ُ‬ ‫تظـل مـع ذلك‬ ‫واالسـتفادة منهـا‪ّ ،‬إل أنهـا ّ‬ ‫مجـرد وسـائط‪ ،‬وهـي غيـر قـادرة علـى‬ ‫والغـش‪ ،‬مـا لـم يتدخـل العنصر‬ ‫التحايـل‬ ‫ّ‬ ‫ليطوعها كيفما شـاء‪.‬‬ ‫البشـري‬ ‫ّ‬ ‫يوجه هؤالء أصابع‬ ‫ّ‬ ‫لكل هذه األسباب ّ‬ ‫االتهـام إلـى المنظومة التعليمية بكاملها‪،‬‬ ‫وليـس إلـى نظـام االمتحـان وحـده‪ .‬وهم‬ ‫تجـر‬ ‫يـرون أن هـذه المنظومـة مـا تـزال ّ‬ ‫وراءهـا مفهومـ ًا عـن المعرفة ربمـا لم يعد‬ ‫لتطـور العصـر‪ .‬ذلـك أن «المـادة‬ ‫مواكبـ ًا‬ ‫ّ‬ ‫المعرفية» في نظرهم ليست هي ما ينبغي‬ ‫قـدم اليـوم للمتعلّـم‪ ،‬وال مـا يلزمه أن‬ ‫أن ُي َّ‬ ‫ويمتحـن فيـه‪ .‬وال يمكـن‬ ‫عليـه‬ ‫حاسـب‬ ‫ُي‬ ‫ُ‬

‫للتعليم في عصر المعلوميات أن يستهدف‬ ‫وتحصيلا لهـا‪ ،‬حتـى ال‬ ‫«نقلا للمعـارف»‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫نقـول حفظهـا‪ .‬فمهمتـه لـم تعـد تكمـن فـي‬ ‫«مـلء إنـاء»‪ ،‬كمـا نـادى بذلـك مونتينـي‬ ‫غـداة ظهـور آلـة الطباعـة‪ ،‬ولعلّها لم تعد‬ ‫تكمن حتى في «إيقاد نار»‪ ،‬وربما يكفيها‬ ‫اليوم أن تقتصر على «إشعال فتيل»‪ ،‬وها‬ ‫هي الشبكة قادرة على أن تتكفّل بالباقي‪.‬‬ ‫فباسـتطاعتها أن «تعالـج» المعلومـات‬ ‫وتحصلهـا وتحفظهـا‬ ‫وتخزنهـا وتبادلهـا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وتسـتذكرها من غير أن تنسـاها‪ ،‬مادامت‬ ‫الشـبكة ال تنسـى كما يقال‪.‬‬ ‫متعلّم اليوم مطالب باكتساب مهارات‪،‬‬ ‫وانتهـاج طـرق سـليمة فـي التفكيـر‪ ،‬أكثر‬ ‫مما هو مطالب بجمع معلومات وتحصيل‬ ‫معرفة‪ .‬إنه مطالب بالتفاعل مع المعلومة‬ ‫وليـس بتخزينهـا‪ .‬ليـس غريبـاً‪ ،‬والحالة‬ ‫هذه‪ّ ،‬أل يعود يرى قيمة كبرى فيما يقّدم‬ ‫له من معلومات وما ُيطلب منه تحصيله‪،‬‬ ‫حـس بقيمـة العمليـة التعليميـة‬ ‫بـل ّأل ُي ّ‬ ‫و«خطورتها»‪ ،‬وأن يستصغر ما كان ُيحاط‬ ‫باالمتحـان مـن ُقدسـية وهـول‪ ،‬حيث كان‬ ‫عـز أو ُيهـان»‪ ،‬فيسـتبيح لنفسـه‬ ‫«ي ّ‬ ‫المـرء ُ‬ ‫كل الطـرق‪ ،‬حتـى تلـك التـي كانـت ُتعـّد‬ ‫ّ‬ ‫وغشـاً‪ ،‬حيث لم‬ ‫إلى وقت قريب‪ ،‬تدليسـ ًا ّ‬ ‫يكن يحظى بتكافؤ الفرص ّإل الذين «جّدوا‬

‫التحول‬ ‫واجتهـدوا»‪ .‬وال غرابـة أن يتجلّى‬ ‫ّ‬ ‫العميـق لـ«العمليـة التعليميـة» بالضبـط‬ ‫كل‬ ‫فـي فتـرات االمتحانـات‪ ،‬حيـث يقتنـع ّ‬ ‫الصيـغ‬ ‫المنخرطيـن فـي هـذه العمليـة أن ّ‬ ‫التقليديـة لتبليـغ المعلومـات وتناقلهـا‪،‬‬ ‫وأن كيفيـات التأكـد من قدرة المتعلّم على‬ ‫«نقـل‬ ‫التحصيـل‪ ،‬ومـدى اسـتيعابه لمـا ُ‬ ‫كل هـذا‬ ‫إليـه»‪ ،‬وكيفيـة تفاعلـه معـه‪ ،‬أن ّ‬ ‫ربمـا لـم يعد متالئمـ ًا مع منجزات العصر‪.‬‬ ‫مـن الطبيعي‪ ،‬والحالـة هذه‪ّ ،‬أل ينظر‬ ‫متعلّمـو اليـوم إلـى االمتحـان ّإل كمجـرد‬ ‫معضلـة ينبغـي اجتيازها بشـتى الطرق‪،‬‬ ‫حتـى وإن اقتضـى األمـر خـرق القواعـد‬ ‫ولعـل هـذا هـو مـا‬ ‫وتجـاوز المحظـور‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫سـمح لهـم ّ‬ ‫بأل يعودوا يـرون في العملية‬ ‫التعليميـة ذاتهـا قيمـة ينبغـي احترامهـا‪.‬‬ ‫على هذا النحو يبدو استسهال اللجوء إلى‬ ‫الغش نوع ًا من االحتجاج يوجهه‬ ‫أساليب ّ‬ ‫المتعلِّـم إلـى أسـاليب التدريس التي ُتنقل‬ ‫بهـا المعـارف وربما إلـى مضامين الثّقافة‬ ‫المتناقلـة ذاتهـا‪ .‬فربمـا لـم يعـد متعلّمونـا‬ ‫يجدون أنفسـهم في هـذه الثّقافة‪ ،‬ولعلّهم‬ ‫ال يتعرفـون فيهـا إلى ذواتهم‪ ،‬وال يجدون‬ ‫فيهـا أجوبـة عـن األسـئلة الحقيقيـة التـي‬ ‫تعنيهـم‪ ،‬والتـي مـا يفتـأ واقعهـم اليومـي‬ ‫يطرحها‪.‬‬ ‫‪37‬‬


‫بروفيل‬

‫في طفولتها‪ ،‬كانت ترتجف في أحاديثها‪ ،‬ما جعلها تخشى مواجهة اآلخرين‪.‬‬ ‫ولم تكن يوم ًا تدري أنها ســتكون موضع األنظار‪ ،‬ويتم تلقيبها بـ«فصيحة‬ ‫متفوقة بذلك ليس فقط على قريناتها‪ ،‬ولكن على جنسها اآلخر‪.‬‬ ‫قطر»‪ّ ،‬‬ ‫مؤخــرًا من حصد المركز الثانــي في برنامج‬ ‫هــي القطريــة زينب المحمــود‪ ،‬التي ّ‬ ‫تمكنت ّ‬ ‫وي َعّد األول من‬ ‫«فصاحة»‪ ،‬الذي أطلقته‬ ‫ّ‬ ‫المؤسســة القطرية لإلعالم عبر تليفزيون قطر‪ُ ،‬‬ ‫نوعه في العالم العربي‪ ،‬حيث تبارى فيه حشــد كبير من الناطقين باللّغة العربية إلبراز‬ ‫فصاحتهم؛ وكان لـ«فصيحة قطر» نصيب من التألق في هذه المسابقة‪.‬‬ ‫في حديثها لـ«الدوحة» تكشف زينب المحمود المفردات التي أسهمت في تشكيل فصاحتها‪،‬‬ ‫وحقيقــة الصــورة الذهنية الســائدة عن كون الفصاحــة ِحكرًا على األدبــاء‪ ،‬عالوة على‬ ‫وجهتها القادمة في صقل فصاحتها‪ ،‬بعدما ذاع صيتها بين الفصحاء العرب‪.‬‬

‫حوار‪ :‬طه عبدالرحمن (الدوحة)‬

‫فصيحة قطر «زينب المحمود»‪:‬‬ ‫الفصاحة ليست ِحكر ًا على األدباء‬ ‫ما هي المفردات التي أسهمت في‬ ‫تشكيل فصاحتك‪ ،‬ما جعلك توصفين‬ ‫بـ«فصيحة قطر»؟‬ ‫ الفصاحة سهم الحرف في قلب المعنى‪،‬‬‫هكذا عرفنا الفصاحة وأصبحت ديدننا‬ ‫ومنوالنا‪ ،‬في حياتي اللّغوية اتخذت‬ ‫القرآن الكريم مرجع ًا أساسي ًا لي‪ ،‬والحديث‬ ‫النبوي الشريف ومخارج الحروف وعلم‬ ‫األصوات من الضروريات التي أستند‬ ‫إليها‪.‬‬ ‫وال أخفي أن لغتي العربية نمت وكبرت‬ ‫ونضجت ألنني أخذت جولة على‬ ‫العربية من عصورها الغابرة وحتى‬ ‫العصر الحالي‪ ،‬حفظت الكثير من القديم‬ ‫والمخضرم والحديث والغريب والواضح‬ ‫والسهل والصعب‪ ،‬وأستفيد من مخزوني‬ ‫كل على مشربه‪ ،‬فأنا أزور‬ ‫اللّغوي ألوافق ّ ً‬ ‫مناطق قطر من الشمال إلى الجنوب‪،‬‬ ‫وأقوم بعمل ورش ومحاضرات بمفردات‬ ‫تتناسب وسكان المنطقة‪ ،‬وهذا له أثر‬ ‫في جذب الجمهور وباعث لوصول المراد‬ ‫‪38‬‬

‫وأحب المفردات‬ ‫والهدف الذي أصبو إليه‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫العصرية والتي تكون قريبة للذهن وتقبلها‬ ‫العاطفة‪.‬‬

‫وهل تعتقدين أن الفصاحة ظاهرة‬ ‫مكتسبة أم أنها موهبة يمكن تنميتها‬ ‫بصقل المعارف والعلوم واآلداب ؟‬

‫لماذا تسود لدى البعض صورة‬ ‫ذهنية بأن الفصاحة تقتصر على األدباء‬ ‫دون غيرهم؟‬

‫ اهلل سبحانه وتعالى خلقنا متكافئين في‬‫الخلقة‪ ،‬متشابهين في جهاز النطق‪ ،‬لكن‬ ‫تدخل عوامل تزيد من كفاءة هذا الجهاز‬ ‫الصوتي المخرجي عند اإلنسان‪ ،‬يبدأ العمل‬ ‫على صقله وتهذيبه منذ الوالدة عن طريق‬ ‫ما يستمع من الكالم فيقلّد من حوله الذين‬ ‫هم أول مصدرين للغة اإلنسان ثم بقدر‬ ‫وكتابة ونطق ًا يصبح‬ ‫قراءة‬ ‫االهتمام باللّغة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫لدى اإلنسان مخزون كبير من المفردات التي‬ ‫َتّم تخزينها وبرمجتها بصورة صحيحة‪،‬‬ ‫ومن َثّم سيكون الخروج صحيح ًا سليم ًا‬ ‫وهو ما ُيسمى سالمة المخرج‪ ،‬وفصاحة‬ ‫اللسان حسبما تدخل إلى الذاكرة من كالم‪،‬‬ ‫يتم إخراجه‪ ،‬ولذا فلنحرص أن نعلّم الجيل‬ ‫منذ الصغر على النطق السليم والقراءة‬ ‫السليمة‪.‬‬

‫ لألسف هناك صور ذهنية سائدة جعلت‬‫يتردد أو يتوقّف عن المضي قدم ًا‬ ‫اإلنسان َّ‬ ‫والتطور‬ ‫م‬ ‫التقد‬ ‫تحقيق‬ ‫ونحو‬ ‫نحو األفضل‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫في أمور كثيرة‪ ،‬فعندما يظن أن الفصاحة‬ ‫مقتصرة على األدباء يكبح جماح عقله‬ ‫ويصبح في عجز عن اإلتيان بما يحقّق‬ ‫السيادة والريادة للغة العربية وينتظر‬ ‫ذلك العهد الزاهر أو الزمن المجهول الذي‬ ‫يحصل فيه على شهادة أو خبرة ليمارس‬ ‫اللّغة‪ ،‬لندرك تمام ًا أن اللّغة العربية نتاج‬ ‫وعي وثقافة ودراية‪ ،‬فلو عدنا لصيدلية‬ ‫الرحمن وغرفنا من منهل اآليات والسور‬ ‫وصقّلت‬ ‫الستقام اللسان وتثقّف العقل ُ‬ ‫الجوارح‪.‬‬

‫هل تطل عليك من حين آلخر صورة‬ ‫زينب الصغيرة‪ ،‬تلك الفتاة التي كانت‬


‫ترتجف في حديثها أمام قريناتها‪ ،‬إلى أن‬ ‫أصبحت توصف بفصيحة وطنها حالياً؟‬

‫عل توصيفي بهذا اللقب جاء ليعلن هذا‬ ‫وَل ّ‬ ‫يتذوق‬ ‫الحصاد بعد نضجه‪ ،‬ما يجعل العالم ّ‬ ‫ما وصلت إليه من فصاحة‪ ،‬ويستأنس به‬ ‫ويتعرف إلى صاحبته‪ ،‬التي لم تكن يوم ًا‬ ‫ّ‬ ‫تفكر بالظهور والنجومية‪ .‬والحمد هلل أن‬ ‫قطر أثبتت أن العنصر النسائي شهد تفوق ًا‬ ‫متعددة في اآلونة األخيرة‪،‬‬ ‫في مجاالت‬ ‫ِّ‬ ‫تميزًا في‬ ‫المرأة‬ ‫ا‬ ‫أيض‬ ‫تشهد‬ ‫أن‬ ‫فمن الجميل‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫اللّغة العربية‪ ،‬وهذا يعني أن المرأة في‬ ‫قطر صاحبة إنجاز وكفاح‪.‬‬

‫ومن بين هذه األحالم‪ ،‬أن أترك بصمة‬ ‫مفعمة بالخير والتفاؤل واألمل في قلب‬ ‫كل إنسان‪ ،‬ولحظات الضعف تعتري أي‬ ‫ّ‬ ‫شخص‪ ،‬ولكن بعزيمة وإرادة يستطيع‬ ‫المرء اقتحام أسوار العراقيل التي تحول‬ ‫بينه وبين بلوغ المرام‪.‬‬

‫عطاء ال يتو ّقف‬

‫ ال قفل ّإل سوف يفتح‪ ،‬وال قيد ّإل سوف‬‫يفك‪ ،‬وال بعيد ّإل سوف يقرب‪ ،‬وال غائب‬ ‫مسمى‪ ،‬كنت‬ ‫ّإل سوف يصل‪ ،‬ولكن بأجل ّ‬ ‫أرتجف وأختبئ خلف األبواب واألسوار‬ ‫خشية مواجهة الناس وتجنُّب النظر‬ ‫إليهم‪ ،‬هكذا زينب الصغيرة‪ ،‬ولكني اليوم‬ ‫مختلفة ألني قررت في يوم من األيام أن‬ ‫أصبح أفضل وبصورة أحقّق فيها أمنياتها‬ ‫وأحالمها‪.‬‬

‫وما تفسيرك لهذا الصعود النسوي‬ ‫وتميزك على الرجال؟‬ ‫في قطر ّ‬

‫ التوفيق من اهلل سبحانه وتعالى‪ ،‬فما‬‫ال ساقه اهلل لي‪،‬‬ ‫حقّقته كان ّ‬ ‫حظ ًا جمي ً‬ ‫وأتوقّع‪ ،‬بل متأكدة لو كان هناك رجل قطري‬ ‫مشارك في برنامج «فصاحة»‪ ،‬الذي عرضه‬ ‫سيتفوق وبجدارة‬ ‫تليفزيون قطر أخيراً‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الصدارة وأتوقّع في الموسم‬ ‫وستكون له ّ‬ ‫القادم ستأتي مشاركة أفواج بشغف ورغبة‪.‬‬ ‫أما بالنسبة لحصولي على لقب «فصيحة‬ ‫ّ‬ ‫قطر»‪ ،‬فقد كان حصادًا لغراس األمس‬ ‫ومحصول السنين الماضية‪ ،‬وأنا سعيدة‬ ‫جدًا ألنّي امرأة بسيطة اجتهدت بقدر‬ ‫استطاعتي وبذلت قصارى جهدي إلعالء‬ ‫شأن اللّغة العربية في جميع المحافل وفي‬ ‫حياتي المهنية واألسرية‪.‬‬

‫هل يمكن القول إنك أخرجتي ما لديك‬ ‫من فصاحة؟ أم أن في جعبتك الكثير من‬ ‫الفصاحة؟‬ ‫لدي الكثير‪ ،‬وإن كان البرنامج‬ ‫ كما ذكرت ّ‬‫قد أفصح عن جانب من ثقافتي ّإل أنه في‬ ‫الوقت ذاته جعلني أشعر بالقصور في حق‬ ‫نفسي وُأعيد النظر في مخزون معرفتي‬ ‫ولتنوع‬ ‫ومهاراتي ووجدتها تحتاج لدعم‬ ‫ُّ‬ ‫ولسعة اطالع في شتى المجاالت‪.‬‬ ‫وكم يسعدني ما أضاف لي البرنامج‬ ‫في فترة وجيزة من العلم والخبرة‪،‬‬ ‫وأحرص على القراءة في األخبار والطب‬ ‫والرياضيات والتاريخ والنظريات‬ ‫والقضايا التي تمس الواقع المعيش؛‬ ‫وهو ما كنت أحرص عليه في البرنامج‬ ‫ألستطيع اإلعداد للفقرات بما يتماشى مع‬ ‫معايير اللجنة وهدف ورؤية البرنامج‪.‬‬ ‫ولن أنسى المشاركين والذين كان لهم أبعد‬ ‫األثر‪ ،‬فقد تعلّمت منهم ما لن أتعلّمه في‬ ‫حياتي ما حييت‪ ،‬فقد كانوا منارة علم‪،‬‬

‫وشعلة من المبادئ والقيم‪ ،‬ومهما أفصحت‬ ‫فلن توفي عباراتي لتسطر تلك اللحظات‬ ‫العامرة بتداول المعرفة والنقد وتبادل‬ ‫الرأي وروح اإلخاء والتعاون‪.‬‬

‫ما هي وجهتك المقبلة لالستفادة من‬ ‫فصاحتك؟‬ ‫ سأعطي ما يمكن إعطاؤه في مجال اللّغة‬‫العربية ووفق إمكاناتي ليستفيد الجميع‪،‬‬ ‫فأنا كاتبة في إحدى الصحف القطرية‪،‬‬ ‫ولدي عمود أكتب فيه أسبوعياً‪ ،‬وأحاول‬ ‫ّ‬ ‫من خالله تلخيص خبراتي في بعض‬ ‫المواقف وتوضيح بعض المبادئ وغرس‬ ‫القيم بلغة فصيحة قريبة من العقل والقلب‪.‬‬ ‫كما أنني مدرب معتمد للتنمية البشرية في‬ ‫مركز اإلنماء الفكري للتدريب واالستشارات‬ ‫وأخصائي برامج في أحد مراكز التأهيل‬ ‫االجتماعي‪ ،‬وأقوم بعمل ورش وبرامج‬ ‫وفعاليات للجمهور ولمختلف الفئات‪.‬‬ ‫وسأسعى جاهدة إلى أن أثري أعمالي‬ ‫باستخدام اللّغة الفصيحة البليغة‪.‬‬ ‫وفي المجمل‪ ،‬فإن تجربة برنامج‬ ‫«فصاحة» الذي خضته كان تجربة‬ ‫وانتهت‪ ،‬تركت أثرًا كبيرًا على األبناء‬ ‫وأفراد العائلة واألصحاب والوسط‬ ‫المعيش‪ ،‬حيث الشعور بأهمية اللّغة‬ ‫العربية واستخدام الكثير من األلفاظ‬ ‫تمت في جوالت‬ ‫واألطروحات التي ّ‬ ‫ال عن األسئلة المتعلّقة‬ ‫التحّدي‪ ،‬فض ً‬ ‫التمكن منها‪ ،‬فالغالبية‬ ‫باللّغة وكيفية‬ ‫ّ‬ ‫يطلبون التوجيه والنصح في تحسين‬ ‫مستوى اللّغة العربية ومعرفة جوانب‬ ‫الجمال والبالغة وسحر البيان‪.‬‬ ‫‪39‬‬


‫دراسة‬

‫الفضائيات الدينية‪:‬‬ ‫في الحاجة إلى‬ ‫إصالح اإلعالم الديني‬

‫د‪ .‬عبد السالم أندلويس‬

‫رئيس المركز المغربي للدراسـات واألبحاث في وسـائل اإلعالم واالتصال‬

‫التطور الهائل لتكنولوجيا‬ ‫أفرز‬ ‫ُّ‬ ‫اإلعالم واالتصال وسائط جديدة‬ ‫لتدفق المعلومات واألخبار‪ ،‬سرعان‬ ‫تحولت إلى آليات وأسلحة جديدة‬ ‫ما ّ‬ ‫تقود المواجهة والصراعات بين األمم‬ ‫والشعوب‪ ،‬وتفرز قوى تنظيمية جديدة‬ ‫مقابل األحزاب والنقابات التي لم‬ ‫التطور‪ .‬أكثر من‬ ‫تستشعر بعد أهمية هذا‬ ‫ُّ‬ ‫ذلك؛ بات من الصعب جدًا على السلطة‬ ‫المركزية للدول غير الديموقراطية بسط‬ ‫نفوذها على عموم أقاليمها أمام ارتباط‬ ‫سكان هذه األقاليم بالوسائط الجديدة‬ ‫لتداول األخبار والمعلومات‪.‬‬ ‫ويعّد اإلعالم الديني امتدادًا طبيعي ًا‬ ‫ُ‬ ‫التطور التكنولوجي في اإلعالم‬ ‫لهذا‬ ‫ُّ‬ ‫لتطور هذا‬ ‫واالتصال‪ ،‬ونتيجة حتمية‬ ‫ُّ‬ ‫القطاع إن على المستوى التقني أو‬ ‫االتجاه بفعل صعود النزعة الدينية‬ ‫التي برزت في السنوات األخيرة‪ ،‬ولم‬ ‫تجد طريقها نحو تصريف خطاباتها‬ ‫على نطاق واسع؛ ّإل بعد حرب الخليج‬ ‫الثانية‪ ،‬حيث سيظهر إلى الوجود عدد‬ ‫مهم من القنوات الفضائية العربية بعدما‬ ‫‪40‬‬

‫كان اإلعالم الغربي في حرب الخليج‬ ‫األولى‪ ،‬المصدر األساس والوحيد لتدفق‬ ‫المعلومات واألخبار‪.‬‬ ‫البين‪ ،‬في عدد‬ ‫ولقد أفرز هذا التكاثر ّ‬ ‫الفضائيات والقنوات األرضية الدينية‬ ‫اإلسالمية‪ ،‬عددًا من اإلشكاالت العلمية‬ ‫الدقيقة التي بدأت تسيطر على مخيلة‬ ‫وتفكير الباحثين في علوم اإلعالم‬ ‫عل من أهمها وأبرزها مدى‬ ‫واالتصال‪َ .‬ل ّ‬ ‫التأثير الذي بات يتهّدد الخصوصيات‬ ‫والمقومات الوطنية أمام تنامي أعداد‬ ‫مهمة من جمهور المتلقين نحو قنوات‬ ‫دينية أجنبية‪ ،‬األمر الذي يشفع بالتساؤل‬ ‫تحرك هذا االتجاه‪،‬‬ ‫حول الخلفية التي ّ‬ ‫هل تعكس رغبة المجتمع في البحث عن‬ ‫ما يعتبره بعضه جودة مفقودة؟ وما هي‬ ‫قيمة الفاتورة التي يتكبدها هذا السبق في‬ ‫ومكونات األمة‬ ‫لهوية‬ ‫ّ‬ ‫مجال الفضائيات ّ‬ ‫الوطنية؟‪.‬‬ ‫وسعي ًا منا إلى بلوغ أهداف البحث‬ ‫والتحقّق من فرضياته‪ ،‬اتبعنا في‬ ‫الكمية باعتمادنا على‬ ‫منهجيتنا المقاربة ّ‬

‫تقنية االستمارة‪ ،‬وتبع ًا لذلك حرصنا‬ ‫عينة البحث‪ ،‬عبر إجراء‬ ‫على تحديد ّ‬ ‫‪ 200‬مقابلة مع المبحوثين باستعمال‬ ‫هذه التقنية‪ ،‬على أن تكون متعّددة في‬ ‫تكوينها‪ ،‬بحيث تشمل الذكور واإلناث‪،‬‬ ‫تغير السن‪ ،‬حيث حّددناه ما‬ ‫كما راعينا ُم ّ‬ ‫بين ‪ 18‬و‪ 40‬سنة‪ ،‬والمستوى الدراسي‪.‬‬

‫والتطور‬ ‫المفهوم‬ ‫ّ‬ ‫يرى محمد بغداد(‪ )1‬أن التيارات‬ ‫اإلسالمية إذا كانت أحيان ًا تبالغ في‬ ‫االعتماد على الممارسة اإلعالمية‪ ،‬كأداة‬ ‫استراتيجية في إطار خطتها العامة‪،‬‬ ‫التي تريد من خاللها توسيع النفوذ‬ ‫على الفضاء االجتماعي‪ ،‬تمهيدًا إلنجاز‬ ‫المتصورة‪ ،‬فإن هذه التيارات‬ ‫مشاريعها‬ ‫ّ‬ ‫تصور شامل لمفهوم‬ ‫لم تكمل إنجاز‬ ‫ّ‬ ‫اإلعالم في َحّد ذاته‪ ،‬وإن كانت أدبياتها‬ ‫متفقة على اإلطار المفاهيمي العام‪،‬‬ ‫والذي يمكن اإلشارة إليه‪ ،‬وإلى داللته‬ ‫في هذا السياق‪ ،‬دون أن يكون التوقُّف‬ ‫والتفرغ لمناقشته هدفنا اآلن‪ ،‬ولذا‬ ‫عنده‬ ‫ُّ‬ ‫فإن مفهوم اإلعالم الذي تتبناه األدبيات‬ ‫الدينية‪ ،‬هو أداة ووسيلة نقل مضامين‬ ‫الوحي المعصوم‪ ،‬ووقائع الحياة‬ ‫البشرية المحكومة بشرع اهلل تعالى‪ ،‬إلى‬ ‫الناس كافة‪.‬‬ ‫واإلعالم الديني في المفهوم العقدي‬ ‫اإلسالمي ومنطوقه‪ ،‬حسب يونس‬ ‫إمغران(‪ ،)2‬هو إعالم بالدين اإلسالمي‪،‬‬ ‫وليس بأي دين من األديان األخرى‬ ‫حرفة التي فقدت عصمتها منذ أن‬ ‫الم َّ‬ ‫ُ‬ ‫لحقها التحريف باإلضافة أو النقصان‬ ‫أو الحذف‪ ..‬ومن َثّم‪ ،‬فإن اإلعالم بالدين‬ ‫اإلسالمي ‪ -‬حسب القائمين به وعليه‬ ‫ مقصود به الدين الذي ارتضاه اهلل‬‫سبحانه للعالمين دين ًا ال يقبل سواه‬ ‫«وَم ْن َيْبَت ِغ َغْيَر اإلسالم ِدين ًا َفَل ْن ُيْقَب َل‬ ‫َ‬ ‫ْخ ِ‬ ‫اسِرين» (آل‬ ‫ِمْن ُه َو ُه َو ِفي ْال ِخَرِة ِم َن ال َ‬ ‫عمران‪.)3()85:‬‬ ‫بدأت الموجة األولى لإلعالم الديني نهاية‬ ‫التسعينيات بظهور عدد من الفضائيات‬ ‫المتخصصة في الشأن الديني‪ .‬فكانت‬ ‫ّ‬ ‫قناة «اقرأ» هي أول من ظهر للوجود‬


‫وذلك عام ‪ 1998‬من قبل شركة راديو‬ ‫وتليفزيون العرب بتمويل سعودي كبير‪.‬‬ ‫بعدها ظهرت قناتا « الفجر» و«مجد»‬ ‫وكلتاهما بدأتا مرتبطتين بالتيارات‬ ‫األيديولوجية المختلفة المنتمية للتيار‬ ‫األصولي(‪ .)4‬ووفق ًا لإلحصائيات التي‬ ‫قامت بها مجموعة المستشارين العرب‬ ‫‪ Arab Advisors Group‬والتي تهتم‬ ‫والفّن وثقافة البوب‪ ،‬فإن نسبة‬ ‫بالدين َ‬ ‫هذه القنوات الدينية ارتفعت إلى ‪60‬‬ ‫ال عن وجود‬ ‫بالمئة عام ‪ ،2004‬فض ً‬ ‫ثماني قنوات إسالمية تبث عبر األقمار‬ ‫اإلقليمية أراب سات ونايل سات وست‬ ‫قنوات مسيحية تبث باللّغة العربية عبر‬ ‫الهوت بيرد األوروبي‪ ،‬إضافة إلى زيادة‬ ‫عدد البرامج الدينية الحاضرة تقريب ًا على‬ ‫كل قناة عربية كبيرة(‪.)5‬‬ ‫لقد شهدت نهاية التسعينيات من القرن‬ ‫الماضي ميالد موجة الفضائيات التي‬ ‫عززت المشهد اإلعالمي العربي‪ ،‬وبقدر‬ ‫ّ‬ ‫التحكم‬ ‫ما حّدت هذه الموجة من وطأة‬ ‫ّ‬ ‫الذي كان يخضع له هذا المشهد من‬ ‫المؤسسات والحكومات‪ ،‬بقدر ما أفرزت‬ ‫ّ‬ ‫وسائل وطرق ًا جديدة لتدفق منتوج‬ ‫إعالمي ظاهره إنتاج الرسائل اإلعالمية‬ ‫وباطنه األفكار واآلراء التي تستهدف‬ ‫في كثير من األحيان السيطرة على‬ ‫أفئدة وعقول الناس إن لم نقل تخديرها‪.‬‬ ‫وبات من الواضح استهداف الثوابت‬ ‫والخصوصيات الوطنية‪ ،‬ومن َثّم تهديد‬ ‫وأسسها التي‬ ‫الدولة الوطنية ومقوماتها ّ‬ ‫انبنت عليها‪ ،‬مما أثر على عملية التلقّي‬ ‫عند مواطني الدولة الوطنية‪ ،‬والتي‬ ‫موجهة نحو فضائيات أجنبية‪.‬‬ ‫أصبحت ّ‬ ‫ضمن هذا السياق‪ ،‬تقول المعطيات‪ :‬إن‬ ‫عدد القنوات العربية ارتفع في السنوات‬ ‫قل من‬ ‫األخيرة‪ ،‬إلى مئات الفضائيات‪َ ،‬أ ّ‬ ‫ربعها تقريب ًا ُيعنى بالشؤون الدينية‪،‬‬ ‫أما القنوات الحكومية فتبلغ فقط حوالي‬ ‫العشرة بالمئة منها فيما تبلغ القنوات‬ ‫ال‬ ‫الخاصة أكثر من ‪ ،)6( % 90‬فض ً‬ ‫عن أن ‪ 69‬بالمئة من الجمهور العربي‬ ‫يشاهدون الفضائيات يومي ًا لمدة أربع‬ ‫ساعات(‪ .)7‬ومن الخطأ النظر إلى هذا‬ ‫التقدم‬ ‫التطور على أنه مظهر من مظاهر‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫في مجال اإلعالم واالتصال‪ ،‬إذ يجب أن‬ ‫ينظر إليه من ناحية أولى على أنه مظهر‬

‫من مظاهر العولمة االقتصادية وأداة من‬ ‫أدوات انتشار قيمها‪ ،‬كما ينبغي النظر‬ ‫إليه كصناعة معلوماتية وجزء أصيل من‬ ‫السوق‪ ،‬بدليل أن الغرب أنفق عام ‪2002‬‬ ‫على األنشطة الثّقافية واإلعالمية حوالي‬ ‫‪ 1200‬مليار دوالر‪ ،‬أي ما يزيد على الدخل‬ ‫السنوي لـ ‪ 46‬بالمئة من فقراء العالم(‪.)8‬‬ ‫ومن جهة ثانية يجب اإلقرار بكونه أدخل‬ ‫العالم وبصفة خاصة المنطقة العربية‬ ‫في خالفات سياسية وأخالقية وأيض ًا‬ ‫مالية وتنظيمية‪.‬‬

‫التي تكمن وراء هذه القدرة على إحكام‬ ‫السيطرة على العقول؛ بين القنوات‬ ‫سجل‬ ‫الفضائية وخصوصياتها‪ .‬وقد ّ‬ ‫تطورًا عددي ًا‬ ‫المشهد اإلعالمي الديني‬ ‫ُّ‬ ‫يبينه الجدول اآلتي*‪:‬‬ ‫ملحوظاً‪ ،‬كما ّ‬

‫السنة‬ ‫‪2009‬‬ ‫‪2010‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫‪2012‬‬

‫العدد‬ ‫‪)*( 43‬‬ ‫‪)*( 48‬‬ ‫‪)*( 91‬‬ ‫‪)*( 104‬‬

‫إن الحديث عن اإلعالم الديني وموجته‬ ‫الجديدة ال يمكن أن يكون بمعزل عن هذه‬ ‫الرؤية‪ ،‬وهذا يجعلنا مطالبين بالوقوف‬ ‫عند عموم اإلشكاالت والظواهر التي‬ ‫يفرزها‪ ،‬خاصة أنه أصبح قوة إعالمية‬ ‫له من السلطة والتأثير في عقول الناس‬ ‫وأفئدتهم ما يجعلهم في نهاية المطاف‬ ‫يتلقفون عددًا من الرسائل اإلعالمية التي‬ ‫سرعان ما يحولونها إلى أحكام ومواقف‬ ‫خون من يخالفها‪.‬‬ ‫وي ّ‬ ‫ُيمنع معارضتها ُ‬

‫(*) المصدر‪ :‬التقارير السنوية حول‬ ‫وضع البث الفضائي العربي في المنطقة‬ ‫العربية وخارجها لسنوات ‪2010 ،2009‬‬ ‫و‪.2011‬‬

‫وثمة العديد من االختالفات الكثيرة‬ ‫ّ‬

‫عل أهم ما نالحظه في الجدول أعاله‬ ‫وَل ّ‬ ‫‪41‬‬


‫مجتمع‬

‫هو القفزة النوعية بين سنتي‪2010‬‬ ‫و‪ ،2011‬حيث أوشكت الفضائيات‬ ‫الدينية على مضاعفة العدد (‪ 48‬لسنة‬ ‫‪ 2010‬مقابل ‪ 91‬لسنة ‪.)9( )2011‬‬ ‫التطور‪ /‬االنفجار في‬ ‫ويالحظ أن هذا‬ ‫ُّ‬ ‫القنوات الدينية ظهر بعد موجة الربيع‬ ‫العربي‪ ،‬كما يالحظ أن ِقلّة قليلة من‬ ‫هذه القنوات الكثيرة تعنى بالتعريف‬ ‫بالدين الحنيف‪ ،‬وأكثرها تستعمل طرق ًا‬ ‫شتى لالنتشار ُتثار حولها أكثر من‬ ‫عالمة استفهام‪.‬‬

‫بتوجيه رسائل إعالمية مضادة تعكس‬ ‫وجهة النظر األخرى التي تتيح إفراز‬ ‫معاني معكوسة وتساهم في بلورة‬ ‫يظل‬ ‫رأي أو موقف سليم‪ ،‬فهذا أمر‬ ‫ّ‬ ‫مستبعدًا عند منتوج خطابي يحتمي‬ ‫بسقف اإلعالم‪ ،‬ويزعم لفئة شاسعة من‬ ‫جمهور المتلقين‪ ،‬مزية احتكار «الحقيقة»‬ ‫وسلطة اشتراع تبليغها‪ ،‬وهذا ديدنه‬ ‫وجوهره‪ ،‬وهذا دوره ووظيفته أيضاً‪.‬‬ ‫فما يبلّغه هذا النوع من الخطاب‪ ،‬ال‬ ‫يمثل منتوج ًا إعالمي ًا تتخلّله الرسائل‬ ‫اإلعالمية التي تقاس درجتها بوحدة‬ ‫قياس المعلومة‪ ،‬بقدر ما يجسد خطاب ًا‬ ‫ديني ًا يصر على توجيه رسائله الدينية‬ ‫وفق مقاربة ال عالقة لها بفلسفة‬ ‫ومرجعية ما يؤطر الممارسة اإلعالمية‪،‬‬ ‫يؤسس لفلسفة اإلعالم هو‬ ‫فاألصل فيما ّ‬ ‫تدفق المعلومات في مختلف االتجاهات‪.‬‬ ‫يتصور تبليغه هذا النوع‬ ‫ومن َثّم فإن ما‬ ‫ّ‬ ‫من الخطاب هو «الحقيقة» وال شيء‬ ‫غيرها‪ .‬ومن َثّم فهو يصر على احتكار‬ ‫ميدان الحقيقة وتملكها وإعادة تملكها‬ ‫قل‬ ‫على الدوام‪ ،‬في مواجهة حقائق َأ ّ‬ ‫بالنسبة له‪ ،‬أو ينبغي أن تبدو كذلك‪،‬‬ ‫والفّن‪ ،‬وكلها‬ ‫هي حقائق العلم والمعرفة َ‬ ‫حقائق تنتمي لدولة اإلعالم‪ ،‬ويشكل كل‬ ‫منها إحدى وسائله‪.‬‬

‫فما أحوجنا إلى فهم اتجاهات المشاهدين‬ ‫التزود بالمعلومات واألخبار من‬ ‫نحو‬ ‫ُّ‬ ‫مختلف القنوات األرضية والفضائية‪،‬‬ ‫العربية واألجنبية في عصر يتصف‬ ‫من جهة بثورة المعلومات‪ ،‬ومن جهة‬ ‫ثانية يحبل باالضطرابات االجتماعية‬ ‫والسياسية المتواصلة‪.‬‬

‫إن العمل بهذه الرؤية عند هذا المستوى‬ ‫من الخطاب أمر مكفول لجمهور واسع‬ ‫من متلقّي المعلومة الدينية‪ ،‬بل إنه‬ ‫حق مقّدس من حقوقه‪ ،‬إنما تحت‬ ‫مؤسسة إعالمية أصلها ثابت منذ‬ ‫سقف ّ‬ ‫ُش ِّيد أول بيت هلل على وجه األرض‪،‬‬ ‫لها قوانينها الشرعية والفقهية التي‬ ‫المؤسسة‬ ‫يتوجب االمتثال لها‪ .‬وهذه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫هي المسجد‪ ،‬حيث األصل هو اإلنصات‬ ‫وتدبر آيات اهلل تعالى واحترام قوانينه‬ ‫بتجسيد فعل التلقّي دون أي سابق حق‬ ‫س الحصى‪ .‬لكن؛ حينما‬ ‫حتى ولو في َم ّ‬ ‫مؤسسة‬ ‫مستوى‬ ‫من‬ ‫الخطاب‬ ‫ينتقل هذا‬ ‫ّ‬ ‫المسجد إلى مستوى الوسيلة اإلعالمية‬ ‫المفتوحة على العالم‪ ،‬فيكون األصل في‬ ‫عملية التلقّي هو االحتراز‪ ،‬ألن األصل‬ ‫يتحول من‬ ‫في تداول المعلومة الدينية‬ ‫ّ‬ ‫مستوى التلقّي العادي إلى المستوى‬ ‫االفتراضي الذي يجعل من مسألة تجاوز‬ ‫أهم وأبرز ُأسس اشتغاله‪.‬‬ ‫الحقيقة أحد ّ‬

‫وإذا كان الباحثون يعتبرون أن المشاهد‬ ‫للمادة اإلعالمية البصرية ما هو ّإل‬ ‫متلقّي ًا شأنه شأن بقية أصناف المتلقّين‬ ‫اآلخرين‪ ،‬فإن تحليله في السنوات‬ ‫األخيرة لم يعّد يقتصر على هذا المفهوم‬ ‫أو على اعتباره «ظاهرة نفسية»‪ ،‬بل‬ ‫الم ِ‬ ‫شاهد‬ ‫أصبح المفهوم يتسع ليصبح ُ‬ ‫ال ُموازي ًا ومهم ًا‬ ‫ُمراِقباً‪ ،‬ومن َثّم حق ً‬ ‫للدارسين‪ ،‬ومن َثّم نزوعه نحو مجموعة‬ ‫تتكون لديه وتحّدد‬ ‫من االتجاهات التي ّ‬ ‫نوعية المعلومات التي يريد تلقيها‪.‬‬ ‫وبقدر فهمنا التجاهاته تلك نستطيع‬ ‫أن نفهم حقيقة شخصه وطبعه وذاته‬ ‫والمعاني المستنبطة من المعلومات التي‬ ‫التزود بها‪.‬‬ ‫يريد‬ ‫ُّ‬

‫أسسة‬ ‫الم ّ‬ ‫ضرورة َ‬ ‫يستمد اإلعالم الشفاف قوة سلطته‬ ‫من رغبته في المساهمة في صناعة‬ ‫الحقيقة‪ ،‬هذا يجعل منه سلطة معارضة‬ ‫لكل السلط(‪ ،)10‬وهذه السلطة تتدفق‬ ‫منها الرسائل اإلعالمية نحو المتلقي‪،‬‬ ‫وفي كثير من األحيان ال يستطيع األخير‬ ‫التحاور مع المعاني المستنبطة من هذه‬ ‫الرسائل‪ ،‬قد يتفاعل؛ ولكن أن يتحاور‬ ‫أسس ومبادئ الحوار الذي يقبل‬ ‫وفق ّ‬ ‫‪42‬‬

‫ويحدث أن ترتقي الوسيلة اإلعالمية‬ ‫بنفسها إلى مستوى سلطوي ال مجال‬ ‫فيه لالعتقاد أو الترويج للحقيقة‪ ،‬بقدر‬ ‫ما تكون الوجهة هي السيطرة على عقول‬ ‫الناس‪ ،‬ما يجسد صحة وسالمة ما ذهب‬ ‫إليه العالم الكندي مارشال ماكلوهان‬ ‫حينما جعل من الوسيلة اإلعالمية رسالة‬ ‫في َحّد ذاتها‪ ،‬وبقدرما تكون لديها القدرة‬ ‫على استقطاب جمهور المتلقّين‪ ،‬بقدر‬ ‫تجسد مفهوم ًا سلطوي ًا جديدًا لفائدة‬ ‫ما ّ‬ ‫وسائل اإلعالم كي تمارسه‪ .‬ففي هذه‬ ‫الحالة ال حقيقة تهم بقدر ما يهم هل‬ ‫تمكنت من إحداث‬ ‫وصلت الرسالة؟‪ ،‬وهل ّ‬ ‫فعل التأثير‪ .‬ولذلك؛ كان البد من دراسة‬ ‫هذه الوسائل اإلعالمية دراسة نقدية كما‬ ‫فكر الفرنسي‬ ‫والم ِّ‬ ‫دعا إلى ذلك العالم ُ‬ ‫رجيس دوبريه‪.‬‬

‫توصيات‬ ‫وكْيف‬ ‫بكّم َ‬ ‫‪ - 1‬االعتماد على دراسات تهتم َ‬ ‫وشكل ومضمون اإلعالم المرتبط بالدين‪.‬‬ ‫‪ - 2‬اعتبار اإلسالم الديني أحد‬ ‫التخصصات اإلسالمية التي تحتاج إلى‬ ‫ّ‬ ‫التطوير لتكون الرسالة مالئمة لحاجيات‬ ‫الجمهور‪.‬‬ ‫‪ - 3‬تفادي االستخدام السياسوي للدين‬ ‫عبر اإلعالم‪ ،‬فذلك االستخدام يؤثِّر سلب ًا‬ ‫على الدين وعلى اإلعالم معاً‪.‬‬ ‫التحوالت‬ ‫‪ - 4‬مراعاة تأثيرات‬ ‫ّ‬ ‫التكنولوجية في مجال اإلعالم‬ ‫واالتصال عن الخطاب الديني واإلعالمي‬ ‫واستثمارها لصالح االتجاه التنويري‪.‬‬ ‫‪ - 5‬جعل المعالجة اإلعالمية للقضايا‬ ‫أسس المهنية‬ ‫الدينية تقوم على ّ‬ ‫وأخالقيات العمل اإلعالمي‪.‬‬ ‫‪ - 6‬اعتبار مجال تناول الخطاب اإلعالمي‬ ‫المتخصصين وذوي‬ ‫للدين من مهمات‬ ‫ّ‬ ‫التأهيل صيانة للمصالح العليا لألمة‪.‬‬ ‫‪ - 7‬اعتبار دور الصحافي إسهام ًا في‬ ‫تطوير حوار مثمر وإيجابي بين مختلف‬ ‫ومكوناته‬ ‫فئات وشرائح المجتمع‬ ‫ّ‬


‫اللّغوية والثّقافية والسياسية‪.‬‬ ‫‪ - 8‬التوضيح الدائم للجمهور المتلقّي‬ ‫بفلسفة عمل اإلعالم واإلعالميين وحدوده‬ ‫حتى ال يقوم أحد بتشويه صورة اإلعالم‬ ‫عن طريق تحميله مسؤولية أحداث أو‬ ‫أعمال أو اتجاهات قد تسيء للمهنة‪،‬‬ ‫وكذلك لتوضيح بأن اإلعالم مهنة فإذا‬ ‫أخطأ البعض‪ ،‬فهذا ال يقبل أي مسؤولية‬ ‫لآلخرين‪.‬‬ ‫‪ - 9‬الدخول في مناقشات مفتوحة مع‬ ‫الشباب حول األفكار الغريبة على الدين‬ ‫الحنيف والتصّدي لها من خالل علماء‬ ‫وخبراء لهم مرجعيات دينية وعلمية‬ ‫وفكرية بتوافق مع العصر الحديث‬ ‫ومستجداته‪.‬‬ ‫‪ - 10‬خلق آليات وطنية لإلشراف على‬ ‫أسس‬ ‫إدارة اإلعالم الديني بما يثبت ّ‬ ‫ومرتكزات وخصوصيات الدولة الوطنية‬ ‫ولتحقيق الرسالة السمحة للدين للنهوض‬ ‫باإلعالم الديني‪ ‬المقروء والمسموع‬ ‫والمرئي‪.‬‬ ‫‪ - 11‬طرح بدائل إعالمية لمواجهة‬ ‫التحّديات التي تفرضها وسائط إعالمية‬ ‫دينية تتبنى مرجعيات دينية ذات طابع‬ ‫عالمي‪.‬‬ ‫‪ - 12‬دعم وتشجيع المبادرات اإلعالمية‬ ‫التي تفصل ما بين رجل الدين والدين‪،‬‬ ‫وتقّدم للمتلقّي صورة سليمة عن رسالة‬ ‫اإلسالم السمحة‪.‬‬ ‫تقر البرلمانات العربية‪،‬‬ ‫‪ - 13‬البد وأن ّ‬ ‫بل والجامعة العربية تشريعات وقواعد‬ ‫قانونية نتفق عليها لتكون أساس ًا نبني‬ ‫عليه في تعميق الممارسة اإلعالمية‬ ‫الفضائية واحترام اآلخر‪ ،‬ومنع ما‬ ‫يسيء إلى األديان المختلفة‪ ،‬بمعنى آخر‬ ‫البد من تحركات قانونية وقائية لتجفيف‬ ‫منابع تغذية هذه الفضائيات‪ ،‬ألنها غير‬ ‫قادرة على الصمود وستنهار في حال‬ ‫توقّف الدعم المادي لها‪.‬‬ ‫‪ - 14‬الدعوة إلى تأسيس هيئة خاصة‬ ‫بالفضائيات يكون لها تأثير عالمي‪،‬‬ ‫مختصة‪ ،‬تضع األهداف والقوانين‬ ‫والمعايير الواضحة التي يجب على‬

‫كل ُم َّلك القنوات الفضائية السير على‬ ‫نهجها من خالل متابعة نوعية البرامج‬ ‫وأهدافها‪.‬‬ ‫‪ - 15‬الدعوة إلى خوض تحركات عاجلة‬ ‫من دور اإلفتاء في مختلف أقطار الوطن‬ ‫العربي تقول بأن التحريض على اآلخر‬ ‫مرفوض‪ ،‬ألنه ال يتفق مع طبيعة الرسالة‬ ‫المحمدية وال مع حقوق اإلنسان‪ ،‬وال مع‬ ‫تغيرات العصر‪ ،‬حيث تزداد المشكلة‬ ‫ُّ‬ ‫التعصب فكري ًا أو‬ ‫تعقيدًا حينما يكون‬ ‫ُّ‬ ‫متخفي ًا تحت ستار الدين‪ .‬وفي المقابل‬ ‫البد أن تتصدى القنوات المسؤولة لمثل‬ ‫هذه الممارسات فتقّدم إعالم ًا وقائياً‪ ،‬ال‬ ‫يتحول األمر إلى سجال‬ ‫دفاعياً‪ ،‬كي ال‬ ‫ّ‬ ‫بين فئتين وعليها أن تنشر الوعي الديني‬ ‫بين الناس‪ ،‬كما أنه البد من زيادة جرعة‬ ‫القيم في ساعات البث‪ ،‬وتنشئة الناس‬ ‫على احترام القيم اإلنسانية والعقدية‬ ‫لكافة األديان‪ ،‬حتى ال يصبح المشاهد‬ ‫فريسة لفضائيات الفتنة‪.‬‬ ‫‪ - 16‬إحداث آليات للتواصل بمختلف‬ ‫المجالس العلمية يشرف على تدبيرها‬ ‫أطراف متخصصون خريجو معاهد‬ ‫وكليات اإلعالم واالتصال‪ ،‬يجمعون‬ ‫ما بين التكوين الديني والممارسة‬ ‫الصحافية‪ .‬في هذا اإلطار‪ ،‬يالحظ‪،‬‬ ‫إشراف عدد من أساتذة مختلف أسالك‬ ‫التكوين على برامج دينية في غياب أي‬ ‫تكوين في مجال الصحافة واإلعالم‪.‬‬ ‫‪ - 17‬إحداث فضائيات وطنية تعتمد‬ ‫أسس ومقومات الدولة الوطنية تكون‬ ‫ّ‬ ‫مرجع ًا ألي راغب في المعلومة الدينية‬ ‫كيف ما كان نوعها‪ ،‬بل وتكون مرجع ًا‬ ‫للفصل في مختلف القضايا العالقة‬ ‫بأمور الدين‪ .‬وال معنى في هذا الصدد‬ ‫ألي منبر إعالمي يتبنّى الخطاب الديني‬ ‫يجعل سكان الدولة الوطنية على ارتباط‬ ‫بمنابر ال تمت بصلة ألسس ومرتكزات‬ ‫الدولة الوطنية ووحدتها الترابية‪ .‬وفي‬ ‫هذا اإلطار‪ ،‬يوصي المؤتمر بإحداث قناة‬ ‫فضائية مغربية تكون بمثابة المرآة التي‬ ‫تعكس أنشطة المجلس العلمي األعلى‪.‬‬ ‫مؤسسات‬ ‫وكذلك األمر بالنسبة لمختلف ّ‬ ‫اإلفتاء العربية واإلسالمية‪.‬‬ ‫‪ - 18‬إحداث تكوينات على مستوى‬

‫المتخصص‬ ‫اإلجازة المهنية والماستر‬ ‫ّ‬ ‫بالجامعات مفتوحة في وجه كل الراغبين‬ ‫في تقوية أدائهم اإلعالمي الديني‪.‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫هوامش‪:‬‬ ‫‪ - 1‬أستاذ بالمعهد اإلسالمي لتكوين اإلطارات‬ ‫الدينية تيزي وزو وبالتالغمة والية ميلة‪،‬‬ ‫وبجامعتي األمير عبد القادر بقسنطينة (‪- 1999‬‬ ‫‪ )2002‬ويحي فارس بالمدية (‪.)2013 - 2007‬‬ ‫‪ - 2‬باحث مغربي في اإلعالم والفكر اإلسالمي‪.‬‬ ‫‪ - 3‬يونس إمغران‪« ،‬اإلعالم الديني واإلعالم‬ ‫اإلسالمي‪ :‬وهم القطيعة ويقينية التمايز»‪ ،‬أشغال‬ ‫المؤتمر الدولي السابع لصناعة اإلعالم واالتصال‬ ‫المنظم من ِقَب ِل المركز المغربي للدراسات‬ ‫ّ‬ ‫واألبحاث في وسائل اإلعالم واالتصال بشراكة‬ ‫مع جامعة عبد المالك السعدي ما بين ‪ 22‬و‪25‬‬ ‫إبريل ‪ 2014‬بتطوان حول موضوع «جمهور‬ ‫الخطاب اإلعالمي الديني وإشكالية التلقّي‪َ ..‬م ْن‬ ‫وم ْن يستهلكها؟»‪.‬‬ ‫ينتج المعاني َ‬ ‫‪ - 4‬نهوند القادري عيسى‪« ،‬قراءة في ثقافة‬ ‫الفضائيات العربية الوقوف على تخوم التفكيك»‪،‬‬ ‫منشورات مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬ط‬ ‫الثانية‪ ،2013 ،‬ص ‪.133‬‬ ‫‪ - 5‬مرجع سابق‪.‬‬ ‫‪ - 6‬خالد المعلم‪ ،‬دراسة بعنوان «محاضرة عن‬ ‫والتطرف الديني»‪ ،‬دراسة علمية‬ ‫الفضائيات‬ ‫ُّ‬ ‫ُألقيت خالصتها في الدورة السابعة لمؤتمر تطوان‬ ‫الدولي لصناعة اإلعالم واالتصال التي ُن ِّظَم ْت‬ ‫بتطوان ما بين ‪ 22/25‬إبريل ‪.2014‬‬ ‫‪« - 7‬الفضائيات وتأثيرها على مجتمعنا»‪ ،‬مجلة‬ ‫بيان العدد ‪ ،189‬كما نشرت الدراسة على أكثر من‬ ‫موقع علمي‪ ،‬للمزيد من المعطيات يمكن النقر على‬ ‫‪.https://saaid.net/bahoth/19.htm‬‬ ‫‪ - 8‬نهوند القادري عيسى‪« ،‬قراءة في ثقافة‬ ‫الفضائيات العربية الوقوف على تخوم التفكيك»‪،‬‬ ‫منشورات مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬ط‬ ‫الثانية‪ ،2013 ،‬ص ‪.59‬‬ ‫‪ - 9‬ثريا السنوسي دراسة بعنوان «مالمح الفضاء‬ ‫االتصالي الديني العربي دراسة منوغرافية‬ ‫وتحليلية»‪ ،‬مجلة اإلذاعات العربية‪ ،‬وهي مجلة‬ ‫علمية فصلية تصدر عن اتحاد إذاعات الدول‬ ‫العربية‪ ،‬العدد ‪ ،2009 ،3‬ص ‪.10‬‬ ‫‪ - 10‬تعريف لألستاذ المرحوم محمد العربي‬ ‫المساري‪.‬‬ ‫‪43‬‬


‫ملف‬


‫خروج بريطانيا‬ ‫وأبواب البريكست واسعة!‬ ‫َّ‬ ‫يتشـــكل االتِّحـــاد األوروبـــي دفعة واحـــدة‪ ،‬كما ال‬ ‫لم‬ ‫يتّفق عاقـــان على انهياره دفعة واحـــدة‪ .‬لكن تصويت‬ ‫البريطانيين لصالـــح الخروج من المجموعـــة األوروبية‬ ‫رســـم‪ ،‬في نظر العديد مـــن المراقبين‪ ،‬صـــورة تهاوي‬ ‫قطع الدومينو!‪.‬‬ ‫ً‬ ‫عـــادة‪ -‬حول االنعكاســـات االقتصادية‪،‬‬‫يتم الحديث‬ ‫ّ‬ ‫ســـواء على بريطانيـــا نفســـها أو علـــى دول االتِّحاد‬ ‫عـــام‪ ،‬أو حتى على األمـــم األخرى‬ ‫األوروبي‪ ،‬بشـــكل‬ ‫ّ‬ ‫المرتبطـــة به‪ ،‬مـــن قريـــب أو مـــن بعيد؛ وهـــذا أمر‬ ‫طبيعي نظـــر ًا لكون فكـــرة االتِّحاد‪ ،‬منـــذ إرهاصاتها‬ ‫في خمســـينيات القـــرن الماضي‪ ،‬كانـــت على قاعدة‬ ‫اقتصادية بالدرجـــة األولى‪ ،‬كما توحـــي بذلك عناوين‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫التشـــكل؛ كتأســـيس الجماعة األوروبية‬ ‫محطات‬ ‫أهم‬ ‫ّ‬ ‫المؤسســـة االقتصادية‬ ‫ثم‬ ‫‪،‬‬ ‫‪1951‬‬ ‫عام‬ ‫والصلب‬ ‫للفحـــم‬ ‫ّ‬ ‫تـــم اعتمادها‬ ‫األوروبيـــة‪ ،‬بوصفهـــا أّول وحدة جمركية‬ ‫ّ‬ ‫عـــام ‪ ...1958‬وصـــو ً‬ ‫ال إلى معاهـــدة ماســـتريخ (‪)1992‬‬ ‫وســـعت من‬ ‫المؤسســـة لالتِّحـــاد األوروبـــي‪ ،‬والتي َّ‬ ‫ِّ‬ ‫بنود االتِّحـــاد لتشـــمل الجوانب‪ :‬القضائيـــة‪ ،‬واألمنية‪،‬‬ ‫والسياســـية‪ ،‬بشـــكل أكثر تق ّدم ًا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الملف‬ ‫مـــن وجهة نظـــر ثقافية وفكريـــة‪ ،‬نطرح هـــذا‬ ‫الخـــاص حول خـــروج بريطانيـــا من البريكســـت‪ ،‬وهو‬ ‫ّ‬ ‫الخروج الذي ســـيبقى لفترة ‪ -‬ربّما ‪ -‬لـــن تكون قصيرة‬ ‫المدى‪ ،‬شـــاغ ً‬ ‫ال للنخبة السياســـية والنخبـــة الفكرية‬ ‫والرأي العام العالمـــي بكثير من التر ُّقـــب والتخمين‪.‬‬


‫في عام ‪ ،2005‬نشر مارك ليونارد كتاب ًا تحت عنوان‪« :‬لماذا‬ ‫ســوف تهيمن أوروبا على القرن الحادي والعشرين؟»‪ .‬كانت‬ ‫لتوه‪،‬‬ ‫اللحظــة مواتيــة لمثل هذا الطــرح‪ ،‬وكان االّتحاد األوروبي قــد بدأ‪ِّ ،‬‬ ‫توســع في تاريخه‪ ،‬اســتقبل خاللها ‪ 10‬أعضاء ُجدد‪ ،‬وراحت‬ ‫أكبر ّ‬ ‫عملية ُّ‬ ‫متحدة‬ ‫عناوين الصحف ِّ‬ ‫«هوية أوروبية»‪ ،‬ونشوء «واليات َّ‬ ‫تبشر بانبثاق ّ‬ ‫ٍ‬ ‫بيانات اقتصادية وهمية‪،‬‬ ‫أقرت بأنها قد لفَّقــت‬ ‫أوروبيــة»‪ ،‬بل إن اليونان َّ‬ ‫وهي في غمرة حماسها لالنضمام إلى االّتحاد النقدي األوروبي‪.‬‬

‫مارك ليونارد‪:‬‬

‫خروج بريطانيا قد يعني‬ ‫«موت أوروبا التي نعرفها»‬ ‫ترجمة‪ :‬أنور الشامي‬

‫تبنّى ليونارد‬ ‫ً‬ ‫مختلفة‬ ‫نبرة‬ ‫تمام ًا‪ ،‬فكتب‬ ‫يقول‪« :‬بالنسبة‬ ‫إلى االتّحاد‬ ‫األوروبي‪ ،‬فإن‬ ‫خروج بريطانيا‬ ‫يعزِّز إمكانية‬ ‫تعرُّضه لدورة‬ ‫ُّ‬ ‫التفكك‬ ‫من‬

‫‪46‬‬

‫وفـــي هـــذا الكتـــاب‪ ،‬عـــارض‬ ‫ليونـــارد الـــرأي الـــذي يقـــول إن‬ ‫عمـــا‬ ‫الصيـــن والهنـــد يمكنهمـــا‪ّ ،‬‬ ‫ـوة‬ ‫قري ــب‪ ،‬أن تفوق ــا أمي ــركا‪ ،‬كق ـ ّ‬ ‫عالمي ــة‪ .‬وكت ــب يق ــول‪« :‬إن تل ــك‬ ‫ال ــدول تعان ــي المش ــكالت نفس ــها‬ ‫المتحــدة‬ ‫التــي تواجههــا الواليــات ِّ‬ ‫دول قومية كبيرة‬ ‫األميركيــة‪ :‬فهي ٌ‬ ‫أم ــا االّتح ــاد‬ ‫ف ــي عص ــر العولم ــة‪ّ ،‬‬ ‫تحـــو ًال‬ ‫يخـــوض‬ ‫األوروبـــي فهـــو‬ ‫ُّ‬ ‫ـوة‪ ،‬حت ــى‬ ‫ـ‬ ‫الق‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫طبيع‬ ‫ثوري ـ ًا ف ــي‬ ‫ّ‬ ‫أنـــه اســـتطاع‪ ،‬فـــي غضـــون ‪50‬‬ ‫قـــارة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ســـنة‪ ،‬فقـــط‪ ،‬أن ُي ِّ‬ ‫حـــول ّ‬ ‫برمتهـــا‪ ،‬مـــن حالـــة الحـــرب‬ ‫َّ‬ ‫الشــاملة إلــى حالــة الســام الدائم‪.‬‬ ‫ومــن خــال بنائــه شــبكة تربــط ُدولــه معـ ًا بســوق‬ ‫ومؤسســـات مشـــتركة وقانـــون دولـــي‪ ،‬بـــد ًال مـــن‬ ‫َّ‬ ‫الدول ــة القومي ــة ذات البن ــاء الهرم ــي‪ ،‬فإن ــه يض ــع‬ ‫القواعـــد الحاكمـــة للقـــرن الحـــادي والعشـــرين»‪.‬‬ ‫في صباح الجمعة (‪ 24‬يونيو‪/‬حزيران‪،)2016 ،‬‬ ‫بع ــد وق ــت وجي ــز م ــن الصدم ــة الت ــي نجم ــت ع ــن‬ ‫تصويــت بريطانيــا للخــروج مــن االّتحــاد األوروبــي‪،‬‬ ‫تبّنــى ليونــارد نبــرة مختلفـ ًـة تمام ـاً‪ ،‬فكتــب يقــول‪:‬‬

‫«بالنســبة إلى االّتحاد األوروبي‪،‬‬ ‫يعـــزز‬ ‫فـــإن خـــروج بريطانيـــا‬ ‫ِّ‬ ‫تعرضـــه لـــدورة مـــن‬ ‫إمكانيـــة ُّ‬ ‫دول أعضــاء‪،‬‬ ‫التفـ ُّـكك‪ .‬وقــد تبــدأ ٌ‬ ‫ـا عــن‬ ‫مثــل بولنــدا والمجــر‪ ،‬فضـ ً‬ ‫أح ــزاب معارض ــة‪ ،‬مث ــل الجبه ــة‬ ‫الوطنيـــة التـــي تقودهـــا ماريـــن‬ ‫لوبــان (فــي فرنســا)‪ ،‬وتحـ ُّـركات‬ ‫مماثلــة‪ ...‬وإذا مــا ُأضيفــت أزمات‬ ‫أخــرى مثــل أزمــة اليــورو‪ ،‬وأزمة‬ ‫(الشــنجن)‪ ،‬ووصــول ترامــب إلى‬ ‫البيـــت األبيـــض فـــوق خـــروج‬ ‫ثمـــة خطـــرًا‬ ‫بريطانيـــا‪ ،‬فـــإن ّ‬ ‫حقيقيــ ًا ُين ــذر باالنهي ــار»‪.‬‬ ‫مؤرقـــة‪ ،‬تابـــع‬ ‫بعـــد ليلـــة ِّ‬ ‫خاللهـــا ليونـــارد التصويـــت المحتـــدم‪ ،‬يتحـــّدث‬ ‫مــارك ليونــارد مــع الصحافــي والكاتــب فــي مجّلــة‬ ‫ـص فــي تغطيــة الشــؤون‬ ‫«‪ .»The Atlantic‬المختـ ّ‬ ‫الدوليــة‪ ،‬فــكان هــذا الحــوار الــذي يكشــف الخلل الذي‬ ‫أصــاب المشــروع األوروبــي‪ ،‬والســبب وراء خــروج‬ ‫بريطانيــا‪ ،‬والمســتقبل الــذي ينتظــر أوروبا‪ ،‬وكيف‬ ‫ت ـّـم االنتق ــال ف ــي غض ــون ‪ 10‬س ــنوات‪ ،‬فق ــط‪ ،‬م ــن‬ ‫الق ــرن األوروب ــي إل ــى االنهي ــار األوروب ــي‪.‬‬


‫ـت‬ ‫* ي ــوري فريدم ــان‪ :‬ف ــي ع ــام ‪ ،2005‬وضع ـ َ‬ ‫كتاب ـ ًا عنوان ــه «لم ــاذا س ــوف تهيم ــن أوروب ــا عل ــى‬ ‫ـت ب ــأن‬ ‫الق ــرن الح ــادي والعش ــرين» وفي ــه حاجج ـ َ‬ ‫ـارة األوروبيــة‪ ،‬يمكنها‬ ‫القــوة الناعمــة الجماعيــة للقـ ّ‬ ‫أن تصب ــح أنموذجــ ًا للمس ــتقبل‪ .‬فم ــا الخل ــل ال ــذي‬ ‫وق ــع؟‬ ‫ مــارك ليونــارد‪ :‬بعــد عــام ‪ ،1989‬ومع ســقوط‬‫جــدار برليــن ونهايــة الحــرب البــاردة‪ ،‬بــدأت حقبــة‬ ‫تاريخيـــة مذهلـــة‪ ،‬كان نجـــاح األوروبييـــن هـــو‬ ‫محورهـــا‪ .‬لقـــد ولَّـــدت شـــعورًا مفـــاده أن أوروبـــا‬ ‫تعيــد تشــكيل العالــم‪ .‬وعندمــا تقــارن بيــن خارطــة‬ ‫أوروب ــا ف ــي الع ــام ‪ 1989‬م ــع خارط ــة أوروب ــا ف ــي‬ ‫ـت كتاب ــي‪ ،‬فل ــن يك ــون‬ ‫الع ــام ‪ ،2005‬عندم ــا وضع ـ ُ‬ ‫بوس ــعك التع ـ ُّـرف إليه ــا؛ فق ــد نش ــأت دول كثي ــرة‬ ‫تحولــت بلــدان الكتلــة الســوفياتية إلى‬ ‫جديــدة‪ ،‬فيمــا َّ‬ ‫وانضم ــت إل ــى االّتح ــاد‬ ‫الديموقراطي ــة الليبرالي ــة‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫كل هـــذه الموجـــات‬ ‫األوروبـــي‪ .‬وباإلضافـــة إلـــى ّ‬ ‫المختلف ــة م ــن البل ــدان الت ــي تنض ـ ّـم إل ــى االّتح ــاد‬ ‫األوروب ــي‪ ،‬لدي ــك موج ــة أخ ــرى م ــن البل ــدان الت ــي‬ ‫يبــدو أنهــا اســتلهمت ذلــك‪ ،‬كالثــورة البرتقاليــة فــي‬ ‫أوكراني ــا‪ ،‬والث ــورة الوردي ــة ف ــي جورجي ــا‪ .‬كان ــت‬ ‫الشــعوب تنــزل إلــى الشــوارع‪ ،‬وتطرق بــاب االّتحاد‬ ‫األوروب ــي مطالب ـ ًـة ب ــأن ُيس ـ َـمح له ــا بالدخ ــول‪ ،‬ث ـّـم‬ ‫لدي ــك‪ -‬أيضــاً‪ ،‬عل ــى الصعي ــد العالم ــي‪ -‬مجموع ــة‬ ‫المؤسس ــات كان ــت قي ــد التش ـ ُّـكل‪ ،‬وق ــد‬ ‫جدي ــدة م ــن‬ ‫َّ‬ ‫جســدت الطريقــة األوروبيــة فــي العمــل‪ ،‬فــي عصــر‬ ‫َّ‬ ‫منظم ــة التج ــارة العالمي ــة‬ ‫م ــا بع ــد الس ــيادة‪ ،‬مث ــل َّ‬ ‫وبروتوكــول كيوتــو والمحكمــة الجنائيــة الدوليــة‪.‬‬ ‫تغيــر‬ ‫ـت أن أوروبــا ِّ‬ ‫ّ‬ ‫أمــا الطريقــة الرابعــة التــي رأيـ ُ‬ ‫العالــم مــن خاللهــا فهــي أنهــا أطلقــت‪ ،‬فــي المنطقــة‪،‬‬ ‫م ــا ُيس ـّـمى بحال ــة «تأثي ــر الدومين ــو»‪ .‬كان ــت لدي ــك‬ ‫تتوح ــد معــاً‪ ،‬وتس ــتعير أنم ــوذج‬ ‫مناط ــق أخ ــرى‬ ‫َّ‬ ‫وتج ُّمــع‬ ‫ـي‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫اإلفريق‬ ‫ـاد‬ ‫ـ‬ ‫ح‬ ‫ت‬ ‫اال‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫مث‬ ‫ـي‪:‬‬ ‫ـ‬ ‫االّتحــاد األوروب‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫قـــارة‪،‬‬ ‫وتج ُّمـــع الميركوســـور‪ .‬فـــي ّ‬ ‫كل ّ‬ ‫اآلســـيان‪َ ،‬‬ ‫كان يبــدو أن هنــاك محاولــة إلنشــاء نــادي إقليمــي‬ ‫للدعــم‪ ،‬وحتــى لــو كان ال يماثــل االّتحــاد األوروبي‪،‬‬ ‫ـل‪ -‬يس ــتلهمه‪.‬‬ ‫فإن ــه‪ -‬عل ــى األق ـ ّ‬ ‫إن تلـــك األشـــياء مجتمعـــة قـــد َولَّـــدت شـــعورًا‬ ‫بــأن أوروبــا تعيــد تشــكيل العالــم علــى صورتهــا‪،‬‬ ‫أم ــا ف ــي عال ــم ع ــام ‪،2016‬‬ ‫ُ‬ ‫وتص ـ ِّـدر ِقَيمه ــا إلي ــه‪ّ .‬‬ ‫ف ــإن أح ــد األش ــياء المقلق ــة أن معظ ــم األوروبيي ــن‬ ‫ـوده‬ ‫بات ــوا يش ــعرون ب ــأن العال ــم م ــن حوله ــم تس ـ ُ‬ ‫حولهـــم‪ ،‬كمـــا‬ ‫الفوضـــى‪ ،‬وأن العالـــم هـــو الـــذي ُي ِّ‬ ‫ـل‬ ‫ه ــو الح ــال م ــع االنتفاض ــات العربي ــة الت ــي تض ـ ّ‬ ‫طريقهــا؛ مــا يعنــي أن جيــران أوروبا ال يســتوردون‬ ‫الديموقراطيــة والقيــم األوروبيــة‪ ،‬لكنهــم ُيصـ ِّـدرون‬ ‫المكونات الرئيســية‬ ‫لهــا الالجئيــن والفوضى‪ .‬وأحد ّ‬ ‫ـرديتي الت ــي طرحته ــا ي ــدور ح ــول كي ــف أن‬ ‫ف ــي س ـ َّ‬

‫االّتح ــاد األوروب ــي كان يب ــدو‪ ،‬عندئ ــذ‪ ،‬أن ــه يعي ــد‬ ‫أمــا اآلن فــإن تركيــا هــي التــي ُتملــي‬ ‫تشــكيل تركيــا‪ّ ،‬‬ ‫شــروطها فــي التبــادل التجــاري مــع أوروبــا‪ ،‬عبــر‬ ‫تهديدهــا بإرســال الالجئيــن إلــى االّتحــاد األوروبــي‪.‬‬ ‫فاعليــة الكثير من‬ ‫تعطلــت‬ ‫وعلــى الصعيــد العالمــي‪َّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫أهمّية‬ ‫ذات‬ ‫أصبحت‬ ‫أنها‬ ‫المؤسســات التي كان يبدو‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫كبيــرة؛ وذلــك بســبب التنافــس الجيوسياســي‪.‬‬ ‫أتنبــأ بــه‪ ،‬فــي عــام ‪،2005‬‬ ‫«إن الشــيء الــذي لــم َّ‬ ‫هـــو انهيـــار الديموقراطيـــة التمثيليـــة‪ ،‬وهـــو أمـــر‬ ‫كل م ــكان»‪.‬‬ ‫يح ــدث‪ ،‬اآلن‪ ،‬ف ــي ّ‬ ‫تغيـــرت الذهنيـــة األساســـية‬ ‫ومـــن ثَّـــم‪ ،‬فقـــد َّ‬ ‫لألوروبييـــن‪ .‬وبـــد ًال مـــن التفكيـــر فـــي االّتحـــاد‬ ‫ّ‬ ‫يغير‬ ‫أن‬ ‫يمكنه‬ ‫ا‬ ‫عالمي‬ ‫ا‬ ‫ـروع‬ ‫ـ‬ ‫مش‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫بوصف‬ ‫ـي‪،‬‬ ‫األوروبـ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫أي أح ــد آخ ــر‪ ،‬بدأن ــا نفك ــر ف ــي االّتح ــاد األوروب ــي‬ ‫ّ‬ ‫ـش واس ــتثنائي يحت ــاج َم ــن‬ ‫عل ــى أن ــه مش ــروع ه ـ ّ‬ ‫يداف ــع عن ــه‪ ،‬ويحمي ــه ِم ــن اآلخري ــن‪ .‬وق ــد ج ــاءت‬ ‫ه ــذه التغيي ــرات ف ــي البيئ ــة الخارجي ــة‪ ،‬ف ــي وق ــت‬ ‫دول كثي ــرة‪ ،‬داخليــاً‪ ،‬واقع ــة تح ــت‬ ‫كان ــت ُتوج ــد ٌ‬ ‫وط ــأة ضغ ــوط اقتصادي ــة كبي ــرة بس ــبب األزم ــة‬ ‫االقتصادي ــة األوروبي ــة‪ ،‬بم ــا ف ــي ذل ــك بريطاني ــا‬ ‫التــي تضـّـررت‪ ،‬بشـّدة‪ ،‬من األزمــة المالية العالمية‪،‬‬ ‫تقش ــفية ج ـّـراء ذل ــك‪.‬‬ ‫وأعلن ــت ميزاني ــة حكومي ــة ُّ‬ ‫وأحـــد اآلثـــار األخـــرى لمـــا حـــدث عـــام ‪،1989‬‬ ‫ولتوســع االّتحــاد األوروبــي‪ ،‬هــو أن تســتقبل هــذه‬ ‫ُّ‬ ‫التدفُّق ــات الكبي ــرة م ــن الن ــاس‪ .‬وه ــذه ه ــي طريق ــة‬ ‫أخــرى‪ ،‬يــرى النــاس‪ ،‬مــن خاللها‪ ،‬أن الخــارج يقوم‬ ‫ّي ــات ف ــي‬ ‫بتش ــكيلهم‪ ،‬وأنه ــم س ــوف يصبح ــون أقلّ‬ ‫بلدانه ــم‪ ،‬وأن هن ــاك أش ــخاص ًا يدخل ــون بلدانه ــم‪،‬‬ ‫ويغيــرون طبيعتهــا؛ وهــذا هــو أحــد الشــعارات التي‬ ‫ِّ‬ ‫ـردد هنــا‪« :‬أريــد اســترداد بلــدي»‪.‬‬ ‫تتـ ّ‬ ‫توجهــات‬ ‫إن بعــض هــذه‬ ‫التوجهــات هــي مجـ َّـرد ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫تتخــذ قــرارًا مثــل القــرار الذي‬ ‫دوريــة‪ ،‬ولكنــك عندمــا َّ‬ ‫َّاتخــذه الناخبــون البريطانيــون أمــس‪ ،‬يصبــح مــن‬ ‫ـول هــذه الدورية‪،‬‬ ‫العســير جـّدًا أن تنقضــه‪ .‬وقــد تتحـ َّ‬ ‫ـــم‬ ‫ت‬ ‫إذا‬ ‫هيكليـــة‪،‬‬ ‫تغيـــرات‬ ‫َ‬ ‫بســـهولة كبيـــرة‪ ،‬إلـــى ُّ‬ ‫ّ‬ ‫حفظهــا مــن خــال اســتفتاء‪.‬‬ ‫وهــا نحــن نــرى جميــع النخــب‪ ،‬فــي جميــع بلــدان‬ ‫المتقدمــة‪ ،‬تمـ ُّـر بهــذه األزمة‪ .‬ففــي دول كثيرة‬ ‫العالــم‬ ‫ِّ‬ ‫المتح ــدة األميركي ــة‪ ،‬حي ــث يوج ــد‬ ‫مث ــل الوالي ــات ِّ‬ ‫دونالــد ترامــب‪ ،‬األزمــة قيــد االحتــواء إلــى َحـ ٍّـد مــا‪،‬‬ ‫االتحــاد األوروبــي‪،‬‬ ‫المتحــدة وفــي ِّ‬ ‫أمــا فــي المملكــة َّ‬ ‫َّ‬ ‫ـا‪ -‬ف ــي‬ ‫ونظ ــرًا لتراب ــط دول ــه‪ ،‬فإنه ــا ق ــد تب ــدأ‪ -‬فع ـ ً‬ ‫تقويـــض االّتحـــاد األوروبـــي‪ .‬وهـــذه هـــي إحـــدى‬ ‫المخاط ــر الماثل ــة‪ ،‬فق ــد أصبحن ــا‪ ،‬وبع ــد دورة م ــن‬ ‫االندم ــاج والتف ــاؤل‪ ،‬ف ــي خض ـّـم دورة م ــن التف ـ ُّـكك‬ ‫والتشــاؤم‪ ،‬وهــذه األشــياء يمكنهــا أن تعـ ِّـزز نفســها‬ ‫بنفســها‪.‬‬

‫معظم‬ ‫األوروبيين‬ ‫باتوا يشعرون‬ ‫بأن العالم‬ ‫من حولهم‬ ‫تسو ُده‬ ‫الفوضى‪ ،‬وأن‬ ‫العالم هو‬ ‫الذي يُح ِّولهم‬

‫‪47‬‬


‫ما يحدث‪ ،‬اآلن‪،‬‬ ‫هو أن لدينا‬ ‫ق ّوة مضا ّدة‬ ‫ومؤثِّرة تجعل‬ ‫الناس يقولون‪:‬‬ ‫«أوقفوا هذا‬ ‫العالم‪ ،‬نريد‬ ‫النزول منه‪.‬‬ ‫نريد العودة‬ ‫إلى الثوابت‬ ‫السابقة»‬

‫‪48‬‬

‫* فريدمـــان‪ :‬مـــاذا يعنـــي التصويـــت بخـــروج‬ ‫أي مدى‬ ‫بريطانيــا لمســتقبل االّتحاد األوروبــي؟ وإلى ّ‬ ‫ينبغــي رؤيــة مــا حــدث‪ ،‬من منظــور أن «بريطانيا لم‬ ‫ـط‪ -‬فــي االّتحــاد النقــدي األوروبــي‪ ،‬وأنهــا‬ ‫تندمــج‪َ ،‬قـ ّ‬ ‫التحف ــظ إزاء االّتح ــاد‬ ‫كان ــت‪ ،‬دائمــاً‪ ،‬تحم ــل بع ــض‬ ‫ُّ‬ ‫األوروب ــي‪ ،‬وأن ه ــذا الخ ــروج كان أم ــرًا محتومــاً»‪،‬‬ ‫فــي مقابــل رؤيــة مــا حــدث مــن منظــور أن المشــروع‬ ‫األوروبــي نفســه قــد بــات ُمهـ َّـددًا فــي صميــم وجــوده؟‬ ‫ ليونـــارد‪ :‬االّتحـــاد األوروبـــي لـــن يتالشـــى‪،‬‬‫العـــدوى؛ أي أن‬ ‫ّ‬ ‫لكـــن هنـــاك خطريـــن‪َّ :‬‬ ‫األول هـــو َ‬ ‫دوامــة مــن التفـ ُّـكك‪ ،‬مــع لجوء‬ ‫ـت‬ ‫ـ‬ ‫التصوي‬ ‫ـذا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ـق‬ ‫يطلـ‬ ‫ّ‬ ‫دول أخــرى لمحــاكاة هــذه اإلجــراءات‪ .‬وألنــه يأتــي‬ ‫ـرة‪ ،‬عقــب أزمــات كبيــرة يواجههــا األوروبيون‬ ‫مباشـ ً‬ ‫(مثــل مــا تبّقــى مــن أزمــة اليــورو وأزمــة الالجئين)‪،‬‬ ‫ـا‪ -‬تحــت وطــأة‬ ‫ـع‪ -‬فعـ ً‬ ‫ـاء واقـ ٌ‬ ‫فإنــه يصبــح لديــك بنـ ٌ‬ ‫الضغــوط؛ ولذلــك‪ ،‬يقــول النــاس‪« :‬أوقفــوا العالــم‪،‬‬ ‫نريــد النــزول‪ .‬نريــد العــودة إلــى الثوابــت الســابقة»‪.‬‬ ‫يتعل ــق بم ــوت أوروب ــا‬ ‫أم ــا الخط ــر اآلخ ــر فه ــو َّ‬ ‫التــي نعرفهــا‪ ،‬وذلــك مــا كان كتابي يتمحــور حوله‪.‬‬ ‫كان يــدور حــول أن أوروبــا يمكنها أن تتطلّع‪ -‬فعالً‪-‬‬ ‫ألن تصبــح ذات تأثيــر فــي الطريقــة التــي يتـّـم بهــا‬ ‫تنظي ــم العال ــم‪ .‬س ــيكون ل ــك ص ــوت أوروب ــي إل ــى‬ ‫جانــب القــوى العظمــى األخــرى‪ ،‬وهــذا أمــر يصعــب‬ ‫ـون بريطان ــي ف ــي‬ ‫القي ــام ب ــه إذا ل ــم يك ــن لدي ــك مك ـ ّ‬ ‫المشــروع األوروبــي؛ ألن بريطانيــا هي إحدى الدول‬ ‫التــي تأخــذ السياســة الخارجيــة علــى محمــل الجـّد‪،‬‬ ‫والت ــي كان ــت لديه ــا رؤي ــة أكث ــر عالمي ـ ًـة‪ ،‬وتمتل ــك‬ ‫طموحـ ًا مــا لتشــكيل األشــياء‪ .‬إن أوروبــا‪ ،‬مــن دون‬ ‫ـل قــدرة‬ ‫ربمــا‪ -‬أقـّ‬ ‫بريطانيــا‪ ،‬هــي أفقــر وأصغــر‪ ،‬و‪َّ -‬‬ ‫علــى تأديــه مثــل هــذا الــدور‪.‬‬ ‫* فريدمــان‪ :‬كيــف تصــف هــذه اللحظــة فــي تاريخ‬ ‫أوروبــا الحديث؟‬ ‫ـادة‪ .‬كان‬ ‫ ليون ــارد‪ :‬إنه ــا لحظ ــة الث ــورة المض ـ ّ‬‫كتاب ــي‪ -‬ف ــي األس ــاس‪ -‬يق ـ ِّـدم وصف ـ ًا للث ــورة الت ــي‬ ‫غي ــرت طريق ــة تنظي ــم الس ــلطة والسياس ــة‪ .‬إن ــه‬ ‫َّ‬ ‫تعبيـــر عـــن هـــذا الطمـــوح الثـــوري‪ ،‬حيـــث كانـــت‬ ‫قواني ــن العالق ــات الدولي ــة ُتع ــاد كتابته ــا‪.‬‬ ‫مضـــادة‬ ‫قـــوة‬ ‫ّ‬ ‫مـــا يحـــدث‪ ،‬اآلن‪ ،‬هـــو أن لدينـــا ّ‬ ‫ومؤثِّـــرة تجعـــل النـــاس يقولـــون‪« :‬أوقفـــوا هـــذا‬ ‫العالـــم‪ ،‬نريـــد النـــزول منـــه‪ .‬نريـــد العـــودة إلـــى‬ ‫الثواب ــت الس ــابقة»‪ .‬إنه ــم يتبّن ــون لغ ــة االس ــتقالل‬ ‫ال لغـــة الترابـــط‪ .‬إنهـــم يحاولـــون النكـــوص عـــن‬ ‫التغييـــرات العميقـــة التـــي أحدثهـــا المشـــروع‬ ‫األوروبـــي‪ ،‬منـــذ نهايـــة الحـــرب البـــاردة‪.‬‬ ‫ـت بق ــاء بريطاني ــا ف ــي االّتح ــاد‬ ‫* فريدم ــان‪ :‬دعم ـ َ‬ ‫األوروب ــي‪ ،‬ألي ــس كذل ــك؟‬ ‫‪ -‬ليونارد‪ :‬نعم‪.‬‬

‫* فريدمــان‪ :‬هــل أنــت بريطانــي أم أوروبــي؟ ومــا‬ ‫المتحــدة‪ ،‬وأوروبا؟‬ ‫لهويتــك ضمــن المملكــة َّ‬ ‫رؤيتــك َّ‬ ‫أمـــي‬ ‫ ليونـــارد‪ :‬أنـــا أوروبـــي حتـــى النخـــاع‪ّ :‬‬‫تتحـ َّـدر مــن عائلــة يهوديــة ألمانيــة‪ُ ،‬ولـَـدت فــي مخبأ‬ ‫ف ــي فرنس ــا‪ ،‬ع ــام ‪ ،1944‬ث ـ ّـم ع ــادت إل ــى ألماني ــا‬ ‫وأمه ــا‪ ،‬فيم ــا بق ــي أبوه ــا‬ ‫ع ــام ‪ 1950‬رفق ـ َـة أخته ــا ّ‬ ‫أمــا أبــي فهــو بريطانــي‪ ،‬إال أن حياتــه‬ ‫فــي فرنســا‪ّ .‬‬ ‫َّ‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫فق‬ ‫ً؛‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫أيض‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫األوروبي‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫بالتجرب‬ ‫تأثــرت كثيــرًا‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫إجــاؤه‪ ،‬وهــو فــي الثامنــة مــن عمره‪ ،‬حيــث انفصل‬ ‫عــن أبويــه خــال القصــف األلمانــي‪ ،‬وكان والــده قــد‬ ‫حــارب فــي الحــرب العالميــة األولــى‪ ،‬ومــات اختناق ًا‬ ‫بالغ ــاز ف ــي الخن ــادق‪ .‬وكان ــت رؤيت ــه تتماش ــى‪-‬‬ ‫أم ــا أن ــا‬ ‫إل ــى َحــّد كبي ــر‪ -‬م ــع المعايي ــر األوروبي ــة‪ّ .‬‬ ‫فق ــد عش ــت ‪ 12‬س ــنة م ــن طفولت ــي ف ــي بروكس ــل‪.‬‬ ‫ـوي ج ـّداً‪ ،‬ش ـ َّـكَلْته األح ــداث‬ ‫ـدي ت ــراث أوروب ــي ق ـ ّ‬ ‫ل ـ َّ‬ ‫التاريخيــة الكبــرى‪ ،‬فــي القــرن العشــرين‪.‬‬ ‫لكننـــي‪ -‬أيضـــاً‪ -‬أشـــعر بارتيـــاح كبيـــر فـــي‬ ‫أفك ــر ف ــي‬ ‫بريطاني ــا‪ ،‬وق ــد أمضي ــت وقتــ ًا طوي ـ ً‬ ‫ـا ِّ‬ ‫والهوي ــة البريطاني ــة‪ ،‬وأح ــاول‬ ‫معن ــى بريطاني ــا‬ ‫ّ‬ ‫فهـــم هـــذا المزيـــج الغريـــب فـــي كونهـــا جزيـــرة‪،‬‬ ‫لكنه ــا‪ ،‬م ــع ذل ــك‪ ،‬تمتل ــك رؤي ــة عالمي ــة للعال ــم‪،‬‬ ‫بقي ــة دول العال ــم‪ ،‬وتحتف ــظ‬ ‫ولديه ــا عالق ــات م ــع ّ‬ ‫الهويــة البريطانيــة‪،‬‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫بســمات الثوريــة الصامت‬ ‫ّ‬ ‫هجن ــة‬ ‫الم َّ‬ ‫والهجن ــة؛ أي ّ‬ ‫وم ــن بينه ــا اإلب ــداع ُ‬ ‫األم ــة ُ‬ ‫التــي أصبحتهــا بريطانيــا‪ .‬وهــذه‪ -‬فــي رأيــي‪ -‬مــن‬ ‫بيــن أشــياء أخــرى كانــت موضــع ســجال فــي هــذا‬ ‫االس ــتفتاء‪.‬‬ ‫خلفيتـــك األســـرية‪،‬‬ ‫* فريدمـــان‪ :‬فـــي ضـــوء‬ ‫َّ‬ ‫وعمل ــك الس ــابق‪ ،‬م ــا ال ــذي يعني ــه ه ــذا التصوي ــت‬ ‫لــك شــخصياً؟ كيــف كان شــعورك عندمــا اســتيقظت‬ ‫ذل ــك الصب ــاح؟‬ ‫ ليونـــارد‪ :‬حســـناً‪ ،‬أنـــا لـــم أســـتيقظ؛ ألنـــي‬‫ســهرت طــوال الليــل‪ .‬لقــد َّ‬ ‫مثــل لــي صدمــة حقيقيــة‬ ‫ألن االســتفتاء أظهــر حـّدة االنقســام فــي بريطانيــا‪.‬‬ ‫صوتوا‬ ‫إنــه اســتفتاء متقــارب للغايــة‪ 52 :‬فــي المئة َّ‬ ‫للخ ــروج م ــن االّتح ــاد األوروب ــي‪ ،‬و‪ 48‬ف ــي المئ ــة‬ ‫صوتــوا للبقــاء‪ .‬وقــد تحـ َّـدث النــاس بأنــه قــد برهــن‬ ‫َّ‬ ‫عل ــى أن ــه ل ــم تع ــد هن ــاك دول ــة واح ــدة بع ــد اآلن‪:‬‬ ‫المؤيديـــن للبقـــاء(‪ ،)Remainia‬وبلـــد‬ ‫لديـــك بلـــد‬ ‫ِّ‬ ‫المؤيديــن للخــروج (‪ ،)Leavia‬لديك بلد جو كوكس‬ ‫ِّ‬ ‫المؤيـــدة للبقـــاء التـــي ُقِتلـــت)‪،‬‬ ‫(نائبـــة البرلمـــان‬ ‫ِّ‬ ‫المؤيـــد للخـــروج)‪ .‬وإذا‬ ‫ونايجـــل فـــاراج (الزعيـــم‬ ‫ِّ‬ ‫ـوت‬ ‫ـ‬ ‫ص‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫فق‬ ‫ـدن‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫لن‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـش‬ ‫ـرت إل ــى حي ــث أعي ـ‬ ‫َّ‬ ‫نظ ـ َ‬ ‫أمــا إذا‬ ‫ـاء‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫البق‬ ‫ـح‬ ‫ـ‬ ‫لصال‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫الناخبي‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫المئ‬ ‫ـي‬ ‫‪ 80‬فـ‬ ‫ّ‬ ‫قصــدت األحيــاء األخــرى‪ ،‬علــى الســاحل الجنوبــي‬ ‫أو فــي المــدن مــا بعــد الصناعيــة الواقعــة فــي شــمال‬ ‫إنجــــــــلترا‪ ،‬فســــــوف تجد نتائج عكســــــية‪.‬‬


‫ـي واضــح؛ فقــد‬ ‫وهنــاك‪ -‬أيضـاً‪ -‬اســتقطاب جيلـ ّ‬ ‫ـل أعمارهــم‬ ‫ممــن تقـّ‬ ‫صـ َّ‬ ‫ـوت ثالثــة أربــاع الشــباب‪َّ ،‬‬ ‫عــن ‪ 25‬عامـاً‪ ،‬لصالــح البقــاء‪ ،‬وكانــت تلــك صــورة‬ ‫معكوســـة‪ ،‬تقريبـــاً‪ ،‬لهـــؤالء الذيـــن يتجـــاوزون‬ ‫‪ 75‬عامــاً‪ .‬لق ــد أصب ــح لدي ــك انقس ــام عمي ــق بي ــن‬ ‫ـردية‬ ‫طريقتْي ــن‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫مختلفتي ــن ف ــي التفكي ــر بش ــأن الس ـ ّ‬ ‫الوطني ــة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫«لــم يعـّد هنــاك بلــد واحــد بعــد اآلن‪ .‬أصبح لديك‬ ‫مؤيدون للخروج»‪.‬‬ ‫مؤيــدون للبقاء‪ ،‬وآخرون ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫* فريدمـــان‪ :‬مـــا الـــذي يعنيـــه ذلـــك لمســـتقبل‬ ‫المتحــدة؟ أيرلنــدا الشــمالية ســوف يصبــح‬ ‫المملكــة َّ‬ ‫لهــا‪ ،‬اآلن‪ ،‬حــدود مشــتركة مــع إحــدى دول االّتحــاد‬ ‫أما إســكتلندا‪،‬‬ ‫األوروبــي‪ ،‬وهــي جمهوريــة أيرلنــدا‪ّ ،‬‬ ‫ـوت أكثريــة مواطنيهــا لمصلحــة البقــاء فــي‬ ‫التــي صـ َّ‬ ‫االّتح ــاد األوروب ــي‪ ،‬فه ــي‪ -‬عل ــى األرج ــح‪ -‬س ــوف‬ ‫اســـتفتاء جديـــدًا لالســـتقالل عـــن المملكـــة‬ ‫تنظـــم‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫المتحــدة‪ ،‬فيمــا تريــد إســبانيا‪ ،‬اآلن‪ ،‬الســيطرة على‬ ‫ِّ‬ ‫جبــل طــارق‪ .‬فهــل كان ذلــك‪ ،‬بطريقــة مــا‪ ،‬تصويتـ ًا‬ ‫علــى تفكيــك بريطانيــا العظمــى؟‬ ‫ ليونــارد‪ :‬آمــل ّأل يكــون ذلــك هــو مــا ســيحدث‬‫بعــد الخــروج‪ ،‬لكــن حدوثــه ِّ‬ ‫يمثــل خطــرًا حقيقيـاً‪.‬‬ ‫* فريدم ــان‪ :‬ف ــي رأي ــك‪ ،‬م ــا ال ــذي جع ــل الكّف ــة‬ ‫تميــل لصالــح خيار الخــروج؟ بعض النــاس يقولون‬ ‫إن األمـــر كلّـــه ُيعـــزى إلـــى االقتصـــاد‪ ،‬فيمـــا يـــرى‬ ‫برمته ــا‪ُ ،‬تع ــزى إل ــى‬ ‫بعضه ــم اآلخ ــر أن المس ــألة‪َّ ،‬‬ ‫الهج ــرة‪ .‬ف ــي رأي ــك م ــا ه ــو العام ــل الحاس ــم؟‬ ‫ ليونــارد‪ :‬كانــت الهجرة هي القضية الحاســمة‪،‬‬‫مما كانت‬ ‫ال أقـّ‬ ‫وكذلــك الســيادة منحــت شــك ً‬ ‫ـل تجريــدًا ّ‬ ‫عليــه بكثيــر ‪ -‬وذلــك فــي وجــود فكــرة أنــك عندمــا‬ ‫التنقــل‬ ‫حرّيــة ُّ‬ ‫تكــون فــي االّتحــاد األوروبــي‪ ،‬حيــث ّ‬ ‫مكفول ــة‪ ،‬فإن ــه لي ــس باس ــتطاعتك أن تحــّدد َم ــن‬ ‫يأتــي للعيــش فــي بلــدك‪ ،‬بعــد اآلن‪.‬‬

‫إن إحـــدى مشـــكالت الهجـــرة هـــي أنهـــا‪ ،‬رغـــم‬ ‫فوائده ــا اإلجمالي ــة عل ــى االقتص ــاد‪ ،‬ورغ ــم األدّل ــة‬ ‫الكثيـــرة علـــى أن األشـــخاص الذيـــن يفـــدون مـــن‬ ‫الخــارج يدفعــون ضرائب تفوق‪ ،‬في قيمتها‪ ،‬الفوائد‬ ‫يتحصلــون عليهــا بكثيــر‪ ،‬فــإن هــذه الفوائــد ال‬ ‫التــي‬ ‫َّ‬ ‫يتـّـم توزيعهــا بشــكل عــادل‪ .‬فهنــاك خاســرون‪ ،‬كمــا‬ ‫هنــاك فائــزون‪ .‬إذا كان هنــاك أنــاس كثيرون يفدون‬ ‫إل ــى األحي ــاء‪ ،‬دون أن تع ــرف َم ــن يذه ــب‪ ،‬وإل ــى‬ ‫ّي ــة‬ ‫أي ــن‪ ،‬ودون أن ُتق ـ َّـدم الم ــوارد للس ــلطات المحلّ‬ ‫لضمــان أن لديهــا مــا يكفــي مــن المــال لبنــاء المدارس‬ ‫والمستشـــفيات‪ ،‬فـــإن ذلـــك يولِّـــد ضغطـــ ًا علـــى‬ ‫العام ــة وعل ــى أس ــعار المن ــازل‪ ،‬ويمك ــن‬ ‫الخدم ــات ّ‬ ‫يولــد ضغطـ ًا علــى األجــور في بعــض القطاعات‪،‬‬ ‫أن ِّ‬ ‫المهمش ــون‬ ‫وه ــذا ه ــو م ــا ح ــدث‪ .‬إنه ــم الناخب ــون‬ ‫َّ‬ ‫أي‬ ‫النخــب‪ .‬وهــم ال يثقــون فــي ّ‬ ‫الذيــن انتفضــوا ضـّد َ‬ ‫أحــد يلقــون عليــه باللــوم فــي خلــق هــذه األوضــاع‪.‬‬ ‫ـوي للغاية‪،‬‬ ‫ثمــة أوجــه تشــابه قـ ّ‬ ‫وبطريقــة مــا‪ ،‬فــإن ّ‬ ‫المتح ــدة‪.‬‬ ‫م ــع صع ــود ترام ــب ف ــي الوالي ــات َّ‬ ‫* فريدمــان‪ :‬إذا كان لــك أن تحـّدد الســبب الرئيــس‬ ‫المباش ــر للنتيج ــة الت ــي آل إليه ــا التصوي ــت‪ ،‬فه ــل‬ ‫ه ــي األزم ــة المالي ــة ع ــام ‪ ،2008‬أم تراه ــا موج ــة‬ ‫الهجــرة الحاليــة إلــى أوروبــا‪ ،‬أم هــي أزمــة الديــون‬ ‫األوروبي ــة؟‬ ‫ ليونـــارد‪ :‬أعتقـــد أنـــه كان مزيجـــ ًا مـــن عـــّدة‬‫توسع االّتحاد األوروبي‪،‬‬ ‫أشياء‪ .‬ولكني أرى‪َّ -‬‬ ‫أوالً‪ُّ -‬‬ ‫وحقيق ــة أن دو ًال أخ ــرى ل ــم تفت ــح حدوده ــا‪ ،‬مم ــا‬ ‫جعــل أعــدادًا كبيــرة مــن النــاس يّتجهــون إلــى المملكة‬ ‫المتحــدة مســتعّدة لذلك‪.‬‬ ‫المتحــدة‪ ،‬ولــم تكــن المملكــة َّ‬ ‫َّ‬ ‫أســـهمت األزمـــة الماليـــة عـــام ‪ - 2008‬ثانيـــاً‪ -‬فـــي‬ ‫مفاقم ــة ذل ــك‪ ،‬فأصب ــح لدي ــك سياس ــات تقش ــفية‬ ‫عام ــة يت ـّـم إيقافه ــا‪ ،‬وراح‬ ‫يت ـّـم تطبيقه ــا‪ ،‬وخدم ــات ّ‬ ‫النــاس يلقــون باللــوم علــى الهجــرة ال علــى التدابيــر‬ ‫التقشــفية التــي َّاتخذتهــا الحكومــة‪.‬‬ ‫ُّ‬

‫راح الناس‬ ‫يلقون باللوم‬ ‫على الهجرة ال‬ ‫على التدابير‬ ‫ُّ‬ ‫التقشفية‬ ‫التي اتَّخذتها‬ ‫الحكومة‬

‫‪49‬‬


‫َّ‬ ‫المثقفون الفرنسيون‬ ‫ّ‬ ‫كل واحد يُغنّي أوروبّاه!‬

‫ابتدأت الردود بين اإلنتلجنســيا الفرنســية‪ ،‬مع ظهور بيان‪ ،‬في صحيفة لوفيغارو‪ ،‬اليمينية‪،‬‬ ‫وقّــع عليــه عشــرون مثقّف ًا وسياســي ًا فرنســي ًا منهم السياســي والوزير الســابق جــان‪ -‬بيير‬ ‫شوفنمان والفيلسوف ميشيل أونفراي وبول تيبود وغيوم بيغوت وكلود ريفيل وناتاشا بولوني وغيرهم‪.‬‬ ‫جدي ًا للبناء األوروبي على قواعد جديدة‪.‬‬ ‫ويطالب البيان بميثاق جديد لالتحاد األوروبي‪ ،‬أي توجيه ًا ّ‬ ‫ُ‬

‫محمد املزديوي (باريس)‬

‫من الطبيعي‬ ‫العثور على‬ ‫أصوات‪ ،‬من‬ ‫مختلف شرائح‬ ‫المجتمع‬ ‫الفرنسي‪،‬‬ ‫تتفهم الموقف‬ ‫ب‬ ‫البريطاني (ر ُ ّ‬ ‫ضارة نافعة!)‬ ‫وتطالب بتغيير‬ ‫مسار االتحاد‬

‫‪50‬‬

‫أصبـــح الساســـة األوروبيـــون‪ ،‬بعـــد الصفعـــة‬ ‫البريطانيــة (بريكســت)‪ ،‬واعيــن بأنــه يجــب عليهــم‬ ‫وملحـــة إلقنـــاع مواطنيهـــم‬ ‫بـــذل جهـــود إضافيـــة ّ‬ ‫باســتمرارية الحلــم األوروبــي‪ .‬إذ للقــرار البريطانــي‬ ‫مـــا بعـــده‪ ،‬بالتأكيـــد‪ .‬ولهـــذا فالجميـــع‪ ،‬ساســـة‬ ‫ومفكرون ومواطنون‪ُ ،‬يجمعون على أن المواطنين‬ ‫ِّ‬ ‫القرارات‬ ‫ذ‬ ‫ـ‬ ‫خ‬ ‫ت‬ ‫ت‬ ‫ـف‬ ‫ـ‬ ‫كي‬ ‫ـون‬ ‫ـ‬ ‫يعرف‬ ‫ال‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫الذي‬ ‫ـن‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫األوروبيي‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫األوروبيـــة‪ ،‬حقيقـــة‪ ،‬فـــي كواليـــس المجلـــس‬ ‫األوروبـــي والمفوضيـــة األوروبيـــة والبرلمـــان‬ ‫األوروب ــي‪ ،‬يحتاج ــون إل ــى ش ــفافية أكب ــر‪ ،‬وم ــن‬ ‫ـــم إلـــى طريقـــة جديـــدة فـــي ممارســـة السياســـة‬ ‫َث ّ‬ ‫األوروبيـــة‪ ،‬أي إلـــى ديموقراطيـــة أكبـــر‪.‬‬ ‫وكم ــا ه ــو الش ــأن ف ــي كل البل ــدان األوروبي ــة‪،‬‬ ‫وحـــد‬ ‫يصعـــب العثـــور فـــي فرنســـا علـــى موقـــف ُم ّ‬ ‫م ــن االتح ــاد األوروب ــي‪ .‬إذ رغ ــم أن فك ــرة «أوروب ــا‬ ‫موحـــدة وقويـــة ومســـتقرة ومزدهـــرة» فـــي زمـــن‬ ‫ّ‬ ‫ـورات عنهــا تختلــف‪،‬‬ ‫التكتــات ُتغــري‪ّ ،‬إل أن التصـّ‬ ‫بيـــن مـــن ُيريدهـــا فيدراليـــة واندماجيـــة حقيقيـــة‪،‬‬ ‫تكتـــا اقتصاديـــ ًا وعســـكرياً‪،‬‬ ‫وبيـــن مـــن يريدهـــا‬ ‫ً‬ ‫عـــل رفـــض الهولندييـــن والفرنســـيين‬ ‫ال غيـــر‪ .‬وَل ّ‬ ‫التف ــاق ماس ــتريخت‪ ،‬قب ــل س ــنوات‪ ،‬ف ــي اس ــتفتاء‬ ‫ش ــعبي‪ ،‬ث ــم موق ــف البريطانيي ــن‪ ،‬مؤخ ــراً‪ ،‬ي ــدل‬ ‫علــى اســتحالة العثــور علــى موقــف واحــد‪ ،‬وعلــى‬

‫صعوبــة التوفيــق بين مصالح مختلفــة ومتضاربة‪.‬‬ ‫وال يتعّل ــق األم ــر فق ــط بمس ــألة الح ــدود الخارجي ــة‬ ‫والحــدود الداخليــة للــدول األعضــاء (شــينغن)‪ ،‬وال‬ ‫بالموقــف مــن العملــة الموحــدة (اليــورو)‪ ،‬وهــو مــا‬ ‫رفضتــه بريطانيــا العظمــى وبعــض الــدول األخــرى‬ ‫مــن البدايــة‪ ،‬وإنمــا أيضـ ًا بقضيــة مــا يــراه الكثيرون‬ ‫كل بلٍد علــى حدة‪ ،‬حين يتعلّق‬ ‫انتقاصـ ًا مــن ســيادة ّ‬ ‫األمــر بــدور المحكمة األوروبية لحقوق اإلنســان‪ ،‬أو‬ ‫بأسبقية القوانين األوروبية على القوانين الوطنية‬ ‫المحلي ــة‪ ،‬ف ــي كثي ــر م ــن المج ــاالت‪.‬‬ ‫ولهــذا الســبب‪ ،‬فــإذا كان مــن الطبيعــي أن نعثــر‬ ‫علــى أصوات فرنســية‪ ،‬سياســية وفكرية وشــعبية‬ ‫قرر االنســحاب‬ ‫غاضبــة مــن الشــعب البريطاني الذي ّ‬ ‫مــن االتحــاد األوروبــي (الهــرب مــن الســفينة حالــة‬ ‫الغـــرق)‪ ،‬فمـــن الطبيعـــي أيضـــ ًا العثـــور علـــى‬ ‫أصــوات‪ ،‬مــن مختلــف شــرائح المجتمــع الفرنســي‪،‬‬ ‫(ر ّب ض ــارة نافع ــة!)‪،‬‬ ‫تتفه ــم الموق ــف البريطان ــي ُ‬ ‫وتطالـــب بتغييـــر مســـار االتحـــاد‪ ،‬وباستشـــارة‬ ‫الش ــعب الفرنس ــي ف ــي الق ــرارات المصيري ــة‪ ،‬ب ــدل‬ ‫االكتفـــاء بالتصويـــت البرلمانـــي‪ ،‬المضمـــون فـــي‬ ‫غال ــب األحي ــان‪.‬‬ ‫هــذا االصطفــاف الفكــري الفرنســي فتــح المجــال‬ ‫ـل ه ــذا م ــا‬ ‫أم ــام ردود أفع ــال غي ــر متوقّع ــة‪ ،‬وَلع ـ ّ‬


‫ميشيل أونفراي‬

‫يفس ــر خط ــورة الق ــرار البريطان ــي ال ــذي ق ــد يفت ــح‬ ‫ّ‬ ‫نقاشــات‪ ،‬فــي غيــر مــا مــكان‪ ،‬وقــد ُيغــري شــعوب ًا‬ ‫أوروبيــة أخــرى بالتشــكيك فــي االتحــاد األوروبــي‪،‬‬ ‫وف ــي إظه ــار أنانياته ــا (الخافت ــة ولك ــن الموج ــودة)‬ ‫ومصالحهــا الضيقــة‪.‬‬ ‫وقــد ابتــدأت الــردود بيــن اإلنتلجنســيا الفرنســية‪،‬‬ ‫مــع ظهــور بيان‪ ،‬في صحيفة «لوفيغــارو» اليمينية‪،‬‬ ‫وّقــع عليــه عشــرون مثقفـ ًا وسياســي ًا فرنســي ًا منهــم‬ ‫السياســي والوزيــر الســابق جــان‪ -‬بييــر شــوفنمان‬ ‫والفيلســوف ميشــيل أونفــراي وبــول تيبــود وغيــوم‬ ‫بيغــوت وكلــود ريفيــل وناتاشــا بولونــي وغيرهــم‪.‬‬ ‫ويطالــب البيــان بميثاق جديد لالتحاد األوروبي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫جديـــ ًا للبنـــاء األوروبـــي علـــى قواعـــد‬ ‫أي توجيهـــ ًا ّ‬ ‫«يظهــر‬ ‫جديــدة‪ .‬إذ إن ّ‬ ‫كل شــيء‪ ،‬كمــا يقــول البيــان‪ُ :‬‬ ‫أن المواطنيــن فــي غالبيــة دول االتحــاد لــم يعــودوا‬ ‫يقبلــون أن ُيــداروا مــن ِقَبـ ِ‬ ‫مؤسســات غير ُمنتخبة‪،‬‬ ‫ـل ّ‬ ‫ـتوجب‬ ‫ـ‬ ‫«يس‬ ‫ما‬ ‫وهو‬ ‫ـفافية»‪.‬‬ ‫تشــتغل بعيدًا عن أي شـ‬ ‫ُ‬ ‫أن ُنعيـــد للســـيادة الشـــعبية وللديموقراطيـــة كل‬ ‫حقوقهمــا فــي أوروبــا كونفيدراليــة يجــب أن ُتْبنــى‬ ‫علــى التفاهــم والتعــاون بيــن األمــم‪ ،‬وهو مــا يتطلّب‬ ‫تنظيمـ ًا جديــدًا وعميقـ ًا للمســؤوليات»‪.‬‬ ‫عبــرت جوليا كريســتيفا‪ ،‬األكاديمية‬ ‫ومــن جهتهــا ّ‬ ‫والمحلّلـــة النفســـانية‪ ،‬عـــن رأيهـــا فـــي‬ ‫والكاتبـــة ُ‬ ‫البريكســت والجواب الذي يســتدعيه‪« :‬الســؤال اليوم‬ ‫الهويــة األوروبيــة‪ ،‬وأعتقــد‬ ‫هــو إعــادة التفكيــر فــي ّ‬ ‫أن أول شـــيء أظهـــره هـــذا االســـتفتاء البريطانـــي‬ ‫الهوي ــات الوطني ــة‪.‬‬ ‫ه ــو ض ــرورة ّأل ننتق ــص م ــن ّ‬ ‫وأعتقــد أننــا‪ ،‬فــي فرنســا‪ ،‬اندفعنــا كثيــراً‪ ،‬انطالقـ ًا‬ ‫الهويــة الوطنية‬ ‫مــن رؤيتنــا للشــمولية‪ ،‬فــي اعتبــار ّ‬ ‫الهويــة الوطنية‬ ‫فكـ ً‬ ‫ـرة متقادمــة وخطيــرة‪ .‬أعتقــد أن ّ‬ ‫دواء ض ــد الضغ ــط‪ ،‬وأن ــه يج ــب أن نأخذه ــا‬ ‫ه ــي ٌ‬ ‫مأخــذ الجـّد ألنــه يجــب ّأل ندفعهــا إلــى الحـّد األقصــى‬ ‫ككل أدوي ــة الضغ ــط‪ ،‬ألنه ــا ق ــد تصب ــح مهووس ــة‬ ‫وتق ــود إل ــى الح ــرب ض ــد اآلخري ــن وإل ــى التط ـ ُّـرف‬ ‫تظـــل ُبعـــدًا ضروريـــاً‪ ،‬بشـــكل‬ ‫الدينـــي‪ ،‬ولكنهـــا‬ ‫ّ‬ ‫والهوي ــات الجماعي ــة‪.‬‬ ‫ـخصية‬ ‫ـ‬ ‫الش‬ ‫للهوي ــة‬ ‫مطل ــق‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫جان‪ -‬بيير شوفنمان‬

