سياسة التعميم العمياء رئيس التحرير
فـالــح بن حســـين الهـاجـــري مدير التحرير
خـــالد العــودة الفـضـــلي هيئة التحرير
محـســن العـتيقـي اإلخراج والتنفيذ
عمرو الكفراوي رشا أبوشوشة هـــنـد المنصوري فلوه الهاجري
جميــع المشــاركات ترســل باســم رئيــس التحريــر ويفضــل أن ترســل عبــر البريــد االلكترونــي للمجلــة أو علــى قــرص مدمــج فــي حــدود 1000كلمــة علــى العنــوان اآلتــي: تليفون )+974( 44022295 : تليفون -فاكس )+974( 44022690 : ص.ب - 22404 :.الدوحة -قطر
البريد اإللكتروني: editor-mag@moc.gov.qa aldoha_magazine@yahoo.com
مكتب القاهرة: وحيد الطويلة البريد اإللكتروني:
aldoha.cairo@gmail.com
المــواد المنشــورة فــي المجلــة ُتعبِّــر عــن عبــر بالضــرورة عــن رأي آراء كتّابهــا وال ُت ِّ ـرد الــوزارة أو المجلــة .وال تلتــزم المجلــة بـ ّ أصــول مــا ال تنشــره.
سياســـة التعميـــم التـــي حاولـــت أن تفـــرض نفســـها علـــى المجتمعـــات العربيـــة ،لألســـف ،سياســـة غيـــر صحيحـــة وباليـــة ،وال تمثِّـــل الواقـــع بشـــكله الصحيـــحِ ،إْذ كيـــف مـــن الممكـــن أن نحكـــم علـــى شـــعب مـــن خـــال عي ــن؟ قي ــم س ــلوك ف ــرد ُ ونس ــقطه عل ــى مجتم ــع ُم َّ تص ـ ُّـرف ش ــخص؟ وكي ــف ُن ّ وكيـــف نـــرى ُكّل ذي هيئـــة خاصـــة بأنـــه ُيمثّـــل ُمعتقـــد ًا أو دينـــ ًا أو مجتمعـــ ًا كل م ــا ه ــو خ ــاص عم ــم ّ يعي ــش في ــه؟ وكي ــف تح ــاول بع ــض المجتمع ــات أن ُت ّ ٍ ومبـــك فـــي الوقـــت نفســـه؟ حتـــى فـــي كل مـــا هـــو عـــام بشـــكل محـــزن علـــى ّ فس ــرها بم ــا يتناس ــب م ــع أه ــواء نجاح ــات اآلخري ــن هن ــاك َم ـ ْ ـن يح ــاول أن ُي ّ ومي ــول ومعتق ــدات خاص ــة ال تتناس ــب م ــع الواق ــع؛ وذل ــك لمحاول ــة الرب ــط- م ــن قري ــب أو بعي ــد -له ــدف ُمح ـ َّـدد غي ــر صحي ــح أو غي ــر ُمرتب ــط بالواق ــع أو للتقليـــل مـــن قيمـــة هـــذا النجـــاح أو ذاك اإلنجـــاز! ولـــكل ولـــكل مجتمـــع ســـماته، لـــكل شـــخص حياتـــه، ّ ّ نعلـــم ونعـــي أن ّ عنصـــر نجـــاح مقوماتـــه؛ لكـــن مـــن المفتـــرض أن ُنعطـــي اآلخريـــن حقوقهـــم وننســـب إليهـــم إنجازاتهـــم التـــي تخصهـــم وحدهـــمّ ، وأل نســـقط علـــى اآلخريـــن فشـــل أو إســـاءة أفـــراد بعينهـــم ،كمـــا ينبغـــي علـــى المجتمعـــات فـــرق بيـــن ســـلوك شـــخص ومجتمعـــه الـــذي ينتمـــي العربيـــة وأفرادهـــا أن ُت ِّ إليـــه والمجتمـــع الفعلـــي الـــذي ال يمثِّلـــه شـــخص بعينـــه؛ بـــل وأن تحـــاول العمـــل علـــى تمثيـــل نفســـها خيـــر تمثيـــل ،خاصـــة أن المجتمعـــات العربيـــة متقارب ــة ومتش ــابهة إل ــى َح ـ ٍّـد ي ــراه البع ــض مش ــكلة جذري ــة ف ــي التأثي ــر عل ــى عامـــا اآلخريـــن وتشـــويه الصـــورة العامـــة لهـــم ،وقـــد يـــراه البعـــض اآلخـــر ً مهمــ ًا وعنص ــر ًا قويــ ًا لمعرف ــة الخلفي ــة الثّقافي ــة للع ــرب ،وم ــن َث ـ ّـم احترامه ــا والعمـــل علـــى االهتمـــام بهـــا. ـور الكبي ــر والهائ ــل ف ــي العال ــم م ــن خ ــال التواص ــل االجتماع ــي م ــع التط ـ ُّ قريـــة صغيـــرة جـــداً، والبـــث الفضائـــي واإلنترنـــت الـــذي جعـــل العالـــم ً أصبحـــت الثّقافـــات العالميـــة متقاربهـــا فيمـــا بينهـــا ،وأصبـــح هـــذا التقـــارب ـــد مـــا كبيـــراً ،باإلضافـــة إلـــى أن هنـــاك وعيـــ ًا واضحـــ ًا التقـــارب إلـــى َح ٍّ كل فئـــة عـــن األخـــرى ،لكـــن التـــي الخصوصيـــات وملموســـ ًا فـــي تميـــز ّ ّ شـــوه صـــورة اآلخريـــن الخطـــورة تكمـــن فـــي محاولـــة َم ْ ـــن يســـعى إلـــى أن ُي ِّ تقمصـــه لشـــخصيات تكـــون مقاربـــة لهـــا أو مجتمعـــات ينتمـــي مـــن خـــال ّ إليهـــا والعمـــل علـــى التقليـــل منهـــا ومـــن مكانتهـــا ،وهـــذا مـــا نلحظـــه فـــي ـــن يقومـــون بذلـــك ال الوقـــت األخيـــر ،واألصعـــب واألدهـــى مـــن ذلـــك أن َم ْ يظهـــرون بأســـمائهم الحقيقيـــة وصورهـــم الواقعيـــة ،وتكـــون أهدافهـــم خافيـــة ،لكـــن مـــع األيـــام تنكشـــف؛ ألن الوعـــي المجتمعـــي أصبـــح حاضـــر ًا وبق ــوة ل ــدى الجمي ــع ،وال ع ــذر ألح ــد ب ــأن تنطل ــي علي ــه بع ــض المح ــاوالت التافه ــة أو الرديئ ــة ،ألن العق ــل البش ــري يس ــتطيع التميي ــز بي ــن م ــا ه ــو عل ــى النهـــج والمســـار الصحيـــح أو العكـــس. حاس ــب ش ــخص ي وال ـادح، ـ ف ـأ ـ خط ـم مم ــا ال ش ــك في ــه أن سياس ــة التعمي ـ ُ َ بجريـــرة غيـــره حتـــى وإن كان أخـــاه ،وال يمكـــن أن نحكـــم علـــى جماعـــة أو فردي ــة ال ُتمّث ــل ف ــي األخي ــر ّإل نفس ــها ،وإن مجتم ــع أو ش ــعب م ــن تصرف ــات ّ ُّ فتأك ــدوا أنه ــا بس ــبب سياس ــة التعمي ــم العمي ــاء. ح ــدث ذل ــك ّ
رئيس التحرير
الغالف:
مجان ًا مع العدد:
ثــقــافـيـة شــــهــريــة
العدد
106
السنة التاســعة -العـدد مئة وستة شوال - 1437أغسطس 2016
تصدر عن إدارة البحوث والدراسات الثقافية
وزارة الثقافة والرياضة الـــدوحــــة -قـــــطــــر
صدر العدد األول في نوفمبر ،1969وفي يناير 1976أخــذت توجهها العربي واستمرت فــي الــصــدور حــتــي يــنــايــر ع ــام 1986لتستأنف الــصــدور مــجــددًا فــي نوفمبر .2007 توالى على رئاسة تحريرالدوحة إبراهيم أبو ناب ،د .محمد إبراهيم الشوش و رجاء النقاش.
االشتراكات السنوية داخل دولة قطر األفراد الدوائر الرســمية
120ريــا ًال 240ريا ًال
خارج دولة قطر دول الخليــج العربــي
300ريال
باقــــــي الدول العربية
300ريال
دول االتحاد األوروبي
75يورو
أمـــــــــــــــــــيــــركـــــــا
100دوالر
كــــنــــدا وأسترالــــيا
150دوالرًا
الموقع اإللكتروني: www.aldohamagazine.com
لوحة غالف المجلة: ّان الفن الشرق ميرو خوان
د.زكي نجيب محمود
لوحة غالف الكتاب: صورة الشاعر غونار إيكيلوف
رسالة من المهجر
أكذوبة االندماج ( ...................................زالتسبورغ :عبدالعزيز بركة ساكن)
التوزيع واالشتراكات
6
اقتصاد
تليفون )+974( 44022338 : فـاكـس )+974( 44022343 :
االقتصاد الصيني ..متسابق شيوعي ِبِرئة ليبرالية! ( ..................جمال الموساوي)
10
تحقيق
البريد اإللكتروني: distribution-mag@moc.gov.qa doha.distribution@yahoo.com
الكّتاب المتسلِّلين ( ...................القاهرة :بسمة عالء الدين ،وياسمين عباس) دائرة ُ
الشؤون المالية واإلدارية
ريا أحمد) المبدع ومواقع التواصل االجتماعي ( .................................صنعاءّ :
14
استطالع
finance-mag@moc.gov.qa
تقارير
ترســـل قـيمة االشـــتراك بموجـب حـــوالة مصــــرفية أو شــــيك بالريـال القــطــري باسـم وزارة الثقافـة والرياضـة علـى عنـوان المجلـة.
هل عاد الكاتب إلى الشأن المجتمعي؟ ( ..................الدار البيضاء :عبدالحق ميفراني) خارج المعمعة وداخلها ( .............................................بون :محمد األصفر) أعطني حدث ًا ُأ ِ عطك قصيدة! ( ...............................نواكشط :عبداهلل ولد محمدو) الكاتب الجزائري المهاجر ..درجات القرب ( ......................الجزائر :نوارة لحرش)
الموزعون
18
26
مجتمع
وكيل التوزيع في دولة قطر: دار الشرق للطباعة والنشر والتوزيع -الدوحة -ت 44557810 :فاكس44557819 :
الشاب كامل الهيقي ..سيناتور العمل الخيري ( .........................غّزة :سما حسن) ّ
وكالء التوزيع في الخارج: المملكة العربية السعودية -الشركة الوطنية الموحدة للتوزيع -الرياض -ت0096614871262 : فاكــس /0096614870809 :مملكــة البحريــن -مؤسســة الهــال لتوزيع الصحــف -المنامة -ت - 007317480800 :فاكــس/007317480819 :دولــة اإلمارات العربية المتحدة -المؤسســة العربيــة للصحافــة واإلعــام -أبــو ظبــي -ت - 4477999 :فاكس /4475668 :ســلطنة ُعمان مؤسســة ُعمان للصحافة واألنباء والنشــر واإلعالن -مســقط -ت - 009682493356 :فاكس: /0096824649379دولــة الكويــت -شــركةالمجموعة التســويقية للدعايــة واإلعــان -الكويت ت - 009651838281 :فاكــس /0096524839487 :الجمهوريــة اللبنانيــة -مؤسســةنعنــوع الصحفيــة للتوزيــع -بيــروت -ت - 009611666668 :فاكــس/009611653260 : الجمهوريــة اليمنيــة -محــات القائــد التجاريــة -صنعــاء -ت- 00967777745744 : فاكــس / 009671240883 :جمهوريــة مصــر العربيــة -مؤسســة األهــرام -القاهــرة -ت: - 002027704365فاكــس /002027703196الجماهيريــة الليبية -دار الفكر الجديد الســتيراد ونشــر وتوزيــع المطبوعات -طرابلــس -ت - 0021821333260 :فاكس00218213332610 : /جمهورية السودان -دار الريان للثقافة والنشر والتوزيع -الخرطوم -ت0024915494770 : فاكس / 00249183242703 :المملكة المغربية -الشــركة العربية اإلفريقية للتوزيع والنشــروالصحافة ،سبريس -الدار البيضاء -ت - 00212522249200 :فاكس/00212522249214: الجمهورية العربية الســورية -مؤسســة الوحدة للصحافة والطباعة والنشــر والتوزيع -دمشق - ت- 00963112127797 :فاكس00963112128664:
األسعار دولة قطر مملكة البحرين
10رياالت
الجمهورية اللبنانية
دينار واحد
الجمهورية العراقية
اإلمارات العربية المتحدة
10دراهم
سلطنة عمان
800بيسة
دولة الكويت المملكة العربية السعودية جمهورية مصر العربية الجماهيرية العربية الليبية الجمهورية التونسية الجمهورية الجزائرية المملكة المغربية الجمهورية العربية السورية
دينار واحد 10رياالت 3جنيهات 3دنانير 2دينار 80دينارًا 15درهم ًا 80ليرة
4
المملكة األردنية الهاشمية الجمهورية اليمنية
3000ليرة 3000دينار 1.5دينار 150ريا ًال
جمهورية السودان
1.5جنيه
موريتانيا
100أوقية
فلسطين
1دينار أردني
الصومال
1500شلن
بريطانيا
4جنيهات
دول االتحاد األوروبي
4يورو
الواليات المتحدة األميركية
4دوالرات
كندا واستراليا
5دوالرات
قضية
29
موسم تسريب االمتحانات
كمال مغيث
د .آمنة بلعلى د .موالي المصطفى البرجاوي عبدالسالم بنعبد العالي
44
خروج بريطانيا وأبواب البريكست واسعة!
مارك ليونارد محمد المزديوي خطيب بدلة منذر حلوم عبدالوهاب األنصاري عبده وازن فتحي المسكيني منى فياض
ملف
بروفايل
ترجمات
38
زينب المحمود :الفصاحة ليست حكرًا على األدباء( ..........حوار:طه عبدالرحمن)
دراسة
فــراغ المرحلة االنتقالية (.......................د .حســين محمود)
لعب ــة الزم ــن (...............................................ن ــورة ف ــرج) 116
واق ــع الفضائي ــات الديني ــة( ......................................د .عبدالس ــام أندلوس ــي)
ترجمات
الضمير األخالقي واألدب( ........................... ...ترجمة :محمد الجرطي)
إصدارات
106
حفريات اليمن السعيد ( ............................................أوراس زيباوي) ّ
هويـــة قلقـــة تبحـــث عـــن انتســـاب ( ............................إبراهيـــم أولحيـــان) ّ
غرابـــة فـــي عقـــل أورهـــان بامـــوق ( ..............................وائـــل ســـعيد) وزمانيـ ًا ( ...........................د.ناديــة هنــاوي ســعدون) مكانيـ ًا ّ ذوات متشـ ِّـظية ّ
ســيرة لويس أراغــون ( ...............................................ســعيد بوكرامي)
معارض
125
«جياكوميتي» ..ألغاز ما يختفي من الجسم( ...................بنيونس عميروش )
عمارة
128
سينما
130
المَثـــل عنـــد شـــعب الموســـي(.........د .وليـــاي كنـــدو) 118 أدب َ ساراســين في اللغــات األوروبية(...........د .طالل عبداللطيف الجســا) 122
92
عالـــم يضـــج بالرفض(...........................د.أمينـــة التيتـــون) 150 ّ
إيف بونفوا أضاعته «نوبل» ولم يضيِّعها
بي ــروت ..كم ــا عرفته ــا(.......................د .عبدالعزي ــز المقال ــح) 147
نيفرالنــد ( ...............................................إيزابيــا كاميــرا)
التعايــش فــي القــدس (.........................إبراهيــم صقــر الزعيــم) 154
محفوظ والعقّاد ..عالقة ُّ توتر أم ســام؟ (....محمد عبدالرحيم الخطيب) 158
رحيل
النـــص وِإحيـــاؤه (...........................خالـــد الجبيلـــي) 160 ِإماتـــة ّ
عبّاس كيارستمي..
ملف خا
ص
شاعر السينما اإليرانية
74
دانييـــل عربيـــد :عالـــم جديـــد فـــي «باريســـية» ( ...............نديـــم جرجـــورة) «ســودان مايو» التاريخ ناطق ًا ( ..............................محمد محمود البشــتاوي) ـــع فـــي فرنســـا ( ..................................................أمجـــد جمـــال) ُصِن َ
«أنـــا ،دانييـــل بليـــك» األمـــل فـــي عالـــم جديـــد( ....................ســـمير فريـــد) روبي ــر بريس ــون ..باحثـ ـ ًا ع ــن مخرجي ــن ( .......................يوس ــف يوس ــف)
28
سجناء السيارة ( ......................................ستيفانو بيني) 152
تأثي ــث المدين ــة ..دفاعــ ًا ع ــن اإلنس ــانية ( ..............................خال ــد الس ــلطاني)
أفـــام األزمـــة االقتصاديـــة ُمربحـــة أيضـــ ًا ( ..................أحمـــد ثامـــر جهـــاد)
90
نص ــوص َم ِّيت ــة (......................................أمي ــر ت ــاج الس ــر) 105
40
92
مقاالت
130
علي عفيفي فتحي عبداهلل ريان د .أمجد ّ القصاص جمال ّ علي الدكروري سلم رفعت ّ
بصمات علي قنديل
رسائل من المهجر
أُكذوب ُة االندماج!
عبد العزيز بركة ساكن( -زالتسبورغ النمسا)أعمـل اآلن ُمتطوعـ ًا مـع بعـض الالجئيـن السـوريين والعراقيين كحلقة وصل بينهم وموظفي الرعاية االجتماعية النمساويين، حيـث إن الالجئيـن ال يتحّدثـون األلمانيـة بعـد ،وال يحلـم الموظفـون النمسـاويون بتعلُّم العربية .وبذلك تصبح المجموعتان تـواز تواصلي لغوي قد يمتد إلى ثالث فـي ٍ سـنوات ،أو أحيانـ ًا إلـى عقـد مـن الزمـان. يظـن الموظفـون االجتماعيـون أن أطفـال الالجئين العرب لديهم مشاكل معقّدة ،هذا ما فهمته عندما اتصلوا بي طالبين المساعدة، بالفعـل كنـت مرعوبـ ًا جـداً ،ألن الموظفـة إلي كانـت مرعوبـة وهـي تحاورني ونقلـت ّ مخافاتها .فاألطفال العرب الذين أعمل معهم ومع ُأسرهم جميع ًا جاءوا من مناطق كانت تسيطر عليها «داعش» ،وقد شاهد الكثير من األطفال أفرادًا تنفصل رؤوسهم من أجسادهم بالسيف أو المدي وشاهدوا أيض ًا آلة الحرب وهـي تعمـل ،والبعـض فقـد أعـزاءه وهـذا بالطبع يؤثر على نفسـيتهم وسلوكهم .لذا كنت أتوقّع األسوأ ،ولكن عندما اجتمعت مع المعلمين والموظفة االجتماعية واسـتمعت لنوع األفعال الشـائنة المنحرفة التي يقوم ثم أخذت أشرح بها األطفال العرب ،ضحكت ّ لهـم األمر. تكن األعمال الشائنة سوى ما كنت أقوم لم ْ كل طفل بــه أنا فــي المدرســة ويقوم بــه ّ 4
سوى السلوك في بالدنا .قليل من الشغب ٍ كثير منه ،الممازحة بالضربات الخفيفة أو ٌ علــى الرأس ،الثرثرة مع األطفال اآلخرين في غياب المعلم عن الفصل ،المشــاجرات وســبهم الصغيــرة الممتعة مع األصحاب ّ وعضهم أحياناً ،نســيان حقيبة المدرســة ّ فــي مكان ،عدم القبول بــأن يقوم األطفال األصغــر عمــرًا بشــرح الــدروس لألطفال العمر ،الجري بسرعة الذين يكبرونهم في ُ صــر الوجه جنونيــة قصــوى بالدراجــة، ُّ لطفل إلرعابه ،وأشياء من هذا القبيل ،بل كنا نقوم بما هو أسوأ من ذلك مثالً :أن ُندير معارك شرسة وفعلية مع أطفال المدارس األخــرى فــي الخــور أو عند شــاطئ النهر أو فــي غابة النبــق ،وأحيان ًا في الطرقات الشاســعة عنــد عودتنــا من المدرســة .لم يتهمنا أحٌد بالجنوح أو السلوك الفاضح، بل العكس قد يأخذوننا إلى الطبيب البلدي أو الشــيخ لفحصنــا إذا كنــا غيــر ذلــك، فالطفــل الذي ال يفعل كما األطفال اآلخرين البد من أن هنالك بعض الشياطين تسكنه. وصمته وهدوؤه قد يكونان عالمة الجنون الذي سوف ينفجر فجأة .فحاولت أن أشرح للمعلمات ومديرة المدرسة المرعوبة ،كما العاملة االجتماعية ،سلوك األطفال العرب ليس بالســلوك الشــاذ وال يحتاجون إلى متخصصين .المسألة هي أطباء نفسانيين ّ أشــكال فروق لها عالقــة بالمكان وثقافته وبما يراه الشخص صحيح ًا أو ما أسميه: لغة المكان.
فاألوروبــي نفســه ال يســتطيع أن يفهــم األوروبــي اآلخــر .حكــى لــي صديقــي النمســاوي العجــوز (رودي راينر) ،وهو أســتاذ األلمانيــات -اآلن فــي المعــاش- عــن الصبــي الفرنســي الــذي جــاء ليقيم مع أســرتهم عن طريق التبــادل التربوى بيــن فرنســا والنمســا فــي ذلــك الوقــت. الــذي لــم يكــن ســعيدًا على اإلطــاق في النمســا ،وكان ينزعج جــدًا لدرجة القرف عندمــا يشــاهد أفــراد أســرة رودي راينر يتناولــون «الفورتــس» -وهــو الطعــام الشــعبي األلماني -بأيديهم دون استخدام الشوكة والســكين ،ولم يقنعه قول الجد: إن الملكــة البريطانيــة نفســها تناولــت الفورتس في النمســا بأصابعهــا الملكية الراقيــة المباركــة ،فمن تكون أنــت؟! أيها الفرنســي الغر .أما ما ُيثير جنونه بالفعل في أسلوب حياة األسر النمساوية :تركهم البحيرات الصغيرة لألطفال يسبحون في ُ والحرية الراكــدة علــى ســفوح الجبــال، ّ التشــرد والفقر التــي هــي أقــرب لحيــاة ُّ ُ واإلهمــال ،الزي والبدانة وأشــياء أخرى ال ُتعّد .لم يستطع الطفل الفرنسي الرقيق إتمام فترة المنحة وُأصيب باإلعياء وعاد جملــة مهــرو ًال لفرنســا ،دون أن يتعلّــم ً واحدة صحيحة من اللّغــة األلمانية التي يبغض أهلها .ولــو أن الجد قال له أيض ًاً: األســرة المالكــة في بريطانيــا أصلها من ألمانيــا .مختصــرًا لــه عظمــة الجيرمان. «النمساويون من أصل جيرماني».
لحّد الذهول مــا الحظته في ما أدهشــني َ باريــس .عندمــا كنت أســتقل المترو إلى وســط المدينة من مطار شارلي ديجول. كل محطــة مــن محطــات المتــرو فــي ّ الكثيرة ،كان ينزل فيها أشــخاص بنفس ســحنات الذيــن يصعدون مــن المحطات ذاتهــا .بيــض أم صفــر ،عــرب أم ســود مــن إفريقيا أو أميــركا الالتينية .وهذا ما يؤكد أكذوبة االندمــاج الكبرى ،فاألحياء ّ فــي باريس وغيرها من المدن الفرنســية الكبيــرة تنهض على فصل مكاني ولوني وجهــوي عميــق .ليســت نتيجــة لتفرقة ُعنصريــة مخفية ،ولكن نســبة للجيوب المتكونة طواعية الثّقافيــة والحضاريــة ّ بجاذبيــة المكان ومقاومــة االندماج ومن أجــل الحفاظ علــى الشــخصية الروحية والقوميــة المميزة لكل مهاجــر ،ولم يتم التخطيط الفعلي لهــذا الفصل إنما حصل تدريجيــ ًا وتلقائيــ ًا بفعــل الزمــن وتأثير ثــم اإلقصاء ولــو أن الزواج األمكنــة األم ّ العابر للقوميــات واأللوان والجنســيات فــي فرنســا واضــح للعيــان ،حيــث إن الحب وحــده الذي اســتطاع مقاومة عدم ُ يتجــول الشــخص في االندمــاج .عندمــا ّ وســط باريــس ،لــوال المعالــم البــارزة هنــاك لمــا اســتطاع أن يعــرف فــي أية يتجول الشــخص دولة هو ،ولكن عندما ّ مــرة يظن أنه في في األحياء الســكنيةّ ، ومــرة فــي المغــرب العربي، الســنغالّ ، ومرة في تركيا ،أو الصين وفق ًا لقوميات ّ
ســاكني تلك األمكنة .والجميع يتحّدثون الفرنســية بطالقــة ،ومثلهــم تمامــ ًا مثل الفرنســيين يرفضــون تعلُّــم أيــة لغــة أية أخرى ،فالفرنسي ال يرغب في ُّ تحدث ّ لغــة أخرى غير الفرنســية ،وهذا يقودنا إلــى نقطــة اللّغــة ،فاإلنجليــزي أيض ًا ال التحدث غير اإلنجليزية ويفترض يرغــب ُّ كل شــخص أن أنها اللّغة العالمية وعلى ّ خيار واحد: المهاجر يتحّدثها .يبقى أمام ٌ يتحمل أكذوبــة االندماج وحده، وهو أن ّ ولو أن ذلك جزئياً -كما ذكرنا -ألســباب عمليــة بحتــة ،إذا أراد العيــش والعمــل والبقــاء فــي المجتمــع الجديــد عليــه أن يّدعي بأنه مندمج وأنه متسامح والمكان الجديــد ،ويفترض هــو أيض ًا ويصّدق أن يرحب به ويندمج فيه أيضاً. المكان ّ أجيــال المهاجريــن المولــودة فــي دول المهجــر الذيــن تلقــوا تعليمهــم هنــاك، وحتــى الذيــن تزوجــوا وتزوجــن مــن ســكان المــكان ،الكثير منهــم يعاني من كذبــة االندماج .قال لي صديق من أنغوال متزوج من نمســاوية ،وله طفلة جميلة، يقيم في قرية على األلب في مسكن أسرة زوجتــه ،إنــه يريــد طفلتــه أن تتحــّدث اللّغــة البرتغالية التي يعتبرها لغة ُأمه، ثــم األلمانية بعد ذلــك ،قال إن ابنته هي ّ ابنتــه هو ،وهي تنتمــي له ،وهو ينتمي ألنغــوال ،وينتمي لجده البرتغالي أيضاً. إن اإلنســان من فهــل نســتطيع أن نقول َّ طبيعتــه مقــاوم لالندمــاج بوعيــه أو
دون وعيــه .ويصبح مصطلــح االندماج مصطلحــ ًا سياســي ًا اقتصاديــ ًا بحتــاً ،ال عالقة له بإنســانية اإلنســان أو بالمكان الــذي يشــكله؟! ولكــن فــي المقابــل ،في بعــض االســتفتاءات التــي ُأجريــت على األجيــال الالحقــة مــن أبنــاء المهاجرين الذين ُولدوا في المهاجر ،في سؤال ما إذا كانوا يفضلون العيش في مسقط رأسهم أم العــودة لبــاد أجدادهــم ،تقريبــاً، جميعهــم فضلوا الحياة في المهجر ،وهذا غيــب عنا ســؤا ًال مهمــاً« :لماذا % 99 ال َي ُ من الذيــن يقومون بالعمليــات اإلرهابية فــي أوروبا وأميــركا ،نتيجــة النتمائهم المتطرفــة التــي أصولها في للتنظيمــات ّ بالدهــم األم أو تأثرهــم بخطاباتهــا ،هم من أبناء وبنــات المهاجريــن المولودين فــي ِ المهجــر؟!» ،أال يفضح ذلــك أكذوبة االندماج؟! أما بالنســبة لي شــخصياً ،ال أعتبر مهجري غير منفى مؤقت .قد أنتقل منــه إلى منفى آخر ،وقــد أموت في أحد وسأظل حتى في عمق ظالمات المنافي، ّ قبري ســوداني ًا من مدينة «خشم القربة» يقــاوم االندماج بوعي وغير وعي أيضاً. أقصد بطبيعتي البشــرية .أكذوبة المنفى هــي ذاتهــا أكذوبــة اإلنســان العالمــي، ثم فاإلنســان هو المكان فــي المقام األول ّ القيم العالمية والمحلية األخرى. ملحوظة مهمة :معرفة لغة بالد المهجر ال تعني بالضرورة االندماج. 5
اقتصاد
االقتصاد الصيني: متسابق شيوعي برئة ليبرالية! جمال الموساوي فـي الوقـت الـذي كانـت فيـه الواليـات المتحدة األميركية واالتحاد السوفياتي مشغولين بحرب النجوم ،كانت الصين قد حسمت أمرها .وكان ماو تسي تونغ المؤسـس ألكبـر دولـة شـيوعية األب ِّ قـد رحـل .هكذا ،لم تكـن الصين مهتمة كثيـرًا بتصديـر األيديولوجيـا بقـدر مـا ِّر التفتـت إلـى أمـر أكثـر أهميـة :أن ُت َوفَ الشـغل والطعـام ألكثـر مـن مليـار َ مواطـن .وهـو أمـر ال يمكـن القيـام بـه 6
فقـط بتصديـر األفكار ،بل باالسـتثمار التحـول الـذي يعنـي الرأسـمال .هـذا ُّ كاملا ،بل إن تحـو ًال ً لـم يكـن بالتأكيـد ُّ مكن من إيجاد نوع من اإلبداع الصيني َّ المتحكـم فيـه .اقتصاد الح ّـر ِّ االقتصـاد ُ ليبرالي في ِظّل نظام حكم يستند إلى المبـادئ الشـيوعية فـي إدارة الدولة. «الموجهـة» تهـم ،على هـذه الليبراليـة ّ ا َأل ّقـل ،العالقـات مـع باقـي العالـم في مجاالت التجارة واالستثمارات وكذلك الهجرة .لقد بقيت الجمهورية الشعبية بلـدًا منغلقـ ًا علـى نفسـه ،علـى ِغـرار
بلدان المعسكر الشيوعي سابقاً ،لكنها تأملـت تجربـة بـدأت تدريجيـاً ،وقـد ْ الحلفـاء األيديولوجييـن ومآالتهـم، فـي إبـداء نـوع مـن المرونـة والرغبـة فـي االنفتـاح علـى العالـم اقتصاديـاً، لالسـتفادة من المكاسـب التي يتيحها نظام السـوق. الصين المبهـر حـول هـذا االبتـكار لقـد ّ َ ُ إلـى بلـٍد مؤثـر فـي االقتصـاد الدولي، باإلضافة إلى موقعه السياسي الوازن من خالل العضوية الدائمة في مجلس يخولـه لـه ذلك مـن تأثير األمـن ،ومـا ّ
في مجريات السياسة الدولية ،وضبط موازيـن القـوى لتغطيـة الفـراغ الـذي تركه االتحاد السوفياتي بعد أن أنهكته الحرب الباردة ،وفتته البروسترويكا. أصبـح االقتصاد الصينـي ثاني أقوى اقتصـاد فـي العالـم بعـد الواليـات ـل طيلـة ثالثيـن المتحـدة ،بعـد أن َظ ّ سـنة تقريب ًا يحقّق نسـب نمو سـنوية تتجـاوز الــ 10في المئة ،وهي وتيرة يتـأت ألي دولـة منتظمـة ربمـا لـم َّ تحقيقهـا فـي السـابق. إن مـا يمثـل ميـزة صينيـة أصيلـة هو
المتغيـرات التـي حسـن التفاعـل مـع ّ شـهدها العالـم ،وذلـك انطالقـ ًا مـن مبكـر بـأن االعتماد على شـركاء وعـي ّ المنظومـة األيديولوجيـة التـي أبـدت حماسـ ًا في البداية لدعم ثورة ،1949 ليـس مضمونـ ًا فـي الزمـن .وقـد تجلّى التحـوالت التـي طـرأت ذلـك أكثـر فـي ُّ علـى القيـادة السـوفياتية بعـد مـوت سـتالين ،عندما وجدت الصين نفسـها مدعوة إلدانة الحقبة الستالينية ،وهو أمر لم تفعله ،مما أدى ،بجانب عوامل أخـرى ،إلـى ردود فعـل قاسـية علـى اقتصادها الذي كان في تلك الفترة من بناء الدولة الصينية الشيوعية معتمدًا باألساس على المبادالت مع المعسكر الشـرقي وعلـى اإلعانـات والقـروض والدعـم التقنـي لالتحاد السـوفياتي. المبكـر بضـرورة االنكباب هـذا الوعـي ّ علـى بنـاء االقتصـاد باالعتمـاد علـى س المؤهلات المتوافـرة داخليـاًَ ،ت َك َّـر َ أكثـر بعـد انهيـار االتحاد السـوفياتي، وانتصـار النمـوذج الغربي (حتى اآلن قـل) فـي التدبيـر االقتصـادي علـى ا َأل ّ والسياسـي .لهـذا ال يمكـن النظـر إلـى تطور مـا حقّقتـه الصيـن ،حاليـاً ،مـن ُّ هائـل فـي المجـال االقتصـادي بمعـزل عـن الهـزات وأحيانـ ًا «التخبـط» الـذي َو َس َـم مسـار الجمهوريـة الشـعبية منـذ 1949علـى الخصـوص ،بمـا فـي ذلك ،إضافة إلى ما ذكر ،المناوشات الحربية مع كوريا والهند ،التي كلفتها إبانها خسائر فعلية وحصارًا اقتصادي ًا غربيـ ًا أبطأ انطالقتهـا بعيدًا عن الدعم السوفياتي ،وإضافة أيض ًا إلى النتائج الكارثية لما يعرف بالقفزة الكبرى إلى األمـام ،والتـي أودت بحيـاة المالييـن مـن الصينيين نتيجة المجاعة وسـوء المعاملة ،وأثّرت بشكل أو بآخر على وتيـرة التنمية. لـم تكـن هـذه القـراءة االختزاليـة مـرت بها الصين ،منذ ُّ للتحـوالت التـي ّ الثـورة الشـيوعية إلـى غايـة نهايـة السـبعينيات مـن القـرن العشـرين، اعتباطيـة بقـدر مـا تمثّـل مفتاحـ ًا ضروريـ ًا لفهـم وضعيـة االقتصـاد
الصينـي كثانـي قـوة اقتصاديـة فـي التربع الوقـت الراهـن ً مدفوعة بطموح ُّ علـى عـرش االقتصـاد العالمـي فـي السـنوات القليلـة المقبلـة ،علمـ ًا بـأن ال مقومـات ِعـّدة تجعل هذا الطموح قاب ً للتحقّـق .
اقتصاد ليبرالي بشكل كامل ...تقريب ًا! عـل أكبـر المقومـات التـي توافـرت َل ّ للمسـؤولين الصينييـن لتطويـر نموذجهـم االقتصـادي لمـا بعـد اإلصالحـات ،يتمثّـل فـي العـدد الكبير للسـكان الـذي َت ّـم اسـتغالله لتوفير يد قـل مقارنـة مع مناطق عاملـة بتكلفـة َأ ّ أخرى من العالم .وهو ما ساهم ،إلى جانـب تحفيـزات حكوميـة أخـرى فـي مجـاالت الضرائـب والعقـار والسـماح للخواص بالعمل وعمليات الخوصصة التدريجيـة واالسـتثمار فـي البنيـات التحتيـة األساسـية ،فـي اسـتقطاب وحول مكثّف لالسـتثمارات األجنبيةَّ ، ـل اقتصـاده مرتكـزًا الصيـن مـن بلـٍد َظ ّ باألسـاس على الزراعة طيلة المرحلة صناعـي بطاقـة الماويـة إلـى بلـد ّ إنتاجيـة هائلـة ،وبرغبـة جامحـة في غـزو أسـواق العالـم. في سـنة ،2014وحسـب إحصائيات مؤتمر األمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتـاد) ،باتـت الصيـن علـى رأس الدول المستقبلة لالستثمارات األجنبية المباشـرة بمبلغ 129مليار دوالر بعد تراجع الواليات المتحدة األميركية إلى شكل 92مليار دوالر .هذه الوضعية ُت ّ انقالب ًا جذري ًا في توجهات المستثمرين األجانـب فـي العالـم ،فعلـى سـبيل المقارنـة ،وبالعـودة إلـى إحصائيات نفس المنظمة في التقرير الصادر سنة ،2001لم تستقطب الصين سوى 41 مليـار دوالر مقابـل 281مليـار دوالر للواليات المتحدة. حـول زخم االسـتثمارات الخاصة لقـد ّ (األجنبية والمحلية) الصين إلى فاعل رئيسي في التجارة الدولية خاصة بعد 7
انضمامهـا فـي أواخـر سـنة 2001إلى متجـاوزة المنظمـة العالميـة للتجـارة ً بذلـك تحفظاتهـا المتعلّقـة بالتحريـر الكامـل القتصادهـا ورفـع القيـود عـن التطورات أصبحت مبادالتها .تبع ًا لهذه ُّ الجمهورية الشعبية أكبر قوة تجارية فـي العالـم سـنة 2013متفوقـة علـى الواليـات المتحـدة األميركيـة نفسـها، وذلـك وفـق إحصائيـات ،متاحـة فـي تقاريـر صحافيـة مختلفـة ،لكتابـة الدولـة األميركيـة فـي التجـارة .خلال هذه السـنة بلغت صادرات الصين من السـلع 2210مليـارات دوالر مقابـل 1590مليـارًا لألميركييـن. لقـد تمتعـت المنتوجـات الصينيـة بقـوة تنافسـية كبيـرة ،فـي األسـواق العالميـة ،مقابـل المنتوجـات القادمة مـن القـوى الصناعيـة التقليديـة، خاصة من أميركا واالتحاد األوروبي، بفضـل اليـد العاملـة الرخيصـة مـن جهـة ،وبفضـل إجـراءات وممارسـات يتـم عـادة اتهـام الصيـن باللجـوء إليهـا لتشـجيع اإلنتـاج والتصديـر مثـل المسـاعدات المقّدمـة للشـركات المحلية ضدًا على ما سطرته المنظمة العالميـة للتجارة والقرصنة ،وكذلك التغاضـي عـن عـدم احتـرام هـذه الشـركات لمسـتلزمات األمـن المهنـي ومعاييـر المحافظـة علـى البيئـة. ال إضافياً ،في غاية بيد أن هناك عام ً عـزز هـذه التنافسـية يتمثّل األهميـةَّ ، فـي حاجـة دول العالـم الثالـث التـي يعانـي سـكانها مـن الفقـر وضعـف الدخـل إلـى منتوجـات بأسـعار رخيصـة (جـداً) لتأميـن حاجيـات هـؤالء مـن األلبسـة والتجهيـزات المنزليـة ومـواد التجميـل وغيـر ذلك من السلع ،بغض النظر عن جودتها. أمـن للشـركات الصينيـة هـذا العامـل َّ المسـتقرة في الصين سوق ًا كبيرة أو ّ ممتـدة عبـر العالـم ال ينافسـها فيهـا سـوى شـركات بلـدان شـرق آسـيا ـل طاقتها اإلنتاجية تظ ّ الناشـئة التي َ قـل. والتصديريـة َأ ّ
8
الحاجة إلى الصين تصدر فقط المنتوجات لكن الصين ،ال ِّ المصنعـة ،بـل إن ممـا يجعلهـا بلـدًا مؤثـراً ،تسـعى ِعـّدة بلدان لكسـب وده كونـه سـوق ًا سـياحية هائلـة ،بفضـل تراكـم الثـروة المتحقّقة للصينيين من الطفـرة االقتصاديـة التـي يعيشـونها منـذ نحـو أربعيـن سـنة .فإحصائيات وزارة التجـارة الصينيـة تقـّدر أن عدد المسـافرين إلـى الخـارج تجـاوز 100 مليون سنة ،2014وأن نفقاتهم بلغت ما يناهز 163مليار دوالر .وهذا يمثل تطـورًا كبيـرًا مقارنـة فقـط مـع 2011 ُّ على سبيل المثال بمجموع نفقات بلغ 73مليار دوالر حسب المنظمة العالمية للسـياحة ،إلـى َحّد اعتبـاره ،في ذلك ال العام ،من طرف رئيس المنظمة عام ً سيسـاهم في تغيير المشـهد السياحي العالمـي ،مؤكـدًا بذلـك حجـم التأثيـر الـذي يمكـن أن يحدثـه نجـاح النمـوذج االقتصـادي الصينـي حتى اآلن. شكل االستثمارات باإلضافة إلى ذلكُ ،ت ّ الصينيـة فـي الخـارج مجـا ًال آخـر يعكـس حاجـة العالـم إلـى الصيـن ومـن َث ّـم إمكانية تأثيرها في مجريات األحـداث التـي يمكـن أن تمتـد خـارج االقتصـاد إلى السياسـة وإلى القضايا االسـتراتيجية اإلقليميـة أو الدوليـة خاصـة فـي الظرفيـات المتأزمـة كمـا هو الشـأن حالياً .في هذا اإلطار بلغت االستثمارات الصينية في الخارج سنة 2013أزيد من 90مليار دوالر ،و102 مليـار دوالر سـنة 2014مـع تسـجيل ارتفـاع مهـم في المبالـغ الموجهة نحو االتحـاد األوروبـي والواليات المتحدة األميركيـة ،حسـب اإلحصائيـات الحكوميـة الصينيـة. بيـد أن قـوة الصيـن كفاعـل اقتصـادي الحـّد ،بـل إنهـا مؤثّـر ال تقـف عنـد هـذا َ تشـكل مطلـب ود للشـركات العالميـة ّ باعتبارهـا سـوق ًا هائلـة ،خاصـة بعـد االنضمـام إلـى المنظمـة العالميـة للتجـارة ومـا تلا ذلـك مـن إجـراءات مثـل تخفيـض التعرفـات الجمركيـة
علـى الـواردات .فسـواء تعلّـق األمـر الموجهـة لالسـتهالك النهائي بالمـواد ّ أو لقطـاع التصنيـع كمـواد أوليـة أو وسـيطة ،باتـت الصيـن رقم ًا أساسـي ًا في حركة التجارة الدولية وفي تقلّبات األسعار صعودًا وهبوط ًا للمواد األكثر حيوية مثل البترول والحديد والصوف والخشـب. سـجل وعلـى سـبيل اإلضـاءة ،فقـد ّ المعدل السـنوي لسـعر البترول منحى تصاعديـ ًا مـع ارتفـاع الطلـب الصينـي ابتداء من سنة 2003إلى بشكل مكثّف ً غايـة ،2013مـن نحـو 28دوالرًا إلى مـا يقـارب 110دوالراتّ ،إل أن األزمة التـي َمّر بها االقتصـاد الصيني أعادت هـذا المعـدل سـنة 2015إلـى حوالـي قـل ممـا تـم 35دوالرًا للبرميـل وهـو َأ ّ تسجيله سنة 2004التي تجاوز فيها 38دوالرًا بقليـل.
إعادة نظر إن مـا حقّقتـه الصيـن مـن مكانـة وسـط االقتصـادات العالميـة الكبـرى بفضـل ابتكارهـا القائم على «التوجيه واالنفتاح» في الوقت نفسـه ،لم يمنع من ظهور أزمات واختناقات اقتصادية كمـا حـدث أخيـرًا مـع أزمـة األسـهم الصينية ،وكذلك آثار األزمة العالمية المتواصلـة منـذ أواخـر سـنة 2007 بشـكل غير مباشـر من خالل شـركائها الغربييـن الذيـن تقلّـص طلبهـم علـى المنتوجـات الصينيـة .هـذه «الهـزات» تمثل نتاج ًا طبيعي ًا لالنخراط المتزايد فـي االقتصـاد العالمـي المعولـم. فـي سـياق مماثـل ،سـيكون علـى الصيـن مراجعـة توجهـات سياسـاتها االقتصاديـة فـي السـنوات المقبلـة لمواجهـة تباطؤ النمو الذي ستكرسـه بالتحـول مـن هـذه الوضعيـة ،وذلـك ُّ موجـه للصـادرات اقتصـاد صناعـي ّ إلـى اقتصـاد اسـتهالكي يركـز أكثـر على اسـتثمار اإلمكانيات التي تتيحها السـوق المحلية الواسـعة .وكما وعت الصيـن مـن قبل بعدم إمكانية االعتماد
الكلـي علـى الشـركاء األيديولوجييـن تقدمهـا ،فـإن التعامـل مـع فـي دعـم ُّ التطورات الراهنة يعكس بشكل واضح ُّ انشـغال الصين بتأميـن اقتصادها من هـزات االقتصـاد العالمـي .بمعنـى أن تعويض تراجع الطلب الخارجي يمر، بالضرورة ،عبر زيادة الطلب الداخلي بسياسات تستهدف التقليص من ادخار األسـر وتحفيـز االسـتهالك ،وإيلاء اهتمـام أكثـر لتنميـة قطاعـات جديـدة كالخدمـات علـى اختالفهـا السـتيعاب أعـداد أكبـر مـن اليـد العاملـة المهاجرة مـن القرى أو المسـتغنى عنهـا من ِقَب ِل الشـركات والمعامـل الصناعية بسـبب تأثيرات أزمة االقتصاد العالمي ،ومن َث ّـم لخلـق دخـول جديـدة تسـاهم فـي تنشـيط الـدورة االقتصاديـة. التحول إلى مجتمع اسـتهالكي بيد أن ُّ واسـع يتطلّـب ،باإلضافـة إلـى تغيير أكبر في ثقافة اإلدخار واإلنفاق الحذر تشـبع بهـا الصينيـون على مدى التـي َّ عقـود ِعـّدة ،العمـل كذلـك علـى مزيـد مـن تحسـين المسـتوى العـام لعيـش يشـكل تحّديـ ًا كبيرًا في هـؤالء .إن هذا ّ َحـّد ذاتـه للمرحلة القادمة التي يتطلع إليهـا االقتصـاد الصينـي .فبالرغـم مـن المكانـة التـي بـات يحتلهـا ضمـن االقتصـادات الكبـرى فـي العالـم ،ال تـزال الصيـن مصنفـة كأكبـر البلـدان الناميـة .هـذا التصنيف وإن كان يتيح االسـتفادة مـن بعـض االمتيازات على
صعيد التجارة الدولية أو على صعيد التحّديـات البيئيـة مقارنـة مـع الـدول المتقّدمـة ،علـى سـبيل المثـال ،فإنـه يعكـس وجهـ ًا آخر يمثّل بـدوره تحدي ًا عالميـ ًا هـو محاربـة الفقـر وتقليـص الهـوة بيـن األكثـر غنـى واألكثـر فقـراً. يوجـد فـي الصيـن -وفـق إحصائيـات رسمية تتعلّق بسنة - 2014ما يفوق 82مليون نسمة تحت خط الفقر ،بينما يعيش نصف السكان تقريبا ()% 47.3 فـي المناطـق الريفيـة وهي في األغلب مناطـق فقيـرة مقارنـة مـع الحواضـر التـي تحتضـن أنشـطة صناعيـة أو خدماتية .كما أن حصة الفرد الصيني مـن الناتج الداخلـي اإلجمالي (حوالي 4000دوالر سـنوياً) مازالـت بعيـدة عن المعدل العالمي المقدر بنحو 9000 ال مكثّف ًا دوالر .هذا التحّدي يقتضي عم ً لتنمية القدرة الشرائية للسكان بشكل يجعلهم قادرين على الرفع من النفقات االسـتهالكية .وقـد طـرح المسـؤولون الصينيـون ،منـذ ،2008أفكارًا كثيرة بهـذا الشـأن تتعلّق بالرفـع من المبالغ التـي يحصـل عليهـا محـدودو الدخـل، وتخفيض أسعار الفائدة على قروض األسـر ومراجعة الضرائـب ،بالموازاة مـع االهتمـام بمجـاالت حيويـة مثـل التعليم والصحة. يبـدو االقتصـاد الصينـي حتـى اآلن متماسـك ًا بالرغـم مـن آثـار االرتجـاج الذي يطبع االقتصاد العالمي مند نحو
عقـد مـن الزمنّ .إل أن هذا التماسـك قد ينهار في أي لحظة بالرغم من القراءة الجيـدة للمشـهد االقتصـادي العالمـي، وبالرغم من وعي الصينيين بضرورة الوصـول إلـى تحقيـق نمـو متـوازن يخـص مسـاهمات القطاعـات فـي مـا ّ يخـص اإلنتاجيـة مـن جهـة ،وفـي مـا ّ مسـاهمة الطلـب الخارجـي والطلـب الداخلـي مـن جهـة ثانيـة. إذن علـى الصينييـن ،للحفـاظ علـى يتحـرروا بسـرعة هـذا التماسـك ،أن ّ مـن االعتمـاد الكبيـر علـى ديناميـة الصـادرات إلى الخـارج ،وأن ينجحوا فـي التحـّدي المرتبـط بتقريـب الفجوة بيـن مختلـف فئـات السـكان ،أي بيـن األغنيـاء والفقـراء ،وبيـن المناطـق القرويـة الفقيـرة والحضريـة الغنيـة، وأن يخلصـوا نمـو الناتـج الداخلـي اإلجمالـي من االرتهـان لمصدر بعينه، سـيمكنه ،مـع مـرور الوقـت ،مـن ممـا ّ أسـباب االسـتقرار واالسـتدامة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مراجع:
االقتصـاد الصينـي ،فرانسـواز لومـوان ،ترجمة:د .صبـاح ممـدوح كعـدان .الهيئـة العامـة السـورية للكتـاب .2010 الصيـن رؤيـة اقتصاديـة ،2014مجموعـة بنـكقطـر الوطنـي. تقرير إحصائيات التجارة الدولية ،2015المنظمةالعالمية للتجارة. تقرير حول االستثمارات في العالم ،2015مؤتمراألمم المتحدة للتجارة والتنمية. 9
تحقيق
«البيست سيلر» في مصر دائرة ُ الكتّاب المتسلّلين!
القاهرة: بسمة عالء الدين وياسمين عباس شهد اإلنتاج الروائي في مصر والعالم غزارة العربي خالل السنوات األخيرة ً الكّم الكبير غير مسـبوقة ،ويطرح هذا َ مـن األعمـال الروائيـة المنشـورة الك ّـم تسـاؤالت عـن مـدى تأثيـر هـذا َ علـى قيمـة الروايـة المصريـة ومـدى تميزت بالريادة حضورهـا وهي التـي ّ علـى المسـتوى العربـي. تحرينـا مبيعـات قوائـم الروايـات لـو ّ «األكثر مبيعاً» في الشهور أو السنوات األخيـرة ،هـل نحصـل علـى الرقـم الدقيـق والموثّـق؟ الجـواب ،ال ّ شـك أنـه سـيكون عائمـاً ،خاصـة أن دور النشـر «الكبيـرة» ،ال تفـرج بسـهولة عـن أرقـام مبيعاتهاّ ،إل إذا تعلّق األمر بعـدد طبعـات هذه الرواية الناجحة أو تلك؛ وإن كان اإلفصاح عن عدد نسخ الطبعـات أشـبه بأسـرار أمنيـة!. هـذا التعتيـم ليـس جديـدًا علـى حقـل النشـر والتوزيـع فـي مصـر ،وليـس محصـورًا فيـه وحده ،إذ يخص العديد مـن المجـاالت الحيوية األخـرى ،وهو يصعـب مهمـة الباحـث ،فإنه ال إن كان ّ يمنع من محاولة فهم ظاهرة «البيست 10
سـيلر» (الروايـات ذات المبيعـات الجماهيريـة الواسـعة) ،الجديـدة، والتساؤل حول هذا األدب الجديد الذي «أصبـح ُيقـرأ خـارج قاعـدة المثقفيـن التقليديـة». تســــمى بـ«البيســــت سـيلر» (Best )sellerأي الكتـب األكثـر مبيعـ ًا كمـا هـو معـروف ،ألنهـا حقّقـت بالفعـل مبيعـات كبيـرة .وال نملـك حاليـ ًا ّإل هـذا الدليـل علـى نجاحهـا .وعندمـا يأخـذ النجـاح شـكل البيسـت سـيلر وتنـزل النعمـة علـى الكاتـب المنذهـل والناشـر المغتبـط ،فإنهمـا يتحدثـان معـ ًا عـن مفهـوم المعجـزة الـذي يبـدو علـى األرجـح بالنسـبة لهمـا أنه سـبب هـذه الظاهـرة السـعيدة. فهل ظاهرة «األكثر مبيعاً» أفادت األدب المصري أم أضرته؟ حجم سـوق الكتاب في العالم العربي محـدود جـداً .األمـر الثانـي «البيسـت سـيلر» ظاهـرة ُو ِج َـد ْت وانتشـرت مـع ظهـور دور النشـر الخاصـة التـي استخدمت هذا األمر نوع ًا من الترويج. ومـن َث ّـم «البيسـت سـيلر» أو األكثـر مبيعـ ًا ظاهـرة ينبغـي الوقـوف أمامها بنـوع مـن التحفُّـظ ألنهـا مضللـة وال يمكـن القيـاس عليهـا أو التعامـل معها
كمـا فـي البلـدان المتقّدمـة أو البلـدان التـي تقـرأ. وقد تدعي بعض دور النشر أنها طبعت إلحـدى الروايـات عشـرات الطبعـات كل طبعـة ال تتجـاوز فـي حيـن أن ّ تـوزع علـى مئتـي نسـخة ويمكـن أن ّ أصدقـاء المؤلِّـف فقـط ،هـذا إن كانـت هـذه االدعاءات صادقة من األسـاس، فهنـاك طبعـات ال يـدري عنهـا القـارئ أو المتابـع شـيئ ًا سـوى أقاويـل دور النشـر وتصريحـات القائميـن عليهـا. التقوالت في وال مجال للتيقُّن من هذه ُّ ـل غيـاب ثقافـة اإلحصـاءات وتوافر ِظ ّ المعلومـات والمراقبـة مـن الجهـات المؤسسـية المنضبطـة التـي تضطلـع ّ بتقارير صادقة عن حركة اإلصدارات والطبعـات وأعدادهـا ومـا ُو ِّز َع منهـا في فوضى التصريحات الدعائية لدور النشر. ومـن أهـم األسـباب التـي تسـهم فـي زيـادة توزيـع بعـض النصـوص الروائيـة تحويلهـا إلـى أعمـال درامية سينمائية وتلفزيونية ،كما حدث مع روايـة «عمـارة يعقوبيـان» و«الفيـل األزرق» و«فورتيجـو» ...كمـا تسـهم حركـة الترجمـة إلـى عـدد مـن اللغـات األجنبية في رواج أحد األعمال الروائية
علـى حسـاب مـا لـم يترجـم منهـا رغـم قل قيمة احتمـال كـون العمـل المترجم َأ ّ َ والفنّية .وتسـهم من الناحية الجمالية َ الجوائـز أيضـ ًا فـي انتشـار النصـوص الروائيـة ،رغم أن حصول النص على جائـزة ال يعنـي أنـه األفضـل َفنّيـ ًا فـي بعـض التصفيـات؛ فلجـان التحكيم قد توجههـا بعـض المصالـح والتوازنـات السياسـية أو الثقافيـة. إنهـا حقيقـة صادمـة أن يتـم اللعـب توصل إليـه الباحث باألرقـام ،هـذا مـا ّ والمـؤرخ واألكاديمـي فريدريـك ّ روفيلـوا ،الـذي قام بتأليـف كتاب مهم ومرجعـي حـول هـذه الظاهـرة ،حيـث ومميزات يتوقّـف عنـد أرقام المبيعـات ّ الكتـب األكثـر مبيعـاً ،لكنـه يكتشـف مزيفـة، أن األرقـام غالبـ ًا مـا تكـون ّ المميـزات ال يمكـن تحديدهـا كمـا أن ّ بموضوعيـة ،ألن عوامـل كثيـرة تتدخـل لصالـح هذه الكتـب قد ال تكون أحيانـ ًا ذات صلـة بالكتـاب وقيمتـه. ويعيـد الباحـث تاريخ التعبير «بيسـت سـيلر» إلـى عـام 1889م فـي الواليات المتحـدة ،حيـث كان الناشـرون وراء اختراع هذه الصفة أمام النجاح الكبير لبعـض الكتـب. ...
للوقـوف عنـد هـذه الظاهـرة فـي مصر سـألنا د .فاطمـة البـودي ،رئيـس مجلـس إدارة دار العيـن للنشـر فـي القاهـرة ،وصرحـت لنـا عـن أسـبابها «تـردي مسـتوى الروايـات لـه قائلـةّ : أكثر من سبب ،بينها الجوائز الكثيرة، ومـا يصاحبهـا مـن مكاسـب ماليـة وإعالمية ،فقد لعبت هذه الجوائز دورًا الكّتاب يستعجل كبيرًا في جعل بعض ُ فـي كتاباتـه ،وال يسـتعد االسـتعداد الالزم لتأليف رواية تستحق التقدير». ويـرى الناقـد المصـري فـؤاد قنديـل أنـه «فـي مصـر وبعض الـدول العربية «تطبـع بعـض دور النشـر -سـاكنة الجحـور -مئتي نسـخة فـي البداية من قبيـل االحتيـاط حتى تتكشـف األمور، وقد تحتاج لطبع المزيد وعندئذ تكون قـد طبعـت طبعتين وكلمـا أضافت مئة مبـررًا لرفـع أو مئتيـن اعتبـرت ذلـك ّ عـدد الطبعـات بغرض إكمـال منظومة األوهـام» .مضيفـاً« :لـو كانـت أعمـال محفـوظ وإدريـس وبهـاء والبسـاطي وخيـري وأصلان وزيـدان وغيرهـم الكّتـاب بيـن األكثـر مبيعـ ًا مـن كبـار ُ فهـذا شـيء طبيعـي ،لكـن أعمالهـم لألسـف لـم تتسـلّل إلـى أيـة قائمـة، بينمـا يحتـل األكثـر مبيعـ ًا روايـات
لعصـام يوسـف مثـل «ربـع جـرام» وروايات أحالم مستغانمي عن الجسد والسـرير ،وروايـات توصـف بالخفـة مثـل «عايـزة أتجـوز» وكتـاب الممثـل أحمـد حلمـى « 28حـرف» ،وتنافـس بقـوة كتـب األدب السـاخر الـذي يتدنى أحيانـ ًا ليحتـل صـدارة األدب التافـه.. الحديـث إذن عـن األكثـر مبيعـ ًا إدانـة القـراء العـرب، واضحـة لـذوق أغلـب ّ وخاصـة المصرييـن ،الذيـن أنفقـت الدولـة علـى مـدى خمسـين عامـ ًا مـا يتجـاوز تريليـون جنيـه ليصبحوا من المتعلميـن والمثقفيـن». فيمـا يـرى الناقـد المصـري ،د .محمـد بـدوي ،فـي مصطلـح «الروايـة األكثـر مبيعـاً» غموضـ ًا فـي المعنـى ،فهـو يجمع بين أنماط متعّددة من الرواية، بيـن شـفرة دافنشـي البوليسـية وبين الفنّيـة ،فكلتاهما مئـة عـام من العزلـة َ تصدرتـا المبيعـات .أمـا عـن سـوق الكتـاب فـي مصـر ،فيقـول إن وضعـه «يشـبه مـا عليـه في النصـف األول من القرن العشرين ،حين كان العقاد وطه حسين يعيشان من الكتابةّ ،إل أن تلك البدايـة المزدهـرة قد قضت عليها ثورة ،1952التـي قلّصـت مـن رتبـة المثقف والثقافـة حتـى ال يشـاركها سـلطة 11
الفضـاء المجتمعـي» .ولفـت بدوي إلى أن ظهـور الترانزسـتور والتليفزيـون قـد أثّـر فـي انصـراف الجماهيـر عـن قـراءة األدب ،باإلضافـة إلـى أن «جيل السـتينيات مـن األدبـاء قـد ابتعـد عـن معالجـة الواقـع السياسـي في أعماله. أما الناقد د .شاكر عبد الحميد فيرى أن الروايـة المصريـة مزدهـرة َكّم ًا وليس َكْيفـاً ،مشـيرًا إلـى أن الكثيـر مـن هـذه األعمـال ُيعـّد تجـارب أولـى ،وهـي انطباعات ال عالقة لها بتقنية الكتابة، وتسـاءل أيـن هـي األعمـال الفـذة التي شـقّت طريقـ ًا جديـدًا للروايـة العربيـة مـن بيـن تلـك الروايات؟! وقـال عبـد الحميد في ختـام تصريحه: «تأخذ بعض الروايات شـهرة وتترجم فإذا قرأتها وجدت نفسـك تتحسر على غياب القيم وانفالت المعايير ،أين هو الروائـي الفـذ صاحـب الخيـال الجامح واإلبداع المتجاوز للحدود». ... كمـا سـألنا علـي عطـا ،الشـاعر والصحافـي عـن رأيـه حـول (البيسـت سيلر) فقال :إن ظاهرة «األكثر مبيعاً» فـي عالم النشـر ظاهـرة قديمة تتجّدد، فـي شـكل طبيعـي مادامـت هنـاك ُكتب القـراء أكثـر مـن غيرهـا، يقبـل عليهـا ّ وجانـب منهـا ُيعـّد ظاهـرة إيجابيـة خصوصـ ًا فـي بلدنـا ،فهنـاك شـكوى دائمـة من انحسـار القـراءة ،خصوص ًا قـراءة الكتـب الورقيـة. 12
بينمـا تـرى الكاتبـة وفاء شـهاب الدين بـأن الشـللية منـذ القـدم كان لهـا دور كبيـر فـي بـزوغ نجـم الكاتـب ،وهناك مـن اسـتطاع توظيفهـا بصـورة جيـدة ليحصـل علـى مـردود هائـل ،ففـي بالدنـا يجـب علـى الكاتـب أن يكتـب ويسـوق ويقـوم بالدعايـة، وينشـر ّ وهناك من يبرع في ذلك رغم تواضع الفنّـي واألدبـي ،وهنـاك مـن مسـتواه َ تميـزه ،وأعتقـد أنهـا رغـم يسـتطيع ال ّ ككل الظواهـر األخرى سـتأخد ظاهـرة ّ القراء حيـزًا مـن الوقـت إلى أن ينضـج ّ وإلى أن يكتشـفوا زيف «البورباجندا» تسـوق لهـم مـا ال يسـتحق ،وقـد التـي ّ بـدأ ذلـك بالفعـل فظهـرت األصـوات التـي تنـادي بعـدم االنسـياق خلـف ادعـاءات بعـض دور النشـر والبحـث عـن األعمـال الجيـدة التـي ال تسـتهلك الوقـت والجهـد بلا طائـل .لكـن ليـس كل كتـاب يبيـع أكثـر هـو بالضـرورة ّ أفضـل مـن غيـره ،ففي الماضـي كانت كتـب إسـماعيل ولـي الديـن ،وإحسـان توزع أكثر بكثير من عبد القدوس مث ً ال َّ كتـب نجيـب محفوظ ،واآلن كتب أحمد مراد ،وأحمد خالد توفيق ،تنتشر مثل النار في الهشيم ،وال يعني ذلك أنهما أفضـل مـن يكتب الرواية في مصر ،ثم ينبغـي ّأل نغفـل أن الجوائـز األدبيـة عاملا أساسـي ًا فـي الترويـج باتـت ً للروايـات ،حتـى أصبحنـا بالفعـل نعيـش فـي زمـن الروايـة.
وبـدوره يّتفـق الصحافـي إيهـاب مصطفـى مـع الـرأي القائـل بكـون ظاهرة «البيست سيلر» تخضع لبعض رؤى دور النشـر ،مسـتثني ًا المكتبـات التـي ال تنتمـي إلـى دور نشـر ،والتـي يصفها بالحيادية حيال البيست سيلر. ال تلـك المكتبات وتابـع :لـو كانـت فع ً لتغير وتذبذب منسوب البيست منصفة ّ سـيلر يومـ ًا عـن يـوم ،ولكـن الحـال مثلا وصـل إلـى أن نجـد كاتبـ ًا واحـدًا ً (بيست سيلر) دائماً ...وأنا عن نفسي ال أصـدق المكتبات بخصوص عرضها للبيست سيلر ،واعتبره مجرد وسيلة للجـذب ال أكثـر. أما عن الشللية ،فقال إيهاب مصطفى: الشللية لها دور في األوساط الثقافية، بحيـث يتـم الحديث عن العمل وتوجيه األنظـار إليـه ،خاصـة لمـن يملكـون متابعيـن كثـرًا علـى مواقـع التواصـل االجتماعي .أما الصحافيون الثقافيون الذيـن يمتلكـون القـدرة علـى الحكـم بجـودة العمـل مـن عدمـه ،فلا أعتقـد بإمكانيـة اسـتغاللهم كلهـم ،مـا دام للقـراء برسـالته يتوجـه الصحافـي ّ ّ بكامـل المهنيـة. ... من الواضح من خالل هذا االسـتطالع أن االسـتهالك السـريع بـات سـمة الروايـة الرائجـة فـي مصـر لسـهولة قراءتهـا وبسـاطة الموضوعـات التـي تتناولهـا ،ومـن َث ّـم المتعـة اللحظيـة غير الغامضة ،وسرعة االنتهاء منها، لغتهـا شـبه تقريريـة تعالج في معظم موضوعاتهـا اللعـب علـى الغرائـز ال القيـم الوجوديـة والفلسـفية ،سـريعة التنـاول ،ومن َث ّـم ينتهى المتلقّي منها بال جهد ،كثوب يبلى بمجرد االرتداء، ويحتاج المستهلك أو القارئ لما بعدها مـن نصـوص ،وهـو مـا يديـر ماكينات ويـروج لمبدعـي طباعـة دور النشـر، ّ والقـراء الباحثيـن أنصـاف المواهـب، ّ عن وجبات سـريعة للتسـلية ودغدغة المشـاعر .روايـة الــ (البيسـت سـيلر) غالبـ ًا مـا تشـبه الموجـودات الهشـة والمسـطحة التـي ال تصمـد فـي الزمن، كل قراءة وال يستمر جمالها متدفق ًا عند ّ متجـّددة فـي التاريخ.
تصــريـح محمـد ناجي عبداهلل
(كاتـب وصاحب مكتبة):
ظاهـرة «البيسـت سـيلر» موجـودة من زمـان في الغرب، بدايـة مـن صاحـب مكتبـة كبيـرة كان لديـه العديـد مـن ً الكتـب التـي َك َسـاها الغبـار ،ولـم يقتـرب منهـا أحـد- ، ـل مـا يطمـح إليـه أن ُتبـاع بضاعتـه كاملـة -ففكـر كان ُج ّ الكُتـب ،والفتـة معلّقـة فـي أن يصنـع َرفَّـ ًا خاصـ ًا بتلـك ُ َّ «الكُتـب األكثـر مبيعـاً» ...هـذا مبـدأ تجـاري أعرفـه عليهـا ُ تطـور فيمـا بعـد والـذي للتسـويق، دراسـتي جيـدًا مـن ّ «مختـارات الشـهر» ،أو حتـى إلـى ُ «الكُتـب األكثـر َج َـدالً»ُ ، فـي صـاالت السـينما (أفلام للكبـار فقـط) ،مـا أقصده أن تلـك الظاهـرة هـي باألصـل حيلـة تجاريـة قديمـة ،ولكن فـي مصـر ظهـرت بازغـة فـي السـنوات األربـع األخيـرة. لتأثيـر هـذه الظاهـرة شـقَّان ،أولهمـا وأكثرهمـا خطـورة «مستهلك» وليس «قارئ» «على المستهلك» ،وأنا ُأ َس ِّميه ُ «مَثقَّـف» وليـس فـي ذلك إهانة ،فمن يقبل على قراءة أو ُ كتـاب فقـط مـن رؤيتـه علـى رف يحمـل ُجملـة تجاريـة كــ «األكثـر مبيعـاً» ،أو «األكثـر جـدالً» فهـو ينـوي شـراء انطَلت عليه «سـلعة» أي أنـه مسـتهلك بالدرجـة األولـىَ ، الحيلـة ،وتأثيـر ذلـك علـى المسـتهلك أن سـوق األدب والكُتب صار مرهون ًا بـ«مدى قرابة صاحب الدار بصاحب ُ الكُتـب «األكثر مبيعـاً» باتت في أغلب المكتبـة» ،حيـث إن ُ توضـع علـى تلـك األرفـف ألنهـا األكثـر مبيعـ ًا األحيـان ال َ برم ًا بين الطرفين م ا اتفاق هناك ألن بل بالفعل، وشهرة ُ ًُ َ الر ّف ،فكثيرًا ما ذلك على نة عي م قائمة لوضع السابقين ّ ُ َ نـرى اليـوم ،روايـات وأعما ًال حازت علـى نوبل وغيرها بقبـور ،ال بأرفـف، مدفونـة -حرفيـ ًا -بزوايـا مجهولـة، ٍ الكُتـب َثقيلـة العيـار ...فأنَّـى تحـوي ُجَثَثـ ًا لمثيالتهـا مـن ُ بنظـام األفضـل ـد يج أن الحقيقـي للمسـتهلك أو القـارئ ِ ٍ َ كهذا؟!.. أمـا عـن ِ الشـق الثانـي ،فيشـمل «مالـك المكتبـة» ،فـإذا ّ ِ ـب ت ك بيـع فـي ستتسـبب لـك ت ك حيلـة أن المالـك مـا َعِل َـم ُُ ٍ َ الع َجلة تدور» مركونة ،أو أنها ِب َشكل أو بآخر «ستجعل َ فلا ُت َح ِّدِثنـي وقتهـا عـن «الثقافـة» ...األمـر أو ًال وأخيـرًا وأختصـره بـ«المثير للجدل» ألن ما يحتوي على تجـارة. ُ المثيـر للجـدل ،سياسـي ًا كان أم مبتـذ ًال أم فاضحـ ًا أم أي يتحكم في ظاهرة األكثر مبيعاً ،فعلى أي شـيء ،هو ما ّ إن سـتهلكيه م ب» ت الك «بائع سـيقابل أسـاس وبأي وجه ْ ُُ ُ ِ الـرف لـم ُيثـر َجَدَلُهـم؟! ..لـم يجدوا قـرأوا شـيئ ًا مـن ذلـك َّ يشـبع رغبتهـم وحماسـتهم القتنائه؟! فيـه مـا ُ يقـدم أدبـ ًا يبـاع كـ«بيسـت سـيلر» ال كل مـا ال أقـول إن ّ ُ ُ
قـدر حقيقيـ ًا أو ً كـرة العمـل علـى ٍ قيمـة مـا ،فقـد تكـون ِف ُ والمسـتهلك بمجرد قراءة االسـم القارئ يجذب من القوة ُ ُ أو حتـى معرفـة نبـذة مختصـرة ،حتـى وإن كان العمـل متوسـط القيمـة ،الفكـرة جزء ُمهِم جـداً ،وحصول العمل علـى جائـزة مـا ،أو تدعيمه بتحويله إلى فيلم سـينمائي يضيـف الكثيـر جـدًا لرصيـد العمل كـ«بيسـت سـيلر». أمـر ُ يتغيـر أبطالها هـي حيلـة تجاريـة فـي أغلـب األحيان ،قد ّ وروادهـا علـى حسـب عوامـل كثيـرة ،لـو ُقلنـا إن أكثـر ّ مـن يحتلـون مراكـز «األكثـر مبيعـاً» اليـوم مـن الشـباب، تحولت رواياتهم ألفالم لتكون هي الختـرت ،الفئـة التـي ّ األبـرز؛ هنـاك أحمـد مـراد عـن روايـة «الفيـل األزرق»، ومحمـد صـادق عـن روايـة «هيبتـا» ،وعلاء األسـواني عـن أعمالـه ،هـم أكثـر األمثلـة التـي أراهـا اليـوم بـارزة لك َّتـاب شـباب، جليـة ،هنـاك أمثلـة أخـرى ُ وواضحـة ّ أسـبوع بين ٍ والقائمـة ّ تتغيـر بسـرعة فائقـة ،وتتبـّدل مـا َ توثَّـق بأفالم أو بعـد ل ـو ح ت لـم أعمالهـم أن وآخـر طالمـا ُ َ َّ َ سـينما ،أما الجيل القديم أيض ًا فال أزال أرى منه من هو «بيسـت سـيلر» حتـى ،وإن لـم َيَن ْـل َك ّـم الدعايـة العجيـب كأعمال الشباب اليوم ،منهم «رضوى عاشور»« ،نجيب محفـوظ»« ،أحمـد خالـد توفيـق» ،والكثيـر ممـن أخشـى نسيانهم. تتحكم بالـ«بيسـت سـيلر» ،والعالقة بين كما أن الشـللية ّ المَت َح ِّكم األول في هي المكتبة ومالك صاحب دار النشر ُ الكُت ِب واألعمال األكثر قوة َن ِجدها المعادلة كلها ،فبعض ُ «مدفونة» كما ُقلت باألرفف الميتةَ ،عاِ بر س، ن تنتظر ِب َص ٍ ُ يلتفت إليها ِ حق قدرها. أن ويَق ِّد ُرها ّ ُ ناظ ٌرُ ، «أية دعاية تحتاج إلى فريق كامل» ،والصحافة طرف إن ّ بالغ األهمية في ظاهرة كالبيست سيلر« ،الكتاب الفالني أو الروايـة العالنيـة هـي األكثـر جـد ًال أو األكثـر مبيعـاً»، «محبوكـة» وتجاريـة من الدرجـة األولى ،ولو هـي لعبـة َ ِ لقلت لك إنهـا أيض ًا لعبة، حـدث هـذا مـع إحـدى رواياتي ُ اسـتعملت تلـك الحيلة ولـن أنفـي عـن نفسـي وقتهـا أنـي ُ للترويـج عن أعمالي. كذلك ال أحد يجرؤ على القول بأن تلك الظاهرة ستنتهي أم ال ،وأن البيسـت سـيلر ،في نظري ،ليسـت ُم َخصصة لكل ِ الفنّيـة ،ومتى ما ُو ِجَدت السـَلع َ للكُتـب فحسـب ،هـي ُ ُ وج َـدت أيضـا تلـك الحيلـة ،ال أعتقد أنها ـن»ِ ، «تجـارة َ الف ّ الفّن ومسـتهِلُك ُوه. سـتزول إلى أن يزول َ 13
استطالع
تحتــل مواقــع التواصل االجتماعي بمختلف مســمياتها موقع الصدارة من حيــث تبادل األفكار والنقاشــات على مختلف األصعدة .المجال األدبي ،بدوره ،ينتعش من هذه المنصات الرقمية المستحدثة باستمرار ،حيث تكثر الصفحات األدبية والثّقافية على موقع فيسبوك والتغريدات األدبيــة علــى موقع تويتر ،كما ينشــأ يوميــ ًا العديد من المجموعــات األدبية والثّقافيــة على واتس آب، سناب شات ،تليجرام وغيرها من مواقع التواصل االجتماعي... الكّتاب والمبدعيــن ،لنتوقّف على حدود فــي هذا االســتطالع الذي أعّدته «الدوحة» نســائل مجموعة مــن ُ استغالل المبدع العربي لمنصات التواصل االجتماعي لتسويق نتاجه اإلبداعي وتكريس اسمه في المشهد القراء... اإلبداعي وبين ّ
مواقع التواصل االجتماعي ما مدى استغالل المبدع العربي إلمكاناتها؟ استطالع :ريـِّـا أحمد -اليمن تغييـر نظرية التلقّي! فـي البداية يـرى الكاتب والناقد اليمني د.فـارس البيل بأن :منصات التواصل فضـاء جديـداً، االجتماعـي خلقـت ً ومسـاحة تفاعليـة نوعيـة ومختلفـة.. تشـكل ،فـي نظـره ،ثـورة فـي مجـال ّ التلقّـي والتفاعـل ،بحيـث بـات اإلبـداع تشاركي ًا وآني ًا في الوقت نفسه بعد أن كان المبدع معزو ًال عن متلقيه ،ال صلة بينـه وبينهـم وال ردات فعـل متبادلـة ـل وجـود وسـائط كالمطبعـة أو فـي ِظ ّ اإلعلام التقليـدي .لكن اليـوم ،يضيف فـارس البيـل :تمـارس الشـبكات دور القـراء فـي الوسـيط التفاعلـي ،حيـث ّ مواجهـة المبدع ،والمبدع يتلقّى ردودًا تتطور في الحال حول إبداعه ،ولذلك ّ نظريـة التلقّـي اليـوم وهـي تبحـث هذا التفاعل األثير وتحاول أن تسبر غوره. التغير في نظر فارس البيل بيد أن هذا ُّ ينطـوي علـى كثيـر مـن المثالـب ليـس أوالهـا رداءة اإلنتـاج وليـس ُأخراهـا كل مـن يسـتخدم هـذه الشـبكات أن ّ صـار بمثابـة المبـدع .وهـذا ما يضعف 14
الجودة ويشـيع الرداءة ..لكن ،وعلى تمكن األديب الرغم من هذه المثالب فقد ّ العربـي ،نوعـ ًا مـا ،مـن االنتشـار عبـر فضلا عـن أفضالهـا في هـذه الوسـائل ً خلـق تقـارب بيـن المبدعين في الوطن العربـي بفضـل هـذه الشـبكات التـي كسـرت الحـدود واختزلـت المسـافات الجغرافية والزمنية .وإن كان االنتشار قل من خارج المنطقة العربية خافت ًا وَأ ّ المطلوب لعوامل ِعّدة منها اللّغة وكسل الترجمـة ونوعيـة اإلنتاج.
تحطيم المركزية اإلبداعية والحديـث عـن ثـورة وسـائل االتصـال االجتماعـي فـي نظـر القـاص اليمنـي هايل المذابي حديث ذو شجون .وبرأيه فـإن أهـم مـا يمكـن الحديـث عنـه بهـذا الصـدد هـو تحطيم المركزيـة اإلبداعية بفضـل (السوشـيال ميديـا) ومـا خلقـه مـن أدب تفاعلـي ،ويحيلنـا المذابـي فـي هـذا السـياق علـى المخضرميـن ـن أدبيـ ًا واصفـ ًا إياهـم بكونهـم أكثـر َم ْ يسـتطيع وصـف ذلـك بدقـة .مضيفـاً: فـي عصر المركزيـة كان األديب يعاني
الكثيـر من أجل إيصال صوته وإبداعه والكّتاب لم لآلخرين ،وكثير من األدباء ُ يحالفهـم الحـظ في وصـول نتاجهم ّإل بعد موتهم ،أما في عصر (السوشـيال ميديا) فقد توافر لألدباء فرصة النشـر والـرواج الكبيـر ولمـس أثـر ذلـك فـي حياتهم وبسـهولة.. في مقابل ذلك يتسـاءل هايل المذابي: مـا هـو الثمـن الـذي دفعـه األدب مقابـل سـهولة النشـر والترويـج؟ إجابـة عـن ذلـك يفتـرض صاحب «سـفر الحديقة» أن (السوشـيال ميديـا) خدمـت اللّغـة العربية وأنقذتها من الغرق! لكنها كما خلقـت األدب التفاعلـي وسـاعدت على تحطيـم المجالـس األدبيـة بالمجالـس االفتراضية ...فإن ذلك َتّم على حساب تميـز بهـا أدب الجيـل الجـودة التـي ّ السـابق الـذي لـم يعـرف التكنولوجيـا الرقميـة ،واليـوم بوجـود هـذه التقنية فقد األدب الكثير من هيبته كما انعدمت وتهمش دور النقاد كثيرًا وفقد الرقابـة ّ الـذوق العـام مكانتـه وتغلَّـب الـرديء على الجيد بسـبب سـهولة النشـر. قـر المذابـي بأن هـذه الطفرة العظيمة ُي ّ للتكنولوجيا شيء رائع وعظيم ،لكن
رغـم هـذا فمـا يزال العـرب ،في نظره، غيـر قادريـن علـى عيش هـذه الفعالية والتعايـش معهـا ،فال توجد إرشـادات متخصصـة واضحـة وال توجـد ورش ّ للحـّد مـن سـلبيات (السوشـيال ميديا) وكيفيـة تعامل األدبـاء معها...
شهرة في وقت وجيز وحسـب رأي الروائيـة المصريـة هاجر عبـد الصمـد فـإن مواقـع التواصـل االجتماعـي خلقـت نوعـ ًا جديـدًا مـن التسـويق فـي جميـع المجـاالت ،مـن فالكتـاب -خاصة بينهـا عالـم اإلبـداعُ ، منهـم الشـباب -اسـتفادوا مـن هـذه المواقـع فـي تسـويق ونشـر أعمالهـم. وتضيف :بالنسبة لي شخصي ًا أرى أن (السوشـيال ميديـا) أداة إعالمية قوية وقـد أفادتنـي كثيـرًا فـي نشـر روايتـي األولى ما أدى إلى انتشار اسمي ككاتبة فـي خلال شـهور معـدودة .وحتـى بالنسبة للوصول إلى العالمية :أعتقد أيض ًا أن هذا ليس باألمر الصعب ،لكن بالطبـع البـّد مـن ترجمـة تلـك األعمـال األدبيـة أوالً.
فرص سهلة وتعتقـد القاصة اليمنية حفصة مجلي أن وسائل التواصل االجتماعية خدمت الكتـاب بشـكل كبيـر من ناحيـة تجاوز لـكل مـكان ...كمـا المحليـة والوصـول ّ والكّتاب المبتدئين خدمت بشكل خاص ُ الجـدد فـي الحصـول علـى فرصـة سـهلة فـي النشـر والتعلُّـم والتواصـل والقراءة ...مثالً؛ يمكنني أن أقرأ لكاتب نصوصـ ًا لـن تصلنـي ورقيـ ًا بسـهولة لكّتاب رائعين لم ينشروا بعد.. وحتى ُ أعتقـد أننـا محظوظـون جـدًا بتواجدها أيـ ًا تكـن سـلبياتها كسـرقة النصـوص وانتشـار األدب الـرديء لكـن يبقـى للقـارئ الذكـي ذائقـة التمييز..
دائرة العجلة ويقول الشاعر والناقد اليمني د.إبراهيم أبو طالب :بال ّ شك أن الوسائط الحديثة حرّيـة التعبيـر فـي ا كثيـر قـد سـاعدت ً ّ وانطلاق األفـكار وتوصيـل المحتـوى بلا قيـد رقابـي أو مقـص سياسـي أو ضيـق ممـا يسـاعد األديب أيديولوجـي ّ
علـى تجـاوز قيـود المصـادرة ألدبـه: قصـة أو قصيـدة أو غيرهـا، روايـة أو ً ً يظـل اإلشـكال فـي المتلقّـي هـذا ولكـن ّ المعول والمراد ،فهل ساعد الذي عليه ّ هذا األفق المفتوح على وجود المتلقّي النوعـي الواعـي؟ أم أنـه أصبح متلقي ًا سـطحي ًا غلـب عليـه الوقوع فـي دائرة العجلـة ،والقلـق ،والبريـق الزائـف، والدعاية المسـطحة؟. ويتسـاءل صاحـب كتـاب «فـي األدب الشعبي اليمني» :هل أفق (السوشيال ميديا) وجد المستقبل النوعي الناضج أو أنه ال يظفر سـوى بالعجلة الالهثة وراء حركة اإلصبع النزقة للبحث عما بعـده أو عـن الصـورة المثيـرة وسـط تبلّد الثّقافة المستعجلة؟ ،وبشكل آخر قـد يقـود إلـى المتلقّـي العالمـي الذي ال يبتعـد كثيـرًا عن المتلقّـي العربي ،وال َّ شـك أنـه يريـد الترجمة األكثـر واقعية ِ فيـة ليصـل إلـى مبتغـاه ،وتلكـم وحَر َّ هـي المشـكلة الجوهريـة والتـي تتمثّل ومؤسسـاتها الغائبة عن فـي الترجمـة ّ المتنوع إيصـال اإلبـداع العربـي بأفقـه ّ النابض والمسـؤول. ويالحـظ د.إبراهيـم أبـو طالـب بأنـه: 15
التطـور فـإن المتـداول عبـر رغـم هـذا ُّ المنافـذ التقنيـة ال يعـدو أن يكـون مـا يرتبـط باإلثـارة بأنواعهـا المختلفة أو العنف السياسي أو المهاترات المؤلمة أو لحظـات الحيـاة اليوميـة الفارغـة أحيان ًا ّإل من أصحابها العاديين الذين إرضـاء لذواتهم وجـدوا فـي هـذا األفـق ً البسيطةّ ، وإل كم من األعمال الناضجة أو األدب الرصين نجد على تلك المنافذ؟ سـواء لألدبـاء أنفسـهم بجهدهـم أو قيمة لمحبيهـم الذين ينشـرون ما يمثِّل ً ِّ حقيقيـة ألدبهـم وإضافاتهـم للمشـهد األدبـي العربـي والعالمي.
اختصار الوقت بعصا سحرية وتنطلق الشاعرة اليمنية نبيلة الشيخ مـن كـون (السوشـيال ميديـا) أصبحـت ليسـت عصـب التواصـل التجـاري واالقتصـادي والسياسـي ،بـل وعصب التواصل األدبي ،واصفة إياها بالعصا السـحرية التـي بإمكانهـا أن تفعـل مـا قصـر الدهـر فـي فعلـه ،طـوال ما مضى َّ مـن الوقـت ،أمـام أولئـك الذيـن كانـوا موهوبيـن ،بـل وعباقـرة ،لكنهـم لـم يستطيعوا إيصال إبداعهم وعبقرياتهم فطويـت مواهبهـم مـع آخـر إلـى أحـدُ ، صفحـة في كتاب حياتهـم .لكن ،تقول صاحبـة ديـوان «آخر العطر» بأن األمر يختلـف اليـوم ،وفـي مـا يلـي تصـرح الكل يستطيع الشـيخ للمجلّة« :اليومّ ، أن يصل ،يستطيع أن ينشر ،يستطيع أن يشارك في المسابقات ،في الفعاليات وجد والمؤتمرات األدبية ،يستطيع أن ُي ِ قـل جمهـورًا فـي صفحتـه، لـه علـى ا َأل ّ يسـتطيع أن يطبـع بمبالـغ زهيـدة ،أو حتـى مجانـاً ،عبـر دور النشـر الكثيـرة في طول وعرض صفحات (السوشيال مديـا) ،أصبحـت المطبوعـات أوفـر والفـرص أغـزر ،والمسـابقات وفيـرة، والصفحات الشخصية مكتظة ،ومن َثّم ظهـرت الكثيـر مـن المواهـب الحقيقية، وسطعت تلك العبقرية ،وتبوأت أماكن الصدارة ،أصبح هناك تنافس حقيقي وجـاد ،مـن خلال االطلاع علـى مزيـد المتنوعة ،والتي مـن التجارب األدبيـة ّ لكل أنواع الكتابة األدبية، تقـدم مزيج ًا ّ بأيديولوجياتها المختلفة ،وبأجناسها 16
المتنوعة ،أصبحت (السوشيال مديا)، ّ تختصـر الوقت والمدارس والنظريات، وتقـّدم تجـارب حقيقية عمليـة ،يختار األديـب منهـا مـا يريـد ،ويتـرك منهـا ما يتشـكل يريـد ،ويضيـف ما يريد ،وبهذا ّ وعـي جمعـي واسـع وعميـق ،يحافـظ المتميـزون فيـه علـى اسـتقالليتهم وال ّ يكـررون أنفسـهم ،وال يتأثـرون ّإل ّ بالشـرر األول، النـار قـادح يتأثـر كمـا ّ الـذي يشـعله أديـب مـا ،فيلهمـه لقـدح شـرارته الخاصـة بـه ،ومـن قداحتـه التـي ال يشـبهها أحـد ،أمـا أولئـك الذين ويكررون ،وال يبتكرون شيئاً، يقلدون ّ فسـيظلون حبيسـي قوالبهـم الجامـدة، وسـيتجاوزهم الجميع ،فهذه الوسائل تسـابق الزمـن وتختصـر القـرون، وتعطي خيالك أقصى مدى وفسحة من اإلبحار ،وهكذا نجد أن هذه التكنولوجيا قـد خدمـت كثيـرًا األدب واألدبـاء ،لكنها أيضـ ًا قـد سـاهمت فـي خلـق مسـاحة واسـعة أيضـ ًا من التكـرار والتقليد ،بل كل واحد رقيب نفسـه والرداءة ،فحيث ّ وال رقيـب لـه ،وجدنـا هنـاك الكثيـر من اإلسـفاف واإلجحاف والنكوص األدبي والثّقافـي ،ربمـا بنسـبة أكبـر مـن تلـك والمميـزة ،ربمـا ألن البقعـة المضيئـة ّ التميـز أن يكـون دومـ ًا محـدوداً، قـدر ّ تظل هذه التكنولوجيا ملحة ومـع ذلك ّ جـداً ،وداعمـة لألدبـاء ،وملهمـة لهـم، لـكل جديـد، ألنهـا جسـر سـريع وبديـع ّ وال ّ شـك أن هـذا التالقـح يسـتطيع أن يوصـل األديب المحلي عربي ًا من خالل دور النشـر ومعـارض الكتاب والتبادل الثّقافي من خالل الندوات وورش العمل والمؤتمـرات ،ومـن البديهـي أن يصـل عالميـاً ،إذا مـا أتقـن السـير وسـط هـذا السيل التكنولوجي الجرار ،عبر الترجمة ترشـح العمل وعبر دور النشـر التي قد ّ إلـى جائـزة عالميـة أو دولية ،أو حتى بـدون جوائـز ،فيكفـي أن يترجم عملك وتصبـح مقـروءًا فـي الخـارج ،ومن َثّم أديب ًا عالميـاً.»..
الجميع في معرفة عن الجميع.. أمـا القـاص السـعودي هانـي الحجي، فيبرز وجهة نظره حول الموضوع من
خالل المقارنة بين الماضي والحاضر. صاحـب «نسـاء خشـبيات» يـرى بـأن المبـدع العربـي كان قبـل أعـوام قريبـة يتخـذ مـن وسـائل اإلعلام المقـروءة مثـل الصحـف والمجلات والكتـب ،أو المرئية مثل التلفاز ،أو المسموعة مثل البرامـج اإلذاعيـة أو المنبريـة ميدانـ ًا لنشـر إنتاجـه األدبـي وقنـوات تعمـل علـى إيصـال مـا يبدعـه مـن أدب إلـى المثقفيـن فـي منطقتـه؛ وفـي المناطق العربية المجاورة .فكان يحقّق انتشارًا تسوق فيه محدودًا حسـب المكان الذي ّ تلـك المقـروءات أو المسـموعات أو المرئيـات ..ويضيـف هانـي الحجـي: تطـورت وسـائل االتصـاالت ومـا أن ّ ومذهلا حتـى تطـورًا سـريع ًا ً الحديثـة ّ تطـور وسـائل فـي ثـورة لحقتهـا ّ التواصـل االجتماعـي بيـن بني البشـر وكادت (السوشـيال ميديـا) أن ُتذيـب المسـافات المكانيـة الشاسـعة التـي تفصـل بيـن النـاس في العالـم وتجعل مـن الكـرة األرضيـة قريـة صغيـرة من حيـث تواصـل النـاس وكأنمـا تقاربـت وطويـت المحيطـات وبـات القـارات ُ الجميـع فـي معرفـة عـن الجميـع.. وبصفتـه مشـرف ًا علـى ملتقـى القصـة القصيـرة بـادر هانـي الحجي وحاولنا االسـتفادة مـن هـذه التقنيـة مـن خالل تأسـيس جـروب عبـر الواتس مختص بالقصة القصيرة وجمع عددًا من ُكّتاب كل القصـة مـن أنحـاء الوطـن لتنـاول ّ مـا يتعلّق بالقصـة من إبداع وفعاليات وأنشـطة وإقامـة أمسـيات إلكترونيـة ونجـح فـي إيجـاد حلقـة وصـل بيـن النقّـاد المختصيـن بالسـرد والمبدعيـن مـن ُكّتـاب القصـة القصيرة..
وفرة العالقات ويحـدد األديـب والباحـث اليمني بشـير ِّ زنـدال عمليـة تسـويق اإلنتـاج األدبـي في عاملين :الجوائز ،كالبوكر وغيرها وهي ،في نظره ،كفيلة بتسـويق دائم وكّتاب لألديـب ،ثم العالقات مـع أدباء ُ ونقّاد من مختلف الدول العربية وهو ما تحقّق اليوم «السوشيال ميديا» .وبدوره يعقـد المقارنـة :كان تواصل األدباء مع بعضهـم البعـض متعبـ ًا جـدًا ومتقطعـ ًا
جـدًا قبـل وجـود وسـائط التواصـل االجتماعـي ،ومـع ظهورهـا اسـتطاع األديـب التواصـل السـريع مـع الكثيـر والكّتاب والنقّاد ،وفتحت له من األدباء ُ للتعرف إلى أسماء مصراعيه الباب على ّ جديدة وتسويق اسمه ونصوصه بشكل أسرع .ويضيف بشير زندال :لو تخيلنا أن الكاتب حين ينشر في صحيفة محلية قراءه لن يتجاوزوا المئات ألن ليس فإن ّ كل مـن يشـتري الصحيفـة سـيقرأ نص ّ األديـب الفالنـي ،بينمـا فـي الفيسـبوك هنـاك بعـض األدباء وصـل متابعوهم إلـى عشـرات اآلالف ،وحينمـا ينشـر جميلا فبالتأكيـد سـيقرأه اآلالف نصـ ًا ً وسـيضاف إلـى قائمـة متابعيـه عـدة مئـات إضافيين.
داخل الحدود فقط ألننـا نتحـّدث عـن منتجـات أدبيـة البّد أن نضع في االعتبار أنها على العموم تعانـي مـن فقـر جماهيـري ألسـباب تحتـاج معالجتهـا لجهود كبيـرة ،هكذا يصـف الكاتـب والشـاعر اليمنـي زيـاد ّلا وصفـه القحـم المشـهد األدبـي ،معل ً بكـون :األديـب عمومـ ًا يعانـي إمـا مـن نـدرة الجمهـور المتابـع لـه ،أو مـن تنوعهـم ..حيـث يقتصـرون فـي عـدم ّ حـاالت كثيـرة علـى أعـداد بسـيطة من المتخصصين ،وإذا قارنا المنتج األدبي بغيـره مـن األعمـال الثّقافيـة كالفنـون (غنـاء -موسـيقى -دراما) نجـد الفارق الخـارق فـي أعـداد المتلقيـن .وبصـدد الحديـث عـن دور وسـائط التواصـل االجتماعـي فـي توسـيع القاعـدة الجماهيرية لألديب فإن هذه الوسائط، قليلا من فـي نظـر الشـاعر ،قـد خفّفـت ً غربـة األديـب ،ولكنهـا لـم تتمكـن مـن القضـاء علـى هـذه الغربـة ..بعبـارة أخرى يقول :أصبح من السهل أن يصل النـص إلـى بيئـات أخـرى غيـر البيئـة المحلية للكاتب ،ولكن هذا النص يصل إلـى هنـاك ليعانـي مجّددًا فـي البيئات الجديدة من نفس المشكلة السابقة التي واجههـا فـي بيئتـه األصليـة؛ جمهـور ينحصـر في المتخصصين والمتذوقين واألدباء الذين يشبهون صاحب النص فـي المعانـاة مـن المشـكلة ذاتهـا...
ويبقـى دور اسـتعمال هـذه الوسـائط عاجزًا عن إخراج المنتج األدبي خارج الحـدود العربيـة؛ ألن هـذا المنتـج فـي حاجـة للمزيـد من االشـتغال والتجويد حتى يكون صالح ًا ومناسب ًا للمتلقين خـارج النطـاق العربـي ..أقصـد أن التجـاوز إلـى العالميـة تخدمـه نوعيـة المنتـج أكثـر مـن طريقـة التوصيـل.
تجاوز اإلعالم التقليدي أما الشـاعر اليمني وليد الشـرفي فيرى أن اإلعالم الجديد ،القائم على وسائط الميديـا الجديـدة ،ينافـس اإلعلام كل مجال ،حيث اسـتطاع التقليدي في ّ بعـض المثقفيـن العـرب أن يصلـوا بنتاجهـم الفكـري واألدبـي إلـى الوطن وقليل منهم تجاوز ذلك العربي الكبير ٌ لنشـر منتوجـه ِ بعـّدة لغـات أجنبيـة. الحرّيـة هذه ويرجـع الشـرفي مسـاحة ّ التـي وفرتهـا التقنيـات الجديـدة إلـى كرسـه «الربيـع العربـي» الوعـي الـذي ّ كأبـرز المحطـات وأهمهـا فـي اإلعلام الجديـد ،حيـث بـرز خلال أحـداث «الربيـع العربـي» العديـد مـن المثقفين واإلعالميين الذين مألوا الدنيا ضجيج ًا ومـا زالـوا.
في اليمن ال يستغل المبدع وسائط الميديا علـى عكـس مـا سـبق مـن تصريحـات يذهـب القـاص والباحـث اليمنـي زيـد الفقيـه إلـى القـول بـأن هذه الوسـائط بإمكانهـا أن توصـل صـوت المبـدع اليمنـي إلـى العالـم ،ولكـن األديـب فـي اليمـن ال يسـتغل هـذه الوسـائط همومـا كثيـرة تشـغله عـن هـذه ألن ً الوسـائط ،فهـو مهمـوم بأولويـات بالتفـرغ حياتيـة يوميـة ال تسـمح لـه ّ لتطويـع هـذه الوسـائط الحديثـة، ورغـم ذلـك فقد وصـل الكاتـب اليمني إلـى العالم عن طريق النشـر الورقي، فقد ُتْر ِجَم ْت بعض األعمال اليمنية إلى عـدد مـن اللّغـات منهـا :اإلنجليزيـة، والفرنسية ،واإليطالية .رغم الظروف القاسية التي يعيشها المبدع في اليمن حاليـاً.
لم ّ أحقق قبل ظهور أي انتشار السوشيال ميديا ّ محلي ويروي القاص السعودي أحمد إسماعيل زيـن تجربتـه مـع مواقـع التواصـل االجتماعي قائالً« :لي تسـعة وعشـرون عام ًا أكتب القصة القصيرة ،ومحاوالت عديـدة للكتابـة المسـرحية ،وأنتجـت خاللها ثالث مجاميع قصصية ،نشرت منها رسمي ًا اثنتين ،والثالثة في المطبعة تنتظـر الصـدور والنشـر .لـم أحقّق قبل أي انتشار محلي ظهور السوشيال ميديا ّ أو عربـي يذكـر لظـروف تلـك الفتـرة الزمنية ،ولكن بداية االنتشـار الحقيقي المحلي ،والعربي لنتاجي األدبي كانت بعد ظهور السوشيال ميديا ،وبالتحديد عن طريق (المواقع اإللكترونية) األدبية المتخصصة ،والتي مكنتني من خاللها مـن عـرض نتاجـي األدبـي عربيـ ًا قبـل المحلـي ،وعلى جمهـور ،وأدبـاء ونقّاد من العراق ،وسورية ،ومصر ،ولبنان، وحقّقت لي اسـم ًا منتشرًا محلي ًا بعدها. تطـور السوشـيال ميديا المسـتمر ومـع ّ بالفيسـبوك ،وتويتـر ،والواتـس آب، كل الحواجز ،وتحقّق وجدت أنها تكسر ّ لي المزيد من االنتشار العربي بالوصول وتطوي المسافات لدول المغرب العربي، ّ الشاسـعة بالوصـول لجمهـور وأدبـاء ونقّـاد المغـرب ،وتونـس ،والجزائـر، وليبيا ،باإلضافة إلى اليمن ،والسودان. وهذا األمر المذكور في السـابق بالنسـبة لـي ،ولمـن ُهـم مثلـي ،هـو أكبـر شـاهد أقّدمـه علـى اسـتغالل األديـب العربـي لتسـويق نتاجـه األدبـي مـن خلال السوشـيال ميديا خارج ا ُألطر المحلية، واالنتشـار عربياً.».. ويخلص صاحب المجموعة القصصية تمكـن «زامـر الليـل» :مـن السـهولة أن ّ ُ تلـك األدوات التـي جعلـت مـن العالـم مصغرة من إيصال اإلبداع قريـة كونية ّ العربي عالمياً ،ولكن بشروط صارمة أهمهـا :اللّغة ،والرعاية الرسـمية، مـن ّ (وحمايـة الحقـوق الفكريـة) للمبـدع العربـي! ألن (السوشـيال ميديـا) كمـا لهـا مـن هذه األفضـال العظيمة لتحقيق االنتشـار ،هـي ّأيضـ ًا مجـال خصـب، وفسـيح وواسـع للسـرقات األدبيـة. 17
تقارير
َّ المثقف إلى الشأن هل عاد المجتمعي المغربي؟
الدار البيضاء :عبدالحق ميفراني التحـوالت الجديـدة ،إلـى هـل سـاهمت ُّ عـودة تدريجيـة للمثقّـف المغربـي لالنشـغال بالقضايـا المرتبطة بالشـأن االجتماعـي؟ مـرد هـذا السـؤال ،هـو الحلحلة التي الحظها المتتبعون للشأن مست في العمق الثّقافي المغربي والتي ّ طبيعـة وظيفـة المثقّـف علـى ضـوء الكتابـات والبيانـات واللقـاءات التـي عرفها المشهد الثقّافي في المغرب األشهر األخيـرة .وبعيـدًا عـن تصنيـف طبيعـة مست االحتجاجات أو االلتباسـات التي ّ بعـض المواقـف ،فـإن الحـدث المركزي ميز هـذا الخروج للمثقّف المغربي الـذي ّ من انشغاالته المعتادة ،قد أعاد للسؤال المجتمعي وللقضايا المرتبطة بالمواطن وبقضاياه وبانشغاالته اليومية حرارته المعتـادة واسـتطاع المثقّـف أن ُيعيـد التصالـح مـع المجتمع. وبعيـدًا عـن تلـك التصنيفـات ،التـي طالـت المثقّـف المغربـي فـي السـنوات األخيـرة ،فـإن تكـرار صـدور كتابـات وكّتـاب مـن نقّـاد وسوسـيولوجيين ُ وشعراء وفنّانين ..يرتبط في معظمه بالشـأن االجتماعي وطبيعة الممارسة السياسية .هذا النزوح الجديد والعودة إلـى القضايـا المجتمعيـة فـي الوسـط قل بحكم يبرره على ا َأل ّ المغربي ،له ما ّ ِ الحـراك الالفـت للمشـهد السياسـي مما جعلـه يغطـي علـى الكثيـر مـن حضور 18
عل تراجع النخب المثقّفين أنفسـهم .وَل ّ السياسـية نفسـها فـي إفـراز مواقـف جذريـة والفتـة ،وفـي العديـد مـن ميزت الوضع المغربي المحطات التي ّ دفـع بالعديـد مـن اإلطـارات الثقّافيـة والمثقّفين أنفسهم إلى االنخراط مجّددًا فـي ديـدن هـذا ِ الحـراك. تغيـر فـي إلـى الوضـع فهـل دفـع هـذا ُّ وظيفـة المثقّـف المغربي اليوم؟ وكيف يمكـن أن نتمثّـل وظيفـة المثقّـف فـي مجتمع أضحى ال يهمه أن تلعب بعض الفئـات أدوارهـا الطليعيـة المعتـادة؟. يـرى الكاتـب المغربـي يوسـف بـورة بـأن هنـاك حاجـة دائمـة إلـى المثقّف، ّلا ذلـك بكـون الكثيـر مـن القضايـا معل ً والتحـوالت والرهانـات تعتمـل فـي ُّ جميع مناحي حياة المجتمع المغربي. وتتطلّـب وعيـ ًا عميقـ ًا بمداخلهـا وقدرة علـى االسـتيعاب واالبتـكار واإلبـداع إليجاد الحلول واإلجابات لها .ويضيف: «فـي حمـأة هـذا الصـراع الداخلـي ومـا تطـورات عالميـة كان أحـاط بـه مـن ُّ صـوت المثقّـف وأدواره النقديـة التنويريـة هـو أول هيـكل تنـال منـه معـاول الهدم والتخريب ،سـواء بأيدي المثقّفين أنفسهم ،من خالل اصطفافهم المصلحـي واحتوائهـم قلبـ ًا وقالبـ ًا مـن طرف السلطة ،أو بيد هذه األخيرة من خالل التضييق على المثقّفين الرافضين للقولبـة السـلطوية وتهميشـهم وخنق أصواتهـم بطريقـة أو بأخـرى .وهكـذا
يـرى الكاتـب بـورة أن األمـل بعـودة المثقّـف إلـى أدواره فـي المنظـور مـن األيام ليس مستحيالً ،رغم أن «جيوب التوجه تعمل بشراسـة، مقاومـة» هـذا ّ ومن داخل األوسـاط الثقّافية نفسـها، على إدامة وضع «الالثقافة» وتعميقه وتوسـيع قاعدتـه بشـتى الوسـائل، تتحكم في خصوص ًا أن تلك «الجيوب» ّ مفاصـل قنوات التواصل الجماهيري، لكـن هـذا ال يعنـي عدم وجـود «مقاومة مضـادة» متشـبثة باسـتقاللية المثقّف التطور». ومقتنعة بمحورية دوره في ُّ شـهد المغـرب خلال األشـهر األخيـرة إطلاق حملـة للتضامـن مـع الفئـات «العاملـة» ،مـن طـرف العديـد مـن والكّتـاب المغاربـة .وهـي المثقّفيـن ُ المحطـة التـي تقاطـع فيهـا الحـس النقابـي مـع السياسـي مـع الثقّافـي، رغـم أن الكتابـات التـي تالحقـت فيمـا بعد ،أكدت على ضرورة عودة المثقّف لالنخـراط فـي القضايـا المرتبطـة بالمجتمـع .طبعـ ًا ال يمكـن نسـيان ارتباط العديد من المحطات التاريخية بدور ووظيفة المثقّف المغربي ،سواء فـي مرحلـة الدعـوة لالسـتقالل مـن االسـتعمار ،أو بنـاء الدولـة الحديثـة وإبـان مرحلـة االحتقـان السياسـي. ويـرى الكاتـب والناقـد شـعيب حليفي أنـه «فـي سـياق احتجـاج المثقّفيـن المغاربـة ،فالدعـوة للمشـاركة فـي مسيرة دفاع ًا عن مجتمع الديموقراطية
والحرّية هي دعوة للوقوف ضدًا على ّ «ثقافـة األتبـاع والرعايـا» .وهـو مـا يؤشـر إلـى تجديـد تفعيـل دور المثقّف فـي المجتمـع ،وتفعيـل الحاجة لوعيه النقـدي». عـل الناقـد محمد الدوهـو ،وهو ُيثير وَل ّ مسـألة غايـة فـي األهميـة فـي تأكيـده علـى أن «أيسـر مدخـل لفهـم مجتمـع مـا هـو نوعية الشـعارات التـي يرفعها مثقفـو هـذا المجتمـع ..هـذه األطروحة التاريخيـة تنطبـق علـى المثقّـف ـل وما يزال مهووسـ ًا المغربـي الـذي َظ ّ بسـؤال الحداثة السياسـية والتاريخية فـي عالقتهـا بالصيـرورة التاريخيـة والسياسية واالجتماعية واالقتصادية للمجتمـع المغربـي». المثقّـف المغربـي اليومـي ،بالنسـبة للدوهـو ،هـو «هـذا الكائـن الـذي يكتـب عـن المنسـي ...ينفـض الغبـار، غبـار التمويـه ،عـن الحلـول العميقـة و«الحقيقية» القابعة في أقبية النسيان المظلمـة ،أمام بالغة القول السياسـي لنخـب سياسـية ال تمتلـك الجـرأة
السياسـية والتاريخيـة فـي تسـمية األشـياء بمسـمياتها». تتجـّدد الدعـوة إذن ألهميـة المثقّـف المغربـي اليوم ،لالنخراط والمسـاهمة في تأهيل المجتمع للعبور إلى سيرورة عل هـذا الرهان هو االندمـاج الفعلـي .وَل ّ مـا يفـرض ترسـيخ قيـم جديـدة ،ضمن المنظومـة المجتمعيـة ،أبرزهـا التربية علـى ثقافـة اإلنسـان وحاجتـه الدائمـة وينبـه الكاتـب عبـد لوظيفـة المثقّـفّ . الرحيـم جيـران ،إلى «ضـرورة االنتباه التحـوالت الجذريـة التـي يشـهدها إلـى ُّ العالـم اليـوم فـي عالقـات االّتصـال كل الخشـية ّأل ووسـائله ،والخشـية ّ التحول هذا حدثه يسـتوعب المثقّف ما ُي ُّ من انعطاف أساسي في تشكيل إنسان الفكـري ،وما يقتضيه من الغـد ،وأفقـه ّ تغييـر فـي األسـلوب والرؤيـة ،ومـن إيجابـي فـي العالـم القـادم بمـا انخـراط ّ تكيفـات ،ومـن حضـور مـن يفرضـه ّ وازن». أمـا الباحـث إبراهيـم أزوغ فيـرى فـي مفهـوم المثقّـف أنـه «ال يتحـّدد بمـدى
إنتاجـه فـي حقـل المعرفـة والفلسـفة والفّن واألدب فقط ،بل إن الذي يجعل َ مـن الفيلسـوف أو العالـم أو الفقيـه أو األديـب مثقفـاً ،وبالدرجـة األولـى ،هو مدى ارتباطه وانهمامه بقضايا المجتمع وتحوالته التاريخية .وال يكون وأزماته ُّ كذلـك مـا لـم تكـن لـه ،باإلضافـة إلـى رؤيتـه العميقة فـي التحليل والمواكبة ولتحوالت المجتمع لقضايـا اإلنسـان، ُّ فـي كليتهـا وتفاصيلها وفي سـياقاتها المحليـة والعالمية ،جرأة واضحة في النقـد واالعتـراض والمخالفـة في وجه أي سـلطة كانـت سياسـية أو دينيـة، ومهمـا كانت النتائـج التي يقوده إليها نقـده ومعارضته». ضمـن سـياق هـذه الشـهادات ،تتأكـد ـس الخطـاب طبيعـة ُّ التحـول الـذي َم ّ اليوم حول وظيفة المثقّف في المغرب ودوره فـي هـذا ِ الحـراك .إلـى أي حـد يترسـخ مـع أن الـدور يسـتطيع هـذا ّ الوقـت؟ وإلـى أي مدى يمكن أن تصبح هـذه الثقّافـة حاضـرة ضمـن المشـهد الثقّافـي فـي المغـرب؟ 19
َّ المثقف الليبي خارج المعمعة وداخلها
بون :محمد األصفـر فـي الوقـت الـذي تعيـش فيـه البلاد الليبيـة أسـوأ أوضاعهـا ،يتواصـل غيـاب المثقّـف الليبـي عـن المشـاركة فـي الشـأن العـام ،والنـأي بنفسـه سـواء بالصمـت أو الهجـرة إلـى خارج 20
البلاد عبـر طلـب اللجـوء ،أو االنتظار فـي دول الجـوار ،مصـر أو تونـس، أو حتـى األردن وتركيـا ومالطـا ،لمـن يمتلـك اإلمكانـات الماديـة. ومتنوعة ،منها وأسـباب النأي عديدة ّ برأي الخوف من االختطاف ،إن صدح ٍ ال ُيعجـب أحـد األطـراف المتصارعـة
حاليـاً ،ومنهـا أنـه ال يريـد أن يضـع نفسـه وسـط المتصّدريـن للمشـهد، والذيـن يخرجـون فـي الفضائيـات كمحلليـن سياسـيين وغيـر ذلـك، والذيـن غالبـ ًا ما يقومـون بالتحريض أو الترويـج السياسـي .ولـو تطلّعنـا للوضـع الحالـي الـذي تعيشـه ليبيـا،
لوجدنـا أن األمـر غيـر مشـجع إطالقـ ًا علـى المشـاركة فـي ِ الحراك مـن موقع المسـتقل. معظـم المثقّفيـن حاليـ ًا صامتـون أو يكتبون ألنفسهم دون نشر ،أو يكتبون تتطـرق لواقـع الحـال وال كتابـات ال ّ تنتقـده ،يراقبـون المشـهد عـن كثب أو عن بعد ،والمشـاركة في الشـأن العام الحالي قد تصنفك تابع ًا ألحد التيارات المتصارعـة حالياً ،والتي وصلت إلى طريـق الالعـودة ،والتصنيـف يعنـي أنـك سـتكون مطلوب ًا للجهـة األخرى، وسـتعجز عـن الحركـة أحيانـ ًا ليـس بيـن مدينـة ليبيـة وأخـرى ،بـل بيـن حـي وحـي آخر داخل المدينة نفسـها، ورغـم أن الصحافـة فـي ليبيـا شـبه متوقّفـة ،فلا جرائـد تصـدر بانتظـام، وجرائـد الغـرب ال تصـل إلـى الشـرق، والعكـس ،وكذلـك ال توجـد مجلات، ومـا يصـدر مـن صحـف حاليـ ًا عبـارة عن بعض الصحف المحلية .وأي شيء ُينشر عبر برامج التواصل االجتماعي، يعنـي بدايـة المتابعـة ،والتهديـدات. ومـن األسـباب األخـرى التـي أدت إلى عـزوف المثقّـف الليبـي عـن المشـاركة فـي قضايـا الشـأن العـام بالمناقشـة والتحليـل واقتـراح الحلول للمشـاكل، يتحسسـون البنـادق كلمـا أن البعـض ّ سـمعوا كلمـة مثقّـف ،فهـذا اآلخـر إمـا علمانـي كافـر ُمرتـّد ،أو ديموقراطـي بالحرّيـة ويسـلب السـلطة. ينـادى ّ ومـن هنـا ،البـاب الـذي يجلـب الريـح مـن األفضـل سـّده. تقدم السنوسي صالح الروائي الليبي َّ منـذ ثلاث سـنوات للترشـح للمؤتمـر الوطنـي ،وهـو شـخصية مؤهلـة للعمـل السياسـي ،فهو أسـتاذ اقتصاد وعلوم سياسـية خريج فرنسا ويقوم بالتدريس في جامعة بنغازي ،وكاتب له وجهة نظر سياسية ،ويثري المشهد السياسـي العربي بمقاالت شهرية في منابـر مهمة مثل «الجزيرة نت» ،ولكن لألسـف لـم ينجـح فـي االنتخابـات، ونجح آخرون بسبب أصوات القبيلة، ال كفـاءة لهـم وال شـهادات جامعيـة، وينسـحب األمـر أيضـ ًا علـى البرلمـان ولجنـة الدسـتور والسـفارات وكل الوظائـف المفصليـة التـي بإمكانها لو
تقلدتهـا الكفـاءات لعبـرت بالبالد نحو السلام والرخاء. لكـن فـرج نجـم األسـتاذ الجامعـي والناشـط فـي ِ الحـراك المدنـي كتـب يقـول« :لألسـف فـي ليبيـا لدينـا ُكّتاب ومفكرون على مستوى الوطن وأدباء ِّ فضلوا الغوص العربـي ،لكـن لألسـف ّ فـي أدبياتهـم ونـأوا بأنفسـهم عـن تشخيص الحالة الليبية وممارسة دور المثقّـف فـي إيصـال الصـورة للشـارع العربـي والدولـي وللمواطـن الليبـي الـذي ضاعـت منـه البوصلـة وتـاه في مختلـف االتجاهـات». ويضيف نجم :لقد فضلوا ممارسة دور مهرج السـيرك الذي يحاول أن ُيمسـك العصا من المنتصف حتى يحافظ على توازنه لكي ال يسقط من أعلى الحبل. أمـا الكاتب عبد اللطيف اطلوبة فيعلّق ـن ينأى ً قائلا« :بصراحـة قـد ال ألـوم َم ْ بنفسـه عن المشـاركة ،ألننا في وسط فتنـة الشـك والحركـة فيهـا كالحركـة علـى َحـّد السـيف ،ألن الـرأي البـد أن غير ينتج عن قناعة ومن الصعب أن ُن ّ قناعـة أحد». ويضيـف اطلوبـة :ليـس هنـاك مثقّـف قـل هو منحـاز للوطن محايـد ،علـى ا َأل ّ ضـد أعـداء الوطـن ،وهـذا في َحـّد ذاته انحيـاز ،صحيـح نحـن نـراه انحيـازًا سـيظل منحـازاً، إيجابيـاً ،لكنـه ّ والمنحـاز ال رأي لـه ،بـل يتبـع هـواه الوطني ،على هذا السياق فإن بعضهم يرون في بعض األطراف جهات وطنية ويعتقدون أنها تستحق الوقوف معها؛ أتحّدث عن مثقّف ينحاز لجهة باقتناع، أما من يعمل بمقابل وبدون قناعة فهو مجـرد بوق اسـتخدم موهبتـه لوظيفة ما ،ويجب ّأل ُيحسب ضمن المثقّفين.. لكـن ال يمكنـك أن تلـوم أحـدًا إن كان مقتنعـ ًا بمـا يكتـب مـن آراء ..وأعتقـد ٍ طـرف أن االسـتقرار لـن يكـون بتغلُّـب علـى آخـر ،فالوطـن ال ُيبنـى بإقصـاء أي طرف. الكّتـاب المعروفيـن وهنـاك بعـض ُ والمخضرمين ،يشـاركون في مناقشة وتحليـل الشـأن العام ،لكـن من خارج ليبيـا ،وغالبـ ًا مـا يقومـون عبـر كتاباتهـم ،بدعـم طـرف أو تيـار ضـد آخـر ،حسـب قناعاتهـم ،والكتابـة مـن
خـارج الوطـن تمنـح الكاتـب طمأنينـة وأمانـاً ،وأقصـى ما يمكـن أن يفعل له هـو إيقـاف مرتبـه إن سـيطرت الجهـة الموجـه لهـا االنتقـاد علـى وزارة الخارجيـة أو البنـك المركـزي. «الجيـل الجديـد مـن المثقّفيـن يسـاهم ـل كثيـرًا فـي الشـأن العـام ،ولكـن ُج ّ اهتماماتهـم وإبداعاتهـم ،لهـا عالقـة بالميديـا ،فبعضهـم قـد أنتـج أشـرطة سـينمائية قصيـرة ،تتنـاول معانـاة النـاس مـن تداعيات الحـرب ،النزوح، التفـكك األسـرى ،مأسـاة الجرحـى ُّ والمبتوريـن ،وبعضهم له الجرأة بأن يكـون وسـط جبهـات القتـال ،لينتـج أفالم ًا عن الحرب ،بالطبع هذه األفالم تنحـاز للطـرف الذي ُس ِـم َح لـه بدخول محـاور القتـال والتصويـر. وحـول اهتمـام الجيـل الشـاب باإلبداع المصـور والمسـموع ،واالبتعـاد عـن ّ كتابـة القصـص والروايـات والقصائـد يقـول أنـس بـن غـزي وهـو مصـور تربـى ومخـرج شـاب« :الجيـل الجديـد ّ على الصورة ،اإلنترنت ،التليفزيون، الفضائيات ،ووجدنا أنفسـنا في أتون ومصورين الحرب ،وصرنا مراسـلين ّ عفويـة ،فقـد كانـت صورنـا بطريقـة ّ مطلوبـة مـن وكاالت األنبـاء العالميـة فـي بدايـة ثـورات الربيـع العربـي عام 2011م ،أي أننـا ال وقـت لدينـا لقـراءة «األخـوة كارمـازوف» أو «الجريمـة والعقـاب» أو «البؤسـاء» ،وال وقـت لدينا لتأمل لوحة بيكاسـو عن الحرب األهليـة اإلسـبانية «الجيرينيـكا» التـي نعيشـها حالي ًا في ليبيا ،نحن نتعامل عبـر عنـا مـع التقنيـة ،ووجدنـا أنهـا ُت ّ وبطريقـة أسـهل وأسـرع ..ويضيـف بـن غزي مبتسـماً :عندما تضع الحرب ويحل السلام، وقّل يارب، ّ أوزارهـاَ ، سـنضع الكاميـرا جانبـ ًا وسـنعتذر بتمعـن وعمق ولذة، للكتـاب ،ونقـرأه ُّ ٍ آه َكْم أتمنى أن يكون هناك قطار حياة يربـط شـرق ليبيـا بغربهـا بجنوبهـا، أجلـس فيـه وأقـرأ وأقـرأ وأقـرأ حتـى أسـقط ،كمـا يقول الصـادق النيهوم». 21
الشاعر الموريتاني: أعطني حدث ًا أ ُ ِ عطك قصيدة!
نواكشوط :عبداهلل ولد محمدو يبـدو أن الشـعر الموريتانـي بـدأ رحلة التكيـف مـع زمـن البحـث عـن ُسـبل ّ تغيـرت نظرة فقـد واللمحـة، الومضـة ّ نصـه الطويـل بعـد الشـاعر إلـى رتابـة ّ عشـرته صفحات التواصل االجتماعي ْ ومعانقته اليوميـة لألحداث المتدفقة، فاحتار -وهو يتابع سـيلها المتالحق باهتمام -بين أن يساير ومضة الحدث بومضـة شـعرية تناسـبها ،وبيـن أن ينتقـي منهـا مـا تتسـع لـه رحابة صدر القصيـدة الشـعرية المطولـة ُمعرضـ ًا عـن أحـداث كثيـرة ،يصعـب التغاضي لـكل منهـا عنهـا ،خاصـة حيـن يكـون ّ حـظ مـن وجدانـه ،فلا يسـعه التغافـل أن كفّـة الخيـار األول قـد عنـه ..ويبـدو ّ الشعراء رجحت في ِظّل سعي كثير من ّ الفاعليـن علـى صفحـات اإلنترنـت والمتفاعليـن مـع أحداثهـا الدافقـة إلـى التخلّي عن القصيدة التقليدية الطويلة واسـتعاضتها بتوقيعـات شـعرية قصيرة ،تكاد ال تتعّدى البيت والبيتين والرباعيـة فـي تجربـة منتـج إبداعـي «سـريع» يزامـن الشـاعر فيـه نفسـه 22
التوقيعات الشعرية وسيلة تفاعل الشاعر الموريتاني مع عالمه االفتراضي
مـع عولمـة العصـر ،ويطـرح همومـه الثّقافيـة ،ويبـدي رؤيتـه مـن قضايـا «الراهـن» المتدفـق. ليـس الشـعر دائمـ ًا تلـك القصيـدة المطولـة التـي تملأ الصفحـات، َّ وليـس الشـاعر دائمـ ًا ذلـك المتسـمر مسترسلا فـي اإلنشـاد أمـام جمهـوره ً لحـّد السـأم ،هذه ا أحيانـ لفتـرة ممتـدة ً َ الصورة النمطية للشعر حاول الشاعر الموريتانـي منـذ القـدم تغييرها ،حيث نجـد للشـاعر الموريتانـي القديـم محمد ولـد أحمـد يـوره ديوانـ ًا شـعري ًا تـكاد نصوصـه تنحصـر فـي مقطوعـات شـعرية قصيـرة ،تميـل كلّهـا إلـى الظرف والطرافة والخفة ،ومنذ مطلع سـبعينيات القـرن الماضـي نهـج هـذه أبرزهم محمـد فال ولد السـبيل َ شـعراء ُ ُ عبـد اللطيـف الـذي صـدر لـه ديـوان يسجل في مقّدمة (الجذاذات) ،والشاعر ّ
ديوانه بأسلوبه الساخر أن ليس فيه ما يتوقّع القارئ من الدواوين الشعرية قائلا« :بين المألوفـة فـي تلـك الحقبة ً أيديكـم ديـوان شـعر جديـد ،ليـس فيه مـا يخـدم القضايـا المصيريـة الكبـرى التـي تشـغل بال النـاس وال تعبير عن مشـاعر سامية وال أحاسيس إنسانية وال انشـغاالت فلسـفية وال فيه وصف بديـع للطبيعـة بمناظرهـا وطيورهـا وأغانيهـا ...ال .ليـس فيـه شـيء مـن ذلـك .إنـه مجموعـة مـن القطـع الشـعرية الشـكل ،الصالحـة «لألكل»، ال يزيـد غالبهـا علـى العشـرة األبيات، جاءت بها القريحة عفوًا أيام الدراسـة والتدريبات واإلبحار في خضم الحياة المهنيـة في دواليب اإلدارة ومشـاغلها اليومية في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيـات مـن القـرن الماضـي». يحـرص كثيـر من الشـعراء اليوم على نشر قصائدهم الطوال على صفحاتهم اإللكترونية ،بل وتنزيل دواوينهم على الشـبكة على شـاكلة ما نجد في موقع والكّتاب الموريتانيين، اتحـاد األدبـاء ُ ولكـن الظاهـرة البـارزة هـي لجـوء بعض هؤالء الشعراء إلى التعبير عن
هل سينحصر إلقاء القصائد الطوال على األماسي الشعرية ؟
مواقفهـم من الحوادث اليومية العابرة بأبيـات قصيـرة هـي أشـبه بمـا يعرف فـي أدبنـا العربـي القديـم بالتوقيعـات الشـعرية ،إنهـا قصيـدة اللحظـة أو الخاطرة الشعرية العاجلة ،وهي أكثر من ذلك تنسجم مع عالم السرعة ؛ إذ ال المتعجل عن قراءتها، يقصر المتصفح ِّ وغالبـ ًا ما تتخـذ طابع الخفة والطرافة ويصرح فـي تنـاول األحـداث ونقدهـا، ّ قـي ولـد الشـيخ بميلـه إلـى الشـاعر الّت ّ قصيـر األشـعار ،ففـي حسـن الشـعر القليـل كفايـة ،وإن ضعـف فلا حاجـة لكثيـره ،يقول:
هو الشعر يدري أنني ال ُأطيله
وال ُّ نصـه وذمـيـ ُله يطبـيـني ُّ
فإن قليل الشعر يشفي جمي ُله
وإن رديء الشعر يكفي قلي ُله
مجلـة «الدوحـة» فـي اسـتطالع آلراء شـعراء وأدبـاء حـول هـذه الظاهـرة التقـت األديـب والناقـد محمـد األميـن ولـد الكويـري فأبـدى أهميـة اللجـوء مسـايرة إلـى الموجـزة الشـعرية ً
لكل من القراءات الشعرية والتوقيعات الشعرية جمهوره الخاص
للواقـع ،وهـو يـرى أن مـن آيـة براعـة عبـر عـن تجربتـه وموقفه الشـاعر أن ُي ِّ بأبيات شـعرية قليلـة تختزل األحداث المتسـارعة وتسـايرها ،إذ تكمـن مزية هـذا النـوع مـن األشـعار فـي جاذبيتـه وقدرتـه علـى اقتنـاص قـارئ لـم يعـد لديـه نفـس طويـل لمتابعـة مطـوالت، فـي همومـه الجمـة شـاغل عنهـا. ويذهـب النبهانـي ولـد المحبوبـي إلـى بـروز هـذه الظاهـرة أخيـرًا فـي المشـهد الثّقافي ،خاصة منه ما يتصل بالعولمة كاإلنترنـت ،حيث يتجلّى حضورها في المجالس والصالونات األدبية والثّقافية، وهي في نظره نوع من مواكبة األحداث بصفة تالئم ذوق المتلقّي المعاصر ،فهو مشـحون بالهمـوم واالنشـغاالت التـي لـكل رسـالة ثقافيـة تجعلـه أكثـر تقبلا ّ ً ويسجل ولد المحبوبي تنامي موجزة، ّ هـذه الظاهـرة لدى شـعراء موريتانيين عديديـن ،منهـم على سـبيل المثـال :أبو بكـر ولـد المامـي ،ومحمـد ولـد إدومـو، والشـيخ ولـد بلعمش لما تمتـاز به هذه المقطوعـات الشـعرية القصيـرة مـن انسجام مع العولمة الثّقافية ومقتضيات عصر السـرعة.
الشعر في قلب الحدث والكّتاب الموريتانيون يواكب الشـعراء ُ األحـداث الوطنيـة والدوليـة عبـر صفحاتهم ،معلّقين عليها شعرًا أو نثرًا تنـزع فـي أغلبهـا إلـى اإليجـاز تعليقـات ْ باستثناء بعض الشعراء الذين دأبوا على عل من أبرز من نشر قصائدهم الطوال ،وَل ّ يتابع الحدث معلّق ًا عليه أو مبدي ًا رؤيته الشـاعر الشـيخ ولد بلعمش. فـي نمـاذج شـعرية متناغمـة مـع عصر يقـرب الشـاعر الومضـات الخاطفـةّ ، الموريتانـي َفنّـه مـن عصـر األحـداث الّدافقـة ،سـعي ًا إلـى مجاراتهـا ،لكـن الشـاعر الـذي يوقّـع علـى صفحات هـذا ّ الّتواصـل االجتماعي بالبيت أو البيتين ال يـزال ينشـد القصائـد الطـوال فـي األماسـي اإلنشـادية ،وهو بهذا الصنيع يسـاهم فـي إعـادة الشـعر إلـى واجهـة اهتمام متلقّين مختلفي الذائقة متعّددي يهتـز االتجـاه ،إذا كان بعضهـم ال يـزال ّ الخليلية فإن مطـوالت القصائـد ّ لسـماع ّ كثيرين منهم أصبحوا يضيقون ذرع ًا بما ستطابة الم الشـذرات ّ زاد على ّ الش ّ َ ـعرية ُ ستطرفة. الم َ ُ 23
هموم أدب المهجر متتبِّع الجزائري في نظر ال ُ
نوارة لحــرش الجزائرّ : ّـت كتابـة المنفـى أو المهجـر ،محور َظل ْ أسـئلة خجولـة وخافتـة ،أو األصـح، ّـت منطقـة غيـر مطروقة في خارطة َظل ْ المـرات القليلة األدب الجزائـري ،وفـي ّ التـي َت ّـم تناولهـا فـي مؤتمـرات أو دراسـات نـادرةَ ،ت ّـم تناولها بخلفيات أيديولوجيـة ،ومقاربـات ُمربكـة غيـر للـب الموضـوع وإشـكاالته منتبهـة ّ الحقيقيـة. ّ عـن أدب وكتابـة المنفـى والمهجـر والهوية واالنتماء ،كان هذا االستطالع ّ الكّتـاب الجزائرييـن: مـن نخبـة مـع ُ عميـر بـوداود والمترجـم الكاتـب يـرى ّ أنـه« :بصـرف النظر عن لغـة الكتابة، ال شك أن االنفصال عن الجذور أو عن األصلي ،واقع نتلمسه جلي ًا لدى الوطن ّ ُكّتاب المهجر في نصوصهم وكتاباتهم، خاصة المنتمين منهم لألجيال األخيرة ّ التي ُوِلَد ْت وترعرعت في فرنسا ،أو ما ُاصطلح على تسميته بالجيلين الثاني والثالـث ،أتحـّدث خاصة عن األسـئلة أو التيمـات المتناولـة فـي نصوصهم، 24
والتـي بطبيعـة الحـال تبـدو مختلفـة، بـل ومتعارضـة أحيانـ ًا مـع واقـع بلدانهـم األصليـة ،اقتضاهـا ربما واقع الكّتاب المغتربون الذين يقفون يعيشه ُ غالبـ ًا علـى طرفـي نقيـض مـن واقعنـا والثقافي». االجتماعي السياسـي، ّ ّ ّ ويواصـل المتحـّدث فـي هـذا السـياق: «مـن المفيـد طبعـ ًا أن ينصـب اهتمـام ُكّتـاب المهجـر علـى قضايـا البلـد الـذي يحتضنهـم ،السـيما قضايـا البطالـة والعنصريـة وأسـئلة أخـرى تتعلّـق بعوائـق االندمـاج فـي المجتمعـات الهوية ،وهي قضايا الغربية ،وصراع ّ الكّتاب من فئة خاصة تتميـز بتناولهـا ُ ّ المهاجريـن المولوديـن فـي األراضـي شـكلت نصوصهـم األوروبيـة ،وقـد ّ والتفـرد اتجاهـ ًا أدبيـ ًا بفعـل التراكـم ُّ قائمـ ًا بذاته في فرنسـا ،يعـود تأريخه إلـى مطلـع الثمانينيـات بـات ُيصطلح عليـه la littérature beureوالـذي ينحـدر ُكّتابـه فـي أغلبهـم مـن الجيـل الثاني للمهاجرين المغاربيين .في حين تتميـز -حسـب بـوداود دائمـاً -تجربـة ّ الكّتـاب المولوديـن فـي الجزائـر أكثـر، ُ
والذين اختاروا اإلقامة لسبب أو آلخر في أوروبا وفرنسا تحديداً ،مثل آسيا جبار ،سليم باشي ،بوعالم صلصال، ياسمينة خضرا ،مليكة مقدم وغيرهم. وحـول طبيعـة نصـوص هـذه الفئـة يقـول بـوداود« :إضافـة إلـى تناولهـم تتطرق إلـى معاناة المهاجرين قضايـا ّ الهويـة واالنتمـاء ،يطرحون وصـراع ّ أيضـ ًا همـوم وطنهـم األم وتطلعـات شعوبهم ،باعتبارهم جزءًا من مكونات هـذا المجتمـع ،يهمهـم مصيـر وطنهـم ومسـتقبله فـي كنـف معالجـة أدبيـة ال تخلـو مـن وجهـات نظـر ُمتعارضـة أحيانـاً ،يحفزهـم فـي ذلـك امتالكهـم ولـو بشـكل متفـاوت أدوات التواصـل مـع أفـراد مجتمعاتهـم». عل ِكتابات مؤكداًَ« :ل ّ وخُلص المتحّدث ِّ الفئـة الثانيـة هـي األقـرب ،فيمـا يبدو مـن مالمسـة الواقـع الجزائري ،والتي تـردد فـي نسـتطيع أن نضعهـا دون ّ خانـة األدب الجزائـري بغـض النظـر عـن إقامـة ولغـة كاتبها». مـن جهتـه يـرى الباحـث والمحاضـر األكاديمـي محمد األمين بحري ،أن من
محمد تحريشي
عمير بوداود ّ
بين أبرز أسـئلة ِكتابة المنفى :سـؤال تجليات الهوية» ،والبحث عبر ّ «التباس ّ هـذه الكتابـة عـن كينونـة جديـدة؟« .إذ أعتبرهـا بمثابـة «والدة ثانيـة» تنشـأ من رحم إشكالية االنتماء التي تعانيها الذات المرتحلة التي ال تنفك عن رسـم مالمـح وطـن بديـل ،ولـو علـى فضـاء غير إحداثيات الجغرافيا التخييل الذي ُي ّ والواقع ،فينزاح الوطن من كونه تلك الرقعـة الجغرافيـة التـي نسـكنها ،إلـى نشـيدها فكرة يوتوبية تسـكننا ،فكرة ّ وتتشـكل فـي أعماقنـا ،فترتحـل معنا، ّ علـى مقـاس أفكارنـا ،فنتعصـب لهـا، نختلـف حولهـا ،ونقتتل مـن أجلها». وأضاف موضحاً« :من سـؤال التباس الهويـة ولـدت (نجمـة) كاتـب ياسـين ّ صانعـة من التشـوه جمالية مالمحها، ومن التشـتت مقومات خطابها الثائر، تفجـرت القوميـة ومـن سـؤال االنتمـاء ّ فـي ثالثيـة محمـد ديب بـكل محموالتها ومكبوتاتهـا الحضاريـة ،بشـكل لـم يسـبق لـه مثيـل فـي أدب األنـا وال فـي أدب اآلخـر». «نفهـم مـن هـذه النمـاذج ،كمـا يضيـف المتحـّدث ،بـأن االغتـراب مهمـا كان نمطـه ،ال يمثـل انفصـا ًال وقطيعـة مـع الجـذور بقـدر مـا يعمـل علـى إعـادة وفنّيـ ًا عبـر كتابة التموقـع منهـا فكريـ ًا َ تفـكك المفاهيـم التقليديـة الموروثـة ّ لالنتمـاء ،وترشـحها مـن جديـد وفـق عالقات منفتحة على اآلخرين ،فتصبح الكتابة عن الوطن واالنتماء آلية عبور للهويات والكينونات من الذات وإليها، ّ مركـزي للعالقات، طـرد آليـة وليسـت ّ
لونيس بن علي
فاتخذت من مفاهيم الهجرة واالغتراب مفاتيـح لخطابهـا ،ومـن ثنائيـات، والهنـاك ،واألنـا واآلخـر ،معالم الهنـا ُ ُ النصيـة .ومنطلقـات فكريـة لثيماتهـا ّ لطـرح بدائلهـا لمـا فككتـه مـن مفاهيـم تخـص انتماءهـا». وفـي خالصـة تصريحـه ،قـال بحـري مسـتطرداً« :لقـد أضحـت كتابـة المنفى بهـذا الطـرح آليـة تفكيكيـة تنحـو إلـى تغييـر إحداثيـات الوجـود المـوروث الـذي مـا انفـك يعتـاش علـى ترسـبات ثقافيـة محليـة متمركـزة حـول ثوابـت قومية ال دور لإلنسان فيها ّإل حراسة ِقالعهـا العتيـدة .وبالمقابل تطرح هذه الهوية الكتابـة بدائلهـا التي تجعـل من ّ طاقـة تتقـوى باالنفتـاح والحـوار مـع القوميـة ممارسـة، اآلخريـن ،ومـن ّ يتكـرس بالخشـية من ً وفعلا تقدميـ ًا ال ّ اآلخـر والحـذر مـن اكتشـافاته للـذات، بـل بمـد جسـور المثاقفـة معـه ،لتأمين العبـور من حاالت التمركز واالنغالق، للهوية التي إلـى أشـكال أكثـر انفتاحـ ًا ّ فضاء المنافي أضحت في منظور ُكّتاب ً يحيا بالفعل والتفاعل ،وليس موروث ًا متحفي ًا هش ًا ُيخشى عليه من التالشي كلمـا اقتـرب مـن اآلخر». أمـا الكاتـب والناقـد محمـد تحريشـي، فيـرى أن كتابـة المهجـر أو المنفـى ُتتيح «االحتكاك بين الثقافات وتبادل التجـارب والخبـرات واكتسـاب ُق ّـراء تمكـن الكاتـب جـدد ،وفـي الوقـت ذاتـه ّ والقـارئ علـى َح ٍّـد سـواء مـن تجـاوز المألـوف والمعتـاد». مضيفـاً« :إن أدب المنفـى والهجـرة قـد
محمد األمين بحري
عبر عن صدمة ثقافية بين حضارتين، ُي ّ تجسـدت هـذه الصدمـة فـي الكثيـر وقـد ّ من األعمال األدبية والروائية مما جعل البعض منها يظهر بمسحة من الحزن، توجـه نحـو النزعـة وبعضهـا اآلخـر ّ اإلنسانية من باب التجديد والتجريب، الكّتاب هجر لغته ليكتب بلغة وبعض ُ المهجر أو المنفى حتى قال مالك حداد قولته المشـهورة (لغتي منفاي) ،وهو يقصـد الكتابـة باللغـة الفرنسـية .فـي األخيـر ،قـد تتجلّـى الكتابـة إلـى أن تصبـح ترميم ًا للـذات والذاكرة». أمـا الناقـد األدبـي لونيـس بـن علـي، تحولـت فـي فيـرى أن كتابـة المنفـى ّ الكثيـر مـن األحيـان إلـى كتابـة منفية. إذ قال في هذا الشـأن« :يزداد شـعورنا فـي هـذا الزمـن المرتبـك بالغربـة، ـب لهـا أن تعيـش فـي بأننـا كائنـات ُكِت َ ٍ منـاف أنطولوجيـة بالدرجـة األولـى. هـو إحسـاس بتراجيديـا الحيـاة فـي مجتمعـات تنهـار فيهـا قيـم اإلنسـان، وتسـحب مـن خلفهـا بجثتـه المغتالـة بألـف طريقـة». يتسـاءل بـن علـي فيجيـب« :مـن هـو الكاتـب المنفـي؟»« ،ليـس بالضـرورة المتسـكع فـي أوطـان غيـره ،بـل ذلـك ّ يتسـكع فـي وطنه ،لكن الذي ذلك هـو ّ دون أن يتخلّـص مـن أوزار اإلحسـاس بالغربـة وهـو يجـول ويصـول بيـن جنبـات وطنـه .الكاتـب المنفـي هـو الـذي يبحـث عـن شـكل يسـتوعب قلـق االنتماء في حياته ،هو الباحث األبدي عـن سلام ُيـدرك فـي قـرارة نفسـه أنه سلام مسـتحيل». 25
مجتمع
ِّ «فكر بغيرك» وأنشأ سوق ًا للفقراء قاد حملة
كامل الهيقي.. سيناتور العمل الخيري في غزّة
غزة :سما حسن ّ ـن منّـا يتـرك العيـش الرغـد المرتـاح َم ْ قـرر أن يعيـش مـع الفقـراء ومـن وي ّ ُ أجلهـم ،يسـهر علـى راحتهـم ،ويجوب البلاد بحثـ ًا عنهـم ليمسـح دموعهـم ويواسيهم ويرسم البسمة على وجوه صغارهـم ،ويمـّد يـد العـون لهـم أينمـا كانـوا ،ويتجشـم المشـاق والتنقـل من كل الصعـاب مـن مـكان آلخـر ويتحمـل ّ ٍ ّ أجـل أن يوفـر لهـم حيـاة كريمـة ،مـن مـأوى أو كسـاء أو طعـام. فئـة نـادرة فـي مجتمعاتنـا مـن تقـوم بهـذا العمـل ومـن هـؤالء النادريـن الغزي كامل محسن الشاب الفلسطيني ّ الهيقـي ،والـذي شـعر بالفقـراء وجعل همهـم رسـالته فـي الحيـاة فتـرك ثـراء عائلتـه والراحـة التي من المفترض أن وقرر أن يسـتحق بالفعل لقب يعيشـها ّ «سـيناتور العمـل اإلنسـاني والخيـري غـزة» ،والـذي حـازه مؤخـرًا مـن فـي ّ المنظمـة الدوليـة لحقـوق اإلنسـان التابعـة لألمـم المتحـدة. بدأ كامل الهيقي عمله الخيري اإلنساني 26
الغـزي قبل حوالي فـي خدمة المجتمع ّ ثالث سنوات ،وتحديدًا خالل العدوان غـزة ،حيـث أطلـق كامـل األخيـر علـى ّ «فكـر بغيرك» من خالل حملـة بعنـوان ِّ صفحة خاصة على «الفيسبوك» تحمل االسم نفسه ،وقبل ذلك بسبع سنوات مؤسسات بدأ الهيقي عمله كناشط في ّ العمل المدني. قرر مجموعة من الشـباب ففـي البدايـة ّ المتطوعيـن الخـروج إلـى المسـتقلّين ّ الشـارع الفلسـطيني وبحـث حـاالت النـاس عن كثـب ونبش أوضاعهم وما أخفـوه وراء الجـدران مـن فقـر ومرض وحاجة ،وكان على رأسهم كامل الذي المؤسس الحقيقي والفعلي لحملة ُيعّد ّ «فكـر بغيـرك» ليبـدأ بمسـاعدة فريقـه ِّ بإزاحـة السـتار عـن أوجـاع مخفيـة ال يشـعر بهـا أحد.
مشاريع نوعية خلال السـنوات الثلاث التـي بـدأ بهـا مشـروعه الخيري قام كامل الهيقي من بمؤسسـات خلال حملتـه وباالتصـال ّ
غـزة والضفـة خيريـة وإنسـانية فـي ّ الغربيـة وخـارج فلسـطين بتنفيـذ المميزة، الكثير من المشاريع اإلغاثية ّ والتـي كانـت األولـى مـن نوعهـا فـي غـزة المحاصـرة منـذ عشـر سـنوات.. ّ وعملا بالمثـل الصينـي «ال تطعمنـي ً سـمكة ،بـل علمنـي كيـف اصطـاد»، فقـد اسـتطاع كامـل وفريقـه مسـاعده شـاب صغيـر مـن رفح جنـوب القطاع كـون علـى افتتـاح مشـروع بسـيط ُم ّ مـن «بسـطة» أو «فـرش» علـى ناصية شارع في المخيم ووضع عليه بعض البضائـع الرخيصـة والبسـيطة مثـل البسكويت وأكياس شرائح البطاطس (الشيبس) والشكوالته وعلب المبردات (الجيالتـي) ،المحليـة الصنع ،وبذلك وضـع كامـل قـدم هذا الشـاب على أول طـرق األمـل بعـد أن عانى سـنوات من البطالـة والفقـر والحاجـة.
سوق للفقراء مـن أنجـح األفـكار وأكثرها روعـة فكـر بهـا التـي َظ ّ ـل كامـل الهيقـي ُي ِّ
لفتـرة طويلـة قبـل أن تصبـح علـى أرض الواقـع إنشـاء سـوق خيريـة لألسر الفقيرة ،وقد ُأعجب الفقراء بهذا العمل اإلنساني ،والذي َتّم افتتاحه في محافظتـي خـان يونـس ورفـح ،حيـث بكل يدخل الشخص المستفيد ويشتري ّ حرّية (اللحوم الطازجة ،الخضراوات، ّ الفواكـه ،المـواد الغذائية ،والمعلبات) بأسعار رمزية يتم تسديدها عنه الحق ًا مـن متبرعيـن يحفظـون لـه مـاء وجهه ويصونـون كرامتـه وإنسـانيته. ومـن المشـاريع األخـرى التـي قـام بها «فكـر بغيـرك» كامـل بمسـاعدة فريـق ِّ وبتبرعـات سـخية مـن مواطنيـن يرفضـون ذكـر أسـمائهم مشـروع حفـر آبـار ميـاه صالحة للشـرب في األماكن البعيـدة المهمشـة وغيـر المطروقـة وتوفيـر المـاء علـى جنبـات الطـرق الوعـرة والبعيدة عن العمران ،وكذلك بنـاء بيـوت وترميم البيوت المتصّدعة بسـبب الحـروب واألحـوال الجويـة، كالمنخفضـات التـي تتلـف البيـوت في الشـتاء وإنشـاء المشـاريع البسـيطة اإلنتاجيـة ،ومسـاعدة األطفـال فـي
المستشفيات وتقديم الهدايا والمالبس، إضافة لمساعدة كبار السن والمعاقين.
ّ حل مشكلة الفقر بأيدينا يقـول كامـل الهيقـي فـي رده عـن لحـل مشـكلة الفقر الحلـول المطروحـة ّ غـزة :لـو أن أغنيـاء المسـتفحلة فـي ّ غزة أخرجوا زكاة مالهم على فقرائها؛ ّ غـزة سـائل وال قطـاع فـي يبقـى لـن ّ فغـزة مـن المناطـق التـي ال محـرومّ ، زالـت تعتـرف بمفهـوم األسـرة الممتدة والترابط األسري ال زال قوياً ،وهناك عائلات كبيـرة ومشـهورة تعيـش فـي منطقـة واحـدة ،ولكن لألسـف تنقسـم هـذه العائلات مـن ناحيـة المسـتوى االقتصادي ،فهناك أغنياء وفقراء ،ولو قـام األغنيـاء بإنشـاء مشـاريع لفقـراء غزة، عائالتهم لما بقي فقير واحد في ّ ولحلّت مشكلة الفقر دون الحاجة ألحد ُ والختفـت المشـاكل الناتجـة عنه ،مثل القتـل والسـرقة ،والتـي بـدأت تطفـو علـى السـطح كظاهـرة غريبـة وغيـر الغـزي .ويـرى معتـادة فـي المجتمـع ّ
كامـل الهيقـي أن دولـة قطـر الشـقيقة هـي اليـد العليـا فـي تقديـم المسـاعدات غـزة ،حيـث للشـعب الفلسـطيني فـي ّ فعـال بشـكل سـاهمت اللجنـة القطريـة ّ فـي تطويـر البنيـة التحتيـة وإعـادة والمؤسسـات التـي دمرتهـا البيـوت ّ لمؤسسة الحروب اإلسرائيلية .كما أن ّ «قطـر الخيريـة» و«راف» القطريـة، السلات الفضـل الكبيـر فـي توفيـر ّ الغذائية وترميم بيوت الفقراء ،وكفالة أيتام القطاع ،إضافة لتدشين مشاريع لتسديد ديون الغارمين المتراكمة عليهم بسـبب سـوء األوضـاع االقتصاديـة وخسـارة الكثيـر منهـم لمشـاريعهم التجاريـة. ويقـول كامـل فـي ختـام تصريحـه لـ«الدوحة» :إنه يحلم بأن يكون سفيرًا ال لوطنه وهو ابن للنوايا الحسـنة ممث ً غـزة الـذي عـاش مآسـيها وحروبهـا، ّ ولكنـه قـادر بأفكاره وجهـوده أن ُيقّدم خدمـات لإلنسـانية خـارج فلسـطين، خاصـة مـع تزايـد الالجئيـن وضحايـا الحـروب فـي العالـم العربـي. 27
بين ضفتين
ايزابيلال كاميرا دافليتو
نيفرالند «نيفرالنــد» هــي جزيــرة خيالية ،كثيــرًا مــا حلم بهــا األطفــال من ِعـّدة أجيــال .وهــي معروفة لــدى الغالبيــة بجزيــرة «بيتر بــان»، ذلــك الصبــي الــذي لــن يكبــر ،ومعــه وينــدي الجميلــة أو الجنية تينكربيــل أو جزيــرة القراصنــة الشرســين ،والذيــن هــم أبعــد مــا يكونــون عــن الشراســة ،مثــل الكابتــن هــوك ،الــذي يتســم بالدعــة واللطــف .هــي إذًا جزيــرة ال يعرفهــا أحــد ،فلــم يذهــب خيلــة مبدعهــا ،جيمــس إليهــا أحــد ،وليســت موجــودة ّإل فــي ُم ِّ ماثيــو بــاري ،الــذي ابتــدع فــي 1904شــخصية وهميــة باســم بيتــر بــان ،الطفــل األبــدي الــذي يرتــدي مالبــس غريبــة باللــون األخضــر ،ويمثــل رغبتنــا فــي الصبــا األبــدي. خطــرت هــذه الجزيــرة علــى ذهنــي عندمــا ســمعت قبــل أســابيع عــن فكــرة مجنونــة وعبثيــة لبعــض أعضــاء البرلمــان اإليطالــي (ينتمــون إلــى أحــزاب تشــتهر بمعــاداة األجانــب والعنصريــة كل مــا هــو جنوبــي علــى األرض ،بمــا فــي ذلــك جنــوب تجــاه ّ إيطاليــا) ،لبنــاء جزيــرة أمــام الســواحل اإليطاليــة ،أو بمعنــى أصــح منصــة صناعيــة عازلــة ،ال نعــرف حتــى اآلن أيــن يزمعــون بناءهــا .ولكــن فيمــا يمكــن أن يفيــد بنــاء جزيــرة اصطناعيــة؟ هــذا الســر تــم كشــفه مؤخــراً ،فالمشــروع يقضــي ببنــاء مــا يشــبه منصــة بتروليــة عائمــة ،ولكنهــا مجهــزة بمــا يشــبه بمعســكر اعتقال أو ســجن ،يوضــع فيــه آالف المهاجرين الذيــن يعبــرون البحــر المتوســط يوميـ ًا للوصــول من الســواحل اإلفريقيــة إلــى شــواطئنا اإليطاليــة واألوروبيــة .والبــد ،على ما يبــدو ،أن هنــاك ِعـّدة منصــات بتروليــة لم تعــد قيد االســتخدام، ويمكــن إعــادة اســتخدامها وتكييفهــا لهــذا الغــرض. كل هــؤالء الفقراء فكــرة هــؤالء السياســيين المجنونــة هــي منــع ّ الذين يخوضــون رحلــة بحريــة بالغــة الخطــورة ،مــن الوصول الــى قارتنــا األوروبيــة التــي يرونهــا مثاليــة ،ثــم ســجنهم فــي مراكــز عائمــة ومنعهــم مــن الهبــوط علــى شــواطئنا ،وهــم بهــذا كل أمــل لهــم فــي تغييــر حياتهــم ،بــل وفــي كثيــر يقضــون علــى ّ مــن الحــاالت يقضــون علــى األمــل فــي الحيــاة نفســها ،ألن الكثيريــن يهاجــرون ،كمــا نعلــم ،هرب ـ ًا مــن أوضــاع مأســاوية للغايــة .والفكــرة هــي أن تحتفــظ بـ«الضيــوف» (رجــا ًال ونســاء 28
وأطفــاالً) فــي نــوع مــن «الســجن المؤقــت» ،إلــى أن يتــم تحديــد وضعهــم. عندمــا أطلــق زعيــم حــزب رابطــة الشــمال (حــزب كاره لألجانــب للمــرة األولــى هــذا االقتــراح ،فــي أغســطس/ وعنصــري) ّ آب ،2015أثــار جــد ًال واســع ًا فــي الصحافــة وغيرهــا مــن المؤسســات السياســية واالجتماعيــة والدينيــة التــي حاولــت ّ علــى مــدار الســنين التعامــل مــع مشــكلة الهجــرة الكثيفــة بإنســانية عظيمــة ،حتــى أننــا نســتطيع أن نقــول بحــق إن إيطاليــا ،فــي هــذه المأســاة اإلنســانية ،قــد أثبتــت أنهــا بلــد معطــاء للغايــة ،مفتــوح الصــدر ،فــي حــدود إمكانياتهــا. وبالطبــع ثــار ضــد هــذه الفكــرة غيــر الصحيــة فــي العــام الحــل الماضــي جــدل غاضــب ،ثــم عــدت هــذا العــام ألرى هــذا ّ ِ غيــر الالئــق لمشــكلة الهجــرة يكتســب زخمــ ًا جديــدًا مــن قَب ِ ــل نــواب آخريــن ،بــدأوا مـّـرة أخــرى الحديــث عــن إنشــاء «منصــة هويــة أوروبيــة» فــي عــرض البحــر ،ولكــن فقــط لتحديــد ّ ـق فــي تقديــم طلــب للجــوء المهاجريــن .أولئــك الذيــن لديهــم الحـ ّ ســيتم إنزالهــم وتوزيعهــم علــى المــدن اإليطاليــة واألوروبيــة األخــرى ،فيما سـُـيعاد اآلخــرون إلــى بلدانهــم األصليــة ،دون أن يلمســوا األرض اإليطاليــة .ولكــن فــي أي عالم نعيــش؟ غني عن القــول إن هــذا المقتــرح ،الــذي لــم يقبــل بعــد ،أذهلنــا وأخرســنا جميعــاً .بهــذي الطريقــة نبــدأ فــي تمييــز واضطهــاد بشــر لــم يرتكبــوا خطــ ًأ ،ســوى أنهــم رغبــوا فــي الهــروب مــن الحــرب نرحــب بهــم نغلــق والقمــع ومــا إلــى ذلــك .ونحــن بــد ًال مــن أن ّ فــي وجوههــم البحــر دون أن نســمح لهــم بــأن تمــس أقدامهــم األرض! أمــر محــزن حقــاً ،يأمــل الكثيــر منــا ّأل يتحقّــق أبــداً. فكرت مـّـرة أخــرى في جزيــرة «نيفرالنــد» الشــهيرة ،وأنهــا كانت بمثابــة الخيــال المجــازي لوصــف بلــد رائــع يقــع بيــن الحلــم كل شــيء فيــه بشــكل طيــب دائمــاً ،المدينــة والواقــع ،ينتهــى ّ الفاضلة التــي ال يريــد أي منــا أن يحــرم منهــا .إننا نريــد الحفاظ علــى الحلــم ،مثــل بيتــر بــان ،بــأن يصبــح العالــم الــذي تمثلــه هــذه الجزيــرة حقيقي ـاً .عالــم ودود ومضيــاف ،حتــى ولــو كان عاصف ـ ًا فــي بعــض األحيــان.
قضية
موسم تسريب االمتحانات
غرد أحدهم :أســـوأ تحت هاشـــتاغ (فضايـــح بكالوريـــا َّ )2016 - مـــرت في التاريـــخ ،صار ِ ـــش مثل صبـــاح الخير. الغ ّ باكالوريـــا ّ كل نهاية موســـم دراســـي ،حيث فـــي الســـنوات األخيرة ،ومـــع ّ يمتحـــن طـــاب األقســـام الثانويـــة ،تطفو على الســـطح ظاهرة تســـريب االمتحانـــات عبر مواقـــع التواصـــل االجتماعي ،لتصير الشـــغل الشـــاغل للطلبـــة وأوليـــاء أمورهـــم وصـــو ًال إلـــى وزارات التعليـــم إلـــى أن تصل القضيـــة إلـــى البرلمانـــاتَ ،علَّها تجد تشـــريعات وحلـــو ًال جذرية. فبعـــد تســـريب االمتحانـــات بداية يونيو/حزيـــران الماضـــيُ ،أجبر نصف عـــدد الطالب في الجزائر علـــى إعادة امتحان الثانوية ،مع حجب وســـائل التواصـــل االجتماعي خالل االمتحـــان ،واعتقال مســـؤولين بعد تحقيقات ُأجريـــت حول التســـريب .وفي مصـــر كانت عناويـــن الصحف أكثـــر إثارة مـــن قبيـــل« :ضربة أمنيـــة ناجحـــة لضبـــط المتورطين وكشـــف الحقائق فـــي واقعة تســـريب امتحانـــات الثانوية العامـــة» .أما في المغـــرب فقد َتّم تخصيـــص مصلحة تابعـــة لألمن الوطنـــي مهمتها مكافحـــة وزجر عمليات تســـريب امتحانات البكالوريا. المؤسســـات التعليمية ،أو أصحاب مطابع. المسربون إما مســـؤولون في ّ ِّ تلبس بجريمة كاملة األركان على ما وبالنســـبة ّ للغشـــاش المتصل! ،فهو ُم ِّ يبدو ،أدواتـــه معدات معلوماتية متصلة بشـــبكة اإلنترنـــت ،هواتف نقّالة وســـماعات الصقـــة ...فهل بمجـــرد إجـــراءات زجرية يمكـــن القضاء على هـــذه الظاهرة الموســـمية؟ أم أن منظومة االمتحانـــات والمناهج التعليمية عاجـــزة عن مواكبـــة الجيل المتصل؟ باتت ً
29
تسريب ممنهج وعنيد د .كامل مغيث (القاهرة)
المركز القومي للبحوث التربوية
ّ تسـرب امتحانـات الشـك أن لظاهـرة ُّ الثانويـة العامـة في مصر ،دالالت علمية وفنّيـة -سـنتناولها فيما بعد - وتربويـة َ ولكـن مـن المهـم أن نشـير هنـا إلـى ثالث دالالت اجتماعيـة وثقافيـة :أوالهـا :أنـه غبـة قـد آن اآلوان لكـي تتحمـل الدولـة َم ّ ّ إهمالهـا لتطويـر مرفـق التعليم منذ عقود طويلـة ،علـى الرغـم ممـا يعتمـل فـي واقـع المعلوماتيـة واإلنترنـت واألوعيـة المعرفية المختلفة والمتعّددة من تحديث وتطـور ألقـى بظالله علـى مختلف أوجه ُّ وظـل الحيـاة االقتصاديـة واالجتماعيـة، ّ التطـورات علـى التعليـم بعيـدًا عـن تلـك ّ الرغم مما كان يمكن أن تتيحه من إمكانية توفير الوقت والجهد والنفقات والتجارب ظل تعليمنـا المصري كما الناجحـة؛ وقـد ّ كان منـذ عقـود بنفـس الطـرق واآلليـات والنسـق والمناهـج ونظـم االمتحانـات 30
والتقويم واإلدارة ،ولم تعد تلك اآلليات العتيقة تستطيع أن تصمد في وجه تلك المتغيـرات اإللكترونيـة والمعلوماتيـة، ّ وهكـذا أصبحـت الدولـة أمام مسـؤوليتها الحتميـة فـي تطويـر نظـام التعليـم الـذي عفَّـى عليـه الزمن. وثانيتهـا :إن مـا يحـدث مـن تسـريب المنظم والممنهج لالمتحانات ،بهذا الشكل ّ يعبـر فـي والـدؤوب والعنيـد والمتحـدي ّ جانـب منـه عـن حركـة احتجـاج واسـعة تجتـاح المعلمين والطلاب وغيرهم ممن يحتجـون علـى نظـام تعليمـي عبثـي ال يعلـم شـيئ ًا حقيقيـاً ،وفـي مـدارس بلا طالب وبال معلمين ،ومع هذا فإنه يرهق الطالب واألسـر اجتماعي ًا ونفسي ًا ومالي ًا لسـنوات طويلة. المنظـم وثالثتهـا :هـذا التسـريب ّ مؤسسـة لالمتحـان ّ يعبـر عـن صـراع في ّ التعليـم المصرية بيـن عقليتين ،العقلية المؤسسـة األولـى للقائميـن علـى إدارة ّ واالمتحانـات ومـا يصحبهـا مـن تنظيـم، وهي عقلية تنتمي إلى عهد الخمسينيات والسـتينيات مـن القـرن السـابق ،وهـي
التحكـم عقليـة ال تعـرف سـوى طـرق ّ الورقيـة البيروقراطيـة ،من أرقام سـرية وأختـام وشـمع أحمـر ومطبعـة وغرفـة سـرية ،وبعـض التهديـد بالغرامـة والسـجن لمـن يخـرج عـن هـذا النظـام، تخـص شـبابنا ممـن والعقليـة الثانيـة ّ هـم دون العشـرين ،والذيـن يسـتطيعون أن يتعاملـوا بسـهولة وبسـاطة مـع التكنولوجيـا وأدواتهـا فيسـتطيعون اختـراق الحواجـز واقتنـاص المعلومـات ونقلهـا فـي لمـح البصـر مـن مـكان آلخر. هذه هي األبعاد الثّقافية واالجتماعية تسرب االمتحانات ،ولكنها تزداد لظاهرة ُّ تسـرب تفاقمـ ًا عامـ ًا بعـد عـام ،فظاهـرة ُّ االمتحانـات تعـود لعقود سـبقت ،فهناك للتسـرب واحدة سنة حادثتان شـهيرتان ُّ ،1960والثانيـة سـنة ،1967حيـث تسـربت بعـض أوراق األسـئلة ووصلـت َّ بوسـيلة أو بأخـرى إلـى إسـرائيل التـي أذاعتهـا عبـر إذاعتهـا الناطقـة بالعربيـة فـي محاولـة منهـا للكيـد وإربـاك النظـام الناصـري ،ولكـن وألن االمتحانـات كلها كانت تعتمد على الوسـائل البيروقراطية
التقليديـة فقـد أمكن معرفة المسـؤول عن تسـريب االمتحـان وتقديمـه للمحاكمـة، وكان مـن السـهل أن تقـوم الدولـة بعـدم تسـربت عقـد االمتحـان فـي المـواد التـي َّ أسـئلتها ،أو إعـادة االمتحـان إذا كانـت الواقعـة لـم تكتشـف ّإل بعـد أداء الطلاب لالمتحـان ،وظلّـت عمليات التسـريب تتم التحكـم فيـه بشـكل بيروقراطـي يمكـن ّ وتحديد مصدره ونطاقه ،ومن َثّم يسـهل التعامـل معـه وتالفـي آثـاره. أما التسريب الذي يتم اليوم بالوسائل الغش الذي اإللكترونية فهو أخطر ظواهر ّ عرفـه نظـام التعليـم المصـري الحديـث منـذ تأسيسـه علـى يد محمـد علي (1805 )1848؛ وتعـود خطورتـه ألسـبابمتعـّددة منهـا :أنـه يتـم عبـر وسـائل وأدوات التواصـل االجتماعـي الحديثـة واألدوات اإللكترونيـة التـي أصبحـت بيـن يـدي الطلاب والمعلميـن ،ومـن َث ّـم التحكـم فيـه أو معرفـة ال يسـتطيع أحـد ّ نطاقـه أو عـدد الطلاب الذيـن اسـتفادوا منـه أو مـكان لجانهـم ،ومـن َث ّـم التعامـل مـع آثـاره السـلبية.
ومـن تلـك األسـباب أيضـاً :أنـه مـن الواضـح أن محـاوالت الحكومـة مواجهة ظاهـرة التسـريب اإللكترونـي قـد بـاءت بالفشل ،فلقد مأل وزير التربية والتعليم تؤكد أن التعليم الدنيا بالتصريحات التي ّ المصـري لـن يشـهد هـذا العـام -مطلقـاً- ظاهرة التسريب اإللكتروني لالمتحانات، ومـع هـذا فقبـل بداية امتحـان أول مادة، وهـي مـادة التربيـة الدينيـة ،كانـت قـد تسـربت قبـل بدايـة وقـت االمتحـان ممـا َّ اضطـر الـوزارة إلـى تأجيـل امتحـان تسـرب المادة إلى موعد آخر ،ومع ذلك َّ مرة ثانية ،ولليوم لم تسـتطع االمتحان ّ الـوزارة وال أجهـزة الدولـة تقديم تفسـير التسـرب وكيـف يحـدث حقيقـي لذلـك ُّ ومـن المسـؤول عنـه؟! ولقـد أصبحـت تسـمى «شـاومينج» علـى الصفحـة التـي ّ مواقـع التواصـل االجتماعي أشـهر وأهم الصفحات لدى جميع الطالب والمتابعين. وأخيـرًا فـإن هذا التسـريب لالمتحانات ال ـن المسـؤول عنه. عـرف كيـف يتـم وال َم ْ ُي َ إن االمتحـان ،لكـي يسـتحق هـذا معبرًا عن مستوى الوصف ،ولكي يكون ّ
الطالب ،ولكي نثق بدرجات الطالب التي تسفر عنها االمتحانات البد أن يتوافر فيه شـرطان :األول هـو العدالـة والثانـي هـو تكافـؤ الفـرص بيـن جميـع الطلاب ،أمـا إذا كنا ال نستطيع توفير هذين الشرطين فيصبـح االمتحـان فاقـدًا لقيمته ومعناه، وال ّ شك أن هذا كله سيلقي بظالل قاتمة على النظام التعليمي كلّه وعلى مصداقية الدولـة فـي حمايـة المعاييـر التـي تحكـم التعليـم قبل الجامعي والتعليم الجامعي بالضرورة. باإلضافـة إلـى مـا سـبق ذكـره ،يمكن تسـرب االمتحانـات فـي إجمـال أسـباب ُّ عدم قدرة الجامعة على اسـتيعاب جميع الناجحيـن فـي الثانويـة العامـة ،وقـد وصـل عـدد طلاب الثانويـة العامـة هـذا العـام 2016/2015إلـى 498ألفـ ًا مـن الطلاب ،وقـد أدى هـذا التنافـس الشـديد مـن الطلاب علـى األماكـن المحـدودة فـي الجامعات إلى ارتفاع درجات قبولهم في الكليـات المختلفـة إلـى الحـّد الـذي جعـل الطالـب الحاصـل على مجموع % 98من الدرجـات ال يسـتطيع دخـول كليـة الطـب 31
مثلا وهـو األمـر الذي جعل مـن الحصول ً علـى الدرجـات هدفـ ًا غاليـ ًا وإن كانـت بوسـائل مشـينة وغيـر مشـروعة. تسرب االمتحانات أيض ًا ومن أسـباب ُّ أن امتحاناتنـا ال تقيـس وال تختبـر ّإل المستويات الدنيا من القدرات العقلية ،أي التذكـر والحفظ للمعلومات، القـدرة على ُّ أمـا القـدرات العقليـة العليـا ،كاإلدراك والنقـد والتحليـل واإلبـداع ،فاالمتحانات ال تهتـم بهـا مـن األسـاس ،ومـن هنـا أصبحت المعلومات التي تتطلبها اإلجابة عـن االمتحـان ذات قيمـة عظيمـة لمـن يسـتطيع سـرقتها وإرسـالها إلى الطالب تسـرب الممتحنين .ويضاف إلى أسـباب ُّ االمتحانات وجود بعض الفاسدين الذين يمكنهم الحصول على مبالغ مالية كبيرة تمكنـوا مـن تسـريب أسـئلة مـادة مـن لـو ّ مـواد االمتحان. شكل التسريب اإللكتروني لالمتحانات َّ هائلا أمـام الدولة المصرية ،التي تحّديـ ًا ً ال تعـرف حتـى اآلن كيـف يمكنهـا تجـاوز 32
أهـم مفصـل مـن هـذه األزمـة الكبيـرة فـي ّ مفاصـل التعليـم ،فـي حيـن أعلـن بعض المسـؤولين ،عـن اسـتبدال اختبـارات القبـول للجامعـات بمجمـوع الدرجـات للطلاب عنـد الدخـول للجامعـة ،ويبقـى السـؤال :هـل هنـاك جامعات تهمـل تمام ًا مجمـوع وتاريـخ الطالـب العلمـي قبـل االلتحاق بها؟ وهل اعتادت جامعاتنا على تتميز بالمصداقية إجـراء اختبارات قبول ّ والشـفافية والبعـد عـن مظاهـر الفسـاد؟ تسـريب االمتحـان هـو التحـّدي األكبـر الـذي يواجهـه نظـام التعليـم المصـري، وقـد آن للدولـة أن تدفـع ثمـن إهمالهـا لتطويـر التعليـم ،وهـو ما يعنـي :زيادة مرتبـات المعلميـن ليكونـوا معلميـن مهنييـن متفرغيـن لعملهـم ،قادريـن على إدارة عمليـة تعليميـة تتسـم بالكفـاءة بمـا فـي ذلـك تقييـم الطلاب ،كمـا البـد مـن تقزيـم دور الكتـاب المقـرر وجعـل العلـم -المطلـوب دراسـته -هـو محـور العمليـة التعليميـة ،كما البد من أن تكون
القدرات العقلية العليا ،كالفهم والمقارنة والتحليـل واإلبـداع ،هـي محـور اهتمـام طـرق التدريـس واالمتحان وليس الحفظ والتذكـر ،وأخيـرًا العمـل علـى التقويـم ُّ المسـتمر داخـل قاعـات الـدرس وعلـى مـدار العـام الدراسـي ،بحيـث يحظـى امتحان نهاية العام بجزء محدود جدًا من المجمـوع الكلـي لدرجات الطالب ،ويمكن فـي هـذه الحالـة تطويـر نظـام القبـول فـي الجامعـات ،بحيـث تتـم المفاضلـة بيـن الطلاب علـى أسـاس المجمـوع الكلـي للدرجـات فـي الثانويـة العامـة، باإلضافـة إلـى مـادة مـن مـواد المسـتوى الرفيـع ،ثـم اختبـار قبـول تعـّده الكليـة التـي يرغـب الطالـب فـي دخولهـا ،بحيث والتأكد من تكـون اختبـارات َتّم تجريبهـا ُّ مصداقيتهـا وثباتهـا واسـتعصائها علـى والتدخـل الشـخصي. الفسـاد ُّ هـذه هـي خبرة النظـم التعليمية التي أخذت بيد شـعوبها إلى المسـتقبل.
االمتحانات في الجزائر ّ الغش ما وراء والتسريبات
د .آمنة بلعىل (الجزائر) تعاني المنظومة التربوية في الجزائر منذ االستقالل حالة من اإلرهاق المستمر، من الصعب التنبؤ بإمكانية الخروج منها. فقـد تجـذّرت هـذه الحالـة من خلال حركة التعريـب التـي َتّم اعتمادها ،وسـرعان ما بدأ التراجع عنها لعطب كان ينخر فيها من الداخـل ،وفـي مرحلـة الحقةَ ،ت ّـم تجريب المدرسة األساسية ،لتكون رافدًا لتوترات عميقـة ،اسـتدعت إصالحـات عميقـة، ارتبطـت بدورهـا بتوتـرات سياسـية، الهوّيـة، وبموقـع قوتيـن تصارعتـا علـى ّ وعلى لغة التعليم وعلى طبيعة البرامج وأهـداف التعليـم ،وتوجهـات المؤطريـن ومسـتوياتهم ،األمـر الذي كانت له نتائج الغش وخيمة على مستوى التعليم ،وكاد ّ يصبح خيارًا اسـتراتيجي ًا لكال الطرفين، حيـث اسـتطاع القائمـون علـى السياسـة التربويـة ،واسـتنادًا إلـى تسـويغات
يحولـوا سياسـية أيديولوجيـة ،أن ّ الغش التلميـذ إلـى رهينـة يسـوق رهانهـا ّ فـي توظيـف المعلّمين ،وسـوء التوجيه، علـى الرغـم مـن سياسـة مجانيـة التعليم وفرضه على الجميع ،التي لم تصمد أمام فتحولـت التربية حـاالت الفسـاد القيمـيّ ، والتعليم إلى نكوصية فرضت على الكثير نبذ التعليم ،وتجريب خيارات أخرى كان أقصاهـا اإلرهـاب ،ولم تتفطن الدولة إلى هذا األمر ّإل بعد العشرية الدموية التي كان ووجهه وقودها شباب لم يحالفهم ّ الغش ّ التسـرب المدرسـي إلـى فتـاوى تبنـوا من خاللهـا إزهـاق أرواح الجزائريين. عاملا بالغـش ،إذن، كانـت المتاجـرة ّ ً أسهم في استقطاب جيل مشمو ًال ظاهري ًا بمقاومـة ثقافيـة ،وباطنيـ ًا بانتصـار إلى إحـدى اللّغتيـن (العربيـة أو الفرنسـية) ضارعتهـا جهـود إصالحيـة لـم تسـتطع مـرة الصمـود أمـام صـراع داخلي فـي ّ كل ّ الغـش الهوّيـة ،وأصبـح علـى عميـق ّ ّ
معـو ًال لتثبيـت االنحيـاز ،وكانـت نتائجه تسـريبات امتحـان بكالوريـا ،1992التي دفعـت بالوزير المحسـوب على المعربين إلى االستقالة ،وتوجه أصابع االتهام إلى التيـار الفرانكوفونـي المحيـط به. الغش يصبح ومن هنا ال نستغرب أن ّ فـي الجزائـر ،ظاهـرة مصاحبـة لعمليـة التعليـم والثّقافـة ومـن َث ّـم ،فهـو ال يعني ظهـور ظاهـرة بقـدر مـا يعنـي سـقوط ظواهـر أخـرى ،ولـوال سـقوطها لمـا كان له أن يظهر ،إن سقوط قيم مثل اإلخالص للوطـن والوفـاء والصـدق والمـروءة واالجتهـاد وحـب المعرفـة واألمانـة، والسياسـة الرشـيدة ،فتـح البـاب أمـام فالغـش ليـس أضدادهـا لتشـغل المـكان، ّ مجـرد سـلوكيات تقنيـة تتـم فـي سـرية وخجـل يمكـن تفسـيرها بسـوء اإلدارة والتسـيير واإلهمـال ونقـص الصرامـة، لكنه حالة أخالقية تتم في علن وبتفاخر ويتـم التحريـض عليهـا حتى مـن األولياء 33
إجراءات
حول سـبل معالجة الظاهرة ،سـألنا د .موالي المصطفى البرجاوي وهو باحث في تحليل وتقييم نظم التربية والتكوين -كلية علـوم التربيـة -الرباط ،فاقترح ما يلي: أوالً :اتخـاذ إجـراءات تربويـة تنظيميـة؛ تتمثـل فـي تنظيـم حملات التحسـيس والتوعيـة بالـدور المهـم لالمتحانـات فـي تحديـد يبيـن مسـتوى المتعلّميـن والوقـوف علـى جوانـب الضعـف والقـوة فـي مسـارهم التعليمـي ،وإظهـار كيـف أن ّ الغـش المدرسـي ،ال ّ المسـتوى الحقيقـي للتلميـذ ،بـل يؤثـر علـى مسـاره وقـد يوقفـه فـي محطة تعليميـة موالية ،وذلك مـن خالل عرض بعـض التجارب الفاشـلة للطلبـة الذيـن لـم يسـتطيعوا مسـايرة أقرانهـم المجّدين.
ثانياً :إعادة النظر في التقويم التربوي؛ إذ إن التركيز على االمتحانات اإلشـهادية األخيرة التي تحّدد نجاح أو رسـوب المتعلّم الغش ،لهذا ينبغي مع التقليل من شـأن باقي األنشـطة التربوية التقويمية األخرى مثل المراقبة التربوية الرسـمية ...يشـجع على ّ متسـاو بين التقويم اليومي والتقويم اإلشـهادي. تنويع التقويم وتوزيع ٍ ثالثـاً :تركيـز النظـام التربـوي علـى التعليـم والتكويـن والتأهيـل بـدل التركيـز فقـط علـى التقويـم؛ إذ إن أغلـب النظـم التربويـة العربيـة تجعـل الهاجـس األكبـر للمتعلّميـن هـو النجاح في االمتحـان بدل التكوين والتعليم ،مما يجعلهم فـي حالة توتر واضطراب،
والمربيـن ،األمر الذي يؤشـر إلى سـقوط مدمـر ،وينتقـل من كونـه ظاهرة أخالقـي ّ فردية محدودة وذات أهداف بسـيطة إلى مؤسسـاتية مركبـة ولهـا أهـداف عمليـة ّ المؤسسـة التعليميـة تطـال جهات خـارج ّ أخـرى. إن المجتمعـات العربيـة ،وعلى الرغم مـن سـجالتها مـن القيـم الثاويـة فـي النصـوص الدينيـة والنصـوص األدبيـة واألخالقيـة ،نراهـا ،تشـهد بشـكل أبـرز الغـش والتسـريب والتحايـل ظواهـر ّ والتقويـم االعتباطـي للجهـود واالنحيـاز نحـو الـرداءة ومنتوجاتهـا .إنـه الفسـاد الموجهـة الـذي يعنـي تحويـل اآلليـات ّ ومؤسسـاته إلى آليات لتحقيق للمجتمع ّ والجهوية، والعائليـة الفرديـة المصالـح ّ الغـش المقنّـن الـذي وبآليـات أخـرى مـن ّ المؤسسـات ،مثـل فتـح التعليـم تمارسـه ّ المـوازي لمـن فشـل فـي مسـاره التعليمي ومنحـه شـهادة تعـادل الشـهادة التـي المؤسسـات األخـرى. تمنحهـا ّ تفسـره إن انتشـار ّ الغـش يمكـن أن ّ أيضاً ،بسقوط قيمة المعرفة والعلم ،فلم يعد للمعرفة تلك الفضيلة التقديسية ،بل صـارت قيمـة ممتهنة إلى َح ٍّد كبير ،بفعل ممارسـات سياسـية جعلـت المعرفـة فـي األماكن الخلفية ،وقّدمت عليها قيم ًا أخرى كالجاه والمال والسلطة والقوة ،وفي ِظّل يعشـش هـذا الصـراع المضمر ،كان ّ الغش ّ في دواليب السلطة ،ليصبح ثقافة دفعت 34
المجتمع الجزائري إلى اإلسهام فيه ،وبات الغـش فـي االمتحانـات، التحريـض علـى ّ ال لكثير كل المستويات وتسويغه ،ح ً وفي ّ مـن األوليـاء والمعلّميـن الذيـن سـاهمت ظروفهـم االجتماعيـة ،فـي دفـع التالميـذ إليـه طمعـ ًا فـي مكافـأة بنسـبة نجـاح عالية ،أو دفع ًا لضرر يكون مستواه سبب ًا ـل غيـاب قوانين فيـه ،وحصـل هـذا فـي ِظ ّ الغش مع آفات حـول ّ ردعيـة ،األمـر الذي ّ اجتماعيـة أخـرى كالقرابـة والمحسـوبية والرشـوة إلـى ثقافـة يتغـذى منهـا الغنـي قبـل الفقيـر ،وتقضـى بهـا مصالـح ذوي بالغش النفوذ ،فشهدنا معلّمين يوظفون ّ وتالميـذ يحـوزون النتائـج الممتـازة بالغـش ،وأصبحـت المنظومـة التربويـة ّ والتعليميـة فـي الجزائـر تعيـش لحظـة الوعـي المرتـد على نفسـه. ومـع ثـورة التكنولوجيـات الجديـدة، الغـش وآلياتـه تتضاعـف بـدأت وسـائط ّ وتتنوع وتتسع إلى الجامعة ،وتقاوم ما ّ اعتقـد أنهـا إصالحات تعلـن عنها الوزارة مرة ،غير أن هذه اإلصالحات َظّل في ّ كل ّ يتحكم فيها إرث من الوشائج مازال يشّد ّ الهوّية الجزائر إلى فرنسـا( )1ونزوع إلى ّ الناجزة المستوردة من المشرق .وفي ِظّل الغـش ،فـي هـذا الصـراع ،توالـت حـاالت ّ االمتحانات ،وأصبحت جزءًا من المنظومة الفكريـة لكثيـر مـن الجزائرييـن ،وبـات الغـش فـي االمتحـان مـن أجـل النجـاح، ّ الغـش فـي أو الوظيفـة ال يختلـف عـن ّ
ويتحـول اإلدارة والتجـارة والسياسـة. ّ تسـريب امتحانـات البكالوريـا فـي مايو/ أيـار 2016إلـى فضيحـة ،اعتقد أصحاب القـرار أنهـا تهديد لألمـن الوطني ووصمة عـار ،وفسـرها البعـض على أنهـا مؤامرة خارجيـة ،ولم تسـلم الوزيرة المحسـوبة على التيار الفرانكوفوني من االنتقادات، وتحميلها المسؤولية ،نتيجة اإلصالحات الغش التـي باشـرتها ،سـعي ًا إلـى إيقـاف ّ فـي التوظيـف ،وفـي االمتحانـات، ووجهـت أصابـع االتهـام إلـى األصوليين والمعربيـن ،ومـا يـدور خلفهـم من صراع علـى لغـة التعليـم وأولويـة لغـة أجنبيـة على لغة رسمية ،وأخرى وطنية أصبحت رسـمية ،وصـراع علـى النصـوص وعلى التأريـخ ،والـذي لـم يكـن سـوى صـراع مصالـح قوى سياسـية. تسهم وسائل اإلعالم والتكنولوجيات الغش الجديـدة ،اليـوم ،ليـس فـي تمريـر ّ فحسـب ،بـل فـي التعبيـر عـن الحالـة الراهنـة للتعليـم والثّقافـة فـي الجزائـر، للغـش وتمكيـن ال كثيـرة ّ يسـرت سـب ً فقـد ّ الطلبـة مـن تجـاوز الطـرق التقليديـة فـي التحايـل ،للحصـول علـى النجـاج، ونقلتهـم مـن اعتمـاد وسـائل تقليديـة يصرفـون فيهـا جهـد التحضيـر ،وجهـد اسـتعمالها أثنـاء االمتحـان ،إلـى اعتمـاد وسـائل مبتكرة توفرها التقنية ،وتسـّهل لهـم اإلجـراءات ،وتخفّـف اآلثـار النفسـية الغـش المرتبطـة باسـتعمالها .وإذا كان ّ
تبرر الوسـيلة». وهنـا يضطـر المتعلّـم إلـى اسـتعمال مـا ُيسـمى بالعنـف الوسـيلي قصـد ّ الغش فـي االمتحان؛ امتثـا ًال للمبـدأ« :الغاية ّ
الحّد من الظاهرة؛ (المرئية والمسموعة والمكتوبة) في التحسيس والتحذير من مغبة استعمال رابعاً :تسخير وسائل اإلعالم في َ الغش المدرسي. الوسائل التكنولوجية (األلواح الرقمية) السماعات والهواتف النقالة في ّ خامسـاً :تفعيـل دور المرشـد التربـوي والنفسـي واالجتماعـي فـي إعـداد المتعلّميـن نفسـي ًا لالمتحانـات وعلـى أسـلوب التعامـل المخصـص لالختبـار دون ارتبـاك... الصحيـح وتنظيـم الوقـت ّ
كل أشـكال التالعب سادسـاً :اإلجـراءات القانونيـة؛ كإصـدار نصـوص تشـريعية قانونيـة صارمـة مـع تفعيلها؛ وذلـك للقطع مع ّ يتعـرض للتهديـد والترهيـب مـن طـرف المتعلّم أو والـده أو أحد واالسـتهتار باالمتحـان ،باإلضافـة إلـى حمايـة األسـتاذ المراقـب الـذي ّ تورط في تسريب االمتحانات قبل موعدها ،للحفاظ على مبدأ تكافؤ الفرص .وأيض ًا معاقبة المدرسين أفراد أسرته .ومعاقبة ّ كل من َّ يزوده بطرائق ومنهجية يميزون بين صنفين من التالميـذ :الصنف األول ّ الذيـن ال يتحلّـون بأخالقيـات مهنـة التدريـس؛ خاصـة الذين ّ كل هذه االمتيازات التعامل مع االمتحانات بحكم تلقيه للدروس الخصوصية بالمقابل المادي .في حين أن الصنف الثاني محروم من ّ حتـى يجبرهـم على أخذ هذه الـدروس اإلضافية.
فـي االمتحانات ،في الدول المتقّدمةُ ،يعّد جنحة يعاقب عليها القانون بالسجن ودفع غرامـة ماليـة ،مـع بطلان مـا يحتمـل مـن نجـاح فـي المبـاراة أو االمتحـان المرتكـب فيـه الخـداع( )2فقد بـات الجزائري مقتنع ًا أنـه بوسـعه أن ينجـح أو يتقلّـد منصبـاً، بقليـل مـن الجهـد ،وبكثيـر مـن احترافيـة الغش ،وتمكن من اسـتعمال وسـائل فـي ّ التكنولوجيـات الجديـدة. وهـا نحـن أمام سـردية كبرى تشـتغل وتفـكك منظومـة القيـم كظاهـرة ثقافيـة، ّ اإليجابيـة ،وتعلـن عـن اسـتحالة تحقّـق المفكـر مالك بن نبـي التي جعلها معادلـة ِّ شـروط ًا للنهضـة الثّقافيـة ،وهـي ثالثيـة (اإلنسـان والوقت والتـراب) ،والتي تدعو اإلنسـان إلـى إمكانيـة تحسـين عالقتـه بطاقاتـه الداخليـة ،وأهمهـا العمـل، واستغالل عامل الوقت ،واإليمان بالتراب الـذي ينتمـي إليـه. الغـش إن تحريـر التلميـذ مـن آفـة ّ فـي الوقـت الحالـي تشـوبه معوقـات ،ال يمكـن أن تـزول ّإل بتضافـر ثالـوث العلـم والسياسة واألخالق ،ولكي يتم ذلك ال بد مـن تجاوز الوطنية الملتبسـة ،والقومية هوّيـة الملتبسـة ،التـي ال تكتفـي بتأكيـد ّ كانـت ذات يوم غيـر مكتملة ومقموعة()3 ويجب ترميمها بواسطة منظومة التربية والتعليـم؛ ألن اصطفـاف القائميـن علـى هوّيـة مرممة ،أي ًا كان هـذه المنظومـة مع ّ مصدرها ومسوغاتها ،سيتغذى حتم ًا على
الغش ،ويصبح آلية عنف وعنف مضاد، ّ من أجل تحقيق مقاصد نافعة بوسـيلة ال أخالقيـة تغتصـب فيهـا حقـوق اآلخرين، ويهـون علـى النـاس أمرها.. الغـش فـي االمتحانـات مجـرد ليـس ّ تعرض لضغوطات طفل من بريء سلوك ّ مـن أسـرته ،أو تحقيقـ ًا ألمنيـة أب فقيـر يريـد بأيـة وسـيلة أن يـرى ابنـه ذا مكانة فـي المجتمـع ،إنـه آلية مقنعة مـن آليات المؤسسة السياسية الهيمنة التي تمارسها ّ ومراكـز النفـوذ ،نتيجـة سـريان أنسـاق سـردية ،تاريخية وسياسـية متضاربة، تجـر يهـدف الذيـن يتخـذون منـه ورقـةّ ، الخالف ،وتوظف المدرسـة والتلميذ ،بل وتحولـه إلى شـيء أو المجتمـع بأسـره، ّ سـلعة ،تخفي صورة المجتمع المنسـجم اختفـاء كليـاّ ،إنـه انفصـام للوعـي الذاتي عن عالم األشياء( )4الذي تضمحل وراءه القيمـة الثّقافيـة للتربيـة والتعليـم .وهي قيمـة مرتبطـة ارتباطـ ًا وثيقـ ًا بالعالقـة المتبادلـة بيـن سـلوك الفـرد وأسـلوب الحيـاة فـي المجتمع ،وبما أن الثّقافة هي التعبير الحسـي عن عالقـة الفرد بالمجال ينمـي فيـه الروحـي Noosphèreالـذي ّ وجـوده النفسـي السـوي ،فإنه مـا إذا فقد التلميـذ والفـرد عامـة صلته بهـذا المجال، فـإن موتـه الثّقافـي حاصـل ال محالة(،)5 الغش ،وإذا ما عبر عنه بأسلوب ّ وهو ما ُي ّ كل أطياف المجتمع بدءًا طال هذا السلوك ّ من هرم السلطة ،فإن المجتمع يفقد شبكة
عالقاتـه القيميـة التـي تجعل منه مجتمع ًا لـه القابليـة لالسـتعمار ،واالسـتدمار الذاتـي ،ويصبـح سـلوك أفـراده في حكم العقـل الشـرطي الـذي حـّدده بافلـوف ،ال يستطيع توجيه فكره وعمله وفق طاقاته وباختيـاره ،طبقـ ًا لمقاييـس يحّددهـا الغـش عقلـه ويعيهـا ضميـره( )6وليـس ّ سـوى اسـتجابة لفقـدان العالقـة القيميـة الغـش والمعرفيـة ،فكيـف يمكـن محاربـة ّ الغش؟! فـي مجتمـع قائـم علـى ّ كان يمكن للتكنولوجيا أن تساعد على تنمية القدرات العلمية والكفاءات التعليمية لو استثمرت في المجتمعات التي ما تزال تحكمها القيم ،غير أنها اليوم تزيح الستار عن عيوب المجتمعات العربية. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش
- 1يراجـع إدوارد سـعيد ،الثّقافـة واإلمبريالـة ص .329 - 2جريـدة االتحـاد ،ملحـق بجريـدة االتحـاد، الغـش اإللكترونـي فـي االمتحانـات دبـي- ّ «وبـاء» يجتـاح مـدارس العالـم ،تاريـخ النشـر: األحد 17 يونيو/حزيـران .2012 http://www.alittihad.ae/details. .php?id=59000&y=2012 - 3الثّقافة واإلمبريالية ص .333 - 4يراجع إدوارد سعيد .326 - 5يراجع مالك بن نبي مشكلة الثّقافة ص .50 - 6يراجع وجهة العالم اإلسالمي ص .22 35
ّ غش أم أسلوب احتجاج؟ إنـــــــاء». «أن ُتعـلِّــــــم هو أن توقـــــد نـــــاراً ،وليـــس أن تمـــــأل ً مونـتـيـني
عبد السالم بنعبد العايل مـاض ال يتعلّـق األمـر بالّتباكـي علـى ٍ مجيـدّ ،إل أننـي مازلـت أذكـر النّظرة التي كنّـا ننظـر بهـا ،ونحـن تالميـذ األقسـام الثانويـة ،إلـى التلميـذ الـذي يضبطـه الغـش فـي غـش .كان ّ المعلّـم فـي حالـة ّ االمتحـان وقتهـا بمثابـة جريمـة حقيقيـة ُتثيـر اسـتياء الجميـع :اسـتياء المعلّـم وغضبه ،واسـتهزاء التالميذ ودهشـتهم، لكـن أيضـ ًا ندم المقترف ورغبته الجامحة الشـعور فـي أن يغيـب عـن األنظـار .هـذا ّ بالنّـدم هـو بالضبـط مـا لم نعـد نلفيه عند الغـش اليـوم عندمـا ينكشـف أصحـاب ّ الغش لم يعد يطرح بتات ًا أمرهم .ذلك أن ّ فـي مسـتوى أخالقـي .وال يقـف األمر عند كـون صاحبـه يعـّده «انتصـاراً» و«حقّـاً» من الحقوق ،ووسـيلة مشـروعة «ينتزع» عـن طريقهـا حقّـه فـي النّجاح ،المدرسـي واالجتماعي ،بل إن األمر يتعّدى ذلك إلى ما يجده الغشاش من تواطؤ عند زمالئه، بل ربما إلى ما قد يلمسه من مساندة حتى عنـد ذويـه وأهله. الغش في حكم النّادر من الحاالت، كان ّ ولـم يكـن ليصـدر ّإل عـن بعـض التالميـذ المعدوديـن علـى رؤوس األصابـع داخـل برمتها ،وهو لم يكن المؤسسة التعليمية ّ ّ يلحـق مـواد الدراسـة جميعهـا .أمـا اليـوم 36
تحـول إلـى ظاهـرة تتعـّدى فيبـدو أنـه قـد ّ األفـراد وتشـمل مـواد االمتحـان بأكملهـا، وهـي ظاهـرة جماعيـة ال تقتصر على فئة تخـص بلـدًا بذاتـه ،وإنما تكاد بعينهـا وال ّ تمتّد عبر العالم ،شـماله وجنوبه ،شرقه وغربه. ال يبـدو إذًا أن المقاربـة األخالقيـة مـا زالت كفيلة بمعالجة الظاهرة ومحاربتها، والظاهـر أن غضـب المعلِّـم واسـتهزاء الزمالء ،اللَذْين كانا يكفيان لزجر المتعلِّم وثنيه عن تكرار فعلته ،لم يعد لهما جدوى أمـام ذيـوع الظاهـرة و«عولمتهـا» ،بل إن الممتحنين في العمليـة أصبحـت تتم بيـن َ جو من المرح العام ،والّتشجيع المتبادل ّ على تحقيق «االنتصار» واجتياز االمتحان مهما كانت الوسـائل. تمكنت الظاهرة ،وسنّت لها طرقها لقد ّ كل ووسـائل اسـتمرارها وتأقلمهـا مـع ّ المسـتجدات .لـذا أصبحنـا نـرى أن أغلـب المتعلّميـن ُيولـون كبير االهتمام للتهييء الغش أكثر مما ينصرفون إلعداد لعمليات ّ دروسـهم .ال عجـب إذًا أن نلحـظ ،أيامـ ًا بيـل االمتحانـات ،ازدهـار نشـاط قليلـة ُق ْ تجـاري حقيقـي يهـدف إلـى أن يوفّـر المتنوعة، الغـش وسـائله للراغبيـن فـي ّ ّ ويمكنهـم مـن أنجـع األسـاليب وأضمنهـا ّ
الجتيـاز االمتحانـات .لـم يعـد األمـر ودسـها يقتصـر علـى استنسـاخ الـدروس ّ فـي الجيـوب (وليـس فـي العقـول وال في الصدور) ،وإنما صار يتخذ أشكا ًال ال تخلو مـن دالالت ،كأن يعمـل أصحـاب دكاكيـن صغرة اإلنترنـت علـى تصويـر الـدروس ُم ّ علـى شـكل أشـرطة ورقيـة أصبحت تباع حسب أطوالها ،بحيث يقتني التلميذ مترًا من دروس الفلسـفة ،وخمسين سنتيمترًا مـن دروس التاريخ ،وثالثين من دروس الجغرافيا ،وعشرين من دروس البالغة... عندمـا دخلـت الوسـائط الجديـدة علـى الخـط أخذنـا نلحـظ تفنّنـ ًا فـي أسـاليب الغش ،وتطويرًا البتكارات لم تكن لتخطر ّ على بال نظرًا لما تسمح به تلك الوسائط كل أشـكال مـن نقـل للمعلومـات يتحـّدى ّ الحراسـة ،ويختـرق جميـع الحواجـز، غير عابئ ال باحترام المعايير وال مراعاة الضوابط. لـذا أصبحنـا نلحـظ اتسـاع ًا مهـو ًال وتحـو ًال عميقـ ًا لدالالتها ،حيث للظاهـرة، ّ تمس قيمة االمتحانات ومصداقية لـم تعـد ّ الشـهادات فحسـب ،بل أصبحـت تمتد إلى الطعـن فـي مصداقيـة الـدول ورسـوخ الغش مؤسسـاتها .واألدهـى مـن ذلـك أن ّ ّ أصبـح يتغـذى علـى الفسـاد االجتماعـي العـام ،ولـم يعـد عمليـة يقترفهـا المتعلِّـم أثناء االمتحان وداخل الفصل ،بل أصبح يعنـي شـبكة معقـدة مـن الفاعليـن الذيـن يعملـون على «اقتناص» أسـئلة االمتحان وتسـريبها إلغـراء الممتحنيـن باقتنـاء األجوبة حتى قبل ولوج قاعات االمتحان. ال غرابـة إذًا أن تأخـذ كثيـر مـن الـدول المسـألة مأخـذًا جديـاً ،وأن تعمـل علـى مقاومـة هـذه الظاهـرة المسـتفحلة ،بـدءًا من إلغاء وسائط االتصال وإيقاف عملها، إلـى التشـّدد فـي طـرق الزجر التـي لم تعد تقتصـر علـى مجـرد حرمان المتعلّـم الذي الغش من المشـاركة في ثبتت عليه حالة ّ االمتحان عددًا من السنوات ،كي تبلغ حّد المطالبة بإيداعه السجن كما حدث مؤخرًا في البرلمـان المغربي. وهكـذا لـم تعـد المقاربـة البيداغوجيـة نفسها قادرة على إيجاد الحلول للمعضلة، ولم يعد اتهام المتمدرسين بالكسل وعدم القدرة على التحصيل ،وبكونهم ال يتوانون
عن اسـتخدام أي وسـيلة لبلـوغ أهدافهم، كافي ًا لفهم الظاهرة وال لمعالجتها ،بل إن البعـض لم يعد يوجـه أصابع االتهام إلى المتعلّمين أنفسهم ،وإنما أصبح يرى بأن المسـألة ال تتعلّـق أساسـ ًا بالمتمدرسـين «األبريـاء» ،مـا دمنـا ال نسـتطيع أن نزعم بأنهـم جميعهـم ال أخالقيـون وفـي جميـع أنحاء المعمورة ،منبه ًا أن الفساد التربوي ليـس ّإل امتـدادًا للفسـاد االجتماعـي .بـل إن هؤالء يذهبون حتى تبريء الوسـائط الجديـدة ،وهـم يـرون أن هذه الوسـائط، حتى وإن كانت تفتح األبواب أمام ِحيل ما ّ لتسـّهل طرق تلقّي المعلومة تنفك تتجّدد ُ تظـل مـع ذلك واالسـتفادة منهـاّ ،إل أنهـا ّ مجـرد وسـائط ،وهـي غيـر قـادرة علـى والغـش ،مـا لـم يتدخـل العنصر التحايـل ّ ليطوعها كيفما شـاء. البشـري ّ يوجه هؤالء أصابع ّ لكل هذه األسباب ّ االتهـام إلـى المنظومة التعليمية بكاملها، وليـس إلـى نظـام االمتحـان وحـده .وهم تجـر يـرون أن هـذه المنظومـة مـا تـزال ّ وراءهـا مفهومـ ًا عـن المعرفة ربمـا لم يعد لتطـور العصـر .ذلـك أن «المـادة مواكبـ ًا ّ المعرفية» في نظرهم ليست هي ما ينبغي قـدم اليـوم للمتعلّـم ،وال مـا يلزمه أن أن ُي َّ ويمتحـن فيـه .وال يمكـن عليـه حاسـب ُي ُ
للتعليم في عصر المعلوميات أن يستهدف وتحصيلا لهـا ،حتـى ال «نقلا للمعـارف» ً ً نقـول حفظهـا .فمهمتـه لـم تعـد تكمـن فـي «مـلء إنـاء» ،كمـا نـادى بذلـك مونتينـي غـداة ظهـور آلـة الطباعـة ،ولعلّها لم تعد تكمن حتى في «إيقاد نار» ،وربما يكفيها اليوم أن تقتصر على «إشعال فتيل» ،وها هي الشبكة قادرة على أن تتكفّل بالباقي. فباسـتطاعتها أن «تعالـج» المعلومـات وتحصلهـا وتحفظهـا وتخزنهـا وتبادلهـا ّ ّ وتسـتذكرها من غير أن تنسـاها ،مادامت الشـبكة ال تنسـى كما يقال. متعلّم اليوم مطالب باكتساب مهارات، وانتهـاج طـرق سـليمة فـي التفكيـر ،أكثر مما هو مطالب بجمع معلومات وتحصيل معرفة .إنه مطالب بالتفاعل مع المعلومة وليـس بتخزينهـا .ليـس غريبـاً ،والحالة هذهّ ،أل يعود يرى قيمة كبرى فيما يقّدم له من معلومات وما ُيطلب منه تحصيله، حـس بقيمـة العمليـة التعليميـة بـل ّأل ُي ّ و«خطورتها» ،وأن يستصغر ما كان ُيحاط باالمتحـان مـن ُقدسـية وهـول ،حيث كان عـز أو ُيهـان» ،فيسـتبيح لنفسـه «ي ّ المـرء ُ كل الطـرق ،حتـى تلـك التـي كانـت ُتعـّد ّ وغشـاً ،حيث لم إلى وقت قريب ،تدليسـ ًا ّ يكن يحظى بتكافؤ الفرص ّإل الذين «جّدوا
التحول واجتهـدوا» .وال غرابـة أن يتجلّى ّ العميـق لـ«العمليـة التعليميـة» بالضبـط كل فـي فتـرات االمتحانـات ،حيـث يقتنـع ّ الصيـغ المنخرطيـن فـي هـذه العمليـة أن ّ التقليديـة لتبليـغ المعلومـات وتناقلهـا، وأن كيفيـات التأكـد من قدرة المتعلّم على «نقـل التحصيـل ،ومـدى اسـتيعابه لمـا ُ كل هـذا إليـه» ،وكيفيـة تفاعلـه معـه ،أن ّ ربمـا لـم يعد متالئمـ ًا مع منجزات العصر. مـن الطبيعي ،والحالـة هذهّ ،أل ينظر متعلّمـو اليـوم إلـى االمتحـان ّإل كمجـرد معضلـة ينبغـي اجتيازها بشـتى الطرق، حتـى وإن اقتضـى األمـر خـرق القواعـد ولعـل هـذا هـو مـا وتجـاوز المحظـور. ّ سـمح لهـم ّ بأل يعودوا يـرون في العملية التعليميـة ذاتهـا قيمـة ينبغـي احترامهـا. على هذا النحو يبدو استسهال اللجوء إلى الغش نوع ًا من االحتجاج يوجهه أساليب ّ المتعلِّـم إلـى أسـاليب التدريس التي ُتنقل بهـا المعـارف وربما إلـى مضامين الثّقافة المتناقلـة ذاتهـا .فربمـا لـم يعـد متعلّمونـا يجدون أنفسـهم في هـذه الثّقافة ،ولعلّهم ال يتعرفـون فيهـا إلى ذواتهم ،وال يجدون فيهـا أجوبـة عـن األسـئلة الحقيقيـة التـي تعنيهـم ،والتـي مـا يفتـأ واقعهـم اليومـي يطرحها. 37
بروفيل
في طفولتها ،كانت ترتجف في أحاديثها ،ما جعلها تخشى مواجهة اآلخرين. ولم تكن يوم ًا تدري أنها ســتكون موضع األنظار ،ويتم تلقيبها بـ«فصيحة متفوقة بذلك ليس فقط على قريناتها ،ولكن على جنسها اآلخر. قطر»ّ ، مؤخــرًا من حصد المركز الثانــي في برنامج هــي القطريــة زينب المحمــود ،التي ّ تمكنت ّ وي َعّد األول من «فصاحة» ،الذي أطلقته ّ المؤسســة القطرية لإلعالم عبر تليفزيون قطرُ ، نوعه في العالم العربي ،حيث تبارى فيه حشــد كبير من الناطقين باللّغة العربية إلبراز فصاحتهم؛ وكان لـ«فصيحة قطر» نصيب من التألق في هذه المسابقة. في حديثها لـ«الدوحة» تكشف زينب المحمود المفردات التي أسهمت في تشكيل فصاحتها، وحقيقــة الصــورة الذهنية الســائدة عن كون الفصاحــة ِحكرًا على األدبــاء ،عالوة على وجهتها القادمة في صقل فصاحتها ،بعدما ذاع صيتها بين الفصحاء العرب.
حوار :طه عبدالرحمن (الدوحة)
فصيحة قطر «زينب المحمود»: الفصاحة ليست ِحكر ًا على األدباء ما هي المفردات التي أسهمت في تشكيل فصاحتك ،ما جعلك توصفين بـ«فصيحة قطر»؟ الفصاحة سهم الحرف في قلب المعنى،هكذا عرفنا الفصاحة وأصبحت ديدننا ومنوالنا ،في حياتي اللّغوية اتخذت القرآن الكريم مرجع ًا أساسي ًا لي ،والحديث النبوي الشريف ومخارج الحروف وعلم األصوات من الضروريات التي أستند إليها. وال أخفي أن لغتي العربية نمت وكبرت ونضجت ألنني أخذت جولة على العربية من عصورها الغابرة وحتى العصر الحالي ،حفظت الكثير من القديم والمخضرم والحديث والغريب والواضح والسهل والصعب ،وأستفيد من مخزوني كل على مشربه ،فأنا أزور اللّغوي ألوافق ّ ً مناطق قطر من الشمال إلى الجنوب، وأقوم بعمل ورش ومحاضرات بمفردات تتناسب وسكان المنطقة ،وهذا له أثر في جذب الجمهور وباعث لوصول المراد 38
وأحب المفردات والهدف الذي أصبو إليه، ُّ العصرية والتي تكون قريبة للذهن وتقبلها العاطفة.
وهل تعتقدين أن الفصاحة ظاهرة مكتسبة أم أنها موهبة يمكن تنميتها بصقل المعارف والعلوم واآلداب ؟
لماذا تسود لدى البعض صورة ذهنية بأن الفصاحة تقتصر على األدباء دون غيرهم؟
اهلل سبحانه وتعالى خلقنا متكافئين فيالخلقة ،متشابهين في جهاز النطق ،لكن تدخل عوامل تزيد من كفاءة هذا الجهاز الصوتي المخرجي عند اإلنسان ،يبدأ العمل على صقله وتهذيبه منذ الوالدة عن طريق ما يستمع من الكالم فيقلّد من حوله الذين هم أول مصدرين للغة اإلنسان ثم بقدر وكتابة ونطق ًا يصبح قراءة االهتمام باللّغة ً ً لدى اإلنسان مخزون كبير من المفردات التي َتّم تخزينها وبرمجتها بصورة صحيحة، ومن َثّم سيكون الخروج صحيح ًا سليم ًا وهو ما ُيسمى سالمة المخرج ،وفصاحة اللسان حسبما تدخل إلى الذاكرة من كالم، يتم إخراجه ،ولذا فلنحرص أن نعلّم الجيل منذ الصغر على النطق السليم والقراءة السليمة.