‫ولكــن أوروبــا‪ ،‬ومــن بيــن ثقافــات أخــرى تتقاســم‬ ‫العولمــة‪ ،‬هــي تقليـٌد ثقافــي فريــد ُمقارنــة بالثقافــات‬ ‫الهويــة‬ ‫ـدت لدينــا فلسـ ٌ‬ ‫األخــرى‪ ،‬ألنــه ُولـ ْ‬ ‫ـفة ال تعتبــر ّ‬ ‫البع ــد ال ــذي تكتس ــيه‬ ‫ـاؤالً‪ُّ .‬‬ ‫عب ـ ً‬ ‫ـادة ب ــل تس ـ ُ‬ ‫كل ه ــذا ُ‬ ‫ـغ األهميــة‪ ،‬ويتمثــل فــي طرح‬ ‫الثّقافــة األوروبيــة باِلـ ُ‬ ‫الهوي ــات‪ .‬وه ــذا م ــا ل ــم نس ــتطع‬ ‫إش ــكاليات ح ــول ّ‬ ‫لحـّد اآلن أن نقــوم بــه‪ ،‬ألننــا‪ ،‬فالســفة وسياســيين‬ ‫َ‬ ‫الهويـــة األوروبيـــة والسياســـة‬ ‫ومتدخليـــن حـــول ّ‬ ‫البع ــد الثقاف ــي»‪.‬‬ ‫األوروبي ــة‪ ،‬نس ــينا ُ‬ ‫المفكـــر الفرنســـي‪ -‬الســـوري برهـــان غليـــون‬ ‫ِّ‬ ‫يقـــرأ‪ ،‬مـــن جهتـــه‪ ،‬قـــرار الـ«بريكســـت»‪ ،‬ويـــرى‬ ‫أن أزمـــة الالجئيـــن‪ ،‬الذيـــن تدفّقـــوا علـــى أوروبـــا‬ ‫بشــكل قياســي‪ ،‬ســاهمت فــي تصويــت البريطانييــن‬ ‫باالنســحاب مــن االتحــاد األوروبــي‪ ،‬وهــو «ضربــة‬ ‫قاس ــية ض ــد االتح ــاد األوروب ــي»‪ ،‬وأض ــاف ب ــأن‬ ‫تردداتهـــا فـــي دعـــم الثـــورة‬ ‫أوروبـــا «تدفـــع ثمـــن ّ‬ ‫المفكـــر برهـــان‬ ‫الســـورية»‪ .‬وعلـــى الرغـــم مـــن أن‬ ‫ِّ‬ ‫تفس ــر ه ــذا‬ ‫غلي ــون‪ُ ،‬يق ـّـر بوج ــود أس ــباب عميق ــة ّ‬ ‫«تعلــق البريطانييــن الشــديد‬ ‫التصويــت‪ ،‬ومــن بينهــا ُّ‬ ‫ِبِقي ــم برلمانه ــم الليبرال ــي ورفضه ــم للبيروقراطي ــة‬ ‫األوروبيـــة»‪ّ ،‬إل أنـــه يســـتدرك فيقـــول‪« :‬الســـبب‬ ‫الف ــوري‪ ،‬م ــن دون ش ــك‪ ،‬ه ــو أزم ــة الالجئي ــن»‪،.‬‬ ‫يؤكـــد النتائـــج الســـلبية للسياســـة‬ ‫وهـــو «مـــا ِّ‬ ‫االنتهازيــة ألوروبــا فــي مواجهــة األزمــة الســورية»‪.‬‬ ‫توجه ــه‬ ‫ال يمك ــن ألي مثق ــف فرنس ــي‪ ،‬مهم ــا كان ّ‬ ‫السياس ــي واأليديولوج ــي‪ ،‬أن يج ــرؤ عل ــى الق ــول‬ ‫ـي‪ ،‬وأنــه يشــتغل كمــا‬ ‫بــأن االتحــاد األوروبــي مثالـ ّ‬ ‫يجــب‪ .‬ومــن هنــا ســاعد التصويــت البريطانــي علــى‬ ‫إطـــاق األلســـنة وإخراجهـــا مـــن عقالهـــا‪ ،‬فبدأنـــا‬ ‫نقـــرأ ردودًا ومواقـــف بالغـــة الجـــرأة‪ .‬وهـــو مـــا‬ ‫ـود‬ ‫فعلــه‬ ‫ِّ‬ ‫المفكــر الفرنســي إيمانويــل ُتــود‪ ،‬الــذي عـّ‬ ‫قــراءه‪ ،‬فــي مواقــف كثيــرة‪ ،‬علــى مواقــف صادمــة‪،‬‬ ‫ـاع‪ ،‬وه ــو م ــا فعل ــه بع ــد‬ ‫مم ــا يب ــدو أن ــه إجم ـ ٌ‬ ‫تخ ـ ُـر ُج ّ‬ ‫ـن‬ ‫اعتــداءات «شــارلي إيبــدو»‪ ،‬حيــن نشــر كتابـ ًا ُيديـ ُ‬ ‫يتعـــرض لهمـــا‬ ‫فيـــه الوصـــم واالنتقـــادات اللذيـــن‬ ‫ّ‬ ‫المســلمون فــي فرنســا‪ ،‬رغــم أنهــم «مندمجــون فــي‬

‫ال يمكن‬ ‫ألي مثقف‬ ‫فرنسي‪ ،‬مهما‬ ‫جهه‬ ‫كان تو ّ‬ ‫السياسي‬ ‫واأليديولوجي‪،‬‬ ‫أن يجرؤ‬ ‫على القول‬ ‫بأن االتحاد‬ ‫األوروبي‬ ‫مثالي‪ ،‬وأنه‬ ‫ّ‬ ‫يشتغل كما‬ ‫يجب‬

‫‪51‬‬


‫برهان غليون‬

‫إيمانويل تود‪:‬‬ ‫«إنها مرحل ٌة‬ ‫مراحل‬ ‫من‬ ‫ِ‬ ‫ظاهرة شمولية‬ ‫ٍ‬ ‫لتفكيك‬ ‫العولمة»‬

‫‪52‬‬

‫إيمانويل ُتود‬

‫جوليا كريستيفا‬

‫المجتم ــع الفرنس ــي أكث ــر م ــن األقلي ــات األخ ــرى»‪،‬‬ ‫خالفـ ًا التهامــات إيريــك زمــور‪ ،‬وأالن فينكلكــروت‪،‬‬ ‫والمفكريـــن‬ ‫وغيرهمـــا‪ .‬وعـــاب علـــى السياســـيين‬ ‫ِّ‬ ‫محاول ــة دفعه ــم أن يكون ــوا م ــع «ش ــارلي»‪.‬‬ ‫للمفكـــر إيمانويـــل ُتـــود أن يتـــرك‬ ‫ومـــا كان‬ ‫ِّ‬ ‫فأكـــد‬ ‫الـ«بريكســـت»‬ ‫تمـــر دون تعليـــق أو قـــراءة‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ـل ظاهـ ٍ‬ ‫بأنهــا «مرحلـ ٌـة مــن مراحـ ِ‬ ‫ـرة شــمولية لتفكيــك‬ ‫العولمـــة»‪ .‬وأضـــاف بـــأن «هـــذا االنكفـــاء علـــى‬ ‫يمـــس المجتمعـــات المتقّدمـــة‬ ‫الثقافـــات الوطنيـــة‬ ‫ّ‬ ‫علـــى الكـــرة األرضيـــة‪ :‬مـــن الواليـــات المتحـــدة‬ ‫األميركيــة مــع بيرنــي ســاندرس أو دونالــد ترومــب‪،‬‬ ‫والياب ــان‪ ،‬م ــرورًا بأوروب ــا وأس ــتراليا»‪ .‬وأض ــاف‬ ‫ُتـــود بـــأن «الضغـــوط الشـــديدة والمعانـــاة التـــي‬ ‫تقــد المجتمعــات إلــى االنفتــاح‬ ‫ســببتها العولمــة لــم ُ‬ ‫أكث ــر وإل ــى التالق ــي‪ ،‬ولك ــن‪ ،‬عل ــى العك ــس‪ ،‬إل ــى‬ ‫أن تج ــد ف ــي نفس ــها وف ــي تقاليده ــا وف ــي ُأ ُسس ــها‬ ‫األنثروبولوجيــة‪ ،‬القــوة علــى التأقلــم وعلــى إعــادة‬ ‫بن ــاء نفس ــها»‪.‬‬ ‫المفكــر ُتود بعودة ِ‬ ‫المحــور البريطاني‪-‬‬ ‫ويطالــب‬ ‫ِّ‬ ‫الفرنس ــي‪« ،‬ب ــدل زي ــارات المس ــؤولين الفرنس ــيين‬ ‫إل ــى برلي ــن لتلّق ــي األوام ــر»‪ ،‬وي ــرى ف ــي الموق ــف‬ ‫الفرنســي الرســمي الجديــد مــن بريطانيــا‪« :‬عمليــات‬ ‫مس ــرحية خالص ــة مرفوق ــة بغب ــاء ال يق ــول اس ــمه‪.‬‬ ‫والساسة الفرنسيون‪ ،‬بشيطنتهم للمملكة المتحدة‪،‬‬ ‫ضحــون بمصالــح بلدهــم‪ .‬إن المملكــة المتحــدة هــي‬ ‫ُي ّ‬

‫البل ــد الوحي ــد ف ــي االتح ــاد األوروب ــي ال ــذي حقّق ــت‬ ‫مع ــه فرنس ــا فائضــ ًا تجاريــاً»‪ ،‬وإن «أح ــد أخط ــاء‬ ‫المس ــؤولين الفرنس ــيين الكب ــرى ه ــي ع ــدم الفه ــم‬ ‫وعـــدم القـــدرة علـــى أن يفهمـــوا‪ ،‬بشـــكل مســـبق‪،‬‬ ‫أن الت ــوازن الجي ــد م ــع ألماني ــا ال يتمّث ــل ف ــي عمل ــة‬ ‫ّ‬ ‫دمرتنــا‪ ،‬وإنمــا فــي محــور باريــس‪-‬‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الت‬ ‫ـورو‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫الي‬ ‫ّ‬ ‫لنــدن‪ ،‬الضــروري على المســتوى المتوســط‪ ،‬والذي‬ ‫ال ينته ــي ب ــزواج مؤّق ــت‪ ،‬ألن ــه ف ــي منط ــق الِق ــوى‬ ‫والثقافــات»‪.‬‬ ‫ويــرى إيمانويــل ُتــود‪ ،‬الــذي ال ُيخفــي قلقــه مــن‬ ‫النفــوذ االقتصــادي الرهيــب للماكينــة األلمانيــة‪ ،‬أن‬ ‫«البريكســت هــو نهايــة مفهــوم النظــام الغربــي‪ .‬إنهــا‬ ‫النهايــة الحقيقيــة للحــرب البــاردة»‪ .‬وختــم تحليلــه‬ ‫بأن ــه «بع ــد اليقظ ــة األلماني ــة والروس ــية وأخي ــراً‪،‬‬ ‫يقظــة المملكــة المتحــدة‪ ،‬يجب أن يأتي دور فرنســا‪.‬‬ ‫إن مجــاراة اإلنجليــز متالئمـ ٌـة مع تقاليدنــا الثورية»‪.‬‬ ‫الخالصــة هــي أن كل مثقــف فرنســي يحمــل فــي‬ ‫داخل ــه‪ ،‬ويكت ــب ف ــي نصوص ــه وتأمالت ــه‪ ،‬فهم ـ ُـه‬ ‫الخــاص والشــخصي عــن االتحــاد األوروبــي‪ .‬ولهــذا‬ ‫يجـــد المـــرء‪ ،‬داخـــل األحـــزاب السياســـية وداخـــل‬ ‫مراك ــز البح ــث وف ــي مراك ــز إعالمي ــة‪ ،‬ب ــل وداخ ــل‬ ‫البي ــت الواح ــد‪ ،‬أصواتــ ًا ومواق ــف متعارض ــة م ــن‬ ‫الحلــم األوروبــي‪ .‬وهــي مواقــف متعارضــة لــم تكــن‬ ‫ـرواد األوائــل لهــذا البنــاء األوروبــي‪،‬‬ ‫خافيــة علــى الـ ّ‬ ‫قب ــل أكث ــر م ــن س ـّتين س ــنة‪.‬‬


‫تركيا واالتّحاد األوروبي‬ ‫الحلم الذي يتالشى بالتقادم‬ ‫لعــل ســر نجاح «حزب العدالة والتنمية» في قيادة الدولــة التركية‪ ،‬منذ عام ‪ 2002‬حتى اآلن‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يكمــن فــي أن القيــادة اســتطاعت أن تحافظ علــى طبيعة الدولــة «األتاتوركيــة»‪ ،‬العلمانية‪،‬‬ ‫الديموقراطية‪ ،‬وقد بدا‪ ،‬من خالل األزمة الحكومية ‪ ،2015‬أن الشعب التركي يستطيع أن يقول كلمته الحاسمة‬ ‫حساسة‪ .‬وال ّ‬ ‫بمجرد أن انتهى‬ ‫شك في أن الرئيس أردوغان يعرف هذا ِّ‬ ‫في ّأية برهة تاريخية ّ‬ ‫جيداً‪ ،‬بدليل أنه‪َّ ،‬‬ ‫االســتفتاء البريطــــــاني إلى خروج بريطانيا من االّتحاد األوروبي (يونيو‪ ،)2016 ،‬ســـــارع إلى القول بأن‬ ‫استفتاء وطني ًا بشأن مواصلة‪ ،‬أو عدم مواصلة‪ ،‬إجراءات انضمامها إلى االّتحاد األوروبي‬ ‫تنظم‬ ‫ربما‪ّ -‬‬ ‫بالده‪َّ -‬‬ ‫ً‬ ‫في القريب العاجل‪ ،‬فكأنه أراد أن يقول للديموقراطيات األوروبية‪ :‬ونحن‪ -‬أيضاً‪ -‬نستفتي الشعب‪.‬‬

‫كأن أردوغان‬ ‫أراد أن يقول‬ ‫للديموقراطيات‬ ‫األوروبية‪ :‬ونحن‪-‬‬ ‫أيض ًا‪ -‬نستفتي‬ ‫الشعب‬

‫خطيب بدلة (إسطنبول)‬ ‫الحديـــث عـــن انضمـــام الجمهوريـــة‬ ‫يبـــدو‬ ‫ُ‬ ‫التركي ــة إل ــى االّتح ــاد األوروب ــي قريبــ ًا م ــن أدب‬ ‫حقيقـــة‪ ،‬ملـــيء‬ ‫«اإلمتـــاع والمؤانســـة»‪ ،‬فهـــو‪،‬‬ ‫ً‬ ‫بأخب ــار المح ــاوالت‪ ،‬والنجاح ــات‪ ،‬واإلخفاق ــات‪،‬‬ ‫ولعـــل أكثـــر هـــذه‬ ‫والمفاجـــآت‪ ،‬واللطائـــف‪...‬‬ ‫ّ‬ ‫مؤخ ــراً‪ ،‬حينم ــا‬ ‫ـل‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫حص‬ ‫المحط ــات ُظرفــ ًا ه ــو م ــا‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬

‫ـو َت الشــعب البريطانــي‪ ،‬علــى االنســحاب مــن‬ ‫صـ َّ‬ ‫َ‬ ‫االّتح ــاد األوروب ــي‪ ،‬وتوال ــي األخب ــار ع ــن تفكي ــر‬ ‫دول أوروبيــة أخــرى باالنســحاب منــه‪ ،‬ثــم تقديــم‬ ‫عريضة تطالــب حكومتهم‬ ‫أربعــة مالييــن بريطانــي‬ ‫ً‬ ‫بإعـــادة االســـتفتاء ثـــم العـــودة إلـــى عضويـــة‬ ‫االّتحــاد‪ ،‬قبــل أن يتحّقــق الحلــم التركــي التاريخــي‬ ‫‪53‬‬


‫ـاري الجــذّاب!‪.‬‬ ‫ف ــي الدخ ــول إل ــى ه ــذا التكت ــل الق ـ ّ‬ ‫غرابـــة أن يقابـــل‬ ‫ولعـــل الشـــيء األكثـــر‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫المســـؤولون األتـــراك إخفاقهـــم هـــذا بتصريحـــات‬ ‫ُتظهِـــر المباالتهـــم حيـــال األمـــر‪ ،‬كقـــول وزيـــر‬ ‫شـــؤون االّتحـــاد األوروبـــي وكبيـــر المفاوضيـــن‬ ‫األتــراك «فولــكان بوزكــر» إنــه إذا مــا َّاتخــذ االّتحــاد‬ ‫األوروب ــي ق ــرارًا خاطئــ ًا برف ــض عضوي ــة تركي ــا؛‬ ‫يهمه ــا‪ ،‬أو يضيره ــا‪ ،‬ذل ــك كثي ــراً‪ ،‬ف ــي حي ــن‬ ‫فل ــن ّ‬ ‫أمــا‬ ‫توفــر جهــدًا فــي هــذا الســبيل َقـ ّ‬ ‫أن تركيــا لــم ِّ‬ ‫ـط‪ّ .‬‬ ‫ـاالة‬ ‫رئي ــس الجمهوري ــة أردوغ ــان ف ــكان أكث ــر المب ـ ً‬ ‫كل ه ــذه الس ــنوات‪ ،‬فليقبلون ــا‪،‬‬ ‫حينم ــا ق ــال‪ :‬بع ــد ّ‬ ‫أو فليرفضونـــا‪.‬‬

‫الجغرافيا ووجدان الشعب‬

‫فولكان بوزكر‪:‬‬ ‫إنه إذا ما اتَّخذ‬ ‫االتّحاد األوروبي‬ ‫قرار ًا خاطئ ًا برفض‬ ‫عضوية تركيا؛‬ ‫يهمها‪ ،‬أو‬ ‫فلن‬ ‫ّ‬ ‫يضيرها‪ ،‬ذلك‬ ‫كثير ًا‬

‫إن الجانــب الدراماتيكــي مــن المســألة يبدو ناتج ًا‬ ‫أهمه ــا ك ــون الجغرافي ــا‬ ‫ع ــن جمل ــة م ــن العوام ــل‪ّ ،‬‬ ‫ـي آس ــيا‪ ،‬وأوروب ــا؛‬ ‫التركي ــة تت ـ ّ‬ ‫ـوزع عل ــى َّ‬ ‫قارَت ـ ْ‬ ‫بمعنــى أن تركيــا ليســت أوروبية خالصة‪ ،‬وليســت‬ ‫الحـــال بالنســـبة إلـــى‬ ‫آســـيوية تمامـــاً‪ .‬وكذلـــك‬ ‫ُ‬ ‫ثقاف ــة الش ــعب الترك ــي‪ ،‬فه ــو متش ـ ِّـبع‪ ،‬ف ــي عمق ــه‬ ‫ـص‪-‬‬ ‫التاريخ ــي‪ ،‬بالثقاف ــات المش ــرقية‪ ،‬و‪ -‬باألخ ـ ّ‬ ‫الثقافـــة العربيـــة اإلســـامية‪ ،‬بـــل إن إســـطنبول‬ ‫ـــروق‪ -‬اآلســـتانة) بقيـــت‪ ،‬علـــى امتـــداد أربعـــة‬ ‫ُ‬ ‫(ف ُ‬ ‫عاصمـــة ألكبـــر خالفـــة إســـامية عرفهـــا‬ ‫قـــرون‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ـعة‬ ‫التاريــخ‪ ،‬وفــي الوقــت ذاتــه‪ ،‬إن شـ‬ ‫ـريحة واسـ ً‬ ‫ً‬ ‫م ــن الش ــعب الترك ــي تتملَّكه ــا نزع ـ ُـة «التغري ــب»‪،‬‬ ‫إم ــا بش ــكل راديكال ــي ونهائ ــي‪ ،‬أو بش ــكل يج ــري‬ ‫ّ‬ ‫فيــه االحتفــاظ بالطابــع اإلســامي‪ .‬وألجــل مقاربــة‬ ‫هــذا المفهــوم وتلخيصــه بكلمــات قليلــة‪ ،‬نقــول إن‬ ‫تأس ــيس الجمهوري ــة التركي ــة‪ ،‬ف ــي س ــنة ‪،1923‬‬ ‫لعمليـــة التغريـــب الشـــاملة‬ ‫كان المنطلـــق البدئـــي‬ ‫ّ‬ ‫متأتيــ ًا م ــن ف ــراغ‪،‬‬ ‫والمنتظم ــة‪ ،‬ول ــم يك ــن ذلـــك ِّ‬ ‫بالطبــع‪ ،‬إنمــا ُبِنــي علــى أرضيــة ثقافيــة واســعة‪.‬‬

‫إضاءة تاريخية‬

‫قب ــل مئ ــة ع ــام م ــن اآلن‪ ،‬س ــنة ‪ ،1916‬كان ــت‬ ‫الح ــرب العالمي ــة األول ــى ف ــي منتصفه ــا‪ ،‬وكان ــت‬ ‫جمعيــة االّتحــاد والترّقــي التي يقودها «الباشــوات»‬ ‫ـدر‬ ‫الثالث ــة‪ :‬طلع ــت‪ ،‬وأن ــور‪ ،‬وجم ــال‪ ،‬م ــع «الص ـ ُ‬ ‫العال ــي» س ــعيد بي ــك حلي ــم‪ ،‬المتش ـ ِّـبعون بأف ــكار‬ ‫الثـــورة الفرنســـية‪ ،‬قـــد فرضـــت علـــى الســـلطان‬ ‫المته ــم بالتس ــلُّط‬ ‫العثمان ــي عب ــد الحمي ــد الثان ــي‪َّ ،‬‬ ‫واالســتبداد‪ ،‬في ســنة ‪ ،1908‬تطبيق المشــروطية‬ ‫الثانيــة‪( ،‬المشــروطية تعنــي‪ :‬الدســتورية‪ ،‬ويكون‬ ‫الحكــم بموجبهــا للبرلمــان والحكومة‪ ...‬وقد ُسـ ِّـميت‬ ‫وتمك َن الســلطان‬ ‫الثانيــة ألنهــا ُطبقــت فــي الســابق‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫عبــد الحميــد مــن إلغائهــا)‪ .‬وفــي ســنة ‪ ،1909‬قامــت‬ ‫انتفاض ــة ش ــعبية ضــّد عب ــد عبدالحمي ــد الثان ــي‪،‬‬ ‫‪54‬‬

‫وو ِ‬ ‫ضـــع تحـــت اإلقامـــة الجبريـــة (إلـــى‬ ‫فع ِ‬ ‫ُ‬ ‫ـــزل‪ُ ،‬‬ ‫محلــه محمــد‬ ‫‪،)1918‬‬ ‫ـنة‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫وفات‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫حي‬ ‫ـل َّ‬ ‫وحـ َّ‬ ‫َ‬ ‫الخامس «الســلطان رشــاد»‪ ،‬وكان الجميع يعرفون‬ ‫ـتؤدي إلــى‬ ‫أن هــذه الحــرب‪ ،‬فــي حــال الخســارة‪ ،‬سـ ِّ‬ ‫إس ــدال الس ــتار عل ــى الش ــكل اإلمبراط ــوري للدول ــة‬ ‫ـدة‪ ،‬وإل ــى األب ــد‪.‬‬ ‫التركي ــة‪ ،‬م ـّـر ًة واح ـ ً‬ ‫وفـــي أواخـــر ســـنة ‪ ،1917‬كشـــف البالشـــفة‬ ‫ســـر اتفاقيـــة‬ ‫الـــروس‪ ،‬بعـــد انتصـــار ثورتهـــم‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫القوَتْيــن‬ ‫ســايكس بيكــو التــي تنـ ّ‬ ‫تقاســم َّ‬ ‫ـص علــى ُ‬ ‫ـدان‬ ‫ـ‬ ‫البل‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫وفرنس‬ ‫ـا‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫بريطاني‬ ‫ظمَيْيــن الناشــئَتْين‪:‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫الع َ‬ ‫التـــي كانـــت تتبـــع لإلمبراطوريـــة العثمانيـــة‬ ‫أمــا ســنة ‪ 1918‬فشــهدت‪ ،‬فــي نهايتهــا‪،‬‬ ‫المتهالكــة‪ّ .‬‬ ‫ـوات التركيــة التــي كانــت تقــاوم‬ ‫ـحاب فلــول القـّ‬ ‫انسـ َ‬ ‫فـــي شـــرقي األردن وســـورية‪ ،‬بقيـــادة الضابـــط‬ ‫مصطف ــى كم ــال‪ ،‬وكان ــت ه ــذه البره ــة التاريخي ــة‬ ‫األهمّيـــة بالنســـبة إلـــى مســـتقبل تركيـــا‪،‬‬ ‫بالغـــة ّ‬ ‫ـاص‪ ،‬ولمنطقــة الشــرق األوســط‪ ،‬بشــكل‬ ‫بشــكل خـ ّ‬ ‫ع ــام‪ ،‬فمنه ــا يمك ــن الحدي ــث ع ــن ‪ 100‬س ــنة قادم ــة‬ ‫مختلفـــة‪ ،‬تمامـــاً‪ ،‬عـــن العمـــر المديـــد للســـلطنة‬ ‫العثماني ــة ال ــذي بل ــغ ‪ 400‬س ــنة‪.‬‬ ‫الس ــنوات الت ــي تل ــت انته ــاء الح ــرب العالمي ــة‪،‬‬ ‫ربم ــا‪ -‬كان ــت أصع ــب‬ ‫و(تحجي ــم) الدول ــة التركي ــة‪َّ -‬‬ ‫مــن الهزيمــة ذاتهــا‪ ،‬إذ كان علــى المجموعــة الجديدة‬ ‫التــي يقودهــا مصطفــى كمــال باشــا (الــذي اكتســب‪،‬‬ ‫أن‬ ‫فيم ــا بع ـ ُـد‪ ،‬لق ــب أتات ــورك؛ أي‪َ :‬جــّد الت ــرك)‪ْ ،‬‬ ‫تح ــارب بقاي ــا الوج ــود األجنب ــي ال ــذي ط ــرأ ف ــي‬ ‫أثنـــاء الحـــرب‪ ،‬وتعمـــل علـــى توحيـــد البـــاد‪،‬‬ ‫عمليــات التمـ ُّـرد التــي ظهــرت‪ ،‬هنــا وهناك‪.‬‬ ‫وتقمــع ّ‬ ‫عمليـــات إصـــاح‬ ‫وخـــال ذلـــك‪ ،‬كانـــت َتجـــري ّ‬ ‫تضمنـــت تحقيـــق‬ ‫ُعِرفـــت بإصالحـــات أتاتـــورك‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫أحــام قديمــة موجــودة لــدى األنتلجنســيا التركيــة‪،‬‬ ‫كتوحيــد التعليــم‪ ،‬وإلغــاء األلقــاب الدينية‪ ،‬وإغالق‬ ‫المحاكــم اإلســامية وإبدالهــا بمحاكــم مدنيــة تعتمــد‬ ‫عل ــى القان ــون المدن ــي والجنائ ــي ف ــي أحكامه ــا‪،‬‬ ‫واالعت ــراف بالمس ــاواة بي ــن الجنس ــين‪ ،‬وضم ــان‬ ‫الحق ــوق السياس ــية الكامل ــة للم ــرأة‪ ،‬وإصالح ــات‬ ‫اللغــة‪ ،‬وتأســيس اّتحــاد اللغــة التركيــة‪ ،‬وإحــال‬ ‫األبجديــة التركيــة المشـّتقة مــن األبجديــة الالتينيــة‬ ‫ـل األبجدي ــة العثماني ــة الت ــي ُتكت ــب بالح ــروف‬ ‫مح ـ ّ‬ ‫ـزي العثمان ــي‬ ‫العربي ــة‪ ،‬وإلغ ــاء غط ــاء ال ــرأس وال ـ ّ‬ ‫التقليـــدي‪ ،‬وبـــدء انتشـــار المالبـــس الغربيـــة‬ ‫العصري ــة‪.‬‬

‫عبِّرة‬ ‫لوحة مجتمعية ُم َ‬

‫اليـــوم‪ ،‬فـــي شـــوارع ّأيـــة مدينـــة‬ ‫يمـــش‪،‬‬ ‫ـــن‬ ‫ِ‬ ‫َم ْ‬ ‫َ‬ ‫عـــام‪ ،‬وفـــي شـــوارع إســـطنبول‪،‬‬ ‫تركيـــة‪ ،‬بشـــكل ّ‬ ‫ـاص‪َ ،‬ي ـ َـر األعاجي ــب م ــن تجلّي ــات واق ــع‬ ‫بش ــكل خ ـ ّ‬ ‫اجتماعـــي يعكـــس الشـــّد والدفـــع والجـــذب بيـــن‬


‫هاجســي التشــريق‪ ،‬والتغريب‪ ،‬فمع أن نسبة النساء‬ ‫َ‬ ‫ـظ‪،‬‬ ‫ويَل َح ـ ُ‬ ‫الم َح َّجب ــات ف ــي المجتم ــع ليس ــت قليل ــة‪ُ .‬‬ ‫ُ‬ ‫الم َح َّجب ــات يرتدي ــن آخ ــر‬ ‫ـاء‬ ‫ـ‬ ‫النس‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫معظ‬ ‫أن‬ ‫ـك‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫كذل‬ ‫ُ‬ ‫األزيـــاء العصريـــة‪ ،‬وبعضهـــن يرتديـــن القمصـــان‬ ‫ذات الـ«نصـــف كـــم» وبنطـــال الجينـــز‪ ...‬وهنـــاك‬ ‫شــبان يتركــون شــعرهم ينمــو‪ ،‬ليصبــح ذا جدائــل‪،‬‬ ‫ويضع ــون األق ــراط ف ــي آذانه ــم جريــ ًا عل ــى ع ــادة‬ ‫ربم ــا‪ -‬أخذه ــا الغ ــرب‬ ‫األت ــراك الطورانيي ــن الت ــي‪َّ -‬‬ ‫عنه ــم ال العك ــس‪ ،‬ونس ــاء مبالغ ــات ف ــي التب ـ ُّـرج‪،‬‬ ‫تجمعــات لشــبان وبنــات‪ ،‬يقفون‬ ‫إضافـ ًـة إلــى وجــود ُّ‬ ‫أو يجلس ــون عل ــى األرض‪ ،‬ف ــي زواي ــا م ــن ش ــارع‬ ‫االســتقالل المتفـ ِّـرع مــن ســاحة «تقســيم»‪ ،‬ويمضون‬ ‫ســاعات طويلــة فــي آخــر األســبوع (‪،)hafta sonu‬‬ ‫الهيبييــن المنتشــرة في شــوارع‬ ‫تجمعــات‬ ‫ّ‬ ‫علــى غــرار ُّ‬ ‫الم ــدن األوروبي ــة الكب ــرى‪.‬‬

‫جذور التطلُّع إلى أوروبا‬

‫لق ــد تاب ــع المس ــؤولون األت ــراك‪ ،‬عب ــر مختل ــف‬ ‫الحقـــب السياســـية التاليـــة إلعـــان الجمهوريـــة‬ ‫‪ ،1923‬السياس ـ َـة الخارجي ــة الت ــي رس ــمها فري ــق‬ ‫بالتوج ــه‪ ،‬بش ــكل‬ ‫المتعل ــق‬ ‫الرئاس ــة األتاتورك ــي‬ ‫ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫نهائـــي‪ ،‬نحـــو الغـــرب‪ .‬فلـــدى تأســـيس «حلـــف‬ ‫تقدمـــت‬ ‫الشـــمال األطلســـي» فـــي العـــام ‪َّ ،1949‬‬ ‫تركي ــا بطل ــب االنضم ــام إل ــى ه ــذا الحل ــف‪ .‬وف ــي‬ ‫ـت ســنوات‬ ‫عــام ‪ُ ،1952‬قبلــت عضويتهــا‪ ،‬وبعــد سـ ّ‬ ‫فقـــط؛ أي فـــي ســـنة ‪ ،1958‬أعلـــن األوروبيـــون‬ ‫«المؤسس ــة االقتصادي ــة األوروبي ــة»‪.‬‬ ‫ع ــن تش ــكيل‬ ‫َّ‬ ‫تقدمــت تركيا بطلــب االنضمام‬ ‫وفــي الســنة التاليــة‪َّ ،‬‬ ‫تأسســت‬ ‫‪،1963‬‬ ‫ـنة‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫وف‬ ‫إلــى هــذه المجموعــة‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫«المجموعـــة األوروبيـــة» فوقَّعـــت تركيـــا اّتفاقيـــة‬ ‫وتمكن ــت «تانس ــو ش ــيلر»‪ ،‬وه ــي‬ ‫ش ــراكة معه ــا‪ّ ،‬‬

‫تابع المسؤولون‬ ‫األتراك‪ ،‬عبر مختلف‬ ‫الحقب السياسية‪،‬‬ ‫السياس َ‬ ‫ة الخارجية‬ ‫التي رسمها فريق‬ ‫الرئاسة األتاتوركي‬ ‫جه‪،‬‬ ‫المتعلِّق بالتو ُّ‬ ‫بشكل نهائي‪ ،‬نحو‬ ‫الغرب‬

‫‪55‬‬


‫أول ام ــرأة تتوّل ــى رئاس ــة ال ــوزراء التركي ــة (م ــن‬ ‫َّ‬ ‫اتفاقيــة‬ ‫حــزب الطريــق القويــم)‪ ،‬مــن التوقيــع علــى ِّ‬ ‫االّتح ــاد الجمرك ــي األوروبي ــة‪ ،‬س ــنة ‪ ،1995‬ث ــم‬ ‫تطبيقه ــا اعتب ــارًا م ــن س ــنة ‪.1996‬‬

‫مراعاة المزاج الشعبي‬

‫تتَّهم تركيا‬ ‫األوروبيين‬ ‫بـ«ازدواجية‬ ‫المعايير»‪ ،‬فهم‬ ‫ّ‬ ‫يغضون الطرف‬ ‫عن الواقع‬ ‫الحقوقي في‬ ‫بعض الدول‪،‬‬ ‫و‪ -‬في الوقت‬ ‫ذاته‪ -‬ينتقدون‬ ‫السياسات‬ ‫التركية‬

‫ـل سـّـر نجــاح «حــزب العدالــة والتنميــة» فــي‬ ‫لعـّ‬ ‫قيـــادة الدولـــة التركيـــة‪ ،‬منـــذ عـــام ‪ 2002‬حتـــى‬ ‫اآلن‪ ،‬يكمــن فــي أن القيــادة اســتطاعت أن تحافــظ‬ ‫عل ــى طبيع ــة الدول ــة «األتاتوركي ــة»‪ ،‬العلماني ــة‪،‬‬ ‫الديموقراطيـــة‪ ،‬وقـــد بـــدا‪ ،‬مـــن خـــال األزمـــة‬ ‫الحكومي ــة‪ ،2015 ،‬أن الش ــعب الترك ــي يس ــتطيع‬ ‫أيــة برهــة تاريخيــة‬ ‫أن يقــول كلمتــه الحاســمة فــي ّ‬ ‫ّ‬ ‫شـــك فـــي أن الرئيـــس أردوغـــان‬ ‫حساســـة‪ .‬وال‬ ‫ّ‬ ‫جي ــداً‪ ،‬بدلي ــل أن ــه‪ ،‬بمج ـ َّـرد أن انته ــى‬ ‫يع ــرف ه ــذا ِّ‬ ‫االس ــتفتاء البريطان ــي إل ــى خ ــروج بريطاني ــا م ــن‬ ‫االّتحـــاد األوروبـــي (يونيـــه ‪ ،)2016‬ســـارع إلـــى‬ ‫ـتفتاء وطنيــ ًا‬ ‫تنظ ــم اس ـ‬ ‫ربم ــا ِّ‬ ‫الق ــول ب ــأن ب ــاده‪َّ -‬‬ ‫ً‬ ‫بشـــأن مواصلـــة‪ ،‬أو عـــدم مواصلـــة‪ ،‬إجـــراءات‬ ‫انضمامه ــا إل ــى االّتح ــاد األوروب ــي‪ ،‬ف ــي القري ــب‬ ‫العاجـــل‪ ،‬فكأنـــه أراد أن يقـــول للديموقراطيـــات‬ ‫األوروبيـــة‪ :‬ونحـــن‪ -‬أيضـــاً‪ -‬نســـتفتي الشـــعب‪.‬‬ ‫تلقَّفـــت شـــركة «مـــاك» التركيـــة لالستشـــارات‬ ‫واألبح ــاث ه ــذا التصري ــح‪ ،‬وس ــارعت إل ــى إج ــراء‬ ‫اســـتطالع للـــرأي شـــمل الشـــرائح االجتماعيـــة‬ ‫الرئيس ــة ف ــي الب ــاد‪ ،‬وخ ــرج بنتائ ــج ذات دالالت‬ ‫عـــــــميقة‪ ،‬منهـــا أن أكثـــر مـــن ثلَثـــي الشـــعب‬ ‫التركــي (‪ )% 68‬مــا عــادوا يرغبــون فــي اســتمرار‬ ‫المفاوضـــات المتعلِّقـــة بانضمـــام بالدهـــم إلـــى‬ ‫االّتح ــاد األوروب ــي‪ ،‬ب ــل إنه ــم يري ــدون إنهاءه ــا‪.‬‬ ‫يتذكــر المثقَّفــون والسياســيون األتــراك‪ ،‬اليوم‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫عب ــارة بالغ ــة اإلصاب ــة‪ ،‬قاله ــا رئي ــس وزرائه ــم‬ ‫األســـبق مســـعود يلمـــاز الـــذي تولّـــى رئاســـة‬ ‫الحكوم ــة ف ــي أواس ــط التس ــعينات‪ ،‬وه ــي‪ :‬إنن ــا‬ ‫كلّم ــا اجتزن ــا حاج ــزاً‪ ،‬وض ــع األوروبي ــون مكان ــه‬ ‫حاج ــزًا آخ ــر!‪.‬‬

‫قفز الحواجز‬

‫يمكننـــا تلخيـــص األســـباب (المعَلنـــة وغيـــر‬ ‫المعَلنـــة)‪ ،‬التـــي ترتكـــز عليهـــا دول االّتحـــاد‬ ‫ـارض انضمــام تركيــا إلــى هــذا‬ ‫األوروبــي التــي تعـ ِ‬ ‫فتيــة ضمــن‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫دول‬ ‫ـتكون‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫االّتحــاد‪ ،‬فــي أن تركي‬ ‫ّ‬ ‫محيــط مــن األمــم الشــائخة‪ ،‬فتعــداد سـّـكانها البالــغ‬ ‫ـل المرتبــة الثانيــة‬ ‫(‪ 74‬مليــون نســمة) يجعلهــا تحتـّ‬ ‫فــي ارتفــاع عــدد الســكان بعــد ألمانيــا‪ ،‬ولديهــا‪ -‬مــن‬ ‫ـم‪ -‬فائــض مــن العمالــة قــادر على منافســة العمالة‬ ‫َثـ َّ‬ ‫العمــال األتراك‪،‬‬ ‫األوروبيــة بســبب انخفــاض أجــور ّ‬ ‫وه ــي‪ -‬أي تركي ــا‪ -‬ق ــادرة عل ــى تحقي ــق منافس ــة‬ ‫‪56‬‬

‫المتوســـطة‪،‬‬ ‫خطيـــرة فـــي مجـــال الصناعـــات‪:‬‬ ‫ِّ‬ ‫والخفيفـــة (النســـيجية والغذائيـــة خصوصـــاً)‪،‬‬ ‫بتكالي ــف بس ــيطة‪ ،‬وبأس ــعار منخفض ــة‪.‬‬ ‫وتقــول هــذه الــدول إن الخطــوات التــي َّاتخذتهــا‬ ‫تركيــا‪ ،‬فــي مجــال التشــريعات والقوانيــن‪ ،‬ليســت‬ ‫كافيــة حتــى اآلن‪.‬‬ ‫وتـــرد الحكومـــة التركيـــة بأنهـــا‪ ،‬ولألســـباب‬ ‫ّ‬ ‫ـابة‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫عمال‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ولديه‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫فتي‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫دول‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫(لكونه‬ ‫ذاته ــا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫جيـــدة)‪،‬‬ ‫وصناعـــات‬ ‫متوســـطة وأخـــرى خفيفـــة ّ‬ ‫ِّ‬ ‫ســتكون مصــدر إنعــاش لالقتصاديــات األوروبيــة‪،‬‬ ‫تتهــم تركيــا األوروبييــن‬ ‫ومــن الناحيــة السياســية َّ‬ ‫يغضــون الطــرف عن‬ ‫بـ«ازدواجيــة المعاييــر»‪ ،‬فهــم ّ‬ ‫الواقــع الحقوقــي فــي بعــض الــدول‪ ،‬و‪ -‬فــي الوقــت‬ ‫ذات ــه‪ -‬ينتق ــدون السياس ــات التركي ــة‪ .‬وبطريق ــة ال‬ ‫تخلـــو مـــن العصبيـــة قـــال أردوغـــان للغربييـــن‪:‬‬ ‫انظ ــروا ف ــي أنفس ــكم بالم ــرآة‪ ،‬قب ــل أن تحاول ــوا‬ ‫تعليمن ــا الديموقراطي ــة!‬ ‫وللتذكيــر نقــول‪ :‬إن «تقريــر التقـ ُّـدم األوروبــي»‬ ‫ـن‬ ‫الســنوي الــذي صــدر فــي أكتوبــر‪،2015 ،‬‬ ‫تضمـ َ‬ ‫َّ‬ ‫تنويهـــ ًا إيجابيـــ ًا لجهـــود الســـام مـــع األكـــراد‪،‬‬ ‫ـج َل انتقـ ٍ‬ ‫واضحة‬ ‫ـادات‬ ‫ً‬ ‫ولكنــه‪ -‬فــي الوقــت ذاتــه‪ -‬سـ َّ‬ ‫ف ــي ع ـّدة ملّف ــات أخ ــرى‪.‬‬ ‫إن قّل ــة اكت ــراث المس ــؤولين األت ــراك (المعل ــن)‬ ‫تج ــاه انضم ــام تركي ــا إل ــى االّتح ــاد األوروب ــي ه ــو‬ ‫أم ــر مس ــتجّد‪ ،‬ويت ــوازى م ــع قّل ــة اكت ــراث الش ــعب‬ ‫التركــي الــذي أظهــره االســتطالع المشــار إليــه‪ .‬لكــن‬ ‫ه ــذا م ــا ع ــاد ِّ‬ ‫يمث ــل «مرب ــط الف ــرس»‪ ،‬فالمه ـّـم ف ــي‬ ‫الموضـــوع هـــو أن الشـــعب التركـــي لـــم يصبـــح‪،‬‬ ‫رد فعلـــه علـــى السياســـات األوروبيـــة‪،‬‬ ‫نتيجـــة ّ‬ ‫معاديـــ ًا للقيـــم األوروبيـــة الحضاريـــة‪ ،‬وبمعنـــى‬ ‫أكث ــر وضوحــاً‪ :‬ه ــذه ليس ــت صح ــوة إس ــامية‪،‬‬ ‫ـأل‬ ‫عداء للغرب‪ ،‬بدليل أن االســتطالع نفســه سـ َ‬ ‫وال ً‬ ‫الشــريحة اإلحصائيــة المســتهدفة حــول مــا إذا كانوا‬ ‫يرغبــون فــي اســتمرار تركيــا بإجــراء اإلصالحــات‬ ‫القانونيـــة‪ ،‬والدســـتورية‪ ،‬بحيـــث تتـــواءم مـــع‬ ‫القوانيــن األوروبيــة‪ ،‬فكانت النتيجــة أن ‪ 88‬بالمئة‬ ‫يؤيــدون اســتمرار تركيــا باإلصالحــات‪ ،‬إلــى‬ ‫منهــم ِّ‬ ‫والحرّي ــات‬ ‫ـوق‬ ‫ـ‬ ‫الحق‬ ‫ـتوى‬ ‫ـ‬ ‫مس‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫إل‬ ‫ـول‬ ‫ـ‬ ‫الوص‬ ‫حي ــن‬ ‫ّ‬ ‫المعم ــول به ــا ف ــي ال ــدول األوروبي ــة‪.‬‬ ‫لق ــد طرح ــت فرنس ــا وألماني ــا (وهم ــا الدولت ــان‬ ‫المتنفِّذت ــان ف ــي االّتح ــاد األوروب ــي فك ــرة االكتف ــاء‬ ‫مميـــزة» مـــع‬ ‫بـــأن تبقـــى تركيـــا علـــى «شـــراكة َّ‬ ‫االّتحـــاد األوروبـــي‪ .‬ويبـــدو أن هـــذا ســـقف مـــا‬ ‫ســـيتحقّق لتركيـــا‪ ،‬فـــي نهايـــة المطـــاف‪.‬‬


‫موسكو‬ ‫تنتظر مصير‬ ‫أوروبـــا‬ ‫أهــي ثقافــة النكايــة؛ أن ينتظــر المنتظــرون انهيــار االّتحــاد األوروبي‪ ،‬أم هــي ثقافة‬ ‫التعويــض؟ إذا لم يصمــد اّتحادنا‪ ،‬فلماذا يصمد ِّاتحادكم؟ وإذا كانت أميركا ســاهمت في‬ ‫انهيــار بنياننــا فلماذا تظنون بأنها حريصة على بنيانكم؟ وفي حيــن لم تكن لنا مصلحة في الحرب‬ ‫الباردة وسباق التسلُّح وحروب الطاقة‪ ،‬فلماذا تحسبون أن لكم مصلحة فيها اليوم؟ وهل تحسبون‬ ‫مؤشــرات الديمغرافيا‪ ،‬أم‬ ‫حســاب ما ســتؤول إليه بلدانكم‪ -‬منفردة ومجتمعة‪ -‬التي تتأســلم بحكم ِّ‬ ‫تصور فيها المســلمين وهم‬ ‫ســيدة باريس» التي ِّ‬ ‫هنــاك ضــرورة لتذكيركم برواية تشــودينا «جامع ِّ‬ ‫ويحولون كنيستها إلى جامع؟ لدينا عاملنا اإلسالمي‪ ،‬ولديكم ما هو من طبيعته‪،‬‬ ‫يحتلّون باريس‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫لكن أسوأ منه‪...‬‬

‫منذر بدر حلوم (موسكو)‬ ‫أســئلة مــن هــذا القبيــل يتناقلها اللســان الروســي‬ ‫ف ــي مختل ــف األوس ــاط‪ ،‬وف ــي حي ــن يب ــدو البع ــض‬ ‫سياســـييها‬ ‫مذكـــرًا بتبعيـــة‬ ‫شـــامت ًا بأوروبـــا‪ّ ،‬‬ ‫ِّ‬ ‫لواشــنطن‪ ،‬وبعــدم إدراكهــا مــا ينتظرها مــن مخاطر‬ ‫ـا المنكوبي ــن‬ ‫محم ـ ً‬ ‫فت ــح أبوابه ــا أم ــام الالجئي ــن‪ّ ،‬‬ ‫ـارة المترفــة‪ ،‬يبــدو البعــض‬ ‫بعض ـ ًا ّ‬ ‫ممــا تعانيــه القـ ّ‬ ‫اآلخــر قلقـ ًا مــن تداعيــات زلــزال محتمل فــي أوروبا‪،‬‬ ‫عل ــى روس ــيا‪ ،‬قلقــ ًا م ــن أوروب ــا‪ ،‬ولي ــس عليه ــا‪.‬‬

‫الملكة القادرة‬

‫مدونتــه علــى موقع إذاعة «صدى موســكو»‪،‬‬ ‫فــي َّ‬ ‫كتب الشــاعر والصحافي الروســي الشــهير «دميتري‬ ‫بيكــوف» مقطوعــة شــعرية‪ ،‬ال تخلو من الســخرية‪،‬‬ ‫عــن رأيــه بخــروج بريطانيــا مــن االّتحــاد األوروبي‪،‬‬ ‫وعــن ســلطة الملكــة الشــكلية‪ ،‬التــي قــد تخــرج عــن‬ ‫ـكليتها‪ ،‬للضــرورة التاريخيــة‪ .‬أم أن األمــر‪ ،‬ومــا‬ ‫شـ َّ‬

‫مجرد ســخرية؟!‬ ‫فيــه‪َّ ،‬‬ ‫قــّدم «بيك ــوف» لمقطوعت ــه بالكلم ــات التالي ــة‪:‬‬ ‫ألول مـّـرة‪ ،‬منــذ ‪ 400‬عــام‪ ،‬يمكــن لملكــة بريطانيــا‬ ‫َّ‬ ‫أن تض ــع فيت ــو عل ــى ق ــرار البرلم ــان‪ .‬وه ــذه الم ـّـرة‬ ‫بخصــوص مــا يسـّـمى بريكســت‪ .‬هناك‪ ،‬فــي العائلة‬ ‫ـح إل ــى ذل ــك‪ .‬وكت ــب «بيك ــوف»‪،‬‬ ‫الملكي ــة‪َ ،‬م ـ ْ‬ ‫ـن َّ‬ ‫لم ـ َ‬ ‫ف ــي مقطوعت ــه الش ــعرية‪:‬‬ ‫«بريكســت‪ ،‬رهان الجائزة الكبرى‪/‬االنقســام بلغ‬ ‫حـّدًا حرجاً‪«/‬انقلعــي» ‪ -‬يصيح االّتحــاد األوروبي‪/‬‬ ‫ـردد «ليــس حــاالً» يقول‪/‬ماكفول‬ ‫ولكــن كاميــرون متـ ِّ‬ ‫يصــرخ‪« :‬إنهــا يــد موســكو!»‪/‬يلتهب اليمين‪ ،‬يرقص‬ ‫وأم ــا إنق ــاذ بريطاني ــا‪ ،‬فلألس ــف‪/‬بيد‬ ‫اليس ــار‪ّ /...‬‬ ‫الملك ــة‪ ،‬دون س ــواها‪ /.‬ف ــي موس ــكو يصرخ ــون‪:‬‬ ‫ـق؟‪/‬‬ ‫ي ــا للتقّدم!‪/‬وه ــل الش ــعب يك ــون ّإل عل ــى ح ـ ّ‬ ‫لقـــد غـــادروا االّتحـــاد األوروبي‪/‬لكـــي يتخلَّصـــوا‬ ‫مــن ســمومنا!‪/‬إنهم يريــدون صداقتنا‪/‬إنــه حصــاد‬

‫في حين‬ ‫يبدو البعض‬ ‫شامت ًا بأوروبا‪،‬‬ ‫يبدو البعض‬ ‫اآلخر قلق ًا من‬ ‫تداعيات زلزال‬ ‫محتمل في‬ ‫أوروبا‪ ،‬على‬ ‫روسيا‬

‫‪57‬‬


‫بالنسبة إلى‬ ‫موسكو‪ ،‬دخول‬ ‫االتّحاد األوروبي‬ ‫في أزمة عميقة‬ ‫سيعني صعوبة‬ ‫التعامل معه‬

‫زرعن ــا‪/‬إال أن الفيت ــو ال زال ممكناً‪/‬الملك ــة ق ــادرة‬ ‫عليه‪/.‬الملكي ــة‪ ،‬اآلن‪ ،‬ش ــيء فارغ‪/‬ه ــي كالق ــوس‬ ‫نشــاب‪ /‬ليســت جــزءًا مــن السياســة‪ ،‬بــل مجـ َّـرد‬ ‫بــا ّ‬ ‫شيء‪/‬شــيء فــي متحــف‪ ،‬يعلــوه الغبار‪/‬ولكــن إذا‬ ‫وصلــت السـلْطة إلــى فم متثائب كســان‪/‬فالملكة ما‬ ‫زالــت قادرة‪/‬علــى إصــاح الحال‪/.‬األميــر تشــارلز‬ ‫ألمكم‪/‬فالملكــة علَّمتكم‪/‬كيف تدركون‬ ‫يقــول‪ :‬صلّوا ِّ‬ ‫ـق»‪.‬‬ ‫أبســط األشـ‬ ‫ـياء‪/‬بقوة الغضــب الحـ ّ‬ ‫ّ‬

‫بوتين الحالم‬

‫أمـــا الباحـــث السياســـي الشـــهير فيـــودور‬ ‫ّ‬ ‫لوكيانــوف‪ ،‬فيتســاءل‪ ،‬فــي مقــال ُم َعْنـ َـون بـ«هنــاك‬ ‫‪58‬‬

‫عمــا يمكــن‬ ‫َمخــرج»‪ ،‬منشــور فــي أكثــر مــن مــكان‪ّ ،‬‬ ‫أن يعني ــه بريكس ــت لروس ــيا‪ ،‬وي ــرى أن بريطاني ــا‬ ‫فــي حملتهــا للبقــاء فــي االّتحــاد اســتخدمت صــورة‬ ‫فالديميــر بوتيــن الــذي كأنمــا كان يحلــم‪ -‬وهو نائم‪-‬‬ ‫أن تغــادر بريطانيــا االّتحــاد األوروبــي‪ ،‬ألن األخيــر‬ ‫س ــيبدأ بالتص ـ ُّـدع‪ ،‬بمج ـ َّـرد خروجه ــا من ــه‪.‬‬ ‫ويتســاءل‪ -‬فــي الوقــت نفســه‪ -‬عــن آثــار خــروج‬ ‫بريطانيــا‪ ،‬فيــرى أنهــا ليســت‪ -‬بالضــرورة‪ -‬إيجابية‬ ‫عل ــى موس ــكو‪ .‬فبالنس ــبة إل ــى موس ــكو‪ ،‬دخ ــول‬ ‫االّتحــاد األوروبــي في أزمة عميقة ســيعني صعوبة‬ ‫التعام ــل مع ــه‪ ،‬وال ف ــكاك لروس ــيا األوراس ــية م ــن‬ ‫عالقاتهــا األوروبيــة‪.‬‬


‫لــو انهــار األخيــر كمنظومــة؛ فالناتــو يزحــف نحــو‬ ‫حــدود روســيا بأحــدث أدوات الســيطرة‪ ،‬غيــر آبـٍـه‬ ‫بالعملي ــات الجاري ــة ف ــي أوروب ــا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الذكي ــة‪ ،‬المعروف ــة بتخطيطه ــا‬ ‫أم ــا بريطاني ــا‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫االســتراتيجي البعيــد المــدى‪ ،‬فهــي أكثــر مــن مجـ َّـرد‬ ‫تاب ــع لواش ــنطن‪ ،‬ف ــي جمي ــع المعان ــي‪.‬‬ ‫إلى ذلك‪ ،‬فمن غير المعروف ما إذا كان االّتحاد‪،‬‬ ‫محتملــة‪،‬‬ ‫بعــد خــروج بريطانيــا منــه‪ ،‬ودول أخــرى‬ ‫َ‬ ‫ـوة أم أكثــر ضعف ـاً‪ ،‬فالرهــان علــى‬ ‫ســيغدو أكثــر قـ َّ‬ ‫الضع ــف ق ــد يك ــون خاس ــراً‪ ،‬وروس ــيا المس ــبوقة‪،‬‬ ‫النخ ــب‬ ‫تقنيــاً‪ ،‬ق ــد تخس ــر‪ ،‬م ـ َّـر ًة أخ ــرى‪ ،‬رهانه ــا‪َ .‬‬ ‫الت ــي تراه ــن عل ــى ضع ــف الخص ــوم‪ ،‬تخي ــب أم ــام‬ ‫تل ــك الت ــي تراه ــن عل ــى تعزي ــز الق ــدرات ومص ــادر‬ ‫ـوة الذاتيــة‪ .‬روســيا ليســت كذلــك‪ ،‬بعــد‪.‬‬ ‫القـّ‬

‫زلزال‬

‫ثمـــة‪،‬‬ ‫وبصـــرف النظـــر عـــن رأي لوكيانـــوف‪ّ ،‬‬ ‫ـن ه ــو قل ــق عل ــى مصي ــر‬ ‫بي ــن النخ ــب الروس ــية‪َ ،‬م ـ ْ‬ ‫إمكانية‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫رائج‬ ‫ـرة‬ ‫ـ‬ ‫فك‬ ‫أوروبــا‪ ،‬فعلــى الرغــم مــن‬ ‫ّ‬ ‫بحريــة أكبــر‪ ،‬مع الــدول التي يمكن‬ ‫تعامــل روســيا‪ّ ،‬‬ ‫ـدب‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ال‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫نح‬ ‫ـتمالتها‬ ‫ـ‬ ‫واس‬ ‫ـاد‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ح‬ ‫أن تنفص ــل ع ــن االّت‬ ‫ّ‬ ‫ّإل أن ال ــدول الخارج ــة ع ــن االّتح ــاد‪ ،‬ل ــو خرج ــت‪،‬‬ ‫ـتبعد أن تبق ــى بمن ــأى ع ــن الهيمن ــة األميركي ــة‪،‬‬ ‫ُيس ـ َ‬ ‫وال يبــدو أن روســيا تملــك األدوات الكافيــة لمنافســة‬ ‫أمي ــركا عل ــى فض ــاءات سياس ــية جدي ــدة‪ ،‬ولي ــس‬ ‫الحـــال أفضـــل‪ ،‬اقتصاديـــ ًا وثقافيـــاً‪ ،‬فـــي زمـــن‬ ‫مرش ــح‬ ‫المتح ــدة‪َّ ،‬‬ ‫ـوة‪ .‬وتأثي ــر الوالي ــات َّ‬ ‫ثقاف ــة الق ـ ّ‬ ‫للزيــادة عبــر أدوات حلف شــمال األطلســي‪ ،‬بصرف‬ ‫النظ ــر ع ــن مصي ــر االّتح ــاد األوروب ــي‪ ،‬ب ــل حت ــى‬

‫وعلــى صفحــات إذاعــة «صــدى موســكو»‪ ،‬تــرى‬ ‫الباحثة «ليليا شفيتســوفا» أن بريكســت جاء ليزلزل‬ ‫الغــرب‪ .‬لكنــه الزلــزال المفيــد؛ مــن حيــث أنــه يخيــف‬ ‫ُن َخــب الغــرب المتخمــة‪ ،‬ويوقظهــا مــن غفوتهــا‪ .‬فيمــا‬ ‫روســيا تراقــب‪ ،‬مــن موقعهــا الهامشــي‪ ،‬كيــف تبحث‬ ‫الحضـــارة البريطانيـــة العريقـــة‪ ،‬والتـــي تصفهـــا‬ ‫باألقــوى فــي العالــم‪ ،‬عــن وســائل وصيــغ جديــدة‬ ‫تقدمها‪.‬‬ ‫للحيــاة‪ ،‬وتضــع قواعــد لعــب جديدة لضمــان ُّ‬ ‫أمــا األهــم‪ -‬بالنســبة إلــى روســيا‪ -‬فليــس‪ ،‬فقــط‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ـيتحرك الغــرب‪ ،‬إنمــا الــذي ينبغــي‬ ‫فــي ّ‬ ‫أي اتجــاه سـ َّ‬ ‫أن تفعلــه روســيا نفســها‪ .‬فهــا هــو الغــرب يبحــث مــن‬ ‫جديــد عن حقيقته‪ ،‬وســيصل إلى المعرفــة الضرورية‬ ‫التقدم‪ ،‬فــي نهاية المطاف؛‬ ‫لتحقيــق دفعــة جديــدة من ُّ‬ ‫فهــذه ليســت األزمــة األولــى التــي تعانيهــا الحضــارة‬ ‫كل أزمــة‪ ،‬كانــت تنتقــل إلى مســتوى‬ ‫الليبراليــة‪ .‬ومــع ّ‬ ‫أعلــى مــن التقـ ُّـدم؛ وهــو مــا ســيحصل‪ -‬علــى األغلــب‪-‬‬ ‫بعــد تجاوزهــا أزمتهــا الراهنــة‪ .‬تقــول «شفيتســوفا»‪:‬‬ ‫«يبّدلــون قائــد القطــار ورأس الجـّـر‪ ،‬وينطلقــون‪ .‬ولــن‬ ‫تتمكــن‬ ‫تتمكــن روســيا مــن اللَّحــاق بهــم‪ ،‬وحســن ًا لــو َّ‬ ‫َّ‬ ‫مــن القفــز إلــى القاطــرة األخيــرة»‪.‬‬ ‫ومـــن الناشـــطين الـــروس‪ ،‬علـــى وســـائط‬ ‫مدونات‬ ‫التواصــل االجتماعــي‪ ،‬مــن يرى (على مثــال َّ‬ ‫الحيــة») أن لــدى أوروبــا اليــوم طريقيــن‪،‬‬ ‫«المجّلــة ّ‬ ‫أهليــة‪ ،‬وتصاعــد‬ ‫كالهمــا يمـ َّـر عبــر فوضــى وحــرب ّ‬ ‫األول إل ــى اجتي ــاح جدي ــد‬ ‫الفاش ــية‪ .‬وفيم ــا ينته ــي َّ‬ ‫لروســيا‪ ،‬وال فــرق بيــن أن يكــون تحت رايــة النازية‬ ‫أم الخالفــة اإلســامية‪ ،‬يقــود الثانــي إلــى اســتنجاد‬ ‫العالــم بموســكو وبكيــن‪ ،‬إلنقــاذ أوروبــا‪.‬‬ ‫أهو الشــعب الروســي ينتظر من روسيا السالفية‪،‬‬ ‫لمفكري الكنيسة تسميتها بـ«روما الثالثة»‪،‬‬ ‫التي يحلو ِّ‬ ‫تتوقــع األســوأ‪ ،‬إذا ما انفرط‬ ‫دور المنقــذ‪ ،‬فيمــا النخــب َّ‬ ‫وتفشــت الفاشــية هناك؟!‬ ‫العقد األوروبي‪،‬‬ ‫َّ‬

‫«ليليا شفيتسوفا»‪:‬‬ ‫بريكست جاء‬ ‫ليزلزل الغرب‪.‬‬ ‫لكنه الزلزال‬ ‫المفيد؛ من حيث‬ ‫أنه يخيف ن ُ َ‬ ‫خب‬ ‫الغرب المتخمة‪،‬‬ ‫ويوقظها من‬ ‫غفوتها‪ .‬فيما‬ ‫روسيا تراقب‬

‫‪59‬‬


‫بريكست من وجهة‬ ‫النظر األميركية‬ ‫عبدالوهاب األنصاري (سياتل)‬

‫في الوقت الذي‬ ‫كان فيه شعار‬ ‫دعاة االنفصال‬ ‫في بريطانيا‬ ‫يقول‪« :‬لنسترجع‬ ‫بالدنا»‪ ،‬كان‬ ‫شعار حملة‬ ‫ترامب‪« :‬لنجعل‬ ‫ً‬ ‫عظيمة‬ ‫أميركا‬ ‫مر ّ ًة أخرى»‬

‫بطبيعــة الحــال‪َ ،‬هلَّل اليميــن األميركي لتصويت الشــعب البريطاني لصالح الخــروج من االتحاد‬ ‫األوروبي (بريكست)‪ ،‬بحساب أن ذلك‪ ،‬في ٍ‬ ‫تكريس على طرَف ّي األطلنطي‪،‬‬ ‫األقل‪-‬‬ ‫جزء منه‪ -‬على ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ونصرة‬ ‫للحّد من االســتيعاب األوروبي لســيل المهاجرين (من دول العالم الثالث‪ ،‬والعرب والمســلمين تحديداً)‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫والتعددية الثقافية‪ .‬إذن‪،‬‬ ‫والتمــدن‬ ‫للعــرق األبيض الذي طالما طولب باحتواء األعراق األخرى باســم المســاواة‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫وســيتم انتخاب دونالد ترامب في‬ ‫يتزعمه الجمهوريون‪ ،‬تلك هي إرادة الشــعوب الغربية‪،‬‬ ‫في نظر اليمين الذي َّ‬ ‫ّ‬ ‫المنظمات البيضاء (الكو كلكس كالن مثالً)‬ ‫نوفمبر‪/‬تشــرين الثاني المقبل؛ قياســ ًا على ذلك‪ ،‬ال محالة‪ .‬وحتى َّ‬ ‫التنصل من تأييدها له على اســتحياء‪ ،‬اســتطاعت‪ -‬تقريباً‪ -‬أن تخفي فرحتها في مآل األمور‬ ‫التي حاول ترامب‬ ‫ُّ‬ ‫(ومثل ذلك في هولندا‪ ،‬وألمانيا‪ ،‬وفرنسا)‪ .‬وفي الوقت الذي كان فيه شعار دعاة االنفصال في بريطانيا يقول‪:‬‬ ‫مر ًة أخرى»‪.‬‬ ‫«لنسترجع بالدنا»‪ ،‬كان شعار حملة ترامب‪« :‬لنجعل أميركا‬ ‫ً‬ ‫عظيمة ّ‬

‫األول كاآلخـــر‪ :‬لنســـترجع بالدنـــا مـــن ســـطوة‬ ‫البرلمــان األوروبــي (أو مجلــس االّتحــاد األوروبــي)‬ ‫ال ــذي يس ــمح لتل ــك األجن ــاس والجنس ــيات األخ ــرى‬ ‫والمهاجريـــن بغزونـــا ومنافســـتنا فـــي الوظائـــف‪،‬‬ ‫وحت ــى ف ــي تطبي ــق الش ــريعة اإلس ــامية وف ــرض‬ ‫اللحــم الحــال لــدى الجـّـزار‪ .‬لنجعــل بالدنــا عظيمــة‬ ‫وكل دعـــاة‬ ‫بعيـــدًا مـــن الليبرالييـــن واليســـاريين ّ‬ ‫كل ذلــك‬ ‫التعايــش والتســاوي مــع اآلخريــن ألن فــي ّ‬ ‫ـاض مجيــد‪ ،‬كّنــا ننعــم بــه ذات يــوم؛ ذلــك‬ ‫تداعيـ ًا لمـ ٍ‬ ‫مميــزة‪،‬‬ ‫الماضــي الــذي لــم يكــن فيــه للســود حقـ ٌ‬ ‫ـوق َّ‬ ‫ثم ــة‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫يك‬ ‫وال ش ــيء اس ــمه ال ــزواج المثل ــي‪ ،‬ول ــم‬ ‫ّ‬ ‫‪60‬‬

‫للتغيــر المناخــي‪ ،‬وال تفجيــرات اإلرهابيين‪،‬‬ ‫حســاب‬ ‫ُّ‬ ‫ولـــم تهاجـــر وظائفنـــا إلـــى الـــدول اآلســـيوية‪ ،‬وال‬ ‫كل هــذا‪،‬‬ ‫مصانعنــا إلــى الصيــن‪ ،‬تحديــداً‪ ..‬إلــخ‪ .‬فــي ّ‬ ‫الجمهوري ــون أن االلتزام ــات الدولي ــة‪ ،‬الت ــي ال‬ ‫يج ــد‬ ‫ّ‬ ‫المتحــدة‪ ،‬هــي وراء‬ ‫يجدونهــا فــي صالــح الواليــات َّ‬ ‫تبنّـــي تلـــك السياســـات‪ .‬بقطـــع الصـــات‪ -‬إذن‪-‬‬ ‫والتخّلــي عــن االّتفاقيــات الدوليــة‪ ،‬التــي ِّ‬ ‫تمثــل األمــم‬ ‫المتحــدة‬ ‫المتحــدة أبــرز صورهــا‪ ،‬تســتعيد الواليــات َّ‬ ‫َّ‬ ‫حرّي ــة التص ـ ُّـرف‪-‬‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫يعطيه‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـة؛‬ ‫ـ‬ ‫التام‬ ‫تها‬ ‫ـتقاللي‬ ‫ـ‬ ‫اس‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫كيفمــا شــاءت‪ -‬بمــا فيــه مصلحــة الشــعب األميركــي‪،‬‬ ‫أم ــا آخ ــرون في ــرون أن الوالي ــات‬ ‫حس ــبما ي ــرون‪ّ .‬‬


‫ـا‪ ،‬تراجعها عن المســرح العالمي‬ ‫المتحــدة بــدأت‪ ،‬فعـ ً‬ ‫ِّ‬ ‫تحت سياســات أوباما‪ ،‬في الجناح الليبرالي؛ وذلك‬ ‫ـرعيين (ومعظهــم‬ ‫بــدءًا بترحيلــه المهاجريــن غيــر الشـ ّ‬ ‫ـول التينيــة) بأعـ ٍ‬ ‫مــن أصـ ٍ‬ ‫ـداد غيــر مســبوقة‪ ،‬مــرورًا‬ ‫لبش ــار‬ ‫بتراخي ــه ع ــن الخ ـ ّ‬ ‫ـط األحم ــر ال ــذي رس ــمه ّ‬ ‫ـوات األميركيــة فــي العــراق‬ ‫األســد‪ ،‬إلــى تقليصــه القـّ‬ ‫أمــا‬ ‫وأفغانســتان‪ ،‬وموقفــه المتخــاذل تجــاه إيــران‪ّ .‬‬ ‫نصــح أوبامــا للبريطانيين بالتصويت لصالح البقاء‬ ‫م ــع االّتح ــاد فه ــو ينب ــع م ــن منظ ــور اس ــتراتيجي؛‬ ‫فضمـــن أمـــور أخـــرى‪ ،‬عندمـــا تتالقـــى المصالـــح‬ ‫األميركيــة والبريطانيــة (وهــي كثيــرًا مــا تتالقى) فإن‬ ‫المتحدة ســتفقد‪ ،‬بخــروج بريطانيا‪ ،‬صوت ًا‬ ‫الواليات ِّ‬ ‫االتحــاد األوروبــي‪،‬‬ ‫مســانداً‪ ،‬عنــد التصويــت‪ ،‬داخــل ِّ‬ ‫علــى األمــور المتعلِّقــة بالمصالــح األميركيــة‪ .‬لكــن‪،‬‬ ‫بالمقابــل‪ ،‬فــإن خــروج بريطانيــا مــن االّتحاد يعطيها‬ ‫حرّيــة الوقــوف إلــى جنــب أميــركا‪ ،‬عندمــا يســتدعي‬ ‫ّ‬ ‫األم ــر‪ ،‬دون االلتف ــات إل ــى رأي االّتح ــاد األوروب ــي‪.‬‬ ‫غيــر أن بريطانيــا‪ ،‬التــي حّقــق فيهــا االنفصاليون‬ ‫مبتغاهــم‪ ،‬فــي الوقــت الــذي لــم يتـّـم فيــه اســتيعاب‬ ‫تبعــات االنفصــال مــن االّتحــاد بعد‪ ،‬والتــي تبدو‪ ،‬في‬ ‫تلخصها‬ ‫مجملهــا‪ ،‬ســلبية إلــى اآلن‪ ،‬أصبحت حالتها ِّ‬ ‫خاصـــة فيمـــا يتعلَّـــق‬ ‫عبـــارة «ندامـــة الشـــاري»‪،‬‬ ‫ً‬ ‫بالتج ــارة واالقتص ــاد‪ .‬والتصوي ــت عل ــى االنفص ــال‬ ‫يعكــس حالــة الغيــظ الشــعبي مــن الفئــة النخبويــة‬ ‫المعزولــة عــن همــوم الشــعب‪ .‬والــدرس الــذي يمكــن‬ ‫ّيــة‪،‬‬ ‫أن يســتقيه ِّ‬ ‫منظــرو السياســات األميركيــة المحلّ‬ ‫أي حــال‪ ،‬هــو‬ ‫إثــر التصويــت علــى االنفصــال‪ ،‬علــى ّ‬ ‫محتمــل‪،‬‬ ‫مبكــرًا علــى ُّ‬ ‫ضــرورة العمــل ِّ‬ ‫ـراع َ‬ ‫تجنــب صـ ٍ‬ ‫بيــن الطبقــة العماليــة التــي قــد تغويهــا الشــوفينية‬ ‫والش ــعبوية‪ ،‬م ــن جه ــة‪ ،‬والت ــي ت ــرى أن المنافس ــة‬ ‫مـــن «األجانـــب» علـــى الوظائـــف هـــي ســـبب رداءة‬ ‫ٍ‬ ‫بشـــكل عـــام‪،‬‬ ‫أوضاعهـــم االقتصاديـــة والبطالـــة‪،‬‬ ‫والتعدديــة اإلثنيــة‪-‬‬ ‫وبيــن المســتفيدين مــن العولمــة‬ ‫ُّ‬ ‫الثّقافي ــة‪ ،‬م ــن جه ــة أخ ــرى‪ .‬وه ــو‪ -‬تمامــاً‪ -‬الوت ــر‬ ‫المرش ــح الرئاس ــي‬ ‫الحس ــاس ال ــذي يع ــزف علي ــه‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ترام ــب‪ ،‬ف ــي الترغي ــب بسياس ــاته المقترح ــة‪.‬‬ ‫إذن‪ ،‬الوصفــة العالجيــة‪ ،‬هنــا‪ ،‬هي ضــرورة ردم‬ ‫ُّخ ــب‪ .‬وم ــا ش ــعبية‬ ‫ـوة الثق ــة بي ــن الش ــعوب والن َ‬ ‫هـّ‬ ‫ترامــب إال تعبيــر عــن الضيــق بفشــل النخبــة الحاكمــة‬ ‫واختيـــار شـــخص مـــن خـــارج الدائـــرة السياســـية‬ ‫ـا‪ .‬والشــعبوية‪ ،‬فــي جـ ٍ‬ ‫ـزء كبيـٍـر منهــا‪،‬‬ ‫التقليديــة بديـ ً‬ ‫مــا هــي إال الرغبــة فــي الرجــوع إلــى الحكم الســلطوي‬ ‫ـوق فئـ ٍ‬ ‫تعهديــة‪،‬‬ ‫الــذي ال يعبــأ بحقـ ٍ‬ ‫ـات مــا أو التزامــات ُّ‬ ‫ّيــات العرقيــة أو الدينيــة‪ ،‬أو تجــاه‬ ‫ســواء تجــاه األقلّ‬ ‫ٍ‬ ‫دول بأكملهـــا‪ ،‬لكـــن صـــراع اليميـــن مـــع اليســـار ال‬ ‫ـــزل بالشـــعبوية؛ فكمـــا أن اليميـــن األميركـــي‬ ‫ُي َ‬ ‫خت َ‬ ‫وكل‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫يقلق‬ ‫ـكل صغيــرة ّ‬ ‫توســع الحكومــة وتقنينهــا لـ ّ‬ ‫ُّ‬ ‫كبيــرة فالنظــرة مــن داخــل االّتحــاد األوروبــي تثيــر‬

‫االتح ــاد عندم ــا تب ــدأ بحظ ــر‬ ‫قل ــق بع ــض مواطن ــي ِّ‬ ‫الذكي ــة ومجفِّف ــات‬ ‫ـف‬ ‫ـ‬ ‫والهوات‬ ‫المكان ــس الكهربائي ــة‬ ‫ّ‬ ‫الشــعر العاليــة االســتهالك للطاقــة‪.‬‬ ‫ـن ل ــم‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ها‬ ‫ع‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫كي ــف يمك ــن االمتث ــال لقواني ــن‪ْ َ َ َّ َ ،‬‬ ‫ـا عن‬ ‫يتـّـم انتخابهــم وال ســلطة للشــعب عليهــم‪ ،‬فضـ ً‬ ‫أنه ــم م ــن بل ــدان أخ ــرى؟ م ــاذا حص ــل للديموقراطي ــة‬ ‫الليبراليــة وحقــوق األفــراد والحكــم الذاتــي؟ كان ذلــك‬ ‫حري‬ ‫بعــض دعــوات دعــاة االنفصال والذيــن رأوا أنه ٌّ‬ ‫المتحــدة التشــجيع علــى االنفصــال لــدى‬ ‫بالواليــات َّ‬ ‫تقييــم المســألة مــن تلــك الزاويــة‪.‬‬ ‫أمــا اليســار األميركــي‪ ،‬فــي مجملــه‪ ،‬فقــد نظــر إلى‬ ‫االنفص ــال عل ــى أن ــه لي ــس ف ــي صال ــح بريطاني ــا‪،‬‬ ‫المفكـــر نعـــوم‬ ‫عبـــر‬ ‫ِّ‬ ‫وال فـــي صالـــح العالـــم‪ ،‬وقـــد ّ‬ ‫تشومســـكي عـــن ذلـــك بالتصريـــح عـــن مخاوفـــه‬ ‫م ــن أن تصب ــح بريطاني ــا‪ ،‬باالنفص ــال‪ ،‬ف ــي مرتب ــة‬ ‫ممـــا هـــي‬ ‫دونيـــة مـــن الواليـــات َّ‬ ‫ّ‬ ‫المتحـــدة (أكثـــر ّ‬ ‫مؤي ــدي‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـوا‬ ‫ـ‬ ‫كان‬ ‫ـار‬ ‫ـ‬ ‫اليس‬ ‫ـض‬ ‫ـ‬ ‫بع‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫لك‬ ‫اآلن)‪.‬‬ ‫ـه‬ ‫علي ـ‬ ‫ِّ‬ ‫أي حــال؛ وذلــك بســبب نظرتهــم إلى‬ ‫االنفصــال علــى ِّ‬ ‫لمؤسســات َرْيعية‬ ‫بيئة‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫بوصف‬ ‫ـي‪،‬‬ ‫االتحــاد األوروبـ‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ولن َخب تتجنَّب دفع الضرائب‪ ،‬وللجريمة‬ ‫احتكارية‪ُ ،‬‬ ‫المنظم ــة‪ ،‬ولفش ــل العولم ــة ف ــي تحس ــين األوض ــاع‬ ‫َّ‬ ‫أحيان كثيرة‪ .‬وبحســب‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـرب‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫الغ‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫االقتصادي‬ ‫ٍ‬ ‫النظــرة هــذه فــإن الــذي أعطــى زخم ًا لترامب هــو ذاته‬ ‫ال ــذي أعط ــى زخمــ ًا لغريم ــه الديموقراط ــي «بيرن ــي‬ ‫كل ما بوســعه إلفشــال‬ ‫ســاندرز»‪ ،‬الذي نذر أن يفعل ّ‬ ‫التصويــت لترامــب‪.‬‬ ‫لك ــن‪ ،‬بالنس ــبة إل ــى أولئ ــك الذي ــن يتمّن ــون ف ــوز‬ ‫ترام ــب ف ــي االنتخاب ــات الرئاس ــية القادم ــة‪ ،‬فاألم ــر‬ ‫عم ــا ه ــو علي ــه ف ــي‬ ‫مختل ــف ف ــي الوالي ــات َّ‬ ‫المتح ــدة ّ‬ ‫تعددي ـ ًـة بكثي ــر م ــن‬ ‫بريطاني ــا؛ إذ إن األول ــى أكث ــر ُّ‬ ‫ـول علــى‬ ‫الثانيــة‪ ،‬وبذلــك قــد ال يجــدي ترامــب أن يعـ ِّ‬ ‫خاص ـ ًـة إذا‬ ‫تصوي ــت الطبق ــة العامل ــة م ــن البي ــض‪ّ ،‬‬ ‫ّيــات‪ .‬غيــر أن‬ ‫المميــزة بإهانــة األقلّ‬ ‫طرقــه َّ‬ ‫اسـ َّ‬ ‫ـتمر فــي ُ‬ ‫الش ــعب األميرك ــي‪ ،‬إجم ــاالً‪ ،‬ال يعني ــه م ــن بريكس ــت‬ ‫ثـــم‪ -‬بدرجـــة أدنـــى‪،‬‬ ‫إال مـــا قـــد‬ ‫يمـــس االقتصـــاد‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫والمنظ ــرون‬ ‫ربم ــا‪ -‬األم ــن القوم ــي‪ .‬أم ــا المحلِّل ــون‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ـكل يدل ــي بدل ــوه‪ ،‬دون يقي ــن بتبع ــات‬ ‫والخب ــراء ف ـ ٌّ‬ ‫يتخـــوف مـــن أن‬ ‫االنفصـــال‪ .‬مـــن المحلِّليـــن مـــن‬ ‫َّ‬ ‫ـؤدي االنفص ــال البريطان ــي إل ــى أن انف ــراط العق ــد‬ ‫يـ ّ‬ ‫ً‬ ‫ْقن ــة‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫إل‬ ‫ال‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫وص‬ ‫ـرى‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫أخ‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫بع‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫دول‬ ‫ـي‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫األوروب‬ ‫ً‬ ‫َ​َ‬ ‫أوروبــا؛ األمــر الــذي يرونــه ليــس فــي صالــح األمــن‬ ‫يتخوف ــون م ــن تأثي ــر االنفص ــال عل ــى‬ ‫العالم ــي‪ ،‬أو‬ ‫َّ‬ ‫معـ َّـدل الفائــدة لــدى المصــارف المركزيــة‪ .‬لكــن الواقع‬ ‫التنب ــؤ بتبع ــات االنفص ــال تبق ــى قي ــد التخمي ــن‪،‬‬ ‫أن ُّ‬ ‫األيــام مــا كنــت‬ ‫رغــم المحلِّليــن‪ ،‬إلــى أن «تبــدي لــك َّ‬ ‫ـا»‪ ،‬بتعبي ــر َطَرف ــة ب ــن العب ــد‪.‬‬ ‫جاه ـ ً‬

‫ِّ‬ ‫المفكر‬ ‫عبّر‬ ‫نعوم‬ ‫تشومسكي عن‬ ‫مخاوفه من أن‬ ‫تصبح بريطانيا‪،‬‬ ‫باالنفصال‪ ،‬في‬ ‫مرتبة دونيّة‬ ‫من الواليات‬ ‫المتَّحدة (أكثر‬ ‫مما هي عليه‬ ‫ّ‬ ‫اآلن)‬

‫‪61‬‬


‫البريكست‪..‬‬ ‫جرس إنذار‬ ‫وســكان األرياف‬ ‫خلفية اإلحباط والخوف من اآلخر‪ ،‬عند الفئات األكبر ســن ًا‬ ‫ّ‬ ‫التصويــت جــاء على ّ‬ ‫أقل انخراط ًا في سياق العولمة المتنامي‪ ،‬والذي صار يشمل‬ ‫ممن هم ّ‬ ‫وأصحاب الياقات الزرقاء؛ أي َّ‬ ‫صوتوا مع البقاء؛ ما‬ ‫المدن والجيل‬ ‫الشــاب‪ ،‬بشــكل ّ‬ ‫خاص‪ ،‬والفئات المتعلّمة وأصحاب الياقات البيضاء الذي َّ‬ ‫ّ‬

‫قوي في العالم يشمل المدن العالمية الكبرى‬ ‫يجعلنا نستنتج‪ -‬مع ّ‬ ‫كل الحذر والحيطة من التعميم‪ -‬وجود اّتجاه ّ‬ ‫عالمي‪،‬‬ ‫عام‬ ‫المتصل «‪ ،»Connected‬والذي بدأ‬ ‫والطبقات الوســطى والجيل‬ ‫الشــاب المنفتح َّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتشــكل منه رأي ّ‬ ‫ّ‬ ‫الضيقة والخصوصيات الثّقافية‬ ‫تجمعه ثقافة جامعة تشمل االنفتاح على اآلخر وقبوله ّ‬ ‫وتخطي الحدود القومية ّ‬ ‫أهمية األفكار التي طالمــا عجزت الحواجز عن‬ ‫المتزمتــة لجهــة ثقافة جامعة عالمية‪ .‬وهــذا تمرين تطبيقي على ّ‬ ‫ِّ‬ ‫الوقوف في وجهها‪ ،‬فكيف‪ ،‬اآلن‪ ،‬مع اإلمكانات التقنية التي جعلت وتيرة انتقالها وتفاعلها غير مسبوقة؟!‪.‬‬

‫منى فياض (بريوت)‬

‫موقع بريطانيا‬ ‫الجغرافي خارج‬ ‫قارّة أوروبا أبقى‬ ‫الشعور لدى‬ ‫البريطانيين‬ ‫بأنهم يختلفون‬ ‫عن باقي الدول‬

‫‪62‬‬

‫يبـــدو أن كاميـــرون ذهـــب إلـــى االســـتفتاء‪،‬‬ ‫وه ــو واث ــق م ــن أن نتيجت ــه س ــتكون م ــع البق ــاء‬ ‫ضمــن االّتحــاد‪ ،‬ففوجــئ‪ ،‬هــو والعالــم‪ ،‬بالنتيجــة‬ ‫الدراماتيكيـــة‪ .‬صحيـــح أن بريطانيـــا كانـــت‪ ،‬منـــذ‬ ‫مؤسســي‬ ‫البدايــة‪ ،‬حالــة اســتثنائية‪ ،‬ولــم تكــن مــن ّ‬ ‫انضم ــت إلي ــه‪ ،‬فق ــط‪ ،‬ف ــي‬ ‫االّتح ــاد األوروب ــي ب ــل‬ ‫َّ‬ ‫ـارة أوروبا أبقى‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫ـارج‬ ‫ـ‬ ‫خ‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫‪ 1973‬فموقعهــا الجغراف‬ ‫ّ‬ ‫الش ــعور ل ــدى البريطانيي ــن بأنه ــم يختلف ــون ع ــن‬ ‫كل‬ ‫ـغ‪ّ .‬‬ ‫باق ــي ال ــدول‪ ،‬والجني ــه األس ــترليني ل ــم ُيل ـ َ‬ ‫الخاص ــة لإلمبراطوري ــة‪،‬‬ ‫ذل ــك أش ــار إل ــى المكان ــة‬ ‫ّ‬ ‫الت ــي ل ــم تك ــن الش ــمس تغي ــب عنه ــا‪.‬‬ ‫لكــن هــذه التفســيرات ال تســاعد علــى التقليــل مــن‬ ‫الصدمــة‪ -‬الصفعــة التــي تلقّاهــا االّتحــاد األوروبــي‬ ‫المتعال ــي والواث ــق م ــن نفس ــه؛ فه ــو معت ــاد عل ــى‬ ‫أم ــا اآلن‪،‬‬ ‫أن معظ ــم ال ــدول تطل ــب االنضم ــام إلي ــه‪ّ .‬‬ ‫فلقــد أصبــح مهـ َّـددًا بالتفـ ُّـكك‪ ،‬مثل بريطانيا نفســها‪.‬‬ ‫ـا عــن الدولــة القوميــة المغلقة‬ ‫شـ َّـك َل االّتحــاد بديـ ً‬ ‫محل‬ ‫يحلن ّ‬ ‫فــي إطــار حدودهــا‪ .‬القانون واالقتصــاد ّ‬ ‫والهوي ــة‪ ،‬وب ــد ًال م ــن األيديولوجي ــا حّل ــت‬ ‫الس ــيادة‬ ‫ّ‬ ‫البيروقراطيــة‪ ،‬وانتصــرت المصالــح علــى المشــاعر‬

‫القومي ــة‪ ،‬لكنه ــا ليس ــت الم ـّـرة األول ــى الت ــي تق ــول‬ ‫فيهــا الجماهيــر كلمتهــا خالفـ ًا للنخبــة‪.‬‬ ‫مؤخ ــراً‪ -‬بالكثي ــر م ــن األح ــداث‬ ‫يتفاج ــأ العال ــم‪َّ -‬‬ ‫غيــر المتوقَّعــة‪ :‬مــن الثــورات العربيــة‪ ،‬إلــى بــروز‬ ‫داع ــش‪ ،‬إل ــى غ ــرق أوروب ــا بالّالجئي ــن‪ ،‬حت ــى م ــا‬ ‫يحـــدث فـــي الواليـــات المّتحـــدة مفاجـــئ‪ .‬يســـود‬ ‫االنقســام العالــم‪ ،‬ومعظــم الــدول منقســمة‪ ،‬داخلياً‪،‬‬ ‫ـاداً‪.‬‬ ‫انقس ــام ًا ح ـ ّ‬ ‫الم ـ ّـرة األخي ــرة الت ــي ع ــرف العال ــم فيه ــا مث ــل‬ ‫ه ــذا الوض ــع كان ــت بع ــد الح ــرب العالمي ــة األول ــى‪.‬‬ ‫والمرحل ــة القصي ــرة الت ــي تبعته ــا‪ ،‬قب ــل أن تنقل ــب‬ ‫األوضـــاع‪ ،‬وينشـــأ عنهـــا العالـــم الجديـــد الـــذي‬ ‫ب ــرز بع ــد الح ــرب العالمي ــة الثاني ــة‪ ،‬يطل ــق عليه ــا‬ ‫الفرنسيون «الحقبة الجميلة‪،»La belle époque -‬‬ ‫كحني ــن إل ــى العال ــم القدي ــم ال ــذي اختف ــى‪.‬‬ ‫نحــن‪ ،‬اآلن‪ ،‬أمــام شــيء جديــد وعميــق يحصــل‬ ‫عصي ـ ًا علــى الفهــم‪.‬‬ ‫فــي العالــم‪ ،‬يجعلــه ّ‬ ‫غـــداة الحـــرب العالميـــة األولـــى كانـــت الثـــورة‬ ‫وح َّلــت‬ ‫الصناعيــة األولــى قــد وصلــت إلــى أوجهــا‪َ ،‬‬ ‫وقصرت‬ ‫المَمكننــة ّ‬ ‫محل عربات الجياد‪ّ ،‬‬ ‫المواصــات ُ‬


‫الطائ ــرات المس ــافات‪ .‬حاول ــت ال ــدول الت ــي ق ــادت‬ ‫العال ــم القدي ــم اإلبق ــاء عل ــى مكانته ــا‪ ،‬لك ــن الح ــرب‬ ‫النوويَتْي ــن‬ ‫القنبلتْي ــن‬ ‫العالمي ــة الثاني ــة واس ــتخدام‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫المتفوق ــة صناعي ـاً‪ ،‬أرس ــا قواع ــد‬ ‫م ــن ِقَب ــل أمي ــركا‬ ‫ّ‬ ‫ـي القط ــب‪ .‬فتعاي ــش‬ ‫جدي ــدة‪ ،‬وأوج ــدا عالمــ ًا ثنائ ـ ّ‬ ‫مركزْيـــن همـــا‪:‬‬ ‫مـــن‬ ‫قـــادة العالـــم مـــع منظومـــة‬ ‫َ‬ ‫واش ــنطن‪ ،‬وموس ــكو‪ ،‬يحكمهم ــا ت ــوازن رع ــب‪.‬‬ ‫لك ــن العال ــم ال ــذي نش ــأ بع ــد الح ــرب العالمي ــة‬ ‫الثانيـــة بـــدأ باالختفـــاء مـــع انهيـــار االّتحـــاد‬ ‫الســوفياتي‪ .‬نحــن‪ ،‬اآلن‪ ،‬أمــام عالــم جديــد ينبثــق‪،‬‬ ‫يتكـــون بعـــد‪.‬‬ ‫ولـــم‬ ‫َّ‬ ‫تنبــأ بــأن العالــم‬ ‫أن‬ ‫ـان»‬ ‫ـ‬ ‫لوه‬ ‫ـاك‬ ‫ـ‬ ‫«م‬ ‫ـبق‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫كان‬ ‫َّ‬ ‫ـول إلــى قريــة صغيــرة‪ .‬لكــن‪ ،‬لــم تظهــر نتائــج‬ ‫تحـ َّ‬ ‫التنبــؤ عيانيـاً‪ ،‬علــى األرض‪ ،‬بشــكل ملمــوس‪.‬‬ ‫هــذا ُّ‬ ‫اآلن‪ ،‬نالحــظ ذلــك بطريقــة غيــر مســبوقة عبــر مــا‬ ‫يعــرف بالعولمــة المتســارعة‪ .‬لقــد ســمحت الثــورة‬ ‫التكنولوجيــة الثالثــة (كمــا ُسـ ِّـمَيت)‪ ،‬والتــي اعتمــدت‬ ‫عل ــى اس ــتخدام ش ــبكة اإلنترن ــت ال ــذي خ ــرج ع ــن‬ ‫ســيطرة الجيــش والمخابــرات‪ ،‬ليــس‪ ،‬فقــط‪ ،‬بربــط‬ ‫الماليي ــن دون وس ــيط وف ــوق الح ــدود والحواج ــز‪،‬‬ ‫بــل‪ -‬أيضـاً‪ -‬بوصولهــم‪ ،‬عبر الشــبكات االجتماعية‪،‬‬ ‫حـــرة غيـــر مســـبوقة‪،‬‬ ‫إلـــى المعلومـــات بطريقـــة ّ‬ ‫التدخـــل المباشـــر فـــي‬ ‫وبإعطائهـــم القـــدرة علـــى‬ ‫ُّ‬ ‫صياغ ــة األح ــداث والتأثي ــر فيه ــا‪ .‬إنه ــا حقب ــة م ــا‬ ‫الحكام‬ ‫يعــرف بـ(اقتصــاد المعرفــة)‪ .‬أفقــد ذلــك قــدرة ّ‬ ‫فــي الســيطرة علــى المعرفــة‪ ،‬وأضعــف قدرتهم على‬ ‫التالع ــب بالعق ــول؛ إنه ــا ث ــورة المعلوم ــات الت ــي‬

‫أوجده ــا الفض ــاء الرقم ــي‪.‬‬ ‫ال ي ــزال م ــن غي ــر الواض ــح م ــاذا س ــينتج ع ــن‬ ‫تلم ْســنا بعــض اآلثــار فــي الثــورات‬ ‫ّ‬ ‫كل ذلــك‪ ،‬لكننــا َّ‬ ‫الم َع ْوَل ــم‪.‬‬ ‫العربي ــة‪ ،‬وف ــي ظاه ــرة اإلره ــاب ُ‬ ‫يقــف أصحــاب القــرار‪ ،‬اآلن‪ ،‬أمــام عالــم جديــد؛‬ ‫عالــم تكــون فيــه الدولــة الوطنية محدودة الســيادة‪،‬‬ ‫المتحــدة‬ ‫َّ‬ ‫والمنظمــات أقــوى مــن الــدول‪ ،‬والواليــات َّ‬ ‫ـؤدي دورهــا كمــا كانــت‪ ،‬عالــم ُي َعـّد األمــر األهـّـم‬ ‫ال تـ ّ‬ ‫فيــه وقــف موجــة الالجئين إلى الغــرب‪ ،‬دون اهتمام‬ ‫بمعالجــة جــذور المشــكلة‪ .‬فــي عالــم كهــذا ال تعــود‬ ‫أم ــا القواع ــد‬ ‫القواع ــد القديم ــة ق ــادرة عل ــى العم ــل‪ّ ،‬‬ ‫الجدي ــدة فل ــم تتش ـّـكل بع ــد‪ .‬وعلي ــه‪ ،‬ف ــإن تجرب ــة‬ ‫توقــع المســتقبل‪.‬‬ ‫ـل قـ ً‬ ‫الماضــي تكــون أقـّ‬ ‫ـدرة علــى ُّ‬ ‫اســـتنتجت بعـــض التحليـــات‪ ،‬فـــي عالمنـــا‬ ‫العربــي‪ ،‬بمناســبة مئويــة ســايكس بيكــو‪ ،‬وجــود‬ ‫مؤامــرة غربيــة لتفكيــك الــدول الوطنية التي نشــأت‬ ‫ـن مــا الحظنــاه‪ ،‬مــع عمليــة‬ ‫إثــر تلــك االّتفاقيــة‪ .‬لكـ ّ‬ ‫التصويــت علــى اســتفتاء البريكســت‪ ،‬هــو أن الغرب‬ ‫المته ــم بالتآم ــر مه ـّدد ه ــو‪ -‬أيض ـاً‪ -‬بالتف ـ ُّـكك‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫تنبــأت بعــض التحليــات بــأن تســارع‬ ‫أن‬ ‫ـبق‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫َّ‬ ‫ومجاني ــة‬ ‫س ــيرورة العولم ــة وس ــهولة التواص ــل ّ‬ ‫كبيرْيــن يتقاســمان‬ ‫المعرفــة سـ ِّ‬ ‫ـتعزز نشــوء ّ‬ ‫ارْيــن َ‬ ‫تي َ‬ ‫ومتصل‪ ،‬عابر للبلدان‬ ‫العالم‪ :‬واحد ُم َع ْوَلم ومنفتح َّ‬ ‫متمســك بالخصوصيــات‬ ‫ـارات‪ ،‬وآخــر منغلــق‬ ‫ِّ‬ ‫والقـ ّ‬ ‫والعصبي ــات؛ أي اّتج ــاه يمين ــي متقوق ــع‬ ‫الثّقافي ــة‬ ‫ّ‬ ‫للهويــات القوميــة والمحلّية‪ ،‬في مواجهة‬ ‫ـب‬ ‫ومتعصـ‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫وم َع ْوَلــم يحمــل ثقافــة كونية‬ ‫ـح‬ ‫ـ‬ ‫منفت‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ليبرال‬ ‫اّتجــاه‬ ‫ُ‬

‫تسارع سيرورة‬ ‫العولمة‬ ‫وسهولة‬ ‫التواصل‬ ‫جانية‬ ‫وم ّ‬ ‫المعرفة‬ ‫ستعزِّز نشوء‬ ‫تيّار َ ْين كبير َ ْين‬ ‫يتقاسمان‬ ‫العالم‬

‫‪63‬‬


‫التح ّدي‪ ،‬اآلن‪ ،‬أن‬ ‫نتيجة التصويت‬ ‫عبَّرت عن كبار‬ ‫َ‬ ‫السن الذين‬ ‫ّ‬ ‫ص ّوتوا للخروج‬ ‫من االتّحاد‬ ‫األوروبي كي‬ ‫ِّ‬ ‫ينفذه الشباب‬

‫الذين يرفضونه!!‬

‫‪64‬‬

‫والعصبيــات‪.‬‬ ‫الخصوصيــات الثّقافيــة‪،‬‬ ‫مــن خــارج‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـن العال ــم‬ ‫ـ‬ ‫ظ‬ ‫ـذا‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫كه‬ ‫ـابك‬ ‫ـ‬ ‫متش‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫رقم‬ ‫ـاء‬ ‫ـ‬ ‫فض‬ ‫ف ــي‬ ‫ّ‬ ‫األول أن ــه س ــيكون بمن ــأى ع ــن الح ــرب الس ــورية‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫المتفشــي فــي بعــض الــدول العربيــة‪،‬‬ ‫وعــن العنــف‬ ‫ّ‬ ‫ســرعان مــا َكذَّبتــه التداعيــات‪ ،‬وآخرهــا البريكســت‪.‬‬ ‫األمــر المفــروغ منــه أن نتائــج االســتفتاء الشــعبي‪،‬‬ ‫فــي بريطانيــا تشــير إلــى انتصــار مرحلــي لســيادة‬ ‫المتطرفـــة‪،‬‬ ‫الدولـــة الوطنيـــة وللنزعـــة لقوميـــة‬ ‫ّ‬ ‫وللكزينوفوبيـــا واالنغـــاق‪ .‬تشـــير الصحيفـــة‬ ‫الفرنس ــية «النوف ــل أوس ــرفاتور» إل ــى أن الح ــوادث‬ ‫العنصري ــة تضاعف ــت بع ــد االس ــتفتاء‪.‬‬ ‫خلفيــة اإلحبــاط والخــوف‬ ‫التصويــت جــاء علــى ّ‬ ‫اآلخــر عنــد الفئــات األكبــر سـّن ًا وسـّـكان األرياف‬ ‫مــن َ‬ ‫أقـــل‬ ‫أي‬ ‫الزرقـــاء؛‬ ‫الياقـــات‬ ‫وأصحـــاب‬ ‫ممـــن هـــم ّ‬ ‫َّ‬ ‫انخراطـــ ًا فـــي ســـياق العولمـــة المتنامـــي‪ ،‬والـــذي‬ ‫ـاص‪،‬‬ ‫صــار يشــمل المــدن والجيــل الشــاب‪ ،‬بشــكل خـ ّ‬ ‫والفئــات المتعلّمــة وأصحــاب الياقــات البيضاء الذي‬ ‫كل الحذر‬ ‫صوتــوا للبقــاء؛ مــا يجعلنا نســتنتج‪ ،‬مــع ّ‬ ‫َّ‬ ‫ـوي ف ــي‬ ‫والحيط ــة م ــن التعمي ــم‪ ،‬وج ــود اّتج ــاه ق ـ ّ‬ ‫العال ــم يش ــمل الم ــدن العالمي ــة الكب ــرى والطبق ــات‬ ‫الوســـطى والجيـــل الشـــاب المنفتـــح المّتصـــل‬ ‫ـام‬ ‫«‪ ،»Connected‬والــذي بــدأ يتشـ َّـكل منــه رأي عـ ّ‬ ‫عالمــي‪ ،‬تجمعــه ثقافــة جامعــة تشــمل االنفتــاح على‬ ‫الضيق ــة‬ ‫وتخط ــي الح ــدود القومي ــة‬ ‫اآلخ ــر وقبول ــه‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫المتزمتـــة لجهـــة ثقافـــة‬ ‫ّقافيـــة‬ ‫ث‬ ‫ال‬ ‫والخصوصيـــات‬ ‫ِّ‬ ‫أهميــة‬ ‫جامعــة عالميــة‪ .‬وهــذا تمريــن تطبيقــي علــى ّ‬ ‫األفــكار‪ ،‬التــي طالمــا عجــزت الحواجــز عــن الوقــوف‬ ‫ف ــي وجهه ــا‪ ،‬فكي ــف‪ ،‬اآلن‪ ،‬م ــع اإلمكان ــات التقني ــة‬ ‫التــي جعلــت وتيــرة انتقالها وتفاعلها غير مســبوقة؟‬ ‫هن ــاك‪ -‬إذن‪ -‬ح ــراك نح ــو التف ـ ُّـكك والتقوق ــع‪،‬‬ ‫والتجمــع في وحدات‬ ‫يواجهــه حــراك نحــو التواصل‬ ‫ُّ‬ ‫كبــرى‪.‬‬ ‫التحـّدي‪ ،‬اآلن‪ ،‬أن نتيجــة التصويــت َع َّبــرت عــن‬ ‫صوت ــوا للخ ــروج م ــن االّتح ــاد‬ ‫كب ــار الس ـ ّ‬ ‫ـن الذي ــن ّ‬ ‫ينف ــذه الش ــباب الذي ــن يرفضون ــه!!‬ ‫األوروب ــي ك ــي ِّ‬ ‫ـــر‪ -‬أيضـــاً‪ -‬عـــن فشـــل فـــي‬ ‫ّ‬ ‫لكـــن االســـتفتاء َّ‬ ‫عب َ‬ ‫الديموقراطيـــة‪ .‬ففـــي دولـــة ديموقراطيـــة يقـــوم‬ ‫جمهــور الناخبيــن بتعييــن ممثِّليــه‪ ،‬و‪ -‬فــي الوقــت‬ ‫نفســه‪ -‬يعطي الشــرعية المتجّددة للحكومة للعمل‪،‬‬ ‫ـاء عل ــى م ــا يتواف ــق علي ــه الجمي ــع‪ .‬وعندم ــا ال‬ ‫بن ـ ً‬ ‫يكــون الجمهــور راضيـ ًا عــن الحكومــة‪ ،‬تكــون أمامــه‬ ‫العامــة القادمــة‪،‬‬ ‫فرصــة التصويــت فــي االنتخابــات ّ‬ ‫م ــن أج ــل اس ــتبدال الس ــلطة‪ .‬لك ــن كامي ــرون لج ــأ‬ ‫إل ــى االس ــتفتاء ح ــول بق ــاء إنجلت ــرا ف ــي االّتح ــاد ‪،‬‬ ‫ـل االس ــتثنائي‪ -‬عل ــى‬ ‫فاس ــتخدم الدس ــتور‪ -‬أي الح ـ ّ‬ ‫التخلــص من منافســيه على قيــادة المحافظين‪،‬‬ ‫أمــل‬ ‫ُّ‬ ‫فوقعــت الورطــة ذات األبعــاد المصيريــة‪ ،‬لبريطانيــا‬ ‫نفس ــها قب ــل غيره ــا‪.‬‬

‫عبـــر عـــن الفشـــل االقتصـــادي‪ :‬فالخلفيـــة‬ ‫كمـــا ّ‬ ‫للمصوتيـــن للخـــروج‪ ،‬هـــي عكـــس‬ ‫االجتماعيـــة‬ ‫ِّ‬ ‫المؤيديــن‪ .‬إنهــا الطبقــات الضعيفــة وسـّـكان‬ ‫خلفيــة‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫الضواحـــي الذيـــن يســـكنون بالقـــرب مـــن المراكـــز‬ ‫الصناعيـــة التـــي أغلقـــت خـــال الخمســـين ســـنة‬ ‫المكدســة‪،‬‬ ‫األخيــرة‪ ،‬بقــوا جانبـاً‪ ،‬بعيــدًا عن األموال‬ ‫َّ‬ ‫وش ــعروا باإلحب ــاط والغض ــب؛ ه ــذا اإلحب ــاط ه ــو‬ ‫المتطـــرف إلـــى‬ ‫أدى إلـــى صعـــود اليميـــن‬ ‫الـــذي ّ‬ ‫ِّ‬ ‫مســـتوى‪ ،‬لـــم يصلـــه فـــي أوروبـــا‪ ،‬منـــذ الحـــرب‬ ‫العالمي ــة الثاني ــة‪.‬‬ ‫البريكســـت جـــرس إنـــذار‪ .‬بريطانيـــا وأوروبـــا‬ ‫ردة الفعل‬ ‫فإمــا أن تكــون ّ‬ ‫والعالــم فــي وضــع حــرج‪ّ :‬‬ ‫هــي االســتمرار باّتبــاع األدوات القديمــة نفســها التــي‬


‫أوروبا تشعر‬ ‫بالخطر تجاه ما‬ ‫يه ّدد وحدتها‪،‬‬ ‫وهي المك َّونة‬ ‫من دول ذات‬ ‫قوميّات ولغات‬ ‫وثقافات‬ ‫متع ّددة‬ ‫ومختلفة‪،‬‬ ‫وسوف تدافع‬ ‫ّ‬ ‫بكل ق ّوتها‬ ‫عنها‬

‫أثبتــت فشــلها‪ ،‬أو أن تكــون علــى مســتوى المرحلــة‬ ‫مبتك ــر‪ ،‬وعل ــى ق ــدر‬ ‫التاريخي ــة فتتص ـ َّـرف بش ــكل َ‬ ‫المســؤولية‪.‬‬ ‫أمــا عالمنــا العربــي فليس عليه انتظار المســاعدة‬ ‫ّ‬ ‫مــن أوروبــا المحتاجــة‪ ،‬هــي نفســها‪ ،‬إليهــا‪ ،‬والتــي‬ ‫المهمــش‪ -‬أصالً‪-‬‬ ‫ســتعجز عــن لعــب دورهــا الســابق‬ ‫َّ‬ ‫ولــو لفتــرة‪ ،‬وال مــن أميــركا‪ -‬بالطبــع‪ -‬التــي ال تهتـّـم‬ ‫س ــوى بم ــا تحس ــبه لمصلحته ــا‪ .‬المرحل ــة ليس ــت‬ ‫مرحلــة ِقَيــم أخالقيــة‪.‬‬ ‫علينـــا أن نفهـــم أننـــا وحدنـــا‪ ،‬وأن مصيرنـــا‪،‬‬ ‫بح ْســـن اختيـــار الطريـــق‬ ‫لســـنوات قادمـــة‪ -‬رهـــن ُ‬ ‫الــذي نتبعــه‪ .‬ليــس األمــر ســهالً‪ ،‬لكــن علــى العــرب‬ ‫تخطــي ذاتهــم ومواجهــة الحاضــر ومشــاكله بطــرق‬ ‫ّ‬

‫ـوق علــى نفســها‪ ،‬وتأخذ مســافة‬ ‫فـذّة ومبتكــرة‪ ،‬تتفـّ‬ ‫كافي ــة م ــن تاريخه ــا وماضيه ــا‪ ،‬م ــن أج ــل مواجه ــة‬ ‫ـل‪.‬‬ ‫المس ــتقبل بمخاط ــر أق ـ ّ‬ ‫إن أوروبـــا تشـــعر بالخطـــر تجـــاه مـــا يهـــّدد‬ ‫قوميـــات‬ ‫وحدتهـــا‪ ،‬وهـــي‬ ‫المكونـــة مـــن دول ذات ّ‬ ‫َّ‬ ‫ولغــات وثقافــات متعـّددة ومختلفة‪ ،‬وســوف تدافع‬ ‫ممــا هــي عليه‪،‬‬ ‫عنهــا بـ ّ‬ ‫ـكل ّ‬ ‫قوتهــا‪ ،‬وقــد تخــرج أقــوى ّ‬ ‫لك ــن ه ــذا يف ــرض عل ــى ال ــدول العربي ــة أن تمتل ــك‬ ‫الجــرأة علــى االّتحــاد والتكامــل فيمــا بينهــا ألن لديها‬ ‫الماديــة‪ ،‬لكــن‪ ،‬تنقصها الروح‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫كل مقومــات االّتحــاد ّ‬ ‫الســؤال‪ -‬باختصــار‪ :-‬هــل يريــد العــرب أن يكــون‬ ‫التغي ــرات الحاصل ــة ف ــي العال ــم‪،‬‬ ‫له ــم وزن وس ــط‬ ‫ُّ‬ ‫أم ســيقبلون أن يظّلــوا موضوعــه؟‬ ‫‪65‬‬


‫رسخ حضور‬ ‫ما َّ‬ ‫الفكرة األوروبية‪-‬‬ ‫أساس ًا‪ -‬هو األدب‬ ‫والفكر والفلسفة‬ ‫وسائر العلوم‬ ‫اإلنسانية‬

‫المفكريــن أن ُيَبلْور وحــدة أوروبا الثّقافية‪،‬‬ ‫هــل هنــاك صورة ثقافية واحــدة ألوروبا؟ حاول بعض ِّ‬ ‫كل من‪ :‬عوليس‪ ،‬ودون‬ ‫من خالل ديمومة األســاطير الكبرى التي شــغلت‬ ‫العامة‪ ،‬كأسطورة ٍّ‬ ‫ِّ‬ ‫المخيلة ّ‬ ‫جوان‪ ،‬ونابوليون بونابارت‪ ،‬أو عبر اســتعادة «األمكنة المشــتركة»‪ ،‬أو عبــر التيارات الكبيرة التي‬ ‫اجتاحــت أوروبا‪ ،‬بدءًا من «عصر األنوار»‪ ،‬إلى النهضة‪ ،‬إلى الرومانســية والســوريالية والعبثية‪...‬‬ ‫التيارات لصنع وحدة أوروبية ثقافية؟ وماذا عن أوروبا الشمالية التي‬ ‫لكن‪ ،‬هل تكفي هذه المدارس أو ّ‬ ‫ما زالت ثقافتها وآدابها في حاجة إلى االكتشاف؟ ماذا عن أوروبا الشرقية التي ما برحت تشهد حا ًال من‬ ‫االضطراب؟ ماذا عن الجزء اليوناني الذي يمكن وصفه بـ«شتات» الثّقافة اإلغريقية؟‬

‫الفكرة األوروبية‪..‬‬

‫هل تهتز ّ مع انسحاب بريطانيا؟‬ ‫عبده وازن (بريوت)‬ ‫لـــم توفِّـــر «صدمـــة» انســـحاب بريطانيـــا مـــن‬ ‫االّتحــاد األوروبــي الثّقافــة والمثقَّفيــن‪ ،‬البريطانيين‬ ‫واألوروبييــن‪ ،‬علــى الســواء‪ .‬أوروبــا حال حضارية‬ ‫قبــل أن تكــون معتــرك ًا سياســي ًا واقتصاديـاً‪ .‬ولعــل‬ ‫رســخ حضــور الفكــرة األوروبيــة‪ -‬أساسـاً‪ -‬هــو‬ ‫مــا َّ‬ ‫األدب والفكــر والفلســفة وســائر العلــوم اإلنســانية‪.‬‬ ‫وف ــي تقديم ــه كت ــاب «فك ــرة م ــا ع ــن أوروب ــا» (دار‬ ‫‪66‬‬

‫اكــت ســود)‪ ،‬للكاتــب «جــورج ســتينر»‪ ،‬األوروبــي‬ ‫بامتيــاز‪ ،‬يقــول الكاتب «روب ريمــان»‪ ،‬رئيس معهد‬ ‫«ناكســوس» للثّقافــة األوروبيــة‪« :‬األفكار اإلنســانية‬ ‫الكبــرى‪ :‬هــذه هــي الثّقافــة األوروبيــة»‪.‬‬ ‫كي ــف س ــتغدو الفك ــرة األوروبي ــة بع ــد انس ــحاب‬ ‫بريطاني ــا م ــن االّتح ــاد؟ ق ــد يك ــون الج ــواب‪ -‬عل ــى‬ ‫مث ــل ه ــذا الس ــؤال‪ -‬غي ــر واض ــح‪ ،‬اآلن‪ ،‬عل ــى رغ ــم‬


‫األث ــر ال ــذي س ــيتركه االنس ــحاب عل ــى ه ــذه الفك ــرة‬ ‫تحديــات العولمــة الراهنــة‪ ،‬التي ال يمكن‬ ‫التــي تشــهد ِّ‬ ‫إس ــقاط األث ــر األميرك ــي عنه ــا‪ .‬والالف ــت أن معظ ــم‬ ‫األدبــاء والمثقَّفيــن البريطانييــن عارضــوا‪ ،‬بش ـّدة‪،‬‬ ‫هــذا االنســحاب‪ ،‬ووقَّعــوا بيانــات‪ ،‬وكتبــوا مقــاالت‪،‬‬ ‫اســتنكروا فيها االنســحاب‪ .‬فانضمامهم إلى المجلس‬ ‫األوروبــي لطالمــا َو َّفـ َـر لهــم فرص ـ ًا ثقافيــة وأدبيــة‬ ‫إضافة إلى‬ ‫مهمــة‪ ،‬خصوصـ ًا مــا يرتبــط بالترجمــة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫المســاحة الواســعة للحــوار المفتــوح التــي أوجدهــا‪،‬‬ ‫ليــس مــع األدبــاء والمثقَّفيــن األوروبييــن‪ ،‬فحســب‪،‬‬ ‫بــل مــع أدبــاء العالــم ومثقَّفيــه‪ ،‬أيضـاً‪.‬‬ ‫نشــط المجلــس كثيــرًا فــي حقــل ترســيخ الثّقافــة‬ ‫األوروبيــة ونشــرها والترويــج ألفكارهــا ومبادئهــا‪.‬‬ ‫ف ــي الع ــام ‪ ،2000‬ع ــام نهاي ــة ق ــرن وبداي ــة آخ ــر‪،‬‬ ‫ـــمي‪ ،‬حينـــذاك‪،‬‬ ‫أطلـــق المجلـــس األوروبـــي مـــا ُس ِّ‬ ‫«قطـــار األدب األوروبـــي»‪ ،‬وقـــد حمـــل نحـــو مئـــة‬ ‫وثالثيــن أديبـ ًا مــن أوروبــا‪ ،‬وانطلــق مــن لشــبونة‪،‬‬ ‫ف ــي جول ــة عل ــى عواص ــم وم ــدن أوروبي ــة ع ـّدة‪...‬‬ ‫كانـــت غايـــة هـــذا «القطـــار» ترويـــج فكـــرة األدب‬ ‫األوروب ــي‪ ،‬م ــن خ ــال اللق ــاء بي ــن ه ــؤالء األدب ــاء‬ ‫و«الجماهي ــر»‪ ،‬وكان عليه ــم أن يش ــرحوا‪ -‬أيضــاً‪-‬‬ ‫ـح «القطــار»‬ ‫أنجـ َ‬ ‫معنــى الوحــدة األوروبيــة‪ .‬وســواء َ‬ ‫مهمتــه أم لــم ينجــح‪ ،‬فهــو َع َّبـَـر عن الخشــية‬ ‫فــي أداء َّ‬ ‫مــن طغيــان شــبح العولمــة األميركيــة علــى البلــدان‬ ‫األوروبي ــة وثقافاته ــا‪.‬‬ ‫أمــا الحــدث اآلخــر فــكان فــي العــام ‪ ،2000‬عندما‬ ‫ّ‬ ‫كســرت مجموعــة مــن األدبــاء األوروبييــن الحصــار‬ ‫ال ــذي ضربت ــه الق ــوات الصربي ــة عل ــى س ــاراييفو‪،‬‬ ‫ودخلــت المدينــة‪ ،‬وأحيــت «اللقــاء األوروبــي حــول‬ ‫الكتـــاب»‪ ،‬تحـــت شـــعار «الكتـــب ضـــّد البنـــادق»‪،‬‬ ‫وعق ــدت ن ــدوات عــّدة‪ ،‬تدع ــو إل ــى ثقاف ــة الس ــام‪.‬‬ ‫وعلـــى غـــرار هـــذه المجموعـــة‪ ،‬انطلقـــت‪ ،‬مـــن‬ ‫فرانكف ــورت‪« ،‬مجموع ــة ‪ ،»99‬ف ــي الغاي ــة نفس ــها‬ ‫وفــي التحـّدي نفســه‪ ،‬وكان صاحب الفكــرة الروائي‬ ‫«غونت ــر غ ــراس»‪.‬‬ ‫كان البـــّد مـــن أن تشـــهد أوروبـــا مثـــل هـــذه‬ ‫هويــة ثقافيــة‪،‬‬ ‫المبــادرات؛‬ ‫فالهويــة األوروبيــة هــي ّ‬ ‫ّ‬ ‫فـــي جـــزء منهـــا‪ .‬ويكفـــي اســـتعراض البرنامـــج‬ ‫يتبيـــن‪،‬‬ ‫الثّقافـــي لـ«االّتحـــاد األوروبـــي» حتـــى َّ‬ ‫بوضــوح‪ ،‬طغيــان الهـّـم الثّقافــي علــى هــذا االّتحــاد‪.‬‬ ‫ـا‪ 11 -‬ف ــي المئ ــة م ــن موازنت ــه‬ ‫فه ــو‬ ‫يخص ــص‪ -‬مث ـ ً‬ ‫ِّ‬ ‫ـاوة علــى إحيائــه الكثيــر‬ ‫للترجمــة األدبيــة فقــط‪ ،‬عـ ً‬ ‫مــن التظاهــرات الثّقافيــة واللقــاءات التي ال تحصى‪،‬‬ ‫وعلــى دعمــه الكتــاب والقــراءة والمســرح والســينما‬ ‫والفنّي‬ ‫وســواها‪ .‬وكان التبــادل الثّقافــي‪ ،‬واألدبــي‪َ ،‬‬ ‫بنـــدًا أساســـي ًا مـــن بنـــود المجلـــس‪ .‬وَأ َّكـــد ِّاتفـــاق‬ ‫ماســتريخت‪ ،‬المبـَـرم فــي العــام ‪ ،1992‬العالقــة بين‬ ‫الفعل السياســي والفعل الثّقافي‪ .‬وترســيخ ًا لمفهوم‬

‫التعـّدد الثّقافــي‪ ،‬والدينــي‪ ،‬واللّغــوي‪ ،‬أعلــن مجلس‬ ‫االّتحــاد «اليــوم األوروبي الســنوي للّغات» وأضحى‬ ‫ـدل اإلحصــاءات علــى‬ ‫تقليــدًا تحتفــي بــه أوروبــا‪ .‬وتـ ّ‬ ‫تعـــم أوروبـــا‪ ،‬وهـــي‬ ‫أن هنـــاك نحـــو ‪ 200‬لغـــة‬ ‫ّ‬ ‫ـوزع بيــن دول وبيئــات وإثنيــات مختلفــة‪.‬‬ ‫لغــات تتـ َّ‬ ‫وأحيـــا المجلـــس‪ -‬أيضـــاً‪ -‬ظاهـــرة «العواصـــم»‬ ‫الثّقافي ــة األوروبي ــة‪ .‬وه ــذه الس ــنة‪ ،‬تحتف ــل به ــذه‬ ‫الظاهــرة مدينــة «جنــوى» اإليطاليــة‪ ،‬ومدينــة «ليل»‬ ‫الفرنســية‪ .‬واالحتفــال‪ ،‬هنــا‪ ،‬يعنــي تبــادل األعمــال‬ ‫ّي ــة‪ ،‬واإلب ــداع المش ــترك؛ ترس ــيخ ًا‬ ‫الثّقافي ــة‪ ،‬والفنّ‬ ‫ِلمــا سـّـماه المجلــس «الفضــاء الثّقافــي األوروبــي»‪.‬‬ ‫ـل مطروح ــة‪ :‬ه ــل هن ــاك‬ ‫لك ــن أس ــئلة كثي ــرة تظ ـ ّ‬ ‫ثقاف ــة أوروبي ــة واح ــدة؟ ه ــل هن ــاك أدب أوروب ــي‬ ‫واح ــد‪ ،‬ومس ــرح واح ــد‪ ،‬وس ــينما واح ــدة‪...‬؟ وه ــل‬ ‫توحــد الثّقافــة األوروبيــة‬ ‫اســتطاعت المبــادرات أن ّ‬ ‫ـاص؟‬ ‫ف ــي فض ــاء خ ـ ّ‬ ‫كثي ــرًا م ــا ُطِرح ــت ه ــذه األس ــئلة عل ــى الثّقاف ــة‬ ‫المفكريـــن أن يجيـــب‬ ‫األوروبيـــة‪ ،‬وحـــاول بعـــض‬ ‫ِّ‬ ‫عنهــا‪ ،‬لكنهــا ال ُتطـَـرح‪ -‬مثالً‪ -‬علــى الثّقافة األميركية‬ ‫الجنوبيـــة وال علـــى الثّقافـــة األميركيـــة المتعـــّددة‬ ‫المناخــات‪ .‬وقــد َّ‬ ‫تمثــل خصائــص الثّقافــة األوروبيــة‬ ‫فــي عــدم اإلجابــة الشــافية علــى هــذه األســئلة‪ .‬وكــم‬ ‫أصــاب الذيــن وصفــوا أوروبــا بـ«السـّـر»‪ ،‬بــدءًا مــن‬ ‫خلفيتهـــا األســـطورية الفينيقيـــة التـــي ال عالقـــة‬ ‫َّ‬ ‫ـاء بتس ــميتها‪ ،‬تاريخيــاً‪« ،‬األرض‬ ‫له ــا به ــا‪ ،‬وانته ـ ً‬ ‫المجهولــة» القائمــة شــمال بــاد اإلغريــق‪ .‬تملك هذه‬ ‫ـا‪ -‬الكثيــر مــن األســرار؛ إنهــا مجموعــة‬ ‫القــارة‪ -‬فعـ ً‬ ‫مــن الحضــارات المنصهــرة‪ ،‬ومجموعة مــن الثّقافات‬ ‫المتداخل ــة واألدي ــان والقومي ــات واإلثني ــات‪ ..‬إنه ــا‬ ‫«ب ــاد» الكائ ــن والغري ــب‪« ،‬ب ــاد» الفك ــر اإلنس ــاني‬ ‫ال ــذي يمت ــزج في ــه الفك ــر اإلغريق ــي (عل ــى اخت ــاف‬ ‫مدارس ــه)‪ ،‬بالفك ــر المس ــيحي‪ ،‬والفك ــر التنوي ــري‪،‬‬ ‫والعلمانـــي‪ ..‬إنهـــا «بـــاد» الجميـــع‪ ،‬متحاوريـــن‪،‬‬ ‫الذي ــن يعت ــرف بعضه ــم ببع ــض‪.‬‬ ‫أي حـــرب بيـــن‬ ‫د‬ ‫كان «فيكتـــور هوغـــو» يعـــّ ّ‬ ‫ـوان عــن الكالم‪،‬‬ ‫األوروبييــن «حربـ ًا ّ‬ ‫أهليــة»‪ .‬ولــم يتـ َ‬ ‫قارَنها بـ«الجنســية‬ ‫أوروبية»‬ ‫حينذاك‪ ،‬عن «جنســية‬ ‫َ‬ ‫اإلغريقي ــة» الت ــي ب ــرزت ف ــي العص ــر القدي ــم‪ .‬أم ــا‬ ‫«أندريـــه مالـــرو» فـــرأى‪ ،‬فـــي أوروبـــا‪« ،‬بربريـــة‬ ‫منظمـــة بتيقُّـــظ‪ ،‬حيـــث فكـــرة الحضـــارة وفكـــرة‬ ‫َّ‬ ‫كل يــوم»‪ .‬الكاتــب «جــول رومــان»‬ ‫النظــام تختلطــان ّ‬ ‫صــرخ جهــاراً‪« :‬أوروبا وطنــي»‪ ،‬والكاتب البرتغالي‬ ‫إدواردو لورنســـو‪ ،‬أشـــار‪ ،‬فـــي كتابـــه «أوروبـــا‬ ‫أوروبيـ ًـة‪،‬‬ ‫المفتقــدة»‪ ،‬إلــى أن هنــاك «أوروبــا أكثــر‬ ‫ّ‬ ‫أوروبيـ ًـة»‪ .‬ويضيــف‪« :‬هــذا االختــاف‬ ‫ـل‬ ‫وأوروبــا أقـّ‬ ‫ّ‬ ‫ال عالقــة لــه بالثقــل االقتصــادي‪ ،‬أو حتى السياســي‬ ‫داخــل االّتحــاد»‪ .‬لكــن‪ ،‬أليــس هنــاك‪ -‬أيضـاً‪ -‬أوروبا‬ ‫األطــراف‪ ،‬وأوروبــا «المحــور»؟ أليــس هنــاك العالــم‬

‫يكفي‬ ‫استعراض‬ ‫البرنامج‬ ‫الثّقافي‬ ‫لـ«االتّحاد‬ ‫األوروبي» حتى‬ ‫يتبيَّن‪ ،‬بوضوح‪،‬‬ ‫الهم‬ ‫طغيان‬ ‫ّ‬ ‫الثّقافي فهو‬ ‫يخصص ‪ ٪ 11‬من‬ ‫ِّ‬ ‫موازنته للترجمة‬ ‫األدبية فقط‬

‫‪67‬‬


‫س ِئل «فرنسيس‬ ‫ُ‬ ‫فوكوياما»‪ ،‬عن‬ ‫توسيع «الرقعة»‬ ‫ع َّد‬ ‫األوروبية‪ ،‬ف َ‬ ‫ذلك «إعادة‬ ‫توحيد نص َ‬ ‫ي‬ ‫ف ْ‬ ‫أوروبا اللذين‬ ‫قسمتهما الحرب‬ ‫الباردة»‬

‫‪68‬‬

‫األول األوروب ــي؟‬ ‫الثال ــث األوروب ــي‪ ،‬والعال ــم َّ‬ ‫أيــام قليلــة‪،‬‬ ‫ُس ـِئل «فرنســيس فوكويامــا»‪ ،‬قبــل ّ‬ ‫ـــد ذلـــك‬ ‫فع َّ‬ ‫عـــن توســـيع «الرقعـــة» األوروبيـــة‪َ ،‬‬ ‫ـي أوروب ــا اللذي ــن قس ــمتهما‬ ‫«إع ــادة توحي ــد َ‬ ‫نصف ـ ْ‬ ‫الجم ــة‬ ‫الح ــرب الب ــاردة»‪ ،‬وأش ــار إل ــى الصعوب ــات ّ‬ ‫الت ــي س ــتواجه إع ــادة التوحي ــد ه ــذه‪ .‬لك ــن إع ــادة‬ ‫التوحيــد ســتعني‪ -‬أيضـاً‪ -‬نهايــة الزعامــة الفرنســية‬ ‫ األلمانيــة فــي االّتحاد األوروبــي‪ .‬وإذا كانت ألمانيا‬‫نصفْيه ــا‪ ،‬فم ــا‬ ‫نفس ــها عان ــت الكثي ــر عق ــب توحي ــد َ‬ ‫ت ــراه يك ــون أم ــر أوروب ــا؟‬ ‫هـــل هنـــاك صـــورة ثقافيـــة واحـــدة ألوروبـــا؟‬ ‫ـور وح ــدة أوروب ــا‬ ‫ح ــاول بع ــض‬ ‫المفكري ــن أن ُيَبْل ـ ِ‬ ‫ِّ‬ ‫الثّقافي ــة‪ ،‬م ــن خ ــال ديموم ــة األس ــاطير الكب ــرى‬ ‫كل م ــن‬ ‫الت ــي ش ــغلت‬ ‫العام ــة‪ ،‬كأس ــطورة ٍّ‬ ‫ِّ‬ ‫المخيل ــة ّ‬ ‫عولي ــس‪ ،‬ودون ج ــوان‪ ،‬ونابولي ــون بوناب ــارت‪،‬‬ ‫أو عبـــر اســـتعادة «األمكنـــة المشـــتركة»‪ ،‬أو عبـــر‬ ‫التيــارات الكبيــرة التــي اجتاحــت أوروبــا‪ ،‬بــدءًا مــن‬ ‫ّ‬ ‫«عص ــر األن ــوار» إل ــى النهض ــة‪ ،‬إل ــى الرومانس ــية‪،‬‬ ‫والس ــوريالية‪ ،‬والعبثي ــة‪ ...‬لك ــن‪ ،‬ه ــل تكف ــي ه ــذه‬ ‫التيـــارات لصنـــع وحـــدة أوروبيـــة‬ ‫المـــدارس أو ّ‬ ‫ثقافيــة؟ ومــاذا عــن أوروبــا الشــمالية التــي مــا زالــت‬ ‫ثقافته ــا وآدابه ــا ف ــي حاج ــة إل ــى االكتش ــاف؟ م ــاذا‬ ‫ع ــن أوروب ــا الش ــرقية الت ــي م ــا برح ــت تش ــهد ح ــا ًال‬ ‫م ــن االضط ــراب؟ م ــاذا ع ــن الج ــزء اليونان ــي ال ــذي‬ ‫يمك ــن وصف ــه بـ«ش ــتات» الثّقاف ــة اإلغريقي ــة؟‬ ‫قـــد يكـــون هنـــاك فضـــاء فكـــري‪ ،‬وروحـــي‬ ‫ـاء غامض ـاً‪ ،‬وعل ــى ق ــدر‬ ‫أوروب ــي‪ ،‬لكن ــه يظ ـ ّ‬ ‫ـل فض ـ ً‬ ‫يتمتــع كثيرًا‬ ‫الفضاء‬ ‫ـذا‬ ‫ـ‬ ‫وه‬ ‫ـاس!‬ ‫غيــر قليــل مــن االلتبـ‬ ‫َّ‬

‫الحرّي ــة ونعم ــة االخت ــاف والتع ـّدد‪ .‬وه ــذه‬ ‫بنعم ــة ّ‬ ‫النعمــة هــي التــي تســمح لبعــض الكّتــاب أن يكتبــوا‬ ‫بأيــة لغــة أوروبيــة يشــاؤونها‪ .‬وهــي التــي جعلــت‬ ‫ّ‬ ‫ـا‪ -‬كاتبــ ًا فرنس ــي ًا‬ ‫الروس ــي «أندري ــه ماكي ــن»‪ -‬مث ـ ً‬ ‫بامتي ــاز‪ ،‬وكذل ــك األلماني ــة «أغوت ــا كريس ــتوف»‪،‬‬ ‫والتشـــيكي «ميـــان كونديـــرا»‪ .‬وهـــذا األخيـــر لـــن‬ ‫يغض ــب عل ــى الفرنس ــيين إذا َعــّدوه‪ ،‬بع ــد الي ــوم‪،‬‬ ‫كاتبـــ ًا فرنكوفونيـــاً‪ ،‬فقـــد أصبـــح‪ ،‬اآلن‪ ،‬مواطنـــ ًا‬ ‫بأيــة لغــة تصــدر كتبــه‪ ،‬قبــل‬ ‫يهمــه َّ‬ ‫أوروبيـاً‪ ،‬ولــن ّ‬ ‫أن تص ــدر بالفرنس ــية‪.‬‬ ‫فـــي أوج مواجهـــة العولمـــة األميركيـــة‪ ،‬ســـعى‬ ‫المجل ــس األوروب ــي إل ــى وض ــع كت ــاب ع ــن األدب‬ ‫األوروبي‪ ،‬وكان عنوانه «مختصر األدب األوروبي»‪.‬‬ ‫يتمك ــن م ــن رص ــد خصائ ــص‬ ‫لك ــن ه ــذا الكت ــاب ل ــم َّ‬ ‫عامـاً‪ ،‬بــل هــو َعـ َّـدَد بعــض‬ ‫هــذا األدب‪ ،‬بصفتــه أدبـ ًا ّ‬ ‫الميـــزات التـــي َت َّتســـم بهـــا آداب أوروبـــا‪ ،‬كاألدب‬ ‫الفرنســي‪ ،‬واألدب األلمانــي‪ ،‬واألدب اإلنجليــزي‪...‬‬ ‫تــرى‪ :‬هــل هنــاك‪ -‬حّق ـاً‪ -‬أدب أوروبــي صــرف‪،‬‬ ‫يشـــبه‪ -‬ولـــو مـــع كثيـــر مـــن االختـــاف‪ -‬األدب‬ ‫األميركــي ‪ -‬الالتينــي‪ ،‬أو األدب الصينــي‪ ،‬أو األدب‬ ‫منفصـــا‬ ‫الهنـــدي‪ ،‬أم أن هنـــاك آدابـــ ًا أوروبيـــة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫بعضهــا عــن بعــض‪ ،‬مقــدار مــا هي متقاربــة‪ ،‬بعضها‬ ‫م ــن بع ــض؟‬ ‫أم ــا اآلن‪ ،‬بع ــد انس ــحاب بريطاني ــا م ــن االّتح ــاد‬ ‫ّ‬ ‫األوروبـــي‪ ،‬فهـــو يهـــّدد‪ -‬أيضـــاً‪ -‬بانســـحاب دول‬ ‫أوروبيــة أخــرى مــن هــذا االّتحــاد‪ ،‬فمــا تراه ســيكون‬ ‫ح ــال الثّقاف ــة األوروبي ــة؟‬


‫ال يبدو أنّه من اليسير أن ينفصل شعب ما عن ذاكرته‪ ،‬كما ال يمكن أن ينفصل عن لغته أو عن‬ ‫مجرد تمثيلية حديثة بين‬ ‫أخالقه العميقة؛ لذلك يبدو انفصال بريطانيا راهن ًا (‪ ،)2016‬مثالً‪ّ ،‬‬ ‫يتم البحث ‪ -‬في الواقع ‪ -‬عن «حبكة»‬ ‫أعضاء العائلة السردية الواحدة‪ ،‬أمام غير الغربيين‪ّ .‬‬ ‫الهويات السردية‬ ‫فاعلية لها على مســتوى ّ‬ ‫جديدة للقصة نفســها‪ .‬إنّها معركة حدود بين الدول‪ ،‬لكن ال ّ‬ ‫تظل تنتظر الفرصة دوم ًا‬ ‫فإن الشعوب ّ‬ ‫وألن ّ‬ ‫كل معارك الحدود معارك خاسرة ومصطنعة‪ّ ،‬‬ ‫للشعوب‪ّ .‬‬ ‫أي خجل سردي‪.‬‬ ‫إلعادة انتماء بعضها إلى البعض اآلخر‪ ،‬بال ّ‬

‫أوروبا الفالسفة‪..‬‬ ‫التي ال يُمكن االنفصال عنها‬ ‫د‪ .‬فتحي املسكيني (تونس)‬ ‫ـفياً»؟ يب ــدو‬ ‫مت ــى أصبح ــت أوروب ــا «مش ــك ً‬ ‫ال فلس ـ ّ‬ ‫دشــن نــوع االستشــكال الــذي‬ ‫أول مــن ّ‬ ‫ّ‬ ‫أن كانــط هــو ّ‬ ‫قــاد إلــى فكــرة أوروبــا أو «اإلنســانية األوروبيــة»‪،‬‬ ‫كمــا ضبطهــا هوســرل‪ .‬ويبــدو أّنــه التقط هــذا الخيط‬ ‫الفلســفي عندما أخذ األوروبيــون‪ ،‬وخاصة األلمان‪،‬‬ ‫فــي التســاؤل والبحــث عــن إجابــة للســؤال‪« :‬مــا هــو‬ ‫ربم ــا كان ــت إجاب ــة كان ــط عل ــى‬ ‫التنوي ــر» (‪ّ .)1784‬‬ ‫النح ــو التال ــي‪« :‬م ــا ه ــي أوروب ــا»؟‪ -‬إنّه ــا إنس ــانية‬ ‫التنويـــر‪ .‬وعلـــى الرغـــم مـــن ظهـــور فالســـفة ال‬ ‫بغربيته ــا‪ ،‬ب ــل‬ ‫بأوروبي ــة الفلس ــفة‪ ،‬ب ــل‬ ‫يؤمن ــون‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بأنّه ــا «تاري ــخ العال ــم» عل ــى أف ــواه األوروبيي ــن‪،‬‬ ‫مثــل هيغــل وشــيلنغ‪ ،‬وبعــد ذلــك هيدغــر أو دريــدا‪،‬‬ ‫ـإن فالســفة حاســمين بقــدر مــا هــم مختلفــون (مــن‬ ‫فـ ّ‬ ‫قبيــل نيتشــه وهوســرل وباتوشــكا وفوكــو وريكور‬ ‫كل‬ ‫وهابرمــاس) ظّلــوا يكّنــون للســؤال عــن أوروبــا ّ‬ ‫االحترام الفلســفي المناســب‪ .‬ومنذ نيتشه تخصيص ًا‬ ‫جيــداً؟»‬ ‫ـل الســؤال «مــا معنــى أن تكــون‬ ‫ظـّ‬ ‫أوروبي ـ ًا ّ‬ ‫ّ‬ ‫أي «جنيالوجي ــا لألخ ــاق»‬ ‫ج ــزءًا اس ــتراتيجي ًا م ــن ّ‬ ‫األوروبية (‪ )1887‬وسؤا ًال مناسب ًا تمام ًا للمتفلسفة‪.‬‬ ‫أحقيـــة هـــذا الســـؤال‬ ‫وهـــو قـــد بنـــى‬ ‫صالحيـــة أو ّ‬ ‫ّ‬ ‫علــى مالحظــة رشــيقة بقــدر مــا هــي مزعجــة‪ :‬لمــاذا‬ ‫«يتــأورب» الهنــود وال «يتهّنــد» األوروبيــون؟‪ .‬وكان‬ ‫أكب ــر إي ــام فلس ــفي ل ــروح ح ـ ّـرة مث ــل نيتش ــه أن‬ ‫تنزلــق أوروبــا فــي ضــرب مــن «البوذيــة» الجديــدة‪.‬‬ ‫ـأول ه ــذا المنزل ــق بأّن ــه ج ــزء عمي ــق م ــن‬ ‫وه ــو يت ـ ّ‬ ‫العدميــة األوروبيــة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫مـــا هـــي «أوروبـــا الفالســـفة» إذن؟ تبـــدو لنـــا‬ ‫األقـــل‪،‬‬ ‫اإلجابـــة عـــن هـــذا الســـؤال ممكنـــة‪ ،‬علـــى‬ ‫ّ‬

‫مـــن خـــال األســـئلة الفلســـفية التاليـــة‪ :‬هـــل هـــي‬ ‫نــوع مخصــوص مــن معنــى «اإلنســانية» المأزومــة‬ ‫«هوي ــة س ــردية» عليه ــا الدخ ــول ف ــي‬ ‫(هوس ــرل) أم‬ ‫ّ‬ ‫تماريــن عامــة فــي آداب الصفــح عــن نفســها(ريكور)‬ ‫أم هــي دســتور تواصلــي قابــل للكوننــة (هابرمــاس‬ ‫‪ )2012‬أم ه ــي مج ـّـرد س ــوق عج ــوز ل ــرأس الم ــال‬ ‫النيوليبرالي (فوكو)؟ أم هي جهاز تلفّظ اســتعماري‬ ‫آن األوان لـــ«ترييفه» (‪) provincializing‬كما دعا‬ ‫مفكــري الهنــد (ديبــاش شــكرابارتي‬ ‫إلــى ذلــك أحــد ّ‬ ‫أي معن ــى لالنفص ــال عنه ــا؟‬ ‫ـذ‪:‬‬ ‫ـ‬ ‫عندئ‬ ‫‪)2007‬؟ ‪ -‬ث ـّـم‬ ‫ّ‬ ‫كم ــا فعل ــت بريطاني ــا راهن ـاً؟‬ ‫ـأن رأس األمــر فــي كتــاب هوســرل أزمــة‬ ‫ّ‬ ‫لنذكــر بـ ّ‬ ‫ـــر َر مـــا بيـــن ‪1934‬‬ ‫ح‬ ‫والـــذي‬ ‫األوروبيـــة‬ ‫العلـــوم‬ ‫ُ ِّ‬ ‫أن أزمــة أوروبــا هــي أزمــة «معنــى»‪:‬‬ ‫و‪ ،1937‬هــو ّ‬ ‫لقــد فقــد العلــم األوروبــي «غايتــه» (‪ )telos‬وداللتــه‬ ‫بالنس ــبة إل ــى الحي ــاة‪ ،‬بع ــد أن انطل ــق من ــذ عص ــر‬ ‫النهضــة يبحــث عــن تأســيس الســتقاللية اإلنســانية‬ ‫تصور جديد للفلســفة‪ ،‬أال وهو‬ ‫األوروبية بناء على ّ‬ ‫أن الفلســفة ليــس لهــا مــن هــدف آخــر ســوى «الكفاح‬ ‫ّ‬ ‫ـن «عال ــم الحي ــاة»‬ ‫م ــن أج ــل معن ــى اإلنس ــان»‪ .‬لك ـ ّ‬ ‫الـــذي عملـــت الفلســـفة األوروبيـــة علـــى اختراعـــه‬ ‫ثمـــة تنافـــر فـــي صلـــب‬ ‫لـــم يعـــد‬ ‫ً‬ ‫قابـــا للعيـــش‪ّ .‬‬ ‫معنــى الحيــاة الحديثــة نفســها‪ :‬لقــد نســيت العلــوم‬ ‫الموضوعيــة أنّهــا هــي نفســها تشــكيالت «ذاتية» من‬ ‫إن العلــم األوروبــي قــد نســي‬ ‫عالــم معيــش بعينــه‪ّ .‬‬ ‫عال ــم الحي ــاة ال ــذي أنتج ــه‪ .‬وحس ــب أح ــد تالمي ــذ‬ ‫المميزيــن والذيــن أخــذوا علــى عاتقهــم هــذا‬ ‫هوســرل ّ‬ ‫الن ــوع م ــن الط ــرح ألزم ــة العل ــوم األوروبي ــة‪ ،‬ه ــو‬

‫أوروبا تع ّودت أن‬ ‫تولَد من «التدمير‬ ‫الخلّاق»؛ فبعد‬ ‫تدمير المدينة‬ ‫اليونانية‬ ‫وبعد انهيار‬ ‫اإلمبراطورية‬ ‫الرومانية‬ ‫صارت فكرة‬ ‫أوروبا ممكنة‬ ‫في العصور‬ ‫الوسطى‬

‫‪69‬‬


‫السوق صارت‬ ‫تخلق الدولة؛ ال‬ ‫شرعية لدولة بال‬ ‫سوق تشرّع لها‪.‬‬ ‫في هذا السياق‪،‬‬ ‫أتى «فوكو»‬ ‫إلى تشخيصه‬ ‫المؤلم لداللة‬ ‫«سياسة الحياة»‬ ‫التي انتهجتها‬ ‫دول أوروبا‬

‫‪70‬‬

‫الفيلس ــوف التش ــيكي ج ــان باتوش ــكا‪ ،‬وف ــي كت ــاب‬ ‫يحمـــل عنوانـــ ًا الفتـــ ًا هـــو «أفالطـــون وأوروبـــا»‬ ‫ـودت أن توَلــد مــن «التدمير‬ ‫(‪ ،)1973‬فـ ّ‬ ‫ـإن أوروبــا تعـّ‬ ‫ـاق»؛ فبعــد تدمير المدينة اليونانية وبعد انهيار‬ ‫الخـ ّ‬ ‫اإلمبراطوري ــة الروماني ــة‪ ،‬ص ــارت فك ــرة أوروب ــا‬ ‫وكل مـــن يحمـــل‬ ‫ممكنـــة فـــي العصـــور الوســـطى‪ّ .‬‬ ‫ه ــذه الذاك ــرة المخصوص ــة ه ــو أوروب ــي‪ .‬أوروب ــا‬ ‫ككيــان هــي اكتشــاف قروســطي‪ .‬وحســب باتوشــكا‬ ‫فإن «العناية بالنفس»(‪)epimeleia tes psyches‬‬ ‫ّ‬ ‫التــي اخترعهــا أفالطــون هــي الفكــرة التــي اخترعــت‬ ‫أوروب ــا‪ .‬والمس ــيحية ل ــم تفع ــل غي ــر تكري ــس ه ــذا‬ ‫وحولت ــه إل ــى مق ـّدس‪.‬‬ ‫االخت ــراع األخالق ــي ّ‬ ‫علينا أن نتســاءل اآلن‪ :‬إذا كانت أزمة اإلنســانية‬ ‫األوروبيــة‪ ،‬حســب هوســرل‪ ،‬هــي أزمــة معنى فإلى‬ ‫يعدون‬ ‫أي مــدى يمكــن للفالســفة الالحقيــن‪ ،‬والذيــن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫هــذا التشــخيص لحظة حاســمة فــي تاريخ التســاؤل‬ ‫حــول مفهــوم أوروبــا‪ ،‬ونعنــي خاصــة هنــا فوكــو‬ ‫وباتوش ــكا وريك ــور وهابرم ــاس وآالن بادي ــو‪ ،‬أن‬ ‫ـل أزم ــة المعن ــى بواس ــطة نم ــاذج‬ ‫يفلح ــوا ف ــي ح ـ ّ‬ ‫تخطــت ســؤال فلســفة الــذات المتعاليــة عــن‬ ‫تأويليــة ّ‬ ‫المعنــى (أي تجــاوزت براديغــم الوعــي) وامتشــقت‬ ‫أدوات تفكيـــر واستشـــكال مـــن نـــوع أركيولوجـــي‬ ‫(فوكو) أو سردي (ريكور) أو تواصلي (هابرماس)؟‬ ‫فــي ســنة ‪ 1979‬ألقــى فوكــو درسـ ًا مثيــرًا حــول‬ ‫ـا‬ ‫«النيوليبرالي ــة»‪ .‬وفي ــه ه ــو يقي ــم تميي ــزًا فاص ـ ً‬ ‫بي ــن الليبرالي ــة الكالس ــيكية‪ ،‬والت ــي ت ــدور ح ــول‬ ‫هــذا الســؤال‪« :‬كيــف يمكــن‪ ،‬داخــل مجتمــع سياســي‬ ‫ـاء حـّـرًا يكــون هــو‬ ‫معيــن‪ ،‬أن نقتطــع أو ّ‬ ‫ّ‬ ‫نهيــئ فضـ ً‬ ‫«إن‬ ‫‪:‬‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫قائ‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫النيوليبرالي‬ ‫فض ــاء الس ــوق»‪ ،‬وبي ــن‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫مشــكل النيوليبراليــة هــو علــى الضـّد مــن ذلــك‪ ،‬أن‬ ‫نع ــرف كي ــف يمكنن ــا أن نع ـّدل االس ــتخدام العالم ــي‬

‫للس ــلطة السياس ــية عل ــى أس ــاس مب ــادئ اقتص ــاد‬ ‫الس ــوق»‪ .‬م ــا ه ــو جدي ــد‪ ،‬وه ــو م ــا انخرط ــت في ــه‬ ‫الموح ــدة‪ ،‬ه ــو تعدي ــل اس ــتعمال الس ــلطة‬ ‫أوروب ــا‬ ‫ّ‬ ‫علــى أســاس الســوق وليــس العكــس‪ .‬كانــت الدولــة‬ ‫ـإن الس ــوق‬ ‫أم ــا اآلن ف ـ ّ‬ ‫ه ــي الت ــي تخل ــق الس ــوق‪ّ ،‬‬ ‫هــي التــي صــارت تخلــق الدولــة‪ .‬ال شــرعية لدولــة‬ ‫بــا ســوق تشـّـرع لهــا‪ .‬فــي هــذا الســياق أتــى فوكــو‬ ‫إل ــى تش ــخيصه المؤل ــم لدالل ــة «سياس ــة الحي ــاة»‬ ‫كل االهتمام‬ ‫إن صــرف ّ‬ ‫التــي انتهجتهــا دول أوروبــا‪ّ :‬‬ ‫ـؤدي إل ــى‬ ‫إل ــى‬ ‫الصح ــة ونم ــط الحي ــاة لس ـّـكانها ي ـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫كلبـــي‪« :‬عـــش‪ ،‬واتـــرك‬ ‫أخالقياتـــي‬ ‫مبـــدأ‬ ‫إعـــان‬ ‫ّ‬ ‫اآلخريــن يموتــون (‪ .»)! ‬ذلــك مــا دعــا البعــض إلــى‬ ‫اســتعمال فوكــو راهنـ ًا لتأويــل موقــف بعــض الدولة‬ ‫األوروبيــة مــن أزمــة الالجئيــن‪ .‬مجتمعــات الســوق‬ ‫ال تس ــتطيع أن تس ــتقبل الالجئي ــن‪ ،‬أي المواطني ــن‬ ‫م ــن دون س ــوق‪.‬‬ ‫فـــي ســـنة ‪ 1992‬طـــرح ريكـــور ســـؤا ًال طريفـــ ًا‬ ‫«أي ُخُلــق (‪)éthos‬‬ ‫حــول أوروبــا المســتقبل قائـ ً‬ ‫ـا‪ّ :‬‬ ‫جدي ــد ألوروب ــا؟»‪ ،‬مقّدمــ ًا ل ــه ف ــي صيغ ــة الخ ــوف‪.‬‬ ‫أن الرغبــة فــي الذهــاب‬ ‫وخــوف ريكــور ينطلــق مــن ّ‬ ‫بأوروب ــا إل ــى نط ــاق يتج ــاوز الش ــكل الدس ــتوري‬ ‫الــذي انبنــت عليــه «الدولــة األمــة» هو موقــف ال يخلو‬ ‫مــن أخطــار‪ .‬ورغــم ذلــك يستحســن ريكــور مصطلح‬ ‫أن األمــر‬ ‫«مــا بعــد القومــي»‪ ،‬وإن كان يحصــره فــي ّ‬ ‫يتعّلــق بوضعيــة غيــر مســبوقة‪ ،‬ومــن َثـّـم بتشــريع‬ ‫إن األمــر عنــده ال‬ ‫مؤسســات علــى غيــر مثــال ســبق‪ّ .‬‬ ‫يتع ـّدى «الخي ــال السياس ــي»‪ .‬وحس ــب رأي ــه ه ــو ال‬ ‫يخــرج عــن النمــوذج المعــروف دائمـاً‪ ،‬أي المزاوجــة‬ ‫«الهوي ــة» و«الغيري ــة» ف ــي وع ــي الش ــعوب‪.‬‬ ‫بي ــن‬ ‫ّ‬ ‫وينحصــر دور الفلســفة فــي اقتــراح «نمــاذج إدمــاج»‬ ‫بي ــن المفهومي ــن‪ .‬وف ــي ه ــذا اإلط ــار يقت ــرح ريك ــور‬


‫ثالثـــة نمـــاذج ‪ :‬أ‪ -‬نمـــوذج الترجمـــة‪ .‬ب‪ -‬نمـــوذج‬ ‫تبــادل أشــكال الذاكرة‪ .‬وأخيــراً؛ ج‪ -‬نموذج الصفح‪.‬‬ ‫أوروبــا هــي نمــط مــن تبــادل الذاكــرة بواســطة‬ ‫أن الذاكـــرة ليســـت‬ ‫ينبـــه ريكـــور إلـــى ّ‬ ‫الهويـــات‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫يرك ــز علي ــه فيه ــا‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ـانية‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫نفس‬ ‫مج ــرد ملك ــة‬ ‫ّ‬ ‫هــو وظيفــة «الســرد»‪ ،‬أي تلــك القــدرة لــدى شــعب‬ ‫مــا علــى حفــظ مــا هــو فــردي أو جماعــي بواســطة‬ ‫كل‬ ‫قص ــص‬ ‫نوعي ــة م ــن خالله ــا نح ــن ننج ــح ف ــي ّ‬ ‫ّ‬ ‫مـّـرة فــي تفصيــل وتشــكيل زمانيتنا الخاصــة‪ .‬وبهذا‬ ‫«الهويــة الســردية» لجملــة‬ ‫ـإن أوروبــا هــي‬ ‫المعنــى فـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫متمي ــزة‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫كمجموع‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫هن‬ ‫ـذ‬ ‫ـ‬ ‫تؤخ‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الت‬ ‫ـعوب‬ ‫م ــن الش ـ‬ ‫ّ‬ ‫أن أوروبــا هي‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫يعن‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫مم‬ ‫ـة‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫الروائي‬ ‫ـخوص‬ ‫مــن الشـ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بمثاب ــة «حبك ــة» س ــردية بفضله ــا يمك ــن لش ــعوب‬ ‫لقصــة أساســية‬ ‫تؤمــن الوحــدة الزمانيــة ّ‬ ‫ّ‬ ‫معينــة أن ّ‬ ‫مــن خاللهــا يحكــي النــاس تاريــخ أنفســهم وأحــداث‬ ‫التاريــخ الــذي يعيشــونه فــي الوقت نفســه‪ .‬أوروبا‪،‬‬ ‫هوية ســردية متحركــة‪ .‬هي «تاريخ‬ ‫حســب ريكــور‪ّ ،‬‬ ‫ألن تاريــخ النفــس يأخذ في‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫مختلف‬ ‫ـي» بطــرق‬ ‫ّ‬ ‫محكـ ّ‬ ‫ثمة تتكون تواريخ أو‬ ‫الحســبان تاريــخ الغير‪ .‬ومــن ّ‬ ‫قصــص مــن درجــة ثانيــة‪ .‬وحســب ريكــور ال يتعّلــق‬ ‫األم ــر ب ــأن نعي ــش م ــا عاش ــه اآلخ ــر‪ ،‬ب ــل فق ــط أن‬ ‫نتبــادل الذاكــرة معــه‪ .‬أوروبــا هــي مجــال لالعتــراف‬ ‫بذاك ــرة اآلخ ــر بواس ــطة الس ــرد‪ .‬م ــا يهــّدد أوروب ــا‬ ‫الهويــات المغلقــة والمتحجــرة‪ .‬تلــك التــي تتــم‬ ‫هــو ّ‬ ‫حراســتها بواســطة الذاكــرة الجماعيــة التي ال تعرف‬ ‫م ــن س ــند س ــردي س ــوى «األح ــداث التأسيس ــية»‬ ‫المثبتــة بــا رجعــة‪ .‬ولذلــك يقتــرح ريكــور أن يكــون‬ ‫ّ‬ ‫الخل ــق األوروب ــي» المنش ــود عب ــارة‬ ‫«اإليت ــوس أو ُ‬ ‫عـــن مجهـــود مـــن أجـــل «قـــراءة متعـــّددة» للنفـــس‬ ‫أي ضربـــ ًا مـــن «حكايـــة القصـــة بطريقـــة أخـــرى»‬ ‫ـوض «الشــفقة التاريخيــة» بملكــة «التنافــس بيــن‬ ‫تعـّ‬ ‫المهمــة‬ ‫ـذه‬ ‫ـ‬ ‫له‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫مناس‬ ‫ـند‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـس‬ ‫ـ‬ ‫ولي‬ ‫ـرديات»‪.‬‬ ‫السـ‬ ‫ّ‬ ‫مثــل «تبــادل الذاكــرات الثقافيــة»‪ .‬وهــو يقــوم علــى‬ ‫ـل لعملي ــات‬ ‫الرغب ــة ف ــي «التقاس ــم الرم ــزي والمج ـ ّ‬ ‫المؤسســـة للثقافـــات القوميـــة‬ ‫اســـتذكار األحـــداث‬ ‫ّ‬ ‫األخــرى كمــا لذاكــرات األقليــات أو الطوائــف الدينيــة‬ ‫األقليــة»‪ .‬وليــس ذلك لمجرد التقاســم‪ ،‬بل لمســاعدة‬ ‫ّ‬ ‫الشــعوب بعضهــا بعضـ ًا علــى تحرير الحيــاة داخلها‬ ‫مــن ســلطة «التــراث» الــذي فقــد القــدرة علــى االنتماء‬ ‫حيـاً‪ .‬يقول‬ ‫إلينــا‪ .‬وذلــك لفائــدة التــراث الــذي مــازال ّ‬ ‫«إن المســتقبل الــذي لــم يتحّقــق في الماضي‬ ‫ريكــور‪ّ :‬‬ ‫ـراء م ــن‬ ‫ـ‬ ‫ث‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫األكث‬ ‫ـزء‬ ‫ـ‬ ‫الج‬ ‫ـح‬ ‫ـ‬ ‫األرج‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ه ــو يمّث ــل‬ ‫ً‬ ‫تــراث مــا»‪ .‬أوروبــا فضــاء مــن أجــل هــدف ســردي‬ ‫نبي ــل‪ :‬تحري ــر مس ــتقبل الماض ــي بواس ــطة تب ــادل‬ ‫كل تلــك الوعــود التــي لــم يســتطع‬ ‫الذاكــرة‪ .‬تحريــر ّ‬ ‫الماضــي أن يفــي بهــا‪.‬‬ ‫ف ــي ه ــذا الص ــدد يقح ــم ريك ــور نموذج ــه الثال ــث‬ ‫تصـــور ُخلـــق المســـتقبل األوروبـــي‪ ،‬نمـــوذج‬ ‫فـــي‬ ‫ّ‬

‫الصف ــح‪ .‬ال يمك ــن التح ـّـرر م ــن الج ــزء المس ــيء م ــن‬ ‫الماض ــي إ ّال ب ــأن نعي ــد حكايت ــه بطريق ــة مغاي ــرة‪.‬‬ ‫هويــة ســردية جديدة‪.‬‬ ‫وذلــك يعنــي مــن خــال خلق ّ‬ ‫ـإن «الصفــح هــو شــكل مخصــوص‬ ‫وحســب ريكــور فـ ّ‬ ‫الهوي ــة‬ ‫ف ــي مراجع ــة الماض ــي‪ ،‬وعب ــره‪ ،‬مراجع ــة ّ‬ ‫ـن الش ــرط هن ــا‬ ‫الس ــردية الخاص ــة ب ـ ّ‬ ‫ـكل ف ــرد»‪ .‬لك ـ ّ‬ ‫ه ــو أن تك ــون «مراجع ــة ف ــي الجم ــع» ولي ــس فق ــط‬ ‫ـإن الصف ــح ه ــو «مراجع ــة‬ ‫ف ــي المف ــرد‪ .‬وم ــن ث ــم ف ـ ّ‬ ‫متبادل ــة» يك ــون تحري ــر وع ــود الماض ــي الت ــي ل ــم‬ ‫يت ـّـم اإليف ــاء به ــا ه ــو ثمرته ــا العلي ــا‪ .‬وأه ـّـم نقط ــة‬ ‫يق ــف عنده ــا ريك ــور هن ــا ه ــي تل ــك المتعلّق ــة بم ــا‬ ‫إن تبــادل الذاكــرة ينبغي‬ ‫ُيسـّـمى «جــروح» الماضــي‪ّ :‬‬ ‫أن يت ـ ّـم عل ــى مس ــتوى «اآلالم» ولي ــس فق ــط عل ــى‬ ‫مســتوى االحتفاء بـــ«األحداث الكبرى»‪ .‬وهذه اآلالم‬ ‫أو العذابــات لهــا دور خطيــر فــي تشــكيل التاريــخ‪:‬‬ ‫الهويــات الســردية وإلــى جانــب تضافــر‬ ‫إلــى جانــب ّ‬ ‫تواريــخ الذاكــرة‪ ،‬تمّثــل آالم اآلخرين محورًا حاســم ًا‬ ‫فــي بلــورة فضــاء انتمــاء جديــد فــي أوروبــا‪ .‬يقــول‬ ‫«إن إحـــدى الســـماء الكبـــرى فـــي تاريـــخ‬ ‫ريكـــور‪ّ :‬‬ ‫أوروبـــا هـــي الحجـــم الهائـــل مـــن العذابـــات التـــي‬ ‫إن تاريـــخ‬ ‫تعرضـــت لهـــا الـــدول‪ ..‬فـــي الماضـــي‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫ـاس‪ :‬حــروب أديان‪ ،‬حــروب غزو‪،‬‬ ‫أوروبــا تاريـ ٌ‬ ‫ـخ قـ ٍ‬ ‫ح ــروب إب ــادة‪ ،‬إخض ــاع األقلي ــات العرقي ــة‪ ،‬ط ــرد‬ ‫أو اس ــتعباد األقلي ــات الديني ــة‪ .»..‬وحس ــب ريك ــور‬ ‫ال مخـــرج مـــن هـــذا «الكابـــوس» األوروبـــي إ ّال مـــن‬ ‫الهوويــة والتضافــر مــع‬ ‫خــال‪ :‬مراجعــة الســرديات‬ ‫ّ‬ ‫س ــرديات الغي ــر‪ ،‬وأخي ــرًا «فه ــم آالم اآلخري ــن ف ــي‬ ‫الماض ــي والحاض ــر»‪.‬‬ ‫م ــا ه ــو مطل ــوب م ــن ش ــعوب أوروب ــا‪ ،‬حس ــب‬ ‫ريكـــور‪ ،‬هـــو أن تنخـــرط فـــي «تبـــادل للذاكـــرات‬ ‫المجروح ــة»‪ ،‬وم ــن َث ـّـم أن «تتخي ــل آالم اآلخري ــن»‬ ‫وأن تعي ــش ذل ــك كن ــوع م ــن الصف ــح‪ ،‬ولك ــن م ــع‬ ‫أو ًال ع ــدم الخل ــط بي ــن الصف ــح‬ ‫تنبيهي ــن كبيري ــن‪ّ :‬‬ ‫والنســيان؛ قــال‪« :‬ال نســتطيع أن نصفــح إ ّال حيــث‬ ‫ال يوج ــد نس ــيان»‪ .‬وثاني ـ ًا أن نحت ــرم فت ــرة الصب ــر‬ ‫«ثمــة زمــن لمــا‬ ‫التــي يحتاجهــا طلــب الصفــح‪ .‬قــال‪ّ :‬‬ ‫إن‬ ‫للصفـــح‪.‬‬ ‫وثمـــة زمـــن‬ ‫ّ‬ ‫ال يمكـــن الصفـــح عنـــه‪ّ ،‬‬ ‫ـا»‪ -.‬مســاهمة ريكــور‬ ‫الصفــح يتطّلــب صبــرًا طويـ ً‬ ‫أن الترجمة‬ ‫فــي اقتــراح ُخلــق جديــد ألوروبــا هــي‪ :‬أ‪ّ -‬‬ ‫هــي شــرط الكونيــة بيــن اللغــات‪ .‬ب‪ -‬أن الســرديات‬ ‫المتقاطع ــة وحده ــا تفت ــح الذاك ــرات عل ــى بعضه ــا‬ ‫أن الصفــح هــو الطريقة الوحيدة لكســر‬ ‫البعــض‪ .‬ج‪ّ -‬‬ ‫الديـــن والنســـيان وفتـــح المجـــال نحـــو االعتـــراف‬ ‫َّ‬ ‫والع ــدل تج ــاه آالم اآلخري ــن‪ .‬بذل ــك كّل ــه‪ ،‬فق ــط‪،‬‬ ‫الخل ــق‬ ‫تك ــون أوروب ــا ق ــد حصل ــت عل ــى م ــا ُيش ــبه ُ‬ ‫المناس ــب للمس ــتقبل‪.‬‬

‫ما يه ّدد أوروبا‬ ‫هو الهويّات‬ ‫المغلقة‬ ‫جرة؛‬ ‫والمتح ِّ‬ ‫تلك التي‬ ‫تتم حراستها‬ ‫ّ‬ ‫بواسطة الذاكرة‬ ‫الجماعية التي‬ ‫ال تعرف من‬ ‫سند سردي‬ ‫سوى «األحداث‬ ‫التأسيسية»‬ ‫المثبّتة بال رجعة‬

‫‪71‬‬


72


‫بصمات‬ ‫علي قنديل‬ ‫رُبَّمــا كان َقــ َدر الشــاعر المصــري علــي قنديــل (‪ )1975 - 1953‬أن يتموقــع بيــن‬ ‫شــوائب جيل َ ْيــن‪ :‬جيــل مــا قبــل الخمســينيات‪ ،‬وجيــل مــا بعدهــا‪ ،‬وهــو‪ -‬فــي‬ ‫الســلة‬ ‫ـن رأى أنــه مــن المجحــف وضعــه داخــل ّ‬ ‫الحقيقــة‪ -‬جيــل واحــد‪ ،‬هنــاك َمـ ْ‬ ‫نفســها‪ ،‬وآخــرون لــم يجــدوا‪ ،‬إلــى اليــوم‪ ،‬حرجـ ًا فــي اتِّهامــه بأنــه جيــل االنقالب‬ ‫علــى نفســه‪ ،‬علــى نحــو مــا أ َ ْملتــه الظــروف السياســية‪.‬‬ ‫فــي قلــب هــذا الســياق‪ ،‬ظهــر علــي قنديــل‪ ،‬متسـل ِّ ً‬ ‫ال بحزمــة قصائــد‪ ،‬عبــر ترعــة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫أدركهــا فــي تلــك اآلونــة‪ ،‬وكأنــه أراد‪ ،‬بذلــك‪،‬‬ ‫مــن الراجــح أن ال أحــد مــن أنــداده‬ ‫تهريبهــا نحــو الحلــم والمســتقبل الغيبــي‪.‬‬ ‫حــت الشــاعر‬ ‫جمِ عــت بعــد رحيلــه بفتــرة‪ ،‬ن َ َ‬ ‫فــي مق َّدمــة آثــاره الشــعرية‪ ،‬التــي ُ‬ ‫ّ‬ ‫هــم‪ ،‬جــاء فيهــا‪« :‬يكــ ِّون علــي‬ ‫عفيفــي مطــر شــاهدة فــي‬ ‫حــق رفيقــه المل َ‬ ‫قنديــل‪ ،‬بحياتــه‪ ،‬وموتــه‪ ،‬وكتاباتــه‪ ،‬ظاهــرة خارقــة لالســتيعاب والفهــم‬ ‫المبكر َ ْيــن‪ ،‬وســؤا ً‬ ‫ِّ‬ ‫ال عظيمــ ًا‪ ،‬مــا يــزال مطروحــ ًا بعــد أن رحــل‪.»...‬‬ ‫ّ‬ ‫الملــف‬ ‫مجلّــة «الدوحــة» تســتعيد بصمــات الشــاعر علــي قنديــل‪ ،‬فــي هــذا‬ ‫الخــاص‪.‬‬ ‫ّ‬

‫‪73‬‬


‫تركت علي قنديل على باب قصر الثّقافة في كفر الشيخ‪،‬‬ ‫قبل واحد وأربعين عاماً‪ ،‬في الساعة الواحدة ظهراً‪،‬‬ ‫ُ‬

‫ستقدم جوائز لمسابقة الشعر السنوية على مستوى المحافظة؛‬ ‫مع محمد الشهاوي‪ ،‬حيث كان يختار الكتب التي‬ ‫َّ‬ ‫فقد كان حريص ًا على أن تكون الجائزة كتب ًا بد ًال من النقود‪ ،‬التي كان يعرف أن الشعراء الفائزين سيشترون‬

‫بها السجائر‪ ،‬ولم أكن أعرف لحظتها أنني سأكون صاحب الجائزة األولى‪ ،‬وصاحب النظرة األخيرة لهذا‬ ‫سيارات الجيش بعد نصف ساعة من مغادرتي للقصر مع شقيقه‪ .‬كان ذلك في‬ ‫الشاعر‪ ،‬إذ صدمته سيارة من ّ‬

‫‪ 17‬يوليو‪/‬تموز‪.1975 ،‬‬

‫ذهب يف طريق آخر‬ ‫عيل عفيفي‬ ‫شخصية‬ ‫ال أن يقتنع أحد مثلي بأن علي قنديل يمثِّل‬ ‫لم يكن سه ً‬ ‫ّ‬ ‫اســتثنائية‪ .‬كان يكبرنــي بثالثــة أعــوام‪ ،‬وكنــت فــي الثامنة‬ ‫عشرة من عمري‪ ..‬لكن‪ ،‬كان بداخلي يقين أنه رجل استثنائي‪.‬‬ ‫انضممــت إلى جماعة حوريــس األدبية في كفر الشــيخ‪ ،‬التي‬ ‫أسســها علي قنديل‪ ،‬واختار اســمها‪ ،‬مع عدد من كبار شعراء‬ ‫َّ‬ ‫كفر الشــيخ في ذلك الوقت‪ .‬وكم كانت كلماته فاعلة في نفسي‬ ‫وعلَّق قائالً‪« :‬ما أنت شــاعر َأ ُهه»‪.‬‬ ‫عندمــا قــرأ أولى قصائدي‪َ ،‬‬ ‫ثقة‪ ،‬كنت في حاجة كبيرة‬ ‫حينها‪ ،‬حازت‬ ‫شــاعريتي المبتدئة ً‬ ‫َّ‬ ‫ولــدي رغبة فــي كتابة حقيقيــة‪ .‬ومنذ ذلــك التاريخ‪،‬‬ ‫إليهــا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أصبحت أصغر عضو في جماعة حوريس‪ ،‬أســافر في صحبة‬ ‫علــي قنديــل‪ ،‬وممــدوح المتولي‪ ،‬ومحمــد الشــهاوي‪ ،‬وأحمد‬ ‫سماحة‪ ،‬وعبد الدايم الشاذلي‪ ،‬وإبراهيم قنديل‪ ،‬إلى محافظات‬ ‫الدلتــا‪ ،‬حيــث تعقــد نــدوات فــي اإلســكندرية والمنصــورة‪،‬‬ ‫مرة‪ ،‬كنت أســتمتع‬ ‫والشــرقية‪ ،‬ودمنهور‪ ،‬وغيرها‪ ،‬وفي ّ‬ ‫كل ّ‬ ‫المتميز‪ ،‬وأشــعر وسطهم‬ ‫بوجودي ضمن هذا الفريق اإلبداعي‬ ‫ِّ‬ ‫أمســية‪ ،‬كان‬ ‫كل‬ ‫وبعد‬ ‫المرات‪،‬‬ ‫كل‬ ‫ّ‬ ‫بأن قامتي مشــدودة‪ ،‬وفي ّ‬ ‫ّ‬ ‫المحافظتْين يلتقون في مقهى‪ ،‬ويدور الحوار‪ .‬وعندما‬ ‫شعراء‬ ‫َ‬ ‫لحظة بعد‬ ‫يبــدأ علي قنديل فــي الكالم يزداد إصغــاء الجميع‪،‬‬ ‫ً‬ ‫لحظــة؛ إذ يســتيقظ مــن داخلــه مارد حكيــم‪ ،‬رفيــع الثّقافة‪،‬‬ ‫منظم‪ ،‬ثاقب الرأي‪ ،‬واثق من معرفته‪ ،‬جديد الكالم‪،‬‬ ‫منهجــي‪َّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫موســوعي‪ ،‬وكنــت‪ ،‬في داخلــي‪ ،‬أزهو به‪ ،‬مــدرك ًا أن الفارق‬ ‫ّ‬ ‫الســن‪ ،‬واســع فــي الثّقافة والمعرفــة‪ ،‬لكنه‬ ‫ضيق في‬ ‫ّ‬ ‫بيننــا ِّ‬ ‫أصبح أنموذج ًا لشــاعر مثقَّف كبير فــي مقتبل العمر‪ ،‬يعطيك‬ ‫المَثل لكي تحاول اللحاق به‪.‬‬ ‫َ‬ ‫فــي هذا العــام‪ ،‬تعلَّمت معانــي الصداقة مع هــؤالء‪ .‬كان علي‬ ‫كل منّا أن ُيخرج ما في جيبه من نقود‪ ،‬وكان‬ ‫قنديل يطلب من ّ‬ ‫محمد الشهاوي يحتفظ بأجرة الذهاب واإلياب التي يصرفها لنا‬ ‫قصر الثّقافة‪ ،‬باإلضافة إلى ما يجمعه من هذا الفريق متواضع‬ ‫‪74‬‬

‫أي ًا‬ ‫الحال‪ ،‬ويتولّــى اإلنفاق على الجميع طوال الرحلة‪ ،‬مانع ًا ّ‬ ‫التصرف‪ ،‬بحماقة‪ ،‬فــي القليل الذي نملكه من النقود‪،‬‬ ‫منّــا من‬ ‫ُّ‬ ‫وكانــت حماقاتنــا ال تتجــاوز الرغبــة الدائمــة فــي التدخيــن‪،‬‬ ‫وامتالك علبة سجائر كاملة في هذا الوقت‪.‬‬ ‫الظل في أدب‪ ،‬لبق‬ ‫كان علــي قنديل أنيق ًا في بســاطة‪ ،‬خفيف ّ‬ ‫الحديث‪ ،‬حكيم القرار‪ ،‬تنجذب إلى نبله‪ ،‬وفكاهاته‪ ،‬وثقافته‪،‬‬ ‫قرر الرحيل‪،‬‬ ‫ولي أمرك‪ .‬وعندمــا ّ‬ ‫واهتمامه بشــؤونك‪ ،‬كأنــه ّ‬ ‫ظهر ضباب كثيف في طريق‪ ،‬كان يعرف هو مســالكه‪ ،‬وكنت‬ ‫قرر فجــأة أن يذهب في طريق‬ ‫أتمنّــى أن أصاحبه فيــه‪ ،‬لكنه ّ‬ ‫آخر‪.‬‬ ‫بعــد رحيل علــي قنديل‪ ،‬توقَّف الجميع‪ ،‬تقريبــاً‪ ،‬عن الكتابة‪،‬‬ ‫حتــى عفيفي مطر الــذي َع َّرفني إليه علي قنديــل أصابته هذه‬ ‫ربما‪ -‬كان مخرجه منها هو‬ ‫السكتة الكتابية الغريبة لفترة‪ ،‬و‪ّ -‬‬ ‫المتميزة التي كتبها لديوان «كائنات علي‬ ‫المقدمة الرائعة‬ ‫هــذه‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫قنديل الطالعة» الذي أســهمنا جميعاً‪ ،‬وقتها‪ ،‬في طباعته‪ ،‬مع‬ ‫بعض أصدقائه من شــعراء جماعة «إضاءة»‪ ،‬وبعض زمالئه‬ ‫طب القصر العيني‪ .‬ومن وقتها‪ ،‬أصبح أصدقاؤه أصدقاء‬ ‫فــي ّ‬ ‫لنا‪ ،‬وفي ذكراه األولى‪ ،‬كانت طبعة ديوانه األولى قد صدرت‬ ‫مقدمة محمد عفيفي مطر‪،‬‬ ‫مــن دار الثّقافة الجديدة‪،‬‬ ‫تتصدرهــا ِّ‬ ‫َّ‬ ‫برسوم الفنّان الراحل بكري محمد بكري‪ .‬وبعدها‪ ،‬ولمدة تزيد‬ ‫على عشــرين عاماً‪ ،‬أصبح مهرجان علي قنديل الشــعري‪ ،‬في‬ ‫كفر الشــيخ‪ ،‬مناســبة ننتظرهــا‪ ،‬وأزعم أن الوســط الثّقافي‬ ‫المصــري‪ -‬أيضاً‪ -‬كان ينتظرها‪ ،‬بوصفه المهرجان األبرز بين‬ ‫كل المناسبات الشعرية المصرية‪ ،‬في ذلك الوقت‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫لــم أحفظ قصائدي‪ ،‬لكني اســتظهرت قصائد علــي قنديل كلّها‬ ‫سر‬ ‫عن ظهر قلب‪ .‬وفي البدايات‪ ،‬كنت أشعر أنها تنطوي على ّ‬ ‫تمكنّي أدواتي النقدية من ّ‬ ‫ربما‪ -‬إلى‬ ‫شــعري‪ ،‬لم ِّ‬ ‫ّ‬ ‫فك شيفرته‪ّ -‬‬ ‫اآلن‪:‬‬


‫سر يزحزح ناصية اآلفاق»‪.‬‬ ‫سر‪ ،‬فابحثوا‪ّ ،‬‬ ‫«في عمق األعماق ّ‬ ‫ســر هــذا الذي طلب منــا أن نبحث عنــه ونطارده؟‬ ‫تــرى‪ّ :‬‬ ‫أي ّ‬ ‫يحرضني علــى العمق‪ ،‬بل‬ ‫فأجده‬ ‫اللغــة‬ ‫إلى‬ ‫ألجأ‬ ‫كنــت‬ ‫تــارة‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫عمــق األعمــاق‪ ،‬ال علــى الســطحية والتفاهــة‪ ،‬وكان من بين‬ ‫جائزة لــي «جمهورية أفالطون» و«ثورة‬ ‫الكتــب التي اختارها‬ ‫ً‬ ‫يحرض على البحث في العمق‪ ،‬ال على‬ ‫وتارة‬ ‫الشعر الحديث»‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫قوة المعرفة؛‬ ‫الوصول إلى األعماق فحســب‪ .‬لعلّه كان يعرف ّ‬ ‫الســر الذي‪ ،‬من خالله‪ ،‬يمكن لإلنســان أن يسيطر على‬ ‫كونها‬ ‫ّ‬ ‫ويطوعهــا‪ ،‬المعرفة التي بها يمكن تحســين الحياة‪،‬‬ ‫األشــياء‬ ‫ِّ‬ ‫مــن لحظة إلى أخرى‪ ،‬وبهــا يمكن للشــعراء زحزحة اآلفاق‪،‬‬ ‫المســتقر‪ ،‬وإيجــاد قوانين جديــدة‪ ،‬وكائنات جديدة‪،‬‬ ‫وزلزلة‬ ‫ّ‬ ‫وعوالم جديدة‪ .‬كان علي قنديل يقول‪:‬‬

‫هذه األمانة‪ ،‬الطب والشعر والكهانة‪،‬‬ ‫حملتني ثقل‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬

‫تقل‬ ‫محبــة تلك أم خيانة؟؛ إذن‪ ،‬فالشــعر مســؤولية‪ ،‬ال ّ‬ ‫عن مســؤولية الطبيب أو الكاهن‪ ،‬وهو ليس لعبة‪ ،‬وال حلية‬ ‫اجتماعيــة؛ إنــه مســؤولية كبرى‪ ،‬مســؤولية ّ‬ ‫فــك القيود عن‬ ‫الخيــال‪ ،‬وتحريــر العقل في فضــاء المعرفــة‪ ،‬وقاعدة إطالق‬ ‫األســئلة بغير شــروط‪ ،‬إنه مانــح اللغة أرواحــ ًا جديدة‪ ،‬من‬ ‫لحظــة إلــى أخرى‪ ،‬بمــا يصنعــه من ســياقات جديــدة تمنح‬ ‫المفــردات دالالت جديــدة‪ ،‬فال تموت اللّغة وال تبلى‪ .‬والشــعر‬ ‫هــو تربية للنفس‪ ،‬تربيــة تلزم صاحبها بالخضوع لســلطان‬ ‫النحــو والعــروض فيتعلَّــم النظــام والدقّــة‪ ،‬بينمــا ال يصبح‬ ‫شاعرًا إال بالخروج عن التنميط والركون إلى السهل والجاهز‪:‬‬

‫يمكن لعبق النارنج أن ينبت بين عروق الصحراء‬

‫مساحات األوجه الميتة‬ ‫وأن يكتب تاريخه على‬ ‫ِّ‬

‫ّ‬ ‫يسقط الظل‬ ‫حين‬ ‫كاشــف ًا عن بقعة النور التــي تنمو كورد ٍة في ّ‬ ‫كل‬ ‫ا ّتجاه‬

‫ويستدرج الساحر اآلدمي شمسه‬ ‫ّ‬ ‫من مدارات الغروب‪.‬‬

‫هكذا تبــدأ قصيدة «كائنات علي قنديــل الطالعة» باإلمكان‪،‬‬ ‫هي كائنات شعرية جديدة‪ ،‬وبالشعر يصبح عبق النارنج‪،‬‬ ‫تحد لشــروط‬ ‫ال النارنــج‪ ،‬وكائنــ ًا ينبــت في الصحراء‪ ،‬في ٍّ‬ ‫الوجــود بغيــر الماء‪ ،‬يحــدث هــذا عندما ترى األشــياء من‬ ‫عرف بالنــور‪ ،‬والنــور هو صانع‬ ‫منظــور جديــد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فالظــل ُي َ‬ ‫الظل‪ ،‬لكننا‪ ،‬في واقع الكائنات الجديد‪ ،‬سنكشف عن بقعة‬ ‫ّ‬ ‫ربما‪-‬‬ ‫و‪-‬‬ ‫‪،‬‬ ‫الظل‬ ‫هو‬ ‫السائد‬ ‫حيث‬ ‫‪،‬‬ ‫الظل‬ ‫يســقط‬ ‫عندما‬ ‫النور‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫الظالم‪ ،‬والشحيح هو النور‪ ،‬ومن هنا‪ ،‬يأتي اإلمكان ويبدأ‬ ‫بالكشــف عن النور‪ ،‬حيث ال طريــق في الظالم الحالك‪ .‬في‬ ‫هذه اللحظة‪ ،‬يستدرج اإلنسان الساحر شمسه‪ ،‬تلك الشمس‬ ‫المراوغــة‪ ،‬التــي تركن لمدارات الغــروب والهروب‪ ،‬تحتاج‬ ‫وكل هذا «يمكن»‪ .‬وفي قصيدة «كونشــرتو‬ ‫إلى االســتدراج‪ّ ،‬‬ ‫اإلمكان والعصافير الطليقة» نقرأ‪:‬‬

‫في اإلمكان األبدع‬ ‫مما كان‪.‬‬ ‫أبدع ّ‬

‫قانــون جديــد يضــرب‪ ،‬ببســاطة وعنــف‪ ،‬قوانيــن الركود‬ ‫والســكون واالستســام للســائد‪ ،‬يزلزل عروش االستقرار‬ ‫يرســخه المؤمنون باالستقرار‪ ،‬والطامحون‬ ‫الفكري‪ ،‬الذي ِّ‬ ‫حق‪ .‬اإلمــكان عند علي‬ ‫بحق‪ ،‬وبغيــر ّ‬ ‫إلــى ســيادة أبديــة‪ّ ،‬‬ ‫‪75‬‬


‫بكل أنواعه‪ ،‬قد اكتمل أو في طور اكتماله‪ ،‬ولم يكن‬ ‫في بداية السبعينيات كان أفق القصيدة العربية الحديثة‪ّ ،‬‬ ‫حادة وصريحة‪ :‬في‬ ‫تم تكريسه‪ ،‬فظهرت الخروجات ّ‬ ‫أمام الموجة الثالثة ّإل التمرد والخروج على السياق الذي ّ‬ ‫باألخص‪ -‬في تجربة سرجون بولص وصالح فائق‪ ،‬وفي لبنان في تجربة‬ ‫العراق‪ ،‬في «مدرسة كركوك»‪ ،‬و‪-‬‬ ‫ّ‬ ‫ظل السياق الشعري‪ ،‬في مصر‪ ،‬على حالته‪ ،‬باستثناء الشاعر «محمد‬ ‫وديع سعاده وعباس بيضون‪ ،‬بينما ّ‬ ‫الرواد‪.‬‬ ‫عفيفي مطر» الذي ّ‬ ‫وحده خروج ًا ّ‬ ‫وأسس ّ‬ ‫ّي ًا مع شعرية ّ‬ ‫لنص جديد يتناقض كلّ‬ ‫حاداً‪ّ ،‬‬ ‫شكل َ‬

‫العام الذي ظهر فيه‬ ‫الجو‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فتحي عبدالله‬ ‫نــص الحداثة‪،‬‬ ‫أما الســبعينيون فقــد لعبوا على إعــادة إنتاج ّ‬ ‫شــعرية «صالح‬ ‫بأنماطــه المتعــّددة‪ ،‬فمنهــم مــن أعــاد إنتاج‬ ‫ّ‬ ‫عبد الصبور»‪ ،‬مثل محمد ســليمان‪ ،‬ومنهم من اســتلهم أداءات‬ ‫أدونيــس الشــعرية وقيمــه الروحيــة‪ ،‬رغــم مــا بينهمــا مــن‬ ‫اختالفــات‪ ،‬مثــل «عبد المنعم رمضان»‪ ،‬أمــا الخروج الحقيقي‬ ‫فقد كان لعلي قنديل وحلمي سالم‪.‬‬ ‫نص‬ ‫إنتاج‬ ‫مصــر‪،‬‬ ‫في‬ ‫الشــعرية‪،‬‬ ‫وعندمــا اســتطاعت الحركة‬ ‫ّ‬ ‫جديــد‪ ،‬يتقاطــع ويتناقــض‪ ،‬فــي اآلن نفســه‪ ،‬مــع الميــراث‬ ‫الروحي ومع أشــكال التعبير المتاحة مع الموجة الرابعة‪ ،‬في‬ ‫بدايــة الثمانينيات‪ ،‬شــارك بعض الســبعينيين فــي إنتاج هذا‬ ‫النــص‪ ،‬مثل‪ :‬محمــد صالح‪ ،‬وأحمد طه‪ ،‬ومحمــد آدم‪ ،‬وفريد‬ ‫ّ‬ ‫كل بحســب معرفتــه وتقنياته التي اكتســبها من‬ ‫أبــو ســعده‪ّ ،‬‬ ‫المتكررة‪.‬‬ ‫الكتابة‬ ‫ّ‬ ‫شــعرية «علي قنديــل» الذي توفِّي مبكــراً‪ -‬عن اثنين‬ ‫وتميــزت‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫وعشــرين عامــاً‪ -‬بالرؤية النافــذة‪ ،‬إذ أدرك حقيقة الصراع في‬ ‫المجتمــع‪ ،‬وما يحدث فيه من كوارث‪ ،‬ليس عن طريق المعرفة‬ ‫فقط‪ ،‬بل بالحدس والمعايشة‪.‬‬ ‫وقــد تأثَّرت هذه الرؤيــة بموروث الجماعــة الروحي أو الوعي‬ ‫الكلّــي الذي يحكم ســلوك األفراد والجماعــات‪ ،‬ويهيمن عليه‪،‬‬ ‫وهــي غنائيــة ومثالية‪ ،‬فــي مجملهــا‪ ،‬وذات إيقاع ســاحر‪ ،‬ال‬ ‫ينتمــي إلى اإليقاع الخالص‪ ،‬كمــا ال ينتمي إلى النثر الخالص‪،‬‬ ‫وهي روح متألِّمة‪ ،‬لكنها ليســت مأســاوية‪ ،‬وهي أقرب إلى ما‬ ‫هــو بدائي أو فطري لدى اإلنســان‪ .‬كما يظهر هذا التســامي في‬ ‫أخوة اإلنسان مع الحيوانات والجمادات أو مع الطبيعة‪ ،‬بشكل‬ ‫ّ‬ ‫شكلت الطبيعة‪ ،‬بمفرداتها الكثيرة‪ ،‬محورًا أساسي ًا لدى‬ ‫عام‪ ،‬إذ ّ‬ ‫ّ‬ ‫المسميات التي‬ ‫الشاعر‪ ،‬ســواء في الخيال‪ ،‬وفي الداللة‪ ،‬وفي‬ ‫ّ‬ ‫تنتمي إليها‪.‬‬ ‫كل شيء‪ :‬في‬ ‫إدراك‬ ‫على‬ ‫تقوم‬ ‫ّها‬ ‫فالتجربة كل‬ ‫أهمّية الصراع في ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪76‬‬

‫كل نوع‪،‬‬ ‫العالم‪ ،‬وفي المجتمع‪ ،‬وفي الذات‪ّ ،‬إل أنها تأخذ‪ ،‬في ّ‬ ‫العام يقول‪:‬‬ ‫شك ً‬ ‫ال َّ‬ ‫مميزاً؛ ففي إطار الصراع ّ‬ ‫«هنا األرض صومعة‪ ،‬تتقلَّب في ّ‬ ‫كف وحش البراري‪ ،‬وترقص‬ ‫ــزر‪ ،‬والبحر‬ ‫الج ْ‬ ‫للحلــم فارغــة‪ .‬والنهايــة تنداح في موجــة من َ‬ ‫ُجروف وتفّاحة من عصير الخديعة»‪.‬‬ ‫فالعالم كلّه ســجن صغير «صومعة»‪ ،‬وهذه الصومعة ليســت‬ ‫للعـبــادة‪ ،‬أو لتخزيــن الغــال‪ ،‬بــل تتقلَّب في ّ‬ ‫كــف وحش من‬ ‫البــراري‪ ،‬وال يتحقّق أحالم الجماعة البشــرية فيها‪ ،‬وهم بين‬ ‫الموت والخديعة‪.‬‬ ‫أما الصــراع الدائم في المجتمع‪ ،‬فإنه ال ينتهي‪ ،‬وال حدود له‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وقد كشفه الشاعر بطريقة مباشرة وجارحة‪ -‬أيضاً‪ -‬إذ يقول‪:‬‬

‫أ ّيام الفقر زاعقة كالحريق‪ ،‬بطيئة كخيبة األمل‪.‬‬ ‫مجرم من يفتقر‬

‫مجرم من يغتني‬

‫لكنما األشّداء أولو البأس هم الصابرون على العوز‪ ،‬الحازمون‬ ‫على البطون‪ ،‬الحازمون على الشرف»‪.‬‬ ‫كل القوى التي تســيطر‪ ،‬وتدفع‬ ‫أما عذابات الذات وصراعها مع ّ‬ ‫ّ‬ ‫المصائر البشــرية إلى الهاوية فإنها محور التجربة األساســي‪،‬‬ ‫يمر به من‬ ‫و إن أخــذت أنماطــ ًا فــي األداء ِّ‬ ‫متنوعة‪ ،‬بحســب مــا ّ‬ ‫اختبارات‪ ،‬فأحيان ًا يقول‪:‬‬

‫«ال أفق يبصرني‬ ‫ال أسماء‬


‫تهدج الرثاء‬ ‫مزروعة خطاي في ُّ‬ ‫غد ًا‪ ،‬تشقّ ني الرياح رافد ًا للدمع‬ ‫خفق اللهيب بعضي‪،‬‬ ‫وبعضي القريب»‬ ‫الهشــة والضعيفــة‪ ،‬والتــي ال تحقّــق وجودهــا‬ ‫هــذه الــذات ّ‬ ‫اإلنســاني‪ ،‬تأتي كثيرًا في النصوص ّإل أن الشــاعر يحّدد‪ ،‬في‬ ‫نص آخر‪ ،‬ما يعانيه من الوحدة ‪:‬‬ ‫ّ‬

‫في الوحدة‬

‫يعــرف صدري أن يفتح ذاتــه‪ ،‬وتأمن ّ‬ ‫كل القرون‬ ‫المخبــوءة فيــه‪ ،‬فتخرج ال تخشــى الحديد الذي‬ ‫ينطلق في الشوارع‪ ،‬وال العيون الخبيثة التي على‬

‫اللحظــة‪ ،‬وال العكارة التي ال تســتريح‪ ،‬وليس لها‬ ‫شاغل إ ّلا إفساد اشتهائي وإفساد دمعي‪.‬‬ ‫بالنص الشــائع‪ ،‬وبالمعرفة‬ ‫بــدأت تجربة علــي قنديل متأثِّرة‬ ‫ّ‬ ‫يتعرف باألنمــوذج الذي‬ ‫حتــى‬ ‫الســائدة‪ ،‬وهــذا أمــر ضروري‬ ‫ّ‬ ‫األول من ديوان «اآلثار الشعرية‬ ‫يختاره‪ ،‬ويظهر هذا في القسم َّ‬ ‫الكاملة» تحت عنوان «قصائد أولى» (‪ ،)1973 - 1970‬وكان من‬ ‫أكثر االصوات المؤثِّرة فيه صالح عبد الصبور وعفيفي مطر‪.‬و‬ ‫رغم ما بينهما من تناقضات‪ ،‬فقد تأثَّر بقدرة عبد الصبور على‬ ‫التأمل القريب والبناء النثري للجمله الشعرية‪ ،‬مثل‪:‬‬ ‫ُّ‬

‫يا ليل‪،‬‬

‫محيطنا المقدس النبيل‪،‬‬ ‫يا‬ ‫َّ‬

‫الشمس خلف بابنا تكاد أن تبين‪،‬‬

‫ونحن في ظالمك األمين‬

‫نخاف نورها وزهرها الجريء‬ ‫أما معايشــته لعفيفي مطر وصداقتــه الدائمة له‪ ،‬فقد أثَّرت في‬ ‫ّ‬ ‫مبكراً‪ ،‬سواء االجتماعية‬ ‫أوالً‪ ،‬حتى أنه حّدد انحيازاته ِّ‬ ‫معرفته َّ‬ ‫أهمهــا اهتمامــه بالثقافة المصريــة القديمة‬ ‫والشــعرية‪ ،‬ومــن ّ‬ ‫ورموزها الفاعلة‪ ،‬مثل‪:‬‬

‫حوريس يطلع بالشعير وبالغالل‬

‫ السخية‬ ‫بمواسم األر ّز‬ ‫ّ‬ ‫متعالي ًا مثل النخيل‬

‫كأطراف البحيرات القصية‪،‬‬ ‫ح ّر ًا‬ ‫ّ‬ ‫لكنه عند الهضاب‬ ‫ما زال ظلّاً واغتراب‬

‫شفافية وأكثر وصو ًال‬ ‫بالتصوف‪ ،‬وإن جاء أكثر‬ ‫وكذلك اهتمامه‬ ‫ً‬ ‫ُّ‬ ‫‪77‬‬


‫لألشياء والحاالت من عفيفي مطر؛ إذ إن لغة علي قنديل كانت‬ ‫مركبة‪ ،‬وتعتمد على الداللة القريبة‪ ،‬ولم يظهر‬ ‫واضحــة وغير َّ‬ ‫ذلك ّإل في القســم الثاني من التجربــة‪ ،‬وتأثَّر‪ ،‬كذلك‪ ،‬ببعض‬ ‫المفردات المركزية في تجربة عفيفي مطر األولى‪ ،‬وكانت تلعب‬ ‫دورًا في توالد شعرية ما لديه‪ ،‬مثل‪:‬‬

‫وتصــل هذه الرؤية ذروتها في قصيــده «القاهرة»‪ ،‬وهي تمثِّل‬ ‫تطور شــكل الكتابة الشــعرية في مصر؛ إذ‬ ‫اللحظة الفارقة في ُّ‬ ‫تقوم على البناء الســردي الخالص في تتابع وحدات الســرد‪،‬‬ ‫محطة الوصــول (القاهرة)‪،‬‬ ‫بــدءًا من قريته‪ ،‬ثــم الرحلة‪ ،‬ثــم ّ‬ ‫تم من خالل خيال مدني حديث‪،‬‬ ‫واكتشــافها من جديد‪ّ .‬‬ ‫كل ذلك ّ‬ ‫الحية‪ ،‬ذات‬ ‫ّغة‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫وعلــى‬ ‫بالحواس‪،‬‬ ‫ك‬ ‫مدر‬ ‫ّ‬ ‫يعتمــد علــى ما هو َ‬ ‫المادّية‪ ،‬مثل‪:‬‬ ‫الدالالت ّ‬

‫استحمت في المطر‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫كان الظل يزرعني بعينيك يمامة‪،‬‬ ‫حين‬

‫تفجر وردة‪،‬‬ ‫شريط القطارات كان يوازي ُّ‬ ‫وكان المساء خواتم ذهبية في األصابع‬ ‫تورد للقلب ما يعجز الصمت أن يحتويه‪.‬‬

‫كنت طف ً‬ ‫ال‪ ،‬والظهيرة‬

‫ويجبرني على كفَّ يك خطّ ًا الهث ًا‬ ‫فرس ًا فخور ًا بالوسامة‬

‫ثم يصل إلى القاهرة‪:‬‬

‫انغرست الفتة أولى‪:‬‬

‫المهمة‪ ،‬فائقة القيمة‪ ،‬فقد ظهرت في القسم الثاني‬ ‫أما تجربته ّ‬ ‫ّ‬ ‫متأخرة» (‪ ،)1975 - 1974‬إذ اكتشف ذاته‬ ‫من الديوان «قصائد ِّ‬ ‫مرة أخرى‪ ،‬وبطريقة جديدة‪ ،‬ففي قصيدة «هوية» يقول‪:‬‬ ‫ّ‬

‫القاهرة‬

‫أنا الشعر‬

‫سماء مدرجة في قائمة األعمال‪.‬‬

‫والشعر ياقوتتي األنثوية‪.‬‬

‫هل الكون يعلم أني أغ ّني آلخر ما‬ ‫بعثرته جياد الب ّر ّية؟‬

‫هذا هو تكوين اإلنســان الكامل‪ ،‬الذي يجمــع الذكورة واألنوثة‬ ‫لــكل المعذَّبيــن والمتألِّمين في‬ ‫معــاً‪ ،‬ويحمل رســالة روحيــة ّ‬ ‫وجودي‪ ،‬أقرب‬ ‫األرض‪ .‬ورغم هذا االكتمال‪ ،‬فإنه يعاني من قلق‬ ‫ّ‬ ‫أن يكــون جــزءًا من طبيعته‪ ،‬فهو يجمع بيــن المتناقضات في‬ ‫المعرفة والحياة‪ :‬يجمع بين الحقيقي واألسطوري‪ ،‬يجمع بين‬ ‫وربما‪ ،‬تكون قصيدة «العصاقير الطليقة»‬ ‫المدنَّس‬ ‫َّ‬ ‫والمقــدس‪ّ .‬‬ ‫تميزه الشعري؛ إذ تقوم على‬ ‫بدأ‬ ‫ومنها‬ ‫الكبيرة‪،‬‬ ‫نصوصه‬ ‫أول‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫كل القيود واالحتياجات‪ ،‬واالقتراب من الرؤية‬ ‫فكرة‬ ‫تحرره من ّ‬ ‫ُّ‬ ‫الصوفية‪ ،‬التي تعتمد على الحدس والقدرة المذهلة على الفعل‪،‬‬ ‫وإن كان في اللّغة‪ ،‬فقط‪.‬‬ ‫والنص كلّه قائم على االستجابة الداخلية لما يحدث في الخارج‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الحر للغة والداللة معاً‪:‬‬ ‫معتمدًا على الفيوضات أو التداعي ّ‬

‫ّ‬ ‫كل شيء سوف ينزل ساحه اإلشراق‬

‫يجذب مغنطيس الدم مهجته‪،‬‬ ‫فيصعد ساخن ًا لدن ًا‪ ،‬فلحظة بدئه دقّ ت‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ودق القوم رايتهم‪ ،‬وكان الرمل دفئ ًا‬

‫كانت األشجار أ كثف من مواعيد الهوى‬ ‫‪78‬‬

‫دخان يقترب‬

‫وفيما بين الحلم ومائدة اإلفطار‬

‫توابيت تتناسل‬

‫فطر يتناسل‬

‫والساعة‪ ،‬في عكس إيقاع القلب‪ّ ،‬‬ ‫تدق»‬

‫تؤذن لصالة العصر‪:‬‬ ‫ثم القاهرة ّ‬

‫«تشب المآذن فوق ًا‪ ..‬لماذا؟‬ ‫ّ‬

‫يســائلني رأســه الكربالئي‪ ،‬وهو قطيع عن الجسد‬ ‫العربي‪،‬‬

‫أنظر حولي‬

‫ال طير َح ّي‬ ‫ال طير مقتول‪.‬‬ ‫قوية على‬ ‫مجرد إشارة ّ‬ ‫كانت تجربة علي قنديل الخاطفة والعميقة َّ‬ ‫يطور هذه‬ ‫أن‬ ‫أحد‬ ‫يســتطع‬ ‫ربما‪ -‬لم‬ ‫ّ‬ ‫شــيء كبير‪ ،‬لم يكتمل‪ ،‬و‪َّ -‬‬ ‫الضيقة في بعض نصوص الشاعر الكبير‬ ‫التجربة ّإل في الحدود‬ ‫ِّ‬ ‫«حلمي سالم»‪.‬‬ ‫خاصة في مجملها‪ ،‬وإن تقاطعت‪ ،‬في تفاصيلها‪ ،‬مع‬ ‫إنها حالة ّ‬ ‫المبدعين الكبار‪.‬‬


‫شــهدت القاهرة‪ ،‬منذ الســنوات األولى في عقد السبعينيات‪ ،‬ظهور‬ ‫حركة الشــعراء‪ ،‬وجمعتني‪ -‬على المســتوى الشخصي‪ -‬صداقة‬ ‫أكدت لي أن‬ ‫حميمة بالشــاعرين علــي قنديل‪ ،‬وحلمي ســالم‪َّ ،‬‬ ‫ال جديدًا من الشعراء الجدد‪ ،‬في القاهرة وفي األقاليم‪،‬‬ ‫هناك جي ً‬ ‫يكتبون ً‬ ‫برؤى متقاربة ومختلفة عن قوانين الكتابة الشــعرية‬ ‫الســابقة‪ ،‬ومــن خــال أســاليب وتقنيــات لــم تألفهــا الكتابة‬ ‫الشــعرية من قبل‪ ،‬حتى أن كثيرًا من النقّاد المعروفين شاركوا‬ ‫فــي الحمــات التــي ُو ِّجهت ضــّد الجيل الجديد‪ ،‬ســواء مــن ِقَب ِل‬ ‫مجلت وصفحات ثقافية في الصحف‪ .‬كان‬ ‫مؤسســات ثقافية أو ّ‬ ‫ّ‬ ‫يحسون‪ ،‬منذ البداية‪ ،‬بوجوب تالقيهم‬ ‫ا‬ ‫جميع‬ ‫السبعينيات‬ ‫شعراء‬ ‫ً ّ‬ ‫وتصورات‪،‬‬ ‫يتمكنوا من االستمرار‪ ،‬ومن طرح مالديهم من رؤى‬ ‫لكي ّ‬ ‫ّ‬ ‫بقوة‪ ،‬وحضرنا‬ ‫آمنوا بها وناضلوا ألجلها‪.‬‬ ‫ارتبطت بهذين الشاعرين ّ‬ ‫ُ‬ ‫مع ًا مجموعة كبيرة من الندوات الشعرية في قصور الثّقافة وفي جامعات‬ ‫أهمها الندوة التي أقامها المركز الثّقافي‬ ‫مصر‪ ،‬وفي أماكن أخرى‪ّ ،‬‬ ‫الروســي في أوائل فبراير‪/‬شــباط ‪ ،1975‬والتي فوجئنا‬ ‫المقامة على خشــبة‬ ‫فيهــا‪ ،‬عندمــا دخلنــا إلى‬ ‫ّ‬ ‫المنصــة ُ‬ ‫المســرح‪ ،‬بجمهور ضخــم‪ ،‬لم نعهد مثله مــن قبل؛ فقد‬ ‫امتــأت الصالة عن آخرها‪ ،‬كذلك (البلكون) في الطابق‬ ‫الثاني‪ ،‬وقد نجحت هذه الندوة نجاح ًا ســاحقاً‪ ،‬الزال عدد‬ ‫من المثقَّفين يذكرونه حتى اآلن‪.‬‬

‫أيقونة شعر السبعينيات‬ ‫د‪ .‬أمجد ريان‬ ‫وعلي قنديل ابن قرية الخادمية‪ ،‬مركز كفر الشــيخ‪ .‬كان شاعرًا‬ ‫بتلمسه‬ ‫متفوق ًا بين أقرانه‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫السبعينيين‪ ،‬فهو الذي سبق الجميع ُّ‬ ‫لخصائص الرؤية الشعرية الجديدة‪ ،‬على الرغم من أنه توفّي‬ ‫عــن عمر يناهز اثنين وعشــرين عاماً‪ ،‬بعد أن صدمته ســيارة‬ ‫طائشــة‪ ،‬في الســابع عشــر من يوليو‪/‬تموز‪1975 ،‬م‪ ،‬وكان‬ ‫طب القصر العيني‪.‬‬ ‫ّية ّ‬ ‫وقتها يدرس في كلّ‬ ‫رواد قصيدة النثــر الجديــدة‪ ،‬وقد ترك‬ ‫يعــّد علــي قنديــل أحــد ّ‬ ‫ديوانــ ًا وحيــداً‪ ،‬هو «كائنــات علي قنديل الطالعــة»‪ ،‬وقد كتب‬ ‫مقدمتــه الشــاعر محمد عفيفــي مطر‪ ،‬وصــدرت طبعته األولى‬ ‫ِّ‬ ‫مرات‪.‬‬ ‫ة‬ ‫د‬ ‫ع‬ ‫ذلك‪،‬‬ ‫بعد‬ ‫ع‪،‬‬ ‫ب‬ ‫ط‬ ‫وقد‬ ‫‪،‬‬ ‫مباشرة‬ ‫وفاته‬ ‫عقب‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تبنّــى المبدعــون‪ ،‬فــي الســبعينيات‪ ،‬فكــر الحداثــة‪ ،‬وطــرح‬

‫التعدد في السياسة‪ ،‬وفي‬ ‫المثقَّفون‪ ،‬في التوقيت نفسه‪ ،‬معنى‬ ‫ُّ‬ ‫الفكر‪ ،‬وفي األدب؛ فالرؤية الحداثية تتجاوز األحادية الفقيرة‪،‬‬ ‫وتخلق نوع ًا من التفاعل بين مستويات عديدة‪ ،‬وبادر الشعراء‬ ‫بإجراء الحوار مع التراث العربي والتراث اإلنساني‪ ،‬من خالل‬ ‫لغــة القرآن الكريم‪ ،‬وأجواء الشــعر العربــي القديم‪ ،‬وأحاديث‬ ‫القدمــاء‪ ،‬ومن خالل االهتمــام باأليقونات القبطيــة‪ ،‬وأحاديث‬ ‫واهتم شعراء الســبعينيات باالستعاريات‬ ‫القّديســين‪ ..‬وهكذا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫المتنبي‪ -‬على ســبيل المثال‪ -‬يعيش في‬ ‫جعلوا‬ ‫الرمزية‪ ،‬حتى‬ ‫ّ‬ ‫ويتجول قي المتحف‪..‬‬ ‫المنزل العصــري‪ ،‬ويجلس في المقهى‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫إلخ‪ .‬وكان هناك حوار مع الغرب‪ ،‬في الوقت نفسه‪ ،‬واستفادات‬ ‫من فكر ماركس‪ ،‬وبيكاسو‪ ،‬وسان جون بيرس‪...‬‬ ‫‪79‬‬


‫تكونت‪،‬‬ ‫فــي هــذه المرحلــة‪ ،‬وعلى ضوء هــذه‬ ‫التحــوالت‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫فــي مصر‪ ،‬جماعتا «إضــاءة ‪ ،»77‬و«أصوات»‪ .‬وكان هناك‬ ‫وتوطــدت العالقات مع‬ ‫عدد كبير من الشــعراء المســتقلّين‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الحداثييــن‪ ،‬فــي الخليــج‪ ،‬وبيــروت‪ ،‬والمغــرب‪.‬‬ ‫الشــعراء‬ ‫ّ‬ ‫وارتبط الحداثيــون باأليديولوجيا‪ ،‬وتفاعلوا مع الثوريين‪،‬‬ ‫وتعاطفوا مع مظاهرات الطَلبة في عام ‪ 1968‬وما بعده‪.‬‬ ‫‪...‬‬ ‫سبق الشاعر علي قنديل أبناء جيله جميع ًا (برغم حداثة عمره)‬ ‫في اكتشاف طبيعة الرؤية الحداثية‪ ،‬بحيث تكون هذه الرؤية‬ ‫وقدم‬ ‫قــادرة علــى التعبير عن خصوصيــة واقعنا المحلّــي‪َّ ،‬‬ ‫أشــكا ًال شــعرية تعتمد المجاز اللّغوي الكثيف‪ ،‬واالستعارة‪،‬‬ ‫التعدد‪ ،‬هرب ًا‬ ‫وكان هذا‪ -‬في َحّد ذاته‪ -‬تعبيرًا حداثي ًا يبحث عن‬ ‫ُّ‬ ‫استتبت في الفكر وفي اإلبداع‪،‬‬ ‫األحاديات التاريخية التي‬ ‫من‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫صفه بأنه الســاحر الكاهن الشــاعر‬ ‫و‬ ‫مطــر‬ ‫عفيفــي‬ ‫أن‬ ‫حتــى‬ ‫َ َ‬ ‫الطبيب‪ ،‬ألنه استطاع‪ -‬بالفعل‪ -‬أن يستخدم الطاقة السحرية‬ ‫للّغــة‪ ،‬من خالل تركيباته اللّغوية شــديدة الخصوصية‪ ،‬من‬ ‫الميتة‪ ،‬وبقعة‬ ‫قبيل‪( :‬عروق الصحراء‪ ،‬ومســاحات األوجــه ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫كوردة)‪ ،‬وغيرها‪ ،‬كما في هذا المقطع‪:‬‬ ‫النور التي تنمو‬

‫ينب َت بين عروق الصحراء‬ ‫يمكن لعبق النارنج أن ُ‬ ‫مساحات األوجه الميتة‬ ‫يكتب تاريخ ُه على‬ ‫وأن‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫يسقط الظل كاشف ًا عن بقعة النور التي‬ ‫حين‬ ‫تمتد في ّ‬ ‫ويستدرج‬ ‫كل اتجاه‪...‬‬ ‫تنمو كورد ٍة‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ اآلدمي شمس ُه من مدارات الغروب‪.‬‬ ‫الساح ُر‬ ‫ّ‬

‫تقمــص الــروح التراثية‪،‬‬ ‫وَلــدى قنديــل قــدرة مذهلــة علــى ُّ‬ ‫بخاصة‪-‬‬ ‫واســتثمارها إبداعيــاً‪ ،‬بشــكل شــديد الوعــي‪ ،‬و‪-‬‬ ‫ّ‬ ‫التصوف اإلســامي‪ .‬وفي تجربته‪ ،‬يســتخدم‪،‬‬ ‫في نصوص‬ ‫ُّ‬ ‫عــام‪ ،‬ألفاظــ ًا وتراكيب لغوية من مثــل ‪( :‬العرش‪ -‬ال‬ ‫بشــكل ّ‬ ‫أفق ُيبصرني‪ -‬الرجاء‪ -‬إشــراقة‪ -‬مخاطبات‪ -‬ال أفق يدركني‬ ‫ســرًا خبيئاً‪ -‬منذ‬ ‫وال ســماء‪ -‬أبقى أنا‬ ‫الســر وحــدي‪ -‬ماعاد ّ‬ ‫ّ‬ ‫ابتــداء الزمــن‪ .)...‬ولديــه هذاالمقطع الذي يفيــض بالمعنى‬ ‫الحس الصوفي‪:‬‬ ‫المستفيد من‬ ‫ّ‬

‫ّ‬ ‫لكل قارئ قراءة‬ ‫تأتي‬ ‫ّ‬ ‫وكل مبصر تأتيه شمع ٌة مضاءة‬

‫أباح الحب‪ ..‬ملكه السماء‬ ‫ومن‬ ‫ّ‬

‫تطه َر قلبه بالدمع‪ ..‬أشعل الفضاء‪.‬‬ ‫ومن َّ‬ ‫الحس المجازي واالستعاري المستشري في‬ ‫وعلى الرغم من‬ ‫ّ‬ ‫كتابة الشــاعر‪ ،‬واالســتفادة الكبيرة من المعاني الصوفية‪،‬‬ ‫‪80‬‬

‫إال أن دوافعــه الجماليــة مرتبطــة بالواقــع اليومــي المعيش‪،‬‬ ‫بــكل مافيها من تفاصيل َحّيــة‪ ،‬ومعطيات‬ ‫وبحياتــه الفعلية‪ّ ،‬‬ ‫مرتبطــة بالواقــع‪ ،‬وقصيدته (القاهــرة)‪ -‬على ســبيل المثال‪-‬‬ ‫القضية‪ ،‬وحين نقــرأ المقاطع األخيرة‬ ‫مثــال واضح على هذه‬ ‫ّ‬ ‫النــص يحكــي عــن اإلحســاس بازدحام‬ ‫منهــا‪ ،‬سنكتشــف أن‬ ‫ّ‬ ‫يتضمن‪ -‬في الوقـــــت‬ ‫بالمقـــــــابل‪،‬‬ ‫لكــن‪،‬‬ ‫المدينــة العنيــف‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫نفســه‪ -‬إحساســ ًا حضاري ًا عنيدًا يــرى أن علــى المثقَّف الكبير‬ ‫أن يفهــم التعقيــد المديني الحديث‪ ،‬وأن يعرف كيف يعايشــه‪،‬‬ ‫وكيف يقيم عالقاته اإلنسانية داخل هذا التعقيد‪.‬‬ ‫القاهرة ُت ِ‬ ‫باتجاه عكسي لما يريده‬ ‫حكم قيودها‪ ،‬والزمن يســير ِّ‬ ‫الشــاعر‪ ،‬هندســة الوجود تســيطر على رائحة الحياة‪ ،‬وتدور‬ ‫الــذات في متاهة الحياة اليوميــة المخيفة‪ ،‬ويصبح القتل رمزًا‬ ‫لكل أشــكال القهر‪ ،‬ويقيم المونتاج الشــعري غابة من التداخل‬ ‫ّ‬ ‫بيــن معطيــات الحيــاة‪ ،‬مازج ًا بيــن ما هو شــخصي‪ ،‬وما هو‬ ‫جمعي‪.‬‬ ‫ويستعرض الشاعر‪ ،‬بشكل شــعري رفيع المستوى‪ ،‬تفاصيل‬ ‫حياتــه اليوميــة الواقعيــة التي هــي رموز للحياة فــي المدينة‬ ‫ّيــة الطب ‪ -‬دخــان الغليون في‬ ‫العصريــة ‪( :‬أتوبيــس‪ - 124‬كلّ‬ ‫تدق ‪ -‬شــريط‬ ‫الكافيتريــا ‪ -‬بعــض المثقَّفين‪ -‬كبريت ‪ -‬ســاعة ّ‬ ‫ويظل معنى االزدحام عبئاً‪ ،‬بامتداد‬ ‫القطارات ‪ -‬الشوارع‪،)...‬‬ ‫ّ‬ ‫النص‪ ،‬يطرح إحساسه الشخصي الدائم باالختناق‪ ،‬وبالوحدة‬ ‫ّ‬ ‫منفي داخــل وطنه‪ .‬ومــن هنا‪،‬‬ ‫وبأنــه‬ ‫االزدحــام‪،‬‬ ‫هــذا‬ ‫داخــل‬ ‫ّ‬ ‫يبرر المعنى الفلســفي الذي يســتنكر‬ ‫يكــون مبــدأ الرفض الذي ّ‬ ‫وجود القاهرة‪ ،‬بل وجوده الشــخصي نفسه‪ .‬لكن‪ ،‬بالرغم من‬ ‫العدمية‪ ،‬يحلم‬ ‫كل البعد عــن‬ ‫يظل الشــاعر البعيــد ّ‬ ‫كل شــيء‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫باالندماج بتاريخ مصر‪ ،‬وبماء نهر النيل‪:‬‬

‫صلصلة قيودي تج ُّرني‪،‬‬ ‫في الصباح‪:‬‬

‫أتوبيس ‪،124‬‬ ‫ك ّل ّية الطب ‪ -‬دخان الغليون في‬ ‫الكافيتريا ‪ -‬بعض المثقَّ فين‪.‬‬

‫وتتضخم دائرة‪ /‬زنبقة وحشية‬ ‫َّ‬ ‫ياالله ! زنبقة وحشية‪.‬‬

‫النيل ‪ -‬حوار‪:‬‬

‫ساجد‬

‫من بدأ أوّل وردة قامت وصمتك ضفّ تان؟‬

‫عطش السنين صفاؤك السطحي‪ ،‬أم بدأ الحوار؟!‬ ‫موحدا‪.‬‬ ‫رأيت‪ ..‬أدركت‪ ،‬اختبأت مق ِ ّلد ًا حزن اليمام ِ ّ‬


‫ساجد‬

‫من بدأ أوَّل وردة قامت وصمتك موتتان‪:‬‬

‫أرق السنين نسيمك المطوي‪ ،‬أم شوك الديار؟‬

‫اليد القاتلة يشهد عليها دم القتيل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تنحل عنه أحرفه‪،‬‬ ‫والكتاب الخائن‬ ‫والماء المغتصب ينتفض‪،‬‬

‫ســبحت في الزمن‪ ..‬اســتبحت تم ُّثــل الموت‪،‬‬

‫يصير التيار الجارف‬ ‫الذبائح تستيقظ‪ ،‬والخوف‬ ‫ّ‬ ‫النهر الذي سكت ينطق‪ ،‬ومن تك َّلم يسمع‬

‫وحيد مثل وحدتك الطويلة‪..‬‬ ‫إني‬ ‫ٌ‬

‫اقترب يا دخان‪،‬‬

‫انقطعت‬

‫عن الكالم مُ َس َّهد ًا‪.‬‬

‫شدني لخلودك المعقود‪.‬‬ ‫ّ‬

‫ساجد‬

‫يوم ًا‪ ..‬ربَّما قريب كدم محتقن‪.‬‬ ‫ويا عربات ازحفي‪،‬‬

‫وانطرق‪ -‬يا حديد‪ -‬على قبرة القلب‪.‬‬

‫من بدأ أوَّل وردة قامت وصمتك طعنتان؟‬

‫ال القاهرة تبقى قاهرة‬

‫ال كبريت‪،‬‬

‫وال الشاعر مسجون ًا في لسانه‪.‬‬

‫ال شمس‪،‬‬

‫ال تبغي الحوار‪.‬‬

‫وال الدلتا دلتا‬ ‫ساعة ّ‬ ‫تدق‬

‫رأيت‪ ..‬يا ما قد رأيت‪ ،‬ولم تح ِ ّركك المنى‬

‫متأخر»‬ ‫«الوقت‬ ‫ِّ‬

‫لم تضطرب للريح‪،‬‬

‫طائر الرعب األليف‪،‬‬

‫لم تغرك األشعار‬

‫لم تصعد ألعلى‪.‬‬

‫والسماء تترك الغرفة لألجنحة السوداء‪ ،‬ينثرها‬

‫آه‪ ،‬شريط القطارات‪،‬‬

‫(آه من لحن الفرار‪:‬‬

‫يخرجون للشوارع نزف ًا من جرح أبله‪،‬‬

‫وطني صار الفرار)‬

‫ويقومون من سقطة إلى أخرى‪ ،‬كالديدان المشرقة‪..‬‬

‫صار منفاي الوطن‬ ‫يقترب‪..‬‬

‫دخان يقترب‬

‫ساعة‪ ،‬على عكس إيقاعات القلب ّ‬ ‫تدق‬

‫لكنني أرى‪:‬‬ ‫أرى يوم ًا ‪ -‬ربَّما قريب كأصابع اليد ‪ -‬يأتي‬ ‫يقف العالم معصوف ًا‪ ،‬ويثبت ّ‬ ‫كل ذي حال‬ ‫على حاله‪:‬‬

‫يسابقون الضوء الخائب‪،‬‬ ‫ما أبهج المرارة!!‬

‫َّ‬ ‫نام المقطم فوق جفني‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وظل قفص الصدر يحبسني‬ ‫غيب ًا وعصفور ًا خريفي ًا‬

‫اقذف حصان النار يرفسني‪،‬‬ ‫صبني في النهر محلو ً‬ ‫هالمي ًا‪.‬‬ ‫ال‬ ‫أو َّ‬ ‫ّ‬ ‫‪81‬‬


‫اثنان وعشرون عاماً‪ ،‬وموت مفاجئ في حادث سير‪ ،‬تحت عجالت عربة جيش طائشة‪ ،‬أمام قصر الثقافة في‬ ‫هب كعاصفة من لهب‬ ‫مدينة كفر الشيخ‪ ،‬مسقط رأسه‪ ،‬طوى‪ ،‬في غبارها‪ ،‬علي قنديل ربيع ًا شعري ًا قصيراً‪ّ ،‬‬ ‫قوسي الميالد والرحيل (‪ ،)1975 - 1953‬تارك ًا ديوانه الوحيد «كائنات علي قنديل الطالعة» الذي لم‬ ‫ما بين َ‬ ‫الخاص‪ ،‬في حركة الحداثة الشعرية في مصر‪.‬‬ ‫مهمة‪ ،‬ال يزال لها حضورها‬ ‫تتصفّحه عيناه‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ليشكل شرارة ّ‬

‫العني َّ‬ ‫الشاعرة‬ ‫جامل القصاص‬ ‫ظهــر علي قنديل فــي وقت غير اعتيــادي من ســبعينيات القرن‬ ‫الماضي‪ ،‬كان على شعرائه الشباب الطامحين الطالعين من رحم‬ ‫الســؤال وحرقة المعرفــة ومرارة الواقع‪ ،‬على إثر نكســة ‪1967‬‬ ‫يخصهم‪ ،‬وعي ًا مسكون ًا بلحظتهم‬ ‫العسكرية‪ ،‬أن يجربوا وعي ًا آخر ّ‬ ‫وتشكله في‬ ‫تجدده‬ ‫ُّ‬ ‫التاريخية‪ ،‬وهواجسهم حول الشعر‪ ،‬وطرائق ُّ‬ ‫أنســاق وعالقات جمالية مغايرة‪ ،‬تعي جســور الوصل والقطع‬ ‫يشكالن عتبة للمستقبل‪.‬‬ ‫بين الماضي والحاضر‪ ،‬وكيف ِّ‬ ‫متصلة من‬ ‫انتبــه علــي قنديل‪ ،‬منذ البداية‪ ،‬إلى أن الشــعر حلقة َّ‬ ‫الخاص ال ينمو‬ ‫حلقــات الوجود‪ ،‬وأن براءته الداخلية‪ ،‬بل نوره‬ ‫ّ‬ ‫إال بالشــعر‪ ،‬وأن هــذا النــور هو الذي يمنحنــه اليقين بكينونته‬ ‫ويحدد مدار رؤيته للعالم واألشــياء من حوله‪.‬‬ ‫وامتالئــه بذاته‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫فرديته‪ ..‬فها هو يقول‬ ‫في‬ ‫ة‬ ‫ّي‬ ‫ل‬ ‫والك‬ ‫العمق‬ ‫إلى‬ ‫يســعى‬ ‫إنه امتالء‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫مكتظة‬ ‫مراوغــ ًا يقين الشــعر والحياة‪ ،‬في «لطشــات» شــعرية ّ‬ ‫باألســئلة والدالالت‪« :‬أنا اللون الثامن فــي قوس قزح»‪« ،‬خلقت‬ ‫من نفسي كهرباء نفسي»‪« ،‬أنا النار‪ ،‬والشعر لحمي‪ ..‬أنا الطين‬ ‫والشــعر فأســي»‪ ..‬وغيرها من التوقيعات الشــعرية الخاطفة‪،‬‬ ‫بشارة ووعدًا بشاعر استثنائي‪.‬‬ ‫حاملة‬ ‫ً‬ ‫حي ًا ومدهش ًا‬ ‫ا‬ ‫مزج‬ ‫قنديل‬ ‫علي‬ ‫م‬ ‫قد‬ ‫المباغت‪،‬‬ ‫االنخطاف‬ ‫هذا‬ ‫ورغم‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫لجدل الذاكرة والحلم‪ ،‬وجعلهما يوثِّقان لحياة أليفة‪ ،‬تسعى ألن‬ ‫مجرد حزمة‬ ‫تتكامل في القصيدة‪ ،‬وخارجها أيضاً‪ .‬فالخارج ليس َّ‬ ‫مــن الذكريات والوقائع والمشــاهد التي تحيط بحياتنا‪ ،‬إنّما هو‬ ‫بح ّب‪،‬‬ ‫بــؤرة لحياة داخلية‪ ،‬علينا أن ننصــت لهديرها وصخبها ُ‬ ‫فطري‬ ‫الحرّية‪ ،‬ويقفز‪ ،‬بوعي‬ ‫ألنه في هذا الداخل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتشــكل جســد ّ‬ ‫وتلقائي‪ ،‬في القصيدة‪ ،‬كطفل‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ظل يسائل اليقين‪ ،‬يقين الشعر والحياة‪،‬‬ ‫بروح من هذه الطفولة‪ّ ،‬‬ ‫ويعيد تقليب هوامشه وظالله وأقنعته في قصائده‪ ،‬ليس كمطلق‬ ‫وجــود بالمعنى الفلســفي فحســب‪ ،‬بل كشــجرة للحلــم واللغة‬ ‫‪82‬‬

‫والخرافة‪ ،‬إنه يقينه هو‪ ،‬فالوجود لعبة يقين‪ ،‬والشــعر كذلك‪،‬‬ ‫كل لحظة‪ ،‬طالما‬ ‫ال لالمتالء في ّ‬ ‫وســيظل هذا اليقين ناقصاً‪ ،‬قاب ً‬ ‫ّ‬ ‫لدينا المقدرة على امتالك األشــياء ونســيانها‪ ،‬في الوقت نفسه‪.‬‬ ‫ويتلــوى خلفــه‪ ،‬كطالب لم يبــرح‪ ،‬بعد‪،‬‬ ‫إنــه ظلّــه الــذي يعرج‬ ‫ّ‬ ‫حرة بهذا اليقين‬ ‫إرادة‬ ‫يمتلــك‬ ‫لم‬ ‫الطب‪،‬‬ ‫ة‬ ‫ّي‬ ‫قاعــات الدرس في كلّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المحفوف‪ ،‬دوماً‪ ،‬بالشــك‪ ،‬وبالهزء األسود‪ ،‬الذي يصل إلى َحّد‬ ‫الشعور باالغتراب‪ ،‬مثلما يقول‪:‬‬

‫ّ‬ ‫أشــك في المجهــول‪ ،‬في المقاهــي‪ ،‬أتيليه الفنون‪،‬‬

‫فــي الفاكهة ورائحة الشــواء‪ ،‬فــي الحديد الصلب‬

‫والمطــاوع‪ ...‬في ملوحة البحــار وجمال نهر النيل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أشــك في‬ ‫وفي القطارات التي تأتي والتي ال تأتي‪.‬‬ ‫اليقين‪ ..‬في حساب السنين‪.‬‬

‫ّ‬ ‫الشــك واليقين علــى نوع من‬ ‫تنطــوي هــذا المراوحة بين مرايا‬ ‫التحفُّــظ الذهنــي والتحفُّظ الشــعري علــى وجود هذه األشــياء‬ ‫والعناصر‪ ،‬وطبيعة صورتها المعيشــة في الواقــع‪ ،‬وتواترها‬ ‫كنقطــة جــذب أو عالمــة‪ ،‬أو مســوح لقربان ما‪ ،‬على البشــر أن‬ ‫يؤكده الشــاعر‪ ،‬في جرعة‬ ‫يســتظلّوا بظله أو يذوبوا فيه‪ .‬إن ما ِّ‬ ‫ّ‬ ‫المتمرد فحسب‪،‬‬ ‫المعارض‬ ‫مجرد إبراز الصوت‬ ‫ِّ‬ ‫الشك هذه‪ ،‬ليس َّ‬ ‫يقدم نفسه قربان ًا ألحد؛ حسبه‬ ‫بل ِّ‬ ‫يؤكد حقيقة مفادها أن الشعر ال ِّ‬ ‫أنه يملك المقدرة على الطرق والنبش في حقائق الحياة للبحث‬ ‫والحرّية في العالم‪ .‬وعلى ذلك‪،‬‬ ‫عن نواة مركزية لفعــل الجمال‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ضمنياً‪ -‬محاولة‬ ‫يعكس‪-‬‬ ‫قنديل‪،‬‬ ‫على‬ ‫بالشك‪ ،‬في شعر‬ ‫فالتلويح‬ ‫ّ‬


‫يظــل بديل القبح هو القبح‬ ‫للوصــول إلــى هذه النواة‪ ،‬حتى ال ّ‬ ‫نفسه؛ حتى يمكن للشاعر أن يرى الكون واألشياء كما يريد لها‪،‬‬ ‫غض‪،‬‬ ‫ويبغي أن تكون‪ ،‬كما يلمسها‬ ‫ويحسها تحت قشرة وعي ّ‬ ‫ّ‬ ‫يــدرك ثقــل األمانة ومســؤولية الكالم؛ لذلك يطلق ســؤاله من‬ ‫والعام‪،‬‬ ‫الخاص‬ ‫موحدًا ما بين‬ ‫ّ‬ ‫زوايا إدراك واشتباك ِّ‬ ‫متنوعة‪ِّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫وكأنه يخاطب شيئاً‪ ،‬كلّما َعَرفه َجهِله‪:‬‬

‫حملتني ثقل هذه األمانة‪ /:‬الطب والشعر والكهانة‪/‬‬ ‫ّ‬ ‫محبة تلك أم خيانة ؟!‪.‬‬ ‫ّ‬