لألسف هناك صور ذهنية سائدة جعلتيتردد أو يتوقّف عن المضي قدم ًا اإلنسان َّ والتطور م التقد تحقيق ونحو نحو األفضل ُّ ُّ في أمور كثيرة ،فعندما يظن أن الفصاحة مقتصرة على األدباء يكبح جماح عقله ويصبح في عجز عن اإلتيان بما يحقّق السيادة والريادة للغة العربية وينتظر ذلك العهد الزاهر أو الزمن المجهول الذي يحصل فيه على شهادة أو خبرة ليمارس اللّغة ،لندرك تمام ًا أن اللّغة العربية نتاج وعي وثقافة ودراية ،فلو عدنا لصيدلية الرحمن وغرفنا من منهل اآليات والسور وصقّلت الستقام اللسان وتثقّف العقل ُ الجوارح.
هل تطل عليك من حين آلخر صورة زينب الصغيرة ،تلك الفتاة التي كانت
ترتجف في حديثها أمام قريناتها ،إلى أن أصبحت توصف بفصيحة وطنها حالياً؟
عل توصيفي بهذا اللقب جاء ليعلن هذا وَل ّ يتذوق الحصاد بعد نضجه ،ما يجعل العالم ّ ما وصلت إليه من فصاحة ،ويستأنس به ويتعرف إلى صاحبته ،التي لم تكن يوم ًا ّ تفكر بالظهور والنجومية .والحمد هلل أن قطر أثبتت أن العنصر النسائي شهد تفوق ًا متعددة في اآلونة األخيرة، في مجاالت ِّ تميزًا في المرأة ا أيض تشهد أن فمن الجميل ً ّ اللّغة العربية ،وهذا يعني أن المرأة في قطر صاحبة إنجاز وكفاح.
ومن بين هذه األحالم ،أن أترك بصمة مفعمة بالخير والتفاؤل واألمل في قلب كل إنسان ،ولحظات الضعف تعتري أي ّ شخص ،ولكن بعزيمة وإرادة يستطيع المرء اقتحام أسوار العراقيل التي تحول بينه وبين بلوغ المرام.
عطاء ال يتو ّقف
ال قفل ّإل سوف يفتح ،وال قيد ّإل سوفيفك ،وال بعيد ّإل سوف يقرب ،وال غائب مسمى ،كنت ّإل سوف يصل ،ولكن بأجل ّ أرتجف وأختبئ خلف األبواب واألسوار خشية مواجهة الناس وتجنُّب النظر إليهم ،هكذا زينب الصغيرة ،ولكني اليوم مختلفة ألني قررت في يوم من األيام أن أصبح أفضل وبصورة أحقّق فيها أمنياتها وأحالمها.
وما تفسيرك لهذا الصعود النسوي وتميزك على الرجال؟ في قطر ّ
التوفيق من اهلل سبحانه وتعالى ،فماال ساقه اهلل لي، حقّقته كان ّ حظ ًا جمي ً وأتوقّع ،بل متأكدة لو كان هناك رجل قطري مشارك في برنامج «فصاحة» ،الذي عرضه سيتفوق وبجدارة تليفزيون قطر أخيراً، ّ الصدارة وأتوقّع في الموسم وستكون له ّ القادم ستأتي مشاركة أفواج بشغف ورغبة. أما بالنسبة لحصولي على لقب «فصيحة ّ قطر» ،فقد كان حصادًا لغراس األمس ومحصول السنين الماضية ،وأنا سعيدة جدًا ألنّي امرأة بسيطة اجتهدت بقدر استطاعتي وبذلت قصارى جهدي إلعالء شأن اللّغة العربية في جميع المحافل وفي حياتي المهنية واألسرية.
هل يمكن القول إنك أخرجتي ما لديك من فصاحة؟ أم أن في جعبتك الكثير من الفصاحة؟ لدي الكثير ،وإن كان البرنامج كما ذكرت ّقد أفصح عن جانب من ثقافتي ّإل أنه في الوقت ذاته جعلني أشعر بالقصور في حق نفسي وُأعيد النظر في مخزون معرفتي ولتنوع ومهاراتي ووجدتها تحتاج لدعم ُّ ولسعة اطالع في شتى المجاالت. وكم يسعدني ما أضاف لي البرنامج في فترة وجيزة من العلم والخبرة، وأحرص على القراءة في األخبار والطب والرياضيات والتاريخ والنظريات والقضايا التي تمس الواقع المعيش؛ وهو ما كنت أحرص عليه في البرنامج ألستطيع اإلعداد للفقرات بما يتماشى مع معايير اللجنة وهدف ورؤية البرنامج. ولن أنسى المشاركين والذين كان لهم أبعد األثر ،فقد تعلّمت منهم ما لن أتعلّمه في حياتي ما حييت ،فقد كانوا منارة علم،
وشعلة من المبادئ والقيم ،ومهما أفصحت فلن توفي عباراتي لتسطر تلك اللحظات العامرة بتداول المعرفة والنقد وتبادل الرأي وروح اإلخاء والتعاون.
ما هي وجهتك المقبلة لالستفادة من فصاحتك؟ سأعطي ما يمكن إعطاؤه في مجال اللّغةالعربية ووفق إمكاناتي ليستفيد الجميع، فأنا كاتبة في إحدى الصحف القطرية، ولدي عمود أكتب فيه أسبوعياً ،وأحاول ّ من خالله تلخيص خبراتي في بعض المواقف وتوضيح بعض المبادئ وغرس القيم بلغة فصيحة قريبة من العقل والقلب. كما أنني مدرب معتمد للتنمية البشرية في مركز اإلنماء الفكري للتدريب واالستشارات وأخصائي برامج في أحد مراكز التأهيل االجتماعي ،وأقوم بعمل ورش وبرامج وفعاليات للجمهور ولمختلف الفئات. وسأسعى جاهدة إلى أن أثري أعمالي باستخدام اللّغة الفصيحة البليغة. وفي المجمل ،فإن تجربة برنامج «فصاحة» الذي خضته كان تجربة وانتهت ،تركت أثرًا كبيرًا على األبناء وأفراد العائلة واألصحاب والوسط المعيش ،حيث الشعور بأهمية اللّغة العربية واستخدام الكثير من األلفاظ تمت في جوالت واألطروحات التي ّ ال عن األسئلة المتعلّقة التحّدي ،فض ً التمكن منها ،فالغالبية باللّغة وكيفية ّ يطلبون التوجيه والنصح في تحسين مستوى اللّغة العربية ومعرفة جوانب الجمال والبالغة وسحر البيان. 39
دراسة
الفضائيات الدينية: في الحاجة إلى إصالح اإلعالم الديني
د .عبد السالم أندلويس
رئيس المركز المغربي للدراسـات واألبحاث في وسـائل اإلعالم واالتصال
التطور الهائل لتكنولوجيا أفرز ُّ اإلعالم واالتصال وسائط جديدة لتدفق المعلومات واألخبار ،سرعان تحولت إلى آليات وأسلحة جديدة ما ّ تقود المواجهة والصراعات بين األمم والشعوب ،وتفرز قوى تنظيمية جديدة مقابل األحزاب والنقابات التي لم التطور .أكثر من تستشعر بعد أهمية هذا ُّ ذلك؛ بات من الصعب جدًا على السلطة المركزية للدول غير الديموقراطية بسط نفوذها على عموم أقاليمها أمام ارتباط سكان هذه األقاليم بالوسائط الجديدة لتداول األخبار والمعلومات. ويعّد اإلعالم الديني امتدادًا طبيعي ًا ُ التطور التكنولوجي في اإلعالم لهذا ُّ لتطور هذا واالتصال ،ونتيجة حتمية ُّ القطاع إن على المستوى التقني أو االتجاه بفعل صعود النزعة الدينية التي برزت في السنوات األخيرة ،ولم تجد طريقها نحو تصريف خطاباتها على نطاق واسع؛ ّإل بعد حرب الخليج الثانية ،حيث سيظهر إلى الوجود عدد مهم من القنوات الفضائية العربية بعدما 40
كان اإلعالم الغربي في حرب الخليج األولى ،المصدر األساس والوحيد لتدفق المعلومات واألخبار. البين ،في عدد ولقد أفرز هذا التكاثر ّ الفضائيات والقنوات األرضية الدينية اإلسالمية ،عددًا من اإلشكاالت العلمية الدقيقة التي بدأت تسيطر على مخيلة وتفكير الباحثين في علوم اإلعالم عل من أهمها وأبرزها مدى واالتصالَ .ل ّ التأثير الذي بات يتهّدد الخصوصيات والمقومات الوطنية أمام تنامي أعداد مهمة من جمهور المتلقين نحو قنوات دينية أجنبية ،األمر الذي يشفع بالتساؤل تحرك هذا االتجاه، حول الخلفية التي ّ هل تعكس رغبة المجتمع في البحث عن ما يعتبره بعضه جودة مفقودة؟ وما هي قيمة الفاتورة التي يتكبدها هذا السبق في ومكونات األمة لهوية ّ مجال الفضائيات ّ الوطنية؟. وسعي ًا منا إلى بلوغ أهداف البحث والتحقّق من فرضياته ،اتبعنا في الكمية باعتمادنا على منهجيتنا المقاربة ّ
تقنية االستمارة ،وتبع ًا لذلك حرصنا عينة البحث ،عبر إجراء على تحديد ّ 200مقابلة مع المبحوثين باستعمال هذه التقنية ،على أن تكون متعّددة في تكوينها ،بحيث تشمل الذكور واإلناث، تغير السن ،حيث حّددناه ما كما راعينا ُم ّ بين 18و 40سنة ،والمستوى الدراسي.
والتطور المفهوم ّ يرى محمد بغداد( )1أن التيارات اإلسالمية إذا كانت أحيان ًا تبالغ في االعتماد على الممارسة اإلعالمية ،كأداة استراتيجية في إطار خطتها العامة، التي تريد من خاللها توسيع النفوذ على الفضاء االجتماعي ،تمهيدًا إلنجاز المتصورة ،فإن هذه التيارات مشاريعها ّ تصور شامل لمفهوم لم تكمل إنجاز ّ اإلعالم في َحّد ذاته ،وإن كانت أدبياتها متفقة على اإلطار المفاهيمي العام، والذي يمكن اإلشارة إليه ،وإلى داللته في هذا السياق ،دون أن يكون التوقُّف والتفرغ لمناقشته هدفنا اآلن ،ولذا عنده ُّ فإن مفهوم اإلعالم الذي تتبناه األدبيات الدينية ،هو أداة ووسيلة نقل مضامين الوحي المعصوم ،ووقائع الحياة البشرية المحكومة بشرع اهلل تعالى ،إلى الناس كافة. واإلعالم الديني في المفهوم العقدي اإلسالمي ومنطوقه ،حسب يونس إمغران( ،)2هو إعالم بالدين اإلسالمي، وليس بأي دين من األديان األخرى حرفة التي فقدت عصمتها منذ أن الم َّ ُ لحقها التحريف باإلضافة أو النقصان أو الحذف ..ومن َثّم ،فإن اإلعالم بالدين اإلسالمي -حسب القائمين به وعليه مقصود به الدين الذي ارتضاه اهللسبحانه للعالمين دين ًا ال يقبل سواه «وَم ْن َيْبَت ِغ َغْيَر اإلسالم ِدين ًا َفَل ْن ُيْقَب َل َ ْخ ِ اسِرين» (آل ِمْن ُه َو ُه َو ِفي ْال ِخَرِة ِم َن ال َ عمران.)3()85: بدأت الموجة األولى لإلعالم الديني نهاية التسعينيات بظهور عدد من الفضائيات المتخصصة في الشأن الديني .فكانت ّ قناة «اقرأ» هي أول من ظهر للوجود
وذلك عام 1998من قبل شركة راديو وتليفزيون العرب بتمويل سعودي كبير. بعدها ظهرت قناتا « الفجر» و«مجد» وكلتاهما بدأتا مرتبطتين بالتيارات األيديولوجية المختلفة المنتمية للتيار األصولي( .)4ووفق ًا لإلحصائيات التي قامت بها مجموعة المستشارين العرب Arab Advisors Groupوالتي تهتم والفّن وثقافة البوب ،فإن نسبة بالدين َ هذه القنوات الدينية ارتفعت إلى 60 ال عن وجود بالمئة عام ،2004فض ً ثماني قنوات إسالمية تبث عبر األقمار اإلقليمية أراب سات ونايل سات وست قنوات مسيحية تبث باللّغة العربية عبر الهوت بيرد األوروبي ،إضافة إلى زيادة عدد البرامج الدينية الحاضرة تقريب ًا على كل قناة عربية كبيرة(.)5 لقد شهدت نهاية التسعينيات من القرن الماضي ميالد موجة الفضائيات التي عززت المشهد اإلعالمي العربي ،وبقدر ّ التحكم ما حّدت هذه الموجة من وطأة ّ الذي كان يخضع له هذا المشهد من المؤسسات والحكومات ،بقدر ما أفرزت ّ وسائل وطرق ًا جديدة لتدفق منتوج إعالمي ظاهره إنتاج الرسائل اإلعالمية وباطنه األفكار واآلراء التي تستهدف في كثير من األحيان السيطرة على أفئدة وعقول الناس إن لم نقل تخديرها. وبات من الواضح استهداف الثوابت والخصوصيات الوطنية ،ومن َثّم تهديد وأسسها التي الدولة الوطنية ومقوماتها ّ انبنت عليها ،مما أثر على عملية التلقّي عند مواطني الدولة الوطنية ،والتي موجهة نحو فضائيات أجنبية. أصبحت ّ ضمن هذا السياق ،تقول المعطيات :إن عدد القنوات العربية ارتفع في السنوات قل من األخيرة ،إلى مئات الفضائياتَ ،أ ّ ربعها تقريب ًا ُيعنى بالشؤون الدينية، أما القنوات الحكومية فتبلغ فقط حوالي العشرة بالمئة منها فيما تبلغ القنوات ال الخاصة أكثر من ،)6( % 90فض ً عن أن 69بالمئة من الجمهور العربي يشاهدون الفضائيات يومي ًا لمدة أربع ساعات( .)7ومن الخطأ النظر إلى هذا التقدم التطور على أنه مظهر من مظاهر ُّ ُّ في مجال اإلعالم واالتصال ،إذ يجب أن ينظر إليه من ناحية أولى على أنه مظهر
من مظاهر العولمة االقتصادية وأداة من أدوات انتشار قيمها ،كما ينبغي النظر إليه كصناعة معلوماتية وجزء أصيل من السوق ،بدليل أن الغرب أنفق عام 2002 على األنشطة الثّقافية واإلعالمية حوالي 1200مليار دوالر ،أي ما يزيد على الدخل السنوي لـ 46بالمئة من فقراء العالم(.)8 ومن جهة ثانية يجب اإلقرار بكونه أدخل العالم وبصفة خاصة المنطقة العربية في خالفات سياسية وأخالقية وأيض ًا مالية وتنظيمية.
التي تكمن وراء هذه القدرة على إحكام السيطرة على العقول؛ بين القنوات سجل الفضائية وخصوصياتها .وقد ّ تطورًا عددي ًا المشهد اإلعالمي الديني ُّ يبينه الجدول اآلتي*: ملحوظاً ،كما ّ
السنة 2009 2010 2011 2012
العدد )*( 43 )*( 48 )*( 91 )*( 104
إن الحديث عن اإلعالم الديني وموجته الجديدة ال يمكن أن يكون بمعزل عن هذه الرؤية ،وهذا يجعلنا مطالبين بالوقوف عند عموم اإلشكاالت والظواهر التي يفرزها ،خاصة أنه أصبح قوة إعالمية له من السلطة والتأثير في عقول الناس وأفئدتهم ما يجعلهم في نهاية المطاف يتلقفون عددًا من الرسائل اإلعالمية التي سرعان ما يحولونها إلى أحكام ومواقف خون من يخالفها. وي ّ ُيمنع معارضتها ُ
(*) المصدر :التقارير السنوية حول وضع البث الفضائي العربي في المنطقة العربية وخارجها لسنوات 2010 ،2009 و.2011
وثمة العديد من االختالفات الكثيرة ّ
عل أهم ما نالحظه في الجدول أعاله وَل ّ 41
مجتمع
هو القفزة النوعية بين سنتي2010 و ،2011حيث أوشكت الفضائيات الدينية على مضاعفة العدد ( 48لسنة 2010مقابل 91لسنة .)9( )2011 التطور /االنفجار في ويالحظ أن هذا ُّ القنوات الدينية ظهر بعد موجة الربيع العربي ،كما يالحظ أن ِقلّة قليلة من هذه القنوات الكثيرة تعنى بالتعريف بالدين الحنيف ،وأكثرها تستعمل طرق ًا شتى لالنتشار ُتثار حولها أكثر من عالمة استفهام.
بتوجيه رسائل إعالمية مضادة تعكس وجهة النظر األخرى التي تتيح إفراز معاني معكوسة وتساهم في بلورة يظل رأي أو موقف سليم ،فهذا أمر ّ مستبعدًا عند منتوج خطابي يحتمي بسقف اإلعالم ،ويزعم لفئة شاسعة من جمهور المتلقين ،مزية احتكار «الحقيقة» وسلطة اشتراع تبليغها ،وهذا ديدنه وجوهره ،وهذا دوره ووظيفته أيضاً. فما يبلّغه هذا النوع من الخطاب ،ال يمثل منتوج ًا إعالمي ًا تتخلّله الرسائل اإلعالمية التي تقاس درجتها بوحدة قياس المعلومة ،بقدر ما يجسد خطاب ًا ديني ًا يصر على توجيه رسائله الدينية وفق مقاربة ال عالقة لها بفلسفة ومرجعية ما يؤطر الممارسة اإلعالمية، يؤسس لفلسفة اإلعالم هو فاألصل فيما ّ تدفق المعلومات في مختلف االتجاهات. يتصور تبليغه هذا النوع ومن َثّم فإن ما ّ من الخطاب هو «الحقيقة» وال شيء غيرها .ومن َثّم فهو يصر على احتكار ميدان الحقيقة وتملكها وإعادة تملكها قل على الدوام ،في مواجهة حقائق َأ ّ بالنسبة له ،أو ينبغي أن تبدو كذلك، والفّن ،وكلها هي حقائق العلم والمعرفة َ حقائق تنتمي لدولة اإلعالم ،ويشكل كل منها إحدى وسائله.
فما أحوجنا إلى فهم اتجاهات المشاهدين التزود بالمعلومات واألخبار من نحو ُّ مختلف القنوات األرضية والفضائية، العربية واألجنبية في عصر يتصف من جهة بثورة المعلومات ،ومن جهة ثانية يحبل باالضطرابات االجتماعية والسياسية المتواصلة.
إن العمل بهذه الرؤية عند هذا المستوى من الخطاب أمر مكفول لجمهور واسع من متلقّي المعلومة الدينية ،بل إنه حق مقّدس من حقوقه ،إنما تحت مؤسسة إعالمية أصلها ثابت منذ سقف ّ ُش ِّيد أول بيت هلل على وجه األرض، لها قوانينها الشرعية والفقهية التي المؤسسة يتوجب االمتثال لها .وهذه ّ ّ هي المسجد ،حيث األصل هو اإلنصات وتدبر آيات اهلل تعالى واحترام قوانينه بتجسيد فعل التلقّي دون أي سابق حق س الحصى .لكن؛ حينما حتى ولو في َم ّ مؤسسة مستوى من الخطاب ينتقل هذا ّ المسجد إلى مستوى الوسيلة اإلعالمية المفتوحة على العالم ،فيكون األصل في عملية التلقّي هو االحتراز ،ألن األصل يتحول من في تداول المعلومة الدينية ّ مستوى التلقّي العادي إلى المستوى االفتراضي الذي يجعل من مسألة تجاوز أهم وأبرز ُأسس اشتغاله. الحقيقة أحد ّ
وإذا كان الباحثون يعتبرون أن المشاهد للمادة اإلعالمية البصرية ما هو ّإل متلقّي ًا شأنه شأن بقية أصناف المتلقّين اآلخرين ،فإن تحليله في السنوات األخيرة لم يعّد يقتصر على هذا المفهوم أو على اعتباره «ظاهرة نفسية» ،بل الم ِ شاهد أصبح المفهوم يتسع ليصبح ُ ال ُموازي ًا ومهم ًا ُمراِقباً ،ومن َثّم حق ً للدارسين ،ومن َثّم نزوعه نحو مجموعة تتكون لديه وتحّدد من االتجاهات التي ّ نوعية المعلومات التي يريد تلقيها. وبقدر فهمنا التجاهاته تلك نستطيع أن نفهم حقيقة شخصه وطبعه وذاته والمعاني المستنبطة من المعلومات التي التزود بها. يريد ُّ
أسسة الم ّ ضرورة َ يستمد اإلعالم الشفاف قوة سلطته من رغبته في المساهمة في صناعة الحقيقة ،هذا يجعل منه سلطة معارضة لكل السلط( ،)10وهذه السلطة تتدفق منها الرسائل اإلعالمية نحو المتلقي، وفي كثير من األحيان ال يستطيع األخير التحاور مع المعاني المستنبطة من هذه الرسائل ،قد يتفاعل؛ ولكن أن يتحاور أسس ومبادئ الحوار الذي يقبل وفق ّ 42
ويحدث أن ترتقي الوسيلة اإلعالمية بنفسها إلى مستوى سلطوي ال مجال فيه لالعتقاد أو الترويج للحقيقة ،بقدر ما تكون الوجهة هي السيطرة على عقول الناس ،ما يجسد صحة وسالمة ما ذهب إليه العالم الكندي مارشال ماكلوهان حينما جعل من الوسيلة اإلعالمية رسالة في َحّد ذاتها ،وبقدرما تكون لديها القدرة على استقطاب جمهور المتلقّين ،بقدر تجسد مفهوم ًا سلطوي ًا جديدًا لفائدة ما ّ وسائل اإلعالم كي تمارسه .ففي هذه الحالة ال حقيقة تهم بقدر ما يهم هل تمكنت من إحداث وصلت الرسالة؟ ،وهل ّ فعل التأثير .ولذلك؛ كان البد من دراسة هذه الوسائل اإلعالمية دراسة نقدية كما فكر الفرنسي والم ِّ دعا إلى ذلك العالم ُ رجيس دوبريه.
توصيات وكْيف بكّم َ - 1االعتماد على دراسات تهتم َ وشكل ومضمون اإلعالم المرتبط بالدين. - 2اعتبار اإلسالم الديني أحد التخصصات اإلسالمية التي تحتاج إلى ّ التطوير لتكون الرسالة مالئمة لحاجيات الجمهور. - 3تفادي االستخدام السياسوي للدين عبر اإلعالم ،فذلك االستخدام يؤثِّر سلب ًا على الدين وعلى اإلعالم معاً. التحوالت - 4مراعاة تأثيرات ّ التكنولوجية في مجال اإلعالم واالتصال عن الخطاب الديني واإلعالمي واستثمارها لصالح االتجاه التنويري. - 5جعل المعالجة اإلعالمية للقضايا أسس المهنية الدينية تقوم على ّ وأخالقيات العمل اإلعالمي. - 6اعتبار مجال تناول الخطاب اإلعالمي المتخصصين وذوي للدين من مهمات ّ التأهيل صيانة للمصالح العليا لألمة. - 7اعتبار دور الصحافي إسهام ًا في تطوير حوار مثمر وإيجابي بين مختلف ومكوناته فئات وشرائح المجتمع ّ
اللّغوية والثّقافية والسياسية. - 8التوضيح الدائم للجمهور المتلقّي بفلسفة عمل اإلعالم واإلعالميين وحدوده حتى ال يقوم أحد بتشويه صورة اإلعالم عن طريق تحميله مسؤولية أحداث أو أعمال أو اتجاهات قد تسيء للمهنة، وكذلك لتوضيح بأن اإلعالم مهنة فإذا أخطأ البعض ،فهذا ال يقبل أي مسؤولية لآلخرين. - 9الدخول في مناقشات مفتوحة مع الشباب حول األفكار الغريبة على الدين الحنيف والتصّدي لها من خالل علماء وخبراء لهم مرجعيات دينية وعلمية وفكرية بتوافق مع العصر الحديث ومستجداته. - 10خلق آليات وطنية لإلشراف على أسس إدارة اإلعالم الديني بما يثبت ّ ومرتكزات وخصوصيات الدولة الوطنية ولتحقيق الرسالة السمحة للدين للنهوض باإلعالم الديني المقروء والمسموع والمرئي. - 11طرح بدائل إعالمية لمواجهة التحّديات التي تفرضها وسائط إعالمية دينية تتبنى مرجعيات دينية ذات طابع عالمي. - 12دعم وتشجيع المبادرات اإلعالمية التي تفصل ما بين رجل الدين والدين، وتقّدم للمتلقّي صورة سليمة عن رسالة اإلسالم السمحة. تقر البرلمانات العربية، - 13البد وأن ّ بل والجامعة العربية تشريعات وقواعد قانونية نتفق عليها لتكون أساس ًا نبني عليه في تعميق الممارسة اإلعالمية الفضائية واحترام اآلخر ،ومنع ما يسيء إلى األديان المختلفة ،بمعنى آخر البد من تحركات قانونية وقائية لتجفيف منابع تغذية هذه الفضائيات ،ألنها غير قادرة على الصمود وستنهار في حال توقّف الدعم المادي لها. - 14الدعوة إلى تأسيس هيئة خاصة بالفضائيات يكون لها تأثير عالمي، مختصة ،تضع األهداف والقوانين والمعايير الواضحة التي يجب على
كل ُم َّلك القنوات الفضائية السير على نهجها من خالل متابعة نوعية البرامج وأهدافها. - 15الدعوة إلى خوض تحركات عاجلة من دور اإلفتاء في مختلف أقطار الوطن العربي تقول بأن التحريض على اآلخر مرفوض ،ألنه ال يتفق مع طبيعة الرسالة المحمدية وال مع حقوق اإلنسان ،وال مع تغيرات العصر ،حيث تزداد المشكلة ُّ التعصب فكري ًا أو تعقيدًا حينما يكون ُّ متخفي ًا تحت ستار الدين .وفي المقابل البد أن تتصدى القنوات المسؤولة لمثل هذه الممارسات فتقّدم إعالم ًا وقائياً ،ال يتحول األمر إلى سجال دفاعياً ،كي ال ّ بين فئتين وعليها أن تنشر الوعي الديني بين الناس ،كما أنه البد من زيادة جرعة القيم في ساعات البث ،وتنشئة الناس على احترام القيم اإلنسانية والعقدية لكافة األديان ،حتى ال يصبح المشاهد فريسة لفضائيات الفتنة. - 16إحداث آليات للتواصل بمختلف المجالس العلمية يشرف على تدبيرها أطراف متخصصون خريجو معاهد وكليات اإلعالم واالتصال ،يجمعون ما بين التكوين الديني والممارسة الصحافية .في هذا اإلطار ،يالحظ، إشراف عدد من أساتذة مختلف أسالك التكوين على برامج دينية في غياب أي تكوين في مجال الصحافة واإلعالم. - 17إحداث فضائيات وطنية تعتمد أسس ومقومات الدولة الوطنية تكون ّ مرجع ًا ألي راغب في المعلومة الدينية كيف ما كان نوعها ،بل وتكون مرجع ًا للفصل في مختلف القضايا العالقة بأمور الدين .وال معنى في هذا الصدد ألي منبر إعالمي يتبنّى الخطاب الديني يجعل سكان الدولة الوطنية على ارتباط بمنابر ال تمت بصلة ألسس ومرتكزات الدولة الوطنية ووحدتها الترابية .وفي هذا اإلطار ،يوصي المؤتمر بإحداث قناة فضائية مغربية تكون بمثابة المرآة التي تعكس أنشطة المجلس العلمي األعلى. مؤسسات وكذلك األمر بالنسبة لمختلف ّ اإلفتاء العربية واإلسالمية. - 18إحداث تكوينات على مستوى
المتخصص اإلجازة المهنية والماستر ّ بالجامعات مفتوحة في وجه كل الراغبين في تقوية أدائهم اإلعالمي الديني.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش: - 1أستاذ بالمعهد اإلسالمي لتكوين اإلطارات الدينية تيزي وزو وبالتالغمة والية ميلة، وبجامعتي األمير عبد القادر بقسنطينة (- 1999 )2002ويحي فارس بالمدية (.)2013 - 2007 - 2باحث مغربي في اإلعالم والفكر اإلسالمي. - 3يونس إمغران« ،اإلعالم الديني واإلعالم اإلسالمي :وهم القطيعة ويقينية التمايز» ،أشغال المؤتمر الدولي السابع لصناعة اإلعالم واالتصال المنظم من ِقَب ِل المركز المغربي للدراسات ّ واألبحاث في وسائل اإلعالم واالتصال بشراكة مع جامعة عبد المالك السعدي ما بين 22و25 إبريل 2014بتطوان حول موضوع «جمهور الخطاب اإلعالمي الديني وإشكالية التلقّيَ ..م ْن وم ْن يستهلكها؟». ينتج المعاني َ - 4نهوند القادري عيسى« ،قراءة في ثقافة الفضائيات العربية الوقوف على تخوم التفكيك»، منشورات مركز دراسات الوحدة العربية ،ط الثانية ،2013 ،ص .133 - 5مرجع سابق. - 6خالد المعلم ،دراسة بعنوان «محاضرة عن والتطرف الديني» ،دراسة علمية الفضائيات ُّ ُألقيت خالصتها في الدورة السابعة لمؤتمر تطوان الدولي لصناعة اإلعالم واالتصال التي ُن ِّظَم ْت بتطوان ما بين 22/25إبريل .2014 « - 7الفضائيات وتأثيرها على مجتمعنا» ،مجلة بيان العدد ،189كما نشرت الدراسة على أكثر من موقع علمي ،للمزيد من المعطيات يمكن النقر على .https://saaid.net/bahoth/19.htm - 8نهوند القادري عيسى« ،قراءة في ثقافة الفضائيات العربية الوقوف على تخوم التفكيك»، منشورات مركز دراسات الوحدة العربية ،ط الثانية ،2013 ،ص .59 - 9ثريا السنوسي دراسة بعنوان «مالمح الفضاء االتصالي الديني العربي دراسة منوغرافية وتحليلية» ،مجلة اإلذاعات العربية ،وهي مجلة علمية فصلية تصدر عن اتحاد إذاعات الدول العربية ،العدد ،2009 ،3ص .10 - 10تعريف لألستاذ المرحوم محمد العربي المساري. 43
ملف
خروج بريطانيا وأبواب البريكست واسعة! َّ يتشـــكل االتِّحـــاد األوروبـــي دفعة واحـــدة ،كما ال لم يتّفق عاقـــان على انهياره دفعة واحـــدة .لكن تصويت البريطانيين لصالـــح الخروج من المجموعـــة األوروبية رســـم ،في نظر العديد مـــن المراقبين ،صـــورة تهاوي قطع الدومينو!. ً عـــادة -حول االنعكاســـات االقتصادية،يتم الحديث ّ ســـواء على بريطانيـــا نفســـها أو علـــى دول االتِّحاد عـــام ،أو حتى على األمـــم األخرى األوروبي ،بشـــكل ّ المرتبطـــة به ،مـــن قريـــب أو مـــن بعيد؛ وهـــذا أمر طبيعي نظـــر ًا لكون فكـــرة االتِّحاد ،منـــذ إرهاصاتها في خمســـينيات القـــرن الماضي ،كانـــت على قاعدة اقتصادية بالدرجـــة األولى ،كما توحـــي بذلك عناوين ُّ ّ التشـــكل؛ كتأســـيس الجماعة األوروبية محطات أهم ّ المؤسســـة االقتصادية ثم ، 1951 عام والصلب للفحـــم ّ تـــم اعتمادها األوروبيـــة ،بوصفهـــا أّول وحدة جمركية ّ عـــام ...1958وصـــو ً ال إلى معاهـــدة ماســـتريخ ()1992 وســـعت من المؤسســـة لالتِّحـــاد األوروبـــي ،والتي َّ ِّ بنود االتِّحـــاد لتشـــمل الجوانب :القضائيـــة ،واألمنية، والسياســـية ،بشـــكل أكثر تق ّدم ًا. ّ الملف مـــن وجهة نظـــر ثقافية وفكريـــة ،نطرح هـــذا الخـــاص حول خـــروج بريطانيـــا من البريكســـت ،وهو ّ الخروج الذي ســـيبقى لفترة -ربّما -لـــن تكون قصيرة المدى ،شـــاغ ً ال للنخبة السياســـية والنخبـــة الفكرية والرأي العام العالمـــي بكثير من التر ُّقـــب والتخمين.
في عام ،2005نشر مارك ليونارد كتاب ًا تحت عنوان« :لماذا ســوف تهيمن أوروبا على القرن الحادي والعشرين؟» .كانت لتوه، اللحظــة مواتيــة لمثل هذا الطــرح ،وكان االّتحاد األوروبي قــد بدأِّ ، توســع في تاريخه ،اســتقبل خاللها 10أعضاء ُجدد ،وراحت أكبر ّ عملية ُّ متحدة عناوين الصحف ِّ «هوية أوروبية» ،ونشوء «واليات َّ تبشر بانبثاق ّ ٍ بيانات اقتصادية وهمية، أقرت بأنها قد لفَّقــت أوروبيــة» ،بل إن اليونان َّ وهي في غمرة حماسها لالنضمام إلى االّتحاد النقدي األوروبي.
مارك ليونارد:
خروج بريطانيا قد يعني «موت أوروبا التي نعرفها» ترجمة :أنور الشامي
تبنّى ليونارد ً مختلفة نبرة تمام ًا ،فكتب يقول« :بالنسبة إلى االتّحاد األوروبي ،فإن خروج بريطانيا يعزِّز إمكانية تعرُّضه لدورة ُّ التفكك من
46
وفـــي هـــذا الكتـــاب ،عـــارض ليونـــارد الـــرأي الـــذي يقـــول إن عمـــا الصيـــن والهنـــد يمكنهمـــاّ ، ـوة قري ــب ،أن تفوق ــا أمي ــركا ،كق ـ ّ عالمي ــة .وكت ــب يق ــول« :إن تل ــك ال ــدول تعان ــي المش ــكالت نفس ــها المتحــدة التــي تواجههــا الواليــات ِّ دول قومية كبيرة األميركيــة :فهي ٌ أم ــا االّتح ــاد ف ــي عص ــر العولم ــةّ ، تحـــو ًال يخـــوض األوروبـــي فهـــو ُّ ـوة ،حت ــى ـ الق ـة ـ طبيع ثوري ـ ًا ف ــي ّ أنـــه اســـتطاع ،فـــي غضـــون 50 قـــارة، ً ســـنة ،فقـــط ،أن ُي ِّ حـــول ّ برمتهـــا ،مـــن حالـــة الحـــرب َّ الشــاملة إلــى حالــة الســام الدائم. ومــن خــال بنائــه شــبكة تربــط ُدولــه معـ ًا بســوق ومؤسســـات مشـــتركة وقانـــون دولـــي ،بـــد ًال مـــن َّ الدول ــة القومي ــة ذات البن ــاء الهرم ــي ،فإن ــه يض ــع القواعـــد الحاكمـــة للقـــرن الحـــادي والعشـــرين». في صباح الجمعة ( 24يونيو/حزيران،)2016 ، بع ــد وق ــت وجي ــز م ــن الصدم ــة الت ــي نجم ــت ع ــن تصويــت بريطانيــا للخــروج مــن االّتحــاد األوروبــي، تبّنــى ليونــارد نبــرة مختلفـ ًـة تمام ـاً ،فكتــب يقــول:
«بالنســبة إلى االّتحاد األوروبي، يعـــزز فـــإن خـــروج بريطانيـــا ِّ تعرضـــه لـــدورة مـــن إمكانيـــة ُّ دول أعضــاء، التفـ ُّـكك .وقــد تبــدأ ٌ ـا عــن مثــل بولنــدا والمجــر ،فضـ ً أح ــزاب معارض ــة ،مث ــل الجبه ــة الوطنيـــة التـــي تقودهـــا ماريـــن لوبــان (فــي فرنســا) ،وتحـ ُّـركات مماثلــة ...وإذا مــا ُأضيفــت أزمات أخــرى مثــل أزمــة اليــورو ،وأزمة (الشــنجن) ،ووصــول ترامــب إلى البيـــت األبيـــض فـــوق خـــروج ثمـــة خطـــرًا بريطانيـــا ،فـــإن ّ حقيقيــ ًا ُين ــذر باالنهي ــار». مؤرقـــة ،تابـــع بعـــد ليلـــة ِّ خاللهـــا ليونـــارد التصويـــت المحتـــدم ،يتحـــّدث مــارك ليونــارد مــع الصحافــي والكاتــب فــي مجّلــة ـص فــي تغطيــة الشــؤون « .»The Atlanticالمختـ ّ الدوليــة ،فــكان هــذا الحــوار الــذي يكشــف الخلل الذي أصــاب المشــروع األوروبــي ،والســبب وراء خــروج بريطانيــا ،والمســتقبل الــذي ينتظــر أوروبا ،وكيف ت ـّـم االنتق ــال ف ــي غض ــون 10س ــنوات ،فق ــط ،م ــن الق ــرن األوروب ــي إل ــى االنهي ــار األوروب ــي.
ـت * ي ــوري فريدم ــان :ف ــي ع ــام ،2005وضع ـ َ كتاب ـ ًا عنوان ــه «لم ــاذا س ــوف تهيم ــن أوروب ــا عل ــى ـت ب ــأن الق ــرن الح ــادي والعش ــرين» وفي ــه حاجج ـ َ ـارة األوروبيــة ،يمكنها القــوة الناعمــة الجماعيــة للقـ ّ أن تصب ــح أنموذجــ ًا للمس ــتقبل .فم ــا الخل ــل ال ــذي وق ــع؟ مــارك ليونــارد :بعــد عــام ،1989ومع ســقوطجــدار برليــن ونهايــة الحــرب البــاردة ،بــدأت حقبــة تاريخيـــة مذهلـــة ،كان نجـــاح األوروبييـــن هـــو محورهـــا .لقـــد ولَّـــدت شـــعورًا مفـــاده أن أوروبـــا تعيــد تشــكيل العالــم .وعندمــا تقــارن بيــن خارطــة أوروب ــا ف ــي الع ــام 1989م ــع خارط ــة أوروب ــا ف ــي ـت كتاب ــي ،فل ــن يك ــون الع ــام ،2005عندم ــا وضع ـ ُ بوس ــعك التع ـ ُّـرف إليه ــا؛ فق ــد نش ــأت دول كثي ــرة تحولــت بلــدان الكتلــة الســوفياتية إلى جديــدة ،فيمــا َّ وانضم ــت إل ــى االّتح ــاد الديموقراطي ــة الليبرالي ــة، َّ كل هـــذه الموجـــات األوروبـــي .وباإلضافـــة إلـــى ّ المختلف ــة م ــن البل ــدان الت ــي تنض ـ ّـم إل ــى االّتح ــاد األوروب ــي ،لدي ــك موج ــة أخ ــرى م ــن البل ــدان الت ــي يبــدو أنهــا اســتلهمت ذلــك ،كالثــورة البرتقاليــة فــي أوكراني ــا ،والث ــورة الوردي ــة ف ــي جورجي ــا .كان ــت الشــعوب تنــزل إلــى الشــوارع ،وتطرق بــاب االّتحاد األوروب ــي مطالب ـ ًـة ب ــأن ُيس ـ َـمح له ــا بالدخ ــول ،ث ـّـم لدي ــك -أيضــاً ،عل ــى الصعي ــد العالم ــي -مجموع ــة المؤسس ــات كان ــت قي ــد التش ـ ُّـكل ،وق ــد جدي ــدة م ــن َّ جســدت الطريقــة األوروبيــة فــي العمــل ،فــي عصــر َّ منظم ــة التج ــارة العالمي ــة م ــا بع ــد الس ــيادة ،مث ــل َّ وبروتوكــول كيوتــو والمحكمــة الجنائيــة الدوليــة. تغيــر ـت أن أوروبــا ِّ ّ أمــا الطريقــة الرابعــة التــي رأيـ ُ العالــم مــن خاللهــا فهــي أنهــا أطلقــت ،فــي المنطقــة، م ــا ُيس ـّـمى بحال ــة «تأثي ــر الدومين ــو» .كان ــت لدي ــك تتوح ــد معــاً ،وتس ــتعير أنم ــوذج مناط ــق أخ ــرى َّ وتج ُّمــع ـي، ـ اإلفريق ـاد ـ ح ت اال ـل ـ مث ـي: ـ االّتحــاد األوروب ّ َ قـــارة، وتج ُّمـــع الميركوســـور .فـــي ّ كل ّ اآلســـيانَ ، كان يبــدو أن هنــاك محاولــة إلنشــاء نــادي إقليمــي للدعــم ،وحتــى لــو كان ال يماثــل االّتحــاد األوروبي، ـل -يس ــتلهمه. فإن ــه -عل ــى األق ـ ّ إن تلـــك األشـــياء مجتمعـــة قـــد َولَّـــدت شـــعورًا بــأن أوروبــا تعيــد تشــكيل العالــم علــى صورتهــا، أم ــا ف ــي عال ــم ع ــام ،2016 ُ وتص ـ ِّـدر ِقَيمه ــا إلي ــهّ . ف ــإن أح ــد األش ــياء المقلق ــة أن معظ ــم األوروبيي ــن ـوده بات ــوا يش ــعرون ب ــأن العال ــم م ــن حوله ــم تس ـ ُ حولهـــم ،كمـــا الفوضـــى ،وأن العالـــم هـــو الـــذي ُي ِّ ـل ه ــو الح ــال م ــع االنتفاض ــات العربي ــة الت ــي تض ـ ّ طريقهــا؛ مــا يعنــي أن جيــران أوروبا ال يســتوردون الديموقراطيــة والقيــم األوروبيــة ،لكنهــم ُيصـ ِّـدرون المكونات الرئيســية لهــا الالجئيــن والفوضى .وأحد ّ ـرديتي الت ــي طرحته ــا ي ــدور ح ــول كي ــف أن ف ــي س ـ َّ
االّتح ــاد األوروب ــي كان يب ــدو ،عندئ ــذ ،أن ــه يعي ــد أمــا اآلن فــإن تركيــا هــي التــي ُتملــي تشــكيل تركيــاّ ، شــروطها فــي التبــادل التجــاري مــع أوروبــا ،عبــر تهديدهــا بإرســال الالجئيــن إلــى االّتحــاد األوروبــي. فاعليــة الكثير من تعطلــت وعلــى الصعيــد العالمــيَّ ، ّ أهمّية ذات أصبحت أنها المؤسســات التي كان يبدو ّ َّ كبيــرة؛ وذلــك بســبب التنافــس الجيوسياســي. أتنبــأ بــه ،فــي عــام ،2005 «إن الشــيء الــذي لــم َّ هـــو انهيـــار الديموقراطيـــة التمثيليـــة ،وهـــو أمـــر كل م ــكان». يح ــدث ،اآلن ،ف ــي ّ تغيـــرت الذهنيـــة األساســـية ومـــن ثَّـــم ،فقـــد َّ لألوروبييـــن .وبـــد ًال مـــن التفكيـــر فـــي االّتحـــاد ّ يغير أن يمكنه ا عالمي ا ـروع ـ مش ـه ـ بوصف ـي، األوروبـ ً ً ِّ أي أح ــد آخ ــر ،بدأن ــا نفك ــر ف ــي االّتح ــاد األوروب ــي ّ ـش واس ــتثنائي يحت ــاج َم ــن عل ــى أن ــه مش ــروع ه ـ ّ يداف ــع عن ــه ،ويحمي ــه ِم ــن اآلخري ــن .وق ــد ج ــاءت ه ــذه التغيي ــرات ف ــي البيئ ــة الخارجي ــة ،ف ــي وق ــت دول كثي ــرة ،داخليــاً ،واقع ــة تح ــت كان ــت ُتوج ــد ٌ وط ــأة ضغ ــوط اقتصادي ــة كبي ــرة بس ــبب األزم ــة االقتصادي ــة األوروبي ــة ،بم ــا ف ــي ذل ــك بريطاني ــا التــي تضـّـررت ،بشـّدة ،من األزمــة المالية العالمية، تقش ــفية ج ـّـراء ذل ــك. وأعلن ــت ميزاني ــة حكومي ــة ُّ وأحـــد اآلثـــار األخـــرى لمـــا حـــدث عـــام ،1989 ولتوســع االّتحــاد األوروبــي ،هــو أن تســتقبل هــذه ُّ التدفُّق ــات الكبي ــرة م ــن الن ــاس .وه ــذه ه ــي طريق ــة أخــرى ،يــرى النــاس ،مــن خاللها ،أن الخــارج يقوم ّي ــات ف ــي بتش ــكيلهم ،وأنه ــم س ــوف يصبح ــون أقلّ بلدانه ــم ،وأن هن ــاك أش ــخاص ًا يدخل ــون بلدانه ــم، ويغيــرون طبيعتهــا؛ وهــذا هــو أحــد الشــعارات التي ِّ ـردد هنــا« :أريــد اســترداد بلــدي». تتـ ّ توجهــات إن بعــض هــذه التوجهــات هــي مجـ َّـرد ُّ ُّ تتخــذ قــرارًا مثــل القــرار الذي دوريــة ،ولكنــك عندمــا َّ َّاتخــذه الناخبــون البريطانيــون أمــس ،يصبــح مــن ـول هــذه الدورية، العســير جـّدًا أن تنقضــه .وقــد تتحـ َّ ـــم ت إذا هيكليـــة، تغيـــرات َ بســـهولة كبيـــرة ،إلـــى ُّ ّ حفظهــا مــن خــال اســتفتاء. وهــا نحــن نــرى جميــع النخــب ،فــي جميــع بلــدان المتقدمــة ،تمـ ُّـر بهــذه األزمة .ففــي دول كثيرة العالــم ِّ المتح ــدة األميركي ــة ،حي ــث يوج ــد مث ــل الوالي ــات ِّ دونالــد ترامــب ،األزمــة قيــد االحتــواء إلــى َحـ ٍّـد مــا، االتحــاد األوروبــي، المتحــدة وفــي ِّ أمــا فــي المملكــة َّ َّ ـا -ف ــي ونظ ــرًا لتراب ــط دول ــه ،فإنه ــا ق ــد تب ــدأ -فع ـ ً تقويـــض االّتحـــاد األوروبـــي .وهـــذه هـــي إحـــدى المخاط ــر الماثل ــة ،فق ــد أصبحن ــا ،وبع ــد دورة م ــن االندم ــاج والتف ــاؤل ،ف ــي خض ـّـم دورة م ــن التف ـ ُّـكك والتشــاؤم ،وهــذه األشــياء يمكنهــا أن تعـ ِّـزز نفســها بنفســها.
معظم األوروبيين باتوا يشعرون بأن العالم من حولهم تسو ُده الفوضى ،وأن العالم هو الذي يُح ِّولهم
47
ما يحدث ،اآلن، هو أن لدينا ق ّوة مضا ّدة ومؤثِّرة تجعل الناس يقولون: «أوقفوا هذا العالم ،نريد النزول منه. نريد العودة إلى الثوابت السابقة»
48
* فريدمـــان :مـــاذا يعنـــي التصويـــت بخـــروج أي مدى بريطانيــا لمســتقبل االّتحاد األوروبــي؟ وإلى ّ ينبغــي رؤيــة مــا حــدث ،من منظــور أن «بريطانيا لم ـط -فــي االّتحــاد النقــدي األوروبــي ،وأنهــا تندمــجَ ،قـ ّ التحف ــظ إزاء االّتح ــاد كان ــت ،دائمــاً ،تحم ــل بع ــض ُّ األوروب ــي ،وأن ه ــذا الخ ــروج كان أم ــرًا محتومــاً»، فــي مقابــل رؤيــة مــا حــدث مــن منظــور أن المشــروع األوروبــي نفســه قــد بــات ُمهـ َّـددًا فــي صميــم وجــوده؟ ليونـــارد :االّتحـــاد األوروبـــي لـــن يتالشـــى،العـــدوى؛ أي أن ّ لكـــن هنـــاك خطريـــنَّ : األول هـــو َ دوامــة مــن التفـ ُّـكك ،مــع لجوء ـت ـ التصوي ـذا ـ ه ـق يطلـ ّ دول أخــرى لمحــاكاة هــذه اإلجــراءات .وألنــه يأتــي ـرة ،عقــب أزمــات كبيــرة يواجههــا األوروبيون مباشـ ً (مثــل مــا تبّقــى مــن أزمــة اليــورو وأزمــة الالجئين)، ـا -تحــت وطــأة ـع -فعـ ً ـاء واقـ ٌ فإنــه يصبــح لديــك بنـ ٌ الضغــوط؛ ولذلــك ،يقــول النــاس« :أوقفــوا العالــم، نريــد النــزول .نريــد العــودة إلــى الثوابــت الســابقة». يتعل ــق بم ــوت أوروب ــا أم ــا الخط ــر اآلخ ــر فه ــو َّ التــي نعرفهــا ،وذلــك مــا كان كتابي يتمحــور حوله. كان يــدور حــول أن أوروبــا يمكنها أن تتطلّع -فعالً- ألن تصبــح ذات تأثيــر فــي الطريقــة التــي يتـّـم بهــا تنظي ــم العال ــم .س ــيكون ل ــك ص ــوت أوروب ــي إل ــى جانــب القــوى العظمــى األخــرى ،وهــذا أمــر يصعــب ـون بريطان ــي ف ــي القي ــام ب ــه إذا ل ــم يك ــن لدي ــك مك ـ ّ المشــروع األوروبــي؛ ألن بريطانيــا هي إحدى الدول التــي تأخــذ السياســة الخارجيــة علــى محمــل الجـّد، والت ــي كان ــت لديه ــا رؤي ــة أكث ــر عالمي ـ ًـة ،وتمتل ــك طموحـ ًا مــا لتشــكيل األشــياء .إن أوروبــا ،مــن دون ـل قــدرة ربمــا -أقـّ بريطانيــا ،هــي أفقــر وأصغــر ،وَّ - علــى تأديــه مثــل هــذا الــدور. * فريدمــان :كيــف تصــف هــذه اللحظــة فــي تاريخ أوروبــا الحديث؟ ـادة .كان ليون ــارد :إنه ــا لحظ ــة الث ــورة المض ـ ّكتاب ــي -ف ــي األس ــاس -يق ـ ِّـدم وصف ـ ًا للث ــورة الت ــي غي ــرت طريق ــة تنظي ــم الس ــلطة والسياس ــة .إن ــه َّ تعبيـــر عـــن هـــذا الطمـــوح الثـــوري ،حيـــث كانـــت قواني ــن العالق ــات الدولي ــة ُتع ــاد كتابته ــا. مضـــادة قـــوة ّ مـــا يحـــدث ،اآلن ،هـــو أن لدينـــا ّ ومؤثِّـــرة تجعـــل النـــاس يقولـــون« :أوقفـــوا هـــذا العالـــم ،نريـــد النـــزول منـــه .نريـــد العـــودة إلـــى الثواب ــت الس ــابقة» .إنه ــم يتبّن ــون لغ ــة االس ــتقالل ال لغـــة الترابـــط .إنهـــم يحاولـــون النكـــوص عـــن التغييـــرات العميقـــة التـــي أحدثهـــا المشـــروع األوروبـــي ،منـــذ نهايـــة الحـــرب البـــاردة. ـت بق ــاء بريطاني ــا ف ــي االّتح ــاد * فريدم ــان :دعم ـ َ األوروب ــي ،ألي ــس كذل ــك؟ -ليونارد :نعم.
* فريدمــان :هــل أنــت بريطانــي أم أوروبــي؟ ومــا المتحــدة ،وأوروبا؟ لهويتــك ضمــن المملكــة َّ رؤيتــك َّ أمـــي ليونـــارد :أنـــا أوروبـــي حتـــى النخـــاعّ :تتحـ َّـدر مــن عائلــة يهوديــة ألمانيــةُ ،ولـَـدت فــي مخبأ ف ــي فرنس ــا ،ع ــام ،1944ث ـ ّـم ع ــادت إل ــى ألماني ــا وأمه ــا ،فيم ــا بق ــي أبوه ــا ع ــام 1950رفق ـ َـة أخته ــا ّ أمــا أبــي فهــو بريطانــي ،إال أن حياتــه فــي فرنســاّ . َّ ـم ـ ت ـد ـ فق ً؛ ا ـ أيض ـة ـ األوروبي ـة ـ بالتجرب تأثــرت كثيــرًا َ َّ إجــاؤه ،وهــو فــي الثامنــة مــن عمره ،حيــث انفصل عــن أبويــه خــال القصــف األلمانــي ،وكان والــده قــد حــارب فــي الحــرب العالميــة األولــى ،ومــات اختناق ًا بالغ ــاز ف ــي الخن ــادق .وكان ــت رؤيت ــه تتماش ــى- أم ــا أن ــا إل ــى َحــّد كبي ــر -م ــع المعايي ــر األوروبي ــةّ . فق ــد عش ــت 12س ــنة م ــن طفولت ــي ف ــي بروكس ــل. ـوي ج ـّداً ،ش ـ َّـكَلْته األح ــداث ـدي ت ــراث أوروب ــي ق ـ ّ ل ـ َّ التاريخيــة الكبــرى ،فــي القــرن العشــرين. لكننـــي -أيضـــاً -أشـــعر بارتيـــاح كبيـــر فـــي أفك ــر ف ــي بريطاني ــا ،وق ــد أمضي ــت وقتــ ًا طوي ـ ً ـا ِّ والهوي ــة البريطاني ــة ،وأح ــاول معن ــى بريطاني ــا ّ فهـــم هـــذا المزيـــج الغريـــب فـــي كونهـــا جزيـــرة، لكنه ــا ،م ــع ذل ــك ،تمتل ــك رؤي ــة عالمي ــة للعال ــم، بقي ــة دول العال ــم ،وتحتف ــظ ولديه ــا عالق ــات م ــع ّ الهويــة البريطانيــة، ـي ـ ف ـة ـ بســمات الثوريــة الصامت ّ هجن ــة الم َّ والهجن ــة؛ أي ّ وم ــن بينه ــا اإلب ــداع ُ األم ــة ُ التــي أصبحتهــا بريطانيــا .وهــذه -فــي رأيــي -مــن بيــن أشــياء أخــرى كانــت موضــع ســجال فــي هــذا االس ــتفتاء. خلفيتـــك األســـرية، * فريدمـــان :فـــي ضـــوء َّ وعمل ــك الس ــابق ،م ــا ال ــذي يعني ــه ه ــذا التصوي ــت لــك شــخصياً؟ كيــف كان شــعورك عندمــا اســتيقظت ذل ــك الصب ــاح؟ ليونـــارد :حســـناً ،أنـــا لـــم أســـتيقظ؛ ألنـــيســهرت طــوال الليــل .لقــد َّ مثــل لــي صدمــة حقيقيــة ألن االســتفتاء أظهــر حـّدة االنقســام فــي بريطانيــا. صوتوا إنــه اســتفتاء متقــارب للغايــة 52 :فــي المئة َّ للخ ــروج م ــن االّتح ــاد األوروب ــي ،و 48ف ــي المئ ــة صوتــوا للبقــاء .وقــد تحـ َّـدث النــاس بأنــه قــد برهــن َّ عل ــى أن ــه ل ــم تع ــد هن ــاك دول ــة واح ــدة بع ــد اآلن: المؤيديـــن للبقـــاء( ،)Remainiaوبلـــد لديـــك بلـــد ِّ المؤيديــن للخــروج ( ،)Leaviaلديك بلد جو كوكس ِّ المؤيـــدة للبقـــاء التـــي ُقِتلـــت)، (نائبـــة البرلمـــان ِّ المؤيـــد للخـــروج) .وإذا ونايجـــل فـــاراج (الزعيـــم ِّ ـوت ـ ص ـد ـ فق ـدن، ـ لن ـي ـ ف ـش ـرت إل ــى حي ــث أعي ـ َّ نظ ـ َ أمــا إذا ـاء. ـ البق ـح ـ لصال ـن ـ الناخبي ـن ـ م ـة ـ المئ ـي 80فـ ّ قصــدت األحيــاء األخــرى ،علــى الســاحل الجنوبــي أو فــي المــدن مــا بعــد الصناعيــة الواقعــة فــي شــمال إنجــــــــلترا ،فســــــوف تجد نتائج عكســــــية.
ـي واضــح؛ فقــد وهنــاك -أيضـاً -اســتقطاب جيلـ ّ ـل أعمارهــم ممــن تقـّ صـ َّ ـوت ثالثــة أربــاع الشــبابَّ ، عــن 25عامـاً ،لصالــح البقــاء ،وكانــت تلــك صــورة معكوســـة ،تقريبـــاً ،لهـــؤالء الذيـــن يتجـــاوزون 75عامــاً .لق ــد أصب ــح لدي ــك انقس ــام عمي ــق بي ــن ـردية طريقتْي ــن َ َ مختلفتي ــن ف ــي التفكي ــر بش ــأن الس ـ ّ الوطني ــة. ّ «لــم يعـّد هنــاك بلــد واحــد بعــد اآلن .أصبح لديك مؤيدون للخروج». مؤيــدون للبقاء ،وآخرون ِّ ِّ * فريدمـــان :مـــا الـــذي يعنيـــه ذلـــك لمســـتقبل المتحــدة؟ أيرلنــدا الشــمالية ســوف يصبــح المملكــة َّ لهــا ،اآلن ،حــدود مشــتركة مــع إحــدى دول االّتحــاد أما إســكتلندا، األوروبــي ،وهــي جمهوريــة أيرلنــداّ ، ـوت أكثريــة مواطنيهــا لمصلحــة البقــاء فــي التــي صـ َّ االّتح ــاد األوروب ــي ،فه ــي -عل ــى األرج ــح -س ــوف اســـتفتاء جديـــدًا لالســـتقالل عـــن المملكـــة تنظـــم ِّ ً المتحــدة ،فيمــا تريــد إســبانيا ،اآلن ،الســيطرة على ِّ جبــل طــارق .فهــل كان ذلــك ،بطريقــة مــا ،تصويتـ ًا علــى تفكيــك بريطانيــا العظمــى؟ ليونــارد :آمــل ّأل يكــون ذلــك هــو مــا ســيحدثبعــد الخــروج ،لكــن حدوثــه ِّ يمثــل خطــرًا حقيقيـاً. * فريدم ــان :ف ــي رأي ــك ،م ــا ال ــذي جع ــل الكّف ــة تميــل لصالــح خيار الخــروج؟ بعض النــاس يقولون إن األمـــر كلّـــه ُيعـــزى إلـــى االقتصـــاد ،فيمـــا يـــرى برمته ــاُ ،تع ــزى إل ــى بعضه ــم اآلخ ــر أن المس ــألةَّ ، الهج ــرة .ف ــي رأي ــك م ــا ه ــو العام ــل الحاس ــم؟ ليونــارد :كانــت الهجرة هي القضية الحاســمة،مما كانت ال أقـّ وكذلــك الســيادة منحــت شــك ً ـل تجريــدًا ّ عليــه بكثيــر -وذلــك فــي وجــود فكــرة أنــك عندمــا التنقــل حرّيــة ُّ تكــون فــي االّتحــاد األوروبــي ،حيــث ّ مكفول ــة ،فإن ــه لي ــس باس ــتطاعتك أن تحــّدد َم ــن يأتــي للعيــش فــي بلــدك ،بعــد اآلن.
إن إحـــدى مشـــكالت الهجـــرة هـــي أنهـــا ،رغـــم فوائده ــا اإلجمالي ــة عل ــى االقتص ــاد ،ورغ ــم األدّل ــة الكثيـــرة علـــى أن األشـــخاص الذيـــن يفـــدون مـــن الخــارج يدفعــون ضرائب تفوق ،في قيمتها ،الفوائد يتحصلــون عليهــا بكثيــر ،فــإن هــذه الفوائــد ال التــي َّ يتـّـم توزيعهــا بشــكل عــادل .فهنــاك خاســرون ،كمــا هنــاك فائــزون .إذا كان هنــاك أنــاس كثيرون يفدون إل ــى األحي ــاء ،دون أن تع ــرف َم ــن يذه ــب ،وإل ــى ّي ــة أي ــن ،ودون أن ُتق ـ َّـدم الم ــوارد للس ــلطات المحلّ لضمــان أن لديهــا مــا يكفــي مــن المــال لبنــاء المدارس والمستشـــفيات ،فـــإن ذلـــك يولِّـــد ضغطـــ ًا علـــى العام ــة وعل ــى أس ــعار المن ــازل ،ويمك ــن الخدم ــات ّ يولــد ضغطـ ًا علــى األجــور في بعــض القطاعات، أن ِّ المهمش ــون وه ــذا ه ــو م ــا ح ــدث .إنه ــم الناخب ــون َّ أي النخــب .وهــم ال يثقــون فــي ّ الذيــن انتفضــوا ضـّد َ أحــد يلقــون عليــه باللــوم فــي خلــق هــذه األوضــاع. ـوي للغاية، ثمــة أوجــه تشــابه قـ ّ وبطريقــة مــا ،فــإن ّ المتح ــدة. م ــع صع ــود ترام ــب ف ــي الوالي ــات َّ * فريدمــان :إذا كان لــك أن تحـّدد الســبب الرئيــس المباش ــر للنتيج ــة الت ــي آل إليه ــا التصوي ــت ،فه ــل ه ــي األزم ــة المالي ــة ع ــام ،2008أم تراه ــا موج ــة الهجــرة الحاليــة إلــى أوروبــا ،أم هــي أزمــة الديــون األوروبي ــة؟ ليونـــارد :أعتقـــد أنـــه كان مزيجـــ ًا مـــن عـــّدةتوسع االّتحاد األوروبي، أشياء .ولكني أرىَّ - أوالًُّ - وحقيق ــة أن دو ًال أخ ــرى ل ــم تفت ــح حدوده ــا ،مم ــا جعــل أعــدادًا كبيــرة مــن النــاس يّتجهــون إلــى المملكة المتحــدة مســتعّدة لذلك. المتحــدة ،ولــم تكــن المملكــة َّ َّ أســـهمت األزمـــة الماليـــة عـــام - 2008ثانيـــاً -فـــي مفاقم ــة ذل ــك ،فأصب ــح لدي ــك سياس ــات تقش ــفية عام ــة يت ـّـم إيقافه ــا ،وراح يت ـّـم تطبيقه ــا ،وخدم ــات ّ النــاس يلقــون باللــوم علــى الهجــرة ال علــى التدابيــر التقشــفية التــي َّاتخذتهــا الحكومــة. ُّ
راح الناس يلقون باللوم على الهجرة ال على التدابير ُّ التقشفية التي اتَّخذتها الحكومة
49
َّ المثقفون الفرنسيون ّ كل واحد يُغنّي أوروبّاه!
ابتدأت الردود بين اإلنتلجنســيا الفرنســية ،مع ظهور بيان ،في صحيفة لوفيغارو ،اليمينية، وقّــع عليــه عشــرون مثقّف ًا وسياســي ًا فرنســي ًا منهم السياســي والوزير الســابق جــان -بيير شوفنمان والفيلسوف ميشيل أونفراي وبول تيبود وغيوم بيغوت وكلود ريفيل وناتاشا بولوني وغيرهم. جدي ًا للبناء األوروبي على قواعد جديدة. ويطالب البيان بميثاق جديد لالتحاد األوروبي ،أي توجيه ًا ّ ُ
محمد املزديوي (باريس)
من الطبيعي العثور على أصوات ،من مختلف شرائح المجتمع الفرنسي، تتفهم الموقف ب البريطاني (ر ُ ّ ضارة نافعة!) وتطالب بتغيير مسار االتحاد
50
أصبـــح الساســـة األوروبيـــون ،بعـــد الصفعـــة البريطانيــة (بريكســت) ،واعيــن بأنــه يجــب عليهــم وملحـــة إلقنـــاع مواطنيهـــم بـــذل جهـــود إضافيـــة ّ باســتمرارية الحلــم األوروبــي .إذ للقــرار البريطانــي مـــا بعـــده ،بالتأكيـــد .ولهـــذا فالجميـــع ،ساســـة ومفكرون ومواطنونُ ،يجمعون على أن المواطنين ِّ القرارات ذ ـ خ ت ت ـف ـ كي ـون ـ يعرف ال ـن ـ الذي ـن، ـ األوروبيي ّ ُ ُ ُ األوروبيـــة ،حقيقـــة ،فـــي كواليـــس المجلـــس األوروبـــي والمفوضيـــة األوروبيـــة والبرلمـــان األوروب ــي ،يحتاج ــون إل ــى ش ــفافية أكب ــر ،وم ــن ـــم إلـــى طريقـــة جديـــدة فـــي ممارســـة السياســـة َث ّ األوروبيـــة ،أي إلـــى ديموقراطيـــة أكبـــر. وكم ــا ه ــو الش ــأن ف ــي كل البل ــدان األوروبي ــة، وحـــد يصعـــب العثـــور فـــي فرنســـا علـــى موقـــف ُم ّ م ــن االتح ــاد األوروب ــي .إذ رغ ــم أن فك ــرة «أوروب ــا موحـــدة وقويـــة ومســـتقرة ومزدهـــرة» فـــي زمـــن ّ ـورات عنهــا تختلــف، التكتــات ُتغــريّ ،إل أن التصـّ بيـــن مـــن ُيريدهـــا فيدراليـــة واندماجيـــة حقيقيـــة، تكتـــا اقتصاديـــ ًا وعســـكرياً، وبيـــن مـــن يريدهـــا ً عـــل رفـــض الهولندييـــن والفرنســـيين ال غيـــر .وَل ّ التف ــاق ماس ــتريخت ،قب ــل س ــنوات ،ف ــي اس ــتفتاء ش ــعبي ،ث ــم موق ــف البريطانيي ــن ،مؤخ ــراً ،ي ــدل علــى اســتحالة العثــور علــى موقــف واحــد ،وعلــى
صعوبــة التوفيــق بين مصالح مختلفــة ومتضاربة. وال يتعّل ــق األم ــر فق ــط بمس ــألة الح ــدود الخارجي ــة والحــدود الداخليــة للــدول األعضــاء (شــينغن) ،وال بالموقــف مــن العملــة الموحــدة (اليــورو) ،وهــو مــا رفضتــه بريطانيــا العظمــى وبعــض الــدول األخــرى مــن البدايــة ،وإنمــا أيضـ ًا بقضيــة مــا يــراه الكثيرون كل بلٍد علــى حدة ،حين يتعلّق انتقاصـ ًا مــن ســيادة ّ األمــر بــدور المحكمة األوروبية لحقوق اإلنســان ،أو بأسبقية القوانين األوروبية على القوانين الوطنية المحلي ــة ،ف ــي كثي ــر م ــن المج ــاالت. ولهــذا الســبب ،فــإذا كان مــن الطبيعــي أن نعثــر علــى أصوات فرنســية ،سياســية وفكرية وشــعبية قرر االنســحاب غاضبــة مــن الشــعب البريطاني الذي ّ مــن االتحــاد األوروبــي (الهــرب مــن الســفينة حالــة الغـــرق) ،فمـــن الطبيعـــي أيضـــ ًا العثـــور علـــى أصــوات ،مــن مختلــف شــرائح المجتمــع الفرنســي، (ر ّب ض ــارة نافع ــة!)، تتفه ــم الموق ــف البريطان ــي ُ وتطالـــب بتغييـــر مســـار االتحـــاد ،وباستشـــارة الش ــعب الفرنس ــي ف ــي الق ــرارات المصيري ــة ،ب ــدل االكتفـــاء بالتصويـــت البرلمانـــي ،المضمـــون فـــي غال ــب األحي ــان. هــذا االصطفــاف الفكــري الفرنســي فتــح المجــال ـل ه ــذا م ــا أم ــام ردود أفع ــال غي ــر متوقّع ــة ،وَلع ـ ّ
ميشيل أونفراي
يفس ــر خط ــورة الق ــرار البريطان ــي ال ــذي ق ــد يفت ــح ّ نقاشــات ،فــي غيــر مــا مــكان ،وقــد ُيغــري شــعوب ًا أوروبيــة أخــرى بالتشــكيك فــي االتحــاد األوروبــي، وف ــي إظه ــار أنانياته ــا (الخافت ــة ولك ــن الموج ــودة) ومصالحهــا الضيقــة. وقــد ابتــدأت الــردود بيــن اإلنتلجنســيا الفرنســية، مــع ظهــور بيان ،في صحيفة «لوفيغــارو» اليمينية، وّقــع عليــه عشــرون مثقفـ ًا وسياســي ًا فرنســي ًا منهــم السياســي والوزيــر الســابق جــان -بييــر شــوفنمان والفيلســوف ميشــيل أونفــراي وبــول تيبــود وغيــوم بيغــوت وكلــود ريفيــل وناتاشــا بولونــي وغيرهــم. ويطالــب البيــان بميثاق جديد لالتحاد األوروبي، ُ جديـــ ًا للبنـــاء األوروبـــي علـــى قواعـــد أي توجيهـــ ًا ّ «يظهــر جديــدة .إذ إن ّ كل شــيء ،كمــا يقــول البيــانُ : أن المواطنيــن فــي غالبيــة دول االتحــاد لــم يعــودوا يقبلــون أن ُيــداروا مــن ِقَبـ ِ مؤسســات غير ُمنتخبة، ـل ّ ـتوجب ـ «يس ما وهو ـفافية». تشــتغل بعيدًا عن أي شـ ُ أن ُنعيـــد للســـيادة الشـــعبية وللديموقراطيـــة كل حقوقهمــا فــي أوروبــا كونفيدراليــة يجــب أن ُتْبنــى علــى التفاهــم والتعــاون بيــن األمــم ،وهو مــا يتطلّب تنظيمـ ًا جديــدًا وعميقـ ًا للمســؤوليات». عبــرت جوليا كريســتيفا ،األكاديمية ومــن جهتهــا ّ والمحلّلـــة النفســـانية ،عـــن رأيهـــا فـــي والكاتبـــة ُ البريكســت والجواب الذي يســتدعيه« :الســؤال اليوم الهويــة األوروبيــة ،وأعتقــد هــو إعــادة التفكيــر فــي ّ أن أول شـــيء أظهـــره هـــذا االســـتفتاء البريطانـــي الهوي ــات الوطني ــة. ه ــو ض ــرورة ّأل ننتق ــص م ــن ّ وأعتقــد أننــا ،فــي فرنســا ،اندفعنــا كثيــراً ،انطالقـ ًا الهويــة الوطنية مــن رؤيتنــا للشــمولية ،فــي اعتبــار ّ الهويــة الوطنية فكـ ً ـرة متقادمــة وخطيــرة .أعتقــد أن ّ دواء ض ــد الضغ ــط ،وأن ــه يج ــب أن نأخذه ــا ه ــي ٌ مأخــذ الجـّد ألنــه يجــب ّأل ندفعهــا إلــى الحـّد األقصــى ككل أدوي ــة الضغ ــط ،ألنه ــا ق ــد تصب ــح مهووس ــة وتق ــود إل ــى الح ــرب ض ــد اآلخري ــن وإل ــى التط ـ ُّـرف تظـــل ُبعـــدًا ضروريـــاً ،بشـــكل الدينـــي ،ولكنهـــا ّ والهوي ــات الجماعي ــة. ـخصية ـ الش للهوي ــة مطل ــق، ّ ّ
جان -بيير شوفنمان
ولكــن أوروبــا ،ومــن بيــن ثقافــات أخــرى تتقاســم العولمــة ،هــي تقليـٌد ثقافــي فريــد ُمقارنــة بالثقافــات الهويــة ـدت لدينــا فلسـ ٌ األخــرى ،ألنــه ُولـ ْ ـفة ال تعتبــر ّ البع ــد ال ــذي تكتس ــيه ـاؤالًُّ . عب ـ ً ـادة ب ــل تس ـ ُ كل ه ــذا ُ ـغ األهميــة ،ويتمثــل فــي طرح الثّقافــة األوروبيــة باِلـ ُ الهوي ــات .وه ــذا م ــا ل ــم نس ــتطع إش ــكاليات ح ــول ّ لحـّد اآلن أن نقــوم بــه ،ألننــا ،فالســفة وسياســيين َ الهويـــة األوروبيـــة والسياســـة ومتدخليـــن حـــول ّ البع ــد الثقاف ــي». األوروبي ــة ،نس ــينا ُ المفكـــر الفرنســـي -الســـوري برهـــان غليـــون ِّ يقـــرأ ،مـــن جهتـــه ،قـــرار الـ«بريكســـت» ،ويـــرى أن أزمـــة الالجئيـــن ،الذيـــن تدفّقـــوا علـــى أوروبـــا بشــكل قياســي ،ســاهمت فــي تصويــت البريطانييــن باالنســحاب مــن االتحــاد األوروبــي ،وهــو «ضربــة قاس ــية ض ــد االتح ــاد األوروب ــي» ،وأض ــاف ب ــأن تردداتهـــا فـــي دعـــم الثـــورة أوروبـــا «تدفـــع ثمـــن ّ المفكـــر برهـــان الســـورية» .وعلـــى الرغـــم مـــن أن ِّ تفس ــر ه ــذا غلي ــونُ ،يق ـّـر بوج ــود أس ــباب عميق ــة ّ «تعلــق البريطانييــن الشــديد التصويــت ،ومــن بينهــا ُّ ِبِقي ــم برلمانه ــم الليبرال ــي ورفضه ــم للبيروقراطي ــة األوروبيـــة»ّ ،إل أنـــه يســـتدرك فيقـــول« :الســـبب الف ــوري ،م ــن دون ش ــك ،ه ــو أزم ــة الالجئي ــن»،. يؤكـــد النتائـــج الســـلبية للسياســـة وهـــو «مـــا ِّ االنتهازيــة ألوروبــا فــي مواجهــة األزمــة الســورية». توجه ــه ال يمك ــن ألي مثق ــف فرنس ــي ،مهم ــا كان ّ السياس ــي واأليديولوج ــي ،أن يج ــرؤ عل ــى الق ــول ـي ،وأنــه يشــتغل كمــا بــأن االتحــاد األوروبــي مثالـ ّ يجــب .ومــن هنــا ســاعد التصويــت البريطانــي علــى إطـــاق األلســـنة وإخراجهـــا مـــن عقالهـــا ،فبدأنـــا نقـــرأ ردودًا ومواقـــف بالغـــة الجـــرأة .وهـــو مـــا ـود فعلــه ِّ المفكــر الفرنســي إيمانويــل ُتــود ،الــذي عـّ قــراءه ،فــي مواقــف كثيــرة ،علــى مواقــف صادمــة، ـاع ،وه ــو م ــا فعل ــه بع ــد مم ــا يب ــدو أن ــه إجم ـ ٌ تخ ـ ُـر ُج ّ ـن اعتــداءات «شــارلي إيبــدو» ،حيــن نشــر كتابـ ًا ُيديـ ُ يتعـــرض لهمـــا فيـــه الوصـــم واالنتقـــادات اللذيـــن ّ المســلمون فــي فرنســا ،رغــم أنهــم «مندمجــون فــي
ال يمكن ألي مثقف فرنسي ،مهما جهه كان تو ّ السياسي واأليديولوجي، أن يجرؤ على القول بأن االتحاد األوروبي مثالي ،وأنه ّ يشتغل كما يجب
51
برهان غليون
إيمانويل تود: «إنها مرحل ٌة مراحل من ِ ظاهرة شمولية ٍ لتفكيك العولمة»
52
إيمانويل ُتود
جوليا كريستيفا
المجتم ــع الفرنس ــي أكث ــر م ــن األقلي ــات األخ ــرى»، خالفـ ًا التهامــات إيريــك زمــور ،وأالن فينكلكــروت، والمفكريـــن وغيرهمـــا .وعـــاب علـــى السياســـيين ِّ محاول ــة دفعه ــم أن يكون ــوا م ــع «ش ــارلي». للمفكـــر إيمانويـــل ُتـــود أن يتـــرك ومـــا كان ِّ فأكـــد الـ«بريكســـت» تمـــر دون تعليـــق أو قـــراءةّ ، ّ ـل ظاهـ ٍ بأنهــا «مرحلـ ٌـة مــن مراحـ ِ ـرة شــمولية لتفكيــك العولمـــة» .وأضـــاف بـــأن «هـــذا االنكفـــاء علـــى يمـــس المجتمعـــات المتقّدمـــة الثقافـــات الوطنيـــة ّ علـــى الكـــرة األرضيـــة :مـــن الواليـــات المتحـــدة األميركيــة مــع بيرنــي ســاندرس أو دونالــد ترومــب، والياب ــان ،م ــرورًا بأوروب ــا وأس ــتراليا» .وأض ــاف ُتـــود بـــأن «الضغـــوط الشـــديدة والمعانـــاة التـــي تقــد المجتمعــات إلــى االنفتــاح ســببتها العولمــة لــم ُ أكث ــر وإل ــى التالق ــي ،ولك ــن ،عل ــى العك ــس ،إل ــى أن تج ــد ف ــي نفس ــها وف ــي تقاليده ــا وف ــي ُأ ُسس ــها األنثروبولوجيــة ،القــوة علــى التأقلــم وعلــى إعــادة بن ــاء نفس ــها». المفكــر ُتود بعودة ِ المحــور البريطاني- ويطالــب ِّ الفرنس ــي« ،ب ــدل زي ــارات المس ــؤولين الفرنس ــيين إل ــى برلي ــن لتلّق ــي األوام ــر» ،وي ــرى ف ــي الموق ــف الفرنســي الرســمي الجديــد مــن بريطانيــا« :عمليــات مس ــرحية خالص ــة مرفوق ــة بغب ــاء ال يق ــول اس ــمه. والساسة الفرنسيون ،بشيطنتهم للمملكة المتحدة، ضحــون بمصالــح بلدهــم .إن المملكــة المتحــدة هــي ُي ّ
البل ــد الوحي ــد ف ــي االتح ــاد األوروب ــي ال ــذي حقّق ــت مع ــه فرنس ــا فائضــ ًا تجاريــاً» ،وإن «أح ــد أخط ــاء المس ــؤولين الفرنس ــيين الكب ــرى ه ــي ع ــدم الفه ــم وعـــدم القـــدرة علـــى أن يفهمـــوا ،بشـــكل مســـبق، أن الت ــوازن الجي ــد م ــع ألماني ــا ال يتمّث ــل ف ــي عمل ــة ّ دمرتنــا ،وإنمــا فــي محــور باريــس- ـي ـ الت ـورو، ـ الي ّ لنــدن ،الضــروري على المســتوى المتوســط ،والذي ال ينته ــي ب ــزواج مؤّق ــت ،ألن ــه ف ــي منط ــق الِق ــوى والثقافــات». ويــرى إيمانويــل ُتــود ،الــذي ال ُيخفــي قلقــه مــن النفــوذ االقتصــادي الرهيــب للماكينــة األلمانيــة ،أن «البريكســت هــو نهايــة مفهــوم النظــام الغربــي .إنهــا النهايــة الحقيقيــة للحــرب البــاردة» .وختــم تحليلــه بأن ــه «بع ــد اليقظ ــة األلماني ــة والروس ــية وأخي ــراً، يقظــة المملكــة المتحــدة ،يجب أن يأتي دور فرنســا. إن مجــاراة اإلنجليــز متالئمـ ٌـة مع تقاليدنــا الثورية». الخالصــة هــي أن كل مثقــف فرنســي يحمــل فــي داخل ــه ،ويكت ــب ف ــي نصوص ــه وتأمالت ــه ،فهم ـ ُـه الخــاص والشــخصي عــن االتحــاد األوروبــي .ولهــذا يجـــد المـــرء ،داخـــل األحـــزاب السياســـية وداخـــل مراك ــز البح ــث وف ــي مراك ــز إعالمي ــة ،ب ــل وداخ ــل البي ــت الواح ــد ،أصواتــ ًا ومواق ــف متعارض ــة م ــن الحلــم األوروبــي .وهــي مواقــف متعارضــة لــم تكــن ـرواد األوائــل لهــذا البنــاء األوروبــي، خافيــة علــى الـ ّ قب ــل أكث ــر م ــن س ـّتين س ــنة.
تركيا واالتّحاد األوروبي الحلم الذي يتالشى بالتقادم لعــل ســر نجاح «حزب العدالة والتنمية» في قيادة الدولــة التركية ،منذ عام 2002حتى اآلن، ّ يكمــن فــي أن القيــادة اســتطاعت أن تحافظ علــى طبيعة الدولــة «األتاتوركيــة» ،العلمانية، الديموقراطية ،وقد بدا ،من خالل األزمة الحكومية ،2015أن الشعب التركي يستطيع أن يقول كلمته الحاسمة حساسة .وال ّ بمجرد أن انتهى شك في أن الرئيس أردوغان يعرف هذا ِّ في ّأية برهة تاريخية ّ جيداً ،بدليل أنهَّ ، االســتفتاء البريطــــــاني إلى خروج بريطانيا من االّتحاد األوروبي (يونيو ،)2016 ،ســـــارع إلى القول بأن استفتاء وطني ًا بشأن مواصلة ،أو عدم مواصلة ،إجراءات انضمامها إلى االّتحاد األوروبي تنظم ربماّ - بالدهَّ - ً في القريب العاجل ،فكأنه أراد أن يقول للديموقراطيات األوروبية :ونحن -أيضاً -نستفتي الشعب.
كأن أردوغان أراد أن يقول للديموقراطيات األوروبية :ونحن- أيض ًا -نستفتي الشعب
خطيب بدلة (إسطنبول) الحديـــث عـــن انضمـــام الجمهوريـــة يبـــدو ُ التركي ــة إل ــى االّتح ــاد األوروب ــي قريبــ ًا م ــن أدب حقيقـــة ،ملـــيء «اإلمتـــاع والمؤانســـة» ،فهـــو، ً بأخب ــار المح ــاوالت ،والنجاح ــات ،واإلخفاق ــات، ولعـــل أكثـــر هـــذه والمفاجـــآت ،واللطائـــف... ّ مؤخ ــراً ،حينم ــا ـل، ـ حص المحط ــات ُظرفــ ًا ه ــو م ــا ّ َّ
ـو َت الشــعب البريطانــي ،علــى االنســحاب مــن صـ َّ َ االّتح ــاد األوروب ــي ،وتوال ــي األخب ــار ع ــن تفكي ــر دول أوروبيــة أخــرى باالنســحاب منــه ،ثــم تقديــم عريضة تطالــب حكومتهم أربعــة مالييــن بريطانــي ً بإعـــادة االســـتفتاء ثـــم العـــودة إلـــى عضويـــة االّتحــاد ،قبــل أن يتحّقــق الحلــم التركــي التاريخــي 53
ـاري الجــذّاب!. ف ــي الدخ ــول إل ــى ه ــذا التكت ــل الق ـ ّ غرابـــة أن يقابـــل ولعـــل الشـــيء األكثـــر ّ ً المســـؤولون األتـــراك إخفاقهـــم هـــذا بتصريحـــات ُتظهِـــر المباالتهـــم حيـــال األمـــر ،كقـــول وزيـــر شـــؤون االّتحـــاد األوروبـــي وكبيـــر المفاوضيـــن األتــراك «فولــكان بوزكــر» إنــه إذا مــا َّاتخــذ االّتحــاد األوروب ــي ق ــرارًا خاطئــ ًا برف ــض عضوي ــة تركي ــا؛ يهمه ــا ،أو يضيره ــا ،ذل ــك كثي ــراً ،ف ــي حي ــن فل ــن ّ أمــا توفــر جهــدًا فــي هــذا الســبيل َقـ ّ أن تركيــا لــم ِّ ـطّ . ـاالة رئي ــس الجمهوري ــة أردوغ ــان ف ــكان أكث ــر المب ـ ً كل ه ــذه الس ــنوات ،فليقبلون ــا، حينم ــا ق ــال :بع ــد ّ أو فليرفضونـــا.
الجغرافيا ووجدان الشعب
فولكان بوزكر: إنه إذا ما اتَّخذ االتّحاد األوروبي قرار ًا خاطئ ًا برفض عضوية تركيا؛ يهمها ،أو فلن ّ يضيرها ،ذلك كثير ًا
إن الجانــب الدراماتيكــي مــن المســألة يبدو ناتج ًا أهمه ــا ك ــون الجغرافي ــا ع ــن جمل ــة م ــن العوام ــلّ ، ـي آس ــيا ،وأوروب ــا؛ التركي ــة تت ـ ّ ـوزع عل ــى َّ قارَت ـ ْ بمعنــى أن تركيــا ليســت أوروبية خالصة ،وليســت الحـــال بالنســـبة إلـــى آســـيوية تمامـــاً .وكذلـــك ُ ثقاف ــة الش ــعب الترك ــي ،فه ــو متش ـ ِّـبع ،ف ــي عمق ــه ـص- التاريخ ــي ،بالثقاف ــات المش ــرقية ،و -باألخ ـ ّ الثقافـــة العربيـــة اإلســـامية ،بـــل إن إســـطنبول ـــروق -اآلســـتانة) بقيـــت ،علـــى امتـــداد أربعـــة ُ (ف ُ عاصمـــة ألكبـــر خالفـــة إســـامية عرفهـــا قـــرون، ً ـعة التاريــخ ،وفــي الوقــت ذاتــه ،إن شـ ـريحة واسـ ً ً م ــن الش ــعب الترك ــي تتملَّكه ــا نزع ـ ُـة «التغري ــب»، إم ــا بش ــكل راديكال ــي ونهائ ــي ،أو بش ــكل يج ــري ّ فيــه االحتفــاظ بالطابــع اإلســامي .وألجــل مقاربــة هــذا المفهــوم وتلخيصــه بكلمــات قليلــة ،نقــول إن تأس ــيس الجمهوري ــة التركي ــة ،ف ــي س ــنة ،1923 لعمليـــة التغريـــب الشـــاملة كان المنطلـــق البدئـــي ّ متأتيــ ًا م ــن ف ــراغ، والمنتظم ــة ،ول ــم يك ــن ذلـــك ِّ بالطبــع ،إنمــا ُبِنــي علــى أرضيــة ثقافيــة واســعة.
إضاءة تاريخية
قب ــل مئ ــة ع ــام م ــن اآلن ،س ــنة ،1916كان ــت الح ــرب العالمي ــة األول ــى ف ــي منتصفه ــا ،وكان ــت جمعيــة االّتحــاد والترّقــي التي يقودها «الباشــوات» ـدر الثالث ــة :طلع ــت ،وأن ــور ،وجم ــال ،م ــع «الص ـ ُ العال ــي» س ــعيد بي ــك حلي ــم ،المتش ـ ِّـبعون بأف ــكار الثـــورة الفرنســـية ،قـــد فرضـــت علـــى الســـلطان المته ــم بالتس ــلُّط العثمان ــي عب ــد الحمي ــد الثان ــيَّ ، واالســتبداد ،في ســنة ،1908تطبيق المشــروطية الثانيــة( ،المشــروطية تعنــي :الدســتورية ،ويكون الحكــم بموجبهــا للبرلمــان والحكومة ...وقد ُسـ ِّـميت وتمك َن الســلطان الثانيــة ألنهــا ُطبقــت فــي الســابق، َّ عبــد الحميــد مــن إلغائهــا) .وفــي ســنة ،1909قامــت انتفاض ــة ش ــعبية ضــّد عب ــد عبدالحمي ــد الثان ــي، 54
وو ِ ضـــع تحـــت اإلقامـــة الجبريـــة (إلـــى فع ِ ُ ـــزلُ ، محلــه محمــد ،)1918 ـنة ـ س ـي ـ ف ـه ـ وفات ـن ـ حي ـل َّ وحـ َّ َ الخامس «الســلطان رشــاد» ،وكان الجميع يعرفون ـتؤدي إلــى أن هــذه الحــرب ،فــي حــال الخســارة ،سـ ِّ إس ــدال الس ــتار عل ــى الش ــكل اإلمبراط ــوري للدول ــة ـدة ،وإل ــى األب ــد. التركي ــة ،م ـّـر ًة واح ـ ً وفـــي أواخـــر ســـنة ،1917كشـــف البالشـــفة ســـر اتفاقيـــة الـــروس ،بعـــد انتصـــار ثورتهـــم، َّ القوَتْيــن ســايكس بيكــو التــي تنـ ّ تقاســم َّ ـص علــى ُ ـدان ـ البل ـا ـ وفرنس ـا، ـ بريطاني ظمَيْيــن الناشــئَتْين: َ ُ الع َ التـــي كانـــت تتبـــع لإلمبراطوريـــة العثمانيـــة أمــا ســنة 1918فشــهدت ،فــي نهايتهــا، المتهالكــةّ . ـوات التركيــة التــي كانــت تقــاوم ـحاب فلــول القـّ انسـ َ فـــي شـــرقي األردن وســـورية ،بقيـــادة الضابـــط مصطف ــى كم ــال ،وكان ــت ه ــذه البره ــة التاريخي ــة األهمّيـــة بالنســـبة إلـــى مســـتقبل تركيـــا، بالغـــة ّ ـاص ،ولمنطقــة الشــرق األوســط ،بشــكل بشــكل خـ ّ ع ــام ،فمنه ــا يمك ــن الحدي ــث ع ــن 100س ــنة قادم ــة مختلفـــة ،تمامـــاً ،عـــن العمـــر المديـــد للســـلطنة العثماني ــة ال ــذي بل ــغ 400س ــنة. الس ــنوات الت ــي تل ــت انته ــاء الح ــرب العالمي ــة، ربم ــا -كان ــت أصع ــب و(تحجي ــم) الدول ــة التركي ــةَّ - مــن الهزيمــة ذاتهــا ،إذ كان علــى المجموعــة الجديدة التــي يقودهــا مصطفــى كمــال باشــا (الــذي اكتســب، أن فيم ــا بع ـ ُـد ،لق ــب أتات ــورك؛ أيَ :جــّد الت ــرك)ْ ، تح ــارب بقاي ــا الوج ــود األجنب ــي ال ــذي ط ــرأ ف ــي أثنـــاء الحـــرب ،وتعمـــل علـــى توحيـــد البـــاد، عمليــات التمـ ُّـرد التــي ظهــرت ،هنــا وهناك. وتقمــع ّ عمليـــات إصـــاح وخـــال ذلـــك ،كانـــت َتجـــري ّ تضمنـــت تحقيـــق ُعِرفـــت بإصالحـــات أتاتـــورك، َّ أحــام قديمــة موجــودة لــدى األنتلجنســيا التركيــة، كتوحيــد التعليــم ،وإلغــاء األلقــاب الدينية ،وإغالق المحاكــم اإلســامية وإبدالهــا بمحاكــم مدنيــة تعتمــد عل ــى القان ــون المدن ــي والجنائ ــي ف ــي أحكامه ــا، واالعت ــراف بالمس ــاواة بي ــن الجنس ــين ،وضم ــان الحق ــوق السياس ــية الكامل ــة للم ــرأة ،وإصالح ــات اللغــة ،وتأســيس اّتحــاد اللغــة التركيــة ،وإحــال األبجديــة التركيــة المشـّتقة مــن األبجديــة الالتينيــة ـل األبجدي ــة العثماني ــة الت ــي ُتكت ــب بالح ــروف مح ـ ّ ـزي العثمان ــي العربي ــة ،وإلغ ــاء غط ــاء ال ــرأس وال ـ ّ التقليـــدي ،وبـــدء انتشـــار المالبـــس الغربيـــة العصري ــة.
عبِّرة لوحة مجتمعية ُم َ
اليـــوم ،فـــي شـــوارع ّأيـــة مدينـــة يمـــش، ـــن ِ َم ْ َ عـــام ،وفـــي شـــوارع إســـطنبول، تركيـــة ،بشـــكل ّ ـاصَ ،ي ـ َـر األعاجي ــب م ــن تجلّي ــات واق ــع بش ــكل خ ـ ّ اجتماعـــي يعكـــس الشـــّد والدفـــع والجـــذب بيـــن
هاجســي التشــريق ،والتغريب ،فمع أن نسبة النساء َ ـظ، ويَل َح ـ ُ الم َح َّجب ــات ف ــي المجتم ــع ليس ــت قليل ــةُ . ُ الم َح َّجب ــات يرتدي ــن آخ ــر ـاء ـ النس ـم ـ معظ أن ـك، ـ كذل ُ األزيـــاء العصريـــة ،وبعضهـــن يرتديـــن القمصـــان ذات الـ«نصـــف كـــم» وبنطـــال الجينـــز ...وهنـــاك شــبان يتركــون شــعرهم ينمــو ،ليصبــح ذا جدائــل، ويضع ــون األق ــراط ف ــي آذانه ــم جريــ ًا عل ــى ع ــادة ربم ــا -أخذه ــا الغ ــرب األت ــراك الطورانيي ــن الت ــيَّ - عنه ــم ال العك ــس ،ونس ــاء مبالغ ــات ف ــي التب ـ ُّـرج، تجمعــات لشــبان وبنــات ،يقفون إضافـ ًـة إلــى وجــود ُّ أو يجلس ــون عل ــى األرض ،ف ــي زواي ــا م ــن ش ــارع االســتقالل المتفـ ِّـرع مــن ســاحة «تقســيم» ،ويمضون ســاعات طويلــة فــي آخــر األســبوع (،)hafta sonu الهيبييــن المنتشــرة في شــوارع تجمعــات ّ علــى غــرار ُّ الم ــدن األوروبي ــة الكب ــرى.
جذور التطلُّع إلى أوروبا
لق ــد تاب ــع المس ــؤولون األت ــراك ،عب ــر مختل ــف الحقـــب السياســـية التاليـــة إلعـــان الجمهوريـــة ،1923السياس ـ َـة الخارجي ــة الت ــي رس ــمها فري ــق بالتوج ــه ،بش ــكل المتعل ــق الرئاس ــة األتاتورك ــي ِّ ُّ نهائـــي ،نحـــو الغـــرب .فلـــدى تأســـيس «حلـــف تقدمـــت الشـــمال األطلســـي» فـــي العـــام َّ ،1949 تركي ــا بطل ــب االنضم ــام إل ــى ه ــذا الحل ــف .وف ــي ـت ســنوات عــام ُ ،1952قبلــت عضويتهــا ،وبعــد سـ ّ فقـــط؛ أي فـــي ســـنة ،1958أعلـــن األوروبيـــون «المؤسس ــة االقتصادي ــة األوروبي ــة». ع ــن تش ــكيل َّ تقدمــت تركيا بطلــب االنضمام وفــي الســنة التاليــةَّ ، تأسســت ،1963 ـنة ـ س ـي ـ وف إلــى هــذه المجموعــة. َّ «المجموعـــة األوروبيـــة» فوقَّعـــت تركيـــا اّتفاقيـــة وتمكن ــت «تانس ــو ش ــيلر» ،وه ــي ش ــراكة معه ــاّ ،
تابع المسؤولون األتراك ،عبر مختلف الحقب السياسية، السياس َ ة الخارجية التي رسمها فريق الرئاسة األتاتوركي جه، المتعلِّق بالتو ُّ بشكل نهائي ،نحو الغرب
55
أول ام ــرأة تتوّل ــى رئاس ــة ال ــوزراء التركي ــة (م ــن َّ اتفاقيــة حــزب الطريــق القويــم) ،مــن التوقيــع علــى ِّ االّتح ــاد الجمرك ــي األوروبي ــة ،س ــنة ،1995ث ــم تطبيقه ــا اعتب ــارًا م ــن س ــنة .1996
مراعاة المزاج الشعبي
تتَّهم تركيا األوروبيين بـ«ازدواجية المعايير» ،فهم ّ يغضون الطرف عن الواقع الحقوقي في بعض الدول، و -في الوقت ذاته -ينتقدون السياسات التركية
ـل سـّـر نجــاح «حــزب العدالــة والتنميــة» فــي لعـّ قيـــادة الدولـــة التركيـــة ،منـــذ عـــام 2002حتـــى اآلن ،يكمــن فــي أن القيــادة اســتطاعت أن تحافــظ عل ــى طبيع ــة الدول ــة «األتاتوركي ــة» ،العلماني ــة، الديموقراطيـــة ،وقـــد بـــدا ،مـــن خـــال األزمـــة الحكومي ــة ،2015 ،أن الش ــعب الترك ــي يس ــتطيع أيــة برهــة تاريخيــة أن يقــول كلمتــه الحاســمة فــي ّ ّ شـــك فـــي أن الرئيـــس أردوغـــان حساســـة .وال ّ جي ــداً ،بدلي ــل أن ــه ،بمج ـ َّـرد أن انته ــى يع ــرف ه ــذا ِّ االس ــتفتاء البريطان ــي إل ــى خ ــروج بريطاني ــا م ــن االّتحـــاد األوروبـــي (يونيـــه ،)2016ســـارع إلـــى ـتفتاء وطنيــ ًا تنظ ــم اس ـ ربم ــا ِّ الق ــول ب ــأن ب ــادهَّ - ً بشـــأن مواصلـــة ،أو عـــدم مواصلـــة ،إجـــراءات انضمامه ــا إل ــى االّتح ــاد األوروب ــي ،ف ــي القري ــب العاجـــل ،فكأنـــه أراد أن يقـــول للديموقراطيـــات األوروبيـــة :ونحـــن -أيضـــاً -نســـتفتي الشـــعب. تلقَّفـــت شـــركة «مـــاك» التركيـــة لالستشـــارات واألبح ــاث ه ــذا التصري ــح ،وس ــارعت إل ــى إج ــراء اســـتطالع للـــرأي شـــمل الشـــرائح االجتماعيـــة الرئيس ــة ف ــي الب ــاد ،وخ ــرج بنتائ ــج ذات دالالت عـــــــميقة ،منهـــا أن أكثـــر مـــن ثلَثـــي الشـــعب التركــي ( )% 68مــا عــادوا يرغبــون فــي اســتمرار المفاوضـــات المتعلِّقـــة بانضمـــام بالدهـــم إلـــى االّتح ــاد األوروب ــي ،ب ــل إنه ــم يري ــدون إنهاءه ــا. يتذكــر المثقَّفــون والسياســيون األتــراك ،اليوم، َّ عب ــارة بالغ ــة اإلصاب ــة ،قاله ــا رئي ــس وزرائه ــم األســـبق مســـعود يلمـــاز الـــذي تولّـــى رئاســـة الحكوم ــة ف ــي أواس ــط التس ــعينات ،وه ــي :إنن ــا كلّم ــا اجتزن ــا حاج ــزاً ،وض ــع األوروبي ــون مكان ــه حاج ــزًا آخ ــر!.
قفز الحواجز
يمكننـــا تلخيـــص األســـباب (المعَلنـــة وغيـــر المعَلنـــة) ،التـــي ترتكـــز عليهـــا دول االّتحـــاد ـارض انضمــام تركيــا إلــى هــذا األوروبــي التــي تعـ ِ فتيــة ضمــن ـة ـ دول ـتكون ـ س ـا ـ االّتحــاد ،فــي أن تركي ّ محيــط مــن األمــم الشــائخة ،فتعــداد سـّـكانها البالــغ ـل المرتبــة الثانيــة ( 74مليــون نســمة) يجعلهــا تحتـّ فــي ارتفــاع عــدد الســكان بعــد ألمانيــا ،ولديهــا -مــن ـم -فائــض مــن العمالــة قــادر على منافســة العمالة َثـ َّ العمــال األتراك، األوروبيــة بســبب انخفــاض أجــور ّ وه ــي -أي تركي ــا -ق ــادرة عل ــى تحقي ــق منافس ــة 56
المتوســـطة، خطيـــرة فـــي مجـــال الصناعـــات: ِّ والخفيفـــة (النســـيجية والغذائيـــة خصوصـــاً)، بتكالي ــف بس ــيطة ،وبأس ــعار منخفض ــة. وتقــول هــذه الــدول إن الخطــوات التــي َّاتخذتهــا تركيــا ،فــي مجــال التشــريعات والقوانيــن ،ليســت كافيــة حتــى اآلن. وتـــرد الحكومـــة التركيـــة بأنهـــا ،ولألســـباب ّ ـابة ـ ش ـة ـ عمال ـا ـ ولديه ـة، ـ فتي ـة ـ دول ـا ـ (لكونه ذاته ــا ّ ّ جيـــدة)، وصناعـــات متوســـطة وأخـــرى خفيفـــة ّ ِّ ســتكون مصــدر إنعــاش لالقتصاديــات األوروبيــة، تتهــم تركيــا األوروبييــن ومــن الناحيــة السياســية َّ يغضــون الطــرف عن بـ«ازدواجيــة المعاييــر» ،فهــم ّ الواقــع الحقوقــي فــي بعــض الــدول ،و -فــي الوقــت ذات ــه -ينتق ــدون السياس ــات التركي ــة .وبطريق ــة ال تخلـــو مـــن العصبيـــة قـــال أردوغـــان للغربييـــن: انظ ــروا ف ــي أنفس ــكم بالم ــرآة ،قب ــل أن تحاول ــوا تعليمن ــا الديموقراطي ــة! وللتذكيــر نقــول :إن «تقريــر التقـ ُّـدم األوروبــي» ـن الســنوي الــذي صــدر فــي أكتوبــر،2015 ، تضمـ َ َّ تنويهـــ ًا إيجابيـــ ًا لجهـــود الســـام مـــع األكـــراد، ـج َل انتقـ ٍ واضحة ـادات ً ولكنــه -فــي الوقــت ذاتــه -سـ َّ ف ــي ع ـّدة ملّف ــات أخ ــرى. إن قّل ــة اكت ــراث المس ــؤولين األت ــراك (المعل ــن) تج ــاه انضم ــام تركي ــا إل ــى االّتح ــاد األوروب ــي ه ــو أم ــر مس ــتجّد ،ويت ــوازى م ــع قّل ــة اكت ــراث الش ــعب التركــي الــذي أظهــره االســتطالع المشــار إليــه .لكــن ه ــذا م ــا ع ــاد ِّ يمث ــل «مرب ــط الف ــرس» ،فالمه ـّـم ف ــي الموضـــوع هـــو أن الشـــعب التركـــي لـــم يصبـــح، رد فعلـــه علـــى السياســـات األوروبيـــة، نتيجـــة ّ معاديـــ ًا للقيـــم األوروبيـــة الحضاريـــة ،وبمعنـــى أكث ــر وضوحــاً :ه ــذه ليس ــت صح ــوة إس ــامية، ـأل عداء للغرب ،بدليل أن االســتطالع نفســه سـ َ وال ً الشــريحة اإلحصائيــة المســتهدفة حــول مــا إذا كانوا يرغبــون فــي اســتمرار تركيــا بإجــراء اإلصالحــات القانونيـــة ،والدســـتورية ،بحيـــث تتـــواءم مـــع القوانيــن األوروبيــة ،فكانت النتيجــة أن 88بالمئة يؤيــدون اســتمرار تركيــا باإلصالحــات ،إلــى منهــم ِّ والحرّي ــات ـوق ـ الحق ـتوى ـ مس ـى ـ إل ـول ـ الوص حي ــن ّ المعم ــول به ــا ف ــي ال ــدول األوروبي ــة. لق ــد طرح ــت فرنس ــا وألماني ــا (وهم ــا الدولت ــان المتنفِّذت ــان ف ــي االّتح ــاد األوروب ــي فك ــرة االكتف ــاء مميـــزة» مـــع بـــأن تبقـــى تركيـــا علـــى «شـــراكة َّ االّتحـــاد األوروبـــي .ويبـــدو أن هـــذا ســـقف مـــا ســـيتحقّق لتركيـــا ،فـــي نهايـــة المطـــاف.
موسكو تنتظر مصير أوروبـــا أهــي ثقافــة النكايــة؛ أن ينتظــر المنتظــرون انهيــار االّتحــاد األوروبي ،أم هــي ثقافة التعويــض؟ إذا لم يصمــد اّتحادنا ،فلماذا يصمد ِّاتحادكم؟ وإذا كانت أميركا ســاهمت في انهيــار بنياننــا فلماذا تظنون بأنها حريصة على بنيانكم؟ وفي حيــن لم تكن لنا مصلحة في الحرب الباردة وسباق التسلُّح وحروب الطاقة ،فلماذا تحسبون أن لكم مصلحة فيها اليوم؟ وهل تحسبون مؤشــرات الديمغرافيا ،أم حســاب ما ســتؤول إليه بلدانكم -منفردة ومجتمعة -التي تتأســلم بحكم ِّ تصور فيها المســلمين وهم ســيدة باريس» التي ِّ هنــاك ضــرورة لتذكيركم برواية تشــودينا «جامع ِّ ويحولون كنيستها إلى جامع؟ لدينا عاملنا اإلسالمي ،ولديكم ما هو من طبيعته، يحتلّون باريس، ّ لكن أسوأ منه...
منذر بدر حلوم (موسكو) أســئلة مــن هــذا القبيــل يتناقلها اللســان الروســي ف ــي مختل ــف األوس ــاط ،وف ــي حي ــن يب ــدو البع ــض سياســـييها مذكـــرًا بتبعيـــة شـــامت ًا بأوروبـــاّ ، ِّ لواشــنطن ،وبعــدم إدراكهــا مــا ينتظرها مــن مخاطر ـا المنكوبي ــن محم ـ ً فت ــح أبوابه ــا أم ــام الالجئي ــنّ ، ـارة المترفــة ،يبــدو البعــض بعض ـ ًا ّ ممــا تعانيــه القـ ّ اآلخــر قلقـ ًا مــن تداعيــات زلــزال محتمل فــي أوروبا، عل ــى روس ــيا ،قلقــ ًا م ــن أوروب ــا ،ولي ــس عليه ــا.
الملكة القادرة
مدونتــه علــى موقع إذاعة «صدى موســكو»، فــي َّ كتب الشــاعر والصحافي الروســي الشــهير «دميتري بيكــوف» مقطوعــة شــعرية ،ال تخلو من الســخرية، عــن رأيــه بخــروج بريطانيــا مــن االّتحــاد األوروبي، وعــن ســلطة الملكــة الشــكلية ،التــي قــد تخــرج عــن ـكليتها ،للضــرورة التاريخيــة .أم أن األمــر ،ومــا شـ َّ
مجرد ســخرية؟! فيــهَّ ، قــّدم «بيك ــوف» لمقطوعت ــه بالكلم ــات التالي ــة: ألول مـّـرة ،منــذ 400عــام ،يمكــن لملكــة بريطانيــا َّ أن تض ــع فيت ــو عل ــى ق ــرار البرلم ــان .وه ــذه الم ـّـرة بخصــوص مــا يسـّـمى بريكســت .هناك ،فــي العائلة ـح إل ــى ذل ــك .وكت ــب «بيك ــوف»، الملكي ــةَ ،م ـ ْ ـن َّ لم ـ َ ف ــي مقطوعت ــه الش ــعرية: «بريكســت ،رهان الجائزة الكبرى/االنقســام بلغ حـّدًا حرجاً«/انقلعــي» -يصيح االّتحــاد األوروبي/ ـردد «ليــس حــاالً» يقول/ماكفول ولكــن كاميــرون متـ ِّ يصــرخ« :إنهــا يــد موســكو!»/يلتهب اليمين ،يرقص وأم ــا إنق ــاذ بريطاني ــا ،فلألس ــف/بيد اليس ــارّ /... الملك ــة ،دون س ــواها /.ف ــي موس ــكو يصرخ ــون: ـق؟/ ي ــا للتقّدم!/وه ــل الش ــعب يك ــون ّإل عل ــى ح ـ ّ لقـــد غـــادروا االّتحـــاد األوروبي/لكـــي يتخلَّصـــوا مــن ســمومنا!/إنهم يريــدون صداقتنا/إنــه حصــاد
في حين يبدو البعض شامت ًا بأوروبا، يبدو البعض اآلخر قلق ًا من تداعيات زلزال محتمل في أوروبا ،على روسيا
57
بالنسبة إلى موسكو ،دخول االتّحاد األوروبي في أزمة عميقة سيعني صعوبة التعامل معه
زرعن ــا/إال أن الفيت ــو ال زال ممكناً/الملك ــة ق ــادرة عليه/.الملكي ــة ،اآلن ،ش ــيء فارغ/ه ــي كالق ــوس نشــاب /ليســت جــزءًا مــن السياســة ،بــل مجـ َّـرد بــا ّ شيء/شــيء فــي متحــف ،يعلــوه الغبار/ولكــن إذا وصلــت السـلْطة إلــى فم متثائب كســان/فالملكة ما زالــت قادرة/علــى إصــاح الحال/.األميــر تشــارلز ألمكم/فالملكــة علَّمتكم/كيف تدركون يقــول :صلّوا ِّ ـق». أبســط األشـ ـياء/بقوة الغضــب الحـ ّ ّ
بوتين الحالم
أمـــا الباحـــث السياســـي الشـــهير فيـــودور ّ لوكيانــوف ،فيتســاءل ،فــي مقــال ُم َعْنـ َـون بـ«هنــاك 58
عمــا يمكــن َمخــرج» ،منشــور فــي أكثــر مــن مــكانّ ، أن يعني ــه بريكس ــت لروس ــيا ،وي ــرى أن بريطاني ــا فــي حملتهــا للبقــاء فــي االّتحــاد اســتخدمت صــورة فالديميــر بوتيــن الــذي كأنمــا كان يحلــم -وهو نائم- أن تغــادر بريطانيــا االّتحــاد األوروبــي ،ألن األخيــر س ــيبدأ بالتص ـ ُّـدع ،بمج ـ َّـرد خروجه ــا من ــه. ويتســاءل -فــي الوقــت نفســه -عــن آثــار خــروج بريطانيــا ،فيــرى أنهــا ليســت -بالضــرورة -إيجابية عل ــى موس ــكو .فبالنس ــبة إل ــى موس ــكو ،دخ ــول االّتحــاد األوروبــي في أزمة عميقة ســيعني صعوبة التعام ــل مع ــه ،وال ف ــكاك لروس ــيا األوراس ــية م ــن عالقاتهــا األوروبيــة.
لــو انهــار األخيــر كمنظومــة؛ فالناتــو يزحــف نحــو حــدود روســيا بأحــدث أدوات الســيطرة ،غيــر آبـٍـه بالعملي ــات الجاري ــة ف ــي أوروب ــا. ّ الذكي ــة ،المعروف ــة بتخطيطه ــا أم ــا بريطاني ــاّ ، ّ االســتراتيجي البعيــد المــدى ،فهــي أكثــر مــن مجـ َّـرد تاب ــع لواش ــنطن ،ف ــي جمي ــع المعان ــي. إلى ذلك ،فمن غير المعروف ما إذا كان االّتحاد، محتملــة، بعــد خــروج بريطانيــا منــه ،ودول أخــرى َ ـوة أم أكثــر ضعف ـاً ،فالرهــان علــى ســيغدو أكثــر قـ َّ الضع ــف ق ــد يك ــون خاس ــراً ،وروس ــيا المس ــبوقة، النخ ــب تقنيــاً ،ق ــد تخس ــر ،م ـ َّـر ًة أخ ــرى ،رهانه ــاَ . الت ــي تراه ــن عل ــى ضع ــف الخص ــوم ،تخي ــب أم ــام تل ــك الت ــي تراه ــن عل ــى تعزي ــز الق ــدرات ومص ــادر ـوة الذاتيــة .روســيا ليســت كذلــك ،بعــد. القـّ
زلزال
ثمـــة، وبصـــرف النظـــر عـــن رأي لوكيانـــوفّ ، ـن ه ــو قل ــق عل ــى مصي ــر بي ــن النخ ــب الروس ــيةَ ،م ـ ْ إمكانية ـن ـ ع ـة ـ رائج ـرة ـ فك أوروبــا ،فعلــى الرغــم مــن ّ بحريــة أكبــر ،مع الــدول التي يمكن تعامــل روســياّ ، ـدب، ـ ال ـو ـ نح ـتمالتها ـ واس ـاد، ـ ح أن تنفص ــل ع ــن االّت ّ ّإل أن ال ــدول الخارج ــة ع ــن االّتح ــاد ،ل ــو خرج ــت، ـتبعد أن تبق ــى بمن ــأى ع ــن الهيمن ــة األميركي ــة، ُيس ـ َ وال يبــدو أن روســيا تملــك األدوات الكافيــة لمنافســة أمي ــركا عل ــى فض ــاءات سياس ــية جدي ــدة ،ولي ــس الحـــال أفضـــل ،اقتصاديـــ ًا وثقافيـــاً ،فـــي زمـــن مرش ــح المتح ــدةَّ ، ـوة .وتأثي ــر الوالي ــات َّ ثقاف ــة الق ـ ّ للزيــادة عبــر أدوات حلف شــمال األطلســي ،بصرف النظ ــر ع ــن مصي ــر االّتح ــاد األوروب ــي ،ب ــل حت ــى
وعلــى صفحــات إذاعــة «صــدى موســكو» ،تــرى الباحثة «ليليا شفيتســوفا» أن بريكســت جاء ليزلزل الغــرب .لكنــه الزلــزال المفيــد؛ مــن حيــث أنــه يخيــف ُن َخــب الغــرب المتخمــة ،ويوقظهــا مــن غفوتهــا .فيمــا روســيا تراقــب ،مــن موقعهــا الهامشــي ،كيــف تبحث الحضـــارة البريطانيـــة العريقـــة ،والتـــي تصفهـــا باألقــوى فــي العالــم ،عــن وســائل وصيــغ جديــدة تقدمها. للحيــاة ،وتضــع قواعــد لعــب جديدة لضمــان ُّ أمــا األهــم -بالنســبة إلــى روســيا -فليــس ،فقــط، ّ ـيتحرك الغــرب ،إنمــا الــذي ينبغــي فــي ّ أي اتجــاه سـ َّ أن تفعلــه روســيا نفســها .فهــا هــو الغــرب يبحــث مــن جديــد عن حقيقته ،وســيصل إلى المعرفــة الضرورية التقدم ،فــي نهاية المطاف؛ لتحقيــق دفعــة جديــدة من ُّ فهــذه ليســت األزمــة األولــى التــي تعانيهــا الحضــارة كل أزمــة ،كانــت تنتقــل إلى مســتوى الليبراليــة .ومــع ّ أعلــى مــن التقـ ُّـدم؛ وهــو مــا ســيحصل -علــى األغلــب- بعــد تجاوزهــا أزمتهــا الراهنــة .تقــول «شفيتســوفا»: «يبّدلــون قائــد القطــار ورأس الجـّـر ،وينطلقــون .ولــن تتمكــن تتمكــن روســيا مــن اللَّحــاق بهــم ،وحســن ًا لــو َّ َّ مــن القفــز إلــى القاطــرة األخيــرة». ومـــن الناشـــطين الـــروس ،علـــى وســـائط مدونات التواصــل االجتماعــي ،مــن يرى (على مثــال َّ الحيــة») أن لــدى أوروبــا اليــوم طريقيــن، «المجّلــة ّ أهليــة ،وتصاعــد كالهمــا يمـ َّـر عبــر فوضــى وحــرب ّ األول إل ــى اجتي ــاح جدي ــد الفاش ــية .وفيم ــا ينته ــي َّ لروســيا ،وال فــرق بيــن أن يكــون تحت رايــة النازية أم الخالفــة اإلســامية ،يقــود الثانــي إلــى اســتنجاد العالــم بموســكو وبكيــن ،إلنقــاذ أوروبــا. أهو الشــعب الروســي ينتظر من روسيا السالفية، لمفكري الكنيسة تسميتها بـ«روما الثالثة»، التي يحلو ِّ تتوقــع األســوأ ،إذا ما انفرط دور المنقــذ ،فيمــا النخــب َّ وتفشــت الفاشــية هناك؟! العقد األوروبي، َّ
«ليليا شفيتسوفا»: بريكست جاء ليزلزل الغرب. لكنه الزلزال المفيد؛ من حيث أنه يخيف ن ُ َ خب الغرب المتخمة، ويوقظها من غفوتها .فيما روسيا تراقب
59
بريكست من وجهة النظر األميركية عبدالوهاب األنصاري (سياتل)
في الوقت الذي كان فيه شعار دعاة االنفصال في بريطانيا يقول« :لنسترجع بالدنا» ،كان شعار حملة ترامب« :لنجعل ً عظيمة أميركا مر ّ ًة أخرى»
بطبيعــة الحــالَ ،هلَّل اليميــن األميركي لتصويت الشــعب البريطاني لصالح الخــروج من االتحاد األوروبي (بريكست) ،بحساب أن ذلك ،في ٍ تكريس على طرَف ّي األطلنطي، األقل- جزء منه -على ّ ٌ ونصرة للحّد من االســتيعاب األوروبي لســيل المهاجرين (من دول العالم الثالث ،والعرب والمســلمين تحديداً)، ٌ َ والتعددية الثقافية .إذن، والتمــدن للعــرق األبيض الذي طالما طولب باحتواء األعراق األخرى باســم المســاواة ُّ ُّ وســيتم انتخاب دونالد ترامب في يتزعمه الجمهوريون ،تلك هي إرادة الشــعوب الغربية، في نظر اليمين الذي َّ ّ المنظمات البيضاء (الكو كلكس كالن مثالً) نوفمبر/تشــرين الثاني المقبل؛ قياســ ًا على ذلك ،ال محالة .وحتى َّ التنصل من تأييدها له على اســتحياء ،اســتطاعت -تقريباً -أن تخفي فرحتها في مآل األمور التي حاول ترامب ُّ (ومثل ذلك في هولندا ،وألمانيا ،وفرنسا) .وفي الوقت الذي كان فيه شعار دعاة االنفصال في بريطانيا يقول: مر ًة أخرى». «لنسترجع بالدنا» ،كان شعار حملة ترامب« :لنجعل أميركا ً عظيمة ّ
األول كاآلخـــر :لنســـترجع بالدنـــا مـــن ســـطوة البرلمــان األوروبــي (أو مجلــس االّتحــاد األوروبــي) ال ــذي يس ــمح لتل ــك األجن ــاس والجنس ــيات األخ ــرى والمهاجريـــن بغزونـــا ومنافســـتنا فـــي الوظائـــف، وحت ــى ف ــي تطبي ــق الش ــريعة اإلس ــامية وف ــرض اللحــم الحــال لــدى الجـّـزار .لنجعــل بالدنــا عظيمــة وكل دعـــاة بعيـــدًا مـــن الليبرالييـــن واليســـاريين ّ كل ذلــك التعايــش والتســاوي مــع اآلخريــن ألن فــي ّ ـاض مجيــد ،كّنــا ننعــم بــه ذات يــوم؛ ذلــك تداعيـ ًا لمـ ٍ مميــزة، الماضــي الــذي لــم يكــن فيــه للســود حقـ ٌ ـوق َّ ثم ــة ـن ـ يك وال ش ــيء اس ــمه ال ــزواج المثل ــي ،ول ــم ّ 60
للتغيــر المناخــي ،وال تفجيــرات اإلرهابيين، حســاب ُّ ولـــم تهاجـــر وظائفنـــا إلـــى الـــدول اآلســـيوية ،وال كل هــذا، مصانعنــا إلــى الصيــن ،تحديــداً ..إلــخ .فــي ّ الجمهوري ــون أن االلتزام ــات الدولي ــة ،الت ــي ال يج ــد ّ المتحــدة ،هــي وراء يجدونهــا فــي صالــح الواليــات َّ تبنّـــي تلـــك السياســـات .بقطـــع الصـــات -إذن- والتخّلــي عــن االّتفاقيــات الدوليــة ،التــي ِّ تمثــل األمــم المتحــدة المتحــدة أبــرز صورهــا ،تســتعيد الواليــات َّ َّ حرّي ــة التص ـ ُّـرف- ـا ـ يعطيه ـا ـ م ـة؛ ـ التام تها ـتقاللي ـ اس َّ ّ ّ كيفمــا شــاءت -بمــا فيــه مصلحــة الشــعب األميركــي، أم ــا آخ ــرون في ــرون أن الوالي ــات حس ــبما ي ــرونّ .
ـا ،تراجعها عن المســرح العالمي المتحــدة بــدأت ،فعـ ً ِّ تحت سياســات أوباما ،في الجناح الليبرالي؛ وذلك ـرعيين (ومعظهــم بــدءًا بترحيلــه المهاجريــن غيــر الشـ ّ ـول التينيــة) بأعـ ٍ مــن أصـ ٍ ـداد غيــر مســبوقة ،مــرورًا لبش ــار بتراخي ــه ع ــن الخ ـ ّ ـط األحم ــر ال ــذي رس ــمه ّ ـوات األميركيــة فــي العــراق األســد ،إلــى تقليصــه القـّ أمــا وأفغانســتان ،وموقفــه المتخــاذل تجــاه إيــرانّ . نصــح أوبامــا للبريطانيين بالتصويت لصالح البقاء م ــع االّتح ــاد فه ــو ينب ــع م ــن منظ ــور اس ــتراتيجي؛ فضمـــن أمـــور أخـــرى ،عندمـــا تتالقـــى المصالـــح األميركيــة والبريطانيــة (وهــي كثيــرًا مــا تتالقى) فإن المتحدة ســتفقد ،بخــروج بريطانيا ،صوت ًا الواليات ِّ االتحــاد األوروبــي، مســانداً ،عنــد التصويــت ،داخــل ِّ علــى األمــور المتعلِّقــة بالمصالــح األميركيــة .لكــن، بالمقابــل ،فــإن خــروج بريطانيــا مــن االّتحاد يعطيها حرّيــة الوقــوف إلــى جنــب أميــركا ،عندمــا يســتدعي ّ األم ــر ،دون االلتف ــات إل ــى رأي االّتح ــاد األوروب ــي. غيــر أن بريطانيــا ،التــي حّقــق فيهــا االنفصاليون مبتغاهــم ،فــي الوقــت الــذي لــم يتـّـم فيــه اســتيعاب تبعــات االنفصــال مــن االّتحــاد بعد ،والتــي تبدو ،في تلخصها مجملهــا ،ســلبية إلــى اآلن ،أصبحت حالتها ِّ خاصـــة فيمـــا يتعلَّـــق عبـــارة «ندامـــة الشـــاري»، ً بالتج ــارة واالقتص ــاد .والتصوي ــت عل ــى االنفص ــال يعكــس حالــة الغيــظ الشــعبي مــن الفئــة النخبويــة المعزولــة عــن همــوم الشــعب .والــدرس الــذي يمكــن ّيــة، أن يســتقيه ِّ منظــرو السياســات األميركيــة المحلّ أي حــال ،هــو إثــر التصويــت علــى االنفصــال ،علــى ّ محتمــل، مبكــرًا علــى ُّ ضــرورة العمــل ِّ ـراع َ تجنــب صـ ٍ بيــن الطبقــة العماليــة التــي قــد تغويهــا الشــوفينية والش ــعبوية ،م ــن جه ــة ،والت ــي ت ــرى أن المنافس ــة مـــن «األجانـــب» علـــى الوظائـــف هـــي ســـبب رداءة ٍ بشـــكل عـــام، أوضاعهـــم االقتصاديـــة والبطالـــة، والتعدديــة اإلثنيــة- وبيــن المســتفيدين مــن العولمــة ُّ الثّقافي ــة ،م ــن جه ــة أخ ــرى .وه ــو -تمامــاً -الوت ــر المرش ــح الرئاس ــي الحس ــاس ال ــذي يع ــزف علي ــه َّ ّ ترام ــب ،ف ــي الترغي ــب بسياس ــاته المقترح ــة. إذن ،الوصفــة العالجيــة ،هنــا ،هي ضــرورة ردم ُّخ ــب .وم ــا ش ــعبية ـوة الثق ــة بي ــن الش ــعوب والن َ هـّ ترامــب إال تعبيــر عــن الضيــق بفشــل النخبــة الحاكمــة واختيـــار شـــخص مـــن خـــارج الدائـــرة السياســـية ـا .والشــعبوية ،فــي جـ ٍ ـزء كبيـٍـر منهــا، التقليديــة بديـ ً مــا هــي إال الرغبــة فــي الرجــوع إلــى الحكم الســلطوي ـوق فئـ ٍ تعهديــة، الــذي ال يعبــأ بحقـ ٍ ـات مــا أو التزامــات ُّ ّيــات العرقيــة أو الدينيــة ،أو تجــاه ســواء تجــاه األقلّ ٍ دول بأكملهـــا ،لكـــن صـــراع اليميـــن مـــع اليســـار ال ـــزل بالشـــعبوية؛ فكمـــا أن اليميـــن األميركـــي ُي َ خت َ وكل ـه ـ يقلق ـكل صغيــرة ّ توســع الحكومــة وتقنينهــا لـ ّ ُّ كبيــرة فالنظــرة مــن داخــل االّتحــاد األوروبــي تثيــر
االتح ــاد عندم ــا تب ــدأ بحظ ــر قل ــق بع ــض مواطن ــي ِّ الذكي ــة ومجفِّف ــات ـف ـ والهوات المكان ــس الكهربائي ــة ّ الشــعر العاليــة االســتهالك للطاقــة. ـن ل ــم ـ م ها ع ـر ـ ش كي ــف يمك ــن االمتث ــال لقواني ــنْ َ َ َّ َ ، ـا عن يتـّـم انتخابهــم وال ســلطة للشــعب عليهــم ،فضـ ً أنه ــم م ــن بل ــدان أخ ــرى؟ م ــاذا حص ــل للديموقراطي ــة الليبراليــة وحقــوق األفــراد والحكــم الذاتــي؟ كان ذلــك حري بعــض دعــوات دعــاة االنفصال والذيــن رأوا أنه ٌّ المتحــدة التشــجيع علــى االنفصــال لــدى بالواليــات َّ تقييــم المســألة مــن تلــك الزاويــة. أمــا اليســار األميركــي ،فــي مجملــه ،فقــد نظــر إلى االنفص ــال عل ــى أن ــه لي ــس ف ــي صال ــح بريطاني ــا، المفكـــر نعـــوم عبـــر ِّ وال فـــي صالـــح العالـــم ،وقـــد ّ تشومســـكي عـــن ذلـــك بالتصريـــح عـــن مخاوفـــه م ــن أن تصب ــح بريطاني ــا ،باالنفص ــال ،ف ــي مرتب ــة ممـــا هـــي دونيـــة مـــن الواليـــات َّ ّ المتحـــدة (أكثـــر ّ مؤي ــدي ـن ـ م ـوا ـ كان ـار ـ اليس ـض ـ بع ـن ـ لك اآلن). ـه علي ـ ِّ أي حــال؛ وذلــك بســبب نظرتهــم إلى االنفصــال علــى ِّ لمؤسســات َرْيعية بيئة ـه ـ بوصف ـي، االتحــاد األوروبـ ً ِّ َّ ولن َخب تتجنَّب دفع الضرائب ،وللجريمة احتكاريةُ ، المنظم ــة ،ولفش ــل العولم ــة ف ــي تحس ــين األوض ــاع َّ أحيان كثيرة .وبحســب ـي ـ ف ـرب، ـ الغ ـي ـ ف ـة ـ االقتصادي ٍ النظــرة هــذه فــإن الــذي أعطــى زخم ًا لترامب هــو ذاته ال ــذي أعط ــى زخمــ ًا لغريم ــه الديموقراط ــي «بيرن ــي كل ما بوســعه إلفشــال ســاندرز» ،الذي نذر أن يفعل ّ التصويــت لترامــب. لك ــن ،بالنس ــبة إل ــى أولئ ــك الذي ــن يتمّن ــون ف ــوز ترام ــب ف ــي االنتخاب ــات الرئاس ــية القادم ــة ،فاألم ــر عم ــا ه ــو علي ــه ف ــي مختل ــف ف ــي الوالي ــات َّ المتح ــدة ّ تعددي ـ ًـة بكثي ــر م ــن بريطاني ــا؛ إذ إن األول ــى أكث ــر ُّ ـول علــى الثانيــة ،وبذلــك قــد ال يجــدي ترامــب أن يعـ ِّ خاص ـ ًـة إذا تصوي ــت الطبق ــة العامل ــة م ــن البي ــضّ ، ّيــات .غيــر أن المميــزة بإهانــة األقلّ طرقــه َّ اسـ َّ ـتمر فــي ُ الش ــعب األميرك ــي ،إجم ــاالً ،ال يعني ــه م ــن بريكس ــت ثـــم -بدرجـــة أدنـــى، إال مـــا قـــد يمـــس االقتصـــادّ ، ّ والمنظ ــرون ربم ــا -األم ــن القوم ــي .أم ــا المحلِّل ــون ِّ ّ ـكل يدل ــي بدل ــوه ،دون يقي ــن بتبع ــات والخب ــراء ف ـ ٌّ يتخـــوف مـــن أن االنفصـــال .مـــن المحلِّليـــن مـــن َّ ـؤدي االنفص ــال البريطان ــي إل ــى أن انف ــراط العق ــد يـ ّ ً ْقن ــة ل ب ـى ـ إل ال ـو ـ وص ـرى، ـ أخ ـد ـ بع ـة ـ دول ـي، ـ األوروب ً ََ أوروبــا؛ األمــر الــذي يرونــه ليــس فــي صالــح األمــن يتخوف ــون م ــن تأثي ــر االنفص ــال عل ــى العالم ــي ،أو َّ معـ َّـدل الفائــدة لــدى المصــارف المركزيــة .لكــن الواقع التنب ــؤ بتبع ــات االنفص ــال تبق ــى قي ــد التخمي ــن، أن ُّ األيــام مــا كنــت رغــم المحلِّليــن ،إلــى أن «تبــدي لــك َّ ـا» ،بتعبي ــر َطَرف ــة ب ــن العب ــد. جاه ـ ً
ِّ المفكر عبّر نعوم تشومسكي عن مخاوفه من أن تصبح بريطانيا، باالنفصال ،في مرتبة دونيّة من الواليات المتَّحدة (أكثر مما هي عليه ّ اآلن)
61
البريكست.. جرس إنذار وســكان األرياف خلفية اإلحباط والخوف من اآلخر ،عند الفئات األكبر ســن ًا ّ التصويــت جــاء على ّ أقل انخراط ًا في سياق العولمة المتنامي ،والذي صار يشمل ممن هم ّ وأصحاب الياقات الزرقاء؛ أي َّ صوتوا مع البقاء؛ ما المدن والجيل الشــاب ،بشــكل ّ خاص ،والفئات المتعلّمة وأصحاب الياقات البيضاء الذي َّ ّ
قوي في العالم يشمل المدن العالمية الكبرى يجعلنا نستنتج -مع ّ كل الحذر والحيطة من التعميم -وجود اّتجاه ّ عالمي، عام المتصل « ،»Connectedوالذي بدأ والطبقات الوســطى والجيل الشــاب المنفتح َّ ّ ّ يتشــكل منه رأي ّ ّ الضيقة والخصوصيات الثّقافية تجمعه ثقافة جامعة تشمل االنفتاح على اآلخر وقبوله ّ وتخطي الحدود القومية ّ أهمية األفكار التي طالمــا عجزت الحواجز عن المتزمتــة لجهــة ثقافة جامعة عالمية .وهــذا تمرين تطبيقي على ّ ِّ الوقوف في وجهها ،فكيف ،اآلن ،مع اإلمكانات التقنية التي جعلت وتيرة انتقالها وتفاعلها غير مسبوقة؟!.
منى فياض (بريوت)
موقع بريطانيا الجغرافي خارج قارّة أوروبا أبقى الشعور لدى البريطانيين بأنهم يختلفون عن باقي الدول
62
يبـــدو أن كاميـــرون ذهـــب إلـــى االســـتفتاء، وه ــو واث ــق م ــن أن نتيجت ــه س ــتكون م ــع البق ــاء ضمــن االّتحــاد ،ففوجــئ ،هــو والعالــم ،بالنتيجــة الدراماتيكيـــة .صحيـــح أن بريطانيـــا كانـــت ،منـــذ مؤسســي البدايــة ،حالــة اســتثنائية ،ولــم تكــن مــن ّ انضم ــت إلي ــه ،فق ــط ،ف ــي االّتح ــاد األوروب ــي ب ــل َّ ـارة أوروبا أبقى ـ ق ـارج ـ خ ـي ـ 1973فموقعهــا الجغراف ّ الش ــعور ل ــدى البريطانيي ــن بأنه ــم يختلف ــون ع ــن كل ـغّ . باق ــي ال ــدول ،والجني ــه األس ــترليني ل ــم ُيل ـ َ الخاص ــة لإلمبراطوري ــة، ذل ــك أش ــار إل ــى المكان ــة ّ الت ــي ل ــم تك ــن الش ــمس تغي ــب عنه ــا. لكــن هــذه التفســيرات ال تســاعد علــى التقليــل مــن الصدمــة -الصفعــة التــي تلقّاهــا االّتحــاد األوروبــي المتعال ــي والواث ــق م ــن نفس ــه؛ فه ــو معت ــاد عل ــى أم ــا اآلن، أن معظ ــم ال ــدول تطل ــب االنضم ــام إلي ــهّ . فلقــد أصبــح مهـ َّـددًا بالتفـ ُّـكك ،مثل بريطانيا نفســها. ـا عــن الدولــة القوميــة المغلقة شـ َّـك َل االّتحــاد بديـ ً محل يحلن ّ فــي إطــار حدودهــا .القانون واالقتصــاد ّ والهوي ــة ،وب ــد ًال م ــن األيديولوجي ــا حّل ــت الس ــيادة ّ البيروقراطيــة ،وانتصــرت المصالــح علــى المشــاعر
القومي ــة ،لكنه ــا ليس ــت الم ـّـرة األول ــى الت ــي تق ــول فيهــا الجماهيــر كلمتهــا خالفـ ًا للنخبــة. مؤخ ــراً -بالكثي ــر م ــن األح ــداث يتفاج ــأ العال ــمَّ - غيــر المتوقَّعــة :مــن الثــورات العربيــة ،إلــى بــروز داع ــش ،إل ــى غ ــرق أوروب ــا بالّالجئي ــن ،حت ــى م ــا يحـــدث فـــي الواليـــات المّتحـــدة مفاجـــئ .يســـود االنقســام العالــم ،ومعظــم الــدول منقســمة ،داخلياً، ـاداً. انقس ــام ًا ح ـ ّ الم ـ ّـرة األخي ــرة الت ــي ع ــرف العال ــم فيه ــا مث ــل ه ــذا الوض ــع كان ــت بع ــد الح ــرب العالمي ــة األول ــى. والمرحل ــة القصي ــرة الت ــي تبعته ــا ،قب ــل أن تنقل ــب األوضـــاع ،وينشـــأ عنهـــا العالـــم الجديـــد الـــذي ب ــرز بع ــد الح ــرب العالمي ــة الثاني ــة ،يطل ــق عليه ــا الفرنسيون «الحقبة الجميلة،»La belle époque - كحني ــن إل ــى العال ــم القدي ــم ال ــذي اختف ــى. نحــن ،اآلن ،أمــام شــيء جديــد وعميــق يحصــل عصي ـ ًا علــى الفهــم. فــي العالــم ،يجعلــه ّ غـــداة الحـــرب العالميـــة األولـــى كانـــت الثـــورة وح َّلــت الصناعيــة األولــى قــد وصلــت إلــى أوجهــاَ ، وقصرت المَمكننــة ّ محل عربات الجيادّ ، المواصــات ُ
الطائ ــرات المس ــافات .حاول ــت ال ــدول الت ــي ق ــادت العال ــم القدي ــم اإلبق ــاء عل ــى مكانته ــا ،لك ــن الح ــرب النوويَتْي ــن القنبلتْي ــن العالمي ــة الثاني ــة واس ــتخدام َ َّ المتفوق ــة صناعي ـاً ،أرس ــا قواع ــد م ــن ِقَب ــل أمي ــركا ّ ـي القط ــب .فتعاي ــش جدي ــدة ،وأوج ــدا عالمــ ًا ثنائ ـ ّ مركزْيـــن همـــا: مـــن قـــادة العالـــم مـــع منظومـــة َ واش ــنطن ،وموس ــكو ،يحكمهم ــا ت ــوازن رع ــب. لك ــن العال ــم ال ــذي نش ــأ بع ــد الح ــرب العالمي ــة الثانيـــة بـــدأ باالختفـــاء مـــع انهيـــار االّتحـــاد الســوفياتي .نحــن ،اآلن ،أمــام عالــم جديــد ينبثــق، يتكـــون بعـــد. ولـــم َّ تنبــأ بــأن العالــم أن ـان» ـ لوه ـاك ـ «م ـبق ـ س ـد ـ ق كان َّ ـول إلــى قريــة صغيــرة .لكــن ،لــم تظهــر نتائــج تحـ َّ التنبــؤ عيانيـاً ،علــى األرض ،بشــكل ملمــوس. هــذا ُّ اآلن ،نالحــظ ذلــك بطريقــة غيــر مســبوقة عبــر مــا يعــرف بالعولمــة المتســارعة .لقــد ســمحت الثــورة التكنولوجيــة الثالثــة (كمــا ُسـ ِّـمَيت) ،والتــي اعتمــدت عل ــى اس ــتخدام ش ــبكة اإلنترن ــت ال ــذي خ ــرج ع ــن ســيطرة الجيــش والمخابــرات ،ليــس ،فقــط ،بربــط الماليي ــن دون وس ــيط وف ــوق الح ــدود والحواج ــز، بــل -أيضـاً -بوصولهــم ،عبر الشــبكات االجتماعية، حـــرة غيـــر مســـبوقة، إلـــى المعلومـــات بطريقـــة ّ التدخـــل المباشـــر فـــي وبإعطائهـــم القـــدرة علـــى ُّ صياغ ــة األح ــداث والتأثي ــر فيه ــا .إنه ــا حقب ــة م ــا الحكام يعــرف بـ(اقتصــاد المعرفــة) .أفقــد ذلــك قــدرة ّ فــي الســيطرة علــى المعرفــة ،وأضعــف قدرتهم على التالع ــب بالعق ــول؛ إنه ــا ث ــورة المعلوم ــات الت ــي
أوجده ــا الفض ــاء الرقم ــي. ال ي ــزال م ــن غي ــر الواض ــح م ــاذا س ــينتج ع ــن تلم ْســنا بعــض اآلثــار فــي الثــورات ّ كل ذلــك ،لكننــا َّ الم َع ْوَل ــم. العربي ــة ،وف ــي ظاه ــرة اإلره ــاب ُ يقــف أصحــاب القــرار ،اآلن ،أمــام عالــم جديــد؛ عالــم تكــون فيــه الدولــة الوطنية محدودة الســيادة، المتحــدة َّ والمنظمــات أقــوى مــن الــدول ،والواليــات َّ ـؤدي دورهــا كمــا كانــت ،عالــم ُي َعـّد األمــر األهـّـم ال تـ ّ فيــه وقــف موجــة الالجئين إلى الغــرب ،دون اهتمام بمعالجــة جــذور المشــكلة .فــي عالــم كهــذا ال تعــود أم ــا القواع ــد القواع ــد القديم ــة ق ــادرة عل ــى العم ــلّ ، الجدي ــدة فل ــم تتش ـّـكل بع ــد .وعلي ــه ،ف ــإن تجرب ــة توقــع المســتقبل. ـل قـ ً الماضــي تكــون أقـّ ـدرة علــى ُّ اســـتنتجت بعـــض التحليـــات ،فـــي عالمنـــا العربــي ،بمناســبة مئويــة ســايكس بيكــو ،وجــود مؤامــرة غربيــة لتفكيــك الــدول الوطنية التي نشــأت ـن مــا الحظنــاه ،مــع عمليــة إثــر تلــك االّتفاقيــة .لكـ ّ التصويــت علــى اســتفتاء البريكســت ،هــو أن الغرب المته ــم بالتآم ــر مه ـّدد ه ــو -أيض ـاً -بالتف ـ ُّـكك. َّ تنبــأت بعــض التحليــات بــأن تســارع أن ـبق ـ س َّ ومجاني ــة س ــيرورة العولم ــة وس ــهولة التواص ــل ّ كبيرْيــن يتقاســمان المعرفــة سـ ِّ ـتعزز نشــوء ّ ارْيــن َ تي َ ومتصل ،عابر للبلدان العالم :واحد ُم َع ْوَلم ومنفتح َّ متمســك بالخصوصيــات ـارات ،وآخــر منغلــق ِّ والقـ ّ والعصبي ــات؛ أي اّتج ــاه يمين ــي متقوق ــع الثّقافي ــة ّ للهويــات القوميــة والمحلّية ،في مواجهة ـب ومتعصـ ِّ ّ وم َع ْوَلــم يحمــل ثقافــة كونية ـح ـ منفت ـي ـ ليبرال اّتجــاه ُ
تسارع سيرورة العولمة وسهولة التواصل جانية وم ّ المعرفة ستعزِّز نشوء تيّار َ ْين كبير َ ْين يتقاسمان العالم
63
التح ّدي ،اآلن ،أن نتيجة التصويت عبَّرت عن كبار َ السن الذين ّ ص ّوتوا للخروج من االتّحاد األوروبي كي ِّ ينفذه الشباب
الذين يرفضونه!!
64
والعصبيــات. الخصوصيــات الثّقافيــة، مــن خــارج ّ ّ ـن العال ــم ـ ظ ـذا، ـ كه ـابك ـ متش ـي ـ رقم ـاء ـ فض ف ــي ّ األول أن ــه س ــيكون بمن ــأى ع ــن الح ــرب الس ــورية، َّ المتفشــي فــي بعــض الــدول العربيــة، وعــن العنــف ّ ســرعان مــا َكذَّبتــه التداعيــات ،وآخرهــا البريكســت. األمــر المفــروغ منــه أن نتائــج االســتفتاء الشــعبي، فــي بريطانيــا تشــير إلــى انتصــار مرحلــي لســيادة المتطرفـــة، الدولـــة الوطنيـــة وللنزعـــة لقوميـــة ّ وللكزينوفوبيـــا واالنغـــاق .تشـــير الصحيفـــة الفرنس ــية «النوف ــل أوس ــرفاتور» إل ــى أن الح ــوادث العنصري ــة تضاعف ــت بع ــد االس ــتفتاء. خلفيــة اإلحبــاط والخــوف التصويــت جــاء علــى ّ اآلخــر عنــد الفئــات األكبــر سـّن ًا وسـّـكان األرياف مــن َ أقـــل أي الزرقـــاء؛ الياقـــات وأصحـــاب ممـــن هـــم ّ َّ انخراطـــ ًا فـــي ســـياق العولمـــة المتنامـــي ،والـــذي ـاص، صــار يشــمل المــدن والجيــل الشــاب ،بشــكل خـ ّ والفئــات المتعلّمــة وأصحــاب الياقــات البيضاء الذي كل الحذر صوتــوا للبقــاء؛ مــا يجعلنا نســتنتج ،مــع ّ َّ ـوي ف ــي والحيط ــة م ــن التعمي ــم ،وج ــود اّتج ــاه ق ـ ّ العال ــم يش ــمل الم ــدن العالمي ــة الكب ــرى والطبق ــات الوســـطى والجيـــل الشـــاب المنفتـــح المّتصـــل ـام « ،»Connectedوالــذي بــدأ يتشـ َّـكل منــه رأي عـ ّ عالمــي ،تجمعــه ثقافــة جامعــة تشــمل االنفتــاح على الضيق ــة وتخط ــي الح ــدود القومي ــة اآلخ ــر وقبول ــه ّ ِّ المتزمتـــة لجهـــة ثقافـــة ّقافيـــة ث ال والخصوصيـــات ِّ أهميــة جامعــة عالميــة .وهــذا تمريــن تطبيقــي علــى ّ األفــكار ،التــي طالمــا عجــزت الحواجــز عــن الوقــوف ف ــي وجهه ــا ،فكي ــف ،اآلن ،م ــع اإلمكان ــات التقني ــة التــي جعلــت وتيــرة انتقالها وتفاعلها غير مســبوقة؟ هن ــاك -إذن -ح ــراك نح ــو التف ـ ُّـكك والتقوق ــع، والتجمــع في وحدات يواجهــه حــراك نحــو التواصل ُّ كبــرى. التحـّدي ،اآلن ،أن نتيجــة التصويــت َع َّبــرت عــن صوت ــوا للخ ــروج م ــن االّتح ــاد كب ــار الس ـ ّ ـن الذي ــن ّ ينف ــذه الش ــباب الذي ــن يرفضون ــه!! األوروب ــي ك ــي ِّ ـــر -أيضـــاً -عـــن فشـــل فـــي ّ لكـــن االســـتفتاء َّ عب َ الديموقراطيـــة .ففـــي دولـــة ديموقراطيـــة يقـــوم جمهــور الناخبيــن بتعييــن ممثِّليــه ،و -فــي الوقــت نفســه -يعطي الشــرعية المتجّددة للحكومة للعمل، ـاء عل ــى م ــا يتواف ــق علي ــه الجمي ــع .وعندم ــا ال بن ـ ً يكــون الجمهــور راضيـ ًا عــن الحكومــة ،تكــون أمامــه العامــة القادمــة، فرصــة التصويــت فــي االنتخابــات ّ م ــن أج ــل اس ــتبدال الس ــلطة .لك ــن كامي ــرون لج ــأ إل ــى االس ــتفتاء ح ــول بق ــاء إنجلت ــرا ف ــي االّتح ــاد ، ـل االس ــتثنائي -عل ــى فاس ــتخدم الدس ــتور -أي الح ـ ّ التخلــص من منافســيه على قيــادة المحافظين، أمــل ُّ فوقعــت الورطــة ذات األبعــاد المصيريــة ،لبريطانيــا نفس ــها قب ــل غيره ــا.
عبـــر عـــن الفشـــل االقتصـــادي :فالخلفيـــة كمـــا ّ للمصوتيـــن للخـــروج ،هـــي عكـــس االجتماعيـــة ِّ المؤيديــن .إنهــا الطبقــات الضعيفــة وسـّـكان خلفيــة ِّ ّ الضواحـــي الذيـــن يســـكنون بالقـــرب مـــن المراكـــز الصناعيـــة التـــي أغلقـــت خـــال الخمســـين ســـنة المكدســة، األخيــرة ،بقــوا جانبـاً ،بعيــدًا عن األموال َّ وش ــعروا باإلحب ــاط والغض ــب؛ ه ــذا اإلحب ــاط ه ــو المتطـــرف إلـــى أدى إلـــى صعـــود اليميـــن الـــذي ّ ِّ مســـتوى ،لـــم يصلـــه فـــي أوروبـــا ،منـــذ الحـــرب العالمي ــة الثاني ــة. البريكســـت جـــرس إنـــذار .بريطانيـــا وأوروبـــا ردة الفعل فإمــا أن تكــون ّ والعالــم فــي وضــع حــرجّ : هــي االســتمرار باّتبــاع األدوات القديمــة نفســها التــي
أوروبا تشعر بالخطر تجاه ما يه ّدد وحدتها، وهي المك َّونة من دول ذات قوميّات ولغات وثقافات متع ّددة ومختلفة، وسوف تدافع ّ بكل ق ّوتها عنها
أثبتــت فشــلها ،أو أن تكــون علــى مســتوى المرحلــة مبتك ــر ،وعل ــى ق ــدر التاريخي ــة فتتص ـ َّـرف بش ــكل َ المســؤولية. أمــا عالمنــا العربــي فليس عليه انتظار المســاعدة ّ مــن أوروبــا المحتاجــة ،هــي نفســها ،إليهــا ،والتــي المهمــش -أصالً- ســتعجز عــن لعــب دورهــا الســابق َّ ولــو لفتــرة ،وال مــن أميــركا -بالطبــع -التــي ال تهتـّـم س ــوى بم ــا تحس ــبه لمصلحته ــا .المرحل ــة ليس ــت مرحلــة ِقَيــم أخالقيــة. علينـــا أن نفهـــم أننـــا وحدنـــا ،وأن مصيرنـــا، بح ْســـن اختيـــار الطريـــق لســـنوات قادمـــة -رهـــن ُ الــذي نتبعــه .ليــس األمــر ســهالً ،لكــن علــى العــرب تخطــي ذاتهــم ومواجهــة الحاضــر ومشــاكله بطــرق ّ
ـوق علــى نفســها ،وتأخذ مســافة فـذّة ومبتكــرة ،تتفـّ كافي ــة م ــن تاريخه ــا وماضيه ــا ،م ــن أج ــل مواجه ــة ـل. المس ــتقبل بمخاط ــر أق ـ ّ إن أوروبـــا تشـــعر بالخطـــر تجـــاه مـــا يهـــّدد قوميـــات وحدتهـــا ،وهـــي المكونـــة مـــن دول ذات ّ َّ ولغــات وثقافــات متعـّددة ومختلفة ،وســوف تدافع ممــا هــي عليه، عنهــا بـ ّ ـكل ّ قوتهــا ،وقــد تخــرج أقــوى ّ لك ــن ه ــذا يف ــرض عل ــى ال ــدول العربي ــة أن تمتل ــك الجــرأة علــى االّتحــاد والتكامــل فيمــا بينهــا ألن لديها الماديــة ،لكــن ،تنقصها الروح. ّ كل مقومــات االّتحــاد ّ الســؤال -باختصــار :-هــل يريــد العــرب أن يكــون التغي ــرات الحاصل ــة ف ــي العال ــم، له ــم وزن وس ــط ُّ أم ســيقبلون أن يظّلــوا موضوعــه؟ 65
رسخ حضور ما َّ الفكرة األوروبية- أساس ًا -هو األدب والفكر والفلسفة وسائر العلوم اإلنسانية
المفكريــن أن ُيَبلْور وحــدة أوروبا الثّقافية، هــل هنــاك صورة ثقافية واحــدة ألوروبا؟ حاول بعض ِّ كل من :عوليس ،ودون من خالل ديمومة األســاطير الكبرى التي شــغلت العامة ،كأسطورة ٍّ ِّ المخيلة ّ جوان ،ونابوليون بونابارت ،أو عبر اســتعادة «األمكنة المشــتركة» ،أو عبــر التيارات الكبيرة التي اجتاحــت أوروبا ،بدءًا من «عصر األنوار» ،إلى النهضة ،إلى الرومانســية والســوريالية والعبثية... التيارات لصنع وحدة أوروبية ثقافية؟ وماذا عن أوروبا الشمالية التي لكن ،هل تكفي هذه المدارس أو ّ ما زالت ثقافتها وآدابها في حاجة إلى االكتشاف؟ ماذا عن أوروبا الشرقية التي ما برحت تشهد حا ًال من االضطراب؟ ماذا عن الجزء اليوناني الذي يمكن وصفه بـ«شتات» الثّقافة اإلغريقية؟
الفكرة األوروبية..
هل تهتز ّ مع انسحاب بريطانيا؟ عبده وازن (بريوت) لـــم توفِّـــر «صدمـــة» انســـحاب بريطانيـــا مـــن االّتحــاد األوروبــي الثّقافــة والمثقَّفيــن ،البريطانيين واألوروبييــن ،علــى الســواء .أوروبــا حال حضارية قبــل أن تكــون معتــرك ًا سياســي ًا واقتصاديـاً .ولعــل رســخ حضــور الفكــرة األوروبيــة -أساسـاً -هــو مــا َّ األدب والفكــر والفلســفة وســائر العلــوم اإلنســانية. وف ــي تقديم ــه كت ــاب «فك ــرة م ــا ع ــن أوروب ــا» (دار 66
اكــت ســود) ،للكاتــب «جــورج ســتينر» ،األوروبــي بامتيــاز ،يقــول الكاتب «روب ريمــان» ،رئيس معهد «ناكســوس» للثّقافــة األوروبيــة« :األفكار اإلنســانية الكبــرى :هــذه هــي الثّقافــة األوروبيــة». كي ــف س ــتغدو الفك ــرة األوروبي ــة بع ــد انس ــحاب بريطاني ــا م ــن االّتح ــاد؟ ق ــد يك ــون الج ــواب -عل ــى مث ــل ه ــذا الس ــؤال -غي ــر واض ــح ،اآلن ،عل ــى رغ ــم
األث ــر ال ــذي س ــيتركه االنس ــحاب عل ــى ه ــذه الفك ــرة تحديــات العولمــة الراهنــة ،التي ال يمكن التــي تشــهد ِّ إس ــقاط األث ــر األميرك ــي عنه ــا .والالف ــت أن معظ ــم األدبــاء والمثقَّفيــن البريطانييــن عارضــوا ،بش ـّدة، هــذا االنســحاب ،ووقَّعــوا بيانــات ،وكتبــوا مقــاالت، اســتنكروا فيها االنســحاب .فانضمامهم إلى المجلس األوروبــي لطالمــا َو َّفـ َـر لهــم فرص ـ ًا ثقافيــة وأدبيــة إضافة إلى مهمــة ،خصوصـ ًا مــا يرتبــط بالترجمــة، ً ّ المســاحة الواســعة للحــوار المفتــوح التــي أوجدهــا، ليــس مــع األدبــاء والمثقَّفيــن األوروبييــن ،فحســب، بــل مــع أدبــاء العالــم ومثقَّفيــه ،أيضـاً. نشــط المجلــس كثيــرًا فــي حقــل ترســيخ الثّقافــة األوروبيــة ونشــرها والترويــج ألفكارهــا ومبادئهــا. ف ــي الع ــام ،2000ع ــام نهاي ــة ق ــرن وبداي ــة آخ ــر، ـــمي ،حينـــذاك، أطلـــق المجلـــس األوروبـــي مـــا ُس ِّ «قطـــار األدب األوروبـــي» ،وقـــد حمـــل نحـــو مئـــة وثالثيــن أديبـ ًا مــن أوروبــا ،وانطلــق مــن لشــبونة، ف ــي جول ــة عل ــى عواص ــم وم ــدن أوروبي ــة ع ـّدة... كانـــت غايـــة هـــذا «القطـــار» ترويـــج فكـــرة األدب األوروب ــي ،م ــن خ ــال اللق ــاء بي ــن ه ــؤالء األدب ــاء و«الجماهي ــر» ،وكان عليه ــم أن يش ــرحوا -أيضــاً- ـح «القطــار» أنجـ َ معنــى الوحــدة األوروبيــة .وســواء َ مهمتــه أم لــم ينجــح ،فهــو َع َّبـَـر عن الخشــية فــي أداء َّ مــن طغيــان شــبح العولمــة األميركيــة علــى البلــدان األوروبي ــة وثقافاته ــا. أمــا الحــدث اآلخــر فــكان فــي العــام ،2000عندما ّ كســرت مجموعــة مــن األدبــاء األوروبييــن الحصــار ال ــذي ضربت ــه الق ــوات الصربي ــة عل ــى س ــاراييفو، ودخلــت المدينــة ،وأحيــت «اللقــاء األوروبــي حــول الكتـــاب» ،تحـــت شـــعار «الكتـــب ضـــّد البنـــادق»، وعق ــدت ن ــدوات عــّدة ،تدع ــو إل ــى ثقاف ــة الس ــام. وعلـــى غـــرار هـــذه المجموعـــة ،انطلقـــت ،مـــن فرانكف ــورت« ،مجموع ــة ،»99ف ــي الغاي ــة نفس ــها وفــي التحـّدي نفســه ،وكان صاحب الفكــرة الروائي «غونت ــر غ ــراس». كان البـــّد مـــن أن تشـــهد أوروبـــا مثـــل هـــذه هويــة ثقافيــة، المبــادرات؛ فالهويــة األوروبيــة هــي ّ ّ فـــي جـــزء منهـــا .ويكفـــي اســـتعراض البرنامـــج يتبيـــن، الثّقافـــي لـ«االّتحـــاد األوروبـــي» حتـــى َّ بوضــوح ،طغيــان الهـّـم الثّقافــي علــى هــذا االّتحــاد. ـا 11 -ف ــي المئ ــة م ــن موازنت ــه فه ــو يخص ــص -مث ـ ً ِّ ـاوة علــى إحيائــه الكثيــر للترجمــة األدبيــة فقــط ،عـ ً مــن التظاهــرات الثّقافيــة واللقــاءات التي ال تحصى، وعلــى دعمــه الكتــاب والقــراءة والمســرح والســينما والفنّي وســواها .وكان التبــادل الثّقافــي ،واألدبــيَ ، بنـــدًا أساســـي ًا مـــن بنـــود المجلـــس .وَأ َّكـــد ِّاتفـــاق ماســتريخت ،المبـَـرم فــي العــام ،1992العالقــة بين الفعل السياســي والفعل الثّقافي .وترســيخ ًا لمفهوم
التعـّدد الثّقافــي ،والدينــي ،واللّغــوي ،أعلــن مجلس االّتحــاد «اليــوم األوروبي الســنوي للّغات» وأضحى ـدل اإلحصــاءات علــى تقليــدًا تحتفــي بــه أوروبــا .وتـ ّ تعـــم أوروبـــا ،وهـــي أن هنـــاك نحـــو 200لغـــة ّ ـوزع بيــن دول وبيئــات وإثنيــات مختلفــة. لغــات تتـ َّ وأحيـــا المجلـــس -أيضـــاً -ظاهـــرة «العواصـــم» الثّقافي ــة األوروبي ــة .وه ــذه الس ــنة ،تحتف ــل به ــذه الظاهــرة مدينــة «جنــوى» اإليطاليــة ،ومدينــة «ليل» الفرنســية .واالحتفــال ،هنــا ،يعنــي تبــادل األعمــال ّي ــة ،واإلب ــداع المش ــترك؛ ترس ــيخ ًا الثّقافي ــة ،والفنّ ِلمــا سـّـماه المجلــس «الفضــاء الثّقافــي األوروبــي». ـل مطروح ــة :ه ــل هن ــاك لك ــن أس ــئلة كثي ــرة تظ ـ ّ ثقاف ــة أوروبي ــة واح ــدة؟ ه ــل هن ــاك أدب أوروب ــي واح ــد ،ومس ــرح واح ــد ،وس ــينما واح ــدة...؟ وه ــل توحــد الثّقافــة األوروبيــة اســتطاعت المبــادرات أن ّ ـاص؟ ف ــي فض ــاء خ ـ ّ كثي ــرًا م ــا ُطِرح ــت ه ــذه األس ــئلة عل ــى الثّقاف ــة المفكريـــن أن يجيـــب األوروبيـــة ،وحـــاول بعـــض ِّ عنهــا ،لكنهــا ال ُتطـَـرح -مثالً -علــى الثّقافة األميركية الجنوبيـــة وال علـــى الثّقافـــة األميركيـــة المتعـــّددة المناخــات .وقــد َّ تمثــل خصائــص الثّقافــة األوروبيــة فــي عــدم اإلجابــة الشــافية علــى هــذه األســئلة .وكــم أصــاب الذيــن وصفــوا أوروبــا بـ«السـّـر» ،بــدءًا مــن خلفيتهـــا األســـطورية الفينيقيـــة التـــي ال عالقـــة َّ ـاء بتس ــميتها ،تاريخيــاً« ،األرض له ــا به ــا ،وانته ـ ً المجهولــة» القائمــة شــمال بــاد اإلغريــق .تملك هذه ـا -الكثيــر مــن األســرار؛ إنهــا مجموعــة القــارة -فعـ ً مــن الحضــارات المنصهــرة ،ومجموعة مــن الثّقافات المتداخل ــة واألدي ــان والقومي ــات واإلثني ــات ..إنه ــا «ب ــاد» الكائ ــن والغري ــب« ،ب ــاد» الفك ــر اإلنس ــاني ال ــذي يمت ــزج في ــه الفك ــر اإلغريق ــي (عل ــى اخت ــاف مدارس ــه) ،بالفك ــر المس ــيحي ،والفك ــر التنوي ــري، والعلمانـــي ..إنهـــا «بـــاد» الجميـــع ،متحاوريـــن، الذي ــن يعت ــرف بعضه ــم ببع ــض. أي حـــرب بيـــن د كان «فيكتـــور هوغـــو» يعـــّ ّ ـوان عــن الكالم، األوروبييــن «حربـ ًا ّ أهليــة» .ولــم يتـ َ قارَنها بـ«الجنســية أوروبية» حينذاك ،عن «جنســية َ اإلغريقي ــة» الت ــي ب ــرزت ف ــي العص ــر القدي ــم .أم ــا «أندريـــه مالـــرو» فـــرأى ،فـــي أوروبـــا« ،بربريـــة منظمـــة بتيقُّـــظ ،حيـــث فكـــرة الحضـــارة وفكـــرة َّ كل يــوم» .الكاتــب «جــول رومــان» النظــام تختلطــان ّ صــرخ جهــاراً« :أوروبا وطنــي» ،والكاتب البرتغالي إدواردو لورنســـو ،أشـــار ،فـــي كتابـــه «أوروبـــا أوروبيـ ًـة، المفتقــدة» ،إلــى أن هنــاك «أوروبــا أكثــر ّ أوروبيـ ًـة» .ويضيــف« :هــذا االختــاف ـل وأوروبــا أقـّ ّ ال عالقــة لــه بالثقــل االقتصــادي ،أو حتى السياســي داخــل االّتحــاد» .لكــن ،أليــس هنــاك -أيضـاً -أوروبا األطــراف ،وأوروبــا «المحــور»؟ أليــس هنــاك العالــم
يكفي استعراض البرنامج الثّقافي لـ«االتّحاد األوروبي» حتى يتبيَّن ،بوضوح، الهم طغيان ّ الثّقافي فهو يخصص ٪ 11من ِّ موازنته للترجمة األدبية فقط
67
س ِئل «فرنسيس ُ فوكوياما» ،عن توسيع «الرقعة» ع َّد األوروبية ،ف َ ذلك «إعادة توحيد نص َ ي ف ْ أوروبا اللذين قسمتهما الحرب الباردة»
68
األول األوروب ــي؟ الثال ــث األوروب ــي ،والعال ــم َّ أيــام قليلــة، ُس ـِئل «فرنســيس فوكويامــا» ،قبــل ّ ـــد ذلـــك فع َّ عـــن توســـيع «الرقعـــة» األوروبيـــةَ ، ـي أوروب ــا اللذي ــن قس ــمتهما «إع ــادة توحي ــد َ نصف ـ ْ الجم ــة الح ــرب الب ــاردة» ،وأش ــار إل ــى الصعوب ــات ّ الت ــي س ــتواجه إع ــادة التوحي ــد ه ــذه .لك ــن إع ــادة التوحيــد ســتعني -أيضـاً -نهايــة الزعامــة الفرنســية األلمانيــة فــي االّتحاد األوروبــي .وإذا كانت ألمانيانصفْيه ــا ،فم ــا نفس ــها عان ــت الكثي ــر عق ــب توحي ــد َ ت ــراه يك ــون أم ــر أوروب ــا؟ هـــل هنـــاك صـــورة ثقافيـــة واحـــدة ألوروبـــا؟ ـور وح ــدة أوروب ــا ح ــاول بع ــض المفكري ــن أن ُيَبْل ـ ِ ِّ الثّقافي ــة ،م ــن خ ــال ديموم ــة األس ــاطير الكب ــرى كل م ــن الت ــي ش ــغلت العام ــة ،كأس ــطورة ٍّ ِّ المخيل ــة ّ عولي ــس ،ودون ج ــوان ،ونابولي ــون بوناب ــارت، أو عبـــر اســـتعادة «األمكنـــة المشـــتركة» ،أو عبـــر التيــارات الكبيــرة التــي اجتاحــت أوروبــا ،بــدءًا مــن ّ «عص ــر األن ــوار» إل ــى النهض ــة ،إل ــى الرومانس ــية، والس ــوريالية ،والعبثي ــة ...لك ــن ،ه ــل تكف ــي ه ــذه التيـــارات لصنـــع وحـــدة أوروبيـــة المـــدارس أو ّ ثقافيــة؟ ومــاذا عــن أوروبــا الشــمالية التــي مــا زالــت ثقافته ــا وآدابه ــا ف ــي حاج ــة إل ــى االكتش ــاف؟ م ــاذا ع ــن أوروب ــا الش ــرقية الت ــي م ــا برح ــت تش ــهد ح ــا ًال م ــن االضط ــراب؟ م ــاذا ع ــن الج ــزء اليونان ــي ال ــذي يمك ــن وصف ــه بـ«ش ــتات» الثّقاف ــة اإلغريقي ــة؟ قـــد يكـــون هنـــاك فضـــاء فكـــري ،وروحـــي ـاء غامض ـاً ،وعل ــى ق ــدر أوروب ــي ،لكن ــه يظ ـ ّ ـل فض ـ ً يتمتــع كثيرًا الفضاء ـذا ـ وه ـاس! غيــر قليــل مــن االلتبـ َّ
الحرّي ــة ونعم ــة االخت ــاف والتع ـّدد .وه ــذه بنعم ــة ّ النعمــة هــي التــي تســمح لبعــض الكّتــاب أن يكتبــوا بأيــة لغــة أوروبيــة يشــاؤونها .وهــي التــي جعلــت ّ ـا -كاتبــ ًا فرنس ــي ًا الروس ــي «أندري ــه ماكي ــن» -مث ـ ً بامتي ــاز ،وكذل ــك األلماني ــة «أغوت ــا كريس ــتوف»، والتشـــيكي «ميـــان كونديـــرا» .وهـــذا األخيـــر لـــن يغض ــب عل ــى الفرنس ــيين إذا َعــّدوه ،بع ــد الي ــوم، كاتبـــ ًا فرنكوفونيـــاً ،فقـــد أصبـــح ،اآلن ،مواطنـــ ًا بأيــة لغــة تصــدر كتبــه ،قبــل يهمــه َّ أوروبيـاً ،ولــن ّ أن تص ــدر بالفرنس ــية. فـــي أوج مواجهـــة العولمـــة األميركيـــة ،ســـعى المجل ــس األوروب ــي إل ــى وض ــع كت ــاب ع ــن األدب األوروبي ،وكان عنوانه «مختصر األدب األوروبي». يتمك ــن م ــن رص ــد خصائ ــص لك ــن ه ــذا الكت ــاب ل ــم َّ عامـاً ،بــل هــو َعـ َّـدَد بعــض هــذا األدب ،بصفتــه أدبـ ًا ّ الميـــزات التـــي َت َّتســـم بهـــا آداب أوروبـــا ،كاألدب الفرنســي ،واألدب األلمانــي ،واألدب اإلنجليــزي... تــرى :هــل هنــاك -حّق ـاً -أدب أوروبــي صــرف، يشـــبه -ولـــو مـــع كثيـــر مـــن االختـــاف -األدب األميركــي -الالتينــي ،أو األدب الصينــي ،أو األدب منفصـــا الهنـــدي ،أم أن هنـــاك آدابـــ ًا أوروبيـــة، ً بعضهــا عــن بعــض ،مقــدار مــا هي متقاربــة ،بعضها م ــن بع ــض؟ أم ــا اآلن ،بع ــد انس ــحاب بريطاني ــا م ــن االّتح ــاد ّ األوروبـــي ،فهـــو يهـــّدد -أيضـــاً -بانســـحاب دول أوروبيــة أخــرى مــن هــذا االّتحــاد ،فمــا تراه ســيكون ح ــال الثّقاف ــة األوروبي ــة؟
ال يبدو أنّه من اليسير أن ينفصل شعب ما عن ذاكرته ،كما ال يمكن أن ينفصل عن لغته أو عن مجرد تمثيلية حديثة بين أخالقه العميقة؛ لذلك يبدو انفصال بريطانيا راهن ًا ( ،)2016مثالًّ ، يتم البحث -في الواقع -عن «حبكة» أعضاء العائلة السردية الواحدة ،أمام غير الغربيينّ . الهويات السردية فاعلية لها على مســتوى ّ جديدة للقصة نفســها .إنّها معركة حدود بين الدول ،لكن ال ّ تظل تنتظر الفرصة دوم ًا فإن الشعوب ّ وألن ّ كل معارك الحدود معارك خاسرة ومصطنعةّ ، للشعوبّ . أي خجل سردي. إلعادة انتماء بعضها إلى البعض اآلخر ،بال ّ
أوروبا الفالسفة.. التي ال يُمكن االنفصال عنها د .فتحي املسكيني (تونس) ـفياً»؟ يب ــدو مت ــى أصبح ــت أوروب ــا «مش ــك ً ال فلس ـ ّ دشــن نــوع االستشــكال الــذي أول مــن ّ ّ أن كانــط هــو ّ قــاد إلــى فكــرة أوروبــا أو «اإلنســانية األوروبيــة»، كمــا ضبطهــا هوســرل .ويبــدو أّنــه التقط هــذا الخيط الفلســفي عندما أخذ األوروبيــون ،وخاصة األلمان، فــي التســاؤل والبحــث عــن إجابــة للســؤال« :مــا هــو ربم ــا كان ــت إجاب ــة كان ــط عل ــى التنوي ــر» (ّ .)1784 النح ــو التال ــي« :م ــا ه ــي أوروب ــا»؟ -إنّه ــا إنس ــانية التنويـــر .وعلـــى الرغـــم مـــن ظهـــور فالســـفة ال بغربيته ــا ،ب ــل بأوروبي ــة الفلس ــفة ،ب ــل يؤمن ــون ّ ّ بأنّه ــا «تاري ــخ العال ــم» عل ــى أف ــواه األوروبيي ــن، مثــل هيغــل وشــيلنغ ،وبعــد ذلــك هيدغــر أو دريــدا، ـإن فالســفة حاســمين بقــدر مــا هــم مختلفــون (مــن فـ ّ قبيــل نيتشــه وهوســرل وباتوشــكا وفوكــو وريكور كل وهابرمــاس) ظّلــوا يكّنــون للســؤال عــن أوروبــا ّ االحترام الفلســفي المناســب .ومنذ نيتشه تخصيص ًا جيــداً؟» ـل الســؤال «مــا معنــى أن تكــون ظـّ أوروبي ـ ًا ّ ّ أي «جنيالوجي ــا لألخ ــاق» ج ــزءًا اس ــتراتيجي ًا م ــن ّ األوروبية ( )1887وسؤا ًال مناسب ًا تمام ًا للمتفلسفة. أحقيـــة هـــذا الســـؤال وهـــو قـــد بنـــى صالحيـــة أو ّ ّ علــى مالحظــة رشــيقة بقــدر مــا هــي مزعجــة :لمــاذا «يتــأورب» الهنــود وال «يتهّنــد» األوروبيــون؟ .وكان أكب ــر إي ــام فلس ــفي ل ــروح ح ـ ّـرة مث ــل نيتش ــه أن تنزلــق أوروبــا فــي ضــرب مــن «البوذيــة» الجديــدة. ـأول ه ــذا المنزل ــق بأّن ــه ج ــزء عمي ــق م ــن وه ــو يت ـ ّ العدميــة األوروبيــة. ّ مـــا هـــي «أوروبـــا الفالســـفة» إذن؟ تبـــدو لنـــا األقـــل، اإلجابـــة عـــن هـــذا الســـؤال ممكنـــة ،علـــى ّ
مـــن خـــال األســـئلة الفلســـفية التاليـــة :هـــل هـــي نــوع مخصــوص مــن معنــى «اإلنســانية» المأزومــة «هوي ــة س ــردية» عليه ــا الدخ ــول ف ــي (هوس ــرل) أم ّ تماريــن عامــة فــي آداب الصفــح عــن نفســها(ريكور) أم هــي دســتور تواصلــي قابــل للكوننــة (هابرمــاس )2012أم ه ــي مج ـّـرد س ــوق عج ــوز ل ــرأس الم ــال النيوليبرالي (فوكو)؟ أم هي جهاز تلفّظ اســتعماري آن األوان لـــ«ترييفه» () provincializingكما دعا مفكــري الهنــد (ديبــاش شــكرابارتي إلــى ذلــك أحــد ّ أي معن ــى لالنفص ــال عنه ــا؟ ـذ: ـ عندئ )2007؟ -ث ـّـم ّ كم ــا فعل ــت بريطاني ــا راهن ـاً؟ ـأن رأس األمــر فــي كتــاب هوســرل أزمــة ّ لنذكــر بـ ّ ـــر َر مـــا بيـــن 1934 ح والـــذي األوروبيـــة العلـــوم ُ ِّ أن أزمــة أوروبــا هــي أزمــة «معنــى»: و ،1937هــو ّ لقــد فقــد العلــم األوروبــي «غايتــه» ( )telosوداللتــه بالنس ــبة إل ــى الحي ــاة ،بع ــد أن انطل ــق من ــذ عص ــر النهضــة يبحــث عــن تأســيس الســتقاللية اإلنســانية تصور جديد للفلســفة ،أال وهو األوروبية بناء على ّ أن الفلســفة ليــس لهــا مــن هــدف آخــر ســوى «الكفاح ّ ـن «عال ــم الحي ــاة» م ــن أج ــل معن ــى اإلنس ــان» .لك ـ ّ الـــذي عملـــت الفلســـفة األوروبيـــة علـــى اختراعـــه ثمـــة تنافـــر فـــي صلـــب لـــم يعـــد ً قابـــا للعيـــشّ . معنــى الحيــاة الحديثــة نفســها :لقــد نســيت العلــوم الموضوعيــة أنّهــا هــي نفســها تشــكيالت «ذاتية» من إن العلــم األوروبــي قــد نســي عالــم معيــش بعينــهّ . عال ــم الحي ــاة ال ــذي أنتج ــه .وحس ــب أح ــد تالمي ــذ المميزيــن والذيــن أخــذوا علــى عاتقهــم هــذا هوســرل ّ الن ــوع م ــن الط ــرح ألزم ــة العل ــوم األوروبي ــة ،ه ــو
أوروبا تع ّودت أن تولَد من «التدمير الخلّاق»؛ فبعد تدمير المدينة اليونانية وبعد انهيار اإلمبراطورية الرومانية صارت فكرة أوروبا ممكنة في العصور الوسطى
69
السوق صارت تخلق الدولة؛ ال شرعية لدولة بال سوق تشرّع لها. في هذا السياق، أتى «فوكو» إلى تشخيصه المؤلم لداللة «سياسة الحياة» التي انتهجتها دول أوروبا
70
الفيلس ــوف التش ــيكي ج ــان باتوش ــكا ،وف ــي كت ــاب يحمـــل عنوانـــ ًا الفتـــ ًا هـــو «أفالطـــون وأوروبـــا» ـودت أن توَلــد مــن «التدمير ( ،)1973فـ ّ ـإن أوروبــا تعـّ ـاق»؛ فبعــد تدمير المدينة اليونانية وبعد انهيار الخـ ّ اإلمبراطوري ــة الروماني ــة ،ص ــارت فك ــرة أوروب ــا وكل مـــن يحمـــل ممكنـــة فـــي العصـــور الوســـطىّ . ه ــذه الذاك ــرة المخصوص ــة ه ــو أوروب ــي .أوروب ــا ككيــان هــي اكتشــاف قروســطي .وحســب باتوشــكا فإن «العناية بالنفس»()epimeleia tes psyches ّ التــي اخترعهــا أفالطــون هــي الفكــرة التــي اخترعــت أوروب ــا .والمس ــيحية ل ــم تفع ــل غي ــر تكري ــس ه ــذا وحولت ــه إل ــى مق ـّدس. االخت ــراع األخالق ــي ّ علينا أن نتســاءل اآلن :إذا كانت أزمة اإلنســانية األوروبيــة ،حســب هوســرل ،هــي أزمــة معنى فإلى يعدون أي مــدى يمكــن للفالســفة الالحقيــن ،والذيــن ّ ّ هــذا التشــخيص لحظة حاســمة فــي تاريخ التســاؤل حــول مفهــوم أوروبــا ،ونعنــي خاصــة هنــا فوكــو وباتوش ــكا وريك ــور وهابرم ــاس وآالن بادي ــو ،أن ـل أزم ــة المعن ــى بواس ــطة نم ــاذج يفلح ــوا ف ــي ح ـ ّ تخطــت ســؤال فلســفة الــذات المتعاليــة عــن تأويليــة ّ المعنــى (أي تجــاوزت براديغــم الوعــي) وامتشــقت أدوات تفكيـــر واستشـــكال مـــن نـــوع أركيولوجـــي (فوكو) أو سردي (ريكور) أو تواصلي (هابرماس)؟ فــي ســنة 1979ألقــى فوكــو درسـ ًا مثيــرًا حــول ـا «النيوليبرالي ــة» .وفي ــه ه ــو يقي ــم تميي ــزًا فاص ـ ً بي ــن الليبرالي ــة الكالس ــيكية ،والت ــي ت ــدور ح ــول هــذا الســؤال« :كيــف يمكــن ،داخــل مجتمــع سياســي ـاء حـّـرًا يكــون هــو معيــن ،أن نقتطــع أو ّ ّ نهيــئ فضـ ً «إن : ـا ـ قائ ـة، ـ النيوليبرالي فض ــاء الس ــوق» ،وبي ــن ً ّ مشــكل النيوليبراليــة هــو علــى الضـّد مــن ذلــك ،أن نع ــرف كي ــف يمكنن ــا أن نع ـّدل االس ــتخدام العالم ــي
للس ــلطة السياس ــية عل ــى أس ــاس مب ــادئ اقتص ــاد الس ــوق» .م ــا ه ــو جدي ــد ،وه ــو م ــا انخرط ــت في ــه الموح ــدة ،ه ــو تعدي ــل اس ــتعمال الس ــلطة أوروب ــا ّ علــى أســاس الســوق وليــس العكــس .كانــت الدولــة ـإن الس ــوق أم ــا اآلن ف ـ ّ ه ــي الت ــي تخل ــق الس ــوقّ ، هــي التــي صــارت تخلــق الدولــة .ال شــرعية لدولــة بــا ســوق تشـّـرع لهــا .فــي هــذا الســياق أتــى فوكــو إل ــى تش ــخيصه المؤل ــم لدالل ــة «سياس ــة الحي ــاة» كل االهتمام إن صــرف ّ التــي انتهجتهــا دول أوروبــاّ : ـؤدي إل ــى إل ــى الصح ــة ونم ــط الحي ــاة لس ـّـكانها ي ـ ّ ّ كلبـــي« :عـــش ،واتـــرك أخالقياتـــي مبـــدأ إعـــان ّ اآلخريــن يموتــون ( .»)! ذلــك مــا دعــا البعــض إلــى اســتعمال فوكــو راهنـ ًا لتأويــل موقــف بعــض الدولة األوروبيــة مــن أزمــة الالجئيــن .مجتمعــات الســوق ال تس ــتطيع أن تس ــتقبل الالجئي ــن ،أي المواطني ــن م ــن دون س ــوق. فـــي ســـنة 1992طـــرح ريكـــور ســـؤا ًال طريفـــ ًا «أي ُخُلــق ()éthos حــول أوروبــا المســتقبل قائـ ً ـاّ : جدي ــد ألوروب ــا؟» ،مقّدمــ ًا ل ــه ف ــي صيغ ــة الخ ــوف. أن الرغبــة فــي الذهــاب وخــوف ريكــور ينطلــق مــن ّ بأوروب ــا إل ــى نط ــاق يتج ــاوز الش ــكل الدس ــتوري الــذي انبنــت عليــه «الدولــة األمــة» هو موقــف ال يخلو مــن أخطــار .ورغــم ذلــك يستحســن ريكــور مصطلح أن األمــر «مــا بعــد القومــي» ،وإن كان يحصــره فــي ّ يتعّلــق بوضعيــة غيــر مســبوقة ،ومــن َثـّـم بتشــريع إن األمــر عنــده ال مؤسســات علــى غيــر مثــال ســبقّ . يتع ـّدى «الخي ــال السياس ــي» .وحس ــب رأي ــه ه ــو ال يخــرج عــن النمــوذج المعــروف دائمـاً ،أي المزاوجــة «الهوي ــة» و«الغيري ــة» ف ــي وع ــي الش ــعوب. بي ــن ّ وينحصــر دور الفلســفة فــي اقتــراح «نمــاذج إدمــاج» بي ــن المفهومي ــن .وف ــي ه ــذا اإلط ــار يقت ــرح ريك ــور
ثالثـــة نمـــاذج :أ -نمـــوذج الترجمـــة .ب -نمـــوذج تبــادل أشــكال الذاكرة .وأخيــراً؛ ج -نموذج الصفح. أوروبــا هــي نمــط مــن تبــادل الذاكــرة بواســطة أن الذاكـــرة ليســـت ينبـــه ريكـــور إلـــى ّ الهويـــاتّ . ّ يرك ــز علي ــه فيه ــا ـا ـ م ـل ـ ب ـانية، ـ نفس مج ــرد ملك ــة ّ هــو وظيفــة «الســرد» ،أي تلــك القــدرة لــدى شــعب مــا علــى حفــظ مــا هــو فــردي أو جماعــي بواســطة كل قص ــص نوعي ــة م ــن خالله ــا نح ــن ننج ــح ف ــي ّ ّ مـّـرة فــي تفصيــل وتشــكيل زمانيتنا الخاصــة .وبهذا «الهويــة الســردية» لجملــة ـإن أوروبــا هــي المعنــى فـ ّ ّ متمي ــزة ـة ـ كمجموع ـا ـ هن ـذ ـ تؤخ ـي ـ الت ـعوب م ــن الش ـ ّ أن أوروبــا هي ـي ـ يعن ـا ـ مم ـة. ـ الروائي ـخوص مــن الشـ ّ ّ بمثاب ــة «حبك ــة» س ــردية بفضله ــا يمك ــن لش ــعوب لقصــة أساســية تؤمــن الوحــدة الزمانيــة ّ ّ معينــة أن ّ مــن خاللهــا يحكــي النــاس تاريــخ أنفســهم وأحــداث التاريــخ الــذي يعيشــونه فــي الوقت نفســه .أوروبا، هوية ســردية متحركــة .هي «تاريخ حســب ريكــورّ ، ألن تاريــخ النفــس يأخذ في ـة ـ مختلف ـي» بطــرق ّ محكـ ّ ثمة تتكون تواريخ أو الحســبان تاريــخ الغير .ومــن ّ قصــص مــن درجــة ثانيــة .وحســب ريكــور ال يتعّلــق األم ــر ب ــأن نعي ــش م ــا عاش ــه اآلخ ــر ،ب ــل فق ــط أن نتبــادل الذاكــرة معــه .أوروبــا هــي مجــال لالعتــراف بذاك ــرة اآلخ ــر بواس ــطة الس ــرد .م ــا يهــّدد أوروب ــا الهويــات المغلقــة والمتحجــرة .تلــك التــي تتــم هــو ّ حراســتها بواســطة الذاكــرة الجماعيــة التي ال تعرف م ــن س ــند س ــردي س ــوى «األح ــداث التأسيس ــية» المثبتــة بــا رجعــة .ولذلــك يقتــرح ريكــور أن يكــون ّ الخل ــق األوروب ــي» المنش ــود عب ــارة «اإليت ــوس أو ُ عـــن مجهـــود مـــن أجـــل «قـــراءة متعـــّددة» للنفـــس أي ضربـــ ًا مـــن «حكايـــة القصـــة بطريقـــة أخـــرى» ـوض «الشــفقة التاريخيــة» بملكــة «التنافــس بيــن تعـّ المهمــة ـذه ـ له ـب ـ مناس ـند ـ س ـن ـ م ـس ـ ولي ـرديات». السـ ّ مثــل «تبــادل الذاكــرات الثقافيــة» .وهــو يقــوم علــى ـل لعملي ــات الرغب ــة ف ــي «التقاس ــم الرم ــزي والمج ـ ّ المؤسســـة للثقافـــات القوميـــة اســـتذكار األحـــداث ّ األخــرى كمــا لذاكــرات األقليــات أو الطوائــف الدينيــة األقليــة» .وليــس ذلك لمجرد التقاســم ،بل لمســاعدة ّ الشــعوب بعضهــا بعضـ ًا علــى تحرير الحيــاة داخلها مــن ســلطة «التــراث» الــذي فقــد القــدرة علــى االنتماء حيـاً .يقول إلينــا .وذلــك لفائــدة التــراث الــذي مــازال ّ «إن المســتقبل الــذي لــم يتحّقــق في الماضي ريكــورّ : ـراء م ــن ـ ث ـر ـ األكث ـزء ـ الج ـح ـ األرج ـى ـ عل ه ــو يمّث ــل ً تــراث مــا» .أوروبــا فضــاء مــن أجــل هــدف ســردي نبي ــل :تحري ــر مس ــتقبل الماض ــي بواس ــطة تب ــادل كل تلــك الوعــود التــي لــم يســتطع الذاكــرة .تحريــر ّ الماضــي أن يفــي بهــا. ف ــي ه ــذا الص ــدد يقح ــم ريك ــور نموذج ــه الثال ــث تصـــور ُخلـــق المســـتقبل األوروبـــي ،نمـــوذج فـــي ّ
الصف ــح .ال يمك ــن التح ـّـرر م ــن الج ــزء المس ــيء م ــن الماض ــي إ ّال ب ــأن نعي ــد حكايت ــه بطريق ــة مغاي ــرة. هويــة ســردية جديدة. وذلــك يعنــي مــن خــال خلق ّ ـإن «الصفــح هــو شــكل مخصــوص وحســب ريكــور فـ ّ الهوي ــة ف ــي مراجع ــة الماض ــي ،وعب ــره ،مراجع ــة ّ ـن الش ــرط هن ــا الس ــردية الخاص ــة ب ـ ّ ـكل ف ــرد» .لك ـ ّ ه ــو أن تك ــون «مراجع ــة ف ــي الجم ــع» ولي ــس فق ــط ـإن الصف ــح ه ــو «مراجع ــة ف ــي المف ــرد .وم ــن ث ــم ف ـ ّ متبادل ــة» يك ــون تحري ــر وع ــود الماض ــي الت ــي ل ــم يت ـّـم اإليف ــاء به ــا ه ــو ثمرته ــا العلي ــا .وأه ـّـم نقط ــة يق ــف عنده ــا ريك ــور هن ــا ه ــي تل ــك المتعلّق ــة بم ــا إن تبــادل الذاكــرة ينبغي ُيسـّـمى «جــروح» الماضــيّ : أن يت ـ ّـم عل ــى مس ــتوى «اآلالم» ولي ــس فق ــط عل ــى مســتوى االحتفاء بـــ«األحداث الكبرى» .وهذه اآلالم أو العذابــات لهــا دور خطيــر فــي تشــكيل التاريــخ: الهويــات الســردية وإلــى جانــب تضافــر إلــى جانــب ّ تواريــخ الذاكــرة ،تمّثــل آالم اآلخرين محورًا حاســم ًا فــي بلــورة فضــاء انتمــاء جديــد فــي أوروبــا .يقــول «إن إحـــدى الســـماء الكبـــرى فـــي تاريـــخ ريكـــورّ : أوروبـــا هـــي الحجـــم الهائـــل مـــن العذابـــات التـــي إن تاريـــخ تعرضـــت لهـــا الـــدول ..فـــي الماضـــيّ . ّ ـاس :حــروب أديان ،حــروب غزو، أوروبــا تاريـ ٌ ـخ قـ ٍ ح ــروب إب ــادة ،إخض ــاع األقلي ــات العرقي ــة ،ط ــرد أو اس ــتعباد األقلي ــات الديني ــة .»..وحس ــب ريك ــور ال مخـــرج مـــن هـــذا «الكابـــوس» األوروبـــي إ ّال مـــن الهوويــة والتضافــر مــع خــال :مراجعــة الســرديات ّ س ــرديات الغي ــر ،وأخي ــرًا «فه ــم آالم اآلخري ــن ف ــي الماض ــي والحاض ــر». م ــا ه ــو مطل ــوب م ــن ش ــعوب أوروب ــا ،حس ــب ريكـــور ،هـــو أن تنخـــرط فـــي «تبـــادل للذاكـــرات المجروح ــة» ،وم ــن َث ـّـم أن «تتخي ــل آالم اآلخري ــن» وأن تعي ــش ذل ــك كن ــوع م ــن الصف ــح ،ولك ــن م ــع أو ًال ع ــدم الخل ــط بي ــن الصف ــح تنبيهي ــن كبيري ــنّ : والنســيان؛ قــال« :ال نســتطيع أن نصفــح إ ّال حيــث ال يوج ــد نس ــيان» .وثاني ـ ًا أن نحت ــرم فت ــرة الصب ــر «ثمــة زمــن لمــا التــي يحتاجهــا طلــب الصفــح .قــالّ : إن للصفـــح. وثمـــة زمـــن ّ ال يمكـــن الصفـــح عنـــهّ ، ـا» -.مســاهمة ريكــور الصفــح يتطّلــب صبــرًا طويـ ً أن الترجمة فــي اقتــراح ُخلــق جديــد ألوروبــا هــي :أّ - هــي شــرط الكونيــة بيــن اللغــات .ب -أن الســرديات المتقاطع ــة وحده ــا تفت ــح الذاك ــرات عل ــى بعضه ــا أن الصفــح هــو الطريقة الوحيدة لكســر البعــض .جّ - الديـــن والنســـيان وفتـــح المجـــال نحـــو االعتـــراف َّ والع ــدل تج ــاه آالم اآلخري ــن .بذل ــك كّل ــه ،فق ــط، الخل ــق تك ــون أوروب ــا ق ــد حصل ــت عل ــى م ــا ُيش ــبه ُ المناس ــب للمس ــتقبل.
ما يه ّدد أوروبا هو الهويّات المغلقة جرة؛ والمتح ِّ تلك التي تتم حراستها ّ بواسطة الذاكرة الجماعية التي ال تعرف من سند سردي سوى «األحداث التأسيسية» المثبّتة بال رجعة
71
72
بصمات علي قنديل رُبَّمــا كان َقــ َدر الشــاعر المصــري علــي قنديــل ( )1975 - 1953أن يتموقــع بيــن شــوائب جيل َ ْيــن :جيــل مــا قبــل الخمســينيات ،وجيــل مــا بعدهــا ،وهــو -فــي الســلة ـن رأى أنــه مــن المجحــف وضعــه داخــل ّ الحقيقــة -جيــل واحــد ،هنــاك َمـ ْ نفســها ،وآخــرون لــم يجــدوا ،إلــى اليــوم ،حرجـ ًا فــي اتِّهامــه بأنــه جيــل االنقالب علــى نفســه ،علــى نحــو مــا أ َ ْملتــه الظــروف السياســية. فــي قلــب هــذا الســياق ،ظهــر علــي قنديــل ،متسـل ِّ ً ال بحزمــة قصائــد ،عبــر ترعــة، َ أدركهــا فــي تلــك اآلونــة ،وكأنــه أراد ،بذلــك، مــن الراجــح أن ال أحــد مــن أنــداده تهريبهــا نحــو الحلــم والمســتقبل الغيبــي. حــت الشــاعر جمِ عــت بعــد رحيلــه بفتــرة ،ن َ َ فــي مق َّدمــة آثــاره الشــعرية ،التــي ُ ّ هــم ،جــاء فيهــا« :يكــ ِّون علــي عفيفــي مطــر شــاهدة فــي حــق رفيقــه المل َ قنديــل ،بحياتــه ،وموتــه ،وكتاباتــه ،ظاهــرة خارقــة لالســتيعاب والفهــم المبكر َ ْيــن ،وســؤا ً ِّ ال عظيمــ ًا ،مــا يــزال مطروحــ ًا بعــد أن رحــل.»... ّ الملــف مجلّــة «الدوحــة» تســتعيد بصمــات الشــاعر علــي قنديــل ،فــي هــذا الخــاص. ّ
73
تركت علي قنديل على باب قصر الثّقافة في كفر الشيخ، قبل واحد وأربعين عاماً ،في الساعة الواحدة ظهراً، ُ
ستقدم جوائز لمسابقة الشعر السنوية على مستوى المحافظة؛ مع محمد الشهاوي ،حيث كان يختار الكتب التي َّ فقد كان حريص ًا على أن تكون الجائزة كتب ًا بد ًال من النقود ،التي كان يعرف أن الشعراء الفائزين سيشترون
بها السجائر ،ولم أكن أعرف لحظتها أنني سأكون صاحب الجائزة األولى ،وصاحب النظرة األخيرة لهذا سيارات الجيش بعد نصف ساعة من مغادرتي للقصر مع شقيقه .كان ذلك في الشاعر ،إذ صدمته سيارة من ّ
17يوليو/تموز.1975 ،
ذهب يف طريق آخر عيل عفيفي شخصية ال أن يقتنع أحد مثلي بأن علي قنديل يمثِّل لم يكن سه ً ّ اســتثنائية .كان يكبرنــي بثالثــة أعــوام ،وكنــت فــي الثامنة عشرة من عمري ..لكن ،كان بداخلي يقين أنه رجل استثنائي. انضممــت إلى جماعة حوريــس األدبية في كفر الشــيخ ،التي أسســها علي قنديل ،واختار اســمها ،مع عدد من كبار شعراء َّ كفر الشــيخ في ذلك الوقت .وكم كانت كلماته فاعلة في نفسي وعلَّق قائالً« :ما أنت شــاعر َأ ُهه». عندمــا قــرأ أولى قصائديَ ، ثقة ،كنت في حاجة كبيرة حينها ،حازت شــاعريتي المبتدئة ً َّ ولــدي رغبة فــي كتابة حقيقيــة .ومنذ ذلــك التاريخ، إليهــا، ّ أصبحت أصغر عضو في جماعة حوريس ،أســافر في صحبة علــي قنديــل ،وممــدوح المتولي ،ومحمــد الشــهاوي ،وأحمد سماحة ،وعبد الدايم الشاذلي ،وإبراهيم قنديل ،إلى محافظات الدلتــا ،حيــث تعقــد نــدوات فــي اإلســكندرية والمنصــورة، مرة ،كنت أســتمتع والشــرقية ،ودمنهور ،وغيرها ،وفي ّ كل ّ المتميز ،وأشــعر وسطهم بوجودي ضمن هذا الفريق اإلبداعي ِّ أمســية ،كان كل وبعد المرات، كل ّ بأن قامتي مشــدودة ،وفي ّ ّ المحافظتْين يلتقون في مقهى ،ويدور الحوار .وعندما شعراء َ لحظة بعد يبــدأ علي قنديل فــي الكالم يزداد إصغــاء الجميع، ً لحظــة؛ إذ يســتيقظ مــن داخلــه مارد حكيــم ،رفيــع الثّقافة، منظم ،ثاقب الرأي ،واثق من معرفته ،جديد الكالم، منهجــيَّ ، ّ موســوعي ،وكنــت ،في داخلــي ،أزهو به ،مــدرك ًا أن الفارق ّ الســن ،واســع فــي الثّقافة والمعرفــة ،لكنه ضيق في ّ بيننــا ِّ أصبح أنموذج ًا لشــاعر مثقَّف كبير فــي مقتبل العمر ،يعطيك المَثل لكي تحاول اللحاق به. َ فــي هذا العــام ،تعلَّمت معانــي الصداقة مع هــؤالء .كان علي كل منّا أن ُيخرج ما في جيبه من نقود ،وكان قنديل يطلب من ّ محمد الشهاوي يحتفظ بأجرة الذهاب واإلياب التي يصرفها لنا قصر الثّقافة ،باإلضافة إلى ما يجمعه من هذا الفريق متواضع 74
أي ًا الحال ،ويتولّــى اإلنفاق على الجميع طوال الرحلة ،مانع ًا ّ التصرف ،بحماقة ،فــي القليل الذي نملكه من النقود، منّــا من ُّ وكانــت حماقاتنــا ال تتجــاوز الرغبــة الدائمــة فــي التدخيــن، وامتالك علبة سجائر كاملة في هذا الوقت. الظل في أدب ،لبق كان علــي قنديل أنيق ًا في بســاطة ،خفيف ّ الحديث ،حكيم القرار ،تنجذب إلى نبله ،وفكاهاته ،وثقافته، قرر الرحيل، ولي أمرك .وعندمــا ّ واهتمامه بشــؤونك ،كأنــه ّ ظهر ضباب كثيف في طريق ،كان يعرف هو مســالكه ،وكنت قرر فجــأة أن يذهب في طريق أتمنّــى أن أصاحبه فيــه ،لكنه ّ آخر. بعــد رحيل علــي قنديل ،توقَّف الجميع ،تقريبــاً ،عن الكتابة، حتــى عفيفي مطر الــذي َع َّرفني إليه علي قنديــل أصابته هذه ربما -كان مخرجه منها هو السكتة الكتابية الغريبة لفترة ،وّ - المتميزة التي كتبها لديوان «كائنات علي المقدمة الرائعة هــذه ِّ ّ قنديل الطالعة» الذي أســهمنا جميعاً ،وقتها ،في طباعته ،مع بعض أصدقائه من شــعراء جماعة «إضاءة» ،وبعض زمالئه طب القصر العيني .ومن وقتها ،أصبح أصدقاؤه أصدقاء فــي ّ لنا ،وفي ذكراه األولى ،كانت طبعة ديوانه األولى قد صدرت مقدمة محمد عفيفي مطر، مــن دار الثّقافة الجديدة، تتصدرهــا ِّ َّ برسوم الفنّان الراحل بكري محمد بكري .وبعدها ،ولمدة تزيد على عشــرين عاماً ،أصبح مهرجان علي قنديل الشــعري ،في كفر الشــيخ ،مناســبة ننتظرهــا ،وأزعم أن الوســط الثّقافي المصــري -أيضاً -كان ينتظرها ،بوصفه المهرجان األبرز بين كل المناسبات الشعرية المصرية ،في ذلك الوقت. ّ لــم أحفظ قصائدي ،لكني اســتظهرت قصائد علــي قنديل كلّها سر عن ظهر قلب .وفي البدايات ،كنت أشعر أنها تنطوي على ّ تمكنّي أدواتي النقدية من ّ ربما -إلى شــعري ،لم ِّ ّ فك شيفرتهّ - اآلن:
سر يزحزح ناصية اآلفاق». سر ،فابحثواّ ، «في عمق األعماق ّ ســر هــذا الذي طلب منــا أن نبحث عنــه ونطارده؟ تــرىّ : أي ّ يحرضني علــى العمق ،بل فأجده اللغــة إلى ألجأ كنــت تــارة ً ِّ عمــق األعمــاق ،ال علــى الســطحية والتفاهــة ،وكان من بين جائزة لــي «جمهورية أفالطون» و«ثورة الكتــب التي اختارها ً يحرض على البحث في العمق ،ال على وتارة الشعر الحديث»، ً ِّ قوة المعرفة؛ الوصول إلى األعماق فحســب .لعلّه كان يعرف ّ الســر الذي ،من خالله ،يمكن لإلنســان أن يسيطر على كونها ّ ويطوعهــا ،المعرفة التي بها يمكن تحســين الحياة، األشــياء ِّ مــن لحظة إلى أخرى ،وبهــا يمكن للشــعراء زحزحة اآلفاق، المســتقر ،وإيجــاد قوانين جديــدة ،وكائنات جديدة، وزلزلة ّ وعوالم جديدة .كان علي قنديل يقول:
هذه األمانة ،الطب والشعر والكهانة، حملتني ثقل ّ َّ
تقل محبــة تلك أم خيانة؟؛ إذن ،فالشــعر مســؤولية ،ال ّ عن مســؤولية الطبيب أو الكاهن ،وهو ليس لعبة ،وال حلية اجتماعيــة؛ إنــه مســؤولية كبرى ،مســؤولية ّ فــك القيود عن الخيــال ،وتحريــر العقل في فضــاء المعرفــة ،وقاعدة إطالق األســئلة بغير شــروط ،إنه مانــح اللغة أرواحــ ًا جديدة ،من لحظــة إلــى أخرى ،بمــا يصنعــه من ســياقات جديــدة تمنح المفــردات دالالت جديــدة ،فال تموت اللّغة وال تبلى .والشــعر هــو تربية للنفس ،تربيــة تلزم صاحبها بالخضوع لســلطان النحــو والعــروض فيتعلَّــم النظــام والدقّــة ،بينمــا ال يصبح شاعرًا إال بالخروج عن التنميط والركون إلى السهل والجاهز:
يمكن لعبق النارنج أن ينبت بين عروق الصحراء
مساحات األوجه الميتة وأن يكتب تاريخه على ِّ
ّ يسقط الظل حين كاشــف ًا عن بقعة النور التــي تنمو كورد ٍة في ّ كل ا ّتجاه
ويستدرج الساحر اآلدمي شمسه ّ من مدارات الغروب.
هكذا تبــدأ قصيدة «كائنات علي قنديــل الطالعة» باإلمكان، هي كائنات شعرية جديدة ،وبالشعر يصبح عبق النارنج، تحد لشــروط ال النارنــج ،وكائنــ ًا ينبــت في الصحراء ،في ٍّ الوجــود بغيــر الماء ،يحــدث هــذا عندما ترى األشــياء من عرف بالنــور ،والنــور هو صانع منظــور جديــد، ّ فالظــل ُي َ الظل ،لكننا ،في واقع الكائنات الجديد ،سنكشف عن بقعة ّ ربما- و- ، الظل هو السائد حيث ، الظل يســقط عندما النور ّ ّ َّ الظالم ،والشحيح هو النور ،ومن هنا ،يأتي اإلمكان ويبدأ بالكشــف عن النور ،حيث ال طريــق في الظالم الحالك .في هذه اللحظة ،يستدرج اإلنسان الساحر شمسه ،تلك الشمس المراوغــة ،التــي تركن لمدارات الغــروب والهروب ،تحتاج وكل هذا «يمكن» .وفي قصيدة «كونشــرتو إلى االســتدراجّ ، اإلمكان والعصافير الطليقة» نقرأ:
في اإلمكان األبدع مما كان. أبدع ّ
قانــون جديــد يضــرب ،ببســاطة وعنــف ،قوانيــن الركود والســكون واالستســام للســائد ،يزلزل عروش االستقرار يرســخه المؤمنون باالستقرار ،والطامحون الفكري ،الذي ِّ حق .اإلمــكان عند علي بحق ،وبغيــر ّ إلــى ســيادة أبديــةّ ، 75
بكل أنواعه ،قد اكتمل أو في طور اكتماله ،ولم يكن في بداية السبعينيات كان أفق القصيدة العربية الحديثةّ ، حادة وصريحة :في تم تكريسه ،فظهرت الخروجات ّ أمام الموجة الثالثة ّإل التمرد والخروج على السياق الذي ّ باألخص -في تجربة سرجون بولص وصالح فائق ،وفي لبنان في تجربة العراق ،في «مدرسة كركوك» ،و- ّ ظل السياق الشعري ،في مصر ،على حالته ،باستثناء الشاعر «محمد وديع سعاده وعباس بيضون ،بينما ّ الرواد. عفيفي مطر» الذي ّ وحده خروج ًا ّ وأسس ّ ّي ًا مع شعرية ّ لنص جديد يتناقض كلّ حاداًّ ، شكل َ
العام الذي ظهر فيه الجو ّ ّ فتحي عبدالله نــص الحداثة، أما الســبعينيون فقــد لعبوا على إعــادة إنتاج ّ شــعرية «صالح بأنماطــه المتعــّددة ،فمنهــم مــن أعــاد إنتاج ّ عبد الصبور» ،مثل محمد ســليمان ،ومنهم من اســتلهم أداءات أدونيــس الشــعرية وقيمــه الروحيــة ،رغــم مــا بينهمــا مــن اختالفــات ،مثــل «عبد المنعم رمضان» ،أمــا الخروج الحقيقي فقد كان لعلي قنديل وحلمي سالم. نص إنتاج مصــر، في الشــعرية، وعندمــا اســتطاعت الحركة ّ جديــد ،يتقاطــع ويتناقــض ،فــي اآلن نفســه ،مــع الميــراث الروحي ومع أشــكال التعبير المتاحة مع الموجة الرابعة ،في بدايــة الثمانينيات ،شــارك بعض الســبعينيين فــي إنتاج هذا النــص ،مثل :محمــد صالح ،وأحمد طه ،ومحمــد آدم ،وفريد ّ كل بحســب معرفتــه وتقنياته التي اكتســبها من أبــو ســعدهّ ، المتكررة. الكتابة ّ شــعرية «علي قنديــل» الذي توفِّي مبكــراً -عن اثنين وتميــزت ّ َّ وعشــرين عامــاً -بالرؤية النافــذة ،إذ أدرك حقيقة الصراع في المجتمــع ،وما يحدث فيه من كوارث ،ليس عن طريق المعرفة فقط ،بل بالحدس والمعايشة. وقــد تأثَّرت هذه الرؤيــة بموروث الجماعــة الروحي أو الوعي الكلّــي الذي يحكم ســلوك األفراد والجماعــات ،ويهيمن عليه، وهــي غنائيــة ومثالية ،فــي مجملهــا ،وذات إيقاع ســاحر ،ال ينتمــي إلى اإليقاع الخالص ،كمــا ال ينتمي إلى النثر الخالص، وهي روح متألِّمة ،لكنها ليســت مأســاوية ،وهي أقرب إلى ما هــو بدائي أو فطري لدى اإلنســان .كما يظهر هذا التســامي في أخوة اإلنسان مع الحيوانات والجمادات أو مع الطبيعة ،بشكل ّ شكلت الطبيعة ،بمفرداتها الكثيرة ،محورًا أساسي ًا لدى عام ،إذ ّ ّ المسميات التي الشاعر ،ســواء في الخيال ،وفي الداللة ،وفي ّ تنتمي إليها. كل شيء :في إدراك على تقوم ّها فالتجربة كل أهمّية الصراع في ّ ّ 76
كل نوع، العالم ،وفي المجتمع ،وفي الذاتّ ،إل أنها تأخذ ،في ّ العام يقول: شك ً ال َّ مميزاً؛ ففي إطار الصراع ّ «هنا األرض صومعة ،تتقلَّب في ّ كف وحش البراري ،وترقص ــزر ،والبحر الج ْ للحلــم فارغــة .والنهايــة تنداح في موجــة من َ ُجروف وتفّاحة من عصير الخديعة». فالعالم كلّه ســجن صغير «صومعة» ،وهذه الصومعة ليســت للعـبــادة ،أو لتخزيــن الغــال ،بــل تتقلَّب في ّ كــف وحش من البــراري ،وال يتحقّق أحالم الجماعة البشــرية فيها ،وهم بين الموت والخديعة. أما الصــراع الدائم في المجتمع ،فإنه ال ينتهي ،وال حدود له، ّ وقد كشفه الشاعر بطريقة مباشرة وجارحة -أيضاً -إذ يقول:
أ ّيام الفقر زاعقة كالحريق ،بطيئة كخيبة األمل. مجرم من يفتقر
مجرم من يغتني
لكنما األشّداء أولو البأس هم الصابرون على العوز ،الحازمون على البطون ،الحازمون على الشرف». كل القوى التي تســيطر ،وتدفع أما عذابات الذات وصراعها مع ّ ّ المصائر البشــرية إلى الهاوية فإنها محور التجربة األساســي، يمر به من و إن أخــذت أنماطــ ًا فــي األداء ِّ متنوعة ،بحســب مــا ّ اختبارات ،فأحيان ًا يقول:
«ال أفق يبصرني ال أسماء
تهدج الرثاء مزروعة خطاي في ُّ غد ًا ،تشقّ ني الرياح رافد ًا للدمع خفق اللهيب بعضي، وبعضي القريب» الهشــة والضعيفــة ،والتــي ال تحقّــق وجودهــا هــذه الــذات ّ اإلنســاني ،تأتي كثيرًا في النصوص ّإل أن الشــاعر يحّدد ،في نص آخر ،ما يعانيه من الوحدة : ّ
في الوحدة
يعــرف صدري أن يفتح ذاتــه ،وتأمن ّ كل القرون المخبــوءة فيــه ،فتخرج ال تخشــى الحديد الذي ينطلق في الشوارع ،وال العيون الخبيثة التي على
اللحظــة ،وال العكارة التي ال تســتريح ،وليس لها شاغل إ ّلا إفساد اشتهائي وإفساد دمعي. بالنص الشــائع ،وبالمعرفة بــدأت تجربة علــي قنديل متأثِّرة ّ يتعرف باألنمــوذج الذي حتــى الســائدة ،وهــذا أمــر ضروري ّ األول من ديوان «اآلثار الشعرية يختاره ،ويظهر هذا في القسم َّ الكاملة» تحت عنوان «قصائد أولى» ( ،)1973 - 1970وكان من أكثر االصوات المؤثِّرة فيه صالح عبد الصبور وعفيفي مطر.و رغم ما بينهما من تناقضات ،فقد تأثَّر بقدرة عبد الصبور على التأمل القريب والبناء النثري للجمله الشعرية ،مثل: ُّ
يا ليل،
محيطنا المقدس النبيل، يا َّ
الشمس خلف بابنا تكاد أن تبين،
ونحن في ظالمك األمين
نخاف نورها وزهرها الجريء أما معايشــته لعفيفي مطر وصداقتــه الدائمة له ،فقد أثَّرت في ّ مبكراً ،سواء االجتماعية أوالً ،حتى أنه حّدد انحيازاته ِّ معرفته َّ أهمهــا اهتمامــه بالثقافة المصريــة القديمة والشــعرية ،ومــن ّ ورموزها الفاعلة ،مثل:
حوريس يطلع بالشعير وبالغالل
السخية بمواسم األر ّز ّ متعالي ًا مثل النخيل
كأطراف البحيرات القصية، ح ّر ًا ّ لكنه عند الهضاب ما زال ظلّاً واغتراب
شفافية وأكثر وصو ًال بالتصوف ،وإن جاء أكثر وكذلك اهتمامه ً ُّ 77
لألشياء والحاالت من عفيفي مطر؛ إذ إن لغة علي قنديل كانت مركبة ،وتعتمد على الداللة القريبة ،ولم يظهر واضحــة وغير َّ ذلك ّإل في القســم الثاني من التجربــة ،وتأثَّر ،كذلك ،ببعض المفردات المركزية في تجربة عفيفي مطر األولى ،وكانت تلعب دورًا في توالد شعرية ما لديه ،مثل:
وتصــل هذه الرؤية ذروتها في قصيــده «القاهرة» ،وهي تمثِّل تطور شــكل الكتابة الشــعرية في مصر؛ إذ اللحظة الفارقة في ُّ تقوم على البناء الســردي الخالص في تتابع وحدات الســرد، محطة الوصــول (القاهرة)، بــدءًا من قريته ،ثــم الرحلة ،ثــم ّ تم من خالل خيال مدني حديث، واكتشــافها من جديدّ . كل ذلك ّ الحية ،ذات ّغة ل ال وعلــى بالحواس، ك مدر ّ يعتمــد علــى ما هو َ المادّية ،مثل: الدالالت ّ
استحمت في المطر َّ ّ كان الظل يزرعني بعينيك يمامة، حين
تفجر وردة، شريط القطارات كان يوازي ُّ وكان المساء خواتم ذهبية في األصابع تورد للقلب ما يعجز الصمت أن يحتويه.