‫متقــدة‪ ،‬ففي أغلب نصوص‬ ‫تمت َع علي قنديل ببصيرة شــعرية َّ‬ ‫َّ‬ ‫الديــوان تنهض بجوار جمالية الســؤال‪ ،‬جماليــة المعرفة‪ ،‬كما‬ ‫شــيقة بين إيقــاع التفعيلة متنــاً‪ ،‬وإيقاع‬ ‫تبــرز عالقة تضايف ِّ‬ ‫تتنوع هذه العالقة في غاللة أسلوبية وتعبيرية‪،‬‬ ‫النثر هامشاً‪َّ .‬‬ ‫والتوتر الدرامي‪ ،‬حتى وهي تعتصر‬ ‫مســكونة بالحوار والقلق‬ ‫ُّ‬ ‫بكل تمثُّالتها‪ :‬الحديثة‪ ،‬والقديمة‪ ،‬في‬ ‫أقصــى طاقات الغنائية‪ّ ،‬‬ ‫بحيوية‪،‬‬ ‫بنية الشــعر العربي؛ حيث تنفتح نصوص الديوان‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫على حدوسات معرفية شّتى‪ ،‬يتالقح فيها الماضي بالحاضر‪،‬‬ ‫واألسطورة بالواقع‪.‬‬ ‫وبوعي عميــق بطبيعة هذا التالقح‪ ،‬عجن علي قنديل تركيبته‬ ‫التنوع داخل الوحدة‪ ،‬أو‪-‬‬ ‫الشعرية‬ ‫ّ‬ ‫الخاصة‪ ،‬والتي تنهض على ُّ‬ ‫وتتجسد هذه التركيبية في‬ ‫د‪،‬‬ ‫بالمتعد‬ ‫الواحد‬ ‫عالقة‬ ‫آخر‪-‬‬ ‫بمعنى‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫شعره‪ ،‬وتتنامى‪ ،‬درامي ًا وشعرياً‪ ،‬من خالل سعي دائم لخلق‬ ‫حالة من األلفة بين أشّد األشياء تناهي ًا في الكبر‪ ،‬وأشّدها تناهي ًا‬ ‫في الصغر‪ ،‬بين توقيعة شــعرية خاطفة‪ ،‬وبناء شعري مكثَّف‬ ‫وتعدد السطوح والمنظور‪ ،‬وتكثيف حقول‬ ‫يتســم بالصرحية‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬

‫الكبيرتْين‪« :‬الحلم يطلع‬ ‫قصيدتْيه‬ ‫الداللــة والرموز‪ ،‬مثلما في‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫من الشرق»‪ ،‬و«القاهرة»‪.‬‬ ‫في القصيــدة األولى‪ ،‬بجزئيها‪« :‬العصافيــر الطليقة وثيقة»‪،‬‬ ‫و«كونشــرتو اإلمــكان والعصافيــر الطليقــة»‪ ،‬يطالعنــا‪ ،‬منذ‬ ‫فضاء‬ ‫الح ّي بين فعل التحليــق‪ ،‬بوصفه‬ ‫ً‬ ‫البدايــة‪ ،‬هذا الربــط َ‬ ‫الحرّية نفسها‪ ،‬وبين األسطورة‪،‬‬ ‫خصب ًا ونواة أساسية لفكرة ّ‬ ‫مطلقــ ًا للصعــود‪ّ ،‬‬ ‫والعَقد الســميكة‪ ،‬في‬ ‫الفواصل‬ ‫تنفك فيــه‬ ‫ُ‬ ‫الزمن وفي األشياء‪ ،‬وفي الجسد والروح‪ ..‬ومن ثم‪ ،‬تستبطن‬ ‫الحواس‬ ‫قصة الوجود الذي ينهض من تحت قشــرة‬ ‫القصيــدة ّ‬ ‫ّ‬ ‫والحلم‪ ،‬مفتوحــ ًا على العتمة والنور‪ ،‬علــى الخرافة ومتاهة‬ ‫ّ‬ ‫الشك واليقين‪ ،‬وهو ما يطالعنا على النحو اآلتي‪:‬‬

‫كان عدم‪ ،‬وكانت ظلمة‬

‫ولم يترك السابقون شمع ًة وال رجاء‪،‬‬

‫وكان بي ج ّن ٌّي يصحو‬ ‫تشعبت ِحبا ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ال‬ ‫مددت أغصان ًا كثيرة ًم ّني‪..‬‬ ‫وخي ٍ‬ ‫ات يابس ًة كحفن ٍة من الرمل‬ ‫ِّ‬

‫ُ‬ ‫مكرت‪ ،‬واستدرجت كتلة من‬ ‫حياء الميت‬ ‫وبال‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫وصرت ألتهمهــا‪ ،‬وأبحث فيها عن‬ ‫هــام الحياة‪،‬‬ ‫ثقب‬ ‫ٍ‬ ‫يخفيني‪.‬‬

‫‪83‬‬


‫إن األسطورة تدخل في اللغة‪ ،‬وتتناسل في جسد القصيدة كفعل‬ ‫وتتنوع أشــكالها ومصادرهــا ومحموالتها التراثية في‬ ‫تحرير‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫خاص‪،‬‬ ‫الديوان‪ ،‬ما بين األســاطير المصرية القديمة‪ ،‬على نحو ّ‬ ‫عام‪ ،‬وتتفاعل‪ ،‬جمالي ًا‬ ‫ونظائرها في التراث اإلنســاني‪ ،‬بشكل ّ‬ ‫وســيكولوجيا‪ ،‬في النصوص‪ ،‬وكأنها رنيــن أليف لصوت ما‪،‬‬ ‫حرّية‬ ‫حرّية الشعر واللغة والحلم‪ ،‬بل ّ‬ ‫الحرّية‪ّ ،‬‬ ‫كأنها تمرين على ّ‬ ‫األســطورة نفســها‪ ..‬حتى نصل إلى نوع من التماهي بين الذات‬ ‫يشــكل اآلخــر‪ ،‬ويفيض عنه‪،‬‬ ‫الشــاعرة وموضوعهــا؛ فكالهما‬ ‫ِّ‬ ‫تتحرك‬ ‫أن‬ ‫قبــل‬ ‫الداخل‪،‬‬ ‫في‬ ‫الحميم‬ ‫ال نوع ًا من التعايــش‬ ‫مشــك ً‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫خميــرة هذا التعايش وثماره على الســطح‪ ،‬في شــكل صورة‪،‬‬ ‫كل هذا‬ ‫أو مشهد‪ ،‬أو حالة شعرية‪ ،‬أو صوت مسكون بهواجس ّ‬ ‫المزيج‪ ..‬يتابع الشاعر‪:‬‬

‫رعدة جعلتني مشتع ً‬ ‫ال كقلب ندفة من الثلج‬ ‫وكان الصدى يأتيني من أركان األرض‪:‬‬ ‫خلقت من نفسي كهرباء نفسي‬

‫خلقت من نفسي نفسي‬

‫وجاءت األشياء التي أسماؤها عندي‪:‬‬ ‫«أنهار ًا‬ ‫وشموس ًا‬ ‫وترب ًة‬

‫وغنا ًء‬ ‫أمّا األ ّيام فقد كانت تنحني ألعبر فوقها‬ ‫وبي ج ّن ًّي آخر يصحو‬ ‫يدفعني‬

‫من سما ٍء‬ ‫إلى سماء»‪.‬‬ ‫على عكس اللعب مع األسطورة‪ ،‬المفتوح‪ ،‬بألفة وحيوية‪ ،‬على‬ ‫‪84‬‬

‫المجهــول وطزاجة الغرابة‪ ،‬وبصخب شــعري‪ ،‬تكاد تســمع فيه‬ ‫دبيب المدينة‪ ،‬وصدى خطوات البشــر والشوارع واألزقّة المثقلة‬ ‫بانكسارات األحالم واألمنيات‪ ،‬على شّتى المستويات‪ :‬سياسياً‪،‬‬ ‫واجتماعياً‪ ،‬وثقافياً‪ ،‬ونفســياً‪ ،‬يواجه الشــاعر مدينته عاري ًا من‬ ‫كل نوازع الخوف أو الســكينة المخادعة‪ ،‬فالقاهرة كتلة شرســة‬ ‫ّ‬ ‫بأي وجود حقيقي لإلنســانية‬ ‫مــن الدخان والعواء‪ ،‬ال عالقة لها ّ‬ ‫الخالصة‪ .‬إن منطق الشــعر‪ ،‬هنا‪ ،‬منطق المستقبل‪ ،‬منطق ملء‬ ‫ال‬ ‫فراغ فاسد في التاريخ والبشر واألشياء‪ ،‬حتى يصبحوا جزءًا نبي ً‬ ‫من حياتنــا وطرائق تفكيرنا‪ ..‬فال غرو‪ -‬إذن‪ -‬أن يخاطب مدينته‬ ‫التهكم والسخرية‪ ،‬في‬ ‫باسمها‪ ،‬مغامرًا بأقصى ما تملك اللغة من ُّ‬ ‫تصوير فضائها المتناقض الفسيح‪ ،‬على هذا النحو‪:‬‬

‫القاهرة‪ :‬دخان يقترب‪ ،‬سماء‬

‫مدرجة في قائمة األعمال‪ .‬وفيما بين‬

‫الحلم ومائدة اإلفطار‪ ،‬توابيت‬

‫تتناسل‪ ،‬فطر يتكاثر‪ ،‬والساعة‪،‬‬

‫في عكس إيقاعات القلب‪ّ ،‬‬ ‫تدق‬ ‫متعرجة‪ ،‬تتقاطع وتتداخل وتتجاور‬ ‫تمضي القصيدة في خطوط‬ ‫ِّ‬ ‫لكن ما تريد‬ ‫الحادة‪ ،‬ذهني ًا وعاطفياً‪ّ ،‬‬ ‫في سيل جارف من الصورة ّ‬ ‫حمى االنهيارات التي ترصدها‪ ،‬داخلي ًا وخارجياً‪،‬‬ ‫أن ِّ‬ ‫تؤكــده في ّ‬ ‫بالحرّية والعدل‬ ‫الحلم‬ ‫ببقــاء‬ ‫مرهون‬ ‫الحياة‬ ‫في‬ ‫الشــاعر‬ ‫بقاء‬ ‫أن‬ ‫ّ‬ ‫والجمــال؛ لذلــك ال تراهــن القصيــدة على هــذه الكتلة الشرســة‬ ‫المتهتكــة‪ ،‬إنمــا على وطن واضــح كالحلم والحقيقــة‪ ،‬وطن له‬ ‫ِّ‬ ‫الخاصة‪ ،‬والتي تشــير إليها في «لطشــتها» األخيرة‪،‬‬ ‫صيرورته‬ ‫ّ‬ ‫وكأن هذه الصيرورة هي يقين الشاعر والشعر معاً‪:‬‬

‫ال القاهرة تبقى قاهرة‪ ..‬وال الدلتا دلتا‪ ..‬وال الشــاعر‬ ‫مسجون ًا في لسانه‪.‬‬


‫المحبون ال يخرجون من قلوبهم؛ فال كون سواها‪ .‬لهم أن يغيبوا فنغيب‬ ‫ُمعّدة قلوبهم للبقاء والسفر‪ ..‬وحدهم‬ ‫ّ‬ ‫معهم‪ ،‬ولهم ّأل يفارقوا عيوننا كاألحالم‪ ..‬مضاءة سفن القلوب للعابرين‪ ..‬والعائدين إلى دقّاتهم‪ ..‬هكذا‪ ،‬يبقى‬ ‫الشعر يمنح قلبه لمن يملكه فيصيران جسدًا واحداً‪ ..‬وروح ًا واحدة‪ ..‬يخلدون ألن الشعر ال يموت‪.‬‬

‫الحالم الذي غلب الزمن‬ ‫عيل الدكروري‬ ‫نسبية الزمن‪ ،‬وتتجلّى في وقت قصير‪ .‬ولكن ينجز‬ ‫ربما تبقى‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الحلم فيه ما لم ينجزه الزمن‪ .‬ماذا فعل بنا الحلم الذي استخدم‬ ‫مر‬ ‫اســم ًا مســتعاراً‪ ،‬بينما هو هذا الشاعر الجميل األنيق‪ ،‬الذي ّ‬ ‫هــزت النهــار‪ ..‬ليغيب كغياب‬ ‫ســريع ًا ليبقــى‪ ،‬دائمــاً‪ ،‬ومضة ّ‬ ‫كالحب‪.‬‬ ‫المتصوفة‪ ،‬ويبقى‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫المحبة‪ ،‬ولم‬ ‫فــي‬ ‫غــاب‬ ‫الذي‬ ‫المصــري‬ ‫قنديل‪..‬‬ ‫يوســف‬ ‫علــي‬ ‫ّ‬ ‫يتجاوز الثانية والعشــرين من العمر‪ ،‬ابــن قرية الخادمية في‬ ‫كفــر الشــيخ‪ ،‬والذي تــرك ديوان ًا وحيداً‪ ،‬وكأنــه كان يعرف‪،‬‬ ‫وأرقَّها‪ ..‬حمــل هموم التســاؤل‬ ‫فوضــع فيــه أجمــل القصائــد َ‬ ‫ومحاولة ّ‬ ‫المهمة‪،‬‬ ‫فك شــيفرات الوجود‪ .‬وهو صاحب التجربة ّ‬ ‫ربمــا‪ -‬الرائــدة فــي قصيــدة النثر‪ ،‬فــي جيل الســبعينات‪،‬‬ ‫و‪َّ -‬‬ ‫وســط عمالقة البوح‪ :‬حلمي سالم‪ ،‬وحسن طلب‪ ،‬وعبدالمنعم‬ ‫متفوق ًا طوال‬ ‫الطب الــذي َظّل‬ ‫رمضــان‪ ،‬وغيرهم‪ ..‬وهو طالب ّ‬ ‫ِّ‬ ‫كأي حلم جميل‬ ‫ً‪،‬‬ ‫ا‬ ‫دائم‬ ‫ة‬ ‫القم‬ ‫ّ‬ ‫مصرًا علــى ّ‬ ‫دراســته‪ ،‬وكأنه كان ّ‬ ‫ووحيد‪.‬‬ ‫هــزم الحروف‪ ،‬فســرقه الغيــاب‪ ..‬وهو الذي حمــل البالد بين‬ ‫ضلوعه‪ ،‬بهمومها وأحالمها وغربتها‪:‬‬

‫وفي ّ‬ ‫كل بيت بمنفى أنا‬ ‫ِي ّ‬ ‫كل البيوت‬ ‫ومنفية ف َّ‬ ‫ّ‬

‫فإن غلبتني الحروف سأحيا‪،‬‬

‫وإن أنا غلبتها سأموت‪.‬‬

‫كان يعلــم أن انتصــاره على الحروف له ضريبة باهظة ورغم‬ ‫ذلــك لم يتراجع‪ ،‬وحمل دقّاته كفارس جديد ومغاير‪ ..‬لينتصر‬ ‫على دقات الحروف‪ ،‬ويسبي دهشتنا‪.‬‬ ‫صدر له‪ ،‬بعد وفاته‪ ،‬ديوانه الوحيد عن مكتبة األســرة‪ ،‬وهو‬ ‫ديــوان «كائنــات علي قنديل الطالعة»‪ ،‬وقّدم له الشــاعر محمد‬ ‫ال‬ ‫عفيفي مطر الذي قال عنه‪« :‬إن ميالده كان بشارة ووعدًا مثق ً‬ ‫الخلقة‪ ،‬وكان مصرعه شهادة كاملة‬ ‫باالحتماالت والتفجيرات ّ‬ ‫تنبأ به»‪.‬‬ ‫ال ّ‬ ‫وتحقّق ًا مذه ً‬ ‫لكل ما َّ‬ ‫كل قصائده‬ ‫شعرية‬ ‫ا‬ ‫صور‬ ‫قنديل‬ ‫صنع علي‬ ‫ً‬ ‫خاص ًة وِبْكراً‪ .‬في ّ‬ ‫ّ‬ ‫رؤية وصور ولغة‪ ،‬فهو الشعر ذاته‪ ،‬وقد ذاب فيه‪:‬‬ ‫‪85‬‬


‫أنا الشعر والشعر ياقوتتي األنثوية‬ ‫هل الكون يعلم أني ُأغ ّني‬ ‫آلخر ما بعثرته الب ّر ّية‬

‫ويبدو هذا الذوبان في الشــعر وامتزاجهما معاً‪ ،‬حيث ال يرتوي‬ ‫المحبون‪ ..‬وحاالت العشــق التي ال تهدأ بالقرب‪ ،‬وال بالغياب‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫النبضان ليصنعا مع ًا هذا‬ ‫تلــك النيران التي تكبر كلَّما تالصــق ْ‬ ‫البهاء الجديد‪ ،‬واالحتراق شوقاً‪:‬‬

‫أنا النار‬

‫والشعر لحمي‬ ‫حمالة للحطب‬ ‫وكفّ اي ّ‬

‫تلك الصورة المدهشة‪ ،‬والفناء المغاير‪ ،‬والذي يخلد ألنه يصنع‬ ‫وسماء وأشجارًا توازي الكون الذي اختاره‪:‬‬ ‫بالدًا وأرض ًا‬ ‫ً‬

‫أنا الطين‬

‫والشعر فأسي‬

‫تزاوجني بالسماء الرهيب‪،‬‬

‫فيزهر في اخضرار الدموع‬ ‫قمة‬ ‫ويبــدو علي قنديل‪ ،‬وقــد وصل بجذوره إلى التــراث حتى ّ‬ ‫المســتقبل‪ ،‬ولم تخــرج منه أصالة الريــف‪ ..‬وخضرة األرض‪،‬‬ ‫واالنتماء‪ ،‬والقمح‪ ،‬والحقول‪:‬‬

‫علي‬ ‫ال َت َس ْل عن ٍ ّ‬ ‫فقد دحرجته خيول المساء‬

‫إلى أخر القمح والفول‪ ،‬حين تساقط حقل السماء‬ ‫وأخفي الصغار‬

‫وهم يصنعون العشاء‬ ‫دور المحبين واألنبياء‪.‬‬ ‫يؤدون‬ ‫تمام ًا‪ّ :‬‬ ‫ّ‬

‫لم يترك علي قنديل الصورة الشعرية ّإل بعد أن سلّمها للقارئ‪،‬‬ ‫تارك ًا فيها مســاحة الكتمال الدهشة‪ .‬كان يسرق القارئ بالصور‬ ‫المتالحقــة‪ ،‬والبوح الالنهائي‪ ،‬وكأن براعته في التقاط الصور‬ ‫خاصة‪ ،‬ال يمتلكها أحد سواه‪ .‬كان علي قنديل‪،‬‬ ‫كانت بعدسات ّ‬ ‫المتأمل‪ ،‬ينتقل كفراشة بين زهور‪:‬‬ ‫الصوفي‬ ‫ِّ‬ ‫‪86‬‬

‫هناك أحجام ثقيلة‬ ‫من وقع الخطى‬

‫والعيون والمصائد واألنهار‬ ‫التي ال تنزل م ّرتين‬

‫وأطفال هناك‪ ،‬حيث الجبال التي تنمو من أعلى‪،‬‬

‫وحيث زهور لم تقف عليها‬ ‫فراشة بعد‪.‬‬

‫مساحات كان قنديل ُيبقيها وكأنه يشارك بها القارئ في كتابة‬ ‫التفرد في غــزل اللّغة فكانت قصيدته ال تهدأ‬ ‫أصر على‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫النــص‪ّ .‬‬ ‫وال تســكن إلى نهاية‪ ،‬وكان فــي صنيعه هذا مثل قلبه الذي لم‬ ‫حب ًا مغايراً‪:‬‬ ‫يقبل ّإل أن ّ‬ ‫يحب ّ‬

‫ّ‬ ‫لكل قارئ قراءة‬ ‫تأتي‬ ‫ّ‬ ‫وكل مبصر تأتيه شمعة مضاءة‪.‬‬

‫أباح الحب‪ ..‬ملكه السماء‪،‬‬ ‫ومن‬ ‫ّ‬

‫تطه َر بالدمع أشعل الفضاء‬ ‫ومن َّ‬ ‫إن الذي أعنيه قادم‪ ،‬ال ريب‬

‫قادم وقت اإلدانة والبراءة‬ ‫أو يقول‪:‬‬

‫أحبك‪.‬‬ ‫ّ‬

‫وأنت على لوحة الغيب‬

‫سطر‬

‫تغيبه األبخرة‬ ‫َّ‬

‫وأقسم أنك لي ترقدين‪،‬‬ ‫كأسطورة في خالياي‪،‬‬ ‫أو تقرأين الجريدة‪.‬‬

‫يأتي إلى األذن صوتك‬ ‫يشبه أخر قطرات مطر‬

‫على النافذة‪.‬‬


‫َ‬ ‫«علِى»‬ ‫ال َت َسل َعن َ‬ ‫فَقَ د َدح َر َجته ُخ ُي ُ‬ ‫ المساء‬ ‫ول‬ ‫َ‬ ‫آخرِ القَ مح و ُ‬ ‫َالفول‬ ‫إ َلى ِ‬ ‫اقط َح ُ‬ ‫ين َت َس َ‬ ‫ الس َماء‪،‬‬ ‫ِح َ‬ ‫قل َّ‬ ‫َوأخفَ‬ ‫ون الع َشاء‬ ‫وهم يَص َن ُع‬ ‫ى الص َغا َر ُ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫ المحبين وَاألنبِ َياء‪.‬‬ ‫َت َمام ًا‪ُ :‬ي َؤ ُّدون َدو َر‬ ‫ِّ‬

‫ ‬

‫ ‬

‫ ‬

‫ ‬

‫ع‪ .‬ق‪.‬‬

‫ومضة هاربة إىل املستحيل‬ ‫رفعت سـالَّم‬ ‫لم ينشــر علي قنديل شــيئ ًا من قصائده خــال حياته‪ ،‬ولم يكن‬ ‫معروفاً‪ ،‬بوصفه شاعراً‪ ،‬سوى لبضعة أشخاص‪ .‬وبعد رحيله‪،‬‬ ‫(كنت أقضي آنذاك فترة خدمتي العســكرية‬ ‫الــذي فاجأ أصدقاءه ُ‬ ‫تخرجي في جامعة القاهرة)‪َ ،‬حَمل الشاعر حلمي‬ ‫في سيناء‪ ،‬بعد ُّ‬ ‫ســالم (وكان األقرب إلى الشــاعر الراحل ِمن بين ما سيصبحون‬ ‫مسؤولية المحافظة على تراثه‬ ‫«شعراء السبعينيات) على عاتقه‬ ‫ّ‬ ‫الشعري؛ قام بتجميعه‪ ،‬وحرص على نشره تحت عنوان «كائنات‬ ‫علــي قنديــل الطالعة»‪ ،‬فــي طبعة أولى‪ ،‬بتقديــم لمحمد عفيفي‬ ‫مطــر‪ ،‬ثم في طبعة ثانيــة‪ ،‬بعنوان «اآلثار الشــعرية الكاملة»‪،‬‬ ‫شــعرية ونقدية‬ ‫بدون تقديم عفيفي مطر‪ ،‬ليواصل إعداد ملفّات‬ ‫ّ‬ ‫وعربياً‪ ،‬كلّما أتيحت له الفرصة‪.‬‬ ‫مصري ًا‬ ‫عنه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتســع الوقت لعلي قنديــل‪ ،‬ابن قرية «الخادميــة»‪ ،‬التابعة‬ ‫فلــم َّ‬ ‫لمدينــة كفــر الشــيخ (‪ 22‬ســنة‪ 5 :‬إبريل‪/‬نيســان‪17 - 1953 ،‬‬ ‫ليقــدم افتتاحيــة شــعره‪ ،‬ومســيرته‬ ‫يوليو‪/‬تمــوز‪ )1975 ،‬إال‬ ‫ِّ‬ ‫المؤسســة‪،‬‬ ‫اإلبداعية الالحقة؛ افتتاحية تكشــف عن المرتكزات‬ ‫ِّ‬ ‫والتوجهات المستهدفة‪ ،‬والطاقات الكامنة فيما قبل التحقّق الذي‬ ‫ُّ‬ ‫دوى ِمن َأن ُنبِلي‬ ‫ج‬ ‫ال‬ ‫«‬ ‫ً‪:‬‬ ‫ا‬ ‫ر‬ ‫مبك‬ ‫أعلن‬ ‫قد‬ ‫رامبو‬ ‫كان‬ ‫فإذا‬ ‫ّق‪.‬‬ ‫ق‬ ‫يتح‬ ‫لم‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اسة‪ ،‬اللَّعَنة!»‪ ،‬فقد استهلك علي قنديل‬ ‫ر‬ ‫الد‬ ‫ك‬ ‫ك‬ ‫د‬ ‫ى‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫يل‬ ‫او‬ ‫ر‬ ‫الس‬ ‫َّ َ ِ َ َ َ َ‬ ‫ِّ َ َ‬ ‫ّية الطب‪ ،‬دون أن يتبقّى للشعر‪ -‬والقراءة‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫محاضرات‬ ‫وقته في‬ ‫ّ‬ ‫عام ًة‪ -‬إال فائض الوقت؛ فلم يملك سوى تقديم «افتتاحية» لعمل‬ ‫َّ‬ ‫أوركسترالي واعد‪ ،‬لم ِ‬ ‫يأت‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫توجهه الشــعري في الخروج‬ ‫افتتاحيــة‪ ،‬يتجلّى فيها‪ ،‬واضحاً‪ُّ ،‬‬ ‫«الجذري» على السائد‪ ،‬المهيمن‪ ،‬البالي‪ ،‬إلى كتابة أخرى قادمة‪.‬‬ ‫ومرتكزات هذا الجيل القادم في تلك اللحظة السبعينية‪ ،‬النصف‬ ‫األول من السبعينيات (وفي القلب منهم علي قنديل)‪ ،‬واضحة ال‬ ‫َّ‬ ‫عامة‪ ،‬بل مرتكزات‬ ‫لبس فيهــا‪ ،‬رغم ُّ‬ ‫تعدديتها‪ .‬لم تكن مرتكزات ّ‬ ‫مــن «الدرجة الثانية» في الشــهرة والذيوع‪ :‬رامبو‪ ،‬محمد عفيفي‬

‫مطر‪ ،‬الكتابات الصوفية‪.‬‬ ‫ّأيام الهثة‪ ،‬وشــعراء طالعون شرهون يصارعون الوقت لتمثُّل‬ ‫وتخطيه في ٍ‬ ‫وقت‬ ‫منجز خمســة عشــر عام ًا من الشــعر «الجديد»‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫األول»‪ :‬عبد‬ ‫قياســي‪ .‬واالنبهــارات والتأثُّرات بشــعراء‬ ‫«الصــف َّ‬ ‫الصبــور‪ ،‬والســياب‪ ،‬وحجــازي‪ ..‬وغيرهــم‪ ،‬تتجلّــى لومضة‬ ‫محمومة‪ ،‬عن ُمغايرة‬ ‫تفتش‪،‬‬ ‫خاطفة‪ ،‬ثم‬ ‫ً‬ ‫تتالشــى‪ .‬والبصيرة ِّ‬ ‫َ‬ ‫«عام»‪ ،‬شــائع‪ ،‬فتجده‪ -‬آنذاك‪ -‬في هذه المصادر الثالثة؛‬ ‫ما هو ّ‬ ‫ربما‪ -‬تنتمي إلى أفق شــعري‬ ‫ثالثــة مصــادر ال تتناقض‪ ،‬بــل‪َّ -‬‬ ‫مشــترك‪ ،‬مركزه «الحدس» الشــعري ال المنطق‪ ،‬والالشــعور ال‬ ‫المؤسسة على «التداعي» ال على التراتبي‪.‬‬ ‫الشعور؛ والبنية‬ ‫َّ‬ ‫كان رامبــو يتقافــز‪ ،‬بيــن الحين والحيــن‪ ،‬في المقــاالت النقدية‬ ‫المتفاوتة‪ ،‬بال حضــور شــعري‪ ،‬إلى أن أســـعفنا الدكــتور عبد‬ ‫الغفّار مكاوي بكتابه الفريد «ثورة الشــعر الحديث» (كأنه أصدر‬ ‫الكتــاب من أجل ذلك الجيل الذي ُيقلِّب وجهه‪ ،‬في أزمنة الشــعر‬ ‫والشعراء‪ ،‬بحث ًا عن ِق ٍ‬ ‫بلة يرضاها)‪ :‬رؤية نافذة في تجربة رامبو‬ ‫مهمة من «إشراقات»‪ ،‬و«فصل‬ ‫الشعرية‪ ،‬وترجمة رفيعة لمقاطع ّ‬ ‫في الجحيم»‪.‬‬ ‫اري» الحميم لعفيفــي مطر‪ ،‬على‬ ‫«الحــو‬ ‫كان‬ ‫قنديل‬ ‫لكــن علــي‬ ‫َِ‬ ‫ومســتوى شــعري‪ .‬وأعمال عفيفي مطر‪،‬‬ ‫شــخصي‬ ‫مســتوى‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫(ابتداء من «من دفتر‬ ‫ظل «األعالم» الكبار‬ ‫آنذاك‪ ،‬تتوالــى‪ ،‬في ّ‬ ‫ً‬ ‫الصمــت»‪ ،1968 ،‬إلــى «شــهادة البــكاء فــي زمــن الضحك»‪،‬‬ ‫عصية على «االســتهالك» الشــعري الســريع‪،‬‬ ‫‪ ،)1973‬قصائد ّ‬ ‫بطوفــان مــن الصور الغريبة‪ ،‬الحوشــية‪ ،‬التــي يأخذ بعضها‬ ‫كل صورة توَلد‪،‬‬ ‫بخناق بعض‪ ،‬كأن الطوفان لن ينتهي‪ ..‬كأن ّ‬ ‫ولغة قادمــة من أعمــاق العربية‬ ‫ذاتيــاً‪ ،‬مــن رحــم ســابقتها‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫البدويــة‪ ،‬وخيال عــارم منفتح على أزمنة القمــع والمجاعات‬ ‫والصرخات األليمة‪.‬‬ ‫‪87‬‬


‫النثرية‬ ‫األدبية في النصوص‬ ‫الصوفية‬ ‫شعرية‬ ‫وهو زمن اكتشاف‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫شعرية النثر الصوفي‪،‬‬ ‫اكتشاف‬ ‫هو‬ ‫والسهروردي؛‬ ‫والحلج‬ ‫للنِّفَّري‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تتخطى اللغة‬ ‫لماهية النثر‪ ،‬بإشراقات وحدوس‬ ‫وأعماقه المفارقة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والمجاز المباح المتاح‪ ،‬حتى في الشعر السائد‪ ،‬آنذاك‪.‬‬ ‫ثالثة مرتكزات أساسية‪ ،‬ال لتأسيس افتتاحية علي قنديل الشعرية‬ ‫شــعري كامــل‪ ،‬في منتصف‬ ‫فحســب‪ ،‬بل‪ -‬أيضاً‪ -‬لتأســيس جيل‬ ‫ّ‬ ‫السبعينيات‪.‬‬ ‫اختلطــت‪ -‬فــي افتتاحيــة علي قنديــل الشــعرية‪ -‬نبــرات تقليدية‬ ‫واضحة بــارزة في كثير‬ ‫الشــعرية المفارقة‪ .‬فالقافية‬ ‫بحدوســاته‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫لشــعريته‪ ،‬و‪ -‬أيضاً‪-‬‬ ‫ا‬ ‫ركينــ‬ ‫ا‬ ‫أساســ‬ ‫القصائــد‪،‬‬ ‫أو‬ ‫المقاطــع‬ ‫مــن‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫اقتداء بتجربة عفيفي مطر وغيره من أعالم القصيدة‬ ‫(ربما‬ ‫التفعيلة َّ‬ ‫ً‬ ‫المصباح غاِئب‪َ /‬ال أهالً‪َ /‬ال‬ ‫و‬ ‫ار‪/‬‬ ‫الد‬ ‫شــرفات‬ ‫قفلة‬ ‫(م‬ ‫«التفعيلية»)‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫ُ َّ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫األســرار‪َ /‬م َعُهم‪َّ /‬‬ ‫إال‬ ‫اج‬ ‫أدر‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ح‬ ‫ر‬ ‫ب‪/‬‬ ‫تتجاذ‬ ‫ى‬ ‫وض‬ ‫وقد َنار‪َ /‬ال َف‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َم َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫وتقلقه ُنَق ُط ِ‬ ‫الماء السائب)‪.‬‬ ‫ام‪/‬‬ ‫ن‬ ‫مت‬ ‫ص ٌَ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫وال يتجلّــى التأثُّــر بشــعر عفيفــي مطــر فــي اســتعارة قاموســه‬ ‫اللفظي األثير والمهيمن فحســب (الكون‪ ،‬الطمي‪ ،‬القتيل‪ ،‬الغياب‪،‬‬ ‫السعف‪ ،‬التراب‪ ،‬الجوع‪ ،‬البراري‪/‬البرية‪ ،‬الفيضان‪،‬‬ ‫العواصف‪َّ ،‬‬ ‫النار‪ ،‬الشموس)‪ ،‬بل يمتّد إلى آلية بناء الصورة الشعرية الجزئية‬ ‫(حصان النار‪ ،‬غصون نار‪ُ ،‬تراب الوالدة‪ ،‬شــحوب القراءة‪ ،‬كتاب‬ ‫الحلم‪ ..)..‬وصو ًال إلى النظر إلى‬ ‫الطوالع‪ ،‬تراتيل الشفق‪ ،‬قوارب ُ‬ ‫ِ‬ ‫مجردة‪ ،‬تحيط‬ ‫نظرة شــمولية‬ ‫التســامي فوقه‪،‬‬ ‫العالم‪ ،‬من موقع‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وتحيل الكون والموجودات إلى أقانيم‬ ‫للوجود‪،‬‬ ‫األولى‬ ‫باألصــول‬ ‫ُ‬ ‫وتبهظه‪،‬‬ ‫أبدية‪ ،‬متعالية‪ ،‬تحكم‬ ‫الحضور اإلنساني في العالم ُ‬ ‫أزلية ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫فال يتبقّى أمامه سوى هوامش بالغة الضيق للحركة والفعل الذاتي‪.‬‬ ‫فريدة في‬ ‫وإزاء ذلك‪« ،‬األنا» الشعرية‪ ،‬لدى علي قنديل‪ -‬من َث َّم‪ -‬حالة‬ ‫ٌ‬ ‫النبوة الكامنة‪:‬‬ ‫أسمى من اإلنسانية العادية‪ ،‬تحمل شارات ّ‬ ‫كينونتها‪َ ،‬‬

‫مس التي‬ ‫َين‬ ‫ األرح ِ‬ ‫كون ب َ‬ ‫أن أ َ‬ ‫َ‬ ‫ام‪ :‬البذ َرة ُ‬ ‫َ الم َع َّذبةَ‪ ،‬وَالشَّ َ‬ ‫ْه الوالدة‪.‬‬ ‫َتغلِي‪ /،‬وال ُّنطفةَ التِي َت َنب ِثقُ بِ َما َلم َتعرِ ف‬ ‫َ‬ ‫‪88‬‬

‫العــراف‪ ،‬المتعالي‪ ،‬الذي يــرى ما ال يراه‬ ‫هــي «أنا» الشــاعر‪،...‬‬ ‫َّ‬ ‫شــعرية عفيفي‬ ‫مالمح‬ ‫أحد‬ ‫(ذلك‬ ‫الغيــب‬ ‫في‬ ‫اآلخــرون‪ ،‬مكنونــ ًا‬ ‫ّ‬ ‫وخاص ًة في دواوينه األولى)‪:‬‬ ‫مطر‪،‬‬ ‫ّ‬

‫ اليد‪ -‬يأتي‪ /‬ي ُ‬ ‫َقف‬ ‫كأص ِ‬ ‫أ َرى يومــ ًا ‪ُ -‬رب َ​َّما َقرِ يب ًا َ‬ ‫ابــع َ‬ ‫َثب ُ‬ ‫ــت ُك ّل ِذي َح ٍال على حاله‪/:‬‬ ‫ــم م ُ‬ ‫َ‬ ‫العا َل ُ‬ ‫َعصوف ًا‪َ ،‬وي ُ‬ ‫ الخائ ُِن‬ ‫اب َ‬ ‫يها َد ُم القَ تِيل‪ /،‬وَالكِ َت ُ‬ ‫َشه ُد َع َل َ‬ ‫الي ُد القَ ا ِت َل ُة ي َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َائح‬ ‫نحل َعن ُه َأح ُر ُفه‪ /‬وَالماءُ المغ َت َص ُب يَن َتف‬ ‫َت َ‬ ‫ِض‪ /،‬الذب ُ‬ ‫َالخ ُ‬ ‫ الج ِار َ‬ ‫َتس َتيق ُ‬ ‫ف‬ ‫وف ي ِ‬ ‫ِظ‪ /‬و َ‬ ‫َصي ُر ال َّت َّيا َر َ‬

‫(كأنه أحد نصوص عفيفي مطر!)‬ ‫مؤجل ال أكثر‪ ،‬متحقّق‬ ‫رؤية ليست بأمنية وال رجاء‪ ،‬بل هي يقين َّ‬ ‫بالقوة‪ ،‬كتبشير لتحقُّقه بالفعل‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫النصــوص األخيــرة لعلي قنديــل‪ ،‬التي تحيل‪ ،‬فــي عمقها‪ ،‬إلى‬ ‫نهائي ًا لقصيدة النثر؛ فالكثير من‬ ‫«إشراقات» رامبو‪ ،‬ليست اختيارًا ّ‬ ‫تفعيلية‪ ،‬وما يزال نمط الكتابة على الصفحة‬ ‫ســطورها ما تزال‬ ‫ّ‬ ‫التفعيلي السائد‪ ،‬ال نمط «إشراقات» رامبو ذات الشكل‬ ‫هو النمط‬ ‫ّ‬ ‫متقطعة‪ ،‬متتاليــة بال تواصل‪ ،‬فيما‬ ‫النثري‪ .‬والصور الشــعرية‬ ‫ِّ‬ ‫صي حاالت الذات يغلب على‬ ‫تغلــب الغنائية على الســردية‪َ ،‬‬ ‫وتَق ِّ‬ ‫تقصي حاالت العالم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫شعري محسوم‬ ‫ه‬ ‫توج‬ ‫ال‬ ‫يبدو‪،‬‬ ‫فيما‬ ‫‪،‬‬ ‫لي‬ ‫أو‬ ‫استكشــاف‬ ‫د‬ ‫مجر‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫هو َّ‬ ‫ّ ّ‬ ‫صوب «قصيدة النثر»‪ ،‬التي كانت‪ ،‬آنذاك‪ ،‬لدى الشعراء الطالعين‪،‬‬ ‫ويتلمس البعض‬ ‫شعري ًا غامضاً‪ ،‬لم ينتبه إليه البعض بعد‪،‬‬ ‫ال‬ ‫شك ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وآلياته‪،‬‬ ‫اآلخر الطريق إليه‪ ،‬شأن علي قنديل‪ ،‬الكتشاف حدوده‪ّ ،‬‬ ‫وإمكاناته اإلبداعية‪.‬‬ ‫ومبشــرة‪ ،‬وواعدة بشــاعر خرج على‬ ‫كانــت افتتاحية طموحة‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫خصوصية‪ ،‬تضرب في آفاق‪،‬‬ ‫الســائد والمهيمن‪ ،‬صوب قصيدة‬ ‫ّ‬ ‫لم يطأها شاعر من قبل‪.‬‬


‫لعب وجد‬

‫ستفانو بيني‬

‫سجناء السيارة‬ ‫تغيرت أشياء كثيرة في السنوات العشرين الماضية عند‬ ‫ّ‬ ‫اإليطاليين الذين يذهبون في إجازة‪ ،‬وقد َقّل عددهم أيضاً‪ .‬على‬ ‫تغيرت ثالثة أمور رئيسية‪ .‬األول هو المناخ‪ .‬فلم تعّد‬ ‫وجه التحديد ّ‬ ‫إيطاليا أرض الشمس‪ .‬ذلك أن الكارثة المناخية‪ ،‬والتي لم يفعل لها‬ ‫غيرت تمام ًا فصول السنة في شبه الجزيرة‪.‬‬ ‫أحد شيئ ًا ّإل القليل‪ ،‬قد ّ‬ ‫هذا العام‪ ،‬وطوال شهري مايو‪/‬أيار ويونيو‪/‬حزيران‪ ،‬كانت هناك‬ ‫عواصف رعدية وبرد وثلج وفيضانات وبحر هائج مائج‪ .‬وهكذا‬ ‫ظلّت أربعة أخماس السواحل اإليطالية خالية من السياح‪ .‬وراحت‬ ‫الرياح تعصف بشمسيات الشواطئ في مشهد سريالي‪ .‬وفي الخمس‬ ‫المتبقي من البالد‪ ،‬وخاصة في صقلية‪ ،‬زادت الحرارة أكثر من‬ ‫أربعين درجة‪ ،‬واشتعلت الحرائق تلتهم النباتات وتحاصر المدن‬ ‫المحيطة بها‪ .‬واستضافت القنوات التليفزيونية أصحاب الفنادق‬ ‫وكان من األولى استضافة المواطنين‪ ،‬الذين ُسِرَق ْت منهم ثروة‬ ‫كبيرة‪ .‬أما خبراء األرصاد الجوية المبتسمون‪ ،‬وهم غالب ًا ال فائدة‬ ‫لهم‪ ،‬فيقولون بصراحة إن علينا أن نعتاد على مناخ جديد أفرو‪-‬‬ ‫أوروبي قوامه هبات الحرارة غير المتوقعة واألعاصير‪ .‬ظللنا‬ ‫نحن (وغيرنا) نكتب عن هذا الخطر طيلة أربعين عاماً‪ .‬واآلن َحّل‬ ‫االنهيار‪ ،‬وال أحد يعرف كيفية إصالحه‪..‬‬ ‫قل في العالم‪،‬‬ ‫التغير الثاني هو الخوف‪ .‬سبعون بلدًا على ا َأل ّ‬ ‫ُّ‬ ‫وفق ًا لبيانات وزارة الخارجية اإليطالية‪ ،‬معرضة لخطر الهجمات‬ ‫اإلرهابية أو العنف‪ .‬وال نعرف ما إذا كان تحليل الوزارة جادًا أو‬ ‫غيروا وجهاتهم‪..‬‬ ‫سطحياً‪ ،‬ولكن الحقيقة أن أصحاب اإلجازات قد ّ‬ ‫إنني عندما سافرت إلى مصر‪ ،‬قبل ست سنوات‪ ،‬كانت القاهرة‬ ‫مليئة بالسياح واألهرامات مزدحمة‪ ،‬وعندما رأيت الصور األخيرة‬ ‫لها لم يكن بها أحد تقريباً‪ .‬والخوف ال يتعلّق فقط بالشرق األوسط‬ ‫ال‬ ‫أو إفريقيا‪ ،‬ولكن أيض ًا مدن أوروبية مثل باريس أو روما‪ ،‬فمث ً‬ ‫انخفض عدد الحجاج إلى الفاتيكان أربعين في المئة‪ .‬وأولئك الذين‬ ‫يسافرون بالطائرة‪ ،‬يعلمون أن الطيران أطول وأعقد عما كان‬ ‫عليه قبل بضع سنوات‪.‬‬ ‫حلم اإليطالي في قضاء اإلجازة هو الذهاب إلى مكان يمكن أن‬ ‫تأخذ فيه الهاتف المحمول‪ ،‬حيث يمكن مواصلة العمل به وباإلنترنت‬ ‫بد ًال من االسترخاء‪ .‬وحيث يجد على المائدة نفس المأكوالت التي‬ ‫يتناولها في البيت (في قائمة طعام بفندق في جزر سيشل وجدت‬ ‫بيتزا أكثر من التي يمكن أن تجدها في قائمة مطعم في نابولي)‪ .‬حيث‬ ‫يتعشم المسافر أن يلتقي بجماعة من مئة من أبناء وطنه‪ ،‬ومشاهدة‬

‫مباريات كرة القدم لمنتخبه القومي‪ ،‬ويستمع إلى األغاني التي كان‬ ‫يستمع إليها في المقهى أسفل بيته‪ .‬وفي أماكن مثل برشلونة أو‬ ‫بطرسبرغ نرى مكتوب ًا بشكل واضح‪« :‬فندق يرتاده زبائن إيطاليون‪،‬‬ ‫وطعام إيطالي‪ ،‬واستقبال قنوات التليفزيون اإليطالي»‪.‬‬ ‫وهناك فئة رابعة‪ .‬فئة اإلجازات «العضوية»‪ ،‬أولئك الذين‬ ‫ملوثة‪ ،‬وتناول أطعمة عضوية‪،‬‬ ‫يبحثون عن أماكن معزولة غير ّ‬ ‫التلوث‪ .‬بالتأكيد هناك العديد من األماكن الجميلة من‬ ‫بعيدًا عن ُّ‬ ‫هذا النوع في إيطاليا‪ .‬ولكن هناك أيض ًا عمليات نصب كبرى‪ .‬مثل‬ ‫البيوت الصغيرة في أومبريا وتوسكانا التي تكلف أضعاف تكلفة‬ ‫تحولت إلى مزارع بيئية‪.‬‬ ‫فندق خمس نجوم‪ ،‬أو فلل شديدة الثراء ّ‬ ‫وفي سردينيا توجد بعض الفنادق الصغيرة للمبيت واإلفطار من‬ ‫ال‬ ‫أجمل األماكن في أوروبا‪ ،‬ولكن احذر من اإلعالنات المضللة‪ .‬فمث ً‬ ‫يقولون «لحوم مزارعنا»‪ ،‬ولكن ال توجد ّأية مزارع في تلك األنحاء‪،‬‬ ‫إنما يأتون بها من المدينة مطهية‪ .‬ثم يكتبون «أسماك طازجة»‪،‬‬ ‫جمدة‪.‬‬ ‫ولكن البحر يبعد عشرين كيلومترًا ويأتون باألسماك ُم َّ‬ ‫ثم المدينة‪ .‬لدينا أروع مدن في العالم مثل روما وفلورنسا‬ ‫والبندقية وباليرمو وغيرها الكثير‪ .‬حتى هنا نتوقّع الكثير من‬ ‫الجمال‪ ،‬ولكن أيض ًا بسبب سوء األحوال الجوية‪ ،‬والزحام‪،‬‬ ‫واالرتباك‪ ،‬وصعوبات االنتقال (ركوب المترو في روما يعني‬ ‫تشل حركتك ِ‬ ‫لعّدة ساعات)‪ ،‬باإلضافة‬ ‫في كثير من األحيان أن ّ‬ ‫إلى أن األسعار في فترة األعياد تتضاعف في تلك المدن‪ .‬رأينا‬ ‫مطعم ًا في فينيسيا يغير القائمة السياحية من ‪ 40‬يورو إلى ‪80‬‬ ‫يورو في أسبوع واحد‪.‬‬ ‫ال خوف‪ .‬يكفي التسلُّح بالصبر والجلد‪ ،‬واالنطالق بالروح‬ ‫المناسبة‪ ،‬بشيء من الرغبة في المغامرة‪ ،‬وتغيير اإليقاع اليومي‬ ‫الالهث‪ ،‬وأن تترك وراء ظهرك األفكار النمطية الجاهزة مثل «الشمس‬ ‫كل شيء‬ ‫الدائمة‪ ،‬والبحر النظيف‪ ،‬والطعام الصحي»‪ .‬ربما يمضي ّ‬ ‫على مايرام‪ ،‬ولكن األفضل أن تستعد لتقبل بعض الصعوبات‬ ‫فكر في أولئك الذين لم يستطيعوا مبارحة البيت‪.‬‬ ‫واالستمتاع بها‪ِّ .‬‬ ‫فهناك ما يقرب من نصف اإليطاليين‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬ال يمكن‬ ‫لميزانيتهم أن تتحمل القيام بإجازة حقيقية‪ .‬وعلى الرغم من أنهم‬ ‫يقررون قضاء عطلة لمدة ثالثة أيام في منتصف شهر أغسطس‪/‬‬ ‫قد ّ‬ ‫آب‪ّ ،‬إل أنهم يظلون اثنتي عشرة ساعة محبوسين في سيارة على‬ ‫الطريق السريع‪ .‬إنها إجازة «سجناء السيارة»‪ ،‬وهي أسوأ أنواع‬ ‫اإلجازات التي نعرفها‪ ،‬ومع ذلك ال نستغني عنها‪.‬‬ ‫‪89‬‬


‫كتاب‬

‫فراغ املرحلة االنتقالية‬

‫د‪ .‬حسني محمود‬

‫كانــت اإلجــازة كلَّمــا أتــت فرحــت بهــا‬ ‫األيــام األخيرة‬ ‫فرحـ ًا شــديداً‪ ،‬وكنت أعـّد ّ‬ ‫فــي الدراســة واالمتحانــات إلــى أن يبــدأ‬ ‫موســم «الفــراغ»‪ .‬كان الفــراغ لذيــذًا فــي‬ ‫الطفولة‪ ،‬لكنه لم يعــد كذلك في الكهولة‬ ‫يحــب الفــراغ‪،‬‬ ‫والشــيخوخة؛ فالطفــل‬ ‫ّ‬ ‫والشــيخ يمقته؛ فهــو لدى الطفــل حياة‪،‬‬ ‫ولــدى الشــيخ مــوت‪ .‬ســألني رئيــس‬ ‫الجامعــة التــي أعمــل بهــا إن كنــت أنــوي‬ ‫القيــام باإلجــازة الصيفيــة‪ ،‬فأجبته‪« :‬ال‬ ‫تعجب وسألني‬ ‫طبعاً»‪ّ ،‬‬ ‫بكل ثقة ويقين‪َّ .‬‬ ‫ثم أطرق وقال‪« :‬معك حق»‪.‬‬ ‫عن السبب‪ّ ،‬‬ ‫عــرف اإلجابــة قبــل أن تصلــه‪ ،‬فهــو فــي‬ ‫القــارب نفســه‪ ،‬النجــاة فيــه تعنــي أن‬ ‫تنشــغل دائم ـاً‪.‬‬ ‫أهــم مــن‬ ‫اإلجــازة‬ ‫أن‬ ‫الحقيقــة‬ ‫لكــن‬ ‫ّ‬ ‫فــرح الطفــل وكــدر الشــيخ‪ ،‬ففيهــا هــذا‬ ‫العنصر الســحري الذي يعنــي «الفراغ»‪،‬‬ ‫فتــرة فارغــة يحلــو للبعــض أن يسـّـميها‬ ‫«مرحلــة انتقاليــة»‪ .‬فــي بعــض الــدول‬ ‫يسمون الشهادة الجامعية «إجازة‬ ‫العربية ّ‬ ‫جامعية»‪ ،‬وهي‪ -‬بالتأكيد‪ -‬ترجمة للكلمة‬ ‫الفرنسية «ليسانس»‪ ،‬ومعناها «رخصة»‪،‬‬ ‫والذي جعل اللفظان يلتقيــان هو اليقين‬ ‫ويتحمل‬ ‫يتحمل السماح‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الناقص‪ ،‬الذي ّ‬ ‫المنع بالقدر نفســه‪ ،‬وفي اإلجازة معنى‬ ‫النقــص الــذي يحتــاج إلــى ســلطة أعلــى‬ ‫‪90‬‬

‫«تجيــز»‪ ،‬أو تمنح هــذه اإلجازة‪ ،‬ســواء‬ ‫أكانــت درجــة علميــة أم كانــت بعضــاً‪،‬‬ ‫الزمن الفارغ الذي يخلو مــن االلتزامات‪.‬‬ ‫والحاصــل علــى اإلجــازة فــي حالــة‬ ‫انتظــار‪ ،‬فقــد أنهــى الدراســة‪ ،‬وينتظــر‬ ‫والموظــف الــذي يحصل‬ ‫فرصــة العمــل‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫أيام بال التزام‬ ‫على إجازة يقضى بضعة ّ‬ ‫«شــكلي» بالعمل‪ ،‬لكنه ال يتــرك التفكير‬ ‫حتــى يعــود إليــه‪ ،‬والطفــل يأخــذ إجازة‬ ‫مــن المدرســة لكــي يتعـ َّـرف إلــى الحيــاة‬

‫ربمــا‪ ،‬علــى‬ ‫الحقيقيــة خــارج الفصــول‪َّ ،‬‬ ‫شــاطئ البحــر‪ ،‬المــكان األثيــر لقضــاء‬ ‫اإلجــازات‪.‬‬ ‫األمــم‪ -‬أيض ـاً‪ -‬تحصــل علــى إجــازة‪:‬‬ ‫فترة ليــس فيهــا التزامــات محـ َّـددة‪ ،‬فيها‬ ‫يســميه البعــض‬ ‫ذلــك الفــراغ الــذي قــد‬ ‫ّ‬ ‫فوضــى أو انفالت ـاً‪ ،‬وال ب ـّد‪ ،‬بعدهــا‪ ،‬أن‬ ‫تعود إلى العمل والنظــام والجّدّية‪ .‬مثل‬ ‫ذلك هــي الفتــرات االنتقالية التــي تعقب‬ ‫الثورات والتي يسودها اللهو‪ ،‬والثرثرة‪،‬‬ ‫والطموحات غيــر البريئة‪ ،‬والطموحات‬ ‫التي ليس لها ســقف‪ ،‬للعودة إلى إيقاع‬ ‫الحيــاة الطبيعية‪.‬‬ ‫األمم الصغيرة مثل األطفال‪ ،‬ترفض‪-‬‬ ‫عــادة‪ -‬أن تنهــي اإلجــازة وتعــود إلــى‬ ‫ً‬ ‫ــة إذا كانــت حيــاة‬ ‫«المدرســة»‪،‬‬ ‫خاص ً‬ ‫ّ‬ ‫المدرســة قاســية‪ ،‬مثل مدارس الراهبات‬ ‫المشــهورات بالقســوة والالتــي يجعلــن‬ ‫التلميــذ «يصّلــي» رغمـ ًا عنــه‪ ،‬أو إذا كان‬ ‫ال غليظ القلب قاسياً‪،‬‬ ‫ناظر المدرسة رج ً‬ ‫تكــره أن تــراه أو أن تعيــش تحــت ظّلــه‪.‬‬ ‫يذكرنــي هــذا بروايــة شــهيرة لكاتبــة‬ ‫إيطالية عنوانها «اإلجــازة»‪ .‬الكاتبة هي‬ ‫داتشا ماراييني‪ ،‬وقد كتبتها عندما بلغت‬ ‫مــن العمــر ســبعة عشــر عام ـاً‪ .‬فــي ذلــك‬ ‫الوقــت‪َ ،‬ك َّونت هــي وزميالتهــا مجموعة‬ ‫أدبيــة مــن تلــك المجموعــات التــي تدفــع‬


‫تصورات فترة المراهقة عن الحياة‬ ‫إليها‬ ‫ُّ‬ ‫فكرت داتشا ماراييني أن تكتب‬ ‫المثالية‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫موضوع ًا عن «اإلجــازة» للمجلة التابعة‬ ‫حولــت الفكرة لكي‬ ‫لتلك المجموعــة‪ ،‬ثم َّ‬ ‫اتسعت‬ ‫قصة قصيرة‪ ،‬لكن الفكرة َّ‬ ‫تصبح ّ‬ ‫في الكتابــة حتى خرجــت مــن قلمها‪ ،‬في‬ ‫النهاية‪ ،‬روايـ ًـة طويلة‪.‬‬ ‫ليســت الروايــة‪ ،‬فقــط‪ ،‬هــي المثيــرة‬ ‫فــي تناولهــا لفكــرة النقــص الموجــودة‬ ‫فــي «اإلجــازات»‪ ،‬بــل طريقــة ظهورهــا‬ ‫ونشــرها ونجاحهــا‪ .‬وســوف نتنــاول‪،‬‬ ‫فــي الســطور اآلتيــة‪ ،‬البعــد االجتماعــي‬ ‫في ظهــور كاتبــة ونجاحها‪ ،‬ثــم التناول‬ ‫الفريد لشخصية بطلة رواية «اإلجازة»‪،‬‬ ‫ومــا أدركتــه‪ -‬علــى مســتواها الفــردي‪،‬‬ ‫وعلى مســتوى المجتمع كّلــه‪ -‬من نقص‬ ‫وسم ْت‬ ‫ومثالب‪ ،‬بل ونفاق وزيف أيضاً‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫هــذا «اإلجــازة»‪.‬‬ ‫فقد حملت داتشــا ماراييني مخطوطة‬ ‫روايتهــا‪ ،‬ودارت بهــا علــى دور النشــر‪،‬‬ ‫وحصلــت منهــا كلّهــا علــى تعليقــات‬ ‫ســاخرة‪ ،‬تثبــت جــودة العمــل‪ ،‬وترفض‬ ‫لتوها‪،‬‬ ‫نشره‪ ،‬وتنصح الفتاة الخارجة‪ِّ ،‬‬ ‫من مرحلة الطفولة بأن تعــود إلى بيتها‬ ‫وتهتــم بدرســها‪ ،‬فذلــك أجــدى‪ ،‬إال دارًا‬ ‫ّ‬ ‫واحدة‪ ،‬هي (ليريتشي)‪ّ ،‬إل أنها اشترطت‬ ‫مقدمــة‬ ‫عليهــا أن يكتــب ألبرتــو مورافيــا ِّ‬ ‫لهــا‪ .‬وكان مورافيــا مــن أشــهر الكّتــاب‬ ‫فــي ذلــك الوقــت‪ ،‬وكان صديق ـ ًا لعائلــة‬ ‫المقدمة‪،‬‬ ‫مارايينــي‪ ،‬فوافــق علــى كتابــة‬ ‫ِّ‬ ‫موجهــة إليهــا‪.‬‬ ‫لكــن علــى شــكل رســالة َّ‬ ‫وطِبعت أربع طبعات‬ ‫ونجحت الرواية‪ُ ،‬‬ ‫في زمن قصيــر‪ ،‬بعــد أن «أجازها» كاتب‬ ‫كبيــر‪.‬‬ ‫َسـ ِ‬ ‫ـعد الجميــع بهــذا النجــاح‪ :‬مورافيــا‬ ‫أحــب الفتــاة وتــرك‪،‬‬ ‫أنــه‬ ‫حتــى‬ ‫ســعيد‬ ‫ّ‬ ‫مــن أجلهــا‪ ،‬زوجتــه‪ ،‬والناشــر ســعيد‬ ‫األول لهــذه الفتــاة قــد نجــح‬ ‫ألن العمــل َّ‬ ‫نجاحــ ًا ســاحقاً‪.‬‬ ‫الوحيــدة التــي كانــت تعيســة بســبب‬ ‫«اإلجــازة» هــي داتشــا مارايينــي‪ ،‬التــي‬ ‫أدانت ُدور النشر اإليطالية كلّها‪ ،‬وأعلنت‪،‬‬ ‫بكل جــرأة‪ ،‬أن الكاتبــة‪ -‬لكــي تنجح في‬ ‫ّ‬ ‫أوالً‪ -‬لكاتب‬ ‫نفسها‪-‬‬ ‫ِّم‬ ‫تسل‬ ‫أن‬ ‫د‬ ‫الب‬ ‫إيطاليا‪-‬‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫كبيــر‪ ،‬وأن تصــل إلى الشــهرة مــن خالل‬

‫عالقة غير شريفة‪ .‬رأت داتشا ماراييني‬ ‫ـام يعزو‬ ‫أنهــا لــم تنجــح‪ ،‬وأن الــرأي العـ ّ‬ ‫النجاح التجاري للرواية إلى وجود اسم‬ ‫مورافيــا‪ ،‬وأن ال أحــد يأخذهــا‪ ،‬بوصفها‬ ‫كاتبة لهــا أســلوبها‪ ،‬على محمــل الجّد‪.‬‬ ‫الستينيات‬ ‫حدث ذلك في بداية أعوام‬ ‫ّ‬ ‫من القرن الماضي‪ .‬واآلن‪ ،‬أصبحت داتشا‬ ‫مارايينــي من أهـّـم األصــوات األدبية في‬ ‫إيطاليا‪ ،‬ونشرت أعمالها مستقلّة‪ ،‬دون‬ ‫االستعانة بمورافيا الذي تركها وصادق‬ ‫ـأي «كبيــر»‬ ‫غيرهــا‪ ،‬ودون االســتعانة بـ ّ‬ ‫رجمــت أعمالهــا كلّها إلــى لغات‬ ‫وت ِ‬ ‫آخــر‪ُ ،‬‬ ‫مترجــم إلــى اللغــة‬ ‫وبعضهــا‬ ‫أجنبيــة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫العربيــة‪ ،‬أيض ـاً؛ والمعنــى أن ديناميــة‬ ‫اإلجازة‪ ،‬واالرتفاع على كتف الغير‪ -‬وإن‬ ‫كانت وســيلة غير مشــروعة للنجاح‪ -‬قد‬ ‫نجحــت فــي المســاهمة فــي ميــاد كاتبــة‬ ‫كبيرة‪.‬‬ ‫أمــا عــن الروايــة نفســها «اإلجــازة»‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فقــد لمســت الكاتبــة فيهــا‪ ،‬بــذكاء‪ ،‬معنى‬ ‫«الفــراغ» الــذي يحملــه هــذا اللفــظ‪ ،‬و‪-‬‬ ‫ربمــا‪ -‬كان مورافيا في تقديمــه للرواية‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫قــد وضعــه يــده‪ -‬أيضــاً‪ -‬علــى المعنــى‬ ‫الثانــي‪ ،‬والــذي هــو «مرحلــة انتقاليــة»‬ ‫فيهــا ذلــك اليقيــن الناقــص‪ ،‬بــل وصــف‬ ‫ذلــك بأنــه طــرح عصــري حديــث‪ .‬قــال‬ ‫مقدمتــه‪:‬‬ ‫مورافيــا فــي ِّ‬ ‫شخصية‬ ‫«أريد‪ ،‬فقط‪ ،‬أن أتوقَّف عند‬ ‫ّ‬ ‫البطلــة عنــدك‪ ،‬ألقــول عنهــا شــيئاً‪،‬‬ ‫بصفتــي روائيــاً؛ أي زميــل مهنــة‪ ،‬ال‬ ‫ناقــداً‪ .‬هــذه الشــخصية التــي هــي لفتــاة‬ ‫ـن المراهقة‪ ،‬هي أفضل شــيء في‬ ‫في سـ ّ‬ ‫الرواية‪ ،‬وهي أنجح وأكمــل ابتداع لك؛‬ ‫فهــي تتح ـّدث بضميــر المتكّلــم‪ ،‬لكننــا ال‬ ‫ربمــا‪ -‬ال تعرفها‬ ‫نعرف أفكارهــا‪ ،‬ألنهــا‪َّ -‬‬ ‫تفكــر فيهــا‪ .‬هــذا‬ ‫هــي نفســها؛ أي أنهــا ال ِّ‬ ‫حيوية‬ ‫الشخصية‬ ‫التناقض يضفي على‬ ‫ّ‬ ‫ـدل علــى اغتــراب كامــل‪ .‬إنــك‪ -‬بمعنــى‬ ‫تـ ّ‬ ‫آخــر‪ -‬ابتدعــت شــخصية عصريــة ج ـّداً‪،‬‬ ‫لهــا ضميرأدبــي بقــدرة فريــدة علــى أن‬ ‫تكــون داخــل الموقــف وخارجــه‪ ،‬فــي‬ ‫الوقــت نفســه»‪.‬‬ ‫هذه الشــخصية الرئيســة فــي الرواية‬ ‫هي «آنــا»‪ :‬طفلــة عمرهــا ‪ 14‬ســنة‪ ،‬تبدأ‬ ‫إجازتها بالخروج من المدرســة الداخلية‬

‫الصارمة للراهبات‪ ،‬لكي تقضي اإلجازة‬ ‫مــع العائلــة علــى شــاطئ البحــر‪ ،‬فــي‬ ‫بلــدة صغيــرة بالقرب مــن رومــا‪ .‬نحن‪،‬‬ ‫اآلن‪ ،‬فــي عــام ‪ ،1943‬حيــث توشــك‬ ‫الحــرب العالميــة الثانيــة علــى االنتهاء‪،‬‬ ‫الفاشية اإليطالية على السقوط‪،‬‬ ‫وتوشك‬ ‫ّ‬ ‫وتبــدأ إيطاليــا مرحلتهــا االنتقاليــة التــي‬ ‫ســوف تضعها‪ ،‬بعــد ذلك‪ ،‬ضمــن الدول‬ ‫تقدم ـ ًا فــي العالــم‪ .‬بعدهــا بفتــرة‬ ‫األكثــر ُّ‬ ‫ّ‬ ‫وجيــزة‪ .‬كانــت الطائــرات ال تــزال تــدك‬ ‫وف َّكر األب في أن يحمل‬ ‫المدن اإليطالية‪َ ،‬‬ ‫أوالده إلــى هــذه البلــدة الصغيــرة هرب ـ ًا‬ ‫من قصــف رومــا‪ ،‬معتقــدًا أنه مــكان أكثر‬ ‫أمناً‪ .‬في هــذا المكان‪ ،‬مــع أخيها‪ ،‬وأبيها‬ ‫وزوجة أبيها‪ ،‬تتعـ َّـرف «آنا» على فتيان‬ ‫تتحملهــم‪ ،‬وتثيرهم‪،‬‬ ‫ورجال وشــيوخ‪ّ ،‬‬ ‫للتعرف إلى أنوثتها التي لم‬ ‫في ســعيها‬ ‫ُّ‬ ‫ً‬ ‫تكتمل اكتماال صريحاً‪ .‬تراقب زوجة أبيها‬ ‫وتحســدها‪ ،‬وتدين العالم المتداعي الذي‬ ‫يحيط بهــا‪ ،‬والــذي ال ّ‬ ‫التحرش‬ ‫يكف عــن‬ ‫ُّ‬ ‫بها‪ ،‬ومحاولة اغتصابها‪ ،‬والتعامل معها‬ ‫علــى أنهــا «أنثى‪/‬شــيء»‪ ،‬وهــي‪ ،‬بعد‪،‬‬ ‫طفلــة؛ مــا جعلهــا تصــف هــذا العالــم أنه‬ ‫كل هــذا الــذي‬ ‫مريــض بــداء «الغلمانيــة»‪ّ .‬‬ ‫تعانيــه الفتــاة‪ ،‬أو‪ -‬باألحــرى‪ -‬الطفلــة‬ ‫تودع طفولتهــا وتدلف إلى‬ ‫التي تريد أن ّ‬ ‫ـابة العصرية‬ ‫ـ‬ ‫الش‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫ِّف‬ ‫المؤل‬ ‫مراهقتهــا‪ ،‬أو‬ ‫ّ‬ ‫بكل أبعادها‬ ‫التي تقّدم الشخصية الحديثة ّ‬ ‫الذكي‪:‬‬ ‫بسؤالها‬ ‫كل هذا ينتهي‬ ‫المأساوية‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫الحب؟‬ ‫هــل هــذا هــو ّ‬ ‫المؤلِّفــة‪ ،‬بهــذا الســؤال‪ ،‬تصبــح‬ ‫واضحة وصريحة‪ ،‬والرواية كلّها‪ -‬رغم‬ ‫التغييــرات الكثيــرة التــي تحــدث للبطلة‬ ‫وتطور الحدث فيها‪ -‬استاتيكية ساكنة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ال تراوح مكانها‪ ،‬فالخبرات كلّها سلبية‪،‬‬ ‫ويظل القارئ في انتظار أن تخرج بطلته‬ ‫ّ‬ ‫مــن رؤيتهــا الغائمــة تلــك‪ ،‬لكنــه ينزلــق‬ ‫القَدريــة‪ ،‬هــو الــذي‬ ‫معهــا إلــى نــوع مــن َ‬ ‫كل‬ ‫ـب‪ ،‬الــذي يغيب معــه ّ‬ ‫يبــرز غياب الحـ ّ‬ ‫شــيء‪ .‬ويجيــب القــارئ‪ ،‬ونجيــب معه‪،‬‬ ‫علــى ســؤال بطلــة الروايــة‪ :‬ليــس هــذا‬ ‫الحب‪ ،‬بــل هو ذلــك الشــيء الناقص‬ ‫هــو ّ‬ ‫الفارغ االنتقالــي الذي نسـّـميه «إجازة»‪،‬‬ ‫تتعطــل فيهــا أشــياء كثيــرة‪،‬‬ ‫«عطلــة»‪ّ ،‬‬ ‫وتغيــب‪.‬‬ ‫‪91‬‬


‫ترجمات‬

‫إيف بونفوا‪..‬‬

‫أضاعته نوبل‪ ،‬ولم يض ِّيعها!‬ ‫ترجمة وتقديم‪ :‬خالد الريسوين‬ ‫لقــد انتهى «إيــف بونفــوا» باالصطــدام‪ ،‬وجه ًا لوجــه‪ ،‬مع ذلك‬ ‫لكل اســتعارة»‪ ،‬كما كتب في إحدى أبياته‬ ‫«الموت الذي يقول‪ :‬ال ّ‬ ‫دنوًا من األفول‪.‬‬ ‫األشّد ّ‬ ‫ال عن‬ ‫هو أحد أشــهر شــعراء فرنســا في القــرن العشــرين‪ ،‬فض ً‬ ‫كونــه باحث ًا وناقــدًا َفنّياً‪ ،‬وأســتاذًا جامعي ًا مرموقــاً‪ ،‬ومترجم‬ ‫والمرشح األبدي للحصول على جائزة نوبل لآلداب‪.‬‬ ‫شكسبير‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫توفِّــي يــوم الجمعة (يوليو) من هذه الســنة‪ ،‬فــي باريس‪ ،‬عن‬ ‫ســن تناهز الثالثة والتسعين‪ .‬وترك خلفه حياة َك َّر َسها للشعر‬ ‫ّ‬ ‫‪92‬‬

‫وللُّغة الشعرية‪ ،‬التي َع َّدها أداة للعثور على بعض نقط الضوء‬ ‫في هذه العتمة المقيمة والمســتديمة؛ فقد كان الشــعر‪ -‬بالنسبة‬ ‫ال «لتحرير العالقات بين إنســان‬ ‫إلــى «بونفوا»‪ -‬وســيلة وشــك ً‬ ‫األحكام المســبقة واأليديولوجيات واألوهــام التي تفقره»‪ ،‬كما‬ ‫أوضح في أحد اللقاءات الصحافية‪.‬‬ ‫رجَم ْت إلــى ‪ 30‬لغة‪ ،‬وكان‬ ‫هــو مؤلِّــف للمئات مــن الكتب التــي ُت ِ‬ ‫«بونفوا» قد اقترح نمط ًا من الشــعر يكون أكثر التصاق ًا بالواقع‪،‬‬ ‫وارتباطــ ًا بــه؛ فهــو لــم يكــن ليثــق بالتجريديــة وبالمفهوميــة‬


‫وبالنظريات والمذاهب التي كان شاهدًا‬ ‫على سقوطها وفشلها‪ .‬كان يخشى أن‬ ‫الفن الــذي كان‬ ‫يتالشــى‪ ،‬أو يختفــي ّ‬ ‫يعــّده مالزم ًا لتجربة الوجــود‪ ،‬وكان‬ ‫فإن‬ ‫يعتقــد أنه إذا ُكِت َب لــه أن يحدث‪َّ ،‬‬ ‫المجتمع ذاته سيستسلم‪ .‬كان يرتعش‬ ‫أمام نهاية الشعر‪ ،‬ألنه‪ -‬بالنسبة إليه‪-‬‬ ‫ويفسر «بونفوا»‬ ‫مرادف لنهاية العالم‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫بك ْو ِن «الشــعر يجعلنا ننتقل‪ ،‬من‬ ‫ذلك َ‬ ‫المحركــة لاللتباســات‬ ‫روح التملُّــك‬ ‫ِّ‬ ‫والحــروب‪ ،‬إلى الرغبة في المشــاركة‬ ‫البســيطة والمباشــرة في العالم»‪ .‬لقد‬ ‫المادّية‬ ‫كان «بونفــوا» يتصــارع بيــن ّ‬ ‫األكثــر ابتــذا ًال و«القلق الفطــري ألجل‬ ‫السمو»‪ .‬لم يكن يزدري الغنائية‪ ،‬أبداً‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫لمجــرد االســتعراض واإلثــارة‪ ،‬وقــد‬ ‫َّ‬ ‫واصل اإلشــراق الميتافيزيقي انطالق ًا‬ ‫مــن البيئــة الطبيعيــة‪ ،‬الحاضــرة‪،‬‬ ‫«أحب األرض‪،‬‬ ‫كل أشعاره‪.‬‬ ‫بقوة‪ ،‬في ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ومــا أراه يجعلنــي أفيــض»‪ ،‬قال ذات‬ ‫مرة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ُوِلد «بونفوا» في تورز عام ‪ ،1923‬في‬ ‫عائلة متواضعة تتكون من أب عامل في قطاع الســكك الحديدية‬ ‫وأم معلِّمة في المدرسة‪ .‬بعد أن بدأ حياته الدراسية في بواتييه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫استقر‬ ‫انتقل إلى باريس عام ‪ 1943‬لاللتحاق بجامعة السوربون‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫في شــقّة صغيرة في الضفّة اليســرى‪ ،‬وقضــى ليالي كاملة في‬ ‫َ‬ ‫قراءة «برتولد بريخت»‪ ،‬و«تريســتان تزارا»‪ ،‬و«أنطونين أرتو»‪.‬‬ ‫وســرعان ما اقترب مــن دائــرة «أندريه بروتون» والســرياليين‬ ‫المتأخريــن‪ ،‬حيــث كان البلجيكي «كريســتيان دوترمــون» الذي‬ ‫ِّ‬ ‫أســس‪ ،‬الحقاً‪ ،‬مجموعة كوبرا‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫اشــتهِر برسومه اللفظية والذي َّ‬ ‫تمســكهم «بتكثيف‬ ‫الســرياليين‬ ‫مع‬ ‫بونفــوا»‬ ‫«إيــف‬ ‫تقاســم‬ ‫وقد‬ ‫ُّ‬ ‫الوعي والكلمة» عبر اللّغة الشــعرية‪ ،‬لكنه كان يستوحي شعره‬ ‫مــن العالم البســيط‪ ،‬ويختلف عن ميول الســرياليين نحو الحلم‬ ‫انشــق‬ ‫(البوابة) لولوج األبعاد الموازية؛ ولهذا الســبب‪ ،‬بالذات‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫عن الحركة في عام ‪ ،1947‬رغم أنه لم ينكر‪ ،‬أبداً‪ ،‬التأثير العميق‬ ‫للجماعة على أعماله الشعرية‪.‬‬ ‫وبعد نصف عقد من الزمن‪ ،‬كان «بونفوا» ُي ِعّد مختاراته الشعرية‬ ‫«حجر‬ ‫حركــة وثباتاً»‪ ،1953 ،‬والتي أعقبتها مجموعتا‪:‬‬ ‫«دوف‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬ ‫مكتوب» (‪ ،)1965‬و«المنطقة الداخلية» (‪ ،)1971‬وهي مزيج من‬ ‫ٌ‬ ‫كتابة السير ذاتية والمقالة‪ ،‬كتب فيها «بونفوا»‪« :‬يجتاحني‪ ،‬في‬ ‫كثير من األحيان‪ ،‬شــعور بالقلق أمام مفترقات الطرق‪ .‬يبدو لي‬ ‫أنــه في تلك اللحظات‪ ،‬في ذلك المــكان أو بالكاد‪« :‬هناك‪ ،‬على‬ ‫ُب ْعد خطوتين على الطريق الذي لم أختر الســير فيه [‪ ]...‬تنفتح‬ ‫ٍ‬ ‫متعال‪ ،‬حيث كان من الممكن أن أعيش‪ ،‬والذي‪،‬‬ ‫بــاد من جوهر‬ ‫اآلن‪ ،‬قــد ضيعتــه»‪ .‬وليس من قبيل الصدفة أن يجد في «هاملت»‬ ‫تتردد في رأســه القولة‬ ‫الحجر األســاس للحداثة‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫واعتــادت أن َّ‬ ‫المأثــورة لشــاعره المحبوب «رامبو» عن عــدم الرضا األبدي من‬ ‫توجد في جهة أخرى»‪.‬‬ ‫ِقَبل الكثير من الفانين‪« :‬الحياة‬ ‫ُ‬

‫ُتِرجمــت أعمــال «إيــف بونفــوا» إلــى‬ ‫العربية‪ ،‬من طرف أدونيس‪ ،‬وصدرت‬ ‫فــي دمشــق‪ ،‬عــن منشــورات وزارة‬ ‫الثقافة‪ ،‬ســنة ‪ ،1986‬وشملت الترجمة‬ ‫أعمالــه الشــــــــعرية الكاملــة‪ ،‬وهــي‪:‬‬ ‫حركة‬ ‫«ضــّد أفالطـــــــــون»‪ ،‬و«دوف‪،‬‬ ‫ً‬ ‫و«ســائدة أمــس الصحراء»‪،‬‬ ‫وثباتــاً»‪،‬‬ ‫ً‬ ‫و«إخــاص»‪ ،‬و«حجر مكتــوب» و«في‬ ‫خـــــديعة العــــتبة»‪ ،‬كمــا ترجــــــــم له‬ ‫محمــد بن صالح أنطولوجيا شــعرية‪،‬‬ ‫اختار فيها منتخبات من قصائد الشاعر‪،‬‬ ‫كل من أســماء‬ ‫ترجــم له ًّ‬ ‫وفــي المغرب َ‬ ‫خال‪ ،‬ورشيد خالص مجموعته الشعرية‬ ‫بـ«فليبق هذا العالم!»‪.‬‬ ‫الم َعْن َونة‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫في مســيرة «إيــف بونفوا» الشــعرية‪،‬‬ ‫مؤكــدان هما‪:‬‬ ‫يبــرز ثابتــان‬ ‫وجوديــان َّ‬ ‫ّ‬ ‫«حــب الكمال ألن‬ ‫المــوت‪ ،‬والالاكتمال‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫المباغت جّدًا‬ ‫ذاك هــو العتبة‪/،‬ونفيهــا‬ ‫ُ‬ ‫معلــوم‪ ،‬نســيانها عنــد موتها‪/،‬والــا‬ ‫ٌ‬ ‫القمــة»‪ ،‬كتــب فــي إحــدى‬ ‫اكتمــال هــو ّ‬ ‫القصائــد مــن مجموعتــه‪« :‬البارحــة‪،‬‬ ‫الصحراء ُمَهْيِمَنة» (‪.)1958‬‬ ‫ُ‬ ‫جاذبية‪ ،‬اشتغل‬ ‫األقل‬ ‫من شقَّته الصغيرة الواقعة في «مونمارتر» ّ‬ ‫ً‬ ‫الفن‪ .‬كتب‬ ‫«بونفوا»‪ -‬أيضاً‪ -‬في دراســاته ومقاالتــه على تاريخ ّ‬ ‫خصصها‬ ‫الفن القوطي‬ ‫ّ‬ ‫عــن ّ‬ ‫والفن الباروكي‪ ،‬باإلضافة إلى كتب َّ‬ ‫اســو‪ ،‬وموندريــان‪ ،‬وجياكوميتي‪ ،‬وبالتوس‪،‬‬ ‫ويا‪َ ،‬‬ ‫لـــ ‪ُ :‬غ َ‬ ‫وبيك ُ‬ ‫وميرو‪ .‬من أنشــطته الرئيسة األخيرة أعماله عن الترجمة‪ ،‬التي‬ ‫كانــت تقوم على التوازي الشــعري؛ ألنها تســتند إلــى التحويل‬ ‫اللّغــوي‪ .‬وقــد ترجــم «بونفــوا» إلى الفرنســية أكثر من خمســة‬ ‫وتوغل فــي جوانب مجهولة فــي أعماله‬ ‫ال لشكســبير‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫عشــر عم ً‬ ‫شــخصياته النســائية‪،‬‬ ‫ابتعثتها‬ ‫التي‬ ‫المرأة‬ ‫ُّل‬ ‫كتمث‬ ‫المســرحية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫كل من‪ :‬كيتــس‪ ،‬وييتس‪ ،‬وبتراركا‪،‬‬ ‫وقــد فعل ذلــك‪ -‬أيضاً‪ -‬مع ّ‬ ‫وليوباردي‪.‬‬ ‫وإذا كانــت جائــزة نوبل قــد قاومته‪ -‬وإن لم تكن مســتعصية‬ ‫علــى شــاعر كبير مــن طينته لقيمــة أعماله وعمقهــا‪ -‬فقد فاز‬ ‫«بونفــوا» بعّدة جوائــز مرموقة مثل‪ :‬الجائزة الكبرى للشــعر‬ ‫التــي تمنحهــا األكاديميــة الفرنســية‪ ،‬وذلــك ســنة ‪،1981‬‬ ‫وجائزة غونكور للشــعر‪ ،‬ســنة ‪ ،1987‬أو جائزة سينو ديل‬ ‫دوكا‪ ،‬التــي ُتمَنــح لشــخصية بارزة فــي المجال اإلنســاني‪،‬‬ ‫ســنة ‪ ،1995‬كمــا نــال جائــزة معــرض غواداالخــارا‪ ،‬ســنة‬ ‫مفســراً‪« :‬القصائد ليس لها معنى‪،‬‬ ‫‪ .2013‬حينئذ‪ ،‬كان قد قال ِّ‬ ‫الخاصة ذاتها‪ ،‬ونسائل‬ ‫التجربة‬ ‫عند قراءتها يجب أن ُنســائل‬ ‫ّ‬ ‫الذاكــرة‪ .‬ومن ذلــك المنطلق يجب أن نبحث عن التأويل»‪ .‬منذ‬ ‫سنة ‪ ،1981‬صار «إيف بونفوا» أستاذ كرسي األدب المقارن‬ ‫فــي الكوليج دو فرانس‪ ،‬وألقى محاضــرات عديدة في الكثير‬ ‫المتحــدة‪ ،‬وبقــي‪،‬‬ ‫مــن الجامعــات‪ ،‬فــي أوروبــا والواليــات َّ‬ ‫أضاعت ُه‪،‬‬ ‫مرشــح ًا دائمــ ًا لنيل جائــزة نوبل التــي‬ ‫لســنوات‪َّ ،‬‬ ‫ْ‬ ‫ضيعها!‪..‬‬ ‫ولم ُي ِّ‬ ‫‪93‬‬


‫القمة»‬ ‫«النقائص هي ّ‬ ‫وقصائد أخرى‬ ‫إيف بونفوا‬

‫هنالك‪ ،‬حيث يسقط السهم‬ ‫‪ ‬‬

‫‪-1-‬‬

‫تائهــ ًا‪ ..‬على بعــد خطوات قليلة مــن البيت‪ .‬ومع‬ ‫ذلك‪ ،‬ليس أبعد من ثالث تسديدات بحجر‪.‬‬

‫ِي صدفة‪..‬‬ ‫هناك‪ ،‬حيث يسقط السهم الذي ُألق َ‬

‫‪-2-‬‬

‫تائهــ ًا‪ ..‬رغم ذلك‪ .‬ألنك يجــب أن تق ّرر‪ ،‬في ّ‬ ‫كل‬ ‫لحظــة‪ ،‬تقريبــ ًا‪ .‬لكن‪ ،‬ال يمكنــك أن تفعل ذلك‪.‬‬ ‫ال شــيء يكلمك‪ ،‬وال شــيء‪ -‬بالنســبة إليك‪ -‬هو‬ ‫تتبد ُد‪ .‬في األثر الذي‬ ‫مؤشــر‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫فكرة المؤشــر ذاتها َّ‬

‫علي شــخص ما‪،‬‬ ‫تائهــ ًا بــا تراجيديــا‪ ..‬ســيعثر‬ ‫َّ‬ ‫وســترتفع أصــوات قليلــة فــي الســماء‪ ،‬مــن ّ‬ ‫كل‬

‫خلَّفَ تــه الكلمــة فيما هو عليــه‪ ،‬يعود مــاء التج ّلي‬ ‫المهجور إلى االرتفاع‪ ،‬ويتأ َّلق‪ ،‬متف ّرد ًا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫مســدود‪ ،‬اآلن‪ ،‬كما لو أنها سطح‬ ‫كل كلمة‪ :‬شــيء‬ ‫ٌ‬

‫والســاعة لــم تتجاوز الرابعــة‪ ،‬مــازال ِ ّ‬ ‫متبقي ًا جز ٌء‬ ‫مهم من النهار‪ ،‬لكي يســتم َّر المــرء مفقود ًا‪ ،‬وهو‬ ‫ّ‬

‫يمكنك أن تتلفَّ ظ هذه الكلمة‪ :‬السنديانة‪.‬‬ ‫لكنك عندما تقول‪ :‬السنديانة‪ ،‬بصوت ٍ‬ ‫عال‪ ،‬لماذا‪،‬‬

‫الجهات‪ ،‬في الليل الذي يسقط‪.‬‬

‫راكض‪ ،‬أحيان ًا‪ ،‬وعائد ما بين األحجار المنكسرة‬

‫تخدده‬ ‫وهــذه الســنديانات الرماديــة‪ ،‬في غــاب‬ ‫ّ‬ ‫منخفضات تبحث فــي ّ‬ ‫كل مكان عن الالنهائي‪،‬‬ ‫تحــت األفق الصاخــب‪ .‬لكن‪ ،‬هنا‪ ،‬فــي العبور‪،‬‬ ‫ينغلق أ كثر‪.‬‬

‫حتم ًا‪ ،‬سوف أعثر على طريق‪.‬‬

‫ُ‬ ‫يرتعش‪ :‬حجر ما‪.‬‬ ‫مطف ٌأ‪ ،‬ال شيء فيه‬

‫مفتاح‬ ‫في ذهنك‪ ،‬تبقى الكلمة‪ ،‬وتغدو أثقل‪ ،‬مثل‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫يد ْر؟ وصورة الشــجرة تتشــظّ ى‪ ،‬وتعود‬ ‫في اليد لم ُ‬ ‫ٍ‬ ‫جديــد‪ ،‬في األعالي‪ ،‬فــي المطلق‪،‬‬ ‫لتتوحــد‪ ،‬من‬ ‫َّ‬ ‫كحالنــا حين ننظر إلى ذلك الكريســتال في ألواح‬ ‫الزجاج القديمة‪.‬‬

‫اللون يتاخم حافّ ة الصورة عبر انتفاخ الزجاج‪ .‬هذا ‬

‫تلك المزرعــة الخرِ بة‪ ،‬حيث كان يبدأ‬ ‫ســوف أرى‬ ‫َ‬

‫نسميه الشــكل المثقوب بنتوء منحرفة‪ ،‬كما‬ ‫الذي ّ‬

‫هل أنادي؟ ال‪ ..‬ليس بعد‪ ،‬حتى اآلن‪.‬‬

‫واألشكال مغلقة‪.‬‬

‫أث ٌر ما‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪94‬‬

‫لو أن اليد التي تحفظ األلوان (ستســتم ّر مفتوحة)‬

‫‪ ‬‬


‫الرسومات للفنان الفرنسي بول سيزان‬

‫‪-3-‬‬

‫الفرار في الحبر المنسكب للغيوم! كم كلمات كانت‬

‫تائهــ ًا‪ ..‬واألشــياء تأتي من ّ‬ ‫تتجمع‬ ‫كل الجهــات‪،‬‬ ‫َّ‬

‫تأتــي‪ ،‬من يدري من أين‪ ،‬مــن بين الكلمات!‪ ‬كم‬

‫تحتاج‪ ،‬بشكل كثيف‪ ،‬مكان ًا آخر‪.‬‬

‫المكعبات المغ َّلفة بالصور‪ ،‬بل الخشــب المتآ كل‬ ‫ّ‬

‫ثمة مكان آخر في تلك اللحظة التي‬ ‫حوله‪ .‬لم يعد ّ‬ ‫ولكن‪ ،‬هل يحتاج هو إليها؟‬

‫لعبة فجأةً‪ ،‬لم تعد رقعة لعب (الداما) الصغيرة‪ ،‬أو‬ ‫من الحوافي‪ ،‬واأللياف التي تتجاوز اللون!‬

‫ثمة‬ ‫وشــيء ما يأتي من مركز األشــياء ذاتــه‪ .‬ليس ّ‬

‫يقولــون له‪ ،‬مــن بعيد‪ :‬تعال‪ ،‬وهو لم يكن يســمع‬ ‫ُّ‬ ‫ينحل فوق الزليج‪.‬‬ ‫سوى نثار الصوت ذاك‪ ،‬والذي‬

‫يســاعده على التنفُّ ــس هنا‪ ،‬في ماء مــا هو عليه‪،‬‬

‫‪-4-‬‬

‫فضاء أ كثر بينه وبين الشيء األدنى‪.‬‬

‫أشــد زرقة‪،‬‬ ‫وحــده الجبل‪ ،‬هنالك‪ ،‬في األســفل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الذي يعود من جديد لالرتفاع‪.‬‬

‫ومع ذلك‪ ،‬فمن المألوف ذلك االنطباع باالندفاع‬ ‫الذي يُمارس عليه من داخل ّ‬ ‫كل شــيء‪ .‬البارحة‪،‬‬

‫يرتــد نحو نقطة‬ ‫فقــط‪ ،‬كم طريق ًا شــديد الوعورة‬ ‫ّ‬

‫َّ‬ ‫تقدم أمامــه لحظةً‪ ،‬وهو‬ ‫يتذكــر أن طائــر ًا كان قد َّ‬

‫اليزال في الطريق‪.‬‬

‫لكن الماء الذي‬ ‫منذ دقيقتين‪ ،‬وهو يسير مستقيم ًا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ثمة ّ‬ ‫كل شــيء‬ ‫يتحــ َّرك بيــن بقايا الجذوع يوقفه‪ّ .‬‬ ‫‪95‬‬


‫في ذلك الماء الصافي‪ ،‬نوع من مســحوق األزرق‬ ‫ّ‬ ‫حيث التيار الالمحســوس‪،‬‬ ‫يلتف حول ذاته‪،‬‬ ‫الذي‬ ‫ّ‬ ‫يخبط القمة الملتمعة لصخر ٍة ما‪.‬‬ ‫تقريب ًا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫لــو كان المطــر قد تســاقط لــكان عثر علــى آثار‬ ‫لكن األرض يابسة‪.‬‬ ‫خطواته‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫الــدرب الــذي مضى فيه كان يترك الشــمس على‬ ‫يساره‪ .‬هنالك‪ ،‬حيث انعطف‪ ،‬بالقرب من الحافّ ة‪،‬‬ ‫كانــت تلك األحجار الثالثة َّ‬ ‫ملطخة بالبياض‪ ،‬كما‬ ‫لو َت ّم تلوينها‪.‬‬ ‫‪-5‬‬‫ّ‬ ‫هــذا التل الذي يكاد‬ ‫ولكن‪ ،‬لماذا تتســ َّلق‪ ،‬اآلن‪،‬‬ ‫يكون منحدر ًا‪ ،‬واألشــجار غيــر مجتمعة بعد‪ ،‬في‬ ‫علــى امتــداد الجــداول الضيقــة؟ من‬ ‫األســفل‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫المؤكد أن الطريق ال تم ّر من هناك‪.‬‬

‫ولن تجد من هناك‪ ،‬في األعلى‪ ،‬رؤية أفضل‪.‬‬ ‫وال تستطيع حتى أن تهتف باسم مناداك‪.‬‬ ‫أراه‪ ،‬رغم ذلك‪ ،‬يصعد ما بين الجذوع‪ ،‬عبر الحجارة‪.‬‬ ‫مستعين ًا بغصن خفيض‪ ،‬حين ينتبه أن األرض زلقة‬ ‫جد ًا بســبب األوراق اليابســة‪ ،‬والتي بينها‪ ،‬دوم ًا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫حصى يتدحــرج فوق حصى آخــر‪ :‬معينات حافّ ة‬ ‫رمادي َّ‬ ‫ّ‬ ‫ملطخ باألحمر‪.‬‬ ‫من فوالذ ذات لون‬ ‫أعلــى القمــة‪ .‬بضعــة أمتار‬ ‫وأتخيــل‬ ‫أرى ذلــك‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫مســتوية‪ ،‬لكنها‬ ‫متقطعة بســبب العوســجات التي‬ ‫تصــل‪ ،‬أحيانــ ًا‪ ،‬حتى األغصان‪ .‬االلتباس نفســه‪،‬‬ ‫والصدفــة نفســها بالنســبة إلــى أجــزاء أخرى من‬ ‫الغاب‪ ،‬ولكن األمر هو نفسه بالنسبة إلى ّ‬ ‫كل ما هو‬ ‫حي‪ .‬يح ِ ّلق طائر ال يراه‪ .‬صنوبرة تســقط في ليلة‪،‬‬ ‫ٌّ‬ ‫فيها الريح المنحد َر الذي يستم ُّر‪.‬‬ ‫عرقلت‬ ‫ُ‬ ‫وأســمع في داخلي ذلك الصــوت الذي ينبثق من‬ ‫‪96‬‬

‫عمــق الطفولة‪ :‬قــد جئت إلى هنا مــن قبل (قلت‬ ‫حينئذ)‪ ..‬أنا أعرف هذا المكان‪ ،‬لقد عشــت هنا‪،‬‬

‫كان ذلــك قبل الزمن‪ ،‬كان ذلك قبل وجودي على‬ ‫األرض‪.‬‬

‫‪-6-‬‬

‫عمره عشــر ســنوات‪ .‬العمر الذي منه ينظر المرء؛‬

‫هل باهتزازات إلى حركــة الظالل؟ وتم ّزق الورق‬

‫والمســمار المثبــت فــي الجبس‬ ‫فــي الجــدران‪،‬‬ ‫َّ‬

‫للمادة‬ ‫وحوله المعدن الصدئ‪ ،‬والحراشف التافهة‬ ‫ّ‬ ‫الغامضــة‪ ...‬هل ضــاع؟ فع ً‬ ‫يتقــدم‪ ،‬منذ زمن‬ ‫ال‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫طويل‪ ،‬ما بين ألغــاز كبرى‪ .‬لقد كان دوم ًا وحيد ًا‪.‬‬ ‫جلس فوق شجرة ساقطة‪ ،‬يبكي‪.‬‬

‫تائه! يبدو كما لو أن العالم اآلخر الذي يختم على‬

‫نقطة التالشــي كان ســيأتي لينحني عليه‪ ،‬ويلمسه‬ ‫في كتفه‪.‬‬

‫لما ينادينا ا ّتجاهان خالل اللحظة‬ ‫رفع‬ ‫ّ‬ ‫عيني‪ ،‬حينها‪ّ .‬‬

‫بشــكل‬ ‫نفســها‪ ،‬في مفتــرق الطرق‪ ،‬يخفق القلب‬ ‫ٍ‬ ‫أقوى وبشــكل أ كثر ســ ّر ّية‪ ،‬لكن العيون ُح َّرة‪ .‬تلك‬ ‫الليلة‪ ،‬في البيت‪ ،‬فليضع الحطب على النار‪ ،‬مثلما‬ ‫َ‬ ‫يفعل‪ :‬سيراه يحترق في عالم آخر‪.‬‬ ‫ُسم ُح له بأن‬ ‫ي َ‬ ‫ُ‬ ‫ســيترد ُد صداها‬ ‫وحده‪ :‬الكلمات‬ ‫فليتحدث ألجله‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬

‫في عالم آخر‪.‬‬

‫جد ًا‪ ،‬ســنوات‬ ‫متأخر‪ ،‬في وقت ِ ّ‬ ‫وفــي وقت ِ ّ‬ ‫متأخر ّ‬ ‫عديــدة بعد‪ ،‬وحيــد ًا‪ ،‬وحيد ًا دوم ًا فــي غرفته مع‬

‫الكتاب الذي كتبه‪ ،‬ســيتناوله بين يديه‪ ،‬وســينظر‬ ‫إلى الحروف الحالكة للعنوان فوق الورق المق ّوى‬ ‫ٍ‬ ‫صفحــات مــا؛ لكــي‬ ‫ســيفتح‬ ‫الملــ ّون بــاألزرق‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫يتماسك فوق الطاولة‪.‬‬

‫ســيدني منه عود ثقاب مشتعل‪ ،‬لطخة‬ ‫ثم‪ ،‬بعدئذ‪ُ ،‬‬


‫ب ّن ّيــة‪ ،‬و‪ -‬فيما بعد‪ -‬ســوداء‪ ،‬ســتولد فــي اللون‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ســتنهش‬ ‫جلية‬ ‫وســوف تنتشــر‪ ،‬و ُت ْثقَ ُ‬ ‫ــب‪ .‬أثر نــار ّ‬ ‫الحوافي‪ ،‬التي سيســحقها هو بإصبعه قبل أن يرفع‬ ‫مجــدد ًا‪ ،‬عالمة في نقط ٍة أخرى‬ ‫ســج َل‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫الكتي َب ُلي ِ ّ‬ ‫ِّ‬

‫ُ‬ ‫يســقط‪.‬‬ ‫من الغالف‪ .‬وها هنا‪ ،‬جانب بكامله منها‬ ‫أبيض‪ ،‬ينجلي‬ ‫جد‬ ‫ٍ‬ ‫الورق الالمع للصفحــة األولى ُّ‬ ‫ُ‬

‫أسفله مصف ّر ًا‪ ،‬وقد أدركته الحرارة‪ ،‬أيض ًا‪.‬‬

‫يتــرك الكتاب‪ ،‬ويحفظ في ذهنه‪ -‬ال أعرف حتى‬

‫ الج َم ِل والرماد‪.‬‬ ‫اآلن لماذا‪-‬‬ ‫زواج ُ‬ ‫َ‬ ‫‪-7-‬‬

‫ــد ًا لخوفــه‪ .‬عماد‬ ‫نبــاح الكلــب‪ ،‬الــذي وضع َح ّ‬ ‫ُ‬ ‫الشــمس بين الغيوم في المســاء‪ .‬البِ َر ُك التي يراها‬

‫تلميــذ المدرســة تتأ َّلق في الكلمــات‪ ،‬وفي اآلتي‬

‫من حياته‪ ،‬عندما يغمس ريشــته الجافّ ة في شعث‬

‫اإلمالء الشديد السرعة‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫توســيعات‪،‬‬ ‫صــن أمــام الســماء‪ ،‬بســبب‬ ‫وكل ُغ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫وتكثيفات كتلتهــا‪ .‬الالمرئي الذي يتدفَّق هنالك‪،‬‬ ‫كنبــع في الذوبــان العنيف للجليــد‪ ،‬وثمار العنب‬ ‫الحمراء ما بين األوراق‪.‬‬

‫لما يعود‪ ،‬والجــذوة التي يبــدأ فيها ّ‬ ‫كل‬ ‫والضــوء ّ‬ ‫شيء‪ ،‬ويبلغ نهايته‪.‬‬

‫في النهر ذاته‬

‫أحيان ًا‪ ،‬تمسك المرآة‬

‫‪-1‬‬‫‪97‬‬


‫ما بين السماء والغرفة‪،‬‬

‫للحد‪ ،‬بالنسب ِة إلى العالم‪،‬‬ ‫متجاوزة‬ ‫ِّ‬

‫يديها الح ّد األدنى‬ ‫بين‬ ‫َ‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫قطع لرقب ِة‬ ‫ٌ‬ ‫الكبش‪ ،‬الواثق‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫مع الكلمة‪.‬‬ ‫الذي‬ ‫ينساق َ‬

‫من الشمس األرضية‪.‬‬

‫واألشياء واألسماء‬ ‫مثلما لو‬

‫وأن الكالم ليس سوى‬

‫أن األصوات‪ ،‬واآلمال كانت تستمتع‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫أن تحلم‪ :‬أن الجمال‬

‫في النهر ذاته‪.‬‬

‫يمكن أن تحلم‬ ‫حيث‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ الكلمات ال توجد‪.‬‬ ‫أن‬ ‫َّ‬

‫ميا ٌه تحت ذلك النهر‪ ،‬نهر السالم‪،‬‬ ‫‪98‬‬

‫‪-2-‬‬

‫حقيقة‪ ،‬الجالء‬

‫ذاته‪ ،‬طفل‬

‫يعب ُر‪ ،‬منفع ً‬ ‫ال‪ ،‬تحت مخزن الغالل‪.‬‬


‫وتلك األخرى‪ ،‬في مرآة؟ تدنو‬

‫‪ ‬‬ ‫ينهض‪ ..‬وسعيد ًا‬ ‫بوفرة الضوء‪،‬‬ ‫َ‬ ‫لتمسك‬ ‫تمتد يده‬ ‫ّ‬ ‫حبة العنب األحمر‪.‬‬ ‫ّ‬

‫من تلك التي لك‪ ،‬والتي تمضي نحوها‪،‬‬

‫أصابعها تتالمس أو تكاد‪..‬‬

‫لكن‪ ،‬في ضآلة تلك المسافة‪،‬‬

‫تنفتح اله ّوة بين الكينونة والمظهر‪.‬‬

‫‪-3-‬‬

‫وفيما بعد‪ ،‬يفهم‪،‬‬ ‫فقط‪ ،‬عبر صوته‬ ‫كما لو كان يمشي عاري ًا‬ ‫عبر شاطئ ما‪.‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫وكانت لديه مرآة‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫حيث السماء ك ّلها‬ ‫تنفتح ألشعة كبرى‪ ،‬تل ِ ّون‬

‫‪ ‬‬

‫ّ‬ ‫على األقل‪ ،‬تح ِ ّرك حبا ً‬ ‫ال‪.‬‬ ‫تلك األصابع التي‪،‬‬

‫يد أخرى من أعماق الصوت‪،‬‬ ‫هل‬ ‫سترتفع ٌ‬ ‫ُ‬

‫لتأخذها بين أصابعها‪ ،‬وتقودها؟‬ ‫‪ ‬‬

‫ُ‬ ‫حب ًا‬ ‫ولكن‪ ،‬نحو ماذا؟‬ ‫لست أدري إن كان ّ‬ ‫حلم‪ ،‬الكلمة‬ ‫أو سراب ًا‪ ،‬وليست سوى ٍ‬

‫التي ليس لها غير ما ٍء أو مرآ ٍة‪ ،‬أو صوت‪...‬‬

‫األرض بكاملها‪.‬‬

‫هو يتوقَّف أحيان ًا‪،‬‬ ‫هنا أو هناك‪،‬‬

‫تسحب‪ ،‬بذهول‪،‬‬ ‫قدمه‬ ‫ُ‬ ‫الماء فوق الرمال‪.‬‬

‫عازف البيانو‬ ‫‪ ‬‬

‫يد تُخاطِ ُر‪ ،‬الهث ًة‬ ‫ٌ‬

‫البئر‬ ‫‪ ‬‬

‫تصطدم بالجدار‪،‬‬ ‫سمع السلسلة‬ ‫ُ‬ ‫ُت ُ‬ ‫ُ‬ ‫ الدل ُو في البئرِ الذي هو النجم اآلخ ُر‪.‬‬ ‫حينما‬ ‫ينزل َّ‬

‫أحيان ًا‪ ،‬هو نجمة المساء‪ ،‬تلك التي تأتي وحيدة‪،‬‬ ‫وأحيان ًا‪ ،‬النار دونما صواعق تنتظ ُر‪ ،‬في الصباح‪،‬‬ ‫أن يخرج الراعي والدواب‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫منحبس في أعماق البئر‪،‬‬ ‫لكن الماء‪ ،‬دوم ًا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫النجم يبقى‪ ،‬دوم ًا‪ ،‬هنالك مختوم ًا‪.‬‬

‫تحت األغصان نكتشف ظال ً‬ ‫ال‪:‬‬

‫جلية تارةً‪ ،‬وتار ًة حالكة‪،‬‬ ‫في الزوبعة‪ّ ،‬‬

‫هم المسافرون الذين يعبرون لي ً‬ ‫ال‬ ‫ُ‬

‫الق ّوة لإلمساك بها‪.‬‬

‫منحنين‪ ،‬كاهلهم تحت كتلة سوداء‪،‬‬

‫تنكس ُر صورته كما لو أنه لم تعد لديه‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫مثلما لو كانوا مرتابين في مفترق الطريق‪.‬‬ ‫‪99‬‬


‫بعضهم يبدو أنهم ينتظرون‪ ،‬وآخرون ي ُْم َحون‬ ‫ٍ‬ ‫شرارات بال ضو ٍء‪.‬‬ ‫في‬

‫‪ ‬‬

‫ٍ‬ ‫ المضيئة‪،‬‬ ‫حينئذ‪ ،‬أفك ُر‬ ‫ِ‬ ‫في المواكب ُ‬ ‫في ٍ‬ ‫تولد‪ ،‬وال تموت‪.‬‬ ‫بالد ال‬ ‫ُ‬

‫رحلة الرجل والمرأة طويلة‪ ،‬أطول من الحياة‪،‬‬

‫هي نجم على حافّ ة الطريق‪ ،‬سماء‬ ‫نتخيل رؤيتها بين شجر َت ْين‪.‬‬ ‫َّ‬

‫ الدل ُو الما َء الذي يرفعه‪،‬‬ ‫يالمس َّ‬ ‫ُ‬ ‫فيكون الفرح‪ ،‬وبعدها تثق ُله السلسلة‪.‬‬

‫في كثير من األحيان‬ ‫في كثير من األحيان‪ ،‬في صمت اله ّوة‪،‬‬

‫أسمع ‪-‬أو أشتهي أن أسمع‪ ،‬لست أدري!‪-‬‬ ‫جسد ًا يتساقط بين األغصان‪ .‬طويلة وبطيئة‬

‫هي هذه السقطة؛ ال صرخ َة‬ ‫نهائي ًا‪.‬‬ ‫حد ًا‬ ‫تأتي‪ ،‬أبد ًا‪ ،‬لتوقفها‪،‬‬ ‫وتضع لها ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫‪100‬‬

‫حَ جَ ر‬ ‫‪ ‬‬

‫ُ‬ ‫في الغ َر ِف الباردةِ‪،‬‬ ‫ الصيف عنيف ًا‬ ‫قد م َّر‬ ‫ُ‬ ‫وجناح ُه عاري ًا‪،‬‬ ‫كانت عيونُه عميا َء‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ص َر َخ‪ ،‬فش َّو َ‬ ‫نادى على ُح ْل ِم‬ ‫ الم َ‬ ‫ش ُ‬

‫ٌ‬ ‫بســيط‬ ‫أولئك الذين كانوا ينامون هنالك‪ ،‬فيما ُه َو‬

‫مِ ْن يومِ هم‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫أنفاسه‪،‬‬ ‫إيقاع‬ ‫َغي َر‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ارتعشُ وا‪ ،‬ف َّ‬

‫ الحلم‪.‬‬ ‫كأس‬ ‫وتركت يدا ُه‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫عادت م ّر ًة أخرى َ‬ ‫فوق األ ْر ِ‬ ‫ض‪،‬‬ ‫ السما ُء قد‬ ‫ْ‬ ‫وكانت َّ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ الص ْيف‪.‬‬ ‫في األبدي‪ ،‬زوبع ُة‬ ‫أتت‪،‬‬ ‫ها قد ْ‬ ‫قيلوالت َّ‬


‫النّقائص هي القمَّ ة‬ ‫‪ ‬‬

‫يحــد ُ‬ ‫من الالزم ال َّت ْدمي ُر وال َّت ْدمي ُر‬ ‫يكون‬ ‫ث أن‬ ‫كان‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫وال َّت ْدمير‪،‬‬ ‫يحــد ُ‬ ‫ الخــاص مُ ْمكنــ ًا‪ ،‬فقط‪،‬‬ ‫يكــون‬ ‫أن‬ ‫كان‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ث ْ‬ ‫َ‬ ‫مقابل َ‬ ‫ذاك ال َّث َمن‪.‬‬ ‫تخريب ال َو ْجه العاري الذي ي َْع ُلو في ال ُّر َخام‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫كل ْ‬ ‫شك ٍل‪ّ ِ ،‬‬ ‫َس ْحقُ ِ ّ‬ ‫كل َج ٍ‬ ‫مال‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ العتبةُ‪،‬‬ ‫ُح ُّب‬ ‫ الكمال ألن ُه َ‬ ‫ُّ‬ ‫ونس َيا َن ُه م ِ َّيت ًا‪.‬‬ ‫إلي ِه َ‬ ‫بعد ْ‬ ‫أن يصي َر معروف ًا‪ْ ،‬‬ ‫لكن التنكر ْ‬ ‫هي القمة‪.‬‬ ‫ال َّنقائص‬ ‫َّ‬

‫الوداع‬ ‫ها نحن قد عدنا إلى جذورنا‪.‬‬ ‫هو مكان للجالء‪ ،‬وإن كان مم َّزق ًا‪.‬‬

‫تمزج النوافذ أضوا ًء زائدة‪،‬‬ ‫واألدراج ترتقي الكثير من النجوم‬ ‫التي هي أقواس تتهاوى أنقاض ًا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫تشتعل في عالم آخر‪.‬‬ ‫والنار كانت تبدو أنها‬ ‫‪ ‬‬ ‫ثمة طيور تح ِ ّلق من غرفة إلى أخرى‪،‬‬ ‫واآلن‪ّ ،‬‬ ‫قد سقطت األبواب‪ ،‬والسرير قد تغطّ ى باألحجار‪،‬‬ ‫والمدخنة امتألت ببقايا من السماء‪ ،‬سوف تنطفئ‪.‬‬

‫نتحدث بصوت شــبه‬ ‫هنــاك‪ ،‬في المســاءات‪ ،‬كنا‬ ‫َّ‬ ‫خافت‪،‬‬ ‫بســبب رجع الصدى الذي تحدثه القباب‪ .‬هناك‪،‬‬ ‫ك ّنا نصوغ‪،‬‬ ‫محم ً‬ ‫ال باألحجار‬ ‫رغم ذلك‪ ،‬مشاريعنا‪ ،‬لكن قارب ًا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الحمراء‪ ،‬كان ينأى‬ ‫عن الشاطئ بق ّوة ال تقاوَم‪ ،‬وكان النسيان‬ ‫يودع رماده في األحالم‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫‪101‬‬


‫«ما جدوى الشعراء في هذا الزمن العصيب؟(‪ ،)1‬تساءل الشاعر األلماني «هولدرلين» في مراثيه‬ ‫وقصائــده المؤثِّــرة‪ .‬كصدى لبيت «هولدرلين» الشــعري الــذي يعود إلى عام ‪ ،1800‬يســأل‬ ‫الفرنسيين‪ -‬على وجه الخصوص‪ -‬بمناسبة‬ ‫والكّتاب‬ ‫«والتر بنيامين» عن الوظيفة االجتماعية للذكاء‪ُ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫يهودية‪،‬‬ ‫أصول‬ ‫عام ْي ‪ 1937‬و‪ .1940‬خالل منفاه في باريس‪ ،‬وألنه من‬ ‫ّ‬ ‫تنامــي األخطــار الرهيبة بين َ‬ ‫كل امكانية للعمل والنشــر‪ ،‬منذ عــام ‪ .1933‬لكنه‪ ،‬وبطلب ماكس‬ ‫فقــد أغلــق النظــام النازي في وجهه ّ‬ ‫هوركهايمر مدير معهد البحوث االجتماعية في نيويورك‪ ،‬كتب من فرنسا «رسائل حول األدب»‪.‬‬

‫الضمري األخالقي واألدب‬

‫«والتر بنيامين» في نظر «حنّة أرندت»‬

‫ترجمة ‪ :‬محمد الجرطي‬

‫ثمة أعمال صغيــرة؛ ذلك أن‬ ‫فــي نتــاج والتر بنيامين‪ ،‬ليــس ّ‬ ‫مشــاريع كبيــرة مثــل «باريس عاصمة القرن التاســع عشــر»‬ ‫و«بودليــر»(‪ )2‬كانــت األشــجار التــي ســتخفي الغابــة‪ ،‬حيــث‬ ‫متميز‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫أدبي آخــر ِّ‬ ‫ستشــكل رســائله حــول األدب نواة عمــل ّ‬ ‫بعنوان «أفرغ مكتبتي»‪ ،‬وستشــهد هــذه األعمال جميعها على‬ ‫الحتمي لــأدب في منظور والتر بنيامين؛‬ ‫ضرورة االســتمرار‬ ‫ّ‬ ‫وحيت نتاجه الفكري‬ ‫الفيلســوف الذي أشادت به حنّة أرندت‪ّ ،‬‬ ‫ونتاجه األدبي‪.‬‬ ‫المؤكد أن األمــر يتعلّق بعمل غذائــي!‪ ،‬ألن والتر بنيامين‬ ‫مــن‬ ‫َّ‬ ‫منفي ًا في‬ ‫لم يكن يملك أي مورد ّ‬ ‫مادي؛ بسبب ظروفه‪ ،‬إذ كان ّ‬ ‫باريس؛ حيث تلقى مســتحقّاته عن «رســائل حول األدب» من‬ ‫منفيين‬ ‫أبرز ممثِّلي مدرسة فرانكفورت‪ ،‬الذين كانوا هم‪ -‬أيضاً‪ِّ -‬‬ ‫مهمة والتر بنيامين‪ ،‬في هذه الرسائل‪،‬‬ ‫في نيويورك‪ .‬وتتمثَّل ّ‬ ‫في تقديم تقرير عن النشاط األدبي في فرنسا‪ .‬وعلى الرغم من‬ ‫ّية علم االجتماع»‪ ،‬ومــع مجلّة «أوروبا» التي‬ ‫عالقاتــه مع «كلّ‬ ‫نشــرت إحدى مقاالته‪ ،‬وكذلك صداقته مع ُكّتاب مثل‪( :‬أندريه‬ ‫جيــد‪ ،‬وبول فاليــري‪ ،‬وجون بــوالن‪ )...‬الذين دعمــوا طلبه‪،‬‬ ‫‪102‬‬

‫عام ‪ ،1939‬للحصول على الجنسية الفرنسية‪ ،‬لم يكن محاط ًا‬ ‫سوى بـ «وجوه متذبذبة ومترددة»‪ .‬في الواقع‪ ،‬لقد بقي والتر‬ ‫الفاشــيين‪ ،‬في‬ ‫بنياميــن يهوديــ ًا ألماني ًا ماركســياً‪ ،‬فــي زمن‬ ‫ّ‬ ‫المعســكر الفرنســي‪ .‬وقــد كان الهدف من هذه «الرســائل حول‬ ‫األدب» تحقيق أعلى درجة من البحث والوصف الدقيق لمواقف‬ ‫الفرنســيين‪ ،‬في مرحلــة نقدية خطيــرة‪ ،‬برع والتر‬ ‫المثقَّفيــن‬ ‫ِّ‬ ‫األدبية‪ ،‬والفكرية‪،‬‬ ‫بنياميــن في إبرازها في قراءته لألعمــال‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫الحساســة من تاريخ فرنسا‪ ،‬فما صدم والتر‬ ‫في تلك المرحلة ّ‬ ‫ال بإثارة الرعب‪ ،‬وســط‬ ‫بنياميــن‪ ،‬وكان فــي نظره ســبب ًا كفي ً‬ ‫الزهرة األدبية الباريسية الرائدة‪ ،‬ووسط «عملية االضمحالل»‬ ‫هذه‪ ،‬ووســط هذا «الضمير األخالقي الضعيــف»‪ ..‬كان متعلِّق ًا‬ ‫بـ«خطر وشيك على فرنسا‪َ ،‬م َّثَله الصمت عن شرور االشتراكية‬ ‫القومية»‪ .‬وفي هذا الســياق‪ ،‬كان صدى رسائل والتر بنيامين‬ ‫تنبؤية‪...‬‬ ‫َّ‬ ‫يتردد في أرجاء فرنسا‪ ،‬بنبرة ُّ‬ ‫تميــز النقــد األدبــي‪ ،‬فــي هــذه الرســائل‪ ،‬بلهجة َف َّظــة ونبرة‬ ‫َّ‬ ‫الكّتــاب‪ ،‬ومواقفهم‬ ‫امتثاليــة‬ ‫بنياميــن‬ ‫والتــر‬ ‫شــجب‬ ‫الذعــة‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫االنتهازيــة‪ ،‬والتزامهــم الســطحي‪ ،‬كانت هذه جــراح المثقَّفين‬


‫وأهل الفكر الفرنســيين‪ .‬كانت المجلة الفرنسية الجديدة عبارة‬ ‫تعــرض مديرهــا ذو النفــوذ‬ ‫وتشــدق‪ ،‬حيــث‬ ‫عــن «جعجعــة»‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫الكبيــر إلى اإلهانة‪ ،‬بســبب فكــره المحافظ‪ ،‬وكذلــك األمر مع‬ ‫أحــد أركانها‪ ،‬وهو أندريه جيد‪ .‬تفنَّن والتر بنيامين في رســم‬ ‫الفرنســيين‪ .‬وهكذا‪ ،‬ســخر من‬ ‫صــورة كاريكاتورية للمثقَّفين‬ ‫ّ‬ ‫فقدمه على أنه‬ ‫كلوديل‬ ‫ا‬ ‫أم‬ ‫السطحي‪.‬‬ ‫جون كوكتو بسبب فكره‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫للقراء أمثال يســوع»‪ .‬وفي المقابل‪ ،‬كان والتر‬ ‫ّ‬ ‫يحب أن «يبيع ّ‬ ‫أقل حــّد ًة تجاه برنانــوس‪ ،‬ودوهاميــل‪ ،‬وليريس‪،‬‬ ‫بنياميــن ّ‬ ‫تعــرض فرديناند ســيلين في هذه‬ ‫وباشــار‪ ،‬أو نيــزان‪ .‬فيما‬ ‫َّ‬ ‫الرسائل‪ ،‬للسخرية بال هوادة‪ ،‬بسبب «نثره البليد»‪ ،‬وكتاباته‬ ‫الطيبــة»؛ حيث‬ ‫المترعــة بـ«ســيل مــن اإلهانــات»‪،‬‬ ‫و«عدميته َّ‬ ‫ّ‬ ‫شــك َل كتابه «تفاهات من أجل مذبحة» رسالة هجاء حارقة في‬ ‫َّ‬ ‫معاداتهــا للســامية‪ ،‬في ذلــك الوقت‪ ،‬وكان هــذا الكتاب األكثر‬ ‫إهانة في النتاج األدبي الفرنسي‪.‬‬ ‫انتشارًا واألكثر‬ ‫ً‬ ‫لم يكن للســريالية فضل في نظر والتر بنيامين‪ .‬واألســوأ من‬ ‫ّية علم االجتماع» بوصفها متاهة فكرية‬ ‫ذلك‪ ،‬أنه نظر إلى «كلّ‬ ‫خاص ًة حين دافع جورج باتاي عن نيتشه‬ ‫وعرين ًا للفاشيين‪ّ ،‬‬ ‫فــي مجلّته «عديم الــرأس»‪ ،‬وحين ُنظر إلى روجر كايوا (وفق ًا‬ ‫لوالتر بنيامين) على أنه شبيه بـ«طغمة غوبلز»‪.‬‬ ‫وعلى الرغم من ذكائه‪ ،‬والعتبارات أيديولوجية‪ ،‬يمكن القول‬ ‫يتمكن من تقديم صورة للمشهد الثقافي‪،‬‬ ‫بأن والتر بنيامين لم َّ‬ ‫فــي فرنســا‪ ،‬بشــكل محايد ونزيــه‪ .‬فــي الواقع‪ ،‬يجــب قراءة‬ ‫التوجه الماركســي الثابت‬ ‫«رســائل حول األدب» ضمن هامش‬ ‫ُّ‬ ‫وخاصة معهــد البحوث االجتماعية في‬ ‫لمدرســة فرانكفورت‪،‬‬ ‫َّ‬

‫نيويورك‪ ،‬برئاســة ماكس هوركهايمــر‪ ،‬الذي َو َّج َه إليه والتر‬ ‫معينة‬ ‫بنيامين هذه الرسائل‪ .‬هل المقصود هو شجب امتثالية َّ‬ ‫لالصطفاف في خندق امتثالية أخرى؟ في ومضة من الوضوح‬ ‫الثاقب‪ ،‬لم ُيغِفل والتر بنيامين «التقارب األصلي بين الفاشية‬ ‫والشيوعية»‪ ،‬كما يالحظ في قراءته للكاتب هنري روجمونت‪.‬‬ ‫«المادّية الجدلية»‬ ‫لكــن والتر بنيامين كان حذرًا ومتحفِّظ ًا إزاء‬ ‫ّ‬ ‫المقدســة وديكتاتوريــة األنغــراس فــي الوقائع السوســيو ‪-‬‬ ‫َّ‬ ‫اقتصاديــة‪ .‬نعــرف أنــه‪ ،‬حتــى إزاء هوركهايمــر‪ ،‬انتقد والتر‬ ‫بنياميــن‪« ،‬بطريقــة غير مباشــرة‪ ،‬الواقعية االشــتراكية»(‪.)3‬‬ ‫يفضــل بنياميــن التجربة المعيشــة والشــخصية‪ ،‬وحين كان‬ ‫ِّ‬ ‫«متســكعاً» في األوســاط الباريســية وقارئ ًا ألعمــال بودلير‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫استقالليته الفكرية‪ ،‬كما تالحظ ذلك‪ ،‬ببصيرة وألمعية‬ ‫اكتسب‬ ‫َّ‬ ‫يتذكر بنيامين بشــكل (نوســتالجي)‪ ،‬في‬ ‫ثاقبــة‪ ،‬حنّة أرندت‪َّ .‬‬ ‫هــذه الرســائل‪« ،‬العمل الفنــي في عصر إعــادة إنتاجه تقنياً‪،‬‬ ‫والمرتبط بأفول هالة األدب‪ ،‬وبتراجعه»(‪.)4‬‬ ‫يتعــرض العمل الفنّــي‪ ،‬واألدب من جهة أخــرى‪ ،‬إلى المصير‬ ‫َّ‬ ‫الفــن الســردي يميــل إلى الضيــاع‪ ،‬فذلك ألن‬ ‫نفســه‪« :‬إذا كان ّ‬ ‫هــذا الجانــب الملحمي من الحقيقــة‪ ،‬الذي هــو الحكمة‪ ،‬يموت‬ ‫أيضــاً»(‪ .)5‬لكــن قناعته الراســخة فــي األدب تبعــث الحياة في‬ ‫أعماقه‪ ،‬فيشــرح أعمال الكاتب ليســكوف قائالً‪ ..« :‬وهكذا فإن‬ ‫معنــى الرواية ال يكمن في مــا تقّدمه لنا‪ ،‬في صيغة تعليمية‪،‬‬ ‫عــن مصير شــخص غريــب‪ ،‬بل فــي هــذا المصير نفســه‪ ،‬من‬ ‫خالل الشــعلة التي تســتنفد قواه‪ ،‬فتوقظ فينــا الدفء الذي ال‬ ‫يمكن‪ ،‬أبداً‪ ،‬االغتراف منه في مصيرنا الشــخصي(‪ .»)6‬ونجده‪،‬‬ ‫‪103‬‬


‫في رســائله حــول األدب‪ ،‬التي يعود تاريخ أخر رســالة منها‬ ‫مهتم ًا بمكتبته‪ ،‬بحيث كانت شــغله‬ ‫إلى مارس‪/‬آذار‪ّ ،1940 ،‬‬ ‫في‬ ‫الشــاغل حتى قبل بضعة أشــهر من انتحاره‪ .‬كان يمتلك أَل ْ‬ ‫كتــاب‪ ،‬ناهيــك عن كتب األطفــال‪ ،‬وكلّها يجــب أن تعود‪ -‬كما‬ ‫يأمــل‪ -‬إلــى برتولد بريخت فــي الدانمارك؛ فميله إلى الســفر‪،‬‬ ‫وتجواله االضطراري لم يبعداه عن الفيروس الممتع‪ ،‬بوصفه‬ ‫شــكل كتابــه «أفــرغ مكتبتي»‬ ‫هاويــ ًا لجمــع الكتــب؛ وهــذا ما َّ‬ ‫كتجربــة وممارســة فــي جمــع الكتب‪« :‬بالنســبة إلــى الهاوي‬ ‫الحقيقــي الجامع للكتب‪ ،‬فإن حصولــه على كتاب قديم يعادل‬ ‫قدم والتر بنيامين نفســه بصفته ِّ‬ ‫ال‬ ‫ممث ً‬ ‫والدة جديــدة له»‪ .‬وقد َّ‬ ‫لحركــة إحيــاء الفنون واآلداب‪ ،‬مــن خالل االحتفــاء بالكتب‪،‬‬ ‫تتفــق مــع األيديولوجيــا الجماعيــة ذات المبدأ‬ ‫فــي مرحلــة ال َّ‬ ‫االشــتراكي القائل بســيطرة الدولة على جميع وسائل اإلنتاج‬ ‫والنشاطات االقتصادية‪.‬‬ ‫كان والتر بنيامين «هاوي ًا بائســ ًا لجمع الكتب»‪ ،‬وكان‪ -‬أيضاً‪-‬‬ ‫محتاج ًا للعملة الورقية؛ فهو في نصوص أخرى مرفقة مع هذه‬ ‫يتحدث عن كتــب حول مرضى األمــراض العقلية‪،‬‬ ‫الرســائل‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫وروايات عن الخادمات‪ ،‬وكتب هجائية‪ ،‬وكذلك كتب لألطفال؛‬ ‫يدل على أن فضوله كان إنســاني ًا بقدر ما كان مســلِّياً‪ ،‬وهو‬ ‫ما ّ‬ ‫فضول طفولي وسوســيولوجي‪ ،‬في اآلن نفســه‪ .‬إن الباحث‪،‬‬ ‫والهــاوي لقوائم المراجع سيكتشــف سلســلة مــن الكتب التي‬ ‫قرأهــا والتــر بنيامين‪ .‬لكــن‪ ،‬من الواضــح‪ -‬أيضــاً‪ -‬أن والتر‬ ‫بنيامين كان موَلع ًا بالكتب النفيسة والنادرة‪ ،‬وليس مهووس ًا‬ ‫بالكتــب وفق ًا للتمييز الــذي َح َّدده أمبرتو إيكــو بخصوص هذا‬ ‫الموضوع(‪ ،)7‬هو عاشــق ينقل شــغفه‪ ،‬على نقيض الشــخص‬ ‫سراً‪ -‬موضوع جنونه‪.‬‬ ‫الذي يسرق‪ ،‬ويخفي‪ّ -‬‬ ‫(‪)8‬‬ ‫قدمت حنّــة أرندت‪ ،‬في مجلّــة «نيوريوركر» ‪،‬‬ ‫ســنة ‪َّ ،1968‬‬ ‫تكريمــ ًا رائع ًا لشــخصية ثقافية رحلت بشــكل ســابق ألوانه‪،‬‬ ‫على شــاكلة كافكا‪ .‬وحده «المجد بعد الوفاة» ما حدث مع هذا‬ ‫الهامشــي بســبب الصهيونية والشــيوعية‪ُ .‬ي َعّد والتر بنيامين‬ ‫ناقــدًا أدبيــ ًا غيــر قابــل للتصنيــف‪ ،‬ودون أن يكون شــاعراً‪،‬‬ ‫يفكــر بطريقة شــاعرية‪ ،‬كمــا تحلِّل‪ ،‬بشــكل دقيق‪ ،‬حنّة‬ ‫كان ِّ‬ ‫أرندت(‪ ...)9‬لألســف‪ ،‬هذا الشــخص الذي وصفته حنّة أرندت‬ ‫بـــاألحدب (فــي إشــارة إلى القصائــد الطفولية‪ ،‬حيــث ترتبط‬ ‫هذه الصورة بالحماقــة ِ‬ ‫والحَيل) عاش‪ ،‬حتى لحظة انتحاره‪،‬‬ ‫لدولتْين‬ ‫أوقاتــ ًا عصيبة وكالحة‪ ،‬عالق ًا بين حدود اســتبدادية‬ ‫َ‬ ‫في ميناء «بو» على الحدود اإلســبانية ‪ -‬الفرنسية‪ ،‬بينما كان‬ ‫يحــاول الهرب من النازيين‪ ،‬في ‪ 27‬ســبتمبر‪/‬أيلول‪.1940 ،‬‬ ‫وإذا كان والتر بنيامين قد اســتطاع تجســيد األنموذج المثالي‬ ‫للمتســكع الباريســي‪ ،‬الموروث من القرن التاســع عشر‪ ،‬إلى‬ ‫ِّ‬ ‫َحــّد كتابة نصوص أدبيــة كبيرة باللّغة الفرنســية‪ ،‬فإنه كان‬ ‫ســيما‬ ‫محكوم ًا عليه بالترحال االفتتاحي في معظم مقاالته‪ ،‬ال ّ‬ ‫أن نصوصه ُنشــرت وهو على قيد الحياة‪ ،‬حتى دون االنتهاء‬ ‫التــام مــن كتابتها أو العمل على فصلها عــن التوأم الغريب في‬ ‫ّ‬ ‫إنتاجــه الفكري ‪« :‬بودلير»‪ ،‬و«باريس عاصمة القرن التاســع‬ ‫عشــر»‪ ،‬حيث تظهر‪ -‬باســتمرار‪« -‬مجموعة من االقتباســات»‪.‬‬ ‫هذه المجموعة كانت‪ -‬بالطبع‪ -‬ص ًدى لمجموعة غريبة أحياناً‪،‬‬ ‫لمتحمس مولــع بالكتب‬ ‫وغيــر مجدية‪ ،‬بشــكل مثير للشــفقة‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫‪104‬‬

‫حس فضولي‪.‬‬ ‫وذي ّ‬ ‫كتــاب حنّة أرنــدت «والتر بنياميــن‪ »1940 - 1892 :‬هو رثاء‬ ‫ســيما حين تقارنــه بكافكا‪ ،‬منارة‬ ‫جميــل‪ ،‬واعتراف بارع‪ ،‬ال َّ‬ ‫غريبــة أخــرى‪ ،‬فــي مرحلة مــا بعــد اليهودية‪ .‬لقــد كان والتر‬ ‫بنيامين مفلســاً‪ ،‬عاش على نفقة والديه حتى عام ‪ .1930‬كان‬ ‫نوعــ ًا مــن األبطال الذين عانوا من ســوء الفهم فــي الثقافتين‪:‬‬ ‫متأخر (بعــد الوفاة)‪ ،‬أصبح‬ ‫الفلســفية‪ ،‬واألدبيــة‪ ،‬وفي وقت ِّ‬ ‫ــة‪ ،‬وهذا بســبب عبقريته‬ ‫عام ً‬ ‫معشــوق المثقَّفيــن وأهــل الفكر ّ‬ ‫توضح ذلك‪ -‬بحماس‪ -‬حنّــة أرندت‪ ،‬و‪ -‬أيضاً‪-‬‬ ‫األكيــدة‪ ،‬كمــا ِّ‬ ‫متميزًا للماركسية (على الرغم من‬ ‫ا‬ ‫وريث‬ ‫كونه‬ ‫للســبب األسوأ؛‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫يستحق االحترام والتقدير الذي لم‬ ‫نزعته األرثوذكسية)‪ ،‬حيث‬ ‫ّ‬ ‫يحظ بهما وهو على قيد الحياة‪.‬‬ ‫َ‬ ‫لــم يكن والتر بنيامين‪ ،‬في نهاية المطاف‪ ،‬لغزاً‪ ،‬مادام العديد‬ ‫لكتابْيه‪:‬‬ ‫تطرقت بالنقــد الحصيف‬ ‫من المقــاالت والكتب ّ‬ ‫المهمة َّ‬ ‫َ‬ ‫«بودليــر»‪ ،‬و«باريــس»‪ .‬أمــا النصــوص التي تبــدو‪ ،‬للوهلة‬ ‫األولى‪ ،‬صغيرة‪ :‬مثل «رسائل حول األدب» و«أفرغ مكتبتي»‪،‬‬ ‫فهمــا مــن بين «الجواهــر «التي تكفَّلــت حنّة أرنــدت بقراءتها‪،‬‬ ‫بشكل نقدي بنّاء»‪.‬‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫هوامش‬

‫‪(1) Pain et vin », strophe 7 ; HOlderlin : Œuvres, Gallimard,‬‬ ‫‪Pléiade, 1982, p 813.‬‬ ‫‪(2) Voir : L’hydre de Lerne du Baudelaire de Walter‬‬ ‫‪Benjamin‬‬ ‫‪(3) Walter Benjamin : Paris, capitale du XIX° siècle. Le‬‬ ‫‪livre des passages, traduit par Jean Lacoste, Cerf, 1989,‬‬ ‫‪p 480.‬‬ ‫‪(4) Bernd White :Walter Benjamin. Une biographie, traduit‬‬ ‫‪par André Bernold, Cerf, 1988, p 201.‬‬ ‫‪(5) Walter Benjamin : «L’œuvre d’art à l’époque de sa‬‬ ‫‪reproductibilité mécanisée », Ecrits français, Gallimard,‬‬ ‫‪Folio Essais, 2003.‬‬ ‫‪(6) Le narrateur », Rastelli raconte, traduit par Philippe‬‬ ‫‪Jaccottet, Seuil, 1987, p 150.‬‬ ‫‪(7) Le narrateur », ibidem, p 168.‬‬ ‫‪(8) Umberto Eco : La Memoria vegetale et altri scritti di‬‬ ‫‪bibliofilia, Bompiani, 2011, p 31.‬‬ ‫‪(9) Voir : Hannah Arendt, de la banalité du mal à la‬‬ ‫‪banalité de la culture.‬‬

‫العنوان األصلي للمقال والمصدر ‪:‬‬

‫‪Thierry Guinhut: Une vie d’écriture et de photographie‬‬ ‫‪Conscience morale et littérature, lecture de Walter‬‬ ‫‪.Benjamin et d’Hannah Arendt‬‬ ‫‪thierry-guinhut-litteratures.com‬‬


‫ضغط الكتابة‬

‫أمير تاج السر‬

‫نصوص َميِّتة‬

‫نص روائي أو قصصي‪ ،‬تكون‬ ‫كثيرًا ما يبدأ كاتب ما‪ ،‬كتابة ٍ‬ ‫فكرته مكتملة‪ ،‬وبعض أركانه متوافرة في الذهن‪ ،‬ويمكن‬ ‫متميز إلى َح ٍّد ما‪،‬‬ ‫باالستمرار في كتابته‪ ،‬أن يحصل على ٍ‬ ‫نص ّ‬ ‫لكن فجأة تحدث ظروف طارئة‪ ،‬وينقطع الكاتب عن نصه مرغم ًا‬ ‫يتذكره ويعود‬ ‫أيام ًا ِعّدة‪ ،‬أو شهوراً‪ ،‬وربما سنوات‪ ،‬وحين ّ‬ ‫إليه بعد ذلك‪ ،‬وبعد أن يكون أنجز نصوص ًا أخرى كاملة‪،‬‬ ‫غيره‪ ،‬غالب ًا ال يحصل عليه كما كان‪ ،‬أي أن النص القديم‪ ،‬ال‬ ‫ينتظره فاتح ًا أحضانه‪ ،‬وبنفس توهجه‪ ،‬ليعود ويعمل عليه‪،‬‬ ‫مرة أخرى‪،‬‬ ‫إنه غالب ًا ما ينطفئ‪ ،‬وتصعب عملية إعادة إشعاله ّ‬ ‫وإن حدث واشتعل‪ ،‬سيكون ذلك اشتعا ًال بارداً‪ ،‬وغالب ًا ما‬ ‫يحدث بعد محاوالت مضنية‪.‬‬ ‫الكّتاب بالتأكيد‪ ،‬ولكن على الذين‬ ‫ما ذكرته ال ينطبق على ّ‬ ‫كل ُ‬ ‫يكتبون الرواية بشكل يومي أو متقطع على َح ٍّد سواء‪ ،‬ألن‬ ‫الكتابة المتقطعة‪ ،‬ال تعني أن يكتب أحدهم صفحة أو صفحتين‬ ‫ِعّدة أيام‪ ،‬أو ِعّدة أشهر‪ ،‬وإنما في الغالب تحدث حسب الزمن‬ ‫ليدون‬ ‫الذي يحصل عليه الكاتب‪ ،‬في ازدحام يومه‪ ،‬بحيث يسرع ّ‬ ‫مرات في اليوم أو األسبوع‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫كل خواطره‪ ،‬ويمكن أن يحدث ذلك ّ‬ ‫من دون أن يفقد النص بريقه في ذهن الكاتب‪.‬‬ ‫شخصي ًا أميل للكتابة بشكل مستمر حتى ينتهي النص‪ ،‬إن‬ ‫جاءتني فكرة‪ ،‬ووجدتها تستحق عناء أن أفكر في كتابتها‪،‬‬ ‫ثم إن جاءتني بعد ذلك بداية نص‪ ،‬وهكذا أحاول أن أنتزع‬ ‫الوقت ألكتب بال انقطاع حتى ينتهي النص وإن حدث وانقطع‬ ‫أهميته تتناقص في ذهني إلى أن‬ ‫ألي ظرف كما ذكرت‪ ،‬تبدأ ّ‬ ‫مرة‬ ‫يصبح نص ًا غير مكتمل‪ ،‬أو نص ًا مهمالً‪ ،‬ال أمل في إيقاظه ّ‬ ‫أخرى والعمل عليه‪.‬‬ ‫لقد عدت مؤخرًا إلى أوراقي القديمة‪ ،‬التي تعود إلى ما قبل‬ ‫دخولي عالم الكمبيوتر‪ ،‬وأيض ًا إلى بعض الديسكات القديمة‪،‬‬

‫التي كانت رائجة في حفظ النصوص والصور‪ ،‬عثرت في تلك‬ ‫بحماس‬ ‫األوراق والديسكات على عدد من النصوص التي كتبتها‬ ‫ٍ‬ ‫فعلي‪ ،‬وضاعت بعد ذلك ألسباب لم أعد أذكرها‪ ،‬لكنها غالب ًا‬ ‫بنص‬ ‫أسباب مثل المرض أو السفر لفترة طويلة‪ ،‬أو بانشغالي ٍ‬ ‫آخر‪ ،‬يسرق الوقت مني‪ .‬كان بعض هذه النصوص قصيرًا بحيث‬ ‫أتعمق فيها كثيراً‪ ،‬وبعضها‬ ‫بدا لي مجرد بدايات روايات‪ ،‬لم ّ‬ ‫طويل‪ ،‬من ِعّدة فصول‪ ،‬وواضح أنها كانت روايات تحمل هيكلها‬ ‫وأفكارها‪ ،‬ولألسف‪ ،‬انتهت إلى اإلهمال‪.‬‬ ‫مؤرخ ًا‬ ‫من هذه النصوص‪ ،‬نص اسمه «غثيان»‪ ،‬عثرت عليه ّ‬ ‫ويعود إلى نهاية التسعينيات‪ ،‬أي إلى الفترة التي كنت ما أزال‬ ‫متأثرًا فيها بالشعر‪ ،‬لكن كان ذلك النص مختلف ًا فعالً‪ ،‬فالحكي‬ ‫فيه ظاهر جداً‪ ،‬والشخصيات مرسومة كما ينبغي أن ُترسم‬ ‫الشخصيات‪ ،‬وأخاله اآلن لو اكتمل‪ ،‬لكان بدايتي الحقيقية في‬ ‫السرد‪ ،‬أي بداية مالمح أسلوبي الذي يزاوج بين الشعر والنثر‬ ‫أؤرخ له برواية‬ ‫من دون سيطرة للشعر على النص‪ ،‬ودائم ًا ما ّ‬ ‫«مهر الصياح»‪.‬‬ ‫قرر أن يترك الريف فجأة‪ ،‬ويسافر‬ ‫القصة عن شاب ريفي‪ّ ،‬‬ ‫للعاصمة‪ ،‬واستعان في التعرف إلى طريقه‪ ،‬وما يمكن أن‬ ‫يقابله في العاصمة قبل أن يندمج فيها‪ ،‬برجل من العاصمة‬ ‫وأسس مطعم ًا جيداً‪.‬‬ ‫استقر في الريف منذ فترة ّ‬ ‫ّ‬ ‫حقيقة ال أتذكر ماذا كان مسار قصة «غثيان»‪ ،‬وماذا كان‬ ‫سيحدث للريفي المهاجر‪ ،‬وهو في العاصمة‪ ،‬وما انعكاس ذلك‬ ‫على بلدته الريفية‪ ،‬واآلن قطع ًا لن أفكر في ذلك‪ ،‬ألنني لن‬ ‫أعود إلكمال هذا النص‪ ،‬وال غيره من تلك التي انتهى وهجها‪.‬‬ ‫‪105‬‬


‫إصدارات‬

‫حفر ّيات‬

‫اليمن السعيد‬ ‫باريس‪ -‬أوراس زيباوي‬ ‫إذا كانــت الحضــارات التــي تعاقبــت‪،‬‬ ‫في بالد الشرق القديم ومصر‪ ،‬قد أثارت‬ ‫البحاثة‬ ‫منذ القرن الثامن عشــر‪ ،‬اهتمــام ّ‬ ‫الغربيين؛ مما سمح‬ ‫األثريين‬ ‫والمنقِّبين‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫بالكشف عن آثار هذه الحضارات الرائدة‬ ‫فــي تاريــخ اإلنســانية‪ ،‬وهــي تطالعنــا‬ ‫فإن‬ ‫اليــوم فــي أهـّـم المتاحــف العالميــة‪ّ ،‬‬ ‫حضــارة اليمــن القديــم ظلَّــت مجهولــة‪،‬‬ ‫ولــم تأخــذ المكانــة التــي تســتحقّها‪،‬‬ ‫بــل ظّلــت معرفتهــا محصــورة بعــدد مــن‬ ‫المتخصصيــن والمبدعيــن الذيــن زاروا‬ ‫ِّ‬ ‫أن دور‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫إل‬ ‫ـارة‬ ‫ـ‬ ‫اإلش‬ ‫تقتضي‬ ‫ـد‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫البل‬ ‫هذا‬ ‫ّ‬ ‫النشــر الفرنســية أصدرت‪ ،‬في السنوات‬ ‫األخيرة‪ ،‬عددًا من الكتب الجميلة للتعريف‬ ‫باليمن المجهول‪ ،‬مع التركيز على المدن‬ ‫التاريخيــة وعمارتهــا الســاحرة‪ .‬كذلــك‪،‬‬ ‫أقيــم فــي «معهــد العالــم العربــي»‪ ،‬عــام‬ ‫‪ ،1997‬معرض كبير للتعريف بحضارات‬ ‫اليمن القديــم‪ ،‬تحــت عنــوان «اليمن‪ ،‬في‬ ‫بــاد مملكة ســبأ»‪.‬‬ ‫جو من طغيــان الحدث‬ ‫َّ‬ ‫مؤخراً‪ ،‬وفــي ٍّ‬ ‫السياســي واســتمرار الحرب فــي اليمن‪،‬‬ ‫عــادت الحضــارة اليمنيــة إلــى الواجهــة‬ ‫فــي باريــس‪ ،‬وذلــك مــع صــدور كتــاب‬ ‫فخــم عــن دار (غوتنيــر) بعنــوان «اليمــن‬ ‫أرض األركيولوجيا»‪ .‬أشرف على الكتاب‬ ‫غيــوم شــارلو‪،‬‬ ‫الباحثــان‬ ‫الفرنســيان‪ّ :‬‬ ‫ّ‬ ‫يضــم الكتــاب‬ ‫وجيريمــي شــيتكات‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫قيمة مــن الدراســات والصور‪،‬‬ ‫مجموعــة ّ‬ ‫وهــي تتناول أعمــال التنقيــب التي قامت‬ ‫‪106‬‬

‫بهــا بعثــات فرنســية خــال فتــرة زمنيــة‬ ‫امتـ َّـدت حوالــي أربعيــن عام ـاً‪ ،‬وشــملت‬ ‫المهمة‪.‬‬ ‫مختلف المواقــع اليمنية األثريــة ّ‬ ‫يكشف الكتاب عن خصوصية التراث‬ ‫اليمني‪ ،‬تلك الخصوصية التي يستمّدها‬ ‫اليمن من عوامل عّدة‪ ،‬أبرزها الطبيعة‪،‬‬ ‫المميــز ضمــن إطــار‬ ‫والموقــع الجغرافــي‬ ‫َّ‬ ‫بيئــة صحراويــة‪ .‬تــكاد مســاحة اليمــن‪،‬‬ ‫اليــوم‪ ،‬تعــادل مســاحة فرنســا‪ ،‬ويبلــغ‬ ‫تعــداد سـّـكانه حوالــي خمســة وعشــرين‬ ‫سلســلتْين‬ ‫مليــون نســمة‪ ،‬وهــو يضــم‬ ‫َ‬ ‫جبليَتْيــن؛ ممــا ســمح بنشــوء الزراعــة‬ ‫َّ‬ ‫المرويــة بفضــل هطــول األمطــار‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وتأســيس حضارة عريقة قبل اإلسالم‪،‬‬ ‫فــي األراضــي الممت ـّدة بيــن المرتفعــات‬ ‫والصحراء الكبرى في الجزيرة العربية‪.‬‬ ‫بأن البشر‬ ‫تفيد نتائج التنقيبات األثرية ّ‬ ‫اســتقروا في اليمن منذ آالف السنين‪ ،‬وقد‬ ‫ّ‬ ‫عملوا في الزراعة منذ أكثر من خمسة آالف‬ ‫ســنة‪ .‬ولم يخضع اليمــن لإلمبراطوريات‬ ‫والــدول التــي تعاقبت علــى الشــرق القديم‬ ‫أن مســاحات‬ ‫وحــوض‬ ‫المتوســط؛ ذلــك ّ‬ ‫ّ‬ ‫شاسعة وصحراوية كانت تفصل بينه وبين‬ ‫دول الشــرق األوســط‪ ،‬فحافــظ علــى نــوع‬ ‫منحْته هذه الخصوصية‪،‬‬ ‫من االستقاللية َ‬ ‫في الكتابة والعمــارة والفنون‪.‬‬ ‫وإذا كانــت مصــر والعــراق وســوريا‬ ‫عرفت‪ -‬كمــا أشــرنا‪ -‬التنقيبــات األثرية‪،‬‬ ‫علــى يــد البعثــات األوروبية‪ ،‬منــذ القرن‬ ‫ـل بمعــزل‬ ‫ـإن اليمــن ظـ َّ‬ ‫التاســع عشــر‪ ،‬فـ ّ‬

‫عن هذا االهتمــام‪ ،‬على الرغــم من زيارة‬ ‫الرحالة والمغامرين إلى اليمن‪،‬‬ ‫عدد من ّ‬ ‫منــذ القــرن الثامــن عشــر‪ .‬وكانــت بعثــة‬ ‫دانماركيــة قــد زارت اليمــن عــام ‪،1763‬‬ ‫حي ًا ســوى شــخص واحد؛‬ ‫ولم يعد منها ّ‬ ‫وذلك بســبب عزلة اليمــن آنــذاك‪ ،‬وعدم‬ ‫اســتتباب األمن‪.‬‬ ‫بالنســبة إلــى فرنســا‪ ،‬بــدأ االهتمــام‬ ‫الرسمي باليمن عندما أرسلت األكاديمية‬ ‫الفرنسية للنقوش واآلداب العاِلم «جوزف‬ ‫هاليفــي»‪ ،‬عــام ‪ ،1870‬للعثــور علــى‬ ‫ئية‪ ،‬وجمعهــا فــي إطــار‬ ‫السـ َـب ّ‬ ‫الكتابــات َ‬ ‫الســامية‪ ،‬وكان‬ ‫العمــل علــى النقــوش‬ ‫ّ‬ ‫عملــه حاســم ًا ورائــدًا فــي هــذا المجــال‪.‬‬ ‫في عام ‪ ،1982‬وبمبادرة من «كريستيان‬ ‫المتخصــص في جنوب‬ ‫روبان»‪ ،‬العالــم‬ ‫ِّ‬ ‫تأسس‪ ،‬في صنعاء‪،‬‬ ‫الجزيرة العربية‪َّ ،‬‬ ‫«المركز الفرنســي لألركيولجيــا والعلوم‬ ‫االجتماعيــة» الــذي يلقــى دعــم وزارة‬ ‫الخارجيــة الفرنســية و«المركــز الوطنــي‬ ‫لألبحــاث العلميــة»‪.‬‬ ‫منــذ حوالــي أربعيــن عام ـاً‪ ،‬تعاقبــت‬ ‫بعثات فرنسية عديدة على أرض اليمن‪،‬‬ ‫وعملت على دراسة االستيطان البشري‪،‬‬ ‫إلــى جانــب بعثــات أوروبيــة وأميركية‪،‬‬ ‫أن‬ ‫خاصـ ًـة ّ‬ ‫فلم يعــد اليمن بلــدًا مجهــوالً‪ّ ،‬‬ ‫أعمــال التنقيــب العلميــة قّدمــت نتائــج‬ ‫ـرف‪ ،‬عــن كثــب‪،‬‬ ‫ملموســة ســمحت بالتعـ ُّ‬ ‫إلــى تاريــخ اليمــن‪ ،‬ومملكــة ســبأ التــي‬ ‫ذاع صيتهــا قديماً‪.‬‬


‫الكتاب الجديد الذي بين أيدينا‪ ،‬اليوم‪،‬‬ ‫هو‪ -‬فعـاً‪ -‬دعوة إلى الســفر فــي األزمنة‬ ‫القديمة‪ ،‬وإلى اكتشــاف حضارة عريقة‪،‬‬ ‫مهددة باالندثار‪،‬‬ ‫خاصة أن معالمها الباقية َّ‬ ‫ّ‬ ‫أي وقــت مضــى؛ بســب‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫أكث‬ ‫ـوم‪،‬‬ ‫اليـ‬ ‫ّ‬ ‫الصراعات‪ :‬الداخلية‪ ،‬والخارجية‪ ،‬وبسبب‬ ‫يركز الكتاب‪ ،‬فقط‪ ،‬على مملكة‬ ‫الفقر‪ .‬وال ّ‬ ‫وورد‬ ‫الماضي‪،‬‬ ‫في‬ ‫صيتها‬ ‫ذاع‬ ‫سبأ التي‬ ‫َ‬ ‫المقـدســـة‪ ،‬بل‬ ‫اسم ملكــــتها في الكـــتب‬ ‫َّ‬ ‫يركز‪ -‬أيضاً‪ -‬على مرحلة ما قبل التاريخ‪،‬‬ ‫أمــا ابتكارات‬ ‫وعلى المرحلة اإلســامية‪ّ .‬‬ ‫اليمنييــن فقــد تجّلــت فــي مجــاالت عديــدة‬ ‫منهــا تجــارة الطيــوب وتطويــر الزراعــة‬ ‫ْورة تقنيات جديدة في أســاليب‬ ‫بفضل َبل َ‬ ‫الري‪ ،‬في مناطــق محاذية للصحراء‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ظهــرت ممالــك كثيــرة فــي اليمــن قبــل‬ ‫اإلسالم‪ ،‬وكان أشهرها سبأ‪ ،‬وعاصمتها‬

‫مــأرب التــي صــارت أكبــر مدينــة فــي‬ ‫الجزيرة العربية‪ ،‬وهي تبعد حوالي مئة‬ ‫وثالثين كيلومتــرًا عن صنعــاء‪ .‬لقد كان‬ ‫للسبئيين كتابتهم‪ ،‬وفنونهم‪ ،‬وعمارتهم‬ ‫ِّ‬ ‫المميــزة‪ ،‬ومــن إنجازاتهــا المعروفة سـّد‬ ‫َّ‬ ‫مــأرب األســطوري الــذي يرمــز انهياره‪،‬‬ ‫في القرن الســادس الميــادي‪ ،‬إلى موت‬ ‫الحضارة اليمنيــة القديمــة‪ ،‬وأفولها‪.‬‬ ‫مع كتاب «اليمن أرض األركيولوجيا»‪،‬‬ ‫مــاض‬ ‫نســتعيد صفحــات مجهولــة مــن‬ ‫ٍ‬ ‫أن الجزيرة‬ ‫تبيــن‪ ،‬مــن جديــد‪ّ ،‬‬ ‫ســحيق‪ِّ ،‬‬ ‫العربيــة لــم تكــن صحــراء قاحلــة؛ فهــي‬ ‫الجبــارة‬ ‫عرفــت‪ ،‬بفضــل جهــود أهلهــا ّ‬ ‫ومواجهتهم لصعوبات الطبيعة‪ ،‬والعزلة‬ ‫ٍ‬ ‫إنجازات مدهشة في مختلف‬ ‫الجغرافية‪،‬‬ ‫المجاالت‪ ،‬حتى أن جنوب الجزيرة ُس ِّمي‪،‬‬ ‫َ‬ ‫المؤرخيــن القدامــى‪« ،‬بــاد‬ ‫فــي كتــب‬ ‫ِّ‬

‫العرب الســعيدة»‪ .‬وليــس غريب ـ ًا أن ترد‬ ‫في التــوراة وفــي القــرآن الكريــم زيارة‬ ‫ملكــة ســبأ للملــك ســيلمان مــع حاشــية‬ ‫لة بالطيوب والذهب والحجارة‬ ‫محم ً‬ ‫كبيرة ّ‬

‫القصــة التــي أخــذت بعدًا‬ ‫الكريمــة‪ .‬فهــذه ّ‬ ‫أسطوري ًا تجد جذورها كحضارة عريقة‪،‬‬

‫جــاءت فــي االكتشــافات األثريــة‪ ،‬ومنهــا‬ ‫تلــك التــي قامــت بهــا البعثــات التنقيبية‬

‫لتؤكد على‬ ‫الفرنســية منذ أربعين عامـاً‪ّ ،‬‬ ‫أهميتهــا وفرادتها فــي تاريخ الشــرق‪.‬‬ ‫َّ‬

‫قد يكون‪ ،‬فــي النظر إلــى ماضي تلك‬

‫المنطقــة مــن العالــم‪ ،‬اليــوم‪ ،‬ســواء في‬ ‫اليمــن أم فــي غيرهــا مــن الــدول العربيــة‬

‫التي شهدت والدة الحضارات اإلنسانية‬ ‫بعض عــزاء‪.‬‬ ‫األولــى‪ُ ،‬‬

‫‪107‬‬


‫هو ّية قلقة‬ ‫تبحث عن انتساب‬ ‫إبراهيم أولحيان‬ ‫ــت روايــة «نوميديــا» (داراآلداب‪،‬‬ ‫َبَن ْ‬ ‫بيروت‪ 2012 ،‬القائمة القصيرة لجائزة‬ ‫البوكر لدوائر العربية)‪ ،‬للكاتب المغربي‬ ‫طارق بكاري‪ ،‬حكايتها على نقطة جذب‬ ‫مركزيــة‪ ،‬تمثَّلــت فــي األســتاذ الجامعــي‬ ‫مــراد‪ ،‬الــذي عــاد إلــى قريتــه واشــترى‬ ‫فندقـاً‪ ،‬ليكــون قريب ًا مــن مــكان طفولته‪.‬‬ ‫متبعــ ًا‬ ‫يعــود مــراد إلــى قريــة (إغــرم) َّ‬ ‫ألــح‬ ‫نصيحــة طبيبــه النفســاني‪ ،‬الــذي َّ‬ ‫عليــه كــي يعــود إلــى مــكان والدتــه‪،‬‬ ‫والتصالــح مــع ماضيــه‪ ،‬بعدمــا دنــا‬ ‫مــن حاّفــة الجنــون‪ ،‬بســبب الفتيــل الذي‬ ‫أشــعله انتحــار خولــة‪ ،‬وتص ـّدع جســده‬ ‫بانفجــار ذاكرتــه التــي مــا لبثت تســتعيد‬ ‫ركام الماضي الحزين المأســاوي‪ ،‬الذي‬ ‫بدأ باليــوم الذي وجــده شــخص (أمحند)‬ ‫فــي الطريــق‪ ،‬ملفوف ًا فــي ثــوب‪ ،‬وأخذه‬ ‫إلى المنــزل‪ ،‬عند زوجتــه وأبنائــه‪ .‬تلك‬ ‫كانــت النقطــة األســاس التــي تمحــور‬ ‫ـص الروائــي‪ ،‬ودار حولهــا في‬ ‫عليهــا النـ ّ‬ ‫تفجر‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫حلزوني‬ ‫ـرة‬ ‫ـ‬ ‫دائ‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫شــكل نقطة‬ ‫ِّ‬ ‫األحاســيس والحكايات‪ ،‬وتقود الرواية‬ ‫نحــو مصيــر مأســاوي‪.‬‬ ‫إن الجــرح الــذي يســتنزف مــراداً‪،‬‬ ‫ويعذِّبــه‪ ،‬هو كونــه لقيطاً‪ ،‬وما اســتلزم‬ ‫ذلك من خدش في طفولة بيضاء بريئة‪.‬‬ ‫سيعاني مراد الويالت في صغره‪ ،‬بسبب‬ ‫عدم اكتراث أهــل (أمحند) بــه‪ ،‬وتهميش‬ ‫أهل القريــة له؛ مما ســيدفعه إلــى قضاء‬ ‫كل الوقت في الجبل‪ ،‬قريب ـ ًا من الطبيعة‬ ‫ّ‬ ‫متفوقـ ًا‬ ‫والحيوانــات‪ ،‬ورغــم ذلــك‪ ،‬كان‬ ‫ِّ‬ ‫في دراســته‪.‬‬ ‫أحــداث كثيــرة ســتقع فــي القريــة‪،‬‬ ‫ســيلصقها الفقيه وأهل القريــة بـ(أوداد)‬ ‫‪108‬‬

‫(وهــو االســم الــذي كان يحملــه مــراد في‬ ‫ـيتم‬ ‫صغــره فــي قريــة إغــرم)‪ ،‬وبذلك سـ ّ‬ ‫التخلُّص منه‪ ،‬بتســليمه إلى رجل يرغب‬ ‫في تبنّيه‪ ،‬هذا األخير ســيأخذه معه إلى‬ ‫المدينة‪ ،‬ليعيش مع بناته وزوجته تحت‬ ‫ســقف واحد‪ ،‬لكن األمور ستســير عكس‬ ‫مــا تبــدو عليــه‪ ،‬ألن زوجتــه ســترفضه‪،‬‬ ‫وتمــارس عليــه التعذيــب‪ ،‬الــذي لزمــه‬ ‫طــوال حياتــه‪ ،‬مــن خــال تلــك النــدوب‬ ‫الموشــومة علــى ظهــره‪ ،‬والتــي توقــظ‬ ‫فيــه آالم ـ ًا غائرة‪.‬‬ ‫حكايــة مــراد مــع قريتــه تتقاطــع مــع‬ ‫حكايات أخرى‪ ،‬ربطها مع آخرين‪ ،‬مثل‬ ‫مصطفــى‪ ،‬أســتاذه اليســاري الــذي مات‬ ‫في أحداث ‪ 16‬مايو‪ ،‬فــي الدار البيضاء؛‬ ‫يخيــم‬ ‫وهــو مــا ســيجعل شــبح اإلرهــاب ّ‬ ‫على مراد نفســه الــذي أعتقد بأنــه مهّدد‪،‬‬

‫يحلن مباشرة‬ ‫ألن تفكيره وممارســته‪ّ ،‬‬ ‫على هذه المواجهة‪ ،‬التي ستأخذ مساحة‬ ‫ال بأس بها في الرواية‪ .‬وبما أن الرواية‬ ‫ال يمكن أن تنمو بدون شــخصيات فاعلة‬ ‫فإن الكاتب وضع‪ ،‬في مقابل مراد‪ ،‬ثالث‬ ‫شخصيات نسائية‪( :‬نضال)‪ ،‬التي رافقته‬ ‫ّ‬ ‫فــي الجامعة بـ(ظهــر المهــراز) في فاس‪،‬‬ ‫وهــي ســليلة عائلــة مناضلــة‪ ،‬ســتدخل‬ ‫السجن مثل أبيها‪ ،‬وسينســاها مراد إلى‬ ‫أن يلتقــي باســمها‪ ،‬بوصفهــا شــاعرة‪،‬‬ ‫ـات‪ .‬و(جوليــا) الشــابة‬ ‫فــي إحــدى المجـّ‬ ‫الفرنســية التــي التقاهــا في باريــس‪ ،‬ثم‬ ‫التحقــت بإغــرم‪ ،‬وســتكون‪ ،‬فــي كثيــر‬ ‫من لحظــات الروايــة‪ ،‬هي المســرود لها‪.‬‬ ‫وعبــر إنصاتها‪ ،‬تصلنا أجــزاء كثيرة من‬ ‫المتنكر‪ ،‬في سرده‪ ،‬بحكاية‬ ‫حياة مراد‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫أحد أصدقائــه (أوداد)‪ .‬و(جوليا) تعرف‬ ‫أجــزاء كبيــرة مــن حياتــه‪ ،‬عــن طريــق‬ ‫الطبي الذي اشترته‬ ‫تجسســها على ملفِّه ّ‬ ‫ُّ‬ ‫مــن طبيبــه النفســاني‪ .‬وتبقــى (خولة)‪،‬‬ ‫تلــك المــرأة التــي عشــقها مــراد‪ ،‬وتركها‬ ‫ا حيــن ســافر إلتمــام دراســته فــي‬ ‫حام ـ ً‬ ‫انســد أفــق‬ ‫وحيــن‬ ‫ســتنتظره‪،‬‬ ‫فرنســا‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫األمــل أمامهــا انتحــرت‪ ،‬لكــن حضورهــا‬ ‫تحســر مراد‬ ‫في الروايــة ّ‬ ‫قوي‪ ،‬من خالل ُّ‬ ‫وندمه على تخلّيه عنهــا‪ ،‬و‪ -‬أيضاً‪ -‬عبر‬ ‫مذكراتهــا التــي تركتهــا لــه مــع إحــدى‬ ‫ِّ‬ ‫صديقاتها‪.‬‬ ‫ـتهل روايــة «نوميديا» الســرد‬ ‫إذاً‪ ،‬تسـ ّ‬ ‫بالعــودة؛ عودة مــراد إلى قريتــه إغرم‪،‬‬ ‫فــي إحــدى عطــل الصيــف‪ ،‬لكنهــا عــودة‬ ‫مشــحونة بكثيــر مــن الســخط‪ ،‬والقلــق‬ ‫محملة بكثير‬ ‫الوجودي‬ ‫ّ‬ ‫الحاد‪ ،‬وبذاكــرة َّ‬ ‫من اآلالم واألوجاع‪ ،‬وقد جاء االستهالل‬


‫كمــا يأتــي‪« :‬كنــت أعلــم أننــي أقتــرف‪،‬‬ ‫بعودتــي المجنونــة إلــى هــذه القريــة‪،‬‬ ‫خط ـ ًأ فادح ـاً‪ ،‬وأن هــذه العــودة البـ َّـد أن‬ ‫كل ذكرياتــي الراســبة‪.‬‬ ‫تحــرك ســخط ّ‬ ‫ِّ‬ ‫مضرج ًا بأوجاع جديدة‪،‬‬ ‫أعود إلى إغرم‬ ‫َّ‬ ‫أعــود ألوقــظ تعبـاً‪ ،‬قــد خلته‪ -‬إلــى وقت‬ ‫قريب‪ -‬قد انطفأ نهائيـاً»‪ .‬وبما أن عنوان‬ ‫أي‬ ‫الرواية يبدو غامض ًا ملتبساً‪ ،‬واليفتح ّ‬ ‫توضيح لعوالم الرواية ّ‬ ‫(إل لمن له دراية‬ ‫بالتاريخ األمازيغي‪ ،‬فإنه سيحيله على‬ ‫أية‬ ‫ملكــة أمازيغية قديمة)‪ ،‬ألنــه ال ِّ‬ ‫يقدم ّ‬ ‫إشارة إلى محتوى الكتاب‪ .‬عنوان يمكن‬ ‫أن ندرجه ضمن العناوين الكنائية التي‬ ‫القصة»‬ ‫«ترتبط بعنصر أو بشخصية في ّ‬ ‫استعاري ألنه‬ ‫(‪ ،)1‬وهو‪ -‬أيضاً‪ -‬عنوان‬ ‫ّ‬ ‫ـص بطريقــة رمزيــة‪.‬‬ ‫يصــف محتــوى النـ ّ‬ ‫هكــذا‪ ،‬فحيــن يكــون العنــوان غيــر ٍ‬ ‫كاف‬ ‫«تأتــي الســطور األولــى‪ ،‬فــي تحديدهــا‬ ‫لطبيعة المحكي‪ ،‬لتشــير إلــى الوضعية‬ ‫يتعيــن علــى القــراءة تبنّيهــا» (‪)2‬؛‬ ‫التــي‬ ‫َّ‬ ‫وبذلــك‪ ،‬يضعنــا االســتهالل عنــد النقطة‬ ‫األســاس في الرواية‪ ،‬وهــي العودة إلى‬ ‫الماضي المزدوج‪ :‬ماضي إغرم‪ ،‬وماضي‬ ‫يلخص‬ ‫سنوات الهجرة في المدينة‪ .‬وفيها ِّ‬ ‫التوتر الذي يعيشه مع ذاته ومع‬ ‫السارد‬ ‫ُّ‬ ‫العالم‪ ،‬وهي النقطة التي ستجعل القارئ‬ ‫المضي‬ ‫يقتنع بالرواية‪ ،‬وتســتميله إلى‬ ‫ّ‬ ‫فــي القــراءة؛ بحث ـ ًا عــن تفاصيــل عالم‪،‬‬ ‫ـرام عقــد‬ ‫فبعـ َـد إبـ ِ‬ ‫يشــتاق إلــى اكتشــافه‪ْ .‬‬ ‫أية‬ ‫القراءة مع القارئ‪ ،‬لن يجد الروائي ّ‬ ‫صعوبة فــي فتح مســارات الســرد؛ ألنه‬ ‫هويــة الســارد الغاضب والســاخط‬ ‫ح ـّدد ّ‬ ‫كل شــيء‪ ،‬المعطــوب‪ ،‬الحامــل‬ ‫علــى ّ‬ ‫لجراحــات الماضــي‪ ،‬وأنــار لــه‪ -‬أيض ـاً‪-‬‬

‫التوتــر التــي هــي إغــرم‪ ،‬لكنهــا‬ ‫نقطــة‬ ‫ُّ‬ ‫إغــرم الماضــي‪ ،‬التــي ســتتكفل ذاكــرة‬ ‫مــراد الموشــومة بنســج خيــوط حكايــة‬ ‫متعــدد‪،‬‬ ‫الجســد المجــروح (وهــو جســد‬ ‫ِّ‬ ‫كل الشــخصيات) الــذي يحمــل‬ ‫ألنــه طــال ّ‬ ‫عطب ًا كبيراً؛ عطب البداية الذي تناســلت‬ ‫منــه آالم غائــرة‪ ،‬وجعلــت للســرد أفقــ ًا‬ ‫مفتوحــ ًا علــى ممكنــات حكائيــة‪ ،‬فيهــا‬ ‫كثيــر مــن التنويــع فــي الحكــي‪ ،‬وتعـ ُّـدد‬ ‫وتناوب فــي األصوات‪،‬‬ ‫في الخطابــات‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ومناقشة لمجموعة من القضايا الراهنة‪.‬‬ ‫جــاء مــراد إلــى إغــرم ليتصالــح مــع‬ ‫ذاته‪ ،‬ولكي ينجح‪ ،‬في ذلك‪ ،‬كان عليه‬ ‫أن يحكي‪ ،‬وهل يمكــن تحقيق ذلك دون‬ ‫اســتدعاء للجراحات الكامنة في الجسد‪،‬‬ ‫يتمكــن مــن‬ ‫التــي ســيوقظها‪ ،‬لكنــه لــن َّ‬ ‫إخمادها‪ ،‬ألنها سيل جارف من الخيانات‬ ‫والخيبات‪ ،‬حيث لم يسعفه النسيان على‬ ‫إيقاف نشــاط الذاكــرة؟ يقول الســارد في‬ ‫أشم ّإل بذاكرتي‪ ،‬وال‬ ‫هذا الصدد‪« :‬فال أنا ّ‬ ‫أي شيء ّإل‬ ‫أفعل‬ ‫أحس‪ ،‬وال أبصر‪ ،‬وال‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بها‪ ،‬هي التي امتألت إلــى آخرها‪ ،‬فأين‬ ‫أيهــا النســيان؟» (ص‪ .)94‬للذاكــرة‬ ‫أنــت ُّ‬ ‫سلطة كبيرة في الرواية‪ ،‬تحكي اإلنسان‬ ‫ـوية‪ ،‬أثقلته‬ ‫الذي ارتبــط ببدايــة غيــر سـ ّ‬ ‫وفجرت ذاكرته فيما بعد‪ ،‬فــ«إذا‬ ‫ودمرته‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫فسدت طفولة اإلنسان فلن تكون حياته‪،‬‬ ‫بعــد ذلــك‪ ،‬ســوى امتــداد أكثر مأســاوية‬ ‫لفساد البداية» (ص‪.)406‬‬ ‫هــذا النــوع مــن الســرد الــذي يعتمــد‬ ‫الذاكرة ليحكي مســارًا حياتي ًا مأساوياً‪،‬‬ ‫غالب ًا ما يعتمد المونولوج الداخلي‪ ،‬الذي‬ ‫مــن خاللــه ُتسـَـبر أغــوار الــذات‪ ،‬ويقــول‬ ‫الجســد أعطابــه‪ ،‬ألن «المونولوجــات‬

‫الداخليــة تكــون أكثــر عمقــ ًا وغوصــاً‪،‬‬ ‫تهز‬ ‫كلّما وقعت أحداث مأســاوية مؤثِّرة ّ‬ ‫الكيان الداخلي للــذات»(‪ .)3‬لهذا كان لهذا‬ ‫هيم َن‪ ،‬بشــكل‬ ‫المونولــوج دور كاســح‪َ ،‬‬ ‫كل منعطفــات الحكــي‪ .‬لكــن‪،‬‬ ‫الفــت‪ ،‬فــي ّ‬ ‫كيف ذلك‪ ،‬والرواية في بنيتها الداخلية‬ ‫تعــددًا في الخطابات؟‬ ‫الظاهرة‪ ،‬اعتمدت ُّ‬ ‫اســتطاعت روايــة «نوميديــا»‪ ،‬أن‬ ‫تنوع في مواقع الســرد‪ ،‬وتخلق لنفســها‬ ‫ِّ‬ ‫متنوعة تبع ًا لعالقة الشخصيات‬ ‫خطابات ِّ‬ ‫بالسارد الرئيسي (مراد)؛ لذلك‪ ،‬نجد أن‬ ‫كل واحــدة مــن هــذه الشــخصيات تنفــرد‬ ‫ّ‬ ‫بخطابهــا لتعيــد نســج حكايــة مراد‪.‬‬ ‫علــى منــوال «مرايــا الذاكــرة»‪ ،‬تتعـّدد‬ ‫الوجــوه‪ ،‬بحث ـ ًا عــن الحقيقــة‪ ،‬لكــن فــي‬ ‫كل الشــخصيات‬ ‫اّتجــاه واحــد‪ ،‬مادامــت ّ‬ ‫متحلِّقة حول مراد‪ ،‬والســرد ُمَب َّأر عليه‪،‬‬ ‫باإلضافــة إلــى أن الســارد‪ ،‬حتــى وهــو‬ ‫يعــود إلــى قريتــه إغــرم‪ ،‬لــم يبحــث عــن‬ ‫ليعدد‬ ‫مصادر تنتمي إلى زمن الطفولة‪ِّ ،‬‬ ‫حقيقة أصله؛ فهو يقاسي بسبب جذوره‪،‬‬ ‫هويــة قلقة‪،‬‬ ‫ويعانــي‪ ،‬فــي صمــت‪ ،‬مــن ّ‬ ‫بحث ـ ًا عــن انتســاب ما‪.‬‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫هوامش‪:‬‬

‫‪ - 1‬فانســون جوف‪ :‬شــعرية الرواية‪ ،‬ترجمة‬ ‫لحسن حمامة‪ ،‬دار التكوين‪ ،‬دمشق‪ ،‬ط‪،2012 ،1‬‬ ‫ص‪.25‬‬ ‫‪ - 2‬المرجع السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.34‬‬ ‫ـص في روايات‬ ‫‪ - 3‬حســن المودن‪ :‬الوعي النـ ّ‬ ‫الطيب صالــح‪ ،‬مطبعة الوطنيــة‪ ،‬مراكش‪ ،‬ط‪،1‬‬ ‫ِّ‬ ‫‪ ،2002‬ص‪.149‬‬ ‫‪109‬‬


‫غرابة يف عقل‬ ‫أورهان باموق‬ ‫وائل سعيد‬

‫ال شـ ّ‬ ‫ـك فــي أن الوعــي الكاتــب يحمــل‪،‬‬ ‫المصوبتين نحو‬ ‫بقدر مــا‪ ،‬حقيقــة عينيــه‬ ‫َّ‬ ‫آخر‪ ،‬فــي أثنــاء الكتابــة أو قبلهــا؛ بوعي‬ ‫أو بال وعي منــه‪ ،‬فيعيش ماركيــز‪ -‬مثالً‪-‬‬ ‫ســنوات طويلة مــن حياتــه ُمتمنِّيـ ًا رواية‬ ‫واحــدة لــم يكتبهــا‪« :‬الجميــات النائمات»‬ ‫لكواباتــا‪ ،‬وقــد شــعر فيهــا ماركيــز بــأن‬ ‫الفكــرة‪ ،‬فــي هــذه الروايــة‪ ،‬انفلتــت مــن‬ ‫بين يديــه؛ فهــل فعل ذلــك بامــوق‪ ،‬خالل‬ ‫كتابتــه لروايــة «غرابــة فــي عقلــي»؟‬ ‫على الرغــم مــن أن وجــه المقارنة بين‬ ‫باموق وماركـــيز مـختلف‪ّ ،‬إل أنهما‪ -‬بحسب‬ ‫ظنّــي‪ -‬اشــتركا فــي شــيء وحيــد‪ ،‬هــو‬ ‫موجهتــان‪ ،‬بشــكل ما‪،‬‬ ‫«الكتابــة وعينــاك َّ‬ ‫على آخر»‪ ..‬قد يكــون كواباتا‪ ،‬وقد يكون‬ ‫مجرد‬ ‫ثيربانتــس‪ ،‬وقــد يكــون‪ -‬بالطبــع‪َّ -‬‬ ‫فكــرة أو أي شــخص عادي‪.‬‬ ‫قــدم بامــوق لروايتــه «غرابــة فــي‬ ‫ُي ِّ‬ ‫عقلي»‪ ،‬الصادرة عن دار الشروق‪ ،‬مطلع‬ ‫الســنة الجاريــة‪ ،‬بترجمــة عبد القــادر عبد‬ ‫قصة حياة بائع البوظة‬ ‫اللي‪ ،‬فيقول إنها‪ّ :‬‬ ‫«مولود قرة طاش»‪ ،‬ومغامراته وأحالمه‬ ‫وأصدقائه وصورة حياة إســطنبول بين‬ ‫ـي ‪ ،2012 - 1969‬بعيــون كثيــر مــن‬ ‫َ‬ ‫عامـ ْ‬ ‫األشخاص‪.‬‬ ‫مولــود‪ ،‬بائــع البوظــة الــذي انتقــل‬ ‫إلــى إســطنبول‪ ،‬فــي عــام ‪ ،1969‬وهــو‬ ‫فــي الثانيــة عشــرة مــن عمــره‪ ،‬الــذي لــن‬ ‫ُيحــارب طواحيــن الهــواء علــى طريقــة‬ ‫ثيربانتس‪ ،‬لكنه ســيقوم برحلــة أخرى‪،‬‬ ‫‪110‬‬

‫يبدؤها بالرحيل عن قريته الفقيرة الواقعة‬ ‫بقيــة‬ ‫وســط هضبــة األناضــول‪ ،‬ليعيــش ّ‬ ‫حياته وسط حواري وشوارع أكبر مدينة‬ ‫الســكان‪ .‬يلتحق‬ ‫في العالم‪ ،‬من حيث عدد‬ ‫ّ‬ ‫بالمدرســة االبتدائيــة‪ ،‬وفــي الوقت نفســه‬ ‫يبيع اللبــن مع والــده‪ ،‬لّف ـ ًا علــى البيوت‪،‬‬ ‫روح‬ ‫حام ً‬ ‫ال في رأسه ‪ -‬عبر عقل باموق ‪َ -‬‬ ‫ٍ‬ ‫الشــعر لوليــام ووردز وورث‪:‬‬ ‫بيت مــن ِّ‬ ‫ثمــة غرابــة فــي عقلي‪ /‬وشــعور‬ ‫«كان‬ ‫ّ‬ ‫ال يعــود إلــى ذلــك الزمــان‪ /‬وال إلــى ذلــك‬ ‫المــكان»‪.‬‬ ‫ســنجد في الروايــة حكيـ ًا عــن عائلَتْين‬ ‫اللبانيــن وبائعــي البوظــة‪ :‬أخــوان‬ ‫مــن ّ‬ ‫يتزوجان من أخَتْين‪ ،‬ثم يتشــابك نسلهما‬ ‫ّ‬ ‫عبر فصــول الروايــة فــي الفتــرات الزمنية‬ ‫المتتاليــة‪ ،‬منــذ منتصــف القــرن الماضي‪،‬‬

‫تغيــرت‪ ،‬فــي هــذه الســنين‪ ،‬أوجــه‬ ‫حيــث َّ‬ ‫واتجاهاتــه عقــب الحــرب العالميــة‬ ‫العالــم ِّ‬ ‫األولى‪ ،‬وكانت تركيــا‪ ،‬بوصفها جزءًا من‬ ‫التغيرات نفســها‪.‬‬ ‫العالــم‪ ،‬تواجــه‬ ‫ُّ‬ ‫حيثيــات لجنــة‬ ‫فــي ‪ ،2006‬جــاء فــي ّ‬ ‫نوبــل‪ ،‬عــن بامــوق‪ ،‬أنــه «فــي بحثــه عــن‬ ‫الــروح الحزينــة لمدينتــه‪ ،‬يكتشــف رموزًا‬ ‫جديــدة للصــراع بيــن الثّقافــات والتشــابك‬ ‫الحضــاري»‪ .‬علــى هــذه الخلفيــة‪ ،‬تتشـ َّـكل‬ ‫منمنمــات متجــاورة لحيــاة بطــل الروايــة‬ ‫مولــود‪ ،‬الــذي يدعــوه الــراوي (بطلنــا)‬ ‫ألول‬ ‫ّ‬ ‫كل الوقــت‪ ،‬وعندمــا ُيريــد إظهــاره‪َّ -‬‬ ‫القصة‬ ‫َم َّرة‪ -‬فــي الروايــة‪ ،‬يتجاوز نصــف ّ‬ ‫فهــم حيــاة بطلنــا‬ ‫الزمنــي (مــن أجــل أن ُت َ‬ ‫وأحالمــه‪ ،‬بشــكل أفضل) فنــراه‪ ،‬وهو في‬ ‫الخامسة والعشــرين‪ ،‬من عمره يذهب إلى‬ ‫قريــة غمشــدرة المجــاورة لقريتــه القديمــة‬ ‫لخطــف فتــاة‪ ،‬كان قــد شــاهدها مـ ّـرة مــن‬ ‫عمــه‬ ‫قبــل‪ ،‬وُأعجــب بهــا فــي ُعــرس ابــن ّ‬ ‫وظّل‪ ،‬لسنوات‪ ،‬يراسلها بخطابات‬ ‫الكبير‪َ ،‬‬ ‫غراميــة‪ ،‬عــن طريــق ســليمان‪.‬‬ ‫يتم االختطاف‪ ،‬يكتشــف‬ ‫لكن‪ ،‬بعــد أن ّ‬ ‫مولود أنها ليست الفتاة التي أعجبته‪ ،‬بل‬ ‫أختها‪ ،‬ومع ذلك يستسلم لما حدث‪ ،‬ويبدأ‬ ‫تمــت عملية‬ ‫باالقتنــاع بهــا‪ ،‬ثــم َّ‬ ‫يتزوجهــا‪َّ .‬‬ ‫عم مولود‬ ‫الخطف بمســاعدة ســليمان ابن ّ‬ ‫يتضــح‪ ،‬فيمــا بعد‪ ،‬أنــه كان عاشــق ًا‬ ‫الــذي َّ‬ ‫أحبهــا مولــود‪ .‬لكــن‪،‬‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الت‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫األول‬ ‫للفتــاة‬ ‫َّ‬ ‫وفق ًا للعادات والتقاليد الشرقية أو القروية‪-‬‬ ‫يتم زواج األخــت الصغرى قبل‬ ‫تحديــداً‪ -‬ال ّ‬


‫أختها الكبرى؛ لذلك ساعد سليمان مولود‬ ‫عمــه فــي الخطــف الخطــأ‪ ،‬وقــد كان‪،‬‬ ‫ابــن ّ‬ ‫منذ البدايــة‪ُ ،‬يســلم الرســائل إلــى األخرى‬ ‫ليظفر بالــزواج أختها‪.‬‬ ‫يقدمه‬ ‫مولود هو (البطــل) الجديد الــذي ِّ‬ ‫بامــوق؛ حمــل أحالمـ ًا كثيــرة وهــو ينتقل‬ ‫مــن قريتــه إلــى المدينــة‪ ،‬لكنــه لــم يخــرج‬ ‫عــن مهنة والــده في الــدوران علــى البيوت‬ ‫تعلـ َـم مــن والــده أنــه‪ ،‬بــدون‬ ‫لبيــع اللبــن‪َّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫الجوال‪ ،‬لن تســتطيع األســر تلبية‬ ‫البائــع ّ‬ ‫احتياجاتهــا؛ لهــذا فــإن دوره فــي الحيــاة‬ ‫مهـ ّـم إلــى الدرجــة التــي جعلــت منهــم مــن‬ ‫عظــم صنعتــه‪ ..‬ومــن الزبائــن‪-‬‬ ‫وي ِّ‬ ‫يبجلــه ُ‬ ‫أيض ـاً‪ -‬مــن يأتــي بالمتاعــب؛ هكــذا عــرف‬ ‫وكل‬ ‫كل صنف ّ‬ ‫مولود أن الزبائن ُخلقوا من ّ‬ ‫لــون؛ إحــدى الســيدات تقـ ِّـدم لــه الحلــوى‪،‬‬ ‫وتعطيه قطعــة مالبس ثقيلــة حالما ُيفرغ‬ ‫لهــا والــده اللبــن‪ ،‬وأخــرى تأســى لحالــه‬ ‫ـن‬ ‫ولدورانــه علــى البيــوت‪ ،‬فــي هــذا السـ ّ‬ ‫الصغيــر‪ ،‬خلــف أبيــه‪.‬‬ ‫تمـ ُّـر فترتا طفولــة مولود وشــبابه بين‬ ‫تغيــرات فكريــة وتزايــد‬ ‫مــا يحــدث لــه مــن ُّ‬ ‫معرفته واشــتباكه مــع هذا العالــم الكبير‪،‬‬ ‫متغيرة‬ ‫وبين مناخات سياسية واجتماعية ِّ‬ ‫ومتالحقة َل َّونت أحالمه‪ ،‬كما فعلت بأحالم‬ ‫الجميع من حوله‪ ،‬بشّتى الصبغات‪ .‬وبعد‬ ‫كــون ُأســرة عــن طريــق المصادفــة‪،‬‬ ‫أن ُي ِّ‬ ‫ويحب زوجته‬ ‫يقتنع‪ -‬بســهولة‪ -‬بحياته‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وأبنــاءه‪ُ ،‬محتفيـ ًا بفكرة تكويــن العائلة‪،‬‬ ‫حتى فــي تنازعاتها وتفاصيلهــا اليومية‪،‬‬

‫مادامــت ُتحقِّق له شــعورًا بالســعادة!‬ ‫ـول باموق‪،‬‬ ‫داخل فكــرة الغرابــة‪ ،‬يتجـ َّ‬ ‫بشأن استقبال العالم ومفاهيمه تلك التي‬ ‫تحتل عقــل مولود‪ ،‬فــي ُمحاولــة منه لفهم‬ ‫ّ‬ ‫هــذا العالــم‪ :‬أكانــت الســعادة التــي بحــث‬ ‫ـاقه لــه القــدر‪ ،‬أم فيما‬ ‫عنهــا تكمــن فيمــا سـ َ‬ ‫سيختاره؟ ماذا لو كانت الفتاة التي قصدها‬ ‫ـم خطفهــا‪ ،‬وليســت‬ ‫مــن البدايــة هــي مــن َتـ َّ‬ ‫أختها «رائحــة»؟ أو‪ :‬ماذا لو أنــه لم يقتنع‬ ‫ضـ َـل مهنــة‬ ‫وف َّ‬ ‫ببيــع البوظــة منــذ البدايــة‪َ ،‬‬ ‫ســتتاح‪ ،‬وقتئــٍذ‪،‬‬ ‫ــم‪ :‬هــل ُ‬ ‫أخرى؛ومــن َث َّ‬ ‫حياة أخــرى؟!‬ ‫يعدنــا الكاتــب بأننــا‬ ‫الوقــت‪،‬‬ ‫وطــوال‬ ‫ُ‬ ‫ســنكون إزاء خــوض قصــص غريبــة‬ ‫وحكايــات عجيبــة تتناســب مــع (بطلنــا)‬ ‫صاحــب الرحلــة الحياتيــة الممت ـّدة حتــى‬

‫كل‬ ‫‪ ،2012‬موثّقــاً‪ ،‬بشــّتى التواريــخ‪ّ ،‬‬ ‫تفاصيل تلــك الحكايــات وأحداثهــا؛ حتى‬ ‫مقومات الخلــود‪ ،‬من حول‬ ‫يتسـنّى لكاّفــة ِّ‬ ‫البطــل‪ ،‬أن تكتمــل‪ .‬ومثلمــا خــرج النبيــل‬ ‫الجوالين‪،‬‬ ‫كم ً‬ ‫ال دور الفرسان ّ‬ ‫«دالمنتشا» ُم ِّ‬ ‫بمحاكاتهــم والســير علــى نهجهــم‪ ،‬حيــن‬ ‫يوزعــوا العدل‬ ‫يضربــون فــي األرض‪ ،‬كي ِّ‬ ‫علــى النــاس‪ ،‬خــرج مولــود مــن قريتــه‬ ‫ـب المهنــة العتيقة فــي بلده‪ ،‬كــي يجد‬ ‫وأحـ َّ‬ ‫نفســه‪ ،‬في النهايــة‪ ،‬وقد صــار آخر رجال‬ ‫المتجوليــن في‬ ‫بائعــي البوظــة أو اللبــن‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫األزقــة والحــواري‪ .‬وبذلــك‪ ،‬يكــون ذلــك‬ ‫والمتماهي‬ ‫المقتنع بفقره ُ‬ ‫الرجل (البسيط ُ‬ ‫معــه)‪ ،‬مثلمــا تحـ َّـدث عنــه باموق فــي أحد‬ ‫يتحمــل ُعهــدة بقــاء‬ ‫الحــوارات‪ ،‬هــو الــذي‬ ‫َّ‬ ‫كل البيوت‪،‬‬ ‫المهنــة بعدما غزت الثّالجــات ّ‬ ‫وأصبــح اللبــن ُيبــاع فــي عبــوات‪ :‬علــى‬ ‫المتبقــي مــن حياتــه‪ ،‬فيقــول‪:‬‬ ‫األقـ ّ‬ ‫ـل‪ ،‬فــي ُ‬ ‫«ســأبقى أبيــع البوظــة إلــى يــوم اهلل»‪.‬‬ ‫وحيــث لــم يعــد هنــاك مــن يعمــل بهــذه‬ ‫المنقرضة‪ ،‬فإنه رغم ذلك‪ ،‬من وقت‬ ‫المهنة ُ‬ ‫ـب النــاس منــاداة بائــع البوظة‬ ‫ـ‬ ‫يح‬ ‫آلخــر‪ّ ،‬‬ ‫فيقبلــون علــى الشــراء منــه مــن‬ ‫النبيــل‪ُ ،‬‬ ‫أجل اســتعادة الروح القديمة إلسطنبول‪،‬‬ ‫المثلــج‪ ،‬بينمــا‬ ‫التــي يحملهــا هــذا الشــراب َّ‬ ‫توصــل مولــود‪ ،‬أخيــراً‪ ،‬إلــى إجابــة عــن‬ ‫َّ‬ ‫ـب‪َ ،‬ظّل يــراوده طيلة‬ ‫لح عــن الحـ ّ‬ ‫ســؤال ُم ّ‬ ‫سنوات حياته‪ ،‬فعرف أن زوجته «رائحة»‬ ‫هي أعظــم مــا يملك فــي الحيــاة!‪.‬‬ ‫‪111‬‬


‫ِّ‬ ‫متشـــــظية‬ ‫ذوات‬ ‫وزماني ًا‬ ‫مكاني ًا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أ‪.‬د‪.‬نادية هناوي سعدون‬

‫تنضــوي روايــة «ســعيدة هانــم ويــوم‬ ‫غــٍد مــن الســنة الماضيــة»(‪ ،)1‬للروائيــة‬ ‫العراقيــة ميســلون هــادي‪ ،‬فــي خانــة‬ ‫تــوكل فيهــا مهمــة‬ ‫«األدب النســائي»؛ إذ َ‬ ‫الســرد إلــى المــرأة‪ ،‬كســارد ذاتــي‪ ،‬أكثــر‬ ‫ذاتــي أو‬ ‫مذكــر‪،‬‬ ‫تــوكل إلــى ســارد َّ‬ ‫ممــا َ‬ ‫ّ‬ ‫ـي‪ ،‬لتقــوم هــي بالوصــف والحكــي‬ ‫خارجـ ّ‬ ‫واالســتبطان وتســريد الزمــن والتداعــي‪،‬‬ ‫كشــف ًا عــن النوايــا واألفــكار‪.‬‬ ‫ولم يكن للشخصيات الذكورية وجود‪،‬‬ ‫ـخصية واحدة هي شــخصية‬ ‫باســتثناء شـ ّ‬ ‫ـخصيَتْين‬ ‫ســليمان بيك التي لم تساند الشـ َّ‬ ‫الرئيسـَتْين‪ :‬ســعيدة هانم‪ ،‬ومليكة جان‪،‬‬ ‫‪112‬‬

‫وقد ظلــت محافظــة علــى الظهور فــي دور‬ ‫الشــخصية الهامشــية المؤســلبة الخائبــة‬ ‫المنهزمــة واالنتهازيــة والالمنتميــة التــي‬ ‫فضلــت بيــع البيــت‪ /‬الوطن مقابل الســكن‬ ‫َّ‬ ‫فــي الالوطن‪.‬‬ ‫تــداوم الروايــة علــى التــزام الواقعيــة‬ ‫تجســيد المعانــاة النفســية‪ ،‬علــى‬ ‫فــي‬ ‫ّ‬ ‫الصعيدْيــن‪ :‬البنائــي‪ ،‬والموضوعــي‪،‬‬ ‫َ‬ ‫فتقع الشخصية فريســة أوهام وهواجس‬ ‫تدفــع بها إلــى ابتــداع وســائل‪ ،‬تقــاوم بها‬

‫وتتكيــف مــع مرارتــه‪.‬‬ ‫الواقــع المعيــش‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ويشــوب هــذه الواقعيــة بعــض الغرائبيــة‬ ‫التــي تقــرن الواقــع بالخيــال‪ ،‬مــن خــال‬ ‫توظيــف تقانــة القريــن التــي تشــطر‬ ‫ـخصية ســعيدة هانــم إلــى أخــرى‪ ،‬هي‬ ‫شـ ّ‬ ‫أخــت لهــا تشــبهها‪ ،‬اســمها مليكــة جــان‪،‬‬ ‫لتتشــاركا ســرد األحــداث‪ ،‬باالســترجاع‬ ‫الزمنــي للذكريــات‪ ،‬والمونولوجــات‪،‬‬ ‫والحــوارات الخارجية‪ ،‬أو بـ(أنــا) الراوي‬ ‫الغائــب‪ ،‬مــع توظيــف أســلوب المونتــاج‬ ‫ليتم‬ ‫الزماني باقتطــاع كثير من اللحظــات َّ‬ ‫اســتجماعها بشــكل مختـ َـزل‪ ،‬السـ َّـيما فــي‬ ‫تمــر أمــام‬ ‫آخــر فصــل مــن الروايــة؛ إذ ّ‬


‫مــرت‬ ‫البصــر أحــداث كثيــرة كانــت قــد ّ‬ ‫بالقــارئ‪ ،‬فــي الفصــول الســابقة‪ ،‬كشــراء‬ ‫المعطــف والرحالت الســياحية والســقوط‬ ‫مــن األرجوحــة والتقــاط دجاجــة الجيران‬ ‫ومما‬ ‫والرضاعة مــن قنّينــة الحليب‪..‬إلخ‪ّ .‬‬ ‫يسهم في تصعيد درامية األحداث تضمين‬ ‫القصة األصلية‪،‬‬ ‫قصص فرعية ّ‬ ‫تتأطر في ّ‬ ‫وقصــة حبربــش‬ ‫وأصايــل‪،‬‬ ‫كقصــة األب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫حوريــة ‪.‬‬ ‫وألجــل تقديــم األحــداث‪ ،‬مــن منظــور‬ ‫يتم الدخــول إلى منطقــة التحليل‬ ‫واقعي‪ّ ،‬‬ ‫تيــار الوعــي الــذي‬ ‫باســتدعاء‬ ‫النفســي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يم ـّد الســرد بإمكانــات التعبيــر الواقعــي‪،‬‬ ‫باعتمــاد أســلوب التداعــي الحـّـر‪ ،‬وتكــون‬ ‫ـخصيَتْين وجهــة نظر‬ ‫لـ ّ‬ ‫ـكل واحــدة مــن الشـ َّ‬ ‫إزاء مــا يجــري مــن أحــداث؛ األمــر الــذي‬ ‫فيتكرر‬ ‫يجعل الرواية ذات صوتية تعّددية‪ّ ،‬‬ ‫ـي‬ ‫ســرد الحــدث أكثــر مــن مـّـرة‪ ،‬وبوجهَتـ ْ‬ ‫نظر مختلفَتْين؛ فمثالً‪ :‬مشــهد السقوط من‬ ‫ـص الشــعر الــذي انحشــر‬ ‫األرجوحــة‪ ،‬وقـ ّ‬ ‫ـيتم ســرده‪:‬‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـذي‬ ‫ـ‬ ‫وال‬ ‫بأخاديــد الجهــاز‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مـّـرة مــن وجهــة نظــر مليكــة جــان‪ ،‬ومـّـرة‬ ‫أخرى من وجهة نظر ســعيدة هانم؛ وهذا‬ ‫أيهما هــي الصادقة‬ ‫ما يولّد التضـ ّ‬ ‫ـاد حــول ّ‬ ‫كل واحــدة ُي َخ َّيــل إليها‬ ‫والحقيقيــة‪ ،‬حيــث ّ‬ ‫أنهــا أصيبــت بالعمــى(‪. )2‬‬ ‫ولتوكيــد ذلــك‪ ،‬تــدرج الكاتبــة عبارة‪،‬‬ ‫تضعهــا بيــن قوســين كبيريــن‪ ،‬تختــم بهــا‬ ‫تتعمد عدم‬ ‫الفصل مــا قبــل األخيــر‪ ،‬وفيهــا َّ‬ ‫المؤنــث بين فعل الشــرط‬ ‫تســاوي خطاب‬ ‫َّ‬ ‫التشظي‬ ‫وجوابه‪ ،‬كانعكاس تلقائي لحالة‬ ‫ّ‬ ‫واالنشطار داخل الشخصية نفسها‪« :‬أجل‬ ‫إلى َح ـّد مــا‪ ،‬إذا فعلـ ِ‬ ‫ـت شــيئ ًا فافعلــه على‬ ‫نحو صحيــح‪ ،‬وإذا ِ‬ ‫أنت لســت فاعله على‬ ‫نحو صحيح فاتـركـه وشأنـه»(‪.)3‬‬ ‫شــكل تكــرار بعــض المقاطــع‬ ‫ولقــد ّ‬ ‫الكالميــة تطبيع ـ ًا أســلوبياً‪ ،‬للتعبيــر عــن‬ ‫«كل‬ ‫تشظي‬ ‫ّ‬ ‫الشــخصيَتْين‪ ،‬كهذا المقطع»‪ّ :‬‬ ‫َّ‬ ‫شــيء موجــود فــي الــرأس؛ ونحــن الذيــن‬ ‫نســترجع أفــكاراً‪ ..‬كانــت موجــودة هنــاك‬ ‫كل الــكالم أيضـاً‪ ،‬كلّه‬ ‫طــوال الوقــت‪ ،‬مــع ّ‬ ‫موجــود هنــاك‪ :‬الفــرح‪ ،‬واالبتســامات‪،‬‬ ‫والدمــوع‪ ،‬والعذابات‪ .‬ونحــن الذين نحّدد‬ ‫مــاذا نختــار‪ ،‬ومــاذا ال نختــار»(‪)4‬؛ الــذي‬ ‫راو خارجي‪،‬‬ ‫سيتكرر‪ -‬أيضاً‪ -‬على لسان ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ينقلــه عــن مليكــة جــان المنشــطرة عــن‬ ‫ســعيدة هانــم‪ ،‬ويكشــف فيــه كيــف أنهــا‬

‫كانــت تخــاف مــن نفســها‪ ،‬لكنهــا‪ ،‬اآلن‪،‬‬ ‫تذكــرت مقطع ًا مــن رواية‬ ‫تغيــرت بعــد أن َّ‬ ‫َّ‬ ‫يتكرر‬ ‫«نســاء عاشــقات للورنس»(‪ ،)5‬ثم ّ‬ ‫ليتضــح أن القــول‬ ‫فــي خاتمــة الروايــة َّ‬ ‫لســعيدة هانــم»(‪. )6‬‬ ‫يتــم تكثيــف الصــور المشــهدية‬ ‫كمــا ّ‬ ‫والبانوراميــة‪ ،‬باســتعمال المفارقــات‬ ‫ـاص مــع األمثــال والنكات‬ ‫الســاخرة والتنـ ّ‬ ‫الشــعبية‪ ،‬واســتعمال أســلوب كتابــة‬ ‫لتــؤدي جميعهــا‬ ‫الرســائل اإللكترونيــة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫دورًا محوري ـ ًا فــي التصعيــد الدراماتيكــي‬ ‫لألحــداث(‪. )7‬‬ ‫وباشــتغال فنتــازي‪ ،‬تأتــي الخاتمــة‬ ‫لتسدل الســتار على اقتران مليكة بسعيدة‬ ‫تخلــص األخيــرة منها‪ .‬ومــع ذلك‪،‬‬ ‫معلنـ ًـة ُّ‬ ‫يظـّـل ذلــك الوهــم قائمـ ًا كنــوع مــن الدفــاع‬ ‫َ‬ ‫ضّد انقراض الذات وانسحاقها «ألن مليكة‬ ‫جــان كانــت تهّددنــي‪ ،‬دائمـاً‪ ،‬باالنتحــار‪..‬‬ ‫مرة‪ ،‬لتفرض‬ ‫ولكنها تعود ســالمة في ّ‬ ‫كل ّ‬ ‫ـي قوانينها»(‪.)8‬‬ ‫علـ َّ‬ ‫ّ‬ ‫التضــاد‬ ‫بســبب‬ ‫إل‬ ‫الشــعور‬ ‫هــذا‬ ‫ومــا‬ ‫ّ‬ ‫تفكــر فيــه مليكــة التــي‬ ‫النفســي إزاء مــا ِّ‬ ‫ملكــت علــى ســعيدة دواخلهــا‪ ،‬فصــارت‬ ‫مثــل ظلّهــا‪ ،‬وحيــن تناقــش جــدوى لبــس‬ ‫ـاد عنــد‬ ‫الحجــاب فإنهــا تعـ ِّـزز حالــة التضـ ّ‬ ‫ســعيدة «فع ـاً‪ ،‬كنــت أشــعر بأنــي لســت‬ ‫أنــا ووجــدت نفســي‪ ..‬ال أعــرف أيــن أديــر‬ ‫وجهــي مــن نظــرات مليكــة جــان»(‪ )9‬أو‬ ‫تمتعــض مــن الواقــع فتتمـ َّـرد علــى قواعــد‬ ‫اللغــة اإلمالئيــة فــي كلمــة االفتتــاح التــي‬ ‫كتبهــا لهــا الصحافــي(‪ ،)10‬أو تكــون لهــا‬ ‫نظــرة كونيــة للوجــود من خــال مناقشــة‬ ‫أخبــار المطــرب فضــل شــاكر؛ ومــن َثـ َّـم‪،‬‬ ‫تقودها تلــك األفكار إلى االســتهانة بذاتها‬ ‫وإدانتهــا «وظلت تبصق على نفســها فترة‬ ‫طويلــة أمــام المــرأة»(‪« )11‬مليكــة جــان ال‬ ‫زالــت تبصــق علــى نفســها»(‪.)12‬‬ ‫تشظي سعيدة هانم‬ ‫ربما‪ -‬كان في ّ‬ ‫و‪َّ -‬‬ ‫ـخصيتها انعــكاس الضطهــاد‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫ـام‬ ‫وانفصـ‬ ‫ّ‬ ‫الرجل‪/‬األخ سليمان بيك لها‪ ،‬ناظرًا إليها‬ ‫بوصفهــا جنس ـ ًا آخــر ليــس لــه ّإل وجــود‬ ‫طفيلــي هامشــي‪ ،‬ومبتغــاه مــن وراء ذلك‬ ‫أو ًال وآخراً‪..‬‬ ‫تفوقه َّ‬ ‫تعزيز وجوده وإثبات ُّ‬ ‫تصمــم ســعيدة علــى االنتصــار‬ ‫ولذلــك‪ِّ ،‬‬ ‫علــى مخاوفهــا وهواجســها التــي صنعتها‬ ‫مخيلتها لعلّها تمتلك إرادة التغيير‪ ،‬لتكون‬ ‫ِّ‬ ‫ربمــا‪ -‬تتغلَّــب‬ ‫ذاتهــا‪-‬‬ ‫علــى‬ ‫ســلطتها‬ ‫لهــا‬ ‫ّ‬

‫علــى مخاوفهــا‪ ،‬وتصنــع واقعهــا فارضـ ًـة‬ ‫ســطوتها عليه‪.‬‬ ‫وليــس فــي هــذا مغالبــة نفســية‪ ،‬بقــدر‬ ‫مــا هــو صــراع جنوســي‪ ،‬حيــث الفحولــة‬ ‫تمكــن األنوثة مــن أن يكون لهــا خطابها‬ ‫ال ِّ‬ ‫تعبــر‬ ‫ذلــك‪،‬‬ ‫وعــن‬ ‫‪.‬‬ ‫والمضــاد‬ ‫المســتقل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الفيلسوفة الفرنسية سيمون دي بوفوار‪:‬‬ ‫حرك العالم بأنانيته وكبريائه‪،‬‬ ‫«إن الرجل ّ‬ ‫كل زاوية من‬ ‫ثم ســكن مســيطرًا عليه فــي ّ‬ ‫زوايــاه‪ ،‬ولــم يتــرك منفــذًا للمــرأة ســوى‬ ‫ـخصيتها‪،‬‬ ‫هــذا الطريــق لكــي تمـّـر منــه شـ ّ‬ ‫وهــي لــن تتوانــى فــي الدفــاع عــن نفســها‬ ‫تخطــي العقبات والعثرات‬ ‫أو اإلقدام على ّ‬ ‫في طريقها؛ لتصل إلى قلب الرجل‪ ،‬حتى‬ ‫يخضع لهــا كما خضعــت له‪ ،‬فماذا ســوف‬ ‫تكــون النتيجة ؟»(‪.)13‬‬ ‫وبهــذا يتحّدد مغزى الرواية ورســالتها‬ ‫التي ســعت لتوصيلها إلــى القارئ؛ وهي‬ ‫وتوحداً‪ ،‬لن‬ ‫أن ازدواج الحيوات‪ :‬انفصاماً‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يكــون ّإل في ِظـّـل واقع مشـ َّـتت وفوضوي‬ ‫منقســم علــى نفســه (ماضيـاً‪ ،‬وحاضراً)‪،‬‬ ‫كل واحدة من تلك الحيوات‬ ‫وهذا ما يجعل ّ‬ ‫صورتْيــن‪ ،‬وواقعــة بيــن‬ ‫مستنســخة فــي‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫خيارْين‪ :‬فإما مصير ُرسم لها يوجب‬ ‫َف َّك ْي‬ ‫َ‬ ‫ـظي داخــل مــكان‪ ،‬هــو األصــل‬ ‫عليهــا التشـ ّ‬ ‫واألســاس‪ ،‬أو التماهــي فــي غربــة مكان‪،‬‬ ‫لتضحي باألصل‪،‬‬ ‫مقابل قبولها بالتنــازل‬ ‫ّ‬ ‫وتنســلخ عن األساس‪.‬‬ ‫ــل ذواتنــا‬ ‫ومــا بيــن‬ ‫تظ ّ‬ ‫الخيارْيــن‪َ ،‬‬ ‫َ‬ ‫ـظية (مكاني ـاً‪ ،‬وزماني ـاً)‪ ،‬بــا أدنــى‬ ‫متشـ ِّ‬ ‫فرصــة للتعبير عــن كونها راغبــة في ذلك‬ ‫أم غيــر راغبــة!‪.‬‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫اإلحاالت‬

‫‪ 1‬ســعيدة هانم ويــوم غد مــن الســنة الماضية‪،‬‬ ‫المؤسسة العربية للدراسات‬ ‫رواية‪ ،‬ميسلون هادي‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫والنشر‪ ،‬بيروت‪ ،‬طبعة أولى‪.2015 ،‬‬ ‫‪ - 2‬م‪ .‬ن‪ 69 - 68/‬وينظر‪ -‬أيضاً‪ -‬ص ‪.38‬‬ ‫‪ - 3‬م‪ .‬ن‪.168/‬‬ ‫‪ - 4‬م‪ .‬ن‪.168/‬‬ ‫‪ - 5‬ينظر‪ :‬م‪ .‬ن‪.166/‬‬ ‫‪ - 6‬ينظر‪ :‬م‪ .‬ن‪.198 - 179/‬‬ ‫‪ - 7‬ينظر‪ :‬م‪ .‬ن‪ 124 /‬و‪.125‬‬ ‫‪ - 8‬م‪ .‬ن‪.178 /‬‬ ‫‪ - 9‬م‪ .‬ن‪.42/‬‬ ‫‪ - 10‬ينظر‪ :‬م‪ .‬ن‪.50/‬‬ ‫‪ - 11‬م‪ .‬ن‪.47/‬‬ ‫‪ - 12‬م‪ .‬ن‪.45/‬‬ ‫تفكــر المــرأة‪ ،‬ســيمون دي بوفوار‪،‬‬ ‫‪ - 13‬كيــف ّ‬ ‫المركــز العربــي للنشــر والتوزيــع‪ ،‬القاهرة‪.‬‬ ‫‪113‬‬


‫سرية لويس أراغون‬

‫تحصد جائزة الغونكور للسيرة الذاتية‪2016 ،‬‬ ‫سعيد بوكرامي‬

‫بعدمــا أصــدر الروائــي والكاتــب فيليــب‬ ‫فورست ســيرة أراغون‪ ،‬أصبح بإمكاننا‪،‬‬ ‫اليوم‪ ،‬قراءة سيرة الشاعر الفرنسي الكبير‬ ‫كاملــة‪ ،‬دون تزييــف أو‬ ‫لويــس أراغــون‬ ‫ً‬ ‫مغــاالة‪ .‬ومــن المعلــوم أن الكاتــب فيليــب‬ ‫فورســت ســاهم فــي إعــداد األعمــال الكاملة‬ ‫ألراغون ونشــرها فــي «مكتبة البيليــاد» ما‬ ‫بين (‪ )2012 - 1997‬ثم نشــر ديوان «دوار‬ ‫أراغون» ضمن منشــورات (سيسيل ديفو‪،‬‬ ‫عام ‪.)2012‬‬ ‫ــن‪ -‬إذن‪ -‬فيليــب فورســت مــن‬ ‫َّ‬ ‫تمك َ‬ ‫عبقــري‬ ‫مقاربــة حيــاة لويــس أراغــون‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫األدب والشــعر‪ ،‬محترمــاً‪ ،‬بدقّــة كبيــرة‪،‬‬ ‫شهرة‬ ‫تفاصيل تجربة شــاعر فرنسا األكثر‬ ‫ً‬ ‫قصة‬ ‫ومقروئي ًة‪ ،‬ومراحلها‪ ،‬فكانت النتيجة ّ‬ ‫ّ‬ ‫بديعة عن الشاعر واألسطورة‪ .‬وما زاد من‬ ‫قيمة هــذا الكتاب أنــه حصل فــي ‪ 7‬يونيو‪/‬‬ ‫حزيــران‪ ،2016 ،‬علــى جائــزة الغونكــور‬ ‫للســيرة الذاتيــة عــن كتابــه «أراغــون»‪،‬‬ ‫الصــادر عــن (دار غاليمــار)‪.‬‬ ‫‪114‬‬

‫المهمــة لــم تكــن ســهلة‬ ‫يمكــن القــول إن ّ‬ ‫بالنســبة إلــى الكاتــب‪ ،‬فأراغــون متعــّدد‪،‬‬ ‫ومبهر بأقنعته وتشــابك عالقاته ومصادر‬ ‫إلهامــه‪ ،‬وأدبــه ملغــوم باأللغــاز‪ ،‬كمــا أن‬ ‫مجايليــه ومعاصريــه تضاربــت وجهــات‬ ‫نظرهــم حــول شــخصه وأدبــه‪ ،‬لكــن‬ ‫فيليب فورســت لم يبـ ِ‬ ‫ـال بهــذه الصعوبات‪،‬‬ ‫وانغمس‪ ،‬لسنوات من البحث والتخطيط‪،‬‬ ‫فــي كتابــة ســيرة ذاتيــة إبداعيــة‪ .‬وهــذا‬ ‫جيــداً‪ ،‬بشــخصية أراغــون نفســه‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫يذكرنــا‪ِّ ،‬‬ ‫بالنســبة إليــه‪ ،‬كانــت الحيــاة عبــارة عــن‬ ‫ـب حياتــه‪ ،‬يحكيهــا ويحلم‬ ‫روايــة‪ :‬كان يحـ ّ‬ ‫بها‪ ،‬شعرًا ونثرًا ومواقف إنسانية وأخرى‬ ‫عاطفيــة‪ ،‬وكانــت الروايــة نفســها بالنســبة‬ ‫إليه مــوردًا حيوي ًا لالســتمرار فــي الحياة؛‬ ‫من ثم‪ ،‬فإنه لــم يكن مقبو ًال أن يكشــف عن‬ ‫حياته الواقعية‪ ،‬لكنه‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬استنسخ‬ ‫منهــا قــدرًا كبيــرًا فــي أعمالــه‪.‬‬ ‫قصــة حياة‬ ‫ـع‬ ‫تعامــل فيليــب فورســت مـ ّ‬ ‫ـس روائــي‪ ،‬فاختــار االنطــاق‬ ‫أراغــون بحـ ّ‬

‫منجزه اإلبداعي‪ ،‬كي يروي حياته‪ .‬كان‬ ‫من َ‬ ‫يبث شغفه وأسراره وأشعاره كيفما‬ ‫أراغون ّ‬ ‫القراء‪ ،‬فما كان يشغله هو‬ ‫كانت ردود أفعال ّ‬ ‫يحول اضطرام الحياة إلى قول شعري‬ ‫أن ِّ‬ ‫جديد وصياغة لغوية بسيطة النسج عميقة‬ ‫المضمون العاطفي‪ ،‬والفلسفي‪ ،‬والجمالي‪،‬‬ ‫وحتى وإن بــدت كتابته‪ ،‬أحيان ـاً‪ ،‬معقّدة‪،‬‬ ‫فإنها تبقى تعبيرًا صادق ًا عــن حياة زخمة‬ ‫وثرية‪ ،‬دامت ‪ 85‬عاماً‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أول محاولة‬ ‫تبقى سيرة فيليب فورست َّ‬ ‫ـادة وعميقــة‪ ،‬تقــارب‪ ،‬بعمــق وجــرأة‪،‬‬ ‫جـ ّ‬ ‫قصــة شــاعر مؤثِّــر فــي تاريــخ األدب‬ ‫ّ‬ ‫الفرنسي المعاصر‪َ ،‬ن َعَتها الكثير من النقّاد‬ ‫والمؤرخين بأنها حياة مغامرة وغامضة‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫لكنهــم لــم يحاولــوا‪ ،‬مـ َّـر ًة‪ ،‬ســبر دهاليزها‬ ‫أهمّيــة مــا‬ ‫وكشــف حقائقهــا‪ .‬وهنــا‪ ،‬تكمــن ّ‬ ‫يؤكد‬ ‫قام بــه الروائي فيليب فورســت‪ ،‬بمــا ِّ‬ ‫الغْيريــة فــي فرنســا‬ ‫ازدهــار أدب الســيرة َ‬ ‫خاص ًة‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫عامـ ًـة‪ ،‬واألدبــاء ّ‬ ‫وتألــق الباحثين ّ‬ ‫فــي اســتجالء حيــاة مجموعــة مــن الكّتــاب‬ ‫حق‬ ‫المهمين‪ ،‬ليعرفهــم القارئ ّ‬ ‫الفرنســيين ّ‬ ‫المعرفــة‪ ،‬دون ثغــرات أو تزييــف تاريخي‬ ‫أو تدليــس أدبــي‪.‬‬

‫«مقعد على نهر السين»‬

‫جديد أمين معلوف‬ ‫الحديث عن كتــاب أمين معلــوف الجديد‬ ‫«مقعد على نهر الســين» يقتضــي االعتراف‬ ‫بمكانــة هــذا الكاتــب المتألِّــق‪ ،‬بــدءًا مــن‬ ‫حفرياته السردية حول الحروب الصليبية‪،‬‬ ‫وليــون اإلفريقــي‪ ،‬وحكايــات ســمرقند‪،‬‬ ‫وساللم الشرق‪ ،‬وحدائق النور‪ ،‬وصخرة‬


‫طانيــوس التــي حصــل بهــا علــى جائــزة‬ ‫الغونكــور‪ ،‬ورحلــة بالتــزار‪ ،‬وصــو ًال إلــى‬ ‫روايــة «التائهــون»‪ ،‬وغيرهــا مــن الكتابات‬ ‫التــي صنعــت أدب ـ ًا عالمي ـ ًا رفيع ـاً‪ .‬تشـ ّـكل‬ ‫(وِلــد فــي بيــروت‪،‬‬ ‫روايــة أميــن معلــوف ُ‬ ‫فــي ‪ 25‬فبراير‪/‬شــباط‪ )1949 ،‬الصــادرة‬ ‫منصــة‬ ‫عــن (دار غراســي) فــي فرنســا‪ّ ،‬‬ ‫والتأمــل والتحليــل‪،‬‬ ‫مشــرقة‪ ،‬للمالحظــة‬ ‫ُّ‬ ‫عــن تشــابكات التاريــخ الفرنســي‪ .‬جــاءت‬ ‫حتميــة للتقليــد والطقــس‬ ‫الروايــة نتيجــة ّ‬ ‫يميــز دخــول المنتســبين الجــدد إلــى‬ ‫الــذي ِّ‬ ‫ِ‬ ‫عالــم األكاديميــة الفرنســية؛ بحيــث ُطلــب‬ ‫من أميــن معلوف أن ُي ِعـّد خطابـ ًا يمدح فيه‬ ‫َسـَلفه العاِلــم كلود ليفــي شــتراوس‪ ،‬الذي‬ ‫كان يشــغل المقعــد ‪ ،29‬ولم يكن فــي األمر‬ ‫األدبية‪ ،‬والفكرية‪ ،‬بل‬ ‫أية إســاءة لمكانته‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫قــام معلوف بإعــداد مديــح عن شــتراوس‪،‬‬ ‫العالــم األنثربولوجــي الــذي كان‪ ،‬دائمــاً‪،‬‬ ‫محــط إعجــاب مــن طــرف معلــوف‪ .‬ومنــذ‬ ‫ّ‬ ‫‪ ،2011‬تاريخ تعيين معلوف في األكاديمية‬ ‫ـول المقعــد ‪ 29‬إلــى ذريعــة‬ ‫الفرنســية‪ ،‬تحـ َّ‬ ‫فكرية‪ ،‬وسردية‪ ،‬الستدعاء مغامرة ثمانية‬ ‫األكاديمييــن‬ ‫المفكريــن واألدبــاء‬ ‫عشــر مــن‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫الذيــن شــغلوا المقعــد نفســه‪ .‬يبــدأ معلــوف‬ ‫رحلته السردية منذ ‪ ،1634‬وال يستعرض‬ ‫تخيليــة جزئيــة‪ ،‬بــل‬ ‫خاللهــا جينيالوجيــا ُّ‬ ‫مجســدة‬ ‫حسـّـية‪ّ ،‬‬ ‫يجعلنــا نعيــش بطريقــة ّ‬ ‫أربعــة قــرون مــن التاريــخ الفرنســي‪ .‬دون‬ ‫لحظة بأننا نعيش بين األموات‪،‬‬ ‫نحس‬ ‫ً‬ ‫أن ّ‬ ‫والماضي‪ ،‬بــل بين أشــخاص مازالوا على‬ ‫قيــد الحيــاة‪ ،‬بنبوغهــم وفكرهــم الثاقــب‪.‬‬ ‫«صاحب اختالل العالم» ال يكتفي‪ -‬أيضاً‪-‬‬ ‫خطّي ـاً‪ ،‬بــل يقفــز‪،‬‬ ‫بكتابــة ســيرة أســافه ّ‬ ‫باســتمرار‪ ،‬فــي الزمــن الســتحضار اإلرث‬ ‫الفكــري‪ ،‬واألدبــي لبعضهــم‪ .‬كمــا يســوق‬ ‫مهمة‪،‬‬ ‫حكايات أخرى متعلِّقة‬ ‫ّ‬ ‫بشــخصيات ّ‬ ‫عاص َرتها؛ لنفهم السياق التاريخي ورموزه‬ ‫َ‬ ‫الفاعلــة سياســياً‪ ،‬وثقافي ـاً‪ ،‬واجتماعي ـاً‪،‬‬ ‫كمــا نكتشــف قصــص صراعــات داخليــة‬ ‫فــي األكاديميــة الفرنســية نفســها‪ ،‬تلــك‬ ‫المشــاجرات التــي طواهــا النســيان‪ ،‬لكنهــا‬ ‫مهمة في وقتها‪ ،‬وداخل ســياقها التنافســي‬ ‫ّ‬ ‫بيــن أعضــاء األكاديميــة‪.‬‬

‫وفي أثناء ســرده عــن هــؤالء العمالقة‪،‬‬ ‫َك َّر َم معلوف أســتاذه األدبي‪ ،‬والتاريخي‪،‬‬ ‫جوزيــف ميشــو (‪ ،)1839 - 1767‬الــذي‬ ‫جمــة فــي أثنــاء‬ ‫اســتفاد منــه‬ ‫ً‬ ‫اســتفادة ّ‬ ‫المهمــة األولــى عــن‬ ‫اشــتغاله علــى روايتــه ّ‬ ‫الحــروب الصليبيــة‪ ،‬عــام ‪ .1983‬وألنــه‬ ‫لــم يكــن قــادرًا علــى تكريمــه فــي خطــاب‬ ‫قــرر‬ ‫تنصيبــه فــي األكاديميــة الفرنســية ّ‬ ‫معلــوف تخصيــص فصــل لميشــو؛ إلبــراز‬ ‫مفكريــن وأدباء‬ ‫مكانته الشــهيرة‪ ،‬ومكانــة ِّ‬ ‫منارة للثقافة الفرنســية‬ ‫جعلوا األكاديميــة‬ ‫ً‬ ‫والثّقافة اإلنسانية‪ ،‬منذ إنشائها‪ ،‬من طرف‬ ‫الكاردينال ريشــيليو‪ ،‬عام ‪ .1634‬وهكذا‪،‬‬ ‫يمكن وصف كتابه «مقعد على نهر السين»‬ ‫بأنه نــوع مــن االعتــراف األدبــي‪ ،‬والفكري‬ ‫بأدبــاء وعلمــاء مثــل كورنــاي‪ ،‬وفولتيــر‪،‬‬ ‫وفيكتور هوغــو‪ ،‬ونيكــوالي دو بوربون‪،‬‬ ‫وهنــري دو مونتــرالن‪ ،‬وإرنيســت رينان‪،‬‬ ‫وغامبيتا‪ ،‬وفرانسوا هنري سليمان‪ ،‬وكلود‬ ‫برنــار‪ ،‬وغيرهــم‪.‬‬ ‫يتمثّــل نبــوغ أميــن معلــوف فــي أنــه‪،‬‬ ‫انطالق ـ ًا مــن مقعــد بســيط فــي األكاديميــة‬ ‫ــن مــن اســتحضار تاريــخ‬ ‫الفرنســية‪َّ ،‬‬ ‫تمك َ‬ ‫فرنســا علــى امتــداد عــّدة قــرون‪ ،‬ســابرًا‬ ‫وفضاء ثقافياً‪،‬‬ ‫شخصيات مرموقة‪،‬‬ ‫مسار‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫مهمْيــن‪ ،‬مــن خــال تلــك‬ ‫وآخــر سياســي ًا َّ‬ ‫الشــخصيات‪ ،‬مثــل كومونــة باريــس‪،‬‬ ‫وحــرب ‪ ،1870‬ووصــول فولتيــر إلــى‬ ‫باريس بعــد غياب طويــل‪ ،‬واســتقباله من‬ ‫طرف الباريســيين اســتقبا ًال جماهيرياً‪ ،‬أو‬ ‫محاكمة درايفوس‪ ،‬أو المنافسات الشرسة‬ ‫بين المثقَّفيــن واألدباء‪ ..‬وذلك‪ ،‬بأســلوبه‬ ‫المعتــاد الذي يمــزج بين التشــويق‪ ،‬والدقّة‬ ‫فــي المعلومــة‪ ،‬واإلبــداع فــي التخييــل‪.‬‬

‫كتاب جديد عن الموسيقار‬ ‫الفرنسي «هنري دوتيو»‬ ‫عن دار (أكت سود) الفرنسية‪ ،‬صدرت‪،‬‬ ‫حديثــاً‪ ،‬ســيرة ذاتيــة‪ ،‬أنجزهــا الناقــد‬ ‫الموسيقي بيير جيرفازوني عن الموسيقار‬ ‫الفرنســي هنــري دوتيــو (‪،)2013 - 1916‬‬ ‫ـول‪ ،‬وبحــث دؤوب‪ ،‬عن‬ ‫وهــي تحقيــق مطـ َّ‬

‫وحْفــر فــي‬ ‫شــهادات موثوقــة لمعاصريــه‪َ ،‬‬ ‫الخاصة‪ .‬وهكذا‪،‬‬ ‫العامة والوثائق‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫السجلت ّ‬ ‫سيرة‬ ‫شــيئ ًا فشــيئاً‪ ،‬تشـ َّـك َل البحث الضخم‬ ‫ً‬ ‫ذاتية ذات مالمح روائية‪ .‬صــدر هذا العمل‬ ‫بمناســبة االحتفــال بذكــرى مرور مئــة عام‬ ‫على ميالد الموســيقار هنــري دوتيو‪.‬‬ ‫علــى امتــداد ســبع ســنوات‪ ،‬واصــل‬ ‫المؤلِّــف بحثــه فــي الوثائــق واألبحــاث‬ ‫والمحفوظــات (الوطنيــة‪ ،‬والمحافظــات‪،‬‬ ‫والبلديــات‪ ،‬والوثائــق‪ :‬العســكرية‪،‬‬ ‫والخاصة‪ ،‬والمراسالت‪)...‬؛ إلثراء سرده‬ ‫ّ‬ ‫ـارة‪ ،‬خصوص ـ ًا أن حجــم‬ ‫وجعلــه أكثــر إثـ ً‬ ‫الكتــاب كبير جـّدًا (حوالــي ‪ 1700‬صفحة)‪.‬‬ ‫يتقمص الكاتب شخصية‬ ‫وعبر كتابة دقيقة‪َّ ،‬‬ ‫الملحــن العالمــي‪ ،‬ليحكي ظــروف ميالده‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ومحيطه االجتماعي‪ ،‬ومحيطه االقتصادي‪،‬‬ ‫وظــروف تعلُّمــه فــي معهــد «دووي»‪ ،‬ثــم‬ ‫فــي باريــس‪ ،‬إلــى أن حصــل علــى جائــزة‬ ‫رومــا‪ ،‬ثــم تعاونــه مــع هنــري دوبوســي‪،‬‬ ‫ـق طريقه‬ ‫قبــل أن يختــار هــذا‪ ،‬لألخيــر‪ ،‬شـ ّ‬ ‫الشــخصي والموســيقي وحده‪ .‬قــاد دوتيو‬ ‫بدايــة‬ ‫األوركســترا الباريســية الشــهيرة‬ ‫ً‬ ‫ــن‬ ‫لح‬ ‫الفتــرة‪،‬‬ ‫مــن (‪ ،)1965‬وخــال هــذه‬ ‫َّ َ‬ ‫كونشــرتو تحــت عنــوان «عالم بعيــد كلّه»‪،‬‬ ‫ثم أتبعــه بالرباعية الفريدة «هكــذا الليل»‪،‬‬ ‫عــام (‪ .)1976‬ومــن هنــا‪ ،‬بــدأت ألحانــه‪-‬‬ ‫تدريجي ـاً‪ -‬تخطــف األنظــار‪ ،‬وتنتشــر فــي‬ ‫تميــزت ألحانه بنزوعها‬ ‫أنحاء العالــم‪ .‬وقد َّ‬ ‫ـدرج وتنمو‬ ‫نحو تجريــب ألحــان جديدة‪ ،‬تتـ َّ‬ ‫تتوغــل فــي عوالــم البحث عــن الزمن‬ ‫كأنهــا‬ ‫َّ‬ ‫الماضي‪ .‬في الســنوات العشــر األخيرة من‬ ‫حياته‪ ،‬ســيزداد نبوغه الموسيقي وكماله‬ ‫التلحيني الذي تجلّى في سمفونيات‪ ،‬نذكر‬ ‫منها‪« :‬مراسالت (‪ ،»)2003‬و«صوت داون‬ ‫أبشاو» و«زمن الساعة (‪ .»)2007‬وقد حرص‬ ‫فــي أعمالــه األخيــرة علــى أن يشــتغل على‬ ‫الشعر ِ‬ ‫وسـَـير الشــعراء‪ ،‬مثل جان تارديو‪،‬‬ ‫وروبــر ديزنــوس‪ ،‬وشــارل بودليــر‪.‬‬ ‫تجــدر اإلشــارة إلــى أن ســيرة «هنــري‬ ‫مؤخراً‪ -‬على جائزة بيليا‪،‬‬ ‫دوتيو» حصلت‪َّ -‬‬ ‫مؤسسة‬ ‫تمنحها‬ ‫ة‪،‬‬ ‫مهم‬ ‫‪ ،2016‬وهي جائزة ّ‬ ‫َّ‬ ‫تهتم بعلم الموسيقى‪ ،‬وبالكتابات األدبية‬ ‫ّ‬ ‫عن الموسيقى‪.‬‬ ‫‪115‬‬


‫ذكريات عبرت‬

‫زمن اللعب‬ ‫نورة محمد فرج‬

‫فــي لنــدن عــام ‪ ،2004‬التقيــت‬ ‫بصديقتــي اإلماراتيــة ابتســام‬ ‫المعــا‪ ،‬التــي كنــت قــد عرفتهــا مــن‬ ‫خــال اإلنترنــت‪ ،‬وأخذتنــي إلــى‬ ‫الناشــيونال غاليــري‪ ،‬وهنــاك فــي‬ ‫الــزوار‬ ‫أول قاعــة دخلناهــا‪ ،‬رأيــت ّ‬ ‫تجمعوا عند لوحة واحــدة‪ ،‬وتركوا‬ ‫ّ‬ ‫كل مــا فــي القاعــة‪ ،‬وعندمــا اقتربــت‬ ‫ّ‬ ‫أنا أيضاً‪ ،‬فوجئت بواحدة من أبشع‬ ‫اللوحــات التــي رأيتهــا فــي حياتي‪،‬‬ ‫وفنّــَا‪.‬‬ ‫وأكثرهــا إثــارة َ‬ ‫كانــت لوحــة ‪A Grotesque Old‬‬ ‫‪ womann‬أو �‪The Ugly Duch‬‬ ‫‪ ess‬لكونتيــن ماتســيس‪ ،‬عندمــا رآنــي الحــارس العجوز ُأحـّدق في‬ ‫اللوحــة بذهــول‪ ،‬جــاء يقــول إنهــم يذكــرون أن الفنــان رســم صديقه‬ ‫ـتاء منــه!‬ ‫علــى هــذا النحــو‪ ،‬ألنــه كان مسـ ً‬ ‫ـي أن ُأحـّدد موضوع‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫كان‬ ‫ـنوات‪،‬‬ ‫فيما بعــد‪ ،‬بعد قرابــة الثــاث سـ‬ ‫َّ‬ ‫رســالة الدكتــوراه‪ ،‬فاختــرت فــي البدايــة موضوع ـ ًا معّقــدًا ال أتذكــر‬ ‫فقررت‬ ‫عنوانه اآلن! حاولت أن أعمــل فيه‪ ،‬لكنه لم يكن يناســبني‪ّ ،‬‬ ‫أن أغيــره‪ ،‬وبالفعل بــدأت أبحث عــن موضــوع آخر‪ ،‬وأثناء نبشــي‬ ‫فتحــت كتــاب دليــل الناقــد األدبــي‪ ،‬وإذا بــي أرى «القبــح»‪ ،‬فعرفــت‬ ‫أنــي لقيــت موضوعي!‬ ‫تبين لــي أن المصطلح ُترجم ترجمــة خاطئــة‪ ،‬فـ«القبح» كان‬ ‫الحقـ ًا ّ‬ ‫ترجمــة لـــ ‪ grotesque‬حســب الدليــل‪ ،‬لكنــه ال يســاويه فــي النقــد‬ ‫الغربــي‪ ،‬وإنمــا القبــح واحــد مــن موضوعاتــه ودالالتــه‪ .‬المهــم أني‬ ‫كتبــت فــي الغروتســك‪ ،‬وحصلــت علــى الدكتــوراه فــي ‪.2009‬‬ ‫***‬ ‫ســنوات الدراســة العليــا كانــت ســنوات قحــط أدبــي بالنســبة لــي‪،‬‬ ‫‪116‬‬