كنت طف ً ال ،والظهيرة
ويجبرني على كفَّ يك خطّ ًا الهث ًا فرس ًا فخور ًا بالوسامة
ثم يصل إلى القاهرة:
انغرست الفتة أولى:
المهمة ،فائقة القيمة ،فقد ظهرت في القسم الثاني أما تجربته ّ ّ متأخرة» ( ،)1975 - 1974إذ اكتشف ذاته من الديوان «قصائد ِّ مرة أخرى ،وبطريقة جديدة ،ففي قصيدة «هوية» يقول: ّ
القاهرة
أنا الشعر
سماء مدرجة في قائمة األعمال.
والشعر ياقوتتي األنثوية.
هل الكون يعلم أني أغ ّني آلخر ما بعثرته جياد الب ّر ّية؟
هذا هو تكوين اإلنســان الكامل ،الذي يجمــع الذكورة واألنوثة لــكل المعذَّبيــن والمتألِّمين في معــاً ،ويحمل رســالة روحيــة ّ وجودي ،أقرب األرض .ورغم هذا االكتمال ،فإنه يعاني من قلق ّ أن يكــون جــزءًا من طبيعته ،فهو يجمع بيــن المتناقضات في المعرفة والحياة :يجمع بين الحقيقي واألسطوري ،يجمع بين وربما ،تكون قصيدة «العصاقير الطليقة» المدنَّس َّ والمقــدسّ . تميزه الشعري؛ إذ تقوم على بدأ ومنها الكبيرة، نصوصه أول ُّ ّ كل القيود واالحتياجات ،واالقتراب من الرؤية فكرة تحرره من ّ ُّ الصوفية ،التي تعتمد على الحدس والقدرة المذهلة على الفعل، وإن كان في اللّغة ،فقط. والنص كلّه قائم على االستجابة الداخلية لما يحدث في الخارج، ّ الحر للغة والداللة معاً: معتمدًا على الفيوضات أو التداعي ّ
ّ كل شيء سوف ينزل ساحه اإلشراق
يجذب مغنطيس الدم مهجته، فيصعد ساخن ًا لدن ًا ،فلحظة بدئه دقّ ت، ّ ودق القوم رايتهم ،وكان الرمل دفئ ًا
كانت األشجار أ كثف من مواعيد الهوى 78
دخان يقترب
وفيما بين الحلم ومائدة اإلفطار
توابيت تتناسل
فطر يتناسل
والساعة ،في عكس إيقاع القلبّ ، تدق»
تؤذن لصالة العصر: ثم القاهرة ّ
«تشب المآذن فوق ًا ..لماذا؟ ّ
يســائلني رأســه الكربالئي ،وهو قطيع عن الجسد العربي،
أنظر حولي
ال طير َح ّي ال طير مقتول. قوية على مجرد إشارة ّ كانت تجربة علي قنديل الخاطفة والعميقة َّ يطور هذه أن أحد يســتطع ربما -لم ّ شــيء كبير ،لم يكتمل ،وَّ - الضيقة في بعض نصوص الشاعر الكبير التجربة ّإل في الحدود ِّ «حلمي سالم». خاصة في مجملها ،وإن تقاطعت ،في تفاصيلها ،مع إنها حالة ّ المبدعين الكبار.
شــهدت القاهرة ،منذ الســنوات األولى في عقد السبعينيات ،ظهور حركة الشــعراء ،وجمعتني -على المســتوى الشخصي -صداقة أكدت لي أن حميمة بالشــاعرين علــي قنديل ،وحلمي ســالمَّ ، ال جديدًا من الشعراء الجدد ،في القاهرة وفي األقاليم، هناك جي ً يكتبون ً برؤى متقاربة ومختلفة عن قوانين الكتابة الشــعرية الســابقة ،ومــن خــال أســاليب وتقنيــات لــم تألفهــا الكتابة الشــعرية من قبل ،حتى أن كثيرًا من النقّاد المعروفين شاركوا فــي الحمــات التــي ُو ِّجهت ضــّد الجيل الجديد ،ســواء مــن ِقَب ِل مجلت وصفحات ثقافية في الصحف .كان مؤسســات ثقافية أو ّ ّ يحسون ،منذ البداية ،بوجوب تالقيهم ا جميع السبعينيات شعراء ً ّ وتصورات، يتمكنوا من االستمرار ،ومن طرح مالديهم من رؤى لكي ّ ّ بقوة ،وحضرنا آمنوا بها وناضلوا ألجلها. ارتبطت بهذين الشاعرين ّ ُ مع ًا مجموعة كبيرة من الندوات الشعرية في قصور الثّقافة وفي جامعات أهمها الندوة التي أقامها المركز الثّقافي مصر ،وفي أماكن أخرىّ ، الروســي في أوائل فبراير/شــباط ،1975والتي فوجئنا المقامة على خشــبة فيهــا ،عندمــا دخلنــا إلى ّ المنصــة ُ المســرح ،بجمهور ضخــم ،لم نعهد مثله مــن قبل؛ فقد امتــأت الصالة عن آخرها ،كذلك (البلكون) في الطابق الثاني ،وقد نجحت هذه الندوة نجاح ًا ســاحقاً ،الزال عدد من المثقَّفين يذكرونه حتى اآلن.
أيقونة شعر السبعينيات د .أمجد ريان وعلي قنديل ابن قرية الخادمية ،مركز كفر الشــيخ .كان شاعرًا بتلمسه متفوق ًا بين أقرانه ّ ِّ السبعينيين ،فهو الذي سبق الجميع ُّ لخصائص الرؤية الشعرية الجديدة ،على الرغم من أنه توفّي عــن عمر يناهز اثنين وعشــرين عاماً ،بعد أن صدمته ســيارة طائشــة ،في الســابع عشــر من يوليو/تموز1975 ،م ،وكان طب القصر العيني. ّية ّ وقتها يدرس في كلّ رواد قصيدة النثــر الجديــدة ،وقد ترك يعــّد علــي قنديــل أحــد ّ ديوانــ ًا وحيــداً ،هو «كائنــات علي قنديل الطالعــة» ،وقد كتب مقدمتــه الشــاعر محمد عفيفــي مطر ،وصــدرت طبعته األولى ِّ مرات. ة د ع ذلك، بعد ع، ب ط وقد ، مباشرة وفاته عقب ً ِ ُ ّ ّ تبنّــى المبدعــون ،فــي الســبعينيات ،فكــر الحداثــة ،وطــرح
التعدد في السياسة ،وفي المثقَّفون ،في التوقيت نفسه ،معنى ُّ الفكر ،وفي األدب؛ فالرؤية الحداثية تتجاوز األحادية الفقيرة، وتخلق نوع ًا من التفاعل بين مستويات عديدة ،وبادر الشعراء بإجراء الحوار مع التراث العربي والتراث اإلنساني ،من خالل لغــة القرآن الكريم ،وأجواء الشــعر العربــي القديم ،وأحاديث القدمــاء ،ومن خالل االهتمــام باأليقونات القبطيــة ،وأحاديث واهتم شعراء الســبعينيات باالستعاريات القّديســين ..وهكذا. ّ المتنبي -على ســبيل المثال -يعيش في جعلوا الرمزية ،حتى ّ ويتجول قي المتحف.. المنزل العصــري ،ويجلس في المقهى، ّ إلخ .وكان هناك حوار مع الغرب ،في الوقت نفسه ،واستفادات من فكر ماركس ،وبيكاسو ،وسان جون بيرس... 79
تكونت، فــي هــذه المرحلــة ،وعلى ضوء هــذه التحــوالتّ ، ّ فــي مصر ،جماعتا «إضــاءة ،»77و«أصوات» .وكان هناك وتوطــدت العالقات مع عدد كبير من الشــعراء المســتقلّين، ّ الحداثييــن ،فــي الخليــج ،وبيــروت ،والمغــرب. الشــعراء ّ وارتبط الحداثيــون باأليديولوجيا ،وتفاعلوا مع الثوريين، وتعاطفوا مع مظاهرات الطَلبة في عام 1968وما بعده. ... سبق الشاعر علي قنديل أبناء جيله جميع ًا (برغم حداثة عمره) في اكتشاف طبيعة الرؤية الحداثية ،بحيث تكون هذه الرؤية وقدم قــادرة علــى التعبير عن خصوصيــة واقعنا المحلّــيَّ ، أشــكا ًال شــعرية تعتمد المجاز اللّغوي الكثيف ،واالستعارة، التعدد ،هرب ًا وكان هذا -في َحّد ذاته -تعبيرًا حداثي ًا يبحث عن ُّ استتبت في الفكر وفي اإلبداع، األحاديات التاريخية التي من َّ ّ صفه بأنه الســاحر الكاهن الشــاعر و مطــر عفيفــي أن حتــى َ َ الطبيب ،ألنه استطاع -بالفعل -أن يستخدم الطاقة السحرية للّغــة ،من خالل تركيباته اللّغوية شــديدة الخصوصية ،من الميتة ،وبقعة قبيل( :عروق الصحراء ،ومســاحات األوجــه ِّ ٍ كوردة) ،وغيرها ،كما في هذا المقطع: النور التي تنمو
ينب َت بين عروق الصحراء يمكن لعبق النارنج أن ُ مساحات األوجه الميتة يكتب تاريخ ُه على وأن َ ِّ ّ يسقط الظل كاشف ًا عن بقعة النور التي حين تمتد في ّ ويستدرج كل اتجاه... تنمو كورد ٍة ّ ُ اآلدمي شمس ُه من مدارات الغروب. الساح ُر ّ
تقمــص الــروح التراثية، وَلــدى قنديــل قــدرة مذهلــة علــى ُّ بخاصة- واســتثمارها إبداعيــاً ،بشــكل شــديد الوعــي ،و- ّ التصوف اإلســامي .وفي تجربته ،يســتخدم، في نصوص ُّ عــام ،ألفاظــ ًا وتراكيب لغوية من مثــل ( :العرش -ال بشــكل ّ أفق ُيبصرني -الرجاء -إشــراقة -مخاطبات -ال أفق يدركني ســرًا خبيئاً -منذ وال ســماء -أبقى أنا الســر وحــدي -ماعاد ّ ّ ابتــداء الزمــن .)...ولديــه هذاالمقطع الذي يفيــض بالمعنى الحس الصوفي: المستفيد من ّ
ّ لكل قارئ قراءة تأتي ّ وكل مبصر تأتيه شمع ٌة مضاءة
أباح الحب ..ملكه السماء ومن ّ
تطه َر قلبه بالدمع ..أشعل الفضاء. ومن َّ الحس المجازي واالستعاري المستشري في وعلى الرغم من ّ كتابة الشــاعر ،واالســتفادة الكبيرة من المعاني الصوفية، 80
إال أن دوافعــه الجماليــة مرتبطــة بالواقــع اليومــي المعيش، بــكل مافيها من تفاصيل َحّيــة ،ومعطيات وبحياتــه الفعليةّ ، مرتبطــة بالواقــع ،وقصيدته (القاهــرة) -على ســبيل المثال- القضية ،وحين نقــرأ المقاطع األخيرة مثــال واضح على هذه ّ النــص يحكــي عــن اإلحســاس بازدحام منهــا ،سنكتشــف أن ّ يتضمن -في الوقـــــت بالمقـــــــابل، لكــن، المدينــة العنيــف، َّ نفســه -إحساســ ًا حضاري ًا عنيدًا يــرى أن علــى المثقَّف الكبير أن يفهــم التعقيــد المديني الحديث ،وأن يعرف كيف يعايشــه، وكيف يقيم عالقاته اإلنسانية داخل هذا التعقيد. القاهرة ُت ِ باتجاه عكسي لما يريده حكم قيودها ،والزمن يســير ِّ الشــاعر ،هندســة الوجود تســيطر على رائحة الحياة ،وتدور الــذات في متاهة الحياة اليوميــة المخيفة ،ويصبح القتل رمزًا لكل أشــكال القهر ،ويقيم المونتاج الشــعري غابة من التداخل ّ بيــن معطيــات الحيــاة ،مازج ًا بيــن ما هو شــخصي ،وما هو جمعي. ويستعرض الشاعر ،بشكل شــعري رفيع المستوى ،تفاصيل حياتــه اليوميــة الواقعيــة التي هــي رموز للحياة فــي المدينة ّيــة الطب -دخــان الغليون في العصريــة ( :أتوبيــس - 124كلّ تدق -شــريط الكافيتريــا -بعــض المثقَّفين -كبريت -ســاعة ّ ويظل معنى االزدحام عبئاً ،بامتداد القطارات -الشوارع،)... ّ النص ،يطرح إحساسه الشخصي الدائم باالختناق ،وبالوحدة ّ منفي داخــل وطنه .ومــن هنا، وبأنــه االزدحــام، هــذا داخــل ّ يبرر المعنى الفلســفي الذي يســتنكر يكــون مبــدأ الرفض الذي ّ وجود القاهرة ،بل وجوده الشــخصي نفسه .لكن ،بالرغم من العدمية ،يحلم كل البعد عــن يظل الشــاعر البعيــد ّ كل شــيءّ ، ّ ّ باالندماج بتاريخ مصر ،وبماء نهر النيل:
صلصلة قيودي تج ُّرني، في الصباح:
أتوبيس ،124 ك ّل ّية الطب -دخان الغليون في الكافيتريا -بعض المثقَّ فين.
وتتضخم دائرة /زنبقة وحشية َّ ياالله ! زنبقة وحشية.
النيل -حوار:
ساجد
من بدأ أوّل وردة قامت وصمتك ضفّ تان؟
عطش السنين صفاؤك السطحي ،أم بدأ الحوار؟! موحدا. رأيت ..أدركت ،اختبأت مق ِ ّلد ًا حزن اليمام ِ ّ
ساجد
من بدأ أوَّل وردة قامت وصمتك موتتان:
أرق السنين نسيمك المطوي ،أم شوك الديار؟
اليد القاتلة يشهد عليها دم القتيل، ّ تنحل عنه أحرفه، والكتاب الخائن والماء المغتصب ينتفض،
ســبحت في الزمن ..اســتبحت تم ُّثــل الموت،
يصير التيار الجارف الذبائح تستيقظ ،والخوف ّ النهر الذي سكت ينطق ،ومن تك َّلم يسمع
وحيد مثل وحدتك الطويلة.. إني ٌ
اقترب يا دخان،
انقطعت
عن الكالم مُ َس َّهد ًا.
شدني لخلودك المعقود. ّ
ساجد
يوم ًا ..ربَّما قريب كدم محتقن. ويا عربات ازحفي،
وانطرق -يا حديد -على قبرة القلب.
من بدأ أوَّل وردة قامت وصمتك طعنتان؟
ال القاهرة تبقى قاهرة
ال كبريت،
وال الشاعر مسجون ًا في لسانه.
ال شمس،
ال تبغي الحوار.
وال الدلتا دلتا ساعة ّ تدق
رأيت ..يا ما قد رأيت ،ولم تح ِ ّركك المنى
متأخر» «الوقت ِّ
لم تضطرب للريح،
طائر الرعب األليف،
لم تغرك األشعار
لم تصعد ألعلى.
والسماء تترك الغرفة لألجنحة السوداء ،ينثرها
آه ،شريط القطارات،
(آه من لحن الفرار:
يخرجون للشوارع نزف ًا من جرح أبله،
وطني صار الفرار)
ويقومون من سقطة إلى أخرى ،كالديدان المشرقة..
صار منفاي الوطن يقترب..
دخان يقترب
ساعة ،على عكس إيقاعات القلب ّ تدق
لكنني أرى: أرى يوم ًا -ربَّما قريب كأصابع اليد -يأتي يقف العالم معصوف ًا ،ويثبت ّ كل ذي حال على حاله:
يسابقون الضوء الخائب، ما أبهج المرارة!!
َّ نام المقطم فوق جفني، ّ وظل قفص الصدر يحبسني غيب ًا وعصفور ًا خريفي ًا
اقذف حصان النار يرفسني، صبني في النهر محلو ً هالمي ًا. ال أو َّ ّ 81
اثنان وعشرون عاماً ،وموت مفاجئ في حادث سير ،تحت عجالت عربة جيش طائشة ،أمام قصر الثقافة في هب كعاصفة من لهب مدينة كفر الشيخ ،مسقط رأسه ،طوى ،في غبارها ،علي قنديل ربيع ًا شعري ًا قصيراًّ ، قوسي الميالد والرحيل ( ،)1975 - 1953تارك ًا ديوانه الوحيد «كائنات علي قنديل الطالعة» الذي لم ما بين َ الخاص ،في حركة الحداثة الشعرية في مصر. مهمة ،ال يزال لها حضورها تتصفّحه عيناه، ِّ ّ ليشكل شرارة ّ
العني َّ الشاعرة جامل القصاص ظهــر علي قنديل فــي وقت غير اعتيــادي من ســبعينيات القرن الماضي ،كان على شعرائه الشباب الطامحين الطالعين من رحم الســؤال وحرقة المعرفــة ومرارة الواقع ،على إثر نكســة 1967 يخصهم ،وعي ًا مسكون ًا بلحظتهم العسكرية ،أن يجربوا وعي ًا آخر ّ وتشكله في تجدده ُّ التاريخية ،وهواجسهم حول الشعر ،وطرائق ُّ أنســاق وعالقات جمالية مغايرة ،تعي جســور الوصل والقطع يشكالن عتبة للمستقبل. بين الماضي والحاضر ،وكيف ِّ متصلة من انتبــه علــي قنديل ،منذ البداية ،إلى أن الشــعر حلقة َّ الخاص ال ينمو حلقــات الوجود ،وأن براءته الداخلية ،بل نوره ّ إال بالشــعر ،وأن هــذا النــور هو الذي يمنحنــه اليقين بكينونته ويحدد مدار رؤيته للعالم واألشــياء من حوله. وامتالئــه بذاته، ِّ فرديته ..فها هو يقول في ة ّي ل والك العمق إلى يســعى إنه امتالء َّ ّ مكتظة مراوغــ ًا يقين الشــعر والحياة ،في «لطشــات» شــعرية ّ باألســئلة والدالالت« :أنا اللون الثامن فــي قوس قزح»« ،خلقت من نفسي كهرباء نفسي»« ،أنا النار ،والشعر لحمي ..أنا الطين والشــعر فأســي» ..وغيرها من التوقيعات الشــعرية الخاطفة، بشارة ووعدًا بشاعر استثنائي. حاملة ً حي ًا ومدهش ًا ا مزج قنديل علي م قد المباغت، االنخطاف هذا ورغم ً َّ ّ لجدل الذاكرة والحلم ،وجعلهما يوثِّقان لحياة أليفة ،تسعى ألن مجرد حزمة تتكامل في القصيدة ،وخارجها أيضاً .فالخارج ليس َّ مــن الذكريات والوقائع والمشــاهد التي تحيط بحياتنا ،إنّما هو بح ّب، بــؤرة لحياة داخلية ،علينا أن ننصــت لهديرها وصخبها ُ فطري الحرّية ،ويقفز ،بوعي ألنه في هذا الداخل ّ ّ يتشــكل جســد ّ وتلقائي ،في القصيدة ،كطفل. ّ ظل يسائل اليقين ،يقين الشعر والحياة، بروح من هذه الطفولةّ ، ويعيد تقليب هوامشه وظالله وأقنعته في قصائده ،ليس كمطلق وجــود بالمعنى الفلســفي فحســب ،بل كشــجرة للحلــم واللغة 82
والخرافة ،إنه يقينه هو ،فالوجود لعبة يقين ،والشــعر كذلك، كل لحظة ،طالما ال لالمتالء في ّ وســيظل هذا اليقين ناقصاً ،قاب ً ّ لدينا المقدرة على امتالك األشــياء ونســيانها ،في الوقت نفسه. ويتلــوى خلفــه ،كطالب لم يبــرح ،بعد، إنــه ظلّــه الــذي يعرج ّ حرة بهذا اليقين إرادة يمتلــك لم الطب، ة ّي قاعــات الدرس في كلّ ّ ّ المحفوف ،دوماً ،بالشــك ،وبالهزء األسود ،الذي يصل إلى َحّد الشعور باالغتراب ،مثلما يقول:
ّ أشــك في المجهــول ،في المقاهــي ،أتيليه الفنون،
فــي الفاكهة ورائحة الشــواء ،فــي الحديد الصلب
والمطــاوع ...في ملوحة البحــار وجمال نهر النيل، ّ أشــك في وفي القطارات التي تأتي والتي ال تأتي. اليقين ..في حساب السنين.
ّ الشــك واليقين علــى نوع من تنطــوي هــذا المراوحة بين مرايا التحفُّــظ الذهنــي والتحفُّظ الشــعري علــى وجود هذه األشــياء والعناصر ،وطبيعة صورتها المعيشــة في الواقــع ،وتواترها كنقطــة جــذب أو عالمــة ،أو مســوح لقربان ما ،على البشــر أن يؤكده الشــاعر ،في جرعة يســتظلّوا بظله أو يذوبوا فيه .إن ما ِّ ّ المتمرد فحسب، المعارض مجرد إبراز الصوت ِّ الشك هذه ،ليس َّ يقدم نفسه قربان ًا ألحد؛ حسبه بل ِّ يؤكد حقيقة مفادها أن الشعر ال ِّ أنه يملك المقدرة على الطرق والنبش في حقائق الحياة للبحث والحرّية في العالم .وعلى ذلك، عن نواة مركزية لفعــل الجمال ّ ّ ضمنياً -محاولة يعكس- قنديل، على بالشك ،في شعر فالتلويح ّ
يظــل بديل القبح هو القبح للوصــول إلــى هذه النواة ،حتى ال ّ نفسه؛ حتى يمكن للشاعر أن يرى الكون واألشياء كما يريد لها، غض، ويبغي أن تكون ،كما يلمسها ويحسها تحت قشرة وعي ّ ّ يــدرك ثقــل األمانة ومســؤولية الكالم؛ لذلك يطلق ســؤاله من والعام، الخاص موحدًا ما بين ّ زوايا إدراك واشتباك ِّ متنوعةِّ ، ّ وكأنه يخاطب شيئاً ،كلّما َعَرفه َجهِله:
حملتني ثقل هذه األمانة /:الطب والشعر والكهانة/ ّ محبة تلك أم خيانة ؟!. ّ
متقــدة ،ففي أغلب نصوص تمت َع علي قنديل ببصيرة شــعرية َّ َّ الديــوان تنهض بجوار جمالية الســؤال ،جماليــة المعرفة ،كما شــيقة بين إيقــاع التفعيلة متنــاً ،وإيقاع تبــرز عالقة تضايف ِّ تتنوع هذه العالقة في غاللة أسلوبية وتعبيرية، النثر هامشاًَّ . والتوتر الدرامي ،حتى وهي تعتصر مســكونة بالحوار والقلق ُّ بكل تمثُّالتها :الحديثة ،والقديمة ،في أقصــى طاقات الغنائيةّ ، بحيوية، بنية الشــعر العربي؛ حيث تنفتح نصوص الديوان، ّ على حدوسات معرفية شّتى ،يتالقح فيها الماضي بالحاضر، واألسطورة بالواقع. وبوعي عميــق بطبيعة هذا التالقح ،عجن علي قنديل تركيبته التنوع داخل الوحدة ،أو- الشعرية ّ الخاصة ،والتي تنهض على ُّ وتتجسد هذه التركيبية في د، بالمتعد الواحد عالقة آخر- بمعنى ِّ َّ شعره ،وتتنامى ،درامي ًا وشعرياً ،من خالل سعي دائم لخلق حالة من األلفة بين أشّد األشياء تناهي ًا في الكبر ،وأشّدها تناهي ًا في الصغر ،بين توقيعة شــعرية خاطفة ،وبناء شعري مكثَّف وتعدد السطوح والمنظور ،وتكثيف حقول يتســم بالصرحية، َّ ُّ
الكبيرتْين« :الحلم يطلع قصيدتْيه الداللــة والرموز ،مثلما في َ َ من الشرق» ،و«القاهرة». في القصيــدة األولى ،بجزئيها« :العصافيــر الطليقة وثيقة»، و«كونشــرتو اإلمــكان والعصافيــر الطليقــة» ،يطالعنــا ،منذ فضاء الح ّي بين فعل التحليــق ،بوصفه ً البدايــة ،هذا الربــط َ الحرّية نفسها ،وبين األسطورة، خصب ًا ونواة أساسية لفكرة ّ مطلقــ ًا للصعــودّ ، والعَقد الســميكة ،في الفواصل تنفك فيــه ُ الزمن وفي األشياء ،وفي الجسد والروح ..ومن ثم ،تستبطن الحواس قصة الوجود الذي ينهض من تحت قشــرة القصيــدة ّ ّ والحلم ،مفتوحــ ًا على العتمة والنور ،علــى الخرافة ومتاهة ّ الشك واليقين ،وهو ما يطالعنا على النحو اآلتي:
كان عدم ،وكانت ظلمة
ولم يترك السابقون شمع ًة وال رجاء،
وكان بي ج ّن ٌّي يصحو تشعبت ِحبا ً ُ ُ ال مددت أغصان ًا كثيرة ًم ّني.. وخي ٍ ات يابس ًة كحفن ٍة من الرمل ِّ
ُ مكرت ،واستدرجت كتلة من حياء الميت وبال ّ ُ وصرت ألتهمهــا ،وأبحث فيها عن هــام الحياة، ثقب ٍ يخفيني.
83
إن األسطورة تدخل في اللغة ،وتتناسل في جسد القصيدة كفعل وتتنوع أشــكالها ومصادرهــا ومحموالتها التراثية في تحرير، َّ خاص، الديوان ،ما بين األســاطير المصرية القديمة ،على نحو ّ عام ،وتتفاعل ،جمالي ًا ونظائرها في التراث اإلنســاني ،بشكل ّ وســيكولوجيا ،في النصوص ،وكأنها رنيــن أليف لصوت ما، حرّية حرّية الشعر واللغة والحلم ،بل ّ الحرّيةّ ، كأنها تمرين على ّ األســطورة نفســها ..حتى نصل إلى نوع من التماهي بين الذات يشــكل اآلخــر ،ويفيض عنه، الشــاعرة وموضوعهــا؛ فكالهما ِّ تتحرك أن قبــل الداخل، في الحميم ال نوع ًا من التعايــش مشــك ً ِّ َّ خميــرة هذا التعايش وثماره على الســطح ،في شــكل صورة، كل هذا أو مشهد ،أو حالة شعرية ،أو صوت مسكون بهواجس ّ المزيج ..يتابع الشاعر:
رعدة جعلتني مشتع ً ال كقلب ندفة من الثلج وكان الصدى يأتيني من أركان األرض: خلقت من نفسي كهرباء نفسي
خلقت من نفسي نفسي
وجاءت األشياء التي أسماؤها عندي: «أنهار ًا وشموس ًا وترب ًة
وغنا ًء أمّا األ ّيام فقد كانت تنحني ألعبر فوقها وبي ج ّن ًّي آخر يصحو يدفعني
من سما ٍء إلى سماء». على عكس اللعب مع األسطورة ،المفتوح ،بألفة وحيوية ،على 84
المجهــول وطزاجة الغرابة ،وبصخب شــعري ،تكاد تســمع فيه دبيب المدينة ،وصدى خطوات البشــر والشوارع واألزقّة المثقلة بانكسارات األحالم واألمنيات ،على شّتى المستويات :سياسياً، واجتماعياً ،وثقافياً ،ونفســياً ،يواجه الشــاعر مدينته عاري ًا من كل نوازع الخوف أو الســكينة المخادعة ،فالقاهرة كتلة شرســة ّ بأي وجود حقيقي لإلنســانية مــن الدخان والعواء ،ال عالقة لها ّ الخالصة .إن منطق الشــعر ،هنا ،منطق المستقبل ،منطق ملء ال فراغ فاسد في التاريخ والبشر واألشياء ،حتى يصبحوا جزءًا نبي ً من حياتنــا وطرائق تفكيرنا ..فال غرو -إذن -أن يخاطب مدينته التهكم والسخرية ،في باسمها ،مغامرًا بأقصى ما تملك اللغة من ُّ تصوير فضائها المتناقض الفسيح ،على هذا النحو:
القاهرة :دخان يقترب ،سماء
مدرجة في قائمة األعمال .وفيما بين
الحلم ومائدة اإلفطار ،توابيت
تتناسل ،فطر يتكاثر ،والساعة،
في عكس إيقاعات القلبّ ، تدق متعرجة ،تتقاطع وتتداخل وتتجاور تمضي القصيدة في خطوط ِّ لكن ما تريد الحادة ،ذهني ًا وعاطفياًّ ، في سيل جارف من الصورة ّ حمى االنهيارات التي ترصدها ،داخلي ًا وخارجياً، أن ِّ تؤكــده في ّ بالحرّية والعدل الحلم ببقــاء مرهون الحياة في الشــاعر بقاء أن ّ والجمــال؛ لذلــك ال تراهــن القصيــدة على هــذه الكتلة الشرســة المتهتكــة ،إنمــا على وطن واضــح كالحلم والحقيقــة ،وطن له ِّ الخاصة ،والتي تشــير إليها في «لطشــتها» األخيرة، صيرورته ّ وكأن هذه الصيرورة هي يقين الشاعر والشعر معاً:
ال القاهرة تبقى قاهرة ..وال الدلتا دلتا ..وال الشــاعر مسجون ًا في لسانه.
المحبون ال يخرجون من قلوبهم؛ فال كون سواها .لهم أن يغيبوا فنغيب ُمعّدة قلوبهم للبقاء والسفر ..وحدهم ّ معهم ،ولهم ّأل يفارقوا عيوننا كاألحالم ..مضاءة سفن القلوب للعابرين ..والعائدين إلى دقّاتهم ..هكذا ،يبقى الشعر يمنح قلبه لمن يملكه فيصيران جسدًا واحداً ..وروح ًا واحدة ..يخلدون ألن الشعر ال يموت.
الحالم الذي غلب الزمن عيل الدكروري نسبية الزمن ،وتتجلّى في وقت قصير .ولكن ينجز ربما تبقى ّ ّ الحلم فيه ما لم ينجزه الزمن .ماذا فعل بنا الحلم الذي استخدم مر اســم ًا مســتعاراً ،بينما هو هذا الشاعر الجميل األنيق ،الذي ّ هــزت النهــار ..ليغيب كغياب ســريع ًا ليبقــى ،دائمــاً ،ومضة ّ كالحب. المتصوفة ،ويبقى ّ ِّ المحبة ،ولم فــي غــاب الذي المصــري قنديل.. يوســف علــي ّ يتجاوز الثانية والعشــرين من العمر ،ابــن قرية الخادمية في كفــر الشــيخ ،والذي تــرك ديوان ًا وحيداً ،وكأنــه كان يعرف، وأرقَّها ..حمــل هموم التســاؤل فوضــع فيــه أجمــل القصائــد َ ومحاولة ّ المهمة، فك شــيفرات الوجود .وهو صاحب التجربة ّ ربمــا -الرائــدة فــي قصيــدة النثر ،فــي جيل الســبعينات، وَّ - وســط عمالقة البوح :حلمي سالم ،وحسن طلب ،وعبدالمنعم متفوق ًا طوال الطب الــذي َظّل رمضــان ،وغيرهم ..وهو طالب ّ ِّ كأي حلم جميل ً، ا دائم ة القم ّ مصرًا علــى ّ دراســته ،وكأنه كان ّ ووحيد. هــزم الحروف ،فســرقه الغيــاب ..وهو الذي حمــل البالد بين ضلوعه ،بهمومها وأحالمها وغربتها:
وفي ّ كل بيت بمنفى أنا ِي ّ كل البيوت ومنفية ف َّ ّ
فإن غلبتني الحروف سأحيا،
وإن أنا غلبتها سأموت.
كان يعلــم أن انتصــاره على الحروف له ضريبة باهظة ورغم ذلــك لم يتراجع ،وحمل دقّاته كفارس جديد ومغاير ..لينتصر على دقات الحروف ،ويسبي دهشتنا. صدر له ،بعد وفاته ،ديوانه الوحيد عن مكتبة األســرة ،وهو ديــوان «كائنــات علي قنديل الطالعة» ،وقّدم له الشــاعر محمد ال عفيفي مطر الذي قال عنه« :إن ميالده كان بشارة ووعدًا مثق ً الخلقة ،وكان مصرعه شهادة كاملة باالحتماالت والتفجيرات ّ تنبأ به». ال ّ وتحقّق ًا مذه ً لكل ما َّ كل قصائده شعرية ا صور قنديل صنع علي ً خاص ًة وِبْكراً .في ّ ّ رؤية وصور ولغة ،فهو الشعر ذاته ،وقد ذاب فيه: 85
أنا الشعر والشعر ياقوتتي األنثوية هل الكون يعلم أني ُأغ ّني آلخر ما بعثرته الب ّر ّية
ويبدو هذا الذوبان في الشــعر وامتزاجهما معاً ،حيث ال يرتوي المحبون ..وحاالت العشــق التي ال تهدأ بالقرب ،وال بالغياب. ّ النبضان ليصنعا مع ًا هذا تلــك النيران التي تكبر كلَّما تالصــق ْ البهاء الجديد ،واالحتراق شوقاً:
أنا النار
والشعر لحمي حمالة للحطب وكفّ اي ّ
تلك الصورة المدهشة ،والفناء المغاير ،والذي يخلد ألنه يصنع وسماء وأشجارًا توازي الكون الذي اختاره: بالدًا وأرض ًا ً
أنا الطين
والشعر فأسي
تزاوجني بالسماء الرهيب،
فيزهر في اخضرار الدموع قمة ويبــدو علي قنديل ،وقــد وصل بجذوره إلى التــراث حتى ّ المســتقبل ،ولم تخــرج منه أصالة الريــف ..وخضرة األرض، واالنتماء ،والقمح ،والحقول:
علي ال َت َس ْل عن ٍ ّ فقد دحرجته خيول المساء
إلى أخر القمح والفول ،حين تساقط حقل السماء وأخفي الصغار
وهم يصنعون العشاء دور المحبين واألنبياء. يؤدون تمام ًاّ : ّ
لم يترك علي قنديل الصورة الشعرية ّإل بعد أن سلّمها للقارئ، تارك ًا فيها مســاحة الكتمال الدهشة .كان يسرق القارئ بالصور المتالحقــة ،والبوح الالنهائي ،وكأن براعته في التقاط الصور خاصة ،ال يمتلكها أحد سواه .كان علي قنديل، كانت بعدسات ّ المتأمل ،ينتقل كفراشة بين زهور: الصوفي ِّ 86
هناك أحجام ثقيلة من وقع الخطى
والعيون والمصائد واألنهار التي ال تنزل م ّرتين
وأطفال هناك ،حيث الجبال التي تنمو من أعلى،
وحيث زهور لم تقف عليها فراشة بعد.
مساحات كان قنديل ُيبقيها وكأنه يشارك بها القارئ في كتابة التفرد في غــزل اللّغة فكانت قصيدته ال تهدأ أصر على ّ ُّ النــصّ . وال تســكن إلى نهاية ،وكان فــي صنيعه هذا مثل قلبه الذي لم حب ًا مغايراً: يقبل ّإل أن ّ يحب ّ
ّ لكل قارئ قراءة تأتي ّ وكل مبصر تأتيه شمعة مضاءة.
أباح الحب ..ملكه السماء، ومن ّ
تطه َر بالدمع أشعل الفضاء ومن َّ إن الذي أعنيه قادم ،ال ريب
قادم وقت اإلدانة والبراءة أو يقول:
أحبك. ّ
وأنت على لوحة الغيب
سطر
تغيبه األبخرة َّ
وأقسم أنك لي ترقدين، كأسطورة في خالياي، أو تقرأين الجريدة.
يأتي إلى األذن صوتك يشبه أخر قطرات مطر
على النافذة.
َ «علِى» ال َت َسل َعن َ فَقَ د َدح َر َجته ُخ ُي ُ المساء ول َ آخرِ القَ مح و ُ َالفول إ َلى ِ اقط َح ُ ين َت َس َ الس َماء، ِح َ قل َّ َوأخفَ ون الع َشاء وهم يَص َن ُع ى الص َغا َر ُ ِّ َ المحبين وَاألنبِ َياء. َت َمام ًاُ :ي َؤ ُّدون َدو َر ِّ
ع .ق.
ومضة هاربة إىل املستحيل رفعت سـالَّم لم ينشــر علي قنديل شــيئ ًا من قصائده خــال حياته ،ولم يكن معروفاً ،بوصفه شاعراً ،سوى لبضعة أشخاص .وبعد رحيله، (كنت أقضي آنذاك فترة خدمتي العســكرية الــذي فاجأ أصدقاءه ُ تخرجي في جامعة القاهرة)َ ،حَمل الشاعر حلمي في سيناء ،بعد ُّ ســالم (وكان األقرب إلى الشــاعر الراحل ِمن بين ما سيصبحون مسؤولية المحافظة على تراثه «شعراء السبعينيات) على عاتقه ّ الشعري؛ قام بتجميعه ،وحرص على نشره تحت عنوان «كائنات علــي قنديــل الطالعة» ،فــي طبعة أولى ،بتقديــم لمحمد عفيفي مطــر ،ثم في طبعة ثانيــة ،بعنوان «اآلثار الشــعرية الكاملة»، شــعرية ونقدية بدون تقديم عفيفي مطر ،ليواصل إعداد ملفّات ّ وعربياً ،كلّما أتيحت له الفرصة. مصري ًا عنه، ّ ّ يتســع الوقت لعلي قنديــل ،ابن قرية «الخادميــة» ،التابعة فلــم َّ لمدينــة كفــر الشــيخ ( 22ســنة 5 :إبريل/نيســان17 - 1953 ، ليقــدم افتتاحيــة شــعره ،ومســيرته يوليو/تمــوز )1975 ،إال ِّ المؤسســة، اإلبداعية الالحقة؛ افتتاحية تكشــف عن المرتكزات ِّ والتوجهات المستهدفة ،والطاقات الكامنة فيما قبل التحقّق الذي ُّ دوى ِمن َأن ُنبِلي ج ال « ً: ا ر مبك أعلن قد رامبو كان فإذا ّق. ق يتح لم ّ َ َ َ ِ ِ اسة ،اللَّعَنة!» ،فقد استهلك علي قنديل ر الد ك ك د ى ل ع يل او ر الس َّ َ ِ َ َ َ َ ِّ َ َ ّية الطب ،دون أن يتبقّى للشعر -والقراءة ل ك محاضرات وقته في ّ عام ًة -إال فائض الوقت؛ فلم يملك سوى تقديم «افتتاحية» لعمل َّ أوركسترالي واعد ،لم ِ يأت. ّ توجهه الشــعري في الخروج افتتاحيــة ،يتجلّى فيها ،واضحاًُّ ، «الجذري» على السائد ،المهيمن ،البالي ،إلى كتابة أخرى قادمة. ومرتكزات هذا الجيل القادم في تلك اللحظة السبعينية ،النصف األول من السبعينيات (وفي القلب منهم علي قنديل) ،واضحة ال َّ عامة ،بل مرتكزات لبس فيهــا ،رغم ُّ تعدديتها .لم تكن مرتكزات ّ مــن «الدرجة الثانية» في الشــهرة والذيوع :رامبو ،محمد عفيفي
مطر ،الكتابات الصوفية. ّأيام الهثة ،وشــعراء طالعون شرهون يصارعون الوقت لتمثُّل وتخطيه في ٍ وقت منجز خمســة عشــر عام ًا من الشــعر «الجديد» ّ ّ األول» :عبد قياســي .واالنبهــارات والتأثُّرات بشــعراء «الصــف َّ الصبــور ،والســياب ،وحجــازي ..وغيرهــم ،تتجلّــى لومضة محمومة ،عن ُمغايرة تفتش، خاطفة ،ثم ً تتالشــى .والبصيرة ِّ َ «عام» ،شــائع ،فتجده -آنذاك -في هذه المصادر الثالثة؛ ما هو ّ ربما -تنتمي إلى أفق شــعري ثالثــة مصــادر ال تتناقض ،بــلَّ - مشــترك ،مركزه «الحدس» الشــعري ال المنطق ،والالشــعور ال المؤسسة على «التداعي» ال على التراتبي. الشعور؛ والبنية َّ كان رامبــو يتقافــز ،بيــن الحين والحيــن ،في المقــاالت النقدية المتفاوتة ،بال حضــور شــعري ،إلى أن أســـعفنا الدكــتور عبد الغفّار مكاوي بكتابه الفريد «ثورة الشــعر الحديث» (كأنه أصدر الكتــاب من أجل ذلك الجيل الذي ُيقلِّب وجهه ،في أزمنة الشــعر والشعراء ،بحث ًا عن ِق ٍ بلة يرضاها) :رؤية نافذة في تجربة رامبو مهمة من «إشراقات» ،و«فصل الشعرية ،وترجمة رفيعة لمقاطع ّ في الجحيم». اري» الحميم لعفيفــي مطر ،على «الحــو كان قنديل لكــن علــي َِ ومســتوى شــعري .وأعمال عفيفي مطر، شــخصي مســتوى ً ً ّ (ابتداء من «من دفتر ظل «األعالم» الكبار آنذاك ،تتوالــى ،في ّ ً الصمــت» ،1968 ،إلــى «شــهادة البــكاء فــي زمــن الضحك»، عصية على «االســتهالك» الشــعري الســريع، ،)1973قصائد ّ بطوفــان مــن الصور الغريبة ،الحوشــية ،التــي يأخذ بعضها كل صورة توَلد، بخناق بعض ،كأن الطوفان لن ينتهي ..كأن ّ ولغة قادمــة من أعمــاق العربية ذاتيــاً ،مــن رحــم ســابقتها، ٌ ّ البدويــة ،وخيال عــارم منفتح على أزمنة القمــع والمجاعات والصرخات األليمة. 87
النثرية األدبية في النصوص الصوفية شعرية وهو زمن اكتشاف ّ ّ ّ ّ شعرية النثر الصوفي، اكتشاف هو والسهروردي؛ والحلج للنِّفَّري ّ ّ تتخطى اللغة لماهية النثر ،بإشراقات وحدوس وأعماقه المفارقة ّ ّ والمجاز المباح المتاح ،حتى في الشعر السائد ،آنذاك. ثالثة مرتكزات أساسية ،ال لتأسيس افتتاحية علي قنديل الشعرية شــعري كامــل ،في منتصف فحســب ،بل -أيضاً -لتأســيس جيل ّ السبعينيات. اختلطــت -فــي افتتاحيــة علي قنديــل الشــعرية -نبــرات تقليدية واضحة بــارزة في كثير الشــعرية المفارقة .فالقافية بحدوســاته ٌ ّ لشــعريته ،و -أيضاً- ا ركينــ ا أساســ القصائــد، أو المقاطــع مــن ً ً ّ اقتداء بتجربة عفيفي مطر وغيره من أعالم القصيدة (ربما التفعيلة َّ ً المصباح غاِئبَ /ال أهالًَ /ال و ار/ الد شــرفات قفلة (م «التفعيلية»): ٌ ُ َّ َ ُ ُ األســرارَ /م َعُهمَّ / إال اج أدر ت ل ح ر ب/ تتجاذ ى وض وقد َنارَ /ال َف َ َ َ َم َ َ ُ َ َ وتقلقه ُنَق ُط ِ الماء السائب). ام/ ن مت ص ٌَ ُ َ وال يتجلّــى التأثُّــر بشــعر عفيفــي مطــر فــي اســتعارة قاموســه اللفظي األثير والمهيمن فحســب (الكون ،الطمي ،القتيل ،الغياب، السعف ،التراب ،الجوع ،البراري/البرية ،الفيضان، العواصفَّ ، النار ،الشموس) ،بل يمتّد إلى آلية بناء الصورة الشعرية الجزئية (حصان النار ،غصون نارُ ،تراب الوالدة ،شــحوب القراءة ،كتاب الحلم ..)..وصو ًال إلى النظر إلى الطوالع ،تراتيل الشفق ،قوارب ُ ِ مجردة ،تحيط نظرة شــمولية التســامي فوقه، العالم ،من موقع ً ً وتحيل الكون والموجودات إلى أقانيم للوجود، األولى باألصــول ُ وتبهظه، أبدية ،متعالية ،تحكم الحضور اإلنساني في العالم ُ أزلية ّ ّ َ فال يتبقّى أمامه سوى هوامش بالغة الضيق للحركة والفعل الذاتي. فريدة في وإزاء ذلك« ،األنا» الشعرية ،لدى علي قنديل -من َث َّم -حالة ٌ النبوة الكامنة: أسمى من اإلنسانية العادية ،تحمل شارات ّ كينونتهاَ ،
مس التي َين األرح ِ كون ب َ أن أ َ َ ام :البذ َرة ُ َ الم َع َّذبةَ ،وَالشَّ َ ْه الوالدة. َتغلِي /،وال ُّنطفةَ التِي َت َنب ِثقُ بِ َما َلم َتعرِ ف َ 88
العــراف ،المتعالي ،الذي يــرى ما ال يراه هــي «أنا» الشــاعر،... َّ شــعرية عفيفي مالمح أحد (ذلك الغيــب في اآلخــرون ،مكنونــ ًا ّ وخاص ًة في دواوينه األولى): مطر، ّ
اليد -يأتي /ي ُ َقف كأص ِ أ َرى يومــ ًا ُ -رب ََّما َقرِ يب ًا َ ابــع َ َثب ُ ــت ُك ّل ِذي َح ٍال على حاله/: ــم م ُ َ العا َل ُ َعصوف ًاَ ،وي ُ الخائ ُِن اب َ يها َد ُم القَ تِيل /،وَالكِ َت ُ َشه ُد َع َل َ الي ُد القَ ا ِت َل ُة ي َ َ َّ َائح نحل َعن ُه َأح ُر ُفه /وَالماءُ المغ َت َص ُب يَن َتف َت َ ِض /،الذب ُ َالخ ُ الج ِار َ َتس َتيق ُ ف وف ي ِ ِظ /و َ َصي ُر ال َّت َّيا َر َ
(كأنه أحد نصوص عفيفي مطر!) مؤجل ال أكثر ،متحقّق رؤية ليست بأمنية وال رجاء ،بل هي يقين َّ بالقوة ،كتبشير لتحقُّقه بالفعل. ّ النصــوص األخيــرة لعلي قنديــل ،التي تحيل ،فــي عمقها ،إلى نهائي ًا لقصيدة النثر؛ فالكثير من «إشراقات» رامبو ،ليست اختيارًا ّ تفعيلية ،وما يزال نمط الكتابة على الصفحة ســطورها ما تزال ّ التفعيلي السائد ،ال نمط «إشراقات» رامبو ذات الشكل هو النمط ّ متقطعة ،متتاليــة بال تواصل ،فيما النثري .والصور الشــعرية ِّ صي حاالت الذات يغلب على تغلــب الغنائية على الســرديةَ ، وتَق ِّ تقصي حاالت العالم. ّ شعري محسوم ه توج ال يبدو، فيما ، لي أو استكشــاف د مجر ّ ُّ هو َّ ّ ّ صوب «قصيدة النثر» ،التي كانت ،آنذاك ،لدى الشعراء الطالعين، ويتلمس البعض شعري ًا غامضاً ،لم ينتبه إليه البعض بعد، ال شك ً ّ ّ وآلياته، اآلخر الطريق إليه ،شأن علي قنديل ،الكتشاف حدودهّ ، وإمكاناته اإلبداعية. ومبشــرة ،وواعدة بشــاعر خرج على كانــت افتتاحية طموحة، ِّ خصوصية ،تضرب في آفاق، الســائد والمهيمن ،صوب قصيدة ّ لم يطأها شاعر من قبل.
لعب وجد
ستفانو بيني
سجناء السيارة تغيرت أشياء كثيرة في السنوات العشرين الماضية عند ّ اإليطاليين الذين يذهبون في إجازة ،وقد َقّل عددهم أيضاً .على تغيرت ثالثة أمور رئيسية .األول هو المناخ .فلم تعّد وجه التحديد ّ إيطاليا أرض الشمس .ذلك أن الكارثة المناخية ،والتي لم يفعل لها غيرت تمام ًا فصول السنة في شبه الجزيرة. أحد شيئ ًا ّإل القليل ،قد ّ هذا العام ،وطوال شهري مايو/أيار ويونيو/حزيران ،كانت هناك عواصف رعدية وبرد وثلج وفيضانات وبحر هائج مائج .وهكذا ظلّت أربعة أخماس السواحل اإليطالية خالية من السياح .وراحت الرياح تعصف بشمسيات الشواطئ في مشهد سريالي .وفي الخمس المتبقي من البالد ،وخاصة في صقلية ،زادت الحرارة أكثر من أربعين درجة ،واشتعلت الحرائق تلتهم النباتات وتحاصر المدن المحيطة بها .واستضافت القنوات التليفزيونية أصحاب الفنادق وكان من األولى استضافة المواطنين ،الذين ُسِرَق ْت منهم ثروة كبيرة .أما خبراء األرصاد الجوية المبتسمون ،وهم غالب ًا ال فائدة لهم ،فيقولون بصراحة إن علينا أن نعتاد على مناخ جديد أفرو- أوروبي قوامه هبات الحرارة غير المتوقعة واألعاصير .ظللنا نحن (وغيرنا) نكتب عن هذا الخطر طيلة أربعين عاماً .واآلن َحّل االنهيار ،وال أحد يعرف كيفية إصالحه.. قل في العالم، التغير الثاني هو الخوف .سبعون بلدًا على ا َأل ّ ُّ وفق ًا لبيانات وزارة الخارجية اإليطالية ،معرضة لخطر الهجمات اإلرهابية أو العنف .وال نعرف ما إذا كان تحليل الوزارة جادًا أو غيروا وجهاتهم.. سطحياً ،ولكن الحقيقة أن أصحاب اإلجازات قد ّ إنني عندما سافرت إلى مصر ،قبل ست سنوات ،كانت القاهرة مليئة بالسياح واألهرامات مزدحمة ،وعندما رأيت الصور األخيرة لها لم يكن بها أحد تقريباً .والخوف ال يتعلّق فقط بالشرق األوسط ال أو إفريقيا ،ولكن أيض ًا مدن أوروبية مثل باريس أو روما ،فمث ً انخفض عدد الحجاج إلى الفاتيكان أربعين في المئة .وأولئك الذين يسافرون بالطائرة ،يعلمون أن الطيران أطول وأعقد عما كان عليه قبل بضع سنوات. حلم اإليطالي في قضاء اإلجازة هو الذهاب إلى مكان يمكن أن تأخذ فيه الهاتف المحمول ،حيث يمكن مواصلة العمل به وباإلنترنت بد ًال من االسترخاء .وحيث يجد على المائدة نفس المأكوالت التي يتناولها في البيت (في قائمة طعام بفندق في جزر سيشل وجدت بيتزا أكثر من التي يمكن أن تجدها في قائمة مطعم في نابولي) .حيث يتعشم المسافر أن يلتقي بجماعة من مئة من أبناء وطنه ،ومشاهدة
مباريات كرة القدم لمنتخبه القومي ،ويستمع إلى األغاني التي كان يستمع إليها في المقهى أسفل بيته .وفي أماكن مثل برشلونة أو بطرسبرغ نرى مكتوب ًا بشكل واضح« :فندق يرتاده زبائن إيطاليون، وطعام إيطالي ،واستقبال قنوات التليفزيون اإليطالي». وهناك فئة رابعة .فئة اإلجازات «العضوية» ،أولئك الذين ملوثة ،وتناول أطعمة عضوية، يبحثون عن أماكن معزولة غير ّ التلوث .بالتأكيد هناك العديد من األماكن الجميلة من بعيدًا عن ُّ هذا النوع في إيطاليا .ولكن هناك أيض ًا عمليات نصب كبرى .مثل البيوت الصغيرة في أومبريا وتوسكانا التي تكلف أضعاف تكلفة تحولت إلى مزارع بيئية. فندق خمس نجوم ،أو فلل شديدة الثراء ّ وفي سردينيا توجد بعض الفنادق الصغيرة للمبيت واإلفطار من ال أجمل األماكن في أوروبا ،ولكن احذر من اإلعالنات المضللة .فمث ً يقولون «لحوم مزارعنا» ،ولكن ال توجد ّأية مزارع في تلك األنحاء، إنما يأتون بها من المدينة مطهية .ثم يكتبون «أسماك طازجة»، جمدة. ولكن البحر يبعد عشرين كيلومترًا ويأتون باألسماك ُم َّ ثم المدينة .لدينا أروع مدن في العالم مثل روما وفلورنسا والبندقية وباليرمو وغيرها الكثير .حتى هنا نتوقّع الكثير من الجمال ،ولكن أيض ًا بسبب سوء األحوال الجوية ،والزحام، واالرتباك ،وصعوبات االنتقال (ركوب المترو في روما يعني تشل حركتك ِ لعّدة ساعات) ،باإلضافة في كثير من األحيان أن ّ إلى أن األسعار في فترة األعياد تتضاعف في تلك المدن .رأينا مطعم ًا في فينيسيا يغير القائمة السياحية من 40يورو إلى 80 يورو في أسبوع واحد. ال خوف .يكفي التسلُّح بالصبر والجلد ،واالنطالق بالروح المناسبة ،بشيء من الرغبة في المغامرة ،وتغيير اإليقاع اليومي الالهث ،وأن تترك وراء ظهرك األفكار النمطية الجاهزة مثل «الشمس كل شيء الدائمة ،والبحر النظيف ،والطعام الصحي» .ربما يمضي ّ على مايرام ،ولكن األفضل أن تستعد لتقبل بعض الصعوبات فكر في أولئك الذين لم يستطيعوا مبارحة البيت. واالستمتاع بهاِّ . فهناك ما يقرب من نصف اإليطاليين ،على سبيل المثال ،ال يمكن لميزانيتهم أن تتحمل القيام بإجازة حقيقية .وعلى الرغم من أنهم يقررون قضاء عطلة لمدة ثالثة أيام في منتصف شهر أغسطس/ قد ّ آبّ ،إل أنهم يظلون اثنتي عشرة ساعة محبوسين في سيارة على الطريق السريع .إنها إجازة «سجناء السيارة» ،وهي أسوأ أنواع اإلجازات التي نعرفها ،ومع ذلك ال نستغني عنها. 89
كتاب
فراغ املرحلة االنتقالية
د .حسني محمود
كانــت اإلجــازة كلَّمــا أتــت فرحــت بهــا األيــام األخيرة فرحـ ًا شــديداً ،وكنت أعـّد ّ فــي الدراســة واالمتحانــات إلــى أن يبــدأ موســم «الفــراغ» .كان الفــراغ لذيــذًا فــي الطفولة ،لكنه لم يعــد كذلك في الكهولة يحــب الفــراغ، والشــيخوخة؛ فالطفــل ّ والشــيخ يمقته؛ فهــو لدى الطفــل حياة، ولــدى الشــيخ مــوت .ســألني رئيــس الجامعــة التــي أعمــل بهــا إن كنــت أنــوي القيــام باإلجــازة الصيفيــة ،فأجبته« :ال تعجب وسألني طبعاً»ّ ، بكل ثقة ويقينَّ . ثم أطرق وقال« :معك حق». عن السببّ ، عــرف اإلجابــة قبــل أن تصلــه ،فهــو فــي القــارب نفســه ،النجــاة فيــه تعنــي أن تنشــغل دائم ـاً. أهــم مــن اإلجــازة أن الحقيقــة لكــن ّ فــرح الطفــل وكــدر الشــيخ ،ففيهــا هــذا العنصر الســحري الذي يعنــي «الفراغ»، فتــرة فارغــة يحلــو للبعــض أن يسـّـميها «مرحلــة انتقاليــة» .فــي بعــض الــدول يسمون الشهادة الجامعية «إجازة العربية ّ جامعية» ،وهي -بالتأكيد -ترجمة للكلمة الفرنسية «ليسانس» ،ومعناها «رخصة»، والذي جعل اللفظان يلتقيــان هو اليقين ويتحمل يتحمل السماح، ّ الناقص ،الذي ّ المنع بالقدر نفســه ،وفي اإلجازة معنى النقــص الــذي يحتــاج إلــى ســلطة أعلــى 90
«تجيــز» ،أو تمنح هــذه اإلجازة ،ســواء أكانــت درجــة علميــة أم كانــت بعضــاً، الزمن الفارغ الذي يخلو مــن االلتزامات. والحاصــل علــى اإلجــازة فــي حالــة انتظــار ،فقــد أنهــى الدراســة ،وينتظــر والموظــف الــذي يحصل فرصــة العمــل، َّ أيام بال التزام على إجازة يقضى بضعة ّ «شــكلي» بالعمل ،لكنه ال يتــرك التفكير حتــى يعــود إليــه ،والطفــل يأخــذ إجازة مــن المدرســة لكــي يتعـ َّـرف إلــى الحيــاة
ربمــا ،علــى الحقيقيــة خــارج الفصــولَّ ، شــاطئ البحــر ،المــكان األثيــر لقضــاء اإلجــازات. األمــم -أيض ـاً -تحصــل علــى إجــازة: فترة ليــس فيهــا التزامــات محـ َّـددة ،فيها يســميه البعــض ذلــك الفــراغ الــذي قــد ّ فوضــى أو انفالت ـاً ،وال ب ـّد ،بعدهــا ،أن تعود إلى العمل والنظــام والجّدّية .مثل ذلك هــي الفتــرات االنتقالية التــي تعقب الثورات والتي يسودها اللهو ،والثرثرة، والطموحات غيــر البريئة ،والطموحات التي ليس لها ســقف ،للعودة إلى إيقاع الحيــاة الطبيعية. األمم الصغيرة مثل األطفال ،ترفض- عــادة -أن تنهــي اإلجــازة وتعــود إلــى ً ــة إذا كانــت حيــاة «المدرســة»، خاص ً ّ المدرســة قاســية ،مثل مدارس الراهبات المشــهورات بالقســوة والالتــي يجعلــن التلميــذ «يصّلــي» رغمـ ًا عنــه ،أو إذا كان ال غليظ القلب قاسياً، ناظر المدرسة رج ً تكــره أن تــراه أو أن تعيــش تحــت ظّلــه. يذكرنــي هــذا بروايــة شــهيرة لكاتبــة إيطالية عنوانها «اإلجــازة» .الكاتبة هي داتشا ماراييني ،وقد كتبتها عندما بلغت مــن العمــر ســبعة عشــر عام ـاً .فــي ذلــك الوقــتَ ،ك َّونت هــي وزميالتهــا مجموعة أدبيــة مــن تلــك المجموعــات التــي تدفــع
تصورات فترة المراهقة عن الحياة إليها ُّ فكرت داتشا ماراييني أن تكتب المثالية. َّ موضوع ًا عن «اإلجــازة» للمجلة التابعة حولــت الفكرة لكي لتلك المجموعــة ،ثم َّ اتسعت قصة قصيرة ،لكن الفكرة َّ تصبح ّ في الكتابــة حتى خرجــت مــن قلمها ،في النهاية ،روايـ ًـة طويلة. ليســت الروايــة ،فقــط ،هــي المثيــرة فــي تناولهــا لفكــرة النقــص الموجــودة فــي «اإلجــازات» ،بــل طريقــة ظهورهــا ونشــرها ونجاحهــا .وســوف نتنــاول، فــي الســطور اآلتيــة ،البعــد االجتماعــي في ظهــور كاتبــة ونجاحها ،ثــم التناول الفريد لشخصية بطلة رواية «اإلجازة»، ومــا أدركتــه -علــى مســتواها الفــردي، وعلى مســتوى المجتمع كّلــه -من نقص وسم ْت ومثالب ،بل ونفاق وزيف أيضاً، َّ هــذا «اإلجــازة». فقد حملت داتشــا ماراييني مخطوطة روايتهــا ،ودارت بهــا علــى دور النشــر، وحصلــت منهــا كلّهــا علــى تعليقــات ســاخرة ،تثبــت جــودة العمــل ،وترفض لتوها، نشره ،وتنصح الفتاة الخارجةِّ ، من مرحلة الطفولة بأن تعــود إلى بيتها وتهتــم بدرســها ،فذلــك أجــدى ،إال دارًا ّ واحدة ،هي (ليريتشي)ّ ،إل أنها اشترطت مقدمــة عليهــا أن يكتــب ألبرتــو مورافيــا ِّ لهــا .وكان مورافيــا مــن أشــهر الكّتــاب فــي ذلــك الوقــت ،وكان صديق ـ ًا لعائلــة المقدمة، مارايينــي ،فوافــق علــى كتابــة ِّ موجهــة إليهــا. لكــن علــى شــكل رســالة َّ وطِبعت أربع طبعات ونجحت الروايةُ ، في زمن قصيــر ،بعــد أن «أجازها» كاتب كبيــر. َسـ ِ ـعد الجميــع بهــذا النجــاح :مورافيــا أحــب الفتــاة وتــرك، أنــه حتــى ســعيد ّ مــن أجلهــا ،زوجتــه ،والناشــر ســعيد األول لهــذه الفتــاة قــد نجــح ألن العمــل َّ نجاحــ ًا ســاحقاً. الوحيــدة التــي كانــت تعيســة بســبب «اإلجــازة» هــي داتشــا مارايينــي ،التــي أدانت ُدور النشر اإليطالية كلّها ،وأعلنت، بكل جــرأة ،أن الكاتبــة -لكــي تنجح في ّ أوالً -لكاتب نفسها- ِّم تسل أن د الب إيطاليا- ّ َّ كبيــر ،وأن تصــل إلى الشــهرة مــن خالل
عالقة غير شريفة .رأت داتشا ماراييني ـام يعزو أنهــا لــم تنجــح ،وأن الــرأي العـ ّ النجاح التجاري للرواية إلى وجود اسم مورافيــا ،وأن ال أحــد يأخذهــا ،بوصفها كاتبة لهــا أســلوبها ،على محمــل الجّد. الستينيات حدث ذلك في بداية أعوام ّ من القرن الماضي .واآلن ،أصبحت داتشا مارايينــي من أهـّـم األصــوات األدبية في إيطاليا ،ونشرت أعمالها مستقلّة ،دون االستعانة بمورافيا الذي تركها وصادق ـأي «كبيــر» غيرهــا ،ودون االســتعانة بـ ّ رجمــت أعمالهــا كلّها إلــى لغات وت ِ آخــرُ ، مترجــم إلــى اللغــة وبعضهــا أجنبيــة، َ العربيــة ،أيض ـاً؛ والمعنــى أن ديناميــة اإلجازة ،واالرتفاع على كتف الغير -وإن كانت وســيلة غير مشــروعة للنجاح -قد نجحــت فــي المســاهمة فــي ميــاد كاتبــة كبيرة. أمــا عــن الروايــة نفســها «اإلجــازة»، ّ فقــد لمســت الكاتبــة فيهــا ،بــذكاء ،معنى «الفــراغ» الــذي يحملــه هــذا اللفــظ ،و- ربمــا -كان مورافيا في تقديمــه للرواية، َّ قــد وضعــه يــده -أيضــاً -علــى المعنــى الثانــي ،والــذي هــو «مرحلــة انتقاليــة» فيهــا ذلــك اليقيــن الناقــص ،بــل وصــف ذلــك بأنــه طــرح عصــري حديــث .قــال مقدمتــه: مورافيــا فــي ِّ شخصية «أريد ،فقط ،أن أتوقَّف عند ّ البطلــة عنــدك ،ألقــول عنهــا شــيئاً، بصفتــي روائيــاً؛ أي زميــل مهنــة ،ال ناقــداً .هــذه الشــخصية التــي هــي لفتــاة ـن المراهقة ،هي أفضل شــيء في في سـ ّ الرواية ،وهي أنجح وأكمــل ابتداع لك؛ فهــي تتح ـّدث بضميــر المتكّلــم ،لكننــا ال ربمــا -ال تعرفها نعرف أفكارهــا ،ألنهــاَّ - تفكــر فيهــا .هــذا هــي نفســها؛ أي أنهــا ال ِّ حيوية الشخصية التناقض يضفي على ّ ـدل علــى اغتــراب كامــل .إنــك -بمعنــى تـ ّ آخــر -ابتدعــت شــخصية عصريــة ج ـّداً، لهــا ضميرأدبــي بقــدرة فريــدة علــى أن تكــون داخــل الموقــف وخارجــه ،فــي الوقــت نفســه». هذه الشــخصية الرئيســة فــي الرواية هي «آنــا» :طفلــة عمرهــا 14ســنة ،تبدأ إجازتها بالخروج من المدرســة الداخلية
الصارمة للراهبات ،لكي تقضي اإلجازة مــع العائلــة علــى شــاطئ البحــر ،فــي بلــدة صغيــرة بالقرب مــن رومــا .نحن، اآلن ،فــي عــام ،1943حيــث توشــك الحــرب العالميــة الثانيــة علــى االنتهاء، الفاشية اإليطالية على السقوط، وتوشك ّ وتبــدأ إيطاليــا مرحلتهــا االنتقاليــة التــي ســوف تضعها ،بعــد ذلك ،ضمــن الدول تقدم ـ ًا فــي العالــم .بعدهــا بفتــرة األكثــر ُّ ّ وجيــزة .كانــت الطائــرات ال تــزال تــدك وف َّكر األب في أن يحمل المدن اإليطاليةَ ، أوالده إلــى هــذه البلــدة الصغيــرة هرب ـ ًا من قصــف رومــا ،معتقــدًا أنه مــكان أكثر أمناً .في هــذا المكان ،مــع أخيها ،وأبيها وزوجة أبيها ،تتعـ َّـرف «آنا» على فتيان تتحملهــم ،وتثيرهم، ورجال وشــيوخّ ، للتعرف إلى أنوثتها التي لم في ســعيها ُّ ً تكتمل اكتماال صريحاً .تراقب زوجة أبيها وتحســدها ،وتدين العالم المتداعي الذي يحيط بهــا ،والــذي ال ّ التحرش يكف عــن ُّ بها ،ومحاولة اغتصابها ،والتعامل معها علــى أنهــا «أنثى/شــيء» ،وهــي ،بعد، طفلــة؛ مــا جعلهــا تصــف هــذا العالــم أنه كل هــذا الــذي مريــض بــداء «الغلمانيــة»ّ . تعانيــه الفتــاة ،أو -باألحــرى -الطفلــة تودع طفولتهــا وتدلف إلى التي تريد أن ّ ـابة العصرية ـ الش ـة ـ ِّف المؤل مراهقتهــا ،أو ّ بكل أبعادها التي تقّدم الشخصية الحديثة ّ الذكي: بسؤالها كل هذا ينتهي المأساويةّ ، ّ الحب؟ هــل هــذا هــو ّ المؤلِّفــة ،بهــذا الســؤال ،تصبــح واضحة وصريحة ،والرواية كلّها -رغم التغييــرات الكثيــرة التــي تحــدث للبطلة وتطور الحدث فيها -استاتيكية ساكنة، ّ ال تراوح مكانها ،فالخبرات كلّها سلبية، ويظل القارئ في انتظار أن تخرج بطلته ّ مــن رؤيتهــا الغائمــة تلــك ،لكنــه ينزلــق القَدريــة ،هــو الــذي معهــا إلــى نــوع مــن َ كل ـب ،الــذي يغيب معــه ّ يبــرز غياب الحـ ّ شــيء .ويجيــب القــارئ ،ونجيــب معه، علــى ســؤال بطلــة الروايــة :ليــس هــذا الحب ،بــل هو ذلــك الشــيء الناقص هــو ّ الفارغ االنتقالــي الذي نسـّـميه «إجازة»، تتعطــل فيهــا أشــياء كثيــرة، «عطلــة»ّ ، وتغيــب. 91
ترجمات
إيف بونفوا..
أضاعته نوبل ،ولم يض ِّيعها! ترجمة وتقديم :خالد الريسوين لقــد انتهى «إيــف بونفــوا» باالصطــدام ،وجه ًا لوجــه ،مع ذلك لكل اســتعارة» ،كما كتب في إحدى أبياته «الموت الذي يقول :ال ّ دنوًا من األفول. األشّد ّ ال عن هو أحد أشــهر شــعراء فرنســا في القــرن العشــرين ،فض ً كونــه باحث ًا وناقــدًا َفنّياً ،وأســتاذًا جامعي ًا مرموقــاً ،ومترجم والمرشح األبدي للحصول على جائزة نوبل لآلداب. شكسبير، َّ توفِّــي يــوم الجمعة (يوليو) من هذه الســنة ،فــي باريس ،عن ســن تناهز الثالثة والتسعين .وترك خلفه حياة َك َّر َسها للشعر ّ 92
وللُّغة الشعرية ،التي َع َّدها أداة للعثور على بعض نقط الضوء في هذه العتمة المقيمة والمســتديمة؛ فقد كان الشــعر -بالنسبة ال «لتحرير العالقات بين إنســان إلــى «بونفوا» -وســيلة وشــك ً األحكام المســبقة واأليديولوجيات واألوهــام التي تفقره» ،كما أوضح في أحد اللقاءات الصحافية. رجَم ْت إلــى 30لغة ،وكان هــو مؤلِّــف للمئات مــن الكتب التــي ُت ِ «بونفوا» قد اقترح نمط ًا من الشــعر يكون أكثر التصاق ًا بالواقع، وارتباطــ ًا بــه؛ فهــو لــم يكــن ليثــق بالتجريديــة وبالمفهوميــة
وبالنظريات والمذاهب التي كان شاهدًا على سقوطها وفشلها .كان يخشى أن الفن الــذي كان يتالشــى ،أو يختفــي ّ يعــّده مالزم ًا لتجربة الوجــود ،وكان فإن يعتقــد أنه إذا ُكِت َب لــه أن يحدثَّ ، المجتمع ذاته سيستسلم .كان يرتعش أمام نهاية الشعر ،ألنه -بالنسبة إليه- ويفسر «بونفوا» مرادف لنهاية العالم، ِّ بك ْو ِن «الشــعر يجعلنا ننتقل ،من ذلك َ المحركــة لاللتباســات روح التملُّــك ِّ والحــروب ،إلى الرغبة في المشــاركة البســيطة والمباشــرة في العالم» .لقد المادّية كان «بونفــوا» يتصــارع بيــن ّ األكثــر ابتــذا ًال و«القلق الفطــري ألجل السمو» .لم يكن يزدري الغنائية ،أبداً، ّ لمجــرد االســتعراض واإلثــارة ،وقــد َّ واصل اإلشــراق الميتافيزيقي انطالق ًا مــن البيئــة الطبيعيــة ،الحاضــرة، «أحب األرض، كل أشعاره. بقوة ،في ّ ُّ ّ ومــا أراه يجعلنــي أفيــض» ،قال ذات مرة. ّ ُوِلد «بونفوا» في تورز عام ،1923في عائلة متواضعة تتكون من أب عامل في قطاع الســكك الحديدية وأم معلِّمة في المدرسة .بعد أن بدأ حياته الدراسية في بواتييه، ّ استقر انتقل إلى باريس عام 1943لاللتحاق بجامعة السوربون. َّ في شــقّة صغيرة في الضفّة اليســرى ،وقضــى ليالي كاملة في َ قراءة «برتولد بريخت» ،و«تريســتان تزارا» ،و«أنطونين أرتو». وســرعان ما اقترب مــن دائــرة «أندريه بروتون» والســرياليين المتأخريــن ،حيــث كان البلجيكي «كريســتيان دوترمــون» الذي ِّ أســس ،الحقاً ،مجموعة كوبرا. ُ اشــتهِر برسومه اللفظية والذي َّ تمســكهم «بتكثيف الســرياليين مع بونفــوا» «إيــف تقاســم وقد ُّ الوعي والكلمة» عبر اللّغة الشــعرية ،لكنه كان يستوحي شعره مــن العالم البســيط ،ويختلف عن ميول الســرياليين نحو الحلم انشــق (البوابة) لولوج األبعاد الموازية؛ ولهذا الســبب ،بالذات، َّ ّ عن الحركة في عام ،1947رغم أنه لم ينكر ،أبداً ،التأثير العميق للجماعة على أعماله الشعرية. وبعد نصف عقد من الزمن ،كان «بونفوا» ُي ِعّد مختاراته الشعرية «حجر حركــة وثباتاً» ،1953 ،والتي أعقبتها مجموعتا: «دوف، ً ٌ مكتوب» ( ،)1965و«المنطقة الداخلية» ( ،)1971وهي مزيج من ٌ كتابة السير ذاتية والمقالة ،كتب فيها «بونفوا»« :يجتاحني ،في كثير من األحيان ،شــعور بالقلق أمام مفترقات الطرق .يبدو لي أنــه في تلك اللحظات ،في ذلك المــكان أو بالكاد« :هناك ،على ُب ْعد خطوتين على الطريق الذي لم أختر الســير فيه [ ]...تنفتح ٍ متعال ،حيث كان من الممكن أن أعيش ،والذي، بــاد من جوهر اآلن ،قــد ضيعتــه» .وليس من قبيل الصدفة أن يجد في «هاملت» تتردد في رأســه القولة الحجر األســاس للحداثة، ْ واعتــادت أن َّ المأثــورة لشــاعره المحبوب «رامبو» عن عــدم الرضا األبدي من توجد في جهة أخرى». ِقَبل الكثير من الفانين« :الحياة ُ
ُتِرجمــت أعمــال «إيــف بونفــوا» إلــى العربية ،من طرف أدونيس ،وصدرت فــي دمشــق ،عــن منشــورات وزارة الثقافة ،ســنة ،1986وشملت الترجمة أعمالــه الشــــــــعرية الكاملــة ،وهــي: حركة «ضــّد أفالطـــــــــون» ،و«دوف، ً و«ســائدة أمــس الصحراء»، وثباتــاً»، ً و«إخــاص» ،و«حجر مكتــوب» و«في خـــــديعة العــــتبة» ،كمــا ترجــــــــم له محمــد بن صالح أنطولوجيا شــعرية، اختار فيها منتخبات من قصائد الشاعر، كل من أســماء ترجــم له ًّ وفــي المغرب َ خال ،ورشيد خالص مجموعته الشعرية بـ«فليبق هذا العالم!». الم َعْن َونة َ ُ في مســيرة «إيــف بونفوا» الشــعرية، مؤكــدان هما: يبــرز ثابتــان وجوديــان َّ ّ «حــب الكمال ألن المــوت ،والالاكتمال. ّ المباغت جّدًا ذاك هــو العتبة/،ونفيهــا ُ معلــوم ،نســيانها عنــد موتها/،والــا ٌ القمــة» ،كتــب فــي إحــدى اكتمــال هــو ّ القصائــد مــن مجموعتــه« :البارحــة، الصحراء ُمَهْيِمَنة» (.)1958 ُ جاذبية ،اشتغل األقل من شقَّته الصغيرة الواقعة في «مونمارتر» ّ ً الفن .كتب «بونفوا» -أيضاً -في دراســاته ومقاالتــه على تاريخ ّ خصصها الفن القوطي ّ عــن ّ والفن الباروكي ،باإلضافة إلى كتب َّ اســو ،وموندريــان ،وجياكوميتي ،وبالتوس، وياَ ، لـــ ُ :غ َ وبيك ُ وميرو .من أنشــطته الرئيسة األخيرة أعماله عن الترجمة ،التي كانــت تقوم على التوازي الشــعري؛ ألنها تســتند إلــى التحويل اللّغــوي .وقــد ترجــم «بونفــوا» إلى الفرنســية أكثر من خمســة وتوغل فــي جوانب مجهولة فــي أعماله ال لشكســبير، َّ عشــر عم ً شــخصياته النســائية، ابتعثتها التي المرأة ُّل كتمث المســرحية، ّ كل من :كيتــس ،وييتس ،وبتراركا، وقــد فعل ذلــك -أيضاً -مع ّ وليوباردي. وإذا كانــت جائــزة نوبل قــد قاومته -وإن لم تكن مســتعصية علــى شــاعر كبير مــن طينته لقيمــة أعماله وعمقهــا -فقد فاز «بونفــوا» بعّدة جوائــز مرموقة مثل :الجائزة الكبرى للشــعر التــي تمنحهــا األكاديميــة الفرنســية ،وذلــك ســنة ،1981 وجائزة غونكور للشــعر ،ســنة ،1987أو جائزة سينو ديل دوكا ،التــي ُتمَنــح لشــخصية بارزة فــي المجال اإلنســاني، ســنة ،1995كمــا نــال جائــزة معــرض غواداالخــارا ،ســنة مفســراً« :القصائد ليس لها معنى، .2013حينئذ ،كان قد قال ِّ الخاصة ذاتها ،ونسائل التجربة عند قراءتها يجب أن ُنســائل ّ الذاكــرة .ومن ذلــك المنطلق يجب أن نبحث عن التأويل» .منذ سنة ،1981صار «إيف بونفوا» أستاذ كرسي األدب المقارن فــي الكوليج دو فرانس ،وألقى محاضــرات عديدة في الكثير المتحــدة ،وبقــي، مــن الجامعــات ،فــي أوروبــا والواليــات َّ أضاعت ُه، مرشــح ًا دائمــ ًا لنيل جائــزة نوبل التــي لســنواتَّ ، ْ ضيعها!.. ولم ُي ِّ 93
القمة» «النقائص هي ّ وقصائد أخرى إيف بونفوا
هنالك ،حيث يسقط السهم
-1-
تائهــ ًا ..على بعــد خطوات قليلة مــن البيت .ومع ذلك ،ليس أبعد من ثالث تسديدات بحجر.
ِي صدفة.. هناك ،حيث يسقط السهم الذي ُألق َ
-2-
تائهــ ًا ..رغم ذلك .ألنك يجــب أن تق ّرر ،في ّ كل لحظــة ،تقريبــ ًا .لكن ،ال يمكنــك أن تفعل ذلك. ال شــيء يكلمك ،وال شــيء -بالنســبة إليك -هو تتبد ُد .في األثر الذي مؤشــر. ِّ ِّ فكرة المؤشــر ذاتها َّ
علي شــخص ما، تائهــ ًا بــا تراجيديــا ..ســيعثر َّ وســترتفع أصــوات قليلــة فــي الســماء ،مــن ّ كل
خلَّفَ تــه الكلمــة فيما هو عليــه ،يعود مــاء التج ّلي المهجور إلى االرتفاع ،ويتأ َّلق ،متف ّرد ًا. ّ مســدود ،اآلن ،كما لو أنها سطح كل كلمة :شــيء ٌ
والســاعة لــم تتجاوز الرابعــة ،مــازال ِ ّ متبقي ًا جز ٌء مهم من النهار ،لكي يســتم َّر المــرء مفقود ًا ،وهو ّ
يمكنك أن تتلفَّ ظ هذه الكلمة :السنديانة. لكنك عندما تقول :السنديانة ،بصوت ٍ عال ،لماذا،
الجهات ،في الليل الذي يسقط.
راكض ،أحيان ًا ،وعائد ما بين األحجار المنكسرة
تخدده وهــذه الســنديانات الرماديــة ،في غــاب ّ منخفضات تبحث فــي ّ كل مكان عن الالنهائي، تحــت األفق الصاخــب .لكن ،هنا ،فــي العبور، ينغلق أ كثر.
حتم ًا ،سوف أعثر على طريق.
ُ يرتعش :حجر ما. مطف ٌأ ،ال شيء فيه
مفتاح في ذهنك ،تبقى الكلمة ،وتغدو أثقل ،مثل ٍ ِ يد ْر؟ وصورة الشــجرة تتشــظّ ى ،وتعود في اليد لم ُ ٍ جديــد ،في األعالي ،فــي المطلق، لتتوحــد ،من َّ كحالنــا حين ننظر إلى ذلك الكريســتال في ألواح الزجاج القديمة.
اللون يتاخم حافّ ة الصورة عبر انتفاخ الزجاج .هذا
تلك المزرعــة الخرِ بة ،حيث كان يبدأ ســوف أرى َ
نسميه الشــكل المثقوب بنتوء منحرفة ،كما الذي ّ
هل أنادي؟ ال ..ليس بعد ،حتى اآلن.
واألشكال مغلقة.
أث ٌر ما.
94
لو أن اليد التي تحفظ األلوان (ستســتم ّر مفتوحة)
الرسومات للفنان الفرنسي بول سيزان
-3-
الفرار في الحبر المنسكب للغيوم! كم كلمات كانت
تائهــ ًا ..واألشــياء تأتي من ّ تتجمع كل الجهــات، َّ
تأتــي ،من يدري من أين ،مــن بين الكلمات! كم
تحتاج ،بشكل كثيف ،مكان ًا آخر.
المكعبات المغ َّلفة بالصور ،بل الخشــب المتآ كل ّ
ثمة مكان آخر في تلك اللحظة التي حوله .لم يعد ّ ولكن ،هل يحتاج هو إليها؟
لعبة فجأةً ،لم تعد رقعة لعب (الداما) الصغيرة ،أو من الحوافي ،واأللياف التي تتجاوز اللون!
ثمة وشــيء ما يأتي من مركز األشــياء ذاتــه .ليس ّ
يقولــون له ،مــن بعيد :تعال ،وهو لم يكن يســمع ُّ ينحل فوق الزليج. سوى نثار الصوت ذاك ،والذي
يســاعده على التنفُّ ــس هنا ،في ماء مــا هو عليه،
-4-
فضاء أ كثر بينه وبين الشيء األدنى.
أشــد زرقة، وحــده الجبل ،هنالك ،في األســفل، ّ الذي يعود من جديد لالرتفاع.
ومع ذلك ،فمن المألوف ذلك االنطباع باالندفاع الذي يُمارس عليه من داخل ّ كل شــيء .البارحة،
يرتــد نحو نقطة فقــط ،كم طريق ًا شــديد الوعورة ّ
َّ تقدم أمامــه لحظةً ،وهو يتذكــر أن طائــر ًا كان قد َّ
اليزال في الطريق.
لكن الماء الذي منذ دقيقتين ،وهو يسير مستقيم ًا، ّ ثمة ّ كل شــيء يتحــ َّرك بيــن بقايا الجذوع يوقفهّ . 95
في ذلك الماء الصافي ،نوع من مســحوق األزرق ّ حيث التيار الالمحســوس، يلتف حول ذاته، الذي ّ يخبط القمة الملتمعة لصخر ٍة ما. تقريب ًا، ّ لــو كان المطــر قد تســاقط لــكان عثر علــى آثار لكن األرض يابسة. خطواته، َّ الــدرب الــذي مضى فيه كان يترك الشــمس على يساره .هنالك ،حيث انعطف ،بالقرب من الحافّ ة، كانــت تلك األحجار الثالثة َّ ملطخة بالبياض ،كما لو َت ّم تلوينها. -5ّ هــذا التل الذي يكاد ولكن ،لماذا تتســ َّلق ،اآلن، يكون منحدر ًا ،واألشــجار غيــر مجتمعة بعد ،في علــى امتــداد الجــداول الضيقــة؟ من األســفل، ِّ َّ المؤكد أن الطريق ال تم ّر من هناك.
ولن تجد من هناك ،في األعلى ،رؤية أفضل. وال تستطيع حتى أن تهتف باسم مناداك. أراه ،رغم ذلك ،يصعد ما بين الجذوع ،عبر الحجارة. مستعين ًا بغصن خفيض ،حين ينتبه أن األرض زلقة جد ًا بســبب األوراق اليابســة ،والتي بينها ،دوم ًا، ّ حصى يتدحــرج فوق حصى آخــر :معينات حافّ ة رمادي َّ ّ ملطخ باألحمر. من فوالذ ذات لون أعلــى القمــة .بضعــة أمتار وأتخيــل أرى ذلــك، ّ َّ ِّ مســتوية ،لكنها متقطعة بســبب العوســجات التي تصــل ،أحيانــ ًا ،حتى األغصان .االلتباس نفســه، والصدفــة نفســها بالنســبة إلــى أجــزاء أخرى من الغاب ،ولكن األمر هو نفسه بالنسبة إلى ّ كل ما هو حي .يح ِ ّلق طائر ال يراه .صنوبرة تســقط في ليلة، ٌّ فيها الريح المنحد َر الذي يستم ُّر. عرقلت ُ وأســمع في داخلي ذلك الصــوت الذي ينبثق من 96
عمــق الطفولة :قــد جئت إلى هنا مــن قبل (قلت حينئذ) ..أنا أعرف هذا المكان ،لقد عشــت هنا،
كان ذلــك قبل الزمن ،كان ذلك قبل وجودي على األرض.
-6-
عمره عشــر ســنوات .العمر الذي منه ينظر المرء؛
هل باهتزازات إلى حركــة الظالل؟ وتم ّزق الورق
والمســمار المثبــت فــي الجبس فــي الجــدران، َّ
للمادة وحوله المعدن الصدئ ،والحراشف التافهة ّ الغامضــة ...هل ضــاع؟ فع ً يتقــدم ،منذ زمن ال، َّ طويل ،ما بين ألغــاز كبرى .لقد كان دوم ًا وحيد ًا. جلس فوق شجرة ساقطة ،يبكي.
تائه! يبدو كما لو أن العالم اآلخر الذي يختم على
نقطة التالشــي كان ســيأتي لينحني عليه ،ويلمسه في كتفه.
لما ينادينا ا ّتجاهان خالل اللحظة رفع ّ عيني ،حينهاّ .
بشــكل نفســها ،في مفتــرق الطرق ،يخفق القلب ٍ أقوى وبشــكل أ كثر ســ ّر ّية ،لكن العيون ُح َّرة .تلك الليلة ،في البيت ،فليضع الحطب على النار ،مثلما َ يفعل :سيراه يحترق في عالم آخر. ُسم ُح له بأن ي َ ُ ســيترد ُد صداها وحده :الكلمات فليتحدث ألجله ّ َّ
في عالم آخر.
جد ًا ،ســنوات متأخر ،في وقت ِ ّ وفــي وقت ِ ّ متأخر ّ عديــدة بعد ،وحيــد ًا ،وحيد ًا دوم ًا فــي غرفته مع
الكتاب الذي كتبه ،ســيتناوله بين يديه ،وســينظر إلى الحروف الحالكة للعنوان فوق الورق المق ّوى ٍ صفحــات مــا؛ لكــي ســيفتح الملــ ّون بــاألزرق. ُ يتماسك فوق الطاولة.
ســيدني منه عود ثقاب مشتعل ،لطخة ثم ،بعدئذُ ،
ب ّن ّيــة ،و -فيما بعد -ســوداء ،ســتولد فــي اللون، ُ ســتنهش جلية وســوف تنتشــر ،و ُت ْثقَ ُ ــب .أثر نــار ّ الحوافي ،التي سيســحقها هو بإصبعه قبل أن يرفع مجــدد ًا ،عالمة في نقط ٍة أخرى ســج َل، َّ الكتي َب ُلي ِ ّ ِّ
ُ يســقط. من الغالف .وها هنا ،جانب بكامله منها أبيض ،ينجلي جد ٍ الورق الالمع للصفحــة األولى ُّ ُ
أسفله مصف ّر ًا ،وقد أدركته الحرارة ،أيض ًا.
يتــرك الكتاب ،ويحفظ في ذهنه -ال أعرف حتى
الج َم ِل والرماد. اآلن لماذا- زواج ُ َ -7-
ــد ًا لخوفــه .عماد نبــاح الكلــب ،الــذي وضع َح ّ ُ الشــمس بين الغيوم في المســاء .البِ َر ُك التي يراها
تلميــذ المدرســة تتأ َّلق في الكلمــات ،وفي اآلتي
من حياته ،عندما يغمس ريشــته الجافّ ة في شعث
اإلمالء الشديد السرعة. ِ ّ توســيعات، صــن أمــام الســماء ،بســبب وكل ُغ ٍ ِ وتكثيفات كتلتهــا .الالمرئي الذي يتدفَّق هنالك، كنبــع في الذوبــان العنيف للجليــد ،وثمار العنب الحمراء ما بين األوراق.
لما يعود ،والجــذوة التي يبــدأ فيها ّ كل والضــوء ّ شيء ،ويبلغ نهايته.
في النهر ذاته
أحيان ًا ،تمسك المرآة
-197
ما بين السماء والغرفة،
للحد ،بالنسب ِة إلى العالم، متجاوزة ِّ
يديها الح ّد األدنى بين َ
قطع لرقب ِة ٌ الكبش ،الواثق، ُ مع الكلمة. الذي ينساق َ
من الشمس األرضية.
واألشياء واألسماء مثلما لو
وأن الكالم ليس سوى
أن األصوات ،واآلمال كانت تستمتع
أن تحلم :أن الجمال
في النهر ذاته.
يمكن أن تحلم حيث ُ ِ الكلمات ال توجد. أن َّ
ميا ٌه تحت ذلك النهر ،نهر السالم، 98
-2-
حقيقة ،الجالء
ذاته ،طفل
يعب ُر ،منفع ً ال ،تحت مخزن الغالل.
وتلك األخرى ،في مرآة؟ تدنو
ينهض ..وسعيد ًا بوفرة الضوء، َ لتمسك تمتد يده ّ حبة العنب األحمر. ّ
من تلك التي لك ،والتي تمضي نحوها،
أصابعها تتالمس أو تكاد..
لكن ،في ضآلة تلك المسافة،
تنفتح اله ّوة بين الكينونة والمظهر.
-3-
وفيما بعد ،يفهم، فقط ،عبر صوته كما لو كان يمشي عاري ًا عبر شاطئ ما. وكانت لديه مرآة، ْ حيث السماء ك ّلها تنفتح ألشعة كبرى ،تل ِ ّون
ّ على األقل ،تح ِ ّرك حبا ً ال. تلك األصابع التي،
يد أخرى من أعماق الصوت، هل سترتفع ٌ ُ
لتأخذها بين أصابعها ،وتقودها؟
ُ حب ًا ولكن ،نحو ماذا؟ لست أدري إن كان ّ حلم ،الكلمة أو سراب ًا ،وليست سوى ٍ
التي ليس لها غير ما ٍء أو مرآ ٍة ،أو صوت...
األرض بكاملها.
هو يتوقَّف أحيان ًا، هنا أو هناك،
تسحب ،بذهول، قدمه ُ الماء فوق الرمال.
عازف البيانو
يد تُخاطِ ُر ،الهث ًة ٌ
البئر
تصطدم بالجدار، سمع السلسلة ُ ُت ُ ُ الدل ُو في البئرِ الذي هو النجم اآلخ ُر. حينما ينزل َّ
أحيان ًا ،هو نجمة المساء ،تلك التي تأتي وحيدة، وأحيان ًا ،النار دونما صواعق تنتظ ُر ،في الصباح، أن يخرج الراعي والدواب.
منحبس في أعماق البئر، لكن الماء ،دوم ًا، ّ ٌ النجم يبقى ،دوم ًا ،هنالك مختوم ًا.
تحت األغصان نكتشف ظال ً ال:
جلية تارةً ،وتار ًة حالكة، في الزوبعةّ ،
هم المسافرون الذين يعبرون لي ً ال ُ
الق ّوة لإلمساك بها.
منحنين ،كاهلهم تحت كتلة سوداء،
تنكس ُر صورته كما لو أنه لم تعد لديه
مثلما لو كانوا مرتابين في مفترق الطريق. 99
بعضهم يبدو أنهم ينتظرون ،وآخرون ي ُْم َحون ٍ شرارات بال ضو ٍء. في
ٍ المضيئة، حينئذ ،أفك ُر ِ في المواكب ُ في ٍ تولد ،وال تموت. بالد ال ُ
رحلة الرجل والمرأة طويلة ،أطول من الحياة،
هي نجم على حافّ ة الطريق ،سماء نتخيل رؤيتها بين شجر َت ْين. َّ
الدل ُو الما َء الذي يرفعه، يالمس َّ ُ فيكون الفرح ،وبعدها تثق ُله السلسلة.
في كثير من األحيان في كثير من األحيان ،في صمت اله ّوة،
أسمع -أو أشتهي أن أسمع ،لست أدري!- جسد ًا يتساقط بين األغصان .طويلة وبطيئة
هي هذه السقطة؛ ال صرخ َة نهائي ًا. حد ًا تأتي ،أبد ًا ،لتوقفها، وتضع لها ّ َ ّ 100
حَ جَ ر
ُ في الغ َر ِف الباردةِ، الصيف عنيف ًا قد م َّر ُ وجناح ُه عاري ًا، كانت عيونُه عميا َء، ْ ُ ص َر َخ ،فش َّو َ نادى على ُح ْل ِم الم َ ش ُ
ٌ بســيط أولئك الذين كانوا ينامون هنالك ،فيما ُه َو
مِ ْن يومِ هم.
أنفاسه، إيقاع َغي َر ِ َ ارتعشُ وا ،ف َّ
الحلم. كأس وتركت يدا ُه ْ ِ َ ِ عادت م ّر ًة أخرى َ فوق األ ْر ِ ض، السما ُء قد ْ وكانت َّ ِ ّ الص ْيف. في األبدي ،زوبع ُة أتت، ها قد ْ قيلوالت َّ
النّقائص هي القمَّ ة
يحــد ُ من الالزم ال َّت ْدمي ُر وال َّت ْدمي ُر يكون ث أن كان ِ ُ َ َ وال َّت ْدمير، يحــد ُ الخــاص مُ ْمكنــ ًا ،فقط، يكــون أن كان ُ ُ َ َ ث ْ َ مقابل َ ذاك ال َّث َمن. تخريب ال َو ْجه العاري الذي ي َْع ُلو في ال ُّر َخام، ُ كل ْ شك ٍلّ ِ ، َس ْحقُ ِ ّ كل َج ٍ مال. ِ العتبةُ، ُح ُّب الكمال ألن ُه َ ُّ ونس َيا َن ُه م ِ َّيت ًا. إلي ِه َ بعد ْ أن يصي َر معروف ًاْ ، لكن التنكر ْ هي القمة. ال َّنقائص َّ
الوداع ها نحن قد عدنا إلى جذورنا. هو مكان للجالء ،وإن كان مم َّزق ًا.
تمزج النوافذ أضوا ًء زائدة، واألدراج ترتقي الكثير من النجوم التي هي أقواس تتهاوى أنقاض ًا، ُ تشتعل في عالم آخر. والنار كانت تبدو أنها ثمة طيور تح ِ ّلق من غرفة إلى أخرى، واآلنّ ، قد سقطت األبواب ،والسرير قد تغطّ ى باألحجار، والمدخنة امتألت ببقايا من السماء ،سوف تنطفئ.
نتحدث بصوت شــبه هنــاك ،في المســاءات ،كنا َّ خافت، بســبب رجع الصدى الذي تحدثه القباب .هناك، ك ّنا نصوغ، محم ً ال باألحجار رغم ذلك ،مشاريعنا ،لكن قارب ًا، ّ الحمراء ،كان ينأى عن الشاطئ بق ّوة ال تقاوَم ،وكان النسيان يودع رماده في األحالم، ِّ 101
«ما جدوى الشعراء في هذا الزمن العصيب؟( ،)1تساءل الشاعر األلماني «هولدرلين» في مراثيه وقصائــده المؤثِّــرة .كصدى لبيت «هولدرلين» الشــعري الــذي يعود إلى عام ،1800يســأل الفرنسيين -على وجه الخصوص -بمناسبة والكّتاب «والتر بنيامين» عن الوظيفة االجتماعية للذكاءُ ، ّ ٍ يهودية، أصول عام ْي 1937و .1940خالل منفاه في باريس ،وألنه من ّ تنامــي األخطــار الرهيبة بين َ كل امكانية للعمل والنشــر ،منذ عــام .1933لكنه ،وبطلب ماكس فقــد أغلــق النظــام النازي في وجهه ّ هوركهايمر مدير معهد البحوث االجتماعية في نيويورك ،كتب من فرنسا «رسائل حول األدب».