‫ـي أن ُأحلل الكثير مــن النصوص‪،‬‬ ‫فكان علـ َّ‬ ‫ومن َثـّـم أفكــر بطريقة منطقيــة ال خيالية‪،‬‬ ‫ـي ذاك االفتــراض‬ ‫ورأيــت أنــي يصــدق علـ َّ‬ ‫الذي يقول إن األكاديمــي ال يمكن أن يكون‬ ‫أديبـاً‪ ،‬يمكنه فقــط أن يكــون أديب ًا فاشـاً!‬ ‫كتبــت عــددًا محــدودًا جــدًا مــن القصــص‬ ‫القصيــرة خــال تلــك الســنوات‪ ،‬ولكننــي‬ ‫قررت‬ ‫في الجانب الخلفي من ذهني كنت قد ّ‬ ‫كتابــة روايــة عــن األصفهانــي واألغانــي‪،‬‬ ‫ولــم أقـّـرر أي شــيء آخــر حولهــا‪.‬‬ ‫فجــر اليــوم مــا قبــل األخيــر ســنة ‪،2007‬‬ ‫علي‬ ‫أتانــي إلهام مــا‪ ،‬وكأن ّ‬ ‫ثمــة من ُيملــي َّ‬ ‫دونتــه أو ًال على الجــوال‪ ،‬ثم نقلته‬ ‫إمالء‪ّ ،‬‬ ‫إلى ورقة منفــردة‪ ،‬وقـّـررت أن هــذا النص ســيكون مفتتــح روايتي‬ ‫المستحيلة‪ ،‬وكنت قبلها قد اتخذت لنفسي دفترًا أزرق بهيجاً‪ ،‬عليه‬ ‫صــورة األرنــب صديــق هللــو كيتــي! وجعلتــه بمثابــة بنــك أفــكار‬ ‫لــي‪ ،‬فكلمــا طــرأت لــي فكــرة‪ ،‬أو وجــدت شــيئ ًا راقنــي في كتــاب أو‬ ‫فــي فيلــم وثائقــي‪ ،‬دونتــه فــي ذلــك الدفتر‪.‬‬ ‫يقولــون أصعــب مــا فــي أي عمــل هــو البــدء بــه‪ ،‬عرفــت كيــف أبــدأ‬ ‫الروايــة وكيــف ُأنهيهــا ولــم أعــرف كيــف أكتبهــا!‬ ‫كنت أكتب علــى فترات متباعــدة‪ ،‬أجزاء منها‪ ،‬بضعة ســطور فقط‪،‬‬ ‫ومــا أعلــم متــى ســأكتبها‪ ،‬وبعــد حصولــي علــى الدكتــوراه ُع ِّينــت‬ ‫في الجامعة‪ ،‬واســتغرقني العمــل‪ ،‬وبدا لــي أن مخيلتــي قد ضاعت‬ ‫تمامـاً‪ .‬الطامة األخــرى أني لــم أجد آنــذاك وقتـ ًا للقــراءة‪ ،‬كان األمر‬ ‫مخزيـ ًا لــي تجاه نفســي!‬ ‫ـي أن أكتــب هــذه الروايــة‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫إن‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫لنفس‬ ‫ـت‬ ‫فــي صيــف ‪ ،2012‬قلـ‬ ‫َّ‬ ‫خــال شــهري إجــازة الصيــف‪ ،‬وبالفعــل كتبــت بضــع صفحــات‪،‬‬ ‫وأيضــ ًا لــم أســتطع المضــي فيهــا‪ ،‬كنــت أشــعر وكأننــي ُأكــره‬


‫نفســي علــى الكتابة في وقــت محصور جــداً‪ ،‬فتركتها مـّـرة أخرى‪.‬‬ ‫***‬ ‫فــي أواخــر ‪ ،2014‬حصلــت علــى ســنة تفـ ُّـرغ علمــي‪ ،‬وذهبــت إلــى‬ ‫تركيــا‪ ،‬وهنــاك عملــت علــى بحثــي الرئيســي وأبحاثــي األخــرى‪،‬‬ ‫وحيــن بقــي شــهر وقليــل علــى يــوم ميــادي الــذي يصــادف ‪،4/2‬‬ ‫قـّـررت أننــي ســأفعل شــيئ ًا ممــا يقولــه أصحــاب التنميــة الذاتيــة‪،‬‬ ‫أن أهــدي نفســي هديــة ثمينــة ‪ -‬مــن ال يحــب فكــرة كهــذه‪ ،‬مــع أنــي‬ ‫كالجميــع أهــدي نفســي دوم ـاً! وأكافــئ نفســي دوم ـاً! ‪ -‬لكــن هــذه‬ ‫المـّـرة ســتكون هديتــي لنفســي مختلفــة‪ ،‬ســتكون هــي «روايتــي»‬ ‫الحلــم المســتحيل‪.‬‬ ‫لم أكن قد توقّفــت عن تدوين األفكار والمعلومــات حتى ذاك الحين‪،‬‬ ‫عودنــي على وضــع جداول لضبــط إنهــاء مواعيدي‬ ‫وكان العمــل قد ّ‬ ‫وترتيب أفكاري‪ ،‬وبالمقابل‪ ،‬كنت قد اخترت ســابق ًا تقســيم أحداث‬ ‫الروايــة علــى ‪ 29‬يومـاً‪ ،‬فقلت ســأبدأ فــي مــارس‪/‬آذار‪ ،‬وأكتب في‬ ‫كل يــوم من أيام هــذا الشــهر يوم ًا مــن أيــام الرواية‪ ،‬فإذا مــا وصلت‬ ‫ّ‬ ‫أول إبريل‪/‬نيســان أكون قد ختمــت الرواية‪.‬‬ ‫قســمت فيــه األحــداث علــى األيــام‪ ،‬وبــدأت‬ ‫وضعــت جــدو ًال مبدئيـاً‪َّ ،‬‬ ‫الكتابــة يــوم ‪.2015/3/6‬‬ ‫***‬ ‫كانــت المفاجــأة لــي أننــي أتممــت الروايــة يــوم ‪ 22‬مــارس‪/‬آذار!‬ ‫أتممــت المســودة األولــى!‬ ‫أثنــاء الكتابة كنــت أشــعر بالســعادة وأقفز فــي الكتابة قفــزاً‪ ،‬فكنت‬ ‫أحيانـ ًا أكتب أحــداث يوميــن وثالثــة في جلســة واحدة‪.‬‬ ‫ـكل يــوم‪ّ ،‬إل أننــي قبــل البدء‬ ‫ومع أنــي وضعــت الحــدث الرئيســي لـ ّ‬ ‫لــم أكــن وضعــت التفاصيــل‪ ،‬وأحيانـ ًا كنت أنــام‪ ،‬وأنــا ال أعــرف ما‬ ‫الــذي ســيحدث فــي اليــوم التالــي فــي الروايــة‪ ،‬فــإذا بــي أســتيقظ‬ ‫صباحاً‪ ،‬واألحــداث بتفاصيلها وكيفيــة كتابتها ماثلــة أمام عيني‪،‬‬ ‫ـي ســوى وضعهــا على الــورق‪.‬‬ ‫وليــس علـ َّ‬ ‫من ‪ 2007‬إلى ‪!2015‬‬ ‫كل تلــك األبحــاث واألفــكار والمعلومــات‬ ‫المفاجــأة األخــرى‪ ،‬أن ّ‬ ‫والقــراءات‪ ،‬التي ظننتهــا حاجــزًا بيني وبيــن روايتــي‪ ،‬رأيتها كلها‬ ‫تأتــي لتســاعدني بشــكل ممتــع مــا تخيلتــه‪ ،‬حتى بحثــي الــذي كنت‬ ‫فجــر لــي العديــد مــن األفــكار‪.‬‬ ‫أعمــل عليــه فــي تركيــا‪ّ ،‬‬ ‫***‬ ‫استمتعت كثيرًا وأنا «أعيد إنتاج» تلك المعلومات واألفكار الحمقاء‬ ‫والطريفة والمتوحشــة في التاريــخ‪ .‬أخذت من اللوحــات واألغاني‬ ‫والمتاحف‪ ،‬ومن مــروج الذهــب ومعجم البلــدان‪ ،‬ومن لوحــة لفنان‬ ‫ـطي‪ ،‬من متحف‬ ‫ياباني ومن حاشــية على مخطوط أوروبي َقْر َو َسـ ّ‬ ‫في فيينا ومن قلعة الكرك في األردن ومن مدينة على أطراف تركيا‪.‬‬ ‫وعلى ِغرار قصصي السابقة‪ ،‬استخدمت القلعة واألسرار والصناديق‬ ‫علي كما لو كان يرقص!‬ ‫واللعب والرعب‪ ،‬وصار الغروتسك ّ‬ ‫يطل َّ‬ ‫***‬ ‫ثمة ثالث أفكار تذكرها إيزابيل الليندي في كتبها‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫عما تعرفه‪.‬‬ ‫األولى‪ :‬أن عليك أن تكتب ّ‬ ‫الثانيــة‪ :‬أن الكاتــب عليــه أن يكــون كالســاحر‪ ،‬ال يكفــي أن يخــرج‬

‫أرانــب مــن القبعــة‪ ،‬بــل عليــه القيــام بذلــك بأناقــة‪.‬‬ ‫يشكلون ألذ جزء في الحكايات‪.‬‬ ‫الثالثة‪ :‬أن األوغاد ّ‬ ‫على الرغم مــن أن هذه األفــكار تعجبنــي‪ّ ،‬إل أن تطبيقهــا أمر آخر‪،‬‬ ‫األولــى كانــت تحدي ـاً‪ ،‬فروايتــي تاريخيــة‪ ،‬ومهمــا قــرأت عــن تلــك‬ ‫الحقبــة التــي اخترتهــا‪ّ ،‬إل أن مــن رأى ليــس كمــن قــرأ بعــد ألــف‬ ‫ســنة ّإل قلي ـاً!‬ ‫ـي أن أحضــر األرانب‪ ،‬ومــا أدراني‬ ‫الثانية‪ ،‬كانــت صعبة أكثــر‪ ،‬علـ ّ‬ ‫حق ًا أن الــذي عندي أرانــب ال ضفــادع وال جرابيع؟!‬ ‫وفوق ذلك ال بد أن أقّدمهم بأناقة وترف!‬ ‫الفكرة الثالثة‪ ،‬كانت رائعة حقاً‪ ،‬وكان أوغادي أكثر ما استمتعت به!‬ ‫ثالثــة مــن رجــال الســوء األوغــاد‪ ،‬أخذتهــم ووضعــت فيهــم قبس ـ ًا‬ ‫يهودي ًا ما‪ ،‬لئيم ًا وكريهاً‪ ،‬الغدر والخيانة والغل والتربص‪ ،‬وقليل‬ ‫مــن األنــف المعقــوف أيضاً!‬ ‫وواحــد لم يكن وغــدًا مثلهــم‪ ،‬لكننــي أردته ســاحرًا يهوديـ ًا حزيناً‪،‬‬ ‫يحتــرق جوفه لوعــة عشــق ًا وندماً‪.‬‬ ‫وأنا أيضـ ًا كنــت لئيمة‪ ،‬مع ِ‬ ‫الشــعر‪ ،‬قـّـررت قتلــه‪ ،‬أو تنكيســه على‬ ‫ـل‪ ،‬وأن أســلبه مكانتــه التي أمضاهــا طوال ألفي ســنة‪.‬‬ ‫ا َألقـّ‬ ‫ِ‬ ‫من أنا ألنكس الشعر؟‬ ‫ال يهم‪ ،‬فهذا ما أريده‪.‬‬ ‫لــم ال؟ حتــى فتاتــي الرقيقة أودعــت فيها لمســة مــن أســاليب اليهود‬ ‫فــي تدويــن التأريــخ‪ ،‬إنمــا جعلتهــا تفعل ذلــك لغايــة العبــث فقط‪،‬‬ ‫نظفتهــا مــن أحقادهــم‪ ،‬فهــي أكثــر رقــة وإنســانية مــن أن يحمــل‬ ‫قلبهــا مثــل هــذا‪.‬‬ ‫كنــت أفكــر فــي النمــط األكثــر كالســيكية‪ ،‬قصــة حــب‪ ،‬مــن ال يرغب‬ ‫في قــراءة قصــة حــب؟! وال أريدهــا أن تكــون بائســة‪ ،‬ال أريــد كتابة‬ ‫قصــة حــب مليئــة باللطــم والنــواح‪ ،‬بــل مليئــة بالشــرف والحنــان‬ ‫ـقي أن يكونــا مــن األنقيــاء اللطفــاء األتقيــاء‪.‬‬ ‫والوفــاء‪ ،‬أريــد لعاشـ ّ‬ ‫وشــخصية الفتــى بنيتها مــن صوت فــؤاد ســالم‪ ،‬رجولــي وحنون‬ ‫أتخيل شــخصيته عبر صــوت فؤاد ســالم وهو‬ ‫فــي ٍ‬ ‫آن واحد‪ ،‬كنــت ّ‬ ‫يغني أو يقــول المواويل‪.‬‬ ‫***‬ ‫من جهة أخرى‪ ،‬كان األمر أشبه بلعبة الليجو!‬ ‫ـطية والقــاع طالمــا‬ ‫تركيــب هــذا علــى ذاك‪ ،‬أيضـ ًا العوالــم َ‬ ‫القْر َو َسـ ّ‬ ‫كانــت ثيمــة فــي ألعــاب الليجــو‪ ،‬وكنــت أحبهــا‪.‬‬ ‫الحفر على أســماء المدن والبلدان‪ ،‬اختالق تاريخ ألماكن مختلفة‪،‬‬ ‫وانتقاء تاريخ لمدن موجودة‪ ،‬وسرقة تاريخ مدن ونسبها لغيرها!‬ ‫سرقة تاريخ الغير‪ ،‬أليس ذلك فعل اليهود؟ قال كمال الصليبي إنهم‬ ‫ســرقوا تاريخ الجزيــرة العربية ونســبوه لهم في أرض فلســطين‪،‬‬ ‫هــذه الفكــرة ليســت يقينيــة بالنســبة لــي‪ ،‬لكنهــا راقتنــي إلــى َحـ ٍّـد‬ ‫متخيلة‪.‬‬ ‫كبير‪ ،‬فرســمت لنفســي خارطة جغرافية نصــف ّ‬ ‫آن‪ ،‬وتتكفّل مخيلتك‬ ‫الليجو يمنحك القدرة على بناء عالم صغيــر ٍ‬ ‫ببنــاء تاريخ له!‬ ‫‪117‬‬


‫ثقافات‬

‫الرغم من طغيان النزعة إلى تقديس لغة المستعمر‬ ‫على ّ‬ ‫فإن الموسي ظلّوا‪ ،‬إلى‬ ‫واالستهانة باللّغات الوطنية‪ّ ،‬‬ ‫اآلن‪ ،‬يســتمتعون‪ ،‬في أحاديثهم واحتفاالتهم‪ ،‬بتوظيف األمثال‬ ‫إن‬ ‫وخ َطبهم‪َ .‬لئن بات من نافلة القول ّ‬ ‫واالستدالل بها في أقوالهم ُ‬ ‫اإلنتاج األدبي ليس قيد قناة في الّتعبير‪ ،‬دون غيرها‪ ،‬فمن الالزم‬ ‫قدم أو‬ ‫أن يكون ّ‬ ‫لكل مجتمع بشــري‪ ،‬مهما كان محلّه من ُســلَّم الّت ُّ‬ ‫معينة‪ .‬ومن‬ ‫الّتخلّف‪ ،‬رصيٌد من األدب يتســربل أشــكا ًال‬ ‫وقوالب َّ‬ ‫َ‬ ‫المَث ُل وما‬ ‫راجــح االحتمــال أن يكون‪ ،‬من ضمــن ذلك ّ‬ ‫الرصيــد‪َ ،‬‬ ‫شابهه من مظاهر اإلنتاج األدبي‪.‬‬ ‫الشعب الموسي‪.‬‬ ‫المَثل عند ّ‬ ‫ليكن هذا فرضاً‪ ،‬نستند إليه في مقاربة َ‬ ‫وما من ّ‬ ‫شك في أنّها مقاربة‪ ،‬ال تبلغ غايتها دون إيضاح عدد من‬ ‫المسلّمات والمفاهيم‪ ،‬ومنها ما نصوغه على النّحو اآلتي‪ :‬من هم‬ ‫الشعب؟‬ ‫المَثل؟ وكيف يتجلّى عند هذا ّ‬ ‫الموسي؟ وما هو َ‬ ‫أهــم القضايا التي نروم‪ ،‬في هذا المقام‪ ،‬كشــف النّقاب عن‬ ‫هــذه ّ‬ ‫درج في مقاربتها‪ ،‬عبر ما يأتي من الفقرات‪.‬‬ ‫حلولها‪ ،‬بالّت ّ‬

‫أدب املَ َثل‬ ‫عند شعب املويس (‪)moose‬‬ ‫د‪ .‬وليالي كندو (بوركينا فاسو)‬

‫من هم الموسي؟‬ ‫إن الموســي (‪ )moose‬أحــد شــعوب‬ ‫ّ‬ ‫المســتقرة فــي جزئهــا‬ ‫ــمراء‬ ‫الس‬ ‫ة‬ ‫القــار‬ ‫ّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫الغربي‪ ،‬وقد أقام معظم أفراده في دولة‬ ‫ّ‬ ‫فولتــا العليــا‪ ،‬قديمـاً‪ ،‬وبوركينا فاســو‪،‬‬ ‫حديثاً‪ ،‬حيث يمثّلون ما يزيد على نصف‬ ‫الســكان‪ .‬وقد لبثــت أقلّية منهــم في دولة‬ ‫ّ‬ ‫غانــا‪ ،‬أو عــادت إليهــا‪ ،‬وهاجــر غيرهــا‬ ‫إلــى ســائر البلــدان المجــاورة‪ .‬وأوفرهــا‬ ‫استقطاب ًا للموسي هي الكوت ديفوار(‪.)1‬‬ ‫وللموســي لغــة تدعــى «مــوري‪-‬‬ ‫‪118‬‬

‫‪ ،»moore‬هــي‪ ،‬مــن حيــث عــدد‬ ‫المســتعملين‪ ،‬أهـّـم اللّغــات الوطنيــة في‬ ‫بوركينا فاسو‪ ،‬وهي تنتمي‪ ،‬في تصنيف‬ ‫اللّغات اإلفريقيــة الحديث‪ ،‬إلى مجموعة‬ ‫الغــور التابعــة إلــى العائلــة النيجريــة‬ ‫الكونغوليــة‪ .‬وال يختلــف أمــر «مــوري»‬ ‫عــن العربيــة‪ ،‬زمــن جمعهــا وتدويــن‬ ‫للعربيــة لهجات‬ ‫نصوصهــا؛ فكمــا كانــت‬ ‫ّ‬ ‫متفاوتــة فــي ســلّم الفصاحــة واللّحــن‬ ‫كل من «يانا‪-‬‬ ‫كانت لـ«مــوري» قرابة مــع ّ‬ ‫‪ ،»yana‬و«زاوري‪ ،»zaoure -‬في شرقي‬

‫كل مــن «مانبورســي»‬ ‫بوركينــا‪ ،‬ومــع ٍّ‬ ‫و«داغومبــا»‪ ،‬فــي شــمال غانــا(‪ .)2‬بــل‬ ‫أن «يانا» و«زاوري»‬ ‫يرى بعض الّدارسين ّ‬ ‫متفرعــة عــن‬ ‫اثنتــان مــن عشــر لهجــات ّ‬ ‫«موري»(‪ ،)3‬ويقتضي هذا وجود اّتفاق‬ ‫بيــن أهــل مــوري‪ُ :‬أ ًّمــا وبنـ ٍ‬ ‫ـات‪ ،‬يضمــن‬ ‫لها الوحدة والّتفـّـرد بالكينونة اللّغوية؛‬ ‫يميــز اللّغــة‬ ‫أكــد الل‬ ‫فقــد ّ‬ ‫ّســانيون أن مــا ّ‬ ‫ّ‬ ‫عــن اللّهجــة ال يزيــد عــن كــون األولــى‬ ‫بمثابــة دولــة تمتلــك أســطوالً‪ ،‬ال تملكه‬ ‫الثّانية(‪ .)4‬وقــد ُيعزى االمتــاك وعدمه‬


‫إلــى سياســة حكيمــة عنــد أهــل األولــى‪،‬‬ ‫أو إلــى غلبتهــم‪ ،‬أو إلــى شــعور لــدى‬ ‫أصحــاب الثانيــة باالنتمــاء إلــى األولــى‬ ‫أو إلــى انقيادهــم إليهــا‪.‬‬ ‫فلئن كان اّتصال موري بنظام الكتابة‬ ‫ذهنيــة‬ ‫حديــث العهــد‪ ،‬فهــو ال يــزال‪ ،‬فــي ّ‬ ‫كثيــر مــن أهلــه‪ ،‬لغــة مشــتركة‪ ،‬هــي‪-‬‬ ‫أيضـاً‪ -‬ال تعــدو‪ ،‬فــي حكــم اللّســانيات‪،‬‬ ‫أن‬ ‫أن تكــون لهجــة‪ .‬وقــد ّ‬ ‫أكــد الّدارســون ّ‬ ‫الشــفوية‪ ،‬بدورهــا‪ ،‬نمــط فــي تنظيــم‬ ‫ّ‬ ‫أهمّي ًة عن نظام‬ ‫البناء الحضاري‪ ،‬ال ّ‬ ‫يقل ّ‬ ‫األهمّية في‬ ‫ـذه‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫الكتابــة‪ ،‬فكيف تتجّلــى‬ ‫ّ‬ ‫المَثل لــدى الموســي؟‬ ‫جنــس َ‬

‫مصطلح المَ ثَل عند الموسي‬ ‫إن المثــل جنــس أدبــي‪ُ ،‬عِنيــت بــه‬ ‫ّ‬ ‫ـرية منذ عصور غابرة‪،‬‬ ‫المجتمعات البشـ ّ‬ ‫مستقل‪،‬‬ ‫الغربيين أفردوه علم ًا‬ ‫إن‬ ‫ّ‬ ‫حّتى ّ‬ ‫ّ‬ ‫َسـّـموه «‪ ،»parémiologie‬وهــو ثاني‬ ‫الشــفوي(‪.)5‬‬ ‫أهــم األجنــاس فــي األدب ّ‬ ‫ّ‬ ‫وللموســي فيــه إنتــاج غزيــر‪ُ ،‬يعــرب‬ ‫عــن عنايتهــم الفائقــة بــه‪ ،‬وقــد اجتمــع‬ ‫فــي الّتعبيــر عــن مفهومــه فــي لغتهــم‬ ‫ْبْنـ ِ�د �‪yél‬‬ ‫ثالث عبـ�ارات ّ‬ ‫مطـ�ردة هـ�ي «ِيلُ‬ ‫و«غْمُبْنــِد ‪،»gombùndi -‬‬ ‫‪ُ ،»bùndi‬‬ ‫ِ‬ ‫ْغ(‪.»siilga - (6‬‬ ‫و«ســيل َ‬ ‫أمــا ِ‬ ‫ْغ» فهي اســتعمال مجموعة‬ ‫«ســيل َ‬ ‫ّ‬ ‫المســتقرين في منطقة «كوبيال‬ ‫الموسي‬ ‫ّ‬ ‫‪ »koupéla‬الواقعــة شــرقي البــاد‪،‬‬ ‫ومدلولها المعجمي عند بعض الدارسين‬ ‫(اإليماء)‪ ،‬على وجه اإلطالق‪ ،‬أو (القصد‬ ‫أما العبارتان‪ :‬الثانية‪ ،‬والثّالثة‬ ‫باإليماء)‪ّ .‬‬ ‫فهما تشــتركان‪ ،‬مــن ناحية‪ ،‬فــي كونهما‬ ‫ردتْيــن فــي اســتعمال مــوري‪ ،‬ومــن‬ ‫َّ‬ ‫مط َ‬ ‫ناحية ثانيــة‪ ،‬في قيامهما علــى الّتركيب‬ ‫كال من «ِي ِّلـْـه» (‪)yéllé‬‬ ‫أن ًّ‬ ‫النّعتــي؛ ذلــك ّ‬ ‫مكون فــي الّتركيب‬ ‫ُ‬ ‫و«غْم ـِدْه» (‪ّ )gomdé‬‬ ‫«بْنــِد» (‪)bùndi‬‬ ‫وأن‬ ‫المنعــوت‪،‬‬ ‫محــل‬ ‫ّ‬ ‫ّ ُ‬ ‫متفــرد بموضــع النعــت‪ .‬وعلــى خــاف‬ ‫ّ‬ ‫ـإن معنى‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫لفظه‬ ‫يفيد‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الت‬ ‫»‬ ‫«ِي ِّلـْـه‬ ‫األمر فـ ّ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫«بْنِد»‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫أم‬ ‫ـول‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫الق‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫الوضعي‬ ‫»‬ ‫ه‬ ‫د‬ ‫ُ‬ ‫«غْم ـ ْ‬ ‫ّ ُ‬ ‫فقد اجتهــد فــي تقريــب معناهــا المعجمي‬ ‫ثــم اقتفــى أثــره‬ ‫«دوريــس بونّــي»(‪ّ ،)7‬‬

‫أن‬ ‫«سيســاو»(‪ ،)8‬وقــد اقتصــرا علــى ّ‬ ‫تدل علــى العقدة‪ ،‬وااللتواء‪،‬‬ ‫«بْنِد» كلمة ّ‬ ‫ُ‬ ‫يفســر‬ ‫مــا‬ ‫ولعــل‬ ‫والخفــاء‪.‬‬ ‫قــوس‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫والّت ُّ‬ ‫ّ‬ ‫هــذا االقتصار قّلــة المصــادر والّدراســات‬ ‫اللّغويــة المكتوبــة فــي مــوري‪ ،‬ووقوف‬ ‫أولهمــا‪ ،‬فــي دراســته‪ ،‬موقــف الواصــف‬ ‫ّ‬ ‫األول؛ وهــو مــا يقتضــي الكفايــة بــآراء‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫المستعملين األصالء‪ ،‬وإن كان‬ ‫عينة من‬ ‫ِّ‬ ‫أكد علماء‬ ‫وإذا‬ ‫االستقراء‪.‬‬ ‫باب‬ ‫من‬ ‫عملهم‬ ‫ّ‬ ‫أن االســتقراء ال يحصــر‬ ‫اإلبســتمولوجيا ّ‬ ‫توصلوا إليــه ال يحول‬ ‫الحقيقة‪ ،‬فـ ّ‬ ‫ـإن ما ّ‬ ‫دون المراجعــة والنقد‪.‬‬ ‫واســتنادًا إلى حدســنا اللّغوي‪ ،‬نرى‬ ‫أخص بالبــذرة في طور‬ ‫ّ‬ ‫«بْن ـِد» ّ‬ ‫أن معنى ُ‬ ‫الســويقة‪ ،‬أو‬ ‫الجنيــن؛ فكثيرًا مــا تكــون ّ‬ ‫الســاق‪ ،‬منحنيــة نحــو األســفل‪ ،‬وهو ما‬ ‫ّ‬ ‫أن النّبتة‪،‬‬ ‫يظهر في شــكل القوس‪ ،‬كمــا ّ‬ ‫الطــور من نشــأتها‪ ،‬تكــون بلون‬ ‫في هذا ّ‬ ‫والصفــرة‪ ،‬وعلــى‬ ‫يكــون بيــن البيــاض ّ‬ ‫الســويقة‬ ‫أو‬ ‫ـاق‬ ‫السـ‬ ‫ّ‬ ‫قدر ما يكون انحناء ّ‬ ‫نحــو األرض‪ ،‬إيهام ـ ًا بغيــر مــا ســتصير‬ ‫إليــه‪ ،‬يكون لونهــا المائل إلــى االصفرار‬ ‫ال يخفــي خضــرة كامنة‪.‬‬ ‫شــك ً‬ ‫وبنــاء علــى هــذا المدلــول‪ ،‬يكــون‬ ‫ً‬ ‫ْبْنــِد» (األمــر الجنيــن)‪ ،‬بينمــا‬ ‫ل‬ ‫معنــى «ِي ُ‬ ‫«غْمُبْنــِد» بأنــه (القــول الجنيــن)‪،‬‬ ‫يفيــد ُ‬

‫أدق وأقرب‬ ‫وهذا المعنى‪ -‬في‬ ‫تصورنا‪ّ -‬‬ ‫ُّ‬ ‫للعبارتْيــن‪.‬‬ ‫إلــى المدلــول االصطالحــي‬ ‫َ‬ ‫وعلــى أســاس ترجيــح بوّنــي‪ ،‬تكون‬ ‫للمَثل المخصوص‬ ‫ْبْنِد» مصطلح ًا َ‬ ‫عبارة «ِيلُ‬ ‫تتضمن اإليماء‪،‬‬ ‫ّها‬ ‫ن‬ ‫أل‬ ‫الموري‪،‬‬ ‫ّسان‬ ‫في الل‬ ‫ّ‬ ‫خاصّية‬ ‫المَثل من ّ‬ ‫من ناحية‪ ،‬إلى ما فــي َ‬ ‫اإللغاز واإلشــكال والخفــاء‪ ،‬ومن ناحية‬ ‫ثانيــة‪ ،‬إلــى مــا يمتاز بــه مــن داللــة على‬ ‫الّت ُّ‬ ‫أن الموســي قد يســتعملون‬ ‫كثــف‪َ .‬بْيـَـد ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْبْند»‪ ،‬وذلك‬ ‫«غْمُبْند»‬ ‫ً‬ ‫عبارة ُ‬ ‫نيابة عــن «ِيلُ‬ ‫الرغــم مــن أنّهــا عنــده «إنتــاج أكثــر‬ ‫علــى ّ‬ ‫ارتجاالً‪ ،‬وأسرع إلى الزوال‪ ،‬وأقرب إلى‬ ‫والقصة‬ ‫أن القول‬ ‫فرد»(‪ ،)9‬بل يضيف ّ‬ ‫ّ‬ ‫الّت ُّ‬ ‫ـان ضمنية فــي عبارة‬ ‫و«غْمُبْن ـِد» هــي معـ ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫المَثل‪ ،‬عند الموسي‪،‬‬ ‫أن‬ ‫حتمل‬ ‫ي‬ ‫إذ‬ ‫»؛‬ ‫د‬ ‫ن‬ ‫ْب‬ ‫ْ‬ ‫ّ َ‬ ‫ُ‬ ‫«ِيلُ‬ ‫قصة ما(‪،)10‬‬ ‫لياً‪ ،‬يكثّف دالالت ّ‬ ‫كان قو ًال َمَث ّ‬ ‫كل قــول َمثالً)‪ ،‬كمــا ال يلزم‬ ‫(ليس‬ ‫إ ّال أّنــه‬ ‫ّ‬ ‫كل قول َمَثلي ينشــئه‬ ‫ترســخ الّتقاليــد ّ‬ ‫أن ّ‬ ‫أحــد أفــراد المجتمــع‪ ،‬ليكــون مث ـاً‪ .‬إذاً‪،‬‬ ‫ْبْن ـِد»‪ ،‬بموجــب مــا فيهــا‬ ‫ّ‬ ‫يتأكــد لنــا ّ‬ ‫أن «ِيلُ‬ ‫من الّتنبير علــى األمر‪ ،‬أبعد عــن الذّاتية‪،‬‬ ‫وأقرب إلــى البعــد الجماعــي‪ ،‬وَأ ْو َغل في‬ ‫يؤكــد هــذا ما جــاء عنــد «راي»‪،‬‬ ‫الّتجريــد؛ ّ‬ ‫في تقديمــه لمعجــم األمثــال‪ ،‬مــن أنّنــا لو‬ ‫ـردي يعود إلى‬ ‫فرضنــا ّ‬ ‫المَثل فـ ّ‬ ‫أن مصــدر َ‬ ‫المفكرين والفالســفة فإّنــه يلزم أن‬ ‫إمالء ّ‬ ‫‪119‬‬


‫جماعياً(‪)11‬؛‬ ‫متواضع ًا‬ ‫واطراده‬ ‫يكون نقله ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫يبرر تقييــد مصطلحه‪ ،‬في‬ ‫ّ‬ ‫ولعل هذا ّ‬ ‫مما ّ‬ ‫كثيــر مــن الّدراســات واألعمــال الحديثــة‪،‬‬ ‫«الشعبي»‪.‬‬ ‫بصفة ّ‬

‫مفهوم المَ ثَل عند الموسي‬ ‫للمَثل حقيقة معقّدة‬ ‫ّ‬ ‫يؤكد الّدارسون ّ‬ ‫أن َ‬ ‫ومفهومـ ًا عســير التقييد والحصر بســبب‬ ‫وجود مفاهيــم تقاربه إلى ح ـّد الّتداخل‪،‬‬ ‫وتشــاِبُهه إلــى درجــة االلتبــاس‪ ،‬ومنهــا‬ ‫الحكمة والقــول المأثور‪ .‬وهذا اإلشــكال‬ ‫بالسعي‬ ‫هو ما حدا ببعضهم إلى الكفاية ّ‬ ‫وتوصلــوا فــي‬ ‫إلــى تمييــزه مــن غيــره‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أن جميــع األمثال‪ ،‬فــي مختلف‬ ‫ذلك إلــى ّ‬ ‫خاصية‬ ‫الثّقافات‪ ،‬نصوص تشــترك في ّ‬ ‫عامــ ًا أو‬ ‫ّ‬ ‫دالليــة‪ ،‬هــي كونهــا إســنادًا ّ‬ ‫ا للّتعميــم‪ ،‬يقـّـرر حقيقــة عقليــة أو‬ ‫قاب ـ ً‬ ‫خلقية(‪ .)12‬وأضاف بعضهم أنّها عبارة‬ ‫ّ‬ ‫معينة‬ ‫تجارب‬ ‫تعزل‬ ‫ذهنية‬ ‫ات‬ ‫وضعي‬ ‫عن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫متفردة‬ ‫المَثلي إلى جعلها ّ‬ ‫ليسعى الّتعبير َ‬ ‫أن هذا الّتعبير ينبغي‬ ‫على‬ ‫في مقاماتها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أن يمتاز باإلثبات والوجوب المطلق(‪.)13‬‬ ‫ال‬ ‫وإلى هذا الذي أورده «سيساو»‪ ،‬نق ً‬ ‫أن األمثــال صيغ‬ ‫عــن «بوّنــي»‪ ،‬يضيــف ّ‬ ‫مختصــرة مكتنزة‪ ،‬تقــوم علــى مالحظة‬ ‫اليوميــة‪ ،‬إلثبات مضامين‬ ‫ما في الحياة‬ ‫ّ‬ ‫إمــا دروس ـ ًا فــي الِقَيــم‬ ‫معياريــة تكــون‪ّ :‬‬ ‫الخلقية‪ ،‬أو قواعــد ســلوكية‪ ،‬أو مبادئ‬ ‫الروحية(‪.)14‬‬ ‫في الحيــاة ّ‬ ‫والمعيار‪ -‬على حّد عبــارة «كوفين»‪-‬‬ ‫كل مــا يمثّــل قاعــدة أو مقياســ ًا‬ ‫هــو ّ‬ ‫يســود ســلوك النّــاس؛ فهــو أنمــوذج‬ ‫ثقافــي‪ ،‬يعرضــه المجتمــع علــى أفــراده‬ ‫ليتبنّوه‪ ،‬وهو أنمــوذج ُي َع َّبر عنه‪ ،‬على‬ ‫ـي‪ ،‬فــي مقامــات مــن الحيــاة‬ ‫نحــو ضمنـ ّ‬ ‫ـن أو‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫لصغي‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫نبي‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫مختلفــة‪ ،‬مث‬ ‫ّ‬ ‫السـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫تبريــر قــرار مّت َخــذ فــي أثنــاء النّقــاش‪.‬‬ ‫إيجابي ـاً‪،‬‬ ‫إمــا‬ ‫ّ‬ ‫ويكــون تعبيــر األنّمــوذج ّ‬ ‫كمــا في نصــح الفتــى ومــدح رجل َح َســن‬ ‫السلوك‪ ،‬أو يكون تعبيره سلبياً‪ ،‬مثلما‬ ‫ّ‬ ‫والسخرية(‪.)15‬‬ ‫االمتعاض‬ ‫همهمة‬ ‫تكون‬ ‫ّ‬ ‫يعمــم «كوفيــن»‬ ‫وعلــى هــذا األســاس‪ّ ،‬‬ ‫الشــفوي غالبا‬ ‫بقولــه إن نصوص األدب ّ‬ ‫‪120‬‬

‫معتبرة‬ ‫ما ترشح بمعايير ّ‬ ‫تحث على قيم َ‬ ‫عملي ـ ًا‬ ‫ـور ســلوك ًا ّ‬ ‫فــي المجتمــع؛ أو تصـ ِّ‬ ‫مســتقًى مــن تجربــة الحيــاة(‪ .)16‬وهــذا‬ ‫المَثــل ببيــان وظيفتــه؛‬ ‫تقريــب لمفهــوم َ‬ ‫المَثل‬ ‫وهو ما أسهب فيه «راي» إذ ّ‬ ‫أكد ّ‬ ‫أن َ‬ ‫يعبر عن‬ ‫ـل‬ ‫كل َمَثـ‬ ‫وأن ّ‬ ‫ينصــح أو يأمــر‪ّ ،‬‬ ‫ِّ‬ ‫منطــق الحكــم أو الفعــل و‪ -‬أحيانـاً‪ -‬عــن‬ ‫ســلوك منســجم القيمــة مــع نظــام القيــم‬ ‫الغالبــة في المجتمــع؛ ولهــذا كانت نزعة‬ ‫المحافظة ســمة مالزمة لــه‪ ،‬رغم وجود‬ ‫الصــراع الطبقــي(‪.)17‬‬ ‫ّ‬ ‫وإلــى هــذا المســتوى الوظيفــي فــي‬ ‫مقاربة مفهوم المثل‪ ،‬يضيف «سيساو» أن‬ ‫موسيقي‬ ‫األمثال تمتاز بالخفاء‪ ،‬وبإيقاع‬ ‫ّ‬ ‫وأن‬ ‫ـعرية‪،‬‬ ‫يجعلهــا بمثابــة نصــوص شـ‬ ‫ّ‬ ‫واالطراد يستند إلى ما‬ ‫ترشيحها لإلرسال‬ ‫ِّ‬ ‫الشعرية‬ ‫فيها من طاقة استحضار الصور ّ‬ ‫متميز(‪.)18‬‬ ‫في إيقاع‪ ،‬من الموسيقى‪ّ ،‬‬ ‫وال ّ‬ ‫السمات في عالقة‬ ‫شك في ّ‬ ‫أن هذه ّ‬ ‫استرسال واشتباك مع ما يمكن تصنيفه‬ ‫كل مــن البنيــة‪ ،‬والّداللة‪،‬‬ ‫ضمــن مباحــث ٍّ‬ ‫والوظيفــة‪ .‬وال يبـّـرر ميــل الّدارســين إلى‬ ‫السمات في هذا المستوى سوى‬ ‫جمع هذه ّ‬ ‫المَثل‬ ‫مــا ّ‬ ‫نصــوا عليه مــن انفــات مفهــوم َ‬ ‫من الّتحديد واســتعصائه على الحصر‪.‬‬

‫األمثال وأهمّ يّتها عند‬ ‫الموسي‬ ‫لعل مــن المفيد‪ ،‬قبــل الوقــوف للكالم‬ ‫ّ‬ ‫أهمّية عند‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـال‬ ‫ـ‬ ‫األمث‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫تحظى‬ ‫في ما‬ ‫ّ‬ ‫الموســي‪ ،‬أن نورد نمــاذج مــن المتداول‬ ‫مكتفيــن بترجمتهــا إلــى‬ ‫منهــا عندهــم‪َ ،‬‬ ‫ّفظية‪،‬‬ ‫العربية دون محاكاة صورهــا الل ّ‬ ‫وال الّتكلّــف‪ ،‬فــي هــذا المقــام‪ ،‬بمقاربــة‬ ‫ِقَيمهــا ودالالتهــا ومقامــات قولهــا‪ .‬وتلك‬ ‫األمثــال مــا هــي‪:‬‬ ‫ بضـّـم الجــرادة إلــى األخــرى يمتلــئ‬‫الجــراب‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫السعي‪.‬‬ ‫من‬ ‫خير‬ ‫الل‬ ‫رزق‬ ‫‬‫ّ‬ ‫كل‬ ‫ إذا بــدا التبــادل عطــاء فليحتفــظ ٌّ‬‫بمــا لــه‪.‬‬ ‫‪ -‬جــدار المســاء يســتند إلــى جــدار‬

‫الصبــاح‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ يعسر سلخ ما لم َيُمت‬‫الر ْجل األخرى ينشأ الشلل‪.‬‬ ‫ بمخالفة ِّ‬‫الضــأن الغريــب َفَقْد أخزى‬ ‫عض ّ‬ ‫ إذا ّ‬‫الكلب‪.‬‬ ‫الشــبح يدخــل البيــت قبل أن‬ ‫ ال تــدع ّ‬‫تغلــق البــاب‪.‬‬ ‫فألن النسوة‬ ‫السوق بسالم ّ‬ ‫ إذا فرغت ّ‬‫كتم َن أسراراً‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫يزدْد قبحاً‪.‬‬ ‫بنفسه‬ ‫يعتز‬ ‫ال‬ ‫من‬ ‫‬‫ّ‬ ‫َ‬ ‫الغربييــن إلــى‬ ‫تغيــرت نظــرة‬ ‫ّ‬ ‫ولئــن ّ‬ ‫الســلب‪ ،‬ومن‬ ‫األمثال‪ ،‬مــن اإليجــاب إلى ّ‬ ‫اإليديولوجي‪،‬‬ ‫الّتقدير إلــى النقد العقلــي‬ ‫ّ‬ ‫أن األمثال‪ ،‬في البالد‬ ‫فقد َّ‬ ‫أكد الّدارســون ّ‬ ‫الســوق(‪،)19‬‬ ‫اإلســامية‪ ،‬ال تــزال نافقة ّ‬ ‫وأن معرفتها وحســن توظيفهــا عالمتان‬ ‫ّ‬ ‫على حسن التربية ورفعة المنزلة(‪.)20‬‬ ‫وهذا حكــم ثابت‪ ،‬يالحظه شــاهد العيان‬ ‫فــي المجتمع الموســي إلى اليــوم‪ .‬فعلى‬ ‫الرغــم مــن طغيــان النزعــة إلــى تقديــس‬ ‫ّ‬ ‫لغــة المســتعمر واالســتهانة باللّغــات‬ ‫فإن الموسي ظلّوا‪ ،‬إلى اآلن‪،‬‬ ‫الوطنية‪ّ ،‬‬ ‫يستمتعون‪ ،‬في أحاديثهم واحتفاالتهم‪،‬‬ ‫بتوظيــف األمثــال واالســتدالل بهــا فــي‬ ‫وخ َطبهم‪.‬‬ ‫أقوالهــم ُ‬ ‫ونجد في اإلذاعــات المحلّيــة منذ فجر‬ ‫االستقالل إلى اليوم‪ ،‬برامج عديدة ُتعنى‬ ‫بإحيــاء التــراث األدبــي لــدى الموســي‪.‬‬ ‫وقد اعتمد بعضهــا على تقديــم الحكايات‬ ‫الربــط بينهــا وبيــن‬ ‫ّ‬ ‫الشــعبية وإحــكام ّ‬ ‫األمثــال التــي تختصرهــا فــي أســلوب‪،‬‬ ‫ولعل‬ ‫من الحوار الثّنائي‪ ،‬طريف ممتع‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أبرز مــن يمثّل هــذا االّتجــاه «لرلــي نابا‪-‬‬ ‫الراحل الذي‬ ‫‪ّ »Lagle Naaba a Abga‬‬ ‫وظــل‬ ‫كان شــغوف ًا بروايــة الحكايــات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يمــارس هــذا النّشــاط‪ ،‬مــن عــام ‪1967‬م‬ ‫إلى وفاتــه عــام ‪1982‬م(‪.)21‬‬ ‫اإلذاعيــة‪ ،‬فــي هــذا‬ ‫وأحــدث البرامــج‬ ‫ّ‬ ‫المجـ�ال‪ ،‬مـ�ا يقّدمـ�ه ِ‬ ‫ابـ�ا ‪Sid� -‬‬ ‫«سـ�ْد َن َ‬ ‫‪ ،»naabaa‬في إذاعته َسفان إف إم (�‪Sa‬‬ ‫أيــام‬ ‫‪ ،)vane FM‬صبــاح ّ‬ ‫كل يــوم مــن ّ‬ ‫العمل األسبوعي‪ .‬وهو عبارة عن تقديم‬ ‫باحية‪،‬‬ ‫مع َّين في مدخل البرامج ّ‬ ‫الص ّ‬ ‫َمَثل َ‬ ‫وتأويله لفائــدة الجمهور المســتمع‪ .‬وقد‬ ‫أكسبته عنايته بـ«موري» وتراثه األدبي‬


‫ـعبي ًة كبيرة‪ ،‬رفعت شــأنه‬ ‫والفكــري‪ ،‬شـ ّ‬ ‫لــدى أعيــان البــاد قاطبة‪.‬‬ ‫مدونــة ُو ِ‬ ‫ضعــت‪-‬‬ ‫ولعــل أقــدم‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫بالفرنســية‪ -‬ألمثــال مــوري‪ ،‬كتــاب‬ ‫«دوريــس بوّنــي» (‪ ،)1982‬الــذي جمــع‬ ‫سكان «ياتنغا»‬ ‫فيه األمثال المتداولة عند ّ‬ ‫مــن الموســي‪ .‬وهــو يحتــوي علــى ‪130‬‬ ‫ـدر َج الـّدارس‪ ،‬فــي تقديمهــا‪ ،‬من‬ ‫مثـاً‪ ،‬تـ َّ‬ ‫ّيــة‪،‬‬ ‫ل‬ ‫المح‬ ‫األبجديــة‬ ‫مــوز‬ ‫بالر‬ ‫ّ‬ ‫كتابتهــا ّ‬ ‫الحرفيــة‪ ،‬وصــو ًال إلــى‬ ‫إلــى ترجمتهــا‬ ‫ّ‬ ‫توخــى بوّنــي‪،‬‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫وق‬ ‫ـليمة‪.‬‬ ‫السـ‬ ‫ّ‬ ‫الترجمــة ّ‬ ‫فــي مقاربــة تلــك األمثــال‪ ،‬ذكــر معانــي‬ ‫المعجمية قبــل تحليلهــا وبيان‬ ‫مفرداتهــا‬ ‫ّ‬ ‫مقــام اســتعمالها‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ـف فــي األمثــال‪ ،‬من‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫أ‬ ‫َّ‬ ‫ـن َ‬ ‫ومــن أبــرز َمـ ْ‬ ‫الوطنييــن‪،‬‬ ‫الفرانكفونييــن‬ ‫المثقّفيــن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والزعيــم الّتقليــدي‬ ‫األديــب‬ ‫المحامــي‬ ‫ّ‬ ‫«فريديــك تيتنغــا باســيري‪Frédéric -‬‬ ‫‪ ،»Titinga Pacéré‬فلــه كتــاب ُن ِشــر‬ ‫سنة ‪2005‬م‪ ،‬تناول فيه حكمة األفارقة‬ ‫الســودان‪ ،‬مــن خــال عــرض نمــاذج مــن‬ ‫ّ‬ ‫األمثــال واألقــوال المأثــورة‪.‬‬ ‫مدونة ُأفـ ِـردت لألمثال‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ولعل أحــدث ّ‬ ‫عنــد الموســي‪ ،‬مــا قّدمــه المحاســب‬ ‫«ويندنميتـ�ي ويدراوغـ�و ‪Windin� -‬‬ ‫ِ‬ ‫‪ ،»minté Ouédraogo‬عــام ‪2014‬م‪،‬‬ ‫بعنــوان «أمثــال مــن بــاد موســي‪ ،‬جدار‬ ‫الصباح»‪ .‬وهو‬ ‫المســاء يســتند إلى جدار ّ‬ ‫أولهما‬ ‫مصنَّف يقع فــي مجلّدين‪ ،‬يتأّلــف ّ‬ ‫مــن ‪ 337‬صفحــة‪ ،‬والثّانــي مــن ‪229‬‬ ‫صفحة‪ .‬ويحتوي على ‪َ 1033‬مَثالً‪ .‬وعلى‬ ‫توخاه «بوّنــي»‪ ،‬في دراســته‪،‬‬ ‫غرار مــا ّ‬ ‫أّلــف «ويدراوغــو»‪ ،‬فــي مقاربتــه‪ ،‬بيــن‬ ‫كتابة األمثال بأبجديــة موري وترجمتها‬ ‫الفرنســية‪ ،‬قبــل الوقــوف لبيــان داللتهــا‬ ‫وتأويلهــا‪.‬‬ ‫عينــة مــن األمثــال واألعمــال‪:‬‬ ‫هــذه ِّ‬ ‫تقــرب‪-‬‬ ‫ــة‪،‬‬ ‫والعلمي‬ ‫ــة‪،‬‬ ‫واألدبي‬ ‫الفنّيــة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫إلــى حـّد مــا‪ -‬مــا تحظــى بــه األمثــال من‬ ‫أهمية فــي ثقافة الموســي‪ ،‬ولدى علماء‬ ‫ّ‬ ‫األنثروبولوجيــا فــي العصــر الحديــث‪،‬‬ ‫أهميــة تــزداد مــع تنامــي الوعــي‬ ‫وهــي ّ‬ ‫بالــذات وبالخصوصيــة الثّقافيــة لــدى‬ ‫الشــعوب المتحـّـررة مــن ربقة‬ ‫كثيــر مــن ّ‬ ‫االســتعمار‪.‬‬

‫الهوامش والمراجع‬ ‫ّية علوم التربية‬ ‫* عميد كلّ‬ ‫المركز الجامعي للتخصصات المتعددة في بوركينا‬ ‫‪1 - Cf. Langues gur [en ligne]. htt‬‬‫_‪ps://fr.wikipedia.org/wiki/Langues‬‬ ‫‪gur [consulté le 21 juin 2016].‬‬ ‫‪2 - Cf. KUBA (R) et al, Histoire du‬‬ ‫‪peuplement et relations interethniques‬‬ ‫‪au Burkina Faso, éd. Karthala, Paris‬‬ ‫‪2003, p. 1733‬‬ ‫‪3- Cf. Langues et dialectes du burkina‬‬ ‫‪faso [ en ligne]. http://www.burkina‬‬‫‪faso-cotedazur.org/documents/docu‬‬‫‪ments/demographie/listing-langues‬‬‫‪dialectes.pdf [consulté le 26 juin 2016].‬‬ ‫‪ - 4‬انظــر‪ :‬كنــدو (وليــاي)‪ ،‬األلســنة فــي‬ ‫أفريقيا الســوداء‪ ..‬لغــات أم لهجات؟‪ ،‬فــي المجلّة‬ ‫العربيــة للثقافــة‪ ،‬العــدد ‪ ،37‬ســبتمبر‪1999 ،‬م‪،‬‬ ‫ص‪.191-194 :‬‬ ‫‪5 - Cf. BAUMGARDT (U) & DERIVE‬‬ ‫‪(J), Littérature orales africaines, per‬‬‫‪spectives théoriques et méthodologiques,‬‬ ‫‪Ed. Karthala, Paris 2008, p. 7.‬‬ ‫‪6 - Cf. SISSAO (A-J), Les proverbes‬‬ ‫‪[en ligne]. http:www.bf.refer.org/sis‬‬‫‪sao/html/p2chap15 4.htlm [consulté‬‬ ‫‪le 20 janvier 2016].‬‬

‫‪7 - Cf. BONNET (D), Le proverbe chez‬‬ ‫‪les mossi du Yatenga (Haute-Volta),‬‬ ‫‪Ed. SELAF, Paris 1982.‬‬ ‫‪8 - Cf. SISSAO (A-J), Op. cit.‬‬ ‫‪9 - BONNET (D), op. cit., p. 34.‬‬ ‫‪10 - Ibid., p. 24.‬‬ ‫‪11 - Cf. REY (A), Préface, In : Diction‬‬‫‪naire de proverbes et dictons, choisis et‬‬ ‫‪présentés par Florence MONTREYNAUD,‬‬ ‫‪Agnes PIERRON et François SUZZONI,‬‬ ‫‪La sagesse du monde entier, Ed. Dic‬‬‫‪tionnaire le Robert, Paris 1989, p. IX.‬‬ ‫‪12 - Ibid., p. X-XI.‬‬ ‫‪13 - Cf. BONNET (D), Op. cit., p. 231.‬‬ ‫‪14 - Cf. SISSAO (A-J), Op. cit.‬‬ ‫‪15 - Cf. CAUVIN (J), Comprendre la‬‬ ‫‪parole traditionnelle, Ed. Saint-Paul,‬‬ ‫‪1980, p. 37.‬‬ ‫‪16 - Ibid.‬‬ ‫‪17 - Cf. REY (A), Op. cit. p. XI-XII.‬‬ ‫‪18 - Cf. SISSAO (A-J), Op. cit.‬‬ ‫‪19 - Cf. REY (A), Op. cit. p. XII.‬‬ ‫‪20 - Cf. SISSAO (A-J), Op. cit.‬‬ ‫‪21 - Cf. OUEDRAOGO (A), Le renou‬‬‫‪veau des contes du Lagle Naaba à la‬‬ ‫‪Télévision Nationale du Burkina. [en‬‬ ‫‪ligne]. www.letterkunde.up.ac.za/ar‬‬‫‪gief/44_1/21%20Ouedraogo_F%2003.‬‬ ‫]‪pdf [consulté le 26 juin 2016‬‬ ‫‪121‬‬


‫معناها ومبناها‬

‫«ساراسني»‬

‫يف ال ّلغات األوروبية‬ ‫د‪.‬طالل عبداللطيف الجسا‬ ‫يقـــرع مســـامع المـــرء فـــي أروقـــة أقســـام‬ ‫الدراســـات اإلســـامية أو االستشـــراقية‬ ‫الواقعـــة فـــي الجامعـــات الغربيـــة مصطلـــح‬ ‫علم ــي خ ــاص حي ــن الحدي ــث ع ــن المس ــلمين‬ ‫أو اإلشـــارة إليهـــم‪ ،‬لكنـــه غيـــر معـــروف‬ ‫كثيـــرًا فـــي أوســـاط المســـلمين‪ ،‬أال وهـــو‬ ‫«ساراســـين» (باأللمانيـــة‪)Sarazenen :‬‬ ‫و(باإلنجليزيـــة‪ )Saracen :‬و(بالفرنســـية‪:‬‬ ‫‪ .)Sarrasins‬وفـــي محاضـــرة بعنـــوان‬ ‫«مدخـــل للدراســـات اإلســـامية فـــي إفريقيـــا»‬ ‫للبروفيســـور (أوســـفالد ‪( )OBwald‬جامعـــة‬ ‫بايروي ــت األلماني ــة)‪ ،‬س ــمعت ه ــذا المصطل ــح‬ ‫مكـــرر فـــي وصـــف‬ ‫مـــرة وبشـــكل‬ ‫ّ‬ ‫ألول ّ‬ ‫المســـلمين‪ ،‬وتعجبـــت كثيـــرًا لهـــذه الكلمـــة‪،‬‬ ‫ومـــا المقصـــود الدقيـــق منهـــا‪ ،‬ولمـــاذا ال‬ ‫ُيقـــال مســـلمون (‪ )Muslime‬كمـــا ُيكتـــب‬ ‫فـــي الصحافـــة ويـــرد فـــي وســـائل اإلعـــام!‬ ‫ثـــم هـــل لهـــذه الكلمـــة داللـــة اصطالحيـــة أو‬ ‫توجهـــت‬ ‫معنـــى أكاديمـــي ّ‬ ‫مميـــز آخـــر؟ ثـــم ّ‬ ‫فـــي نهايـــة المحاضـــرة بســـؤال عـــن معنـــى‬ ‫الكلمـــة للدكتـــور المحاضـــر‪ ،‬فأجابنـــي‬ ‫إجاب ــة س ــريعة ال تش ــفي الغلي ــل بأنه ــا فق ــط‬ ‫تعن ــي المس ــلمين‪ .‬فق ـ ّـررت البح ــث أكث ــر ع ــن‬ ‫معنـــى هـــذه الكلمـــة وأصلهـــا‪ ،‬فتجلّـــت لـــي‬ ‫ـان مختلف ـ ٌـة ُتثي ــر الدهش ــة‪ ،‬وه ــذا م ــا أود‬ ‫مع ـ ٍ‬ ‫توضيحـــه إن شـــاء اهلل‪.‬‬ ‫ُيشــ�ير مصطلــ�ح ساراســ�ين« «�‪Sara‬‬ ‫‪ »zenen‬فـــي البدايـــة إلـــى القبائـــل التـــي‬ ‫اس ــتوطنت ش ــمال غ ــرب الجزي ــرة العربي ــة‪،‬‬ ‫وه ــذا المصطل ــح الحدي ــث متط ـ ّـور ع ــن الكلم ــة‬ ‫األصليـــة اليونانيـــة «‪ ،»Sarakenoi‬التـــي‬ ‫أطلقهـــا أو ًال العالـــم اليونانـــي َب ْطُلْميـــوس‬ ‫(توفـــي ‪ 150‬بعـــد الميـــاد) علـــى قبائـــل‬ ‫األنبـــاط تحديـــداً‪ ،‬ثـــم اســـتخدم الرومـــان‬ ‫‪122‬‬

‫المصطلـــح لإلشـــارة إلـــى ســـكان الصحـــراء‬ ‫فـــي إقليـــم البتـــراء الخاضـــع للدولـــة‬ ‫الرومانيـــة آنـــذاك‪.‬‬

‫المصطلح يف لغات قديمة‬ ‫وصـــف َب ْطُلْميـــوس قبائـــل األنبـــاط فـــي‬ ‫اليونانيـــة العامـــة (أو الكوينـــه اإلغريقيـــة)‬ ‫بكلمـــة «‪ ،»Sarakenoi‬ثـــم ظهـــرت كلمـــات‬ ‫قريبـــة مـــن وصفـــه‪ ،‬وذلـــك مثـــل كلمـــة‬ ‫«‪ »Saraceni‬فـــي الالتينيـــة‪ ،‬وكلمـــة «�‪Sar‬‬ ‫‪ »kaye‬فـــي الســـريانية‪ ،‬ثـــم أصبحـــت‬ ‫جميعهـــا‪ -‬عـــاوة علـــى ذلـــك‪ -‬ترمـــز إلـــى‬ ‫ُ‬ ‫القبائـــل الرحـــل فـــي شـــبه جزيـــرة ســـيناء‬ ‫من ــذ ع ــام ‪ 200‬إل ــى ‪ 400‬بع ــد المي ــاد‪ ،‬ف ــي‬ ‫توســـع داللـــي لهـــذا المصطلـــح‬ ‫إشـــارة إلـــى ُّ‬ ‫مــن قبائــل األنبــاط تعيين ـ ًا إلــى قبائــل أخــرى‬ ‫تعيـــش فـــي الصحـــراء‪ ،‬واللَّواتـــي يجمـــع‬ ‫بينهـــا االرتحـــال وتشـــابه حـــال المعيشـــة‬ ‫فـــي البيـــداء بـــد ًال مـــن المـــدن والقـــرى‪ ،‬مـــع‬ ‫مالحظـــة أن لغـــة األنبـــاط كانـــت بالتأكيـــد‬ ‫قليـــا أو كثيـــرًا عـــن لغـــة قبائـــل‬ ‫مختلفـــة‬ ‫ً‬ ‫ســـيناء‪ ،‬وعلـــى الرغـــم مـــن ذلـــك لـــم يمنـــع‬ ‫مـــن اســـتخدام نفـــس المصطلـــح عليهـــم‪.‬‬

‫إيتيمولوجيا المصطلح‬ ‫يذكـــر الباحـــث األلمانـــي ســـاوتير فـــي‬ ‫كتابـــه (صـــورة اإلســـام فـــي القـــرون‬ ‫الوســـطى) أن مـــن الصعوبـــة تحديـــد أصـــل‬ ‫ومعنــ�ى مصطلــ�ح ساراســ�ين« «�‪Sara‬‬ ‫‪ »zenen‬بدق ــة‪ ،‬لك ــن من ــذ الق ــرن ‪ 18‬ظه ــرت‬ ‫آراء جديـــرة بالنظـــر‪ ،‬منهـــا أن أصـــل‬

‫المصطل ــح كلم ــة م ــن اللّغ ــة العربي ــة‪ُ ،‬يش ــار‬ ‫بــ�ه إلــ�ى الشــ�رق‪ ،‬أي (شــ�رِق ٌي ‪Schar� /‬‬ ‫‪ ،)qiyun‬ورأي آخـــر جديـــر باالهتمـــام‬ ‫ب ــأن ه ــذا المصطل ــح ق ــد ُيش ــير إل ــى (يع ــرب‬ ‫بـــن قحطـــان) المعـــروف بأبـــي العـــرب‪،‬‬ ‫والـــذي منـــه أخـــذوا اســـمهم‪ ،‬كمـــا تذكـــر‬ ‫بع ــض أخب ــار الع ــرب ف ــي ه ــذا‪ .‬وم ــن اآلراء‬ ‫كذل ــك ف ــي تحدي ــد معن ــى المصطل ــح ه ــو م ــا‬ ‫يـــراه بعـــض علمـــاء اللّغـــة اليونانيـــة بـــأن‬ ‫كلمـــة «‪ »Sarakenoi‬فـــي اليونانيـــة تعنـــي‬ ‫(ســـاكني الخيـــام) فـــي إشـــارة واضحـــة‬ ‫جـــدًا للعـــرب‪ ،‬وعلـــى العكـــس مـــن ذلـــك‬ ‫يذهـــب المستشـــرق األلمانـــي غونتـــر لولنـــغ‬ ‫فـــي كتابـــه (نمـــوذج جديـــد لنشـــأة اإلســـام‬ ‫وتبعاتـــه للوصـــول إلـــى نمـــوذج جديـــد‬ ‫لقص ــة بن ــي إس ــرائيل) بعي ــدًا ف ــي اس ــتنتاجه‬ ‫الـــذي ُيســـفر عـــن طابـــع دينـــي فـــي المقـــام‬ ‫األول‪ ،‬فيجــ�د أن معنــ�ى مصطلــ�ح« «�‪Sarak‬‬ ‫‪ »enoi‬ه ــو «محارب ــو س ــارة» «‪Bekämpfer‬‬ ‫‪ »Saras‬وأم ــا «س ــارة» المقص ــودة فه ــي زوج‬ ‫النب ــي إبراهي ــم علي ــه الس ــام‪ ،‬والدلي ــل ال ــذي‬ ‫اســـتند إليـــه فـــي هـــذا هـــو أن الالحقـــة ‪/‬‬ ‫‪ /ken‬م ــن الكلم ــة اليوناني ــة «‪»Sarakenoi‬‬ ‫مشـــتقة مـــن الفعـــل فـــي اللّغـــة اليونانيـــة‬ ‫العامـــة «‪ »konein‬وهـــو بمعنـــى يحـــارب‬ ‫ـــم يعتبـــر كلمـــة‬ ‫«‪ ،»bekämpfen‬ومـــن َث ّ‬ ‫«‪ »Sarakenoi‬مرادفـــ ًا لكلمـــة «�‪Hagare‬‬ ‫‪( »noi‬باأللمانيـــة الحديثـــة‪)Hagarener :‬‬ ‫وهـــي بمعنـــى (الهاجرييـــن) نســـبة إلـــى‬ ‫الســـيدة هاجـــر عليهـــا الســـام زوج إبراهيـــم‬ ‫الخلي ــل علي ــه الس ــام الثاني ــة‪ ،‬والت ــي تش ــير‬ ‫حســـب التـــوراة إلـــى قبائـــل العـــرب‪ ،‬الذيـــن‬ ‫ُينظـــر إليهـــم علـــى أنهـــم «محاربـــو ســـارة»!‬


‫سيميائية المصطلح‬ ‫ل ــم يق ــف معن ــى مصطل ــح «‪»Sarakenoi‬‬ ‫يتوس ــع تدريجيــ ًا‬ ‫عن ــد َح ـ ٍّـد ُم ّ‬ ‫عي ــن‪ ،‬ب ــل أخ ــذ ّ‬ ‫منـــذ ظهـــوره واســـتخدامه فـــي عصـــور مـــا‬ ‫قبـــل اإلســـام‪ ،‬فاســـُتخِدم أو ًال لإلشـــارة‬ ‫إلـــى قبائـــل األنبـــاط‪ ،‬ثـــم إلقليـــم البتـــراء‬ ‫بكاملـــه‪ ،‬ثـــم َش ِ‬ ‫ـــمل قبائـــل ســـيناء‪ ،‬وبعـــد‬ ‫كل مـــن القديـــس جيـــروم‬ ‫ذلـــك اســـتخدمه ّ‬ ‫إيرونيم ــوس (‪420‬م) واألس ــقف يوس ــابيوس‬ ‫القيص ــري (‪339‬م) ف ــي اإلش ــارة إل ــى القبائ ــل‬ ‫العربيـــة فـــي شـــمال الجزيـــرة العربيـــة‪ .‬ثـــم‬ ‫تطـــور هـــذا المصطلـــح كثيـــرًا بعـــد اإلســـام‬ ‫ّ‬ ‫والفتوحـــات اإلســـامية‪ ،‬وخاصـــة عندمـــا‬ ‫وصـــل واقتحـــم المســـلمون منطقـــة البحـــر‬ ‫المتوســـط عـــام (‪ ،)700 / 81‬فقـــد ُاســـتعمل‬ ‫ســـواء فـــي المصـــادر الالتينيـــة أو األدب‬ ‫المســـيحي األوروبـــي علـــى أنـــه مصطلـــح‬ ‫ُيقص ــد ب ــه (اس ــم جماع ــي أو وص ــف جماع ــي‬ ‫لكاف ــة الش ــعوب الت ــي تدي ــن باإلس ــام عربــ ًا‬ ‫الموس ــع ومن ــذ‬ ‫وغي ــر ع ــرب)‪ .‬وبه ــذا المعن ــى‬ ‫َّ‬ ‫تســـرب وانضـــم‬ ‫عصـــر الحـــروب الصليبيـــة‬ ‫ّ‬ ‫هـــذا المصطلـــح مـــن اليونانيـــة والالتينيـــة‬ ‫إلـــى اللّغـــات األوروبيـــة‪.‬‬ ‫والجديـــر ذكـــره أن الكتابـــات والمصـــادر‬ ‫فـــي األدب المســـيحي دأبـــت علـــى اســـتخدام‬ ‫هـــذا المصطلـــح باســـتمرار فـــي وصـــف‬ ‫المســـلمين‪ ،‬لكـــن لســـبب واحـــد‪ ،‬أال وهـــو‬ ‫للتحقيــر والحــط مــن قيمــة الشــعوب المســلمة‬ ‫فـــي أصولهـــم‪ ،‬وذلـــك ألنهـــم وجـــدوا ُكّتـــاب‬ ‫الكنيســـة قبـــل اإلســـام قـــد وصفـــوا قبائـــل‬ ‫الع ــرب الش ــمالية به ــذا المصطل ــح‪ ،‬كم ــا ج ــاء‬ ‫آنفـــ ًا علـــى ســـبيل المثـــال عنـــد القديســـين‬ ‫جيــروم ويوســابيوس وغيرهمــا‪ ،‬ألن العــرب‬

‫الش ــماليين يرجع ــون ف ــي نس ــبهم إل ــى النب ــي‬ ‫إس ــماعيل علي ــه الس ــام اب ــن الس ــيدة هاج ــر‬ ‫زوج النبـــي إبراهيـــم عليـــه الســـام‪.‬‬ ‫وهنـــا وجـــد ُكّتـــاب الكنيســـة بعـــد ظهـــور‬ ‫اإلســـام والفتوحـــات اإلســـامية فـــي هـــذا‬ ‫المصطلــح ضالتهــم فــي الحــرب علــى اإلســام‬ ‫ومحاولـــة تبيانـــه أنـــه ديـــن باطـــل‪ ،‬والحـــق‬ ‫نـــوع مـــن الضـــال والتلفيـــق‪،‬‬ ‫أن مـــا ُذكـــر‬ ‫ٌ‬ ‫عل ــى س ــبيل المث ــال‪ ،‬فبم ــا أن ه ــذا المصطل ــح‬ ‫ُيشـــير إلـــى (الهاجرييـــن) أبنـــاء إســـماعيل‬ ‫ال ــذي أم ــه هاج ــر والت ــي ف ــي األص ــل جاري ــة‪،‬‬ ‫ـــم ليســـت فـــي منزلـــة ســـارة الســـيدة‬ ‫ومـــن َث ّ‬ ‫الح ـّـرة زوج النب ــي إبراهي ــم األول ــى أم إس ــحاق‬ ‫ُ‬ ‫الحقـــاً‪ ،‬فأصبـــح هـــذا المصطلـــح يختفـــي‬ ‫خلف ــه معني ــان‪ ،‬األول ش ــعوب الجاري ــة ا َألق ـ ّـل‬ ‫الح ـ ّـرة‪ ،‬وأم ــا الثان ــي فق ــد‬ ‫مقامــ ًا م ــن الس ــيدة ُ‬ ‫وجـــدوا فقـــرة مـــن تفســـير الرســـول بولـــس‬ ‫للعه ــد القدي ــم ف ــي رس ــالته إل ــى أه ــل غالطي ــة‬ ‫(‪ ،)31 ،21 :4‬يؤكـــد المعنـــى األول بقولـــه‪:‬‬ ‫اط ـ ِ‬ ‫وابنه ــا‪َ ،‬أل َّن ــه َال ي ــرث‬ ‫«انب ــذ أو ْ‬ ‫ـرد الْجاري ـ َـة ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْح ـ َّـرة» ث ــم ق ــال «أيه ــا‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫اب‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫ْجاري‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ـن‬ ‫اب ـ‬ ‫ُ‬ ‫اإلخـــوة‪ ،‬نحـــن لســـنا أبنـــاء جاريـــة‪ ،‬بـــل‬ ‫ـــرة» فـــي إشـــارة إلـــى الهاجرييـــن‪،‬‬ ‫أبنـــاء ُح ّ‬ ‫فوصــف أبنــاء إســماعيل عليــه الســام بالعبيــد‬ ‫المنبوذيـــن أو المطروديـــن!‬ ‫وألجـــل هذيـــن الســـببين طـــار ُكّتـــاب‬ ‫الكنائـــس فـــي العصـــور الوســـطى بهـــذا‬ ‫المصطلـــح «‪ ،»Sarakenoi‬واســـتخدموه‬ ‫وصفــ ًا للمس ــلمين من ــذ ظه ــور اإلس ــام لك ــن‬ ‫وت ْجِفيـــل النـــاس عنهـــم‪،‬‬ ‫مـــن بـــاب االزدراء َ‬ ‫ألج ــل ذل ــك أصب ــح ه ــذا المصطل ــح خاص ــة‬ ‫منـــذ الحـــروب الصليبيـــة أكثـــر انتشـــارًا فـــي‬ ‫اآلداب واللّغـــات األوروبيـــة‪ ،‬وســـاح ًا مـــن‬ ‫أس ــلحة الح ــرب للدالل ــة عل ــى رف ــض اإلس ــام‬ ‫(‪.)Anti-islamischen‬‬

‫باإلضافـــة إلـــى ذلـــك وبجانـــب المعنـــى‬ ‫األصلـــي لهـــذا المصطلـــح ســـواء العرقـــي‬ ‫أو الدينـــي حيـــن اإلشـــارة إلـــى العـــرب‬ ‫والشـــعوب اإلســـامية فـــي األدب والكتابـــات‬ ‫تطـــو ٌر‬ ‫المســـيحية كمـــا جـــاء آنفـــاً‪ُ ،‬و ِجـــد‬ ‫ّ‬ ‫داللـــي آخـــر لهـــذا المصطلـــح خـــال فتـــرة‬ ‫ٌ‬ ‫القـــرون الوســـطى‪ ،‬فمـــن ذلـــك أنـــه قـــد‬ ‫ُاســـتخدم أيضـــ ًا فـــي ســـياق اإلشـــارة إلـــى‬ ‫شـــيء (وثنـــي) أو بشـــكل عـــام (غريـــب)‪،‬‬ ‫وذلـــك ألنـــه قـــد ورد فـــي ســـياقات قديمـــة‬ ‫بعـــد انتشـــار المســـيحية وســـقوط الوثنيـــة‬ ‫ف ــي أوروب ــا ُمش ــيرًا إل ــى المبان ــي واألط ــال‬ ‫الرومانيـــة القديمـــة‪ ،‬التـــي ُوصفـــت بأنهـــا‬ ‫ـــم وافـــق هـــذا‬ ‫«‪ ،»sarazenisch‬ومـــن َث ّ‬ ‫المعنـــى هـــوى عنـــد بعـــض ُكّتـــاب القـــرون‬ ‫الوســـطى لوصـــف المســـلمين علـــى أنهـــم‬ ‫وثنيـــون وغربـــاء عـــن الديـــن الحـــق‪ ،‬فتـــم‬ ‫اس ــتخدامه أيضــ ًا به ــذا المعن ــى‪ .‬إل ــى جان ــب‬ ‫المؤرخيـــن األلمـــان‬ ‫ذلـــك يوضـــح بعـــض‬ ‫ّ‬ ‫أن مصطلـــح «‪ -»Sarakenoi‬الـــذي الزلنـــا‬ ‫عينـــة‬ ‫فـــي صـــدده‪ -‬قـــد أتـــى فـــي ســـياقات ُم ّ‬ ‫حامـــا معانـــي مجازيـــة‬ ‫خـــال تلـــك الفتـــرة‬ ‫ً‬ ‫«كالظ ــام‪ ،‬والل ــون األس ــود والبش ــرة الداكن ــة‬ ‫والغجـــر»‪.‬‬ ‫أمـــا فـــي الوقـــت الحاضـــر‪ -‬وفـــق‬ ‫مالحظتـــي‪ -‬فأصبـــح هـــذا المصطلـــح محصـــورًا‬ ‫فـــي اإلطـــار األكاديمـــي البحـــت (كتـــب أو‬ ‫محاضـــرات) وال ُيســـتخدم وصفـــ ًا للمســـلمين فـــي‬ ‫وســـائل اإلعـــام ومـــع الجمهـــور‪ ،‬وذلـــك لعـــدم‬

‫الحاجـــة إليـــه كمـــا كان فـــي القـــرون الوســـطى‪،‬‬

‫لذلـــك فـــا عجـــب حينمـــا نســـمعه فـــي الجامعـــات‬

‫والمحاضـــرات فقـــط ألنـــه أتـــي مـــن المـــدارس‬ ‫ـــم كان هـــذا المصطلـــح مـــن‬ ‫الكنســـية‪ ،‬ومـــن َث ّ‬ ‫واســـتمر‬ ‫القديـــم ُيســـتخدم فـــي مجـــال التدريـــس‬ ‫ّ‬ ‫إلـــى اآلن داخـــل هـــذا المحيـــط‪.‬‬ ‫‪123‬‬


‫معارض‬


‫معرض استعادي ألعمال‬

‫«جياكوميتي»‬ ‫ألغاز ما يختفي من الجسم‬

‫متوسطي» (‪ ،)2015‬يحتضن متحف محمد السادس‬ ‫بعد معرض «سيزار‪ ..‬شغف‬ ‫ّ‬ ‫لل َ‬ ‫ن الحديث والمعاصر‪ ،‬في الرباط‪ ،‬أعمال الفنان «ألبيرتو جياكوميتي»‬ ‫ف ّ‬ ‫مؤسسة «ألبيرتو وآنيت‬ ‫إلى غاية ‪ 04‬سبتمبر‪/‬أيلول‪ ،2016 ،‬وذلك بتعاون مع‬ ‫ّ‬ ‫جياكوميتي» (سويسرا)‪ ،‬تحت إشراف «كاترين جريني»‪ ،‬وبمساعدة «سرينا‬ ‫بوكالو موسيلي»‪ .‬ويمنح هذا المعرض‪ ،‬االستيعادي وغير المسبوق‪،‬‬ ‫وموضوعاتي‪ ،‬يق ِّدم مختلف مالمح اإلنتاج‬ ‫زمني‬ ‫للمشاهد‪ ،‬معاينة مسار‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال َ‬ ‫الرئيسة للفكر اإلبداعي للفنان‪،‬‬ ‫فنّي لـ«جياكوميتي»‪ ،‬بتناول الموضوعات‬ ‫َ‬ ‫من خالل ‪ 46‬منحوتة‪ ،‬و‪ 19‬لوحة‪ ،‬و‪ 30‬رسم ًا‪ ،‬كما جاء في بالغ المتحف‪.‬‬ ‫الرباط‪ -‬بنيونس عميروش‬ ‫ُوِل�د «ألبيرت�و جياكوميت�ي ‪Alber� -‬‬ ‫‪( »to Giacometti‬سويسـري‪ ،‬مـن‬ ‫أصل إيطالي) في مدينة ستامبا‪ ،‬في‬ ‫سويسرا‪ .)1966 - 1901( :‬درس في‬ ‫مدرسـة الفنـون الجميلـة فـي جنيف‪،‬‬ ‫الرسـام المعروف‬ ‫وبتأثيـر مـن والده ّ‬ ‫«جيوفاني جياكوميتي»‪ ،‬وجد نفسـه‬ ‫سن مبكرة؛ ما دفعه‬ ‫مولع ًا َ‬ ‫بالفّن في ّ‬ ‫لإلقامـة في باريس‪ ،‬في عامه الواحد‬ ‫إبـان الفتـرة التي تفصل‬ ‫والعشـرين‪ّ ،‬‬ ‫الحربيـن‪ ،‬الفتـرة التـي انتشـرت فيها‬ ‫والتيـارات اإلبداعيـة الجديـدة‬ ‫األفـكار ّ‬ ‫في العاصمة الفرنسية التي استقطبت‬ ‫المفكريـن واألدبـاء والفنّانيـن‪،‬‬ ‫كبـار‬ ‫ِّ‬ ‫مـن مختلـف بقـاع العالـم‪ ،‬حينها‪ .‬في‬ ‫بالتوجه‬ ‫بدايـة‪-‬‬ ‫هـذه األجـواء‪ ،‬تأثَّر‪-‬‬ ‫ً‬ ‫ُّ‬ ‫رائدْيـه‪:‬‬ ‫بحماسـة‬ ‫التكعيبـي المدفـوع‬ ‫َ‬

‫جـورج بـراك‪ ،‬وبابلـو بيكاسـو‪.‬‬ ‫لكـن سـرعان مـا َس ُـتْلِفت إبداعـات‬ ‫«جياكوميتـي» أنظـار السـرياليين‬ ‫لينضـم إليهـم فـي ‪ ،1929‬بعـد لقائـه‬ ‫َّ‬ ‫بـكل مـن‪ :‬أندريـه بروتـون‪ ،‬ولويـس‬ ‫ٍّ‬ ‫أراغـون‪ ،‬وبـول إيلـوار‪ ،‬وماكـس‬ ‫إرنسـت‪ ،‬ليلقـى نصيبـه من الشـهرة‪،‬‬ ‫فـي بدايـة ثالثينيات القـرن الماضي‪.‬‬ ‫غيـر أن إصـراره على اعتماد الموديل‬ ‫ـي) فـي إنجـاز أعمالـه النحتيـة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫(الح ّ‬ ‫كتوجـه بحثـي‪ ،‬سـيضعه فـي موقف‬ ‫ُّ‬ ‫يمجدون‬ ‫ُم ِ‬ ‫فارق مع السرياليين الذين ِّ‬ ‫سـيْب ِعده‬ ‫ما‬ ‫الباطن؛‬ ‫والعقل‬ ‫الالوعي‬ ‫ُ‬ ‫عـن دائـرة الضـوء‪ ،‬إذ ظلّـت المـرأة‪،‬‬ ‫فـي منحوتاتـه‪ ،‬ال تتعـّدى َمْرِئ َّيتهـا‬ ‫الجسـدية‪ ،‬فيمـا تنحـدر إلـى أبسـط‬ ‫ّ‬ ‫التعبيـرات الجسـدية الموصولـة‬ ‫بالتصغيـر والتكثيـف‪.‬‬ ‫بالرغـم مـن محـاوالت االنتمـاء إلـى‬

‫هـذه الجماعـة أو تلـك‪ ،‬ظلّـت أعمـال‬ ‫«جياكوميتـي» بعيـدة عـن األنمـاط‬ ‫حطـت قدمـاه‬ ‫األكاديميـة‪ ،‬منـذ أن َّ‬ ‫اتسـمت باختزاليـة‬ ‫باريـس‪ ،‬فيمـا َّ‬ ‫تعبيرية‪ ،‬تشـي بآالم الحرب وأهوال‬ ‫المـوت‪ .‬لعلّهـا الحمولـة المأسـاوية‬ ‫التـي تماهـت مـع مبـادئ السـريالية‬ ‫التـي رأت فيهـا دوافـع البحـث عـن‬ ‫األسـرار الدفينـة لـدى اإلنسـان‪.‬‬ ‫لكـن‪ ،‬فـي تجـاوز هـذه الخطـوة مـع‬ ‫السـرياليين‪ ،‬سـيحفر «جياكوميتـي»‬ ‫ّ‬ ‫أي‬ ‫عميقـ ًا فـي الدواخـل‪ ،‬بعيـدًا عـن ّ‬ ‫تأثيـر‪ ،‬إلـى أن صـار يمثِّـل األنمـوذج‬ ‫األمثـل‪ ،‬بالنسـبة إلـى فلسـفة سـارتر‬ ‫الوجوديـة‪ ،‬فـي الحيـن الـذي تترجـم‬ ‫فيـه أعمالـه آالم التجربـة اإلنسـانية‬ ‫المشـدودة بعـبء الهمـوم الوجودية‪،‬‬ ‫ثمة َكَت َب «سارتر»‪« :‬كيف يرسم‬ ‫ومن ّ‬ ‫جياكوميتـي الفـراغ؟ يبـدو ّأل أحـد‬ ‫‪125‬‬


‫قبلـه حـاول ذلـك‪ .‬منـذ خمسـين سـنة‪،‬‬ ‫تتفجـر اللوحـات بسـبب امتالئهـا‪،‬‬ ‫تـكاد‬ ‫َّ‬ ‫بالقـوة‪ .‬مـن‬ ‫الشـمول‪،‬‬ ‫إدخـال‬ ‫ـم‬ ‫ت‬ ‫وفيهـا‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫قماش اللوحات يبدأ جياكوميتي بتقشير‬ ‫خاص ًـة أن أعمالـه الالحقـة قـد‬ ‫العالـم»‪ّ .‬‬ ‫أتت بسحنات منخورة‪ ،‬وأجسام طويلة‪،‬‬ ‫شـبيهة بأشباح مسلوخة‪ ،‬بينما صمتها‬ ‫الحـاد يعكـس الحالة العبثية للفرد تجاه‬ ‫ّ‬ ‫حتميـة المـوت والفنـاء‪.‬‬ ‫في ممارسته التشكيلية‪َ ،‬ظّل «جياكوميتي»‬ ‫يتأرجـح بيـن التصويـر الصباغـي‪La -‬‬ ‫‪ ،peinture‬والنحـت‪ ،‬كمـا اشـتغل‬ ‫بفنـون الطباعـة والكتابـة‪ ،‬بغرض تنفيذ‬ ‫الفنّي الذي يتمحور على «صورة»‬ ‫تصوره َ‬ ‫ُّ‬ ‫اإلنسان‪ ،‬في انكساراته وانمساخاته تجاه‬ ‫سـؤال الوجـود‪ ،‬بأبعـاده النفسـية‪ ،‬التي‬ ‫طالما عمل على استنباط الملمح البصري‬ ‫الكامن فيها‪ .‬وإذا كان إصراره على االستناد‬ ‫إلـى الموديـل (أخـوه دييغـو‪ ،‬ورفيقتـه‬ ‫آنيـت‪ ،‬علـى وجه الخصـوص)‪ ،‬فإن ذلك‬ ‫الوِفـي‪،‬‬ ‫لـم يكـن بهـدف المحـاكاة والنقـل َ‬ ‫بـل مـن أجـل البحـث الحثيـث عـن تمديـد‬ ‫المسـافة بين الواقع المرئي كما تسـتقبله‬ ‫العين في المحيط الخارجي‪ ،‬وعن جوهر‬ ‫الفنّي الذي يريده محمو ًال بالحقيقة‬ ‫العمل َ‬ ‫ِّق في‬ ‫القابعة في درجة المغايرة التي ُوف َ‬ ‫إبرازها‪ ،‬بوعي أو بدون وعي‪ ،‬في ُخ َّطة‬ ‫االنتقـال المتكامـل بيـن الرسـم والنحـت‪،‬‬ ‫‪126‬‬

‫قصديـة تصغيـر‬ ‫الجنس ْـين‬ ‫لنجـد فـي ِكال‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫الـرأس‪ ،‬حيـث تصيـر األطـراف األخـرى‪،‬‬ ‫في تصويره‪ ،‬عريضة في ِّاتجاه األسفل‪،‬‬ ‫الح ْجمية‪،‬‬ ‫مثلما‬ ‫َّ‬ ‫يتجسد التفخيم في ِق َطعه َ‬ ‫ثمة‪،‬‬ ‫من‬ ‫‪.Socle‬‬ ‫القاعدة‪-‬‬ ‫تكبير‬ ‫على‬ ‫بناء‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫مجسـماته‪ ،‬كما في‬ ‫َّ‬ ‫تشـكلت المغايـرة في َّ‬ ‫لوحاته الزيتية‪ ،‬التي غالب ًا ما استغورت‬ ‫تشكيلية ‪ Plasticité‬الموديل بكامله‪ ،‬في‬ ‫وضعية الجلوس بمالبسه‪ ،‬بألوان بعيدة‬ ‫كل البعد عن أصلها وصفائها‪ ،‬عن طريق‬ ‫ّ‬ ‫خلطـة «ارتجاليـة»‪ ،‬غيـر أنهـا موزونـة‬ ‫بتلقائيـة نابعـة مـن ذات محمومـة‪ ،‬ال‬ ‫تبصم ّإل الرماد (ألوان رمادية‪Des gris -‬‬ ‫‪ :colorés‬البنّي‪ ،‬الرمادي ‪ ،‬األسود‪،)...‬‬ ‫خطّية عنيفة‬ ‫فيما يكتمل التعبير بلمسات ّ‬ ‫ُتعيد رسـم تقاطيـع البورتريه وتفاصيل‬ ‫سو‪ ،‬إلى أن يختلط الموضوع‬ ‫ِ‬ ‫المْك ّ‬ ‫الجسم َ‬ ‫بالخلفية‪ .Le fond -‬وفي مقابل التركيز‬ ‫على الوجه‪ ،‬بوصفه «العالمة األيقونية»‬ ‫هوية البدن وسـرائره‪ ،‬فإن‬ ‫التـي تعكـس ّ‬ ‫الح ْجميـة تقـوم علـى التعريـة‬ ‫أعمالـه َ‬ ‫والسـلخ‪ ،‬كأن األمـر يتعلَّـق بالنفـاذ إلـى‬ ‫اللمرئيـة في الجسـد‪ ،‬الجوانب‬ ‫الجوانـب َّ‬ ‫التـي تصيـر قابلـة لإلبصـار عبـر إخضاع‬ ‫الموديـل للتشـذير واالختـزال‪ ،‬كمـا فـي‬ ‫خاصة)؛ إذ‬ ‫أعماله المعدنية‪( ،‬البرونزية ّ‬ ‫تّتسم هذه القطع بتكثيف يجعلها في غاية‬ ‫تارة‪ ،‬بينما تـروم التحلِّي بدرجة‬ ‫الصغـر ً‬ ‫َ‬

‫«مبالغـة» مـن حيـث الطـول (فـي حـدود‬ ‫تـارة‬ ‫حـاد مـن النحافـة‬ ‫ً‬ ‫ِمْتَرْيـن)‪ ،‬وبقـدر ّ‬ ‫أخـرى‪ .‬فيمـا تفيـض هياكلـه بـ«الحياة»‪،‬‬ ‫ـاءة‬ ‫الم َّش َ‬ ‫في الوقت الذي نجد فيه كائناته َ‬ ‫معلنـة عن عريها‬ ‫تحتفـظ بـدوام الحركة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫السـرمدي‪ ،‬فـي ِّاتجـاه التعبيـر عـن قلـق‬ ‫اإلنسـان المعاصـر؛ القلـق نفسـه الـذي‬ ‫ليتبـوأ‬ ‫يوجـه الفنّـان «جياكوميتـي»‬ ‫َظ ّ‬ ‫َّ‬ ‫ـل ِّ‬ ‫النحاتين المعاصرين‬ ‫دائرة‬ ‫داخل‬ ‫مكانته‬ ‫ّ‬ ‫العالمييـن‪ ،‬مـن مثـل‪ :‬بيكاسـو‪ ،‬وكالـدر‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ويتمكـن مـن‬ ‫وهنـري مـور‪ ...‬وغيرهـم‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫إحراز «الجائزة الكبرى للنحت» في دورة‬ ‫‪ ،1962‬لبينالـي البندقية‪.‬‬ ‫الفّن وناقده «إدوارد لوسـي‬ ‫مؤرخ َ‬ ‫يشـير ِّ‬ ‫سـميث» إلـى أن السويسـري «ألبيرتـو‬ ‫جياكوميتـي»‪ ،‬واإلنجليـزي «هنري مور»‬ ‫النحاتيـن البارزين في‬ ‫مـن بيـن الفنّانيـن ّ‬ ‫فتـرة مـا بعد الحـرب في أوروبـا‪ ،‬غير أن‬ ‫خاص‪ ،‬مضيف ًا‬ ‫األول يقف وحده في موقع ّ‬ ‫َّ‬ ‫وبقوة‬ ‫ً‪،‬‬ ‫ا‬ ‫سريالي‬ ‫ا‬ ‫ّان‬ ‫ن‬ ‫ف‬ ‫بدأ‬ ‫«جياكوميتي»‬ ‫أن‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫موهبته صنع من نفسـه شـخصية بارزة‬ ‫ّية‪ ،‬في الثالثينيات‪ ،‬إذ نجد‬ ‫في الحركة َ‬ ‫الفنّ‬ ‫أعما ًال من أعماله مثل «القصر في الرابعة‬ ‫صباحـاً»‪ ،‬و«امـرأة مذبوحـة»‪ ،‬مـا زالـت‬ ‫أدى‬ ‫قوتها األصلية من َ‬ ‫الفّن‪ ،‬وقد ّ‬ ‫تسـتمّد ّ‬ ‫(الرد فعلي) إلى خروجه من زمرة‬ ‫نشاطه ّ‬ ‫يعرض‬ ‫أن‬ ‫يحاول‬ ‫فلم‬ ‫السـريالية‪،‬‬ ‫فنّاني‬ ‫ِّ‬ ‫يؤكـد أن‬ ‫أعمالـه ّإل فـي عـام ‪ .1948‬فيمـا ِّ‬


‫الفنّي بدأ‪ -‬بالفعل‪ -‬سنة ‪،1940‬‬ ‫مشواره َ‬ ‫مـع توقُّفـه عـن اعتمـاد الموديـل‪ ،‬تـارك ًا‬ ‫وصفـ ًا لذلـك‪ ،‬حينما علَّـق «جياكوميتي»‬ ‫قائلا‪« :‬مـا أثار رعبي أن األعمال النحتية‬ ‫ً‬ ‫بدأت تصغر وتصغر‪ ،‬وعندما حدث ذلك‪،‬‬ ‫فقط‪ ،‬وأثارت هذه األبعاد المتماثلة الثورة‬ ‫مـر ًة ثانية‪،‬‬ ‫فـي داخلـي‪ ،‬وبـدأت بلا كلل ّ‬ ‫انتهـى األمـر بعـد أشـهر قالئـل؛ فقـد بـدا‬ ‫إلي زائفاً‪ ،‬والعمل‬ ‫العمل الكبير‪ -‬بالنسبة َّ‬ ‫الصغير ال يمكن التسامح معه أيضاً‪ ،‬حتى‬ ‫أصبحـت األعمـال صغيـرة‪ -‬فـي الغالـب‪-‬‬ ‫بالسكين تختفي‬ ‫ضربة واحدة‬ ‫لدرجة أن‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫معها األعمال‪ ،‬ويواريها التراب»‪ .‬في حين‪،‬‬ ‫يوضح «إدوارد لوسـي سـميث» أن ردود‬ ‫أفعال «جياكوميتي» تثرى عند استكشاف‬ ‫الصور المخفّفة‪ ،‬من خالل مجال النحت‪،‬‬ ‫عندما أصبحت بعض األفكار الرئيسة لمبدأ‬ ‫الوجوديـة حقيقـة‪ ،‬فـكان علـى وعـي بها‬ ‫منـذ أن أصبـح «جياكوميتـي»‪ ،‬و«جـون‬ ‫مقرَبْيـن‪ ،‬وإحدى‬ ‫بـول سـارتر»‬ ‫َ‬ ‫صديقْين َّ‬ ‫الطـرق فـي النظـر إلـى الوجوديـة هي أن‬ ‫نراهـا امتـدادًا للسـريالية‪ ،‬ورفضـ ًا لهـا‪،‬‬ ‫في الوقت نفسـه‪ ،‬إذ ما كان مشـترك ًا بين‬ ‫السـريالية والوجوديـة هـو التركيـز الذي‬ ‫تضعـه هـذه األخيـرة علـى الموضوعية‪،‬‬ ‫بينمـا االختلاف بينهمـا يتمثَّـل فـي أن‬ ‫تركـز علـى الفكـرة‪ ،‬المرتبطة‬ ‫الوجوديـة ِّ‬ ‫بالواقـع‪ ،‬فحسـب‪ ،‬بـل فكرة المسـؤولين‬ ‫تجـاه الواقـع‪ ،‬برغـم مـا يبـدو مـن عـدم‬ ‫سـهولة فهم ذلك(‪.)1‬‬ ‫فـي ارتباطهـا بمبـدأ الوجوديـة‪ ،‬ضاعفت‬ ‫منحوتـات «جياكوميتـي» مـن وحدتهـا‬ ‫وصمتها‪ ،‬لترسم فلسفة القلق الذي يثيره‬ ‫وجـود اإلنسـان فـي العالـم والحيـاة؛ مـا‬ ‫للتأمـل والمسـاءلة مـن‬ ‫جعلهـا موضوعـ ًا ُّ‬ ‫والمفكريـن؛ ومـن‬ ‫لـدن كبـار الكّتـاب‬ ‫ِّ‬ ‫ثمـة وصفهـا «روجيـه غـارودي»‬ ‫ّ‬ ‫ّية‬ ‫أهم النمـاذج َ‬ ‫الفنّ‬ ‫بكونهـا «إحدى ّ‬ ‫فـي عالمنـا المعاصـر‪ ،‬حيـث ال‬ ‫يمكـن فصـل التجربـة الداخلية‬ ‫والعالـم المحسـوس‪ ،‬فهـو‬ ‫يصل‪ ،‬باالثنين‪ ،‬إلى تلك‬ ‫التجربـة العظيمـة التي‬ ‫تكون قادرة على عزل‬ ‫العديـد مـن التجارب‬ ‫عـن‬ ‫اإلنسـانية‬ ‫ِ‬ ‫وغدها‪ ،‬على‬ ‫ذاكرتها َ‬ ‫النحو التالي»‪ .‬بينما‬

‫خصـص لهـا «جـون جونيـه» كتابـ ًا تحـت‬ ‫َّ‬ ‫والم َؤلَّـف‬ ‫عنـوان «مرسـم جياكوميتـي»‪ُ .‬‬ ‫مطولة حول مفاهيم‬ ‫عبـارة عـن‬ ‫حواريـة َّ‬ ‫ّ‬ ‫ـن‪ ،‬واألدب‪ ،‬والجمال‪ ،‬والخيال‪ ،‬وهو‬ ‫َ‬ ‫الف ّ‬ ‫نتـاج لفتـرة‪ ،‬قضاهـا جونيـه فـي مرسـم‬ ‫صديقـه الفنّان «جياكوميتي»‪ ،‬الذي يرى‬ ‫ـن يشـاركونه‬ ‫ـن أجـل َم ْ‬ ‫أنـه ال يشـتغل َم ْ‬ ‫الحقبـة الزمنيـة نفسـها‪ ،‬وال مـن أجـل‬ ‫األجيال القادمة‪ ،‬بل يصنع تماثيل تروق‬ ‫األمـوات أخيـراً‪ ،‬كمـا يـرى أن أعمالـه تمـّد‬ ‫كل كائن‬ ‫عالـم األمـوات بمعرفة وحدانيـة ّ‬ ‫وحدانيتنا هذه‬ ‫وكل شيء‪ ،‬وتخبرهم أن‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫هي مجدنا األوكد‪ .‬في الكتاب ذاته‪ ،‬يقول‬ ‫«جون جونيه»‪« :‬ليس للجمال مصدر غير‬ ‫الجـرح‪ ،‬في صورته الفريدة والمختلفة‪،‬‬ ‫المخفـي‬ ‫كل واحـد‪ ،‬الجـرح‬ ‫بالنسـبة إلـى ّ‬ ‫ّ‬ ‫كل‬ ‫أو الجـرح‬ ‫المرئـي‪ ،‬الـذي يحتفـظ بـه ّ‬ ‫ّ‬ ‫إنسان في داخله‪ ،‬يرعاه‪ ،‬ويلجأ إليه كلَّما‬ ‫أراد االنسـحاب مـن العالـم‪ ،‬لالرتمـاء في‬ ‫وحدة مؤقَّتة‪ ،‬لكنها عميقة‪ .‬وهكذا‪ ،‬نرى‬ ‫عما‬ ‫أننا‪ -‬في هذا الصدد‪ -‬بعيدون ّ‬ ‫كل البعد ّ‬ ‫ففّن «جياكوميتي»‬ ‫الفّن البؤسوي‪َ .‬‬ ‫يسمى َ‬ ‫ّ‬ ‫يبـدو لـي كأنـه يسـعى إلى اكتشـاف ذلك‬ ‫كل‬ ‫كل كائن‪ ،‬بل في ّ‬ ‫الجـرح الدفيـن داخـل ّ‬ ‫يغيـر‬ ‫إشـعاع‬ ‫منـه‬ ‫شـيء‪ ،‬حتـى ينبعـث‬ ‫ِّ‬ ‫الكائـن أو الشـيء»‪ .‬ويضيـف «جونيـه»‪،‬‬ ‫في سـياق آخر‪« :‬يسـتأنف المشي (يقصد‬ ‫«جياكوميتـي») وهـو يعـرج‪ .‬قـال لي إنه‬ ‫أيما سعادة‪ ،‬عندما علم‪ ،‬على‬ ‫كان سعيدًا َّ‬ ‫إثـر عمليـة جراحيـة‪ ،‬بعـد حـادث‪ ،‬أنـه‬ ‫سـيصبح أعـرج‪ .‬لهـذا السـبب سـأجازف‬ ‫بمـا يأتـي‪ :‬تماثيله ال تـزال تبدو لي كأنها‬ ‫تلتجـئ‪ ،‬فـي نهايـة المطـاف‪ ،‬إلـى عاهـة‬ ‫سرّية‪ ،‬لست أدري ما هي طبيعتها‪ ،‬وهي‬ ‫ّ‬

‫التـي تمنحنا الوحدانيـة»(‪.)2‬‬ ‫هكـذا‪ ،‬تبـدو شـخوص «جياكوميتـي»‬ ‫عاكسة‬ ‫حاملة أقصى األلغاز في هزالتها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ضروب ّ‬ ‫الشك التي الزمته طوال حياته‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الشـك الـذي لـم يدعـه فـي مأمـن تجـاه ما‬ ‫الحّد الذي لم يكن ِ‬ ‫يك ُّل فيه من‬ ‫إلى‬ ‫ينتجه‪،‬‬ ‫َ‬ ‫المتعددة والمسترسـلة‪،‬‬ ‫تنفيـذ اإلعـادات‬ ‫ِّ‬ ‫فـي الرسـم والنحـت؛ لقناعتـه بكـون‬ ‫اإلنسـان يكتمـل بالفشـل واإلخفـاق‪ ،‬ال‬ ‫أصـر علـى ديمومـة‬ ‫بالنجـاح؛ ولذلـك‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫محترفـه‪ ،‬وسـط كائناتـه‬ ‫اإلقامـة فـي‬ ‫َ‬ ‫بقديـد العضلات‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫المتحلَلـة والمفتولـة َ‬ ‫مـع بقايـا الجبـص والغبـار‪ ،‬الـذي طالما‬ ‫نبَـه زوجتـه «آنيـت» ّ‬ ‫بـأل تقـوم بمسـحه‬ ‫َّ‬ ‫قدسـية‬ ‫مـن فـوق الـرؤوس‪ ،‬ألنـه يولـي‬ ‫ّ‬ ‫للمـادة‪ ،‬مهمـا كانـت طبيعتهـا‪.‬‬ ‫خاصـة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يبـرر‪ -‬أيضـاً‪ -‬عـدم اسـتمتاعه‬ ‫مـا‬ ‫وهـذا‬ ‫ّ‬ ‫ـل قابعـ ًا‬ ‫بملـذّات الشـهرة ونعيمهـا‪ ،‬إذ َظ ّ‬ ‫في َم ْعَمِله إلى األيام األخيرة من رحيله‪،‬‬ ‫معملـه المتواضـع الموجـود فـي شـارع‬ ‫َ‬ ‫مظلـم ومفعـم بالرطوبـة‪ ،‬حيـث «طاولة‬ ‫الرسـم علـى زجاجـات البنزيـن القديمة‪،‬‬ ‫والغرفـة مزدانـة ببلاط أحمـر‪ ،‬وسـرير‬ ‫حيـزًا مـن الغرفة؛ هـذه الغرفة هي‬ ‫يأخـذ ّ‬ ‫حياته ومرسمه»‪ ،‬على َحّد وصف «جون‬ ‫جونيـه»‪ .‬عـاش زاهدًا في الحياة‪ ،‬يتنقّل‬ ‫جاعلا مـن هـذه‬ ‫دراجتـه العتيقـة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫علـى ّ‬ ‫للسـمو نحو بلوغ التحليق‬ ‫آية‬ ‫البسـاطة ً‬ ‫ّ‬ ‫الروحي‪ ،‬واستدراك حاالت الصفاء التي‬ ‫تقربنـا مـن مقولتـه المأثـورة‪« :‬لـو رأيت‬ ‫ِّ‬ ‫بيت ًا تلتهمه النيران‪ ،‬سأعمل على اقتحام‬ ‫تتعـرض للحريق‪،‬‬ ‫قطـة قد‬ ‫نيرانـه ألنقـد ّ‬ ‫ّ‬ ‫بـدل إنقـاذ لوحـة للفنّـان «رامراند»»‪.‬‬ ‫هوامش‪:‬‬

‫ّيـة منـذ‬ ‫(‪ )1‬إدوارد لوسـي سـميث‪ ،‬الحـركات َ‬ ‫الفنّ‬ ‫‪ ،1945‬ترجمـة أشـرف رفيـق عفيفـي‪ ،‬المشـروع‬ ‫القومـي للترجمـة والمجلـس القومـي للثّقافـة‪،‬‬ ‫‪ ،1997‬ص‪.134 - 131 :‬‬ ‫(‪ )2‬جـون جونيـه‪« ،‬محتـرف ألبيرتـو‬ ‫جياكوميتي»‪ ،‬ترجمة علي تيزلكاد‪ ،‬مجلّة‬ ‫الثّقافة المغربية‪ ،‬ع ‪ ،21 - 20‬فبراير‪/‬‬ ‫شـباط ‪ ،2003‬ص‪.144 - 135 :‬‬ ‫ جـون جونيـه «مرسـم ألبرتـو‬‫جياكوميتـي»‪.)1957( ،‬‬ ‫ ‪Jean Genet, l’Atelier‬‬‫‪d’Alberto Giacometti,‬‬ ‫‪ Photographie‬‬ ‫‪d’Ernest Scheidegger,‬‬ ‫‪Editeur : M.Barbezat,‬‬ ‫‪.1 9 6 3‬‬

‫‪127‬‬


‫النحات «ينس غاليشيوت»‪ ،‬ساحة البرلمان‪ ،‬كوبنهاغن ‪/‬الدنمارك‪ .‬منظر عام‬ ‫منحوتة «أمر ال يطاق»‪ّ ،2015 /‬‬

‫تأثيث المدينة‬ ‫دفاع ًا عن اإلنسانية‬ ‫د‪ .‬خالد السلطاين‬ ‫معامر وأكادميي‬ ‫تتبّدل المفاهيم الحضرية للمدن المعاصرة‪،‬‬ ‫وتتبدل معها نوعية «أثاثها»‪ ،‬تلك العناصر‬ ‫المشـكلة لمعنـى حاضرتهـا والمسـاهمة‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫بالوقـت نفسـه‪ ،‬فـي تكريـس جماليـة‬ ‫ثمة‬ ‫المدينة‪ ،‬وزيادة قيمتها االسـتطيقية‪ّ .‬‬ ‫قرارات تخطيطية عديدة ومختلفة‪ ،‬يتواجد‬ ‫حضورهـا فـي المدينـة‪ ،‬مهمتهـا تنظيـم‬ ‫الفضاءات الخارجية في المدن‪ ،‬في مسعى‬ ‫إلكساب المدينة طابع ًا ُمعيناً‪ ،‬ينطوي على‬ ‫قيمـة جماليـة عاليـة‪ .‬وعـادة مـا يسـهم‪،‬‬ ‫ّيـة المتعّددة‪،‬‬ ‫أيضـاً‪ ،‬حضـور األعمـال َ‬ ‫الفنّ‬ ‫فـي إثـراء البيئـة الحضرية؛ كجزء مهم من‬ ‫تشـكل مفهومـ ًا حضريـ ًا‬ ‫مجموعـة عناصـر ّ‬ ‫خاصاً‪ ،‬يدعى بـ«أثاث المدينة»‪ ،‬والذي ُقّدر‬ ‫عاملا‬ ‫لـه أن يكـون مـع الناتـج المعمـاري‬ ‫ً‬ ‫ومقوم ًا لخلق مفهوم «المدينة ‪ -‬الحاضرة»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ومثلما يعاني «زماننا»‪ ،‬من مشاكل عديدة‪،‬‬ ‫فإن تأثيراتها على «مكاننا» سيكون واضح ًا‬ ‫عـل جدليـة «الزمـان والمـكان»‬ ‫وفعـاالً‪ .‬وَل ّ‬ ‫ّ‬ ‫األزليـة‪ ،‬وتبـادل تأثيراتها‪ ،‬هو الذي يجعل‬ ‫من مشـاكل المناخ الحالية‪ ،‬ذات نفوذ قوي‬ ‫على القضايا الحضرية البيئية‪ ،‬بل ويجعل‬ ‫منها بمنزلة التحدي األكبر الذي يواجه مصائر‬ ‫‪128‬‬

‫فعا ًال على‬ ‫المـدن ومسـتقبلها‪ ،‬مؤثِّرًا تأثيـرًا ّ‬ ‫سكان المدن وعلى نوعية أسلوب حياتهم‪.‬‬ ‫النحـات الدنماركي‬ ‫مـن هذا المنطلق يسـعى ّ‬ ‫«ين�س غاليش�يوت»( (‪Jens Gals� )1954‬‬ ‫سـمى «أمر ال‬ ‫الم ّ‬ ‫‪ ،chiøt‬وراء عمله النحتي ُ‬ ‫يطـاق» ‪ ،Unbearable‬والمصنف كعنصر‬ ‫من عناصر «أثاث المدينة» إلى تحذيرنا ولفت‬ ‫انتباه أنظارنا‪ ،‬لما يمكن أن تكون تأثيرات‬ ‫التغيير المناخي السلبية على مدننا وبيئتنا‪.‬‬ ‫ُي َعـّد «ينـس غاليشـيوت»‪ ،‬المثيـر للجـدل‪،‬‬ ‫مـن أكثـر الفنانيـن الدنماركييـن شـهرة‬ ‫سـواء فـي بلـده أم خارجـه‪ .‬وهـو يميـل‬ ‫إلـى جعـل منحوتاتـه ذات تأثيـر نافـذ‬ ‫وحاسـم علـى المتلقّـي‪ ،‬هـو المولـود فـي‬ ‫مدينة «فردريسـكون» فـي جزيرة «زيالند»‬ ‫ثاني أكبر جزر مملكة الدنمارك‪ .‬وقد تأهل‬ ‫دراسـي ًا فـي أحـد المعاهـد المهنيـة ليكـون‬ ‫«حـداداً»‪ ،‬غيـر أنـه تعلَّـم ذاتيـ ًا االشـتغال‬ ‫على صياغة الفضة‪ ،‬وتعلَّم ذاتياً‪ ،‬أيضاً‪،‬‬ ‫النحـت‪ .‬يسـكن اآلن مدينـة «أودنسـا» فـي‬ ‫وسـط الدنمـارك منـذ عـام ‪ ،1978‬حيـث‬ ‫افتتـح اسـتوديو ضخمـ ًا سـنة ‪،1985‬‬ ‫بمسـاحة تقـّدر بحوالـي ‪ 2000‬متر مربع‪،‬‬

‫تشـمل مصهرًا (مسـبكاً) للنحاس‪ ،‬وورش‬ ‫عمـل‪ ،‬وغاليـري َفنّيـاً‪ ،‬باإلضافـة إلـى‬ ‫«حديقـة نحتيـة»‪ .‬وهـو معـروف بأعمالـه‬ ‫ذات األشكال العضوية والطبيعية‪ .‬ووفقاً‪،‬‬ ‫لبعض الدراسات‪ ،‬فإنه متأثِّر كثيرًا بأعمال‬ ‫المعمـار اإلسـباني «أنطونيـو غـاودي»‬ ‫(‪ ،)1926 - 1852‬وكذلك بأعمال مناصري‬ ‫تيـار «اآلر نوفـو» ‪.Art Nouveau‬‬ ‫ّية‬ ‫ن‬ ‫ف‬ ‫يمـارس «ينس غاليشـيوت» مجاالت َ ّ‬ ‫متعـّددة‪ ،‬بـدءًا من المشـغوالت الدقيقة في‬ ‫الحلـي والمجوهـرات‪ ،‬مـرورًا باألعمـال‬ ‫النحتيـة الصغيـرة‪ ،‬وصـو ًال إلـى إنتـاج‬ ‫قطع نحتية ضخمة‪ ،‬عادة‪ ،‬ما تكون ذات‬ ‫صبغة نقدية الفتة‪ .‬وهو معروف في بلدان‬ ‫عديـدة‪ ،‬خصوصـ ًا التـي عـرض فيها مثل‪:‬‬ ‫المكسيك‪ ،‬هونغ كونغ‪ ،‬إسبانيا‪ ،‬ألمانيا‬ ‫أسـس «ينـس‬ ‫والواليـات المتحـدة‪ .‬كمـا ّ‬ ‫غاليشـيوت»‪ ،‬منظمـة خاصـة بـه دعاهـا‬ ‫«الفّن دفاع ًا عن اإلنسانية»( (�‪Art In De‬‬ ‫َ‬ ‫‪ fence Of Humanism (AIDOH‬منتج ًا‬ ‫منحوتات «مدينية» ذات طابع احتجاجي‪،‬‬ ‫فضلا عـن أعمالـه ضمـن مـا يعـرف اآلن‬ ‫ً‬ ‫بـ«الفّن التجهيزي» أو «التركيبي » �‪Art In‬‬ ‫َ‬


‫‪ ، stallation‬والتـي يمكـن أن تشـاهد في‬ ‫مـدن العالـم المختلفـة‪ .‬وعـادة مـا ُيوصف‬ ‫أهـم فنّاني‬ ‫«ينـس غاليشـيوت» كواحد من ّ‬ ‫يوظف‬ ‫مـا بعـد الحداثة الدنماركييـن‪ .‬وهو ّ‬ ‫األحـداث العالميـة ليسـلّط الضـوء َفنّيـ ًا‬ ‫(وخصوص ًا نحتياً) على االختالالت القائمة‬ ‫وعـدم التوازن السـائد فـي عالمنا‪.‬‬ ‫أثـارت منحوتتـه‪ ،‬المصنفـة‪ ،‬أيضـاً‪ ،‬مـن‬ ‫ضمن مفردات «أثاث المدينة»‪ ،‬والتي دعاها‬ ‫«البقاء لألصلح»‪ ،‬جد ًال واسع ًا في األوساط‬ ‫ض ْت ألول مرة‬ ‫َ‬ ‫الفنّية الدنماركية‪ ،‬عندما ُعِر َ‬ ‫سـنة ‪ ،2002‬بالقـرب مـن «أيقونـة» مدينة‬ ‫كوبنهاغن الشـهيرة «الحوريـة الصغيرة»‪،‬‬ ‫ليمعـن فـي اسـتثمار التضـاد الجمالـي بين‬ ‫المنحوتتين وموضوعهما المختلف‪ ،‬لجهة‬ ‫جعل ذلك التضاد يعمل كجهد إضافي لتبيان‬ ‫حولها منحوتة‬ ‫يـروج لها‪ .‬وقد ّ‬ ‫فكرتـه التي ِّ‬ ‫نحاسـية ترمـز للتوزيـع غيـر المتـوازن‬ ‫للموارد العالمية؛ ارتفاعها يبلغ ‪ 3.5‬متر‪،‬‬ ‫علـى شـكل امـرأة بدينـة (ترمـز إلـى العالـم‬ ‫الغربـي)‪ ،‬تجلـس على أكتاف رجل إفريقي‬ ‫جائـع (يرمـز إلـى العالـم الثالـث)‪ .‬تمسـك‬ ‫المـرأة البدينـة ميزانـ ًا فـي يدهـا‪ ،‬كناية عن‬ ‫«العدالـة»‪ ،‬وهـي تغلق عينيها‪ ،‬تعبيرًا عن‬ ‫«استقامتها»‪ ،‬و«ورعها»‪ ،‬و«إنصافها» لذلك‬ ‫فهـي تـرى الظلم الفـادح! وتبعث المنحوتة‬ ‫رسالة مفادها بأن القسم الغني من العالم‪،‬‬ ‫المفـرط فـي سـمنته واسـتهالكه‪ ،‬يسـتغل‬ ‫التوزيع غير المتوازن للموارد‪ ،‬مبقي ًا معظم‬ ‫يتضورون جوعاً‪.‬‬ ‫النـاس في العالم الثالث‬ ‫ّ‬ ‫أمـا منحوتته المشـهورة والمسـماة «أمر ال‬ ‫ض ْت مرة بمناسبة انعقاد‬ ‫يطاق»‪ ،‬التي ُعِر َ‬ ‫مؤتمـر المنـاخ العالمـي‪ ،‬فـي ديسـمبر‪/‬‬ ‫كانـون األول ‪ ،2015‬بمنطقـة «المدينـة‬

‫الجامعيـة» ‪ Cite Universitaire‬فـي‬ ‫ض ْت مؤخرًا في‬ ‫العاصمة الفرنسية‪ ،‬ثم ُعِر َ‬ ‫إبريل‪/‬نيسـان ‪ ،2016‬في كوبنهاغن‪ ،‬في‬ ‫سـاحة البرلمـان الدنماركـي‪ ،‬فإنها ُتعّد من‬ ‫عـول الفنـان عليها كثيرًا‬ ‫المنحوتـات التـي ّ‬ ‫فـي تكريـس مبـادئ وقيـم منظمتـه التـي‬ ‫أسسها‪ .‬إذ ترمز هذه المنحوتة إلى ما يمكن‬ ‫ّ‬ ‫أن يحدثـه النشـاط اإلنسـاني مـن سـلبيات‬ ‫علـى المنـاخ العالمي‪ ،‬وتنبه المجتمع إلى‬ ‫مسـؤوليته تجـاه األجيـال القادمة‪.‬‬ ‫تصـور المنحوتـة ُدبـ ًا قطبيـ ًا فـي الحجـم‬ ‫ّ‬ ‫الطبيعـي «مخـزوق» بواسـطة أنبـوب‬ ‫حديدي‪ ،‬على ارتفاع ستة أمتار‪ .‬ويعترف‬ ‫الفنان‪ ،‬بأن منحوتته تبدو للوهلة األولى‬ ‫مضحكة وربما حمقاء‪ .‬وقد تثير أحاسيس‬ ‫آن معاً‪ .‬لكن المرء‬ ‫تراجيديـة كوميديـة فـي ٍ‬ ‫مـا أن يـدرك سـريع ًا بـأن الـدب القطبـي‬ ‫يعبر شكله‬ ‫«مخزوق» بذاك األنبوب‪ ،‬الذي ّ‬ ‫عـن «خـط بيانـي» يرصـد مقـدار انبعـاث‬ ‫الكاربـون أثنـاء اسـتخراج الوقـود وحجـم‬ ‫ذلـك االنبعاث جراء االسـتهالك البشـري‪،‬‬ ‫عنـد ذاك‪ ،‬قـد يتبنـى رسـالة الفنـان ويفهم‬ ‫حجـم اإلشـكالية المثـارة‪ .‬وبهـذا التكثيـف‬ ‫تعبـر عنـه تلـك المنحوتـة‪،‬‬ ‫الرمـزي الـذي ّ‬ ‫فـإن «ينـس غاليشـيوت»‪ ،‬يـود أن يصـل‬ ‫إلـى نتيجـة مفادهـا بأن كثيرًا مـن الناس‪،‬‬ ‫يعتقـدون بأننـا علـى الطريـق الصحيـح‬ ‫لجهة اهتمامنا ومناشدتنا في إيجاد حلول‬ ‫لمشـاكل المناخ‪ .‬كما أننا‪ ،‬وهذا هو المهم‪،‬‬ ‫سـوف لـن يكـون بمقدورنـا تحقّيـق تلـك‬ ‫نغير من أسـاليبنا‪ ...‬اآلن!‬ ‫األهداف‪ ،‬ما لم ّ‬ ‫جسد شكل األنبوب‪ ،‬كما أشرنا‪« ،‬مخططاً»‬ ‫ُي ّ‬ ‫لرسـم بيانـي يرمـز إلى انبعـاث الكاربون‪.‬‬ ‫ففي السنة «صفر» من التقويم اإلنساني كان‬

‫االنبعاث صفراً‪ ،‬واستمر كذلك لحين سنة‬ ‫‪ ،1850‬عندما بدأ االنبعاث باالرتفاع‪ .‬ولهذا‬ ‫فإن خط األنبوب الحديدي الذي ُق ِّدَر طوله بـ‬ ‫‪ 20‬متراً‪َ ،‬ظّل مسـتوي ًا وموازي ًا إلى سـطح‬ ‫األرض‪ ،‬لحين حلول سنة ‪ ،1850‬حيث بدأ‬ ‫فـي االرتفاع‪ ،‬تماشـي ًا مع حجم االنبعاثات‬ ‫الكاربونية‪ ،‬منهي ًا شـكله على ارتفاع سـتة‬ ‫أمتار‪« ،‬خازقاً» جسد الدب القطبي!‬ ‫يجتمـع كثر مـن الناس حول منحوتة «أمر‬ ‫ال يطاق» للفنان الدنماركي ما بعد الحداثي‪.‬‬ ‫يجتمعـون ويناقشـون تلـك القضايـا التـي‬ ‫تثيرهـا موضوعـة المنحوتـة التـي سـعى‬ ‫الفنـان إلـى إيصـال صوتـه وصـوت‬ ‫مؤسسـته المدافعة عن القضايا اإلنسـانية‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫يطمـح‬ ‫هنـا‬ ‫مـن‬ ‫ً‪.‬‬ ‫ا‬ ‫َفنّيـ‬ ‫الفنّـان‪ ،‬مسـتغ ً‬ ‫َ‬ ‫خصوصية موقع السـاحة وقربها من أهم‬ ‫مؤسسـة ديموقراطيـة عريقـة فـي البلاد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الفّن المعاصر قادر‬ ‫بأن‬ ‫أنظارنا‪،‬‬ ‫لفت‬ ‫إلى‬ ‫َ‬ ‫على بعث رسائل ذات أهداف متعّددة‪ ،‬وفي‬ ‫الوقـت ذاتـه‪ ،‬يمكن لمتلقيها أن يمعنوا في‬ ‫التقصـي عـن تفسـيرات وتأويلات ذاتيـة‬ ‫ّ‬ ‫للحـدث الدراماتيكـي المرئـي‪ .‬لكـن مـا‬ ‫تظهـره منحوتة «الـدب القطبي المخزوق»‬ ‫مميـزة لمفهـوم‬ ‫فـي األعالـي‪ ،‬مـن إضافـة ّ‬ ‫«أثـاث المدينـة» المعاصـرة‪ ،‬ومـا تضفيـه‬ ‫مـن مسـحة جماليـة إلـى موقـع الفضـاء‬ ‫الـذي تشـغله‪ ،‬تجعلـه قـادرًا مـع العناصر‬ ‫المشكلة لذلك «األثاث»‪،‬‬ ‫الحضرية األخرى‬ ‫ّ‬ ‫علـى اصطبـاغ بيئة المدينة بطابع جمالي‬ ‫خـاص‪ ،‬يسـهم فـي تكريـس خصوصيتهـا‬ ‫ويرفـع مـن قيمتهـا «المدينيـة» عالياً‪.‬‬ ‫‪129‬‬


‫سينما‬

‫‪130‬‬


‫رحيل عباس كيارستمي‬

‫شاعر السينما اإليرانية‬

‫يوليو‪/‬تموز‬ ‫تلقَّت األوســاط الثقافية فــي إيران والعالم في الرابــع من‬ ‫ّ‬ ‫بالغــة برحيــل المخــرج الســينمائي الكبيــر والمثير‬ ‫صدمــة‬ ‫المنصــرم‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عباس كيارســتمي‪ ،‬الذي توفي عن (‪ )76‬عام ًا في أحد مشــافي‬ ‫للجدل‪ّ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫سكتة دماغية جاءت نتيجة لألخطاء الطبية‬ ‫العاصمة الفرنسية‪ ،‬بسبب‬ ‫في معالجته في مشفى جم بطهران‪.‬‬

‫ماهر جمّو‬ ‫كيارستمي (‪ )2016 - 1940‬هو أكبر‬ ‫المخرجين السينمائيين اإليرانيين‪ ،‬وأحد‬ ‫صنّاع السينما المعاصرين‪ ،‬وذلك‬ ‫ّ‬ ‫أهم ُ‬ ‫بشهادة كبار السينمائيين والنقّاد في العالم‬ ‫للسينمائي الجديد‪.‬‬ ‫الذين يصنفونه كنموذج‬ ‫ّ‬ ‫فمن المخرجين الذين مدحوا أفالمه وأثنوا‬ ‫عليها‪ ،‬المخرج الياباني آكيرا كوروساوا‪،‬‬ ‫جان لوك غودار‪ ،‬فيرنر هرتزوغ‪ ،‬فيم‬ ‫فيندرز‪ ،‬أمير كوستاريكا‪ ،‬مايكل هانكه‪،‬‬ ‫مارتن سكورسيزي‪ ..‬وغيرهم‪.‬‬ ‫أن‬ ‫«باعتقادي‬ ‫وقال عنه كوروساوا‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫أفالم استثنائية‪،‬‬ ‫أفالم هذا المخرج اإليراني ٌ‬ ‫تعبر عن‬ ‫وليس بوسع الكلمات أن ّ‬ ‫مشاعري‪ ،‬أقترح عليكم مشاهدة أفالمه‪،‬‬ ‫وعندها ستدركون ما أقوله‪ .‬عندما رحل‬ ‫بهم كبير‪ ،‬ولكن‬ ‫«ساتيا جيت راي»‬ ‫شعرت ٍّ‬ ‫ُ‬

‫مع مشاهدة أفالم كيارستمي‪ ،‬أشكر اهلل‬ ‫ألننا عثرنا على ٍ‬ ‫بديل له»‪ .‬وأما المخرج‬ ‫الفرنسي‪ -‬السويسري جان لوك غودار‬ ‫«إن السينما بدأت مع دبليو غريفيث‬ ‫فقال‪ّ :‬‬ ‫وانتهت عند عباس كيارستمي»‪.‬‬ ‫كيارستمي هو شاعر السينما اإليرانية‬ ‫وفيلسوفها‪ ،‬ويلقبه النقّاد في إيران بـ «رائد‬ ‫«الصوفي‬ ‫الواقعية الجديدة في السينما» وبـ‬ ‫ّ‬ ‫الواقعي»‪.‬‬ ‫تركت أفالمه التي صنعها في فترة‬ ‫حكم الشاه‪ ،‬وبعد الثورة اإلسالمية‬ ‫تأثيرًا كبيرًا على مسار السينما اإليرانية‪،‬‬ ‫أسلوب جديٍد يتسم‬ ‫وذلك من خالل ابتكار‬ ‫ٍ‬ ‫بالمزج بين الرواية والتوثيق‪ ،‬ومن خالل‬ ‫التغلغل في تفاصيل الواقع واستخراج‬ ‫نفحات مليئة بالشعر والنقاء واألسئلة‬ ‫‪131‬‬ ‫‪131‬‬


‫لقطة من فيلم «طعم الكرز»‬

‫التأمل على مصراعيها‪،‬‬ ‫التي تفتح أبواب ّ‬ ‫والتركيز على العالقات اإلنسانية وعلى‬ ‫ثنائية الحياة والموت‪ ،‬وإيجاد حالة من‬ ‫التوازن بينهما‪ ،‬وهدم المفاهيم التقليدية‬ ‫يشكل‬ ‫في السينما‪ ،‬وحذف ّ‬ ‫كل ما يمكن أن ّ‬ ‫عائق ًا بينها وبين الحياة‪ ،‬ومن خالل‬ ‫االعتماد على ممثلين هم ليسوا بممثلين في‬ ‫والحرية الكاملة في‬ ‫األصل‪ ،‬ومنحهم الثقة‬ ‫ّ‬ ‫دافع‬ ‫إلى‬ ‫إيصالهم‬ ‫سبيل‬ ‫أداء أدوارهم‪ ،‬في‬ ‫ٍ‬ ‫يمكنهم من أداء أدوارهم المرسومة‪،‬‬ ‫ذاتي ّ‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍ‬ ‫بعيدة عن التكلّف والتصنّع‪ ،‬وهو‬ ‫بواقعيةٍ‬ ‫أهم منابع‬ ‫يعتبر هؤالء «الالممثلين» أحد ّ‬ ‫اإللهام لديه‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫بشكل‬ ‫لم يدرس كيارستمي السينما‬ ‫أكاديمي‪ ،‬فقد كانت دراسته الرسم‪ ،‬ولكنه‬ ‫وجد نفسه منخرط ًا في السينما بعد أن فشل‬ ‫كرسام‪ ،‬على َحّد تعبيره‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫مصمم ًا لإلعالنات‬ ‫عمل‬ ‫‪1960‬‬ ‫من‬ ‫بداية‬ ‫ّ‬ ‫التجارية مع كبرى الشركات اإليرانية‬ ‫ثم عمل بعدها في عنونة األفالم‪،‬‬ ‫آنذاك‪ّ ،‬‬ ‫لمحمد‬ ‫ومنها فيلم «وسوسة الشيطان»‬ ‫ّ‬ ‫زرين دست‪ ،‬وفيلم «قيصر» و«رضا‬ ‫ّ‬ ‫موتوري» للمخرج البارز مسعود كيميائي‪.‬‬ ‫ُدعي بعدها لتأسيس قسم للسينما في مركز‬ ‫‪132‬‬ ‫‪132‬‬

‫شكل‬ ‫التنمية الفكرية لألطفال والفتيان‪ ،‬وقد ّ‬ ‫أرضية‬ ‫تعامله مع األطفال في هذا المركز‬ ‫ً‬ ‫لألفالم التي سيصنعها فيما بعد‪.‬‬ ‫بدأ كيارستمي عمله السينمائي عام‬ ‫بفيلم قصير «الخبز والزقاق»‪ .‬وكان‬ ‫(‪ٍ )1970‬‬ ‫أول فيلم طويل له هو فيلم «المسافر» عام‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫قدرات‬ ‫ينم حينها عن‬ ‫كان‬ ‫الذي‬ ‫(‪،)1974‬‬ ‫ّ‬ ‫وتوج ٍ‬ ‫الشاب‪.‬‬ ‫المخرج‬ ‫هات مختلفة لهذا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ذاع صيت كيارستمي في إيران وفي‬ ‫الخارج أيضاً‪ ،‬بعد صناعة فيلم «أين‬ ‫منزل الصديق» عام (‪ ،)1987‬وهو فيلم‬ ‫مستوحى من قصيدة للشاعر اإليراني‬ ‫ُسهراب سبهري»‪ ،‬هذا الفيلم الذي اعتبره‬ ‫المخرج األلماني الكبير « فيرنرهرتزوغ»‬ ‫ويشكل‬ ‫أفالم لديه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫من بين أفضل خمسة ٍ‬ ‫هذا الفيلم مع فيلمين آخرين هما « الحياة‬ ‫والشيء سواها» و« تحت أشجار الزيتون»‬ ‫ثالثية فريدة في تاريخ السينما اإليرانية‬ ‫ً‬ ‫وتسمى «بثالثية كوكر» أو‬ ‫والعالمية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫«ثالثية الزلزال»‪.‬‬ ‫بسيطة لتلميذ‬ ‫قصة‬ ‫يحكي هذا الفيلم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ضمير ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫يقظ‪ ،‬في الثامنة من‬ ‫مدرسة ذي‬ ‫ٍ‬ ‫العمر‪ ،‬يحاول إعادة دفتر واجبات ٍ‬ ‫زميل‬ ‫يعيش في ٍ‬ ‫قرية مجاورة‪ ،‬بعد أن أخذ‬ ‫له‬ ‫ُ‬

‫الدفتر معه إلى المنزل عن طريق الخطأ‪،‬‬ ‫وبعد تهديدات المعلّم لزميله بطرده من‬ ‫المدرسة حال عدم كتابته للواجب المنزلي‬ ‫المرة القادمة‪ ،‬وعندما يكتشف هذا التلميذ‬ ‫ّ‬ ‫أنّه قد أخذ دفتر زميله معه عن طريق الخطأ‬ ‫إلى المنزل‪ ،‬ينطلق إلى القرية األخرى بحث ًا‬ ‫عن منزل صديقه ليعيد إليه الدفتر‪ ،‬لكن‬ ‫دون جدوى‪ ،‬ويعود يائس ًا إلى المنزل بعد‬ ‫ٍ‬ ‫قضاء رحلة ٍ‬ ‫بحث أشبه‬ ‫حلول الليل وبعد‬ ‫بالمتاهة‪ ،‬ولكنه يكتب واجب زميله المنزلي‬ ‫في دفتره ليحميه من العقاب والطرد في‬ ‫اليوم التالي‪ .‬ومن خالل هذا الفيلم المفعم‬ ‫بسحر طبيعة الريف‪ ،‬يعرض كيارستمي‬ ‫تقاليد وأعراف أهل القرى في إيران‪.‬‬ ‫ترك كيارستمي إرث ًا من األفالم يزيد على‬ ‫‪ 40‬فيلم ًا موزعة بين الروائي والوثائقي‬ ‫والقصير والصامت‪ ،‬وقد حصلت أفالمه على‬ ‫جوائز عالمية كثيرة‪ ،‬ومن أهمها السعفة‬ ‫الذهبية لمهرجان كان عام (‪ )1997‬عن فيلم‬ ‫«طعم الكرز»‪ ،‬هذا الفيلم اإلشكالي الذي‬ ‫يروي قصة ٍ‬ ‫عازم على االنتحار‪،‬‬ ‫رجل‬ ‫ٍ‬ ‫شخص يستأجره ليقوم بدفنه‬ ‫ويبحث عن‬ ‫ٍ‬ ‫بعد أن يفارق الحياة‪.‬‬ ‫ويعّد فيلم «ستأخذنا الريح» المستوحى‬ ‫ُ‬


‫لقطة من فيلم «مثل شخص مغرم»‬

‫من قصيدة للشاعرة اإليرانية فروغ فرخزاد‪،‬‬ ‫أهم األفالم التي صنعها كيارستمي‬ ‫أحد ّ‬ ‫خالل مسيرته السينمائية‪ ،‬وهو فيلم مليء‬ ‫والتأمالت والشعر‪ ،‬وفي‬ ‫باأللغاز واألسئلة‬ ‫ّ‬ ‫هذا الفيلم ُيظهر كيارستمي مزج ًا بين ثقافته‬ ‫الغربية والمشرقية‪ ،‬فحالة االنتظار الغريبة‬ ‫تذكر إلى َحّد كبير بعوالم بيكيت‪ ،‬واالهتمام‬ ‫ّ‬ ‫البالغ بتفاصيل الطبيعة يذكرنا بثقافة‬ ‫الشرق األقصى وشعر الهايكو‪ ،‬باإلضافة‬ ‫الجلية في هذا الفيلم‬ ‫الخيامية ّ‬ ‫إلى النزعة ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫تأملية‪.‬‬ ‫بصرية‬ ‫بقصيدة‬ ‫الشبيه‬ ‫ً‬ ‫كبير في أفالم كيارستمي‬ ‫ثمة‬ ‫إصرار ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫كل شيء‪ ،‬وهو‬ ‫عن‬ ‫اإلفصاح‬ ‫عدم‬ ‫على‬ ‫ّ‬ ‫يسعى بذلك إلى إشراك المشاهد في التفاعل‬ ‫مع األسئلة والتأمالت التي يطرحها الفيلم‪،‬‬ ‫إن فيلمه يبدأ بعد أن‬ ‫ويقول كيارستمي ّ‬ ‫يغادر المشاهد صالة العرض‪.‬‬ ‫الرغم من‬ ‫على‬ ‫لم يغادر كيارستمي إيران‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫التجاهل الكبير له وألفالمه من قَب ِل الجهات‬ ‫الرسمية في إيران‪ ،‬فبعد الثورة هاجر‬ ‫الكثير من زمالئه بسبب الرقابة الصارمة‬ ‫ض ْت على مختلف نواحي الحياة‬ ‫التي ُفِر َ‬ ‫االجتماعية والسياسية والثقافية‪ ،‬ومن‬ ‫ضمنها منع السينما في السنوات األولى‬

‫عبر‬ ‫من الثورة‪ .‬لكن كيارستمي بقي‪ ،‬وقد ّ‬ ‫عن هذا قائالً‪« :‬أنا شخصي ًا غير مقتنع بترك‬ ‫إيران‪ ،‬فالمكان الوحيد الذي أستطيع النوم‬ ‫فيه في سكينة هو بيتي‪ ،‬وال شيء بوسعه‬ ‫أن يقنعني بتركه»‪.‬‬ ‫استغل كيارستمي تلك السنوات التي‬ ‫ّ‬ ‫ُمِن َع ْت فيها السينما في إيران‪ ،‬وقصد األرياف‬ ‫والقرى اإليرانية برفقة الكاميرا‪ ،‬وأخذ‬ ‫زة لألشجار والطبيعة في‬ ‫ممي ً‬ ‫يلتقط صورًا ّ‬ ‫وتميزت صوره بالتركيز‬ ‫مختلف الفصول‪ّ ،‬‬ ‫والظل‪ ،‬وما‬ ‫على مفارقات األلوان‪ ،‬والنور‬ ‫ّ‬ ‫تم االلتقاط‬ ‫ّ‬ ‫يميز صوره أيض ًا الزوايا التي ّ‬ ‫مصورًا‬ ‫الصور‬ ‫منها‪ ،‬وقد جعلت منه هذه‬ ‫ّ‬ ‫فوتوغرافي ًا بارزاً‪ ،‬وصار يعرض صوره‬ ‫في المعارض والمتاحف العالمية‪ ،‬ويستفيد‬ ‫من المردود المالي لبيع صوره في تمويل‬ ‫أفالمه‪.‬‬ ‫ال عن السينما والتصوير‬ ‫فض ً‬ ‫الفوتوغرافي‪ ،‬لمع اسم كيارستمي في‬ ‫الشعر أيضاً‪ ،‬فقد أصدر ثالث مجموعات‬ ‫شعرية «بصحبة الريح ‪ ،»1999-‬و«ذئب‬ ‫متربص‪ ،»2004 -‬و«ريح وأوراق ‪2011-‬‬ ‫»‪ ،‬وقد ُترجمت أشعاره إلى لغات عالمية‬ ‫عّدة منها العربية واإلنجليزية واإلسبانية‬

‫واإليطالية والفرنسية واأللمانية‪..‬‬ ‫وقصائده هي تأمالت ذكية اختزالية‪،‬‬ ‫تشبه صورًا فوتوغرافية من الكلمات‪،‬‬ ‫وتصلح بعضها أن تكون أفالم ًا سينمائية‬ ‫أن له‬ ‫قصيرة تحمل طابع أفالمه‪ .‬كما ّ‬ ‫تجربة مثيرة للجدل في إعادة قراءة‬ ‫الشعر الكالسيكي الفارسي إذ صدر له‪:‬‬ ‫حافظ برواية عباس كيارستمي (‪،)2006‬‬ ‫ونار‬ ‫وسعدي يستغيث من نفسه (‪ٌ ،)2007‬‬ ‫مهب الريح (مختارات من غزليات شمس‬ ‫في ّ‬ ‫تبريز لموالنا جالل الدين الرومي) (‪.)2011‬‬ ‫بأن كيارستمي‬ ‫يرى الناس في إيران ّ‬ ‫فارق الحياة نتيجة أخطاء األطباء‬ ‫المعالجين له في إيران‪ ،‬وبحسب عائلة‬ ‫كيارستمي فإنّه لم يكن يعاني من السرطان‬ ‫كما ُأشيع‪ ،‬وإنما خضع لعملية استئصال‬ ‫ورم معوي حميد‪ ،‬ولكن سوء العالج‬ ‫أديا إلى إلحاق األذى به وتسببا‬ ‫واإلهمال ّ‬ ‫أسبوع من سفره إلى‬ ‫المبكر بعد‬ ‫في موته ّ‬ ‫ٍ‬ ‫باريس‪ ،‬وقد قامت مجموعة من أصدقاء‬ ‫كيارستمي بتشكيل ٍ‬ ‫والتقصي‬ ‫لجنة للبحث‬ ‫ّ‬ ‫في ّ‬ ‫الملف الطبي له أثناء معالجته في إيران‪.‬‬ ‫‪133‬‬ ‫‪133‬‬


‫المخرجة اللبنانية الفرنسية دانييل عربيد (‪« :)1970‬لم أشأ «باريسية» فيلم ًا قاسياً‪ ،‬بل فيلم ًا عن األمل»‬

‫منــذ ‪ 18‬عامــاً‪ُ ،‬تنجز الســينمائية اللبنانية الفرنســية دانييــل عربيد (مواليد بيــروت‪)1970 ،‬‬

‫أفالم ًا مختلفة األشــكال والمواضيع وأســاليب المعالجة‪ُ ،‬يســاجل بعضها أحوال بيئة ُتدركها‬ ‫التعرف إليها أكثر فأكثر‪ ،‬ويذهب بعضها اآلخر إلى اكتشــافات انفعالية وحســية‬ ‫أو ترغب في ّ‬

‫مختصة بالحياة وشؤونها ومتاهاتها‪ ،‬أو بالجسد وأسئلته المعلّقة أو الملتبسة‪ ،‬أو بالعالقات‬ ‫وروحية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ومنعطفاتهــا وخيباتهــا وأوهامها ومســاراتها الجميلــة والهادئة أيضاً‪ ،‬تلك العالقــات القائمة بين المرء‬

‫وذاته‪ ،‬أو بين الفرد واآلخر‪.‬‬

‫دانييل عربيد ‪:‬‬

‫«باريسية» رحلة ال كتشاف عامل جديد‬ ‫نديم جرجوره‬ ‫أفالم روائية طويلة وقصيرة‪،‬‬ ‫وأخرى وثائقية وتجريبية‪ ،‬باإلضافة‬ ‫إلى «أشرطة فيديو»‪ ،‬تحاول عربيد‪ ،‬من‬ ‫خاللها‪ ،‬اختبار فعل التصوير المباشر‬ ‫والعفوي والبسيط‪ ،‬الذي يلتقط نبرة‬ ‫ومعارف‪ ،‬بحث ًا في ثنائية‬ ‫أهل وجيران‬ ‫ِ‬ ‫الصورة والمعنى‪ ،‬خصوص ًا أن المعنى‬ ‫متوغل في أحوال بيئة عائلية منبثقة‬ ‫ّ‬ ‫‪134‬‬ ‫‪134‬‬

‫لبناني محّددة مالمحه في‬ ‫اجتماع‬ ‫من‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫أفالم روائية طويلة أخرى‪ ،‬كـ«معارك‬ ‫حب» (‪ )2004‬و«بيروت بالليل» (فيلم‬ ‫ّ‬ ‫تليفزيوني‪ )2012 ،‬و«باريسية» (‪،)2016‬‬ ‫عرض في صاالت‬ ‫فيلمها الجديد‪ ،‬الذي ُي َ‬ ‫أوروبية ولبنانية عديدة منذ مطلع العام‬ ‫‪ ،2016‬باإلضافة إلى مشاركاته في‬ ‫مهرجانات عربية ودولية‪.‬‬

‫اختباري‬ ‫فعل‬ ‫ّ‬ ‫التوثيق السينمائي‪ ،‬أي ذاك الذي‬ ‫التسجيلي من أدواته‬ ‫يسعى إلى تحرير‬ ‫ّ‬ ‫بهاء‬ ‫أقل‬ ‫يكون‬ ‫لن‬ ‫التقليدية‪،‬‬ ‫التليفزيونية‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫والتجريبي‪ ،‬في ممارسة فعل‬ ‫من الروائي‬ ‫ّ‬ ‫دائم باّتجاه األفراد والبيئات‬ ‫اختباري ٍ‬ ‫ّ‬ ‫والتفاصيل والحكايات‪ .‬التوثيق‪ ،‬الذي‬


‫يفتح نوافذ في العقل والروح والوعي‬ ‫والسجال‪ ،‬يّتخذ من ذاكرة الحرب األهلية‬ ‫اللبنانية (‪ 1975‬ـ ‪ )1990‬موضوع ًا‬ ‫فكك شيئ ًا‬ ‫الستعادة تجربة فردية‪ُ ،‬ت ِّ‬ ‫من أهوال الجماعة وانهياراتها ومعالم‬ ‫أهلي‬ ‫سيرتها أثناء الحرب‪ ،‬وفي ٍ‬ ‫سلم ّ‬ ‫مشوه وناقص («وحدي مع الحرب»‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫‪)2000‬؛ أو يخرج من المحلّية اللبنانية‬ ‫الضيقة إلى جغرافيا أوسع‪ ،‬تحيط‬ ‫ّ‬ ‫بفلسطين المحتلّة‪ ،‬وتعمل على التقاط‬ ‫نبض الشارع العربي (لبنان‪ ،‬سوريا‪،‬‬ ‫األردن‪ ،‬ومصر) في ارتباطه بها («حدود»‪،‬‬ ‫‪.)2002‬‬ ‫الم َك َّون من‬ ‫أما «أحاديث صالونية»‪ُ ،‬‬ ‫نجز‬ ‫ت‬ ‫ـ‬ ‫فيديو‬ ‫صورة بكاميرا‬ ‫ُ ِ‬ ‫ستة أجزاء ُم ّ‬ ‫عربيد أجزاءه الثالثة األولى في العام‬ ‫‪ 29( 2004‬دقيقة)‪ ،‬وأجزاءه الثالثة‬ ‫الثانية في العام ‪ 30( 2009‬دقيقة) ـ‬ ‫فينعزل داخل منزلها العائلي‪ ،‬حيث األم‬ ‫ٍ‬ ‫جارات لها‬ ‫رفقة‬ ‫تتصدر واجهة المشهد‪َ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫أمور‬ ‫يرتشفن القهوة معها‪ ،‬ويدردشن عن ٍ‬ ‫الضيق (البناية‪ ،‬والحارة‪،‬‬ ‫تبدأ بالمحيط ّ‬ ‫والجيران‪ ،‬واألقارب)‪ ،‬وتنتقل إلى البلد‬ ‫وأحواله وانقالبات العيش فيه‪.‬‬ ‫قبل «باريسية»‪ ،‬على مستوى الفيلم‬ ‫الروائي‪ ،‬أخرجت عربيد أول عمل‬ ‫(روائي‬ ‫سينمائي لها‪ ،‬بعنوان «ردم»‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫شابة تعود‬ ‫قصير‪ 17 ،1998 ،‬دقيقة)‪ّ :‬‬ ‫إلى مدينتها (بيروت) التي ال تعرفها‪ ،‬كي‬ ‫تلتقيها عبر ذاكرة بصرية مستمّدة من‬ ‫الروائي‬ ‫ثم فيلمها‬ ‫صورة فوتوغرافية‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫حب»‪ ،‬الذي‬ ‫«معارك‬ ‫الطويل األول‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫والتمزق‬ ‫يغوص في تداعيات االنهيار‬ ‫ّ‬ ‫داخل عائلة «مسيحية» في ثمانينيات‬ ‫الحرب األهلية‪ .‬أما الثاني فهو بعنوان‬ ‫«رجل ضائع» (‪ ،)2007‬وترتكز على‬ ‫صور فوتوغرافي فرنسي في‬ ‫رحلة ُم ِّ‬ ‫الجغرافيا والروح العربيتين‪ ،‬بحث ًا عن‬ ‫ٍ‬ ‫خالص أو منفٍذ أو اكتشافات‪ .‬فيما‬ ‫ذات أو‬ ‫ٍ‬ ‫يروي فيلمها التليفزيوني «بيروت بالليل»‬ ‫ال في عالقتها‬ ‫شابة تعاني خل ً‬ ‫حكاية ّ‬ ‫بفرنسي‪ ،‬يصدف أنه‬ ‫بزوجها‪ ،‬فترتبط‬ ‫ّ‬ ‫متورط بمسائل تمزج السياسي باألمني‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫في بيروت الغارقة في التأثيرات السلبية‬ ‫القاسية الغتيال رئيس الوزراء السابق‬

‫رفيق الحريري (‪ 15‬فبراير‪ /‬شباط‬ ‫‪.)2005‬‬ ‫أما فيلمها الجديد «باريسية»‪ ،‬فهو‬ ‫ٌ‬ ‫الذاتي والعام‪ .‬لينا (منال‬ ‫مبطن بين‬ ‫خليط ّ‬ ‫ّ‬ ‫عيسى) تبلغ ‪ 17‬عاماً‪ ،‬تغادر بيروت‬ ‫ٍ‬ ‫للتحصيل الجامعي‪ ،‬في العام ‪.1993‬‬ ‫وهناك‪ ،‬تكتشف ذاتها وانفعاالتها‪،‬‬ ‫متنوعة‪،‬‬ ‫وتفاصيل عيش وحياة وعالقات ّ‬ ‫الحب والصداقة والعلم والمعرفة‪.‬‬ ‫بين‬ ‫ّ‬ ‫تكتشف‪ ،‬أيضاً‪ ،‬متاهات واقع‪ ،‬وصدمات‬ ‫ومعان مختلفة للصداقة‪ ،‬وتحاول‬ ‫حب‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫أن تفهم الغربة واألقارب والعالم الجديد‪.‬‬ ‫تقول دانييل عربيد (في لقاء خاص‬ ‫بـ «الدوحة»)‪« :‬منذ البداية‪ ،‬اخترت‬ ‫بداية التسعينيات كفترة زمنية ألحداث‬ ‫الفيلم‪ .‬لم أكن راغبة في تحديد الفترة‪،‬‬ ‫سافرت‬ ‫لكن مطلع التسعينيات مقصدي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫إلى فرنسا عام ‪ ،1987‬وأنا أبلغ من‬ ‫العمر ‪ 17‬عاماً‪ .‬ال أريد أن تكون الحبكة‬ ‫«سيرتي الشخصية»‪ .‬ال أريد أن أروي‬ ‫أن‬ ‫سيرتي الباريسية‪ .‬مع هذا‪،‬‬ ‫أشعر ّ‬ ‫ُ‬ ‫تسعينيات تلك الفترة هي مرحلة انتقالية‬ ‫وتحول‬ ‫سلم غير مفهوم‪،‬‬ ‫في لبنان‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫غامض من حرب إلى سلم غير واضح‪،‬‬ ‫إلخ‪ .‬فترة أعيشها في باريس‪ ،‬وأتفّتح‬ ‫أمور كثيرة فيها»‪.‬‬ ‫على ٍ‬ ‫تحبذ العالقة‬ ‫ّ‬ ‫تؤكد دانييل عربيد أنها ِّ‬

‫راغبة‪ ،‬في «باريسية»‪،‬‬ ‫بالوقت‪ .‬تقول إنها‬ ‫ٌ‬ ‫في تصوير الصدمة التي ترافق المرء‬ ‫تحتل‬ ‫لدى وصوله إلى بلٍد‪ .‬صدمة‬ ‫ّ‬ ‫مكان ًا أساسي ًا في ذات المرء‪ ،‬خصوص ًا‬ ‫في األشهر األولى من وصوله‪ ،‬لكنها‬ ‫شدد‬ ‫تختفي فيما بعد «بفعل العادة»‪ُ .‬ت ِّ‬ ‫تتعرف على‬ ‫على أنها‪ ،‬في باريس‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫«لدي‬ ‫الموسيقى‪ ،‬وتتأثّر‬ ‫بأنماط وفرق‪ّ :‬‬ ‫ذاكرة انطباعية جداً‪ .‬أحيان ًا كثيرة‪ ،‬أنسى‬ ‫ما الذي جرى معي قبل أسبوع مثالً‪،‬‬ ‫في»‪ُ .‬تضيف‪:‬‬ ‫لكنّي لن أنسى ما يؤثّر ّ‬ ‫في كثيراً‪ .‬الرسم والفن‬ ‫«الموسيقى تؤثّر ّ‬ ‫والقراءة‪ ،‬لكن الموسيقى أكثر‪ .‬العالقات‬ ‫بالناس أيضاً‪ .‬لذا‪ ،‬أكتب أفالماً‪ .‬مشاهداتي‬ ‫السينمائية تجعلني آخذ انطباع ًا الواعياً‪،‬‬ ‫لكنّي ال أقول‪ ،‬أبداً‪ ،‬إني أريد أن أفعل مثل‬ ‫السينمائي‪ ،‬أو ذاك»‪.‬‬ ‫هذا‬ ‫ّ‬

‫متاهات وخوف‬ ‫في «باريسية»‪ ،‬تروي دانييل عربيد‬ ‫للتعرف‬ ‫شابة ُتسافر إلى باريس‬ ‫قصة ّ‬ ‫ّ‬ ‫على عالم جديد‪« :‬مع هذا الفيلم‪ ،‬أطوي‬ ‫صفحة اهتزاز عالقتي ببيروت‪ ،‬بسبب‬ ‫«بيروت بالليل»‪ .‬شخصية هذا الفيلم تبدو‬ ‫كأنها «تخرج»‪ ،‬عبر لينا في «باريسية»‪،‬‬ ‫ومطباته‪ .‬تفتح عينيها على‬ ‫من واقعها‬ ‫ّ‬ ‫‪135‬‬ ‫‪135‬‬


‫عالم جديد‪ ،‬ولديها إمكانيات جديدة‪ .‬لديها‬ ‫علي العثور على هذا األمل في‬ ‫أمل أيضاً‪ّ .‬‬ ‫مكان ما‪ ،‬فإذا بي أعثر عليه في فرنسا»‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫«قاس»‪.‬‬ ‫لكن عربيد ُتدرك أن واقع فرنسا ٍ‬ ‫تقول‪« :‬لم أشأ فيلم ًا قاسياً‪ ،‬بل فيلم ًا عن‬ ‫قاس‪ .‬في‬ ‫األمل‪ .‬غير معقول أن ّ‬ ‫كل شيء ٍ‬ ‫ال من دون أن‬ ‫تمر ثالثة أشهر مث ً‬ ‫فرنسا‪ّ ،‬‬ ‫تتحّدث مع أحد‪ ،‬لكنك ستعثر على هذا‬ ‫شيء ما»‪.‬‬ ‫وسيتغير فيك‬ ‫الـ «أحد» الحقاً‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫لة‬ ‫تشير عربيد إلى أن‬ ‫ً‬ ‫محم ٌ‬ ‫فكرة كهذه ّ‬ ‫«التعرف إلى أشخاص‬ ‫بـ «األمل»‪ .‬أي‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫غير رئيسيين في الفيلم‪ ،‬مفيٌد للينا‪.‬‬ ‫هناك سالسة في المواقف‪ ،‬وتراكم‪.‬‬ ‫حسنك‪ ،‬أو‬ ‫التعرف إلى شخص ما ُي ِّ‬ ‫ّ‬ ‫شخص‬ ‫كل‬ ‫ربما ُيعيدك إلى الوراء‪ُّ .‬‬ ‫ٍ‬ ‫تتعرف إليه‪ ،‬يضعك في حالة من‬ ‫ّ‬ ‫ال (بفضله)‪،‬‬ ‫اثنتين‪ :‬إما أن تعيش قلي ً‬ ‫ال (بسببه)‪ .‬عنوان الفيلم‬ ‫أو تموت قلي ً‬ ‫مهم ورائع‪« :‬خوف من ال‬ ‫بالفرنسية ٌّ‬ ‫مضطرة أنا لتبديله‬ ‫بالعربية‪،‬‬ ‫شيء»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫‪136‬‬ ‫‪136‬‬

‫ألسباب إنتاجية وتوزيعية»‪ .‬غير أن‬ ‫تعبير «خوف» يستعيد نقاش ًا يحصل‬ ‫مع عربيد بمناسبة «بيروت بالليل»‪ ،‬إذ‬ ‫بجَمٍل‬ ‫قصته ُيمكن أن ُت َ‬ ‫تقول إن ّ‬ ‫ختصر ُ‬ ‫ثالث‪« :‬زها (دارين حمزة) تخاف أن‬ ‫يتخلّى «صديقها» ماتيو (شارل بيرلينغ)‬ ‫غرم بها‪ .‬وهذا‬ ‫عنها‪ ،‬وهو يخاف أن ُي َ‬ ‫كلّه في مدينة ترشح خوف ًا هي أيضاً!‪.‬‬ ‫عباس (فادي أبي سمرا) أشبه بوسيط‬ ‫ّ‬ ‫محفِّز على مستوى العالقة القائمة بين‬ ‫هذين الشخصين والمدينة‪ .‬في الواقع‪،‬‬ ‫حب‪ ،‬بل‬ ‫«بيروت بالليل» ليس ّ‬ ‫قصة ّ‬ ‫قصة خوف»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أما بخصوص منال عيسى‪ ،‬التي‬ ‫تؤدي دور منال‪ ،‬فإن عربيد توضح‬ ‫ّ‬ ‫بداية أن «الدور‪ ،‬في السيناريو‪ ،‬أجرأ»‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬ ‫شغف أكثر‪ .‬بالنسبة‬ ‫تضيف‪« :‬للممثلة‬ ‫مهم جد ًا أن تكون هناك صلة مع‬ ‫إلي‪ٌّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫الممثل‪ ،‬قبل البدء بتنفيذ العمل‪ .‬الدور‬ ‫ـ بشكل عام ـ يقف في منتصف الطريق‬

‫بيني وبين الممثل‪ .‬أحاول أن «أسرق»‬ ‫ّل في‬ ‫من الممثل ما أريد‪ ،‬وما أريده متمث ٌ‬ ‫المسافة الجامعة بين ما أعيشه أنا‪،‬‬ ‫وبين حياة الممثل‪ .‬أتأقلم بدخولي إلى‬ ‫حياة الممثل‪ ،‬وبأن آخذ منه ما أريد‪ .‬لذا‪،‬‬ ‫أتعامل مع ممثل بطريقة مختلفة تمام ًا‬ ‫لكل ممثل‬ ‫عن تعاملي مع ممثل آخر‪ ،‬ألن ّ‬ ‫شخصيته وهواجسه وانفعاالته‪ ،‬وال‬ ‫أستطيع التعامل مع الجميع بالطريقة‬ ‫علي مالحقتها‬ ‫نفسها‪ .‬مع منال عيسى‪ّ ،‬‬ ‫ومطاردتها والضغط عليها‪ .‬تمشي إلى‬ ‫األمام وأنا أمشي وراءها‪ ،‬كأني أركض‬ ‫علي االهتمام‬ ‫خلفها‪ .‬إنها «ماكينة» يجب ّ‬ ‫بها كثيراً‪ ،‬من دون توقّف‪ .‬لذا‪ ،‬وبما‬ ‫أن هناك أناس ًا يتفاعلون معك بهذه‬ ‫الطريقة أو بتلك‪ُ ،‬يصبح الشغل جيد ًا‬ ‫وتدرك عندها أنك «تعيش»‬ ‫ومريحاً‪ُ ،‬‬ ‫حالة ما»‪.‬‬ ‫نقاش مع دانييل عربيد‪ ،‬ال ُبّد‬ ‫كل‬ ‫ُّ‬ ‫ٍ‬ ‫أن يتوقّف عند عالقتها بالممثل‪ .‬تقول‬


‫إن اإلحساس الذي تصفه أعاله «لم‬ ‫يكن موجوداً‪ ،‬بشكل عام‪ ،‬في «بيروت‬ ‫بالليل»‪ .‬هناك تفاعل‪ ،‬لكنه لم يسر‬ ‫صحيح أني «أتشاجر» مع‬ ‫بهذا الشكل‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫منال كثيراً‪ ،‬وأنها تقول لي مرار ًا إنها‬ ‫ال تستطيع أن تفعل هذا أو ذاك‪ .‬لكنها‪،‬‬ ‫في نهاية المطاف‪ ،‬تفعل هذا أو ذاك‪،‬‬ ‫وبشكل رائع أيضاً»‪ .‬تضيف‪« :‬أضع من‬ ‫ذاتي كثير ًا في الممثلين‪ ،‬وفي عالقتي‬ ‫بهم‪ .‬هم يضعون من أنفسهم أيضاً‪ .‬في‬ ‫النهاية‪ ،‬إما أن تبني عالقة صداقة بهم‪،‬‬ ‫كل شيء بينكم‪ .‬عليهم أن‬ ‫أو ينكسر ّ‬ ‫يشعروا بأني أدخل حياتهم‪ ،‬وأكون‬ ‫معهم‪ .‬هم أيض ًا عليهم أن يشعروا باألمر‬ ‫نفسه»‪.‬‬

‫تلصص‬ ‫ّ‬ ‫هناك متعة في االستماع إلى دانييل‬ ‫عربيد‪ ،‬وهي تروي حكايتها مع الممثلين‪.‬‬ ‫تقول إنها ال تختارهم مسبقاً‪ ،‬ألنها‪ ،‬أثناء‬ ‫تخيل شخصياتها‬ ‫الكتابة‪ ،‬ترغب في ّ‬ ‫بعيدًا عنها (الكتابة)‪« :‬ال أريد أن أنحصر‬ ‫ال في أفالم‬ ‫بوجه أحٍد ما موجود أص ً‬ ‫أفكر بالممثلين بعد‬ ‫وقصص أخرى‪ّ .‬‬ ‫االنتهاء من كتابة السيناريو‪ ،‬وإقامة‬ ‫ِ‬ ‫ص َوري العقلية‪ .‬عندما أبدأ‬ ‫الحَداد على ُ‬ ‫الـ «كاستينغ»‪ ،‬أحاول اختيار أشخاص‬ ‫قريبين قدر المستطاع من األدوار‪،‬‬ ‫وخصوص ًا من نظرتي إلى الحياة‪.‬‬ ‫جيد‬ ‫الطريقة األفضل للعثور على ممثل ّ‬ ‫كامنة في االحتكاك به‪ ،‬وفي مراقبته‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫يتكيف‬ ‫ومعاينة مدى قدرته على أن‬ ‫ّ‬ ‫مع الشخصية‪ ،‬ومعرفة أين ُيمكن لهذه‬ ‫الشخصية أن تكون في حياته‪ ،‬وإلى أي‬ ‫إلي‪،‬‬ ‫مدى ُيمكنه الذهاب بها‪ .‬بالنسبة ّ‬ ‫العمل مع ممثل يعني محاولة اكتشاف‬ ‫«عيبه»‪ ،‬وأخذه إلى أبعد حّد ممكن في‬ ‫جنونه‪ .‬البعض يوافق على هذه الطريقة‪،‬‬ ‫والبعض اآلخر يرفضها»‪ .‬تقول أيضاً‪،‬‬ ‫في المجال نفسه‪« :‬في أفالمي السابقة‪،‬‬ ‫كل من مريان فغالي (معارك‬ ‫يؤسس ٌّ‬ ‫ّ‬ ‫حب) وملفيل بوبو وألكسندر صّديق‬ ‫ّ‬ ‫(رجل ضائع) هذا الميل إلى المخاطرة‪.‬‬ ‫يتبعونني «على غير هدى»‪ .‬ممثلون‬

‫آخرون‪ ،‬كفادي أبي سمرا وتقال شمعون‪،‬‬ ‫وحتى رودني الحداد الذي التقيته في‬ ‫«بيروت بالليل»‪ ،‬لديهم هذه الجرأة‪ .‬ال‬ ‫يطلبون شيئ ًا آخر إ ّال هذا‪ .‬يثقون بي‬ ‫مقتنعة أنا بقدراتهم‬ ‫عفوياً‪ .‬من جهتي‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫الكبيرة‪ ،‬وأريد ُمقابلتهم بالمثل»‪.‬‬ ‫بالعودة‪ ،‬ولو قليالً‪ ،‬إلى «باريسية»‪،‬‬ ‫التنبه إلى مسألة أساسية‪:‬‬ ‫ُيمكن‬ ‫ّ‬ ‫انفضاض مشاهدين لبنانيين عديدين‬ ‫عنه‪ ،‬ربما ألنهم يرفضون مشاهدة‬ ‫أنفسهم‪« ،‬على حقيقتها»‪ ،‬على الشاشة‬ ‫«يظهِر الفيلم كيف يعيش‬ ‫الكبيرة‪ُ :‬‬ ‫الناس‪ .‬هناك واقع‪ .‬هناك صدق في‬ ‫أتمكن من أن ُأظهر‪،‬‬ ‫تقديم األشياء‪ ،‬كي ّ‬ ‫بدقّة أكثر‪ ،‬كيف تكون حياة شخص‬ ‫صحيح أن‬ ‫ُيهاجر إلى مدينة أخرى‪.‬‬ ‫ٌ‬

‫في الفيلم أشياء من حياتي‪ ،‬لكنه ليس‬ ‫«سيرتي» كما أخبرتك سابقاً»‪.‬‬ ‫مشروع جديد‬ ‫في النهاية‪ ،‬هل هناك‬ ‫ٌ‬ ‫في األفق؟ تجيب دانييل عربيد إنها تستعّد‬ ‫للبدء بتصوير فيلم آخر‪ ،‬مقتبس عن‬ ‫رواية «شغف متواضع» (‪ )1992‬للروائية‬ ‫الفرنسية آني آرنو‪ .‬تقول إن منتج ًا يملك‬ ‫حقوقه‪ ،‬ما يدفعها إلى كتابة السيناريو‪،‬‬ ‫الذي ُيتوقّع البدء بتحقيقه نهاية صيف‬ ‫حب عاصف بين‬ ‫العام ‪ّ :2016‬‬ ‫«قصة ّ‬ ‫امرأة (‪ 40‬عاماً) ورجل يعمل في السفارة‬ ‫الروسية في باريس‪ .‬ال عالقة للمشروع‬ ‫حبها‬ ‫هذا بلبنان‪ .‬آرنو تعرف أفالمي ُ‬ ‫وت ّ‬ ‫كثيراً‪ ،‬وأنا مرتاحة إلى روايتها هذه‪،‬‬ ‫وراغبة في جعلها فيلم ًا لي‪ ،‬يكون مختلف ًا‬ ‫ٌ‬ ‫األقل»‪.‬‬ ‫عن سابقه‪ ،‬على ّ‬ ‫‪137‬‬ ‫‪137‬‬


‫أعاد فيلم «جعفر نميري ‪ -‬سودان مايو»‪ ،‬الذي عرضته قناة «الجزيرة الوثائقية»‪ ،‬الذاكرة إلى‬ ‫ٍ‬ ‫عايشــة للتاريخ عبر الشاشــة الصغيرة؛ شهادات وشــهود‪ ،‬وأحداث جاءت في‬ ‫الوراء‪ ،‬في ُم‬ ‫يزال‪ ،‬إلى اليوم‪،‬‬ ‫تغيرات جذرية‪ ،‬في نهاية ستينيات القرن الماضي‪ ،‬وما ُ‬ ‫سياق عربي شهد ُّ‬ ‫نفسه»‪،‬‬ ‫يعيد‬ ‫يستنسخ نفس السيناريو‪ ،‬كأنما قصة الفيلم‪ ،‬علّقت الجرس‪ ،‬لتقول لمشاهديها‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫«التاريخ ُ‬ ‫فهل من مستمع؟‪.‬‬

‫«سودان مايو»‪..‬‬

‫ُمعايشة التاريخ يف صورة ناطقة‬ ‫محمد محمود البشتاوي‬ ‫يسير الفيلم الوثائقي الذي يتناول‬ ‫ٍ‬ ‫وعرة‪،‬‬ ‫دروب‬ ‫تاريخياً‪ ،‬في‬ ‫موضوع ًا‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫مليئة باإلشكاليات‪ ،‬والجدل‪ ،‬فهو إلى‬ ‫يجدر به تحقيق‬ ‫جانب كونه فيلم ًا وثائقياً‪ُ ،‬‬ ‫متعة الصناعة البصرية‪ ،‬ومعالجتها ضمن‬ ‫سياقات َفنّية‪ ،‬وسينمائية‪ ،‬فإنه على‬ ‫الضفة األخرى‪ ،‬يقّد ُم التاريخ ضمن ٍ‬ ‫سرد‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫نظر‪ ،‬أو وجهات‬ ‫أو‬ ‫سرود‪ ،‬تحمل وجهة ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫متعددة‪ ،‬متوافقة‪ ،‬أو متناقضة‪ ،‬حول‬ ‫ٍ‬ ‫نظر ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫تكمن في ذاكرة المشاهد‪،‬‬ ‫‪،‬‬ ‫أحداث‬ ‫أو‬ ‫‪،‬‬ ‫حدث‬ ‫ُ‬ ‫‪138‬‬ ‫‪138‬‬

‫تسرب إلى وعيه من‬ ‫ّ‬ ‫تشكلت في حدود ما َّ‬ ‫عايشه في الواقع‪ ،‬أو ما‬ ‫ما‬ ‫أو‬ ‫معلومات‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫تتشكل تلك‬ ‫استقاه من معارف‪ ،‬وربما‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫مجتمعة‪.‬‬ ‫الذاكرة من المحّددات السابقة‬ ‫ً‬ ‫والعودة بها إلى‬ ‫إنعاش الذاكرة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫تدفع المتلقي إلى مساجلة الفيلم‪،‬‬ ‫الوراء‪ُ ،‬‬ ‫ويدخل في هذا النطاق؛‬ ‫وصنّاعه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫المؤرخون‪ ،‬والسياسيون‪ ،‬والعاملون في‬ ‫وتخصصه‪ ،‬ورؤيته‪.‬‬ ‫كل‬ ‫اإلعالم؛ ٌّ‬ ‫ّ‬ ‫حول‬ ‫كفن‬ ‫‪،‬‬ ‫الوثائقي‬ ‫الفيلم‬ ‫بين‬ ‫وما‬ ‫ٍّ ّ‬ ‫ّ‬

‫بصري‪/‬‬ ‫المادة التاريخية إلى محتوى‬ ‫ٍّ‬ ‫التورط في التأريخ‪،‬‬ ‫تع‪ ،‬دون‬ ‫سمعي ُمْم ٍ‬ ‫ُّ‬ ‫ٍّ‬ ‫الممتلئ باألحداث‪ ،‬وما‬ ‫التاريخ‪،‬‬ ‫وبين‬ ‫ْ‬ ‫يتصل بها من شخصيات‪ ،‬وجغرافيا‪،‬‬ ‫كبير حول كيفية‬ ‫تحد ٍ‬ ‫وإشكاليات‪ ،‬ثمة ٍّ‬ ‫المعالجة‪ ،‬التي من المفترض أن تجمع ما‬ ‫الفنية‪ ،‬والتحريرية؟‪.‬‬ ‫بين الناحيتين ّ‬ ‫فجوة‬ ‫تحدث‬ ‫في بعض األفالم الوثائقية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫بين الناحيتين‪ ،‬من حيث العجز عن معالجة‬ ‫المحتوى التاريخي (الجانب التحريري)‪،‬‬


‫لقطة من فيلم «سودان مايو»‬

‫ٍ‬ ‫رتابة‪،‬‬ ‫ضمن قالب َفنّي مرن؛ فنكون أمام‬ ‫وجمود‪ ،‬وثقل في سرد المعلومات‪،‬‬ ‫ألسباب ِعّدة‪،‬‬ ‫وعرضها‪ ،‬وفي معالجتها‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ربما من أهمها ذهاب المخرج للعب دور‬ ‫تأريخياً‪ ،‬وليس‬ ‫يقدم سردًا‬ ‫المؤرخ‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫فتجده ُ‬ ‫وثمة من‬ ‫تاريخية‪،‬‬ ‫لمسألة‬ ‫ً‪،‬‬ ‫ا‬ ‫ّي‬ ‫ن‬ ‫ف‬ ‫ا‬ ‫عرض‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يقع في مأزق العرض ضمن اتجاه واحد‪،‬‬ ‫يعرض‬ ‫موجه‪ ،‬دعائي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فنكون أمام فيلم ّ‬ ‫شحنة عالية من‬ ‫تحمل‬ ‫مبتورة‪،‬‬ ‫رواية‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫البروباغندا‪.‬‬ ‫وهنالك من يقّد ُم فيلم ًا وثائقياً‪ ،‬ربما‬ ‫تكون أدواته اإلخراجية‪ ،‬ومعالجته‬ ‫الفنّية‪ ،‬جيدة‪ّ ،‬إل أن المخرج رغم ذلك‪،‬‬ ‫َ‬ ‫أخفق في معالجة المحتوى‪ ،‬فيصبح الفيلم‬ ‫دون مستوى الحدث التاريخي‪ ،‬الذي من‬ ‫بشكل ٍ‬ ‫المفترض اإللمام به‪ ،‬ومعالجته ٍ‬ ‫واف‪.‬‬ ‫ّب الفيلم الوثائقي التاريخي‪ ،‬عملية‬ ‫يتطل ُ‬ ‫ٍ‬ ‫وإعداد ُم ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ضنية‪ ،‬داخل ِعّدة مصادر؛‬ ‫بحث‬ ‫ومصورة‪ ،‬ووثائق‬ ‫مكتوبة‪ ،‬وشفهية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ومنشورات أخرى‪ ،‬عالوة‬ ‫صحف‪،‬‬ ‫من‬ ‫على جمع ما أمكن من األرشيف البصري‬ ‫‪ /‬السمعي‪ ،‬وقد يصل األمر إلى البحث في‬ ‫المقتنيات‪ ،‬واقتفاء أثر السجالت‪ ،‬وما‬ ‫دونته من أسماء وأرقام‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وبعد أن تصبح المادة البحثية شاملة‬ ‫ووافية‪ ،‬تأخُذ طريقها نحو المرحلة األكثر‬ ‫تعقيداً‪ ،‬وإرباكاً‪ ،‬لدى فريق العمل‪ ،‬إذ يكون‬ ‫الكّم‬ ‫يمكن معالجة هذا َ‬ ‫السؤال المركزي‪ :‬كيف ُ‬ ‫وفره من معلومات‪،‬‬ ‫الهائل من البحث‪ ،‬وما ُ‬ ‫كشفه من تفاصيل قد تكون غائبة عن‬ ‫وما‬ ‫ُ‬ ‫المشاهد‪ ،‬في صورة ناطقة (قالب بصري‬

‫سمعي)‪ ،‬على أن تشهد مجمل العمليات في‬ ‫النهاية والدة «فيلم وثائقي»؟‪.‬‬ ‫في الفيلم التسجيلي‪ ،‬الوثائقي‪ ،‬الذي‬ ‫عاش‪ ،‬فإن عملية البحث‬ ‫واقع ُم ٍ‬ ‫يقتفي أثر ٍ‬ ‫تكون في حدود الحدث الحي‪ ،‬تتقصى‬ ‫ُ‬ ‫قائمة‪ ،‬وقد‬ ‫حياة‬ ‫وتتبع‬ ‫العيان‪،‬‬ ‫شهود‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫يكون اللجوء فيها إلى األرشيف‪ ،‬أمرًا غير‬ ‫يوفره من مادة‬ ‫مستحب؛ فالواقع‪ ،‬وما‬ ‫ُ‬ ‫تكفي‪ ،‬ورصد الكاميرا للبيئة المعاشة‪..‬‬ ‫ُتغني عملية اإلنتاج‪ ،‬وربما يكون الرجوع‬ ‫إلى األرشيف‪ ،‬في بعض األحيان‪،‬‬ ‫محد ٍ‬ ‫دة‪ ،‬في نطاق‬ ‫استثنائياً‪ ،‬وألسباب َّ‬ ‫ٍ‬ ‫الزمة‪.‬‬ ‫معالجة َفنّية‪ ،‬أو تحريرية‬

‫وجهات نظر‬ ‫ثمة شخصيات مثيرة للجدل في سيرتها‬ ‫ّ‬ ‫صنّاع األفالم للخوض‬ ‫غري‬ ‫ت‬ ‫ومسيرتها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫في تاريخهم‪ ،‬ونميري الرئيس الخامس‬ ‫لكون‬ ‫يم ُ‬ ‫للسودان‪ ،‬واحد من أولئك الذين ْ‬ ‫غني‪ ،‬نظرًا إلى ما‬ ‫طابع‬ ‫حضورًا ذا ٍ‬ ‫درامي ٍّ‬ ‫ٍّ‬ ‫أحدثه في السودان من انقسام وصراع‪ ،‬ما‬ ‫ُ‬ ‫قائمة إلى اليوم‪.‬‬ ‫آثاره‬ ‫تزال‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُيسجل للفيلم الذي أخرجه الُثنائي بشار‬ ‫حمدان‪ ،‬وإيهاب خمايسة‪ ،‬أنه لم يقّدم في‬ ‫عرضه‪ ،‬مؤرخين كضيوف لتأريخ فترة‬ ‫حكم الرئيس السوداني األسبق‪ ،‬وإنما‬ ‫صنّاع تلك الفترة التاريخية‪ ،‬وشهود‬ ‫ُ‬ ‫مر بالسودان من أزمات‪،‬‬ ‫ما‬ ‫عاينوا‬ ‫ّ‬ ‫وتحوالت‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫عرضته «الجزيرة‬ ‫الذي‬ ‫الفيلم‬ ‫وفي‬ ‫ُ‬

‫الوثائقية»‪ ،‬كان اإلمساك بالرئيس‬ ‫السوداني األسبق‪ ،‬أمرًا صعباً؛ فهو‬ ‫فجر الثورة التنموية في السودان‪،‬‬ ‫ُم ِّ‬ ‫له‬ ‫خصومه‬ ‫نعت‬ ‫مقابل‬ ‫أنصاره‪،‬‬ ‫بحسب‬ ‫ُ‬ ‫عرف‬ ‫بـ «السفاح‪ ،‬والديكتاتور»‪ ،‬كما ال ُي ُ‬ ‫توج ٌه واضح طوال فترة حكمه‪،‬‬ ‫للنميري ّ‬ ‫فهو ناصري‪ ،‬وشيوعي‪ ،‬وصوفي‪،‬‬ ‫المتقلب بين‬ ‫وإسالمي‪ ،‬ووطني‪ ،‬وهو‬ ‫ُ‬ ‫هذه التيارات‪ ،‬وفق ما تقتضيه مصالحه‬ ‫في الحكم‪ ،‬وفي ذلك رأى زعيم حزب األمة‬ ‫الصادق المهدي‪ ،‬في شهادته خالل الفيلم أن‬ ‫«نظام نميري رفع شعارات اشتراكية وال‬ ‫علم له باالشتراكية‪ ،‬ورفع شعارًا إسالمياً‪،‬‬ ‫وأنا برأيي لم تكن لديه فكرة حول ما معنى‬ ‫هذا الشعار؟»‪.‬‬ ‫سرد الضيوف جاء ضمن «وجهات‬ ‫مبرراتها‪ ،‬فإن‬ ‫نظر»‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وجهة ٍ‬ ‫ولكل ْ‬ ‫نظر ّ‬ ‫طرحه الفيلم‪« :‬لماذا‬ ‫ما‬ ‫سياق‬ ‫في‬ ‫تساءلنا‬ ‫ُ‬ ‫قامت الثورة ضّد نميري؟»‪ ،‬لتعّددت اآلراء‬ ‫بين من قال‪ :‬إن «ثورة ‪ 25‬مايو» استهلكت‪،‬‬ ‫يقابله رأي‬ ‫تقديم جديد‪،‬‬ ‫ولم يعد بإمكانها‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫آخر يتحّد ُث عن ترحيل يهود الفالشا من‬ ‫إفريقيا عبر السودان إلى «إسرائيل»‪ ،‬بينما‬ ‫يؤكد آخرون أن ما حدث انقالب ًا على الحكم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فسر األمر بتراكمات أفرزت الثورة‬ ‫من‬ ‫وثمة‬ ‫ّ‬ ‫الشعبية‪ ،‬وهنالك من أرجع ِ‬ ‫العلّة إلى إعدام‬ ‫مؤسس الفكرة الجمهورية محمود محمد طه‬ ‫ّ‬ ‫على يد نظام الحكم‪ ،‬وحتى نميري نفسه لم‬ ‫يستثنه الفيلم‪ ،‬فعرض وجهة نظره؛ إذ أنكر‬ ‫الواقع‪ ،‬وعاد إلى الخرطوم‪ ،‬من زيارته‬ ‫للقاهرة‪ ،‬كي يحاكم سوار الذهب الذي قاد‬ ‫‪139‬‬ ‫‪139‬‬


‫االنقالب! فعاد إلى بيته بـ «خفي حنين»‪.‬‬ ‫المساجلة‪ ،‬وعدم التوافق على رأي‬ ‫واحد‪ ،‬هو ما عبر عنهما السينمائي‪ ،‬والكاتب‬ ‫الفرنسي‪ ،‬جان كوكتو‪ ،‬عندما قال‪« :‬الفيلم‬ ‫السينمائي هو الخروج من الصالة شرط‬ ‫عدم االتفاق على رأي واحد للفيلم الذي‬ ‫ض للتو»‪ ،‬والخالف الذي في «سودان‬ ‫ُعِر َ‬ ‫مايو»‪ ،‬لم يكن ما بعد العرض‪ ،‬وإنما خالل‬ ‫شهادات الضيوف‪ ،‬التي مثّلت وجهات نظر‬ ‫متقابلة‪ ،‬ومتعارضة في بعض األحيان‪.‬‬

‫المعايشة عبر األرشيف‬ ‫يفتتح المخرج فيلمه بلقطات أرشيفية‪،‬‬ ‫ركز خاللها‬ ‫تظهر قصاصات صحافية‪ُ ،‬ت ّ‬ ‫ُ‬ ‫الكاميرا على عنوان من ثالث كلمات‪:‬‬ ‫عرض بعد‬ ‫«القصة الكاملة للثورة»‪ ،‬ثم ُت َ‬ ‫ذلك قصاصات لكلمات أخرى‪ ،‬وهي «كلمة‬ ‫السر»‪ ،‬و«النصر لنا»‪ ،‬وهو توظيف موفّق‬ ‫يوحي بأن الفيلم سيعرض القصة الكاملة‪،‬‬ ‫س التشويق واإلثارة لدى‬ ‫كما ُيحفّز ِح ّ‬ ‫المتلقّي لمتابعة الفيلم‪.‬‬ ‫لتدريب‬ ‫ينتقل العرض بعد ذلك إلى مشهٍد‬ ‫ٍ‬ ‫وثمة‬ ‫ظهر جنودًا يهرولون‪ّ ،‬‬ ‫عسكري‪ُ ،‬ي ُ‬ ‫هويته‪ُ ،‬يعطي اإلشارة لهم‪،‬‬ ‫تظهر‬ ‫ُ‬ ‫جندي ال ُ‬ ‫‪140‬‬ ‫‪140‬‬

‫ٍ‬ ‫طاولة‬ ‫نشاهد ثالثة ضباط يلتفون حول‬ ‫ثم‬ ‫ُ‬ ‫صغيرة‪ ،‬ويبدو من خالل ما يقومون به‪،‬‬ ‫خطط ًا يتم التحضير‬ ‫باإليحاء‪ ،‬أن هنالك ُم َّ‬ ‫له‪ ،‬وينتهي بعد ذلك هذا التمهيد بتسجيل‬ ‫صوتي للعقيد جعفر محمد نميري‪ ،‬الذي‬ ‫يخاطب الشعب السوداني‪ ،‬معلن ًا البيان‬ ‫األول لثورة ‪ 25‬مايو‪.‬‬ ‫يقّد ُم الفيلم للمشاهد فرصة معايشة‬ ‫غني‪،‬‬ ‫فترة نميري‪ ،‬عبر عرضه ألرشيف ٍّ‬ ‫أغلبه من الفيديو‪ ،‬وشمل تسجيالت‬ ‫جاء‬ ‫ُ‬ ‫صوتية‪ ،‬وصورًا فوتوغرافية‪ ،‬ومقتطفات‬ ‫من الصحف السودانية الصادرة آنذاك‪ ،‬في‬ ‫ٍ‬ ‫توظيف تالزم طوال العرض‪ ،‬وأسهم في‬ ‫صناعة نشوة الصورة‪ ،‬األمر الذي من شأنه‬ ‫أن يرفع من إمكانية التفاعل لدى المتلقّي‪،‬‬ ‫ويخرجه من حالة الشعور بالملل‪ ،‬ليكسر‬ ‫بتنوٍع مازج بين‬ ‫بذلك الفضاء البصري‪ّ ،‬‬ ‫بتعدده‪ ،‬بل‬ ‫واألرشيف‬ ‫المصورة‪،‬‬ ‫المقابالت‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫لم يقتصر الفضاء البصري على ذلك‪ ،‬وإنما‬ ‫ليصور بعض جغرافيا السودان‪ ،‬وما‬ ‫امتد‬ ‫ّ‬ ‫تتضمنه من جماليات طبيعية‪ ،‬عالوة على‬ ‫ٍ‬ ‫مشاهد ٍ‬ ‫شعبية‪ ،‬وأهازيج‪،‬‬ ‫حية لرقصات‬ ‫وغناء‪ ،‬ومقطوعات موسيقية تراثية‪.‬‬ ‫تنوعت‪،‬‬ ‫الموسيقى التصويرية للفيلم ّ‬ ‫حزينة عند قصف‬ ‫وذلك تبع ًا للمشهد؛‬ ‫ً‬

‫الجيش لجزيرة آبا السودانية‪ ،‬لتصفية‬ ‫وأنصاره‪،‬‬ ‫الهادي عبد الرحمن المهدي‬ ‫ُ‬ ‫نسمع‬ ‫الصوفية‪،‬‬ ‫يتقرب نميري إلى‬ ‫وحين ّ‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ومقطوعات صوفية‪ ،‬وعند‬ ‫صدى ألناشيد‬ ‫ً‬ ‫نسمع أغاني‬ ‫مايو»‪،‬‬ ‫ر‬ ‫فج‬ ‫«م‬ ‫د‬ ‫ض‬ ‫الثورة‬ ‫قيام‬ ‫ّ‬ ‫ُ ِّ‬ ‫ُ‬ ‫وألحان ًا ثورية‪ ،‬وهكذا‪ ،..‬ترجمت الموسيقى‬ ‫سماعياً‪،‬‬ ‫التصويرية للفيلم المشهد البصري‬ ‫ّ‬ ‫لتضاعف من حجم التفاعل‪.‬‬

‫ال رأي‪ ..‬ال تعليق‬ ‫من المآخذ على الفيلم الوثائقي الذي‬ ‫يستعرض موضوع ًا تاريخياً‪ ،‬لجوء‬ ‫ُ‬ ‫زج رأيه في العمل‪ ،‬عبر اعتماد‬ ‫إلى‬ ‫المخرج‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫معلومة‪ ،‬أو لتسليط‬ ‫التعليق‪ ،‬لتمرير‬ ‫الضوء على نقطة بعينها‪ ،‬وهو األمر الذي‬ ‫المخرج في «سودان مايو»؛ إذ إن‬ ‫تجن ُ‬ ‫ّبه ُ‬ ‫ٍ‬ ‫تمت مع شخصيات وازنة‪،‬‬ ‫المقابالت التي ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫وشاهدة‬ ‫وصانعة لألحداث‪،‬‬ ‫ومؤثرة‪،‬‬ ‫عليها‪ ،‬مثلت مختلف األطراف‪ ،‬وما ُجمع‬ ‫ٍ‬ ‫غني‪ ،‬وما ُقّدم من مقتطفات‬ ‫من أرشيف ٍّ‬ ‫صحافية‪ ،‬يكفي لرسم صورة متكاملة حول‬ ‫شهده‬ ‫نميري‪ ،‬وفترة حكمه‪ ،‬والصراع الذي‬ ‫ُ‬ ‫السودان حول الحكم والسلطة‪.‬‬


‫ُص ِن َع يف فرنسا !‬ ‫أمجد جامل‬

‫تحول الدعم السينمائي إلى ورطة؟‬ ‫هل ّ‬ ‫وهل السينما المغربية ستكون مهيضة‬ ‫الجناح بدونه؟ هذا هو السؤال الذي يرخي‬ ‫دائم ًا بظالله الكثيفة على المشتغلين بقطاع‬ ‫السينما كلما اقترب موعد المهرجان الوطني‬ ‫تبين أن هذا الفيلم أو ذاك ال‬ ‫للفيلم‪ ،‬وكلما َّ‬ ‫يحمل معه سوى التخريب السينمائي‪ .‬ذلك‬ ‫يؤجج غابة من األسئلة‬ ‫أن السؤال الذي ِّ‬ ‫يظل هو‪ :‬هل صندوق الدعم يدعم السينما‬ ‫ّ‬ ‫أم يساهم في «اإلغناء غير المشروع»‬ ‫لسينمائيين يهتبلون الفرصة إلنتاج أفالم‬ ‫متعبة وتعاني من داء المفاصل الحاد‬ ‫والمزمن؟ هل الصندوق يقف مع الجودة‬ ‫أم يتمترس ضدها؟‬ ‫لقد تم إحداث صندوق دعم اإلنتاج‬ ‫السينمائي الوطني سنة ‪ ،1980‬وكانت‬ ‫الغاية هي تشجيع إنتاج األفالم الوطنية‪،‬‬ ‫غير أن التجربة أبانت سريع ًا أن النتائج‬ ‫ترق إلى مستوى األهداف‬ ‫المحقّقة لم َ‬ ‫المتوخاة‪ ،‬وأن أزمة اإلنتاج التي كان من‬ ‫المفترض أن تخفّف من حّدتها مبالغ الدعم‬ ‫تحولت إلى أزمة إبداع‪ ،‬بل أزمة رؤية‬ ‫ّ‬ ‫وضعف على مستوى اللّغة السينمائية‪.‬‬ ‫ولتمكين الصندوق من القيام بدور أفضل‬ ‫في تنمية اإلنتاج السينمائي الوطني‪،‬‬ ‫التطور الذي تعرفه السينما‬ ‫وجعله يواكب‬ ‫ُّ‬ ‫على الصعيد الدولي‪ ،‬تمت إعادة النظر‬ ‫ِمرارًا في النصوص القانونية المنظمة‬ ‫لهذا الصندوق بهدف جعل هياكله وموارده‬ ‫المالية في مستوى طموحات المهنة‪ ،‬وفي‬ ‫مستوى طموحات السينمائيين‪ ،‬حيث تمت‬ ‫مراجعة الصندوق سنة ‪ ،1987‬ثم وقع‬ ‫تعديل في السياسة عام ‪ ،2004‬ثم جاء‬ ‫تعديل سنة ‪ 2012‬الذي حّدد أهدافه في ما‬

‫يلي‪:‬‬ ‫ دعم اإلنتاج السينمائي الوطني ورفع‬‫جودته وترويجه وتنمية اإلنتاج المشترك‬ ‫الدولي‪.‬‬ ‫ تطوير بنيات الصناعة السينمائية‬‫واستعمال التقنيات الحديثة الرقمية‪.‬‬ ‫حرّية اإلبداع واالنفتاح على‬ ‫ تشجيع ّ‬‫العالم والتجارب اإلنسانية وصيانة تعّددية‬ ‫تيارات الفكر والرأي‪.‬‬ ‫الهوية‬ ‫ تثمين مكونات ومقومات‬‫ّ‬ ‫المغربية وتعزيز إشعاع حضارة وثقافة‬ ‫وتاريخ المغرب‪.‬‬ ‫ تمكين وتقوية التعبير الثّقافية‬‫الجهوية والمحلية على مستوى اإلبداع‬ ‫التنوع الجهوي والمجالي‬ ‫السينمائي وإبراز ُّ‬ ‫الجغرافي وتقوية االشتغال على قضايا‬ ‫المجتمع‪.‬‬ ‫ تشجيع اإلبداع السينمائي للشباب‬‫وتوفير شروط ترويجه ودعمه‪.‬‬ ‫تقرر إحداث ثالث لجان‬ ‫ولهذا الغرض ّ‬ ‫تجتمع بالمركز السينمائي المغربي‪ ،‬تتولى‬ ‫دراسة وانتقاء األعمال والملفات والمشاريع‬ ‫المرشحة للدعم‪ ،‬وتحّدد مستويات اإلعانات‬ ‫المالية وقائمة األشغال والتوريدات‬

‫والمعايير التقنية للتقديرات المالية‪،‬‬ ‫وتتكون هذه اللجان‬ ‫وفق دفاتر تحمالت‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الثالث من شخصيات تنتمي إلى عالم‬ ‫الفّن والثّقافة والتربية والسينما والقطاع‬ ‫َ‬ ‫السمعي البصري‪ ،‬باإلضافة إلى ممثلين عن‬ ‫وزارات االتصال‪ ،‬والمالية والثّقافة والمركز‬ ‫كل لجنة‬ ‫السينمائي‪ ،‬على ّأل يتجاوز عدد ّ‬ ‫بناء على‬ ‫‪ 12‬عضواً‪ ،‬يعينهم وزير االتصال ً‬ ‫اقتراح المركز السينمائي واستشارة الغرف‬ ‫المهنية في ميدان السينما‪ ،‬وذلك لمدة‬ ‫عامين قابلة للتمديد سنة إضافية واحدة‪.‬‬ ‫تمنح تعويضات جزافية عن األتعاب‬ ‫تخصص مصاريف‬ ‫ألعضاء هذه اللجان‪ ،‬كما ّ‬ ‫لتسيير أعمالها‪ .‬وإذا كان المهتمون بالسينما‬ ‫يتفقون على أن سياسة دعم الدولة لإلنتاج‬ ‫السينمائي خالل الثمانينيات والتسعينيات‪،‬‬ ‫خلقت دينامية داخل الحقل السينمائي‪ ،‬مما‬ ‫نتج عنه إنعاش القطاع السينمائي ورفع‬ ‫ال عن تصالح‬ ‫مستوى إنتاج األفالم‪ ،‬فض ً‬ ‫الجمهور مع سينماه على نحو غير مسبوق‪،‬‬ ‫فإن نور الدين الصايل المدير السابق للمركز‬ ‫السينمائي المغربي يرى أن «تصوير األفالم‬ ‫المدعومة هو الفرصة الوحيدة التي ُتفتح‬ ‫والتمكن من‬ ‫الفّن‬ ‫ُّ‬ ‫أمام الشباب لتعلُّم هذا َ‬ ‫أدواته الصناعية واإللكترونية‪ ،‬وأن‬ ‫االنتظام في اإلنتاج يساعد المخرجين‬ ‫التمرس المستمر‪ ،‬مما يخلق تراكم ًا‬ ‫على‬ ‫ُّ‬ ‫كمي ًا ينتج عنه ال محالة تراكم نوعي يشبع‬ ‫ّ‬ ‫ويؤسس لسينما متعّددة»‪.‬‬ ‫أذواق الجمهور‬ ‫ِّ‬ ‫الم َع َّبر عنه‪ ،‬فهل حققنا‬ ‫هذا هو الطموح ُ‬ ‫االرتفاع المأمول لهذه السينما؟ وهل تمكننا‬ ‫من تحقيق سينما منافسة على المستوى‬ ‫الدولي‪ ،‬وذات خصوصية ثقافية وجمالية؟‬ ‫وما فائدة الدعم نفسه إذا لم يكن الكثير‬ ‫‪141‬‬ ‫‪141‬‬


‫صِن َع في فرنسا !‬ ‫ُ‬

‫من األفالم المدعومة يصمد في القاعات‬ ‫السينمائية ألكثر من أسبوع؟ وما فائدة‬ ‫الدعم إذا لم تجد تلك األفالم قاعات للعرض‬ ‫لتحقيق اللقاء مع الجمهور العريض؟‬ ‫يعتبر العديد من المهتمين بالقطاع أن‬ ‫الدعم السينمائي سالح ذو حّدين‪ ،‬فهو‬ ‫بمثابة أنبوبة أوكسجين إلبقاء السينما‬ ‫المغربية على قيد الهواء‪ ،‬وهو كيس الدم‬ ‫الذي يضمن استمرارها‪ ،‬لكن مع ذلك‬ ‫يتعامل معه بعض السينمائيين كخبز‬ ‫اإلعاشة‪ ،‬فيجاهدون من أجل االقتطاع‬ ‫منه لشراء الشقة والسيارة وتأمين العيش‪.‬‬ ‫وهذا هو الخطير في األمر‪ .‬ذلك أن ماليين‬ ‫الدعم هي في العمق ليست على ما تبدو‬ ‫عليه‪ ،‬والسبب يعود إلى أن تمويل عمل‬ ‫سينمائي يحتاج إلى مبالغ كبيرة‪ .‬ومع‬ ‫ذلك فإن سينمائيين معروفين‪ ،‬وسبق‬ ‫لهم أن حققوا سمعة طيبة في اإلخراج‬ ‫السينمائي‪ ،‬ثبت في حقهم «اإلثراء غير‬ ‫المشروع»‪ ،‬ولذلك فالمطلوب هو محاربة‬ ‫الريع السينمائي الذي يتيح إغناء البعض‬ ‫وتفقير البعض اآلخر‪ ،‬كما ينبغي اللجوء‬ ‫إلى القضاء عندما يثبت عدم احترام معايير‬ ‫الشفافية‪ ،‬وعندما يرفض المستفيدون من‬ ‫الدعم إرجاع المبالغ المستولى عليها‪.‬‬ ‫صحيح أن ليس بوسع الدعم الذي‬ ‫يقّدمه المركز السينمائي أن يغطي تكاليف‬ ‫فيلم متوسط الكلفة على ِغرار تلك األفالم‬ ‫التي تنتجها فرنسا أو إسبانيا‪ ،‬على سبيل‬ ‫‪142‬‬ ‫‪142‬‬

‫المثال‪ .‬لكن مع ذلك‪ ،‬يمثل الدعم‪ ،‬في الحالة‬ ‫يتشبث به أغلب‬ ‫المغربية‪ ،‬طوق النجاة الذي ّ‬ ‫المخرجين الذين ال يراهنون على القاعات‬ ‫السينمائية الكاسدة التي تعتبر‪ ،‬عادة‪،‬‬ ‫هي المصدر الوحيد تقريب ًا الستعادة ما‬ ‫صِر َف من أموال‪ ،‬باستثناء بعض المداخيل‬ ‫ُ‬ ‫المالية المتواضعة‪ ،‬التي تدفعها جمعيات‬ ‫وجماعات سينمائية أجنبية لمنتجين‬ ‫ومخرجين مغاربة‪ ،‬ألجل تشجيع السينما‬ ‫المغربية للوقوف على رجليها‪ ،‬وسط مّد‬ ‫ال ُيقاوم من األفالم القادمة من الخارج‪،‬‬ ‫وخاصة أفالم هوليوود وبوليوود‪.‬‬ ‫إن األساس من الدعم ليس هو تشجيع‬ ‫«صائدي المكافآت»‪ ،‬بل أساس ًا فسح‬ ‫المجال أمام المبدعين المستحقين للدعم‬ ‫األقل‬ ‫من أجل تحقيق مشاريعهم‪ ،‬أو على ّ‬ ‫المساهمة في ذلك‪ .‬فبعد ‪ 36‬سنة على‬ ‫نؤسس‬ ‫إنشاء صندوق الدعم‪ ،‬ما زلنا لم ّ‬ ‫لسينما مغربية ذات خصوصية‪ ،‬وما زال‬ ‫المتردد هو سيد الموقف‪ ،‬وما‬ ‫«التجريب»‬ ‫ّ‬ ‫زال بعض الدخالء يقتحمون عن عمد وسبق‬ ‫إصرار هذا القطاع‪ ،‬فيستبسلون من أجل‬ ‫تخول لهم‬ ‫الحصول على البطاقة التي ّ‬ ‫الحصول على الدعم‪ ،‬ويستبسلون من أجل‬ ‫استمالة بعض أعضاء اللجنة المشرفة على‬ ‫منح الدعم‪ ،‬وال يتوانون في زرع الفخاخ‬ ‫تحت أقدام الجميع في سبيل الظفر بالماليين‬ ‫من أجل إنتاج عمل ال يستحق المشاهدة‪.‬‬ ‫عل هذا ما دفع كاتب ًا مثل فيصل عبد‬ ‫وَل ّ‬

‫الحسن إلى الدعوة إلى إشراك ممثلين‬ ‫عن المجتمع‪ ،‬من خالل ترشيحهم من قبل‬ ‫األحزاب الفاعلة‪ ،‬أو من طرف جمعيات‬ ‫المجتمع المدني‪ ،‬وذلك لمساعدة اللجنة في‬ ‫اتخاذ قرار دعم هذا الفيلم أو استثناء ذاك‪،‬‬ ‫كل‬ ‫حتى يتم تجنب تكرار إعادة المشهد في ّ‬ ‫مرة‪ ،‬حين يقّدم الدعم لبعض األفالم‪ ،‬ويهمل‬ ‫ّ‬ ‫غيرها يستحق الدعم‪ ،‬فيثير ذلك زوبعة‬ ‫من ردود أفعال الكثيرين ويوجد الحزازات‬ ‫والمشاكل في الوسط السينمائي المغربي‪.‬‬ ‫لقد اعتبرت ماجدة واصف‪ ،‬المندوبة‬ ‫العامة لمهرجان السينما العربية بباريس‬ ‫ومرسيليا‪ ،‬نظام الدعم السينمائي الذي‬ ‫اعتمده المغرب لدعم اإلنتاج السينمائي‬ ‫«نموذج ًا يحتذى به في العالم العربي»‪.‬‬ ‫وقالت إنه أصبح حالي ًا األكبر بالعالم‬ ‫العربي‪ .‬وهذا يوضح أن الدعم مكسب‬ ‫للمخرجين المغاربة‪ ،‬وينبغي أن يعضوا‬ ‫عليه بالنواجذ‪ ،‬وأن يساهموا في أن ينتصر‬ ‫هذا االختيار للجمال والجودة‪ ،‬مما قد‬ ‫يساهم في تصالح الجمهور الواسع مع‬ ‫السينما‪ ،‬ومما قد يدفع المنتجين الخواص‬ ‫إلى ركوب تجربة االستثمار في القطاع‪،‬‬ ‫وأيض ًا تشجيع إنشاء قاعات سينمائية‬ ‫أخرى بمواصفات عالمية‪ ،‬بل األكثر من ذلك‬ ‫البحث عن أسواق أخرى للترويج للفيلم‬ ‫المغربي‪ ،‬بدل االكتفاء بفيلم يشارك في‬ ‫المهرجانات الدولية‪ ،‬ويعجز عن اقتحام‬ ‫قاعات اآلخرين العمومية‪.‬‬


‫أتم الثمانين‪ ،‬من كبار فناني الســينما في‬ ‫ُيعّد المخرج الســينمائي البريطاني كين لوش الذي ّ‬ ‫الفنّية في التليفزيون البريطاني (بي بي سي) عام ‪ ،1964‬حيث‬ ‫أوروبا والعالم‪ .‬بدأ مسيرته َ‬ ‫أخرج ‪ 28‬فيلم ًا روائي ًا وتسجيلي ًا حتى عام ‪ .1985‬وفي عام ‪ 1967‬أخرج أول أفالمه الطويلة‬ ‫للســينما‪ ،‬وبلغ عددها ‪ 19‬فيلم ًا روائي ًا وفيلم ًا تســجيلي ًا واحداً‪ .‬وقد شهدت مسابقة مهرجان (كان) ‪2016‬‬ ‫عــرض فيلمــه الروائي الطويل العشــرين «أنا‪ ،‬دانييل بليك»‪ ،‬والذي فاز بـ«الســعفة الذهبية» أهم جوائز‬ ‫أكبر مهرجان دولي للسينما في العالم‪.‬‬

‫«أنا‪ ،‬دانييل بليك»‬

‫األمل يف عالم جديد ممكن وضروري‬ ‫سمري فريد‬ ‫ض ْت في مهرجانات‬ ‫أغلب أفالم لوش ُعِر َ‬ ‫السينما الدولية الكبرى الثالثة‪ ،‬وهي‬ ‫«برلين‪ ،‬وكان‪ ،‬وفينسيا»‪ ،‬ولكن أكثرها‬ ‫عرض ًا في «كان» منذ فيلمه الثالث «حياة‬ ‫ض في برنامج «نصف‬ ‫عائلية» الذي ُعِر َ‬ ‫شهر المخرجين» عام ‪ .1971‬وكان «أنا‪،‬‬

‫دانييل بليك» فيلمه الثالث عشر المشارك‬ ‫وتعّد سعفة‬ ‫في مسابقة مهرجان (كان)‪ُ ،‬‬ ‫‪ 2016‬الجائزة السابعة التي فاز بها في‬ ‫هذا المهرجان‪ ،‬بعد جائزة لجنة التحكيم‬ ‫مرات عن «التاريخ الخفي» عام‬ ‫ثالث ّ‬ ‫‪ ،1990‬و«إنها تمطر أحجاراً» عام ‪،1993‬‬

‫و«حصة المالئكة» عام ‪ ،2012‬وبجائزة‬ ‫أحسن ممثل (بيتر موالن) عن «اسمي جو»‬ ‫عام ‪ ،1998‬وبجائزة أحسن سيناريو (بول‬ ‫الفيرتي) عن «سن السادسة عشرة اللطيف»‬ ‫عام ‪ ،2002‬كما فاز بالسعفة الذهبية عام‬ ‫‪ 2006‬عن «الريح التي تهز الشعير»‪.‬‬ ‫‪143‬‬ ‫‪143‬‬


‫للمرة الثانية‪،‬‬ ‫وبفوز لوش بالسعفة ّ‬ ‫مرتين في‬ ‫أصبح سادس مخرج يفوز بها ّ‬ ‫تاريخ المهرجان بعد األميركي كوبوال‪،‬‬ ‫والسويدي أوجست‪ ،‬واليوغسالفي‬ ‫كوستوريتشا‪ ،‬واألخوين البلجيكيين‬ ‫دارديني‪ .‬وقد شاهدت أفالم لوش في‬ ‫مهرجان (كان) منذ عام ‪ 1971‬حتى عام‬ ‫‪ 2016‬بحكم حضوري المهرجان طوال‬ ‫هذه السنوات‪ .‬ومن حسن الصدف أنني‬ ‫مرة عام ‪1967‬‬ ‫حضرت مهرجان (كان) ألول ّ‬ ‫مع االحتفال بالدورة العشرين‪ ،‬وحضرته‬ ‫للمرة الثانية عام ‪ 1971‬مع االحتفال‬ ‫ّ‬ ‫بدورة اليوبيل الفضي‪ ،‬وكان كين لوش‬ ‫من اكتشافات هذه الدورة‪ ،‬والتي كانت‬ ‫بحق‪.‬‬ ‫تاريخية ّ‬ ‫عبر‬ ‫منذ أول أفالمه وحتى أحدثها‪ُ ،‬ي ّ‬ ‫لوش عن رؤية يسارية اشتراكية‪ ،‬سواء‬ ‫في األفالم التي تدور أحداثها في الماضي‪،‬‬ ‫أم التي تتناول الواقع االجتماعي المعاصر‬ ‫لزمن إنتاجها‪ .‬وإذا كان اليسار االشتراكي‬ ‫قد اهتز مع انهيار جدار برلين عام ‪،1989‬‬ ‫وسقوط النظم الشيوعية في أوروبا‪ ،‬فإن‬ ‫رؤية لوش لم تهتز ألنها لم تكن ترتبط بهذه‬ ‫النظم‪ ،‬وإنما بالواقع اإلنساني من خالل‬ ‫يتميز لوش بالتكامل‬ ‫الواقع البريطاني‪ .‬كما ّ‬ ‫بين َفنّه ومواقفه السياسية‪ .‬ورغم أن هذا‬ ‫التكامل ال عالقة له بتقييم األفالم كأعمال‬ ‫يؤكد مدى عمق إيمانه بما‬ ‫َفنّية‪ّ ،‬إل أنه ِّ‬ ‫يعتقده‪ .‬وقد جاء فيلمه «أنا‪ ،‬دانييل بليك»‬ ‫بيان ًا درامي ًا ضد النظام العالمي الجديد‬ ‫القائم على اقتصاد السوق‪ ،‬والمرتبط‬ ‫بالعولمة والليبرالية الجديدة‪ .‬فبعد استالم‬ ‫السعفة الذهبية‪ ،‬ألقى الفنان على المسرح‬ ‫بيان ًا سياسي ًا ضد ذلك النظام‪ ،‬واستشهد‬ ‫فيه باألزمة في اليونان‪ ،‬واختتمه قائالً‪ :‬إن‬ ‫كل مكان‪،‬‬ ‫اليأس من التغيير بدأ ينتشر في ّ‬ ‫ولكن علينا ّأل نفقد األمل في وجود عالم‬ ‫جديد‪ .‬وقال بالفرنسية واإلنجليزية «عالم‬ ‫جديد ممكن وضروري»‪.‬‬ ‫وفي اليوم التالي الستالم الجائزة‪،‬‬ ‫ذهب لوش إلى باريس‪ ،‬وافتتح برنامج ًا‬ ‫لألفالم الفلسطينية في معهد العالم‬ ‫العربي‪ ،‬وواصل دعوته لمقاطعة منتجات‬ ‫المستوطنات اإلسرائيلية في فلسطين‬ ‫وترسخ لالحتالل‬ ‫ألنها «غير شرعية»‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫‪144‬‬ ‫‪144‬‬

‫اإلسرائيلي‪ ،‬وتعوق حصول الشعب‬ ‫الفلسطيني على حقوقه‪.‬‬ ‫كان أول فيلم روائي طويل أخرجه لوش‬ ‫للتليفزيون عام ‪ 1969‬بعنوان «كاتي تجد‬ ‫منزالً» عن سكان الشوارع في لندن الذين ال‬ ‫يجدون منازل للعيش فيها‪ .‬وبعد خمسين‬ ‫سنة تمام ًا يعود إلى نفس الموضوع من‬ ‫خالل شخصية كيت في «أنا‪ ،‬دانييل بليك»‪.‬‬ ‫عبر دائم ًا عن‬ ‫وهذا ّ‬ ‫يؤكد أصالته كفنان ُي ّ‬ ‫ما يقلقه من داخله‪ ،‬وليس مجرد مخرج‬ ‫ُيجيد حرفة‪.‬‬ ‫عنوان الفيلم دال على محتواه‪ ،‬فعنوان‬ ‫ال‬ ‫فيلم أوليفر ستون «جي إف كيه» مث ً‬ ‫يدل على أنه عن الرئيس األميركي جون‬ ‫والمتفرج يسأل من يكون‬ ‫فيتزغرالد كيندي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫دانييل بليك الذي يقول «أنا»‪ ،‬وعندما يشاهد‬ ‫الفيلم يدرك أنه نجار بسيط في مدينة‬ ‫نيوكاستيل على بعد ‪ 300‬ميل من لندن‪.‬‬ ‫كين لوش يقّدم اإلنسان العادي البسيط‬ ‫كشخصية جديرة بأن يكون اسمها عنوان ًا‬ ‫لفيلم‪ ،‬بل ويقول «أنا‪ ،‬دانييل بليك»‪.‬‬ ‫ال من‪:‬‬ ‫تجمع صورة ملصق الفيلم‪ ،‬ك ً‬ ‫دانييل (داف جونز) أو دان مع كيت‬ ‫(هايلي سكويرس) وابنتها ديزي (بريان‬ ‫شان) التي تناهز العاشرة‪ ،‬وابنها ديالن‬ ‫(ديالن ماكيرنان) الذي يناهز السابعة‪.‬‬ ‫للوهلة األولى يبدو األربعة وكأنهم أسرة‬ ‫واحدة‪ ،‬ولكن دان يقترب من الستين وكيت‬

‫تقترب من الثالثين‪ ،‬وال يجمع بينهم سوى‬ ‫البؤس والمعاناة من بيروقراطية الدولة‬ ‫في بريطانيا ‪ .2016‬واألربعة يمثلون‬ ‫األجيال الثالثة التي تعيش في أي مجتمع‬ ‫في أي وقت‪ ،‬وما يحدث لهم معادل درامي‬ ‫موضوعي مثالي للتعبير عن موقف الفنان‬ ‫السياسي من النظام العالمي الجديد‪.‬‬ ‫تدور األحداث في نيوكاستيل بعيدًا‬ ‫عن العاصمة لندن‪ ،‬في مدينة عادية غير‬ ‫معروفة‪ ،‬مما يضفي على هذه األحداث‬ ‫طابع ًا إنساني ًا عاماً‪ ،‬وذلك بإمكانية أن تقع‬ ‫في أي مدينة في بريطانيا أو أي مكان آخر‪،‬‬ ‫كما أن لهجة الحوار مغرقة في العامية إلى‬ ‫درجة ترجمته إلى اإلنجليزية عند العرض‪.‬‬ ‫دان يعيش وحيدًا في منزله الضيق في‬ ‫إحدى عمارات الفقراء بعد وفاة زوجته التي‬ ‫كانت تعاني من مرض عقلي‪ .‬وقد أصيب‬ ‫بأزمة قلبية ومنعه األطباء من العمل‪،‬‬ ‫وأصبح يعيش على اإلعانة الحكومية‪.‬‬ ‫وكيت كانت بال مأوى في جنوب لندن‪،‬‬ ‫وتقدمت بطلب للحصول على منزل تعيش‬ ‫َّ‬ ‫وتحقَّق طلبها‪ ،‬ولكن في‬ ‫طفليها‪،‬‬ ‫مع‬ ‫فيه‬ ‫َ‬ ‫نيوكاستيل في نفس العمارة التي يقيم‬ ‫فيها دان‪ .‬ومن بين جيران دان وكيت‬ ‫الشاب األسود تشاينا (كيما سيكازوي)‬ ‫الذي يعمل في تجارة األحذية الرياضية‬ ‫التي تصنع في الصين تقليدًا للعالمات‬ ‫التجارية الدولية المشهورة‪ ،‬وبالطبع فإن‬ ‫اسمه ليس تشاينا أي الصين‪ ،‬وإنما هو‬ ‫اسم الشهرة‪ ،‬وبالطبع فإن هذه الشخصية‬ ‫عبر عن الصين المعاصرة باعتبارها جزءًا‬ ‫ُت ّ‬ ‫من النظام العالمي الجديد‪.‬‬ ‫أصبح دان يرعى كيت وطفليها‬ ‫ويساعدهم بقدر استطاعته‪ .‬لقد أنقذته كيت‬ ‫من الوحدة‪ ،‬ولكنه لم ينظر إليها أبدًا كامرأة‪،‬‬ ‫وإنما بعاطفة أقرب إلى األبوة‪ .‬وعوضه‬ ‫الطفالن عن افتقاد اإلحساس باألسرة ألنه‬ ‫لم ينجب من زوجته الراحلة‪ .‬إنه إنسان لم‬ ‫يفقده البؤس إنسانيته وأخالقه الفطرية‬ ‫النبيلة‪ .‬إنه يحب عمله كنجار ويستمتع‬ ‫به حتى بعد أن ُمِن َع من ممارسته‪ ،‬ونراه‬ ‫يصنع مكتبة صغيرة في منزله لمجرد‬ ‫المتعة‪ .‬إنه نموذج للطبقة العاملة عند‬ ‫كل أفالمه‪ ،‬وخاصة الذين‬ ‫كين لوش في ّ‬ ‫يعملون بأيديهم‪.‬‬


‫كل من دان وكيت من بيروقراطية‬ ‫يعاني ّ‬ ‫مكتب الرعاية االجتماعية الحكومي‪،‬‬ ‫ومن اعتماد هذا المكتب على الوسائل‬ ‫التكنولوجية التي يجهلها دان وتعرفها‬ ‫كيت بالكاد‪ ،‬ومن نظام «العقوبات» التي‬ ‫يتبعها المكتب‪ ،‬أصبح عليه إثبات عدم‬ ‫قدرته على العمل‪ ،‬وأن يتدرب على أسلوب‬ ‫كتابة سيرته (سي في) عبر الكمبيوتر‪،‬‬ ‫وبدأ يعيش في دوامة «كافكاوية» أو‬ ‫«كوميديا سوداء»‪ .‬وألن كيت ال تعرف‬ ‫المدينة‪ ،‬تأخرت نصف ساعة عن موعدها‬ ‫في المكتب‪ ،‬وواجهت عقوبة الحرمان من‬ ‫اإلعانة لمدة شهر‪ ،‬كما واجه دان عقوبة‬ ‫كل ما يملك‪،‬‬ ‫قطع اإلعانة‪ .‬وبينما يبيع دان ّ‬ ‫ال تملك كيت سوى أن تخرج إلى ناصية‬ ‫الشارع‪.‬‬ ‫يبرع روبي ريان في تصوير المكتب‬ ‫يسبب األذى واأللم مستخدم ًا‬ ‫كمكان مقبض ّ‬ ‫اللونين األبيض واألزرق‪ ،‬كما يبرع لوش‬ ‫في إدارة الممثلين الذين يقومون بأدوار‬ ‫الموظفين ورجال األمن‪ ،‬فهم ال يقلون‬ ‫بؤس ًا عن ضحاياهم‪ ،‬بما في ذلك الموظفة‬ ‫القديمة آن (كاتي بوتر) التي تتعاطف مع‬

‫دان وتحاول مساعدته‪ .‬إنهم جميع ًا يعانون‬ ‫النظام العقيم الذي يفقدهم إنسانيتهم‪.‬‬ ‫يقترب أسلوب اإلخراج الواقعي‬ ‫كل‬ ‫من األسلوب التسجيلي رغم أن ّ‬ ‫ويؤكد ذلك اختيار‬ ‫الشخصيات خيالية‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫كل األدوار‪ ،‬فهم‬ ‫في‬ ‫الممثلين والممثالت‬ ‫ّ‬ ‫غير معروفين لدى الجمهور‪ ،‬ويمكن أن‬ ‫تلتقي بأي منهم على ناصية أي شارع‬ ‫في أي وقت‪ .‬وهناك مواقف ميلودرامية‬ ‫مثل مشهد المواجهة بين دان وكيت‪ ،‬ومشهد‬ ‫ديزي وهي تشكو ألمها سخرية زميالتها‬ ‫في المدرسة من حذائها القديم‪ ،‬ومشهد كيت‬ ‫وهي تذهب إلى بنك الطعام وال تستطيع‬ ‫السيطرة على نفسها من شّدة الجوع‪ ،‬فتأكل‬ ‫من علبة الطعام بأصابعها فور أن تفتحها‪،‬‬ ‫ولكن هذه المشاهد تفقد ميلودراميتها في‬ ‫إطار األسلوب الواقعي التسجيلي الذي يقنع‬ ‫كل ما يراه‪.‬‬ ‫المتفرج بصدق ّ‬ ‫ّ‬ ‫الفرق بين كاتي في «كاتي تجد منزالً»‬ ‫وكيت التي وجدت المنزل في نيوكاستيل‬ ‫هو «بنوك الطعام» الحكومية التي أصبحت‬ ‫الحل لمواجهة الجوع الذي يفتك بالبشر‬ ‫هي ّ‬ ‫ال عن إهدار آدميتهم في النظام العالمي‬ ‫فض ً‬

‫الجديد‪ .‬ونرى في الفيلم من يدخل هذه‬ ‫مترددًا وخجالً‪ ،‬ومن يتراجع عن‬ ‫البنوك ِّ‬ ‫دخولها في آخر لحظة‪.‬‬ ‫يبدأ الفيلم بالعناوين على لقطات‬ ‫سوداء‪ ،‬وعلى شريط الصوت «استجواب»‬ ‫نتعرف عليه‪.‬‬ ‫دانييل بليك في المكتب‪ ،‬حيث ّ‬ ‫ويصل الفيلم إلى ذروته بأن يصرخ دانييل‬ ‫بليك في الشارع‪ ،‬ويكتب شكواه على‬ ‫الحائط‪ ،‬ويجتمع المارة ويعلنون تأييدهم‬ ‫وتفرق الجمع وتقبض‬ ‫له‪ ،‬وتأتي الشرطة ّ‬ ‫ثم تصرفه ألنه من دون‬ ‫عليه وتحقّق معه ّ‬ ‫سوابق‪.‬‬ ‫ُتكثِّف النهاية رؤية الفنان عندما نرى‬ ‫دان مع كيت وطفليها في أحد المقاهي‪،‬‬ ‫ثم نراه يدخل الحمام وتفاجئه أزمة قلبية‬ ‫ّ‬ ‫ويسقط ميتاً‪ .‬وفي الكنيسة‪ ،‬وباإلضاءة‬ ‫كل من َعرف دان‬ ‫الباردة نفسها‪ ،‬يجتمع ّ‬ ‫لوداعه قرب الفجر‪ ،‬وتعتذر كيت عن هذا‬ ‫بكر ألنه األرخص حسب أسعار‬ ‫الم ِّ‬ ‫الموعد ُ‬ ‫الكنيسة‪ ،‬وتقول إنه كان يستطيع أن يعطي‬ ‫المزيد‪ ،‬ولكن الدولة قتلته‪ .‬وأنه كان يقول‬ ‫أنا إنسان ولست كلباً‪ ،‬أنا مواطن‪ ،‬ال أكثر‬ ‫قل‪.‬‬ ‫وال َأ ّ‬ ‫‪145‬‬ ‫‪145‬‬


‫«وحش المال»‬ ‫أفالم األزمة االقتصادية ُمرحبة أيض ًا‬ ‫أحمد ثامر جهاد‬ ‫ض فيلم «وحش المال» (‪Money‬‬ ‫ُعِر َ‬ ‫‪ )Monster‬إخراج جودي فوستر في‬ ‫مهرجان (كان) السينمائي بدورته الـ ‪69‬‬ ‫خارج المسابقة‪ .‬وحاز في أسبوع عرضه‬ ‫االفتتاحي المركز الثالث في قائمة األفالم‬ ‫التي حقّقت أعلى اإليرادات في دور‬ ‫السينما األميركية‪ ،‬حيث بلغت عائداته‬ ‫اإلجمالية قرابة ‪ 67‬مليون دوالر خالل‬ ‫ثالثة أسابيع‪ .‬الفيلم وصفته فوستر من‬ ‫أهم التجارب اإلخراجية التي خاضتها‪،‬‬ ‫والتي بلغت حتى اآلن ثمانية أفالم‪ .‬كما‬ ‫ُيعّد هذا الفيلم رابع لقاء سينمائي يجمع‬ ‫النجمين جورج كلوني وجوليا روبرتس‪.‬‬ ‫«‪ ...‬يوم ًا ما قال المسرحي األلماني‬ ‫برتولد بريخت‪ :‬ماذا تساوي جريمة سرقة‬ ‫بنك أمام جريمة إنشائه؟ ‪ ...‬في عصر‬ ‫السرعة تصبح أموالك التي تكدح طوال‬ ‫حياتك لجنيها مجرد أرقام في حواسيب‬ ‫‪146‬‬ ‫‪146‬‬

‫ذكية‪ ،‬تنتقل بسرعة مهولة عبر شبكة‬ ‫إلكترونية عمالقة تمثل االستثمارات القارية‬ ‫لنظام مصرفي عالمي مرتبط بمصالح‬ ‫كبرى متداخلة‪ .‬في النهاية ليست لديكم‬ ‫فكرة أين هي أموالكم اآلن‪ »...‬هذا جزء‬ ‫من الترويج المراوغ الذي يتقنه لي جيتس‬ ‫قدم برنامج «وحش المال»‬ ‫(جورج كلوني) ُم ِّ‬ ‫الذي ينقل من ِقبلة المال في «وول ستريت»‬ ‫بنيويورك أخبار سوق األسهم ورجاالته‪.‬‬ ‫الفيلم الذي كتبه (جيمي ليندن‬ ‫وجيم كوف) عن قصة لـ (أالن ديفيور)‬ ‫المتوجة‬ ‫وأخرجته الممثلة (جودي فوستر‬ ‫َّ‬ ‫بأوسكارين) يجمع اإلثارة بالتشويق في‬ ‫صورة نمطية وسرد قابل للتخمين‪ ،‬وال‬ ‫يخرج بشكل عام عن مسار الفيلم األميركي‬ ‫الذي سبق له أن عالج ِمرارًا هذا النوع من‬ ‫القصص التي تعتمد أحداث ًا درامية مفاجئة‬ ‫تلهب عواطف الجمهور الذي يثيره وضع‬

‫نجوم مشهورين موضع الخطر‪.‬‬ ‫تبدأ األحداث عقب انخفاض أسهم‬ ‫وتكبدها‬ ‫شركة رجل األعمال (والت كامبي) ّ‬ ‫خسارة مالية كبيرة تقدر بنحو ‪ 800‬مليون‬ ‫دوالر ألسباب ال تبدو واضحة في البداية‪.‬‬ ‫يردده شريط األخبار عن هذه الواقعة‬ ‫ما ّ‬ ‫سيدفع مستثمرًا صغيرًا ُيدعى كايل بدويل‬ ‫جراء تلك‬ ‫تعرض لإلفالس ّ‬ ‫(جاك أوكنيل) ّ‬ ‫الخسارة‪ ،‬للقيام بفعل جنوني يتمثّل‬ ‫بالتسلل إلى مبنى القناة التليفزيونية التي‬ ‫تعرض برنامج «وحش المال»‪ ،‬وفي أثناء‬ ‫ساعات البث الحي يقتحم كايل األستوديو‬ ‫قدم البرنامج (لي جيتس) رهينة‬ ‫ويأخذ ُم ِّ‬ ‫تحت تهديد السالح‪ ،‬مطالب ًا إياه بتعويض‬ ‫خسارته عبر إعالن زائف يرفع سعر أسهم‬ ‫الشركة قبل إغالق جلسات التداول في‬ ‫بورصة «وول ستريت»‪.‬‬ ‫يهون على‬ ‫الساخرة‬ ‫جيتس بنبرته‬ ‫ّ‬


‫تكبدوا خسائر‬ ‫أصحاب األسهم الذين ّ‬ ‫مالية بإشارته المازحة‪ :‬لقد تم ضرب‬ ‫مؤخراتكم وعليكم التوقّف عن النواح‬ ‫واالستعداد لجولة نزال جديدة ألن‬ ‫األسهم ستستعيد عافيتها ثانية‪ .‬ولم‬ ‫يكن أمام الشاب المحبط كايل الذي خسر‬ ‫قدم‬ ‫ّ‬ ‫كل أموال العائلة بسبب نصائح ُم ِّ‬ ‫البرنامج‪ّ ،‬إل اإلقدام على بطولة فردية‪،‬‬ ‫(تهديد مباشر للمتسببين بخسارته)‪ ،‬في‬ ‫سابقة خطيرة سينقسم الجمهور بشأنها‬ ‫ؤيد ومعارض‪ .‬وحينما يأخذ كايل‬ ‫بين ُم ّ‬ ‫اإلعالمي المشهور (لي جيتس) رهينة‬ ‫لغمة بحزام ناسف‪ ،‬فإنه‬ ‫ويلبسه سترة ُم َّ‬ ‫يسهم في تحويل أزمته الشخصية إلى‬ ‫قضية رأي عام يجري تضمينها درامي ًا‬ ‫في لحظة ذهول تليفزيونية هي مكمن‬ ‫اإلثارة التي ستضع كادر البرنامج من‬ ‫وفنّيين وعاملين في دائرة‬ ‫مصورين َ‬ ‫ّ‬ ‫الخوف والترقب‪ ،‬لكن المشهد الذي يبدو‬ ‫كمزحة (نشاهده نحن بعلم تام لمجرياته)‬ ‫يمر على شاشات التلفاز دون أن يلحظ‬ ‫أحد شيئاً‪ .‬ربما َظّن البعض أن العرض‬ ‫الخطير الذي يحصل‪ ،‬هو مجرد فقرة أخرى‬ ‫قدم لي جيتس‬ ‫الم ِّ‬ ‫ُم ِّ‬ ‫شوقة من ارتجاالت ُ‬ ‫المعروف بخروجه عن النص‪.‬‬ ‫يمر وقت قصير حتى يكاد األمر‬ ‫ما أن ّ‬ ‫ينفلت تحت ضغط تحركات رجال األمن‬ ‫الذين يخططون القتحام المبنى بالقوة‪،‬‬ ‫لوال حنكة منتجة البرنامج باتي فين‬ ‫(جوليا روبرتس) التي تستشعر خطورة‬ ‫وتوجه ما تبقى من فريقها والجهات‬ ‫الموقف ّ‬ ‫الحكومية التي تتابع الحدث‪ ،‬بضرورة‬ ‫التعامل بحذر مع كايل‪ ،‬ليس فقط ألنه‬ ‫يهّدد بتفجير الحزام الناسف (نكتشف‬ ‫زيف) إذا ما َتّم استفزازه‪،‬‬ ‫الحق ًا أنه ُم َّ‬ ‫حق‪.‬‬ ‫وإنما الحتمال أن يكون على ّ‬ ‫وكما في أفالم سينمائية عّدة ُح ِ‬ ‫وصر‬ ‫أبطالها في أماكن محدودة ذات قوانين‬ ‫صارمة‪ ،‬مرغمين على مواجهة عالم‬ ‫منذور لسوء الفهم وعمى التجريم من قبيل‬ ‫(جون كيو‪ ،‬المدينة المجنونة‪ ،‬السقوط‬ ‫فهم‬ ‫في الهاوية) يأمل كايل من اآلخرين َت ُّ‬ ‫دوافعه‪ ،‬فيجد بعد حين بمساعدة (جيتس‬ ‫وباتي) َم ْن يسمع شكواه‪ ،‬فيحظى تدريجي ًا‬ ‫تقربه من الثّقة بخيارات‬ ‫بلحظات تعقُّل ّ‬