الضمري األخالقي واألدب
«والتر بنيامين» في نظر «حنّة أرندت»
ترجمة :محمد الجرطي
ثمة أعمال صغيــرة؛ ذلك أن فــي نتــاج والتر بنيامين ،ليــس ّ مشــاريع كبيــرة مثــل «باريس عاصمة القرن التاســع عشــر» و«بودليــر»( )2كانــت األشــجار التــي ســتخفي الغابــة ،حيــث متميز، ِّ أدبي آخــر ِّ ستشــكل رســائله حــول األدب نواة عمــل ّ بعنوان «أفرغ مكتبتي» ،وستشــهد هــذه األعمال جميعها على الحتمي لــأدب في منظور والتر بنيامين؛ ضرورة االســتمرار ّ وحيت نتاجه الفكري الفيلســوف الذي أشادت به حنّة أرندتّ ، ونتاجه األدبي. المؤكد أن األمــر يتعلّق بعمل غذائــي! ،ألن والتر بنيامين مــن َّ منفي ًا في لم يكن يملك أي مورد ّ مادي؛ بسبب ظروفه ،إذ كان ّ باريس؛ حيث تلقى مســتحقّاته عن «رســائل حول األدب» من منفيين أبرز ممثِّلي مدرسة فرانكفورت ،الذين كانوا هم -أيضاًِّ - مهمة والتر بنيامين ،في هذه الرسائل، في نيويورك .وتتمثَّل ّ في تقديم تقرير عن النشاط األدبي في فرنسا .وعلى الرغم من ّية علم االجتماع» ،ومــع مجلّة «أوروبا» التي عالقاتــه مع «كلّ نشــرت إحدى مقاالته ،وكذلك صداقته مع ُكّتاب مثل( :أندريه جيــد ،وبول فاليــري ،وجون بــوالن )...الذين دعمــوا طلبه، 102
عام ،1939للحصول على الجنسية الفرنسية ،لم يكن محاط ًا سوى بـ «وجوه متذبذبة ومترددة» .في الواقع ،لقد بقي والتر الفاشــيين ،في بنياميــن يهوديــ ًا ألماني ًا ماركســياً ،فــي زمن ّ المعســكر الفرنســي .وقــد كان الهدف من هذه «الرســائل حول األدب» تحقيق أعلى درجة من البحث والوصف الدقيق لمواقف الفرنســيين ،في مرحلــة نقدية خطيــرة ،برع والتر المثقَّفيــن ِّ األدبية ،والفكرية، بنياميــن في إبرازها في قراءته لألعمــال: ّ الحساســة من تاريخ فرنسا ،فما صدم والتر في تلك المرحلة ّ ال بإثارة الرعب ،وســط بنياميــن ،وكان فــي نظره ســبب ًا كفي ً الزهرة األدبية الباريسية الرائدة ،ووسط «عملية االضمحالل» هذه ،ووســط هذا «الضمير األخالقي الضعيــف» ..كان متعلِّق ًا بـ«خطر وشيك على فرنساَ ،م َّثَله الصمت عن شرور االشتراكية القومية» .وفي هذا الســياق ،كان صدى رسائل والتر بنيامين تنبؤية... َّ يتردد في أرجاء فرنسا ،بنبرة ُّ تميــز النقــد األدبــي ،فــي هــذه الرســائل ،بلهجة َف َّظــة ونبرة َّ الكّتــاب ،ومواقفهم امتثاليــة بنياميــن والتــر شــجب الذعــة: ُ االنتهازيــة ،والتزامهــم الســطحي ،كانت هذه جــراح المثقَّفين
وأهل الفكر الفرنســيين .كانت المجلة الفرنسية الجديدة عبارة تعــرض مديرهــا ذو النفــوذ وتشــدق ،حيــث عــن «جعجعــة» ُّ َّ الكبيــر إلى اإلهانة ،بســبب فكــره المحافظ ،وكذلــك األمر مع أحــد أركانها ،وهو أندريه جيد .تفنَّن والتر بنيامين في رســم الفرنســيين .وهكذا ،ســخر من صــورة كاريكاتورية للمثقَّفين ّ فقدمه على أنه كلوديل ا أم السطحي. جون كوكتو بسبب فكره َّ ّ للقراء أمثال يســوع» .وفي المقابل ،كان والتر ّ يحب أن «يبيع ّ أقل حــّد ًة تجاه برنانــوس ،ودوهاميــل ،وليريس، بنياميــن ّ تعــرض فرديناند ســيلين في هذه وباشــار ،أو نيــزان .فيما َّ الرسائل ،للسخرية بال هوادة ،بسبب «نثره البليد» ،وكتاباته الطيبــة»؛ حيث المترعــة بـ«ســيل مــن اإلهانــات»، و«عدميته َّ ّ شــك َل كتابه «تفاهات من أجل مذبحة» رسالة هجاء حارقة في َّ معاداتهــا للســامية ،في ذلــك الوقت ،وكان هــذا الكتاب األكثر إهانة في النتاج األدبي الفرنسي. انتشارًا واألكثر ً لم يكن للســريالية فضل في نظر والتر بنيامين .واألســوأ من ّية علم االجتماع» بوصفها متاهة فكرية ذلك ،أنه نظر إلى «كلّ خاص ًة حين دافع جورج باتاي عن نيتشه وعرين ًا للفاشيينّ ، فــي مجلّته «عديم الــرأس» ،وحين ُنظر إلى روجر كايوا (وفق ًا لوالتر بنيامين) على أنه شبيه بـ«طغمة غوبلز». وعلى الرغم من ذكائه ،والعتبارات أيديولوجية ،يمكن القول يتمكن من تقديم صورة للمشهد الثقافي، بأن والتر بنيامين لم َّ فــي فرنســا ،بشــكل محايد ونزيــه .فــي الواقع ،يجــب قراءة التوجه الماركســي الثابت «رســائل حول األدب» ضمن هامش ُّ وخاصة معهــد البحوث االجتماعية في لمدرســة فرانكفورت، َّ
نيويورك ،برئاســة ماكس هوركهايمــر ،الذي َو َّج َه إليه والتر معينة بنيامين هذه الرسائل .هل المقصود هو شجب امتثالية َّ لالصطفاف في خندق امتثالية أخرى؟ في ومضة من الوضوح الثاقب ،لم ُيغِفل والتر بنيامين «التقارب األصلي بين الفاشية والشيوعية» ،كما يالحظ في قراءته للكاتب هنري روجمونت. «المادّية الجدلية» لكــن والتر بنيامين كان حذرًا ومتحفِّظ ًا إزاء ّ المقدســة وديكتاتوريــة األنغــراس فــي الوقائع السوســيو - َّ اقتصاديــة .نعــرف أنــه ،حتــى إزاء هوركهايمــر ،انتقد والتر بنياميــن« ،بطريقــة غير مباشــرة ،الواقعية االشــتراكية»(.)3 يفضــل بنياميــن التجربة المعيشــة والشــخصية ،وحين كان ِّ «متســكعاً» في األوســاط الباريســية وقارئ ًا ألعمــال بودلير، ِّ استقالليته الفكرية ،كما تالحظ ذلك ،ببصيرة وألمعية اكتسب َّ يتذكر بنيامين بشــكل (نوســتالجي) ،في ثاقبــة ،حنّة أرندتَّ . هــذه الرســائل« ،العمل الفنــي في عصر إعــادة إنتاجه تقنياً، والمرتبط بأفول هالة األدب ،وبتراجعه»(.)4 يتعــرض العمل الفنّــي ،واألدب من جهة أخــرى ،إلى المصير َّ الفــن الســردي يميــل إلى الضيــاع ،فذلك ألن نفســه« :إذا كان ّ هــذا الجانــب الملحمي من الحقيقــة ،الذي هــو الحكمة ،يموت أيضــاً»( .)5لكــن قناعته الراســخة فــي األدب تبعــث الحياة في أعماقه ،فيشــرح أعمال الكاتب ليســكوف قائالً ..« :وهكذا فإن معنــى الرواية ال يكمن في مــا تقّدمه لنا ،في صيغة تعليمية، عــن مصير شــخص غريــب ،بل فــي هــذا المصير نفســه ،من خالل الشــعلة التي تســتنفد قواه ،فتوقظ فينــا الدفء الذي ال يمكن ،أبداً ،االغتراف منه في مصيرنا الشــخصي( .»)6ونجده، 103
في رســائله حــول األدب ،التي يعود تاريخ أخر رســالة منها مهتم ًا بمكتبته ،بحيث كانت شــغله إلى مارس/آذارّ ،1940 ، في الشــاغل حتى قبل بضعة أشــهر من انتحاره .كان يمتلك أَل ْ كتــاب ،ناهيــك عن كتب األطفــال ،وكلّها يجــب أن تعود -كما يأمــل -إلــى برتولد بريخت فــي الدانمارك؛ فميله إلى الســفر، وتجواله االضطراري لم يبعداه عن الفيروس الممتع ،بوصفه شــكل كتابــه «أفــرغ مكتبتي» هاويــ ًا لجمــع الكتــب؛ وهــذا ما َّ كتجربــة وممارســة فــي جمــع الكتب« :بالنســبة إلــى الهاوي الحقيقــي الجامع للكتب ،فإن حصولــه على كتاب قديم يعادل قدم والتر بنيامين نفســه بصفته ِّ ال ممث ً والدة جديــدة له» .وقد َّ لحركــة إحيــاء الفنون واآلداب ،مــن خالل االحتفــاء بالكتب، تتفــق مــع األيديولوجيــا الجماعيــة ذات المبدأ فــي مرحلــة ال َّ االشــتراكي القائل بســيطرة الدولة على جميع وسائل اإلنتاج والنشاطات االقتصادية. كان والتر بنيامين «هاوي ًا بائســ ًا لجمع الكتب» ،وكان -أيضاً- محتاج ًا للعملة الورقية؛ فهو في نصوص أخرى مرفقة مع هذه يتحدث عن كتــب حول مرضى األمــراض العقلية، الرســائل، َّ وروايات عن الخادمات ،وكتب هجائية ،وكذلك كتب لألطفال؛ يدل على أن فضوله كان إنســاني ًا بقدر ما كان مســلِّياً ،وهو ما ّ فضول طفولي وسوســيولوجي ،في اآلن نفســه .إن الباحث، والهــاوي لقوائم المراجع سيكتشــف سلســلة مــن الكتب التي قرأهــا والتــر بنيامين .لكــن ،من الواضــح -أيضــاً -أن والتر بنيامين كان موَلع ًا بالكتب النفيسة والنادرة ،وليس مهووس ًا بالكتــب وفق ًا للتمييز الــذي َح َّدده أمبرتو إيكــو بخصوص هذا الموضوع( ،)7هو عاشــق ينقل شــغفه ،على نقيض الشــخص سراً -موضوع جنونه. الذي يسرق ،ويخفيّ - ()8 قدمت حنّــة أرندت ،في مجلّــة «نيوريوركر» ، ســنة َّ ،1968 تكريمــ ًا رائع ًا لشــخصية ثقافية رحلت بشــكل ســابق ألوانه، على شــاكلة كافكا .وحده «المجد بعد الوفاة» ما حدث مع هذا الهامشــي بســبب الصهيونية والشــيوعيةُ .ي َعّد والتر بنيامين ناقــدًا أدبيــ ًا غيــر قابــل للتصنيــف ،ودون أن يكون شــاعراً، يفكــر بطريقة شــاعرية ،كمــا تحلِّل ،بشــكل دقيق ،حنّة كان ِّ أرندت( ...)9لألســف ،هذا الشــخص الذي وصفته حنّة أرندت بـــاألحدب (فــي إشــارة إلى القصائــد الطفولية ،حيــث ترتبط هذه الصورة بالحماقــة ِ والحَيل) عاش ،حتى لحظة انتحاره، لدولتْين أوقاتــ ًا عصيبة وكالحة ،عالق ًا بين حدود اســتبدادية َ في ميناء «بو» على الحدود اإلســبانية -الفرنسية ،بينما كان يحــاول الهرب من النازيين ،في 27ســبتمبر/أيلول.1940 ، وإذا كان والتر بنيامين قد اســتطاع تجســيد األنموذج المثالي للمتســكع الباريســي ،الموروث من القرن التاســع عشر ،إلى ِّ َحــّد كتابة نصوص أدبيــة كبيرة باللّغة الفرنســية ،فإنه كان ســيما محكوم ًا عليه بالترحال االفتتاحي في معظم مقاالته ،ال ّ أن نصوصه ُنشــرت وهو على قيد الحياة ،حتى دون االنتهاء التــام مــن كتابتها أو العمل على فصلها عــن التوأم الغريب في ّ إنتاجــه الفكري « :بودلير» ،و«باريس عاصمة القرن التاســع عشــر» ،حيث تظهر -باســتمرار« -مجموعة من االقتباســات». هذه المجموعة كانت -بالطبع -ص ًدى لمجموعة غريبة أحياناً، لمتحمس مولــع بالكتب وغيــر مجدية ،بشــكل مثير للشــفقة، ِّ 104
حس فضولي. وذي ّ كتــاب حنّة أرنــدت «والتر بنياميــن »1940 - 1892 :هو رثاء ســيما حين تقارنــه بكافكا ،منارة جميــل ،واعتراف بارع ،ال َّ غريبــة أخــرى ،فــي مرحلة مــا بعــد اليهودية .لقــد كان والتر بنيامين مفلســاً ،عاش على نفقة والديه حتى عام .1930كان نوعــ ًا مــن األبطال الذين عانوا من ســوء الفهم فــي الثقافتين: متأخر (بعــد الوفاة) ،أصبح الفلســفية ،واألدبيــة ،وفي وقت ِّ ــة ،وهذا بســبب عبقريته عام ً معشــوق المثقَّفيــن وأهــل الفكر ّ توضح ذلك -بحماس -حنّــة أرندت ،و -أيضاً- األكيــدة ،كمــا ِّ متميزًا للماركسية (على الرغم من ا وريث كونه للســبب األسوأ؛ ً ِّ يستحق االحترام والتقدير الذي لم نزعته األرثوذكسية) ،حيث ّ يحظ بهما وهو على قيد الحياة. َ لــم يكن والتر بنيامين ،في نهاية المطاف ،لغزاً ،مادام العديد لكتابْيه: تطرقت بالنقــد الحصيف من المقــاالت والكتب ّ المهمة َّ َ «بودليــر» ،و«باريــس» .أمــا النصــوص التي تبــدو ،للوهلة األولى ،صغيرة :مثل «رسائل حول األدب» و«أفرغ مكتبتي»، فهمــا مــن بين «الجواهــر «التي تكفَّلــت حنّة أرنــدت بقراءتها، بشكل نقدي بنّاء». ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش
(1) Pain et vin », strophe 7 ; HOlderlin : Œuvres, Gallimard, Pléiade, 1982, p 813. (2) Voir : L’hydre de Lerne du Baudelaire de Walter Benjamin (3) Walter Benjamin : Paris, capitale du XIX° siècle. Le livre des passages, traduit par Jean Lacoste, Cerf, 1989, p 480. (4) Bernd White :Walter Benjamin. Une biographie, traduit par André Bernold, Cerf, 1988, p 201. (5) Walter Benjamin : «L’œuvre d’art à l’époque de sa reproductibilité mécanisée », Ecrits français, Gallimard, Folio Essais, 2003. (6) Le narrateur », Rastelli raconte, traduit par Philippe Jaccottet, Seuil, 1987, p 150. (7) Le narrateur », ibidem, p 168. (8) Umberto Eco : La Memoria vegetale et altri scritti di bibliofilia, Bompiani, 2011, p 31. (9) Voir : Hannah Arendt, de la banalité du mal à la banalité de la culture.
العنوان األصلي للمقال والمصدر :
Thierry Guinhut: Une vie d’écriture et de photographie Conscience morale et littérature, lecture de Walter .Benjamin et d’Hannah Arendt thierry-guinhut-litteratures.com
ضغط الكتابة
أمير تاج السر
نصوص َميِّتة
نص روائي أو قصصي ،تكون كثيرًا ما يبدأ كاتب ما ،كتابة ٍ فكرته مكتملة ،وبعض أركانه متوافرة في الذهن ،ويمكن متميز إلى َح ٍّد ما، باالستمرار في كتابته ،أن يحصل على ٍ نص ّ لكن فجأة تحدث ظروف طارئة ،وينقطع الكاتب عن نصه مرغم ًا يتذكره ويعود أيام ًا ِعّدة ،أو شهوراً ،وربما سنوات ،وحين ّ إليه بعد ذلك ،وبعد أن يكون أنجز نصوص ًا أخرى كاملة، غيره ،غالب ًا ال يحصل عليه كما كان ،أي أن النص القديم ،ال ينتظره فاتح ًا أحضانه ،وبنفس توهجه ،ليعود ويعمل عليه، مرة أخرى، إنه غالب ًا ما ينطفئ ،وتصعب عملية إعادة إشعاله ّ وإن حدث واشتعل ،سيكون ذلك اشتعا ًال بارداً ،وغالب ًا ما يحدث بعد محاوالت مضنية. الكّتاب بالتأكيد ،ولكن على الذين ما ذكرته ال ينطبق على ّ كل ُ يكتبون الرواية بشكل يومي أو متقطع على َح ٍّد سواء ،ألن الكتابة المتقطعة ،ال تعني أن يكتب أحدهم صفحة أو صفحتين ِعّدة أيام ،أو ِعّدة أشهر ،وإنما في الغالب تحدث حسب الزمن ليدون الذي يحصل عليه الكاتب ،في ازدحام يومه ،بحيث يسرع ّ مرات في اليوم أو األسبوع، ّ كل خواطره ،ويمكن أن يحدث ذلك ّ من دون أن يفقد النص بريقه في ذهن الكاتب. شخصي ًا أميل للكتابة بشكل مستمر حتى ينتهي النص ،إن جاءتني فكرة ،ووجدتها تستحق عناء أن أفكر في كتابتها، ثم إن جاءتني بعد ذلك بداية نص ،وهكذا أحاول أن أنتزع الوقت ألكتب بال انقطاع حتى ينتهي النص وإن حدث وانقطع أهميته تتناقص في ذهني إلى أن ألي ظرف كما ذكرت ،تبدأ ّ مرة يصبح نص ًا غير مكتمل ،أو نص ًا مهمالً ،ال أمل في إيقاظه ّ أخرى والعمل عليه. لقد عدت مؤخرًا إلى أوراقي القديمة ،التي تعود إلى ما قبل دخولي عالم الكمبيوتر ،وأيض ًا إلى بعض الديسكات القديمة،
التي كانت رائجة في حفظ النصوص والصور ،عثرت في تلك بحماس األوراق والديسكات على عدد من النصوص التي كتبتها ٍ فعلي ،وضاعت بعد ذلك ألسباب لم أعد أذكرها ،لكنها غالب ًا بنص أسباب مثل المرض أو السفر لفترة طويلة ،أو بانشغالي ٍ آخر ،يسرق الوقت مني .كان بعض هذه النصوص قصيرًا بحيث أتعمق فيها كثيراً ،وبعضها بدا لي مجرد بدايات روايات ،لم ّ طويل ،من ِعّدة فصول ،وواضح أنها كانت روايات تحمل هيكلها وأفكارها ،ولألسف ،انتهت إلى اإلهمال. مؤرخ ًا من هذه النصوص ،نص اسمه «غثيان» ،عثرت عليه ّ ويعود إلى نهاية التسعينيات ،أي إلى الفترة التي كنت ما أزال متأثرًا فيها بالشعر ،لكن كان ذلك النص مختلف ًا فعالً ،فالحكي فيه ظاهر جداً ،والشخصيات مرسومة كما ينبغي أن ُترسم الشخصيات ،وأخاله اآلن لو اكتمل ،لكان بدايتي الحقيقية في السرد ،أي بداية مالمح أسلوبي الذي يزاوج بين الشعر والنثر أؤرخ له برواية من دون سيطرة للشعر على النص ،ودائم ًا ما ّ «مهر الصياح». قرر أن يترك الريف فجأة ،ويسافر القصة عن شاب ريفيّ ، للعاصمة ،واستعان في التعرف إلى طريقه ،وما يمكن أن يقابله في العاصمة قبل أن يندمج فيها ،برجل من العاصمة وأسس مطعم ًا جيداً. استقر في الريف منذ فترة ّ ّ حقيقة ال أتذكر ماذا كان مسار قصة «غثيان» ،وماذا كان سيحدث للريفي المهاجر ،وهو في العاصمة ،وما انعكاس ذلك على بلدته الريفية ،واآلن قطع ًا لن أفكر في ذلك ،ألنني لن أعود إلكمال هذا النص ،وال غيره من تلك التي انتهى وهجها. 105
إصدارات
حفر ّيات
اليمن السعيد باريس -أوراس زيباوي إذا كانــت الحضــارات التــي تعاقبــت، في بالد الشرق القديم ومصر ،قد أثارت البحاثة منذ القرن الثامن عشــر ،اهتمــام ّ الغربيين؛ مما سمح األثريين والمنقِّبين ِّ ِّ بالكشف عن آثار هذه الحضارات الرائدة فــي تاريــخ اإلنســانية ،وهــي تطالعنــا فإن اليــوم فــي أهـّـم المتاحــف العالميــةّ ، حضــارة اليمــن القديــم ظلَّــت مجهولــة، ولــم تأخــذ المكانــة التــي تســتحقّها، بــل ظّلــت معرفتهــا محصــورة بعــدد مــن المتخصصيــن والمبدعيــن الذيــن زاروا ِّ أن دور ـى ـ إل ـارة ـ اإلش تقتضي ـد. ـ البل هذا ّ النشــر الفرنســية أصدرت ،في السنوات األخيرة ،عددًا من الكتب الجميلة للتعريف باليمن المجهول ،مع التركيز على المدن التاريخيــة وعمارتهــا الســاحرة .كذلــك، أقيــم فــي «معهــد العالــم العربــي» ،عــام ،1997معرض كبير للتعريف بحضارات اليمن القديــم ،تحــت عنــوان «اليمن ،في بــاد مملكة ســبأ». جو من طغيــان الحدث َّ مؤخراً ،وفــي ٍّ السياســي واســتمرار الحرب فــي اليمن، عــادت الحضــارة اليمنيــة إلــى الواجهــة فــي باريــس ،وذلــك مــع صــدور كتــاب فخــم عــن دار (غوتنيــر) بعنــوان «اليمــن أرض األركيولوجيا» .أشرف على الكتاب غيــوم شــارلو، الباحثــان الفرنســيانّ : ّ يضــم الكتــاب وجيريمــي شــيتكات. ّ قيمة مــن الدراســات والصور، مجموعــة ّ وهــي تتناول أعمــال التنقيــب التي قامت 106
بهــا بعثــات فرنســية خــال فتــرة زمنيــة امتـ َّـدت حوالــي أربعيــن عام ـاً ،وشــملت المهمة. مختلف المواقــع اليمنية األثريــة ّ يكشف الكتاب عن خصوصية التراث اليمني ،تلك الخصوصية التي يستمّدها اليمن من عوامل عّدة ،أبرزها الطبيعة، المميــز ضمــن إطــار والموقــع الجغرافــي َّ بيئــة صحراويــة .تــكاد مســاحة اليمــن، اليــوم ،تعــادل مســاحة فرنســا ،ويبلــغ تعــداد سـّـكانه حوالــي خمســة وعشــرين سلســلتْين مليــون نســمة ،وهــو يضــم َ جبليَتْيــن؛ ممــا ســمح بنشــوء الزراعــة َّ المرويــة بفضــل هطــول األمطــار، ّ وتأســيس حضارة عريقة قبل اإلسالم، فــي األراضــي الممت ـّدة بيــن المرتفعــات والصحراء الكبرى في الجزيرة العربية. بأن البشر تفيد نتائج التنقيبات األثرية ّ اســتقروا في اليمن منذ آالف السنين ،وقد ّ عملوا في الزراعة منذ أكثر من خمسة آالف ســنة .ولم يخضع اليمــن لإلمبراطوريات والــدول التــي تعاقبت علــى الشــرق القديم أن مســاحات وحــوض المتوســط؛ ذلــك ّ ّ شاسعة وصحراوية كانت تفصل بينه وبين دول الشــرق األوســط ،فحافــظ علــى نــوع منحْته هذه الخصوصية، من االستقاللية َ في الكتابة والعمــارة والفنون. وإذا كانــت مصــر والعــراق وســوريا عرفت -كمــا أشــرنا -التنقيبــات األثرية، علــى يــد البعثــات األوروبية ،منــذ القرن ـل بمعــزل ـإن اليمــن ظـ َّ التاســع عشــر ،فـ ّ
عن هذا االهتمــام ،على الرغــم من زيارة الرحالة والمغامرين إلى اليمن، عدد من ّ منــذ القــرن الثامــن عشــر .وكانــت بعثــة دانماركيــة قــد زارت اليمــن عــام ،1763 حي ًا ســوى شــخص واحد؛ ولم يعد منها ّ وذلك بســبب عزلة اليمــن آنــذاك ،وعدم اســتتباب األمن. بالنســبة إلــى فرنســا ،بــدأ االهتمــام الرسمي باليمن عندما أرسلت األكاديمية الفرنسية للنقوش واآلداب العاِلم «جوزف هاليفــي» ،عــام ،1870للعثــور علــى ئية ،وجمعهــا فــي إطــار السـ َـب ّ الكتابــات َ الســامية ،وكان العمــل علــى النقــوش ّ عملــه حاســم ًا ورائــدًا فــي هــذا المجــال. في عام ،1982وبمبادرة من «كريستيان المتخصــص في جنوب روبان» ،العالــم ِّ تأسس ،في صنعاء، الجزيرة العربيةَّ ، «المركز الفرنســي لألركيولجيــا والعلوم االجتماعيــة» الــذي يلقــى دعــم وزارة الخارجيــة الفرنســية و«المركــز الوطنــي لألبحــاث العلميــة». منــذ حوالــي أربعيــن عام ـاً ،تعاقبــت بعثات فرنسية عديدة على أرض اليمن، وعملت على دراسة االستيطان البشري، إلــى جانــب بعثــات أوروبيــة وأميركية، أن خاصـ ًـة ّ فلم يعــد اليمن بلــدًا مجهــوالًّ ، أعمــال التنقيــب العلميــة قّدمــت نتائــج ـرف ،عــن كثــب، ملموســة ســمحت بالتعـ ُّ إلــى تاريــخ اليمــن ،ومملكــة ســبأ التــي ذاع صيتهــا قديماً.
الكتاب الجديد الذي بين أيدينا ،اليوم، هو -فعـاً -دعوة إلى الســفر فــي األزمنة القديمة ،وإلى اكتشــاف حضارة عريقة، مهددة باالندثار، خاصة أن معالمها الباقية َّ ّ أي وقــت مضــى؛ بســب ـن ـ م ـر ـ أكث ـوم، اليـ ّ الصراعات :الداخلية ،والخارجية ،وبسبب يركز الكتاب ،فقط ،على مملكة الفقر .وال ّ وورد الماضي، في صيتها ذاع سبأ التي َ المقـدســـة ،بل اسم ملكــــتها في الكـــتب َّ يركز -أيضاً -على مرحلة ما قبل التاريخ، أمــا ابتكارات وعلى المرحلة اإلســاميةّ . اليمنييــن فقــد تجّلــت فــي مجــاالت عديــدة منهــا تجــارة الطيــوب وتطويــر الزراعــة ْورة تقنيات جديدة في أســاليب بفضل َبل َ الري ،في مناطــق محاذية للصحراء. ّ ظهــرت ممالــك كثيــرة فــي اليمــن قبــل اإلسالم ،وكان أشهرها سبأ ،وعاصمتها
مــأرب التــي صــارت أكبــر مدينــة فــي الجزيرة العربية ،وهي تبعد حوالي مئة وثالثين كيلومتــرًا عن صنعــاء .لقد كان للسبئيين كتابتهم ،وفنونهم ،وعمارتهم ِّ المميــزة ،ومــن إنجازاتهــا المعروفة سـّد َّ مــأرب األســطوري الــذي يرمــز انهياره، في القرن الســادس الميــادي ،إلى موت الحضارة اليمنيــة القديمــة ،وأفولها. مع كتاب «اليمن أرض األركيولوجيا»، مــاض نســتعيد صفحــات مجهولــة مــن ٍ أن الجزيرة تبيــن ،مــن جديــدّ ، ســحيقِّ ، العربيــة لــم تكــن صحــراء قاحلــة؛ فهــي الجبــارة عرفــت ،بفضــل جهــود أهلهــا ّ ومواجهتهم لصعوبات الطبيعة ،والعزلة ٍ إنجازات مدهشة في مختلف الجغرافية، المجاالت ،حتى أن جنوب الجزيرة ُس ِّمي، َ المؤرخيــن القدامــى« ،بــاد فــي كتــب ِّ
العرب الســعيدة» .وليــس غريب ـ ًا أن ترد في التــوراة وفــي القــرآن الكريــم زيارة ملكــة ســبأ للملــك ســيلمان مــع حاشــية لة بالطيوب والذهب والحجارة محم ً كبيرة ّ
القصــة التــي أخــذت بعدًا الكريمــة .فهــذه ّ أسطوري ًا تجد جذورها كحضارة عريقة،
جــاءت فــي االكتشــافات األثريــة ،ومنهــا تلــك التــي قامــت بهــا البعثــات التنقيبية
لتؤكد على الفرنســية منذ أربعين عامـاًّ ، أهميتهــا وفرادتها فــي تاريخ الشــرق. َّ
قد يكون ،فــي النظر إلــى ماضي تلك
المنطقــة مــن العالــم ،اليــوم ،ســواء في اليمــن أم فــي غيرهــا مــن الــدول العربيــة
التي شهدت والدة الحضارات اإلنسانية بعض عــزاء. األولــىُ ،
107
هو ّية قلقة تبحث عن انتساب إبراهيم أولحيان ــت روايــة «نوميديــا» (داراآلداب، َبَن ْ بيروت 2012 ،القائمة القصيرة لجائزة البوكر لدوائر العربية) ،للكاتب المغربي طارق بكاري ،حكايتها على نقطة جذب مركزيــة ،تمثَّلــت فــي األســتاذ الجامعــي مــراد ،الــذي عــاد إلــى قريتــه واشــترى فندقـاً ،ليكــون قريب ًا مــن مــكان طفولته. متبعــ ًا يعــود مــراد إلــى قريــة (إغــرم) َّ ألــح نصيحــة طبيبــه النفســاني ،الــذي َّ عليــه كــي يعــود إلــى مــكان والدتــه، والتصالــح مــع ماضيــه ،بعدمــا دنــا مــن حاّفــة الجنــون ،بســبب الفتيــل الذي أشــعله انتحــار خولــة ،وتص ـّدع جســده بانفجــار ذاكرتــه التــي مــا لبثت تســتعيد ركام الماضي الحزين المأســاوي ،الذي بدأ باليــوم الذي وجــده شــخص (أمحند) فــي الطريــق ،ملفوف ًا فــي ثــوب ،وأخذه إلى المنــزل ،عند زوجتــه وأبنائــه .تلك كانــت النقطــة األســاس التــي تمحــور ـص الروائــي ،ودار حولهــا في عليهــا النـ ّ تفجر ـة، ـ حلزوني ـرة ـ دائ ـي ـ ف شــكل نقطة ِّ األحاســيس والحكايات ،وتقود الرواية نحــو مصيــر مأســاوي. إن الجــرح الــذي يســتنزف مــراداً، ويعذِّبــه ،هو كونــه لقيطاً ،وما اســتلزم ذلك من خدش في طفولة بيضاء بريئة. سيعاني مراد الويالت في صغره ،بسبب عدم اكتراث أهــل (أمحند) بــه ،وتهميش أهل القريــة له؛ مما ســيدفعه إلــى قضاء كل الوقت في الجبل ،قريب ـ ًا من الطبيعة ّ متفوقـ ًا والحيوانــات ،ورغــم ذلــك ،كان ِّ في دراســته. أحــداث كثيــرة ســتقع فــي القريــة، ســيلصقها الفقيه وأهل القريــة بـ(أوداد) 108
(وهــو االســم الــذي كان يحملــه مــراد في ـيتم صغــره فــي قريــة إغــرم) ،وبذلك سـ ّ التخلُّص منه ،بتســليمه إلى رجل يرغب في تبنّيه ،هذا األخير ســيأخذه معه إلى المدينة ،ليعيش مع بناته وزوجته تحت ســقف واحد ،لكن األمور ستســير عكس مــا تبــدو عليــه ،ألن زوجتــه ســترفضه، وتمــارس عليــه التعذيــب ،الــذي لزمــه طــوال حياتــه ،مــن خــال تلــك النــدوب الموشــومة علــى ظهــره ،والتــي توقــظ فيــه آالم ـ ًا غائرة. حكايــة مــراد مــع قريتــه تتقاطــع مــع حكايات أخرى ،ربطها مع آخرين ،مثل مصطفــى ،أســتاذه اليســاري الــذي مات في أحداث 16مايو ،فــي الدار البيضاء؛ يخيــم وهــو مــا ســيجعل شــبح اإلرهــاب ّ على مراد نفســه الــذي أعتقد بأنــه مهّدد،
يحلن مباشرة ألن تفكيره وممارســتهّ ، على هذه المواجهة ،التي ستأخذ مساحة ال بأس بها في الرواية .وبما أن الرواية ال يمكن أن تنمو بدون شــخصيات فاعلة فإن الكاتب وضع ،في مقابل مراد ،ثالث شخصيات نسائية( :نضال) ،التي رافقته ّ فــي الجامعة بـ(ظهــر المهــراز) في فاس، وهــي ســليلة عائلــة مناضلــة ،ســتدخل السجن مثل أبيها ،وسينســاها مراد إلى أن يلتقــي باســمها ،بوصفهــا شــاعرة، ـات .و(جوليــا) الشــابة فــي إحــدى المجـّ الفرنســية التــي التقاهــا في باريــس ،ثم التحقــت بإغــرم ،وســتكون ،فــي كثيــر من لحظــات الروايــة ،هي المســرود لها. وعبــر إنصاتها ،تصلنا أجــزاء كثيرة من المتنكر ،في سرده ،بحكاية حياة مراد، ِّ أحد أصدقائــه (أوداد) .و(جوليا) تعرف أجــزاء كبيــرة مــن حياتــه ،عــن طريــق الطبي الذي اشترته تجسســها على ملفِّه ّ ُّ مــن طبيبــه النفســاني .وتبقــى (خولة)، تلــك المــرأة التــي عشــقها مــراد ،وتركها ا حيــن ســافر إلتمــام دراســته فــي حام ـ ً انســد أفــق وحيــن ســتنتظره، فرنســا، َّ األمــل أمامهــا انتحــرت ،لكــن حضورهــا تحســر مراد في الروايــة ّ قوي ،من خالل ُّ وندمه على تخلّيه عنهــا ،و -أيضاً -عبر مذكراتهــا التــي تركتهــا لــه مــع إحــدى ِّ صديقاتها. ـتهل روايــة «نوميديا» الســرد إذاً ،تسـ ّ بالعــودة؛ عودة مــراد إلى قريتــه إغرم، فــي إحــدى عطــل الصيــف ،لكنهــا عــودة مشــحونة بكثيــر مــن الســخط ،والقلــق محملة بكثير الوجودي ّ الحاد ،وبذاكــرة َّ من اآلالم واألوجاع ،وقد جاء االستهالل
كمــا يأتــي« :كنــت أعلــم أننــي أقتــرف، بعودتــي المجنونــة إلــى هــذه القريــة، خط ـ ًأ فادح ـاً ،وأن هــذه العــودة البـ َّـد أن كل ذكرياتــي الراســبة. تحــرك ســخط ّ ِّ مضرج ًا بأوجاع جديدة، أعود إلى إغرم َّ أعــود ألوقــظ تعبـاً ،قــد خلته -إلــى وقت قريب -قد انطفأ نهائيـاً» .وبما أن عنوان أي الرواية يبدو غامض ًا ملتبساً ،واليفتح ّ توضيح لعوالم الرواية ّ (إل لمن له دراية بالتاريخ األمازيغي ،فإنه سيحيله على أية ملكــة أمازيغية قديمة) ،ألنــه ال ِّ يقدم ّ إشارة إلى محتوى الكتاب .عنوان يمكن أن ندرجه ضمن العناوين الكنائية التي القصة» «ترتبط بعنصر أو بشخصية في ّ استعاري ألنه ( ،)1وهو -أيضاً -عنوان ّ ـص بطريقــة رمزيــة. يصــف محتــوى النـ ّ هكــذا ،فحيــن يكــون العنــوان غيــر ٍ كاف «تأتــي الســطور األولــى ،فــي تحديدهــا لطبيعة المحكي ،لتشــير إلــى الوضعية يتعيــن علــى القــراءة تبنّيهــا» ()2؛ التــي َّ وبذلــك ،يضعنــا االســتهالل عنــد النقطة األســاس في الرواية ،وهــي العودة إلى الماضي المزدوج :ماضي إغرم ،وماضي يلخص سنوات الهجرة في المدينة .وفيها ِّ التوتر الذي يعيشه مع ذاته ومع السارد ُّ العالم ،وهي النقطة التي ستجعل القارئ المضي يقتنع بالرواية ،وتســتميله إلى ّ فــي القــراءة؛ بحث ـ ًا عــن تفاصيــل عالم، ـرام عقــد فبعـ َـد إبـ ِ يشــتاق إلــى اكتشــافهْ . أية القراءة مع القارئ ،لن يجد الروائي ّ صعوبة فــي فتح مســارات الســرد؛ ألنه هويــة الســارد الغاضب والســاخط ح ـّدد ّ كل شــيء ،المعطــوب ،الحامــل علــى ّ لجراحــات الماضــي ،وأنــار لــه -أيض ـاً-
التوتــر التــي هــي إغــرم ،لكنهــا نقطــة ُّ إغــرم الماضــي ،التــي ســتتكفل ذاكــرة مــراد الموشــومة بنســج خيــوط حكايــة متعــدد، الجســد المجــروح (وهــو جســد ِّ كل الشــخصيات) الــذي يحمــل ألنــه طــال ّ عطب ًا كبيراً؛ عطب البداية الذي تناســلت منــه آالم غائــرة ،وجعلــت للســرد أفقــ ًا مفتوحــ ًا علــى ممكنــات حكائيــة ،فيهــا كثيــر مــن التنويــع فــي الحكــي ،وتعـ ُّـدد وتناوب فــي األصوات، في الخطابــات، ُ ومناقشة لمجموعة من القضايا الراهنة. جــاء مــراد إلــى إغــرم ليتصالــح مــع ذاته ،ولكي ينجح ،في ذلك ،كان عليه أن يحكي ،وهل يمكــن تحقيق ذلك دون اســتدعاء للجراحات الكامنة في الجسد، يتمكــن مــن التــي ســيوقظها ،لكنــه لــن َّ إخمادها ،ألنها سيل جارف من الخيانات والخيبات ،حيث لم يسعفه النسيان على إيقاف نشــاط الذاكــرة؟ يقول الســارد في أشم ّإل بذاكرتي ،وال هذا الصدد« :فال أنا ّ أي شيء ّإل أفعل أحس ،وال أبصر ،وال ّ ّ بها ،هي التي امتألت إلــى آخرها ،فأين أيهــا النســيان؟» (ص .)94للذاكــرة أنــت ُّ سلطة كبيرة في الرواية ،تحكي اإلنسان ـوية ،أثقلته الذي ارتبــط ببدايــة غيــر سـ ّ وفجرت ذاكرته فيما بعد ،فــ«إذا ودمرتهَّ ، َّ فسدت طفولة اإلنسان فلن تكون حياته، بعــد ذلــك ،ســوى امتــداد أكثر مأســاوية لفساد البداية» (ص.)406 هــذا النــوع مــن الســرد الــذي يعتمــد الذاكرة ليحكي مســارًا حياتي ًا مأساوياً، غالب ًا ما يعتمد المونولوج الداخلي ،الذي مــن خاللــه ُتسـَـبر أغــوار الــذات ،ويقــول الجســد أعطابــه ،ألن «المونولوجــات
الداخليــة تكــون أكثــر عمقــ ًا وغوصــاً، تهز كلّما وقعت أحداث مأســاوية مؤثِّرة ّ الكيان الداخلي للــذات»( .)3لهذا كان لهذا هيم َن ،بشــكل المونولــوج دور كاســحَ ، كل منعطفــات الحكــي .لكــن، الفــت ،فــي ّ كيف ذلك ،والرواية في بنيتها الداخلية تعــددًا في الخطابات؟ الظاهرة ،اعتمدت ُّ اســتطاعت روايــة «نوميديــا» ،أن تنوع في مواقع الســرد ،وتخلق لنفســها ِّ متنوعة تبع ًا لعالقة الشخصيات خطابات ِّ بالسارد الرئيسي (مراد)؛ لذلك ،نجد أن كل واحــدة مــن هــذه الشــخصيات تنفــرد ّ بخطابهــا لتعيــد نســج حكايــة مراد. علــى منــوال «مرايــا الذاكــرة» ،تتعـّدد الوجــوه ،بحث ـ ًا عــن الحقيقــة ،لكــن فــي كل الشــخصيات اّتجــاه واحــد ،مادامــت ّ متحلِّقة حول مراد ،والســرد ُمَب َّأر عليه، باإلضافــة إلــى أن الســارد ،حتــى وهــو يعــود إلــى قريتــه إغــرم ،لــم يبحــث عــن ليعدد مصادر تنتمي إلى زمن الطفولةِّ ، حقيقة أصله؛ فهو يقاسي بسبب جذوره، هويــة قلقة، ويعانــي ،فــي صمــت ،مــن ّ بحث ـ ًا عــن انتســاب ما. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هوامش:
- 1فانســون جوف :شــعرية الرواية ،ترجمة لحسن حمامة ،دار التكوين ،دمشق ،ط،2012 ،1 ص.25 - 2المرجع السابق نفسه ،ص .34 ـص في روايات - 3حســن المودن :الوعي النـ ّ الطيب صالــح ،مطبعة الوطنيــة ،مراكش ،ط،1 ِّ ،2002ص.149 109
غرابة يف عقل أورهان باموق وائل سعيد
ال شـ ّ ـك فــي أن الوعــي الكاتــب يحمــل، المصوبتين نحو بقدر مــا ،حقيقــة عينيــه َّ آخر ،فــي أثنــاء الكتابــة أو قبلهــا؛ بوعي أو بال وعي منــه ،فيعيش ماركيــز -مثالً- ســنوات طويلة مــن حياتــه ُمتمنِّيـ ًا رواية واحــدة لــم يكتبهــا« :الجميــات النائمات» لكواباتــا ،وقــد شــعر فيهــا ماركيــز بــأن الفكــرة ،فــي هــذه الروايــة ،انفلتــت مــن بين يديــه؛ فهــل فعل ذلــك بامــوق ،خالل كتابتــه لروايــة «غرابــة فــي عقلــي»؟ على الرغــم مــن أن وجــه المقارنة بين باموق وماركـــيز مـختلفّ ،إل أنهما -بحسب ظنّــي -اشــتركا فــي شــيء وحيــد ،هــو موجهتــان ،بشــكل ما، «الكتابــة وعينــاك َّ على آخر» ..قد يكــون كواباتا ،وقد يكون مجرد ثيربانتــس ،وقــد يكــون -بالطبــعَّ - فكــرة أو أي شــخص عادي. قــدم بامــوق لروايتــه «غرابــة فــي ُي ِّ عقلي» ،الصادرة عن دار الشروق ،مطلع الســنة الجاريــة ،بترجمــة عبد القــادر عبد قصة حياة بائع البوظة اللي ،فيقول إنهاّ : «مولود قرة طاش» ،ومغامراته وأحالمه وأصدقائه وصورة حياة إســطنبول بين ـي ،2012 - 1969بعيــون كثيــر مــن َ عامـ ْ األشخاص. مولــود ،بائــع البوظــة الــذي انتقــل إلــى إســطنبول ،فــي عــام ،1969وهــو فــي الثانيــة عشــرة مــن عمــره ،الــذي لــن ُيحــارب طواحيــن الهــواء علــى طريقــة ثيربانتس ،لكنه ســيقوم برحلــة أخرى، 110
يبدؤها بالرحيل عن قريته الفقيرة الواقعة بقيــة وســط هضبــة األناضــول ،ليعيــش ّ حياته وسط حواري وشوارع أكبر مدينة الســكان .يلتحق في العالم ،من حيث عدد ّ بالمدرســة االبتدائيــة ،وفــي الوقت نفســه يبيع اللبــن مع والــده ،لّف ـ ًا علــى البيوت، روح حام ً ال في رأسه -عبر عقل باموق َ - ٍ الشــعر لوليــام ووردز وورث: بيت مــن ِّ ثمــة غرابــة فــي عقلي /وشــعور «كان ّ ال يعــود إلــى ذلــك الزمــان /وال إلــى ذلــك المــكان». ســنجد في الروايــة حكيـ ًا عــن عائلَتْين اللبانيــن وبائعــي البوظــة :أخــوان مــن ّ يتزوجان من أخَتْين ،ثم يتشــابك نسلهما ّ عبر فصــول الروايــة فــي الفتــرات الزمنية المتتاليــة ،منــذ منتصــف القــرن الماضي،
تغيــرت ،فــي هــذه الســنين ،أوجــه حيــث َّ واتجاهاتــه عقــب الحــرب العالميــة العالــم ِّ األولى ،وكانت تركيــا ،بوصفها جزءًا من التغيرات نفســها. العالــم ،تواجــه ُّ حيثيــات لجنــة فــي ،2006جــاء فــي ّ نوبــل ،عــن بامــوق ،أنــه «فــي بحثــه عــن الــروح الحزينــة لمدينتــه ،يكتشــف رموزًا جديــدة للصــراع بيــن الثّقافــات والتشــابك الحضــاري» .علــى هــذه الخلفيــة ،تتشـ َّـكل منمنمــات متجــاورة لحيــاة بطــل الروايــة مولــود ،الــذي يدعــوه الــراوي (بطلنــا) ألول ّ كل الوقــت ،وعندمــا ُيريــد إظهــارهَّ - القصة َم َّرة -فــي الروايــة ،يتجاوز نصــف ّ فهــم حيــاة بطلنــا الزمنــي (مــن أجــل أن ُت َ وأحالمــه ،بشــكل أفضل) فنــراه ،وهو في الخامسة والعشــرين ،من عمره يذهب إلى قريــة غمشــدرة المجــاورة لقريتــه القديمــة لخطــف فتــاة ،كان قــد شــاهدها مـ ّـرة مــن عمــه قبــل ،وُأعجــب بهــا فــي ُعــرس ابــن ّ وظّل ،لسنوات ،يراسلها بخطابات الكبيرَ ، غراميــة ،عــن طريــق ســليمان. يتم االختطاف ،يكتشــف لكن ،بعــد أن ّ مولود أنها ليست الفتاة التي أعجبته ،بل أختها ،ومع ذلك يستسلم لما حدث ،ويبدأ تمــت عملية باالقتنــاع بهــا ،ثــم َّ يتزوجهــاَّ . عم مولود الخطف بمســاعدة ســليمان ابن ّ يتضــح ،فيمــا بعد ،أنــه كان عاشــق ًا الــذي َّ أحبهــا مولــود .لكــن، ـي ـ الت ـى ـ األول للفتــاة َّ وفق ًا للعادات والتقاليد الشرقية أو القروية- يتم زواج األخــت الصغرى قبل تحديــداً -ال ّ
أختها الكبرى؛ لذلك ساعد سليمان مولود عمــه فــي الخطــف الخطــأ ،وقــد كان، ابــن ّ منذ البدايــةُ ،يســلم الرســائل إلــى األخرى ليظفر بالــزواج أختها. يقدمه مولود هو (البطــل) الجديد الــذي ِّ بامــوق؛ حمــل أحالمـ ًا كثيــرة وهــو ينتقل مــن قريتــه إلــى المدينــة ،لكنــه لــم يخــرج عــن مهنة والــده في الــدوران علــى البيوت تعلـ َـم مــن والــده أنــه ،بــدون لبيــع اللبــنَّ ، ُ الجوال ،لن تســتطيع األســر تلبية البائــع ّ احتياجاتهــا؛ لهــذا فــإن دوره فــي الحيــاة مهـ ّـم إلــى الدرجــة التــي جعلــت منهــم مــن عظــم صنعتــه ..ومــن الزبائــن- وي ِّ يبجلــه ُ أيض ـاً -مــن يأتــي بالمتاعــب؛ هكــذا عــرف وكل كل صنف ّ مولود أن الزبائن ُخلقوا من ّ لــون؛ إحــدى الســيدات تقـ ِّـدم لــه الحلــوى، وتعطيه قطعــة مالبس ثقيلــة حالما ُيفرغ لهــا والــده اللبــن ،وأخــرى تأســى لحالــه ـن ولدورانــه علــى البيــوت ،فــي هــذا السـ ّ الصغيــر ،خلــف أبيــه. تمـ ُّـر فترتا طفولــة مولود وشــبابه بين تغيــرات فكريــة وتزايــد مــا يحــدث لــه مــن ُّ معرفته واشــتباكه مــع هذا العالــم الكبير، متغيرة وبين مناخات سياسية واجتماعية ِّ ومتالحقة َل َّونت أحالمه ،كما فعلت بأحالم الجميع من حوله ،بشّتى الصبغات .وبعد كــون ُأســرة عــن طريــق المصادفــة، أن ُي ِّ ويحب زوجته يقتنع -بســهولة -بحياته، ّ وأبنــاءهُ ،محتفيـ ًا بفكرة تكويــن العائلة، حتى فــي تنازعاتها وتفاصيلهــا اليومية،
مادامــت ُتحقِّق له شــعورًا بالســعادة! ـول باموق، داخل فكــرة الغرابــة ،يتجـ َّ بشأن استقبال العالم ومفاهيمه تلك التي تحتل عقــل مولود ،فــي ُمحاولــة منه لفهم ّ هــذا العالــم :أكانــت الســعادة التــي بحــث ـاقه لــه القــدر ،أم فيما عنهــا تكمــن فيمــا سـ َ سيختاره؟ ماذا لو كانت الفتاة التي قصدها ـم خطفهــا ،وليســت مــن البدايــة هــي مــن َتـ َّ أختها «رائحــة»؟ أو :ماذا لو أنــه لم يقتنع ضـ َـل مهنــة وف َّ ببيــع البوظــة منــذ البدايــةَ ، ســتتاح ،وقتئــٍذ، ــم :هــل ُ أخرى؛ومــن َث َّ حياة أخــرى؟! يعدنــا الكاتــب بأننــا الوقــت، وطــوال ُ ســنكون إزاء خــوض قصــص غريبــة وحكايــات عجيبــة تتناســب مــع (بطلنــا) صاحــب الرحلــة الحياتيــة الممت ـّدة حتــى
كل ،2012موثّقــاً ،بشــّتى التواريــخّ ، تفاصيل تلــك الحكايــات وأحداثهــا؛ حتى مقومات الخلــود ،من حول يتسـنّى لكاّفــة ِّ البطــل ،أن تكتمــل .ومثلمــا خــرج النبيــل الجوالين، كم ً ال دور الفرسان ّ «دالمنتشا» ُم ِّ بمحاكاتهــم والســير علــى نهجهــم ،حيــن يوزعــوا العدل يضربــون فــي األرض ،كي ِّ علــى النــاس ،خــرج مولــود مــن قريتــه ـب المهنــة العتيقة فــي بلده ،كــي يجد وأحـ َّ نفســه ،في النهايــة ،وقد صــار آخر رجال المتجوليــن في بائعــي البوظــة أو اللبــن، ّ األزقــة والحــواري .وبذلــك ،يكــون ذلــك والمتماهي المقتنع بفقره ُ الرجل (البسيط ُ معــه) ،مثلمــا تحـ َّـدث عنــه باموق فــي أحد يتحمــل ُعهــدة بقــاء الحــوارات ،هــو الــذي َّ كل البيوت، المهنــة بعدما غزت الثّالجــات ّ وأصبــح اللبــن ُيبــاع فــي عبــوات :علــى المتبقــي مــن حياتــه ،فيقــول: األقـ ّ ـل ،فــي ُ «ســأبقى أبيــع البوظــة إلــى يــوم اهلل». وحيــث لــم يعــد هنــاك مــن يعمــل بهــذه المنقرضة ،فإنه رغم ذلك ،من وقت المهنة ُ ـب النــاس منــاداة بائــع البوظة ـ يح آلخــرّ ، فيقبلــون علــى الشــراء منــه مــن النبيــلُ ، أجل اســتعادة الروح القديمة إلسطنبول، المثلــج ،بينمــا التــي يحملهــا هــذا الشــراب َّ توصــل مولــود ،أخيــراً ،إلــى إجابــة عــن َّ ـبَ ،ظّل يــراوده طيلة لح عــن الحـ ّ ســؤال ُم ّ سنوات حياته ،فعرف أن زوجته «رائحة» هي أعظــم مــا يملك فــي الحيــاة!. 111
ِّ متشـــــظية ذوات وزماني ًا مكاني ًا ّ ّ أ.د.نادية هناوي سعدون
تنضــوي روايــة «ســعيدة هانــم ويــوم غــٍد مــن الســنة الماضيــة»( ،)1للروائيــة العراقيــة ميســلون هــادي ،فــي خانــة تــوكل فيهــا مهمــة «األدب النســائي»؛ إذ َ الســرد إلــى المــرأة ،كســارد ذاتــي ،أكثــر ذاتــي أو مذكــر، تــوكل إلــى ســارد َّ ممــا َ ّ ـي ،لتقــوم هــي بالوصــف والحكــي خارجـ ّ واالســتبطان وتســريد الزمــن والتداعــي، كشــف ًا عــن النوايــا واألفــكار. ولم يكن للشخصيات الذكورية وجود، ـخصية واحدة هي شــخصية باســتثناء شـ ّ ـخصيَتْين ســليمان بيك التي لم تساند الشـ َّ الرئيسـَتْين :ســعيدة هانم ،ومليكة جان، 112
وقد ظلــت محافظــة علــى الظهور فــي دور الشــخصية الهامشــية المؤســلبة الخائبــة المنهزمــة واالنتهازيــة والالمنتميــة التــي فضلــت بيــع البيــت /الوطن مقابل الســكن َّ فــي الالوطن. تــداوم الروايــة علــى التــزام الواقعيــة تجســيد المعانــاة النفســية ،علــى فــي ّ الصعيدْيــن :البنائــي ،والموضوعــي، َ فتقع الشخصية فريســة أوهام وهواجس تدفــع بها إلــى ابتــداع وســائل ،تقــاوم بها
وتتكيــف مــع مرارتــه. الواقــع المعيــش، َّ ويشــوب هــذه الواقعيــة بعــض الغرائبيــة التــي تقــرن الواقــع بالخيــال ،مــن خــال توظيــف تقانــة القريــن التــي تشــطر ـخصية ســعيدة هانــم إلــى أخــرى ،هي شـ ّ أخــت لهــا تشــبهها ،اســمها مليكــة جــان، لتتشــاركا ســرد األحــداث ،باالســترجاع الزمنــي للذكريــات ،والمونولوجــات، والحــوارات الخارجية ،أو بـ(أنــا) الراوي الغائــب ،مــع توظيــف أســلوب المونتــاج ليتم الزماني باقتطــاع كثير من اللحظــات َّ اســتجماعها بشــكل مختـ َـزل ،السـ َّـيما فــي تمــر أمــام آخــر فصــل مــن الروايــة؛ إذ ّ
مــرت البصــر أحــداث كثيــرة كانــت قــد ّ بالقــارئ ،فــي الفصــول الســابقة ،كشــراء المعطــف والرحالت الســياحية والســقوط مــن األرجوحــة والتقــاط دجاجــة الجيران ومما والرضاعة مــن قنّينــة الحليب..إلخّ . يسهم في تصعيد درامية األحداث تضمين القصة األصلية، قصص فرعية ّ تتأطر في ّ وقصــة حبربــش وأصايــل، كقصــة األب ّ ّ حوريــة . وألجــل تقديــم األحــداث ،مــن منظــور يتم الدخــول إلى منطقــة التحليل واقعيّ ، تيــار الوعــي الــذي باســتدعاء النفســي، ّ يم ـّد الســرد بإمكانــات التعبيــر الواقعــي، باعتمــاد أســلوب التداعــي الحـّـر ،وتكــون ـخصيَتْين وجهــة نظر لـ ّ ـكل واحــدة مــن الشـ َّ إزاء مــا يجــري مــن أحــداث؛ األمــر الــذي فيتكرر يجعل الرواية ذات صوتية تعّدديةّ ، ـي ســرد الحــدث أكثــر مــن مـّـرة ،وبوجهَتـ ْ نظر مختلفَتْين؛ فمثالً :مشــهد السقوط من ـص الشــعر الــذي انحشــر األرجوحــة ،وقـ ّ ـيتم ســرده: ـ س ـذي ـ وال بأخاديــد الجهــاز، ّ مـّـرة مــن وجهــة نظــر مليكــة جــان ،ومـّـرة أخرى من وجهة نظر ســعيدة هانم؛ وهذا أيهما هــي الصادقة ما يولّد التضـ ّ ـاد حــول ّ كل واحــدة ُي َخ َّيــل إليها والحقيقيــة ،حيــث ّ أنهــا أصيبــت بالعمــى(. )2 ولتوكيــد ذلــك ،تــدرج الكاتبــة عبارة، تضعهــا بيــن قوســين كبيريــن ،تختــم بهــا تتعمد عدم الفصل مــا قبــل األخيــر ،وفيهــا َّ المؤنــث بين فعل الشــرط تســاوي خطاب َّ التشظي وجوابه ،كانعكاس تلقائي لحالة ّ واالنشطار داخل الشخصية نفسها« :أجل إلى َح ـّد مــا ،إذا فعلـ ِ ـت شــيئ ًا فافعلــه على نحو صحيــح ،وإذا ِ أنت لســت فاعله على نحو صحيح فاتـركـه وشأنـه»(.)3 شــكل تكــرار بعــض المقاطــع ولقــد ّ الكالميــة تطبيع ـ ًا أســلوبياً ،للتعبيــر عــن «كل تشظي ّ الشــخصيَتْين ،كهذا المقطع»ّ : َّ شــيء موجــود فــي الــرأس؛ ونحــن الذيــن نســترجع أفــكاراً ..كانــت موجــودة هنــاك كل الــكالم أيضـاً ،كلّه طــوال الوقــت ،مــع ّ موجــود هنــاك :الفــرح ،واالبتســامات، والدمــوع ،والعذابات .ونحــن الذين نحّدد مــاذا نختــار ،ومــاذا ال نختــار»()4؛ الــذي راو خارجي، سيتكرر -أيضاً -على لسان ٍ ّ ينقلــه عــن مليكــة جــان المنشــطرة عــن ســعيدة هانــم ،ويكشــف فيــه كيــف أنهــا
كانــت تخــاف مــن نفســها ،لكنهــا ،اآلن، تذكــرت مقطع ًا مــن رواية تغيــرت بعــد أن َّ َّ يتكرر «نســاء عاشــقات للورنس»( ،)5ثم ّ ليتضــح أن القــول فــي خاتمــة الروايــة َّ لســعيدة هانــم»(. )6 يتــم تكثيــف الصــور المشــهدية كمــا ّ والبانوراميــة ،باســتعمال المفارقــات ـاص مــع األمثــال والنكات الســاخرة والتنـ ّ الشــعبية ،واســتعمال أســلوب كتابــة لتــؤدي جميعهــا الرســائل اإللكترونيــة، ّ دورًا محوري ـ ًا فــي التصعيــد الدراماتيكــي لألحــداث(. )7 وباشــتغال فنتــازي ،تأتــي الخاتمــة لتسدل الســتار على اقتران مليكة بسعيدة تخلــص األخيــرة منها .ومــع ذلك، معلنـ ًـة ُّ يظـّـل ذلــك الوهــم قائمـ ًا كنــوع مــن الدفــاع َ ضّد انقراض الذات وانسحاقها «ألن مليكة جــان كانــت تهّددنــي ،دائمـاً ،باالنتحــار.. مرة ،لتفرض ولكنها تعود ســالمة في ّ كل ّ ـي قوانينها»(.)8 علـ َّ ّ التضــاد بســبب إل الشــعور هــذا ومــا ّ تفكــر فيــه مليكــة التــي النفســي إزاء مــا ِّ ملكــت علــى ســعيدة دواخلهــا ،فصــارت مثــل ظلّهــا ،وحيــن تناقــش جــدوى لبــس ـاد عنــد الحجــاب فإنهــا تعـ ِّـزز حالــة التضـ ّ ســعيدة «فع ـاً ،كنــت أشــعر بأنــي لســت أنــا ووجــدت نفســي ..ال أعــرف أيــن أديــر وجهــي مــن نظــرات مليكــة جــان»( )9أو تمتعــض مــن الواقــع فتتمـ َّـرد علــى قواعــد اللغــة اإلمالئيــة فــي كلمــة االفتتــاح التــي كتبهــا لهــا الصحافــي( ،)10أو تكــون لهــا نظــرة كونيــة للوجــود من خــال مناقشــة أخبــار المطــرب فضــل شــاكر؛ ومــن َثـ َّـم، تقودها تلــك األفكار إلى االســتهانة بذاتها وإدانتهــا «وظلت تبصق على نفســها فترة طويلــة أمــام المــرأة»(« )11مليكــة جــان ال زالــت تبصــق علــى نفســها»(.)12 تشظي سعيدة هانم ربما -كان في ّ وَّ - ـخصيتها انعــكاس الضطهــاد ـ ش ـام وانفصـ ّ الرجل/األخ سليمان بيك لها ،ناظرًا إليها بوصفهــا جنس ـ ًا آخــر ليــس لــه ّإل وجــود طفيلــي هامشــي ،ومبتغــاه مــن وراء ذلك أو ًال وآخراً.. تفوقه َّ تعزيز وجوده وإثبات ُّ تصمــم ســعيدة علــى االنتصــار ولذلــكِّ ، علــى مخاوفهــا وهواجســها التــي صنعتها مخيلتها لعلّها تمتلك إرادة التغيير ،لتكون ِّ ربمــا -تتغلَّــب ذاتهــا- علــى ســلطتها لهــا ّ
علــى مخاوفهــا ،وتصنــع واقعهــا فارضـ ًـة ســطوتها عليه. وليــس فــي هــذا مغالبــة نفســية ،بقــدر مــا هــو صــراع جنوســي ،حيــث الفحولــة تمكــن األنوثة مــن أن يكون لهــا خطابها ال ِّ تعبــر ذلــك، وعــن . والمضــاد المســتقل ّ ّ ّ الفيلسوفة الفرنسية سيمون دي بوفوار: حرك العالم بأنانيته وكبريائه، «إن الرجل ّ كل زاوية من ثم ســكن مســيطرًا عليه فــي ّ زوايــاه ،ولــم يتــرك منفــذًا للمــرأة ســوى ـخصيتها، هــذا الطريــق لكــي تمـّـر منــه شـ ّ وهــي لــن تتوانــى فــي الدفــاع عــن نفســها تخطــي العقبات والعثرات أو اإلقدام على ّ في طريقها؛ لتصل إلى قلب الرجل ،حتى يخضع لهــا كما خضعــت له ،فماذا ســوف تكــون النتيجة ؟»(.)13 وبهــذا يتحّدد مغزى الرواية ورســالتها التي ســعت لتوصيلها إلــى القارئ؛ وهي وتوحداً ،لن أن ازدواج الحيوات :انفصاماً، ّ يكــون ّإل في ِظـّـل واقع مشـ َّـتت وفوضوي منقســم علــى نفســه (ماضيـاً ،وحاضراً)، كل واحدة من تلك الحيوات وهذا ما يجعل ّ صورتْيــن ،وواقعــة بيــن مستنســخة فــي َ َ خيارْين :فإما مصير ُرسم لها يوجب َف َّك ْي َ ـظي داخــل مــكان ،هــو األصــل عليهــا التشـ ّ واألســاس ،أو التماهــي فــي غربــة مكان، لتضحي باألصل، مقابل قبولها بالتنــازل ّ وتنســلخ عن األساس. ــل ذواتنــا ومــا بيــن تظ ّ الخيارْيــنَ ، َ ـظية (مكاني ـاً ،وزماني ـاً) ،بــا أدنــى متشـ ِّ فرصــة للتعبير عــن كونها راغبــة في ذلك أم غيــر راغبــة!. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اإلحاالت
1ســعيدة هانم ويــوم غد مــن الســنة الماضية، المؤسسة العربية للدراسات رواية ،ميسلون هادي، َّ والنشر ،بيروت ،طبعة أولى.2015 ، - 2م .ن 69 - 68/وينظر -أيضاً -ص .38 - 3م .ن.168/ - 4م .ن.168/ - 5ينظر :م .ن.166/ - 6ينظر :م .ن.198 - 179/ - 7ينظر :م .ن 124 /و.125 - 8م .ن.178 / - 9م .ن.42/ - 10ينظر :م .ن.50/ - 11م .ن.47/ - 12م .ن.45/ تفكــر المــرأة ،ســيمون دي بوفوار، - 13كيــف ّ المركــز العربــي للنشــر والتوزيــع ،القاهرة. 113
سرية لويس أراغون
تحصد جائزة الغونكور للسيرة الذاتية2016 ، سعيد بوكرامي
بعدمــا أصــدر الروائــي والكاتــب فيليــب فورست ســيرة أراغون ،أصبح بإمكاننا، اليوم ،قراءة سيرة الشاعر الفرنسي الكبير كاملــة ،دون تزييــف أو لويــس أراغــون ً مغــاالة .ومــن المعلــوم أن الكاتــب فيليــب فورســت ســاهم فــي إعــداد األعمــال الكاملة ألراغون ونشــرها فــي «مكتبة البيليــاد» ما بين ( )2012 - 1997ثم نشــر ديوان «دوار أراغون» ضمن منشــورات (سيسيل ديفو، عام .)2012 ــن -إذن -فيليــب فورســت مــن َّ تمك َ عبقــري مقاربــة حيــاة لويــس أراغــون، ّ األدب والشــعر ،محترمــاً ،بدقّــة كبيــرة، شهرة تفاصيل تجربة شــاعر فرنسا األكثر ً قصة ومقروئي ًة ،ومراحلها ،فكانت النتيجة ّ ّ بديعة عن الشاعر واألسطورة .وما زاد من قيمة هــذا الكتاب أنــه حصل فــي 7يونيو/ حزيــران ،2016 ،علــى جائــزة الغونكــور للســيرة الذاتيــة عــن كتابــه «أراغــون»، الصــادر عــن (دار غاليمــار). 114
المهمــة لــم تكــن ســهلة يمكــن القــول إن ّ بالنســبة إلــى الكاتــب ،فأراغــون متعــّدد، ومبهر بأقنعته وتشــابك عالقاته ومصادر إلهامــه ،وأدبــه ملغــوم باأللغــاز ،كمــا أن مجايليــه ومعاصريــه تضاربــت وجهــات نظرهــم حــول شــخصه وأدبــه ،لكــن فيليب فورســت لم يبـ ِ ـال بهــذه الصعوبات، وانغمس ،لسنوات من البحث والتخطيط، فــي كتابــة ســيرة ذاتيــة إبداعيــة .وهــذا جيــداً ،بشــخصية أراغــون نفســه. ِّ يذكرنــاِّ ، بالنســبة إليــه ،كانــت الحيــاة عبــارة عــن ـب حياتــه ،يحكيهــا ويحلم روايــة :كان يحـ ّ بها ،شعرًا ونثرًا ومواقف إنسانية وأخرى عاطفيــة ،وكانــت الروايــة نفســها بالنســبة إليه مــوردًا حيوي ًا لالســتمرار فــي الحياة؛ من ثم ،فإنه لــم يكن مقبو ًال أن يكشــف عن حياته الواقعية ،لكنه ،مع ذلك ،استنسخ منهــا قــدرًا كبيــرًا فــي أعمالــه. قصــة حياة ـع تعامــل فيليــب فورســت مـ ّ ـس روائــي ،فاختــار االنطــاق أراغــون بحـ ّ
منجزه اإلبداعي ،كي يروي حياته .كان من َ يبث شغفه وأسراره وأشعاره كيفما أراغون ّ القراء ،فما كان يشغله هو كانت ردود أفعال ّ يحول اضطرام الحياة إلى قول شعري أن ِّ جديد وصياغة لغوية بسيطة النسج عميقة المضمون العاطفي ،والفلسفي ،والجمالي، وحتى وإن بــدت كتابته ،أحيان ـاً ،معقّدة، فإنها تبقى تعبيرًا صادق ًا عــن حياة زخمة وثرية ،دامت 85عاماً. ّ أول محاولة تبقى سيرة فيليب فورست َّ ـادة وعميقــة ،تقــارب ،بعمــق وجــرأة، جـ ّ قصــة شــاعر مؤثِّــر فــي تاريــخ األدب ّ الفرنسي المعاصرَ ،ن َعَتها الكثير من النقّاد والمؤرخين بأنها حياة مغامرة وغامضة، ِّ لكنهــم لــم يحاولــوا ،مـ َّـر ًة ،ســبر دهاليزها أهمّيــة مــا وكشــف حقائقهــا .وهنــا ،تكمــن ّ يؤكد قام بــه الروائي فيليب فورســت ،بمــا ِّ الغْيريــة فــي فرنســا ازدهــار أدب الســيرة َ خاص ًة، ُّ عامـ ًـة ،واألدبــاء ّ وتألــق الباحثين ّ فــي اســتجالء حيــاة مجموعــة مــن الكّتــاب حق المهمين ،ليعرفهــم القارئ ّ الفرنســيين ّ المعرفــة ،دون ثغــرات أو تزييــف تاريخي أو تدليــس أدبــي.
«مقعد على نهر السين»
جديد أمين معلوف الحديث عن كتــاب أمين معلــوف الجديد «مقعد على نهر الســين» يقتضــي االعتراف بمكانــة هــذا الكاتــب المتألِّــق ،بــدءًا مــن حفرياته السردية حول الحروب الصليبية، وليــون اإلفريقــي ،وحكايــات ســمرقند، وساللم الشرق ،وحدائق النور ،وصخرة
طانيــوس التــي حصــل بهــا علــى جائــزة الغونكــور ،ورحلــة بالتــزار ،وصــو ًال إلــى روايــة «التائهــون» ،وغيرهــا مــن الكتابات التــي صنعــت أدب ـ ًا عالمي ـ ًا رفيع ـاً .تشـ ّـكل (وِلــد فــي بيــروت، روايــة أميــن معلــوف ُ فــي 25فبراير/شــباط )1949 ،الصــادرة منصــة عــن (دار غراســي) فــي فرنســاّ ، والتأمــل والتحليــل، مشــرقة ،للمالحظــة ُّ عــن تشــابكات التاريــخ الفرنســي .جــاءت حتميــة للتقليــد والطقــس الروايــة نتيجــة ّ يميــز دخــول المنتســبين الجــدد إلــى الــذي ِّ ِ عالــم األكاديميــة الفرنســية؛ بحيــث ُطلــب من أميــن معلوف أن ُي ِعـّد خطابـ ًا يمدح فيه َسـَلفه العاِلــم كلود ليفــي شــتراوس ،الذي كان يشــغل المقعــد ،29ولم يكن فــي األمر األدبية ،والفكرية ،بل أية إســاءة لمكانته ّ ّ قــام معلوف بإعــداد مديــح عن شــتراوس، العالــم األنثربولوجــي الــذي كان ،دائمــاً، محــط إعجــاب مــن طــرف معلــوف .ومنــذ ّ ،2011تاريخ تعيين معلوف في األكاديمية ـول المقعــد 29إلــى ذريعــة الفرنســية ،تحـ َّ فكرية ،وسردية ،الستدعاء مغامرة ثمانية األكاديمييــن المفكريــن واألدبــاء عشــر مــن ِّ ِّ الذيــن شــغلوا المقعــد نفســه .يبــدأ معلــوف رحلته السردية منذ ،1634وال يستعرض تخيليــة جزئيــة ،بــل خاللهــا جينيالوجيــا ُّ مجســدة حسـّـيةّ ، يجعلنــا نعيــش بطريقــة ّ أربعــة قــرون مــن التاريــخ الفرنســي .دون لحظة بأننا نعيش بين األموات، نحس ً أن ّ والماضي ،بــل بين أشــخاص مازالوا على قيــد الحيــاة ،بنبوغهــم وفكرهــم الثاقــب. «صاحب اختالل العالم» ال يكتفي -أيضاً- خطّي ـاً ،بــل يقفــز، بكتابــة ســيرة أســافه ّ باســتمرار ،فــي الزمــن الســتحضار اإلرث الفكــري ،واألدبــي لبعضهــم .كمــا يســوق مهمة، حكايات أخرى متعلِّقة ّ بشــخصيات ّ عاص َرتها؛ لنفهم السياق التاريخي ورموزه َ الفاعلــة سياســياً ،وثقافي ـاً ،واجتماعي ـاً، كمــا نكتشــف قصــص صراعــات داخليــة فــي األكاديميــة الفرنســية نفســها ،تلــك المشــاجرات التــي طواهــا النســيان ،لكنهــا مهمة في وقتها ،وداخل ســياقها التنافســي ّ بيــن أعضــاء األكاديميــة.
وفي أثناء ســرده عــن هــؤالء العمالقة، َك َّر َم معلوف أســتاذه األدبي ،والتاريخي، جوزيــف ميشــو ( ،)1839 - 1767الــذي جمــة فــي أثنــاء اســتفاد منــه ً اســتفادة ّ المهمــة األولــى عــن اشــتغاله علــى روايتــه ّ الحــروب الصليبيــة ،عــام .1983وألنــه لــم يكــن قــادرًا علــى تكريمــه فــي خطــاب قــرر تنصيبــه فــي األكاديميــة الفرنســية ّ معلــوف تخصيــص فصــل لميشــو؛ إلبــراز مفكريــن وأدباء مكانته الشــهيرة ،ومكانــة ِّ منارة للثقافة الفرنســية جعلوا األكاديميــة ً والثّقافة اإلنسانية ،منذ إنشائها ،من طرف الكاردينال ريشــيليو ،عام .1634وهكذا، يمكن وصف كتابه «مقعد على نهر السين» بأنه نــوع مــن االعتــراف األدبــي ،والفكري بأدبــاء وعلمــاء مثــل كورنــاي ،وفولتيــر، وفيكتور هوغــو ،ونيكــوالي دو بوربون، وهنــري دو مونتــرالن ،وإرنيســت رينان، وغامبيتا ،وفرانسوا هنري سليمان ،وكلود برنــار ،وغيرهــم. يتمثّــل نبــوغ أميــن معلــوف فــي أنــه، انطالق ـ ًا مــن مقعــد بســيط فــي األكاديميــة ــن مــن اســتحضار تاريــخ الفرنســيةَّ ، تمك َ فرنســا علــى امتــداد عــّدة قــرون ،ســابرًا وفضاء ثقافياً، شخصيات مرموقة، مسار ّ ً مهمْيــن ،مــن خــال تلــك وآخــر سياســي ًا َّ الشــخصيات ،مثــل كومونــة باريــس، وحــرب ،1870ووصــول فولتيــر إلــى باريس بعــد غياب طويــل ،واســتقباله من طرف الباريســيين اســتقبا ًال جماهيرياً ،أو محاكمة درايفوس ،أو المنافسات الشرسة بين المثقَّفيــن واألدباء ..وذلك ،بأســلوبه المعتــاد الذي يمــزج بين التشــويق ،والدقّة فــي المعلومــة ،واإلبــداع فــي التخييــل.
كتاب جديد عن الموسيقار الفرنسي «هنري دوتيو» عن دار (أكت سود) الفرنسية ،صدرت، حديثــاً ،ســيرة ذاتيــة ،أنجزهــا الناقــد الموسيقي بيير جيرفازوني عن الموسيقار الفرنســي هنــري دوتيــو (،)2013 - 1916 ـول ،وبحــث دؤوب ،عن وهــي تحقيــق مطـ َّ
وحْفــر فــي شــهادات موثوقــة لمعاصريــهَ ، الخاصة .وهكذا، العامة والوثائق ّ ّ السجلت ّ سيرة شــيئ ًا فشــيئاً ،تشـ َّـك َل البحث الضخم ً ذاتية ذات مالمح روائية .صــدر هذا العمل بمناســبة االحتفــال بذكــرى مرور مئــة عام على ميالد الموســيقار هنــري دوتيو. علــى امتــداد ســبع ســنوات ،واصــل المؤلِّــف بحثــه فــي الوثائــق واألبحــاث والمحفوظــات (الوطنيــة ،والمحافظــات، والبلديــات ،والوثائــق :العســكرية، والخاصة ،والمراسالت)...؛ إلثراء سرده ّ ـارة ،خصوص ـ ًا أن حجــم وجعلــه أكثــر إثـ ً الكتــاب كبير جـّدًا (حوالــي 1700صفحة). يتقمص الكاتب شخصية وعبر كتابة دقيقةَّ ، الملحــن العالمــي ،ليحكي ظــروف ميالده، َّ ومحيطه االجتماعي ،ومحيطه االقتصادي، وظــروف تعلُّمــه فــي معهــد «دووي» ،ثــم فــي باريــس ،إلــى أن حصــل علــى جائــزة رومــا ،ثــم تعاونــه مــع هنــري دوبوســي، ـق طريقه قبــل أن يختــار هــذا ،لألخيــر ،شـ ّ الشــخصي والموســيقي وحده .قــاد دوتيو بدايــة األوركســترا الباريســية الشــهيرة ً ــن لح الفتــرة، مــن ( ،)1965وخــال هــذه َّ َ كونشــرتو تحــت عنــوان «عالم بعيــد كلّه»، ثم أتبعــه بالرباعية الفريدة «هكــذا الليل»، عــام ( .)1976ومــن هنــا ،بــدأت ألحانــه- تدريجي ـاً -تخطــف األنظــار ،وتنتشــر فــي تميــزت ألحانه بنزوعها أنحاء العالــم .وقد َّ ـدرج وتنمو نحو تجريــب ألحــان جديدة ،تتـ َّ تتوغــل فــي عوالــم البحث عــن الزمن كأنهــا َّ الماضي .في الســنوات العشــر األخيرة من حياته ،ســيزداد نبوغه الموسيقي وكماله التلحيني الذي تجلّى في سمفونيات ،نذكر منها« :مراسالت ( ،»)2003و«صوت داون أبشاو» و«زمن الساعة ( .»)2007وقد حرص فــي أعمالــه األخيــرة علــى أن يشــتغل على الشعر ِ وسـَـير الشــعراء ،مثل جان تارديو، وروبــر ديزنــوس ،وشــارل بودليــر. تجــدر اإلشــارة إلــى أن ســيرة «هنــري مؤخراً -على جائزة بيليا، دوتيو» حصلتَّ - مؤسسة تمنحها ة، مهم ،2016وهي جائزة ّ َّ تهتم بعلم الموسيقى ،وبالكتابات األدبية ّ عن الموسيقى. 115
ذكريات عبرت
زمن اللعب نورة محمد فرج
فــي لنــدن عــام ،2004التقيــت بصديقتــي اإلماراتيــة ابتســام المعــا ،التــي كنــت قــد عرفتهــا مــن خــال اإلنترنــت ،وأخذتنــي إلــى الناشــيونال غاليــري ،وهنــاك فــي الــزوار أول قاعــة دخلناهــا ،رأيــت ّ تجمعوا عند لوحة واحــدة ،وتركوا ّ كل مــا فــي القاعــة ،وعندمــا اقتربــت ّ أنا أيضاً ،فوجئت بواحدة من أبشع اللوحــات التــي رأيتهــا فــي حياتي، وفنّــَا. وأكثرهــا إثــارة َ كانــت لوحــة A Grotesque Old womannأو �The Ugly Duch essلكونتيــن ماتســيس ،عندمــا رآنــي الحــارس العجوز ُأحـّدق في اللوحــة بذهــول ،جــاء يقــول إنهــم يذكــرون أن الفنــان رســم صديقه ـتاء منــه! علــى هــذا النحــو ،ألنــه كان مسـ ً ـي أن ُأحـّدد موضوع ـ عل كان ـنوات، فيما بعــد ،بعد قرابــة الثــاث سـ َّ رســالة الدكتــوراه ،فاختــرت فــي البدايــة موضوع ـ ًا معّقــدًا ال أتذكــر فقررت عنوانه اآلن! حاولت أن أعمــل فيه ،لكنه لم يكن يناســبنيّ ، أن أغيــره ،وبالفعل بــدأت أبحث عــن موضــوع آخر ،وأثناء نبشــي فتحــت كتــاب دليــل الناقــد األدبــي ،وإذا بــي أرى «القبــح» ،فعرفــت أنــي لقيــت موضوعي! تبين لــي أن المصطلح ُترجم ترجمــة خاطئــة ،فـ«القبح» كان الحقـ ًا ّ ترجمــة لـــ grotesqueحســب الدليــل ،لكنــه ال يســاويه فــي النقــد الغربــي ،وإنمــا القبــح واحــد مــن موضوعاتــه ودالالتــه .المهــم أني كتبــت فــي الغروتســك ،وحصلــت علــى الدكتــوراه فــي .2009 *** ســنوات الدراســة العليــا كانــت ســنوات قحــط أدبــي بالنســبة لــي، 116
ـي أن ُأحلل الكثير مــن النصوص، فكان علـ َّ ومن َثـّـم أفكــر بطريقة منطقيــة ال خيالية، ـي ذاك االفتــراض ورأيــت أنــي يصــدق علـ َّ الذي يقول إن األكاديمــي ال يمكن أن يكون أديبـاً ،يمكنه فقــط أن يكــون أديب ًا فاشـاً! كتبــت عــددًا محــدودًا جــدًا مــن القصــص القصيــرة خــال تلــك الســنوات ،ولكننــي قررت في الجانب الخلفي من ذهني كنت قد ّ كتابــة روايــة عــن األصفهانــي واألغانــي، ولــم أقـّـرر أي شــيء آخــر حولهــا. فجــر اليــوم مــا قبــل األخيــر ســنة ،2007 علي أتانــي إلهام مــا ،وكأن ّ ثمــة من ُيملــي َّ دونتــه أو ًال على الجــوال ،ثم نقلته إمالءّ ، إلى ورقة منفــردة ،وقـّـررت أن هــذا النص ســيكون مفتتــح روايتي المستحيلة ،وكنت قبلها قد اتخذت لنفسي دفترًا أزرق بهيجاً ،عليه صــورة األرنــب صديــق هللــو كيتــي! وجعلتــه بمثابــة بنــك أفــكار لــي ،فكلمــا طــرأت لــي فكــرة ،أو وجــدت شــيئ ًا راقنــي في كتــاب أو فــي فيلــم وثائقــي ،دونتــه فــي ذلــك الدفتر. يقولــون أصعــب مــا فــي أي عمــل هــو البــدء بــه ،عرفــت كيــف أبــدأ الروايــة وكيــف ُأنهيهــا ولــم أعــرف كيــف أكتبهــا! كنت أكتب علــى فترات متباعــدة ،أجزاء منها ،بضعة ســطور فقط، ومــا أعلــم متــى ســأكتبها ،وبعــد حصولــي علــى الدكتــوراه ُع ِّينــت في الجامعة ،واســتغرقني العمــل ،وبدا لــي أن مخيلتــي قد ضاعت تمامـاً .الطامة األخــرى أني لــم أجد آنــذاك وقتـ ًا للقــراءة ،كان األمر مخزيـ ًا لــي تجاه نفســي! ـي أن أكتــب هــذه الروايــة ـ عل إن ـي ـ لنفس ـت فــي صيــف ،2012قلـ َّ خــال شــهري إجــازة الصيــف ،وبالفعــل كتبــت بضــع صفحــات، وأيضــ ًا لــم أســتطع المضــي فيهــا ،كنــت أشــعر وكأننــي ُأكــره
نفســي علــى الكتابة في وقــت محصور جــداً ،فتركتها مـّـرة أخرى. *** فــي أواخــر ،2014حصلــت علــى ســنة تفـ ُّـرغ علمــي ،وذهبــت إلــى تركيــا ،وهنــاك عملــت علــى بحثــي الرئيســي وأبحاثــي األخــرى، وحيــن بقــي شــهر وقليــل علــى يــوم ميــادي الــذي يصــادف ،4/2 قـّـررت أننــي ســأفعل شــيئ ًا ممــا يقولــه أصحــاب التنميــة الذاتيــة، أن أهــدي نفســي هديــة ثمينــة -مــن ال يحــب فكــرة كهــذه ،مــع أنــي كالجميــع أهــدي نفســي دوم ـاً! وأكافــئ نفســي دوم ـاً! -لكــن هــذه المـّـرة ســتكون هديتــي لنفســي مختلفــة ،ســتكون هــي «روايتــي» الحلــم المســتحيل. لم أكن قد توقّفــت عن تدوين األفكار والمعلومــات حتى ذاك الحين، عودنــي على وضــع جداول لضبــط إنهــاء مواعيدي وكان العمــل قد ّ وترتيب أفكاري ،وبالمقابل ،كنت قد اخترت ســابق ًا تقســيم أحداث الروايــة علــى 29يومـاً ،فقلت ســأبدأ فــي مــارس/آذار ،وأكتب في كل يــوم من أيام هــذا الشــهر يوم ًا مــن أيــام الرواية ،فإذا مــا وصلت ّ أول إبريل/نيســان أكون قد ختمــت الرواية. قســمت فيــه األحــداث علــى األيــام ،وبــدأت وضعــت جــدو ًال مبدئيـاًَّ ، الكتابــة يــوم .2015/3/6 *** كانــت المفاجــأة لــي أننــي أتممــت الروايــة يــوم 22مــارس/آذار! أتممــت المســودة األولــى! أثنــاء الكتابة كنــت أشــعر بالســعادة وأقفز فــي الكتابة قفــزاً ،فكنت أحيانـ ًا أكتب أحــداث يوميــن وثالثــة في جلســة واحدة. ـكل يــومّ ،إل أننــي قبــل البدء ومع أنــي وضعــت الحــدث الرئيســي لـ ّ لــم أكــن وضعــت التفاصيــل ،وأحيانـ ًا كنت أنــام ،وأنــا ال أعــرف ما الــذي ســيحدث فــي اليــوم التالــي فــي الروايــة ،فــإذا بــي أســتيقظ صباحاً ،واألحــداث بتفاصيلها وكيفيــة كتابتها ماثلــة أمام عيني، ـي ســوى وضعهــا على الــورق. وليــس علـ َّ من 2007إلى !2015 كل تلــك األبحــاث واألفــكار والمعلومــات المفاجــأة األخــرى ،أن ّ والقــراءات ،التي ظننتهــا حاجــزًا بيني وبيــن روايتــي ،رأيتها كلها تأتــي لتســاعدني بشــكل ممتــع مــا تخيلتــه ،حتى بحثــي الــذي كنت فجــر لــي العديــد مــن األفــكار. أعمــل عليــه فــي تركيــاّ ، *** استمتعت كثيرًا وأنا «أعيد إنتاج» تلك المعلومات واألفكار الحمقاء والطريفة والمتوحشــة في التاريــخ .أخذت من اللوحــات واألغاني والمتاحف ،ومن مــروج الذهــب ومعجم البلــدان ،ومن لوحــة لفنان ـطي ،من متحف ياباني ومن حاشــية على مخطوط أوروبي َقْر َو َسـ ّ في فيينا ومن قلعة الكرك في األردن ومن مدينة على أطراف تركيا. وعلى ِغرار قصصي السابقة ،استخدمت القلعة واألسرار والصناديق علي كما لو كان يرقص! واللعب والرعب ،وصار الغروتسك ّ يطل َّ *** ثمة ثالث أفكار تذكرها إيزابيل الليندي في كتبها: ّ عما تعرفه. األولى :أن عليك أن تكتب ّ الثانيــة :أن الكاتــب عليــه أن يكــون كالســاحر ،ال يكفــي أن يخــرج
أرانــب مــن القبعــة ،بــل عليــه القيــام بذلــك بأناقــة. يشكلون ألذ جزء في الحكايات. الثالثة :أن األوغاد ّ على الرغم مــن أن هذه األفــكار تعجبنــيّ ،إل أن تطبيقهــا أمر آخر، األولــى كانــت تحدي ـاً ،فروايتــي تاريخيــة ،ومهمــا قــرأت عــن تلــك الحقبــة التــي اخترتهــاّ ،إل أن مــن رأى ليــس كمــن قــرأ بعــد ألــف ســنة ّإل قلي ـاً! ـي أن أحضــر األرانب ،ومــا أدراني الثانية ،كانــت صعبة أكثــر ،علـ ّ حق ًا أن الــذي عندي أرانــب ال ضفــادع وال جرابيع؟! وفوق ذلك ال بد أن أقّدمهم بأناقة وترف! الفكرة الثالثة ،كانت رائعة حقاً ،وكان أوغادي أكثر ما استمتعت به! ثالثــة مــن رجــال الســوء األوغــاد ،أخذتهــم ووضعــت فيهــم قبس ـ ًا يهودي ًا ما ،لئيم ًا وكريهاً ،الغدر والخيانة والغل والتربص ،وقليل مــن األنــف المعقــوف أيضاً! وواحــد لم يكن وغــدًا مثلهــم ،لكننــي أردته ســاحرًا يهوديـ ًا حزيناً، يحتــرق جوفه لوعــة عشــق ًا وندماً. وأنا أيضـ ًا كنــت لئيمة ،مع ِ الشــعر ،قـّـررت قتلــه ،أو تنكيســه على ـل ،وأن أســلبه مكانتــه التي أمضاهــا طوال ألفي ســنة. ا َألقـّ ِ من أنا ألنكس الشعر؟ ال يهم ،فهذا ما أريده. لــم ال؟ حتــى فتاتــي الرقيقة أودعــت فيها لمســة مــن أســاليب اليهود فــي تدويــن التأريــخ ،إنمــا جعلتهــا تفعل ذلــك لغايــة العبــث فقط، نظفتهــا مــن أحقادهــم ،فهــي أكثــر رقــة وإنســانية مــن أن يحمــل قلبهــا مثــل هــذا. كنــت أفكــر فــي النمــط األكثــر كالســيكية ،قصــة حــب ،مــن ال يرغب في قــراءة قصــة حــب؟! وال أريدهــا أن تكــون بائســة ،ال أريــد كتابة قصــة حــب مليئــة باللطــم والنــواح ،بــل مليئــة بالشــرف والحنــان ـقي أن يكونــا مــن األنقيــاء اللطفــاء األتقيــاء. والوفــاء ،أريــد لعاشـ ّ وشــخصية الفتــى بنيتها مــن صوت فــؤاد ســالم ،رجولــي وحنون أتخيل شــخصيته عبر صــوت فؤاد ســالم وهو فــي ٍ آن واحد ،كنــت ّ يغني أو يقــول المواويل. *** من جهة أخرى ،كان األمر أشبه بلعبة الليجو! ـطية والقــاع طالمــا تركيــب هــذا علــى ذاك ،أيضـ ًا العوالــم َ القْر َو َسـ ّ كانــت ثيمــة فــي ألعــاب الليجــو ،وكنــت أحبهــا. الحفر على أســماء المدن والبلدان ،اختالق تاريخ ألماكن مختلفة، وانتقاء تاريخ لمدن موجودة ،وسرقة تاريخ مدن ونسبها لغيرها! سرقة تاريخ الغير ،أليس ذلك فعل اليهود؟ قال كمال الصليبي إنهم ســرقوا تاريخ الجزيــرة العربية ونســبوه لهم في أرض فلســطين، هــذه الفكــرة ليســت يقينيــة بالنســبة لــي ،لكنهــا راقتنــي إلــى َحـ ٍّـد متخيلة. كبير ،فرســمت لنفســي خارطة جغرافية نصــف ّ آن ،وتتكفّل مخيلتك الليجو يمنحك القدرة على بناء عالم صغيــر ٍ ببنــاء تاريخ له! 117
ثقافات
الرغم من طغيان النزعة إلى تقديس لغة المستعمر على ّ فإن الموسي ظلّوا ،إلى واالستهانة باللّغات الوطنيةّ ، اآلن ،يســتمتعون ،في أحاديثهم واحتفاالتهم ،بتوظيف األمثال إن وخ َطبهمَ .لئن بات من نافلة القول ّ واالستدالل بها في أقوالهم ُ اإلنتاج األدبي ليس قيد قناة في الّتعبير ،دون غيرها ،فمن الالزم قدم أو أن يكون ّ لكل مجتمع بشــري ،مهما كان محلّه من ُســلَّم الّت ُّ معينة .ومن الّتخلّف ،رصيٌد من األدب يتســربل أشــكا ًال وقوالب َّ َ المَث ُل وما راجــح االحتمــال أن يكون ،من ضمــن ذلك ّ الرصيــدَ ، شابهه من مظاهر اإلنتاج األدبي. الشعب الموسي. المَثل عند ّ ليكن هذا فرضاً ،نستند إليه في مقاربة َ وما من ّ شك في أنّها مقاربة ،ال تبلغ غايتها دون إيضاح عدد من المسلّمات والمفاهيم ،ومنها ما نصوغه على النّحو اآلتي :من هم الشعب؟ المَثل؟ وكيف يتجلّى عند هذا ّ الموسي؟ وما هو َ أهــم القضايا التي نروم ،في هذا المقام ،كشــف النّقاب عن هــذه ّ درج في مقاربتها ،عبر ما يأتي من الفقرات. حلولها ،بالّت ّ
أدب املَ َثل عند شعب املويس ()moose د .وليالي كندو (بوركينا فاسو)
من هم الموسي؟ إن الموســي ( )mooseأحــد شــعوب ّ المســتقرة فــي جزئهــا ــمراء الس ة القــار ّ ّ ّ الغربي ،وقد أقام معظم أفراده في دولة ّ فولتــا العليــا ،قديمـاً ،وبوركينا فاســو، حديثاً ،حيث يمثّلون ما يزيد على نصف الســكان .وقد لبثــت أقلّية منهــم في دولة ّ غانــا ،أو عــادت إليهــا ،وهاجــر غيرهــا إلــى ســائر البلــدان المجــاورة .وأوفرهــا استقطاب ًا للموسي هي الكوت ديفوار(.)1 وللموســي لغــة تدعــى «مــوري- 118
،»mooreهــي ،مــن حيــث عــدد المســتعملين ،أهـّـم اللّغــات الوطنيــة في بوركينا فاسو ،وهي تنتمي ،في تصنيف اللّغات اإلفريقيــة الحديث ،إلى مجموعة الغــور التابعــة إلــى العائلــة النيجريــة الكونغوليــة .وال يختلــف أمــر «مــوري» عــن العربيــة ،زمــن جمعهــا وتدويــن للعربيــة لهجات نصوصهــا؛ فكمــا كانــت ّ متفاوتــة فــي ســلّم الفصاحــة واللّحــن كل من «يانا- كانت لـ«مــوري» قرابة مــع ّ ،»yanaو«زاوري ،»zaoure -في شرقي
كل مــن «مانبورســي» بوركينــا ،ومــع ٍّ و«داغومبــا» ،فــي شــمال غانــا( .)2بــل أن «يانا» و«زاوري» يرى بعض الّدارسين ّ متفرعــة عــن اثنتــان مــن عشــر لهجــات ّ «موري»( ،)3ويقتضي هذا وجود اّتفاق بيــن أهــل مــوريُ :أ ًّمــا وبنـ ٍ ـات ،يضمــن لها الوحدة والّتفـّـرد بالكينونة اللّغوية؛ يميــز اللّغــة أكــد الل فقــد ّ ّســانيون أن مــا ّ ّ عــن اللّهجــة ال يزيــد عــن كــون األولــى بمثابــة دولــة تمتلــك أســطوالً ،ال تملكه الثّانية( .)4وقــد ُيعزى االمتــاك وعدمه
إلــى سياســة حكيمــة عنــد أهــل األولــى، أو إلــى غلبتهــم ،أو إلــى شــعور لــدى أصحــاب الثانيــة باالنتمــاء إلــى األولــى أو إلــى انقيادهــم إليهــا. فلئن كان اّتصال موري بنظام الكتابة ذهنيــة حديــث العهــد ،فهــو ال يــزال ،فــي ّ كثيــر مــن أهلــه ،لغــة مشــتركة ،هــي- أيضـاً -ال تعــدو ،فــي حكــم اللّســانيات، أن أن تكــون لهجــة .وقــد ّ أكــد الّدارســون ّ الشــفوية ،بدورهــا ،نمــط فــي تنظيــم ّ أهمّي ًة عن نظام البناء الحضاري ،ال ّ يقل ّ األهمّية في ـذه ـ ه الكتابــة ،فكيف تتجّلــى ّ المَثل لــدى الموســي؟ جنــس َ
مصطلح المَ ثَل عند الموسي إن المثــل جنــس أدبــيُ ،عِنيــت بــه ّ ـرية منذ عصور غابرة، المجتمعات البشـ ّ مستقل، الغربيين أفردوه علم ًا إن ّ حّتى ّ ّ َسـّـموه « ،»parémiologieوهــو ثاني الشــفوي(.)5 أهــم األجنــاس فــي األدب ّ ّ وللموســي فيــه إنتــاج غزيــرُ ،يعــرب عــن عنايتهــم الفائقــة بــه ،وقــد اجتمــع فــي الّتعبيــر عــن مفهومــه فــي لغتهــم ْبْنـ ِ�د �yél ثالث عبـ�ارات ّ مطـ�ردة هـ�ي «ِيلُ و«غْمُبْنــِد ،»gombùndi - ُ ،»bùndi ِ ْغ(.»siilga - (6 و«ســيل َ أمــا ِ ْغ» فهي اســتعمال مجموعة «ســيل َ ّ المســتقرين في منطقة «كوبيال الموسي ّ »koupélaالواقعــة شــرقي البــاد، ومدلولها المعجمي عند بعض الدارسين (اإليماء) ،على وجه اإلطالق ،أو (القصد أما العبارتان :الثانية ،والثّالثة باإليماء)ّ . فهما تشــتركان ،مــن ناحية ،فــي كونهما ردتْيــن فــي اســتعمال مــوري ،ومــن َّ مط َ ناحية ثانيــة ،في قيامهما علــى الّتركيب كال من «ِي ِّلـْـه» ()yéllé أن ًّ النّعتــي؛ ذلــك ّ مكون فــي الّتركيب ُ و«غْم ـِدْه» (ّ )gomdé «بْنــِد» ()bùndi وأن المنعــوت، محــل ّ ّ ُ متفــرد بموضــع النعــت .وعلــى خــاف ّ ـإن معنى ـا ـ لفظه يفيد ـي ـ الت » «ِي ِّلـْـه األمر فـ ّ َ ِ «بْنِد» ـا ـ أم ـول. ـ الق ـو ـ ه الوضعي » ه د ُ «غْم ـ ْ ّ ُ فقد اجتهــد فــي تقريــب معناهــا المعجمي ثــم اقتفــى أثــره «دوريــس بونّــي»(ّ ،)7
أن «سيســاو»( ،)8وقــد اقتصــرا علــى ّ تدل علــى العقدة ،وااللتواء، «بْنِد» كلمة ّ ُ يفســر مــا ولعــل والخفــاء. قــوس، ّ والّت ُّ ّ هــذا االقتصار قّلــة المصــادر والّدراســات اللّغويــة المكتوبــة فــي مــوري ،ووقوف أولهمــا ،فــي دراســته ،موقــف الواصــف ّ األول؛ وهــو مــا يقتضــي الكفايــة بــآراء ّ ِ المستعملين األصالء ،وإن كان عينة من ِّ أكد علماء وإذا االستقراء. باب من عملهم ّ أن االســتقراء ال يحصــر اإلبســتمولوجيا ّ توصلوا إليــه ال يحول الحقيقة ،فـ ّ ـإن ما ّ دون المراجعــة والنقد. واســتنادًا إلى حدســنا اللّغوي ،نرى أخص بالبــذرة في طور ّ «بْن ـِد» ّ أن معنى ُ الســويقة ،أو الجنيــن؛ فكثيرًا مــا تكــون ّ الســاق ،منحنيــة نحــو األســفل ،وهو ما ّ أن النّبتة، يظهر في شــكل القوس ،كمــا ّ الطــور من نشــأتها ،تكــون بلون في هذا ّ والصفــرة ،وعلــى يكــون بيــن البيــاض ّ الســويقة أو ـاق السـ ّ قدر ما يكون انحناء ّ نحــو األرض ،إيهام ـ ًا بغيــر مــا ســتصير إليــه ،يكون لونهــا المائل إلــى االصفرار ال يخفــي خضــرة كامنة. شــك ً وبنــاء علــى هــذا المدلــول ،يكــون ً ْبْنــِد» (األمــر الجنيــن) ،بينمــا ل معنــى «ِي ُ «غْمُبْنــِد» بأنــه (القــول الجنيــن)، يفيــد ُ
أدق وأقرب وهذا المعنى -في تصورناّ - ُّ للعبارتْيــن. إلــى المدلــول االصطالحــي َ وعلــى أســاس ترجيــح بوّنــي ،تكون للمَثل المخصوص ْبْنِد» مصطلح ًا َ عبارة «ِيلُ تتضمن اإليماء، ّها ن أل الموري، ّسان في الل ّ خاصّية المَثل من ّ من ناحية ،إلى ما فــي َ اإللغاز واإلشــكال والخفــاء ،ومن ناحية ثانيــة ،إلــى مــا يمتاز بــه مــن داللــة على الّت ُّ أن الموســي قد يســتعملون كثــفَ .بْيـَـد ّ ِ ِ ْبْند» ،وذلك «غْمُبْند» ً عبارة ُ نيابة عــن «ِيلُ الرغــم مــن أنّهــا عنــده «إنتــاج أكثــر علــى ّ ارتجاالً ،وأسرع إلى الزوال ،وأقرب إلى والقصة أن القول فرد»( ،)9بل يضيف ّ ّ الّت ُّ ـان ضمنية فــي عبارة و«غْمُبْن ـِد» هــي معـ ٍ ُ ِ المَثل ،عند الموسي، أن حتمل ي إذ »؛ د ن ْب ْ ّ َ ُ «ِيلُ قصة ما(،)10 لياً ،يكثّف دالالت ّ كان قو ًال َمَث ّ كل قــول َمثالً) ،كمــا ال يلزم (ليس إ ّال أّنــه ّ كل قول َمَثلي ينشــئه ترســخ الّتقاليــد ّ أن ّ أحــد أفــراد المجتمــع ،ليكــون مث ـاً .إذاً، ْبْن ـِد» ،بموجــب مــا فيهــا ّ يتأكــد لنــا ّ أن «ِيلُ من الّتنبير علــى األمر ،أبعد عــن الذّاتية، وأقرب إلــى البعــد الجماعــي ،وَأ ْو َغل في يؤكــد هــذا ما جــاء عنــد «راي»، الّتجريــد؛ ّ في تقديمــه لمعجــم األمثــال ،مــن أنّنــا لو ـردي يعود إلى فرضنــا ّ المَثل فـ ّ أن مصــدر َ المفكرين والفالســفة فإّنــه يلزم أن إمالء ّ 119
جماعياً()11؛ متواضع ًا واطراده يكون نقله ّ َ ّ يبرر تقييــد مصطلحه ،في ّ ولعل هذا ّ مما ّ كثيــر مــن الّدراســات واألعمــال الحديثــة، «الشعبي». بصفة ّ
مفهوم المَ ثَل عند الموسي للمَثل حقيقة معقّدة ّ يؤكد الّدارسون ّ أن َ ومفهومـ ًا عســير التقييد والحصر بســبب وجود مفاهيــم تقاربه إلى ح ـّد الّتداخل، وتشــاِبُهه إلــى درجــة االلتبــاس ،ومنهــا الحكمة والقــول المأثور .وهذا اإلشــكال بالسعي هو ما حدا ببعضهم إلى الكفاية ّ وتوصلــوا فــي إلــى تمييــزه مــن غيــره، ّ أن جميــع األمثال ،فــي مختلف ذلك إلــى ّ خاصية الثّقافات ،نصوص تشــترك في ّ عامــ ًا أو ّ دالليــة ،هــي كونهــا إســنادًا ّ ا للّتعميــم ،يقـّـرر حقيقــة عقليــة أو قاب ـ ً خلقية( .)12وأضاف بعضهم أنّها عبارة ّ معينة تجارب تعزل ذهنية ات وضعي عن ّ ّ متفردة المَثلي إلى جعلها ّ ليسعى الّتعبير َ أن هذا الّتعبير ينبغي على في مقاماتها. ّ أن يمتاز باإلثبات والوجوب المطلق(.)13 ال وإلى هذا الذي أورده «سيساو» ،نق ً أن األمثــال صيغ عــن «بوّنــي» ،يضيــف ّ مختصــرة مكتنزة ،تقــوم علــى مالحظة اليوميــة ،إلثبات مضامين ما في الحياة ّ إمــا دروس ـ ًا فــي الِقَيــم معياريــة تكــونّ : الخلقية ،أو قواعــد ســلوكية ،أو مبادئ الروحية(.)14 في الحيــاة ّ والمعيار -على حّد عبــارة «كوفين»- كل مــا يمثّــل قاعــدة أو مقياســ ًا هــو ّ يســود ســلوك النّــاس؛ فهــو أنمــوذج ثقافــي ،يعرضــه المجتمــع علــى أفــراده ليتبنّوه ،وهو أنمــوذج ُي َع َّبر عنه ،على ـي ،فــي مقامــات مــن الحيــاة نحــو ضمنـ ّ ـن أو ـر ـ لصغي ـه ـ نبي ت ال ـل ـ مختلفــة ،مث ّ السـ ّ ّ تبريــر قــرار مّت َخــذ فــي أثنــاء النّقــاش. إيجابي ـاً، إمــا ّ ويكــون تعبيــر األنّمــوذج ّ كمــا في نصــح الفتــى ومــدح رجل َح َســن السلوك ،أو يكون تعبيره سلبياً ،مثلما ّ والسخرية(.)15 االمتعاض همهمة تكون ّ يعمــم «كوفيــن» وعلــى هــذا األســاسّ ، الشــفوي غالبا بقولــه إن نصوص األدب ّ 120
معتبرة ما ترشح بمعايير ّ تحث على قيم َ عملي ـ ًا ـور ســلوك ًا ّ فــي المجتمــع؛ أو تصـ ِّ مســتقًى مــن تجربــة الحيــاة( .)16وهــذا المَثــل ببيــان وظيفتــه؛ تقريــب لمفهــوم َ المَثل وهو ما أسهب فيه «راي» إذ ّ أكد ّ أن َ يعبر عن ـل كل َمَثـ وأن ّ ينصــح أو يأمــرّ ، ِّ منطــق الحكــم أو الفعــل و -أحيانـاً -عــن ســلوك منســجم القيمــة مــع نظــام القيــم الغالبــة في المجتمــع؛ ولهــذا كانت نزعة المحافظة ســمة مالزمة لــه ،رغم وجود الصــراع الطبقــي(.)17 ّ وإلــى هــذا المســتوى الوظيفــي فــي مقاربة مفهوم المثل ،يضيف «سيساو» أن موسيقي األمثال تمتاز بالخفاء ،وبإيقاع ّ وأن ـعرية، يجعلهــا بمثابــة نصــوص شـ ّ واالطراد يستند إلى ما ترشيحها لإلرسال ِّ الشعرية فيها من طاقة استحضار الصور ّ متميز(.)18 في إيقاع ،من الموسيقىّ ، وال ّ السمات في عالقة شك في ّ أن هذه ّ استرسال واشتباك مع ما يمكن تصنيفه كل مــن البنيــة ،والّداللة، ضمــن مباحــث ٍّ والوظيفــة .وال يبـّـرر ميــل الّدارســين إلى السمات في هذا المستوى سوى جمع هذه ّ المَثل مــا ّ نصــوا عليه مــن انفــات مفهــوم َ من الّتحديد واســتعصائه على الحصر.
األمثال وأهمّ يّتها عند الموسي لعل مــن المفيد ،قبــل الوقــوف للكالم ّ أهمّية عند ـن ـ م ـال ـ األمث ـه ـ ب تحظى في ما ّ الموســي ،أن نورد نمــاذج مــن المتداول مكتفيــن بترجمتهــا إلــى منهــا عندهــمَ ، ّفظية، العربية دون محاكاة صورهــا الل ّ وال الّتكلّــف ،فــي هــذا المقــام ،بمقاربــة ِقَيمهــا ودالالتهــا ومقامــات قولهــا .وتلك األمثــال مــا هــي: بضـّـم الجــرادة إلــى األخــرى يمتلــئالجــراب. ّ السعي. من خير الل رزق ّ كل إذا بــدا التبــادل عطــاء فليحتفــظ ٌّبمــا لــه. -جــدار المســاء يســتند إلــى جــدار
الصبــاح. ّ يعسر سلخ ما لم َيُمتالر ْجل األخرى ينشأ الشلل. بمخالفة ِّالضــأن الغريــب َفَقْد أخزى عض ّ إذا ّالكلب. الشــبح يدخــل البيــت قبل أن ال تــدع ّتغلــق البــاب. فألن النسوة السوق بسالم ّ إذا فرغت ّكتم َن أسراراً. ْ يزدْد قبحاً. بنفسه يعتز ال من ّ َ الغربييــن إلــى تغيــرت نظــرة ّ ولئــن ّ الســلب ،ومن األمثال ،مــن اإليجــاب إلى ّ اإليديولوجي، الّتقدير إلــى النقد العقلــي ّ أن األمثال ،في البالد فقد َّ أكد الّدارســون ّ الســوق(،)19 اإلســامية ،ال تــزال نافقة ّ وأن معرفتها وحســن توظيفهــا عالمتان ّ على حسن التربية ورفعة المنزلة(.)20 وهذا حكــم ثابت ،يالحظه شــاهد العيان فــي المجتمع الموســي إلى اليــوم .فعلى الرغــم مــن طغيــان النزعــة إلــى تقديــس ّ لغــة المســتعمر واالســتهانة باللّغــات فإن الموسي ظلّوا ،إلى اآلن، الوطنيةّ ، يستمتعون ،في أحاديثهم واحتفاالتهم، بتوظيــف األمثــال واالســتدالل بهــا فــي وخ َطبهم. أقوالهــم ُ ونجد في اإلذاعــات المحلّيــة منذ فجر االستقالل إلى اليوم ،برامج عديدة ُتعنى بإحيــاء التــراث األدبــي لــدى الموســي. وقد اعتمد بعضهــا على تقديــم الحكايات الربــط بينهــا وبيــن ّ الشــعبية وإحــكام ّ األمثــال التــي تختصرهــا فــي أســلوب، ولعل من الحوار الثّنائي ،طريف ممتع. ّ أبرز مــن يمثّل هــذا االّتجــاه «لرلــي نابا- الراحل الذي ّ »Lagle Naaba a Abga وظــل كان شــغوف ًا بروايــة الحكايــات، ّ يمــارس هــذا النّشــاط ،مــن عــام 1967م إلى وفاتــه عــام 1982م(.)21 اإلذاعيــة ،فــي هــذا وأحــدث البرامــج ّ المجـ�ال ،مـ�ا يقّدمـ�ه ِ ابـ�ا Sid� - «سـ�ْد َن َ ،»naabaaفي إذاعته َسفان إف إم (�Sa أيــام ،)vane FMصبــاح ّ كل يــوم مــن ّ العمل األسبوعي .وهو عبارة عن تقديم باحية، مع َّين في مدخل البرامج ّ الص ّ َمَثل َ وتأويله لفائــدة الجمهور المســتمع .وقد أكسبته عنايته بـ«موري» وتراثه األدبي
ـعبي ًة كبيرة ،رفعت شــأنه والفكــري ،شـ ّ لــدى أعيــان البــاد قاطبة. مدونــة ُو ِ ضعــت- ولعــل أقــدم ّ َّ بالفرنســية -ألمثــال مــوري ،كتــاب «دوريــس بوّنــي» ( ،)1982الــذي جمــع سكان «ياتنغا» فيه األمثال المتداولة عند ّ مــن الموســي .وهــو يحتــوي علــى 130 ـدر َج الـّدارس ،فــي تقديمهــا ،من مثـاً ،تـ َّ ّيــة، ل المح األبجديــة مــوز بالر ّ كتابتهــا ّ الحرفيــة ،وصــو ًال إلــى إلــى ترجمتهــا ّ توخــى بوّنــي، ـد ـ وق ـليمة. السـ ّ الترجمــة ّ فــي مقاربــة تلــك األمثــال ،ذكــر معانــي المعجمية قبــل تحليلهــا وبيان مفرداتهــا ّ مقــام اســتعمالها. َ ـف فــي األمثــال ،من ـ ل أ َّ ـن َ ومــن أبــرز َمـ ْ الوطنييــن، الفرانكفونييــن المثقّفيــن ّ ّ والزعيــم الّتقليــدي األديــب المحامــي ّ «فريديــك تيتنغــا باســيريFrédéric - ،»Titinga Pacéréفلــه كتــاب ُن ِشــر سنة 2005م ،تناول فيه حكمة األفارقة الســودان ،مــن خــال عــرض نمــاذج مــن ّ األمثــال واألقــوال المأثــورة. مدونة ُأفـ ِـردت لألمثال، ّ ولعل أحــدث ّ عنــد الموســي ،مــا قّدمــه المحاســب «ويندنميتـ�ي ويدراوغـ�و Windin� - ِ ،»minté Ouédraogoعــام 2014م، بعنــوان «أمثــال مــن بــاد موســي ،جدار الصباح» .وهو المســاء يســتند إلى جدار ّ أولهما مصنَّف يقع فــي مجلّدين ،يتأّلــف ّ مــن 337صفحــة ،والثّانــي مــن 229 صفحة .ويحتوي على َ 1033مَثالً .وعلى توخاه «بوّنــي» ،في دراســته، غرار مــا ّ أّلــف «ويدراوغــو» ،فــي مقاربتــه ،بيــن كتابة األمثال بأبجديــة موري وترجمتها الفرنســية ،قبــل الوقــوف لبيــان داللتهــا وتأويلهــا. عينــة مــن األمثــال واألعمــال: هــذه ِّ تقــرب- ــة، والعلمي ــة، واألدبي الفنّيــة، ّ ّ ّ إلــى حـّد مــا -مــا تحظــى بــه األمثــال من أهمية فــي ثقافة الموســي ،ولدى علماء ّ األنثروبولوجيــا فــي العصــر الحديــث، أهميــة تــزداد مــع تنامــي الوعــي وهــي ّ بالــذات وبالخصوصيــة الثّقافيــة لــدى الشــعوب المتحـّـررة مــن ربقة كثيــر مــن ّ االســتعمار.
الهوامش والمراجع ّية علوم التربية * عميد كلّ المركز الجامعي للتخصصات المتعددة في بوركينا 1 - Cf. Langues gur [en ligne]. htt_ps://fr.wikipedia.org/wiki/Langues gur [consulté le 21 juin 2016]. 2 - Cf. KUBA (R) et al, Histoire du peuplement et relations interethniques au Burkina Faso, éd. Karthala, Paris 2003, p. 1733 3- Cf. Langues et dialectes du burkina faso [ en ligne]. http://www.burkinafaso-cotedazur.org/documents/documents/demographie/listing-languesdialectes.pdf [consulté le 26 juin 2016]. - 4انظــر :كنــدو (وليــاي) ،األلســنة فــي أفريقيا الســوداء ..لغــات أم لهجات؟ ،فــي المجلّة العربيــة للثقافــة ،العــدد ،37ســبتمبر1999 ،م، ص.191-194 : 5 - Cf. BAUMGARDT (U) & DERIVE (J), Littérature orales africaines, perspectives théoriques et méthodologiques, Ed. Karthala, Paris 2008, p. 7. 6 - Cf. SISSAO (A-J), Les proverbes [en ligne]. http:www.bf.refer.org/sissao/html/p2chap15 4.htlm [consulté le 20 janvier 2016].
7 - Cf. BONNET (D), Le proverbe chez les mossi du Yatenga (Haute-Volta), Ed. SELAF, Paris 1982. 8 - Cf. SISSAO (A-J), Op. cit. 9 - BONNET (D), op. cit., p. 34. 10 - Ibid., p. 24. 11 - Cf. REY (A), Préface, In : Dictionnaire de proverbes et dictons, choisis et présentés par Florence MONTREYNAUD, Agnes PIERRON et François SUZZONI, La sagesse du monde entier, Ed. Dictionnaire le Robert, Paris 1989, p. IX. 12 - Ibid., p. X-XI. 13 - Cf. BONNET (D), Op. cit., p. 231. 14 - Cf. SISSAO (A-J), Op. cit. 15 - Cf. CAUVIN (J), Comprendre la parole traditionnelle, Ed. Saint-Paul, 1980, p. 37. 16 - Ibid. 17 - Cf. REY (A), Op. cit. p. XI-XII. 18 - Cf. SISSAO (A-J), Op. cit. 19 - Cf. REY (A), Op. cit. p. XII. 20 - Cf. SISSAO (A-J), Op. cit. 21 - Cf. OUEDRAOGO (A), Le renouveau des contes du Lagle Naaba à la Télévision Nationale du Burkina. [en ligne]. www.letterkunde.up.ac.za/argief/44_1/21%20Ouedraogo_F%2003. ]pdf [consulté le 26 juin 2016 121
معناها ومبناها
«ساراسني»
يف ال ّلغات األوروبية د.طالل عبداللطيف الجسا يقـــرع مســـامع المـــرء فـــي أروقـــة أقســـام الدراســـات اإلســـامية أو االستشـــراقية الواقعـــة فـــي الجامعـــات الغربيـــة مصطلـــح علم ــي خ ــاص حي ــن الحدي ــث ع ــن المس ــلمين أو اإلشـــارة إليهـــم ،لكنـــه غيـــر معـــروف كثيـــرًا فـــي أوســـاط المســـلمين ،أال وهـــو «ساراســـين» (باأللمانيـــة)Sarazenen : و(باإلنجليزيـــة )Saracen :و(بالفرنســـية: .)Sarrasinsوفـــي محاضـــرة بعنـــوان «مدخـــل للدراســـات اإلســـامية فـــي إفريقيـــا» للبروفيســـور (أوســـفالد ( )OBwaldجامعـــة بايروي ــت األلماني ــة) ،س ــمعت ه ــذا المصطل ــح مكـــرر فـــي وصـــف مـــرة وبشـــكل ّ ألول ّ المســـلمين ،وتعجبـــت كثيـــرًا لهـــذه الكلمـــة، ومـــا المقصـــود الدقيـــق منهـــا ،ولمـــاذا ال ُيقـــال مســـلمون ( )Muslimeكمـــا ُيكتـــب فـــي الصحافـــة ويـــرد فـــي وســـائل اإلعـــام! ثـــم هـــل لهـــذه الكلمـــة داللـــة اصطالحيـــة أو توجهـــت معنـــى أكاديمـــي ّ مميـــز آخـــر؟ ثـــم ّ فـــي نهايـــة المحاضـــرة بســـؤال عـــن معنـــى الكلمـــة للدكتـــور المحاضـــر ،فأجابنـــي إجاب ــة س ــريعة ال تش ــفي الغلي ــل بأنه ــا فق ــط تعن ــي المس ــلمين .فق ـ ّـررت البح ــث أكث ــر ع ــن معنـــى هـــذه الكلمـــة وأصلهـــا ،فتجلّـــت لـــي ـان مختلف ـ ٌـة ُتثي ــر الدهش ــة ،وه ــذا م ــا أود مع ـ ٍ توضيحـــه إن شـــاء اهلل. ُيشــ�ير مصطلــ�ح ساراســ�ين« «�Sara »zenenفـــي البدايـــة إلـــى القبائـــل التـــي اس ــتوطنت ش ــمال غ ــرب الجزي ــرة العربي ــة، وه ــذا المصطل ــح الحدي ــث متط ـ ّـور ع ــن الكلم ــة األصليـــة اليونانيـــة « ،»Sarakenoiالتـــي أطلقهـــا أو ًال العالـــم اليونانـــي َب ْطُلْميـــوس (توفـــي 150بعـــد الميـــاد) علـــى قبائـــل األنبـــاط تحديـــداً ،ثـــم اســـتخدم الرومـــان 122
المصطلـــح لإلشـــارة إلـــى ســـكان الصحـــراء فـــي إقليـــم البتـــراء الخاضـــع للدولـــة الرومانيـــة آنـــذاك.
المصطلح يف لغات قديمة وصـــف َب ْطُلْميـــوس قبائـــل األنبـــاط فـــي اليونانيـــة العامـــة (أو الكوينـــه اإلغريقيـــة) بكلمـــة « ،»Sarakenoiثـــم ظهـــرت كلمـــات قريبـــة مـــن وصفـــه ،وذلـــك مثـــل كلمـــة « »Saraceniفـــي الالتينيـــة ،وكلمـــة «�Sar »kayeفـــي الســـريانية ،ثـــم أصبحـــت جميعهـــا -عـــاوة علـــى ذلـــك -ترمـــز إلـــى ُ القبائـــل الرحـــل فـــي شـــبه جزيـــرة ســـيناء من ــذ ع ــام 200إل ــى 400بع ــد المي ــاد ،ف ــي توســـع داللـــي لهـــذا المصطلـــح إشـــارة إلـــى ُّ مــن قبائــل األنبــاط تعيين ـ ًا إلــى قبائــل أخــرى تعيـــش فـــي الصحـــراء ،واللَّواتـــي يجمـــع بينهـــا االرتحـــال وتشـــابه حـــال المعيشـــة فـــي البيـــداء بـــد ًال مـــن المـــدن والقـــرى ،مـــع مالحظـــة أن لغـــة األنبـــاط كانـــت بالتأكيـــد قليـــا أو كثيـــرًا عـــن لغـــة قبائـــل مختلفـــة ً ســـيناء ،وعلـــى الرغـــم مـــن ذلـــك لـــم يمنـــع مـــن اســـتخدام نفـــس المصطلـــح عليهـــم.
إيتيمولوجيا المصطلح يذكـــر الباحـــث األلمانـــي ســـاوتير فـــي كتابـــه (صـــورة اإلســـام فـــي القـــرون الوســـطى) أن مـــن الصعوبـــة تحديـــد أصـــل ومعنــ�ى مصطلــ�ح ساراســ�ين« «�Sara »zenenبدق ــة ،لك ــن من ــذ الق ــرن 18ظه ــرت آراء جديـــرة بالنظـــر ،منهـــا أن أصـــل
المصطل ــح كلم ــة م ــن اللّغ ــة العربي ــةُ ،يش ــار بــ�ه إلــ�ى الشــ�رق ،أي (شــ�رِق ٌي Schar� / ،)qiyunورأي آخـــر جديـــر باالهتمـــام ب ــأن ه ــذا المصطل ــح ق ــد ُيش ــير إل ــى (يع ــرب بـــن قحطـــان) المعـــروف بأبـــي العـــرب، والـــذي منـــه أخـــذوا اســـمهم ،كمـــا تذكـــر بع ــض أخب ــار الع ــرب ف ــي ه ــذا .وم ــن اآلراء كذل ــك ف ــي تحدي ــد معن ــى المصطل ــح ه ــو م ــا يـــراه بعـــض علمـــاء اللّغـــة اليونانيـــة بـــأن كلمـــة « »Sarakenoiفـــي اليونانيـــة تعنـــي (ســـاكني الخيـــام) فـــي إشـــارة واضحـــة جـــدًا للعـــرب ،وعلـــى العكـــس مـــن ذلـــك يذهـــب المستشـــرق األلمانـــي غونتـــر لولنـــغ فـــي كتابـــه (نمـــوذج جديـــد لنشـــأة اإلســـام وتبعاتـــه للوصـــول إلـــى نمـــوذج جديـــد لقص ــة بن ــي إس ــرائيل) بعي ــدًا ف ــي اس ــتنتاجه الـــذي ُيســـفر عـــن طابـــع دينـــي فـــي المقـــام األول ،فيجــ�د أن معنــ�ى مصطلــ�ح« «�Sarak »enoiه ــو «محارب ــو س ــارة» «Bekämpfer »Sarasوأم ــا «س ــارة» المقص ــودة فه ــي زوج النب ــي إبراهي ــم علي ــه الس ــام ،والدلي ــل ال ــذي اســـتند إليـــه فـــي هـــذا هـــو أن الالحقـــة / /kenم ــن الكلم ــة اليوناني ــة «»Sarakenoi مشـــتقة مـــن الفعـــل فـــي اللّغـــة اليونانيـــة العامـــة « »koneinوهـــو بمعنـــى يحـــارب ـــم يعتبـــر كلمـــة « ،»bekämpfenومـــن َث ّ « »Sarakenoiمرادفـــ ًا لكلمـــة «�Hagare ( »noiباأللمانيـــة الحديثـــة)Hagarener : وهـــي بمعنـــى (الهاجرييـــن) نســـبة إلـــى الســـيدة هاجـــر عليهـــا الســـام زوج إبراهيـــم الخلي ــل علي ــه الس ــام الثاني ــة ،والت ــي تش ــير حســـب التـــوراة إلـــى قبائـــل العـــرب ،الذيـــن ُينظـــر إليهـــم علـــى أنهـــم «محاربـــو ســـارة»!
سيميائية المصطلح ل ــم يق ــف معن ــى مصطل ــح «»Sarakenoi يتوس ــع تدريجيــ ًا عن ــد َح ـ ٍّـد ُم ّ عي ــن ،ب ــل أخ ــذ ّ منـــذ ظهـــوره واســـتخدامه فـــي عصـــور مـــا قبـــل اإلســـام ،فاســـُتخِدم أو ًال لإلشـــارة إلـــى قبائـــل األنبـــاط ،ثـــم إلقليـــم البتـــراء بكاملـــه ،ثـــم َش ِ ـــمل قبائـــل ســـيناء ،وبعـــد كل مـــن القديـــس جيـــروم ذلـــك اســـتخدمه ّ إيرونيم ــوس (420م) واألس ــقف يوس ــابيوس القيص ــري (339م) ف ــي اإلش ــارة إل ــى القبائ ــل العربيـــة فـــي شـــمال الجزيـــرة العربيـــة .ثـــم تطـــور هـــذا المصطلـــح كثيـــرًا بعـــد اإلســـام ّ والفتوحـــات اإلســـامية ،وخاصـــة عندمـــا وصـــل واقتحـــم المســـلمون منطقـــة البحـــر المتوســـط عـــام ( ،)700 / 81فقـــد ُاســـتعمل ســـواء فـــي المصـــادر الالتينيـــة أو األدب المســـيحي األوروبـــي علـــى أنـــه مصطلـــح ُيقص ــد ب ــه (اس ــم جماع ــي أو وص ــف جماع ــي لكاف ــة الش ــعوب الت ــي تدي ــن باإلس ــام عربــ ًا الموس ــع ومن ــذ وغي ــر ع ــرب) .وبه ــذا المعن ــى َّ تســـرب وانضـــم عصـــر الحـــروب الصليبيـــة ّ هـــذا المصطلـــح مـــن اليونانيـــة والالتينيـــة إلـــى اللّغـــات األوروبيـــة. والجديـــر ذكـــره أن الكتابـــات والمصـــادر فـــي األدب المســـيحي دأبـــت علـــى اســـتخدام هـــذا المصطلـــح باســـتمرار فـــي وصـــف المســـلمين ،لكـــن لســـبب واحـــد ،أال وهـــو للتحقيــر والحــط مــن قيمــة الشــعوب المســلمة فـــي أصولهـــم ،وذلـــك ألنهـــم وجـــدوا ُكّتـــاب الكنيســـة قبـــل اإلســـام قـــد وصفـــوا قبائـــل الع ــرب الش ــمالية به ــذا المصطل ــح ،كم ــا ج ــاء آنفـــ ًا علـــى ســـبيل المثـــال عنـــد القديســـين جيــروم ويوســابيوس وغيرهمــا ،ألن العــرب
الش ــماليين يرجع ــون ف ــي نس ــبهم إل ــى النب ــي إس ــماعيل علي ــه الس ــام اب ــن الس ــيدة هاج ــر زوج النبـــي إبراهيـــم عليـــه الســـام. وهنـــا وجـــد ُكّتـــاب الكنيســـة بعـــد ظهـــور اإلســـام والفتوحـــات اإلســـامية فـــي هـــذا المصطلــح ضالتهــم فــي الحــرب علــى اإلســام ومحاولـــة تبيانـــه أنـــه ديـــن باطـــل ،والحـــق نـــوع مـــن الضـــال والتلفيـــق، أن مـــا ُذكـــر ٌ عل ــى س ــبيل المث ــال ،فبم ــا أن ه ــذا المصطل ــح ُيشـــير إلـــى (الهاجرييـــن) أبنـــاء إســـماعيل ال ــذي أم ــه هاج ــر والت ــي ف ــي األص ــل جاري ــة، ـــم ليســـت فـــي منزلـــة ســـارة الســـيدة ومـــن َث ّ الح ـّـرة زوج النب ــي إبراهي ــم األول ــى أم إس ــحاق ُ الحقـــاً ،فأصبـــح هـــذا المصطلـــح يختفـــي خلف ــه معني ــان ،األول ش ــعوب الجاري ــة ا َألق ـ ّـل الح ـ ّـرة ،وأم ــا الثان ــي فق ــد مقامــ ًا م ــن الس ــيدة ُ وجـــدوا فقـــرة مـــن تفســـير الرســـول بولـــس للعه ــد القدي ــم ف ــي رس ــالته إل ــى أه ــل غالطي ــة ( ،)31 ،21 :4يؤكـــد المعنـــى األول بقولـــه: اط ـ ِ وابنه ــاَ ،أل َّن ــه َال ي ــرث «انب ــذ أو ْ ـرد الْجاري ـ َـة ْ ُ ْح ـ َّـرة» ث ــم ق ــال «أيه ــا ل ا ـن ـ اب ـع ـ م ـة ـ ْجاري ل ا ـن اب ـ ُ اإلخـــوة ،نحـــن لســـنا أبنـــاء جاريـــة ،بـــل ـــرة» فـــي إشـــارة إلـــى الهاجرييـــن، أبنـــاء ُح ّ فوصــف أبنــاء إســماعيل عليــه الســام بالعبيــد المنبوذيـــن أو المطروديـــن! وألجـــل هذيـــن الســـببين طـــار ُكّتـــاب الكنائـــس فـــي العصـــور الوســـطى بهـــذا المصطلـــح « ،»Sarakenoiواســـتخدموه وصفــ ًا للمس ــلمين من ــذ ظه ــور اإلس ــام لك ــن وت ْجِفيـــل النـــاس عنهـــم، مـــن بـــاب االزدراء َ ألج ــل ذل ــك أصب ــح ه ــذا المصطل ــح خاص ــة منـــذ الحـــروب الصليبيـــة أكثـــر انتشـــارًا فـــي اآلداب واللّغـــات األوروبيـــة ،وســـاح ًا مـــن أس ــلحة الح ــرب للدالل ــة عل ــى رف ــض اإلس ــام (.)Anti-islamischen
باإلضافـــة إلـــى ذلـــك وبجانـــب المعنـــى األصلـــي لهـــذا المصطلـــح ســـواء العرقـــي أو الدينـــي حيـــن اإلشـــارة إلـــى العـــرب والشـــعوب اإلســـامية فـــي األدب والكتابـــات تطـــو ٌر المســـيحية كمـــا جـــاء آنفـــاًُ ،و ِجـــد ّ داللـــي آخـــر لهـــذا المصطلـــح خـــال فتـــرة ٌ القـــرون الوســـطى ،فمـــن ذلـــك أنـــه قـــد ُاســـتخدم أيضـــ ًا فـــي ســـياق اإلشـــارة إلـــى شـــيء (وثنـــي) أو بشـــكل عـــام (غريـــب)، وذلـــك ألنـــه قـــد ورد فـــي ســـياقات قديمـــة بعـــد انتشـــار المســـيحية وســـقوط الوثنيـــة ف ــي أوروب ــا ُمش ــيرًا إل ــى المبان ــي واألط ــال الرومانيـــة القديمـــة ،التـــي ُوصفـــت بأنهـــا ـــم وافـــق هـــذا « ،»sarazenischومـــن َث ّ المعنـــى هـــوى عنـــد بعـــض ُكّتـــاب القـــرون الوســـطى لوصـــف المســـلمين علـــى أنهـــم وثنيـــون وغربـــاء عـــن الديـــن الحـــق ،فتـــم اس ــتخدامه أيضــ ًا به ــذا المعن ــى .إل ــى جان ــب المؤرخيـــن األلمـــان ذلـــك يوضـــح بعـــض ّ أن مصطلـــح « -»Sarakenoiالـــذي الزلنـــا عينـــة فـــي صـــدده -قـــد أتـــى فـــي ســـياقات ُم ّ حامـــا معانـــي مجازيـــة خـــال تلـــك الفتـــرة ً «كالظ ــام ،والل ــون األس ــود والبش ــرة الداكن ــة والغجـــر». أمـــا فـــي الوقـــت الحاضـــر -وفـــق مالحظتـــي -فأصبـــح هـــذا المصطلـــح محصـــورًا فـــي اإلطـــار األكاديمـــي البحـــت (كتـــب أو محاضـــرات) وال ُيســـتخدم وصفـــ ًا للمســـلمين فـــي وســـائل اإلعـــام ومـــع الجمهـــور ،وذلـــك لعـــدم
الحاجـــة إليـــه كمـــا كان فـــي القـــرون الوســـطى،
لذلـــك فـــا عجـــب حينمـــا نســـمعه فـــي الجامعـــات
والمحاضـــرات فقـــط ألنـــه أتـــي مـــن المـــدارس ـــم كان هـــذا المصطلـــح مـــن الكنســـية ،ومـــن َث ّ واســـتمر القديـــم ُيســـتخدم فـــي مجـــال التدريـــس ّ إلـــى اآلن داخـــل هـــذا المحيـــط. 123
معارض
معرض استعادي ألعمال
«جياكوميتي» ألغاز ما يختفي من الجسم
متوسطي» ( ،)2015يحتضن متحف محمد السادس بعد معرض «سيزار ..شغف ّ لل َ ن الحديث والمعاصر ،في الرباط ،أعمال الفنان «ألبيرتو جياكوميتي» ف ّ مؤسسة «ألبيرتو وآنيت إلى غاية 04سبتمبر/أيلول ،2016 ،وذلك بتعاون مع ّ جياكوميتي» (سويسرا) ،تحت إشراف «كاترين جريني» ،وبمساعدة «سرينا بوكالو موسيلي» .ويمنح هذا المعرض ،االستيعادي وغير المسبوق، وموضوعاتي ،يق ِّدم مختلف مالمح اإلنتاج زمني للمشاهد ،معاينة مسار ّ ّ ال َ الرئيسة للفكر اإلبداعي للفنان، فنّي لـ«جياكوميتي» ،بتناول الموضوعات َ من خالل 46منحوتة ،و 19لوحة ،و 30رسم ًا ،كما جاء في بالغ المتحف. الرباط -بنيونس عميروش ُوِل�د «ألبيرت�و جياكوميت�ي Alber� - ( »to Giacomettiسويسـري ،مـن أصل إيطالي) في مدينة ستامبا ،في سويسرا .)1966 - 1901( :درس في مدرسـة الفنـون الجميلـة فـي جنيف، الرسـام المعروف وبتأثيـر مـن والده ّ «جيوفاني جياكوميتي» ،وجد نفسـه سن مبكرة؛ ما دفعه مولع ًا َ بالفّن في ّ لإلقامـة في باريس ،في عامه الواحد إبـان الفتـرة التي تفصل والعشـرينّ ، الحربيـن ،الفتـرة التـي انتشـرت فيها والتيـارات اإلبداعيـة الجديـدة األفـكار ّ في العاصمة الفرنسية التي استقطبت المفكريـن واألدبـاء والفنّانيـن، كبـار ِّ مـن مختلـف بقـاع العالـم ،حينها .في بالتوجه بدايـة- هـذه األجـواء ،تأثَّر- ً ُّ رائدْيـه: بحماسـة التكعيبـي المدفـوع َ
جـورج بـراك ،وبابلـو بيكاسـو. لكـن سـرعان مـا َس ُـتْلِفت إبداعـات «جياكوميتـي» أنظـار السـرياليين لينضـم إليهـم فـي ،1929بعـد لقائـه َّ بـكل مـن :أندريـه بروتـون ،ولويـس ٍّ أراغـون ،وبـول إيلـوار ،وماكـس إرنسـت ،ليلقـى نصيبـه من الشـهرة، فـي بدايـة ثالثينيات القـرن الماضي. غيـر أن إصـراره على اعتماد الموديل ـي) فـي إنجـاز أعمالـه النحتيـة، َ (الح ّ كتوجـه بحثـي ،سـيضعه فـي موقف ُّ يمجدون ُم ِ فارق مع السرياليين الذين ِّ سـيْب ِعده ما الباطن؛ والعقل الالوعي ُ عـن دائـرة الضـوء ،إذ ظلّـت المـرأة، فـي منحوتاتـه ،ال تتعـّدى َمْرِئ َّيتهـا الجسـدية ،فيمـا تنحـدر إلـى أبسـط ّ التعبيـرات الجسـدية الموصولـة بالتصغيـر والتكثيـف. بالرغـم مـن محـاوالت االنتمـاء إلـى
هـذه الجماعـة أو تلـك ،ظلّـت أعمـال «جياكوميتـي» بعيـدة عـن األنمـاط حطـت قدمـاه األكاديميـة ،منـذ أن َّ اتسـمت باختزاليـة باريـس ،فيمـا َّ تعبيرية ،تشـي بآالم الحرب وأهوال المـوت .لعلّهـا الحمولـة المأسـاوية التـي تماهـت مـع مبـادئ السـريالية التـي رأت فيهـا دوافـع البحـث عـن األسـرار الدفينـة لـدى اإلنسـان. لكـن ،فـي تجـاوز هـذه الخطـوة مـع السـرياليين ،سـيحفر «جياكوميتـي» ّ أي عميقـ ًا فـي الدواخـل ،بعيـدًا عـن ّ تأثيـر ،إلـى أن صـار يمثِّـل األنمـوذج األمثـل ،بالنسـبة إلـى فلسـفة سـارتر الوجوديـة ،فـي الحيـن الـذي تترجـم فيـه أعمالـه آالم التجربـة اإلنسـانية المشـدودة بعـبء الهمـوم الوجودية، ثمة َكَت َب «سارتر»« :كيف يرسم ومن ّ جياكوميتـي الفـراغ؟ يبـدو ّأل أحـد 125
قبلـه حـاول ذلـك .منـذ خمسـين سـنة، تتفجـر اللوحـات بسـبب امتالئهـا، تـكاد َّ بالقـوة .مـن الشـمول، إدخـال ـم ت وفيهـا َ ّ َّ قماش اللوحات يبدأ جياكوميتي بتقشير خاص ًـة أن أعمالـه الالحقـة قـد العالـم»ّ . أتت بسحنات منخورة ،وأجسام طويلة، شـبيهة بأشباح مسلوخة ،بينما صمتها الحـاد يعكـس الحالة العبثية للفرد تجاه ّ حتميـة المـوت والفنـاء. في ممارسته التشكيليةَ ،ظّل «جياكوميتي» يتأرجـح بيـن التصويـر الصباغـيLa - ،peintureوالنحـت ،كمـا اشـتغل بفنـون الطباعـة والكتابـة ،بغرض تنفيذ الفنّي الذي يتمحور على «صورة» تصوره َ ُّ اإلنسان ،في انكساراته وانمساخاته تجاه سـؤال الوجـود ،بأبعـاده النفسـية ،التي طالما عمل على استنباط الملمح البصري الكامن فيها .وإذا كان إصراره على االستناد إلـى الموديـل (أخـوه دييغـو ،ورفيقتـه آنيـت ،علـى وجه الخصـوص) ،فإن ذلك الوِفـي، لـم يكـن بهـدف المحـاكاة والنقـل َ بـل مـن أجـل البحـث الحثيـث عـن تمديـد المسـافة بين الواقع المرئي كما تسـتقبله العين في المحيط الخارجي ،وعن جوهر الفنّي الذي يريده محمو ًال بالحقيقة العمل َ ِّق في القابعة في درجة المغايرة التي ُوف َ إبرازها ،بوعي أو بدون وعي ،في ُخ َّطة االنتقـال المتكامـل بيـن الرسـم والنحـت، 126
قصديـة تصغيـر الجنس ْـين لنجـد فـي ِكال ّ َ الـرأس ،حيـث تصيـر األطـراف األخـرى، في تصويره ،عريضة في ِّاتجاه األسفل، الح ْجمية، مثلما َّ يتجسد التفخيم في ِق َطعه َ ثمة، من .Socle القاعدة- تكبير على بناء ً ّ مجسـماته ،كما في َّ تشـكلت المغايـرة في َّ لوحاته الزيتية ،التي غالب ًا ما استغورت تشكيلية Plasticitéالموديل بكامله ،في وضعية الجلوس بمالبسه ،بألوان بعيدة كل البعد عن أصلها وصفائها ،عن طريق ّ خلطـة «ارتجاليـة» ،غيـر أنهـا موزونـة بتلقائيـة نابعـة مـن ذات محمومـة ،ال تبصم ّإل الرماد (ألوان رماديةDes gris - :colorésالبنّي ،الرمادي ،األسود،)... خطّية عنيفة فيما يكتمل التعبير بلمسات ّ ُتعيد رسـم تقاطيـع البورتريه وتفاصيل سو ،إلى أن يختلط الموضوع ِ المْك ّ الجسم َ بالخلفية .Le fond -وفي مقابل التركيز على الوجه ،بوصفه «العالمة األيقونية» هوية البدن وسـرائره ،فإن التـي تعكـس ّ الح ْجميـة تقـوم علـى التعريـة أعمالـه َ والسـلخ ،كأن األمـر يتعلَّـق بالنفـاذ إلـى اللمرئيـة في الجسـد ،الجوانب الجوانـب َّ التـي تصيـر قابلـة لإلبصـار عبـر إخضاع الموديـل للتشـذير واالختـزال ،كمـا فـي خاصة)؛ إذ أعماله المعدنية( ،البرونزية ّ تّتسم هذه القطع بتكثيف يجعلها في غاية تارة ،بينما تـروم التحلِّي بدرجة الصغـر ً َ
«مبالغـة» مـن حيـث الطـول (فـي حـدود تـارة حـاد مـن النحافـة ً ِمْتَرْيـن) ،وبقـدر ّ أخـرى .فيمـا تفيـض هياكلـه بـ«الحياة»، ـاءة الم َّش َ في الوقت الذي نجد فيه كائناته َ معلنـة عن عريها تحتفـظ بـدوام الحركة، ً السـرمدي ،فـي ِّاتجـاه التعبيـر عـن قلـق اإلنسـان المعاصـر؛ القلـق نفسـه الـذي ليتبـوأ يوجـه الفنّـان «جياكوميتـي» َظ ّ َّ ـل ِّ النحاتين المعاصرين دائرة داخل مكانته ّ العالمييـن ،مـن مثـل :بيكاسـو ،وكالـدر، ِّ ويتمكـن مـن وهنـري مـور ...وغيرهـم، َّ إحراز «الجائزة الكبرى للنحت» في دورة ،1962لبينالـي البندقية. الفّن وناقده «إدوارد لوسـي مؤرخ َ يشـير ِّ سـميث» إلـى أن السويسـري «ألبيرتـو جياكوميتـي» ،واإلنجليـزي «هنري مور» النحاتيـن البارزين في مـن بيـن الفنّانيـن ّ فتـرة مـا بعد الحـرب في أوروبـا ،غير أن خاص ،مضيف ًا األول يقف وحده في موقع ّ َّ وبقوة ً، ا سريالي ا ّان ن ف بدأ «جياكوميتي» أن ً ّ موهبته صنع من نفسـه شـخصية بارزة ّية ،في الثالثينيات ،إذ نجد في الحركة َ الفنّ أعما ًال من أعماله مثل «القصر في الرابعة صباحـاً» ،و«امـرأة مذبوحـة» ،مـا زالـت أدى قوتها األصلية من َ الفّن ،وقد ّ تسـتمّد ّ (الرد فعلي) إلى خروجه من زمرة نشاطه ّ يعرض أن يحاول فلم السـريالية، فنّاني ِّ يؤكـد أن أعمالـه ّإل فـي عـام .1948فيمـا ِّ
الفنّي بدأ -بالفعل -سنة ،1940 مشواره َ مـع توقُّفـه عـن اعتمـاد الموديـل ،تـارك ًا وصفـ ًا لذلـك ،حينما علَّـق «جياكوميتي» قائلا« :مـا أثار رعبي أن األعمال النحتية ً بدأت تصغر وتصغر ،وعندما حدث ذلك، فقط ،وأثارت هذه األبعاد المتماثلة الثورة مـر ًة ثانية، فـي داخلـي ،وبـدأت بلا كلل ّ انتهـى األمـر بعـد أشـهر قالئـل؛ فقـد بـدا إلي زائفاً ،والعمل العمل الكبير -بالنسبة َّ الصغير ال يمكن التسامح معه أيضاً ،حتى أصبحـت األعمـال صغيـرة -فـي الغالـب- بالسكين تختفي ضربة واحدة لدرجة أن ً ّ معها األعمال ،ويواريها التراب» .في حين، يوضح «إدوارد لوسـي سـميث» أن ردود أفعال «جياكوميتي» تثرى عند استكشاف الصور المخفّفة ،من خالل مجال النحت، عندما أصبحت بعض األفكار الرئيسة لمبدأ الوجوديـة حقيقـة ،فـكان علـى وعـي بها منـذ أن أصبـح «جياكوميتـي» ،و«جـون مقرَبْيـن ،وإحدى بـول سـارتر» َ صديقْين َّ الطـرق فـي النظـر إلـى الوجوديـة هي أن نراهـا امتـدادًا للسـريالية ،ورفضـ ًا لهـا، في الوقت نفسـه ،إذ ما كان مشـترك ًا بين السـريالية والوجوديـة هـو التركيـز الذي تضعـه هـذه األخيـرة علـى الموضوعية، بينمـا االختلاف بينهمـا يتمثَّـل فـي أن تركـز علـى الفكـرة ،المرتبطة الوجوديـة ِّ بالواقـع ،فحسـب ،بـل فكرة المسـؤولين تجـاه الواقـع ،برغـم مـا يبـدو مـن عـدم سـهولة فهم ذلك(.)1 فـي ارتباطهـا بمبـدأ الوجوديـة ،ضاعفت منحوتـات «جياكوميتـي» مـن وحدتهـا وصمتها ،لترسم فلسفة القلق الذي يثيره وجـود اإلنسـان فـي العالـم والحيـاة؛ مـا للتأمـل والمسـاءلة مـن جعلهـا موضوعـ ًا ُّ والمفكريـن؛ ومـن لـدن كبـار الكّتـاب ِّ ثمـة وصفهـا «روجيـه غـارودي» ّ ّية أهم النمـاذج َ الفنّ بكونهـا «إحدى ّ فـي عالمنـا المعاصـر ،حيـث ال يمكـن فصـل التجربـة الداخلية والعالـم المحسـوس ،فهـو يصل ،باالثنين ،إلى تلك التجربـة العظيمـة التي تكون قادرة على عزل العديـد مـن التجارب عـن اإلنسـانية ِ وغدها ،على ذاكرتها َ النحو التالي» .بينما
خصـص لهـا «جـون جونيـه» كتابـ ًا تحـت َّ والم َؤلَّـف عنـوان «مرسـم جياكوميتـي»ُ . مطولة حول مفاهيم عبـارة عـن حواريـة َّ ّ ـن ،واألدب ،والجمال ،والخيال ،وهو َ الف ّ نتـاج لفتـرة ،قضاهـا جونيـه فـي مرسـم صديقـه الفنّان «جياكوميتي» ،الذي يرى ـن يشـاركونه ـن أجـل َم ْ أنـه ال يشـتغل َم ْ الحقبـة الزمنيـة نفسـها ،وال مـن أجـل األجيال القادمة ،بل يصنع تماثيل تروق األمـوات أخيـراً ،كمـا يـرى أن أعمالـه تمـّد كل كائن عالـم األمـوات بمعرفة وحدانيـة ّ وحدانيتنا هذه وكل شيء ،وتخبرهم أن ّ َّ هي مجدنا األوكد .في الكتاب ذاته ،يقول «جون جونيه»« :ليس للجمال مصدر غير الجـرح ،في صورته الفريدة والمختلفة، المخفـي كل واحـد ،الجـرح بالنسـبة إلـى ّ ّ كل أو الجـرح المرئـي ،الـذي يحتفـظ بـه ّ ّ إنسان في داخله ،يرعاه ،ويلجأ إليه كلَّما أراد االنسـحاب مـن العالـم ،لالرتمـاء في وحدة مؤقَّتة ،لكنها عميقة .وهكذا ،نرى عما أننا -في هذا الصدد -بعيدون ّ كل البعد ّ ففّن «جياكوميتي» الفّن البؤسويَ . يسمى َ ّ يبـدو لـي كأنـه يسـعى إلى اكتشـاف ذلك كل كل كائن ،بل في ّ الجـرح الدفيـن داخـل ّ يغيـر إشـعاع منـه شـيء ،حتـى ينبعـث ِّ الكائـن أو الشـيء» .ويضيـف «جونيـه»، في سـياق آخر« :يسـتأنف المشي (يقصد «جياكوميتـي») وهـو يعـرج .قـال لي إنه أيما سعادة ،عندما علم ،على كان سعيدًا َّ إثـر عمليـة جراحيـة ،بعـد حـادث ،أنـه سـيصبح أعـرج .لهـذا السـبب سـأجازف بمـا يأتـي :تماثيله ال تـزال تبدو لي كأنها تلتجـئ ،فـي نهايـة المطـاف ،إلـى عاهـة سرّية ،لست أدري ما هي طبيعتها ،وهي ّ
التـي تمنحنا الوحدانيـة»(.)2 هكـذا ،تبـدو شـخوص «جياكوميتـي» عاكسة حاملة أقصى األلغاز في هزالتها، ً ضروب ّ الشك التي الزمته طوال حياته، ّ الشـك الـذي لـم يدعـه فـي مأمـن تجـاه ما الحّد الذي لم يكن ِ يك ُّل فيه من إلى ينتجه، َ المتعددة والمسترسـلة، تنفيـذ اإلعـادات ِّ فـي الرسـم والنحـت؛ لقناعتـه بكـون اإلنسـان يكتمـل بالفشـل واإلخفـاق ،ال أصـر علـى ديمومـة بالنجـاح؛ ولذلـك َّ ِ محترفـه ،وسـط كائناتـه اإلقامـة فـي َ بقديـد العضلات، ِّ المتحلَلـة والمفتولـة َ مـع بقايـا الجبـص والغبـار ،الـذي طالما نبَـه زوجتـه «آنيـت» ّ بـأل تقـوم بمسـحه َّ قدسـية مـن فـوق الـرؤوس ،ألنـه يولـي ّ للمـادة ،مهمـا كانـت طبيعتهـا. خاصـة ّ ّ يبـرر -أيضـاً -عـدم اسـتمتاعه مـا وهـذا ّ ـل قابعـ ًا بملـذّات الشـهرة ونعيمهـا ،إذ َظ ّ في َم ْعَمِله إلى األيام األخيرة من رحيله، معملـه المتواضـع الموجـود فـي شـارع َ مظلـم ومفعـم بالرطوبـة ،حيـث «طاولة الرسـم علـى زجاجـات البنزيـن القديمة، والغرفـة مزدانـة ببلاط أحمـر ،وسـرير حيـزًا مـن الغرفة؛ هـذه الغرفة هي يأخـذ ّ حياته ومرسمه» ،على َحّد وصف «جون جونيـه» .عـاش زاهدًا في الحياة ،يتنقّل جاعلا مـن هـذه دراجتـه العتيقـة، ً علـى ّ للسـمو نحو بلوغ التحليق آية البسـاطة ً ّ الروحي ،واستدراك حاالت الصفاء التي تقربنـا مـن مقولتـه المأثـورة« :لـو رأيت ِّ بيت ًا تلتهمه النيران ،سأعمل على اقتحام تتعـرض للحريق، قطـة قد نيرانـه ألنقـد ّ ّ بـدل إنقـاذ لوحـة للفنّـان «رامراند»». هوامش:
ّيـة منـذ ( )1إدوارد لوسـي سـميث ،الحـركات َ الفنّ ،1945ترجمـة أشـرف رفيـق عفيفـي ،المشـروع القومـي للترجمـة والمجلـس القومـي للثّقافـة، ،1997ص.134 - 131 : ( )2جـون جونيـه« ،محتـرف ألبيرتـو جياكوميتي» ،ترجمة علي تيزلكاد ،مجلّة الثّقافة المغربية ،ع ،21 - 20فبراير/ شـباط ،2003ص.144 - 135 : جـون جونيـه «مرسـم ألبرتـوجياكوميتـي».)1957( ، Jean Genet, l’Atelierd’Alberto Giacometti, Photographie d’Ernest Scheidegger, Editeur : M.Barbezat, .1 9 6 3
127
النحات «ينس غاليشيوت» ،ساحة البرلمان ،كوبنهاغن /الدنمارك .منظر عام منحوتة «أمر ال يطاق»ّ ،2015 /
تأثيث المدينة دفاع ًا عن اإلنسانية د .خالد السلطاين معامر وأكادميي تتبّدل المفاهيم الحضرية للمدن المعاصرة، وتتبدل معها نوعية «أثاثها» ،تلك العناصر المشـكلة لمعنـى حاضرتهـا والمسـاهمة، ِّ بالوقـت نفسـه ،فـي تكريـس جماليـة ثمة المدينة ،وزيادة قيمتها االسـتطيقيةّ . قرارات تخطيطية عديدة ومختلفة ،يتواجد حضورهـا فـي المدينـة ،مهمتهـا تنظيـم الفضاءات الخارجية في المدن ،في مسعى إلكساب المدينة طابع ًا ُمعيناً ،ينطوي على قيمـة جماليـة عاليـة .وعـادة مـا يسـهم، ّيـة المتعّددة، أيضـاً ،حضـور األعمـال َ الفنّ فـي إثـراء البيئـة الحضرية؛ كجزء مهم من تشـكل مفهومـ ًا حضريـ ًا مجموعـة عناصـر ّ خاصاً ،يدعى بـ«أثاث المدينة» ،والذي ُقّدر عاملا لـه أن يكـون مـع الناتـج المعمـاري ً ومقوم ًا لخلق مفهوم «المدينة -الحاضرة». ّ ومثلما يعاني «زماننا» ،من مشاكل عديدة، فإن تأثيراتها على «مكاننا» سيكون واضح ًا عـل جدليـة «الزمـان والمـكان» وفعـاالً .وَل ّ ّ األزليـة ،وتبـادل تأثيراتها ،هو الذي يجعل من مشـاكل المناخ الحالية ،ذات نفوذ قوي على القضايا الحضرية البيئية ،بل ويجعل منها بمنزلة التحدي األكبر الذي يواجه مصائر 128
فعا ًال على المـدن ومسـتقبلها ،مؤثِّرًا تأثيـرًا ّ سكان المدن وعلى نوعية أسلوب حياتهم. النحـات الدنماركي مـن هذا المنطلق يسـعى ّ «ين�س غاليش�يوت»( (Jens Gals� )1954 سـمى «أمر ال الم ّ ،chiøtوراء عمله النحتي ُ يطـاق» ،Unbearableوالمصنف كعنصر من عناصر «أثاث المدينة» إلى تحذيرنا ولفت انتباه أنظارنا ،لما يمكن أن تكون تأثيرات التغيير المناخي السلبية على مدننا وبيئتنا. ُي َعـّد «ينـس غاليشـيوت» ،المثيـر للجـدل، مـن أكثـر الفنانيـن الدنماركييـن شـهرة سـواء فـي بلـده أم خارجـه .وهـو يميـل إلـى جعـل منحوتاتـه ذات تأثيـر نافـذ وحاسـم علـى المتلقّـي ،هـو المولـود فـي مدينة «فردريسـكون» فـي جزيرة «زيالند» ثاني أكبر جزر مملكة الدنمارك .وقد تأهل دراسـي ًا فـي أحـد المعاهـد المهنيـة ليكـون «حـداداً» ،غيـر أنـه تعلَّـم ذاتيـ ًا االشـتغال على صياغة الفضة ،وتعلَّم ذاتياً ،أيضاً، النحـت .يسـكن اآلن مدينـة «أودنسـا» فـي وسـط الدنمـارك منـذ عـام ،1978حيـث افتتـح اسـتوديو ضخمـ ًا سـنة ،1985 بمسـاحة تقـّدر بحوالـي 2000متر مربع،
تشـمل مصهرًا (مسـبكاً) للنحاس ،وورش عمـل ،وغاليـري َفنّيـاً ،باإلضافـة إلـى «حديقـة نحتيـة» .وهـو معـروف بأعمالـه ذات األشكال العضوية والطبيعية .ووفقاً، لبعض الدراسات ،فإنه متأثِّر كثيرًا بأعمال المعمـار اإلسـباني «أنطونيـو غـاودي» ( ،)1926 - 1852وكذلك بأعمال مناصري تيـار «اآلر نوفـو» .Art Nouveau ّية ن ف يمـارس «ينس غاليشـيوت» مجاالت َ ّ متعـّددة ،بـدءًا من المشـغوالت الدقيقة في الحلـي والمجوهـرات ،مـرورًا باألعمـال النحتيـة الصغيـرة ،وصـو ًال إلـى إنتـاج قطع نحتية ضخمة ،عادة ،ما تكون ذات صبغة نقدية الفتة .وهو معروف في بلدان عديـدة ،خصوصـ ًا التـي عـرض فيها مثل: المكسيك ،هونغ كونغ ،إسبانيا ،ألمانيا أسـس «ينـس والواليـات المتحـدة .كمـا ّ غاليشـيوت» ،منظمـة خاصـة بـه دعاهـا «الفّن دفاع ًا عن اإلنسانية»( (�Art In De َ fence Of Humanism (AIDOHمنتج ًا منحوتات «مدينية» ذات طابع احتجاجي، فضلا عـن أعمالـه ضمـن مـا يعـرف اآلن ً بـ«الفّن التجهيزي» أو «التركيبي » �Art In َ
، stallationوالتـي يمكـن أن تشـاهد في مـدن العالـم المختلفـة .وعـادة مـا ُيوصف أهـم فنّاني «ينـس غاليشـيوت» كواحد من ّ يوظف مـا بعـد الحداثة الدنماركييـن .وهو ّ األحـداث العالميـة ليسـلّط الضـوء َفنّيـ ًا (وخصوص ًا نحتياً) على االختالالت القائمة وعـدم التوازن السـائد فـي عالمنا. أثـارت منحوتتـه ،المصنفـة ،أيضـاً ،مـن ضمن مفردات «أثاث المدينة» ،والتي دعاها «البقاء لألصلح» ،جد ًال واسع ًا في األوساط ض ْت ألول مرة َ الفنّية الدنماركية ،عندما ُعِر َ سـنة ،2002بالقـرب مـن «أيقونـة» مدينة كوبنهاغن الشـهيرة «الحوريـة الصغيرة»، ليمعـن فـي اسـتثمار التضـاد الجمالـي بين المنحوتتين وموضوعهما المختلف ،لجهة جعل ذلك التضاد يعمل كجهد إضافي لتبيان حولها منحوتة يـروج لها .وقد ّ فكرتـه التي ِّ نحاسـية ترمـز للتوزيـع غيـر المتـوازن للموارد العالمية؛ ارتفاعها يبلغ 3.5متر، علـى شـكل امـرأة بدينـة (ترمـز إلـى العالـم الغربـي) ،تجلـس على أكتاف رجل إفريقي جائـع (يرمـز إلـى العالـم الثالـث) .تمسـك المـرأة البدينـة ميزانـ ًا فـي يدهـا ،كناية عن «العدالـة» ،وهـي تغلق عينيها ،تعبيرًا عن «استقامتها» ،و«ورعها» ،و«إنصافها» لذلك فهـي تـرى الظلم الفـادح! وتبعث المنحوتة رسالة مفادها بأن القسم الغني من العالم، المفـرط فـي سـمنته واسـتهالكه ،يسـتغل التوزيع غير المتوازن للموارد ،مبقي ًا معظم يتضورون جوعاً. النـاس في العالم الثالث ّ أمـا منحوتته المشـهورة والمسـماة «أمر ال ض ْت مرة بمناسبة انعقاد يطاق» ،التي ُعِر َ مؤتمـر المنـاخ العالمـي ،فـي ديسـمبر/ كانـون األول ،2015بمنطقـة «المدينـة
الجامعيـة» Cite Universitaireفـي ض ْت مؤخرًا في العاصمة الفرنسية ،ثم ُعِر َ إبريل/نيسـان ،2016في كوبنهاغن ،في سـاحة البرلمـان الدنماركـي ،فإنها ُتعّد من عـول الفنـان عليها كثيرًا المنحوتـات التـي ّ فـي تكريـس مبـادئ وقيـم منظمتـه التـي أسسها .إذ ترمز هذه المنحوتة إلى ما يمكن ّ أن يحدثـه النشـاط اإلنسـاني مـن سـلبيات علـى المنـاخ العالمي ،وتنبه المجتمع إلى مسـؤوليته تجـاه األجيـال القادمة. تصـور المنحوتـة ُدبـ ًا قطبيـ ًا فـي الحجـم ّ الطبيعـي «مخـزوق» بواسـطة أنبـوب حديدي ،على ارتفاع ستة أمتار .ويعترف الفنان ،بأن منحوتته تبدو للوهلة األولى مضحكة وربما حمقاء .وقد تثير أحاسيس آن معاً .لكن المرء تراجيديـة كوميديـة فـي ٍ مـا أن يـدرك سـريع ًا بـأن الـدب القطبـي يعبر شكله «مخزوق» بذاك األنبوب ،الذي ّ عـن «خـط بيانـي» يرصـد مقـدار انبعـاث الكاربـون أثنـاء اسـتخراج الوقـود وحجـم ذلـك االنبعاث جراء االسـتهالك البشـري، عنـد ذاك ،قـد يتبنـى رسـالة الفنـان ويفهم حجـم اإلشـكالية المثـارة .وبهـذا التكثيـف تعبـر عنـه تلـك المنحوتـة، الرمـزي الـذي ّ فـإن «ينـس غاليشـيوت» ،يـود أن يصـل إلـى نتيجـة مفادهـا بأن كثيرًا مـن الناس، يعتقـدون بأننـا علـى الطريـق الصحيـح لجهة اهتمامنا ومناشدتنا في إيجاد حلول لمشـاكل المناخ .كما أننا ،وهذا هو المهم، سـوف لـن يكـون بمقدورنـا تحقّيـق تلـك نغير من أسـاليبنا ...اآلن! األهداف ،ما لم ّ جسد شكل األنبوب ،كما أشرنا« ،مخططاً» ُي ّ لرسـم بيانـي يرمـز إلى انبعـاث الكاربون. ففي السنة «صفر» من التقويم اإلنساني كان
االنبعاث صفراً ،واستمر كذلك لحين سنة ،1850عندما بدأ االنبعاث باالرتفاع .ولهذا فإن خط األنبوب الحديدي الذي ُق ِّدَر طوله بـ 20متراًَ ،ظّل مسـتوي ًا وموازي ًا إلى سـطح األرض ،لحين حلول سنة ،1850حيث بدأ فـي االرتفاع ،تماشـي ًا مع حجم االنبعاثات الكاربونية ،منهي ًا شـكله على ارتفاع سـتة أمتار« ،خازقاً» جسد الدب القطبي! يجتمـع كثر مـن الناس حول منحوتة «أمر ال يطاق» للفنان الدنماركي ما بعد الحداثي. يجتمعـون ويناقشـون تلـك القضايـا التـي تثيرهـا موضوعـة المنحوتـة التـي سـعى الفنـان إلـى إيصـال صوتـه وصـوت مؤسسـته المدافعة عن القضايا اإلنسـانية ّ ال يطمـح هنـا مـن ً. ا َفنّيـ الفنّـان ،مسـتغ ً َ خصوصية موقع السـاحة وقربها من أهم مؤسسـة ديموقراطيـة عريقـة فـي البلاد، ّ الفّن المعاصر قادر بأن أنظارنا، لفت إلى َ على بعث رسائل ذات أهداف متعّددة ،وفي الوقـت ذاتـه ،يمكن لمتلقيها أن يمعنوا في التقصـي عـن تفسـيرات وتأويلات ذاتيـة ّ للحـدث الدراماتيكـي المرئـي .لكـن مـا تظهـره منحوتة «الـدب القطبي المخزوق» مميـزة لمفهـوم فـي األعالـي ،مـن إضافـة ّ «أثـاث المدينـة» المعاصـرة ،ومـا تضفيـه مـن مسـحة جماليـة إلـى موقـع الفضـاء الـذي تشـغله ،تجعلـه قـادرًا مـع العناصر المشكلة لذلك «األثاث»، الحضرية األخرى ّ علـى اصطبـاغ بيئة المدينة بطابع جمالي خـاص ،يسـهم فـي تكريـس خصوصيتهـا ويرفـع مـن قيمتهـا «المدينيـة» عالياً. 129
سينما
130
رحيل عباس كيارستمي
شاعر السينما اإليرانية
يوليو/تموز تلقَّت األوســاط الثقافية فــي إيران والعالم في الرابــع من ّ بالغــة برحيــل المخــرج الســينمائي الكبيــر والمثير صدمــة المنصــرم، ً ً عباس كيارســتمي ،الذي توفي عن ( )76عام ًا في أحد مشــافي للجدلّ ، ٍ سكتة دماغية جاءت نتيجة لألخطاء الطبية العاصمة الفرنسية ،بسبب في معالجته في مشفى جم بطهران.
ماهر جمّو كيارستمي ( )2016 - 1940هو أكبر المخرجين السينمائيين اإليرانيين ،وأحد صنّاع السينما المعاصرين ،وذلك ّ أهم ُ بشهادة كبار السينمائيين والنقّاد في العالم للسينمائي الجديد. الذين يصنفونه كنموذج ّ فمن المخرجين الذين مدحوا أفالمه وأثنوا عليها ،المخرج الياباني آكيرا كوروساوا، جان لوك غودار ،فيرنر هرتزوغ ،فيم فيندرز ،أمير كوستاريكا ،مايكل هانكه، مارتن سكورسيزي ..وغيرهم. أن «باعتقادي وقال عنه كوروساوا: ّ أفالم استثنائية، أفالم هذا المخرج اإليراني ٌ تعبر عن وليس بوسع الكلمات أن ّ مشاعري ،أقترح عليكم مشاهدة أفالمه، وعندها ستدركون ما أقوله .عندما رحل بهم كبير ،ولكن «ساتيا جيت راي» شعرت ٍّ ُ
مع مشاهدة أفالم كيارستمي ،أشكر اهلل ألننا عثرنا على ٍ بديل له» .وأما المخرج الفرنسي -السويسري جان لوك غودار «إن السينما بدأت مع دبليو غريفيث فقالّ : وانتهت عند عباس كيارستمي». كيارستمي هو شاعر السينما اإليرانية وفيلسوفها ،ويلقبه النقّاد في إيران بـ «رائد «الصوفي الواقعية الجديدة في السينما» وبـ ّ الواقعي». تركت أفالمه التي صنعها في فترة حكم الشاه ،وبعد الثورة اإلسالمية تأثيرًا كبيرًا على مسار السينما اإليرانية، أسلوب جديٍد يتسم وذلك من خالل ابتكار ٍ بالمزج بين الرواية والتوثيق ،ومن خالل التغلغل في تفاصيل الواقع واستخراج نفحات مليئة بالشعر والنقاء واألسئلة 131 131
لقطة من فيلم «طعم الكرز»
التأمل على مصراعيها، التي تفتح أبواب ّ والتركيز على العالقات اإلنسانية وعلى ثنائية الحياة والموت ،وإيجاد حالة من التوازن بينهما ،وهدم المفاهيم التقليدية يشكل في السينما ،وحذف ّ كل ما يمكن أن ّ عائق ًا بينها وبين الحياة ،ومن خالل االعتماد على ممثلين هم ليسوا بممثلين في والحرية الكاملة في األصل ،ومنحهم الثقة ّ دافع إلى إيصالهم سبيل أداء أدوارهم ،في ٍ يمكنهم من أداء أدوارهم المرسومة، ذاتي ّ ٍّ ٍ بعيدة عن التكلّف والتصنّع ،وهو بواقعيةٍ أهم منابع يعتبر هؤالء «الالممثلين» أحد ّ اإللهام لديه. ٍ بشكل لم يدرس كيارستمي السينما أكاديمي ،فقد كانت دراسته الرسم ،ولكنه وجد نفسه منخرط ًا في السينما بعد أن فشل كرسام ،على َحّد تعبيره. ّ مصمم ًا لإلعالنات عمل 1960 من بداية ّ التجارية مع كبرى الشركات اإليرانية ثم عمل بعدها في عنونة األفالم، آنذاكّ ، لمحمد ومنها فيلم «وسوسة الشيطان» ّ زرين دست ،وفيلم «قيصر» و«رضا ّ موتوري» للمخرج البارز مسعود كيميائي. ُدعي بعدها لتأسيس قسم للسينما في مركز 132 132
شكل التنمية الفكرية لألطفال والفتيان ،وقد ّ أرضية تعامله مع األطفال في هذا المركز ً لألفالم التي سيصنعها فيما بعد. بدأ كيارستمي عمله السينمائي عام بفيلم قصير «الخبز والزقاق» .وكان (ٍ )1970 أول فيلم طويل له هو فيلم «المسافر» عام ّ ٍ قدرات ينم حينها عن كان الذي (،)1974 ّ وتوج ٍ الشاب. المخرج هات مختلفة لهذا ّ ّ ذاع صيت كيارستمي في إيران وفي الخارج أيضاً ،بعد صناعة فيلم «أين منزل الصديق» عام ( ،)1987وهو فيلم مستوحى من قصيدة للشاعر اإليراني ُسهراب سبهري» ،هذا الفيلم الذي اعتبره المخرج األلماني الكبير « فيرنرهرتزوغ» ويشكل أفالم لديه. ّ من بين أفضل خمسة ٍ هذا الفيلم مع فيلمين آخرين هما « الحياة والشيء سواها» و« تحت أشجار الزيتون» ثالثية فريدة في تاريخ السينما اإليرانية ً وتسمى «بثالثية كوكر» أو والعالمية، ّ «ثالثية الزلزال». بسيطة لتلميذ قصة يحكي هذا الفيلم ً ً ضمير ٍ ٍ يقظ ،في الثامنة من مدرسة ذي ٍ العمر ،يحاول إعادة دفتر واجبات ٍ زميل يعيش في ٍ قرية مجاورة ،بعد أن أخذ له ُ
الدفتر معه إلى المنزل عن طريق الخطأ، وبعد تهديدات المعلّم لزميله بطرده من المدرسة حال عدم كتابته للواجب المنزلي المرة القادمة ،وعندما يكتشف هذا التلميذ ّ أنّه قد أخذ دفتر زميله معه عن طريق الخطأ إلى المنزل ،ينطلق إلى القرية األخرى بحث ًا عن منزل صديقه ليعيد إليه الدفتر ،لكن دون جدوى ،ويعود يائس ًا إلى المنزل بعد ٍ قضاء رحلة ٍ بحث أشبه حلول الليل وبعد بالمتاهة ،ولكنه يكتب واجب زميله المنزلي في دفتره ليحميه من العقاب والطرد في اليوم التالي .ومن خالل هذا الفيلم المفعم بسحر طبيعة الريف ،يعرض كيارستمي تقاليد وأعراف أهل القرى في إيران. ترك كيارستمي إرث ًا من األفالم يزيد على 40فيلم ًا موزعة بين الروائي والوثائقي والقصير والصامت ،وقد حصلت أفالمه على جوائز عالمية كثيرة ،ومن أهمها السعفة الذهبية لمهرجان كان عام ( )1997عن فيلم «طعم الكرز» ،هذا الفيلم اإلشكالي الذي يروي قصة ٍ عازم على االنتحار، رجل ٍ شخص يستأجره ليقوم بدفنه ويبحث عن ٍ بعد أن يفارق الحياة. ويعّد فيلم «ستأخذنا الريح» المستوحى ُ
لقطة من فيلم «مثل شخص مغرم»
من قصيدة للشاعرة اإليرانية فروغ فرخزاد، أهم األفالم التي صنعها كيارستمي أحد ّ خالل مسيرته السينمائية ،وهو فيلم مليء والتأمالت والشعر ،وفي باأللغاز واألسئلة ّ هذا الفيلم ُيظهر كيارستمي مزج ًا بين ثقافته الغربية والمشرقية ،فحالة االنتظار الغريبة تذكر إلى َحّد كبير بعوالم بيكيت ،واالهتمام ّ البالغ بتفاصيل الطبيعة يذكرنا بثقافة الشرق األقصى وشعر الهايكو ،باإلضافة الجلية في هذا الفيلم الخيامية ّ إلى النزعة ّ ٍ ٍ تأملية. بصرية بقصيدة الشبيه ً كبير في أفالم كيارستمي ثمة إصرار ٌ ٌ كل شيء ،وهو عن اإلفصاح عدم على ّ يسعى بذلك إلى إشراك المشاهد في التفاعل مع األسئلة والتأمالت التي يطرحها الفيلم، إن فيلمه يبدأ بعد أن ويقول كيارستمي ّ يغادر المشاهد صالة العرض. الرغم من على لم يغادر كيارستمي إيران ّ ِ التجاهل الكبير له وألفالمه من قَب ِل الجهات الرسمية في إيران ،فبعد الثورة هاجر الكثير من زمالئه بسبب الرقابة الصارمة ض ْت على مختلف نواحي الحياة التي ُفِر َ االجتماعية والسياسية والثقافية ،ومن ضمنها منع السينما في السنوات األولى
عبر من الثورة .لكن كيارستمي بقي ،وقد ّ عن هذا قائالً« :أنا شخصي ًا غير مقتنع بترك إيران ،فالمكان الوحيد الذي أستطيع النوم فيه في سكينة هو بيتي ،وال شيء بوسعه أن يقنعني بتركه». استغل كيارستمي تلك السنوات التي ّ ُمِن َع ْت فيها السينما في إيران ،وقصد األرياف والقرى اإليرانية برفقة الكاميرا ،وأخذ زة لألشجار والطبيعة في ممي ً يلتقط صورًا ّ وتميزت صوره بالتركيز مختلف الفصولّ ، والظل ،وما على مفارقات األلوان ،والنور ّ تم االلتقاط ّ يميز صوره أيض ًا الزوايا التي ّ مصورًا الصور منها ،وقد جعلت منه هذه ّ فوتوغرافي ًا بارزاً ،وصار يعرض صوره في المعارض والمتاحف العالمية ،ويستفيد من المردود المالي لبيع صوره في تمويل أفالمه. ال عن السينما والتصوير فض ً الفوتوغرافي ،لمع اسم كيارستمي في الشعر أيضاً ،فقد أصدر ثالث مجموعات شعرية «بصحبة الريح ،»1999-و«ذئب متربص ،»2004 -و«ريح وأوراق 2011- » ،وقد ُترجمت أشعاره إلى لغات عالمية عّدة منها العربية واإلنجليزية واإلسبانية
واإليطالية والفرنسية واأللمانية.. وقصائده هي تأمالت ذكية اختزالية، تشبه صورًا فوتوغرافية من الكلمات، وتصلح بعضها أن تكون أفالم ًا سينمائية أن له قصيرة تحمل طابع أفالمه .كما ّ تجربة مثيرة للجدل في إعادة قراءة الشعر الكالسيكي الفارسي إذ صدر له: حافظ برواية عباس كيارستمي (،)2006 ونار وسعدي يستغيث من نفسه (ٌ ،)2007 مهب الريح (مختارات من غزليات شمس في ّ تبريز لموالنا جالل الدين الرومي) (.)2011 بأن كيارستمي يرى الناس في إيران ّ فارق الحياة نتيجة أخطاء األطباء المعالجين له في إيران ،وبحسب عائلة كيارستمي فإنّه لم يكن يعاني من السرطان كما ُأشيع ،وإنما خضع لعملية استئصال ورم معوي حميد ،ولكن سوء العالج أديا إلى إلحاق األذى به وتسببا واإلهمال ّ أسبوع من سفره إلى المبكر بعد في موته ّ ٍ باريس ،وقد قامت مجموعة من أصدقاء كيارستمي بتشكيل ٍ والتقصي لجنة للبحث ّ في ّ الملف الطبي له أثناء معالجته في إيران. 133 133
المخرجة اللبنانية الفرنسية دانييل عربيد (« :)1970لم أشأ «باريسية» فيلم ًا قاسياً ،بل فيلم ًا عن األمل»
منــذ 18عامــاًُ ،تنجز الســينمائية اللبنانية الفرنســية دانييــل عربيد (مواليد بيــروت)1970 ،
أفالم ًا مختلفة األشــكال والمواضيع وأســاليب المعالجةُ ،يســاجل بعضها أحوال بيئة ُتدركها التعرف إليها أكثر فأكثر ،ويذهب بعضها اآلخر إلى اكتشــافات انفعالية وحســية أو ترغب في ّ
مختصة بالحياة وشؤونها ومتاهاتها ،أو بالجسد وأسئلته المعلّقة أو الملتبسة ،أو بالعالقات وروحية، ّ ومنعطفاتهــا وخيباتهــا وأوهامها ومســاراتها الجميلــة والهادئة أيضاً ،تلك العالقــات القائمة بين المرء
وذاته ،أو بين الفرد واآلخر.
دانييل عربيد :
«باريسية» رحلة ال كتشاف عامل جديد نديم جرجوره أفالم روائية طويلة وقصيرة، وأخرى وثائقية وتجريبية ،باإلضافة إلى «أشرطة فيديو» ،تحاول عربيد ،من خاللها ،اختبار فعل التصوير المباشر والعفوي والبسيط ،الذي يلتقط نبرة ومعارف ،بحث ًا في ثنائية أهل وجيران ِ الصورة والمعنى ،خصوص ًا أن المعنى متوغل في أحوال بيئة عائلية منبثقة ّ 134 134
لبناني محّددة مالمحه في اجتماع من ٍ ّ أفالم روائية طويلة أخرى ،كـ«معارك حب» ( )2004و«بيروت بالليل» (فيلم ّ تليفزيوني )2012 ،و«باريسية» (،)2016 عرض في صاالت فيلمها الجديد ،الذي ُي َ أوروبية ولبنانية عديدة منذ مطلع العام ،2016باإلضافة إلى مشاركاته في مهرجانات عربية ودولية.
اختباري فعل ّ التوثيق السينمائي ،أي ذاك الذي التسجيلي من أدواته يسعى إلى تحرير ّ بهاء أقل يكون لن التقليدية، التليفزيونية ّ ً والتجريبي ،في ممارسة فعل من الروائي ّ دائم باّتجاه األفراد والبيئات اختباري ٍ ّ والتفاصيل والحكايات .التوثيق ،الذي
يفتح نوافذ في العقل والروح والوعي والسجال ،يّتخذ من ذاكرة الحرب األهلية اللبنانية ( 1975ـ )1990موضوع ًا فكك شيئ ًا الستعادة تجربة فرديةُ ،ت ِّ من أهوال الجماعة وانهياراتها ومعالم أهلي سيرتها أثناء الحرب ،وفي ٍ سلم ّ مشوه وناقص («وحدي مع الحرب»، ّ )2000؛ أو يخرج من المحلّية اللبنانية الضيقة إلى جغرافيا أوسع ،تحيط ّ بفلسطين المحتلّة ،وتعمل على التقاط نبض الشارع العربي (لبنان ،سوريا، األردن ،ومصر) في ارتباطه بها («حدود»، .)2002 الم َك َّون من أما «أحاديث صالونية»ُ ، نجز ت ـ فيديو صورة بكاميرا ُ ِ ستة أجزاء ُم ّ عربيد أجزاءه الثالثة األولى في العام 29( 2004دقيقة) ،وأجزاءه الثالثة الثانية في العام 30( 2009دقيقة) ـ فينعزل داخل منزلها العائلي ،حيث األم ٍ جارات لها رفقة تتصدر واجهة المشهدَ ، َّ أمور يرتشفن القهوة معها ،ويدردشن عن ٍ الضيق (البناية ،والحارة، تبدأ بالمحيط ّ والجيران ،واألقارب) ،وتنتقل إلى البلد وأحواله وانقالبات العيش فيه. قبل «باريسية» ،على مستوى الفيلم الروائي ،أخرجت عربيد أول عمل (روائي سينمائي لها ،بعنوان «ردم» ّ ّ شابة تعود قصير 17 ،1998 ،دقيقة)ّ : إلى مدينتها (بيروت) التي ال تعرفها ،كي تلتقيها عبر ذاكرة بصرية مستمّدة من الروائي ثم فيلمها صورة فوتوغرافيةّ . ّ حب» ،الذي «معارك الطويل األول، ّ والتمزق يغوص في تداعيات االنهيار ّ داخل عائلة «مسيحية» في ثمانينيات الحرب األهلية .أما الثاني فهو بعنوان «رجل ضائع» ( ،)2007وترتكز على صور فوتوغرافي فرنسي في رحلة ُم ِّ الجغرافيا والروح العربيتين ،بحث ًا عن ٍ خالص أو منفٍذ أو اكتشافات .فيما ذات أو ٍ يروي فيلمها التليفزيوني «بيروت بالليل» ال في عالقتها شابة تعاني خل ً حكاية ّ بفرنسي ،يصدف أنه بزوجها ،فترتبط ّ متورط بمسائل تمزج السياسي باألمني، ّ في بيروت الغارقة في التأثيرات السلبية القاسية الغتيال رئيس الوزراء السابق
رفيق الحريري ( 15فبراير /شباط .)2005 أما فيلمها الجديد «باريسية» ،فهو ٌ الذاتي والعام .لينا (منال مبطن بين خليط ّ ّ عيسى) تبلغ 17عاماً ،تغادر بيروت ٍ للتحصيل الجامعي ،في العام .1993 وهناك ،تكتشف ذاتها وانفعاالتها، متنوعة، وتفاصيل عيش وحياة وعالقات ّ الحب والصداقة والعلم والمعرفة. بين ّ تكتشف ،أيضاً ،متاهات واقع ،وصدمات ومعان مختلفة للصداقة ،وتحاول حب، ٍ ّ أن تفهم الغربة واألقارب والعالم الجديد. تقول دانييل عربيد (في لقاء خاص بـ «الدوحة»)« :منذ البداية ،اخترت بداية التسعينيات كفترة زمنية ألحداث الفيلم .لم أكن راغبة في تحديد الفترة، سافرت لكن مطلع التسعينيات مقصدي. ُ إلى فرنسا عام ،1987وأنا أبلغ من العمر 17عاماً .ال أريد أن تكون الحبكة «سيرتي الشخصية» .ال أريد أن أروي أن سيرتي الباريسية .مع هذا، أشعر ّ ُ تسعينيات تلك الفترة هي مرحلة انتقالية وتحول سلم غير مفهوم، في لبنان: ّ ٌ غامض من حرب إلى سلم غير واضح، إلخ .فترة أعيشها في باريس ،وأتفّتح أمور كثيرة فيها». على ٍ تحبذ العالقة ّ تؤكد دانييل عربيد أنها ِّ
راغبة ،في «باريسية»، بالوقت .تقول إنها ٌ في تصوير الصدمة التي ترافق المرء تحتل لدى وصوله إلى بلٍد .صدمة ّ مكان ًا أساسي ًا في ذات المرء ،خصوص ًا في األشهر األولى من وصوله ،لكنها شدد تختفي فيما بعد «بفعل العادة»ُ .ت ِّ تتعرف على على أنها ،في باريس، ّ ٍ «لدي الموسيقى ،وتتأثّر بأنماط وفرقّ : ذاكرة انطباعية جداً .أحيان ًا كثيرة ،أنسى ما الذي جرى معي قبل أسبوع مثالً، في»ُ .تضيف: لكنّي لن أنسى ما يؤثّر ّ في كثيراً .الرسم والفن «الموسيقى تؤثّر ّ والقراءة ،لكن الموسيقى أكثر .العالقات بالناس أيضاً .لذا ،أكتب أفالماً .مشاهداتي السينمائية تجعلني آخذ انطباع ًا الواعياً، لكنّي ال أقول ،أبداً ،إني أريد أن أفعل مثل السينمائي ،أو ذاك». هذا ّ
متاهات وخوف في «باريسية» ،تروي دانييل عربيد للتعرف شابة ُتسافر إلى باريس قصة ّ ّ على عالم جديد« :مع هذا الفيلم ،أطوي صفحة اهتزاز عالقتي ببيروت ،بسبب «بيروت بالليل» .شخصية هذا الفيلم تبدو كأنها «تخرج» ،عبر لينا في «باريسية»، ومطباته .تفتح عينيها على من واقعها ّ 135 135
عالم جديد ،ولديها إمكانيات جديدة .لديها علي العثور على هذا األمل في أمل أيضاًّ . مكان ما ،فإذا بي أعثر عليه في فرنسا». ٍ «قاس». لكن عربيد ُتدرك أن واقع فرنسا ٍ تقول« :لم أشأ فيلم ًا قاسياً ،بل فيلم ًا عن قاس .في األمل .غير معقول أن ّ كل شيء ٍ ال من دون أن تمر ثالثة أشهر مث ً فرنساّ ، تتحّدث مع أحد ،لكنك ستعثر على هذا شيء ما». وسيتغير فيك الـ «أحد» الحقاً، ّ ٌ لة تشير عربيد إلى أن ً محم ٌ فكرة كهذه ّ «التعرف إلى أشخاص بـ «األمل» .أي: ّ غير رئيسيين في الفيلم ،مفيٌد للينا. هناك سالسة في المواقف ،وتراكم. حسنك ،أو التعرف إلى شخص ما ُي ِّ ّ شخص كل ربما ُيعيدك إلى الوراءُّ . ٍ تتعرف إليه ،يضعك في حالة من ّ ال (بفضله)، اثنتين :إما أن تعيش قلي ً ال (بسببه) .عنوان الفيلم أو تموت قلي ً مهم ورائع« :خوف من ال بالفرنسية ٌّ مضطرة أنا لتبديله بالعربية، شيء». ّ 136 136
ألسباب إنتاجية وتوزيعية» .غير أن تعبير «خوف» يستعيد نقاش ًا يحصل مع عربيد بمناسبة «بيروت بالليل» ،إذ بجَمٍل قصته ُيمكن أن ُت َ تقول إن ّ ختصر ُ ثالث« :زها (دارين حمزة) تخاف أن يتخلّى «صديقها» ماتيو (شارل بيرلينغ) غرم بها .وهذا عنها ،وهو يخاف أن ُي َ كلّه في مدينة ترشح خوف ًا هي أيضاً!. عباس (فادي أبي سمرا) أشبه بوسيط ّ محفِّز على مستوى العالقة القائمة بين هذين الشخصين والمدينة .في الواقع، حب ،بل «بيروت بالليل» ليس ّ قصة ّ قصة خوف». ّ أما بخصوص منال عيسى ،التي تؤدي دور منال ،فإن عربيد توضح ّ بداية أن «الدور ،في السيناريو ،أجرأ». ً ٌ شغف أكثر .بالنسبة تضيف« :للممثلة مهم جد ًا أن تكون هناك صلة مع إليٌّ ، ّ الممثل ،قبل البدء بتنفيذ العمل .الدور ـ بشكل عام ـ يقف في منتصف الطريق
بيني وبين الممثل .أحاول أن «أسرق» ّل في من الممثل ما أريد ،وما أريده متمث ٌ المسافة الجامعة بين ما أعيشه أنا، وبين حياة الممثل .أتأقلم بدخولي إلى حياة الممثل ،وبأن آخذ منه ما أريد .لذا، أتعامل مع ممثل بطريقة مختلفة تمام ًا لكل ممثل عن تعاملي مع ممثل آخر ،ألن ّ شخصيته وهواجسه وانفعاالته ،وال أستطيع التعامل مع الجميع بالطريقة علي مالحقتها نفسها .مع منال عيسىّ ، ومطاردتها والضغط عليها .تمشي إلى األمام وأنا أمشي وراءها ،كأني أركض علي االهتمام خلفها .إنها «ماكينة» يجب ّ بها كثيراً ،من دون توقّف .لذا ،وبما أن هناك أناس ًا يتفاعلون معك بهذه الطريقة أو بتلكُ ،يصبح الشغل جيد ًا وتدرك عندها أنك «تعيش» ومريحاًُ ، حالة ما». نقاش مع دانييل عربيد ،ال ُبّد كل ُّ ٍ أن يتوقّف عند عالقتها بالممثل .تقول
إن اإلحساس الذي تصفه أعاله «لم يكن موجوداً ،بشكل عام ،في «بيروت بالليل» .هناك تفاعل ،لكنه لم يسر صحيح أني «أتشاجر» مع بهذا الشكل. ٌ منال كثيراً ،وأنها تقول لي مرار ًا إنها ال تستطيع أن تفعل هذا أو ذاك .لكنها، في نهاية المطاف ،تفعل هذا أو ذاك، وبشكل رائع أيضاً» .تضيف« :أضع من ذاتي كثير ًا في الممثلين ،وفي عالقتي بهم .هم يضعون من أنفسهم أيضاً .في النهاية ،إما أن تبني عالقة صداقة بهم، كل شيء بينكم .عليهم أن أو ينكسر ّ يشعروا بأني أدخل حياتهم ،وأكون معهم .هم أيض ًا عليهم أن يشعروا باألمر نفسه».
تلصص ّ هناك متعة في االستماع إلى دانييل عربيد ،وهي تروي حكايتها مع الممثلين. تقول إنها ال تختارهم مسبقاً ،ألنها ،أثناء تخيل شخصياتها الكتابة ،ترغب في ّ بعيدًا عنها (الكتابة)« :ال أريد أن أنحصر ال في أفالم بوجه أحٍد ما موجود أص ً أفكر بالممثلين بعد وقصص أخرىّ . االنتهاء من كتابة السيناريو ،وإقامة ِ ص َوري العقلية .عندما أبدأ الحَداد على ُ الـ «كاستينغ» ،أحاول اختيار أشخاص قريبين قدر المستطاع من األدوار، وخصوص ًا من نظرتي إلى الحياة. جيد الطريقة األفضل للعثور على ممثل ّ كامنة في االحتكاك به ،وفي مراقبته، ٌ يتكيف ومعاينة مدى قدرته على أن ّ مع الشخصية ،ومعرفة أين ُيمكن لهذه الشخصية أن تكون في حياته ،وإلى أي إلي، مدى ُيمكنه الذهاب بها .بالنسبة ّ العمل مع ممثل يعني محاولة اكتشاف «عيبه» ،وأخذه إلى أبعد حّد ممكن في جنونه .البعض يوافق على هذه الطريقة، والبعض اآلخر يرفضها» .تقول أيضاً، في المجال نفسه« :في أفالمي السابقة، كل من مريان فغالي (معارك يؤسس ٌّ ّ حب) وملفيل بوبو وألكسندر صّديق ّ (رجل ضائع) هذا الميل إلى المخاطرة. يتبعونني «على غير هدى» .ممثلون
آخرون ،كفادي أبي سمرا وتقال شمعون، وحتى رودني الحداد الذي التقيته في «بيروت بالليل» ،لديهم هذه الجرأة .ال يطلبون شيئ ًا آخر إ ّال هذا .يثقون بي مقتنعة أنا بقدراتهم عفوياً .من جهتي، ٌ الكبيرة ،وأريد ُمقابلتهم بالمثل». بالعودة ،ولو قليالً ،إلى «باريسية»، التنبه إلى مسألة أساسية: ُيمكن ّ انفضاض مشاهدين لبنانيين عديدين عنه ،ربما ألنهم يرفضون مشاهدة أنفسهم« ،على حقيقتها» ،على الشاشة «يظهِر الفيلم كيف يعيش الكبيرةُ : الناس .هناك واقع .هناك صدق في أتمكن من أن ُأظهر، تقديم األشياء ،كي ّ بدقّة أكثر ،كيف تكون حياة شخص صحيح أن ُيهاجر إلى مدينة أخرى. ٌ
في الفيلم أشياء من حياتي ،لكنه ليس «سيرتي» كما أخبرتك سابقاً». مشروع جديد في النهاية ،هل هناك ٌ في األفق؟ تجيب دانييل عربيد إنها تستعّد للبدء بتصوير فيلم آخر ،مقتبس عن رواية «شغف متواضع» ( )1992للروائية الفرنسية آني آرنو .تقول إن منتج ًا يملك حقوقه ،ما يدفعها إلى كتابة السيناريو، الذي ُيتوقّع البدء بتحقيقه نهاية صيف حب عاصف بين العام ّ :2016 «قصة ّ امرأة ( 40عاماً) ورجل يعمل في السفارة الروسية في باريس .ال عالقة للمشروع حبها هذا بلبنان .آرنو تعرف أفالمي ُ وت ّ كثيراً ،وأنا مرتاحة إلى روايتها هذه، وراغبة في جعلها فيلم ًا لي ،يكون مختلف ًا ٌ األقل». عن سابقه ،على ّ 137 137
أعاد فيلم «جعفر نميري -سودان مايو» ،الذي عرضته قناة «الجزيرة الوثائقية» ،الذاكرة إلى ٍ عايشــة للتاريخ عبر الشاشــة الصغيرة؛ شهادات وشــهود ،وأحداث جاءت في الوراء ،في ُم يزال ،إلى اليوم، تغيرات جذرية ،في نهاية ستينيات القرن الماضي ،وما ُ سياق عربي شهد ُّ نفسه»، يعيد يستنسخ نفس السيناريو ،كأنما قصة الفيلم ،علّقت الجرس ،لتقول لمشاهديها: ُ ُ ُ «التاريخ ُ فهل من مستمع؟.
«سودان مايو»..
ُمعايشة التاريخ يف صورة ناطقة محمد محمود البشتاوي يسير الفيلم الوثائقي الذي يتناول ٍ وعرة، دروب تاريخياً ،في موضوع ًا ٍ ّ مليئة باإلشكاليات ،والجدل ،فهو إلى يجدر به تحقيق جانب كونه فيلم ًا وثائقياًُ ، متعة الصناعة البصرية ،ومعالجتها ضمن سياقات َفنّية ،وسينمائية ،فإنه على الضفة األخرى ،يقّد ُم التاريخ ضمن ٍ سرد، ٍ نظر ،أو وجهات أو سرود ،تحمل وجهة ٍ ٍ ٍ متعددة ،متوافقة ،أو متناقضة ،حول ٍ نظر ِّ ٍ ٍ تكمن في ذاكرة المشاهد، ، أحداث أو ، حدث ُ 138 138
تسرب إلى وعيه من ّ تشكلت في حدود ما َّ عايشه في الواقع ،أو ما ما أو معلومات، ُ تتشكل تلك استقاه من معارف ،وربما ّ ُ مجتمعة. الذاكرة من المحّددات السابقة ً والعودة بها إلى إنعاش الذاكرة، ُ ُ تدفع المتلقي إلى مساجلة الفيلم، الوراءُ ، ويدخل في هذا النطاق؛ وصنّاعه، ُ ُ المؤرخون ،والسياسيون ،والعاملون في وتخصصه ،ورؤيته. كل اإلعالم؛ ٌّ ّ حول كفن ، الوثائقي الفيلم بين وما ٍّ ّ ّ
بصري/ المادة التاريخية إلى محتوى ٍّ التورط في التأريخ، تع ،دون سمعي ُمْم ٍ ُّ ٍّ الممتلئ باألحداث ،وما التاريخ، وبين ْ يتصل بها من شخصيات ،وجغرافيا، كبير حول كيفية تحد ٍ وإشكاليات ،ثمة ٍّ المعالجة ،التي من المفترض أن تجمع ما الفنية ،والتحريرية؟. بين الناحيتين ّ فجوة تحدث في بعض األفالم الوثائقية، ً ُ بين الناحيتين ،من حيث العجز عن معالجة المحتوى التاريخي (الجانب التحريري)،
لقطة من فيلم «سودان مايو»
ٍ رتابة، ضمن قالب َفنّي مرن؛ فنكون أمام وجمود ،وثقل في سرد المعلومات، ألسباب ِعّدة، وعرضها ،وفي معالجتها، ٍ ربما من أهمها ذهاب المخرج للعب دور تأريخياً ،وليس يقدم سردًا المؤرخ، ّ ُ ّ فتجده ُ وثمة من تاريخية، لمسألة ً، ا ّي ن ف ا عرض ً َ ّ ّ يقع في مأزق العرض ضمن اتجاه واحد، يعرض موجه ،دعائي، ُ فنكون أمام فيلم ّ شحنة عالية من تحمل مبتورة، رواية ً ً ُ البروباغندا. وهنالك من يقّد ُم فيلم ًا وثائقياً ،ربما تكون أدواته اإلخراجية ،ومعالجته الفنّية ،جيدةّ ،إل أن المخرج رغم ذلك، َ أخفق في معالجة المحتوى ،فيصبح الفيلم دون مستوى الحدث التاريخي ،الذي من بشكل ٍ المفترض اإللمام به ،ومعالجته ٍ واف. ّب الفيلم الوثائقي التاريخي ،عملية يتطل ُ ٍ وإعداد ُم ٍ ٍ ضنية ،داخل ِعّدة مصادر؛ بحث ومصورة ،ووثائق مكتوبة ،وشفهية، ّ ٍ ٍ ومنشورات أخرى ،عالوة صحف، من على جمع ما أمكن من األرشيف البصري /السمعي ،وقد يصل األمر إلى البحث في المقتنيات ،واقتفاء أثر السجالت ،وما دونته من أسماء وأرقام. ُ وبعد أن تصبح المادة البحثية شاملة ووافية ،تأخُذ طريقها نحو المرحلة األكثر تعقيداً ،وإرباكاً ،لدى فريق العمل ،إذ يكون الكّم يمكن معالجة هذا َ السؤال المركزي :كيف ُ وفره من معلومات، الهائل من البحث ،وما ُ كشفه من تفاصيل قد تكون غائبة عن وما ُ المشاهد ،في صورة ناطقة (قالب بصري
سمعي) ،على أن تشهد مجمل العمليات في النهاية والدة «فيلم وثائقي»؟. في الفيلم التسجيلي ،الوثائقي ،الذي عاش ،فإن عملية البحث واقع ُم ٍ يقتفي أثر ٍ تكون في حدود الحدث الحي ،تتقصى ُ قائمة ،وقد حياة وتتبع العيان، شهود ً ً ُ يكون اللجوء فيها إلى األرشيف ،أمرًا غير يوفره من مادة مستحب؛ فالواقع ،وما ُ تكفي ،ورصد الكاميرا للبيئة المعاشة.. ُتغني عملية اإلنتاج ،وربما يكون الرجوع إلى األرشيف ،في بعض األحيان، محد ٍ دة ،في نطاق استثنائياً ،وألسباب َّ ٍ الزمة. معالجة َفنّية ،أو تحريرية
وجهات نظر ثمة شخصيات مثيرة للجدل في سيرتها ّ صنّاع األفالم للخوض غري ت ومسيرتها، ُ ُ في تاريخهم ،ونميري الرئيس الخامس لكون يم ُ للسودان ،واحد من أولئك الذين ْ غني ،نظرًا إلى ما طابع حضورًا ذا ٍ درامي ٍّ ٍّ أحدثه في السودان من انقسام وصراع ،ما ُ قائمة إلى اليوم. آثاره تزال ً ُ ُيسجل للفيلم الذي أخرجه الُثنائي بشار حمدان ،وإيهاب خمايسة ،أنه لم يقّدم في عرضه ،مؤرخين كضيوف لتأريخ فترة حكم الرئيس السوداني األسبق ،وإنما صنّاع تلك الفترة التاريخية ،وشهود ُ مر بالسودان من أزمات، ما عاينوا ّ وتحوالت. ّ عرضته «الجزيرة الذي الفيلم وفي ُ
الوثائقية» ،كان اإلمساك بالرئيس السوداني األسبق ،أمرًا صعباً؛ فهو فجر الثورة التنموية في السودان، ُم ِّ له خصومه نعت مقابل أنصاره، بحسب ُ عرف بـ «السفاح ،والديكتاتور» ،كما ال ُي ُ توج ٌه واضح طوال فترة حكمه، للنميري ّ فهو ناصري ،وشيوعي ،وصوفي، المتقلب بين وإسالمي ،ووطني ،وهو ُ هذه التيارات ،وفق ما تقتضيه مصالحه في الحكم ،وفي ذلك رأى زعيم حزب األمة الصادق المهدي ،في شهادته خالل الفيلم أن «نظام نميري رفع شعارات اشتراكية وال علم له باالشتراكية ،ورفع شعارًا إسالمياً، وأنا برأيي لم تكن لديه فكرة حول ما معنى هذا الشعار؟». سرد الضيوف جاء ضمن «وجهات مبرراتها ،فإن نظر»، ّ وجهة ٍ ولكل ْ نظر ّ طرحه الفيلم« :لماذا ما سياق في تساءلنا ُ قامت الثورة ضّد نميري؟» ،لتعّددت اآلراء بين من قال :إن «ثورة 25مايو» استهلكت، يقابله رأي تقديم جديد، ولم يعد بإمكانها ُ ُ آخر يتحّد ُث عن ترحيل يهود الفالشا من إفريقيا عبر السودان إلى «إسرائيل» ،بينما يؤكد آخرون أن ما حدث انقالب ًا على الحكم، ّ فسر األمر بتراكمات أفرزت الثورة من وثمة ّ الشعبية ،وهنالك من أرجع ِ العلّة إلى إعدام مؤسس الفكرة الجمهورية محمود محمد طه ّ على يد نظام الحكم ،وحتى نميري نفسه لم يستثنه الفيلم ،فعرض وجهة نظره؛ إذ أنكر الواقع ،وعاد إلى الخرطوم ،من زيارته للقاهرة ،كي يحاكم سوار الذهب الذي قاد 139 139
االنقالب! فعاد إلى بيته بـ «خفي حنين». المساجلة ،وعدم التوافق على رأي واحد ،هو ما عبر عنهما السينمائي ،والكاتب الفرنسي ،جان كوكتو ،عندما قال« :الفيلم السينمائي هو الخروج من الصالة شرط عدم االتفاق على رأي واحد للفيلم الذي ض للتو» ،والخالف الذي في «سودان ُعِر َ مايو» ،لم يكن ما بعد العرض ،وإنما خالل شهادات الضيوف ،التي مثّلت وجهات نظر متقابلة ،ومتعارضة في بعض األحيان.
المعايشة عبر األرشيف يفتتح المخرج فيلمه بلقطات أرشيفية، ركز خاللها تظهر قصاصات صحافيةُ ،ت ّ ُ الكاميرا على عنوان من ثالث كلمات: عرض بعد «القصة الكاملة للثورة» ،ثم ُت َ ذلك قصاصات لكلمات أخرى ،وهي «كلمة السر» ،و«النصر لنا» ،وهو توظيف موفّق يوحي بأن الفيلم سيعرض القصة الكاملة، س التشويق واإلثارة لدى كما ُيحفّز ِح ّ المتلقّي لمتابعة الفيلم. لتدريب ينتقل العرض بعد ذلك إلى مشهٍد ٍ وثمة ظهر جنودًا يهرولونّ ، عسكريُ ،ي ُ هويتهُ ،يعطي اإلشارة لهم، تظهر ُ جندي ال ُ 140 140
ٍ طاولة نشاهد ثالثة ضباط يلتفون حول ثم ُ صغيرة ،ويبدو من خالل ما يقومون به، خطط ًا يتم التحضير باإليحاء ،أن هنالك ُم َّ له ،وينتهي بعد ذلك هذا التمهيد بتسجيل صوتي للعقيد جعفر محمد نميري ،الذي يخاطب الشعب السوداني ،معلن ًا البيان األول لثورة 25مايو. يقّد ُم الفيلم للمشاهد فرصة معايشة غني، فترة نميري ،عبر عرضه ألرشيف ٍّ أغلبه من الفيديو ،وشمل تسجيالت جاء ُ صوتية ،وصورًا فوتوغرافية ،ومقتطفات من الصحف السودانية الصادرة آنذاك ،في ٍ توظيف تالزم طوال العرض ،وأسهم في صناعة نشوة الصورة ،األمر الذي من شأنه أن يرفع من إمكانية التفاعل لدى المتلقّي، ويخرجه من حالة الشعور بالملل ،ليكسر بتنوٍع مازج بين بذلك الفضاء البصريّ ، بتعدده ،بل واألرشيف المصورة، المقابالت ُّ ّ لم يقتصر الفضاء البصري على ذلك ،وإنما ليصور بعض جغرافيا السودان ،وما امتد ّ تتضمنه من جماليات طبيعية ،عالوة على ٍ مشاهد ٍ شعبية ،وأهازيج، حية لرقصات وغناء ،ومقطوعات موسيقية تراثية. تنوعت، الموسيقى التصويرية للفيلم ّ حزينة عند قصف وذلك تبع ًا للمشهد؛ ً
الجيش لجزيرة آبا السودانية ،لتصفية وأنصاره، الهادي عبد الرحمن المهدي ُ نسمع الصوفية، يتقرب نميري إلى وحين ّ ُ ٍ ومقطوعات صوفية ،وعند صدى ألناشيد ً نسمع أغاني مايو»، ر فج «م د ض الثورة قيام ّ ُ ِّ ُ وألحان ًا ثورية ،وهكذا ،..ترجمت الموسيقى سماعياً، التصويرية للفيلم المشهد البصري ّ لتضاعف من حجم التفاعل.
ال رأي ..ال تعليق من المآخذ على الفيلم الوثائقي الذي يستعرض موضوع ًا تاريخياً ،لجوء ُ زج رأيه في العمل ،عبر اعتماد إلى المخرج ّ ٍ معلومة ،أو لتسليط التعليق ،لتمرير الضوء على نقطة بعينها ،وهو األمر الذي المخرج في «سودان مايو»؛ إذ إن تجن ُ ّبه ُ ٍ تمت مع شخصيات وازنة، المقابالت التي ّ ٍ ٍ ٍ وشاهدة وصانعة لألحداث، ومؤثرة، عليها ،مثلت مختلف األطراف ،وما ُجمع ٍ غني ،وما ُقّدم من مقتطفات من أرشيف ٍّ صحافية ،يكفي لرسم صورة متكاملة حول شهده نميري ،وفترة حكمه ،والصراع الذي ُ السودان حول الحكم والسلطة.
ُص ِن َع يف فرنسا ! أمجد جامل
تحول الدعم السينمائي إلى ورطة؟ هل ّ وهل السينما المغربية ستكون مهيضة الجناح بدونه؟ هذا هو السؤال الذي يرخي دائم ًا بظالله الكثيفة على المشتغلين بقطاع السينما كلما اقترب موعد المهرجان الوطني تبين أن هذا الفيلم أو ذاك ال للفيلم ،وكلما َّ يحمل معه سوى التخريب السينمائي .ذلك يؤجج غابة من األسئلة أن السؤال الذي ِّ يظل هو :هل صندوق الدعم يدعم السينما ّ أم يساهم في «اإلغناء غير المشروع» لسينمائيين يهتبلون الفرصة إلنتاج أفالم متعبة وتعاني من داء المفاصل الحاد والمزمن؟ هل الصندوق يقف مع الجودة أم يتمترس ضدها؟ لقد تم إحداث صندوق دعم اإلنتاج السينمائي الوطني سنة ،1980وكانت الغاية هي تشجيع إنتاج األفالم الوطنية، غير أن التجربة أبانت سريع ًا أن النتائج ترق إلى مستوى األهداف المحقّقة لم َ المتوخاة ،وأن أزمة اإلنتاج التي كان من المفترض أن تخفّف من حّدتها مبالغ الدعم تحولت إلى أزمة إبداع ،بل أزمة رؤية ّ وضعف على مستوى اللّغة السينمائية. ولتمكين الصندوق من القيام بدور أفضل في تنمية اإلنتاج السينمائي الوطني، التطور الذي تعرفه السينما وجعله يواكب ُّ على الصعيد الدولي ،تمت إعادة النظر ِمرارًا في النصوص القانونية المنظمة لهذا الصندوق بهدف جعل هياكله وموارده المالية في مستوى طموحات المهنة ،وفي مستوى طموحات السينمائيين ،حيث تمت مراجعة الصندوق سنة ،1987ثم وقع تعديل في السياسة عام ،2004ثم جاء تعديل سنة 2012الذي حّدد أهدافه في ما
يلي: دعم اإلنتاج السينمائي الوطني ورفعجودته وترويجه وتنمية اإلنتاج المشترك الدولي. تطوير بنيات الصناعة السينمائيةواستعمال التقنيات الحديثة الرقمية. حرّية اإلبداع واالنفتاح على تشجيع ّالعالم والتجارب اإلنسانية وصيانة تعّددية تيارات الفكر والرأي. الهوية تثمين مكونات ومقوماتّ المغربية وتعزيز إشعاع حضارة وثقافة وتاريخ المغرب. تمكين وتقوية التعبير الثّقافيةالجهوية والمحلية على مستوى اإلبداع التنوع الجهوي والمجالي السينمائي وإبراز ُّ الجغرافي وتقوية االشتغال على قضايا المجتمع. تشجيع اإلبداع السينمائي للشبابوتوفير شروط ترويجه ودعمه. تقرر إحداث ثالث لجان ولهذا الغرض ّ تجتمع بالمركز السينمائي المغربي ،تتولى دراسة وانتقاء األعمال والملفات والمشاريع المرشحة للدعم ،وتحّدد مستويات اإلعانات المالية وقائمة األشغال والتوريدات
والمعايير التقنية للتقديرات المالية، وتتكون هذه اللجان وفق دفاتر تحمالت. ّ الثالث من شخصيات تنتمي إلى عالم الفّن والثّقافة والتربية والسينما والقطاع َ السمعي البصري ،باإلضافة إلى ممثلين عن وزارات االتصال ،والمالية والثّقافة والمركز كل لجنة السينمائي ،على ّأل يتجاوز عدد ّ بناء على 12عضواً ،يعينهم وزير االتصال ً اقتراح المركز السينمائي واستشارة الغرف المهنية في ميدان السينما ،وذلك لمدة عامين قابلة للتمديد سنة إضافية واحدة. تمنح تعويضات جزافية عن األتعاب تخصص مصاريف ألعضاء هذه اللجان ،كما ّ لتسيير أعمالها .وإذا كان المهتمون بالسينما يتفقون على أن سياسة دعم الدولة لإلنتاج السينمائي خالل الثمانينيات والتسعينيات، خلقت دينامية داخل الحقل السينمائي ،مما نتج عنه إنعاش القطاع السينمائي ورفع ال عن تصالح مستوى إنتاج األفالم ،فض ً الجمهور مع سينماه على نحو غير مسبوق، فإن نور الدين الصايل المدير السابق للمركز السينمائي المغربي يرى أن «تصوير األفالم المدعومة هو الفرصة الوحيدة التي ُتفتح والتمكن من الفّن ُّ أمام الشباب لتعلُّم هذا َ أدواته الصناعية واإللكترونية ،وأن االنتظام في اإلنتاج يساعد المخرجين التمرس المستمر ،مما يخلق تراكم ًا على ُّ كمي ًا ينتج عنه ال محالة تراكم نوعي يشبع ّ ويؤسس لسينما متعّددة». أذواق الجمهور ِّ الم َع َّبر عنه ،فهل حققنا هذا هو الطموح ُ االرتفاع المأمول لهذه السينما؟ وهل تمكننا من تحقيق سينما منافسة على المستوى الدولي ،وذات خصوصية ثقافية وجمالية؟ وما فائدة الدعم نفسه إذا لم يكن الكثير 141 141
صِن َع في فرنسا ! ُ
من األفالم المدعومة يصمد في القاعات السينمائية ألكثر من أسبوع؟ وما فائدة الدعم إذا لم تجد تلك األفالم قاعات للعرض لتحقيق اللقاء مع الجمهور العريض؟ يعتبر العديد من المهتمين بالقطاع أن الدعم السينمائي سالح ذو حّدين ،فهو بمثابة أنبوبة أوكسجين إلبقاء السينما المغربية على قيد الهواء ،وهو كيس الدم الذي يضمن استمرارها ،لكن مع ذلك يتعامل معه بعض السينمائيين كخبز اإلعاشة ،فيجاهدون من أجل االقتطاع منه لشراء الشقة والسيارة وتأمين العيش. وهذا هو الخطير في األمر .ذلك أن ماليين الدعم هي في العمق ليست على ما تبدو عليه ،والسبب يعود إلى أن تمويل عمل سينمائي يحتاج إلى مبالغ كبيرة .ومع ذلك فإن سينمائيين معروفين ،وسبق لهم أن حققوا سمعة طيبة في اإلخراج السينمائي ،ثبت في حقهم «اإلثراء غير المشروع» ،ولذلك فالمطلوب هو محاربة الريع السينمائي الذي يتيح إغناء البعض وتفقير البعض اآلخر ،كما ينبغي اللجوء إلى القضاء عندما يثبت عدم احترام معايير الشفافية ،وعندما يرفض المستفيدون من الدعم إرجاع المبالغ المستولى عليها. صحيح أن ليس بوسع الدعم الذي يقّدمه المركز السينمائي أن يغطي تكاليف فيلم متوسط الكلفة على ِغرار تلك األفالم التي تنتجها فرنسا أو إسبانيا ،على سبيل 142 142
المثال .لكن مع ذلك ،يمثل الدعم ،في الحالة يتشبث به أغلب المغربية ،طوق النجاة الذي ّ المخرجين الذين ال يراهنون على القاعات السينمائية الكاسدة التي تعتبر ،عادة، هي المصدر الوحيد تقريب ًا الستعادة ما صِر َف من أموال ،باستثناء بعض المداخيل ُ المالية المتواضعة ،التي تدفعها جمعيات وجماعات سينمائية أجنبية لمنتجين ومخرجين مغاربة ،ألجل تشجيع السينما المغربية للوقوف على رجليها ،وسط مّد ال ُيقاوم من األفالم القادمة من الخارج، وخاصة أفالم هوليوود وبوليوود. إن األساس من الدعم ليس هو تشجيع «صائدي المكافآت» ،بل أساس ًا فسح المجال أمام المبدعين المستحقين للدعم األقل من أجل تحقيق مشاريعهم ،أو على ّ المساهمة في ذلك .فبعد 36سنة على نؤسس إنشاء صندوق الدعم ،ما زلنا لم ّ لسينما مغربية ذات خصوصية ،وما زال المتردد هو سيد الموقف ،وما «التجريب» ّ زال بعض الدخالء يقتحمون عن عمد وسبق إصرار هذا القطاع ،فيستبسلون من أجل تخول لهم الحصول على البطاقة التي ّ الحصول على الدعم ،ويستبسلون من أجل استمالة بعض أعضاء اللجنة المشرفة على منح الدعم ،وال يتوانون في زرع الفخاخ تحت أقدام الجميع في سبيل الظفر بالماليين من أجل إنتاج عمل ال يستحق المشاهدة. عل هذا ما دفع كاتب ًا مثل فيصل عبد وَل ّ
الحسن إلى الدعوة إلى إشراك ممثلين عن المجتمع ،من خالل ترشيحهم من قبل األحزاب الفاعلة ،أو من طرف جمعيات المجتمع المدني ،وذلك لمساعدة اللجنة في اتخاذ قرار دعم هذا الفيلم أو استثناء ذاك، كل حتى يتم تجنب تكرار إعادة المشهد في ّ مرة ،حين يقّدم الدعم لبعض األفالم ،ويهمل ّ غيرها يستحق الدعم ،فيثير ذلك زوبعة من ردود أفعال الكثيرين ويوجد الحزازات والمشاكل في الوسط السينمائي المغربي. لقد اعتبرت ماجدة واصف ،المندوبة العامة لمهرجان السينما العربية بباريس ومرسيليا ،نظام الدعم السينمائي الذي اعتمده المغرب لدعم اإلنتاج السينمائي «نموذج ًا يحتذى به في العالم العربي». وقالت إنه أصبح حالي ًا األكبر بالعالم العربي .وهذا يوضح أن الدعم مكسب للمخرجين المغاربة ،وينبغي أن يعضوا عليه بالنواجذ ،وأن يساهموا في أن ينتصر هذا االختيار للجمال والجودة ،مما قد يساهم في تصالح الجمهور الواسع مع السينما ،ومما قد يدفع المنتجين الخواص إلى ركوب تجربة االستثمار في القطاع، وأيض ًا تشجيع إنشاء قاعات سينمائية أخرى بمواصفات عالمية ،بل األكثر من ذلك البحث عن أسواق أخرى للترويج للفيلم المغربي ،بدل االكتفاء بفيلم يشارك في المهرجانات الدولية ،ويعجز عن اقتحام قاعات اآلخرين العمومية.