‫السيطرة على المواقف المأسوية بأي ثمن‪.‬‬

‫ظالل األزمة االقتصادية‬ ‫ِ‬

‫مقنعة الستعادة أمواله وفضح المتسببين‬ ‫بخسارته‪ ،‬وهو ما نكتشفه الحق ًا بطريقة‬ ‫االعتراف بالخطيئة‪ ،‬فمدير الشركة هو‬ ‫تورطه بمضاربات‬ ‫سبب اإلفالس جراء ّ‬ ‫مشبوهة في جنوب إفريقيا‪.‬‬ ‫في نهاية األمر ال حيلة أمام الجميع‪،‬‬ ‫بمن فيهم رجال الشرطة ّإل التعامل مع‬ ‫الحدث بواقعية ال تستهين بالنتائج‬ ‫المحتملة لمحاولة إطالق نار في برنامج‬ ‫ُيَبث على الهواء مباشرة ويحظى بعد‬ ‫هذه الحادثة الغريبة بمتابعة الماليين‬ ‫حول العالم‪ .‬هنا بالتحديد تستثمر‬ ‫القناة التليفزيونية الحدث ذاته لصالح‬ ‫اتساع شعبيتها‪ ،‬فما تقّدمه هنا بوصفه‬ ‫(تليفزيون الواقع) ليس تمثيالً‪ ،‬وإنما‬ ‫واقعة محتملة لها مدلوالتها السياسية‪،‬‬ ‫مثلما يجوز ‪ -‬في إطار أوسع‪ -‬النظر‬ ‫للحكاية بمجملها كخيال سينمائي تتواشج‬ ‫عناصره المونتاجية والصوتية واألدائية‬ ‫مع ًا في خلق إيقاع فيلمي مشوق ينجح‬ ‫في إيصال رسالته‪ .‬وكالعادة سرعان ما‬ ‫تتحول الذات إلى موضوع‪ ،‬ليجد البعض‬ ‫ّ‬ ‫سوغ ًا العتباره إرهابي ًا‬ ‫م‬ ‫كايل‬ ‫شخصية‬ ‫في‬ ‫ُ ِّ‬ ‫أو بطالً‪ ،‬لكنه في نطاق مجتمع حداثي‬ ‫متشظ على نحو متزايد سيلتصق البطل‬ ‫ٍّ‬ ‫بصورته االفتراضية التي تجري تنقيتها‬ ‫أو فلترتها من على شاشات العالم وبزوايا‬ ‫تصوير ورؤى مختلفة تعّد‪ -‬إذا جاز القول‪-‬‬ ‫كناية عن عصاب أولئك الذين يحاولون‬

‫وتطور شخصياته‬ ‫المشوق‬ ‫رغم إيقاعه‬ ‫ُّ‬ ‫ِّ‬ ‫على المستوى الدرامي‪ّ ،‬إل أن فيلم «وحش‬ ‫المال» يشترك في موضوعاته مع عشرات‬ ‫تتوجه إلى انتقاد‬ ‫األفالم األميركية التي‬ ‫ّ‬ ‫األوضاع الصعبة التي خلّفتها األزمة‬ ‫االقتصادية على واقع الحياة األميركية‪.‬‬ ‫أقل من الجدية واإلقناع التي‬ ‫وبدرجة ّ‬ ‫تّتسم بها األفالم الوثائقية التي عالجت‬ ‫يوجه فيلم (‪Money‬‬ ‫مثل هذه القضايا‪ّ ،‬‬ ‫‪ -)Monster‬الذي بلغت كلفة إنتاجه نحو‬ ‫‪ 27‬مليون دوالر‪ -‬اللوم إلى أفراد فاسدين‬ ‫بعينهم‪ ،‬يتالعبون بمصائر الناس من‬ ‫المؤسسي‬ ‫دون االقتراب من نقد النظام‬ ‫ّ‬ ‫أو تعرية ثغراته القانونية التي تتيح‬ ‫لألفراد النافذين النجاة من تبعات جرائمهم‬ ‫بحق اآلخرين‪ .‬ودوم ًا سيؤثر الرأي العام‬ ‫في مسار هذه القضايا الشائكة ويدفع‬ ‫المتورطين في الفساد‬ ‫باتجاه محاسبة‬ ‫ّ‬ ‫لثقة األميركيين بعدالة قوانينهم‪.‬‬ ‫ثمة أفالم أميركية‬ ‫في العقد األخير ّ‬ ‫ِعّدة تحّدثت عن األزمة المالية وإفالس‬ ‫البنوك وتدني أسواق البورصة‪ ،‬من بينها‬ ‫الوثائقي الشهير ‪)2009( Collapse‬‬ ‫تنبأ باألزمة‬ ‫للمخرج كريس سميث الذي ّ‬ ‫األخيرة قبل وقوعها‪ ،‬وفيلم ‪inside Job‬‬ ‫(‪ )2010‬لشارل فرجسون‪ ،‬الحاصل‬ ‫على أوسكار أفضل وثائقي‪ .‬وفيلم المخرج‬ ‫أوليفر ستون (‪ )Wall Street‬بجزأيه‪،‬‬ ‫ال عن فيلم (‪ )The big short‬الحاصل‬ ‫فض ً‬ ‫على أوسكار أفضل سيناريو في حفل هذا‬ ‫العام وهو للمخرج آدم مكاي‪ .‬ويمكن‬ ‫اعتبار فيلم ‪Capitalism: A Love‬‬ ‫‪ )2009( Story‬لـلمخــــرج األمــــيركي‬ ‫المشاكس مايكل مور من بين أهم األفالم‬ ‫حرض ًا لفساد‬ ‫التي قّدمت تحلي ً‬ ‫ال عقالني ًا ُم ِّ‬ ‫عالم المال وعالقته بتصدير األزمات‬ ‫االقتصادية إلى حياة الناس‪ ،‬ناهيك عن‬ ‫نقد تدني مستوى الخدمات العامة والرعاية‬ ‫الصحية ولعبة تخادم المصالح بين‬ ‫المؤسسات الحكومية وأصحاب البنوك‬ ‫ّ‬ ‫واالستثمارات القارية‪.‬‬ ‫‪147‬‬ ‫‪147‬‬


‫روبير بريسون ناقد ومخرج فرنسي شهير‪ ،‬وألطروحاته‬ ‫مذاق خاص‪ ،‬ندر أن نرى ما يماثله عند‬ ‫في السينما ٌ‬ ‫الكثيرين من المشتغلين في حقل السينما نقدًا أو تنظيراً‪.‬‬ ‫ولربما تكون السينماتوغرافيا كشكل ومصطلح المدخل‬ ‫لكل ما يمكن أن ُيقال حول أطروحات هذا المبدع‪ ،‬إنه أحد‬ ‫األفضل ّ‬ ‫أبرز أصحاب التنظيرات اإلشكالية المثيرة للجدل؛ قوله‪ -‬على سبيل‬ ‫المثال‪ -‬في السينماتوغرافيا بأنها شيء غير معروف حتى اآلن‪ ،‬على‬ ‫الرغم من أنه قد ُكِت َب حولها ما يفي بغرض معرفة أبعادها وتحديد‬ ‫تميزها عن السينما في مفاهيمها المتعارف‬ ‫مالمحها‪ ،‬والتباينات التي ّ‬ ‫عليها بين السينمائيين‪.‬‬

‫روبري بريسون‬

‫باحث ًا عن ساللة جديدة من اخملرجني!‬ ‫يوسف يوسف‬ ‫صحيح أن بريسون ُيعّد السينماتوغرافيا‬ ‫نوع ًا من الكتابة بالصور في الحركة‬ ‫واألصوات‪ ،‬وهو الفهم الذي ُيقارب فيه‬ ‫ميز‬ ‫كما نرى بينها وبين السينما‪ّ ،‬إل أنه ُي ّ‬ ‫بين االثنتين‪ :‬السينما والسينماتوغرافيا‬ ‫من حيث إن األولى‪ -‬كما يقول‪ -‬تغترف‬ ‫من منهل عام‪ ،‬فيما الثانية يقوم فيها‬ ‫السينماتوغرافي برحلة اكتشاف في كون‬ ‫مجهول‪ .‬أي أنها طريقة جديدة للكتابة‪ ،‬ومن‬ ‫َثّم للشعور كذلك‪ .‬وفي تعبير آخر يوضح‬ ‫أبعاد ما يدعو إليه في أطروحته‪ ،‬فإن الفيلم‬ ‫السينماتوغرافي حيث الصور‪ -‬كما يقول‪-‬‬ ‫كالكلمات في معجم‪ ،‬ال قوة وقيمة لها ّإل‬ ‫من خالل مواقعها وعالقاتها‪.‬‬ ‫ومعنى هذا فإنه في حديثه حول‬ ‫‪148‬‬ ‫‪148‬‬

‫التباينات‪ ،‬إنما يحاول التفريق بين‬ ‫الفّن حتى لو كانا ضمن الجنس‬ ‫نوعين من َ‬ ‫التعبيري ذاته‪ ،‬أحدهما يتم إنتاجه من‬ ‫أجل أن تقوم عيون المتفرجين فيه بنزهة‬ ‫تتحرك فيه عيونهم من‬ ‫مجردة‪ ،‬واآلخر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أجل النفاذ إلى أعماقه‪ ،‬ومعرفة ما هو‬ ‫مستتر تحت قشرته الخارجية‪ .‬ومن هنا‬ ‫يتوجه فيه إلى العاملين‬ ‫جاء قوله الذي‬ ‫ّ‬ ‫«خبئ األفكار»‪.‬‬ ‫السينماتوغرافيا‪:‬‬ ‫في حقل‬ ‫ّ‬ ‫«خبئ األفكار» على‬ ‫النصيحة‬ ‫هذه‬ ‫تنطوي‬ ‫ّ‬ ‫هدف آخر؛ أي من أجل أن يعثر الناس‬ ‫عليها‪ .‬ذلك ألن األكثر أهمية هو الذي يكون‬ ‫في المخابئ وخلف الظاهر من أنسجة السرد‬ ‫السينمائي‪.‬‬ ‫في السينماتوغرافيا يعني اإلعداد إلخراج‬

‫فيلم‪ ،‬ما يعنيه اإلعداد لخوض معركة‬ ‫عسكرية من التعب والجهد‪ .‬ومن هنا فقد‬ ‫عّدها بالنظر إلى صعوبات العمل فيها‪ ،‬من‬ ‫الفّن‬ ‫الفّن العسكري‪ ،‬بقدر ما يعنيه هذا َ‬ ‫نوع َ‬ ‫الجدية والصرامة والتعب‪ .‬ولعلّه بسبب‬ ‫من ّ‬ ‫هذه النظرة‪َ ،‬ظّل مولع ًا بمواطنه نابليون‬ ‫بونابرت‪ ،‬وبمقولته الشهيرة التي يلخص‬ ‫فيها طبيعة عمله العسكري‪ :‬إنني أرسم‬ ‫خططي للمعركة من أرواح جنودي النائمين‪.‬‬ ‫لكن جنود بريسون ليسوا من أولئك‬ ‫الذين يضعون الخوذات فوق رؤوسهم‬ ‫ويحملون البنادق‪ ،‬وإنما هم الذين‬ ‫يتشكلون من خالل العناصر التي عليه‬ ‫ّ‬ ‫إيقاظها خالل العمل‪ ،‬ليكون الفيلم من‬ ‫نتمكن إذا‬ ‫نوع السينماتوغرافيا‪ .‬ولسوف ّ‬


‫ما توقفنا أمام مجمل أقواله من الكشف عن‬ ‫أبرز أسباب النجاح والوصول إلى مرحلة‬ ‫السينماتوغرافيا‪ ،‬التي هي في اعتقاده أكثر‬ ‫تطوراً‪.‬‬ ‫مراحل التعبير بالكاميرا ّ‬ ‫ال ممثلين‪ ..‬ال أدوار‪ ،‬يقول روبير‬ ‫ثمة في‬ ‫بريسون‪ .‬كما ويقول بأنه ليس ّ‬ ‫السينماتوغرافيا ترتيب إخراجي للمشاهد‪.‬‬ ‫ولقد اهتم بالموديل أكثر من اهتمامه‬ ‫بالممثل كما يفعل السينمائيون عادة‪ .‬بل‬ ‫وإنه دائم الدعوة لعدم ظهور الممثلين في‬ ‫فيلم السينماتوغرافيا‪ ،‬ذلك ألن الموديل في‬ ‫تصوره‪ ،‬إنما يعني الحركة من الخارج إلى‬ ‫ّ‬ ‫الداخل‪ ،‬فيما تكون الحركة عند استخدام‬ ‫الممثل على عكس ذلك تماماً‪ ،‬أي أنها‬ ‫تكون من الداخل إلى الخارج‪ .‬ومعنى هذا‬ ‫يميز بين نمطين من األفالم‪ :‬أحدهما‬ ‫فإنه ّ‬ ‫بحسب تعبيره الذي يوظف وسائل المسرح‬ ‫(ممثلون‪ ..‬إخراج‪ ..‬إلخ) ويستعمل الكاميرا‬ ‫يوظف‬ ‫من أجل أن ينسخ‪ ،‬واآلخر الذي ّ‬ ‫وسائل السينماتوغرافيا من أجل أن يبدع‪.‬‬ ‫واألول الذي يعّده َفّن ًا راسي ًا في المسرح إلى‬ ‫َحّد بعيد‪ ،‬فيه الكثير من الثغرات والعيوب‬ ‫التي يحمل بريسون المعول من أجل هدمها‬ ‫وبناء ُأسس جديدة قوامها االعتقاد بأن‬ ‫حقيقة السينماتوغرافيا ال يمكن أن تكون‬ ‫حقيقة المسرح‪ ،‬وال حقيقة الرواية‪ ،‬وال‬ ‫حقيقة الرسم حتى‪ .‬ثم إنه يقول بأنه ال‬ ‫شيء ُيرجى من سينما راسية في المسرح‪.‬‬ ‫ربما ال يستسيغ القارئ العادي أطروحة‬ ‫ّية‪ ،‬لكن العاملين في حقل‬ ‫بريسون َ‬ ‫الفنّ‬

‫بكل عبارة يقولها‪.‬‬ ‫السينما عليهم التفكير ملي ًا ّ‬ ‫وقطع ًا فإن هذا التفكير يدفع باتجاه البحث‬ ‫عن تفسير لما يعنيه بالطريقة الجديدة التي‬ ‫على السينمائي سلوكها للكتابة بالصور‪.‬‬ ‫يؤكد على العفوية والصدق‬ ‫إن بريسون ّ‬ ‫في العمل‪ .‬وهو في الوقت الذي يطالب‬ ‫فيه السينمائي بضرورة الحفر عميق ًا حيث‬ ‫هو‪ ،‬وعدم االنزالق إلى أية جهة أخرى‪،‬‬ ‫فإنه يضع أمامه قواعد صارمة إذا كانت‬ ‫غايته تقديم فيلم ناجح‪ .‬ومن هذه القواعد‬ ‫التي يضعها بريسون نستطيع أن نستنتج‬ ‫بأنه إنما يسعى إلى بناء ساللة جديدة من‬ ‫سيصورون األفالم بإنفاق‬ ‫السينمائيين الذين‬ ‫ّ‬ ‫فلسهم األخير عليها‪ ،‬من دون أن يسمحوا‬ ‫المادية للمهنة بأن تصطادهم‪.‬‬ ‫لإلكراهات ّ‬ ‫ولسوف تضع هذه الساللة في حسبانها‪،‬‬ ‫أن ال ممثلين في السينماتوغرافيا‪ ،‬وال‬ ‫أدوار‪ ،‬وال ترتيب إخراجي ًا للمشاهد وبحسب‬ ‫ما سبقت اإلشارة‪ ،‬وإنما هناك توظيف‬ ‫للموديالت المأخوذة من الحياة‪ .‬أيض ًا فإن‬ ‫أبناء هذه الساللة ال بّد أن يدركوا بأن سمة‬ ‫الخلق التي يكثر الحديث حولها بين النقاد‪،‬‬ ‫تحتم النأي عن التشويه وحتى عن فكرة‬ ‫ّ‬ ‫اختراع أشخاص أو أشياء ال وجود لها في‬ ‫الواقع‪ ،‬ذلك ألن َفّن السينماتوغرافيا يؤمن‬ ‫بفكرة بناء عالقات جديدة بين األشخاص‬ ‫واألشياء انطالق ًا مما هي عليه في األصل‪.‬‬ ‫ومعنى هذا نزوع بريسون إلى التوثيق أكثر‬ ‫منه إلى التخييل‪ .‬وإن عملية الخلط بين‬ ‫ما هو حقيقي وزائف ال يمكن أن تنتج‬

‫في اعتقاد بريسون سوى الزيف‪ ،‬وهو ما‬ ‫بكل جماع‬ ‫يقاومه في مشروعه التنظيري ّ‬ ‫قوته‪.‬‬ ‫حارب بريسون الكثير مما هو سائد‬ ‫ومتعارف عليه بين أغلب السينمائيين‪.‬‬ ‫التحكم‬ ‫يتم‬ ‫فالوجه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المعبر للممثل‪ ،‬الذي ّ‬ ‫يتم تضخيمه‬ ‫به عند األداء التمثيلي‪ ،‬والذي ّ‬ ‫بالعدسة‪ ،‬إنما يوحي في اعتقاده بمبالغات‬ ‫مسرح الكابوكي‪ .‬وغير هذا فإن الممثل الذي‬ ‫تحطم سفينة عندما‬ ‫يتظاهر بالخوف من ّ‬ ‫تداهمها عاصفة بحرية حقيقية‪ ،‬ال يمكن أن‬ ‫يقنعنا‪ ،‬كما أننا لن نقتنع بالتالي بحقيقة‬ ‫يؤكد بأنه‬ ‫السفينة أو العاصفة‪ .‬ولقد َظّل ِّ‬ ‫ال ضرورة لمصاحبة الموسيقى للمشاهد‬ ‫والصور‪ ،‬وإنما على أصوات األشياء أن‬ ‫تكون هي الموسيقى التي على السينمائي‬ ‫االهتمام بها‪ .‬ومثل هذا الفهم يرتبط بقوله‪:‬‬ ‫إذا كانت السينما قد ابتكرت الصوت الذي‬ ‫انتقلت به من مرحلة إلى أخرى ُعّدت أكثر‬ ‫تطورًا من سابقتها التي كانت فيها صامتة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فإنه في مقدورها ابتكار الصمت من جديد‪،‬‬ ‫يتحول هذا الصمت فيه إلى نوع من‬ ‫بمعنى ّ‬ ‫ويفسر بريسون هذا بقوله‪:‬‬ ‫اإلبداع الكبير‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫مكررة‬ ‫نسخة‬ ‫يكون‬ ‫ال‬ ‫أن‬ ‫ينبغي‬ ‫«ما للعين‬ ‫ّ‬ ‫عما لألذن‪ .‬وبينما األذن (أذن المتفرج) تتجه‬ ‫كل ما هو داخلي في الفيلم‪ ،‬فإن‬ ‫دوم ًا إلى ّ‬ ‫عينه تتجه إلى ما هو خارجي مرئي قطعاً»‪.‬‬ ‫ومن هذا الفهم لفلسفة السينماتوغرافيا‬ ‫وجدلها الخاص‪ ،‬جاء قوله بضرورة أن ال‬ ‫يهب صوت لمساعدة صورة‪ ،‬وال صورة‬ ‫ّ‬ ‫لمساعدة صوت‪ ،‬أو في صيغة أخرى‪ :‬فإن‬ ‫ال من الصوت والصورة ينبغي أن ال يساند‬ ‫كً‬ ‫كل‬ ‫بعضهما البعض‪ ،‬بل يجب أن يعمل ّ‬ ‫منهما بالتعاقب عبر ما يسميه «ضرب من‬ ‫سباق التناوب»‪.‬‬ ‫أكد بريسون على وجوب التركيز على‬ ‫ّ‬ ‫الحركة في فيلم السينماتوغرافيا‪ ،‬على‬ ‫اعتبار أن مرأى الحركة يبهج‪ ،‬كمثل مرأى‬ ‫حركة الحصان والرياضي والطائر‪ .‬لكن‬ ‫مما يجب االنتباه إليه‪ ،‬اهتمام بريسون‬ ‫باألسلوب التعبيري‪ ،‬كمثل ترجمة الريح‬ ‫الالمرئية في الفيلم‪ ،‬من خالل تصوير‬ ‫حركة الماء التي تنحتها في عبورها من‬ ‫فوق مياه نهر مثالً‪ .‬ولهذا ففي مقدورنا القول‬ ‫في النهاية‪ ،‬بأن ال شيء ُيرجى من سينما‬ ‫راسية في المسرح‪ ،‬وهو القول الذي كثيرًا‬ ‫يردده بريسون‪ ،‬خالل بحثه عن الجديد‬ ‫ما ّ‬ ‫في السينما‪.‬‬ ‫‪149‬‬ ‫‪149‬‬


‫مقال‬

‫يضج بالرفض‬ ‫عالم‬ ‫ُّ‬ ‫د‪.‬أمينة التيتون*‬

‫مـن تعريفـات الرفـض أنـه حدث ال يحصل فيه الواحد منا على ما‬ ‫وتسـتثار‬ ‫يريـد‪ .‬ونتيجـة لهـذا الحـدث تتولّد أفـكار حول الرفض‪ُ ،‬‬ ‫نتعـرض للرفـض؟‬ ‫مشـاعر سـلبية‪ ،‬وتطـرح أسـئلة مثـل‪ :‬لمـاذا‬ ‫ّ‬ ‫نمر بها جميعاً‪ ،‬بغض النظر عن العمر‬ ‫وبالرغم من كونه تجربة ّ‬ ‫والنوع‪ ،‬والمسـتوى االجتماعي أو الثّقافي‪ ،‬أو االقتصادي‪ ،‬فإن‬ ‫البعـض يسـتطيع التعامـل مـع الرفـض‪ ،‬ويتجـاوزه؛ بينمـا يقع‬ ‫البعـض اآلخـر فـي شـراكه‪ ،‬فيكون من البائسـين‪ ،‬ألن الرفض قد‬ ‫يصـل إلـى إعاقة الحياة وإفسـادها‪.‬‬ ‫قسـم كيفـن جرنير الرفض إلى ثالثـة أنواع‪:‬‬ ‫فـي كتابـه «الرفض» ّ‬ ‫رفض يعني قصور القبول أو االستحسان لما يقوم به المرء من‬ ‫يعبر عنه بسلوك واضح‬ ‫عمل‪ ،‬أو ما ُيعرف برفض األداء‪ ،‬الذي قد ّ‬ ‫مثل الكلمات الجارحة أو الضرب‪ ،‬أو التوبيخ على الرسوب في‬ ‫االمتحان‪ ،‬أو الفصل من العمل‪ .‬والثاني رفض شخصي‪ ،‬يصعب‬ ‫تجـاوزه‪ ،‬لكونـه وجدانيـ ًا يضـرب جوهرنـا وبناءنـا النفسـي في‬ ‫الصميـم؛ كرفـض التعالـق‪ ،‬أو الـزواج‪ .‬أمـا النـوع الثالـث‪ ،‬وهـو‬ ‫األكثر شـيوعاً‪ ،‬فيأتي في صورة قصور في التشـجيع‪ ،‬التقدير‪،‬‬ ‫تعرض الشـخص لإلهمال‬ ‫االحتفـاء‪ ،‬المديـح والعرفـان؛ ويكفـي ُّ‬ ‫لكي يشـعر بهذا النوع من الرفض؛ بحيث إذا أنجز أحد مشـروع ًا‬ ‫مميـزًا وانتظـر الشـكر والثنـاء ولـم يجده‪ ،‬قد يعني ذلك بالنسـبة‬ ‫ّ‬ ‫فيكون شخصية‬ ‫يتحول إلى رفض شخصي ّ‬ ‫له رفضاً‪ .‬ويمكن أن ّ‬ ‫معاقة عاطفياً‪ .‬وسبب قوة هذا النوع من الرفض أننا غير واعين‬ ‫به فـي الغالب‪.‬‬ ‫كمـا يمكـن أن يكـون الرفـض متوارثـاً‪ ،‬فحيـن ال نتلقّـى التأكيـد‬ ‫والتشـجيع‪ ،‬عـادة مـا نتعلّـم منعـه عـن اآلخريـن أيضـ ًاً‪ ،‬وهكـذا‬ ‫جيلا بعـد جيـل‪ .‬والنتيجـة‬ ‫تبـدأ سلسـلة مـن الرفـض المتـوارث‬ ‫ً‬ ‫بيـوت وأسـر غيـر سـوية‪ ،‬ال يلقـى أفرادهـا مـا يكفـي مـن التأكيد‬ ‫الهوية فيعيشون في ضياع بال شعور بالذات‪،‬‬ ‫المطلوب لتكوين ّ‬ ‫وال يعرفـون علـى وجـه التحديـد مـن هـم ومـا الـذي يمكنهـم عمله‬ ‫فـي الحيـاة‪ .‬وقـد يمضـي مـن يعيـش مثل هـذا الحال عمـره يبحث‬ ‫‪150‬‬

‫عـن قبـول لـم يحصـل عليـه عندمـا كان صغيـراً‪ ،‬أو حتـى كبيـراً‪.‬‬ ‫فـآالم الرفـض مبرحـة‪ ،‬ألنهـا تنبـع من نفـس منطقة الدمـاغ التي‬ ‫يؤكد عالم النفس‬ ‫تنشـط عند الشـعور باآلالم الجسـدية‪ -‬حسـبما ّ‬ ‫االجتماعي بجامعة ميشيغان‪ ،‬إيثان كروس‪ -‬وما يضاعف األلم‬ ‫أن يأتي الرفض من أقرب الناس‪ ،‬كالوالدين أو اإلخوة أو شريك‬ ‫الحيـاة أو األصدقاء‪.‬‬ ‫كمـا يـرى جرنيـر فـي كتابه «الرفض» أننا نعيـش في عالم يضج‬ ‫بالرفـض‪ ،‬ويقـوم علـى مقاييس أداء؛ وبقـدر ما تلقّى الواحد منا‬ ‫مـن تعزيـز وتأكيـد يجد في هـذه المقاييس فرص ًا جديدة للنجاح‪،‬‬ ‫أو فرصـ ًا أخـرى للفشـل‪ .‬فمـا يجعـل رفـض األداء الـذي يمكـن أن‬ ‫نتعرض له أسـهل في التعامل من غيره من أنواع الرفض وجود‬ ‫ّ‬ ‫األصدقـاء واألهـل ممـن يدعموننـا ويشـجعوننا‪ .‬ولكـن فـي حالة‬ ‫ال على الرفض الشـخصي‬ ‫غيـاب هـؤالء‪ ،‬يصبـح رفـض األداء دلي ً‬ ‫يتعـرض للرفض؟‬ ‫التـام مـن جانـب اآلخريـن‪ .‬فماذا يفعل من ّ‬ ‫تشير الدالئل إلى أن معظمنا‪ ،‬ونتيجة لخبرات الرفض في حياتنا‪،‬‬ ‫ننمي أنماط ًا من السلوك نحاول من خاللها تحقيق بعض أهدافنا‬ ‫األساسـية لكـي نتجنّـب مزيدًا من الرفـض‪ ،‬ونحصل على التأكيد‬ ‫والتشجيع الذي نتطلع إليه‪ .‬والمشكلة هنا أن يصبح ما نقوم به‬ ‫من عمل عبارة عن ردود أفعال نحو شعور الرفض الذي نعيشه‪.‬‬ ‫وهـذا يعنـي أننـا نسـمح للرفـض‪ -‬حتـى لـو حـدث فـي الماضي‪-‬‬ ‫بقدر غير عادي من القوة المسيطرة على تفكيرنا وعلى سلوكنا‬ ‫وقراراتنا وحياتنا كلها‪ .‬وبرغم أن بعض ردود أفعالنا نحو الرفض‬ ‫مفيـدة فـي تحقيـق توافقنـا فـي الحيـاة‪ ،‬واسـتعادة توازننـا‪ّ ،‬إل‬ ‫تظـل غيـر مالئمة‪ ،‬والسـبب أنهـا ردود أفعال لرفـض ال يزال‬ ‫أنهـا ّ‬ ‫يهيمن علينا‪.‬‬ ‫يتعمـد البعض التسـويف والالمباالة‬ ‫وللتخفيـف مـن أثـر الرفض ّ‬ ‫قـرر الوقـوع في الفشـل‪ ،‬ومن ثم‬ ‫واالدعـاء‪ ،‬حتـى يكـون هـو مـن ّ‬ ‫الرفـض بـد ًال مـن انتظـاره أو الخـوف منـه‪ .‬ويهـدف هـذا السـلوك‬ ‫عمومـ ًا إلـى تجنُّـب الرفـض الشـخصي‪ ،‬الـذي قـد يبـدو حتميـاً‪،‬‬


‫العمل الفني «جاكسون بولوك»‬

‫قـرر أن‬ ‫بتحويلـه إلـى رفـض األداء؛ كأن يسـتغني عـن أحـد ألنـه ّ‬ ‫يقـوم بالعمـل بطريقتـه‪ ،‬وليـس كمـا يود مديـره‪ ،‬أو يختـار عدم‬ ‫ليبرر عدم نجاحه‪ ...‬ولكن بعد فترة من الممكن‬ ‫اجتياز االمتحان ّ‬ ‫المسوف الفشل‪ ،‬وتصبح فكرة النجاح غريبة عليه وغير‬ ‫أن يعتاد‬ ‫ِّ‬ ‫مريحة‪ .‬فمن الشائع للهروب من الرفض أن نتجنّب المخاطر؛ فال‬ ‫قل مما‬ ‫نكرر محاولة عمل شيء وجدنا فيه الرفض‪ .‬وربما نقبل َأ ّ‬ ‫ّ‬ ‫نسـتحق مـادام لـن يعرضنـا للرفـض الجارح مـرة أخـرى؛ أي أن‬ ‫نعيـش عند المسـتوى اآلمن‪ ،‬بعيـدًا عن خطر المغامرة‪ ،‬فنتجنّب‬ ‫الشـعور بألـم الرفـض الـذي نحملـه معنا من الماضـي ونخاف أن‬ ‫نعيشـه فـي المسـتقبل‪ .‬غيـر أن البحـث عـن الراحـة فـي أنشـطة‬ ‫وأماكن أخرى‪ ،‬عادة ما تكون راحة وهمية فهي ال تشفي جروح‬ ‫الرفـض‪ .‬فالتدخيـن‪ ،‬وإدمـان تناول الطعـام‪ ،‬واإلفراط في اللعب‬ ‫أو مشاهدة األفالم أو حتى االنخراط في أعمال تطوعية كأمثلة‪،‬‬ ‫ـل مشـكلتنا مـع الرفض‪ ،‬وكل مـا تفعله أنها‬ ‫لـن تسـاعدنا علـى َح ّ‬ ‫تجعلنا نتجنّبه‪.‬‬ ‫المتخصصون‬ ‫مها‬ ‫د‬ ‫يق‬ ‫التي‬ ‫الرفض‬ ‫مع‬ ‫التعامل‬ ‫مقترحات‬ ‫تدور أكثر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫حـول تجنُّـب أخـذ األمور على المحمل الشـخصي‪ ،‬فأحيان ًا نواجه‬ ‫الرفـض ألسـباب ال تتعلّـق بنـا‪ ،‬بـل بالطـرف اآلخـر واسـتعداده‬ ‫تعكر مزاجـه‪ ،‬أو لعدم وجود‬ ‫لقبولنـا‪ ،‬أو ربمـا لضيـق وقتـه‪ ،‬أو ُّ‬ ‫مـكان شـاغر لنـا‪ ،‬أو أن مـا قدمنـاه جيد‪ ،‬ولكـن ال يقابل المطلوب‬ ‫تماماً‪ .‬وهناك مقولة ترى «أن الرفض ال يعني بالضرورة أنك غير‬ ‫جيد‪ ،‬بل إن الطرف اآلخر قد فشل في معرفة ما يمكن أن تقّدمه»‪.‬‬ ‫آنسة فيليبس‪ ..‬لقد كنت مخطئة!‬ ‫مـن تجـارب الرفـض المؤثـرة مـا عاشـه المليارديـر بيتـر دانيـال‬ ‫في المدرسـة على يد معلمته اآلنسـة فيليبس التي كانت تصفعه‬ ‫وتركله وتنعته بالغبي‪ ،‬وتقول له‪ :‬لن تفعل شـيئ ًا في حياتك‪.‬‬ ‫وكان حينهـا صغيـرًا ونحيفـ ًا وغيـر واثق من نفسـه ويعاني من‬ ‫مشكالت وظيفية تعيق تعلُّمه‪ .‬ونتيجة لشعوره بالرفض وقسوة‬

‫ـل يتعثـر فـي حياتـه‪ ،‬حتـى أنه لم‬ ‫وظ ّ‬ ‫معلمتـه‪ ،‬تـرك المدرسـة‪َ ،‬‬ ‫يتمكن من تعلُّم القراءة والكتابة ّإل في عامه السادس والعشرين؛‬ ‫ّ‬ ‫غير أنه في النهاية اكتشـف موهبته في القدرة على اإلقناع التي‬ ‫مكنتـه مـن النجـاح في بيع العقارات واالنطلاق في الحياة حتى‬ ‫اسـتطاع جمـع ثـروة‪ ،‬بـل وأصبـح مـن المتحدثين األعلـى أجراً‪،‬‬ ‫حيـث يلقـي محاضراتـه في الجامعـات حول العالـم في موضوع‬ ‫التعامـل مـع الرفـض‪ .‬وقـد ألهمتـه معلمتـه بتأليـف كتـاب «آنسـة‬ ‫فيليبس‪ ،‬لقد كنت مخطئة»‪ .‬تحّدث فيه عن اآلنسة التي لم تهتم‬ ‫بفهم مشكلته‪ ،‬وحكمت عليه من منظورها الضيق؛ ونصح الناس‬ ‫يتحيزون في أحكامهم‪،‬‬ ‫أن ينتبهـوا لمـن هم على شـاكلتها‪ ،‬ممـن ّ‬ ‫وكأنهم يعلمون الغيب‪ .‬فمن وجهة نظره أن كل إنسـان يمكن أن‬ ‫ويتطور‪ ،‬ومادمنا أحياء‪ ،‬يمكن أن نتوقّع من اإلنجازات‬ ‫يتحسن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ما يدهشنا‪.‬‬ ‫كمـا ُف ِ‬ ‫ص َـل تومـاس إديسـون مـن عملـه‪ ،‬ألنه كان يجـري تجاربه‬ ‫وتـم االسـتغناء عـن‬ ‫سـراً‪ ،‬حيـث سـكب حمضـ ًا أفسـد األرضيـة‪ّ ،‬‬ ‫والـت ديزنـي لقصـور خيالـه وأفـكاره‪ .‬كما ُف ِ‬ ‫ـت أوبرا وينفري‬ ‫صَل ْ‬ ‫من تحرير األخبار لعدم قدرتها على فصل مشاعرها عن األحداث‪.‬‬ ‫وأيض ًا ُرِف َض ْت رواية تشارلز ديكنز «توقعات عظيمة»‪ ،‬ألن الناشر‬ ‫وجدهـا مملـة‪ ،‬والمصيـر نفسـه طـال عمـل جـورج أوريل الشـهير‬ ‫«مزرعة الحيوانات» بدعوى استحالة بيع قصص الحيوانات في‬ ‫أميركا‪ ،‬وأدى رفض سـتيف جوب إلى تأسـيس شـركته (آبل)‪...‬‬ ‫وكل هذه التجارب تعني أن رفضنا يمكن أن يوجهنا أحيان ًا ألمر‬ ‫أفضـل‪ ،‬كمـا يمكـن أن يعنـي كـون األفـكار الجديـدة مـن الـوارد أن‬ ‫ترفـض لعدم وجـود معايير للحكم عليها‪...‬‬ ‫* كاتبة ومترجمة بحرينية مقيمة في مصر‪.‬‬ ‫‪151‬‬


‫مدن‬

‫بريوت‬ ‫كما عرفتها منتصف الستينيات‬ ‫د‪ .‬عبدالعزيز املقالح‬

‫تصورك المسـبق عنها‪،‬‬ ‫بعـض المـدن تفاجئـك بكونهـا أحلى من‬ ‫ُّ‬ ‫ممـا كان عليه في‬ ‫وبعضهـا اآلخـر يفاجئـك بأنـه ّ‬ ‫أقـل في الواقع‪ّ ،‬‬ ‫األول‪ ،‬تفوق‬ ‫النـوع‬ ‫مـن‬ ‫مدينـة‬ ‫التصـور‪ .‬وبيـروت ‪-‬بلا مبالغـة‪-‬‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫تصور مسبق‪ .‬كانت النظرة األولى إليها من الطائرة‪،‬‬ ‫أي‬ ‫رؤيتها َّ‬ ‫ُّ‬ ‫وهـي نظـرة خاطفـة ال ُيعَتـّد بهـا فـي معرفـة المـدن‪ ،‬أو الوعـي‬ ‫بمصـادر جمالهـا‪ ،‬ومـا تقولـه المبانـي والشـوارع‪ ،‬ومـا تختزنـه‬ ‫جماليـات‪ ،‬ال تسـتوعبها النظـرة العابـرة‬ ‫الحـارات واألحيـاء مـن‬ ‫ّ‬ ‫الجـو أو حتـى مـن األرض‪ .‬وقـد كانـت بيـروت‪ ،‬فـي منتصف‬ ‫مـن ّ‬ ‫السـتينيات مـن القـرن المنصـرم واحـدة مـن المـدن العربيـة التـي‬ ‫تعيـش فـي أحالمـي‪ ،‬وأشـعر أننـي أعرفهـا‪ ،‬مـن خالل القـراءة‪،‬‬ ‫يتـردد فـي الكتابـات وفـي األحاديـث عـن سـاحة‬ ‫ومـن خلال مـا ّ‬ ‫الشـهداء وسـاحة البـرج‪ ،‬عـن الروشـة وشـارع الحمـراء ومغـارة‬ ‫جعيتا‪ ،‬ودور المطابع األشـهر أمثال دار الماليين‪ ،‬ودار اآلداب‪،‬‬ ‫ودار الطليعـة‪ ...‬إلـخ‪.‬‬ ‫الجو‪ ،‬في شـكل كتاب مفتوح؛ صفحته‬ ‫من‬ ‫كانـت بيـروت تبـدو‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫األولـى تعانـق البحـر بزرقته وأمواجه‪ ،‬وصفحته الثانية تعانق‬ ‫الجبـل باخضـراره ومهابتـه‪ .‬كمـا كانـت‪ -‬يومئـذ‪ -‬تعيش عصرها‬ ‫الذهبي‪ ،‬ثقافياً‪ ،‬وفكرياً‪ ،‬وسياسياً‪ ،‬واقتصادي ًا قبل أن ينـزلق بها‬ ‫وهم كثر‪ -‬إلى منحدر الصراعات الداخلية والصراعات‬‫اآلخرون‬ ‫ّ‬ ‫مطاطية يشارك‬ ‫الخارجية‪،‬‬ ‫وتتحول‪ ،‬بعد عشر سنوات‪ ،‬إلى كرة ّ‬ ‫ّ‬ ‫الصغـار والكبـار‪ ،‬فـي محاولـة منهـم لذبح‬ ‫ناتهـا‬ ‫بمكو‬ ‫فـي اللعـب ِّ‬ ‫ُ‬ ‫وحدتها الوطنية‪ ،‬وتقديمها قربان ًا لمصالح قوى متنفِّذة ال تريد أن‬ ‫الحرّية‪،‬‬ ‫تبقى في الوطن العربي واحة ُيَتنفَّس من خاللها أنسام ّ‬ ‫ويتبلور على ساحتها مفهوم الرأي والرأي اآلخر‪ ،‬وحتى ال يكون‬ ‫هذا الوطن على صلة وثيقة بالعصر الحديث وقيمه االجتماعية‪،‬‬ ‫‪152‬‬ ‫‪152‬‬

‫كل لبنان‪ -‬تمثِّل‬ ‫والسياسية‪ .‬وكان واضح ًا أن بيروت‪ -‬التي هي ّ‬ ‫البد مـن تدميره والقضاء على‬ ‫ذلـك األنمـوذج المتقـّدم‪ ،‬الـذي كان َّ‬ ‫كل جميل وبديع فيه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫صيفي ناعم قـادم من البحر‬ ‫نسـيم‬ ‫كان‬ ‫المدينـة‪،‬‬ ‫إلـى‬ ‫المطـار‬ ‫مـن‬ ‫ّ‬ ‫ينعش الصدور‪ ،‬ويعبر خفيف ًا نوافذ السيارة قبل أن تقف بجوار‬ ‫فنـدق «كارلتـون»‪ ،‬وهـو واحـد مـن أجمل فنادق بيـروت وأحدثها‬ ‫فـي حينـه‪ ...‬كنـت أصغر أعضاء وفد رسـمي‪ .‬لم أخضع لتعاليم‬ ‫سـكرتير الوفـد بالبقـاء فـي الغرفـة‪ ،‬وسـارعت إلـى الخـروج مـن‬ ‫الفنـدق مشـي ًا علـى األقـدام‪ ،‬أبحـث عـن بيـروت التـي أحببتها عن‬ ‫بعد‪ ،‬وحفظت‪ ،‬عن ظهر قلب‪ ،‬أسماء ميادينها وشوارعها‪ .‬كانت‬ ‫شـديدة النظافـة مغسـولة بميـاه األمطـار الصيفيـة‪ ،‬وكان أهلها‪:‬‬ ‫رجاالً‪ ،‬ونسـاء‪ ،‬يسـيرون بوقار‪ .‬ولم يكن فيها ما يذِّكرك بصمت‬ ‫صنعاء وخوائها‪ ،‬وال بصخب القاهرة وضوضائها‪ .‬صوت البحر‪،‬‬ ‫بالقرب من صخرة الروشـة‪ ،‬يبدو هادئ ًا َّ‬ ‫إال من موجات صغيرة‬ ‫تضرب في صخور الشاطئ برفق‪ .‬يتوارد الناس زرافات ووحدان ًا‬ ‫إلى هذا المكان السـاحر مع أطفالهم الذين يشـبهون الزهور‪.‬‬ ‫قبـل العـودة إلـى الفنـدق‪ ،‬مررت بإحـدى المكتبـات القريبة منه‪،‬‬ ‫حظي أنني‪،‬‬ ‫واشـتريت كتابيـن وعـددًا مـن‬ ‫المجلت‪ .‬ومن حسـن ّ‬ ‫ّ‬ ‫كل أعضـاء الوفد نائمين‪ ،‬في‬ ‫عندمـا رجعـت إلـى الفندق‪ ،‬وجـدت ّ‬ ‫انتظـار سـهرة‪ ،‬قـام بترتيبها رجـل أعمال لبناني كان على عالقة‬ ‫قديمـة برئيس الوفد‪.‬‬ ‫كانت لي‪ -‬قبل زيارتي لبيروت‪ -‬مئات األحالم العزيزة على القلب‪،‬‬ ‫المفكر العظيم ميخائيل نعيمة‪ ،‬ناسك الشخروب الذي‬ ‫منها زيارة ِّ‬ ‫اعتـزل العالـم‪ ،‬واختـار أن يعيـش نصـف عمره في منــزل يشـبه‬ ‫ويتأمـل ويحـاول أن يقـول للبشـرية السـادرة في‬ ‫الكهـف‪ ،‬يكتـب‬ ‫َّ‬


‫غيهـا بعـض الكلمـات التـي ذهبـت مـع ريـاح جبل «صنّيـن»‪ ،‬ولم‬ ‫ِّ‬ ‫الطيبة التي علقت في نفوس‬ ‫تترك سوى القليل جّدًا من األصداء ِّ‬ ‫عدد من المثقَّفين الذين اسـتوعبوا جزءًا من رسـالته اإلنسـانية‪،‬‬ ‫أهمّيتها‪ ،‬ليس بالنسبة إلى العرب وحدهم‪ ،‬بل بالنسبة‬ ‫وأدركوا ّ‬ ‫إلى العالم أجمع‪ .‬وما آسف له أن تلك األمنية لم تتحقَّق؛ فقد كان‬ ‫التمرد عليه‪،‬‬ ‫ارتباطـي ببرنامـج الوفد ِّ‬ ‫مقيـدًا لي‪ ،‬رغم محاوالتي ُّ‬ ‫تمكننـي مـن االبتعـاد كثيـرًا عـن المدينة وعن‬ ‫ولكـن فـي حـدود ال ِّ‬ ‫أمـا األمنية الثانية لـي فقد كانت‬ ‫منطقـة الفنـدق الـذي نزلنـا فيـه‪ّ .‬‬ ‫زيـارة قريـة «بسـكنتا» تلـك التـي ُوِلـد فيها جبران خليـل جبران‪،‬‬ ‫وحمـل منهـا حكمـة الحرف وجمـال الكلمة وإيحاءات الريشـة إلى‬ ‫أنحـاء العالـم‪ .‬لكـن هـذه األمنيـة لـم تتحقّـق‪ -‬أيضـاً‪ -‬مـع أمنيات‬ ‫أخـرى‪ ،‬طويتهـا فـي القلـب انتظارًا لرحالت قادمـة‪ ،‬ومنها زيارة‬ ‫دار اآلداب‪ ،‬حيـث تصـدر المجلّـة األشـهر والتـي حملت محاوالتي‬ ‫قراء العربية‪ ،‬وكانت نافذة للمبدعين العرب‪،‬‬ ‫الشعرية األولى إلى ّ‬ ‫من مشـرق الوطن العربي ومغربه‪.‬‬ ‫تضمَنهـا برنامـج الزيارة كانت حفلة غـداء في الجبل‬ ‫أجمـل فقـرة َّ‬ ‫بالقـرب مـن «صنّيـن»‪ ،‬أشـهر جبال لبنـان وأكثرها ارتفاعـاً‪ ،‬وقد‬ ‫مطلا‪ ،‬قـدر اإلمـكان‪ ،‬علـى مشـاهد مـن‬ ‫روعـي أن يكـون المطعـم ّ ً‬ ‫بيروت والمناطق القريبة منها‪ .‬كان منظرًا فاتن ًا يأخذ باأللباب‪،‬‬ ‫وأن تـرى تفاصيـل المدينـة أو جـزءًا مـن تفاصيلهـا وامتدادتهـا‬ ‫وتعرجاتها من مكان ثابت غير عابر‪ ،‬كما هو الحال مع الطائرة‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫فإنـه يصعـب علـى الكلمـات نقـل مؤثِّراتـه ومـا يتركه مـن انطباع‬ ‫وترهلت‪ ،‬وزحفت على مساحات‬ ‫بديع‪ .‬لم تكن بيروت قد َّاتسعت‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫واسـعة مـن الضـوء واالخضرار‪ .‬وبعـد دقائق من تناولنا الغداء‪،‬‬ ‫فـي ذلـك المنعطـف الهـادئ مـن الجبـل‪ ،‬بـدأت األمطـار الغزيـرة‬

‫دف َعنـا‪ ،‬مـع قطراتـه األولـى‪ ،‬إلـى االنتقـال إلـى‬ ‫فـي الهطـول؛ مـا َ‬ ‫داخل المطعم الزجاجي لنتابع أجمل مشهد يمكن أن ُيتاح للبشر‬ ‫االستمتاع به‪ :‬كانت السيول تتدفَّق‪ ،‬وتأخذ مجراها إلى األسفل‪،‬‬ ‫وربما إلى البحر‪ .‬وفجأة توقَّف المطر‪،‬‬ ‫ربما إلى بعض الوديان‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫تعطر‬ ‫وأشرقت الشمس‪ .‬وفي طريق العودة‪ ،‬كانت رائحة المطر ِّ‬ ‫الجـو‪ ،‬وتنعـش الصدور‪ ،‬وبدأت أشـجار الفاكهـة المزروعة على‬ ‫ّ‬ ‫نقية‬ ‫للعين‬ ‫فتبدو‬ ‫ميـاه‪،‬‬ ‫من‬ ‫بها‬ ‫علق‬ ‫مـا‬ ‫تنفـض‬ ‫الطريـق‬ ‫جوانـب‬ ‫ّ‬ ‫وناصعة شفَّافة‪.‬‬ ‫يـر بيـروت مـن أقـرب مـكان لهـا فـي الجبـل ال يمكـن لـه‬ ‫إن مـن لـم َ‬ ‫االدعاء بأنه رآها تماماً‪ ،‬أو استوعب تكوينها الديموغرافي‪ ،‬كمدينة‬ ‫ّ‬ ‫أحس َن اإلنسان اختيار موقعها من ناحية‪ ،‬وأغدقت الطبيعة‬ ‫عربية‪،‬‬ ‫َ‬ ‫عليها من الجمال ما يفيض عن حاجتها‪ ،‬من ناحية ثانية‪ .‬وهنا‪،‬‬ ‫تجدر اإلشـارة إلى دور اإلنسـان وموهبته في توظيف اإلمكانات‬ ‫هم‬ ‫الجماليـة للموقـع‪ ،‬واإلفـادة من ّ‬ ‫كل ربوة أو صخرة‪ ،‬فالبشـر ّ‬ ‫وحدهم الذين يصنعون مدنهم لتكون قريبة من الوجدان‪ ،‬وكم من‬ ‫وسَـلبها‬ ‫مدينة عربية أو أجنبية أفسـدها الذوق المتخلِّف ألبنائها َ‬ ‫ال‬ ‫خصوصيتها!‪ .‬وال يكفي‪ -‬على اإلطالق‪ -‬أن يكون الموقع جمي ً‬ ‫ّ‬ ‫ّية تأسـر الروح قبل العين‪ .‬وما كان لبيروت‬ ‫ن‬ ‫ف‬ ‫لمسـة‬ ‫من‬ ‫إذا خال‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫هـذه اللوحـة المبهـرة أن تكـون علـى مـا هـي عليـه مـن دون تلـك‬ ‫ّية التي رافقت نشـوءها‪ ،‬وأفادت من الذوق العالي‬ ‫اللمسـات َ‬ ‫الفنّ‬ ‫أهـم انطباع خرجت به من‬ ‫والـذكاء ّ‬ ‫اللمـاح ألبنائهـا‪ .‬وال أخفـي أن ّ‬ ‫تلـك الزيـارة القصيـرة كان يتمحـور حـول نظافـة بيـروت ذلـك‬ ‫أول انطباع وآخر‬ ‫الزمـان‪ ،‬وال غرابـة فـي أن هـذا الشـرط يعكـس َّ‬ ‫انطبـاع عن المـدن الراقية واألرقى‪.‬‬ ‫‪153‬‬ ‫‪153‬‬


‫تاريخ‬

‫التعا ُيش يف القدس‬ ‫خالل القرن العرشين‬

‫إبراهيم صقر الزعيم‬

‫(باحث يف شؤون القدس)‬ ‫قـّدم اإلسلام نمطـ ًا تربويـ ًا اجتماعيـ ًا فريـداً‪ ،‬مـن خلال تحديـد‬ ‫مبـادئ الشـريعة اإلسلامية‪ ،‬التـي تصـوغ العالقـات اإلنسـانية‬ ‫فـي أي مجتمـع‪ ،‬فأرسـى بذلـك أصـو ًال ثابتـة فـي رؤيـة الكـون‬ ‫والحيـاة والعالقـات بيـن األحيـاء‪.‬‬ ‫إن العالقـات اإلنسـانية فـي اإلسلام‪ ،‬تنطلـق من رؤية فلسـفية‬ ‫والفكرية‪ ،‬واالعتراف‬ ‫تقوم على أساس احترام التعّددية الدينية‬ ‫ّ‬ ‫اإليجابـي باآلخـر‪ ،‬وذلـك فـي إطـار السـعي إلـى بنـاء حضـارة‬ ‫اجتماعيـة‪ ،‬تعمل لخير البشـرية‪.‬‬ ‫وقـد امتثـل المسـلمون فـي القـدس لهـذه المبـادئ‪ ،‬ولذلـك نجد أن‬ ‫تحولت إلى واقع معيشي‪،‬‬ ‫النصوص الشرعية والمبادئ التربوية‪ّ ،‬‬ ‫تتجلّى صوره في الحياة الدينية واالجتماعية في المدينة‪.‬‬ ‫وقبـل أن أبـدأ الحديـث فـي عنـوان هـذا المقـال‪ ،‬أنتقـل بالقـارئ‬ ‫التعايـش السـلمي‪.‬‬ ‫الكريـم‪ ،‬لنتعـرف إلـى مفهـوم‬ ‫ُ‬

‫مفهوم التعايُش السلمي‪:‬‬ ‫جاء في «لسان العرب» البن منظور «العيش الحياة‪ ...،‬وعايشه‬ ‫أي عاش معه‪ ،‬والعيشة ضرب من العيش‪ُ ،‬يقال‪ :‬عاش عيشة‬ ‫‪154‬‬

‫صدق وعيشـة سـوء‪ .‬وفي المعجم الوسـيط «تعايشـوا‪ :‬عاشوا‬ ‫على األلفة والمودة‪.‬‬ ‫التعايـش السـلمي‪ ،‬فـي‬ ‫أمـا د‪.‬عبـد العزيـز التويجـري فيعـرف‬ ‫ُ‬ ‫والتعايـش بيـن األديـان في أفق القـرن الحادي‬ ‫كتابـه «اإلسلام‬ ‫ُ‬ ‫والعشـرين»‪ ،‬بأنه اّتفاق طرفين على تنظيم وسـائل الحياة في‬ ‫مـا بينهمـا وفـق قاعـدة يحددانهـا‪ ،‬وتمهيد السـبل المؤديـة إليها‪.‬‬ ‫أسـس اإلسلام عالقـة المسـلمين بغيرهـم علـى المسـالمة‬ ‫وقـد ّ‬ ‫واألمان‪ ،‬فهو ال يجيز قتل النفس لمجرد أنها تدين بغير اإلسالم‪،‬‬ ‫بل يأمر أتباعه معاملة مخالفيهم بالحسنى ومبادلتهم المنافع‪،‬‬ ‫اك ُـم َُّ‬ ‫يـن َل ْـم‬ ‫الل َع ِ‬ ‫وهـذا واضـح مـن قولـه تعالـى‪َ :‬‬ ‫﴿ل َيْنَه ُ‬ ‫ـن َّالِذ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫وه ْـم‬ ‫ر‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫ـم‬ ‫ك‬ ‫ار‬ ‫ي‬ ‫د‬ ‫ـن‬ ‫م‬ ‫ـم‬ ‫الد ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫وك ْـم ِفـي ِّ‬ ‫يـن َوَل ْـم ُي ْخِر ُج ُ‬ ‫ُيَقاِتُل ُ‬ ‫َ ُْ‬ ‫وك ْ‬ ‫َ َ ُّ ُ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ين﴾ (الممتحنـة‪.)8:‬‬ ‫َوُتْق ِس ُ‬ ‫ْمْقسـط َ‬ ‫ـطوا ِإَلْيه ْ‬ ‫ِـم ِإ َّن الل ُيحُّـب الُ‬ ‫أمـا دليلـه مـن السـنة‪ ،‬فقـد روى أبـو داود بسـند صحيـح عـن‬ ‫ـن َظَل َـم ُم َع ِ‬ ‫اهـ ًدا‪،‬‬ ‫النبـي (صلـى اهلل عليـه وسـلم) أنـه قـال‪َ« :‬أَل َم ْ‬ ‫يب‬ ‫اقِتِه‪َ ،‬أ ْو َأ َخَذ ِمْن ُه َش ْـيئًا ِب َغْيِر ِط ِ‬ ‫َأ ْو ْانَتَق َص ُـه‪َ ،‬أ ْو َكلَ​َّف ُـه َف ْـو َق َط َ‬ ‫امِة»‪.‬‬ ‫َنْف ٍ‬ ‫يج ُـه َي ْـو َم اْلِقَي َ‬ ‫ـس‪َ ،‬فَأَنـا َح ِج ُ‬ ‫سـأفصل الحديث‬ ‫التعايش السـلمي‪،‬‬ ‫وبعـد التعـرف إلـى مفهـوم‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫التعايش‬ ‫هي‪:‬‬ ‫محاور‪،‬‬ ‫ثالثة‬ ‫خالل‬ ‫من‬ ‫في موضوع هذا المقال‪،‬‬ ‫ُ‬


‫والتعايش الفكري‪.‬‬ ‫والتعايش االجتماعي‪،‬‬ ‫الدينـي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫أ َّو ًال‪ :‬التعايُش الديني‪:‬‬ ‫حظيت الحياة الدينية في القدس في العهود اإلسالمية المتعاقبة‬ ‫الحرّيـة‪ ،‬فلـكل ديانـة الحـق فـي بنـاء أماكـن العبـادة‪،‬‬ ‫بكامـل ّ‬ ‫بحرّيـة تامة‪.‬‬ ‫الدينيـة‬ ‫الشـعائر‬ ‫وممارسـة‬ ‫ّ‬

‫المقدسات اإلسالمية والمسيحية‪:‬‬ ‫تضـم القـدس العديـد مـن اآلثار اإلسلامية‪ ،‬التـي تتمتع بتعظيم‬ ‫المسلمين‪ ،‬أبرزها المسجد األقصى المبارك‪ ،‬كما أن فيها مجموعة‬ ‫مـن اآلثـار المسـيحية‪ ،‬أهمهـا كنيسـة القيامـة‪ ،‬التـي ُش ِّـيَد ْت عام‬ ‫‪335‬م‪.‬‬ ‫الحرّية‬ ‫كفلت‬ ‫التي‬ ‫والسنة‪،‬‬ ‫الكتاب‬ ‫نصوص‬ ‫ننزل‬ ‫أن‬ ‫أردنا‬ ‫وإذا‬ ‫ّ‬ ‫كل فريق في ممارسة‬ ‫المسلم‪،‬‬ ‫البلد‬ ‫داخل‬ ‫ّة‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫لكل‬ ‫الدينية‬ ‫وحرّية ّ‬ ‫ّ‬ ‫شـعائره الدينيـة‪ ،‬علـى الواقـع فـي مدينة القدس‪ ،‬فإننـا نجد أن‬ ‫المسلمين حفظوا للمسيحيين هذا الحق‪ ،‬فعلى سبيل المثال ذكرت‬ ‫سيرين شهيد في كتابها «ذكريات من القدس» أن حي المصرارة‬ ‫بالقـدس‪ ،‬تختلـط فيـه أصـوات أجـراس الكنيسـة األرثوذكسـية‬ ‫باألذان المنبعث من المساجد المجاورة‪.‬‬ ‫ولم يتوقّف األمر عند ذلك‪ ،‬فقد ورد في كتاب «الوجود المسيحي‬ ‫فـي القـدس خلال القرنيـن التاسـع عشـر والعشـرين»‪ ،‬للمؤلِّـف‬ ‫رؤوف أبو جابر‪ ،‬أن المسـلمين عرفوا حق إخوانهم المسـيحيين‬ ‫في المدينة‪ ،‬في الحفاظ على مقدساتهم‪ ،‬فعند ترميم قبة الصخرة‬ ‫المشرفة بكلفة زادت على السبعمئة ألف دينار‪ُ ،‬جِم َع ْت من العالم‬ ‫العربي واإلسالمي عام ‪1958‬م‪َ ،‬تّمت أيض ًا صيانة بناية كنيسة‬ ‫القبـر المقـدس‪ ،‬بتكلفة زادت على نصف مليـون دينار ُجِم َع ْت من‬ ‫الهيئات المسيحية الثالث‪ ،‬وهي‪ :‬األرثوذكس‪ ،‬والالتين‪ ،‬واألرمن‪.‬‬ ‫وفـي مقابلـة خاصـة مـع د‪ .‬جميـل حمامـي (محاضر فـي جامعة‬ ‫القدس وعضو الهيئة اإلسلامية المسـيحية)‪ ،‬اعتبر أن السـر في‬ ‫تلـك المعاملـة الفريـدة‪ ،‬يعـود إلـى إرث المسـلمين العظيـم فـي‬ ‫عالقتهـم بأصحـاب الديانـات‪ ،‬ونظرتهـم للمسـيحيين علـى أنهم‬ ‫مواطنـون لهـم كامـل الحقـوق‪ ،‬وينبغـي أن يكـون التعامل معهم‬ ‫نابعـ ًا مـن الفهـم الديني لآلخـر واحترامه‪.‬‬ ‫التعايش‬ ‫وسـمو‬ ‫صفاء‬ ‫بـل إن كنيسـة القيامـة أكبـر شـاهد علـى‬ ‫ُ‬ ‫الدينـي بيـن المسـلمين والمسـيحيين‪ ،‬فقـد ارتضـى المسـلمون‬ ‫والمسـيحيون أن تكـون مفاتيـح كنيسـة القيامـة‪ ،‬مؤتمنـة منـذ‬ ‫أجيال عديدة بيد عائلتين مسلمتين‪ ،‬هما‪ :‬نسيبة وجودة‪ ،‬وذلك‬ ‫بنـاء علـى طلـب جميـع الطوائف المسـيحية‪.‬‬ ‫فمـن بـاب حرص المسـلمين على األمن واالسـتقرار فـي المدينة‪،‬‬ ‫سـلم صلاح الديـن األيوبـي مفاتيـح الكنيسـة إلـى عائلة غضيه‬ ‫«جودة» لالحتفاظ بالمفتاح‪ ،‬وآل نسيبة لفتح الباب وإغالقه‪ ،‬ثم‬ ‫إعادة المفتاح آلل غضيه‪ ،‬كما ورد في كتاب «الحياة االجتماعية‬ ‫في القدس في القرن العشـرين»‪ ،‬للمؤلِّف صبحي غوشـة‪.‬‬ ‫ولمعرفة دور المسـيحيين في الدفاع عن المقدسـات اإلسلامية‪،‬‬ ‫مـن وجهـة نظـر المسـلمين‪ ،‬أجـرى الباحـث مقابلـة مـع د‪ .‬ناجح‬ ‫بكيرات (مدير المسـجد األقصى المبارك)‪ ،‬قال فيها إن األب عطا‬

‫مـرة فـي الوقت‬ ‫اهلل حنـا زار المسـجد األقصـى المبـارك أكثـر مـن ّ‬ ‫الحاضر‪ ،‬وعندما كان ُيمنع من دخوله‪ ،‬كان يشارك في وقفات‬ ‫احتجاجية‪ ،‬تعقبها مصادمات مع االحتالل اإلسرائيلي‪ ،‬فيدخل‬ ‫رغم أنف الشرطة إلى داخل المسجد‪ ،‬متحّدي ًا ادعاءات االحتالل‪،‬‬ ‫أنه ال يجوز للمسـيحي الدخول إلى األقصى‪.‬‬ ‫موحدًا في وجه المخططات‬ ‫كان التضامن اإلسلامي المسـيحي ّ‬ ‫اإلسـرائيلية‪ ،‬التي تسـتهدف المقدسات اإلسالمية والمسيحية‪،‬‬ ‫يعضـد هـذا مـا ورد فـي مقابلـة أجراهـا الباحـث مـع د‪ .‬عكرمـة‬ ‫صبري (خطيب المسجد األقصى المبارك)‪ ،‬حيث قال إن المسلمين‬ ‫والمسيحيين كانوا يعقدون مؤتمرات صحافية مشتركة‪ ،‬يشارك‬ ‫فيهـا مسـلمون ومسـيحيون؛ لفضـح الممارسـات اإلسـرائيلية‬ ‫الخطيـرة فـي القـدس‪ ،‬والتحذير من االعتداءات على المقدسـات‬ ‫اإلسلامية والمسـيحية‪ ،‬ونتيجـة لهـذه الوحـدة اإلسلامية‬ ‫يهب كله للوقوف في وجه‬ ‫المسـيحية‪ ،‬كان الشـعب الفلسـطيني ّ‬ ‫االحتلال سـواء كان االعتـداء على مسـجد أو كنيسـة‪.‬‬ ‫وهنـا يمكـن أن نعـود فـي تفسـير تلـك المواقـف‪ ،‬إلـى المنهـج‬ ‫وحرّية مزاولة‬ ‫حرّية اختيار الدين‪ّ ،‬‬ ‫التربوي النبوي‪ ،‬الذي قرر ّ‬ ‫الشـعائر الدينيـة‪ ،‬وهـي أصـل مـن أصـول اإلسلام‪ ،‬فال ُينسـب‬ ‫إلـى النبـي ﷺ أنـه حمـل أحـدًا علـى اعتنـاق اإلسلام‪ .‬وفـي هـذا‬ ‫ْغ ِّي َفَم ْن‬ ‫الد ِ‬ ‫يقـول تعالـى‪َ :‬‬ ‫ـن ال َ‬ ‫﴿ل ِإْك َـر َاه ِفـي ِّ‬ ‫الر ْش ُـد ِم َ‬ ‫ين َقْد َتَب َّي َن ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬ ‫ْ‬ ‫ْوْثَقى َل‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ة‬ ‫و‬ ‫ـر‬ ‫ْع‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ب‬ ‫ـك‬ ‫س‬ ‫م‬ ‫ت‬ ‫اس‬ ‫د‬ ‫ق‬ ‫ف‬ ‫الل‬ ‫ب‬ ‫ـن‬ ‫م‬ ‫ؤ‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫ـوت‬ ‫َيْكُف ْـر ِب َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫الط ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ َْ ُ‬ ‫اغ ِ َ ُ‬ ‫ْ َْ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫يم﴾ (البقـرة‪.)256:‬‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫يع‬ ‫ـم‬ ‫س‬ ‫الل‬ ‫و‬ ‫ـا‬ ‫ه‬ ‫َ ٌ َ ٌ‬ ‫ـام َلَ َ‬ ‫ْانِف َص َ‬

‫األعياد اإلسالمية والمسيحية‪:‬‬ ‫يقول صبحي غوشة‪ ،‬في كتابه «الحياة االجتماعية في القدس‬ ‫كل عـام بعيـد‬ ‫فـي القـرن العشـرين»‪ ،‬إن المسـيحيين يحتفلـون ّ‬ ‫الفصح المجيد‪ ،‬وهو العيد الكبير بالنسبة للمسيحيين‪ ،‬وتجرى‬ ‫فيه االحتفاالت لمدة أسـبوع أو أكثر‪ ،‬وما يزيد هذه االحتفاالت‬ ‫بهجـة هـو اقترانهـا بموسـم النبـي موسـى‪ ،‬الـذي بـدأه صلاح‬ ‫الدين األيوبي بعد تحرير القدس‪ ،‬فكان المسلمون والمسيحيون‬ ‫يحتفلـون بأعيادهم بكل وئام‪.‬‬ ‫كمـا كان المسـيحيون يشـاركون المسـلمين فـي احتفـاالت شـهر‬ ‫رمضـان المبـارك‪ ،‬ومـن بينهـا عائلـة جوهرية (مسـيحية) التي‬ ‫كانت تشارك العائالت المسلمة في سهرات رمضان‪ ،‬وفي ذلك‬ ‫يقـول واصـف جوهريـة فـي مذكراتـه‪« :‬كنـت وإخوانـي نشـارك‬ ‫في حفلة الذكر في مقام الشـيخ ريحان المجاور لدار الجوهرية‬ ‫وننشـد معهم األناشـيد الدينية»‪.‬‬ ‫وهنـا يذكـر لنـا د‪ .‬ناجـح بكيرات‪ ،‬في المقابلة معه‪ ،‬أن مدرسـة‬ ‫كل سنة إفطارًا جماعي ًا في شهر‬ ‫الفرير (مدرسة مسيحية) تقيم ّ‬ ‫رمضان المبارك‪ ،‬تشرف عليه الطوائف المسيحية‪ ،‬وتدعو إليه‬ ‫كل مـن‪ :‬مجلـس األوقاف‪،‬‬ ‫مجلـس األوقـاف‪ ،‬وفـي المقابـل دأب ّ‬ ‫الـذي يرأسـه عبدالعظيـم سـلهب‪ ،‬والهيئـة اإلسلامية‪ ،‬التـي‬ ‫يرأسها الشيخ عكرمة صبري‪ ،‬على توجيه دعوات للمسيحيين‬ ‫تخـص القدس‪.‬‬ ‫للمشـاركة فـي بحـث القضايا التي‬ ‫ّ‬ ‫كان ذلك التآخي بين أبناء الديانتين‪ ،‬من منطلق القاعدة التربوية‬ ‫المفكـر اإلسلامي‬ ‫اإلسلامية‪ ،‬أن االختلاف سـنة كونيـة‪ .‬يقـول ّ‬ ‫محمـد عمـارة إن هـذه التعّدديـة هـي في إطـار وحـدة األصل الذي‬ ‫‪155‬‬


‫خلقه اهلل سبحانه وتعالى‪ .‬فاإلنسانية التي خلقها اهلل من نفس‬ ‫تتنوع إلى شعوب وقبائل وأمم وأجناس وألوان‪ .‬وثقافات‬ ‫واحدة ّ‬ ‫وحضارات في إطار المشـترك اإلنسـاني الواحد‪ ،‬الذي ال تختلف‬ ‫تتنـوع إلـى عـادات وتقاليد وأعـراف متمايزة‬ ‫فيـه الثقافـات‪ .‬كمـا ّ‬ ‫حتـى داخل الحضـارة الواحدة‪ ،‬بل والثّقافة الواحدة‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬التعايُش االجتماعي‪:‬‬ ‫التعايـش االجتماعـي بيـن المسـلمين والمسـيحيين فـي‬ ‫شـكل‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫القـدس‪ ،‬ركيـزة أساسـية مـن ركائـز التربيـة في المجتمـع‪ ،‬فقد‬ ‫عاش المسلمون والمسيحيون جنب ًا إلى جنب منذ الفتح اإلسالمي‬ ‫وحتـى هـذا التاريـخ‪ .‬وفـي هـذا اإلطـار تذكـر عبلـة المهتـدي فـي‬ ‫كتاب «القدس والحكم العسكري البريطاني (‪1920 - 1917‬م)‪ ،‬أن‬ ‫بيوت المسلمين والمسيحيين متجاورة مع بعضها البعض في‬ ‫بيت المقدس‪ ،‬ففي األحياء اإلسالمية تعيش عائالت مسيحية‪،‬‬ ‫وفـي حـارة النصارى تعيش عائالت مسـلمة‪.‬‬

‫العالقات االجتماعية بين المسلمين‬ ‫والمسيحيين‪:‬‬ ‫يـرى الباحـث أن هـذا االختلاط فـي أماكـن السـكن جعـل العادات‬ ‫االجتماعيـة واحـدة‪ ،‬فمـن خلال تصفُّح صفحات كتـاب «القدس‬ ‫العثمانية في المذكرات الجوهرية»‪ ،‬للمؤلِّفين عصام نصار وسليم‬ ‫‪156‬‬

‫تبين أن المسيحيين والمسلمين كانوا يرتدون الطربوش‪،‬‬ ‫تماري ّ‬ ‫وممـن كانـوا يحافظـون علـى هـذه العـادة مـن أبناء طائفـة الروم‬ ‫األرثوذكـس‪ :‬جـورج أبـو زخريـا‪ ،‬وإليـاس المشـبك‪ ،‬وخليـل‬ ‫السكاكيني‪ ،‬ومن طائفة الالتين والروم الكاثوليك‪ :‬متيا سروفيم‪،‬‬ ‫وأنطـون سـروفيم‪ ،‬وحنـا بطاطـو‪ ،‬ومن المسـلمين‪ :‬عبد السلام‬ ‫طوقان الحسيني‪ ،‬وموسى كاظم الحسيني‪ ،‬وراغب النشاشيبي‪.‬‬ ‫يقـول رفيـق خـوري (كاهـن والهوتـي فلسـطيني‪ ،‬مـن كهنـة‬ ‫البطريركيـة الالتينيـة – القـدس) فـي مقابلـة خاصـة معـه‪« :‬إن‬ ‫العالقات الوطيدة بين العائالت المقدسية العريقة‪ ،‬دائمة وتمتد‬ ‫كل عائلة مسـلمة كان لها‬ ‫جذورهـا إلـى أجيـال‪ ،‬ويمكـن القول إن ّ‬ ‫رديـف مسـيحي‪ ،‬فـي الحيـاة االجتماعيـة‪ ،‬وغيرها»‪.‬‬ ‫سطرها‬ ‫ومن ذلك أنهم كانوا يتزاورون في ما بينهم‪ ،‬ففي رسالة ّ‬ ‫خليل السـكاكيني في يومياته‪ ،‬البنه «سـري» عندما كان يدرس‬ ‫في أميركا‪ ،‬أن موسى العلمي وزوجته ورجائي الحسيني زاروا‬ ‫بيته‪ ،‬وأن عادل جبر وموسى العلمي زاراه‪ ،‬ثم انطلقا إلى بيت‬ ‫كمال إسماعيل عضو المجلس اإلسالمي األعلى‪.‬‬ ‫كان المسـلمون والمسـيحيون فـي القـدس‪ ،‬يتقاسـمون الطعـام‬ ‫والشـراب فـي األوقـات الصعبـة‪ ،‬وفـي المناسـبات يقفـون مـع‬ ‫بعضهم البعض‪ ،‬وهذا ما حدث مع عائلة جوهرية (المسيحية)‪،‬‬ ‫حيـث كان الرجـال والنسـاء مـن العائلات المسـلمة التـي كانـت‬ ‫تجاورهـم يزورونهـم فـي األفراح واألتـراح‪ ،‬ومن هذه العائالت‪:‬‬ ‫عبـد القـواس الـداودي‪ ،‬ومصطفـى الصالحانـي‪ ،‬والسـمان‪،‬‬


‫واألنصـاري‪ ،‬وذلـك وفـق مـا ورد في كتـاب «القدس العثمانية‬ ‫فـي المذكـرات الجوهريـة (‪1904-1917‬م)»‪ ،‬للمؤلِّفيـن سـليم‬ ‫تمـاري وعصـام نصـار‪.‬‬ ‫حـب المسـلمين والمسـيحيين‬ ‫ظهـر‬ ‫الـزواج‬ ‫وفـي مناسـبات‬ ‫ّ‬ ‫للقـدس‪ ،‬مـن خالل األهازيج الشـعبية‪ ،‬ورغـم أنها كانت ذات‬ ‫صبغـة اجتماعيـة فـي مناسـبات الـزواج‪ ،‬لكنهـا كانـت تحمـل‬ ‫سياسـية‪ ،‬د‪ .‬ناديـة البطمـة‪ ،‬تقـّدم‬ ‫معانـي دينيـة‪ ،‬ودالالت‬ ‫ّ‬ ‫لنـا فـي مقالهـا «صفحـات ثقافيـة مقدسـية مطويـة قبـل نكبـة‬ ‫‪1948‬م»‪ ،‬نموذج ًا من هذه األهازيج‪ ،‬فهذه األغنية كان يغنيها‬ ‫المسلمون‪:‬‬

‫وين أزفك ‬ ‫قلي ‬

‫ ‬

‫يا حلو يا مزيون‬

‫عالصخرة الشريفة‬ ‫ ‬

‫ ‬

‫في فاي الزيتون‬

‫عالصخرة الشريفة‬ ‫ ‬

‫ ‬

‫وبين الحرمين‬

‫أزفك‬ ‫قلي وين ‬

‫أزفك‬ ‫قلي وين ‬

‫عالصخرة الشريفة‬ ‫ ‬

‫ ‬ ‫ ‬

‫السود‬ ‫ ‬

‫يا لمدلل وين‬ ‫يا بو العيون‬

‫والنبي داود‬

‫ويغنـي المسـيحيون األغنيـة نفسـها‪ ،‬ولكـن بذكـر األماكـن‬ ‫المسـيحية المقدسـة‪.‬‬

‫أزفك‬ ‫قلي وين ‬

‫ ‬

‫يا حلو يا زين‬

‫في الصخرة الشريفة‬ ‫ ‬

‫ ‬

‫وبين الهيكلين‬

‫في الصالة الشريفة‬ ‫ ‬

‫ ‬

‫قدام المسيح‬

‫وين اكليلك‬ ‫ ‬ ‫قلي‬

‫ ‬

‫يا حلو يا منيح‬

‫التكافل االجتماعي‪:‬‬ ‫استجاب المسلمون للتعاليم اإلسالمية‪ ،‬التي تحث على مساعدة‬ ‫المحتـاج والملهـوف‪ ،‬سـواء كان مسـلما أم ال‪ ،‬وقـد تجلّـى ذلك‬ ‫مـن خلال صـور التكافل االجتماعي في القدس‪ ،‬وهو بال شـك‬ ‫منهج تربوي يستفاد من السنة النبوية والتاريخ اإلسالمي‪.‬‬ ‫فعلـى سـبيل المثـال أشـار تمـاري ونصار إلى أنه عندما شـعر‬ ‫سـليم الحسـيني أن والـد واصـف جوهريـة يعيـش ظروفـ ًا‬ ‫اقتصادية صعبة خالل عيد الفصح‪ ،‬أرسل إليه مؤونة البيت‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫التـي شـملت حاجيـات ومالبـس العيد‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬التعايُش الفكري‪:‬‬ ‫التعايش بين المسلمين والمسيحيين‬ ‫تتبع هذا النوع من‬ ‫يمكن ُّ‬ ‫ُ‬ ‫من خالل‪ :‬التعليم‪ ،‬والثّقافة‪.‬‬

‫أ َّو ًال‪ :‬الحياة التعليمية‪:‬‬ ‫بنـاء علـى مـا يقولـه رجـا عرابي في كتـاب «الكافي فـي تاريخ‬ ‫ً‬ ‫القـدس»‪ ،‬فإنـه يوجـد فـي القـدس مـدارس إسلامية خاصـة؛‬ ‫منهـا‪ :‬دار األيتـام اإلسلامية‪ ،‬ومدرسـة البنـات اإلسلامية‪،‬‬ ‫عربيـة‬ ‫وكليـة روضـة المعـارف‬ ‫الوطنيـة‪ .‬ومـدارس حكوميـة ّ‬ ‫ّ‬ ‫العربيـة‪ ،‬ودار المعلمـات‪،‬‬ ‫(إسلامية مسـيحية)؛ منهـا‪ :‬الكليـة‬ ‫ّ‬ ‫والمدرسـة البكريـة‪ ،‬ومدرسـة المصـرارة‪ .‬كمـا يوجـد فيهـا‬ ‫مـدارس مسـيحية خاصـة؛ منها‪ :‬المدرسـة االسـتعدادية للروم‬ ‫األرثوذكس‪ ،‬المدرسـة األرثوذكسـية للبنات‪ ،‬مدرسة السريان‬ ‫األرثوذكس‪ .‬وقد عمل المدرسون المسلمون والمسيحيون مع ًا‬ ‫في مدرسـة واحدة‪ ،‬سـواء كانت إسلامية أم مسيحية‪ ،‬وكذلك‬ ‫درس الطلاب مـع بعضهـم البعـض‪.‬‬ ‫ورغـم هـذه الحالـة مـن االنسـجام بين الفريقين في المؤسسـات‬ ‫التعليمية التي تتبع لكل منهما‪ ،‬فإن هناك بعض الحاالت الشاذة‬ ‫عكرت صفو هذه العالقة‪ ،‬فوفق ًا لبكيرات في المقابلة معه‪،‬‬ ‫التي ّ‬ ‫فقد حاولت مدرسة راهبات الوردية (مسيحية) أن تمنع الطالبات‬ ‫المسـلمات من ارتداء الحجاب‪ ،‬لكن ميشـيل صباح‪ ،‬والمعلمات‬ ‫عبروا عن‬ ‫المسيحيات في المدرسة‪ ،‬وغيرهم من المسيحيين‪ّ ،‬‬ ‫رفضهم لهذه الخطوة‪ ،‬وأعلنوا تضامنهم مع المسلمين‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬الحياة ّ‬ ‫الثقاف ّية‪:‬‬ ‫العامـة‪،‬‬ ‫كان أهـل القـدس يلتقـون لقـراءة الكتـب فـي الحدائـق ّ‬ ‫والمقاهي‪ .‬يصف لنا سليم تماري تلك األجواء في بحثه «مقهى‬ ‫الصعاليك وإمارة البطالة المقدسـية»‪ ،‬فيقول عقدت في قهوة‬ ‫المختـار (المعروفـة بمقهـى الصعاليـك فـي مـا بعـد) التـي كان‬ ‫أدبيـة دورية عرفت بـ«حلقة‬ ‫يملكهـا عيسـى الطبـة‪ ،‬اجتماعات ّ‬ ‫األربعاء»‪ ،‬ومن جملة َم ْن كانوا يحضرون هذه الحلقة‪ ،‬إضافة‬ ‫إلـى خليـل السـكاكيني‪ ،‬عـادل جبـر‪ ،‬وإسـعاف النشاشـيبي‪،‬‬ ‫وإسحق موسى الحسيني‪ ،‬ونحلة زريق‪ ،‬ومن خارج فلسطين‬ ‫أحمـد زكـي‪ ،‬وخليل مطران‪.‬‬ ‫أمـا كتـاب «القـدس العثمانيـة فـي المذكـرات الجوهريـة (‪1904-‬‬ ‫فيفصـل موضـوع تلـك اللقـاءات‪ ،‬بقولـه‪« :‬كانت تلك‬ ‫‪1917‬م)»‪ّ ،‬‬ ‫اللقـاءات تناقـش فنـون األدب العربـي‪ ،‬فقـد كان نخلـة زريـق‬ ‫(مسيحي)‪ ،‬صديق ًا حميم ًا آلل الحسيني‪ ،‬فكان حسين الحسيني‬ ‫يزوره مع كامل الحسيني (مفتي القدس آنذاك)‪ ،‬ويبحثون مع ًا في‬ ‫اللّغة والشعر‪ ،‬ثم يغني لهم واصف جوهرية بعض الموشحات»‪.‬‬ ‫يتبيـن أن المجتمـع المقدسـي يرفـل‬ ‫مـن خلال هـذا العـرض‪ّ ،‬‬ ‫بروح السماحة‪ ،‬فالسماحة واألخوة ليست تكلف ًا ظاهري ًا عابراً‪،‬‬ ‫وليس مردها الخوف من معاتبة المجتمع أو مساءلة القانون‪،‬‬ ‫سـجية عنـد أهل القدس‪.‬‬ ‫بـل إنها‬ ‫ّ‬ ‫ونرى أن المسلمين والمسيحيين في القدس‪ ،‬نجحوا في تعزيز‬ ‫الوطنية‪ ،‬وإرساء قواعد مقاومة المطامع‬ ‫قيم التفاهم والشراكة‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫العربية‪،‬‬ ‫بالحقوق‬ ‫التمسـك‬ ‫سـس‬ ‫أ‬ ‫على‬ ‫المبنية‬ ‫اإلسـرائيلية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫والنضـال المشـترك علـى كافـة األصعدة للدفاع عن المقدسـات‬ ‫السياسية‪ ،‬وما‬ ‫اإلسالمية والمسيحية‪ ،‬على الرغم من التقلبات‬ ‫ّ‬ ‫ترتـب علـى ذلـك من آثار صعبة على مختلف مجاالت الحياة‪.‬‬ ‫‪157‬‬


‫صفحات مطوية‬

‫ّ‬ ‫والعقاد‪..‬‬ ‫نجيب محفوظ‬ ‫عالقة تو ُّتر أم سالم؟!‬

‫محمد عبدالرحيم الخطيب‬ ‫المهتميــن باألدب‪ ،‬وبالروايــة‪ -‬على وجه‬ ‫شــاع لــدى كثير من‬ ‫ّ‬ ‫بتوتــر العالقة بيــن نجيب محفوظ‬ ‫انطبــاع‬ ‫الخصــوص‪-‬‬ ‫عام ُّ‬ ‫ّ‬ ‫والعقّاد‪َ ،‬وَمَر ُّد هذا االنطباع مقالة واحدة كتبها نجيب محفوظ‪،‬‬ ‫فــي خالل مســيرته الكتابيــة الطويلة‪ ،‬ينتقد فيهــا وجهة نظر‬ ‫القصة لصالح الشعر‪ ،‬الذي جعله‬ ‫العقّاد التي ّ‬ ‫حط فيها من شأن ّ‬ ‫«من خيرة ثمار العقول»‪.‬‬ ‫والمتتبــع لمــا قاله محفوظ‪ ،‬فــي ثنايا مقاالتــه وحواراته عن‬ ‫ِّ‬ ‫العقّــاد‪ ،‬يجــد أن العالقة بين الرجلين لم تكــن على هذا النحو‬ ‫التوتر والقلق‪ ،‬بــل كانت‪ ،‬على العكس مــن ذلك‪ ،‬تماماً‪،‬‬ ‫مــن‬ ‫ُّ‬ ‫ســيما أن (محفوظاً) لم يكن من ذلك‬ ‫عالقــة ّ‬ ‫مودة واحترام‪ ،‬ال ّ‬ ‫ال عن معرفته بالعقّاد‪:‬‬ ‫النوع الذي يستعدي اآلخرين عليه‪ ،‬فض ً‬ ‫ومكانة‪ .‬حتى ذلك المقال الذي انتقد فيه وجهة‬ ‫قــدراً‪ ،‬وفضالً‪،‬‬ ‫ً‬ ‫نظر العقّاد كان فيه شديد الحرص على أن يوصل رسالته من‬ ‫أية إساءة أو‬ ‫غير أن يثير حفيظة العقّاد‪ ،‬فلم يذكر كلمة تحمل ّ‬ ‫الرد عليه‪،‬‬ ‫سخرية‪ ،‬من قريب أو بعيد؛ ما دعا العقّاد إلى عدم ّ‬ ‫وهــو المعروف عنه حّدته مع من ُيســيء إليــه‪ ،‬وينتقص من‬ ‫قدره‪.‬‬ ‫ــر للعقّــاد‪ ،‬في مقاالت نجيب محفــوظ األولى‪ ،‬كان في‬ ‫أول ِذْك ٍ‬ ‫ّ‬ ‫مقال بعنوان «ثالثة من أدبائنا»(‪ ،)1‬وقد افتتح مقالته باإلشارة‬ ‫‪158‬‬

‫إلــى أن النهضة األدبية ‪-‬وقتذاك‪ -‬تنتقل‪ ،‬من عصر إلى عصر‪،‬‬ ‫بفضل ثالثة من األدباء الكبار الذين َع َّدهم الممثِّلين لتلك النهضة‬ ‫األدبيــة الجديدة‪ ،‬وهــؤالء الثالثة هم‪ :‬العقّاد‪ ،‬وطه حســين‪،‬‬ ‫وسالمة موسى‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫محفــوظ العقّــاد على رأس هــؤالء األدبــاء‪ ،‬وقّدمه‬ ‫وقــد جعل‬ ‫اآلخرْين؛ ألنه أديب الفطرة والبداهة‪ ،‬وصاحب‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫األديب‬ ‫علــى‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫ماهيات الحقائــق من أقــرب طريق‬ ‫الموهبــة الــذي ينفــذ إلــى ّ‬ ‫ومــن غير تكلُّف واقتســار‪ ،‬يقــول‪« :‬العقّاد هو رجــل البداهة‪،‬‬ ‫ونقصد بالبداهة الفطرة البصيرة‪ ،‬أو اإلحســاس الصادق‪ ،‬أو‬ ‫الطبع الســليم(‪ ،»)2‬وهذه الموهبة الكامنــة في العقّاد موهبة‬ ‫ماهياتها‪ ،‬وهي درجة من‬ ‫طبيعية «تنفــذ إلى الحقائق فتعرف ّ‬ ‫الصوفي باالجتهاد‪ ،‬ويحوزهــا الفنّان بفطرته‬ ‫الكمال يبلغهــا‬ ‫ّ‬ ‫ّية المركوزة في العقّاد‪،‬‬ ‫ن‬ ‫الف‬ ‫الفطرة‬ ‫إلى‬ ‫وإلماحته‬ ‫وطبعه(‪.»)3‬‬ ‫ّ‬ ‫المَلكة الصوفية لديــه «فالعقّاد‬ ‫إلــى‬ ‫إشــارته‬ ‫إلى‬ ‫تنضم‬ ‫هنــا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫يســمو باألدب إلى الذروة من الكمال والتبجيل‪ ،‬وهذا طبيعي؛‬ ‫بجل‬ ‫المتصوف‪ ،‬وكيف تطلب من‬ ‫ألن ملكته ملكة‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫المتصوف أال ُي ِّ‬ ‫معبوده الذي يوحي إليه بأسرار الغيب؟!(‪.»)4‬‬ ‫شاعريته‪ ،‬فإنها‬ ‫وفي الوقت الذي ُينكر فيه الكثيرون على العقّاد‬ ‫ّ‬ ‫ّية والبصيرة‬ ‫ن‬ ‫الف‬ ‫‪-‬أي شاعرية العقّاد‪ -‬من أكثر تجلّيات البصيرة ّ‬


‫الصوفيــة لــدى العقّاد‪ ،‬مــن وجهة النظر المحفوظيــة‪ ،‬يقول‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫مما نقول فاقرأ شعر العقّاد‪ .‬والعقّاد في‬ ‫«فإذا أردت أن تتحقّق ّ‬ ‫مميزاته أنه ليس‬ ‫نظرنا‪ ،‬شــاعر فنّان قبل ّ‬ ‫أهم ّ‬ ‫كل شيء‪ ،‬فمن ّ‬ ‫لفظيــا‪ ،‬وإنما هو معنى عميق‬ ‫ُقشــورًا ســطحية‪ ،‬وليس نغم ًا‬ ‫ًّ‬ ‫ويتغير‬ ‫يتحرك‬ ‫حي ًا يكاد‬ ‫َتُذ ُ‬ ‫وق ُه ُ‬ ‫َّ‬ ‫وت ِح ُّســه‪ ،‬وتعرف فيه روحــ ًا ّ‬ ‫َّ‬ ‫كلّما راجعته‪ ،‬وهــذه خواص النفس التي يعجز العقل والذكاء‬ ‫الحساسة المرهفة‬ ‫عن أن َيِل َجا بابها‪ ،‬والتي تنفذ إليها البصيرة ّ‬ ‫فتلتقطها‪ ،‬بما فيها من حياة وغموض(‪.»)5‬‬ ‫متبدية في التجديد‬ ‫ّــاد‪،‬‬ ‫ّية‪ ،‬لدى العق‬ ‫ِّ‬ ‫كمــا أن هذه البصيرة الفنّ‬ ‫حرّية‬ ‫الــذي يدعــو إليه‪ ،‬وهو تجديد‪ ،‬غاية ما يطمــح إليه هي ّ‬ ‫الحرّية‪ ،‬يضيف‬ ‫العقل والشعور‪ ،‬والتخلُّص من ّ‬ ‫كل قيد ُي ِّ‬ ‫قيد هذه ّ‬ ‫محفوظ‪« :‬وأثر الفطرة السليمة يظهر فيما يدعو إليه العقّاد من‬ ‫تجديد في الشعر واألدب‪ ،‬والتجديد عند العقّاد ليس هو التجديد‬ ‫عادة‪ -‬أنه الدعوة إلى مذهب‬ ‫عند غيره‪ ،‬فنحن نفهم من التجديد‪ً -‬‬ ‫جديــد‪ ،‬على حســاب مذهــب قديم‪ ،‬كالدعــوة إلــى الرياليزم أو‬ ‫خاص‪ ،‬إنّما‬ ‫األيدياليزم‪ ..‬وهكذا‪ .‬لكن العقّاد ال يدعو إلى مذهب ّ‬ ‫يثــور على التقليد والفناء فــي الغير‪ ،‬ويدعو إلى تحرير العقل‬ ‫واش ُعْر بشعورك»‪ ،‬ومثل هذا المبدأ‬ ‫«اعِق ْل بعقلك‪ْ ،‬‬ ‫والشــعور‪ْ :‬‬ ‫معيــن؛ ألن الدعوة إلى مذهب‬ ‫مذهب‬ ‫إلى‬ ‫الدعوة‬ ‫يتناقــض مــع‬ ‫َّ‬ ‫فلست من أتباع‬ ‫معين هي نوع من التقليد‪ ،‬وإنك إذا قلَّدت العقّاد‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫حياة كهذه الحياة المتجّددة‬ ‫الفن‬ ‫ً‬ ‫العقّاد!‪ ،‬وهذا الرأي يجعل من ّ‬ ‫السير إلى األمام(‪.»)6‬‬ ‫الم َّطِرَدِة‬ ‫ِ‬ ‫ِّ‬ ‫المتغيرة ُ‬ ‫سر‬ ‫وفي‬ ‫ٍ‬ ‫حوار أجراه فؤاد دوارة مع نجيب محفوظ‪ ،‬سأله عن ّ‬ ‫الخاص بالعقّاد‪ ،‬وعن أثــر العقّاد في تفكيره‪ ،‬فكانت‬ ‫إعجابــه‬ ‫ّ‬ ‫أولها‬ ‫إجابــة محفوظ‪« :‬بالطبع‪ ..‬لقد خلق عنــدي قيم ًا عزيزة‪َّ ،‬‬ ‫تكسب‪ ،‬وكان‪ ،‬دائماً‪ ،‬يرتفع‬ ‫كفن‬ ‫قيمة األدب‪ٍّ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ســام ال وسيلة ُّ‬ ‫الحرّية في‬ ‫بالفن إلى مستوى الرساالت َّ‬ ‫المقدسة‪ .‬وثانيها ّ‬ ‫أهمّية ّ‬ ‫نظرياته في الشــعر التي‬ ‫ثم‬ ‫ً‪،‬‬ ‫الفكر وفي حياة اإلنســان عموما‬ ‫ّ‬ ‫أول‬ ‫عنده‬ ‫عرفت‬ ‫وكذلــك‬ ‫ً‪،‬‬ ‫ا‬ ‫جديد‬ ‫تذوق ًا‬ ‫ّ‬ ‫أتذوق الشــعر ُّ‬ ‫جعلتنــي َّ‬ ‫قصة تحليلية نفسية‪ ،‬وهي (سارة)(‪.»)7‬‬ ‫ّ‬ ‫ومن األمور التي تأثَّر فيها نجيب محفوظ بالعقّاد‪ ،‬دور األديب‬ ‫ّية المختلفة في المجتمع‪ ،‬يقول‪:‬‬ ‫في لفت األنظار إلى القيم الفنّ‬ ‫«في أواخر العشــرينيات الماضية‪ ،‬وقد كنت وقتها ناشــئ ًا في‬ ‫المرحلة النهائية من الدراســة الثانوية‪ ،‬قرأت مقا ًال للعقّاد عن‬ ‫تعجبت جــّدا لذلك‪،‬‬ ‫رســام اســمه (محمود ســعيد)‪ ،‬وقد ّ‬ ‫فنّــان ّ‬ ‫فالفــن‪ ،‬فــي ذلك الوقت‪ ،‬لم يكن لــه وجود كبير في المجتمع‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ال عن أحــد الفنّانين؟‪ ،‬وقد‬ ‫فكيــف يفرد العقّاد الكبيــر مقا ًال كام ً‬ ‫تناقشت في هذا مع بعض أصحاب الرأي‪ ،‬فقيل لي‪ :‬إن األديب‬ ‫ُ‬ ‫ليست وظيفته األدب وحده‪ ،‬إنما عليه أن يدرس الفنون كلّها‪،‬‬ ‫الفــن التشــكيلي‪ ،‬والموســيقى‪ ،‬وغيرها‪ ،‬ينهــل منها ما‬ ‫مثــل ّ‬ ‫يســتطيع‪ .‬ولقد كان محمود ســعيد هو الــذي َعّرفني إلى عالم‬ ‫الفن التشكيلي‪ ،‬وقد اكتشفت‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬أنه كان ُيقام معرض‬ ‫ّ‬ ‫سنوي وحيد في شارع (إبراهيم باشا) في القاهرة‪ُ ،‬تعرض فيه‬ ‫ّ‬ ‫خاصة‪ ،‬في ذلك‬ ‫جميع أعمال الفنّانين‪ ،‬فلم تكن هناك معارض ّ‬ ‫العام الذي تعودت ارتياده‬ ‫الوقت‪ّ ،‬‬ ‫لكل فنّان‪ .‬وفي هذا المعرض ّ‬ ‫مرة‪ ،‬ولوحاته‬ ‫ل‬ ‫ألو‬ ‫سعيد‬ ‫محمود‬ ‫أعمال‬ ‫إلى‬ ‫فت‬ ‫تعر‬ ‫ّ‬ ‫َّ ّ‬ ‫كل ســنة َّ‬ ‫مخيلتي‪ ،‬بألوانها‪ ،‬مثــل‪( :‬بنات بحري)‬ ‫مــا زالــت منطبعة في ِّ‬ ‫و(بائع العرقســوس)‪ ،‬والكثير من البورتريهات النسائية التي‬

‫يجسد الجمال الشعبي كما‬ ‫ُ‬ ‫اشــتهر بها‪ ،‬والتي اســتطاع فيها أن ِّ‬ ‫أكد‬ ‫وقد‬ ‫ً‪،‬‬ ‫ا‬ ‫عظيم‬ ‫ال‬ ‫رج‬ ‫لم يفعل أحد من قبله‪ ،‬وقد كان‪ -‬بالفعل‪-‬‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫خاص ًة بعد‬ ‫لي‪ ،‬بفنّه‬ ‫المتميز‪ ،‬القيمة الحقيقية ّ‬ ‫للفن التشكيلي‪ّ ،‬‬ ‫ِّ‬ ‫أن علمت‪ ،‬آنذاك‪ ،‬أنه كان مستشاراً‪ ،‬لكنه ترك القضاء‪ ،‬ووهب‬ ‫للفن‪ ،‬رغم أن وظيفة المستشار كانت واحدة من أرقى‬ ‫وقته كلّه ّ‬ ‫األيام‪ ،‬وقد كان لذلك تأثير على القرار‬ ‫الوظائف في مجتمع تلك ّ‬ ‫الذي اّتخذته بعد ذلك بسنوات‪ ،‬حين تركت الفلسفة التي درستها‬ ‫وتفرغت لألدب»(‪.)8‬‬ ‫بالجامعة‪َّ ،‬‬ ‫ود واحترام‬ ‫عالقة‬ ‫كانت‬ ‫الرجلين‬ ‫بين‬ ‫العالقة‬ ‫أن‬ ‫ومما يدلّنا على‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المرة‬ ‫تين‪:‬‬ ‫مر‬ ‫لــه‬ ‫ّاد‬ ‫ق‬ ‫الع‬ ‫إنصاف‬ ‫عن‬ ‫محفوظ‬ ‫ذكره‬ ‫مــا‬ ‫وتقديــر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫تقدموا‬ ‫تقدم لمسابقة مجمع اللغة العربية ضمن من َّ‬ ‫األولى حين َّ‬ ‫بقصصهم‪ ،‬واختلفت اللجنة‪ ،‬وكان المازني ضمن فريق اللجنة‪،‬‬ ‫وفــي أثناء مرور العقّاد عليه مصادفة‪ ،‬كي يعودا معاً‪ ،‬وجدهم‬ ‫واألزهريين يريدون‬ ‫التقليدييــن‬ ‫مختلفيــن حول األمر‪ :‬جماعــة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫إعطاء الجائزة لمحمد ســعيد العريان‪ ،‬والمازني يريد إعطاءها‬ ‫لكل منهما‪ ،‬قال‪ :‬ال وجه للمقارنة‬ ‫فلما قرأ العقّاد ٍّ‬ ‫لنجيب محفوظ‪ّ ،‬‬ ‫مناصفة(‪.)9‬‬ ‫بينهما‪ ،‬وانتهى الخالف إلى إعطائهما الجائزة‬ ‫ً‬ ‫ّاد محفوظ ًا فكانت حين قال‬ ‫ّ‬ ‫المرة الثانية التي أنصف فيها العق ُ‬ ‫أما ّ‬ ‫العقّــاد‪ ،‬في حديث تليفزيوني معه قبل وفاتــه‪« :‬إن عندنا‪ ،‬في‬ ‫يستحق الفوز بجائزة نوبل‪ ..‬وبعد حوالي ربع قرن‬ ‫مصر‪ ،‬من‬ ‫ّ‬ ‫تحقَّقت النبوءة(‪.»)10‬‬ ‫أما خالصة القول‪ ،‬في شــأن مقــال(‪ )11‬محفوظ الذي انتقد فيه‬ ‫ّ‬ ‫القصة‪ ،‬فيوردها نجيب محفوظ نفسه‪،‬‬ ‫وجهة نظر العقّاد بشأن ّ‬ ‫حبي‬ ‫مــرة‪ ،‬رغم ّ‬ ‫تعرضت للعقّاد‪ ،‬ذات ّ‬ ‫حيــث يقول‪« :‬حــدث أن َّ‬ ‫لــه‪ ،‬فقد وجدته قد ظلم الرواية حين قال‪ :‬إن الرواية ليســت فّن ًا‬ ‫كالشــعر‪ ،‬أي أنها ليست في منزلة الشــعر‪ .‬فرددت عليه بأدب‪:‬‬ ‫الجيد‪ ،‬وكما توجد الرواية الرديئة‬ ‫الجيدة مثل الشعر ّ‬ ‫إن الرواية ِّ‬ ‫يرد‪ ،‬ألنني‬ ‫لم‬ ‫ّاد‬ ‫ق‬ ‫الع‬ ‫أن‬ ‫والحقيقة‬ ‫ً‪.‬‬ ‫ا‬ ‫أيض‬ ‫الرديء‪،‬‬ ‫يوجد الشعر‬ ‫ّ‬ ‫تكلَّمــت بموضوعية شــديدة‪ ،‬وبأدب شــديد‪ ،‬دون اســتفزاز أو‬ ‫هجوم(‪.»)12‬‬ ‫~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~‬ ‫مراجع‬ ‫(‪ )1‬المجلّة الجديدة‪ ،‬العدد (‪ ،)2‬فبراير‪1934 ،‬م‪ .‬ومن الجدير بالذكر أن نجيب‬ ‫محفوظ كان في حدود الثالثة والعشرين من عمره وقت كتابته هذا المقال‪.‬‬ ‫(‪ )2‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.65‬‬ ‫(‪ )3‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.65‬‬ ‫(‪ )4‬مقال «ثالثة من أدبائنا» لنجيب محفوظ‪.66 :‬‬ ‫(‪ )5‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.56‬‬ ‫(‪ )6‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.56‬‬ ‫(‪ )7‬فــؤاد دوارة‪ ،‬عشــرة أدبــاء يتحّدثــون‪ ،‬الطبعة الثالثــة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الهيئة‬ ‫المصرية العامة للكتاب‪1996 ،‬م‪ ،‬ص ‪.357‬‬ ‫(‪ )8‬إبراهيــم عبدالعزيــز‪ ،‬أنــا نجيــب محفوظ‪ ..‬ســيرة حياة كاملــة‪ ،‬الطبعة‬ ‫األولى‪ ،‬القاهرة‪ ،‬نفرو للنشر والتوزيع‪2006 ،‬م‪ ،‬ص ‪.81‬‬ ‫بتصرف‪.‬‬ ‫(‪ )9‬المرجع السابق‪،82 :‬‬ ‫ُّ‬ ‫(‪ )10‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.82‬‬ ‫«القصة عند العقّاد» لنجيب محفوظ‪ ،‬مجلّة «الرسالة»‪ ،‬العدد‬ ‫(‪ )11‬انظر مقال‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫‪ ،635‬سبتمبر‪1945 ،‬م‪.‬‬ ‫(‪ )12‬إبراهيم عبدالعزيز‪ ،‬أنا نجيب محفوظ‪ ..‬سيرة حياة كاملة‪ ،‬ص ‪.82‬‬ ‫‪159‬‬


‫صفحة أخيرة‬

‫خالد الجبيلي‬

‫النص وإِحياؤه‬ ‫إِماتة‬ ‫ّ‬ ‫عندمــا أنظــر إلــى مســيرتي فــي الترجمــة التــي تبلــغ حصيلتهــا‬ ‫أكثــر مــن ‪ 50‬كتاب ـ ًا والعديــد مــن القصــص القصيــرة‪ ،‬أرى أنهــا‬ ‫مســيرة شــاقة وماتعــة فــي الوقــت نفســه‪ .‬فمنــذ أن اختــرت‬ ‫ـل‬ ‫دراســة اللّغــة اإلنجليزيــة وآدابهــا فــي جامعــة حلــب‪ ،‬كان جـ ّ‬ ‫همــي أن أصبــح مترجمــاً‪ ،‬ألن شــغفي باللّغــة والترجمــة كان‬ ‫ّ‬ ‫أتمكــن مــن ترجمــة بعــض‬ ‫يســتحوذ‬ ‫علــي‪ ،‬وكنــت أتمنــى أن ّ‬ ‫َّ‬ ‫األعمــال التــي كنــت أحبهــا‪ .‬وبالفعــل‪ ،‬فقــد عملــت بعــد تخرجــي‬ ‫فــي المركــز الدولــي للبحــوث الزراعيــة الــذي يقــع مركــزه‬ ‫الرئيســي فــي حلــب‪ ،‬المدينــة التــي نشــأت ودرســت فيهــا‪ .‬وقــد‬ ‫مارســت هــذه المهنــة بشــقيها (التحريــري والفــوري)‪ ،‬وكنــت في‬ ‫أثناء ذلــك أقــوم بترجمة بعــض القصــص واألعمــال األدبيــة إلى‬ ‫ّيــة األخــرى‪.‬‬ ‫جانــب عملــي فــي المجــاالت العلميــة َ‬ ‫والفنّ‬ ‫تجلّت رغبتــي فــي ترجمة عمــل أدبــي كامــل عندما قمــت بترجمة‬ ‫روايــة «مزرعــة الحيوانــات» للكاتــب البريطانــي جــورج أوريــل‬ ‫التــي حصلــت عليهــا مــن مكتبــة والــدي‪ ،‬رحمــه اهلل‪ .‬وقــد القــت‬ ‫هــذه الترجمــة استحســان عــدد مــن األســاتذة الذيــن أطلعتهــم‬ ‫عليهــا آنــذاك‪ ،‬ممــا شــجعني علــى مواصلــة الترجمــة األدبيــة‪.‬‬ ‫إن مــا يدفعنــي إلــى ترجمــة عمــل مــا هــو أن يكــون شــائق ًا‬ ‫يشــكل إضافــة مفيــدة‬ ‫وينطــوي علــى أفــكار جديــدة وأن‬ ‫ِّ‬ ‫الكّتاب‬ ‫ـماء‬ ‫ـ‬ ‫بأس‬ ‫ا‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫كبي‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫اهتمام‬ ‫بالنســبة لي وللقــارئ‪ .‬وال أبــدي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫الغربييــن المعروفيــن‪ ،‬بــل أبحث باســتمرار عــن األعمــال الجيدة‬ ‫لكّتــاب لــم يســمع عنهــم القــارئ‬ ‫والمتميــزة‪ ،‬فترجمــت أعمــا ًال ُ‬ ‫ّ‬ ‫العربــي كثيــرًا مــن قبــل‪ ،‬مثــل الكاتــب البريطانــي الهنــدي األصل‬ ‫حنيــف قريشــي «الحميميــة والجســد» والكاتبــة والشــاعرة‬ ‫األميركيــة الزنجيــة آشــا بنديلــي «مذكــرات زوجــة الســجين»‬ ‫والكاتبــة اإليرانيــة نهــال تجــدد «الرومــي‪ :‬نــار العشــق»‪،‬‬ ‫والكاتبــة التركيــة إليــف شــافاق «لقيطــة إســطنبول وقواعــد‬ ‫العشــق األربعــون» وآخريــن‪.‬‬ ‫ومــن خبرتــي الطويلــة فــي الترجمــة فــي مجــاالت ومواضيــع‬ ‫شــتى‪ ،‬يمكننــي القــول إن الترجمــة األدبيــة تبقــى أكثرهــا‬ ‫صعوبــة ومتعــة‪ ،‬ألنها تتســم باإلبــداع‪ ،‬وتنطــوي علــى تراكيب‬ ‫وأنســاق وبنــى لغويــة وفكريــة عديــدة‪ .‬وال يكفــي أن يكــون‬ ‫المترجــم األدبــي متقن ـ ًا للغتيــن اللتيــن يترجــم منهمــا وإليهمــا‪،‬‬ ‫بــل عليــه أن يكــون علــى اطــاع ودرايــة جيدتيــن بثقافــة هاتيــن‬ ‫اللّغتيــن ومصطلحاتهمــا‪ ،‬وأن يكــون قارئــ ًا نهمــاً‪ ،‬وخاصــة‬ ‫لــأدب فــي لغتــه األصليــة (وهنــا العربيــة) وأن يتمتــع بذائقــة‬ ‫‪160‬‬

‫نصـ ًا‬ ‫أدبيــة عاليــة‪ .‬ولكــي ّ‬ ‫يتمكــن المترجــم األدبــي مــن أن يبــدع ّ‬ ‫ـص األصلــي لكــن بلغــة جديــدة‪ ،‬ينبغــي أن تتوافــر‬ ‫مطابق ـ ًا للنـ ّ‬ ‫لديــه موهبــة الكاتــب األصلــي‪ .‬وأنــا أرى أن اللّغــة العربيــة لغــة‬ ‫غنيــة بمفرداتهــا ومطواعــة وقــادرة علــى نقــل الثّقافــات‬ ‫جميلــة ّ‬ ‫األخــرى‪.‬‬ ‫نصــ ًا جديــدًا فــي لغــة وثقافــة‬ ‫يبــدع‬ ‫ثــان‬ ‫كاتــب‬ ‫المترجــم‬ ‫إن‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫بنــص المؤلــف‬ ‫تقيــده المطلــق‬ ‫جديدتيــن‪ ،‬علــى الرغــم مــن‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ـكل مــا يحتــوي عليــه مــن أفــكار ومضامين‬ ‫األصلــي‪ ،‬والتزامــه بـ ّ‬ ‫وأســاليب‪ ،‬مــا يجعــل عملــه شــاق ًا ومضنيــاً‪ ،‬ويــكاد يكــون‬ ‫ـص مــن منظومتــه‬ ‫مســتحي ً‬ ‫ال فــي بعــض األحيــان‪ .‬إن إخــراج نـ ّ‬ ‫اللّغويــة ونقلــه إلــى منظومــة لغويــة ثانيــة مختلفــة تمام ـ ًا مــن‬ ‫حيــث البيئــة والثّقافــة والمفاهيــم أمــر فــي بالــغ الصعوبــة‬ ‫ـص األصلي ثــم إحيــاؤه بلغــة وثقافة‬ ‫والحرفيــة‪ .‬إنهــا إماتــة للنـ ّ‬ ‫تمكــن المترجم مــن إنتاج‬ ‫وإذا‬ ‫ـي‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫األصل‬ ‫ـص‬ ‫ّ‬ ‫مغايرتين تمام ـ ًا للنـ ّ‬ ‫ـص األصلــي مــن حيــث المعنــى واألســلوب‬ ‫ترجمــة مطابقــة للنـ ّ‬ ‫يعبــر عنهــا الكاتــب‬ ‫والتركيــب‪ ،‬ونجــح فــي نقــل األفــكار التــي ّ‬ ‫ا رائعــاً‪.‬‬ ‫األصلــي‪ ،‬عندهــا يكــون المترجــم قــد أنجــز عمــ ً‬ ‫ـان» فــا أعنــي أنــه يختــرع‬ ‫وعندمــا أقــول إن المترجــم «كاتــب ثـ ٍ‬ ‫بالنــص األصلــي‪ ،‬بــل عليــه أن‬ ‫نصــ ًا مختلفــ ًا ال عالقــة لــه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتمكــن مــن نقــل أفــكار الكاتب‬ ‫ـ‬ ‫الن‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫يتماه‬ ‫ـص األصلي لكــي ّ‬ ‫ّ‬ ‫األصلــي وثقافتــه وأســلوبه بدقــة‪ ،‬لكــن بلغــة جديــدة مختلفــة‬ ‫تمام ـ ًا مــن حيــث التراكيــب والســياق‪ .‬ويجــب التمييــز هنــا بيــن‬ ‫األمانــة فــي الترجمــة وبيــن الترجمــة الحرفيــة‪ ،‬ألن األمانــة فــي‬ ‫ـص مــن حيــث الــروح والمعنــى بأمانــة‬ ‫الترجمــة تتطّلــب نقــل النـ ّ‬ ‫النــص األصلــي‬ ‫قــارئ‬ ‫يشــعر‬ ‫أن‬ ‫درجــة‬ ‫وبشــكل كامــل‪ ،‬إلــى‬ ‫ّ‬ ‫ـص واحــد لكــن بلغتيــن‬ ‫ـص المترجــم بأنهمــا أمــام نـ ٍّ‬ ‫وقــارئ النـ ّ‬ ‫مختلفتيــن‪ ،‬وأنهمــا يجــدان المتعــة نفســها وتنتابهمــا المشــاعر‬ ‫ذاتهــا‪.‬‬ ‫مــزودًا بجميــع أدواتــه األدبيــة‬ ‫ويجــب أن يكــون المترجــم‬ ‫َّ‬ ‫واللّغويــة‪ ،‬ألنه‪ ،‬مثــل الكاتب‪ ،‬فهــو أشــبه بالرســام أو النحات‪،‬‬ ‫يختــار المفــردات والعبــارات بدقــة متناهيــة‪ ،‬وعليــه أن يواكــب‬ ‫التقعر‬ ‫األســاليب والمفردات العصريــة‪ ،‬وأن يبتعــد ما أمكن عــن‬ ‫ُّ‬ ‫ـص المترجــم‪.‬‬ ‫فــي اللّغــة‪ ،‬لكــي ال ينفــر القــارئ مــن النـ ّ‬ ‫وأخيــرًا ال يعــرف مــدى صعوبــة الترجمــة ّإل مــن كابدهــا وســبر‬ ‫أغوارهــا‪ ،‬وكان اهلل فــي عــون المترجــم‪.‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.