أتم الثمانين ،من كبار فناني الســينما في ُيعّد المخرج الســينمائي البريطاني كين لوش الذي ّ الفنّية في التليفزيون البريطاني (بي بي سي) عام ،1964حيث أوروبا والعالم .بدأ مسيرته َ أخرج 28فيلم ًا روائي ًا وتسجيلي ًا حتى عام .1985وفي عام 1967أخرج أول أفالمه الطويلة للســينما ،وبلغ عددها 19فيلم ًا روائي ًا وفيلم ًا تســجيلي ًا واحداً .وقد شهدت مسابقة مهرجان (كان) 2016 عــرض فيلمــه الروائي الطويل العشــرين «أنا ،دانييل بليك» ،والذي فاز بـ«الســعفة الذهبية» أهم جوائز أكبر مهرجان دولي للسينما في العالم.
«أنا ،دانييل بليك»
األمل يف عالم جديد ممكن وضروري سمري فريد ض ْت في مهرجانات أغلب أفالم لوش ُعِر َ السينما الدولية الكبرى الثالثة ،وهي «برلين ،وكان ،وفينسيا» ،ولكن أكثرها عرض ًا في «كان» منذ فيلمه الثالث «حياة ض في برنامج «نصف عائلية» الذي ُعِر َ شهر المخرجين» عام .1971وكان «أنا،
دانييل بليك» فيلمه الثالث عشر المشارك وتعّد سعفة في مسابقة مهرجان (كان)ُ ، 2016الجائزة السابعة التي فاز بها في هذا المهرجان ،بعد جائزة لجنة التحكيم مرات عن «التاريخ الخفي» عام ثالث ّ ،1990و«إنها تمطر أحجاراً» عام ،1993
و«حصة المالئكة» عام ،2012وبجائزة أحسن ممثل (بيتر موالن) عن «اسمي جو» عام ،1998وبجائزة أحسن سيناريو (بول الفيرتي) عن «سن السادسة عشرة اللطيف» عام ،2002كما فاز بالسعفة الذهبية عام 2006عن «الريح التي تهز الشعير». 143 143
للمرة الثانية، وبفوز لوش بالسعفة ّ مرتين في أصبح سادس مخرج يفوز بها ّ تاريخ المهرجان بعد األميركي كوبوال، والسويدي أوجست ،واليوغسالفي كوستوريتشا ،واألخوين البلجيكيين دارديني .وقد شاهدت أفالم لوش في مهرجان (كان) منذ عام 1971حتى عام 2016بحكم حضوري المهرجان طوال هذه السنوات .ومن حسن الصدف أنني مرة عام 1967 حضرت مهرجان (كان) ألول ّ مع االحتفال بالدورة العشرين ،وحضرته للمرة الثانية عام 1971مع االحتفال ّ بدورة اليوبيل الفضي ،وكان كين لوش من اكتشافات هذه الدورة ،والتي كانت بحق. تاريخية ّ عبر منذ أول أفالمه وحتى أحدثهاُ ،ي ّ لوش عن رؤية يسارية اشتراكية ،سواء في األفالم التي تدور أحداثها في الماضي، أم التي تتناول الواقع االجتماعي المعاصر لزمن إنتاجها .وإذا كان اليسار االشتراكي قد اهتز مع انهيار جدار برلين عام ،1989 وسقوط النظم الشيوعية في أوروبا ،فإن رؤية لوش لم تهتز ألنها لم تكن ترتبط بهذه النظم ،وإنما بالواقع اإلنساني من خالل يتميز لوش بالتكامل الواقع البريطاني .كما ّ بين َفنّه ومواقفه السياسية .ورغم أن هذا التكامل ال عالقة له بتقييم األفالم كأعمال يؤكد مدى عمق إيمانه بما َفنّيةّ ،إل أنه ِّ يعتقده .وقد جاء فيلمه «أنا ،دانييل بليك» بيان ًا درامي ًا ضد النظام العالمي الجديد القائم على اقتصاد السوق ،والمرتبط بالعولمة والليبرالية الجديدة .فبعد استالم السعفة الذهبية ،ألقى الفنان على المسرح بيان ًا سياسي ًا ضد ذلك النظام ،واستشهد فيه باألزمة في اليونان ،واختتمه قائالً :إن كل مكان، اليأس من التغيير بدأ ينتشر في ّ ولكن علينا ّأل نفقد األمل في وجود عالم جديد .وقال بالفرنسية واإلنجليزية «عالم جديد ممكن وضروري». وفي اليوم التالي الستالم الجائزة، ذهب لوش إلى باريس ،وافتتح برنامج ًا لألفالم الفلسطينية في معهد العالم العربي ،وواصل دعوته لمقاطعة منتجات المستوطنات اإلسرائيلية في فلسطين وترسخ لالحتالل ألنها «غير شرعية»، ِّ 144 144
اإلسرائيلي ،وتعوق حصول الشعب الفلسطيني على حقوقه. كان أول فيلم روائي طويل أخرجه لوش للتليفزيون عام 1969بعنوان «كاتي تجد منزالً» عن سكان الشوارع في لندن الذين ال يجدون منازل للعيش فيها .وبعد خمسين سنة تمام ًا يعود إلى نفس الموضوع من خالل شخصية كيت في «أنا ،دانييل بليك». عبر دائم ًا عن وهذا ّ يؤكد أصالته كفنان ُي ّ ما يقلقه من داخله ،وليس مجرد مخرج ُيجيد حرفة. عنوان الفيلم دال على محتواه ،فعنوان ال فيلم أوليفر ستون «جي إف كيه» مث ً يدل على أنه عن الرئيس األميركي جون والمتفرج يسأل من يكون فيتزغرالد كيندي، ّ دانييل بليك الذي يقول «أنا» ،وعندما يشاهد الفيلم يدرك أنه نجار بسيط في مدينة نيوكاستيل على بعد 300ميل من لندن. كين لوش يقّدم اإلنسان العادي البسيط كشخصية جديرة بأن يكون اسمها عنوان ًا لفيلم ،بل ويقول «أنا ،دانييل بليك». ال من: تجمع صورة ملصق الفيلم ،ك ً دانييل (داف جونز) أو دان مع كيت (هايلي سكويرس) وابنتها ديزي (بريان شان) التي تناهز العاشرة ،وابنها ديالن (ديالن ماكيرنان) الذي يناهز السابعة. للوهلة األولى يبدو األربعة وكأنهم أسرة واحدة ،ولكن دان يقترب من الستين وكيت
تقترب من الثالثين ،وال يجمع بينهم سوى البؤس والمعاناة من بيروقراطية الدولة في بريطانيا .2016واألربعة يمثلون األجيال الثالثة التي تعيش في أي مجتمع في أي وقت ،وما يحدث لهم معادل درامي موضوعي مثالي للتعبير عن موقف الفنان السياسي من النظام العالمي الجديد. تدور األحداث في نيوكاستيل بعيدًا عن العاصمة لندن ،في مدينة عادية غير معروفة ،مما يضفي على هذه األحداث طابع ًا إنساني ًا عاماً ،وذلك بإمكانية أن تقع في أي مدينة في بريطانيا أو أي مكان آخر، كما أن لهجة الحوار مغرقة في العامية إلى درجة ترجمته إلى اإلنجليزية عند العرض. دان يعيش وحيدًا في منزله الضيق في إحدى عمارات الفقراء بعد وفاة زوجته التي كانت تعاني من مرض عقلي .وقد أصيب بأزمة قلبية ومنعه األطباء من العمل، وأصبح يعيش على اإلعانة الحكومية. وكيت كانت بال مأوى في جنوب لندن، وتقدمت بطلب للحصول على منزل تعيش َّ وتحقَّق طلبها ،ولكن في طفليها، مع فيه َ نيوكاستيل في نفس العمارة التي يقيم فيها دان .ومن بين جيران دان وكيت الشاب األسود تشاينا (كيما سيكازوي) الذي يعمل في تجارة األحذية الرياضية التي تصنع في الصين تقليدًا للعالمات التجارية الدولية المشهورة ،وبالطبع فإن اسمه ليس تشاينا أي الصين ،وإنما هو اسم الشهرة ،وبالطبع فإن هذه الشخصية عبر عن الصين المعاصرة باعتبارها جزءًا ُت ّ من النظام العالمي الجديد. أصبح دان يرعى كيت وطفليها ويساعدهم بقدر استطاعته .لقد أنقذته كيت من الوحدة ،ولكنه لم ينظر إليها أبدًا كامرأة، وإنما بعاطفة أقرب إلى األبوة .وعوضه الطفالن عن افتقاد اإلحساس باألسرة ألنه لم ينجب من زوجته الراحلة .إنه إنسان لم يفقده البؤس إنسانيته وأخالقه الفطرية النبيلة .إنه يحب عمله كنجار ويستمتع به حتى بعد أن ُمِن َع من ممارسته ،ونراه يصنع مكتبة صغيرة في منزله لمجرد المتعة .إنه نموذج للطبقة العاملة عند كل أفالمه ،وخاصة الذين كين لوش في ّ يعملون بأيديهم.
كل من دان وكيت من بيروقراطية يعاني ّ مكتب الرعاية االجتماعية الحكومي، ومن اعتماد هذا المكتب على الوسائل التكنولوجية التي يجهلها دان وتعرفها كيت بالكاد ،ومن نظام «العقوبات» التي يتبعها المكتب ،أصبح عليه إثبات عدم قدرته على العمل ،وأن يتدرب على أسلوب كتابة سيرته (سي في) عبر الكمبيوتر، وبدأ يعيش في دوامة «كافكاوية» أو «كوميديا سوداء» .وألن كيت ال تعرف المدينة ،تأخرت نصف ساعة عن موعدها في المكتب ،وواجهت عقوبة الحرمان من اإلعانة لمدة شهر ،كما واجه دان عقوبة كل ما يملك، قطع اإلعانة .وبينما يبيع دان ّ ال تملك كيت سوى أن تخرج إلى ناصية الشارع. يبرع روبي ريان في تصوير المكتب يسبب األذى واأللم مستخدم ًا كمكان مقبض ّ اللونين األبيض واألزرق ،كما يبرع لوش في إدارة الممثلين الذين يقومون بأدوار الموظفين ورجال األمن ،فهم ال يقلون بؤس ًا عن ضحاياهم ،بما في ذلك الموظفة القديمة آن (كاتي بوتر) التي تتعاطف مع
دان وتحاول مساعدته .إنهم جميع ًا يعانون النظام العقيم الذي يفقدهم إنسانيتهم. يقترب أسلوب اإلخراج الواقعي كل من األسلوب التسجيلي رغم أن ّ ويؤكد ذلك اختيار الشخصيات خيالية، ِّ كل األدوار ،فهم في الممثلين والممثالت ّ غير معروفين لدى الجمهور ،ويمكن أن تلتقي بأي منهم على ناصية أي شارع في أي وقت .وهناك مواقف ميلودرامية مثل مشهد المواجهة بين دان وكيت ،ومشهد ديزي وهي تشكو ألمها سخرية زميالتها في المدرسة من حذائها القديم ،ومشهد كيت وهي تذهب إلى بنك الطعام وال تستطيع السيطرة على نفسها من شّدة الجوع ،فتأكل من علبة الطعام بأصابعها فور أن تفتحها، ولكن هذه المشاهد تفقد ميلودراميتها في إطار األسلوب الواقعي التسجيلي الذي يقنع كل ما يراه. المتفرج بصدق ّ ّ الفرق بين كاتي في «كاتي تجد منزالً» وكيت التي وجدت المنزل في نيوكاستيل هو «بنوك الطعام» الحكومية التي أصبحت الحل لمواجهة الجوع الذي يفتك بالبشر هي ّ ال عن إهدار آدميتهم في النظام العالمي فض ً
الجديد .ونرى في الفيلم من يدخل هذه مترددًا وخجالً ،ومن يتراجع عن البنوك ِّ دخولها في آخر لحظة. يبدأ الفيلم بالعناوين على لقطات سوداء ،وعلى شريط الصوت «استجواب» نتعرف عليه. دانييل بليك في المكتب ،حيث ّ ويصل الفيلم إلى ذروته بأن يصرخ دانييل بليك في الشارع ،ويكتب شكواه على الحائط ،ويجتمع المارة ويعلنون تأييدهم وتفرق الجمع وتقبض له ،وتأتي الشرطة ّ ثم تصرفه ألنه من دون عليه وتحقّق معه ّ سوابق. ُتكثِّف النهاية رؤية الفنان عندما نرى دان مع كيت وطفليها في أحد المقاهي، ثم نراه يدخل الحمام وتفاجئه أزمة قلبية ّ ويسقط ميتاً .وفي الكنيسة ،وباإلضاءة كل من َعرف دان الباردة نفسها ،يجتمع ّ لوداعه قرب الفجر ،وتعتذر كيت عن هذا بكر ألنه األرخص حسب أسعار الم ِّ الموعد ُ الكنيسة ،وتقول إنه كان يستطيع أن يعطي المزيد ،ولكن الدولة قتلته .وأنه كان يقول أنا إنسان ولست كلباً ،أنا مواطن ،ال أكثر قل. وال َأ ّ 145 145
«وحش المال» أفالم األزمة االقتصادية ُمرحبة أيض ًا أحمد ثامر جهاد ض فيلم «وحش المال» (Money ُعِر َ )Monsterإخراج جودي فوستر في مهرجان (كان) السينمائي بدورته الـ 69 خارج المسابقة .وحاز في أسبوع عرضه االفتتاحي المركز الثالث في قائمة األفالم التي حقّقت أعلى اإليرادات في دور السينما األميركية ،حيث بلغت عائداته اإلجمالية قرابة 67مليون دوالر خالل ثالثة أسابيع .الفيلم وصفته فوستر من أهم التجارب اإلخراجية التي خاضتها، والتي بلغت حتى اآلن ثمانية أفالم .كما ُيعّد هذا الفيلم رابع لقاء سينمائي يجمع النجمين جورج كلوني وجوليا روبرتس. « ...يوم ًا ما قال المسرحي األلماني برتولد بريخت :ماذا تساوي جريمة سرقة بنك أمام جريمة إنشائه؟ ...في عصر السرعة تصبح أموالك التي تكدح طوال حياتك لجنيها مجرد أرقام في حواسيب 146 146
ذكية ،تنتقل بسرعة مهولة عبر شبكة إلكترونية عمالقة تمثل االستثمارات القارية لنظام مصرفي عالمي مرتبط بمصالح كبرى متداخلة .في النهاية ليست لديكم فكرة أين هي أموالكم اآلن »...هذا جزء من الترويج المراوغ الذي يتقنه لي جيتس قدم برنامج «وحش المال» (جورج كلوني) ُم ِّ الذي ينقل من ِقبلة المال في «وول ستريت» بنيويورك أخبار سوق األسهم ورجاالته. الفيلم الذي كتبه (جيمي ليندن وجيم كوف) عن قصة لـ (أالن ديفيور) المتوجة وأخرجته الممثلة (جودي فوستر َّ بأوسكارين) يجمع اإلثارة بالتشويق في صورة نمطية وسرد قابل للتخمين ،وال يخرج بشكل عام عن مسار الفيلم األميركي الذي سبق له أن عالج ِمرارًا هذا النوع من القصص التي تعتمد أحداث ًا درامية مفاجئة تلهب عواطف الجمهور الذي يثيره وضع
نجوم مشهورين موضع الخطر. تبدأ األحداث عقب انخفاض أسهم وتكبدها شركة رجل األعمال (والت كامبي) ّ خسارة مالية كبيرة تقدر بنحو 800مليون دوالر ألسباب ال تبدو واضحة في البداية. يردده شريط األخبار عن هذه الواقعة ما ّ سيدفع مستثمرًا صغيرًا ُيدعى كايل بدويل جراء تلك تعرض لإلفالس ّ (جاك أوكنيل) ّ الخسارة ،للقيام بفعل جنوني يتمثّل بالتسلل إلى مبنى القناة التليفزيونية التي تعرض برنامج «وحش المال» ،وفي أثناء ساعات البث الحي يقتحم كايل األستوديو قدم البرنامج (لي جيتس) رهينة ويأخذ ُم ِّ تحت تهديد السالح ،مطالب ًا إياه بتعويض خسارته عبر إعالن زائف يرفع سعر أسهم الشركة قبل إغالق جلسات التداول في بورصة «وول ستريت». يهون على الساخرة جيتس بنبرته ّ
تكبدوا خسائر أصحاب األسهم الذين ّ مالية بإشارته المازحة :لقد تم ضرب مؤخراتكم وعليكم التوقّف عن النواح واالستعداد لجولة نزال جديدة ألن األسهم ستستعيد عافيتها ثانية .ولم يكن أمام الشاب المحبط كايل الذي خسر قدم ّ كل أموال العائلة بسبب نصائح ُم ِّ البرنامجّ ،إل اإلقدام على بطولة فردية، (تهديد مباشر للمتسببين بخسارته) ،في سابقة خطيرة سينقسم الجمهور بشأنها ؤيد ومعارض .وحينما يأخذ كايل بين ُم ّ اإلعالمي المشهور (لي جيتس) رهينة لغمة بحزام ناسف ،فإنه ويلبسه سترة ُم َّ يسهم في تحويل أزمته الشخصية إلى قضية رأي عام يجري تضمينها درامي ًا في لحظة ذهول تليفزيونية هي مكمن اإلثارة التي ستضع كادر البرنامج من وفنّيين وعاملين في دائرة مصورين َ ّ الخوف والترقب ،لكن المشهد الذي يبدو كمزحة (نشاهده نحن بعلم تام لمجرياته) يمر على شاشات التلفاز دون أن يلحظ أحد شيئاً .ربما َظّن البعض أن العرض الخطير الذي يحصل ،هو مجرد فقرة أخرى قدم لي جيتس الم ِّ ُم ِّ شوقة من ارتجاالت ُ المعروف بخروجه عن النص. يمر وقت قصير حتى يكاد األمر ما أن ّ ينفلت تحت ضغط تحركات رجال األمن الذين يخططون القتحام المبنى بالقوة، لوال حنكة منتجة البرنامج باتي فين (جوليا روبرتس) التي تستشعر خطورة وتوجه ما تبقى من فريقها والجهات الموقف ّ الحكومية التي تتابع الحدث ،بضرورة التعامل بحذر مع كايل ،ليس فقط ألنه يهّدد بتفجير الحزام الناسف (نكتشف زيف) إذا ما َتّم استفزازه، الحق ًا أنه ُم َّ حق. وإنما الحتمال أن يكون على ّ وكما في أفالم سينمائية عّدة ُح ِ وصر أبطالها في أماكن محدودة ذات قوانين صارمة ،مرغمين على مواجهة عالم منذور لسوء الفهم وعمى التجريم من قبيل (جون كيو ،المدينة المجنونة ،السقوط فهم في الهاوية) يأمل كايل من اآلخرين َت ُّ دوافعه ،فيجد بعد حين بمساعدة (جيتس وباتي) َم ْن يسمع شكواه ،فيحظى تدريجي ًا تقربه من الثّقة بخيارات بلحظات تعقُّل ّ
السيطرة على المواقف المأسوية بأي ثمن.
ظالل األزمة االقتصادية ِ
مقنعة الستعادة أمواله وفضح المتسببين بخسارته ،وهو ما نكتشفه الحق ًا بطريقة االعتراف بالخطيئة ،فمدير الشركة هو تورطه بمضاربات سبب اإلفالس جراء ّ مشبوهة في جنوب إفريقيا. في نهاية األمر ال حيلة أمام الجميع، بمن فيهم رجال الشرطة ّإل التعامل مع الحدث بواقعية ال تستهين بالنتائج المحتملة لمحاولة إطالق نار في برنامج ُيَبث على الهواء مباشرة ويحظى بعد هذه الحادثة الغريبة بمتابعة الماليين حول العالم .هنا بالتحديد تستثمر القناة التليفزيونية الحدث ذاته لصالح اتساع شعبيتها ،فما تقّدمه هنا بوصفه (تليفزيون الواقع) ليس تمثيالً ،وإنما واقعة محتملة لها مدلوالتها السياسية، مثلما يجوز -في إطار أوسع -النظر للحكاية بمجملها كخيال سينمائي تتواشج عناصره المونتاجية والصوتية واألدائية مع ًا في خلق إيقاع فيلمي مشوق ينجح في إيصال رسالته .وكالعادة سرعان ما تتحول الذات إلى موضوع ،ليجد البعض ّ سوغ ًا العتباره إرهابي ًا م كايل شخصية في ُ ِّ أو بطالً ،لكنه في نطاق مجتمع حداثي متشظ على نحو متزايد سيلتصق البطل ٍّ بصورته االفتراضية التي تجري تنقيتها أو فلترتها من على شاشات العالم وبزوايا تصوير ورؤى مختلفة تعّد -إذا جاز القول- كناية عن عصاب أولئك الذين يحاولون
وتطور شخصياته المشوق رغم إيقاعه ُّ ِّ على المستوى الدراميّ ،إل أن فيلم «وحش المال» يشترك في موضوعاته مع عشرات تتوجه إلى انتقاد األفالم األميركية التي ّ األوضاع الصعبة التي خلّفتها األزمة االقتصادية على واقع الحياة األميركية. أقل من الجدية واإلقناع التي وبدرجة ّ تّتسم بها األفالم الوثائقية التي عالجت يوجه فيلم (Money مثل هذه القضاياّ ، -)Monsterالذي بلغت كلفة إنتاجه نحو 27مليون دوالر -اللوم إلى أفراد فاسدين بعينهم ،يتالعبون بمصائر الناس من المؤسسي دون االقتراب من نقد النظام ّ أو تعرية ثغراته القانونية التي تتيح لألفراد النافذين النجاة من تبعات جرائمهم بحق اآلخرين .ودوم ًا سيؤثر الرأي العام في مسار هذه القضايا الشائكة ويدفع المتورطين في الفساد باتجاه محاسبة ّ لثقة األميركيين بعدالة قوانينهم. ثمة أفالم أميركية في العقد األخير ّ ِعّدة تحّدثت عن األزمة المالية وإفالس البنوك وتدني أسواق البورصة ،من بينها الوثائقي الشهير )2009( Collapse تنبأ باألزمة للمخرج كريس سميث الذي ّ األخيرة قبل وقوعها ،وفيلم inside Job ( )2010لشارل فرجسون ،الحاصل على أوسكار أفضل وثائقي .وفيلم المخرج أوليفر ستون ( )Wall Streetبجزأيه، ال عن فيلم ( )The big shortالحاصل فض ً على أوسكار أفضل سيناريو في حفل هذا العام وهو للمخرج آدم مكاي .ويمكن اعتبار فيلم Capitalism: A Love )2009( Storyلـلمخــــرج األمــــيركي المشاكس مايكل مور من بين أهم األفالم حرض ًا لفساد التي قّدمت تحلي ً ال عقالني ًا ُم ِّ عالم المال وعالقته بتصدير األزمات االقتصادية إلى حياة الناس ،ناهيك عن نقد تدني مستوى الخدمات العامة والرعاية الصحية ولعبة تخادم المصالح بين المؤسسات الحكومية وأصحاب البنوك ّ واالستثمارات القارية. 147 147
روبير بريسون ناقد ومخرج فرنسي شهير ،وألطروحاته مذاق خاص ،ندر أن نرى ما يماثله عند في السينما ٌ الكثيرين من المشتغلين في حقل السينما نقدًا أو تنظيراً. ولربما تكون السينماتوغرافيا كشكل ومصطلح المدخل لكل ما يمكن أن ُيقال حول أطروحات هذا المبدع ،إنه أحد األفضل ّ أبرز أصحاب التنظيرات اإلشكالية المثيرة للجدل؛ قوله -على سبيل المثال -في السينماتوغرافيا بأنها شيء غير معروف حتى اآلن ،على الرغم من أنه قد ُكِت َب حولها ما يفي بغرض معرفة أبعادها وتحديد تميزها عن السينما في مفاهيمها المتعارف مالمحها ،والتباينات التي ّ عليها بين السينمائيين.
روبري بريسون
باحث ًا عن ساللة جديدة من اخملرجني! يوسف يوسف صحيح أن بريسون ُيعّد السينماتوغرافيا نوع ًا من الكتابة بالصور في الحركة واألصوات ،وهو الفهم الذي ُيقارب فيه ميز كما نرى بينها وبين السينماّ ،إل أنه ُي ّ بين االثنتين :السينما والسينماتوغرافيا من حيث إن األولى -كما يقول -تغترف من منهل عام ،فيما الثانية يقوم فيها السينماتوغرافي برحلة اكتشاف في كون مجهول .أي أنها طريقة جديدة للكتابة ،ومن َثّم للشعور كذلك .وفي تعبير آخر يوضح أبعاد ما يدعو إليه في أطروحته ،فإن الفيلم السينماتوغرافي حيث الصور -كما يقول- كالكلمات في معجم ،ال قوة وقيمة لها ّإل من خالل مواقعها وعالقاتها. ومعنى هذا فإنه في حديثه حول 148 148
التباينات ،إنما يحاول التفريق بين الفّن حتى لو كانا ضمن الجنس نوعين من َ التعبيري ذاته ،أحدهما يتم إنتاجه من أجل أن تقوم عيون المتفرجين فيه بنزهة تتحرك فيه عيونهم من مجردة ،واآلخر ّ ّ أجل النفاذ إلى أعماقه ،ومعرفة ما هو مستتر تحت قشرته الخارجية .ومن هنا يتوجه فيه إلى العاملين جاء قوله الذي ّ «خبئ األفكار». السينماتوغرافيا: في حقل ّ «خبئ األفكار» على النصيحة هذه تنطوي ّ هدف آخر؛ أي من أجل أن يعثر الناس عليها .ذلك ألن األكثر أهمية هو الذي يكون في المخابئ وخلف الظاهر من أنسجة السرد السينمائي. في السينماتوغرافيا يعني اإلعداد إلخراج
فيلم ،ما يعنيه اإلعداد لخوض معركة عسكرية من التعب والجهد .ومن هنا فقد عّدها بالنظر إلى صعوبات العمل فيها ،من الفّن الفّن العسكري ،بقدر ما يعنيه هذا َ نوع َ الجدية والصرامة والتعب .ولعلّه بسبب من ّ هذه النظرةَ ،ظّل مولع ًا بمواطنه نابليون بونابرت ،وبمقولته الشهيرة التي يلخص فيها طبيعة عمله العسكري :إنني أرسم خططي للمعركة من أرواح جنودي النائمين. لكن جنود بريسون ليسوا من أولئك الذين يضعون الخوذات فوق رؤوسهم ويحملون البنادق ،وإنما هم الذين يتشكلون من خالل العناصر التي عليه ّ إيقاظها خالل العمل ،ليكون الفيلم من نتمكن إذا نوع السينماتوغرافيا .ولسوف ّ
ما توقفنا أمام مجمل أقواله من الكشف عن أبرز أسباب النجاح والوصول إلى مرحلة السينماتوغرافيا ،التي هي في اعتقاده أكثر تطوراً. مراحل التعبير بالكاميرا ّ ال ممثلين ..ال أدوار ،يقول روبير ثمة في بريسون .كما ويقول بأنه ليس ّ السينماتوغرافيا ترتيب إخراجي للمشاهد. ولقد اهتم بالموديل أكثر من اهتمامه بالممثل كما يفعل السينمائيون عادة .بل وإنه دائم الدعوة لعدم ظهور الممثلين في فيلم السينماتوغرافيا ،ذلك ألن الموديل في تصوره ،إنما يعني الحركة من الخارج إلى ّ الداخل ،فيما تكون الحركة عند استخدام الممثل على عكس ذلك تماماً ،أي أنها تكون من الداخل إلى الخارج .ومعنى هذا يميز بين نمطين من األفالم :أحدهما فإنه ّ بحسب تعبيره الذي يوظف وسائل المسرح (ممثلون ..إخراج ..إلخ) ويستعمل الكاميرا يوظف من أجل أن ينسخ ،واآلخر الذي ّ وسائل السينماتوغرافيا من أجل أن يبدع. واألول الذي يعّده َفّن ًا راسي ًا في المسرح إلى َحّد بعيد ،فيه الكثير من الثغرات والعيوب التي يحمل بريسون المعول من أجل هدمها وبناء ُأسس جديدة قوامها االعتقاد بأن حقيقة السينماتوغرافيا ال يمكن أن تكون حقيقة المسرح ،وال حقيقة الرواية ،وال حقيقة الرسم حتى .ثم إنه يقول بأنه ال شيء ُيرجى من سينما راسية في المسرح. ربما ال يستسيغ القارئ العادي أطروحة ّية ،لكن العاملين في حقل بريسون َ الفنّ
بكل عبارة يقولها. السينما عليهم التفكير ملي ًا ّ وقطع ًا فإن هذا التفكير يدفع باتجاه البحث عن تفسير لما يعنيه بالطريقة الجديدة التي على السينمائي سلوكها للكتابة بالصور. يؤكد على العفوية والصدق إن بريسون ّ في العمل .وهو في الوقت الذي يطالب فيه السينمائي بضرورة الحفر عميق ًا حيث هو ،وعدم االنزالق إلى أية جهة أخرى، فإنه يضع أمامه قواعد صارمة إذا كانت غايته تقديم فيلم ناجح .ومن هذه القواعد التي يضعها بريسون نستطيع أن نستنتج بأنه إنما يسعى إلى بناء ساللة جديدة من سيصورون األفالم بإنفاق السينمائيين الذين ّ فلسهم األخير عليها ،من دون أن يسمحوا المادية للمهنة بأن تصطادهم. لإلكراهات ّ ولسوف تضع هذه الساللة في حسبانها، أن ال ممثلين في السينماتوغرافيا ،وال أدوار ،وال ترتيب إخراجي ًا للمشاهد وبحسب ما سبقت اإلشارة ،وإنما هناك توظيف للموديالت المأخوذة من الحياة .أيض ًا فإن أبناء هذه الساللة ال بّد أن يدركوا بأن سمة الخلق التي يكثر الحديث حولها بين النقاد، تحتم النأي عن التشويه وحتى عن فكرة ّ اختراع أشخاص أو أشياء ال وجود لها في الواقع ،ذلك ألن َفّن السينماتوغرافيا يؤمن بفكرة بناء عالقات جديدة بين األشخاص واألشياء انطالق ًا مما هي عليه في األصل. ومعنى هذا نزوع بريسون إلى التوثيق أكثر منه إلى التخييل .وإن عملية الخلط بين ما هو حقيقي وزائف ال يمكن أن تنتج
في اعتقاد بريسون سوى الزيف ،وهو ما بكل جماع يقاومه في مشروعه التنظيري ّ قوته. حارب بريسون الكثير مما هو سائد ومتعارف عليه بين أغلب السينمائيين. التحكم يتم فالوجه ّ ّ المعبر للممثل ،الذي ّ يتم تضخيمه به عند األداء التمثيلي ،والذي ّ بالعدسة ،إنما يوحي في اعتقاده بمبالغات مسرح الكابوكي .وغير هذا فإن الممثل الذي تحطم سفينة عندما يتظاهر بالخوف من ّ تداهمها عاصفة بحرية حقيقية ،ال يمكن أن يقنعنا ،كما أننا لن نقتنع بالتالي بحقيقة يؤكد بأنه السفينة أو العاصفة .ولقد َظّل ِّ ال ضرورة لمصاحبة الموسيقى للمشاهد والصور ،وإنما على أصوات األشياء أن تكون هي الموسيقى التي على السينمائي االهتمام بها .ومثل هذا الفهم يرتبط بقوله: إذا كانت السينما قد ابتكرت الصوت الذي انتقلت به من مرحلة إلى أخرى ُعّدت أكثر تطورًا من سابقتها التي كانت فيها صامتة، ّ فإنه في مقدورها ابتكار الصمت من جديد، يتحول هذا الصمت فيه إلى نوع من بمعنى ّ ويفسر بريسون هذا بقوله: اإلبداع الكبير، ِّ مكررة نسخة يكون ال أن ينبغي «ما للعين ّ عما لألذن .وبينما األذن (أذن المتفرج) تتجه كل ما هو داخلي في الفيلم ،فإن دوم ًا إلى ّ عينه تتجه إلى ما هو خارجي مرئي قطعاً». ومن هذا الفهم لفلسفة السينماتوغرافيا وجدلها الخاص ،جاء قوله بضرورة أن ال يهب صوت لمساعدة صورة ،وال صورة ّ لمساعدة صوت ،أو في صيغة أخرى :فإن ال من الصوت والصورة ينبغي أن ال يساند كً كل بعضهما البعض ،بل يجب أن يعمل ّ منهما بالتعاقب عبر ما يسميه «ضرب من سباق التناوب». أكد بريسون على وجوب التركيز على ّ الحركة في فيلم السينماتوغرافيا ،على اعتبار أن مرأى الحركة يبهج ،كمثل مرأى حركة الحصان والرياضي والطائر .لكن مما يجب االنتباه إليه ،اهتمام بريسون باألسلوب التعبيري ،كمثل ترجمة الريح الالمرئية في الفيلم ،من خالل تصوير حركة الماء التي تنحتها في عبورها من فوق مياه نهر مثالً .ولهذا ففي مقدورنا القول في النهاية ،بأن ال شيء ُيرجى من سينما راسية في المسرح ،وهو القول الذي كثيرًا يردده بريسون ،خالل بحثه عن الجديد ما ّ في السينما. 149 149
مقال
يضج بالرفض عالم ُّ د.أمينة التيتون*
مـن تعريفـات الرفـض أنـه حدث ال يحصل فيه الواحد منا على ما وتسـتثار يريـد .ونتيجـة لهـذا الحـدث تتولّد أفـكار حول الرفضُ ، نتعـرض للرفـض؟ مشـاعر سـلبية ،وتطـرح أسـئلة مثـل :لمـاذا ّ نمر بها جميعاً ،بغض النظر عن العمر وبالرغم من كونه تجربة ّ والنوع ،والمسـتوى االجتماعي أو الثّقافي ،أو االقتصادي ،فإن البعـض يسـتطيع التعامـل مـع الرفـض ،ويتجـاوزه؛ بينمـا يقع البعـض اآلخـر فـي شـراكه ،فيكون من البائسـين ،ألن الرفض قد يصـل إلـى إعاقة الحياة وإفسـادها. قسـم كيفـن جرنير الرفض إلى ثالثـة أنواع: فـي كتابـه «الرفض» ّ رفض يعني قصور القبول أو االستحسان لما يقوم به المرء من يعبر عنه بسلوك واضح عمل ،أو ما ُيعرف برفض األداء ،الذي قد ّ مثل الكلمات الجارحة أو الضرب ،أو التوبيخ على الرسوب في االمتحان ،أو الفصل من العمل .والثاني رفض شخصي ،يصعب تجـاوزه ،لكونـه وجدانيـ ًا يضـرب جوهرنـا وبناءنـا النفسـي في الصميـم؛ كرفـض التعالـق ،أو الـزواج .أمـا النـوع الثالـث ،وهـو األكثر شـيوعاً ،فيأتي في صورة قصور في التشـجيع ،التقدير، تعرض الشـخص لإلهمال االحتفـاء ،المديـح والعرفـان؛ ويكفـي ُّ لكي يشـعر بهذا النوع من الرفض؛ بحيث إذا أنجز أحد مشـروع ًا مميـزًا وانتظـر الشـكر والثنـاء ولـم يجده ،قد يعني ذلك بالنسـبة ّ فيكون شخصية يتحول إلى رفض شخصي ّ له رفضاً .ويمكن أن ّ معاقة عاطفياً .وسبب قوة هذا النوع من الرفض أننا غير واعين به فـي الغالب. كمـا يمكـن أن يكـون الرفـض متوارثـاً ،فحيـن ال نتلقّـى التأكيـد والتشـجيع ،عـادة مـا نتعلّـم منعـه عـن اآلخريـن أيضـ ًاً ،وهكـذا جيلا بعـد جيـل .والنتيجـة تبـدأ سلسـلة مـن الرفـض المتـوارث ً بيـوت وأسـر غيـر سـوية ،ال يلقـى أفرادهـا مـا يكفـي مـن التأكيد الهوية فيعيشون في ضياع بال شعور بالذات، المطلوب لتكوين ّ وال يعرفـون علـى وجـه التحديـد مـن هـم ومـا الـذي يمكنهـم عمله فـي الحيـاة .وقـد يمضـي مـن يعيـش مثل هـذا الحال عمـره يبحث 150
عـن قبـول لـم يحصـل عليـه عندمـا كان صغيـراً ،أو حتـى كبيـراً. فـآالم الرفـض مبرحـة ،ألنهـا تنبـع من نفـس منطقة الدمـاغ التي يؤكد عالم النفس تنشـط عند الشـعور باآلالم الجسـدية -حسـبما ّ االجتماعي بجامعة ميشيغان ،إيثان كروس -وما يضاعف األلم أن يأتي الرفض من أقرب الناس ،كالوالدين أو اإلخوة أو شريك الحيـاة أو األصدقاء. كمـا يـرى جرنيـر فـي كتابه «الرفض» أننا نعيـش في عالم يضج بالرفـض ،ويقـوم علـى مقاييس أداء؛ وبقـدر ما تلقّى الواحد منا مـن تعزيـز وتأكيـد يجد في هـذه المقاييس فرص ًا جديدة للنجاح، أو فرصـ ًا أخـرى للفشـل .فمـا يجعـل رفـض األداء الـذي يمكـن أن نتعرض له أسـهل في التعامل من غيره من أنواع الرفض وجود ّ األصدقـاء واألهـل ممـن يدعموننـا ويشـجعوننا .ولكـن فـي حالة ال على الرفض الشـخصي غيـاب هـؤالء ،يصبـح رفـض األداء دلي ً يتعـرض للرفض؟ التـام مـن جانـب اآلخريـن .فماذا يفعل من ّ تشير الدالئل إلى أن معظمنا ،ونتيجة لخبرات الرفض في حياتنا، ننمي أنماط ًا من السلوك نحاول من خاللها تحقيق بعض أهدافنا األساسـية لكـي نتجنّـب مزيدًا من الرفـض ،ونحصل على التأكيد والتشجيع الذي نتطلع إليه .والمشكلة هنا أن يصبح ما نقوم به من عمل عبارة عن ردود أفعال نحو شعور الرفض الذي نعيشه. وهـذا يعنـي أننـا نسـمح للرفـض -حتـى لـو حـدث فـي الماضي- بقدر غير عادي من القوة المسيطرة على تفكيرنا وعلى سلوكنا وقراراتنا وحياتنا كلها .وبرغم أن بعض ردود أفعالنا نحو الرفض مفيـدة فـي تحقيـق توافقنـا فـي الحيـاة ،واسـتعادة توازننـاّ ،إل تظـل غيـر مالئمة ،والسـبب أنهـا ردود أفعال لرفـض ال يزال أنهـا ّ يهيمن علينا. يتعمـد البعض التسـويف والالمباالة وللتخفيـف مـن أثـر الرفض ّ قـرر الوقـوع في الفشـل ،ومن ثم واالدعـاء ،حتـى يكـون هـو مـن ّ الرفـض بـد ًال مـن انتظـاره أو الخـوف منـه .ويهـدف هـذا السـلوك عمومـ ًا إلـى تجنُّـب الرفـض الشـخصي ،الـذي قـد يبـدو حتميـاً،
العمل الفني «جاكسون بولوك»
قـرر أن بتحويلـه إلـى رفـض األداء؛ كأن يسـتغني عـن أحـد ألنـه ّ يقـوم بالعمـل بطريقتـه ،وليـس كمـا يود مديـره ،أو يختـار عدم ليبرر عدم نجاحه ...ولكن بعد فترة من الممكن اجتياز االمتحان ّ المسوف الفشل ،وتصبح فكرة النجاح غريبة عليه وغير أن يعتاد ِّ مريحة .فمن الشائع للهروب من الرفض أن نتجنّب المخاطر؛ فال قل مما نكرر محاولة عمل شيء وجدنا فيه الرفض .وربما نقبل َأ ّ ّ نسـتحق مـادام لـن يعرضنـا للرفـض الجارح مـرة أخـرى؛ أي أن نعيـش عند المسـتوى اآلمن ،بعيـدًا عن خطر المغامرة ،فنتجنّب الشـعور بألـم الرفـض الـذي نحملـه معنا من الماضـي ونخاف أن نعيشـه فـي المسـتقبل .غيـر أن البحـث عـن الراحـة فـي أنشـطة وأماكن أخرى ،عادة ما تكون راحة وهمية فهي ال تشفي جروح الرفـض .فالتدخيـن ،وإدمـان تناول الطعـام ،واإلفراط في اللعب أو مشاهدة األفالم أو حتى االنخراط في أعمال تطوعية كأمثلة، ـل مشـكلتنا مـع الرفض ،وكل مـا تفعله أنها لـن تسـاعدنا علـى َح ّ تجعلنا نتجنّبه. المتخصصون مها د يق التي الرفض مع التعامل مقترحات تدور أكثر ّ ّ حـول تجنُّـب أخـذ األمور على المحمل الشـخصي ،فأحيان ًا نواجه الرفـض ألسـباب ال تتعلّـق بنـا ،بـل بالطـرف اآلخـر واسـتعداده تعكر مزاجـه ،أو لعدم وجود لقبولنـا ،أو ربمـا لضيـق وقتـه ،أو ُّ مـكان شـاغر لنـا ،أو أن مـا قدمنـاه جيد ،ولكـن ال يقابل المطلوب تماماً .وهناك مقولة ترى «أن الرفض ال يعني بالضرورة أنك غير جيد ،بل إن الطرف اآلخر قد فشل في معرفة ما يمكن أن تقّدمه». آنسة فيليبس ..لقد كنت مخطئة! مـن تجـارب الرفـض المؤثـرة مـا عاشـه المليارديـر بيتـر دانيـال في المدرسـة على يد معلمته اآلنسـة فيليبس التي كانت تصفعه وتركله وتنعته بالغبي ،وتقول له :لن تفعل شـيئ ًا في حياتك. وكان حينهـا صغيـرًا ونحيفـ ًا وغيـر واثق من نفسـه ويعاني من مشكالت وظيفية تعيق تعلُّمه .ونتيجة لشعوره بالرفض وقسوة
ـل يتعثـر فـي حياتـه ،حتـى أنه لم وظ ّ معلمتـه ،تـرك المدرسـةَ ، يتمكن من تعلُّم القراءة والكتابة ّإل في عامه السادس والعشرين؛ ّ غير أنه في النهاية اكتشـف موهبته في القدرة على اإلقناع التي مكنتـه مـن النجـاح في بيع العقارات واالنطلاق في الحياة حتى اسـتطاع جمـع ثـروة ،بـل وأصبـح مـن المتحدثين األعلـى أجراً، حيـث يلقـي محاضراتـه في الجامعـات حول العالـم في موضوع التعامـل مـع الرفـض .وقـد ألهمتـه معلمتـه بتأليـف كتـاب «آنسـة فيليبس ،لقد كنت مخطئة» .تحّدث فيه عن اآلنسة التي لم تهتم بفهم مشكلته ،وحكمت عليه من منظورها الضيق؛ ونصح الناس يتحيزون في أحكامهم، أن ينتبهـوا لمـن هم على شـاكلتها ،ممـن ّ وكأنهم يعلمون الغيب .فمن وجهة نظره أن كل إنسـان يمكن أن ويتطور ،ومادمنا أحياء ،يمكن أن نتوقّع من اإلنجازات يتحسن ّ ّ ما يدهشنا. كمـا ُف ِ ص َـل تومـاس إديسـون مـن عملـه ،ألنه كان يجـري تجاربه وتـم االسـتغناء عـن سـراً ،حيـث سـكب حمضـ ًا أفسـد األرضيـةّ ، والـت ديزنـي لقصـور خيالـه وأفـكاره .كما ُف ِ ـت أوبرا وينفري صَل ْ من تحرير األخبار لعدم قدرتها على فصل مشاعرها عن األحداث. وأيض ًا ُرِف َض ْت رواية تشارلز ديكنز «توقعات عظيمة» ،ألن الناشر وجدهـا مملـة ،والمصيـر نفسـه طـال عمـل جـورج أوريل الشـهير «مزرعة الحيوانات» بدعوى استحالة بيع قصص الحيوانات في أميركا ،وأدى رفض سـتيف جوب إلى تأسـيس شـركته (آبل)... وكل هذه التجارب تعني أن رفضنا يمكن أن يوجهنا أحيان ًا ألمر أفضـل ،كمـا يمكـن أن يعنـي كـون األفـكار الجديـدة مـن الـوارد أن ترفـض لعدم وجـود معايير للحكم عليها... * كاتبة ومترجمة بحرينية مقيمة في مصر. 151
مدن
بريوت كما عرفتها منتصف الستينيات د .عبدالعزيز املقالح
تصورك المسـبق عنها، بعـض المـدن تفاجئـك بكونهـا أحلى من ُّ ممـا كان عليه في وبعضهـا اآلخـر يفاجئـك بأنـه ّ أقـل في الواقعّ ، األول ،تفوق النـوع مـن مدينـة التصـور .وبيـروت -بلا مبالغـة- َّ ُّ تصور مسبق .كانت النظرة األولى إليها من الطائرة، أي رؤيتها َّ ُّ وهـي نظـرة خاطفـة ال ُيعَتـّد بهـا فـي معرفـة المـدن ،أو الوعـي بمصـادر جمالهـا ،ومـا تقولـه المبانـي والشـوارع ،ومـا تختزنـه جماليـات ،ال تسـتوعبها النظـرة العابـرة الحـارات واألحيـاء مـن ّ الجـو أو حتـى مـن األرض .وقـد كانـت بيـروت ،فـي منتصف مـن ّ السـتينيات مـن القـرن المنصـرم واحـدة مـن المـدن العربيـة التـي تعيـش فـي أحالمـي ،وأشـعر أننـي أعرفهـا ،مـن خالل القـراءة، يتـردد فـي الكتابـات وفـي األحاديـث عـن سـاحة ومـن خلال مـا ّ الشـهداء وسـاحة البـرج ،عـن الروشـة وشـارع الحمـراء ومغـارة جعيتا ،ودور المطابع األشـهر أمثال دار الماليين ،ودار اآلداب، ودار الطليعـة ...إلـخ. الجو ،في شـكل كتاب مفتوح؛ صفحته من كانـت بيـروت تبـدو، ّ األولـى تعانـق البحـر بزرقته وأمواجه ،وصفحته الثانية تعانق الجبـل باخضـراره ومهابتـه .كمـا كانـت -يومئـذ -تعيش عصرها الذهبي ،ثقافياً ،وفكرياً ،وسياسياً ،واقتصادي ًا قبل أن ينـزلق بها وهم كثر -إلى منحدر الصراعات الداخلية والصراعاتاآلخرون ّ مطاطية يشارك الخارجية، وتتحول ،بعد عشر سنوات ،إلى كرة ّ ّ الصغـار والكبـار ،فـي محاولـة منهـم لذبح ناتهـا بمكو فـي اللعـب ِّ ُ وحدتها الوطنية ،وتقديمها قربان ًا لمصالح قوى متنفِّذة ال تريد أن الحرّية، تبقى في الوطن العربي واحة ُيَتنفَّس من خاللها أنسام ّ ويتبلور على ساحتها مفهوم الرأي والرأي اآلخر ،وحتى ال يكون هذا الوطن على صلة وثيقة بالعصر الحديث وقيمه االجتماعية، 152 152
كل لبنان -تمثِّل والسياسية .وكان واضح ًا أن بيروت -التي هي ّ البد مـن تدميره والقضاء على ذلـك األنمـوذج المتقـّدم ،الـذي كان َّ كل جميل وبديع فيه. ّ صيفي ناعم قـادم من البحر نسـيم كان المدينـة، إلـى المطـار مـن ّ ينعش الصدور ،ويعبر خفيف ًا نوافذ السيارة قبل أن تقف بجوار فنـدق «كارلتـون» ،وهـو واحـد مـن أجمل فنادق بيـروت وأحدثها فـي حينـه ...كنـت أصغر أعضاء وفد رسـمي .لم أخضع لتعاليم سـكرتير الوفـد بالبقـاء فـي الغرفـة ،وسـارعت إلـى الخـروج مـن الفنـدق مشـي ًا علـى األقـدام ،أبحـث عـن بيـروت التـي أحببتها عن بعد ،وحفظت ،عن ظهر قلب ،أسماء ميادينها وشوارعها .كانت شـديدة النظافـة مغسـولة بميـاه األمطـار الصيفيـة ،وكان أهلها: رجاالً ،ونسـاء ،يسـيرون بوقار .ولم يكن فيها ما يذِّكرك بصمت صنعاء وخوائها ،وال بصخب القاهرة وضوضائها .صوت البحر، بالقرب من صخرة الروشـة ،يبدو هادئ ًا َّ إال من موجات صغيرة تضرب في صخور الشاطئ برفق .يتوارد الناس زرافات ووحدان ًا إلى هذا المكان السـاحر مع أطفالهم الذين يشـبهون الزهور. قبـل العـودة إلـى الفنـدق ،مررت بإحـدى المكتبـات القريبة منه، حظي أنني، واشـتريت كتابيـن وعـددًا مـن المجلت .ومن حسـن ّ ّ كل أعضـاء الوفد نائمين ،في عندمـا رجعـت إلـى الفندق ،وجـدت ّ انتظـار سـهرة ،قـام بترتيبها رجـل أعمال لبناني كان على عالقة قديمـة برئيس الوفد. كانت لي -قبل زيارتي لبيروت -مئات األحالم العزيزة على القلب، المفكر العظيم ميخائيل نعيمة ،ناسك الشخروب الذي منها زيارة ِّ اعتـزل العالـم ،واختـار أن يعيـش نصـف عمره في منــزل يشـبه ويتأمـل ويحـاول أن يقـول للبشـرية السـادرة في الكهـف ،يكتـب َّ
غيهـا بعـض الكلمـات التـي ذهبـت مـع ريـاح جبل «صنّيـن» ،ولم ِّ الطيبة التي علقت في نفوس تترك سوى القليل جّدًا من األصداء ِّ عدد من المثقَّفين الذين اسـتوعبوا جزءًا من رسـالته اإلنسـانية، أهمّيتها ،ليس بالنسبة إلى العرب وحدهم ،بل بالنسبة وأدركوا ّ إلى العالم أجمع .وما آسف له أن تلك األمنية لم تتحقَّق؛ فقد كان التمرد عليه، ارتباطـي ببرنامـج الوفد ِّ مقيـدًا لي ،رغم محاوالتي ُّ تمكننـي مـن االبتعـاد كثيـرًا عـن المدينة وعن ولكـن فـي حـدود ال ِّ أمـا األمنية الثانية لـي فقد كانت منطقـة الفنـدق الـذي نزلنـا فيـهّ . زيـارة قريـة «بسـكنتا» تلـك التـي ُوِلـد فيها جبران خليـل جبران، وحمـل منهـا حكمـة الحرف وجمـال الكلمة وإيحاءات الريشـة إلى أنحـاء العالـم .لكـن هـذه األمنيـة لـم تتحقّـق -أيضـاً -مـع أمنيات أخـرى ،طويتهـا فـي القلـب انتظارًا لرحالت قادمـة ،ومنها زيارة دار اآلداب ،حيـث تصـدر المجلّـة األشـهر والتـي حملت محاوالتي قراء العربية ،وكانت نافذة للمبدعين العرب، الشعرية األولى إلى ّ من مشـرق الوطن العربي ومغربه. تضمَنهـا برنامـج الزيارة كانت حفلة غـداء في الجبل أجمـل فقـرة َّ بالقـرب مـن «صنّيـن» ،أشـهر جبال لبنـان وأكثرها ارتفاعـاً ،وقد مطلا ،قـدر اإلمـكان ،علـى مشـاهد مـن روعـي أن يكـون المطعـم ّ ً بيروت والمناطق القريبة منها .كان منظرًا فاتن ًا يأخذ باأللباب، وأن تـرى تفاصيـل المدينـة أو جـزءًا مـن تفاصيلهـا وامتدادتهـا وتعرجاتها من مكان ثابت غير عابر ،كما هو الحال مع الطائرة، ُّ فإنـه يصعـب علـى الكلمـات نقـل مؤثِّراتـه ومـا يتركه مـن انطباع وترهلت ،وزحفت على مساحات بديع .لم تكن بيروت قد َّاتسعت، َّ واسـعة مـن الضـوء واالخضرار .وبعـد دقائق من تناولنا الغداء، فـي ذلـك المنعطـف الهـادئ مـن الجبـل ،بـدأت األمطـار الغزيـرة
دف َعنـا ،مـع قطراتـه األولـى ،إلـى االنتقـال إلـى فـي الهطـول؛ مـا َ داخل المطعم الزجاجي لنتابع أجمل مشهد يمكن أن ُيتاح للبشر االستمتاع به :كانت السيول تتدفَّق ،وتأخذ مجراها إلى األسفل، وربما إلى البحر .وفجأة توقَّف المطر، ربما إلى بعض الوديانّ ، ّ تعطر وأشرقت الشمس .وفي طريق العودة ،كانت رائحة المطر ِّ الجـو ،وتنعـش الصدور ،وبدأت أشـجار الفاكهـة المزروعة على ّ نقية للعين فتبدو ميـاه، من بها علق مـا تنفـض الطريـق جوانـب ّ وناصعة شفَّافة. يـر بيـروت مـن أقـرب مـكان لهـا فـي الجبـل ال يمكـن لـه إن مـن لـم َ االدعاء بأنه رآها تماماً ،أو استوعب تكوينها الديموغرافي ،كمدينة ّ أحس َن اإلنسان اختيار موقعها من ناحية ،وأغدقت الطبيعة عربية، َ عليها من الجمال ما يفيض عن حاجتها ،من ناحية ثانية .وهنا، تجدر اإلشـارة إلى دور اإلنسـان وموهبته في توظيف اإلمكانات هم الجماليـة للموقـع ،واإلفـادة من ّ كل ربوة أو صخرة ،فالبشـر ّ وحدهم الذين يصنعون مدنهم لتكون قريبة من الوجدان ،وكم من وسَـلبها مدينة عربية أو أجنبية أفسـدها الذوق المتخلِّف ألبنائها َ ال خصوصيتها! .وال يكفي -على اإلطالق -أن يكون الموقع جمي ً ّ ّية تأسـر الروح قبل العين .وما كان لبيروت ن ف لمسـة من إذا خال َ ّ هـذه اللوحـة المبهـرة أن تكـون علـى مـا هـي عليـه مـن دون تلـك ّية التي رافقت نشـوءها ،وأفادت من الذوق العالي اللمسـات َ الفنّ أهـم انطباع خرجت به من والـذكاء ّ اللمـاح ألبنائهـا .وال أخفـي أن ّ تلـك الزيـارة القصيـرة كان يتمحـور حـول نظافـة بيـروت ذلـك أول انطباع وآخر الزمـان ،وال غرابـة فـي أن هـذا الشـرط يعكـس َّ انطبـاع عن المـدن الراقية واألرقى. 153 153
تاريخ
التعا ُيش يف القدس خالل القرن العرشين
إبراهيم صقر الزعيم
(باحث يف شؤون القدس) قـّدم اإلسلام نمطـ ًا تربويـ ًا اجتماعيـ ًا فريـداً ،مـن خلال تحديـد مبـادئ الشـريعة اإلسلامية ،التـي تصـوغ العالقـات اإلنسـانية فـي أي مجتمـع ،فأرسـى بذلـك أصـو ًال ثابتـة فـي رؤيـة الكـون والحيـاة والعالقـات بيـن األحيـاء. إن العالقـات اإلنسـانية فـي اإلسلام ،تنطلـق من رؤية فلسـفية والفكرية ،واالعتراف تقوم على أساس احترام التعّددية الدينية ّ اإليجابـي باآلخـر ،وذلـك فـي إطـار السـعي إلـى بنـاء حضـارة اجتماعيـة ،تعمل لخير البشـرية. وقـد امتثـل المسـلمون فـي القـدس لهـذه المبـادئ ،ولذلـك نجد أن تحولت إلى واقع معيشي، النصوص الشرعية والمبادئ التربويةّ ، تتجلّى صوره في الحياة الدينية واالجتماعية في المدينة. وقبـل أن أبـدأ الحديـث فـي عنـوان هـذا المقـال ،أنتقـل بالقـارئ التعايـش السـلمي. الكريـم ،لنتعـرف إلـى مفهـوم ُ
مفهوم التعايُش السلمي: جاء في «لسان العرب» البن منظور «العيش الحياة ...،وعايشه أي عاش معه ،والعيشة ضرب من العيشُ ،يقال :عاش عيشة 154
صدق وعيشـة سـوء .وفي المعجم الوسـيط «تعايشـوا :عاشوا على األلفة والمودة. التعايـش السـلمي ،فـي أمـا د.عبـد العزيـز التويجـري فيعـرف ُ والتعايـش بيـن األديـان في أفق القـرن الحادي كتابـه «اإلسلام ُ والعشـرين» ،بأنه اّتفاق طرفين على تنظيم وسـائل الحياة في مـا بينهمـا وفـق قاعـدة يحددانهـا ،وتمهيد السـبل المؤديـة إليها. أسـس اإلسلام عالقـة المسـلمين بغيرهـم علـى المسـالمة وقـد ّ واألمان ،فهو ال يجيز قتل النفس لمجرد أنها تدين بغير اإلسالم، بل يأمر أتباعه معاملة مخالفيهم بالحسنى ومبادلتهم المنافع، اك ُـم َُّ يـن َل ْـم الل َع ِ وهـذا واضـح مـن قولـه تعالـىَ : ﴿ل َيْنَه ُ ـن َّالِذ َ ِ ِ َ وه ْـم ر ب ت ن أ ـم ك ار ي د ـن م ـم الد ِ ِ ْ ْ وك ْـم ِفـي ِّ يـن َوَل ْـم ُي ْخِر ُج ُ ُيَقاِتُل ُ َ ُْ وك ْ َ َ ُّ ُ َّ ِ ِ ِ َ ين﴾ (الممتحنـة.)8: َوُتْق ِس ُ ْمْقسـط َ ـطوا ِإَلْيه ْ ِـم ِإ َّن الل ُيحُّـب الُ أمـا دليلـه مـن السـنة ،فقـد روى أبـو داود بسـند صحيـح عـن ـن َظَل َـم ُم َع ِ اهـ ًدا، النبـي (صلـى اهلل عليـه وسـلم) أنـه قـالَ« :أَل َم ْ يب اقِتِهَ ،أ ْو َأ َخَذ ِمْن ُه َش ْـيئًا ِب َغْيِر ِط ِ َأ ْو ْانَتَق َص ُـهَ ،أ ْو َكلََّف ُـه َف ْـو َق َط َ امِة». َنْف ٍ يج ُـه َي ْـو َم اْلِقَي َ ـسَ ،فَأَنـا َح ِج ُ سـأفصل الحديث التعايش السـلمي، وبعـد التعـرف إلـى مفهـوم ّ ُ التعايش هي: محاور، ثالثة خالل من في موضوع هذا المقال، ُ
والتعايش الفكري. والتعايش االجتماعي، الدينـي، ُ ُ
أ َّو ًال :التعايُش الديني: حظيت الحياة الدينية في القدس في العهود اإلسالمية المتعاقبة الحرّيـة ،فلـكل ديانـة الحـق فـي بنـاء أماكـن العبـادة، بكامـل ّ بحرّيـة تامة. الدينيـة الشـعائر وممارسـة ّ
المقدسات اإلسالمية والمسيحية: تضـم القـدس العديـد مـن اآلثار اإلسلامية ،التـي تتمتع بتعظيم المسلمين ،أبرزها المسجد األقصى المبارك ،كما أن فيها مجموعة مـن اآلثـار المسـيحية ،أهمهـا كنيسـة القيامـة ،التـي ُش ِّـيَد ْت عام 335م. الحرّية كفلت التي والسنة، الكتاب نصوص ننزل أن أردنا وإذا ّ كل فريق في ممارسة المسلم، البلد داخل ّة ل م لكل الدينية وحرّية ّ ّ شـعائره الدينيـة ،علـى الواقـع فـي مدينة القدس ،فإننـا نجد أن المسلمين حفظوا للمسيحيين هذا الحق ،فعلى سبيل المثال ذكرت سيرين شهيد في كتابها «ذكريات من القدس» أن حي المصرارة بالقـدس ،تختلـط فيـه أصـوات أجـراس الكنيسـة األرثوذكسـية باألذان المنبعث من المساجد المجاورة. ولم يتوقّف األمر عند ذلك ،فقد ورد في كتاب «الوجود المسيحي فـي القـدس خلال القرنيـن التاسـع عشـر والعشـرين» ،للمؤلِّـف رؤوف أبو جابر ،أن المسـلمين عرفوا حق إخوانهم المسـيحيين في المدينة ،في الحفاظ على مقدساتهم ،فعند ترميم قبة الصخرة المشرفة بكلفة زادت على السبعمئة ألف دينارُ ،جِم َع ْت من العالم العربي واإلسالمي عام 1958مَ ،تّمت أيض ًا صيانة بناية كنيسة القبـر المقـدس ،بتكلفة زادت على نصف مليـون دينار ُجِم َع ْت من الهيئات المسيحية الثالث ،وهي :األرثوذكس ،والالتين ،واألرمن. وفـي مقابلـة خاصـة مـع د .جميـل حمامـي (محاضر فـي جامعة القدس وعضو الهيئة اإلسلامية المسـيحية) ،اعتبر أن السـر في تلـك المعاملـة الفريـدة ،يعـود إلـى إرث المسـلمين العظيـم فـي عالقتهـم بأصحـاب الديانـات ،ونظرتهـم للمسـيحيين علـى أنهم مواطنـون لهـم كامـل الحقـوق ،وينبغـي أن يكـون التعامل معهم نابعـ ًا مـن الفهـم الديني لآلخـر واحترامه. التعايش وسـمو صفاء بـل إن كنيسـة القيامـة أكبـر شـاهد علـى ُ الدينـي بيـن المسـلمين والمسـيحيين ،فقـد ارتضـى المسـلمون والمسـيحيون أن تكـون مفاتيـح كنيسـة القيامـة ،مؤتمنـة منـذ أجيال عديدة بيد عائلتين مسلمتين ،هما :نسيبة وجودة ،وذلك بنـاء علـى طلـب جميـع الطوائف المسـيحية. فمـن بـاب حرص المسـلمين على األمن واالسـتقرار فـي المدينة، سـلم صلاح الديـن األيوبـي مفاتيـح الكنيسـة إلـى عائلة غضيه «جودة» لالحتفاظ بالمفتاح ،وآل نسيبة لفتح الباب وإغالقه ،ثم إعادة المفتاح آلل غضيه ،كما ورد في كتاب «الحياة االجتماعية في القدس في القرن العشـرين» ،للمؤلِّف صبحي غوشـة. ولمعرفة دور المسـيحيين في الدفاع عن المقدسـات اإلسلامية، مـن وجهـة نظـر المسـلمين ،أجـرى الباحـث مقابلـة مـع د .ناجح بكيرات (مدير المسـجد األقصى المبارك) ،قال فيها إن األب عطا
مـرة فـي الوقت اهلل حنـا زار المسـجد األقصـى المبـارك أكثـر مـن ّ الحاضر ،وعندما كان ُيمنع من دخوله ،كان يشارك في وقفات احتجاجية ،تعقبها مصادمات مع االحتالل اإلسرائيلي ،فيدخل رغم أنف الشرطة إلى داخل المسجد ،متحّدي ًا ادعاءات االحتالل، أنه ال يجوز للمسـيحي الدخول إلى األقصى. موحدًا في وجه المخططات كان التضامن اإلسلامي المسـيحي ّ اإلسـرائيلية ،التي تسـتهدف المقدسات اإلسالمية والمسيحية، يعضـد هـذا مـا ورد فـي مقابلـة أجراهـا الباحـث مـع د .عكرمـة صبري (خطيب المسجد األقصى المبارك) ،حيث قال إن المسلمين والمسيحيين كانوا يعقدون مؤتمرات صحافية مشتركة ،يشارك فيهـا مسـلمون ومسـيحيون؛ لفضـح الممارسـات اإلسـرائيلية الخطيـرة فـي القـدس ،والتحذير من االعتداءات على المقدسـات اإلسلامية والمسـيحية ،ونتيجـة لهـذه الوحـدة اإلسلامية يهب كله للوقوف في وجه المسـيحية ،كان الشـعب الفلسـطيني ّ االحتلال سـواء كان االعتـداء على مسـجد أو كنيسـة. وهنـا يمكـن أن نعـود فـي تفسـير تلـك المواقـف ،إلـى المنهـج وحرّية مزاولة حرّية اختيار الدينّ ، التربوي النبوي ،الذي قرر ّ الشـعائر الدينيـة ،وهـي أصـل مـن أصـول اإلسلام ،فال ُينسـب إلـى النبـي ﷺ أنـه حمـل أحـدًا علـى اعتنـاق اإلسلام .وفـي هـذا ْغ ِّي َفَم ْن الد ِ يقـول تعالـىَ : ـن ال َ ﴿ل ِإْك َـر َاه ِفـي ِّ الر ْش ُـد ِم َ ين َقْد َتَب َّي َن ُّ ِ ِ ِ َِّ ْ ْوْثَقى َل ل ا ة و ـر ْع ل ا ب ـك س م ت اس د ق ف الل ب ـن م ؤ ي و ـوت َيْكُف ْـر ِب َّ ِ ِ َ َ ْ َ الط ُ َ ُ َْ ُ اغ ِ َ ُ ْ َْ َّ ِ ِ ُ يم﴾ (البقـرة.)256: ل ع يع ـم س الل و ـا ه َ ٌ َ ٌ ـام َلَ َ ْانِف َص َ
األعياد اإلسالمية والمسيحية: يقول صبحي غوشة ،في كتابه «الحياة االجتماعية في القدس كل عـام بعيـد فـي القـرن العشـرين» ،إن المسـيحيين يحتفلـون ّ الفصح المجيد ،وهو العيد الكبير بالنسبة للمسيحيين ،وتجرى فيه االحتفاالت لمدة أسـبوع أو أكثر ،وما يزيد هذه االحتفاالت بهجـة هـو اقترانهـا بموسـم النبـي موسـى ،الـذي بـدأه صلاح الدين األيوبي بعد تحرير القدس ،فكان المسلمون والمسيحيون يحتفلـون بأعيادهم بكل وئام. كمـا كان المسـيحيون يشـاركون المسـلمين فـي احتفـاالت شـهر رمضـان المبـارك ،ومـن بينهـا عائلـة جوهرية (مسـيحية) التي كانت تشارك العائالت المسلمة في سهرات رمضان ،وفي ذلك يقـول واصـف جوهريـة فـي مذكراتـه« :كنـت وإخوانـي نشـارك في حفلة الذكر في مقام الشـيخ ريحان المجاور لدار الجوهرية وننشـد معهم األناشـيد الدينية». وهنـا يذكـر لنـا د .ناجـح بكيرات ،في المقابلة معه ،أن مدرسـة كل سنة إفطارًا جماعي ًا في شهر الفرير (مدرسة مسيحية) تقيم ّ رمضان المبارك ،تشرف عليه الطوائف المسيحية ،وتدعو إليه كل مـن :مجلـس األوقاف، مجلـس األوقـاف ،وفـي المقابـل دأب ّ الـذي يرأسـه عبدالعظيـم سـلهب ،والهيئـة اإلسلامية ،التـي يرأسها الشيخ عكرمة صبري ،على توجيه دعوات للمسيحيين تخـص القدس. للمشـاركة فـي بحـث القضايا التي ّ كان ذلك التآخي بين أبناء الديانتين ،من منطلق القاعدة التربوية المفكـر اإلسلامي اإلسلامية ،أن االختلاف سـنة كونيـة .يقـول ّ محمـد عمـارة إن هـذه التعّدديـة هـي في إطـار وحـدة األصل الذي 155
خلقه اهلل سبحانه وتعالى .فاإلنسانية التي خلقها اهلل من نفس تتنوع إلى شعوب وقبائل وأمم وأجناس وألوان .وثقافات واحدة ّ وحضارات في إطار المشـترك اإلنسـاني الواحد ،الذي ال تختلف تتنـوع إلـى عـادات وتقاليد وأعـراف متمايزة فيـه الثقافـات .كمـا ّ حتـى داخل الحضـارة الواحدة ،بل والثّقافة الواحدة.
ثانيا :التعايُش االجتماعي: التعايـش االجتماعـي بيـن المسـلمين والمسـيحيين فـي شـكل ّ ُ القـدس ،ركيـزة أساسـية مـن ركائـز التربيـة في المجتمـع ،فقد عاش المسلمون والمسيحيون جنب ًا إلى جنب منذ الفتح اإلسالمي وحتـى هـذا التاريـخ .وفـي هـذا اإلطـار تذكـر عبلـة المهتـدي فـي كتاب «القدس والحكم العسكري البريطاني (1920 - 1917م) ،أن بيوت المسلمين والمسيحيين متجاورة مع بعضها البعض في بيت المقدس ،ففي األحياء اإلسالمية تعيش عائالت مسيحية، وفـي حـارة النصارى تعيش عائالت مسـلمة.
العالقات االجتماعية بين المسلمين والمسيحيين: يـرى الباحـث أن هـذا االختلاط فـي أماكـن السـكن جعـل العادات االجتماعيـة واحـدة ،فمـن خلال تصفُّح صفحات كتـاب «القدس العثمانية في المذكرات الجوهرية» ،للمؤلِّفين عصام نصار وسليم 156
تبين أن المسيحيين والمسلمين كانوا يرتدون الطربوش، تماري ّ وممـن كانـوا يحافظـون علـى هـذه العـادة مـن أبناء طائفـة الروم األرثوذكـس :جـورج أبـو زخريـا ،وإليـاس المشـبك ،وخليـل السكاكيني ،ومن طائفة الالتين والروم الكاثوليك :متيا سروفيم، وأنطـون سـروفيم ،وحنـا بطاطـو ،ومن المسـلمين :عبد السلام طوقان الحسيني ،وموسى كاظم الحسيني ،وراغب النشاشيبي. يقـول رفيـق خـوري (كاهـن والهوتـي فلسـطيني ،مـن كهنـة البطريركيـة الالتينيـة – القـدس) فـي مقابلـة خاصـة معـه« :إن العالقات الوطيدة بين العائالت المقدسية العريقة ،دائمة وتمتد كل عائلة مسـلمة كان لها جذورهـا إلـى أجيـال ،ويمكـن القول إن ّ رديـف مسـيحي ،فـي الحيـاة االجتماعيـة ،وغيرها». سطرها ومن ذلك أنهم كانوا يتزاورون في ما بينهم ،ففي رسالة ّ خليل السـكاكيني في يومياته ،البنه «سـري» عندما كان يدرس في أميركا ،أن موسى العلمي وزوجته ورجائي الحسيني زاروا بيته ،وأن عادل جبر وموسى العلمي زاراه ،ثم انطلقا إلى بيت كمال إسماعيل عضو المجلس اإلسالمي األعلى. كان المسـلمون والمسـيحيون فـي القـدس ،يتقاسـمون الطعـام والشـراب فـي األوقـات الصعبـة ،وفـي المناسـبات يقفـون مـع بعضهم البعض ،وهذا ما حدث مع عائلة جوهرية (المسيحية)، حيـث كان الرجـال والنسـاء مـن العائلات المسـلمة التـي كانـت تجاورهـم يزورونهـم فـي األفراح واألتـراح ،ومن هذه العائالت: عبـد القـواس الـداودي ،ومصطفـى الصالحانـي ،والسـمان،
واألنصـاري ،وذلـك وفـق مـا ورد في كتـاب «القدس العثمانية فـي المذكـرات الجوهريـة (1904-1917م)» ،للمؤلِّفيـن سـليم تمـاري وعصـام نصـار. حـب المسـلمين والمسـيحيين ظهـر الـزواج وفـي مناسـبات ّ للقـدس ،مـن خالل األهازيج الشـعبية ،ورغـم أنها كانت ذات صبغـة اجتماعيـة فـي مناسـبات الـزواج ،لكنهـا كانـت تحمـل سياسـية ،د .ناديـة البطمـة ،تقـّدم معانـي دينيـة ،ودالالت ّ لنـا فـي مقالهـا «صفحـات ثقافيـة مقدسـية مطويـة قبـل نكبـة 1948م» ،نموذج ًا من هذه األهازيج ،فهذه األغنية كان يغنيها المسلمون:
وين أزفك قلي
يا حلو يا مزيون
عالصخرة الشريفة
في فاي الزيتون
عالصخرة الشريفة
وبين الحرمين
أزفك قلي وين
أزفك قلي وين
عالصخرة الشريفة
السود
يا لمدلل وين يا بو العيون
والنبي داود
ويغنـي المسـيحيون األغنيـة نفسـها ،ولكـن بذكـر األماكـن المسـيحية المقدسـة.
أزفك قلي وين
يا حلو يا زين
في الصخرة الشريفة
وبين الهيكلين
في الصالة الشريفة
قدام المسيح
وين اكليلك قلي
يا حلو يا منيح
التكافل االجتماعي: استجاب المسلمون للتعاليم اإلسالمية ،التي تحث على مساعدة المحتـاج والملهـوف ،سـواء كان مسـلما أم ال ،وقـد تجلّـى ذلك مـن خلال صـور التكافل االجتماعي في القدس ،وهو بال شـك منهج تربوي يستفاد من السنة النبوية والتاريخ اإلسالمي. فعلـى سـبيل المثـال أشـار تمـاري ونصار إلى أنه عندما شـعر سـليم الحسـيني أن والـد واصـف جوهريـة يعيـش ظروفـ ًا اقتصادية صعبة خالل عيد الفصح ،أرسل إليه مؤونة البيت، ّ التـي شـملت حاجيـات ومالبـس العيد.
ثالثا :التعايُش الفكري: التعايش بين المسلمين والمسيحيين تتبع هذا النوع من يمكن ُّ ُ من خالل :التعليم ،والثّقافة.
أ َّو ًال :الحياة التعليمية: بنـاء علـى مـا يقولـه رجـا عرابي في كتـاب «الكافي فـي تاريخ ً القـدس» ،فإنـه يوجـد فـي القـدس مـدارس إسلامية خاصـة؛ منهـا :دار األيتـام اإلسلامية ،ومدرسـة البنـات اإلسلامية، عربيـة وكليـة روضـة المعـارف الوطنيـة .ومـدارس حكوميـة ّ ّ العربيـة ،ودار المعلمـات، (إسلامية مسـيحية)؛ منهـا :الكليـة ّ والمدرسـة البكريـة ،ومدرسـة المصـرارة .كمـا يوجـد فيهـا مـدارس مسـيحية خاصـة؛ منها :المدرسـة االسـتعدادية للروم األرثوذكس ،المدرسـة األرثوذكسـية للبنات ،مدرسة السريان األرثوذكس .وقد عمل المدرسون المسلمون والمسيحيون مع ًا في مدرسـة واحدة ،سـواء كانت إسلامية أم مسيحية ،وكذلك درس الطلاب مـع بعضهـم البعـض. ورغـم هـذه الحالـة مـن االنسـجام بين الفريقين في المؤسسـات التعليمية التي تتبع لكل منهما ،فإن هناك بعض الحاالت الشاذة عكرت صفو هذه العالقة ،فوفق ًا لبكيرات في المقابلة معه، التي ّ فقد حاولت مدرسة راهبات الوردية (مسيحية) أن تمنع الطالبات المسـلمات من ارتداء الحجاب ،لكن ميشـيل صباح ،والمعلمات عبروا عن المسيحيات في المدرسة ،وغيرهم من المسيحيينّ ، رفضهم لهذه الخطوة ،وأعلنوا تضامنهم مع المسلمين.
ثانيا :الحياة ّ الثقاف ّية: العامـة، كان أهـل القـدس يلتقـون لقـراءة الكتـب فـي الحدائـق ّ والمقاهي .يصف لنا سليم تماري تلك األجواء في بحثه «مقهى الصعاليك وإمارة البطالة المقدسـية» ،فيقول عقدت في قهوة المختـار (المعروفـة بمقهـى الصعاليـك فـي مـا بعـد) التـي كان أدبيـة دورية عرفت بـ«حلقة يملكهـا عيسـى الطبـة ،اجتماعات ّ األربعاء» ،ومن جملة َم ْن كانوا يحضرون هذه الحلقة ،إضافة إلـى خليـل السـكاكيني ،عـادل جبـر ،وإسـعاف النشاشـيبي، وإسحق موسى الحسيني ،ونحلة زريق ،ومن خارج فلسطين أحمـد زكـي ،وخليل مطران. أمـا كتـاب «القـدس العثمانيـة فـي المذكـرات الجوهريـة (1904- فيفصـل موضـوع تلـك اللقـاءات ،بقولـه« :كانت تلك 1917م)»ّ ، اللقـاءات تناقـش فنـون األدب العربـي ،فقـد كان نخلـة زريـق (مسيحي) ،صديق ًا حميم ًا آلل الحسيني ،فكان حسين الحسيني يزوره مع كامل الحسيني (مفتي القدس آنذاك) ،ويبحثون مع ًا في اللّغة والشعر ،ثم يغني لهم واصف جوهرية بعض الموشحات». يتبيـن أن المجتمـع المقدسـي يرفـل مـن خلال هـذا العـرضّ ، بروح السماحة ،فالسماحة واألخوة ليست تكلف ًا ظاهري ًا عابراً، وليس مردها الخوف من معاتبة المجتمع أو مساءلة القانون، سـجية عنـد أهل القدس. بـل إنها ّ ونرى أن المسلمين والمسيحيين في القدس ،نجحوا في تعزيز الوطنية ،وإرساء قواعد مقاومة المطامع قيم التفاهم والشراكة ّ ُ العربية، بالحقوق التمسـك سـس أ على المبنية اإلسـرائيلية، ّ والنضـال المشـترك علـى كافـة األصعدة للدفاع عن المقدسـات السياسية ،وما اإلسالمية والمسيحية ،على الرغم من التقلبات ّ ترتـب علـى ذلـك من آثار صعبة على مختلف مجاالت الحياة. 157
صفحات مطوية
ّ والعقاد.. نجيب محفوظ عالقة تو ُّتر أم سالم؟!
محمد عبدالرحيم الخطيب المهتميــن باألدب ،وبالروايــة -على وجه شــاع لــدى كثير من ّ بتوتــر العالقة بيــن نجيب محفوظ انطبــاع الخصــوص- عام ُّ ّ والعقّادَ ،وَمَر ُّد هذا االنطباع مقالة واحدة كتبها نجيب محفوظ، فــي خالل مســيرته الكتابيــة الطويلة ،ينتقد فيهــا وجهة نظر القصة لصالح الشعر ،الذي جعله العقّاد التي ّ حط فيها من شأن ّ «من خيرة ثمار العقول». والمتتبــع لمــا قاله محفوظ ،فــي ثنايا مقاالتــه وحواراته عن ِّ العقّــاد ،يجــد أن العالقة بين الرجلين لم تكــن على هذا النحو التوتر والقلق ،بــل كانت ،على العكس مــن ذلك ،تماماً، مــن ُّ ســيما أن (محفوظاً) لم يكن من ذلك عالقــة ّ مودة واحترام ،ال ّ ال عن معرفته بالعقّاد: النوع الذي يستعدي اآلخرين عليه ،فض ً ومكانة .حتى ذلك المقال الذي انتقد فيه وجهة قــدراً ،وفضالً، ً نظر العقّاد كان فيه شديد الحرص على أن يوصل رسالته من أية إساءة أو غير أن يثير حفيظة العقّاد ،فلم يذكر كلمة تحمل ّ الرد عليه، سخرية ،من قريب أو بعيد؛ ما دعا العقّاد إلى عدم ّ وهــو المعروف عنه حّدته مع من ُيســيء إليــه ،وينتقص من قدره. ــر للعقّــاد ،في مقاالت نجيب محفــوظ األولى ،كان في أول ِذْك ٍ ّ مقال بعنوان «ثالثة من أدبائنا»( ،)1وقد افتتح مقالته باإلشارة 158
إلــى أن النهضة األدبية -وقتذاك -تنتقل ،من عصر إلى عصر، بفضل ثالثة من األدباء الكبار الذين َع َّدهم الممثِّلين لتلك النهضة األدبيــة الجديدة ،وهــؤالء الثالثة هم :العقّاد ،وطه حســين، وسالمة موسى. ٌ محفــوظ العقّــاد على رأس هــؤالء األدبــاء ،وقّدمه وقــد جعل اآلخرْين؛ ألنه أديب الفطرة والبداهة ،وصاحب ن ي األديب علــى َْ َ ماهيات الحقائــق من أقــرب طريق الموهبــة الــذي ينفــذ إلــى ّ ومــن غير تكلُّف واقتســار ،يقــول« :العقّاد هو رجــل البداهة، ونقصد بالبداهة الفطرة البصيرة ،أو اإلحســاس الصادق ،أو الطبع الســليم( ،»)2وهذه الموهبة الكامنــة في العقّاد موهبة ماهياتها ،وهي درجة من طبيعية «تنفــذ إلى الحقائق فتعرف ّ الصوفي باالجتهاد ،ويحوزهــا الفنّان بفطرته الكمال يبلغهــا ّ ّية المركوزة في العقّاد، ن الف الفطرة إلى وإلماحته وطبعه(.»)3 ّ المَلكة الصوفية لديــه «فالعقّاد إلــى إشــارته إلى تنضم هنــا، ّ َ يســمو باألدب إلى الذروة من الكمال والتبجيل ،وهذا طبيعي؛ بجل المتصوف ،وكيف تطلب من ألن ملكته ملكة ِّ ِّ المتصوف أال ُي ِّ معبوده الذي يوحي إليه بأسرار الغيب؟!(.»)4 شاعريته ،فإنها وفي الوقت الذي ُينكر فيه الكثيرون على العقّاد ّ ّية والبصيرة ن الف -أي شاعرية العقّاد -من أكثر تجلّيات البصيرة ّ
الصوفيــة لــدى العقّاد ،مــن وجهة النظر المحفوظيــة ،يقول: ّ مما نقول فاقرأ شعر العقّاد .والعقّاد في «فإذا أردت أن تتحقّق ّ مميزاته أنه ليس نظرنا ،شــاعر فنّان قبل ّ أهم ّ كل شيء ،فمن ّ لفظيــا ،وإنما هو معنى عميق ُقشــورًا ســطحية ،وليس نغم ًا ًّ ويتغير يتحرك حي ًا يكاد َتُذ ُ وق ُه ُ َّ وت ِح ُّســه ،وتعرف فيه روحــ ًا ّ َّ كلّما راجعته ،وهــذه خواص النفس التي يعجز العقل والذكاء الحساسة المرهفة عن أن َيِل َجا بابها ،والتي تنفذ إليها البصيرة ّ فتلتقطها ،بما فيها من حياة وغموض(.»)5 متبدية في التجديد ّــاد، ّية ،لدى العق ِّ كمــا أن هذه البصيرة الفنّ حرّية الــذي يدعــو إليه ،وهو تجديد ،غاية ما يطمــح إليه هي ّ الحرّية ،يضيف العقل والشعور ،والتخلُّص من ّ كل قيد ُي ِّ قيد هذه ّ محفوظ« :وأثر الفطرة السليمة يظهر فيما يدعو إليه العقّاد من تجديد في الشعر واألدب ،والتجديد عند العقّاد ليس هو التجديد عادة -أنه الدعوة إلى مذهب عند غيره ،فنحن نفهم من التجديدً - جديــد ،على حســاب مذهــب قديم ،كالدعــوة إلــى الرياليزم أو خاص ،إنّما األيدياليزم ..وهكذا .لكن العقّاد ال يدعو إلى مذهب ّ يثــور على التقليد والفناء فــي الغير ،ويدعو إلى تحرير العقل واش ُعْر بشعورك» ،ومثل هذا المبدأ «اعِق ْل بعقلكْ ، والشــعورْ : معيــن؛ ألن الدعوة إلى مذهب مذهب إلى الدعوة يتناقــض مــع َّ فلست من أتباع معين هي نوع من التقليد ،وإنك إذا قلَّدت العقّاد َّ َ حياة كهذه الحياة المتجّددة الفن ً العقّاد! ،وهذا الرأي يجعل من ّ السير إلى األمام(.»)6 الم َّطِرَدِة ِ ِّ المتغيرة ُ سر وفي ٍ حوار أجراه فؤاد دوارة مع نجيب محفوظ ،سأله عن ّ الخاص بالعقّاد ،وعن أثــر العقّاد في تفكيره ،فكانت إعجابــه ّ أولها إجابــة محفوظ« :بالطبع ..لقد خلق عنــدي قيم ًا عزيزةَّ ، تكسب ،وكان ،دائماً ،يرتفع كفن قيمة األدبٍّ ، ٍ ســام ال وسيلة ُّ الحرّية في بالفن إلى مستوى الرساالت َّ المقدسة .وثانيها ّ أهمّية ّ نظرياته في الشــعر التي ثم ً، الفكر وفي حياة اإلنســان عموما ّ أول عنده عرفت وكذلــك ً، ا جديد تذوق ًا ّ أتذوق الشــعر ُّ جعلتنــي َّ قصة تحليلية نفسية ،وهي (سارة)(.»)7 ّ ومن األمور التي تأثَّر فيها نجيب محفوظ بالعقّاد ،دور األديب ّية المختلفة في المجتمع ،يقول: في لفت األنظار إلى القيم الفنّ «في أواخر العشــرينيات الماضية ،وقد كنت وقتها ناشــئ ًا في المرحلة النهائية من الدراســة الثانوية ،قرأت مقا ًال للعقّاد عن تعجبت جــّدا لذلك، رســام اســمه (محمود ســعيد) ،وقد ّ فنّــان ّ فالفــن ،فــي ذلك الوقت ،لم يكن لــه وجود كبير في المجتمع، ّ ال عن أحــد الفنّانين؟ ،وقد فكيــف يفرد العقّاد الكبيــر مقا ًال كام ً تناقشت في هذا مع بعض أصحاب الرأي ،فقيل لي :إن األديب ُ ليست وظيفته األدب وحده ،إنما عليه أن يدرس الفنون كلّها، الفــن التشــكيلي ،والموســيقى ،وغيرها ،ينهــل منها ما مثــل ّ يســتطيع .ولقد كان محمود ســعيد هو الــذي َعّرفني إلى عالم الفن التشكيلي ،وقد اكتشفت ،بعد ذلك ،أنه كان ُيقام معرض ّ سنوي وحيد في شارع (إبراهيم باشا) في القاهرةُ ،تعرض فيه ّ خاصة ،في ذلك جميع أعمال الفنّانين ،فلم تكن هناك معارض ّ العام الذي تعودت ارتياده الوقتّ ، لكل فنّان .وفي هذا المعرض ّ مرة ،ولوحاته ل ألو سعيد محمود أعمال إلى فت تعر ّ َّ ّ كل ســنة َّ مخيلتي ،بألوانها ،مثــل( :بنات بحري) مــا زالــت منطبعة في ِّ و(بائع العرقســوس) ،والكثير من البورتريهات النسائية التي
يجسد الجمال الشعبي كما ُ اشــتهر بها ،والتي اســتطاع فيها أن ِّ أكد وقد ً، ا عظيم ال رج لم يفعل أحد من قبله ،وقد كان -بالفعل- ً َّ خاص ًة بعد لي ،بفنّه المتميز ،القيمة الحقيقية ّ للفن التشكيليّ ، ِّ أن علمت ،آنذاك ،أنه كان مستشاراً ،لكنه ترك القضاء ،ووهب للفن ،رغم أن وظيفة المستشار كانت واحدة من أرقى وقته كلّه ّ األيام ،وقد كان لذلك تأثير على القرار الوظائف في مجتمع تلك ّ الذي اّتخذته بعد ذلك بسنوات ،حين تركت الفلسفة التي درستها وتفرغت لألدب»(.)8 بالجامعةَّ ، ود واحترام عالقة كانت الرجلين بين العالقة أن ومما يدلّنا على ّ ّ المرة تين: مر لــه ّاد ق الع إنصاف عن محفوظ ذكره مــا وتقديــر، ّ َّ تقدموا تقدم لمسابقة مجمع اللغة العربية ضمن من َّ األولى حين َّ بقصصهم ،واختلفت اللجنة ،وكان المازني ضمن فريق اللجنة، وفــي أثناء مرور العقّاد عليه مصادفة ،كي يعودا معاً ،وجدهم واألزهريين يريدون التقليدييــن مختلفيــن حول األمر :جماعــة ّ ّ إعطاء الجائزة لمحمد ســعيد العريان ،والمازني يريد إعطاءها لكل منهما ،قال :ال وجه للمقارنة فلما قرأ العقّاد ٍّ لنجيب محفوظّ ، مناصفة(.)9 بينهما ،وانتهى الخالف إلى إعطائهما الجائزة ً ّاد محفوظ ًا فكانت حين قال ّ المرة الثانية التي أنصف فيها العق ُ أما ّ العقّــاد ،في حديث تليفزيوني معه قبل وفاتــه« :إن عندنا ،في يستحق الفوز بجائزة نوبل ..وبعد حوالي ربع قرن مصر ،من ّ تحقَّقت النبوءة(.»)10 أما خالصة القول ،في شــأن مقــال( )11محفوظ الذي انتقد فيه ّ القصة ،فيوردها نجيب محفوظ نفسه، وجهة نظر العقّاد بشأن ّ حبي مــرة ،رغم ّ تعرضت للعقّاد ،ذات ّ حيــث يقول« :حــدث أن َّ لــه ،فقد وجدته قد ظلم الرواية حين قال :إن الرواية ليســت فّن ًا كالشــعر ،أي أنها ليست في منزلة الشــعر .فرددت عليه بأدب: الجيد ،وكما توجد الرواية الرديئة الجيدة مثل الشعر ّ إن الرواية ِّ يرد ،ألنني لم ّاد ق الع أن والحقيقة ً. ا أيض الرديء، يوجد الشعر ّ تكلَّمــت بموضوعية شــديدة ،وبأدب شــديد ،دون اســتفزاز أو هجوم(.»)12 ~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~ مراجع ( )1المجلّة الجديدة ،العدد ( ،)2فبراير1934 ،م .ومن الجدير بالذكر أن نجيب محفوظ كان في حدود الثالثة والعشرين من عمره وقت كتابته هذا المقال. ( )2المرجع السابق ،ص .65 ( )3المرجع السابق ،ص .65 ( )4مقال «ثالثة من أدبائنا» لنجيب محفوظ.66 : ( )5المرجع السابق ،ص .56 ( )6المرجع السابق ،ص .56 ( )7فــؤاد دوارة ،عشــرة أدبــاء يتحّدثــون ،الطبعة الثالثــة ،القاهرة ،الهيئة المصرية العامة للكتاب1996 ،م ،ص .357 ( )8إبراهيــم عبدالعزيــز ،أنــا نجيــب محفوظ ..ســيرة حياة كاملــة ،الطبعة األولى ،القاهرة ،نفرو للنشر والتوزيع2006 ،م ،ص .81 بتصرف. ( )9المرجع السابق،82 : ُّ ( )10المرجع السابق ،ص .82 «القصة عند العقّاد» لنجيب محفوظ ،مجلّة «الرسالة» ،العدد ( )11انظر مقال: ّ ،635سبتمبر1945 ،م. ( )12إبراهيم عبدالعزيز ،أنا نجيب محفوظ ..سيرة حياة كاملة ،ص .82 159
صفحة أخيرة
خالد الجبيلي
النص وإِحياؤه إِماتة ّ عندمــا أنظــر إلــى مســيرتي فــي الترجمــة التــي تبلــغ حصيلتهــا أكثــر مــن 50كتاب ـ ًا والعديــد مــن القصــص القصيــرة ،أرى أنهــا مســيرة شــاقة وماتعــة فــي الوقــت نفســه .فمنــذ أن اختــرت ـل دراســة اللّغــة اإلنجليزيــة وآدابهــا فــي جامعــة حلــب ،كان جـ ّ همــي أن أصبــح مترجمــاً ،ألن شــغفي باللّغــة والترجمــة كان ّ أتمكــن مــن ترجمــة بعــض يســتحوذ علــي ،وكنــت أتمنــى أن ّ َّ األعمــال التــي كنــت أحبهــا .وبالفعــل ،فقــد عملــت بعــد تخرجــي فــي المركــز الدولــي للبحــوث الزراعيــة الــذي يقــع مركــزه الرئيســي فــي حلــب ،المدينــة التــي نشــأت ودرســت فيهــا .وقــد مارســت هــذه المهنــة بشــقيها (التحريــري والفــوري) ،وكنــت في أثناء ذلــك أقــوم بترجمة بعــض القصــص واألعمــال األدبيــة إلى ّيــة األخــرى. جانــب عملــي فــي المجــاالت العلميــة َ والفنّ تجلّت رغبتــي فــي ترجمة عمــل أدبــي كامــل عندما قمــت بترجمة روايــة «مزرعــة الحيوانــات» للكاتــب البريطانــي جــورج أوريــل التــي حصلــت عليهــا مــن مكتبــة والــدي ،رحمــه اهلل .وقــد القــت هــذه الترجمــة استحســان عــدد مــن األســاتذة الذيــن أطلعتهــم عليهــا آنــذاك ،ممــا شــجعني علــى مواصلــة الترجمــة األدبيــة. إن مــا يدفعنــي إلــى ترجمــة عمــل مــا هــو أن يكــون شــائق ًا يشــكل إضافــة مفيــدة وينطــوي علــى أفــكار جديــدة وأن ِّ الكّتاب ـماء ـ بأس ا ـر ـ كبي ا ـ اهتمام بالنســبة لي وللقــارئ .وال أبــدي ً ً ُ الغربييــن المعروفيــن ،بــل أبحث باســتمرار عــن األعمــال الجيدة لكّتــاب لــم يســمع عنهــم القــارئ والمتميــزة ،فترجمــت أعمــا ًال ُ ّ العربــي كثيــرًا مــن قبــل ،مثــل الكاتــب البريطانــي الهنــدي األصل حنيــف قريشــي «الحميميــة والجســد» والكاتبــة والشــاعرة األميركيــة الزنجيــة آشــا بنديلــي «مذكــرات زوجــة الســجين» والكاتبــة اإليرانيــة نهــال تجــدد «الرومــي :نــار العشــق»، والكاتبــة التركيــة إليــف شــافاق «لقيطــة إســطنبول وقواعــد العشــق األربعــون» وآخريــن. ومــن خبرتــي الطويلــة فــي الترجمــة فــي مجــاالت ومواضيــع شــتى ،يمكننــي القــول إن الترجمــة األدبيــة تبقــى أكثرهــا صعوبــة ومتعــة ،ألنها تتســم باإلبــداع ،وتنطــوي علــى تراكيب وأنســاق وبنــى لغويــة وفكريــة عديــدة .وال يكفــي أن يكــون المترجــم األدبــي متقن ـ ًا للغتيــن اللتيــن يترجــم منهمــا وإليهمــا، بــل عليــه أن يكــون علــى اطــاع ودرايــة جيدتيــن بثقافــة هاتيــن اللّغتيــن ومصطلحاتهمــا ،وأن يكــون قارئــ ًا نهمــاً ،وخاصــة لــأدب فــي لغتــه األصليــة (وهنــا العربيــة) وأن يتمتــع بذائقــة 160
نصـ ًا أدبيــة عاليــة .ولكــي ّ يتمكــن المترجــم األدبــي مــن أن يبــدع ّ ـص األصلــي لكــن بلغــة جديــدة ،ينبغــي أن تتوافــر مطابق ـ ًا للنـ ّ لديــه موهبــة الكاتــب األصلــي .وأنــا أرى أن اللّغــة العربيــة لغــة غنيــة بمفرداتهــا ومطواعــة وقــادرة علــى نقــل الثّقافــات جميلــة ّ األخــرى. نصــ ًا جديــدًا فــي لغــة وثقافــة يبــدع ثــان كاتــب المترجــم إن ٍ ّ بنــص المؤلــف تقيــده المطلــق جديدتيــن ،علــى الرغــم مــن ُّ ّ ـكل مــا يحتــوي عليــه مــن أفــكار ومضامين األصلــي ،والتزامــه بـ ّ وأســاليب ،مــا يجعــل عملــه شــاق ًا ومضنيــاً ،ويــكاد يكــون ـص مــن منظومتــه مســتحي ً ال فــي بعــض األحيــان .إن إخــراج نـ ّ اللّغويــة ونقلــه إلــى منظومــة لغويــة ثانيــة مختلفــة تمام ـ ًا مــن حيــث البيئــة والثّقافــة والمفاهيــم أمــر فــي بالــغ الصعوبــة ـص األصلي ثــم إحيــاؤه بلغــة وثقافة والحرفيــة .إنهــا إماتــة للنـ ّ تمكــن المترجم مــن إنتاج وإذا ـي. ـ األصل ـص ّ مغايرتين تمام ـ ًا للنـ ّ ـص األصلــي مــن حيــث المعنــى واألســلوب ترجمــة مطابقــة للنـ ّ يعبــر عنهــا الكاتــب والتركيــب ،ونجــح فــي نقــل األفــكار التــي ّ ا رائعــاً. األصلــي ،عندهــا يكــون المترجــم قــد أنجــز عمــ ً ـان» فــا أعنــي أنــه يختــرع وعندمــا أقــول إن المترجــم «كاتــب ثـ ٍ بالنــص األصلــي ،بــل عليــه أن نصــ ًا مختلفــ ًا ال عالقــة لــه ّ ّ يتمكــن مــن نقــل أفــكار الكاتب ـ الن ـع ـ م ـى ـ يتماه ـص األصلي لكــي ّ ّ األصلــي وثقافتــه وأســلوبه بدقــة ،لكــن بلغــة جديــدة مختلفــة تمام ـ ًا مــن حيــث التراكيــب والســياق .ويجــب التمييــز هنــا بيــن األمانــة فــي الترجمــة وبيــن الترجمــة الحرفيــة ،ألن األمانــة فــي ـص مــن حيــث الــروح والمعنــى بأمانــة الترجمــة تتطّلــب نقــل النـ ّ النــص األصلــي قــارئ يشــعر أن درجــة وبشــكل كامــل ،إلــى ّ ـص واحــد لكــن بلغتيــن ـص المترجــم بأنهمــا أمــام نـ ٍّ وقــارئ النـ ّ مختلفتيــن ،وأنهمــا يجــدان المتعــة نفســها وتنتابهمــا المشــاعر ذاتهــا. مــزودًا بجميــع أدواتــه األدبيــة ويجــب أن يكــون المترجــم َّ واللّغويــة ،ألنه ،مثــل الكاتب ،فهــو أشــبه بالرســام أو النحات، يختــار المفــردات والعبــارات بدقــة متناهيــة ،وعليــه أن يواكــب التقعر األســاليب والمفردات العصريــة ،وأن يبتعــد ما أمكن عــن ُّ ـص المترجــم. فــي اللّغــة ،لكــي ال ينفــر القــارئ مــن النـ ّ وأخيــرًا ال يعــرف مــدى صعوبــة الترجمــة ّإل مــن كابدهــا وســبر أغوارهــا ،وكان اهلل فــي عــون المترجــم.